الكتاب: فتح القدير
المؤلف: الشوكاني
الجزء: ٥
الوفاة: ١٢٥٥
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: عالم الكتب
الناشر: عالم الكتب
ردمك:
ملاحظات:

فتح القدير
الجامع
بين فني الرواية والدراية من علم التفسير
تأليف
محمد بن علي بن محمد الشوكاني
وفاته بصنعاء 1250 ه‍.
الجزء الخامس
عالم الكتب
1

تفسير سورة الجاثية
هي سبع وثلاثون آية وقبل ست وثلاثون
وهي مكية كلها في قول الحسن وجابر وعكرمة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت
بمكة، وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إلا آية منها، وهي قوله (للذين آمنوا) إلى (أيام الله) فإنها نزلت
بالمدينة في عمر بن الخطاب كما سيأتي.
3

قوله (حم) قد تقدم الكلام في هذه الفاتحة وفي إعرابها في فاتحة سورة غافر وما بعدها، فإن جعل اسما
للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ، وإن جعل حروفا مسرودة على نمط التعديد فلا محل له،
وقوله (تنزيل الكتاب) على الوجه الأول خبر ثان، وعلى الوجه الثاني خبر المبتدأ، وعلى الوجه الثالث خبر مبتدأ
محذوف، أو مبتدأ وخبره (من الله العزيز الحكيم) ثم أخبر سبحانه بما يدل على قدرته الباهرة فقال (إن في السماوات
والأرض لآيات للمؤمنين) أي فيها نفسها فإنها من فنون الآيات أو في خلقها. قال الزجاج: ويدل على أن المعنى
في خلق السماوات والأرض قوله (وفي خلقكم) أي في خلقكم أنفسكم على أطوار مختلفة. قال مقاتل: من تراب
ثم من نطفة إلى أن يصير إنسانا (وما يبث من دابة آيات) أي وفي خلق ما يبث من دابة، وارتفاع آيات على أنها
مبتدأ مؤخر وخبره الظرف قبله، وبالرفع قرأ الجمهور، وقرأ حمزة والكسائي " آيات " بالنصب عطفا على اسم
إن، والخبر قوله (وفي خلقكم) كأنه قيل: وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات، أو على أنها تأكيد لآيات
الأولى. وقرأ الجمهور أيضا (آيات لقوم يعقلون) بالرفع وقرأ حمزة والكسائي بنصبها مع اتفاقهم على الجر في
اختلاف، أما جر اختلاف فهو على تقدير حرف الجر: أي (و) في (اختلاف الليل والنهار) آيات، فمن رفع
آيات فعلى أنها مبتدأ، وخبرها: في اختلاف، وأما النصب فهو من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين. قال
الفراء: الرفع على الاستئناف بعد إن، تقول العرب: إن لي عليك مالا وعلى أخيك مال، ينصبون الثاني ويرفعونه
وللنحاة في هذا الموضع كلام طويل. والبحث في مسألة العطف على معمولي عاملين مختلفين وحجج المجوزين له
وجوابات المانعين له مقرر في علم النحو مبسوط في مطولاته. ومعنى (ما يبث من دابة) ما يفرقه وينشره (واختلاف
الليل والنهار) تعاقبهما أو تفاوتهما في الطول والقصر، وقوله (وما أنزل الله من السماء من رزق) معطوف على
اختلاف، والرزق المطر، لأنه سبب لكل ما يرزق الله العباد به، وإحياء الأرض: إخراج نباتها، و (موتها)
خلوها عن النبات (و) معنى (تصريف الرياح) أنها تهب تارة من جهة، وتارة من أخرى، وتارة تكون حارة
وتارة تكون باردة، وتارة نافعة وتارة ضارة (تلك آيات الله نتلوها عليك) أي هذه الآيات المذكورة هي حجج
الله وبراهينه، ومحل: نتلوها عليك النصب على الحال، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر اسم الإشارة،
وآيات الله بيان له أو بدل منه، وقوله (بالحق) حال من فاعل نتلو، أو من مفعوله: أي محقين، أو ملتبسة
4

بالحق، ويجوز أن تكون الباء للسببية، فتتعلق بنفس الفعل (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) اي بعد حديث
الله وبعد آياته، وقيل إن المقصود: فبأي حديث بعد آيات الله وذكر الاسم الشريف ليس إلا لقصد تعظيم الآيات
فيكون من باب: أعجبني زيد وكرمه. وقيل المراد بعد حديث الله، وهو القرآن كما في قوله - الله نزل أحسن
الحديث - وهو المراد بالآيات، والعطف لمجرد التغاير العنواني. قرأ الجمهور " تؤمنون " بالفوقية، وقرأ حمزة
والكسائي بالتحية. والمعنى: يؤمنون بأي حديث، وإنما قدم عليه لأن الاستفهام له صدر الكلام (ويل لكل
أفاك أثيم) أي لكل كذاب كثير الإثم مرتكب لما يوجبه، والويل واد في جهنم. ثم وصف هذا الأفاك بصفة أخرى
فقال (يسمع آيات الله تتلى عليه) وقيل إن يسمع في محل نصب على الحال، وقيل استئناف، والأول أولى،
وقوله (تتلى عليه) في محل نصب على الحال (ثم يصر) على كفره ويقيم على ما كان عليه حال كونه (مستكبرا)
أي يتمادى على كفره متعظما في نفسه عن الانقياد للحق، والإصرار مأخوذ من إصرار الحمار على العانة، وهو
أن ينحني عليها صارا أذنيه. قال مقاتل: إذا سمع من آيات القرآن شيئا اتخذها هزوا، وجملة (كأن لم يسمعها)
في محل نصب على الحال أو مستأنفة، وإن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف (فبشره بعذاب
أليم) هذا من باب التهكم: أي فبشره على إصراره واستكباره وعدم استماعه إلى الآيات بعذاب شديد الألم (وإذا
علم من آياتنا شيئا) قرأ الجمهور: علم بفتح العين وكسر اللام مخففة على البناء للفاعل. وقرأ قتادة ومطر الوراق
على البناء للمفعول. والمعنى: أنه إذا وصل إليه علم شئ من آيات الله (اتخذها) أي الآيات (هزوا) وقيل
الضمير في اتخذها عائد إلى شيئا، لأنه عبارة عن الآيات، والأول أولى. والإشارة بقوله (أولئك) إلى كل أفاك
متصف بتلك الصفات (لهم عذاب مهين) بسبب ما فعلوا من الإصرار والاستكبار عن سماع آيات الله واتخاذها
هزوا، والعذاب المهين هو المشتمل على الإذلال والفضيحة (من ورائهم جهنم) أي من وراء ما هم فيه من التعزز
بالدنيا والتكبر عن الحق جهنم، فإنها من قدامهم لأنهم متوجهون إليها، وعبر بالوراء عن القدام، كقوله (من
ورائه جهنم) وقول الشاعر: أليس ورائي إن تراخت منيتي * وقيل جعلها باعتبار إعراضهم
عنها كأنها خلفهم (ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا) أي لا يدفع عنهم ما كسبوا من أموالهم وأولادهم شيئا من عذاب
الله، ولا ينفعهم بوجه من وجوه النفع (ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء) معطوف على ما كسبوا: أي ولا يغني
عنهم ما اتخذوا من دون الله أولياء من الأصنام، و " ما " في الموضعين إما مصدرية أو موصولة، وزيادة لا في
الجملة الثانية للتأكيد (ولهم عذاب عظيم) في جهنم التي هي من ورائهم (هذا هدى) جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر
يعني هذا القرآن هدى للمهتدين به (والذين كفروا بآيات ربهم) القرآنية (لهم عذاب من رجز أليم) الرجز أشد
العذاب. قرأ الجمهور " أليم " بالجر صفة للرجز. وقرأ ابن كثير وحفص وابن محيصن بالرفع صفة لعذاب (الله
الذي سخر لكم البحر) أي جعله على صفة تتمكنون بها من الركوب عليه (لتجري الفلك فيه بأمره) أي بإذنه وإقداره
لكم (ولتبتغوا من فضله) بالتجارة تارة، والغوص للدر، والمعالجة للصيد وغير ذلك (ولعلكم تشكرون) أي
لكي تشكروا النعم التي تحصل لكم بسبب هذا التسخير للبحر (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه)
أي سخر لعباده جميع ما خلقه في سماواته وأرضه مما تتعلق به مصالحهم وتقوم به معايشهم، ومما سخره لهم من مخلوقات
السماوات: الشمس والقمر والنجوم النيرات والمطر والسحاب والرياح، وانتصاب جميعا على الحال من ما في السماوات
وما في الأرض أو تأكيد له، وقوله: منه يجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة لجميعا: أي كائنة منه، ويجوز أن
يتعلق بسخر، ويجوز أن يكون حالا من ما في السماوات، أو خبرا لمبتدأ محذوف. والمعنى: أن كل ذلك رحمة منه
5

لعباده (إن في ذلك) المذكور من التسخير (لآيات لقوم يتفكرون) وخص المتفكرين لأنه لا ينتفع بها إلا من
تفكر فيها، فإنه ينتقل من التفكر إلى الاستدلال بها على التوحيد (قل للذين آمنوا يغفروا) أي قل لهم اغفروا
يغفروا (للذين لا يرجون أيام الله) وقيل هو على حذف اللام، والتقدير: قل لهم ليغفروا. والمعنى: قل لهم
يتجاوزوا عن الذين لا يرجون وقائع الله بأعدائه: أي لا يتوقعانها، ومعنى الرجاء هنا الخوف، وقيل هو على
معناه الحقيقي. والمعنى: لا يرجون ثوابه في الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين، والأول أولى، والأيام
يعبر بها عن الوقائع كما تقدم في تفسير قوله - وذكرهم بأيام الله - قال مقاتل: لا يخشون مثل عذاب الله للأمم
الخالية، وذلك أنهم لا يؤمنون به فلا يخافون عقابه. وقيل المعنى: لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه،
وقيل لا يخافون البعث. وقيل والآية منسوخة بآية السيف (ليجزي قوما بما كانوا يكسبون) قرأ ابن عامر وحمزة
والكسائي " لنجزي " بالنون: أي لنجزي نحن. وقرأ باقي السبعة بالتحتية مبنيا للفاعل: أي ليجزي الله. وقرأ
أبو جعفر وشيبة وعاصم بالتحتية مبنيا للمفعول مع نصب قوما، فقيل النائب عن الفاعل مصدر الفعل أي ليجزي
الجزاء قوما، وقيل إن النائب الجار والمجرور كما في قوله الشاعر:
ولو ولدت فقيرة جر وكلب * لسب بذلك الجرو الكلابا
وقد أجاز ذلك الأخفش والكوفيون، ومنعه البصريون، والجملة لتعليل الأمر بالمغفرة، والمراد بالقوم
المؤمنون، أمروا بالمغفرة ليجزيهم الله يوم القيامة بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على
أذية الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه. وقيل المعنى: ليجزي الكفار بما عملوا من السيئات
كأنه قال: لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن، والأول أولى. ثم ذكر المؤمنين وأعمالهم والمشركين وأعمالهم فقال (من
عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) والمعنى: أن عمل كل طائفة من إحسان أو إساءة لعامله لا يتجاوزه إلى غيره
وفيه ترغيب وتهديد (ثم إلى ربكم ترجعون) فيجازي كلا بعمله إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر.
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة من طريق عكرمة عن ابن
عباس في قوله (جميعا منه) قال: منه النور والشمس والقمر. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: كل شئ
هو من الله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن
طاووس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة
والهواء والتراب، قال: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري. ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير، فسأله فقال مثل
قول عبد الله بن عمرو، فأتى ابن عباس فسأله مم خلق الخلق؟ فقال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب،
قال فمم خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) فقال الرجل: ما كان
ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه
عن ابن عباس في قوله (قل للذين آمنوا يغفروا) الآية قال: كان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرض عن
المشركين إذا آذوه، وكانوا يستهزئون به ويكذبونه، فأمره الله أن يقاتل المشركين كافة، فكان هذا من المنسوخ
6

قوله (ولقد آتينا موسى الكتاب والحكم والنبوة) المراد بالكتاب التوراة وبالحكم الفهم والفقه الذي يكون بهما
الحكم بين الناس وفصل خصوماتهم، وبالنبوة من بعثه الله من الأنبياء فيهم (ورزقناهم من الطيبات) أي
المستلذات التي أحلها الله لهم، ومن ذلك المن والسلوى (وفضلناهم على العالمين) من أهل زمانهم حيث آتيناهم ما لم
نؤت من عداهم من فلق البحر ونحوه، وقد تقدم بيان هذا في سورة الدخان (وآتيناهم بينات من الأمر) أي
شرائع واضحات في الحلال والحرام، أو معجزات ظاهرات، وقيل العلم بمبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وشواهد نبوته، وتعيين مهاجره (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم) أي فما وقع الاختلاف بينهم في ذلك الأمر
إلا بعد مجئ العلم إليهم بيانه وإيضاح معناه، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجبا لثبوته، وقيل المراد بالعلم
يوشع بن نون، فإنه آمن به بعضهم وكفر بعضهم، وقيل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فاختلفوا فيها حسدا
وبغيا، وقيل (بغيا) من بعضهم على بعض بطلب الرئاسة (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون)
من أمر الدين، فيجازي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) الشريعة في اللغة
المذهب. والملة والمنهاج ويقال: لمشرعة إلا الماء وهي مورد شاربيه شريعة، ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد،
فالمراد بالشريعة هنا ما شرعه الله لعباده من الدين، والجمع شرائع: أي جعلناك يا محمد على منهاج واضح من أمر
الدين يوصلك إلى الحق (فاتبعها) فاعمل بأحكامها في أمتك (ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) توحيد الله وشرائعه
7

لعباده، وهم كفار قريش ومن وافقهم (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) أي لا يدفعون عنك شيئا مما أراده الله
بك إن اتبعت أهوائهم (وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض) أي أنصار ينصر بعضهم بعضا قال ابن زيد: إن المنافقين
أولياء اليهود (والله ولي المتقين) أي ناصرهم، والمراد بالمتقين الذين اتقوا الشرك والمعاصي، والإشارة بقوله
(هذا) إلى القرآن أو إلى اتباع الشريعة، وهو مبتدأ وخبره (بصائر للناس) أي براهين ودلائل لهم فيما يحتاجون
إليه من أحكام الدين، جعل ذلك بمنزلة البصائر في القلوب وقرئ " هذه بصائر ": أي هذه الآيات، لأن القرآن
بمعناها كما قال الشاعر: سائل بني أسد ما هذه الصوت * لأن الصوت بمعنى الصيحة (وهدى)
أي رشد وطريق يؤدي إلى الجنة لمن عمل به (ورحمة) من الله في الآخرة (لقوم يوقنون) أي من شأنهم الإيقان
وعدم الشك والتزلزل بالشبه (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة وما فيها من
معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان، والاجتراح الاكتساب ومنه الجوارح،
وقد تقدم في المائدة، والجملة مستأنفة لبيان تباين حالي المسيئين والمحسنين، وهو معنى قوله (أن نجعلهم كالذين
آمنوا وعملوا الصالحات) أي نسوي بينهم مع اجتراحهم السيئات، وبين أهل الحسنات (سواء محياهم ومماتهم)
في دار الدنيا وفي الآخرة، كلا لا يستوون، فإن حال أهل السعادة فيهما غير حال أهل الشقاوة، وقيل المراد إنكار
أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة. قرأ الجمهور " سواء " بالرفع على أنه خبر مقدم، والمبتدأ محياهم ومماتهم
والمعنى: إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم سواء. وقرأ حمزة والكسائي وحفص " سواء " بالنصب على أنه حال
من الضمير المستتر في الجار والمجرور في قوله (كالذين آمنوا) أو على أنه مفعول ثان لحسب، واختار قراءة النصب
أبو عبيد، وقال معناه: نجعلهم سواء، وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر " مماتهم " بالنصب على معنى سواء في
محياهم ومماتهم، فلما سقط الخافض انتصب، أو على البدل من مفعول نجعلهم بدل اشتمال (ساء ما يحكمون) أي
ساء حكمهم هذا الذي حكموا به (وخلق الله السماوات والأرض بالحق) أي بالحق المقتضى للعدل بين العباد،
ومحل بالحق النصب على الحال من الفاعل، أو من المفعول، أو الباء للسببية، وقوله (ولتجزى كل نفس بما
كسبت) يجوز أن يكون على الحق، لأن كلا منهما سبب، فعطف السبب على السبب، ويجوز أن يكون معطوفا
على محذوف، والتقدير: خلق الله السماوات والأرض ليدل بهما على قدرته ولتجزى، ويجوز أن تكون اللام
للصيرورة (وهم لا يظلمون) أي النفوس المدلول عليها بكل نفس لا يظلمون بنقص ثواب أو زيادة عقاب، ثم
عجب سبحانه من حال الكفار فقال (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) قال الحسن وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه
فلا يهوى شيئا إلا ركبه، وقال عكرمة: يعبد ما يهواه أو يستحسنه، فإذا استحسن شيئا وهواه اتخذه إلاها. قال
سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر (وأضله الله على علم)
أي على علم قد علمه، وقيل المعنى: أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه وقال مقاتل: على علم منه أنه
ضال لأنه يعلم أن الصنم لا ينفع ولا يضر. قال الزجاج: على سوء في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه، ومحل على علم
النصب على الحال من الفاعل أو المفعول (وختم على سمعه وقلبه) أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ، وطبع
على قلبه حتى لا يفقه الهدى (وجعل على بصره غشاوة) أي غطاء حتى لا يبصر الرشد. قرأ الجمهور " غشاوة "
بالألف مع كسر الغين. وقرأ حمزة والكسائي " غشوة " بعير ألف مع فتح الغين، ومنه قول الشاعر:
لئن كنت ألبستني غشوة * لقد كنت أصغيتك الود حينا
8

وقرأ ابن مسعود والأعمش كقراءة الجمهور مع فتح الغين وهي لغة ربيعة. وقرأ الحسن وعكرمة بضمها وهي
لغة عكل (فمن يهديه من بعد الله) أي من بعد إضلال الله له ((أفلا تذكرون) تذكر اعتبار حتى تعلموا حقيقة
الحال. ثم بين سبحانه بعض جهالاتهم وضلالاتهم فقال (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا) أي ما الحياة إلا الحياة
التي نحن فيها (نموت ونحيا) أي يصيبنا الموت والحياة فيها، وليس وراء ذلك حياة، وقيل نموت نحن ويحيا فيها
أولادنا، وقيل نكون نطفا ميتة ثم نصير أحياء، وقيل في الآية تقديم وتأخير: أي نحيا ونموت وكذا قرأ ابن مسعود،
وعلى كل تقدير فمرادهم بهذه المقالة إنكار البعث وتكذيب الآخرة (وما يهلكنا إلا الدهر) أي إلا مرور الأيام والليالي
قال مجاهد: يعني السنين والأيام. وقال قتادة: إلا العمر، والمعنى واحد. وقال قطرب: المعنى وما يهلكنا
إلا الموت. وقال عكرمة: وما يهلكنا إلا الله (وما لهم بذلك من علم) أي ما قالوا هذه المقالة إلا شاكين غير عالمين
بالحقيقة. ثم بين كون ذلك صادرا منهم لا عن علم فقال (إن هم إلا يظنون) أي ما هم إلا قوم غاية ما عندهم الظن
فما يتكلمون إلا به، ولا يستندون إلا إليه (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) أي إذا تليت آيات القرآن على المشركين
حال كونها بينات واضحات ظاهرة المعنى والدلالة على البعث (ما كان حجهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم
صادقين) أنا نبعث بعد الموت: أي ما كان لهم حجة ولا متمسك إلا هذا القول الباطل الذي ليس من الحجة في
شئ، وإنما سماه حجة تهكما بهم. قرأ الجمهور بنصب حجتهم على أنه خبر كان، واسمها (إلا أن قالوا) وقرأ
زيد بن علي وعمرو بن عبيد وعبيد بن عمرو برفع حجتهم على أنها اسم كان، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله
عليه وآله وسلم أن يرد عليهم فقال (قل الله يحييكم) أي في الدنيا (ثم يميتكم) عند انقضاء آجالكم (ثم يجمعكم
إلى يوم القيامة) بالبعث والنشور (لا ريب فيه) أي في جمعكم، لأن من قدر على ابتداء الخلق قدر على إعادته
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) بذلك، فلهذا حصل معهم الشك في البعث، وجاءوا في دفعه بما هو أوهن من
بيت العنكبوت، ولو نظروا حق النظر لحصلوا على العلم اليقين، واندفع عنهم الريب وأراحوا أنفسهم من ورطة
الشك والحيرة.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) يقول: على هدى من أمر
دينه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله (سواء محياهم ومماتهم) قال: المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر
في الدنيا والآخرة كافر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس
في قوله (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) قال: ذاك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان (وأضله الله على
علم) يقول: أضله في سابق علمه. وأخرج النسائي وابن جرير وبن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عنه
قال: كان الرجل من العرب يعبد الحجر، فإذا وجد أحسن منه أخذه وألقى الآخر، فأنزل الله (أفرأيت من اتخذ
إلهه هواه). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وبن مردويه عن أبي هريرة قال: كان أهل الجاهلية يقولون إنما
يهلكنا الليل والنهار، فقال الله في كتابه (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) قال الله:
يؤذيني ابن آدم بسبب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من
حديث أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب
الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ".
9

لما ذكر سبحانه ما احتج به المشركون وما أجاب به عليهم ذكر اختصاصه بالملك فقال (ولله ملك السماوات
والأرض) أي هو المتصرف فيهما وحده لا يشاركه أحد من عباده. ثم توعد أهل الباطل فقال (ويوم تقوم الساعة
يومئذ يخسر المبطلون) أي المكذبون الكافرون المتعلقون بالأباطيل يظهر في ذلك اليوم خسرانهم لأنهم يصيرون
إلى النار، والعامل في يوم هو يخسر، ويومئذ بدل منه، والتنوين للعوض عن المضاف إليه المدلول عليه بما أضيف
إليه المبدل منه، فيكون التقدير: ويوم تقوم الساعة يوم تقوم الساعة، فيكون بدلا توكيديا، والأولى أن يكون
العامل في يوم هو ملك: أي ولله ملك يوم تقوم الساعة، ويكون يومئذ معمولا ليخسر (وترى كل أمة جاثية)
الخطاب لكل من يصلح له، أو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأمة الملة، ومعنى جاثية، مستوفزة،
والمستوفز، الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله، وذلك عند الحساب. وقيل معنى جاثية: مجتمعة
قال الفراء: المعنى وترى أهل كل ذي دين مجتمعين. وقال عكرمة: متميزة عن غيرها. وقال مؤرج، معناه
بلغة قريش: خاضعة. وقال الحسن: باركة على الركب والجثو والجلوس على الركب، تقول جثا يجثو ويجثى جثوا
وجثيا، إذا جلس على ركبتيه، والأول أولى. ولا ينافيه ورود هذا اللفظ لمعنى آخر في لسان العرب. وقد ورد
إطلاق الجثوة على الجماعة من كل شئ في لغة العرب، ومنه قول طرفة يصف قبرين:
ترى جثوتين من تراب عليهما * صفائح صم من صفائح منضد
وظاهر الآية أن هذه الصفة تكون لكل أمة من الأمم من غير فرق بين أهل الأديان المتبعين للرسل وغيرهم من
أهل الشرك. وقال يحيى بن سلام: هو خاص بالكفار، والأول أولى. ويؤيده قوله (كل أمة تدعى إلى كتابها)
ولقوله فيما سيأتي - فأما الذين آمنوا -، ومعنى إلى كتابها: إلى الكتاب المنزل عليها، وقيل إلى صحيفة أعمالها، وقيل
10

إلى حسابها، وقيل اللوح المحفوظ، والأول أولى. قرأ الجمهور " كل أمة " بالرفع على الابتداء، وخبره: تدعى،
وقرأ يعقوب الحضرمي بالنصب على البدل من كل أمة (اليوم تجزون ما كنتم تعملون) أي يقال لهم اليوم تجزون
ما كنتم تعملون من خير وشر (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) هذا من تمام ما يقال لهم، والقائل بهذا هم الملائكة
وقيل هو من قول الله سبحانه: أي يشهد عليكم، وهو استعارة، يقال نطق الكتاب بكذا: أي بين، وقيل
إنهم يقرؤونه فيذكرون ما عملوا، فكأنه ينطق عليهم بالحق الذي لا زيادة فيه ولا نقصان، ومحل ينطق النصب
على الحال، أو الرفع على أنه خبر آخر لاسم الإشارة، وجملة (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) تعليل للنطق بالحق
أي نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم: أي بكتبها وتثبيتها عليكم، قال الواحدي: وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ
من اللوح المحفوظ، فإن الملائكة تكتب منه كل عام ما يكون من أعمال بني آدم فيجدون ذلك موافقا لما يعملونه
قالوا: لأن الاستنساخ لا يكون إلا من أصل. وقيل المعنى: نأمر الملائكة بنسخ ما كنتم تعملون. وقيل إن الملائكة
تكتب كل يوم ما يعمله العبد، فإذا رجعوا إلى مكانهم نسخوا منه الحسنات والسيئات وتركوا المباحات. وقيل
إن الملائكة إذا رفعت أعمال العباد إلى الله سبحانه أمر عز وجل أن يثبت عنده منها ما فيه ثواب وعقاب، ويسقط
منها مالا ثواب فيه ولا عقاب (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته) أي الجنة، وهذا
تفصيل لحال الفريقين، فالمؤمنون يدخلهم الله برحمته الجنة (ذلك) أي الإدخال في رحمته (هو الفوز المبين) أي
الظاهر الواضح (وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم) أي فيقال لهم ذلك، وهو استفهام توبيخ، لأن
الرسل قد أتتهم وتلت عليهم آيات الله، فكذبوها ولم يعملوا بها (فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين) أي تكبرتم عن
قبولها وعن الإيمان بها، وكنتم من أهل الإجرام، وهي الآثام، والاجترام الاكتساب، يقال فلان جريمة أهله: إذا
كان كاسبهم، فالمجرم من كسب الآثام بفعل المعاصي (وإذا قيل إن وعد الله حق) أي وعده بالبعث والحساب
أو بجميع ما وعد به من الأمور المستقبلة واقع لا محالة (والساعة) أي القيامة (لا ريب فيها) أي في وقوعها. قرأ
الجمهور " والساعة " بالرفع على الابتداء، أو العطف على موضع اسم إن، وقرأ حمزة بالنصب عطفا على اسم إن
(قلتم ما ندري ما الساعة) أي أي شئ هي؟ (إن نظن إلا ظنا) أي نحدس حدسا ونتوهم توهما. قال المبرد:
تقديره: إن نحن إلا نظن ظنا، وقيل التقدير: إن نظن إلا أنكم تظنون ظنا، وقيل إن نظن مضمن معنى نعتقد:
أي ما نعتقد إلا ظنا لا علما، وقيل إن ظنا له صفة مقدرة: أي إلا ظنا بينا، وقيل إن الظن يكون بمعنى العلم
والشك، فكأنهم قالوا: ما لنا اعتقاد إلا الشك (وما نحن بمستيقنين) أي لم يكن لنا يقين بذلك، ولم يكن معنا
إلا مجرد الظن أن الساعة آتية (وبدا لهم سيئات ما عملوا) أي ظهر لهم سيئات أعمالهم على الصورة التي هي عليها
(وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) أي أحاط بهم ونزل عليهم جزاء أعمالهم بدخولهم النار (وقيل اليوم ننساكم كما
نسيتم لقاء يومكم هذا) أي نترككم في النار كما تركتم العمل لهذا اليوم، وأضاف اللقاء إلى اليوم توسعا، لأنه أضاف
إلى الشئ ما هو واقع فيه (ومأواكم النار) أي مسكنكم ومستقركم الذين تأوون إليه (وما لكم من ناصرين)
ينصرونكم فيمنعون عنكم العذاب (ذلكم بأنكم اتخذتم
آيات الله هزوا) أي ذلكم العذاب بسبب أنكم اتخذتم
القرآن هزوا ولعبا (وغرتكم الحياة الدنيا) أي خدعتكم بزخارفها وأباطيلها، فظننتم أنه لا دار غيرها ولا بعث
ولا نشور (فاليوم لا يخرجون منها) أي من النار. قرأ الجمهور " يخرجون " بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول
وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضم الراء مبنيا للفاعل، والالتفات من الخطاب إلى الغيبة لتحقيرهم (ولا هم
يستعتبون) أي لا يسترضون ويطلب منهم الرجوع إلى طاعة الله، لأنه يوم لا تقبل فيه توبة ولا تنفع فيه معذرة
11

(فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين) لا يستحق الحمد سواه. قرأ الجمهور " رب " في المواضع
الثلاثة بالجر على الصفة للاسم الشريف. وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن بالرفع في الثلاثة على تقدير مبتدأ: أي
هو رب السماوات الخ (وله الكبرياء في السماوات والأرض) أي الجلال والعظمة والسلطان، وخص السماوات
والأرض لظهور ذلك فيهما (وهو العزيز الحكيم) أي العزيز في سلطانه. فلا يغالبه مغالب، الحكيم في كل أفعاله
وأقواله وجميع أقضيته.
وقد أخرج سعيد بن منصور وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن عبد الله
ابن باباه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كأني أراكم بالكوم دون جهنم جاثين، ثم قرأ سفيان
ويري كل أمة جاثية) ". وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله (وترى كل أمة جاثية) قال: كل أمة مع
نبيها حتى يجئ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كوم قد علا الخلائق، فذلك المقام المحمود. وأخرج ابن
جرير عن ابن عباس في قوله (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) قال: هو أم الكتاب فيه أعمال بني آدم (إنا كنا
نستنسخ ما كنتم تعملون) قال: هم الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه
بمعناه مطولا، فقام رجل فقال: يا ابن عباس، ما كنا نرى هذا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة، فقال ابن عباس
إنكم لستم قوما عربا (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) هل يستنسخ الشئ إلا من كتاب. وأخرج ابن جرير عنه
نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب قال: إن لله ملائكة ينزلون في كل يوم بشئ يكتبون فيه
أعمال بني آدم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر نحو ما روى عن ابن عباس. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس
في الآية قال: يستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم، فإنما يعمل الإنسان ما استنسخ الملك من أم الكتاب
وأخرج نحوه الحاكم عنه وصححه. وأخرج الطبراني عنه أيضا في الآية قال: إن الله وكل ملائكة ينسخون من
ذلك العام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة، فيتعارضون به حفظة
الله على العباد عشية كل خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافقا لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا) قال:
نترككم. وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود وابن ماجة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يقول الله تبارك وتعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة
إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار ".
تفسير سورة الأحقاف
هي أربع وثلاثون آية، وقيل خمس وثلاثون
وهي مكية. قال القرطبي: في قول جميعهم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا: نزلت
سورة حم الأحقاف بمكة. وأخرج ابن الضريس والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: " أقرأني رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم سورة الأحقاف وأقرأها آخر فخالف قراءته، فقلت من أقرأكها؟ قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فقلت: والله لقد أقرأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير ذا، فأتينا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، فقلت يا رسول الله ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال بلى، وقال الآخر: ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال
12

بلى، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ليقرأ كل واحد منكما ما سمع، فإنما هلك من كان
قبلكم بالاختلاف ".
قوله (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) قد تقدم الكلام على هذا في سورة غافر وما بعدها مستوفي
وذكرنا وجه الإعراب وبيان ما هو الحق من أن فواتح السور من المتشابه الذي يجب أن يوكل علمه إلى من أنزله
(ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما) من المخلوقات بأسرها (إلا بالحق) هو استثناء مفرغ من أعم الأحوال
أي إلا خلقا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه المشيئة الإلهية، وقوله (وأجل مسمى) معطوف على الحق: أي إلا
بالحق، وبأجل مسمى على تقدير مضاف محذوف: أي وبتقدير أجل مسمى، وهذا الأجل هو يوم القيامة،
فإنها تنتهي فيه السماوات والأرض وما بينهما وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات. وقيل المراد بالأجل المسمى
هو انتهاء أجل كل فرد من أفراد المخلوقات، والأول أولى، وهذا إشارة إلى قيام الساعة وانقضاء مدة الدنيا،
وأن الله لم يخلق خلقه باطلا وعبثا لغير شئ، بل خلقه للثواب والعقاب (والذين كفروا عما أنذروا معرضون)
أي عما أنذروا وخوفوا به في القرآن من البعث والحساب والجزاء معرضون مولون غير مستعدين له، والجملة
في محل نصب على الحال: أي والحال أنهم معرضون عنه غير مؤمنين به، و " ما " في قوله (ما أنذروا) يجوز
أن تكون الموصولة، ويجوز أن تكون المصدرية (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله) أي أخبروني ما تعبدون من
دون الله من الأصنام (أروني ماذا خلقوا من الأرض) أي أي شئ خلقوا منها، وقوله " أروني " يحتمل أن يكون
13

تأكيدا لقوله أرأيتم: أي أخبروني أروني والمفعول الثاني لأرأيتم ماذا خلقوا، ويحتمل أن لا يكون تأكيدا، بل يكون
هذا من باب التنازع، لأن أرأيتم يطلب مفعولا ثانيا، وأروني كذلك (أم لهم شرك في السماوات) أم هذه هي
المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، والمعنى: بل ألهم شركة مع الله فيها، والاستفهام للتوبيخ والتقريع (ائتوني بكتاب
من قبل هذا) هذا تبكيت لهم وإظهار لعجزهم وقصورهم عن الإتيان بذلك، والإشارة بقوله هذا إلى القرآن،
فإنه قد صرح ببطلان الشرك، وأن الله واحد لا شريك له، وأن الساعة حق لا ريب فيها، فهل للمشركين من كتاب
يخالف هذا الكتاب، أو حجة تنافي هذه الحجة (أو أثارة من علم). قال في الصحاح: أو أثارة من علم بقية
منه، وكذا الأثرة بالتحريك. قال ابن قتيبة: أي بقية من علم الأولين. وقال الفراء والمبرد: يعني ما يؤثر عن
كتب الأولين. قال الواحدي: وهو معنى قول المفسرين. قال عطاء: أو شئ تأثرونه عن نبي كان قبل محمد
صلى الله عليه وآله وسلم. قال مقاتل: أو رواية من علم عن الأنبياء. وقال الزجاج: أو أثارة: أي علامة،
والأثارة مصدر كالسماحة والشجاعة، وأصل الكلمة من الأثر، وهي الرواية: يقال أثرت الحديث آثره أثرة
وأثارة وأثرا: إذا ذكرته عن غيرك. قرأ الجمهور " أثارة " على المصدر كالسماحة والغواية. وقرأ ابن عباس وزيد
ابن علي وعكرمة والسلمي والحسن وأبو رجاء بفتح الهمزة والثاء من غير ألف. وقرأ الكسائي " أثرة " بضم الهمزة
وسكون الثاء (إن كنتم صادقين) في دعواكم التي تدعونها، وهي قولكم إن لله شريكا ولم تأتوا بشئ من ذلك
فتبين بطلان قولهم لقيام البرهان العقلي والنقلي على خلافه (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له
) أي لا أحد أضل منه ولا أجهل فإنه دعا من لا يسمع، فكيف يطمع في الإجابة فضلا عن جلب نفع أو دفع ضر؟
فتبين بهذا أنه أجهل الجاهلين وأضل الضالين، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وقوله (إلى يوم القيامة) غاية
لعدم الاستجابة (وهم عن دعائهم غافلون) الضمير الأول للأصنام، والثاني لعابديها، والمعنى: والأصنام التي
يدعونها عن دعائهم إياها غافلون عن ذلك، لا يسمعون ولا يعقلون لكونهم جمادات، والجمع في الضميرين
باعتبار معنى من، وأجرى على الأصنام ما هو للعقلاء لاعتقاد المشركين فيها أنها تعقل (وإذا حشر الناس كانوا
لهم أعداء) أي إذا حشر الناس العابدين للأصنام كان الأصنام لهم أعداء يتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا
وقد قيل إن الله يخلق الحياة في الأصنام فتكذبهم. وقيل المراد أنها تكذبهم وتعاديهم بلسان الحال لا بلسان المقال.
وأما الملائكة والمسيح وعزير والشياطين فإنهم يتبرءون ممن عبدهم يوم القيامة كما في قوله تعالى - تبرأنا إليك ما كانوا
إيانا يعبدون - (وكانوا بعبادتهم كافرين) أي كان المعبودون بعبادة المشركين إياهم كافرين: أي جاحدين مكذبين
وقيل الضمير في كانوا للعابدين كما في قوله - والله ربنا ما كنا مشركين -، والأول أولى (وإذا تتلى عليهم آياتنا)
أي آيات القرآن حال كونها (بينات) واضحات المعاني ظاهرات الدلالات (قال الذين كفروا للحق) أي لأجله
وفي شأنه، وهو عبارة عن الآيات (لما جاءهم) أي وقت أن جاءهم (هذا سحر مبين) أي ظاهر السحرية (أم
يقولون افتراه) أم هي المنقطعة: أي بل أيقولون افتراه والاستفهام للإنكار والتعجب من صنيعهم، وبل للانتقال
عن تسميتهم الآيات سحرا إلى قولهم: إن رسول الله افترى ما جاء به، وفي ذلك من التوبيخ والتقريع ما لا يخفي
ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال (قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا) أي قل إن افتريته على سبيل
الفرض والتقدير: كما تدعون، فلا تقدرون على أن تردوا عني عقاب الله، فكيف افترى على الله لأجلكم وأنتم
لا تقدرون على دفع عقابه عني (هو أعلم بما تفيضون فيه) أي تخوضون فيه من التكذيب والإفاضة في الشئ
الخوض فيه والاندفاع فيه، يقال أفاضوا في الحديث: أي اندفعوا فيه، وأفاض البعير: إذا دفع جرته من كرشه.
14

والمعنى: الله أعلم بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب له والقول بأنه سحر وكهانة (كفى به شهيدا بيني
وبينكم) فإنه يشهد لي بأن القرآن من عنده وأني قد بلغتكم، ويشهد عليكم بالتكذيب والجحود، وفي هذا وعيد
شديد (وهو الغفور الرحيم) لمن تاب وآمن وصدق بالقرآن وعمل بما فيه: أي كثير المغفرة والرحمة بليغهما (قل
ما كنت بدعا من الرسل) البدع من كل شئ المبدأ: أي ما أنا بأول رسول، قد بعث الله قبلي كثيرا من الرسل
قيل البدع بمعنى البديع كالخف والخفيف، والبديع ما لم ير له مثل، من الابتداع وهو الاختراع، وشئ بدع
بالكسر: أي مبتدع، وفلان بدع في هذا الأمر: أي بديع كذا قال الأخفش وأنشد قطرب:
فما أنا بدع من حوادث تعتري * رجالا غدت من بعد موسى وأسعدا
وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة (بدعا) بفتح الدال على تقدير حذف المضاف: أي ما كنت ذا بدع
وقرأ مجاهد بفتح الباء وكسر الدال على الوصف (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) أي ما يفعل بي فيما يستقبل من
الزمان هل أبقى في مكة أو أخرج منها؟ وهل أموت أو أقتل؟ وهل تعجل لكم العقوبة أم تمهلون؟ وهذا إنما
هو في الدنيا. وأما في الآخرة فقد علم أنه وأمته في الجنة وأن الكافرين في النار. وقيل إن المعنى: ما أدري ما يفعل
بي ولا بكم يوم القيامة، وإنها لما نزلت فرح المشركون وقالوا: كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا، وأنه
لا فضل له علينا؟ فنزل قوله تعالى - ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر - والأول أولى (إن أتبع إلا ما يوحي
إلي) قرأ الجمهور " يوحى " مبنيا للمفعول: أي ما أتبع إلا القرآن ولا أبتدع من عندي شيئا، والمعنى: قصر
أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم على الوحي لاقصر اتباعه على الوحي (وما أنا إلا نذير مبين) أي أنذركم عقاب الله
وأخوفكم عذابه على وجه الايضاح.
وقد أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن
ابن عباس (أو أثارة من علم) قال: الخط. قال سفيان: لا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعني
أن الحديث مرفوع لا موقوف على ابن عباس. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كان نبي من الأنبياء
يخط، فمن صادف مثل خطه علم " ومعنى هذا ثابت في الصحيح
ولأهل العلم فيه تفاسير مختلفة. ومن أين لنا أن هذه الخطوط الرملية موافقة لذلك الخط، وأين السند الصحيح
إلى ذلك النبي، أو إلى نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا الخط هو على صورة كذا، فليس ما يفعله أهل الرمل
إلا جهالات وضلالات. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أو أثارة من علم)
قال: حسن الخط. وأخرج الطبراني في الأوسط والحاكم من طريق الشعبي عن ابن عباس (أو أثارة من علم)
قال: خط كان يخطه العرب في الأرض. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (أو أثارة من علم)
يقول: بينة من الأمر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله (قل ما كنت بدعا)
من الرسل) يقول: لست بأول الرسل (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) فأنزل الله بعد هذا - ليغفر لك الله ما تقدم
من ذنبك وما تأخر - وقوله - ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات - الآية، فأعلم سبحانه نبيه ما يفعل به وبالمؤمنين
جميعا. وأخرج أبو داود في ناسخه عنه أيضا أن هذه الآية منسوخة بقوله - ليغفر لك الله - وقد ثبت في صحيح البخاري
وغيره من حديث أم العلاء قالت " لما مات عثمان بن مظعون قلت: رحمك الله أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك
الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني
لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم، قالت أم العلاء: فوالله لا أزكي إلى بعده أحدا ".
15

قوله (قل أرأيتم) أي أخبروني (إن كان من عند الله) يعني ما يوحى إليه من القرآن، وقيل المراد محمد صلى
الله عليه وآله وسلم، والمعنى: إن كان مرسلا من عند غير الله، وقوله (وكفرتم به) في محل نصب على الحال
بتقدير قد، وكذلك قوله (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله) والمعنى: أخبروني إن كان ذلك في الحقيقة
من عند الله والحال أنكم قد كفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل العالمين بما أنزل الله في التوراة على مثله: أي
القرآن من المعاني الموجودة في التوراة المطابقة له من إثبات التوحيد والبعث والنشور وغير ذلك، وهذه المثلية هي
باعتبار تطابق المعاني وإن اختلفت الألفاظ. وقال الجرجاني: مثل صلة، والمعنى: وشهد شاهد عليه أنه من
عند الله، وكذا قال الواحدي (فآمن) الشاهد بالقرآن لما تبين له أنه من كلام الله ومن جنس ما ينزله على رسله
وهذا الشاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام كما قال الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم، وفي هذا نظر
فإن السورة مكية بالإجماع، وعبد الله بن سلام كان إسلامه بعد الهجرة، فيكون المراد بالشاهد رجلا من أهل الكتاب
قد آمن بالقرآن في مكة وصدقه، واختار هذا ابن جرير، وسيأتي في آخر البحث ما يترجح به أنه عبد الله بن
سلام وأن هذه الآية مدنية لا مكية. وروى عن مسروق أن المراد بالرجل موسى عليه السلام، وقوله (واستكبرتم)
معطوف على شهد: آي آمن الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) فحرمهم الله سبحانه
الهداية لظلمهم لأنفسهم بالكفر بعد قيام الحجة الظاهرة على وجوب الإيمان، ومن فقد هداية الله له ضل.
وقد اختلف في جواب الشرط ماذا هو؟ فقال الزجاج: محذوف تقديره أتؤمنون، وقيل قوله (فآمن
واستكبرتم) وقيل محذوف تقديره: فقد ظلمتم لدلالة (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) عليه، وقيل تقديره: فمن
16

أضل منكم، كما في قوله - أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل - الآية. وقال أبو علي الفارسي
تقديره أتأمنون عقوبة الله، وقيل التقدير: ألستم ظالمين. ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من أقاويلهم الباطلة فقال
(وقال الذين كفروا للذين آمنوا) أي لأجلهم، ويجوز أن تكون هذه اللام هي لام التبليغ (لو كان خيرا ما سبقونا
إليه) أي لو كان ما جاء به محمد من القرآن والنبوة خيرا ما سبقونا إليه لأنهم عند أنفسهم المستحقون للسبق إلى كل
مكرمة، ولم يعلموا أن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويصطفى لدينه من يشاء
(وإذا لم يهتدوا به) أي بالقرآن، وقيل بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل بالإيمان (فسيقولون هذا إفك
قديم) فجاوزوا نفي خيرية القرآن إلى دعوى أنه كذب قديم كما قالوا أساطير الأولين، والعامل في إذ مقدر:
أي ظهر عنادهم، ولا يجوز أن يعمل فيه " فسيقولون " لتضاد الزمانين: أعني المضي والاستقبال ولأجل الفاء
أيضا، وقيل إن العامل فيه فعل مقدر من جنس المذكور: أي لم يهتدوا به، وإذ لم يهتدوا به فسيقولون (ومن
قبله كتاب موسى) قرأ الجمهور بكسر الميم من " من " على أنها حرف جر، وهي مع مجرورها خبر مقدم،
وكتاب موسى مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب على الحال، أو هي مستأنفة، والكلام مسوق لرد قولهم
(هذا إفك قديم) فإن كونه قد تقدم القرآن كتاب موسى، وهو التوراة وتوافقا في أصول الشرائع يدل على أنه
حق وأنه من عند الله، ويقتضي بطلان قولهم. وقرئ بفتح ميم من على أنها موصولة ونصب كتاب: أي وآتينا
من قبله كتاب موسى، ورويت هذه القراءة عن الكلبي (إماما ورحمة) أي يفتدي به في الدين ورحمة من الله لمن
آمن به، وهما منتصبان على الحال. قاله الزجاج وغيره. وقال الأخفش على القطع، وقال أبو عبيدة: أي جعلناه
إماما ورحمة (وهذا كتاب مصدق) يعني القرآن فإنه مصدق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة ولغيره من كتب
الله، وقيل مصدق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وانتصاب (لسانا عربيا) على الحال الموطئة وصاحبها الضمير
في مصدق العائد إلى كتاب، وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا لمصدق، والأول أولى، وقيل هو على حذف
مضاف: أي ذا لسان عربي، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لينذر الذين ظلموا) قرأ الجمهور " لينذر "
بالتحتية على أن فاعله ضمير يرجع إلى الكتاب: أي لينذر الكتاب الذين ظلموا، وقيل الضمير راجع إلى الله،
وقيل إلى الرسول، والأول أولى. وقرأ نافع وابن عامر والبزي بالفوقية على أن فاعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد، وقوله (وبشرى للمحسنين) في محل نصب عطفا على محل لينذر. وقال
الزجاج: الأجود أن يكون في محل رفع: أي وهو بشرى، وقيل على المصدرية لفعل محذوف: أي وتبشر
بشرى، وقوله " للمحسنين " متعلق ببشرى (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) أي جمعوا بين التوحيد والاستقامة
على الشريعة، وقد تقدم تفسير هذا في سورة السجدة (فلا خوف عليهم) الفاء زائدة في خبر الموصول لما فيه
من معنى الشرط (ولا هم يحزنون) المعنى: أنهم لا يخافون من وقوع مكروه بهم، ولا يحزنون من فوات محبوب
وأن ذلك مستمر دائم (أولئك أصحاب الجنة) أي أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجنة التي هي دار المؤمنين
حال كونهم (خالدين فيها) وفي هذه الآية من الترغيب أمر عظيم، فإن نفي الخوف والحزن على الدوام والاستقرار
في الجنة على الأبد مما لا تطلب الأنفس سواه ولا تتشوف إلى ما عداه (جزاء بما كانوا يعملون) أي يجزون جزاء
بسبب أعمالهم التي عملوها من الطاعات لله وترك معاصيه (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) قرأ الجمهور " حسنا "
بضم الحاء وسكون السين. وقرأ على والسلمي بفتحهما. وقرأ ابن عباس والكوفيون " إحسانا " وقد تقدم في
سورة العنكبوت (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) من غير اختلاف بين القراء وتقدم في سورة الأنعام وسورة
17

بني إسرائيل - وبالوالدين إحسانا - فلعل هذا هو وجه اختلاف القراء في هذه الآية، وعلى جميع هذه القراءات
فانتصابه على المصدرية: أي وصيناه أن يحسن إليهما حسنا، أو إحسانا، وقيل على أنه مفعول به بتضمين وصينا
معنى ألزمنا، وقيل على أنه مفعول له (حملته أمه كرها ووضعته كرها) قرأ الجمهور " كرها " في الموضعين بضم
الكاف. وقرأ أبو عمرو وأهل الحجاز بفتحهما. قال الكسائي: وهما لغتان بمعنى واحد. قال أبو حاتم: الكره بالفتح
لا يحسن لأنه الغضب والغلبة، واختار أبو عبيد قراءة الفتح قال: لأن لفظ الكره في القرآن كله بالفتح إلا التي
في سورة البقرة - كتب عليكم القتال وهو كره لكم - وقيل إن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل
على غيره. وإنما ذكر سبحانه حمل الأم ووضعها تأكيدا لوجوب الإحسان إليها الذي وصى الله به، والمعنى:
أنها حملته ذات كره ووضعته ذات كره. ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله فقال (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) أي
مدتهما هذه المدة من عند ابتداء حمله إلى أن يفصل من الرضاع: أي يقطم عنه، وقد استدل بهذه الآية على أن
أقل الحمل ستة أشهر، لأن مدة الرضاع سنتان: أي مدة الرضاع الكامل كما قوله - حولين كاملين لمن أراد
أن يتم الرضاعة - فذكر سبحانه في هذه الآية أقل مدة الحمل، وأكثر مدة الرضاع. وفي هذه الآية إشارة إلى
أن حق الأم آكد من حق الأب لأنها حملته بمشقة ووضعته بمشقة، وأرضعته هذه المدة بتعب ونصب ولم يشاركها
الأب في شئ من ذلك. قرأ الجمهور " وفصاله " بالألف، وقرأ الحسن ويعقوب وقتادة والجحدري " وفصله "
بفتح الفاء وسكون الصاد بغير ألف، والفصل والفصال بمعنى: كالفطم والفطام والقطف والقطاف (حتى إذا
بلغ أشده) أي بلغ استحكام قوته وعقله، وقد مضى تحقيق الأشد مستوفى ولا بد من تقدير جملة تكون حتى
غاية لها: أي عاش واستمرت حياته حتى بلغ أشده، قيل بلغ عمرة ثماني عشرة سنة، وقيل الأشد الحلم قاله
الشعبي وابن زيد. وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين، والأول أولى لقوله (وبلغ أربعين سنة) فإن هذا يفيد
أن بلوغ الأربعين هو شئ وراء بلوغ الأشد. قال المفسرون: لم يبعث الله نبيا قط إلا بعد أربعين سنة (قال رب
أوزعني) أي ألهمني. قال الجوهري: استوزعت الله فأوزعني: أي استلهمته فألهمني (أن أشكر نعمتك التي
أنعمت علي وعلى والدي) أي الهمني شكر ما أنعمت به على من الهداية، وعلى والدي من التحنن على منهما
حين ربياني صغيرا. وقيل أنعمت على بالصحة والعافية، وعلى والدي بالغنى والثروة، والأولى عدم تقييد النعمة
عليه وعلى أبويه بنعمة مخصوصة (وأن أعمل صالحا ترضاه) أي وألهمني أن أعمل عملا صالحا ترضاه منى (وأصلح لي
في ذريتي) أي اجعل ذريتي صالحين راسخين في الصلاح متمكنين منه. وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن
بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات، وقد روى أنها نزلت في أبي بكر كما سيأتي في آخر البحث
(إني تبت إليك) من ذنوبي (وإني من المسلمين) أي المستسلمين لك المنقادين لطاعتك المخلصين لتوحيدك،
والإشارة بقوله (أولئك) إلى الإنسان المذكور، والجمع لأنه يراد به الجنس وهو مبتدأ، وخبره (الذين نتقبل
عنهم أحسن ما عملوا) من أعمال الخير في الدنيا، والمراد بالأحسن الحسن كقوله - واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم -
وقيل إن اسم التفضيل على معناه، ويراد به ما يثاب العبد عليه من الأعمال، لا ما لا يثاب عليه كالمباح فإنه حسن
وليس بأحسن (ونتجاوز عن سيئاتهم) فلا نعاقبهم عليها. قرأ الجمهور " يتقبل ويتجاوز " على بناء الفعلين
للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي بالنون فيهما على إسنادهما إلى الله سبحانه، والتجاوز الغفران، وأصله من جزت
الشئ: إذا لم تقف عليه، ومعنى (في أصحاب الجنة) أنهم كائنون في عدادهم منتظمون في سلكهم، فالجار
والمجرور في محل النصب على الحال كقولك: أكرمني الأمير في أصحابه: أي كائنا في جملتهم، وقيل إن في بمعنى
مع: أي مع أصحاب الجنة، وقيل إنهما خبر مبتدأ محذوف: أي هم في أصحاب الجنة (وعد الصدق الذي كانوا
18

يوعدون) وعد الصدق مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، لأن قوله (أولئك الذين نتقبل عنهم) الخ في معنى
الوعد بالتقبل والتجاوز، ويجوز أن يكون مصدرا لفعل محذوف. أي وعدهم الله وعد الصدق الذي كانوا يوعدون
به على ألسن الرسل في الدنيا.
وقد أخرج أبو يعلي وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: " انطلق النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله يحط الله تعالى عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه، فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم رد
عليهم فلم يجبه أحد ثلاثا، فقال: أبيتم فوالله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا المقفي آمنتم أو كذبتم، ثم انصرف
وأنا معه حتى كدنا أن نخرج، فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد فأقبل، فقال ذلك الرجل: أي رجل
تعلموني فيكم يا معشر اليهود، فقالوا، والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من
جدك، قال: فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل، قالوا كذبت، ثم ردوا عليه
وقالوا شرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كذبتم لن يقبل منكم قولكم، فخرجنا ونحن ثلاثة، رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا وابن سلام، فأنزل الله - قل أرأيتم إن كان من عند الله - إلى قوله - لا يهدي القوم
الظالمين " وصححه السيوطي. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: ما سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزلت
- وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله -. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال:
نزل في آيات من كتاب الله نزلت في - وشهد شاهد من بني إسرائيل - ونزل في - قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم
ومن عنده علم الكتاب -. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (وشهد شاهد من بني
إسرائيل) قال. عبد الله بن سلام، وقد روى نحو هذا عن جماعة من التابعين. وفيه دليل على أن هذه الآية مدنية
فيخصص بها عموم قولهم إن سورة الأحقاف كلها مكية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: قال
ناس من المشركين نحن أعز ونحن ونحن، فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل (وقال الذين كفروا
للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه). وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب
أمة أسلمت قبله: يقال لها زنيرة، وكان عمر يضربها على الإسلام، وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيرا
ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله في شأنها (وقال الذين كفروا) الآية. وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " بنو غفار وأسلم كانوا لكثير من الناس فتنة، يقولون لو كان خيرا
ما جعلهم الله أول الناس فيه ". وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل
قوله (ووصينا الإنسان بوالديه) الآية إلى قوله (وعد الصدق الذي كانوا يوعدون) في أبي بكر الصديق. وأخرج
عبد الرزاق وابن المنذر عن نافع بن جبير أن ابن عباس أخبره قال: إني لصاحب المرأة التي أتى بها عمر وضعت
لستة أشهر فأنكر الناس ذلك. فقلت لعمر: لم تظلم؟ قال كيف؟ قلت اقرأ - وحمله وفصاله ثلاثون شهرا - والوالدات
يرضعن أولادهن حولين كاملين - كم الحول؟ قال سنة، قلت: كم السنة؟ قال اثنا عشر شهرا، قلت: فأربعة
وعشرون شهرا حولان كاملان، ويؤخر الله من الحمل ما شاء ويقدم ما شاء، فاستراح عمر إلى قولي. وأخرج
سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أنه كان يقول: إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع
19

أحد وعشرون شهرا، وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا، وإذا وضعت لستة أشهر
فحولان كاملان، لأن الله يقول (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا). وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال:
أنزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني) الآية، فاستجاب
الله له فأسلم والداه جميعا وإخوته وولده كلهم، ونزلت فيه أيضا - فأما من أعطى واتقى - إلى آخر السورة.
لما ذكر سبحانه من شكر نعمة الله سبحانه عليه وعلى والديه ذكر من قال لهما قولا يدل على التضجر منهما
عند دعوتهما له إلى الإيمان فقال (والذي قال لوالديه أف لكما) الموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول
ولهذا أخبر عنه بالجمع، وأف كلمة تصدر عن قائلها عند تضجره من شئ يرد عليه. قرأ نافع وحفص " أف "
بكسر الفاء مع التنوين. وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن بفتحها من غير تنوين، وقرأ الباقون بكسر من
غير تنوين وهي لغات، وقد مضى بيان الكلام في هذا في سورة بني إسرائيل، واللام في قوله " لكما " لبيان
التأفيف: أي التأفيف لكما كما في قوله - هيت لك - قرأ الجمهور (أتعدانني) بنونين مخففتين، وفتح ياءه أهل
المدينة ومكة وأسكنها الباقون. وقرأ أبو حيوة والمغيرة وهشام بإدغام إحدى النونين في الأخرى، ورويت هذه
القراءة عن نافع. وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمرو بفتح النون الأولى، كأنهم فروا من
توالي مثلين مكسورين. وقرأ الجمهور (أن أخرج) بضم الهمزة وفتح الراء مبنيا للمفعول. وقرأ الحسن ونصر
وأبو العالية والأعمش وأبو معمر بفتح الهمزة وضم الراء مبنيا للفاعل. والمعنى: أتعدانني أن أبعث بعد الموت،
وجملة (وقد خلت القرون من قبلي) في محل نصب على الحال: أي والحال أن قد مضت القرون من قبلي فماتوا ولم
يبعث منهم أحد، وهكذا جملة (وهما يستغيثان الله) في محل نصب على الحال: أي والحال أنهما يستغيثان الله له،
ويطلبان منه التوفيق إلى الإيمان، واستغاث يتعدى بنفسه وبالباء: يقال استغاث الله واستغاث به. وقال الرازي:
معناه يستغيثان بالله من كفره، فلما حذف الجار وصل الفعل، وقيل الاستغاثة الدعاء فلا حاجة إلى الباء. قال الفراء:
يقال أجاب الله دعاءه وغواثه، وقوله (ويلك) هو بتقدير القول: أي يقولان له ويلك، وليس المراد به الدعاء
عليه، بل الحث له على الإيمان، ولهذا قالا له (آمن إن وعد الله حق) أي آمن بالبعث إن وعد الله حق لا خلف
فيه (فيقول) عند ذلك مكذبا لما قالاه (ما هذا إلا أساطير الأولين) أي ما هذا الذي تقولانه من البعث إلا
20

أحاديث الأولين وأباطيلهم التي سطرونها في الكتب، قرأ الجمهور: إن وعد الله بكسر إن على الاستئناف أو التعليل
وقرأ عمر بن فايد والأعرج بفتحها على أنها معمولة لآمن بتقدير الباء. أي آمن بأن وعد الله بالبعث حق (أولئك
الذين حق عليهم القول) أي أولئك القائلون هذه المقالات هم الذين حق عليهم القول: أي وجب عليهم العذاب
بقوله سبحانه لإبليس - لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين - كما يفيده قوله (في أمم قد خلت من قبلهم
من الجن والإنس)، وجملة (إنهم كانوا خاسرين) تعليل لما قبله، وهذا يدفع كون سبب نزول الآية عبد الرحمن
ابن أبي بكر وأنه الذي قال لوالديه ما قال، فإنه من أفاضل المؤمنين، وليس ممن حقت عليه كلمة العذاب،
وسيأتي بيان سبب النزول في آخر البحث إن شاء الله (ولكل درجات مما عملوا) أي لكل فريق من الفريقين
المؤمنين والكافرين من الجن والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم، قال ابن زيد: درجات أهل النار في
هذه الآية تذهب سفلا، ودرجات أهل الجنة تذهب علوا (وليوفيهم أعمالهم) أي جزاء أعمالهم. قرأ الجمهور
" لنوفيهم " بالنون. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بالياء التحتية. واختار أبو عبيد القراءة
الأولى، واختار الثانية أبو حاتم (وهم لا يظلمون) أي لا يزاد مسئ ولا ينقص محسن، بل يوفى كل فريق ما يستحقه
من خير وشر، والجملة في محل نصب على الحال، أو مستأنفة مقررة لما قبلها (ويوم يعرض الذين كفروا على
النار) الظرف متعلق بمحذوف: أي أذكر لهم يا محمد يوم ينكشف الغطاء فينظرون إلى النار ويقربون منها،
وقيل معنى يعرضون يعذبون من قولهم: عرضه على السيف، وقيل في الكلام قلب. والمعنى: تعرض النار
عليهم (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) أي يقال لهم ذلك، قيل وهذا القدر هو الناصب للظرف، والأول أولى
قرأ الجمهور: " أذهبتم " بهمزة واحدة، وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية ويعقوب وابن كثير بهمزتين مخففتين، ومعنى
الاستفهام التقريع والتوبيخ. قال الفراء والزجاج: العرب توبخ بالاستفهام وبغيره، فالتوبيخ كائن على القراءتين.
قال الكلبي: المراد بالطيبات اللذات وما كانوا فيه من المعايش (واستمتعتم بها) أي بالطيبات، والمعنى: أنهم
اتبعوا الشهوات واللذات التي في معاصي الله سبحانه، ولم يبالوا بالذنب تكذيبا منهم لما جاءت به الرسل من الوعد
بالحساب والعقاب والثواب (فاليوم تجزون عذاب الهون) أي العذاب الذي فيه ذل لكم وخزي عليكم. قال مجاهد
وقتادة: الهون الهوان بلغة قريش (بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق) أي بسبب تكبركم عن عبادة الله
والإيمان به وتوحيده (وبما كنتم تفسقون) أي تخرجون عن طاعة الله وتعملون بمعاصيه، فجعل السبب في عذابهم
أمرين: التكبر عن اتباع الحق، والعمل بمعاصي الله سبحانه وتعالى، وهذا شأن الكفرة فإنهم قد جمعوا بينهما.
وقد أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية بن أبي سفيان، فنخطب
فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال خذوه، فدخل
بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا أنزل فيه (والذي قال لوالديه أف لكما) فقالت عائشة:
ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه
وابن مردويه عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن
سنة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي قال الله فيه (والذي قال لوالديه أف لكما) الآية، فبلغ ذلك عائشة
فقالت: كذب مروان والله ما هو به، ولو شئت أن أسمى الذي نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لعن أبا مروان في صلبه، فمروان من لعنه الله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية
قال: هذا ابن لأبي بكر. وأخرج نحوه أبو حاتم عن السدى، ولا يصح هذا كما قدمنا.
21

قوله (واذكر أخا عاد) أي واذكر يا محمد لقومك أخا عاد، وهو هود بن عبد الله بن رباح كان أخاهم
في النسب، لا في الدين، وقوله (إذ أنذر قومه) بدل اشتمال منه: أي وقت إنذاره إياهم (بالأحقاف) وهي ديار عاد
جمع حقف، وهو الرمل العظيم المستطيل المعوج قاله الخليل وغيره وكانوا قهروا أهل الأرض بقوتهم، والمعنى
أن الله سبحانه أمره أن يذكر لقومه قصتهم ليتعظوا ويخافوا، وقيل أمره بأن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود ليقتدي
به ويهون عليه تكذيب قومه. قال عطاء: الأحقاف رمال بلاد الشجر. وقال مقاتل: هي باليمن في حضرموت
وقال ابن زيد: هي رمال مبسوطة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالا (وقد خلت النذر من بين يديه
ومن خلفه) أي وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده كذا قال الفراء وغيره. وفي قراءة ابن مسعود " من بين يديه
ومن بعده " والجملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون معترضة بين إنذار هود وبين قوله لقومه (إني
أخاف عليكم) والأول أولى. والمعنى: أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون
نحو إنذاره، ثم رجع إلى كلام هود لقومه، فقال حاكيا عنه (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) وقيل إن جعل
تلك الجملة اعتراضية أولى بالمقام وأوفق بالمعنى (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا) أي لتصرفنا عن عبادتها، وقيل
لتزيلنا، وقيل لتمنعنا والمعنى متقارب، ومنه قول عروة بن أذينة:
إن تك عن حسن الصنيعة مأفو * كا ففي آخرين قد أفكوا
يقول: إن لم توفق للإحسان فأنت في قوم قد صرفوا عن ذلك (فأتنا بما تعدنا) من العذاب العظيم (إن كنت
22

من الصادقين) في وعدك لنا به (قال إنما العلم عند الله) أي إنما العلم بوقت مجيئه عند الله لا عندي (وأبلغكم
ما أرسلت به) إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار، فأما العلم بوقت مجئ العذاب فما أوحاه إلى (ولكني أراكم
قوما تجهلون) حيث بقيتم مصرين على كفركم ولم تهتدوا بما جئتكم به، بل اقترحتم على ما ليس من وظائف الرسل
(فلما رأوه عارضا) الضمير يرجع إلى " ما " في قوله " بما تعدنا ". وقال المبرد والزجاج: الضمير في " رأوه "
يعود إلى غير مذكور وبينه قوله (عارضا) فالضمير يعود إلى السحاب: أي فلما رأوا السحاب عارضا، فعارضا
نصب على التكرير: يعني التفسير، وسمى السحاب عارضا لأنه يبدو في عرض السماء. قال الجوهري: العارض
السحاب يعترض في الأفق، ومنه قوله - هذا عارض ممطرنا - وانتصاب عارضا على الحال أو التمييز (مستقبل
أوديتهم) أي متوجها نحو أوديتهم. قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياما، فساق الله إليهم سحابة
سوداء، فخرجت عليهم من واد لهم: يقال له المعتب، فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا، و (قالوا هذا
عارض ممطرنا) أي غيم فيه مطر، وقوله (مستقبل أوديتهم) صفة لعارض لأن إضافته لفظية لا معنوية، فصح
وصف النكرة به، وهكذا ممطرنا، فلما قالوا ذلك أجاب عليهم هود، فقال (بل هو ما استعجلتم به) يعني من
العذاب حيث قالوا - فأمتنا بما تعدنا - وقوله (ريح) بدل من ما، أو خبر مبتدأ محذوف، وجملة (فيها عذاب أليم
) صفة لريح، والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه (تدمر كل شئ بأمر ربها) هذه الجملة
صفة ثانية لريح أي تهلك كل شئ مرت به من نفوس عاد وأموالها، والتدمير: الإهلاك، وكذا الدمار،
وقرئ " يدمر " بالتحتية مفتوحة وسكون الدال وضم الميم ورفع كل على الفاعلية من دمر دمارا، ومعنى (بأمر
ربها) أن ذلك بقضائه وقدره (فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم) أي لا ترى أنت يا محمد أو كل من يصلح للرؤية
إلا مساكنهم بعد ذهاب أنفسهم وأموالهم. قرأ الجمهور " لا ترى " بالفوقية على الخطاب، ونصب مساكنهم.
وقرأ حمزة وعاصم بالتحتية مضمومة مبنيا للمفعول ورفع مساكنهم. قال سيبويه: معناه لا يرى أشخاصهم إلا
مساكنهم، واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الثانية. قال الكسائي والزجاج: معناها لا يري شئ إلا مساكنهم
فهي محمولة على المعنى كما تقول: ما قام إلا هند، والمعنى: ما قام أحد إلا هند، وفي الكلام حذف، والتقدير:
فجاءتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم (كذلك نجزي القوم المجرمين) أي مثل ذلك الجزاء نجزي
هؤلاء، وقد مر بيان هذه القصية في سورة الأعراف (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) قال المبرد: ما في قوله فيما
بمنزلة الذي وإن بمنزلة بمنزلة ما: يعني النافية وتقديره: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من المال وطول العمر
وقوة الأبدان، وقيل " إن " زائدة وتقديره: ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه، وبه قال قال القتيبي، ومثله قول الشاعر:
فما إن طبن جبن ولكن * منايانا ودولة آخرينا
والأول أولى لأنه أبلغ في التوبيخ لكفار قريش وأمثالهم (وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة) أي إنهم أعرضوا عن
قبول الحجة والتذكر مع ما أعطاهم الله من الحواس التي بها تدرك الأدلة، ولهذا قال (فما أغنى عنهم سمعهم ولا
أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ) أي فما نفعهم ما أعطاهم الله من ذلك حيث لم يتوصلوا به إلى التوحيد وصحة الوعد
والوعيد، وقد قدمنا من الكلام على وجه إفراد السمع وجمع البصر ما يغنى عن الإعادة، و " من " في (من شئ)
زائدة، والتقدير: فما أغنى عنهم شئ من الأغناء ولا نفعهم بوجه من وجوه النفع (إذ كانوا يجحدون بآيات
الله) الظرف متعلق بأغنى، وفيها معنى التعليل: أي لأنهم كانوا يجحدون (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) أي
أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء حيث قالوا (فأتنا بما تعدنا). (ولقد أهلكنا ما حولكم
23

من القرى) الخطاب لأهل مكة، والمراد بما حولهم من القرى قرى ثمود، وقرى لوط ونحوهما مما كان مجاورا
لبلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم (وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون) أي بينا الحجج ونوعناها لكي
يرجعوا عن كفرهم فلم يرجعوا. ثم ذكر سبحانه أنه لم ينصرهم من عذاب الله ناصر فقال (فلولا نصرهم الذين
اتخذوا من دون الله قربانا آلهة) أي فهلا نصرهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا - هؤلاء
شفعاؤنا عند الله - ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم. قال الكسائي: القربان كل ما يتقرب به إلى الله من طاعة ونسيكة
والجمع قرابين كالرهبان والرهابين، وأحد مفعولي اتخذوا ضمير راجع إلى الموصول، والثاني آلهة، وقربانا
حال، ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا، وآلهة بدلا منه لفساد المعنى، وقيل يصح ذلك ولا يفسد المعنى،
ورجحه ابن عطية وأبو البقاء وأبو حيان، وأنكر أن يكون في المعنى فساد على هذا الوجه (بل ضلوا عنهم) أي
غابوا عن نصرهم ولم يحضروا عند الحاجة إليهم، وقيل بل هلكوا، وقيل الضمير في ضلوا راجع إلى الكفار:
أي تركوا الأصنام وتبرءوا منها، والأول أولى، والإشارة بقوله (وذلك) إلى ضلال آلهتهم. والمعنى وذلك
الضلال والضياع أثر (إفكهم) الذي هو اتخاذهم إياها آلهة وزعمهم أنها تقربهم إلى الله. قرأ الجمهور " إفكهم "
بكسر الهمزة وسكون الفاء مصدر أفك يأفك إفكا: أي كذبهم. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد بفتح الهمزة
والفاء والكاف على أنه فعل: أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد. وقرأ عكرمة بفتح الهمزة وتشديد الفاء: أي
صيرهم آفكين. قال أبو حاتم: يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم، وروى عن ابن عباس أنه قرأ بالمد وكسر
الفاء بمعنى صارفهم (وما كانوا يفترون) معطوف على إفكهم: أي وأثر افترائهم أو أثر الذي كانوا يفترونه.
والمعنى: وذلك إفكهم: أي كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم (وما كانوا يفترون) أي
يكذبون أنها آلهة.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأحقاف جبل بالشام. وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم من طرق عنه في قوله (هذا عارض ممطرنا) قال: هو السحاب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن
عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان
يتبسم، وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه، قلت: يا رسول الله، الناس إذا رأو الغيم فرحوا أن
يكون فيه المطر. وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، قال: " يا عائشة: وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب،
قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب، فقالوا - هذا عارض ممطرنا - ". وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن
ماجة عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا عصفت الريح قال: " اللهم إني أسألك خيرها وخير
ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، فإذا تخيلت السماء تغير لونه
وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرى عنه، فسألته فقال: لا أدري، لعله كما قال قوم عاد - هذا
عارض ممطرنا - " وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله (فلما
رأوه عارضا مستقبل أوديتهم) قالوا غيم فيه مطر، فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجا من رجالهم
ومواشيهم تطير بين السماء والأرض مثل الريش دخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح ففتحت أبوابهم
ومالت عليهم بالرمل، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوما لهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم
الرمل وطرحتهم في البحر، فقهو قوله (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والحاكم
وصححه عن ابن عباس قال: ما أرسل الله على عاد من الريح إلا قدر خاتمي هذا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
24

عنه في قوله (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) يقول: لم نمكنكم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في
الآية قال: عاد مكنوا في الأرض أفضل مما مكنت فيه هذه الأمة، وكانوا أشد قوة أكثر أموالا وأطول أعمارا.
لما بين سبحانه أن في الإنس من آمن، وفيهم من كفر بين أيضا أن في الجن كذلك، فقال (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن) العامل في الظرف مقدر: أي وادكر إذ صرفنا. أي وجهنا إليك نفرا من الجن وبعثناهم
إليك، وقوله (يستمعون القرآن) في محل نصب صفة ثانية لنفرا أو حال لأن النكرة قد تخصصت بالصفة الأولى
(فلما حضروه) أي حضروا القرآن عند تلاوته، وقيل حضروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكون في
الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، والأول أولى (قالوا أنصتوا) أي قال بعضهم لبعض اسكتوا، أمروا
بعضهم بعضا بذلك لأجل أن يسمعوا (فلما قضى) قرأ الجمهور " قضى " مبنيا للمفعول: أي فرغ من تلاوته.
وقرأ حبيب بن عبيد الله بن الزبير ولا حق بن حميد وأبو مجلز على البناء للفاعل: أي فرغ النبي صلى الله عليه وآله
وسلم من تلاوته، والقراءة الأولى تؤيد أن الضمير في " حضروه " للقرآن، والقراءة الثانية تؤيد أنه للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم (ولوا إلى قومهم منذرين) أي انصرفوا قاصدين إلى من وراءهم من قومهم منذرين لهم عن مخالفة
القرآن ومحذرين لهم، وانتصاب: منذرين على الحال المقدرة أي مقدرين الإنذار، وهذا يدل على أنهم آمنوا
بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسيأتي في آخر البحث بيان ذلك (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد
موسى) يعنون القرآن، وفي الكلام حذف، والتقدير: فوصلوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا قال عطاء: كانوا
يهودا فأسلموا (مصدقا لما بين يديه) أي لما قبله من الكتب المنزلة (يهدى إلى الحق) أي إلى الدين الحق (وإلى
طريق مستقيم) أي إلى طريق الله القويم). قال مقاتل: لم يبعث الله نبيا إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه
25

وآله وسلم (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به) يعنون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أو القرآن (يغفر لكم من
ذنوبكم) أي بعضها، وهو ما عدا حق العباد، وقيل إن من هنا لابتداء الغاية. والمعنى: أنه يقع ابتداء الغفران من
الذنوب ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى، وقيل هي زائدة (ويجركم من عذاب أليم) وهو عذاب النار،
وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجن حكم الإنس في الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي. وقال الحسن
ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، وبه قال أبو حنيفة. والأول أولى، وبه قال مالك والشافعي وابن
أبي ليلى. وعلى القول الأول، فقال القائلون به أنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم: كونوا ترابا، كما يقال للبهائم
والثاني أرجح. وقد قال الله سبحانه في مخاطبة الجن والإنس - ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما
تكذبان - فأمتن سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، ولا ينافي هذا الاقتصار ها هنا على ذكر إجارتهم
من عذاب أليم، ومما يؤيد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار وهو مقام عدل، فكيف لا يجازي محسنهم
بالجنة وهو مقام فضل، ومما يؤيد هذا أيضا ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة، وجزاء من
عمل الصالحات الجنة، وجزاء من قال لا إله إلا الله الجنة، وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة.
وقد اختلف أهل العلم هل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم أم لا، وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس
فقط كما في قوله - وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى -. وقال - وما أرسلنا قبلك من
المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق - وقال سبحانه في إبراهيم الخليل - وجعلنا في ذريته النبوة
والكتاب -، فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فهو من ذريته، وأما قوله تعالى في سورة الأنعام - يا معشر الجن والإنس
ألم يأتكم رسل منكم - فقيل المراد من مجموع الجنسين وصدق على أحدهما، وهم الإنس: كقوله - يخرج منهما
اللؤلؤ والمرجان - أي من أحدهما (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض) أي لا يفوت الله ولا يسبقه
ولا يقدر على الهرب منه، لأنه وإن هرب كل مهرب فهو في الأرض لا سبيل له إلى الخروج منها، وفي هذا
ترهيب شديد (وليس له من دونه أولياء أي أنصار يمنعونه من عذاب الله، بين سبحانه بعد استحالة نجاته بنفسه
استحالة نجاته بواسطة غيره، والإشارة بقوله (أولئك) إلى من لا يجب داعي الله، وأخبر أنهم (في ضلال مبين)
أي ظاهر واضح. ثم ذكر سبحانه دليلا على البعث، فقال (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض)
الرؤية هنا هي القلبية التي بمعنى العلم والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر: أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن
الذي خلق هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض ابتداء (ولم يعي بخلقهن) أي لم يعجزه عن ذلك ولا ضعف
عنه، يقال على بالأمر وعي: إذا لم يهتد لوجهه، ومنه قول الشاعر:
عيوا بأمرهم كما * عيت ببيضتها الحمامة
قرأ الجمهور " ولم يعي " بسكون العين وفتح الياء مضارع عيى. وقرأ الحسن بكسر العين وسكون الياء (بقادر
على أن يحيى الموتى). قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة للتوكيد، كما في قوله - وكفى بالله شهيدا -. قال
الكسائي والفراء والزجاج: العرب تدخل الباء مع الجحد والاستفهام، فنقول ما أظنك بقائم، والجار والمجرور
في محل رفع على أنهما خبر لأن، وقرأ ابن مسعود وعيسى بن عمر والأعرج والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب
وزيد بن علي " يقدر " على صيغة المضارع، واختار أبو عبيد القراءة الأولى، واختار أبو حاتم القراءة الثانية قال:
لأن دخول الباء في خبر أن قبيح (بلى إنه على كل شئ قدير) لا يعجزه شئ (ويوم يعرض الذين كفروا على
النار) الظرف متعلق بقول مقدر: أي يقال ذلك اليوم للذين كفروا (أليس هذا بالحق) وهذه الجملة هي المحكية
26

بالقول، والإشارة بهذا إلى ما هو مشاهد لهم يوم عرضهم على النار، وفي الاكتفاء بمجرد الإشارة من التهويل
للمشار إليه والتفخيم لشأنه ما لا يخفي، كأنه أمر لا يمكن التعبير عنه بلفظ يدل عليه (قالوا بلى وربنا) اعترفوا حين
لا ينفعهم الاعتراف، وأكدوا هذا الاعتراف بالقسم، لأن المشاهدة هي حق اليقين الذي لا يمكن جحده ولا
إنكاره (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) أي بسبب كفركم بهذا في الدنيا وإنكاركم له، وفي هذا الأمر لهم
بذوق العذاب بتوبيخ بالغ وتهكم عظيم. لما قرر سبحانه الأدلة على النبوة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر فقال
(فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) والفاء جواب شرط محذوف: أي إذا عرفت ذلك وقامت عليه البراهين
ولم ينجع في الكافرين فاصبر كما صبر أولو العزم: أي أرباب الثباب والحزم فإنك منهم. قال مجاهد: أولوا
العزم من الرسل خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهم أصحاب الشرائع
وقال أبو العالية: هم نوح وهود وإبراهيم، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم. وقال السدى: هم ستة إبراهيم
وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل نوح وهود وصالح وشعيب ولوط
وموسى. وقال ابن جريح: إن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب وليس منهم يونس. وقال الشعبي والكلبي: هم
الذين أمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة، وقيل هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام
وهم ثمانية عشر: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وزكريا ويحيى
وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط. واختار هذا الحسين بن الفضل لقوله بعد ذكرهم - أولئك
الذين هداهم الله فبهداهم اقتده - وقيل إن الرسل كلهم أولوا عزم، وقيل هم اثنا عشر نبيا أرسلوا إلى بني إسرائيل.
وقال الحسن: هم أربعة: إبراهيم وموسى وداود وعيسى (ولا تستعجل لهم) أي لا تستعجل العذاب يا محمد
للكفار. لما أمره سبحانه بالصبر ونهاه عن استعجال العذاب لقومه رجاء أن يؤمنوا قال (كأنهم يوم يرون
ما يوعدون) من العذاب (لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) أي كأنهم يوم يشاهدونه في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلا قدر
ساعة من ساعات الأيام لما يشاهدونه من الهول العظيم والبلاء المقيم. قرأ الجمهور (بلاغ) بالرفع على أنه خبر
مبتدأ محذوف: أي هذا الذي وعظتهم به بلاغ، أو تلك الساعة بلاغ، أو هذا القرآن بلاغ، أو هو مبتدأ،
والخبر لهم الواقع بعد قوله (ولا تستعجل) أي لهم بلاغ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وزيد بن علي بلاغا بالنصب
على المصدر: أي بلغ بلاغا، وقرأ أبو مجلز " بلغ " بصيغة الأمر. وقرئ " بلغ " بصيغة الماضي (فهل يهلك إلا
القوم الفاسقون) قرأ الجمهور " فهل يهلك " على البناء للمفعول. وقرأ ابن محيصن على البناء للفاعل، والمعنى: أنه
لا يهلك بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن الطاعة الواقعون في معاصي الله. قال قتادة: لا يهلك على الله إلا هالك
مشرك. قيل وهذه الآية أقوى آية في الرجاء. قال الزجاج: تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن منيع والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن
ابن مسعود قال: هبطوا، يعنى الجن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه
قالوا أنصتوا، قالوا صه، وكانوا تسعة أحدهم زوبعة، فأنزل الله (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن) إلى قوله
(ضلال مبين). وأخرج أحمد وابن جرير وابن مردويه عن الزبير (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن)
قال: بنخلة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي العشاء الآخرة - كادوا يكونون عليه لبدا -. وأخرج ابن
جرير والطبراني وابن مردويه (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن) الآية. قال كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسلا إلى قومهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم عنه
27

نحوه وقال: أتوه ببطن نخلة. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عنه أيضا قال: صرفت الجن إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين وكانوا أشراف الجن بنصيبين. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق
قال: سألت ابن مسعود من آذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ قال: آذنته بهم
شجرة. وأخرج عبد بن حميد وأحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم منكم أحدا ليلة الجن؟ قال: ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة، فقلنا اغتيل
استطير ما فعل؟ فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح إذا نحن به يجئ من قبل حراء،
فأخبرناه فقال: إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن، فانطلق فأرانا أثارهم وآثار نيرانهم. وأخرج
أحمد عن ابن مسعود قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن. وقد روى نحو هذا من طرق.
والجمع بين الروايات بالحمل على قصتين وقعت منه صلى الله عليه وآله وسلم مع الجن حضر إحداهما ابن مسعود
ولم يحضر في الأخرى. وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجن بعد هذا وفدت على رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم مرة بعد مرة وأخذوا عنه الشرائع. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال (أولو العزم من
الرسل) النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى. وأخرج ابن مردويه عنه قال: هم الذين
أمروا بالقتال حتى مضوا على ذلك نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان. وأخرج ابن مردويه عن جابر بن
عبد الله قال: بلغني أن أولى العزم من الرسل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر. وأخرج ابن أبي حاتم والديلمي عن
عائشة قالت: ظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صائما ثم طوى، ثم ظل صائما ثم طوى، ثم ظل صائما
قال: يا عائشة إن الدين لا ينبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله لم يرض من أولى العزم من الرسل إلا بالصبر
على مكروهها والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم، فقال (أصبر كما صبر أولو العزم
من الرسل) وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي، ولا قوة إلا بالله.
تفسير سورة محمد
صلى الله عليه وآله وسلم
وتسمى سورة القتال، وسورة الذين كفروا. وهي تسع وثلاثون آية، وقيل ثمان وثلاثون.
وهي مدنية. قال الماوردي: في قول الجميع، إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت بعد
حجة الوداع حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت، وهو يبكي حزنا عليه، فنزل قوله تعالى (وكأين من
قرية هي أشد قوة من قريتك) وقال الثعلبي: إنها مكية. وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير وهو
غلط من القول، فالسورة مدنية كما لا يخفى. وقد أخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال: نزلت سورة القتال
بالمدينة. وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه قال: نزلت سورة محمد بالمدينة. وأخرج ابن
مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت بالمدينة سورة الذين كفروا وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ بهم في المغرب - الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله -.
28

قوله (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) هم كفار قريش كفروا بالله وصدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل
الله، وهو دين الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه، كذا قال مجاهد والسدي. وقال الضحاك: معنى عن سبيل الله:
عن بيت الله بمنع قاصديه. وقيل هم أهل الكتاب والموصول مبتدأ وخبره (أضل أعمالهم) أي أبطلها وجعلها
ضائعة. قال الضحاك: معنى أضل أعمالهم أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعل الدائرة
عليهم في كفرهم. وقيل أبطل ما عملوه في الكفر مما كانوا يسمونه مكارم أخلاق. من صلة الأرحام وفك الأسارى
وقري الأضياف، وهذه وإن كانت باطلة من أصلها، لكن المعنى أنه سبحانه حكم ببطلانها. ولما ذكر فريق
الكافرين أتبعهم بذكر فريق المؤمنين فقال (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد) ظاهر هذا
العموم فيدخل تحته كل مؤمن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات ولا يمنع من ذلك خصوص سببها، فقد قيل
إنها نزلت في الأنصار، وقيل في ناس من قريش، وقيل في مؤمني أهل الكتاب، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب، وخص سبحانه الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر مع اندراجه
29

تحت مطلق الإيمان المذكور قبله تنبيها على شرفه وعلو مكانه وجملة (وهو الحق من ربهم) معترضة بين المبتدأ،
وهو قوله (والذين آمنوا)، وبين خبرة وهو قوله (كفر عنهم سيآتهم) ومعنى كونه الحق أنه الناسخ لما قبله،
وقوله (من ربهم) في محل نصب على الحال، ومعنى كفر عنهم سيآتهم: أي السيئات التي عملوها فيما مضى فإنه
غفرها لهم بالإيمان والعمل الصالح (وأصلح بالهم) أي شأنهم وحالهم. قال مجاهد: شأنهم، وقال قتادة: حالهم،
وقيل أمرهم، والمعاني متقاربة. قال المبرد: البال الحال ها هنا. قيل والمعنى: أنه عصمهم عن المعاصي في حياتهم
وأرشدهم إلى أعمال الخير، وليس المراد إصلاح حال دنياهم من إعطائهم المال، ونحو ذلك، وقال النقاش: إن
المعنى أصلح نياتهم، ومنه قول الشاعر:
فإن تقبلي بالود أقبل بمثله * وإن تدبري أذهب إلى حال باليا
والإشارة بقوله (ذلك) إشارة إلى ما مر مما أوعد به الكفار ووعد به المؤمنين، وهو مبتدأ خبره ما بعده،
وقيل إنه خبر مبتدأ محذوف: أي الأمر ذلك (ب‍) سبب (أن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق
من ربهم) فالباطل الشرك، والحق التوحيد والإيمان، والمعنى: أن ذلك الإضلال لأعمال الكافرين بسبب اتباعهم
الباطل من الشرك بالله والعمل بمعاصيه، وذلك التكفير لسيئات المؤمنين وإصلاح بالهم بسبب اتباعهم للحق
الذي أمر الله باتباعه من التوحيد والإيمان وعمل الطاعات (كذلك يضرب الله للناس أمثالهم) أي مثل ذلك الضرب
يبين للناس أمثالهم: أي أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة. قال الزجاج: كذلك يضرب يبين الله
للناس أمثال حسنات المؤمنين وإضلال أعمال الكافرين: يعني أن من كان كافرا أضل الله عمله، ومن كان مؤمنا
كفر الله سيئاته (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) لما بين سبحانه حال الفريقين أمر بجهاد الكفار،
والمراد بالذين كفروا المشركين ومن لم يكن صاحب عهد من أهل الكتاب، وانتصاب ضرب على أنه مصدر
لفعل محذوف. وقال الزجاج: أي فاضربوا الرقاب ضربا، وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون
بقطعها، وقيل هو منصوب على الإغراء. قال أبو عبيدة: هو كقولهم: يا نفس صبرا، وقيل التقدير: اقصدوا
ضرب الرقاب. وقيل إنما خص ضرب الرقاب لأن في التعبير عنه من الغلظة والشدة ما ليس في نفس القتل، وهي
حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأحسن أعضائه (حتى إذا أثخنتموهم) أي بالغتم في قتلهم
وأكثرتم القتل فيهم، وهذه غاية للأمر بضرب الرقاب، لا لبيان غاية القتل، وهو مأخوذ من الشئ الثخين:
أي الغليظ، وقد مضى تحقيق معناه في سورة الأنفال (فشدوا الوثاق) الوثاق بالفتح ويجئ بالكسر: اسم
الشئ الذي يوثق به كالرباط. قال الجوهري: وأوثقه في الوثاق: أي شده، قال: والوثاق بكسر الواو لغة
فيه. قرأ الجمهور " فشدوا " بضم الشين، وقرأ السلمي بكسرها. وإنما أمر سبحانه بشد الوثائق لئلا ينفلتوا،
والمعنى: إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم وأحيطوهم بالوثاق (فإما منا بعد وإما فداء) أي فإما أن تمنوا عليهم بعد
الأسر منا، أو تفدوا فداء، والمن: الإطلاق بغير عوض، والفداء: ما يفدي به الأسير نفسه من الأسر، ولم
يذكر القتل هنا اكتفاء بما تقدم. قرأ الجمهور " فداء " بالمد. وقرأ ابن كثير " فدى " بالقصر، وإنما قدم المن
على الفداء، لأنه من مكارم الأخلاق، ولهذا كانت العرب تفتخر به، كما قال شاعرهم:
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم * إذا أثقل الأعناق جمل المغارم
ثم ذكر سبحانه الغاية لذلك فقال (حتى تضع الحرب أوزارها) أوزار الحرب التي لا تقوم إلا بها من
السلاح والكراع، أسند الوضع إليها وهو لأهلها على طريق المجاز، والمعنى: أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور
30

إلى غاية هي أن لا يكون حرب مع الكفار. قال مجاهد: المعنى حتى لا يكون دين غير دين الإسلام وبه قال
الحسن والكلبي. قال الكسائي: حتى يسلم الخلق. قال الفراء: حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقيل المعنى: حتى
يضع الأعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة. وروى عن الحسن وعطاء أنهما قالا:
في الآية تقديم وتأخير، والمعنى: فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق.
وقد اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة، فقيل إنها منسوخة في أهل الأوثان وأنه
لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم، والناسخ لها قوله - فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم - وقوله - فإما تثقفنهم في
الحرب فشرد بهم من خلفهم - وقوله - وقاتلوا المشركين كافة - وبهذا قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريح
وكثير من الكوفيين: قالوا: والمائدة آخر ما نزل، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على
تركه من النساء والصبيان ومن تؤخذ منه الجزية، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة. وقيل إن هذه الآية
ناسخة لقوله - فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم - روى ذلك عن عطاء وغيره. وقال كثير من العلماء: إن الآية
محكمة والإمام مخير بين القتل والأسر، وبعد الأسر مخير بين المن والفداء. وبه قال مالك والشافعي والثوري
والأوزاعي وأبو عبيد وغيرهم. وهذا هو الراجح لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين من بعده
فعلوا ذلك. وقال سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله - ما كان لنبي أن
يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض - فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره (ذلك ولو
يشاء الله لانتصر منهم) محل ذلك الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي الأمر ذلك، وقيل في محل نصب على
المفعولية بتقدير فعل: أي افعلوا ذلك، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف يدل عليه ما تقدم: أي ذلك حكم
الكفار، ومعنى لو يشاء الله لانتصر منهم: أي قادر على الانتصار منهم بالانتقام منهم وإهلاكهم وتعذيبهم بما
شاء من أنواع العذاب (ولكن) أمركم بحربهم (ليبلو بعضكم ببعض) أي ليختبر بعضكم ببعض فيعلم المجاهدين
في سبيله والصابرين على ابتلائه ويجزل ثوابهم ويعذب الكفار بأيديهم (والذين قتلوا في سبيل الله) قرأ الجمهور
قاتلوا مبنيا للفاعل، وقرأ أبو عمرو وحفص " قتلوا " مبنيا للمفعول، وقرأ الحسن بالتشديد مبنيا للمفعول أيضا. وقرأ
الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة " قتلوا " على البناء للفاعل مع التخفيف من غير ألف، والمعنى على القراءة
الأولى والرابعة: أن المجاهدين في سبيل الله ثوابهم غير ضائع، وعلى القراءة الثانية والثالثة: أن المقتولين في سبيل
الله كذلك لا يضيع الله سبحانه أجرهم. قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد. ثم ذكر سبحانه ما لهم
عنده من جزيل الثواب فقال (سيهديهم) أي سيهديهم الله سبحانه إلى الرشد في الدنيا ويعطيهم الثواب في الآخرة
(ويصلح بالهم) أي حالهم وشأنهم وأمرهم. قال أبو العالية: قد ترد الهداية، والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك
الجنان والطريق المفضية إليها، وقال ابن زياد: يهديهم إلى محاجة منكر ونكير (ويدخلهم الجنة عرفها لهم) أي
بينها لهم حتى عرفوها من غير استدلال، وذلك أنهم إذا دخلوا الجنة تفرقوا إلى منازلهم. قال الواحدي: هذا قول
عامة المفسرين. وقال الحسن: وصف الله لهم الجنة في الدنيا، فلما دخلوها عرفوها بصفتها. وقيل فيه حذف:
أي عرفوا طرقها ومساكنها وبيوتها. وقيل هذا التعريف بدليل يدلهم عليها، وهو الملك الموكل بالعبد يسير بين يديه
حتى يدخله منزله، كذا قال مقاتل. وقيل معنى عرفها لهم طيبها بأنواع الملاذ، مأخوذ من العرف، وهو الرائحة.
ثم وعدهم سبحانه على نصر دينه بقوله (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم) أي إن تنصروا دين الله ينصركم
على الكفار ويفتح لكم، ومثله قوله - ولينصرن الله من ينصره -. قال قطرب: إن تنصروا نبي الله ينصركم
(ويثبت أقدامكم) أي عند القتال وتثبت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في مواطن الحرب، وقيل على
الإسلام، وقيل على الصراط (والذين كفروا فتعسا لهم) الموصول في محل رفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف
31

تقديره فتعسوا بدليل ما بعده، ودخلت الفاء تشبيها للمبتدإ بالشرط، وانتصاب تعسا على المصدر للفعل المقدر
خبرا. قال الفراء: مثل سقيا لهم ورعيا، وأصل التعس الانحطاط والعثار. قال ابن السكيت: التعس أن يجر على
وجهه، والنكس أن يجر على رأسه، قال: والتعس أيضا الهلاك. قال الجوهري: وأصله الكب وهو ضد
الانتعاش، ومنه قول مجمع بن هلال:
تقول وقد أفردتها من حليلها * تعست كما أتعستني يا مجمع
قال المبرد: أي فمكروها لهم، وقال ابن جريج: بعدا لهم، وقال السدي: خزيا لهم. وقال ابن زيد: شقاء
لهم. وقال الحسن: شتما لهم. وقال ثعلب: هلاكا لهم، وقال الضحاك: خيبة لهم: وقيل قبحا لهم، حكاه
النقاش. وقال الضحاك: رغما لهم. وقال ثعلب أيضا: شرا لهم. وقال أبو العالية: شقوة لهم. واللام في لهم
للبيان كما في قوله - هيت لك - وقوله (وأضل أعمالهم) معطوف على ما قبله داخل معه في خبرية الموصول،
والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم مما ذكره الله من التعس والإضلال: أي الأمر ذلك، أو ذلك الأمر (بأنهم
كرهوا ما أنزل الله) على رسوله من القرآن، أوما أنزل على رسله من كتبه لاشتمالها على ما في القرآن من التوحيد
والبعث (فأحبط) الله (أعمالهم) بذلك السبب، والمراد بالأعمال ما كانوا عملوا من أعمال الخير في الصورة وإن
كانت باطلة من الأصل، لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه. ثم خوف سبحانه الكفار وأرشدهم إلى الاعتبار
بحال من قبلهم فقال (أفلم يسيروا في الأرض) أي ألم يسيروا في أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا
(فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) أي آخر أمر الكافرين قبلهم، فإن آثار العذاب في ديارهم باقية.
ثم بين سبحانه ما صنع بمن قبلهم فقال (دمر الله عليهم) والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، والتدمير الإهلاك:
أي أهلكهم واستأصلهم، يقال دمره ودمر عليه بمعنى. ثم توعد مشركي مكة فقال (وللكافرين أمثالها) أي
لهؤلاء الكافرين أمثال عاقبة من قبلهم من الأمم الكافرة. قال الزجاج وابن جرير: الضمير في أمثالها يرجع إلى
عاقبة الذين من قبلهم، وإنما جمع لأن العواقب متعددة بحسب تعدد الأمم المعذبة، وقيل أمثال العقوبة، وقيل
الهلكة، وقيل التدميرة والأول أولى لرجوع الضمير إلى ما هو مذكور قبله، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما ذكر
من أن للكافرين أمثالها (بأن الله مولى الذين آمنوا) أي بسبب أن الله ناصرهم (وأن الكافرين لا مولى لهم) أي
لا ناصر يدفع عنهم. وقرأ ابن مسعود " ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا " قال قتادة: نزلت يوم أحد (إن الله يدخل
الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) قد تقدم تفسير الآية في غير موضع، وتقدم كيفية
جرى الأنهار من تحت الجنات، والجملة مسوقة لبيان ولاية الله للمؤمنين (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما
تأكل الأنعام) أي يتمتعون بمتاع الدنيا وينتفعون به كأنهم أنعام ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عن
العاقبة لاهون بما هم فيه (والنار مثوى لهم) أي مقام يقيمون به، ومنزل ينزلونه ويستقرون فيه، والجملة
في محل نصب على الحال أو مستأنفة.
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن
ابن عباس في قوله (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) قال: هم أهل مكة قريش نزلت فيهم (والذين آمنوا
وعملوا الصالحات) قال: هم أهل المدينة الأنصار (وأصلح بالهم) قال: أمرهم. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله
(أضل أعمالهم) قال: كانت لهم أعمال فاضلة لا يقبل الله مع الكفر عملا. وأخرج النحاس عنه أيضا في قوله (فإما
منا بعد وإما فداء) قال: فجعل الله النبي والمؤمنين بالخيار في الأسار، إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم،
32

وإن شاءوا فادوهم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا في الآية قال: هذا منسوخ نسختها: فإذا انسلخ
الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين -. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن قال: أتى الحجاج بأسارى، فدفع
إلى ابن عمر رجلا يقتله، فقال ابن عمر: ليس بهذا أمرنا إنما قال الله (حتى إذا أثخنتوهم فشدوا الوثاق فإما منا
بعد وإما فداء). وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر وابن مردويه عن ليث قال: قلت لمجاهد: بلغني
أن ابن عباس قال: لا يحل قتل الأسارى، لأن الله قال (فإما منا بعد وإما فداء) فقال مجاهد: لا تعبأ بهذا شيئا
أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكلهم ينكر هذا، ويقول هذه منسوخة إنما كانت في الهدنة
التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين، فأما اليوم فلا، يقول الله - اقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم - ويقول - فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب - فإن كان من مشركي العرب لم يقبل شئ منهم
إلا الإسلام، فإن لم يسلموا فالقتل، وأما من سواهم فإنهم إذا أسروا فالمسلمون فيهم بالخيار إن شاءوا قتلوهم وإن
شاءوا استحيوهم وإن شاءوا فادوهم إذا لم يتحولوا عن دينهم، فإن أظهروا الإسلام لم يفادوا. ونهى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الصغير والمرأة والشيخ الفاني. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماما مهديا
وحكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وتوضع الجزية، وتضع الحرب أوزارها ". وأخرج ابن
سعد وأحمد والنسائي والبغوي والطبراني وابن مردويه عن سلمة بن نفيل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
حديث قال: " لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج ". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس
(وللكافرين أمثالها) قال: لكفار قومك يا محمد مثل ما دمرت به القرى فأهلكوا بالسيف.
33

خوف سبحانه الكفار بأنه قد أهلك من هو أشد منهم فقال (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي
أخرجتك أهلكناهم) قد قدمنا أن كأين مركبة من الكاف وأي، وأنها بمعنى كم الخبرية: أي وكم من قرية،
وأنشد الأخفش قول الوليد:
وكأين رأينا من ملوك وسوقة * ومفتاح قيد للأسير المكبل
ومعنى الآية: وكم من أهل قرية هم أشد قوة من قريتك التي أخرجوك منها أهلكناهم (فلا ناصر لهم)
فبالأولى من هو أضعف منهم وهم قريش الذين هم أهل قرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي مكة، فالكلام
على حذف المضاف كما في قوله - وأسأل القرية - قال مقاتل: أي أهلكناهم بالعذاب حين كذبوا رسولهم. ثم
ذكر سبحانه الفرق بين حال المؤمن وحال الكافر فقال (أفمن كان على بينة من ربه) والهمزة للإنكار، والفاء
للعطف على مقدر كنظائره، ومن مبتدأ، والخبر (كمن زين له سوء عمله) وأفرد في هذا باعتبار لفظ من، وجمع
في قوله (واتبعوا أهواءهم) باعتبار معناها، والمعنى: أنه لا يستوى من كان على يقين من ربه ولا يكون كمن
زين له سوء عمله، وهو عبادة الأوثان والإشراك بالله والعمل بمعاصي الله، واتبعوا أهواءهم في عبادتها، وانهمكوا
في أنواع الضلالات بلا شبهة توجب الشك فضلا عن حجة نيرة. ثم لما بين سبحانه الفرق بين الفريقين في الاهتداء
والضلال بين الفرق في مرجعهما ومآلهما فقال (مثل الجنة التي وعد المتقون) والجملة مستأنفة لشرح محاسن
الجنة وبيان ما فيها، ومعنى مثل الجنة وصفها العجيب الشأن، وهو مبتدأ وخبره محذوف. قال النضر بن شميل:
تقديره ما يسمعون، وقدره سيبويه فيما يتلى عليكم مثل الجنة، قال: والمثل هو الوصف ومعناه وصف الجنة،
وجملة (فيها أنهار من ماء غير آسن) الخ مفسرة للمثل. وقيل إن مثل زائدة، وقيل إن مثل الجنة مبتدأ، والخبر
فيها أنهار، وقيل خبره كمن هو خالد، والآسن المتغير، يقال أسن الماء يأسن أسونا: إذا تغيرت رائحته، ومثله
الآجن، ومنه قول زهير:
قد أترك القرن مصفرا أنامله * يميد في الرمح ميد المالح الأسن
قرأ الجمهور " آسن " بالمد. وقرأ حميد وابن كثير بالقصر، وهما لغتان كحاذر وحذر. وقال الأخفش، إن
الممدود يراد به الاستقبال، والمقصود يراد به الحال (وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) أي لم يحمض كما تغير ألبان
الدنيا، لأنها لم تخرج من ضروع الإبل والغنم والبقر (وأنهار من خمر لذة للشاربين) أي لذيذة لهم طيبة الشرب
لا يتكرهها الشاربون، يقال شراب لذ ولذيذ وفيه لذة بمعنى، ومثل هذه الآية قوله - بيضاء لذة للشاربين - قرأ
الجمهور " لذة " بالجز صفة لخمر، وقرئ بالنصب على أنه مصدر، أو مفعول له. وقرئ بالرفع صفة لأنهار
(وأنهار من عسل مصفى) أي مصفى مما يخالطه من الشمع والقذى والعكر والكدر (ولهم فيها من كل الثمرات)
أي لأهل الجنة في الجنة مع ما ذكر من الأشربة من كل الثمرات: أي من كل صنف من أصنافها، و " من " زائدة
للتوكيد (ومغفرة من ربهم) لذنوبهم، وتنكير مغفرة للتعظيم: أي ولهم مغفرة عظيمة كائنة من ربهم (كمن هو
خالد في النار) هو خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: أم من هو في نعيم الجنة على هذه الصفة خالدا فيها كمن هو خالد
في النار أو خبر لقوله مثل الجنة كما تقدم. ورجح الأول الفراء فقال: أراد أمن كان في هذا النعيم كم هو
خالد في النار. وقال الزجاج: أي أفمن كان على بينة من ربه وأعطى هذه الأشياء كمن زين له سوء عمله وهو
خالد في النار، فقوله " كمن " بدل من قوله " أفمن زين له سوء عمله " وقال ابن كيسان: ليس مثل الجنة التي فيها
الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم، وليس مثل أهل الجنة في النعيم كمثل أهل النار في العذاب الأليم،
34

وقوله (وسقوا ماء حميما) عطف على الصلة عطف جملة فعلية على اسمية لكنه راعى في الأولى لفظ من، وفي الثانية
معناها، والحميم الماء الحار الشديد للغليان، فإذا شربوه قطع أمعاءهم، وهو معنى قوله (فقطع أمعاءهم) لفرط
حرارته. والأمعاء جمع معي، وهي ما في البطون من الحوايا (ومنهم من يستمع إليك) أي من هؤلاء الكفار الذين
يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام من يستمع إليك وهم المنافقون، أفرد الضمير باعتبار لفظ من، وجمع في قوله
(حتى إذا خرجوا من عندك) باعتبار معناها، والمعنى: أن المنافقين كانوا يحضرون مواقف وعظ رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ومواطن خطبة التي يمليها على المسلمين حتى إذا خرجوا من عنده (قالوا للذين أوتوا
العلم) وهم علماء الصحابة، وقيل عبد الله بن عباس، وقيل عبد الله بن مسعود، وقيل أبو الدرداء، والأول
أولى: أي سألوا أهل العلم فقالوا لهم (ماذا قال آنفا) أي ماذا قال النبي الساعة على طريقة الاستهزاء، والمعنى:
أنا لم نلتفت إلى قوله، وآنفا يراد به الساعة التي هي أقرب الأوقات، ومنه أمر آنف: أي مستأنف، وروضة
أنف: أي لم يرعها أحد، وانتصابه على الظرفية: أي وقتا مؤتنفا، أو حال من الضمير في قال. قال الزجاج:
هو من استأنفت الشئ: إذا ابتدأته، وأصله مأخوذ من أنف الشئ لما تقدم منه، مستعار من الجارحة، ومنه
قول الشاعر: ويحرم سر جارتهم عليهم * ويأكل جارهم أنف القصاع
والإشارة بقوله (أولئك) إلى المذكورين من المنافقين (الذين طبع الله على قلوبهم) فلم يؤمنوا ولا توجهت
قلوبهم إلى شئ من الخبر (واتبعوا أهواءهم) في الكفر والعناد. ثم ذكر حال أضدادهم فقال (والذين اهتدوا
زادهم هدى) أي والذين اهتدوا إلى طريق الخير، فآمنوا بالله وعملوا بما أمرهم به زادهم هدى بالتوفيق، وقيل
زادهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل زادهم القرآن. وقال الفراء: زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدى
وقيل زادهم نزول الناسخ هدى، وعلى كل تقدير فالمراد أنه زادهم إيمانا وعلما وبصيرة في الدين (وآتاهم تقواهم)
أي ألهمهم إياها وأعانهم عليها. والتقوى قال الربيع: هي الخشية. وقال السدى: هي ثواب الآخرة. وقال
مقاتل: هي التوفيق للعمل الذي يرضاه، وقيل العمل بالناسخ وترك المنسوخ، وقيل ترك الرخص والأخذ بالعزائم
(فهل ينظرون إلا الساعة) أي القيامة (أن تأتيهم بغتة) أي فجأة، وفي هذا وعيد للكفار شديد، وقوله (أن
تأتيهم بغتة) بدل من الساعة بدل اشتمال. وقرأ أبو جعفر الرواسي " إن تأتهم " بأن الشرطية (فقد جاء أشراطها)
أي أماراتها وعلاماتها وكانوا قد قرءوا في كتبهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم آخر الأنبياء، فبعثته من
أشراطها، قاله الحسن والضحاك والأشراط جمع شرط بسكون الراء وفتحها. وقيل المراد بأشراطها هنا: أسبابها
التي هي دون معظمها. وقيل أراد بعلامات الساعة انشقاق القمر والدخان، كذا قال الحسن، وقال الكلبي:
كثرة المال والتجارة وشهادة الزور وقطع الأرحام وقلة الكرام وكثرة اللئام، ومنه قول أبي زيد الأسود:
فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا * فقد جعلت أشراط أوله تبدو
(فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم) ذكراهم مبتدأ وخبره فأنى لهم: أي أنى لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة كقوله
- يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى - وإذا جاءتهم اعتراض بين المبتدأ والخبر (فاعلم أنه لا إله إلا الله) أي
إذا علمت أن مدار الخير هو التوحيد والطاعة، ومدار الشر هو الشرك والعمل بمعاصي الله فاعلم أنه لا إله غيره ولا
رب سواه، والمعنى: أثبت على ذلك واستمر عليه، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد كان عالما بأنه لا إله إلا الله
قبل هذا، وقيل ما علمته استدلالا فاعلمه خبرا يقينا. وقيل المعنى: فاذكر أنه لا إله إلا الله، فعبر عن الذكر
35

بالعلم (واستغفر لذنبك) أي استغفر الله أن يقع منك ذنب، أو استغفر الله ليعصمك، أو استغفره مما ربما يصدر
منك من ترك الأولى. وقيل الخطاب له، والمراد الأمة، ويأتي هذا قوله (وللمؤمنين والمؤمنات) فإن المراد به
استغفاره لذنوب أمته بالدعاء لهم بالمغفرة عما فرط من ذنوبهم (والله يعلم متقلبكم) في أعمالكم (ومثواكم) في الدار
الآخرة، وقيل متقلبكم في أعمالكم نهارا ومثواكم في ليلكم نياما - وقيل متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام
الأمهات ومثواكم في الأرض: أي مقامكم فيها. قال ابن كيسان: متقلبكم من ظهر إلى بطن في الدنيا، ومثواكم
في القبور.
وقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس " أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: أنت أحب بلاد الله إلى، ولولا أن أهلك
أخرجوني منك لما أخرج، فأعتي الأعداء من عتا على الله في حرمه، أو قتل غير قاتله، أو قتل بدخول الجاهلية "
فأنزل الله (وكأين من قرية) الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (أنهار من ماء غير آسن)
قال: غير متغير. وأخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في البعث عن معاوية بن حيدة
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " في الجنة بحر اللبن وبحر الماء وبحر العسل وبحر الخمر ثم تشقق
الأنهار منها ". وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده والبيهقي عن كعب قال: نهر النيل نهر العسل في الجنة،
ونهر دجلة نهر اللبن في الجنة، ونهر الفرات نهر الخمر في الجنة، ونهر سيحان نهر الماء في الجنة. وأخرج ابن
جرير والحاكم وصححه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله (حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين
أوتوا العلم ماذا قال آنفا) قال: كنت فيمن يسأل. وأخرج عبد بن حميد من وجه آخر عنه في الآية قال: أنا
منهم، وفي هذا منقبة لابن عباس جليلة لأنه كان إذ ذاك صبيا غير بالغ، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات
وهو في سن البلوغ، فسؤال الناس له عن معاني القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووصف الله
سبحانه للمسئولين بأنهم الذين أوتوا العلم وهو منهم من أعظم الأدلة على سعة علمه ومزيد فقهه في كتاب الله وسنة
رسوله، مع كون أترابه وأهل سنه إذ ذاك يلعبون مع الصبيان. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كانوا
يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا خرجوا من عنده قالوا لابن عباس: ماذا قال آنفا؟
فيقول كذا وكذا، وكان ابن عباس أصغر القوم، فأنزل الله الآية، فكان ابن عباس من الذين أوتوا العلم
وأخرج ابن أبي شيبة وابن عساكر عن ابن بريدة في الآية قال: هو عبد الله بن مسعود. وأخرج ابن عساكر من
طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: هو عبد الله بن مسعود. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن
ابن عباس في قوله (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) قال: لما أنزل القرآن آمنوا به، فكان هدى،
فلما تبين الناسخ من المنسوخ زادهم هدى. وأخرج ابن المنذر عنه (فقد جاء أشراطها) قال: أول الساعات،
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " بعثت أنا
والساعة كهاتين، وأشار بالوسطى والسبابة " ومثله عند البخاري من حديث سهل بن سعد. وفي الباب أحاديث
كثيرة فيها بيان أشراط الساعة وبيان ما قد وقع منها وما لم يكن قد وقع، وهي تأتي في مصنف مستقل فلا نطيل
بذكرها. وأخرج الطبراني وابن مردويه والديلمي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال
" أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الاستغفار " ثم قرأ (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين
والمؤمنات). وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي
36

في الشعب عن أبي هريرة في قوله (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة ". وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن
مردويه عن عبد الله بن سرجس قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأكلت معه من طعام، فقلت: غفر
الله لك يا رسول الله، قال: ولك، فقيل: أتستغفر لك يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم ولكم
وقرأ (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) " وقد ورد أحاديث في استغفاره صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه
ولأمته وترغيبه في الاستغفار. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (والله يعلم متقلبكم)
في الدنيا (ومثواكم) في الآخرة.
سأل المؤمنون ربهم عز وجل أن ينزل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم سورة يأمرهم فيها بقتال الكفار
حرصا منهم على الجهاد ونيل ما أعد الله للمجاهدين من جزيل الثواب، فحكى الله عنهم ذلك بقوله (ويقول
الذين آمنوا لولا نزلت سورة) أي هلا نزلت (فإذا أنزلت سورة محكمة) أي غير منسوخة (وذكر فيها القتال)
أي فرض الجهاد قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين، وفي قراءة
ابن مسعود " فإذا أنزلت سورة محدثة " أي محدثة النزول. قرأ الجمهور " فإذا أنزلت " وذكر على بناء الفعلين
للمفعول. وقرأ زيد بن علي وابن عمير " نزلت " وذكر على بناء الفعلين للفاعل ونصب القتال (رأيت الذين
37

في قلوبهم مرض) أي شك، وهم المنافقون (ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت) أي ينظرون إليك نظر
من شخص بصره عند الموت لجبنهم عن القتال وميلهم إلى الكفار. قال ابن قتيبة والزجاج: يريد أنهم يشخصون
نحوك بأبصارهم وينظرون إليك نظرا شديدا كما ينظر الشاخص بصره عند الموت (فأولى لهم) قال الجوهري:
وقولهم أولى لك تهديد ووعيد، وكذا قال مقاتل والكلبي وقتادة. قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد أولى لك
أي وليك وقاربك ما تكره، وأنشد قول الشاعر:
فعادى بين هاذيتين منها * وأولى أن يزيد على الثلاث
أي قارب أن يزيد. قال ثعلب: ولم يقل في أولى أحسن مما قاله الأصمعي. وقال المبرد: يقال لمن هم بالغضب
ثم أفلت أولى لك: أي قاربت الغضب. وقال الجرجاني: هو مأخوذ من الويل: أي فويل لهم، وكذا قال في
الكشاف. قال قتادة أيضا: كأنه قال العقاب أولى لهم، وقوله (طاعة وقول معروف) كلام مستأنف: أي أمرهم
طاعة، أو طاعة وقول معروف خير لكم. قال الخليل وسيبويه: إن التقدير طاعة وقول معروف أحسن وأمثل
لكم من غيرهما. وقيل إن طاعة خبر أولى، وقيل إن طاعة صفة لسورة، وقيل إن لهم خبر مقدم وطاعة مبتدأ
مؤخر، والأول أولى ((فإذا عزم الأمر) عزم الأمر جد الأمر: أي جد القتال ووجب وفرض، وأسند العزم
إلى الأمر وهو لأصحابه مجازا، وجواب إذا قيل هو " فلو صدقوا الله " وقيل محذوف تقديره كرهوه. قال المفسرون
معناه إذا جد الأمر ولزم فرض القتال خالفوا وتخلفوا (فلو صدقوا الله) في إظهار الإيمان والطاعة (لكان خيرا
لهم) من المعصية والمخالفة (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) هذا خطاب للذين
في قلوبهم مرض بطريق الالتفات لمزيد التوبيخ والتقريع. قال الكلبي: أي فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن
تفسدوا في الأرض بالظلم. وقال كعب (أن تفسدوا في الأرض) أي بقتل بعضكم بعضا، وقال قتادة: إن توليتم
عن طاعة كتاب الله عز وجل أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء وتقطعوا أرحامكم. وقال ابن جريج: إن
توليتم عن الطاعة، وقيل أعرضتم عن القتال وفارقتم أحكامه. قرأ الجمهور " توليتم " مبنيا للفاعل، وقرأ علي بن
أبي طالب بضم التاء والواو وكسر اللام مبنيا للمفعول، وبها قرأ ابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب، ومعناها
فهل عسيتم إن ولى عليكم ولاة جائرين أن تخرجوا عليهم في الفتنة وتحاربوهم وتقطعوا أرحامكم بالبغي والظلم
والقتل. وقرأ الجمهور (وتقطعوا) بالتشديد على التكثير، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه وسلام وعيسى ويعقوب
بالتخفيف من القطع يقال: عسيت أن أفعل كذا، وعسيت بالفتح والكسر لغتان، ذكره الجوهري وغيره،
وخبر عسيتم هو أن تفسدوا، والجملة الشرطية بينهما اعتراض، والإشارة بقوله (أولئك) إلى المخاطبين بما تقدم
وهو مبتدأ وخبره (الذين لعنهم الله): أي أبعدهم من رحمته وطردهم عنها (فأصمهم) عن استماع الحق (وأعمى
أبصارهم) عن مشاهدة ما يستدلون به على التوحيد والبعث وحقية سائر ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، والاستفهام في قوله (أفلا يتدبرون القرآن) للإنكار، والمعنى: أفلا يتفهمونه فيعلمون بما اشتمل
عليه من المواعظ الزاجرة والحجج الظاهرة والبراهين القاطعة التي تكفي من له فهم وعقل وتزجره عن الكفر بالله
والإشراك به والعمل بمعاصيه (أم على قلوب أقفالها) أم هي المنقطعة: أي بل أعلى قلوب أقفالها فهم لا يفهمون
ولا يعقلون. قال مقاتل: يعني الطبع على القلوب والأقفال استعارة لانغلاق القلب عن معرفة الحق، وإضافة
الأقفال إلى القلوب للتنبيه على أن المراد بها ما هو للقلوب بمنزلة الأقفال للأبواب، ومعنى الآية أنه لا يدخل في
قلوبهم الإيمان ولا يخرج منها الكفر والشرك، لأن الله سبحانه قد طبع عليها، والمراد بهذه القلوب قلوب هؤلاء
المخاطبين. قرأ الجمهور " أقفالها " بالجمع، وقرئ " إقفالها " بكسر الهمزة على أنه مصدر كالأقبال (إن الذين ارتدوا
38

على أدبارهم) أي رجعوا كفارا كما كانوا. قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم
بعد ما عرفوا نعته عندهم، وبه قال ابن جرير. وقال الضحاك والسدي: هم المنافقون قعدوا عن القتال، وهذا
أولى لأن السياق في المنافقين (من بعد ما تبين لهم الهدى) بما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من
المعجزات الظاهرة والدلائل الواضحة (الشيطان سول لهم) أي زين لهم خطاياهم وسهل لهم الوقوع فيها، وهذه
الجملة خبر إن، ومعنى (وأملى لهم) أن الشيطان مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر، وقيل إن الذي أملى لهم هو
الله عز وجل على معنى أنه لم يعاجلهم بالعقوبة. قرأ الجمهور (أملى) مبنيا للفاعل، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق
وعيسى بن عمر وأبو جعفر وشيبة على البناء للمفعول. قيل وعلى هذه القراءة يكون الفاعل هو الله أو الشيطان
كالقراءة الأولى، وقد اختار القول بأن الفاعل الله الفراء والمفضل، والأولى اختيار أنه الشيطان لتقدم ذكره
قريبا، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم من ارتدادهم، وهو مبتدأ وخبره (بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل
الله) أي بسبب أن هؤلاء المنافقين الذين ارتدوا على أدبارهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله، وهم المشركون (سنطيعكم
في بعض الأمر) وهذا البعض هو عداوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومخالفة ما جاء به. وقيل المعنى:
إن المنافقين قالوا لليهود: سنطيعكم في بعض الأمر، وقيل إلى القائلين اليهود والذين كرهوا ما أنزل الله المنافقون،
وقيل إن الإشارة بقوله " ذلك " إلى الإملاء، وقيل إلى التسويل، والأول أولى. ويؤيد كون القائلين المنافقين
والكارهين اليهود قوله تعالى - ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم
لنخرجن معكم ولا نطبع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم - ولما كان قولهم المذكور للذين كرهوا ما أنزل الله
بطريقة السر بينهم. قال الله سبحانه (والله يعلم أسرارهم) قرأ الجمهور بفتح الهمزة جمع سر، واختار هذه القراءة
أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ الكوفيون وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن وثاب والأعمش بكسر الهمزة على
المصدر: أي إخفاءهم (فكيف إذا توفتهم الملائكة) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وكيف في محل رفع
على أنها خبر مقدم، والتقدير: فكيف علمه بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة، أو في محل نصب بفعل محذوف:
أي فكيف يصنعون، أو خبر لكان مقدرة: أي فكيف يكونون، والظرف معمول للمقدر، قرأ الجمهور
" توفتهم " وقرأ الأعمش " توفاهم " وجملة (يضربون وجوههم وأدبارهم) في محل نصب على الحال من فاعل توفتهم أو من
مفعوله: أي ضاربين وجوههم وضاربين أدبارهم، وفي الكلام تخويف وتشديد، والمعنى: أنه إذا تأخر عنهم
العذاب فسيكون حالهم هذا، وهو تصوير لتوفيهم على أقبح حال وأشنعه. وقيل ذلك عند القتال نصرة من الملائكة
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل ذلك يوم القيامة، والأول أولى. والإشارة بقوله (ذلك) إلى التوفي
المذكور على الصفة المذكورة، وهو مبتدأ وخبره (بأنهم اتبعوا ما أسخط الله) أي بسبب اتباعهم ما يسخط الله
من الكفر والمعاصي، وقيل كتمانهم ما في التوراة من نعت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، والأول أولى لما في
الصيغة من العموم (وكرهوا رضوانه) أي كرهوا ما يرضاه الله من الإيمان والتوحيد والطاعة (فأحبط) الله (أعمالهم)
بهذا السبب، والمراد بأعمالهم الأعمال التي صورتها صورة الطاعة وإلا فلا عمل لكافر، أو ما كانوا قد عملوا من الخير قبل
الردة (أم حسب الذين في قلوبهم مرض) يعني المنافقين المذكورين سابقا، وأم هي المنقطعة: أي بل أحسب
المنافقون (أن لن يخرج الله أضغانهم) الإخراج بمعنى الإظهار، والأضغان جمع ضغن، وهو ما يضمر من المكروه.
واختلف في معناه، فقيل هو الغش، وقيل الحسد، وقيل الحقد. قال الجوهري: الضغن والضغينة الحقد.
وقال قطرب: هو في الآية العداوة، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر (ولو نشاء لأريناكهم)
أي لأعلمناكهم وعرفناكهم بأعيانهم معرفة تقوم مقام الرؤية، تقول العرب: سأريك ما أصنع: أي سأعلمك
39

(فلعرفتهم بسيماهم) أي بعلامتهم الخاصة بهم التي يتميزون بها. قال الزجاج: المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين
علامة، وهي السيما فلعرفتهم بتلك العلامة، والفاء لترتيب المعرفة على الإراءة، وما بعدها معطوف على جواب لو
وكررت في المعطوف للتأكيد، وأما اللام في قوله (ولتعرفنهم في لحن القول) فهي جواب قسم محذوف. قال
المفسرون: لحن القول فحواه ومقصده ومغزاه وما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين، وكان بعد هذا
لا يتكلم منافق عنده إلا عرفه. قال أبو زيد: لحنت له اللحن: إذا قلت له قولا يفقهه عنك ويخفي على غيره،
ومنه قول الشاعر:
منطق صائب وتلحن أحيانا * وخير الكلام ما كان لحنا
أي أحسنه ما كان تعريضا يفهمه المخاطب ولا يفهمه غيره لفطنته وذكائه، وأصل اللحن إمالة الكلام إلى
نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض (والله يعلم أعمالكم) لا تخفي عليه منها خافية فيجازيكم بها، وفيه وعيد شديد
(ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) أي لنعاملنكم معاملة المختبر، وذلك بأن نأمركم بالجهاد حتى
نعلم من امتثل الأمر بالجهاد وصبر على دينه ومشاق ما كلف به. قرأ الجمهور الأفعال الثلاثة بالنون، وقرأ أبو بكر
عن عاصم بالتحتية فيها كلها، ومعنى (ونبلو أخباركم) نظهرها ونكشفها امتحانا لكم ليظهر للناس من أطاع ما أمره
الله به، ومن عصى، ومن لم يمتثل. وقرأ الجمهور " ونبلو " بنصب الواو عطفا على قوله " حتى نعلم " وروى ورش
عن يعقوب إسكانها على القطع عما قبله.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله
تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم بحقو الرحمن، فقال مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة
قال: نعم أترضى أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت بلى. قال: فذلك لك، ثم قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: اقرءوا إن شئتم (فهل عسيتم) الآية إلى قوله (أم على قلوب أقفالها) " والأحاديث في صلة
الرحم كثيرة جدا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (إن الذين ارتدوا على أدبارهم) قال: هم أهل النفاق.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) قال:
أعمالهم خبثهم والحسد الذي في قلوبهم، ثم دل الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد على المنافقين فكان
يدعو باسم الرجل من أهل النفاق. وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري في قوله (ولتعرفنهم
في لحن القول) قال: ببغضهم علي بن أبي طالب.
40

سورة محمد (32 - 38)
قوله (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) المراد بهؤلاء هم المنافقون، وقيل أهل الكتاب، وقيل هم
المطعمون يوم بدر من المشركين، ومعنى صدهم عن سبيل الله: منعهم للناس عن الإسلام واتباع الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم (و) معنى (شاقوا الرسول) عادوه وخالفوه (من بعد ما تبين لهم الهدى) أي علموا أنه صلى
الله عليه وآله وسلم نبي من عند الله بما شاهدوا من المعجزات الواضحة والحجج القاطعة (لن يضروا الله شيئا)
بتركهم الإيمان وإصرارهم على الكفر وما ضروا إلا أنفسهم (وسيحبط أعمالهم) أي يبطلها، والمراد بهذه الأعمال
ما صورته صورة أعمال الخير كإطعام الطعام وصلة الأرحام وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير وإن كانت باطلة من
الأصل لأن الكفر مانع، وقيل المراد بالأعمال المكائد التي نصبوها لإبطال دين الله والغوائل التي كانوا يبغونها برسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله فقال (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول) فيما أمرتم به من الشرائع المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله، ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالكم كما
أبطلت الكفار أعمالها بالإصرار على الكفر فقال (ولا تبطلوا أعمالكم) قال الحسن: أي لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي.
وقال الزهري: بالكبائر. وقال الكلبي وابن جريج: بالرياء والسمعة. وقال مقاتل: بالمن. والظاهر النهي عن
كل سبب من الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال كائنا ما كان من غير تخصيص بنوع معين. ثم بين سبحانه
أنه لا يغفر للمصرين على الكفر والصد عن سبيل الله فقال (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم
كفار فلن يغفر الله لهم) فقيد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر، لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على
من كان حيا، وظاهر الآية العموم وإن كان السبب خاصا. ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوهن والضعف فقال
(فلا تهنوا) أي تضعفوا عن القتال، والوهن الضعف (وتدعوا إلى السلم) أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء
منكم، فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف. قال الزجاج: منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم
بحربهم حتى يسلموا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي " وتدعوا " بتشديد الدال من ادعى القوم وتداعوا. قال قتادة:
معنى الآية: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها.
واختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل إنها محكمة، وإنها ناسخة لقوله - وإن جنحوا
للسلم فاجنح لها - وقيل منسوخة بهذه الآية. ولا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنسخ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين
في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السلم ابتداء ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون، فالآيتان محكمتان ولم
يتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص، وجملة (وأنتم الأعلون) في محل نصب على
الحال، أو مستأنفة مقررة لما قبلها من النهى: أي وأنتم الغالبون بالسيف والحجة. قال الكلبي: أي آخر الأمر
لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات، وكذا جملة قوله (والله معكم) في محل نصب على الحال: أي معكم بالنصر
41

والمعونة عليهم (ولن يتركم أعمالكم) أي لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم، يقال وتره يتره وترا: إذا نقصه حقه
وأصله من وترت الرجل: إذا قتلت له قريبا أو نهبت له مالا، ويقال فلان مأتور: إذا قتل له قتيل ولم يؤخذ
بدمه. قال الجوهري: أي لن ينقصكم في أعمالكم كما تقول دخلت البيت وأنت تريد في البيت. قال الفراء: هو
مشتق من الوتر وهو الدخل، وقيل مشتق من الوتر وهو الفرد، فكأن المعنى: ولن يفردكم بغير ثواب (إنما
الحياة الدنيا لعب ولهو) أي باطل وغرور لا أصل لشئ منها ولا ثبات له ولا اعتداد به (وإن تؤمنوا وتتقوا
يؤتكم أجوركم) أي إن تؤمنوا بالله وتتقوا الكفر والمعاصي يؤتكم جزاء ذلك في الآخرة، والأجر الثواب على
الطاعة (ولا يسألكم أموالكم) أي لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة وسائر وجوه الطاعات، بل أمركم بإخراج
القليل منها وهو الزكاة. وقيل المعنى: لا يسألكم أموالكم إنما يسألكم أمواله لأنه أملك لها، وهو المنعم عليكم بإعطائها.
وقيل لا يسألكم أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة كما في قوله - ما أسألكم عليه من أجر - والأول أولى (إن يسألكموها)
أي أموالكم كلها (فيحفكم) قال المفسرون: يجهدكم ويلحف عليكم بمسألة جميعها، يقال أحفى بالمسألة وألحف
وألح بمعنى واحد، والمعنى المستقصى في السؤال، والإحفاء الاستقصاء في الكلام، ومنه إحفاء الشارب: أي
استئصاله، وجواب الشرط قوله (تبخلوا) أي إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم تبخلوا بها وتمتنعوا من الامتثال
(ويخرج أضغانكم) معطوف على جواب الشرط، ولهذا قرأ الجمهور " يخرج " بالجزم، وروى عن أبي عمرو أنه
قرأ بالرفع على الاستئناف، وروى عنه أنه قرأ بفتح الياء وضم الراء ورفع أضغانكم، وروى عن يعقوب الحضرمي
أنه قرأ بالنون، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد بالفوقية المفتوحة مع ضم الراء. وعلى قراءة الجمهور
فالفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه، أو إلى البخل المدلول عليه بتبخلوا. والأضغان: الأحقاد، والمعنى: أنها
تظهر عند ذلك. قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل
الله) أي ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون لتنفقوا في الجهاد وفي طريق الخير (فمنكم من يبخل) بما يطلب منه
ويدعى إليه من الإنفاق في سبيل الله، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال، فكيف لا تبخلون بالكثير وهو
جميع الأموال. ثم بين سبحانه أن ضرر البخل عائد على النفس فقال (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) أي يمنعها
الأجر والثواب ببخله، وبخل يتعدى بعلى تارة وبعن أخرى. وقيل إن أصله أن يتعدى بعلى ولا يتعدى بعن إلا
إذا ضمن معنى الإمساك (والله الغنى) المطلق المتنزه عن الحاجة إلى أموالكم (وأنتم الفقراء) إلى الله وإلى ما عنده
من الخير والرحمة، وجملة (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) معطوفة على الشرطية المتقدمة وهي وإن تؤمنوا،
والمعنى: وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يستبدل قوما آخرين يكونون مكانكم هم أطوع لله منكم (ثم لا يكونوا
أمثالكم) في التولي عن الإيمان والتقوى. قال عكرمة: هم فارس والروم. وقال الحسن: هم العجم. وقال شريح
ابن عبيد: هم أهل اليمن، وقيل الأنصار، وقيل الملائكة، وقيل التابعون. وقال مجاهد: هم من شاء الله من
سائر الناس. قال ابن جرير: والمعنى (ثم لا يكونوا أمثالكم) في البخل بالإنفاق في سبيل الله.
وقد أخرج عبد بن حميد ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت
(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) فخافوا أن يبطل الذنب العمل، ولفظ عبد بن حميد: فخافوا
الكبائر أن تحبط أعمالهم. وأخرج ابن نصر وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي
42

صلى الله عليه وآله وسلم نرى أنه ليس شئ من الحسنات إلا مقبول حتى نزلت (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
ولا تبطلوا أعمالكم) فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش
فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا قد هلك، حتى نزلت هذه الآية - إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء - فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، وكنا إذا رأينا أحد أصاب منها شيئا خفنا عليه وإن لم يصب
منها شيئا رجوناه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (يتركم) قال: يظلمكم. وأخرج سعيد بن منصور
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه قال: لما نزلت (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) قالوا من
هؤلاء وسلمان إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: هم الفرس هذا وقومه. وفي إسناده مسلم بن
خالد الزنجي وقد تفرد به، وفيه مقال معروف. وأخرجه عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير
وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال " تلا رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم هذه الآية (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم
لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منكب سلمان ثم قال: هذا وقومه، والذي
نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس " وفي إسناده أيضا مسلم بن خالد الزنجي. وأخرج
ابن مردويه من حديث جابر نحوه.
تفسير سورة الفتح
هي تسع وعشرون آية، وهي مدنية
قال القرطبي: بالإجماع. وقد أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت
سورة الفتح بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج ابن إسحاق والحاكم وصححه والبيهقي في
الدلائل عن المسور بن مخرمة ومروان قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها
وهذا لا ينافي الإجماع على كونها مدنية، لأن المراد بالسور المدنية النازلة بعد الهجرة من مكة. وأخرج البخاري
ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مغفل قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح في مسيرة سورة الفتح
على راحلته فرجع فيها. وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان
يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر عن شئ فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب: هلكت أم عمر نزرت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك، فقال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن
ينزل في قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون قد نزل في قرآن، فجئت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلمت عليه، فقال: لقد أنزلت على سورة لهي أحب إلى مما طلعت عليه
الشمس، ثم قرأ (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) " وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت
(إنا فتحنا لك فتحا مبينا) الآية إلى قوله (فوزا عظيما) مرجعه من الحديبية وهم مخالطهم الحزن والكآبة، وقد
نحروا الهدى بالحديبية فقال " لقد أنزلت على آية هي أحب إلى من الدنيا جميعها ".
43

سورة الفتح (1 - 7)
قوله (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) اختلف في تعيين هذا الفتح، فقال الأكثر: هو صلح الحديبية، والصلح
قد يسمى فتحا. قال الفراء: والفتح قد يكون صلحا، ومعنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصلح الذي كان مع
المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذرا حتى فتحه الله. قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن
المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم. فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير
وكثر بهم سواد الإسلام. قال الشعبي: لقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية ما لم يصب
في غزوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدى
محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال قوم: إنه فتح مكة.
وقال آخرون: إنه فتح خيبر. والأول أرجح، ويؤيده ما ذكرناه قبل هذا من أن السورة أنزلت في شأن
الحديبية. وقيل هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح، وقيل هو ما فتح له من النبوة والدعوة إلى الإسلام، وقيل
فتح الروم، وقيل المراد بالفتح في هذه الآية الحكم والقضاء، كما في قوله - افتح بيننا وبين قومنا بالحق - فكأنه
قال: إنا قضينا لك قضاء مبينا: أي ظاهرا واضحا مكشوفا (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) اللام
متعلقة بفتحنا، وهي لام العلة. قال ابن الأنباري: سألت أبا العباس: يعنى المبرد عن اللام في قوله (ليغفر لك
الله) فقال: هي لام كي معناها: إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح، فلما
انضم إلى المغفرة شئ حادث واقع حسن معنى كي، وغلط من قال ليس الفتح سبب المغفرة. وقال صاحب
الكشاف: إن اللام لم تكن علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي: المغفرة، وإتمام النعمة
وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز. كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين
عز الدارين، وأعراض العاجل والآجل. وهذا كلام غير جيد، فإن اللام داخلة على المغفرة فهي علة للفتح.
فكيف يصح أن تكون معللة. وقال الرازي في توجيه التعليل: إن المراد بقوله (ليغفر لك الله) التعريف بالمغفرة
44

تقديره: إنا فتحنا لك لتعرف أنك مغفور لك معصوم. وقال ابن عطية: المراد أن الله فتح لك لكي يجعل الفتح
علامة لغفرانه لك، فكأنها لام الصيرورة. وقال أبو حاتم: هي لام القسم وهو خطأ، فإن لام القسم لا تكسر
ولا ينصب بها.
واختلف في معنى قوله (ما تقدم من ذنبك وما تأخر) فقيل ما تقدم من ذنبك قبل الرسالة، وما تأخر بعدها
قاله مجاهد وسفيان الثوري وابن جرير والواحدي وغيرهم. وقال عطاء: ما تقدم من ذنبك: يعني ذنب أبويك
آدم وحواء، وما تأخر من ذنوب أمتك. وما أبعد هذا عن معنى القرآن. وقيل ما تقدم من ذنب أبيك إبراهيم،
وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده، وهذا كالذي قبله. وقيل ما تقدم من ذنب يوم بدر، ما تأخر من ذنب
يوم حنين، وهذا كالقولين الأولين في البعد. وقيل لو كان ذنب قديم أو حديث لغفرنا، لك، وقيل غير ذلك مما لا وجه
له، والأول أولى. ويكون المراد بالذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى، وسمى ذنبا في حقه لجلالة قدره وإن لم
يكن ذنبا في حق غيره (ويتم نعمته عليك) باظهار دينك على الدين كله، وقيل بالجنة، وقيل بالنبوة والحكمة،
وقيل بفتح مكة والطائف وخيبر، والأولى أن يكون المعنى: ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى
صراط مستقيم، وهو الإسلام، ومعنى يهديك يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه (وينصرك الله نصرا عزيزا)
أي غالبا منيعا لا يتبعه ذل (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) أي السكون والطمأنينة بما يسره لهم من
الفتح لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) أي ليزدادوا بسبب تلك السكينة إيمانا منضما إلى
إيمانهم الحاصل لهم من قبل. قال الكلبي: كلما نزلت آية من السماء فصدقوا بها ازدادوا تصديقا إلى تصديقهم
وقال الربيع بن أنس: خشية مع خشيتهم. وقال الضحاك: يقينا مع يقينهم (ولله جنود السماوات والأرض)
يعنى الملائكة والإنس والجن والشياطين يدبر أمرهم كيف يشاء، ويسلط بعضهم على بعض ويحوط بعضهم
ببعض (وكان الله عليما) كثير العلم بليغه (حكيما) في أفعاله وأقواله (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من
تحتها الأنهار) هذه اللام متعلقة بمحذوف يدل عليه ما قبله تقديره يبتلى بتلك الجنود من يشاء، فيقبل الخير من
أهله والشر ممن قضى له به ليدخل ويعذب، وقيل متعلقة بقوله (إنا فتحنا) كأنه قال: إنا فتحنا لك فتحنا
ليدخل ويعذب. وقيل متعلقة بينصرك: أي نصرك الله بالمؤمنين ليدخل ويعذب، وقيل متعلقة بيزدادوا: أي
يزدادوا ليدخل ويعذب، والأول أولى (ويكفر عنهم سيئاتهم) أي يسترها ولا يظهرها ولا يعذبهم
بها، وقدم الإدخال على التكفير مع أن الأمر بالعكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى، والمقصد
الأسنى (وكان ذلك عند الله فوزا عظيما) أي وكان ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم عند الله وفي حكمه
فوزا عظيما: أي ظفرا بكل مطلوب ونجاة من كل غم وجلبا لكل نفع ودفعا لكل ضر، وقوله (عند الله) متعلق
بمحذوف على أنه حال من فوزا، لأنه صفة في الأصل، فلما قدم صار حالا: أي كائنا عند الله، والجملة
معترضة بين جزاء المؤمنين وجزاء المنافقين والمشركين. ثم لما فرغ مما وعد به صالحي عباده ذكر ما يستحقه
غيرهم فقال (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) وهو معطوف على يدخل: أي يعذبهم في
الدنيا بما يصل إليهم من الهموم والغموم بسبب ما يشاهدونه من ظهور كلمة الإسلام وقهر المخالفين له وبما يصابون
به من القهر والقتل والأسر، وفي الآخرة بعذاب جهنم. وفي تقديم المنافقين على المشركين دلالة على أنهم أشد
منهم عذابا وأحق منهم بما وعدهم الله به. ثم وصف الفريقين، فقال (الظانين بالله ظن السوء) وهو ظنهم أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغلب وأن كلمة الكفر تعلو كلمة الإسلام.
45

ومما ظنوه ما حكاه الله عنهم بقوله - بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا - (عليهم دائرة
السوء) أي ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين دائر عليهم حائق بهم، والمعنى: أن العذاب والهلاك الذي يتوقعونه
للمؤمنين واقعان عليهم نازلان بهم. قال الخليل وسيبويه: السوء هنا الفساد. قرأ الجمهور " السوء " بفتح السين.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضمها (وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا) لما بين سبحانه أن
دائرة السوء عليهم في الدنيا بين ما يستحقونه مع ذلك من الغضب واللعنة وعذاب جهنم (ولله جنود السماوات
والأرض) من الملائكة والإنس والجن والشياطين (وكان الله عليما حكيما) كرر هذه الآية لقصد التأكيد، وقيل
المراد بالجنود هنا جنود العذاب كما يفيده التعبير بالعزة هنا مكان العلم هنالك.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي
في الدلائل عن مجمع بن حارثة الأنصاري قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها حتى بلغنا كراع الغميم، إذ
الناس يوجفون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ فقالوا: أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم (إنا فتحنا لك فتحا مبينا)، فقال رجل: أي رسول الله أو فتح هو؟ قال: إي
والذي نفس محمد بيده إنه لفتح، فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية،
فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة منهم ثلاثمائة فارس فأعطى
الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهما. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وابن
جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي، وكان إذا أتاه اشتد عليه، فسرى عنه وبه من السرور ما شاء
الله فأخبرنا أنه أنزل عليه (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) وأخرج البخاري وغيره عن أنس في قوله (إنا فتحنا لك
فتحا مبينا) قال: الحديبية وأخرج البخاري وغيره عن البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا
ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) قال: فتح مكة " وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن المغيرة بن شعبة قال: " كان
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر
قال: أفلا أكون عبدا شكورا " وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه
والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله " (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) قال: السكينة هي الرحمة
وفي قوله (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) قال: إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله،
فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما
صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد. ثم أكمل لهم دينهم فقال - اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت
عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا -. قال ابن عباس: فأوثق إيمان أهل السماء وأهل الأرض وأصدقه وأكمله
شهادة أن لا إله إلا الله ". وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) قال: تصديقا مع
تصديقهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: لما أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ليغفر
لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) مرجعه من الحديبية. قال: " لقد أنزلت على آية هي أحب إلي مما على الأرض
ثم قرأها عليهم. فقالوا: هنيئا مريئا يا رسول الله، قد بين الله لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه (ليدخل
المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار) حتى بلغ (فوزا عظيما) "
46

قوله (إنا أرسلناك شاهدا) أي على أمتك بتبليغ الرسالة إليهم (ومبشرا) بالجنة للمطيعين (ونذيرا) لأهل المعصية
(لتؤمنوا بالله ورسوله) قرأ الجمهور " لتؤمنوا " بالفوقية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتحتية، فعلى القراءة الأولى
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته، وعلى القراءة الثانية المراد المبشرين والمنذرين، وانتصاب
شاهدا ومبشرا ونذيرا على الحال المقدرة (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه) الخلاف بين القراء في هذه الثلاثة الأفعال
كالخلاف في " لتؤمنوا " كما سلف، ومعنى تعزروه: تعظموه وتفخموه، قاله الحسن والكلبي، والتعزير:
التعظيم والتوقير. وقال قتادة: تنصروه وتمنعوا منه. وقال عكرمة: تقاتلون معه بالسيف، ومعنى توقروه:
تعظموه. وقال السدى: تسودوه، قيل والضميران في الفعلين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهنا وقف تام، ثم
يبتدئ وتسبحوه: أي تسبحوا الله عز وجل (بكرة وأصيلا) أي غدوة وعشية، وقيل الضمائر كلها في الأفعال
الثلاثة لله عز وجل، فيكون معنى تعزروه وتوقروه: تثبتون له التوحيد وتنفون عنه الشركاء، وقيل تنصروا
دينه وتجاهدوا مع رسوله. وفي التسبيح وجهان، أحدهما التنزيه له سبحانه من كل قبيح، والثاني الصلاة (إن
الذين يبايعونك) يعنى بيعة الرضوان بالحديبية، فإنهم بايعوا تحت الشجرة على قتال قريش (إنما يبايعون الله) أخبر
سبحانه أن هذه البيعة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم هي بيعة له كما قال - ومن يطع الرسول فقد أطاع الله - وذلك
لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة، وجملة (يد الله فوق أيديهم) مستأنفة لتقرير ما قبلها على طريق التخييل،
47

في محل نصب على الحال، والمعنى: أن عقد الميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كعقده مع الله سبحانه
من غير تفاوت. وقال الكلبي: المعنى إن نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة. وقيل يده في الثواب
فوق أيديهم في الوفاء. وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم (فمن نكث فإنما ينكث على
نفسه) أي فمن نقض ما عقد من البيعة فإنما ينقض على نفسه، لأن ضرر ذلك راجع إليه لا يجوزوه إلى غيره (ومن
أوفى بما عاهد عليه الله) أي يثبت على الوفاء بما عاهد الله عليه في البيعة لرسوله. قرأ الجمهور " عليه " بكسر الهاء
وقرأ حفص والزهري بضم هاء (فسيؤتيه أجرا عظيما) وهو الجنة. قرأ الجمهور " فسيؤتيه " بالتحتية وقرأ نافع
وقرأ كثير وابن عامر بالنون، واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم واختار القراءة الثانية الفراء (سيقول لك
المخلفون من الأعراب) هم الذين خلفهم الله عن صحبة رسوله حين خرج عام الحديبية. قال مجاهد وغيره: يعنى
أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والدئل، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة. وقيل تخلفوا عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين سافر إلى مكة عام الفتح بعد أن كان قد استنفرهم ليخرجوا معه، والمخلف
المتروك (شغلتنا أموالنا وأهلونا) أي منعنا عن الخروج معك ما لنا من الأموال والنساء والذراري وليس لنا من
يقوم بهم ويخلفنا عليهم (فاستغفر لنا) ليغفر الله لنا ما وقع منا من التخلف عنك بهذا السبب، ولما كان طلب
الاستغفار منهم ليس عن اعتقاد بل على طريقة الاستهزاء، وكانت بواطنهم مخالفة لظواهرهم فضحهم الله سبحانه
بقوله (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) وهذا هو صنيع المنافقين والجملة مستأنفة لبيان ما تنطوي عليه بواطنهم
ويجوز أن تكون بدلا من الجملة الأولى. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب عنهم فقال
(قل فمن يملك لكم من الله شيئا) أي فمن يمنعكم مما أراده الله بكم من خير وشر، ثم بين ذلك فقال (إن أراد بكم
ضرا) أي إنزال ما يضركم من ضياع الأموال وهلاك الأهل. قرأ الجمهور " ضرا " بفتح الضاد وهو مصدر ضررته
ضرا. وقرأ حمزة والكسائي بضمها وهو اسم ما يضر، وقيل هما لغتان (أو أراد بكم نفعا) أي نصرا وغنيمة، وهذا
رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم يدفع عنه الضر ويجلب لهم النفع، ثم
أضرب سبحانه عن ذلك وقال (بل كان الله بما تعملون خبيرا) أي إن تخلفكم ليس لما زعمتم، بل كان الله خبيرا
بجميع ما تعملونه من الأعمال التي من جملتها تخلفكم، وقد علم أن تخلفكم لم يكن لذلك، بل للشك والنفاق وما خطر
لكم من الظنون الفاسدة الناشئة عن عدم الثقة بالله، ولهذا قال (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم
أبدا) وهذه الجملة مفسرة لقوله (بل كان الله بما تعملون خبيرا) لما فيها من الإبهام: أي بل ظننتم أن العدو يستأصل
المؤمنين بالمرة فلا يرجع منهم أحد إلى أهله، فلأجل ذلك تخلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة (وزين ذلك في
قلوبكم) أي وزين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم فقبلتموه. قرأ الجمهور " وزين " مبنيا للمفعول، وقرئ مبنيا
للفاعل (وظننتم ظن السوء) أن الله سبحانه لا ينصر رسوله، وهذا الظن إما هو الظن الأول، والتكرير للتأكيد
والتوبيخ، والمراد به ما هو أعم من الأول، فيدخل الظن الأول تحته دخولا أوليا (وكنتم قوما بورا) أي هلكى
قال الزجاج: هالكين عند الله، وكذا قال مجاهد: قال الجوهري: البور الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه
قال أبو عبيد (قوما بورا) هلكى، وهو جمع بائر، مثل حائل وحول، وقد بار فلان: أي هلك، وأباره الله
أهلكه (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا) هذا الكلام مستأنف من جهة الله سبحانه غير داخل
تحت ما أمر الله سبحانه رسوله أن يقوله: أي ومن لم يؤمن بهما كما صنع هؤلاء المخلفون، فجزاؤهم ما أعده الله
لهم من عذاب السعير (ولله ملك السماوات والأرض) يتصرف فيه كيف يشاء لا يحتاج إلى أحد من خلقه، وإنما
48

نعبدهم بما تعبدهم ليثيب من أحسن ويعاقب من أساء، ولهذا قال (يغفر لمن يشاء) أن يغفر له (ويعذب من
يشاء) أن يعذبه - لا يسأل عما يفعل وهم يسألون - (وكان الله غفورا رحيما) أي كثير المغفرة والرحمة بليغها يخص بمغفرته
ورحمته من يشاء من عباده (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها) المخلفون هؤلاء المذكورون سابقا،
والظرف متعلق بقوله " سيقول " والمعنى سيقولون عند انطلاقكم أيها المسلمون (إلى مغانم) يعنى مغانم خيبر
(لتأخذوها) لتحوزوها (ذرونا نتبعكم) أي اتركونا نتبعكم ونشهد معكم غزوة خيبر. وأصل القصة أنه لما انصرف
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المسلمين من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر، وخص بغنائمها من شهد
الحديبية، فلما انطلقوا إليها قال هؤلاء المخلفون: ذرونا نتبعكم، فقال الله سبحانه (يريدون أن يبدلوا كلام الله)
أي يغيروا كلام الله، والمراد بهذا الكلام الذي أرادوا أن يبدلوه هو مواعيد الله لأهل الحديبية خاصة بغنيمة خيبر.
وقال مقاتل: يعنى أمر الله لرسوله أن لا يسير معه أحد منهم. وقال ابن زيد: هو قوله تعالى - فإذا استأذنوك
للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا - واعترض هذا ابن جرير وغيره بأن غزوة تبوك كانت
بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة والأول أولى، وبه قال مجاهد وقتادة، ورجحه ابن جرير وغيره. قرأ الجمهور
" كلام الله " وقرأ حمزة والكسائي " كلم الله " قال الجوهري: الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير، والكلم
لا يكون أقل من ثلاث كلمات لأنه جمع كلمة مثل نبقة ونبق. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم
أن يمنعهم من الخروج معه فقال (قل لن تتبعونا) هذا النفي هو في معنى النهي، والمعنى: لا تتبعونا (كذلكم قال
الله من قبل) أي من قبل رجوعنا من الحديبية أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة ليس لغيرهم فيها نصيب
(فسيقولون) يعنى المنافقين عند سماع هذا القول، وهو قوله " لن تتبعونا " (بل تحسدوننا) أي بل ما يمنعكم من
خروجنا معكم إلا الحسد لئلا نشارككم في الغنيمة، وليس ذلك بقول الله كما تزعمون. ثم رد الله سبحانه عليهم
بقوله (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) أي لا يعلمون إلا علما قليلا، وهو علمهم بأمر الدنيا، وقيل لا يفقهون
من أمر الدين إلا فقها قليلا، وهو ما يصنعونه نفاقا بظواهرهم دون بواطنهم.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وتعزروه) يعنى الإجلال (وتوقروه)
يعنى التعظيم، يعنى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والضياء في المختارة
عنه في قوله (وتعزروه) قال: تضربوا بين يديه بالسيف. وأخرج ابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن
عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله قال " لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية (وتعزروه)
قال لأصحابه: ما ذاك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: لتنصروه ". وأخرج أحمد وابن مردويه عن عبادة بن
الصامت قال " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة
في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى
أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة، فمن وفى وفى الله له، ومن
نكث فإنما ينكث على نفسه ". وفي الصحيحين من حديث جابر " أنهم كانوا في بيعة الرضوان خمس عشرة مائة "
وفيهما عنه أنهم كانوا أربع عشرة مائة، وفي البخاري من حديث قتادة عن سعيد بن المسيب أنه سأله كم كانوا
في بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة، فقال له: إن جابرا قال كانوا أربع عشرة مائة، قال رحمه الله: وهم
هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة.
49

سورة الفتح (16 - 24)
قوله (قل للمخلفين من الأعراب) هم المذكورون سابقا (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) قال عطاء بن
أبي رباح ومجاهد وابن أبي ليلى وعطاء الخراساني: هم فارس. وقال كعب والحسن: هم الروم. وروى عن الحسن
أيضا أنه قال: هم فارس والروم. وقال سعيد بن جبير: هم هوازن وثقيف. وقال عكرمة: هوازن. وقال
قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين. وقال الزهري ومقاتل: هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة. وحكى
هذا القول الواحدي عن أكثر المفسرين (تقاتلونهم أو يسلمون) أي يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة، أو الإسلام
لا ثالث لهما، وهذا حكم الكفار الذين لا تؤخذ منهم الجزية. قال الزجاج: التقدير أو هم يسلمون، وفي قراءة
أبي " أو يسلموا " أي حتى يسلموا (فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا) وهو الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة (وإن
تتولوا) أي تعرضوا (كما توليتم من قبل) وذلك عام الحديبية (يعذبكم عذابا أليما) بالقتل والأسر والقهر في الدنيا
وبعذاب النار في الآخرة لتضاعف جرمكم (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج)
أي ليس على هؤلاء المعذورين بهذه الأعذار حرج في التخلف عن الغزو لعدم استطاعتهم. قال مقاتل: عذر الله
أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية، والحرج: الإثم (ومن يطع الله ورسوله) فيما أمراه
به ونهياه عنه (يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار) قرأ الجمهور " يدخله " بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو حاتم
وأبو عبيد، وقرأ نافع وابن عامر بالنون (ومن يتول يعذبه عذابا أليما) أي ومن يعرض عن الطاعة يعذبه الله
50

عذابا شديد الألم. ثم ذكر سبحانه الذين أخلصوا نياتهم وشهدوا بيعة الرضوان، فقال (لقد رضي الله عن المؤمنين
إذ يبايعونك تحت الشجرة) أي رضي الله عنهم وقت تلك البيعة، وهي بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، والعامل
في - تحت - إما يبايعونك، أو محذوف على أنه حال من المفعول، وهذه الشجرة المذكورة هي شجرة كانت بالحديبية
وقيل سدرة، وكانت البيعة على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا. وروى أنه بايعهم على الموت، وقد تقدم ذكر عدد
أهل هذه البيعة قريبا، والقصة مبسوطة في كتب الحديث والسير (فعلم ما في قلوبهم) معطوف على يبايعونك.
قال الفراء: أي علم ما في قلوبهم من الصدق والوفاء. وقال قتادة وابن جريج: من الرضى بأمر البيعة على أن
لا يفروا. وقال مقاتل: من كراهة البيعة على الموت (فأنزل السكينة عليهم) معطوف على رضى، والسكينة:
الطمأنينة وسكون النفس كما تقدم، وقيل الصبر (وأثابهم فتحا قريبا) هو فتح خيبر عند انصرافهم من الحديبية.
قاله قتادة وابن أبي ليلى وغيرهما، وقيل فتح مكة، والأول أولى (ومغانم كثيرة يأخذونها) أي وأثابكم مغانم
كثيرة، أو وآتاكم، وهي غنائم خيبر، والالتفات لتشريفهم بالخطاب (وكان الله عزيزا حكيما) أي غالبا مصدرا
أفعاله وأقواله على أسلوب الحكمة (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها) في هذا وعد منه سبحانه لعباده المؤمنين بما
سيفتحه عليهم من الغنائم إلى يوم القيامة يأخذونها في أوقاتها التي قدر وقوعها فيها (فعجل لكم هذه) أي غنائم
خيبر، قاله مجاهد وغيره، وقيل صلح الحديبية (وكف أيدي الناس عنكم) أي وكف أيدي قريش عنكم يوم
الحديبية بالصلح، وقيل كف أيدي أهل خيبر وأنصارهم عن قتالكم وقذف في قلوبهم الرعب. وقال قتادة: كف
أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية وخيبر، ورجح هذا ابن جرير،
قال: لأن كف أيدي الناس بالحديبية مذكور في قوله - وهو الذي كف أيديهم عنكم - وقيل كف أيدي الناس
عنكم: يعني عيينة بن حصن الفزاري، وعوف بن مالك النضري ومن كان معهما، إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر
عند حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم (ولتكون آية للمؤمنين) اللام يجوز أن تتعلق بفعل محذوف يقدر
بعده: أي فعل ما فعل من التعجيل والكف لتكون آية، أو على علة محذوفة تقديرها وعد فعجل وكف لتنتفعوا
بذلك ولتكون آية. وقيل إن الواو مزيدة واللام لتعليل ما قبله: أي وكف لتكون، والمعنى: ذلك الكف آية
يعلم بها صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جميع ما يعدكم به (ويهديكم صراطا مستقيما) أي يزيدكم
بتلك الآية هدى، أو يثبتكم على الهداية إلى طريق الحق (وأخرى لم تقدروا عليها) معطوف على هذه: أي فجعل
لكم هذه المغانم، ومغانم أخرى لم تقدروا عليها، وهي الفتوح التي فتحها الله على المسلمين من بعد كفارس والروم
ونحوهما، كذا قال الحسن ومقاتل وابن أبي ليلى. وقال الضحاك وابن زيد وابن أبي إسحاق: هي خيبر وعدها الله
نبيه قبل أن يفتحها ولم يكونوا يرجونها. وقال قتادة: فتح مكة. وقال عكرمة: حنين، والأول أولى (قد أحاط
الله بها) صفة ثانية لأخرى. قال الفراء: أحاط الله بها لكم حتى تفتحوها وتأخذوها، والمعنى، أنه أعدها لهم
وجعلها كالشئ الذي قد أحيط به من جميع جوانبه، فهو محصور لا يفوت منه شئ، فهم وإن لم يقدروا عليها
في الحال فهي محبوسة لهم لا تفوتهم، وقيل معنى أحاط: علم أنها ستكون لهم (وكان الله على كل شئ قديرا)
لا يعجزه شئ ولا تختص قدرته ببعض المقدورات دون بعض (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار) قال قتادة
يعني كفار قريش بالحديبية، وقيل أسد وغطفان الذين أرادوا نصر أهل خيبر، والأول أولى (ثم لا يجدون
وليا) يواليهم على قتالكم (ولا نصيرا) ينصرهم عليكم (سنة الله التي قد خلت من قبل)) أي طريقته وعادته التي قد
مضت في الأمم من نصر أوليائه على أعدائه، وانتصاب سنة على المصدرية بفعل محذوف: أي بين الله سنة الله،
51

أو هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة (ولن تجد لسنة الله تبديلا) أي لن تجد لها تغييرا، بل هي مستمرة ثابتة
(وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) أي كف أيدي المشركين عن
المسلمين وأيدي المسلمين عن المشركين لما جاءوا يصدون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه عن البيت عام
الحديبية، وهي المراد ببطن مكة. وقيل إن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
من قبل جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخذهم المسلمون ثم تركوهم. وفي
رواية اختلاف سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله (وكان الله بما تعملون بصيرا) لا يخفي عليه من ذلك شئ.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله (أولى بأس شديد)
يقول: فارس. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنهم الأكراد. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال:
فارس والروم. وأخرج الفريابي وابن مردويه عنه قال: هوازن وبني حنيفة. وأخرج الطبراني. قال السيوطي
بسند حسن عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإني لواضع القلم على أذني إذ
أمر بالقتال إذ جاء أعمى فقال: " كيف لي وأنا ذاهب البصر؟ فنزلت (ليس على الأعمى حرج) الآية ". قال هذا
في الجهاد، وليس عليهم من جهاد إذا لم يطيقوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمة بن
الأكوع قال: " بينا نحن قائلون إذ نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيها الناس البيعة البيعة نزل
روح القدس، فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فذلك قول الله تعالى
(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) فبايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى، فقال الناس هنيئا
لابن عفان يطوف بالبيت ونحن ها هنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف
حتى أطوف ". وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن نافع قال: بلغ عمر بن الخطاب أن ناسا يأتون الشجرة التي
بويع تحتها فأمر بها فقطعت. وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم تحت الشجرة، قيل على أي شئ كنتم تبايعونه يومئذ؟ قال: على الموت. وأخرج مسلم وغيره عن جابر
قال: بايعاه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة ". وأخرج مسلم من حديثه مثله. وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس (فأنزل السكينة عليهم) قال: إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء. وأخرج ابن
جرير وابن مردويه عنه (فجعل لكم هذه) يعني الفتح. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا (فعجل لكم هذه) يعني
خيبر (وكف أيدي الناس عنكم) يعني أهل مكة أن يستحلوا حرم الله ويستحل بكم وأنتم حرم (ولتكون آية
للمؤمنين) قال سنة لمن بعدكم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل
عنه أيضا في قوله (وأخري لم تقدروا عليها) قال: هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم، وأخرج ابن جرير وابن
مردويه عنه أيضا (وأخرى لم تقدروا عليها) قال: هي خيبر. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم
وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس قال: لما كان
يوم الحديبية، هبط على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح من قبل
جبال التنعيم يريدون غرة رسول الله، فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم، فنزلت هذه الآية (وهو الذي كف أيديهم
عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) وفي صحيح مسلم وغيره: أنها نزلت في نفر أسرهم سلمة
ابن الأكوع يوم الحديبية. وأخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل في سبب نزول الآية
52

" أن ثلاثين شابا من المشركين خرجوا يوم الحديبية على المسلمين في السلاح فثاروا في وجوههم، فدعا عليهم رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ الله بأسماعهم. ولفظ الحاكم بأبصارهم، فقام إليهم المسلمون فأخذوهم، فقال
لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أمانا؟ فقالوا لا، فخلى
سبيلهم فنزلت هذه الآية ".
الفتح (25 - 29)
قوله (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام) يعني كفار مكة، ومعنى صدهم عن المسجد الحرام:
أنهم منعوهم أن يطوفوا به ويحلوا عن عمرتهم (والهدى معكوفا) قرأ الجمهور بنصب " الهدى " عطفا على الضمير
المنصوب في صدوكم، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بالجر عطفا على المسجد، ولا بد من تقدير مضاف: أي
عن نحر الهدى، وقرئ بالرفع على تقدير وصد الهدى وقرأ الجمهور بفتح الهاء من الهدى وسكون الدال، وروى
عن أبي عمرو وعاصم بكسر الدال وتشديد الياء: وانتصاب معكوفا على الحال من الهدى: أي محبوسا. قال
الجوهري عكفه: أي حبسه ووقفه، ومنه (والهدى معكوفا) ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس.
وقال أبو عمرو بن العلاء: معكوفا مجموعا، وقوله (أن يبلغ محله) أي عن أن يبلغ محله، أو هو مفعول لأجله،
53

والمعنى: صدوا الهدى كراهة أن يبلغ محله، أو هو بدل من الهدى بدل اشتمال، ومحله منحره، وهو حيث يحل
نحره من الحرم، وكان الهدى سبعين بدنة، ورخص الله سبحانه لهم يجعل ذلك الموضع الذي وصلوا إليه وهو
الحديبية محلا للنحر. وللعلماء في هذا كلام معروف في كتب الفروع (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم
تعلموهم) يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة، ومعنى: لم تعلموهم لم تعرفوهم، وقيل لم تعلموا أنهم مؤمنون أن
تطئوهم) يجوز أن يكون بدلا من رجال ونساء، ولكنه غلب الذكور، وأن يكون بدلا من مفعول تعلموهم،
والمعنى أن تطئوهم بالقتل والإيقاع بهم، يقال وطئت القوم: أي أوقعت بهم، وذلك أنهم لو كسبوا مكة وأخذوها
عنوة بالسيف لم يتميز المؤمنون الذين هم فيها من الكفار، وعند ذلك لا يأمنوا أن يقتلوا المؤمنين فتلزمهم الكفارة
وتلحقهم سبة، وهو معنى قوله (فتصيبكم منهم) أي من جهتهم (معرة) أي مشقة بما يلزمهم في قتلهم من كفارة
وعيب، وأصل المعرة: العيب مأخوذة من العر، وهو الجرب، وذلك أن المشركين سيقولون: إن المسلمين
قد قتلوا أهل دينهم. قال الزجاج: لولا أن تقتلوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات فتصيبكم منهم معرة: أي إثم،
وكذا قال الجوهري ربه قال ابن زيد. وقال الكلبي ومقاتل وغيرهما: المعرة كفارة قتل الخطأ كما في قوله - فإن
كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة - وقال ابن إسحاق: المعرة غرم الدية. وقال قطرب: المعرة
الشدة، وقيل الغم، و (بغير علم) متعلق بأن تطئوهم: أي غير عالمين، وجواب لولا محذوف، والتقدير:
لأذن الله لكم أو لما كف أيديكم عنهم، واللام في (ليدخل الله في رحمته من يشاء) متعلقة بما يدل عليه الجواب المقدر
أي ولكن لم يأذن لكم، أو كف أيديكم ليدخل الله في رحمته بذلك من يشاء من عباده وهم المؤمنون والمؤمنات
الذين كانوا في مكة، فيتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهراني الكفار ويفك أسرهم، ويرفع ما كان ينزل بهم
من العذاب. وقيل اللام متعلقة بمحذوف غير ما ذكر، وتقديره: لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته، والأول
أولى. وقيل إن من يشاء عباده ممن رغب في الإسلام من المشركين (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما)
التنزيل: التميز: أي لو تميز الذين آمنوا من الذين كفروا منهم لعذبنا الذين كفروا، وقيل التنزيل: التفرق: أي
لو تفرق هؤلاء من هؤلاء، وقيل لو زال المؤمنون من بين أظهرهم، والمعاني متقاربة، والعذاب الأليم هو القتل
والأسر والقهر، والظرف في قوله (إذ جعل الذين كفروا) منصوب بفعل مقدر: أي أذكر وقت جعل الذين
كفروا (في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية) وقيل متعلق بعذبنا، والحمية: الأنفة، يقال فلان ذو حمية: أي ذو أنفة
وغضب: أي جعلوها ثابتة راسخة في قلوبهم، والجعل بمعنى الإلقاء، وحمية الجاهلية بدل من الحمية. قال مقاتل
ابن سليمان ومقاتل بن حيان، قال أهل مكة: قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ويدخلون علينا في منازلنا، فتتحدث العرب
أنهم قد دخلوا علينا على رغم أنفنا، واللات والعزى لا يدخلونها علينا، فهذه الحمية هي حمية الجاهلية التي دخلت
قلوبهم. وقال الزهري. حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة. قرأ الجمهور " لو تزيلوا "
وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وابن عون " لو تزايلوا " والتزايل التباين (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)
أي أنزل الطمأنينة والوقار على رسوله وعلى المؤمنين حيث لم يدخلهم ما دخل أهل الكفر من الحمية، وقيل ثبتهم
على الرضى والتسليم (وألزمهم كلمة التقوى) وهي " لا إله إلا الله " كذا قال الجمهور، وزاد بعضهم " محمد
رسول الله " وزاد بعضهم " وحده لا شريك له ". وقال الزهري هي " بسم الله الرحمن الرحيم " وذلك أن الكفار لم
يقروا بها، وامتنعوا من كتابتها في كتاب الصلح الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت
ذلك في كتب الحديث والسير، فخص الله بهذه الكلمة المؤمنين وألزمهم بها، والأول أولى، لأن كلمة التوحيد
54

هي التي يتقى بها الشرك بالله، وقيل كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد والثبات عليه (وكانوا أحق بها وأهلها) أي
وكان المؤمنون أحق بهذه الكلمة من الكفار والمستأهلين لها دونهم، لأن الله سبحانه أهلهم لدينه وصحبة رسوله صلى الله
عليه وآله وسلم (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) قال الواحدي: قال المفسرون: إن الله سبحانه أرى نبيه
صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية كأنه هو وأصحابه حلقوا وقصروا، فأخبر بذلك أصحابه
ففرحوا وحسبوا أنهم سيدخلون مكة عامهم ذلك، فلما رجعوا من الحديبية ولم يدخلوا مكة قال المنافقون: والله
ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام، فأنزل الله هذه الآية، وقيل إن الرؤيا كانت بالحديبية. وقوله بالحق
صفة لمصدر محذوف: أي صدقا ملتبسا بالحق، وجواب القسم المحذوف المدلول عليه باللام الموطئة هو قوله
(لتدخلن المسجد الحرام) أي في العام القابل، وقوله (إن شاء الله) تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد لما يجب أن
يقولوه كما في قوله - ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله - قال ثعلب: إن الله استثنى فيما يعلم
ليستثني الخلق فيما لا يعلمون. وقيل كان الله سبحانه علم أنه يموت بعض هؤلاء الذين كانوا معه في الحديبية، فوقع
الاستثناء لهذا المعنى قاله الحسن بن الفضل. وقيل معنى إن شاء الله: كما شاء الله. وقال أبو عبيدة: إن بمعنى
إذ: يعني إذ شاء الله حيث أرى رسوله ذلك، وانتصاب (آمنين) على الحال من فاعل لتدخلن، وكذا (محلقين
رءوسكم ومقصرين) أي آمنين من العدو، ومحلقا بعضكم ومقصرا بعضكم، والحلق والتقصير خاص بالرجال،
والحلق أفضل من التقصير كما يدل على ذلك الحديث الصحيح في استغفاره صلى الله عليه وآله وسلم للمحلقين
في المرة الأولى والثانية، والقائل يقول له وللمقصرين، فقال في الثالثة وللمقصرين، وقوله (لا تخافون) في محل
نصب على الحال أو مستأنف، وفيه زيادة تأكيد لما قد فهم من قوله " آمنين " (فعلم ما لم تعلموا)
أي ما لم تعلموا
من المصلحة في الصلح لما في دخولكم في عام الحديبية من الضرر على المستضعفين من المؤمنين، وهو معطوف على
صدق: أي صدق رسوله الرؤيا، فعلم ما لم تعلموا به (فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) أي فجعل من دون
دخولكم مكة كما أرى رسوله فتحا قريبا. قال أكثر المفسرين: هو صلح الحديبية. وقال ابن زيد والضحاك:
فتح خيبر. وقال الزهري: لا فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية، ولقد دخل في تلك السنتين في الإسلام
مثل من كان قد دخل فيه قبل ذلك بل أكثر، فإن المسلمين كانوا في سنة ست، وهي سنة الحديبية ألفا وأربعمائة
وكانوا في سنة ثمان عشرة آلاف (هو الذي أرسل رسوله بالهدى) أي إرسالا ملتبسا بالهدى (ودين الحق) وهو
الإسلام (ليظهره على الدين كله) أي يعليه على كل الأديان كما يفيده تأكيد الجنس، وقيل ليظهر رسوله، والأول
أولى. وقد كان ذلك بحمد الله، فإن دين الإسلام قد ظهر على جميع الأديان وانقهر له كل أهل الملل (وكفى بالله
شهيدا) الباء زائدة كما تقدم في غير موضع: أي كفى الله شهيدا على هذا الإظهار الذي وعد المسلمين به وعلى صحة
نبوة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم (محمد رسول الله) محمد مبتدإ ورسول الله خبره، أو هو خبر مبتدإ محذوف
ورسول الله بدل منه، وقيل محمد مبتدأ ورسول الله نعت له (والذين معه) معطوف على المبتدأ وما بعده الخبر،
والأول أولى، والجملة مبينة لما هو من جملة المشهود به " والذين معه " قيل هم أصحاب الحديبية، والأولى الحمل
على العموم (أشداء على الكفار) أي غلاظ عليهم كما يغلظ الأسد على فريسته، وهو جمع شديد (رحماء بينهم)
أي متوادون متعاطفون، وهو جمع رحيم، والمعنى: أنهم يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمن
وافقه الرحمة والرأفة. قرأ الجمهور برفع " أشداء " و " رحماء " على أنه خبر للموصول، أو خبر لمحمد وما عطف عليه
كما تقدم. وقرأ الحسن بنصبهما على الحال أو المدح، ويكون الخبر على هذه القراءة (تراهم ركعا سجدا) أي
55

تشاهدهم حال كونهم راكعين ساجدين وعلى قراءة الجمهور هو خبر آخر أو استئناف. أعني قوله تراهم (ويبتغون
فضلا من الله ورضوانا) أي يطلبون ثواب الله لهم ورضاه عنهم وهذه الجملة خبر ثالث على قراءة الجمهور
أو في محل نصب على الحال من ضمير تراهم، وهكذا (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) السيما العلامة، وفيها
لغتان المد والقصر: أي تظهر علامتهم في جباههم من أثر السجود في الصلاة وكثرة التعبد بالليل والنهار. وقال
الضحاك: إذا سهر الرجل أصبح مصفرا، فجعل هذا هو السيما. وقال الزهري: مواضع السجود أشد وجوههم
بياضا يوم القيامة. وقال مجاهد: هو الخشوع والتواضع، وبالأول: أعني كونه ما يظهر في الجباه من كثرة السجود
قال سعيد بن جبير ومالك. وقال ابن جرير: هو الوقار. وقال الحسن: إذا رأيتهم مرضى وما هم بمرضى،
وقيل هو البهاء في الوجه وظهور الأنوار عليه، وبه قال سفيان الثوري: والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم
من هذه الصفات الجليلة، وهو مبتدأ وخبره قوله (مثلهم في التوراة) أي وصفهم الذي وصفوا به في التوراة
ووصفهم الذي وصفوا به (في الإنجيل) وتكرير ذكر المثل لزيادة تقريره وللتنبيه على غرابته وأنه جار مجرى الأمثال
في الغرابة (كزرع أخرج شطأه) الخ كلام مستأنف: أي هم كزرع الخ، وقيل هو تفسير لذلك على أنه إشارة
مبهمة لم يرد به ما تقدم من الأوصاف، وقيل هو خبر لقوله (ومثلهم في الإنجيل) أي ومثلهم في الإنجيل كزرع
قال الفراء: فيه وجهان: إن شئت قلت ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل: يعني كمثلهم في القرآن،
فيكون الوقف على الإنجيل، وإن شئت قلت ذلك مثلهم في التوراة، ثم تبتدئ ومثلهم في الإنجيل كزرع. قرأ
الجمهور " شطأه " بسكون الطاء، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان بفتحها، وقرأ أنس ونصر بن عاصم ويحيى بن
وثاب شطاه كعصاه. وقرأه الجحدري وابن أبي إسحاق " شطه " بغير همزة، وكلها لغات قال الأخفش والكسائي:
شطأه: أي طرفه. قال الفراء: شطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج. قال الزجاج: (أخرج شطأه): أي نباته. وقال
قطرب: الشطأ سوى السنبل. وروى عن الفراء أيضا أنه قال: هو السنبل. وقال الجوهري. شطأ الزرع والنبات
والجمع أشطاء، وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه (فآزره) أي قواه وأعانه وشده، قيل المعنى: إن الشطأ قوى
الزرع، وقيل إن الزرع قوى الشطأ، ومما يدل على أن الشطأ خروج النبات. قول الشاعر: أخرج الشطأ على وجه الثرى * ومن الأشجار أفنان الثمر
قرأ الجمهور " فآزره " بالمد. وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس بالقصر، وعلى قراءة الجمهور
قول امرئ القيس: بمحنية قد آزر النضال نبتها * بجر جيوش غانمين وخيب
قال الفراء: آزرت فلانا آزره إذا قويته (فاستغلظ) أي صار ذلك الزرع غليظا بعد أن كان دقيقا (فاستوى
على سوقه) أي فاستقام على أعواده، والسوق جمع ساق. وقرأ قنبل سؤقه بالهمزة الساكنة (يعجب الزراع) أي
يعجب هذا الزرع وزراعه لقوته وحسن منظره، وهذا مثل ضربه الله سبحانه لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وأنهم يكونون في الابتداء قليلا، ثم يزدادون ويكثرون ويقوون كالزرع، فإنه يكون في الابتداء ضعيفا
ثم يقوى حالا بعد حال حتى يغلظ ساقه. قال قتادة: مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإنجيل أنه
سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ثم ذكر سبحانه علة تكثيره لأصحاب
نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وتقويته لهم فقال (ليغيظ بهم الكفار) أي كثرهم وقواهم ليكونوا غيظا للكافرين،
56

واللام متعلقة بمحذوف: أي فعل ذلك ليغيظ (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما)
أي وعد سبحانه هؤلاء الذين مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يغفر ذنوبهم ويجزل أجرهم بإدخالهم الجنة التي
هي أكبر نعمة وأعظم منة.
وقد أخرج أحمد والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نحروا يوم الحديبية سبعين بدنة، فلما صدت عن
البيت حنت كما تحن إلى أولادها. وأخرج الحسن بن سفيان وأبو يعلي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن قانع
والباوردي والطبراني وابن مردويه. قال السيوطي بسند جيد عن أبي جمعة حنيذ بن سبع قال: " قابلت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أول النهار كافرا، وقابلت معه آخر النهار مسلما، وفيما نزلت (ولولا رجال مؤمنون
ونساء مؤمنات) وكنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتان " وفي رواية عند ابن أبي حاتم: كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة ".
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم) قال: حين
ردوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أن تطئوهم) بقتلكم إياهم (لو تزيلوا) يقول: لو تزيل الكفار من المؤمنين
لعذبهم الله عذابا أليما بقتلكم إياهم ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن حنيف أنه قال: يوم صفين
اتهموا أنفسكم، فلقد رأيتنا يوم الحديبية: يعني الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين
المشركين ولو نرى قتالا لقاتلنا، فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ألسنا
على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال بلى. قال: ففيم نعطى الدنية في ديننا ونرجع
ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولم يضيعني الله أبدا، فرجع متغيظا، فلم يصبر
حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة
وقتلاهم في النار؟ قال بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولم يضيعه الله أبدا
فنزلت سورة الفتح، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمر فأقرأه إياها، قال: يا رسول الله أفتح
هو؟ قال نعم ". وأخرج الترمذي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير والدارقطني في الإفراد، وابن
مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وألزمهم كلمة التقوى)
قال " لا إله إلا الله " وفي إسناده الحسن بن قزعة، قال الترمذي بعد إخراجه: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديثه،
وكذا قال أبو زرعة. وأخرج ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع مرفوعا مثله. وأخرج عبد الرزاق والفريابي
وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن علي بن
أبي طالب مثله من قوله. وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم من قول عمر بن الخطاب نحوه. وأخرج ابن المنذر
وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم والدارقطني
في الأفراد عن المسور بن مخرمة ومروان نحوه وروى عن جماعة من التابعين نحو ذلك. وأخرج ابن مردويه عن ابن
عباس (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) قال: هو دخول محمد البيت والمؤمنين محلقين ومقصرين،
وقد ورد في الدعاء للمحلقين والمقصرين في الصحيحين وغيرهما أحاديث منها ما قدمنا الإشارة إليه، وهو في
الصحيحين من حديث ابن عمر وفيهما من حديث أبي هريرة أيضا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله
(سيماهم في وجوههم) قال: أما إنه ليس الذي يرونه، ولكنه سيما الإسلام وسمته وخشوعه. وأخرج محمد بن
نصر في كتاب الصلاة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في الآية قال: هو
57

السمت الحسن. وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير وابن مردويه. قال السيوطي بسند حسن عن أبي بن كعب
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) قال: النور يوم القيامة.
وأخرج البخاري في تاريخه وابن نصر عن ابن عباس في الآية قال: بياض يغشى وجوههم يوم القيامة. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس (ذلك مثلهم في التوراة) يعني نعتهم مكتوب في التوراة
والإنجيل قبل أن يخلق الله السماوات والأرض. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
أنس (كزرع أخرج شطأه) قال: نباته فروخة.
تفسير سورة الحجرات
هي ثماني عشرة آية، ولا وهي مدنية
قال القرطبي: بالإجماع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس وابن الزبير
أنها نزلت بالمدينة.
سورة الحجرات (1 - 8)
قوله (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) قرأ الجمهور " تقدموا " بضم المثناة الفوقية وتشديد
الدال مكسورة. وفيه وجهان: أحدهما أنه متعد وحذف مفعوله لقصد التعميم، أو ترك المفعول للقصد إلى نفس
58

الفعل كقولهم هو يعطي ويمنع. والثاني أنه لازم نحو وجه وتوجه، ويعضده قراءة ابن عباس والضحاك ويعقوب
" تقدموا " بفتح التاء والقاف والدال. قال الواحدي: قدم ها هنا بمعنى تقدم، وهو لازم. قال أبو عبيدة:
العرب تقول لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب: أي لا تعجل بالأمر دونه والنهي لأن المعنى: لا تقدموا
قبل أمرهما ونهيهما، وبين يدي الإمام عبارة عن الإمام لاما بين يدي الإنسان، ومعنى الآية: لا تقطعوا أمرا دون
الله ورسوله ولا تعجلوا به. وقيل المراد معنى بين يدي فلان بحضرته، لأن ما يحضره الإنسان فهو بين يديه (واتقوا
الله) في كل أموركم، ويدخل تحتها الترك للتقدم بين يدي الله ورسوله دخولا أوليا. ثم علل ما أمر به من التقوى
بقوله (إن الله سميع) لكل مسموع (عليم) بكل معلوم (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي)
يحتمل أن المراد حقيقة رفع الصوت، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام وترك الاحترام، لأن خفض الصوت وعدم
رفعه من لوازم التعظيم والتوفير. ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام ومزيد اللغط، والأول أولى. والمعنى
لا ترفعوا أصواتكم إلى حد يكون فوق ما يبلغه صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال المفسرون: المراد من
الآية تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوقيره وأن لا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا (ولا تجهروا له بالقول
كجهر بعضكم لبعض) أي لا تجهروا بالقول إذا كلمتموه كما تعتادونه من الجهر بالقول إذا كلم بعضكم
بعضا. قال الزجاج: أمرهم الله بتجليل نبيه وأن يغضوا أصواتهم ويخاطبوه بالسكينة والوقار، وقيل المراد بقوله
(ولا تجهروا له بالقول) لا تقولوا يا محمد ويا أحمد، ولكن يا نبي الله ويا رسول الله توقيرا له، والكاف في محل
نصب على أنها نعت مصدر محذوف: أي جهرا مثل جهر بعضكم لبعض، وليس المراد برفع الصوت وبالجهر
في القول هو ما يقع على طريقة الاستخفاف فإن ذلك كفر، وإنما المراد أن يكون الصوت في نفسه غير مناسب لما
يقع في مواقف من يجب تعظيمه وتوقيره. والحاصل أن النهي هنا وقع عن أمور: الأول عن التقدم بين يديه بما
لا يأذن به من الكلام. والثاني عن رفع الصوت البالغ إلى حد يكون فوق صوته سواء كان في خطابه أو في خطاب
غيره. والثالث ترك الجفاء في مخاطبته ولزوم الأدب في مجاورته، لأن المقاولة المجهورة إنما تكون بين الأكفاء الذين
ليس لبعضهم على بعض مزية توجب احترامه وتوقيره. ثم علل سبحانه ما ذكره بقوله (أن تحبط أعمالكم) قال
الزجاج: أن تحبط أعمالكم التقدير لأن تحبط أعمالكم أي فتحبط، فاللام المقدرة لأم الصيرورة كذا قال، وهذه
العلة يصح أن تكون للنهي: أي نهاكم الله عن الجهر خشية أن تحبط، أو كراهة أن تحبط، أو علة للمنهي: أي
لا تفعلوا الجهر فإنه يؤدي إلى الحبوط، فكلام الزجاج ينظر إلى الوجه الثاني لا إلى الوجه الأول، وجملة (وأنتم
لا تشعرون) في محل نصب على الحال، وفيه تحذير شديد ووعيد عظيم. قال الزجاج: وليس المراد وأنتم لا تشعرون
يوجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون
الكافر كافرا من حيث لا يعلم. ثم رغب سبحانه في امتثال ما أمر به، فقال (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول
الله) أصل الغض النقص من كل شئ، ومنه نقص الصوت (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) قال الفراء:
أخلص قلوبهم للتقوى كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج جيده من رديئه ويسقط خبيثه. وبه قال مقاتل ومجاهد
وقتادة. وقال الأخفش: اختصها للتقوى، وقيل طهرها من كل قبيح، وقيل وسعها وسرحها، من محنت الأديم:
إذا وسعته. وقال أبو عمرو: كل شئ جهدته فقد محنته، واللام في للتقوى متعلقة بمحذوف: أي صالحة للتقوى
كقولك أنت صالح لكذا، أو للتعليل الجاري مجرى بيان السبب، كقولك جئتك لأداء الواجب: أي ليكون
مجيئي سببا لأداء الواجب (لهم مغفرة وأجر عظيم) أي أولئك لهم، فهو خبر آخر لاسم الإشارة، ويجوز أن يكون
59

مستأنفا لبيان ما أعد الله لهم في الآخرة (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون) هم جفاة
بني تميم كما سيأتي بيانه، ووراء الحجرات خارجها وخلفها: والحجرات جمع حجرة، كالغرفات جمع غرفة، والظلمات
جمع ظلمة، وقيل الحجرات جمع حجرة، والحجر جمع حجرة، فهو جمع الجمع: والحجرة الرقعة من الأرض
المحجورة بحائط يحوط عليها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. قرأ الجمهور الحجرات بضم الجيم. وقرأ أبو جعفر بن
القعقاع وشيبة بفتحها تخفيفا، وقرأ ابن أبي عبلة بإسكانها، وهي لغات، و " من " في من وراء لابتداء الغاية،
ولا وجه للمنع من جعلها لهذا المعنى (أكثرهم لا يعقلون) لغلبة الجهل عليهم وكثرة الجفاء في طباعهم (ولو أنهم
صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم) أي لو انتظروا خروجك ولم يعجلوا بالمناداة لكان أصلح لهم في دينهم
ودنياهم، لما في ذلك من رعاية حسن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورعاية جانبه الشريف
والعمل بما يستحقه من التعظيم والتجليل. وقيل إنهم جاءوا شفعاء في أسارى، فأعتق رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم نصفهم وفادى نصفهم، ولو صبروا لأعتق الجميع، ذكر معناه مقاتل (والله غفور رحيم) كثير
المغفرة والرحمة بليغهما لا يؤاخذ مثل هؤلاء فيما فرط منهم من إساءة الأدب (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ
فتبينوا) قرأ الجمهور " فتبينوا " من التبين، وقرأ حمزة والكسائي " فتثبتوا " من التثبت، والمراد من التبين التعرف
والتفحص، ومن التثبت الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر. قال
المفسرون: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وقوله (أن تصيبوا
قوما بجهالة) مفعول له: أي كراهة أن تصيبوا، أو لئلا تصيبوا لأن الخطأ ممن لم يتبين الأمر ولم يتثبت فيه هو
الغالب وهو جهالة، لأنه لم يصدر عن علم، والمعنى: ملتبسين بجهالة بحالهم (فتصبحوا على ما فعلتم) بهم من
إصابتهم بالخطأ (نادمين) على ذلك مغتمين له مهتمين به. ثم وعظهم الله سبحانه فقال (واعلموا أن فيكم رسول
الله) فلا تقولوا قولا باطلا ولا تتسرعوا عند وصول الخبر إليكم من غير تبين، وأن وما في حيزها سادة مسد
مفعولي اعلموا، وجملة (لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم) في محل نصب على الحال من ضمير فيكم أو مستأنفة،
والمعنى: لو يطيعكم في كثير مما تخبرونه به من الأخبار الباطلة، وتشيرون به عليه من الآراء التي ليست بصواب
لوقعتم في العنت، وهو التعب والجهد. والإثم والهلاك، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه
له، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه (ولكن الله حبب إليكم الإيمان) أي جعله أحب الأشياء إليكم،
أو محبوبا لديكم فلا يقع منكم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة وترك التسرع في الأخبار وعدم
التثبت فيها، قيل والمراد بهؤلاء من عدا الأولين لبيان براءتهم عن أوصاف الأولين، والظاهر أنه تذكير للكل بما
يقتضيه الإيمان وتوجيه محبته التي جعلها الله في قلوبهم (وزينه في قلوبكم) أي حسنه بتوفيقه حتى جروا على
ما يقتضيه في الأقوال والأفعال (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) أي جعل كل ما هو من جنس الفسوق
ومن جنس العصيان مكروها عندكم. وأصل الفسق الخروج عن الطاعة، والعصيان جنس ما يعصى الله به،
وقيل أراد بذلك الكذب خاصة، والأول أولى (أولئك هم الراشدون) أي الموصوفون بما ذكرهم الراشدون.
والرشد: الاستقامة على طريق الحق مع تصلب، من الرشادة: وهي الصخرة (فضلا من الله ونعمة) أي لأجل
فضله وإنعامه، والمعنى: أنه حبب إليكم ما حبب وكره ما كره لأجل فضله وإنعامه، أو جعلكم راشدين لأجل
ذلك، وقيل النصب بتقدير فعل: أي تبتغون فضلا ونعمة (والله عليم) بكل معلوم (حكيم) في كل ما يقضي
به بين عباده ويقدره لهم.
60

وقد أخرج البخاري وغيره عن عبد الله بن الزبير قال: " قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت
إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا
لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) حتى انقضت الآية ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن
عباس في قوله (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) قال: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. وأخرج ابن مردويه
عن عائشة في الآية قالت: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. وأخرج البخاري في تاريخه عنها قالت: كان أناس
يتقدمون بين يدي رمضان بصيام: يعني يوما أو يومين، فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله
ورسوله). وأخرج الطبراني وابن مردويه عنها أيضا أن ناسا كانوا يقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا) الآية. وأخرج البزار وابن عدي والحاكم وابن مردويه عن
أبي بكر الصديق قال: أنزلت هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) قلت: يا رسول
الله: والله لا أكلمك إلا كأخي السرار، وفي إسناده حصين بن عمر، وهو ضعيف، ولكنه يؤيده ما أخرجه
عبد بن حميد والحاكم وصححه من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال: لما نزلت (إن الذين يغضون أصواتهم عند
رسول الله) قال أبو بكر: والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال " لما نزلت (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت
النبي) إلى قوله (وأنتم لا تشعرون) وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع
صوتي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حبط عملي، أنا من أهل النار وجلس في بيته حزينا، ففقده رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلق بعض القوم إليه فقالوا: فقدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مالك؟
قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي وأجهر له بالقول، حبط عملي، أنا من أهل النار، فأتوا النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فأخبروه بذلك، فقال لا، بل هو من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة قتل. وفي الباب
أحاديث بمعناه. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) الآية: قال:
نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة في قوله (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم
للتقوى) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم ثابت بن قيس بن شماس. وأخرج أحمد وابن جرير
وأبو القاسم البغوي والطبراني وابن مردويه قال السيوطي: بسند صحيح من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن
الأقرع بن حابس " أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد أخرج إلينا، فلم يجبه، فقال: يا محمد إن
حمدي زين وإن ذمي شين، فقال ذاك الله، فأنزل الله (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) قال ابن منيع:
لا أعلم روى الأقرع مسندا غير هذا. وأخرج الترمذي وحسنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن
مردويه عن البراء بن عازب في قوله (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) قال: جاء رجل فقال: يا محمد إن
حمدي زين وإن ذمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ذاك الله. وأخرج ابن راهويه ومسدد وأبو يعلي
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي: بإسناد حسن عن زيد بن أرقم قال:
اجتمع ناس من العرب فقالوا: انطلقوا إلى هذا الرجل فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكا نعش
بجناحه، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بما قالوا، فجاءوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه يا محمد يا محمد
فأنزل الله (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون) فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
61

بأذني وجعل يقول: لقد صدق الله قولك يا زيد، لقد صدق الله قولك يا زيد. وفي الباب أحاديث. وأخرج أحمد
وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه قال السيوطي بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال:
قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى
الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي
جمعت زكاته وترسل إلى يا رسول الله رسولا لإبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة
ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت،
فظن الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله، فدعا سروات قومه فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله الخلف،
ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه، فانطلقوا فنأتي رسول الله، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق
فرجع، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقل البعث وفصل عن المدينة
لقيهم الحارث، فقالوا هذا الحارث؟ فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا إليك. قال ولم؟ قالوا: إن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا
والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني، وما أقبلت إلا حين احتبس على
رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خشيت أن تكون كانت سخطة من الله ورسوله، فنزل (يا أيها الذين
آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) إلى قوله (حكيم) قال ابن كثير: هذا من أحسن ما روى في سبب نزول الآية. وقد
رويت روايات كثيرة متفقة على أنه سبب نزول الآية، وأنه المراد بها وإن اختلفت القصص.
62

قوله (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) قرأ الجمهور " اقتتلوا " باعتبار كل فرد من أفراد الطائفتين كقوله
- هذان خصمان اختصموا - والضمير في قوله " بينهما " عائد إلى الطائفتين باعتبار اللفظ. وقرأ ابن أبي عبلة
" اقتتلتا " اعتبارا بلفظ طائفتان، وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير " اقتتلا " وتذكير الفعل في هذه القراءة باعتبار
الفريقين أو الرهطين. والبغي: التعدي بغير حق والامتناع من الصلح الموافق للصواب، والفئ: الرجوع.
والمعنى: أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم ويدعوهم إلى حكم الله، فإن
حصل بعد ذلك التعدي من إحدى الطائفتين على الأخرى ولم تقبل الصلح ولا دخلت فيه كان على المسلمين أن
يقاتلوا هذه الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه، فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها وأجابت الدعوة
إلى كتاب الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله،
ويأخذوا على يد الطائفة الظلمة حتى تخرج من الظلم وتؤدي ما يجب عليها للأخرى. ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن
يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا العدل الخاص بالطائفتين المقتتلتين فقال (وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)
أي واعدلوا إن الله يحب العادلين، ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء. قال الحسن وقتادة والسدي
(فأصلحوا بينهما) بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضى بما فيه لهما وعليهما (فإن بغت إحداهما) وطلبت ما ليس
لها ولم ترجع إلى الصلح (فقاتلوا التي تبغي) حتى ترجع إلى طاعة الله والصلح الذي أمر الله به، وجملة (إنما
المؤمنون إخوة) مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر بالإصلاح، والمعنى: أنهم راجعون إلى أصل واحد وهو
الإيمان. قال الزجاج: الدين يجمعهم، فهم إخوة إذا كانوا متفقين في دينهم فرجعوا بالاتفاق في الدين إلى أصل
النسب لأنهم لآدم وحواء (فأصلحوا بين أخويكم) يعني كل مسلمين تخاصما وتقاتلا، وتخصيص الاثنين بالذكر
لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوقهما بطريق الأولى. قرأ الجمهور " بين أخويكم " على التثنية، وقرأ زيد بن ثابت
وعبد الله بن مسعود والحسن وحماد بن سلمة وابن سيرين " إخوانكم " بالجمع، وروى عن أبي عمرو ونصير بن
عاصم وأبي العالية والجحدري ويعقوب أنهم قرءوا " بين إخوتكم " بالفوقية على الجمع أيضا. قال أبو علي
الفارسي في توجيه قراءة الجمهور: أردا بالأخوين الطائفتين، لأن اللفظ التثنية قد يرد ويراد به الكثرة. وقال
أبو عبيدة: أي أصلحوا بين كل أخوين (واتقوا الله) في كل أموركم (لعلكم ترحمون) بسبب التقوى، والترجي
باعتبار المخاطبين: أي راجين أن ترحموا، وفي هذه الآية دليل على قتال الفئة الباغية إذا تقرر بغيها على الإمام، أو
على أحد من المسلمين، وعلى فساد قول من قال بعدم الجواز مستدلا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم " قتال
المسلم كفر " فإن المراد بهذا الحديث وما ورد في معناه قتال المسلم الذي لم يبغ. قال ابن جرير: لو كان الواجب
في كل اختلاف يكون بين فريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حق، ولا أبطل باطل ولوجد
أهل النفاق والفجور سببا إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم
بأن يتحزبوا عليهم، ولكف المسلمين أيديهم عنهم، وذلك مخالف لقوله صلى الله عليه وآله وسلم " خذوا على
أيدي سفهائكم ". قال ابن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، وعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول
63

الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة، وإياها عنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله " تقتل عمارا الفئة
الباغية "، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في شأن الخوارج " يخرجون على حين فرقة من الناس تقتلهم أولى
الطائفتين بالحق " (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم) السخرية: الاستهزاء:
وحكى أبو زيد: سخرت به وضحكت به وهزأت به. وقال الأخفش: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه
وضحكت به، وهزأت منه وهزأت به، كل ذلك يقال، والاسم السخرية والسخرى، وقرئ بهما في
- ليتخذ بعضهم بعضا سخريا -، ومعنى الآية: النهي للمؤمنين عن أن يستهزئ بعضهم ببعض، وعلل هذا النهي
بقوله (عسى أن يكونوا خيرا منهم) أي أن يكون المسخور بهم عند الله خيرا من الساخرين بهم، ولما كان لفظ
قوم مختصا بالرجال، لأنهم القوم على النساء أفرد النساء بالذكر فقال (ولا نساء من نساء) أي ولا يسخر نساء
من نساء (عسى أن يكن) المسخور بهن (خيرا منهن) يعني خيرا من الساخرات منهن، وقيل أفرد النساء بالذكر
لأن السخرية منهن أكثر (ولا تلمزوا أنفسكم) اللمز العيب، وقد مضى تحقيقه في سورة براءة عند قوله - ومنهم
من يلمزك في الصدقات - قال ابن جرير: اللمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان،
ومعنى (لا تلمزوا أنفسكم) لا يلمز بعضكم بعضا كما في قوله - ولا تقتلوا أنفسكم - وقوله - فسلموا على أنفسكم -
قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير: لا يطعن بعضكم على بعض. وقال الضحاك: لا يلعن بعضكم بعضا (ولا
تنابزوا بالألقاب) التنابز: التفاعل من النبز بالتسكين وهو المصدر، والنبز بالتحريك اللقب، والجمع أنباز،
والألقاب جمع لقب، وهو اسم غير الذي سمي به الإنسان، والمراد هنا لقب السوء، والتنابز بالألقاب أن يلقب
بعضهم بعضا. قال الواحدي: قال المفسرون: هو أن يقول لأخيه المسلم يا فاسق يا منافق، أو يقول لمن أسلم
يا يهودي يا نصراني، قال عطاء: هو كل شئ أخرجت به أخاك من الإسلام، كقولك يا كلب يا حمار يا خنزير.
قال الحسن ومجاهد: كان الرجل يعير بكفره، فيقال له يا يهودي يا نصراني فنزلت، وبه قال قتادة وأبو العالية
وعكرمة (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) أي بئس الاسم الذي يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الإيمان، والاسم
هنا بمعنى الذكر. قال ابن زيد: أي بئس أن يسمى الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته. وقيل المعنى: أن
من فعل ما نهى عنه من السخرية واللمز والنبذ فهو فاسق. قال القرطبي: إنه يستثني من هذا من غلب عليه
الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له سبب يجد في نفسه منه عليه، فجوزته الأئمة واتفق على قوله أهل
اللغة اه‍، (ومن لم يتب) عما نهى الله عنه (فأولئك هم الظالمون) لارتكابهم ما نهى الله عنه وامتناعهم من التوبة،
فظلموا من لقبوه، وظلمهم أنفسهم بما لزمها من الإثم (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن) أو الظن هنا:
هو مجرد التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم غيره بشئ من الفواحش ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك، وأمر سبحانه
باجتناب الكثير ليفحص المؤمن عن كل ظن يظنه حتى يعلم وجهه، لأن من الظن ما يجب اتباعه، فإن أكثر
الأحكام الشرعية مبنية على الظن، كالقياس وخبر الواحد ودلالة العموم، ولكن هذا الظن الذي يجب العمل به
قد قوى بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به فارتفع عن الشك والتهمة. قال الزجاج: هو أن يظن بأهل الخير
سوءا، فأما أهل السوء والفسوق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم. قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان:
هو أن يظن بأخيه المسلم سوءا، ولا بأس به ما لم يتكلم به، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم. وحكى القرطبي عن
أكثر العلماء: أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح، وجملة
(إن بعض الظن إثم) تعليل لما قبلها من الأمر باجتناب كثير من الظن، وهذا البعض هو ظن السوء بأهل
64

الخير، والإثم هو ما يستحقه الظان من العقوبة. ومما يدل على تقييد هذا الظن المأمور باجتنابه بظن السوء قوله
تعالى - وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا - فلا يدخل في الظن المأمور باجتنابه شئ من الظن المأمور باتباعه في
مسائل الدين، فإن الله قد تعبد عباده باتباعه، وأوجب العمل به جمهور أهل العلم، ولم ينكر ذلك إلا بعض طوائف
المبتدعة كيادا للدين وشذوذا عن جمهور المسلمين، وقد جاء التعبد بالظن في كثير من الشريعة المطهرة بل في
أكثرها. ثم لما أمرهم الله سبحانه باجتناب كثير من الظن نهاهم عن التجسس فقال (ولا تجسسوا) التجسس:
البحث عما ينكتم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم، نهاهم الله سبحانه عن البحث عن معايب الناس ومثالبهم،
قرأ الجمهور " تجسسوا " بالجيم، ومعناه ما ذكرنا. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء. قال الأخفش:
ليس يبعد أحدهما من الآخر، لأن التجسس بالجيم: البحث عما يكتم عنك، والتجسس بالحاء: طلب الأخبار
والبحث عنها. وقيل إن التجسس بالجيم هو البحث، ومنه قيل رجل جاسوس: إذا كان يبحث عن الأمور،
وبالحاء ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. وقيل إنه بالحاء فيما يطلبه الإنسان لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولا لغيره
قاله ثعلب (ولا يغتب بعضكم بعضا) أي لا يتناول بعضكم بعضا بظهر الغيب بما يسوءه، والغيبة: أن تذكر
الرجل بما يكرهه، كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال
" أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، فقيل: أفرأيت إن كان في أخي
ما أقول؟ فقال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته " (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه
ميتا) مثل سبحانه الغيبة بأكل الميتة، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه، كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. ذكر
معناه الزجاج. وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه، وأنه كما يحرم أكل لحمه يحرم الاستطالة في عرضه،
وفي هذا من التنفير عن الغيبة والتوبيخ لها والتوبيخ لفاعلها والتشنيع عليه ما لا يخفي، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن
أكله الطباع الإنسانية، وتستكرهه الجبلة البشرية، فضلا عن كونه محرما شرعا (فكرهتموه) قال الفراء: تقديره
فقد كرهتموه فلا تفعلوا، والمعنى: فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا قال الرازي: الفاء في تقدير
جواب كلام، كأنه قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذن. وقال أبو البقاء: هو معطوف على
محذوف تقديره: عرض عليكم ذلك فكرهتموه (واتقوا الله) بترك ما أمركم باجتنابه (إن الله تواب رحيم) لمن
اتقاه وتاب عما فرط منه من الذنب ومخالفة الأمر.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم " لو أتيت عبد الله
ابن أبي، فانطلق إليه وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه قال: إليك عني،
فوالله لقد آذاني ريح حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أطيب
ريحا منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي
والنعال، فنزلت فيهم (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) الآية ". وقد روى نحو هذا من وجوه أخر. وأخرج
الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر قال: ما وجدت في نفسي من شئ ما وجدت في نفسي من هذه الآية،
إني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في الآية
قال: إن الله أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله
وينصف بعضهم من بعض، فإذا أجابوا حكم فيهم يحكم كتاب الله حتى ينصف المظلوم، فمن أبى منهم أن يجيب
فهو باغ، وحق على إمام المؤمنين والمؤمنين أن يقاتلوهم حتى يفيئوا إلى أمر الله ويقروا بحكم الله. وأخرج ابن
65

جرير وابن مردويه عن ابن عباس (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) الآية. قال: كان قتال بالنعال والعصي،
فأمرهم أن يصلحوا بينهما. وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن عائشة قالت: ما رأيت مثل ما رغبت عنه هذه الأمة
في هذه الآية: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما). وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله
(يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم) قال: نزلت في قوم بني تميم استهزءوا من بلال وسلمان وعمار
وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن أبي الدنيا
في ذم الغيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله (ولا تلمزوا
أنفسكم) قال: لا يطعن بعضكم على بعض. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في الأدب، وأهل السنن
الأربع وأبو يعلي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والشيرازي في الألقاب، والطبراني وابن السني في عمل يوم
وليلة، والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة
(ولا تنابزوا بالألقاب) قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان
أو ثلاثة، فكان إذا دعا واحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله إنه يكرهه، فنزلت (ولا تنابزوا
بالألقاب). وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: التنابز بالألقاب:
أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق، فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله. وأخرج عبد بن
حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في الآية قال: إذا كان الرجل يهوديا فأسلم فيقول، يا يهودي يا نصراني
يا مجوسي، ويقول للرجل المسلم: يا فاسق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب
الإيمان عن ابن عباس في قوله (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن) قال: نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن
سوءا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إياكم والظن
فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسبوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله
إخوانا، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله (ولا تحسبوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله
إخوانا، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله (ولا تجسسوا) قال: نهى الله المؤمن أن يتبع عورات المؤمن
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن زيد
ابن وهب قال: أتى ابن مسعود فقيل هذا فلان تقطر لحيته خمرا، فقال ابن مسعود: إنا قد نهينا عن التجسس،
ولكن إن يظهر لنا شئ نأخذه. وقد وردت أحاديث في النهى عن تتبع عورات المسلمين والتجسس عن عيوبهم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله (ولا يغتب بعضكم بعضا)
الآية قال: حرم الله أن يغتاب المؤمن بشئ كما حرم الميتة. والأحاديث في تحريم الغيبة كثيرة جدا معروفة
في كتب الحديث.
66

قوله (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) هما آدم وحواء، والمقصود أنهم متساوون لاتصالهم بنسب
واحد وكونه يجمعهم أب واحد وأم واحدة، وأنه لا موضع للتفاخر بينهم بالأنساب، وقيل المعنى: أن كل
واحد منكم من أب وأم فالكل سواء (وجعلناكم شعوبا وقبائل) الشعوب جمع شعب بفتح الشين، وهو الحي
العظيم: مثل مضر وربيعة، والقبائل دونها كبني بكر من ربيعة، وبني تميم من مضر. قال لواحدي: هذا قول
جماعة من المفسرين، سموا شعبا لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة، والشعب من أسماء الأضداد: يقال
شعبته: إذا جمعته، وشعبته إذا فرقته، ومنه سميت المنية شعوبا لأنها مفرقة، فأما الشعب بالكسر فهو الطريق في
الجبل. قال الجواهري: الشعب ما تشعب من قبائل العرب والعجم، والجمع الشعوب. وقال مجاهد: الشعوب
البعيد من النسب، والقبائل دون ذلك. وقال قتادة: الشعوب النسب الأقرب. وقيل إن الشعوب عرب اليمن من
قحطان، والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان. وقيل الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب وحكى
أبو عبيد أن الشعب أكثر من القبيلة، ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة. ومما يؤيد ما قاله
الجمهور من أن الشعب أكثر من القبيلة قول الشاعر:
قبائل من شعوب ليس فيهم * كريم قد يعد ولا نجيب
قرأ الجمهور (لتتعارفوا) بتخفيف التاء وأصله لتعارفوا فحذفت إحدى التاءين. وقرأ البزي بتشديدها على الإدغام
وقرأ الأعمش بتاءين واللام متعلقة بخلقناكم: أي خلقناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا. وقرأ ابن عباس لتعرفوا "
مضارع عرف. والفائدة في التعارف أن ينتسب كل واحد منهم إلى نسبه ولا يعتري إلى غيره. والمقصود من هذا
أن الله سبحانه خلقهم كذلك لهذه الفائدة لا للتفاخر بأنسابهم، ودعوى أن هذا الشعب أفضل من هذا الشعب، وهذه
القبيلة أكرم من هذه القبيلة، وهذا البطن أشرف من هذا البطن. ثم علل سبحانه ما يدل عليه الكلام من النهي عن
التفاخر فقال (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) أي أن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى، فمن تلبس بها فهو المستحق
لأن يكون أكرم ممن لم يتلبس بها وأشرف وأفضل، فدعوا ما أنتم فيه من التفاخر بالأنساب، فإن ذلك لا يوجب
كرما ولا يثبت شرفا ولا يقتضي فضلا. قرأ الجمهور " إن أكرمكم " بكسر إن. وقرأ ابن عباس بفتحها: أي لأن
أكرمكم (إن الله عليم) بكل معلوم ومن ذلك أعمالكم (خبير) بما تسرون وما تعلنون لا تخفى عليه من ذلك
خافية ولما ذكر سبحانه أن أكرم الناس عند الله أتقاهم له وكان أصل التقوى الإيمان ذكر ما كانت تقوله
العرب من دعوى الإيمان ليثبت لهم الشرف والفضل فقال (قالت الأعراب آمنا) وهو بنو أسد أظهروا الإسلام
في سنة مجدبة يريدون الصدقة، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عليهم فقال (قل لم تؤمنوا)
67

أي لم تصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية وطمأنينة (ولكن قولوا أسلمنا) أي استسلمنا خوف
القتل والسبي أو للطمع في الصدقة، وهذه صفة المنافقين لأنهم أسلموا في ظاهر الأمر ولم تؤمن قلوبهم، ولهذا
قال سبحانه (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) أي لم يكن ما أظهرتموه بألسنتكم عن مواطأة قلوبكم، بل مجرد قول
باللسان من دون اعتقاد صحيح ولا نية خالصة، والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها، أو في محل نصب على الحال،
وفي " لما " معنى التوقع. قال الزجاج: الإسلام إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي، وبذلك يحقن الدم، فإن كان
مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان وصاحبه المؤمن. وقد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله
(ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) أي لم تصدقوا وإنما أسلمتم تعوذا من القتل (وإن تطيعوا الله ورسوله) طاعة
صحيحة صادرة عن نيات خالصة، وقلوب مصدقة غير منافقة (لا يلتكم من أعمالكم شيئا) يقال لات يلت: إذا
نقص، ولاته يليته ويلوته: إذا نقصه، والمعنى: لا ينقصكم من أعمالكم شيئا. قرأ الجمهور " يلتكم " من لاته
يليته كباع يبيعه. وقرأ أبو عمرو " لا يألتكم " بالهمز من ألته يألته بالفتح في الماضي والكسر في المضارع، واختار
قراءة أبي عمرو أبو حاتم لقوله - وما ألتناهم من عملهم من شئ - وعليها قول الشاعر:
أبلغ بني أسد عني مغلغلة * جهر الرسالة لا ألتا ولا كذبا
واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور، وعليها قول رؤبة بن العجاج:
وليلة ذات ندى سريت * ولم يلتنى عن سراها ليت
وهما لغتان فصيحتان (إن الله غفور) أي بليغ المغفرة لمن فرط منه ذنب (رحيم) بليغ الرحمة لهم. ثم لما ذكر
سبحانه أن أولئك الذين قالوا آمنا لم يؤمنوا ولا دخل الإيمان في قلوبهم بين المؤمنين المستحقين لإطلاق اسم
الإيمان عليهم فقال (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله) يعني إيمانا صحيحا خالصا عن مواطأة القلب واللسان
(ثم لم يرتابوا) أي لم يدخل قلوبهم شئ من الريب ولا خالطهم شك من الشكوك (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم
في سبيل الله) أي في طاعته وابتغاء مرضاته، ويدخل في الجهاد الأعمال الصالحة التي أمر الله بها، فإنها من جملة
ما يجاهد المرء به نفسه حتى يقوم به ويؤديه كما أمر الله سبحانه، والإشارة بقوله (أولئك) إلى الجامعين بين الأمور
المذكورة وهو مبتدأ، وخبره قوله (هم الصادقون) أي الصادقون في الاتصاف بصفة الإيمان والدخول في عداد
أهله، لا من عداهم ممن أظهر الإسلام بلسانه، وادعى أنه مؤمن، ولم يطمئن بالإيمان قلبه، ولا وصل إليه
معناه، ولا عمل بأعمال أهله، وهو الأعراب الذين تقدم ذكرهم وسائر أهل النفاق. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن
يقول لأولئك الأعراب وأمثالهم قولا آخر لما ادعوا أنهم مؤمنون فقال (قل أتعلمون الله بدينكم) التعليم ها هنا
بمعنى الإعلام، ولهذا دخلت الباء في بدينكم: أي أتخبرونه بذلك حيث قلتم آمنا (والله يعلم ما في السماوات وما
في الأرض) فكيف يخفي عليه بطلان ما تدعونه من الإيمان، والجملة في محل النصب على الحال من مفعول
تعلمون (والله بكل شئ عليم) لا تخفى عليه من ذلك خافية، وقد علم ما تبطنونه من الكفر وتظهرونه من الإسلام
لخوف الضراء ورجاء النفع. ثم أخبر الله سبحانه رسوله بما يقوله لهم عند المن عليه منهم بما يدعونه من الإسلام
فقال (يمنون عليك أن أسلموا) أي يعدون إسلامهم منة عليك حيث قالوا جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك
كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان (قل لا تمنوا على إسلامكم) أي لا تعدوه منه على، فإن الإسلام هو المنة التي لا يطاب
موليها ثوابا لمن أنعم بها عليه، ولهذا قال (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) أي أرشدكم إليه وأراكم طريق
68

سواء وصلتم إلى المطلوب أم لم تصلوا إليه، وانتصاب إسلامكم إما على أنه مفعول به على تضمين يمنون معنى
يعدون، أو بنزع الخافض: أي لأن أسلموا، وهكذا قوله (أن هداكم للإيمان) فإنه يحتمل الوجهين (إن
كنتم صادقين) فيما تدعونه، والجواب محذوف يدل عليه ما قبله: أي إن كنتم صادقين فلله المنة عليكم. قرأ
الجمهور " أن هداكم " بفتح أن، وقرأ عاصم بكسرها (إن الله يعلم غيب السماوات والأرض) أي ما غاب فيهما (والله
بصير بما تعملون) لا يخفى عليه من ذلك شئ، فهو مجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا. قرأ الجمهور " تعملون " على
الخطاب، وقرأ ابن كثير على الغيبة.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن أبي مليكة قال: لما كان يوم الفتح رقى
بلال فأذن على الكعبة، فقال بعض الناس: أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة. وقال بعضهم: إن يسخط
الله هذا يغيره، فنزلت (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى). وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه.
وأخرج أبو داود في مراسيله وابن مردويه والبيهقي في سننه عن الزهري قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا: يا رسول الله، أنزوج بناتنا موالينا؟ فنزلت هذه الآية. وأخرج
ابن مردويه عن عمر بن الخطاب أن هذه الآية (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) هي مكية، وهي للعرب خاصة
الموالي: أي قبيلة لهم، وأي شعاب، وقوله (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فقال: أتقاكم للشرك. وأخرج
البخاري وابن جرير عن ابن عباس قال: الشعوب القبائل العظام، والقبائل البطون. وأخرج الفريابي وابن
جرير وابن أبي حاتم عنه قال: الشعوب الجماع، والقبائل الأفخاذ التي يتعارفون بها. وأخرج عبد بن حميد وابن
جرير عنه أيضا قال: القبائل الأفخاذ، والشعوب الجمهور مثل مضر. وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة
قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم. قالوا: ليس
عن هذا نسألك، قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله. قالوا: ليس عن هذا
نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا نعم، قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا
فقهوا " وقد وردت أحاديث في الصحيح وغيره أن التقوى هي التي يتفاضل بها العباد. وأخرج عبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله (قالت الأعراب آمنا) قال أعراب بني أسد وخزيمة، وفي قوله (ولكن
قولوا أسلمنا) مخافة القتل والسبي. وأخرج ابن جرير عن قتادة أنها نزلت في بني أسد. وأخرج ابن المنذر
والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند حسن عن عبد الله بن أبي أوفى: أن ناسا من العرب قالوا: يا رسول الله
أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأنزل الله (يمنون عليك أن أسلموا). وأخرج النسائي والبزار وابن
مردويه عن ابن عباس نحوه، وذكر أنهم بنو أسد.
69

تفسير سورة ق
هي خمس وأربعون آية
وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وروى عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا آية،
وهي قوله (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) وهي أول المفصل على
الصحيح، وقيل من الحجرات. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال:
نزلت سورة ق بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وقد أخرج مسلم وغيره عن قطبة بن مالك قال:
" كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الفجر في الركعة الأولى ق والقرآن المجيد ". وأخرج أحمد ومسلم وأهل
السنن عن أبي واقد الليثي قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في العيد بقاف واقتربت " وأخرج
ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجة والبيهقي عن أم هشام ابنة حارثة قالت: ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من
في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس، وهو في صحيح مسلم.
ق (1 - 15)
70

قوله (ق والقرآن المجيد) الكلام في إعراب هذا كالكلام الذي قدمنا في قوله - ص والقرآن ذي الذكر -
وفي قوله - حم والكتاب المبين - واختلف في معنى ق، فقال الواحدي: قال المفسرون: هو اسم جبل يحيط
بالدنيا من زبرجد والسماء مقببة عليه، وهو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة. قال الفراء:
كان يجب على هذا أن يظهر الإعراب في. ق لأنه اسم، وليس بهجاء. قال: ولعل القاف وحدها ذكرت من
اسمه كقول القائل: قلت لها قفي، فقالت قاف، أي أنا واقفة. وحكى الفراء والزجاج: أن قوما قالوا معنى
ق: قضي الأمر وقضى ما هو كائن، كما قيل في حم: حم الأمر. وقيل هو اسم من أسماء الله أقسم به. وقال
قتادة: هو اسم من أسماء القرآن. وقال الشعبي: فاتحة السورة. وقال أبو بكر الوراق معناه: قف عند أمرنا
ونهينا ولا تعدهما، وقيل غير ذلك مما هو أضعف منه. والحق أنه من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه كما حققنا ذلك
في فاتحة سورة البقرة، ومعني المجيد: أنه ذو مجد وشرف على سائر الكتب المنزلة. وقال الحسن: الكريم، وقيل
الرفيع القدر، وقيل الكبير القدر، وجواب القسم قال الكوفيون هو قوله (بل عجبوا) وقال الأخفش: جوابه
محذوف كأنه قال: ق والقرآن المجيد لتبعثن، يدل عليه (أئذا متنا وكنا ترابا) وقال ابن كيسان جوابه - ما يلفظ
من قول - وقيل هو - قد علمنا ما تنقص الأرض منهم - بتقدير اللام: أي لقد علمنا. وقيل هو محذوف وتقديره
أنزلناه إليك لتنذر، كأنه قيل ق والقرآن المجيد أنزلناه إليك لتنذر به الناس. قرأ الجمهور قاف بالسكون. وقرأ
الحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم بكسر الفاء. وقرأ عيسى الثقفي بفتح الفاء: وقرأ هارون ومحمد بن
السميفع بالضم (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم) بل للإضراب عن الجواب على اختلاف الأقوال، وأن في
موضع نصب على تقدير: لأن جاءهم. والمعنى: بل عجب الكفار لأن جاءهم منذر منهم وهو محمد صلى الله
عليه وآله وسلم، ولم يكتفوا بمجرد الشك والرد، بل جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، وقيل هو إضراب عن
وصف القرآن بكونه مجيدا وقد تقدم تفسير هذا في سورة ص ثم فسر ما حكاه عنهم من كونهم عجبوا بقوله
(فقال الكافرون هذا شئ عجيب) وفيه زيادة تصريح وإيضاح. قال قتادة: عجبهم أن دعوا إلى إله واحد،
وقيل تعجبهم من البعث، فيكون لفظ " هذا " إشارة إلى مبهم يفسره ما بعده من قوله (أئذا متنا) الخ، والأول أولى.
قال الرازي: الظاهر أن قولهم هذا إشارة إلى مجئ المنذر، ثم قالوا (أئذا متنا) وأيضا قد وجد ها هنا بعد
الاستبعاد بالاستفهام أمر يؤدي معنى التعجب، وهو قولهم (ذلك رجع بعيد) فإنه استبعاد وهو كالتعجب، فلو
كان التعجب بقولهم (هذا شئ عجيب) عائدا إلى قولهم: أئذا لكان كالتكرار، فإن قيل التكرار الصريح يلزم من
قولك هذا شئ عجيب أنه يعود إلى مجئ المنذر، فإن تعجبهم منه علم من قولهم: وعجبوا أن جاءهم، فقوله (هذا
شئ عجيب) يكون تكرارا، فنقول ذلك ليس بتكرار بل هو تقرير لأنه لما قال بل عجبوا بصيغة الفعل وجاز أن
يتعجب الإنسان مما لا يكون عجبا كقوله - أتعجبين من أمر الله - ويقال في العرف: لا وجه لتعجبك مما ليس
بعجب، فكأنهم لما عجبوا قيل لهم: لا معنى لتعجبكم، فقالوا (هذا شئ عجيب) فكيف لا نعجب منه،
ويدل على ذلك قوله هاهنا (فقال الكافرون) بالفاء، فإنها تدل على أنه مترتب على ما تقدم، قرأ الجمهور
" أئذا متنا " بالاستفهام. وقرأ ابن عامر في رواية عنه وأبو جعفر والأعمش والأعرج بهمزة واحدة، فيحتمل
الاستفهام كقراءة الجمهور، وهمزة الاستفهام مقدرة، ويحتمل أن معناه الإخبار، والعامل في الظرف مقدر:
أي أيبعثنا، أو أنرجع إذا متنا لدلالة ما بعده عليه، هذا على قراءة الجمهور، وأما على القراءة الثانية فجواب إذا
محذوف: أي رجعنا، وقيل ذلك رجع، والمعنى: استنكارهم للبعث بعد موتهم ومصيرهم ترابا. ثم جزموا
باستبعادهم للبعث فقالوا (ذلك) أي البعث (رجع بعيد) أي بعيد عن العقول أو الأفهام أو العادة أو الإمكان،
71

يقال رجعته أرجعه رجعا ورجع هو يرجع رجوعا. ثم رد سبحانه ما قالوه فقال (قد علمنا ما تنقص الأرض
منهم) أي ما تأكل من أجسادهم فلا يضل عنا شئ من ذلك ومن أحاط علمه بكل شئ حتى انتهى إلى علم
ما يذهب من أجساد الموتى في القبور لا يصعب عليه البعث ولا يستبعد منه، وقال السدى: النقص هنا الموت،
يقول: قد علمنا من يموت منهم ومن يبقى، لأن من مات دفن، فكأن الأرض تنقص من الأموات، وقيل
المعنى: من يدخل في الإسلام من المشركين، والأول أولى (وعندنا كتاب حفيظ) أي حافظ لعدتهم وأسمائهم
ولكل شئ من الأشياء، وهو اللوح المحفوظ، وقيل المراد بالكتاب هنا العلم والإحصاء، والأول أولى، وقيل
حفيظ بمعنى محفوظ: أي محفوظ من الشياطين، أو محفوظ فيه كل شئ. ثم أضرب سبحانه عن كلامهم الأول
وانتقل إلى ما هو أشنع منه فقال (بل كذبوا بالحق) فإنه تصريح منهم بالتكذيب بعد ما تقدم عنهم من الاستبعاد،
والمراد بالحق هنا القرآن. قال الماوردي في قول الجميع، وقيل هو الإسلام، وقيل محمد، وقيل النبوة الثابتة
بالمعجزات (لما جاءهم) أي وقت مجيئه إليهم من غير تدبر ولا تفكر ولا إمعان نظر، قرأ الجمهور بفتح اللام
وتشديد الميم. وقرأ الجحدري بكسر اللام وتخفيف الميم (فهم في أمر مريج) أي مختلط مضطرب، يقولون مرة
ساحر ومرة شاعر ومرة كاهن: قاله الزجاج وغيره. وقال قتادة مختلف. وقال الحسن ملتبس، والمعنى متقارب،
وقيل فاسد والمعاني متقاربة. ومنه قولهم: مرجت أمانات الناس: أي فسدت، ومرج الدين والأمر اختلط (أفلم
ينظروا إلى السماء فوقهم) الاستفهام للتقريع والتوبيخ: أي كيف غفلوا عن النظر إلى السماء فوقهم (كيف
بنيناها) وجعلناها على هذه الصفة مرفوعة بغير عماد تعتمد عليه (وزيناها) بما جعلنا فيها من المصابيح (وما لها من
فروج) أي فتوق وشقوق وصدوع، وهو جمع فرج، ومنه قول امرئ القيس: يسد به فرجا من دبر *
قال الكسائي ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق (والأرض مددناها) أي بسطناها (وألقينا فيها رواسي)
أي جبالا ثوابت، وقد تقدم تفسير هذا في سورة الرعد (وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) أي من كل صنف حسن
وقد تقدم تفسير هذا في سورة الحج (تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) هما علتان لما تقدم منتصبان بالفعل
الأخير منها، أو بمقدر: أي فعلنا ما فعلنا للتبصير والتذكير قاله الزجاج. وقال أبو حاتم: انتصبا على المصدرية
أي جعلنا ذلك تبصرة وذكرى. والمنيب الراجع إلى الله بالتوبة المتدبر في بديع صنعه وعجائب مخلوقاته. وفي
سياق هذه الآيات تذكير لمنكري البعث وإيقاظ لهم عن سنة الغفلة، وبيان لإمكان ذلك وعدم امتناعه، فإن
القادر على مثل هذه الأمور يقدر عليه، وهكذا قوله (ونزلنا من السماء ماء مباركا) أي نزلنا من السحاب ماء
كثير البركة لانتفاع الناس به في غالب أمورهم (فأنبتنا به جنات) أي أنبتنا بذلك الماء بساتين كثيرة (وحب
الحصيد) أي ما يقتات ويحصد من الحبوب، والمعنى: وحب الزرع الحصيد، وخص الحب لأنه المقصود،
كذا قال البصريون. وقال الكوفيون: هو من باب إضافة الشئ إلى نفسه كمسجد الجامع، حكاه الفراء. قال
الضحاك: حب الحصيد البر والشعير، وقيل كل حب يحصد ويدخر ويقتات (والنخل باسقات لها طلع نضيد)
هو معطوف على جنات: أي وأنبتنا به النخل، وتخصيصها بالذكر مع دخولها في الجنات للدلالة على فضلها على
سائر الأشجار، وانتصاب باسقات على الحال، وهي حال مقدرة لأنها وقت الإنبات لم تكن باسقة. قال مجاهد
وعكرمة وقتادة: الباسقات الطوال، وقال سعيد بن جبير: مستويات. وقال الحسن وعكرمة والفراء: مواقير
حوامل، يقال للشاة إذا بسقت ولدت، والأشهر في لغة العرب الأول، يقال بسقت النخلة بسوقا: إذا طالت، ومنه قول الشاعر:
72

لنا خمر وليست خمر كرم * ولكن من نتاج الباسقات
كرام في السماء ذهبن طولا * وفات ثمارها أيدي الجنات
وجملة (لها طلع نضيد) في محل نصب على الحال من النخل، الطلع هو أول ما يخرج من ثمر النخل، يقال
طلع الطلع طلوعا، والنضيد المتراكب الذي نضد بعضه على بعض، وذلك قبل أن ينفتح فهو نضيد في أكمامه
فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد (رزقا للعباد) انتصابه على المصدرية: أي رزقناهم رزقا، أو على العلة: أي
أنبتنا هذه الأشياء للرزق (وأحيينا به بلدة ميتا) أي أحيينا بذلك الماء بلدة مجدبة لا ثمار فيها ولا زرع، وجملة
(كذلك الخروج) مستأنفة لبيان أن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء الذي أحيا الله به الأرض
الميتة، قرأ الجمهور " ميتا " على التخفيف، وقرأ أبو جعفر وخالد بالتثقيل. ثم ذكر سبحانه الأمم المكذبة فقال
(كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس) هم قوم شعيب كما تقدم بيانه، وقيل هم الذين جاءهم من أقصى المدينة
رجل يسعى، وهم من قوم عيسى وقيل هم أصحاب الأخدود. والرس: إما موضع نسبوا إليه، أو فعل، وهو
حفر البئر، يقال رس: إذا حفر بئرا (وثمود وعاد وفرعون) أي فرعون وقومه (وإخوان لوط) جعلهم إخوانه
لأنهم كانوا أصهاره، وقيل هم من قوم إبراهيم وكانوا من معارف لوط (وأصحاب الأيكة) تقدم الكلام على
الأيكة واختلاف القراء فيها في سورة الشعراء مستوفى، ونبيهم الذي بعثه الله إليهم شعيب (وقوم تبع) هو تبع
الحميري الذي تقدم ذكره في قوله - أهم خير أم قوم تبع - واسمه سعد أبو كرب، وقيل أسعد؟ قال قتادة: ذم
الله قوم تبع، ولم يذمه (كل كذب الرسل) التنوين عوض عن المضاف إليه: أي كل واحد من هؤلاء كذب
رسوله الذي أرسله الله إليه، وكذب ما جاء به من الشرع، واللام في الرسل تكون للعهد، ويجوز أن تكون
للجنس: أي كل طائفة من هذه الطوائف كذبت جميع الرسل، وإفراد الضمير في كذب باعتبار لفظ كل،
وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كأنه قيل له: لا تحزن ولا تكثر غمك لتكذيب هؤلاء لك،
فهذا شأن من تقدمك من الأنبياء، فإن قومهم كذبوهم ولم يصدقهم إلا القليل منهم (فحق وعيد) أي وجب
عليهم وعيدي وحقت عليهم كلمة العذاب، وحل بهم ما قدره الله عليهم من الخسف والمسخ والإهلاك بالأنواع
التي أنزلها الله بهم من عذابه (أفعيينا بالخلق الأول) الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والجملة مستأنفة لتقرير أمر
البعث الذي أنكرته الأمم: أي أفعجزنا بالخلق حين خلقناهم أولا ولم يكونوا شيئا، فكيف نعجز عن بعثهم، يقال
عييت بالأمر، إذا عجزت عنه ولم أعرف وجهه. قرأ الجمهور بكسر الياء الأولى بعدها ياء ساكنة. وقرأ ابن
أبي عبلة بتشديد الياء من غير إشباع. ثم ذكر أنهم في شك من البعث، فقال (بل هم في لبس من خلق جديد)
أي في شك وحيرة واختلاط من خلق مستأنف، وهو بعث الأموات، ومعنى الإضراب أنهم غير منكرين لقدرة
الله على الخلق الأول (بل هم في لبس من خلق جديد).
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (ق) قال: هو اسم من أسماء الله. وأخرج ابن
أبي حاتم عنه قال: خلق الله من وراء هذه الأرض بحرا محيطا، ثم خلق وراء ذلك جبلا يقال له ق السماء الدنيا
مرفرفة عليه، ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات، ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا
بها، ثم خلق وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الثانية مرفرفة عليه، حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة
أجبل وسبع سماوات، قال: وذلك قوله - والبحر يمده من بعده سبعة أبحر - قال ابن كثير: لا يصح سنده عن
73

ابن عباس. وقال أيضا: وفيه انقطاع. وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عنه أيضا قال: هو جبل وعروقه إلى
الصخرة التي عليها الأرض، فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك ذلك العرق الذي يلي تلك القرية
فيزلزلها ويحركها، فمن ثم يحرك القرية دون القرية. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا (والقرآن المجيد)
قال: الكريم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: القرآن المجيد ليس شئ أحسن منه ولا أفضل. وأخرج ابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) قال: أجسادهم وما يذهب منها. وأخرج ابن
جرير عنه أيضا في الآية قال: ما تأكل من لحومهم وعظامهم وأشعارهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر عنه أيضا قال: المريج الشئ المتغير. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن قطبة قال: " سمعت النبي
صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الصبح ق، فلما أتى على هذه الآية (والنخل باسقات) فجعلت أقول:
ما بسوقها؟ قال: طولها ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله (والنخل
باسقات) قال الطول. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله (لها طلع نضيد) قال: متراكم بعضه على
بعض. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (أفعيينا بالخلق الأول) يقول لم يعيينا الخلق الأول،
وفي قوله (بل هم في لبس من خلق جديد) في شك من البعث.
74

قوله (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر بعض القدرة الربانية،
والمراد بالإنسان الجنس، وقيل آدم والوسوسة هي في الأصل الصوت الخفي، والمراد بها هنا ما يختلج في سره
وقلبه وضميره: أي نعلم ما يخفى ويكن في نفسه، ومن استعمال الوسوسة في الصوت الخفي قول الأعشى:
تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت * فاستعمل لما خفى من حديث النفس (ونحن أقرب إليه من حبل
الوريد) هو حبل العاتق، وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان من عن يمين وشمال. وقال الحسن:
الوريد الوتين، وهو عرق معلق بالقلب، وهو تمثيل للقرب بقرب ذلك العرق من الإنسان: أي نحن أقرب إليه
من حبل وريده. والإضافة بيانية: أي حبل هو الوريد. وقيل الحبل هو نفس الوريد، فهو من باب مسجد
الجامع. ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه به وكل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله إلزاما للحجة فقال (إذ يتلقى
المتلقيان) الظرف منتصب بما في " أقرب " من معنى الفعل، ويجوز أن يكون منصوبا بمقدر هو أذكر، والمعنى:
أنه أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان الموكلان به ما يلفظ به وما يعمل به: أي يأخذان
ذلك ويثبتانه، والتلقي الأخذ: أي نحن أعلم بأحواله غير محتاجين إلى الحفظة الموكلين به، وإنما جعلنا ذلك إلزاما
للحجة وتوكيدا للأمر. قال الحسن وقتادة ومجاهد: المتلقيان ملكان يتلقيان عملك أحدهما عن يمينك يكتب
حسناتك. والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك. وقال مجاهد أيضا: وكل الله بالإنسان ملكين بالليل وملكين بالنهار
يحفظان عمله ويكتبان أثره (عن اليمين وعن الشمال قعيد) إنما قال قعيد ولم يقل قعيدان وهما اثنان، لأن المراد عن
اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، كذا قال سيبويه كقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف
وقول الفرزدق: وأتى وكان وكنت غير عذور * أي وكان غير عذور وكنت غير عذور، وقال
الأخفش والفراء: إن لفظ قعيد يصلح للواحد والاثنين والجمع ولا يحتاج إلى تقدير في الأول. قال الجوهري
وغيره من أئمة اللغة والنحو: فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، والقعيد المقاعد كالجليس
بمعنى المجالس (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) أي ما يتكلم من كلام، فيلفظه ويرميه من فيه إلا لديه: أي
لدى ذلك اللافظ رقيب: أي ملك يرقب قوله ويكتبه. والرقيب: الحافظ المتتبع لأمور الإنسان الذي يكتب
ما يقوله من خير وشر، فكاتب الخير هو ملك اليمين، وكاتب الشر ملك الشمال. والعتيد: الحاضر المهيأ. قال
الجوهري: العتيد الحاضر المهيأ، يقال عتده تعتيدا وأعتده اعتدادا: أي أعده، ومنه - وأعتدت لهن متكأ -
والمراد هنا أنه معد للكتابة مهيؤ لها (وجاءت سكرة الموت بالحق) لما بين سبحانه أن جميع أعمالهم محفوظة مكتوبة
ذكر بعده ما ينزل بهم من الموت، والمراد بسكرة الموت شدته وغمرته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله،
ومعنى بالحق: أنه عند الموت يتضح له الحق ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والوعد
والوعيد، وقيل الحق هو الموت، وقيل في الكلام تقديم وتأخير: أي وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذا قرأ
أبو بكر الصديق وابن مسعود. والسكرة هي الحق، فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين، وقيل الباء للملابسة
كالتي في قوله - تنبت بالدهن - أي ملتبسة بالحق: أي بحقيقة الحال. والإشارة بقوله (ذلك) إلى الموت،
والحيد الميل: أي ذلك الموت الذي كنت تميل عنه وتفر منه، يقال: حاد عن الشئ يحيد حيودا وحيدة
وحيدودة: مال عنه وعدل، ومنه قول طرفة:
أبو منذر رمت الوفاء فهبته * وحدت كما حاد البعير عن الدحض
75

وقال الحسن: تحيد تهرب (ونفخ في الصور) عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه، وهذه هي النفخة الآخرة
للبعث (ذلك يوم الوعيد) أي ذلك الوقت الذي يكون فيه النفخ في الصور يوم الوعيد الذي أوعد الله به الكفار.
قال مقاتل: يعنى بالوعيد العذاب في الآخرة، وخصص الوعيد مع كون اليوم هو يوم الوعد والوعيد جميعا
لتهويله (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) أي جاءت كل نفس من النفوس معها من يسوقها ومن يشهد لها
أو عليها.
واختلف في السائق والشهيد، فقال الضحاك: السائق من الملائكة، والشهيد من أنفسهم: يعنى الأيدي
والأرجل. وقال الحسن وقتادة: سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها بعملها. وقال ابن مسلم السائق قرينها من
الشياطين، سمى سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثها. وقال مجاهد: السائق والشهيد ملكان. وقيل السائق الملك والشهيد
العمل، وقيل السائق كاتب السيئات، والشهيد كاتب الحسنات، ومحل الجملة النصب على الحال (لقد كنت في
غفلة من هذا) أي يقال له: لقد كنت في غفلة من هذا، والجملة في محل نصب على الحال من نفس أو مستأنفة
كأنه قيل ما يقال له. قال الضحاك: المراد بهذا المشركون لأنهم كانوا في غفلة من عواقب أمورهم. وقال ابن
زيد: الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة. وقال أكثر المفسرين:
المراد به جميع الخلق برهم وفاجرهم، واختار هذا ابن جرير. قرأ الجمهور بفتح التاء من " كنت " وفتح الكاف في
غطاءك وبصرك حملا على ما في لفظ كل من التذكير. وقرأ الجحدري وطلحة بن مصرف بالكسر في الجميع على
أن المراد النفس (فكشفنا عنك غطاءك) الذي كان في الدنيا: يعنى رفعنا الحجاب الذي كان بينك وبين أمور
الآخرة، ورفعنا ما كنت فيه من الغفلة عن ذلك (فبصرك اليوم حديد) أي نافذ تبصر به ما كان يخفى عليك
في الدنيا. قال السدى: المراد بالغطاء أنه كان في بطن أمه فولد، وقيل إنه كان في القبر فنشر، والأول أولى.
والبصر قيل هو بصر القلب وقيل بصر العين. وقال مجاهد: بصرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك
وبه قال الضحاك (وقال قرينه هذا ما لدي عتيد) أي قال الملك الموكل به هذا ما عندي من كتاب عملك عتيد
حاضر قد هيأته، كذا قال الحسن وقتادة والضحاك. وقال مجاهد: إن الملك يقول للرب سبحانه هذا الذي
وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله. وروى عنه أنه قال: إن قرينه من الشياطين، يقول
ذلك: أي هذا ما قد هيأته لك بإغوائي وإضلالي. وقال ابن زيد: إن المراد هنا قرينه من الإنس، وعتيد مرفوع
على أنه صفة لما إن كانت موصوفة، وإن كانت موصولة فهو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدإ محذوف (ألقيا في
جهنم كل كفار عنيد) هذا خطاب من الله عز وجل للشائق والشهيد. قال الزجاج: هذا أمر للملكين الموكلين به
وهما السائق والشاهد: كل كفار للنعم عنيد مجانب للإيمان (مناع للخير) لا يبذل خيرا (معتد) ظالم لا يقر بتوحيد الله
(مريب) شاك في الحق، من قولهم أراب الرجل: إذا صار ذا ريب. وقيل هو خطاب للملكين من خزنة النار، وقيل
هو خطاب لواحد على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل وتكريره. قال الخليل والأخفش: هذا كلام العرب
الصحيح أن يخاطب الواحد بلفظ الاثنين يقولون: ارحلاها وازجراها وخذاه وأطلقاه للواحد. قال الفراء:
العرب تقول للواحد قوما عنا. وأصل ذلك أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره اثنان،
فجرى كلام الرجل للواحد على ذلك، ومنه قولهم للواحد في الشعر خليلي كما قال امرؤ القيس:
خليلي مرا بي على أم جندب * نقض لبانات الفؤاد المعذب
76

وقوله: قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقول الآخر: فإن تزجراني يابن عفان أنزجر * وإن تدعواني أحم عرضا ممنعا
قال المازني: قوله (ألقيا) يدل على ألق ألق. قال المبرد: هي تثنية على التوكيد، فناب ألقيا مناب ألق ألق
قال مجاهد وعكرمة: العنيد المعاند للحق، وقيل المعرض عن الحق، يقال عند يعند بالكسر عنودا. إذا خالف
الحق (الذي جعل مع الله إلها آخر) يجوز أن يكون بدلا من كل أو منصوبا على الذم، أو بدلا من كفار، أو
مرفوعا بالابتداء أو الخبر (فألقياه في العذاب الشديد) تأكيد للأمر الأول أو بدل منه (قال قرينه ربنا ما أطغيته)
هذه الجملة مستأنفة لبيان ما يقوله القرين، والمراد بالقرين هنا الشيطان الذي قيض لهذا الكافر، أنكر أن يكون
أطغاه، ثم قال: (ولكن كان في ضلال بعيد) أي عن الحق فدعوته فاستجاب لي، ولو كان من عبادك المخلصين
لم أقدر عليه، وقيل إن قرينه الملك الذي كان يكتب سيئاته وإن الكافر يقول: رب إنه أعجلني فيجيبه بهذا،
كذا قال مقاتل وسعيد بن جبير. والأول أولى، وبه قال الجمهور (قال لا تختصموا لدي) هذه الجملة مستأنفة
جواب سؤال مقدر كأنه قيل، فماذا قال الله؟ فقيل (قال لا تختصموا لدي) يعنى الكافرين وقرناءهم، نهاهم
سبحانه عن الاختصام في موقف الحساب، وجملة (وقد قدمت إليكم بالوعيد) في محل نصب على الحال: أي
والحال أن قد قدمت إليكم بالوعيد بإرسال الرسل وإنزال الكتب، والباء في بالوعيد مزيدة للتأكيد أو على تضمين
قدم معنى تقدم (ما يبدل القول لدي) أي لا خلف لوعدي، بل هو كائن لا محالة، وقد قضيت عليكم بالعذاب
فلا تبديل له، وقيل هذا القول هو قوله - من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها -
وقيل هو قوله - لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين - وقال الفراء وابن قتيبة: معنى الآية: أنه ما يكذب عندي
بزيادة في القول ولا بنقص منه لعلمي بالغيب، وهو قول الكلبي. واختاره الواحدي لأنه قال - لدي - ولم يقل
وما يبدل قولي، والأول أولى. وقيل إن مفعول قدمت إليكم هو ما يبدل أي وقد قدمت إليكم هذا القول ملتبسا
بالوعيد، وهذا بعيد جدا (وما أنا بظلام للعبيد) أي لا أعذبهم ظلما بغير جرم اجترموه ولا ذنب أذنبوه. ولما
كان نفي الظلام لا يستلزم نفي مجرد الظلم قيل إنه هنا بمعنى الظالم كالثمار بمعنى التامر. وقيل إن صيغة المبالغة
لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في معرض المبالغة في الظلم. وقيل صيغة المبالغة لرعاية
جمعية العبيد من قولهم فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده، وقيل غير ذلك، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة آل عمران
وفي سورة الحج (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) قرأ الجمهور " نقول " بالنون. وقرأ
نافع وأبو بكر بالياء. وقرأ الحسن أقول. وقرأ الأعمش " يقال " والعامل في الظرف " ما يبدل القول لدي " أو محذوف
أي أذكر أو أنذرهم، وهذا الكلام على طريقة التمثيل والتخييل، ولا سؤال ولا جواب، كذا قيل، والأولى
أنه على طريقة التحقيق ولا يمنع من ذلك عقل ولا شرع. قال الواحدي. قال المفسرون: أراها الله تصديق قوله
- لأملأن جهنم - فلما امتلأت قال لها (هل امتلأت وتقول هل من مزيد) أي قد امتلأت ولم يبق في موضع
لم يمتلئ، وبهذا قال عطاء ومجاهد ومقاتل بن سليمان. وقيل إن هذا الاستفهام بمعنى الاستزادة: أي إنها تطلب
الزيادة على من قد صار فيها. وقيل: إن المعنى أنها طلبت أن يزاد في سعتها لتضايقها بأهلها، والمزيد إما مصدر
كامحيد أو اسم مفعول كالمنيع، فالأول بمعنى هل من زيادة، والثاني بمعنى هل من شئ تزيدونيه ثم لما فرغ
من بيان حال الكافرين شرع في بيان حال المؤمنين فقال (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد) أي قربت للمتقين
تقريبا غير بعيد أو مكان غير بعيد منهم بحيث يشاهدونها في الموقف، وينظرون ما فيها مما لا عين رأت ولا أذن
77

سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويجوز أن يكون انتصاب - غير بعيد - على الحال. وقيل المعنى: أنها زينت
قلوبهم في الدنيا بالترغيب والترهيب، فصارت قريبة من قلوبهم، والأول أولى. والإشارة بقوله (هذا ما توعدون)
إلى الجنة التي أزلفت لهم على معنى: هذا الذي ترونه من فنون نعيمها ما توعدون، والجملة بتقدير القول: أي
ويقال لهم هذا ما توعدون. قرأ الجمهور " توعدون " بالفوقية. وقرأ ابن كثير بالتحتية (لكل أواب حفيظ) هو
بدل من للمتقين بإعادة الخافض أو متعلق بقول محذوف هو حال: أي مقولا لهم لكل أواب، والأواب الرجاع
إلى الله تعالى بالتوبة عن المعصية، وقيل هو المسبح، وقيل هو الذاكر لله في الخلوة. قال الشعبي ومجاهد: هو
الذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها. وقال عبيد بن عمير هو الذي لا يجلس مجلسا حتى يستغفر الله فيه،
والحفيظ: هو الحافظ لذنوبه حتى يتوب منها. وقال قتادة: هو الحافظ لما استودعه الله من حقه ونعمته، قاله
مجاهد. وقيل هو الحافظ الأمر الله. وقال الضحاك: هو الحافظ لوصية الله له بالقبول (من خشى الرحمن بالغيب)
الموصول في محل جر بدلا أو بيانا لكل أواب، وقيل يجوز أن يكون بدلا بعد بدل من المتقين، وفيه نظر لأنه
لا يتكرر البدل والمبدل منه واحد، ويجوز أن يكون في محل رفع على الاستئناف والخبر ادخلوها بتقدير يقال لهم
ادخلوها، والخشية بالغيب أن يخاف الله ولم يكن رآه. وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حيث لا يراه
أحد. قال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب، وبالغيب متعلق بمحذوف هو حال أو صفة لمصدر خشى
(وجاء بقلب منيب) أي راجع إلى الله مخلص لطاعته، وقيل المنيب المقبل على الطاعة، وقيل السليم (ادخلوها)
هو بتقدير القول: أي يقال لهم ادخلوها، والجمع باعتبار معنى من: أي ادخلوا الجنة (بسلام) أي بسلامة من
العذاب، وقيل بسلام من الله وملائكته، وقيل بسلامة من زوال النعم، وهو متعلق بمحذوف هو حال: أي
ملتبسين بسلام، والإشارة بقوله (ذلك) إلى زمن ذلك اليوم كما قال أبو البقاء، وخبره (يوم الخلود) وسماه يوم
الخلود لأنه لا انتهاء له، بل هو دائم أبدا (لهم ما يشاءون فيها) أي في الجنة ما تشتهى أنفسهم وتلذ أعينهم من فنون
النعم وأنواع الخير (ولدينا مزيد) من النعم التي لم تخطر لهم على بال ولا مرت لهم في خيال.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " نزل الله من ابن آدم أربع
منازل: هو أقرب إليه من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه، وهو آخذ بناصية كل دابة، وهو معهم
أينما كانوا ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (من حبل الوريد) قال: عروق العنق.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: هو نياط القلب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا، في قوله (ما يلفظ من
قول إلا لديه رقيب عتيد) قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله أكلت وشربت
ذهبت جئت رأيت، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقى سائره.
فذلك قوله - يمحو الله ما يشاء ويثبت -. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن
مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس في الآية قال: إنما يكتب الخير والشر، لا يكتب يا غلام أسرج الفرس
يا غلام اسقني الماء. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ": إن الله غفر
لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم ". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد والحكيم الترمذي وأبو نعيم
والبيهقي في الشعب عن عمرو بن ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله عند لسان كل قائل،
فليتق الله عبد ولينظر ما يقول ". وأخرج الحكيم والترمذي عن ابن عباس مرفوعا مثله. وأخرج عبد الرزاق والفريابي
وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى، وابن مردويه والبيهقي في البعث،
78

وابن عساكر عن عثمان بن عفان أنه قرأ (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) قال: سائق يسوقها إلى أمر الله.
وشهيد يشهد عليها بما عملت. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن مردويه والبيهقي في البعث
عن أبي هريرة في الآية قال: السائق الملك، والشهيد العمل. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال:
السائق من الملائكة، والشهيد شاهد عليه من نفسه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (لقد كنت
في غفلة من هذا) قال: هو الكافر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا (فكشفنا عنك غطاءك) قال:
الحياة بعد الموت. وأخرج ابن جرير عنه أيضا، و (قال قرينه) قال شيطانه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم في قوله (لا تختصموا لدي) قال: إنهم اعتذروا بغير عذر فأبطل الله حجتهم ورد عليهم قولهم. وأخرج
ابن أبي حاتم عنه أيضا. في قوله (وما أنا بظلام للعبيد) قال: ما أنا بمعذب من لم يجترم. وأخرج ابن أبي حاتم
عنه أيضا، في قوله (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) قال: وهل في مكان يزاد في
. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا تزال جهنم يلقى فيها
وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط، وعزتك وكرمك
ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول الجنة. وأخرجنا أيضا من حديث
أبي هريرة نحوه، وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن جرير والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله (لكل
أواب حفيظ) قال: حفظ ذنوبه حتى رجع عنها. وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي
في البعث والنشور عن أنس، في قوله (ولدينا مزيد) قال: يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل جمعة. وأخرج
البيهقي في الرؤية والديلمي عن علي في الآية قال: يتجلى لهم الرب عز وجل، وفي الباب أحاديث.
ق (36 - 45)
خوف سبحانه أهل مكة بما اتفق للقرون الماضية (قبلهم) أي قبل قريش ومن وافقهم (من قرن) أي من
أمة (هم أشد منهم بطشا) أي قوة كعاد وثمود وغيرهما (فنقبوا في البلاد) أي ساروا وتقلبوا فيها وطافوا بقاعها
79

وأصله من النقب، وهو الطريق. قال مجاهد: ضربوا وطافوا. وقال النضر بن شميل: دوروا. وقال المؤرج:
تباعدوا. والأول أولى، ومنه قول امرئ القيس:
وقد نقبت في الآفاق حتى * رضيت من الغنيمة بالإياب
ومثله قول الحارث بن حلزة:
نقبوا في البلاد من حذر الموت * وجالوا في الأرض كل مجال
وقرأ ابن عباس والحسن وأبو العالية وأبو عمرو في رواية " نقبوا " بفتح القاف مخففة، والنقب هو الخرق
والطريق في الجبل وكذا المنقب والمنقبة، كذا قال ابن السكيت، وجمع النقب نقوب. وقرأ السلمي ويحيى بن
يعمر بكسر القاف مشددة على الأمر للتهديد: أي طوفوا فيها وسيروا في جوانبها. وقرأ الباقون بفتح القاف
مشددة على الماضي (هل من محيص) أي هل من مهرب يهربون إليه، أو مخلص يتخلصون به من العذاب.
قال الزجاج: لم يروا محيصا من الموت، والمحيص مصدر حاص عنه يحيص حيصا وحيوصا ومحيصا ومحاصا
وحيصانا: أي عدل وحاد، والجملة مستأنفة لبيان أنه لا مهرب لهم، وفي هذا إنذار لأهل مكة أنهم مثل من
قبلهم من القرون لا يجدون من الموت والعذاب مفرا (إن في ذلك لذكرى) أي فيما ذكر من قصتهم تذكرة
وموعظة (لمن كان له قلب) أي عقل. قال الفراء: وهذا جائز في العربية، تقول ما لك قلب وما قلبك معك:
أي مالك عقل وما عقلك معك، وقيل المراد القلب نفسه، لأنه إذا كان سليما أدرك الحقائق وتفكر كما ينبغي
وقيل لمن كان له حياة ونفس مميزة، فعبر عن ذلك بالقلب لأنه وطنها ومعدن حياتها، ومنه قول امرئ القيس.
أغرك مني أن حبك قاتلي * وأنك مهما تأمري النفس تفعل
(أو ألقى السمع) أي استمع ما يقال له، يقال ألق سمعك إلى: أي استمع منى، والمعنى: أنه ألقى السمع
إلى ما يتلى عليه من الوحي الحاكي لما جرى عن تلك الأمم. قرأ الجمهور " ألقى " مبنيا للفاعل. وقرأ السلمي وطلحة
والسدي على البناء للمفعول ورفع السمع (وهو شهيد) أي حاضر الفهم أو حاضر القلب لأن من لا يفهم في حكم
الغائب وإن حضر بجسمه فهو لم يحضر بفهمه. قال الزجاج: أي وقلبه حاضر فيما يسمع. قال سفيان: أي لا يكون
حاضرا وقلبه غائب. قال مجاهد وقتادة: هذه الآية في أهل الكتاب وكذا قال الحسن. وقال محمد بن كعب
وأبو صالح: إنها في أهل القرآن خاصة (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) قد تقدم تفسير
هذه الآية في سورة الأعراف وغيرها (وما مسنا من لغوب) اللغوب: التعب والإعياء، تقول لغب يلغب بالضم
لغوبا. قال الواحدي: قال جماعة المفسرين إن اليهود قالوا: خلق الله السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام.
أولها الأحد وآخرها الجمعة، واستراح يوم السبت، فأكذبهم الله تعالى بقوله (وما مسنا من لغوب. فاصبر على
ما يقولون) هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمر لهم بالصبر على ما يقوله المشركون: أي هون عليك،
ولا تحزن لقولهم وتلق ما يرد عليك منه بالصبر (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) أي نزه الله
عما لا يليق بجنابه العالي ملتبسا بحمده وقت الفجر ووقت العصر، وقيل المراد صلاة الفجر وصلاة العصر، وقيل
الصلوات الخمس، وقيل صل ركعتين. قبل طلوع الشمس وركعتين قبل غروبها، والأول أولى (ومن الليل
فسبحه) من للتبعيض: أي سبحه بعض الليل، وقيل هي صلاة الليل، وقيل ركعتا الفجر، وقيل صلاة العشاء،
والأول أولى (وإدبار السجود) أي وسبحه أعقاب الصلوات، قرأ الجمهور " أدبار " بفتح الهمزة جمع دبر. وقرأ
80

نافع وابن كثير وحمزة بكسرها على المصدر، من أدبر الشئ إدبارا: إذا ولى. وقال جماعة من الصحابة والتابعين:
إدبار السجود الركعتان بعد المغرب، وإدبار النجوم الركعتان قبل الفجر. وقد اتفق القراء السبعة في إدبار النجوم
أنه بكسر الهمزة كما سيأتي (واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب) أي استمع ما يوحى إليك من أحوال القيامة:
يوم ينادي المناد، وهو إسرافيل أو جبريل، وقيل استمع النداء أو الصوت أو الصيحة، وهي صيحة القيامة:
أعني النفخة الثانية في الصور من إسرافيل، وقيل إسرافيل ينفخ، وجبريل ينادي أهل المحشر، ويقول: هلموا
للحساب، فالنداء على هذا في المحشر. قال مقاتل: هو إسرافيل ينادي بالحشر فيقول: يا أيها الناس هلموا للحساب
(من مكان قريب) بحيث يصل النداء إلى كل فرد من أفراد أهل المحشر. قال قتادة: كنا نحدث أنه ينادي من
صخرة بيت المقدس. قال الكلبي: وهي أقرب الأرض إلى السماء باثني عشر ميلا. وقال كعب: بثمانية عشر ميلا
(يوم يسمعون الصيحة بالحق) هو بدل من يوم ينادي: يعني صيحة البعث، وبالحق متعلق بالصيحة (ذلك يوم
الخروج) أي يوم الخروج من القبور. قال الكلبي: معنى بالحق بالبعث. وقال مقاتل: يعني أنها كائنة حقا (إنا
نحن نحيي ونميت) أي نحيي في الآخرة ونميت في الدنيا لا يشاركنا في ذلك مشارك، والجملة مستأنفة لتقرير أمر
البعث (وإلينا المصير) فنجازي كل عامل بعمله (يوم تشقق الأرض عنهم) قرأ الجمهور بإدغام التاء في الشين.
وقرأ الكوفيون بتخفيف الشين على حذف إحدى التاءين تخفيفا. وقرأ زيد بن علي: تتشقق بإثبات التاءين على
الأصل، وقرئ على البناء للمفعول، وانتصاب (سراعا) على أنه حال من الضمير في عنهم، والعامل في الحال
تشقق، وقيل العامل في الحال هو العامل في يوم: أي مسرعين إلى المنادي الذي ناداهم (ذلك حشر) أي بعث
وجمع (علينا يسير) هين. ثم عزى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال (نحن أعلم بما يقولون) يعني
من تكذيبك فيما جئت به ومن إنكار البعث والتوحيد (وما أنت عليهم بجبار) أي بمسلط يجبرهم ويقهرهم على
الإيمان، والآية منسوخة بآية السيف (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) أي من يخاف وعيدي لعصاتي بالعذاب،
وأما من عداهم فلا تشتغل بهم، ثم أمره الله سبحانه بعد ذلك بالقتال.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس (وما مسنا من لغوب) قال: من نصب. وأخرج الطبراني في الأوسط
وابن عساكر عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وسبح بحمد ربك قبل طلوع
الشمس) صلاة الصبح (وقبل الغروب) صلاة العصر. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم
وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال: " بت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى ركعتين خفيفتين
قبل صلاة الفجر، ثم خرج إلى الصلاة فقال: يابن عباس ركعتان قبل صلاة الفجر إدبار النجوم وركعتان بعد
المغرب إدبار السجود ". وأخرج مسدد في مسنده وابن المنذر وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال " سألت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن إدبار النجوم وإدبار السجود، فقال: إدبار السجود ركعتان بعد المغرب،
وإدبار النجوم الركعتان قبل الغداة ". وأخرج محمد بن نصر في الصلاة وابن المنذر عن عمر بن الخطاب: إدبار
السجود ركعتان بعد المغرب، وإدبار النجوم ركعتان قبل الفجر. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن
نصر وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات عن علي بن أبي طالب مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن
نصر وابن جرير وابن المنذر وابن مزدويه عن أبي هريرة مثله. وأخرج البخاري وغيره عن مجاهد قال: قال ابن
عباس: أمره أن يسبح في أدبار الصلوات كلها. وأخرج ابن جرير عنه (واستمع يوم يناد المناد) قال: هي
الصيحة. وأخرج الواسطي عنه أيضا (من مكان قريب) قال: من صخرة بيت المقدس. وأخرج ابن أبي حاتم وابن
81

المنذر عنه أيضا (ذلك يوم الخروج) قال: يوم يخرجون إلى البعث من القبور. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال:
قالوا: يا رسول الله لو خوفتنا، فنزلت (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد).
تفسير سورة الذاريات
هي ستون آية، وهي مكية. قال القرطبي في قول الجميع
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة الذاريات
بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
سورة الذاريات (1 - 24)
قوله (والذاريات ذروا) يقال ذرت الريح التراب تذروه ذروا، وأذرته تذريه ذريا، أقسم سبحانه بالرياح التي
تذري التراب، وانتصار ذروا على المصدرية، والعامل فيها اسم الفاعل والمفعول محذوف. قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام
تاء الذاريات في ذال ذروا. وقرأ الباقون بدون إدغام. وقيل المقسم به مقدر وهو رب الذاريات وما بعدها،
والأول أولى (فالحاملات وقرا) هي السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر، وانتصاب وقرا على أنه
مفعول به كما يقال حمل فلان عدلا ثقيلا. قرأ الجمهور " واقرا " بكسر الواو اسم ما يوقر: أي يحمل، وقرئ
بفتحها على أنه مصدر والعامل فيه اسم الفاعل، أو على تسمية المحمول بالمصدر مبالغة (فالجاريات يسرا) هي
السفن الجارية في البحر بالرياح جريا سهلا، وانتصاب يسرا على المصدرية، أو صفة لمصدر محذوف، أو على
الحال: أي جريا ذا يسر، وقيل هي الرياح، وقيل السحاب، والأول أولى، واليسر: السهل في كل شئ
82

(فالمقسمات أمرا) هي الملائكة التي تقسم الأمور. قال الفراء: تأتي بأمر مختلف: جبريل بالغلظة، وميكائيل
صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت، وقيل تأتي بأمر مختلف من الجدب والخصب والمطر والموت والحوادث.
وقيل هي السحب التي يقسم الله بها أمر العباد، وقيل إن المراد بالذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات
الرياح، فإنها توصف بجميع ذلك لأنها تذرو التراب وتحمل السحاب وتجري في الهواء وتقسم الأمطار، وهو
ضعيف جدا. وانتصاب أمرا على المفعول به، وقيل على الحال: أي مأمورة، والأول أولى (إنما توعدون
لصادق) هذا جواب القسم: أي إنما توعدون من الثواب والعقاب لكائن لا محالة. و " ما " يجوز أن تكون
موصولة والعائد محذوف، وأن تكون مصدرية. ووجه تخصيص هذه الأمور بالإقسام بها كونها أمورا بديعة
مخالفة لمقتضى العادة، فمن قدر عليها فهو قادر على البعث الموعود به (والسماء ذات الحبك) قرأ الجمهور " الحبك "
بضم الحاء والباء، وقرئ بضم الحاء وسكون الباء وبكسر الحاء وفتح الباء وبكسر الحاء وضم الباء. قال ابن عطية:
هي لغات، والمراد بالسماء هنا هي المعروفة، وقيل المراد بها السحاب، والأول أولى.
واختلف المفسرون في تفسير الحبك، فقال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم: المعنى ذات الخلق المستوى
الحسن. قال ابن الأعرابي: كل شئ أحكمته وأحسنت عمله فقد حبكته واحتبكته. وقال الحسن وسعيد بن جبير:
ذات الزينة. وروى عن الحسن أيضا أنه قال: ذات النجوم. وقال الضحاك: ذات الطرائق، وبه قال الفراء،
يقال لما تراه من الماء والرمل إذا أصابته الريح حبك. قال الفراء: الحبك بكسر: كل شئ كالرمل إذا مرت به
الريح الساكنة والماء إذا مرت به الريح، ويقال لدرع الحديد حبك، ومنه قول الشاعر:
كأنما جللها الحواك * طنفسة في وشيها حباك
أي طرق، وقيل الحبك الشدة، والمعنى: والسماء ذات الشدة، والمحبوك الشديد الخلق من فرس أو غيره،
ومنه قول الشاعر: قد غدا يحملني في أنفه * لاحق الأطلين محبوك ممر
وقول الآخر: مرج الدين فأعددت له * مشرف الحارك محبوك الكتد
قال الواحدي بعد حكاية القول الأول: هذا قول الأكثرين (إنكم لفي قول مختلف) هذا جواب القسم
بالسماء ذات الحبك: أي إنكم يا أهل مكة لفي قول مختلف متناقض في محمد صلى الله عليه وآله وسلم. بعضكم
يقول إنه شاعر. وبعضكم يقول إنه ساحر، وبعضكم يقول إنه مجنون. ووجه تخصيص القسم بالسماء المتصفة بتلك
الصفة تشبيه أقوالهم في اختلافها باختلاف طرائق السماء، واستعمال الحبك في الطرائق هو الذي عليه أهل اللغة،
وإن كان الأكثر من المفسرين على خلافه. على إنه يمكن أن ترجع تلك الأقوال في تفسير الحبك إلى هذا، وذلك
بأن يقال: إن ما في السماء من الطرائق يصح أن يكون سببا لمزيد حسنها واستواء خلقها وحصول الزينة فيها ومزيد
القوة لها. وقيل إن المراد بكونهم في قول مختلف أن بعضهم ينفى الحشر وبعضهم يشك فيه، وقيل كونهم يقرون
أن الله خالقهم ويعبدون الأصنام (يؤفك عنه من أفك) أي يصرف عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وبما جاء به، أو عن الحق، وهو البعث والتوحيد من صرف. وقيل يصرف عن ذلك الاختلاف من صرفه الله
عنه بالعصمة والتوفيق، يقال أفكه يأفكه إفكا: أي قلبه عن الشئ وصرفه عنه، ومنه قوله تعالى - قالوا أجئتنا
لتأفكنا - وقال مجاهد: يؤمن عنه من أفن، والأفن فساد العقل، وقيل يحرمه من حرم. وقال قطرب: يجدع
عنه من جدع. وقال اليزيدي: يدفع عنه من دفع (قتل الخراصون) هذا دعاء عليهم. وحكى الواحدي عن
83

المفسرين جميعا أن المعنى: لعن الكذابون. قال ابن الأنباري: والقتل إذا أخبر به عن الله كان بمعنى اللعن، لأن
من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قال الفراء: معنى قتل لعن. والخراصون الكذابون الذين يتخرصون فيما
لا يعلمون فيقولون: إن محمدا مجنون كذاب شاعر ساحر. قال الزجاج: الخراصون هم الكذابون، والخرص:
حزر ما على النخل من الرطب تمرا، والخراص: الذي يخرصها، وليس هو المراد هنا، ثم قال (الذين هم في غمرة
ساهون) أي في غفلة وعمى جهالة عن أمور الآخرة، ومعنى ساهون: لاهون غافلون، والسهو: الغفلة عن
الشئ وذهابه عن القلب، وأصل الغمرة ما ستر الشئ وغطاه، ومنها غمرات الموت (يسألون أيان يوم الدين)
أي يقولون متى يوم الجزاء تكذيبا منهم واستهزاء. ثم أخبر سبحانه عن ذلك اليوم فقال (يوم هم على النار يفتنون)
أي يحرقون ويعذبون. يقال فتنت الذهب: إذا أحرقته لتختبره، وأصل الفتنة الاختبار. قال عكرمة: ألم تر أن
الذهب إذا أدخل النار قيل فتن. وانتصاب يوم بمضمر: أي الجزاء: يوم هم على النار، ويجوز أن يكون بدلا من
يوم الدين، والفتح للبناء لكونه مضافا إلى الجملة، وقيل هو منصوب بتقدير أعني. وقرأ ابن أبي عبلة برفع " يوم "
على البدل من يوم الدين، وجملة (ذوقوا فتنتكم) هي بتقدير القول: أي يقال لهم ذوقوا عذابكم قاله ابن زيد.
وقال مجاهد: حريقكم، ورجح الأول الفراء، وجملة (هذا الذي كنتم به تستعجلون) من جملة ما هو محكي
بالقول: أي هذا ما كنتم تطلبون تعجيله استهزاء منكم، وقيل هي بدل من فتنتكم (إن المتقين في جنات وعيون)
لما ذكر سبحانه حال أهل النار ذكر حال أهل الجنة: أي هم في بساتين فيها عيون جارية لا يبلغ وصفها
الواصفون (آخذين ما آتاهم ربهم) أي قابلين ما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة، وجملة (إنهم كانوا قبل ذلك
محسنين) تعليل لما قبلها: أي لأنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة من فعل ما أمروا به وترك ما نهوا عنه.
ثم بين إحسانهم الذي وصفهم به فقال (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) الهجوع: النوم بالليل دون النهار،
والمعنى: كانوا قليلا ما ينامون من الليل، وما زائدة، ويجوز أن تكون مصدرية أو موصولة: أي كانوا قليلا
من الليل هجوعهم أو ما يهجعون فيه، ومن ذلك قول أبي قيس بن الأسلت:
قد حصت البيضة رأسي * فما أطعم نوما غير تهجاع
والتهجاع: القليل من النوم، ومن ذلك قول عمرو بن معدي كرب:
أمن ريحانة الداعي السميع * يهيجني وأصحابي هجوع
وقيل ما نافية: أي ما كانوا ينامون قليلا من الليل، فكيف بالكثير منه، وهذا ضعيف جدا. وهذا قول
من قال: إن المعنى كان عددهم قليلا. ثم ابتدأ فقال (ما يهجعون) وبه قال ابن الأنباري وهو أضعف مما قبله.
وقال قتادة في تفسير هذه الآية: كانوا يصلون بين العشاءين، وبه قال أبو العالية وابن وهب (وبالأسحار هم
يستغفرون) أي يطلبون في أوقات السحر من الله سبحانه أن يغفر ذنوبهم. قال الحسن: مدوا الصلاة إلى الأسحار،
ثم أخذوا بالأسحار الاستغفار. وقال الكلبي ومقاتل ومجاهد: هم بالأسحار يصلون، وذلك أن صلاتهم طلب منهم
للمغفرة. وقال الضحاك: هي صلاة الفجر. ثم ذكر سبحانه صدقاتهم فقال (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)
أي يجعلون في أموالهم على أنفسهم حقا للسائل والمحروم تقربا إلى الله عز وجل. وقال محمد بن سيرين وقتادة:
الحق هنا الزكاة المفروضة، والأول أولى، فيحمل على صدقة النفل وصلة الرحم وقرى الضيف، لأن السورة
مكية، والزكاة لا تفرض إلا بالمدينة، وسيأتي في سورة سأل سائل - وفي أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم -
بزيادة معلوم، والسائل هو الذي يسأل الناس لفاقته.
84

واختلف في تفسير المحروم، فقيل هو الذي يتعفف عن السؤال حتى يحسبه الناس غنيا فلا يتصدقون عليه،
وبه قال قتادة والزهري. وقال الحسن ومحمد ابن الحنفية: هو الذي لا سهم له في الغنيمة ولا يجري عليه من الفئ
شئ. وقال زيد بن أسلم: هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أو ماشيته. قال القرطبي: هو الذي أصابته الجائحة،
وقيل الذي لا يكتسب، وقيل هو الذي لا يجد غني يغنيه، وقيل هو الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه، وقيل هو
المملوك، وقيل الكلب، وقيل غير ذلك. قال الشعبي: لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم،
فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ، والذي ينبغي التعويل عليه ما يدل عليه المعنى اللغوي، والمحروم في اللغة الممنوع
من الحرمان وهو المنع، فيدخل تحته من حرم الرزق من الأصل، ومن أصيب ماله بجائحة أذهبته، ومن حرم
العطاء، ومن حرم الصدقة لتعففه. ثم ذكر سبحانه ما نصبه من الدلائل الدالة على توحيده وصدق وعده ووعيده
فقال (وفي الأرض آيات للموقنين) أي دلائل واضحة وعلامات ظاهرة من الجبال والبر والبحر والأشجار
والأنهار والثمار، وفيها آثار الهلاك للأمم الكافرة المكذبة لما جاءت به رسل الله ودعتهم إليه، وخص الموقنين بالله
لأنهم الذين يعترفون بذلك ويتدبرون فيه فينتفعون به (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) أي وفي أنفسكم آيات تدل
على توحيد الله وصدق ما جاءت به الرسل، فإنه خلقهم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما إلى أن ينفخ فيه الروح،
ثم تختلف بعد ذلك صورهم وألوانهم وطبائعهم وألسنتهم، ثم نفس خلقهم على هذه الصفة العجيبة الشأن من لحم
ودم وعظم وأعضاء وحواس ومجاري ومنافس، ومعنى (أفلا تبصرون) أفلا تنظرون بعين البصيرة، فتستدلون
بذلك على الخالق الرازق المتفرد بالألوهية، وأنه لا شريك له ولا ضد ولا ند، وأن وعده الحق، وقوله الحق
وأن ما جاءت إليكم به رسله هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة تعتريه، وقيل المراد بالأنفس الأرواح: أي وفي
نفوسكم التي بها حياتكم آيات (وفي السماء رزقكم) أي سبب رزقكم، وهو المطر فإنه سبب الأرزاق. قال سعيد
ابن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج. وقيل المراد بالسماء السحاب: أي وفي السحاب
رزقكم، وقيل المراد بالسماء المطر، وسماه سماء لأنه ينزل من جهتها، ومنه قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا
وقال ابن كيسان: يعني وعلى رب السماء رزقكم، قال: ونظيره - وما من دابة في الأرض إلا على الله
رزقها - وهو بعيد. وقال سفيان الثوري: أي عند الله في السماء رزقكم. وقيل المعنى: وفي السماء تقدير رزقكم،
قرأ الجمهور " رزقكم " بالأفراد، وقرأ يعقوب وابن محيصن ومجاهد " أرزاقكم " بالجمع (وما توعدون) من الجنة
والنار، قاله مجاهد. قال عطاء: من الثواب العقاب، وقال الكلبي: من الخير والشر، قال ابن سيرين:
ما توعدون من أمر الساعة، وبه قال الربيع. والأولى الحمل على ما هو أعم من هذه الأقوال، فإن جزاء الأعمال
مكتوب في السماء، والقضاء والقدر ينزل منها، والجنة والنار فيها. ثم أقسم سبحانه بنفسه فقال (فورب السماء
والأرض إنه الحق) أي ما أخبركم به في هذه الآيات. قال الزجاج: هو ما ذكر من أمر الرزق والآيات. قال
الكلبي: يعني ما قص في الكتاب. وقال مقاتل: يعني من أمر الساعة. وقيل إن " ما " في قوله (وما توعدون)
مبتدأ وخبره فورب السماء والأرض إنه لحق، فيكون الضمير لما. ثم قال سبحانه (مثل ما أنكم تنطقون) قرأ
الجمهور بنصب " مثل " على تقدير: كمثل نطقكم، وما زائدة، كذا قال بعض الكوفيون إنه منصوب بنزع
الخافض. وقال الزجاج والفراء: يجوز أن ينتصب على التوكيد: أي لحق حقا مثل نطقكم. وقال المازني: إن
85

" مثل " مع " ما " بمنزلة شئ واحد فبني على الفتح. وقال سيبويه: هو مبني لإضافته إلى غير متمكن، واختار
هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر والأعمش " مثل " بالرفع على أنه صفة لحق، لأن
مثل نكرة وإن أضيفت فهي لا تتعرف بالإضافة كغير. ورجح قول المازني أبو علي الفارسي، قال ومثله قول
حميد: وويحا لمن لم يدر ما هن ويحما * فبنى ويح مع ما ولم يلحقه التنوين، ومعنى الآية تشبيه تحقيق
ما أخبر الله عنه بتحقيق نطق الآدمي ووجوده، وهذا كما تقول: إنه لحق كما أنك هاهنا، وإنه لحق كما أنك
تتكلم، والمعنى: أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة.
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري
والدارقطني في الأفراد والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله (والذاريات
ذروا) قال: الرياح (فالحاملات وقرا) قال: السحاب (فالجاريات يسرا) قال: السفن (فالمقسمات أمرا) قال:
الملائكة. وأخرج البزار والدارقطني في الإفراد، وابن مردويه وابن عساكر عن عمر بن الخطاب مثله ورفعه إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي إسناده أبو بكر بن سبرة وهو لين الحديث، وسعيد بن سلام وليس
من صحاب الحديث، كذا قال البزار. قال ابن كثير: فهذا الحديث ضعيف رفعه وأقرب ما فيه أنه موقوف على
عمر. وأخرج الفريابي وابن مردويه عن ابن عباس مثل قول على. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس (والسماء ذات الحبك) قال: حسنها
واستواؤها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عنه في الآية قال: ذات البهاء والجمال وإن بنيانها
كالبرد المسلسل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: ذات الخلق الحسن. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن منيع عن علي قال: هي السماء السابعة. وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (يؤفك عنه من أفك) قال: يضل عنه من ضل. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (قتل الخراصون) قال: لعن المرتابون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا.
قال: هم الكهنة (الذين هم في غمرة ساهون) قال: في غفلة لاهون. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: الغمرة
الكفر والشك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: في ضلالتهم يتمادون، وفي قوله (يوم هم
على النار يفتنون) قال: يعذبون. وأخرج هؤلاء عنه أيضا في قوله (آخذين ما آتاهم ربهم) قال: الفرائض
(إنهم كانوا قبل ذلك محسنين) قال: قبل أن تنزل الفرائض يعملون. وأخرج هؤلاء أيضا والحاكم وصححه وابن
مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضا (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) قال: ما تأتي عليهم ليلة ينامون
حتى يصبحوا إلا يصلون فيها. وأخرج ابن نصر وابن جرير وابن المنذر عنه أيضا في الآية يقول: قليلا ما كانوا
ينامون. وأخرج أبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه
عن أنس في الآية قال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر (وبالأسحار هم يستغفرون) قال: يصلون. وأخرج ابن أبي حاتم
عن ابن عباس (في أموالهم حق) قال: سوى الزكاة يصل بها رحما أو يقري بها ضيفا أو يعين بها محروما. وأخرج
سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: السائل الذي يسأل الناس، والمحروم الذي ليس
له سهم من فئ المسلمين. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: المحروم هو المحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه
ولا يسأل الناس، فأمر الله المؤمنين برفده. وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة في الآية. قالت: هو المحارف الذي لا يكاد
86

يتيسر له مكسبه. وأخرج الترمذي والبيهقي في سننه عن فاطمة بنت قيس " أنها سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
عن هذه الآية قال: إن في المال حقا سوى الزكاة، وتلا هذه الآية - ليس البر أن تولوا وجوهكم - إلى قوله
- وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة " وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن الزبير في قوله (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) قال: سبيل الغائط والبول.
الذاريات (24 - 37)
قوله (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين) ذكر سبحانه قصة إبراهيم ليبين أنه أهلك بسبب التكذيب من
أهلك. وفي الاستفهام تنبيه على أن هذا الحديث ليس مما قد علم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه إنما
علمه بطريق الوحي. وقيل إن هل بمعنى قد كما في قوله - هل أتى على الإنسان حين من الدهر - والضيف مصدر
يطلق على الواحد والاثنين والجماعة، وقد تقدم الكلام على قصة ضيف إبراهيم في سورة هود وسورة الحجر،
والمراد بكونهم مكرمين: أنهم مكرمون عند الله سبحانه لأنهم ملائكة جاءوا إليه في صورة بني آدم، كما قال
تعالى في وصفهم في آية أخرى - بل عباد مكرمون - وقيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقال مقاتل ومجاهد:
أكرمهم إبراهيم وأحسن إليهم وقام على رؤوسهم، وكان لا يقوم على رؤوس الضيف، وأمر امرأته أن تخدمهم.
وقال الكلبي: أكرمهم بالعجل (إذ دخلوا عليه) العامل في الظرف حديث: أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت
دخولهم عليه، أو العامل فيه ضيف لأنه مصدر، أو العامل فيه المكرمين، أو العامل فيه فعل مضمر: أي أذكر
(فقالوا سلاما) أي نسلم عليك سلاما (قال سلام) أي قال إبراهيم سلام. قرأ الجمهور بنصب " سلاما " الأول
ورفع الثاني، فنصب الأول على المصدرية بتقدير الفعل كما ذكرنا، والمراد به التحية، ويحتمل أن يكون المعنى:
فقالوا كلاما حسنا لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يلغو، فيكون على هذا مفعولا به. وأما الثاني فرفعه على أنه
مبتدأ محذوف الخبر: أي عليكم سلام، وعدل به إلى الرفع لقصد إفادة الجملة الاسمية للدوام والثبات، بخلاف
الفعلية فإنها لمجرد التجدد والحدوث، ولهذا قال أهل المعاني: إن سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة. وقرئ
بالرفع في الموضعين، وقرئ بالنصب فيهما. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما بكسر السين، وقرئ سلم فيها (قوم
87

منكرون) ارتفاع قوم على أنه خبر مبتدإ محذوف: أي أنتم منكرون. قيل إنه قال هذا في نفسه ولم يخاطبهم
به، لأن ذلك يخالف الإكرام. قيل إنه أنكرهم لكونهم ابتدءوا بالسلام ولم يكن ذلك معهودا عند قومه، وقيل
لأنه رأى فيهم ما يخالف بعض الصور البشرية، وقيل لأنه رآهم على غير صورة الملائكة الذين يعرفهم، وقيل غير
ذلك (فراغ إلى أهله) قال الزجاج: أي عدل إلى أهله، وقيل ذهب إليهم في خفية من ضيوفه، والمعنى متقارب
وقد تقدم تفسيره في سورة الصافات. يقال راغ وارتاغ بمعنى طلب، وماذا يريغ: أي يريد ويطلب، وأراغ
إلى كذا: مال إليه سرا وحاد (فجاء بعجل سمين) أي فجاء ضيفه بعجل قد شواه لهم كما في سورة هود - بعجل
حنيذ - وفي الكلام حذف تدل عليه الفاء الفصيحة: أي فذبح عجلا فحنذه فجاء به (فقربه إليهم) أي قرب
العجل إليهم ووضعه بين أيديهم ف‍ (قال ألا تأكلون) الاستفهام للإنكار، وذلك أنه لما قربه إليهم لم يأكلوا منه.
قال في الصحاح: العجل ولد البقر، والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة، وقيل العجل في بعض
اللغات الشاة (فأوجس منهم خيفة) أي أحس في نفسه خوفا منهم لما لم يأكلوا مما قربه إليهم. وقيل معنى أوجس
أضمر، وإنما وقع له ذلك لما لم يتحرموا بطعامه، ومن أخلاق الناس أن من أكل من طعام إنسان صار آمنا منه،
فظن إبراهيم أنهم جاءوا للشر ولم يأتوا للخير. وقيل إنه وقع في قلبه أنهم ملائكة، فلما رأوا ما ظهر عليه من
أمارات الخوف (قالوا لا تخف) وأعلموه أنهم ملائكة مرسلون إليه من جهة الله سبحانه (وبشروه بغلام عليم)
أي بشروه بغلام يولد له كثير العلم عند أن يبلغ مبالغ الرجال، والمبشر به عند الجمهور هو إسحاق. وقال مجاهد
وحده: إنه إسماعيل، وهو مردود بقوله - وبشرناه بإسحاق - وقد قدمنا تحقيق هذا المقام بما لا يحتاج الناظر فيه إلى
غيره (فأقبلت امرأته في صرة) لم يكن هذا الإقبال من مكان إلى مكان، وإنما هو كقولك: أقبل يشتمني أي أخذ
في شتمي، كذا قال الفراء وغيره، والصرة الصيحة والضجة، وقيل الجماعة من الناس. قال الجوهري: الصرة:
الضجة والصيحة، والصرة: الجماعة، والصرة الشدة من كرب أو غيره، والمعنى: أنها أقبلت في صيحة، أو
في ضجة، أو في جماعة من الناس يستمعون كلام الملائكة، ومن هذا قول امرئ القيس:
فألحقه بالهاديات ودونه * جراجرها في صرة لم تزيل
وقوله (في صرة) في محل نصب على الحال (فصكت وجهها) أي ضربت بيدها على وجهها كما جرت بذلك
عادة النساء عند التعجب. قال مقاتل والكلبي: جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجبا، ومعنى الصك: ضرب
الشئ بالشئ العريض، يقال صكه: أي ضربه (وقالت عجوز عقيم) أي كيف ألد وأنا عجوز عقيم،
استبعدت ذلك لكبر سنها، ولكونها عقيما لا تلد (قالوا كذلك قال ربك) أي كما قلنا لك وأخبرناك قال: ربك
فلا تشكي في ذلك ولا تعجبي منه، فإن ما أراده الله كائن لا محالة ولم نقل ذلك من جهة أنفسنا، وقد كانت إذ
ذاك بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة، وقد سبق بيان هذا مستوفي، وجملة (إنه هو الحكيم العليم)
تعليل لما قبلها: أي حكيم في أفعاله وأقواله، عليم بكل شئ، وجملة (قال فما خطبكم أيها المرسلون) مستأنفة
جوابا عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال إبراهيم بعد هذا القول من الملائكة، والخطب الشأن والقصة،
والمعنى: فما شأنكم وما قصتكم أيها المرسلون من جهة الله، وما ذاك الأمر الذي لأجله أرسلكم سوى هذه البشارة
(قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) يريدون قوم لوط (لنرسل عليهم حجارة من طين) أي لنرجمهم بحجارة من
طين متحجر، وانتصاب (مسومة) على الصفة لحجارة، أو على الحال في الضمير المستكن في الجار والمجرور،
أو من الحجارة لكونها قد وصفت بالجار والمجرور، ومعنى (مسومة) معلمة بعلامات تعرف بها، قيل كانت
88

مخططة بسواد وبياض، وقيل بسواد وحمرة، وقيل معروفة بأنها حجارة العذاب، وقيل مكتوب على كل حجر
من يهلك بها، وقوله (عند ربك) ظرف لمسومة: أي معلمة عنده (للمسرفين) المتمادين في الضلالة المجاوزين الحد
في الفجور. وقال مقاتل: للمشركين، والشرك أسرف الذنوب وأعظمها (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين)
هذا كلام من جهة الله سبحانه: أي لما أردنا إهلاك قوم لوط أخرجنا من كان في قرى قوم لوط من قومه
المؤمنين به (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) أي غير أهل بيت. يقال بيت شريف ويراد به أهله، قيل وهم
أهل بيت لوط، والإسلام: الانقياد والاستسلام لأمر الله سبحانه، فكل مؤمن مسلم، ومن ذلك قوله - قالت
الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا - وقد أوضح الفرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الإسلام
والإيمان في الحديث في الصحيحين وغيرهما الثابت من طرق أنه سئل عن الإسلام فقال " أن تشهد أن لا إله إلا الله
وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت وتصوم رمضان " وسئل عن الإيمان فقال " أن تؤمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله، والقدر خيره وشره " فالمرجع في الفرق بينهما هو هذا الذي قاله الصادق المصدوق، ولا التفات إلى
غيره مما قاله أهل العلم في رسم كل واحد منهما برسوم مضطربة مختلفة مختلة متناقضة، وأما ما في الكتاب العزيز من
اختلاف مواضع استعمال الإسلام والإيمان فذلك باعتبار المعاني اللغوية والاستعمالات العربية، والواجب تقديم
الحقيقة الشرعية على اللغوية، والحقيقة الشرعية هي هذه التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأجاب
سؤال السائل له عن ذلك بها (وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم) أي وتركنا في تلك القرى علامة ودلالة
تدل على ما أصابهم من العذاب، كل من يخاف عذاب الله ويخشاه من أهل ذلك الزمان ومن بعدهم، وهذه الآية
هي آثار العذاب في تلك القرى، فإنها ظاهرة بينة، وقيل هي الحجارة التي رجموا بها، وإنما خص الذين يخافون
العذاب الأليم لأنهم الذين يتعظون بالمواعظ ويتفكرون في الآيات دون غيرهم ممن لا يخاف ذلك وهم المشركون
المكذبون بالبعث والوعد والوعيد.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عباس في قوله (في صرة) قال: في صيحة (فصكت
وجهها) قال: لطمت. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين)
قال: لوط وابنتيه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كانوا ثلاثة عشر.
سورة الذاريات (38 - 60)
89

قوله (وفي موسى) معطوف على قوله فيها بإعادة الخافض، والتقدير: وتركنا في قصة موسى آية أو
معطوف على - وفي الأرض - والتقدير: وفي الأرض وفي موسى آيات، قاله الفراء وابن عطية والزمخشري. قال
أبو حيان: وهو بعيد جدا ينزه القرآن عن مثله، ويجوز أن يكون متعلقا بجعلنا مقدرا لدلالة - وتركنا عليه - قيل
ويجوز أن يعطف على وتركنا على طريقة قول القائل: علفتها تبنا وماء باردا * والتقدير: وتركنا
فيها آية، وجعلنا في موسى آية. قال أبو حيان: ولا حاجة إلى إضمار، وجعلنا لأنه قد أمكن أن يكون العامل في
المجرور وتركنا. والوجه الأول هو الأولى، وما عداه متكلف متعسف لم تلجئ إليه حاجة ولا دعت إليه ضرورة
(إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين) الظرف متعلق بمحذوف هو نعت لآية: أي كائنة وقت أرسلناه، أو بآية
نفسها، والأول أولى. والسلطان المبين الحجة الظاهرة الواضحة، وهي العصى وما معها من الآيات (فتولى بركنه)
التولي: الإعراض، والركن: الجانب. قاله الأخفش. والمعنى: أعرض بجانبه كما في قوله - أعرض ونأى بجانبه -
قال الجوهري: ركن الشئ جانبه الأقوى، وهو يأوى إلى ركن شديد: أي عز ومنعة. وقال ابن زيد ومجاهد
وغيرهما: الركن جمعه وجنوده الذين كان يتقوى بهم، ومنه قوله تعالى - أو آوى إلى ركن شديد - أي عشيرة
ومنعة، وقيل الركن: نفس القوة، وبه قال قتادة وغيره، ومنه قول عنترة:
فما أوهى مراس الحرب ركني * ولكن ما تقادم من زماني
(وقال ساحر أو مجنون) أي قال فرعون: في حق موسى هو ساحر أو مجنون فردد فيما رآه من أحوال موسى
بين كونه ساحرا أو مجنونا، وهذا من اللعين مغالطة وإيهام لقومه، فإنه يعلم أن ما رآه من الخوارق لا يتيسر على
يد ساحر ولا يفعله من به جنون. وقيل إن أو بمعنى الواو، لأنه قد قال ذلك جميعا ولم يتردد، قاله المؤرج والفراء،
كقوله - ولا تطع منهم آثما أو كفورا - (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) أي طرحناهم في البحر، وجملة (وهو
مليم) في محل نصب على الحال: أي آت بما يلام عليه حين ادعى الربوبية وكفر بالله وطغى في عصيانه (وفي عاد)
أي وتركنا في قصة عاد آية (إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) وهي التي لا خير فيها ولا بركة، ولا تلقح شجرا ولا
90

تحمل مطرا، إنما هي ريح الإهلاك والعذاب. ثم وصف سبحانه هذه الريح فقال (ما تذر من شئ أتت عليه
إلا جعلته كالرميم) أي ما تذر من شئ مرت عليه من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم إلا جعلته كالشئ الهالك
الهالك البالي. قال الشاعر:
تركتني حين كف الدهر من بصري * وإذ بقيت كعظم الرمة البالي
وقال قتادة: إنه الذي ديس من يابس النبات، وقال السدي وأبو العالية: إنه التراب المدقوق، وقال
قطرب: إنه الرماد، وأصل الكلمة من رم العظم: إذا بلى فهو رميم، والرمة: العظام البالية (وفي ثمود إذ قيل لهم
تمتعوا حتى حين) أي وتركنا في قصة ثمود آية وقت قلنا لهم عيشوا متمتعين بالدنيا إلى حين وقت الهلاك، وهو
ثلاثة أيام كما في قوله - تمتعوا في داركم ثلاثة أيام (فعتوا عن أمر ربهم) أي تكبروا عن امتثال أمر الله (فأخذتهم
الصاعقة) وهي كل عذاب مهلك. قرأ الجمهور " الصاعقة " وقرأ عمر بن الخطاب وحميد وابن محيصن ومجاهد
والكسائي " الصعقة " وقد مر الكلام على الصاعقة في البقرة، وفي مواضع (وهم ينظرون) أي يرونها عيانا،
والجملة في محل نصب على الحال، وقيل إن المعنى: ينتظرون ما وعدوه من العذاب، والأول أولى (فما استطاعوا
من قيام) أي لم يقدروا على القيام. قال قتادة: من نهوض: يعني لم ينهضوا من تلك الصرعة، والمعنى: أنهم
عجزوا عن القيام فضلا عن الهرب، ومثله قوله - فأصبحوا في دارهم جاثمين - (وما كانوا منتصرين) أي
ممتنعين من عذاب الله بغيرهم (وقوم نوح من قبل) أي من قبل هؤلاء المهلكين، فإن زمانهم متقدم على زمن
فرعون وعاد ثمود (إنهم كانوا قوما فاسقين) أي خارجين عن طاعة الله. قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو بخفض
" قوم " أي وفي قوم نوح آية، وقرأ الباقون بالنصب: أي وأهلكنا قوم نوح، أو هو معطوف على مفعول
أخذتهم الصاعقة، أو على مفعول نبذناهم: أي نبذناهم ونبذنا قوم نوح، أو يكون العامل فيه أذكر (والسماء
بنيناها بأيد) أي بقوة وقدرة، قرأ الجمهور بنصب السماء على الاشتغال، والتقدير: وبنينا السماء بنيناها. وقرأ
أبو السماك وابن مقسم برفعها على الابتداء (وإنا لموسعون) الموسع ذو الوسع والسعة، والمعنى: إنا لذو سعة بخلقها
وخلق غيرها لا نعجز عن ذلك، وقيل لقادرون، من الوسع بمعنى الطاقة والقدرة، وقيل إنا لموسعون الرزق
بالمطر. قال الجوهري: وأوسع الرجل: صار ذا سعة وغنى (والأرض فرشناها) قرأ الجمهور بنصب " الأرض "
على الاشتغال. وقرأ أبو السماك وابن مقسم برفعها كما نقدم في قوله (والسماء بنيناها) ومعنى فرشناها: بسطناها
كالفراش (فنعم الماهدون) أي نحن، يقال مهدت الفراش: بسطته ووطأته، وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها
(ومن كل شئ خلقنا زوجين) أي صنفين ونوعين من ذكر وأنثى وبر وبحر وشمس وقمر وحلو ومر وسماء
وأرض وليل ونهار ونور وظلمة وجن وإنس وخير وشر (لعلكم تذكرون) أي خلقنا ذلك هكذا لتتذكروا
فتعرفوا أنه خالق كل شئ وتستدلوا بذلك على توحيده وصدق وعده ووعيده (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير
مبين) أي قل لهم يا محمد: ففروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم عن الكفر والمعاصي، وجملة (إني لكم منه نذير مبين)
تعليل للأمر بالفرار، وقيل معنى (ففروا إلى الله) اخرجوا من مكة. وقال الحسين بن الفضل: احترزوا من كل
شئ غير الله، فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه. وقيل فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن، وقيل فروا من الجهل
إلى العلم، ومعنى (إني لكم منه) أي من جهته منذر بين الإنذار (ولا تجعلوا مع الله إلها آخر) نهاهم عن الشرك
بالله بعد أمرهم بالفرار إلى الله. وجملة (إني لكم منه نذير مبين) تعليل للنهي (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول
إلا قالوا ساحر أو مجنون) في هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببيان أن هذا شأن الأمم المتقدمة
91

وأن ما وقع من العرب من التكذيب لرسول الله ووصفه بالسحر والجنون قد كان ممن قبلهم لرسلهم، و (كذلك)
في محل رفع على أنه خبر مبتدإ محذوف: أي الأمر كذلك. ثم فسر ما أجمله بقوله (ما أتى) الخ، أو في محل
نصب نعتا لمصدر محذوف: أي أنذركم إنذارا كإنذار من تقدمني من الرسل الذين أنذروا قومهم، والأول أولى
(أتواصوا به) الاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب من حالهم: أي هل أوصي أولهم آخرهم بالتكذيب وتواطئوا
عليه (بل هم قوم طاغون) إضراب عن التواصي إلى ما جمعهم من الطغيان: أي لم يتواصوا بذلك، بل جمعهم
الطغيان وهو مجاوزة الحد في الكفر، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عنهم فقال
(فتولى عنهم) أي أعرض عنهم وكف عن جدالهم ودعائهم إلى الحق، فقد فعلت ما أمرك الله به وبلغت رسالته
(فما أنت بملوم) عند الله بعد هذا لأنك قد أديت ما عليك، وهذا منسوخ بآية السيف، ثم لما أمره بالإعراض
عنهم أمره بأن لا يترك التذكير والموعظة بالي هي أحسن فقال (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) قال الكلبي:
المعنى عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم. وقال مقاتل: عظ كفار مكة فإن الذكرى تنفع من
كان في علم الله أنه يؤمن، وقيل ذكرهم بالعقوبة وأيام الله، وخص المؤمنين بالتذكير لأنهم المنتفعون به،
وجملة (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) مستأنفة مقررة لما قبلها، لأن كون خلقهم لمجرد العبادة مما ينشط
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للتذكير وينشطهم للإجابة. قيل هذا خاص في من سبق في علم الله سبحانه
أنه يعبده، فهو عموم مراد به الخصوص. قال الواحدي: قال المفسرون: هذا خاص لأهل طاعته، يعني من
أهل من الفريقين. قال: وهذا قول الكلبي والضحاك واختيار الفراء وابن قتيبة. قال القشيري: والآية دخلها
التخصيص بالقطع، لأن المجانين لم يؤمروا بالعبادة ولا أرادها منهم، وقد قال - ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن
والإنس - ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة. فالآية محمولة على المؤمنين منهم، ويدل عليه قراءة ابن مسعود
وأبي بن كعب " وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون ". وقال مجاهد: إن المعنى: إلا ليعرفوني.
قال الثعلبي: وهذا قول حسن، لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. وروى عن مجاهد أنه قال: المعنى
إلا لآمرهم وأنهاهم، ويدل عليه قوله - وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون -
واختار هذا الزجاج. وقال زيد بن أسلم: هو ما جبلوا عليه من السعادة والشقاوة، فخلق السعداء من الجن
والإنس للعبادة، وخلق الأشقياء للمعصية. وقال الكلبي: المعنى إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة
والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة دون النعمة كما في قوله - وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له
الدين - وقال جماعة: إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، ومعنى العبادة في اللغة: الذل والخضوع والانقياد، وكل
مخلوق من الإنس والجن خاضع لقضاء الله متذلل لمشيئته منقاد لما قدره عليه. خلقهم على ما أراد، ورزقهم كما
قضى، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعا ولا ضرا. ووجه تقديم الجن على الإنس ها هنا تقديم وجودهم (ما أريد منهم من
رزق وما أريد أن يطعمون) هذه الجملة فيها بيان استغنائه سبحانه عن عباده، وأنه لا يريد منهم منفعة كما تريده السادة
من عبيدهم، بل هو الغنى المطلق الرازق المعطي. وقيل المعنى: ما أريد منهم أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أن يرزقوا
أنفسهم، ولا يطعموا أحدا من خلقي ولا يطعموا أنفسهم، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عيال الله، فمن
أطعم عيال الله فهو كمن أطعمه. وهذا كما ورد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم " يقول الله عبدي استطعمتك فلم
تطعمني " أي لم تطعم عبادي، ومن في قوله (من رزق) زائدة لتأكيد العموم. ثم بين سبحانه أنه هو الرزاق
لا غيره، فقال (إن الله هو الرزاق) لا رزاق سواه ولا معطي غيره، فهو الذي يرزق مخلوقاته ويقوم بما يصلحهم
92

فلا يشتغلوا بغير ما خلقوا له من العبادة (ذو القوة المتين) ارتفاع المتين على أنه وصف للرزاق، أو لذو، أو خبر
مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر. قرأ الجمهور " الرزاق " وقرأ ابن محيصن " الرازق " وقرأ الجمهور " المتين "
بالرفع، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بالجر صفة للقوة، والتذكير لكون تأنيثها غير حقيقي. قال الفراء: كان
حقه المتينة، فذكرها لأنه ذهب بها إلى الشئ المبرم المحكم الفتل، يقال حبل متين: أي محكم الفتل، ومعنى
المتين: الشديد القوة هنا (فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم) أي ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، فإن
لهم ذنوبا: أي نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السابقة. قال ابن الأعرابي: يقال يوم ذنوب: أي
طويل الشر لا ينقضي، وأصل الذنوب في اللغة الدلو العظيمة، ومن استعمال الذنوب في النصيب من الشئ قول
الشاعر:
لعمرك والمنايا طارقات * لكل بني أب منها ذنوب
وما في الآية مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالدلو الكبير، فهو تمثيل، جعل الذنوب. مكان الحظ والنصيب
قاله ابن قتيبة (فلا يستعجلون) أي لا يطلبوا مني أن أعجل لهم العذاب كما في قولهم - أئتنا بما تعدنا إن كنت من
الصادقين - (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون) قيل هو يوم القيامة وقيل يوم بدر، والفاء لترتيب
ما بعدها على ما قبلها.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر في قوله (فتولى بركنه) عن ابن عباس قال: بقومه. وأخرج الفريابي وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه في قوله (الريح العقيم) قال: الشديدة التي لا تلقح شيئا.
وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال: لا تلقح الشجر ولا تثير السحاب، وفي قوله (إلا جعلته كالرميم) قال:
كالشئ الهالك. وأخرج الفريابي وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال: الريح العقيم النكباء. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله (والسماء بنيناها بأيد) قال:
بقوة. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر عنه في قوله (فتول عنهم فما أنت بملوم) قال: أمره الله أن يتولى
عنهم ليعذبهم، وعذر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) فنسخها.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) قال: ليقروا بالعبودية
طوعا أو كرها. وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال: على ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي وشقوتي وسعادتي.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضا في قوله (المتين) يقول: الشديد.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (ذنوبا) قال: دلوا.
تفسير سورة الطور
هي تسع وأربعون آية، وقيل ثمان وأربعون
وهي مكية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن
عباس قال: نزلت الطور بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن
جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في المغرب بالطور. وأخرج البخاري وغيره
عن أم سلمة " أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور ".
93

سورة الطور (1 - 20)
قوله (والطور) قال الجوهري: هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى. قال مجاهد والسدي: الطور
بالسريانية الجبل، والمراد به طور سيناء. قال مقاتل بن حيان: هما طوران: يقال لأحدهما طور سيناء، وللآخر
طور زيتا، لأنهما ينبتان التين والزيتون. وقيل هو جبل مدين، وقيل إن الطور كل جبل ينبت، وما لا ينبت
فليس بطور، أقسم الله سبحانه بهذا الجبل تشريفا له وتكريما (وكتاب مسطور) المسطور: المكتوب، والمراد
بالكتاب القرآن، وقيل هو اللوح المحفوظ، وقيل جميع الكتب المنزلة، وقيل ألواح موسى، وقيل ما تكتبه الحفظة
قاله الفراء وغيره، ومثله - ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا - وقوله - وإذا الصحف نشرت - (في رق
منشور) متعلق بمسطور: أي مكتوب في رق. قرأ الجمهور " في رق " بفتح الراء، وقرأ أبو السماك بكسرها. قال
الجوهري: الرق بالفتح ما يكتب فيه، وهو جلد رقيق، ومنه قوله تعالى (في رق منشور) قال المبرد: الرق
ما رق من الجلد ليكتب فيه، والمنشور المبسوط. قال أبو عبيدة: وجمعه رقوق، ومن هذا قول الملتمس:
فكأنما هي من تقادم عهدها * رق أتيح كتابها مسطور
وأما الرق بالكسر فهو المملوك، يقال عبد رق وعبد مرقوق (والبيت المعمور) في السماء السابعة. وقيل
في سماء الدنيا، وقيل هو الكعبة، فعلى القولين الأولين يكون وصفه بالعمارة باعتبار من يدخل إليه من الملائكة
ويعبد الله فيه. وعلى القول الثالث، يكون وصفه بالعمارة حقيقة أو مجازا باعتبار كثرة من يتعبد فيه من بني آدم
(والسقف المرفوع) يعني السماء، سماها سقفا لكونها كالسقف للأرض، ومنه قوله - وجعلنا السماء سقفا محفوظا -
وقيل هو العرش (والبحر المسجور) أي الموقد، من السجر: وهو إيقاد النار في التنور، ومنه قوله - وإذا البحار
سجرت - وقد روى أن البحار تسجر يوم القيامة فتكون نارا، وقيل المسجور المملوء، قيل إنه من أسماء الأضداد،
يقال بحر مسجور: أي مملوء، وبحر مسجور: أي فارغ، وقيل المسجور الممسوك، ومنه ساجور الكلب، لأنه
94

يمسكه. وقال أبو العالية: المسجور الذي ذهب ماؤه، وقيل المسجور المفجور، ومنه - وإذا البحار فجرت -
وقال الربيع بن أنس: هو الذي يختلط فيه العذب بالمالح. والأول أولى، وبه قال مجاهد والضحاك ومحمد بن
كعب والأخفش وغيرهم (إن عذاب ربك لواقع) هذا جواب القسم: أي كائن لا محالة لمن يستحقه (ماله من
دافع) يدفعه ويرده عن أهل النار، وهذه الجملة خبر ثان لإن، أو صفة لواقع، ومن مزيدة للتأكيد. ووجه
تخصيص هذه الأمور بالإقسام بها أنها عظيمة دالة على كمال القدرة الربانية (يوم تمور السماء مورا) العامل
في الظرف لواقع: أي إنه لواقع في هذا اليوم، ويجوز أن يكون العامل فيه دافع. والمور: الاضطراب والحركة،
قال أهل اللغة: مار الشئ يمور مورا: إذا تحرك وجاء وذهب قاله الأخفش وأبو عبيدة: وأنشدا بيت الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها * مشى السحابة لا ريث ولا عجل
وليس في البيت ما يدل على ما قالاه إلا إذا كانت هذه المشيئة المذكورة في البيت يطلق المور عليها لغة. وقال
الضحاك: يموج بعضها في بعض، وقال مجاهد: تدور دورا، وقيل تجري جريا، ومنه قول الشاعر:
وما زالت القتلى تمور دماؤها * بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
ويطلق المور على الموج، ومنه ناقة موارة اليد: أي سريعة تموج في مشيها موجا، ومعنى الآية أن العذاب
يقع بالعصاة ولا يدفعه عنهم دافع في هذا اليوم الذي تكون فيه السماء هكذا، وهو يوم القيامة. وقيل إن السماء
ها هنا الفلك، وموره: اضطراب نظمه واختلاف سيره (وتسير الجبال سيرا) أي نزول عن أماكنها وتسير عن
مواضعها كسير السحاب وتكون هباء منبثا، قيل ووجه تأكيد الفعلين بالمصدر الدالة على غرابتها وخروجهما عن
المعهود، وقد تقدم تفسير مثل هذا في سورة الكهف (فويل يومئذ للمكذبين) ويل كلمة تقال للهالك، واسم
واد في جهنم، وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة: أي إذا وقع ما ذكر من مور السماء وسير الجبال
فويل لهم. ثم وصف المكذبين بقوله (الذين هم في خوض يلعبون) أي في تردد في الباطل واندفاع فيه يلهون
لا يذكرون حسابا ولا يخافون عقابا. والمعنى: أنهم يخوضون في أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتكذيب
والاستهزاء، وقيل يخوضون في أسباب الدنيا ويعرضون عن الآخرة (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا) الدع الدفع
بعنف وجفوة: يقال دععته أدعه دعا: أي دفعته، والمعنى: أنهم يدفعون إلى النار دفعا عنيفا شديدا. قال مقاتل:
تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون إلى جهنم دفعا على وجوههم. قرأ الجمهور
بفتح الدال وتشديد العين. وقرأ على والسلمي وأبو رجاء وزيد بن علي وابن السميفع بسكون الدال وتخفيف
العين مفتوحة: أي يدعون إلى النار من الدعاء. ويوم إما بدل من يوم تمور: أو متعلق بالقول المقدر في الجملة التي
بعد هذه، وهي (هذه النار التي كنتم بها تكذبون) أي يقال لهم ذلك يوم يدعون إلى نار جهنم دعا: أي هذه
النار التي تشاهدونها هي النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا، والقائل لهم بهذه المقالة هم خزنة النار. ثم وبخهم
سبحانه أو أمر ملائكته بتوبيخهم، فقال (أفسحر هذا) الذي ترون وتشاهدون كما كنتم تقولون لرسل الله المرسلة
ولكتبه المنزلة، وقدم الخبر هنا على المبتدأ لأنه الذي وقع الاستفهام عنه وتوجه التوبيخ إليه (أم أنتم لا تبصرون)
أي أم أنتم عمي عن هذا كما كنتم عميا عن الحق في الدنيا (اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا) أي إذا لم يمكنكم إنكارها
وتحققتم أن ذلك ليس بسحر ولم يكن في أبصاركم بعد خلل، فالآن ادخلوها وقاسوا شدتها فاصبروا على العذاب أو
لا تصبروا وافعلوا ما شئتم، فالأمران (سواء عليكم) في عدم النفع، قيل أيضا تقول لهم الملائكة هذا القول،
وسواء خبر مبتدإ محذوف: أي الأمران سواء، ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف: أي سواء عليكم
95

الصبر وعدمه، وجملة (إنما تجزون ما كنتم تعملون) تعليل للاستواء، فإن الجزاء بالعمل إذا كان واقعا حتما كان
الصبر وعدمه سواء (إن المتقين في جنات ونعيم) لما فرغ سبحانه من ذكر حال المجرمين ذكر حال المتقين، وهذه
الجملة يجوز أن تكون مستأنفة ويجوز أن تكون من جملة ما يقال للكفار زيادة في غمهم وحسرتهم، والتنوين (في
جنات ونعيم) للتفخيم (فاكهين بما آتاهم ربهم) يقال رجل فاكه: أي ذو فاكهة، كما قيل لابن وتامر.
والمعنى: أنهم ذوو فاكهة من فواكه الجنة، وقيل ذوو نعمة وتلذذ بما صاروا فيه مما أعطاهم الله عز وجل مما
لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقد تقدم بيان معنى هذا. قرأ الجمهور " فاكهين " بالألف
والنصب على الحال. وقرأ خالد " فاكهون " بالرفع على أنه خبر بعد خبر. وقرأ ابن عباس " فكهين " بغير ألف،
والفكه: طيب النفس كما تقدم في الدخان، ويقال للأشر والبطر، ولا يناسب التفسير به هنا (ووقاهم ربهم
عذاب الجحيم) معطوف على آتاهم، أو على خبر إن، أو الجملة في محل نصب على الحال باضمار قد (كلوا
واشربوا هنيئا) أي يقال لهم ذلك، والهنئ: مالا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. قال الزجاج: أي ليهنئكم
ما صرتم إليه هناء، والمعنى: كلوا طعاما هنيئا واشربوا شرابا هنيئا، وقد تقدم تفسير هنيئا في سورة النساء،
وقيل معنى هنيئا: أنكم لا تموتون (متكئين على سرر مصفوفة) انتصابه على الحال من فاعل كلوا، أو من مفعول
آتاهم، أو من مفعول وقاهم، أو من الضمير المستكن في الظرف، أو من الضمير في فاكهين. قرأ الجمهور
" على سرر " بضم الراء الأولى. وقرأ أبو السماك بفتحها، والسرر جمع سرير. والمصفوفة المتصل بعضها ببعض
حتى تصير صفا (وزوجناهم بحور عين) أي قرناهم بها، قال يونس بن حبيب: تقول العرب زوجته امرأة
وتزوجت بامرأة، وليس من كلام العرب زوجته بامرأة. قال وقول الله تعالى (وزوجناهم بحور عين) أي
قرناهم بهن. وقال الفراء: زوجته بامرأة لغة أزد شنوءة، وقد تقدم تفسير الحور العين في سورة الدخان. قرأ
الجمهور " بحور عين " من غير إضافة. وقرأ عكرمة بإضافة الحور إلى العين.
وقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس (والطور) قال: جبل. وأخرج ابن مردويه عن
كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " الطور جبل
من جبال الجنة " وكثير ضعيف جدا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (في رق منشور) قال: في الكتاب.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى
تقوم الساعة، وفي الصحيحين وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديث الإسراء بعد
مجاوزته إلى السماء السابعة " ثم رفع إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ".
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل عليا
عن البيت المعمور فقال: ذلك الضراح بيت فوق سبع سماوات تحت العرش يدخله كل يوم سبعون ألف ملك،
ثم لا يعودون إليه أبدا إلى يوم القيامة. وأخرج ابن جرير نحوه عن ابن عباس. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله
ابن عمرو رفعه. قال: إن البيت المعمور لبحيال الكعبة لو سقط منه شئ لسقط عليها، يصلى فيه كل يوم
سبعون ألفا ثم لا يعودون إليه. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس نحوه، وضعف إسناده السيوطي
96

وأخرج ابن راهويه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، والبيهقي
في الشعب عن علي بن أبي طالب في قوله (والسقف المرفوع) قال: السماء. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن
منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله (والبحر المسجور) قال: بحر في السماء تحت
العرش. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: المسجور
المحبوس. وأخرج ابن المنذر عنه قال: المسجور المرسل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا
(يوم تمور السماء مورا) قال: تحرك، وفي قوله (يوم يدعون) قال: يدفعون. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عنه أيضا: يوم يدعون (إلى نار جهنم دعا) قال: يدفع في أعناقهم حتى يردوا النار. وأخرج ابن
أبي حاتم عنه أيضا في قوله (كلوا واشربوا هنيئا) أي لا تموتون فيها، فعندها قالوا - أفما نحن بميتين إلا موتتنا
الأولى وما نحن بمعذبين -.
لما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة على العموم ذكر حال طائفة منهم على الخصوص فقال (والذين آمنوا
واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم) والموصول مبتدأ، وخبره " ألحقنا بهم " ويجوز أن يكون منصوبا
بفعل مقدر: أي وأكرمنا الذين آمنوا، ويكون ألحقنا مفسرا لهذا الفعل المقدر. قرأ الجمهور " واتبعتهم " بإسناد
الفعل إلى الذرية. وقرأ أبو عمرو " أتبعناهم " بإسناد الفعل إلى المتكلم، كقوله ألحقنا. وقرأ الجمهور " ذريتهم "
بالإفراد. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بالجمع، إلا أن أبا عمرو قرأ بالنصب على المفعولية لكونه قرأ:
وأتبعناهم، ورويت قراءة الجمع هذه عن نافع، والمشهور عنه كقراءة الجمهور. وقرأ الجمهور " ألحقنا بهم
" ذريتهم " بالإفراد. وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب على الجمع، وجملة (واتبعتهم ذريتهم) معطوف على
آمنوا أو معترضة، وبإيمان متعلق بالاتباع، ومعنى هذه الآية: أن الله سبحانه يرفع ذرية المؤمن إليه وإن كانوا
97

دونه في العمل لتقر عينه وتطيب نفسه بشرط أن يكونوا مؤمنين، فيختص ذلك بمن يتصف بالإيمان من الذرية
وهم البالغون دون الصغار، فإنهم وإن كانوا لاحقين بآبائهم فبدليل آخر غير هذه الآية. وقيل إن الذرية تطلق
على الكبار والصغار كما هو المعنى اللغوي، فيلحق بالآباء المؤمنين صغار ذريتهم وكبارهم، ويكون قوله:
بإيمان في محل نصب على الحال: أي بإيمان من الآباء. وقيل إن الضمير في بهم راجع إلى الذرية المذكورة أولا:
أي ألحقنا بالذرية المتبعة لآبائهم بإيمان ذريتهم. وقيل المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار فقط، وظاهر الآية
العموم، ولا يوجب تخصيصها بالمهاجرين والأنصار كونهم السبب في نزولها إن صح ذلك، فالاعتبار بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب (وما ألتناهم من عملهم من شئ) قرأ الجمهور بفتح اللام من " ألتنا " وقرأ ابن كثير
بكسرها: أي وما نقصنا الآباء بإلحاق ذريتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئا، فضمير المفعول عائد إلى الذين آمنوا.
وقيل المعنى: وما نقصنا الذرية من أعمالهم شيئا لقصر أعمارهم، والأول أولى، وقد قدمنا تحقيق معنى لاته وألاته
في سورة الحجرات. وقرأ ابن هرمز " آلتناهم " بالمد، وهو لغة. قال في الصحاح: يقال ما آلته من عمله شيئا
أي ما نقصه (كل امرئ بما كسب رهين) رهين بمعنى مرهون، والظاهر أنه عام، وأن كل إنسان مرتهن بعمله،
فإن قام به على الوجه الذي أمره الله به فكه وإلا أهلكه. وقيل هو بمعنى راهن، والمعنى: كل امرئ بما كسب
دائم ثابت. وقيل هذا خاص بالكفار لقوله - كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين - ثم ذكر سبحانه
ما أمدهم به من الخير فقال (وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون) أي زدناهم على ما كان لهم من النعيم بفاكهة
متنوعة، ولحم من أنواع اللحمان مما تشتهيه أنفسهم ويستطيبونه (يتنازعون فيها كأسا) أي يتعاطون ويتناولون
كأسا، والكأس إناء الخمر، ويطلق على كل إناء مملوء من خمر أو غيره، فإذا فرغ لم يسم كأسا (لا لغو فيها
ولا تأثيم) قال الزجاج: لا يجرى بينهم ما يلغى ولا ما فيه إثم كما يجرى بين من يشرب الخمر في الدنيا، والتأثيم
تفعيل من الإثم، والضمير في " فيها " راجع إلى الكأس، وقيل لا لغو فيها: أي في الجنة ولا يجري فيها ما فيه إثم
والأول أولى. قال ابن قتيبة: لا تذهب بعقولهم فيلغوا كما يكون من خمر الدنيا، ولا يكون منهم ما يؤثمهم. وقال
الضحاك: لا تأثيم: أي لا كذب قرأ الجمهور " لا لغو فيها ولا تأثيم " بالرفع والتنوين فيهما. وقرأ ابن كثير
وابن محيصن بفتحهما من غير تنوين. قال قتادة: اللغو الباطل. وقال مقاتل بن حيان: لا فضول فيها. وقال
سعيد بن المسيب: لا رفث فيها. وقال ابن زيد: لا سباب ولا تخاصم فيها. والجملة في محل نصب على الحال
صفة لكأسا (ويطوف عليهم غلمان لهم) أي يطوف عليهم بالكأس والفواكه والطعام وغير ذلك مماليك لهم،
وقيل أولادهم (كأنهم) في الحسن والبهاء (لؤلؤ مكنون) أي مستور مصون في الصدف لم تمسه الأيدي. قال
الكسائي: كننت الشئ: سترته وصنته من الشمس، وأكننته: جعلته في الكن، ومنه كننت الجارية، وأكننتها
فهي مكنونة (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) أي يسأل بعضهم بعضا في الجنة عن حاله، وما كان فيه من
تعب الدنيا وخوف العاقبة، فيحملون الله الذي أذهب عنهم الحزن والخوف والهم، وما كانوا فيه من الكد
والنكد بطلب المعاش وتحصيل ما لا بد منه من الرزق. وقيل يقول بعضهم لبعض: بم صرتم في هذه المنزلة
الرفيعة؟ وقيل إن التساؤل بينهم عند البعث من القبور. والأول أولى لدلالة السياق على أنهم قد صاروا في الجنة،
وجملة (قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا قال بعضهم لبعض
عند التساؤل؟ فقيل: قالوا إنا كنا قبل: أي قبل الآخرة، وذلك في الدنيا في أهلنا خائفين وجلين من عذاب الله،
أو كنا خائفين من عصيان الله (فمن الله علينا) بالمغفرة والرحمة أو بالتوفيق لطاعته (ووقانا عذاب السموم) يعنى
عذاب جهنم، والسموم من أسماء جهنم كذا قال الحسن ومقاتل. وقال الكلبي وأبو عبيدة: هو عذاب النار.
98

وقال الزجاج: سموم جهنم ما يوجد من حرها، قال أبو عبيدة: السموم بالنهار، وقد يكون بالليل، والحرور
بالليل، وقد يكون بالنهار، وقد يستعمل السموم في لفح البرد، وفي لفح الشمس والحر أكثر، ومنه قول الشاعر:
اليوم يوم بارد سمومه * من جزع اليوم فلا ألومه
وقيل سميت الريح سموما لأنها تدخل المسام (إنا كنا من قبل ندعوه) أي نوحد الله ونعبده: أو نسأله أن يمن
علينا بالمغفرة والرحمة (أنه هو البر الرحيم) قرأ الجمهور بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرأ نافع والكسائي بفتحها:
أي لأنه، والبر كثير الإحسان، وقيل اللطيف، والرحيم كثير الرحمة لعباده (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن
ولا مجنون) أي أثبت على ما أنت عليه من الوعظ والتذكير والباء متعلقة بمحذوف هو حال: أي ما أنت متلبسا
بنعمة ربك التي أنعم بها عليك من رجاحة العقل والنبوة بكاهن ولا مجنون، وقيل متعلقة بمحذوف يدل عليه
الكلام: أي ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون، وقيل الباء سببية متعلقة بمضمون الجملة
المنفية، والمعنى: انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك كما تقول ما أنا بمعسر بحمد الله. وقيل الباء
للقسم متوسطة بين اسم ما وخبرها، والتقدير: ما أنت ونعمة الله بكاهن ولا مجنون، والكاهن هو الذي يوهم أنه
يعلم الغيب من دون وحي: أي ليس ما تقوله كهانة، فإنك إنما تنطق بالوحي الذي أمرك الله بإبلاغه. والمقصود من
الآية رد ما كان يقوله المشركون: إنه كاهن أو مجنون (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) أم هي المنقطعة،
وقد تقدم الخلاف هل هي مقدرة ببل والهمزة، أو ببل وحدها. قال الخليل: هي هنا للاستفهام. قال سيبويه:
خوطب العباد بما جرى في كلامهم. قال النحاس: يريد سيبويه أن أم في كلام العرب للخروج من حديث إلى
حديث، ونتربص في محل رفع صفة لشاعر، وريب المنون: صروف الدهر، والمعنى: ننتظر به حوادث الأيام
فيموت كما مات غيره، أو يهلك كما هلك من قبله، والمنون يكون بمعنى الدهر، ويكون بمعنى المنية. قال
الأخفش: المعنى نتربص إلى ريب المنون، فحذف حرف الجر، كما تقول: قصدت زيدا وقصدت إلى زيد، ومن
هذا قول الشاعر:
تربص بها ريب المنون لعلها * تطلق يوما أو يموت خليلها
وقول أبي ذؤيب الهذلي:
أمن المنون وريبها تتوجع * والدهر ليس بمعتب من يجزع
قال الأصمعي: المنون واحد لا جمع له: قال الفراء: يكون واحدا وجمعا. وقال الأخفش: هو جمع
لا واحد له. ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم، فقال (قل تربصوا فإني معكم من المتربصين) أي انتظروا موتي أو
هلاكي، فإني معكم من المتربصين لموتكم أو هلاككم. قرأ الجمهور نتربص بإسناد الفعل إلى جماعة المتكلمين.
وقرأ زيد بن علي على البناء للمفعول (أم تأمرهم أحلامهم بهذا) أي بل أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض،
فإن الكاهن هو المفرط في الفطنة والذكاء، والمجنون: هو ذاهب العقل فضلا عن أن يكون له فطنة وذكاء. قال
الواحدي: قال المفسرون كانت عظماء قريش توصف بالأحلام والعقول فأزرأ الله بحلومهم حين لم تثمر لهم
معرفة الحق من الباطل (أم هم قوم طاغون) أي بل أطغوا وجاوزوا الحد في العناد، فقالوا ما قالوا، وهذه
الإضرابات من شئ إلى شئ مع الاستفهام كما هو مدلول أم المنقطعة تدل على أن ما تعقبها أشنع مما تقدمها، وأكثر
جرأة وعنادا (أم يقولون تقوله) أي اختلق القرآن من جهة نفسه وافتعله، والتقول لا يستعمل إلا في الكذب في
الغالب، وإن كان أصله تكلف القول، ومنه اقتال عليه، ويقال اقتال عليه: بمعنى تحكم عليه ومنه قول الشاعر:
99

ومنزلة في دار صدق وغبطة * وما اقتال في حكم علي طبيب
ثم أضرب سبحانه عن قولهم (تقوله) وانتقل إلى ما هو أشد شناعة عليهم فقال (بل لا يؤمنون) أي سبب
صدور هذه الأقوال المتناقضة عنهم كونهم كفارا لا يؤمنون بالله ولا يصدقون ما جاء به رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم. ثم تحداهم سبحانه وألزمهم الحجة فقال (فليأتوا بحديث مثله) أي مثل القرآن في نظمه وحسن بيانه وبديع
أسلوبه (إن كانوا صادقين) فيما زعموا من قولهم: إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم تقوله وجاء به من جهة نفسه
مع أنه كلام عربي، وهم رؤوس العرب وفصحاؤهم والممارسون لجميع الأوضاع العربية من نظم ونثر.
وقد أخرج سعيد بن منصور وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي عن ابن عباس
قال: " إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر به عينه. ثم قرأ (والذين
آمنوا واتبعتهم ذريتهم) الآية. وأخرجه البزار وابن مردويه عنه مرفوعا. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه أيضا أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال إنهم لم يبلغوا
درجتك وعملك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به، وقرأ ابن عباس (والذين آمنوا واتبعتهم
ذريتهم) " الآية. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم " إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم (والذين آمنوا) الآية " وإسناده هكذا. قال عبد الله بن أحمد: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا
محمد بن فضيل، عن محمد بن عثمان، عن زاذان، عن علي بن أبي طالب قال " سألت خديجة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هما في النار، فلما رأى الكراهة
في وجهها قال: لو رأيت مكانهما لأبغضتهما، قالت: يا رسول الله فولدي منك. قال: في الجنة، قال: ثم قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ
(والذين آمنوا) " الآية. وقال الإمام أحمد في المسند: حدثنا يزيد حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول
يا رب من أين لي هذا، فيقول باستغفار ولدك لك " وإسناده صحيح. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم عن
ابن عباس (وما ألتناهم) قال: ما نقصناهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (لا لغو فيها) يقول: باطل (ولا تأثيم)
يقول كذب. وأخرج البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا دخل أهل الجنة الجنة
اشتاقوا إلى الإخوان، فيجئ سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا، فيتحدثان فيتكئ ذا ويتكئ ذا فيتحدثان بما كانوا
في الدنيا، فيقول أحدهما: يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا، فدعونا الله فغفر لنا ".
وأخرج ابن المنذر عن عائشة قالت: لو فتح الله على أهل الأرض من عذاب السموم قدر الأنملة لأحرقت الأرض
ومن عليها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إنه هو البر) قال: اللطيف.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عنه أن قريشا لما اجتمعوا إلى دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال
قائل منهم احبسوه في وثاق، وتربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء: زهير والنابغة، إنما هو
كأحدهم، فأنزل الله في ذلك (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عنه أيضا في قوله (ريب المنون) قال: الموت.
100

قوله (أم خلقوا من غير شئ) أم هذه هي المنقطعة كما تقدم فيما قبلها، وكما سيأتي فيما بعدها: أي بل
أخلقوا على هذه الكيفية البديعة والصنعة العجيبة من غير خالق لهم. قال الزجاج: أي أخلقوا باطلا لغير شئ
لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون، وجعل " من " بمعنى اللام. قال ابن كيسان: أم خلقوا عبثا وتركوا سدى
لا يؤمرون ولا ينهون. وقيل المعنى: أم خلقوا من غير أب ولا أم، فهم كالجماد لا يفهمون ولا تقوم عليهم حجة
(أم هم الخالقون) أي بل أيقولون هم الخالقون لأنفسهم فلا يؤمرون ولا ينهون مع أنهم يقرون أن الله خالقهم،
وإذا أقروا لزمتهم الحجة (أم خلقوا السماوات والأرض) وهم لا يدعون ذلك فلزمتهم الحجة، ولهذا أضرب عن
هذا وقال (بل لا يوقنون) أي ليسوا على يقين من الأمر، بل يخبطون في ظلمات الشك في وعد الله ووعيده
(أم عندهم خزائن ربك) أي خزائن أرزاق العباد، وقيل: مفاتيح الرحمة. قال مقاتل: يقول أبأيديهم مفاتيح ربك
بالرسالة فيضعونها حيث شاءوا؟ وكذا قال عكرمة: وقال الكلبي: خزائن المطر والرزق (أم هم المصيطرون)
أي المسلطون الجبارون. قال في الصحاح: المسيطر المسلط على الشئ ليشرف عليه، ويتعهد أحواله، ويكتب
عمله. وأصله من السطر لأن الكتاب يسطر. وقال أبو عبيدة: سطرت علي: اتخذتني خولا لك. قرأ الجمهور
" المصيطرون " بالصاد الخالصة، وقرأ ابن محيصن وحميد ومجاهد وقنبل وهشام بالسين الخالصة، ورويت هذه
القراءة عن حفص، وقرأ خلاد بصاد مشمة زايا (أم لهم سلم يستمعون فيه) أي بل أيقولون إن لهم سلما منصوبا إلى
السماء يصعدون به ويستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحى إليهم ويصلون به إلى علم الغيب كما يصل إليه محمد صلى
الله عليه وآله وسلم بطريق الوحي. وقوله " فيه " صفة لسلم، وهي للظرفية على بابها، وقيل هي بمعنى على: أي
يستمعون عليه كقوله - ولأصلبنكم في جذوع النخل - قاله الأخفش. وقال أبو عبيدة: يستمعون به. وقال
الزجاج: المعنى: أنهم كجبريل الذي يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي، وقيل هي في محل نصب على
الحال: أي صاعدين فيه (فليأت مستمعهم) إن ادعى ذلك (بسلطان مبين) أي بحجة واضحة ظاهرة (أم له
101

البنات ولكم البنون) أي بل أتقولون لله البنات ولكم البنون، سفه سبحانه أحلامهم، وضلل عقولهم ووبخهم:
أي أيضيفون إلى الله البنات وهي أضعف الصنفين، ويجعلون لأنفسهم البنين وهم أعلاهما، وفيه إشعار بأن من
كان هذا رأيه فهو بمحل سافل في الفهم والعقل، فلا يستبعد منه إنكار البعث وجحد التوحيد. ثم رجع سبحانه
إلى خطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقال (أم تسألهم أجرا) أي بل أتسألهم أجرا يدفعونه إليك على تبليغ
الرسالة (فهم من مغرم مثقلون) أي من التزام غرامة تطلبها منهم مثقلون: أي مجهودون بحملهم ذلك المغرم الثقيل.
قال قتادة: يقول: هل سألت هؤلاء القوم أجرا فجهدهم فلا يستطيعون الإسلام (أم عندهم الغيب فهم يكتبون)
أي بل أيدعون أن عندهم علم الغيب، وهو ما في اللوح المحفوظ فهم يكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب. قال
قتادة: هذا جواب لقولهم - نتربص به ريب المنون - يقول الله: أم عندهم الغيب حتى علموا أن محمدا يموت
قبلهم فهم يكتبون. قال ابن قتيبة: معنى يكتبون يحكمون بما يقولون (أم يريدون كيدا) أي مكرا برسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فيهلكونه بذلك المكر (فالذين كفروا هم المكيدون) أي الممكور بهم المجزيون بكيدهم،
فضرر كيدهم يعود عليهم - ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله - وقد قتلهم الله في يوم بدر وأذلهم في غير موطن، ومكر
سبحانه بهم - ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين - (أم لهم إله غير الله) أي بل أيدعون أن لهم إلها غير الله
يحفظهم ويرزقهم وينصرهم. ثم نزه سبحانه نفسه عن هذه المقالة الشنعاء فقال (سبحان الله عما يشركون) أي عن
شركهم به، أو عن الذين يجعلونهم شركاء له. ثم ذكر سبحانه بعض جهالاتهم، فقال (وإن يروا كسفا من
السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم) الكسف جمع كسفة: وهي القطعة من الشئ، وانتصاب ساقطا على الحال،
أو على أنه المفعول الثاني، والمركوم: المجعول بعضه على بعض. والمعنى: أنهم إن يروا كسفا من السماء ساقطا
عليهم لعذابهم لم ينتهوا عن كفرهم بل يقولون هو سحاب متراكم بعضه على بعض، وقد تقدم اختلاف القراء في
كسفا. قال الأخفش: من قرأ كسفا، يعنى بكسر الكاف وسكون السين جعله واحدا، ومن قرأ كسفا، يعنى
بكسر الكاف وفتح السين جعله جمعا. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتركهم، فقال (فذرهم
حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون) أي اتركهم وخل عنهم حتى يلاقوا يوم موتهم، أو يوم قتلهم ببدر، أو
يوم القيامة. قرأ الجمهور " يلاقوا " وقرأ أبو حيوة " يلقوا " وقرأ الجمهور: يصعقون على البناء للفاعل: وقرأ ابن
عامر وعاصم على البناء للمفعول، والصعقة: الهلاك على ما تقدم بيانه (يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا) هو بدل
من يومهم: أي لا ينفعهم في ذلك اليوم كيدهم الذي كادوا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا (ولا
هم ينصرون) أي ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع، بل هو واقع بهم لا محالة (وإن للذين ظلموا عذابا
دون ذلك) أي لهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي عذابا في الدنيا دون عذاب يوم القيامة: أي قبله،
وهو قتلهم يوم بدر. وقال ابن زيد: هو مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا، وذهاب الأموال
والأولاد. وقال مجاهد: هو الجوع والجهد سبع سنين، وقيل عذاب القبر، وقيل المراد بالعذاب هو القحط،
وبالعذاب الذي يأتي بعده هو قتلهم يوم بدر (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ما يصيرون إليه من عذاب الله وما أعده
لهم في الدنيا والآخرة (واصبر لحكم ربك) إلى أن يقع لهم العذاب الذي وعدناهم به (فإنك بأعيننا) أي بمرأى ومنظر
منا، وفي حفظنا وحمايتنا فلا تبال بهم. قال الزجاج: انك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك فلا يصلون إليك (وسبح
بحمد ربك حين تقوم) أي نزه ربك عما لا يليق به متلبسا بحمد ربك على إنعامه عليك حين تقوم من مجلسك. قال
عطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الأحوص: يسبح الله حين يقوم من مجلسه فيقول: سبحان الله وبحمده،
102

أو سبحانك اللهم وبحمدك عند قيامه من كل مجلس يجلسه. وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع بن أنس:
حين تقوم إلى الصلاة. قال الضحاك يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا،
وفيه نظر لأن التكبير يكون بعد القيام لا حال القيام، ويكون التسبيح بعد التكبير، وهذا غير معنى الآية،
فالأول أولى. وقيل المعنى: صل الله حين تقوم من منامك، وبه قال أبو الجوزاء وحسان بن عطية. وقال
الكلبي: واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة، وهي صلاة الفجر (ومن الليل فسبحه)
أمره الله سبحانه أن يسبحه في بعض الليل. قال مقاتل: أي صل المغرب والعشاء، وقيل: ركعتي الفجر (وإدبار
النجوم) أي وقت إدبارها من آخر الليل، وقيل صلاة الفجر، واختاره ابن جرير، وقيل هو التسبيح في إدبار
الصلوات، قرأ الجمهور " إدبار " بكسر الهمزة على أنه مصدر، وقرأ سالم بن أبي الجعد ومحمد بن السميفع ويعقوب
والمنهال بن عمر بفتحها على الجمع: أي أعقاب النجوم وأدبارها: إذا غربت، ودبر الأمر: آخره، وقد تقدم
الكلام على هذا في سورة " ق ".
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أم هم المصيطرون) قال: المسلطون
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: أم هم المنزلون. وأخرجا عنه أيضا (عذابا دون ذلك) قال: عذاب
القبر قبل يوم القيامة. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والحاكم وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال
" كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بآخره إذا قام من المجلس يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن
لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقال رجل: يا رسول الله: إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى،
قال: كفارة لما يكون في المجلس ". وأخرجه النسائي والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن رافع
ابن خديج عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج الترمذي وابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أنه قال " من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك،
أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك ". قال الترمذي: حسن
صحيح. وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (وسبح بحمد ربك حين
تقوم) قال: حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في قوله (ومن الليل فسبحه) قال: الركعتان قبل صلاة الصبح. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
عن ابن عباس (وإدبار النجوم) قال: ركعتي الفجر.
تفسير سورة النجم
هي إحدى وستون آية، وقيل ثنتان وستون آية
وهي مكية جميعها في قول الجمهور. وروى عن ابن عباس وعكرمة أنها مكية إلا آية منها، وهي قوله (الذين
يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) الآية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة النجم بمكة،
أخرج أيضا عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: أول سورة أنزلت
فيها سجدة والنجم، فسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسجد الناس كلهم، إلا رجلا رأيته أخذ كفا من
تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا، وهو أمية بن خلف. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال:
103

أول سورة استعلن بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرؤها والنجم. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن
عمر قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ النجم، فسجد بنا فأطال السجود ". وأخرج ابن مردويه
عن عائشة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ النجم فلما بلغ السجدة سجد فيها ". وأخرج الطيالسي وابن أبي شيبة
وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال: قرأت النجم
عند النبي صلى الله عليه وإله وسلم فلم يسجد فيها. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يسجد في النجم بمكة، فلما هاجر إلى المدينة تركها. وأخرج أيضا عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم لم يسجد في شئ من المفصل منذ تحول إلى المدينة.
(قوله والنجم إذا هوى) التعريف للجنس، والمراد به جنس النجوم، وبه قال جماعة من المفسرين، ومنه
قول عمر بن أبي ربيعة:
أحسن النجم في السماء الثريا * والثريا في الأرض زين النساء
وقيل: المراد به الثريا، وهو اسم غلب فيها، تقول العرب النجم وتريد به الثريا، وبه قال مجاهد وغيره.
وقال السدى: النجم هنا هو الزهرة، لأن قوما من العرب كانوا يعبدونها، وقيل النجم هنا النبت الذي لا ساق له
104

كما في قوله - والنجم والشجر يسجدان - قاله الأخفش. وقيل النجم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل النجم
القرآن، وسمى نجما لكونه نزل منجما مفرقا، والعرب تسمى التفريق تنجيما، والمفرق: المنجم، وبه قال مجاهد
والفراء وغيرهما، والأول أولى. قال الحسن: المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة. وقيل المراد بها النجوم
التي ترجم بها الشياطين، ومعنى هويه: سقوطه من علو، يقال هوى النجم يهوي هويا: إذا سقط من علو إلى
صقل، وقيل غروبه، وقيل طلوعه، والأول أولى، وبه قال الأصمعي وغيره، ومنه قول زهير:
تسيح بها الأباعر وهي تهوي * هوى الدلو أسلمها الرشاء
ويقال هوى في السير: إذا مضى، ومنه قول الشاعر:
بينما نحن بالبلاكث فالقاع * سراعا والعيس تهوى هويا
خطرت خطرة على القلب من ذكراك * وهنا فما استعطت مضيا
ومعنى الهوى على قول من فسر النجم بالقرآن: أنه نزل من أعلا إلى أسفل، وأما على قول من قال إنه الشجر
الذي لا ساق له، أو أنه محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يظهر للهوي معنى صحيح، والعامل في الظرف فعل
القسم المقدر، وجواب القسم قوله (ما ضل صاحبكم وما غوى) أي ما ضل محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن
الحق والهدى ولا عدل عنه، والغي: ضد الرشد، أي ما صار غاويا، ولا تكلم بالباطل، وفيل ما خاب فيما
طلب، والغي: الخيبة، ومنه قول الشاعر: فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره
* ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وفي قوله (صاحبكم) إشارة بأنهم المطلعون على حقيقة حاله، والخطاب لقريش (وما ينطق عن الهوى) أي
ما يصدر نطقه عن الهوى لا بالقرآن ولا بغيره، فعن على بابها. وقال أبو عبيدة: إن عن بمعنى الباء: أي بالهوي.
قال قتادة: أي ما ينطق بالقراءة عن هواه (إن هو إلا وحي يوحى) أي ما هو الذي ينطق به إلا وحي من الله يوحيه إليه.
وقوله (يوحي) صفة لوحي تفيد الاستمرار التجددي، وتفيد نفي المجاز: أي هو وحي حقيقة لا لمجرد
التسمية (علمه شديد القوى) القوى جمع قوة، والمعنى: أنه علمه جبريل الذي، هو شديد قواه هكذا قال أكثر
المفسرين إن المراد جبريل. وقال الحسن: هو الله عز وجل، والأول أولى وهو من باب إضافة الصفة إلى
الموصوف (ذو مرة فاستوى) المرة: القوة والشدة في الخلق، وقيل ذو صحة جسم وسلامة من الآفات، ومنه
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوى ". وقيل ذو حصافة عقل ومتانة
رأى. قال قطرب: العرب تقول لكل من هو جزل الرأي حصيف العقل ذو مرة، ومنه قول الشاعر:
قد كنت قبل لقائكم ذا مرة * عندي لكل مخاصم ميزانه
والتفسير للمرة بهذا أولى، لأن القوة والشدة قد أفادها قوله (شديد القوى) قال الجوهري: المرة إحدى الطبائع
الأربع، والمرة: القوة وشدة العقل، والفاء في قوله (فاستوى) للعطف على علمه، يعني جبريل: أي ارتفع
وعاد إلى مكانه في السماء بعد أن علم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، قاله سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير،
وقيل معنى استوى قام في صورته التي خلقه الله عليها لأنه كان يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صورة
الآدميين، وقيل: المعنى فاستوى القرآن في صدره صلى الله عليه وآله وسلم. وقال الحسن: فاستوى يعني الله عز
وجل على العرش (وهو بالأفق الأعلى) هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي فاستوى جبريل حال كونه
105

بالأفق الأعلى، والمراد بالأفق الأعلى: جانب المشرق، وهو فوق جانب المغرب، وقيل المعنى: فاستوى عاليا،
والأفق: ناحية السماء، وجمعه آفاق. قال قتادة ومجاهد: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس، وقيل: هو يعني
جبريل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأفق الأعلى ليلة المعراج، ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة (ثم دنا
فتدلي) أي دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى: أي قرب من الأرض، فتدلي فنزل على النبي صلى الله عليه
وآله وسلم بالوحي، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ثم تدلى فدنى، قاله ابن الأنباري وغيره. قاله ابن الأنباري وغيره. قال الزجاج:
معنى دنا فتدلى واحد: أي قرب وزاد في القرب كما تقول فدنا منى فلان وقرب، ولو قلت: قرب منى ودنا
جاز. قال الفراء: الفاء في فتدلى بمعنى الواو، والتقدير: ثم تدلى جبريل ودنا، ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين
واحدا أن تقدم أيهما شئت. قال الجمهور: والذي دنا فتدلى هو جبريل، وقيل هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والمعنى: دنا منه أمره وحكمه، والأول أولى. قيل ومن قال: إن الذي استوى هو جبريل ومحمد، فالمعنى عنده:
ثم دنا محمد من ربه دنو كرامة فتدلى: أي هوى للسجود، وبه قال الضحاك (فكان قاب قوسين أو أدنى) أي
فكان مقدار ما بين جبريل ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو ما بين محمد وربه قاب قوسين: أي قدر قوسين
عربيين. وألقاب والقيب، والقاد والقيد: المقدار، ذكر معناه في الصحاح. قال الزجاج: أي فيما تقدرون أنتم،
والله سبحانه عالم بمقادير الأشياء ولكنه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما بيننا. وقيل أو بمعنى الواو: أي
وأدنى، وقيل بمعنى بل: أي بل أدنى. وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهمداني وأبو وائل شقيق بن
سلمة (فكان قاب قوسين) قدر ذراعين، والقوس: الذراع يقاس بها كل شئ، وهي لغة بعض الحجازيين،
وقيل هي لغة أزد شنوءة. وقال الكسائي: فكان قاب قوسين أراد قوسا واحدة (فأوحى إلى عبده ما أوحى)
أي فأوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما أوحى، وفيه تفخيم للوحي الذي أوحى إليه، والوحي:
إلقاء الشئ بسرعة، ومنه الوحا وهو السرعة، والضمير في عبده يرجع إلى الله كما في قوله - ما ترك على ظهرها من
دابة - وقيل المعنى: فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى، وبالأول قال الربيع والحسن وابن زيد وقتادة. وقيل
فأوحى الله إلى عبده محمد. قيل وقد أبهم الله سبحانه ما أوحاه جبريل إلى محمد. أو ما أوحاه الله إلى عبده جبريل
أو إلى محمد ولم يبينه لنا، فليس لنا أن نعترض لتفسيره. وقال سعيد بن جبير: الذي أوحى إليه هو - ألم نشرح
لك صدرك - الخ، و - ألم يجدك يتيما فآوى - الخ. وقيل أوحى الله إليه إن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها،
وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك ". وقيل إن ما للعموم لا للإبهام. والمراد كل ما أوحى به إليه، والحمل على الإبهام
أولى لما فيه من التعظيم (ما كذب الفؤاد ما رأى) أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما رآه بصره
ليلة المعراج، يقال كذبه: إذا قال له الكذب ولم يصدقه. قال المبرد: معنى الآية أنه رأى شيئا فصدق فيه. قرأ
الجمهور " ما كذب " مخففا، وقرأ هشام وأبو جعفر بالتشديد، " وما " في " ما رأى " موصولة أو مصدرية في محل
نصب بكذب مخففا ومشددا (أفتمارونه على ما يرى). قرأ الجمهور " أفتمارونه " بالألف من المماراة، وهي
المجادلة والملاحاة، وقرأ حمزة والكسائي " أفتمرونه " بفتح التاء وسكون الميم: أي أفتجدونه، واختار أبو عبيد
القراءة الثانية. قال: لأنهم لم يماروه وإنما جحدوه، يقال مراه حقه: أي جحده - ومريته أنا: جحدته. قال
ومنه قول الشاعر:
لأن هجوت أخا صدق ومكرمة * لقد مريت أخا ما كان يمريكا
106

أي جحدته. قال المبرد: يقال أمرأه عن حقه وعلى حقه: إذا منعه منه ودفعه. وقيل على بمعنى عن. وقرأ
ابن مسعود والشعبي ومجاهد والأعرج " أفتمرونه " بضم التاء من أمريت: أي أتريبونه وتشكون فيه. قال جماعة
من المفسرين: المعنى على قراءة الجمهور أفتجادلونه، وذلك أنهم جادلوه حين أسرى به فقالوا: صف لنا
مسجد بيت المقدس، أي أفتجادلونه جدالا ترمون به دفعه عما شاهده وعلمه، واللام في قوله (ولقد رآه نزلة
أخرى) هي الموطئة للقسم: أي والله لقد رآه نزلة أخرى، والنزلة المرة من النزول، فانتصابها على الظرفية أو
منتصبة على المصدر الواقع موقع على الحال: أي رأى جبريل نازلا نزلة أخرى، أو على أنه صفة مصدر مؤكد
محذوف: أي رآه رؤية أخرى. قال جمهور المفسرين: المعنى أنه رأى محمد جبريل مرة أخرى، وقيل رأى
محمد ربه مرة أخرى بفؤاده (عند سدرة المنتهى) الظرف منتصب برآه، والسدر هو شجر النبق، وهذه السدرة
هي في السماء السادسة كما في الصحيح، وروى أنها في السماء السابعة. والمنتهى: مكان الانتهاء، أو هو مصدر
ميمي، والمراد به الانتهاء نفسه، قيل إليها ينتهى علم الخلائق ولا يعلم أحد منهم ما وراءها، وقيل ينتهي إليها
ما يعرج به من الأرض، وقيل تنتهي إليها أرواح الشهداء، وقيل غيره ذلك. وإضافة الشجرة إلى المنتهى من إضافة
الشئ إلى مكانه (عندها جنة المأوى) أي عند تلك السدرة جنة تعرف بجنة المأوى، وسميت جنة المأوى لأنه
أوى إليها آدم، وقيل إن أرواح المؤمنين تأوي إليها. قرأ الجمهور " جنة " برفع جنة على أنها مبتدأ وخبرها الظرف
المتقدم. وقرأ على وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر بن حبيش ومحمد بن كعب ومجاهد وأبو سبرة
الجهني جنة فعلا ماضيا من جن يجن: أي ضمه المبيت، أو سترة إيواء الله له. قال الأخفش: أدركه كما تقول جنة الليل
أي ستره وأدركه، والجملة في محل نصب على الحال (إذ يغشي السدرة ما يغشى) العامل في الظرف رآه أيضا،
وهو ظرف زمان، والذي قبله ظرف مكان، والغشيان بمعنى التغطية والستر، وبمعنى الإتيان يقال: فلان يغشاني
كل حين: أي يأتيني، وفي الإبهام في قوله (ما يغشى) من التفخيم ما لا يخفى، وقيل يغشاها جراد من ذهب،
وقيل طوائف من الملائكة. وقال مجاهد: رفرف أخضر، وقيل رفرف من طيور خضر، وقيل غشيها أمر الله،
والمجئ بالمضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا للصورة البديعة، أو للدلالة على الاستمرار التجددي (ما زاغ
البصر) أي ما مال بصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما رآه (وما طغى) أي ما جاوز ما رآى، وفي هذا
وصف أدب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك المقام حيث لم يلتفت، ولم يمل بصره، ولم يمده إلى غير ما رأى،
وقيل ما جاوز ما أمر به (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) أي والله لقد رأى تلك الليلة من آيات ربه العظام ما لا
يحيط به الوصف، قيل رأى رفرفا سد الأفق، وقيل رأى جبريل في حلة خضراء قد ملأ ما بين السماء والأرض له
ستمائة جناح، كذا في صحيح مسلم وغيره، وقال الضحاك: رأى سدرة المنتهى، وقيل هو كل ما رآه تلك الليلة
في مسراه وعوده، ومن للتبعيض ومفعول رأى الكبرى، ويجوز أن يكون المفعول محذوفا أي رأى شيئا عظيما
من آيات ربه، ويجوز أن تكون من زائدة (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) لما قص الله سبحانه هذه
الأقاصيص قال للمشركين: موبخا لهم ومقرعا (أفرأيتم) أي أخبروني عن الآلهة التي تعبدونها من دون الله هل لها
قدرة توصف بها، وهل أوحت إليكم شيئا كما أوحى الله إلى محمد. أم هي جمادات لا تعقل ولا تنفع. ثم ذكر
هذه الأصنام الثلاثة التي اشتهرت في العرب وعظم اعتقادهم فيها. وقال الواحدي وغيره: وكانوا يشتقون لها أسماء
من أسماء الله تعالى، فقالوا من الله اللات، ومن العزيز العزى، وهي تأنيب الأعز بمعنى العزيزة، ومناة من منى
الله الشئ إذا قدره. قرأ الجمهور (اللات) بتخفيف التاء، فقيل هو مأخوذ من اسم الله سبحانه كما تقدم،
107

وقيل أصله لات يليت، فالتاء أصلية، وقيل هي زائدة وأصله لوى يلوي لأنهم كانوا يلوون أعناقهم إليها أو
يلتوون عليها ويطوفون بها. واختلف القراء هل يوقف عليها بالتاء أو بالهاء؟ فوقف عليها الجمهور بالتاء ووقف
عليها الكسائي بالهاء، واختار الزجاج والفراء الوقف بالتاء لاتباع رسم المصحف فإنها تكتب بالتاء، وقرأ ابن
عباس وابن الزبير ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو الجوزاء وأبو صالح وحميد " اللات " بتشديد التاء، ورويت
هذه القراءة عن ابن كثير، فقيل هو اسم رجل كان يلت السويق ويطعمه الحاج، فلما مات عكفوا على قبره
يعبدونه، فهو اسم فاعل في الأصل غلب على هذا الرجل. قال مجاهد: كان رجلا في رأس جبل يتخذ من لبنها
وسمنها حيسا ويطعم الحاج، وكان ببطن نخلة، فلما مات عبدوه. وقال الكلبي: كان رجلا من ثقيف له صرمة
غنم، وقيل إنه عامر بن الظرب العدواني، وكان هذا الصنم لثقيف، وفيه يقول الشاعر:
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها * وكيف ينصركم من ليس ينتصر
قال في الصحاح: واللات اسم صنم لثقيف، وكان بالطائف وبعض العرب يقف عليها بالتاء، وبعضهم
بالهاء (والعزى) صنم قريش وبني كنانة. قال مجاهد: هي شجرة كانت بغطفان، وكانوا يعبدونها، فبعث إليها
النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد فقطعها، وقيل كانت شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة. وقال
سعيد بن جبير: العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه. وقال قتادة: هي بيت كان ببطن نخلة (ومناة) صنم
بني هلال. وقال ابن هشام: صنم هذيل وخزاعة. وقال قتادة: كانت للأنصار. قرأ الجمهور " مناة " بألف من
دون همزة، وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد والسلمي بالمد والهمز. فأما قراءة الجمهور فاشتقاقها من
منى يمنى. أي صب، لأن دماء النسائك كانت تصب عندها يتقربون بذلك إليها. وأما على القراءة الثانية فاشتقاقها
من النوء، وهو المطر لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء، وقيل هما لغتان للعرب، ومما جاء على القراءة
الأولى قول جرير:
أزيد مناة توعد يابن تيم * تأمل أين تاه بك الوعيد
ومما جاء على القراءة الأخرى قول الحارثي:
ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة * على السر فيما بيننا ابن تميم
وقف جمهور القراء عليها بالتاء اتباعا لرسم المصحف، ووقف ابن كثير وابن محيصن عليها بالهاء. قال في
الصحاح: ومناة اسم صنم كان بين مكة والمدينة، والهاء للتأنيث ويسكت عليها بالتاء، وهي لغة. قوله (الثالثة
الأخرى) هذا وصف لمناة، وصفها بأنها ثالثة وبأنها أخرى، والثالثة لا تكون إلا أخرى. قال أبو البقاء:
فالوصف بالأخرى للتأكيد، وقد استشكل وصف الثالثة بالأخرى، والعرب إنما تصف به الثانية، فقال الخليل:
إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي كقوله - مآرب أخرى - وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، والتقدير:
أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة. وقيل إن وصفها بالأخرى لقصد التعظيم لأنها كانت عند المشركين
عظيمة، وقيل إن ذلك للتحقير والذم، وإن المراد المتأخرة الوضيعة كما في قوله - قالت أخراهم لأولاهم - أي
وضعاؤهم لرؤسائهم. ثم كرر سبحانه توبيخهم وتقريعهم بمقالة شنعاء قالوها فقال (ألكم الذكر وله الأنثى)
أي كيف تجعلون لله ما تكرهون من الإناث وتجعلون لأنفسكم ما تحبون من الذكور، وقيل وذلك قولهم إن الملائكة
بنات الله، وقيل المراد كيف تجعلون اللات والعزى ومناة وهي إناث في زعمكم شركاء الله، ومن شأنهم أن
108

يحتقروا الإناث. ثم ذكر سبحانه أن هذه التسمية والقسمة المفهومة من الاستفهام قسمة جائزة فقال (تلك إذا
قسمة ضيزى) قرأ الجمهور " ضيزى " بياء ساكنة بغير همزة، وقرأ ابن كثير بهمزة ساكنة، والمعنى: أنها قسمة
خارجة عن الصواب جائرة عن العدل مائلة عن الحق. قال الأخفش: يقال ضاز في الحكم: أي جار، وضازه
حقه يضيزه ضيزا: أي نقصه وبخسه، قال: وقد يهمز، وأنشد:
فإن تناء عنا ننتقصك وإن تغب * فحقك مضئوز وأنفك راغم
وقال الكسائي: ضاز يضيز ضيزا، وضاز يضوز ضوزا: إذا تعدى وظلم وبخس وانتقص، ومنه قول الشاعر:
ضازت بنو أسد بحكمهم * إذ يجعلون الرأس كالذنب
قال الفراء: وبعض العرب يقول: ضيزى بالهمز، وحكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه سمع العرب تهمز
ضيزى، قال البغوي: ليس في كلام العرب فعلى بكسر الفاء في النعوت إنما تكون في الأسماء مثل ذكرى. قال
المؤرج: كرهوا ضم الضاد في ضيزى وخافوا انقلاب الياء واوا وهي من بنات الواو، فكسروا الضاد لهذه
العلة كما قالوا في جمع أبيض بيض، وكذا قال الزجاج: وقيل هي مصدر كذكري، فيكون المعنى: قسمة ذات
جور وظلم. ثم رد سبحانه عليهم بقوله (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) أي ما الأوثان أو الأصنام باعتبار
ما تدعونه من كونها آلهة إلا أسماء محضة، ليس فيها شئ من معنى الألوهية التي تدعونها، لأنها لا تبصر ولا
تسمع ولا تعقل ولا تفهم ولا تضر ولا تنفع، فليست إلا مجرد أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم، قلد الآخر فيها
الأول، وتبع في ذلك الأبناء الآباء. وفي هذا من التحقير لشأنها ما لا يخفى كما تقول في تحقير رجل: ما هو إلا
اسم إذا لم يكن مشتملا على صفة معتبرة، ومثل هذه الآية قوله تعالى - ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها.
يقال: سميته زيدا وسميته بزيد، فقوله سميتموها صفة لأصنام، والضمير يرجع إلى الأسماء لا إلى الأصنام: أي
جعلتموها أسماء لا جعلتم لها أسماء. وقيل إن قوله " هي " راجع إلى الأسماء الثلاثة المذكورة، والأول أولى (ما أنزل
الله بها من سلطان) أي ما أنزل بها من حجة ولا برهان. قال مقاتل: لم ينزل لنا كتابا لكم فيه حجة كما تقولون
إنها آلهة، ثم أخبر عنهم بقوله (إن يتبعون إلا الظن) أي ما يتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها إلا الظن
الذي لا يغني من الحق شيئا، والتفت من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم وتحقيرا لشأنهم فقال (وما تهوى الأنفس)
أي تميل إليه وتشتهيه من غير النفات إلى ما هو الحق الذي يجب الاتباع له. قرأ الجمهور " يتبعون " بالتحتية على
الغيبة، وقرأ عيسى بن عمر وأيوب وابن السميفع بالفوقية على الخطاب، ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود
وابن عباس وطلحة وابن وثاب (ولقد جاءهم من ربهم الهدى) أي البيان الواضح الظاهر بأنها ليست بآلهة،
والجملة في محل نصب على الحال من فاعل يتبعون، ويجوز أن يكون اعتراضا، والأول أولى. والمعنى: كيف
يتبعون ذلك والحال أن قد جاءهم ما فيه هدى لهم من عند الله على لسان رسوله الذي بعثه الله بين ظهرانيهم وجعله
من أنفسهم (أم للإنسان ما تمنى) أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة التي للإنكار، فأضرب عن اتباعهم الظن
الذي هو مجرد التوهم، وعن اتباعهم هوى الأنفس وما تميل إليه، وانتقل إلى إنكار أن يكون لهم ما يتمنون من كون
الأصنام تنفعهم وتشفع لهم. ثم علل انتفاء أن يكون للإنسان ما تمنى بقوله (فلله الآخرة والأولى) أي أن أمور
الآخرة والدنيا بأسرها لله عز وجل فليس لهم معه أمر من الأمور، ومن جملة ذلك أمنياتهم الباطلة وأطماعهم الفارغة،
ثم أكد ذلك وزاد في إبطال ما يتمنونه فقال (وكم من ملك في السماوات لا تغنى شفاعتهم شيئا) وكم هنا هي الخبرية
109

المفيدة للتكثير ومحلها الرفع على الابتداء والجملة بعدها خبرها، ولما في كم من معنى التكثير جمع الضمير في
شفاعتهم مع إفراد الملك، والمعنى: التوبيخ لهم بما يتمنون ويطمعون فيه من شفاعة الأصنام مع كون الملائكة مع
كثرة عبادتها وكرامتها على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له، فكيف بهذه الجمادات الفاقدة للعقل والفهم وهو
معنى قوله (إلا من بعد أن يأذن الله) لهم بالشفاعة (لمن يشاء) أن يشفعوا له (ويرضى) بالشفاعة له لكونه من
أهل التوحيد، وليس للمشركين في ذلك حظ ولا يأذن الله بالشفاعة لهم ولا يرضاها لكونهم ليسوا من المستحقين لها.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس (والنجم إذا هوى) قال: إذا انصب. وأخرج ابن المنذر عنه قال:
هو الثريا إذا تدلت. وأخرج عنه أيضا قال: أقسم الله أن ما ضل محمد ولا غوى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (ذو مرة) قال: ذو خلق حسن. وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم
والطبراني وأبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ير جبريل في صورته إلا
مرتين، أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فأراه صورته فسد الأفق، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد،
فذلك قوله (وهو بالأفق الأعلى - لقد رأى من آيات ربه الكبرى) قال: خلق جبريل. وأخرج ابن جرير
وأبو الشيخ عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ستمائة جناح ". وأخرجه
أحمد عنه أيضا. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (وهو بالأفق الأعلى) قال: مطلع الشمس. وأخرج البخاري
ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود في قوله (فكان قاب قوسين أو أدنى) قال " رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
جبريل له ستمائة جناح ". وأخرج الفريابي وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والطبراني
وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عنه في قوله (ما كذب الفؤاد ما رأى)
قال " رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل عليه حلقا رفرف أخضر قد ملأ ما بين السماء والأرض ".
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (ثم دنا فتدلى) قال: هو محمد صلى الله عليه
وآله وسلم دنا فتدلى إلى ربه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال دنا ربه فتدلى. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر عن ابن مسعود في قوله (فكان قاب قوسين) قال: دنا جبريل منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين.
وأخرج الطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: ألقاب القيد، والقوسين الذراعين. وأخرج
ابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما أسرى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم اقترب من ربه،
فكان قاب قوسين أو أدنى، ألم تر إلى القوس ما أقربها من الوتر. وأخرج النسائي وابن المنذر وابن جرير وابن
أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (فأوحى إلى عبده ما أوحى) قال: عبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم،
وأخرج مسلم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله (ما كذب الفؤاد ما رأى - ولقد
رآه نزلة أخرى) قال: رأى محمد ربه بقلبه مرتين. وأخرج نحوه عنه عبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير
وابن المنذر والطبراني وابن مردويه. وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: رأى محمد ربه. وأخرج ابن مردويه عن
ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه بعينه. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه قال: رأى محمد
ربه مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده. وأخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن مردويه والبيهقي عنه أيضا قال: لقد
رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه عز وجل. وأخرج النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال:
أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد؟ وقد روى نحو هذا عنه من طرق. وأخرج
110

مسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي ذر قال " سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل رأيت ربك؟ قال:
نورأني أراه؟ ". وأخرج مسلم وابن مردويه عنه " أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل رأيت ربك؟
قال: رأيت نورا ". وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: رأى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره. وأخرج مسلم عن أبي هريرة في قوله (ولقد رآه نزلة أخرى)
قال جبريل. وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال:
" لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة ينتهي ما يعرج من
الأرواح فيقبض منها وإليها ينتهى ما يهبط به من فوقها فيقبض منها " (إذ يغشى السدرة ما يغشى) قال: فراش من
ذهب. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود قال " الجنة في السماء السابعة العليا، والنار في الأرض السابعة
السفلى ". وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان اللات رجلا يلت السويق للحاج. وأخرج الطبراني
وابن مردويه عنه أن العزى كانت ببطن نخلة، وأن اللات كانت بالطائف، وأن مناة كانت بقديد. وأخرج ابن
جرير عن ابن عباس (ضيزى) قال: جائرة لا حق لها.
سورة النجم (27 - 42) قوله (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى) أي أن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث وما
بعده من الدار الآخرة وهم الكفار يضمون إلى كفرهم مقالة شنعاء وجهالة جهلاء، وهي أنهم يسمون الملائكة
المنزهين عن كل نقص تسمية الأنثى، وذلك أنهم زعموا أنها بنات الله فجعلوهم إناثا وسموهم بنات (وما لهم به من
111

علم) هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي يسمونهم هذه التسمية والحال أنهم غير عالمين بما يقولون، فإنهم
لم يعرفوهم ولا شاهدوهم ولا بلغ إليهم ذلك من طريق من الطرق التي يخبر عنها المخبرون عنها، بل قالوا ذلك جهلا
وضلالة وجرأة. وقرئ " ما لهم بها " أي بالملائكة أو التسمية (إن يتبعون إلا الظن) أي ما يتبعون في هذه المقالة إلا
مجرد الظن والتوهم. ثم أخبر سبحانه عن الظن وحكمه فقال (وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا) أي إن جنس
الظن لا يغنى من الحق شيئا من الإغناء، والحق هنا العلم. وفيه دليل على أن مجرد الظن لا يقوم مقام العلم وأن
الظان غير عالم. وهذا في الأمور التي يحتاج فيها إلى العلم وهي المسائل العلمية، لا فيما يكتفي فيه بالظن، وهي
المسائل العملية، وقد قدمنا تحقيق هذا. ولا بد من هذا التخصيص، فإن دلالة العموم والقياس وخبر الواحد ونحو
ذلك ظنية، فالعمل بها عمل بالظن، وقد وجب علينا العمل به في مثل هذه الأمور، فكانت أدلة وجوبه العمل
به فيها مخصصة لهذا العموم، وما ورد في معناه من الذم لمن عمل بالظن والنهي عن اتباعه (فأعرض عمن تولى عن
ذكرنا) أي أعرض عمن أعرض عن ذكرنا، والمراد بالذكر هنا القرآن، أو ذكر الآخرة، أو ذكر الله على العموم،
وقيل المراد بالذكر هنا الإيمان، والمعنى: أترك مجادلتهم فقد بلغت إليهم ما أمرت به وليس عليك إلا البلاغ،
وهذا منسوخ بآية السيف (ولم يرد إلا الحياة الدنيا) أي لم يرد سواها ولا طلب غيرها بل قصر نظره عليها، فإنه غير
متأهل للخير ولا مسنحق للاعتناء بشأنه. ثم صغر سبحانه شأنهم وحقر أمرهم فقال (ذلك مبلغهم من العلم) أي
إن ذلك التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا هو مبلغهم من العلم ليس لهم غيره ولا يلتفتون إلى سواه من أمر الدين.
قال الفراء: أي ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة، وقيل الإشارة بقوله " ذلك " إلى
جعلهم للملائكة بنات الله وتسميتهم لهم تسمية الأنثى، والأول أولى. والمراد بالعلم هنا مطلق الإدراك الذي يندرج
تحته الظن الفاسد، والجملة مستأنفة لتقرير جهلهم واتباعهم مجرد الظن، وقيل معترضة بين المعلل والعلة وهي
قوله (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) فإن هذا تعليل للأمر بالإعراض، والمعنى:
أنه سبحانه أعلم بمن حاد عن الحق وأعرض عنه ولم يهتد إليه، وأعلم بمن اهتدى فقبل الحق وأقبل إليه وعمل به،
فهو مجاز كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وإرشاد له بأنه لا يتعب نفسه في دعوة من أصر على الضلالة وسبقت له الشقاوة، فإن الله قد علم حال هذا الفريق
الضال كما علم حال الفريق الراشد. ثم أخبر سبحانه عن سعة قدرته وعظيم ملكه فقال (ولله ما في السماوات وما في
الأرض) أي هو المالك لذلك والمتصرف فيه لا يشاركه فيه أحد، واللام في (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا)
متعلقة بما دل عليه الكلام، كأنه قال هو مالك ذلك يضل من يشاء ويهدى من يشاء ليجزي المسئ بإساءته والمحسن
بإحسانه. وقيل إن قوله - ولله ما في السماوات وما في الأرض - معترضة، والمعنى: إن ربك هو أعلم بمن ضل
عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ليجزي، وقيل هي لام العاقبة: أي وعاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسئ
أن يجزي الله كلا منهما بعمله. وقال مكي: إن اللام متعلقة بقوله - لا تغني شفاعتهم - وهو بعيد من حيث اللفظ
ومن حيث المعنى. قرأ الجمهور " ليجزي " بالتحتية. وقرأ زيد بن علي بالنون، ومعنى (بالحسنى) أي بالمثوبة
الحسنى وهي الجنة أو بسبب أعمالهم الحسنى، ثم وصف هؤلاء المحسنين فقال (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش)
فهذا الموصول في محل نصب على أنه نعت للموصول الأول في قوله - الذين أحسنوا - وقيل بدل منه، وقيل بيان
له، " قيل منصوب على المدح بإضمار أعني، أو في محل رفع على أنه خبر مبتدإ محذوف: أي هم الذين يجتنبون
كبائر الإثم. قرأ الجمهور " كبائر " على الجمع. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب " كبير " على
الإفراد، والكبائر: كل ذنب توعد الله عليه بالنار، أو ذم فاعله ذما شديدا، ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام
112

طويل. وكما اختلفوا في تحقيق معناها وماهيتها اختلفوا في عددها، والفواحش جمع فاحشة: وهي ما فحش من
كبائر الذنوب كالزنا ونحوه. وقال مقاتل: كبائر الإثم كل ذنب ختم بالنار، والفواحش كل ذنب فيه الحد.
وقيل الكبائر الشرك والفواحش الزنا، وقد قدمنا في سورة النساء ما هو أبسط من هذا وأكثر فائدة، والاستثناء
بقوله (إلا اللمم) منقطع، وأصل اللمم في اللغة ما قل وصغر، ومنه: ألم بالمكان قل لبثه فيه وألم بالطعام قل أكله
منه. قال المبرد: أصل اللمم أن تلم بالشئ من غير أن تركبه: يقال ألم بكذا إذا قاربه ولم يخالطه. قال الأزهري:
العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنو والقرب، ومنه قول جرير:
بنفسي من تجنبه عزيز * على ومن زيارته لمام
وقول الآخر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا * تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
قال الزجاج: أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه، يقال ألممت
به: إذا زرته وانصرفت عنه، ويقال ما فعلته إلا لماما وإلماما: أي الحين بعد الحين، ومنه إلمام الخيال. قال
الأعشى: * ألم خيال من قبيلة بعد ما * وهي حبلها من حبلنا فتصرما
قال في الصحاح: ألم الرجل من ألمم وهو صغائر الذنوب، ويقال هو مقاربة المعصية من غير مواقعة،
وأنشد غيره:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب * وقل أن تملينا فما ملك القلب
وقد اختلفت أقوال أهل العلم في تفسير هذا اللمم المذكور في الآية، فالجمهور على أنه صغائر الذنوب،
وقيل هو ما كان دون الزنا من القبلة والغمزة والنظرة، وقيل هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب، وبه قال مجاهد
والحسن والزهري وغيرهم، ومنه:
إن تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما
اختار هذا القول الزجاج والنحاس، وقيل هو ذنوب الجاهلية، فإن الله لا يؤاخذ بها في الإسلام، وقال
نفطويه: هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة. قال: والعرب تقول: ما تأتينا إلا إلماما: أي في الحين بعد الحين.
قال: ولا يكون أن يلم ولا يفعل، لأن العرب لا تقول ألم بنا إلا إذا فعل، لا إذا هم ولم يفعل، والراجح الأول،
وجملة (إن ربك واسع المغفرة) تعليل لما تضمنه الاستثناء: أي إن ذلك وإن خرج عن حكم المؤاخذة فليس يخلو
عن كونه ذنبا يفتقر إلى مغفرة الله ويحتاج إلى رحمته، وقيل إنه سبحانه يغفر لمن تاب عن ذنبه. ثم ذكر سبحانه
إحاطة علمه بأحوال عباده فقال (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض) أي خلقكم منها في ضمن خلق أبيكم آدم
وقيل المراد آدم فإنه خلقه من طين (وإذا أنتم أجنة) أي هو أعلم بأحوالكم وقت كونكم أجنة، والأجنة جمع جنين
وهو الولد ما دام في البطن سمى بذلك لاجتنانه: أي استتاره، ولهذا قال (في بطون أمهاتكم) فلا يسمى من خرج
عن البطن جنينا، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها (فلا تزكوا أنفسكم) أي لا تمدحوها ولا تبرئوها عن الآثام ولا
تثنوا عليها، فإن ترك تزكية النفس أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع، وجملة (هو أعلم بمن اتقى) مستأنفة
مقررة للنهي: أي هو أعلم بمن اتقى عقوبة الله وأخلص العمل له. قال الحسن: وقد علم سبحانه من كل نفس
ما هي عاملة وما هي صانعة وإلى ما هي صائرة. ثم لما بين سبحانه جهالة المشركين على العموم خص بالذم بعضهم
فقال: (أفرأيت الذي تولى) أي تولى عن الخير وأعرض عن اتباع الحق (وأعطى قليلا وأكدى) أي أعطى عطاء
113

قليلا أو أعطى شيئا قليلا وقطع ذلك وأمسك عنه، وأصل أكدى من الكدية وهي الصلابة، يقال لمن حفر بئرا ثم
بلغ فيها إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر قد أكدى، ثم استعملته العرب لمن أعطى فلم يتم، ولمن طلب شيئا فلم يبلغ آخره،
ومنه قول الحطيئة:
فأعطى قليلا ثم أكدى عطاؤه * ومن يبذل المعروف في الناس يحمد
قال الكسائي وأبو زيد ويقال كديت أصابعه: إذا محلت من الحفر، وكدت يده: إذا كلت فلم تعمل
شيئا، وكدت الأرض: إذا قل نباتها، وأكديت الرجل عن الشئ رددته، وأكدى الرجل: إذا قل خيره.
قال الفراء: معنى الآية: أمسك من العطية وقطع. وقال المبرد: منع منعا شديدا. قال مجاهد وابن زيد ومقاتل:
نزلت في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على دينه، فعيره بعض المشركين فترك
ورجع إلى شركه. قال مقاتل: كان الوليد مدح القرآن، ثم أمسك عنه فأعطى قليلا من لسانه من الخير ثم قطعه.
وقال الضحاك: نزلت في النضر بن الحارث. وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل (أعنده علم
الغيب فهو يرى) الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والمعنى: أعند هذا المكدى علم ما غاب عنه من أمر العذاب، فهو
يعلم ذلك (أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى) أي ألم يخبر ولم يحدث بما في صحف موسى: يعنى
أسفاره، وهي التوراة، وبما في صحف إبراهيم الذي وفى: أي تمم وأكمل ما أمر به. قال المفسرون: أي بلغ قومه
ما أمر به وأداه إليهم، وقيل بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه. ثم بين سبحانه ما في صحفهما فقال (ألا تزر وازرة
وزر أخرى) أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى، ومعناه: لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، وأن هي المخففة
من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر وخبرها الجملة بعدها ومحل الجملة الجر على أنها بدل من صحف موسى وصحف
إبراهيم، أو الرفع على أنها خبر مبتدإ محذوف، وقد مضى تفسير هذه الآية في سورة الأنعام (وأن ليس للإنسان
إلا ما سعى) عطف على قوله (ألا تزر) وهذا أيضا مما في صحف موسى، والمعنى: ليس له إلا أجر سعيه وجزاء
عمله ولا ينفع أحدا عمل أحد، وهذا العموم مخصوص بمثل قوله سبحانه - ألحقنا بهم ذرياتهم -، وبمثل ما ورد
في شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد ومشروعية دعاء الأحياء للأموات ونحو ذلك، ولم يصب من قال: إن هذه
الآية منسوخة بمثل هذه الأمور، فإن الخاص لا ينسخ العام، بل يخصصه، فكل ما قام الدليل على أن الإنسان
ينتفع به وهو من غير سعيه كان مخصصا لما في هذه الآية من العموم (وأن سعيه سوف يرى) أي يعرض عليه
ويكشف له يوم القيامة (ثم يجزاه) أي يجزى الإنسان سعيه، يقال جزاه الله بعمله وجزاه على عمله، فالضمير
المرفوع عائد إلى الإنسان والمنصوب إلى سعيه. وقيل إن الضمير المنصوب راجع إلى الجزاء المتأخر وهو قوله
(الجزاء الأوفى) فيكون الضمير راجعا إلى متأخر عنه هو مفسر له، ويجوز أن يكون الضمير المنصوب راجعا
إلى الجزاء الذي هو مصدر يجزاه، ويجعل الجزاء الأوفى تفسيرا للجزاء المدلول عليه بالفعل كما في قوله - اعدلوا
هو أقرب - قال الأخفش: يقال جزيته الجزاء وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما (وأن إلى ربك المنتهى) أي
المرجع والمصير إليه سبحانه لا إلى غيره فيجازيهم بأعمالهم.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) قال: الكبائر ما سمى
الله فيه النار، والفواحش: ما كان فيه حد الدنيا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال:
ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن الله كتب على ابن آدم حظه
114

من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك
أو يكذبه ". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن
ابن مسعود في قوله (إلا اللمم) قال: زنا العينين: النظر، وزنا الشفتين: التقبيل، وزنا اليدين: البطش، وزنا
الرجلين: المشي، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم. وأخرج مسدد وابن
جرير وابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه سئل عن قوله (إلا اللمم) قال: هي النظرة والغمزة والقبلة والمباشرة، فإذا
مس الختان الختان فقد وجب الغسل، وهو الزنا. وأخرج سعيد بن منصور والترمذي وصححه والبزار وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال في قوله (إلا اللمم)
هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب منها. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
إن تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (إلا اللمم) يقول: إلا ما قد سلف. وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة في قوله (إلا اللمم) قال: اللمة من الزنا ثم
يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود، فذلك الإلمام. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
عن ابن عباس قال: اللمم كل شئ بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة يكفره الصلاة، وهو دون كل موجب
فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا، وأما حد الآخرة فكل شئ ختمه الله بالنار وأخر عقوبته
إلى الآخرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن ثابت بن الحارث
الأنصاري قال: كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا هو صديق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فقال: " كذبت يهود ما من نسمة يخلقها في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد، فأنزل الله عند ذلك (هو أعلم
بكم إذ أنشأكم من الأرض) الآية كلها ". وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برة،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم سموها زينب ". وأخرج ابن
مردويه عن ابن عباس في قوله " وأعطى قليلا وأكدى " قال: قطع، نزلت في العاص بن وائل. وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عنه قال: أطاع قليلا ثم انقطع. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن
أبي حاتم وابن مردويه والشيرازي في الألقاب والديلمي قال السيوطي بسند ضعيف عن أبي أمامة عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال " أتدرون ما قوله (وإبراهيم الذي وفى) قالوا الله ورسوله أعلم، قال: وفي عمل يومه
بأربع ركعات كان يصليهن وزعم أنها صلاة الضحى " وفي إسناده جعفر بن الزبير، وهو ضعيف. وأخرج
الحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال: سهام الإسلام ثلاثون سهما لم يتممها أحد قبل إبراهيم عليه السلام
قال الله - وإبراهيم الذي وفى -. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: يقول إبراهيم الذي استكمل الطاعة فيما فعل
بابنه حين رأى الرؤيا، والذي في صحف موسى، - ألا تزر وازرة وزر أخرى - إلى آخر الآية. وأخرج ابن
أبي حاتم عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " ألا أخبركم لم سمى
الله إبراهيم خليله الذي وفى؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى - فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون - إلى
آخر الآية " وفي إسناده ابن لهيعة. وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس. قال:
لما نزلت - والنجم - فبلغ - وإبراهيم الذي وفى - قال: وفي - ألا تزر وازرة وزر أخرى إلى قوله - من النذر
115

الأولى -. وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه قال (وأن
ليس للإنسان إلا ما سعى) فأنزل الله بعد ذلك - والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم -، فأدخل
الله الأبناء الجنة بصلاح الآباء. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا
قرأ (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى) استرجع واستكان. وأخرج
الدارقطني، في الإفراد والبغوي في تفسيره عن أبي كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وأن إلى
ربك المنتهى) قال: لا فكرة في الرب.
النجم (43 - 62)
قوله (وأنه هو أضحك وأبكى) أي هو الخالق لذلك والقاضي بسببه. قال الحسن والكلبي: أضحك أهل
الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار. وقال الضحاك: أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر، وقيل
أضحك من شاء في الدنيا بأن سره وأبكى من شاء بأن غمه. وقال سهل بن عبد الله: أضحك المطيعين بالرحمة وأبكى
العاصين بالسخط (وأنه هو أمات وأحيا) أي قضى أسباب الموت والحياة، ولا يقدر على ذلك غيره، وقيل
خلق نفس الموت والحياة كما في قوله - خلق الموت والحياة - وقيل أمات الآباء وأحيا الأبناء، وقيل أمات في
الدنيا وأحيا للبعث، وقيل المراد بهما النوم واليقظة. وقال عطاء: أمات بعدله وأحيا بفضله، وقيل أمات الكافر
وأحيا المؤمن كما في قوله - أو من كان ميتا فأحييناه - (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى) المراد
بالزوجين الذكر والأنثى من كل حيوان، ولا يدخل في ذلك آدم وحواء فإنهما لم يخلقا من النطفة: والنطفة الماء
القليل، ومعنى (إذا تمنى) إذ تصب في الرحم وتدفق فيه، كذا قال الكلبي والضحاك وعطاء بن أبي رباح
وغيرهم، يقال منى الرجل وأمنى: أي صب المنى. وقال أبو عبيدة - إذا تمنى - إذا تقدر: يقال منيت الشئ:
إذا قدرته ومنى له أي قدر له -، ومنه قول الشاعر: حتى تلاقى ما يمنى لك الماني * والمعنى: أنه يقدر منها
للولد (وأن عليه النشأة الأخرى) أي إعادة الأرواح إلى الأجسام عند البعث وفاء بوعده. قرأ الجمهور " النشأة " بالقصر
بوزن الضربة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالمد بوزن الكفالة، وهما على القراءتين مصدران (وأنه هو أغنى وأقنى)
أي أغنى من شاء وأفقر من شاء، ومثله قوله - يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر - وقوله يقبض ويبسط - قاله ابن
116

زيد، واختاره ابن جرير. وقال مجاهد وقتادة والحسن: أغنى: مول، وأقنى: أخدم، وقيل معنى أقنى: أعطى
القنية، وهي ما يتأثل من الأموال. وقيل معنى أقني أرضى بما أعطى: أي أغناه، ثم رضاه بما أعطاه. قال
الجوهري: قني الرجل قنى، مثل غنى غنى: أي أعطاه ما يقتني، وأقناه أرضاه، والقني الرضى. قال أبو زيد:
مائة من الإبل فقد أعطى المنى. قال الأخفش وابن كيسان: أقني أفقر، وهو يؤيد القول الأول (وأنه هو رب
الشعري) هي كوكب خلف الجوزاء كانت خزاعة تعبدها، والمراد بها الشعري التي يقال لها العبور، وهي أشد
ضياء من الشعري التي يقال لها الغميصاء، وإنما ذكر سبحانه أنه رب الشعري مع كونه ربا لكل الأشياء للرد على
من كان يعبدها، وأول من عبدها أبو كبشة، وكان من أشراف العرب، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ابن أبي كبشة تشبيها له به لمخالفته دينهم كما خالفهم أبو كبشة، ومن ذلك قول أبي سفيان يوم
الفتح: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة (وأنه أهلك عادا الأولى) وصف عادا بالأولى لكونهم كانوا من قبل ثمود.
قال ابن زيد: قيل لها عادا الأولى، لأنهم أول أمة أهلكت بعد نوح. وقال ابن إسحاق: هما عادان، فالأولى
أهلكت بالصرصر، والأخرى أهلكت بالصيحة. وقيل عاد الأولى قوم هود وعاد الأخرى إرم. قرأ الجمهور " عادا
الأولى " بالتنوين والهمز، وقرأ نافع وابن كثير وابن محيصن بنقل حركة الهمزة على اللام وإدغام التنوين فيها
(وثمودا فما أبقى) أي وأهلك ثمودا كما أهلك عادا فما أبقى أحدا من الفريقين، وثمود هم قوم صالح أهلكوا
بالصيحة، وقد تقدم الكلام على عاد وثمود في غير موضع (وقوم نوح من قبل) أي وأهلك قوم نوح من قبل
إهلاك عاد وثمود (إنهم كانوا هم أظلم وأطغى) أي أظلم من عاد وثمود وأطغى منهم، أو أظلم وأطغى من جميع
الفرق الكفرية، أو أظلم وأطغى من مشركي العرب، وإنما كانوا كذلك لأنهم عتوا على الله بالمعاصي مع طول
مدة دعوة نوح لهم، كما في قوله - فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما - (والمؤتفكة أهوى) الائتفاك الانقلاب،
والمؤتفكة مدائن قوم لوط، وسميت المؤتفكة لأنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها، تقول أفكته إذا قلبته، ومعنى
أهوى أسقط: أي أهواها جبريل بعد أن رفعها. قال المبرد: جعلها تهوى (فغشاها ما غشى) أي ألبسها ما ألبسها
من الحجارة التي وقعت عليها، كما في قوله - فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل - وفي هذه
العبارة تهويل للأمر الذي غشاها به وتعظيم له، وقيل إن الضمير راجع إلى جميع الأمم المذكورة: أي فغشاها من
العذاب ما غشى على اختلاف أنواعه (فبأي آلاء ربك تتمارى) هذا خطاب للإنسان المكذب: أي فبأي نعم ربك
أيها الإنسان المكذب تشكك وتمتري، وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعريضا لغيره، وقيل لكل
من يصلح له، وإسناد فعل التماري إلى الواحد باعتبار تعدده بحسب تعدد متعلقه وسمى هذه الأمور المذكورة آلاء:
أي نعما مع كون بعضها نقما لا نعما، لأنها مشتملة على العبر والمواعظ، ولكون فيها انتقام من العصاة، وفي
ذلك نصرة للأنبياء والصالحين. قرأ الجمهور " تتمارى " من غير إدغام، وقرأ يعقوب وابن محيصن بإدغام إحدى
التاءين في الأخرى (هذا نذير من النذر الأولى) أي هذا محمد رسول إليكم من الرسل المتقدمين قبله فإنه أنذركم
كما أنذروا قومهم، كذا قال ابن جريج ومحمد بن كعب وغيرهما، وقال قتادة: يريد القرآن، وأنه أنذر بما
أنذرت به الكتب الأولى، وقيل هذا الذي أخبرنا به عن أخبار الأمم تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل
بأولئك، كذا قال أبو مالك. وقال أبو صالح: إن الإشارة بقوله " هذا " إلى ما في صحف موسى وإبراهيم،
والأول أولى (أزفت الآزفة) أي قربت الساعة ودنت، سماها آزفة لقرب قيامها، وقيل لدنوها من الناس،
117

كما في قوله - اقتربت الساعة - أخبرهم بذلك ليستعدوا لها. قال في الصحاح: أزفت الآزفة: يعني القيامة وأزفت
الرجل عجل، ومنه قول الشاعر:
أزف الترحل غير أن ركابنا * لما تزل برحالنا وكأن قد
(ليس لها من دون الله كاشفة) أي ليس لها نفس قادرة على كشفها عند وقوعها إلا الله سبحانه، وقيل
كاشفة بمعنى انكشاف، والهاء فيها كالهاء في العاقبة والداهية، وقيل كاشفة بمعنى كاشف، والهاء للمبالغة
كرواية، والأول أولى. وكاشفة صفة لموصوف محذوف كما ذكرنا، والمعنى: أنه لا يقدر على كشفها إذا غشت
الخلق بشدائدها وأهوالها أحد غير الله، كذا قال عطاء والضحاك وقتادة وغيرهم. ثم وبخهم سبحانه فقال (أفمن
هذا الحديث تعجبون) المراد بالحديث القرآن: أي كيف تعجبون منه تكذيبا (وتضحكون) منه استهزاء مع كونه
غير محل للتكذيب ولا موضع للاستهزاء (ولا تبكون) خوفا وانزجارا لما فيه من الوعيد الشديد، وجملة (وأنتم
سامدون) في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة لتقرير ما فيها، والسمود: الغفلة والسهو عن الشئ.
وقال في الصحاح: سمد سمودا رفع رأسه تكبرا، فهو سامد قال الشاعر: * سوامد الليل خفاف الأزواد *
وقال ابن الأعرابي: السمود اللهو، والسامد اللاهي، يقال للقينة أسمدينا: أي ألهينا بالغناء، وقال المبرد:
سامدون خامدون. قال الشاعر:
رمى الحدثان نسوة آل عمرو * بمقدار سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضا * ورد وجوههن البيض سودا
(فاسجدوا لله واعبدوا) لما وبخ سبحانه المشركين على الاستهزاء بالقرآن والضحك منه والسخرية به وعدم الانتفاع
بمواعظه وزواجره أمر عباده المؤمنين بالسجود لله والعبادة له، والفاء جواب شرط محذوف: أي إذا كان الأمر
من الكفار كذلك، فاسجدوا لله واعبدوا، فإنه المستحق لذلك منكم، وقد تقدم في فاتحة السورة أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم سجد عند تلاوة هذه الآية، وسجد معه الكفار، فيكون المراد بها سجود التلاوة، وقيل سجود الفرض.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وأنه هو أغنى وأقنى) قال: أعطى وأرضى.
وأخرج ابن جرير عنه (وأنه هو رب الشعرى) قال: هو الكوكب الذي يدعي الشعرى. وأخرج الفاكهي عنه
أيضا قال: نزلت هذه الآية في خزاعة، وكانوا يعبدون الشعري، وهو الكوكب الذي يتبع الجوزاء. وأخرج
ابن مردويه عنه أيضا في قوله (هذا نذير من النذر الأولى) قال: محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن
جرير عنه أيضا قال: الآزفة من أسماء القيامة. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وهناد وعبد بن حميد وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن صالح أبي الخليل قال: لما نزلت هذه الآية (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا
تبكون) فما ضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك إلا أن يتبسم. ولفظ عبد بن حميد: فما رؤي النبي صلى
الله عليه وآله وسلم ضاحكا ولا متبسما حتى ذهب من الدنيا. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (سامدون) قال: لاهون
معرضون عنه. وأخرج الفريابي وأبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبزار وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عنه (وأنتم سامدون) قال: الغناء باليمانية، كانوا إذا سمعوا
القرآن تغنوا ولعبوا. وأخرج الفريابي وأبو يعلي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا في قوله
118

(سامدون) قال: كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم شامخين، ألم تر إلى البعير كيف يخطر شامخا.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أبي خالد الوالبي قال: خرج علي بن أبي طالب علينا وقد
أقيمت الصلاة ونحن قيام ننتظره ليتقدم فقال: مالكم سامدون، لا أنتم في صلاة ولا أنتم في جلوس تنتظرون؟
تفسير سورة القمر
ويقال سورة اقتربت، وهي خمس وخمسون آية
وهي مكية كلها في قول الجمهور. وقال مقاتل: هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله (أم يقولون نحن جميع
منتصر) إلى قوله (والساعة أدهى وأمر) قال القرطبي: ولا يصح. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والنحاس
والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنها نزلت بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البيهقي في
الشعب عن ابن عباس قال: اقتربت تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تبيض الوجوه. قال
البيهقي: منكر. وأخرج ابن الضريس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة رفعه " من قرأ اقتربت الساعة في كل
ليلتين بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر ". وأخرج ابن الضريس نحوه عن ليث بن معن عن شيخ من
همدان رفعه، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر.
سورة القمر (1 - 17)
119

قوله (اقتربت الساعة وانشق القمر) أي قربت ولا شك أنها قد صارت باعتبار نسبة ما بقي بعد قيام النبوة
المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة. ويمكن أن يقال إنها لما كانت متحققة الوقوع لا محالة كانت قريبة، فكل
آت قريب (وانشق القمر) أي وقد انشق القمر، وكذا قرأ حذيفة بزيادة قد، والمراد الانشقاق الواقع في أيام
النبوة معجزة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى هذا ذهب الجمهور من السلف والخلف. قال الواحدي:
وجماعة المفسرين على هذا إلا ما روى عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال: المعنى سينشق القمر، والعلماء كلهم على
خلافه. قال: وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر، لأن انشقاقه من علامات نبوة محمد صلى الله عليه
وآله وسلم ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة. قال ابن كيسان: في الكلام تقديم وتأخير: أي انشق القمر
واقتربت الساعة. وحكى القرطبي عن الحسن مثل قول عطاء أنه الانشقاق الكائن يوم القيامة. وقيل معنى وانشق
القمر: وضح الأمر وظهر، والعرب تضرب بالقمر المثل فيما وضح. وقيل انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه وطلوعه
في أثنائها كما يسمى الصبح فلقا لانفلاق الظلمة عنه. قال ابن كثير: قد كان الانشقاق في زمان رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة. قال: وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق
القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات. قال الزجاج: زعم
قوم عندوا عن القصد وما عليه أهل العلم أن تأويله أن القمر ينشق يوم القيامة، والأمر بين في اللفظ وإجماع أهل
العلم، لأن قوله (وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) يدل على أن هذا كان في الدنيا لا في القيامة انتهى،
ولم يأت من خالف الجمهور وقال إن الانشقاق سيكون يوم القيامة إلا بمجرد استبعاد، فقال: لأنه لو انشق في
زمن النبوة لم يبق أحد إلا رآه لأنه آية، والناس في الآيات سواء، ويجاب عنه بأنه لا يلزم أن يراه كل أحد
لا عقلا ولا شرعا ولا عادة، ومع هذا فقد نقل إلينا بطريق التواتر، وهذا بمجرده يدفع الاستبعاد، ويضرب به
في وجه قائله.
والحاصل أنا إذا نظرنا إلى كتاب الله، فقد أخبرنا بأنه انشق، ولم يخبرنا بأنه سينشق، وإن نظرنا إلى سنة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد ثبت في الصحيح وغيره من طرق متواترة أنه قد كان ذلك في أيام النبوة،
وإن نظرنا إلى أقوال أهل العلم فقد اتفقوا على هذا، ولا يلتفت إلى شذوذ من شذ واستبعاد من استبعد، وسيأتي
ذكر بعض ما ورد في ذلك إن شاء الله (وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) قال الواحدي: قال المفسرون:
لما انشق القمر قال المشركون سحرنا محمد، فقال الله (وإن يروا آية) يعني انشقاق القمر يعرضوا عن التصديق
والإيمان بها، ويقولوا سحر قوى شديد يعلو كل سحر، من قولهم استمر الشئ: إذا قوى واستحكم، وقد قال
بأن معنى مستمر: قوي شديد جماعة من أهل العلم، قال الأخفش: هو مأخوذ من إمرار الحبل، وهو شدة فتله،
وبه قال أبو العالية والضحاك، واختاره النحاس، ومنه قول لقيط:
حتى استمر على شر لا يزنه * صدق العزيمة لا رثا ولا ضرعا
وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة (سحر مستمر) أي ذاهب، من قولهم مر الشئ واستمر إذا ذهب، وبه
قال قتادة ومجاهد وغيرهما، واختاره النحاس. وقيل معنى مستمر: دائم مطرد، ومنه قول الشاعر:
ألا إنما الدنيا ليال وأعصر * وليس على شئ قديم بمستمر
أي بدائم باق، وقيل مستمر باطل، روى هذا عن أبي عبيدة أيضا. وقيل يشبه بعضه بعضا، وقيل قد مر من
120

الأرض إلى السماء، وقيل هو من المرارة: يقال مر الشئ صار مرا: أي مستبشع عندهم. وفي هذه الآية أعظم
دليل على أن الانشقاق قد كان كما قررناه سابقا. ثم ذكر سبحانه تكذيبهم فقال (وكذبوا واتبعوا أهواءهم) أي
وكذبوا رسول الله، وما عاينوا من قدرة الله، واتبعوا أهواءهم وما زينه لهم الشيطان الرجيم، وجملة (وكل أمر
مستقر) مستأنفة لتقرير بطلان ما قالوه من التكذيب واتباع الأهواء: أي وكل أمر من الأمور منته إلى غاية، فالخير
يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشر. قال الفراء: يقول يستقر قرار تكذيبهم وقرار قول المصدقين حتى
يعرفوا حقيقته بالثواب والعقاب. قال الكلبي: المعنى لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر، وما كان منه
في الآخرة فسيعرف. قرأ الجمهور " مستقر " بكسر القاف، وهو مرتفع على أنه خبر المبتدأ وهو كل. وقرأ
أبو جعفر وزيد بن علي بجر " مستقر " على أنه صفة لأمر، وقرأ شيبة بفتح القاف، ورويت هذه القراءة عن نافع،
قال أبو حاتم: ولا وجه لها، وقيل لها وجه بتقدير مضاف محذوف: أي وكل أمر ذو استقرار، أو زمان استقرار،
أو مكان استقرار، على أنه مصدر، أو ظرف زمان، أو ظرف مكان (ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر) أي
ولقد جاء كفار مكة، أو الكفار على العموم من الأنباء، وهي أخبار الأمم المكذبة المقصوصة علينا في القرآن -
- ما فيه مزدجر - أي ازدجار على أنه مصدر ميمي، يقال زجرته: إذا نهيته عن السوء ووعظته، ويجوز أن يكون
اسم مكان، والمعنى: جاءهم ما فيه موضع ازدجار: أي أنه في نفسه موضع لذلك، وأصله مزتجر، وتاء الافتعال
تقلب دالا مع الزاي والدال والذال كما تقرر في موضعه، وقرأ زيد بن علي " مزجر " بقلب تاء الافتعال زايا
وإدغام الزاي في الزاي، ومن في قوله " من الأنباء " للتبعيض وهي وما دخلت عليه في محل نصب على الحال،
وارتفاع (حكمة بالغة) على أنها خبر مبتدإ محذوف أو بدل من ما بدل كل من كل، أو بدل اشتمال، والمعنى:
أن القرآن حكمة قد بلغت الغاية ليس فيها نقص ولا خلل، وقرئ بالنصب على أنها حال من ما: أي حال كون
ما فيه مزدجر حكمة بالغة (فما تغن النذر) ما يجوز أن تكون استفهامية وأن تكون نافية: أي أي شئ تغني النذر
أو لم تغن النذر شيئا، والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجئ الحكمة البالغة، والنذر جمع نذير بمعنى المنذر، أو
بمعنى الإنذار على أنه مصدر. ثم أمره الله سبحانه بالإعراض عنهم فقال (فتول عنهم) أي أعرض عنهم حيث لم
يؤثر فيهم الإنذار، وهي منسوخة بآية السيف (يوم يدع الداع إلى شئ نكر) انتصاب الظرف إما بفعل مقدر:
أي أذكر، وإما بيخرجون المذكور بعده، وإما بقوله (فما تغن)، ويكون قوله (فتول عنهم) اعتراض، أو
بقوله - يقول الكافرون - أو بقوله - خشعا - وسقطت الواو من يدع اتباعا للفظ، وقد وقعت في الرسم هكذا
وحذفت الياء من الداع للتخفيف واكتفاء بالكسرة، والداع هو إسرافيل، والشئ النكر: الأمر الفظيع الذي
ينكرونه استعظاما له لعدم تقدم العهد لهم بمثله. قرأ الجمهور بضم الكاف. وقرأ ابن كثير بسكونها تخفيفا. وقرأ
مجاهد وقتادة بكسر الكاف وفتح الراء على صيغة الفعل المجهول (خشعا أبصارهم) قرأ الجمهور " خشعا " جمع
خاشع. وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو " خاشعا " على الإفراد، ومنه قول الشاعر:
وشباب حسن أوجهه من * إياد بن نزار بن معد
وقرأ ابن مسعود " خاشعة " قال الفراء: الصفة إذا تقدمت على الجماعة جاز فيها التذكير والتأنيث والجمع: يعني
جمع التكسير لا جمع السلامة، لأنه يكون من الجمع بين فاعلين، ومثل قراءة الجمهور قول امرئ القيس:
وقوفا بها صحبي على مطيهم * يقولون لا تهلك أسى وتجلد
121

وانتصاب خشعا على الحال من فاعل يخرجون، أو من الضمير في عنهم، والخشوع في البصر الخضوع
والذلة، وأضاف الخشوع إلى الأبصار لأن العز والذل يتبين فيها (يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر)
أي يخرجون من القبور، وواحد الأجداث جدث وهو القبر، كأنهم لكثرتهم واختلاط بعضهم ببعض جراد
منتشر: أي منبث في الأقطار مختلط بعضه ببعض (مهطعين إلى الداع) الإهطاع: الإسراع أي قال كونهم
مسرعين إلى الداعي، وهو إسرافيل، ومنه قول الشاعر:
بدجلة دارهم ولقد أراهم * بدجلة مهطعين إلى السماع *
أي مسرعين إليه. وقال الضحاك: مقبلين. وقال قتادة: عامدين. وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلي الصوت،
والأول أولى، وبه قال أبو عبيدة وغيره، وجملة (يقول الكافرون هذا يوم عسر) في محل نصب على الحال من
ضمير مهطعين، والرابط مقدر أو مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا يكون حينئذ. والعسر: الصعب
الشديد، وفي إسناد هذا القول إلى الكفار دليل على أن اليوم ليس بشديد على المؤمنين. ثم ذكر سبحانه تفصيل
بعض ما تقدم من الأنباء المجملة فقال (كذبت قبلهم قوم نوح) أي كذبوا نبيهم، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وقوله (فكذبوا عبدنا) تفسير لما قبله من التكذيب المبهم، وفيه مزيد تقرير وتأكيد: أي
فكذبوا عبدنا نوحا، وقيل المعنى: كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا نوحا بتكذيبهم للرسل فإنه منهم. ثم
بين سبحانه أنهم لم يقتصروا على مجرد التكذيب فقال (وقالوا مجنون) أي نسبوا نوحا إلى الجنون، وقوله
(وازدجر) معطوف على قالوا: أي وزجر عن دعوى النبوة وعن تبليغ ما أرسل به بأنواع الزجر، والدال بدل
من تاء الافتعال كما تقدم قريبا، وقيل إنه معطوف على مجنون: أي وقالوا إنه ازدجر: أي ازدجرته الجن
وذهبت بلبه، والأول أولى. قال مجاهد: هو من كلام الله سبحانه أخبر عنه بأنه انتهر وزجر بالسب وأنواع
الأذى. قال الرازي: وهذا أصح، لأن المقصود تقوية قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذكر من تقدمه
(فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر) أي دعا نوح ربه على قومه بأني مغلوب من جهة قومي لتمردهم عن الطاعة وزجرهم
لي عن تبليغ الرسالة، فانتصر لي: أي انتقم لي منهم. طلب من ربه سبحانه النصرة عليهم لما أيس من إجابتهم وعلم
تمردهم وعتوهم وإصرارهم على ضلالتهم. قرأ الجمهور " أنى " بفتح الهمزة: أي بأني. وقرأ ابن أبي إسحاق والأعمش
بكسر الهمزة، ورويت هذه القراءة عن عاصم على تقدير إضمار القول: أي فقال. ثم ذكر سبحانه ما عاقبهم به
فقال (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) أي منصب انصبابا شديدا، والهمر: ما الصب بكثرة، يقال: همر الماء
والدمع يهمر همرا وهمورا: إذا كثر، ومنه قول الشاعر:
أعيني جودا بالدموع الهوامر * على خير باد من معد وحاضر
ومنه قول امرئ القيس يصف عينا:
راح تمر به الصبا ثم انتحى * فيه بشؤبوب جنوب منهمر
قرأ الجمهور " فتحنا " مخففا. وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد (وفجرنا الأرض عيونا) أي جعلنا الأرض
كلها عيونا متفجرة، والأصل فجرنا عيون الأرض. قرأ الجمهور " فجرنا بالتشديد. وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة
وعاصم في رواية عنه بالتخفيف. قال عبيد بن عمير: أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون
(فالتقى الماء على أمر قد قدر) أي التقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضى عليهم: أي كائنا على حال
قدرها الله وقضى بها. وحكى ابن قتيبة أن المعنى على مقدار لم يرد أحدهما على الآخر، بل كان ماء السماء وماء
122

الأرض على سواء. قال قتادة: قدر لهم إذ كفروا أن يغرقوا. وقرأ الجحدري " فالتقى الماآن " وقرأ الحسن
" فالتقى الماوان " ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب ومحمد بن كعب (وحملناه على ذات ألواح ودسر)
أي وحملنا نوحا على سفينة ذات ألواح، وهي الأخشاب العريضة - ودسر - قال الزجاج: هي المسامير التي تشد
بها الألواح واحدها دسار، وكل شئ أدخل في شئ يشده فهو الدسر، وكذا قال قتادة ومحمد بن كعب وابن
زيد وسعيد بن جبير وغيرهم. وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة: الدسر، ظهر السفينة التي يضربها الموج،
سميت بذلك لأنها تدسر الماء: أي تدفعه، والدسر الدفع. وقال الليث: الدسار خيط تشد به ألواح السفينة. قال
في الصحاح: الدسار واحد الدسر وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة، ويقال هي المسامير (تجري بأعيننا)
أي بمنظر ومرأى منا وحفظ لها كما في قوله - واصنع الفلك بأعيننا - وقيل بأمرنا، وقيل بوحينا، وقيل بالأعين
النابعة من الأرض، وقيل بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها (جزاء لمن كان كفر) قال الفراء: فعلنا به
وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثوابا لمن كفر به وجحد أمره وهو نوح عليه السلام، فإنه كان لهم نعمة كفروها
فانتصاب جزاء على العلة، وقيل على المصدرية بفعل مقدر: أي جازيناهم جزاء. قرأ الجمهور " كفر " مبنيا
للمفعول، والمراد به نوح. وقيل هو الله سبحانه، فإنهم كفروا به وجحدوا نعمته. وقرأ يزيد بن رومان وقتادة
ومجاهد وحميد وعيسى كفر بفتح الكاف والفاء مبنيا للفاعل: أي جزاء وعقابا لمن كفر بالله (ولقد تركناها آية)
أي السفينة تركها الله عبرة للمعتبرين، وقيل المعنى: ولقد تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة وموعظة (فهل من
مذكر) أصله مذتكر فأبدلت التاء دالا مهملة، ثم أبدلت المعجمة مهملة لتقاربهما وأدغمت الدال في الذال،
والمعنى: هل من متعظ ومعتبر يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها (فكيف كان عذابي ونذر) أي إنذاري. قال الفراء:
الإنذار والنذر مصدران، والاستفهام للتهويل والتعجيب: أي كانا على كيفية هائلة عجيبة لا يحيط بها الوصف،
وقيل نذر جمع نذير، ونذير بمعنى الإنذار كنكير بمعنى الإنكار (ولقد يسرنا القرآن للذكر) أي سهلناه للحفظ،
وأعنا عليه من أراد حفظه، وقيل هيأناه للتذكر والاتعاظ (فهل من مدكر) أي متعظ بمواعظه ومعتبر بعبره.
وفي الآية الحث على درس القرآن والاستكثار من تلاوته والمسارعة في تعلمه ومدكر أصله مذتكر كما تقدم قريبا.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس " أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن
يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما ". وروى عنه من طريق أخرى عند مسلم والترمذي وغيرهم
وقال: فنزلت (اقتربت الساعة وانشق القمر) وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال " انشق
القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: اشهدوا ". وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه قال:
رأيت القمر منشقا شقتين مرتين: مرة بمكة قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: شقة على أبي قبيس، وشقة
على السويداء. وذكر أن هذا سبب نزول الآية. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه وابن
مردويه وأبو نعيم عنه أيضا قال: رأيت القمر وقد انشق، وأبصرت الجبل بين فرجتي القمر. وله طرق عنه.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال: انشق القمر في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وله
طرق عنه. وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن ابن عمر في قوله (اقتربت الساعة وانشق القمر) قال: كان ذلك
على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انشق فرقتين: فرقة من دون الجبل، وفرقة خلفه، فقال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، اللهم اشهد. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير والحاكم وصححه وابن
123

مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن جبير بن مطعم عن أبيه في قوله: (وانشق القمر) قال: انشق القمر ونحن بمكة على
عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى صار فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل، فقال الناس:
سحرنا محمد، فقال رجل: إن كان سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن
حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم عن عبد الرحمن السلمي قال: " خطبنا
حذيفة بن اليمان بالمدائن، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اقتربت الساعة وانشق القمر، ألا وإن الساعة قد
اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق،
اليوم المضمار وغدا السياق ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (مهطعين) قال
ناظرين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) قال كثير: لم تمطر السماء قبل
ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم، فالقى الماآن.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا (على ذات ألواح ودسر) قال: الألواح ألواح السفينة، والدسر:
معاريضها التي تشد بها السفينة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا في قوله (ودسر) قال: المسامير. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: الدسر كلكل السفينة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عنه أيضا
في قوله (ولقد يسرنا القرآن للذكر) قال: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن
يتكلموا بكلام الله. وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس
(فهل من مدكر) قال: هل من متذكر.
سورة القمر (18 - 40)
124

قوله (كذبت عاد) هم قوم عاد (فكيف كان عذابي ونذر) أي فاسمعوا كيف كان عذابي لهم وإنذاري
إياهم، ونذر مصدر بمعنى إنذار كما تقدم تحقيقه، والاستفهام للتهويل والتعظيم (إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا)
هذه الجملة مبينة لما أجمله سابقا من العذاب، والصرصر شدة البرد: أي ريح شديدة البرد، وقيل الصرصر شدة
الصوت، وقد تقدم بيانه في سورة حم السجدة (في يوم نحس مستمر) أي دائم الشؤم استمر عليهم بنحوسه،
وقد كانوا يتشاءمون بذلك اليوم. قال الزجاج: قيل في يوم الأربعاء في آخر الشهر. قرأ الجمهور " في يوم
نحس " بإضافة يوم إلى نحس مع سكون الحاء، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، أو على تقدير مضاف
أي في يوم عذاب نحس. وقرأ الحسن بتنوين يوم على أن نحس صفة له. وقرأ هارون بكسر الحاء. قال الضحاك:
كان ذلك اليوم مرا عليهم. وكذا حكى الكسائي عن قوم أنهم قالوا: هو من المرارة، وقيل هو من المرة بمعنى القوة:
أي في يوم قوى الشؤم مستحكمه كالشئ المحكم القتل الذي لا يطاق نقضه، والظاهر أنه من الاستمرار، لا من
المرارة ولا من المرة: أي دام عليهم العذاب فيه حتى أهلكهم، وشمل بهلاكه كبيرهم وصغيرهم، وجملة (تنزع
الناس) في محل نصب على أنها صفة لريحا أو حال منها، ويجوز أن يكون استئنافا: أي تقلعهم من الأرض من
تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. قال مجاهد: كانت تقلعهم من الأرض فترمي بهم على رؤوسهم فتدق
أعناقهم وتبين رؤوسهم من أجسادهم، وقيل تنزع الناس من البيوت، وقيل من قبورهم لأنهم حفروا حفائر
ودخلوها (كأنهم أعجاز نخل منقعر) الأعجاز جمع عجز، وهو مؤخر الشئ، والمنقعر: المنقطع المنقلع من
أصله، يقال قعرت النخلة: إذا قلعتها من أصلها حتى تسقط. شبههم في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح
وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليست لها رؤوس، وذلك أن الريح قلعت رؤوسهم أولا،
ثم كتبتهم على وجوههم وتذكير منقعر مع كونه صفة لأعجاز نخل وهي مؤنثه اعتبارا باللفظ ويجوز تأنيثه اعتبارا
بالمعنى كما قال - أعجاز نخل خاوية - قال المبرد: كل ما ورد عليك من هذا الباب إن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا
أو إلى المعنى تأنيثا. وقيل إن النخل والنخيل يذكر ويؤنث (فكيف كان عذابي ونذر) قد تقدم تفسيره قريبا، وكذلك
قوله (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) ثم لما ذكر سبحانه تكذيب عاد أتبعه بتكذيب ثمود فقال (كذبت
ثمود بالنذر) يجوز أن يكون جمع نذير: أي كذبت بالرسل المرسلين إليهم، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى
الإنذار: أي كذبت بالإنذار الذي أنذروا به، وإنما كان تكذيبهم لرسولهم وهو صالح تكذيبا للرسل، لأن من
كذب واحدا من الأنبياء فقد كذب سائرهم لاتفاقهم في الدعوة إلى كليات الشرائع (فقالوا أبشرا منا واحدا
نتبعه) الاستفهام لإنكار: أي كيف نتبع بشرا كائنا من جنسنا منفردا وحده لا متابع له على ما يدعوا إليه. قرأ
الجمهور بنصب " بشرا " على الاشتغال: أي أنتبع بشرا واحدا. وقرأ أبو السماك والداني وأبو الأشهب وابن
السميفع بالرفع على الابتداء، وواحدا صفته، ونتبعه خبره. وروى عن أبي السماك أنه قرأ برفع " بشرا " ونصب
" واحدا " على الحال (إنا إذا لفي ضلال) أي إنا إذا اتبعناه لفي خطأ وذهاب عن الحق (وسعر) أي عذاب
125

وعناد وشدة كذا قال الفراء وغيره. وقال أبو عبيدة: هو جمع سعير، وهو لهب النار، والسعر: الجنون يذهب
كذا وكذا لما يلتهب به من الحدة. وقال مجاهد: وسعر وبعد عن الحق. وقال السدي: في احتراق، وقيل
المراد به هنا الجنون، من قولهم: ناقة مسعورة: أي كأنها من شدة نشاطها مجنونة، ومنه قول الشاعر يصف ناقة:
تخال بها سعرا إذ السعر هزها * ذميل وإيقاع من السير متعب
ثم كرروا الإنكار والاستبعاد فقالوا (أألقى الذكر عليه من بيننا) أي كيف خص من بيننا بالوحي والنبوة،
وفينا من هو أحق بذلك منه؟ ثم أضربوا عن الاستنكار وانتقلوا إلى الجزم بكونه كذابا أشرا فقالوا (بل هو
كذاب أشر) والأشر: المرح والنشاط، أو البطر والتكبر، وتفسيره بالبطر والتكبر أنسب بالمقام، ومنه قول
الشاعر: أشرتم بلبس الخز لما لبستم * ومن قبل لا تدرون من فتح القرى *
قرأ الجمهور " أشر " كفرح. وقرأ أبو قلابة وأبو جعفر بفتح الشين وتشديد الراء على أنه أفعل تفضيل.
ونقل الكسائي عن مجاهد أنه قرأ بضم الشين مع فتح الهمزة. ثم أجاب سبحانه عليهم بقوله (سيعلمون غدا من
الكذاب الأشر) والمراد بقوله غدا وقت نزول العذاب بهم في الدنيا، أو في يوم القيامة جريا على عادة الناس في
التعبير بالغد عن المستقبل من الأمر وإن بعد، كما في قولهم: إن مع اليوم غدا، وكما في قول الحطيئة:
للموت فيها سهام غير مخطئة * من لم يكن ميتا في اليوم مات غدا
ومنه قول أبي الطماح:
ألا عللاني قبل نوح النوائح * وقبل اضطراب النفس بين الجوانح *
وقبل غد يا لهف نفسي على غد * إذا راح أصحابي ولست برائح *
قرأ الجمهور " سيعلمون " بالتحتية إخبار من الله سبحانه لصالح عن وقوع العذاب عليهم بعد مدة. وقرأ
أبو عمرو وابن عامر وحمزة بالفوقية على أنه خطاب من صالح لقومه، وجملة (إنا مرسلوا الناقة) مستأنفة لبيان ما تقدم
إجماله من الوعيد: أي إنا مخرجوها من الصخرة على حسب ما اقترحوه (فتنة لهم) أي ابتلاء وامتحانا، وانتصاب
فتنة على العلة (فارتقبهم) أي انتظر ما يصنعون (واصطبر) على ما يصيبك من الأذى منهم (ونبئهم أن الماء قسمة
بينهم) أي بين ثمود وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، كما في قوله - لها شرب ولكم شرب يوم معلوم - وقال " نبئهم "
بضمير العقلاء تغليبا (كل شرب محتضر) الشرب بكسر الشين الحظ من الماء. ومعنى محتضر: أنه يحضره من
هو له، فالناقة تحضره يوما وهم يحضرونه يوما. قال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم نوبتهم، فيشربون
ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون. قرأ الجمهور " قسمة " بكسر القاف بمعنى مقسوم، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه
بفتحها) (فنادوا صاحبهم) أي نادى ثمود صاحبهم وهو قدار بن سالف عاقر الناقة يحضونه على عقرها (فتعاطى
فعقر) أي تناول الناقة بالعقر فعقرها، أو اجترأ على تعاطي أسباب العقر فعقر. قال محمد بن إسحاق: كمن لها في
أصل شجرة على طريقها، فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف فكسر عرقوبها ثم نحرها،
والتعاطي: تناول الشئ بتكلف (فكيف كان عذابي ونذر) قد تقدم تفسيره في هذه السورة. ثم بين ما أجمله من
العذاب فقال (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة) قال عطاء: يريد صيحة جبريل، وقد مضى بيان هذا في سورة
هود وفي الأعراف (فكانوا كهشيم المحتضر) قرأ الجمهور بكسر الظاء، والهشيم: حطام الشجر ويابسه، والمحتظر:
صاحب الحظيرة، وهو الذي يتخذ لغنمه حظيرة تمنعها عن برد الريح، يقال احتظر على غنمه: إذا جمع الشجر
ووضع بعضه فوق بعض. قال في الصحاح: والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة. وقرأ الحسن وقتادة وأبو العالية بفتح
126

الظاء: أي كهشيم الحظيرة، فمن قرأ بالكسر أراد الفاعل للاحتظار، ومن قرأ بالفتح أراد الحظيرة، وهي فعيلة
بمعنى مفعولة، ومعنى الآية أنهم صاروا كالشجر إذا يبس في الحظيرة وداسته الغنم بعد سقوطه، ومنه قول
الشاعر:
أثرن عجاجه كدخان نار * تشب بغرقد بال هشيم
وقال قتادة: هو العظام النخرة المحترقة. وقال سعيد بن جبير: هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح.
وقال سفيان الثوري: هو ما يتناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصى. قال ابن زيد: العرب تسمى كل شئ كان
رطبا فيبس هشيما، ومنه قول الشاعر:
ترى جيف المطي بجانبيه * كأن عظامها خشب الهشيم
(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) قد تقدم تفسير هذا في هذه السورة. ثم أخبر سبحانه عن قوم
لوط بأنهم كذبوا رسل الله كما كذبهم غيرهم فقال (كذبت قوم لوط بالنذر) وقد تقدم تفسير النذر قريبا.
ثم بين سبحانه ما عذبهم به فقال (إنا أرسلنا عليهم حاصبا) أي ريحا ترميهم بالحصباء، وهي الحصى. قال
أبو عبيدة والنضر بن شميل: الحاصب الحجارة في الريح. قال في الصحاح: الحاصب الريح الشديدة التي تثير
الحصباء، ومنه قول الفرزدق: مستقبلين شمال الشام يضربها * بحاصب كنديف القطن منثور *
(إلا آل لوط نجيناهم بسحر) يعني لوطا ومن تبعه، والسحر آخر الليل، وقيل هو في كلام العرب اختلاط
سواد الليل ببياض أول النهار، وانصرف سحر لأنه نكرة لم يقصد به سحر ليلة معينة، ولو قصد معينا لامتنع. كذا
قال الزجاج والأخفش وغيرهما، وانتصاب (نعمة من عندنا) على العلة، أو على المصدرية: أي إنعاما منا على
لوط ومن تبعه (كذلك نجزي من شكر) أي مثل ذلك الجزاء نجزي من شكر نعمتنا ولم يكفرها (ولقد أنذرهم
بطشتنا) أي أنذر لوط قومه بطشة الله بهم وهي عذابه الشديد وعقوبته البالغة (فتماروا بالنذر) أي شكوا في
الإنذار ولم يصدقوه، وهو تفاعلوا من المرية، وهي الشك (ولقد راودوه عن ضيفه) أي أرادوا منه تمكينهم
ممن أتاه من الملائكة ليفجروا بهم كما هو دأبهم، يقال راودته عن كذا مراودة وروادا: أي أردته، وراد الكلام
يروده رودا: أي طلبه، وقد تقدم تفسير المراودة مستوفي في سورة هود (فطمسنا أعينهم) أي صيرنا أعينهم
ممسوحة لا يرى لها شق كما تطمس الريح الأعلام بما تسقى عليها من التراب. وقيل أذهب الله نور أبصارهم مع
بقاء الأعين على صورتها. قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل فرجعوا (فذوقوا عذابي ونذر)
قد تقدم تفسيره في هذه السورة (ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر) أي أتاهم صباحا عذاب مستقر بهم نازل
عليهم لا يفارقهم ولا ينفك عنهم. قال مقاتل: استقر بهم العذاب بكرة، وانصراف بكرة لكونه لم يرد بها وقتا
بعينه كما سبق في بسحر (فذوقوا عذابي ونذر. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) قد تقدم تفسير هذا
في هذه السورة، ولعل وجه تكرير تيسير القرآن للذكر في هذه السورة الاشعار بأنه منة عظيمة لا ينبغي لأحد أن
يغفل عن شكرها.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا) قال: باردة (في يوم نحس)
قال أيام شداد. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" يوم الأربعاء يوم نحس مستمر " وأخرجه عنه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعا. وأخرجه ابن مردويه عن علي
127

مرفوعا. وأخرجه ابن مردويه أيضا عن أنس مرفوعا، وفيه " قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: أغرق الله فيه
فرعون وقومه، وأهلك فيه عادا وثمودا ". وأخرج ابن مردويه والخطيب بسند. قال السيوطي: ضعيف عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر ". وأخرج ابن
المنذر عنه (كأنهم أعجاز نخل) قال: أصول النخل (منقعر) قال: منقلع. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في
الآية قال: أعجاز سواد النخل. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا (وسعر) قال شقاء. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر عنه أيضا قال (كهشيم المحتظر) قال: كحظائر من الشجر محترقة. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية
قال: كالعظام المحترقة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال: كالحشيش تأكله الغنم.
سورة (41 - 55)
(النذر) يجوز أن يكون جمع نذير، ويجوز أن يكون مصدر بمعنى الإنذار كما تقدم، وهي الآيات التي
أنذرهم بها موسى، وهذا أولى لقوله (كذبوا بآياتنا كلها) فإنه بيان لذلك، والمراد بها الآيات التسع التي تقدم
ذكرها (فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر) أي أخذناهم بالعذاب أخذ غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه
شئ. ثم خوف سبحانه كفار مكة فقال (أكفارهم خير من أولئكم) والاستفهام للإنكار، والمعنى النفي: أي
ليس كفاركم يا أهل مكة، أو يا معشر العرب خير من كفار من تقدمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم،
فكيف تطمعون في السلامة من العذاب وأنتم شر منهم. ثم أضرب سبحانه عن ذلك وانتقل إلى تبكيتهم بوجه آخر
هو أشد من التبكيت بالوجه الأول فقال (أم لكم براءة في الزبر) والزبر هي الكتب المنزلة على الأنبياء، والمعنى:
إنكار أن تكون لهم براءة من عذاب الله في شئ من كتب الأنبياء. ثم أضرب عن هذا التبكيت وانتقل إلى التبكيت
لهم بوجه آخر فقال (أم يقولون نحن جميع منتصر) أي جماعة لا تطاق لكثرة عددنا وقوتنا أو أمرنا مجتمع لا نغلب،
وأفرد منتصرا اعتبارا بلفظ جميع. قال الكلبي: المعنى نحن جميع أمرنا ننتصر من أعدائنا، فرد الله سبحانه عليهم
بقوله (سيهزم الجمع) أي جمع كفار مكة، أو كفار العرب على العموم. قرأ الجمهور " سيهزم " بالتحتية مبنيا
للمفعول. وقرأ ورش عن يعقوب " سنهزم " بالنون وكسر الزاي ونصب الجمع. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة
128

بالتحتية مبنيا للفاعل، وقرئ بالفوقية مبنيا للفاعل (ويولون الدبر) قرأ الجمهور " يولون " بالتحتية، وقرأ عيسى
وابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب بالفوقية على الخطاب، والمراد بالدبر الجنس، وهو في معنى الإدبار، وقد
هزمهم الله يوم بدر وولوا الأدبار، وقتل رؤساء الشرك وأساطين الكفر، فلله الحمد (بل الساعة موعدهم) أي
موعد عذابهم الأخروي، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر هو تمام ما وعدوا به من
العذاب، وإنما هو مقدمة من مقدماته وطليعة من طلائعه، ولهذا قال (والساعة أدهى وأمر) أي وعذاب
الساعة أعظم في الضر وأفظع، مأخوذ من الدهاء، وهو النكر والفظاعة، ومعنى أمر: أشد مرارة من عذاب
الدنيا، يقال دهاه أمر كذا: أي أصابه دهوا ودهيا (إن المجرمين في ضلال وسعر) أي في ذهاب عن الحق وبعد
عنه، وقد تقدم في هذه السورة تفسير وسعر فلا نعيده (يوم يسحبون في النار على وجوههم) والظرف منتصب
بما قبله: أي كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون، أو بقول مقدر بعده: أي يوم يسحبون يقال لهم (ذوقوا
مس سقر) أي قاسوا حرها وشدة عذابها، وسقر علم لجهنم. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بإدغام سين مس في
سين سقر (إنا كل شئ خلقناه بقدر) قرأ الجمهور بنصب كل على الاشتغال. وقرأ أبو السماك بالرفع، والمعنى:
أن كل شئ من الأشياء خلقه الله سبحانه ملتبسا بقدر قدره وقضاء قضاه سبق في علمه مكتوب في اللوح المحفوظ
قبل وقوعه، والقدر التقدير، وقد قدمنا الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر)
أي إلا مرة واحدة أو كلمة واحدة كلمح بالبصر في سرعته، واللمح: النظر على العجلة والسرعة. وفي الصحاح
لمحه وألمحه: إذا أبصره بنظر خفيف، والاسم اللمحة. قال الكلبي: وما أمرنا بمجئ الساعة في السرعة إلا كطرف
البصر (ولقد أهلكنا أشياعكم) أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم، وقيل أتباعكم وأعوانكم (فهل من
مدكر) يتذكر ويتعظ بالمواعظ ويعلم أن ذلك حق، فيخاف العقوبة وأن يحل به ما حل بالأمم السالفة (وكل
شئ فعلوه في الزبر) أي جميع ما فعلته الأمم من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ، وقيل في كتب الحفظة
(وكل صغير وكبير مستطر) أي كل شئ من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم مسطور في اللوح المحفوظ صغيره
وكبيره وجليله وحقيره يقال: سطر يسطر سطرا كتب، وأسطر مثله. ثم لما فرغ سبحانه من ذكر حال الأشقياء
ذكر حال السعداء فقال (إن المتقين في جنات ونهر) أي في بساتين مختلفة وجنان متنوعة وأنهار متدفقة. قرأ
الجمهور " ونهر " بفتح الهاء على الإفراد، وهو جنس يشمل أنهار الجنة وقرأ مجاهد والأعرج وأبو السماك بسكون
الهاء وهما لغتان، وقرأ أبو مجلز وأبو نهشل والأعرج وطلحة بن مصرف وقتادة " نهر " بضم النون والهاء على الجمع
(في مقعد صدق) أي في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم، وهو الجنة (عند مليك مقتدر) أي قادر على ما يشاء
لا يعجزه شئ. وعندها هنا كناية عن الكرامة وشرف المنزلة، وقرأ عثمان البتي " في مقاعد صدق ".
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس (أكفاركم خير من أولئكم) يقول: ليس كفاركم خير من قوم نوح
وقوم لوط. وأخرج ابن أبي شيبة وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه في قوله (سيهزم الجمع
ويولون الدبر) قال: كان ذلك يوم بدر قالوا (نحن جميع منتصر) فنزلت هذه الآية. وفي البخاري وغيره عنه
أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر " أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم
تعبد بعد اليوم أبدا، فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك، فخرج وهو يثب في
الدرع ويقول (سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) ". وأخرج أحمد وعبد بن حميد
129

ومسلم والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
يخاصمونه في القدر، فنزلت (يوم يسحبون في النار على وجوههم). وأخرج مسلم عن ابن عمر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كل شئ بقدر حتى العجز والكيس " وأخرج ابن المنذر عنه في قوله (وكل
صغير وكبير مستطر) قال: مسطور في الكتاب اه‍.
تفسير سورة الرحمن
هي ست وسبعون آية
وهي مكية. قال القرطبي: كلها في قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر قال: قال ابن
عباس إلا آية منها، وهي قوله (يسأله من في السماوات والأرض) الآية. وقال ابن مسعود ومقاتل هي مدنية
كلها، والأول أصح، ويدل عليه ما أخرجه النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة الرحمن بمكة. وأخرج
ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: أنزل بمكة سورة الرحمن. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: نزلت
سورة الرحمن علم القرآن بمكة. وأخرج أحمد وابن مردويه. قال السيوطي: بسند حسن عن أسماء بنت أبي بكر قالت سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يسمعون (فبأي
آلاء ربكما تكذبان) ويؤيد القول الثاني ما أخرجه ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس
قال: نزلت سورة الرحمن بالمدينة، ويمكن الجمع بين القولين بأنه نزل بعضها بمكة وبعضها بالمدينة. وأخرج
الترمذي وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن جابر بن عبد الله
قال " خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه. فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا،
فقال: مالي أراكم سكوتا لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردودا منكم كلما أتيت على قوله (فبأي
آلاء ربكما تكذبان) قالوا: لا شئ من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد " قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث
غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد. وحكى عن الإمام أحمد أنه كان يستنكر روايته
عن زهير، وقال البزار: لا نعرفه يروى إلا من هذا الوجه. وأخرجه البزار وابن جرير وابن المنذر والدار قطني في
الإفراد وابن مردويه والخطيب في تاريخه من حديث ابن عمر وصحح السيوطي إسناده. وقال البزار: لا نعلمه
يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. وأخرج البيهقي في الشعب عن علي
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " لكل شئ عروس، وعروس القرآن الرحمن ".
130

قوله (الرحمن علم القرآن) ارتفاع الرحمن على أنه مبتدأ وما بعده من الأفعال أخبار له، ويجوز أن يكون خبر
مبتدأ محذوف: أي الله الرحمن. قال الزجاج: معنى (علم القرآن) يسره. قال الكلبي: علم القرآن محمدا وعلمه
محمد أمته، وقيل جعله علامة لما يعبد الناس به، قيل نزلت هذه الآية جوابا لأهل مكة حين قالوا إنما يعلمه بشر،
وقيل جوابا لقولهم: وما الرحمن؟ ولما كانت هذه السورة لتعداد نعمه التي أنعم بها على عباده قدم النعمة التي هي
أجلها قدرا وأكثرها نفعا وأتمها فائدة وأعظمها عائدة، وهي نعمة تعليم القرآن، فإنها مدار سعادة الدارين،
وقطب رحى الخيرين، وعماد الأمرين. ثم أمتن بعد هذه النعمة بنعمة الخلق التي هي مناط كل الأمور ومرجع
جميع الأشياء فقال (خلق الإنسان) ثم أمتن ثالثا بتعليمه البيان الذي يكون به التفاهم ويدور عليه التخاطب وتتوقف
عليه مصالح المعاش والمعاد، لأنه لا يمكن إبراز ما في الضمائر ولا إظهار ما يدور في الخلد إلا به قال قتادة والحسن:
المراد بالإنسان آدم، والمراد بالبيان أسماء كل شئ، وقيل المراد به اللغات. وقال ابن كيسان: المراد بالإنسان
ها هنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبالبيان بيان الحلال من الحرام، والهدى من الضلال، وهو بعيد. وقال
الضحاك: البيان الخير والشر. وقال الربيع بن أنس: هو ما ينفعه مما يضره، وقيل البيان الكتابة بالقلم. والأولى
حمل الإنسان على الجنس، وحمل البيان على تعليم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به (الشمس والقمر بحسبان) أي
يجريان بحساب ومنازل لا يعدوانها، ويدلان بذلك على عدد الشهور والسنين. قال قتادة وأبو مالك: يجريان
بحسبان في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال ابن زيد وابن كيسان: يعنى أن بهما تحسب الأوقات والآجال
والأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب، لأن الدهر يكون كله ليلا أو نهارا.
وقال الضحاك: معنى بحسبان: بقدر، وقال مجاهد: بحسبان كحسبان الرحى: يعنى قطبهما الذي يدوران عليه.
قال الأخفش: الحسبان جماعة الحساب، مثل شهب وشهبان. وأما الحسبان بالضم فهو العذاب كما مضى في
سورة الكهف (والنجم والشجر يسجدان) النجم ما لا ساق له من النبات، والشجر ما له ساق. قال الشاعر: لقد أنجم القاع الكثير عضاهه * وتم به حيا تميم ووائل
وقال زهير: مكلل بأصول النجم تنسجه * ريح الجنوب لضاحي ما به حبك
131

والمراد بسجودهما انقيادهما لله تعالى انقياد الساجدين من المكلفين. وقال الفراء: سجودهما أنهما يستقبلان،
الشمس إذا طلعت، ثم يميلان معها حين ينكسر الفئ. وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما، كما في
قوله - يتفيؤ ظلاله - وقال الحسن ومجاهد: المراد بالنجم نجم السماء وسجوده طلوعه، ورجح هذا ابن جرير. وقيل
سجوده أفوله، وسجود الشجر: تمكينها من الاجتناء لثمارها. قال النحاس: أصل السجود الاستسلام والانقياد لله،
وهذه الجملة والتي قبلها خبران آخران للرحمن، وترك الرابط فيهما لظهوره كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه
والنجم والشجر يسجدان له (والسماء رفعها) قرأ الجمهور بنصب السماء على الاشتغال. وقرأ أبو السماك بالرفع
على الابتداء، والمعنى: أنه جعل السماء مرفوعة فوق الأرض (ووضع الميزان) المراد بالميزان العدل: أي وضع في
الأرض العدل الذي أمر به كذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم، قال الزجاج: المعنى أنه أمرنا بالعدل،
ويدل عليه قوله (ألا تطغوا في الميزان) أي لا تجاوزوا العدل، وقال الحسن والضحاك: المراد به آلة الوزن ليتوصل
بها إلى الإنصاف والانتصاف. وقيل الميزان القرآن لأن فيه بيان ما يحتاج إليه، وبه قال الحسين بن الفضل، والأول
أولى. ثم أمر سبحانه بإقامة العدل بعد إخباره للعباد بأنه وضعه لهم فقال (وأقيموا الوزن بالقسط) أي قوموا
وزنكم بالعدل، وقيل المعنى: أقيموا لسان الميزان بالعدل، وقيل المعنى: أنه وضع الميزان في الآخرة لوزن
الأعمال، و " أن " في قوله " ألا تطغوا " مصدرية: أي لئلا تطغوا، ولا نافية: أي وضع الميزان لئلا تطغوا،
وقيل هي مفسرة، لأن في الوضع معنى القول، والطغيان مجاوزة الحد، فمن قال الميزان العدل، قال طغيانه الجور
ومن قال الميزان الآلة التي يوزن بها، قال طغيانه البخس (ولا تخسروا الميزان) أي لا تنقصوه: أمر سبحانه أولا
بالتسوية، ثم نهى عن الطغيان الذي هو المجاوزة للحد بالزيادة، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس،
قرأ الجمهور " تخسروا " بضم التاء وكسر السين من أخسر، وقرأ بلال بن أبي برزة وأبان بن عثمان وزيد بن علي
بفتح التاء والسين من خسر، وهما لغتان: يقال أخسرت الميزان وخسرته. ثم لما ذكر سبحانه أنه رفع السماء ذكر
أنه وضع الأرض فقال (والأرض وضعها للأنام) أي بسطها على الماء لجميع الخلق مما له روح وحياة، ولا وجه
لتخصيص الأنام بالإنس والجن. قرأ الجمهور بنصب الأرض على الاشتغال، وقرأ أبو السماك بالرفع على الابتداء
وجملة (فيها فاكهة) في محل نصب على أنها حال من الأرض مقدرة، وقيل مستأنفة لتقرير مضمون الجملة التي
قبلها، والمراد بها كل ما يتفكه به من أنواع الثمار. ثم أفرد سبحانه النخل بالذكر لشرفه ومزيد فائدته على سائر
الفواكه فقال (والنخل ذات الأكمام) الأكمام جمع كم بالكسر، وهو وعاء التمر. قال الجوهري: والكم بالكسر
والكمامة وعاء الطلع وغطاء التنور، والجمع كمام وأكمة وأكمام. قال الحسن: ذات الأكمام: أي ذات الليف،
فإن النخلة تكسم بالليف وكمامها ليفها، وقال ابن زيد: ذات الطلع قبل أن يتفتق. وقال عكرمة: ذات الأحمال
(والحب ذو العصف والريحان) الحب هو جميع ما يقتات من الحبوب والعصف. قال السدى والفراء: هو بقل
الزرع، وهو أول ما ينبت به. قال ابن كيسان: يبدو أولا ورقا، وهو العصف، ثم يبدو له ساق، ثم يحدث
الله فيه أكماما، ثم يحدث في الأكمام الحب. قال الفراء: والعرب تقول خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه قبل
أن يدرك، وكذا قال الصحاح. وقال الحسن: العصف التبن، وقال مجاهد: هو ورق الشجر والزرع. وقيل
هو ورق الزرع الأخضر إذا قطع رأسه ويبس، ومنه قوله - كعصف مأكول -، وقيل هو الزرع الكثير.
يقال قد أعصف الزرع ومكان معصف: أي كثير الزرع، ومنه قول أبي قيس بن الأسلت:
132

إذا جمادى منعت قطرها * إن جناني عطن معصف
والريحان الورق في قول الأكثر. وقال الحسن وقتادة والضحاك وابن زيد: إنه الريحان الذي يشم. وقال
سعيد بن جبير، هو ما قام على ساق. وقال الكلبي: إن العصف هو الورق الذي لا يؤكل، والريحان هو الحب
المأكول. وقال الفراء أيضا: العصف المأكول من الزرع، والريحان ما لا يؤكل، وقيل الريحان كل بقلة طيبة
الريح. قال ابن الأعرابي: يقال شئ ريحاني وروحاني: أي له روح: وقال في الصحاح الريحان نبت معروف،
والريحان الرزق، تقول: خرجت أبتغي ريحان الله. قال النمر بن تولب:
سلام الإله وريحانه * ورحمته وسماء درر
وقيل العصف رزق البهائم، والريحان رزق الناس. قرأ الجمهور (والحب ذو العصف والريحان) برفع الثلاثة
غطفا على فاكهة. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة والمغيرة بنصبهما عطفا على الأرض أو على إضمار فعل: أي وخلق
الحب ذا العصف والريحان. وقرأ حمزة والكسائي والريحان بالجر عطفا على العصف (فبأي آلاء ربكما تكذبان)
الخطاب للجن والإنس، لأن لفظ الأنام يعمهما وغيرهما، ثم خصص بهذا الخطاب من يعقل. وبهذا قال
الجمهور من المفسرين: ويدل عليه قوله فيما سيأتي (سنفرغ لكم أيها الثقلان) ويدل على هذا ما قدمنا في فاتحة
هذه السورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأها على الجن والإنس، وقيل الخطاب للإنس، وثناه على قاعدة
العرب في خطاب الواحد بلفظ التثنية كما قدمنا في قوله - ألقيا في جهنم - والآلاء النعم. قال القرطبي: وهو قول
جميع المفسرين، واحدها إلى مثل معي وعصى. وقال ابن زيد: إنها القدرة: أي فبأي قدرة ربكما تكذبان،
وبه قال الكلبي. وكرر سبحانه هذه الآية في هذه السورة تقريرا للنعمة وتأكيدا للتذكير بها على عادة العرب في
الاتساع. قال القتيبي: إن الله عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع كل خلة وضعها بهذه
الآية وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها كما تقول لمن تتابع له إحسانك، وهو يكفره:
ألم تكن فقيرا فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملا فعززتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلا فحملتك؟ أفتنكر
هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا، ومنه قول الشاعر:
لا تقتلي رجلا إن كنت مسلمة * إياك من دمه إياك إياك
قال الحسين بن الفضل: التكرير طرد للغفلة وتأكيد للحجة (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) لما ذكر
سبحانه خلق العالم الكبير، وهو السماء والأرض وما فيهما ذكر خلق العالم الصغير، والمراد بالإنسان هنا آدم. قال
القرطبي: باتفاق من أهل التأويل، ولا يبعد أن يراد الجنس لأن بني آدم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم،
والصلصال الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة، وقيل هو طين خلط برمل، وقيل هو الطين المنتن يقال: صل
اللحم وأصل إذا أنتن، وقد تقدم بيانه في سورة الحجر، والفخار الخزف الذي طبخ بالنار، والمعنى: أنه خلق
الإنسان من طين يشبه في يبسه الخزف (وخلق الجان من مارج من نار) يعنى خلق أبا الجن أو جنس الجن من
مارج من نار، والمارج اللهب الصافي من النار، وقيل الخالص منها، وقيل لسانها الذي يكون في طرفها إذا
التهبت، وقال الليث: المارج الشعلة الصادعة ذات اللهب الشديد. قال المبرد: المارج النار المرسلة التي لا تمنع،
وقال أبو عبيدة: المارج خلط النار، من مرج إذا اختلط واضطرب. قال الجوهري: مارج من نار نار لا دخان
لها خلق منها الجان (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإنه أنعم عليكما في تضاعيف خلقكما من ذلك بنعم لا تحصى (رب
133

المشرقين ورب المغربين) قرأ الجمهور " رب " بالرفع على إنه خبر مبتدإ محذوف: أي هو رب المشرقين والمغربين،
وقيل مبتدأ وخبره - مرج البحرين - وما بينهما اعتراض، والأول أولى، والمراد بالمشرقين مشرقا الشتاء والصيف،
وبالمغربين مغرباهما (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن في ذلك من النعم ما لا يحصى ولا يتيسر لمن أنصف من نفسه
تكذيب فرد من أفراده (مرج البحرين يلتقيان) المرج التخلية والإرسال، يقال: مرجت الدابة: إذا أرسلتها،
وأصله الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى، والمعنى: أنه أرسل كل واحد منهما، يلتقيان: أي يتجاوران لافصل
بينهما في مرأى العين، ومع ذلك فلم يختلطا، ولهذا قال (بينهما برزخ) أي حاجز يحجز بينهما (لا يبغيان) أي
لا يبغي أحدهما على الآخر بأن يدخل فيه ويختلط به. قال الحسن وقتادة: هما بحر فارس والروم. وقال ابن
جريج: هما البحر المالح والأنهار العذبة، وقيل بحر المشرق والمغرب، وقيل بحر اللؤلؤ والمرجان، وقيل بحر
السماء وبحر الأرض. قال سعيد بن جبير: يلتقيان في كل عام، وقيل يلتقي طرفاهما. وقوله (يلتقيان) في محل
نصب على الحال من البحرين، وجملة (بينهما برزخ) يجوز أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالا (فبأي آلاء
ربكما تكذبان) فإن هذه الآية وأمثالها لا يتيسر تكذيبها بحال (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان). قرأ الجمهور " يخرج "
بفتح الياء وضم الراء مبنيا للفاعل، وقرأ نافع وأبو عمرو بضم الياء وفتح الراء ومبنيا للمفعول، واللؤلؤ: الدر،
والمرجان: الخرز الأحمر المعروف. وقال الفراء: اللؤلؤ العظام، والمرجان ما صغر. قال الواحدي: وهو قول
جميع أهل اللغة. وقال مقاتل والسدي ومجاهد: اللؤلؤ صغاره، والمرجان كباره، وقال (يخرج منهما) وإنما
يخرج ذلك من المالح لا من العذب لأنه إذا خرج من أحدهما فقد حرج منهما، كذا قال الزجاج وغيره. وقال
أبو علي الفارسي: هو من باب حذف المضاف: أي من أحدهما كقوله - على رجل من القريتين عظيم -. وقال
الأخفش: زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ من العذب، وقيل هما بحران يخرج من أحدهما اللؤلؤ، ومن الآخر المرجان،
وقيل هما بحر السماء وبحر الأرض، فإذا وقع ماء السماء في صدف البحر انعقد لؤلؤا فصار خارجا منهما (فبأي
آلاء ربكما تكذبان) فإن في ذلك من الآيات مالا يستطيع أحد تكذيبه ولا يقدر على إنكاره (وله الجوار المنشآت
في البحر كالأعلام) المراد بالجوار: السفن الجارية في البحر، والمنشآت: المرفوعات التي رفع بعض خشبها على
بعض وركب حتى ارتفعت وطالت حتى صارت في البحر كالأعلام وهي الجبال، والعلم: الجبل الطويل.
وقال قتادة: المنشآت المخلوقات للجري. وقال الأخفش: المنشآت المجريات، وقد مضى بيان الكلام في هذا
في سورة الشورى. قرأ الجمهور " الجوار " بكسر الراء وحذف الياء لالتقاء الساكنين، وقرأ ابن مسعود والحسن
وأبو عمرو في رواية عنه برفع الراء تناسيا للحذف، وقرأ يعقوب بإثبات الياء، وقرأ الجمهور " المنشآت " بفتح
الشين، وقرأ حمزة وأبو بكر في رواية عنه بكسر الشين (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن ذلك من الوضوح والظهور
بحيث لا يمكن تكذيبه ولا إنكاره.
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في
قوله (الشمس والقمر بحسبان) قال: بحساب ومنازل يرسلان. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عنه (والأرض
وضعها للأنام) قال: للناس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: للخلق. وأخرج ابن
جرير عنه أيضا قال: كل شئ فيه روح. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (والنخل ذات الأكمام)
قال: أوعية الطلع. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (والحب ذو العصف) قال: التبن
(والريحان) قال خضرة الزرع. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال: (العصف) ورق الزرع إذا يبس (والريحان)
134

ما أنبتت الأرض من الريحان الذي يشم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال (العصف)
الزرع أول ما يخرج بقلا (والريحان) حين يستوي على سوقه ولم يسنبل. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال: كل
ريحان في القرآن فهو رزق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال: يعني بأي نعمة الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال: يعني الجن والإنس.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أيضا (من مارج من نار) قال: من لهب النار. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال: خالص النار. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (رب المشرقين ورب المغربين) قال: الشمس مطلع في
الشتاء، ومغرب في الشتاء، ومطلع في الصيف، ومغرب في الصيف غير مطلعها في الشتاء وغير مغربهما في الشتاء.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال: مشرق الفجر ومشرق الشفق، ومغرب الشمس ومغرب الشفق.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (مرج البحرين يلتقيان) قال: أرسل البحرين
(بينهما برزخ) قال: (حاجز) (لا يبغيان) لا يختلطان. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال: بحر السماء وبحر الأرض.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (بينهما برزخ لا يبغيان) قال: بينهما من البعد ما لا يبغي كل واحد منهما على
صاحبه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) قال:
إذا مطرت السماء فتحت الأصداف في البحر أفواهها فما وقع فيها من قطر السماء فهو اللؤلؤ. وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير عن علي بن أبي طالب قال: المرجان عظام اللؤلؤ. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: اللؤلؤ:
ما عظم منه، والمرجان: اللؤلؤ الصغار. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
والطبراني عن ابن مسعود قال: المرجان الخرز الأحمر.
سورة الرحمن (26 - 45)
135

قوله (كل من عليها فان) أي كل من على الأرض من الحيوانات هالك، وغلب العقلاء على غيرهم فعبر عن
الجميع بلفظ من، وقيل أراد من عليها من الجن والإنس (ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام) الوجه عبارة
عن ذاته سبحانه ووجوده، وقد تقدم في سورة البقرة بيان معنى هذا، وقيل: معنى (يبقى وجه ربك) تبقى
حجته التي يتقرب بها إليه، والجلال: العظمة والكبرياء، واستحقاق صفات المدح، يقال جل الشئ: أي
عظم، وأجللته: أي أعظمته، وهو اسم من جل. ومعنى ذو الإكرام: أنه يكرم عن كل شئ لا يليق به،
وقيل إنه ذو الأكرام لأوليائه، والخطاب في قوله ربك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو لكل من يصلح له.
قرأ الجمهور " ذو الجلال " على أنه صفة لوجه، وقرأ أبي وابن مسعود: ذي الجلال على أنه صفة لرب (فبأي
آلاء ربكما تكذبان) وجه النعمة في فناء الخلق أن الموت سبب النقلة إلى دار الجزاء والثواب. وقال مقاتل: وجه
النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت، ومع الموت تستوي الأقدام (يسأله من في السماوات والأرض) أي
يسألونه جميعا لأنهم محتاجون إليه لا يستغني عنه أحد منهم. قال أبو صالح: يسأله أهل السماوات المغفرة ولا
يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونه الأمرين جميعا. وقال مقاتل: يسأله أهل الأرض الرزق والمغفرة وتسأل
لهم الملائكة أيضا الرزق والمغفرة، وكذا قال ابن جريج. وقيل يسألونه الرحمة. قال قتادة: لا يستغني عنه أهل
السماء ولا أهل الأرض. والحاصل أنه يسأله كل مخلوق من مخلوقاته بلسان المقال أو لسان الحال ما يطلبونه من
خيري الدارين أو من خير إحداهما (كل يوم هو في شأن) انتصاب كل بالاستقرار الذي تضمنه الخبر،
والتقدير: استقر سبحانه في شأن كل وقت من الأوقات، واليوم عبارة عن الوقت، والشأن هو الأمر، ومن جملة
شؤونه سبحانه إعطاء أهل السماوات والأرض ما يطلبونه منه على اختلاف حاجاتهم وتباين أغراضهم. قال
المفسرون: من شأنه أنه يحيى ويميت، ويرزق ويفقر، ويعز ويذل، ويمرض ويشفي، ويعطي ويمنع، ويغفر
ويعاقب إلى غير ذلك مما لا يحصى. وقيل المراد باليوم المذكور هو يوم الدنيا ويوم الآخرة. قال ابن بحر: الدهر
كله يومان: أحدهما مدة أيام الدنيا، والآخر يوم القيامة. وقيل المراد كل يوم من أيام الدنيا (فبأي آلاء ربكما
تكذبان) فإن اختلاف شؤونه سبحانه في تدبير عباده نعمة لا يمكن جحدها، ولا يتيسر لمكذب تكذيبها (سنفرغ
لكم أيه الثقلان) هذا وعيد شديد من الله سبحانه للجن والإنس. قال الزجاج والكسائي وابن الأعرابي وأبو علي
الفارسي: إن الفراغ ها هنا ليس هو الفراغ من شغل، ولكن تأويله القصد: أي سنقصد لحسابكم. قال الواحدي
حاكيا عن المفسرين: إن هذا تهديد منه سبحانه لعباده، ومن هذا قول القائل لمن يريد تهديده: إذن أتفرغ لك
أي أقصدك قصدك، وفرغ يجئ بمعنى قصد، وأنشد ابن الأنباري قول الشاعر: الآن وقد فرغت إلى نمير * فهذا حين كنت له عذابا *
يريد وقد قصدت، وأنشد النحاس قول الشاعر: فرغت إلى العبد المقيد في الحجل * أي قصدت
وقيل: إن الله سبحانه وعد على التقوى وأوعد على المعصية، ثم قال: سنفرغ لكم مما وعدناكم ونوصل كلا إلى
ما وعدناه، وبه قال الحسن ومقاتل وابن زيد، ويكون الكلام على طريق التمثيل. قرأ الجمهور " سنفرغ " بالنون
136

وضم الراء، وقرأ حمزة والكسائي بالتحتية مفتوحة مع ضم الراء: أي سيفرغ الله، وقرأ الأعرج بالنون مع فتح
الراء. قال الكسائي: هي لغة تميم، وقرأ عيسى الثقفي بكسر النون وفتح الراء، وقرأ الأعمش وإبراهيم بضم الياء
وفتح الراء على البناء للمفعول، وسمى الجن والإنس ثقلين لعظم شأنهما بالنسبة إلى غيرهما من حيوانات الأرض،
وقيل سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا كما في قوله - وأخرجت الأرض أثقالها - وقال جعفر
الصادق: سميا ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب، وجمع في قوله " لكم " ثم قال " أيه الثقلان " لأنهما فريقان، وكل
فريق جمع. قرأ الجمهور " أيه الثقلان " بفتح الهاء، وقرأ أهل الشام بضمها (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن من
جملتها ما في هذا التهديد من النعم، فمن ذلك أنه ينزجر به المسئ عن إساءته، ويزداد به المحسن إحسانا فيكون ذلك
سببا للفوز بنعيم الدار الآخرة الذي هو النعيم في الحقيقة (يا معشر الجن والإنس) قدم الجن هنا لكون خلق أبيهم
متقدما على خلق آدم، ولوجود جنسهم قبل جنس الإنس (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض)
أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض ونواحيهما هربا من قضاء الله وقدره (فانفذوا) منها
وخلصوا أنفسكم، يقال نفذ الشئ من الشئ: إذا خلص منه كما يخلص السهم (لا تنفذون إلا بسلطان) أي
لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة وقهر ولا قوة لكم على ذلك ولا قدرة، والسلطان: القوة التي يتسلط بها صاحبها على
الأمر، والأمر بالنفوذ: أمر تعجيز. قال الضحاك: بينما الناس في أسواقهم إذ انفتحت السماء ونزلت الملائكة
فهرب الجن والإنس فتحدق بهم الملائكة، فذلك قوله - لا تنفذون إلا بسلطان -. قال ابن المبارك: إن ذلك
يكون في الآخرة. وقال الضحاك أيضا: معنى الآية: إن استطعتم أن تهربوا من الموت فاهربوا. وقيل إن استطعتم
أن تعلموا ما في السماوات والأرض فأعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان: أي ببينة من الله. وقال قتادة: معناها
لا تنفذوا إلا بملك وليس لكم ملك. وقيل الباء بمعنى إلى: أي لا تنفذون إلا إلى سلطان (فبأي آلاء ربكما تكذبان)
ومن جملتها هذه النعمة الحاصلة بالتحذير والتهديد، فإنها تزيد المحسن إحسانا، وتكف المسئ عن إساءته، مع
أن من حذركم وأنذركم قادر على الإيقاع بكم من دون مهلة (يرسل عليكما شواظ من نار) قرأ الجمهور " يرسل "
بالتحتية مبنيا للمفعول، وقرأ زيد بن علي بالنون ونصب " شواظ " والشواظ: اللهب الذي لا دخان معه. وقال مجاهد:
الشواظ اللهب الأخضر المتقطع من النار. وقال الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب،
وقال الأخفش وأبو عمرو: هو النار والدخان جميعا. قرأ الجمهور: " شواظ " بضم الشين، وقرأ ابن كثير بكسرها
وهما لغتان، وقرأ الجمهور (ونحاس) بالرفع عطفا على شواظ، وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو
بخفضه عطفا على نار، وقرأ الجمهور " نحاس " بضم النون، وقرأ مجاهد وعكرمة وحميد وأبو العالية بكسرها. وقرأ
مسلم بن جندب والحسن " ونحس " والنحاس: الصفر المذاب يصب على رؤوسهم، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما.
وقال سعيد بن جبير: هو الدخان الذي لا لهب له، وبه قال الخليل. وقال الضحاك: هو دردي الزيت المغلي.
وقال الكسائي هو النار التي لها ريح شديدة، وقيل هو المهل (فلا تنتصران) أي لا تقدران على الامتناع من عذاب
الله (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن من جملتها هذا الوعيد الذي يكون به الانزجار عن الشر والرغوب في الخير
(فإذا انشقت السماء) أي انصدعت بنزول الملائكة يوم القيامة (فكانت وردة كالدهان) أي كوردة حمراء.
قال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى فكانت حمراء، وقيل فكانت كلون الفرس الورد، وهو الأبيض الذي يضرب
إلى الحمرة أو الصفرة. قال الفراء وأبو عبيدة: تصير السماء كالأديم لشدة حر النار. وقال الفراء أيضا: شبه تلون
السماء بتلون الورد من الخيل، وشبه الورد في ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه، والدهان جمع دهن، وقيل المعنى
137

تصير السماء في حمرة الورد، وجريان الدهن: أي تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم،
وتصير مثل الدهن لذوبانها، وقيل الدهان الجلد الأحمر. وقال الحسن كالدهان: أي كصبيب الدهن، فإنك
إذا صببته ترى فيه ألوانا. وقال زيد بن أسلم: إنها تصير كعصير الزيت. قال الزجاج: إنها اليوم خضراء وسيكون
لها لون أحمر. قال الماوردي: وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة
ترى بهذا اللون الأزرق (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن من جملتها ما في هذا التهديد والتخويف من حسن العاقبة
بالإقبال على الخير والإعراض عن الشر (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) أي يوم تنشق السماء لا يسأل
أحد من الإنس ولا من الجن عن ذنبه، لأنهم يعرفون بسيماهم عند خروجهم من قبورهم، والجمع بين هذه الآية
وبين مثل قوله - فوربك لنسألنهم أجمعين - أن ما هنا يكون في موقف والسؤال في موقف آخر من مواقف القيامة:
وقيل إنهم لا يسألون هنا سؤال استفهام عن ذنوبهم، لأن الله سبحانه قد أحصى الأعمال وحفظها على العباد،
ولكن يسألون سؤال توبيخ وتقريع، ومثل هذه الآية قوله - ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون - قال أبو العالية:
المعنى لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم. وقيل إن عدم السؤال هو عند البعث، والسؤال هو في موقف الحساب
(فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن من جملتها هذا الوعيد الشديد لكثرة ما يترتب عليه من الفوائد مع (يعرف المجرمون
بسيماهم) هذه الجملة جارية مجرى التعليل لعدم السؤال. السيما: العلامة. قال الحسن: سيماهم سواد الوجوه وزرقة
الأعين، كما في قوله - ونحشر المجرمين يومئذ زرقا - وقال - يوم تبيض وجوه وتسود وجوه - وقيل سيماهم
ما يعلوهم من الحزن والكآبة (فيؤخذ بالنواصي والأقدام) الجار والمجرور في محل رفع على أنه النائب، والنواصي
شعور مقدم الرؤوس، والمعنى: أنها تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي، وتلقيهم الملائكة في النار. قال
الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره، وقيل تسحبهم الملائكة إلى النار، تارة تأخذ
بنواصيهم وتجرهم على وجوههم، وتارة تأخذ بأقدامهم وتجرهم على رؤوسهم (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن
من جملتها هذا الترهيب الشديد والوعيد البالغ الذي ترجف له القلوب وتضطرب لهو له الأحشاء هذه جهنم التي
يكذب بها المجرمون) أي يقال لهم عند ذلك هذه جهنم التي تشاهدونها وتنظرون إليها مع أنكم كنتم تكذبون بها
وتقولون إنها لا تكون، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا يقال لهم عند الآخذ بالنواصي
والأقدام. فقيل يقال لهم هذه جهنم تقريعا لهم وتوبيخا (يطوفون بينها) أي بين جهنم فتحرقهم (وبين حميم آن)
فتصب على وجوههم، والحميم: الماء الحار، والآن: الذي قد انتهى حره وبلغ غايته. كذا قال الفراء.
قال الزجاج: أنى يأتي أنى فهو آن: إذا انتهى في النضج والحرارة، ومنه قول النابغة الذبياني:
وتخضب لحية غدرت وخانت * بأحمر من نجيع الجوف آن
وقيل هو واد من أودية جهنم يجمع فيه صديد. أهل النار، فيغمسون فيه. قال قتادة: يطوفون مرة في الحميم
ومرة بين الجحيم (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن من جملتها النعمة الحاصلة بهذا التخويف وما يحصل به من
الترغيب في الخير والترهيب عن الشر.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء
والصفات عن ابن عباس في قوله (ذو الجلال والإكرام) قال: ذو الكبرياء والعظمة. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عنه (يسأله من في السماوات) قال: مسألة عباده إياه الرزق والموت والحياة كل يوم هو في ذلك.
وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده والبزار وابن جرير والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن منده وابن مردويه
138

وأبو نعيم وابن عساكر عن عبد الله بن منيب قال " تلا علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية (كل
يوم هو في شأن) فقلنا: يا رسول الله وما ذلك الشأن؟ قال: أن يغفر ذنبا ويفرج كربا، ويرفع قوما ويضع
آخرين ". وأخرج البخاري في تاريخه وابن ماجة وابن أبي عاصم والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن حيان والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية قال " من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين " زاد
البزار " ويجيب داعيا " وقد رواه البخاري تعليقا، وجعله من كلام أبي الدرداء. وأخرج البزار عن ابن عمر عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية قال: يغفر ذنبا ويفرج كربا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله (سنفرغ لكم أيه الثقلان) قال: هذا وعيد من الله
لعباده، وليس بالله شغل، وفي قوله (لا تنفذون إلا بسلطان) يقول: لا تخرجون من سلطاني. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (يرسل عليكما شواظ من نار) قال: لهب النار (ونحاس) قال: دخان
النار. وأخرج ابن جرير عنه أيضا ونحاس: قال الصفر يعذبون به. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (فكانت وردة)
يقول حمراء (كالدهان) قال: هو الأديم الأحمر. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه أيضا (فكانت وردة كالدهان) قال: مثل لون الفرس الورد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا
في قوله (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) قال: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا، لأنه أعلم بذلك منهم،
ولكن يقول لهم لم عملتم كذا وكذا. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عنه أيضا في قوله
(فيؤخذ بالنواصي والأقدام) قال: تأخذ الزبانية بناصيته وقدميه ويجمع فيكسر كما يكسر الحطب في التنور.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (وبين حميم آن) قال: هو الذي انتهى حره.
سورة الرحمن (46 - 78)
139

لما فرغ سبحانه من تعداد النعم الدنيوية على الثقلين ذكر نعمه الأخروية التي أنعم بها عليهم: فقال: (ولمن
خاف مقام ربه جنتان) مقامه سبحانه هو الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب، كما في قوله - يوم يقوم الناس
لرب العالمين - فالمقام مصدر بمعنى القيام، وقيل المعنى خاف قيام ربه عليه، وهو إشرافه على أحواله واطلاعه على
أفعاله وأقواله كما في قوله - أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت - قال مجاهد والنخعي: هو الرجل يهم بالمعصية
فيذكر الله فيدعها من خوفه.
واختلف في الجنتين، فقال مقاتل: يعني جنة عدن وجنة النعيم، وقيل إحداهما التي خلقت له والأخرى
ورثها. وقيل إحداهما منزله والأخرى منزل أزواجه. وقيل إحداهما أسافل القصور والأخرى أعاليها. وقيل
جنة للخائف الإنسي، وجنة للخائف الجني، وقيل جنة لفعل الطاعة وأخرى لترك المعصية، وقيل جنة للعقيدة
التي يعتقدها، وأخرى للعمل الذي يعمله، وقيل جنة بالعمل وجنة بالتفضيل، وقيل جنة روحانية وجنة جسمانية،
وقيل جنة لخوفه من ربه وجنة لتركه شهوته، وقال الفراء: إنما هي جنة واحدة، والتثنية لأجل موافقة رؤوس
الآي. قال النحاس: وهذا القول من أعظم الغلظ على كتاب الله، فإن الله يقول (جنتان) ويصفهما بقوله فيهما
فيهما الخ (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن من جملتها هذه النعمة العظيمة، وهي إعطاء الخائف من مقام ربه جنتين
متصفتين بالصفات الجليلة العظيمة (ذواتا أفنان) هذه صفة للجنتان، وما بينهما اعتراض، والأفنان الأغصان،
واحدها فنن وهو الغصن المستقيم طولا، وبهذا قال مجاهد وعكرمة وعطية وغيرهم. وقال الزجاج: الأفنان
الألوان واحدها فن، وهو الضرب من كل شئ، وبه قال عطاء وسعيد بن جبير، وجمع عطاء بين القولين،
فقال في كل غصن فنون من الفاكهة، ومن إطلاق الفنن على الغصن قول النابغة: دعاء حمامة تدعو هديلا * مفجعة على فنن تغنى *
وقول الآخر: ما هاج شوقك من هدير حمامة * تدعو على فنن الغصون حماما
وقيل معنى (ذواتا أفنان) ذواتا فضل وسعة على ما سواهما، قاله قتادة، وقيل الأفنان: ظل الأغصان على
الحيطان، روى هذا عن مجاهد وعكرمة (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن كل واحد منها ليس بمحل للتكذيب ولا
بموضع للإنكار (فيهما عينان تجريان) هذا أيضا صفة أخرى لجنتان: أي في كل واحدة منهما عين جارية. قال
الحسن: إحداهما السلسبيل والأخرى التسنيم. وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة
للشاربين، قيل كل واحدة منهما مثل الدنيا أضعافا مضاعفة (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن من جملتها هذه النعمة
140

الكائنة في الجنة لأهل السعادة (فيهما من كل فاكهة زوجان) هذا صفة ثالثة لجنتان، والزوجان الصنفان
والنوعان، والمعنى: أن في الجنتين من كل نوع يتفكه به ضربين يستلذ بكل نوع من أنواعه، قيل أحد
الصنفين رطب والآخر يابس لا يقصر أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن في
مجرد تعداد هذه النعم ووصفها في هذا الكتاب العزيز من الترغيب إلى فعل الخير والترهيب عن فعل الشر ما لا يخفى
على من يفهم، وذلك نعمة عظمي ومنه كبرى، فكيف بالتنعم به عند الوصول إليه (متكئين على فرش بطائنها
من إستبرق) انتصاب متكئين على الحال من فاعل قوله (ولمن خاف) وإنما جمع حملا على معنى من، وقيل عاملها
محذوف، والتقدير: يتنعمون متكئين. وقيل منصوب على المدح، والفرش جمع فرش، والبطائن: هي التي تحت
الظهائر، وهي جمع بطانة. قال الزجاج: هي ما يلي الأرض، والإستبرق: ما غلظ من الديباج، وإذا كانت
البطائن من إستبرق فكيف تكون الظهائر؟ قيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال: هذا بما
قال الله فيه - فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين - قيل إنما اقتصر على ذكر البطائن، لأنه لم يكن أحد في
الأرض يعرف ما في الظهائر. وقال الحسن: بطائنها من إستبرق وظهائرها من نور جامد. وقال الحسن:
البطائن هي الظهائر، وبه قال الفراء: وقال: قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة، لأن كل واحد منهما
يكون وجها، والعرب تقول هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه، وأنكر ابن قتيبة هذا، وقال
لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين (وجنى الجنتين دان) مبتدأ وخبر، والجنى: ما يجتنى من الثمار، قيل إن
الشجرة تدنو حتى يجنيها من يريد جناها، ومنه قول الشاعر:
هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جان يده إلى فيه
قرأ الجمهور " فرش " بضمتين وقرأ أبو حيوة بضمه وسكون، وقرأ الجمهور " جنى " بفتح الجيم، وقرأ عيسى
ابن عمر بكسرها، وقرأ عيسى أيضا بكسر النون على الإمالة (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإنها كلها بموضع لا يتيسر
لمكذب أن يكذب بشئ منها لما تشتمل عليه من الفوائد العاجلة والآجلة (فيهن قاصرات الطرف) أي في الجنتين
المذكورتين. قال الزجاج: وإنما قال فيهن، لأنه عنى الجنتين وما أعد لصاحبهما فيهما من النعيم، وقيل فيهن: أي
في الفرش التي بطائنها من إستبرق، ومعنى (قاصرات الطرف) أنهن يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى
غيرهم، وقد تقدم تفسير هذا في سورة الصافات (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) قال الفراء: الطمث الافتضاض
وهو النكاح بالتدمية، يقال طمث الجارية: إذا افترعها. قال الواحدي: قال المفسرون لم يطأهن ولم يغشهن ولم
يجامعهن قبلهم أحد. قال مقاتل: لأنهن خلقن في الجنة، والضمير في قبلهم يعود إلى الأزواج المدلول عليه
بقاصرات الطرف، وقيل يعود إلى متكئين، والجملة في محل رفع صفة لقاصرات، لأن إضافتها لفظية، وقيل
الطمث المس: أي لم يمسسهن قاله أبو عمرو. وقال المبرد: أي لم يذللهن، والطمث التذليل، ومن استعمال
الطمث فيما ذكره الفراء قول الفرزدق:
دفعن إلى لم يطمن قبلي * وهن أصح من بيض النعام
قرأ الجمهور " يطمثهن " بكسر الميم، وقرأ الكسائي بضمها، وقرأ الجحدري وطلحة بن مصرف بفتحها،
وفي هذه الآية بل في كثير من آيات هذه السورة دليل أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا بالله سبحانه وعملوا بفرائضه
وانتهوا عن مناهيه (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن في مجرد هذا الترغيب في هذه النعم نعمة جليلة ومنه عظيمة،
141

لأن به يحصل الحرص على الأعمال الصالحة والفرار من الأعمال الطالحة فكيف بالوصول إلى هذه النعم وبالتنعم بها
في جنات النعيم بلا انقطاع ولا زوال (كأنهن الياقوت والمرجان) هذا صفة لقاصرات، أو حال منهن، شبههن
سبحانه في صفاء اللون مع حمرته بالياقوت والمرجان، والياقوت هو الحجر المعروف، والمرجان قد قدمنا الكلام
فيه في هذه السورة على الخلاف في كونه صغار الدر، أو الأحمر المعروف. قال الحسن: هن في صفاء الياقوت
وبياض المرجان، وإنما خص المرجان على القول بأنه صغار الدر، لأن صفاءها أشد من صفاء كبار الدر (فبأي
آلاء ربكما تكذبان) فإن نعمه كلها لا يتيسر تكذيب شئ منها كائنة ما كانت، فكيف بهذه النعم الجليلة والمنن
الجزيلة (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، والمعنى ما جزاء من أحسن العمل
في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة، كذا قال ابن زيد وغيره. قال عكرمة: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله
إلا الجنة، وقال الصادق: هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه في الأبد. قال الرازي:
في هذه الآية وجوه كثيرة حتى قيل: إن في القرآن ثلاث آيات في كل واحدة منها مائة قول: إحداها قوله تعالى
- فاذكروني أذكركم - وثانيها - وإن عدتم عدنا - وثالثها (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان). قال محمد بن الحنفية:
هي للبر والفاجر: البر في الآخرة، والفاجر في الدنيا (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن من جملتها الإحسان إليكم في
الدنيا والآخرة بالخلق والرزق والإرشاد إلى العمل الصالح والزجر عن العمل الذي لا يرضاه (ومن دونهما جنتان)
أي ومن دون تينك الجنتين الموصوفتين بالصفات المتقدمة جنتان أخريان لمن دون أصحاب الجنتين السابقتين من أهل
الجنة، ومعنى من دونهما: أي من أمامهما ومن قبلهما: أي هما أقرب منهما وأدنى إلى العرش، وقيل الجنتان
الأوليان جنة عدن وجنة النعيم، والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى. قال ابن جريج: هي أربع جنات:
جنتان منهما للسابقين المقربين - فيهما من كل فاكهة زوجان - وعينان تجريان، وجنتان لأصحاب اليمين - فيهما
فاكهة ونخل ورمان - و - فيهما عينان نضاختان: قال ابن زيد: إن الأوليين من ذهب للمقربين، والأخريين من
ورق لأصحاب اليمين (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإنها كلها حق ونعم لا يمكن جحدها. ثم وصف سبحانه هاتين
الجنتين الأخريين فقال (مدهامتان) وما بينهما اعتراض. قال أبو عبيدة والزجاج: من خضرتهما قد اسودتا من
الزي، وكل ما علاه السواد ريا فهو مدهم. قال مجاهد: مسودتان، والدهمة في اللغة: السواد، يقال فرس أدهم
وبعير أدهم: إذا اشتدت ورقته حتى ذهب البياض الذي فيه (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن جميعها نعم ظاهره
واضحة لا تجحد ولا تنكر (فيهما عينان نضاختان) النضخ فوران الماء من العين، والمعنى: أن في الجنتين
المذكورتين عينين فوارتين. قال أهل اللغة: والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضخ بالحاء المهملة. قال الحسن
ومجاهد: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رش المطر. وقال سعيد بن
جبير: إنها تنضخ بأنواع الفواكه والماء (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإنها ليست بموضع للتكذيب ولا بمكان
للجحد (فيهما فاكهة ونخل ورمان) هذا من صفات الجنتين المذكورتين قريبا، والنخل والرمان وإن كانا من
الفاكهة لكنهما خصصا بالذكر لمزيد حسنهما وكثرة نفعهما بالنسبة إلى سائر الفواكه كما حكاه الزجاج والأزهري
وغيرهما. وقيل إنما خصهما لكثرتهما في أرض العرب، وقيل خصهما لأن النخل فاكهة وطعام، والرمان فاكهة
ودواء. وقد ذهب إلى أنهما من جملة الفاكهة جمهور أهل العلم، ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة وقد خالفه
صاحباه أبو يوسف ومحمد (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن من جملتها هذه النعم التي في جنات النعيم، ومجرد
الحكاية لها أثر في نفوس السامعين وتجذبهم إلى طاعة رب العالمين (فيهن خيرات حسان) قرأ الجمهور " خيرات "
142

بالتخفيف، وقرأ قتادة وابن السميفع وأبو رجاء العطاردي وبكر بن حبيب السهمي وابن مقسم والنهدي بالتشديد،
فعلى القراءة الأولى هي جمع خيرة بزنة فعلة بسكون العين، يقال امرأة خيرة وأخرى شرة، أو جمع خيرة مخفف خيرة،
وعلى القراءة الثانية جمع خيرة بالتشديد. قال الواحدي: قال المفسرون: الخيرات النساء خيرات الأخلاق حسان
الوجوه. قيل وهذه الصفة عائدة إلى الجنان الأربع، ولا وجه لهذا فإنه قد وصف نساء الجنتين الأوليين بأنهن
قاصرات الطرف - كأنهن الياقوت والمرجان - وبين الصفتين بون بعيد (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن شيئا منها كائنا
ما كان لا يقبل التكذيب (حور مقصورات في الخيام) أي محبوسات، ومنه القصر، لأنه يحبس من فيه، والحور
جمع حوراء وهي شديدة بياض العين شديدة سوادها، وقد تقدم بيان معنى الحوراء والخلاف فيه. وقيل معنى
مقصورات: أنهن قصرن على أزواجهن فلا يردن غيرهم، وحكاه الواحدي عن المفسرين. والأول أولى، وبه
قال أبو عبيدة ومقاتل وغيرهما. قال في الصحاح: قصرت الشئ أقصره قصرا حبسته، والمعنى: أنهن خدرن
في الخيام، والخيام جمع خيمة، وقيل جمع خيم، والخيم جمع خيمة، وهي أعواد تنصب وتظلل بالثياب، فتكون
أبرد من الأخبية، قيل الخيمة من خيام الجنة درة مجوفة فرسخ في فرسخ، وارتفاع حور على البدلية من خيرات
(لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) قد تقدم تفسيره في صفة الجنتين الأوليين (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإنها
كلها نعم لا تكفر ومنن لا تجحد (متكئين على رفرف خضر) انتصاب متكئين على الحال أو المدح كما سبق، قال
أبو عبيدة: الرفارف البسط، وبه قال الحسن ومقاتل والضحاك وغيرهم. وقال ابن عيينة: هي الزرابي. وقال
ابن كيسان: هي المرافق. وروى عن أبي عبيدة أنه قال: هي حاشية الثوب. وقال الليث: ضرب من الثياب
الخضر وقيل الفرش المرتفعة، وقيل كل ثوب عريض. قال في الصحاح: والرفرف ثياب خضر يتخذ منها
المحابس، الواحدة رفرفة. وقال الزجاج: قالوا الرفرف هنا رياض الجنة، وقالوا الرفرف الوسائد، وقالوا
الرفوف المحابس اه‍. ومن القائلين بأنها رياض الجنة سعيد بن جبير، واشتقاق الرفرف من رف يرف: إذا ارتفع،
ومنه رفرفة الطائر، وهي تحريك جناحيه في الهواء. قرأ الجمهور " رفرف " على الإفراد. وقرأ عثمان بن عفان
والحسن والجحدري " رفارف " على الجمع (وعبقري حسان) العبقري الزرابي، والطنافس الموشية. قال
أبو عبيدة: كل وشي من البسط عبقري، وهو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشي. قال الفراء: العبقري الطنافس
الثمان، وقيل الزرابي، وقيل البسط، وقيل الديباج. قال ابن الأنباري: الأصل فيه أن عبقر قرية تسكنها الجن
ينسب إليها كل فائق. قال الخليل: العبقري عند العرب كل جليل فاضل فاخر من الرجال والنساء، ومنه قول
زهير: تخيل عليها جنة عبقرية * جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا *
قال الجوهري: العبقري موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد كهول وشبان كجنة عبقري
ثم نسبوا إليه كل شئ تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوته فقالوا عبقري، وهو واحد وجمع. قرأ الجمهور
" عبقري " وقرأ عثمان بن عفان والحسن والجحدري " عباقري " وقرئ " عباقر " وهما نسبة إلى عباقر اسم بلد.
وقال قطرب: ليس بمنسوب، وهو مثل كرسي وكراسي وبخني وبخاني. قرأ الجمهور " خضر " بضم الخاء وسكون
الصاد، وقرئ بضمهما وهي لغة قليلة (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فإن كل واحد منها أجل من أن يتطرق إليه
التكذيب، وأعظم من أن يجحده جاحد أو ينكره منكر، وقد قد منا في أول هذه السورة وجه تكرير هذه الآية
فلا نعيده (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) تبارك تفاعل من البركة. قال الرازي: وأصل التبارك من
التبرك، وهو الدوام والثبات، ومنه برك البعير وبركه الماء فإن الماء يكون دائما، والمعنى: دوام اسمه وثبت
143

أو دام الخير عنده، لأن البركة وإن كانت من الثبات لكنها تستعمل في الخير، أو يكون معناه علا وارتفع شأنه.
وقيل معناه: تنزيه الله سبحانه وتقديسه، وإذا كان هذا التبارك منسوبا إلى اسمه عز وجل، فما ظنك بذاته
سبحانه؟ وقيل الاسم بمعنى الصفة، وقيل هو مقحم كما في قول الشاعر:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وقد تقدم تفسير ذي الجلال والإكرام في هذه السورة. قرأ الجمهور " ذي الجلال " على أنه صفة للرب
سبحانه. وقرأ ابن عامر " ذو الجلال " على أنه صفة لاسم.
وقد اخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (ولمن خاف مقام ربه جنتان) قال: وعد الله المؤمنين الذين
خافوا مقامه فأدوا فرائضه الجنة. وأخرج ابن جرير عنه في الآية يقول: خاف ثم اتقى، والخائف: من ركب
طاعة الله وترك معصيته. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عطاء أنها نزلت في أبي بكر. وأخرج
ابن أبي حاتم عن ابن شوذب مثله. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود في الآية قال: لمن خافه في الدنيا.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن منيع والحاكم والترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية (ولمن خاف مقام
ربه جنتان) فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. الثانية (ولمن
خاف مقام ربه جنتان) فقلت: وإن زنى وإن سرق، فقال الثالثة (ولمن خاف مقام ربه جنتان) فقلت: وإن
زنى وإن سرق، قال: نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء ". وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " (ولمن خاف مقام ربه جنتان) فقال أبو الدرداء: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟
قال: وإن زنى وإن سرق، وإن رغم أنف أبي الدرداء ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن يسار مولى لآل
معاوية عن أبي الدرداء في قوله (ولمن خاف مقام ربه جنتان) قال: قيل لأبي الدرداء: وإن زنى وإن سرق؟
قال: من خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق. وأخرج ابن مردويه عن ابن شهاب قال: كنت عند هشام بن
عبد الملك، فقال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ولمن خاف مقام ربه جنتان) قال
أبو هريرة: وإن زنى وإن سرق؟ فقلت: إنما كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض، فلما نزلت الفرائض ذهب هذا ".
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " جنان
الفردوس أربع جنات: جنتان من ذهب حليتهما وأبنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة حليتهما وأبنيتهما وما فيهما
وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ". وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (ولمن خاف مقام ربه جنتان)
وفي قوله (ومن دونهما جنتان) قال: جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين. وأخرج
ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي موسى في قوله
- ولمن خاف مقام ربه جنتان - قال: جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ذواتا أفنان) قال: ذواتا ألوان. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر عنه قال: فن غصونها يمس بعضها بعضا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا قال: الفن الغصن.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن
مردويه والبيهقي في البعث عن ابن مسعود في قوله (متكئين على فرش بطائنها من إستبرق) قال: أخبرتم بالبطائن،
144

فكيف بالظهائر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه قيل له بطائنها من إستبرق، فما
الظواهر؟ قال: ذلك مما قال الله - فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين -. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عنه في قوله (وجنى الجنتين دان) قال: جناها ثمرها، والداني:
القريب منك ما يناله القائم والقاعد. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عنه أيضا في
قوله (فيهن قاصرات الطرف) يقول: عن غير أزواجهن (لم يطمثهن) يقول: لم يدن منهن أو لم يدمهن.
وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم " في قوله (كأنهن الياقوت والمرجان) قال: تنظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة، وإن أدنى لؤلؤة
عليها لتضئ ما بين المشرق والمغرب، وإنه يكون عليها سبعون ثوبا وينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء
ذلك ". وأخرج ابن أبي شيبة وهناد بن السري والترمذي وابن أبي الدنيا في صفة الجنة وابن جرير وابن أبي حاتم
وابن حبان وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن المرأة من
نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها، وذلك أن الله يقول: كأنهن الياقوت
والمرجان، فأما الياقوت فإنه من حجر أو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه " وقد رواه الترمذي موقوفا
وقال هو أصح. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب وضعفه عن ابن عمر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " في قوله (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا
الجنة ". وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والبغوي في تفسيره، والديلمي في مسند الفردوس، وابن
النجار في تاريخه عن أنس مرفوعا مثله. وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعا في الآية قال: " هل جزاء من أنعمنا
عليه بالإسلام إلا أن أدخله الجنة ". وأخرج ابن النجار في تاريخه عن علي بن أبي طالب مرفوعا مثل حديث ابن عمر.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله - هل جزاء الإحسان إلا
الإحسان - قال: هل جزاء من قال لا إله إلا الله في الدنيا إلا الجنة في الآخرة. وأخرج ابن عدي وأبو الشيخ وابن
مردويه والديلمي والبيهقي في الشعب وضعفه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أنزل
الله على هذه الآية في سورة الرحمن للكافر والمسلم: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ". وأخرجه ابن مردويه
موقوفا على ابن عباس. وأخرج هناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله
(مدهامتان) قال: هما خضراوان. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال: قد اسودتا من الخضرة من الري من
الماء. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عبد الله بن الزبير نحوه. وأخرج
الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله (مدهامتان)
قال: خضراوان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (نضاختان) قال: فائضتان.
وأخرج عبد بن حميد عنه قال: ينضخان بالماء. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في صفة الجنة وابن المنذر
وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله (خيرات حسان) قال: لكل مسلم خيرة، ولكل خيرة خيمة،
ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليها من الله كل يوم تحفة وكرامة وهدية لم تكن قبل ذلك، لا مراحات ولا
طماحات ولا بخرات ولا دفرات، حور عين كأنهن بيض مكنون. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (حور) قال: بيض
(مقصورات) قال: محبوسات (في الخيام) قال: في بيوت اللؤلؤ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
145

أبي حاتم قال: الحور سود الحدق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال " الخيام در مجوف ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم " الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون
يطوف عليهم المؤمن ". وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (متكئين على
رفرف) قال: فضول المحابس والفرش والبسط. وأخرج عبد بن حميد عن علي بن أبي طالب قال: هي فضول
المحابس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في البعث من طرق عن ابن عباس (رفرف خضر)
قال: المحابس (وعبقري حسان) قال: الزرابي. وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال: الرفرف الرياض،
والعبقري الزرابي.
تفسير سورة الواقعة
هي سبع وتسعون، أو ست وتسعون آية
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر عطاء. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي
قوله تعالى (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) وقال الكلبي: إنها مكية إلا أربع آيات منها، وهي (أفبهذا الحديث
أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) وقوله (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين). وأخرج ابن الضريس
والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة الواقعة بمكة. وأخرج ابن مردويه
عن ابن الزبير مثله. وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلي وابن مردويه
والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " من قرأ سورة الواقعة كل
ليلة لم تصبه فاقة أبدا ". وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " سورة
الواقعة سورة الغنى، فاقرءوها وعلموها أولادكم ". وأخرج الديلمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم " علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى "، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وآله وسلم
" شيبتني هود والواقعة " اه‍.
سورة الواقعة (1 - 26)
146

قوله (إذا وقعت الواقعة) الواقعة اسم للقيامة كالآزفة وغيرها، وسميت واقعة لأنها كائنة لا محالة، أو لقرب
وقوعها، أو لكثرة ما يقع فيها من الشدائد، وانتصاب إذا بمضمر: أي أذكر وقت وقوع الواقعة، أو بالنفي
المفهوم من قوله (ليس لوقعتها كاذبة) أي لا يكون عند وقوعها تكذيب، والكاذبة مصدر كالعاقبة: أي ليس
لمجيئها وظهورها كذب أصلا، وقيل إذا شرطية وجوابها مقدر: أي إذا وقعت كان كيت وكيت، والجواب
هذا هو العامل فيها، وقيل إنها شرطية، والعامل فيها الفعل الذي بعدها، واختار هذا أبو حيان، وقد سبقه إلى هذا
مكي فقال: والعامل وقعت. قال المفسرون: والواقعة هنا هي النفخة الآخرة، ومعنى الآية: أنها إذا وقعت
النفخة الآخرة عند البعث لم يكن هناك تكذيب بها أصلا، أو لا يكون هناك نفس تكذب على الله وتكذب بما أخبر
عنه من أمور الآخرة. قال الزجاج: ليس لوقعتها كاذبة: أي لا يردها شئ، وبه قال الحسن وقتادة. وقال
الثوري: ليس لوقعتها أحد يكذب بها. وقال الكسائي: ليس لها تكذيب: أي لا ينبغي أن يكذب بها أحد (خافضة
رافعة) قرأ الجمهور برفعهما على إضمار مبتدإ: أي هي خافضة رافعة. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي بنصبهما على
الحال. قال عكرمة والسدي ومقاتل: خفضت الصوت فأسمعت من دنا، ورفعت الصوت فأسمعت من نأى:
أي أسمعت القريب والبعيد. وقال قتادة: خفضت أقواما في عذاب الله، ورفعت أقواما إلى طاعة الله. وقال
محمد بن كعب: خفضت أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، ورفعت أقواما كانوا في الدنيا مخفوضين، والعرب
تستعمل الخفض والرفع في المكان والمكانة والعز والإهانة، ونسبة الخفض والرفع إليها على طريق المجاز، والخافض
والرافع في الحقيقة هو الله سبحانه (إذا رجت الأرض رجا) أي إذا حركت حركة شديدة، يقال رجه يرجه
رجا إذا حركه، والرجة الاضطراب، وارتج البحر اضطرب. قال المفسرون: ترتج كما يرتج الصبي في المهد
حتى ينهدم كل ما عليها وينكسر كل شئ من الجبال وغيرها. قال قتادة ومقاتل ومجاهد: معنى رجت زلزلت،
والظرف متعلق بقوله " خافضة رافعة " أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال، لأنه عند ذلك يرتفع
ما هو منخفض وينخفض ما هو مرتفع، وقيل إنه بدل من الظرف الأول ذكره الزجاج، فيكون معنى وقوع
الواقعة هو رج الأرض، وبس الجبال (وبست الجبال بسا) البس: الفت، يقال: بس الشئ إذا فته حتى
يصير فتاتا، ويقال بس السويق: إذا لته بالسمن أو بالزيت. قال مجاهد ومقاتل: المعنى أن الجبال فتتت فتا.
وقال السدى: كسرت كسرا. وقال الحسن: قلعت من أصلها. وقال مجاهد أيضا: بست كما يبس الدقيق
بالسمن أو بالزيت، والمعنى: أنها خلطت فصارت كالدقيق الملتوت. وقال أبو زيد: البس السوق، والمعنى
على هذا: سيقت الجبال سوقا. قال أبو عبيد: بس الإبل وأبسها لغتان: إذا زجرها. وقال عكرمة: المعنى
هدت هدا (فكانت هباء منبثا) أي غبارا متفرقا منتشرا. قال مجاهد: الهباء الشعاع الذي يكون في الكوة كهيئة
الغبار، وقيل هو الرهج الذي يسطع من حوافر الدواب ثم يذهب، وقيل ما تطاير من النار إذا اضطرمت على
147

سورة الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئا، وقد تقدم بيانه في الفرقان عند تفسير قوله - فجعلناه هباء منثورا - قرأ
الجمهور " منبثا " بالمثلثة. وقرأ مسروق والنخعي وأبو حيوة بالتاء المثناة من فوق: أي منقطعا، من قولهم بته الله:
أي قطعه. ثم ذكر سبحانه أحوال الناس واختلافهم فقال (وكنتم أزواجا ثلاثة) والخطاب لجميع الناس أو للأمة
الحاضرة، والأزواج الأصناف، والمعنى: وكنتم في ذلك اليوم أصنافا ثلاثة. ثم فسر سبحانه هذه الأصناف
فقال (فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة) أي أصحاب اليمين، وهم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، أو الذين يؤخذ
بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأصحاب الميمنة مبتدأ، وخبره: ما أصحاب الميمنة: أي أي شئ هم في حالهم وصفتهم،
والاستفهام للتعظيم والتفخيم، وتكرير المبتدأ هنا بلفظه مغن عن الضمير الرابط، كما في قوله - الحاقة ما الحاقة -
- والقارعة ما القارعة - ولا يجوز مثل هذا إلا في مواضع التفخيم والتعظيم (و) الكلام في (أصحاب المشأمة ما أصحاب
المشأمة) كالكلام في أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، والمراد الذي يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار أو يأخذون
صحائف أعمالهم بشمالهم، والمراد تعجيب السامع من حال الفريقين في الفخامة والفظاعة، كأنه قيل: فأصحاب الميمنة
في نهاية السعادة وحسن الحال، وأصحاب المشأمة في نهاية الشقاوة وسوء الحال. وقال السدي: أصحاب الميمنة
هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه وأصحاب المشأمة هم الذين كانوا عن شماله. وقال زيد
ابن أسلم: أصحاب الميمنة هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن، وأصحاب المشامة هم الذين أخذوا من شقة الأيسر.
وقال ابن جريج: أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات. وقال الحسن والربيع:
أصحاب الميمنة هم الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة، وأصحاب المشأمة هم المشائيم على أنفسهم بالأعمال القبيحة.
وقال المبرد: أصحاب الميمنة أصحاب التقدم، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخر، والعرب تقول: اجعلني في يمينك
ولا تجعلني في شمالك: أي اجعلني من المتقدمين ولا تجعلني من المتأخرين، ومنه قول ابن الدمينة:
أبنيتي أفي يمنى يديك جعلتني * فأفرح أم صيرتني في شمالك
ثم ذكر سبحانه الصنف الثالث فقال (والسابقون السابقون) والتكرير فيه للتفخيم والتعظيم كما مر في
القسمين الأولين، كما تقول أنت أنت وزيد زيد، والسابقون مبتدأ، وخبره السابقون. وفيه تأويلان: أحدهما أنه
بمعنى السابقون هم الذين اشتهرت حالهم بذلك. والثاني أن متعلق السابقين مختلف، والتقدير: والسابقون إلى
الإيمان السابقون إلى الجنة. والأول أولى لما فيه من الدلالة على التفخيم والتعظيم. قال الحسن وقتادة: هم السابقون
إلى الإيمان من كلامه. وقال محمد بن كعب: إنهم الأنبياء. وقال ابن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين.
وقال مجاهد: هم الذين سبقوا إلى الجهاد، وبه قال الضحاك. وقال سعيد بن جبير: هم السابقون إلى التوبة وأعمال
البر. وقال الزجاج: المعنى والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله. قيل ووجه تأخير هذا الصنف
الثالث مع كونه أشرف من الصنفين الأولين هو أن يقترن به وما بعده، وهو قوله (أولئك المقربون في جنات
النعيم) فالإشارة هي إليهم: أي المقربون إلى جزيل ثواب الله وعظيم كرامته، أو الذين قربت درجاتهم وأعليت
مراتبهم عند الله. وقوله " في جنات النعيم " متعلق بالمقربون: أي مقربون عند الله في جنات النعيم. ويجوز أن
يكون خبرا ثانيا لأولئك، وأن يكون حالا من الضمير في المقربون: أي كائنين فيها. قرأ الجمهور " في جنات "
بالجمع، وقرأ طلحة بن مصرف " في جنة " بالإفراد، وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه
كما يقال: دار الضيافة ودار الدعوة ودار العدل، وارتفاع (ثلة من الأولين) على أنه خبر مبتدإ محذوف: أي
148

هم ثلة، والثلة الجماعة التي لا يحصر عددها. قال الزجاج: معنى ثلة معنى فرقة، من ثللت الشئ: إذا قطعته،
والمراد بالأولين هم الأمم السابقة من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه وآله وسلم (وقليل من الآخرين) أي من هذه
الأمة، وسموا قليلا بالنسبة إلى من كان قبلهم، وهم كثيرون لكثرة الأنبياء فيهم وكثرة من أجابهم. قال الحسن:
سابقو من مضى أكثر من سابقينا. قال الزجاج: الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدقوا بهم أكثر ممن عاين النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، ولا يخالف هذا ما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم " اني لأرجو أن
تكونوا ربع أهل الجنة، ثم قال: ثلث أهل الجنة، ثم قال: نصف أهل الجنة " لأن قوله " ثلة من الأولين وقليل
من الآخرين " إنما هو تفصيل للسابقين فقط كما سيأتي في ذكر أصحاب اليمين أنهم ثلة من الأولين وثلة من الأخرين،
فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم، فيجتمع من قليل
سابقي هذه الأمة ومن ثلة أصحاب اليمين منها من يكون نصف أهل الجنة، والمقابلة بين الثلتين في أصحاب اليمين
لا تستلزم استواءهما لجواز أن يقال: هذه الثلة أكثر من هذه الثلة كما يقال: هذه الجماعة أكثر من هذه الجماعة
وهذه الفرقة أكثر من هذه الفرقة، وهذه القطعة أكثر من هذه القطعة. وبهذا تعرف أنه لم يصب من قال إن هذه
الآية منسوخة بالحديث المذكور. ثم ذكر سبحانه حالة أخرى للسابقين المقربين فقال (على سرر موضونة) قرأ
الجمهور " سرر " بضم السين والراء الأولى، وقرأ أبو السماك وزيد بن علي بفتح الراء، وهي لغة كما تقدم،
والموضونة المنسوجة، والوضن: النسخ المضاعف. قال الواحدي: قال المفسرون: منسوخة بقضبان الذهب،
وقيل مشبكة بالدر والياقوت والزبرجد، وقيل إن الموضونة المصفوفة. وقال مجاهد: الموضونة المرمولة بالذهب،
وانتصاب (متكئين عليها) على الحال، وكذا انتصاب (متقابلين) والمعنى: مستقرين على سرر متكئين عليها
متقابلين لا ينظر بعضهم قفا بعض (يطوف عليهم ولدان مخلدون) الجملة في محل نصب على الحال من المقربين،
أو مستأنفة لبيان بعض ما أعد الله لهم من النعيم، والمعنى يدور حولهم للخدمة غلمان لا يهرمون ولا يتغيرون، بل
شكلهم شكل الولدان دائما. قال مجاهد: المعنى لا يموتون. وقال الحسن والكلبي: لا يهرمون ولا يتغيرون. قال
الفراء: والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط إنه لمخلد. وقال سعيد بن جبير: مخلدون مقرطون. قال الفراء:
ويقال مخلدون مقرطون، يقال خلد جاريته: إذا حلاها بالخلدة، وهي القرطة. وقال عكرمة: مخلدون منعمون،
ومنه قول امرئ القيس:
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد * قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وقيل مستورون بالحلية، وروى نحوه عن الفراء، ومنه قول الشاعر:
ومخلدات باللجين كأنما * أعجازهن أقاوز الكثبان *
وقيل مخلدون ممنطقون، قيل وهم ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا ولا حسنة لهم ولا سيئة، وقيل هم أطفال
المشركين، ولا يبعد أن يكونوا مخلوقين في الجنة للقيام بهذه الخدمة، والأكواب: هي الأقداح المستديرة الأفواه
التي لا آذان لها ولا عرى، وقد مضى بيان معناها في سورة الزخرف، والأباريق: هي ذات العرى والخراطيم،
واحدها إبريق، وهو الذي يبرق لونه من صفائه (وكأس من معين) أي من خمر جارية أو من ماء جار، والمراد
به ها هنا الخمر الجارية من العيون، وقد تقدم بيان معنى الكأس في سورة الصافات (لا يصدعون عنها) أي
لا تتصدع رؤوسهم من شربها كما تتصدع من شرب خمر الدنيا. والصداع هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان
149

في رأسه، وقيل معنى لا يصدعون لا يتفرقون كما يتفرق الشراب، ويقوى هذا المعنى قراءة مجاهد " يصدعون " بفتح
الياء وتشديد الصاد، والأصل يتصدعون: أي يتفرقون، والجملة مستأنفة لبيان ما أعد الله لهم من النعيم، أو في
محل نصب على الحال، وجملة (ولا ينزفون) معطوفة على الجملة التي قبلها، وقد تقدم اختلاف القراء في هذا
الحرف في سورة الصافات، وكذلك تقدم تفسيره: أي لا يسكرون فتذهب عقولهم، من أنزف الشارب: إذا
نفذ عقله أو شرابه، ومنه قول الشاعر:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم * لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
(وفاكهة مما يتخيرون) أي يختارونه، يقال: تخيرت الشئ: إذا أخذت خيره. قرأ الجمهور " وفاكهة " بالجر
(و) كذا (لحم) عطفا على أكواب: أي يطوفون عليهم بهذه الأشياء المأكول والمشروب والمتفكه به. وقرأ زيد
ابن علي وأبو عبد الرحمن برفعهما على الابتداء، والخبر مقدر: أي ولهم فاكهة ولحم، ومعنى (مما يشتهون) مما
يتمنونه وتشتهيه أنفسهم (وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون) قرأ الجمهور " حور عين " برفعهما عطفا على ولدان
أو على تقدير مبتدأ: أي نساؤهم حور عين، أو على تقدير خبر: أي ولهم حور عين، وقرأ حمزة والكسائي:
بجرهما عطفا على أكواب. قال الزجاج: وجائز أن يكون معطوفا على جنات: أي هم في جنات وفي حور على
تقدير مضاف محذوف: أي وفي معاشرة حور. قال الفراء: في توجيه العطف على أكواب إنه يجوز الجر على
الاتباع في اللفظ وإن اختلفا في المعنى، لأن الحور لا يطاف بهن، كما في قول الشاعر:
إذا ما الغانيات برزن يوما * وزججن الحواجب والعيونا
والعين لا تزجج وإنما تكحل، ومن هذا قول الشاعر: علفتها تبنا وماء باردا وقول الآخر:
متقلدا سيفا ورمحا قال قطرب: هو معطوف على الأكواب والأباريق من غير حمل على المعنى. قال:
ولا ينكر أن يطاف عليهم بالحور: ويكون لهم في ذلك لذة. وقرأ الأشهب العقيلي والنخعي وعيسى بن عمر
بنصبهما على تقدير إضمار فعل، كأنه قيل: ويزوجون حورا عينا، أو ويعطون، ورجح أبو عبيد وأبو حاتم
قراءة الجمهور. ثم شبههن سبحانه باللؤلؤ المكنون، وهو الذي لم تمسه الأيدي ولا وقع عليه الغبار، فهو أشد
ما يكون صفاء، وانتصاب جزاء في قوله (جزاء بما كانوا يعملون) على أنه مفعول له: أي يفعل بهم ذلك كله
للجزاء بأعمالهم. ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لفعل محذوف: أي يجزون جزاء، وقد تقدم تفسير الحور العين في
سورة الطور وغيرها (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما) اللغو الباطل من الكلام، والتأثيم النسبة إلى الإثم. قال محمد بن
كعب: لا يؤثم بعضهم بعضا، وقال مجاهد: لا يسمعون شتما ولا مأثما، والمعنى: أنه لا يقول بعضهم لبعضهم
أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم (إلا قيلا سلاما سلاما) القيل القول، والاستثناء منقطع: أي لكن يقولون
قيلا، أو يسمعون قيلا، وانتصاب سلاما سلاما على أنه بدل من قيلا، أو صفة له، أو هو مفعول به لقيلا: أي
إلا أن يقولوا سلاما سلاما، واختار هذا الزجاج، أو على أنه منصوب بفعل هو محكى بقيلا: أي إلا قيلا سلموا
سلاما سلاما، والمعنى في الآية: أنهم لا يسمعون إلا تحية بعضهم لبعض. قال عطاء: يحيى بعضهم بعضا بالسلام،
وقيل إن الاستثناء متصل وهو بعيد، لأن التحية ليست مما يندرج تحت اللغو والتأثيم، قرئ " سلام سلام "
بالرفع. قال مكي: ويجوز الرفع على معنى سلام عليكم مبتدأ وخبر.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (إذا
150

(وقعت الواقعة (قال: يوم القيامة (ليس لوقعتها كاذبة) قال: ليس لها مرد يرد (خافضة رافعة) قال: تخفض
ناسا وترفع آخرين. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه (خافضة رافعة) قال: أسمعت القريب والبعيد. وأخرج
ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب (خافضة رافعة) قال: الساعة خفضت أعداء الله إلى النار، ورفعت أولياء الله
إلى الجنة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (إذا رجت الأرض رجا) قال: زلزلت
(وبست الجبال بسا) قال: فتنت (فكانت هباء منبثا) قال: شعاع الشمس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
عنه (فكانت هباء منبثا) قال: الهباء الذي يطير من النار إذا أضرمت يطير منها الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئا..
وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال: الهباء ما يثور مع شعاع الشمس، وانبثائه تفرقه. وأخرج عبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال: الهباء المنبث دهج الدواب، والهباء المنثور غبار الشمس الذي
تراه في شعاع الكوة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (وكنتم أزواجا) قال: أصنافا. وأخرج ابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه في قوله (وكنتم أزواجا ثلاثة) قال: هي التي في سورة الملائكة - ثم أورثنا الكتاب الذين
اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات -. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه
أيضا في قوله (والسابقون السابقون) قال: يوشع بن نون سبق إلى موسى، ومؤمن آل ياسين سبق إلى عيسى،
وعلي بن أبي طالب سبق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في الآية قال:
نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار الذي ذكر في يس، وعلي بن أبي طالب، وكل رجل منهم
سابق أمته، وعلى أفضلهم سبقا. وأخرج أحمد عن معاذ بن جبل " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا
هذه الآية (وأصحاب اليمين - وأصحاب الشمال) فقبض بيديه قبضتين فقال: هذه في الجنة ولا أبالي، وهذه في النار
ولا أبالي ". وأخرج أحمد أيضا عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " أتدرون من السابقون
إلى ظل الله يوم القيامة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوا بذلوا،
وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم ". وأخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال:
لما نزلت (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت (ثلة
من الأولين وثلة من الآخرين) فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث
الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسموهم النصف الثاني ". وأخرج ابن جرير
وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن عباس (على سرر موضونة) قال: مصفوفة. وأخرج سعيد بن منصور
وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عنه. قال: مرمولة بالذهب. وأخرج
ابن أبي الدنيا في صفة الجنة والبزار وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا ". وأخرج أحمد والترمذي
والضياء عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر
الجنة، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذه الطير لناعمة، قال: آكلها أنعم منها، وإني لأرجوا أن تكون ممن
يأكل منها " وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (كأمثال اللؤلؤ المكنون) قال:
الذي في الصدف. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (لا يسمعون فيها لغوا) قال: باطلا (ولا تأثيما) قال: كذبا
الواقعة (27 - 53)
151

لما فرغ سبحانه من ذكر أحوال السابقين وما أعده لهم من النعيم المقيم، ذكر أحوال أصحاب اليمين فقال
(وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين) قد قدمنا وجه إعراب هذا الكلام، وما في هذه الجملة الاستفهامية من التفخيم
والتعظيم، وهي خبر المبتدأ، وهو أصحاب اليمين، وقوله (في سدر مخضود) خبر ثان أو خبر مبتدإ محذوف:
أي هم في سدر مخضود، والسدر نوع من الشجر، والمخضود الذي خضد شوكه: أي قطع فلا شوك فيه. قال
أمية بن أبي الصلت يصف الجنة:
إن الحدائق في الجنان ظليلة * فيها الكواعب سدرها مخضود
وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان: إن السدر المخضود الموقر حملا (وطلح منضود) قال أكثر
المفسرين: إن الطلح في الآية هو شجر الموز. وقال جماعة: ليس هو شجر الموز، ولكنه الطلح المعروف وهو
أعظم أشجار العرب. قال الفراء وأبو عبيدة: هو شجر عظام لها شوك. قال الزجاج: الطلح هو أم غيلان، ولها
نور طيب، فخوطبوا ووعدوا ما يحبون، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا.
قال: ويجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه. قال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا: لكن له ثمر أحلى
من العسل، والمنضود: المتراكب الذي قد نضد أوله وآخره بالحمل ليس له سوق بارزة. قال مسروق: أشجار
الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيد ثمر كله، كلما أخذت ثمرة عاد مكانها أحسن منها (وظل ممدود) أي دائم باق
لا يزول ولا ننسخه الشمس. قال أبو عبيدة: والعرب تقول لكل شئ طويل لا ينقطع ممدود، ومنه قوله - ألم تر
إلى ربك كيف مد الظل - والجنة كلها ظل لا شمس معه. قال الربيع بن أنس: يعني ظل العرش، ومن استعمال
العرب للممدود في الدائم الذي لا ينقطع قول لبيد:
غلب العزاء وكان غير مغلب * دهر طويل دائم ممدود
152

(وماء مسكوب) أي منصب يجري بالليل والنهار أينما شاءوا لا ينقطع عنهم، فهو مسكوب يسكبه الله في
مجاريه، وأصل السكب الصب، يقال سكبه سكبا: أي صبه (وفاكهة كثيرة) أي ألوان متنوعة متكثرة
(لا مقطوعة) في وقت من الأوقات كما تنقطع فواكه الدنيا في بعض الأوقات (ولا ممنوعة) أي لا تمتنع على من
أرادها في أي وقت على أي صفة، بل هي معدة لمن أرادها لا يحول بينه وبينها حائل. قال ابن قتيبة: يعني أنها
غير محظورة عليها كما يحظر على بساتين الدنيا (وفرش مرفوعة) أي مرفوع بعضها فوق بعض، أو مرفوعة على
الأسرة. وقيل إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة، وارتفاعها كونها على الأرائك، أو كونها مرتفعات
الأقدار في الحسن والكمال (إنا أنشأناهن إنشاء) أي خلقناهن خلقا جديدا من غير توالد، وقيل المراد نساء بني
آدم، والمعنى: أن الله سبحانه أعادهن بعد الموت إلى حال الشباب، والنساء وإن لم يتقدم لهن ذكر لكنهن قد
دخلن في أصحاب اليمين، وأما على قول من قال: إن الفرش المرفوعة عين النساء فمرجع الضمير ظاهر (فجعلناهن
أبكارا) - لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان - (عربا أترابا) العرب جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها. قال
المبرد: هي العاشقة لزوجها، ومنه قول لبيد:
وفي الخباء عروب غير فاحشة * ريا الروادف يعشي ضوؤها البصرا
وقال زيد بن أسلم: هي الحسنة الكلام. قرأ الجمهور بضم العين والراء. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بإسكان
الراء وهما لغتان في جمع فعول، والأتراب: هن اللواتي على ميلاد واحد وسن واحد. وقال مجاهد: أترابا أمثالا
وأشكالا. وقال السدي: أترابا في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد. قوله (لأصحاب اليمين) متعلق بأنشأناهن
أو بجعلنا أو بأترابا، والمعنى: أن الله أنشأهن لأجلهم أو خلقهن لأجلهم أو هن مساويات لأصحاب اليمين في
السن، أو هو خبر لمبتدأ محذوف: أي هن لأصحاب اليمين (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) هذا راجع إلى
قوله (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين) أي هم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، وقد تقدم تفسير الثلة عند ذكر
السابقين، والمعنى: أنهم جماعة أو أمة أو فرقة أو قطعة من الأولين، وهم من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه وآله
وسلم، وجماعة أو أمة أو فرقة قطعة من الآخرين وهم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقال أبو العالية
ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك: ثلة من الأولين. يعني من سابقي هذه الأمة، وثلة من الآخرين من هذه
الأمة من آخرها، ثم لما فرغ سبحانه مما أعده لأصحاب اليمين شرع في ذكر أصحاب الشمال وما أعده لهم فقال
(وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال) الكلام في إعراب هذا وما فيه من التفخيم كما سبق في أصحاب اليمين، وقوله
(في سموم وحميم) إما خبر ثان لأصحاب الشمال أو خبر مبتدإ محذوف، والسموم: حر النار، والحميم: الماء الحار
الشديد الحرارة، وقد سبق بيان معناه. وقيل السموم: الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن (وظل من يحموم)
اليحموم يفعول من الأحم: وهو الأسود، والعرب تقول أسود يحموم: إذا كان شديد السواد، والمعني: أنهم
يفزعون إلى الظل فيجدونه ظلا من دخان جهنم شديد السواد. وقيل وهو مأخوذ من الحم وهو الشحم المسود
باحتراق النار. وقيل مأخوذ من الحمم وهو الفحم. قال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود وكل ما فيها أسود.
ثم وصف هذا الظل بقوله (لا بارد ولا كريم) أي ليس كغيره من الظلال التي تكون باردة، بل هو حار لأنه من
دخان نار جهنم. قال سعيد بن المسيب: ولا كريم: أي ليس فيه حسن منظر وكل مالا خير فيه فليس بكريم
وقال الضحاك: ولا كريم ولا عذب. قال الفراء: العرب تجعل الكريم تابعا لكل شئ نفت عنه وصفا تنوي
153

به الذم، تقول: ما هو بسمين ولا بكريم، وما هذه الدار بواسعة ولا كريمة. ثم ذكر سبحانه أعمالهم التي استحقوا
بها هذا العذاب فقال (إنهم كانوا قبل ذلك مترفين) وهذه الجملة تعليل لما قبلها: أي إنهم كانوا قبل هذا العذاب
النازل بهم مترفين في الدنيا: أي منعمين بما لا يحل لهم، والمترف المتنعم. وقال السدى: مشركين، وقيل متكبرين،
والأول أولى (وكانوا يصرون على الحنث العظيم) الحنث الذنب: أي يصرون على الذنب العظيم. قال الواحدي:
قال أهل التفسير: عني به الشرك: أي كانوا لا يتوبون عن الشرك. وبه قال الحسن والضحاك وابن زيد. وقال
قتادة ومجاهد: هو الذنب العظيم الذي لا يتوبون عنه. وقال الشعبي: هو اليمين الغموس، (وكانوا يقولون أئذا
متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) الهمزة في الموضعين للإنكار والاستبعاد، وقد تقدم الكلام على هذا في
الصافات، وفي سورة الرعد، والمعنى: أنهم أنكروا واستبعدوا أن يبعثوا بعد الموت، وقد صاروا عظاما وترابا،
والمراد أنه صار لحمهم وجلودهم ترابا وصارت عظامهم نخرة بالية، والعامل في الظرف ما يدل عليه مبعوثون،
لأن ما بعد الاستفهام لا يعمل فيما قبله: أي انبعث إذا متنا؟ الخ (أو آباؤنا الأولون) معطوف على الضمير في
لمبعوثون لوقوع الفصل بينهما بالهمزة، والمعنى: أن بعث آبائهم الأولين أبعد لتقدم موتهم، وقرئ وآباؤنا. ثم
أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم ويرد استبعادهم فقال (قل إن الأولين والآخرين لمجموعون) أي قل لهم
يا محمد إن الأولين من الأمم والآخرين منهم الذين أنتم من جملتهم لمجموعون بعد البعث (إلى ميقات يوم معلوم)
وهو يوم القيامة (ثم إنكم أيها الضالون المكذبون) هذا وما بعده من جملة ما هو داخل تحت القول، وهو معطوف
على " إن الأولين " ووصفهم سبحانه بوصفين قبيحين، وهما الضلال عن الحق والتكذيب له (لآكلون من شجر
من زقوم) أي لآكلون في الآخرة من شجر كريه المنظر كريه الطعم، وقد تقدم تفسيره في سورة الصافات،
ومن الأولى لابتداء الغاية، والثانية بيانية، ويجوز أن تكون الأولى مزيدة، والثانية بيانية، وأن تكون الثانية
مزيدة، والأولى للابتداء (فمالئون منها البطون) أي مالئون من شجر الزقوم بطونكم لما يلحقكم من شدة الجوع
(فشاربون عليه من الحميم) الضمير في عليه عائد إلى الزقوم، والحميم الماء الذي قد بلغ حره إلى الغاية، والمعنى:
فشاربون على الزقوم عقب أكله من الماء الحار، ويجوز أن يعود الضمير إلى شجر لأنه يذكر ويؤنث.
ويجوز أن يعود إلى الأكل المدلول عليه بقوله " لآكلون "، وقرئ " من شجرة " بالإفراد (فشاربون شرب الهم)
قرأ الجمهور " شرب الهيم " بفتح الشين، وقرأ نافع وعاصم وحمزة بضمها، وقرأ مجاهد وأبو عثمان النهدي بكسرها،
وهي لغات قال. أبو زيد: سمعت العرب تقول بضم السين وفتحها وكسرها. قال المبرد: الفتح على أصل المصدر
والضم اسم المصدر، والهيم: الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها، وهذه الجملة بيان لما قبلها: أي لا يكون
شربكم شربا معتادا بل يكون مثل شرب الهيم التي تعطش ولا تروى بشرب الماء، ومفرد الهيم أهيم، والأنثى
هيماء. قال قيس بن الملوح:
يقال به داء الهيام أصابه * وقد علمت نفسي مكان شفائيا
وقال الضحاك وابن عيينة والأخفش وابن كيسان: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل، والمعنى: أنهم
يشربون كما تشرب هذه الأرض الماء ولا يظهر له فيها أثر. قال في الصحاح: الهيام بالضم: أشد العطش،
والهيام كالجنون من العشق، والهيام: داء يأخذ الإبل تهيم في الأرض لا ترعى، يقال ناقة هيماء، والهيماء أيضا:
المفازة لا ماء بها، والهيام بالفتح: الرمل الذي لا يتماسك في اليد للينه، والجمع هيم مثل قذال وقذل، والهيام
154

بالكسر الإبل العطاش (هذا نزلهم يوم الدين) قرأ الجمهور " نزلهم بضمتين، وروى عن أبي عمرو وابن محيصن
بضمة وسكون، وقد تقدم أن النزل ما يعد للضيف، ويكون أول ما يأكله، ويوم الدين يوم الجزاء وهو يوم
القيامة، والمعني: أن ما ذكر من شجر الزقوم وشراب الحميم هو الذي يعد لهم ويأكلونه يوم القيامة، وفي هذا
تهكم بهم، لأن النزل هو ما يعد للأضياف تكرمة لهم، ومثل هذا قوله - فبشرهم بعذاب أليم -.
وقد أخرج الحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي أمامة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقولون: إن الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم، أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله ذكر في القرآن شجرة مؤذية،
وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها: قال: وما هي؟ قال: السدر فإن لها شوكا، فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: أليس الله يقول (في سدر مخضود؟) يخضد الله شوكة، فيجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها
تنبت ثمرا يتفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما منها لون يشبه الآخر. وأخرج ابن أبي داود والطبراني
وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن عيينة بن عبد السلمي قال " كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
فجاء أعرابي فقال: يا رسول الله أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكثر شوكا منها: يعني الطلح، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خصية التيس الملبود: يعني
الخصي منها، فيها سبعون لونا من الطعام لا يشبه لون آخر ". وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (سدر
مخضود) قال: خضده وقره من الحمل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طرق عنه قال:
المخضود الذي لا شوك فيه. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا قال: المخضود الموقر الذي لا شوك فيه. وأخرج
عبد الرزاق والفريابي وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن علي بن أبي طالب في قوله (وطلح
منضود) قال: هو الموز. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من
طرق عن ابن عباس مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن أبي هريرة مثله. وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أنه
قرأ " وطلع منضود ". وأخرج ابن جرير وابن الأنباري في المصاحف عن قيس بن عباد قال: قرأت على علي
ابن أبي طالب (وطلح منضود) فقال علي: ما بال الطلح، أما تقرأ وطلع؟ ثم قال: (وطلع نضيد)، فقيل له:
يا أمير المؤمنين أنحكها في المصحف؟ قال: لا يهاج القرآن اليوم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله
(منضود) قال: بعضه على بعض. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرءوا إن شئتم (وظل ممدود) ".
وأخرج البخاري وغيره نحوه من حديث أنس. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما نحوه من حديث أبي سعيد.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله
(وفرش مرفوعة) قال: ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام. قال الترمذي بعد إخراجه
هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد انتهى، ورشدين ضعيف. وأخرج الفرياني وهناد وعبد
ابن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أنس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (إنا أنشأناهن إنشاء) قال: إن المنشئات التي كن في الدنيا عجائز
عمشا رمصا. قال الترمذي: بعد إخراجه غريب، وموسى ويزيد ضعيفان. وأخرج الطيالسي وابن جرير وابن
أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وابن قانع والبيهقي في البعث عن سلمة بن يزيد الجعفي سمعت النبي صلى الله عليه
155

وآله وسلم يقول في قوله (إنا أنشأناهن إنشاء) قال: الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا. وأخرج ابن المنذر
عن ابن عباس في الآية قال: خلقهن غير خلقهن الأول. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (أبكارا) قال: عذارى.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (عربا)
قال: عواشق (أترابا) يقول: مستويات. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (عربا) قال: عواشق لأزواجهن
وأزواجهن لهن عاشقون (أترابا) قال: في سن واحد ثلاثا وثلاثين سنة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
عنه أيضا قال: العروب الملقة لزوجها. وأخرج مسدد في مسنده وابن المنذر والطبراني وابن مردويه بسند حسن
عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) قال: جميعهما من
هذه الأمة. وأخرج أبو داود الطيالسي ومسدد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن أبي بكرة في قوله
(ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) قال: هما جميعا من هذه الأمة. وأخرج الفرياني وعبد بن حميد وابن جرير
وابن المنذر وابن عدي وابن مردويه. قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عباس " في قوله (ثلة من الأولين وثلة من
الآخرين) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هما جميعا من أمتي ". وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر
وابن مردويه عن ابن عباس قال: الثلتان جميعا من هذه الأمة. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله (وظل من يحموم) قال: من
دخان أسود، وفي لفظ: من دخان جهنم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(شرب الهيم) قال: الإبل العطاش.
سورة الواقعة (58 - 74)
قوله (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) التفت سبحانه إلى خطاب الكفرة تبكيتا لهم وإلزاما للحجة: أي فهلا
تصدقون بالبعث أو بالخلق. قال مقاتل: خلقناكم ولم تكونوا شيئا وأنتم تعلمون ذلك فهلا تصدقون بالبعث؟
(أفرأيتم ما تمنون) أي ما تقذفون وتصبون في أرحام النساء من النطف، ومعنى أفرأيتم: أخبروني، ومفعولها الأول
ما تمنون، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي (أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) أي تقدرونه وتصورونه بشرا سويا
156

أم نحن المقدرون المصورون له، وأم هي المتصلة، وقيل هي المنقطعة، والأول أولى. قرأ الجمهور " تمنون " بضم
الفوقية من أمنى يمنى. وقرأ ابن عباس وأبو السماك ومحمد بن السميفع والأشهب العقيلي بفتحها من منى يمنى،
وهما لغتان، وقيل معناهما مختلف، يقال أمنى إذا أنزل عن جماع، ومنى إذا أنزل عن احتلام، وسمى المنى منيا
لأنه يمنى: أي يراق (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين) قرأ الجمهور " قدرنا " بالتشديد، وقرأ مجاهد
وحميد وابن محيصن وابن كثير بالتخفيف، وهما لغتان، يقال قدرت الشئ وقدرته: أي قسمناه عليكم ووقتناه
لكل فرد من أفرادكم، وقيل قضينا، وقيل كتبنا، والمعنى متقارب. قال مقاتل: فمنكم من يموت كبيرا ومنكم
من يموت صغيرا. وقال الضحاك: معناه أنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء - وما نحن بمسبوقين -
بمغلوبين، بل قادرين (على أن نبدل أمثالكم) أي نأتي بخلق مثلكم. قال الزجاج: إن أردنا أن نخلق خلقا غيركم
لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا. قال ابن جرير: المعنى نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين
من جنسكم وما نحن بمسبوقين في آجالكم: أي لا يتقدم متأخر ولا يتأخر متقدم (وننشئكم فيما لا تعلمون) من
الصور والهيئات. قال الحسن: أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم، وقيل المعنى: ننشئكم في البعث
على غير صوركم في الدنيا. وقال سعيد بن المسيب: فيما لا تعلمون: يعنى في حواصل طيور سود تكون ببرهوت
كأنها الخطاطيف. وبرهوت واد باليمن. وقال مجاهد (فيما لا تعلمون) يعنى في أي خلق شئنا، ومن كان قادرا
على هذا فهو قادر على البعث (ولقد علمتم النشأة الأولى) وهي ابتداء الخلق من نطفة، ثم من علقة، ثم من
مضغة ولم تكونوا قبل ذلك شيئا. وقال قتادة والضحاك: يعنى خلق آدم من تراب (فلولا تذكرون) أي فهلا
تذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة وتقيسونها على النشأة الأولى. قرأ الجمهور " النشأة " بالقصر، وقرأ
مجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو بالمد، وقد مضى تفسير هذا في سورة العنكبوت (أفرأيتم ما تحرثون) أي
أخبروني ما تحرثون من أرضكم فتطرحون فيه البذر (أأنتم تزرعونه) أي تنبتونه وتجعلونه زرعا فيكون فيه السنبل
والحب (أم نحن الزارعون) أي المنبتون له الجاعلون له زرعا لا أنتم. قال المبرد: يقال زرعه الله: أي أنماه،
فإذا أقررتم بهذا فكيف تنكرون البعث (لو نشاء جعلناه حطاما) أي لو نشاء لجعلنا ما تحرثون حطاما: أي متحطما
متكسرا، والحطام: الهشم الذي لا ينتفع به ولا يحصل منه حب ولا شئ مما يطلب من الحرث (فظلتم تفكهون) أي
صرتم تعجبون. قال الفراء: تفكهون تتعجبون فيما نزل بكم في زرعكم. قال في الصحاح: وتفكه تعجب.
ويقال تندم. قال الحسن وقتادة وغيرهما: معنى الآية: تعجبون من ذهابها وتندمون مما حل بكم. وقال عكرمة:
تلامون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله. وقال أبو عمرو والكسائي: هو التلهف على ما فات. قرأ
الجمهور " فظلتم " بفتح الظاء مع لام واحدة. وقرأ أبو حيوة وأبو بكر في رواية عنه بكسر الظاء. وقرأ ابن
عباس والجحدري " فظللتم " بلامين: أولاهما مكسورة على الأصل، وروى عن الجحدري فتحها، وهي لغة.
وقرأ الجمهور " تفكهون " وقرأ أبو حزام العكلي " تفكنون " بالنون مكان الهاء: أي تندمون. قال ابن خالويه:
تفكه تعجب. وتفكن تندم. وفي الصحاح التفكن التندم (إنا لمغرمون) قرأ الجمهور بهمزة واحدة على الخبر،
وقرأ أبو بكر والمفضل وزر بن حبيش بهمزتين على الاستفهام، والجملة بتقدير القول: أي تقولون إنا لمغرمون:
أي ملزمون غرما بما هلك من زرعنا، والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض، قاله الضحاك وابن كيسان. وقيل
المعنى: إنا لمعذبون، قاله قتادة وغيره. وقال مجاهد وعكرمة: لمولع بنا، ومنه قول النمر بن تولب:
157

سلا عن تذكره تكتما * وكان رهينا بها مغرما
يقال أغرم فلان بفلان: أي أولع. وقال مقاتل: مهلكون. قال النحاس: مأخوذ من الغرام، وهو الهلاك
ومنه قول الشاعر:
ويوم النسار ويوم الجبار * كان عليكم عذابا مقيما
والظاهر من السياق المعنى الأول: أي إنا لمغرمون بذهاب ما حرثناه ومصيره حطاما، ثم أضربوا عن قولهم هذا
وانتقلوا فقالوا (بل نحن محرومون) أي حرمنا رزقنا بهلاك زرعنا، والمحروم الممنوع من الرزق الذي لاحظ له
فيه، وهو المحارف (أفرأيتم الماء الذي تشربون) فتسكنون به ما يلحقكم من العطش وتدفعون به ما ينزل بكم من
الظمأ. واقتصر سبحانه على ذكر الشرب مع كثرة فوائد الماء ومنافعه، لأنه أعظم فوائده وأجل منافعه (أأنتم
أنزلتموه من المزن) أي السحاب. قال في الصحاح: قال أبو زيد: المزنة السحابة البيضاء، والجمع مزن والمزنة
المطر. قال الشاعر:
ألم تر أن الله أنزل مزنة * وعفر الظبا في الكنائس تقمع
ومما يدل على أنه السحاب قول الشاعر:
فنحن كماء المزن ما في نصابنا * كهام ولا فينا يعد بخيل
وقول الآخر: فلا مزنة ودقت ودقها * ولا أرض أبقل إبقالها
(أم نحن المنزلون) له بقدرتنا دون غيرنا، فإذا عرفتم ذلك، فكيف لا تقرون بالتوحيد وتصدقون
بالبعث. ثم بين لهم سبحانه أنه لو يشاء لسلبهم هذه النعمة فقال (لو نشاء جعلناه أجاجا) الأجاج الماء الشديد الملوحة
الذي لا يمكن شربه، وقال الحسن: هو الماء المر الذي لا ينتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما (فلولا
تشكرون) أي فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماء عذبا تشربون منه وتنتفعون به (أفرأيتم النار التي
تورون) أي أخبروني عنها، ومعنى تورون: تستخرجونها بالقدح من الشجر الرطب، يقال أوريت النار إذا
قدحتها (أأنتم أنشأتم شجرتها) التي يكون منها الزنود، وهي المرخ والعفار، تقول العرب: في كل شجر نار
واستمجد المرخ والعفار (أم نحن المنشئون) لها بقدرتنا دونكم، ومعنى الإنشاء الخلق، وعبر عنه بالإنشاء للدلالة
على ما في ذلك من بديع الصنعة وعجيب القدرة (نحن جعلناها تذكرة) أي جعلنا هذه النار التي في الدنيا تذكرة
لنار جهنم الكبرى. قال مجاهد وقتادة: تبصرة للناس في الظلام، وقال عطاء: موعظة ليتعظ بها المؤمن (ومتاعا
للمقوين) أي منفعة للذين ينزلون بالقواء، وهي الأرض القفر كالمسافرين وأهل البوادي النازلين في الأراضي
المقفرة، يقال أرض قواء بالمد والقصر: أي مقفرة، ومنه قول النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند * أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقال عنترة: حييت من طلل تقادم عهده * أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
وقول الآخر: ألم تسأل الربع القواء فينطق * وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق
ويقال أقوى إذا سافر: أي نزل القوي. وقال مجاهد: المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ
والخبز والاصطلاء والاستضاءة، وتذكر نار جهنم. وقال ابن زيد: للجائعين في إصلاح طعامهم، يقال:
أقويت منذ كذا وكذا: أي ما أكلت شيئا، وبات فلان القوي: أي بات جائعا، ومنه قول الشاعر:
158

وإني لأختار القوي طاوى الحشا * محافظة من أن يقال لئيم
وقال قطرب: المقوى من الأضداد يكون بمعنى الفقر، ويكون بمعنى الغنى، يقال أقوى الرجل إذا لم يكن
معه زاد، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله. وحكى الثعلبي عن أكثر المفسرين القول الأول، وهو الظاهر
(فسبح باسم ربك العظيم) الفاء لترتيب ما بعدها من ذكر الله سبحانه، وتنزيهه على ما قبلها مما عدده من النعم التي
أنعم بها على عباده وجحود المشركين لها وتكذيبهم بها.
وقد أخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في الشعب وضعفه عن أبي هريرة. قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا يقولن أحدكم زرعت، ولكن يقول حرثت ". قال أبو هريرة: ألم
تسمعوا الله يقول (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون). وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (تفكهون)
قال: تعجبون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال (المزن) السحاب. وأخرج
عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس (نحن جعلناها تذكرة)
قال: تذكرة للنار الكبرى (ومتاعا للمقوين) قال: للمسافرين.
الواقعة (75 - 96)
قوله (فلا أقسم) ذهب جمهور المفسرين إلى أن لا مزيدة للتوكيد، والمعنى: فأقسم، ويؤيد هذا قوله بعد
(وإنه لقسم) وقال جماعة من المفسرين: إنها للنفي، وإن المنفي بها محذوف، وهو كلام الكفار الجاحدين. قال
الفراء: هي نفي، والمعنى: ليس الأمر كما تقولون. ثم استأنف فقال أقسم، وضعف هذا بأن حذف اسم لا
وخبرها غير جائز، كما قال أبو حيان وغيره. وقيل إنها لام الابتداء، والأصل فلا أقسم فأشعت الفتحة فتولد
منها ألف، كقول الشاعر:
أعوذ بالله من العقراب.
وقد قرأ هكذا " فلأقسم " بدون ألف الحسن وحميد وعيسى بن عمر، وعلى هذا القول، وهذه القراءة يقدر
159

مبتدأ محذوف، والتقدير: فلأنا أقسم بذلك. وقيل إن لا هنا بمعنى ألا التي للتنبيه، وهو بعيد. وقيل لا هنا على
ظاهرها، وإنها لنفي القسم: أي فلا أقسم على هذا لأن الأمر أوضح من ذلك، وهذا مدفوع بقوله (وإنه لقسم
لو تعلمون عظيم) مع تعيين المقسم به والمقسم عليه، ومعنى قوله (بمواقع النجوم) مساقطها، وهي مغاربها كذا
قال قتادة وغيره. وقال عطاء بن أبي رباح: منازلها. وقال الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة، وقال
الضحاك: هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون مطرنا بنوء كذا. وقيل المراد بمواقع النجوم نزول القرآن
نجوما من اللوح المحفوظ، وبه قال السدي وغيره، وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم
القرآن. قرأ الجمهور " مواقع " على الجمع، وقرأ ابن مسعود والنخعي وحمزة والكسائي وابن محيصن وورش
عن يعقوب بموقع على الإفراد. قال المبرد: موقع ها هنا مصدر، فهو يصلح للواحد والجمع. ثم أخبر سبحانه عن
تعظيم هذا القسم وتفخيمه فقال (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) هذه الجملة معترضة بين المقسم به والمقسم عليه،
وقوله (لو تعلمون) جملة معترضة بين جزأي الجملة المعترضة، فهو اعتراض في اعتراض. قال الفراء والزجاج: هذا
يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن، والضمير في إنه على القسم الذي يدل عليه أقسم، والمعنى أن القسم
بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون. ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال (إنه لقرآن كريم) أي كرمه الله وأعزه
ورفع قدره على جميع الكتب، وكرمه عن أن يكون سحرا أو كهانة أو كذبا، وقيل إنه كريم لما فيه من كرم
الأخلاق ومعالي الأمور، وقيل لأنه يكرم حافظه ويعظم قارئه. وحكى الواحدي عن أهل المعاني أن وصف
القرآن بالكريم، لأن من شأنه أن يعطي الخير الكثير بالدلائل التي تؤدي إلى الحق في الدين. قال الأزهري:
الكريم اسم جامع لما يحمد، والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة (في كتاب مكنون) أي
مستور مصون، وقيل محفوظ عن الباطل، وهو اللوح المحفوظ قاله جماعة، وقيل هو كتاب. وقال عكرمة:
هو التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ومن ينزل عليه، وقال السدي: هو الزبور. وقال مجاهد وقتادة: هو
المصحف الذي في أيدينا (لا يمسه إلا المطهرون) قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الكتاب
المكنون: أي لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهرون، وهم الملائكة، وقيل هم الملائكة والرسل من بني آدم،
ومعنى لا يمسه المس الحقيقي، وقيل معناه: لا ينزل به إلا المطهرون، وقيل معناه: لا يقرؤه، وعلى كون المراد
بالكتاب المكنون هو القرآن، فقيل - لا يمسه إلا المطهرون - من الأحداث والأنجاس. كذا قال قتادة وغيره: وقال
الكلبي: المطهرون من الشرك. وقال الربيع بن أنس: المطهرون من الذنوب والخطايا. وقال محمد بن الفضل
وغيره: معنى لا يمسه: لا يقرؤه إلا المطهرون: أي إلا الموحدون. وقال الفراء: لا يجد نفعه وبركته إلا المطهرون:
أي المؤمنون. وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وقد ذهب
الجمهور إلى منع المحدث من مس المصحف، وبه قال علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد
وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. وروى عن ابن عباس والشعبي
وجماعة منهم أبو حنيفة، أنه يجوز للمحدث مسه، وقد أوضحنا ما هو الحق في هذا في شرحنا للمنتقي فليرجع إليه.
قرأ الجمهور " المطهرون " بتخفيف الطاء وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول. وقرأ سلمان الفارسي بكسر الهاء على أنه
اسم فاعل: أي المطهرون أنفسهم. وقرأ نافع وابن عمر وفي روية عنهما، عيسى بن عمر بسكون الطاء وفتح الهاء
خفيفة، اسم مفعول من أطهر، وقرأ الحسن وزيد بن علي وعبد الله بن عوف بتشديد الطاء وكسر الهاء وأصله
160

المتطهرون (تنزيل من رب العالمين) قرأ الجمهور بالرفع، وقرئ بالنصب، فالرفع على أنه صفة أخرى لقرآن،
أو خبر مبتدإ محذوف، والنصب على الحال (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون) الإشارة إلى القرآن المنعوت بالنعوت
السابقة، والمدهن والمداهن المنافق. كذا قال الزجاج وغيره. وقال عطاء وغيره: هو الكذاب. وقال مقاتل بن
سليمان وقتادة: مدهنون كافرون، كما في قوله - ودوا لو تدهن فيدهنون - وقال الضحاك: مدهنون معرضون،
وقال مجاهد: ممالئون للكفار على الكفر، وقال أبو كيسان: المدهن الذي لا يعقل حق الله عليه ويدفعه بالعلل.
والأول أولى لأن أصل المدهن الذي ظاهره خلاف باطنه كأنه يشبه المدهن في سهولته. قال المؤرج: المدهن
المنافق الذي يلين جانبه ليخفي كفره، والإدهان والمداهنة: التكذيب والكفر والنفاق، وأصله اللين، وأن يسر
خلاف ما يظهر، وقال في الكشاف مدهنون: أي متهاونون به كمن يدهن في الأمر: أي يلين جانبه ولا يتصلب
فيه تهاونا به انتهى. قال الراغب: والإدهان في الأصل مثل التدهين لكل جعل عبارة عن المداراة والملاينة،
وترك الجد: كما جعل التقريد، وهو نزع القراد عبارة عن ذلك، ويؤيد ما ذكره قول أبي قيس بن الأسلت:
الحزم والقوة خير من ال‍ * إدهان والعهه والهاع
(وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) في الكلام مضاف محذوف، كما حكاه الواحدي عن المفسرين: أي
تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون بنعمة الله فتضعون التكذيب موضع الشكر. وقال الهيثم: إن أزدشنوءة
يقولون ما رزق فلان: أي ما شكر، وعلى هذه اللغة لا يكون في الآية مضاف محذوف بل معنى الرزق الشكر.
ووجه التعبير بالرزق عن الشكر أن الشكر يفيض زيادة الرزق فيكون الشكر رزقا تعبيرا بالسبب عن المسبب،
ومما يدخل تحت هذه الآية قول الكفار إذا سقاهم الله، وأنزل عليهم المطر: سقينا بنوء كذا، ومطرنا بنوء كذا
قال الأزهري: معنى الآية وتجعلون بدل شكركم رزقكم الذي رزقكم الله التكذيب بأنه من عند الله الرزاق.
وقرأ علي وابن عباس " وتجعلون شكركم " وقرأ الجمهور " أنكم تكذبون " بالتشديد من التكذيب، وقرأ علي
وعاصم في رواية عنه بالتخفيف من الكذب (فلولا إذا بلغت الحلقوم) أي فهلا إذا بلغت الروح أو النفس
الحلقوم عند الموت، ولم يتقدم لها ذكر، لأن المعنى مفهوم عندهم إذا جاءوا بمثل هذه العبارة، ومنه قول حاتم طي:
أماوى ما يغني الثراء عن الفتى * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
(وأنتم حينئذ تنظرون) إلى ما هو فيه ذلك الذي بلغت نفسه أو روحه الحلقوم. قال الزجاج: وأنتم يا أهل الميت
في تلك الحال ترون الميت قد صار إلى أن تخرج نفسه، والمعنى أنهم في تلك الحال لا يمكنهم الدفع عنه، ولا
يستطيعون شيئا ينفعه أو يخفف عنه ما هو فيه (ونحن أقرب إليه منكم) أي بالعلم والقدرة والرؤية، وقيل أراد
ورسلنا الذين يتولون قبضه أقرب إليه منكم (ولكن لا تبصرون) أي لا تدركون ذلك لجهلكم بأن الله أقرب إلى
عبده من حبل الوريد، أو لا تبصرون ملائكة الموت الذين يحضرون الميت ويتولون قبضه (فلولا إن كنتم غير
مدينين ترجعونها) يقال دان السلطان رعيته: إذا ساسهم واستعبدهم. قال الفراء: دنته ملكته، وأنشد للحطيئة:
لقد دنت أمر بنيك حتى * تركتهم أدق من الطحين
أي ملكت، ويقال دانه: إذا أذله واستعبده، وقيل معنى مدينين محاسبين، وقيل مجزيين، ومنه قول
الشاعر: ولم يبق سوى العدوان * دناهم كما دانوا
والمعنى الأول ألصق بمعنى الآية: أي فهلا إن كنتم غير مربوبين ومملوكين ترجعونها: أي النفس التي قد
161

بلغت الحلقوم إلى مقرها الذي كانت فيه (إن كنتم صادقين) ولن ترجعوها فبطل زعمكم إنكم غير مربوبين ولا
مملوكين، والعامل في قوله إذا بلغت هو قوله ترجعونها، ولولا الثانية تأكيد للأولى قال الفراء: وربما أعادت
العرب الحرفين ومعناهما واحد. ثم ذكر سبحانه طبقات الخلق عند الموت وبعده فقال (فاما إن كان من المقربين)
أي السابقين من الثلاثة الأصناف المتقدم تفصيل أحوالهم (فروح وريحان وجنة ونعيم) قرأ الجمهور " روح " بفتح
الراء، ومعناه الراحة من الدنيا والاستراحة من أحوالها. وقال الحسن: الروح الرحمة. وقال مجاهد: الروح الفرح
وقرأ ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة ونصر بن عاصم والجحدري " فروح " بضم الراء، ورويت هذه القراءة
عن بعقوب، قيل ومعنى هذه القراءة الرحمة لأنها كالحياة للمرحوم، والريحان: الرزق في الجنة، قاله مجاهد وسعيد
ابن جبير ومقاتل. قال مقاتل: هو الرزق بلغة حمير، يقال خرجت أطلب ريحان الله: أي رزقه، ومنه قول النمر
ابن تولب:
سلام الإله وريحانه * ورحمته وسماء درر
وقال قتادة: إنه الجنة. وقال الضحاك: هو الرحمة. وقال الحسن: هو الريحان المعروف الذي يشم. قال
قتادة والربيع بن خيثم: هذا عند الموت، والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث، وكذا قال أبو الجوزاء وأبو العالية،
ومعنى وجنة نعيم أنها ذات تنعم، وارتفاح روح وما بعده على الابتداء، والخبر محذوف: أي فله روح (وأما
إن كان) ذلك المتوفى (من أصحاب اليمين) وقد تقدم ذكرهم وتفصيل أحوالهم وما أعده الله لهم من الجزاء (فسلام
لك من أصحاب اليمين) أي لست ترى فيهم إلا ما تحب من السلامة فلا تهتم بهم فإنه يسلمون من عذاب الله، وقيل
المعنى: سلام لك منهم: أي أنت سالم من الاغتمام بهم، وقيل المعنى: إنهم يدعون لك ويسلمون عليك، وقيل
إنه صلى الله عليه وآله وسلم يحيى بالسلام إكراما، وقيل هو إخبار من الله سبحانه بتسليم بعضهم على بعض،
وقيل المعنى: سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، (وأما إن كان من المكذبين الضالين) أي
المكذبين بالبعث الضالين عن الهدى، وهو أصحاب الشمال المتقدم ذكرهم، وتفصيل أحوالهم (فنزل من حميم)
أي فله نزل يعد لنزوله من حميم، وهو الماء الذي قد تناهت حرارته، وذلك بعد أن يأكل من الزقوم كما تقدم
بيانه (وتصلية جحيم) يقال أصلاه النار وصلاه: أي إذا جعله في النار، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول،
أو إلى المكان. قال المبرد: وجواب الشرط في هذه الثلاثة المواضع محذوف والتقدير: مهما يكن من شئ فروح الخ.
وقال الأخفش: إن الفاء في المواضع الثلاثة هي جواب أما وجواب حرف الشرط. قرأ الجمهور " وتصلية "
بالرفع عطفا على فنزل. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بالجر عطفا على حميم: أي فنزل من حميم ومن تصلية جحيم
(إن هذا لهو حق اليقين) الإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة، أو إلى المذكور قريبا من أحوال المتفرقين لهو حق
اليقين: أي محض اليقين وخالصه، وإضافة حق إلى اليقين من باب إضافة الشئ إلى نفسه. قال المبرد: هو
كقولك عين اليقين ومحض اليقين، هذا عند الكوفيين وجوزوا ذلك لاختلاف اللفظ، وأما البصريون
فيجعلون المضاف إليه محذوفا، والتقدير: حق الأمر اليقين أو الخبر اليقين، والفاء في (فسبح باسم ربك العظيم)
لترتيب ما بعدها على ما قبلها: أي نزهه عما لا يليق بشأنه، والباء متعلقة بمحذوف: أي فسبح ملتبسا باسم ربك
للتبرك به. وقيل المعنى: فصل بذكر ربك، وقيل الباء زائدة، والاسم بمعنى الذات. وقيل هي للتعدية لأن
سبح يتعدى بنفسه تارة ويتعدى بالحرف أخرى، والأول أولى.
162

وقد أخرج النسائي وابن جرير ومحمد بن نصر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن
عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين، وفي لفظ:
ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوما، ثم قرأ (فلا أقسم بمواقع النجوم). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه (فلا أقسم بمواقع النجوم) قال القرآن (وإنه
لقسم لو تعلمون عظيم) قال: القرآن. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في الآية قال: نجوم القرآن حين ينزل. وأخرج
عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في المعرفة من طرق عن ابن عباس أيضا (لا يمسه إلا المطهرون) قال:
الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا الملائكة. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن أنس (لا يمسه إلا المطهرون)
قال: الملائكة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن علقمة قال: أتينا سلمان الفارسي فخرج علينا من كنيف،
فقلنا له: لو توضأت يا أبا عبد الله ثم قرأت علينا سورة كذا وكذا، قال: إنما قال الله (في كتاب مكنون
لا يمسه إلا المطهرون) وهو الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة، ثم قرأ علينا من القرآن ما شئنا. وأخرج عبد الرزاق
وابن أبي داود وابن المنذر عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه قال في كتاب النبي صلى الله عليه
وآله وسلم لعمرو بن حزم: لا تمس القرآن إلا على طهر. وأخرجه مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر.
وأخرجه أبو داود في المراسيل من حديث الزهري قال: قرأت في صحيفة عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " ولا يمس القرآن إلا طاهر " وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم
وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص، وفي أسانيدها نظر. وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان لا يمس
المصحف إلا متوضئا. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر والحاكم وصححه عن
عبد الرحمن بن زيد قال: كنا مع سلمان فانطلق إلى حاجة، فتوارى عنا ثم خرج إلينا، فقلنا: لو توضأت
فسألناك عن أشياء من القرآن، فقال: سلوني، فإني لست أمسه إنما يمسه المطهرون ثم تلا (لا يمسه إلا المطهرون).
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا يمس القرآن إلا طاهر ".
وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل: " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بعثه إلى اليمن كتب له في عهده: أن
لا يمس القرآن إلا طاهر ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أنتم مدهنون) قال: مكذبون.
وأخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال " مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة وضعها الله. وقال
بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فنزلت هذه الآية (فلا أقسم بمواقع النجوم) حتى بلغ (وتجعلون رزقكم
أنكم تكذبون) " وأصل الحديث بدون ذكر أنه سبب نزول الآية ثابت في الصحيحين من حديث زيد بن خالد
الجهني، ومن حديث أبي سعيد الخدري، وفي الباب أحاديث. وأخرج أحمد وابن منيع وعبد بن حميد والترمذي
وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والضياء في المختارة عن علي عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم في قوله (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) قال: شكركم، تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا
وكذا. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عائشة قالت: ما فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن إلا
آيات يسيرة قوله (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) قال: شكركم. وأخرج ابن مردويه عن علي " أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قرأ (وتجعلون شكركم "). وأخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ " وتجعلون شكركم " قال: يعني الأنواء وما مطر
163

قوم إلا أصبح بعضهم كافرا كانوا يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون. " وأخرج ابن مردويه عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي أنه قرأ " وتجعلون شكركم " وقال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يقرؤها كذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (غير مدينين) قال:
غير محاسبين. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن خيثم (فأما إن كان
من المقربين) الآية قال: هذا له عند الموت (وجنة نعيم) تخبأ له الجنة إلى يوم يبعث (وأما إن كان من المكذبين الضالين
فنزل من حميم) قال: هذا عند بالمت (وتصلية جحيم) قال: تخبأ له الجحيم إلي يوم يبعث. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فروح) قال: رائحة (وريحان) قال: استراحة. وأخرج ابن جرير عنه
قال: يعني بالريحان المستريح من الدنيا (وجنة نعيم) يقول: مغفرة ورحمة. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال: الريحان
الرزق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا في قوله (فسلام لك من أصحاب اليمين قال: تأتيه الملائكة بالسلام
من قبل الله تسلم عليه وتخبره أنه من أصحاب اليمين. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (إن هذا لهو حق اليقين) قال:
ما قصصنا عليك في هذه السورة. وأخرج عنه أيضا (فسبح باسم ربك العظيم) قال: فصل لربك. وأخرج
سعيد بن منصور وأحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر
الجهني قال " لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فسبح باسم ربك العظيم) قال: اجعلوها
في ركوعكم، فلما نزلت - سبح اسم ربك الأعلى - قال: اجعلوها في سجودكم ".
تفسير سورة الحديد
هي تسع وعشرون آية
وهي مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن
عباس قال: نزلت سورة الحديد بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الطبراني وابن مردويه
قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " نزلت سورة الحديد يوم
الثلاثاء، وخلق الله الحديد يوم الثلاثاء، وقتل ابن آدم أخاه يوم الثلاثاء، ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم عن الحجامة يوم الثلاثاء ". وأخرج الديلمي عن جابر مرفوعا " لا تحتجموا يوم الثلاثاء، فإن سورة الحديد
أنزلت على يوم الثلاثاء ". وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن العرباض
ابن سارية " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال: إن فيهن آية أفضل من
ألف آية ". وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال معروف. وقد أخرجه النسائي عن خالد بن معدان قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يذكر العرباض بن سارية، فهو مرسل. وأخرج ابن الضريس عن يحيى
ابن أبي كثير قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينام حتى يقرأ المسبحات، وكان يقول: إن فيهن
آية أفضل من ألف آية " قال يحيى: فنراها الآية التي في آخر الحشر. وقال ابن كثير في تفسيره: والآية المشار
إليها والله أعلم هي قوله (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) الآية. والمسبحات المذكورة هي: الحديد
والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن.
164

سورة الحديد (1 - 6)
قوله (سبح لله ما في السماوات والأرض) أي نزهه ومجده. قال المقاتلان: يعني كل شئ من ذي روح
وغيره، وقد تقدم الكلام في تسبيح الجمادات عند تفسير قوله - وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون
تسبيحهم - والمراد بالتسبيح المسند إلى ما في السماوات والأرض من العقلاء وغيرهم والحيوانات والجمادات هو
ما يعم التسبيح بلسان المقال كتسبيح الملائكة والإنس والجن، وبلسان الحال كتسبيح غيرهم، فإن كل موجود
يدل على الصانع. وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة وقال: لو كان هذا تسبيح
الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال - ولكن لا تفقهون تسبيحهم - وإنما هو تسبيح مقال،
واستدل بقوله - وسخرنا مع داود الجبال يسبحن - فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم يكن لتخصيص
داود فائدة، وفعل التسبيح قد يتعدى بنفسه تارة، كما في قوله - وسبحوه - وباللام أخرى كهذه الآية، وأصله
أن يكون متعديا بنفسه، لأن معنى سبحته: بعدته عن السوء، فإذا استعمل باللام فهي إما مزيدة للتأكيد كما في
شكرته وشكرت له، أو هي للتعليل: أي افعل التسبيح لأجل الله سبحانه خالصا له، وجاء هذا الفعل في بعض
الفواتح ماضيا كهذه الفاتحة، وفي بعضها مضارعا، وفي بعضها أمرا للإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل
الأوقات لا يختص تسبيحها بوقت دون وقت، بل هي مسبحة أبدا في الماضي وستكون مسبحة أبدا في المستقبل
(وهو العزيز) أي القادر الغالب الذي لا ينازعه أحد ولا يمانعه ممانع كائنا ما كان (الحكيم) الذي يفعل أفعال
الحكمة والصواب (له ملك السماوات والأرض) يتصرف فيه وحده ولا ينفذ غير تصرفه وأمره، وقيل أراد
خزائن المطر والنبات وسائر الأرزاق (يحيي ويميت) الفعلان في محل رفع على أنهما خبر مبتدإ محذوف، أو في
محل نصب على الحال من ضمير له، أو كلام مستأنف لبيان بعض أحكام الملك، والمعنى: أنه يحيي في الدنيا
ويميت الأحياء، وقيل يحيي النطف وهي موات ويميت الأحياء، وقيل يحيي الأموات للبعث (وهو على كل
شئ قدير) لا يعجزه شئ كائنا ما كان (هو الأول) قبل كل شئ (والآخر) بعد كل شئ أي الباقي بعد
فناء خلقه (والظاهر) العالي الغالب على كل شئ، أو الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة (والباطن) أي العالم بما
165

بطن، من قولهم فلان يبطن أمر فلان: أي يعلم داخلة أمره، ويجوز أن يكون المعنى المحتجب عن الأبصار والعقول،
وقد فسر هذه الأسماء الأربعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي، فيتعين المصير إلى ذلك (وهو بكل
شئ عليم) لا يعزب عن علمه شئ من المعلومات (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) هذا بيان
لبعض ملكه للسموات والأرض. وقد تقدم تفسيره في سورة الأعراف وفي غيرها مستوفى (يعلم ما يلج في الأرض)
أي يدخل فيها من مطر وغيره (وما يخرج منها) من نبات وغيره (وما ينزل من السماء) من مطر وغيره (وما
يعرج فيها) أي يصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد، وقد تقدم تفسير هذا في سورة سبأ (وهو معكم أينما كنتم)
أي بقدرته وسلطانه وعلمه، وهذا تمثيل للإحاطة بما يصدر منهم أينما داروا في الأرض من بر وبحر (والله بما
تعملون بصير) لا يخفي عليه من أعمالكم شئ (له ملك السماوات والأرض) هذا التكرير للتأكيد (وإلى الله ترجع
الأمور) لا إلى غيره. قرأ الجمهور " ترجع " مبنيا للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر على البناء للفاعل
(يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) قد تقدم تفسير هذا في سورة آل عمران، وفي مواضع (وهو عليم
بذات الصدور) أي بضمائر الصدور ومكنوناتها، لا يخفي عليه من ذلك خافية.
وقد أخرج ابن أبي شيبة ومسلم والترمذي والبيهقي عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم تسأله خادما، فقال قولي: اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، وربنا ورب كل
شئ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شئ أنت آخذ بناصيته،
أنت الأول فليس قبلك شئ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ، وأنت الباطن
فليس دونك شئ، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر ". وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة من
وجه آخر مرفوعا مثل هذا في الأربعة الأسماء المذكورة وتفسيرها. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر
وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لا يزال الناس يسألون عن كل شئ حتى يقولوا: هذا الله
كان قبل كل شئ، فماذا كان قبل الله؟ فإن قالوا لكم ذلك فقولوا: هو الأول قبل كل شئ، والآخر فليس
بعده شئ، وهو الظاهر فوق كل شئ، وهو الباطن دون كل شئ، وهو بكل شئ عليم ". وأخرج
أبو داود عن أبي زميل قال: سألت ابن عباس فقلت: ما شئ أجده في صدري، قال ما هو؟ قلت: والله
لا أتكلم به، قال: فقال لي: أشئ من شك؟ قال وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال حتى أنزل الله
- فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك - الآية قال: وقال لي: إذا وجدت في
نفسك شيئا فقل: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله (وهو معكم أينما كنتم) قال: عالم بكم أينما كنتم.
سورة الحديد (7 - 11)
166

قوله (آمنوا بالله ورسوله) أي صدقوا بالتوحيد وبصحة الرسالة، وهذا خطاب لكفار العرب. ويجوز أن
يكون خطابا للجميع، ويكون المراد بالأمر بالإيمان في حق المسلمين الاستمرار عليه، أو الازدياد منه. ثم لما
أمرهم بالإيمان أمرهم بالإنفاق في سبيل الله فقال (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) أي جعلكم خلفاء في التصرف
فيه من غير أن تملكوه حقيقة، فإن المال مال الله والعباد خلفاء الله في أمواله فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه
وقيل جعلكم خلفاء من كان قبلكم ممن ترثونه، وسينتقل إلى غيركم ممن يرثكم فلا تبخلوا به. كذا قال الحسن وغيره.
وفيه الترغيب إلى الإنفاق في سبيل الخير قبل أن ينتقل عنهم ويصير إلى غيرهم. والظاهر أن معنى الآية الترغيب
في الإنفاق في الخير، وما يرضاه الله على العموم، وقيل هو خاص بالزكاة المفروضة، ولا وجه لهذا التخصيص. ثم ذكر
سبحانه ثواب من أنفق في سبيل الله فقال (فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير) أي الذين جمعوا بين الإيمان
بالله ورسوله، وبين الإنفاق في سبيل الله لهم أجر كبير، وهو الجنة (وما لكم لا تؤمنون بالله) هذا الاستفهام
للتوبيخ والتقريع: أي أي عذر لكم، وأي مانع من الإيمان، وقد أزيحت عنكم العلل، وما مبتدأ ولكم خبره
ولا تؤمنون في محل نصب على الحال من الضمير في لكم، والعامل ما فيه من معنى الاستقرار، وقيل المعنى: أي
شئ لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا؟ وجملة (والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم) في محل نصب على الحال
من ضمير لا تؤمنون على التداخل، ولتؤمنوا متعلق بيدعوكم: أي يدعوكم للإيمان، والمعنى: أي عذر لكم في
ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه؟ وجملة (وقد أخذ ميثاقكم) في محل نصب على الحال من فاعل
يدعوكم على التداخل أيضا: أي والحال أن قد أخذ الله ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم، أو بما نصب لكم
من الأدلة الدالة على التوحيد ووجوب الإيمان. قرأ الجمهور " وقد أخذ " مبنيا للفاعل، وهو الله سبحانه لتقدم
ذكره. وقرأ أبو عمرو على البناء للمفعول (إن كنتم مؤمنين) بما أخذ عليكم من الميثاق، أو بالحج والدلائل، أو
إن كنتم مؤمنين بسبب من الأسباب فهذا أعظم أسبابه وأوضح موجباته (هو الذي ينزل على عبده آيات بينات)
أي واضحات ظاهرات، وهي الآيات القرآنية، وقيل المعجزات والقرآن أعظمها (ليخرجكم من الظلمات إلى
النور) أي ليخرجكم الله بتلك الآيات من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، أو ليخرجكم الرسول بتلك الآيات،
أو بالدعوة (وإن الله بكم لرءوف رحيم) أي لكثيرة الرأفة والرحمة بليغهما حيث أنزل كتبه وبعث رسله الهداية
عباده فلا رأفة ولا رحمة أبلغ من هذه، والاستفهام في قوله (وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله) للتقريع والتوبيخ،
والكلام في إعراب عن هذا كالكلام في إعراب قوله - وما لكم لا تؤمنون بالله - وفي هذه الآية دليل على أن الإنفاق
المأمور به في قوله (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) هو الإنفاق في سبيل الله كما بينا ذلك، والمعنى: أي عذر
لكم وأي شئ يمنعكم من ذلك، والأصل في أن لا تنفقوا، وقيل إن أن زائدة، وجملة (ولله ميراث السماوات
والأرض) في محل نصب على الحال من فاعل " ألا تنفقوا " أو من مفعوله، والمعنى: أي شئ يمنعكم من الإنفاق
في ذلك الوجه والحال أن كل ما في السماوات والأرض راجع إلى الله سبحانه بانقراض العالم. كرجوع الميراث إلى
167

الوارث، ولا يبقى لهم منه شئ، وهذا أدخل في التوبيخ وأكمل في التقريع، فإن كون تلك الأموال تخرج عن
أهلها وتصير لله سبحانه ولا يبقى أحد من مالكيها أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من كونها لله في الحقيقة، وهم
خلفاؤه في التصرف فيها. ثم بين سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله فقال (لا يستوى منكم من أنفق من
قبل الفتح) قيل المراد بالفتح فتح مكة، وبه قال أكثر المفسرين. وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية. قال
قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل
فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك، وكذا قال مقاتل وغيره، وفي الكلام حذف، والتقدير: لا يستوي
من أنفق من قبل الفتح (وقاتل) ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لظهوره ولدلالة ما سيأتي عليه، وإنما
كانت النفقة والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعد الفتح، لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر وهم
أقل وأضعف، وتقديم الإنفاق على القتال للإيذان بفضيلة الإنفاق لما كانوا عليه من الحاجة، فإنهم كانوا
يجودون بأنفسهم ولا يجدون ما يجودون به من الأموال، والجود بالنفس أقصى غاية الجود والإشارة بقوله
(أولئك) إلى " من " باعتبار معناها، وهو مبتدأ وخبره (أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا) أي أرفع
منزلة وأعلا رتبة من الذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله من بعد الفتح وقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها. قال الزجاج: لأن المتقدمين نالهم
من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضا أنفذ.
وقد أرشد صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه الفضيلة بقوله فيما صح عنه " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ
مد أحدهم ولا نصيفه " وهذا خطاب منه صلى الله عليه وآله وسلم للمتأخرين وصحبه كما يرشد إلى ذلك السبب
الذي ورد فيه هذا الحديث (وكلا وعد الله الحسنى) أي وكل واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى، وهي
الجنة مع تفاوت درجاتهم فيها. قرأ الجمهور " وكلا " بالنصب على أنه مفعول به للفعل المتأخر. وقرأ ابن عامر
بالرفع على الابتداء، والجملة بعده خبره والعائد محذوف، أو على أنه خبر مبتدإ محذوف، ومثل هذا قوال الشاعر:
قد أصبحت أم الخيار تدعى * على ذنبا كله لم أصنع
(والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه من ذلك شئ. ثم رغب سبحانه في الصدقة فقال (من ذا الذي يقرض
الله قرضا حسنا) أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله، فإنه كمن يقرضه، والعرب تقول لكل من فعل فعلا
حسنا قد أقرض، ومنه قول الشاعر:
وإذا جوزيت قرضا فأجزه * إنما يجزى الفتى ليس الجمل
قال الكلبي (قرضا) أي صدقة (حسنا) أي محتسبا من قلبه بلا من ولا أذى. قال مقاتل: حسنا طيبة به
نفسه، وقد تقدم تفسير الآية في سورة البقرة (فيضاعفه له) قرأ ابن عامر وابن كثير " فيضعفه " بإسقاط الألف
إلا أن ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة " فيضاعفه " بالألف وتخفيف العين إلا
أن عاصما نصب الفاء ورفع الباقون. قال ابن عطية: الرفع على العطف على يقرض، أو الاستئناف والنصب
لكون الفاء في جواب الاستفهام. وضعف النصب أبو علي الفارسي قال لأن السؤال لم يقع عن القرض، وإنما
وقع عن فاعل القرض، وإنما تنصب الفاء فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على
المعنى، كأن قوله (من ذا الذي يقرض الله) بمنزلة قوله أيقرض الله أحد (وله أجر كريم) وهو الجنة، والمضاعفة
هنا هي كون الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف على اختلاف الأحوال والأشخاص والأوقات.
168

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن
يسار عن أبي سعيد الخدري قال " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الحديبية حتى إذا كنا
بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يوشك أن يأتي قوم يحقرون أعمالكم مع أعمالهم، قلنا من هم
يا رسول الله؟ أقريش؟ قال: لا، ولكنهم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟
قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه، إلا أن هذا فصل ما بيننا وبين الناس
(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) الآية " وهذا الحديث قال ابن كثير: هو غريب بهذا الإسناد،
وقد رواه ابن جرير ولم يذكر فيه الحديبية. وأخرج أحمد عن أنس قال " كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن
ابن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها؟ فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم " والذي في
الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ " لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق
مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " وفي لفظ " ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " أخرج هذا الحديث
البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: لا تسبوا أصحاب
محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره.
سورة الحديد (12 - 15)
قوله (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات) العامل في الظرف مضمر وهو أذكر، أو كريم أو فيضاعفه، أو
العامل في لهم وهو الاستقرار، والخطاب لكل من يصلح له، وقوله (يسعى نورهم) في محل نصب على الحال
من مفعول ترى، والنور هو الضياء الذي يرى (بين أيديهم وبأيمانهم) وذلك على الصراط يوم القيامة، وهو
دليلهم إلى الجنة. قال قتادة: إن المؤمن يضئ له نور كما بين عدن إلى صنعاء، حتى إن من المؤمنين من لا يضئ له
نوره إلا موضع قدميه. وقال الضحاك ومقاتل: وبأيمانهم كتبهم التي أعطوها، فكتبهم بأيمانهم، ونورهم بين
أيديهم. قال الفراء: الباء بمعنى في: أي في أيمانهم، أو بمعنى عن. قال الضحاك أيضا: نورهم هداهم، وأيمانهم
كتبهم، واختار هذا ابن جرير الطبري: أي يسعى أيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم.
169

قرأ الجمهور " بأيمانهم " جمع يمين. وقرأ سهل بن سعد الساعدي وأبو حيوة " بإيمانهم " بكسر الهمزة على أن المراد
بالإيمان ضد الكفر، وقيل هو القرآن، والجار والمجرور في الموضعين في محل نصب على الحال من نورهم: أي
كائنا بين أيديهم وبأيمانهم (بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) بشراكم مبتدأ، وخبره جنات
على تقدير مضاف: أي دخول جنات، والجملة مقول قول مقدر: أي يقال لهم هذا، والقائل لهم هم الملائكة.
قال مكي: وأجاز الفراء نصب جنات على الحال، ويكون اليوم خبر بشراكم، وهذا بعيد جدا " خالدين فيها "
حال مقدرة، والإشارة بقوله (ذلك) إلى النور والبشري، وهو مبتدأ وخبره (هو الفوز العظيم) أي لا يقادر
قدره حتى كأنه لا فوز غيره، ولا اعتداد بما سواه (يوم يقول المنافقون والمنافقات) يوم بدل من يوم الأول،
ويجوز أن يكون العامل فيه الفوز العظيم، ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مقدر: أي أذكر (للذين آمنوا) اللام
للتبليغ كنظائرها. قرأ الجمهور (انظرونا) أمرا بوصل الهمزة وضم الظاء من النظر بمعنى الانتظار: أي انتظرونا،
يقولون ذلك لما رأوا المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة. وقرأ الأعمش وحمزة ويحيى بن وثاب بقطع الهمزة وكسر الظاء
من الإنظار: أي أمهلونا وأخرونا، يقال أنظرته واستنظرته: أي أمهلته واستمهلته. قال الفراء. تقول العرب
أنظرني: أي انتظرني،. أنشد قول عمرو بن كلثوم:
* أبا هند فلا تعجل علينا * وأنظرنا نخبرك اليقينا
وقيل معنى انظرونا: انظروا إلينا، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بنورهم (نقتبس
من نوركم) أي نستضئ منه، والقبس: الشعلة من النار والسراج، فلما قالوا ذلك (قيل ارجعوا وراءكم) أي
قال لهم المؤمنون أو الملائكة زجرا لهم وتهكما بهم: أي ارجعوا وراءكم إلى الموضع الذي أخذنا منه النور (فالتمسوا
نورا) أي اطلبوا هنالك نورا لأنفسكم، فإنه من هنالك يقتبس، وقيل المعنى: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بما
التمسناه به من الإيمان والأعمال الصالحة، وقيل أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة تهكما بهم (فضرب بينهم بسور)
السور: هو الحاجز بين الشيئين، والمراد به هنا الحاجز بين الجنة والنار، أو بين أهل الجنة وأهل النار. قال
الكسائي: والباء في بسور زائدة. ثم وصف سبحانه السور المذكور فقال (له باب باطنه فيه الرحمة) أي باطن ذلك
السور. وهو الجانب الذي يلي أهل الجنة فيه الرحمة وهي الجنة (وظاهره) وهو الجانب الذي يلي أهل النار (من
قبله العذاب) أي من جهته عذاب جهنم، وقيل إن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة، والمنافقون يحصلون في
العذاب وبينهم السور، وقيل إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين،
ولما ضرب بالسور بين المؤمنين والمنافقين أخبر الله سبحانه عما قاله المنافقون إذ ذاك فقال (ينادونهم ألم نكن
معكم) أي موافقين لكم في الظاهر نصلي بصلاتكم في مساجدكم ونعمل بأعمال الإسلام مثلكم، والجملة مستأنفة
كأنه قيل: فماذا قال المنافقون بعد ضرب السور بينهم وبين المؤمنين؟ فقال (ينادونهم)، ثم أخبر سبحانه عما
أجابهم به المؤمنون فقال (قالوا بلى) أي كنتم معنا في الظاهر (ولكنكم فتنتم أنفسكم) بالنفاق وإبطان الكفر. قال
مجاهد: أهلكتموها بالنفاق، وقيل بالشهوات واللذات (وتربصتم) بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبمن معه
من المؤمنين حوادث الدهر، وقيل تربصتم بالتوبة، والأول أولى (وارتبتم) أي شككتم في أمر الدين ولم
تصدقوا ما نزل من القرآن ولا بالمعجزات الظاهرة (وغرتكم الأماني) الباطلة التي من جملتها ما كنتم فيه من التربص،
وقيل هو طول الأمل، وقيل ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين. وقال قتادة: الأماني هنا غرور الشيطان،
170

وقيل الدنيا، وقيل هو طمعهم في المغفرة، وكل هذه الأشياء تدخل في مسمى الأماني (حتى جاء أمر الله) وهو
الموت، وقيل نصره سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم. وقال قتادة: هو إلقاؤهم في النار (وغركم بالله
الغرور) قرأ الجمهور " الغرور " بفتح الغين، وهو صفة على فعول، والمراد به الشيطان: أي خدعكم بحلم الله
وإمهاله الشيطان. وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميفع وسماك بن حرب بضمها وهو مصدر (فاليوم لا يؤخذ منكم
فدية) تفدون بها أنفسكم من النار أيها المنافقون (ولا من الذين كفروا) بالله ظاهرا وباطنا (مأواكم النار) أي
منزلكم الذي تأوون إليه النار (هي مولاكم) أي هي أولى بكم، والمولى في الأصل من يتولى مصالح الإنسان ثم
استعمل فيمن يلازمه، وقيل معنى مولاكم: مكانكم عن قرب، من الولي وهو القرب. وقيل إن الله يركب
في النار الحياة والعقل، فهي تتميز غيظا على الكفار، وقيل المعنى: هي ناصركم على طريقة قول الشاعر:
تحية بينهم ضرب وجيع (وبئس المصير) الذي تصيرون إليه وهو النار.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود (يسعى
نورهم بين أيديهم) قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم
من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورا من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويوقد أخرى. وأخرج ابن جرير وابن مردويه
والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورا، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا
نحوه، وكان النور دليلهم من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور تبعوهم، فأظلم الله
على المنافقين، فقالوا حينئذ (انظرونا نقتبس من نوركم) فإنا كنا معكم في الدنيا، قال المؤمنون (ارجعوا
وراءكم) من حيث جئتم من الظلمة (فالتمسوا) هنالك النور. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم سترا منه على عباده، وأما عند الصراط فإن
الله يعطى كل مؤمن نورا وكل منافق نورا، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات، فقال
المنافقون - انظرونا نقتبس من نوركم - وقال المؤمنون - ربنا أتمم لنا نورنا - فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا " وفي
الباب أحاديث وآثار. وأخرج عبد بن حميد عن عبادة بن الصامت: أنه كان على سور بيت المقدس فبكى،
فقيل له ما يبكيك؟ فقال: هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى جهنم. وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن
السور الذي ذكره الله في القرآن (فضرب بينهم بسور) هو السور الذي ببيت المقدس الشرقي (باطنه فيه الرحمة)
المسجد (وظاهره من قبله العذاب) يعنى وادي جهنم وما يليه.
ولا يخفاك أن تفسير السور المذكور في القرآن في هذه الآية بهذا السور الكائن ببيت المقدس فيه من
الإشكال مالا يدفعه مقال، ولا سيما بعد زيادة قوله: باطنه فيه الرحمة المسجد، فإن هذا غير ما سيقت له الآية
وغير ما دلت عليه، وأين يقع بيت المقدس أو سوره بالنسبة إلى السور الحاجز بين فريقي المؤمنين والمنافقين،
وأي معنى لذكر مسجد بيت المقدس هاهنا، فإن كان المراد أن الله سبحانه ينزع سور بيت المقدس، ويجعله في
الدار الآخرة سورا مضروبا بين المؤمنين والمنافقين، فما معني تفسير باطن السور وما فيه من الرحمة بالمسجد، وإن
كان المراد أن الله يسوق فريقي المؤمنين والمنافقين إلى بيت المقدس فيجعل المؤمنين داخل السور في المسجد،
ويجعل المنافقين خارجه، فهم إذ ذاك على الصراط وفي طريق الجنة وليسوا ببيت المقدس، فإن كان مثل هذا
171

التفسير ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبلناه وآمنا به، وإلا فلا كرامة ولا قبول. وأخرج البيهقي
في الشعب عن ابن عباس في قوله (ولكنكم فتنتم أنفسكم) قال: بالشهوات واللذات (وتربصتم) قال: بالتوبة
(وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله) قال: الموت (وغركم بالله الغرور) قال: الشيطان.
سورة الحديد من 16 - 19
قوله (ألم يأن للذين آمنوا) يقال أنى لك يأنى أنى: إذا حان. قرأ الجمهور " ألم يأن " وقرأ الحسن وأبو السماك
" ألما يأن " وأنشد ابن السكيت:
ألما يأن لي أن تجلى عمايتي * وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا *
و (أن تخشع قلوبهم) فاعل يأن: أي ألم يحضر خشوع قلوبهم ويجئ وقته، ومنه قول الشاعر:
ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا * وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا
هذه الآية نزلت في المؤمنين. قال الحسن: يستبطئهم وهم أحب خلقه إليه. وقيل إن الخطاب لمن آمن بموسى
وعيسى دون محمد. قال الزجاج: نزلت في طائفة من المؤمنين، حثوا على الرقة والخشوع، فأما من وصفهم الله
بالرقة والخشوع فطبقة فوق هؤلاء. وقال السدى وغيره: المعنى ألم يأن للذين آمنوا في الظاهر وأسروا الكفر أن تخشع
قلوبهم (لذكر الله) وسيأتي في آخر البحث ما يقوى قول من قال إنها نزلت في المسلمين، والخشوع لين القلب
ورقته. والمعنى: أنه ينبغي أن يورثهم الذكر خشوعا ورقة، ولا يكونوا كمن لا يلين قلبه للذكر ولا يخشع له
(وما نزل من الحق) معطوف على ذكر الله، والمراد بما نزل من الحق القرآن، فيحمل الذكر المعطوف عليه على
ما عداه مما فيه ذكر الله سبحانه باللسان، أو خطور بالقلب، وقيل المراد بالذكر هو القرآن، فيكون هذا العطف
من باب عطف التفسير، أو باعتبار تغاير المفهومين. قرأ الجمهور " نزل " مشددا مبنيا للفاعل. وقرأ نافع وحفص
بالتخفيف مبنيا للفاعل. وقرأ الجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية عنه مشددا مبنيا للمفعول. وقرأ ابن
مسعود " أنزل " مبنيا للفاعل (ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل) قرأ الجمهور بالتحتية على الغيبة جريا على
ما تقدم. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بالفوقية على الحساب التفاتا، وبها قرأ عيسى وابن إسحاق، والجملة
معطوفة على تخشع: أي ألم يأن لهم أن تخشع قلوبهم ولا يكونوا، والمعنى: النهى لهم عن أن يسلكوا سبيل اليهود
والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن (فطال عليهم الأمد) أي طال عليهم الزمان بينهم
172

وبين أنبيائهم، قرأ الجمهور " الأمد " بتخفيف الدال، وقرأ ابن كثير في رواية عنه بتشديدها: أي الزمن الطويل،
وقيل المراد بالأمد على القراءة الأولى الأجل والغاية، يقال أمد فلان كذا: أي غايته (فقست قلوبهم) بذلك السبب،
فلذلك حرفوا وبدلوا، فنهى الله سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يكونوا مثلهم (وكثير منهم
فاسقون) أي خارجون عن طاعة الله لأنهم تركوا العمل بما أنزل إليهم، وحرفوا وبدلوا ولم يؤمنوا بما نزل على
محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل هم الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل هم
الذين ابتدعوا الرهبانية، وهم أصحاب الصوامع (اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها) فهو قادر على أن يبعث
الأجسام بعد موتها، ويلين القلوب بعد قسوتها (قد بينا لكم الآيات) التي من جملتها هذه الآيات (لعلكم تعقلون)
أي كي تعقلوا ما تضمنته من المواعظ وتعملوا بموجب ذلك (إن المصدقين والمصدقات) قرأ الجمهور بتشديد
الصاد في الموضعين من الصدقة، وأصله المتصدقين والمتصدقات، فأدغمت الياء في الصاد. وقرأ أبي " المتصدقين
والمتصدقات " بإثبات التاء على الأصل. وقرأ ابن كثير بتخفيف الصاد من التصديق: أي صدقوا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به (وأقرضوا الله قرضا حسنا) معطوف على اسم الفاعل في المصدقين لأنه لما
وقع صلة للألف واللام الموصولة حل محل الفعل، فكأنه قال: إن الذين تصدقوا وأقرضوا كذا قال أبو علي
الفارسي وغيره. وقيل جملة وأقرضوا معترضة بين اسم إن وخبرها، وهو - يضاعف - وقيل هي صلة لموصول
محذوف: أي والذين أقرضوا، والقرض الحسن عبارة عن التصدق والإنفاق في سبيل الله مع خلوص نية وصحة
قصد واحتساب أجر. قرأ الجمهور (يضاعف لهم) بفتح العين على البناء للمفعول، والقائم مقام الفاعل إما الجار
والمجرور أو ضمير يرجع إلى المصدقين على حذف مضاف: أي ثوابهم، وقرأ الأعمش " يضاعفه " بكسر العين
وزيادة الهاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب " يضعف " بتشديد العين وفتحها (ولهم أجر كريم) وهو الجنة،
والمضاعفة هنا أن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف (والذين آمنوا بالله ورسله) جميعا، والإشارة بقوله
(أولئك) إلى الموصول، وخبره قوله (هم الصديقون والشهداء) والجملة خبر الموصول. قال مجاهد: كل من
آمن بالله ورسله فهو صديق. قال المقاتلان: هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم ولم يكذبوهم. وقال
مجاهد: هذه الآية للشهداء خاصة، وهم الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم، واختار هذا الفراء والزجاج.
وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله، وكذا قال ابن جرير، وقيل هم أمم الرسل يشهدون يوم
القيامة لأنبيائهم بالتبليغ، والظاهر أن معنى الآية: إن الذين آمنوا بالله ورسله جميعا بمنزلة الصديقين والشهداء
المشهورين بعلو الدرجة عند الله، وقيل إن الصديقين هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا بالله وصدقوا جميع
رسله، والقائمون لله سبحانه بالتوحيد. ثم بين سبحانه ما لهم من الخير بسبب ما اتصفوا به من الإيمان بالله ورسله
فقال (لهم أجرهم ونورهم) والضمير الأول راجع إلى الموصول، والضميران الأخيران راجعان إلى الصديقين
والشهداء: أي لهم مثل أجرهم ونورهم، وأما على قول من قال: إن الذين آمنوا بالله ورسله هم نفس الصديقين
والشهداء، فالضمائر الثلاثة كلها راجعة إلى شئ واحد، والمعنى: لهم الأجر والنور الموعودان لهم. ثم لما ذكر
حال المؤمنين وثوابهم ذكر حال الكافرين وعقابهم فقال (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) أي جمعوا بين الكفر
وتكذيب الآيات، والإشارة بقوله (أولئك) إلى الموصول باعتبار ما في صلته من اتصافهم بالكفر والتكذيب،
وهذا مبتدأ وخبره (أصحاب الجحيم) يعذبون بها ولا أجر لهم ولا نور، بل عذاب مقيم وظلمة دائمة.
173

وقد أخرج ابن مردويه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد
سبع عشرة سنة من نزول القرآن، فأنزل الله (ألم يأن للذين آمنوا) الآية ". وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت
" خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون، فسحب رداءه محمرا
وجهه فقال: أتضحكون ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم، ولقد أنزل على في ضحككم آية (ألم يأن
للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) قالوا: يا رسول الله فما كفارة ذلك؟ قال: تبكون بقدر ما ضحكتم. "
وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن
عاتبنا الله بهذه الآية (ألم يأن للذين آمنوا) إلا أربع سنين. وأخرج نحوه عنه ابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه
وابن مردويه من طريق أخرى. وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عنه أيضا قال: لما نزلت هذه الآية أقبل بعضنا على
بعض: أي شئ أحدثنا أي شئ صنعنا؟. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: إن الله استبطأ
قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن (ألم يأن للذين آمنوا) الآية. وأخرج ابن
أبي شيبة في المصنف عن عبد العزيز بن أبي رواد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظهر فيهم المزاح
والضحك، فنزلت هذه الآية (ألم يأن للذين آمنوا). وأخرج ابن المبارك عن ابن عباس (اعلموا أن الله يحيي
الأرض بعد موتها) قال: يعني أنه يلين القلوب بعد قسوتها. وأخرج ابن جرير عن البراء بن عازب سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " مؤمنو أمتي شهداء، ثم تلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم (والذين آمنوا بالله
ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم) ". وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود قال: كل مؤمن صديق
وشهيد. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: " إن الرجل ليموت على فراشه وهو شهيد، ثم تلا هذه الآية ".
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك
هم الصديقون) قال: هذه مفصولة - والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم -. وأخرج ابن حبان عن عمرو بن
مرة الجهني: قال " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدة أن لا إله إلا
الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا؟ قال: من
الصديقين والشهداء.
سورة الحديد (21 - 24)
174

قوله (اعلموا أنا الحياة الدنيا لعب ولهو) لما ذكر سبحانه حال الفريق الثاني وما وقع منهم من الكفر
والتكذيب، وذلك بسبب ميلهم إلى الدنيا وتأثيرها بين لهم حقارتها وأنها أحقر من أن تؤثر على الدار الآخرة، واللعب
هو الباطل، اللهو كل شئ يتلهى به ثم يذهب. قال قتادة: لعب ولهو: أكل وشرب. قال مجاهد:
كل لعب لهو، وقيل اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة وشغل عنها، وقيل اللعب الاقتناء، واللهو
النساء، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة الأنعام، والزينة التزين بمتاع الدنيا من دون عمل للآخرة (وتفاخر بينكم)
قرأ الجمهور بتنوين " تفاخر " والظرف صفة له، أو معمول له، وقرأ السلمي بالإضافة: أي يفتخر به بعضكم
على بعض، وقيل يتفاخرون بالخلقة والقوة، وقيل بالأنساب والأحساب كما كانت عليه العرب (وتكاثر في
الأموال والأولاد) أي يتكاثرون بأموالهم وأولادهم ويتطاولون بذلك على الفقراء ثم بين سبحانه لهذه الحياة
شبها، وضرب لها مثلا فقال (كمثل غيث أعجب الكفار نباته) أي كمثل مطر أعجب الزراع نباته، والمراد
بالكفار هنا الزراع لأنهم يكفرون البذر: أي يغطونه بالتراب، ومعنى نباته: النبات الحاصل به (ثم يهيج) أي
يجف بعد خضرته وييبس (فتراه مصفرا) أي متغيرا عما كان عليه من الخضرة: والرونق إلى لون الصفرة والذبول
(ثم يكون حطاما) أي فتاتا هشيما متكسرا متحطما بعد يبسه، وقد تقدم تفسير هذا المثل في سورة يونس
والكهف، والمعنى: أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته وكثرة نضارته. ثم لا يلبث أن يصير
هشيما تبنا كأن لم يكن. وقرئ " مصفارا " والكاف في محل نصب على الحال، أو في محل رفع على أنها خبر بعد
خبر أو خبر مبتدإ محذوف. ثم لما ذكر سبحانه حقارة الدنيا وسرعة زوالها، ذكر ما أعده للعصاة في الدار الآخرة
فقال (وفي الآخرة عذاب شديد) وأتبعه بما أعده لأهل الطاعة فقال (ومغفرة من الله ورضوان) والتنكير فيهما
للتعظيم. قال قتادة: عذاب شديد لأعداء الله، ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته. قال الفراء:
التقدير في الآية إما عذاب شديد، وإما مغفرة، فلا يوقف على شديد. ثم ذكر سبحانه بعد الترهيب والترغيب
حقارة الدنيا فقال (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) لمن اغتربها ولم يعمل لآخرته. قال سعيد بن جبير: متاع
الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، ومن اشتغل بطلبها فله متاع بلاغ إلى ما هو خبر منه. وهذه الجملة مقررة
للمثل المتقدم ومؤكدة له، ثم ندب عباده إلى المسابقة إلى ما يوجب المغفرة من التوبة والعمل الصالح، فإن ذلك
سبب إلى الجنة فقال (سابقوا إلى مغفرة من ربكم) أي سارعوا مسارعة السابقين بالأعمال الصالحة التي توجب
المغفرة لكم من ربكم وتوبوا مما وقع منكم من المعاصي، وقيل المراد بالآية التكبيرة الأولى مع الإمام قاله مكحول،
وقيل المراد الصف الأول، ولا وجه لتخصيص ما في الآية بمثل هذا، بل هو من جملة ما تصدق عليه صدقا شموليا
أو بدليا (وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) أي كعرضهما، وإذا كان هذا قدر عرضها فما ظنك بطولها. قال
الحسن: يعني جميع السماوات والأرضين مبسوطات كل واحدة إلى صاحبتها، وقيل المراد بالجنة التي عرضها هذا
العرض هي جنة كل واحد من أهل الجنة. وقال ابن كيسان: عني به جنة واحدة من الجنات، والعرض أقل من
الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشئ بعرضه دون طوله، ومن ذلك قول الشاعر:
كأن بلاد الله وهي عريضة * على الخائف المطلوب كفة حابل
175

وقد مضى تفسير هذا في سورة آل عمران. ثم وصف سبحانه تلك الجنة بصفة أخرى فقال (أعدت للذين
آمنوا بالله ورسله) ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة. وفي هذا دليل على أن استحقاق الجنة يكون بمجرد
الإيمان بالله ورسله، ولكن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلا من عمل بما فرض الله عليه واجتنب
ما نهاه الله عنه، وهي أدلة كثيرة في الكتاب والسنة، والإشارة بقوله (ذلك) إلى وعد به سبحانه من المغفرة
والجنة، وهو مبتدأ وخبره (فضل الله يؤتيه من يشاء) أي يعطيه من يشاء إلا إعطاءه إياه تفضلا وإحسانا (والله ذو
الفضل العظيم) فهو يتفضل على من يشاء بما يشاء، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع، والخير كله بيده، وهو
الكريم المطلق والجواد الذي لا يبخل. ثم بين سبحانه أن ما يصاب به العباد من المصائب قد سبق بذلك قضاؤه
وقدره وثبت في أم الكتاب فقال (ما أصاب من مصيبة في الأرض) من قحط مطر وضعف نبات ونقص ثمار. قال
مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار، وقيل الجوائح في الزرع (ولا في أنفسكم) قال قتادة: بالأوصاب والأسقام.
وقال مقاتل: إقامة الحدود. وقال ابن جريج: ضيق المعاش (إلا في كتاب) في محل نصب على الحال من
مصيبة: أي إلا حال كونها مكتوبة في كتاب، وهو اللوح المحفوظ، وجملة (من قبل أن نبرأها) في محل جر صفة
لكتاب، والضمير في نبرأها عائد إلى المصيبة، أو إلى الأنفس، أو إلى الأرض، أو إلى جميع ذلك، ومعنى
" نبرأها " نخلقها (إن ذلك على الله يسير) أي أن إثباتها في الكتاب على كثرته على الله يسير غير عسير، لكيلا
تأسوا على ما فاتكم) أي اختبرناكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا (ولا تفرحوا بما آتاكم) منها: أي
أعطاكم منها، فإن ذلك يزول عن قريب، وكل زائل عن قريب لا يستحق أن يفرح بحصوله ولا يحزن على
فواته، ومع أن الكل بقضاء الله وقدره، فلن يعدو امرأ ما كتب له، وما كان حصوله كائنا لا محالة فليس
بمستحق للفرح بحصوله ولا للحزن على فوته، قيل والحزن والفرح المنهى عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى
ما لا يجوز، وإلا فليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح. قرأ الجمهور " بما آتاكم " بالمد: أي أعطاكم، وقرأ
أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو بالقصر: أي جاءكم، واختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة
الثانية أبو عبيد (والله لا يحب كل مختال فخور): أي لا يحب من اتصف بهاتين الصفتين وهما الاختيال والافتخار،
قيل هو ذم للفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر، وقيل إن من فرح بالحظوظ الدنيوية وعظمت في نفسه اختال
وافتخر بها، وقيل المختال الذي ينظر إلى نفسه، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاستحقار. والأولى تفسير
هاتين الصفتين بمعناهما الشرعي ثم اللغوي، فمن حصلتا فيه فهو الذي لا يحبه الله (الذين يبخلون ويأمرون الناس
بالبخل) الموصول في محل رفع بالابتداء، وهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله، والخبر مقدر: أي الذين
يبخلون فالله غني عنهم، ويدل على ذلك قوله (ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) وقيل الموصول في محل جر
بدل من مختال، وهو بعيد، فإن هذا البخل بما في اليد وأمر الناس بالبخل ليس هو معنى المختال الفخور، لا لغة
ولا شرعا. وقيل هو في محل جر نعت له، وهو أيضا بعيد. قال سعيد بن جبير: الذين يبخلون بالعلم ويأمرون
الناس بالبخل به لئلا يعلموا الناس شيئا. وقال زيد بن أسلم: إنه البخل بأداء حق الله، وقيل إنه البخل بالصدقة،
وقال طاووس: إنه البخل بما في يديه، وقيل أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا بيان صفة محمد صلى الله عليه وآله
وسلم في كتبهم لئلا يؤمن به الناس فتذهب مآكلهم قال السدي والكلبي: قرأ الجمهور " بالبخل " بضم الباء
وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحميد وابن حميصن وحمزة والكسائي بفتحتين،
176

وهي لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية وابن السميفع بفتح الباء وإسكان الخاء. وقرأ نصر بن عاصم بضمهما، وكلها
لغات (ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) أي ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غي عنه محمود عنه خلقه
لا يضره ذلك. قرأ الجمهور هو الغني بإثبات ضمير الفصل. وقرأ نافع وابن عامر فإن الله الغني الحميد بحذف الضمير.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا
في أنفسكم) يقول في الدين والدنيا (إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) قال نخلقها (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) من
الدنيا (ولا تفرحوا بما آتاكم) منها. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: هو شئ قد فرغ منه من قبل أن تبرأ
الأنفس. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه
أيضا في قوله (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) الآية قال: ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة
جعلها صبرا، ومن أصابه خير جعله شكرا. وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال: يريد مصائب المعاش، ولا
يريد مصائب الدين، وإنه قال: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) وليس هذا من مصائب الدين، أمرهم
أن يأسوا على السيئة ويفرحوا بالحسنة.
سورة الحديد (25 - 29)
قوله (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات) أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة (وأنزلنا معهم الكتاب المراد
الجنس، فيدخل فيه كتاب كل رسول (والميزان ليقوم الناس بالقسط) قال قتادة ومقاتل بن حيان: الميزان
العدل، والمعنى: أمرناهم بالعدل كما في قوله - والسماء رفعها ووضع الميزان - وقوله - الله الذي أنزل الكتاب بالحق
والميزان - وقال ابن زيد: وهو ما يوزن به ويتعامل به، ومعنى - ليقوم الناس بالقسط - ليتبعوا ما أمروا به من العدل
فيتعاملوا فيما بينهم بالنصفة، والقسط العدل، وهو يدل على أن المراد بالميزان العدل، ومعنى إنزاله: إنزال أسبابه
177

وموجباته. وعلى القول بأن المراد به الآلة التي يوزن بها فيكون إنزاله بمعنى إرشاد الناس إليه وإلهامهم الوزن به،
ويكون الكلام من باب علفتها تبنا وماء باردا وأنزلنا الحديد (أي خلقناه كما في قوله - وأنزل لكم من
الأنعام ثمانية أزواج - والمعنى: أنه خلقه من المعادن وعلم الناس صنعته، وقيل إنه نزل مع آدم (فيه بأس شديد)
لأنه تتخذ منه آلات الحرب، قال الزجاج: يمتنع به ويحارب، والمعنى: أنه تتخذ منه آلة للدفع وآلة للضرب.
قال مجاهد: فيه جنة وسلاح، ومعنى (ومنافع للناس) أنهم ينتفعون به في كثير مما يحتاجون إليه مثل السكين
والفأس والإبرة وآلات الزراعة والنجارة والعمارة (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) معطوف على قوله
ليقوم الناس: أي لقد أرسلنا رسلنا وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس وليعلم، وقيل معطوف على علة مقدرة،
كأنه قيل ليستعملوه وليعلم الله، والأول أولى. والمعنى: أن الله أمر في الكتاب الذي أنزل بنصره دينه ورسله فمن
نصر دينه ورسله علمه ناصرا، ومن عصى علمه بخلاف ذلك وبالغيب في محل نصب على الحال من فاعل
ينصره أو من مفعوله: أي غائبا عنهم أو غائبين عنه (إن الله قوى عزيز) أي قادر على كل شئ غالب لكل
شئ، وليس له حاجة في إن ينصره أحد من عباده وينصر رسله، بل كلفهم بذلك لينتفعوا به إذا امتثلوا ويحصل
لهم ما وعد به عباده المطيعين (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم) لما ذكر سبحانه إرسال الرسل إجمالا أشار هنا إلى نوع
تفصيل، فذكر رسالته لنوح وإبراهيم، وكرر القسم للتوكيد (وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب) أي جعلنا فيهم
النبوة والكتب المنزلة على الأنبياء منهم، وقيل جعل بعضهم أنبياء وبعضهم يتلون الكتاب (فمنهم مهتد) أي فمن
الذرية من اهتدى بهدى نوح وإبراهيم، وقيل المعنى: فمن المرسل إليهم من قوم الأنبياء مهتد بما جاء به الأنبياء من
الهدى (وكثير منهم فاسقون) خارجون عن الطاعة (ثم قفينا على آثارهم برسلنا) أي اتبعنا على آثار الذرية أو على
آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى وإلياس وداود وسليمان وغيرهم (وقفينا بعيسى ابن
مريم) أي أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم، وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه (وآتيناه
الإنجيل) وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه، وقد تقدم ذكر اشتقاقه في سورة آل عمران. قرأ الجمهور " الإنجيل "
بكسر الهمزة، وقرأ الحسن بفتحها (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة) الذين اتبعوه هم الحواريون جعل
الله في قلوبهم مودة لبعضهم البعض، ورحمة يتراحمون بها، بخلاف اليهود فإنهم ليسوا كذلك، وأصل الرأفة اللين،
والرحمة الشفقة، وقيل الرأفة أشد الرحمة (ورهبانية ابتدعوها) انتصاب رهبانية على الاشتغال: أي وابتدعوا
رهبانية ابتدعوها، وليس بمعطوفة على ما قبلها، وقيل معطوفة على ما قبلها: أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة
ورهبانية مبتدعة من عند أنفسهم. والأول أولى، ورجحه أبو علي الفارسي وغيره، وجملة (ما كتبناها عليهم)
صفة ثانية لرهبانية، أو مستأنفة مقررة لكونها مبتدعة من جهة أنفسهم، والمعنى: ما فرضناها عليهم، والرهبانية بفتح
الراء وضمها، وقد قرئ بهما، وهي بالفتح الخوف من الرهب، وبالضم منسوبة إلى الرهبان، وذلك لأنهم غلوا
في العبادة وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والمنكح، وتعلقوا بالكهوف والصوامع،
لأن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي منهم نفر قليل فترهبوا وتبتلوا، ذكر معناه الضحاك وقتادة وغيرهما (إلا ابتغاء
رضوان الله) الاستثناء منقطع: أي ما كتبناها نحن عليهم رأسا، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. وقال
الزجاج: ما كتبناها عليهم معناه لم نكتب عليهم شيئا ألبتة، قال: ويكون (إلا ابتغاء رضوان الله) بدلا من الهاء
والألف في كتبناها، والمعنى: ما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله (فما رعوها حق رعايتها) أي لم يرعوا هذه
الرهبانية التي ابتدعوها من جهة أنفسهم، بل صنعوها وكفروا بدين عيسى، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا
178

وبدلوا وتركوا الترهب، ولم يبق على دين عيسى إلا قليل منهم، وهم المرادون بقوله (فآتينا الذين آمنوا منهم
أجرهم) الذي يستحقونه بالإيمان، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله
وسلم لما بعثه الله (وكثير منهم فاسقون) خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به، ووجه الذم لهم على تقدير
أن الاستثناء منقطع أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة وأن الله يرضاها، فكان تركها وعدم
رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه دينا. وأما على القول بأن الاستثناء متصل، وأن التقدير:
ما كتبناها عليهم لشئ من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله بعد أن وفقناهم لابتداعها فوجه الذم ظاهر. ثم أمر
سبحانه المؤمنين بالرسل المتقدمين بالتقوى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال (يا أيها الذين آمنوا اتقوا
الله) بترك ما نهاكم عنه (وآمنوا برسوله) محمد صلى الله عليه وآله وسلم (يؤتكم كفلين من رحمته) أي نصيبين
من رحمته بسبب إيمانكم برسوله بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل، وأصل الكفل الحظ والنصيب، وقد تقدم الكلام
على تفسيره في سورة النساء (ويجعل لكم نورا تمشون به) يعني على الصراط كما قال - نورهم يسعى بين أيديهم -
وقيل المعنى: ويجعل لكم سبيلا واضحا في الدين تهتدون به (ويغفر لكم) ما سلف من ذنوبكم (والله غفور رحيم)
أي بليغ المغفرة والرحمة (لئلا يعلم أهل الكتاب) اللام متعلقة بما تقدم من الأمر بالإيمان والتقوى، والتقدير: اتقوا
وآمنوا يؤتكم كذا وكذا ليعلم الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب (أن لا يقدرون على شئ من فضل الله)
ولا في قوله " لئلا " زائدة للتوكيد، قاله الفراء والأخفش وغيرهما، وأن في قوله " أن لا يقدرون "
هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف وخبرها ما بعدها، والجملة في محل نصب على أنها مفعول يعلم،
والمعنى: ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئا من فضل الله الذي تفضل به على من آمن بمحمد
صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقدرون على دفع ذلك الفضل الذي تفضل الله به على المستحقين له، وجملة (وأن
الفضل بيد الله) معطوفة على الجملة التي قبلها: أي ليعلموا أنهم لا يقدرون وليعلموا أن الفضل بيد الله سبحانه،
وقوله (يؤتيه من يشاء) خبر ثان لأن، أو هو الخبر، والجار والمجرور في محل نصب على الحال (والله ذو الفضل
العظيم) هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، والمراد بالفضل هنا ما تفضل به على الذين اتقوا وآمنوا برسوله من
الأجر المضاعف. وقال الكلبي: هو رزق الله، وقيل نعم الله التي لا تحصى، وقيل هو الإسلام، وقد قيل إن " لا "
في لئلا غير مزيدة، وضمير لا يقدرون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. والمعنى: لئلا يعتقد أهل الكتاب
أنه لا يقدر النبي والمؤمنون على شئ من فضل الله الذي هو عبارة عما أوتوه، والأول أولى. وقرأ ابن مسعود
" لكيلا يعلم " وقرأ خطاب بن عبد الله " لأن يعلم " وقرأ عكرمة " ليعلم " وقرئ " ليلا " بقلب الهمزة ياء، وقرئ
بفتح اللام.
وقد أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وأبو يعلي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق ابن مسعود قال: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: يا عبد الله، قلت لبيك يا رسول الله ثلاث مرات، قال: هل تدري أي عرى الإسلام أوثق؟ قلت: الله
ورسوله أعلم، قال: أفضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم، يا عبد الله هل تدري أي الناس أعلم؟ قلت:
الله ورسوله أعلم، قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا بالعمل وإن كان
يزحف على استه، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها: فرقة وازرت
الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم
179

فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلهم الملوك ونشرتهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك ولا بالمقام
معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله
فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم) هم الذين آمنوا بي وصدقوني (وكثير منهم فاسقون) الذين
جحدوني وكفروا بي ". وأخرج النسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه
عن ابن عباس قال: " كانت ملوك بعد عيسى بدلت التوراة والإنجيل، فكان منهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل
فقيل لملوكهم ما نجد شيئا أشد من شتم يشتمنا هؤلاء إنهم يقرءون - ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون -
- ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون - فأولئك هم الفاسقون - مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم،
فادعوهم فليقرءوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا، فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل، أو ليتركوا قراءة التوراة
والإنجيل إلا ما بدلوا منهما، فقالوا ما تريدون إلى ذلك؟ دعونا، فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة ثم ارفعونا
إليها، ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم، وقالت طائفة: دعونا سيح في الأرض ونهيم ونأكل
مما تأكل منه الوحوش ونشرب مما تشرب، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة: ابنوا لنا دورا
في الفيافي ونحتفر الآبار ونحرث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم، وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم ففعلوا
ذلك، فأنزل الله (رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) وقال الآخرون
ممن تعبد من أهل الشرك وفنى من فنى منهم قالوا: نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دورا كما
اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ولم يبق منهم إلا القليل انحط صاحب الصومعة من صومعته وجاء السياح من سياحته وصاحب الدير من ديره، فآمنوا
به وصدقوه، فقال الله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته) أجرين بإيمانهم بعيسى
ونصب أنفسهم والتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد وتصديقهم (ويجعل لكم نورا تمشون به) القرآن واتباعهم
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ". وأخرج أحمد والحكيم الترمذي وأبو يعلى والبيهقي في الشعب عن أنس أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال " إن لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله ". وأخرج ابن أبي شيبة
وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري في قوله (كفلين) قال: ضعفين
وهي بلسان الحبشة. وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر في قوله (يؤتكم كفلين
من رحمته) قال: الكفل ثلاثمائة جزء وخمسون جزءا من رحمة الله.
180

تفسير سورة المجادلة
هي ثنتان وعشرون آية
وهي مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع، إلا رواية عن عطاء أن العشر الأول منها مدني وباقيها مكي.
وقال الكلبي: نزلت جميعها بالمدينة غير قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) نزلت بمكة. وأخرج ابن
الصريس والنحاس وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة المجادلة بالمدينة.
وأخرج ابن مردويه عن الزبير مثله.
سورة المجادلة (1 - 4)
قوله (قد سمع الله) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الدال في السين، وقرأ الباقون بالإظهار. قال
الكسائي: من بين الدال عند السين فلسانه أعجمي وليس بعربي (قول التي تجادلك في زوجها) أي تراجعك الكلام
في شأنه (وتشتكي إلى الله) معطوف على تجادلك والمجادلة هذه الكائنة منها مع رسول الله أنه كان كلما قال لها قد
حرمت عليه، قالت: والله ما ذكر طلاقا ثم تقول أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم
إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك.
فهذا معنى قوله (وتشتكي إلى الله) قال الواحدي: قال المفسرون: نزلت هذه الآية في خولة بنت ثعلبة وزوجها
أوس بن الصامت وكان به لمم، فاشتد به لممه ذات يوم فظاهر منها، ثم ندم على ذلك، وكان الظهار طلاقا في
الجاهلية. وقيل هي خولة بنت حكيم، وقيل اسمها جميلة، والأول أصح، وقيل هي بنت خويلد. وقال الماوردي:
إنها نسبت تارة إلى أبيها، وتارة إلى جدها وأحدهما أبوها والآخر جدها، فهي خولة بنت ثعلبة بن خويلد،
وجملة (والله يسمع تحاوركما) في محل نصب على الحال، أو مستأنفة جارية مجرى التعليل لما قبلها: أي والله يعلم
تراجعكما في الكلام (إن الله سميع بصير) يسمع كل مسموع ويبصر كل مبصر، ومن جملة ذلك ما جادلتك به هذه
181

المرأة. ثم بين سبحانه شأن الظهار في نفسه وذكر حكمه فقال (الذين يظهرون منكم من نسائهم) قرأ الجمهور
" يظهرون " بالتشديد مع فتح حرف المضارعة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي " يظاهرون " بفتح الياء وتشديد
الظاء وزيادة ألف، وقرأ أبو العالية وعاصم وزر بن حبيش " يظاهرون " بضم الياء وتخفيف الظاء وكسر الهاء،
وقد تقدم مثل هذا في سورة الأحزاب. وقرأ أبي " يتظاهرون " بفك الإدغام - ومعنى الظهار أن يقول لامرأته:
أنت علي كظهر أمي: أي ولا خلاف في كون هذا ظهارا. واختلفوا إذا قال: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو
غير ذلك من ذوات المحارم، فذهب جماعة منهم أبو حنيفة ومالك إلى أنه ظهار، وبه قال الحسن والنخعي
والزهري والأوزاعي والثوري. وقال جماعة منهم قتادة والشعبي: إنه لا يكون ظهارا بل يختص الظهار بالأم
وحدها. واختلفت الرواية عن الشافعي، فروى عنه كالقول الأول، وروى عنه كالقول الثاني، وأصل الظهار
مشتق من الظهر.
واختلفوا إذا قال لامرأته أنت على كرأس أمي أو يدها أو رجلها أو نحو ذلك؟ هل يكون ظهارا أم لا، وهكذا
إذا قال أنت علي كأمي ولم يذكر الظهر، والظاهر أنه إذا قصد بذلك الظهار كان ظهارا. وروى عن أبي حنيفة أنه
إذا شبهها بعضو من أمه يحل له النظر إليه لم يكن ظهارا. وروى عن الشافعي أنه لا يكون الظهار إلا في الظهر وحده.
واختلفوا إذا شبه امرأته بأجنبية، فقيل يكون ظهارا وقيل لا، والكلام في هذا مبسوط في كتب الفروع،
وجملة (ما هن أمهاتهم) في محل رفع على أنها خبر الموصول. أي ما نساؤهم بأمهاتهم، فذلك كذب منهم، وفي
هذا توبيخ للمظاهرين وتبكيت لهم. قرأ الجمهور " أمهاتهم " بالنصب على اللغة الحجازية في إعمال " ما " عمل ليس.
وقرأ أبو عمرو والسلمي بالرفع على عدم الإعمال، وهي لغة نجد وبني أسد. ثم بين سبحانه لهم أمهاتهم على الحقيقة
فقال (إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم) أي ما أمهاتهم إلا النساء اللائي ولدنهم. ثم زاد سبحانه في توبيخهم وتقريعهم
فقال (وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) أي وإن المظاهرين ليقولون بقولهم هذا منكرا من القول: أي فظيعا
من القول ينكره الشرع، والزور الكذب، وانتصاب منكرا وزورا على أنهما صفة لمصدر محذوف: أي قولا منكر
وزورا (وإن الله لعفو غفور) أي بليغ العفو والمغفرة، إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم عن هذا القول المنكر
(والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا) لما ذكر سبحانه الظهار إجمالا ووبخ فاعليه شرع في تفصيل
أحكامه، والمعنى: والذين يقولون ذلك القول المنكر الزور، ثم يعودون لما قالوا: أي إلى ما قالوا بالتدارك
والتلافي كما في قوله - أن تعودوا لمثله - أي إلى مثله. قال الأخفش: (لما قالوا) وإلى ما قالوا يتعاقبان. قال - وقالوا الحمد
لله الذي هدانا لهذا - وقال - فاهدوهم إلى صراط الجحيم - وقال - بأن ربك أوحى لها - وقال - وأوحى إلى نوح -
وقال الفراء: اللام بمعنى عن، والمعنى: ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء. وقال الزجاج: المعنى ثم
يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. قال الأخفش أيضا: الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى: والذين
يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما كانوا عليه من الجماع (فتحرير رقبة) لما قالوا: أي فعليهم تحرير رقبة من
أجل ما قالوا. فالجار في قوله (لما قالوا) متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ وهو فعليهم.
واختلف أهل العلم في تفسير العود المذكور على أقوال: الأول أنه العزم على الوطء وبه قال العراقيون
أبو حنيفة وأصحابه، وروي عن مالك. وقيل هو الوطء نفسه وبه قال الحسن، وروى أيضا عن مالك. وقيل هو
أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق وبه قال الشافعي. وقيل هو الكفارة، والمعنى: أنه لا يستبيح
182

وطأها إلا بكفارة، وبه قال الليث بن سعد، وروى عن أبي حنيفة. وقيل هو تكرير الظهار بلفظه، وبه قال أهل
الظاهر. وروى عن بكير بن الأشبح وأبي العالية والفراء. والمعنى. ثم يعودون إلى قول ما قالوا. والموصول
مبتدأ وخبره (فتحرير رقبة) على تقدير فعليهم تحرير رقبة كما تقدم، أو قالوا جب عليهم إعتاق رقبة، يقال
حررته: أي جعلته حرا، والظاهر أنها تجزئ أي رقبة كانت، وقيل يشترط أن تكون مؤمنة كالرقبة في كفارة
القتل، وبالأول قال أبو حنيفة وأصحابه وبالثاني قال مالك والشافعي، واشترطا أيضا سلامتها من كل عيب (من
قبل أن يتماسا) المراد بالتماس هنا الجماع، وبه قال الجمهور، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يكفر، وقيل إن
المراد به الاستمتاع بالجماع أو اللمس أو النظر إلى الفرج بشهوة، وبه قال مالك، وهو أحد قول الشافعي،
والإشارة بقوله (ذلكم) إلى الحكم المذكور وهو مبتدأ وخبره (توعظون به) أي تؤمرون به، أو تزجرون به عن
ارتكاب الظهار، وفيه بيان لما هو المقصود من شرع الكفارة. قال الزجاج: معنى الآية ذلكم التغليظ في الكفارة
توعظون به: أي إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار (والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه شئ من
أعمالكم، فهو مجازيكم عليها. ثم ذكر سبحانه حكم العاجز عن الكفارة فقال (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين
من قبل أن يتماسا) أي فمن لم يجد الرقبة في ملكه ولا تمكن من قيمتها فعليه صيام شهرين متتابعين متواليين لا يفطر
فيهما، فإن أفطر استأنف إن كان الإفطار لغير عذر، وإن كان لعذر من سفر أو مرض فقال سعيد بن المسيب
والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي والشافعي ومالك: إنه يبنى ولا يستأنف. وقال أبو حنيفة:
إنه يستأنف، وهو مروي عن الشافعي، ومعنى (من قبل أن يتماسا) هو ما تقدم قريبا، فلو وطئ ليلا أو نهارا
عمدا أو خطأ استأنف، وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال الشافعي: لا يستأنف إذا وطئ ليلا لأنه ليس محلا
للصوم، والأول أولى (فمن لم يستطع) يعنى صيام شهرين متتابعين (فإطعام ستين مسكينا) أي فعليه أن يطعم
ستين مسكينا، لكل مسكين مدان، وهما نصف صاع، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي وغيره:
لكل مسكين مد واحد، والظاهر من الآية أن يطعمهم حتى يشبعوا مرة واحدة، أو يدفع إليهم ما يشبعهم، ولا
يلزمه أن يجمعهم مرة واحدة، بل يجوز له أن يطعم بعض الستين في يوم، وبعضهم في يوم آخر، والإشارة بقوله
(ذلك) إلى ما تقدم ذكره من الأحكام، وهو مبتدأ وخبره مقدر: أي ذلك واقع (لتؤمنوا بالله ورسوله)
ويجوز أن يكون اسم الإشارة في محل نصب، والتقدير: فعلنا ذلك لتؤمنوا: أي لتصدقوا أن الله أمر به وشرعه،
أو لتطيعوا الله ورسوله في الأوامر والنواهي، وتقفوا عند حدود الشرع ولا تتعدوها ولا تعودوا إلى الظهار الذي
هو منكر من القول وزور، والإشارة بقوله (وتلك) إلى الأحكام المذكورة وهو مبتدأ، وخبره (حدود الله)
فلا تجاوزوا حدوده التي حدها لكم، فإنه قد بين لكم أن الظهار معصية، وأن كفارته المذكورة توجب العفو
والمغفرة (وللكافرين) الذين لا يقفون عند حدود الله ولا يعملون بما حده الله لعباده (عذاب أليم) وهو عذاب
جهنم، وسماه كفرا تغليظا وتشديدا.
وقد أخرج ابن ماجة وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع
سمعه كل شئ إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر
مني، اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات (قد سمع الله قول التي
تجادلك في زوجها) وهو أوس بن الصامت. وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: كان
183

أول من ظاهر في الإسلام أوس، وكانت تحته ابنة عم له يقال لها خولة بنت خويلد، فظاهر منها فأسقط في يده
وقال: ما أراك إلا قد حرمت علي، فانطلقي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاسأليه، فأتت النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه فأخبرته، فقال: يا خولة ما أمرنا في أمرك بشئ، فأنزل الله
على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا خولة أبشري؟ قالت خيرا. قال: خيرا، فقرأ عليها (قد سمع الله قول
التي تجادلك في زوجها) الآيات. وأخرج أحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي من طريق
يوسف بن عبد الله بن سلام " قال حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت: في والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر
سورة المجادلة، قالت: كنت عنده، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، فدخل علي يوما فراجعته بشئ فغضب
فقال: أنت علي كظهر أمي، ثم رجع فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي،
قلت: كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا، ثم جئت إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له، فما برحت حتى نزل القرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ما كان يتغشاه ثم سرى عنه، فقال لي: يا خولة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك، ثم قرأ علي (قد سمع الله
قول التي تجادلك) إلى قوله (عذاب أليم) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مريه فليعتق رقبة، قلت:
يا رسول الله ما عنده ما يعتق، قال: فليصم شهرين متتابعين، قلت: والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام، قال:
فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر، قلت: والله ما ذاك عنده، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فأنا
سأعينه بعرق من تمر، فقلت: وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق آخر، فقال: قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي
به عنه ثم استوصى بابن عمك خيرا، قالت ففعلت " وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن المنذر والبيهقي في سننه عن
ابن عباس في قوله (ثم يعودون لما قالوا) قال: هو الرجل يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فإذا قال ذلك
فليس يحل له أن يقربها بنكاح ولا غيره حتى يكفر بعتق رقبة (فمن) فإن (لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن
يتماسا) والمس النكاح (فمن) فإن (لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) وإن هو قال لها: أنت علي كظهر أمي إن فعلت
كذا فليس يقع في ذلك ظهار حتى يحنث، فإن حنث فلا يقربها حتى يكفر، ولا يقع في الظهار طلاق. وأخرج
ابن المنذر عن أبي هريرة قال ثلاث فيه مد: كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الصيام. وأخرج البزار
والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال " أتى رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني
ظاهرت من امرأتي، فرأيت بياض خلخالها في ضوء القمر، فوقعت عليها قبل أن أكفر، فقال النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: ألم يقل الله من قبل أن يتماسا، قال: قد فعلت يا رسول الله، قال: أمسك عنها حتى تكفر ". وأخرج
عبد الرزاق وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي عن ابن عباس " أن رجلا قال: يا رسول
الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها من قبل أن أكفر، فقال: وما حملك على ذلك؟ قال: رأيت خلخالها
في ضوء القمر، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله ". وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود
والترمذي وحسنه وابن ماجة والطبراني والبغوي في معجمه والحاكم وصححه عن سلمة بن صخر الأنصاري قال:
كنت رجلا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان
فرقا من أن أصيب منها في ليلي فأتتابع في ذلك ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح، فبينما هي تخدمني ذات
ليلة إذ انكشف لي منها شئ فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري، فقلت: انطلقوا معي
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بأمري، فقالوا: لا، والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا القرآن،
184

أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك
قال: فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته خبري، فقال أنت بذاك؟ قلت أنا بذاك،
قال أنت بذاك؟ قلت أنا بذاك، قال أنت بذاك؟ قلت أنا بذاك وها أنا ذا فأمض في حكم الله فإني صابر لذلك،
قال: أعتق رقبة، فضربت عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال: فصم
شهرين متتابعين، فقلت: هل أصابني ما أصابني إلا في الصيام؟ قال: فأطعم ستين مسكينا، قلت: والذي
بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشا ما لنا عشاء، قال: اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له فليدفعها
إليك فأطعم عنك منها وسقا ستين مسكينا، ثم استعن بسائرها عليك وعلى عيالك، فرجعت إلى قومي فقلت:
وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السعة والبركة، أمر لي
بصدقتكم فادفعوها إلي، فدفعوها إليه ".
سورة المجادلة (5 - 10)
قوله (إن الذين يحادون الله ورسوله) لما ذكر سبحانه المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين،
والمحادة المشاقة والمعاداة والمخالفة. ومثله قوله (إن الذين يحادون الله ورسوله) قال الزجاج: المحادة أن تكون
في حد يخالف صاحبك، وأصلها الممانعة، ومنه الحديد، ومنه الحداد للبواب كبتوا كما كبت الذين من
قبلهم) أي أذلوا وأخزوا، يقال: كبت الله فلانا إذا أذله، والمردود بالذل يقال له مكبوت. قال المقاتلان:
أخزوا كما أخزى الذين من قبلهم من أهل الشرك، وكذا قال قتادة. وقال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا. وقال
185

ابن زيد: عذبوا. وقال السدي: لعنوا. وقال الفراء: أغيظوا، والمراد بمن قبلهم: كفار الأمم الماضية المعادين
لرسل الله، وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه، وقيل المعنى: على المضي، وذلك ما وقع
للمشركين يوم بدر، فإن الله كبتهم بالقتل والأسر والقهر، وجملة (ولقد أنزلنا آيات بينات) في محل نصب على
الحال من الواو في كبتوا: أي والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسله من الأمم المتقدمة،
وقيل المراد الفرائض التي أنزلها الله سبحانه، وقيل هي المعجزات (وللكافرين عذاب مهين) أي للكافرين بكل
ما يجب الإيمان به، فتدخل الآيات المذكورة هنا دخولا أوليا، والعذاب المهين: الذي يهين صاحبه ويذله
ويذهب بعزه (يوم يبعثهم الله جميعا) الظرف منتصب بإضمار أذكر، أو بمهين، أو بما تعلق به اللام من الاستقرار،
أو بأحصاه المذكور بعده، وانتصاب جميعا على الحال: أي مجتمعين في حالة واحدة، أو يبعثهم كلهم لا يبقى
منهم أحد غير مبعوث (فينبئهم بما عملوا) أي يخبرهم بما عملوه في الدنيا من الأعمال القبيحة توبيخا لهم وتبكيتا
ولتكميل الحجة عليهم، وجملة (أحصاه الله ونسوه) مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل كيف ينبئهم بذلك
على كثرته واختلاف أنواعه، فقيل أحصاه الله جميعا ولم يفته منه شئ، والحال أنهم قد نسوه ولم يحفظوه، بل
وجدوه حاضرا مكتوبا في صحائفهم (والله على كل شئ شهيد) لا يخفى عليه شئ من الأشياء، بل هو مطلع وناظر.
ثم أكد سبحانه بيان كونه عالما بكل شئ، فقال (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض) أي ألم تعلم
أن علمه محيط بما فيهما بحيث لا يخفى عليه شئ مما فيهما، وجملة (ما يكون من نجوى ثلاثة) الخ مستأنفة لتقرير
شمول علمه وإحاطته بكل المعلومات. قرأ الجمهور " يكون " بالتحتية. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعرج
وأبو حيوة بالفوقية، وكان على القراءتين تامة، ومن مزيدة للتأكيد، ونجوى فاعل كان، والنجوى السرار،
يقال: قوم نجوى: أي ذو نجوى وهي مصدر. والمعنى: ما يوجد من تناجي ثلاثة أو من ذوي نجوى، ويجوز
أن تطلق النجوى على الأشخاص المتناجين، فعلى الوجه الأول انخفاض ثلاثة بإضافة نجوى إليه، وعلى الوجهين
الآخرين يكون انخفاضها على البدل من نجوى أو الصفة لها. قال الفراء: ثلاثة نعت للنجوى فانخفضت وإن شئت
أضفت نجوى إليها، ولو نصبت على إضمار فعل جاز، وهي قراءة ابن أبي عبلة، ويجوز رفع ثلاثة على البدل من
موضع نجوى (إلا هو رابعهم) هذه الجملة في موضع نصب على الحال، وكذا قوله - إلا هو خامسهم - (إلا هو
معهم): أي ما يوجد شئ من هذه الأشياء إلا في حال من هذه الأحوال، فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال،
ومعنى رابعهم جاعلهم أربعة، وكذا سادسهم جاعلهم ستة من حيث إنه يشاركهم في الاطلاع على تلك النجوى
(ولا خمسة) أي ولا نجوى خمسة، وتخصيص العددين بالذكر، لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة أو
خمسة، أو كانت الواقعة التي هي سبب النزول في متناجين كانوا ثلاثة في موضع وخمسة في موضع. قال الفراء:
العدد غير مقصود لأنه سبحانه مع كل عدد قل أو كثر يعلم السر والجهر لا تخفى عليه خافيه (ولا أدنى من ذلك
ولا أكثر إلا هو معهم) أي ولا أقل من العدد المذكور: كالواحد والاثنين، ولا أكثر منه: كالستة
والسبعة إلا هو معهم يعلم ما يتناجون به لا يخفى عليه منه شئ. قرأ الجمهور " ولا أكثر " بالجر بالفتحة عطفا على
لفظ نجوى. وقرأ الحسن والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو حيوة ويعقوب وأبو العالية ونصر وعيسى بن عمر وسلام
بالرفع عطفا على محل نجوى. وقرأ الجمهور " ولا أكثر " بالمثلثة. وقرأ الزهري وعكرمة بالموحدة. قال الواحدي:
قال المفسرون: إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم،
فيحزنون لذلك، فلما طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون
186

المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله هذه الآيات، ومعنى (أينما كانوا) إحاطة علمه
بكل تناج يكون منهم في أي مكان من الأمكنة (ثم ينبئهم) أي يخبرهم (بما عملوا يوم القيامة) توبيخا لهم وتبكيتا وإلزاما
للحجة (إن الله بكل شئ عليم) لا يخفى عليه شئ كائنا ما كان (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما
نهوا عنه) هؤلاء الذين نهوا، ثم عادوا لما نهوا عنه هم من تقدم ذكره من المنافقين واليهود. قال مقاتل: كان
بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين اليهود مواعدة، فإذا مر بهم الرجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن
المؤمن شرا، فنهاهم الله فلم ينتهوا، فنزلت. وقال ابن زيد: كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فيسأله الحاجة ويناجيه والأرض يومئذ حرب فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم فيفزعون لذلك
(ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول) قرأ الجمهور " يتناجون " بوزن يتفاعلون، واختار هذه القراءة
أبو عبيد وأبو حاتم لقوله فيما بعد (إذا تناجيتم فلا تتناجوا). وقرأ حمزة وخلف وورش عن يعقوب " وينتجون "
بوزن يفتعلون، وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه، وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد نحو تخاصموا
واختصموا وتقاتلوا واقتتلوا، ومعنى الإثم ما هو إثم في نفسه كالكذب والظلم، والعدوان ما فيه عدوان على
المؤمنين ومعصية الرسول مخالفته. قرأ الجمهور " ومعصية " بالإفراد. وقرأ الضحاك وحميد ومجاهد " ومعصيات "
بالجمع (وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله) قال القرطبي: إن المراد بها اليهود كانوا يأتون النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فيقولون السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهرا وهم يعنون الموت باطنا، فيقول النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: عليكم، وفي رواية أخرى وعليكم (ويقولون في أنفسهم) أي فيما بينهم (لولا يعذبنا الله بما نقول)
أي هلا يعذبنا بذلك، ولو كان محمد نبيا لعذبنا بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به، وقيل المعنى: لو كان نبيا
لاستجيب له فينا حيث يقول وعليكم ووقع علينا الموت عند ذلك (حسبهم جهنم) عذابا (يصلونها) يدخلونها
(فبئس المصير) أي المرجع، وهو جهنم (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية
الرسول) لما فرغ سبحانه عن نهي اليهود والمنافقين عن النجوى أرشد المؤمنين إذا تناجوا فيما بينهم أن لا يتناجوا بما
فيه إثم وعدوان ومعصية لرسول الله كما يفعله اليهود والمنافقون. ثم بين لهم ما يتناجون به في أنديتهم وخلواتهم فقال
(وتناجوا بالبر والتقوى) أي بالطاعة وترك المعصية، وقيل الخطاب للمنافقين، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا
ظاهرا أو بزعمهم، واختار هذا الزجاج، وقيل الخطاب لليهود، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى، والأول
أولى، ثم خوفهم سبحانه فقال (واتقوا الله الذي إليه تحشرون) فيجزيكم بأعمالكم. ثم بين سبحانه أن ما يفعله
اليهود والمنافقون من التناجي هو من جهة الشيطان، فقال (إنما النجوى) يعنى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول
(من الشيطان) لا من غيره: أي من تزيينه وتسويله (ليحزن الذين آمنوا) أي لأجل أن يوقعهم في الحزن بما
يحصل لهم من التوهم أنها في مكيدة يكادون بها (وليس بضارهم شيئا) أو وليس الشيطان أو التناجي الذي يزينه
الشيطان بضار المؤمنين شيئا من الضرر (إلا بإذن الله) أي بمشيئته، وقيل بعلمه (وعلى الله فليتوكل المؤمنون)
أي يكلون أمرهم إليه ويفوضونه في جميع شؤونهم ويستعيذون بالله من الشيطان ولا يبالون بما يزينه من النجوى.
وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب. قال السيوطي
بسند جيد عن ابن عمر: إن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: السام عليك، يريدون بذلك
شتمه، ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول، فنزلت هذه الآية (وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به
الله) وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري والترمذي وصححه عن أنس " أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وآله
187

وسلم وأصحابه فقال: السام عليكم، فرد عليه القوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل تدرون ما قال
هذا؟ قالوا: الله أعلم، سلم يا نبي الله، قال لا، ولكنه قال كذا وكذا ردوه علي فردوه، قال: قلت السام عليكم؟
قال نعم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك: إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب، فقولوا عليك، قال
عليك ما قلت. قال (وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله) ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت:
" دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهود، فقالوا السام عليك يا أبا القاسم، فقالت عائشة: عليكم السام
واللعنة، فقال: يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا المتفحش، قلت: ألا تسمعهم يقولون السام؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: أو ما سمعتني أقول وعليكم، فأنزل الله (وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله) ".
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم إذا حيوه: سام عليك فنزلت. وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إذا بعث سرية وأغزاها التقى المنافقون فأنغضوا رؤوسهم إلى المسلمين ويقولون قتل القوم، وإذا رأوا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم تناجوا وأظهروا الحزن، فبلغ ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن المسلمين،
فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول) الآية ". وأخرج البخاري
ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان
دون الثالث، فإن ذلك يحزنه ". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال: كنا نتناوب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بطرقه أمر أو يأمر بشئ فكثر أهل النوب والمحتسبون ليلة حتى إذا كنا أنداء نتحدث،
فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الليل فقال: ما هذه النجوى؟ ألم تنهوا عن النجوى؟ قلنا:
يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح فرقا منه، فقال: ألا أخبركم مما هو أخوف عليكم عندي منه؟ قلنا بلى يا رسول
الله. قال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل ". قال ابن كثير: هذا إسناد غريب، وفيه
بعض الضعفاء.
سورة المجادلة (11 - 13)
قوله (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس) يقال فسح له يفسخ فسحا: أي وسع له، ومنه
قولهم بلد فسيح. أمر الله سبحانه بحسن الأدب مع بعضهم بعضا بالتوسعة في المجلس وعدم التضايق فيه. قال
قتادة ومجاهد والضحاك: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض.
188

وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: هو مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب كانوا يتشاحون على الصف الأول،
فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال لتحصيل الشهادة (فافسحوا يفسح الله لكم) أي فوسعوا يوسع الله لكم
في الجنة، أو في كل ما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق وغيرهما. قرأ الجمهور " تفسحوا في المجلس " وقرأ
السلمي وزر بن حبيش وعاصم " في المجالس " على الجمع، لأن لكل واحد منهم مجلسا، وقرأ قتادة والحسن وداود
ابن أبي هند وعيسى بن عمر " تفاسحوا " قال الواحدي: والوجه التوحيد في المجلس، لأنه يعني به مجلس النبي صلى
الله عليه وآله وسلم. وقال القرطبي: الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر،
سواء كان مجلس حرب، أو ذكر، أو يوم الجمعة، وأن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه، ولكن يوسع
لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق عن موضعه، ويؤيد هذا حديث ابن عمر عند البخاري ومسلم وغيرهما عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا "
(وإذا قيل انشزوا فانشزوا) قرأ الجمهور بكسر الشين فيها، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بضمها فيهما، وهما لغتان
بمعنى واحد، يقال نشز: أي ارتفع ينشز وينشز كعكف يعكف ويعكف، والمعنى: إذا قيل لكم انهضوا فانهضوا.
قال جمهور المفسرين: أي انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير. وقال مجاهد والضحاك وعكرمة: كان رجال
يتثاقلون عن الصلاة، فقيل لهم إذا نودي للصلاة فانهضوا. وقال الحسن: انهضوا إلى الحرب. وقال ابن زيد:
هذا في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وآله
وسلم، فقال الله تعالى (وإذا قيل انشزوا) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فانشزوا) فإن له حوائج فلا
تمكثوا. وقال قتادة: المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف، والظاهر حمل الآية على العموم، والمعنى: إذا
قيل لكم انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية فانهضوا ولا تتثاقلوا ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصا،
فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو الحق، ويندرج ما هو سبب النزول فيها اندراجا أوليا،
وهكذا يندرج ما فيه السياق وهو التفسيح في المجلس اندراجا أوليا، وقد قدمنا أن معنى نشز ارتفع، وهكذا يقال
نشز ينشز: إذا تنحى عن موضعه، ومنه امرأة ناشز: أي متنحية عن زوجها، وأصله مأخوذ من النشز، وهو
ما ارتفع من الأرض وتنحى، ذكر معناه النحاس (يرفع الله الذين آمنوا منكم) في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم
فيهما (والذين أوتوا العلم درجات) أي ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا والثواب
في الآخرة، ومعنى الآية أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا
درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات، وقيل المراد بالذين آمنوا
من الصحابة وكذلك الذين أوتوا العلم، وقيل المراد بالذين أوتوا العلم الذين قرءوا القرآن. والأولى حمل الآية على
العموم في كل مؤمن وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملة، ولا دليل يدل على تخصيص الآية
بالبعض دون البعض، وفي هذه الآية فضيلة عظيمة للعلم وأهله، وقد دل على فضله وفضلهم آيات قرآنية
وأحاديث نبوية (والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه شئ من أعمالكم من خير وشر، فهو مجازيكم بالخير خيرا
وبالشر شرا (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) المناجاة المساررة، والمعنى:
إذا أردتم مساررة الرسول في أمر من أموركم فقدموا بين يدي مساررتكم له صدقة. قال الحسن: نزلت بسبب
أن قوما من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم
ينتقصونهم في النجوى، فشق عليهم ذلك. فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى لتقطعهم عن استخلائه. وقال زيد
189

ابن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون إنه أذن يسمع
كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحدا من مناجاته وكان ذلك يشق على المسلمين، لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم
أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله، فأنزل الله - يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان
ومعصيت الرسول - فلم ينتهوا، فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل عن النجوى لأنهم لم يقدموا بين يدي
نجواهم صدقة، وشق ذلك على أهل الإيمان وامتنعوا عن النجوى لضعف كثير منهم عن الصدقة فخفف الله
عنهم بالآية التي بعد هذه، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم من تقديم الصدقة بين يدي النجوى، وهو مبتدأ
وخبره (خير لكم وأطهر) لما فيه من طاعة الله، وتقييد الأمر بكون امتثاله خيرا لهم من عدم الامتثال وأطهر
لنفوسهم يدل على أنه أمر ندب لا أمر وجوب (فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) يعنى من كان منهم لا يجد تلك
الصدقة المأمور بها بين يدي النجوى، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي
نجواكم صدقات) أي أخفتم الفقر والعيلة لأن تقدموا ذلك، والإشفاق: الخوف من المكروه والاستفهام للتقرير.
وقيل المعنى: أبخلتم، وجمع الصدقات هنا باعتبار المخاطبين. قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم
نسخ. وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة. وقال قتادة: ما كان إلا ساعة من النهار (فإذ لم تفعلوا)
ما أمرتم به من الصدقة بين يدي النجوى، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ولم يفعل، وأما من لم يجد فقد تقدم
الترخيص له بقوله (فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) (وتاب الله عليكم) بأن رخص لكم في الترك، " وإذ " على
بابها في الدلالة على المضي، وقيل هي بمعنى إذا، وقيل بمعنى إن، وتاب معطوف على لم تفعلوا: أي وإذا لم
تفعلوا وإذ تاب عليكم (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) والمعنى: إذا وقع منكم التثاقل عن امتثال الأمر بتقديم
الصدقة بين يدي النجوى فاثبتوا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله فيما تؤمرون به وتنهون عنه
(والله خبير بما تعملون) لا يخفى عليه من ذلك شئ فهو مجازيكم، وليس في الآية ما يدل على تقصير المؤمنين
في امتثال هذا الأمر، أما الفقراء منهم فالأمر واضح، وأما من عداهم من المؤمنين فإنهم لم يكلفوا بالمناجاة حتى
تجب عليهم الصدقة بل أمروا بالصدقة إذا أرادوا المناجاة، فمن ترك المناجاة فلا يكون مقصرا في امتثال الأمر
بالصدقة، على أن في الآية ما يدل على أن الأمر للندب كما قدمنا. وقد استدل بهذه الآية من قال بأنه يجوز
النسخ قبل إمكان الفعل، وليس هذا الاستدلال بصحيح، فإن النسخ لم يقع إلا بعد إمكان الفعل، وأيضا قد
فعل ذلك البعض، فتصدق بين يدي نجواه كما سيأتي.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: أنزلت هذه الآية (إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس) يوم
جمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين
والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم، ثم سلموا على
القوم بعد ذلك فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ما يحملهم على القيام، فلم يفسح لهم، فشق ذلك عليه، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر:
قم يا فلان وأنت يا فلان، فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من
مجلسه، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: ذلك في مجلس القتال (وإذا قيل
190

انشزوا) قال: إلى الخير والصلاة. وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في المدخل عن ابن عباس في
قوله (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) قال: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على
الذين لم يؤمنوا درجات. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في تفسير هذه الآية
قال: يرفع الله الذين آمنوا منكم وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات. وأخرج ابن المنذر عنه قال:
ما خص الله العلماء في شئ من القرآن ما خصهم في هذه الآية، فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا
ولم يؤتوا العلم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (إذا ناجيتم الرسول) الآية
قال: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف
عن نبيه، فلما قال ذلك ظن كثير من الناس وكفوا عن المسئلة، فأنزل الله بعد هذا (أأشفقتم) الآية، فوسع الله
عليهم ولم يضيق. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وأبو يعلي وابن جرير وابن المنذر والنحاس
وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال " لما نزلت (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم
صدقة) قال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما ترى دينار؟ قلت لا يطيقونه. قال فنصف دينار؟ قلت
لا يطيقونه، قال فكم؟ قلت شعيرة، قال إنك لزهيد، قال: فنزلت - أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم
صدقات - الآية، في خفف الله عن هذه الأمة " والمراد بالشعيرة هنا وزن شعيرة من ذهب، وليس المراد واحدة
من حب الشعير، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال: ما عمل بها
أحد غيري حتى نسخت، وما كانت إلا ساعة: يعني آية النجوى. وأخرج سعيد بن منصور وابن راهويه وابن
أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال: إن في كتاب
الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النحوي (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا
بين يدي نجواكم صدقة) كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت - أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم
صدقات - الآية. وأخرج الطبراني وابن مردويه. قال السيوطي: بسند ضعيف عن سعد بن أبي وقاص قال " نزلت
(يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقه) فقدمت شعيرة، فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: إنك لزهيد، فنزلت الآية الأخرى - أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات - ". سورة المجادلة (14 - 22)
191

قوله (ألم تر إلى الذين تولوا قوما) أي والوهم، قال قتادة: هم المنافقين تولوا اليهود، وقال السدي ومقاتل:
هم اليهود تولوا المنافقين، وبدل على الأول قوله (غضب الله عليهم) فإن المغضوب عليهم هم اليهود، ويدل على
الثاني قوله (ما هم منكم ولا منهم) فإن هذه صفة المنافقين، كما قال الله فيهم - مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا
إلى هؤلاء - وجملة (ما هم منكم ولا منهم) في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة (ويحلفون على الكذب) أي
يحلفون أنهم مسلمون، أو يحلفون أنهم ما نقلوا الأخبار إلي اليهود، والجملة عطف على تولوا داخله في حكم
التعجيب من فعلهم، وجملة (وهم يعلمون) في محل نصب على الحال: أي والحال أنهم يعلمون بطلان ما حلفوا
عليه، وأنه كذب لا حقيقة له (أعد الله لهم عذابا شديدا) بسبب هذا التولي والحلف على الباطل (إنهم ساء
ما كانوا يعملون) من الأعمال القبيحة (اتخذوا أيمانهم جنة) قرأ الجمهور " أيمانهم " بفتح الهمزة جمع يمين، وهي
ما كانوا يحلفون عليه من الكذب بأنهم من المسلمين توقيا من القتل، فجعلوا هذه الأيمان وقاية وسترة دون دمائهم كما
يجعل المقاتل الجنة وقاية له من أن يصاب بسيف أو رمح أو سهم. وقرأ الحسن وأبو العالية " إيمانهم " بكسر الهمزة
أي جعلوها تصديقهم جنة من القتل، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل ولم تؤمن قلوبهم (فصدوا عن سبيل الله)
أي منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عليهم من التشبيط وتهوين أمر المسلمين وتضعيف شوكتهم، وقيل
المعنى: فصدوا المسلمين عن قتالهم بسبب إظهارهم للإسلام (فلهم عذاب مهين) أي يهينهم ويخزيهم، قيل هو
تكرير لقوله (أعد الله لهم عذابا شديدا) للتأكيد، وقيل الأول عذاب القبر، وهذا عذاب الآخرة، ولا وجه
للقول بالتكرر، فإن العذاب الموصوف بالشدة غير العذاب الموصوف بالإهانة (لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم
من الله شيئا) أي لن تغني عنهم من عذابه شيئا من الإغناء قال مقاتل. قال المنافقون: إن محمدا يزعم أنه ينصر
يوم القيامة لقد شقينا إذن، فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة فنزلت الآية (أولئك)
الموصوفون بما ذكر (أصحاب النار) لا يفارقونها (هم فيها خالدون) لا يخرجون منها (يوم يبعثهم الله جميعا) الظرف
منصوب بقوله: مهين، أو بمقدر: أي أذكر (فيحلفون له كما يحلفون لكم) أي يحلفون لله يوم القيامة على
الكذب كما يحلفون لكم في الدنيا، وهذا من شدة شقاوتهم ومزيد الطبع على قلوبهم، فإن يوم القيامة قد انكشفت
الحقائق وصارت الأمور معلومة بضرورة المشاهدة، فكيف يجترئون على أن يكذبوا في ذلك الموقف ويحلفون
على الكذب (ويحسبون أنهم على شئ) أي يحسبون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شئ مما يجلب نفعا،
192

أو يدفع ضررا كما كانوا يحسبون ذلك في الدنيا (ألا إنهم هم الكاذبون) أي الكاملون في الكذب المتهالكون عليه
البالغون فيه إلى حد لم يبلغ غيرهم إليه بإقدامهم عليه وعلى الأيمان الفاجرة في موقف القيامة بين يدي الرحمن (استحوذ
عليهم الشيطان) أي غلب عليهم واستعلى واستولى. قال المبرد: استحوذ على الشئ حواه وأحاط به، وقيل
قوى عليهم، وقيل جمعهم، يقال أحوذ الشئ: أي جمعه وضم بعضه إلى بعض، والمعاني متقاربة لأنه إذا جمعهم
فقد قوى عليهم وغلبهم واستعلى عليهم واستولى وأحاط بهم (فأنساهم ذكر الله) أي أوامره والعمل بطاعاته، فلم
يذكروا شيئا من ذلك، وقيل زواجره في النهي عن معاصيه، وقيل لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم، والإشارة
بقوله (أولئك) إلى المذكورين الموصوفين بتلك الصفات، وهو مبتدأ وخبره (حزب الشيطان) أي جنوده
وأتباعه ورهطه (ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) أي الكاملون في الخسران حتى كأن خسران غيرهم بالنسبة
إلى خسرانهم ليس بخسران لأنهم باعوا الجنة والهدى بالضلالة، وكذبوا على الله وعلى نبيه وحلفوا الأيمان الفاجرة
في الدنيا والآخرة (إن الذين يحادون الله ورسوله) تقدم معنى المحادة لله ولرسوله في أول هذه السورة، والجملة
تعليل لما قبلها (أولئك في الأذلين) أي أولئك المحادون لله ورسوله المتصفون بتلك الصفات المتقدمة من جملة من
أذلة الله من الأمم السابقة واللاحقة لأنهم لما حادوا الله ورسوله صاروا من الذل بهذا المكان. قال عطاء: يريد
الذل في الدنيا والخزي في الآخرة (كتب الله لأغلبن وأنا ورسلي) الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها مع كونهم
في الأذلين: أي كتب في اللوح المحفوظ، وقضى في سابق علمه: لأغلبن أنا ورسلي بالحجة والسيف. قال الزجاج:
معنى غلبة الرسل على نوعين: من بعث منهم بالحرب فهو غالب في الحرب، ومن بعث منهم بغير الحرب فهو
غالب بالحجة. قال الفراء: كتب بمعنى قال، وقوله " أنا " توكيد، ثم ذكر مثل قول الزجاج (إن الله قوي
عزيز) فهو قوي على نصر أوليائه غالب لأعدائه لا يغلبه أحد (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من
حاد الله ورسوله) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو لكل من يصلح له: أي يحبون ويوالون من
عادي الله ورسوله وشاقهما، وجملة " يوادون " في محل نصب على أنها المفعول الثاني لتجد إن كان متعديا إلى
مفعولين، أو في محل نصب على الحال إن كان متعديا إلى مفعول واحد، أو صفة أخرى لقوما: أي جامعون
بين الإيمان والموادة لمن حاد الله ورسوله (ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) أي ولو كان
المحادون لله ورسوله آباء الموادين الخ، فإن الإيمان يزجر عن ذلك ويمنع منه، ورعايته أقوى من رعاية الأبوة
والبنوة والأخوة والعشيرة (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) يعني الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله،
ومعنى (كتب في قلوبهم الإيمان) خلقه، وقيل أثبته، وقيل جعله، وقيل جمعه، والمعاني متقاربة (وأيدهم بروح
منه) أي قواهم بنصر منه على عدوهم في الدنيا، وسمى نصره لهم روحا لأن به يحيا أمرهم، وقيل هو نور القلب.
وقال الربيع بن أنس: بالقرآن والحجة، وقيل بجبريل، وقيل بالإيمان، وقيل برحمة. قرأ الجمهور " كتب "
مبنيا للفاعل ونصب الإيمان على المفعولية. وقرأ زر بن حبيش والمفضل عن عاصم على البناء للمفعول ورفع الإيمان
على النيابة. وقرأ زر بن حبيش " عشيراتهم " بالجمع، ورويت هذه القراءة عن عاصم (ويدخلهم جنات تجري من
تحتها الأنهار خالدين فيها) على الأبد (رضي الله عنهم) أي قبل أعمالهم وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة
(ورضوا عنه) أي فرحوا بما أعطاهم عاجلا وآجلا (أولئك حزب الله) أي جنده الذين يمتثلون أوامره ويقاتلون
أعداءه وينصرون أولياءه، وفي إضافتهم إلى الله سبحانه تشريف لهم عظيم وتكريم فخيم (ألا إن حزب الله هم
193

المفلحون) أي الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة، الكاملون في الفلاح الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل، حتى
كان فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم كلا فلاح.
وقد أخرج أحمد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن
عباس قال " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين،
فقال: إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعين شيطان، فإذا جاءكم فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل
أزرق، فقال حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال: ذرني آتيك بهم، فحلفوا واعتذروا، فأنزل الله
(يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم) الآية والتي بعدها ". وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم
وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة بن الجراح يتقصد
لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله، فنزلت (لا تجد قوما
يؤمنون بالله) الآية.
تفسير سورة الحشر
هي أربع وعشرون آية
وهي مدنية. قال القرطبي في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن
عباس قال: نزلت سورة الحشر بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري ومسلم
وغيرهما عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر، قال: سورة النضير: يعني أنها نزلت في
بني النضير كما صرح بذلك في بعض الروايات.
سورة الحشر (1 - 7)
194

قوله (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم) قد تقدم تفسير هذا في سورة الحديد
(هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر) هم بنو النضير، وهم رهط من اليهود
من ذرية هارون، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا منهم لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فغدروا بالنبي
صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن عاهدوه، وصاروا عليه مع المشركين، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم حتى رضوا بالجلاء. قال الكلبي: كانوا أول من أجلى
من أهل الذمة من جزيرة العرب، ثم أجلي
آخرهم في زمن عمر بن الخطاب، فكان جلاؤهم أول حشر من المدينة، وآخر حشر إجلاء عمر لهم. وقيل إن
أول الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام، وقيل آخر الحشر هو
حشر جميع الناس إلى أرض المحشر، وهي الشام. قال عكرمة: من شك أن المحشر يوم القيامة في الشام فليقرأ هذه
الآية، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: أخرجوا، قالوا إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر. قال ابن
العربي: الحشر أول وأوسط وآخر، فالأول إجلاء بني النضير، والأوسط إجلاء أهل خيبر، والآخر يوم القيامة.
وقد أجمع المفسرون على أن هؤلاء المذكورين في الآية هم بنو النضير، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن البصري
فقال: هم بنو قريظة، وهو غلط، فإن بني قريظة ما حشروا، بل قتلوا بحكم سعد بن معاذ لما رضوا بحكمه،
فحكم عليهم بأن تقتل مقاتلهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسعد:
لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. واللام في لأول الحشر متعلقة بأخرج، وهي لام التوقيت كقوله
- لدلوك الشمس - (ما ظننتم أن يخرجوا) هذا خطاب للمسلمين: أي ما ظننتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون
من ديارهم لعزتهم ومنعتهم، وذلك أنهم كانوا أهل حصون مانعة وعقار ونخيل واسعة، وأهل عدد وعدة
(وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله) أي وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله، وقوله مانعتهم
خبر مقدم، وحصونهم مبتدأ مؤخر، والجملة خبر أنهم، ويجوز أن يكون مانعتهم خبر أنهم وحصونهم فاعل
مانعتهم، ورجح الثاني أو حيان، والأول أولى (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) أي أتاهم أمر الله من حيث لم
يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة، وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقتالهم وإجلائهم
وكانوا لا يظنون ذلك، وقيل هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف قاله ابن جريج والسدي وأبو صالح، فإن
قتله أضعف شوكتهم. وقيل إن الضمير في أتاهم ولم يحتسبوا للمؤمنين: أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا،
والأول أولى لقوله (وقذف في قلوبهم الرعب) فإن قذف الرعب كان في قلوب بني النضير، لا في قلوب
195

المسلمين. قال أهل اللغة: الرعب الخوف الذي يرعب الصدر: أي يملؤه، وقذفه إثباته فيه. وقيل كان قذف
الرعب في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، والأولى عدم تقييده بذلك وتفسيره به، بل المراد بالرعب الذي
قذفه الله في قلوبهم هو الذي ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم " نصرت بالرعب مسيرة شهر "
(يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا
يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج. قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا،
واليهود من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم. قال الزجاج: معنى تخريبها بأيدي المؤمنين أنهم عرضوها لذلك.
قرأ الجمهور " يخربون " بالتخفيف، وقرأ الحسن والسلمي ونصر بن عاصم وأبو العالية وأبو عمرو بالتشديد. قال
أبو عمرو: إنما اخترت القراءة بالتشديد، لأن الإخراب ترك الشئ خرابا، وإنما خربوها بالهدم. وليس ما قاله
بمسلم، فإن التخريب والإخراب عند أهل اللغة بمعنى واحد. قال سيبويه: إن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان نحو
أخربته وخربته وأخرجته وفرحته واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم. قال الزهري وابن زيد وعروة بن
الزبير: لما صالحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود
فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها. وقال الزهري أيضا: يخربون بيوتهم بنقض
المعاهدة وأيدي المؤمنين بالمقاتلة، وقال أبو عمرو: بأيديهم في تركهم لها وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها.
والجملة إما مستأنفة لبيان ما فعلوه، أو في محل نصب على الحال (فاعتبروا يا أولي الأبصار) أي اتعظوا وتدبروا
وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر. قال الواحدي: ومعنى الاعتبار النظر في الأمور ليعرف بها شئ
آخر من جنسها (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا) أي لولا أن كتب الله عليهم الخروج من
أوطانهم على ذلك الوجه وقضى به عليهم لعذبهم بالقتل والسبي في الدنيا كما فعل ببني قريظة. والجلاء مفارقة
الوطن، يقال جلاء بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء. والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما في الإبعاد
واحدا من جهتين: إحداهما أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
الثاني أن الجلاء لا يكون إلا الجماعة، والإخراج يكون لجماعة ولواحد، كذا قال الماوردي (ولهم في الآخرة
عذاب النار) هذه الجملة مستأنفة غير متعلقة بجواب لولا متضمنة لبيان ما يحصل لهم في الآخرة من العذاب وإن
نجوا من عذاب الدنيا، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم ذكره من الجلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة (بأنهم
شاقوا الله ورسوله) أي بسبب المشاقة منهم لله ولرسوله بعدم الطاعة والميل مع الكفار ونقض العهد (ومن يشاق الله
فإن الله شديد العقاب) اقتصرها هنا على مشاقة الله، لأن مشاقته مشاقة لرسوله. قرأ الجمهور " يشاق " بالإدغام.
وقرأ طلحة بن مصرف ومحمد بن السميفع " يشاقق " بالفك (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن
الله) قال مجاهد: إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخل فنهاهم بعضهم، وقالوا: إنما هي مغانم للمسلمين،
وقال الذين قطعوا: بل هو غيظ للعدو، فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطع النخل وتحليل من قطعه من الإثم
فقال - ما قطعتم من لينة - قال قتادة والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات. وقال محمد بن
إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، فقال بنو النضير وهم أهل كتاب: يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد
الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض، فشق
ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووجد المسلمون في أنفسهم فنزلت الآية، ومعنى الآية: أي شئ
196

قطعتم من ذلك أو تركتم فبإذن الله، والضمير في تركتموها عائد إلى " ما " لتفسيرها باللينة، وكذا في قوله (قائمة على
أصولها) ومعنى على أصولها: أنها باقية على ما هي عليه.
واختلف المفسرون في تفسير اللينة، فقال الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل: إنها النخل كله
إلا العجوة. وقال مجاهد: إنها النخل كله ولم يستثن عجوة ولا غيرها. وقال الثوري: هي كرام النخل، وقال
أبو عبيدة: إنها جميع أنواع التمر سوى العجوة والبرني. وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة، وقيل هي
ضرب من النخل، يقال لتمرة اللون، ثمرة أجود التمر. وقال الأصمعي: هي الدقل، وأصل اللينة لونة فقلبت
الواو ياء لانكسار ما قبلها، وجمع اللينة لين، وقيل ليان. وقرأ ابن مسعود " ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوما على
أصولها " أي قائمة على سوقها، وقرئ " على أصلها " وقرئ " قائما على أصوله " (وليخزي الفاسقين) أي لبذل
الخارجين عن الطاعة، وهم اليهود ويغيظهم في قطعها وتركها لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف
شاءوا من القطع والترك ازدادوا غيظا. قال الزجاج: وليخزي الفاسقين بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون
كيف أحبوا من قطع وترك، والتقدير: وليخزي الفاسقين أذن في ذلك، يدل على المحذوف قوله (فبإذن الله)
وقد استدل بهذه الآية على جواز الاجتهاد وعلى تصويب المجتهدين، والبحث مستوفى في كتب الأصول (وما
أفاء الله على رسوله منهم) أي ما رده عليه من أموال الكفار، يقال فاء يفئ إذا رجع، والضمير في منهم عائد
إلى بني النضير (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) يقال وجف الفرس والبعير يجف وجفا: وهو سرعة السير،
وأوجفه صاحبه: إذا حمله على السير السريع، ومنه قول تميم بن مقبل:
مذ أو بد بالبيض الحديد صقالها * عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا
وقال نصيب:
ألا رب ركب قد قطعت وجيفهم * إليك ولولا أنت لم يوجف الركب
و " ما " في (فما أوجفتم) نافية، والفاء جواب الشرط إن كانت " ما " في قوله (ما أفاء الله) شرطية وإن موصولة
فالفاء زائدة، " ومن " في قوله (من خيل) زائدة للتأكيد، والركاب ما يركب من الإبل خاصة،
والمعنى: أن مارد الله على رسوله من أموال بني النضير لم تركبوا لتحصيله خيلاء ولا إبلا ولا تجشمتم لها شقة ولا
لقيتم بها جريا ولا مشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين، فجعل الله سبحانه أموال بني النضير لرسوله صلى الله
عليه وآله وسلم خاصة لهذا السبب، فإنه افتتحها صلحا وأخذ أموالها، وقد كان سأله المسلمون أن يقسم لهم فنزلت
الآية (ولكن الله يسلط رسله على من يشاء) من أعدائه، وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم دون أصحابه لكونهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، بل مشوا إليها مشيا، ولم يقاسوا
فيها شيئا من شدائد الحروب (والله على كل شئ قدير) يسلط من يشاء على من أراد، ويعطي من يشاء ويمنع
من يشاء - لا يسأل عما يفعل وهم يسألون - (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) هذا بيان لمصارف الفئ بعد
بيان أنه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، والتكرير لقصد التقرير والتأكيد، ووضع أهل القرى
موضع قوله " منهم " أي من بني النضير للإشعار بأن هذا الحكم لا يختص ببني النضير وحدهم، بل هو حكم على
كل قرية يفتحها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلحا ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب. قيل
والمراد بالقرى: بنو النضير وقريظة وفدك وخيبر. وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية والتي قبلها؟ هل معناهما
متفق أو مختلف، فقيل معناهما متفق كما ذكرنا، وقيل مختلف، وفي ذلك كلام لأهل العلم طويل. قال ابن
197

العربي: لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات. أما الآية الأولى، وهي قوله (وما أفاء الله على رسوله منهم) فهي
خاصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالصة له وهي أموال بني النضير وما كان مثلها. وأما الآية الثانية،
وهي قوله (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) فهذا كلام مبتدأ غير الأول بمستحق غير الأول وإن اشتركت هي
والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئا أفاءه الله على رسوله واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال،
واقتضت آية الأنفال، وهي الآية الثالثة أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثانية، وهي قوله (ما أفاء الله على
رسوله من أهل القرى) عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال، فنشأ الخلاف من ها هنا، فطائفة قالت هي ملحقة
بالأولى وهي مال الصلح، وطائفة قالت هي ملحقة بالثالثة وهي آية الأنفال. والذين قالوا إنها ملحقة بآية الأنفال
اختلفوا هل هي منسوخة أو محكمة هذا معنى حاصل كلامه. وقال مالك: إن الآية الأولى من هذه السورة خاصة
برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والآية الثانية هي في بني قريظة، ويعني أن معناها يعود إلى آية الأنفال.
ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الفئ سبيل خمس الغنيمة، وأن أربعة أخماسه كانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
وهي بعده لمصالح المسلمين (فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) المراد بقوله " لله " أنه
(يحكم فيه بما يشاء " وللرسول " يكون ملكا له " ولذي القربى " وهو بنو هاشم وبنو المطلب لأنهم قد منعوا من
الصدقة فجعل لهم حقا في الفئ. قيل تكون القسمة في هذا المال على أن يكون أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، وخمسه يقسم أخماسا. للرسول خمس، ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس، وقيل
يقسم أسداسا. السادس سهم الله سبحانه ويصرف إلى وجوه القرب، كعمارة المساجد ونحو ذلك (كيلا يكون
دولة بين الأغنياء منكم) أي كيلا يكون الفئ دولة بين الأغنياء دون الفقراء، والدولة اسم للشئ يتداوله القوم
بينهم، يكون لهذا مرة، ولهذا مرة. قال مقاتل: المعنى أنه يغلب الأغنياء الفقراء فيقسمونه بينهم. قرأ الجمهور
" يكون " بالتحتية دولة بالنصب: أي كيلا يكون الفئ دولة. وقرأ جعفر والأعرج وهشام وأبو حيان
" تكون " بالفوقية دولة بالرفع: أي كيلا تقع أو توجد دولة، وكان تامة. وقرأ الجمهور " دولة " بضم الدال.
وقرأ أبو حيوة والسلمي بفتحها. قال عيسى بن عمر ويونس والأصمعي هما لغتان بمعنى واحد. وقال أبو عمرو
ابن العلاء: الدولة بالفتح الذي يتداول من الأموال، وبالضم الفعل، وكذا قال أبو عبيدة. ثم لما بين لهم سبحانه
مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقال (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم
عنه فانتهوا) أي ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه، وما نهاكم عن أخذه فانتهوا عنه ولا تأخذوه. قال الحسن
والسدي: ما أعطاكم من مال الفئ فاقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه. وقال ابن جريج: ما آتاكم من طاعتي
فافعلوا، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه، والحق أن هذه الآية عامة في كل شئ يأتي به رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم من أمر أو نهي أو قول أو فعل، وإن كان السبب خاصا فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،
وكل شئ أتانا به من الشرع فقد أعطانا إياه وأوصله إلينا، وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها. ثم لما
أمرهم بأخذ ما أمرهم به الرسول وترك ما نهاهم عنه أمرهم بتقواه وخوفهم شدة عقوبته، فقال (واتقوا الله إن
الله شديد العقاب) فهو معاقب من لم يأخذها ما آتاه الرسول ولم يترك ما نهاه عنه.
وقد أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت: كانت غزوة بني النضير،
وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة، فحاصرهم رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة:
198

يعني السلاح، فأنزل الله فيهم (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض) إلى قوله (لأول الحشر ما ظننتم أن
يخرجوا) فقاتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى صالحهم على الإجلاء وجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط
لم يصيبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم ذلك، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، وأما قوله
(لأول الحشر) فكان إجلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام. وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم
والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال " من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية (هو الذي أخرج الذين كفروا
من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر) قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يومئذ أخرجوا، قالوا
إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر ". وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن ابن
عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم،
فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم، وأن يسيروا إلى أذرعات الشام، وجعل
لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء. وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة، ولها يقول حسان:
لهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير
فأنزل الله (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين) ". وأخرج الترمذي
وحسنه والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: اللينة النخلة (وليخزي الفاسقين)
قال: استنزلوهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل فحك في صدورهم، فقال المسلمون: قد قطعنا بعضا وتركنا
بعضا، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل لنا فيما قطعنا من أجر، وهل علينا فيما تركنا من وزر؟
فأنزل الله (ما قطعتم من لينة) الآية، وفي الباب أحاديث، والكلام في صلح بني النضير مبسوط في كتب السير.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله،
ومما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، فكان ينفق
على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس
في قوله (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) فجعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحكم فيه
ما أراد، ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب) يوجف بها، قال: والإيجاف أن يوضعوا السير، وهي لرسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، فكان من ذلك خيبر وفدك وقرى عرينة. وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن
يعمد لينبع، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاحتواها كلها، فقال ناس هلا قسمها الله فأنزل الله عذره
فقال (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) الآية. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال: كان ما أفاء الله على
رسوله من خيبر نصف لله ورسوله، والنصف الآخر للمسلمين، فكان الذي لله ورسوله من ذلك الكثيبة والوطيح
وسلالم ووحدوه، وكان الذي للمسلمين الشق، والشق ثلاثة عشر سهما، ونطاة خمسة أسهم، ولم يقسم رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية، ولم يأذن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لأحد من المسلمين تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام
الأنصاري. وأخرج أبو داود وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
صفايا في النضير وخيبر وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه، وأما فدك فكانت لابن السبيل، وأما خيبر
فجزأها ثلاثة أجزاء: قسم منها جزءين بين المسلمين، وحبس جزءا لنفسه ولنفقة أهله، فما فضل عن نفقة أهله
199

ردها على فقراء المهاجرين. وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن أبي شيبة وابن زنجويه في الأموال وعبد بن حميد
وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال: ما على وجه الأرض مسلم إلا وله في هذا الفئ حق إلا ما ملكت أيمانكم.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: " لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمضات والمتفلجات
للحسن المغيرات لخلق الله " فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت ابن مسعود، فقالت:
بلغني أنك لعنت كيت وكيت، قال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في كتاب
الله؟ قالت: لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت فيه شيئا من هذا، قال: لئن كنت قرأته لقد وجدته، أما قرأت
(ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) قالت بلى، فإنه قد نهى عنه ".
سورة الحشر (8 - 10)
قوله (للفقراء) قيل هو بدل من - لذي القربى - وما عطف عليه، ولا يصح أن يكون بدلا من الرسول وما
بعده لئلا يستلزم وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفقر، وقيل التقدير - كي لا يكون دولة - ولكن
يكون للفقراء، وقيل التقدير: اعجبوا للفقراء، وقيل التقدير: والله شديد العقاب للفقراء: أي شديد العقاب
للكفار بسبب الفقراء، وقيل هو عطف على ما مضى بتقدير الواو كما تقول المال لزيد لعمرو لبكر، والمراد
ب‍ (المهاجرين) الذين هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رغبة في الدين ونصرة له. قال قتادة: هؤلاء
المهاجرون هم الذين تركوا الديار والأموال والأهلين، ومعنى (أخرجوا من ديارهم) أن كفار مكة أخرجوهم
منها واضطروهم إلى الخروج، وكانوا مائة رجل (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) أي يطلبون منه أن يتفضل
عليهم بالرزق في الدنيا، وبالرضوان في الآخرة (وينصرون الله ورسوله) بالجهاد للكفار، وهذه الجملة معطوفة
على يبتغون، ومحل الجملتين النصب على الحال، الأولى مقارنة، والثانية مقدرة: أي ناوين لذلك، ويجوز أن
تكون حالا مقارنة لأن خروجهم على تلك الصفة نصرة لله ورسوله) والإشارة بقوله (أولئك) إليهم من حيث
اتصافهم بتلك الصفات، وهو مبتدأ وخبره (هم الصادقون) أي الكاملون في الصدق الراسخون فيه. ثم لما فرغ
من مدح المهاجرين مدح الأنصار فقال (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم) المراد بالدار المدينة، وهي دار
الهجرة، ومعنى تبوئهم الدار والإيمان أنهم اتخذوها مباءة: أي تمكنوا منهما تمكنا شديدا، والتبوأ في الأصل إنما
يكون للمكان، ولكنه جعل الإيمان مثله لتمكنهم فيه تنزيلا للحال منزلة المحل، وقيل إن الإيمان منصوب بفعل
غير الفعل المذكور، والتقدير: واعتقدوا الإيمان أو وأخلصوا الإيمان كذا قال أبو علي الفارسي. ويجوز أن
200

يكون على حذف مضاف: أي تبوءوا الدار وموضع الإيمان، ويجوز أن يكون تبوءوا مضمنا لمعنى لزموا،
والتقدير: لزموا الدار والإيمان، ومعنى من قبلهم: من قبل هجرة المهاجرين فلا بد من تقدير مضاف، لأن
الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين، والموصول مبتدأ وخبره (يحبون من هاجر إليهم) وذلك لأنهم أحسنوا إلى
المهاجرين وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم (ولا يجدون في صدورهم حاجة) أي لا يجد الأنصار في صدورهم
حسدا وغيظا وحزازة (مما أوتوا) أي مما أوتي المهاجرون دونهم من الفئ، بل طابت أنفسهم بذلك. وفي الكلام
مضاف محذوف: أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما
يحتاج إليه فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الأنصار " فلما غنم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير دعا
الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين من إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم، ثم قال: إن
أحببتم قسمت ما أفاء الله على من بني النضير بينكم وبين المهاجرين، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى
في مساكنكم والمشاركة لكم في أموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم ذلك وخرجوا من دياركم، فرضوا بقسمة ذلك في
المهاجرين وطابت أنفسهم (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) الإيثار تقديم الغير على النفس في
حظوظ الدنيا رغبة في حظوظ الآخرة، يقال: آثرته بكذا: أي خصصته به، والمعنى: ويقدمون المهاجرين على
أنفسهم في حظوظ الدنيا " ولو كان بهم خصاصة " أي حاجة وفقر، والخصاصة مأخوذة من خصائص البيت،
وهي الفرج التي تكون فيه، وجملة ولو كان بهم خصاصة في محل نصب على الحال، وقيل إن الخصاصة مأخوذة من
الاختصاص، وهو الانفراد بالأمر، فالخصاصة الانفراد بالحاجة، ومنه قول الشاعر:
إن الربيع إذا يكون خصاصة * عاش السقيم به وأثري المقتر
(ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) قرأ الجمهور " يوق " بسكون الواو وتخفيف القاف من الوقاية.
وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة بفتح الواو وتشديد القاف. وقرأ الجمهور " شح نفسه " بضم الشين. وقرأ ابن عمر
وابن أبي عبلة بكسرها. والشح: البخل مع حرص، كذا في الصحاح، وقيل الشح أشد من البخل. قال مقاتل:
شح نفسه: حرص نفسه. قال سعيد بن جبير: شح النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة. قال ابن زيد: من لم
يأخذ شيئا نهاه الله عنه ولم يمنع شيئا أمره الله بأدائه فقد وقي شح نفسه. قال طاووس: البخل أن يبخل الإنسان بما
في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام لا يقنع. وقال ابن
عيينة: الشح الظلم، وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم. والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شح
النفس بشئ من الأشياء التي يقبح الشح بها شرعا من زكاة أو صدقة أو صلة رحم أو نحو ذلك كما تفيده إضافة الشح
إلى النفس، والإشارة بقوله (فأولئك) إلى " من " باعتبار معناها، وهو مبتدأ وخبره (هم المفلحون) والفلاح الفوز
والظفر بكل مطلوب. ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار، ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء
بعدهم، فقال (والذين جاءوا من بعدهم) وهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة، وقيل هم الذين هاجروا بعد
ما قوى الإسلام، والظاهر شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة المتأخر إسلامهم في عصر النبوة، ومن
تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوة إلى يوم القيامة، لأنه يصدق على الكل أنهم جاءوا بعد المهاجرين الأولين
والأنصار، والموصول مبتدأ وخبره (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) ويجوز أن يكون
الموصول مغطوفا على قوله (والذين تبوءوا الدار والإيمان)، فيكون يقولون في محل نصب على الحال، أو
مستأنف لا محل له، والمراد بالأخوة هنا أخوة الدين، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم ولمن تقدمهم من المهاجرين
201

والأنصار (ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا) أي غشا وبغضا وحسدا. أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار
للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في
ذلك الصحابة دخولا أوليا لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم
ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غلا لهم فقد أصابه نزغ من
الشيطان وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخير أمته نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وانفتح له باب
من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه والاستغاثة به، بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من
الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم، فقد انقاد للشيطان بزمام
ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلى بمعلم من الرافضة أو صاحب من أعداء
خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان وزين لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة،
وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا
الخسران العظيم بالربح الوافر، وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا
أعداء كتاب الله وسنة رسوله وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله وهجروا شعائر
الدين، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر، والله من ورائهم محيط
(ربنا إنك رؤوف رحيم) أي كثير الرأفة والرحمة بليغهما لمن يستحق ذلك من عبادك.
وقد أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب إنه قال: أوصى الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم
حقهم ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقيل من محسنهم ويتجاوز
عن مسيئهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: يا رسول الله؟ أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال: ألا رجل يضيف هذه الليلة
رحمه الله، فقال رجل من الأنصار، وفي رواية فقال أبو طلحة الأنصاري: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله،
فقال لامرأته أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تدخريه شيئا، قالت: والله ما عندي إلا قوت
الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالى فأطفى السراج، ونطوي بطوننا الليلة لضيف رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ففعلت، ثم غدا الضيف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لقد عجب الله الليلة من
فلان وفلانة، وأنزل فيهما (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). وأخرج الحاكم وصححه وابن
مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: أهدى إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
رأس شاة فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى
تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول، فنزلت فيهم (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني
والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أن رجلا قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت.
قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت الله يقول (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) وأنا رجل شحيح لا يكاد
يخرج مني شئ، فقال له ابن مسعود: ليس ذاك بالشح، ولكنه البخل ولا خير في البخل، وإن الشح الذي
202

ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال: ليس
الشح أن يمنع الرجل ماله، ولكنه البخل وإنه لشر، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له. وأخرج ابن
المنذر عن علي ابن أبي طالب قال: من أدى زكاة ماله فقط وقى شح نفسه. وأخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى
وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما محق الإسلام محق الشح شئ قط.
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا
دماءهم واستحلوا محارمهم ". وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم النسح. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن
سعد بن أبي وقاص قال: الناس على ثلاث منازل قد مضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه
أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، ثم قرأ (والذين جاءوا من بعدهم) الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر
وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه عن عائشة قالت: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فسبوهم، ثم قرأت هذه الآية (والذين جاءوا من بعدهم). وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر
أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه (للفقراء المهاجرين) الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون أفمنهم
أنت؟ قال لا، ثم قرأ عليه (والذين تبوءوا الدار والإيمان) الآية. ثم قال: هؤلاء الأنصار أفأنت منهم؟ قال لا،
ثم قرأ عليه (والذين جاءوا من بعدهم) الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال أرجو، قال: ليس من هؤلاء
من سب هؤلاء.
الحشر (11 - 20)
203

لما فرغ سبحانه من ذكر الطبقات الثلاث من المؤمنين، ذكر ما جرى بين المنافقين واليهود من المقاولة
لتعجيب المؤمنين من حالهم، فقال (ألم تر إلى الذين نافقوا) والخطاب لرسول الله، أو لكل من يصلح له،
والذين نافقوا هم عبد الله بن أبي وأصحابه، وجملة (يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب) مستأنفة
لبيان المتعجب منه، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة أو للدلالة على الاستمرار، وجعلهم إخوانا لهم لكون
الكفر قد جمعهم، وإن اختلف نوع كفرهم فهم إخوان في الكفر، واللام في لإخوانهم هي لام التبليغ، وقيل
هو من قول بني النضير لبني قريظة، والأول أولى، لأن بني النضير وبني قريظة هم يهود، والمنافقون غيرهم،
واللام في قوله (لئن أخرجتم) هي الموطئة للقسم: أي والله لئن أخرجتم من دياركم (لنخرجن معكم) هذا جواب
القسم: أي لنخرجن من ديارنا في صحبتكم (ولا نطيع فيكم) أي في شأنكم، ومن أجلكم (أحدا) ممن يريد أن
يمنعنا من الخروج معكم وإن طال الزمان، وهو معنى قوله (أبدا). ثم لما وعدوهم بالخروج معهم وعدوهم
بالنصرة لهم، فقالوا (وإن قوتلتم لننصرنكم) على عدوكم. ثم كذبهم سبحانه فقال (والله يشهد إنهم لكاذبون)
فيما وعدوهم به من الخروج معهم والنصرة لهم. ثم لما أجمل كذبهم فيما وعدوا به فصل ما كذبوا فيه فقال (لئن
أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم) وقد كان الأمر كذلك، فإن المنافقين لم يخرجوا مع من
أخرج من اليهود وهم بنو النضير، ومن معهم ولم ينصروا من قوتل من اليهود وهم بنو قريظة وأهل خيبر (ولئن
نصروهم) أي لو قدر وجود نصرهم إياهم، لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده. قال الزجاج: معناه لو قصدوا نصر
اليهود (ليولن الأدبار) منهزمين (ثم لا ينصرون) يعني اليهود لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصرهم، وهم
المنافقون، وقيل يعني لا يصير المنافقون منصورين بعد ذلك، بل يذلهم الله ولا ينفعهم نفاقهم، وقيل معنى الآية:
لا ينصرونهم طائعين ولئن نصروهم مكرهين ليولن الأدبار، وقيل معنى لا ينصرونهم: لا يدومون على نصرهم،
والأول أولى، ويكون من باب قوله - ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه - (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله)
أي لأنتم يا معشر المسلمين أشد خوفا وخشية في صدور المنافقين، أو صدور اليهود، أو صدور الجميع من الله:
أي من رهبة الله، والرهبة هنا بمعنى المرهوبية، لأنها مصدر من المبني للمفعول، وانتصابها على التمييز (ذلك بأنهم قوم
لا يفقهون) أي ما ذكر من الرهبة الموصوفة بسبب عدم فقههم لشئ من الأشياء ولو كان لهم فقه لعلموا أن الله
سبحانه هو الذي سلطكم عليهم، فهو أحق بالرهبة منه دونكم، ثم أخبر سبحانه بمزيد فشلهم وضعف نكايتهم
فقال (لا يقاتلونكم جميعا) يعني لا يبرز اليهود والمنافقون مجتمعين لقتالكم ولا يقدرون على ذلك (إلا في قرى
محصنة) بالدروب والدور (أو من وراء جدر) أي من خلف الحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم. قرأ
الجمهور " جدر " بالجمع، وقرأ ابن عباس مجاهد وابن محيصن وابن كثير وأبو عمرو " جدار " بالإفراد. واختار
القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم لأنها موافقة لقوله قرى محصنة. وقرأ بعض المكيين " جدر " بفتح الجيم وإسكان
الدال، وهي لغة في الجدار (بأسهم بينهم شديد) أي بعضهم غليظ فظ على بعض وقلوبهم مختلفة ونياتهم متباينة.
قال السدي: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد، وقال مجاهد: بأسهم بينهم شديد بالكلام
204

والوعيد ليفعلن كذا، والمعنى: أنهم إذا انفردوا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، وإذا لاقوا عدوا ذلوا وخضعوا
وانهزموا، وقيل المعنى أن بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد، وإنما ضعفهم بالنسبة إليكم لما قذف الله في قلوبهم من
الرعب، والأول أولى لقوله (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) فإنه يدل على أن اجتماعهم إنما هو في الظاهر مع تخالف
قلوبهم في الباطن، وهذا التخالف هو البأس الذي بينهم الموصوف بالشدة، ومعنى شتى متفرقة، قال مجاهد:
يعنى اليهود والمنافقين تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى. وروى عنه أيضا أنه قال: المراد المنافقون. وقال الثوري: هم
المشركون وأهل الكتاب. قال قتادة: تحسبهم جميعا: أي مجتمعين على أمر ورأى، وقلوبهم شتى متفرقة، فأهل
الباطل مختلفة آراؤهم مختلفة شهادتهم مختلفة أهواؤهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق. وقرأ ابن مسعود
" وقلوبهم أشت " أي أشد اختلافا (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) أي ذلك الاختلاف والتشتت بسبب أنهم قوم
لا يعقلون شيئا ولو عقلوا لعرفوا الحق واتبعوه (كمثل الذين من قبلهم) أي مثلهم كمثل الذين من قبلهم، والمعنى:
أن مثل المنافقين واليهود كمثل الذين من قبلهم من كفار المشركين (قريبا) يعنى في زمان قريب، وانتصاب قريبا
على الظرفية: أي يشبهونهم في زمن قريب، وقيل العامل فيه ذاقوا: أي ذاقوا في زمن قريب، ومعنى (ذاقوا
وبال أمرهم) أي سوء عاقبة كفرهم في الدنيا بقتلهم يوم بدر، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، قاله
مجاهد وغيره، وقيل المراد بنو النضير حيث أمكن الله منهم، قاله قتادة. وقيل قتل بني قريظة، قاله الضحاك.
وقيل هو عام في كل من انتقم الله منه بسبب كفره، والأول أولى (ولهم عذاب أليم) أي في الآخرة. ثم ضرب
لليهود والمنافقين مثلا آخر فقال (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر) أي مثلهم في تخاذلهم وعدم تناصرهم، فهو
إما خبر مبتدإ محذوف، أو خبر آخر للمبتدأ المقدر قبل قوله (كمثل الذين من قبلهم) على تقدير حذف حرف
العطف كما تقول: أنت عاقل، أنت عالم، أنت كريم. وقيل المثل الأول خاص باليهود، والثاني خاص
بالمنافقين، وقيل المثل الثاني بيان للمثل الأول، ثم بين سبحانه وجه الشبه فقال (إذ قال للإنسان أكفر) أي أغراه
بالكفر وزينه له وحمله عليه، والمراد بالإنسان هنا جنس من أطاع الشيطان من نوع الإنسان، وقيل هو عابد كان
في بني إسرائيل حمله الشيطان على الكفر فأطاعه (فلما كفر قال إني برئ منك) أي فلما كفر الإنسان مطاوعة
للشيطان، وقبولا لتزيينه قال الشيطان إني برئ منك، وهذا يكون منه يوم القيامة، وجملة (إني أخاف الله رب
العالمين) تعليل لبراءته من الإنسان بعد كفره، وقيل المراد بالإنسان هنا أبو جهل، والأول أولى. قال مجاهد:
المراد بالإنسان هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم، قيل وليس قول الشيطان (إني أخاف الله) على حقيقته،
إنما هو على وجه التبري من الإنسان فهو تأكيد لقوله (إني برئ منك) قرأ الجمهور " إني " بإسكان الياء. وقرأ
نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتحها (فكان عاقبتهما أنهما في النار) قرأ الجمهور " عاقبتهما " بالنصب على أنه خبر
كان، واسمها أنهما في النار. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد بالرفع على أنها اسم كان، والخبر ما بعده، والمعنى
فكان عاقبة الشيطان وذلك الإنسان الذي كفر أنهما صائران إلى النار (خالدين فيها) قرأ الجمهور " خالدين " بالنصب
على الحال، وقرأ ابن مسعود والأعمش وزيد بن علي وابن أبي عبلة " خالدان " على أنه خبر أن والظرف متعلق به
(وذلك جزاء الظالمين) أي الخلود في النار جزاء الظالمين، ويدخل هؤلاء فيهم دخولا أوليا. ثم رجع سبحانه
إلى خطاب المؤمنين بالموعظة الحسنة فقال (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) أي اتقوا عقابه بفعل ما أمركم به وترك
ما نهاكم عنه (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) أي لتنظر أي شئ قدمت من الأعمال ليوم القيامة، والعرب تكنى
عن المستقبل بالغد، وقيل ذكر الغد تنبيها على قرب الساعة (واتقوا الله) كرر الأمر بالتقوى للتأكيد (إن الله
205

خبير بما تعملون) لا تخفى عليه من ذلك خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر (ولا تكونوا
كالذين نسوا الله) أي تركوا أمره، أو ما قدروه حق قدره، أو لم يخافوه، أو جميع ذلك (فأنساهم أنفسهم)
أي جعلهم ناسين لها بسبب نسيانهم له، فلم يشتغلوا بالأعمال التي تنجيهم من العذاب، ولم يكفوا عن المعاصي التي
توقعهم فيه، ففي الكلام مضاف محذوف: أي أنساهم حظوظ أنفسهم. قال سفيان: نسوا حق الله فأنساهم حق
أنفسهم، وقيل نسوا الله في الرخاء فأنساهم أنفسهم في الشدائد (أولئك هم الفاسقون) أي الكاملون في الخروج
عن طاعة الله (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) في الفضل والرتبة، والمراد الفريقان على العموم، فيدخل في
فريق أهل النار من نسى الله منهم دخولا أوليا، ويدخل في فريق أهل الجنة الذين اتقوا دخولا أوليا لأن السياق
فيهم، وقد تقدم الكلام في معنى مثل هذه الآية في سورة المائدة، وفي سورة السجدة، وفي سورة ص. ثم
أخبر سبحانه وتعالى عن أصحاب الجنة بعد نفي التساوي بينهم وبين أهل النار فقال (أصحاب الجنة هم الفائزون)
أي الظافرون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه:
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (ألم تر إلى الذين نافقوا) قال: عبد الله بن أبي ابن سلول
ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن نبتل وأوس بن قيظي، وإخوانهم بنو النضير. وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر
وأبو نعيم في الدلائل عنه أن رهطا من بني عوف بن الحارث منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ووديعة بن مالك
وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير أن أثبتوا وتمنعوا فإننا لا نسلمكم وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا
معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، ففعل فكان الرجل منهم يهدم بيته
فيضعه على ظهر بعير فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في
قوله (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) قال: هم المشركون. وأخرج عبد الرزاق وابن راهويه وأحمد في الزهد وعبد
ابن حميد والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن علي
ابن أبي طالب أن رجلا كان يتعبد في صومعة وأن امرأة كان لها إخوة، فعرض لها شئ فأتوه بها فزينت له نفسه
فوقع عليها فحملت، فجاءه الشيطان فقال اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها، فجاءوه فأخذوه
فذهبوا به، فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال: إني أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك، فسجد له.
فذلك قوله (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر) الآية. قلت: وهذا لا يدل على أن هذا الإنسان هو المقصود
بالآية، بل يدل على أنه من جملة من تصدق عليه. وقد أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بأطول من هذا،
وليس فيه ما يدل على أنه المقصود بالآية. وأخرجه بنحوه ابن جرير عن ابن مسعود. وأخرج ابن مردويه عن
ابن مسعود في قوله (كمثل الشيطان) قال: ضرب الله مثل الكفار والمنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله
عليه وآله وسلم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر.
سورة الحشر 21 - 24
206

لما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة وأهل النار، وبين عدم استوائهم في شئ من الأشياء ذكر تعظيم كتابه
الكريم، وأخبر عن جلالته، وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب وترق له الأفئدة، فقال (لو أنزلنا هذا القرآن
على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) أي من شأنه وعظمته وجودة ألفاظه وقوة مبانيه وبلاغته واشتماله
على المواعظ التي تلين لها القلوب أنه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض لرأيته مع كونه في غاية
القسوة وشدة الصلابة وضخامة الجرم خاشعا متصدعا: أي متشققا من خشية الله سبحانه حذرا من عقابه وخوفا
من أن لا يؤدي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله، وهذا تمثيل وتخييل يقتضى علو شأن القرآن وقوة تأثيره في القلوب
ويدل على هذا قوله (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) فيما يجب عليهم التفكر فيه ليتعظوا بالمواعظ
وينزجروا بالزواجر، وفيه توبيخ وتقريع للكفار حيث لم يخشعوا للقرآن، ولا اتعظوا بمواعظه، ولا انزجروا
بزواجره، والخاشع الذليل المتواضع. وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي لو أنزلنا هذا القرآن
يا محمد على جبل لما ثبت ولتصدع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له وقويناك عليه، فيكون على هذا
من باب الامتنان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الله سبحانه ثبته لما لا تثبت له الجبال الرواسي. ثم أخبر
سبحانه بربوبيته وعظمته، فقال (هو الله الذي لا إله إلا هو) وفي هذا تقرير للتوحيد ودفع للشرك (عالم الغيب
والشهادة) أي عالم ما غاب من الإحساس وما حضر، وقيل عالم السر والعلانية، وقيل ما كان وما يكون، وقيل
الآخرة والدنيا، وقدم الغيب على الشهادة لكونه متقدما وجودا (هو الرحمن الرحيم) قد تقدم تفسير هذين الاسمين
(هو الله الذي لا إله إلا هو) كرره للتأكيد والتقرير لكون التوحيد حقيقا بذلك (الملك القدوس) أي الطاهر من
كل عيب المنزه عن كل نقص، والقدس بالتحريك في لغة أهل الحجاز السطل، لأنه يتطهر به، ومنه القادوس
لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء. قرأ الجمهور " القدوس " بضم القاف. وقرأ أبو ذر وأبو السماك بفتحها،
وكان سيبويه يقول سبوح قدوس بفتح أولهما، وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابيا فصيحا
يقرأ " القدوس " بفتح القاف. قال ثعلب: كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول إلا السبوح والقدوس، فإن
الضم فيهما أكثر، وقد يفتحان (السلام) أي الذي سلم من كل نقص وعيب، وقيل المسلم على عباده في الجنة،
كما قال - سلام قولا من رب رحيم - وقيل الذي سلم الخلق من ظلمه، وبه قال الأكثر، وقيل المسلم لعباده،
وهو مصدر وصف به للمبالغة (المؤمن) أي الذي وهب لعباده الأمن من عذابه، وقيل المصدق لرسله بإظهار
المعجزات، وقيل المصدق للمؤمنين بما وعدهم به من الثواب، والمصدق للكافرين بما أوعدهم به من العذاب،
يقال أمنه من الأمن وهو ضد الخوف، ومنه قول النابغة:
والمؤمن العائذات الطير يمسحها * ركبان مكة بين الغيل والسند
وقال مجاهد: المؤمن الذي وحد نفسه بقوله - شهد الله أنه لا إله إلا هو -. قرأ الجمهور " المؤمن " بكسر الميم
اسم فاعل من آمن بمعنى أمن. وقرأ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بفتحها بمعنى المؤمن به على الحذف كقوله
- واختار موسى قومه - وقال أبو حاتم: لا تجوز هذه القراءة لأن معناه أنه كان خائفا فأمنه غيره (المهيمن) أي
207

الشهيد على عباده بأعمالهم الرقيب عليهم. كذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل: يقال هيمن يهيمن فهو مهيمن: إذا كان
رقيبا على الشئ. قال الواحدي: وذهب كثير من المفسرين إلى أن أصله مؤيمن من آمن يؤمن، فيكون بمعنى
المؤمن، والأول أولى، وقد قدمنا الكلام على المهيمن في سورة المائدة (العزيز) الذي لا يوجد له نظير، وقيل
القاهر، وقيل الغالب غير المغلوب، وقيل القوي (الجبار) جبروت الله عظمته، والعرب تسمى الملك الجبار،
ويجوز أن يكون من جبر إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير، ويجوز أن يكون من جبره على كذا إذا أكرهه على
ما أراد، فهو الذي جبر خلقه على ما أراد منهم، وبه قال السدى ومقاتل، واختاره الزجاج والفراء، قال: هو
من أجبره على الأمر: أي قهره. قال: ولم أسمع فعالا من أفعل إلا في جبار من أجبر، ودراك من أدرك، وقيل
الجبار الذي لا تطاق سطوته (المتكبر) أي الذي تكبر عن كل نقص وتعظم عما لا يليق به، وأصل التكبر الامتناع
وعدم الانقياد، ومنه قول حميد بن ثور:
عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت * بها كبرياء الصعب وهي ذلول
والكبر في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم. قال قتادة: هو الذي تكبر عن كل سوء. قال
ابن الأنباري: المتكبر ذو الكبرياء، وهو الملك، ثم نزه سبحانه نفسه عن شرك المشركين، فقال (سبحان الله
عما يشركون) أي عما يشركونه أو عن إشراكهم به (هو الخالق) أي المقدر للأشياء على مقتضى إرادته ومشيئته
(البارئ) أي المنشئ المخترع للأشياء الموجد لها. وقيل المميز لبعضها من بعض (المصور) أي الموجد للصور
المركب لها على هيئات مختلفة، فالتصوير مترتب على الخلق والبراية وتابع لهما، ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل
قال النابغة:
الخالق البارئ المصور في * الأرحام ماء حتى يصير دما
وقرأ حاطب بن أبي بلتعة الصحابي المصور بفتح الواو ونصب الراء على أنه مفعول به للبارئ: أي الذي برأ
المصور: أي ميزه (له الأسماء الحسنى) قد تقدم بيانها والكلام فيها عند تفسير قوله - ولله الأسماء الحسنى فادعوه
بها - (يسبح له ما في السماوات والأرض) أي ينطق بتنزيهه بلسان الحال: أو المقال كل ما فيهما وهو العزيز
الحكيم) أي الغالب لغيره الذي لا يغالبه مغالب، الحكيم في كل الأمور التي يقضى بها.
وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس، في قوله (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل) قال: يقول لو
أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه تصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله، فأمر الله الناس إذا نزل عليهم
القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع. قال: كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون. وأخرج
الديلمي عن ابن مسعود وعلي مرفوعا في قوله (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل) إلى آخر السورة قال: هي رقية
الصداع. رواه الديلمي بإسنادين لا ندري كيف حال رجالهما. وأخرج الخطيب في تاريخه بإسناده إلى إدريس
ابن عبد الكريم الحداد قال: قرأت على خلف، فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك، فإني قرأت
على حمزة فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على الأعمش ثم ساق الإسناد مسلسلا هكذا
إلى ابن مسعود فقال: فإني قرأت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما بلغت هذه الآية قال لي: ضع يدك على
رأسك، فإن جبريل لما نزل بها قال لي ضع يدك على رأسك - فإنها شفاء من كل داء إلا السام، والسام الموت. قال
الذهبي: هو باطل. وأخرجه ابن السني في عمل يوم وليلة وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
208

أمر رجلا إذا آوى إلى فراشه أن يقرأ آخر سورة الحشر وقال: إن مت مت شهيدا. وأخرج ابن مردويه
عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من تعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، ثم
قرأ آخر سورة الحشر بعث الله سبعين ملكا يطردون عنه شياطين الإنس والجن إن كان ليلا حتى يصبح، وإن
كان نهارا حتى يمسى ". وأخرج أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والطبراني وابن الضريس والبيهقي في الشعب عن
معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم
من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى
يمسى، وإن مات ذلك اليوم مات شهيدا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة ". قال الترمذي بعد إخراجه:
غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وأخرج ابن عدي وابن مردويه والخطيب والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار فمات من يومه أو ليلته أوجب الله له
الجنة ". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (عالم الغيب والشهادة) قال: السر والعلانية. وفي قوله
(المؤمن) قال: المؤمن خلقه من أن يظلمهم، وفي قوله (المهيمن) قال: الشاهد.
تفسير سورة الممتحنة
هي ثلاث عشرة آية
وهي مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن
عباس قال: نزلت سورة الممتحنة بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. والممتحنة بكسر الحاء اسم
فاعل أضيف الفعل إليها مجازا، كما سميت سورة براءة الفاضحة لكشفها عن عيوب المنافقين، وقيل الممتحنة
بفتح الحاء اسم مفعول أضافه إلى المرأة التي نزلت فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، لقوله سبحانه
- فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن -.
سورة الممتحنة (1 - 3)
209

قال المفسرون، نزلت (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) في حاطب بن أبي بلتعة حين
كتب إلى مشركي قريش يخبرهم بمسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، وسيأتي ذكر القصة آخر البحث إن
شاء الله، وقوله (عدوي) هو المفعول الأول (وعدوكم) معطوف عليه، والمفعول الثاني أولياء، وأضاف
سبحانه الغدو إلى نفسه تعظيما لجرمهم، والعدو مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة، والآية تدل على
النهى عن موالاة الكفار بوجه من الوجوه (تلقون إليهم بالمودة) أي توصلون إليهم المودة على أن الباء زائدة،
أو هي سببية. والمعنى: تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم. قال
الزجاج تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسره بالمودة التي بينكم وبينهم، والجملة في محل
نصب على الحال من ضمير تتخذوا، ويجوز أن تكون مستأنفة لقصد الإخبار بما تضمنته أو لتفسير موالاتهم
إياهم، ويجوز أن تكون في محل نصب صفة لأولياء، وجملة (وقد كفروا بما جاءكم من الحق) في محل نصب
على الحال من فاعل تلقون، أو من فاعل لا تتخذوا، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان حال الكفار. قرأ الجمهور
" بما جاءكم " بالباء الموحدة. وقرأ الجحدري وعاصم في رواية عنه " لما جاءكم " باللام: أي لأجل ما جاءكم من
الحق على حذف المكفور به: أي كفروا بالله والرسول لأجل ما جاءكم من الحق، أو على جعل ما هو سبب للإيمان
سببا للكفر توبيخا لهم (يخرجون الرسول وإياكم) الجملة مستأنفة لبيان كفرهم، أو في محل نصب على الحال،
وقوله (أن تؤمنوا بالله ربكم) تعليل للإخراج: أي يخرجونكم لأجل إيمانكم، أو كراهة أن تؤمنوا (إن كنتم
خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي) جواب الشرط محذوف أي إن كنتم كذلك فلا تلقوا إليهم بالمودة، أو
إن كنتم كذلك فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، وانتصاب جهادا وابتغاء على العلة: أي إن كنتم خرجتم
لأجل الجهاد في سبيلي ولأجل ابتغاء مرضاتي، وجملة (تسرون إليهم بالمودة) مستأنفة للتقريع والتوبيخ: أي
تسرون إليهم الأخبار بسبب المودة، وقيل هي بدل من قوله: تلقون. ثم أخبر سبحانه بأنه لا يخفى عليه من
أحوالهم شئ، فقال (وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم) والجملة في محل نصب على الحال: أي بما أضمرتم وما
أظهرتم، والباء في بما زائدة: يقال علمت كذا وعلمت بكذا، هذا على أن أعلم مضارع، وقيل هو أفعل
تفضيل: أي أعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون (ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل) أي من يفعل ذلك
الاتخاذ لعدوي وعدوكم أولياء ويلقى إليهم بالمودة فقد أخطأ طريق الحق والصواب وضل عن قصد السبيل (إن
يثقفوكم يكونوا لكم أعداء) أي إن يلقوكم ويصادفوكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة، ومنه المثاقفة، وهي
طلب مصادفة الغرة في المسابقة، وقيل المعنى: إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم، والمعنيان متقاربان (ويبسطوا
إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء) أي يبسطوا إليكم أيديهم بالضرب ونحوه، وألسنتهم بالشتم ونحوه (وودوا لو
تكفرون) هذا معطوف على جواب الشرط، أو على جملة الشرط والجزاء، ورجح هذا أبو حيان، والمعنى: أنهم
تمنوا ارتدادهم وودوا رجوعهم إلى الكفر (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم) أي لا تنفعكم القرابات على عمومها
ولا الأولاد، وخصهم بالذكر مع دخولهم في الأرحام لمزيد المحبة لهم والحنو عليهم، والمعنى: أن هؤلاء لا ينفعونكم
حتى توالوا الكفار لأجلهم كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة، بل الذي ينفعكم هو ما أمركم الله به من معاداة
الكفار وترك موالاتهم، وجملة (يوم القيامة يفصل بينكم) مستأنفة لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد في ذلك اليوم
ومعنى (يفصل بينكم) يفرق بينكم، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار، وقيل المراد بالفصل بينهم
210

أنه يفر كل منهم من الآخر من شدة الهول كما في قوله - يوم يفر المرء من أخيه - الآية. قيل ويجوز أن يتعلق يوم
القيامة بما قبله: أي لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة فيوقف عليه. ويبتدأ بقوله (يفصل بينكم)
والأولى أن يتعلق بما بعده كما ذكرنا (والله بما تعملون بصير) لا يخفى عليه شئ من أقوالكم وأفعالكم، فهو
مجازيكم على ذلك. قرأ الجمهور " يفصل " بضم الياء وتخفيف الفاء وفتح الصاد مبنيا للمفعول، واختار هذه
القراءة أبو عبيد. وقرأ عاصم بفتح الياء وكسر الصاد مبنيا للفاعل. وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وفتح الفاء وكسر
الصاد مشددة. وقرأ علقمة بالنون. وقرأ قتادة وأبو حيوة بضم الياء وكسر الصاد مخففة.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن علي بن أبي طالب قال: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أنا والزبير والمقداد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة
معها كتاب فخذوه منها فأتوني به، فخرجنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب،
قالت ما معي من كتاب، فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل علي يا رسول الله،
إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم
وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك
كفرا ولا ارتدادا عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صدق، فقال عمر: دعني أضرب عنقه،
فقال: إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ونزلت
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) ". وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة
متضمنة لبيان هذه القصة، وأن هذه الآيات إلى قوله (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم) نازلة في ذلك.
211

لما فرغ سبحانه من النهي عن موالاة المشركين والذم لمن وقع منه ذلك ضرب لهم إبراهيم مثلا حين تبرأ من
قومه، فقال (قد كانت لكم إسوة حسنة) أي خصلة حميدة تقتدون بها: يقال لي به أسوة في هذا الأمر: أي
اقتداء، فأرشدهم سبحانه إلى الاقتداء به في ذلك إلا في استغفاره لأبيه. قرأ الجمهور " إسوة " بكسر الهمزة: وقرأ
عاصم بضمها وهما لغتان، وأصل الأسوة بالضم والكسر القدوة، ويقال هو أسوتك: أي مثلك وأنت مثله:
وقوله في إبراهيم والذين معه متعلق بأسوة، أو بحسنة، أو هو نعت لأسوة، أو حال من الضمير المستتر في
حسنة، أو خبر كان، ولكم للبيان، والذين معه هم أصحابه المؤمنون. وقال ابن زيد: هم الأنبياء. قال الفراء:
يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم فتتبرأ من أهلك كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه، والظرف في قوله (إذ قالوا
لقومهم) هو خبر كان، أو متعلق به: أي وقت قولهم لقومهم الكفار (إنا برآء منكم) جمع برئ، مثل شركاء
وشريك، وظرفاء وظريف. قرأ الجمهور " برآء " بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين، ككرماء في كريم. وقرأ
عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بكسر الباء وهمزة واحدة بعد ألف، ككرام في جمع كريم. وقرأ أبو جعفر بضم
الباء وهمزة بعد ألف (ومما تعبدون من دون الله) وهي الأصنام (كفرنا بكم) أي بما آمنتم به من الأوثان أو بدينكم
أو بأفعالكم (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا) أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم (حتى تؤمنوا بالله
وحده) وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فإذا فعلتم ذلك صارت تلك العداوة موالاة والبغضاء محبة (إلا قول
إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) هو استثناء متصل من قوله: في إبراهيم بتقدير مضاف محذوف ليصح الاستثناء: أي
قد كانت لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم إلا قوله لأبيه، أو من أسوة حسنة، وصح ذلك لأن القول من جملة
الأسوة، كأنه قيل: قد كانت أسوة حسنة في إبراهيم في جميع أقواله وأفعاله إلا قوله لأبيه، أو من التبري
والقطيعة التي ذكرت: أي لم يواصله إلا قوله، ذكر هذا ابن عطية، أو هو منقطع: أي لكن قول إبراهيم لأبيه
لأستغفرن لك، فلا تأتسوا به، فتستغفرون للمشركين، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه، أو أن ذلك إنما وقع
منه لأنه ظن أنه قد أسلم - فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه - وقد تقدم تحقيق هذا في سورة براءة (وما أملك لك
من الله من شئ) هذا من تمام القوم المستثنى: يعني ما أغني عنك وما أدفع عنك من عذاب الله شيئا، والجملة
في محل نصب على الحال من فاعل لأستغفرن، فالاستثناء متوجه إلى الاستغفار لا إلى هذا القيد، فإنه إظهار
للعجز وتفويض للأمر إلى الله، وذلك من خصال الخير (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) هذا من
دعاء إبراهيم وأصحابه ومما فيه أسوة حسنة يقتدى به فيها، وقيل هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا هذا القول، والتوكل
هو تفويض الأمور إلى الله، والإنابة الرجوع، والمصير المرجع، وتقديم الجار والمجرور لقصر التوكل والإنابة
والمصير على الله ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) قال الزجاج: لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا
بذلك. وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك، فيقولوا لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا
(واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز) أي الغالب الذي لا يغالب (الحكيم) ذو الحكمة البالغة (لقد كان لكم فيهم إسوة
212

حسنة) أي لقد كان لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة، وكرر هذا للمبالغة والتأكيد، وقيل إن هذا نزل بعد
الأول بمدة (لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) بدل من قوله لكم بدل بعض من كل، والمعنى: أن هذه
الأسوة إنما تكون لمن يخاف الله ويخاف عقاب الآخرة، أو يطمع في الخير من الله في الدنيا وفي الآخرة (ومن يتول
فإن الله هو الغني الحميد) أي يعرض عن ذلك، فإن الله هو الغني عن خلقه الحميد إلى أوليائه (عسى الله أن يجعل
بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) وذلك بأن يسلموا فيصيروا من أهل دينكم، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح
مكة، وحسن إسلامهم، ووقعت بينهم وبين من تقدمهم في الإسلام مودة وجاهدوا وفعلوا الأفعال المقربة
إلى الله. وقيل المراد بالمودة هنا تزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان. ولا وجه لهذا
التخصيص وإن كان من جملة ما صار سببا إلى المودة، فإن أبا سفيان بعد ذلك ترك ما كان عليه من العداوة
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنها لم تحصل المودة إلا بإسلامه يوم الفتح وما بعده (والله قدير) أي بليغ
القدرة كثيرها (والله غفور رحيم) أي بليغهما كثيرهما. ثم لما ذكر سبحانه ما ينبغي للمؤمنين من معاداة الكفار
وترك موادتهم فصل القول فيمن يجوز بره منهم ومن لا يجوز فقال لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين
ولم يخرجوكم من دياركم) أي لا ينهاكم عن هؤلاء (أن تبروهم) هذا بدل من الموصول بدل اشتمال، وكذا قوله
(وتقسطوا إليهم) يقال أقسطت إلى الرجل: إذا عاملته بالعدل. قال الزجاج: المعنى وتعدلوا فيما بينكم وبينهم
من الوفاء بالعهد إن الله يحب المقسطين) أي العادلين، ومعنى الآية: أن الله سبحانه لا ينهى عن بر أهل العهد
من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم، ولا ينهى عن معاملتهم
بالعدل. قال ابن زيد: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ. قال قتادة: نسختها
- فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم - وقيل هذا الحكم كان ثابتا في الصلح بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين
قريش، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم. وقيل هي خاصة في حلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن
بينه وبينه عهد قاله الحسن. وقال الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف. وقال مجاهد: هي خاصة في
الذين آمنوا ولم يهاجروا، وقيل هي خاصة بالنساء والصبيان. وحكى القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة.
ثم بين سبحانه من لا يحل بره ولا العدل في معاملته فقال (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم
من دياركم) وهم صناديد الكفر من قريش (وظاهروا على إخراجكم) أي عاونوا الذين قاتلوكم على ذلك، وهم
سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم، وقوله (أن تولوهم) بدل اشتمال من الموصول كما سلف (ومن
يتولهم فأولئك هم الظالمون) أي الكاملون في الظلم لأنهم تولوا من يستحق العداوة لكونه عدوا لله ولرسوله ولكتابه
وجعلوهم أولياء لهم.
وقد أخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس (إلا قول إبراهيم لأبيه) قال: نهوا أن يتأسوا باستغفار
إبراهيم لأبيه، وقوله (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك، فيقولون لو كان
هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه (لقد كان لكم فيهم
أسوة حسنة) قال: في صنيع إبراهيم كله إلا في الاستغفار لأبيه، وهو مشرك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) قال: لا تسلطهم علينا فيفتنونا. وأخرج ابن
مردويه عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: أول من قاتل أهل الردة على إقامة دين الله
أبو سفيان بن حرب وفيه نزلت هذه الآية (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة). وأخرج
213

ابن أبي حاتم عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن،
فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقبل فلقى ذا الخمار مرتدا، فكان أول من قاتل في الردة وجاهد
عن الدين. قال: وهو فيمن قال الله فيه (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة). وأخرج عبد
ابن حميد وابن المنذر وابن عدي وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح
عن ابن عباس في الآية قال: كانت المودة التي جعل بينهم تزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم حبيبة بنت
أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين، فصار معاوية خال المؤمنين. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن أبا سفيان
قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن، قال نعم، قال: تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال
نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك، قال نعم، قال: وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت
أبي سفيان أزوجكها " الحديث. وأخرج الطيالسي وأحمد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والنحاس في ناسخه والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى على
ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا: ضباب وأقط وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها
حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألته، فأنزل الله (لا ينهاكم الله عن
الذين لم يقاتلوكم في الدين) الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، وزاد ابن أبي حاتم في المدة التي كانت
بين قريش ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي البخاري وغيره عن أسماء بنت أبي بكر قالت " أتتني أمي
راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسألت النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أأصلها؟ فأنزل الله (لا ينهاكم الله) الآية، فقال: نعم صلي أمك ".
سورة الممتحنة (1 - 12)
214

لما ذكر سبحانه حكم فريقي الكافرين في جواز البر والإقساط للفريق الأول دون الفريق الثاني ذكر حكم من
يظهر الإيمان، فقال (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) من بين الكفار وذلك أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم لما صالح قريشا يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاءهم من المسلمين، فلما هاجر إليه النساء أبى
الله أن يرددن إلى المشركين، وأمر بامتحانهن فقال (فامتحنوهن) أي فاختبروهن. وقد اختلف فيما كان
يمتحن به، فقيل كان يستحلفن بالله ما خرجن من بغض زوج ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا لالتماس دنيا بل
حبا لله ولرسوله ورغبة في دينه، فإذا حلفت كذلك أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوجها مهرها، وما
أنفق عليها ولم يردها إليه، وقيل الامتحان هو أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وقيل ما كان
الامتحان إلا بأن يتلو عليهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الآية، وهي - يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات -
إلى آخرها.
واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عهد الهدنة أم لا؟ على قولين، فعلى القول بالدخول تكون هذه الآية
مخصصة لذلك العهد، وبه قال الأكثر. وعلى القول بعدمه لا نسخ ولا تخصيص (الله أعلم بإيمانهن) هذه الجملة
معترضة لبيان أن حقيقة حالهن لا يعلمها إلا الله سبحانه ولم يتعبدكم بذلك، وإنما تعبدكم بامتحانهن حتى يظهر
لكم ما يدل على صدق دعواهن في الرغوب في الإسلام (فإن علمتموهن مؤمنات) أي علمتم ذلك بحسب
الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم به (فلا ترجعوهن إلى الكفار) أي إلى أزواجهن الكافرين، وجملة
(لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) تعليل للنهي عن إرجاعهن. وفيه دليل على أن المؤمنة لا تحل لكافر، وأن
إسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها لا مجرد هجرتها، والتكرير لتأكيد الحرمة، أو الأول لبيان زوال النكاح،
والثاني لامتناع النكاح الجديد (وآتوهم ما أنفقوا) أي وأعطوا أزواج هؤلاء اللاتي هاجرن وأسلمن مثل ما أنفقوا
عليهن من المهور قال الشافعي: وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها منع منها بلا عوض (ولا جناح عليكم أن
تنكحوهن) لأنهن قد صرن من أهل دينكم (إذا آتيتموهن أجورهن) أي مهورهن، وذلك بعد انقضاء
عدتهن كما تدل عليه أدلة وجوب العدة (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) قرأ الجمهور " تمسكوا " بالتخفيف من
الإمساك، واختار هذه القراءة أبو عبيد، لقوله - فأمسكوهن بمعروف - وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمرو
بالتشديد من التمسك، والعصم جمع عصمة، وهي ما يعتصم به، والمراد هنا عصمة عقد النكاح. والمعنى أن من
كانت له امرأة كافرة فليست له بامرأة لانقطاع عصمتها باختلاف الدين. قال النخعي: هي المسلمة تلحق
بدار الحرب فتكفر، وكان الكفار يزوجون المسلمين، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية
وهذا خاص بالكوافر المشركات دون الكوافر من أهل الكتاب. وقيل عامة في جميع الكوافر مخصصة بإخراج
الكتابيات منها، وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا أسلم وثني أو كتابي لا يفرق بينهما إلا بعد انقضاء العدة.
وقال بعض أهل العلم: يفرق بينهما بمجرد إسلام الزوج، وهذا إنما هو إذا كانت المرأة مدخولا بها، وأما إذا
كانت غير مدخول بها فلا خلاف بين أهل العلم في انقطاع. العصمة بينهما بالإسلام إذ لا عدة عليها (واسألوا
215

ما أنفقتم) أي اطلبوا مهور نسائكم اللاحقات بالكفار (وليسألوا ما أنفقوا) قال المفسرون: كان من ذهب من
المسلمات مرتدة إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إذا جاءت امرأة من الكفار
إلى المسلمين وأسلمت ردوا مهرها على زوجها الكافر (ذلكم حكم الله) أي ذلكم المذكور من إرجاع المهور من
الجهتين حكم الله، وقوله (يحكم بينكم) في محل نصب على الحال. أو مستأنفة (والله عليم حكيم) أي بليغ العلم
لا تخفى عليه خافية بليغ الحكمة في أقواله وأفعاله. قال القرطبي: وكان هذا مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة
خاصة بإجماع المسلمين (وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار) لما نزلت الآية المتقدمة قال المسلمون: رضينا
بحكم الله وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا، فنزل قوله (وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار) مما دفعتم إليهم من
مهور النساء المسلمات، وقيل المعنى: وإن انفلت منكم أحد من نسائكم إلى الكفار بأن ارتدت المسلمة (فعاقبتم)
قال الواحدي: قال المفسرون: فعاقبتم فغنمتم. قال الزجاج: تأويله وكانت العقبى لكم: أي كانت الغنيمة
لكم حتى غنمتم (فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا) من مهر المهاجرة التي تزوجوها ودفعوه إلى الكفار
ولا تؤتوه زوجها الكافر. قال قتادة ومجاهد: إنما أمروا أن يعطرا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفئ
والغنيمة، وهذه الآية منسوخة قد انقطع حكمها بعد الفتح. وحاصل معناها أن " من أزواجكم " يجوز أن يتعلق بفاتكم
أي من جهة أزواجكم، ويراد بالشئ المهر الذي غرمه الزوج، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لشئ.
ثم يجوز في شئ أن يراد به المهر، ولكن لا بد على هذا من مضاف محذوف: أي من مهر أزواجكم ليتطابق
الموصوف، وصفته، ويجوز أن يراد بشئ النساء: أي نوع وصنف منهن، وهو ظاهر قوله (من أزواجكم)
وقوله (فآتوا الذين ذهبت أزواجهم) والمعنى: أنهم يعطون من ذهبت زوجته إلى المشركين فكفرت ولم يرد
عليه المشركون مهرها كما حكم الله مثل ذلك المهر الذي أنفقه عليها من الغنيمة (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون)
أي احذروا أن تتعرضوا لشئ مما يوجب العقوبة عليكم، فإن الإيمان الذي أنتم متصفون به يوجب على صاحبه
ذلك (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) أي قاصدات لمبايعتك على الإسلام، و (على أن لا يشركن بالله
شيئا) من الأشياء كائنا ما كان، هذا كان يوم فتح مكة، فإن نساء أهل مكة أتين رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يبايعنه، فأمره الله أن يأخذ عليهن أن لا يشركن (ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن) وهو ما كانت
تفعله الجاهلية من وأد البنات (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) أي لا يلحقن بأزواجهن ولدا
ليس منهم. قال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك فذلك البهتان المفترى بين
أيديهن وأرجلهن، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وليس المراد هنا أنها تنسب ولدها
من الزنا إلى زوجها، لأن ذلك قد دخل تحت النهي عن الزنا (ولا يعصينك في معروف) أي في كل أمر هو طاعة
لله. قال عطاء: في كل بر وتقوى، وقال المقاتلان: عنى بالمعروف النهي عن النوح، وتمزيق الثياب، وجز
الشعر، وشق الجيب، وخمش الوجوه، والدعاء بالويل، وكذا قال قتادة وسعيد بن المسيب ومحمد بن السائب
وزيد ابن أسلم، ومعنى القرآن أوسع مما قالوه. قيل ووجه التقييد بالمعروف، مع كونه صلى الله عليه وآله وسلم
لا يأمر إلا به التنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق (فبايعهن) هذا جواب إذا، والمعنى إذا بايعنك
على هذه الأمور فبايعهن، ولم يذكر في بيعتهن الصلاة والزكاة والصيام والحج لوضوح كون هذه الأمور ونحوها
من أركان الدين وشعائر الإسلام، وإنما خص الأمور المذكورة لكثرة وقوعها من النساء (واستغفر لهن الله
أي اطلب من الله المغفرة لهن بعد هذه المبايعة لهن منك (إن الله غفور رحيم) أي بليغ المغفرة والرحمة لعباده
216

(يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم) هم جميع طوائف الكفر، وقيل اليهود خاصة، وقيل المنافقون خاصة
وقال الحسن: اليهود والنصارى. والأول أولى، لأن جميع طوائف الكفر تتصف بأن الله سبحانه غضب عليها
(قد يئسوا من الآخرة) من لابتداء الغاية: أي أنهم لا يوقنون بالآخرة ألبتة بسبب كفرهم (كما يئس الكفار من
أصحاب القبور) أي كيأسهم من بعث موتاهم لاعتقادهم عدم البعث، وقيل كما يئس الكفار الذين قد ماتوا منهم من
الآخرة، لأنهم قد وقفوا على الحقيقة وعلموا أنه لا نصيب لهم في الآخرة، فتكون " من " على الوجه الأول ابتدائية،
وعلى الثاني بيانية، والأول أولى.
وقد أخرج البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما عاهد
كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء مسلمات، فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) حتى
بلغ (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. وأخرجه أيضا من حديثهما بأطول
من هذا، وفيه وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي
عانق، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل،
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (فامتحنوهن) قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن
محمدا عبده ورسوله، فإذا علموا أن ذلك حقا منهن لم يرجعن إلى الكفار وأعطى بعلها في الكفار الذين عقد لهم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صداقها الذي أصدقها وأحلهن للمؤمنين إذا آتوهن أجورهن. وأخرج
ابن مردويه عنه قال: نزلت سورة الممتحنة بعد ذلك الصلح، فكان من أسلم من نسائهم، فسئلت ما أخرجك؟
فإن كانت خرجت فرارا من زوجها ورغبة عنه ردت، وإن كانت خرجت رغبة في الإسلام أمسكت ورد
على زوجها مثل ما أنفق، وأخرج ابن أبي أسامة والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في
الكبير وابن مردويه بسند حسن كما قال السيوطي عن ابن عباس في قوله (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات
فامتحنوهن) قال: كان إذا جاءت المرأة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلفها عمر بن الخطاب بالله ما خرجت
رغبة بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا
حبا لله ورسوله. وأخرج ابن منيع من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أسلم عمر بن الخطاب
وتأخرت امرأته في المشركين، فأنزل الله (ولا تمسكوا بعصم الكوافر). وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد
والبخاري والترمذي وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يمتحن من
هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) إلى قوله (غفور رحيم) فمن أقر بهذا
الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد بايعتك كلاما، والله ما مست يده يد امرأة
قط من المبايعات ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد
وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أميمة بنت
رقيقة قالت: " أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئا
حتى بلغ - ولا يعصينك في معروف - فقال: فيما استطعتن وأطقتن، فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا
يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة " وفي الباب
أحاديث. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقال " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، وقرأ آية النساء، فمن وفى منكم فأجره على
217

الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله،
إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ". وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريح عن ابن عباس في قوله (ولا يأتين ببهتان
يفترينه) قال: كانت الحرة تولد لها الجارية فتجعل مكانها غلاما. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن مردويه عنه في الآية. قال لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم (ولا يعصينك في معروف) قال: إنما هو شرط
شرطه الله للنساء. وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أم سلمة الأنصارية قالت: قالت امرأة من النسوة ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا
أن نعصيك فيه؟ قال " لا تنحن، قلت: يا رسول الله إن بني فلان أسعدوني على عمي لا بد لي من قضائهن، فأبى
على فعاودته مرارا فأذن لي في قضائهن، فلم أنح بعد، ولم يبق من النسوة امرأة إلا وقد ناحت غيري " وأخرج
البخاري ومسلم وغيرهما عن أم عطية قالت: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ علينا أن لا نشرك بالله
شيئا ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة منا يدها فقالت: يا رسول الله إن فلانة أسعدتني وأنا أريد أن أجزيها فلم
يقل لها شيئا. فذهب ثم رجعت فقالت: ما وفت منا امرأة إلا أم سليم وأم العلاء وبنت أبي سبرة امرأة معاذ أو
بنت أبي سبرة وامرأة معاذ ". وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن النوح. وأخرج أبو إسحاق وابن المنذر عن
ابن عباس قال: كان عبد الله بن عمرو وزيد بن الحارث يودان رجلا من اليهود، فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا
لا تتولوا قوما غضب الله عليهم) الآية. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في
قوله (قد يئسوا من الآخرة) قال: فلا يؤمنون بها ولا يرجونها كما يئس الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال: هم الكفار أصحاب القبور الذين يئسوا من الآخرة.
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا
إليهم أو يبعثهم الله.
تفسير سورة الصف
هي أربع عشرة آية
وهي مدنية. قال الماوردي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس
قال: نزلت سورة الصف بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج النحاس عن ابن عباس قال:
نزلت سورة الصف بمكة، ولعل هذا لا يصح عنه ويؤيد كونها مدنية ما أخرجه أحمد عن عبد الله بن سلام قال:
تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسأله أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلينا رجلا رجلا فجمعنا، فقرأ علينا هذه السورة يعنى سورة الصف كلها.
وأخرجه ابن أبي حاتم، وقال في آخره: فنزلت فيهم هذه السورة. وأخرجه أيضا الترمذي وابن حبان والحاكم
وقال: صحيح على شرط الشيخين والبيهقي في الشعبي والسنن.
218

سورة الصف (1 - 9)
قوله (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض) قد تقدم الكلام على هذا ووجه التعبير في بعض السور بلفظ
الماضي كهذه السورة، وفي بعضها بلفظ المضارع، وفي بعضها بلفظ الأمر الإرشاد إلى مشروعية التسبيح في كل
الأوقات ماضيها ومستقبلها وحالها، وقد قدمنا نحو هذا في أول سورة الحديد (وهو العزيز الحكيم) أي الغالب
الذي لا يغالب: الحكيم في أفعاله وأقواله (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون) هذا الاستفهام للتقريع
والتوبيخ: أي لم تقولون من الخير مالا تفعلونه، ولم مركبة من اللام الجارة، وما الاستفهامية، وحذفت ألفها
تخفيفا لكثرة استعمالها كما في نظائرها، ثم ذمهم سبحانه على ذلك فقال (كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون)
أي عظم ذلك في المقت، وهو البغض، والمقت والمقاتة مصدران، يقال رجل مقيت وممقوت: إذا لم يحبه الناس
قال الكسائي (أن تقولوا) في موضع رفع، لأن كبر فعل بمعنى بئس، ومقتا منتصب على التمييز، وعلى هذا
فيكون في كبر ضمير مبهم مفسر بالنكرة، وأن تقولوا هو المخصوص بالذم، ويجئ فيه الخلاف هل رفعه
بالابتداء، وخبره الجملة المتقدمة عليه، أو خبره محذوف أو هو خبر مبتدأ محذوف. وقيل إنه قصد بقوله كبر
التعجب، وقد عده ابن عصفور من أفعال التعجب. وقيل إنه ليس من أفعال الذم ولا من أفعال التعجب، بل
هو مسند إلى أن تقولوا، ومقتا تمييز محول عن الفاعل (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا) قال المفسرون:
إن المؤمنين قالوا: وددنا أن الله يخبرنا بأحب الأعمال إليه حتى نعمله ولو ذهبت فيه أموالنا وأنفسنا. فأنزل الله
(إن الله يحب الذين يقاتلون) الآية، وانتصاب صفا على المصدرية، والمفعول محذوف: أي يصفون أنفسهم
219

صفا، وقيل هو مصدر في موضع الحال: أي صافين أو مصفوفين. قرأ الجمهور " يقاتلون " على البناء للفاعل.
وقرأ زيد بن علي على البناء للمفعول وقرئ " يقتلون " بالتشديد، وجملة (كأنهم بنيان مرصوص) في محل نصب
على الحال من فاعل يقاتلون، أو من الضمير في صفا على تقدير أنه مؤول بصافين أو مصفوفين، ومعنى
مرصوص: ملتزق بعضه ببعض، يقال رصصت البناء أرصه رصا: إذا ضممت بعضه إلى بعض. قال الفراء:
مرصوص بالرصاص. قال المبرد: هو مأخوذ من رصصت البناء: إذا لا يمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة
واحدة، وقيل هو من الرصيص، وهو ضم الأشياء بعضها إلى بعض، والتراص: التلاصق (وإذ قال موسى
لقومه) لما ذكر سبحانه أنه يحب المقاتلين في سبيله بين أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد وجاهدا في سبيل الله
وحل العقاب بمن خالفهما، والظرف متعلق بمحذوف هو أذكر: أي أذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين وقت قول
موسى، ويجوز أن يكون وجه ذكر قصة موسى وعيسى بعد محبة المجاهدين في سبيل الله التحذير لأمة محمد صلى
الله عليه وآله وسلم أن يفعلوا مع نبيهم ما فعله قوم موسى وعيسى معهما (يا قوم لم تؤذونني) هذا مقول القول:
أي لم تؤذونني بمخالفة ما أمركم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم، أو لم تؤذونني بالشتم والانتقاص، ومن
ذلك رميه بالأدرة، وقد تقدم بيان هذا في سورة الأحزاب، وجملة (وقد تعلمون أني رسول الله إليكم) في محل
نصب على الحال، وقد لتحقق العلم أو لتأكيده، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار، والمعنى: كيف
تؤذونني مع علمكم بأني رسول الله، والرسول يحترم ويعظم، ولم يبق معكم شك في الرسالة لما قد شاهدتم من
المعجزات التي توجب عليكم الاعتراف برسالتي، وتفيدكم العلم بها علما يقينيا (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) أي
لما أصروا على الزيغ واستمروا عليه أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وصرفها عن قبول الحق، وقيل فلما زاغوا
عن الإيمان أزاغ الله قلوبهم عن الثواب. قال مقاتل: لما عدلوا عن الحق أمال الله قلوبهم عنه، يعني أنهم لما
تركوا الحق بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عن الحق جزاء بما ارتكبوا (والله لا يهدي القوم الفاسقين) هذه الجملة
مقررة لمضمون ما قبلها. قال الزجاج: لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق، والمعنى: أنه لا يهدي كل متصف
بالفسق وهؤلاء من جملتهم (وإذ قال عيسى بن مريم) معطوف على (وإذ قال موسى) معمول لعامله، أو معمول
لعامل مقدر معطوف على عامل الظرف الأول (يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة)
أي إني رسول الله إليكم بالإنجيل مصدقا لما بين يدي من التوراة لأني لم آتكم بشئ يخالف التوراة، بل هي
مشتملة على التبشير بي، فكيف تنفرون عني وتخالفونني، وانتصاب مصدقا على الحال، (و) كذا (مبشرا)،
والعامل فيهما ما في الرسول من معنى الإرسال، والمعنى: أني أرسلت إليكم حال كوني مصدقا لما بين يدي من
التوراة ومبشرا بمن يأتي بعدي، وإذا كنت كذلك في التصديق والتبشير فلا مقتضى لتكذيبي، وأحمد اسم نبينا
صلى الله عليه وآله وسلم وهو علم منقول من الصفة، وهي تحتمل أن تكون مبالغة من الفاعل، فيكون معناها أنه
أكثر حمدا لله من غيره، أو من المفعول فيكون معناها أنه يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره. قرأ
نافع وابن كثير وأبو عمرو والسلمي وزر بن حبيش وأبو بكر عن عاصم (من بعدي) بفتح الياء. وقرأ الباقون
بإسكانها (فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) أي لما جاءهم عيسى بالمعجزات قالوا هذا الذي جاءنا به سحر
واضح ظاهر، وقيل المراد محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي لما جاءهم بذلك قالوا هذه المقالة، والأول أولى.
قرأ الجمهور " سحر " وقرأ حمزة والكسائي " ساحر " (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام)
أي لا أحدا أكثر ظلما منه حيث يفترى على الله الكذب، والحال أنه يدعي إلى دين الإسلام الذي هو خير الأديان
220

وأشرفها، لأن من كان كذلك فحقه أن لا يفتري على غيره الكذب، فكيف يفتريه على ربه. قرأ الجمهور " وهو
يدعي " من الدعاء مبنيا للمفعول. وقرأ طلحة بن مصرف " يدعي " بفتح الياء وتشديد الدال من الادعاء مبنيا
للفاعل، وإنما عدى بإلى لأنه ضمن معنى الانتماء والانتساب (والله لا يهدي القوم الظالمين) هذه الجملة مقررة
لمضمون ما قبلها. والمعنى: لا يهدي من اتصف بالظلم، والمذكورون من جملتهم (يريدون ليطفئوا نور الله
بأفواههم) الإطفاء: الإخماد، وأصله في النار، واستعير لما يجري مجراها من الظهور. والمراد بنور الله القرآن:
أي يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول، أو الإسلام، أو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو الحجج والدلائل، أو
جميع ما ذكر، ومعنى بأفواههم: بأقوالهم الخارجة من أفواههم المتضمنة للطعن (والله متم نوره) بإظهار في
الآفاق وإعلائه على غيره. قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم " متم نوره " بالإضافة والباقون بتنوين
متم (ولو كره الكافرون) ذلك فإنه كائن لا محالة، والجملة في محل نصب على الحال. قال ابن عطية: واللام في
ليطفئوا لام مؤكدة دخلت على المفعول، لأن التقدير: يريدون أن يطفئوا، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول
إذا تقدم، كقولك: لزيد ضربت، ولرؤيتك قصدت، وقيل هي لام العلة، والمفعول محذوف: أي يريدون
إبطال القرآن أو دفع الإسلام أو هلاك الرسول ليطفئوا، وقيل إنها بمعنى أن الناصبة وأنها ناصبة بنفسها. قال الفراء:
العرب تجعل لام كي في موضع أن في أراد وأمر، وإليه ذهب الكسائي، ومثل هذا قوله - يريد الله ليبين لكم - وجملة
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) مستأنفة مقررة لما قبلها،
والهدى القرآن أو المعجزات، ومعنى دين الحق: الملة الحقة، وهي ملة الإسلام، ومعنى ليظهره: ليجعله ظاهرا
على جميع الأديان عاليا عليها غالبا لها ولو كره المشركون ذلك فإنه كائن لا محالة. قال مجاهد: ذلك إذا نزل عيسى
لم يكن في الأرض دين إلا دين الإسلام، والدين مصدر يعبر به عن الأديان المتعددة، وجواب لو في الموضعين
محذوف، والتقدير أتمه وأظهره.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض
الجهاد يقولون: وددنا لو أن الله أخبرنا بأحب الأعمال فنعمل به، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن
أحب الأعمال إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد
كره ذلك أناس من المؤمنين وشق عليهم أمره، فقال الله (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون). وأخرج ابن
أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله (كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) قال: هذه الآية في القتال وحده،
وهم قوم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقول الرجل: قاتلت وضربت بسيفي ولم يفعلوا، فنزلت.
وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عنه أيضا قال: قالوا لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لفعلناه فأخبرهم الله فقال
(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) فكرهوا ذلك، فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا
لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا
(كأنهم بنيان مرصوص) قال: مثبت لا يزول ملصق بعضه على بعض. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن
جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر
الذي يحشر الله الناس على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب: والعاقب الذي ليس بعده نبي ".
221

سورة الصف (10 - 14)
قوله (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) جعل العمل المذكور بمنزلة التجارة
لأنهم يربحون فيه كما يربحون فيها، وذلك بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار. قرأ الجمهور " تنجيكم " بالتخفيف
من الإنجاء. وقرأ الحسن وابن عامر وأبو حيوه بالتشديد من التنجية. ثم بين سبحانه هذه التجارة التي دل عليها
فقال (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) وهو خبر في معنى الأمر للإيذان بوجوب
الامتثال فكأنه قد وقع فأخبر بوقوعه، وقدم ذكر الأموال على الأنفس لأنها هي التي يبدأ بها في الإنفاق والتجهز
إلى الجهاد. قرأ الجمهور " تؤمنون " وقرأ ابن مسعود " آمنوا وجاهدوا " على الأمر. قال الأخفش: تؤمنون
عطف بيان لتجارة، والأولى أن تكون الجملة مستأنفة مبينة لما قبلها، والإشارة بقوله (ذلكم) إلى ما ذكر من
الإيمان والجهاد، وهو مبتدأ وخبره (خير لكم) أي هذا الفعل خير لكم من أموالكم وأنفسكم (إن كنتم تعلمون)
أي إن كنتم ممن يعلم فإنكم تعلمون أنه خير لكم، لا إذا كنتم من أهل الجهل فإنكم لا تعلمون ذلك (يغفر لكم
ذنوبكم) هذا جواب الأمر المدلول عليه بلفظ الخبر، ولهذا جزم. قال الزجاج والمبرد: قوله " تؤمنون "
في معنى آمنوا، ولذلك جاء يغفر لكم مجزوما. وقال الفراء: يغفر لكم جواب الاستفهام فجعله مجزوما لكونه
جواب الاستفهام، وقد غلطه بعض أهل العلم. قال الزجاج: ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم إنما يغفر لهم
إذا آمنوا وجاهدوا. وقال الرازي في توجيه قول الفراء: إن هل أدلكم في معنى الأمر عنده، يقال هل أنت
ساكت: أي اسكت، وبيانه أن هل بمعنى الاستفهام، ثم يتدرج إلى أن يصير عرضا وحثا، والحث كالإغراء،
والإغراء أمر. وقرأ زيد بن علي " تؤمنوا، وتجاهدوا " على إضمار لام الأمر. وقيل إن " يغفر لكم " مجزوم بشرط
مقدر: أي إن تؤمنوا يغفر لكم، وقرأ بعضهم بالإدغام في يغفر لكم، والأولى ترك الإدغام لأن الراء حرف
متكرر فلا يحسن إدغامه في اللام (ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار) قد تقدم بيان كيفية جرى الأنهار من
تحت الجنات (ومساكن طيبة في جنات عدن) أي في جنات إقامة (ذلك الفوز العظيم) أي ذلك المذكور من
المغفرة، وإدخال الجنات الموصوفة بما ذكر هو الفوز الذي لا فوز بعده، والظفر الذي لا ظفر يماثله (وأخرى
تحبونها). قال الأخفش والفراء: أخرى معطوفة على تجارة فهي في محل خفض: أي وهل أدلكم على خصلة
222

أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة، وقيل هي في محل رفع: أي ولكم خصلة أخرى، وقيل في محل
نصب: أي ويعطيكم خصلة أخرى. ثم بين سبحانه هذه الأخرى فقال (نصر من الله وفتح قريب) أي هي نصر
من الله لكم، وفتح قريب يفتحه عليكم، وقيل نصر بدل من أخرى على تقدير كونها في محل رفع، وقيل
التقدير: ولكم نصر وفتح قريب. قال الكلبي: يعني النصر على قريش وفتح مكة. وقال عطاء: يريد فتح
فارس والروم (وبشر المؤمنين) معطوف على محذوف: أي قل يا أيها الذين آمنوا وبشر، أو على تؤمنون لأنه
في معنى الأمر، والمعنى: وبشر يا محمد المؤمنين بالنصر والفتح، أو بشرهم بالنصر في الدنيا والفتح، وبالجنة في
الآخرة، أو وبشرهم بالجنة في الآخرة. ثم حض سبحانه المؤمنين على نصرة دينه فقال (يا أيها الذين آمنوا كونوا
أنصار الله) أي دوموا على ما أنتم عليه من نصرة الدين. قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع " أنصار الله " بالتنوين وترك
الإضافة. وقرأ الباقون بالإضافة، والرسم يحتمل القراءتين معا، واختار أبو عبيد قراءة الإضافة لقوله " نحن أنصار
الله " بالإضافة (كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله) أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين
لما قال لهم عيسى (من أنصاري إلى الله) فقالوا (نحن أنصار الله) والكاف في " كما قال " نعت مصدر محذوف
تقديره: كونوا كونا كما قال، وقيل الكاف في محل نصب على إضمار الفعل، وقيل هو كلام محمول على معناه
دون لفظه، والمعنى: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم من أنصاري إلى الله،
وقوله (إلى الله) قيل إلى بمعنى مع: أي من أنصاري مع الله، وقيل التقدير: من أنصاري فيما يقرب إلى الله.
وقيل التقدير: من أنصاري متوجها إلى نصرة الله، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة آل عمران. والحواريون
هم أنصار المسيح وخلص أصحابه، وأول من آمن به، وقد تقدم بيانهم (فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت
طائفة) أي آمنت طائفة بعيسى وكفرت به طائفة، وذلك لأنهم لما اختلفوا بعد رفعه تفرقوا وتقاتلوا (فأيدنا الذين
آمنوا على عدوهم) أي قوينا المحقين منهم على المبطلين (فأصبحوا ظاهرين) أي عالين غالبين، وقيل المعنى:
فأيدنا الآن المسلمين على الفرقتين جميعا.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قالوا: لو كنا نعلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ فنزلت
(يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) فكرهوا فنزلت - يا أيها الذين آمنوا
لم تقولون مالا تفعلون - إلى قوله - بنيان مرصوص -. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن
قتادة في قوله (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله) قال: قد كان ذلك بحمد الله جاءه سبعون رجلا فبايعوه عند
العقبة وآووه ونصروه حتى أظهر الله دينه. وأخرج ابن إسحاق وابن سعد عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن
عمرو بن حزم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للنفر الذين لقوه بالعقبة " أخرجوا إلى أثني عشر منكم
يكونون كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى ابن مريم ". وأخرج ابن سعد عن محمود بن لبيد قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للنقباء " إنكم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم،
وأنا كفيل قومي، قالوا نعم ". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (فأيدنا الذين آمنوا) قال: فقوينا الذين آمنوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه فأيدنا الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته على عدوهم فأصبحوا اليوم
ظاهرين.
223

تفسير سورة الجمعة
هي إحدى عشرة آية
وهي مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي
في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة الجمعة بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله.
واخرج مسلم وأهل السنن عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الجمعة سورة الجمعة
و - إذا جاءك المنافقون -. وأخرج مسلم وأهل السنن عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن حبان والبيهقي في سننه عن
جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة - قل يا أيها الكافرون -
و - قل هو الله أحد - وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة سورة الجمعة والمنافقون.
سورة الجمعة (1 - 8)
قوله (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) قد تقدم تفسير هذا في أول سورة الحديد، وما بعدها من
المسبحات (الملك القدوس العزيز الحكيم) قرأ الجمهور بالجر في هذه الصفات الأربع على أنها نعت لله، وقيل على
البدل، والأول أولى. وقرأ أبو وائل بن محارب وأبو العالية ونصر بن عاصم ورؤبة بالرفع على إضمار مبتدإ.
وقرأ الجمهور " القدوس " بضم القاف، وقرأ زيد بن علي بفتحها، وقد تقدم تفسيره (هو الذي بعث في الأميين
رسولا منهم) المراد بالأميين العرب، من كان يحسن الكتابة منهم ومن لا يحسنها، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب،
224

والأمي في الأصل الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وكان غالب العرب كذلك، وقد مضى بيان معنى الأمي في
سورة البقرة، ومعنى " منهم " من أنفسهم ومن جنسهم ومن جملتهم وما كان حي من أحياء العرب إلا ولرسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فيهم قرابة، ووجه الامتنان بكونه منهم أن ذلك أقرب إلى الموافقة لأن الجنس أميل إلى
جنسه وأقرب إليه (يتلوا عليهم آياته) يعني القرآن مع كونه أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا تعلم ذلك من أحد،
والجملة صفة لرسولا، وكذا قوله (ويزكيهم) قال ابن جريج ومقاتل: أي يطهرهم من دنس الكفر والذنوب،
وقال السدي: يأخذ زكاة أموالهم، وقيل يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان (ويعلمهم الكتاب والحكمة) هذه صفة
ثالثة لرسولا، والمراد بالكتاب القرآن، وبالحكمة السنة، كذا قال الحسن. وقيل الكتاب الخط بالقلم، والحكمة
الفقه في الدين، كذا قال مالك بن أنس (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) أي وإن كانوا من قبل بعثته
فيهم في شرك وذهاب عن الحق (وآخرين منهم) معطوف على الأميين: أي بعث في الأميين، وبعث في آخرين
منهم (لما يلحقوا بهم) ذلك الوقت، وسيلحقون بهم من بعد، أو هو معطوف على المفعول الأول في يعلمهم،
أي ويعلم آخرين، أو على مفعول يزكيهم: أي يزكيهم ويزكي آخرين منهم، والمراد بالآخرين من جاب بعد
الصحابة إلى يوم القيامة، وقيل المراد بهم من أسلم من غير العرب. وقال عكرمة: هم التابعون. وقال مجاهد:
هم الناس كلهم وكذا قال ابن زيد والسدي: وجملة (لما يلحقوا بهم) صفة لآخرين، والضمير في منهم ولهم
راجع إلى الأميين، وهذا يؤيد أن المراد بالآخرين هم من يأتي بعد الصحابة من العرب خاصة إلى يوم القيامة، وهو
صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان مرسلا إلى جميع الثقلين، فتخصيص العرب ها هنا لقصد الامتنان عليهم، وذلك
لا ينافي عموم الرسالة، ويجوز أن يراد بالآخرين العجم لأنهم وإن لم يكونوا من العرب، فقد صاروا بالإسلام منهم
والمسلمون كلهم من أمة واحدة، وإن اختلفت أجناسهم (وهو العزيز الحكيم) أي بليغ العزة والحكمة، والإشارة
بقوله (ذلك) إلى ما تقدم ذكره. وقال الكلبي: يعني الإسلام. وقال قتادة: يعني الوحي والنبوة. وقيل إلحاق
العجم بالعرب، وهو مبتدأ وخبره (فضل الله يؤتيه من يشاء) أي يعطيه من يشاء من عباده (والله ذو الفضل
العظيم) الذي لا يساويه فضل ولا يدانيه (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها) ضرب سبحانه لليهود الذين تركوا
العمل بالتوراة مثلا فقال (مثل الذين حملوا التوراة) أي كلفوا القيام بها والعمل بما فيها (ثم لم يحملوها) أي لم
يعملوا بموجبها ولا أطاعوا ما أمروا به فيها (كمثل الحمار يحمل أسفارا) هي جمع سفر وهو الكتاب الكبير
لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ. قال ميمون بن مهران: الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبل؟ فهكذا اليهود.
وقال الجرجاني: هو يعني حملوا من الحمالة بمعنى الكفالة: أي ضمنوا أحكام التوراة، وقوله: يحمل في محل
نصب على الحال، أو صفة للحمار إذ ليس المراد به حمارا معينا، فهو في حكم النكرة كما في قول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني * فمضيت ثم وقلت لا يعنيني *
(بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله) أي بئس مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، على أن التمييز
محذوف، والفاعل المفسر به مضمر، ومثل القوم هو المخصوص بالذم، أو مثل القوم فاعل بئس، والمخصوص
بالذم الموصول بعده على حذف مضاف: أي مثل الذين كذبوا، ويجوز أن يكون الموصول صفة للقوم،
فيكون في محل جر، والمخصوص بالذم محذوف، والتقدير: بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء (والله لا يهدي
القوم الظالمين) يعني على العموم، فيدخل فيهم اليهود دخولا أوليا (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله
225

من دون الناس) المراد بالذين هادوا الذين تهودوا، وذلك أن اليهود ادعوا الفضيلة على الناس، وأنهم أولياء الله
من دون الناس، كما في قولهم - نحن أبناء الله وأحباؤه - وقولهم - لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى -
فأمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم لما ادعوا هذه الدعوى الباطلة (فتمنوا الموت) لتصيروا إلى ما تصيرون إليه
من الكرامة في زعمكم (إن كنتم صادقين) في هذا الزعم، فإن من علم أنه من أهل الجنة أحب الخلوص من هذه
الدار. قرأ الجمهور " فتمنوا " بضم الواو، وقرأ ابن السميفع بفتحها تخفيفا، وحكى الكسائي إبدال الواو همزة.
ثم أخبر الله سبحانه أنهم لا يفعلون ذلك أبدا بسبب ذنوبهم فقال (ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم) أي بسبب
ما عملوا من الكفر والمعاصي والتحريف والتبديل (والله عليم بالظالمين) يعني على العموم، وهؤلاء اليهود داخلون فيهم
دخولا أوليا. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم بأن الفرار من الموت لا ينجيهم وأنه نازل بهم فقال (قل إن
الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) لا محالة ونازل بكم بلا شك، والفاء في قوله " فإنه " داخلة لتضمن الاسم
معنى الشرط، وقال الزجاج: لا يقال إن زيدا فمنطلق، وها هنا قال: فإنه ملاقيكم لما في معنى الذي من الشرط
والجزاء: أي إن فررتم منه فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه، وقيل إنها مزيدة،
وقيل إن الكلام قد تم عند قوله " تفرون منه " ثم ابتدأ فقال " فإنه ملاقيكم " (ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة)
وذلك يوم القيامة (فينبئكم بما كنتم تعملون) من الأعمال القبيحة ويجازيكم عليها.
وقد أخرج ابن المنذر والحاكم والبيهقي في الشعب عن عطاء بن السائب عن ميسرة أن هذه الآية مكتوبة في
التوراة بسبعمائة آية (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم) أول سورة الجمعة.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إنا أمة أمية لا نكتب ولا
نحسب " وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة قال " كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين نزلت
سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم
يلحقوا بنا؟ فوضع يده على سلمان الفارسي وقال: والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من
هؤلاء ". وأخرجه أيضا مسلم من حديثه مرفوعا بلفظ " لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجال من فارس، أو
قال من أبناء فارس ". وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال " لو كان الإيمان بالثريا لناله ناس من أهل فارس ". وأخرج الطبراني وابن مردويه والضياء
عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن في أصلاب أصلاب رجال من
أصحابي رجالا ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، ثم قرأ (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز
الحكيم) ". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) قال: الدين. وأخرج عبد
ابن حميد من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها) قال: اليهود. وأخرج ابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (أسفارا) قال: كتبا.
سورة الجمعة (9 - 11)
226

قوله (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة) أي وقع النداء لها، والمراد به الأذان إذا جلس الإمام على المنبر
يوم الجمعة، لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نداء سواه، وقوله (من يوم الجمعة)
بيان لإذا وتفسير لها. وقال أبو البقاء: إن من بمعنى في كما في قوله - أروني ماذا خلقوا من الأرض - أي في
الأرض. قرأ الجمهور " الجمعة " بضم الميم. وقرأ عبد الله بن الزبير والأعمش بإسكانها تخفيفا. وهما لغتان وجمعها
جمع وجمعات. قال الفراء: يقال الجمعة بسكون الميم وبفتحها وبضمها. وهي صفة لليوم: أي يوم يجمع الناس.
قال الفراء أيضا وأبو عبيد: والتخفيف أخف وأقيس، نحو: غرفة وغرف وطرفة وطرف وحجرة وحجر. وفتح
الميم لغة عقيل. وقيل إنما سميت جمعة لأن الله جمع فيها خلق آدم، وقيل لأن الله فرغ فيها من خلق كل شئ
فاجتمعت فيها جميع المخلوقات، وقيل لاجتماع الناس فيها للصلاة (فاسعوا إلى ذكر الله) قال عطاء: يعني الذهاب
والمشي إلى الصلاة. وقال الفراء: المضي والسعي والذهاب في معنى واحد، ويدل على ذلك قراءة عمر بن الخطاب
وابن مسعود - فامضوا إلى ذكر الله - وقيل المراد القصد. قال الحسن: والله ما هو سعي على الأقدام، ولكنه قصد
بالقلوب والنيات، وقيل هو العمل كقوله - من أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن - وقوله - إن سعيكم
لشتى - وقوله - وأن ليس للإنسان إلا ما سعى - قال القرطبي: وهذا قول الجمهور، ومنه قول زهير:
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم
وقال أيضا: سعى ساعيا غيظ بن مرة بعد ما * تنزل ما بين العشيرة بالدم
أي فاعملوا على المضي إلى ذكر الله واشتغلوا بأسبابه من الغسل والوضوء والتوجه إليه، ويؤيد هذا القول
قول الشاعر: أسعى على جل بني مالك * كل امرئ في شأنه ساعي
(وذروا البيع) أي اتركوا المعاملة به ويلحق به سائر المعاملات. قال الحسن: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم
يحل الشراء والبيع، والإشارة بقوله (ذلكم) إلى السعي إلى ذكر الله وترك البيع، وهو مبتدأ وخبره (خير لكم)
أي خير لكم من فعل البيع وترك السعي لما في الامتثال من الأجر والجزاء. وفي عدمه من عدم ذلك إذا لم يكن موجبا
للعقوبة (إن كنتم تعلمون) أي إن كنتم من أهل العلم، فإنه لا يخفى عليكم أن ذلكم خير لكم (فإذا قضيت
الصلاة) أي إذا فعلتم الصلاة وأديتموها) وفرغتم منها (فانتشروا في الأرض) للتجارة والتصرف فيما تحتاجون إليه
من أمر معاشكم (وابتغوا من فضل الله) أي من رزقه الذي ينفضل به على عباده بما يحصل لهم من الأرباح في
المعاملات والمكاسب، وقيل المراد به ابتغاء ما عند الله من الأجر بعمل الطاعات واجتناب ما لا يحل (واذكروا
الله كثيرا) أي ذكرا كثيرا بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيوي، وكذا اذكروه بما يقربكم
إليه من الأذكار، كالحمد والتسبيح والتكبير والاستغفار ونحو ذلك (لعلكم تفلحون) أي كي تفوزوا بخير
الدارين وتظفروا به (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما) سبب نزول هذه الآية أنه كان بأهل
المدينة فاقة وحاجة، فأقبلت عير من الشام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة، فانفتل الناس إليها
حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا في المسجد. ومعنى " انفضوا إليها " تفرقوا خارجين إليها. وقال المبرد: مالوا إليها،
والضمير للتجارة، وخصت بإرجاع الضمير إليها دون اللهو لأنها كانت أهم عندهم، وقيل التقدير: وإذا رأوا
تجارة انفضوا إليها، أو لهوا انفضوا إليه، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه كما في قول الشاعر:
227

نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف
وقيل إنه اقتصر على ضمير التجارة، لأن الانفضاض إليها إذا كان مذموما مع الحاجة إليها فكيف بالانفضاض
إلى اللهو، وقيل غير ذلك (وتركوك قائما) أي على المنبر: ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأن العمل للآخرة خير
من العمل للدنيا فقال (قل ما عند الله) يعني من الجزاء العظيم وهو الجنة (خير من اللهو ومن التجارة) اللذين ذهبتم
إليهما وتركتم البقاء في المسجد وسماع خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأجلها (والله خير الرازقين) فمنه اطلبوا
الرزق، وإليه توسلوا بعمل الطاعة، فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه.
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن أبي هريرة قال " قلت يا رسول الله لأي شئ سمى يوم الجمعة؟
قال: لأن فيه جمعت طينة أبيكم آدم، وفيه الصعقة والبعثة، وفي آخره ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها
بدعوة استجاب له ". وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن سلمان
قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أتدري ما يوم الجمعة؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قالها ثلاث
مرات ثم قال في الثالثة: هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم آدم أفلا أحدثكم عن يوم الجمعة " الحديث. وأخرج
أحمد ومسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " خير يوم طلعت
فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة "
وفي الباب أحاديث مصرحة بأنه خلق فيه آدم.
وورد في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة، وكذلك في فضل صلاة الجمعة وعظيم أجرها، وفي الساعة التي
فيها، وأنه يستجاب الدعاء فيها، وقد أوضحت ذلك في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
وأخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن
خرشة بن الحر قال: رأي معي عمر بن الخطاب لوحا مكتوبا فيه (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى
ذكر الله) فقال: من أملى عليك هذا؟ قلت أبي بن كعب، قال: إن أبيا أقرأنا للمنسوخ اقرأها " فامضوا إلى ذكر
الله " وروى هؤلاء ما عدا أبا عبيد عن ابن عمر قال: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما نقرأ هذه
الآية التي في سورة الجمعة إلا " فامضوا إلى ذكر الله " وأخرجه عنه أيضا الشافعي في الأم وعبد الرزاق والفريابي
وابن جرير وابن أبي حاتم. وأخرجوا كلهم أيضا عن ابن مسعود أنه كان يقرأ " فامضوا إلى ذكر الله " قال:
ولو كان فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي. وأخرج عبد بن حميد عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك. وأخرج عبد
ابن حميد عن ابن عباس (فاسعوا إلى ذكر الله) قال: فامضوا. وأخرج عبد بن حميد عنه أن السعي العمل.
وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب: أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانا يختلفان في
تجارتهما إلى الشام، فربما قدما يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فيدعونه ويقومون، فنزلت
الآية (وذروا البيع) فحرم عليهم ما كان قبل ذلك. وأخرج ابن جرير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في قوله (" فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) قال: ليس لطلب دنيا،
ولكن عيادة مريض، وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله ". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال:
لم تؤمروا بشئ من طلب الدنيا إنما هو عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله. وأخرج البخاري
ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: " بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة قائما إذا قدمت
عير المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم
228

وأبو بكر وعمر، فأنزل الله (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) إلى آخر السورة. وأخرج عبد بن حميد عن ابن
عباس في الآية قال: جاءت عير عبد الرحمن بن عوف تحمل الطعام، فخرجوا من الجمعة بعضهم يريد أن يشتري،
وبعضهم يريد أن ينظر إلى دحية، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما على المنبر، وبقي في المسجد
اثنا عشر رجلا وسبع نسوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد
عليهم نارا. وفي الباب روايات متضمنة لهذا المعنى عن جماعة من الصحابة وغيرهم.
تفسير سورة المنافقين
هي إحدى عشرة آية
وهي مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن
عباس قال: نزلت سورة المنافقين بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج سعيد بن منصور
والطبراني في الأوسط. قال السيوطي بسند حسن عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها على المؤمنين، وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين.
وأخرج البزار والطبراني عن أبي عنبة الخولاني مرفوعا نحوه.
سورة المنافقين (1 - 8)
229

قوله (إذا جاءك المنافقون) أي إذا وصلوا إليك وحضروا مجلسك، وجواب الشرط قالوا، وقيل محذوف،
وقالوا حال، والتقدير: جاءوك قائلين كيت وكيت فلا نقبل منهم، وقيل الجواب - اتخذوا أيمانهم جنة - وهو
بعيد (قالوا نشهد إنك لرسول الله) أكدوا شهادتهم بأن واللام للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم مع خلوص
اعتقادهم، والمراد بالمنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه، ومعنى نشهد نحلف، فهو يجري مجرى القسم، ولذلك يتلقى
بما يتلقى به القسم، ومن هذا قول قيس بن ذريح:
وأشهد عند الله أني أحبها * فهذا لها عندي فما عندها ليا
ومثل نشهد نعلم، فإنه يجري مجرى القسم كما في قول الشاعر:
ولقد علمت لتأتين منيتي * إن المنايا لا تطيش سهامها *
وجملة (والله يعلم إنك لرسوله) معترضة مقررة لمضمون ما قبلها، وهو ما أظهروه من الشهادة، وإن كانت
بواطنهم على خلاف ذلك (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) أي في شهادتهم التي زعموا أنها من صميم القلب
وخلوص الاعتقاد، لا إلى منطوق كلامهم، وهو الشهادة بالرسالة، فإنه حق، والمعنى: والله يشهد إنهم
لكاذبون فيما تضمنه كلامهم من التأكيد الدال على أن شهادتهم بذلك صادرة عن خلوص اعتقاد وطمأنينة قلب
وموافقة باطن لظاهر (اتخذوا أيمانهم جنة) أي جعلوا حلفهم الذي حلفوا لكم به إنهم لمنكم وإن محمدا لرسول الله
وقاية تقيهم منكم وسترة يستترون بها من القتل والأسر، والجملة مستأنفة لبيان كذبهم وحلفهم عليه، وقد تقدم
قول من قال إنها جواب الشرط. قرأ الجمهور " أيمانهم " بفتح الهمزة، وقرأ الحسن بكسرها، وقد تقدم تفسير هذا
في سورة المجادلة (فصدوا عن سبيل الله) أي منعوا الناس عن الإيمان والجهاد وأعمال الطاعة بسبب ما يصدر منهم
من التشكيك والقدح في النبوة. هذا معنى الصد الذي بمعنى الصرف، ويجوز أن يكون من الصدود: أي أعرضوا
عن الدخول في سبيل الله وإقامة أحكامه (إنهم ساء ما كانوا يعملون) من النفاق والصد، وفي ساء معنى التعجب
والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم ذكره من الكذب والصد وقبح الأعمال، وهو مبتدأ وخبره (بأنهم آمنوا)
أي بسبب أنهم آمنوا في الظاهر نفاقا (ثم كفروا) في الباطن، أو أظهروا الإيمان للمؤمنين وأظهروا الكفر
للكافرين، وهذا صريح في كفر المنافقين، وقيل نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدوا. والأول أولى كما يفيده
السياق (فطبع على قلوبهم) أي ختم عليها بسبب كفرهم. قرأ الجمهور " فطبع " على البناء للمفعول، والقائم مقام
الفاعل الجار والمجرور بعده، وقرأ زيد بن علي على البناء للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه، ويدل
على هذا قراءة الأعمش " فطبع الله على قلوبهم " (فهم لا يفقهون) ما فيه من صلاحهم ورشادهم وهو الإيمان (وإذا
رأيتهم تعجبك أجسامهم) أي هيئاتهم ومناظرهم، يعني أن لهم أجساما تعجب من يراها لما فيها من النضارة والرونق
(وإن يقولوا تسمع لقولهم) فتحسب أن قولهم حق وصدق لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم، وقد كان عبد الله بن أبي
رأس المنافقين فصيحا جسيما جميلا، وكان يحضر مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا قال سمع النبي صلى الله
عليه وآله وسلم مقالته. قال الكلبي: المراد عبد الله بن أبي وجد بن قيس، ومعتب بن قيس كانت لهم أجسام
230

ومنظر وفصاحة، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل لكل من يصلح له، ويدل عليه قراءة من قرأ
يسمع على البناء للمفعول، وجملة (كأنهم خشب مسندة) مستأنفة لتقرير ما تقدم من أن أجسامهم تعجب الرائي
وتروق الناظر، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها خبر مبتدإ محذوف، شبهوا في جلوسهم في مجالس رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم مستندين بها بالخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط التي لا تفهم ولا تعلم، وهم كذلك
لخلوهم عن الفهم النافع والعلم الذي ينتفع به صاحبه، قال الزجاج: وصفهم بتمام الصور، ثم أعلم أنهم في ترك
الفهم والاستبصار بمنزلة الخشب. قرأ الجمهور " خشب " بضمتين، وقرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل بإسكان
الشين، وبها قرأ البراء بن عازب، واختارها أبو عبيد لأن واحدتها خشبة كبدنة وبدن، واختار القراءة الأولى
أبو حاتم. وقرأ سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب بفتحتين، ومعنى مسندة أنها أسندت إلى غيرها، من قولهم:
أسندت كذا إلى كذا، والتشديد للتكثير. ثم عابهم الله سبحانه بالجبن فقال (يحسبون كل صيحة عليهم) أي
يحسبون كل صيحة يسمعونها واقعة عليهم نازلة بهم لفرط جبنهم ورعب قلوبهم، وفي المفعول الثاني للحسبان
وجهان: أحدهما أنه عليهم، ويكون قوله (هم العدو) جملة مستأنفة لبيان أنهم الكاملون في العداوة لكونهم
يظهرون غير ما يبطنون، والوجه الثاني أن المفعول الثاني للحسبان هو قوله (هم العدو)، ويكون قوله (عليهم)
متعلقا بصيحة، وإنما جاء بضمير الجماعة باعتبار الخبر، وكان حقه أن يقال: هو العدو، والوجه الأول أولى.
قال مقاتل والسدي: أي إذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون لما
في قلوبهم من الرعب، ومن هذا قول الشاعر:
ما زلت تحسب كل شئ بعدهم * خيلا تكر عليهم ورجالا
وقيل كان المنافقون على وجل من أن ينزل فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم. ثم أمر الله سبحانه
رسوله بأن يأخذ حذره منهم فقال (فاحذرهم) أن يتمكنوا من فرصة منك أو يطلعوا على شئ من أسرارك لأنهم
عيون لأعدائك من الكفار. ثم دعا عليهم بقوله (قاتلهم الله أنى يؤفكون) أي لعنهم الله، وقد تقول العرب هذه
الكلمة على طريقة التعجب، كقولهم: قاتله الله من شاعر، أو ما أشعره، وليس بمراد هنا، بل المراد ذمهم
وتوبيخهم، وهو طلب من الله سبحانه طلبه من ذاته عز وجل أن يلعنهم ويخزيهم، أو هو تعليم للمؤمنين أن
يقولوا ذلك، ومعنى (أنى يؤفكون) كيف يصرفون عن الحق ويميلون عنه إلى الكفر. قال قتادة: معناه يعدلون
عن الحق. وقال الحسن معناه يصرفون عن الرشد (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله) أي إذا قال لهم القائل
من المؤمنين قد نزل فيكم ما نزل من القرآن فتوبوا إلى الله ورسوله وتعالوا يستغفر لكم رسول الله (لووا رؤوسهم)
أي حركوها استهزاء بذلك. قال مقاتل: عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار. قرأ الجمهور " لووا " بالتشديد.
وقرأ نافع بالتخفيف، واختار القراءة الأولى أبو عبيد (ورأيتهم يصدون) أي يعرضون عن قول من قال لهم:
تعالوا يستغفر لكم رسول الله، أو يعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجملة (وهم مستكبرون)
في محل نصب على الحال من فاعل الحال الأولى، وهي يصدون، لأن الرؤية بصرية فيصدون في محل نصب على
الحال، والمعنى: ورأيتهم صادين مستكبرين (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم) أي الاستغفار وعدمه
سواء لا ينفعهم ذلك لإصرارهم على النفاق واستمرارهم على الكفر. قرأ الجمهور " أستغفرت " بهمزة مفتوحة من غير
مد، وحذف همزة الاستفهام ثقة بدلالة أم عليها. وقرأ يزيد بن القعقاع بهمزة ثم ألف (لن يغفر الله لهم) أي
ما داموا على النفاق (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) أي الكاملين في الخروج عن الطاعة والانهماك في معاصي الله،
231

ويدخل فيهم المنافقون دخولا أوليا. ثم ذكر سبحانه بعض قبائحهم فقال (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند
رسول الله حتى ينفضوا) أي حتى يتفرقوا عنه، يعنون بذلك فقراء المهاجرين، والجملة مستأنفة جارية مجرى
التعليل لفسقهم، أو لعدم مغفرة الله لهم. قرأ الجمهور " ينفضوا " من الانفضاض، وهو التفرق، وقرأ الفضل بن
عيسى الرقاشي " ينفضوا " من أنفض القوم: إذا فنيت أزوادهم، يقال نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفض.
ثم أخبر سبحانه بسعة ملكه فقال (ولله خزائن السماوات والأرض) أي إنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين، لأن
خزائن الرزق له فيعطي من شاء ما شاء ويمنع من شاء ما شاء (ولكن المنافقين لا يفقهون) ذلك ولا يعلمون أن خزائن
الأرزاق بيد الله عز وجل وأنه الباسط القابض المعطي المانع. ثم ذكر سبحانه مقالة شنعاء قالوها فقال (يقولون
لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وعنى
بالأعز نفسه ومن معه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه، ومراده بالرجوع رجوعهم من
تلك الغزوة، وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل هو فرد من أفرادهم، وهو عبد الله بن أبي، لكونه
كان رئيسهم وصاحب أمرهم، وهم راضون بما يقوله سامعون له مطيعون. ثم رد الله سبحانه على قائل تلك
المقالة فقال (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) أي القوة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده
لا لغيرهم. اللهم كما جعلت العزة للمؤمنين على المنافقين فاجعل العزة للعادلين من عبادك، وأنزل الذلة على
الجائرين الظالمين (ولكن المنافقين لا يعلمون) بما فيه النفع فيفعلونه، وبما فيه الضر فيجتنبونه، بل هم كالأنعام
لفرط جهلهم ومزيد حيرتهم والطبع على قلوبهم.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن زيد بن أرقم قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في سفر فأصاب الناس شدة، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه (لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) من
حوله، وقال (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته
بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله، فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا: كذب زيد رسول الله، فوقع في نفسي مما
قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقي في إذ جاءك المنافقون، فدعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليستغفر لهم
فلووا رؤوسهم، وهو قوله (كأنهم خشب مسندة) قال: كانوا رجالا أجمل شئ. وأخرجه عنه بأطول من هذا
ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي. وأخرج
ابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما سماهم الله منافقين لأنهم كتموا الشرك وأظهروا الإيمان. وأخرج ابن المنذر
عنه (اتخذوا أيمانهم جنة) قال: حلفهم بالله إنهم لمنكم اجتنبوا بأيمانهم من القتل والحرب. وأخرج ابن أبي حاتم
عنه أيضا (كأنهم خشب مسندة) قال نخل قيام. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضا. قال نزلت هذه
الآية (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) في عسيف لعمر بن الخطاب. وأخرج
ابن مردويه عن زيد بن أرقم وابن مسعود أنهما قرآ (لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال " كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة. قال
سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال المهاجري يا للمهاجرين
وقال الأنصاري يا للأنصار، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما بال دعوة الجاهلية؟ قالوا
رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعوها فإنها منتنة، فسمع
232

ذلك عبد الله بن أبي فقال: أو قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منه الأذل، فبلغ ذلك
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " زاد الترمذي " فقال له ابنه عبد الله: والله
لا تنفلت حتى تقرأنك الذليل، ورسول الله العزيز، ففعل ".
سورة المنافقين (9 - 11)
لما ذكر سبحانه قبائح المنافقين رجع إلى خطاب المؤمني مرغبا لهم في ذكره فقال (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم
أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) فحذرهم عن أخلاق المنافقين الذين ألهتهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله،
ومعنى لا تلهكم: لا تشغلكم، والمراد بالذكر فرائض الإسلام، قاله الحسن. وقال الضحاك: الصلوات الخمس
وقيل قراءة القرآن، وقيل هو خطاب للمنافقين، ووصفهم بالإيمان لكونهم آمنوا ظاهرا، والأول أولى (ومن
يفعل ذلك) أي يلتهى بالدنيا عن الدين (فأولئك هم الخاسرون) أي الكاملون في الخسران (وأنفقوا مما رزقناكم)
الظاهر أن المراد الإنفاق في الخير على عمومه، ومن للتبعيض: أي أنفقوا بعض ما رزقناكم في سبيل الخير، وقيل
المراد الزكاة المفروضة (من قبل أن يأتي أحدكم الموت) بأن تنزل به أسبابه ويشاهد حضور علاماته، وقدم
المفعول على الفاعل للاهتمام (فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب) أي يقول عند نزول ما نزل به مناديا لربه
هلا أمهلتني وأخرت موتي إلى أجل قريب: أي أمد قصير (فأصدق) أي فأتصدق بمالي (وأكن من الصالحين)
قرأ الجمهور " فأصدق " بإدغام التاء في الصاد، وانتصابه على أنه جواب التمني، وقيل إن لا في لولا زائدة،
والأصل لو أخرتني. وقرأ أبي وابن مسعود وسعيد بن جبير " فأتصدق " بدون إدغام على الأصل. وقرأ الجمهور
" وأكن " بالجزم على محل فأتصدق، كأنه قيل إن أخرتني أتصدق وأكن. قال الزجاج: معناه هلا أخرتني،
وجزم أكن على موضع فأصدق لأنه على معنى إن أخرتني أصدق وأكن. وكذا قال أبو علي الفارسي وابن
عطية وغيرهم. وقال سيبويه حاكيا عن الخليل: إنه جزم على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني، وجعل
سيبويه هذا نظير قول زهير:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى * ولا سابق شيئا إذا كان حائيا
فخفض ولا سابق عطفا على مدرك الذي هو خبر ليس على توهم زيادة الباء فيه. وقرأ أبو عمرو وابن محيصن
ومجاهد " وأكون " بالنصب عطفا على فأصدق، ووجهها واضح. ولكن قال أبو عبيد: رأيت في مصحف
عثمان " وأكن " بغير واو، وقرأ عبيد بن عمير " وأكون " بالرفع على الاستئناف: أي وأنا أكون. قال الضحاك:
لا ينزل بأحد الموت لم يحج ولم يؤد زكاة إلا سأل الرجعة، وقرأ هذه الآية، ثم أجاب الله سبحانه عن هذا المتمني
فقال (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) أي إذا حضر أجلها وانقضى عمرها (والله خبير بما تعملون) لا يخفى
233

عليه شئ منه فهو مجازيكم بأعمالكم. قرأ الجمهور " تعملون " بالفوقية على الخطاب، وقرأ أبو بكر عن عاصم
والسلمي بالتحتية على الخبر.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم)
الآية قال: هم عباد من أمتي الصالحون منهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وعن الصلوات الخمس
المفروضة. وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من كان له مال يبلغه حج بيت الله، أو تجب عليه فيه
الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل: يا ابن عباس اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكافر، فقال:
سأتلوا عليكم بذلك قرآنا (يا أيها الذين آمنوا) إلى آخر السورة ". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (فأصدق
وأكن من الصالحين) قال: أحج.
تفسير سورة التغابن
هي ثمان عشرة آية
وهي مدنية في قول الأكثر. وقال الضحاك: هي مكية. وقال الكلبي: هي مدنية ومكية. وأخرج ابن
الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة التغابن بالمدينة. وأخرج ابن مردويه
عن ابن الزبير مثله، وأخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة التغابن بمكة إلا آيات من آخرها نزلن
بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله
(يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) إلى آخر السورة. وأخرج ابن إسحاق وابن
جرير عن عطاء بن يسار نحوه. وأخرج ابن حبان في الضعفاء، والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن عبد الله
ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من
سورة التغابن " وقال ابن كثير: وهو غريب جدا بل منكر. وأخرج البخاري في تاريخه عن عبد الله بن عمرو
قال: ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من أول سورة التغابن.
سورة التغابن (1 - 6)
234

قوله (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) أي ينزهه سبحانه جميع مخلوقاته التي في سماواته وأرضه عن
كل نقص وعيب (له الملك وله الحمد) يختصان به ليس لغيره منهما شئ، وما كان لعباده منهما فهو من فيضه
وراجع إليه (وهو على كل شئ قدير) لا يعجزه شئ (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) أي فبعضكم
كافر وبعضكم مؤمن. قال الضحاك: فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر
كافر في العلانية كعمار بن ياسر ونحوه ممن أكره على الكفر. وقال عطاء: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب،
ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب. قال الزجاج: إن الله خلق الكافر وكفره فعل له وكسب مع أن الله خالق
الكفر - وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب مع أن الله خالق الإيمان - والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله
إياه، لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه، لأن وجود خلاف المقدر عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل.
قال القرطبي: وهذا أحسن الأقوال وهو الذي عليه جمهور الأمة، وقدم الكافر على المؤمن لأنه الأغلب عند
نزول القرآن (والله بما تعملون بصير) لا تخفى عليه من ذلك خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم. ثم لما ذكر سبحانه
خلق العالم الصغير أتبعه بخلق العالم الكبير فقال (خلق السماوات والأرض بالحق) أي بالحكمة البالغة. وقيل خلق
ذلك خلقا يقينا لا ريب فيه، وقيل الباء بمعنى اللام: أي خلق ذلك لإظهار الحق، وهو أن يجزى المحسن بإحسانه
والمسئ بإساءته. ثم رجع سبحانه إلى خلق العالم الصغير فقال (وصوركم فأحسن صوركم) قيل المراد آدم خلقه
بيده كرامة له، كذا قال مقاتل، وقيل المراد جميع الخلائق وهو الظاهر: أي أنه سبحانه خلقهم في أكمل صورة
وأحسن تقويم وأجمل شكل. والتصوير: التخطيط والتشكيل. قرأ الجمهور " فأحسن صوركم " بضم الصاد، وقرأ
زيد بن علي والأعمش وأبو زيد بكسرها (وإليه المصير) في الدار الآخرة، لا إلى غيره (يعلم ما في السماوات
والأرض) لا تخفى عليه من ذلك خافية (ويعلم ما تسرون وما تعلنون) أي ما تخفونه وما تظهرونه، والتصريح به
مع اندراجه فيم قبله لمزيد التأكيد في الوعد والوعيد (والله عليم بذات الصدور) هذه الجملة مقررة لما قبلها من
شمول علمه لكل معلوم، وهي تذييلية (ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل) وهم كفار الأمم الماضية كقوم نوح
وعاد وثمود، والخطاب لكفار العرب (فذاقوا وبال أمرهم) بسبب كفرهم، والوبال: الثقل والشدة، والمراد
بأمرهم هنا ما وقع منهم من الكفر والمعاصي، وبالوبال ما أصيبوا به من عذاب الدنيا (ولهم عذاب أليم) وذلك في
الآخرة وهو عذاب النار، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما ذكر من العذاب في الدارين، وهو مبتدأ وخبره (بأنه
كانت تأتيهم رسلهم بالبينات) أي بسبب أنها كانت تأتيهم الرسل المرسلة إليهم بالمعجزات الظاهرة (فقالوا أبشر
يهدوننا) أي قال كل قوم منهم لرسولهم هذا القول منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر متعجبين من ذلك،
وأراد بالبشر الجنس، ولهذا قال يهدوننا (فكفروا وتولوا) أي كفروا بالرسل وبما جاءوا به وأعرضوا عنهم ولم
يتدبروا فيما جاءوا به، وقيل كفروا بهذا القول الذي قالوه للرسل (واستغنى الله) عن إيمانهم وعبادتهم. وقال
مقاتل: استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه من المعجزات، وقيل استغنى بسلطانه عن طاعة عباده (والله
غني حميد) أي غير محتاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له، محمود من كل مخلوقاته بلسان المقال والحال.
235

وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " إذا مكث المنى في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول:
يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضى الله ما هو قاض، فيقول: أشقى أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق، وقرأ أبو ذر من
فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله (وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير) ". وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " العبد يولد مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا، والعبد يولد كافرا
ويعيش كافرا ويموت كافرا، وإن العبد يعمل برهة من دهره بالسعادة ثم يدركه ما كتب له فيموت شقيا، وأن
العبد يعمل برهة من دهره بالشقاء ثم يدركه ما كتب له فيموت سعيدا ".
قوله (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) الزعم: هو القول بالظن ويطلق على الكذب. قال شريح: لكل
شئ كنية وكنية الكذب زعموا، و (أن لن يبعثوا) قائم مقام مفعول زعم، وأن هي المخففة من الثقيلة لا المصدرية
لئلا يدخل ناصب على ناصب، والمراد بالكفار كفار العرب، والمعنى: زعم كفار العرب أن الشأن أن يبعثوا أبدا.
ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يرد عليهم ويبطل زعمهم فقال (قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن)
بل هي التي لإيجاب النفي، فالمعنى: بلى تبعثون. ثم أقسم على ذلك، وجواب القسم لتبعثن: أي لتخرجن من
قبوركم لتنبؤن (بما عملتم) أي لتخبرن بذلك إقامة للحجة عليكم ثم تجزون به (وذلك) البعث والجزاء (على الله
يسير) إذ الإعادة أيسر من الابتداء (فآمنوا بالله ورسوله) الفاء هي الفصيحة الدالة على شرط مقدر: أي إذا
كان الأمر هكذا فصدقوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم (والنور الذي أنزلنا) وهو القرآن لأنه نور
يهتدى به من ظلمه الضلال (والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه شئ من أقوالكم وأفعالكم فهو مجازيكم على ذلك
(يوم يجمعكم ليوم الجمع) العامل في الظرف لتنبؤن، قاله النحاس. وقال غيره: العامل فيه خبير، وقيل العامل
فيه محذوف هو أذكر. وقال أبو البقاء: العامل فيه ما دل عليه الكلام: أي تتفاوتون يوم يجمعكم. قرأ الجمهور
236

" يجمعكم " بفتح الياء وضم العين، وروى عن أبي عمرو إسكانها، ولا وجه لذلك إلا التخفيف وإن لم يكن هذا
موضعا له كما قرئ في - وما يشعركم - بسكون الراء، وكقول الشاعر: فاليوم أشرب غير مستحقب * إثما من الله ولا واغل
بإسكان باء أشرب، وقرأ زيد بن علي والشعبي ويعقوب ونصر وابن أبي إسحاق والجحدري " نجمعكم "
بالنون، ومعنى (ليوم الجمع) ليوم القيامة فإنه يجمع فيه أهل المحشر للجزاء، ويجمع فيه بين كل عامل وعمله،
وبين كل نبي وأمته، وبين كل مظلوم وظالمه (ذلك يوم التغابن) يعنى أن يوم القيامة هو يوم التغابن، وذلك أنه
يغبن فيه بعض أهل المحشر بعضا، فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، ويغبن فيه أهل الإيمان أهل الكفر وأهل
الطاعة أهل المعصية، ولا غبن أعظم من غبن أهل الجنة أهل النار عند دخول هؤلاء الجنة وهؤلاء النار، فنزلوا
منازلهم التي كانوا سينزلونها لو لم يفعلوا ما يوجب النار، فكأن أهل النار استبدلوا الخير بالشر والجيد بالردئ
والنعيم بالعذاب، وأهل الجنة على العكس من ذلك. يقال غبنت فلانا: إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه
والغلبة، كذا قال المفسرون، فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا نكفر عنه
سيئاته) أي من وقع منه التصديق مع العمل الصالح استحق تكفير سيئاته، قرأ الجمهور " يكفر " (ويدخله)
بالتحتية، وقرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما، وانتصاب (خالدين فيها أبدا) على أنها حال مقدرة، والإشارة
بقوله (ذلك) إلى ما ذكر من التكفير والإدخال، وهو مبتدأ وخبره الفوز العظيم) أي الظفر الذي لا يساويه ظفر.
(والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير) المراد بالآيات إما التنزيلية أو ما هو
أعم منها، ذكر سبحانه حال السعداء وحال الأشقياء ها هنا لبيان ما تقدم من التغابن، وأنه سيكون بسبب التكفير
وإدخال الجنة للطائفة الأولى، وبسبب إدخال الطائفة الثانية النار وخلودهم فيها (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن
الله) أي ما أصاب كل أحد من مصيبة من المصائب إلا بإذن الله: أي بقضائه وقدره، قال الفراء: إلا بإذن الله:
أي بأمر الله، وقيل إلا بعلم الله. قيل وسبب نزولها أن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله
عن المصائب في الدنيا (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) أي من يصدق ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما قدره الله عليه يهد قلبه
للصبر والرضا بالقضاء. قال مقاتل بن حيان: يهد قلبه عند المصيبة فيعلم أنها من الله فيسلم لقضائه ويسترجع. وقال
سعيد بن جبير: يهد قلبه عند المصيبة فيقول - إنا لله وإنا إليه راجعون - وقال الكلبي: هو إذا ابتلى صبر، وإذا
أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر. قرأ الجمهور " يهد " بفتح الياء وكسر الدال: أي يهده الله، وقرأ قتادة والسلمي
والضحاك وأبو عبد الرحمن بضم الياء وفتح الدال على البناء للمفعول، وقرأ طلحة بن مصرف والأعرج وسعيد بن
جبير وابن هرمز والأزرق " نهد " بالنون، وقرأ مالك بن دينار وعمرو بن دينار وعكرمة " يهدأ " بهمزة ساكنة
ورفع قلبه: أي يطمئن ويسكن (والله بكل شئ عليم) أي بليغ العلم لا تخفى عليه من ذلك خافية (وأطيعوا الله
وأطيعوا الرسول) أي هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله وطاعة رسوله (فإن توليتم) أي أعرضتم عن
الطاعة (فإنما على رسولنا البلاغ المبين) ليس عليه غير ذلك وقد فعل، وجواب الشرط محذوف والتقدير
فلا بأس على الرسول، وجملة (فإنما على رسولنا) تعليل للجواب المحذوف، ثم أرشد إلى التوحيد والتوكل فقال (الله
لا إله إلا هو) أي هو المستحق للعبودية دون غيره فوحدوه ولا تشركوا به (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) أي
يفوضوا أمورهم إليه ويعتمدوا عليه، لا على غيره.
237

وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبيهقي وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قيل له: ما سمعت النبي صلى الله عليه
وآله وسلم يقول في زعموا؟ قال: سمعته يقول: بئس مطية الرجل. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن
المنذر عنه أنه كره زعموا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: يوم التغابن من أسماء
يوم القيامة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه في قوله (ذلك يوم التغابن) قال: غبن أهل الجنة أهل النار،
وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود في قوله (ما أصاب من مصيبة) قال: هي المصيبات تصيب الرجل
فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (يهد قلبه) قال:
يعنى يهد قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
سورة التغابن (14 - 18)
قوله (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم) يعنى أنهم يعادونكم ويشغلونكم عن الخير،
ويدخل في ذلك سبب النزول دخولا أوليا، وهو أن رجالا من مكة أسلموا وأرادوا أن يهاجروا فلم يدعهم
أزواجهم ولا أولادهم، فأمر الله سبحانه بأن يحذروهم فلا يطيعوهم في شئ مما يريدونه منهم مما فيه مخالفة لما
يريده الله، والضمير في (فاحذروهم) يعود إلى العدو، أو إلى الأزواج والأولاد لكن لا على العموم، بل إلى
المتصفين بالعداوة منهم، وإنما جاز جمع الضمير على الوجه الأول، لأن العدو يطلق على الواحد والاثنين والجماعة.
ثم أرشدهم الله إلى التجاوز فقال (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا) أي تعفوا عن ذنوبهم التي ارتكبوها وتتركوا
التثريب عليها وتستروها (فإن الله غفور رحيم) بالغ المغفرة والرحمة لكم ولهم، قيل كان الرجل الذي ثبطه أزواجه
وأولاده عن الهجرة إذا رأى الناس قد سبقوه إليها وفقهوا في الدين هم أن يعاقب أزواجه وأولاده، فأنزل الله
(وإن تعفوا) الآية، والآية تعم وإن كان السبب خاصا كما عرفناك غير مرة. قال مجاهد: والله ما عادوهم في
الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن اتخذوا لهم الحرام فأعطوهم إياه. ثم أخبر الله سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة
فقال (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) أي بلاء واختبار ومحنة يحملونكم على كسب الحرام ومنع حق الله فلا تطيعوهم
في معصية الله (والله عنده أجر عظيم) لمن آثر طاعة الله وترك معصيته في محبة ماله، وولده. ثم أمرهم سبحانه بالتقوى
والطاعة فقال (فاتقوا الله ما استطعتم) أي ما أطقتم وبلغ إليه جهدكم. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه
الآية ناسخة لقوله سبحانه - فاتقوا الله حق تقاته - ومنهم قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد، وقد أوضحنا
الكلام في قوله - فاتقوا الله حق تقاته - ومعنى (واسمعوا وأطيعوا) أي اسمعوا ما تؤمرون به وأطيعوا الأوامر. قال
مقاتل اسمعوا: أي اصغوا إلى ما ينزل عليكم وأطيعوا لرسوله فيما يأمركم وينهاكم. وقيل معنى اسمعوا: اقبلوا
238

ما تسمعون لأنه لا فائدة في مجرد السماع (وأنفقوا خيرا لأنفسكم) أي أنفقوا من أموالكم التي رزقكم الله إياها في
وجوه الخير ولا تبخلوا بها، وقوله (خيرا لأنفسكم) منتصب بفعل مضمر دل عليه أنفقوا، كأنه قال: ائتوا في
الإنفاق خيرا لأنفسكم، أو قدموا خيرا لها، كذا قال سيبويه. وقال الكسائي والفراء: هو نعت لمصدر محذوف:
أي إنفاقا خيرا. وقال أبو عبيدة: هو خبر لكان المقدرة: أي يكن الإنفاق خيرا لكم. وقال الكوفيون: هو
منتصب على الحال، وقيل هو مفعول به لأنفقوا: أي فأنفقوا خيرا. والظاهر: في الآية الإنفاق مطلقا من غير
تقييد بالزكاة الواجبة، وقيل المراد زكاة الفريضة، وقيل النافلة، وقيل النفقة في الجهاد (ومن يوق شح نفسه
فأولئك هم المفلحون) أي ومن يوق شح نفسه فيفعل ما أمر به من الإنفاق ولا يمنعه ذلك منه فأولئك هم الظافرون
بكل خير الفائزون بكل مطلب، وقد تقدم تفسير هذه الآية (إن تقرضوا الله قرضا حسنا) فتصرفون أموالكم في
وجوه الخير بإخلاص نية وطيب نفس (يضاعفه لكم) فيجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وقد
تقدم تفسير هذه الآية واختلاف القراءة في قراءتها في سورة البقرة وسورة الحديد (ويغفر لكم) أي يضم لكم إلى
تلك المضاعفة غفران ذنوبكم (والله شكور حليم) يثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة، ولا يعاجل من عصاه
بالعقوبة (عالم الغيب والشهادة) أي ما غاب وما حضر لا تخفى عليه منه خافية، وهو (العزيز الحكيم) أي الغالب القاهر
ذو الحكمة الباهرة. وقال ابن الأنباري: الحكيم هو المحكم لخلق الأشياء.
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني
والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم
وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) في قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأوا الناس قد فقهوا في الدين
هموا أن يعاقبوهم، فنزلت إلى قوله (فإن الله غفور رحيم). وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن مردويه عن بريدة قال " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب،
فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المنبر
فحملهما واحدا من ذا الشق وواحدا من ذا الشق، ثم صعد المنبر فقال: صدق الله (إنما أموالكم وأولادكم
فتنة)، إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما ". وأخرج ابن
جرير والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يقول الله استقرضت
عبدي فأبى أن يقرضني وشتمني عبدي وهو لا يدري، يقول: وادهراه وادهراه وأنا الدهر، ثم تلا أبو هريرة (إن
تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم) ".
239

تفسير سورة الطلاق
هي إحدى عشرة آية، وقيل اثنتا عشرة
وهي مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس وابن النحاس وابن مردويه والبيهقي عن
ابن عباس قال: نزلت سورة الطلاق بالمدينة.
سورة الطلاق (1 - 5)
قوله (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) نادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولا تشريفا له، ثم خاطبه مع أمته
أو الخطاب له خاصة، والجمع للتعظيم، وأمته أسوته في ذلك، والمعنى: إذا أردتم تطليقهن وعزمتم عليه
(فطلقوهن لعدتهن) أي مستقبلات لعدتهن أو في قبل عدتهن، أو لقبل عدتهن. وقال الجرجاني: إن اللام
في لعدتهن بمعنى في: أي في عدتهن. وقال أبو حيان: هو على حذف مضاف: أي لاستقبال عدتهن، واللام
للتوقيت نحو لقيته لليلة بقيت من شهر كذا، والمراد أن يطلقوهن في طهر لم يقع فيه جماع ثم يتركن حتى تنقضي
عدتهن، فإذا طلقوهن هكذا فقد طلقوهن لعدتهن، وسيأتي بيان هذا من السنة في آخر البحث إن شاء الله
(وأحصوا العدة) أي احفظوها واحفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق حتى تتم العدة: وهي ثلاثة قروء،
240

والخطاب للأزواج، وقيل للزوجات، وقيل للمسلمين على العموم، والأول أولى لأن الضمائر كلها لهم (واتقوا
الله ربكم) فلا تعصوه فيما أمركم ولا تضاروهن (لا تخرجوهن من بيوتهن) أي التي كنا فيها عند الطلاق ما دمن
في العدة، وأضاف البيوت إليهن وهي لأزواجهن لتأكيد النهي، وبيان كمال استحقاقهن للسكنى في مدة
العدة، ومثله قوله - واذكرن ما يتلى في بيوتكن - وقوله - وقرن في بيوتكن - ثم لما نهى الأزواج عن إخراجهن
من البيوت التي وقع الطلاق وهن فيها نهى الزوجات عن الخروج أيضا فقال (ولا يخرجن) أي لا يخرجن من
تلك البيوت ما دمن في العدة إلا لأمر ضروري كما سيأتي بيان ذلك، وقيل المراد لا يخرجن من أنفسهن إلا إذا
أذن لهن الأزواج فلا بأس، والأول أولى (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) هذا الاستثناء هو من الجملة الأولى: أي
لا تخرجوهن من بيوتهن، لا من الجملة الثانية. قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة هنا الزنا،
وذلك أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها. وقال الشافعي وغيره: هي البذاء في اللسان والاستطالة بها على من هو
ساكن معها في ذلك البيت، ويؤيد هذا ما قال عكرمة: إن في مصحف أبي " إلا أن يفحشن عليكم " وقيل المعنى:
إلا أن يخرجن تعديا، فإن خروجهن على هذا الوجه فاحشة، وهو بعيد، والإشارة بقوله (وتلك) إلى ما ذكر
من الأحكام وهو مبتدأ وخبره (حدود الله) والمعنى: أن هذه الأحكام التي بينها لعباده هي حدوده التي حدها لهم
لا يحل لهم أن يتجاوزوها إلى غيرها (ومن يتعد حدود الله) أي يتجاوزها إلى غيرها أو يخل بشئ منها (فقد ظلم
نفسه) بإيرادها مورد الهلاك وأوقعها في مواقع الضرر بعقوبة الله له على مجاوزته لحدوده وتعديه لرسمه، وجملة
(لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها وتعليله. قال القرطبي: قال جميع
المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة، والمعنى: التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث، فإنه
إذا طلق ثلاثا أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع فلا يجد إلى المراجعة سبيلا. وقال مقاتل بعد
ذلك: أي بعد طلقة أو طلقتين أمرا بالمراجعة. قال الواحدي: الأمر الذي يحدث أن يوقع في قلب الرجل المحبة
لرجعتها بعد الطلقة والطلقتين. قال الزجاج: وإذا طلقها ثلاثا في وقت واحد فلا معنى لقوله - لعل الله يحدث
بعد ذلك أمرا - (فإذا بلغن أجلهن) أي قاربن انقضاء أجل العدة وشارفن آخرها (فأمسكوهن بمعروف) أي
راجعوهن بحسن معاشرة ورغبة فيهن من غير قصد إلى مضارة لهن (أو فارقوهن بمعروف) أي اتركوهن حتى
تنقضي عدتهن فيملكن نفوسهن مع إيفائهن بما هو لهن عليكم من الحقوق وترك المضارة لهن (وأشهدوا ذوي
عدل منكم) على الرجعة، وقيل على الطلاق، وقيل عليهما قطعا للتنازع وحسما لمادة الخصومة، والأمر للندب
كما في قوله - وأشهدوا إذا تبايعتم - وقيل إنه للوجوب، وإليه ذهب الشافعي قال: الإشهاد واجب في الرجعة
مندوب إليه في الفرقة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وفي قول للشافعي: إن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر
الحقوق، وروى نحو هذا عن أبي حنيفة وأحمد (وأقيموا الشهادة لله) هذا أمر للشهود بأن يأتوا بما شاهدوا به
تقربا إلى الله، وقد تقدم تفسير هذا في سورة البقرة، وقيل الأمر للأزواج بأن يقيموا الشهادة: أي الشهود عند
الرجعة فيكون قوله (واشهدوا ذوي عدل منكم) أمرا بنفس الإشهاد، ويكون قوله (وأقيموا الشهادة) أمرا بأن
تكون خالصة لله، والإشارة بقوله (ذلكم) إلى ما تقدم من الأمر بالإشهاد وإقامة الشهادة لله، وهو مبتدأ وخبره
(يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) وخص المؤمن بالله واليوم الآخر لأنه المنتفع بذلك دون غيره (ومن
يتقي الله يجعل له مخرجا) أي من يتقي عذاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه والوقوف على حدوده التي حدها
لعباده وعدم مجاوزتها يجعل له مخرجا مما وقع فيه من الشدائد والمحن (ويرزقه من حيث لا يحتسب) أي من وجه
241

لا يخطر بباله ولا يكون في حسابه. قال الشعبي والضحاك: هذا في الطلاق خاصة: أي من طلق كما أمره الله يكن
له مخرج في الرجعة في العدة وأنه يكون كأحد الخطاب بعد العدة. وقال الكلبي: ومن يتق الله بالصبر عند
المصيبة يجعل له مخرجا من النار إلى الجنة. وقال الحسن: مخرجا مما نهى الله عنه. وقال أبو العالية: مخرجا من كل
شئ ضاق على الناس. وقال الحسين بن الفضل: ومن يتق الله في أداء الفرائض يجعل له مخرجا من العقوبة ويرزقه
الثواب من حيث لا يحتسب: أي يبارك له فيما آتاه. وقال سهل بن عبد الله: ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له
مخرجا من عقوبة أهل البدع ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب، وقيل غير ذلك. وظاهر الآية العموم، ولا وجه
للتخصيص بنوع خاص ويدخل ما فيه السياق دخولا أوليا (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) أي ومن وثق بالله
فيما نابه كفاه ما أهمه (إن الله بالغ أمره) قرأ الجمهور " بالغ أمره " بتنوين بالغ ونصب أمره، وقرأ حفص بالإضافة،
وقرأ ابن أبي عبلة وداود بن أبي هند وأبو عمرو في رواية عنه بتنوين بالغ ورفع أمره على أنه فاعل بالغ، أو على
أن أمره مبتدأ مؤخر وبالغ مقدم. قال الفراء في توجيه هذه القراءة: أي أمره بالغ، والمعنى على القراءة
الأولى والثانية: أن الله سبحانه بالغ ما يريده من الأمر لا يفوته شئ ولا يعجزه مطلوب، وعلى القراءة الثالثة: أن
الله نافذ أمره لا يرده شئ. وقرا المفضل " بالغا " بالنصب على الحال ويكون خبر إن قوله (قد جعل الله لكل
شئ قدرا) أي تقديرا وتوقيتا أو مقدرا. فقد جعل سبحانه للشدة أجلا تنتهي إليه، وللرخاء أجلا ينتهي إليه.
وقال السدي: هو قدر الحيض والعدة (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم) وهن الكبار اللاتي قد انقطع
حيضهن وأيسن منه (إن ارتبتم) أي شككتم وجهلتم كيف عدتهن (فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن
لصغرهن وعدم بلوغهن سن المحيض: أي فعدتهن ثلاثة أشهر، وحذف هذا لدلالة ما قبله عليه (وأولات
الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) أي انتهاء عدتهن وضع الحمل، وظاهر الآية أن عدة الحوامل بالوضع سواء
كن مطلقات أو متوفي عنهن، وقد تقدم الكلام في هذا في سورة البقرة مستوفى، وحققنا البحث في هذه الآية
وفي الآية الأخرى - والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا - وقيل معنى
(إن ارتبتم) إن تيقنتم، ورجح ابن جرير أنه بمعنى الشك وهو الظاهر. قال الزجاج: إن ارتبتم في حيضها وقد
انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها. وقال مجاهد: إن ارتبتم: يعني لم تعلموا عدة الآيسة والتي لم تحض
فالعدة هذه. وقيل المعنى: إن ارتبتم في الدم الذي يظهر منها هل هو حيض أم لا بل استحاضة فالعدة ثلاثة أشهر
(ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا) أي من يتقه في امتثال أوامره واجتناب نواهيه يسهل عليه أمره في الدنيا
والآخرة. وقال الضحاك: من يتق الله فليطلق للسنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة. وقال مقاتل: من يتق
الله في اجتناب معاصيه ويجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما ذكر من الأحكام:
أي ذلك المذكور من الأحكام (أمر الله أنزله إليكم) أي حكمه الذي حكم به بين عباده وشرعه الذي شرعه لهم،
ومعنى (أنزله إليكم) أنزله في كتابه على رسوله وبينه لكم وفصل أحكامه وأوضح حلاله وحرامه (ومن يتق الله)
يترك ما لا يرضاه (يكفر عنه سيئاته) التي اقترفها، لأن التقوى من أسباب المغفرة للذنوب (ويعظم له أجرا) أي
يعطه من الأجر في الآخرة أجرا عظيما وهو الجنة.
وقد اخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حفصة فأتت أهلها، فأنزل
الله (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) فقيل له راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من أزواجك
في الجنة. وأخرجه ابن جرير عن قتادة مرسلا. وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة
242

أم ركانة، ثم نكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله ما يغني
عني إلا ما تغني عني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، فأخذت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمية عند
ذلك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: أترون كذا من كذا، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد يزيد: طلقها ففعل، فقال لأبي ركانة ارتجعها، فقال: يا رسول الله إني
طلقتها، قال: قد علمت ذلك فارتجعها، فنزلت (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) " قال الذهبي:
إسناده واه، والخبر خطأ، فإن عبد يزيد لم يدرك الإسلام. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر " أنه
طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ثم قال: ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض وتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل
أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء، وقرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يا أيها النبي إذا طلقتم
النساء فطلقوهن في قبل عدتهن) ". وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن ابن
عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ (فطلقوهن في قبل عدتهن). وأخرج ابن الأنباري عن ابن عمر
أنه قرأ " فطلقوهن لقبل عدتهن ". وأخرج ابن الأنباري وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي
عن مجاهد أنه قرأ كذلك. وأخرج عبد الرزاق وأبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن
مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه قرأ كذلك. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن
ابن مسعود قال: من أراد أن يطلق للسنة كما أمره الله، فليطلقها طاهرا في غير جماع. وأخرج سعيد بن منصور
وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله (فطلقوهن
لعدتهن) قال: طاهرا من غير جماع، وفي الباب أحاديث. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود (وأحصوا
العدة) قال: الطلاق طاهرا في غير جماع. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه وابن
مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر في قوله (ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) قال: خروجها قبل انقضاء
العدة من بيتها هي الفاحشة المبينة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)
قال: الزنا. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه والبيهقي
من طرق عن ابن عباس قال: الفاحشة المبينة أن تبذو المرأة على أهل الرجل، فإذا بذت عليهم بلسانها فقد حل لهم
إخراجها. وأخرج ابن أبي حاتم عن فاطمة بنت قيس في قوله (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) قالت: هي الرجعة.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين أن رجلا سأل عمران بن حصين أن رجلا طلق ولم يشهد، قال: بئس ما صنع،
طلق في بدعة، وارتجع في غير سنة، فيشهد على طلاقه وعلى مراجعته ويستغفر الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن
مسعود في قوله (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) قال: مخرجه أن يعلم أنه من قبل الله، وأن الله هو الذي يعطيه
وهو يمنعه، وهو يبتليه، وهو يعافيه، وهو يدفع عنه، وفي قوله (ويرزقه من حيث لا يحتسب) قال: من
حيث لا يدري. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) قال:
ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة. وأخرج الحاكم وصححه وضعفه الذهبي من طريق سالم بن أبي الجعد عن
جابر قال: " نزلت هذه الآية (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) في رجل من أشجع كان فقيرا خفيف ذات اليد كثير
العيال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال اتق الله واصبر، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ابن له بغنم
كان العدو أصابوه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسأله عنها وأخبره خبرها، فقال: كلها، فنزلت
243

(ومن يتق الله) الآية ". وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال " جاء عوف بن
مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه، فما
تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فقالت المرأة: نعم ما أمرك، فجعلا
يكثران منها، فتغفل عنه العدو، فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه، فنزلت (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) " الآية.
وفي الباب روايات تشهد لهذا. وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة في الآية قالت: يكفيه هم الدنيا وغمها. وأخرج
أحمد وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي عن أبي ذر قال " جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتلو
هذه الآية (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) فجعل يردوها حتى نعست، ثم قال:
يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم " وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله
(ومن يتوكل على الله فهو حسبه) قال: ليس المتوكل الذي يقول تقضي حاجتي وليس كل من يتوكل على الله
كفاه ما أهمه ودفع عنه ما يكره وقضى حاجته، ولكن الله جعل فضل من توكل على من لم يتوكل أن يكفر عنه
سيئاته ويعظم له أجرا، وفي قوله (إن الله بالغ أمره) قال: يقول قاضي أمره على من توكل وعلى من لم يتوكل،
ولكن المتوكل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا، وفي قوله (قد جعل الله لكل شئ قدرا) قال: يعني أجلا ومنتهى
ينتهي إليه. وأخرج ابن المبارك والطيالسي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو يعلي والحاكم
وصححه والبيهقي عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لو أنكم توكلتم على الله حق
توكله لرزقتم كما ترزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا ". وأخرج إسحاق بن راهويه وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي كعب أن ناسا من أهل المدينة لما نزلت
هذه الآية في البقرة في عدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكر في القرآن الصغار والكبار اللاتي
قد انقطع حيضهن وذوات الحمل، فأنزل الله (واللائي يئسن من المحيض) الآية. وأخرج عبد الله بن أحمد في
زوائد المسند وأبو يعلي والضياء في المختارة وابن مردويه عن أبي كعب قال: " قلت للنبي صلى الله عليه وآله
وسلم (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) أهي المطلقة ثلاثا، أو المتوفي عنها؟ قال: هي المطلقة ثلاثا
والمتوفى عنها ". وأخرج نحوه عنه مرفوعا ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والدارقطني من وجه آخر.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن مسعود أنه بلغه أن عليا قال: تعتد آخر الأجلين، فقال:
من شاء لاعنته إن الآية في سورة النساء القصرى نزلت بعد سورة البقرة (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن
حملهن) بكذا وكذا أشهرا، وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها. وروى نحو هذا عنه من
طرق وبعضها في صحيح البخاري. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أم سلمة: أن سبيعة الأسلمية
توفى عنها زوجها وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم. وفي الباب أحاديث.
سورة الطلاق (6 - 7)
244

قوله (أسكنوهن من حيث سكنتم) هذا كلام متبدأ يتضمن بيان ما يجب للنساء من السكنى، ومن للتبعيض:
أي بعض مكان سكناكم، وقيل زائدة (من وجدكم) أي من سعتكم وطاقتكم، والوجد القدرة. قال الفراء:
يقول على ما يجد، فإن كان موسعا عليه وسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. قال
قتادة: إن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه.
وقد اختلف أهل العلم في المطلقة ثلاثا، هل لها سكنى ونفقة أم لا؟ فذهب مالك والشافعي أن لها السكنى ولا
نفقة لها. وذهب أبو حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة. وذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور أنه لا نفقة لها ولا
سكنى، وهذا هو الحق، وقد قررته في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره (ولا تضاروهن لتضيقوا
عليهن) نهى سبحانه عن مضارتهن بالتضييق عليهن في المسكن والنفقة. وقال مجاهد: في المسكن. وقال مقاتل:
في النفقة. وقال أبو الضحى: هو أن يطلقها، فإذا بقي يومان من عدتها راجعها، ثم طلقها (وإن كن أولات
حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) أي إلى غاية هي وضعهن للحمل. ولا خلاف بين العلماء في وجوب
النفقة، والسكنى للحامل المطلقة، فأما الحامل المتوفى عنها زوجها، فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح
والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان وأصحابه: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع. وقال ابن عباس
وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه: لا ينفق عليها إلا من نصيبها، وهذا هو الحق
للأدلة الواردة في ذلك من السنة (فإن أرضعن لكم) أولادكم بعد ذلك (فآتوهن أجورهن) أي أجور إرضاعهن
والمعنى: أن المطلقات إذا أرضعن أولاد الأزواج المطلقين لهن منهن فلهن أجورهن على ذلك (وأتمروا بينكم
بمعروف) هو خطاب للأزواج والزوجات: أي تشاوروا بينكم بما هو معروف غير منكر وليقبل بعضكم من
بعض من المعروف والجميل، وأصل معناه ليأمر بعضكم بعضا بما هو متعارف بين الناس غير منكر عندهم. قال
مقاتل: المعنى ليتراض الأب والأم على أجر مسمى، قيل والمعروف الجميل، من الزوج أن يوفر لها الأجر،
والمعروف الجميل منها أن لا تطلب ما يتعاسره الزوج من الأجر (وإن تعاسرتم) أي في أجر الرضاع فأبى الزوج أن
يعطى الأم الأجر وأبت الأم أن ترضعه إلا بما تريد من الأجر (فسترضع له أخرى) أي يستأجر مرضعة أخرى
ترضع ولده، ولا يجب عليه أن يسلم ما تطلبه الزوجة، ولا يجوز له أن يكرهها على الإرضاع بما يريد من الأجر.
قال الضحاك: إن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر (لينفق
ذو سعة من سعته) فيه الأمر لأهل السعة بأن يوسعوا على المرضعات من نسائهم على قدر سعتهم (ومن قدر عليه
رزقه) أي كان رزقه بمقدار القوت، أو مضيق ليس بموسع (فلينفق مما آتاه الله) أي مما أعطاه من الرزق ليس
عليه غير ذلك (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) أي ما أعطاها من الرزق، فلا يكلف الفقير بأن ينفق ما ليس في
وسعه، بل عليه ما يقدر عليه وتبلغ إليه طاقته مما أعطاه الله من الرزق (سيجعل الله بعد عسر يسرا) أي بعد ضيق
وشده وسعة وغنى.
245

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (من وجدكم) قال: من سعتكم (ولا تضاروهن لتضيقوا
عليهن) قال في المسكن. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله (وإن كن أولات حمل) الآية، قال: فهذه في المرأة يطلقها
زوجها وهي حامل، فأمره الله أن يسكنها وينفق عليها حتى تضع، وإن أرضعت حتى تفطم، فإن أبان طلاقها
وليس بها حمل فلها السكنى حتى تنقضي عدتها ولا نفقة لها. وأخرج عبد بن حميد عن أبي سنان قال: سألت عمر بن
الخطاب عن أبي عبيدة، فقيل إنه يلبس الغليظ من الثياب ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال
لرسول: انظر ماذا يصنع بها إذا أخذها؟ فما لبث أن لبس ألين الثياب، وأكل أطيب الطعام، فجاء الرسول
فأخبره، فقال: رحمه الله تأول هذه الآية (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله).
سورة التغابن الآية 8 - 12
لما ذكر سبحانه ما تقدم من الأحكام، حذر من مخالفتها، وذكر عتو قوم خالفوا أوامره، فحل بهم
عذابه فقال (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله) يعني عصت، والمراد أهلها، والمعنى: وكم من أهل
قرية عصوا أمر الله ورسله، أو أعرضوا عن أمر الله ورسله على تضمين عتت معنى أعرضت، وقد قدمنا الكلام
في كأين في سورة آل عمران وغيرها (فحاسبناها حسابا شديدا) أي شددنا على أهلها في الحساب بما عملوا. قال
مقاتل: حاسبها الله بعملها في الدنيا فجازاها بالعذاب، وهو معنى قوله (وعذبناها عذابا نكرا) أي عذبنا أهلها
عذابا عظيما منكرا في الآخرة، وقيل في الكلام تقديم وتأخير: أي عذبنا أهلها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط
والسيف والخسف والمسخ، وحاسبناهم في الآخرة حسابا شديدا. والنكر المنكر (فذاقت وبال أمرها) أي عاقبة
كفرها (وكان عاقبة أمرها خسرا) أي هلاكا في الدنيا وعذابا في الآخرة (أعد الله لهم عذابا شديدا) في الآخرة،
وهو عذاب النار، والتكرير للتأكيد (فاتقوا الله يا أولى الألباب) أي يا أولى العقول الراجحة، وقوله (الذين
آمنوا) في محل نصب بتقدير: أعني بيانا للمنادي بقوله (يا أولى الألباب) أو عطف بيان له، أو نعت (قد أنزل
الله إليكم ذكرا رسولا) قال الزجاج: إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل: أي أنزل إليكم قرآنا وأرسل إليكم
رسولا، وقال أبو علي الفارسي: إن رسولا منصوب بالمصدر، وهو ذكرا، لأن المصدر المنون يعمل. والمعنى:
أنزل إليكم ذكر الرسول. وقيل إن رسولا بدل من ذكرا، وكأنه جعل الرسول نفس الذكر مبالغة. وقيل إنه يدل
246

منه على حذف مضاف من الأول تقديره: أنزل ذا ذكر رسولا، أو صاحب ذكر رسولا. وقيل إن رسولا نعت
على حذف مضاف: أي ذكرا ذا رسول، فذا رسول نعت للذكر. وقيل إن رسولا بمعنى رسالة، فيكون رسولا
بدلا صريحا من غير تأويل، أو بيانا. وقيل إن رسولا منتصب على الإغراء، كأنه قال: ألزموا رسولا. وقيل إن
الذكر هاهنا بمعنى الشرف كقوله - لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم - وقوله - وإنه لذكر لك ولقومك -. ثم
بين هذا الشرف فقال (رسولا) وقد ذهب الأكثر إلى أن المراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم،
وقال الكلبي: هو جبريل، والمراد بالذكر القرآن، ويختلف المعنى باختلاف وجوه الإعراب السابقة كما لا يخفى.
ثم نعت سبحانه الرسول المذكور بقوله (يتلوا عليكم آيات الله مبينات) أي حال كونها مبينات، قرأ الجمهور
" مبينات " على صيغة اسم المفعول: أي بينها الله وأوضحها، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي على صيغة اسم
الفاعل: أي الآيات تبين للناس ما يحتاجون إليه من الأحكام. ورجح القراءة الأولى أبو حاتم وأبو عبيد لقوله
" قد بينا لكم الآيات " (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور) اللام متعلقة بيتلو: أي
ليخرج الرسول الذي يتلو الآيات الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية، ويجوز أن
تتعلق اللام بأنزل، فيكون المخرج هو الله سبحانه (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا) أي يجمع بين التصديق،
والعمل بما فرضه الله عليه مع اجتناب ما نهاه عنه (ندخله جنات تجري من تحتها الأنهار) قرأ الجمهور " يدخله "
بالتحتية، وقرأ نافع وابن عامر بالنون: وجمع الضمير في (خالدين فيها أبدا) باعتبار معنى من، ووحده في يدخله
باعتبار لفظها، وجملة (قد أحسن الله له رزقا) في محل نصب على الحال من الضمير في خالدين على التداخل، أو
من مفعول يدخله على الترادف، ومعنى (قد أحسن الله له رزقا) أي وسع له رزقه في الجنة (الله الذي خلق سبع
سماوات) الاسم الشريف مبتدأ وخبره الموصول مع صلته (ومن الأرض مثلهن) أي وخلق من الأرض مثلهن
يعنى سبعا.
واختلف في كيفية طبقات الأرض. قال القرطبي في تفسيره: واختلف فيهن على قولين: أحدهما وهو قول
الجمهور أنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض، وفي
كل أرض سكان من خلق الله. وقال الضحاك: إنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السماوات.
والأول أصح، لأن الأخبار دالة عليه في الترمذي والنسائي وغيرهما. وقد مضى ذلك مبينا في البقرة قال: وفي
صحيح مسلم عن سعيد بن زيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول " من أخذ شبرا من الأرض ظلما
فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين " إلى آخر كلامه، وسيأتي في آخر البحث ما يقوى قول الجمهور. قرأ
الجمهور " مثلهن " بالنصب عطفا على " سبع سماوات " أو على تقدير فعل: أي وخلق من الأرض مثلهن. وقرأ
عاصم في رواية عنه بالرفع على الابتداء، والجار والمجرور قبله خبره (يتنزل الأمر بينهن) الجملة مستأنفة، ويجوز
أن تكون صفة لما قبلها، والأمر الوحي. قال مجاهد: يتنزل الأمر من السماوات السبع إلى السبع الأرضين. وقال
الحسن: بين كل سماء وبين الأرض. وقال قتادة: في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه
وأمر من أمره وقضاء من قضائه، وقيل بينهن إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أدناها، وبين السماء
السابعة التي هي أعلاها، وقيل هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره، فينزل المطر ويخرج النبات، ويأتي بالليل
والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها فينقلهم من حال إلى حال. قال ابن
كيسان: وهذا هو مجال اللغة واتساعها كما يقال للموت: أمر الله وللريح والسحاب ونحوها. قرأ الجمهور
247

" يتنزل الأمر " من التنزل ورفع الأمر على الفاعلية، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه " ينزل " من الإنزال، ونصب
الأمر على المفعولية والفاعل الله سبحانه، واللام في (لتعلموا أن الله على كل شئ قدير) متعلق بخلق، أو بيتنزل
أو بمقدر: أي فعل ذلك لتعلموا كمال قدرته وإحاطته بالأشياء، وهو معنى (وأن الله قد أحاط بكل شئ علما)
فلا يخرج عن علمه شئ منها كائنا ما كان، وانتصاب علما على المصدرية، لأن أحاط بمعنى علم، أو هو صفة
لمصدر محذوف: أي أحاط إحاطة علما، ويجوز أن يكون تمييزا.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (فحاسبناها حسابا شديدا) يقول: لم ترحم (وعذبناها عذابا
نكرا) يقول: عظيما منكرا. وأخرج ابن مردويه عنه (قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا) قال: محمدا صلى الله عليه
وآله وسلم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال له رجل (الله الذي
خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) إلى آخر السورة، فقال ابن عباس: ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر؟
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الضحى عن ابن عباس في
قوله (ومن الأرض مثلهن) قال: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح،
وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى. قال البيهقي: هذا إسناده صحيح، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه
متابعا. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" إن الأرضيين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام. والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء
والحوت على صخرة، والصخرة بيد ملك. والثانية مسجن الريح، فلما أراد الله أن يهلك عادا أمر خازن الريح أن
يرسل عليهم ريحا يهلك عادا، فقال: يا رب أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور؟ فقال له الجبار: إذن تكفأ
الأرض ومن عليها، ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم فهي التي قال الله في كتابه - ما تذر من شئ أتت عليه إلا
جعلته كالرميم - والثالثة فيها حجارة جهنم، والرابعة فيها كبريت جهنم، فقالوا: يا رسول الله للنار كبريت؟ قال:
نعم والذي نفسي بيده، إن فيها لأدوية من كبريت لو أرسل فيها الجبال الرواسي لماعت " إلى آخر الحديث. قال
الذهبي متعقبا للحاكم: هو حديث منكر. وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن عباس قال: سيد السماوات
السماء التي فيها العرش، وسيد الأرضين الأرض التي نحن فيها.
248

تفسير سورة التحريم
هي اثنتا عشرة آية
وهي مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع، وتسمى سورة النبي. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن
مردويه عن ابن عباس قال نزلت سورة التحريم بالمدينة، ولفظ ابن مردويه سورة المحرم. وأخرج ابن مردويه عن
ابن الزبير قال: أنزلت بالمدينة سورة النساء (يا أيها النبي لم تحرم).
سورة التحريم (1 - 5)
قوله (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) اختلف في سبب نزول الآية على أقوال: الأول قول أكثر
المفسرين. قال الواحدي: قال المفسرون: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيت حفصة فزارت أباها،
فلما رجعت أبصرت مارية في بيتها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت،
فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجه حفصة الغيرة والكآبة قال لها: لا تخبري عائشة ولك على أن
لا أقربها أبدا، فأخبرت حفصة عائشة وكانتا متصافيتين، فغضبت عائشة ولم تزل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم
حتى حلف أن لا يقرب مارية، فأنزل الله هذه السورة. قال القرطبي: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في
حفصة، وذكر القصة. وقيل السبب أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش،
فتواطأت عائشة وحفصة أن تقولا له إذا دخل عليهما إنا نجد منك ريح مغافير. وقيل السبب المرأة التي وهبت
نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وسيأتي دليل هذه الأقوال آخر البحث إن شاء الله وستعرف كيفية الجمع
بينهما، وجملة (تبتغي مرضات أزواجك) مستأنفة، أو مفسرة لقوله " تحرم "، أو في محل نصب على الحال من
فاعل تحرم: أي مبتغيا به مرضاة أزواجك، ومرضاة اسم مصدر، وهو الرضى، وأصله مرضوة، وهو مضاف
249

إلى المفعول: أي أن ترضى أزواجك، أو إلى الفاعل: أي أن يرضين هن (والله غفور رحيم) أي بليغ المغفرة
والرحمة لما فرط منك من تحريم ما أحل الله لك، قيل وكان لك ذنبا من الصغائر، فلذا عاتبه الله عليه، وقيل إنها
معاتبة على ترك الأولى (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) أي شرع لكم تحليل أيمانكم وبين لكم ذلك، وتحلة أصلها
تحللة، فأدغمت. وهي من مصادر التفعيل كالتوصية والتسمية، فكأن اليمين عقد، والكفارة حل، لأنها تحل
للحالف ما حرمه على نفسه. قال مقاتل: المعنى قد بين الله كفارة أيمانكم في سورة المائدة. أمر الله نبيه صلى الله
عليه وآله وسلم أن يكفر يمينه ويراجع وليدته فأعتق رقبة. قال الزجاج: وليس لأحد أن يحرم ما أحل الله.
قلت: وهذا هو الحق أن تحريم ما أحل الله لا ينعقد ولا يلزم صاحبه. فالتحليل والتحريم هو إلى الله سبحانه
لا إلى غيره، ومعاتبته لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه السورة أبلغ دليل على ذلك، والبحث طويل والمذاهب
فيه كثيرة والمقالات فيه طويلة، وقد حققناه في مؤلفاتنا بما يشفى.
واختلف العلماء هل مجرد التحريم يمين يوجب الكفارة أم لا؟ وفي ذلك خلاف، وليس في الآية ما يدل
على أنه يمين، لأن الله سبحانه عاتبه على تحريم ما أحله له، ثم قال (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) وقد
ورد في القصة التي ذهب أكثر المفسرين إلى أنها هي سبب نزول الآية أنه حرم أولا ثم حلف ثانيا كما قدمنا (والله
مولاكم) أي وليكم وناصركم والمتولي لأموركم (وهو العليم) بما فيه صلاحكم وفلا حكم (الحكيم) في أفعاله وأقواله
(وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا) قال أكثر المفسرين: هي حفصة كما سبق، والحديث هو تحريم مارية،
أو العسل، أو تحريم التي وهبت نفسها له، والعامل في الظرف فعل مقدر: أي واذكر إذ أسر. وقال الكلبي:
الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي (فلما نبأت به) أي أخبرت به غيرها
(وأظهره الله عليه) أي أطلع الله نبيه على ذلك الواقع منها من الإخبار لغيرها (عرف بعضه) أي عرف حفصة
بعض ما أخبرت به. قرأ الجمهور " عرف " مشددا من التعريف، وقرأ علي وطلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن
السلمي والحسن وقتادة والكسائي بالتخفيف. واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الأولى لقوله (وأعرض عن
بعض) أي لم يعرفها إياه، ولو كان مخففا لقال في ضده: وأنكر بعضا (وأعرض عن بعض) أي وأعرض عن
تعريف بعض ذلك كراهة أن ينتشر في الناس، وقيل الذي أعرض عنه هو حديث مارية. وللمفسرين ها هنا خبط
وخلط، وكل جماعة منهم ذهبوا إلى تفسير التعريف والإعراض بما يطابق بعض ما ورد في سبب النزول،
وسنوضح لك ذلك إن شاء الله (فلما نبأها به) أي أخبرها بما أفشت من الحديث (قالت من أنبأك هذا) أي من
أخبرك به (قال نبأني العليم الخبير) أي أخبرني الذي لا تخفى عليه خافية (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما)
الخطاب لعائشة وحفصة: أي إن تتوبا إلى الله فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، ومعنى (صغت) عدلت ومالت
عن الحق، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو إفشاء الحديث. وقيل المعنى: إن
تتوبا إلى الله فقد مالت قلوبكما إلى التوبة، وقال قلوبكما ولم يقل قلبا كما لأن العرب تستكره الجمع بين تثنيتين في
لفظ واحد (وإن تظاهرا عليه) أي تتظاهرا، قرأ الجمهور " تظاهرا " بحذف إحدى التاءين تخفيفا. وقرأ عكرمة
" تتظاهرا " على الأصل. وقرأ الحسن وأبو رجاء ونافع وعاصم في رواية عنهما " تظهرا " بتشديد الظاء والهاء
بدون ألف، والمراد بالتظاهر التعاضد والتعاون، والمعنى: وإن تعاضدا وتعاونا في الغيرة عليه منكما وإفشاء سره
250

(فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) أي فإن الله يتولى نصره، وكذلك جبريل ومن صلح من عباده
المؤمنين فلن يعدم ناصرا بنصره (والملائكة بعد ذلك) أي بعد نصر الله له ونصر جبريل وصالح المؤمنين (ظهير)
أي أعوان يظاهرونه، والملائكة مبتدأ وخبره ظهير. قال أبو علي الفارسي: قد جاء فعيل للكثرة كقوله - ولا
يسأل حميم حميما - قال الواحدي: وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع كقوله - وحسن أولئك رفيقا - وقد
تقرر في علم النحو أن مثل جريح وصبور وظهير يوصف به الواحد والمثنى والجمع. وقيل كان التظاهر بين
عائشة وحفصة في التحكم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النفقة (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا
خيرا منكن) أي يعطيه بدلكن أزواجا أفضل منكن، وقد علم الله سبحانه أنه لا يطلقهن، ولكن أخبر عن
قدرته على أنه إن وقع منه الطلاق أبدله خيرا منهن تخويفا لهن، وهو كقوله - وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم -
فإنه إخبار عن القدرة وتخويف لهم. ثم نعت سبحانه الأزواج بقوله (مسلمات مؤمنات) أي قائمات بفرائض
الإسلام مصدقات بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره. وقال سعيد بن جبير: مسلمات أي مخلصات
وقيل معناه: مسلمات لأمر الله ورسوله (قانتات) مطيعات لله. والقنوت الطاعة، وقيل مصليات (تائبات)
يعني من الذنوب (عابدات) لله متذللات له. قال الحسن وسعيد بن جبير: كثيرات العبادة (سائحات) أي
صائمات. وقال زيد بن أسلم: مهاجرات، وليس في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سياحة إلا الهجرة. قال
ابن قتيبة والفراء وغيرهما: وسمى الصيام سياحة لأن السائح لا زاد معه. وقيل المعنى: ذاهبات في طاعة الله،
من ساح الماء إذا ذهب، وأصل السياحة الجولان في الأرض، وقد مضى الكلام على السياحة في سورة براءة
(ثيبات وأبكارا) وسط بينهما العاطف لتنافيهما، والثيبات: جمع ثيب، وهي المرأة التي قد تزوجت ثم ثابت عن
زوجها فعادت كما كانت غير ذات زوج. والأبكار جمع بكر، وهي العذراء، سميت بذلك لأنها على أول حالها
التي خلقت عليه.
وقد أخرج البخاري وغيره عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يمكث عند زينب بنت
جحش ويشرب عندها لبنا أو عسلا، فتواصيت أنا وحفصة إن أتينا دخل عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فلتقل إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: لا بل شربت عسلا عند زينب
بنت جحش ولن أعود، فنزلت (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) إلى قوله (إن تتوبا إلى الله) لعائشة
وحفصة (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا) لقوله: بل شربت عسلا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم
والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند صحيح عن ابن عباس قال " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
شرب من شراب عند سودة من العسل، فدخل على عائشة فقالت: إني أجد منك ريحا، فدخل على حفصة
فقالت: إني أجد منك ريحا، فقال: أراه من شراب شربته عند سودة، والله لا أشربه أبدا، فأنزل الله (يا أيها
النبي لم تحرم) الآية ". وأخرج بن سعد عن عبد الله بن رافع قال: سألت أم سلمة عن هذه الآية (يا أيها النبي
لم تحرم) قالت: كانت عندي عكة من عسل أبيض، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلعق منها وكان يحبه،
فقالت له عائشة: نحلها تجرس عرفطا فحرمها، فنزلت الآية. وأخرج النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عن
أنس: " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل عائشة وحفصة حتى جعلها على
نفسه حراما، فأنزل الله هذه الآية (يا أيها النبي لم تحرم) " وأخرج البزار والطبراني قال السيوطي: بسند صحيح عن
ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب: من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ قال: عائشة وحفصة، وكان بدو الحديث
251

في شأن مارية القبطية أم إبراهيم أصابها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيت حفصة في يومها، فوجدت حفصة
فقالت: يا رسول الله لقد جئت إلى بشئ ما جئته إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري على فراشي، قال
ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها أبدا؟ قالت: بلى، فحرمها وقال: لا تذكري ذلك لأحد، فذكرته لعائشة
فأظهره الله عليه، فأنزل الله (يا أيها النبي لم تحرم) الآيات كلها، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كفر عن يمينه وأصاب مارية. وأخرجه ابن سعد وابن مردويه عنه بأطول من هذا. وأخرجه ابن مردويه أيضا
من وجه آخر عنه بأخصر منه، وأخرجه ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عنه مختصرا بلفظ قال: حرم سريته
وجعل ذلك سبب النزول في جميع ما روى عنه من هذه الطرق، وأخرج الهيثم بن كليب في مسنده والضياء
المقدسي في المختارة من طريق نافع عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحفصة لا تحدثي أحدا،
وإن أم إبراهيم على حرام، فقالت: أتحرم ما أحل الله لك؟ قال: فوالله لا أقربها، فلم يقربها حتى أخبرت
عائشة، فأنزل الله (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي هريرة أن
سبب نزول الآية تحريم مارية كما سلف، وسنده ضعيف. فهذان سببان صحيحان لنزول الآية، والجمع ممكن
بوقوع القصتين: قصة العسل، وقصة مارية، وأن القرآن نزل فيهما جميعا، وفي كل واحد منهما أنه أسر الحديث
إلى بعض أزواجه. وأما ما قيل من أن السبب هو تحريم المرأة التي وهبت نفسها، فليس في ذلك إلا ما روى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) في المرأة التي
وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال السيوطي: وسنده ضعيف. ويرد هذا أيضا أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم لم يقبل تلك الواهبة لنفسها، فكيف يصح أن يقال إنه نزل في شأنها (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل
الله لك) فإن من رد ما وهب له لم يصح أن يقال إنه حرمه على نفسه، وأيضا لا ينطبق على هذا السبب قوله (وإذ
أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا) إلى آخره ما حكاه الله. وأما ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن ابن عباس سأل
عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره أنهما عائشة وحفصة،
ثم ذكر قصة الإيلاء كما في الحديث الطويل، فليس في هذا نفي لكون السبب هو ما قدمناه من قصة العسل وقصة
السرية، لأنه إنما أخبره بالمتظاهرتين، وذكر فيه أن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يراجعنه وتهجره إحداهن
اليوم إلى الليل، وأن ذلك سبب الاعتزال لا سبب نزول (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك). ويؤيد هذا
ما قدمنا عن ابن عباس أنه قال لعمر من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ فأخبره بأنهما حفصة وعائشة، وبين له أن السبب
قصة مارية. هذا ما تيسر من تلخيص سبب نزول الآية، ودفع الاختلاف في شأنه فاشدد عليه يديك لتنجو به من
الخبط والخلط الذي وقع للمفسرين. وأخرج عبد الرزاق والبخاري وابن مردويه عن ابن عباس قال: في الحرام
يكفر، وقال - لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة -. وأخرج ابن المنذر والطبراني والحاكم وابن مردويه عنه
أنه جاءه رجل فقال: إني جعلت امرأتي على حراما، فقال كذبت ليست عليك بحرام، ثم تلا (لم تحرم ما أحل
الله لك) قال: عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة. وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن عائشة قالت " لما حلف
أبو بكر أن لا ينفق على مسطح، فأنزل الله (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) فأحل يمينه وأنفق عليه ". وأخرج
ابن عدي وابن عساكر عن عائشة في قوله (وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا) قالت: أسر إليها أن أبا بكر
خليفتي من بعدي. وأخرج ابن عدي وأبو نعيم في الصحابة والعشاري في فضائل الصديق وابن مردويه وابن
عساكر من طرق عن علي وابن عباس قال: والله إن إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب (وإذا أسر النبي إلى بعض
252

أزواجه حديثا) قال لحفصة: أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي، فإياك أن تخبري أحدا بهذا. قلت: وهذا
ليس فيه أنه سبب نزول قوله (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) بل فيه أن الحديث الذي أسره صلى الله عليه
وآله وسلم هو هذا، فعلى فرض أن له إسنادا يصلح للاعتبار هو معارض بما سبق من تلك الروايات الصحيحة،
وهي مقدمة عليه ومرجحة بالنسبة إليه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (فقد صغت
قلوبكما) قال: زاغت وأثمت. وأخرج ابن المنذر عنه قال: مالت. وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن
بريدة عن أبيه في قوله (وصالح المؤمنين) قال: أبو بكر وعمر. وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود مثله.
وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في فضائل الصحابة من وجه آخر عنه مثله. وأخرج ابن مردويه عن ابن
عمر وابن عباس مثله. وأخرج الحاكم عن أبي أمامة مرفوعا مثله. وأخرج ابن أبي حاتم. قال السيوطي بسند
ضعيف عن علي مرفوعا قال: هو علي بن أبي طالب. وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (وصالح المؤمنين) علي بن أبي طالب ". وأخرج ابن مردويه وابن عساكر
عن ابن عباس في قوله (وصالح المؤمنين) قال: هو علي بن أبي طالب. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن بريدة
في قوله (ثيبات وأبكارا) قال: وعد الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه أن يزوجه بالثيب آسية امرأة
فرعون، وبالبكر مريم بنت عمران.
سورة التحريم (6 - 8)
قوله (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم) بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه (وأهليكم) بأمرهم بطاعة الله
ونهيهم عن معاصيه (نارا وقودها الناس والحجارة) أي نارا عظيمة تتوقد بالناس وبالحجارة كما يتوقد غيرها
بالحطب، وقد تقدم بيان هذا في سورة البقرة. قال مقاتل بن سليمان: المعنى قوا أنفسكم وأهليكم بالأدب الصالح
النار في الآخرة. وقال قتادة ومجاهد: قو أنفسكم بأفعالكم، وقوا أهليكم بوصيتكم. قال ابن جرير: فعلينا أن
نعلم أولادنا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب، ومن هذا قوله - وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها -
وقوله - وأنذر عشيرتك الأقربين - (عليها ملائكة غلاظ شداد) أي على النار خزنة من الملائكة يلون أمرها وتعذيب
أهلها غلاظ على أهل النار شداد عليهم لا يرحمونهم إذا استرحموهم، لأن الله سبحانه خلقهم من غضبه وحبب إليهم
تعذيب خلقه، وقيل المراد غلاظ القلوب شداد الأبدان، وقيل غلاظ الأقوال شداد الأفعال، وقيل الغلاظ
ضخام الأجسام، والشداد الأقوياء (لا يعصون الله ما أمرهم) أي لا يخافونه في أمره، و " ما " في (ما أمرهم)
253

يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف: أي لا يعصون الله الذي أمرهم به، ويجوز أن تكون مصدرية: أي
لا يعصون الله أمره على أن يكون ما أمرهم بدل اشتمال من الاسم الشريف، أو على تقدير نزع الخافض: أي
لا يعصون الله في أمره (ويفعلون ما يؤمرون) أي يؤدونه في وقته من غير تراخ لا يؤخرونه عنه ولا يقدمونه
(يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم) أي يقال لهم هذا القول عند إدخالهم النار تأبيسا لهم وقطعا لأطماعهم (إنما
تجزون ما كنتم تعملون) من الأعمال في الدنيا، ومثل هذا قوله - فاليوم لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم
يستعتبون - (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) أي تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب عنه، وصفت
بذلك على الإسناد المجازي، وهو في الأصل وصف للتائبين أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم بالعزم على الترك للذنب
وترك المعاودة له.
والتوبة فرض على الأعيان. قال قتادة: التوبة النصوح الصادقة، وقيل الخالصة. وقال الحسن: التوبة
النصوح: أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره. وقال الكلبي: التوبة النصوح الندم بالقلب،
والاستغفار باللسان، والإقلاع بالبدن، والاطمئنان على أن لا يعود. وقال سعيد بن جبير: هي التوبة المقبولة.
قرأ الجمهور " نصوحا " بفتح النون على الوصف للتوبة: أي توبة بالغة في النصح، وقرأ الحسن وخارجة وأبو بكر
عن عاصم بضمها: أي توبة نصح لأنفسكم، ويجوز أن يكون جمع ناصح، وأن يكون مصدرا: يقال نصح
نصاحة ونصوحا. قال المبرد: أراد توبة ذات نصح (عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري
من تحتها الأنهار) بسبب تلك التوبة، وعسى وإن كان أصلها للإطماع فهي من الله واجبة، لأن التائب من
الذنب كمن لا ذنب له، ويدخلكم معطوف على يكفر منصوب بناصبه وبالنصب قرأ الجمهور، وقرئ بالجزم
عطفا على محل عسى كأنه قال: توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم (يوم لا يخزي الله النبئ) الظرف متعلق
بيدخلكم: أي يدخلكم يوم لا يخزي الله النبي (والذين آمنوا معه) والموصول معطوف على النبي، وقيل الموصول
مبتدأ وخبره (نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم) والأول أولى وتكون جملة (نورهم يسعى) في محل نصب على
الحال أو مستأنفة لبيان حالهم، وقد تقدم في سورة الحديد أن النور يكون معهم حال مشيهم على الصراط، وجملة
(يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شئ قدير) في محل نصب على الحال أيضا، وعلى الوجه
الآخر تكون خبرا آخر، وهذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين كما تقدم بيانه وتفصيله.
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه
عن علي بن أبي طالب في قوله (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) قال: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال: اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أهلكم
بالذكر ينجيكم الله من النار. وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال: أدبوا أهليكم. وأخرج عبد الله بن أحمد في
زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني قال: بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكب أحدهم مسيرة مائة خريف ليس
في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب، يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحنا من لدن قرنه إلى
قدمه. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد وابن منيع وعبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير أن عمر
ابن الخطاب سئل عن التوبة النصوح، قال: أن يتوب الرجل من العمل السئ ثم لا يعود إليه أبدا. وأخرج أحمد
254

وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " التوبة من الذنب أن يتوب
منه ثم لا يعود إليه أبدا " وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري، وهو ضعيف، والصحيح الموقوف كما أخرجه
موقوفا عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود
قال: التوبة النصوح تكفر كل سيئة، وهو في القرآن، ثم قرأ هذه الآية. وأخرج الحاكم والبيهقي في البعث عن
ابن عباس في قوله (يوم لا يخزي الله النبئ والذين آمنوا معه نورهم يسعى) الآية قال: ليس أحد من الموحدين
إلا يعطي نورا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق، فهو يقول:
(ربنا أتمم لنا نورنا).
سورة التحريم (9 - 12)
قوله (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) أي بالسيف والحجة، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في سورة
براءة (واغلظ عليهم) أي شدد عليهم في الدعوة واستعمل الخشونة في أمرهم بالشرائع. قال الحسن: أي جاهدهم
بإقامة الحدود عليهم، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود (ومأواهم جهنم) أي مصيرهم إليها: يعني الكفار
والمنافقين (وبئس المصير) أي المرجع الذي يرجعون إليه (ضرب الله مثلا للذين كفروا) قد تقدم غير مرة أن
لمثل قد يراد به إيراد حالة غريبة يعرف بها حالة أخرى مماثلة لها في الغرابة: أي جعل الله مثلا لحال هؤلاء الكفرة،
وأنه لا يغني أحد عن أحد (امرأة نوح وامرأة لوط) هذا هو المفعول الأول، ومثلا المفعول الثاني حسبما قدمنا
تحقيقه، وإنما أخر ليتصل به ما هو تفسير له وإيضاح لمعناه (كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين) وهما نوح
ولوط: أي كانتا في عصمة نكاحهما (فخانتاهما) أي فوقعت منهما الخيانة لهما. قال عكرمة والضحاك: بالكفر
وقيل كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون، وكانت امرأة لوط تخبر قومه بأضيافه، وقد وقع الإجماع على أنه
ما زنت امرأة نبي قط. وقيل كانت خيانتهما النفاق، وقيل خانتاهما بالنميمة (فلم يغنيا عنهما من الله شيئا) أي فلم
ينفعهما نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما شيئا من النفع ولا دفعا عنهما من عذاب الله مع كرامتهما على الله
شيئا من الدفع (وقيل ادخلا النار مع الداخلين) أي وقيل لهما في الآخرة، أو عند موتهما ادخلا النار مع الداخلين
لها من أهل الكفر والمعاصي. وقال يحيى بن سلام: ضرب الله مثلا للذين كفروا يحذر به عائشة وحفصة من
255

المخالفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين تظاهرتا عليه. وما أحسن من قال، فإن ذكر امرأتي النبيين بعد
ذكر قصتهما ومظاهرتهما على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرشد أتم إرشاد ويلوح أبلغ تلويح إلى أن المراد
تخويفهما مع سائر أمهات المؤمنين، وبيان أنهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله وخاتم رسله، فإن ذلك
لا يغني عنهما من الله شيئا، وقد عصمهما الله عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة
(وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون) الكلام في هذا كالكلام في المثل الذي قبله: أي جعل الله حال
امرأة فرعون مثلا لحال المؤمنين ترغيبا لهم في الثبات على الطاعة والتمسك بالدين والصبر في الشدة، وأن صولة
الكفر لا تضرهم كما لم تضر امرأة فرعون، وقد كانت تحت أكفر الكافرين وصارت بإيمانها بالله في جنات النعيم
(إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة) الظرف متعلق بضرب أو بمثلا: أي ابن لي بيتا قريبا من رحمتك، أو
في أعلى درجات المقربين منك، أو في مكان لا يتصرف فيه إلا بإذنك وهو الجنة (ونجني من فرعون وعمله) أي
من ذاته وما يصدر عنه من أعمال الشر (ونجني من القوم الظالمين) قال الكلبي: هم أهل مصر. وقال مقاتل: هم
القبط. قال الحسن وابن كيسان: نجاها الله أكرم نجاة ورفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب (ومريم ابنت عمران
التي أحصنت فرجها) معطوف على امرأة فرعون: أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران: أي حالها
وصفتها، وقيل إن الناصب لمريم فعل مقدر: أي واذكر مريم، والمقصود من ذكرها أن الله سبحانه جمع لها بين
كرامة الدنيا والآخرة واصطفاها على نساء العالمين مع كونها بين قوم كافرين (التي أحصنت فرجها) أي عن
الفواحش، وقد تقدم تفسير هذا في سورة النساء. قال المفسرون: المراد بالفرج هنا الجيب لقوله (فنفخنا فيه
من روحنا) وذلك أن جبريل نفخ في جيب درعها فحبلت بعيسى (وصدقت بكلمات ربها) يعني شرائعه التي
شرعها لعباده، وقيل المراد بالكلمات هنا هو قول جبريل لها - إنما أنا رسول ربك - الآية. وقال مقاتل: يعني
بالكلمات عيسى. قرأ الجمهور " وصدقت " بالتشديد، وقرأ حمزة الأموي ويعقوب وقتادة وأبو مجلز وعاصم
في رواية عنه بالتخفيف. وقرأ الجمهور " بكلمات " بالجمع، وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري " بكلمة " بالإفراد.
وقرأ الجمهور (وكتابه) بالإفراد، وقرأ أهل البصرة وحفص " كتبه " بالجمع، والمراد على قراءة الجمهور الجنس
فيكون في معنى الجمع، وهي الكتب المنزلة على الأنبياء (وكانت من القانتين) قال قتادة: من القوم المطيعين
لربهم. وقال عطاء: من المصلين، كانت تصلي بين المغرب والعشاء، ويجوز أن يراد بالقانتين رهطها وعشيرتها
الذين كانت منهم، وكانوا مطيعين أهل بيت صلاح وطاعة، وقال: من القانتين ولم يقل من القانتات لتغليب
الذكور على الإناث.
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله (فخانتاهما) قال: ما زنتا: أما خيانة امرأة نوح
فكانت تقول للناس: إنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل على الضيف فتلك خيانتهما. وأخرج ابن
المنذر عنه: قال ما بغت امرأة نبي قط، وقد رواه ابن عساكر مرفوعا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن سلمان قال: كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس،
فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة. وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة:
أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وأضجعها قد على صدرها وجعل على صدرها رحى واستقبل بها عين الشمس،
256

فرفعت رأسها إلى السماء، ف‍ (قالت رب ابن لي عندك بيتا من الجنة) إلى قوله (من الظالمين) ففرج الله لها عن بيتها
في الحنة فرأته. وأخرج أحمد والطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم
امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرها في القرآن قالت (رب ابن لي عندك بيتا) " الآية. وفي الصحيحين وغيرهما
من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من
النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد
على سائر الطعام ". وأخرج وكيع في الغرر عن ابن عباس في قوله (ونجني من فرعون وعمله) قال: من جماعته.
تفسير سورة الملك
وتسمى سورة تبارك، والواقية والمنجية، والمانعة، وهي ثلاثون آية
وهي مكية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن
عباس قال: نزلت بمكة سورة تبارك الملك. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن الضريس
والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له (تبارك الذي بيده الملك) " قال الترمذي:
هذا حديث حسن. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه والضياء في المختارة عن أنس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة (تبارك الذي بيده الملك) ".
وأخرج الترمذي والحاكم وصححه وابن مردويه وابن نصر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: " ضرب بعض
أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى
ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هي المانعة هي
المنجية تنجيه من عذاب القبر ". قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وأخرج ابن
مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " تبارك هي المانعة من عذاب القبر "
وأخرجه أيضا النسائي وصححه الحاكم. وأخرج ابن مردويه عن رافع بن خديج وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول " أنزلت على سورة تبارك، وهي ثلاثون آية جملة واحدة، وهي المانعة في القبور "
أخرج عبد بن حميد في مسنده والطبراني والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث
نفرح به؟ قال بلى: قال: اقرأ (تبارك الذي بيده الملك) وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك.
إنها المنجية والمجادلة تجادل يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب له أن ينجيه الله من عذاب النار وينجو بها
صاحبها من عذاب القبر. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي ".
257

قوله (تبارك الذي بيده الملك) تبارك تفاعل من البركة، والبركة النماء والزيادة، وقيل تعالى وتعاظم عن
صفات المخلوقين، وقيل دام فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه. وقال الحسن: تبارك تقدس،
وصيغة التفاعل للمبالغة، واليد مجاز عن القدرة والاستيلاء، والملك هو ملك السماوات والأرض في الدنيا والآخرة
فهو يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع من يشاء ويضع من يشاء، وقيل المراد بالملك ملك النبوة، والأول أولى،
لأن الحمل على العموم أكثر مدحا وأبلغ ثناء، ولا وجه للتخصيص (وهو على كل شئ قدير) أي بليغ القدرة
لا يعجزه شئ من الأشياء يتصرف في ملكه كيف يريد من إنعام وانتقام ورفع ووضع وإعطاء ومنع (الذي خلق
الموت والحياة) الموت انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته له، والحياة تعلق الروح بالبدن واتصاله به، وقيل
هي ما يصح بوجوده الإحساس، وقيل ما يوجب كون الشئ حيا، وقيل المراد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة.
وقدم الموت على الحياة لأن أصل الأشياء عدم الحياة، والحياة عارضة لها، وقيل لأن الموت أقرب إلى القهر،
وقال مقاتل: خلق الموت: يعني النطفة والمضغة والعلقة، والحياة يعني خلقه إنسانا وخلق الروح فيه، وقيل خلق
الموت على صورة كبش لا يمر على شئ إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس لا تمر بشئ إلا حي، قاله
مقاتل والكلبي. وقد ورد في التنزيل - قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم - وقوله - ولو ترى إذ يتوفى الذين
كفروا الملائكة - وقوله - توفته رسلنا - وقوله - الله يتوفى الأنفس حين موتها - وغير ذلك من الآيات (ليبلوكم
أيكم أحسن عملا) اللام متعلقة بخلق: أي خلق الموت والحياة ليعاملكم معاملة من يختبركم أيكم أحسن عملا،
258

فيجازيهم على ذلك، وقيل المعنى: ليبلوكم أيكم أكثر للموت ذكرا وأشد منه خوفا، وقيل أيكم أسرع إلى طاعة
الله، وأورع عن محارم الله. وقال الزجاج: اللام متعلق بخلق الحياة، لا بخلق الموت. وقال الزجاج أيضا والفراء:
إن قوله " ليبلوكم لم يقع على أي، لأن فيما بين البلوى وأي إضمار فعل كما تقول: بلوتكم لأنظر أيكم أطوع،
ومثله قوله - سلهم أيهم بذلك زعيم - أي سلهم ثم انظر أيهم، فأيكم في الآية مبتدأ وخبره أحسن، لأن الاستفهام
لا يعمل فيه ما قبله، وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل لجميع أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح لا إلى
الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين
(وهو العزيز) أي الغالب الذي لا يغالب (الغفور) لمن تاب وأناب (الذي خلق سبع سماوات طباقا) الموصول
يجوز أن يكون تابعا للعزيز الغفور نعتا أو بيانا أو بدلا، وأن يكون منقطعا عنه على أنه خبر مبتدإ محذوف، أو
منصوب على المدح، وطباقا صفة لسبع سماوات: أي بعضها فوق بعض، وهو جمع طبق نحو جبل وجبال، أو
جمع طبقة نحو رحبة ورحاب، أو مصدر طابق، يقال: طابق مطابقة وطباقا، ويكون على هذا الوجه الوصف
بالمصدر للمبالغة أو على حذف مضاف: أي ذات طباق، ويجوز أن يكون منتصبا على المصدرية بفعل محذوف
أي طوبقت طباقا (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) هذه الجملة صفة ثانية لسبع سماوات أو مستأنفة لتقرير
ما قبلها، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو لكل من يصلح له، ومن مزيده لتأكيد النفي. قرأ
الجمهور " من تفاوت " وقرأ ابن مسعود وأصحابه وحمزة والكسائي " تفوت " مشددا بدون ألف وهما لغتان.
كالتعاهد والتعهد، والتحامل والتحمل، والمعنى على القراءتين: ما ترى في خلق الرحمن من تناقض ولا تباين ولا
اعوجاج ولا تخالف، بل هي مستوية مستقيمة دالة على خالقها، وإن اختلفت صورها وصفاتها فقد اتفقت من
هذه الحيثية (فارجع البصر هل ترى من فطور) الفطور: الشقوق والصدوع والخروق: أي أردد طرفك حتى
يتضح لك ذلك بالمعاينة. أخبر أولا بأنه لا تفاوت في خلقه، ثم أمر ثانيا بترديد البصر في ذلك لزيادة التأكيد
وحصول الطمأنينة. قال مجاهد والضحاك: الفطور الشقوق جمع فطر: وهو الشق. وقال قتادة: هل ترى من
خلل. وقال السدي: هل ترى من خروق، وأصله من التفطر والانفطار، وهو التشقق والانشقاق، ومنه قول
الشاعر: بنى لكم بلا عمد سماء * وزينها فما فيها فطور *
وقول الآخر:
شققت القلب ثم رددت فيه * هواك فليم فالتام الفطور
(ثم ارجع البصر كرتين) أي رجعتين مرة بعد مرة، وانتصابه على المصدر، والمراد بالتثنية التكثير كما في
لبيك وسعديك: أي رجعة بعد رجعة وإن كثرت. ووجه الأمر بتكرير النظر على هذه الصفة أنه لا قد يرى
ما يظنه من العيب في النظرة الأولى ولا في الثانية، ولهذا قال أولا (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) ثم قال ثانيا
(فارجع البصر) ثم قال ثالثا (ثم ارجع البصر كرتين) فيكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة وأقطع للمعذرة (ينقلب
إليك البصر خاسئا) أي يرجع إليك البصر ذليلا صاغرا عن أن يرى شيئا من ذلك، وقيل معنى خاسئا: مبعدا
مطرودا عن أن يبصر ما التمسه من العيب، يقال: خسأت الكلب: أي أبعدته وطردته. قرأ الجمهور " ينقلب "
بالجزم جوابا للأمر. وقرأ الكسائي في رواية بالرفع على الاستئناف (وهو حسير) أي كليل منقطع. قال الزجاج:
أي وقد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللا، وهو فعيل بمعنى فاعل من الحسور، وهو الإعياء، يقال: حسر
بصره يحسر حسورا: أي كل وانقطع، ومنه قول الشاعر:
259

نظرت إليها بالمحصب من منى * فعاد إلى الطرف وهو حسير
(ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) بين سبحانه بعد خلق السماوات وخلوها من العيب والخلل أنه زينها بهذه
الزينة، فصارت في أحسن خلق وأكمل صورة وأبهج شكل، والمجئ بالقسم لإبراز كمال العناية، والمصابيح
جمع مصباح وهو السراج، وسميت الكواكب مصابيح لأنها تضئ كإضاءة السراج وبعض الكواكب وإن كان
في غير سماء الدنيا من السماوات التي فوقها، فهي تتراءى كأنها كلها في سماء الدنيا لأن أجرام السماوات لا تمنع من
رؤية ما فوقها مما له إضاءة لكونها أجراما صقيلة شفافة (وجعلناها رجوما للشياطين) أي وجعلنا المصابيح رجوما
يرجم بها الشياطين، وهذه فائدة أخرى غير الفائدة الأولى وهي كونها زينة للسماء الدنيا، والمعنى أنها يرجم بها
الشياطين الذين يسترقون السمع، والرجوم جمع رجم بالفتح وهو في الأصل مصدر أطلق على المرجوم به كما في
قولهم: الدرهم ضرب الأمير: أي مضروبه، ويجوز أن يكون باقيا على مصدريته ويقدر مضاف محذوف: أي
ذات رجم، وجمع المصدر باعتبار أنواعه. وقيل إن الضمير في قوله (وجعلناها) راجع إلى المصابيح على حذف
مضاف: أي شهبها، وهي نارها المقتبسة منها، لا هي أنفسها لقوله - إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب -
ووجه هذا أن المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا لا تزول ولا يرجم بها، كذا قال أبو علي الفارسي جوابا لمن
سأله: كيف تكون المصابيح زينة وهي رجوم؟ قال القشيري: وأمثل من قوله هذا أن نقول: هي زينة قبل أن
يرجم بها الشياطين. قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدي بها
في البر والبحر، فمن تكلم فيها بغير ذلك فقد تكلم فيما لا يعلم وتعدى وظلم، وقيل معنى الآية: وجعلناها ظنونا
لشياطين الإنس، وهم المنجمون (وأعتدنا لهم عذاب السعير) أي وأعتدنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق
في الدنيا بالشهب عذاب السعير: أي عذاب النار، والسعير: أشد الحريق، يقال سعرت النار فهي مسعورة
(وللذين كفروا بربهم) من كفار بني آدم، أو من كفار الفريقين " عذاب جهنم " قرأ الجمهور برفع " عذاب "
على أنه مبتدأ وخبره " للذين كفروا ". وقرأ الحسن والضحاك والأعرج بنصبه عطفا على " عذاب السعير " (وبئس المصير)
ما يصيرون إليه، وهو جهنم (إذا ألقوا فيها) أي طرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار (سمعوا لها شهيقا) أي صوتا
كصوت الحمير عند أول نهيقها، وهو أقبح الأصوات، وقوله " لها " في محل نصب على الحال: أي كائنا لها،
لأنه في الأصل صفة، فلما قدمت صارت حالا. وقال عطاء: الشهيق هو من الكفار عند إلقائهم في النار،
وجملة (وهي تفور) في محل نصب على الحال: أي والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل، ومنه قول حسان:
تركتم قدركم لا شئ فيه * وقدر الغير حامية تفور
(تكاد تميز من الغيظ) أي تكاد تتقطع وينفصل بعضها من بعض من تغيظها عليهم. قال ابن قتيبة: تكاد تنشق
غيظا على الكفار. قرأ الجمهور " تميز " بتاء واحدة مخففة، والأصل تتميز بتاءين. وقرأ طلحة بتاءين على الأصل.
وقرأ البزي عن ابن كثير بتشديدها بإدغام إحدى التاءين في الأخرى. وقرأ الضحاك " تمايز " بالألف وتاء واحدة
والأصل تتمايز، وقرأ زيد بن علي " تميز " من ماز يميز، والجملة في محل نصب على الحال، أو في محل رفع على
أنها خبر آخر لمبتدأ، وجملة (كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها) مستأنفة لبيان حال أهلها، أو في محل نصب على
الحال من فاعل تميز، والفوج الجماعة من الناس: أي كلما ألقى في جهنم جماعة من الكفار سألهم خزنتها من
الملائكة سؤال توبيخ وتقريع (ألم يأتكم) في الدنيا (نذير) ينذركم هذا اليوم ويحذركم منه، وجملة (قالوا بلى قد
260

جاءنا نذير) مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قالوا بعد هذا السؤال، فقال: قالوا بلى قد جاءنا نذير
فأنذرنا وخوفنا وأخبرنا بهذا اليوم (فكذبنا) ذلك النذير (وقلنا ما نزل الله من شئ) من الأشياء على ألسنتكم (إن
أنتم إلا في ضلال كبير) أي في ذهاب عن الحق وبعد عن الصواب، والمعنى أنه قال: كل فوج من تلك
الأفواج حاكيا لخزنة جهنم ما قاله لمن أرسل إليه: ما أنتم أيها الرسل فيم تدعون أن الله نزل عليكم آيات تنذرونا بها
إلا في ذهاب عن الحق وبعد عن الصواب كبير لا يقادر قدره. ثم حكى عنهم مقالة أخرى قالوها بعد تلك المقالة
فقال (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) أي لو كنا نسمع ما خاطبنا به الرسل، أو نعقل
شيئا من ذلك ما كنا في عداد أهل النار، ومن جملة من يعذب بالسعير وهم الشياطين كما سلف. قال الزجاج:
لو كنا نسمع سمع من يعي أو نعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار، فلما اعترفوا هذا الاعتراف قال الله
سبحانه (فاعترفوا بذنبهم) الذي استحقوا به عذاب النار، وهو الكفر وتكذيب الأنبياء (فسحقا لأصحاب
السعير) أي فبعدا لهم من الله ومن رحمته. وقال سعيد بن جبير وأبو صالح: هو واد في جهنم يقال له السحق. قرأ
الجمهور " فسحقا " بإسكان الحاء. وقرأ الكسائي وأبو جعفر بضمها، وهما لغتان مثل السحت والرعب. قال
الزجاج وأبو علي الفارسي: فسحقا منصوب على المصدر: أي أسحقهم الله سحقا. قال أبو علي الفارسي: وكان
القياس إسحاقا فجاء المصدر على الحذف، واللام في (لأصحاب السعير) للبيان كما في.. هيت لك -.
وقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله (سبع سماوات طباقا) قال: بعضها فوق بعض. وأخرج ابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) قال: ما تفوت بعضه بعضا تفاوتا مفرقا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا في قوله (من تفاوت) قال: من تشقق، وفي قوله (هل
ترى من فطور) قال: شقوق، وفي قوله (خاسئا) قال: ذليلا (وهو حسير) كليل. وأخرج ابن جرير عنه
أيضا. قال: الفطور الوهى. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا (من فطور) قال: من تشقق أو خلل، وفي قوله
(ينقلب إليك البصر) قال: يرجع إليك (خاسئا) قال: صاغرا (وهو حسير) قال: معي ولا يرى شيئا.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا خاسئا قال: ذليلا (وهو حسير) قال: عي مرتجع. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (تكاد تميز) قال: تتفرق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا
(تكاد) تميز قال: يفارق بعضا بعض. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (فسحقا) قال: بعدا،
الملك (12 - 21)
261

قوله (إن الذين يخشون ربهم بالغيب) لما فرغ سبحانه من ذكر أحوال أهل النار ذكر أهل الجنة، وبالغيب
حال من الفاعل أو المفعول: أي غائبين عنه، أو غائبا عنهم، والمعنى: أنهم يخشون عذابه ولم يروه فيؤمنون به
خوفا من عذابه، ويجوز أن يكون المعنى: يخشون ربهم حال كونهم غائبين عن أعين الناس وذلك في خلواتهم، أو
أو المراد بالغيب كون العذاب غائبا عنهم لأنهم في الدنيا، وهو إنما يكون يوم القيامة فتكون الباء على هذا سببية
(لهم مغفرة) عظيمة يغفر الله بها ذنوبهم (وأجر كبير) وهو الجنة، ومثل هذه الآية قوله - من خشي الرحمن
بالغيب -. ثم عاد سبحانه إلى خطاب الكفار فقال (وأسروا قولكم أو اجهروا به) هذه الجملة مستأنفة
مسوقة لبيان تساوي الإسرار والجهر بالنسبة إلى علم الله سبحانه، والمعنى: إن أخفيتم كلامكم أو جهرتم به في
أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكل ذلك يعلمه الله لا يخفى عليه منه خافية، وجملة (إنه عليم بذات
الصدور) تعليل للاستواء المذكور، وذات الصدور هي مضمرات القلوب، والاستفهام في قوله (ألا يعلم من
خلق) للإنكار:، والمعنى: ألا يعلم السر ومضمرات القلوب من خلق ذلك وأوجده، فالموصول عبارة عن
الخالق، ويجوز أن يكون عبارة عن المخلوق، وفي يعلم ضمير يعود إلى الله: أي ألا يعلم الله المخلوق الذي هو من
جملة خلقه، فإن الإسرار والجهر ومضمرات القلوب من جملة خلقه، وجملة (وهو اللطيف الخبير) في محل نصب
على الحال من فاعل يعلم: أي الذي لطف علمه بما في القلوب، الخبير بما تسره وتضمره من الأمور، لا تخفى
عليه من ذلك خافية. ثم أمتن سبحانه على عباده فقال (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا) أي سهلة لينة
تستقرون عليها و، لم يجعلها خشنة بحيث يمتنع عليكم السكون فيها والمشي عليها، والذلول في الأصل: هو المنقاد
الذي يذل لك ولا يستصعب عليك " والمصدر الذل، والفاء في قوله (فامشوا في مناكبها) لترتيب الأمر بالمشي
على الجعل المذكور، والأمر للإباحة. قال مجاهد: والكلبي ومقاتل: مناكبها طرقها وأطرافها وجوانبها. وقال
قتادة وشهر بن حوشب: مناكبها جبالها، وأصل المنكب الجانب، ومنه منكب الرجل. ومنه الريح النكباء،
لأنها تأتي من جانب دون جانب (وكلوا من رزقه) أي مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض (وإليه النشور) أي
وإليه البعث من قبوركم، لا إلى غيره، وفي هذا وعيد شديد. ثم خوف سبحانه الكفار. فقال (أأمنتم من
في السماء أن يخسف بكم الأرض) قال الواحدي: قال المفسرون: يعني عقوبة من في السماء، وقيل من في السماء:
قدرته وسلطانه وعرشه وملائكته، وقيل من في السماء من الملائكة، وقيل المراد جبريل، ومعنى (أن يخسف بكم
الأرض) يقلعها ملتبسة بكم كما فعل بقارون بعد ما جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها، وقوله (أن يخسف) بدل
اشتمال من الموصول: أي أأمنتم خسفه، أو على حذف من: أي من أن يخسف (فإذا هي تمور) أي تضطرب
وتتحرك على خلاف ما كانت عليه من السكون. قرأ الجمهور " أأمنتم " بهمزتين، وقرأ البصريون والكوفيون
بالتخفيف، وقرأ ابن كثير بقلب الأولى واوا. ثم كرر سبحانه التهديد لهم بوجه آخر فقال (أم أمنتم من في السماء
أن يرسل عليكم حاصبا) أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل، وقيل سحاب فيها حجارة،
262

وقيل ريح فيها حجارة (فستعلمون كيف نذير) أي إنذاري إذا عاينتم العذاب ولا ينفعكم هذا العلم، وقيل النذير
هنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قاله عطاء والضحاك. والمعنى: ستعلمون رسولي وصدقه، والأول أولى.
والكلام (في أن يرسل عليكم حاصبا) كالكلام في (أن يخسف بكم الأرض) فهو إما بدل اشتمال، أو بتقدير من
(ولقد كذب الذين من قبلهم) أي الذين قبل كفار مكة من كفار الأمم الماضية. كقوم نوح وعاد وثمود وقوم
لوط وأصحاب الأيكة وأصحاب الرس وقوم فرعون (فكيف كان نكير) أي فكيف كان إنكاري عليهم بما
أصبتهم به من العذاب الفظيع أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات) الهمزة للاستفهام والواو للعطف على مقدر:
أي أغفلوا ولم ينظروا، ومعنى (صافات) أنها صافة لأجنحتها في الهواء وتبسيطها عند طيرانها (ويقبضن)
أي يضممن أجنحتهن. قال النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحه صاف، وإذا ضمها قابض كأنه يقبضها،
وهذا معنى الطيران، وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط، ومنه قول أبي خراش:
يبادر جنح الليل فهو مزايل * تحت الجناح بالتبسط والقبض
وإنما قال (ويقبضن) ولم يقل قابضات كما قال صافات، لأن القبض يتجدد تارة فتارة، وأما البسط فهو الأصل،
كذا قيل. وقيل إن معنى (ويقبضن) قبضهن لأجنحتهن عند الوقوف من الطيران، لا قبضها في حال الطيران،
وجملة (ما يمسكهن إلا الرحمن) في محل نصب على الحال من فاعل يقبضن، أو مستأنفة لبيان كمال قدرة الله سبحانه،
والمعنى: أنه ما يمسكهن في الهواء عند الطيران إلا الرحمن القادر على كل شئ (إنه بكل شئ بصير) لا يخفى
عليه شئ كائنا ما كان (أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن) الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والمعنى
أنه لا جند لكم يمنعكم من عذاب الله، والجند الحزب والمنعة. قرأ الجمهور " أمن " هذا بتشديد الميم على إدغام
ميم أم في ميم من، وأم بمعنى بل، ولا سبيل إلى تقدير الهمزة بعدها كما هو الغالب في تقدير أم المنقطعة ببل
والهمزة، لأن بعدها هنا من الاستفهامية فأعنت عن ذلك التقدير، ومن الاستفهامية مبتدأ، واسم الإشارة خبره،
والموصول مع صلته صفة اسم الإشارة، وينصركم صفة لجند، ومن دون الرحمن في محل نصب على الحال من
فاعل ينصركم، والمعنى: بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم متجاوزا نصر الرحمن: وقرأ طلحة بن
مصرف بتخفيف الأولى وتثقيل الثانية، وجملة (إن الكافرون إلا في غرور) معترضة مقررة لما قبلها ناعية عليهم
ما هم فيه من الضلال، والمعنى: ما الكافرون إلا في غرور عظيم من جهة الشيطان يغرهم به (أمن هذا الذي
يرزقكم إن أمسك رزقه) الكلام في هذا كالكلام في الذي قبله قراءة وإعرابا: أي من الذي يدر عليكم الأرزاق
من المطر وغيره إن أمسك الله ذلك عنكم ومنعه عليكم (بل لجوا في عتو ونفور) أي لم يتأثروا لذلك، بل تمادوا
في عناد واستكبار عن الحق ونفور عنه ولم يعتبروا ولا تفكروا، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه:
أي إن أمسك رزقه فمن يرزقكم غيره، والعتو العناد والطغيان، والنفور الشرود.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس (إن الذين يخشون ربهم بالغيب) قال: أبو بكر وعمر وعلي وأبو عبيدة
ابن الجراح، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله (في مناكبها) قال: جبالها. وأخرج ابن جرير عنه أيضا
قال: أطرافها. وأخرج الطبراني وابن عدي والبيهقي في الشعب والحكيم الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله يحب العبد المؤمن المحترف ". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(بل لجوا في عتو ونفور) قال: في ضلال.
263

سورة الملك (22 - 30)
ضرب سبحانه مثلا للمشرك والموحد لإيضاح حالهما وبيان مآلهما، فقال (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى)
والمكب والمنكب: الساقط على وجهه، يقال كببته فأكب وانكب، وقيل هو الذي يكب رأسه فلا ينظر يمينا
ولا شمالا ولا أماما فهو لا يأمن العثور والانكباب على وجهه. وقيل أراد به الأعمى الذي لا يهتدى إلى الطريق فلا
يزال مشيه ينكسه على وجهه. قال قتادة: هو الكافر يكب على معاصي الله في الدنيا فيحشره الله يوم القيامة على
وجهه. والهمزة للاستفهام الإنكاري: أي هل هذا الذي يمشي على وجهه أهدى إلى المقصد الذي يريده (أمن
يمشي سويا) معتدلا ناظرا إلى ما بين يديه (على صراط مستقيم) أي على طريق مستوى لا اعوجاج به ولا انحراف
فيه، وخبر من محذوف لدلالة خبر من الأولى وهو أهدى عليه، وقيل لا حاجة إلى ذلك، لأن من الثانية معطوفة
على من الأولى عطف المفرد على المفرد، كقولك أزيد قائم أم عمرو؟ وقيل أراد بمن يمشي مكبا على وجهه من
يحشر على وجهه إلى النار، ومن يمشي سويا من يحشر على قدميه إلى الجنة، وهو كقول قتادة الذي ذكرناه،
ومثله قوله - ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم - قل هو الذي أنشأكم - أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم أن يخبرهم بأن الله هو الذي أنشأهم النشأة الأولى (وجعل) لهم (السمع) ليسمعوا به (والأبصار) ليبصروا
بها، ووجه إفراد السمع مع جمع الأبصار أنه مصدر يطلق على القليل والكثير، وقد قدمنا بيان هذا في مواضع مع
زيادة في البيان (والأفئدة) القلوب التي يتفكرون بها في مخلوقات الله، فذكر سبحانه ها هنا أنه قد جعل لهم
ما يدركون به المسموعات والمبصرات والمعقولات إيضاحا للحجة وقطعا للمعذرة وذما لهم على عدم شكر نعم الله،
ولهذا قال (قليلا ما تشكرون) وانتصاب قليلا على أنه نعت مصدر محذوف، وما مزيدة للتأكيد: أي شكرا قليلا أو
زمانا قليلا، وقيل أراد بقلة الشكر عدم وجوده منهم. قال مقاتل: يعنى أنكم لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه
(قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون) أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يخبرهم أن الله هو
الذي خلقهم في الأرض ونشرهم فيها وفرقهم على ظهرها وأن حشرهم للجزاء إليه لا إلى غيره. ثم ذكر سبحانه أنهم
يستعجلون العذاب فقال (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) أي متى هذا الوعد الذي تذكرونه لنا من
264

الحشر والقيامة والنار والعذاب إن كنتم صادقين في ذلك، والخطاب منهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولمن
معه من المؤمنين، وجواب الشرط محذوف، والتقدير إن كنتم صادقين فأخبرونا به أو فبينوه لنا، وهذا منهم
استهزاء وسخرية. ثم لما قالوا هذا القول أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب عليهم فقال (قل
إنما العلم عند الله) أي إن وقت قيام الساعة علمه عند الله لا يعلمه غيره، ومثله قوله - قل إنما علمها عند ربي -
ثم أخبرهم أنه مبعوث للإنذار لا للإخبار بالغيب فقال (وإنما أنا نذير مبين) أنذركم وأخوفكم عاقبة كفركم وأبين
لكم ما أمرني الله ببيانه. ثم ذكر الله سبحانه حالهم عند معاينة العذاب فقال (فلما رأوه زلفة) يعنى رأوا العذاب
قريبا، وزلفة مصدر بمعنى الفاعل: أي مزدلفا أو حال من مفعول رأوا بتقدير مضاف: أي ذا زلفة وقرب،
أو ظرف: أي رأوه في مكان ذي زلفة. قال مجاهد: أي قريبا. وقال الحسن: عيانا. قال أكثر المفسرين:
المراد عذاب يوم القيامة، وقال مجاهد: المراد عذاب بدر، وقيل رأوا ما وعدوا به من الحشر قريبا منهم كما يدل
عليه قوله (وإليه تحشرون) وقيل لما رأوا عملهم السئ قريبا (سيئت وجوه الذين كفروا) أي اسودت وعلتها
الكآبة وغشيتها الذلة، يقال ساء الشئ يسوء فهو سئ إذا قبح. قال الزجاج: المعنى تبين فيها السوء: أي ساءهم
ذلك العذاب فظهر عليهم بسببه في وجوههم ما يدل على كفرهم كقوله - يوم تبيض وجوه وتسود وجوه -.
قرأ الجمهور بكسر السين بدون إشمام، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وابن محيصن بالإشمام (وقيل هذا الذي
كنتم به تدعون) أي قيل لهم توبيخا وتقريعا هذا المشاهد الحاضر من العذاب هو العذاب الذي كنتم به تدعون في
الدنيا: أي تطلبونه وتستعجلون به استهزاء، على أن معنى تدعون الدعاء. قال الفراء: تدعون تفتعلون من الدعاء:
أي تتمنون وتسألون، وبهذا قال الأكثر من المفسرين. وقال الزجاج: هذا الذي كنتم به تدعون الأباطيل
والأحاديث. وقيل معنى تدعون: تكذبون، وهذا على قراءة الجمهور " تدعون " بالتشديد، فهو إما من الدعاء
كما قال الأكثر، أو من الدعوى كما قال الزجاج ومن وافقه، والمعنى: أنهم كانوا يدعون أنه لا بعث ولا حشر
ولا جنة ولا نار. وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق ويعقوب والضحاك: تدعون مخففا، ومعناها ظاهر. قال قتادة:
هو قولهم - ربنا عجل لنا قطنا - وقال الضحاك: هو قولهم - اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا
حجارة من السماء - الآية. قال النحاس: تدعون وتدعون بمعنى واحد كما تقول قدر واقتدر. وغدا واغتدى،
إلا أن أفعل معناه مضى شيئا بعد شئ، وفعل يقع على القليل والكثير (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي) أي
أخبروني إن أهلكني الله بموت أو قتل، ومن معي من المؤمنين (أو رحمنا) بتأخير ذلك إلى أجل، وقيل المعنى:
إن أهلكني الله ومن معي بالعذاب، أو رحمنا فلم يعذبنا (فمن يجير الكافرين من عذاب أليم) أي فمن يمنعهم
ويؤمنهم من العذاب. والمعنى: أنه لا ينجيهم من ذلك أحد سواء أهلك الله ورسوله والمؤمنين معه كما كان الكفار
يتمنونه، أو أمهلهم. وقيل المعنى: إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب،
ووضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر، وبيان أنه السبب في عدم نجاتهم (قل هو الرحمن آمنا به)
وحده، لا نشرك به شيئا (وعليه توكلنا) لا على غيره، والتوكل: تفويض الأمور إليه عز وجل (فستعلمون من
هو في ضلال مبين) منا ومنكم، وفي هذا تهديد شديد مع إخراج الكلام مخرج الإنصاف. قرأ الجمهور
" ستعلمون " بالفوقية على الخطاب. وقرأ الكسائي بالتحتية على الخبر، ثم احتج سبحانه عليهم ببعض نعمه،
وخوفهم بسلب تلك النعمة عنهم فقال (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا) أي أخبروني إن صار ماؤكم غائرا
في الأرض بحيث لا يبقى له وجود فيها أصلا، أو صار ذاهبا في الأرض إلى مكان بعيد بحيث لا تناله الدلاء. يقال
265

غار الماء غورا: أي نضب، والغور الغائر، وصف بالمصدر للمبالغة، كما يقال رجل عدل، وقد تقدم مثل
هذا في سورة الكهف (فمن يأتيكم بماء معين) أي ظاهر تراه العيون، وتناله الدلاء، وقيل هو من معن الماء:
أي كثر. وقال قتادة والضحاك: أي جار، وقد تقدم معنى المعين في سورة المؤمن. وقرأ ابن عباس " فمن
يأتيكم بماء عذب ".
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (أفمن يمشي مكبا) قال: في الضلالة (أمن يمشي سويا) قال:
مهتديا. وأخرج الخطيب في تاريخه وابن النجار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
من اشتكى ضرسه فليضع أصبعه عليه، وليقرأ هذه الآية (هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة
قليلا ما تشكرون) ". وأخرج الدارقطني في الأفراد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" من اشتكى ضرسه فليضع أصبعه عليه، وليقرأ هاتين الآيتين سبع مرات - وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة
فمستقر ومستودع - إلى يفقهون - و (هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون)
فإنه يبرأ بإذن الله ". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (إن أصبح ماؤكم غورا) قال: داخلا في الأرض
(فمن يأتيكم بماء معين) قال: الجاري. وأخرج ابن المنذر عنه (إن أصبح ماؤكم غورا) قال: يرجع في الأرض:
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (بماء معين) قال: ظاهر. وأخرج عبد بن حميد عنه
أيضا (بماء معين) قال عذب.
تفسير سورة ن
هي اثنتان وخمسون آية
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وروى عن ابن عباس وقتادة أن من أولها إلى قوله
(سنسمه على الخرطوم) مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله (من الصالحين) مدني، وباقيها مكي كذا قال الماوردي:
وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما يشاء،
وكان أول ما نزل من القرآن " اقرأ باسم ربك " ثم نون، ثم المزمل، ثم المدثر. وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي
عنه قال: نزلت سورة ن بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله. سورة ن (1 - 11)
266

سورة ن (12 - 16)
قوله (ن) قرأ أبو بكر وورش وابن عامر والكسائي وابن محيصن وابن هبيرة بإدغام النون الثانية من
هجائها في الواو، وقرأ الباقون بالإظهار، وقرأ أبو عمرو وعيسى بن عمر بالفتح على إضمار فعل. وقرأ ابن عامر
ونضر وابن إسحاق بكسرها على إضمار القسم، أو لأجل التقاء الساكنين، وقرأ محمد بن السميفع وهارون بضمها
على البناء. قال مجاهد ومقاتل والسدي: هو الحوت الذي يحمل الأرض وبه قال مرة الهمذاني وعطاء الخراساني
والكلبي. وقيل إن نون آخر حرف من حروف الرحمن. وقال ابن زيد: هو قسم أقسم الله به. وقال ابن كيسان:
هو فاتحة السورة. وقال عطاء وأبو العالية: هي النون من نصر وناصر. قال محمد بن كعب: أقسم الله تعالى
بنصره المؤمنين، وقيل هو حرف من حروف الهجاء، كالفواتح الواقعة في أوائل السور المفنتحة بذلك، وقد
عرفناك ما هو الحق في مثل هذه الفواتح في أول سورة البقرة، والواو في قوله (والقلم) واو القسم، أقسم الله
بالقلم لما فيه من البيان وهو واقع على كل قلم يكتب به، وقال جماعة من المفسرين: المراد به القلم الذي كتب به
اللوح المحفوظ، أقسم الله به تعظيما له. قال قتادة: القلم من نعمة الله على عباده (وما يسطرون) ما موصولة:
أي والذي يسطرون، والضمير عائد إلى أصحاب القلم المدلول عليهم بذكره، لأن ذكر آلة الكتابة تدل على
الكاتب. والمعنى: والذي يسطرون: أي يكتبون كل ما يكتب، أو الحفظة على ما تقدم. ويجوز أن تكون
ما مصدرية: أي وسطرهم، وقيل الضمير راجع إلى القلم خاصة من باب إسناد الفعل إلى الآلة وإجرائها مجرى
العقلاء، وجواب القسم قوله (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) ما نافية، وأنت اسمها، وبمجنون خبرها. قال
الزجاج: أنت هو اسم ما، وبمجنون خبرها، وقوله (بنعمة ربك) كلام وقع في الوسط: أي انتفى عنك الجنون
بنعمة ربك، كما يقال أنت بحمد الله عاقل، قيل الباء متعلقة بمضمر هو حال، كأنه قيل أنت برئ من الجنون
ملتبسا بنعمة الله التي هي النبوة والرياسة العامة. وقيل الباء للقسم: أي وما أنت ونعمة ربك بمجنون. وقيل
النعمة هنا الرحمة، والآية رد على الكفار حيث قالوا - يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون - (وإن لك لأجرا
أي ثوابا على ما تحملت من أثقال النبوة، وقاسيت من أنواع الشدائد (غير ممنون) أي غير مقطوع، يقال مننت
الحبل إذا قطعته. وقال مجاهد: غير ممنون غير محسوب، وقال الحسن: غير ممنون غير مكدر بالمن. وقال الضحاك:
أجرا بغير عمل، وقيل غير مقدر، وقيل غير ممنون به عليك من جهة الناس (وإنك لعلى خلق عظيم) قيل هو
الإسلام والدين، حكى هذا الواحدي على الأكثرين. وقيل هو القرآن، روى هذا عن الحسن والعوفي. وقال
قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهى عنه من نهى الله. قال الزجاج: المعنى إنك على الخلق الذي أمرك
الله به في القرآن، وقيل هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم، وقيل المعنى: إنك على طبع كريم. قال الماوردي: وهذا
هو الظاهر، وحقيقة الخلق في اللغة ما يأخذ الإنسان نفسه به من الأدب. وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنها
سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن، وهذه الجملة والتي قبلها معطوفتان
على جملة جواب القسم (فستبصر ويبصرون) أي ستبصر يا محمد ويبصر الكفار إذا تبين الحق وانكشف الغطاء
وذلك يوم القيامة (بأيكم المقتون) الباء زائدة للتأكيد: أي أيكم المفتون بالجنون، كذا قال الأخفش وأبو عبيدة
وغيرهما، ومثله قول الشاعر:
267

نحن بنو جعدة أصحاب العلج * نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
وقيل ليست الباء زائدة، والمفتون مصدر جاء على مفعول، كالمعقول والميسور، والتقدير: بأيكم الفتون
أو الفتنة، ومنه قول الشاعر الراعي:
حتى إذا لم يتركوا لعظامه * لحما ولا لفؤاده معقولا
أي عقلا. وقال الفراء: إن الباء بمعنى في: أي في أيكم المفتون، أفي الفريق الذي أنت فيه، أم في الفريق الآخر؟
ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة في أيكم المفتون، وقيل الكلام على حذف مضاف: أي بأيكم فتن المفتون، فحذف
المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، روى هذا عن الأخفش أيضا. وقيل المفتون المعذب، من قول العرب فتنت
الذهب بالنار إذا أحميته، ومنه قوله - يوم هم على النار يفتنون -، وقيل المفتون هو الشيطان، لأنه مفتون في دينه،
والمعنى: بأيكم الشيطان. وقال قتادة: هذا وعيد لهم بعذاب يوم بدر، والمعنى: سترى ويرى أهل مكة إذا
نزل بهم العذاب ببدر بأيكم المفتون، وجملة (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) تعليل للجملة التي
قبلها، فإنها تتضمن الحكم عليهم بالجنون لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل، واختيارهم ما فيه ضرهم
فيهما، والمعنى: هو أعلم بمن ضل عن سبيله الموصل إلى سعادة الدارين (وهو أعلم بالمهتدين) إلى سبيله الموصل
إلى تلك السعادة الآجلة والعاجلة، فهو مجاز كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر (فلا تطع المكذبين)
نهاه سبحانه عن ممايلة المشركين، وهم رؤساء كفار مكة، لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه، فنهاه الله عن
طاعتهم، أو هو تعريض بغيره عن أن يطيع الكفار، أو المراد بالطاعة مجرد المداراة بإظهار خلاف ما في الضمير،
فنهاه الله عن ذلك كما يدل عليه قوله (ودوا لو تدهن فيدهنون) فإن الإدهان هو الملاينة والمسامحة والمداراة.
قال الفراء: المعنى لو تلين فيلينوا لك، وكذا قال الكلبي. وقال الضحاك والسدي: ودوا لو تكفر فيتمادوا على
الكفر. وقال الربيع بن أنس: ودوا لو تكذب فيكذبون. وقال قتادة: ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون
معك. وقال الحسن: ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك. وقال مجاهد: ودوا لو تركن إليهم وتترك
ما أنت عليه من الحق فيما يلونك. قال ابن قتيبة: كانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مدة، ويعبدوا الله مدة،
وقوله " فيدهنون " عطف على تدهن داخل في حيز لو، أو هو خبر مبتدإ محذوف: أي فهم يدهنون. قال
سيبويه: وزعم قالون أنها في بعض المصاحف " ودوا لو تدهن فيدهنوا " بدون نون، والنصب على جواب التمني
المفهوم من ودوا، والظاهر من اللغة في معنى الإدهان هو ما ذكرناه أولا (ولا تطع كل حلاف) أي كثير
الحلف بالباطل (مهين) فعيل من المهانة، وهي القلة في الرأي والتمييز. وقال مجاهد: هو الكذاب. وقال قتادة:
المكثار في الشر، وكذا قال الحسن. وقيل هو الفاجر العاجز، وقيل هو الحقير عند الله، وقيل هو الذليل،
وقيل هو الوضيع (هماز مشاء بنميم) الهماز المغتاب للناس. قال ابن زيد: هو الذي يهمز بأخيه، وقيل الهماز
الذي يذكر الناس فئ وجوههم، واللماز الذي يذكرهم في مغيبهم، كذا قال أبو العالية والحسن وعطاء بن
أبي رباح، وقال مقاتل عكس هذا. والمشاء بنميم: الذي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، يقال نم ينم:
إذا سعى بالفساد بين الناس، ومنه قول الشاعر:
ومولى كبيت النمل لا خير عنده * لمولاه إلا سعيه بنميم
وقيل النميم جمع نميمة (مناع للخير) أي بخيل بالمال لا ينفقه في وجهه، وقيل هو الذي يمنع أهله وعشيرته عن
268

الإسلام. قال الحسن: يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشئ أبدا (معتد أثيم) أي متجاوز الحد
في الظلم كثير الإثم (عتل) قال الواحدي: المفسرون يقولون هو الشديد الخلق الفاحش الخلق. وقال الفراء:
هو الشديد الخصومة في الباطل. وقال الزجاج: هو الغليظ الجافي. وقال الليث: هو الأكول المنوع، يقال
عتلت الرجل أعتله: إذا جذبته جذبا عنيفا، ومنه قول الشاعر: نقرعه قرعا ولسنا نعتله (بعد ذلك
زنيم) أي هو بعد ما عد من معايبه زنيم، والزنيم هو الدعي الملصق بالقوم وليس هو منهم، مأخوذ من الزنمة
المتدلية في حلق الشاة، أو الماعز، ومنه قول حسان:
زنيم تداعاه الرجال زيادة * كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وقال سعيد بن جبير: الزنيم المعروف بالشر، وقيل هو رجل من قريش كان له زنمة كزنمة الشاة، وقيل
هو المظلوم (أن كان ذا مال وبنين) متعلق بقوله " لا تطع " أي لا تطع من هذه مثالبه لكونه ذا مال وبنين. قال
الفراء والزجاج: أي لأن كان، والمعنى: لا تطعه لماله وبنيه. قرأ ابن عامر وأبو جعفر والمغيرة وأبو حيوة " أن
كان " بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام. وقرأ حمزة وأبو بكر والمفضل " أأن كان ": بهمزتين مخففتين، وقرأ
الباقون بهمزة واحدة على الخبر، وعلى قراءة الاستفهام يكون المراد به التوبيخ والتقريع حيث جعل مجازاة النعم
التي خوله الله من المال والبنين أن كفر به وبرسوله. وقرأ نافع في رواية عنه بكسر الهمزة على الشرط، وجملة (إذا
تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) مستأنفة جارية مجرى التعليل للنهي، وقد تقدم معنى أساطير الأولين في
غير موضع (سنسمه على الخرطوم) أي سنسمه بالكي على خرطومه. قال أبو عبيدة وأبو زيد والمبرد: الخرطوم
الأنف. قال مقاتل: سنسمه بالسواد على الأنف، وذلك أنه يسود وجهه قبل دخول النار. قال الفراء: والخرطوم
وإن كان قد خص بالسمة فإنه في مذهب الوجه، لأن بعض الوجه يؤدى عن بعض. قال الزجاج سيجعل له
في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم. وقال قتادة: سنلحق به شيئا لا يفارقه، واختار
هذا ابن قتيبة، قال: والعرب تقول: قد وسمه ميسم سوء يريدون ألصق به عارا لا يفارقه، فالمعنى: أن الله ألحق
به عارا لا يفارقه كالوسم على الخرطوم، وقيل معنى سنسمه: سنحطمه بالسيف. وقال النضر بن شميل: المعنى
سنحده على شرب الخمر، وقد يسمى الخمر بالخرطوم ومنه قول الشاعر:
تظل يومك في لهو وفي طرب * وأنت بالليل شراب الخراطيم
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات والخطيب في تاريخه، والضياء
في المختارة عن ابن عباس قال: إن أول شئ خلقه الله القلم، فقال له اكتب، فقال: يا رب وما أكتب؟ قال:
اكتب القدر، فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، ثم طوى الكتاب ورفع القلم، وكان عرشه
على الماء، فارتفع بخار الماء ففتقت منه السماوات، ثم خلق النون فبسطت الأرض عليه، والأرض على ظهر
النون، فاضطرب النون فمادت الأرض، فأثبتت الجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة، ثم
قرأ ابن عباس (نون والقلم وما يسطرون). وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن مردويه
عن عبادة بن الصامت سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " إن أول ما خلق الله القلم. فقال له اكتب،
فجرى بما هو كائن إلى الأبد ". وأخرج ابن جرير من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعا نحوه. وأخرج ابن
269

جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: إن الله خلق النون، وهي الدواة وخلق القلم، فقال اكتب، قال وما
أكتب؟ قال: اكتب ماهر كائن إلى يوم القيامة. وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا نحوه. وأخرج عبد
ابن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: ن الدواة. وأخرج ابن مردويه عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم " النون السمكة التي عليها قرار الأرضين، والقلم الذي خط به ربنا عز وجل القدر خيره وشره
وضره ونفعه (وما يسطرون) قال: الكرام الكاتبون ". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم
وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله (وما يسطرون) قال: ما يكتبون. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (وما يسطرون) قال: وما يعلمون. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم
وابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن سعد بن هشام قال: أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين أخبريني بخلق
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن (إنك لعلى خلق عظيم).
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والواحدي عنها قالت " ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، فلذلك أنزل الله (وإنك لعلى خلق عظيم) "
وأخرج ابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي الدرداء قال " سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه ". وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي
وصححه وابن مردويه عن أبي عبد الله الجدلي قال " قلت لعائشة: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم؟ قالت: لم يكن فاحشا ولا متفاحشا، ولا صحابا في الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو
ويصفح ". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (فستبصر ويبصرون) قال: تعلم ويعلمون يوم القيامة
(بأيكم المفتون) قال الشيطان، كانوا يقولون إنه شيطان وإنه مجنون. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: بأيكم
المجنون. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (ودوا لو تدهن فيدهنون) يقول: لو ترخص لهم
فيرخصون. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا (ولا تطع كل حلاف مهين) الآية قال: يعني الأسود بن عبد يغوث.
وأخرج ابن مردويه عن أبي عثمان النهدي قال " قال مروان لما بايع الناس ليزيد: سنة أبي بكر وعمر فقال عبد الرحمن
ابن أبي بكر: إنها ليست بسنة أبي بكر وعمر ولكنها سنة هرقل، فقال مروان: هذا الذي أنزل فيه - والذي قال
لوالديه أف لكما - الآية، قال: فسمعت ذلك عائشة فقالت: إنها لم تنزل في عبد الرحمن، ولكن نزل في أبيك
(ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم) ". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال " نزل على
النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم) فلم نعرف حتى نزل عليه بعد ذلك
زنيم، فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة ". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: العتل
هو الدعي، والزنيم هو المريب الذي يعرف بالشر. وأخرج عبد بن حميد وابن عساكر عنه قال: الزنيم: هو
الدعي. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه عنه أيضا قال: الزنيم الذي يعرف بالشر كما
تعرف الشاة بزنمتها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: هو الرجل يمر على القوم، فيقولون رجل سوء. وأخرج ابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (زنيم) قال: ظلوم، وقد قيل إن هذه الآيات نزلت في الأخنس بن
شريق، وقيل في الوليد بن المغيرة.
270

سورة ن (17 - 33)
قوله (إنا بلوناهم) يعني كفار مكة، فإن الله ابتلاهم بالجوع والقحط بدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم عليهم، والابتلاء الاختبار، والمعنى: أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا ابتليناهم بالجوع
والقحط (كما بلونا أصحاب الجنة) المعروف خبرهم عندهم، وذلك أنها كانت بأرض اليمن على فرسخين من صنعاء
لرجل يؤدي حق الله منها، فمات وصارت إلى أولاده، فمنعوا الناس خيرها، وبخلوا بحق الله فيها. قال الواحدي:
هم قوم من ثقيف كانوا باليمن مسلمين ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنات وزرع ونخيل وكان أبوهم يجعل مما فيها
من كل شئ حظا للمساكين عند الحصاد والصرام، فقالت بنوه: المال قليل، والعيال كثير، ولا يسعنا أن
نفعل كما كان يفعل أبونا، وعزموا على حرمان المساكين، فصارت عاقبتهم إلى ما قص الله في كتابه. قال الكلبي:
كان بينهم وبين صنعاء فرسخان بتلاهم الله بأن حرق جنتهم. وقيل هي جنة كانت بصوران، وصوران على
فراسخ من صنعاء، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى بيسير (إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين) أي حلفوا
ليقطعنها داخلين في وقت الصباح، والصرم القطع للثمر والزرع، وانتصاب " مصبحين " على الحال من فاعل
ليصرمنها، والكاف في " كما بلونا " نعت مصدر محذوف: أي بلوناهم ابتلاء كما بلونا، وما مصدرية، أو بمعنى
الذي، وإذ ظرف لبلونا منتصب به، وليصرمنها جواب القسم (ولا يستثنون) يعنى ولا يقولون إن شاء الله،
وهذه الجملة مستأنفة لبيان ما وقع منهم، أو حال. وقيل المعنى: ولا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر
الذي كان يدفعه أبوهم إليهم، قاله عكرمة (فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون) أي طاف على تلك الجنة
طائف من جهة الله سبحانه، والطائف قيل هو نار أحرقتها حتى صارت سوداء، كذا قال مقاتل: وقيل الطائف
جبريل اقتلعها، وجملة (وهم نائمون) في محل نصب على الحال (فأصبحت كالصريم) أي كالشئ الذي صرمت
ثماره: أي قطعت، فعيل بمعنى مفعول. وقال الفراء: كالصريم كالليل المظلم، ومنه قول الشاعر:
تطاول ليلك الجون الصريم * فما ينجاب عن صبح بهيم
والمعنى: أنها حرقت فصارت كالليل الأسود قال: والصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة. وقال الأخفش:
271

أي كالصبح انصرم من الليل، يعنى أنها يبست وابيضت. وقال المبرد: الصريم الليل، والصريم النهار: أي
ينصرم هذا عن هذا، وذاك عن هذا، وقيل سمى الليل صريما لأنه يقطع بظلمته عن التصرف. وقال المؤرج:
الصريم الرملة لأنها لا يثبت عليها شئ ينتفع به. وقال الحسن: صرم منها الخير: أي قطع (فتنادوا مصبحين) أي
نادى بعضهم بعضا داخلين في الصباح. قال مقاتل: لما أصبحوا قال بعضهم لبعض (أن اغدوا على حرثكم)
و " أن " في قوله " أن اغدوا " هي المفسرة لأن في التنادي معنى القول، أو هي المصدرية: أي بأن اغدوا، والمراد
اخرجوا غدوة، والمراد بالحرث الثمار والزرع (إن كنتم صارمين) أي قاصدين للصرم، والغدو يتعدى بإلى
وعلى، فلا حاجة إلى تضمينه معنى الإقبال كما قيل، وجواب الشرط محذوف: أي إن كنتم صارمين فاغدوا،
وقيل معنى صارمين ماضين في العزم، من قولك سيف صارم (فانطلقوا وهم يتخافتون) أي ذهبوا إلى جنتهم وهم
يسرون الكلام بينهم لئلا يعلم أحد بهم، يقال خفت يخفت: إذا سكن ولم ينبس، ومنه قول دريد بن الصمة:
وإني لم أهلك ملالا ولم أمت * خفاتا وكلا ظنه بي عويمر
وقيل المعنى: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم، فيقصدوهم كما كانوا يقصدون أباهم وقت الحصاد،
والأول أولى لقوله (أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين) فإن أن هي المفسرة للتخافت المذكور لما فيه من معنى القول
والمعنى: يسر بعضهم إلى بعض هذا القول، وهو لا يدخل هذه الجنة اليوم عليكم مسكين، فيطلب منكم أن
تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم (وغدوا على حرد قادرين) الحرد يكون بمعنى المنع والقصد. قال قتادة ومقاتل
والكلبي والحسن ومجاهد: الحرد هنا بمعنى القصد، لأن القاصد إلى الشئ حارد يقال: حرد يحرد إذا قصد،
تقول: حردت حردك: أي قصدت قصدك، ومنه قول الراجز:
أقبل سيل جاء من عند الله * يحرد حرد الجنة المحله
وقال أبو عبيدة والمبرد والقتيبي: على حرد على منع، من قولهم حردت الإبل حردا: إذا قلت ألبانها،
والحرود من النوق هي القليلة اللبن. وقال السدي وسفيان والشعبي (على حرد) على غضب، ومنه قول الشاعر:
إذا جياد الخيل جاءت تردى * مملوءة من غضب وحرد
وقول الآخر: تساقوا على حرد دماء الأساود ومنه قيل أسد حارد. وروى عن قتادة ومجاهد
أيضا أنهما قالا: على حرد: أي على حسد. وقال الحسن أيضا: على حاجة وفاقة. وقيل على حرد: على انفراد،
يقال حرد يحرد حردا أو حرودا: إذا تنحى عن قومه ونزل منفردا عنهم ولم يخالطهم، وبه قال الأصمعي وغيره.
وقال الأزهري: حرد اسم قريتهم، وقال السدي: اسم جنتهم. قرأ الجمهور " حرد " بسكون الراء. وقرأ
أبو العالية وابن السميفع بفتحها، وانتصاب (قادرين) على الحال. قال الفراء: ومعنى قادرين: قد قدروا
أمرهم وبنوا عليه، وقال قتادة: قادرين على جنتهم عند أنفسهم. وقال الشعبي: يعنى قادرين على المساكين
(فلما رأوها) أي لما رأوا جنتهم وشاهدوا ما قد حل بها من الآفة التي أذهبت ما فيها (قالوا إنا لضالون) أي قال
بعضهم لبعض: قد ضللنا طريق جنتنا وليست هذه، ثم لما تأملوا وعلموا أنها جنتهم، وأن الله سبحانه قد عاقبهم
بإذهاب ما فيها من الثمر والزرع قالوا (بل نحن محرومون) أي حرمنا جنتنا بسبب ما وقع منا من العزم على منع
المساكين من خيرها، فأضربوا عن قولهم الأول إلى هذا القول، وقيل معنى قولهم (إنا لضالون) أنهم ضلوا عن
الصواب بما وقع منهم (قال أوسطهم) أي أمثلهم وأعقلهم وخيرهم (ألم أقل لكم لولا تسبحون) أي هلا
272

تسبحون: يعني تستثنون، وسمى الاستثناء تسبيحا، لأنه تعظيم لله وإقرار به، وهذا يدل على أن أوسطهم كان
أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه، وقال مجاهد وأبو صالح وغيرهما: كان استثناؤهم تسبيحا. قال النحاس: أصل
التسبيح التنزيه لله عز وجل، فجعل التسبيح في موضع إن شاء الله. وقيل المعنى: هلا تستغفرون الله من فعلكم
وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها، وكأن أوسطهم قد قال لهم ذلك، فلما قال لهم ذلك بعد مشاهدتهم
للجنة على تلك الصفة (قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين) أي تنزيها له عن أن يكون ظالما فيما صنع بجنتنا، فإن
ذلك بسبب ذنبنا الذي فعلناه، وقيل معنى تسبيحهم الاستغفار: أي نستغفر ربنا من ذنبنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا
في منعنا للمساكين (فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) أي يلوم بعضهم بعضا في منعهم للمساكين وعزمهم على
ذلك، ثم نادوا على أنفسهم بالويل حيث (قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين) أي عاصين متجاوزين حدود الله بمنع
الفقراء وترك الاستثناء. قال ابن كيسان: أي طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها أبونا من قبل، ثم رجعوا إلى الله
وسألوه أن يعوضهم بخير منها فقالوا (عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها) لما اعترفوا بالخطيئة رجوا من الله عز وجل
أن يبدلهم جنة خيرا من جنتهم، قيل إنهم تعاقدوا فيما بينهم وقالوا إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنع أبونا،
فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم من ليلتهم ما هو خير منها. قرأ الجمهور " يبدلنا " بالتخفيف، وقرأ أبو عمرو وأهل
المدينة بالتشديد، وهما لغتان، والتبديل تغيير ذات الشئ، أو تغيير صفته، والإبدال رفع الشئ جملة ووضع
آخر مكانه، كما مضى في سورة سبأ (إنا إلى ربنا راغبون) أي طالبون منه الخير راجون لعفوه راجعون إليه
وعدى بإلى وهو إنما يتعدى بعن أو في لتضمينه معنى الرجوع (كذلك العذاب) أي مثل ذلك العذاب الذي
بلوناهم به وبلونا أهل مكة عذاب الدنيا، والعذاب مبتدأ مؤخر، وكذلك خبره (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا
يعلمون) أي أشد وأعظم لو كان المشركون يعلمون أنه كذلك ولكنهم لا يعلمون.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (كما بلونا أصحاب الجنة) قال: هم ناس من الحبشة كان
لأبيهم جنة وكان يطعم منها المساكين، فمات أبوهم فقال بنوه: أن كان أبونا لأحمق كان يطعم المساكين (فأقسموا
(ليصر منها مصبحين) وأن لا يطعموا مسكينا. وأخرج ابن جرير عنه (فطاف عليها طائف) قال: أمر من الله
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" إياكم والمعصية، فإن العبد ليذنب الذنب الواحد فينسى به الباب من العلم، وإن العبد ليذنب فيحرم به قيام
الليل، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا قد كان هيئ له. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم (فطاف عليهم طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم) قد حرموا خير جنهم بذنبهم ". وأخرج
عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (كالصريم) قال: مثل
الليل الأسود. وأخرج ابن المنذر عنه (وهم يتخافتون) قال: الإسرار والكلام الخفي. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر عنه أيضا (على حرد قادرين) يقول ذو قدرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (إنا لضالون)
قال: أضللنا مكان جنتنا. وأخرجا عنه أيضا (قال أوسطهم) قال: أعدلهم.
273

سورة ن (40 - 52)
لما فرغ سبحانه من ذكر حال الكفار، وتشبيه ابتلائهم بابتلاء أصحاب الجنة المذكورة ذكر حال المتقين
وما أعده لهم من الخير، فقال (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم) أي المتقين ما يوجب سخطه من الكفر والمعاصي
عنده عز وجل في الدار الآخرة جنات النعيم الخالص الذي لا يشوبه كدر ولا ينغصه خوف زوال (أفنجعل
المسلمين كالمجرمين) الاستفهام للإنكار، وكان صناديد كفار قريش يرون وفور حظهم في الدنيا وقلة حظوظ
المسلمين فيها، فلما سمعوا بذكر الآخرة، وما يعطى الله المسلمين فيها قالوا: إن صح ما يزعمه محمد لم يكن حالنا
وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، فقال الله مكذبا لهم رادا عليهم: أفنجعل المسلمين الآية، والفاء للعطف على مقدر
كنظائره. ثم وبخهم الله، فقال (ما لكم كيف تحكمون) هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاء مفوض إليكم تحكمون
فيه بما شئتم (أم لكم كتاب فيه تدرسون) أي تقرؤون فيه فتجدون المطيع كالعاصي، ومثل هذا قوله تعالى - أم لكم
سلطان مبين فأتوا بكتابكم - ثم قال سبحانه (إن لكم فيه لما تخيرون) قرأ الجمهور بكسر إن على أنها معمولة
لتدرسون: أي تدرسون في الكتاب (إن لكم فيه لما تخيرون) فلما دخلت اللام كسرت الهمزة كقوله: علمت
إنك لعاقل بالكسر، أو على الحكاية للمدروس، كما في قوله - وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في
العالمين - وقيل قد تم الكلام عند قوله (تدرسون) ثم ابتدأ فقال (إن لكم فيه لما تخيرون) أي ليس لكم ذلك،
وقرأ طلحة بن مصرف والضحاك " أن لكم " بفتح الهمزة على أن العامل فيه تدرسون مع زيادة لام التأكيد
ومعنى (تخيرون) تختارون وتشهون. ثم زاد سبحانه في التوبيخ فقال (أم لكم أيمان علينا بالغة) أي عهود
مؤكدة موثقة متناهية، والمعنى أم لكم أيمان على الله استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة، وقوله (إلى يوم القيامة)
متعلق بالمقدر في لكم أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها حتى يحكمكم يومئذ، وجواب القسم قوله (إن
لكم لما تحكمون) لأن معنى (أم لكم أيمان) أي أم أقسمنا لكم. قال الرازي: والمعنى أم ضمنا لكم وأقسمنا لكم
274

بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد. وقيل قد تم الكلام عند قوله (إلى يوم القيامة) ثم ابتدأ فقال (إن لكم لما
تحكمون) أي ليس الأمر كذلك. قرأ الجمهور " بالغة " بالرفع على النعت لأيمان، وقرأ الحسن وزيد بن علي
بنصبها على الحال من أيمان، لأنها قد تخصصت بالوصف، أو من الضمير في لكم أو من الضمير في علينا (سلهم
أيهم بذلك زعيم) أي سل يا محمد الكفار موبخا لهم ومقرعا أيهم بذلك الحكم الخارج عن الصواب كفيل لهم بأن لهم
في الآخرة ما للمسلمين فيها. وقال ابن كيسان: الزعيم هنا القائم بالحجة والدعوى. وقال الحسن: الزعيم الرسول
(أم لهم شركاء) يشاركونهم في هذا القول ويوافقونهم فيه (فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين) فيما يقولون
وهو أمر تعجيز، وجواب الشرط محذوف، وقيل المعنى أم لهم شركاء يجعلونهم مثل المسلمين في الآخرة (يوم
يكشف عن ساق) يوم ظرف لقوله فليأتوا: أي فليأتوا بها يوم يكشف عن ساق، ويجوز أن يكون ظرفا لفعل
مقدر: أي أذكر يوم يكشف. قال الواحدي: قال المفسرون في قوله (عن ساق) عن شدة من الأمر. قال
ابن قتيبة: أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه شمر عن ساقه، فيستعار الكشف عن
الساق في موضع الشدة، وأنشد لدريد بن الصمة:
كميش الإزار خارج نصف ساقه * صبور على الجلاء طلاع أنجد
وقال: وتأويل الآية يوم يشتد الأمر كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن ساق. قال أبو عبيدة: إذا
اشتد الحرب والأمر قيل كشف الأمر عن ساقه، والأصل فيه من وقع في شئ يحتاج فيه إلى الجد شمر عن
ساقه، فاستعير الساق والكشف عن موضع الشدة، وهكذا قال غيره من أهل اللغة، وقد استعملت ذلك العرب
في أشعارها، ومن ذلك قول الشاعر:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها * وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقول آخر: والخيل تعدو عند وقت الاشراق * وقامت الحرب بنا على ساق *
وقول آخر أيضا:
قد كشفت عن ساقها فشدوا * وجدت الحرب بكم فجدوا
وقول آخر أيضا في سنة:
قد كشفت عن ساقها حمرا * ءتبرى اللحم عن عراقها
وقيل ساق الشئ: أصله وقوامه كساق الشجرة، وساق الإنسان: أي يوم يكشف عن ساق الأمر فتظهر
حقائقه، وقيل يكشف عن ساق جهنم، وقيل عن ساق العرش، وقيل هو عبارة عن القرب، وقيل يكشف
الرب سبحانه عن نوره، وسيأتي في آخر البحث ما هو الحق، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. قرأ الجمهور
" يكشف " بالتحية مبنيا للمفعول، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن أبي عبلة " تكشف " بالفوقية مبنيا للفاعل:
أي الشدة أو الساعة، وقرئ بالفوقية مبنيا للمفعول، وقرئ بالنون، وقرئ بالفوقية المضمومة وكسر الشين
من أكشف الأمر: أي دخل في الكشف (ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) قال الواحدي: قال المفسرون:
يسجد الخلق كلهم لله سجدة واحدة ويبقى الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون، لأن أصلابهم
تيبس فلا تلين للسجود. قال الربيع بن أنس: يكشف عن الغطاء فيقع من كان أمن بالله في الدنيا فيسجدون له،
ويدعى الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون، لأنهم لم يكونوا آمنوا بالله في الدنيا، وانتصاب (خاشعة أبصارهم)
على الحال من ضمير يدعون، وأبصارهم مرتفع به على الفاعلية، ونسبة الخشوع إلى الأبصار، وهو الخضوع
275

والذلة لظهور أثره فيها (ترهقهم ذلة) أي تغشاهم ذلة شديدة وحسرة وندامة (وقد كانوا يدعون إلى السجود)
أي في الدنيا (وهم سالمون) أي معافون عن العلل متمكنون من الفعل. قال إبراهيم التيمي: يدعون بالأذان
والإقامة فيأبون. وقال سعيد بن جبير: يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون. قال كعب الأحبار: والله ما نزلت
هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات. وقيل يدعون بالتكليف المتوجه عليهم بالشرع فلا يجيبون،
وجملة (وهم سالمون) في محل نصب على الحال من ضمير يدعون (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث) أي حل
بيني وبينه وكل أمره إلى فأنا أكفيكه. قال الزجاج: معناه لا يشتغل به قلبك، كله إلى فأنا أكفيك أمره. والفاء
لترتيب ما بعدها من الأمر على ما قبلها، و " من " منصوب بالعطف على ضمير المتكلم أو على أنه مفعول معه،
والمراد بهذا الحديث القرآن، قاله السدى. وقيل يوم القيامة، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وجملة (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) مستأنفة لبيان كيفية التعذيب لهم المستفاد من قوله " ذرني ومن يكذب
بهذا الحديث "، والضمير عائد إلى من باعتبار معناها، والمعنى: سنأخذهم بالعذاب على غفلة ونسوقهم إليه
درجة فدرجة حتى نوقعهم فيه من حيث لا يعلمون أن ذلك استدراج، لأنهم يظنونه إنعاما ولا يفكرون في عاقبته
وما سيلقون في نهايته. قال سفيان الثوري: يسبغ عليهم النعم وينسيهم الشكر. وقال الحسن: كم من مستدرج
بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه. والاستدراج ترك المعاجلة، وأصله
النقل من حال إلى حال، ويقال استدرج فلان فلانا: أي استخرج ما عنده قليلا قليلا، ويقال درجة إلى كذا
واستدرجه: يعنى أدناه إلى التدريج فتدرج هو. ثم ذكر سبحانه أنه يمهل الظالمين فقال (وأملى لهم) أي أمهلهم
ليزدادوا إثما، وقد مضى تفسير هذا في سورة الأعراف والطور، وأصل الملاوة المدة من الدهر، يقال أملي الله
له: أي أطال له المدة، والملا: مقصور الأرض الواسعة، سميت به لامتدادها (إن كيدي متين) أي قوي
شديد فلا يفوتني شئ، وسمى سبحانه إحسانه كيدا كما سماه استدراجا لكونه في صورة الكيد باعتبار عاقبته
ووصفه بالمتانة لقوة أثره في التسبب للهلاك (أم تسألهم أجرا) أعاد سبحانه الكلام إلى ما تقدم من قوله - أم لهم شركاء -
أي أم تلتمس منهم ثوابا على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله (فهم من مغرم مثقلون) المغرم الغرامة: أي فهم من
غرامة ذلك الأجر، ومثقلون: أي يثقل عليهم حمله لشحهم ببذل المال، فأعرضوا عن إجابتك بهذا السبب،
والاستفهام للتوبيخ والتقريع لهم، والمعنى: أنك لم تسألهم ذلك ولم تطلبه منهم (أم عندهم الغيب فهم يكتبون) أي
اللوح المحفوظ، أو كل ما غاب عنهم، فهم من ذلك الغيب يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدل
على قولهم ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك ويحكمون لأنفسهم بما يريدون ويستغنون بذلك عن الإجابة لك
والامتثال لما تقوله (فاصبر لحكم ربك) أي لقضائه الذي قد قضاه في سابق علمه، قيل والحكم هنا هو إمهالهم
وتأخير نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم، وقيل هو ما حكم به عليه من تبليغ الرسالة، قيل وهذا
منسوخ بآية السيف (ولا تكن كصاحب الحوت) يعنى يونس عليه السلام: أي لا تكن مثله في الغضب والضجر
والعجلة والظرف في قوله (إذ نادى) منصوب بمضاف محذوف: أي لا تكن حالك كحالة وقت ندائه، وجملة
(وهو مكظوم) في محل نصب على الحال من فاعل نادى، والمكظوم المملوء غيظا وكربا. قال قتادة: إن الله
يعزى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ويأمره بالصبر ولا يعجل كما عجل صاحب الحوت، وقد تقدم بيان قصته
في سورة الأنبياء ويونس والصافات، وكان النداء منه بقوله - لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين -
276

وقيل إن المكظوم: المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس. قاله المبرد، وقيل هو المحبوس، والأول أولى، ومنه
قول ذي الرمة:
وأنت من حب مى مضمر حزنا * عانى الفؤاد قريح القلب مكظوم
(لولا أن تداركه نعمة من ربه) أي لولا أن تدارك صاحب الحوت نعمة من الله وهي توفيقه للتوبة فتاب الله
عليه (لنبذ بالعراء) أي لألقى من بطن الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات (وهو مذموم) أي يذم
ويلام بالذنب الذي أذنبه ويطرد من الرحمة، والجملة في محل نصب على الحال من ضمير نبذ. قال الضحاك:
النعمة هنا النبوة. وقال سعيد بن جبير: عبادته التي سلفت. وقال ابن زيد، هي نداؤه بقوله - لا إله إلا أنت
سبحانك إني كنت من الظالمين - وقيل مذموم مبعد. وقيل مذنب. قرأ الجمهور " تداركه " على صيغة الماضي،
وقرأ الحسن وابن هرمز والأعمش بتشديد الدال، والأصل تتداركه بتاءين مضارعا فأدغم، وتكون هذه القراءة
على حكاية الحال الماضية، وقرأ أبي وابن مسعود وابن عباس " تداركته " بتاء التأنيث (فاجتباه ربه) أي استخلصه
واصطفاه واختاره للنبوة (فجعله من الصالحين) أي الكاملين في الصلاح وعصمه من الذنب، وقيل رد إليه
النبوة وشفعه في نفسه وفي قومه وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون كما تقدم (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك
بأبصارهم) إن هي المخففة من الثقيلة. قرأ الجمهور " ليزلقونك " بضم الياء من أزلقه: أي أزل رجله، يقال أزلقه
عن موضعه إذا نحاه، وقرأ نافع وأهل المدينة بفتحها من زلق عن موضعه: إذا تنحى. قال الهروي: أي
فيغتالونك بعيونهم فيزلقونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك، وقرأ ابن عباس وابن مسعود والأعمش
ومجاهد وأبو وائل " ليرهقونك " أي يهلكونك. وقال الكلبي " يزلقونك " أي يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ
الرسالة، وكذا قال السدى وسعيد بن جبير. وقال النضر بن شميل والأخفش: يفتنونك. وقال الحسن وابن
كيسان: ليقتلونك. قال الزجاج في الآية مذهب أهل اللغة والتأويل أنهم من شدة إبغاضهم وعداوتهم يكادون
ينظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك، وهذا مستعمل في الكلام، يقول القائل نظر إلى نظرا يكاد يصرعني، ونظرا
يكاد يأكلني. قال ابن قتيبة: ليس يريد الله أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه، وإنما أراد
أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك، كما قال الشاعر:
يتعارضون إذا التقوا في مجلس * نظرا يزيل مواطئ الأقدام
(لما سمعوا الذكر) أي وقت سماعهم للقرآن لكراهتهم لذلك أشد كراهة، ولما ظرفية منصوبة بيزلقونك،
وقيل هي حرف، وجوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك (ويقولون إنه مجنون) أي
ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن، فرد الله عليهم بقوله (وما هو إلا ذكر للعالمين) والجملة مستأنفة، أو
في محل نصب على الحال من فاعل يقولون: أي والحال أنه تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه، أو شرف لهم
كما قال سبحانه - وإنه لذكر لك ولقومك - وقيل الضمير لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنه مذكر للعالمين
أو شرف لهم.
وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " يكشف
ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود
ظهره طبقا واحدا " وهذا الحديث ثابت من طرق في الصحيحين وغيرهما، وله ألفاظ في بغضها طول، وهو
277

حديث مشهور معروف. وأخرج ابن منده عن أبي هريرة في الآية قال: يكشف الله عز وجل عن ساقه. وأخرج
عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن منده عن ابن مسعود في الآية قال: يكشف عن ساقه تبارك وتعالى، وأخرج
أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات وضعفه وابن عساكر عن أبي موسى
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية قال " عن تور عظيم فيخرون له سجدا ". وأخرج الفريابي وسعيد بن
منصور وابن منده والبيهقي عن إبراهيم النخعي عن ابن عباس في الآية قال: يكشف عن أمر عظيم، ثم قال: قد
قامت الحرب على ساق. قال: وقال ابن مسعود: يكشف عن ساقه فيسجد كل مؤمن، ويقسو ظهر الكافر
فيصير عظما واحدا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات
عن ابن عباس أنه سئل عن قوله (يوم يكشف عن ساق) قال: إذا خفى عليكم شئ من القرآن فابتغوه في الشعر
فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق قال ابن عباس: هذا يوم
كرب شديد، روى عنه نحو هذا من طرق أخرى، وقد أغنانا الله سبحانه في تفسير هذه الآية بما صح عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما عرفت، وذلك لا يستلزم تجسيما ولا تشبيها فليس كمثله شئ.
دعوا كل قول عند قول محمد * فما آمن في دينه كمخاطر
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) قال: هم الكفار
يدعون في الدنيا وهم آمنون فاليوم يدعون وهم خائفون. وأخرج البيهقي في الشعب عنه في الآية قال: الرجل
يسمع الأذان فلا يجيب الصلاة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا في قوله (ليزلقونك
بأبصارهم) قال: ينفذونك بأبصارهم.
تفسير سورة الحاقة
هي إحدى وخمسون آية، وقيل اثنتان وخمسون
وهي مكية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن
عباس قال: نزلت سورة الحاقة بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الطبراني عن أبي برزة
" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الفجر بالحاقة ونحوها ".
سورة الحاقة (1 - 9)
278

قوله (الحاقة) هي القيامة، لأن الأمر يحق فيها، وهي تحق في نفسها من غير شك. قال الأزهري: يقال حاققته
فحققته أحقه غالبته فغلبته أغلبه فالقيامة حاقة لأنها تحاق كل محاق في دين الله بالباطل وتخصم كل مخاصم. وقال
في الصحاح: حاقه أي خاصمه في صغار الأشياء، ويقال ماله فيها حق ولا حقاق ولا خصومة، والتحاق
التخاصم، والحاقة والحقة والحق ثلاث لغات بمعنى. قال الواحدي: هي القيامة في قول كل المفسرين، وسميت
بذلك لأنها ذات الحواق من الأمور، وهي الصادقة الواجبة الصدق، وجميع أحكام القيامة صادقة واجبة
الوقوع والوجود. قال الكسائي والمؤرج: الحاقة يوم الحق، وقيل سميت بذلك لأن كل إنسان فيها حقيق بأن
يجزى بعمله، وقيل سميت بذلك لأنها أحقت لقوم النار، وأحقت لقوم الجنة، وهي مبتدأ وخبرها قوله
(ما الحاقة) على أن ما الاستفهامية مبتدأ ثان وخبره الحاقة، والجملة خبر للمبتدأ الأول، والمعنى: أي شئ هي
في حالها أو صفاتها، وقيل إن ما الاستفهامية خبر لما بعدها، وهذه الجملة وإن كان لفظها لفظ الاستفهام فمعناها
التعظيم والتفخيم لشأنها كما تقول: زيد ما زيد، وقد قدمنا تحقيق هذا المعنى في سورة الواقعة. ثم زاد سبحانه
في تفخيم أمرها وتفظيع شأنها وتهويل حالها فقال (وما أدراك ما الحاقة) أي أي شئ أعلمك ما هي؟ أي كأنك
لست تعلمها إذا لم تعانيها وتشاهد ما فيها من الأهوال فكأنها خارجة عن دائرة علم المخلوقين. قال يحيى بن سلام:
بلغني أن كل شئ في القرآن، وما أدراك. فقد أدراه إياه وعلمه، وكل شئ قال فيه وما يدريك فإنه أخبره به،
وما مبتدأ، وخبره أدراك، وما الحاقة جملة من مبتدأ وخبر محلها النصب بإسقاط الخافض، لأن أدرى يتعدى إلى
المفعول الثاني بالباء كما في قوله - ولا أدراكم به - فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول
الثاني، وبدون الهمزة يتعدى إلى مفعول واحد بالباء نحو دريت بكذا، وإن كان بمعنى العلم تعدى إلى مفعولين،
وجملة وما أدراك معطوفة على جملة ما الحاقة (كذبت ثمود وعاد بالقارعة) أي بالقيامة، وسميت بذلك لأنها تقرع
الناس بأهوالها. وقال المبرد: عنى بالقارعة القرآن الذي نزل في الدنيا على أنبيائهم، وكانوا يخوفونهم بذلك
فيكذبونهم، وقيل القارعة مأخوذة من القرعة لأنها ترفع أقواما وتحط آخرين، والأول أولى، ويكون وضع
القارعة موضع ضمير الحاقة للدلالة على عظيم هو لها وفظاعة حالها والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوال الحاقة (فأما
ثمود فأهلكوا بالطاغية) ثمود هم قوم صالح، وقد تقدم بيان هذا في غير موضع وبيان منازلهم وأين كانت،
والطاغية الصحيحة التي جاوزت الحد، وقيل بطغيانهم وكفرهم، وأصل الطغيان مجاوزة الحد (وأما عاد فأهلكوا
بريح صرصر) عاد هم قوم هود، وقد تقدم بيان هذا، وذكر منازلهم، وأين كانت في غير موضع، والريح
الصرصر هي الشديدة البرد، مأخوذ من الصر وهو البرد، وقيل هي الشديدة الصوت. وقال مجاهد: الشديدة
279

السموم، والعاتية التي عنت عن الطاعة فكأنها عتت على خزانها، فلم تطعهم ولم يقدروا على ردها لشدة هبوبها،
أوعتت على عاد فلم يقدروا على ردها، بل أهلكتهم (سخرها عليهم سبع ليال) هذه الجملة مستأنفة لبيان كيفية
إهلاكهم، ومعنى سخرها سلطها، كذا قال مقاتل، وقيل أرسلها، وقال الزجاج: أقامها عليهم كما شاء،
والتسخير: استعمال الشئ بالاقتدار، ويجوز أن تكون هذه الجملة صفة لريح، وأن تكون حالا منها لتخصيصها
بالصفة، أو من الضمير في عاتية (وثمانية أيام) معطوف على سبع ليال، وانتصاب (حسوما) على الحال: أي
ذات حسوم، أو على المصدر بفعل مقدر: أي تحسمهم حسوما، أو على أنه مفعول به، والحسوم التتابع،
فإذا تتابع الشئ ولم ينقطع أوله عن آخره قيل له الحسوم. قال الزجاج: الذي توجبه اللغة في معنى قوله حسوما:
أي تحسمهم حسوما تفنيهم وتذهبهم. قال النضر بن شميل: حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم. وقال الفراء: الحسوم
الاتباع، من حسم الداء وهو الكي، لأن صاحبه يكوى بالمكواة، ثم يتابع ذلك عليه ومنه قول أبي دؤاد:
يفرق بينهم زمن طويل * تتابع فيه أعواما حسوما
وقال المبرد: هو من قولك حسمت الشئ: إذا قطعته وفصلته عن غيره، وقيل الحسم الاستئصال، ويقال
للسيف حسام لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته، والمعنى: أنها حسمتهم: أي قطعتهم وأذهبتهم،
ومنه قول الشاعر:
فأرسلت ريحا دبورا عقيما * فدارت عليهم فكانت حسوما
قال ابن زيد: أي حسمتهم فلم تبق منهم أحدا. وروى عنه أنه قال: حسمت الأيام والليالي حتى استوفتها،
لأنها بدأت بطلوع الشمس من أول يوم وانقطعت بغروب الشمس من آخر يوم. وقال الليث: الحسوم هي
الشؤم: أي تحسم الخير عن أهلها، كقوله - في أيام نحسات -.
واختلف في أولها، فقيل غداة الأحد، وقيل غداة الجمعة، وقيل غداة الأربعاء. قال وهب: وهذه الأيام
هي التي تسميها العرب أيام العجوز، كان فيها برد شديد وريح شديدة، وكان أولها يوم الأربعاء، وآخرها يوم
الأربعاء (فترى القوم فيها صرعى) الخطاب لكل من يصلح له على تقدير أنه لو كان حاضرا حينئذ لرأى ذلك،
والضمير في فيها يعود إلى الليالي والأيام، وقيل إلى مهاب الريح، والأول أولى. وصرعى جمع صريع: يعني
موتى (كأنهم أعجاز نخل خاوية) أي أصول نخل ساقطة، أو بالية، وقيل خالية لا جوف فيها، والنخل يذكر
ويؤنث، ومثله قوله - كأنهم أعجاز نخل منقعر - وقد تقدم تفسيره وهو إخبار عن عظم أجسامهم. قال يحيى بن
سلام: إنما قال خاوية لأن أبدانهم خلت من أرواحهم مثل النخل الخاوية (فهل ترى لهم من باقية) أي من فرقة
باقية، أو من نفس باقية، أو من بقية على أن باقية مصدر كالعاقبة والعافية. قال ابن جريج: أقاموا سبع ليال
وثمانية أيام أحياء في عذاب الريح فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر (وجاء
فرعون ومن قبله) أي من الأمم الكافرة. قرأ الجمهور قبله بفتح القاف وسكون الباء: أي ومن تقدمه من القرون
الماضية والأمم الخالية وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر القاف وفتح الباء: أي ومن هو في جهته من أتباعه، واختار
أبو حاتم وأبو عبيد القراءة الثانية لقراءة ابن مسعود وأبي ومن معه، ولقراءة أبي موسى ومن يلقاه (والمؤتفكات)
قرأ الجمهور " المؤتفكات " بالجمع وهي قرى قوم لوط، وقرأ الحسن والجحدري " المؤتفكة " بالإفراد، واللام
للجنس، فهي في معنى الجمع، والمعنى: وجاءت المؤتفكات (بالخاطئة) أي بالفعلة الخاطئة)، أو الخطأ على
أنها مصدر. والمراد أنها جاءت بالشرك والمعاصي. قال مجاهد: بالخطايا، وقال الجرجاني: بالخطأ العظيم
280

(فعصوا رسول ربهم) أي فعصت كل أمة رسولها المرسل إليها. قال الكلبي: هو موسى، وقيل لوط لأنه
أقرب، قيل ورسول هنا بمعنى رسالة، ومنه قول الشاعر:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم * بسر ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة (فأخذهم أخذة رابية) أي أخذهم الله أخذة نامية زائدة على أخذات الأمم، والمعنى: أنها بالغة
في الشدة إلى الغاية، يقال ربي الشئ يربو: إذا زاد وتضاعف. قال الزجاج: تزيد على الأخذات. قال مجاهد:
شديدة (إنا لما طغى الماء) أي تجاوز حدة في الارتفاع والعلو، وذلك في زمن نوح لما أصر قومه على الكفر
وكذبوه، وقيل طغى على خزانه من الملائكة غضبا لربه فلم يقدروا على حبسه، قال قتادة: زاد على كل شئ
خمسة عشر ذراعا (حملناكم في الجارية) أي في أصلاب آبائكم، أو حملناهم وحملناكم في أصلابهم تغليبا للمخاطبين على
الغائبين. والجارية سفينة نوح، وسميت جارية لأنها تجري في الماء، ومحل في الجارية النصب على الحال: أي
رفعناكم فوق الماء حال كونكم في السفينة، ولما كان المقصود من ذكر قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من
العذاب زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول قال (لنجعلها لكم تذكرة) أي لنجعل هذه الأمور
المذكورة لكم يا أمة محمد عبرة وموعظة تستدلون بها على عظيم قدرة الله وبديع صنعه، أو لنجعل هذه الفعلة التي
هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين لكم تذكرة (وتعيها أذن واعية) أي تحفظها بعد سماعها أذن حافظة
لما سمعت. قال الزجاج: يقال أوعيت كذا: أي حفظته في نفسي أعيه وعيا، ووعيت العلم ووعيت ما قلته
كله بمعنى، وأوعيت المتاع في الوعاء، ويقال لكل ما وعيته في غير نفسك أوعيته بالألف ولما حفظته في نفسك
وعيته بغير ألف. قال قتادة في تفسير الآية: أذن سمعت وعقلت ما سمعت. قال الفراء: المعنى لتحفظها كل أذن
عظة لمن يأتي بعد. قرأ الجمهور " تعيها " بكسر العين. وقرأ طلحة بن مصرف وحميد الأعرج وأبو عمرو في رواية
عنه بإسكان العين تشبيها لهذه الكلمة برحم وشهد وإن لم تكن من ذلك. قال الرازي: وروى عن ابن كثير إسكان
العين، جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة كلمة واحدة فخفف وأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من فخذ
وكبد وكتف انتهى والأولى أن يكون هذا من باب إجراء الوصل مجرى الوقف كما في قراءة من قرأ - وما يشعركم -
بسكون الراء، قال القرطبي: واختلفت القراءة فيها عن عاصم وابن كثير: يعني تعيها (فإذا نفخ في الصور نفخة
واحدة) هذا شروع في بيان الحاقة وكيف وقوعها بعد بيان شأنها بإهلاك المكذبين. قال عطاء: يريد النفخة
الأولى. وقال الكلبي ومقاتل يريد النفخة الأخيرة. قرأ الجمهور " نفخة واحدة " بالرفع فيهما على أن نفخة مرتفعة
على النيابة، وواحدة تأكيد لها، وحسن تذكير الفعل لوقوع الفصل. وقرأ أبو السماك بنصبهما على أن النائب هو
الجار والمجرور. قال الزجاج: قوله (في الصور) يقوم مقام ما لم يسم فاعله (وحملت الأرض والجبال) أي
رفعت من أماكنها وقلعت عن مقارها بالقدرة الإلهية. قرأ الجمهور " حملت " بتخفيف الميم. وقرأ الأعمش وابن
أبي عبلة وابن مقسم وابن عامر في رواية عنه بتشديدها للتكثير أو للتعدية (فدكتا دكة واحدة) أي فكسرتا كسرة
واحدة لا زيادة عليها، أو ضربتا ضربة واحدة بعضهما ببعض حتى صارتا كثيبا مهيار وهباء منبثا. قال الفراء:
ولم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة، ومثله قوله تعالى - أولم ير الذين كفروا أن السماوات
والأرض كانتا رتقا ففتقناهما - وقيل دكتا بسطتا بسطة واحدة، ومنه اندك إلى سنام البعير: إذا انفرش على ظهره
(فيومئذ وقعت الواقعة) أي قامت القيامة (وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) أي انشقت بنزول ما فيها من الملائكة
281

فهي في ذلك اليوم ضعيفة مسترخية. قال الزجاج: يقال لكل ما ضعف جدا وقد وهى فهو واه، وقال الفراء:
وهيها تشققها (والملك على أرجائها) أي جنس الملك على أطرافها وجوانبها، وهي جمع رجى مقصور وتثنيته
رجوان مثل قفا وقفوان، والمعنى: أنها لما تشققت السماء، وهي مساكنهم لجئوا إلى أطرافها. قال الضحاك:
إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت، وتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب فينزلون إلى
الأرض ويحيطون بالأرض ومن عليها. وقال سعيد بن جبير: المعنى والملك على حافات الدنيا: أي ينزلون إلى
الأرض وقيل إذا صارت السماء قطعا يقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها (ويحمل عرش
ربك فوقهم يومئذ ثمانية) أي يحمله فوق رؤوسهم يوم القيامة ثمانية أملاك، وقيل ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم
عددهم إلا الله عز وجل، وقيل ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة، قاله الكلبي وغيره (يومئذ تعرضون)
أي تعرض العباد على الله لحسابهم، ومثله - وعرضوا على ربك صفا -، وليس ذلك العرض عليه سبحانه ليعلم به
ما لم يكن عالما به. وإنما هو عرض الاختبار والتوبيخ بالأعمال وجملة (لا تخفى منكم خافية) في محل نصب على
الحال من ضمير تعرضون: أي تعرضون حال كونه لا يخفى على الله سبحانه من ذواتكم أو أقوالكم وأفعالكم
خافية كائنة ما كانت، والتقدير: أي نفس خافية أو فعلة خافية.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال (الحاقة) من أسماء القيامة. وأخرج الفريابي وعبد
ابن حميد وابن جرير عنه قال: ما أرسل الله شيئا من ريح إلا بمكيال، ولا قطرة من ماء إلا بمكيال إلا يوم
نوح ويوم عاد. فأما يوم نوح فإن الماء طغى على خزانه فلم يكن لهم عليه سبيل، ثم قرأ - إنا لما طغا الماء - وأما
يوم عاد فإن الريح عتت على خزانها فلم يكن لهم عليها سبيل، ثم قرأ (بريح صرصر عاتية). وأخرج ابن جرير عن
علي بن أبي طالب نحوه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال
" نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور ". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر مرفوعا: " قال ما أمر الخزان على
عاد إلا مثل موضع الخاتم من الريح، فعتت على الخزان فخرجت من نواحي الأبواب، فذلك قوله (بريح صرصر
عاتية) قال: عتوها عتت على الخزان ". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (بريح صرصر
عاتية) قال: الغالبة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله (حسوما) قال: متتابعات. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
من طرق عن ابن عباس في قوله (حسوما) قال: تباعا، وفي لفظ: متتابعات. وأخرج ابن المنذر عنه (كأنهم
أعجاز نخل) قال: هي أصولها، وفي قوله (خاوية) قال: خربة. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عنه أيضا
في قوله (إنا لما طغى الماء) قال: طغى على خزانه فنزل، ولم ينزل من السماء ماء إلا بمكيال أو ميزان إلا زمن
نوح فإنه طغى على خزانه فنزل بغير كيل ولا وزن. وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية
من طريق مكحول عن علي بن أبي طالب " في قوله (وتعيها أذن واعية) قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي، فقال علي: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
شيئا فنسيته " قال ابن كثير: وهو حديث مرسل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والواحدي وابن مردويه وابن
عساكر وابن النجار عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلى " إن الله أمرني أن أدنيك ولا
أقصيك، وأن أعلمك، وأن تعي، وحق لك أن تعي، فنزلت هذه الآية (وتعيها أذن واعية) فأنت أذن واعية،
لعلى " قال ابن كثير: ولا يصح. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عمر في قوله (أذن واعية) قال:
282

أذن عقلت عن الله. وأخرج الحاكم والبيهقي في البعث عن أبي بن كعب في قوله (وحملت الأرض والجبال فدكتا
دكة واحدة) قال: تصيران غبرة على وجوه الكفار لا على وجوه المؤمنين، وذلك قوله - وجوه يومئذ عليها
غبرة ترهقها قترة -. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (فهي يومئذ واهية) قال متخرقة. وأخرج الفريابي وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (والملك على أرجائها) قال: على حافاتها على ما لم يهئ منها.
وأخرج عبد بن حميد وعثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية وأبو يعلي وابن المنذر وابن خزيمة والحاكم
وصححه وابن مردويه والخطيب في [تالي التلخيص] عنه أيضا في قوله (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية)
قال: ثمانية أملاك على صورة الأوعال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا من طرق في
الآية قال: يقال ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله، ويقال ثمانية أملاك رؤوسهم عند العرش في
السماء السابعة وأقدامهم في الأرض السفلى، ولهم قرون كقرون الوعلة، ما بين أصل قرن أحدهم إلى منتهاه
خمسمائة عام. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير،
وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ". وأخرج ابن جرير والبيهقي في البعث
عن ابن مسعود نحوه.
سورة الحاقة (19 - 52)
283

لما ذكر سبحانه العرض ذكر ما يكون فيه، فقال (فأما من أوتى كتابه بيمينه) أي أعطى كتابه الذي كتبته
الحفظة عليه من أعماله (فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه) يقول ذلك سرورا وابتهاجا. قال ابن السكيت والكسائي:
العرب تقول: ها يا رجل، وللاثنين هاؤما يا رجلان، وللجمع هاؤم يا رجال، قيل والأصل هاؤكم، فأبدلت
الهمزة من الكاف، قال ابن زيد: ومعنى هاؤم تعالوا. وقال مقاتل: هلم، وقيل خذوا، والذي صرح به
النحاة أنها بمعنى خذ، يقول ها بمعنى خذ، وهاؤما بمعنى خذا، وهاؤم بمعنى خذوا، فهي اسم فعل، وقد
يكون فعلا صريحا لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها، وفيها ثلاث لغات كما هو معروف في علم الإعراب،
وقوله " كتابيه " معمول لقوله " اقرءوا " لأنه أقرب الفعلين، ومعمول " هاؤم " محذوف يدل عليه معمول
" أقرءوا " والتقدير: هاؤم كتابيه اقرءوا كتابيه، والهاء في كتابيه وحسابيه وسلطانيه وماليه هي هاء السكت.
قرأ الجمهور في هذه بإثبات الهاء وقفا ووصلا مطابقة لرسم المصحف، ولولا ذلك لحذفت في الوصل كما هو
شأن هاء السكت، واختار أبو عبيد أن يتعمد الوقف عليها ليوافق اللغة في إلحاق الهاء في السكت ويوافق الخط،
يعني خط المصحف. وقرأ ابن محيصن وابن أبي إسحاق وحميد ومجاهد والأعمش ويعقوب بحذفها وصلا وإثباتها
وقفا في جميع هذه الألفاظ. ورويت هذه القراءة عن حمزة، واختار أبو حاتم هذه القراءة اتباعا للغة. وروى عن
ابن محيصن أنه قرأ بحذفها وصلا ووقفا (إني ظننت أني ملاق حسابيه) أي علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب
في الآخرة، وقيل المعنى: إني ظننت أن يأخذني الله بسيئاتي فقد تفضل على بعفوه ولم يؤاخذني. قال الضحاك:
كل ظن في القرآن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك. قال مجاهد: ظن الآخرة يقين، وظن الدنيا شك.
قال الحسن في هذه الآية: إن المؤمن أحسن الظن بربه، فأحسن العمل للآخرة، وإن الكافر أساء الظن بربه
فأساء العمل. قيل والتعبير بالظن هنا للإشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي
لا تنفك عنها العلوم النظرية غالبا (فهو في عيشة راضية) أي في عيشة مرضية لا مكروهة، أو ذات رضى: أي
يرضى بها صاحبها. قال أبو عبيدة والفراء: راضية أي مرضية كقوله - ماء دافق - أي مدفوق فقد أسند إلى
العيشة ما هو لصاحبها، فكان ذلك من المجاز في الإسناد (في جنة عالية) أي مرتفعة المكان لأنها في السماء، أو
مرتفعة المنازل. أو عظيمة في النفوس (قطوفها دانية) القطوف: جمع قطف بكسر القاف ما يقطف من الثمار،
والقطف بالفتح المصدر، والقطاف بالفتح والكسر وقت القطف، والمعنى: أن ثمارها قريبة ممن يتناولها
من قائم أو قاعد أو مضطجع (كلوا واشربوا) أي يقال لهم كلوا واشربوا في الجنة (هنيئا) أي أكلا
وشربا هنيئا لا تكدير فيه ولا تنغيص (بما أسلفتم في الأيام الخالية) أي بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة
في الدنيا. وقال مجاهد: هي أيام الصيام (وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول) حزنا وكربا لما رأى فيه من سيئاته
(يا ليتني لم أوت كتابيه) أي لم أعط كتابيه (ولم أدر ما حسابيه) أي لم أدر: أي شئ حسابي لأن كله عليه
(يا ليتها كانت القاضية) أي ليت الموتة التي منها كانت القاضية ولم أحي بعدها، ومعنى: القاضية القاطعة للحياة،
والمعنى: أنه تمنى دوام الموت وعدم البعث لما شاهد من سوء عمله وما يصير إليه من العذاب، فالضمير في ليتها
يعود إلى الموتة التي قد كان ماتها وإن لم تكن مذكورة، لأنها لظهورها كانت كالمذكورة. قال قتادة: تمنى
284

الموت ولم يكن في الدنيا شئ عنده أكره منه، وشر من الموت ما يطلب منه الموت. وقيل الضمير يعود إلى الحالة
التي شاهدها عند مطالعة الكتاب، والمعنى: يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت على (ما أغنى عني ماليه)
أي لم يدفع عني من عذاب الله شيئا على أن ما نافية أو استفهامية، والمعنى: أي شئ أغنى عني مالي (هلك عني
سلطانيه) أي هلكت عني حجتي وضلت عني، كذا قال مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك. وقال ابن زيد:
يعني سلطاني الذي في الدنيا، وهو الملك، وقيل تسلطي على جوارحي. قال مقاتل: يعني حين شهدت عليه
الجوارح بالشرك، وحينئذ يقول الله عز وجل (خذوه فغلوه) أي اجمعوا يده إلى عنقه بالأغلال (ثم
صلوه) أي أدخلوه الجحيم، والمعنى: لا تصلوه إلا الجحيم، وهي النار العظيمة (ثم في سلسلة ذرعها سبعون
ذراعا فاسلكوه) السلسلة حلق منتظمة، وذرعها طولها. قال الحسن: الله أعلم بأي ذراع هو. قال نوف الشامي:
كل ذراع سبعون باعا كل باع أبعد مما بينك وبين مكة، وكان نوف في رحبة الكوفة. قال مقاتل: لو أن حلقة
منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص، ومعنى " فاسلكوه " فاجعلوه فيها، يقال سلكته الطريق
إذا أدخلته فيه. قال سفيان: بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه. قال الكلبي: تسلك سلك الخيط في
اللؤلؤ. وقال سويد بن أبي نجيح: بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة، وتقديم السلسلة للدلالة على الاختصاص
كتقديم الجحيم، وجملة (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم) تعليل لما قبلها (ولا يحض على طعام المسكين) أي لا يحث
على إطعام المسكين من ماله، أو لا يحث الغير على إطعامه، ووضع الطعام موضع الإطعام كما يوضع العطاء موضع
الإعطاء كما قال الشاعر:
أكفرا بعد رد موتي عني * وبعد عطائك المال الرعابا
أي بعد إعطائك، ويجوز أن يكون الطعام على معناه غير موضع المصدر، والمعنى: أنه لا يحث
نفسه أو غيره على بذل نفس طعام المسكين، وفي جعل هذا قرينا لترك الإيمان بالله من الترغيب في التصدق على
المساكين وسد فاقتهم، وحث النفس والناس على ذلك ما يدل أبلغ دلالة ويفيد أكمل فائدة على أن منعهم من
أعظم الجرائم وأشد المآثم (فليس له اليوم ها هنا حميم) أي ليس له يوم القيامة في الآخرة قريب ينفعه أو يشفع له
لأنه يوم يفر فيه القريب من قريبه، ويهرب عنده الحبيب من حبيبه (ولا طعام إلا من غسلين) أي وليس له
طعام يأكله إلا من صديد أهل النار، وما ينغسل من أبدانهم من القيح والصديد، وغسلين فعلين من الغسل.
وقال الضحاك والربيع بن أنس: هو شجر يأكله أهل النار. وقال قتادة: هو شر الطعام. وقال ابن زيد:
لا يعلم ما هو ولا ما الزقوم إلا الله تعالى. وقال سبحانه في موضع آخر - ليس لهم طعام إلا من ضريع - فيجوز أن
يكون الضريع هو الغسلين، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى فليس له اليوم ها هنا حميم إلا من غسلين على
أن الحميم هو الماء الحار (ولا طعام) أي ليس لهم طعام يأكلونه. ولا ملجئ لهذا التقديم والتأخير، وجملة
(لا يأكله إلا الخاطئون) صفة لغسلين، والمراد أصحاب الخطايا وأرباب الذنوب. قال الكلبي: المراد الشرك.
قرأ الجمهور " الخاطئون) مهموزا، وهو اسم فاعل من خطئ إذا فعل غير الصواب متعمدا، والمخطئ من يفعله
غير متعمد. وقرأ الزهري وطلحة بن مصرف والحسن الخاطيون بياء مضمومة بدل الهمزة. وقرأ نافع في رواية
عنه بضم الطاء بدون همزة (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون) هذا رد لكلام المشركين كأنه قال: ليس
الأمر كما تقولون ولا زائدة، والتقدير: فأقسم بما تشاهدونه وما لا تشاهدونه. قال قتادة: أقسم بالأشياء كلها
ما يبصر منها وما لا يبصر، فيدخل في هذا جميع المخلوقات، وقيل إن لا ليست زائدة، بل هي لنفي القسم: أي
285

لا أحتاج إلى قسم لوضوح الحق في ذلك، والأول أولى (إنه لقول رسول كريم) أي إن القرآن لتلاوة رسول
كريم، على أن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو إنه لقول يبلغه رسول كريم. قال الحسن والكلبي
ومقاتل: يريد به جبريل، دليله قوله (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين) وعلى كل حال
فالقرآن ليس من قول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا من قول جبريل عليه السلام، بل هو قول الله فلا بد
من تقدير التلاوة أو التبليغ (وما هو بقول شاعر) كما تزعمون لأنه ليس من أصناف الشعر ولا مشابه لها (قليلا
ما تؤمنون) أي إيمانا قليلا تؤمنون، وتصديقا يسيرا تصدقون، وما زائدة (ولا بقول كاهن) كما
تزعمون، فإن الكهانة أمر آخر لا جامع بينها وبين هذا (قليلا ما تذكرون) أي تذكرا قليلا، أو زمانا قليلا
تتذكرون، وما زائدة، والقلة في الموضعين بمعنى النفي: أي لا تؤمنون ولا تتذكرون أصلا (تنزيل من رب
العالمين) قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف: أي هو تنزيل. وقرأ أبو السماك بالنصب على المصدرية
بإضمار فعل: أي نزل تنزيلا، والمعنى: إنه لقول رسول كريم، وهو تنزيل من رب العالمين على لسانه (ولو تقول
علينا بعض الأقاويل) أي ولو تقول ذلك الرسول، وهو محمد، أو جبريل على ما تقدم، والتقول تكلف القول،
والمعنى: لو تكلف ذلك وجاء به من جهة نفسه، وسمى الافتراء تقولا لأنه قول متكلف، وكل كاذب يتكلف
ما يكذب به. قرأ الجمهور " تقول " مبنيا للفاعل. وقرئ مبنيا للمفعول مع رفع بعض. وقرأ ابن ذكوان " ولو
يقول " على صيغة المضارع، والأقاويل جمع أقوال، والأقوال جمع قول (لأخذنا منه باليمين) أي بيده اليمين، قال
ابن جرير: إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب. وقال الفراء والمبرد
والزجاج وابن قتيبة " لأخذنا منه باليمين " أي بالقوة والقدرة. قال ابن قتيبة: وإنما أقام اليمين مقام القوة، لأن
قوة كل شئ في ميامنه، ومن هذا قول الشاعر:
إذا ما راية نصبت لمجد * تلقاها عرابة باليمين
وقول الآخر: ولما رأيت الشمس أشرق نورها * تناولت منها حاجتي بيميني
(ثم لقطعنا منه الوتين) الوتين عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، وهو تصوير لإهلاكه بأفظع
ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه. قال الواحدي: والمفسرون يقولون إنه نياط القلب انتهى، ومن هذا قول
الشاعر:
إذا بلغتني وحملت رحلي * عرابة فاشرقى بدم الوتين
(فما منكم من أحد عنه حاجزين) أي ليس منكم أحد يحجزنا عنه ويدفعنا منه، فكيف يتكلف الكذب على الله
لأجلكم مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاقبناه ولا تقدرون على الدفع منه، والحجز المنع، (وحاجزين) صفة
لأحد، أو خبر لما الحجازية (وإنه لتذكرة للمتقين) أي إن القرآن لتذكرة لأهل التقوى لأنهم المنتفعون به (وإنا
لنعلم أن منكم مكذبين) أي أن بعضكم يكذب بالقرآن فنحن نجازيهم على ذلك، وفي هذا وعيد شديد (وإنه
لحسرة على الكافرين) أي وإن القرآن لحسرة وندامة على الكافرين يوم القيامة عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين
وقيل هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله (وإنه لحق اليقين)
أي وإن القرآن لكونه من عند الله حق فلا يحول حوله ريب ولا يتطرق إليه الشك (فسبح باسم ربك العظيم) أي
نزهه عما لا يليق به، وقيل فصل لربك، والأول أولى.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (إني ظننت) قال: أيقنت. وأخرج سعيد بن منصور وابن
286

أبي حاتم عن البراء بن عازب (قطوفها دانية) قال قريبة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن
البراء في الآية قال: يتناول الرجل من فواكهها وهو قائم. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس
في قوله (فاسلكوه) قال: السلسلة تدخل في استه ثم تخرج من فيه، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود ثم
يشوى. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر عن أبي الدرداء قال: إن لله سلسلة لم تزل تغلي منها مراجل
النار منذ خلق الله جهنم إلى يوم تلقى في أعناق الناس، وقد نجانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم، فحضي على
طعام المسكين يا أم الدرداء. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس
قال: الغسلين الدم والماء والصديد الذي يسيل من لحومهم. وأخرج الحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ". وأخرج ابن المنذر
عن ابن عباس قال: الغسلين اسم طعام من أطعمة أهل النار. وأخرج ابن جرير عنه (فلا أقسم بما تبصرون وما
لا تبصرون) يقول: بما ترون وما لا ترون. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (لأخذنا منه
باليمين) قال: بقدرة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال (الوتين) عرق القلب. وأخرج الفريابي وسعيد
ابن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضا قال (الوتين) نياط القلب.
وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عنه أيضا فال: هو حبل القلب الذي في الظهر.
تفسير سورة سأل سائل
ويقال سورة المعارج، هي أربع وأربعون آية
وهي مكية. قال القرطبي: باتفاق. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال:
نزلت سورة سأل بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
سورة المعارج (1 - 18)
287

قوله (سأل سائل بعذاب واقع) قرأ الجمهور " سأل " بالهمزة، وقرأ نافع وابن عامر بغير همزة، فمن همز
فهو من السؤال وهي اللغة الفاشية، وهو إما مضمن معنى الدعاء، فلذلك عدى بالباء كما تقول دعوت لكذا،
والمعنى: دعا داع على نفسه بعذاب واقع، ويجوز أن يكون على أصله والباء بمعنى عن كقوله - فاسئل به خبيرا -
ومن لم يهمز، فهو إما من باب التخفيف بقلب الهمزة ألفا، فيكون معناها معنى قراءة من همز، أو يكون من
السيلان، والمعنى: سال واد في جهنم يقال له سائل كما قال زيد بن ثابت. ويؤيد قراءة ابن عباس " سال سيل "
وقيل إن سال بمعنى التمس، والمعنى: التمس ملتمس عذابا للكفار، فتكون الباء زائدة كقوله - تنبت بالدهن -
والوجه الأول هو الظاهر. وقال الأخفش: يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. قال أبو علي الفارسي: وإذا
كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما ويتعدى إليه بحرف الجر، وهذا
السائل هو النضر بن الحارث حين قال - اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو
أئتنا بعذاب أليم - وهو ممن قتل يوم بدر صبرا، وقيل هو أبو جهل، وقيل هو الحارث بن النعمان الفهري.
والأول أولى لما سيأتي. وقرأ أبي وابن مسعود " سال سال " مثل مال مال على أن الأصل سائل، فحذفت العين
تخفيفا، كما قيل شاك في شائك السلاح. وقيل السائل هو نوح عليه السلام، سأل العذاب للكافرين، وقيل هو
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا بالعقاب عليهم، وقوله (بعذاب واقع) يعني إما في الدنيا كيوم بدر،
أو في الآخرة، وقوله (للكافرين) صفة أخرى لعذاب: أي كائن للكافرين، أو متعلق بواقع، واللام للعلة،
أو يسأل على تضمينه معنى دعا، أو في محل رفع على تقدير: هو للكافرين، أو تكون اللام بمعنى على،
ويؤيده قراءة أبي بعذاب واقع على الكافرين. قال الفراء: التقدير بعذاب للكافرين واقع بهم، فالواقع
من نعت العذاب، وجملة (ليس له دافع) صفة أخرى لعذاب، أو حال منه، أو مستأنفة، والمعنى: أنه لا يدفع
ذلك العذاب الواقع به أحد، وقوله (من الله) متعلق بواقع: أي واقع من جهته سبحانه، أو بدافع: أي ليس له
دافع من جهته تعالى (ذي المعارج) أي ذي الدرجات التي تصعد فيها الملائكة، وقال الكلبي: هي السماوات،
وسماها معارج لأن الملائكة تعرج فيها، وقيل المعارج مراتب نعم الله سبحانه على الخلق، وقيل المعارج العظمة،
وقيل هي الغرف. وقرأ ابن مسعود " ذي المعاريج " بزيادة الياء، يقال معارج ومعاريج مثل مفاتح ومفاتيح
(تعرج الملائكة والروح إليه) أي تصعد في تلك المعارج التي جعلها الله لهم، وقرأ الجمهور " تعرج " بالفوقية،
قرأ ابن مسعود وأصحابه والكسائي والسلمي بالتحتية، والروح جبريل، أفرد بالذكر بعد الملائكة لشرفه، ويؤيد
هذا قوله - نزل به الروح الأمين - وقيل الروح هنا ملك آخر عظيم غير جبريل. وقال أبو صالح: إنه خلق من
خلق الله سبحانه كهيئة الناس وليسوا من الناس. وقال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين تقبض، والأول
أولى. ومعنى " إليه " أي إلى المكان الذي ينتهون إليه، وقيل إلى عرشه، وقيل هو كقول إبراهيم - إني ذاهب إلى
ربي - أي إلى حيث أمرني ربي (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) قال ابن إسحاق والكلبي ووهب بن منبه:
أي عرج الملائكة إلى المكان الذي هو محلها في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة، وبه قال
مجاهد. وقال عكرمة، وروى عن مجاهد أن مدة عمر الدنيا هذا المقدار لا يدري أحد كم مضى ولا كم بقي، ولا
يعلم ذلك إلا الله. وقال قتادة والكلبي ومحمد بن كعب: إن المراد يوم القيامة، يعني أن مقدار الأمر فيه لو
تولاه غيره سبحانه خمسون ألف سنة، وهو سبحانه يفرغ منه في ساعة، وقيل إن مدة موقف العباد للحساب هي
هذا المقدار، ثم يستقر بعد ذلك أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وقيل إن مقدار يوم القيامة على الكافرين
288

خمسون ألف سنة، وعلى المؤمنين مقدار ما بين الظهر والعصر، وقيل ذكر هذا المقدار لمجرد التمثيل والتخييل لغاية
ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها، أو لطول يوم القيامة باعتبار ما فيه من الشدائد والمكاره كما تصف العرب أيام
الشدة بالطول وأيام الفرح بالقصر، ويشبهون اليوم القصير بابهام القطاة، والطويل بظل الرمح، ومنه قول
الشاعر: ويوم كظل الرمح قصر طوله * دم الزق عنا واصطفاف المزاهر
وقيل في الكلام تقديم وتأخير: أي ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
تعرج الملائكة والروح إليه، وقد قدمنا الجمع بين هذه الآية وبين قوله في سورة السجدة - في يوم كان مقداره
ألف سنة - فارجع إليه. وقد قيل في الجمع إن من أسفل العالم إلى العرش خمسين ألف سنة، ومن أعلى سماء الدنيا
إلى الأرض ألف سنة، لأن غلظ كل سماء خمسمائة عام، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة عام،
فالمعنى: أن الملائكة إذا عرجت من أسفل العالم إلى العرش كان مسافة ذلك خمسين ألف سنة، وإن عرجوا من
هذه الأرض التي نحن فيها إلى باطن هذه السماء التي هي سماء الدنيا كان مسافة ذلك ألف سنة، وسيأتي في آخر
البحث ما يؤيد هذا عن ابن عباس. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر فقال (فاصبر صبرا
جميلا) أي اصبر يا محمد على تكذيبهم لك وكفرهم بما جئت به صبرا جميلا لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله،
وهذا معنى الصبر الجميل، وقيل هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري بأنه مصاب. قال ابن زيد
وغيره: هي منسوخة بآية السيف (إنهم يرونه بعيدا) أي يرون العذاب الواقع بهم، أو يرون يوم القيامة بعيدا:
أي غير كائن لأنهم لا يؤمنون به، فمعنى " بعيدا " أي مستبعدا محالا، وليس المراد أنهم يرونه بعيدا غير قريب.
قال الأعمش: يرون البعث بعيدا لأنهم لا يؤمنون به كأنهم يستبعدونه على جهة الاستحالة كما تقول لمن تناظره
هذا بعيد: أي لا يكون (ونراه قريبا) أي نعلمه كائنا قريبا، لأن ما هو آت قريب. وقيل المعنى: ونراه هينا في
قدرتنا غير متعسر ولا متعذر، والجملة تعليل للأمر بالصبر. ثم أخبر سبحانه متى يقع بهم العذاب فقال (يوم
تكون السماء كالمهل) والظرف متعلق بمضمر دل عليه واقع، أو بدل من قوله (في يوم) على تقدير تعلقه بواقع،
أو متعلق بقريبا، أو مقدر بعده: أي يوم تكون الخ كان كيت وكيت، أو بدل من الضمير في نراه والأول
أولى. والتقدير يقع بهم العذاب (يوم تكون السماء كالمهل) والمهل: ما أذيب من النحاس والرصاص والفضة،
وقال مجاهد: هو القيح من الصديد والدم. وقال عكرمة وغيره: هو دردي الزيت، وقد تقدم تفسيره في سورة
الكهف والدخان (وتكون الجبال كالعهن) أي كالصوف المصبوغ، ولا يقال للصوف عهن إلا إذا كان
مصبوغا. قال الحسن: تكون الجبال كالعهن، وهو الصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف، وقيل العهن
الصوف ذو الألوان، فشبه الجبال به في تكونها ألوانا كما في قوله - جدد بيض وحمر - وغرابيب سود - فإذا بست
وطيرت في الهواء أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح (ولا يسأل حميم حميما) أي لا يسأل قريب قريبه عن شأنه
في ذلك اليوم لما نزل بهم من شدة الأهوال التي أذهلت القريب عن قريبه، والخليل عن خليله، كما قال سبحانه
- لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه - وقيل المعنى: لا يسأل حميم عن حميم، فحذف الحرف ووصل الفعل. قرأ
الجمهور " لا يسأل " مبنيا للفاعل، قيل والمفعول الثاني محذوف والتقدير: لا يسأله نصره ولا شفاعته، وقرأ
أبو جعفر وأبو حيوة وشيبة وابن كثير في رواية عنه على البناء للمفعول. وروى هذه القراءة البزي عن عاصم.
والمعنى: لا يسأل حميم إحضار حميمه، وقيل هذه القراءة على إسقاط حرف الجر: أي لا يسأل حميم عن حميم، بل
كل إنسان يسأل عن نفسه وعن عمله، وجملة (يبصرونهم) مستأنفة، أو صفة لقوله (حميما) أي يبصر كل حميم
289

حميمه، لا يخفى منهم أحد عن أحد. وليس في القيامة مخلوق وإلا وهو نصب عين صاحبه، ولا يتساءلون ولا
يكلم بعضهم بعضا لاشتغال كل أحد منهم بنفسه، وقال ابن زيد: يبصر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في
الدنيا وهم الرؤساء المتبوعون. وقيل إن قوله (يبصرونهم) يرجع إلى الملائكة: أي يعرفون أحوال الناس
لا يخفون عليهم، وإنما جمع الضمير في يبصرونهم، وهما للحميمين حملا على معنى العموم، لأنهما نكرتان في
سياق النفي، قرأ الجمهور " يبصرونهم " بالتشديد، وقرأ قتادة بالتخفيف. ثم ابتدأ سبحانه الكلام فقال (يود
المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ) المراد بالمجرم الكافر، أو كل مذنب ذنبا يستحق به النار لو يفتدي من عذاب
يوم القيامة الذي نزل به (ببنيه وصاحبته وأخيه) فإن هؤلاء أعز الناس عليه وأكرمهم لديه، فلو قبل منه الفداء
لفدى بهم نفسه وخلص مما نزل من العذاب، والجملة مستأنفة لبيان أن اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ إلى حد يود
الافتداء من العذاب بمن ذكر. قرأ الجمهور (من عذاب يومئذ) بإضافة عذاب إلى يومئذ. وقرأ أبو حيوة بتنوين
" عذاب " وقطع الإضافة. وقرأ الجمهور " يومئذ " بكسر الميم، وقرأ نافع والكسائي والأعرج وأبو حيوة بفتحها
(وفصيلته التي تؤويه) أي عشيرته الأقربين الذين يضمونه في النسب أو عند الشدائد ويأوي إليهم. قال أبو عبيد:
الفصيلة دون القبيلة. وقال ثعلب: هم آباؤهم الأدنون. قال المبرد: الفصيلة القطعة من أعضاء الجسد. وسميت
عشيرة الرجل فصيلة تشبيها لها بالبعض منه. وقال مالك: إن الفصيلة هي التي تربيه (ومن في الأرض جميعا) أي
ويود المجرم لو افتدى بمن في الأرض جميعا من الثقلين وغيرهما من الخلائق. وقوله (ثم ينجيه) معطوف على
يفتدي: أي يود لو يفتدي ثم ينجيه الافتداء، وكان العطف بثم لدلالتها على استبعاد النجاة، وقيل إن يود
تقتضي جوابا كما في قوله - ودوا لو تدهن فيدهنون - والجواب ثم ينجيه، والأول أولى. وقوله (كلا) ردع
للمجرم عن تلك الودادة، وبيان امتناع ما وده من الافتداء، و " كلا " يأتي بمعنى حقا، وبمعنى لا مع تضمنها لمعنى
الزجر والردع، والضمير في قوله (إنها لظى) عائد إلى النار المدلول عليها بذكر العذاب، أو هو ضمير مبهم
يفسره ما بعده: ولظى علم لجهنم، واشتقاقها من التلظي في النار وهو التلهب، وقيل أصله لظظ بمعنى دوام
العذاب، فقلبت إحدى الظائين ألفا، وقيل لظى: هي الدركة الثانية من طباق جهنم (نزاعة للشوى) قرأ الجمهور
" نزاعة " بالرفع على أنه خبر ثان لإن، أو خبر مبتدأ محذوف، أو تكون لظى بدلا من الضمير المنصوب، ونزاعة
خبر إن، أو على أن نزاعه صفة للظى على تقدير عدم كونها علما، أو يكون الضمير في إنها للقصة، ويكون
لظى مبتدأ ونزاعة خبره، والجملة خبر إن، وقرأ حفص عن عاصم وأبو عمرو في رواية عنه وأبو حيوة والزعفراني
والترمذي وابن مقسم نزاعة بالنصب على الحال. وقال أبو علي الفارسي: حمله على الحال بعيد لأنه ليس في الكلام
ما يعمل في الحال، وقيل العامل فيها ما دل عليه الكلام من معنى التلظي، أو النصب على الاختصاص، والشوى
الأطراف، أو جمع شواة، وهي جلدة الرأس، ومنه قول الأعشى:
قالت قتيلة ماله * قد جللت شيبا شواته
وقال الحسن وثابت البناني: نزاعة للشوى: أي لمكارم الوجه وحسنه، وكذا قال أبو العالية وقتادة. وقال
قتادة: تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك فيه شيئا. وقال الكسائي: هي المفاصل. وقال أبو صالح:
هي أطراف اليدين والرجلين (تدعوا من أدبر) أي تدعو لظى من أدبر عن الحق في الدنيا (وتولى) أي أعرض
عنه (وجمع فأوعى) أي جمع المال فجعله في وعاء، قيل إنها تقول إلى يا مشرك، إلى يا منافق، وقيل معنى تدعو
تهلك، تقول العرب: دعاك الله: أي أهلكك، وقيل ليس هو الدعاء باللسان، ولكن دعاؤها إياهم تمكنها من
290

عذابهم، وقيل المراد أن خزنة جهنم تدعو الكافرين والمنافقين فأسند الدعاء إلى النار، من باب إسناد ما هو للحال
إلى المحل، وقيل هو تمثيل وتخييل، ولا دعاء في الحقيقة، والمعنى: أن مصيرهم إليها، كما قال الشاعر:
ولقد هبطنا الواد بين قوادنا * ندعو الأنيس به الغصيص الأبكم
والغصيص الأبكم: الذباب، وهي لا تدعو، وفي هذا ذم لمن جمع المال فأوعاه، وكنزه ولم ينفقه في سبل
الخير، أو لم يؤد زكاته.
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في
قوله (سأل سائل) قال: هو النضر بن الحرث قال - اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة
من السماء - وفي قوله (بعذاب واقع) قال: كائن (للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج) قال: ذي
الدرجات. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه في قوله (سأل سائل) قال: سال واد في جهنم. وأخرج ابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (ذي المعارج) قال: ذي العلو والفواضل. وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم عنه أيضا في قوله (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) قال: منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى
منتهى أمره من فوق سبع سماوات مقدار خمسين ألف سنة، ويوم كان مقداره ألف سنة قال: يعني بذلك ينزل
الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقدار ألف سنة، لأن ما بين السماء
والأرض مسيرة خمسمائة عام. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: غلظ كل أرض خمسمائة عام، وغلظ كل
سماء خمسمائة عام، وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام، ومن السماء إلى السماء خمسمائة عام، فذلك أربعة عشر
ألف عام، وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام، فذلك قوله (في يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة). وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث عنه أيضا في قوله (في يوم كان مقداره ألف
سنة مما تعدون - قال: هذا في الدنيا تعرج الملائكة في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، وفي قوله (في يوم
كان مقداره خمسين ألف سنة) فهذا يوم القيامة جعله الله على الكافر مقدار خمسين ألف سنة. وأخرج ابن
أبي حاتم والبيهقي عنه أيضا في قوله (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) قال: لو قدرتموه لكان خمسين ألف
سنة من أيامكم. قال: يعني يوم القيامة. وقد قدمنا عن ابن عباس الوقف في الجمع بين الآيتين في سورة السجدة.
وأخرج أحمد وأبو يعلي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال: " قيل يا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم كان يوم مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم؟ فقال: والذي نفس
بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا ". وفي إسناده دراج
عن أبي الهيثم، وهما ضعيفان. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في البعث عن أبي هريرة مرفوعا قال: ما قدر
طول يوم القيامة على المؤمنين إلا كقدر ما بين الظهر إلى العصر. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن
ابن عباس في قوله (فاصبر صبرا جميلا) قال: لا تشكو إلى أحد غيري. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن المنذر
والخطيب في المتفق والمفترق والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله (يوم تكون السماء كالمهل) قال: كدردي
الزيت. وأخرج ابن جرير عنه قال (يبصرونهم) يعرف بعضهم بعضا ويتعارفون ثم يفر بعضهم من بعض.
وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله (نزاعة للشوى) قال: تنزع أم الرأس.
291

سورة المعارج (19 - 39)
قوله (إن الإنسان خلق هلوعا) قال في الصحاح: الهلع في اللغة. أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه يقال
هلع بالكسر فهو هلع وهلوع على التكثير. وقال عكرمة: هو الضجور. قال الواحدي والمفسرون يقولون تفسير
الهلع ما بعده يعني قوله (إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا) أي إذا أصابه الفقر والحاجة أو المرض أو
نحو ذلك فهو جزوع: أي كثير الجزع، وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة ونحو ذلك فهو كثير المنع
والإمساك. وقال أبو عبيدة: الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر، وإذا مسه الشر لم يصبر. قال ثعلب:
قد فسر الله الهلوع: هو الذي إذا أصابه الشر أظهر شدة الجزع، وإذا أصابه الخير بخل به ومنعه الناس،
والعرب تقول: ناقة هلوع وهلواع إذا كانت سريعة السير خفيفة، ومنه قول الشاعر:
شكا ذعلبة إذا استدبرتها * حرج إذا استقبلتها هلواع
والذعلبة: الناقة السريعة، وانتصاب هلوعا وجزوعا ومنوعا على أنها أحوال مقدرة، أو محققة لكونها طبائع
جبل الإنسان عليها، والظرفان معمولان لجزوعا ومنوعا (إلا المصلين) أي المقيمين للصلاة، وقيل المراد بهم أهل
التوحيد: يعني أنهم ليسوا على تلك الصفات من الهلع، والجزع، والمنع، وأنهم على صفات محمودة وخلال
مرضية، لأن إيمانهم وما تمسكوا به من التوحيد ودين الحق يزجرهم عن الاتصاف بتلك الصفات، ويحملهم على
الاتصاف بصفات الخير. ثم بينهم سبحانه. فقال (الذين هم على صلاتهم دائمون) أي لا يشغلهم عنها شاغل، ولا
يصرفهم عنها صارف، وليس المراد بالدوام أنهم يصلون أبدا. قال الزجاج: هم الذين لا يزيلون وجوههم عن
سمت القبلة. وقال الحسن وابن جريج: هو التطوع منها. قال النخعي: المراد بالمصلين الذين يؤدون الصلاة
المكتوبة، وقيل الذين يصلونها لوقتها والمراد بالآية جميع المؤمنين، وقيل الصحابة خاصة، ولا وجه لهذا
التخصيص لاتصاف كل مؤمن بأنه من المصلين (والذين في أموالهم حق معلوم) قال قتادة: ومحمد بن سيرين:
292

المراد الزكاة المفروضة. وقال مجاهد: سوى الزكاة، وقيل صلة الرحم، والظاهر أنه الزكاة لوصفه بكونه معلوما
ولجعله قرينا للصلاة، وقد تقدم تفسير السائل والمحروم في سورة الذاريات مستوفى (والذين يصدقون بيوم الدين)
أي بيوم الجزاء، وهو يوم القيامة لا يشكون فيه ولا يجحدونه، وقيل يصدقونه بأعمالهم فيتعبون أنفسهم في
الطاعات (والذين هم من عذاب ربهم مشفقون) أي خائفون وجلون مع ما لهم من أعمال الطاعة استحقارا
لأعمالهم، واعترافا بما يجب لله سبحانه عليهم. وجملة (إن عذاب ربهم غير مأمون) مقررة لمضمون ما قبلها مبينة
أن ذلك مما لا ينبغي أن يأمنه أحد، وأن حق كل أحد أن يخافه (والذين هم لفروجهم حافظون) إلى قوله (فأولئك
هم العادون) قد تقدم تفسيره في سورة المؤمنين مستوفى (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) أي لا يخلون بشئ
من الأمانات التي يؤتمنون عليها ولا ينقضون شيئا من العهود التي يعقدونها على أنفسهم. قرأ الجمهور " لأماناتهم " بالجمع
وقرأ ابن كثير وابن محيصن " لأمانتهم " بالإفراد، والمراد الجنس (والذين هم بشهاداتهم قائمون) أي يقيمونها على
من كانت عليه من قريب أو بعيد أو رفيع أو وضيع، ولا يكتمونها ولا يغيرونها، وقد تقدم القول في الشهادة
في سورة البقرة، قرأ الجمهور " بشهادتهم " بالإفراد، وقرأ حفص ويعقوب وهي رواية عن ابن كثير بالجمع. قال
الواحدي، والإفراد أولى لأنه مصدر، ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات قال الفراء: ويدل على قراءة
التوحيد قوله تعالى - وأقيموا الشهادة لله - (والذين هم على صلاتهم يحافظون) أي على أذكارها وأركانها وشرائطها
لا يخلون بشئ من ذلك. قال قتادة: على وضوئها وركوعها وسجودها. وقال ابن جريج: المراد التطوع، وكرر
ذكر الصلاة لاختلاف ما وصفهم به أولا، وما وصفهم به ثانيا، فإن معنى الدوام: هو أن لا يشتغل عنها بشئ
من الشواغل كما سلف، ومعنى المحافظة: أن يراعى الأمور التي لا تكون صلاة بدونها، وقيل المراد يحافظون
عليها بعد فعلها من أن يفعلوا ما يحبطها ويبطل ثوابها، وكرر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك
الأوصاف لجلالته يستحق أن يستقل بموصوف منفرد، والإشارة بقوله (أولئك) إلى الموصوفين بتلك الصفات
(في جنات مكرمون) أي مستقرون فيها مكرمون بأنواع الكرامات، وخبر المبتدأ قوله (في جنات) وقوله
(مكرمون) خبر آخر، ويجوز أن يكون الخبر مكرمون، وفي جنات متعلق به (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين)
أي أي شئ لهم حواليك مسرعين: قال الأخفش: مهطعين مسرعين، ومنه قول الشاعر:
بمكة أهلها ولقد أراهم * إليهم مهطعين إلى السماع
وقيل المعنى: ما بالهم يسرعون إليك يجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم، وقيل ما بالهم مسرعين إلى
التكذيب، وقيل ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع إليك فيكذبونك ويستهزئون بك. وقال الكلبي: إن
معنى: مهطعين ناظرين إليك. وقال قتادة: عامدين، وقيل مسرعين إليك مادي أعناقهم مديمي النظر إليك
(عن اليمين وعن الشمال عزين) أي عن يمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن شماله جماعات متفرقة، وعزين
جمع عزة، وهي العصبة من الناس، ومنه قول الشاعر:
ترانا عنده والليل داج * على أبوابه حلقا عزينا
وقال الراعي: أخليفة الرحمن إن عشيرتي * أمسى سراتهم إليك عزينا
وقال عنترة: وقرن قد تركت لدى ولى * عليه الطير كالعصب العزينا
وقيل أصلها عزوة من العزو، كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى. قال في الصحاح:
293

والعزة الفرقة من الناس، والهاء عوض من التاء، والجمع عزى وعزون، وقوله (عن اليمين وعن الشمال)
متعلق بعزين، أو بمهطعين (أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة النعيم) قال المفسرون: كان المشركون
يقولون لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلن قبلهم، فنزلت الآية، قرأ الجمهور (أن يدخل) مبنيا للمفعول. وقرأ
الحسن وزيد بن علي وطلحة بن مصرف والأعرج ويحيى بن يعمر وأبو رجاء وعاصم في رواية عنه على البناء
للفاعل. ثم رد الله سبحانه عليهم فقال (كلا إنا خلقناهم مما يعلمون) أي من القذر الذين يعلمون به فلا ينبغي لهم
هذا التكبر، وقيل المعنى: إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون، وهو امتثال الأمر والنهي وتعريضهم للثواب والعقاب
كما في قوله - وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون -، ومنه قول الأعشى:
ءأزمعت من آل ليلى ابتكارا * وشطت على ذي هوى أن يزارا
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: سئل ابن عباس عن الهلوع
فقال هو كما قال الله (إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا). وأخرج ابن المنذر عنه (هلوعا) قال:
الشره. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن مسعود (الذين هم على صلاتهم دائمون) قال: على مواقيتها.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمران بن حصين (الذين هم عن صلاتهم دائمون) قال: الذي لا يلتفت في
صلاته. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عقبة بن عامر (الذين هم
على صلاتهم دائمون) قال: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا. وأخرج
ابن المنذر من طريق أخرى عنه نحوه. وأخرج
ابن جرير عن ابن عباس (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين) قال: ينظرون (عن اليمين وعن الشمال عزين)
قال: العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به. وأخرج مسلم وغيره عن جابر قال: دخل علينا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسجد ونحن حلق متفرقون فقال: مالي أراكم عزين. وأخرج أحمد وابن
ماجة وابن سعد وابن أبي عاصم والباوردي وابن قانع والحاكم والبيهقي في الشعب، والضياء عن بشر بن جحاش
قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين) إلى قوله (كلا إنا خلقناهم مما
يعلمون) ثم بزق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كفه ووضع عليها أصبعه وقال " يقول الله ابن آدم أنى
تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت
ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أو أتى أوان الصدقة ".
سورة المعارج (4 - 44)
قوله (فلا أقسم) لا زائدة كما تقدم قريبا، والمعنى: فأقسم (برب المشارق والمغارب) يعنى مشرق كل
يوم من أيام السنة ومغربه. قرأ الجمهور " المشارق والمغارب " بالجمع، وقرأ أبو حيوة وابن محيصن وحميد بالإفراد
(إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم) أي على أن نخلق أمثل منهم، وأطوع لله حين عصوه ونهلك هؤلاء
294

(وما نحن بمسبوقين) أي بمغلوبين إن أردنا ذلك بل نفعل ما أردنا لا يفوتنا شئ ولا يعجزنا أمر، ولكن مشيئتنا وسابق
علمنا اقتضيا تأخير عقوبة هؤلاء وعدم تبديلهم بخلق آخر (فذرهم يخوضوا ويلعبوا) أي اتركهم يخوضوا في
باطلهم ويلعبوا في دنياهم، واشتغل بما أمرت به ولا يعظمن عليك ما هم فيه، فليس عليك إلا البلاغ (حتى يلاقوا
يومهم الذي يوعدون) وهو يوم القيامة، وهذه الآية منسوخة بآية السيف. قرأ الجمهور يلاقوا، وقرأ أبو جعفر
وابن محيصن وحميد ومجاهد حتى يلقوا (يوم يخرجون من الأجداث سراعا) يوم بدل من يومهم، وسراعا منتصب
على الحال من ضمير يخرجون، قرأ الجمهور يخرجون على البناء للفاعل. وقرأ السلمي والأعمش والمغيرة وعاصم
في رواية على البناء للمفعول، والأجداث جمع جدث، وهو القبر (كأنهم إلى نصب يوفضون) قرأ الجمهور
" نصب " بفتح النون وسكون الصاد. وقرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد، وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رجاء
بضم النون وإسكان الصاد. قال في الصحاح: والنصب ما نصب فعبد من دون الله، وكذا النصب بالضم، وقد
يحرك. قال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تعبدنه * ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
والجمع الأنصاب، وقال الأخفش والفراء: النصب جمع النصب، مثل رهن ورهن، والأنصاب جمع النصب،
فهو جمع الجمع، وقيل النصب جمع نصاب، وهو حجر أو صنم يذبح عليه، ومنه قوله - وما ذبح على النصب -
وقال النحاس: نصب ونصب بمعنى واحد، وقيل معنى (إلى نصب) إلى غاية، وهي التي تنصب إليها بصرك،
وقال الكلبي: إلى شئ منصوب علم أو راية: أي كأنهم إلى علم يدعون إليه، أو راية تنصب لهم يوفضون.
قال الحسن: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوى أولهم على
آخرهم. وقال أبو عمرو: النصب شبكة الصائد يسرع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته. ومعنى يوفضون:
يسرعون، والإيفاض الإسراع. يقال أوفض إيفاضا: أي أسرع إسراعا، ومنه قول الشاعر:
فوارس ذبيان تحت الحديد * كالجن يوفض من عبقر
وعبقر: قرية من قرى الجن كما تزعم العرب، ومنه قول لبيد: كهول وشبان كجنة عبقر وانتصاب
(خاشعة أبصارهم) على الحال من ضمير يوفضون وأبصارهم مرتفعة به، والخشوع الذلة والخضوع: أي
لا يرفعونها لما يتوقعونه من العذاب (ترهقهم ذلة) أي تغشاهم ذلة شديدة. قال قتادة: هي سواد الوجوه،
ومنه غلام مراهق: إذا غشيه الاحتلام، يقال رهقه بالكسر يرهقه رهقا: أي غشيه، ومثل هذا قوله - ولا يرهق
وجوههم قتر ولا ذلة - والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم ذكره. وهو مبتدأ وخبره (اليوم الذي كانوا
يوعدون) أي الذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل قد حاق بهم وحضر ووقع بهم من عذابه ما وعدهم
الله به، وإن كان مستقبلا، فهو في حكم الذي قد وقع لتحقق وقوعه.
وقد أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(فلا أقسم برب المشارق والمغارب) قال: للشمس كل يوم مطلع تطلع فيه، ومغرب تغرب فيه غير مطلعها
بالأمس وغير مغربها بالأمس. وأخرج ابن جرير عنه (إلى نصب يوفضون) قال: إلى علم يستبقون.
295

تفسير سورة نوح
هي تسع وعشرون آية أو ثمان وعشرون آية وهي مكية
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت سورة (إنا أرسلنا نوحا) بمكة
سورة نوح (1 - 20)
قوله (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه) قد تقدم أن نوحا أول رسول أرسله الله، وهو نوح بن لامك بن متوشلخ
ابن أخنوخ بن قينان بن شيث بن آدم، وقد تقدم مدة لبثه في قومه، وبيان جميع عمره، وبيان السن التي أرسل
وهو فيها في سورة العنكبوت (أن أنذر قومك) أي بأن أنذر على أنها مصدرية، ويجوز أن تكون هي المفسرة،
لأن في الإرسال معنى القول. وقرأ ابن مسعود " أنذر " بدون أن، وذلك على تقدير القول: أي انقلنا له أنذر
من قبل أن يأتيهم عذاب أليم) أي عذاب شديد الألم، وهو عذاب النار. وقال الكلبي: هو ما نزل بهم من
296

الطوفان، وجملة (قال يا قوم إني لكم نذير مبين) مستأنفة استئنافا بيانيا على تقدير سؤال، كأنه قيل: فماذا قال
نوح؟ فقال: قال لهم الخ. والمعنى: إني لكم منذر من عقاب الله ومخوف لكم ومبين لما فيه نجاتكم (أن اعبدوا الله
واتقوه وأطيعون) أن هي التفسيرية لنذير، أو هي المصدرية: أي بأن اعبدوا الله ولا تشركوا به غيره واتقوه:
أي اجتنبوا ما يوقعكم في عذابه وأطيعون فيما آمركم به فإني رسول إليكم من عند الله (يغفر لكم من ذنوبكم) هذا
جواب الأمر، ومن للتبعيض: أي بعض ذنوبكم، وهو ما سلف منها قبل طاعة الرسول وإجابة دعوته. وقال
السدى: المعنى يغفر لكم ذنوبكم، فتكون من على هذا زائدة، وقيل المراد بالبعض ما لا يتعلق بحقوق العباد،
وقيل هي لبيان الجنس، وقيل يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها (ويؤخركم إلى أجل مسمى) أي يؤخر
موتكم إلى الأمد الأقصى الذي قدره الله لكم بشرط الإيمان والطاعة فوق ما قدره لكم، على تقدير بقائكم على
الكفر والعصيان، وقيل التأخير بمعنى البركة في أعمارهم أن آمنوا وعدم البركة فيها إن لم يؤمنوا. قال مقاتل:
يؤخركم إلى منتهى آجالكم. وقال الزجاج: أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير ميتة المستأصلين بالعذاب. وقال
الفراء: المعنى لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) أي ما قدره لكم على تقدير بقائكم
على الكفر من العذاب إذا جاء وأنتم باقون على الكفر لا يؤخر بل يقع لا محالة فبادروا إلى الإيمان والطاعة. وقيل
المعنى: إن أجل الله وهو الموت إذا جاء لا يمكنكم الإيمان، وقيل المعنى: إذا جاء الموت لا يؤخر سواء كان
بعذاب أو بغير عذاب (لو كنتم تعلمون) أي شيئا من العلم لسارعتم إلى ما أمرتكم به، أو لعلمتم أن أجل الله إذا
جاء لا يؤخر (قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا) أي قال نوح مناديا لربه وحاكيا له ما جرى بينه وبين قومه
وهو أعلم به منه، إني دعوت قومي إلى ما أمرتني بأن أدعوهم إليه من الإيمان دعاء دائما في الليل والنهار من غير
تقصير (فلم يزدهم دعائي إلا فرارا عما) دعوتهم إليه وبعدا عنه. قال مقاتل: يعنى تباعدا من الإيمان، وإسناد
الزيادة إلى الدعاء لكونه سببها، كما في قوله - زادتهم إيمانا - قرأ الجمهور " دعائي " بفتح الياء، وقرأ الكوفيون
ويعقوب والدوري عن أبي عمرو بإسكانها، والاستثناء مفرغ (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم) أي كلما دعوتهم
إلى سبب المغفرة، وهو الإيمان بك، والطاعة لك (جعلوا أصابعهم في آذانهم) لئلا يسمعوا صوتي (واستغشوا
ثيابهم) أي غطوا بها وجوههم لئلا يروني، وقيل جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي، فيكون
استغشاء الثياب على هذا زيادة في سد الآذان، وقيل هو كناية عن العداوة، يقال لبس فلان ثياب العداوة،
وقيل استغشوا ثيابهم لئلا يعرفهم فيدعوهم (وأصروا) أي استمروا على الكفر، ولم يقلعوا عنه ولا تابوا عنه
(واستكبروا) عن قبول الحق، وعن امتثال ما أمرهم به (استكبارا) شديدا (ثم إني دعوتهم جهارا) أي مظهرا
لهم الدعوة مجاهرا لهم بها (ثم إني أعلنت لهم) أي دعوتهم معلنا لهم بالدعاء (وأسررت لهم إسرارا) أي وأسررت لهم
الدعوة إسرارا كثيرا، قيل المعنى: أن يدعو الرجل بعد الرجل يكلمه سرا فيما بينه وبينه، والمقصود أنه دعاهم
على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة، فلم ينجع ذلك فيهم. قال مجاهد: معنى أعلنت صحت، وقيل معنى
أسررت: أتيتهم في منازلهم فدعوتهم فيها. وانتصاب جهارا على المصدرية، لأن الدعاء يكون جهارا ويكون
غير جهار، فالجهار نوع من الدعاء كقولهم: قعد القرفصاء، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف: أي دعاء
جهارا، وأن يكون مصدرا في موضع الحال: أي مجاهرا، ومعنى " ثم " الدلالة على تباعد الأحوال، لأن الجهار
أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من أحدهما. قرأ الجمهور " إني " بسكون الياء، وقرأ أبو عمرو
والحرميون بفتحها (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا) أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السابقة بإخلاص النية
297

(إنه كان غفارا) أي كثير المغفرة للمذنبين، وقيل معنى استغفروا: توبوا عن الكفر إنه كان غفارا للتائبين (يرسل
السماء عليكم مدرارا) أي يرسل ماء السماء عليكم، ففيه إضمار، وقيل المراد بالسماء المطر، كما في قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا
والمدرار: الدرور، وهو التحلب بالمطر، وانتصابه إما على الحال من السماء، ولم يؤنث لأن مفعالا لا يؤنث،
تقول امرأة مئناث ومذكار، قد أو على أنه نعت لمصدر محذوف: أي إرسالا مدرارا، وقد تقدم الكلام عليه في
سورة الأنعام، وجزم يرسل لكونه جواب الأمر. وفي هذه الآية دليل على أن الاستغفار من أعظم أسباب المطر
وحصول أنواع الأرزاق، ولهذا قال (ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات) يعنى بساتين (ويجعل لكم
أنهارا) جارية. قال عطاء: المعنى يكثر أموالكم وأولادكم. أعلمهم نوح عليه السلام أن إيمانهم بالله يجمع لهم
مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا (ما لكم لا ترجون لله وقارا) أي أي عذرا لكم في ترك الرجاء،
والرجاء هنا بمعنى الخوف: أي ما لكم لا تخافون الله، والوقار العظمة من التوقير وهو التعظيم، والمعنى لا تخافون
حق عظمته فتوحدونه وتطيعونه، و (لا ترجون) في محل نصب على الحال من ضمير المخاطبين، والعامل فيه
معنى الاستقرار في لكم، ومن إطلاق الرجاء على الخوف قول الهذلي إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح ما لكم لا ترجون لله ثوابا ولا تخافون منه عقابا. وقال مجاهد
والضحاك: ما لكم لا تبالون لله عظمة. قال قطرب: هذه لغة حجازية. وهذيل وخزاعة ومضر يقولون: لم أرج
لم أبل. وقال قتادة: ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان. وقال ابن كيسان: ما لكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته
أن يثيبكم على توقيركم خيرا. وقال ابن زيد: ما لكم لا تؤدون لله طاعة. وقال الحسن: ما لكم لا تعرفون لله حقا
ولا تشكرون له نعمة، وجملة (وقد خلقكم أطوارا) في محل نصب على الحال: أي والحال أنه سبحانه قد خلقكم
على أطوار مختلفة: نطفة، ثم مضغة، ثم علقة إلى تمام الخلق كما تقدم بيانه في سورة المؤمنين، والطور في اللغة
المرة، وقال ابن الأنباري: الطور الحال وجمعه أطوار، وقيل أطوارا صبيانا ثم شبانا ثم شيوخا، وقيل الأطوار
اختلافهم في الأفعال والأقوال والأخلاق، والمعنى: كيف تقصرون كل في توقير من خلقكم على هذه الأطوار
البديعة (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا) الخطاب لمن يصلح له، والمراد الاستدلال بخلق السماوات على
كمال قدرته وبديع صنعه، وأنه الحقيق بالعبادة: والطباق المتطابقة بعضها فوق بعض كل سماء مطبقة على الأخرى
كالقباب. قال الحسن: خلق الله سبع سماوات على سبع أرضين بين كل سماء وسماء وأرض وأرض خلق وأمر،
وقد تقدم تحقيق هذا في قوله - ومن الأرض مثلهن - وانتصاب طباقا على المصدرية، تقول طابقه مطابقة وطباقا،
أو حال بمعنى ذات طباق، فحذف ذات وأقام طباقا مقامه، وأجاز الفراء في غير القرآن جر طباقا على النعت
(وجعل القمر فيهن نورا) أي منورا لوجه الأرض، وجعل القمر في السماوات مع كونها في سماء الدنيا، لأنها
إذا كانت في إحداهن، فهي فيهن، كذا قال ابن كيسان. قال الأخفش: كما تقول أتاني بنو تميم، والمراد
بعضهم. وقال قطرب فيهن بمعنى معهن: أي خلق القمر والشمس مع خلق السماوات والأرض، كما في قول
امرئ القيس:
وهل ينعمن من كان آخر عهده * ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
أي مع ثلاثة أحوال (وجعل الشمس سراجا) أي كالمصباح لأهل الأرض ليتوصلوا بذلك إلى التصرف فيما
298

يحتاجون إليه من المعاش (والله أنبتكم من الأرض نباتا) يعنى آدم خلقه الله من أديم الأرض، والمعنى: أنشأكم منها
إنشاء، فاستعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكوين، ونباتا إما مصدر لأنبت على حذف الزوائد
أو مصدر لفعل محذوف: أي أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا. وقال الخليل والزجاج: هو مصدر محمول على
المعنى، لأن معنى أنبتكم: جعلكم تنبتون نباتا. وقيل المعنى: والله أنبت لكم من الأرض النبات فنباتا على هذا
مفعول به. قال ابن بحر: أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر وبالطول بعد القصر (ثم يعيدكم فيها) أي في الأرض
(ويخرجكم إخراجا) يعنى يخرجكم منها بالبعث يوم القيامة (والله جعل لكم الأرض بساطا) أي فرشها وبسطها
لكم تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم (لتسلكوا منها سبلا فجاجا) أي طرقا واسعة، والفجاج جمع فج
وهو الطريق الواسع، كذا قال الفراء وغيره، وقيل الفج: المسلك بين الجبلين، وقد مضى تحقيق هذا في سورة
الأنبياء وفي سورة الحج مستوفى.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (وجعلوا أصابعهم في آذانهم) قال: لئلا يسمعوا ما يقول
(واستغشوا ثيابهم) قال: ليتنكروا فلا يعرفهم (واستكبروا استكبارا) قال: تركوا التوبة. وأخرج سعيد بن
منصور وابن المنذر عنه (واستغشوا ثيابهم) قال: غطوا وجوههم لئلا يروا نوحا ولا يسمعوا كلامه. وأخرج
سعيد بن منصور وعبد بن حميد والبيهقي في الشعب عنه أيضا في قوله (ما لكم لا ترجون لله وقارا) قال: لا تعلمون
لله عظمة. وأخرج ابن جرير والبيهقي عنه أيضا (وقارا) قال عظمة. وفي قوله (وقد خلقكم أطوارا) قال:
نطفة ثم علقة ثم مضغة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال: لا تخافون لله
عظمة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: لا تخشون له عقابا ولا ترجون له ثوابا. وأخرج عبد الرزاق في
المصنف عن علي بن أبي طالب " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ناسا يغتسلون عراة ليس عليهم أزر،
فوقف فنادى بأعلى صوته (ما لكم لا ترجون لله وقارا) ". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ
في العظمة عن عبد الله بن عمرو قال: الشمس والقمر وجوههما قبل السماء وأقفيتهما قبل الأرض، وأنا أقرأ
بذلك عليكم أنه من كتاب الله (وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا). وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر
وأبو الشيخ في العظمة عن عبد الله بن عمر قال: تضئ لأهل السماوات كما تضئ لأهل الأرض. وأخرج عبد
ابن حميد عن شهر بن حوشب قال: اجتمع عبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار وقد كان بينهما بعض
العتب فتعاتبا فذهب ذلك، فقال عبد الله بن عمرو لكعب: سلني عما شئت فلا تسألني عن شئ إلا أخبرتك
بتصديق قولي من القرآن، فقال له: أرأيت ضوء الشمس والقمر أهو في السماوات السبع كما هو في الأرض؟
قال نعم: ألم تروا إلى قول الله (خلق سبع سماوات طباقا، وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه عن ابن عباس (وجعل القمر فيهن نورا) قال:
وجهه في السماء إلى العرش وقفاه إلى الأرض. وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه (وجعل
القمر فيهن نورا) قال: خلق فيهن حين خلقهن ضياء لأهل الأرض، وليس في السماء من ضوئه شئ.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا (سبلا فجاجا) قال: طرقا مختلفة.
299

قوله (قال نوح رب إنهم عصوني) أي استمروا على عصياني ولم يجيبوا دعوتي، شكاهم إلى الله عز وجل،
أخبره بأنهم عصوه ولم يتبعوه وهو أعلم بذلك (واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا) أي اتبع الأصاغر
رؤساءهم، وأهل الثروة منهم الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا وعقوبة في الآخرة. قرأ أهل
المدينة والشام وعاصم وولده بفتح الواو واللام. وقرأ الباقون بسكون اللام، وهي لغة في الولد، ويجوز أن يكون
جمعا، وقد تقدم تحقيقه، ومعنى واتبعوا: أنهم استمروا على اتباعهم لا أنهم أحدثوا الاتباع (ومكروا مكرا
كبارا) أي مكرا كبيرا عظيما، يقال: كبير وكبار وكبار مثل عجيب وعجاب وعجاب، وجميل وجمال
وجمال. قال المبرد: كبارا بالتشديد للمبالغة، ومثل كبارا قراء لكثير القراءة، وأنشد ابن السكيت:
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي * بالحسن قلب المسلم القراء
قرأ الجمهور " كبارا " بالتشديد. وقرأ ابن محيصن وحميد ومجاهد بالتخفيف. قال أبو بكر: هو جمع كبير
كأنه جعل مكرا مكان ذنوب أو أفاعيل، فلذلك وصفه بالجمع. وقال عيسى بن عمر: هي لغة يمانية.
واختلف في مكرهم هذا ما هو؟ فقيل هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح، وقيل هو تغريدهم على الناس بما
أوتوا من المال والولد حتى قال الضعفة: لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم. وقال الكلبي: هو ما جعلوه لله
من الصاحبة والولد. وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لأتباعهم لا تذرن آلهتكم، وقيل مكرهم كفرهم (وقالوا
لا تذرن آلهتكم) أي لا تتركوا عبادة آلهتكم، وهي الأصنام والصور التي كانت لهم، ثم عبدتها العرب من بعدهم،
وبهذا قال الجمهور (ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) أي لا تتركوا عبادة هذه. قال محمد
ابن كعب: هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح، فنشأ بعدهم قوم يقتدون بهم في العبادة، فقال لهم
إبليس: لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأسوق إلى العبادة، ففعلوا، ثم نشأ قوم من بعدهم فقال لهم إبليس:
إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فاعبدوهم، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت، وسميت هذه الصور
بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صورة أولئك القوم. وقال عروة بن الزبير وغيره: إن هذه كانت أسماء لأولاد
آدم، وكان ود أكبرهم. قال الماوردي: فأما ود فهو أول صنم معبود، سمى ودا لودهم له، وكان بعد قوم
نوح لكلب بدومة الجندل في قول ابن عباس وعطاء ومقاتل، وفيه يقول شاعرهم:
300

حياك ود فإن لا يحل لنا * لهو النساء وإن الدين قد غربا
وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر، وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجرف من سبأ في قول قتادة.
وقال المهدوي: لمراد ثم لغطفان، وأما يعوق فكان لهمدان في قول قتادة وعكرمة وعطاء. وقال الثعلبي: كان
لكهلان بن سبأ، ثم توارثوه حتى صار في همدان، وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني:
يريش الله في الدنيا ويبري * ولا يبري يعوق ولا يريش *
وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول قتادة ومقاتل. قرأ الجمهور " ودا " بفتح الواو. وقرأ نافع
بضمها. قال الليث: ود بضم الواو صنم لقريش، وبفتحها صنم كان لقوم نوح، وبه سمى عمرو بن ود. قال
في الصحاح، والود بالفتح: الوتد في لغة أهل نجد كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال. وقرأ الجمهور " ولا
يغوث ويعوق " بغير تنوين، فإن كانا عربيين فالمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل، وإن كانا عجميين
فللعجمية والعلمية. وقرأ الأعمش " ولا يغوثا ويعوقا " بالصرف. قال ابن عطية: وذلك وهم. ووجه تخصيص
هذه الأصنام بالذكر مع دخولها تحت الآلهة، لأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها (وقد أضلوا كثيرا) أي أضل
كبراؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الناس، وقيل الضمير راجع إلى الأصنام: أي أضل بسببها كثير من الناس كقول
إبراهيم - رب إنهن أضللن كثيرا من الناس - وأجري عليهم ضمير من يعقل لاعتقاد الكفار الذين يعبدونها أنها
تعقل (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) معطوف على - رب إنهم عصوني - ووضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا
عليهم بالظلم. وقال أبو حيان: إنه معطوف على قد أضلوا، ومعنى الإضلالا إلا عذابا: كذا قال ابن بحر،
واستدل على ذلك بقوله - إن المجرمين في ضلال وسعر -، وقيل إلا خسرانا، وقيل إلا فتنة بالمال والولد، وقيل
الضياع، وقيل ضلالا في مكرهم (مما خطيئاتهم أغرقوا) ما مزيدة للتأكيد، والمعنى: من خطيئاتهم: أي من
أجلها وبسببها أغرقوا بالطوفان (فأدخلوا نارا) عقب ذلك، وهي نار الآخرة، وقيل عذاب القبر. قرأ الجمهور
" خطيئاتهم " على جمع السلامة، وقرأ أبو عمرو " خطاياهم " على جمع التكسير، وقرأ الجحدري وعمرو بن عبيد
والأعمش وأبو حيوة وأشهب العقيلي خطيئتهم على الإفراد. قال الضحاك عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في حالة
واحدة كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في جانب. قرأ الجمهور " أغرقوا " من أغرق، وقرأ زيد بن علي
" غرقوا " بالتشديد (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) أي لم يجدوا أحدا يمنعهم من عذاب الله ويدفعه عنهم
(وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) معطوف على (قال نوح رب إنهم عصوني) لما أيس
نوح عليه السلام من إيمانهم وإقلاعهم عن الكفر دعا عليهم بالهلاك. قال قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحى إليه
- إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن - فأجاب الله دعوته وأغرقهم. وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع بن
أنس وابن زيد وعطية: إنما قال هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم، وأعقم أرحام
النساء وأصلاب الآباء قبل العذاب بسبعين سنة، وقيل بأربعين. قال قتادة: لم يكن فيهم صبي وقت العذاب.
وقال الحسن وأبو العالية: لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذابا من الله لهم وعدلا فيهم ولكن أهلك ذريتهم وأطفالهم
بغير عذاب ثم أهلكهم بالعذاب، ومعنى ديارا: من يسكن الديار، وأصله ديوار على فيعال، من دار يدور،
فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الآخرى، مثل القيام أصله قيوام، وقال القتيبي: أصله من الدار: أي نازل
بالدار، يقال ما بالدار ديار: أي أحد، وقيل الديار: صاحب الديار، والمعنى: لا تدع أحدا منهم إلا
أهلكته (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك) أي إن تتركهم على الأرض يضلوا عبادك عن طريق الحق (ولا يلدوا إلا
301

فاجرا كفارا) أي إلا فاجرا بترك طاعتك كفارا لنعمتك: أي كثير الكفران لها، والمعنى: إلا من سيفجر
ويكفر. ثم لما دعا على الكافرين أتبعه بالدعاء لنفسه ووالديه والمؤمنين، فقال (رب اغفر لي ولوالدي) وكانا
مؤمنين، وأبوه لأمك بن متوشلخ كما تقدم، وأمه سمحاء بنت أنوش، وقيل أراد آدم وحواء. وقال سعيد بن
جبير: أراد بوالديه أباه وجده. وقرأ سعيد بن جبير " ولوالدي " بكسر الدال على الافراد. (ولمن دخل بيتي
قال الضحاك والكلبي: يعني مسجده، وقيل منزله الذي هو ساكن فيه، وقيل سفينته، وقيل لمن دخل في دينه،
وانتصاب (مؤمنا) على الحال: أي لمن دخل بيتي متصفا بصفة الإيمان فيخرج من دخله غير متصف بهذه الصفة
كامرأته وولده الذي قال - سآوي إلى جبل يعصمني من الماء - ثم عمم الدعوة، فقال (وللمؤمنين والمؤمنات) أي
واغفر لكل متصف بالإيمان من الذكور والإناث. ثم عاد إلى الدعاء على الكافرين، فقال (ولا تزد الظالمين إلا
تبارا) أي لا تزد المتصفين بالظلم إلا هلاكا وخسرانا ودمارا، وقد شمل دعاؤه هذا كل ظالم إلى يوم القيامة كما
شمل دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق
ونسرا) قال: هذه الأصنام كانت تعبد في زمن نوح. وأخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عنه قال:
صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح في العرب. أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع
فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير
لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى
مجلسهم الذي كانوا يجلسون فيه أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى هلك أولئك ونسخ العلم فعبدت.
تفسير سورة الجن
هي ثمان وعشرون آية
وهي مكية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن
عباس قال: نزلت سورة الجن بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة وابن الزبير مثله.
302

قوله (قل أوحى إلى) قرأ الجمهور " أوحى " رباعيا. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو إياس والعتكي عن أبي عمرو
" وحى " ثلاثيا، وهما لغتان. واختلف هل رآهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم لم يرهم؟ فظاهر القرآن أنه لم
يرهم، لأن المعنى: قل يا محمد لأمتك أوحى إلى علي لسان جبريل (أنه استمع نفر من الجن) ومثله قوله - وإذ
صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن - ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم على الجن وما رآهم. قال عكرمة: والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم هي - اقرأ باسم ربك الذي خلق - وقد تقدم في سورة الأحقاف ذكر ما يفيد زيادة في هذا. قوله (أنه
استمع نفر من الجن) هذا هو القائم مقام الفاعل، ولهذا فتحت أن، والضمير للشأن، وعند الكوفيين والأخفش
يجوز أن يكون القائم مقام الفاعل الجار والمجرور، والنفر اسم للجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة. قال الضحاك:
والجن ولد الجان وليسوا شياطين. وقال الحسن: إنهم ولد إبليس. قيل هم أجسام عاقلة خفية تغلب عليهم
النارية والهوائية، وقيل نوع من الأرواح المجردة، وقيل هي النفوس البشرية المفارقة لأبدانها.
وقد اختلف أهل العلم في دخول مؤمني الجن الجنة كما يدخل عصاتهم النار لقوله في سورة تبارك - وجعلناها
رجوما للشياطين. وأعتدنا لهم عذاب السعير - وقول الجن فيما سيأتي في هذه السورة، - وأما القاسطون فكانوا
لجهنم حطبا - وغير ذلك من الآيات، فقال الحسن: يدخلون الجنة، وقال مجاهد: لا يدخلونها وإن صرفوا عن
النار، والأول أولى لقوله في سورة الرحمن - لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان - وفي سورة الرحمن آيات غير هذه
تدل على ذلك فراجعها، وقد قدمنا أن الحق أنه لم يرسل الله إليهم رسلا منهم، بل الرسل جميعا من الإنس، وإن
أشعر قوله - ألم يأتكم رسل منكم - بخلاف هذا فهو مدفوع الظاهر بآيات كثيرة في الكتاب العزيز دالة على أن الله
سبحانه لم يرسل الرسل إلا من بني آدم، وهذه الأبحاث الكلام فيها يطول، والمراد الإشارة بأخصر عبارة (فقالوا
إذا سمعنا قرآنا عجبا) أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم: أي سمعنا كلاما مقروءا عجبا في فصاحته وبلاغته،
وقيل عجبا في مواعظه، وقيل في بركته، وعجبا مصدر وصف به للمبالغة، أو على حذف المضاف: أي ذا عجب
أو المصدر بمعنى اسم الفاعل: أي معجبا (يهدي إلى الرشد) أي إلى مراشد الأمور، وهي الحق والصواب، وقيل
إلى معرفة الله، والجملة صفة أخرى للقرآن (فآمنا به) أي صدقنا به بأنه من عند الله (ولن نشرك بربنا أحدا)
من خلقه ولا نتخذ معه إلها آخر، لأنه المتفرد بالربوبية، وفي هذا توبيخ للكفار من بني آدم حيث آمنت الجن
بسماع القرآن مرة واحدة وانتفعوا بسماع آيات يسيرة منه وأدركوا بعقولهم أنه كلام الله وآمنوا به ولم ينتفع كفار
الإنس لا سيما رؤساؤهم وعظماؤهم بسماعة مرات متعددة وتلاوته عليهم في أوقات مختلفة مع كون الرسول منهم
303

يتلوه عليهم بلسانهم لا جرم صرعهم الله أذل مصرع وقتلهم أقبح مقتل، ولعذاب الآخرة أشد لو كانوا يعلمون
(وأنه تعالى جد ربنا) قرأه حمزة والكسائي وابن عامر وحفص وعلقمة ويحيى بن وثاب والأعمش وخلف والسلمي
(وأنه تعالى) بفتح أن، وكذا قرءوا فيما بعدها مما هو معطوف عليها، وذلك أحد عشر موضعا إلى قوله (وأنه لما
قام عبد الله) وقرأ الباقون بالكسر في هذه المواضع كلها إلا في قوله (وإن المساجد لله) فإنهم اتفقوا على الفتح،
أما من قرأ بالفتح في هذه المواضع، فعلى العطف على محل الجار والمجرور في (فآمنا به) كأنه قيل فصدقناه
وصدقنا أنه تعالى جد ربنا الخ، وأما من قرأ بالكسر في هذه المواضع فعلى العطف على إنا سمعنا: أي فقالوا: إنا
سمعنا قرآنا، وقالوا إنه تعالى جد ربنا إلى آخره. واختار أبو حاتم وأبو عبيد قراءة الكسر لأنه كله من كلام الجن
ومما هو محكي عنهم بقوله فقالوا إنما سمعنا. وقرأ أبو جعفر وشعبة بالفتح في ثلاثة مواضع، وهي - وأنه تعالى جد
ربنا. وأنه كان يقول سفيهنا. وأنه كان رجال من الإنس - قالا: لأنه من الوحي، وكسرا ما بقي لأنه من كلام
الجن. وقرأ الجمهور " وأنه لما قام عبد الله " بالفتح لأنه معطوف على قوله: أنه استمع. وقرأ نافع وابن عامر
وشيبة وزر بن حبيش وأبو بكر والمفضل عن عاصم بالكسر في هذا الموضع عطفا على فآمنا به بذلك التقرير
السابق، واتفقوا على الفتح في " أنه استمع " كما اتفقوا على الفتح في " أن المساجد " وفي " وأن لو استقاموا "
واتفقوا على الكسر في " فقالوا إنا سمعنا " و " قل إنما ادعوا ربي " و " قل إن أدرى " و " قل إني لا أملك لكم ".
والجد عند أهل اللغة العظمة والجلال، يقال جد في عيني: أي عظم، فالمعنى: ارتفع عظمة ربنا وجلاله، وبه
قال عكرمة ومجاهد. وقال الحسن: المراد تعالى غناه، ومنه قيل للحظ جد، ورجل مجدود: أي محظوظ
وفي الحديث " ولا ينفع ذا الجد منك الجد " قال أبو عبيد والخليل: أي لا ينفع ذا الغنى منك الغنى:
أي إنما تنفعه الطاعة، وقال القرطبي والضحاك: جده آلاؤه ونعمه على خلقه. وقال أبو عبيدة والأخفش:
ملكه وسلطانه. وقال السدي: أمره. وقال سعيد بن جبير (وأنه تعالى جد ربنا) أي تعالى ربنا، وقيل جده
قدرته. وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع بن أنس: ليس لله جد، وإنما قالته الجن
للجهالة. قرأ الجمهور " جد " بفتح الجيم، وقرأ عكرمة وأبو حيوة ومحمد بن السميفع بكسر الجيم، وهو ضد
الهزل، وقرأ أبو الأشهب " جدي ربنا " أي جدواه ومنفعته. وروى عن عكرمة أيضا أنه قرأ بتنوين " جد " ورفع
" ربنا " على أنه بدل من جد (ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) هذا بيان لتعالي جده سبحانه. قال الزجاج: تعالى
جلال ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبه أو ولدا، وكأن الجن نبهوا بهذا على خطأ الكفار الذين ينسبون إلى الله
الصاحبة والولد، ونزهوا الله سبحانه عنهما (وإنه كان يقول سفيهنا على الله شططا) الضمير في أنه للحديث
أو الأمر، وسفيهنا يجوز أن يكون اسم كان، ويقول الخبر، ويجوز أن يكون سفيهنا فاعل يقول، والجملة خبر
كان، واسمها ضمير يرجع إلى الحديث أو الأمر، ويجوز أن تكون كان زائدة، ومرادهم بسيفهم عصاتهم
ومشركوهم. وقال مجاهد وابن جريج وقتادة: أرادوا به إبليس، والشطط: الغلو في الكفر. وقال أبو مالك:
الجور، وقال الكلبي: الكذب، وأصله البعد عن القصد ومجاوزة الحد، ومنه قول الشاعر:
بأية حال حكموا فيك فاشتطوا * وما ذاك إلا حيث يممك الوخط
(وإنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا) أي إنا حسبنا أن الإنس والجن كانوا لا يكذبون على
الله بأن له شريكا وصاحبة وولدا، فلذلك صدقناهم في ذلك حتى سمعنا القرآن، فعلمنا بطلان قولهم وبطلان ما كنا
نظنه بهم من الصدق، وانتصاب كذبا على أنه مصدر مؤكد ليقول، لأن الكذب نوع من القول، أو صفة
304

لمصدر محذوف: أي قولا كذبا. وقرأ يعقوب والجحدري وابن أبي إسحاق " أن لن تقول " من التقول، فيكون
على هذه القراءة كذبا مفعول به (وإنه كان رجال من الإنس يعودون برجال من الجن) قال الحسن وابن زيد
وغيرهما: كان العرب إذا نزل الرجل بواد قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في جواره
حتى يصبح، فنزلت هذه الآية. قال مقاتل: كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمين، ثم من بنى حنيفة،
ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم (فزادوهم رهقا) أي زاد رجال الجن من تعوذ بهم
من رجال الإنس رهقا: أي سفها وطغيانا، أو تكبرا وعتوا، أو زاد المستعيذون من رجال الإنس من استعاذوا
بهم من رجال الجن رهقا، لأن المستعاذ بهم كانوا يقولون سدنا الجن والإنس. وبالأول قال مجاهد وقتادة،
وبالثاني قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد. والرهق في كلام العرب: الإثم وغشيان المحارم،
ورجل رهق: إذا كان كذلك، ومنه قوله - ترهقهم ذلة - أي تغشاهم، ومنه قول الأعشى:
لا شئ ينفعني من دون رؤيتها * هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا
يعني إثما. وقيل الرهق: الخوف: أي أن الجن زادت الإنس بهذا التعوذ بهم خوفا منهم، وقيل كان الرجل
من الإنس يقول: أعوذ بفلان من سادات العرب من جن هذا الوادي، ويؤيد هذا ما قيل من أن لفظ رجال
لا يطلق على الجن، فيكون قوله برجال وصفا لمن يستعيذون به من رجال الإنس: أي يعوذون بهم من شر الجن،
فيكون قوله برجال وصفا لمن يستعيذون به من رجال الإنس: أي يعوذون بهم من شر الجن، وهذا فيه بعد،
وإطلاق لفظ رجال على الجن على تسليم عدم صحته لغة لا مانع من إطلاقه عليهم هنا من باب المشاكلة (وأنهم
ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا) هذا من قول الجن للإنس: أي وإن الجن ظنوا كما ظننتم أيها الإنس أنه
لا بعث. وقيل المعنى: وإن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن، والمعنى: أنهم لا يؤمنون بالبعث كما أنكم لا تؤمنون
(وإنا لمسنا السماء) هذا من قول الجن أيضا: أي طلبنا خبرها كما به جرت عادتنا (فوجدناها ملئت حرسا) من
الملائكة يحرسونها عن استراق السمع، والحرس جمع حارس، و (شديد) صفة لحرسا: أي قويا (وشهبا) جمع
شهاب، وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب كما تقدم بيانه في تفسير قوله - وجعلناها رجوما للشياطين - ومحل
قوله (ملئت حرسا شديدا) النصب على أنه ثاني مفعولي وجدنا، لأنه يتعدى إلى مفعولين، ويجوز أن يكون
متعديا إلى مفعول واحد، فيكون محل الجملة النصب على الحال بتقدير قد، وحرسا منصوب على التمييز، ووصفه
بالمفرد اعتبارا باللفظ، كما يقال السلف الصالح: أي الصالحين (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع) أي وأنا كنا
معشر الجن قبل هذا نقعد من السماء مقاعد للسمع: أي مواضع نقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء، وللسمع
متعلق بنقعد: أي لأجل السمع، أو بمضمر هو صفة لمقاعد: أي مقاعد كائنة للسمع، والمقاعد جمع مقعد اسم
مكان، وذلك أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليسمعوا من الملائكة أخبار السماء فيلقونها إلى الكهنة، فحرسها الله
سبحانه ببعثه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالشهب المحرقة، وهو معنى قوله (فمن يستمع الآن يجد له شهابا
رصدا) أي أرصد له ليرمي به، أو لأجله لمنعه من السماع، وقوله " الآن " هو ظرف للحال واستعير للاستقبال،
وانتصاب رصدا على أنه صفة لشهابا، أو مفعول له، وهو مفرد ويجوز أن يكون اسم جمع كالحرس.
وقد اختلفوا هل كانت الشياطين ترمي بالشهب قبل المبعث أم لا؟ فقال قوم: لم يكن ذلك. وحكى
الواحدي عن معمر قال: قلت للزهري: أكان يرمي بالنجوم في الجاهلية؟ قال نعم، قلت: أفرأيت قوله " وأنا
305

كنا نقعد منها) الآية، قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال ابن قتيبة: إن
الرجم قد كان قبل مبعثه، ولكنه لم يكن مثله في شدة الحراسة بعد مبعثه، وكانوا يسترقون في بعض الأحوال،
فلما بعث منعوا من ذلك أصلا. وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد،
فلما بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرست السماء، ورميت الشياطين بالشهب، ومنعت من الدنو إلى السماء.
وقال نافع بن جبير: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمي، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
رميت بالشهب، وقد تقدم البحث عن هذا (وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا)
أي لا ندري أشر أريد بأهل الأرض بسبب هذه الحراسة للسماء، أم أراد بهم ربهم رشدا: أي خيرا. قال ابن
زيد: قال إبليس: لا ندري أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا أو يرسل إليهم رسولا، وارتفاع
" أشر " على الاشتغال، أو على الابتداء، وخبره ما بعده، والأول أولى، والجملة سادة مسد مفعولي ندري،
والأولى أن هذا من قول الجن فيما بينهم، وليس من قول إبليس كما قال ابن زيد (وأنا منا الصالحون) أي قال
بعض لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: وأنا كنا قبل استماع القرآن منا
الموصوفون بالصلاح (ومنا دون ذلك) أي قوم دون ذلك) أي قوم دون ذلك: أي دون الموصوفين بالصلاح، وقيل أراد بالصالحون
المؤمنين، وبمن هم دون ذلك الكافرين، والأول أولى، ومعنى (كنا طرائق قددا) أي جماعات متفرقة وأصنافا
مختلفة، والقدة: القطعة من الشئ، وصار القوم قددا: إذا تفرقت أحوالهم، ومنه قول الشاعر:
القابض الباسط الهادي لطاعته * في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
والمعنى: كنا ذوي طرائق قددا، أو كانت طرائقنا طرائق قددا، أو كنا مثل طرائق قددا، ومن هذا قول
لبيد: لم تبلغ العين كل نهمتها * يوم تمشي الجياد بالقدد
وقوله أيضا: ولقد قلت وزيد حاسر * يوم ولت خيل عمرو قددا
قال السدي والضحاك: أديانا مختلفة، وقال قتادة: أهواء متباينة. وقال سعيد بن المسيب: كانوا مسلمين
ويهود ونصارى ومجوس، وكذا قال مجاهد. قال الحسن: الجن أمثالكم قدرية ومرجئة ورافضة وشيعة، وكذا
قال السدي: (وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض) الظن هنا بمعنى العلم واليقين: أي وإنا علمنا أن الشأن لن
نعجز الله في الأرض أينما كنا فيها، ولن نفوته إن أراد بنا أمرا (ولن نعجزه هربا) أي هاربين منها، فهو مصدر
في موضع الحال (وأنا لما سمعنا اهدى) يعنون القرآن (آمنا به) وصدقنا أنه من عبد الله ولم نكذب به كما كذبت
به كفرة الإنس (فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا) أي لا يخاف نقصا في عمله وثوابه، ولا ظلما ومكروها
يغشاه، والبخس النقصان، والرهق العدوان والطغيان، والمعنى: لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد
في سيئاته، وقد تقدم تحقيق الرهق قريبا. قرأ الجمهور " بخسا " بسكون الخاء. وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها. وقرأ
يحيى بن وثاب والأعمش " فلا يخف " جزما على جواب الشرط، ولا وجه لهذا بعد دخول الفاء، والتقدير: فهو
لا يخاف والأمر ظاهر.
وقد اخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال: انطلق النبي صلى الله عليه وآله
وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب
فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: مالكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب -
306

قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شئ حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها لتعرفوا ما هذا الأمر
الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو
بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له قالوا - هذا والله
الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهناك حين رجعوا إلى قومهم (فقالوا) يا قومنا (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى
الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم (قل أوحي إلى أنه استمع نفر
من الجن) وإنما أوحي إليه قول الجن. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله (قل أوحي إلى أنه استمع
نفر من الجن) قال: كانوا من جن نصيبين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وأنه تعالى جد
ربنا) قال: آلاؤه وعظمته. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: أمره وقدرته. وأخرج ابن مردويه
والديلمي قال السيوطي بسند واه عن أبي موسى الأشعري مرفوعا في قوله (وأنه كان يقول سفيهنا) قال: إبليس.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي في الضعفاء والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر
عن عكرمة بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذكر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعى غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم،
فوثب الراعي فقال: يا عامر الوادي أنا جارك، فنادى مناديا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم
وأنزل الله على رسوله بمكة (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن) الآية. وأخرج ابن جرير
وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (فزادوهم رهقا) قال: إنما. وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان القوم في
الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه، فلا يكون بشئ أشد ولعا منهم بهم،
فذلك قوله (فزادهم رهقا). وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير
والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال: كانت الشياطين لهم مقاعد في السماء يسمعون فيها
الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا، فيكون باطلا، فلما بعث
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمي بها قبل ذلك،
فقال لهم: ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قائما يصلي بين جبلين بمكة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عنه في قوله (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك) يقول: منا المسلم، ومنا المشرك، و (كنا طرائق
قددا) أهواء شتى. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (فلا يخاف بخسا ولا رهقا) قال: لا يخاف نقصا
من حسناته ولا زيادة في سيئاته (سورة الجن (14 - 28)
307

قوله (وأنا منا المسلمون) هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم (ومنا القاسطون) أي الجائرون
الظالمون الذين حادوا عن طريق الحق، ومالوا إلى طريق الباطل، يقال قسط: إذا جار، وأقسط: إذا عدل
(فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا) أي قصدوا طريق الحق. قال الفراء: أموا الهدى (وأما القاسطون فكانوا لجهنم
حطبا) أي وقودا للنار توقد بهم كما توقد بكفرة الإنس (وألوا استقاموا على الطريقة) هذا ليس من قول الجن
بل هو معطوف على (أنه استمع نفر من الجن) والمعنى: وأوحى إلى أن الشأن لو استقام الجن أو الإنس أو
كلاهما على الطريقة، وهي طريقة الإسلام، وقد قدمنا أن القراء اتفقوا على فتح أن ههنا. قال ابن الأنباري:
والفتح هنا على إضمار يمين تأويلها، والله أن لو استقاموا على الطريقة كما فعل، يقال في الكلام والله لو قمت لقمت
كما في قول الشاعر:
أما والله أن لو كنت حرا * ولا بالحر أنت ولا العتيق
قال: أبو علي أوحى إلى أنه استمع، وأن لو استقاموا، أو على آمنا به: أي آمنا به، وبأن لو استقاموا. قرأ
الجمهور بكسر الواو من لو لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن وثاب والأعمش بضمها (لأسقيناهم ماء غدقا) أي كثيرا
واسعا. قال مقاتل: ماء كثيرا من السماء، وذلك بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين. وقال ابن قتيبة: المعنى لو
آمنوا جميعا لوسعنا عليهم في الدنيا، وضرب الماء الغدق مثلا لأن الخير كله والرزق بالمطر، وهذا كقوله - ولو
أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا - الآية، وقوله - ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب - وقوله
- استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين - الآية. وقيل المعنى: وأن
لو استقام أبوهم على عبادته وسجد لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم، واختار هذا الزجاج.
والماء الغدق: هو الكثير في لغة العرب (لنفتنهم فيه) أي لنختبرهم فنعلم كيف شكرهم على تلك النعم. وقال
الكلبي: والمعنى وأن لو استقاموا على الطريقة التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفارا، لأوسعنا أرزاقهم
مكرا بهم واستدراجا حتى يفتنوا بها فنعذبهم في الدنيا والآخرة. وبه قال الربيع بن أنس وزيد بن أسلم وابنه
عبد الرحمن والثمالي ويمان بن زيان وابن كيسان وأبو مجلز، واستدلوا بقوله - فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم
308

أبواب كل شئ - وقوله - ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من قصة - الآية
والأول أولى (ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا) أي ومن يعرض عن القرآن، أو عن العبادة، أو
عن الموعظة، أو عن جميع ذلك يسلكه: أي يدخله عذابا صعدا: أي شاقا صعبا. قرأ الجمهور " نسلكه " بالنون
مفتوحة. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو في رواية عنه بالياء التحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله
- عن ذكر ربه - ولم يقل عن ذكرنا. وقرأ مسلم بن جندب وطلحة بن مصرف والأعرج بضم النون وكسر اللام،
من أسلكه، وقراءة الجمهور من سلكه. والصعد في اللغة المشقة، تقول تصعد بي الأمر: إذا شق عليك، وهو
مصدر صعد، يقال صعد صعدا وصعودا، فوصف به العذاب مبالغة، لأنه يتصعد المعذب: أي يعلوه ويغلبه
فلا يطيقه. قال أبو عبيد: الصعد مصدر: أي عذابا ذا صعد. وقال عكرمة: الصعد هو صخرة ملساء في جهنم يكلف
صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم كما في قوله - سأرهقه صعودا - والصعود: العقبة الكئود (وأن
المساجد لله) قد قدمنا اتفاق القراء هنا على الفتح فهو معطوف على أنه استمع: أي وأوحى إلى أن المساجد مختصة
بالله. وقال الخليل: التقدير ولأن المساجد. والمساجد: المواضع التي بنيت للصلاة فيها. وقال سعيد بن جبير:
قالت الجن كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناءون عنك؟ فنزلت. وقال الحسن: أراد بها
كل البقاع لأن الأرض كلها مسجد. وقال سعيد بن المسيب وطلق بن حبيب: أراد بالمساجد الأعضاء التي
يسجد عليها العبد، وهي القدمان والركبتان واليدان والجبهة، يقول هذه أعضاء أنعم الله بها عليك فلا تسجد بها
لغيره فتجحد نعمة الله، وكذا قال عطاء. وقيل المساجد هي الصلاة لأن السجود من جملة أركانها قاله الحسن (فلا
تدعوا مع الله أحدا) من خلقه كائنا ما كان (وأنه لما قام عبد الله) قد قدمنا أن الجمهور قرءوا هنا بفتح أن، عطفا
على أنه استمع: أي وأوحى إلى أن الشأن لما قام عبد الله، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يدعوه) أي
يدعوا الله ويعبده، وذلك ببطن نخلة كما تقدم حين قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ويتلو القرآن،
وقد قدمنا أيضا قراءة من قرأ بكسر إن هنا، وفيها غموض وبعد عن المعنى المراد (كادوا يكونون عليه لبدا) أي
كاد الجن يكونون على رسول الله لبدا: أي متراكمين من ازدحامهم عليه لسماع القرآن منه. قال الزجاج: ومعنى
لبدا: يركب بعضهم بعضا، ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفرش. قرأ الجمهور " لبدا " بكسر اللام وفتح
الباء وقرأ مجاهد وابن محيصن وهشام بضم اللام وفتح الباء، وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميفع والعقيلي والجحدري
بضم الباء واللام. وقرأ الحسن وأبو العالية والأعرج بضم اللام وتشديد الباء مفتوحة. فعلى القراءة الأولى المعنى
ما ذكرناه، وعلى قراءة ضم اللام يكون المعنى كثيرا كما في قوله - أهلكت مالا لبدا - وقيل المعنى: كاد المشركون
يركب بعضهم بعضا حردا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال الحسن وقتادة وابن زيد: لما قام عبد الله
محمد بالدعوة، تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فأبي الله إلا أن ينصره، ويتم نوره، واختار هذا
ابن جرير. قال مجاهد لبدا: أي جماعات، وهو من تلبد الشئ على الشئ أي اجتمع ومنه اللبد الذي يفرش
لتراكم صوفه، وكل شئ ألصقته إلصاقا شديدا فقد لبدته، ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد لبدة، وجمعها لبد
ويقال للجراد الكثير لبد، ويطلق اللبد بضم اللام وفتح الباء على الشئ الدائم، ومنه قيل لنسر لقمان لبد الطول
بقائه، وهو المقصود بقول النابغة * أخنى عليها الذي أخنى على لبد (قال إنما ادعوا ربي) أي قال
عبد الله إنما أدعو ربي وأعبده (ولا أشرك به أحدا) من خلقه. قرأ الجمهور " قال " وقرأ عاصم وحمزة " قل " على
الأمر. وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت
309

الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك (قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا) أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا
ولا أسوق إليكم خيرا، وقيل الضر الكفر، والرشد الهدى، والأول أولى لوقوع النكرتين في سياق النفي، فهما
يعمان كل ضرر وكل رشد في الدنيا والدين (قل إني لن يجيرني من الله أحد) أي لا يدفع عني أحد عذابه إن
أنزله بي (ولن أجد من دونه ملتحدا) أي ملجأ ومعدلا وحرزا، والملتحد معناه في اللغة الممال: أي موضعا أميل
إليه. قال قتادة: مولى. وقال السدي: حرزا، وقال الكلبي: مدخلا في الأرض مثل السرب، وقيل مذهبا
ومسلكا، والمعنى متقارب، ومنه قول الشاعر:
يا لهف نفسي ولهفا غير مجدية * عني وما من قضاء الله ملتحد
والاستثناء في قوله (إلا بلاغا من الله) هو من قوله لا أملك: أي لا أملك ضرا ولا رشدا إلا التبليغ من الله،
فإن فيه أعظم الرشد، أو من ملتحدا: أي لن أجد من دونه ملجأ إلا التبليغ. قال مقاتل: ذلك الذي يجيرني من
عذابه. وقال قتادة: إلا بلاغا من الله، فذلك الذي أملكه بتوفيق الله، فأما الكفر والإيمان فلا أملكهما. قال
الفراء: لكن أبلغكم ما أرسلت به، فهو على هذا منقطع. وقال الزجاج: هو منصوب على البدل من قوله
" ملتحدا " أي ولن أجد من دونه ملتحدا إلا أن أبلغ ما يأتي من الله، وقوله (ورسالاته) معطوف على بلاغا: أي
إلا بلاغا من الله وإلا رسالاته التي أرسلني بها إليكم، أو إلا أن أبلغ عن الله وأعمل برسالاته، فآخذ نفسي بما آمر
به غيري. وقيل الرسالات معطوفة على الاسم الشريف: أي إلا بلاغا عن الله وعن رسالاته، كذا قال أبو حيان
ورجحه (ومن يعص الله ورسوله) في الأمر بالتوحيد لأن السياق فيه (فإن له نار جهنم) قرأ الجمهور بكسر إن
على أنها جملة مستأنفة. وقرئ بفتح الهمزة، لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء، والتقدير فجزاؤه أن له نار جهنم،
أو فحكمه أن له نار جهنم، وانتصاب (خالدين فيها) على الحال: أي في النار أو في جهنم، والجمع باعتبار معنى
من كما أن التوحيد في قوله " فإن له " باعتبار لفظها، وقوله (أبدا) تأكيد لمعنى الخلود: أي خالدين فيها بلا
نهاية (حتى إذا رأوا ما يوعدون) يعني من العذاب في الدنيا أو في الآخرة. والمعنى لا يزالون على ما هم عليه من
الإصرار على الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين حتى إذا رأوا الذي يوعدون به فسيعلمون
من أضعف ناصرا وأقل عددا) أي من هو أضعف جندا ينتصر به وأقل عددا أهم أم المؤمنون؟ (قل إن أدري
أقريب ما توعدون) أي ما أدري أقريب حصول ما توعدون من العذاب (أم يجعل له ربي أمدا) أي غاية ومدة،
أمره الله سبحانه أن يقول لهم هذا القول لما قالوا له متى بكون هذا الذي توعدنا به؟ قال عطاء: يريد أنه لا يعرف
يوم القيامة إلا الله وحده، والمعنى أن علم وقت العذاب علم غيب لا يعلمه إلا الله. قرأ الجمهور " ربي " بإسكان
الياء. وقرا الحرميان وأبو عمرو بفتحها، (ومن) في " من أضعف " موصولة، وأضعف خبر مبتدإ محذوف:
أي هو أضعف، والجملة صلة الموصول، ويجوز أن تكون استفهامية مرتفعة على الابتداء وأضعف خبرها،
والجملة في محل نصب سادة مسد مفعولي أدري، وقوله " أقريب " خبر مقدم " وما توعدون " مبتدأ مؤخر (عالم
الغيب) قرأ الجمهور بالرفع على أنه بدل من ربي، أو بيان له أو خبر مبتدإ محذوف، والجملة مستأنفة مقررة لما
قبلها من عدم الدراية. وقرئ بالنصب على المدح. وقرأ السري علم الغيب بصيغة الفعل ونصب الغيب، والفاء
في (فلا يظهر على غيبه أحدا) لترتيب عدم الإظهار على تفرده بعلم الغيب: أي لا يطلع على الغيب الذي يعلمه،
هو ما غاب عن العباد أحدا منهم، ثم استثنى فقال (إلا من ارتضى من رسول) أي إلا من اصطفاه من الرسل) أو
310

من ارتضاه منهم لإظهاره على بعض غيبه ليكون ذلك دالا على نبوته. قال القرطبي: قال العلماء: لما تمدح سبحانه
بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضى من الرسل،
فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم ومن
ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكف ويزجر بالطين ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه،
فهو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. وقال سعيد بن جبير: إلا من ارتضى من رسول هو جبريل،
وفيه بعد. وقيل المراد بقوله " إلا من ارتضى من رسول " فإنه يطلعه على بعض غيبه، وهو ما يتعلق برسالته كالمعجزة
وأحكام التكاليف وجزاء الأعمال وما يبينه من أحوال الآخرة، لا مالا يتعلق برسالته من الغيوب، كوقت قيام
الساعة ونحوه. قال الواحدي: وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حادث فقد كفر
بما في القرآن. قال في الكشاف: وفي هذا إبطال للكرامات، لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين
فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وإبطال للكهانة والتنجيم، لأن
أصحابهما أبعد شئ من الارتضاء وأدخله في السخط. قال الرازي: وعندي لا دلالة في الآية على شئ مما قالوه
إذا لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله (أقريب ما توعدون)
الآية. فإن قيل: فما معنى الاستثناء حينئذ؟ قلنا: لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا؟ وقد قال - يوم
تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا - فتعلم الملائكة حينئذ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع: أي من ارتضاه
من رسول يجعل بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شر مرده الجن والإنس، ويدل على أنه ليس المراد به
لا يطلع أحدا على شئ من المغيبات أنه ثبت كما يقارب التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين وقد عرفا بحديث
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى.
فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شئ من المغيبات، وأيضا أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن
أمور مستقبلة ويكون صادقا فيها، وأيضا قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها
عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال: وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة
أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح
حالها وقال: فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخبارا مطابقا: وأيضا
فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضا، وقد نرى الأحكام النجومية
مطابقة وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن
فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت: أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرح
به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله: أو هو استثناء منقطع فمجرد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله: إن
شقا وسطيحا الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان فيخلطون الصدق
بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله - إلا من خطف الخطفة - ونحوها من الآيات، فباب الكهانة
قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقا لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة
المحمدية. وقالوا - إنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا. وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع
311

الآن يجد له شهابا رصدا - فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به
هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو
سلم وقوع شئ مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث " إن في هذه الأمة محدثين وإن منهم
عمر " فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر
كلامه. فلو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له ما هذه بأول
زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها
الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجبا لك أن يكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجبا
لتطرق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا:
وإذا رامت الذبابة للشمس * غطاء مدت عليها جناحا
وقلت من أبيات:
مهب رياح سدة بجناح * وقابل بالمصباح ضوء صباح
فإن قلت: إذن قد تقرر بهذا الدليل القرآني أن الله يظهر من ارتضى من رسله على ما شاء من غيبه، فهل
للرسول الذي أظهره الله على ما شاء من غيبه أن يخبر به بعض أمته؟ قلت: نعم ولا مانع من ذلك. وقد ثبت عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا ما لا يخفى على عارف بالسنة المطهرة، فمن ذلك ما صح أنه قام مقاما
أخبر فيه بما سيكون إلى يوم القيامة، وما ترك شيئا مما يتعلق بالفتن ونحوها، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه
وكذلك ما ثبت من أن حذيفة بن اليمان كان قد أخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما يحدث من الفتن بعده "
حتى سأله عن ذلك أكابر الصحابة ورجعوا إليه. وثبت في الصحيح وغيره " أن عمر بن الخطاب سأله عن الفتنة
التي تموج كموج البحر، فقال: إن بينك وبينها بابا، فقال عمر: هل يفتح أو يكسر؟ فقال: بل يكسر، فعلم
عمر أنه الباب، وأن كسرة قتله " كما في الحديث الصحيح المعروف أنه قيل لحذيفة: هل كان عمر يعلم ذلك؟
فقال: نعم كان يعلم أن دون غد الليلة. وكذلك ما ثبت من إخباره لأبي ذر بما يحدث له، وإخباره لعلي بن
أبي طالب بخبر ذي الثدية، ونحو هذا مما يكثر تعدده ولو جمع لجاء منه مصنف مستقل. وإذا تقرر هذا فلا مانع
من أن يختص بعض صلحاء هذه الأمة بشئ من أخبار الغيب التي أظهرها الله لرسوله، وأظهرها رسوله لبعض
أمته، وأظهرها هذا البعض من الأمة لمن بعدهم، فتكون كرامات الصالحين من هذا القبيل، والكل من الفيض
الرباني بواسطة الجناب النبوي. ثم ذكر سبحانه أنه يحفظ ذلك الغيب الذي يطلع عليه الرسول فقال (فإنه يسلك من
بين يديه ومن خلفه رصدا) والجملة تقرير للإظهار المستفاد من الاستثناء، والمعنى: أنه يجعل سبحانه بين يدي
الرسول ومن خلفه حرسا من الملائكة يحرسونه من تعرض الشياطين لما أظهره عليه من الغيب، أو يجعل بين يدي
الوحي وخلفه حرسا من الملائكة يحوطونه من أن تسترقه الشياطين، فتلقيه إلى الكهنة، والمراد من جميع الجوانب.
قال الضحاك: ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحفظونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك، فإذا جاءه شيطان
في صورة الملك قالوا هذا شيطان فاحذره، وإن جاءه الملك قالوا هذا رسول ربك. قال ابن زيد: رصدا:
أي حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أمامه وورائه من الجن والشياطين. قال قتادة وسعيد بن
المسيب: هم أربعة من الملائكة حفظة. وقال الفراء: المراد جبريل. قال في الصحاح: الرصد القوم يرصدون
312

كالحرس يستوى فيه الواحد والجمع والمؤنث، والرصد للشئ الراقب له، يقال: رصده يرصده رصدا ورصدا
والترصد الترقب، والمرصد موضع الرصد (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) اللام متعلق بيسلك، والمراد به العلم
المتعلق بالإبلاغ الموجود بالفعل، وأن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، والخبر الجملة، والرسالات
عبارة عن الغيب الذي أريد إظهاره لمن ارتضاه الله من رسول، وضمير أبلغوا يعود إلى الرصد. وقال قتادة
ومقاتل: ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة، وفيه حذف تتعلق به اللام: أي أخبرناه
بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على حالته من التبليغ. وقيل ليعلم محمد أن جبريل ومن معه قد أبلغوا إليه
رسالات ربه، قاله سعيد بن جبير. وقيل ليعلم الرسل أن الملائكة قد بلغوا رسالات ربهم. وقيل ليعلم إبليس أن
الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم من غير تخليط. وقال ابن قتيبة: أي ليعلم الجن أن الرسل قد أبلغوا ما أنزل إليهم
ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم. وقال مجاهد: ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد بلغوا رسالات
ربهم. قرأ الجمهور " ليعلم " بفتح التحتية على البناء للفاعل. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد ويعقوب وزيد بن علي
بضمها على البناء للمفعول: أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. وقال الزجاج: ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا
رسالاته: أي ليعلم ذلك عن مشاهدة كما علمه غيبا. وقرأ ابن أبي عبلة والزهري بضم الياء وكسر اللام (وأحاط بما
لديهم) أي بما عنده الرصد من الملائكة، أو بما عند الرسل المبلغين لرسالاته، والجملة في محل نصب على الحال من
فاعل يسلك بإضمار قد: أي والحال أنه تعالى قد أحاط بما لديهم من الأحوال. قال سعيد بن جبير: ليعلم أن
ربهم قد أحاط بما لديهم فبلغوا رسالاته (وأحصى كل شئ عددا) من جميع الأشياء التي كانت والتي ستكون،
وهو معطوف على أحاط، وعددا يجوز أن يكون منتصبا على التمييز محولا من المفعول به: أي وأحصى عدد كل
شئ كما في قوله - وفجرنا الأرض عيونا - ويجوز أن يكون منصوبا على المصدرية، أو في موضع الحال:
معدودا، والمعنى: أن علمه سبحانه بالأشياء ليس على وجه الإجمال، بل على وجه التفصيل: أي أحصى كل
فرد من مخلوقاته على حدة.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال (القاسطون) العادلون عن الحق. وأخرج ابن جرير عنه في قوله
(وألو استقاموا على الطريقة) قال: أقاموا ما أمروا به (لأسقيناهم ماء غدقا) قال: معينا. وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير عن السدي قال: قال عمر " وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه " قال: حيثما
كان الماء كان المال، وحيثما كان المال كانت الفتنة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (لنفتنهم فيه) قال:
لنبتليهم به. وفي قوله (ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا) قال: شقة من العذاب يصعد فيها.
وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه عنه في قوله (يسلكه عذابا صعدا) قال: حبلا في جهنم.
وأخرج ابن جرير عنه أيضا (عذابا صعدا) قال: لا راحة فيه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (وأن
المساجد لله) قال: لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلا مسجد الحرام، ومسجد إيلياء ببيت المقدس.
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال " خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل
الهجرة إلى نواحي مكة فخط لي خطا. وقال لا تحدثن شيئا حتى آتيك، ثم قال: لا يهولنك شيئا تراه، فتقدم
شيئا، ثم جلس فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط، وكانوا كما قال الله تعالى - كادوا يكونون عليه لبدا - "
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال " لما سمعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو القرآن
كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه - قل أوحى إلى أنه
313

(استمع نفر من الجن ". وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء
في المختارة عنه أيضا في الآية قال " لما أتي الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون
بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم لما قام عبد الله يدعوه: كادوا يكونون عليه لبدا ".
وأخرج ابن المنذر عنه أيضا " لما قام عبد الله يدعوه " أي يدعو الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (كادوا
يكون عليه لبدا) قال: أعوانا. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضا (فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من
ارتضى من رسول " قال: أعلم الله الرسول من الغيب الوحي وأظهره عليه مما أوحى إليه من غيبه وما يحكم الله
فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا (رصدا) قال: هي معقبات من الملائكة
يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك قد أبلغوا رسالات
ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال: ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلا ومعها أربعة من الملائكة
يحفظونها، حتى يؤدوها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قرأ (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا
إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) يعني الملائكة الأربعة (ليعلم أن قد أبلغوا
رسالات ربهم) اه‍.
تفسير سورة المزمل
هي تسع عشرة آية، وقيل عشرون آية
وهي مكية. قال الماوردي: كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر، قال: وقال ابن عباس وقتادة: إلا
آيتين منها (واصبر على ما يقولون) والتي تليها. وقال الثعلبي: إلا قوله (إن ربك يعلم أنك تقوم) إلى آخر
السورة، فإنه نزل بالمدينة. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت (يا أيها المزمل)
بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة المزمل بمكة
إلا آيتين (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى). وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال:
اجتمعت قريش في دار الندوة، فقالوا سمعوا هذا الرجل اسما تصدون الناس عنه، فقالوا كاهن، قالوا ليس
بكاهن، قالوا مجنون، قالوا ليس بمجنون، قالوا ساحر، قالوا ليس بساحر، فتفرق المشركون على ذلك.
فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها، فأتاه جبريل، فقال: يا أيها المزمل - يا أيها المدثر.
قال البزار: بعد إخراجه من طريق معلى بن عبد الرحمن إن معلى قد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه.
لكنه إذا تفرد بالأحاديث لا يتابع عليها. وأخرج أبو داود والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال: " بت عند خالتي
ميمونة، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل، فصلى ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر، فحزرت
قيامه في كل ركعة بقدر يا أيها المزمل ".
سورة المزمل (1 - 18)
314

قوله (يا أيها المزمل) أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي، والتزمل التلفف في الثوب. قرأ الجمهور " المزمل "
بالإدغام. وقرأ أبي المتزمل على الأصل. وقرأ عكرمة بتخفيف الزاي، ومثل هذه القراءة قول امرئ القيس:
كأن ثبيرا في أفانين وبله * كبير أناس في لحاد مزمل
وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد اختلف في معناه، فقال جماعة: إنه كان يتزمل صلى الله
عليه وآله وسلم بثيابه في أول ما جاءه جبريل بالوحي فرقا منه حتى أنس به، وقيل المعنى: يا أيها المزمل بالنبوة
والملتزم للرسالة. وبهذا قال عكرمة وكان يقرأ (يا أيها المزمل) بتخفيف الزاي وفتح الميم مشددة اسم مفعول وقيل
المعنى: يا أيها المزمل بالقرآن. وقال الضحاك: تزمل بثيابه لمنامه، وقيل بلغه من المشركين سوء قول، فتزمل في
ثيابه وتدثر، فنزلت يا أيها المزمل ويا أيها المدثر. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع صوت الملك
ونظر إليه أخذته الرعدة، فأتى أهله وقال: زملوني دثروني، وكان خطابه صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخطاب
في أول نزول الوحي. ثم بعد ذلك خوطب بالنبوة والرسالة (قم الليل إلا قليلا) أي قم للصلاة في الليل. قرأ الجمهور
" قم " بكسر الميم لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو السماك بضمها اتباعا لضمة القاف. قال عثمان بن جنى: الغرض بهذه
الحركة الهرب من إلتقاء الساكنين فبأي حركة تحرك فقد وقع الغرض. وانتصاب الليل على الظرفية. وقيل إن
معنى قم صل، عبر به عنه واستعير له. واختلف هل كان هذا القيام الذي أمر به فرضا عليه أو نفلا؟ وسيأتي
إن شاء الله ما روى في ذلك. وقوله إلا فليلا استثناء من الليل: أي صل الليل كله إلا يسيرا منه، والقليل من
الشئ هو ما دون النصف، وقيل ما دون السدس، وقيل ما دون العشر. وقال مقاتل والكلبي: المراد بالقليل هنا
الثلث، وقد أغنانا عن هذا الاختلاف قوله (نصفه) الخ، وانتصاب نصفه على أنه بدل من الليل. قال الزجاج:
نصفه بدل من الليل، وإلا قليلا استثناء من النصف، والضمير في منه وعليه عائد إلى النصف. والمعنى: قم
نصف الليل أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث، أو زد عليه قليلا إلى الثلثين، فكأنه قال: قم ثلثي الليل، أو
نصفه أو ثلثه. وقيل إن نصفه بدل من قوله قليلا، فيكون المعنى: قم الليل إلا نصفه أو أقل من نصفه أو أكثر
من نصفه، قال الأخفش: نصفه أي أو نصفه كما يقال: أعطه درهما درهمين ثلاثة، يريد أو درهمين أو ثلاثة.
315

قال الواحدي: قال المفسرون: أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث، أو زد على النصف إلى الثلثين، جعل له
سعة في مدة قيامه في الليل وخيره في هذه الساعات للقيام، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة معه يقومون
على هذه المقادير، وشق ذلك عليهم، فكان الرجل لا يدري كم صلى أو كم بقي من الليل، فكان يقوم الليل كله
حتى خفف الله عنهم، وقيل الضميران في منه وعليه راجعان للأقل من النصف، كأنه قال: قم أقل من نصفه أو قم
أنقص من ذلك الأقل، أو أزيد منه قليلا، وهو بعيد جدا، والظاهر أن نصفه بدل من قليلا، والضميران
راجعان إلى النصف المبدل من قليلا.
واختلف في الناسخ لهذا الأمر، فقيل هو قوله " إن ربك يعلم إنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه "
إلى آخر السورة، وقيل هو قوله " علم أن لن تحصوه " وقيل هو قوله " علم أن سيكون منكم مرضى " وقيل هو
منسوخ بالصلوات الخمس، وبهذا قال مقاتل والشافعي وابن كيسان، وقيل هو قوله - فاقرءوا ما تيسر منه -
وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو قدر حلب شاة (ورتل القرآن ترتيلا)
أي اقرأه على مهل مع تدبر. قال الضحاك: أقرأه حرفا حرفا. قال الزجاج: هو أن يبين جميع الحروف، ويوفي
حقها من الإشباع. وأصل الترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام، وتأكيد الفعل بالمصدر يدل على المبالغة على
وجه لا يلتبس فيه بعض الحروف ببعض، ولا ينقص من النطق بالحرف من مخرجه المعلوم مع استيفاء حركته
المعتبرة (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) أي سنوحي إليك القرآن وهو قول ثقيل. قال قتادة: ثقيل والله فرائضه
وحدوده. قال مجاهد: حلاله وحرامه. قال الحسن: العمل به. قال أبو العالية: ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال
والحرام. وقال محمد بن كعب: ثقيل على المنافقين والكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم والبيان لضلالهم وسب
آلهتم. وقال السدي: ثقيل بمعنى كريم من قولهم فلان ثقيل على: أي يكرم على. قال الفراء: ثقيلا رزينا
ليس بالخفيف السفساف، لأنه كلام ربنا. وقال الحسين بن الفضل: ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس
مزينة بالتوحيد، وقيل وصفه بكونه ثقيلا حقيقة لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوحى إليه
وهو على ناقته وضعت جرانها على الأرض فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه (إن ناشئة الليل) أي ساعاته
وأوقاته، لأنها تنشأ أولا فأولا، يقال نشأ الشئ ينشأ: إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شئ فهو ناشئ، وأنشأه
الله فنشأ، ومنه نشأت السحاب: إذا بدأت، فناشئة فاعلة من نشأ ينشأ فهي ناشئة. قال الزجاج: ناشئة الليل
كل ما نشأ منه: أي حدث، فهو ناشئة. قال الواحدي: قال المفسرون: الليل كله ناشئة، والمراد أن ساعات
الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم الموصوف. وقيل إن ناشئة الليل هي النفس التي ننشأ من مضجعها
للعبادة: أي تنهض، من نشأ من مكانه: إذا نهض. وقيل الناشئة بالحبشية قيام الليل، وقيل إنما يقال لقيام الليل
ناشئة إذا كان بعد نوم. قال ابن الأعرابي: إذا نمت من أول الليل ثم قمت فتلك المنشأة والنشأة، ومنه ناشئة الليل.
قيل وناشئة الليل هي ما بين المغرب والعشاء، لأن معنى نشأ ابتدأ، ومنه قول نصيب:
ولولا أن يقال صبا نصيب * لقلت بنفسي النشء الصغارا *
قال عكرمة وعطاء: إن ناشئة الليل بدو الليل. وقال مجاهد وغيره: هي في الليل كله، لأنه ينشأ بعد النهار،
واختار هذا مالك. وقال ابن كيسان: هي القيام من آخر الليل. قال في الصحاح: ناشئة الليل أول ساعاته.
وقال الحسن: هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح (هي أشد وطأ) قرأ الجمهور " وطأ " بفتح الواو وسكون الطاء
316

مقصورة، واختار هذه القراءة أبو حاتم. وقرأ أبو العالية وابن أبي إسحاق ومجاهد وأبو عمرو وابن عامر وحميد
وابن محيصن والمغيرة وأبو حيوة بكسر الواو وفتح الطاء ممدودة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، فالمعنى على
القراءة الأولى أن الصلاة في ناشئة الليل أثقل على المصلي من صلاة النهار، لأن الليل للنوم. قال ابن قتيبة: المعنى
أنها أثقل على المصلى من ساعات النهار، من قول العرب: اشتدت على القوم وطأة السلطان: إذا ثقل عليهم
ما يلزمهم منه، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم " اللهم اشدد وطأتك على مضر " والمعنى على القراءة الثانية أنها
أشد مواطأة: أي موافقة، من قولهم: واطأت فلانا على كذا مواطأة ووطاء: إذا وافقته عليه. قال مجاهد وابن
أبي مليكة: أي أشد موافقة بين السمع والبصر والقلب واللسان لانقطاع الأصوات والحركات فيها، ومنه -
ليواطئوا عدة ما حرم الله - أي ليوافقوا. وقال الأخفش: أشد قياما. وقال الفراء: أي أثبت للعمل، وأدوم
لمن أراد الاستكثار من العبادة، والليل وقت الفراغ عن الاشتغال بالمعاش، فعبادته تدوم ولا تنقطع. وقال
الكلبي: أشد نشاطا (وأقوم قيلا) أي وأشد مقالا وأثبت قراءة لحضور القلب فيها وهدوء الأصوات، وأشد
استقامة واستمرار على الصواب، لأن الأصوات فيها هادئة والدنيا ساكنة فلا يضطرب على المصلى ما يقرؤه.
قال قتادة ومجاهد: أي أصوب للقراءة وأثبت للقول، لأنه زمان التفهم. قال أبو علي الفارسي: أقوم قيلا:
أي أشد استقامة لفراغ البال بالليل. قال الكلبي: أي أبين قولا بالقرآن. وقال عكرمة: أي أتم نشاطا وإخلاصا
وأكثر بركة. وقال ابن زيد: أجدر أن يتفقه في القرآن، وقيل أعجل إجابة للدعاء (إن لك في النهار سبحا طويلا)
قرأ الجمهور " سبحا " بالحاء المهملة: أي تصرفا في حوائجك وإقبالا وإدبارا وذهابا ومجيئا، والسبح: الجري
والدوران، ومنه السباحة في الماء لتقلبه ببدنه ورجليه، وفرس سابح: أي شديد الجري. وقيل السبح الفراغ:
أي إن لك فراغا بالنهار للحاجات، فصل بالليل. قال ابن قتيبة: أي تصرفا وإقبالا وإدبارا في حوائجك وأشغالك.
وقال الخليل: إن لك في النهار سبحا: أي نوما، والتسبح التمدد. قال الزجاج: المعنى إن فاتك في الليل شئ
فلك في النهار فراغ للاستدراك. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو وائل وابن أبي عبلة " سبخا " بالحاء المعجمة، قيل ومعنى
هذه القراءة: الخفة والسعة والاستراحة. قال الأصمعي: يقال سبخ الله عنك الحمى: أي خففها، وسبخ الحر
فتر وخف، ومنه قول الشاعر:
فسبح عليك الهم واعلم بأنه * إذا قدر الرحمن شيئا فكائن
أي خفف عنك الهم. والتسبيح من القطن ما ينسج بعد الندف، ومنه قول الأخطل:
فأرسلوهن يذرين التراب كما * تدري سبائخ قطن ندف أوتار *
قال ثعلب: السبخ بالحاء المعجمة التردد والاضطراب، والسبخ السكون. وقال أبو عمرو: السبخ النوم
والفراغ (واذكر اسم ربك) أي ادعه بأسمائه الحسنى، وقيل اقرأ باسم ربك في ابتداء صلاتك، وقيل أذكر اسم
ربك في وعده ووعيده لتوفر على طاعته وتبعد عن معصيته، وقيل المعنى: دم على ذكر ربك ليلا ونهارا واستكثر
من ذلك. وقال الكلبي: المعنى صل لربك (وتبتل إليه تبتيلا) أي انقطع إليه انقطاعا بالاشتغال بعبادته، والتبتل
الانقطاع، يقال بتلت الشئ: أي قطعته وميزته من غيره، وصدقة بتلة: أي منقطعة من مال صاحبها، ويقال
لراهب متبتل لانقطاعه عن الناس، ومنه قول الشاعر:
تضئ الظلام بالعشاء كأنها * منارة ممسى راهب متبتل
317

ووضع نبتيلا مكان تبتلا لرعاية الفواصل. قال الواحدي: والتبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله
(رب المشرق والمغرب) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وابن عامر بجر رب على النعت لربك أو البدل منه أو
البيان له. وقرأ الباقون برفعه على أنه مبتدأ وخبره (لا إله إلا هو) أو على أنه خبر مبتدإ محذوف: أي هو رب
المشرق. وقرأ زيد بن علي بنصبه على المدح. وقرأ الجمهور " المشرق والمغرب " مفردين، وقرأ ابن مسعود وابن
عباس " المشارق والمغارب " على الجمع، وقد قدمنا تفسير المشرق والمغرب، والمشرقين والمغربين والمشارق
والمغارب (فاتخذه وكيلا) أي إذا عرفت أنه المختص بالربوبية فاتخذه وكيلا: أي قائما بأمورك، وعول عليه في
جميعها، وقيل كفيلا بما وعدك من الجزاء والنصر (واصبر على ما يقولون) من الأذى والسب والاستهزاء ولا
تجزع من ذلك (واهجرهم هجرا جميلا) أي لا تتعرض لهم ولا تشتغل بمكافأتهم، وقيل الهجر الجميل الذي لا جزع
فيه، وهذا كان قبل الأمر بالقتال (وذرني والمكذبين) أي دعني وإياهم ولا تهتم بهم فإني أكفيك أمرهم وأنتقم
لك منهم. قيل نزلت في المطعمين يوم بدر، وهم عشرة وقد تقدم ذكرهم. وقال يحيى بن سلام: هم بنو المغيرة.
وقال سعيد بن جبير: أخبرت أنهم اثنا عشر (أولي النعمة) أي أرباب الغنى والسعة والترفه واللذة في الدنيا
(ومهلهم قليلا) أي تمهيلا قليلا على أنه نعت لمصدر محذوف، أو زمانا قليلا على أنه صفة لزمان محذوف،
والمعنى أمهلهم إلى انقضاء آجالهم، وقيل إلى نزول عقوبة الدنيا بهم كيوم بدر، والأول أولى لقوله (إن لدينا
أنكالا) وما بعده فإنه وعيد لهم بعذاب الآخرة، والأنكال جمع نكل وهو القيد، كذا قال الحسن ومجاهد وغيرهما.
وقال الكلبي: الأنكال: الأغلال، والأول أعرف في اللغة، ومنه قول الخنساء:
أتوك فقطعت أنكالهم * وقد كن قبلك لا تقطع *
وقال مقاتل: هي أنواع العذاب الشديد. وقال أبو عمران الجوني: هي قيود لا تحل (وجحيما) أي نارا
مؤججة (وطعاما ذا غصة) أي لا يسوغ في الحلق بل ينشب فيه، فلا ينزل ولا يخرج. قال مجاهد: هو الزقوم.
وقال الزجاج: هو الضريع كما قال - ليس لهم طعام إلا من ضريع - قال: وهو شوك العوسج. قال عكرمة:
هو شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج، والغصة: الشجا في الحلق، وهو ما ينشب فيه من عظم أو غيره،
وجمعها غصص (وعذابا أليما) أي ونوعا آخر من العذاب غير ما ذكر (يوم ترجف الأرض والجبال) انتصاب
الظرف إما بذرني، أو بالاستقرار المتعلق به لدينا، أو هو صفة لعذاب فيتعلق بمحذوف: أي عذابا واقعا يوم
ترجف، أو متعلق بأليما. قرأ الجمهور " ترجف " بفتح التاء وضم الجيم مبنيا للفاعل، وقرأ زيد بن علي على
البناء للمفعول، مأخوذ من أرجفها، والمعنى: تتحرك وتضطرب بمن عليها، والرجفة: الزلزلة والرعدة
الشديدة (وكانت الجبال كثيبا مهيلا) أي وتكون الجبال، وإنما عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه، والكثيب
الرمل المجتمع، والمهيل الذي يمر تحت الأرجل. قال الواحدي: أي رملا سائلا: يقال لكل شئ أرسلته إرسالا
من تراب أو طعام أهلته هيلا. قال الضحاك والكلبي: المهيل الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، وإذا أخذت
أسفله انهال، ومنه قول حسان:
عرفت ديار زينب بالكثيب * كحظ الوحي في الورق القشيب *
(إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم) الخطاب لأهل مكة أو لكفار العرب أو لجميع الكفار، والرسول
محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا) يعني
318

موسى (فعصى فرعون الرسول) الذي أرسلناه إليه وكذبه ولم يؤمن بما جاء به، ومحل الكاف النصب على أنها نعت
لمصدر محذوف، والمعنى: إنا أرسلنا إليكم رسولا فعصيتموه كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه (فأخذناه أخذا
وبيلا) أي شديدا ثقيلا غليظا، والمعنى: عاقبنا فرعون عقوبة شديدة غليظة بالغرق، وفيه تخويف لأهل مكة
أنه سينزل بهم من العقوبة مثل ما نزل به وإن واختلف نوع العقوبة. قال الزجاج: أي ثقيلا غليظا، ومنه قيل
للمطر وابل. وقال الأخفش: شديدا، والمعنى متقارب، ومنه طعام وبيل: إذا كان لا يستمرأ، ومنه قول
الخنساء: لقد أكلت بجيلة يوم لاقت * فوارس مالك أكلا وبيلا
(فكيف تتقون) أي كيف تقون أنفسكم (إن كفرتم) أي إن بقيتم قوله على كفركم (يوما) أي عذاب يوم
(يجعل الولدان شيبا) لشدة هوله: أي يصير الولدان شيوخا، والشيب جمع أشيب، وهذا يجوز أن يكون
حقيقة، وأنهم يصيرون كذلك، أو تمثيلا، لأن من شاهد الهول العظيم تقاصرت قواه وضعفت أعضاؤه وصار
كالشيخ في الضعف وسقوط القوة، وفي هذا تقريع لهم شديد وتوبيخ عظيم. قال الحسن: أي كيف تتقون يوما
يجعل الولدان شيبا إن كفرتم، وكذا قرأ ابن مسعود وعطية، ويوما مفعول به لتتقون. قال ابن الأنباري: ومنهم
من نصب اليوم بكفرتم، وهذا قبيح، والولدان الصبيان، ثم زاد في وصف ذلك اليوم بالشدة فقال (السماء
منفطر به) أي متشققة به لشدته وعظيم هوله، والجملة صفة أخرى ليوم، والباء سببية، وقيل هي بمعنى في:
أي منفطر فيه، وقيل بمعنى اللام: أي منفطر له، وإنما قال منفطر ولم يقل منفطرة لتنزيل السماء منزلة شئ
لكونها قد تغيرت، ولم يبق منها إلا ما يعبر عنه بالشئ. وقال أبو عمرو بن العلاء: لم يقل منفطرة، لأن مجازها
السقف، كما قال الشاعر:
فلو رفع السماء إليه قوما * لحقنا بالسماء وبالسحاب
فيكون هذا كما في قوله - وجعلنا السماء سقفا محفوظا - وقال الفراء: السماء تذكر وتؤنث. وقال أبو علي
الفارسي: هو من باب الجراد المنتشر والشجر الأخضر، و - أعجاز نخل منقعر - قال أيضا: أي السماء ذات
انفطار كقولهم امرأة مرضع: أي ذات ارضاع على طريق النسب، وانفطارها لنزول الملائكة كما قال - إذا
السماء انفطرت - وقوله - والسماوات يتفطرن من فوقهن - وقيل منفطر به: أي بالله والمراد بأمره، والأول أولى
(كان وعده مفعولا) أي كان وعد الله بما وعد به من البعث والحساب وغير ذلك كائنا لا محالة، والمصدر
مضاف إلى فاعله، أو وكان وعد اليوم مفعولا، فالمصدر مضاف إلى مفعوله. وقال مقاتل: كان وعده أن
يظهر دينه على الدين كله.
وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة، والبيهقي في سننه عن سعد بن
هشام قال " قلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله، قالت: ألست تقرأ هذه السورة - يا أيها المزمل؟ قلت بلى،
قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حولا
حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا، ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة،
فصار قيام الليل تطوعا من بعد فرضه " وقد روى هذا الحديث عنها من طرق. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد
وابن جرير وابن أبي حاتم ومحمد بن نصر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: لما
نزلت أول المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين أولها وآخرها نحو
319

من سنة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن نصر عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: لما نزلت
يا أيها المزمل قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت - فاقرءوا ما تيسر منه - فاستراح الناس. وأخرج
أبو داود في ناسخه وابن نصر وابن مردويه والبيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: في المزمل قم
الليل إلا قليلا نصفه نسختها الآية التي فيها - علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن - وناشئة
الليل أوله كان صلاتهم أول الليل، يقول هذا أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من قيام الليل، وذلك أن
الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ، وقوله (أقوم قيلا) هو أجدر أن يفقه قراءة القرآن، وقوله (إن لك في النهار
سبحا طويلا) يقول فراغا طويلا. وأخرج الحاكم وصححه عنه في قوله (يا أيها المزمل) قال: زملت هذا الأمر فقم
به. وأخرج ابن المنذر عنه في الآية أيضا قال: يتزمل بالثياب. وأخرج الفريابي عن أبي صالح عنه أيضا (ورتل
القرآن ترتيلا) قال: تقرأ آيتين ثلاثا ثم تقطع لا تهدر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن منيع في مسنده
وابن المنذر وابن أبي حاتم ومحمد بن نصر عنه أيضا (ورتل القرآن ترتيلا) قال: بينه تبيينا. وأخرج العسكري
في المواعظ عن علي بن أبي طالب مرفوعا نحوه. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر والحاكم وصححه
عن عائشة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوحى إليه وهو على ناقته وضعت جرانها، فما تستطيع أن
تتحرك حتى يسرى عنه، وتلت (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) ". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر وابن نصر والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله (إن ناشئة الليل) قال: قيام الليل بلسان
الحبشة إذا قام الرجل قالوا نشأ. وأخرج البيهقي عنه قال (ناشئة الليل) أوله. وأخرج ابن المنذر وابن نصر عنه
أيضا قال: الليل كله ناشئة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال (ناشئة
الليل) بالحبشة قيام الليل. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن نصر والبيهقي في سننه عن أنس بن مالك قال
(ناشئة الليل) ما بين المغرب والعشاء. وأخرج عبد بن حميد وابن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم
في الكنى عن ابن عباس في قوله (إن لك في النهار سبحا طويلا) قال: السبح الفراغ للحاجة والنوم. وأخرج
أبو يعلي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت: لما نزلت (وذرني
والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا) لم يكن إلا يسيرا حتى كانت وقعة بدر. وأخرج عبد بن حميد عن ابن
مسعود (إن لدينا أنكالا) قال: قيودا. وأخرج عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن
المنذر والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس (وطعاما ذا غصة) قال: شجرة الزقوم. وأخرج الحاكم وصححه
عنه في قوله (كثيبا مهيلا) قال: المهيل الذي إذا أخذت منه شيئا تبعك آخره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه أيضا (كثيبا مهيلا) قال: الرمل السائل، وفي قوله (أخذا وبيلا) قال: شديدا. وأخرج
الطبراني وابن مردويه عنه أيضا " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ (يجعل الولدان شيبا) قال: ذلك يوم
القيامة، وذلك يوم يقول الله لآدم: قم فابعث من ذريتك بعثا إلى النار، قال: من كم يا رب؟ قال: من كل
ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وينجو واحد، فاشتد ذلك على المسلمين، فقال حين أبصر ذلك في وجوههم:
إن بني آدم كثير، وإن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، إنه لا يموت رجل منهم حتى يرثه لصلبه ألف رجل،
ففيهم وفي أشباههم جنة لكم ". وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود نحوه بأخصر منه. وأخرج الفريابي وابن جرير
وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله (السماء منفطر به) قال: ممتلئة بلسان الحبشة. وأخرج
ابن أبي حاتم عنه قال: مثقلة. موقرة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال: يعني تشقق السماء.
320

سورة المزمل (19 - 20)
الإشارة بقوله (إن هذه) إلى ما تقدم من الآيات، والتذكرة الموعظة، والإشارة إلى جميع آيات القرآن،
لا إلى ما في هذه السورة فقط (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) أي اتخذ بالطاعة التي أهم أنواعها التوحيد إلى ربه
طريقا توصله إلى الجنة (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل) معنى أدنى أقل، استعير له الأدنى لأن
المسافة بين السنين إذا دنت قل ما بينهما (ونصفه) معطوف على أدنى (وثلثه) معطوف على نصفه، والمعنى: أن
الله يعلم أن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم أقل من ثلثي الليل ويقوم نصفه ويقوم ثلثه، وبالنصف قرأ ابن
كثير والكوفيون، وقرأ الجمهور " ونصفه وثلثه " بالجر عطفا على ثلثي الليل، والمعنى: أن الله يعلم أن رسوله
صلى الله عليه وآله وسلم يقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من نصفه وأقل من ثلثه، واختار قراءة الجمهور أبو عبيد
وأبو حاتم لقوله - علم أن لن تحصوه - فكيف يقومون نصفه وثلثه وهم لا يحصونه. وقال الفراء: القراءة الأولى
أشبه بالصواب لأنه قال: أقل من ثلثي الليل، ثم فسر نفس القلة (وطائفة من الذين معك) معطوف على الضمير
في تقوم: أي وتقوم وذلك القدر معك طائفة من أصحابك (والله يقدر الليل والنهار) أي يعلم مقادير الليل والنهار
على حقائقها ويختص بذلك دون غيره وأنتم لا تعلمون ذلك على الحقيقة. قال عطاء: يريد لا يفوته علم ما تفعلون.
أي أنه يعلم مقادير الليل والنهار فيعلم قدر الذي تقومونه من الليل (علم أن لن تحصوه) أن لن تطيقوا علم مقادير
الليل والنهار على الحقيقة، وفي أن الضمير شأن محذوف، وقيل المعنى: لن تطيقوا قيام الليل. قال القرطبي:
والأول أصح، فإن قيام الليل ما فرض كله قط. قال مقاتل وغيره: لما نزل " قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص
منه قليلا. أو زد عليه " شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه فيقوم حتى يصبح مخافة
أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم وانتقعت ألوانهم فرحمهم الله وخفف عنهم فقال (علم أن لن تحصوه) أي علم أن
لن تحصوه لأنكم إن زدتم ثقل عليكم واحتجتم إلى تكلف ما ليس فرضا، وإن نقصتم شق ذلك عليكم (فتاب
عليكم) أي فعاد عليكم بالعفو، ورخص لكم في ترك القيام. وقيل فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم،
وأصل التوبة الرجوع كما تقدم، فالمعنى: رجع بكم من التثقيل إلى التخويف، ومن العسر إلى اليسر (فاقرءوا
ما تيسر من القرآن) أي فاقرءوا في الصلاة بالليل ما خف عليكم وتيسر لكم منه من غير أن ترقبوا وقتا. قال الحسن:
هو ما نقرأ في صلاة المغرب والعشاء. قال السدي: ما تيسر منه هو مائة آية. قال الحسن: أيضا من قرأ مائة آية
321

في ليلة لم يحاجه القرآن: وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين، وقال سعيد: خمسون آية، وقيل
معنى (فاقرءوا ما تيسر منه) فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، والصلاة تسمى قرآنا كقوله - وقرآن الفجر -
قيل إن هذه الآية نسخت قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف، والزيادة عليه، فيحتمل أن يكون ما تضمنته
هذه الآية فرضا ثابتا، ويحتمل أن يكون منسوخا لقوله - ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما
محمودا -. قال الشافعي: الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس: وقد ذهب قوم إلى أن قيام الليل نسخ في حقه
صلى الله عليه وآله وسلم وفي حق أمته. وقيل نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب. وقيل إنه نسخ في حق
الأمة، وبقي فرضا في حقه صلى الله عليه وآله وسلم، والأول القول بنسخ قيام الليل على العموم في حقه صلى
الله عليه وآله وسلم وفي حق أمته، وليس في قوله (فاقرءوا ما تيسر منه) ما يدل على بقاء شئ من الوجوب لأنه
إن كان المراد به القراءة من القرآن فقد وجدت في صلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من النوافل المؤكدة، وإن
كان المراد به الصلاة من الليل فقد وجدت صلاة الليل بصلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من التطوع. وأيضا
الأحاديث الصحيحة المصرحة بقول السائل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل على غيرها، يعني الصلوات
الخمس؟ فقال لا: إلا أن تطوع تدل على عدم وجوب غيرها. فارتفع بهذا وجوب قيام الليل وصلاته على
الأمة كما ارتفع وجوب ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله - ومن الليل فتهجد به نافلة لك - قال
الواحدي: قال المفسرون في قوله - فاقرءوا ما تيسر منه - كان هذا في صدر الإسلام، ثم نسخ بالصلوات الخمس
عن المؤمنين، وثبت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، وذلك قوله - وأقيموا الصلاة -. ثم ذكر سبحانه
عذرهم فقال (علم أن سيكون منكم مرضى) فلا يطيقون قيام الليل (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من
فضل الله) أي يسافرون فيها للتجارة والأرباح يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم فلا يطيقون قيام
الليل (وآخرون يقاتلون في سبيل الله) يعني المجاهدين فلا يطيقون قيام الليل. ذكر سبحانه ها هنا ثلاثة أسباب
مقتضية للترخيص، ورفع وجوب قيام الليل، فرفعه عن جميع الأمة لأجل هذه الأعذار التي تنوب بعضهم. ثم
ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال (فاقرءوا ما تيسر منه) وقد سبق تفسيره قريبا، والتكرير للتأكيد (وأقيموا
الصلاة) يعني المفروضة، وهي الخمس لوقتها (وآتوا الزكاة) يعني الواجبة في الأموال. وقال الحارث العكلي:
هي صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك، وقيل صدقة التطوع، وقيل كل أفعال الخير (وأقرضوا
الله قرضا حسنا) أي أنفقوا في سبيل الخير من أموالكم إنفاقا حسنا، وقد مضى تفسيره في سورة الحديد. قال زيد
ابن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل، وقيل النفقة في الجهاد، وقيل هو إخراج الزكاة المفترضة على
وجه حسن، فيكون تفسيرا لقوله (وآتوا الزكاة) والأول أولى لقوله (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله)
فإن ظاهره العموم: أي أي خير كان مما ذكر ومما لم يذكر (هو خيرا وأعظم أجرا) مما تؤخرونه إلى عند الموت أو
توصون به ليخرج بعد موتكم، وانتصاب خيرا على أنه ثاني مفعولي تجدوه، وضمير هو ضمير فصل، وبالنصب
قرأ الجمهور، وقرأ أبو السماك وابن السميفع بالرفع على أن يكون هو مبتدأ وخير خبره، والجملة في محل نصب
على أنها ثاني مفعولي تجدوه. قال أبو زيد: وهي لغة تميم يرفعون ما بعد ضمير الفصل، وأنشد سيبويه:
تحن إلى ليلى وأنت تركتها * وكنت عليها بالملاء أنت أقدر
وقرأ الجمهور أيضا " وأعظم " بالنصب عطفا على خيرا: وقرأ أبو السماك وابن السميفع بالرفع، كما قرأ برفع
322

" خير " وانتصاب أجرا " على التمييز (واستغفروا الله) أي اطلبوا منه المغفرة لذنوبكم فإنكم لا تخلون من ذنوب
تقترفونها (إن الله غفور رحيم) أي كثير المغفرة لمن استغفره، كثير الرحمة لمن استرحمه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فاقرءوا
ما تيسر منه) قال: مائة آية. وأخرج الدارقطني والبيهقي في سننه وحسناه عن قيس بن أبي حازم قال: " صليت
خلف ابن عباس، فقرأ في أول ركعة بالحمد لله رب العالمين، وأول آية من البقرة ثم ركع، فلما انصرفنا أقبل علينا
فقال إن الله يقول (فاقرءوا ما تيسر منه) " قال ابن كثير: وهذا حديث غريب جدا لم أره إلا في معجم الطبراني.
وأخرج أحمد والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب
وما تيسر ". وقد قدمنا في البحث الأول من هذه السورة ما روى أن هذه الآيات المذكورة هنا هي الناسخة لوجوب
قيام الليل، فارجع إليه.
تفسير سورة المدثر
هي ست وخمسون آية، وهي مكية بلا خلاف
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة المدثر بمكة. وأخرج
ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وسيأتي أن أول هذه السورة أول ما نزل من القرآن.
سورة المدثر (1 - 30)
323

قال الواحدي: قال المفسرون: لما بدئ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي أتاه جبريل، فرآه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على سرير بين السماء والأرض كالنور المتلألئ، ففزع ووقع مغشيا عليه،
فلما أفاق دخل على خديجة ودعا بماء فصبه عليه، وقال: دثروني دثروني، فدثروه بقطيفة، فقال (يا أيها المدثر
قم فأنذر) ومعنى يا أيها المدثر: يا أيها الذي قد تدثر بثيابه: أي تغشى بها، وأصله المتدثر، فأدغمت التاء في
الدال لتجانسهما. وقد قرأ الجمهور بالإدغام، وقرأ أبي المتدثر على الأصل، والدثار: هو ما يلبس فوق الشعار
والشعار: هو الذي يلي الجسد، وقال عكرمة: المعنى يا أيها المدثر بالنبوة وأثقالها. قال ابن العربي: وهذا مجاز
بعيد لأنه لم يكن نبيا إذ ذاك (قم فأنذر) أي انهض فخوف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا، أو قم من
مضجعك، أو قم قيام عزم وتصميم، وقيل الإنذار هنا هو إعلامهم بنبوته، وقيل إعلامهم بالتوحيد. وقال
الفراء: المعنى قم فصل وأمر بالصلاة (وربك فكبر) أي واختص سيدك ومالكك ومصلح أمورك بالتكبير،
وهو وصفه سبحانه بالكبرياء والعظمة، وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يعتقده الكفار، وأعظم من أن
يكون له صاحبة، أو ولد. قال ابن العربي: المراد به تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأضداد والأنداد والأصنام
ولا يتخذ وليا غيره ولا يعبد سواه، ولا يرى لغيره فعلا إلا له ولا نعمة إلا منه. قال الزجاج: إن الفاء في فكبر
دخلت على معنى الجزاء كما دخلت في فأنذر. وقال ابن جنى: هو كقولك زيدا فاضرب: أي زيدا اضرب،
فالفاء زائدة (وثيابك فطهر) المراد بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي، أمره الله سبحانه بتطهير ثيابه
وحفظها عن النجاسات، وإزالة ما وقع فيها منها، وقيل المراد بالثياب العمل، وقيل القلب، وقيل النفس، وقيل
الجسم، وقيل الأهل، وقيل الدين، وقيل الأخلاق. قال مجاهد وابن زيد وأبو رزين: أي عملك فأصلح.
وقال قتادة: نفسك فطهر من الذنب، والثياب عبارة عن النفس. وقال سعيد بن جبير: قلبك فطهر، ومن
هذا قول امرئ القيس: فسلي ثيابي من ثيابك تنسل وقال عكرمة: المعنى ألبسها على غير غدر وغير
فجرة. وقال: أما سمعت قول الشاعر:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر * لبست ولا من غدرة أتقنع
والشاعر هو غيلان بن سلمة الثقفي، ومن إطلاق الثياب على النفس قول عنترة:
فشككت بالرمح الطويل ثيابه * ليس الكريم على القنا بمحرم
وقول الآخر: ثياب بني عوف طهارى نقية * وقال الحسن والقرظي: إن المعنى وأخلاقك فطهر
لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه، ومنه قول الشاعر:
ويحيى لا يلام بسوء خلق * ويحيى طاهر الأثواب حر
وقال الزجاج: المعنى وثيابك فقصر، لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسات إذا انجر على الأرض، وبه قال
طاوس، والأول أولى لأنه المعنى الحقيقي. وليس في استعمال الثياب مجاز عن غيرها لعلاقة مع قرينة ما يدل على
أنه المراد عند الإطلاق، وليس في مثل هذا الأصل: أعني الحمل على الحقيقة عند الإطلاق خلاف، وفي
الآية دليل على وجوب طهارة الثياب في الصلاة (والرجز فاهجر) الرجز معناه في اللغة العذاب، وفيه لغتان كسر
الراء وضمها، وسمى الشرك وعبادة الأوثان رجزا لأنها سبب الرجز. قرأ الجمهور " الرجز " بكسر الراء. وقرأ
الحسن ومجاهد وعكرمة وحفص وابن محيصن بضمها. وقال مجاهد وعكرمة: الرجز الأوثان كما في قوله
324

- فاجتنبوا الرجس من الأوثان - وبه قال ابن زيد. وقال إبراهيم النخعي: الرجز المأثم، والهجر الترك. وقال
قتادة: الرجز إساف ونائلة، وهما صنمان كانا عند البيت. وقال أبو العالية والربيع والكسائي: الرجز بضم الوثن
وبالكسر العذاب. وقال السدي: الرجز بضم الراء الوعيد، والأول أولى (ولا تمنن تستكثر) قرأ الجمهور
" لا تمنن " بفك الإدغام، وقرأ الحسن وأبو اليمان والأشهب العقيلي بالإدغام، وقرأ الجمهور " تستكثر " بالرفع
على أنه حال: أي ولا تمنن حال كونك مستكثرا، وقيل على حذف أن، والأصل ولا تمنن أن تستكثر، فلما
حذفت رفع. قال الكسائي: فإذا حذف أن رفع الفعل. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش " تستكثر " بالنصب على
تقدير أن وبقاء عملها، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود " ولا تمنن أن تستكثر " بزيادة أن. وقرأ الحسن أيضا
وابن أبي عبلة " تستكثر " بالجزم على أنه بدل من تمنن كما في قوله - يلق أثاما يضاعف له - وقول الشاعر.
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا * تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
أو الجزم لإجراء الوصل مجرى الوقف: كما في قول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب * إثما من الله ولا واغل
بتسكين أشرب. وقد اعترض على هذه القراءة، لأن قوله تستكثر لا يصح أن يكون بدلا من تمنن، لأن
المن غير الاستكثار، ولا يصح أن يكون جوابا للنهي.
واختلف السلف في معنى الآية، فقيل المعنى: لا تمنن على ربك بما تتحمله من أعباء النبوة كالذي يستكثر
ما يتحمله بسبب الغير، وقيل لا تعط عطية تلتمس فيها أفضل منها قاله عكرمة وقتادة. قال الضحاك: هذا حرمه
الله على رسوله، لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق، وأباحه لأمته. وقال مجاهد: لا تضعف أن تستكثر
من الخير، من قولك حبل متين: إذا كان ضعيفا. وقال الربيع بن أنس: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من
الخير وقال ابن كيسان: لا تستكثر عملا فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك إذ جعل لك سبيلا إلى
عبادته. وقيل لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثره. وقال محمد بن كعب: لا تعط تعط مالك
مصانعة. وقال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك (ولربك فاصبر) أي لوحه ربك فاصبر على طاعته
وفرائضه، والمعنى: لأجل ربك وثوابه. وقال مقاتل ومجاهد: أصبر على الأذى والتكذيب. وقال ابن زيد:
حملت أمرا عظيما فحاربتك العرب والعجم فاصبر عليه لله. وقيل أصبر تحت موارد القضاء لله، وقيل فاصبر على
البلوى، وقيل على الأوامر والنواهي (فإذا نقر في الناقور) الناقور فاعول من النقر كأنه من شأنه أن ينقر فيه
للتصويت، والنقر في كلام العرب الصوت، ومنه قول امرئ القيس: أخفضه بالنقر لما علوته
ويقولون نقر باسم الرجل إذا دعاه، والمراد هنا النفخ في الصور، والمراد النفخة الثانية، وقيل الأولى، وقد تقدم
الكلام في هذا في سورة الأنعام وسورة النخل والفاء للسببية، كأنه قيل: أصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم
هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم، والعامل في إذا ما دل عليه قوله (فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين) فإن معناه
عسر الأمر عليهم، وقيل العامل فيه ما دل عليه " فذلك " لأنه إشارة إلى النقر، ويومئذ بدل من إذا، أو مبتدأ
وخبره يوم عسير، والجملة خبر فذلك، وقيل هو ظرف للخبر، لأن التقدير وقوع يوم عسير، وقوله (غير
يسير) تأكيد لعسره عليهم لأن كونه غير يسير، قد فهم من قوله يوم عسير (ذرني ومن خلقت وحيدا) أي
دعني، وهي كلمة تهديد ووعيد، والمعنى: دعني والذي خلقته حال كونه وحيدا في بطن أمة لا مال له ولا
325

ولد، هذا على أن وحيدا منتصب على الحال من الموصول أو من الضمير العائد إليه المحذوف، ويجوز أن يكون
حالا من الياء في ذرني: أي دعني وحدي معه، فإني أكفيك في الانتقام منه، والأول أولى. قال المفسرون:
وهو الوليد بن المغيرة. قال مقاتل: يقول خل بيني وبينه فأنا أنفرد بهلكته، وإنما خص بالذكر لمزيد كفره وعظيم
جحوده لنعم الله عليه، وقيل أراد بالوحيد الذي لا يعرف أبوه، وكان يقال في الوليد بن المغيرة إنه دعى (وجعلت
له مالا مدودا) أي كثيرا، أو يمد بالزيادة والنماء شيئا بعد شئ. قال الزجاج: مالا غير منقطع عنه، وقد كان
الوليد بن المغيرة مشهورا بكثرة المال على اختلاف أنواعه، قيل كان يحصل له من غلة أمواله ألف ألف دينار،
وقيل أربعة آلاف دينار، وقيل ألف دينار (وبنين شهودا) أي وجعلت له بنين حضورا بمكة معه لا يسافرون
ولا يحتاجون إلى التفرق في طلب الرزق لكثرة مال أبيهم. قال الضحاك: كانوا سبعة ولدوا بمكة، وخمسة ولدوا
بالطائف. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولدا. وقال مقاتل: كانوا سبعة كلهم رجال، أسلم منهم
ثلاثة خالد وهشام والوليد بن الوليد، فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك.
وقيل معنى شهودا أنه إذا ذكر ذكروا معه، وقيل كانوا يشهدون معه ما كان يشهده ويقومون بما كان يباشره
(ومهدت له تمهيدا) أي بسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش، والتمهيد عند العرب التوطئة،
ومنه مهد الصبي. وقال مجاهد: إنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش (ثم يطمع أن أزيد) أي يطمع بعد
هذا كله في الزيادة لكثرة حرصه وشدة طعمه مع كفرانه للنعم وإشراكه بالله. قال الحسن: لم يطمع أن أدخله الجنة،
وكان يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي. ثم ردعه الله سبحانه وزجره فقال (كلا) أي لست أزيده.
ثم علل ذلك بقوله (إنه كان لآياتنا عنيدا) أي معاندا لها وكافرا بما أنزلناه منها على رسولنا، يقال عند يعند بالكسر
إذا خالف الحق ورده، وهو يعرفه فهو عنيد وعاند، والعاند الذي يجوز عن الطريق ويعدل عن القصد، ومنه
قول الحارثي:
إذا ركبت فاجعلاني وسطا * إني كبير لا أطيق العندا
قال أبو صالح: عنيدا معناه مباعدا. وقال قتادة: جاحدا. وقال مقاتل: معرضا (سأرهقه صعودا) أي
سأكلفه مشقة من العذاب وهو مثل لما يلقاه من العذاب الصعب الذي لا يطاق، وقيل المعنى: إنه يكلف أن يصعد
جبلا من نار، والإرهاق في كلام العرب: أن يحمل الإنسان الشئ الثقيل، وجملة (إنه فكر وقدر) تعليل لما
تقدم من الوعيد: أي إنه فكر في شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما أنزل عليه من القرآن وقدر في نفسه:
أي هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول: هيأت الشئ إذا قدرته، وقدرت الشئ إذا هيأته، وذلك أنه لما
سمع القرآن لم يزل يفكر ماذا يقول فيه وقدر في نفسه ما يقول، فذمه الله وقال (فقتل كيف قدر) أي لعن وعذب
كيف قدر: أي على أي حال قدر ما قدر من الكلام كما يقال في الكلام: لأضربنه كيف صنع: أي على أي
حال كانت منه، وقيل المعنى: قهر وغلب كيف قدر، ومنه قول الشاعر:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي * بسهميك في أعشار قلب مقتل
وقال الزهري: عذب، وهو من باب الدعاء عليه، والتكرير في قوله (ثم قتل كيف قدر) للمبالغة
والتأكيد (ثم نظر) أي بأس بأي شئ يدفع القرآن ويقدح فيه، أو فكر في القرآن وتدبر ما هو (ثم عبس) أي قطب
وجهه لما لم يجد مطعنا يطعن به في القرآن، والعبس مصدر عبس مخففا يعبس عبسا وعبوسا إذا قطب، وقيل عبس
326

في وجوه المؤمنين، وقيل عبس في وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وبسر) أي كلح وجهه وتغير، ومنه
قول الشاعر:
صبحنا تميما غداة الحفار * بشهباء ملموسة باسره
وقول الآخر: وقد رابني منها صدود رأيته * وإعراضها عن حاجتي وبسورها
وقيل إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبلها، والعرب تقول:
وجه باسر إذا تغير واسود. وقال الراغب: البسر استعجال الشر قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته: أي طلبها
في غير أوانها. قال: ومنه قوله - عبس وبسر - أي أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته، وأهل اليمن يقولون:
بسر المركب وأبسر: أي وقف لا يتقدم ولا يتأخر، وقد أبسرنا: أي صرنا إلى البسور (ثم أدبر واستكبر) أي
أعرض عن الحق، وذهب إلى أهله، وتعظم عن أن يؤمن (فقال إن هذا إلا سحر يؤثر) أي يأثره عن غيره
ويرويه عنه. والسحر: إظهار الباطل في صورة الحق، أو الخديعة على ما تقدم بيانه في سورة البقرة، يقال
أثرت الحديث بأثره إذا ذكرته عن غيرك، ومنه قول الأعشى:
إن الذي فيه تحاربتما * بين للسامع والأثر
(إن هذا إلا قول البشر) يعني أنه كلام الإنس، وليس بكلام الله، وهو تأكيد لما قبله، وسيأتي أن
الوليد بن المغيرة إنما قال هذا القول إرضاء لقومه بعد اعترافه أن له حلاوة، وأن عليه طلاوة إلى آخر كلامه. ولما
قال هذا القول الذي حكاه الله عنه قال الله عز وجل (سأصليه سقر) أي سأدخله النار، وسقر من أسماء النار،
ومن دركات جهنم، وقيل إن هذه الجملة بدل من قوله (سأرهقه صعودا) ثم بالغ سبحانه في وصف النار وشدة
أمرها فقال (وما أدراك ما سقر) أي وما أعلمك أي شئ هي، والعرب تقول: وما أدراك ما كذا: إذا أرادوا
المبالغة في أمره وتعظيم شأنه وتهويل خطبه، وما الأولى مبتدأ، وجملة ما سقر خبر المبتدأ. ثم فسر حالها فقال
(لا تبقى ولا تذر) والجملة مستأنفة لبيان حال سقر، والكشف عن وصفها، وقيل هي في محل نصب على الحال،
والعامل فيها معنى التعظيم، لأن قوله (وما أدراك ما سقر) يدل على التعظيم، فكأنه قال: استعظموا سقر في هذه
الحال، والأول أولى، ومفعول الفعلين محذوف. قال السدي: لا تبقي لهم لحما ولا تزد لهم عظما. وقال عطاء:
لا تبقي من فيها حيا ولا تذره ميتا، وقيل هما لفظان بمعنى واحد، كررا للتأكيد كقولك: صد عني، وأعرض
عني (لواحة للبشر) قرأ الجمهور " لواحة " بالرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف، وقيل على أنه نعت لسقر، والأول
أولى. وقرأ الحسن وعطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر وابن أبي عبلة وزيد بن علي بالنصب على الحال
أو الاختصاص للتهويل، يقال: لاح يلوح: أي ظهر، والمعنى: أنها تظهر للبشر. قال الحسن: تلوح لهم جهنم
حتى يرونها عيانا كقوله - وبرزت الجحيم لمن يرى - وقيل معنى (لواحة للبشر) أي مغيرة لهم ومسودة. قال
مجاهد: والعرب تقول: لاحه الحر والبرد والسقم والحزن: إذا غيره، وهذا أرجح من الأول، وإليه ذهب
جمهور المفسرين، ومنه قول الشاعر:
وتعجب هند أن رأتني شاحبا * تقول لشئ لوحته السمايم
أي غيرته، ومنه قول رؤبة بن العجاج:
لوح منه بعد بدن وشبق * تلويحك الضامر يطوي للسبق
327

وقال الأخفش: المعنى أنها معطشة للبشر، وأنشد:
سقتني على لوح من الماء شربة * سقاها به الله الرهام الغواديا
والمراد بالبشر إما جلدة الإنسان الظاهرة كما قاله الأكثر، أو المراد به أهل النار من الإنس كما قال الأخفش
(عليها تسعة عشر) قال المفسرون: يقول على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها، وقيل تسعة عشر صنفا من
أصناف الملائكة، وقيل تسعة عشر صفا من صفوفهم، وقيل تسعة عشر نقيبا مع كل نقيب جماعة من الملائكة،
والأول أولى. قال الثعلبي: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن
أن يكونوا تسعة عشر على عذاب بعض الخلق. قرأ الجمهور " تسعة عشر " بفتح الشين من عشر. وقرأ أبو جعفر
ابن القعقاع وطلحة بن سليمان بإسكانها.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: إن أول ما نزل من
القرآن (يا أيها المدثر) فقال له يحيى بن أبي كثير: يقولون إن أول ما نزل - اقرأ باسم ربك الذي خلق - فقال
أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، قلت له مثل ما قلت، فقال جابر: لا أحدثنك إلا ما حدثنا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر
شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء
جالس على كرسي بين السماء والأرض، فحثيت منه رعبا، فرجعت فقلت دثروني فدثروني، فنزلت (يا أيها
المدثر قم فأنذر) إلى قوله (والرجز فاهجر) " وسيأتي في سورة اقرأ ما يدل على أنها أول سورة أنزلت، والجمع
ممكن. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس (يا أيها المدثر) فقال: دثر هذا الأمر، فقم به. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه (يا أيها المدثر) قال: النائم (وثيابك فطهر) قال: لا تكن ثيابك
التي تلبس من مكسب باطل (والرجز فاهجر) قال: الأصنام (ولا تمنن تستكثر) قال: لا تعط تلتمس بها أفضل
منها. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه أيضا (وثيابك
فطهر) قال: من الإثم. قال: وهي في كلام العرب نقي الثياب. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا (وثيابك فطهر
قال: من الغدر، لا تكن غدارا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن الأنباري وابن مردويه عن عكرمة عنه أيضا أنه سئل عن قوله (وثيابك فطهر) قال: لا تلبسها على غدرة،
ثم قال: ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر * لبست ولا من غدرة أتقنع *
وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه عنه أيضا (ولا تمنن تستكثر) قال: لا تعط الرجل عطاء رجاء أن يعطيك
أكثر منه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه أيضا (فإذا نقر في الناقور) قال: الصور (يوم عسير)
قال: شديد. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا (ذرني ومن خلقت وحيدا) قال الوليد بن المغيرة. وأخرج الحاكم
وصححه والبيهقي في الدلائل عنه أيضا: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ عليه القرآن،
فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه، فإنك
أتيت محمدا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك
منكر له، وأنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيدة
328

ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة
وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: والله لا يرضى قومك حتى
تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت (ذرني ومن
خلقت وحيدا). وقد أخرج هذا عبد الرزاق عن عكرمة مرسلا، وكذا أخرجه ابن جرير وابن إسحاق وابن
المنذر وغير واحد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن قوله (وجعلت
له مالا ممدودا) قال: غلة شهر بشهر. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (وجعلت له مالا ممدودا) قال: ألف
دينار. وأخرج هناد عن أبي سعيد الخدري في قوله (سأرهقه صعودا) قال: هو جبل في النار يكلفون أن
يصعدوا فيه، فكلما وضعوا أيديهم عليه ذابت، فإذا رفعوها عادت كما كانت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
عن ابن عباس (عنيدا) قال: جحودا. وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن
حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الصعود جبل
في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا، ثم يهوى وهو كذلك فيه أبدا ". قال الترمذي بعد إخراجه: غريب لا نعرفه
إلا من حديث ابن لهيعة عن دراج. قال ابن كثير: وفيه غرابة ونكارة انتهى، وقد أخرجه جماعة من قول أبي سعيد،
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال (صعودا) صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه. وأخرج ابن
المنذر عنه قال: جبل في النار. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله (لا تبقى ولا تذر) قال: لا تبقى منهم شيئا،
وإذا بدلوا خلقا آخر لم تذر أن تعاودهم سبيل العذاب الأول. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا (لواحة للبشر)
قال: تلوح الجلد فتحرقه وتغير لونه، فيصير أسود من الليل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (لواحة)
قال: محرقة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن البراء: أن رهطا من اليهود سألوا بعض
أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن خزنة جهنم، فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء جبريل، فأخبر النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، فنزلت عليه ساعتئذ (عليها تسعة عشر).
سورة المدثر (31 - 37)
لما نزل قوله سبحانه (عليها تسعة عشر) قال أبو جهل: أما لمحمد من الأعوان إلا تسعة عشر يخوفكم محمد
بتسعة عشر وأنتم الدهم، أفيعجز كل مائة رجل منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم يخرجون من النار؟ فقال
أبو الأشد، وهو رجل من بني جمح: يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة، فأنا أمشي بين أيديكم، فأدفع عشرة
329

بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر ونمضي ندخل الجنة فأنزل الله (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة) يعني
ما جعلنا المدبرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلا ملائكة، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم، فكيف تتعاطون
أيها الكفار مغالبتهم. وقيل جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المخلوقين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ
المجالس من الرقة والرأفة، وقيل لأنهم أقوم خلق الله بحقه والغضب له، وأشدهم بأسا وأقواهم بطشا (وما جعلنا
عدتهم إلا فتنة) أي ضلالة (للذين) استقلوا عددهم ومحنة لهم، والمعنى: ما جعلنا عددهم هذا العدد المذكور في
القرآن إلا ضلالة ومحنة لهم، حتى قالوا ما قالوا ليتضاعف عذابهم ويكثر غضب الله عليهم. وقيل معنى إلا فتنة إلا
عذابا كما في قوله - يوم هم على النار يفتنون - أي يعذبون، واللام في قوله (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) متعلق
بجعلنا، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى لموافقة ما نزل من القرآن بأن عدة خزنة جهنم تسعة عشر لما عندهم.
قاله قتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم، والمعنى: أن الله جعل عدة الخزنة هذه العدة ليحصل اليقين لليهود
والنصارى بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لموافقة ما في القرآن لما في كتبهم (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) وقيل
المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وقيل أراد الذين آمنوا المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه
وآله وسلم، والمعنى: ليزدادوا يقينا إلى يقينهم لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم، وجملة (ولا يرتاب الذين
أوتوا الكتاب والمؤمنون) مقررة لما تقدم من الاستيقان وازدياد الإيمان، والمعنى نفى الارتياب عنهم في الدين،
أو في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر، ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين، ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن
في قلبه شك (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا) المراد بالذين في قلوبهم مرض هم
المنافقون، والسورة وإن كانت مكية ولم يكن إذ ذاك نفاق، فهو إخبار بما سيكون في المدينة، أو المراد بالمرض
مجرد حصول الشك والريب، وهو كائن في الكفار. قال الحسين بن الفضل: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق،
فالمرض في هذه الآية الخلاف، والمراد بقوله (والكافرون) كفار العرب من أهل مكة وغيرهم، ومعنى (ماذا
أراد الله بهذا مثلا) أي شئ أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل. قال الليث: المثل الحديث، ومنه قوله
- مثل الجنة التي وعد المتقون - أي حديثها والخبر عنها (كذلك يضل الله من يشاء) أي مثل ذلك الإضلال المتقدم
ذكره، وهو قوله (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا، يضل الله من يشاء) من عباده، والكاف نعت
مصدر محذوف (ويهدى من يشاء) من عباده، والمعنى: مثل ذلك الإضلال للكافرين والهداية للمؤمنين يضل
الله من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته، وقيل المعنى: كذلك يضل الله عن الجنة من يشاء ويهدي إليها من
يشاء (وما يعلم جنود ربك إلا هو) أي ما يعلم عدد خلقه ومقدار جموعه من الملائكة وغيرهم إلا هو وحده لا يقدر
على علم ذلك أحد. وقال عطاء: يعنى من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار لا يعلم عدتهم إلا الله،
والمعنى: أن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر فقال (وما هي إلا ذكرى للبشر) أي وما سقر وما ذكر من عدد خزنتها إلا
تذكرة وموعظة للعالم، وقيل (وما هي) أي الدلائل والحجج والقرآن إلا تذكرة للبشر. وقال الزجاج: نار
الدنيا تذكرة لنار الآخرة، وهو بعيد. وقيل ما هي أي عدة خزنة جهنم إلا تذكرة للبشر ليعلموا كمال قدرة
الله وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار، وقيل الضمير في (وما هي) يرجع إلى الجنود. ثم ردع سبحانه المكذبين
وزجرهم فقال (كلا والقمر) قال الفراء: كلا صلة للقسم، التقدير: أي والقمر، وقيل المعنى. حقا والقمر.
قال ابن جرير: المعنى رد زعم من زعم أنه يقاوم خزنة جهنم: أي ليس الأمر كما يقول، ثم أقسم على ذلك بالقمر
330

وبما بعده، وهذا هو الظاهر من معنى الآية (والليل إذ أدبر) أي ولى. قرأ الجمهور " إذا " بزيادة الألف، دبر
بزنة ضرب على أنه ظرف لما يستقبل من الزمان، وقرأ نافع وحفص وحمزة إذ " بدون ألف، أدبر بزنة أكرم ظرف
لما مضى من الزمان، ودبر وأدبر لغتان، كما يقال أقبل الزمان وقبل الزمان، يقال دبر الليل وأدبر: إذا تولى
ذاهبا (والصبح إذا أسفر) أي أضاء وتبين (إنها لإحدى الكبر) هذا جواب القسم، والضمير راجع إلى سقر:
أي إن سقر لإحدى الدواهي أو البلايا الكبر، والكبر جمع كبرى، وقال مقاتل: إن الكبر اسم من أسماء النار،
وقيل إنها: أي تكذيبهم لمحمد لإحدى الكبر، وقيل إن قيام الساعة لإحدى الكبر، ومنه قول الشاعر:
يا بن المعلى نزلت إحدى الكبر * داهية الدهر وصماء الغير
قرأ الجمهور " لإحدى " بالهمزة، وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن وابن كثير في رواية عنه " إنها لحدي "
بدون همزة. وقال الكلبي: أراد بالكبر دركات جهنم وأبوابها (نذيرا للبشر) انتصاب نذيرا على الحال من الضمير
في إنها، قاله الزجاج. وروى عنه وعن الكسائي وأبي علي الفارسي أنه حال من قوله " قم فأنذر " أي قم يا محمد
فأنذر حال كونك نذيرا للبشر. وقال الفراء: هو مصدر بمعنى الإنذار منصوب بفعل مقدر، وقيل إنه منتصب
على التمييز لإحدى لتضمنها معنى التنظيم كأنه قيل أعظم الكبر إنذارا. وقيل إنه مصدر منصوب بأنذر المذكور
في أول السورة، وقيل منصوب بإضمار أعني. وقيل منصوب بتقدير ادع، وقيل منصوب بتقدير ناد أو بلغ،
وقيل إنه مفعول لأجله، والتقدير: وإنها لإحدى الكبر لأجل إنذار البشر. قرأ الجمهور بالنصب، وقرأ أبي بن
كعب وابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هي نذير، أو هو نذير.
وقد اختلف في النذير، فقال الحسن: هي النار، وقيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقال أبو رزين:
المعنى أنا نذير لكم منها. وقيل القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر)
هو بدل من قوله للبشر: أي نذيرا لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الطاعة أو يتأخر عنها، والمعنى: أن الإنذار قد حصل
لكل من آمن وكفر، وقيل فاعل المشيئة هو الله سبحانه: أي لمن شاء الله أن يتقدم منكم بالإيمان أو يتأخر بالكفر،
والأول أولى. وقال السدى: لمن شاء منكم أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها أو يتأخر إلى الجنة.
وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما سمع أبو جهل (عليها تسعة عشر). قال لقريش:
ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدهم، أفيعجز كل عشرة منكم أن
يبطش برجل من خزنة جهنم؟ وأخرج ابن مردويه عنه في قوله (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا) قال:
قال أبو الأشد: خلوا بيني وبين خزنة جهنم أنا أكفيكم مؤنتهم، قال: وحدثت أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وصف خزان جهنم فقال " كأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي يجرون أشعارهم، لهم مثل قوة
الثقلين، يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم، على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم ".
وأخرج الطبراني في الأوسط وأبو الشيخ عن أبي سعيد الخدري " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدثهم
عن ليلة أسرى به قال: فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا، فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب سماء
الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف، وتلا هذه الآية (وما يعلم جنود ربك إلا هو) "
وأخرج أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أطت السماء وحق لها أن تنط. ما فيها
موضع أصبع إلا عليه ملك ساجد ". وأخرجه الترمذي وابن ماجة. قال الترمذي: حسن غريب، ويروى عن
331

أبي ذر موقوفا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (إذ أدبر) قال: دبور ظلامه. وأخرج مسدد في مسنده
وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: سألت ابن عباس عن قوله (والليل إذ أدبر) فسكت
عني حتى إذا كان من آخر الليل وسمع الأذان ناداني يا مجاهد هذا حين دبر الليل. وأخرج ابن جرير عنه في قوله
(لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) قال: من شاء اتبع طاعة الله ومن شاء تأخر عنها.
سورة المدثر (38 - 56)
قوله (كل نفس بما كسبت رهينة) أي مأخوذة بعملها ومرتهنة به، إما خلصها وإما أوبقها، والرهينة اسم
بمعنى الرهن، كالشيمة بمعنى الشيم، وليست صفة، ولو كانت صفة لقيل رهين، لأن فعيلا يستوي فيه المذكر
والمؤنث، والمعنى: كل نفس رهن بكسبها غير مفكوكة (إلا أصحاب اليمين) فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم، بل
يفكون بما أحسنوا من أعمالهم.
واختلف في تعيينهم، فقيل هم الملائكة، وقيل المؤمنون، وقيل أولاد المسلمين، وقيل الذين كانوا عن
يمين آدم، وقيل أصحاب الحق، وقيل هم المعتمدون على الفضل دون العمل، وقيل هم الذين اختارهم الله لخدمته
(في جنات) هو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة استئناف جوابا عن سؤال نشأ مما قبله، ويجوز
أن يكون في جنات حالا من أصحاب اليمين، وأن يكون حالا من فاعل يتساءلون، وأن يكون ظرفا ليتسائلون،
وقوله (يتساءلون) يجوز أن يكون على بابه: أي يسأل بعضهم بعضا، ويجوز أن يكون بمعنى يسألون: أي
يسألون غيرهم، نحو دعيته وتداعيته، فعلى الوجه الأول يكون (عن المجرمين) متعلقا بيتسائلون: أي يسأل
بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين، وعلى الوجه الثاني تكون عن زائدة: أي يسألون المجرمين، وقوله (ما سلككم
في سقر) هو على تقدير القول: أي يتساءلون عن المجرمين يقولون لهم: ما سلككم في سقر، أو يسألونهم قائلين
لهم: ما سلككم في سقر، والجملة على كلا التقديرين في محل نصب على الحال، والمعنى: ما أدخلكم في سقر،
تقول سلكت الخيط في كذا: إذا دخلته فيه. قال الكلبي: يسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار
باسمه، فيقول له: يا فلان ما سلكك في النار. وقيل إن الملائكة يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة
المشركين يقولون لهم: ما سلككم في سقر. قال الفراء: في هذا ما يقوى أن أصحاب اليمين هم الولدان، لأنهم
332

لا يعرفون الذنوب ثم ذكر سبحانه ما أجاب به أهل النار عليهم فقال (قالوا لم نك من المصلين) أي من المؤمنين
الذين يصلون لله في الدنيا (ولم نك نطعم المسكين) أي لم نتصدق على المساكين، قيل وهذان محمولان على الصلاة
الواجبة والصدقة الواجبة، لأنه لا تعذيب على غير الواجب، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات
(وكنا نخوض مع الخائضين) أي نخالط أهل الباطل في باطلهم. قال قتادة: كلما غوى غاو غوينا معه. وقال
السدي: كنا نكذب مع المكذبين. وقال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم
وهو قولهم كاذب مجنون ساحر شاعر (وكنا نكذب بيوم الدين) أي بيوم الجزاء والحساب (حتى أتانا اليقين)
وهو الموت، كما في قوله - واعبد ربك حتى يأتيك اليقين - (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) أي شفاعة الملائكة
والنبيين كما تنفع الصالحين (فما لهم عن التذكرة معرضين) التذكرة التذكير بمواعظ القرآن، والفاء لترتيب إنكار
إعراضهم عن التذكرة على ما قبله من موجبات الإقبال عليها، وانتصاب معرضين على الحال من الضمير في متعلق
الجار والمجرور: أي أي شئ حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى
والموعظة العظمى، ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بالحمر فقال (كأنهم حمر مستنفرة) والجملة حال من الضمير
في معرضين على التداخل، ومعنى مستنفرة نافرة، يقال نفر واستنفر، مثل عجب واستعجب، والمراد الحمر
الوحشية. قرأ الجمهور " مستنفرة " بكسر الفاء: أي نافرة، وقرأ نافع وابن عامر بفتحها: أي منفرة مذعورة،
واختار القراءة الثانية أبو حاتم وأبو عبيد. قال في الكشاف: المستنفرة الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من
نفوسها في جمعها له، وحملها عليه (فرت من قسورة) أي من رماة يرمونها، والقسور الرامي، وجمعة قسورة قاله
سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن كيسان، وقيل هو الأسد قاله عطاء والكلبي. قال ابن عرفة: من
القسر بمعنى القهر، لأنه يقهر السباع، وقيل القسورة أصوات الناس، وقيل القسورة بلسان العرب الأسد
وبلسان الحبشة الرماة. وقال ابن الأعرابي: القسورة أول الليل: أي فرت من ظلمة الليل، وبه قال عكرمة،
والأول أولى، وكل شديد عند العرب فهو قسورة، ومنه قول الشاعر:
يا بنت كوني خيرة لخيره * أخوالها الحي وأهل القسوره
ومنه قول لبيد: إذا ما هتفنا هتفة في ندينا * أتانا الرجال العابدون القساور
ومن إطلاقه على الأسد قول الشاعر:
مضمر تحذره الأبطال * كأنه القسور الرهال
(بل يريد كل امرئ منهم أن يوتى صحفا منشرة) عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل لا يكتفون بتلك
التذكرة بل يريد. قال المفسرون: إن كفار قريش قالوا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: ليصبح عند رأس كل
رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسول الله. والصحف الكتب واحدتها صحيفة، والمنشرة المنشورة المفتوحة،
ومثل هذه الآية قوله سبحانه - حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه - قرأ الجمهور " منتشرة " بالتشديد. وقرأ سعيد بن جبير
بالتخفيف. وقرأ الجمهور أيضا بضم الحاء من صحف. وقرأ سعيد بن جبير بإسكانها. ثم ردعهم الله سبحانه عن
هذه المقالة وزجرهم فقال (كلا بل لا يخافون الآخرة) يعني عذاب الآخرة لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات،
وقيل كلا بمعنى حقا. ثم كرر الردع والزجر لهم فقال (كلا إنه تذكرة) يعني القرآن، أو حقا إنه تذكرة،
والمعنى: أنه يتذكر به ويتعظ بمواعظه (فمن شاء ذكره) أي فمن شاء أن يتعظ به اتعظ، ثم رد سبحانه المشيئة
333

إلى نفسه فقال (وما يذكرون إلا أن يشاء الله) قرأ الجمهور " يذكرون " بالياء التحتية، وقرأ نافع ويعقوب
بالفوقية، واتفقوا على التخفيف، وقوله " إلا أن يشاء الله " استثناء مفرغ من أعم الأحوال. قال مقاتل: إلا أن
يشاء الله لهم الهدى (هو أهل التقوى) أي هو الحقيق بأن يتقين المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته (وأهل المغفرة)
أي هو الحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة فيغفر ذنوبهم.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (كل نفس بما كسبت رهينة) قال: مأخوذة بعملها. وأخرج
ابن المنذر عنه في قوله (إلا أصحاب اليمين) قال: هم المسلمون. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور
وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن علي بن أبي طالب (إلا
أصحاب اليمين) قال: هم أطفال المسلمين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (حتى أتانا اليقين) قال: الموت.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي موسى الأشعري في
قوله (فرت من قسورة) قال: هم الرماة رجال القسي. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال:
القسورة الرجال الرماة القنص. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي جمرة
قال: قلت لابن عباس: القسورة الأسد، فقال: ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد هم عصبة الرجال. وأخرج سفيان
ابن عيينة وعبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس (من قسورة) قال: هو ركز الناس: يعني أصواتهم. وأخرج
أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والبزار وأبو يعلي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي
وصححه وابن مردويه عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية (هو أهل التقوى وأهل
المغفرة) فقال: قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له ".
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس مرفوعا نحوه.
تفسير سورة القيامة
هي تسع وثلاثون آية
وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن
عباس قال: نزلت سورة القيامة، وفي لفظ سورة لا أقسم بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال:
أنزلت سورة لا أقسم بمكة.
سورة القيامة (1 - 25)
334

قوله (لا أقسم بيوم القيامة) قال أبو عبيدة وجماعة من المفسرين: إن لا زائدة، والتقدير: أقسم. قال
السمرقندي: أجمع المفسرون أن معنى لا أقسم: أقسم، واختلفوا في تفسير لا، فقال: بعضهم: هي زائدة،
وزيادتها جارية في كلام العرب كما في قوله - ما منعك ألا تسجد - يعني أن تسجد، و - لئلا يعلم أهل الكتاب -
ومن هذا قول الشاعر:
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة * وكاد صميم القلب لا يتقطع
وقال بعضهم: هي رد لكلامهم حيث أنكروا البعث كأنه قال: ليس الأمر كما ذكرتم أقسم بيوم القيامة،
وهذا قول الفراء وكثير من النحويين، كقول القائل لا والله، فلا رد لكلام قد تقدمها، ومنه قول الشاعر:
فلا وأبيك ابنه العامري * لا يدعى القوم أنى أفر
وقيل هي للنفي، لكن لا لنفي الإقسام، بل لنفي ما ينبئ عنه من إعظام المقسم به وتفخيمه، كان معنى
لا أقسم بكذا: لا أعظمه بإقسامي به حق إعظامه، فإنه حقيق بأكثر من ذلك. وقيل إنها لنفي الإقسام لوضوح
الأمر، وقد تقدم الكلام على هذا في تفسير قوله - فلا أقسم بمواقع النجوم - وقرأ الحسن وابن كثير في رواية عنه
والزهري وابن هرمز " لأقسم " بدون ألف على أن اللام لام الابتداء، والقول الأول هو أرجح هذه الأقوال،
وقد اعترض عليه الرازي بما لا يقدح في قوته ولا يفت في عضد رجحانه، وإقسامه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه
وتفخيمه، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته (ولا أقسم بالنفس اللوامة) ذهب قوم إلى أنه سبحانه أقسم بالنفس
اللوامة كما أقسم بيوم القيامة، فيكون الكلام في لا هذه كالكلام في الأولى، وهذا قول الجمهور. وقال الحسن:
أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة. قال الثعلبي: والصحيح أنه أقسم بهما جميعا، ومعنى النفس اللوامة:
النفس التي تلوم صاحبها على تقصيره، أو تلوم جميع النفوس على تقصيرها. قال الحسن: هي والله نفس المؤمن،
لا يرى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أردت بكذا ما أردت بكذا، والفاجر لا يعاتب نفسه. قال مجاهد: هي التي تلوم
على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشر لم تعمله؟ وعلى الخير لم لم تستكثر منه؟ قال الفراء: ليس من نفس برة
ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، وإن كانت عملت خيرا قالت: هلا ازددت، وإن كانت عملت سوءا قالت:
ليتني لم أفعل. وعلى هذا فالكلام خارج مخرج المدح للنفس، فيكون الإقسام بها حسنا سائغا. وقيل اللوامة هي
الملومة المذمومة، فهي صفة ذم، وبهذا احتج من نفي أن يكون قسما، إذ ليس لنفس العاصي خطر يقسم به.
قال مقاتل: هي نفس الكافر يلوم نفسه ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله، والأول أولى (أيحسب
335

الإنسان أن لن نجمع عظامه) المراد بالإنسان الجنس، وقيل الإنسان الكافر، والهمزة للإنكار، وأن هي المخففة
من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، والمعنى: أيحسب الإنسان أن الشأن أن لن نجمع عظامه بعد أن صارت
رفاتا، فنعيدها خلقا جديدا، وذلك حسبان باطل، فإنا نجمعها، وما يدل عليه هذا الكلام هو جواب القسم.
قال الزجاج: أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة ليجمعن العظام للبعث، فهذا جواب القسم. وقال النحاس:
جواب القسم محذوف: أي ليبعثن، والمعنى: أن الله سبحانه يبعث جميع أجزاء الإنسان، وإنما خص العظام
لأنها قالب الخلق (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) بل إيجاب لما بعد النفي المنسحب إليه الاستفهام، والوقف
على هذا اللفظ وقف حسن، ثم يبتدئ الكلام بقوله " قادرين " وانتصاب قادرين على الحال: أي بلى نجمعها
قادرين، فالحال من ضمير الفعل المقدر، وقيل المعنى: بل نجمعها نقدر قادرين. قال الفراء: أي نقدر،
ونقوي قادرين على أكثر من ذلك. وقال أيضا: إنه يصلح نصبه على التكرير: أي بلى فليحسبنا قادرين، وقيل
التقدير: بل كنا قادرين، وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع (بلى قادرون) على تقدير مبتدأ: أي بلى نحن قادرون،
ومعنى (على أن نسوي بنانه) على أن نجمع بعضها إلى بعض، فنردها كما كانت مع لطافتها وصغرها، فكيف
بكبار الأعضاء، فنبه سبحانه بالبيان، وهي الأصابع على بقية الأعضاء، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما
كانت أولى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف
والعظام الدقاق، فهذا وجه تخصيصها بالذكر، وبهذا قال الزجاج وابن قتيبة. وقال جمهور المفسرين: إن معنى
الآية أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا، كخف البعير وحافر الحمار صفيحة واحدة لا شقوق فيها، فلا
يقدر على أن ينتفع بها في الأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة ونحوهما، ولكنا فرقنا أصابعه لينتفع بها. وقيل المعنى:
بل نقدر على أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها، والأول أولى، ومنه قول عنترة:
وإن الموت طوع يدي إذا ما * وصلت بنانها بالهندوان
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) هو عطف على أيحسب، إما على أنه استفهام
مثله وأضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا، أو على أنه إيجاب انتقل إليه من الاستفهام. والمعنى: بل يريد
الإنسان أن يقدم فجوره فيما بين يديه من الأوقات، وما يستقبله من الزمان، فيقدم الذنب ويؤخر التوبة. قال ابن
الأنباري: يريد أن يفجر ما امتد عمره، وليس في نيته أن يرجع عن ذنب يرتكبه. قال مجاهد والحسن وعكرمة
والسدي وسعيد بن جبير: يقول سوف أتوب ولا يتوب حتى يأتيه الموت. وهو على أشر أحواله. قال الضحاك:
هو الأمل، يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا، ولا يذكر الموت، والفجور أصله الميل عن الحق، فيصدق
على كل من مال عن الحق بقول أو فعل، ومنه قول الشاعر:
أقسم بالله أبو حفص عمر * ما مسها من نقب ولا دبر * اغفر له اللهم إن كان فجر
وجملة (يسأل أيان يوم القيامة) مستأنفة لبيان معنى يفجر، والمعنى: يسأل متى يوم القيامة سؤال استبعاد
واستهزاء (فإذا برق البصر) أي فزع وتحير من برق الرجل: إذا نظر إلى البرق فدهش بصره. قرأ الجمهور " برق "
بكسر الراء. قال أبو عمرو بن العلاء والزجاج وغيرهما: المعنى تحير فلم يطرف، ومنه قول ذي الرمة:
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت * لعينيه مي بسافرا كاد يبرق *
وقال الخليل والفراء: برق بالكسر: فزع وبهت وتحير، والعرب تقول للإنسان المبهوت: قد برق فهو
برق، وأنشد الفراء:
336

ونفسك فانع ولا تنعني * وداو الكلوم ولا تبرق
أي لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك. وقرأ نافع وأبان عن عاصم " برق " بفتح الراء: أي لمع بصره من شدة
شخوصه للموت. قال مجاهد وغيره: هذا عند الموت، وقيل برق يبرق شق عينيه وفتحهما. وقال أبو عبيدة:
فتح الراء وكسرها لغتان بمعنى (وخسف القمر) قرأ الجمهور " خسف " بفتح الخاء والسين مبنيا للفاعل. وقرأ ابن
أبي إسحاق وعيسى والأعرج وابن أبي عبلة وأبو حيوة بضم الخاء وكسر السين مبنيا للمفعول، ومعنى خسف
القمر: ذهب ضوؤه ولا يعود كما يعود إذا خسف في الدنيا، ويقال خسف: إذا ذهب جميع ضوئه، وكسف:
إذا ذهب بعض ضوئه (وجمع الشمس والقمر) أي ذهب ضوؤهما جميعا، ولم يقل جمعت لأن التأنيث مجازي.
قاله المبرد. وقال أبو عبيدة: هو لتغليب المذكر على المؤنث. وقال الكسائي: حمل على معنى جمع النيران. وقال
الزجاج والفراء: ولم يقل جمعت لأن المعنى جمع بينهما في ذهاب نورهما، وقيل جمع بينهما في طلوعهما من
الغرب أسودين مكورين مظلمين. قال عطاء: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله
الكبرى. وقيل تجمع الشمس والقمر فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار. وقرأ ابن مسعود " وجمع بين الشمس
والقمر " (يقول الإنسان يومئذ أين المفر) أي يقول عند وقوع هذه الأمور أين المفر: أي الفرار، والمفر مصدر
بمعنى الفرار. قال الفراء: يجوز أن يكون موضع الفرار، ومنه قول الشاعر:
أين المفر والكباش تنتطح * وكل كبش فر منها يفتضح
قال الماوردي: يحتمل وجهين: أحدهما أين المفر من الله سبحانه استحياء منه. والثاني أين المفر من جهنم
حذرا منها. قرأ الجمهور " أين المفر " بفتح الميم والفاء مصدرا كما تقدم. وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة
بفتح الميم وكسر الفاء على أنه اسم مكان: أي أين مكان الفرار. وقال الكسائي: هما لغتان مثل مدب ومدب
ومصح ومصح، وقرأ الزهري بكسر الميم وفتح الفاء على أن المراد به الإنسان الجيد الفرار، ومنه قول امرئ
القيس: مكر مفر مقبل مدبر معا * كجلمود صخر حطه السيل من عل
أي جيد الفر والكر (كلا لا وزر) أي لا جبل ولا حصن ولا ملجأ من الله. وقال ابن جبير: لا محيص ولا
منعة. والوزر في اللغة: ما يلجأ إليه الإنسان من حصن، أو جبل أو غيرهما، ومنه قول طرفة:
ولقد تعلم بكر أننا * فاضلو الرأي وفي الروع وزر
وقال آخر: لعمري ما للفتى من وزر * من الموت يدركه والكبر
قال السدي: كانوا إذا فزعوا في الدنيا تحصنوا بالجبال، فقال لهم الله: لا وزر يعصمكم مني يومئذ، وكلا
للردع، أو لنفي ما قبلها، أو بمعنى حقا (إلى ربك يومئذ المستقر) أي المرجع والمنتهى والمصير لا إلى غيره،
وقيل إليه الحكم بين العباد لا إلى غيره، وقيل المستقر: الاستقرار حيث يقره الله (ينبؤ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر)
أي يخبر يوم القيامة بما عمل من خير وشر. وقال قتادة: بما عمل من طاعة، وما أخر من طاعة فلم يعمل بها.
وقال زيد بن أسلم: بما قدم من أمواله وما خلف للورثة. وقال مجاهد: بأول عمله وآخره. وقال الضحاك: بما
قدم من فرض. وأخر من فرض. قال القشيري: هذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال، ويجوز أن
يكون عند الموت. قال القرطبي: والأول أظهر (بل الإنسان على نفسه بصيرة) ارتفاع بصيرة على أنها خبر
الإنسان، على نفسه متعلق ببصيرة. قال الأخفش: جعله هو البصيرة كما تقول للرجل: أنت حجة على نفسك،
337

وقيل المعنى: إن جوارحه تشهد عليه بما عمل كما في قوله - يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا
يعملون - وأنشد الفراء:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة * بمقعده أو منظر هو ناظر *
فيكون المعنى: بل جوارح الإنسان عليه شاهدة. قال أبو عبيدة والقتيبي: إن هذه الهاء في بصيرة هي التي
يسميها أهل الإعراب هاء المبالغة كما في قولهم: علامة. وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من
خير وشر، والتاء على هذا للتأنيث. وقال الحسن: أي بصير بعيوب نفسه (ولو ألقى معاذيره) أي ولو اعتذر
وجادل عن نفسه لم ينفعه ذلك. يقال معذرة ومعاذير. قال الفراء: أي وإن اعتذر فعليه من يكذب عذره. وقال
الزجاج: المعاذير الستور، والواحد معذار: أي وإن أرخى الستور يريد أن يخفى نفسه فنفسه شاهدة عليه، كذا
قال الضحاك والسدي. والستر بلغة اليمن يقال له معذار، كذا قال المبرد، ومنه قول الشاعر:
ولكنها ضنت بمنزل ساعة * علينا وأطت يومها بالمعاذر *
والأول أولى، وبه قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وأبو العالية ومقاتل، ومثله قوله - يوم لا ينفع
الظالمين معذرتهم - وقوله - ولا يؤذن لهم فيعتذرون - وقول الشاعر:
فما حسن أن يعذر المرء نفسه * وليس له من سائر الناس عاذر *
(لا تحرك به لسانك لتعجل به) كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرك شفتيه ولسانه بالقرآن إذا أنزل
عليه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي حرصا على أن يحفظه صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت هذه الآية: أي
لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي لتأخذه على عجل مخافة أن يتفلت منك، ومثل هذا قوله - ولا تعجل
بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه - الآية (إن علينا جمعه) في صدرك حتى لا يذهب عليك منه شئ (وقرآنه)
أي إثبات قراءته في لسانك. قال الفراء: القراءة والقرآن مصدران. وقال قتادة فاتبع قرآنه: أي شرائعه وأحكامه
(فإذا قرأناه) أي أتممناه قراءته عليك بلسان جبريل (فاتبع قرآنه) أي قراءته (ثم إن علينا بيانه) أي تفسير ما فيه
من الحلال والحرام وبيان ما أشكل منه. قال الزجاج: المعنى علينا أن ننزله عليك قرآنا عربيا فيه بيان للناس.
وقيل المعنى: إن علينا أن نبينه بلسانك (كلا بل تحبون العاجلة) كلا للردع عن العجلة والترغيب في الأناة، وقيل
هي ردع لمن لا يؤمن بالقرآن وبكونه بينا من الكفار. قال عطاء: أي لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه. قرأ أهل
المدينة والكوفيون " بل تحبون " (وتذرون) بالفوقية في الفعلين جميعا. وقرأ الباقون بالتحتية فيهما، فعلى القراءة
الأولى يكون الخطاب لهم تقريعا وتوبيخا، وعلى القراءة الثانية يكون الكلام عائدا إلى الإنسان لأنه بمعنى الناس،
والمعنى: تحبون الدنيا وتتركون (الآخرة) فلا تعملون لها (وجوه يومئذ ناضرة) أي ناعمة غضة حسنة، يقال:
شجر ناظر وروض ناضر: أي حسن ناعم، ونضارة العيش حسنه وبهجته. قال الواحدي والمفسرون: يقولون
مضيئة مسفرة مشرقة (إلى ربها ناظرة) هذا من النظر: أي إلي خالقها ومالك أمرها ناظرة: أي تنظر إليه هكذا
قال جمهور أهل العلم، والمراد به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون ربهم يوم القيامة كما
ينظرون إلى القمر ليلة البدر. قال ابن كثير: وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة
كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام. وقال مجاهد: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب،
وروي نحوه عن عكرمة، وقيل لا يصح هذا إلا عن مجاهد وحده. قال الأزهري: وقول مجاهد خطأ لأنه لا يقال
338

نظر إلى كذا بمعنى الانتظار، وإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، إذا أرادوا الانتظار قالوا:
نظرته كما في قول الشاعر:
فإنكما إن تنظراني ساعة * من الدهر تنفعني لدى أم جندب
فإذا أرادوا نظر العين قالوا: نظرت إليه كما قال الشاعر:
نظرت إليها والنجوم كأنها * مصابيح رهبان تشب لفعال
وقول الآخر: إني إليك لما وعدت لناظر * نظر الفقير إلى الغني الموسر
أي أنظر إليك نظر دل كما ينظر الفقير إلى الغني، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جدا. ووجوه
مبتدأ، وجاز الابتداء به مع كونه نكرة لأن المقام مقام تفصيل، وناضرة صفة لوجوه، ويومئذ ظرف لناضرة،
ولو لم يكن المقام مقام تفصيل لكان وصف النكرة بقوله " ناضرة " مسوغا للابتداء بها، ولكن مقام التفصيل
بمجرده مسوغ للابتداء بالنكرة (ووجوه يومئذ باسرة) أي كالحة عابسة كئيبة. قال في الصحاح: بسر الرجل
وجهه بسورا: أي كلح. قال السدي: باسرة: أي متغيرة، وقيل مصفرة، والمراد بالوجوه هنا وجوه الكفار
(تظن أن يفعل بها فاقرة) الفاقرة: الداهية العظيمة، يقال فقرته الفاقرة: أي كسرت فقار ظهره. قال قتادة:
الفاقرة الشر، وقال السدي: الهلاك، وقال ابن زيد: دخول النار. وأصل الفاقرة: الوسم على أنف البعير
بحديدة أو نار حتى تخلص إلى العظم، كذا قال الأصمعي، ومن هذا قولهم: قد عمل به الفاقرة. قال النابغة: أبا لي قبر لا يزال مقابلي * وضربة فأس فوق رأسي فاقره
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله
(لا أقسم بيوم القيامة) قال: يقسم ربك بما شاء من خلقه، قلت (ولا أقسم بالنفس اللوامة) قال النفس اللؤوم،
قلت (أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه) قال: لو شاء لجعله خفا أو حافرا.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (اللوامة) قال: المذمومة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر
عنه أيضا قال: التي تلوم على الخير والشر تقول: لو فعلت كذا وكذا. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال: تندم
على ما فات وتلوم عليه. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) قال: يمضي قدما. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هو الكافر الذي يكذب بالحساب. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في
الآية قال: يعني الأمل يقول: أعمل ثم أتوب. وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الأمل والبيهقي في الشعب عنه أيضا
في الآية قال: يقدم الذنب ويؤخر التوبة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه أيضا (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) يقول: سوف أتوب (يسأل أيان
يوم القيامة) قال: يقول متى يوم القيامة، قال فبين له (إذا برق البصر). وأخرج ابن جرير عنه قال (إذا برق
البصر) يعني الموت. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله
(لا وزر) قال: لا حصن. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس
في قوله (لا وزر) قال: لا حصن ولا ملجأ، وفي لفظ: لا حرز، وفي لفظ: لا جبل. وأخرج عبد الرزاق
وعبد بن حميد وابن جرير ابن المنذر عن ابن مسعود في قوله (ينبؤ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) قال: بما قدم
من عمل، وأخر من سنة عمل بها من بعده من خير أو شر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه.
339

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: بما قدم من المعصية وأخر من الطاعة فينبؤ بذلك. وأخرج عبد الرزاق
وابن جرير وابن المنذر من طرق عنه في قوله (بل الإنسان على نفسه بصيرة) قال: شهد على نفسه وحده (ولو
ألقى معاذيره) قال: ولو اعتذر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (بل الإنسان على نفسه بصيرة)
قال: سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه (ولو ألقى معاذيره) قال: ولو تجرد من ثيابه. وأخرج البخاري
ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعالج من التنزيل شدة، فكان
يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن يتفلت منه يريد أن يحفظه، فأنزل الله (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا
جمعه وقرآنه) قال: يقول إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه (فإذا قرأناه) يقول: إذا أنزلناه عليك (فاتبع
قرآنه) فاستمع له وأنصت (ثم إن علينا بيانه) أن نبينه بلسانك، وفي لفظ: علينا أن نقرأه، فكان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق. وفي لفظ: استمع، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (فإذا قرأناه) قال: بيناه (فاتبع قرآنه) يقول: اعمل به.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن مسعود في قوله (كلا بل تحبون العاجلة) قال: عجلت لهم الدنيا
شرها وخيرها وغيبت الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (وجوه يومئذ ناضرة) قال: ناعمة. وأخرج
ابن المنذر والآجري في الشريعة واللالكائي في السنة والبيهقي في الرؤية عنه (وجوه يومئذ ناضرة) قال: يعني
حسنها (إلى ربها ناظرة) قال: نظرت إلى الخالق. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا (إلى ربها ناظرة) قال تنظر إلى
وجه ربها. وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " (وجوه يومئذ
ناضرة إلى ربها ناظرة) قال: ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة " وأخرج البخاري
ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: " قال الناس: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: " هل تضارون في
الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، فهل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟
قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث
أبي هريرة نحوه. وقد قدمنا أن أحاديث الرؤية متواترة فلا نطيل بذكرها، وهي تأتي في مصنف مستقل، ولم
يتمسك من نفاها واستبعدها بشئ يصلح للتمسك به لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله. وقد أخرج ابن
أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر والطبراني والدارقطني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن
ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه
ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) ". وأخرجه أحمد في المسند من حديثه بلفظ " إن
أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين ". وأخرج النسائي والدارقطني وصححه وأبو نعيم عن أبي هريرة
قال " قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا، قال: هل ترون الشمس في يوم لا عيم فيه، وترون القمر في ليلة لا غيم
فيها؟ قلنا نعم، قال: فإنكم سترون ربكم عز وجل، حتى إن أحدكم ليحاضر ربه محاضرة، فيقول: عبدي هل
تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: ألم تغفر لي؟ فيقول: بمغفرتي صرت إلى هذا ".
سورة القيامة (26 - 40)
340

قوله (كلا) ردع وزجر: أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة، ثم استأنف، فقال (إذا بلغت التراقي)
أي بلغت النفس أو الروح التراقي، وهي جمع ترقوة، وهي عظم بين ثغرة النحر والعاتق، ويكنى ببلوغ النفس
التراقي عن الإشفاء على الموت، ومثله قوله - فلولا إذا بلغت الحلقوم - وقيل معنى " كلا " حقا: أي حقا أن
المساق إلى الله إذا لمغت التراقي، والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت. قال دريد بن الصمة:
ورب كريهة دافعت عنها * وقد بلغت نفوسهم التراقي
(وقيل من راق) أي قال من حضر صاحبها من يرقيه ويشتفي برقيته؟. قال قتادة: التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا، وبه قال أبو قلابة، ومنه قول الشاعر:
هل للفتى من بنات الموت من واقى * أم هل له من حمام الموت من راقى
وقال أبو الجوزاء: هو من رقى يرقي إذا صعد، والمعنى: من يرقى بروحه إلى السماء أم ملائكة الرحمة أم
ملائكة العذاب؟ وقيل إنه يقول ذلك ملك الموت، وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها (وظن أنه الفراق)
أي وأيقن الذي بلغت روحه التراقي أنه الفراق من الدنيا ومن الأهل والمال والولد (والتفت الساق بالساق) أي
التفت ساقه بساقه عند نزول الموت به. وقال جمهور المفسرين: المعنى تتابعت عليه الشدائد. وقال الحسن: هما
ساقاه إذا التفتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت، وقيل ماتت رجلاه ويبست ساقاه
ولم تحملاه، وقد كان جوالا عليهما. وقال الضحاك: اجتمع عليه أمران شديدان: الناس يجهزون جسده،
والملائكة يجهزون روحه. وبه قال ابن زيد. والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد الكبار، والمحن العظام،
ومنه قولهم: قامت الحرب على ساق. وقيل الساق الأول تعذيب روحه عند خروج نفسه، والساق الآخر شدة
البعث وما بعده (إلى ربك يومئذ المساق) أي إلى خالقك يوم القيامة المرجع، وذلك جمع العباد إلى الله يساقون إليه
(فلا صدق ولا صلى) أي لم يصدق بالرسالة ولا بالقرآن، ولا صلى لربه، والضمير يرجع إلى الإنسان المذكور
في أول هذه السورة. قال قتادة: فلا صدق بكتاب الله ولا صلى لله، وقيل فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. قال الكسائي
لا بمعنى لم، وكذا قال الأخفش: والعرب تقول: لا ذهب أي لم يذهب، وهذا مستفيض في كلام العرب، ومنه:
إن تغفر اللهم نغفر جما * وأي عبد لك لا ألما
(ولكن كذب وتولى) أي كذب بالرسول وبما جاء به، وتولى عن الطاعة والإيمان (ثم ذهب إلى أهله
يتمطى) أي يتبختر ويختال في مشيته افتخارا بذلك. وقيل هو مأخوذ من المطي وهو الظهر، والمعنى يلوي مطاه.
وقيل أصله يتمطط، وهو التمدد والتثاقل: أي يتثاقل ويتكاسل عن الداعي إلى الحق (أولى لك فأولى. ثم أولى
لك فأولى) أي وليك الويل، وأصله أولاك الله ما تكرهه، واللام مزيدة كما في - ردف لكم - وهذا تهديد شديد،
341

والتكرير للتأكيد: أي يتكرر عليك ذلك مرة بعد مره. قال الواحدي: قال المفسرون: أخذ رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم بيد أبي جهل، ثم قال (أولى لك فأولى) فقال أبو جهل: بأي شئ تهددني لا تستطيع أنت ولا
ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني لأعز أهل هذا الوادي، فنزلت هذه الآية. وقيل معناه: الويل لك، ومنه قول
الخنساء: هممت بنفسي بعض الهموم * فأولى لنفسي أولى لها
وعلى القول بأنه الويل، قيل هو من المقلوب كأنه قيل: أويل لك، ثم أخر الحرف المعتل. قيل ومعنى التكرير
لهذا اللفظ أربع مرات، والويل لك حيا، والويل لك ميتا، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار.
وقيل المعنى: إن الذم لك أولى لك من تركه. وقيل المعنى: أنت أولى وأجدر بهذا العذاب قاله ثعلب. وقال
الأصمعي: أولى في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك. قال المبرد: كأنه يقول: قد وليت الهلاك وقد دانيته،
وأصله من الولي، وهو القرب، وأنشد الفراء: فأولى أن يكون لك الولاء - أي قارب أن يكون لك،
وأنشد أيضا: أولى لمن هاجت له أن يكمدا (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) أي هملا لا يؤمر ولا
ينهى ولا يحاسب ولا يعاقب، وقال السدي: معناه المهمل، ومنه إبل سدي: أي ترعى بلا راع، وقيل المعنى:
أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث، وجملة (ألم يك نطفة من مني يمنى) مستأنفة: أي ألم يك ذلك الإنسان
قطرة من مني يراق في الرحم، وسمي المني منيا لإراقته، والنطفة: الماء القليل، يقال نطف الماء: إذا قطر. قرأ
الجمهور " ألم يك " بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الإنسان. وقرأ الحسن بالفوقية على الالتفات إليه توبيخا له.
وقرأ الجمهور أيضا " تمنى " بالفوقية على أن الضمير للنطفة. وقرأ حفص وابن محيصن ومجاهد ويعقوب بالتحتية
على أن الضمير للمني، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، واختارها أبو حاتم (ثم كان علقة) أي كان بعد
النطفة علقة: أي دما (فخلق) أي فقدر بأن جعلها مضغة مخلقة (فسوى) أي فعد له وكمل نشأته ونفخ فيه
الروح (فجعل منه) أي حصل من الإنسان، وقيل من المنى (الزوجين) أي الصنفين من نوع الإنسان. ثم بين ذلك
فقال (الذكر والأنثى) أي الرجل والمرأة (أليس ذلك) أي ليس ذلك الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه
(بقادر على أن يحيى الموتى) أي يعيد الأجسام بالبعث كما كانت عليه في الدنيا، فإن الإعادة أهون من الابتداء،
وأيسر مؤنة منه. قرأ الجمهور " بقادر " وقرأ زيد بن علي " يقدر " فعلا مضارعا، وقرأ الجمهور " يحيى " بنصبه
بأن. وقرأ طلحة بن سليمان والفياض بن غزوان بسكونها تخفيفا، أو على إجراء الوصل مجرى الوقف كما مر
في مواضع.
وقد أخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وقيل من راق)
قال: تنتزع نفسه حتى إذا كانت في تراقيه، قيل من يرقي بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب (والتفت
الساق بالساق) قال: التفت عليه الدنيا والآخرة وملائكة العذاب أيهم يرقى به. وأخرج عبد بن حميد عنه (وقيل
من راق) قل من راق يرقى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (والتفت الساق بالساق)
يقول: آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، فتلقى الشدة بالشدة إلا من رحم الله. وأخرج ابن
أبي حاتم عنه أيضا (يتمطى) قال: يختال. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن
المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله (أولى لك
فأولى) أشئ قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي جهل من قبل نفسه، أم أمره الله به؟ قال: بل قاله
من قبل نفسه ثم أنزله الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (أن يترك سدى) قال:
342

هملا. وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري عن صالح أبي الخليل قال: " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا
قرأ هذه الآية (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) قال: سبحانك اللهم وبلى ". وأخرج ابن مردويه عن البراء
ابن عازب قال: لما نزلت هذه الآية (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: " سبحانك ربي وبلى ". وأخرج ابن النجار في تاريخه عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يقول عند قراءته لهذه الآية " بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ". وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن المنذر
والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ منكم
والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها - أليس الله بأحكم الحاكمين - فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ
لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى قوله - أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى - فليقل بلى، ومن قرأ والمرسلات عرفا -
فبلغ - فبأي حديث بعده يؤمنون - فليقل آمنا بالله " وفي إسناده رجل مجهول. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن
جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا قرأت لا أقسم بيوم القيامة فبلغت - أليس
ذلك بقادر على أن يحيي الموتى - فقل بلى ".
تفسير سورة الإنسان
هي إحدى وثلاثون آية
قال الجمهور: هي مدنية. وقال مقاتل والكلبي: هي مكية. وأخرج النحاس عن ابن عباس أنها نزلت
بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وقيل فيها مكي من قوله (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا) إلى
آخر السورة، وما قبله مدني. وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر قال: جاء رجل من
الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سل واستفهم،
فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان والصور والنبوة أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به: أني
كائن معك في الجنة، قال نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام، ثم قال:
من قال لا إله إلا الله كان له عهد عند الله. ومن قال: سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة
وعشرون ألف حسنة، ونزلت هذه السورة (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) إلى قوله (ملكا كبيرا) فقال
الحبشي: وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة، قال نعم، فاشتكى حتى فاضت نفسه. قال ابن عمر: فلقد
رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدليه في حفرته بيده. وأخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال:
حدثني الثقة " أن رجلا أسود كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن التسبيح والتهليل، فقال له عمر بن
الخطاب: أكثرت على رسول الله، فقال: مه يا عمر. وأنزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل أتى على
الإنسان حين من الدهر حتى إذا أتى على ذكر الجنة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه. فقال النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: مات شوقا إلى الجنة ". وأخرج نحوه ابن وهب عن ابن زيد مرفوعا مرسلا. وأخرج أحمد والترمذي
وحسنه وابن ماجة وابن منيع وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه والضياء عن أبي ذر قال " قرأ رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم (هل أتى على الإنسان) حتى ختمها، ثم قال: إني أرى ما لا ترون وأسمع مالا تسمعون،
أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم
لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل.
343

حكى الواحدي عن المفسرين وأهل المعاني أن (هل) هنا بمعنى قد، وليس باستفهام، وقد قال بهذا سيبويه
والكسائي والفراء وأبو عبيدة. قال الفراء: هل تكون جحدا وتكون خبرا فهذا من الخبر لأنك تقول: هل أعطيتك
تقرره بأنك أعطيته، والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا، وقيل هي وإن كانت بمعنى قد ففيها معنى
الاستفهام، والأصل أهل أتى، فالمعنى: أقد أتي، والاستفهام للتقرير والتقريب، والمراد بالإنسان هنا آدم،
قاله قتادة والثوري وعكرمة والسدي وغيرهم (حين من الدهر) قيل أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح، وقيل
إنه خلق من طين أربعين سنة، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة
وعشرين سنة. وقيل الحين المذكور هنا لا يعرف مقداره وقيل المراد بالإنسان بنو آدم، والحين مدة الحمل،
وجملة (لم يكن شيئا مذكورا) في محل نصب على الحال من الإنسان، أو في محل رفع صفة لحين. قال الفراء
وقطرب وثعلب: المعنى أنه كان جسدا مصورا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ
فيه الروح فصار مذكورا. وقال يحيي بن سلام: لم يكن شيئا مذكورا في الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا،
وقيل ليس المراد بالذكر هنا الإخبار، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم، بل هو الذكر بمعنى الخطر والشرف،
كما في قوله - وإنه لذكر لك ولقومك -. قال القشيري: ما كان مذكورا للخلق وإن كان مذكورا لله سبحانه،
قال الفراء: كان شيئا ولم يكن مذكورا. فجعل النفي متوجها إلى القيد. وقيل المعنى: قد مضت أزمنة وما كان
آدم شيئا ولا مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة. وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير وتقديره: هل أتى حين
من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيوان (إنا خلقنا الإنسان من
نطفة) المراد بالإنسان هنا ابن آدم. قال القرطبي: من غير خلاف، والنطفة: الماء الذي يقطر، وهو المني وكل
ماء قليل في وعاء فهو نطفة، وجمعها نطف، و (أمشاج) صفة لنطفة، وهي جمع مشج، أو مشيج، وهي
344

الأخلاط، والمراد نطفة الرجل ونطفة المرأة واختلاطهما. يقال مشج هذا بهذا فهو ممشوج: أي خلط هذا بهذا
فهو مخلوط. قال المبرد: مشج يمشج إذا اختلط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم. قال رؤبة بن العجاج:
يطرحن كل معجل مشاج * لم يكس جلدا من دم أمشاج
قال الفراء: أمشاج اختلاط ماء الرجل وماء المرأة والدم والعلقة، ويقال مشج هذا: إذا خلط، وقيل
الأمشاج: الحمرة في البياض والبياض في الحمرة. قال القرطبي: وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة. قال الهذلي:
كأن الريش والفوقين منه * حلاف النصل نيط به مشيج
وذلك لأن ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فيخلق منهما الولد. قال ابن السكيت: الأمشاج:
الأخلاط لأنها ممتزجة من أنواع يخلق الإنسان منها وطباع مختلفة. وقيل الأمشاج لفظ مفرد كبرمة أعشار، ويؤيد
هذا وقوعه نعتا لنطفة، وجملة (نبتليه) في محل نصب على الحال من فاعل خلقنا: أي مريدين ابتلاءه، ويجوز
أن يكون حالا من الإنسان، والمعنى: نبتليه بالخير والشر وبالتكاليف. قال الفراء: معناه والله أعلم (جعلناه
سميعا بصيرا) نبتليه وهي مقدمة معناها التأخير، لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة، وعلى هذا تكون هذه
الحال مقدرة، وقيل مقارنة. وقيل معنى الابتلاء: نقله من حال إلى حال على طريقة الاستعارة، والأول أولى.
ثم ذكر سبحانه أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء فقال (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) أي بينا له وعرفناه
طريق الهدى والضلال والخير والشر كما في قوله - وهديناه النجدين - قال مجاهد: أي بينا السبيل إلى الشقاء
والسعادة. وقال الضحاك والسدي وأبو صالح: السبيل هنا خروجه من الرحم، وقيل منافعه ومضاره التي
يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله، وانتصاب شاكرا وكفورا على الحال من مفعول هديناه: أي مكناه من سلوك
الطريق في حالتيه جميعا، وقيل على الحال من سبيل على المجاز: أي عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا.
وحكى مكي عن الكوفيين أن قوله إما هي إن شرطية زيدت بعدها ما: أي بينا له الطريق إن شكر وإن كفر.
واختار هذا الفراء، ولا يجبره البصريون لأن إن الشرطية لا تدخل على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل، ولا يصح
هنا إضمار الفعل لأنه كان يلزم رفع شاكرا وكفورا. ويمكن أن يضمر فعل ينصب شاكرا وكفورا، وتقديره:
إن خلقناه شاكرا فشكور وإن خلقناه كافرا فكفور، وهذا على قراءة الجمهور - إما شاكرا وإما كفورا - بكسر
همزة إما. وقرأ أبو السماك وأبو العجاج بفتحها، وهي على الفتح إما العاطفة في لغة بعض العرب، أو هي التفصيلية
وجوابها مقدر، وقيل انتصب شاكرا وكفورا باضمار كان، والتقدير: سواء كان شاكرا أو كان كفورا. ثم
بين سبحانه ما أعد للكافرين فقال (إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا) قرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن
عاصم وهشام عن ابن عامر " سلاسلا " بالتنوين، ووقف قنبل عن ابن كثير وحمزة بغير ألف، والباقون وقفوا
بالألف. ووجه من قرأ بالتنوين في سلاسل مع كون فيه صيغة منتهى الجموع أنه قصد بذلك التناسب لأن ما قبله
وهو - إما شاكرا وإما كفورا -، وما بعده وهو - أغلالا وسعيرا - منون، أو على لغة من يصرف جميع مالا ينصرف
كما حكاه الكسائي وغيره من الكوفيين عن بعض العرب. قال الأخفش: سمعنا من العرب من يصرف كل
مالا ينصرف، لأن الأصل في الأسماء الصرف وترك الصرف لعارض فيها. قال الفراء: هو على لغة من يجر
الأسماء كلها إلا قولهم: هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه، وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم:
كأن سيوفنا فينا وفيهم * مخاريق بأيدي لاعبينا
345

ومن ذلك قول الشاعر:
وإذا الرجال رأوا يزيد رأينهم * خضع الرقاب نواكس الأبصار *
بكسر السين من نواكس، وقول لبيد:
وحسور أستار دعوني لحتفها * بمعالق متشابه أعلاقها
وقوله أيضا: فضلا وذو كرم بعين على الندى * سمح لشوب رغائب غنامها
وقيل إن التنوين لموافقة رسم المصاحف المكية والمدنية والكوفية فإنها فيها بالألف، وقيل إن هذا التنوين بدل
من حرف الإطلاق، ويجري الوصل مجرى الوقف، والسلاسل قد تقدم تفسيرها، والخلاف فيها هل هي القيود،
أو ما يجعل في الأعناق كما في قول الشاعر:
... ولكن * أحاطت بالرقاب السلاسل والأغلال
جمع غل تغل به الأيدي إلى الأعناق، والسعير: الوقود الشديد، وقد تقدم تفسير السعير. ثم ذكر سبحانه
ما أعده للشاكرين فقال (إن الأبرار يشربون من كأس) الأبرار: أهل الطاعة والإخلاص، والصدق جمع بر
أو بار. قال في الصحاح: جمع البر الأبرار، وجمع البار البررة، وفلان يبر خالقه ويبرره: أي يطيعه. وقال
الحسن: البر الذي لا يؤذي الذر. وقال قتادة: الإبراء الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر. والكأس في اللغة
هو الإناء الذي فيه الشراب، وإذا لم يكن فيه الشراب لم يسم كأسا، ولا وجه لتخصيصه بالزجاجة، بل يكون من
الزجاج ومن الذهب والفضة والصيني وغير ذلك، وقد كانت كاسات العرب من أجناس مختلفة، وقد يطلق
الكأس على نفس الخمر كما في قول الشاعر:
وكأس شربت على لذة * وأخرى تداويت منها بها
(كان مزاجها كافورا) أي يخالطها وتمزج به، يقال مزجه يمزجه مزجا: أي خلطه يخلطه خلطا، ومنه قول
الشاعر: كأن سبية من بيت رأس * كان مزاجها عسل وماء
وقول عمرو بن كلثوم:
صددت الكأس عنا أم عمرو * وكان الكأس مجراها اليمينا
معتقة كأن الخص فيها * إذا ما الماء خالطها سخينا
ومنه مزاج البدن، وهو ما يمازجه من الأخلاط، والكافور قيل: هو اسم عين في الجنة يقال لها الكافوري
تمزج خمر الجنة بماء هذه العين. وقال قتادة ومجاهد: تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك. وقال عكرمة: مزاجها
طعمها، وقيل إنما الكافور في ريحها لا في طعمها. وقيل إنما أراد الكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده، لأن
الكافور لا يشرب كما في قوله - حتى إذا جعله نارا - أي كنار. وقال ابن كيسان: طيبها المسك والكافور
والزنجبيل. وقال مقاتل: ليس هو كافور الدنيا، وإنما سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدى له القلوب، والجملة
في محل جر صفة لكأس. وقيل إن كان هنا زائدة: أي من كأس مزاجها كافورا (عينا يشرب بها عباد الله)
انتصاب عينا على أنها بدل من كافورا، لأن ماءها في بياض الكافور. وقال مكي: إنها بدل من محل " من كأس "
على حذف مضاف كأنه قيل: يشربون خمرا خمر عين، وقيل إنها منتصبة على أنها مفعول يشربون: أي عينا من
كأس، وقيل هي منتصبة على الاختصاص، قاله الأخفش وقيل منتصبة باضمار فعل يفسره ما بعده: أي
346

يشربون عينا يشرب بها عباد الله، والأول أولى، وتكون جملة - يشرب بها عباد الله - صفة لعينا. وقيل إن الباء
في يشرب بها زائدة، وقيل بمعنى من قاله الزجاج، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة يشربها عباد الله، وقيل إن
يشرب مضمن معنى يلتذ، وقيل هي متعلقة بيشرب، والضمير يعود إلى الكأس. وقال الفراء: يشربها ويشرب
بها سواء في المعنى، وكأن يشرب بها يروى بها وينتفع بها، وأنشد قول الهذلي: شربن بماء البحر ثم ترفعت *
قال: ومثله تكلم بكلام حسن، وتكلم كلاما حسنا (يفجرونها تفجيرا) أي يجرونها إلى حيث يريدون وينتفعون
بها كما يشاءون ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يريدون وصوله إليه، فهم يشقونها شقا كما يشق النهر ويفجر إلى هنا
وهنا. قال مجاهد: يقودونها حيث شاءوا وتتبعهم حيث مالوا مالت معهم، والجملة
صفة أخرى لعينا، وجملة
(يوفون بالنذر) مستأنفة مسوقة لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر، وكذا ما عطف عليها، ومعنى النذر في اللغة
الإيجاب، والمعنى: يوفون بما أوجبه الله عليهم من الطاعات. قال قتادة ومجاهد: يوفون بطاعة الله من الصلاة
والحج ونحوهما. وقال عكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله سبحانه، والنذر في الشرع ما أوجبه المكلف على
نفسه، فالمعنى: يوفون بما أوجبوه على أنفسهم. قال الفراء: في الكلام إضمار: أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا.
وقال الكلبي: يوفون بالعهد: أي يتممون العهد. والأولى حمل النذر هنا على ما أوجبه العبد على نفسه من غير
تخصيص (ويخافون يوما كان شره مستطيرا) المراد يوم القيامة، ومعنى استطارة شره فشوه وانتشاره، يقال
استطار يستطير استطارة فهو مستطير، وهو استفعل من الطيران، ومنه قول الأعشى:
فباتت وقد أثارت في الفؤاد * صدعا على نأيها مستطيرا
والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة والزجاجة: إذا امتد، ويقال استطار الحريق: إذا انتشر.
قال الفراء: المستطير المستطيل. قال قتادة: استطار شر ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض. قال مقاتل:
كان شره فاشيا في السماوات فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة، وفي الأرض نسفت الجبال وغارت
المياه (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) أي يطعمون هؤلاء الثلاثة الأصناف الطعام على حبه لديهم
وقلته عندهم. قال مجاهد: على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له، فقوله على حبه في محل نصب على الحال: أي كائنين
على حبه، ومثله قوله - لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون - وقيل على حب الإطعام لرغبتهم في الخير. قال
الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام. وقيل الضمير في حبه يرجع إلى الله: أي يطعمون الطعام على حب
الله: أي يطعمون إطعاما كائنا على حب الله، ويؤيد هذا قوله (إنما نطعمكم لوجه الله) والمسكين ذو المسكنة،
وهو الفقير، أو من هو أفقر من الفقير، والمراد باليتيم يتامى المسلمين، والأسير الذي يؤسر فيحبس. قال قتادة
ومجاهد: الأسير المحبوس. وقال عكرمة: الأسير العبد. وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير المرأة. قال سعيد بن جبير:
نسخ هذا الإطعام آية الصدقات وآية السيف في حق الأسير الكافر. وقال غيره: بل هي محكمة، وإطعام المسكين
واليتيم على التطوع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلى أن يتخير فيه الإمام، وجملة (إنما نطعمكم لوجه الله) في محل
نصب على الحال بتقدير القول: أي يقولون إنما نطعمكم، أو قائلين إنما نطعمكم: يعني أنهم لا يتوقعون المكافأة
ولا يريدون ثناء الناس عليهم بذلك. قال الواحدي: قال المفسرون: لم يستكملوا بهذا ولكن علمه الله من قلوبهم
فأثنى عليهم وعلم من ثنائه أنهم فعلوا ذلك خوفا من الله ورجاء ثوابه (لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) أي لا نطلب
منكم المجازاة على هذا الإطعام ولا نريد منكم الشكر لنا، بل هو خالص لوجه الله، وهذه الجملة مقررة لما
347

قبلها، لأن من أطعم لوجه الله لا يريد المكافأة ولا يطلب الشكر له ممن أطعمه (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا
قمطريرا) أي نخاف عذاب يوم متصف بهاتين الصفتين، ومعنى عبوسا: أنه يوم تعبس فيه الوجوه من هوله
وشدته، فالمعنى: أنه ذو عبوس. قال الفراء وأبو عبيدة والمبرد: يوم قمطرير وقماطر: إذا كان صعبا شديدا،
وأنشد الفراء:
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا * عليكم إذا ما كان يوم قماطر *
قال الأخفش: القمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء، ومنه قول الشاعر:
ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها * ولج بها اليوم العبوس القماطر
قال الكسائي: اقمطر اليوم وازمهر: إذا كان صعبا شديدا، ومنه قول الشاعر:
* بنو الحرب أوصينا لهم بقمطرة * ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب
وقال مجاهد: إن العبوس بالشفتين، والقطمير بالجبهة والحاجبين، فجعلهما من صفات المتغير في ذلك اليوم
لما يراه من الشدائد، وأنشد ابن الأعرابي:
يقدر على الصيد بعود منكسر * ويقمطر ساعة ويكفهر
قال أبو عبيدة: يقال قطمرير: أي منقبض ما بين العينين والحاجبين. قال الزجاج: يقال اقمطرت الناقة:
إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها ما يسبقها من القطر، وجعل الميم مزيدة (فوقاهم الله شر ذلك اليوم)
أي دفع عنهم شره بسبب خوفهم منه وإطعامهم لوجهه (ولقاهم نضرة وسرورا) أي أعطاهم بدل العبوس
في الكفار نضرة في الوجود وسرورا في القلوب. قال الضحاك: والنضرة البياض والنقاء في وجوههم. وقال سعيد
ابن جبير الحسن والبهاء، وقيل النضرة أثر النعمة (وجزاهم بما صبروا) أي بسبب صبرهم على التكاليف، وقيل
على الفقر، وقيل على الجوع، وقيل على الصوم. والأولى حمل الآية على الصبر على كل شئ يكون الصبر عليه
طاعة لله سبحانه، وما مصدرية، والتقدير: بصبرهم (جنة وحريرا) أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير، وهو
لباس أهل الجنة عوضا عن تركه في الدنيا امتثالا لما ورد في الشرع من تحريمه، وظاهر هذه الآيات العموم
في كل من خاف من يوم القيامة وأطعم لوجه الله وخاف من عذابه، والسبب وإن كان خاصا كما سيأتي فالاعتبار
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ويدخل سبب التنزيل تحت عمومها دخولا أوليا.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (هل أتى على الإنسان) قال: كل إنسان. وأخرج عبد بن
حميد وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله (أمشاج) قال: أمشاجها عروقها. وأخرج سعيد بن منصور وابن
أبي حاتم (أمشاج) قال: العروق. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس (من نطفة أمشاج) قال:
ماء الرجل وماء المرأة حين يختلطان. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال (أمشاج) ألوان: نطفة الرجل
بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وحمراء. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: الأمشاج الذي يخرج على أثر
البول كقطع الأوتار ومنه يكون الولد. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (كان شره مستطيرا) قال:
فاشيا. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه أيضا في قوله (وأسيرا) قال: هو المشرك. وأخرج ابن مردويه
وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (مسكينا) قال: فقيرا (ويتيما)
قال لا أب له (وأسيرا) قال: المملوك والمشجون. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (ويطعمون
348

الطعام) الآية قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (يوما عبوسا) قال: ضيقا (قمطريرا) قال: طويلا. وأخرج ابن
مردويه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (يوما عبوسا قمطريرا) قال: يقبض ما بين
الأبصار. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طرق عن ابن عباس قال: القمطرير الرجل المنقبض
ما بين عينيه ووجهه. وأخرج ابن المنذر عنه (ولقاهم نضرة وسرورا) قال: نضرة في وجوههم وسرورا
في صدورهم.
قوله (متكئين فيها على الأرائك) منصوب على الحال من مفعول جزاهم، والعامل فيها جزى، ولا يعمل فيها
صبروا، لأن الصبر إنما كان في الدنيا، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لجنة. قال الفراء: وإن شئت جعلت
متكئين تابعا، كأنه قال: جزاهم جنة متكئين فيها. وقال الأخفش: يجوز أن يكون منصوبا على المدح، والضمير
من فيها يعود إلى الجنة، والأرائك: السرر في الحجال، وقد تقدم تفسيرها في سورة الكهف (لا يرون فيها
شمسا ولا زمهريرا) الجملة في محل نصب على الحال من مفعول جزاهم، فتكون من الحال المترادفة، أو من الضمير
في متكئين، فتكون من الحال المتداخلة، أو صفة أخرى لجنة، والزمهرير أشد البرد، والمعنى: أنهم لا يرون
في الجنة حر الشمس ولا برد الزمهرير، ومنه قول الأعشى:
منعمة طفلة كالمها * لم تر شمسا ولا زمهريرا
وقال ثعلب: الزمهرير القمر بلغة طي، وأنشد لشاعرهم:
وليلة ظلامها قد اعتكر * قطعتها والزمهرير ما زهر
ويروى ما ظهر: أي لم يطلع القمر، وقد تقدم تفسير هذا في سورة مريم (ودانية عليهم ظلالها) قرأ الجمهور
" دانية " بالنصب عطفا على محل لا يرون، أو على متكئين، أو صفة لمحذوف: أي وجنة دانية، كأنه قال: وجزاهم
جنة دانية. وقال الزجاج: هو صفة لجنة المتقدم ذكرها. وقال الفراء: هو منصوب على المدح. وقرأ أبو حيوة
" ودانية " بالرفع على أنه خبر مقدم وظلالها مبتدأ مؤخر، والجملة في موضع النصب على الحال. والمعنى: أن
349

ظلال الأشجار قريبة منهم مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس هنالك. قال مقاتل: يعنى شجرها
قريب منهم. وقرأ ابن مسعود " ودانيا عليهم " (وذللت قطوفها تذليلا) معطوف على دانية كأنه قال: ومذللة.
ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم، ويجوز أن تكون مستأنفة، والقطوف
الثمار، والمعنى: أنها سخرت ثمارها لمتناوليها تسخيرا كثيرا بحيث يتناولها القائم والقاعد والمضطجع لا يرد أيديهم عنها
بعد ولا شوك. قال النحاس: المذلل القريب المتناول، ومنه قولهم حائط ذليل: أي قصير. قال ابن قتيبة: ذللت
أدنيت، من قولهم حائط ذليل: أي كان قصير السمك، وقيل ذللت: أي جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها
كيف شاءوا (ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب) أي تدور عليهم الخدم إذا أرادوا الشراب بآنية الفضة،
والأكواب جمع كوب، وهو الكوز العظيم الذي لا أذن له ولا عروة، ومنه قول عدي:
متكئ تقرع أبوابه * يسعى عليه العبد بالكوب
وقد مضى تفسيره في سورة الزخرف (كانت قواريرا قواريرا من فضة) أي في وصف القوارير في الصفاء
وفي بياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج، ولونها لون الفضة. قرأ نافع والكسائي وأبو بكر " قواريرا قواريرا "
بالتنوين فيهما مع الوصل، وبالوقف عليهما بالألف، وقد تقدم وجه هذه القراءة في تفسير قوله " سلاسلا " من
هذه السورة، وبينا هنالك وجه صرف ما فيه صيغة منتهى الجموع فارجع إليه وقرأ حمزة بعدم التنوين فيهما وعدم
الوقف بالألف، ووجه هذه القراءة ظاهر لأنهما ممتنعان لصيغة منتهى الجموع. وقرأ هشام بعدم التنوين فيهما مع
الوقف عليهما بالألف، وقرأ ابن كثير بتنوين الأول دون الثاني والوقف على الأول بالألف دون الثاني. وقرأ
أبو عمرو وحفص وابن ذكوان بعدم التنوين فيهما، والوقف على الأول بالألف دون الثاني، والجملة في محل جر
صفة لأكواب. قال أبو البقاء: وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها. قال الواحدي: قال المفسرون:
جعل الله قوارير أهل الجنة من فضة، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير. قال الزجاج: القوارير التي
في الدنيا من الرمل، فأعلم الله فضل تلك القوارير أن أصلها من فضة يرى من خارجها ما في داخلها، وجملة (قدروها
تقديرا) صفة لقوارير. قرأ الجمهور " قدروها " بفتح القاف على البناء للفاعل: أي قدرها السقاة من الخدم
الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة من دون زيادة ولا نقصان. قال مجاهد وغيره:
أتوا بها على قدر ريهم بغير زيادة ولا نقصان. قال الكلبي: وذلك ألذ وأشهى، وقيل: قدرها الملائكة،
وقيل قدرها أهل الجنة الشاربون على مقدار شهواتهم وحاجتهم فجاءت كما يريدون في الشكل لا تزيد ولا تنقص.
وقرأ علي وابن عباس والسلمي والشعبي وزيد بن علي وعبيد بن عمير وأبو عمرو في رواية عنه " قدروها " بضم
القاف وكسر الدال مبنيا للمفعول: أي جعلت لهم على قدر إرادتهم. قال أبو علي الفارسي: هو من باب القلب،
قال: لأن حقيقة المعنى أن يقال: قدرت عليهم لا قدروها، لأنه في معنى قدروا عليها. وقال أبو حاتم: التقدير
قدرت الأواني على قدر ريهم، فمفعول ما لم يسم فاعله محذوف. قال أبو حيان: والأقرب في تخريج هذه
القراءة الشاذة أن يقال: قدر ريهم منها تقديرا، فحذف المضاف فصار قدروها. وقال المهدوي: إن القراءة
الأخيرة يرجع معناها إلى معنى القراءة الأولى، وكأن الأصل قدروا عليها فحذف حرف الجر كما أنشد سيبويه:
آليت حب العراق الدهر آكله * والحب يأكله في القرية السوس
أي آليت على حب العراق (ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا) قد تقدم أن الكأس هو الإناء فيه
الخمر، وإذا كان خاليا عن الخمر فلا يقال له كأس، والمعنى: أن أهل الجنة يسقون في الجنة كأسا من الخمر،
350

ممزوجة بالزنجبيل وقد كانت العرب تستلذ مزج الشراب بالزنجبيل لطيب رائحته. وقال مجاهد وقتادة: الزنجبيل
اسم للعين التي يشرب بها المقربون. وقال مقاتل: هو زنجبيل لا يشبه زنجبيل الدنيا (عينا فيها تسمى سلسبيلا) انتصاب
عينا على أنها بدل من كأسا. ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مقدر: أي يسقون عينا، ويجوز أن تكون منصوبة
بنزع الخافض: أي من عين، والسلسبيل: الشراب اللذيذ، مأخوذ من السلاسة، تقول العرب: هذا شراب
سلس، وسلسال وسلسبيل: أي طيب لذيذ. قال الزجاج: السلسبيل في اللغة اسم لماء في غاية السلاسة حديد
الجرية يسوغ في حلوقهم، ومنه قول حسان بن ثابت:
يسقون من ورد البريص عليهم * كأسا يصفق بالرحيق السلسل
(ويطوف عليهم ولدان مخلدون) لما فرغ سبحانه من وصف شرابهم، ووصف آنيتهم، ووصف السقاة الذين
يسقونهم ذلك الشراب. ومعنى (مخلدون) باقون على ما هم عليه من الشباب والطراوة والنضارة، لا يهرمون ولا
يتغيرون، وقيل معنى (مخلدون) لا يموتون، وقيل التخليد التحلية: أي محلون (إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا
منثورا) إذا نظرت إليهم ظننتهم لمزيد حسنهم وصفاء ألوانهم ونضارة وجوههم لؤلؤا مفرقا. قال عطاء:
يريد في بياض اللون وحسنه، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوما. قال أهل
المعاني: إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة، ولو كانوا صفا لشبهوا بالمنظوم، وقيل إنما شبههم
بالمنثور لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين فإنه شبههن باللؤلؤ المكنون لأنهن لا يمتهن بالخدمة
(وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) أي وإذا رميت ببصرك هناك، يعنى في الجنة رأيت نعيما لا يوصف،
وملكا كبيرا لا يقادر قدره، وثم ظرف مكان، والعامل فيها رأيت. قال الفراء في الكلام ما مضمرة: أي وإذا
رأيت ما ثم، كقوله - لقد تقطع بينكم - أي ما بينكم. قال الزجاج معترضا على الفراء: إنه لا يجوز إسقاط الموصول
وترك الصلة، ولكن رأيت يتعدى في المعنى إلى ثم. والمعنى: إذا رأيت ببصرك ثم، ويعني ثم الجنة قال
السدي: النعيم ما يتنعم به، والملك الكبير: استئذان الملائكة عليهم، وكذا قال مقاتل والكلبي. وقيل إن رأيت
ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر ولا منوى، بل معناه: أن بصرك أينما وقع في الجنة رأيت نعيما وملكا كبيرا
(عاليهم ثياب سندس) قرأ نافع وحمزة وابن محيصن " عاليهم " بسكون الياء وكسر الهاء على أنه خبر مقدم، وثياب
مبتدأ مؤخر، أو على أن عاليهم مبتدأ، وثياب مرتفع بالفاعلية وإن لم يعتمد الوصف كما هو مذهب الأخفش.
وقال الفراء: هو مرفوع بالابتداء، وخبره: ثياب سندس، واسم الفاعل مراد به الجمع. وقرأ الباقون بفتح الياء
وضم الهاء على أنه ظرف في محل رفع على أنه خبر مقدم، وثياب مبتدأ مؤخر، كأنه قيل فوقهم ثياب. قال
الفراء: إن عاليهم بمعنى فوقهم، وكذا قال ابن عطية. قال أبو حيان: عال وعالية اسم فاعل، فيحتاج في
كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولا من كلام العرب، وقد تقدمه إلى هذا الزجاج وقال: هذا مما لا نعرفه في
الظروف ولو كان ظرفا لم يجز إسكان الياء، ولكنه نصب على الحال من شيئين: أحدهما الهاء والميم في قوله (يطوف
عليهم) أي على الأبرار (ولدان) عاليا الأبرار (ثياب سندس) أي يطوف عليهم في هذه الحال. والثاني أن يكون
حالا من الولدان: أي إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا في حال علو الثياب أبدانهم. وقال أبو علي الفارسي:
العامل في الحال إما لقاهم نضرة وسرورا، وإما جزاهم بما صبروا. قال: ويجوز أن يكون ظرفا. وقرأ ابن سيرين
ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة: عليهم، وهي قراءة واضحة المعنى ظاهرة الدلالة. واختار أبو عبيد القراءة
الأولى لقراءة ابن مسعود: عاليتهم. وقرأ الجمهور بإضافة ثياب إلى سندس. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بتنوين
351

ثياب وقطعها عن الإضافة ورفع سندس، و (خضر وإستبرق) على أن السندس نعت للثياب، لأن السندس
نوع من الثياب، وعلى أن خضر نعت لسندس، لأنه يكون أخضر وغير أخضر، وعلى أن إستبرق معطوف
على سندس: أي وثياب إستبرق، والجمهور من القراء اختلفوا في خضر وإستبرق مع اتفاقهم على جر سندس
بإضافة ثياب إليه، فقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم وابن محيصن بجر خضر نعتا لسندس ورفع إستبرق عطفا
على ثياب: أي عليهم ثياب سندس وعليهم إستبرق. وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع خضر نعتا لثياب، وجر
إستبرق نعت لسندس. واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد، لأن الخضر أحسن ما كانت نعتا للثياب فهي
مرفوعة، والإستبرق من جنس السندس. وقرأ نافع وحفص برفع " خضر وإستبرق " لأن خضر نعت للثياب،
وإستبرق عطف على الثياب. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بجر " خضر وإستبرق " على أن خضر نعت للسندس،
وإستبرق معطوف على سندس. وقرءوا كلهم بصرف إستبرق إلا ابن محيصن فإنه لم يصرفه، قال: لأنه أعجمي،
ولا وجه لهذا لأنه نكرة إلا أن يقول إنه علم لهذا الجنس من الثياب. والسندس: ما رق من الديباج. والإستبرق:
ما غلظ منه، وقد تقدم تفسيرهما في سورة الكهف (وحلوا أساور من فضة) عطف على يطوف عليهم. ذكر
سبحانه هنا أنهم يحلون بأساور الفضة وفي سورة فاطر - يحلون فيها من أساور من ذهب - وفي سورة الحج
- يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا - ولا تعارض بين هذه الآيات لإمكان الجمع بأن يجعل لهم سوارات
من ذهب وفضة ولؤلؤ، أو بأن المراد أنهم يلبسون سوارات الذهب تارة، وسوارات الفضة تارة، وسوارات
اللؤلؤ تارة، أو أنه يلبس كل أحد منه ما تميل إليه نفسه من ذلك، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب
على الحال من ضمير عاليهم بتقدير قد (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) هذا نوع آخر من الشراب الذي يمن الله
عليهم به. قال الفراء: يقول هو طهور ليس بنجس كما كان في الدنيا موصوفا بالنجاسة. والمعنى: أن ذلك
الشراب طاهر ليس كخمر الدنيا. قال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه
من غش وغل وحسد. قال أبو قلابة وإبراهيم النخعي: يؤتون بالطعام، فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور،
فيشربون فتضمر بطونهم من ذلك ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك (إن هذا كان لكم جزاء) أي يقال
لهم: إن هذا الذي ذكر من أنواع النعم كان لكم جزاء بأعمالكم: أي ثوابا لها (وكان سعيكم مشكورا) أي كان
عملكم في الدنيا بطاعة الله مرضيا مقبولا، وشكر الله سبحانه لعمل عبده هو قبوله لطاعته.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: الزمهرير هو البرد الشديد. وأخرج البخاري
ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " اشتكت النار إلى ربها فقالت:
رب أكل بعضي بعضا، فجعل لها نفسين: نفسا في الصيف، ونفسا في الشتاء، فشدة ما تجدون من البرد من
زمهريرها، وشدة ما تجدون في الصيف من الحر من سمومها ". وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة
وهناد بن السري وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم
وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله (ودانية عليهم ظلالها) قال: قريبة (وذللت
قطوفها تذليلا) قال: إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا ومضطجعين وعلى أي حال شاءوا. وفي
لفظ قال: ذللت فيتناولون منها كيف شاءوا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال
(آنية من فضة) وصفاؤها كصفاء القوارير (قدروها تقديرا) قال: قدرت للكف. وأخرج عبد الرزاق
352

وسعيد بن منصور والبيهقي عنه قال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير
الماء من ورائها، ولكن قوارير الجنة ببياض الفضة في صفاء القوارير. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال:
ليس في الجنة شئ إلا وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة. وأخرج الفريابي عنه أيضا في قوله:
(قدروها تقديرا) قال: أتوا بها على قدر الفم لا يفضلون شيئا ولا يشتهون بعدها شيئا. وأخرج عبد بن حميد وابن
المنذر عنه أيضا (قدروها تقديرا) قال: قدرتها السقاة. وأخرج ابن المبارك وهناد وعبد بن حميد والبيهقي
في البعث عن ابن عمرو قال: إن أدنى أهل الجنة منزلا من يسعى عليه ألف خادم كل خادم على عمل ليس عليه
صاحبه، وتلا هذه الآية (إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا).
قوله (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا) أي فرقناه في الإنزال ولم ننزله جملة واحدة. وقيل المعنى: نزلناه
عليك ولم تأت به من عندك كما يدعيه المشركون (فاصبر لحكم ربك) أي لقضائه، ومن حكمه وقضائه تأخير
نصرك إلى أجل اقتضته حكمته. قيل وهذا منسوخ بآية السيف (ولا تطع منها آثما أو كفورا) أي لا تطع كل واحد
من مرتكب لإثم وغال في كفر، فنهاه الله سبحانه عن ذلك. قال الزجاج: إن الألف هنا آكد من الواو وحدها
لأنك إذا قلت: لا تطع زيدا وعمرا، فأطاع أحدهما كان غير عاص، لأنه أمره أن لا يطيع الاثنين، فإذا قال:
لا تطع منهم آثما أو كفورا دل ذلك على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى، كما أنك إذا قلت: لا تخالف
الحسن أو ابن سيرين، فقد قلت إنهما أهل أن يتبعا، وكل واحد منهما أهل أن يتبع. وقال الفراء: " أو " هنا
بمنزلة لا، كأنه قال: ولا كفورا. وقيل المراد بقوله (آثما) عتبة بن ربيعة، وبقوله (أو كفورا) الوليد بن
المغيرة، لأنهما قالا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج (واذكر
اسم ربك بكرة وأصيلا) أي دم على ذكره في جميع الأوقات. وقيل المعنى: صل لربك أول النهار وآخره، فأول
النهار صلاة الصبح، وآخره صلاة العصر (ومن الليل فاسجد له) أي صل المغرب والعشاء. وقيل المراد الصلاة في
بعضه من غير تعيين، ومن للتبعيض على كل تقدير (وسبحه ليلا طويلا) أي نزهه عما لا يليق به، فيكون المراد
الذكر بالتسبيح سواء كان في الصلاة أو في غيرها. وقيل المراد التطوع في الليل. قال ابن زيد وغيره: إن هذه
الآية منسوخة بالصلوات الخمس. وقيل الأمر الندب. وقيل هو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم (إن
هؤلاء يحبون العاجلة) يعنى كفار مكة ومن هو موافق لهم. والمعنى: أنهم يحبون الدار العاجلة، وهي دار الدنيا
353

(ويذرون وراءهم يوما ثقيلا) أي يتركون ويدعون وراءهم: أي خلفهم أو بين أيديهم وأمامهم يوما شديدا
عسيرا، وهو يوم القيامة، وسمى ثقيلا لما فيه من الشدائد والأهوال. ومعنى كونه يذرونه وراءهم: أنهم
لا يستعدون له ولا يعبئون به، فهم كمن ينبذ الشئ وراء ظهره تهاونا به واستخفافا بشأنه، وإن كانوا في الحقيقة
مستقبلين له وهو أمامهم (نحن خلقناهم) أي ابتدأنا خلقهم من تراب، ثم من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة
إلى أن كمل خلقهم، ولم يكن لغيرنا في ذلك عمل ولا سعى لا اشتراكا ولا استقلالا (وشددنا أسرهم) الأسر:
شدة الخلق، يقال شد الله أسر فلان: أي قوى خلقه. قال مجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم: شددنا خلقهم. قال
الحسن: شددنا أوصالهم بعضا إلى بعض بالعروق والعصب. قال أبو عبيد: يقال فرس شديد الأسر: أي الخلق.
قال لبيد:
ساهم الوجه شديد أسره * مشرف الحارك محبوك القتد
وقال الأخطل:
من كل مجتنب شديد أسره * سلس القياد تخاله مختالا
وقال ابن زيد: الأسر القوة، واشتقاقه من الإسار، وهو القد الذي تشد به الأقتاب. ومنه قول ابن أحمر
يصف فرسا:
يمشي بأوطفة شداد أسرها * شم السبائك لا تفي بالجدجد
(وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا) أي لو شئنا لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم. وقيل المعني: مسخناهم إلى
أسمج صورة وأقبح خلقة (إن هذه تذكرة) يعنى إن هذه السورة تذكير وموعظة (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا)
أي طريقا يتوسل به إليه، وذلك بالإيمان والطاعة. والمراد إلى ثوابه أو إلى جنته (وما تشاءون إلا أن يشاء الله)
أي وما تشاءون أن تتخذوا إلى الله سبيلا إلا أن يشاء الله، فالأمر إليه سبحانه ليس إليهم، والخير والشر بيده،
لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فمشيئة العبد مجردة لا تأتى بخير ولا تدفع شرا، وإن كان يثاب على المشيئة
الصالحة، ويؤجر على قصد الخير كما في حديث " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ". قال الزجاج
أي لستم تشاءون إلا بمشيئة الله (إن الله كان عليما حكيما) في أمره ونهيه: أي بليغ العلم والحكمة " يدخل من يشاء
في رحمته " أي يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها، أو يدخل في جنته من يشاء من عباده. قال عطاء: من
صدقت نيته أدخله جنته (والظالمين أعد لهم عذابا أليما) انتصاب الظالمين بفعل مقدر يدل عليه ما قبله: أي يعذب
الظالمين، نصب الظالمين لأن ما قبله منصوب أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين: أي المشركين،
ويكون أعد لهم تفسيرا لهذا المضمر، والاختيار النصب وإن جاز الرفع، وبالنصب قرأ الجمهور. وقرأ أبان بن
عثمان بالرفع على الابتداء، ووجهه أنه لم يكن بعده فعل يقع عليه.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس (وشددنا أسرهم) قال: خلقهم. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة
(وشددنا أسرهم) قال هي المفاصل.
354

تفسير سورة المرسلات
هي خمسون آية
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. قال قتادة: إلا آية منها وهي قوله (وإذا قيل لهم اركعوا
لا يركعون) فإنها مدنية، وروى هذا عن ابن عباس. وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال:
نزلت سورة المرسلات بمكة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال " بينما نحن مع النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في غار بمنى إذ نزلت سورة المرسلات عرفا، فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها
إذ وثبت علينا حية، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اقتلوها، فابتدرناه فذهبت، فقال النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: وقيت شركم كما وقيتم شرها ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس أن أم الفضل
سمعته وهو يقرأ والمرسلات عرفا فقالت: يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها آخر ما سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بها في المغرب.
تفسير سورة المرسلات (1 - 28)
قوله والمرسلات عرفا) قال جمهور المفسرين: هي الرياح، وقيل هي الملائكة، وبه قال مقاتل وأبو صالح
والكلبي، وقيل هم الأنبياء، فعلى الأول أقسم سبحانه بالرياح المرسلة لما يأمرها به كما في قوله وأرسلنا الرياح
لواقح - وقوله - ويرسل الرياح - وغير ذلك. وعلى الثاني أقسم سبحانه بالملائكة المرسلة بوحيه وأمره ونهيه. وعلى
355

الثالث أقسم سبحانه برسله المرسلة إلى عباده لتبليغ شرائعه، وانتصاب (عرفا) إلا (؟؟؟) على أنه مفعول لأجله: أي
المرسلات لأجل العرف وهو ضد النكر، ومنه قول الشاعر:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه * لا يذهب العرف بين الله والناس
أو على أنه حال بمعنى متتابعة يتبع بعضها بعضا كعرف الفرس، تقول العرب: سار الناس إلى فلان عرفا
واحدا: إذا توجهوا إليه، وهم على فلان كعرف الضبع: إذا تألبوا عليه، أو على أنه مصدر كأنه قال:
والمرسلات إرسالا: أي متتابعة، أو على أنه منصوب بنزع الخافض: أي والمرسلات بالعرف. قرأ الجمهور
" عرفا " بسكون الراء: وقرأ عيسى بن عمر بضمها، وقيل المراد بالمرسلات السحاب لما فيها من نعمة ونقمة
فالعاصفات عصفا) وهي الرياح الشديدة الهبوب. قال القرطبي بغير اختلاف: يقال عصف بالشئ: إذا
أباده وأهلكه، وناقة عصوف: أي تعصف براكبها فتمضى كأنها ريح في السرعة، ويقال عصفت الحرب بالقوم
إذا ذهبت بهم، وقيل هي الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها، وقيل يعصفون بروح الكافر، وقيل هي
الآيات المهلكة كالزلازل ونحوها (والناشرات نشرا) يعنى الرياح تأتى بالمطر وهي تنشر السحاب نشرا، أو
الملائكة الموكلون بالسحاب ينشرونها أو ينشرون أجنحتهم في الجو عند النزول بالوحي، أو هي الأمطار لأنها
تنشر النبات. وقال الضحاك: يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم. وقال الربيع: إنه البعث للقيامة بنشر
الأرواح، وجاء بالواو هنا لأنه استئناف قسم آخر (فالفارقات فرقا) يعنى الملائكة تأتى بما يفرق بين الحق والباطل
والحلال والحرام. وقال مجاهد: هي الريح تفرق بين السحاب فتبدده. وروى عنه أنها آيات القرآن تفرق بين
الحق والباطل، وقيل هي الرسل فرقوا ما بين ما أمر الله به ونهى عنه، وبه قال الحسن (فالملقيات ذكرا) هي
الملائكة، قال القرطبي بإجماع: أي تلقى الوحي إلى الأنبياء، وقيل هو جبريل، وسمى باسم الجمع تعظيما له،
وقيل هي الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم، قاله قطرب. قرأ الجمهور " فالملقيات " بسكون اللام وتخفيف
القاف اسم فاعل، وقرأ ابن عباس بفتح اللام وتشديد القاف من التلقية وهي إيصال الكلام إلى المخاطب،
والراجح أن الثلاثة الأول للرياح، والرابع والخامس للملائكة، وهو الذي اختاره الزجاج والقاضي وغيرهما
(عذرا أو نذرا) انتصابهما على البدل من ذكرا، أو على المفعولية، والعامل فيهما المصدر المنون، كما في قوله
- أو إطعام في يوم ذي مسبغة يتيما - أو على المفعول لأجله: أي للإعذار والإنذار، أو على الحال بالتأويل
المعروف: أي معذرين أو منذرين. قرأ الجمهور بإسكان الذال فيهما. وقرأ زيد بن ثابت وابنه خارجة بن زيد
وطلحة بضمهما. وقرأ الحرميان وابن عامر وأبو بكر بسكونها في عذرا وضمها في نذرا. وقرأ الجمهور " عذرا
أو نذرا " على العطف بأو. وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة على العطف بالواو بدون ألف، والمعنى: أن الملائكة تلقى
الوحي إعذارا من الله إلى خلقه وإنذارا من عذابه، كذا قال الفراء، وقيل عذرا للمحقين ونذرا للمبطلين. قال
أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون العذر والنذر بالتثقيل جمع عاذر وناذر كقوله - هذا نذير من النذر الأولى -
فيكون نصبا على الحال من الإلقاء: أي يلقون الذكر في حال العذر والإنذار، أو مفعولان لذكرا: أي تذكر
عذرا أو نذرا. قال المبرد: هما بالتثقيل جمع، والواحد عذير ونذير. ثم ذكر سبحانه جواب القسم فقال (إنما
توعدون لواقع) أي إن الذي توعدونه من مجئ الساعة والبعث كائن لا محالة، ثم بين سبحانه متى يقع ذلك فقال
(فإذا النجوم طمست) أي محى نورها وذهب ضوؤها، يقال طمس الشئ: إذا درس وذهب أثره (وإذا السماء
356

فرجت) أي فتحت وشقت، ومثله قوله - وفتحت السماء فكانت أبوابا - (وإذا الجبال نسفت) أي قلعت من
مكانها بسرعة، يقال نسفت الشئ وأنسفته: إذا أخذته بسرعة. وقال الكلبي: سويت بالأرض، والعرب
تقول: نسفت الناقة الكلأ: إذا رعته، وقيل جعلت كالحب الذي ينسف بالمنسف، ومنه قوله - وبست الجبال
بسا - والأول أولى. قال المبرد: نسفت قلعت من مواضعها (وإذا الرسل أقتت) الهمزة في أقتت بدل من الواو
المضمومة، وكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة يجوز إبدالها بالهمزة، وقد قرأ بالواو أبو عمرو وشيبة والأعرج
وقرأ الباقون بالهمزة، والوقت: الأجل الذي يكون عنده الشئ المؤخر إليه، والمعنى: جعل لها وقت للفصل
والقضاء بينهم وبين الأمم كما في قوله سبحانه - يوم يجمع الله الرسل - وقيل هذا في الدنيا: أي جمعت الرسل لميقاتها
الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبها، والأول أولى. قال أبو علي الفارسي: أي جعل يوم الدين والفصل
لها وقتا، وقيل أقتت: أرسلت لأوقات معلومة على ما علم الله به (لأي يوم أجلت) هذا الاستفهام للتعظيم
والتعجيب: أي لأي يوم عظيم يعجب العباد منه لشدته ومزيد أهواله ضرب لهم الأجل لجمعهم، والجملة مقول
قول مقدر هو جواب لإذا، أو في محل نصب على الحال من الضمير في أقتت. قال الزجاج: المراد بهذا التأقيت
تبيين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم، ثم بين هذا اليوم فقال (ليوم الفصل) قال قتادة: يفصل فيه
بين الناس بأعمالهم إلى الجنة والنار، ثم عظم ذلك اليوم فقال (وما أدراك ما يوم الفصل) أي وما أعلمك بيوم
الفصل يعنى أنه أمر بديع هائل لا يقادر قدره، وما مبتدأ وأدراك خبره، أو العكس كما اختاره سيبويه. ثم ذكر
حال الذين كذبوا بذلك اليوم فقال (ويل يومئذ للمكذبين) أي ويل لهم في ذلك اليوم الهائل، وويل أصل مصدر
ساد مسد فعله، وعدل به إلى الرفع للدلالة على الثبات، والويل الهلاك، أو هو اسم واد في جهنم، وكرر هذه
الآية في هذه السورة لأنه قسم الويل بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشئ
عذابا سوى تكذيبه بشئ
آخر، ورب شئ كذب به هو أعظم جرما من التكذيب بغيره، فيقسم له من الويل على قدر ذلك التكذيب. ثم
ذكر سبحانه ما فعل بالكفار من الأمم الخالية فقال (ألم نهلك الأولين) أخبر سبحانه بإهلاك الكفار من الأمم الماضية
من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال مقاتل: يعنى بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم (ثم
نتبعهم الآخرين) يعنى كفار مكة، ومن وافقهم حين كذبوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قرأ الجمهور
" نتبعهم " بالرفع على الاستئناف أي ثم نحن نتبعهم. قال أبو البقاء ليس بمعطوف لأن العطف يوجب أن يكون
المعنى: أهلكنا الأولين ثم أتبعناهم الآخرين في الإهلاك. وليس كذلك لأن إهلاك الآخرين لم يقع بعد. ويدل
على الرفع قراءة ابن مسعود " ثم سنتبعهم الآخرين " وقرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو نتبعهم بالجزم عطفا على
نهلك. قال شهاب الدين: على جعل الفعل معطوفا على مجموع الجملة من قوله " ألم نهلك " (كذلك نفعل
بالمجرمين) أي مثل ذلك الفعل الفظيع نفعل بهم، يريد من يهلكه فيما بعد، والكاف في موضع نصب على النعت
لمصدر محذوف: أي مثل ذلك الإهلاك نفعل بكل مشرك إما في الدنيا أو في الآخرة (ويل يومئذ للمكذبين) أي
ويل يوم ذلك الإهلاك للمكذبين بكتب الله ورسله، قيل الويل الأول لعذاب الآخرة، وهذا لعذاب الدنيا (ألم
نخلقكم من ماء مهين) أي ضعيف حقير، وهو النطفة (فجعلناه في قرار مكين) أي مكان حريز، وهو الرحم
(إلى قدر معلوم) أي إلى مقدار معلوم، وهو مدة الحمل، وقيل إلى أن يصور (فقدرنا) قرأ الجمهور " فقدرنا "
بالتخفيف. وقرأ نافع والكسائي بالتشديد من التقدير. قال الكسائي والفراء: وهما لغتان بمعنى تقول: قدرت
كذا، وقدرته (فنعم القادرون) أي نعم المقدرون نحن، قيل المعنى: قدرناه قصيرا أو طويلا، وقيل معنى
357

قدرنا ملكنا (ويل يومئذ للمكذبين) بقدرتنا على ذلك. ثم بين لهم بديع صنعه وعظيم قدرته ليعتبروا فقال (ألم
نجعل الأرض كفاتا) معنى الكفت في اللغة: الضم والجمع، يقال كفت الشئ: إذا ضمه وجمعه، ومن هذا
يقال للجراب والقدر كفت: والمعنى: ألم نجعل الأرض ضامة للأحياء على ظهرها والأموات في باطنها تضمهم
وتجمعهم. قال الفراء: يريد تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم، وتكفتهم أمواتا في بطنها: أي تحوزهم
وهو معنى قوله (أحياء وأمواتا) وأنشد سيبويه:
كرام حين تنكفت الأفاعي * إلى أجحارهن من الصقيع
قال أبو عبيدة كفاتا أوعية، ومنه قول الشاعر:
فأنت اليوم فوق الأرض حي * وأنت غدا تضمن في كفات
أي في قبر، وقيل معنى جعلها كفاتا: أنه يدفن فيها ما يخرج من الإنسان من الفضلات. وقال الأخفش
وأبو عبيدة: الأحياء والأموات وصفان للأرض: أي الأرض منقسمة إلى حي وهو الذي ينبت، وإلى ميت
وهو الذي لا ينبت. قال الفراء: انتصاب أحياء وأمواتا بوقوع الكفات عليه: أي ألم نجعل الأرض كفات أحياء
وأموات، فإذا نون نصب ما بعده، وقيل نصبا على الحال من الأرض: أي منها كذا ومنها كذا، وقيل هو
مصدر نعت به للمبالغة. وقال الأخفش: كفاتا جمع كافتة، والأرض يراد بها الجمع فنعتت بالجمع. وقال
الخليل: التكفت تقليب الشئ ظهرا لبطن أو بطنا لظهر، ويقال انكفت القوم إلى منازلهم: أي ذهبوا (وجعلنا
فيها رواسي شامخات) أي جبالا طوالا، والرواسي الثوابت، والشامخات الطوال، وكل عال فهو شامخ
(وأسقيناكم ماء فراتا) أي عذبا، والفرات الماء العذب يشرب منه ويسقى به. قال مقاتل: وهذا كله أعجب
من البعث (ويل يومئذ للمكذبين) بما أنعمنا عليهم من نعمنا التي هذه من جملتها.
وقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة (والمرسلات عرفا) قال: هي الملائكة أرسلت
بالعرف. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن ابن مسعود - والمرسلات عرفا - قال الريح (فالعاصفات عصفا) قال: الريح (والناشرات نشرا) قال: الريح
وأخرج ابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب أنه جاء رجل إلى
علي بن أبي طالب، فقال ما العاصفات عصفا؟ قال الرياح. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (والمرسلات عرفا)
قال: الريح (فالعاصفات عصفا) قال: الريح (فالفارقات فرقا) قال: الملائكة (فالملقيات ذكرا) قال:
الملائكة. وأخرج ابن المنذر عنه (والمرسلات عرفا) قال: الملائكة (فالفارقات فرقا) قال: الملائكة، فرقت
بين الحق والباطل (فالملقيات ذكرا) قال: بالتنزيل. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن مسعود قال:
ويل واد في جهنم يسيل فيه صديد أهل النار، فجعل للمكذبين. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (من ماء
مهين) قال: ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (كفاتا) قال: كنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه أيضا (رواسي شامخات) قال: جبالا مشرفات، وفي قوله (فراتا) قال: عذبا.
358

(انطلقوا إلى ما كنتم) هو بتقدير القول: أي يقال لهم توبيخا وتقريعا (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون) في
الدنيا تقول لهم ذلك خزنة جهنم: أي سيروا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب، وهو عذاب النار (انطلقوا إلى
ظل ذي ثلاث شعب) أي إلى ظل من دخان جهنم قد سطع، ثم افترق ثلاث فرق تكونون فيه حتى يفرغ الحساب
وهذا شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب شعبا. قرأ الجمهور " انطلقوا " في الموضعين على صيغة الأمر على
التأكيد. وقرأ رويس عن يعقوب بصيغة الماضي في الثاني: أي لما أمروا بالانطلاق امتثلوا ذلك فانطلقوا. وقيل
المراد بالظل هنا هو السرادق، وهو لسان من النار يحيط بهم. ثم يتشعب ثلاث شعب فيظلهم حتى يفرغ من
حسابهم، ثم يصيرون إلى النار. وقيل هو الظل من يحموم كما في قوله - في سموم وحميم وظل من يحموم - على
ما تقدم. ثم وصف سبحانه هذا الظل تهكما بهم فقال (لا ظليل ولا يغني من اللهب) أي لا يظل من الحر ولا
يغنى من اللهب. قال الكلبي: لا يرد حر جهنم عنكم. ثم وصف سبحانه النار فقال (إنها ترمي بشرر كالقصر)
أي كل شررة من شررها التي ترمى بها كالقصر من القصور في عظمها، والشرر: ما تطاير من النار متفرقا،
والقصر: البناء العظيم. وقيل القصر جمع قصرة ساكنة الصاد مثل حمر وحمرة وتمر وتمرة، وهي الواحدة من جزل
الحطب الغليظ. قال سعيد بن جبير والضحاك: وهي أصول الشجر العظام، وقيل أعناقه. قرأ الجمهور
" كالقصر " بإسكان الصاد، وهو واحد القصور كما تقدم. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد والسلمي بفتح الصاد:
أي أعناق النخل والقصرة العنق جمعه قصر وقصرات. وقال قتادة: أعناق الإبل. وقرأ سعيد بن جبير بكسر القاف
وفتح الصاد، وهي أيضا جمع قصرة مثل بدر وبدرة وقصع وقصعة. وقرأ الجمهور " بشرر " بفتح الشين. وقرأ
ابن عباس وابن مقسم بكسرها مع ألف بين الراءين. وقرأ عيسى كذلك إلا أنه يفتح الشين، وهي لغات، ثم شبه
الشرر باعتبار لونه فقال (كأنه جمالات صفر) وهي جمع جمال، وهي الإبل أو جمع جمالة. قرأ الجمهور " جمالات "
بكسر الجيم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص " جمالة " جمع جمل. وقرأ ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة وأبو رجاء
" جمالات " بضم الجيم، وهي حبال السفن. قال الواحدي: والصفر معناها السود في قول المفسرين. قال الفراء:
الصفر سواد الإبل لا يرى أسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرة، لذلك سمت العرب سود الإبل صفرا. قيل والشرر
إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار أشبه شئ بالإبل السود، ومنه قول الشاعر:
تلك خيلي وتلك ركابي * هن صفر أولادها كالزبيب
أي هن سود، قيل وهذا القول محال في اللغة أن يكون شئ يشوبه شئ قليل، فينسب كله إلى ذلك
359

الشائب، فالعجب لمن قال بهذا، وقد قال تعالى (جمالات صفر). وأجيب بأن وجهة أن النار خلقت من النور
فهي مضيئة، فلما خلق الله جهنم، وهي موضع النار حشي ذلك الموضع بتلك النار، وبعث إليها سلطانه وغضبه
فاسودت من سلطانه وازدادت سوادا، وصارت أشد سوادا من كل شئ فيكون شررها أسود لأنه من
نار سوداء.
قلت: وهذا الجواب لا يدفع ما قاله القائل، لأن كلامه باعتبار ما وقع في الكتاب العزيز هنا من وصفها
بكونها صفراء، فلو كان الأمر كما ذكره المجيب من اسوداد النار، واسوداد شررها، لقال الله: كأنها جمالات
سود، ولكن إذا كانت العرب تسمى الأسود أصفر لم يبق إشكال، لأن القرآن نزل بلغتهم، وقد نقل الثقات
عنهم ذلك، فكان ما في القرآن هنا واردا على هذا الاستعمال العربي (ويل يومئذ للمكذبين) لرسل الله وآياته (هذا
يوم لا ينطقون) أي لا يتكلمون قال الواحدي: قال المفسرون: في يوم القيامة مواقف، ففي بعضها يتكلمون،
وفي بعضها يختم على أفواههم فلا يتكلمون، وقد قدمنا الجمع بهذا في غير موضع. وقيل إن هذا إشارة إلى وقت
دخولهم النار وهم عند ذلك لا ينطقون، لأن مواقف السؤال والحساب قد انقضت. وقال الحسن: لا ينطقون
بحجة وإن كانوا ينطقون. قرأ الجمهور برفع " يوم " على أنه خبر لاسم الإشارة. وقرأ زيد بن علي والأعرج
والأعمش وأبو حيوة وعاصم في رواية عنه بالفتح على البناء لإضافته إلى الفعل، ومحله الرفع على الخبرية، وقيل
هو منصوب على الظرفية، والإشارة بهذا إلى ما تقدم من الوعيد كأنه قيل هذا العقاب المذكور كائن يوم
لا ينطقون (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) قرأ الجمهور " يؤذن " على البناء للمفعول، وقرأ زيد بن علي " ولا يأذن "
على البناء للفاعل: أي لا يأذن الله لهم: أي لا يكون لهم إذن من الله فيكون لهم اعتذار من غير أن يجعل الاعتذار
مسببا عن الاذن كما لو نصب. قال الفراء: الفاء في فيعتذرون نسق على يؤذن وأجيز ذلك لأن أواخر الكلام
بالنون، ولو قال فيعتذروا لم يوافق الآيات، وقد قال - لا يقضى عليهم فيموتوا - بالنصب، والكل صواب
(ويل يومئذ للمكذبين) بما دعتهم إليه الرسل وأنذرتهم عاقبته (هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين) أي ويقال
لهم: هذا يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق ويتميز فيه الحق من الباطل، والخطاب في جمعناكم للكفار في
زمن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد بالأولين كفار الأمم الماضية (فإن كان لكم كيد) أي إن قدرتم
على كيد الآن (فكيدون) وهذا تقريع وتوبيخ لهم، قال مقاتل: يقول إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم،
وقيل المعنى: فإن قدرتم على حرب فحاربون، أو وقيل إن هذا من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون
كقول هود - فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون - (ويل يومئذ للمكذبين) لأنه قد ظهر لهم عجزهم وبطلان ما كانوا عليه
في الدنيا. ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال (إن المتقين في ظلال وعيون) أي في ظلال الأشجار وظلال القصور،
لا كالظل الذي للكفار من الدخان، أو من النار كما تقدم. قال مقاتل والكلبي: المراد بالمتقين الذين يتقون
الشرك بالله، لأن السورة من أولها إلى آخرها في تقريع الكفار على كفرهم. قال الرازي: فيجب أن تكون هذه
الآية مذكورة لهذا الغرض وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها وإنما يتم النظم بأن يكون الوعد للمؤمنين
بسبب إيمانهم، فأما جعله سببا للطاعة فلا يليق بالنظم كذا قال، والمراد بالعيون الأنهار، وبالفواكه ما يتفكه به
مما تطلبه أنفسهم وتستدعيه شهواتهم (كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون) أي يقال لهم ذلك، فالجملة مقدرة
بالقول، وهي في محل نصب على الحال من ضمير المتقين، والباء للسببية: أي بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا
من الأعمال الصالحة (إنا كذلك نجزي المحسنين) أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المحسنين في أعمالهم، قرأ الجمهور
360

" في ظلال ". وقرأ الأعمش والزهري وطلحة والأعرج " في ظلل " جمع ظلة (ويل يومئذ للمكذبين) حيث صاروا
في شقاء عظيم، وصار المؤمنون في نعيم مقيم (كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون) الجملة بتقدير القول في محل نصب
على الحال من المكذبين: أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك تذكير لهم بحالهم في الدنيا، أو يقال لهم هذا
في الدنيا، والمجرمون المشركون بالله، وهذا وإن كان في اللفظ أمرا فهو في المعنى تهديد وزجر عظيم (ويل يومئذ
للمكذبين) كرره لزيادة التوبيخ والتقريع (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) أي وإذا أمروا بالصلاة لا يصلون.
قال مقاتل: نزلت في ثقيف امتنعوا من الصلاة بعد أن أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها فقالوا: لا ننحني
فإنها مسبة علينا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود. وقيل إنما يقال
لهم ذلك في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. وقيل المعنى بالركوع: الطاعة والخشوع (ويل يومئذ
للمكذبين) بأوامر الله سبحانه ونواهيه (فبأي حديث بعده يؤمنون) أي فبأي حديث بعد القرآن يصدقون إذا
لم يؤمنوا به. قرأ الجمهور " يؤمنون " بالتحتية على الغيبة. وقرأ ابن عامر في رواية عنه، ويعقوب بالفوقية على
الخطاب.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (بشرر كالقصر) قال: كالقصر
العظيم، وقوله (جمالات صفر) قال: قطع النحاس. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وهناد وعبد بن حميد
والبخاري وابن جرير وابن المنذر والحاكم وابن مردويه من طريق عبد الرحمن بن عابس قال: سمعت ابن عباس
يسأل عن قوله (إنها ترمي بشرر كالقصر) قال: كنا نرفع الخشب بقدر ثلاثة أذرع أو أقل، فنرفعه للشتاء
فنسميه القصر. قال: وسمعته يسأل عن قوله (جمالات صفر) قال: حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى
يكون كأوساط الرجال. ولفظ البخاري: كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك فنرفعه للشتاء فنسميه
القصر (كأنه جمالات صفر) حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
عنه أنه قرأ " كالقصر " بفتح القاف والصاد. وقال قصر النخل: يعني الأعناق. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا
قال: كانت العرب في الجاهلية تقول: أقصروا لنا الحطب، فيقطع على قدر الذراع والذراعين. وأخرج
سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط عن ابن مسعود في قوله (ترمي
بشرر كالقصر) قال: إنها ليست كالشجر والجبال، ولكنها مثل المدائن والحصون. وأخرج عبد بن حميد وابن
المنذر عن ابن عباس في قوله (كالقصر) قال: هو القصر، وفي قوله (جمالات صفر) قال: الإبل. وأخرج
الحاكم وصححه من طريق عكرمة قال: سأل نافع ابن الأرزق ابن عباس عن قوله (هذا يوم لا ينطقون) - ولا
تسمع إلا همسا - وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - و - هاؤم اقرءوا كتابيه - فقال له: ويحك هل سألت عن هذا
أحدا قبلي؟ قال لا، قال: أما أنك لو كنت سألت هلكت، أليس قال الله - وإن يوما عند ربك كألف سنة
مما تعدون - قال بلى، قال: فإن لكل مقدار يوم من هذه الأيام لونا من الألوان. وأخرج ابن جرير عن ابن
عباس (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) يقول: يدعون يوم القيامة إلى السجود فلا يستطيعون من أجل أنهم لم
يكونوا يسجدون لله في الدنيا.
361

تفسير سورة عم
وتسمى سورة النبأ، وهي أربعون آية، وقيل إحدى وأربعون آية
وهي مكية عند الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت
(عم يتساءلون) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
سورة عم (1 - 30)
قوله (عم يتساءلون) أصله عن ما فأدغمت النون في الميم، لأن الميم تشاركها في الغنة، كذا قال الزجاج،
وحذفت الألف ليتميز الحبر عن الاستفهام، وكذلك فيم ومم ونحو ذلك، والمعنى: عن أي شئ يسأل بعضهم
بعضا. قرأ الجمهور " عم " بحذف الألف لما ذكرنا، وقرأ أبي وابن مسعود وعكرمة وعيسى بإثباتها، ومنه قول الشاعر:
علاما قام يشتمني لئيم * كخنزير تمرغ في دمان
ولكنه قليل لا يجوز إلا للضرورة، وقرأ البزي بهاء السكت عوضا عن الألف، وروى ذلك عن ابن كثير،
قال الزجاج: اللفظ لفظ استفهام، والمعنى تفخيم القصة كما تقول: أي شئ تريد: إذا عظمت شأنه. قال
الواحدي: قال المفسرون: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبرهم بتوحيد الله والبعث بعد الموت
362

وتلا عليهم القرآن، جعلوا يتساءلون بينهم يقولون: ماذا جاء به محمد وما الذي أتى به؟ فأنزل الله (عم يتساءلون)
قال الفراء: التساؤل هو أن يسأل بعضهم بعضا كالتقابل، وقد يستعمل أيضا في أن يتحدثوا به وإن لم يكن
بينهم سؤال. قال الله تعالى - وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قال قائل منهم إني كان لي قرين - الآية، وهذا
يدل على أنه التحدث، ولفظ ما موضوع لطلب حقائق الأشياء وذلك يقتضي كون المطلوب مجهولا، فجعل
الشئ العظيم الذي يعجز العقل عن أن يحيط بكنهه كأنه مجهول، ولهذا جاء سبحانه بلفظ ما. ثم ذكر سبحانه
تساؤلهم عن ماذا وبينه فقال (عن النبأ العظيم) فأورده سبحانه أولا على طريقة الاستفهام مبهما لتتوجه إليه أذهانهم
وتلتفت إليه أفهامهم، ثم بينه بما يفيد تعظيمه وتفخيمه كأنه قيل: عن أي شئ يتساءلون هل أخبركم به؟ ثم
قيل بطريق الجواب " عن النبأ العظيم " على منهاج قوله - لمن الملك اليوم لله الواحد القهار - فالجار والمجرور متعلق بالفعل
الذي قبله، أو بما يدل عليه. قال ابن عطية: قال أكثر النحاة: عن النبأ العظيم متعلق بيتساءلون الظاهر، كأنه
قال: ألم يتساءلون عن النبأ العظيم، وقيل ليس بمتعلق بالفعل المذكور، لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام
فيكون التقدير أعن النبأ العظيم؟ فلزم أن يتعلق بيتساءلون آخر مقدر، وإنما كان ذلك النبأ: أي القرآن عظيما،
لأنه ينبئ عن التوحيد وتصديق الرسول ووقوع البعث والنشور. قال الضحاك: يعني نبأ يوم القيامة، وكذا قال
قتادة، وقد استدل على أن النبأ العظيم هو القرآن بقوله (الذي هم فيه مختلفون) فإنهم اختلفوا في القرآن، فجعله
بعضهم سحرا وبعضهم شعرا وبعضهم كهانة وبعضهم قال هو أساطير الأولين. وأما البعث فقد اتفق الكفار إذ ذاك
على إنكاره. ويمكن أن يقال إنه قد وقع الاختلاف في البعث في الجملة، فصدق به المؤمنون وكذب به
الكافرون، فقد وقع الاختلاف فيه من هذه الحيثية، وإن لم يقع الاختلاف فيه بين الكفار أنفسهم على التسليم
والتنزل، ومما يدل على أنه القرآن قوله سبحانه - قل هو نبأ عظيم أنتم عليه معرضون - ومما يدل على أنه البعث أنه
أكثر ما كان يستنكره المشركون وتأباه عقولهم السخيفة. وأيضا فطوائف الكفار قد وقع الاختلاف بينهم في البعث،
فأثبت النصارى المعاد الروحاني، وأثبتت طائفة من اليهود المعاد الجسماني، وفي التوراة التصريح بلفظ الجنة باللغة
العبرانية بلفظ جنعيذا بجيم مفتوحة ثم نون ساكنة ثم عين مكسورة مهملة ثم تحتية ساكنة ثم ذال معجمة بعدها ألف.
وفي الإنجيل في مواضع كثيرة التصريح بالمعاد، وأنه يكون فيه النعيم للمطيعين والعذاب للعاصين، وقد كان
بعض طوائف كفار العرب ينكر المعاد كما حكى الله عنهم بقوله - إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا
إلا الدهر وما نحن بمبعوثين - وكانت طائفة منهم غير جازمة بنفيه، بل شاكة فيه كما حكى الله عنهم بقوله - إن
نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين - وما حكاه عنهم بقوله - وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده
للحسنى - فقد حصل الاختلاف بين طوائف الكفر على هذه الصفة. وقد قيل إن الضمير في قوله يتساءلون يرجع
إلى المؤمنين والكفار لأنهم جميعا كانوا يتساءلون عنه، فأما المسلم فيزداد يقينا واستعدادا وبصيرة في دينه، وأما
الكافر فاستهزاء وسخرية. قال الرازي: ويحتمل أنهم يسألون الرسول ويقولون: ما هذا الذي يعدنا به من أمر الآخرة.
والموصول في محل جر صفة للنبأ بعد وصفه بكونه عظيما فهو متصف بالعظم ومتصف بوقوع الاختلاف فيه (كلا
سيعلمون) ردع لهم وزجر، وهذا يدل على أن المختلفين فيه هم الكفار، وبه يندفع ما قيل إن الخلاف بينهم وبين
المؤمنين، فإنه إنما يتوجه الردع والوعيد إلى الكفار فقط، وقيل كلا بمعنى حقا، ثم كرر الردع والزجر فقال
(ثم كلا سيعلمون) للمبالغة في التأكيد والتشديد في الوعيد. قرأ الجمهور بالياء التحتية في الفعلين على الغيبة. وقرأ
الحسن وأبو العالية وابن دينار وابن عامر في رواية عنه بالفوقية على الخطاب. وقرأ الضحاك الأول بالفوقية
363

والثاني بالتحتية. قال الضحاك: أيضا (كلا سيعلمون) يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم (ثم كلا سيعلمون) يعني
المؤمنين عاقبة تصديقهم، وقيل بالعكس، وقيل هو وعيد بعده وعيد، وقيل المعنى (كلا سيعلمون) عند
النزع، (ثم كلا سيعلمون) عند البعث. ثم ذكر سبحانه بديع صنعه وعظيم قدرته ليعرفوا توحيده ويؤمنوا بما
جاء به رسوله فقال (ألم نجعل الأرض مهادا. والجبال أوتادا) أي قدرتنا على هذه الأمور المذكورة أعظم من قدرتنا
على الإعادة بالبعث، والمهاد الوطاء والفراش كما في قوله - الذي جعل لكم الأرض فراشا - قرأ الجمهور " مهادا "
وقرأ مجاهد وعيسى وبعض الكوفيين " مهدا " والمعنى: أنها كالمهد للصبي وهو ما يمهد له فينوم عليه. والأوتاد
جمع وتد: أي جعلنا الجبال أوتادا للأرض لتسكن ولا تتحرك كما يرسي الخيام بالأوتاد، وفي هذا دليل على أن
التساؤل الكائن بينهم هو عن أمر البعث، لا عن القرآن، ولا عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كما قيل،
لأن هذا الدليل إنما يصلح للاستدلال به على البعث (وخلقناكم أزواجا) معطوف على المضارع المنفي داخل في
حكمه، فهو في قوة أما خلقناكم، والمراد بالأزواج هنا الأصناف: أي الذكور والإناث، وقيل المراد بالأزواج
الألوان، وقيل يدخل في هذا كل زوج من المخلوقات من قبيح وحسن وطويل وقصير (وجعلنا نومكم سباتا)
أي راحة لأبدانكم. قال الزجاج: السبات أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه: أي جعلنا نومكم راحة لكم.
قال ابن الأنباري: جعلنا نومكم قطعا لأعمالكم، لأن أصل السبت القطع، وقيل أصله التمدد، يقال سبتت المرأة
شعرها: إذا حلته وأرسلته، ورجل مسبوت الخلق: أي ممدودة، والرجل إذا أراد أن يستريح تمدد،
فسمى النوم سباتا، وقيل المعنى: وجعلنا نومكم موتا، والنوم أحد الموتتين، فالمسبوت يشبه الميت ولكنه لم
تفارقه الروح، ومنه قول الشاعر:
ومطوية الأقراب أما نهارها * فسبت وأما ليلها فذميل
ومن هذا قوله - الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها - الآية، وقوله - وهو الذي يتوفاكم
بالليل - (وجعلنا الليل لباسا) أي نلبسكم ظلمته ونغشيكم بها كما يغشيكم اللباس. وقال سعيد بن جبير والسدي:
أي سكنا لكم، وقيل المراد به ما يستره عند النوم من اللحاف ونحوه، وهو بعيد، لأن الجعل وقع على الليل،
لا على ما يستتر به النائم عند نومه (وجعلنا النهار معاشا) أي وقت معاش، والمعاش العيش، وكل شئ يعاش به
فهو معاش، والمعنى: أن الله جعل لهم النهار مضيئا ليسعوا فيما يقوم به معاشهم وما قسمه الله لهم من الرزق (وبنينا
فوقكم سبعا شدادا) يريد سبع سماوات قوية الخلق محكمة البناء، ولهذا وصفها بالشدة وغلظ كل واحدة منها
مسيرة خمسمائة عام كما ورد ذلك (وجعلنا سراجا وهاجا) المراد به الشمس، وجعل هنا بمعنى خلق، وهكذا قوله
(وجعلنا نومكم سباتا) وما بعده، لأن هذه الأفعال قد تعدت إلى مفعولين فلا بد من تضمينها معنى فعل يتعدى
إليهما كالخلق والتصيير ونحو ذلك. وقيل إن الجعل بمعنى الإنشاء والإبداع في جميع هذه المواضع، والمراد به
الإنشاء التكويني الذي بمعنى التقدير والتسوية. قال الزجاج: الوهاج الوقاد وهو الذي وهج، يقال وهجت النار
تهيج وهجا ووهجانا. قال مقاتل: جعل فيه نورا، حرا، والوهج يجمع النور والحرارة (وأنزلنا من المعصرات
ماء ثجاجا) المعصرات هي السحاب التي ينعصر بالماء ولم تمطر بعد، كالمرأة المعتصرة التي قد دنا حيضها، كذا قال
سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك. وقال مجاهد ومقاتل وقتادة والكلبي: هي الرياح، والرياح تسمى
معصرات، يقال أعصرت الريح تعصر إعصارا: إذا أثارت العجاج. قال الأزهري: هي الرياح ذوات الأعاصير
364

وذلك أن الرياح تستدر المطر. وقال الفراء: المعصرات السحاب التي يتحلب منها المطر. قال النحاس: وهذه
الأقوال صحاح، يقال للريح التي تأتي بالمطر معصرات، والرياح تلقح السحاب فيكون المطر. ويجوز أن تكون
هذه الأقوال قولا واحدا، ويكون المعنى: وأنزلنا من ذوات المعصرات ماء ثجاجا. قال في الصحاح
والمعصرات السحاب تعتصر بالمطر وعصر القوم أي مطروا. قال المبرد: يقال سحاب معصر: أي ممسك للماء يعتصر
منه شئ بعد شئ. وقال أبي بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان: المعصرات السماوات
والثجاج: المنصب بكثرة على جهة التتابع، يقال ثج الماء: أي سال بكثرة، وثجه: أي أسأله. قال الزجاج:
الثجاج الصباب. قال ابن زيد: ثجاجا كثيرا (لنخرج به حبا ونباتا) أي لنخرج بذلك الماء حبا يقتات: كالحنطة
والشعير ونحوهما، والنبات ما تأكله الدواب من الحشيش وسائر النبات (وجنات ألفافا) أي بساتين ملتف
بعضها ببعض لتشعب أغصانها، ولا واحد للألفاف: كالأوزاع والأخياف، وقيل واحدها لف بكسر اللام
وضمها، ذكره الكسائي. وقال أبو عبيدة: واحدها لفيف كشريف وأشراف، وروى عن الكسائي أنها جمع
الجمع يقال جنة لفاء ونبت لف، والجمع لف بضم اللام مثل حمر، ثم يجمع هذا الجمع على ألفاف، وقيل هو
جمع ملتفة بحذف الزوائد. قال الفراء: الجنة ما فيه النخيل، والفردوس ما فيه الكرم (إن يوم الفصل كان ميقاتا) أي
وقتا ومجمعا وميعادا للأولين والآخرين يصلون فيه إلى ما وعدوا به من الثواب والعقاب، وسمى يوم الفصل لأن
الله يفصل فيه بين خلقه، وهذا شروع في بيان ما يتساءلون عنه من البعث، وقيل معنى ميقاتا: أنه حد توقت به
الدنيا وتنتهي عنده، وقيل حد للخلائق ينتهون إليه (يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا) أي يوم ينفخ في الصور،
وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، والمراد هنا النفخة الثانية التي تكون للبعث (فتأتون) أي إلى موضع العرض
(أفواجا) أي زمرا زمرا، وجماعات جماعات، وهي جمع فوج، وانتصاب (يوم ينفخ) على أنه بدل من يوم
الفصل، أو بيان له مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله وإن كان الفصل متأخرا عن النفخ، ويجوز أن يكون منصوبا
بإضمار أعني، وانتصاب أفواجا على الحال من فاعل تأتون، والفاء في فتأتون فصيحة تدل على محذوف: أي
فتأتون إلى موضع العرض عقيب ذلك أفواجا (وفتحت السماء فكانت أبوابا) معطوف على ينفخ، وصيغة الماضي
للدلالة على تحقق الوقوع أي فتحت لنزول الملائكة (فكانت أبوابا) كما في قوله - ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل
الملائكة تنزيلا - وقيل معنى فتحت قطعت فصارت قطعا كالأبواب، وقيل أبوابها طرقها، وقيل تنحل وتتناثر
حتى تصير فيه أبواب، وقيل إن لكل عبد بابين في السماء: باب لرزقه وباب لعمله، فإذا قامت القيامة انفتحت
الأبواب، وظاهر قوله (فكانت أبوابا) أنها صارت كلها أبوابا، وليس المراد ذلك، بل المراد أنها صارت ذات
أبواب كثيرة. قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي فتحت مخففا. وقرأ الباقون بالتشديد (وسيرت الجبال فكانت سرابا)
أي سيرت عن أماكنها في الهواء، وقلعت عن مقارها، فكانت هباء منبثا يظن الناظر أنها سراب، والمعنى: أن
الجبال صارت كلا شئ كما أن السراب يظن الناظر أنه ماء، وليس بماء، وقيل معنى سيرت: أنها نسفت من
أصولها، ومثل هذا قوله - وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب - وقد ذكر سبحانه أحوال الجبال
بوجوه مختلفة، ولكن الجمع بينها أن نقول: أول أحوالها الاندتاك، وهو قوله - وحملت الأرض والجبال فدكتا
دكة واحدة - وثاني أحوالها أن تصير كالعهن المنفوش كما في قوله - وتكون الجبال كالعهن المنفوش - وثالث
أحوالها أن تصير كالهباء، وهو قوله - وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا - ورابع أحوالها أن تنسف وتحملها
الرياح كما في قوله - وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب - وخامس أحوالها أن تصير سرابا: أي
365

لا شئ كما في هذه الآية. ثم شرع سبحانه في تفصيل أحكام الفصل فقال (إن جهنم كانت مرصادا) قال
الأزهري: المرصاد المكان الذي يرصد الراصد فيه العدو. قال المبرد: مرصادا يرصدون به: أي هو معد لهم يرصد
به خزنتها الكفار. قال الحسن: إن على الباب رصدا لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليهم، فمن جاء بجواز جاز،
ومن لم يجئ بجواز حبس. وقال مقاتل: محبسا، وقيل طريقا وممرا. قال في الصحاح: الراصد للشئ الراقب له
يقال رصده يرصده رصدا، والرصد الترقب، والمرصد موضع الرصد. قال الأصمعي: رصدته أرصده ترقبته،
ومعنى الآية: أن جهنم كانت في حكم الله وقضائه موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها، أو
هي في نفسها متطلعة لمن يأتي إليها من الكفار كما يتطلع الرصد لمن يمر به ويأتي إليهم، والمرصاد مفعال من أبنية
المبالغة كالمعطار والمعمار، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار. ثم ذكر من هي مرصد له فقال (للطاغين مآبا)
أي مرجعا يرجعون إليه، والمآب المرجع، يقال آب يئوب: إذا رجع، والطاغي هو من طغى بالكفر،
وللطاغين نعت لمرصادا متعلق بمحذوف، ومآبا بدل من مرصادا، ويجوز أن يكون للطاغين في محل نصب على
الحال من مآبا قدمت عليه لكونه نكرة، وانتصاب (لابثين فيها) على الحال المقدرة من الضمير المستكن في
الطاغين. قرأ الجمهور " لابثين " بالألف. وقرأ حمزة والكسائي " لبثين " بدون ألف، وانتصاب (أحقابا) على
الظرفية: أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، وكلما مضى حقب جاء حقب، وهي جمع
حقب بضمتين، وهو الدهر، والأحقاب الدهور، والحقب بضم الحاء وسكون القاف، قيل هو ثمانون سنة،
وحكى الواحدي عن المفسرون أنه بضع وثمانون سنة، السنة ثلاثمائة وستون يوما، اليوم ألف سنة من أيام الدنيا.
وقيل الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب. وقال السدي:
الحقب سبعون سنة. وقال بشير بن كعب: ثلاثمائة سنة. وقال ابن عمر: أربعون سنة، وقيل ثلاثون ألف سنة.
قال الحسن: الأحقاب لا يدري أحدكم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حقب، والحقب الواحد منها سبعون ألف
سنة، اليوم منها كألف سنة. وقيل الآية محمولة على العصاة الذين يخرجون من النار، والأولى ما ذكرناه أولا من
أن المقصود بالآية التأبيد لا التقييد. وحكى الواحدي: عن الحسن أنه قال: والله ما هي إلا أنه إذا مضى حقب دخل
آخر، ثم آخر، ثم كذلك إلى الأبد، وجملة (لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا) مستأنفة لبيان ما اشتملت
عليه من أنهم لا يذوقون في جهنم أو في الأحقاب بردا ينفعهم من حرها ولا شرابا ينفعهم من عطشها إلا حميما، وهو
الماء الحار، وغساقا وهو صديد أهل النار. ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير الطاغين، أو
صفة للأحقاب، والاستثناء منقطع عند من جعل البرد النوم، ويجوز أن يكون متصلا من قوله (شرابا) وقال
مجاهد والسدي وأبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي: البرد المذكور في هذه الآية هو
النوم، ومنه قول الكندي:
بردت مراشفها على فصدني * عنها وعن تقبيلها البرد
أي النوم. قال الزجاج: أي لا يذوقون فيها برد ريح ولا ظل ولا نوم، فجعل البرد يشمل هذه الأمور. وقال
الحسن وعطاء وابن زيد: بردا: أي روحا وراحة. قرأ الجمهور " غساقا " بالتخفيف. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد
السين، وقد تقدم تفسيره وتفسير الحميم والخلاف فيهما في سورة ص (جزاء وفاقا) أي موافقا لأعمالهم، وجزاء
منتصب على المصدر، ووفاقا نعت له. قال الفراء والأخفش: جازيناهم جزاء وافق أعمالهم، قال الزجاج:
366

جوزوا جزاء وافق أعمالهم. قال الفراء: الوفاق جمع الوفق، والوفق والموافق واحد. قال مقاتل: وافق العذاب
الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك ولا عذاب أعظم من النار. وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة، فأتاهم
الله بما يسوؤهم (إنهم كانوا لا يرجون حسابا) أي لا يرجون ثواب حساب. قال الزجاج: كانوا لا يؤمنون
بالبعث فيرجون حسابهم، والجملة تعليل لاستحقاقهم الجزاء المذكور (وكذبوا بآياتنا كذابا) أي كذبوا بالآيات
القرآنية، أو كذبوا بما هو أعم منها تكذيبا شديدا، وفعال من مصادر التفعل. قال الفراء: هي لغة فصيحة يمانية،
تقول كذبت كذابا وخرقت القميص خراقا. قال في الصحاح: وكذبوا بآياتنا كذابا هو أحد مصادر المشدد
لأن مصدره قد يجئ على تفعيل مثل التكليم، وعلى فعال مثل كذاب، وعلى تفعلة مثل توصية، وعلى مفعل مثل
- ومزقناهم كل ممزق - قرأ الجمهور " كذابا " بالتشديد. وقرأ علي بن أبي طالب بالتخفيف. وقال أبو علي الفارسي
التخفيف والتشديد جميعا مصدر المكاذبة. وقرأ ابن عمر " كذابا " بضم الكاف والتشديد، جمع كاذب. قال أبو حاتم
ونصبه على الحال. قال الزمخشري: وقد يكون يعني على هذه القراءة بمعنى الواحد البليغ في الكذب، تقول:
رجل كذاب كقولك حسان وبخال (وكل شئ أحصيناه كتابا) قرأ الجمهور " وكل " بالنصب على الاشتغال:
أي وأحصينا كل شئ أحصيناه. وقرأ أبو السماك برفعه على الابتداء، وما بعده خبره، وهذه الجملة معترضة بين
السبب والمسبب، وانتصاب كتابا على المصدرية لأحصيناه لأن أحصيناه في معنى كتبناه، وقيل هو منتصب على
الحال: أي مكتوبا، قيل المراد كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة، وقيل أراد ما كتبه الحفظة على العباد من
أعمالهم، وقيل المراد به العلم لأن ما كتب كان أبعد من النسيان، والأول أولى لقوله - وكل شئ أحصيناه في إمام
مبين - (فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا) هذه الجملة مسببة عن كفرهم وتكذيبهم بالآيات. قال الرازي: هذه
الفاء للجزاء، فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم، ومن الزيادة في عذابهم أنها كلما
نضجت جلودهم بدلهم جلودا غيرها، وكلما خبت النار زادهم الله سعيرا.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس (عن النبأ العظيم) قال: القرآن: وهذا مروى عن جماعة من التابعين.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (وجعلنا سراجا وهاجا) قال: مضيئا (وأنزلنا من
المعصرات) قال: السحاب (ماء ثجاجا) قال: منصبا. وأخرج عبد بن حميد وأبو يعلي وابن جرير وابن المنذر
عنه أيضا (ثجاجا) قال: منصبا. وأخرج الشافعي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن
ابن مسعود في قوله (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا) قال: يبعث الله الريح، فتحمل الماء فيمر به السحاب،
فتدر كما تدر اللقحة، والثجاج ينزل من السماء أمثال العزالي فتصرفه الرياح فينزل متفرقا. وأخرج ابن جرير
وابن الأنباري في المصاحف عن قتادة قال: في قراءة ابن عباس (وأنزلنا من المعصرات) بالرياح. وأخرج ابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (وجنات ألفافا) قال: ملتفة. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال:
يقول: التفت بعضها ببعض. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله (وسيرت الجبال فكانت سرابا) قال: سراب
الشمس الآل. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (لابثين فيها أحقابا) قال: سنين. وأخرج عبد الرزاق والفريابي
وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن سالم بن أبي الجعد قال: سأل علي بن أبي طالب هلال الهجري
ما تجدون الحقب في كتاب الله؟ قال: نجده ثمانين سنة كل سنة منها اثنا عشر شهرا كل شهر ثلاثون يوما كل يوم
ألف سنة. وأخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال: الحقب الواحد ثمانون سنة،
367

وأخرج البزار عن أبي هريرة رفعه قال: الحقب ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، واليوم كألف سنة مما
تعدون. وأخرج عبد بن حميد عنه قال: الحقب ثمانون عاما اليوم منها كسدس الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم
والطبراني وابن مردويه. قال السيوطي: بسند ضعيف عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لابثين
فيها أحقابا) قال: الحقب ألف شهر، والشهر ثلاثون يوما، والسنة اثنا عشر شهرا ثلاثمائة وستون يوما كل يوم
منها ألف سنة مما تعدون، فالحقب ثلاثون ألف سنة. وأخرج البزار وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال: " والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقابا، والحقب بضع وثمانون
سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما، واليوم ألف سنة مما تعدون ". قال ابن عمر: فلا يتكلن أحد أنه يخرج من
النار. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عبد الله بن عمرو قال: الحقب الواحد ثمانون سنة. وأخرج ابن
جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " الحقب أربعون سنة " وأخرج ابن جرير عن خالد بن معدان في قوله (لابثين فيها أحقابا) وقوله - إلا ما شاء
ربك - إنهما في أهل التوحيد من أهل القبلة، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال:
زمهرير جهنم يكون لهم من العذاب، لأن الله يقول (لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا). وأخرج ابن مردويه عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " في قوله (لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما) قال: قد انتهى حرة
(وغساقا) قد انتهى حره، وإن الرجل إذا أدنى الإناء من فيه سقط فروة وجهه، حتى يبقى عظاما تقعقع ".
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (جزاء وفاقا) قال: وافق أعمالهم. وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله بن عمرو قال: ما أنزلت على أهل النار آية قط أشد منها (فذوقوا فلن
نزيدكم إلا عذابا) فهم في مزيد من عذاب الله ابدا.
سورة عم (31 - 40)
قوله (إن للمتقين مفازا) هذا شروع في بيان حال المؤمنين، وما أعد الله لهم من الخير بعد بيان حال
الكافرين وما أعد الله لهم من الشر، والمفاز مصدر. بمعنى الفوز والظفر بالنعمة والمطلوب والنجاة من النار، ومنه
قيل للفلاة مفازة تفاؤلا بالخلاص منها. ثم فسر سبحانه هذا المفاز فقال (حدائق وأعنابا) وانتصابهما على أنهما
بدل من مفازا بدل اشتمال، أو بدل كل من كل على طريق المبالغة بجعل نفس هذه الأشياء مفازة، ويجوز أن
يكون النصب بإضمار أعني، وإذا كان مفازا بمعنى الفوز، فيقدر مضاف محذوف: أي فوز حدائق، وهي
368

جمع حديقة: وهي البستان المحوط عليه، والأعناب جمع عنب: أي كروم أعناب (وكواعب أترابا) الكواعب
جمع كاعبة: وهي الناهدة، يقال: كعبت الجارية تكعب تكعيبا وكعوبا، ونهدت تنهد نهودا، والمراد أنهم نساء
كواعب تكعبت ثديهن وتفلكت: أي صارت ثديهن كالكعب في صدورهن. قال الضحاك: الكواعب
العذارى. قال قيس بن عاصم:
وكم من حصان قد حوينا كريمة * وكم كاعب لم تدر ما البؤس معصر
وقال عمر بن أبي ربيعة:
وكان مجنى دون ما كنت أتقى * ثلاث شخوص كاعبات ومعصر *
والأتراب: الأقران في السن، وقد تقدم تحقيقه في سورة البقرة (وكأسا دهاقا) أي ممتلئة. قال الحسن
وقتادة وابن زيد: أي مترعة مملوءة، يقال أدهقت الكأس: أي ملأتها، ومنه قول الشاعر:
ألا أسقني صرفا سقاك الساقي * من مائها بكأسك الدهاق
وقال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد (دهاقا) متتابعة يتبع بعضها بعضا. وقال زيد بن أسلم (دهاقا) صافية،
والمراد بالكأس الإناء المعروف، ولا يقال له الكأس إلا إذا كان فيه الشراب (لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا)
أي لا يسمعون في الجنة لغوا، وهو الباطل من الكلام، ولا كذابا: أي ولا يكذب بعضهم بعضا. قرأ الجمهور
" كذابا " بالتشديد، وقرأ الكسائي هنا بالتخفيف، ووافق الجماعة على التشديد في قوله " وكذبوا بآياتنا كذابا "
المتقدم في هذه السورة للتصريح بفعله هناك، وقد قدمنا الخلاف في كذابا هل هو من مصادر التفعيل أو من
مصادر المفاعلة؟ (جزاء من ربك) أي جازاهم بما تقدم ذكره جزاء. قال الزجاج: المعنى جزاهم جزاء، وكذا
(عطاء) أي وأعطاهم عطاء (حسابا) قال أبو عبيدة: كافيا. وقال ابن قتيبة: كثيرا، يقال أحسبت فلانا: أي
أكثرت له العطاء، ومنه قول الشاعر:
ونعطي وليد الحي إن كان جائعا * ونحسبه إن كان ليس بجائع
قال ابن قتيبة: أي نعطيه حتى يقول حسبي. قال الزجاج: حسابا: أي ما يكفيهم. قال الأخفش: يقال
أحسبني كذا: أي كفاني. قال الكلبي: حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشرا. وقال مجاهد: حسابا لما عملوه،
فالحساب بمعنى القدر: أي يقدر ما وجب له في وعد الرب سبحانه، فإنه وعد للحسنة عشرا، ووعد لقوم
سبعمائة ضعف، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار كقوله - إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب -
وقرأ أبو هاشم " حسابا " بفتح الحاء وتشديد السين: أي كفافا. قال الأصمعي: تقول العرب: حسبت الرجل
بالتشديد: إذا أكرمته، ومنه قول الشاعر: إذا أتاه ضيفه يحسبه * وقرأ ابن عباس " حسانا " بالنون
(رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن). قرأ ابن مسعود ونافع وأبو عمرو وابن كثير وزيد عن يعقوب والمفضل
عن عاصم برفع (رب) و (الرحمن) على أن رب مبتدأ والرحمن خبره أو على أن رب خبر مبتدإ مقدر: أي هو رب،
والرحمن صفته، و (لا يملكون) خبر رب، أو على أن رب مبتدأ، والرحمن مبتدأ ثان، ولا يملكون خبر المبتدأ
الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأول. وقرأ يعقوب في رواية عنه وابن عامر وعاصم في رواية عنه بخفضهما على أن
رب بدل من ربك، والرحمن صفة له. وقرأ ابن عباس وحمزة والكسائي بخفض الأول على البدل، ورفع الثاني على
أنه خبر مبتدإ محذوف: أي هو الرحمن، واختار هذه القراءة أبو عبيد وقال هذه القراءة أعدلها، فخفض رب لقربه
369

من ربك، فيكون نعتا له ورفع الرحمن لبعده منه على الاستئناف، وخبره (لا يملكون منه خطابا) أي لا يملكون أن
يسألوا إلا فيما أذن لهم فيه. وقال الكسائي: لا يملكون منه خطابا بالشفاعة إلا بإذنه، وقيل الخطاب الكلام: أي
لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه، دليله - لا تكلم نفس إلا بإذنه - وقيل أراد الكفار، وأما المؤمنون
فيشفعون. ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال على ما تقدم بيانه، ويجوز أن تكون مستأنفة
مقررة لما تفيده الربوبية من العظمة والكبرياء (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) الظرف منتصب بلا يتكلمون،
أو بلا يملكون، وصفا منتصب على الحال: أي مصطفين، أو على المصدرية: أي يصفون صفا، وقوله
(لا يتكلمون) في محل نصب على الحال، أو مستأنف لتقرير ما قبله.
واختلف في الروح، فقيل إنه ملك من الملائكة أعظم من السماوات السبع ومن الأرضين السبع ومن الجبال،
وقيل هو جبريل قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير. وقيل الروح جند من جنود الله ليسوا ملائكة قاله
أبو صالح ومجاهد، وقيل هم أشراف الملائكة قاله مقاتل بن حيان. وقيل هم حفظة على الملائكة قاله ابن
أبي نجيح. وقيل هم بنو آدم قاله الحسن وقتادة. وقيل هم أرواح بني آدم تقوم صفا وتقوم الملائكة صفا،
وذلك بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجسام قاله عطية العوفي. وقيل إنه القرآن قاله زيد بن أسلم. وقوله (إلا من
أذن له الرحمن) يجوز أن يكون بدلا من ضمير يتكلمون، وأن يكون منصوبا على أصل الاستثناء، والمعنى:
لا يشفعون لأحد إلا من أذن له الرحمن بالشفاعة، أو لا يتكلمون إلا في حق من أذن له الرحمن (و) كان ذلك
الشخص ممن (قالوا صوابا) قال الضحاك ومجاهد: صوابا يعني حقا. وقال أبو صالح: لا إله إلا الله. وأصل
الصواب السداد من القول والفعل. قيل لا يتكلمون: يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا هيبة وإجلالا إلا من
أذن له الرحمن منهم في الشفاعة، وهم قد قالوا صوابا. قال الحسن: إن الروح تقوم يوم القيامة لا يدخل أحد الجنة
إلا بالروح، ولا النار إلا بالعمل. قال الواحدي: فهم لا يتكلمون: يعني الخلق كلهم إلا من أذن له الرحمن وهم
المؤمنون والملائكة، وقال في الدنيا صوابا: أي شهد بالتوحيد، والإشارة بقوله (ذلك) إلى يوم قيامهم على تلك
الصفة، وهو مبتدأ وخبره (اليوم الحق) أي الكائن الواقع المتحقق (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) أي مرجعا يرجع
إليه بالعمل الصالح، لأنه إذا عمل خيرا قربه إلى الله، وإذا عمل شرا باعده منه، ومعنى (إلى ربه) إلى ثواب ربه
قال قتادة: مآبا: سبيلا. ثم زاد سبحانه في تخويف الكفار فقال (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) يعني العذاب في
الآخرة، وكل ما هو آت فهو قريب، ومثله قوله - كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها - كذا قال
الكلبي وغيره. وقال قتادة: هو عذاب الدنيا لأنه أقرب العذابين. قال مقاتل: هو قتل قريش ببدر، والأول
أولى لقوله (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه) فإن الظرف إما بدل من عذاب أو ظرف لمضمر هو صفة له: أي عذابا
كائنا (يوم ينظر المرء) أي يشاهد ما قدمه من خير أو شر، وما موصولة أو استفهامية. قال الحسن: والمرء هنا
هو المؤمن: أي يجد لنفسه عملا، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملا فيتمنى أن يكون ترابا، وقيل المراد به الكافر على
العموم، وقيل أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط، والأول أولى لقوله (ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا)
فإن الكافر واقع في مقابلة المرء، والمراد جنس الكافر يتمنى أن يكون ترابا لما يشاهده مما قد أعده الله له من
أنواع العذاب، والمعنى: أنه يتمنى أنه كان ترابا في الدنيا فلم يخلق، أو ترابا يوم القيامة. وقيل المراد بالكافر
أبو جهل، وقيل أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وقيل إبليس، والأول أولى اعتبارا بعموم اللفظ، ولا
ينافيه خصوص السبب كما تقدم غير مرة.
370

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله (إن للمتقين مفازا) قال:
متنزها (وكواعب) قال: نواهد (أترابا) قال: مستويات (وكأسا دهاقا) قال: ممتلئا. وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله
(وكأسا دهاقا) قال: هي الممتلئة المترعة المتتابعة، وربما سمعت العباس يقول: يا غلام أسقنا وادهق لنا. وأخرج
عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه دهاقا. قال دراكا. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا قال: إذا كان فيها
خمر فهي كأس، وإذا لم يكن فيها خمر فليس بكأس. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه
عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل "
ثم قرأ (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) قال: هؤلاء جند وهؤلاء جند. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس (يوم يقوم الروح) قال: هو ملك من أعظم
الملائكة خلقا. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: " الروح في السماء الرابعة وهو أعظم من السماوات والجبال
ومن الملائكة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكا من الملائكة يجئ يوم القيامة
صفا واحدا ". وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال " إن جبريل يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار ترعد فرائصه فرقا
من عذاب الله، يقول: سبحانك لا إله إلا أنت ما عبدناك حق عبادتك، ما بين منكبيه كما بين المشرق والمغرب،
أما سمعت قول الله (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) ". وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله (يوم
يقوم الروح) قال: يعني حين تقوم أرواح الناس مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد الروح إلى الأجساد:
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضا (وقال صوابا) قال: لا إله إلا الله.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث والنشور عن أبي هريرة قال: يحشر
الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شئ، فيبلغ من عذاب الله أن يؤخذ للجماء من القرناء، ثم
يقول: كوني ترابا، فذلك حين يقول الكافر (يا ليتني كنت ترابا).
تفسير سورة النازعات
وتسمى سورة الساهرة، هي خمس وأربعون آية، وقيل ست وأربعون آية
وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت
سورة النازعات بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
سورة النازعات (1 - 26)
371

أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها، وهي الملائكة التي تنزع أرواح العباد عن أجسادهم كما ينزع النازع
في القوس فيبلغ بها غاية المد، وكذا المراد بالناشطات والسابحات والسابقات والمدبرات: يعني الملائكة، والعطف
مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، كما في قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزحم
وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقال السدي (النازعات) هي النفوس حين تغرق
في الصدور. وقال مجاهد: هي الموت ينزع النفس. وقال قتادة: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، من قوهم:
نزع إليه إذا ذهب، أو من قولهم نزعت بالحبل: أي إنها تغرب وتغيب وتطلع من أفق آخر. وبه قال أبو عبيدة
والأخفش وابن كيسان. وقال عطاء وعكرمة: النازعات القسي تنزع بالسهام وإغراق النازع في القوس أن يمده
غاية المد حتى ينتهى به إلى النصل. وقال يحيى بن سلام: تنزع بين الكلأ وتنفر، وقيل أراد بالنازعات الغزاة
الرماة، وانتصاب (غرقا) على أنه مصدر بحذف الزوائد: أي إغراقا، والناصب له ما قبله لملاقاته له في المعنى:
أي إغراقا في النزع حيث تنزعها من أقاصي الأجساد، أو على الحال: أي ذوات إغراق، يقال أغرق في الشئ
يغرق فيه: إذا أوغل فيه وبلغ غايته (و) معنى (الناشطات) أنها تنشط النفوس: أي تخرجها من الأجساد كما
ينشط العقال من يد البعير: إذا حل عنه، ونشط الرجل الدلو من البئر: إذا أخرجها، والنشاط الجذب بسرعة،
ومنه الأنشوطة للعقدة التي يسهل حلها. قال أبو زيد: نشطت الحبل أنشطه بين نشطا عقدته، وأنشطته: أي حللته،
وأنشطت الحبل: أي مددته. قال الفراء: أنشط العقال: أي حل ونشط: أي ربط الحبل في يديه. قال
الأصمعي: بئر أنشاط: أي قريبة القعر يخرج الدلو منها بجذبة واحدة، وبئر نشوط، وهي التي لا يخرج منها
الدلو حتى ينشط كثيرا. وقال مجاهد: هو الموت ينشط نفس الإنسان. وقال السدي: هي النفوس حين تنشط
من القدمين. وقال عكرمة وعطاء: هي الأوهاق التي تنشط السهام، وقال قتادة والحسن والأخفش: هي
النجوم تنشط من أفق إلى أفق: أي تذهب. قال في الصحاح: والناشطات نشطا: يعني النجوم من برج إلى برج
كالثور الناشط من بلد إلى بلد، والهموم تنشط بصاحبها. وقال أبو عبيدة وقتادة: هي الوحوش حين تنشط من
بلد إلى بلد. وقيل الناشطات لأرواح المؤمنين، والنازعات لأرواح الكافرين، لأنها تجذب روح المؤمن برفق
وتجذب روح الكافر بعنف، وقوله (نشطا) مصدر، وكذا سبحا وسبقا (والسابحات) الملائكة تسبح في الأبدان
لإخراج الروح كما يسبح الغواص في البحر لإخراج شئ منه. وقال مجاهد وأبو صالح: هي الملائكة ينزلون من
372

السماء مسرعين لأمر الله، كما يقال للفرس الجواد سابح إذا أسرع في جريه. وقال مجاهد أيضا: السابحات الموت
يسبح في نفوس بني آدم. وقيل هي الخيل السابحة في الغزو، ومنه قول عنترة:
والخيل تعلم حين تسبح * في حياض الموت سبحا
وقال قتادة والحسن: هي النجوم تسبح في أفلاكها كما في قوله - وكل في فلك يسبحون - وقال عطاء،
هي السفن تسبح في الماء، وقيل هي أرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى الله (فالسابقات سبقا) هم الملائكة على قول
الجمهور كما سلف. قال مسروق ومجاهد: تسبق الملائكة الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، وقال أبو روق هي
الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح، وروى نحوه عن مجاهد. وقال مقاتل: هي الملائكة تسبق بأرواح
المؤمنين إلى الجنة. وقال الربيع: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقا إلى الله. وقال مجاهد أيضا: هو
الموت يسبق الإنسان. وقال قتادة والحسن ومعمر: هي النجوم يسبق بعضها في السير بعضا. وقال عطاء: هي
الخيل التي تسبق إلى الجهاد. وقيل هي الأرواح التي تسبق الأجساد إلى الجنة أو النار. قال الجرجاني: عطف
السابقات بالفاء، لأنها مسببة من التي قبلها: أي واللاتي يسبحن فيسبقن، تقول قام فذهب، فهذا يوجب أن
يكون القيام سببا للذهاب، ولو قلت قام وذهب بالواو لم يكن القيام سببا للذهاب. قال الواحدي: وهذا غير
مطرد في قوله (فالمدبرات أمرا) لأنه يبعد أن يجعل السبق سببا للتدبير. قال الرازي: ويمكن الجواب عما قاله
الواحدي: بأنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيره، فتكون هذه أفعالا يتصل بعضها ببعض كقوله:
قام زيد فذهب، ولما سبقوا في الطاعات وسارعوا إليها ظهرت أمانتهم ففوض إليهم التدبير. ويجاب عنه بأن
السبق لا يكون سببا للتدبير كسببية السبح للسبق والقيام للذهاب، ومجرد الاتصال لا يوجب السببية والمسببية،
والأولى أن يقال العطف بالفاء في المدبرات طوبق به ما قبله من عطف السابقات بالفاء، ولا يحتاج إلى نكته كما
احتاج إليها ما قبله لأن النكتة إنما تطلب لمخالفة اللاحق للسابق لا لمطابقته وموافقته (فالمدبرات أمرا) قال القشيري:
أجمعوا على أن المراد هنا الملائكة. وقال الماوردي: فيه قولان: أحدهما الملائكة وهو قول الجمهور. والثاني أنها
الكواكب السبع، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. وفي تدبيرها الأمر وجهان: أحدهما تدبر طلوعها
وأفولها. الثاني تدبر ما قضاه الله فيها من الأحوال. ومعنى تدبير الملائكة للأمر نزولها بالحلال والحرام وتفصيلهما
والفاعل للتدبير في الحقيقة وإن كان هو الله عز وجل، لكن لما نزلت الملائكة به وصفت به. وقيل إن الملائكة
لما أمرت بتدبير أهل الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك قيل لها مدبرات. قال عبد الرحمن بن ساباط: تدبير
أمر الدنيا إلا أربعة من الملائكة: جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود،
وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات، وأما عزرائيل فموكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم
وجواب القسم بهذه الأمور التي أقسم الله بها محذوف: أي والنازعات، وكذا وكذا لتبعثن. قال الفراء:
وحذف لمعرفة السامعين به، ويدل عليه قوله (إذا كنا عظاما نخرة) وقيل إن جواب القسم قوله (إن في ذلك لعبرة
لمن يخشى) أي إن في يوم القيامة وذكر موسى وفرعون لعبرة لمن يخشى. قال ابن الأنباري: وهذا قبيح، لأن
الكلام قد طال بينهما، وقيل جواب القسم (هل أتاك حديث موسى) لأن المعنى: قد أتاك، وهذا ضعيف جدا،
وقيل الجواب (يوم ترجف الراجفة) على تقدير ليوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة. وقال السجستاني: يجوز أن
يكون هذا من التقديم والتأخير، كأنه قال: فإذا هم بالساهرة والنازعات. قال ابن الأنباري: وهذا خطأ لأن
الفاء لا يفتتح بها الكلام، والأول أولى (يوم ترجف الراجفة) انتصاب هذا الظرف بالجواب المقدر للقسم، أو
373

بإضمار أذكر، والراجفة المضطربة، يقال رجف يرجف: إذا اضطرب، والمراد هنا الصيحة العظيمة التي فيها
تردد واضطراب كالرعد، وهي النفخة الأولى التي يموت بها جميع الخلائق، والرادفة: النفخة الثانية التي تكون
عند البعث، وسميت رادفة لأنها ردفت النفخة الأولى، كذا قال جمهور المفسرين. وقال ابن زيد: الراجفة
الأرض، والرادفة الساعة. وقال مجاهد: الرادفة الزلزلة تتبعها الرادفة الصيحة، وقيل الراجفة اضطراب الأرض
والرادفة الزلزلة، وأصل الرجفة الحركة، وليس المراد التحرك هنا فقط، بل الراجفة هنا مأخوذة من قولهم:
رجف الرعد يرجف رجفا ورجيفا: إذا ظهر صوته، ومنه سميت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها وظهور
الأصوات فيها، ومنه قول الشاعر:
أبا لأراجيف يا ابن اللؤم توعدني * وفي الأراجيف خلت اللؤوم والخورا
لأنه ومحل (تتبعها الرادفة) النصب على الحال من الراجفة، والمعنى: لتبعثن يوم النفخة الأولى حال كون النفخة
الثانية تابعة لها (قلوب يومئذ واجفة) قلوب مبتدأ، ويومئذ منصوب بواجفة، وواجفة صفة قلوب، وجملة
(أبصارها خاشعة) خبر قلوب والراجفة المضطربة القلقة لما عاينت من أهوال يوم القيامة. قال جمهور المفسرين: أي
خائفة وجلة. وقال السدي: زائلة عن أماكنها، نظيره - إذ القلوب لدى الحناجر - وقال المؤرج: قلقة مستوفرة.
وقال المبرد: مضطربة، يقال وجف القلب يجف وجيفا: إذا خفق كما يقال وجب يجب وجيبا، والإيجاف:
السير السريع، فأصل الوجيف اضطراب القلب، ومنه قول قيس بن الخطيم:
إن بنى جحجبى وقومهم * أكبادنا من ورائهم تجف *
أبصارها خاشعة: أي أبصار أصحابها، فحذف المضاف، والخاشعة الذليلة، والمراد أنها تظهر عليهم الذلة
والخضوع عند معاينة أهوال يوم القيامة كقوله - خاشعين من الذل - قال عطاء: يريد أبصار من مات على
غير الإسلام، ويدل على هذا أن السياق في منكري البعث (يقولون ءإنا لمردودون في الحافرة) هذا حكاية لما
يقوله المنكرون للبعث إذا قيل لهم إنكم تبعثون: أي أنرد إلى أول حالنا وابتداء أمرنا فنصير أحياء بعد موتنا، يقال
رجع فلان في حافرته: أي رجع من حيث جاء، والحافرة عند العرب اسم لأول الشئ وابتداء الأمر، ومنه
قولهم رجع فلان على حافرته: أي على الطريق الذي جاء منه، ويقال اقتتل القوم عند الحافرة: أي عند أول ما التقوا
وسميت الطريق التي جاء منها حافرة لتأثيره فيها بمشيه فيها فهي حافرة بمعنى محفورة، ومن هذا قول الشاعر:
أحافرة على صلع وشيب * معاذ الله من سفه وعار
أي أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل بعد الشيب والصلع، وقيل الحافرة: العاجلة، والمعنى: إنا
لمردودون إلى الدنيا، وقيل الحافرة: الأرض التي تحفر فيها قبورهم، ومنه قول الشاعر:
آليت لا أنساكم فاعلموا * حتى يرد الناس في الحافره
والمعنى: إنا لمردودون في قبورنا أحياء، كذا قال الخليل والفراء، وبه قال مجاهد: وقال ابن زيد: الحافرة
النار، واستدل بقوله (تلك إذا كرة خاسرة). قرأ الجمهور " في الحافرة " وقرأ أبو حيوة " في الحفرة " (إذا كنا
عظاما نخرة) أي بالية متفتتة، يقال نخر العظم بالكسر: إذا بلى، وهذا تأكيد لإنكار البعث: أي كيف نرد
أحياء ونبعث إذا كنا عظاما نخرة، والعامل في إذا مضمر يدل عليه مردودون: أي أئذا كنا عظاما بالية نرد
ونبعث مع كونها أبعد شئ من الحياة. قرأ الجمهور " نخرة " وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر " ناخرة " واختار القراءة
374

الأولى الأول أبو عبيد وأبو حاتم، واختار القراءة الثانية الفراء وابن جرير وأبو معاذ النحوي. قال أبو عمرو بن العلاء:
الناخرة التي لم تنخر بعد: أي لم تبل ولا بد أن تنخر. وقيل هما بمعنى، تقول العرب: نخر الشئ فهو ناخر
ونخر، وطمع فهو طامع وطمع ونحو ذلك. قال الأخفش: هما جميعا لغتان أيهما قرأت فحسن. قال الشاعر:
يظل بها الشيخ الذي كان بادنا * يدب على عوج له نخرات
يعني على قوائم عوج، وقيل الناخرة التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها، والنخرة التي فسدت كلها. وقال
مجاهد نخرة: أي مرفوتة كما في قوله - رفاتا -، وقد قرئ " إذا كنا " و " أئذا كنا " بالاستفهام وبعدمه. ثم ذكر
سبحانه عنهم قولا آخر قالوه فقال (قالوا تلك إذا كرة خاسرة) أي رجعة ذات خسران لما يقع على أصحابها من
الخسران، والمعنى: أنهم قالوا إنا رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت مما يقوله محمد. وقيل معنى
خاسرة كاذبة: أي ليست بكائنة، كذا قال الحسن وغيره. وقال الربيع بن أنس: خاسرة على من كذب بها.
وقال قتادة ومحمد بن كعب: أي لئن رجعنا بعد الموت لنخسرن بالنار، وإنما قالوا هذا لأنهم أو عدوا بالنار،
والكرة الرجعة، والجمع كرات. وقوله (فإنما هي زجرة واحدة) تعليل لما يدل عليه ما تقدم من استبعادهم
لبعث العظام النخرة وإحياء الأموات، والمعنى: لا تستبعدوا ذلك فإنما هو زجرة واحدة، وكان ذلك الإحياء
والبعث، والمراد بالزجرة الصيحة وهي النفخة الثانية التي يكون البعث بها. وقيل إن الضمير في قوله " إنما هي،
راجع إلى الرادفة المتقدم ذكرها (فإذا هم بالساهرة) أي فإذا الخلائق الذين قد ماتوا ودفنوا أحياء على وجه الأرض،
قال الواحدي: المراد بالساهرة وجه الأرض، وظاهرها في قول الجميع. قال الفراء: سميت بهذا الاسم لأن فيها
نوم الحيوان وسهرهم، وقيل لأنه يسهر في فلاتها خوفا منها، فسميت بذلك، ومنه قول أبي كثير الهذلي:
يردون ساهرة كأن حميمها * وغميمها أسداف ليل مظلم
وقول أمية بن أبي الصلت:
وفيها لحم ساهرة وبحر * وما فاهوا به لهم مقيم
يريد لحم حيوان أرض ساهرة. قال في الصحاح: الساهرة وجه الأرض، ومنه قوله (فإذا هم بالساهرة).
وقال: الساهرة أرض بيضاء، وقيل أرض من فضة لم يعص الله سبحانه فيها، وقيل الساهرة الأرض السابعة يأتي
بها الله سبحانه فيحاسب عليها الخلائق. وقال سفيان الثوري: الساهرة أرض الشام. وقال قتادة: هي جهنم: أي
فإذا هؤلاء الكفار في جهنم، وإنما قيل لها ساهرة لأنهم لا ينامون فيها لاستمرار عذابهم، وجملة (هل أتاك حديث
موسى) مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تكذيب قومه وأنه يصيبهم مثل ما أصاب
من كان قبلهم ممن هو أقوى منهم، ومعنى هل أتاك: قد جاءك وبلغك، هذا على تقدير أن قد سمع من
قصص فرعون وموسى ما يعرف به حديثهما، وعلى تقدير أن هذا أول ما نزل عليه في شأنهما فيكون المعنى على
الاستفهام: أي هل أتاك حديثه أنا أخبرك به (إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى) الظرف متعلق بحديث لا بأتاك
الاختلاف وقتيهما، وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية، وقد تقدم لاختلاف بين
القراء في طوى في سورة طه. والواد المقدس: المبارك المطهر. قال الفراء طوى واد بين المدينة ومصر. قال:
وهو معدل من طاو كما عدل عمر من عامر. قال: والصرف أحب إلى إذ لم أجد في المعدول نظيرا له. وقيل
طوى معناه يا رجل بالعبرانية، فكأنه قيل يا رجل اذهب، وقيل المعنى: إن الوادي المقدس بورك فيه مرتين،
والأول أولى، وقد مضى تحقيق القول فيه (اذهب إلى فرعون إنه طغى) قيل هو على تقدير القول، وقيل هو
375

تفسير للنداء: أي ناداه نداء هو قوله اذهب، وقيل هو على حذف أن المفسرة، ويؤيده قراءة ابن مسعود،
اذهب، لأن في النداء معنى القول، وجملة (إنه طغى) تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال: أي جاوز الحد في
العصيان والتكبر والكفر بالله (فقل) له (هل لك إلي أن تزكى) أي قوله بعد وصولك إليه هل لك رغبة إلى التزكي
وهو التطهر من الشرك، وأصله تتزكى فحذفت إحدى التاءين. قرأ الجمهور " تزكى " بالتخفيف. وقرأ نافع
وابن كثير بتشديد الزاي على إدغام التاء في الزاي. قال أبو عمرو بن العلاء معنى قراءة التخفيف تكون زكيا مؤمنا
ومعنى قراءة التشديد الصدقة، وفي الكلام مبتدأ مقدر يتعلق به إلى، والتقدير: هل لك رغبة أو هل لك توجه
أو هل لك سبيل إلى التزكي، ومثل هذا قولهم هل لك في الخير؟ يريدون هل لك رغبة في الخير، ومن هذا
قول الشاعر: فهل لكم فيها إلى فإنني * بصير بما أعيا النطاسي جذيما
(وأهديك إلى ربك فتخشى) أي أرشدك إلى عبادته وتوحيده فتخشى عقابه، والفاء لترتيب الخشية على
الهداية، لأن الخشية لا تكون إلا من مهتد راشد (فأراه الآية الكبرى) هذه الفاء هي الفصيحة لإفصاحها عن
كلام محذوف، يعني فذهب فقال له ما قال مما حكاه الله في غير موضع، وأجاب عليه بما أجاب إلى أن قال - إن
كنت جئت بآية فأت بها - فعند ذلك أراه الآية الكبرى.
واختلف في الآية الكبرى ما هي؟ فقيل العصا، وقيل يده، وقيل فلق البحر، وقيل هي جميع ما جاء به من
الآيات التسع (فكذب وعصى) أي فلما أراه الآية الكبرى كذب بموسى وبما جاء به وعصى الله عز وجل فلم
يطعه (ثم أدبر) أي تولى وأعرض عن الإيمان (يسعى) أي يعمل بالفساد في الأرض ويجتهد في معارضة ما جاء
به موسى، وقيل أدبر هاربا من الحية يسعى خوفا منها. وقال الرازي: معنى (أدبر يسعى) أقبل يسعى، كما يقال
أقبل يفعل كذا: أي أنشأ يفعل كذا، فوضع أدبر موضع أقبل لئلا يوصف بالاقبال (فحشر) أي فجمع
جنوده للقتال والمحاربة، أو جمع السحرة للمعارضة، أو جمع الناس للحضور ليشاهدوا ما يقع، أو جمعهم ليمنعوه
من الحية (فنادى فقال أنا ربكم الأعلى) أي قال لهم بصوت عال، أو أمر من ينادى بهذا القول. ومعنى (أنا
ربكم الأعلى) أنه لا رب فوقي. قال عطاء: كان صنع لهم أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها وقال: أنا رب أصنامكم
وقيل أراد بكونه ربهم أنه قائدهم وسائدهم. والأول أولى لقوله في آية أخرى - ما علمت لكم من إله غيري -
(فأخذه الله نكال الآخرة والأولى) النكال نعت مصدر محذوف: أي أخذه أخذة نكال، أو هو مصدر لفعل
محذوف: أي أخذه الله فنكله نكال الآخرة والأولى، أو مصدر مؤكد لمضمون الجملة، والمراد بنكال الآخرة
عذاب النار ونكال الأولى عذاب الدنيا بالغرق. وقال مجاهد: عذاب أول عمره وآخره. وقال قتادة: الآخرة قوله
" أنا ربكم الأعلى " والأولى تكذيبه لموسى. وقيل الآخرة قوله " أنا ربكم الأعلى " والأولى قوله - ما علمت لكم من
إله غيري - وكان بين الكلمتين أربعون سنة، ويجوز أن يكون انتصاب نكال على أنه مفعول له: أي أخذه الله
لأجل نكال، ويجوز أن ينتصب بنزع الخافض: أي بنكال. ورجح الزجاج أنه مصدر مؤكد، قال: لأن
معنى أخذه الله: نكل الله به، فأخرج من معناه لا من لفظه. وقال الفراء: أي أخذه الله أخذا نكالا: أي للنكال
والنكال اسم لما جعل نكالا للغير: أي عقوبة له، يقال نكل فلان بفلان: إذا عاقبه، وأصل الكلمة من
الامتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل القيد (إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) أي فيما ذكر من قصة فرعون وما
فعل به عبرة عظيمة لمن شأنه أن يخشى الله ويتقيه، ويخاف عقوبته ويحاذر غضبه.
376

وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي بن أبي طالب في قوله (والنازعات غرقا) قال: هي
الملائكة تنزع روح الكفار (والناشطات نشطا) قال: هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى
تخرجها (والسابحات سبحا) هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والأرض (فالسابقات سبقا) هي الملائكة
يسبق بعضها بعضا بأرواح المؤمنين إلى الله (فالمدبرات أمرا) هي الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة. وأخرج
ابن أبي حاتم عن ابن عباس (والنازعات غرقا) قال: هي أنفس الكفار تنزع ثم تنشط ثم تغرق في النار. وأخرج
الحاكم وصححه عنه (والنازعات غرقا والناشطات نشطا) قال: الموت. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن
مسعود (والنازعات غرقا) قال: الملائكة الذين يلون أنفس الكفار إلى قوله (والسابحات سبحا) قال: الملائكة.
وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا تمزق الناس فتمزقك
كلاب النار، قال الله: (والناشطات نشطا) أتدري ما هو؟ قلت: يا نبي الله ما هو؟ قال: كلاب في النار
تنشط اللحم والعظم ". وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أن ابن الكواء سأله عن (المدبرات أمرا) قال:
هي الملائكة يدبرون ذكر الرحمن وأمره. وأخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت عن ابن عباس قال (المدبرات أمرا)
ملائكة يكونون مع ملك الموت يحضرون الموتى عند قبض أرواحهم، فمنهم من يعرج بالروح، ومنهم من يؤمن
على الدعاء، ومنهم من يستغفر للميت حتى يصلي عليه ويدلي في حفرته. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عنه (يوم ترجف الراجفة) قال: النفخة الأولى (تتبعها الرادفة) قال: النفخة الثانية (قلوب يومئذ واجفة)
قال: خائفة (أئنا لمردودون في الحافرة) قال: الحياة. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن المنذر
والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي كعب قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
إذا ذهب ربع الليل قام فقال: أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه ". وأخرج
أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ترجف الأرض
رجفا وتزلزل بأهلها وهي التي يقول الله (يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة) يقول: مثل السفينة في البحر تكفأ
بأهلها مثل القنديل المعلق بأرجائه ". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (قلوب يومئذ واجفة) قال: وجلة متحركة.
وأخرج عبد بن حميد عنه (أئنا لمردودون في الحافرة) قال: خلقا جديدا. وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن
الأنباري في الوقف والابتداء وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا أنه سئل عن قوله (فإذا هم
بالساهرة) فقال: الساهرة وجه الأرض، وفي لفظ قال: الأرض كلها ساهرة، ألا ترى قول الشاعر:
صيد بحر وصيد ساهرة. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضا (هل لك إلى أن تزكى) قال:
هل لك أن تقول: لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (فأخذه الله نكال الآخرة) قال: قوله (أنا ربكم
الأعلى) والأولى قال: قوله (ما علمت لكم من إله غيري). وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عبد الله بن
عمرو قال: كان بين كلمتيه أربعون سنة.
سورة النازعات (27 - 46)
377

قوله (أأنتم أشد خلقا أم السماء) أي أخلقكم بعد الموت وبعثكم أشد عندكم وفي تقديركم أم خلق السماء،
والخطاب لكفار مكة، والمقصود به التوبيخ لهم والتبكيت، لأن من قدر على خلق السماء التي لها هذا الجرم العظيم
وفيها من عجائب الصنع وبدائع القدرة ما هو بين للناظرين كيف يعجز عن إعادة الأجسام التي أماتها بعد أن خلقها
أول مرة؟ ومثل هذا قوله سبحانه - لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس - وقوله - أو ليس الذي خلق
السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم - ثم بين سبحانه كيفية خلق السماء فقال (بناها رفع سمكها فسواها)
أي جعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض، ورفع سمكها: أي أعلاه في الهواء، فقوله (رفع سمكها) بيان للبناء،
يقال سمكت الشئ: أي رفعته في الهواء وسمك الشئ سموكا: ارتفع. قال الفراء كل شئ حمل شيئا من البناء
يقال سمكت الشئ: أي رفعته في الهواء وسمك الشئ سموكا: ارتفع. قال الفراء كل شئ حمل شيئا من البناء
أو غيره فهو سمك، وبناء مسموك وسنام سامك: أي عال، والسموكات: السماوات: ومنه قول الفرزدق:
وبناء ذو سنام سامك:
إن الذي سمك السماء بنى لنا * بيتا دعائمه أعز وأطول
قال البغوي: رفع سمكها: أي سقفها. قال الكسائي والفراء والزجاج: ثم الكلام عند قوله (أم السماء بناها)
لأنه من صلة السماء، والتقدير: أم السماء التي بناها، فحذف التي، ومثل هذا الحذف جائز. ومعنى (فسواها)
فجعلها مستوية الخلق معدلة الشكل لا تفاوت فيها ولا اعوجاج ولا فطور ولا شقوق (وأغطش ليلها) الغطش
الظلمة: أي جعله مظلما، يقال غطش الليل وأغطشه الله، كما يقال أظلم الليل وأظلمه الله، ورجل أغطش
وامرأة غطشى لا يهتديان. قال الراغب: وأصله من الأغطش، وهو الذي في عينه عمش، ومنه فلاة غطشى
لا يهتدي فيها، والتغاطش التعامي. قال الأعشى:
ودهماء بالليل غطشى الفلاة * يؤنسني صوت قيادها
وقوله: وغامرهم مدلهم غطش يعني غمرهم سواد الليل، وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل
يكون بغروب الشمس والشمس مضافة إلى السماء (وأخرج ضحاها) أي أبرز نهارها المضئ بإضاءة الشمس،
وعبر عن النهار بالضحى، لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، وأضافه إلى السماء لأنه يظهر بظهور الشمس، وهي منسوبة
إلى السماء (والأرض بعد ذلك دحاها) أي بعد خلق السماء، ومعنى دحاها بسطها، وهذا يدل على أن خلق الأرض
بعد خلق السماء، ولا معارضة بين هذه الآية وبين ما تقدم في سورة فصلت من قوله - ثم استوى إلى السماء - بل
الجمع بأنه سبحانه خلق الأرض أولا غير مدحوة ثم خلق السماء ثم دحا الأرض، وقد قدمنا الكلام على هذا
مستوفى هنالك، وقدمنا أيضا بحثا في هذا في أول سورة البقرة عند قوله - هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا -
378

وذكر بعض أهل العلم أن بعد بمعنى مع كما في قوله - عتل بعد ذلك زنيم -، وقيل بعد بمعنى قبل كقوله - ولقد
كتبنا في الزبور من بعد الذكر - أي من قبل الذكر، والجمع الذي ذكرناه أولى، وهو قول ابن عباس وغير
واحد، واختاره ابن جرير. يقال دحوت الشئ أدحوه: إذا بسطته، ويقال لعش النعامة أدحى لأنه مبسوط
على الأرض، وأنشد المبرد:
دحاها فلما رآها استوت * على الماء أرسى عليها الجبالا
وقال أمية بن أبي الصلت:
وبث الخلق فيها إذ دحاها * فهم قطانها حتى التنادي
وقال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها * بأيد وأرسى عليها الجبالا
قرأ الجمهور بنصب الأرض على الاشتغال، وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو السماك
وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء (أخرج منها ماءها ومرعاها) أي فجر من الأرض الأنهار
والبحار والعيون " وأخرج منها مرعاها ": أي النبات الذي يرعى، ومرعاها مصدر ميمي: أي رعيها، وهو في
الأصل موضع الرعي، والجملة إما بيان وتفسير لدحاها، لأن السكنى لا تتأتي بمجرد البسط بل لا بد من تسوية
أمر المعاش من المأكل والمشرب. وإما في محل نصب على الحال (والجبال أرساها) أي أثبتها في الأرض وجعلها
كالأوتاد للأرض لتثبت وتستقر وأن لا تميد بأهلها. قرأ الجمهور بنصب الجبال على الاشتغال. وقرأ الحسن وعمرو
ابن ميمون وأبو حيوة وأبو السماك وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء، قيل ولعل وجه تقديم
ذكر إخراج الماء والمرعى على إرساء الجبال مع تقدم الإرساء عليه للاهتمام بأمر المأكل والمشرب (متاعا لكم
ولأنعامكم) أي منفعة لكم ولأنعامكم من البقر والإبل والغنم، وانتصاب متاعا على المصدرية: أي متعكم بذلك
متاعا، أو هو مصدر من غير لفظه، لأن قوله (أخرج منها ماءها ومرعاها) بمعنى متع بذلك، أو على أنه مفعول
له: أي فعل ذلك لأجل التمتيع، وإنما قال " لكم ولأنعامكم " لأن فائدة ما ذكر من الدحو وإخراج الماء والمرعى
كائنة لهم ولأنعامهم، والمرعى يعم ما يأكله الناس والدواب (فإذا جاءت الطامة الكبرى) أي الداهية للعظمى
التي تطم على سائر الطامات. قال الحسن وغيره: وهي النفخة الثانية. وقال الضحاك وغيره: هي القيامة سميت
بذلك لأنها تطم على كل شئ لعظم هولها. قال المبرد: الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع، وإنما أخذت
فيما أحسب من قولهم: طم الفرس طميما: إذا استفرغ جهده في الجري، وطم الماء: إذا ملأ النهر كله. وقال
غيره: هو من طم السيل الركية: أي دفنها، والطم الدفن. قال مجاهد وغيره: الطامة الكبرى هي التي تسلم أهل
الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها، وجواب إذا قيل هو قوله - فأما
من طغى - وقيل محذوف: أي فإن الأمر كذلك، أو عاينوا، أو علموا أو أدخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة.
وقال أبو البقاء: العامل فيها جوابها، وهو معنى " يومئذ يتذكر الإنسان " فإنه منصوب بفعل مضمر: أي أعني
يوم يتذكر، أو يوم يتذكر يكون كيت وكيت. وقيل إن الظرف بدل من إذا، وقيل هو بدل من الطامة الكبرى،
ومعنى تذكر الإنسان ما سعى: أنه يتذكر ما عمله من خير أو شر، لأنه يشاهده مدونا في صحائف عمله، وما
379

مصدرية، أو موصولة (وبرزت الجحيم لمن يرى) معطوف على جاءت، ومعنى برزت: أظهرت إظهارا
لا يخفى على أحد. قال مقاتل: يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق، وقيل (لمن يرى) من الكفار، لا من
المؤمنين، والظاهر أن تبرز لكل راء، فأما المؤمن فيعرف برؤيتها قدر نعمة الله عليه بالسلامة منها، وأما الكافر
فيزداد غما إلى غمه وحسرة إلى حسرته. قرأ الجمهور " لمن يرى " بالتحتية، وقرأت عائشة ومالك بن دينار وعكرمة
وزيد بن علي بالفوقية: أي لمن تراه الجحيم، أو لمن تراه أنت يا محمد. وقرأ ابن مسعود " لمن رأى " على صيغة
الفعل الماضي (فأما من طغى) أي جاوز الحد في الكفر والمعاصي (وآثر الحياة الدنيا) أي قدمها عن الآخرة ولم
يستعد لها ولا عمل عملها (فإن الجحيم هي المأوى) أي مأواه، والألف واللام عوض عن المضاف إليه، والمعنى:
أنها منزله الذي ينزله ومأواه الذي يأوي إليه لا غيرها. ثم ذكر القسم الثاني من القسمين فقال (وأما من خاف مقام
ربه) أي حذر مقامه بين يدي ربه يوم القيامة. قال الربيع: مقامه يوم الحساب. قال قتادة: يقول إن لله عز وجل
مقاما قد خافه المؤمنون. وقال مجاهد: هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب فيقلع عنه، نظيره
قوله - ولمن خاف مقام ربه جنتان - والأول أولى (ونهى النفس عن الهوى) أي زجرها عن الميل إلى المعاصي
والمحارم التي تشتهيها. قال مقاتل: الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها (فإن الجنة هي المأوى)
أي المنزل الذي ينزله والمكان الذي يأوي إليه لا غيرها (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) أي متى وقوعها وقيامها.
قال الفراء: أي منتهى قيامها كرسو السفينة. قال أبو عبيدة: ومرسي السفينة حين تنتهي، والمعنى: يسألونك
عن الساعة متى يقيمها اس‍، وقد مضى بيان هذا في سورة الأعراف (فيم أنت من ذكراها) أي في أي شئ أنت
يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها، والمعنى: لست في شئ من علمها وذكراها إنما يعلمها الله سبحانه، وهو
إنكار ورد لسؤال المشركين عنها: أي فيم أنت من ذلك حتى يسألونك عنه ولست تعلمه (إلى ربك مناها) أي
منتهى علمها فلا يوجد علمها عند غيره، وهذا كقوله - قل إنما علمها عند ربي - وقوله - إن الله عنده علم الساعة -
فكيف يسألونك عنها ويطلبون منك بيان وقت قيامها (إنما أنت منذر من يخشاها) أي مخوف لمن يخشى قيام
الساعة، وذلك وظيفتك ليس عليك غيره من الإخبار بوقت قيام الساعة ونحوه مما استأثر الله بعلمه، وخص
الإنذار بمن يخشى، لأنهم المنتفعون بالإنذار وإن كان منذرا لكل مكلف من مسلم وكافر. قرأ الجمهور
بإضافة " منذر " إلى ما بعده. وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وطلحة وابن محيصن وشيبة والأعرج وحميد
بالتنوين، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. قال الفراء: والتنوين وتركه في منذر صواب كقوله - بالغ أمره -
- وموهن كيد الكافرين -. قال أبو علي الفارسي: يجوز أن تكون الإضافة للماضي، نحو ضارب زيد أمس
(كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) أي إلا قدر آخر نهار أو أوله، أو قدر الضحى الذي يلي تلك
العشية، والمراد تقليل مدة الدنيا، كما قال - لم يلبثوا إلا ساعة من نهار - وقيل لم يلبثوا في قبورهم إلا عشية أو
ضحاها. قال الفراء والزجاج: المراد بإضافة الضحى إلى العشية إضافته إلى يوم العشية على عادة العرب، يقولون:
آتيك الغداة أو عشيتها، وآتيك العشية أو غداتها فتكون العشية في معنى آخر النهار، والغداة في معنى أول النهار.
ومنه قول الشاعر:
نحن صبحنا عامرا في دارها * جردا تعادي طرفي نهارها * عشية الهلال أو سرارها
والجملة تقرير لما يدل عليه الإنذار من سرعة مجئ المنذر به.
380

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (رفع سمكها) قال: بناها (وأغطش ليلها)
قال: أظلم ليلها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (وأغطش ليلها) قال: وأظلم ليلها
(وأخرج ضحاها) قال: أخرج نهارها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (والأرض بعد ذلك دحاها) قال:
مع ذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا أن رجلا قال له: آيتان في كتاب الله تخالف إحداهما
الأخرى، فقال: إنما أتيت من قبل رأيك، قال: اقرأ - قل ءإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين - حتى
بلغ - ثم استوى إلى السماء - وقوله (والأرض بعد ذلك دحاها) قال: خلق الله الأرض قبل أن يخلق السماء، ثم
خلق السماء، ثم دحى الأرض بعد ما خلق السماء، وإنما قوله (دحاها) بسطها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا
قال (دحاها) أن أخرج منها الماء والمرعى وشقق فيها الأنهار وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام وما بينهما
في يومين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: الطامة من أسماء يوم القيامة. وأخرج ابن مردويه عن
علي بن أبي طالب " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عن الساعة فنزلت (فيم أنت من ذكراها) ". وأخرج
البزار وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة قالت " ما زال رسول الله صلى الله عليه
وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله (فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها) فانتهى فلم يسأل عنها ". وأخرج عبد
ابن حميد والنسائي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت (فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها) فكف عنها. وأخرج ابن
أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس. قال السيوطي بسند ضعيف: أن مشركي مكة سألوا النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فقالوا: متى الساعة استهزاء منهم؟ فأنزل الله (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) يعنى مجيئها (فيم أنت
من ذكراها) يعنى ما أنت من علمها يا محمد (إلى ربك منتهاها) يعنى منتهى علمها. وأخرج ابن مردويه عن عائشة
قالت: " كانت الأعراب إذا قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألوه عن الساعة فينظر إلى أحدث إنسان
منهم فيقول: إن يعش هذا قامت عليكم ساعتكم ".
تفسير سورة عبس
وتسمى سورة السفرة، وهي إحدى وأربعون، أو اثنان وأربعون آية
وهي مكية في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال:
نزلت سورة عبس بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
سورة عبس (1 - 11)
381

سورة عبس (12 - 42)
قوله (عبس وتولى) أي كلح بوجهه وأعرض. وقرئ عبس بالتشديد (أن جاءه الأعمى) مفعول لأجله:
أي لأن جاءه الأعمى، والعامل فيه إما عبس أو تولى على الاختلاف بين البصريين والكوفيين في التنازع هل
المختار إعمال الأول أو الثاني؟.
وقد أجمع المفسرون على أن سبب نزول الآية: أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبد الله بن أم مكتوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن
يقطع عليه ابن أم مكتوم كلامه، فأعرض عنه فنزلت، وسيأتي في آخر البحث بيان هذا إن شاء الله (وما يدريك
لعله يزكى) التفت سبحانه إلى خطاب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، لأن المشافهة أدخل في العتاب: أي أي شئ
يجعلك داريا بحاله حتى تعرض عنه، وجملة (لعله يزكى) مستأنفة لبيان أن له شأنا ينافي الإعراض عنه: أي لعله
يتطهر بالذنوب بالعمل الصالح بسبب ما يتعلمه منك، فالضمير في لعله راجع إلى الأعمى، وقيل هو راجع
إلى الكافر: أي وما يدريك أن ما طمعت فيه ممن اشتغلت بالكلام معه عن الأعمى أنه يزكى أو يذكر، والأول
أولى. وكلمة الترجي باعتبار من وجه إليه الخطاب للتنبيه على أن الإعراض عنه مع كونه مرجو التزكي مما لا يجوز.
قرأ الجمهور " أن جاءه الأعمى " على الخبر بدون استفهام، ووجهه ما تقدم. وقرأ الحسن " آن جاءه " بالمد على
على الاستفهام، فهو على هذه القراءة متعلق بفعل محذوف دل عليه عبس وتولى، والتقدير آن جاءه الأعمى تولى
وأعرض، ومثل هذه الآية قوله في سورة الأنعام - ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي - وكذلك قوله
في سورة الكهف - ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا - وقوله (أو يذكر) عطف على يزكى داخل معه
في حكم الترجي: أي أو يتذكر فيتعظ بما تعلمه من المواعظ (فتنفعه الذكرى) أي الموعظة. قرأ الجمهور
" فتنفعه " بالرفع، وقرأ عاصم ابن أبي إسحاق وعيسى والسلمي وزر بن حبيش بالنصب على جواب الترجي (أما
من استغنى) أي كان ذا ثروة وغنى، أو استغنى عن الإيمان وعما عندك من العلم (فأنت له تصدى) أي تصغي
382

لكلامه، والتصدي الإصغاء. قرأ الجمهور " تصدى " بالتخفيف على طرح إحدى التاءين تخفيفا، وقرأ نافع
وابن محيصن بالتشديد على الإدغام، وفي هذا مزيد تنفير له صلى الله عليه وآله وسلم عن الإقبال عليهم والإصغاء
إلى كلامهم (وما عليك أن لا يزكى) أي أي شئ عليك في أن لا يسلم ولا يهتدي، فإنه ليس عليك إلا البلاغ،
فلا تهتم بأمر من كان هكذا من الكفار، ويجوز أن تكون ما نافية: أي ليس عليك بأس في أن لا يتزكى من
تصديت له وأقبلت عليه، وتكون الجملة في محل نصب على الحال من ضمير تصدى. ثم زاد سبحانه في معاتبة
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقال (وأما من جاءك يسعى) أي وصل إليك حال كونه مسرعا في المجئ إليك
طالبا منك أن ترشده إلى الخير وتعظه بمواعظ الله، وجملة (وهو يخشى) حال من فاعل يسعى على التداخل، أو
من فاعل جاءك على الترادف (فأنت عنه تلهى) أي تتشاغل عنه وتعرض عن الإقبال عليه، والتلهي التشاغل
والتغافل، يقال لهيت عن الأمر ألهى: أي تشاغلت عنه، وكذا تلهيت، وقوله (كلا) ردع له صلى الله عليه
وآله وسلم عما عوتب عليه: أي لا تفعل بعد هذا الواقع منك مثله من الإعراض عن الفقير، والتصدي للغنى
والتشاغل به، مع كونه ليس ممن يتزكى عن إرشاد من جاءك من أهل التزكي والقبول للموعظة، وهذا الواقع
من النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو من باب ترك الأولى، فأرشده الله سبحانه إلى ما هو الأولى به (إنها تذكرة)
أي أن هذه الآيات أو السورة موعظة حقها أن تتعظ بها وتقبلها وتعمل بموجبها ويعمل بها كل أمتك (فمن شاء
ذكره) أي فمن رغب فيها اتعظ بها وحفظها وعمل بموجبها، ومن رغب عنها كما فعله من استغنى فلا حاجة إلى
الاهتمام بأمره. قيل الضميران في إنها، وفي ذكره للقرآن، وتأنيث الأول لتأنيث خبره. وقيل الأول للسورة، أو
للآيات السابقة. والثاني للتذكرة لأنها في معنى الذكر، وقيل إن معنى " فمن شاء ذكره " فمن شاء الله ألهمه وفهمه
القرآن حتى يذكره ويتعظ به، والأول أولى. ثم أخبر سبحانه عن عظم هذه التذكرة وجلالتها فقال (في صحف)
أي إنها تذكرة كائنة في صحف، فالجار والمجرور صفة لتذكرة، وما بينهما اعتراض، والصحف جمع صحيفة،
ومعنى (مكرمة) أنها مكرمة عند الله لما فيها من العلم والحكمة، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ، وقيل المراد
بالصحف كتب الأنبياء، كما في قوله - إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى - ومعنى (مرفوعة)
أنها رفيعة القدر عند الله، وقيل مرفوعة في السماء السابعة. قال الواحدي: قال المفسرون: مكرمة يعنى اللوح
المحفوظ (مرفوعة) يعنى في السماء السابعة. قال ابن جرير: مرفوعة القدر والذكر، وقيل مرفوعة عن الشبه
والتناقض (مطهرة) أي منزهة لا يمسها إلا المطهرون. قال الحسن: مطهرة من كل دنس. قال السدى: مصانة
عن الكفار لا ينالونها (بأيدي سفرة) السفرة جمع سافر ككتبة وكاتب، والمعنى: أنها بأيدي كتبة من الملائكة
ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ. قال الفراء: السفرة هنا الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله ورسوله،
من السفارة وهو السعي بين القوم، وأنشد:
فما أدع السفارة بين قومي * ولا أمشي بغير أب نسيب
قال الزجاج: وإنما قيل للكتاب سفر بكسر السين، والكاتب سافر، لأن معناه أنه بين، يقال أسفر الصبح:
إذا أضاء، وأسفرت المرأة: إذا كشفت النقاب عن وجهها، ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة: أي أصلحت
بينهم. قال مجاهد: هم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد. وقال قتادة: السفرة هنا هم القراء لأنهم يقرءون
الأسفار. وقال وهب بن منبه: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم أثنى سبحانه على السفرة فقال (كرام
بررة) أي كرام على ربهم كذا قال الكلبي. وقال الحسن: كرام عن المعاصي، فهم يرفعون أنفسهم عنها. وقيل
383

يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته، أو قضى حاجته. وقيل يؤثرون منافع غيرهم على منافعهم:
وقيل يتكرمون على المؤمنين بالاستغفار لهم. والبررة جمع بار مثل كفرة وكافر: أي أتقياء مطيعون لربهم صادقون في
إيمانهم، وقد تقدم تفسيره (قتل الإنسان ما أكفره) أي لعن الإنسان الكافر ما أشد كفره، وقيل عذب، قيل
والمراد به عتبة بن أبي لهب، ومعنى ما أكفره التعجب من إفراط كفره. قال الزجاج: معناه أعجبوا أنتم من كفره،
وقيل المراد بالإنسان من تقدم ذكره في قوله - أما من استغنى - وقيل المراد به الجنس، وهذا هو الأولى، فيدخل
تحته كل كافر شديد الكفر، ويدخل تحته من كان سببا لنزول الآية دخولا أوليا. ثم ذكر سبحانه ما كان ينبغي
لهذا الكافر أن ينظر فيه حتى ينزجر عن كفره ويكف عن طغيانه فقال (من أي شئ خلقه) أي من أي شئ
خلق الله هذا الكافر والاستفهام للتقرير. ثم فسر ذلك فقال (من نطفة خلقه) أي من ماء مهين، وهذا تحقير له.
قال الحسن: كيف يتكبر من خرج من مخرج البول مرتين، ومعنى (فقدره) أي فسواه وهيأه لمصالح نفسه،
وخلق له اليدين والرجلين والعينين وسائر الآلات والحواس، وقيل قدره أطوارا من حال إلى حال، نطفة ثم
علقة إلى أن تم خلقه (ثم السبيل يسره) أي يسر له الطريق إلى الخير والشر. وقال السدى ومقاتل وعطاء وقتادة:
يسره للخروج من بطن أمه، والأول أولى. ومثله قوله - وهديناه النجدين - وانتصاب السبيل بمضمر يدل عليه
الفعل المذكور: أي يسر السبيل يسره (ثم أماته فأقبره) أي جعله بعد أن أماته ذا قبر يوارى فيه إكراما له، ولم
يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله السباع والطير، كذا قال الفراء: وقال أبو عبيدة: جعل له قبرا وأمر أن
يقبر فيه. وقال أقبره، ولم يقل قبره، لأن القابر هو الدافن بيده، ومنه قول الأعشى:
لو أسندت ميتا إلى صدرها * عاش ولم ينقل إلى قابر
(ثم إذا شاء أنشره) أي ثم إذا شاء إنشاره أنشره: أي أحياه بعد موته، وعلق الإنشار بالمشيئة للدلالة على أن
وقته غير متعين، بل هو تابع للمشيئة. قرأ الجمهور " أنشره " بالألف، وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن
أبي حمزة نشره بغير ألف، وهما لغتان فصيحتان (كلا لما يقضى ما أمره) كلا ردع وزجر للإنسان الكافر: أي
ليس الأمر كما يقول. ومعنى: لما يقض ما أمره، لم يقض ما أمره الله به من العمل بطاعته واجتناب معاصيه،
وقيل المراد الإنسان على العموم، وأنه لم يفعل ما أمره الله به مع طول المدة لأنه لا يخلو من تقصير. قال الحسن:
أي حقا لم يعمل ما أمر به. وقال ابن فورك: أي كلا لما يقض لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان، بل أمره بما لم
يقض له. قال ابن الأنباري: الوقف على كلا قبيح والوقف على أمره جيد، وكلا على هذا بمعنى حقا. وقيل
المعنى: لما يقض جميع أفراد الإنسان ما أمره، بل أخل به: بعضها بالكفر، وبعضها بالعصيان، وما قضى ما أمره
الله إلا القليل. ثم شرع سبحانه في تعداد نعمه على عباده ليشكروها، وينزجروا عن كفرانها بعد ذكر النعم
المتعلقة بحدوثه فقال (فلينظر الإنسان إلى طعامه) أي ينظر كيف خلق الله طعامه الذي جعله سببا لحياته؟ وكيف
هيأ له أسباب المعاش يستعد بها للسعادة الأخروية؟ قال مجاهد: معناه فلينظر الإنسان إلى طعامه: أي إلى مدخله
ومخرجه، والأول أول. ثم بين ذلك سبحانه فقال (أنا صببنا الماء صبا) قرأ الجمهور " إنا " بالكسر على
الاستئناف. وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب بالفتح على أنه بدل من طعامه بدل اشتمال لكون نزول المطر
سببا لحصول الطعام، فهو كالمشتمل عليه، أو بتقدير لام العلة. قال الزجاج: الكسر على الابتداء والاستئناف،
والفتح على معنى البدل من الطعام. المعنى: فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا الماء صبا، وأراد بصب الماء المطر،
384

وقرأ الحسن بن علي بالفتح والإمالة (ثم شققنا الأرض شقا) أي شققناها بالنبات الخارج منها بسبب نزول المطر
شقا بديعا لائقا بما يخرج منه في الصغر والكبر والشكل والهيئة. ثم بين سبب هذا الشق وما وقع لأجله فقال
(فأنبتنا فيها حبا) يعنى الحبوب الذي يتغذى بها، والمعنى: أن النبات لا يزال ينمو ويتزايد إلى أن يصير حبا "
وقوله (وعنبا) معطوف على حبا: أي وأنبتنا فيها عنبا، قيل وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع
ما قيد به المعطوف عليه فلا ضير في خلو إنبات العنب عن شق الأرض، والقضب: هو ألقت الرطب الذي يقضب
مرة بعد أخرى تعلف به الدواب، ولهذا سمى قضبا على مصدر قضبه: أي قطعه كأنه لتكرر قطعها نفس القطع.
قال الخليل: القضب الفصفصة الرطبة، فإذا يبست فهي ألقت. قال في الصحاح: والقضبة والقضب الرطبة،
قال: والموضع الذي ينبت فيه مقضبة. قال القتيبي وثعلب: وأهل مكة يسمون العنب القضب. والزيتون هو
ما يعصر منه الزيت، وهو شجرة الزيتون المعروفة، والنخل هو جمع نخلة (وحدائق غلبا) جمع حديقة، وهي
البستان، والغلب العظام الغلاظ الرقاب. وقال مجاهد ومقاتل: الغلب الملتف بعضها ببعض، يقال: رجل أغلب:
إذا كان عظيم الرقبة، ويقال للأسد أغلب لأنه مصمت العنق لا يلتفت إلا جميعا. قال العجاج:
ما زلت يوم البين ألوى صلبي * والرأس حتى صرت مثل الأغلب
وجمع أغلب وغلباء غلب كما جمع أحمر وحمراء على حمر. وقال قتادة وابن زيد: الغلب النخل الكرام. وعن
ابن زيد أيضا وعكرمة: هي غلاظ الأوساط والجذوع. والفاكهة ما يأكله الإنسان من ثمار الأشجار كالعنب
والتين والخوخ ونحوها. والأب كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس ولا يزرعونه من الكلأ وسائر أنواع
المرعى، ومنه قول الشاعر:
جسدنا قيس ونجسد دارنا * ولنا الأب بها والمكرع
قال الضحاك: الأب كل شئ ينبت على وجه الأرض. وقال ابن أبي طلحة: هو الثمار الرطبة. وروى عن
الضحاك أيضا أنه قال: هو التين خاصة، والأول أولى. ثم شرع سبحانه في بيان أحوال المعاد فقال (فإذا
جاءت الصاخة) يعنى صيحة يوم القيامة، وسميت صاخة لشدة صوتها لأنها تصخ الأذان: أي تصمها فلا
تسمع، وقيل سميت صاخة لأنها يصيخ لها الأسماع، من قولك أصاخ إلى كذا أي استمع إليه، والأول أصح.
قال الخليل: الصاخة صيحة تصخ الآذان حتى تصمها بشدة وقعها، وأصل الكلمة في اللغة مأخوذة من الصك
الشديد، يقال صخه بالحجر: إذا صكه بها، وجواب إذا محذوف يدل عليه قوله (لكل امرئ منهم يومئذ شأن
يغنيه) أي فإذا جاءت الصاخة اشتغل كل أحد بنفسه، والظرف في قوله (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته
وبنيه) إما بدل من إذا جاءت، أو منصوب بمقدر: أي أعني ويكون تفسيرا للصاخة، أو بدلا منها مبني على
الفتح، وخص هؤلاء بالذكر لأنهم أخص القرابة، وأولاهم بالحنو والرأفة، فالفرار منهم لا يكون إلا لهول عظيم،
وخطب فظيع (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) أي لكل إنسان يوم القيامة شأن يشغله عن الأقرباء ويصرفه
عنهم. وقيل إنما يفر عنهم حذرا من مطالبتهم إياه بما بينهم، وقيل يفر عنهم لئلا يروا ما هو فيه من الشدة، وقيل
لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا كما قال تعالى - يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا - والجملة مستأنفة مسوقة
لبيان سبب الفرار. قال ابن قتيبة: يغنيه: أي يصرفه عن قرابته، ومنه يقال أغن عني وجهك: أي اصرفه. قرأ
الجمهور " يغنيه " بالغين المعجمة. وقرأ ابن محيصن بالعين المهملة مع فتح الياء: أي يهمه، من عناه الأمر إذا
385

أهمه (وجوه يومئذ مسفرة) وجوه مبتدأ وإن كان نكرة لأنه في مقام التفصيل، وهو من مسوغات الابتداء
بالنكرة، ويومئذ متعلق به، ومسفرة خبره، ومعنى مسفرة: مشرقة مضيئة، وهي وجوه المؤمنين لأنهم قد علموا
إذ ذاك ما لهم من النعيم والكرامة، يقال أسفر الصبح: إذا أضاء. قال الضحاك: مسفرة من آثار الوضوء، وقيل
من قيام الليل (ضاحكة مستبشرة) أي فرحة بما نالته من الثواب الجزيل. ثم لما فرغ من ذكر حال المؤمنين ذكر
حال الكفار فقال (ووجوه يومئذ عليها غبرة) أي غبار وكدورة لما تراه مما أعده الله لها من العذاب (ترهقها
قترة) أي يغشاها ويعلوها سواد وكسوف، وقيل ذلة، وقيل شدة، والقتر في كلام العرب الغبار، كذا قال
أبو عبيدة، وأنشد قول الفرزدق:
متوج برداء الملك يتبعه * فوج ترى فوقه الرايات والقترا
ويدفع ما قاله أبو عبيدة تقدم ذكر الغبرة فإنها واحدة الغبار. وقال زيد بن أسلم: القترة ما ارتفعت إلى
السماء، والغبرة ما انحطت إلى الأرض (أولئك) يعنى أصحاب الوجوه (هم الكفرة الفجرة) أي الجامعون بين الكفر
بالله والفجور، يقال فجر: أي فسق، وفجر: أي كذب، وأصله الميل، والفاجر المائل عن الحق.
وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة قالت: " أنزلت
عبس وتولى في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يقول: يا رسول الله
أرشدني وعند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول: أترى بما أقول بأسا؟ فيقول لا، ففي هذا أنزلت ". وأخرج
عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو يعلى عن أنس قال: " جاء ابن أم مكتوم، وهو يكلم أبي بن خلف، فأعرض عنه،
فأنزل الله (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك يكرمه ". وأخرج ابن جرير
وابن مردويه عن ابن عباس قال: " بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يناجي عتبة بن ربيعة والعباس بن
عبد المطلب وأبا جهل بن هشام وكان يتصدى لهم كثيرا ويحرص عليهم أن يؤمنوا، فأقبل عليهم رجل أعمى يقال له
عبد الله بن أم مكتوم يمشي، وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية من القرآن
قال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعبس في وجهه وتولى
وكره كلامه وأقبل على الآخرين، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجواه، وأخذ ينقلب إلى أهله
أمسك الله ببعض بصره، ثم خفق برأسه، ثم أنزل الله (عبس وتولى) الآية، فلما نزل فيه ما نزل أكرمه نبي الله
صلى الله عليه وآله وسلم وكلمه وقال له: ما حاجتك؟ هل تريد من شئ؟ وإذا ذهب من عنده قال: هل لك حاجة في شئ؟
قال ابن كثير: فيه غرابة، وقد تكلم في إسناده. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (بأيدي سفرة)
قال: كتبه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (بأيدي سفرة) قال: هم بالنبطية القراء. وأخرج ابن جرير
عنه أيضا (كرام بررة قال: الملائكة: وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم " الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له
أجران ". وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (ثم السبيل يسره) قال: يعنى بذلك خروجه من بطن أمه يسره له.
وأخرج ابن المنذر عن عبد الله بن الزبير في قوله (فلينظر الإنسان إلى طعامه) قال: إلى مدخله ومخرجه. وأخرج
ابن أبي الدنيا عن ابن عباس (فلينظر الإنسان إلى طعامه) قال: إلى خرئه. وأخرج ابن المنذر عنه (أنا صببنا
386

الماء صبا) قال: المطر (ثم شققنا الأرض شقا) قال: عن النبات. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عنه أيضا في قوله (وقضبا) قال: الفصفصة يعنى ألقت (وحدائق غلبا) قال: طوالا (وفاكهة وأبا) قال:
الثمار الرطبة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: الحدائق كل ملتف، والغلب
ما غلظ، والأب ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا
(وحدائق غلبا) قال: شجر في الجنة يستظل به لا يحمل شيئا. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال: الأب الكلأ
والمرعى. وأخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال: سئل أبو بكر الصديق عن الأب
ما هو؟ فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟. وأخرج عبد بن حميد عن
عبد الله بن يزيد: أن رجلا سأل عمر عن قوله (وأبا) فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرة. وأخرج ابن سعد
وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب والخطيب عن أنس
أن عمر قرأ على المنبر (فأنبتنا فيها حبا وعنبا) إلى قوله (وأبا) قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأب؟ ثم رفض
عصى كانت في يده فقال: هذا لعمر الله هو التكلف، فما عليك أن لا تدري ما الأب، اتبعوا ما بين لكم من هذا
الكتاب فاعملوا عليه، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال الصاخة من
أسماء يوم القيامة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (مسفرة) قال: مشرقة، وفي قوله
(ترهقها قترة) قال: تغشاها شدة وذلة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (قترة) قال: سواد الوجه.
تفسير سورة التكوير
وهي تسع وعشرون آية
وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت
سورة (إذا الشمس كورت) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة وابن الزبير مثله. وأخرج أحمد والترمذي
وحسنه وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ: إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا
السماء انشقت ".
تفسير سورة التكوير (1 - 13)
387

سورة التكوير (14 - 29)
قوله (إذا الشمس كورت) ارتفاع الشمس بفعل محذوف يفسره ما بعده على الاشتغال، وهذا عند البصريين،
وأما عند الكوفيين والأخفش فهو مرتفع على الابتداء. والتكوير الجمع، وهو مأخوذ من كار العمامة على رأسه
يكورها. قال الزجاج: لفت كما تلف العمامة، يقال: كورت العمامة على رأسي أكورها كورا، وكورتها
تكويرا: إذا لففتها. قال أبو عبيدة: كورت مثل تكوير العمامة تلف فتجمع. قال الربيع بن خثيم كورت: أي
رمى بها، ومنه كورته فتكور: أي سقط. وقال مقاتل وقتادة والكلبي: ذهب ضوؤها. وقال مجاهد:
اضمحلت. قال الواحدي: قال المفسرون: تجمع الشمس بعضها إلى بعض ثم تلف فيرمى بها. فالحاصل أن
التكوير إما بمعنى لف جرمها، أو لف ضوئها، أو الرمي بها (وإذا النجوم انكدرت) أي تهافتت وانقضت
وتناكرت، يقال انكدر الطائر من الهواء: إذا انقض، والأصل في الانكدار الانصباب. قال الخليل: يقال
انكدر عليهم القوم: إذا جاءوا أرسالا فانصبوا عليهم. قال أبو عبيدة: انصيت كما ينصب العقاب. قال الكلبي:
وعطاء: تمطر السماء يومئذ نجوما، فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على الأرض، وقيل انكدارها طمس نورها
(وإذا الجبال سيرت) أي قلعت عن الأرض، وسيرت في الهواء، ومنه قوله - ويوم نسير الجبال وترى الأرض
بارزة -. (وإذا العشار عطلت) العشار: النوق الحوامل التي في بطونها أولادها الواحدة عشراء، وهي التي قد
أتى عليها في الحمل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع. وخص العشار لأنها أنفس مال عند العرب،
وأعزه عندهم، ومعنى عطلت: تركت هملا بلا راع، وذلك لما شاهدوا من الهول العظيم، قيل وهذا على وجه
المثل لأن يوم القيامة لا تكون فيه ناقة عشراء، بل المراد أنه لو كان للرجل ناقة عشراء في ذلك اليوم أو نوق عشار
لتركها ولم يلتفت إليها اشتغالا بما هو فيه من هول يوم القيامة، وسيأتي آخر البحث إن شاء الله ما يفيد أن هذا في
الدنيا. وقيل العشار السحاب، فإن العرب تشبهها بالحامل، ومنه قوله - والحاملات وقرا - وتعطيلها عدم إمطارها
قرأ الجمهور " عطلت " بالتشديد، وقرأ ابن كثير في رواية عنه بالتخفيف. وقيل المراد أن الديار تعطل فلا تسكن،
وقيل الأرض التي تعشر زرعها تعطل فلا تزرع (وإذا الوحوش حشرت) الوحوش ما توحش من دواب البر،
ومعنى حشرت: بعثت حتى يقتص بعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء. وقيل حشرها موتها، وقيل إنها
مع نفرتها اليوم من الناس وتبددها في الصحاري تضم ذلك اليوم إليهم. قرأ الجمهور " حشرت " بالتخفيف، وقرأ
الحسن وعمرو بن ميمون بالتشديد (وإذا البحار سجرت) أي أوقدت فصارت نارا تضطرم. وقال الفراء: ملئت
388

بأن صارت بحرا واحدا وكثر ماؤها، وبه قال الربيع بن خثيم والكلبي ومقاتل والحسن والضحاك. وقيل أرسل
عذبها على مالحها ومالحها على عذبها حتى امتلأت، وقيل فجرت فصارت بحرا واحدا. وروى عن قتادة وابن
حبان أن معنى الآية: يبست ولا يبقى فيها قطرة، يقال سجرت الحوض أسجره سجرا: إذا ملأته. وقال القشيري: هو
من سجرت التنور أسجره سجرا: إذا أحميته. قال ابن زيد وعطية وسفيان ووهب وغيرهم: أوقدت فصارت نارا،
وقيل معنى سجرت أنها صارت حمراء كالدم، من قولهم عين سجراء: أي حمراء. قرأ الجمهور " سجرت " بتشديد الجيم.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيفها (وإذا النفوس زوجت) أي قرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في
الجنة، وقرن بين رجل السوء مع رجل السوء في النار. وقال عطاء: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين وقرنت
نفوس الكافرين بالشياطين، وقيل قرن كل شكل إلى شكله في العمل، وهو راجع إلى القول الأول. وقيل قرن
كل رجل إلى من كان يلازمه من ملك أو سلطان كما في قوله - احشروا الذين ظلموا وأزواجهم - وقال عكرمة
(وإذا النفوس زوجت) يعنى قرنت الأرواح بالأجساد. وقال الحسن: ألحق كل امرئ بشيعته: اليهود باليهود،
والنصارى بالنصارى، والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد شيئا من دون الله يلحق بعضهم ببعض والمنافقون
بالمنافقين، والمؤمنون بالمؤمنين. وقيل يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان، ويقرن المطيع بمن دعاه إلى
الطاعة من الأنبياء والمؤمنين. وقيل قرنت النفوس بأعمالها (وإذا الموؤودة سئلت) أي المدفونة حية، وقد كان
العرب إذا ولدت لأحدهم بنت دفنها حية مخافة العار أو الحاجة، يقال: وأد يائد وأدا فهو وائد، والمفعول به
مؤود، وأصله مأخوذ من الثقل لأنها تدفن، فيطرح عليها التراب فيثقلها فتموت، ومنه - ولا يئوده حفظهما -
أي لا يثقله، ومنه قول متمم بن نويرة: وموءودة مقبورة في مغارة
ومنه قول الراجز: سميتها إذ ولدت تموت * والقبر صهر ضامن رميت
قرأ الجمهور " الموؤودة " بهمزة بين واوين ساكنين كالموعودة. وقرأ البزي في رواية عنه بهمزة مضمومة ثم
واو ساكنة. وقرأ الأعمش " المودة " بزنة الموزة. وقرأ الجمهور " سئلت " مبنيا للمفعول، وقرأ الحسن بكسر السين
من سال يسيل. وقرأ الجمهور " قتلت " بالتخفيف مبنيا للمفعول، وقرأ أبو جعفر بالتشديد على التكثير. وقرأ
علي وابن مسعود وابن عباس سألت مبنيا للفاعل " قتلت " بضم التاء الأخيرة. ومعنى سئلت على قراءة الجمهور:
أن توجيه السؤال إليها لإظهار كمال الغيظ على قاتلها حتى كان لا يستحق أن يخاطب ويسأل عن ذلك، وفيه
تبكيت لقاتلها وتوبيخ له شديد. قال الحسن: أراد الله أن يوبخ قاتلها لأنها قتلت بغير ذنب، وفي مصحف أبي
" وإذا الموؤودة سألت بأي ذنب قتلتني " (وإذا الصحف نشرت) يعنى صحائف الأعمال نشرت للحساب، لأنها
تطوى عند الموت وتنشر عند الحساب، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها، فيقول - مال هذا الكتاب
لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها - قرأ نافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو " نشرت " بالتخفيف. وقرأ الباقون
بالتشديد على التكثير (وإذا السماء كشطت) الكشط: قلع عن شدة التزاق، فالسماء تكشط كما يكشط الجلد عن
الكبش، والقشط بالقاف لغة في الكشط، وهي قراءة ابن مسعود. قال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف. وقال
الفراء: نزعت فطويت. وقال مقاتل: كشفت عما فيها. قال الواحدي: ومعنى الكشط رفعك شيئا عن شئ قد
غطاه (وإذا الجحيم سعرت) أي أوقدت لأعداء الله إيقادا شديدا. قرأ الجمهور " سعرت " بالتخفيف، وقرأ نافع
وابن ذكوان وحفص بالتشديد لأنها أوقدت مرة بعد مرة. قال قتادة: سعرها غضب الله وخطا يا بني آدم (وإذا
389

الجنة أزلفت) أي قربت إلى المتقين وأدنيت منهم. قال الحسن: إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها.
وقال ابن زيد: معنى أزلفت تزينت. والأول أولى لأن الزلفى في كلام العرب القرب. قيل هذه الأمور الاثنا عشر:
ست منها في الدنيا، وهي من أول السورة إلى قوله (وإذا البحار سجرت)، وست في الآخرة وهي (وإذا
النفوس زوجت) إلى هنا، وجواب الجميع قوله (علمت نفس ما أحضرت) على أن المراد الزمان الممتد من الدنيا
إلى الآخرة، لكن لا بمعنى أنها تعلم ما تعلم في كل جزء من أجزاء هذا الوقت الممتد، بل المراد علمت ما أحضرته
عند نشر الصحف: يعنى ما عملت من خير أو شر، ومعنى ما أحضرت: ما أحضرت من أعمالها، والمراد حضور
صحائف الأعمال، أو حضور الأعمال نفسها، كما ورد أن الأعمال تصور بصور تدل عليها وتعرف بها، وتنكير
نفس المفيد لثبوت العلم المذكور لفرد من النفوس، أو لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها من الظهور
والوضوح بحيث لا يخفى على أحد، ويدل على هذا قوله - يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا - وقيل
يجوز أن يكون ذلك للإشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كل نفس إصلاح
عملها مخافة أن تكون هي تلك التي علمت ما أحضرت، فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه
لعلك ستندم على ما فعلت، وربما ندم الإنسان على فعله (فلا أقسم بالخنس) لا زائدة كما تقدم تحقيقه وتحقيق
ما فيه من الأقوال في أول سورة القيامة: أي فأقسم بالخنس، وهي الكواكب، وسميت الخنس، من خنس:
إذا تأخر لأنها تخنس بالنهار فتخفى ولا ترى، وهي زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد كما ذكره أهل
التفسير. ووجه تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم أنها تستقبل الشمس وتقطع المجرة. وقال في الصحاح:
الخنس الكواكب كلها، لأنها تخنس في المغيب، أو لأنها تخفى نهارا، أو يقال هي الكواكب السيارة منها دون
الثابتة. قال الفراء: إنها الكواكب الخمسة المذكورة، لأنها تخنس في مجراها، وتكنس: أي تستتر كما تكنس
الظباء في المغار، ويقال سميت خنسا لتأخرها، لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم. يقال خنس عنه
يخنس خنوسا إذا تأخر. وأخنسه غيره: إذا خلفه ومضى عنه، والخنس: تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع
قليل في الأرنبة، ومعنى (الجوار) أنها تجرى مع الشمس والقمر، ومعنى (الكنس) أنها ترجع حتى تخفى تحت
ضوء الشمس، فخنوسها رجوعها، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها، وقيل خنوسها خفاؤها بالنهار، وكنوسها
غروبها. قال الحسن وقتادة: هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت، والمعنى متقارب لأنها تتأخر في النهار
عن البصر لخفائها فلا ترى، وتظهر بالليل وتكنس في وقت غروبها. وقيل المراد بها بقر الوحش لأنها تتصف
بالخنس وبالجوار وبالكنس. وقال عكرمة: الخنس البقر والكنس الظباء، فهي تخنس إذا رأت الإنسان وتنقبض
وتتأخر وتدخل كناسها. وقيل هي الملائكة. والأول أولى لذكر الليل والصبح بعد هذا، والكنس مأخوذ من
الكناس الذي يختفي فيه الوحش، والخنس جمع خانس وخانسة، والكنس جمع كانس وكانسة (والليل إذا
عسعس) قال أهل اللغة: هو من الأضداد، يقال عسعس الليل: إذا أقبل، وعسعس: إذا أدبر، ويدل على
أن المراد هنا أدبر قوله (والصبح إذا تنفس) قال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر، كذا حكاه
عنه الجوهري، وقال الحسن: أقبل بظلامه. قال الفراء: العرب تقول عسعس الليل: إذا أقبل، وعسعس
الليل: إذا أدبر، وهذا لا ينافي ما تقدم عنه، لأنه حكى عن المفسرين أنهم أجمعوا على حمل معناه في هذه الآية على
390

أدبر، وإن كان في الأصل مشتركا بين الإقبال والإدبار. قال المبرد: هو من الأضداد. قال: والمعنيان يرجعان
إلى شئ واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله وإدباره في آخره. قال رؤية بن العجاج:
يا هند ما أسرع ما تعسعسا * من بعد ما كان فتى ترعرعا
وقال امرؤ القيس:
عسعس حتى لو نشاء إذ دنا * كان لنا من ناره مقتبس
وقوله: الماء على الربع القديم تعسعسا * (والصبح إذا تنفس) التنفس في الأصل: خروج النسيم
من الجوف، وتنفس الصبح إقباله، لأنه يقبل بروح ونسيم، فجعل ذلك تنفسا له مجازا. قال الواحدي: تنفس:
أي امتد ضوؤه حتى يصير نهارا، ومنه يقال للنهار إذا زاد تنفس. وقيل (إذا تنفس) إذا انشق وانفلق، ومنه
تنفست القوس: أي تصدعت. ثم ذكر سبحانه جواب القسم فقال (إنه لقول رسول كريم) يعنى
جبريل لكونه نزل به من جهة الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأضاف القول إلى جبريل لكونه
مرسلا به، وقيل المراد بالرسول في الآية محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والأول أولى. ثم وصف الرسول
المذكور بأوصاف محمودة فقال (ذي قوة عند ذي العرش مكين) أي ذي قوة شديدة في القيام بما كلف به، كما
في قوله - شديد القوى -، ومعنى (عند ذي العرش مكين) أنه ذو رفعة عالية ومكانة مكينة عند الله سبحانه،
وهو في محل نصب على الحال من مكين، وأصله الوصف فلما قدم صار حالا، ويجوز أن يكون نعتا لرسول،
يقال مكن فلان عند فلان مكانة: أي صار ذا منزلة عنده ومكانة. قال أبو صالح: من مكانته عند ذي العرش
أنه يدخل سبعين سرادقا بغير إذن، ومعنى (مطاع) أنه مطاع بين الملائكة يرجعون إليه ويطيعونه (ثم أمين) قرأ
الجمهور بفتح " ثم " على أنها ظرف مكان للبعيد، والعامل فيه مطاع أو ما بعده، والمعنى: أنه مطاع في السماوات
أو أمين فيها: أي مؤتمن على الوحي وغيره، وقرأ هشيم وأبو جعفر وأبو حيوة بضمها على أنها عاطفة، وكان
العطف بها للتراخي في الرتبة لأن ما بعدها أعظم مما قبلها، ومن قال: إن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وآله
وسلم فالمعنى: أنه ذو قوة على تبليغ الرسالة إلى الأمة مطاع يطيعه، من أطاع الله أمين على الوحي (وما صاحبكم
بمجنون) الخطاب لأهل مكة، والمراد بصاحبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: وما محمد يا أهل
مكة بمجنون، وذكره بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره، وأنه ليس مما يرمونه به من الجنون وغيره
في شئ، وأنهم افتروا عليه ذلك عن علم منهم بأنه أعقل الناس وأكملهم، وهذه الجملة داخلة في جواب القسم،
فأقسم سبحانه بأن القرآن نزل به جبريل، وأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ليس كما يقولون من أنه مجنون،
وأنه يأتي بالقرآن من جهة نفسه (ولقد رآه بالأفق المبين) اللام جواب قسم محذوف: أي وتالله لقد رأي محمد
جبريل بالأفق المبين: أي بمطلع الشمس من قبل المشرق، لأن هذا الأفق إذا كانت الشمس تطلع منه فهو مبين،
لأن من جهته ترى الأشياء. وقيل الأفق المبين: أقطار السماء ونواحيها، ومنه قول الشاعر:
أخذنا بأقطار السماء عليكم * لنا قمراها والنجوم الطوالع
وإنما قال سبحانه (ولقد رآه بالأفق المبين) مع أنه قد رآه غير مرة، لأنه رآه هذه المرة في صورته له ستمائة
جناح، قال سفيان: إنه رآه في أفق السماء الشرقي. وقال ابن بحر: في أفق السماء الغربي. وقال مجاهد: رآه نحو
أجياب نحو أجياد وهو مشرق مكة، والمبين صفة للأفق قاله الربيع. وقيل صفة لمن رآه قاله مجاهد:، وقيل معنى
391

الآية: ولقد رأى محمد ربه عز وجل، وقد تقدم القول في هذا في سورة النجم (وما هو) أي محمد صلى الله عليه
وآله وسلم (على الغيب) يعني خبر السماء وما اطلع عليه مما كان غائبا علمه عن أهل مكة (بضنين) بمتهم: أي
هو ثقة فيما يؤدي عن الله سبحانه. وقيل بضنين ببخيل: أي لا يبخل بالوحي، ولا يقصر في التبليغ، وسبب
هذا الاختلاف اختلاف القراء، فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي " بظنين " بالظاء المشالة: أي بمتهم، والظنة
التهمة، واختار هذه القراءة أبو عبيد قال: لأنهم لم يبخلوا ولكن كذبوه. وقرأ الباقون بضنين بالضاد: أي
ببخيل، من ضننت بالشئ أضن ضنا: إذا بخلت. قال مجاهد: أي لا يظن عليكم بما يعلم بل يعلم الخلق كلام
الله وأحكامه. وقيل المراد جبريل إنه ليس على الغيب بضنين، والأول أولى (وما هو بقول شيطان رجيم) أي
وما القرآن بقول شيطان من الشياطين المسترقة للسمع المرجومة بالشهب. قال الكلبي: يقول إن القرآن ليس بشعر
ولا كهانة كما قالت قريش. قال عطاء: يريد بالشيطان: الشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبي صلى الله عليه
وآله وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه. ثم بكتهم سبحانه ووبخهم فقال (فأين تذهبون) أي أين تعدلون عن
هذا القرآن وعن طاعته كذا قاله قتادة. وقال الزجاج: معناه أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد
بينت لكم، يقال أين تذهب، وإلى أين تذهب؟ وحكى الفراء عن العرب: ذهبت الشام، وخرجت العراق،
وانطلقت السوق: أي إليها. قال: سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة، وأنشد لبعض بني عقيل:
تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا * وأي الأرض تذهب بالصياح
تريد إلى أي الأرض تذهب، فحذف إلى (إن هو إلا ذكر للعالمين) أي ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين،
وتذكير لهم، وقوله (لمن شاء منكم أن يستقيم) بدل من العالمين بإعادة الجار ومفعول المشيئة " أن يستقيم " أي
لمن شاء منكم الاستقامة على الحق والإيمان والطاعة (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) أي وما تشاءون
الاستقامة إلا أن يشاء الله تلك المشيئة، فأعلمهم سبحانه أن المشيئة في التوفيق إليه، وأنهم لا يقدرون على ذلك
إلا بمشيئة الله وتوفيقه، ومثل هذا قوله سبحانه - وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله - وقوله - ولو أننا نزلنا
إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله - وقوله - إنك لا تهدي
من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء - والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله (إذا الشمس
كورت) قال: أظلمت (وإذا النجوم انكدرت) قال: تغيرت. وأخرج ابن أبي حاتم والديلمي عن أبي مريم
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في قوله (إذا السماء كورت) قال: كورت في جهنم (وإذا النجوم
انكدرت) قال: انكدرت في جهنم، فكل من عبد من دون الله فهو في جهنم، إلا ما كان من عيسى وأمه،
ولو رضيا أن يعبدا لدخلاها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي العالية قال: ست آيات من هذه السورة
في الدنيا، والناس ينظرون إليها، وست في الآخرة (إذا الشمس كورت) إلى (وإذا البحار سجرت) هذه في الدنيا
والناس ينظرون إليها (وإذا النفوس زوجت) إلى (وإذا الجنة أزلفت) هذه في الآخرة. وأخرج ابن أبي الدنيا
في الأهوال وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم
إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت واختلطت،
ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن، واختلطت الدواب والطير والوحش فماجوا بعضهم في بعض (وإذا
الوحوش حشرت) قال: اختلطت (وإذا العشار عطلت) قال: أهملها أهلها (وإذا البحار سجرت) قال: الجن
392

الإنس نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة
واحدة إلى الأرض السابعة وإلى السماء السابعة، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم. وأخرج الفريابي وسعيد
ابن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (وإذا الوحوش
حشرت) قال: حشر البهائم موتها، وحشر كل شئ الموت غير الجن والإنس فإنهما يوافيان يوم القيامة.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والخطيب في المتفق والمفترق عنه في قوله (وإذا الوحوش حشرت) قال:
يحشر كل شئ يوم القيامة حتى أن الدواب لتحشر. وأخرج البيهقي في البعث عنه أيضا في قوله (وإذا البحار
سجرت) قال: تسجر حتى تصير نارا. وأخرج الطبراني عنه (سجرت) قال: اختلط ماؤها بماء الأرض. وأخرج
عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والحاكم وصححه، وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في البعث عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب
في قوله (وإذا النفوس زوجت) قال: يقرن بين الرجل الصالح مع الصالح في الجنة ويقرن بين الرجل السوء مع
الرجل السوء في النار، كذلك تزويج الأنفس. وفي رواية: ثم قرأ - احشروا الذين ظلموا وأزواجهم - وأخرج
نحوه ابن مردويه عن النعمان بن بشير مرفوعا. وأخرج البزار والحاكم في الكنى والبيهقي في سننه عن عمر بن
الخطاب قال: جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني وأدت ثمان بنات
لي في الجاهلية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعتق عن كل واحدة رقبة، قال: إني صاحب
إبل، قال: فأهد عن كل واحدة بدنة ". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (وإذا الجنة أزلفت) قال: قربت.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن علي بن
أبي طالب في قوله (فلا أقسم بالخنس) قال: هي الكواكب تكنس بالليل وتخنس بالنهار فلا ترى. وأخرج ابن
أبي حاتم عنه في قوله (لا أقسم بالخنس) قال خمسة أنجم: زحل وعطارد والمشتري وبهرام والزهرة، ليس شئ
يقطع المجرة غيرها. وأخرج ابن مردويه والخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس في الآية قال: هي النجوم
السبعة: زحل وبهرام وعطارد والمشتري والزهرة والشمس والقمر، خنوسها رجوعها، وكنوسها تغيبها بالنهار.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن سعد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والطبراني والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود في قوله (بالخنس الجواري الكنس) قال: هي بقر الوحش.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هي البقر تكنس إلى الظل. وأخرج ابن المنذر عنه قال: تكنس
لأنفسها في أصول الشجر تتواري فيه. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال: هي الظباء. وأخرج ابن راهويه وعبد
ابن حميد والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب في قوله (والجوار الكنس) قال: هي الكواكب. وأخرج
عبد بن حميد عن ابن عباس (الخنس) البقر (والجوار الكنس) الظباء، ألم ترها إذا كانت في الظل كيف تكنس
بأعناقها ومدت نظرها. وأخرج أبو أحمد الحاكم في الكنى عن أبي العديس قال: كنا عند عمر بن الخطاب فأتاه
رجل، فقال يا أمير المؤمنين ما (الجوار الكنس) فطعن عمر بمخصرة معه في عمامة الرجل فألقاها عن رأسه. فقال
عمر: أحرورى؟ والذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجدتك محلوقا لأنحيت القمل عن رأسك، وهذا منكر،
فالحرورية لم يكونوا في زمن عمر ولا كان لهم في ذلك الوقت ذكر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
من طرق عن ابن عباس في قوله (والليل إذا عسعس) قال: إذا أدبر (والصبح إذا تنفس) قال: إذا بدا النهار
حين طلوع الفجر. وأخرج الطبراني عنه (إذا عسعس) قال: إقبال سواده. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا
393

(إنه لقول رسول كريم) قال: جبريل. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود (ولقد رآه
بالأفق المبين) قال: رأى جبريل له ستمائة جناح قد سد الأفق. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في
الآية قال: إنما عنى جبريل أن محمد رآه في صورته عند سدرة المنتهى. وأخرج ابن مردويه عنه بالأفق المبين،
قال: السماء السابعة. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه من طرق عن ابن عباس
أنه كان يقرأ (بضنين) بالضاد، وقال: ببخيل. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن
مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ (وما هو الغيب بظنين) بالظاء قال: ليس بمنهم. وأخرج الدارقطني في الأفراد
والحاكم وصححه وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرؤه
(بظنين) بالظاء. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما نزلت (لمن شاء منكم أن يستقيم)
قالوا: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فهبط جبريل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
كذبوا يا محمد (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين).
تفسير سورة الانفطار
هي تسع عشرة آية
وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت (إذا
السماء انفطرت) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج النسائي عن جابر قال " قام معاذ فصلى
العشاء فطول، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أفتان أنت يا معاذ؟ أين أنت عن سبح اسم ربك الأعلى،
والضحى، وإذا السماء انفطرت " وأصل الحديث في الصحيحين، ولكن بدون ذكر - إذا السماء انفطرت - وقد
تفرد بها النسائي، وقد تقدم في سورة التكوير حديث " من سره أن ينظر إلى يوم القيامة رأى عين فليقرأ إذا
الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت ".
الانفطار (1 - 19)
394

قوله (إذا السماء انفطرت) قال الواحدي: قال المفسرون: انفطارها انشقاقها كقوله - ويوم تشقق السماء
بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا - والفطر: الشق، يقال فطرته فانفطر، ومنه فطرناب البعير: إذا طلع، قيل والمراد
أنها انفطرت هنا لنزول الملائكة منها، وقيل انفطرت لهيبة الله (وإذا الكواكب انتثرت) أي تساقطت متفرقة:
يقال نثرت الشئ أنثره نثرا (وإذا البحار فجرت) أي فجر بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا، واختلط العذب
منها بالمالح. وقال الحسن: معنى فجرت ذهب ماؤها ويبست، وهذه الأشياء بين يدي الساعة كما تقدم في
السورة التي قبل هذه (وإذا القبور بعثرت) أي قلب ترابها وأخرج الموتى الذين هم فيها، يقال بعثر يبعثر بعثرة:
إذا قلب التراب، ويقال بعثر المتاع: قلبه ظهرا لبطن، وبعثرت الحوض وبحثرته: إذا هدمته وجعلت أعلاه أسفله،
قال الفراء: بعثرت أخرج ما في بطنها من الذهب والفضة، وذلك من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها،
ثم ذكر سبحانه الجواب عما تقدم فقال: (علمت نفس ما قدمت وأخرت) والمعنى: أنها علمته عند نشر الصحف لا عند
البعث، لأنه وقت واحد من عند البعث إلى عند مصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، والكلام في إفراد
نفس هنا كما تقدم في السورة الأولى في قوله - علمت نفس ما أحضرت - ومعنى (ما قدمت وأخرت) ما قدمت
من عمل خير أو شر، وما أخرت من سنة حسنة أو سيئة، لأن لها أجر ما سنته من السنن الحسنة وأجر من عمل بها،
وعليها وزر ما سنته من السنن السيئة ووزر من عمل بها. وقال قتادة: ما قدمت من معصية وأخرت من طاعة،
وقيل ما قدم من فرض وأخر من فرض، وقيل أول عمله وآخره، وقيل إن النفس تعلم عند البعث بما قدمت
وأخرت علما إجماليا، لأن المطيع يرى آثار السعادة، والعاصي يرى آثار الشقاوة، وأما العلم التفصيلي فإنما
يحصل عند نشر الصحف (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) هذا خطاب الكفار: أي ما الذي غرك وخدعك
حتى كفرت بربك الكريم الذي تفضل عليك في الدنيا بإكمال خلقك وحواسك، وجعلك عاقلا فاهما، ورزقك
وأنعم عليك بنعمه التي لا تقدر على جحد شئ منها. قال قتادة: غره شيطانه المسلط عليه. وقال الحسن: غره
شيطانه الخبيث، وقيل حمقه وجهله، وقيل غره عفو الله إذا لم يعاجله بالعقوبة أول مرة. كذا قال مقاتل (الذي
خلقك فسواك فعدلك) أي خلقك من نطفة ولم تك شيئا، فسواك رجلا تسمع وتبصر وتعقل، فعدلك: جعلك
معتدلا. قال عطاء: جعلك قائما معتدلا حسن الصورة. وقال مقاتل: عدل خلقك في العينين والأذنين واليدين
والرجلين، والمعنى: عدل بين ما خلق لك من الأعضاء. قرأ الجمهور " فعدلك " مشددا، وقرأ عاصم وحمزة
والكسائي بالتخفيف، واختار أبو حاتم وأبو عبيد القراءة الأولى. قال الفراء وأبو عبيد: يدل عليها قوله - لقد
خلقنا الإنسان في أحسن تقويم - ومعنى القراءة الأولى: أنه سبحانه جعل أعضاءه متعادلة لا تفاوت فيها، ومعنى
القراءة الثانية: أنه صرفه وأماله إلى أي صورة شاء، إما حسنا وإما قبيحا، وإما طويلا وإما قصيرا (في أي صورة
ما شاء ركبك) في أي صورة متعلق بركبك، وما مزيدة، وشاء صفة لصورة: أي ركبك في أي صورة شاءها
من الصور المختلفة، وتكون هذه الجملة كالبيان لقوله (فعدلك) والتقدير: فعدلك ركبك في أي صورة شاءها
ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال: أي ركبك حاصلا في أي صورة. ونقل أبو حيان عن بعض المفسرين
أنه متعلق بعدلك، واعترض عليه بأن أي لها صدر الكلام فلا يعمل فيها ما قبلها. وقال مقاتل والكلبي ومجاهد:
في أي شبه من أب أو أم أو خال أو عم. وقال مكحول: إن شاء ذكر وإن شاء أنثى، وقوله (كلا) للردع
والزجر عن الاغترار بكرم الله وجعله ذريعة إلى الكفر به والمعاصي له، ويجوز أن يكون بمعنى حقا، وقوله (بل
تكذبون بالدين) إضراب عن جملة مقدرة ينساق إليها الكلام كأنه قيل: بعد الردع وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل
395

تجاوزونه إلى ما هو أعظم منه من التكذيب بالدين وهو الجزاء، أو بدين الإسلام. قال ابن الأنباري: الوقف الجيد
على الدين وعلى ركبك، وعلى كلا قبيح، والمعنى: بل تكذبون يا أهل مكة بالدين: أي بالحساب، وبل لنفي
شئ تقدم وتحقيق غيره، وإنكار البعث قد كان معلوما عندهم وإن لم يجر له ذكر. قال الفراء: كلا ليس الأمر
كما غررت به. قرأ الجمهور " تكذبون " بالفوقية على الخطاب. وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة بالتحتية على
الغيبة، وجملة (وإن عليكم لحافظين) في محل نصب على الحال من فاعل تكذبون: أي تكذبون والحال أن عليكم
من يدفع تكذيبكم، ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة لبيان ما يبطل تكذيبهم، والحافظين الرقباء من الملائكة الذين
يحفظون على العباد أعمالهم ويكتبونها في الصحف. ووصفهم سبحانه بأنهم كرام لديه يكتبون ما يأمرهم به من
أعمال العباد، وجملة (يعلمون ما تفعلون) في محل نصب على الحال من ضمير كاتبين، أو على النعت، أو مستأنفة.
قال الرازي: والمعنى التعجيب من حالهم كأنه قال: إنكم تكذبون بيوم الدين، وملائكة الله موكلون بكم يكتبون
أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة، ونظيره قوله تعالى - عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه
رقيب عتيد -. ثم بين سبحانه حال الفريقين فقال (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) والجملة مستأنفة
لتقرير هذا المعنى الذي سيقت له، وهي كقوله سبحانه - فريق في الجنة وفريق في السعير - وقوله - يصلونها يوم
الدين - صفة لجحيم، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من الضمير في متعلق الجار والمجرور، أو مستأنفة
جواب سؤال مقدر، كأنه قيل ما حالهم؟ فقيل (يصلونها يوم الدين) أي يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به،
ومعنى يصلونها: أنهم يلزمونها مقاسين لوهجها وحرها يومئذ. قرأ الجمهور " يصلونها " مخففا مبنيا للفاعل،
وقرئ بالتشديد مبنيا للمفعول (وما هم عنها بغائبين) أي لا يفارقونها أبدا ولا يغيبون عنها، بل هم فيها، وقيل
المعنى: وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون حرها في قبورهم. ثم عظم سبحانه ذلك اليوم
فقال (وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين) أي يوم الجزاء والحساب، وكرره تعظيما لقدره وتفخيما
لشأنه، وتهويلا لأمره كما في قوله - القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة - و - الحاقة ما الحاقة وما أدراك
ما الحاقة - والمعنى: أي شئ جعلك داريا ما يوم الدين. قال الكلبي: الخطاب لإنسان الكافر. ثم أخبر سبحانه
عن اليوم فقال (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله) قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع " يوم " على أنه
بدل من يوم الدين، أو خبر مبتدإ محذوف. وقرأ أبو عمرو في رواية " يوم " بالتنوين، والقطع عن الإضافة.
وقرأ الباقون بفتحه على أنها فتحة إعراب بتقدير أعني أو أذكر، فيكون مفعولا به، أو على انها فتحة بناء لإضافته
إلى الجملة على رأي الكوفيين، وهو في محل رفع على أنه خبر مبتدإ محذوف، أو على أنه بدل من يوم الدين. قال
الزجاج: يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه مبني على الفتح لإضافته إلى قوله (لا تملك) وما أضيف إلى غير
المتمكن فقد يبني على الفتح، وإن كان في موضع رفع، وهذا الذي ذكره إنما يجوز عند الخليل وسيبويه إذا
كانت الإضافة إلى الفعل الماضي، وأمما إلى الفعل المستقبل فلا يجوز عندهما، وقد وافق الزجاج على ذلك
أبو علي الفارسي والفراء وغيرهما، والمعنى: أنها لا تملك نفس من النفوس لنفس أخرى شيئا من النفع أو الضر
(والأمر يومئذ لله) وحده لا يملك شيئا من الأمر غيره كائنا ما كان. قال مقاتل: يعني لنفس كافرة شيئا من
المنفعة. قال قتادة: ليس ثم أحد يقضي شيئا، أو يصنع شيئا إلا الله رب العالمين، والمعنى: أن الله لا يملك أحدا
في ذلك اليوم شيئا من الأمور كما ملكهم في الدنيا، ومثل هذا قوله - لمن الملك اليوم لله الواحد القهار -.
396

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله (وإذا البحار
فجرت) قال: بعضها في بعض، وفي قوله (وإذا القبور بعثرت) قال: بحثت. وأخرج ابن المبارك في الزهد
وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله (علمت نفس ما قدمت وأخرت) قال: ما قدمت من خير
وما أخرت من سنة صالحة يعمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، أو سنة سيئة تعمل بعده، فإن عليه مثل
وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيئا. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس نحوه. وأخرج الحاكم وصححه
عن حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " من استن خيرا فاستن به فله أجره ومثل أجور من اتبعه من
غير منتقص من أجورهم، ومن استن شرا فاستن به فعليه وزره ومثل أوزار من اتبعه من غير منتقص من
أوزارهم، وتلا حذيفة (علمت نفس ما قدمت وأخرت). وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية (ما غرك بربك الكريم) قال: غره والله جهله. وأخرج ابن جرير عن ابن
عباس قال: جعل الله على ابن آجم حافظين في الليل وحافظين في النهار يحفظان عمله ويكتبان أثره.
تفسير سورة المطففين
هي ست وثلاثون آية
قال القرطبي: وهي مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل، ومدنية في قول الحسن وعكرمة. وقال
مقاتل: أيضا هي أول سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة: هي مدنية إلا ثمان آيات من قوله (إن
الذين أجرموا) إلى آخرها. وقال الكلبي وجابر بن زيد: نزلت بين مكة والمدينة. وأخرج النحاس وابن مردويه
عن ابن عباس قال: نزلت سورة المطففين بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج ابن الضريس
عن ابن عباس قال: آخر ما نزل بمكة سورة المطففين. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الشعب. قال السيوطي
بسند صحيح عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا،
فأنزل الله (ويل للمطففين) فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
سورة المطففين (1 - 17)
397

قوله (ويل للمطففين) ويل مبتدأ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء، ولو نصب لجاز. قال مكي والمختار:
في ويل وشبهه إذا كان غير مضاف الرفع، ويجوز النصب، فإن كان مضافا أو معزفا كان لاختيار فيه النصب
نحو قوله - ويلكم لا تفتروا - وللمطففين خبره، والمطفف المنقص، وحقيقته الأخذ في الكيل أو الوزن شيئا طفيفا:
أي نزرا حقيرا. قال أهل اللغة: المطفف مأخوذ من الطفف، وهو القليل، فالمطفف هو المقلل حق صاحبه
بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن. قال الزجاج: إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف لأنه لا يكاد
يسرق في المكيال والميزان إلا الشئ اليسير الطفيف. قال أبو عبيدة والمبرد: المطفف الذي يبخس في الكيل والوزن.
والمراد بالويل هنا شدة العذاب، أو نفس العذاب، أو الشر الشديد، أو هو واد في جهنم. قال الكلبي: قدم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وهم يسيئون كيلهم ووزنهم لغيرهم، ويستوفون لأنفسهم، فنزلت
هذه الآية. وقال السدى: قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، وكان بها رجل يقال له أبو جهينة،
ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية. قال الفراء: هم بعد نزول هذه الآية أحسن
الناس كيلا إلى يومهم هذا. ثم بين سبحانه المطففين من هم؟ فقال (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون) إي
يستوفون الاكتيال والأخذ بالكيل. قال الفراء: يريد اكتالوا من الناس، وعلى ومن في هذا الموضع يعتقبان،
يقال اكتلت منك: أي استوفيت منك، وتقول اكتلت عليك: أي أخذت ما عليك. قال الزجاج: إذا اكتالوا
من الناس استوفوا عليهم الكيل، ولم يذكر اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فأحدهما يدل على الآخر.
قال الواحدي: قال المفسرون: يعني الذين إذا اشتروا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن، وإذا باعوا ووزنوا
لغيرهم نقصوا، وهو معنى قوله (وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذفت اللام
فتعدى الفعل إلى المفعول، فهو من باب الحذف والإيصال، ومثله نصحتك ونصحت لك، كذا قال الأخفش
والكسائي والفراء. قال الفراء: وسمعت أعرابية تقول: إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلفا المد والمدين إلى الموسم
المقبل. قال: وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس. قال الزجاج: لا يجوز الوقف على كالوا حتى
يوصل بالضمير، ومن الناس من يجعله توكيدا: أي توكيدا للضمير المستكن في الفعل، فيجيز الوقف على
كالوا أو وزنوا. قال أبو عبيد: وكان عيسى بن عمر يجعلهما حرفين، ويقف على كالوا أو وزنوا، ثم يقول
هم يخسرون. قال: وأحسب قراءة حمزة كذلك. قال أبو عبيد: والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين:
إحداهما الخط، ولذلك كتبوهما بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا كالوا أو وزنوا بالألف. والأخرى أنه
يقال: كلتك ووزنتك بمعنى: كلت لك ووزنت لك وهو كلام عربي، كما يقال صدتك وصدت لك،
وكسبتك وكسبت لك، وشكرتك وشكرت لك ونحو ذلك. وقيل هو على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه
مقامه، والمضاف المكيل والموزون: أي وإذا كالوا مكيلهم، أو وزنوا موزونهم، ومعنى يخسرون: ينقصون
كقوله - ولا تخسروا الميزان - والعرب تقول: خسرت الميزان وأخسرته: ثم خوفهم سبحانه فقال (ألا يظن
أولئك أنهم مبعوثون) والجملة مستأنفة مسوقة لتهويل ما فعلوه من التطفيف وتفظيعه وللتعجيب من حالهم في
الاجتراء عليه، والإشارة بقوله (أولئك) إلى المطففين، والمعنى: أنهم لا يخطرون ببالهم أنهم مبعوثون فمسئولون
398

عما يفعلون. قيل والظن هنا بمعنى اليقين: أي لا يوقن أولئك، ولو أيقنوا ما نقصوا الكيل والوزن، وقيل الظن
على بابه، والمعنى: إن كانوا لا يستيقنون البعث، فهلا ظنوه حتى يتدبروا فيه ويبحثوا عنه ويتركوا ما يخشون
من عاقبته. واليوم العظيم هو يوم القيامة، ووصفه بالعظم لكونه زمانا لتلك الأمور العظام من البعث والحساب
والعقاب، ودخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. ثم أخبر عن ذلك اليوم فقال (يوم يقوم الناس لرب
العالمين) انتصاب الظرف بمبعوثون المذكور قبله، أو بفعل مقدر يدل عليه مبعوثون. أي يبعثون يوم يقوم
الناس، أو على البدل من محل ليوم، أو بإضمار أعني، أو هو في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو في
محل جر على البدل من لفظ ليوم، وإنما بنى على الفتح في هذين الوجهين لإضافته إلى الفعل. قال الزجاج: يوم
منصوب بقوله مبعوثون، المعنى: ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة، ومعنى يوم يقوم الناس: يوم يقومون من
قبورهم لأمر رب العالمين، أو لجزائه، أو لحسابه، أو لحكمه وقضائه. وفي وصف اليوم بالعظم مع قيام الناس لله
خاضعين فيه ووصفه سبحانه بكونه رب العالمين دلالة على عظم ذنب التطفيف، ومزيد إثمه وفظاعة عقابه. وقيل
المراد بقوله (يوم يقوم الناس) قيامهم في رشحهم إلى أنصاف آذانهم، وقيل المراد قيامهم بما عليهم من حقوق
العباد، وقيل المراد قيام الرسل بين يدي الله للقضاء، والأول أولى. قوله (كلا) هي للردع والزجر للمطففين
الغافلين عن البعث وما بعده. ثم استأنف فقال (إن كتاب الفجار لفي سجين) وعند أبي حاتم أن كلا بمعنى حقا
متصلة بما بعدها على معنى: حقا إن كتاب الفجار لفي سجين، وسجين هو ما فسره به سبحانه من قوله (وما أدراك
ما سجين. كتاب مرقوم) فأخبر بهذا أنه كتاب مرقوم: أي مسطور، قيل هو كتاب جامع لأعمال الشر الصادر
من الشياطين والكفرة والفسقة، ولفظ سجين علم له. وقال قتادة وسعيد بن جبير ومقاتل وكعب: إنه صخرة تحت
الأرض السابعة تقلب، فيجعل كتاب الفجار تحتها، وبه قال مجاهد، فيكون في الكلام على هذا القول مضاف
محذوف، والتقدير: محل كتاب مرقوم. وقال أبو عبيدة والأخفش والمبرد والزجاج (لفي سجين) لفي حبس
وضيق شديد، والمعنى: كأنهم في حبس، جعل ذلك دليلا على خساسة منزلتهم وهوانها. قال الواحدي: ذكر
قوم أن قوله (كتاب مرقوم) تفسير لسجين، وهو بعيد لأنه ليس السجين من الكتاب في شئ على ما حكيناه
عن المفسرين، والوجه أن يجعل بيانا لكتاب المذكور في قوله (إن كتاب الفجار) على تقدير هو كتاب مرقوم:
أي مكتوب قد بينت حروفه انتهى، والأولى ما ذكرناه، ويكون المعنى: إن كتاب الفجار الذين من جملتهم
المطففون: أي ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم لفي ذلك الكتاب المدون للقبائح المختص بالشر، وهو سجين.
ثم ذكر ما يدل على تهويله وتعظيمه، فقال (وما أدراك ما سجين) ثم بينه بقوله (كتاب مرقوم). قال الزجاج:
معنى قوله (وما أدراك ما سجين) ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك. قال قتادة: ومعنى مرقوم: رقم لهم
بشر كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه كافر. وكذا قال مقاتل. وقد اختلفوا في نون سجين، فقيل هي أصلية واشتقاقه
من السجن، وهو الحبس، وهو بناء مبالغة كخمير وسكير وفسيق، من الخمر والسكر والفسق. وكذا قال
أبو عبيدة والمبرد والزجاج. قال الواحدي: وهذا ضعيف لأن العرب ما كانت تعرف سجينا. ويجاب عنه بأن
رواية هؤلاء الأئمة تقوم بها الحجة، وتدل على أنه من لغة العرب، ومنه قول ابن مقبل:
ورفقة يضربون البيض ضاحية * ضربا تواصت به الأبطال سجينا
وقيل النون بدل من اللام، والأصل سجيل، مشتقا من السجل، وهو الكتاب. قال ابن عطية: من قال إن سجينا
موضع فكتاب مرفوع على أنه خبر إن، والظرف وهو قوله (لفي سجين) ملغى، ومن جعله عبارة عن الكتاب،
399

فكتاب خبر مبتدإ محذوف، التقدير: هو كتاب، ويكون هذا الكلام مفسرا لسجين ما هو؟ كذا قال. قال
الضحاك: مرقوم مختوم بلغة حمير، وأصل الرقم الكتابة. قال الشاعر:
سأرقم بالماء القراح إليكم * على بعدكم إن كان للماء راقم
(ويل يومئذ للمكذبين) هذا متصل بقوله (يوم يقوم الناس لرب العالمين) وما بينهما اعتراض، والمعنى:
ويل يوم القيامة لمن وقع منه التكذيب بالبعث وبما جاءت به الرسل. ثم بين سبحانه هؤلاء المكذبين فقال (الذين
يكذبون بيوم الدين) والموصول صفة للمكذبين، أو بدل منه (وما يكذب به إلا كل معتد أثيم) أي فاجر جائر
متجاوز في الإثم منهمك في أسبابه (إذا تتلى عليه آياتنا) المنزلة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قال أساطير
الأولين) أي أحاديثهم وأباطيلهم التي زخرفوها. قرأ الجمهور إذا تتلى بفوقيتين. وقرأ أبو حيوة وأبو السماك
والأشهب العقيل والسلمي بالتحتية، وقوله (كلا) للردع والزجر للمعتدى الأثيم عن ذلك القول الباطع وتكذيب
له، وقوله (بل ران على قلوبهم: ما كانوا يكسبون) بيان للسبب الذي حملهم على قولهم بأن القرآن أساطير الأولين.
قال أبو عبيدة: ران على قلوبهم: غلب عليها رينا وريونا، وكل ما غلبك وعلاك فقد ران بك وران عليك.
قال الفراء: هو أنها كثرت منهم المعاصي والذنوب فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها. قال الحسن: هو
الذنب على الذنب حتى يعمى القلب. قال مجاهد: القلب مثل الكف، ورفع كفه فإذا أذنب انقبض وضم أصبعه،
فإذا أذنب ذنبا آخر انقبض وضم أخرى حتى ضم أصابعه كلها حتى يطبع على قلبه. قال: وكانوا يرون أن ذلك
هو الرين. ثم قرأ هذه الآية. قال أبو زيد: يقال قدرين بالرجل رينا: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا
قبل له به. وقال أبو معاذ النحوي: الرين أن يسود القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب وهو أشد من
الرين، والإقفال أشد من الطبع. قال الزجاج: الرين هو كالصدإ يغشى القلب كالغيم الرقيق، ومثله الغين. ثم
كرر سبحانه الردع والزجر فقال (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) وقيل كلا بمعنى حقا: أي حقا إنهم،
يعنى الكفار عن ربهم يوم القيامة لا يرونه أبدا. قال مقاتل: يعنى أنهم بعد العرض والحساب لا ينظرون إليه نظر
المؤمنين إلى ربهم. قال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. قال
الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة. وقال
جل ثناؤه - وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظره - فأعلم جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون، وأعلم أن الكفار محجوبون
عنه. وقيل هو تمثيل لإهانتهم بإهانة من يحجب عن الدخول على الملوك. وقال قتادة وابن أبي ملكية: هو أن
لا ينظر إليهم برحمته ولا يزكيهم. وقال مجاهد: محجوبون عن كرامته، وكذا قال ابن كيسان (ثم إنهم لصالوا
الجحيم) أي داخلوا النار وملازموها غير خارجين منها، وثم لنراخي الرتبة، لأن صلى الجحيم أشد من الإهانة
وحرمان الكرامة (ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون) أي تقول لهم خزنة جهنم تبكيتا وتوبيخا: هذا الذي كنتم به
تكذبون في الدنيا فانظروه وذو قوه.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما نقض قوم العهد إلا
سلط الله عليهم عدوهم، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما
عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (يوم يقوم الناس لرب العالمين) حتى يغيب أحدهم في رشحه
إلى أنصاف أذنيه ". وأخرج الطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عمر قال
400

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية " (يوم يقوم الناس لرب العالمين) قال: فكيف إذا جمعكم الله
كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم ". وأخرج أبو يعلى وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يوم يقوم الناس لرب العالمين) بمقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة،
فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس إلى الغروب إلى أن تغرب. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إذا
حشر الناس قاموا أربعين عاما. وأخرجه ابن مردويه من حديثه مرفوعا. وأخرج الطبراني عن ابن عمر أنه قال:
يا رسول الله كم مقام الناس بين يدي رب العالمين يوم القيامة؟ قال: ألف سنة لا يؤذن لهم. وأخرج ابن المبارك
في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق شمر بن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله (كلا إن
كتاب الفجار لفي سجين) قال: إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها، فيهبط بها إلى الأرض
فتأبى أن تقبلها، فيدخل بها تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين، وهو خد إبليس، فيخرج لها من تحت
خد إبليس كتابا فيختم ويوضع تحت خد إبليس. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال (سجين) أسفل
الأرضين. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " الفلق جب في جهنم مغطى،
وأما سجين فمفتوح " قال ابن كثير: هو حديث غريب منكر لا يصح. وأخرج ابن مردويه عن عائشة عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال (سجين) الأرض السابعة السفلى. وأخرج ابن مردويه عن جابر نحوه مرفوعا. وأخرج
عبد بن حميد وابن ماجة والطبراني والبيهقي في البعث عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: لما حضرت كعبا الوفاة
أتته أم بشر بنت البراء فقالت: إن لقيت ابني فأقرئه منى السلام، فقال: غفر الله لك يا أم بشر نحن أشغل من
ذلك، فقالت: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة حين شاءت،
وإن نسمة الكافر في سجين؟ قال: بلى، قالت: فهو ذلك ". وأخرج ابن المبارك نحوه عن سلمان. وأخرج أحمد
وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن
مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت
في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تغلف قلبه، فذلك الران الذي
ذكره الله سبحانه في القرآن (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) ".
سورة المطففين (18 - 36)
401

قوله (كلا) للردع والزجر عما كانوا عليه، والتكرير للتأكيد، وجملة (إن كتاب الأبرار لفي عليين)
مستأنفة لبيان ما تضمنته، ويجوز أن يكون كلا بمعنى حقا، والأبرار هم المطيعون، وكتابهم صحائف حسناتهم.
قال الفراء: عليين ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له، ووجه هذا أنه منقول من جمع على من العلو. قال الزجاج:
هو إعلاء الأمكنة. قال الفراء والزجاج: فأعرب كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع ولا واحد له من لفظه نحو
ثلاثين وعشرين وقنسرين، قيل هو علم لديوان الخير الذي دون فيه ما عمله الصالحون. وحكى الواحدي عن
المفسرين أنه السماء السابعة. قال الضحاك ومجاهد وقتادة: يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين. وقال الضحاك:
هو سدرة المنتهى ينتهي إليه كل شئ من أمر الله لا يعدوها، وقيل هو الجنة. وقال قتادة أيضا: هو فوق السماء
السابعة عند قائمة العرش اليمنى، وقيل إن عليين صفة للملائكة فإنهم في الملأ الأعلى كما يقال فلان في بني فلان:
أي في جملتهم (وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم) أي وما أعلمك يا محمد أي شئ عليون على جهة التفخيم والتعظيم
لعليين، ثم فسره فقال (كتاب مرقوم) أي مسطور، والكلام في هذا كالكلام المتقدم في قوله (وما أدراك ما سجين
كتاب مرقوم) وجملة (يشهده المقربون) صفة أخرى لكتاب، والمعنى: أن الملائكة يحضرون ذلك الكتاب
المرقوم، وقيل يشهدون بما فيه يوم القيامة. قال وهب وابن إسحاق: المقربون هنا إسرافيل، فإذا عمل المؤمن عمل
البر صعدت الملائكة بالصحيفة ولها نور يتلألأ في السماوات كنور الشمس في الأرض حتى تنتهي بها إلى إسرافيل
فيختم عليها. ثم ذكر سبحانه حالهم في الجنة بعد ذكر كتابهم فقال (إن الأبرار لفي نعيم) أي إن أهل الطاعة لفي
تنعم عظيم لا يقادر قدره (على الأرائك ينظرون) الأرائك: الأسرة التي في الحجال، وقد تقدم أنها لا تطلق
الأريكة على السرير إلا إذا كان في حجلة. قال الحسن: ما كنا ندري ما الأرائك حتى قدم علينا رجل من اليمن،
فزعم أن الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير. ومعنى (ينظرون) أنهم ينظرون إلى ما أعد الله لهم من
الكرامات، كذا قال عكرمة ومجاهد وغيرهما. وقال مقاتل: ينظرون إلى أهل النار، وقيل ينظرون إلى وجهه
وجلاله (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) أي إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة لما تراه في وجوههم من النور
والحسن والبياض والبهجة والرونق، والخطاب لكل راء يصلح لذلك، يقال أنضر النبات: إذا أزهر ونور. قال
عطاء: وذلك أن الله زاد في جمالهم وفي ألوانهم مالا يصفه واصف. قرأ الجمهور " تعرف " بفتح الفوقية وكسر
الراء، ونصب نضرة، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وطلحة وابن أبي إسحاق بضم الفوقية وفتح الراء
على البناء للمفعول، ورفع نضرة بالنيابة (يسقون من رحيق مختوم) قال أبو عبيدة والأخفش والمبرد والزجاج:
الرحيق من الخمر مالا غش فيه ولا شئ يفسده، والمختوم الذي له ختام. وقال الخليل: الرحيق أجود الخمر
وفي الصحاح الرحيق صفرة الخمر. وقال مجاهد: هو الخمر العتيقة البيضاء الصافية، ومنه قول حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم * بردى يصفق بالرحيق السلسل
قال مجاهد (مختوم) مطين كأنه ذهب إلى معنى الختم بالطين، ويكون المعنى: أنه ممنوع من أن تمسه يد إلى
أن يفك ختمه للأبرار. وقال سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي: ختامه آخر طعمه، وهو معنى قوله (ختامه مسك)
أي آخر طعمه ريح المسك إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك. وقيل مختوم أوانيه من
الأكواب والأباريق بمسك مكان الطين، وكأنه تمثيل لكمال نفاسته وطيب رائحته. والحاصل أن المختوم والختام
402

إما أن يكون من ختام الشئ وهو آخره، أو من ختم الشئ وهو جعل الخاتم عليه كما تختم الأشياء بالطين ونحوه.
قرأ الجمهور " ختامه " وقرأ على وعلقمة وشقيق والضحاك وطاووس والكسائي " خاتمه " بفتح الخاء والتاء وألف
بينهما. قال علقمة: أما رأيت المرأة تقول للعطار: اجعل خاتمه مسكا: أي آخره، والخاتم والختام يتقاربان
في المعنى، إلا أن الخاتم الاسم والختام المصدر، كذا قال الفراء قال في الصحاح: والختام الطين الذي يختم به، وكذا
قال ابن زيد. قال الفرزدق:
وتبين بجانبي مصرعات * وبت أفض أغلاف الختام
(وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) أي فليرغب الراغبون، والإشارة بقوله " ذلك إلى الرحيق الموصوف بتلك
الصفة، وقيل إن في بمعنى إلى: أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل كما في قوله - لمثل هذا فليعمل العاملون -
وأصل التنافس التشاجر على الشئ والتنازع فيه، بأن يحب كل واحد أن يتفرد به دون صاحبه، يقال
نفست الشئ عليه أنفسه نفاسة: أي ظننت به ولم أحب أن يصير إليه. قال البغوي: أصله من الشئ النفيس
الذي تحرص عليه نفوس الناس فيريده كل واحد لنفسه، وينفس به على غيره: أي يظن به. قال عطاء: المعنى
فليستبق المستبقون. وقال مقاتل بن سليمان: فليتنازع المتنازعون، وقوله (ومزاجه من تسنيم) معطوف على
(ختامه مسك) صفة أخرى لرحيق: أي ومزاج ذلك الرحيق من تسنيم، وهو شراب ينصب عليهم من علو، وهو
أشرف شراب الجنة، وأصل التسنيم في اللغة الارتفاع، فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل، ومنه سنام البعير
لعلوه من بدنه، ومنه تسنيم القبور، ثم بين ذلك فقال (عينا يشرب بها المقربون) وانتصاب عينا على المدح.
وقال الزجاج: على الحال، وإنما جاز أن تكون عينا حالا مع كونها جامدة غير مشتقة لاتصافها بقوله يشرب
بها) وقال الأخفش: إنها منصوبة بيسقون: أي يسقون عينا، أو من عين. وقال الفراء: إنها منصوبة بتسنيم
على أنه مصدر مشتق من السنام كما قي قوله - أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما - والأول أولى، وبه قال المبرد.
قيل والباء في بها زائدة: أي يشربها، أو بمعنى من: أي يشرب منها. قال ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من
تحت العرش، قيل يشرب بها المقربون صرفا، ويمزج بها كأس أصحاب اليمين. ثم ذكر سبحانه بعض قبائح
المشركين فقال (إن الذين أجرموا) وهم كفار قريش ومن وافقهم على الكفر (كانوا من الذين آمنوا يضحكون)
أي كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين، ويسخرون منهم (وإذا مروا بهم) أي وإذا مر المؤمنون بالكفار وهم في
مجالسهم (يتغامزون) من الغمز، وهو الإشارة بالجفون والحواجب: أي يغمز بعضهم بعضا، ويشيرون بأعينهم
وحواجبهم، وقيل يعيرونهم بالإسلام ويعيبونهم به (وإذا انقلبوا) أي الكفار (إلى أهلهم) من مجالسهم (انقلبوا
فاكهين) أي معجبين بما هم فيه متلذذين به، يتفكهون بذكر المؤمنين والطعن فيهم والاستهزاء بهم والسخرية
منهم، والانقلاب: الانصراف. قرأ الجمهور " فاكهين " وقرأ حفص وابن القعقاع والأعرج والسلمي " فكهين "
بغير الألف. قال الفراء: هما لغتان، مثل طمع وطامع، وحذر وحاذر. وقد تقدم بيانه في سورة الدخان أن
الفكه: الأشر البطر، والفاكه: الناعم المتنعم (وإذا رأوهم) أي إذا رأى الكفار المسلمين في أي مكان (قالوا
إن هؤلاء لضالون) في اتباعهم محمدا، وتمسكهم بما جاء به، وتركهم التنعم الحاضر، ويجوز أن يكون المعنى:
وإذا رأى المسلمون الكافرين قالوا هذا القول، والأول أولى، وجملة (وما أرسلوا عليهم حافظين) في محل
نصب على الحال من فاعل قالوا: أي قالوا ذلك أنهم لم يرسلوا على المسلمين من جهة الله موكلين بهم يحفظون عليهم
أحوالهم وأعمالهم (فاليوم الذين آمنوا) المراد باليوم: اليوم الآخر (من الكفار يضحكون) والمعنى: أن المؤمنين
403

في ذلك اليوم يضحكون من الكفار حين يرونهم أذلاء مغلوبين قد نزل بهم ما نزل من العذاب، كما ضحك الكفار
منهم في الدنيا، وجملة (على الأرائك ينظرون) في محل نصب على الحال من فاعل يضحكون: أي يضحكون
منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الحال الفظيع، وقد تقدم تفسير الأرائك قريبا. قال الواحدي: قال
المفسرون: إن أهل الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعداء الله وهم يعذبون في النار، فضحكوا منهم كما
ضحكوا منهم في الدنيا. وقال أبو صالح: يقال لأهل النار أخرجوا ويفتح لهم أبوابها، فإذا رأوها قد فتحت
أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، فذلك
قوله - فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون - (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) الجملة مستأنفة لبيان أنه قد
وقع الجزاء للكفار بما كان يقع منهم في الدنيا من الضحك من المؤمنين والاستهزاء بهم، والاستفهام للتقرير،
وثوب بمعنى أثيب، والمعنى: هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلونه بالمؤمنين؟ وقيل الجملة في محل نصب
بينظرون، وقيل هي على إضمار القول: أي يقول بعض المؤمنين لبعض هل ثوب الكفار، والثواب ما يرجح على
العبد في مقابلة عمله ويطلق على الخير والشر.
وقد أخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق شمر بن عطية أن ابن عباس سأل كعب
الأحبار عن قوله (إن كتاب الأبرار لفي عليين) قال: روح المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء، ففتح لها
أبواب السماء وتلقاها الملائكة بالبشرى حتى تنتهي بها إلى العرش وتعرج الملائكة، فيخرج لها من تحت العرش
رق فيرقم ويختم ويوضع تحت العرش لمعرفة النجاة لحساب يوم الدين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن ابن عباس (لفي عليين) قال: الجنة، وفي قوله (يشهده المقربون) قال: أهل السماء. وأخرج أحمد
وأبو داود والطبراني وابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " صلاة على أثر
صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين ". وأخرج ابن المنذر عن علي بن أبي طالب في قوله (نضرة النعيم) قال:
عين في الجنة يتوضئون منها ويغتسلون فتجرى عليهم نضرة النعيم. وأخرج عبد بن حميد وسعيد بن منصور
وابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن مسعود في قوله (يسقون من رحيق مختوم) قال:
الرحيق الخمر، والمختوم يجدون عاقبتها طعم المسك. وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر عنه في قوله (مختوم)
قال: ممزوج (ختامه مسك) قال: طعمه وريحه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في
البعث عن ابن عباس في قوله (من رحيق) قال: خمر، وقوله (مختوم) قال: ختم بالمسك. وأخرج الفريابي
والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن مسعود في قوله (ختامه مسك) قال: ليس بخاتم يختم به، ولكن خلطه
مسك، ألم تر إلى المرأة من نسائكم تقول خلطه من الطيب كذا وكذا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن
أبي الدرداء (ختامه مسك) قال: هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شرابهم، ولو أن رجلا من أهل
الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريحها. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد
ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال (تسنيم) أشرف شراب أهل الجنة، وهو صرف للمتقين
ويمزج لأصحاب اليمين. وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن مسعود (مزاجه من تسنيم) قال: عين في الجنة تمزج لأصحاب اليمين ويشربها المقربون صرفا.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس أنه سئل عن قوله (ومزاجه من تسنيم) قال: هذا مما قال الله
- فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين -.
404

تفسير سورة الإنشقاق
هي ثلاث وعشرون آية، وقيل خمس وعشرون آية
وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت
سورة الانشقاق بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي رافع
قال: " صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد، فقلت له، فقال: سجدت خلف أبي القاسم
صلى الله عليه وآله وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه ". وأخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة قال:
" سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في (إذا السماء انشقت) - واقرأ باسم ربك - ". وأخرج ابن خزيمة
والروياني في مسنده، والضياء المقدسي في المختارة عن بريدة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الظهر
(إذا السماء انشقت) ونحوها ".
سورة الانشقاق (1 - 25)
قوله (إذا السماء انشقت) هو كقوله - إذا الشمس كورت - في إضمار الفعل وعدمه. قال الواحدي: قال
المفسرون: انشقاقها من علامات القيامة، ومعنى انشقاقها: انفطارها بالغمام الأبيض كما في قوله - ويوم تشقق
السماء بالغمام - وقيل تنشق من المجرة، والمجرة باب السماء.
واختلف في جواب إذا، فقال الفراء: إنه أذنت، والواو زائدة، وكذلك ألقت. قال ابن الأنباري: هذا
405

غلط، لأن العرب لا تقحم الواو إلا مع حتى إذا كقوله - حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها - ومع لما كقوله - فلما
أسلما وتله للجبين وناديناه - ولا تقحم مع غير هذين. وقيل إن الجواب قوله - فملاقيه - أي فأنت ملاقيه، وبه
قال الأخفش: وقال المبرد: إن في الكلام تقديما وتأخيرا: أي يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه
إذا السماء انشقت. وقال المبرد أيضا: إن الجواب قوله (فأما من أوتى كتابه بيمينه) وبه قال الكسائي، والتقدير:
إذا السماء انشقت فمن أوتي كتابه بيمينه فحكمه كذا، وقيل هو (يا أيها الإنسان) على إضمار الفاء، وقيل إنه (يا أيها
الإنسان) على إضمار القول: أي يقال له يا أيها الإنسان وقيل الجواب محذوف تقديره بعثتم، أو لا قي كل إنسان
عمله، وقيل هو ما صرح به في سورة التكوير: أي علمت نفس هذا، على تقدير أن إذا شرطية، وقيل ليست
بشرطية وهي منصوبة بفعل محذوف: أي أذكر، أو هي مبتدأ وخبرها إذا الثانية والواو مزيدة وتقديره: وقت
انشقاق السماء وقت مد الأرض، ومعنى (وأذنت لربها) أنها أطاعته في الانشقاق من الإذن، وهو الاستماع للشئ
والإصغاء إليه (وحقت) أي وحق لها أن تطيع وتنقاد وتسمع، ومن استعمال الإذن في الاستماع قول الشاعر:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقول الآخر: إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا * منى وما أذنوا من صالح دفنوا
وقيل المعنى. وحقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق: أي جعلها حقيقة بذلك. قال الضحاك: حقت
أطاعت، وحق لها أن تطيع ربها لأنه خلقها، يقال فلان محقوق بكذا، ومعنى طاعتها: أنها لا تمنع مما أراده الله
بها. قال قتادة: حق لها أن تفعل ذلك، ومن هذا قول كثير:
فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا * وحقت لها العتبى لدينا وقلت
(وإذا الأرض مدت) أي بسطت كما تبسط الأدم، ودكت جبالها حتى صارت قاعا صفصفا لا ترى فيها
عوجا ولا أمتا. قال مقاتل: سويت كمد الأديم فلا يبقى عليها بناء ولا جبل إلا دخل فيها، وقيل مدت زيد في
سعتها، من المدد، وهو الزيادة (وألقت ما فيها) أي أخرجت ما فيها من الأموات والكنوز وطرحتهم إلى ظهرها
(وتخلت) من ذلك. قال سعيد بن جبير: ألقت ما في بطنها من الموتى وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء، ومثل
هذا قوله - وأخرجت الأرض أثقالها - (وأذنت لربها) أي سمعت وأطاعت لما أمرها به من الإلقاء والتخلي
(وحقت) أي وجعلت حقيقة بالاستماع لذلك والانقياد له، وقد تقدم بيان معنى الفعلين قبل هذا (يا أيها الإنسان)
المراد جنس الإنسان فيشمل المؤمن والكافر، وقيل هو الإنسان الكافر، والأول أولى لما سيأتي من التفصيل (إنك
كادح إلى ربك كدحا) الكدح في كلام العرب: السعي في الشئ بجهد من غير فرق بين أن يكون ذلك الشئ
خيرا أو شرا، والمعنى: أنك ساع إلى ربك في عملك، أو إلى لقاء ربك، مأخوذ من كدح جلده: إذا خدشه.
قال ابن مقبل:
وما الدهر إلا تارتان فمنها * أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
قال قتادة والضحاك والكلبي: عامل لربك عملا (فملاقيه) أي فملاق عملك، والمعنى: أنه لا محالة ملاق
لجزاء عمله وما يترتب عليه من الثواب والعقاب قال القتيبي: معنى الآية: إنك كادح: أي عامل ناصب في
معيشتك إلى لقاء ربك. والملاقاة بمعنى اللقاء: أي تلقى ربك بعملك، وقيل فملاق كتاب عملك، لأن العمل قد
انقضى (فأما من أوتى كتابه بيمينه) وهم المؤمنون (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) لا مناقشة فيه. قال مقاتل:
406

لأنها تغفر ذنوبه ولا يحاسب بها. وقال المفسرون: هو أن تعرض عليه سيئاته ثم يغفرها الله، فهو الحساب اليسير
(وينقلب إلى أهله مسرورا) أي وينصرف بعد الحساب اليسير إلى أهله الذين هم في الجنة من عشيرته، أو إلى أهله
الذين كانوا له في الدنيا من الزوجات والأولاد وقد سبقوه إلى الجنة، أو إلى من أعده الله له في الجنة من الحور
العين والوالدان المخلدين، أو إلى جميع هؤلاء مسرورا مبتهجا بما أوتى من الخير والكرامة (وأما من أوتى
كتابه وراء ظهره) قال الكلبي: لأن يمينه مغلولة إلى عنقه، وتكون يده اليسرى خلفه. وقال قتادة ومقاتل:
تفك ألواح صدره وعظامه، ثم تدخل يده وتخرج من ظهره فيأخذ كتابه كذلك (فسوف يدعوا ثبورا) أي إذا
قرأ كتابه قال: يا ويلاه يا ثبوراه، والثبور الهلاك (ويصلى سعيرا) أي يدخلها ويقاسي حر نارها وشدتها. قرأ
أبو عمرو وحمزة وعاصم بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديدها،
وروى إسماعيل المكي عن ابن كثير وكذلك خارجة عن نافع وكذلك روى إسماعيل المكي عن ابن كثير أنهم
قرءوا بضم الياء وإسكان الصاد من أصلى يصلى (إنه كان في أهله مسرورا) أي كان بين أهله في الدنيا مسرورا
باتباع هواه وركوب شهوته بطرا أشرا لعدم خطور الآخرة بباله، والجملة تعليل لما قبلها، وجملة (إنه ظن أن لن
يحور) تعليل لكونه كان في الدنيا في أهله مسرورا، والمعنى: أن سبب ذلك السرور ظنه بأنه لا يرجع إلى الله ولا
يبعث للحساب والعقاب لتكذيبه بالبعث وجحده للدار الآخرة، وأن في قوله (أن لن يحور) هي المخففة من الثقيلة
سادة مع ما في حيزها مسد مفعولي ظن، والحور في اللغة: الرجوع، يقال حار يحور: إذا رجع، وقال
الراغب: الحور التردد في الأمر، ومنه نعوذ بالله من الحور بعد الكور: أي من التردد في الأمر بعد المضي فيه،
ومحاورة الكلام مراجعته، والمحار المرجع والمصير. قال عكرمة وداود بن أبي هند: يحور كلمة بالحبشية ومعناها
يرجع. قال القرطبي: الحور في كلام العرب: الرجوع، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم " اللهم إني أعوذ
بك من الحور بعد الكور " يعني من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة، وكذلك الحور بالضم، وفي المثل حور في
محار: أي نقصان في نقصان، ومنه قول الشاعر: والدم يسفى وراد القوم في حور * والحور
أيضا الهلكة، ومنه قول الراجز: في بئر لا حور سرا وما شعر قال أبو عبيدة: أي في بئر حور،
ولا زائدة (بلى إن ربه كان به بصيرا) بلى إيجاب للمنفي بلن: أي بلى ليحورن وليبعثن. ثم علل ذلك بقوله
(إن ربه كان به بصيرا) أي كان به وبأعماله عالما لا يخفى عليه منها خافية. قال الزجاج: كان به بصيرا قبل أن
يخلقه عالما بأن مرجعه إليه (فلا أقسم بالشفق) لا زائدة، كما تقدم في أمثال هذه العبارة، وقد قدمنا الاختلاف
فيها في سورة القيامة فارجع إليه، والشفق: الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء الآخرة.
قال الواحدي: هذا قول المفسرين وأهل اللغة جميعا. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصبوغ
كأنه الشفق وكان أحمر، وحكاه القرطبي عن أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء. وقال أسد بن عمر وأبو حنيفة:
في إحدى الروايتين عنه إنه البياض، ولا وجه لهذا القول ولا متمسك له لا من لغة العرب ولا من الشرع. قال
الخليل: الشفق الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة. قال في الصحاح: الشفق بقية ضوء الشمس
وحمرتها في أول الليل إلى قريب العتمة، وكتب اللغة والشرع مطبقة على هذا، ومنه قول الشاعر:
قم يا غلام أعني غير مرتبك * على الزمان بكأس حشوها شفق
وقال آخر: أحمر اللون كحمرة الشفق * وقال مجاهد: الشفق النهار كله ألا تراه قال (والليل وما وسق
وقال عكرمة: هو ما بقي من النهار، وإنما قالا هذا لقوله بعده (والليل وما وسق) فكأنه تعالى أقسم بالضياء
407

والظلام، ولا وجه لهذا، على أنه قد روى عن عكرمة أنه قال: الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء،
وروى عن أسد بن عمر الرجوع (والليل وما وسق) الوسق عند أهل اللغة: ضم الشئ بعضه إلى بعض، يقال
استوسقت الإبل: إذا اجتمعت وانضمت، والراعي يسقها: أي يجمعها. قال الواحدي: المفسرون يقولون:
وما جمع وضم وحوى ولف، والمعنى: أنه جمع وضم ما كان منشرا بالنهار في تصرفه، وذلك أن الليل إذا أقبل
آوى كل شئ إلى مأواه، ومنه قول ضابئ بن الحرث البرجمي:
فإني وإياكم وسوقا إليكم * كقابض شيئا لم تنله أنامله
وقال عكرمة (وما وسق) أي وما ساق من شئ إلى حيث يأوي، فجعله من السوق لا من الجمع، وقيل
(وما وسق) أي وما جن وستر، وقيل " وما وسق " أي وما حمل، وكل شئ حملته فقد وسقته، والعرب
تقول: لا أحمله ما وسقت عيني الماء: أي حملته، ووسقت الناقة تسق وسقا: أي حملت. قال قتادة والضحاك
ومقاتل بن سليمان: وما وسق وما حمل من الظلمة، أو حمل من الكواكب. قال القشيري: ومعنى حمل ضم
وجمع، والليل يحمل بظلمته كل شئ. وقال سعيد بن جبير: وما وسق: أي وما عمل فيه من التهجد والاستغفار
بالأسحار، والأول أولى (والقمر إذا اتسق) أي اجتمع وتكامل. قال الفراء: اتساقه امتلاؤه واجتماعه واستواؤه
ليلة ثالث عشر ورابع عشر إلى ست عشرة، وقد افتعل من الوسق الذي هو الجمع. قال الحسن: اتسق امتلأ
واجتمع. وقال قتادة: استدار، يقال وسقته فاتسق، كما يقال وصلته فاتصل، ويقال أمر فلان متسق: أي
مجتمع منتظم، ويقال اتسق الشئ: إذا تتابع (لتركبن طبقا عن طبق) هذا جواب القسم. قرأ حمزة والكسائي وابن
كثير وأبو عمرو لتركبن بفتح الموحدة على أنه خطاب للواحد، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو لكل من
يصلح له، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي العالية ومسروق وأبي وائل ومجاهد والنخعي والشعبي
وسعيد بن جبير وقرأ الباقون بضم الواحدة خطابا للجمع وهم الناس. قال الشعبي ومجاهد: لتركبن يا محمد سماء بعد سماء
قال الكلبي: يعني تصعد فيها، وهذا على القراءة الأولى، وقيل درجة بعد درجة ورتبة بعد رتبة في القرب من
الله ورفعة المنزلة، وقيل المعنى: لتركبن حالا بعد حال كل حالة منها مطابقة لأختها في الشدة، وقيل المعنى:
لتركبن أيها الإنسان حالا بعد حال من كونك نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم حيا وميتا وغنيا وفقيرا، فالخطاب للإنسان
المذكور في قوله - يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا - واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الثانية قالا:
لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقرأ عمر " ليركبن " بالتحتية وضم الموحدة على
الإخبار، وروى عنه وعن ابن عباس أنهما قرأ بالغيبة وفتح الموحدة: أي ليركبن الإنسان، وروى عن ابن
مسعود وابن عباس أنهما قرآ بكسر حرف المضارعة وهي لغة، وقرئ بفتح حرف المضارعة وكسر الموحدة على أنه
خطاب للنفس. وقيل إن معنى الآية: ليركبن القمر أحوالا من سرار واستهلال، وهو بعيد. قال مقاتل (طبقا
عن طبق) يعني الموت والحياة. وقال عكرمة: رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ. ومحل عن طبق النصب
على أنه صفة لطبقا أي طبقا مجاوزا لطبق، أو على الحال من ضمير لتركبن: أي مجاوزين، أو مجاوزا (فما لهم
لا يؤمنون) الاستفهام للإنكار، والفاء لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجيب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة
أو من غيرها على الاختلاف السابق، والمعنى: أي شئ للكفار لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما
جاء به من القرآن مع وجود موجبات الإيمان بذلك (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) هذه الجملة الشرطية
وجوابها في محل نصب على الحال: أي أي مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم عند قراءة القرآن. قال الحسن
وعطاء والكلبي ومقاتل: ما لهم لا يصلون. وقال أبو مسلم: المراد الخضوع والاستكانة. وقيل المراد نفس السجود
408

المعروف بسجود التلاوة. وقد وقع الخلاف هل هذا الموضع من مواضع السجود عند التلاوة أم لا؟ وقد تقدم
في فاتحة هذه السورة الدليل على السجود (بل الذين كفروا يكذبون) أي يكذبون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم
وبما جاء به من الكتاب المشتمل على إثبات التوحيد والبعث والثواب والعقاب (والله أعلم بما يوعون) أي بما
يضمرونه في أنفسهم من التكذيب، وقال مقاتل: يكتمون من أفعالهم. وقال ابن زيد: يجمعون من الأعمال
الصالحة والسيئة، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع ما فيه، ومنه قول الشاعر:
الخير أبقى وإن طال الزمان به * والشر أخبث ما أوعيت من زاد
ويقال وعاه حفظه، ووعيت الحديث أعيه وعيا، ومنه - أذن واعية - (فبشرهم بعذاب أليم) أي اجعل ذلك
بمنزلة البشارة لهم، لأن علمه سبحانه بذلك على الوجه المذكور موجب لتعذيبهم، والأليم المؤلم الموجع، والكلام
خارج مخرج التهكم بهم (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) هذا الاستثناء منقطع: أي لكن
الذين جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح لهم أجر عند الله غير ممنون: أي غير مقطوع، يقال مننت الحبل:
إذا قطعته، ومنه قول الشاعر:
فترى خلفهن من سرعة الرجع * منينا كأنه أهباء
قال المبرد: المنين الغبار، لأنه تقطعه وراءها، وكل ضعيف منين وممنون، وقيل معنى غير ممنون أنه لا يمن
عليهم به، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا إن أريد من آمن منهم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله (إذا السماء انشقت) قال: تنشقق السماء من المجرة.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (وأذنت لربها وحقت) قال: سمعت حين كلمها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه
(وأذنت لربها وحقت) قال: أطاعت وحقت بالطاعة. وأخرج الحاكم عنه وصححه قال: سمعت وأطاعت
(وإذا الأرض مدت) قال: يوم القيامة (وألقت ما فيها) قال: أخرجت ما فيها من الموتى (وتخلت) عنهم،
وأخرج ابن المنذر عنه أيضا (وألقت ما فيها) قال: سواري الذهب. وأخرج الحاكم. قال السيوطي بسند جيد
عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم، ثم لا يكون لابن آدم
فيها إلا موضع قدميه ". وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (إنك كادح إلى ربك كدحا) قال: عامل عملا
(فملاقيه) قال: فملاق عملك. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " ليس أحد يحاسب إلا هلك، فقلت أليس يقول الله (فأما من أوتى كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا
يسيرا)؟ قال: ليس ذلك بالحساب ولكن ذلك العرض، ومن نوقش الحساب هلك ". وأخرج أحمد وعبد بن حميد
وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في
بعض صلاته " اللهم حاسبني حسابا يسيرا، فلما انصرف قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر
في كتابه فيتجاوز له عنه، إنه من نوقش الحساب هلك " وفي بعض ألفاظ الحديث الأول وهذا الحديث الآخر
" من نوقش الحساب عذب ". وأخرج البزار والطبراني في الأوسط والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ثلاث من كن فيه يحاسبه الله حسابا يسيرا ويدخله الجنة برحمته: تعطى من
حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك ". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (يدعوا ثبورا)
قال: الويل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (إنه ظن أن لن يحور) قال: يبعث. وأخرج
409

ابن أبي حاتم عنه أيضا (أن لن يحور) قال: أن لن يرجع. وأخرج سمويه في فوائده عن عمر بن الخطاب قال
(الشفق) الحمرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن أبي هريرة
قال (الشفق) النهار كله. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (والليل وما وسق)
قال: وما دخل فيه. وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه (وما وسق) قال:
وما جمع. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (والقمر إذا اتسق) قال: إذا
استوى. وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري من طرق عن ابن عباس أنه سئل عن قوله (والليل وما وسق) قال:
وما جمع، أما سمعت قوله:
إن لنا قلائصا نقانقا * مستوسقات لو يجدن سائقا
وأخرج عبد بن حميد عنه (والقمر إذا اتسق) قال: ليلة ثلاثة عشر. وأخرج عبد بن حميد عن عمر بن الخطاب
(لتركبن طبقا عن طبق) قال: حالا بعد حال. وأخرج البخاري عن ابن عباس (لتركبن طبقا عن طبق) حالا
بعد حال، قال: هذا نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج أبو عبيد في القراءات وسعيد بن منصور وابن
منيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ (لتركبن طبقا عن طبق)
يعني بفتح الباء من تركبن. وقال: يعني نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم حالا بعد حال. وأخرج الطيالسي وعبد
ابن حميد وابن أبي حاتم والطبراني عنه قال (لتركبن) يا محمد السماء (طبقا عن طبق). وأخرج عبد بن حميد وابن
المنذر والحاكم في الكنى والطبراني وابن منده وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ (لتركبن) يعني بفتح الباء. وقال
لتركبن يا محمد سماء بعد سماء. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عنه (لتركبن طبقا عن طبق) قال: يعني السماء
تنفطر، ثم تنشق، ثم تحمر. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عنه أيضا في الآية قال: السماء تكون
كالمهل، وتكون وردة كالدهان، وتكون واهية، وتشقق فتكون حالا بعد حال. وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (والله أعلم بما يوعون) قال: يسرون.
تفسير سورة البروج
هي اثنتان وعشرون آية، وهي مكية بلا خلاف
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت (والسماء ذات البروج)
بمكة. وأخرج أحمد قال: حدثنا عبد الصمد حدثنا زريق بن أبي سلمى حدثنا أبو المهزم عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق. وأخرج
الطيالسي وابن أبي شيبة في المصنف وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والطبراني
والبيهقي في سننه عن جابر بن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق
والسماء ذات البروج.
410

سورة البروج (1 - 22)
قوله (والسماء ذات البروج) قد تقدم الكلام في البروج عند تفسير قوله - جعل في السماء بروجا - قال
الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك: هي النجوم، والمعنى: والسماء ذات النجوم. وقال عكرمة ومجاهد أيضا:
هي قصور في السماء. وقال المنهال بن عمرو: ذات الخلق الحسن. وقال أبو عبيدة ويحيى بن سلام وغيرهما:
هي المنازل للكواكب، وهي اثنا عشر برجا لاثنى عشر كوكبا، وهي الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان
والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. والبروج في كلام العرب:
القصور، ومنه قوله - ولو كنتم في بروج مشيدة - شبهت منازل هذه النجوم بالقصور لكونها تنزل فيها، وقيل
هي أبواب السماء، وقيل هي منازل القمر، وأصل البرج الظهور، سميت بذلك لظهورها (واليوم الموعود) أي
الموعود به، وهو يوم القيامة. قال الواحدي: في قول جميع المفسرين (وشاهد ومشهود) المراد بالشاهد
من يشهد في ذلك اليوم من الخلائق: أي يحضر فيه والمراد بالمشهود ما يشاهد في ذلك اليوم من العجائب وذهب جماعة
من الصحابة والتابعين إلى أن الشاهد يوم الجمعة، وأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه، والمشهود يوم عرفة، لأنه
يشهد الناس فيه موسم الحج، وتحضره الملائكة. قال الواحدي: وهذا قول الأكثر. وحكى القشيري عن ابن
عمر وابن الزبير أن الشاهد يوم الأضحى. وقال سعيد بن المسيب: الشاهد يوم التروية، والمشهود يوم عرفة.
وقال النخعي: الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم النحر، وقيل الشاهد هو الله سبحانه. وبه قال الحسن وسعيد بن
جبير، لقوله - وكفى بالله شهيدا - وقوله - قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم - وقيل الشاهد
محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله - فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا - وقوله
- يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا - وقوله - ويكون الرسول عليكم شهيدا - وقيل الشاهد جميع الأنبياء
411

لقوله - فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد - وقيل هو عيسى بن مريم لقوله - وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيها -
والمشهود على هذه الأقوال الثلاثة إما أمة محمد، أو أمم الأنبياء، أو أمة عيسى. وقيل الشاهد آدم. والمشهود
ذريته. وقال محمد بن كعب: الشاهد الإنسان لقوله - كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا - وقال مقاتل: أعضاؤه
لقوله - يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون - وقال الحسين بن الفضل: الشاهد هذه
الأمة، والمشهود سائر الأمم لقوله - وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس - وقيل الشاهد الحفظة
والمشهود بنو آدم، وقيل الأيام والليالي. وقيل الشاهد الخلق يشهدون لله عز وجل بالوحدانية، والمشهود له
بالوحدانية هو الله سبحانه، وسيأتي بيان ما ورد في تفسير الشاهد والمشهود، وبيان ما هو الحق إن شاء الله (قتل
أصحاب الأخدود) هذا جواب القسم، واللام فيه مضمرة، وهو الظاهر، وبه قال الفراء وغيره، وقيل تقديره:
لقد قتل، فحذفت اللام وقد، وعلى هذا تكون الجملة خبرية، والظاهر أنها دعائية، لأن معنى قتل لعن. قال
الواحدي: في قول الجميع، والدعائية لا تكون جوابا للقسم، فقيل الجواب قوله - إن الذين فتنوا المؤمنين -
وقيل قوله - إن بطش ربك لشديد - وبه قال المبرد: واعترض عليه بطول الفصل وقيل هو مقدر يدل عليه
قوله (قتل أصحاب الأخدود) كأنه قال أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود،
وقيل تقدير الجواب: لتبعثن، واختاره ابن الأنباري. وقال أبو حاتم السجستاني وابن الأنباري أيضا: في
الكلام تقديم وتأخير: أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج، واعترض عليه بأنه لا يجوز أن يقال: والله
قام زيد، والأخدود: الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق، وجمعه أخاديد، ومنه الخد لمجاري الدموع،
والمخدة لأن الخد يوضع عليها، ويقال تخدد وجه الرجل: إذا صارت فيه أخاديد من خراج، ومنه قول طرفة:
ووجه كأن الشمس ألقت رداءها * عليه نقي اللون لم يتخدد *
وسيأتي بيان حديث أصحاب الأخدود إن شاء الله. قرأ الجمهور (النار ذات الوقود) بجر النار على أنها بدل
اشتمال من الأخدود لأن الأخدود مشتمل عليها، وذات الوقود وصف لها بأنها نار عظيمة والوقود: الحطب
الذي توقد به، وقيل هو بدل كل من كل، لا بدل اشتمال. وقيل إن النار مخفوضة على الجوار، كذا حكى
مكي عن الكوفيين. وقرأ الجمهور بفتح الواو من الوقود، وقرأ قتادة وأبو رجاء ونصر بن عاصم بضمها. وقرأ
أشهب العقيلي وأبو حيوة وأبو السماك العدوي وابن السميفع وعيسى برفع النار على أنها خبر مبتدأ محذوف: أي
هي النار، أو على أنها فاعل فعل محذوف: أي أحرقتهم النار (إذ هم عليها قعود) العامل في الظرف قتل: أي
لعنوا حين أحذقوا بالنار قاعدين على ما يدنوا منها، ويقرب إليها. قال مقاتل: يعني عند النار قعود يعرضونهم
على الكفر. وقال مجاهد: كانوا قعودا على الكراسي عند الأخدود (وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) أي
الذين خدوا الأخدود، وهم الملك وأصحابه، على ما يفعلون بالمؤمنين من عرضهم على النار ليرجعوا إلى دينهم
شهود: أي حضور، أو يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه لم يقصر فيما أمر به. وقيل يشهدون بما فعلوا يوم
القيامة، ثم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم. وقيل على بمعنى مع، والتقدير: وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين
شهود. قال الزجاج: أعلم الله قصة قوم بلغت بصيرتهم وحقيقة إيمانهم إلى أن صبروا على أن يحرقوا بالنار في الله
(وما نقموا منهم) أي ما أنكروا عليهم ولا عابوا منهم (إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد): أي إلا أن صدقوا
بالله الغالب المحمود في كل حال. قال الزجاج: ما أنكروا عليهم ذنبا إلا إيمانهم، وهذا كقوله - هل تنقمون منا
إلا أن آمنا بالله - وهذا من تأكيد المدح بما يشبه الذم كما في قوله:
412

لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم * يسلو عن الأهل والأوطان والحشم
وقول الآخر: ولا عيب فيها غير شكلة عينها * كذاك عتاق الطير شكلا عيونها
قرأ الجمهور " نقموا " بفتح النون، وقرأ أبو حيوة بكسرها، والفصيح الفتح. ثم وصف سبحانه نفسه بما
يدل على العظم والفخامة فقال (الذي له ملك السماوات والأرض) ومن كان هذا شأنه، فهو حقيق بأن يؤمن به
ويوحد (والله على كل شئ شهيد) من فعلهم بالمؤمنين لا يخفى عليه منه خافية، وفي هذا وعيد شديد لأصحاب
الأخدود، ووعد خير لمن عذبوه على دينه من أولئك المؤمنين. ثم بين سبحانه ما أعد لأولئك الذين فعلوا بالمؤمنين
ما فعلوا من التحريق فقال (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق):
أي حرقوهم بالنار، والعرب تقول: فتنت الشئ: أي أحرقته، وفتنت الدرهم والدينار: إذا أدخلته النار لتنظر
جودته. ويقال دينار مفتون، ويسمى الصائغ الفتان، ومنه قوله - يوم هم على النار يفتنون - أي يحرقون، وقيل
معنى فتنوا المؤمنين: محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه، ثم لم يتوبوا من قبيح صنعهم ويرجعوا عن كفرهم وفتنتهم،
فلهم عذاب جهنم: أي لهم في الآخرة عذاب جهنم بسبب كفرهم، والجملة في محل رفع على أنا خبر إن، أو
الخبر لهم، وعذاب جهنم مرتفع به على الفاعلية، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، ولا يضر نسخه بأن خلافا
للأخفش، ولهم عذاب الحريق: أي ولهم عذاب آخر زائد على عذاب كفرهم، وهو عذاب الحريق الذي وقع
منهم للمؤمنين، وقيل إن الحريق اسم من أسماء النار كالسعير، وقيل إنهم يعذبون في جهنم بالزمهرير ثم يعذبون
بعذاب الحريق، فالأول عذاب ببردها، والثاني عذاب بحرها. وقال الربيع بن أنس: إن عذاب الحريق
أصيبوا به في الدنيا، وذلك أن النار ارتفعت من الأخدود إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم، وبه قال الكلبي. ثم ذكر
سبحانه ما أعد للمؤمنين الذين أحرقوا بالنار فقال (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وظاهر الآية العموم، فيدخل
في ذلك المحرقون في الأخدود بسبب إيمانهم دخولا أوليا، والمعنى: أن الجامعين بين الإيمان وعمل الصالحات (لهم
جنات تجري من تحتها الأنهار): أي لهم بسبب الإيمان والعمل الصالح جنات متصفة بهذه الصفة. وقد تقدم
كيفية جري الأنهار من تحت الجنات في غير موضع، وأوضحنا أنه إن أريد بالجنات الأشجار فجرى الأنهار من
تحتها واضح، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر وهو الشجر لأنها ساترة لساحتها،
والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم ذكره مما أعده الله لهم: أي ذلك المذكور (الفوز الكبير) الذي لا يعد له فوز
ولا يقاربه ولا يدانيه، والفوز الظفر بالمطلوب، وجملة (إن بطش ربك لشديد) مستأنفة لخطاب النبي صلى الله
عليه وآله وسلم مبينة لما عند الله سبحانه من الجزاء لمن عصاه، والمغفرة لمن أطاعه: أي أخذه للجبابرة والظلمة
شديد، والبطش: الأخذ بعنف، ووصفه بالشدة يدل على أنه قد تضاعف وتفاقم، ومثل هذا قوله - إن أخذه
أليم شديد - (إنه هو يبدئ ويعيد) أي يخلق الخلق أولا في الدنيا ويعيدهم أحياء بعد الموت. كذا قال الجمهور،
وقيل يبدئ للكفار عذاب الحريق في الدنيا ثم يعيده لهم في الآخرة، واختار هذا ابن جرير، والأول أولى (وهو
الغفور الودود) أي بالغ المغفرة لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها، بالغ المحبة للمطيعين من أوليائه. قال
مجاهد: الواد لأوليائه، فهو فعول بمعنى فاعل. وقال ابن زيد: معنى الودود الرحيم. وحكى المبرد عن إسماعيل
القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له، وأنشد:
وأركب في الروع عريانة * ذلول الجناح لقاحا ودودا
أي لا ولد لها تحن إليه. وقيل الودود بمعنى المودود: أي يوده عباده الصالحون ويحبونه، كذا قال الأزهري.
413

قال: ويجوز أن يكون فعول بمعنى فاعل: أي يكون محبا لهم. قال: وكلتا الصفتين مدح، لأنه جل ذكره إن
أحب عباده المطيعين فهو فصل منه، وإن أحبه عباده العارفون فلما تقرر عندهم من كريم إحسانه. قرأ الجمهور
(ذو العرش المجيد) برفع المجيد على أنه نعت لذو، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم قالا: لأن المجد هو
النهاية في الكرم والفضل، والله سبحانه هو المنعوت بذلك. وقرأ الكوفيون إلا عاصما بالجر على أنه نعت للعرش.
وقد وصف سبحانه عرشه بالكرم كما في آخر سورة المؤمنون. وقيل هو نعت لربك، ولا يضر الفصل بينهما
لأنها صفات لله سبحانه. وقال مكي: هو خبر بعد خبر، والأول أولى. ومعنى ذو العرش: ذو الملك والسلطان
كما يقال: فلان على سرير ملكه، ومنه قول الشاعر:
رأوا عرشي تثلم جانباه * فلما أن تثلم أفردوني
وقول الآخر:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم * بعتيبة بن الحارث بن شهاب
وقيل المراد خالق العرش (فعال لما يريد) أي من الإبداء والإعادة. قال عطاء: لا يعجز عن شئ يريده ولا
يمتنع منه شئ طلبه، وارتفاع فعال على أنه خبر مبتدأ محذوف. قال الفراء: هو رفع على التكرير والاستئناف،
لأنه نكرة محضة. قال ابن جرير: رفع فعال، وهو نكرة محضة على وجه الاتباع لاعراب الغفور الودود، وإنما
قال فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. ثم ذكر سبحانه خبر الجموع الكافرة فقال (هل أتاك حديث الجنود)
والجملة مستأنفة مقررة لما تقدم من شدة بطشه سبحانه وكونه فعالا لما يريده، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: أي هل أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم المتجندة عليها. ثم بينهم فقال (فرعون
وثمود) وهو بدل من الجنود، والمراد بفرعون هو وقومه، والمراد بثمود القوم المعروفون، والمراد بحديثهم ما وقع
منهم من الكفر والعناد وما وقع عليهم من العذاب، وقصتهم مشهورة قد تكرر في الكتاب العزيز ذكرها في غير
موضع، واقتصر على الطائفتين لاشتهار أمرهما عند أهل الكتاب وعند مشركي العرب ودل بهما على أمثالهما
ثم أضرب عن مماثلة هؤلاء الكفار الموجودين في عصره صلى الله عليه وآله وسلم لمن تقدم ذكره، وبين أنهم أشد
منهم في الكفر والتكذيب فقال (بل الذين كفروا في تكذيب) أي بل هؤلاء المشركون من العرب في تكذيب
شديد لك، ولما جئت به، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار (والله من ورائهم محيط) أي يقدر على أن ينزل
بهم ما أنزل بأولئك، والإحاطة بالشئ: الحصر له من جميع جوانبه، فهو تمثيل لعدم نجاتهم بعدم فوت المحاط
به على المحيط. ثم رد سبحانه تكذيبهم بالقرآن فقال (بل هو قرآن مجيد) أي متناه في الشرف والكرم والبركة
لكونه بيانا لما شرعه الله لعباده من أحكام الدين والدنيا، وليس هو كما يقولون إنه شعر وكهانة وسحر (في لوح
محفوظ) أي مكتوب في لوح، وهو أم الكتاب محفوظ عند الله من وصول الشياطين إليه. قرأ الجمهور محفوظ
بالجر على أنه نعث للوح وقرأ نافع برفعه على أنه نعت للقرآن: أي بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح. واتفق القراء
على فتح اللام من لوح إلا يحيى بن يعمر وابن السميفع فإنهما قرآ بضمها. قال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين
العرش. قيل والمراد باللوح بضم اللام: الهواء الذي فوق السماء السابعة. قال أبو الفضل: اللوح بضم اللام:
الهواء، وكذا قال ابن خالويه. قال في الصحاح: اللوح بالضم: الهواء بين السماء والأرض.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال (البروج) قصور في السماء. وأخرج ابن مردويه عن جابر بن
عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن (السماء ذات البروج) فقال: الكواكب، وسئل عن قوله
414

- الذي جعل في السماء بروجا - قال: الكواكب، وعن قوله - في بروج مشيدة - قال: القصور. وأخرج ابن
مردويه عن ابن عباس في قوله (واليوم الموعود وشاهد ومشهود) قال: اليوم الموعود يوم القيامة، والشاهد يوم
الجمعة، والمشهود يوم عرفة، وهو الحج الأكبر، فيوم الجمعة جعله الله عيدا لمحمد وأمته وفضله بها على الخلق أجمعين
وهو سيد الأيام عند الله، وأحب الأعمال فيه إلى الله، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله فيها خيرا
إلا أعطاه إياه. وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في
سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم " اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود
يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة، وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد
مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من شئ إلا أعاذه منه ". وأخرج الحاكم وصححه وابن
مردويه والبيهقي عن أبي هريرة رفعه (وشاهد ومشهود) قال: الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة، والمشهود هو
الموعود يوم القيامة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال: اليوم الموعود يوم القيامة،
والمشهود يوم النحر، والشاهد يوم الجمعة. وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه من طريق شريح بن عبيد
عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " اليوم الموعود يوم القيامة، والشاهد يوم الجمعة
والمشهود يوم عرفة ". وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم في الآية " الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة ". وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس وأبي هريرة
مثله موقوفا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد، والمشهود يوم عرفة " وهذا مرسل
من مراسيل سعيد بن المسيب. وأخرج ابن ماجة والطبراني وابن جرير عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم " أكثروا من الصلاة على يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة ". وأخرج عبد الرزاق
والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي بن أبي طالب في الآية قال: الشاهد يوم الجمعة والمشهود
يوم عرفة. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن بن علي أن رجلا سأله عن قوله (وشاهد ومشهود) قال:
هل سألت أحدا قبلي؟ قال: نعم سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا: يوم الذبح ويوم الجمعة. قال: لا ولكن
الشاهد محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قرأ - وجئنا بك على هؤلاء شهيدا - والمشهود يوم القيامة، ثم قرأ - ذلك
يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود -. وأخرج عبد بن حميد والطبراني في الأوسط والصغير وابن مردويه عن
الحسين بن علي في الآية قال: الشاهد جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمشهود يوم القيامة، ثم
تلا - إنا أرسلناك شاهدا - ذلك يوم مشهود -. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن أبي الدنيا والبزار وابن جرير
وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال: اليوم الموعود يوم القيامة والشاهد محمد
صلى الله عليه وآله وسلم، والمشهود يوم القيامة، ثم تلا - ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود -.
وأخرج ابن جرير عنه قال: الشاهد الله، والمشهود يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: الشاهد الله.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: الشاهد الله، والمشهود يوم القيامة.
قلت: وهذه التفاسير عن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفت كما ترى، وكذلك اختلفت تفاسير التابعين
بعدهم واستدل من استدل منهم بآيات ذكرا الله فيها أن ذلك الشئ شاهد أو مشهود، فجعله دليلا على أنه المراد
بالشاهد والمشهود في هذه الآية المطلقة، وليس ذلك بدليل يستدل به على أن الشاهد والمشهود المذكورين في هذا
415

المقام هو ذلك الشاهد والمشهود الذي ذكر في آية أخرى، وإلا لزم أن يكون قوله هنا (وشاهد ومشهود) هو
جميع ما أطلق عليه في الكتاب العزيز أو السنة المطهرة أنه يشهد أو أنه مشهود، وليس بعض ما استدلوا به مع
اختلافه بأولى من بعض، ولم يقل قائل بذلك. فإن قلت: هل في المرفوع الذي ذكرته من حديثي أبي هريرة،
وحديث أبي مالك، وحديث جبير بن مطعم ومرسل سعيد بن المسيب ما يعين هذا اليوم الموعود، والشاهد
والمشهود؟ قلت: أما اليوم الموعود فلم تختلف هذه الروايات التي ذكر فيها، بل اتفقت على أنه يوم القيامة، وأما
الشاهد ففي حديث أبي هريرة الأول أنه يوم الجمعة، وفي حديثه الثاني أنه يوم عرفة ويوم الجمعة، وفي حديث
أبي مالك أنه يوم الجمعة، وفي حديث جبير أنه يوم الجمعة، وفي مرسل سعيد أنه يوم الجمعة، فاتفقت هذه
الأحاديث عليه، ولا تضر زيادة يوم عرفة عليه في حديث أبي هريرة الثاني، وأما المشهود ففي حديث أبي هريرة
الأول أنه يوم عرفة، وفي حديثه الثاني أنه يوم القيامة، وفي حديث أبي مالك أنه يوم عرفة، وفي حديث جبير
ابن مطعم أنه يوم عرفة، وكذا في حديث سعيد فقد تعين في هذه الروايات أنه يوم عرفة، وهي أرجح من تلك
الرواية التي صرح فيها بأنه يوم القيامة، فحصل من مجموع هذا رجحان ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة
والتابعين ومن بعدهم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، وأما اليوم الموعود فقد قدمنا أنه وقع الإجماع
على أنه يوم القيامة.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني عن صهيب أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " كان ملك من الملوك فيمن كان قبلكم، وكان لذلك الملك كاهن يكهن له
فقال له ذلك الكاهن: انظروا لي غلاما فهما، أو قال فطنا لقنا فأعلمه علمي، فإني أخاف أن أموت فينقطع
منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه، قال: فنظروا له على ما وصف، فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن
يختلف إليه، فجعل الغلام يختلف إليه، وكان على طريق الغلام راهب في صومعة، فجعل الغلام يسأل ذلك
الراهب كلما مر به، فلم يزل به حتى أخبره فقال: إنما أعبد الله، فجعل الغلام يمكث عند هذا الراهب ويبطئ
على الكاهن، فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني، فأخبر الغلام الراهب بذلك، فقال له الراهب:
إذا قال لك أين كنت؟ فقل عند أهلي، وإذا قال لك أهلك أين كنت؟ فأخبرهم أني كنت عند الكاهن، فبينما
الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثير قد حبستهم دابة، يقال إنها كانت أسدا، فأخذ الغلام حجرا فقال:
اللهم إن كان ما يقول ذلك الراهب حقا فأسألك أن أقتل هذه الدابة، وإن كان ما يقول الكاهن حقا فأسألك أن
لا أقتلها، ثم رمى فقتل الدابة، فقال الناس: من قتلها؟ فقالوا الغلام، ففزع الناس وقالوا: قد علم هذا الغلام
علما لم يعلمه أحد، فسمع أعمى فجاءه فقال له: إن أنت رددت على بصري فلك كذا وكذا، فقال الغلام: لا أريد
منك هذا، ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك؟ قال نعم، فدعا الله فرد عليه بصره
فآمن الأعمى، فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال: لأقتلن كل واحد منكم قتله لا أقتل بها صاحبه،
فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله، وقتل الآخر بقتلة أخرى، ثم أمر
بالغلام فقال: انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسه، فانطلقوا به إلى ذلك الجبل، فلما انتهوا إلى ذلك
المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون حتى لم يبق منهم إلا الغلام، ثم رجع
الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه، فانطلقوا به إلى البحر، فغرق الله الذين كانوا معه وأنجاه،
فقال الغلام للملك: إنك لن تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول إذا رميتني: بسم الله رب الغلام، فأمر به
416

فصلب ثم رماه قال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ثم مات،
فقال الناس: لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد، فإنا نؤمن برب هذا الغلام، فقيل للملك: أجزعت أن خالفك
ثلاثة، فهذا العالم. كلهم قد خالفوك، قال: فخد أخدودا ثم ألقى فيه الحطب والنار، ثم جمع الناس فقال: من رجع
عن دينه تركناه، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار، فجعل يلقيهم في تلك الأخدود، فقال: يقول الله (قتل أصحاب
الأخدود النار ذات الوقود) حتى بلغ (العزيز الحميد) " فأما الغلام فإنه دفن، ثم أخرج، فيذكر أنه أخرج في زمن
عمر ابن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل. ولهذه القصة ألفاظ فيها بعض اختلاف. وقد رواها مسلم
في أواخر الصحيح عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب. وأخرجها
أحمد من طريق عفان عن حماد به. وأخرجها النسائي عن أحمد بن سليمان عن حماد بن سلمة به. وأخرجها الترمذي
عن محمود بن غيلان وعبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن ثابت به. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن
علي بن أبي طالب في قوله (أصحاب الأخدود) قال: هم الحبشة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: هم
ناس من بني إسرائيل خذوا أخدودا في الأرض أوقدوا فيه نارا)، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالا ونساء،
فعرضوا عليها. وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: (والسماء ذات البروج) إلى قوله (وشاهد
ومشهود) قال: هذا قسم على (إن بطش ربك لشديد) إلى آخرها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله
(إنه هو يبدئ ويعيد) قال: يبدئ العذاب ويعيده. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات
عن ابن عباس في قوله (الودود) قال: الحبيب، وفي قوله (ذو العرش المجيد) قال: الكريم. وأخرج ابن
المنذر عنه في قوله (في لوح محفوظ) قال: أخبرت أنه لوح الذكر لوح واحد فيه الذكر، وإن ذلك اللوح من
نور، وإنه مسيرة ثلاثمائة سنة. وأخرج ابن جرير عن أنس قال: إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله في قوله (بل هو
قرآن مجيد في لوح محفوظ) في جبهة إسرافيل. وأخرج أبو الشيخ، قال السيوطي بسند جيد عن ابن عباس قال:
خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام، فقال للقلم قبل أن يخلق الخلق: اكتب علمي في خلقي، فجرى ما هوه
كائن إلى يوم القيامة اه‍.
تفسير سورة الطارق
هي سبع عشرة آية، وهي مكية بلا خلاف
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت والسماء والطارق بمكة،
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه والطبراني وابن مردويه عن خالد العدواني " أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم في سوق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصى حين أتاهم يبتغى النصر عندهم، فسمعه يقرأ (والسماء
والطارق) حتى ختمها، قال: فوعيتها في الجاهلية، ثم قرأتها في الإسلام، قال: فدعتي ثقيف فقالوا: ماذا
سمعت من هذا الرجل، فقرأتها، فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه ".
417

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطارق (1 - 17)
أقسم سبحانه بالسماء والطارق، وهو النجم الثاقب كما صرح به التنزيل. قال الواحدي: قال المفسرون:
أقسم الله بالسماء والطارق، يعني الكواكب تطرق بالليل وتخفى بالنهار. قال الفراء: الطارق النجم لأنه يطلع
بالليل، وما أتاك ليلا فهو طارق. وكذا قال الزجاج والمبرد: ومنه قول امرئ القيس:
ومثلك حبلى قد طرقت ومرضع * فألهيتها عن ذي تمائم محول
وقوله أيضا: ألم ترياني كلما جئت طارقا * وجدت بها طيبا وإن لم تطيب *
وقد اختلف في الطارق هل هو نجم معين أو جنس النجم؟ فقيل هو زحل، وقيل الثريا، وقيل هو الذي
ترمى به الشياطين، وقيل هو جنس النجم. قال في الصحاح: والطارق النجم الذي يقال له كوكب الصبح، ومنه
قول هند بنت عتبة:
نحن بنات طارق * نمشي على النمارق *
أي إن أبانا في الشرف كالنجم المضئ، وأصل الطروق الدق، فسمى قاصد الليل طارقا لاحتياجه في الوصول
إلى الدق. وقال قوم: إن الطروق قد يكون نهارا، والعرب تقول: أتيتك اليوم طرقتين: أي مرتين، ومنه
قوله صلى الله عليه وآله وسلم " أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير ". ثم بين سبحانه
ما هو الطارق، تفخيما لشأنه بعد تعظيمه بالإقسام به فقال (وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب) الثاقب: المضئ،
ومنه يقال ثقب النجم ثقوبا وثقابة إذا أضاء، وثقوبه ضوؤه، ومنه قول الشاعر:
أذاع به في الناس حتى كأنه * بعليا نار أوقدت بثقوب
قال الواحدي: الطارق يقع على كل ما طرق ليلا، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدري ما المراد
به لو لم يبينه بقوله (النجم الثاقب) قال مجاهد: الثاقب المتوهج. قال سفيان: كل ما في القرآن " وما أدراك " فقد
أخبره، وكل شئ قال " وما يدريك " لم يخبره به، وارتفاع قوله (النجم الثاقب) على أنه خبر مبتدإ محذوف،
والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر نشأ مما قبله، كأنه قيل ما هو؟ فقيل هو النجم الثاقب (إن كل نفس لما
عليها حافظ) هذا جواب القسم، وما بينهما اعتراض، وقد تقدم في سورة هود اختلاف القراء في " لما "، فمن قرأ
418

بتخفيفها كانت إن هنا هي المخففة من الثقيلة فيها ضمير الشأن المقدر، وهو اسمها، واللام هي الفارقة، وما
مزيدة: أي إن الشأن كل نفس لعليها حافظ، ومن قرأ بالتشديد فإن نافية ولما بمعنى إلا: أي ما كل نفس إلا
عليها حافظ، وقد قرأ هنا بالتشديد ابن عامر وعاصم وحمزة. وقرأ الباقون بالتخفيف. قيل والحافظ: هم الحفظة
من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها، ويحصون ما تكسب من خير وشر، وقيل الحافظ هو الله عز
وجل، وقيل هو العقل يرشدهم إلى المصالح، ويكفهم عن المفاسد. والأول أولى لقوله - وإن عليكم لحافظين -
وقوله - ويرسل عليكم حفظة - وقوله - له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه - والحافظ على الحقيقة هو الله
عز وجل كما في قوله - فالله خير حافظا - وحفظ الملائكة من حفظه لأنهم بأمره (فلينظر الإنسان مم خلق) الفاء
للدلالة على أن كون على كل نفس حافظ يوجب على الإنسان أن يتفكر في مبتدإ خلقه ليعلم قدرة الله على ما هو دون
ذلك من البعث. قال مقاتل: يعني المكذب بالبعث (مم خلق) من أي شئ خلقه الله، والمعنى: فلينظر نظر
التفكر والاستدلال حتى يعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته. ثم بين سبحانه ذلك فقال (خلق من ماء
دافق) والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، والماء: هو المنى، والدفق: الصب، يقال دفقت الماء: أي
صببته، يقال ماء دافق: أي مدفوق، مثل - عيشة راضية - أي مرضية. قال الفراء والأخفش: ماء دافق: أي
مصبوب في الرحم. قال الفراء: وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم كقولهم: سر
كاتم: أي مكتوم، وهم ناصب: أي منصوب، وليل نائم ونحو ذلك. قال الزجاج: من ماء ذي اندفاق،
يقال دارع وقايس ونابل: أي ذو درع وقوس ونبل، وأراد سبحانه ماء الرجل والمرأة لأن الإنسان مخلوق
منهما، لكن جعلهما ماء واحدا لامتزاجهما، ثم وصف هذا الماء فقال (يخرج من بين الصلب والترائب) أي
صلب الرجل، وترائب المرأة، والترائب جمع تريبة، وهي موضع القلادة من الصدر، والولد لا يكون إلا من
الماءين. قرأ الجمهور " يخرج " مبنيا للفاعل. وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم مبنيا للمفعول. وفي الصلب: وهو
الظهر لغات. قرأ الجمهور بضم الصاد وسكون اللام، وقرأ أهل مكة بضم الصاد واللام. وقرأ اليماني بفتحهما،
ويقال صالب على وزن قالب. ومنه قول العباس بن عبد المطلب: تنقل من صلب إلى رحم في أبياته
المشهورة في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد تقدم كلام في هذا عند تفسير قوله - الذين من أصلابكم -
وقيل الترائب: ما بين الثديين. وقال الضحاك: ترائب المرأة: اليدين والرجلين والعينين. وقال سعيد بن جبير:
هي الجيد. وقال مجاهد: هي ما بين المنكبين والصدر. وروى عنه أيضا أنه قال: هي الصدر، وروى عنه أيضا
أنه قال: هي التراقي. وحكى الزجاج: أن الترائب عصارة القلب، ومنه يكون الولد، والمشهور في اللغة أنها
عظام الصدر والنحر، ومنه قول دريد بن الصمة:
فإن تدبروا نأخذكم في ظهوركم * وإن تقبلوا نأخذكم في الترائب
قال عكرمة: الترائب الصدر، وأنشد: * نظام در على ترائبها *
قال في الصحاح: التريبة واحدة الترائب، وهي عظام الصدر. قال أبو عبيدة: جمع التريبة تريب، ومنه
قول المثقب العبدي:
ومن ذهب بنين على تريب * كلون العاج ليس بذي غضون
وقول امرئ القيس: * ترائبها مصقولة كالسجنجل * وحكى الزجاج: أن الترائب أربع أضلاع
419

من يمنة الصدر، وأربع أضلاع من يسرة الصدر. قال قتادة والحسن: المعنى ويخرج من صلب الرجل وترائب
المرأة. وحكى الفراء أن مثل هذا يأتي عن العرب يكون معنى من بين الصلب، من الصلب، وقيل إن ماء الرجل
ينزل من الدماغ، ولا يخالف هذا ما في الآية لأنه إذا نزل من الدماغ نزل من بين الصلب والترائب، وقيل إن
المعنى: يخرج من جميع أجزاء البدن، ولا يخالف هذا ما في الآية، لأن نسبة خروجه إلى بين الصلب والترائب
باعتبار أن أكثر أجزاء البدن هي الصلب والترائب وما يجاورها وما فوقها مما يكون تنزله منها (إنه على رجعه
لقادر) الضمير في إنه يرجع إلى الله سبحانه لدلالة قوله " خلق " عليه، فإن الذي خلقه هو الله سبحانه، والضمير
في رجعه عائد إلى الإنسان، والمعنى: أن الله سبحانه على رجع الإنسان: أي إعادته بالبعث بعد الموت " لقادر "
هكذا قال جماعة من المفسرين: وقال مجاهد: على أن يرد الماء في الإحليل. وقال عكرمة والضحاك: على أن
يرد الماء في الصلب. وقال مقاتل ابن حيان يقول: إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى
الصبا، ومن الصبا إلى النطفة. وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر، والأول أظهر،
ورجحه ابن جرير والثعلبي والقرطبي (يوم تبلى السرائر) العامل في الظرف على التفسير الأول، هو رجعه، وقيل
لقادر. واعترض عليه بأنه يلزم تخصيص القدرة بهذا اليوم، وقيل العامل فيه مقدر: أي يرجعه يوم تبلى السرائر،
وقيل العامل فيه مقدر، وهو أذكر، فيكون مفعولا به، وأما على قول من قال: إن المراد رجع الماء، فالعامل
في الظرف مقدر، وهو أذكر، ومعنى تبلى السرائر: تختبر وتعرف، ومنه قول الراجز:
قد كنت قبل اليوم تزدريني * فاليوم أبلوك وتبتليني
أي أختبرك وتختبرني، وأمتحنك وتمتحني، والسرائر: ما يسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها،
والمراد هنا عرض الأعمال ونشر الصحف، فعند ذلك يتميز الحسن منها من القبيح، والغث من السمين (فما له
من قوة ولا ناصر) أي فما للإنسان من قوة في نفسه يمتنع بها عن عذاب الله، ولا ناصر ينصره مما نزل به. قال
عكرمة: هؤلاء الملوك ما لهم يوم القيامة من قوة ولا ناصر. قال سفيان: القوة العشيرة، والناصر الحليف، والأول
أولى (والسماء ذات الرجع) الرجع: المطر. قال الزجاج: الرجع المطر لأنه يجئ ويرجع ويتكرر. قال الخليل:
الرجع المطر نفسه، والرجع نبات الربيع. قال أهل اللغة: الرجع المطر. قال المتنخل يصف سيفا له:
أبيض كالرجع رسوب إذا * ما باح في محتفل يختلى
قال الواحدي:
الرجع المطر في قول جميع المفسرين، وفي هذا الذي حكاه عن جميع المفسرين نظر، فإن
ابن زيد قال: الرجع الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء تطلع من ناحية وتغيب في أخرى. وقال بعض
المفسرين: ذات الرجع ذات الملائكة لرجوعهم إليها بأعمال العباد. وقال بعضهم: معنى ذات الرجع: ذات
النفع، ووجه تسمية المطر رجعا ما قاله القفال إنه مأخوذ من ترجيع الصوت وهو إعادته، وكذا المطر لكونه
يعود مرة بعد أخرى سمى رجعا. وقيل إن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض، ثم
يرجعه إلى الأرض، وقيل سمته العرب رجعا لأجل التفاؤل ليرجع عليهم، وقيل لأن الله يرجعه وقتا بعد وقت
(والأرض ذات الصدع) هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات والثمار والشجر، والصدع: الشق لأنه يصدع
الأرض فتنصدع له. قال أبو عبيدة والفراء: تتصدع بالنبات. قال مجاهد: والأرض ذات الطرق التي تصدعها
المياه، وقيل ذات الحرث لأنه يصدعها، وقيل ذات الأموات لانصداعها عنهم عند البعث.
420

والحاصل أن الصدع إن كان اسما للنبات فكأنه قال: والأرض ذات النبات، وإن كان المراد به الشق فكأنه
قال: والأرض ذات الشق الذي يخرج منه النبات ونحوه، وجواب القسم قوله (إنه لقول فصل) أي إن القرآن
لقول يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما (وما هو بالهزل) أي لم ينزل باللعب، فهو جد ليس
بالهزل، والهزل ضد الجد. قال الكميت: تجد بنا في كل يوم وتهزل * (إنهم يكيدون كيدا)
أي يمكرون في إبطال ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدين الحق. قال الزجاج: يخاتلون ولم النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ويظهرون ما هم على خلافه (وأكيد كيدا) أي أستدرجهم من حيث لا يعلمون،
وأجازيهم جزاء كيدهم، قيل هو ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل والأسر (فمهل الكافرين) أي أخرهم، ولا
تسأل الله سبحانه تعجيل هلاكهم، وارض بما يدبره لك في أمورهم، وقوله (أمهلهم) بدل، من مهل ومهل
وأمهل بمعنى مثل نزل وأنزل، والإمهال الإنظار، وتمهل في الأمر اتأد، وانتصاب (رويدا) على أنه مصدر
مؤكد للفعل المذكور أو نعت لمصدر محذوف: أي أمهلهم إمهالا رويدا: أي قريبا أو قليلا. قال أبو عبيدة:
والرويد في كلام العرب تصغيرا لرود، وأنشد: * كأنها تمشى على رود *
أي على مهل، وقيل تصغير أرواد مصدر رود تصغير الترخيم، ويأتي اسم فعل نحو رويد زيدا: أي أمهله،
ويأتي حالا نحو سار القوم رويدا: أي متمهلين، ذكر معنى هذا الجوهري، والبحث مستوفى في علم النحو.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (والسماء والطارق) قال: أقسم ربك بالطارق: وكل شئ
طرقك بالليل فهو طارق. وأخرج ابن جرير عنه في قوله (إن كل نفس لما عليها حافظ) قال: كل نفس عليها
حفظة من الملائكة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن
عباس في قوله (النجم الثاقب) قال: النجم المضئ (إن كل نفس لما عليها حافظ) قال: إلا عليها حافظ.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه (يخرج من بين الصلب والترائب) قال: ما بين الجيد والنحر. وأخرج ابن
أبي حاتم عنه في الآية قال: تريبة المرأة وهي موضع القلادة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا قال:
الترائب بين ثديي المرأة. وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضا قال: الترائب أربعة أضلاع من كل جانب من أسفل
الأضلاع. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا (إنه على رجعه لقادر) قال: على أن يجعل الشيخ شابا
والشاب شيخا. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه، وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله (والسماء ذات
الرجع) قال: المطر بعد المطر (والأرض ذات الصدع) قال: صدعها عن النبات. وأخرج ابن المنذر عن ابن
عباس (والأرض ذات الصدع) تصدع الأودية. وأخرج ابن منده والديلمي عن معاذ بن أنس مرفوعا (والأرض
ذات الصدع) قال: تصدع بإذن الله عن الأموال والنبات. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في
قوله (إنه لقول فصل) قال: حق (وما هو بالهزل) قال: بالباطل، وفي قوله (أمهلهم رويدا) قال: قريبا.
421

تفسير سورة الأعلى
ويقال سورة سبح: هي تسع عشرة آية
وهي مكية في قول الجمهور. وقال الضحاك: هي مدنية. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه
والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة سبح اسم ربك الأعلى بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير وعائشة
مثله. وأخرج البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال: " أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله
وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يقرآننا القران، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب
في عشرين، ثم جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشئ فرحهم به حتى رأيت
الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جاء، فما جاء حتى قرأت - سبح اسم ربك
الأعلى - في سور مثلها ". وأخرج أحمد والبزاز وابن مردويه عن علي قال " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يحب هذه السورة: سبح اسم ربك الأعلى ". أخرجه أحمد عن وكيع عن إسرائيل عن عن توبر بن أبي فاختة عن
أبيه عن علي. وأخرج أحمد ومسلم وأهل السنن عن النعمان بن بشير " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان
يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية، وإن وافق يوم جمعة قرأهما جميعا "
وفي لفظ " وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما " وفي الباب أحاديث. وأخرج مسلم وغيره عن جابر بن سمرة أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم " كان يقرأ في الظهر بسبح اسم ربك الأعلى ". وأخرج أبو داود والنسائي وابن
ماجة والدارقطني والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوتر بسبح
اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد ". وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة
والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الوتر في الركعة الأولى
بسبح، وفي الثانية قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين "، وفي الصحيحين أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ " هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى ".
سورة الأعلى (1 - 19)
422

قوله (سبح اسم ربك الأعلى) أي نزهه عن كل ما لا يليق به. قال السدي: سبح اسم ربك الأعلى: أي
عظمه، قيل والاسم هنا مقحم لقصد التعظيم، كما في قول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
والمعنى: سبح ربك الأعلى. قال ابن جرير: المعنى نزه اسم ربك أن يسمى به أحد سواه، فلا تكون على
هذا مقحمة. وقيل المعنى: نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم، ولذكره محترم. وقال
الحسن: معنى سبح اسم ربك الأعلى: صل له. وقيل المعنى: صل بأسماء الله لا كما يصلي المشركون بالمكاء
والتصدية. وقيل المعنى: ارفع صوتك بذكر ربك، ومنه قول جرير:
قبح الإله وجوه تغلب كلما * سبح الحجيج وكبروا تكبيرا
والأعلى صفة للرب، وقيل للاسم، والأول أولى، وقوله (الذي خلق فسوى) صفة أخرى للرب. قال
الزجاج: خلق الإنسان مستويا، ومعنى سوى: عدل قامته. قال الضحاك: خلقه فسوى خلقه، وقيل خلق
الأجساد فسوى الأفهام، وقيل خلق الإنسان وهيأه للتكليف (والذي قدر فهدى) صفة أخرى للرب، أو
معطوف على الموصول الذي قبله. قرأ علي بن أبي طالب والكسائي والسلمي " قدر " مخففا، وقرأ الباقون بالتشديد.
قال الواحدي: قال المفسرون: قدر خلق الذكر والأنثى من الدواب فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها. وقال
مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشر، والسعادة والشقاوة. وروى عنه أيضا أنه قال في معنى الآية: قدر
السعادة والشقاوة وهدى للرشد والضلالة، وهدى الأنعام لمراعيها. وقيل قدر أرزاقهم وأقواتهم، وهداهم
لمعايشهم إن كانوا إنسا، ولمراعيهم إن كانوا وحشا. وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له. وقيل
خلق المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها. وقال السدى: قدر مدة الجنين في الرحم تسعة
أشهر وأقل وأكثر، ثم هداه للخروج من الرحم. قال الفراء: أي قدر فهدى وأضل فاكتفى بأحدهما، وفي
تفسير الآية أقوال غير ما ذكرنا. والأولى عدم تعيين فرد أو أفراد مما يصدق عليه قدر وهدى إلا بدليل يدل عليه،
ومع عدم الدليل يحمل على ما يصدق عليه معنى الفعلين، إما على البدل أو على الشمول، والمعنى: قدر أجناس
الأشياء وأنواعها وصفاتها وأفعالها وأقوالها وآجالها، فهدى كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له، ويسره
لما خلق له، وألهمه إلى أمور دينه ودنياه (والذي أخرج المرعى) صفة أخرى للرب: أي أنبت العشب وما ترعاه
النعم من النبات الأخضر (فجعله غثاء أحوى) أي فجعله بعد أن كان أخضر غثاء: أي هشيما جافا كالغثاء الذي
يكون فوق السيل أحوى: أي أسود بعد اخضراره، وذلك أن الكلأ إذا يبس اسود. قال قتادة: الغثاء الشئ
اليابس، ويقال للبقل والحشيش إذا انحطم ويبس غثاء وهشيم. قال امرؤ القيس:
كأن ذرى رأس المجمر غدوة * من السيل والأغثاء فلكة مغزل
وانتصاب غثاء على أنه المفعول الثاني، أو على الحال، وأحوى صفة له. وقال الكسائي: هو حال من
المرعى: أي أخرجه أحوى من شدة الخضرة والري (فجعله غثاء) بعد ذلك، والأحوى مأخوذ من الحوة،
وهي سواد يضرب إلى الخضرة. قال في الصحاح: والحوة سمرة الشفة، ومنه قول ذي الرمة:
423

لمياء في شفتيها حوة لعس * وفي اللثات وفي أنيابها شنب
(سنقرئك فلا تنسى) أي سنجعلك قارئا بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه، والجملة مستأنفة لبيان هدايته
صلى الله عليه وآله وسلم الخاصة به بعد بيان الهداية العامة، وهي هدايته صلى الله عليه وآله وسلم لحفظ القرآن.
قال مجاهد والكلبي: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من آخر
الآية حتى يتكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأولها مخافة أن ينساها، فنزلت (سنقرئك فلا تنسى) وقوله (إلا
ما شاء الله) استثناء مفرغ من أعم المفاعيل: أي لا تنسى مما تقرؤه شيئا من الأشياء إلا ما شاء الله أن تنساه. قال
الفراء: وهو لم يشأ سبحانه أن ينسى محمد صلى الله عليه وآله وسلم شيئا كقوله - خالدين فيها ما دامت السماوات
والأرض إلا ما شاء ربك - وقيل إلا ما شاء الله أن تنسى ثم تذكر بعد ذلك، فإذن قد نسى ولكنه يتذكر ولا ينسى
شيئا نسيانا كليا. وقيل بمعنى النسخ: أي إلا ما شاء الله أن ينسخه مما نسخ تلاوته. وقيل معنى فلا تنسى: فلا تترك
العمل إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه ورفع حكمه. وقيل المعنى: إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله. وقيل " لا " في قوله
(فلا تنسى) للنهي. والألف مزيدة لرعاية الفاصلة، كما في قوله - فأضلونا السبيلا - يعني فلا تغفل قراءته وتذكره
(إنه يعلم الجهر وما يخفى) الجملة تعليل لما قبلها: أي يعلم ما ظهر وما بطن والإعلان والإسرار، وظاهره العموم
فيندرج تحته ما قيل إن الجهر ما حفظه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن، وما يخفى هو ما نسخ من
صدره، ويدخل تحته أيضا ما قيل من أن الجهر هو إعلان الصدقة، وما يخفى هو إخفاؤها، ويدخل تحته أيضا
ما قيل إن الجهر جهره صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن مع قراءة جبريل مخافة أن يتفلت عليه، وما يخفى ما في نفسه
مما يدعوه إلى الجهر (ونيسرك لليسرى) معطوف على سنقرئك، وما بينهما اعتراض. قال مقاتل: أي نهون عليك
عمل الجنة، وقيل نوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، وقيل للشريعة اليسرى، وهي الحنيفية السهلة، وقيل
نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به، والأولى حمل الآية على العموم: أي نوفقك للطريقة اليسرى في الدين
والدنيا في كل أمر من أمورهما التي تتوجه إليك (فذكر إن نفعت الذكرى) أي عظ يا محمد الناس بما أوحينا
إليك وأرشدهم إلى سبل الخبر واهدهم إلى شرائع الدين. قال الحسن: تذكرة للمؤمن وحجة على الكافر. قال
الواحدي: إن نفعت أو لم تنفع، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث مبلغا للإعذار والإنذار، فعليه التذكير
في كل حال نفع أو لم ينفع، ولم يذكر الحالة الثانية كقوله - سرابيل تقيكم الحر - الآية. قال الجرجاني: التذكير
واجب وإن لم ينفع، فالمعنى: إن نفعت الذكرى أو لم تنفع. وقيل إنه مخصوص في قوم بأعيانهم، وقيل إن بمعنى
ما: أي فذكر ما نفعت الذكرى، لأن الذكرى نافعة بكل حال، وقيل إنها بمعنى قد، وقيل إنها بمعنى إذ. وما
قاله الواحدي والجرجاني أولى وقد سبقهما إلى القول به الفراء والنحاس. قال الرازي: إن قوله (إن نفعت الذكرى)
للتنبيه على أشرف الحالين وهو وجود النفع الذي لأجله شرعت الذكرى، والمعلق بإن على الشئ لا يلزم أن
يكون عدما عند عدم ذلك الشئ، ويدل عليه آيات: منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى - واشكروا الله إن كنتم
إياه تعبدون - ومنها قوله - ولا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم - فإن القصر جائز عند الخوف وعدمه،
ومنها قوله - فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله - والمراجعة جائزة بدون هذا الظن، فهذا الشرط
فيه فوائد: منها ما تقدم، ومنها للبعث على الانتفاع بالذكرى كما يقول الرجل لمن يرشده: قد أوضحت لك إن
كنت تعقل، وهو تنبيه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على أنها لا تنفعهم الذكرى، أو يكون هذا في تكرير
الدعوة، فأما الدعاء الأول فعام انتهى. ثم بين سبحانه الفرق بين من تنفعه الذكرى ومن لا تنفعه فقال (سيذكر
424

من يخشى) أي سيتعظ بوعظك من يخشى الله فيزداد بالتذكير خشية وصلاحا (ويتجنبها الأشقى) أي ويتجنب
الذكرى ويبعد عنها الأشقى من الكفار لإصراره على الكفر بالله وانهماكه في معاصيه. ثم وصف الأشقى فقال
(الذي يصلى النار الكبرى) أي العظيمة الفظيعة، لأنها أشد حرا من غيرها. قال الحسن: النار الكبرى نار جهنم،
والنار الصغرى نار الدنيا. وقال الزجاج: هي السفلى من أطباق النار (ثم لا يموت فيها ولا يحيى) أي لا يموت فيها
فيستريح مما هو فيه من العذاب، ولا يحيا حياة ينتفع بها، ومنه قول الشاعر:
ألا ما لنفس لا تموت فينقضي * عناها ولا تحيا حياة لها طعم
وثم للتراخي في مراتب الشدة، لأن التردد بين الموت والحياة أفظع من صلى النار الكبرى (قد أفلح من
تزكى) أي من تطهر من الشرك فآمن بالله ووحده وعمل بشرائعه. قال عطاء والربيع: من كان عمله زاكيا ناميا.
وقال قتادة: تزكى بعمل صالح. قال قتادة وعطاء وأبو العالية: نزلت في صدقة الفطر. قال عكرمة: كان
الرجل يقول: أقدم زكاتي بين يدي صلاتي. وأصل الزكاة في اللغة النماء. وقيل المراد بالآية زكاة الأموال كلها،
وقيل المراد بها زكاة الأعمال لا زكاة الأموال، لأن الأكثر أن يقال في الأموال زكى لا تزكى (وذكر اسم ربه
فصلى) قيل المعنى: ذكر اسم ربه بالخوف فعبده وصلى له، وقيل ذكر اسم ربه بلسانه فصلى: أي فأقام الصلوات
الخمس، وقيل ذكر موقفه ومعاده فعبده، وهو كالقول الأول. وقيل ذكر اسم ربه بالتكبير في أول الصلاة
لأنها لا تنعقد إلا بذكره، وهو قوله - الله أكبر - وقيل ذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى، وقيل هو أن يتطوع
بصلاة بعد زكاة، وقيل المراد بالصلاة هنا صلاة العيد، كما أن المراد بالتزكي في الآية الأولى زكاة الفطر، ولا
يخفى بعد هذا القول لأن السورة مكية، ولم تفرض زكاة الفطر وصلاة العيد إلا بالمدينة (بل تؤثرون الحياة الدنيا)
هذا إضراب عن كلام مقدر يدل عليه السياق: أي لا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات الفانية في الدنيا، قرأ
الجمهور " تؤثرون " بالفوقية على الخطاب، ويؤيدها قراءة أبي " بل أنتم تؤثرون " وقرأ أبو عمرو بالتحتية على
الغيبة. قيل والمراد بالآية الكفرة، والمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا بها والاطمئنان إليها والإعراض عن الآخرة
بالكلية، وقيل المراد بها جميع الناس من مؤمن وكافر، والمراد بإيثارها ما هو أعم من ذلك مما لا يخلو عنه غالب
الناس من تأثير جانب الدنيا على الآخرة، والتوجه إلى تحصيل منافعها والاهتمام بها اهتماما زائدا على اهتمامه بالطاعات
وجملة (والآخرة خير وأبقى) في محل نصب على الحال من فاعل تؤثرون: أي والحال أن الدار الآخرة التي هي
الجنة أفضل وأدوم من الدنيا. قال مالك بن دينار: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى
لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى؟
والإشارة بقوله (إن هذا) إلى ما تقدم من فلاح من تزكى وما بعده، وقيل إنه إشارة إلى جميع السورة، ومعنى
(لفي الصحف الأولى) أي ثابت فيها، وقوله (صحف إبراهيم وموسى) بدل من الصحف الأولى. قال قتادة
وابن زيد: يريد بقوله (إن هذا) والآخرة خير وأبقى. وقالا: تتابعت كتب الله عز وجل أن الآخرة خير وأبقى
من الدنيا. وقال الحسن: تتابعت كتب الله جل ثناؤه إن هذا لفي الصحف الأولى، وهو قوله (قد أفلح) إلى
آخر السورة. قرأ الجمهور " في الصحف الأولى صحف إبراهيم " بضم الحاء في الموضعين، وقرأ الأعمش وهارون
وأبو عمرو في رواية عنه بسكونها فيهما، وقرأ الجمهور " إبراهيم " بالألف بعد الراء وبالياء بعد الهاء. وقرأ أبو رجاء
بحذفهما وفتح الهاء، وقرأ أبو موسى وابن الزبير إبراهام بألفين.
425

وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عقبة بن عامر الجهني قال: " لما نزلت
- فسبح باسم ربك العظيم - قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت سبح
اسم ربك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم " ولا مطعن في إسناده. وأخرج أحمد وأبو داود والطبراني
وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى
قال: سبحان ربي الأعلى ": قال أبو داود: خولف فيه وكيع، فرواه شعبة عن أبي إسحاق عن سعيد عن ابن عباس
موقوفا. وأخرجه موقوفا أيضا عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ سبح
اسم ربك الأعلى قال: سبحان ربي الأعلى وفي لفظ لعبد بن حميد عنه قال " إذا قرأت سبح اسم ربك الأعلى فقل:
سبحان ربي الأعلى " وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن علي بن أبي طالب
أنه قرأ سبح اسم ربك الأعلى فقال: سبحان ربي الأعلى وهو في الصلاة، فقيل له أتزيد في القرآن؟ قال: لا،
إنما أمرنا بشئ فقلته. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن أبي موسى
الأشعري أنه قرأ في الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى فقال: سبحان ربي الأعلى. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن
حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال: سمعت ابن عمر يقرأ سبح اسم ربك الأعلى
فقال: سبحان ربي الأعلى، وكذلك هي في قراءة أبي بن كعب. وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر أنه قال: إذا قرأ
سبح اسم ربك الأعلى قال: سبحان ربي الأعلى. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن عبد الله بن الزبير أنه
قرأ سبح اسم ربك الأعلى فقال: سبحان ربي الأعلى، وهو في الصلاة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
ابن عباس في قوله (فجعله غثاء) قال: هشيما (أحوى) قال متغيرا. وأخرج ابن مردويه عنه قال: " كان النبي
صلى الله عليه وآله وسلم يستذكر القرآن مخافة أن ينسى، فقيل له قد كفيناك ذلك ونزلت (سنقرئك فلا تنسى) ".
وأخرج الحاكم عن سعد بن أبي وقاص نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (إلا ما شاء الله) يقول: إلا
ما شئت أنا فأنسيك. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (ونيسرك لليسرى) قال: للخير. وأخرج ابن أبي حاتم عن
ابن مسعود - ونيسرك لليسرى - قال: الجنة. وأخرج البزار وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في قوله (قد أفلح من تزكى) قال " من شهد أن لا إله إلا الله، وقطع الأنداد، وشهد أني رسول
الله (وذكر اسم ربه فصلى) قال: هي الصلوات الخمس، والمحافظة عليها والاهتمام بمواقيتها ". قال البزار:
لا يروي عن جابر إلا من هذا الوجه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (قد
أفلح من تزكى) قال: من الشرك (وذكر اسم ربه) قال: وحد الله (فصلى) قال: الصلوات الخمس. وأخرج
البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس (قد أفلح من تزكى) قال: من قال لا إله إلا الله. وأخرج البزار
وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن مردويه والبيهقي في سننه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف
عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " أنه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد ويتلو
هذه الآية (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) ". وفي لفظ قال: " سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن
زكاة الفطر، فقال (قد أفلح من تزكى) قال: هي زكاة الفطر " وكثير بن عبد الله ضعيف جدا، قال فيه
أبو داود: هو ركن من أركان الكذب، وقد صحح الترمذي حديثا من طريقه، وخطئ في ذلك، ولكنه يشهد له
ما أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " قد أفلح
من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) ثم يقسم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلى يوم الفطر " وليس في هذين الحديثين
426

ما يدل على أن ذلك سبب النزول، بل فيهما أنه صلى الله عليه وآله وسلم تلا الآية وقوله: هي زكاة الفطر، يمكن
أن يراد به أنها مما يصدق عليه التزكي، وقد قدمنا أن السورة مكية، ولم تكن في مكة صلاة عيد ولا فطرة. وأخرج
عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي سعيد الخدري (قد أفلح من تزكى) قال: أعطى صدقة الفطر قبل أن يخرج إلى العيد
(وذكر اسم ربه فصلى) قال: خرج إلى العيد وصلى. وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر قال " إنما أنزلت هذه
الآية في إخراج صدقة الفطر قبل صلاة العيد (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) ". وأخرج ابن أبي حاتم
عن عطاء قال: قلت لابن عباس: أرأيت قوله (قد أفلح من تزكى) للفطر قال: لم أسمع بذلك، ولكن للزكاة
كلها. ثم عاودته فقال لي: والصدقات كلها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان
عن عرفجة الثقفي قال: استقرأت ابن مسعود (سبح اسم ربك الأعلى) فلما بلغ (بل تؤثرون الحياة الدنيا) ترك
القراءة، وأقبل على أصحابه فقال: آثرنا الدنيا على الآخرة، فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها
ونساءها وطعامها وشرابها، وزويت عنا الآخرة فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل، وقال (بل يؤثرون الحياة
الدنيا) بالياء. وأخرج البزار وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (إن هذا لفي
الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " هي كلها في صحف إبراهيم
وموسى ". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال:
نسخت هذه السورة من صحف إبراهيم وموسى، وفي لفظ: هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى. وأخرج عبد
ابن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال " قلت يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة كتاب
وأربعة كتب " الحديث.
تفسير سورة الغاشية
هي ست وعشرون آية، وهي مكية بلا خلاف
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الغاشية بمكة. وأخرج
ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وقد تقدم حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كان
يقرأ سبح اسم ربك الأعلى، والغاشية في صلاة العيد، ويوم الجمعة ".
سورة الغاشية (1 - 26)
427

قوله (هل أتاك حديث الغاشية) قال جماعة من المفسرين: هل هنا بمعنى قد، وبه قال قطرب: أي قد جاءك
يا محمد حديث الغاشية، وهي القيامة لأنها تغشى الخلائق بأهوالها. وقيل إن بقاء هل هنا على معناها الاستفهامي
المتضمن للتعجيب مما في خبره، والتشويق إلى استماعه أولى. وقد ذهب إلى أن المراد بالغاشية هنا القيامة أكثر
المفسرين. وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب: الغاشية النار تغشى وجوه الكفار كما في قوله - وتغشى وجوههم
النار - وقيل الغاشية أهل النار لأنهم يغشونها ويقتحمونها والأول أولى. قال الكلبي: المعنى إن لم يكن أتاك حديث
الغاشية، فقد أتاك (وجوه يومئذ خاشعة) الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما هو؟ أو مستأنفة
استئنافا نحويا لبيان ما تضمنته من كون ثم وجوه في ذلك اليوم متصفة بهذه الصفة المذكورة، ووجوه مرتفع على
الابتداء وإن كانت نكرة لوقوعه في مقام التفصيل، وقد تقدم مثل هذا في سورة القيامة، وفي سورة النازعات.
والتنوين في يومئذ عوض عن المضاف إليه: أي يوم غشيان الغاشية، والخاشعة الذليلة الخاضعة، وكل متضائل
ساكن يقال له خاشع، يقال خشع الصوت: إذا خفى، وخشع في صلاته: إذا تذلل ونكس رأسه. والمراد
بالوجوه هنا أصحابها. قال مقاتل: يعني الكفار لأنهم تكبروا عن عبادة الله. قال قتادة وابن زيد: خاشعة في
النار، وقيل أراد وجوه اليهود والنصارى على الخصوص، والأول أولى. قوله (عاملة ناصبة) معنى عاملة أنها
تعمل عملا شاقا. قال أهل اللغة: يقال للرجل إذا دأب في سيره: عمل يعمل عملا، ويقال للسحاب إذا دام برقه:
قد عمل يعمل عملا. قيل وهذا العمل هو جر السلاسل والأغلال والخوض في النار (ناصبة) أي تعبة، يقال
نصب بالكسر ينصب نصبا: إذا تعب، والمعنى: أنها في الآخرة تعبة لما تلاقيه من عذاب الله. وقيل إن قوله
(عاملة) في الدنيا إذ لا عمل في الآخرة: أي تعمل في الدنيا بالكفر والمعاصي، وتنصب في ذلك. وقيل إنها عاملة
في الدنيا ناصبة في الآخرة، والأول أولى. قال قتادة: (عاملة ناصبة) تكبرت في الدنيا عن طاعة الله، فأعملها الله،
وأنصبها في النار بجر السلاسل الثقال وحمل الأغلال والوقوف حفاة عراة في العرصات - في يوم كان مقداره خمسين
ألف سنة - قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب فأعملها وأنصبها في جهنم. قال الكلبي:
يجرون على وجوههم في النار. وقال أيضا: يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم، فينصبون فيها أشد ما يكون
من النصب بمعالجة السلاسل والأغلال والخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل. قرأ الجمهور (عاملة ناصبة)
بالرفع فيهما على أنهما خبران آخران للمبتدأ، أو على تقدير مبتدأ، وهما خبران له، وقرأ ابن محيصن وعيسى وحميد
428

وابن كثير في رواية عنه بنصبهما على الحال أو على الذم، وقوله (تصلى نارا حامية) خبر آخر للمبتدأ: أي تدخل
نارا متناهية في الحر، يقال حمي النهار وحمى التنور: أي اشتد حرهما. قال الكسائي: يقال اشتد حمى النهار وحموه
بمعنى. قرأ الجمهور " تصلى " بفتح التاء مبنيا للفاعل. وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر بضمها مبنيا للمفعول.
وقرأ أبو رجاء بضم التاء وفتح الصاد وتشديد اللام، والضمير راجع إلى الوجوه على جميع هذه القراءات، والمراد
أصحابها كما تقدم، وهكذا الضمير (تسقى من عين آنية) والمراد بالعين الآنية: المتناهية في الحر، والآنى: الذي
قد انتهى حره، من الإيناء بمعنى التأخر، يقال آناه يؤنيه إيناء: أي أخره وحبسه كما في قوله - يطوفون بينها
وبين حميم آن - قال الواحدي: قال المفسرون: لو وقعت منها نطفة على جبال الدنيا لذابت. ولما ذكر سبحانه
شرابهم عقبه بذكر طعامهم فقال (ليس لهم طعام إلا من ضريع) هو نوع من الشوك يقال له الشبرق في لسان قريش
إذا كان رطبا، فإذا يبس فهو الضريع. كذا قال مجاهد وقتادة وغيرهما من المفسرين. قيل وهو سم قاتل، وإذا
يبس لا تقربه دابة ولا ترعاه، وقيل هو شئ يرمي به البحر يسمى الضريع من أقوات الأنعام، لا من أقوات
الناس، فإذا رعت منه الإبل لم تشبع وهلكت هزالا. قال الخليل: الضريع نبات أخضر منتن الريح يرمي به البحر.
وجمهور أهل اللغة والتفسير قالوا: بالأول، ومنه قول أبي ذؤيب:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوي * وعاد ضريعا بان عنه التحايص
وقال الهذلي يذكر إبلا وسوء مرعاها:
وحبسن في هرم الضريع وكلها * قرناء دامية اليدين جرود
وقال سعيد بن جبير: الضريع الحجارة، وقيل هو شجرة في نار جهنم. وقال الحسن: هو بعض ما أخفاه
الله من العذاب. وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون عنده ويذلون ويتضرعون إلى الله بالخلاص منه، فسمي
بذلك لأن آكله بتضرع إلى الله في أن يعفى عنه لكراهته وخشونته. قال النحاس: قد يكون مشتقا من الضارع
وهو الذليل: أي من شربه يلحقه ضراعة وذلة. وقال الحسن: أيضا: هو الزقوم، وقيل هو واد في جهنم، وقد
تقدم في سورة الحاقة - فليس له اليوم ها هنا حميم ولا طعام إلا من غسلين - والغسلين غير الضريع كما تقدم،
وجمع بين الآيتين بأن النار دركات، فمنهم من طعامه الضريع، ومنهم من طعامه الغسلين. ثم وصف سبحانه
الضريع فقال (لا يسمن ولا يغني من جوع) أي لا يسمن الضريع آكله ولا يدفع عنه ما به من الجوع. قال
المفسرون: لما نزلت هذه الآية. قال المشركون: إن إبلنا تسمن من الضريع، فنزلت (لا يسمن ولا يغني من
جوع) وكذبوا في قولهم هذا، فإن الإبل لا تأكل الضريع ولا تقربه. وقيل اشتبه عليهم أمره فظنوه كغيره من
النبات النافع. ثم شرع سبحانه في بيان حال أهل الجنة بعد الفراغ من بيان حال أهل النار فقال (وجوه يومئذ ناعمة)
أي ذات نعمة وبهجة، وهي وجوه المؤمنين صارت وجوههم ناعمة لما شاهدوا من عاقبة أمرهم وما أعده الله
لهم من الخير الذي يفوق الوصف، ومثله قوله - تعرف في وجوههم نضرة النعيم - ثم قال (لسعيها راضية) أي
لعملها الذي عملته في الدنيا راضية، لأنها قد أعطيت من الأجر ما أرضاها وقرت به عيونها، والمراد بالوجوه هنا
أصحابها كما تقدم (في جنة عالية) أي عالية المكان مرتفعة على غيرها من الأمكنة، أو عالية القدر لأن فيها ما تشتهيه
الأنفس وتلذ الأعين (لا تسمع فيها لاغية) قرأ الجمهور " لا تسمع " بفتح الفوقية ونصب لاغية: أي لا تسمع
أنت أيها المخاطب، أو لا تسمع تلك الوجوه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتحتية مضمومة مبنيا للمفعول ورفع
429

لاغية. وقرأ نافع بالفوقية مضمومة مبنيا للمفعول ورفع لاغية: وقرأ الفضل والجحدري بفتح التحتية مبنيا للفاعل
ونصب لاغية، واللغو الكلام الساقط. قال الفراء والأخفش: أي لا تسمع فيها كلمة لغو. قيل المراد بذلك
الكذب والبهتان والكفر قاله قتادة: وقال مجاهد: أي الشتم. وقال الفراء: لا تسمع فيها حالفا يحلف بكذب.
وقال الكلبي: لا تسمع في الجنة حالفا بيمين بزة ولا فاجرة. وقال الفراء أيضا: لا تسمع في كلام أهل الجنة كلمة
تلغى لأنهم لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم، وهذا أرجح الأقوال لأن النكرة
في سياق النفي من صيغ العموم، ولا وجه لتخصيص هذا بنوع من اللغو خاص إلا بمخصص يصلح للتخصيص،
ولاغية إما صفة موصوف محذوف: أي كلمة لاغية، أو نفس لاغية، أو مصدر: أي لا تسمع فيها لغوا (فيها
عين جارية) قد تقدم في سورة الإنسان أن فيها عيونا، والعين هنا بمعنى العيون كما في قوله - علمت نفس -
ومعنى جارية أنها تجري مياهها وتتدفق بأنواع الأشربة المستلذة. قال الكلبي: لا أدري بماء أو بغيره (فيها سرر
مرفوعة) أي عالية مرتفعة السمك، أو عالية القدر (وأكواب موضوعة) قد تقدم أن الأكواب جمع كوب،
وأنه القدح الذي لا عروة له، ومعنى موضوعة: أنها موضوعة بين أيديهم يشربون منها (ونمارق مصفوفة)
النمارق: الوسائد. قال الواحدي: في قول الجميع، واحدتها نمرقة بضم النون، وزاد الفراء سماعا عن العرب
نمرقة بكسرها. قال الكلبي: وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض، ومنه قول الشاعر:
وإنا لنجري الكأس بين شروبنا * وبين أبي قابوس فوق النمارق
وقال الآخر: كهول وشبان حسان وجوههم * على سرر مصفوفة ونمارق
قال في الصحاح: النمرق والنمرقة وسادة صغيرة، وكذلك النمرقة بالكسر لغة حكاها يعقوب (وزرابي مبثوثة)
يعني البسط، واحدها زربى وزربية. قال أبو عبيدة والفراء: الزرابي الطنافس التي لها خمل رقيق، واحدها
زربية، والمبثوثة المبسوطة قاله قتادة. وقال عكرمة: بعضها فوق بعض. قال الواحدي: ويجوز أن يكون
المعنى: أنها مفرقة في المجالس. وبه قال القتيبي: وقال الفراء: معنى مبثوثة كثيرة، والظاهر أن معنى البث:
التفرق مع كثرة، ومنه - وبث فيها من كل دابة - (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) الاستفهام للتقريع
والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر كما في نظائره مما مر غير مرة، والجملة مسوقة لتقرير أمر البعث والاستدلال
عليه، وكذا ما بعدها، وكيف منصوبة بما بعدها، والجملة في محل جر على أنها بدل اشتمال من الإبل، والمعنى:
أينكرون أمر البعث ويستبعدون وقوعه، أفلا ينظرون إلى الإبل التي هي غالب مواشيهم وأكبر ما يشاهدونه من
المخلوقات (كيف خلقت) على ما هي عليه من الخلق البديع من عظم جثتها ومزيد قوتها وبديع أوصافها. قال
أبو عمرو بن العلاء: إنما خص الإبل لأنها من ذوات الأربع تبرك فتحمل عليها الحمولة، وغيرها من ذوات
الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم: قال الزجاج: نبههم على عظيم من خلقه قد ذلله للصغير يقوده وينيخه وينهضه
ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك، فينهض بثقل حمله، وليس ذلك في شئ من الحوامل غيره، فأراهم
عظيما من خلقه ليدل بذلك على توحيده. وسئل الحسن عن هذه الآية، وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة، فقال:
أما الفيل فالعرب بعيدة العهد به، ثم هو خنزير لا يركب ظهره ولا يؤكل لحمه ولا يحلب دره، والإبل من أعز
مال العرب وأنفسه، تأكل النوى وألقت وتخرج اللبن ويأخذ الصبي بزمامها فيذهب بها حيث شاء مع عظمها
في نفسها. وقال المبرد: الإبل هنا هي القطع العظيمة من السحاب، وهو خلاف ما ذكره أهل التفسير واللغة.
430

وروى عن الأصمعي أنه قال: من قرأ " خلقت " بالتخفيف عني به البعير، ومن قرأ بالتشديد عني به السحاب
(وإلى السماء كيف رفعت) أي رفعت فوق الأرض بلا عمد على وجه لا يناله الفهم ولا يدركه العقل، وقيل
رفعت فلا ينالها شئ (وإلى الجبال كيف نصبت) على الأرض مرساة راسخة لا تميد ولا تميل ولا تزول (وإلى
الأرض كيف سطحت) أي بسطت، والسطح بسط الشئ، يقال لظهر البيت إذا كان مستويا: سطح. قرأ
الجمهور " سطحت " مبنيا للمفعول مخففا. وقرأ الحسن: بالتشديد. وقرأ علي بن أبي طالب وابن السميفع
وأبو العالية: خلقت ورفعت ونصبت وسطحت على البناء للفاعل وضم التاء فيها كلها. ثم أمر سبحانه رسوله
صلى الله عليه وآله وسلم بالتذكير فقال (فذكر) والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها: أي فعظهم يا محمد وخوفهم
ثم علل الأمر بالتذكير فقال (إنما أنت مذكر) أي ليس عليك إلا ذلك، و (لست عليهم بمصيطر) المصيطر
والمسيطر بالسين والصاد: المسلط على الشئ ليشرف عليه ويتعهد أحواله كذا في الصحاح: أي لست عليهم بمصيطر
حتى تكرههم على الإيمان، وهذا منسوخ بآية السيف. قرأ الجمهور " بمصيطر " بالصاد، وقرأ هشام وقنبل في
رواية بالسين. وقرأ خلف بإشمام الصاد زايا. وقرأ هارون الأعور بفتح الطاء اسم مفعول (إلا من تولى وكفر) هذا
استثناء منقطع: أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير (فيعذبه الله العذاب الأكبر) وهو عذاب جهنم الدائم،
وقيل هو استثناء متصل من قوله (فذكر) أي فذكر كل أحد إلا من انقطع طمعك عن إيمانه وتولى فاستحق
العذاب الأكبر، والأول أولى. وإنما قال " الأكبر " لأنهم قد عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر.
وقرأ ابن مسعود " فإنه يعذبه الله " وقرأ ابن عباس وقتادة " ألا من تولى " على أنها ألا التي للتنبيه والاستفتاح (إن
إلينا إيابهم) أي رجوعهم بعد الموت، يقال أب يئوب: إذا رجع، ومنه قول عبيد بن الأبرص:
وكل ذي غيبة يتوب * وغائب الموت لا يئوب
قرأ الجمهور " إيابهم " بالتخفيف، وقرأ أبو جعفر وشيبة بالتشديد. قال أبو حاتم: لا يجوز التشديد ولو جاز
لجاز مثله في الصيام والقيام، وقيل هما لغتان بمعنى. قال الواحدي: وأما " إيابهم " بتشديد الياء فإنه شاذ لم يجزه
أحد غير الزجاج (ثم إن علينا حسابهم) يعني جزاءهم بعد رجوعهم إلى الله بالبعث، وثم للتراخي في الرتبة لبعد
منزلة الحساب في الشدة عن منزلة الإياب.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الغاشية من أسماء القيامة. وأخرج ابن
أبي حاتم عنه (هل أتاك حديث الغاشية) قال: الساعة (وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة) قال: تعمل وتنصب
في النار (تسقى من عين آنية) قال: هي التي قد طال أينها (ليس لهم طعام إلا من ضريع) قال: الشبرق. وأخرج
ابن أبي حاتم عنه أيضا (وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة) قال: يعني اليهود والنصارى تخشع ولا ينفعها عملها
(تسقى من عين آنية) قال: قد أنى غليانها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (تصلى
نارا حامية) قال: حارة، (تسقى من عين آنية) قال: انتهى حرها (ليس لهم طعام إلا من ضريع) يقول: من
شجر من نار. وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا (إلا من ضريع) قال: الشبرق اليابس. وأخرج ابن جرير عنه
أيضا (لا تسمع فيها لاغية) يقول: لا تسمع أذى ولا باطل وفي قوله (فيها سرر مرفوعة) قال: بعضها فوق بعض
(ونمارق) قال: مجالس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا (ونمارق) قال: المرافق. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (لست عليهم بمصيطر) قال: جبار (إلا من تولى وكفر) قال حسابه
على الله. وأخرج أبو داود في ناسخه عنه أيضا (لست عليهم بمسيطر) ثم نسخ ذلك فقال - اقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم - وأخرج ابن المنذر عنه أيضا (إن إلينا إيابهم) قال: مرجعهم.
431

تفسير سورة الفجر
هي ثلاثون آية، وقيل تسع وعشرون آية
وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي من طرق عن ابن
عباس قال: نزلت (والفجر) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير وعائشة مثله. وأخرج النسائي عن جابر
قال: " صلى معاذ صلاة، فجاء رجل فصلى معه فطول، فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف، فبلغ ذلك معاذا
فقال: منافق، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله جئت أصلى فطول على،
فانصرفت فصليت في ناحية المسجد فعلفت ناضحي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفتان أنت
يا معاذ؟ أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والفجر، والليل إذا يغشى ".
سورة الفجر (1 - 14)
أقسم سبحانه بهذه الأشياء كما أقسم بغيرها من مخلوقاته. واختلف في الفجر الذي أقسم الله به هنا، فقيل
هو الوقت المعروف، وسمى فجرا لأنه وقت انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم. وقال قتادة: إنه فجر أول
يوم من شهر محرم، لأن منه تتفجر السنة. وقال مجاهد: يريد يوم النحر. وقال الضحاك: فجر ذي الحجة،
لأن الله قرن الأيام به فقال (وليال عشر) أي ليالي عشر من ذي الحجة، وبه قال السدى والكلبي. وقيل المعنى:
وصلاة الفجر أو رب الفجر. والأول أولى. وجواب هذا القسم وما بعده هو قوله (إن ربك لبالمرصاد) كذا
قال ابن الأنباري، وقيل محذوف لدلالة السياق عليه: أي ليجازين كل أحد بما عمل، أو ليعذبن، وقدره
أبو حيان بما دلت عليه خاتمة السورة التي قبله: أي والفجر الخ لإيابهم إلينا وحسابهم علينا، وهذا ضعيف جدا،
وأضعف منه قول من قال: إن الجواب قوله - هل في ذلك قسم لذي حجر - وأن هل بمعنى قد، لأن هذا لا يصح
أن يكون مقسما عليه أبدا (وليال عشر) هي عشر ذي الحجة في قول جمهور المفسرين. وقال الضحاك: إنها
الأواخر من رمضان، وقيل العشر الأول من المحرم إلى عاشرها يوم عاشوراء. قرأ الجمهور " ليال " بالتنوين،
وعشر صفة لها. وقرأ ابن عباس " وليالي عشر " بالإضافة، قيل والمراد ليالي أيام عشر، وكان حقه على هذا أن
432

يقال عشرة، لأن المعدود مذكر. وأجيب عنه بأنه إذا حذف المعدود جاز الوجهان (والشفع والوتر) الشفع
والوتر يعمان كل الأشياء شفعها ووترها، وقيل شفع الليالي ووترها. وقال قتادة: الشفع والوتر شفع الصلاة
ووترها، منها شفع ومنها وتر. وقيل الشفع يوم عرفة ويوم النحر، والوتر ليلة يوم النحر. وقال مجاهد وعطية
العوفي: الشفع الخلق، والوتر الله الواحد الصمد، وبه قال محمد بن سيرين ومسروق وأبو صالح وقتادة. وقال
الربيع بن أنس وأبو العالية: هي صلاة المغرب فيها ركعتان والوتر الركعة. وقال الضحاك: الشفع عشر ذي الحجة
والوتر أيام مني الثلاثة، وبه قال عطاء. وقيل هما آدم وحواء، لأن آدم كان وترا فشفع بحواء. وقيل الشفع
درجات الجنة وهي ثمان، والوتر دركات النار وهي سبع، وبه قال الحسين بن الفضل. وقيل الشفع الصفا
والمروة، والوتر الكعبة. وقال مقاتل: الشفع الأيام والليالي، والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة
وقال سفيان بن عيينة: الوتر هو الله سبحانه، وهو الشفع أيضا لقوله - ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم -
الآية. وقال الحسن: المراد بالشفع والوتر العدد كله، لأن العدد لا يخلو عنهما. وقيل الشفع مسجد مكة والمدينة،
والوتر مسجد بيت المقدس. وقيل الشفع حجج القرآن، والوتر الإفراد. وقيل الشفع الحيوان لأنه ذكر وأنثى،
والوتر الجماد. وقيل الشفع ما سمى، والوتر مالا يسمى. ولا يخفاك ما في غالب هذه الأقوال من السقوط البين
والضعف الظاهر، والاتكال في التعيين على مجرد الرأي الزائف، والخاطر الخاطئ.
والذي ينبغي التعويل عليه ويتعين المصير إليه ما يدل عليه معنى الشفع والوتر في كلام العرب، وهما معروفان
واضحان، فالشفع عند العرب الزوج، والوتر الفرد. فالمراد بالآية إما نفس العدد أو ما يصدق عليه من المعدودات
بأنه شفع أو وتر. وإذا قام دليل على تعيين شئ من المعدودات في تفسير هذه الآية، فإن كان الدليل يدل على
أنه المراد نفسه دون غيره فذاك، وإن كان الدليل يدل على أنه مما تناولته هذه الآية لم يكن ذلك مانعا من تناولها
لغيره. قرأ الجمهور " والوتر " بفتح الواو. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بكسرها، وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه
وهما لغتان، والفتح لغة قريش وأهل الحجاز، والكسر لغة تميم. قال الأصمعي: كل فرد وتر، وأهل الحجاز
يفتحون فيقولون وتر في الفرد. وحكى يونس عن ابن كثير أنه قرأ بفتح الواو وكسر التاء، فيحتمل أن تكون
لغة ثالثة، ويحتمل أنه نقل كسرة الراء إلى التاء إجراء للوصل مجرى الوقف (والليل إذا يسر) قرأ الجمهور " يسر "
بحذف الياء وصلا ووقفا اتباعا لرسم المصحف. وقرأ نافع وأبو عمرو بحذفها في الوقف وإثباتها في الوصل. وقرأ
ابن كثير وابن محيصن ويعقوب بإثباتها في الوصل والوقف. قال الخليل: تسقط الياء منها موافقة لرءوس الآي.
قال الزجاج: والحذف أحب إلى لأنها فاصلة والفواصل تحذف منها الياآت. قال الفراء: قد تحذف العرب الياء
وتكتفي بكسر ما قبلها، وأنشد بعضهم:
كفاك كف ما تليق درهما * جودا وأخرى تعط بالسيف دما
ما تليق: أي ما تمسك. قال المؤرج: سألت الأخفش عن العلة في إسقاط الياء من يسر فقال: لا أجيبك حتى
تبيت على باب داري سنة، فبت على باب داره سنة فقال: الليل لا يسري، وإنما يسرى فيه، فهو مصروف عن
جهته، وكل ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه، ألا ترى إلى قوله - وما كانت أمك بغيا - ولم يقل بغية، لأنه
صرفها من باغية.
وفي كلام الأخفش هذا نظر، فإن صرف الشئ عن معناه لسبب من الأسباب لا يستلزم صرف لفظه عن
بعض ما يستحقه، ولو صح ذلك للزم في كل المجازات العقلية واللفظية، واللازم باطل فالملزوم مثله، والأصل
433

ههنا إثبات الياء، لأنها لام الفعل المضارع المرفوع، ولم تحذف لعلة من العلل إلا لاتباع رسم المصحف وموافقة
رؤوس الآي إجراء للفواصل مجرى القوافي: ومعنى (والليل إذا يسر) إذا يمضى، كقوله - والليل إذا أدبر -
- والليل إذا عسعس - وقيل معنى يسر: يسار فيه، كما يقال ليل نائم ونهار صائم، كما في قول الشاعر:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى * ونمت وما ليل المطي بنائم
وبهذا قال الأخفش والقتيبي وغيرهما من أهل المعاني، وبالأول قال جمهور المفسرين. وقال قتادة وأبو العالية:
(والليل إذا يسر) أي جاء وأقبل. وقال النخعي: أي استوى. قال عكرمة وقتادة والكلبي ومحمد بن كعب:
هي ليلة المزدلفة خاصة لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله سبحانه، وقيل ليلة القدر لسراية الرحمة فيها.
والراجح عدم تخصيص ليلة من الليالي دون أخرى (هل في ذلك قسم لذي حجر) هذا الاستفهام لتقرير تعظيم
ما أقسم سبحانه به وتفخيمه من هذه الأمور المذكورة، والإشارة بقوله (ذلك إلى تلك الأمور، والتذكير
بتأويل المذكور: أي هل في ذلك المذكور: من الأمور التي أقسمنا بها قسم: أي مقسم به حقيق بأن تؤكد به
الأخبار (لذي حجر) أي عقل ولب، فمن كان ذا عقل ولب علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء حقيق
بأن يقسم به، ومثل هذا قوله - وإنه لقسم لو تعلمون عظيم -. قال الحسن (لذي حجر) أي لذي حلم. وقال
أبو مالك: لذي ستر من الناس. وقال الجمهور: الحجر العقل. قال الفراء: الكل يرجع إلى معنى واحد، لذي
عقل ولذي حلم ولذي ستر، الكل بمعنى العقل. وأصل الحجر المنع، يقال لمن ملك نفسه ومنعها: إنه لذو
حجر، ومنه سمى الحجر لامتناعه بصلابته، ومنه حجر الحاكم على فلان: أي منعه. قال والعرب تقول: إنه
لذو حجر: إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها. ثم ذكر سبحانه على طريقة الاستشهاد ما وقع من عذابه على بعض
طوائف الكفار بسبب كفرهم وعنادهم وتكذيبهم للرسل تحذيرا للكفار في عصر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم
وتخويفا لهم أن يصيبهم ما أصابهم فقال (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد) قرأ الجمهور بتنوين " عاد "
على أن يكون إرم عطف بيان لعاد، والمراد بعاد اسم أبيهم، وإرم اسم القبيلة أو بدلا منه، وامتناع صرف إرم
للتعريف والتأنيث. وقيل المراد بعاد أولاد عاد، وهم عاد الأولى، ويقال لمن بعدهم عاد الأخرى، فيكون ذكر
إرم على طريقة عطف البيان أو البدل، للدلالة على أنهم عاد الأولى لا عاد الأخرى، ولا بد من تقدير مضاف
على كلا القولين: أي أهل إرم، أو سبط إرم؟ فإن إرم هو جد عاد، لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن
نوح. وقرأ الحسن وأبو العالية بإضافة عاد إلى إرم. وقرأ الجمهور " إرم " بكسر الهمزة. وفتح الراء والميم. وقرأ
الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك " أرم " بفتح الهمزة والراء، وقرأ معاذ بسكون الراء تخفيفا، وقرئ بإضافة إرم
إلى ذات العماد. قال مجاهد: من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالإرم التي هي الأعلام واحدها أرم، وفي الكلام تقديم
وتأخير: أي والفجر وكذا وكذا (إن ربك لبالمرصاد) ألم تر: أي ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد، وهذه
الرؤية رؤية القلب، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو لكل من يصلح له، وقد كان أمر عاد وثمود
مشهورا عند العرب، لأن ديارهم متصلة بديار العرب، وكانوا يسمعون من أهل الكتاب أمر فرعون. وقال
مجاهد أيضا: إرم أمة من الأمم، وقال قتادة: هي قبيلة من عاد، وقيل هما عادان، فالأولى هي إرم، ومنه
قول قيس بن الرقيات:
مجدا تليدا بناه أولهم * أدرك عادا وقبله إرم
434

قال معمر: إرم إليه مجتمع عاد وثمود، وكان يقال عاد إرم وعاد ثمود، وكانت القبيلتان تنسب إلى إرم.
قال أبو عبيدة: هما عادان، فالأولى إرم. ومعنى ذات العماد: ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الأعمدة،
كذا قال الضحاك. وقال قتادة ومجاهد: إنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج النبت رجعوا إلى
منازلهم. وقال مقاتل: ذات العماد يعني طولهم، كان طول الرجل منهم اثنى عشرة ذراعا، ويقال رجل طويل
العماد: أي القامة. قال أبو عبيدة: ذات العماد ذات الطول، يقال رجل معمد: إذا كان طويلا. وقال مجاهد
وقتادة: أيضا كان عمادا لقومهم، يقال فلان عميد القوم وعمودهم: أي سيدهم. وقال ابن زيد: ذات العماد
يعني إحكام البنيان بالعمد. قال في الصحاح: والعماد الأبنية الرفيعة تذكر وتؤنث، قال عمرو بن كلثوم:
ونحن إذا عماد الحي خرت * على الإخفاض نمنع من يلينا
وقال عكرمة وسعيد المقبري: هي دمشق، ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك. وقال محمد بن كعب:
هي الإسكندرية (التي لم يخلق مثلها في البلاد) هذه صفة لعاد: أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والشدة
والقوة، وهم الذين قالوا - من أشد منا قوة - أو صفة للقرية على قول من قال: إن إرم اسم لقريتهم أو للأرض
التي كانوا فيها. والأول أولى، ويدل عليه قراءة أبي " التي لم يخلق مثلهم في البلاد " وقيل الإرم الهلاك. قال الضحاك
إرم ذات العماد: أي أهلكهم فجعلهم رميما، وبه قال شهر بن حوشب. وقد ذكر جماعة من المفسرين أن
إرم ذات العماد اسم مدينة مبنية بالذهب والفضة قصورها ودورها وبساتينها، وإن حصباءها جواهر
وترابها مسك، وليس بها أنيس ولا فيها ساكن من بني آدم، وإنها لا تزال تنتقل من موضع إلى موضع، فتارة
تكون باليمن، وتارة تكون بالشام، وتارة تكون بالعراق، وتارة تكون بسائر البلاد، وهذا كذب بحت لا ينفق
على من له أدنى تميز، وزاد الثعلبي في تفسيره فقال: إن عبد الله بن قلابة في زمان معاوية دخل هذه المدينة، وهذا
كذب على كذب وافتراء على افتراء، وقد أصيب الإسلام وأهله بداهية دهياء وفاقرة عظمي ورزية كبرى من
أمثال هؤلاء الكذابين الدجالين الذين يجترئون على الكذب، تارة على بني إسرائيل، وتارة على الأنبياء، وتارة
على الصالحين، وتارة على رب العالمين، وتضاعف هذا الشر وزاد كثرة بتصدر جماعة من الذين لا علم لهم
بصحيح الرواية من ضعيفها من موضوعها للتصنيف والتفسير للكتاب العزيز، فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة
والأقاصيص المنحولة والأساطير المفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه، فحرفوا وغيروا وبدلوا. ومن أراد أن
يقف على بعض ما ذكرنا فلينظر في كتابي الذي سميته الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. ثم عطف
سبحانه القبيلة الآخرة، وهي ثمود على قبيلة عاد فقال (وثمود الذين جابوا الصخر بالواد) وهم قوم صالح سموا
باسم جدهم ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح، ومعنى جابوا الصخر: قطعوه، والجوب القطع، ومنه
جاب البلاد: إذا قطعها، ومنه سمى جيب القميص لأنه جيب: أي قطع. قال المفسرون: أول من نحت الجبال
والصخور ثمود، فبنوا من المدائن ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة، ومنه قوله سبحانه - وتنحتون من
الجبال بيوتا آمنين - وكانوا ينحتون الجبال وينقبونها ويجعلون تلك الأنقاب بيوتا يسكنون فيها، وقوله (بالواد)
متعلق بجابوا، أو بمحذوف على أنه حال من الصخر، وهو وادي القرى. قرأ الجمهور " ثمود " بمنع الصرف على
أنه اسم للقبيلة، ففيه التأنيث والتعريف. وقرأ يحيى بن وثاب بالصرف على أنه اسم لأبيها. وقرأ الجمهور أيضا
بالواد بحذف الياء وصلا ووقفا اتباعا لرسم المصحف. وقرأ ابن كثير بإثباتها فيهما. وقرأ قنبل في رواية عنه بإثباتها
في الوصل دون الوقف (وفرعون ذي الأوتاد) أي ذو الجنود الذين لهم خيام كثيرة يشدونها بالأوتاد، أو جعل
الجنود أنفسهم أوتادا لأنهم يشدون الملك كما تشد الأوتاد الخيام، وقيل كان له أوتاد يعذب الناس بها ويشدهم
435

إليها. وقد تقدم بيان هذا في سورة ص (الذين طغوا في البلاد) الموصول صفة لعاد وثمود وفرعون: أي طغت
كل طائفة منهم في بلادهم وتمردت وعتت، والطغيان مجاوزة الحد (فأكثروا فيها الفساد) بالكفر ومعاصي الله
والجور على عباده، ويجوز أن يكون الموصول في محل رفع على أنه خبر مبتدإ محذوف: أي هم الذين طغوا، أو
في محل نصب على الذم (فصب عليهم ربك سوط عذاب) أي أفرغ عليهم وألقى على تلك الطوائف سوط عذاب،
وهو ما عذبهم به. قال الزجاج: جعل صوته الذي ضربهم به العذاب، يقال: صب على فلان خلعة: أي ألقاها
عليه، ومنه قول النابغة:
فصب عليه الله أحسن صبغة * وكان له بين البرية ناصر
ومنه قول الآخر: ألم تر أن الله أظهر دينه * وصب على الكفار سوط عذاب
ومعنى صوت عذاب: نصيب عذاب، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم هو
بالنسبة إلى ما أعده لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به. وقيل ذكر السوط للدلالة على شدة
ما نزل بهم، وكان السوط عندهم هو نهاية ما يعذب به. قال الفراء: هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع
العذاب، وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به، فجرى لكل عذاب إذا كان فيه عندهم غاية
العذاب. وقيل معناه: عذاب يخالط اللحم والدم، من قولهم ساطه يسوطه سوطا: أي خلطه، فالسوط خلط
الشئ بعضه ببعض، ومنه قول كعب بن زهير:
لكنها خلة قد سيط من دمها * فجع وولع وإخلاف وتبديل *
وقال الآخر: أحارث إنا لو تساط دماؤنا * تزايلن حتى لا يمس دم دما
وقال آخر: فسطها ذميم الرأي غير موفق * فلست على تسويطها بمعان *
(إن ربك لبالمرصاد) قد قدمنا قول من قال إن هذا جواب القسم. والأولى أن الجواب محذوف، وهذه
الجملة تعليل لما قبلها، وفيها إرشاد إلى أن كفار قومه صلى الله عليه وآله وسلم سيصيبهم ما أصاب أولئك الكفار،
ومعنى بالمرصاد: أنه يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه عليه بالخير خيرا وبالشر شرا. قال الحسن وعكرمة: أي
عليه طريق العباد لا يفوته أحد، والرصد والمرصاد: الطريق. وقد تقدم بيانه في سورة براءة، وتقدم أيضا عند
قوله - إن جهنم كانت مرصادا -.
وقد أخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله
(والفجر) قال: فجر النهار. وأخرج ابن جرير عنه قال: يعني صلاة الفجر. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي
في الشعب وابن عساكر عنه أيضا في قوله (والفجر) قال: هو المحرم فجر السنة، وقد ورد في فضل صوم شهر
محرم أحاديث صحيحة، ولكنها لا تدل على أنه المراد بالآية لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما. وأخرج أحمد والنسائي
والبزار وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن جابر " أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال (والفجر وليال عشر والشفع والوتر) قال: إن العشر عشر الأضحى، والوتر: يوم عرفة،
والشفع: يوم النحر. وفي لفظ: هي ليالي من ذي الحجة ". وأخرج عبد بن حميد عن طلحة بن عبد الله أنه دخل
على ابن عمر هو وأبو سلمة بن عبد الرحمن، فدعاهم ابن عمر إلى الغداء يوم عرفة، فقال أبو سلمة: أليس هذه
الليالي العشر التي ذكرها الله في القرآن؟ فقال ابن عمر: وما يدريك؟ قال: ما أشك، قال: بلى فاشكك. وقد
436

ورد في فضل هذه العشر أحاديث، وليس فيها ما يدل على أنها المرادة بما في القرآن هنا بوجه من الوجوه. وأخرج
ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وليال عشر) قال: هي العشر الأواخر من رمضان. وأخرج
أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه عن عمران بن حصين
" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الشفع والوتر، فقال: هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر "، وفي
إسناده رجل مجهول، وهو الراوي له عن عمران بن حصين. وقد روى عن عمران بن عصام على عمران بن حصين
بإسقاط الرجل المجهول. وقال الترمذي بعد إخراجه بالإسناد الذي فيه الرجل المجهول: هو حديث غريب لا نعرفه
إلا من حديث قتادة. قال ابن كثير: وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه، والله أعلم. قال: ولم يجزم
ابن جرير بشئ من هذه الأقوال في الشفع والوتر. وقد أخرج هذا الحديث موقوفا على عمران بن حصين
عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير، فهذا يقوى ما قاله ابن كثير. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله
(والشفع والوتر) فقال: كل شئ شفع فهو اثنان، والوتر واحد. وأخرج الطبراني وابن مردويه، قال السيوطي
بسند ضعيف عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أنه سئل عن الشفع والوتر فقال: يومان وليلة.
يوم عرفة، ويوم النحر، والوتر ليلة النحر ليلة جمع ". وأخرج ابن جرير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قال " الشفع اليومان، والوتر اليوم الثالث ". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وعبد
ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير أنه سئل عن الشفع والوتر فقال: الشفع
قول الله - فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه - والوتر اليوم الثالث. وفي لفظ: الوتر أوسط أيام التشريق. وأخرج
عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس قال: الشفع يوم
النحر، والوتر يوم عرفة. وأخرج ابن جرير عنه (والليل إذا يسر) قال: إذا ذهب. وأخرج ابن المنذر عن
ابن مسعود أنه قرأ (والفجر) إلى قوله (إذا يسر) قال: هذا قسم على إن ربك بالمرصاد. وأخرج الفريابي وابن
أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس في قوله
(قسم لذي حجر) قال: لذي حجى وعقل ونهى. وأخرج ابن جرير عنه في قوله (بعاد إرم) قال: يعني
بالإرم الهالك، ألا ترى أنك تقول أرم بنو فلان (ذات العماد) يعني طولهم مثل العماد. وأخرج ابن أبي حاتم
وابن مردويه عن المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر (إرم ذات العماد) فقال:
كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة فيحملها على كاهله فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم، وفي إسناده رجل
مجهول لأن معاوية بن صالح رواه عمن حدثه عن المقدام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله (جابوا الصخر بالواد) قال: خرقوها. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: كانوا ينحتون من
الجبال بيوتا (وفرعون ذي الأوتاد) قال: الأوتاد: الجنود الذين يشدون له أمره. وأخرج الحاكم وصححه عن
ابن مسعود في قوله (ذي الأوتاد) قال: وتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله (إن ربك لبالمرصاد) قال: يسمع
ويرى. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله (إن ربك لبالمرصاد) قال:
من وراء الصراط جسور: جسر عليه الأمانة، وجسر عليه الرحم، وجسر عليه الرب عز وجل.
437

سورة الفجر (15 - 30)
لما ذكر سبحانه أنه بالمرصاد ذكر ما يدل على اختلاف أحوال عباده عند إصابة الخير وعند إصابة الشر،
وأن مطمح أنظارهم ومعظم مقاصدهم هو الدنيا فقال (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه) أي امتحنه واختبره بالنعم
(فأكرمه ونعمه) أي أكرمه بالمال ووسع عليه رزقه (فيقول ربي أكرمن) فرحا بما نال وسرورا بما أعطى، غير
شاكر لله على ذلك ولا خاطر بباله أن ذلك امتحان له من ربه واختبار لحاله وكشف لما يشتمل عليه من الصبر
والجزع والشكر للنعمة وكفرانها، إلا و " ما " في قوله (إذا ما) زائدة، وقوله (فأكرمه ونعمه) تفسير للابتلاء
ومعنى (أكرمن) أي فضلني بما أعطاني من المال وأسبغه على من النعم لمزيد استحقاقي لذلك وكوني موضعا له،
والإنسان مبتدأ، وخبره " فيقول ربي أكرمن " ودخلت الفاء فيه لتضمن أما معنى الشرط والظرف المتوسط بين
المبتدأ والخبر وإن تقدم لفظا فهو مؤخر في المعنى: أي فأما الإنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام.
قال الكلبي: الإنسان هو الكافر أبي بن خلف. وقال مقاتل: نزلت في أمية بن خلف، وقيل نزلت في عتبة بن
ربيعة وأبي حذيفة بن المغيرة (وأما إذا ما ابتلاه) أي اختبره وعامله معاملة من يختبره (فقدر عليه رزقه) أي ضيقه
ولم يوسعه له، ولا بسط له فيه (فيقول ربي أهانن) أي أولاني هوانا، وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث،
لأنه لا كرامة عنده إلا الدنيا والتوسع في متاعها، ولا إهانة عنده إلا فوتها وعدم وصوله إلى ما يريد من زينتها،
فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته ويوفقه لعمل الآخرة، ويحتمل أن يراد الإنسان على العموم لعدم
تيقظه أن ما صار إليه من الخير وما أصيب به من الشر في الدنيا ليس إلا للاختبار والامتحان، وأن الدنيا بأسرها
لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تعدل جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء. قرأ نافع بإثبات الياء
في " أكرمن وأهانن " وصلا وحذفهما وقفا، وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه وابن محيصن ويعقوب بإثباتهما
وصلا ووقفا، وقرأ الباقون بحذفهما في الوصل والوقف اتباعا لرسم المصحف ولموافقة رؤوس الآي، والأصل
إثباتها لأنها اسم، ومن الحذف قول الشاعر:
ومن كاشح ظاهر غمره * إذا ما انتصبت له أنكرن
438

أي أنكرني. وقرأ الجمهور " فقدر " بالتخفيف، وقرأ ابن عامر عامر بالتشديد، وهما لغتان. وقرأ الحرميان وأبو عمرو
ربي بفتح الياء في الموضعين وأسكنها الباقون. وقوله (كلا) ردع للإنسان القائل في الحالتين ما قال وزجر له،
فإن الله سبحانه قد يوسع الرزق ويبسط النعم للإنسان لا لكرامته، ويضيقه عليه لا لإهانته، بل للاختبار والامتحان
كما تقدم. قال الفراء: كلا في هذا الموضع بمعنى أنه لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد الله على
الغنى والفقر. ثم انتقل سبحانه من بيان سوء أقوال الإنسان إلى بيان سوء أفعاله فقال (بل لا تكرمون اليتيم)
والالتفات إلى الخطاب لقصد التوبيخ والتقريع على قراءة الجمهور بالفوقية. وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالتحتية على
الخبر، وهكذا اختلفوا فيما بعد هذا من الأفعال، فقرأ الجمهور " تحضون " وتأكلون، وتحبون " بالفوقية على
الخطاب فيها. وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالتحتية فيها، والجمع في هذه الأفعال باعتبار معنى الإنسان، لأن المراد به
الجنس: أي بل لكم أفعال هي أقبح مما ذكر، وهي أنكم تتركون إكرام اليتيم فتأكلون ماله وتمنعونه من فضل
أموالكم. قال مقاتل: نزلت في قدامة بن مظعون وكان يتيما في حجر أمية بن خلف (ولا تحضون على طعام
المسكين) قرأ الجمهور " تحضون " من حضه على كذا: أي أغراه به، ومفعوله محذوف: أي لا تحضون أنفسكم،
أو لا يحض بعضكم بعضا على ذلك ولا يأمر به ولا يرشد إليه، وقرأ الكوفيون تحاضون بفتح التاء والحاء بعدها
ألف، وأصله تتحاضون، فحذف إحدى التاءين: أي لا يحض بعضكم بعضا. وقرأ الكسائي في رواية عنه
والسلمي " تحاضون " بضم التاء من الحض، وهو الحث، وقوله (على طعام المسكين) متعلق بتحضون، وهو
إما اسم مصدر: أي على إطعام المسكين، أو اسم للمطعوم، ويكون على حذف مضاف: أي على بذل طعام
المسكين، أو على إعطاء طعام المسكين (وتأكلون التراث) أصله الوراث، فأبدلت التاء من الواو المضمومة، كما
في تجاه ووجاه، والمراد به أموال اليتامى الذين يرثونه من قراباتهم، وكذلك أموال النساء، وذلك أنهم كانوا
لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون أموالهم (أكلا لما) أي أكلا شديدا، وقيل معنى لما جمعا، من قولهم:
لممت الطعام: إذا أكلته جميعا. قال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب اليتيم، وكذا قال أبو عبيدة. وأصل اللم
في كلام العرب: الجمع، يقال لممت الشئ ألمه لما: جمعته، ومنه قولهم: لم الله شعثه: أي جمع ما تفرق من
أموره، ومنه قول النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمه * على شعث أي الرجال المهذب
قال الليث: اللم الجمع الشديد، ومنه حجر ملموم، وكتيبة ملمومة، وللآكل يلم الثريد فيجمعه ثم يأكله.
وقال مجاهد: يسفه سفا. وقال ابن زيد: هو إذا أكل ما له ألم بمال غيره فأكله ولا يفكر فيما أكل من خبيث وطيب
(وتحبون المال حبا جما) أي حبا كثيرا، والجم الكثير، يقال جم الماء في الحوض: إذا كثر واجتمع، والجمة:
المكان الذي يجتمع فيه الماء. ثم كرر سبحانه الردع لهم والزجر فقال (كلا) أي ما هكذا ينبغي أن يكون عملكم.
ثم استأنف سبحانه فقال (إذا دكت الأرض دكا دكا) وفيه وعيد لهم بعد الردع والزجر، والدك: الكسر والدق،
والمعنى هنا: أنها زلزلت وحركت تحريكا بعد تحريك. قال ابن قتيبة: دكت جبالها حتى استوت. قال الزجاج:
أي تزلزلت فدك بعضها بعضا. قال المبرد: أي بسطت وذهب ارتفاعها. قال والدك: حط المرتفع بالبسط،
وقد تقدم الكلام على الدك في سورة الأعراف، وفي سورة الحاقة، والمعنى: أنها دكت مرة بعد أخرى،
وانتصاب دكا الأول على أنه مصدر مؤكد للفعل، ودكا الثاني تأكيد للأول، كذا قال ابن عصفور. ويجوز
أن يكون النصب على الحال: أي حال كونها مدكوكة مرة بعد مرة، كما يقال: علمته الحساب بابا بابا، وعلمته
439

الخط حرفا حرفا، والمعنى: أنه كرر الدك عليها حتى صارت هباء منبثا (وجاء ربك) أي جاء أمره وقضاؤه،
وظهرت آياته، وقيل المعنى: أنها زالت الشبه في ذلك اليوم وظهرت المعارف وصارت ضرورية كما يزول الشك
عند مجئ الشئ الذي كان يشك فيه، وقيل جاء قهر ربك وسلطانه وانفراده بالأمر والتدبير من دون أن
يجعل إلى أحد من عباده شيئا من ذلك (والملك صفا صفا) انتصاب صفا صفا على الحال: أي مصطفين، أو
ذوي صفوف. قال عطاء: يريد صفوف الملائكة، وأهل كل سماه صف على حدة. قال الضحاك: أهل كل
سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفا محيطين بالأرض ومن فيها، فيكونون سبعة صفوف (وجئ يومئذ بجهنم)
يومئذ منصوب بجئ، والقائم مقام الفاعل بجهنم، وجوز مكي أن يكون يومئذ هو القائم مقام الفاعل، وليس
بذاك. قال الواحدي: قال جماعة من المفسرين: جئ بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف زمام مع كل زمام
سبعون ألف ملك يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه يقول
يا رب نفسي نفسي. وسيأتي الذي هذا نقله عن جماعة المفسرين مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن
شاء الله (يومئذ يتذكر الإنسان) يومئذ هذا بدل من يومئذ الذي قبله: أي يوم جئ بجهنم يتذكر الإنسان: أي
يتعظ ويذكر ما فرط منه ويندم على ما قدمه في الدنيا من الكفر والمعاصي. وقيل إن قوله " يومئذ " الثاني بدل من
قوله " إذا دكت " والعامل فيهما هو قوله " يتذكر الإنسان " (وأني له الذكرى) أي ومن أين له التذكر والاتعاظ،
وقيل هو على حذف مضاف: أي ومن أين له منفعة الذكرى. قال الزجاج: يظهر التوبة ومن أين له التوبة؟
(يقول يا ليتني قدمت لحياتي) الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا يقول الإنسان، ويجوز أن
تكون بدل اشتمال من قوله: يتذكر، والمعنى: يتمنى أنه قدم الخير والعمل الصالح، واللام في لحياتي بمعنى
لأجل حياتي، والمراد حياة الآخرة، فإنها الحياة بالحقيقة، لأنها دائمة غير منقطعة. وقيل إن اللام بمعنى في،
والمراد حياة الدنيا: أي يا ليتني قدمت الأعمال الصالحة في وقت حياتي في الدنيا أنتفع بها هذا اليوم، والأول
أولى. قال الحسن: علم والله أنه صادف حياة طويلة لا موت فيها (فيومئذ لا يعذب عذابه أحد) أي يوم يكون
زمان ما ذكر من الأحوال لا يعذب كعذاب الله أحد (ولا يوثق) ك‍ (وثاقه أحد) أو لا يتولى عذاب الله ووثاقه
أحد سواه إذ الأمر كله له، والضميران على التقديرين في عذابه ووثاقه لله عز وجل، وهذا على قراءة الجمهور
يعذب ويوثق مبنيين للفاعل. وقرأ الكسائي على البناء للمفعول فيهما، فيكون الضميران راجعين إلى الإنسان: أي
لا يعذب كعذاب ذلك الإنسان أحد ولا يوثق كوثاقه أحد، والمراد بالإنسان الكافر: أي لا يعذب من ليس بكافر
كعذاب الكافر، وقيل إبليس، وقيل المراد به أبي بن خلف. قال الفراء: المعنى أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر
المعين أحد، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال كوثاقه أحد لتناهيه في الكفر والعناد. وقيل المعنى: أنه لا يعذب
مكانه أحد ولا يوثق مكانه أحد، فلا تؤخذ منه فدية، وهو كقوله - ولا تزر وازرة وزر أخرى - والعذاب
بمعنى التعذيب، والوثاق بمعنى التوثيق، واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الكسائي، قال: وتكون الهاء في
الموضعين ضمير الكافر، لأنه معروف أنه لا يعذب أحد كعذاب الله. قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون
الضمير للكافر على قراءة الجماعة: أي لا يعذب أحد أحدا مثل تعذيب هذا الكافر. ولما فرغ سبحانه من حكاية
أحوال الأشقياء ذكر بعض أحوال السعداء فقال (يا أيتها النفس المطمئنة) المطمئنة هي الساكنة الموقنة بالإيمان
وتوحيد الله، الواصلة إلى ثلج اليقين بحيث لا يخالطها شك ولا يعتريها ريب. قال الحسن: هي المؤمنة الموقنة.
وقال مجاهد: الراضية بقضاء الله التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها.
440

وقال مقاتل هي الآمنة المطمئنة. وقال ابن كيسان: المطمئنة بذكر الله، وقيل المخلصة. قال ابن زيد: المطمئنة
لأنها بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث (ارجعي إلى ربك) أي ارجعي إلى الله (راضية) بالثواب الذي أعطاك
(مرضية) عنده، وقيل ارجعي إلى موعده، وقيل إلى أمره. وقال عكرمة وعطاء: معنى (ارجعي إلى ربك)
إلى جسدك الذي كنت فيه، واختاره ابن جرير، ويدل على هذا قراءة ابن عباس " فادخلي في عبدي " بالإفراد،
والأول أولى (فادخلي في عبادي) أي في زمرة عبادي الصالحين وكوني من جملتهم وانتظمي في سلكهم (وادخلي
جنتي) معهم قيل إنه يقال لها ارجعي إلى ربك عند خروجها من الدنيا، ويقال لها: ادخلي في عبادي وادخلي
جنتي يوم القيامة، والمراد بالآية كل نفس مطمئنة على العموم، ولا ينافي ذلك نزولها في نفس معينة، فالاعتبار
بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أكلا لما) قال:
سفا، وفي قوله (حبا جما) قال: شديدا، وأخرج ابن جرير عنه (أكلا لما) قال: شديدا: وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (إذا دكت الأرض دكا دكا) قال: تحريكها. وأخرج مسلم والترمذي وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ". وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وأنى له الذكرى) يقول: وكيف له؟ وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله
(فيومئذ لا يعذب) الآية قال: لا يعذب بعذاب الله أحد ولا يوثق بوثاق الله أحد. وأخرج ابن أبي حاتم وابن
مردويه والضياء في المختارة عنه أيضا في قوله (يا أيتها النفس المطمئنة) قال: المؤمنة (ارجعي إلى ربك) يقول:
إلى جسدك. قال " نزلت هذه الآية وأبو بكر جالس، فقال: يا رسول الله ما أحسن هذا، فقال: أما إنه سيقال
لك هذا ". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير
نحوه مرسلا. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول نحوه عن أبي بكر الصديق وأخرج ابن مردويه عن ابن
عباس في قوله (يأيتها النفس المطمئنة) قال: هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
عنه قال (النفس المطمئنة) المصدقة. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال: ترد الأرواح يوم القيامة في
الأجساد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (ارجعي إلى ربك راضية) قال: بما أعطيت من الثواب
(مرضية) عنها بعملها (فادخلي في عبادي) المؤمنين. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن سعيد بن جبير قال:
مات ابن عباس بالطائف، فجاء طير لم ير على خلقته فدخل نعشه، ثم لم ير خارجا منه، فلما دفن تليت هذه
الآية على شفير القبر لا ندري من تلاها (يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي
وادخلي جنتي). وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن عكرمة مثله.
441

تفسير سورة البلد
ويقال سورة لا أقسم، هي عشرون آية
وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت
سورة لا أقسم بهذا البلد بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
سورة البلد (1 - 20)
قوله (لا أقسم) لا زائدة، والمعنى أقسم (بهذا البلد) وقد تقدم الكلام على هذا في تفسير - لا أقسم بيوم
القيامة - ومن زيادة " لا " في الكلام في غير القسم قول الشاعر:
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة * وكاد صميم القلب لا يتصدع
أي يتصدع، ومن ذلك قوله - ما منعك أن لا تسجد - أي أن تسجد. قال الواحدي: أجمع المفسرون على أن هذا
قسم بالبلد الحرام وهو مكة. قرأ الجمهور " لا أقسم " وقرأ الحسن والأعمش " لأقسم " من غير ألف، وقيل هو
نفي للقسم، والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه. وقال مجاهد: إن " لا " رد على من أنكر
البعث، ثم ابتدأ فقال أقسم، والمعنى: ليس الأمر كما تحسبون، والأول أولى. والمعنى: أقسم بالبلد الحرام
الذي أنت حل فيه. وقال الواسطي: إن المراد بالبلد المدينة، وهو مع كونه خلاف إجماع المفسرين هو أيضا
مدفوع لكون السورة مكية لا مدنية، وجملة قوله (وأنت حل بهذا البلد) معترضة، والمعنى: أقسم بهذا البلد
(ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد) واعترض بينهما بهذه الجملة، والمعنى: ومن المكابد أن مثلك على
عظيم حرمته يستحل بهذا البلد كما يستحل الصيد في غير الحرم. وقال الواحدي: الحل والحلال والمحل واحد،
وهو ضد المحرم، أحل الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح حتى قاتل، وقد قال صلى الله عليه وآله
442

وسلم " لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار " قال: والمعنى أن الله لما ذكر
القسم بمكة دل ذلك على عظم قدرها مع كونها حراما، فوعد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يحلها له حتى يقاتل
فيها ويفتحها على يده، فهذا وعد من الله تعالى بأن يحلها له حتى يكون بها حلا انتهى. فالمعنى: وأنت جل بهذا
البلد في المستقبل، كما في قوله - إنك ميت وإنهم ميتون - قال مجاهد: المعنى ما صنعت فيه من شئ فأنت حل.
قال قتادة أنت حل به لست بآثم: يعني أنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه، لا كالمشركين
الذين يرتكبون فيه الكفر والمعاصي. وقيل المعنى: لا أقسم بهذا البلد وأنت حال به ومقيم فيه وهو محلك، فعلى
القول بأن لا نافية غير زائدة يكون المعنى: لا أقسم به وأنت حال به، فأنت أحق بالإقسام بك، وعلى القول
بأنها زائدة يكون المعنى: أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم به تشريفا لك وتعظيما لقدرك لأنه قد صار بإقامتك فيه
عظيما شريفا، وزاد على ما كان عليه من الشرف والعظم، ولكن هذا إذا تقرر في لغة العرب أن لفظ حل يجئ
بمعنى حال، وكما يجوز أن تكون الجملة معترضة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال (ووالد وما ولد) عطف
على البلد. قال قتادة ومجاهد والضحاك والحسن وأبو صالح (ووالد) أي آدم (وما ولد) أي وما تناسل من ولده
أقسم بهم لأنهم أعجب ما خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والعقل والتدبير، وفيهم الأنبياء والعلماء
والصالحون. وقال أبو عمران الجوني: الوالد إبراهيم، وما ولد: ذريته. قال الفراء: إن " ما " عبارة عن الناس
كقوله - ما طاب لكم - وقيل الوالد إبراهيم، والولد إسماعيل ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقال عكرمة وسعيد
ابن جبير: (ووالد) يعني الذي يولد له (وما ولد) يعني العاقر الذي لا يولد له، وكأنهما جعلا ما نافية، وهو
بعيد، ولا يصح ذلك إلا بإضمار الموصول: أي ووالد والذي ما ولد، ولا يجوز إضمار الموصول عند البصريين،
وقال عطية العوفي: هو عام في كل والد ومولود من جميع الحيوانات، واختار هذا ابن جرير (لقد خلقنا الإنسان
في كبد) هذا جواب القسم، والإنسان هو هذا النوع الإنساني، والكبد: الشدة والمشقة، يقال كابدت الأمر:
قاسيت شدته، والإنسان لا يزال في مكابدة الدنيا ومقاساة شدائدها حتى يموت، وأصل الكبد الشدة، ومنه
تكبد اللبن: إذا غلط واشتد، ويقال كبد الرجل: إذا وجعت كبده، ثم استعمل في كل شدة ومشقة، ومنه
قول أبي الأصبغ:
لي ابن عم لو أن الناس في كبد * لظل محتجرا بالنبل يرميني
قال الحسن: يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وقال أيضا: يكابد الشكر على السراء، ويكابد الصبر
على الضراء، لا يخلو عن أحدهما. قال الكلبي: نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يقال له أبو الأشدين، وكان
يأخذ الأديم العكاظي ويجعله تحت رجليه ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا
تزول قدماه، وكان من أعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه نزل (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) يعني
لقوته، ويكون معنى (في كبد) على هذا: في شدة خلق، وقيل معنى (في كبد) أنه جرئ القلب غليظ الكبد
(أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) أي يظن ابن آدم أن لن يقدر عليه ولا ينتقم منه أحد، أو يظن أبو الأشدين أن
لن يقدر عليه أحد، وأن هي المخففة من الثقيلة، واسمهما ضمير شأن مقدر. ثم أخبر سبحانه عن مقال هذا
الإنسان فقال (يقول أهلكت مالا لبدا) أي كثيرا مجتمعا بعضه على بعض. قال الليث: مال لبد لا يخاف فناؤه
من كثرته. قال الكلبي ومقاتل: يقول أهلكت في عداوة محمد مالا كثيرا. وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن
عامر بن نوفل: أذنب، فاستفتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمره أن يكفر، فقال: لقد ذهب مالي في
443

الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد. قرأ الجمهور " لبدا " بضم اللام وفتح الباء مخففا. وقرأ مجاهد وحميد
بضم اللام والباء مخففا. وقرأ أبو جعفر بضم اللام وفتح الباء مشددا. قال أبو عبيدة: لبد فعل من التلبيد، وهو
المال الكثير بعضه على بعض. قال الزجاج: فعل للكثرة، يقال رجل حطم: إذا كان كثير الحطم. قال الفراء:
واحدته لبدة والجمع لبد. وقد تقدم بيان هذا في سورة الجن (أيحسب أن لم يره أحد) أي أيظن أنه لم يعاينه أحد.
قال قتادة: أيظن أن الله سبحانه لم يره ولا يسأله عن ماله من أين كسبه، وأين أنفقه؟ وقال الكلبي: كان كاذبا
لم ينفق ما قال، فقال الله: أيظن أن الله لم ير ذلك منه، فعل أو لم يفعل، أنفق أو لم ينفق. ثم ذكر سبحانه ما أنعم
به عليهم ليعتبروا فقال (ألم نجعل له عينين) يبصر بهما (ولسانا) ينطق به (وشفتين) يستر بهما ثغره. قال الزجاج:
المعنى ألم نفعل به ما يدل على أن الله قادر على أن يبعثه، والشفة محذوفة اللام، وأصلها شفهة بدليل تصغيرها على
شفيهة (وهديناه النجدين) النجد: الطريق في ارتفاع. قال المفسرون: بينا له طريق الخير وطريق الشر. قال
الزجاج: المعنى ألم نعرفه طريق الخير وطريق الشر، مبينتين كتبين الطريقين العاليتين. وقال عكرمة وسعيد بن المسيب
والضحاك. النجدان: الثديان لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه، والأول أولى. وأصل النجد المكان المرتفع،
وجمعه نجود، ومنه سميت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة، فالنجدان الطريقان العاليان، ومنه قول امرئ القيس:
فريقان منهم قاطع بطن نخلة * وآخر منهم قاطع نجد كبكب
(فلا اقتحم العقبة) الاقتحام: الرمي بالنفس في شئ من غير روية، يقال منه: قحم في الأمر قحوما: أي
رمى بنفسه فيه من غير روية، وتقحيم النفس في الشئ: إدخالها فيه من غير روية، والقحمة بالضم المهلكة.
والعقبة في الأصل الطريق التي في الجبل، سميت بذلك لصعوبة سلوكها، وهو مثل ضربه سبحانه لمجاهدة النفس
والهوى والشيطان في أعمال البر، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة. قال الفراء والزجاج: ذكر سبحانه هنا
" لا " مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الماضي في مثل هذا الموضع حتى يعيدوها في كلام آخر
كقوله - فلا صدق ولا صلى - وإنما أفردها هنا لدلالة آخر الكلام على معناه، فيجوز أن يكون قوله " ثم
كان من الذين آمنوا " قائما مقام التكرير كأنه قال: فلا اقتحم العقبة، ولا آمن. قال المبرد وأبو علي
الفارسي: إن " لا " هنا بمعنى لم: أي فلم يقتحم العقبة، وروى نحو ذلك عن مجاهد، فلهذا لم يحتج إلى التكرير،
ومنه قول زهير:
وكان طوى كشحا على مستبكنة * فلا هو أبداها ولم يتقدم
أي فلم يبدها ولم يتقدم، وقيل هو جار مجرى الدعاء كقولهم: لانجاء. قال أبو زيد وجماعة من المفسرين:
معنى الكلام هنا الاستفهام الذي بمعنى الإنكار، تقديره: أفلا اقتحم العقبة، أو هلا اقتحم العقبة. ثم بين سبحانه
العقبة فقال (وما أدراك ما العقبة) أي أي شئ أعلمك ما اقتحامها (فك رقبة) أي هي إعتاق رقبة وتخليصها من
أسار الرق، وكل شئ أطلقته فقد فككته، ومنه: فك الرهن، وفك الكتاب، فقد بين سبحانه أن العقبة هي
هذه القرب المذكورة التي تكون بها النجاة من النار. قال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر،
فاقتحموها بطاعة الله. وقال مجاهد والضحاك والكلبي: هي الصراط الذي يضرب على جهنم كحد السيف.
وقال كعب: هي نار دون الجسر. قيل وفي الكلام حذف: أي وما أدراك ما اقتحام العقبة؟ قرأ أبو عمرو وابن
كثير والكسائي " فك رقبة " على أنه فعل ماض ونصب رقبة على المفعولية، وهكذا قرآ أو أطعم: على أنه فعل
444

ماض. وقرأ الباقون " فك أو إطعام " على أنهما مصدران وجر رقبة بإضافة المصدر إليها فعلى القراءة الأولى
يكون الفعلان بدلا من اقتحم أو بيانا له كأنه قيل: فلا فك ولا أطعم، والفك في الأصل: حل القيد، سمى
العتق فكا لأن الرق كالقيد، وسمى المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته (أو إطعام في يوم ذي
مسغبة) المسغبة المجاعة، والسغب الجوع، والساغب الجائع. قال الراغب: يقال منه سغب الرجل سغبا وسغوبا
فهو ساغب وسغبان، والمسغبة مفعلة منه، وأنشد أبو عبيدة:
فلو كنت حرا يابن قيس بن عاصم * لما بت شبعانا وجارك ساغبا
قال النخعي (في يوم ذي مسغبة) أي عزيز فيه الطعام (يتيما ذا مقربة) أي قرابة، يقال: فلان ذو قرابتي
وذو مقربتي، واليتيم في الأصل: الضعيف يقال: يتم الرجل: إذا ضعف، واليتيم عند أهل اللغة: من لا أب
له، وقيل: هو من لا أب له ولا أم، ومنه قول قيس بن الملوح:
إلى الله أشكو فقد ليلى كما شكا * إلى الله فقد الوالدين يتيم
(أو مسكينا ذا متربة) أي لا شئ له كأنه لصق بالتراب لفقره، وليس له مأوى إلا التراب، يقال ترب
الرجل يترب تربا ومتربة: إذا افتقر حتى لصق بالتراب ضرا. قال مجاهد: هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا
غيره. وقال قتادة: هو ذو العيال. وقال عكرمة: هو المديون. وقال أبو سنان: هو ذو الزمانة. وقال ابن جبير:
هو الذي ليس له أحد. وقال عكرمة: هو البعيد التربة الغريب عن وطنه، والأول أولى، ومنه قول الهذلي:
وكنا إذا ما الضيف حل بأرضنا * سفكنا دماء البدن في تربة الحال
قرأ الجمهور " ذي مسغبة " على أنه صفة ليوم، ويتيما هو مفعول إطعام. وقرأ الحسن " ذا مسغبة " بالنصب
على أنه مفعول إطعام: أي يطعمون ذا مسغبة، ويتيما بدل منه (ثم كان من الذين آمنوا) عطف على المنفى بلا،
وجاء بثم للدلالة على تراخى رتبة الإيمان ورفعة محله. وفيه دليل على أن هذه القرب إنما تنفع مع الإيمان، وقيل
المعنى: ثم كان من الذين آمنوا بأن هذا نافع لهم، وقيل المعنى: أنه أتى بهذه القرب لوجه الله (وتواصوا بالصبر)
معطوف على آمنوا: أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله، وعن معاصيه، وعلى ما أصابهم من البلايا
والمصائب (وتواصوا بالمرحمة) أي بالرحمة على عباد الله فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين، واستكثروا من
فعل الخير بالصدقة ونحوها، والإشارة بقوله (أولئك) إلى الموصول باعتبار اتصافه بالصفات المذكورة (هم
أصحاب الميمنة) أي أصحاب جهة اليمين، أو أصحاب اليمين، أو الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، وقيل غير ذلك مما قد
قدمنا ذكره في سورة الواقعة (والذين كفروا بآياتنا) أي بالقرآن، أو بما هو أعم منه، فتدخل الآيات التنزيلية
والآيات التكوينية التي تدل على الصانع سبحانه (هم أصحاب المشأمة) أي أصحاب الشمال، أو أصحاب الشؤم، أو
الذين يعطون كتبهم بشمالهم، أو غير ذلك مما تقدم (عليهم نار مؤصدة) أي مطبقة مغلقة، يقال: أصدت الباب
وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته، ومنه قول الشاعر:
تحن إلى أجبال مكة ناقتي * ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة
قرأ الجمهور " موصدة " بالواو. وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص بالهمزة مكان الواو، وهما لغتان، والمعنى واحد.
وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (لا أقسم بهذا البلد) قال: مكة (وأنت حل بهذا
البلد) يعني بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أحل الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ويستحيي من شاء،
445

فقتل له يومئذ ابن خطل صبرا، وهو آخذ بأستار الكعبة، فلم يحل لأحد من الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أن يفعل فيها حراما حرمه الله، فأحل الله له ما صنع بأهل مكة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن
مردويه عنه في قوله (لا أقسم بهذا البلد) قال مكة (وأنت حل بهذا البلد) قال: أنت يا محمد يحل لك أن تقاتل
فيه، وأما غيرك فلا. وأخرج ابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال: نزلت هذه الآية (لا أقسم بهذا البلد وأنت
حل بهذا البلد) في، خرجت فوجدت عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، فضربت عنقه بين الركن
والمقام. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس (لا أقسم بهذا البلد) قال: أحل له أن يصنع فيه ما شاء (ووالد
وما ولد) قال: يعني بالوالد آدم، وما ولد ولده. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عنه في الآية. قال الوالد الذي يلد، وما ولد العاقر لا يلد من الرجال والنساء. وأخرج ابن جرير والطبراني
عنه أيضا ووالد قال آدم (لقد خلقنا الإنسان في كبد) قال: في اعتدال وانتصاب. وأخرج ابن جرير عنه أيضا
(لقد خلقنا الإنسان في كبد) قال: في نصب. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (لقد خلقنا الإنسان في كبد) قال:
في شدة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (لقد خلقنا الإنسان في
كبد) قال: في شدة حلق ولادته ونبت أسنانه ومعيشته وختانه. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه أيضا (لقد خلقنا الإنسان في كبد) قال: خلق الله كل شئ يمشي على أربعة إلا الإنسان
فإنه خلق منتصبا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عنه أيضا (لقد خلقنا الإنسان في كبد) قال: منتصبا
في بطن أمه أنه قد وكل به ملك إذا نامت الأم أو اضطجعت رفع رأسه لولا ذلك لغرق في الدم. وأخرج ابن
جرير عنه أيضا في قوله (مالا لبدا) قال: كثيرا. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله (وهديناه النجدين) قال: سبيل الخير
والشر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وهديناه النجدين) قال: الهدى والضلالة،
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه قال: سبيل الخير والشر. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سنان بن سعد عن
أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " هما نجدان، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير " تفرد به
سنان بن سعد، ويقال سعد بن سنان. وقد وثقه يحيى بن معين. وقال الإمام أحمد والنسائي والجوزجاني: منكر
الحديث. وقال أحمد: تركت حديثه لاضطرابه، قد روى خمسة عشر حديثا منكرة كلها ما أعرف منها حديثا
واحدا، يشبه حديثه حديث الحسن البصري، لا يشبه حديث أنس. وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن
جرير وابن مردويه من طرق عن الحسن قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول، فذكره.
وهذا مرسل، وكذا رواه قتادة مرسلا. أخرجه عنه ابن جرير ويشهد له ما أخرج الطبراني عن أبي أمامة أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال " يا أيها الناس إنهما نجدان: نجد خير، ونجد شر، فما جعل نجد الشر أحب إليكم
من نجد الخير " ويشهد له أيضا ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال
" إنما هما نجدان: نجد الخير، ونجد الشر، فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير ". وأخرج عبد الرزاق
وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله (وهديناه النجدين) قال: الثديين.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله (فلا اقتحم العقبة) قال: جبل زلال في
جهنم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: العقبة النار. وأخرج عبد بن حميد عنه قال: عقبة بين الجنة
والنار. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عائشة قالت " لما نزل (فلا اقتحم العقبة) قيل
446

يا رسول الله ما عند أحدنا ما يعتق إلا أن عند أحدنا الجارية السوداء تخدمه، فلو أمرناهن بالزنا فجئن بالأولاد
فأعتقناهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لأن أمتع بسوط في سبيل الله أحب إلى من أن آمر بالزنا ثم
أعتق الولد ". وأخرجه ابن جرير عنها بلفظ " لعلاقة سوط في سبيل الله أعظم أجرا من هذا ". وقد ثبت الترغيب
في عتق الرقاب بأحاديث كثيرة: منها في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى الفرج بالفرج ". وأخرج
الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (في يوم ذي مسغبة) قال: مجاعة. وأخرج الفريابي وعبد بن
حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه (في يوم ذي مسغبة) قال: جوع. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن
أبي حاتم عنه أيضا (يتيما ذا مقربة) قال: ذا قرابة، وفي قوله (ذا متربة) قال: بعيد التربة: أي غريبا عن وطنه
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه
أيضا (أو مسكينا ذا متربة) قال: هو المطروح الذي ليس له بيت. وفي لفظ للحاكم: هو الذي لا يقيه من
التراب شئ. وفي لفظ: هو اللازق بالتراب من شدة الفقر. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم (مسكينا ذا متربة) قال: الذي مأواه المزابل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس
(وتواصوا بالمرحمة) يعني بذلك رحمة الناس كلهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (مؤصدة)
قال: مغلقة الأبواب. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة (مؤصدة) قال مطبقة.
تفسير سورة الشمس
هي خمس عشرة آية
وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت
والشمس وضحاها بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي عن
بريدة: " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في صلاة العشاء والشمس وضحاها وأشباهها من السور ".
وقد تقدم حديث جابر في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ: " هلا صليت بسبح اسم
ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى " وأخرج الطبراني عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أمره أن يقرأ في صلاة الصبح بالليل إذا يغشى والشمس وضحاها ". وأخرج البيهقي في الشعب عن عقبة بن
عامر قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نصلي ركعتي الضحى بسورتيهما بالشمس وضحاها والضحى ".
سورة الشمس (1 - 15)
447

أقسم سبحانه بهذه الأمور، وله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وقال قوم: إن القسم بهذه الأمور ونحوها مما
تقدم ومما سيأتي هو على حذف مضاف: أي (و) رب (الشمس) ورب القمر، وهكذا سائرها، ولا ملجئ
إلى هذا ولا موجب له، وقوله (وضحاها) هو قسم ثان قال مجاهد: وضحاها: أي ضوئها وإشراقها، وأضاف
الضحى إلى الشمس لأنه إنما يكون عند ارتفاعها، وكذا قال الكلبي. وقال قتادة: ضحاها نهارها كله. قال
الفراء: الضحى هو النهار. وقال المبرد: أصل الضحى الصبح، وهو نور الشمس، قال أبو الهيثم: الضحى
نقيض الظل، وهو نور الشمس على وجه الأرض، وأصله الضحى فاستثقلوا الياء فقلبوها ألفا. قيل والمعروف
عند العرب أن الضحى إذا طلعت الشمس وبعيد ذلك قليلا، فإذا زاد فهو الضحاء بالمد. قال المبرد: الضحى
والضحوة مشتقان من الضح وهو النور، فأبذلت الألف والواو من الحاء.
واختلف في جواب القسم ماذا هو؟ فقيل هو قوله (قد أفلح من زكاها) قاله الزجاج وغيره. قال الزجاج:
وحذفت اللام، لأن الكلام قد طال، فصار طوله عوضا منها، وقيل الجواب محذوف: أي والشمس، وكذا
لتبعثن، وقيل تقديره: ليدمدمن الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما دمدم على
ثمود لأنهم كذبوا صالحا، وأما (قد أفلح من زكاها) فكلام تابع لقوله (فألهمها فجورها وتقواها) على سبيل
الاستطراد، وليس من جواب القسم في شئ، وقيل هو على التقديم والتأخير بغير حذف، والمعنى: قد أفلح
من زكاها وقد خاب من دساها والشمس وضحاها، والأول أولى (والقمر إذا تلاها) أي تبعها، وذلك بأن
طلع بعد غروبها، يقال تلا يتلو تلوا: إذا تبع. قال المفسرون: وذلك في النصف الأول من الشهر إذا غربت
الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور. قال الزجاج: تلاها حين استدار، فكان يتلو الشمس في
الضياء والنور، يعني إذا كمل ضوءه فصار تابعا للشمس في الإنارة، يعني كان مثلها في الإضاءة، وذلك في
الليالي البيض. وقيل إذا تلا طلوعه طلوعها. قال قتادة: إن ذلك ليلة الهلال إذا سقطت رؤي الهلال. قال ابن
زيد: إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر تلاها القمر بالطلوع، وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب،
وقال الفراء تلاها أخذ منها: يعني أن القمر يأخذ من ضوء الشمس (والنهار إذا جلاها) أي جلى الشمس، وذلك
أن الشمس عند انبساط النهار تنجلي تمام الانجلاء، فكأنه جلاها مع أنها الذي تبسطه. وقيل الضمير عائد إلى
الظلمة: أي جلى الظلمة، وإن لم يجر للظلمة ذكر لأن المعنى معروف. قال الفراء: كما تقول أصبحت باردة:
أي أصبحت غداتنا باردة، والأول أولى. ومنه قول قيس بن الحطيم:
تجلت لنا كالشمس تحت غمامة * بدا حاجب منها وضنت بحاجب
وقيل المعنى: جلى ما في الأرض من الحيوانات وغيرها بعد أن كانت مستترة في الليل، وقيل جلى الدنيا وقيل
جلى الأرض (والليل إذا يغشاها) أي يغشى الشمس فيذهب بضوئها فتغيب وتظلم الآفاق، وقيل يغشى الآفاق.
وقيل الأرض، وإن لم يجر لهما ذكر لأن ذلك معروف، والأول أولى (والسماء وما بناها) يجوز أن تكون ما
مصدرية أي والسماء وبنيانها، ويجوز أن تكون موصولة: أي والذي بناها، وإيثار " ما " على من لإرادة الوصفية
448

لقصد التفخيم كأنه قال: والقادر العظيم الشأن الذي بناها. ورجح الأول الفراء والزجاج، ولا وجه لقول من
قال: إن جعلها مصدرية مخل بالنظم. ورجح الثاني ابن جرير (والأرض وما طحاها) الكلام في " ما " هذه كالكلام
في التي قبلها، ومعنى طحاها بسطها، كذا قال عامة المفسرين، كما في قوله (دحاها) قالوا: طحاها ودحاها
واحد: أي بسطها من كل جانب، والطحو البسط، وقيل معنى طحاها قسمها، وقيل خلقها، ومنه قول الشاعر:
وما يدري جذيمة من طحاها * ولا من ساكن العرش الرفيع
والأول أولى. والطحو أيضا: الذهاب. قال أبو عمرو بن العلاء: طحا الرجل: إذا ذهب في الأرض، يقال
ما أدرى أين طحا؟ ويقال طحا به قلبه: إذا ذهب به، ومنه قول الشاعر:
طحا بك قلب في الحسان طروب * بعيد الشباب عصر حان مشيب
(ونفس وما سواها) الكلام في " ما " هذه كما تقدم، ومعنى سواها خلقها وأنشأها وسوى أعضاءها. قال
عطاء: يريد جميع ما خلق من الجن والإنس، والتنكير للتفخيم، وقيل المراد نفس آدم (فألهمها فجورها وتقواها)
أي عرفها وأفهمها حالهما وما فيهما من الحسن والقبح. قال مجاهد: عرفها طريق الفجور والتقوى والطاعة
والمعصية. قال الفراء: فألهمها عرفها طريق الخير وطريق الشر، كما قال - وهديناه النجدين -. قال محمد بن
كعب: إذا أراد الله بعبده خيرا ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به الشر ألهمه الشر فعمل به، قال ابن زيد: جعل
فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور، واختار هذا الزجاج، وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان.
قال الواحدي: وهذا هو الوجه لتفسير الإلهام فإن التبيين والتعليم والتعريف دون الإلهام، والإلهام أن يوقع في
قلبه ويجعل فيه، وإذا أوقع الله في قلب عبده شيئا ألزمه ذلك الشئ. قال: وهذا صريح في أن الله خلق في
المؤمن تقواه، وفي الكافر فجوره (قد أفلح من زكاها) أي قد فاز من زكى نفسه وأنماها وأعلاها بالتقوى بكل
مطلوب وظفر بكل محبوب، وقد قدمنا أن هذا جواب القسم على الراجح، وأصل الزكاة: النمو والزيادة،
ومنه زكا الزرع: إذا كثر (وقد خاب من دساها) أي خسر من أضلها وأغواها. قال أهل اللغة: دساها أصله دسسها،
من التدسيس، وهو إخفاء الشئ في الشئ، فمعنى دساها في الآية: أخفاها وأخملها ولم يشهرها بالطاعة والعمل
الصالح، وكانت أجواد العرب تنزل الأمكنة المرتفعة ليشتهر مكانها فيقصدها الضيوف، وكانت لئام العرب تنزل
الهضاب والأمكنة المنخفضة ليخفى مكانها عن الوافدين. وقيل معنى دساها: أغواها، ومنه قول الشاعر:
وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت * حلائله منه أرامل ضيعا
وقال ابن الأعرابي (وقد خاب من دساها) أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم (كذبت ثمود
بطغواها) الطغوى: اسم من الطغيان كالدعوى من الدعاء. قال الواحدي: قال المفسرون: كذبت ثمود بطغيانها
أي الطغيان حملتهم على التكذيب، والطغيان مجاوزة الحد في المعاصي، والباء للسببية. وقيل كذبت ثمود بطغواها
أي بعذابها الذي وعدت به، وسمى العذاب طغوى لأنه طغى عليهم فتكون الباء على هذا للتعدية. وقال محمد بن
كعب: بطغواها: أي بأجمعها. قرأ الجمهور " بطغواها " بفتح الطاء. وقرأ الحسن والجحدري ومحمد بن كعب
وحماد بن سلمة بضم الطاء، فعلى القراءة الأولى هو مصدر بمعنى الطغيان، وإنما قلبت الياء والواو للفرق بين الاسم
والصفة لأنهم يقلبون الياء في الأسماء كثيرا نحو تقوى وسروى، وعلى القراءة الثانية هو مصدر كالرجعي والحسنى
ونحوهما، وقيل هما لغتان (إذ انبعث أشقاها) العامل في الظرف كذبت، أو بطغواها: أي حين قام أشقى ثمود،
وهو قدار بن سالف فعقر الناقة، ومعنى انبعث: انتدب لذلك وقام به، يقال بعثته على الأمر فانبعث له، وقد
449

تقدم بيان هذا في الأعراف (فقال لهم رسول الله) يعني صالحا (ناقة الله) قال الزجاج: ناقة الله منصوبة على
معنى ذروا ناقة الله. قال الفراء: حذرهم إياها، وكل تحذير فهو نصب (وسقياها) معطوف على ناقة، وهو
شربها من الماء. قال الكلبي ومقاتل: قال لهم صالح: ذروا ناقة الله فلا تعقروها وذروا سقياها، وهو شربها من
النهر فلا تعرضوا له يوم شربها فكذبوا بتحذيره إياهم (فعقروها) أي عقرها الأشقى، وإنما أسند العقر إلى الجميع
لأنهم رضوا بما فعله. قال قتادة: إنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم. قال الفراء: عقرها
اثنان، والعرب تقول: هذان أفضل الناس، وهذان خير الناس، فلهذا لم يقل أشقياها (فدمدم عليهم ربهم
بذنبهم فسواها) أي أهلكهم وأطبق عليهم العذاب، وحقيقة الدمدمة: تضعيف العذاب وترديده، يقال دمدمت
على الشئ: أي أطبقت عليه، ودمدم عليه القبر: أي أطبقه، وناقة مدمومة: إذا لبسها الشحم، والدمدمة:
إهلاك باستئصال، كذا قال المؤرج. قال في الصحاح: دمدمت الشئ: إذا ألزقته بالأرض وطحطحته،
ودمدم الله عليهم: أي أهلكهم. وقال ابن الأعرابي: دمدم إذا عذب عذابا تاما. والضمير في فسواها يعود إلى
الدمدمة: أي فسوى الدمدمة عليهم وعمهم بها فاستوت على صغيرهم وكبيرهم، وقيل يعود إلى الأرض: أي
فسوى الأرض عليهم فجعلهم تحت التراب، وقيل يعود إلى الأمة: أي ثمود. قال الفراء: سوى الأمة أنزل
العذاب بصغيرها وكبيرها بمعنى سوى بينهم. قرأ الجمهور " فدمدم " بميم بين الدالين، وقرأ ابن الزبير " فدهدم "
بهاء بين الدالين. قال القرطبي: وهما لغتان كما يقال: امتقع لونه، واهتقع لونه (فلا يخاف عقباها) أي فعل الله
ذلك بهم غير خائف من عاقبة ولا تبعة، والضمير في عقباها يرجع إلى الفعلة، أو إلى الدمدمة المدلول عليها
بدمدم. وقال السدى والضحاك والكلبي: إن الكلام يرجع إلى العاقر لا إلى الله سبحانه: أي لم يخف الذي عقرها
عقبى ما صنع. وقيل لا يخاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاقبة إهلاك قومه ولا يخشى ضررا يعود عليه
من عذابهم، لأنه قد أنذرهم، والأول أولى. قرأ الجمهور " ولا يخاف " بالواو، وقرأ نافع وابن عامر بالفاء.
وقد أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس (وضحاها) قال: ضوئها (والقمر إذا تلاها) قال: تبعها
(والنهار إذا جلاها) قال: أضاءها (والسماء وما بناها) قال: الله بني السماء (والأرض وما طحاها) قال:
دحاها (فألهمها فجورها وتقواها) قال: علمها الطاعة والمعصية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عنه (والأرض وما طحاها) يقول: قسمها (فألهمها فجورها وتقواها) قال: من الخير والشر. وأخرج الحاكم
وصححه عنه أيضا (فألهمها) قال: ألزمها فجورها وتقواها. وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم وابن جرير وابن
المنذر وابن مردويه عن عمران بن حصين " أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه،
شئ قد قضى عليهم، ومضى في قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم نبيهم واتخذت عليهم به الحجة، قال:
بل شئ قد قضى عليهم؟ قال: فلم يعملون إذن؟ قال: من كان الله خلقه لواحدة من المنزلتين يهيئه لعملها
وتصديق ذلك في كتاب الله (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) " وسيأتي في السورة التي بعد هذه نحو
هذا الحديث. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يقول " اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها ". وأخرجه ابن المنذر
والطبراني وابن مردويه من حديث ابن عباس، وزاد " كان إذا تلا هذه الآية (ونفس وما سواها فألهمها
فجورها وتقواها) قال: فذكره " وزاد أيضا " وهو في الصلاة ". وأخرج حديث زيد بن أرقم مسلم أيضا. وأخرج
نحوه أحمد من حديث عائشة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (قد أفلح من زكاها) يقول:
450

قد أفلح من زكى الله نفسه (وقد خاب من دساها) يقول: قد خاب من دس الله نفسه فأضله (ولا يخاف
عقباها) قال: لا يخاف من أحد تبعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (وقد خاب من دساها) يعني
مكر بها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن
عباس " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في قوله (قد أفلح من زكاها) الآية: أفلحت نفس
زكاها الله، وخابت نفس خيبها الله من كل خير " وجويبر ضعيف. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (بطغواها)
قال: اسم العذاب الذي جاءها الطغوى، فقال: كذبت ثمود بعذابها. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن
عبد الله بن زمعة قال: " خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها، فقال (إذ
انبعث أشقاها) قال: انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة ". وأخرج أحمد وابن أبي حاتم
والبغوي والطبراني وابن مردويه والحاكم وأبو نعيم في الدلائل عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لعلى: " ألا أحدثك بأشقى الناس؟ قال بلى. قال رجلان: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي
يضربك على هذا " يعني قرنه " حتى تبتل منه هذه " يعني لحيته.
تفسير سورة الليل
هي إحدى وعشرون آية
وهي مكية عند الجمهور، وقيل مدنية. وأخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت
سورة (والليل إذا يغشى بمكة). وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البيهقي في سننه عن جابر بن سمرة
قال: " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الظهر والعصر (والليل إذا يغشى) ونحوها ". وأخرج الطبراني
في الأوسط عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بهم الهاجرة فرفع صوته، فقرأ (والشمس
وضحاها - والليل إذا يغشى) فقال له أبي بن كعب: يا رسول الله أمرت في هذه الصلاة بشئ؟ قال: لا، ولكن
أردت أن أوقت لكم " وقد تقدم حديث " فهلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا
يغشى؟ ". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: إني لأقول إن هذه السورة نزلت في السماحة والبخل (والليل
إذا يغشى).
سورة الليل (1 - 21)
451

قوله (والليل إذا يغشى) أي يغطى بظلمته ما كان مضيئا. قال الزجاج: يغشى الليل الأفق وجميع ما بين
السماء والأرض فيذهب ضوء النهار، وقيل يغشى النهار، وقيل يغشى الأرض، والأول أولى (والنهار إذا تجلى)
أي ظهر وانكشف ووضح لزوال الظلمة التي كانت في الليل، وذلك بطلوع الشمس (وما خلق الذكر والأنثى)
ما هنا هي الموصولة: أي والذي خلق الذكر والأنثى، وعبر عن من بما للدلالة على الوصفية ولقصد التفخيم:
أي والقادر العظيم الذي خلق صنفي الذكر والأنثى. قال الحسن والكلبي: معناه والذي خلق الذكر والأنثى
فيكون قد أقسم بنفسه. قال أبو عبيدة: وما خلق: أي ومن خلق، وقال مقاتل: يعني وخلق الذكر والأنثى
فتكون " ما " على هذا مصدرية. قال الكلبي ومقاتل: يعني آدم وحواء، والظاهر العموم. قرأ الجمهور " وما خلق
الذكر والأنثى " وقرأ ابن مسعود " والذكر والأنثى " بدون ما خلق (إن سعيكم لشتى) هذا جواب القسم: أي
إن عملكم لمختلف: فمنه عمل للجنة، ومنه عمل للنار. قال جمهور المفسرين: السعي العمل، فساع في فكاك نفسه،
وساع في عطبها، وشتى جمع شتيت: كمرضى ومريض، وقيل للمختلف شتى لتباعد ما بين بعضه وبعض (فأما
من أعطى واتقى) أي بذل ماله في وجوه الخير واتقى محارم الله التي نهى عنها (وصدق بالحسنى) أي بالخلف من
الله. قال المفسرون: فأما من أعطى المعسرين. وقال قتادة: أعطى حق الله الذي عليه. وقال الحسن: أعطى
الصدق من قلبه وصدق بالحسنى: أي بلا إله إلا الله، وبه قال الضحاك والسلمي. وقال مجاهد: بالحسنى بالجنة.
وقال زيد بن أسلم: بالصلاة والزكاة والصوم، والأول أولى. قال قتادة: بالحسنى: أي بموعود الله الذي وعده
أن يثيبه. قال الحسن: بالخلف من عطائه، واختار هذا ابن جرير (فسنيسره لليسرى) أي فسنهيئه للخصلة
الحسنى، وهي عمل الخير، والمعنى: فسنيسر له الإنفاق في سبيل الخير والعمل بالطاعة لله. قال الواحدي:
قال المفسرون: نزلت هذه الآيات في أبي بكر الصديق اشترى ستة نفر من المؤمنين كانوا في أيدي أهل مكة
يعذبونهم في الله (وأما من بخل واستغنى) أي بخل بماله فلم يبذله في سبل الخير، واستغنى: أي زهد في الأجر
والثواب، أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة (وكذب بالحسنى) أي بالخلف من الله عز وجل، وقال
مجاهد: بالجنة، وروى عنه أيضا أنه قال: بلا إله إلا الله (فسنيسره للعسرى) أي فسنهيئه للخصلة العسري
ونسهلها له حتى تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح ويضعف عن فعلها فيؤديه ذلك إلى النار. قال مقاتل:
يعسر عليه أن يعطى خيرا. قيل العسري الشر، وذلك أن الشر يؤدي إلى العذاب، والعسرة في العذاب، والمعنى:
سنهيئه للشر بأن نجريه على يديه. قال الفراء: سنيسره سنهيئه، والعرب تقول: قد يسرت الغنم إذا ولدت أو
تهيأت للولادة. قال الشاعر:
هما سيدانا يزعمان وإنما * يسوداننا إن يسرت غنماهما
(وما يغنى عنه ماله إذا تردى) أي لا يغنى عنه شيئا ماله الذي بخل به، أو أي شئ يغنى عنه إذا تردى:
أي هلك، يقال ردى الرجل يردى ردى، وتردى يتردى: إذا هلك. وقال قتادة: وأبو صالح وزيد بن أسلم:
452

إذا تردى: إذا سقط في جهنم، يقال ردى في البئر وتردى: إذا سقط فيها، ويقال ما أدرى أين ردى: أي
أين ذهب؟ (إن علينا للهدى) هذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها: أي إن علينا البيان. قال الزجاج: علينا أن
نبين طريق الهدى من طريق الضلال. قال قتادة: على الله البيان: بيان حرامه وطاعته ومعصيته. قال الفراء: من
سلك الهدى فعلى الله سبيله، لقوله - وعلى الله قصد السبيل - يقول: من أراد الله فهو على السبيل القاصد. قال الفراء
أيضا: المعنى إن علينا للهدى والإضلال، فحذف الإضلال كقوله - سرابيل تقيكم الحر - وقيل المعنى: إن علينا
ثواب هداه الذي هديناه (وإن لنا للآخرة والأولى) أي لنا كل ما في الآخرة، وكل ما في الدنيا نتصرف به
كيف نشاء، فمن أرادهما أو إحداهما فليطلب ذلك منا، وقيل المعنى: إن لنا ثواب الآخرة وثواب الدنيا (فأنذرتكم
نارا تلظى) أي حذرتكم وخوفتكم نارا تتوقد وتتوهج، وأصله تتلظى فحذفت إحدى التاءين تخفيفا. وقرأ على
الأصل عبيد بن عمير ويحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف (لا يصلاها إلا الأشقى) أي يصلاها صليا لازما على جهة
الخلود إلا الأشقى وهو الكافر، وإن صليها غيره من العصاة فليس صليه كصليه، والمراد بقوله يصلاها:
يدخلها أو يجد صلاها، وهو حرها. ثم وصف الأشقى فقال (الذي كذب وتولى) أي كذب بالحق الذي
جاءت به الرسل وأعرض عن الطاعة والإيمان. قال الفراء (إلا الأشقى) إلا من كان شقيا في علم الله جل ثناؤه.
قال أيضا: لم يكن كذب برد ظاهر، ولكن قصر عما أمر به من الطاعة فجعل تكذيبا كما تقول لقى فلان العدو
فكذب: إذا نكل ورجع عن اتباعه. قال الزجاج: هذه الآية هي التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء،
فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر، ولأهل النار منازل، فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار. والله سبحانه
كل ما وعد عليه بجنس من العذاب، فجدير أن يعذب به، وقد قال - إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء - فلو كان كل من لم يشرك لم يعذب لم يكن في قوله - ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء - فائدة. وقال
في الكشاف: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في
صفتيهما المتناقضتين، فقيل الأشقى، وجعل مختصا بالصلى كأن النار لم تخلق إلا، وقيل الأتقى وجعل مختصا
بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له، وقيل المراد بالأشقى أبو جهل أو أمية بن خلف، وبالأتقى أبو بكر الصديق،
ومعنى (سيجنبها الأتقى) سيباعد عنها المتقى للكفر اتقاء بالغا. قال الواحدي: الأتقى أبو بكر الصديق في قول
جميع المفسرين انتهى، والأولى حمل الأشقى والأتقى على كل متصف بالصفتين المذكورتين، ويكون المعنى أنه
لا يصلاها صليا تاما لازما إلا الكامل في الشقاء وهو الكافر، ولا يجنبها ويبعد عنها تبعيدا كاملا بحيث لا يحوم حولها
فضلا عن أن يدخلها إلا الكامل في التقوى، فلا ينافي هذا دخول بعض العصاة من المسلمين النار دخولا غير
لازم، ولا تبعيد بعض من لم يكن كامل التقوى عن النار تبعيدا غير بالغ مبلغ تبعيد الكامل في التقوى عنها. والحاصل
أن من تمسك من المرجئة بقوله (لا يصلاها إلا الأشقى) زاعما أن الأشقى الكافر، لأنه الذي كذب وتولى ولم يقع
التكذيب من عصاة المسلمين فيقال له: فما تقول في قوله (وسيجنبها الأتقى) فإنه يدل على أنه لا يجنب النار
إلا الكامل في التقوى، فمن لم يكن كاملا فيها كعصاة المسلمين لم يكن ممن يجنب النار، فإن أولت الأتقى بوجه من
وجوه التأويل لزمك مثله في الأشقى فخذ إليك هذه مع تلك، وكن كما قال الشاعر:
على أنني راض بأن أحمل الهوى * وأخرج منه لاعلى ولاليه
وقيل أراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي، كما قال طرفة بن العبد:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت * فتلك سبيل لست فيها بأوحد
453

أي بواحد، ولا يخفاك أنه ينافي هذا وصف الأشقى بالتكذيب، فإن ذلك لا يكون إلا من الكافر فلا يتم ما أراده
قائل هذا القول من شمول الوصفين لعصاة المسلمين. ثم ذكر سبحانه صفة الأتقى فقال (الذي يؤتى ماله) أي
يعطيه ويصرفه في وجوه الخير، وقوله (يتزكى) في محل نصب على الحال من فاعل يؤتى: أي حال كونه يطلب
أن يكون عند الله زكيا لا يطلب رياء ولا سمعة، ويجوز أن يكون بدلا من يؤتى داخلا معه في حكم الصلة. قرأ
الجمهور " يتزكى " مضارع تزكى. وقرأ علي بن الحسين بن علي " تزكى " بإدغام التاء في الزاي (وما لأحد عنده
من نعمة تجزى) الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من كون التزكي على جهة الخلوص غير مشوب بشائبة تنافى
الخلوص: أي ليس ممن يتصدق بماله ليجازى بصدقته نعمة لأحد من الناس عنده ويكافئه عليها، وإنما يبتغي
بصدقته وجه الله تعالى، ومعنى الآية: أنه ليس لأحد من الناس عنده نعمة من شأنها أن يجازى عليها حتى يقصد
بإيتاء ما يؤتى من ماله مجازاتها، وإنما قال تجزى مضارعا مبنيا للمفعول لأجل الفواصل، والأصل يجزيها إياه،
أو يجزيه إياها (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) قرأ الجمهور " إلا ابتغاء " بالنصب على الاستثناء المنقطع لعدم اندراجه
تحت جنس النعمة: أي لكن ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول له على المعنى:
أي لا يؤتى إلا لابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة. قال الفراء: هو منصوب على التأويل: أي ما أعطيتك ابتغاء جزائك
بل ابتغاء وجه الله، وقرأ يحيى بن وثاب بالرفع على البدل من محل نعمة، لأن محلها الرفع إما على الفاعلية وإما على
الابتداء، ومن مزيدة، والرفع لغة تميم، لأنهم يجوزون البدل في المنقطع ويجرونه مجرى المتصل. قال مكي:
وأجاز الفراء الرفع في " ابتغاء " على البدل من موضع نعمة، وهو بعيد. قال شهاب الدين: كأنه لم يطلع عليها قراءة،
واستبعاده هو البعيد فإنها لغة فاشية، وقرأ الجمهور أيضا " ابتغاء " بالمد، وقرأ ابن أبي عبلة بالقصر والأعلى نعت
للرب (ولسوف يرضى) اللام هي الموطئة للقسم: أي وتالله لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم.
قرأ الجمهور " يرضى " مبنيا للفاعل، وقرئ مبنيا للمفعول.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس (والليل إذا يغشى) قال: إذا أظلم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ
وابن عساكر عن ابن مسعود قال: إن أبا بكر الصديق اشترى بلالا من أمية بن خلف وأبى بن خلف ببردة
وعشر أواق فأعتقه لله، فأنزل الله (والليل إذا يغشى) إلى قوله (إن سعيكم لشتى) سعى أبي بكر وأمية وأبى إلى
قوله (وكذب بالحسنى) قال: لا إله إلا الله إلى قوله (فسنيسره للعسرى) قال: النار. وأخرج سعيد بن منصور
وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله (فأما
من أعطى) من الفضل (واتقى) قال: اتقى ربه (وصدق بالحسنى) قال: صدق بالخلف من الله (فسنيسره
لليسرى) قال: للخير من الله (وأما من بخل واستغنى) قال: بخل بماله واستغنى عن ربه (وكذب بالحسنى)
قال: بالخلف من الله (فسنيسره للعسرى) قال: للشر من الله. وأخرج ابن جرير عنه (وصدق بالحسنى) قال:
أيقن بالخلف. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (وصدق بالحسنى) يقول: صدق بلا إله إلا الله (وأما من بخل
واستغنى) يقول: من أغناه الله فبخل بالزكاة. وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن عامر بن عبد الله بن الزبير
قال: كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة، وكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه: أي بني أراك
تعتق أناسا ضعفا، فلو أنك تعتق رجالا جلدا يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك. قال: أي أبت إنما أريد
ما عند الله، قال: فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى
فسنيسره لليسرى). وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس في قوله (فأما من أعطى واتقى
454

وصدق بالحسنى) قال: أبو بكر الصديق (وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى) قال: أبو سفيان بن حرب،
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن علي بن أبي طالب قال: " كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في جنازة، فقال " ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله أفلا
نتكل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من
أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء ثم قرأ (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى - إلى قوله - للعسرى) ". وأخرج
أحمد ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله " أن سراقة بن مالك قال: يا رسول الله في أي شئ نعمل؟ أفي شئ ثبتت
فيه المقادير وجرت به الأقلام، أم في شئ يستقبل فيه العمل؟ قال: بل في شئ ثبتت فيه المقادير وجرت فيه
الأقلام، قال سراقة: ففيم العمل إذن يا رسول الله؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، وقرأ رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم هذه الآية (فأما من أعطى واتقى - إلى قوله - فسنيسره للعسرى) ". وقد تقدم حديث عمران
ابن حصين في السورة التي قبل هذه. وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة. وأخرج ابن جرير عن
أبي هريرة قال: " لتدخلن الجنة إلا من يأبى، قالوا: ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ فقرأ (الذي كذب وتولى) ".
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أمامة قال: لا يبقى أحد من هذه الأمة إلا
أدخله الله الجنة، إلا من شرد على الله كما يشرد البعير السوء على أهله، فمن لم يصدقني فإن الله يقول (لا يصلاها
إلا الأشقى الذي كذب وتولى) كذب بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتولى عنه. وأخرج أحمد والحاكم
والضياء عن أبي أمامة الباهلي أنه سئل عن ألين كلمة سمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " ألا كلكم يدخل الله الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله ".
وأخرج أحمد وابن ماجة وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا يدخل النار
إلا شقي. قيل ومن الشقي؟ قال: الذي لا يعمل لله بطاعة ولا يترك لله معصية ". وأخرج أحمد والبخاري عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى
يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى ". وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن أبا بكر
الصديق أعتق سبعة كلهم يعذب في الله: بلال، وعامر بن فهيرة، والنهدية وابنتها، وزنيرة، وأم عيسى،
وأمة بني المؤمل، وفيه نزلت (وسيجنبها الأتقى) إلى آخر السورة. وأخرج الحاكم وصححه عن عامر بن عبد الله
ابن الزبير ما قدمنا عنه، وزاد فيه، فنزلت فيه هذه الآية (فأما من أعطى واتقى) إلى قوله (وما لأحد عنده من
نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى). وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن
مردويه وابن عساكر عنه نحو هذا من وجه آخر. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (وسيجنبها الأتقى)
قال: هو أبو بكر الصديق.
455

تفسير سورة الضحى
هي إحدى عشرة آية
وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس: نزلت
(والضحى) بمكة. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الحسن المقرى قال:
سمعت عكرمة بن سليمان يقول: " قرأت على إسماعيل بن قسطيطين، فلما بلغت والضحى قال: كبر حتى تختم،
وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك. وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك. وأخبره ابن عباس
أن أبي بن كعب أمره بذلك. وأخبره أبي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره بذلك ". وأبو الحسن المقري
المذكور هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرى. قال ابن كثير: فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن
محمد بن عبد الله البزي من ولد القاسم بن أبي بزة، وكان إماما في القراءات. وأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم
الرازي وقال: لا أخذت عنه، وكذلك أبو جعفر العقيلي قال: هو منكر الحديث. قال ابن كثير: ثم اختلف
القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته، فقال بعضهم: يكبر من آخر الليل إذا يغشى، وقال آخرون: من آخر
الضحى. وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول الله أكبر ويقتصر، ومنهم من يقول الله أكبر لا إله إلا الله الله
أكبر. وذكروا في مناسبة التكبير من أول الضحى أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وفتر تلك المدة، ثم جاء الملك، فأوحى إليه (والضحى والليل إذا سجى) السورة كبر فرحا وسرورا، ولم يرووا
ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جندب البجلي قال: اشتكى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك
لم يقربك ليلتين أو ثلاثا، فأنزل الله (والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى) ". وأخرج الفريابي وعبد
ابن حميد وسعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن جندب قال: أبطأ جبريل عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، فقال المشركون: قد ودع محمد، فنزلت (ما ودعك ربك وما قلى). وأخرج الطبراني عن
جندب قال: احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت بعض بنات عمه: ما أرى صاحبك إلا
قد قلاك، فنزلت والضحى، وأخرجه الترمذي وصححه وابن أبي حاتم عن جندب، وفيه فقالت له امرأة:
ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فنزلت والضحى.
سورة الضحى (1 - 11)
456

والمراد بالضحى هنا النهار كله، لقوله (والليل إذا سجى) فلما قابل الضحى بالليل دل على أن المراد به النهار
كله لا بعضه. وهو في الأصل اسم لوقت ارتفاع الشمس كما تقدم في قوله - والشمس وضحاها - والظاهر
أن المراد به الضحى من غير تعيين. وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق: إن المراد به الضحى الذي كلم الله فيه
موسى، والمراد بقوله (والليل إذا سجى) ليلة المعراج، وقيل المراد بالضحى هو الساعة التي خر فيها السحرة سجدا،
كما في قوله - وأن يحشر الناس ضحى - وقيل المقسم به مضاف مقدر كما تقدم في نظائره: أي ورب الضحى،
وقيل تقديره: وضحاوة الضحى، ولا وجه لهذا، فلله سبحانه أن يقسم بما شاء من خلقه: وقيل الضحى نور
الجنة، والليل ظلمة النار، وقيل الضحى نور قلوب العارفين، والليل سواد قلوب الكافرين (والليل إذا سجى)
أي سكن، كذا قال قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة وغيرهم: يقال ليلة ساجية: أي ساكنة، ويقال للعين إذا
سكن طرفها ساجية، يقال سجا الشئ يسجو سجوا: إذا سكن. قال عطاء: سجا إذا غطى بالظلمة. وروى ثعلب
عن ابن الأعرابي: سجا امتد ظلامه. وقال الأصمعي: سجو الليل تغطيته النهار، مثل ما يسجى الرجل بالثوب.
وقال الحسن: غشى بظلامه. وقال سعيد بن جبير: أقبل. وقال مجاهد: أيضا استوى، والأول أولى، وعليه
جمهور المفسرين وأهل اللغة. ومعنى سكونه: استقرار ظلامه واستواؤه، فلا يزاد بعد ذلك (ما ودعك ربك)
هذا جواب القسم: أي ما قطعك قطع المودع. قرأ الجمهور " ما ودعك " بتشديد الدال من التوديع، وهو توديع
المفارق، وقرأ ابن عباس وعروة بن الزبير وابنه هاشم وابن أبي عبلة وأبو حيوة بتخفيفها، من قولهم ودعه:
أي تركه، ومنه قول الشاعر:
سل أميري ما الذي غيره * عن وصالي اليوم حتى ودعه
والتوديع أبلغ في الودع، لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك. قال المبرد: لا يكادون يقولون ودع
ولا وذر لضعف الواو إذا قدمت واستغنوا عنها بترك. قال أبو عبيدة: ودعك من التوديع كما يودع المفارق.
وقال الزجاج: لم يقطع الوحي، وقد قدمنا سبب نزول هذه الآية في فاتحة هذه السورة (وما قلى) القلى البغض،
يقال قلاه يقليه قلاء. قال الزجاج: وما أبغضك، وقال: وما قلى ولم يقل وما قلاك لموافقة رؤوس الآي، والمعنى:
وما أبغضك، ومنه قول امرئ القيس: * ولست بمقلى الخلال ولا قالي * (وللآخرة خير لك من
الأولى) اللام جواب قسم محذوف: أي الجنة خير لك من الدنيا، مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أوتى
في الدنيا من شرف النبوة ما يصغر عنده كل شرف ويتضاءل بالنسبة إليه كل مكرمة في الدنيا، ولكنها لما كانت
الدنيا بأسرها مشوبة بالأكدار منغصة بالعوارض البشرية، وكانت الحياة فيها كأحلام نائم أو كظل زائل لم تكن
بالنسبة إلى الآخرة شيئا، ولما كانت طريقا إلى الآخرة وسببا لنيل ما أعده الله لعباده الصالحين من الخير العظيم بما
يفعلونه فيها من الأعمال الموجبة للفوز بالجنة كان فيها خير في الجملة من هذه الحيثية (ولسوف يعطيك ربك
فترضى) هذه اللام قيل هي لام الابتداء دخلت على الخبر لتأكيد مضمون الجملة، والمبتدأ محذوف تقديره ولأنت
سوف يعطيك الخ، وليست للقسم لأنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة، وقيل هي للقسم. قال
أبو علي الفارسي: ليست هذه اللام هي التي في قولك: إن زيدا لقائم، بل هي التي في قولك لأقومن، ونابت
سوف عن إحدى نوني التأكيد، فكأنه قال: وليعطينك. قيل المعنى: ولسوف يعطيك ربك الفتح في الدنيا
والثواب في الآخرة فترضى. وقيل الحوض والشفاعة، وقيل ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك، وقيل غير
457

ذلك. والظاهر أنه سبحانه يعطيه ما يرضى به من خيري الدنيا والآخرة، ومن أهم ذلك عنده وأقدمه لديه قبول
شفاعته لأمته (ألم يجدك يتيما فآوى) هذا شروع في تعداد ما أفاضه الله سبحانه عليه من النعم: أي وجدك يتيما
لا أب لك فآوى: أي جعل لك مأوى تأوي إليه، قرأ الجمهور " فآوى " بألف بعد الهمزة رباعيا، من آواه
يؤويه، وقرأ أبو الأشهب " فأوى " ثلاثيا، وهو إما بمعنى الرباعي، أو هو من أوى له إذا رحمه. وعن مجاهد
معنى الآية: ألم يجدك واحدا في شرفك لا نظير لك فآواك الله بأصحاب يحفظونك ويحوطونك، فجعل يتيما من قولهم
درة يتيمة، وهو بعيد جدا، والهمزة لإنكار النفي وتقرير المنفى على أبلغ وجه، فكأنه قال: قد وجدك يتيما
فآوى، والوجود بمعنى العلم، ويتيما مفعوله الثاني، وقيل بمعنى المصادفة، ويتيما حال من مفعوله (ووجدك ضالا
فهدى) معطوف على المضارع المنفي، وقيل هو معطوف على ما يقتضيه الكلام الذي قبله كما ذكرنا: أي قد وجدك
يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى، والضلال هنا بمعنى الغفلة، كما في قوله - لا يضل ربي ولا ينسى - وكما في قوله
- وإن كنت من قبله لمن الغافلين - والمعنى: أنه وجدك غافلا عما يراد بك من أمر النبوة، واختار هذا الزجاج.
وقيل معنى ضالا: لم تكن تدري القرآن ولا الشرائع فهداك لذلك. وقال الكلبي والسدي والفراء: وجدك في قوم
ضلال فهداهم الله لك. وقيل وجدك طالبا للقبلة فهداك إليها كما في قوله - قد نرى تقلب وجهك في السماء
فلنولينك قبلة ترضاها - ويكون الضلال بمعنى الطلب. وقيل وجدك ضائعا في قومك فهداك إليه، ويكون الضلال
بمعنى الضياع. وقيل وجدك محبا للهداية فهداك إليها، ويكون الضلال بمعنى المحبة، ومنه قول الشاعر:
عجبا لعزة في اختيار قطيعتي * بعد الضلال فحبلها قد أخلقا
وقيل وجدك ضالا في شعاب مكة فهداك: أي ردك إلى جدك عبد المطلب (ووجدك عائلا فأغنى) أي
وجدك فقيرا لا مال لك فأغناك، يقال عال الرجل يعيل عيلة: إذا افتقر، ومنه قول أحيحة بن الجلاح:
فما يدري الفقير متى غناه * وما يدري الغنى متى يعيل
أي يفتقر. قال الكلبي: فأغنى: أي رضاك بما أعطاك من الرزق، واختار هذا الفراء، قال: لأنه لم يكن
غنيا من كثرة، ولكن الله سبحانه رضاه بما آتاه، وذلك حقيقة الغنى. وقال الأخفش: عائلا ذا عيال، ومنه
قول جرير:
الله أنزل في الكتاب فريضة * لابن السبيل وللفقير العائل
وقيل فأغنى بما فتح لك من الفتوح، وفيه نظر، لأن السورة مكية، وقيل بمال خديجة بنت خويلد، وقيل
وجدك فقيرا من الحجج والبراهين فأغناك بها. قرأ الجمهور " عائلا " وقرأ محمد بن السميفع واليماني " عيلا " بكسر
الياء المشددة كسيد. ثم أوصاه سبحانه باليتامى والفقراء فقال (فأما اليتيم فلا تقهر) أي لا تقهره بوجه من وجوه
القهر كائنا ما كان. قال مجاهد: لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيما. قال الأخفش: لا تسلط عليه بالظلم، ادفع إليه حقه
واذكر يتمك. قال الفراء والزجاج: لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه، وكذا كانت العرب تفعل في حق
اليتامى تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحسن إلى اليتيم ويبره ويوصي
باليتامى. قرأ الجمهور " فلا تقهر " بالقاف، وقرأ ابن مسعود والنخعي والشعبي والأشهب العقيلي " تكهر "
بالكاف، والعرب تعاقب بين القاف والكاف. قال النحاس: إنما يقال كهره: إذا اشتد عليه وغلظ، وقيل
القهر الغلبة، والكهر الزجر. قال أبو حيان: هي لغة: يعني قراءة الكاف مثل قراءة الجمهور، واليتيم منصوب
458

بتقهر (وأما السائل فلا تنهر) يقال نهره وانتهره: إذا استقبله بكلام يزجره، فهو نهى عن زجر السائل والإغلاظ
له، ولكن يبذل له اليسير أو يرده بالجميل. قال الواحدي: قال المفسرون: يريد السائل على الباب، يقول
لا تنهره: إذا سألك فقد كنت فقيرا، فإما أن تطعمه، وإما أن ترده ردا لينا. قال قتادة: معناه رد السائل برحمة ولين.
وقيل المراد بالسائل الذي يسأل عن الدين، فلا تنهره بالغلظة والجفوة، وأجبه برفق ولين، كذا قال سفيان،
والسائل منصوب بتنهر، والتقدير: مهما يكن من شئ فلا تقهر اليتيم ولا تنهر السائل (وأما بنعمة ربك فحدث)
أمره سبحانه بالتحدث بنعم الله عليه وإظهارها للناس وإشهارها بينهم، والظاهر النعمة على العموم من غير تخصيص
بفرد من أفرادها أو نوع من أنواعها. وقال مجاهد والكلبي: المراد بالنعمة هنا القرآن. قال الكلبي: وكان القرآن
أعظم ما أنعم الله به عليه فأمره أن يقرأه. قال الفراء: وكان يقرؤه ويحدث به. وقال مجاهد أيضا: المراد بالنعمة
النبوة التي أعطاه الله، واختار هذا الزجاج فقال: أي بلغ ما أرسلت به وحدث بالنبوة التي آتاك الله، وهي
أجل النعم. وقال مقاتل: يعني اشكر ما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة من الهدى بعد الضلالة وجبر اليتم،
والإغناء بعد العيلة فاشكر هذه النعم. والتحدث بنعمة الله شكر، والجار والمجرور متعلق بحدث، والفاء غير
مانعة من تعلقه به، وهذه النواهي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي نواه له ولأمته لأنهم أسوته، فكل
فرد من أفراد هذه الأمة منهى بكل فرد من أفراد هذه النواهي.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس (والليل إذا سجى) قال: إذا أقبل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وابن مردويه عنه (إذا سجى) قال: إذا ذهب (ما ودعك ربك) قال ما تركك (وما قلى) قال:
ما أبغضك. وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " عرض على ما هو مفتوح لأمتي بعدي، فأنزل الله (وللآخرة خير لك من الأولى) ". وأخرج ابن أبي شيبة
وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم عنه أيضا قال
" عرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده فسر بذلك، فأنزل الله (ولسوف
يعطيك ربك فترضى) فأعطاه في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابه المسك في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم،
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله (ولسوف يعطيك ربك فترضى) قال: رضاه أن يدخل أمته
كلهم الجنة. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال: من رضا محمد أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار.
وأخرج الخطيب في التلخيص من وجه آخر عنه أيضا في الآية قال: لا يرضى محمد وأحد من أمته في النار، ويدل
على هذا ما أخرجه مسلم عن ابن عمرو " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا قول الله في إبراهيم - فمن تبعني فإنه
منى - وقول عيسى - إن تعذبهم فإنهم عبادك - الآية، فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله:
يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك ". وأخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم
في الحلية من طريق حرب بن شريح قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أرأيت هذه الشفاعة التي
يتحدث بها أهل العراق أحق هي؟ قال: إي والله. حدثني محمد بن الحنفية عن علي أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال " أشفع لأمتي حتى يناديني ربي أرضيت يا محمد؟ فأقول: نعم يا رب رضيت، ثم أقبل علي
فقال: إنكم تقولون يا معشر أهل العراق إن أرجى آية في كتاب الله - يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا
من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا - قلت إنا لنقول ذلك، قال: فكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في
كتاب الله (ولسوف يعطيك ربك فترضى) وهي الشفاعة ". وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: قال
459

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، ولسوف يعطيك ربك فترضى ".
وأخرج العسكري في المواعظ وابن مردويه وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال " دخل رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من جلد الإبل، فلما نظر إليها قال: يا فاطمة تعجلي
مرارة الدنيا بنعيم الآخرة، فأنزل الله (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ". وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم
وصححه وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: سألت
ربي مسئلة وددت أني لم أكن سألته، قلت: قد كانت قبلي أنبياء منهم من سخرت له الريح، ومنهم من كان يحيى
الموتى، فقال تعالى: يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك؟ ألم أجدك ضالا فهديتك؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ ألم أشرح
لك صدرك؟ ألم أضع عنك وزرك؟ ألم أرفع لك ذكرك؟ قلت بلى يا رب ". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس
قال: " لما نزلت (والضحى) على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
يمن على ربي وأهل أن يمن ربي ". وأخرج ابن مردويه عنه في قوله (ووجدك ضالا فهدى) قال: وجدك بين
الضالين فاستنقذك من ضلالتهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن علي في قوله (وأما بنعمة ربك فحدث)
قال: ما علمت من الخير. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال: إذا أصبت خيرا فحدث إخوانك. وأخرج
عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والبيهقي في الشعب والخطيب في المتفق، قال السيوطي بسند ضعيف عن النعمان
ابن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم
يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة ". وأخرج أبو داود
والترمذي وحسنه أبو يعلى وابن حبان والبيهقي والضياء عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال " من أبلى بلاء فذكره فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره ". وأخرج البخاري في الأدب وأبو داود والضياء
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من أعطى عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن به، فمن
أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط فإنه كلابس ثوبي زور ". وأخرج أحمد
والطبراني في الأوسط والبيهقي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من أولى معروفا
فليكافئ به، فإن لم يستطع فليذكره، فإن من ذكره فقد شكره ".
تفسير سورة ألم نشرح
هي ثمان آيات
وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت
- ألم نشرح - بمكة، وزاد بعد الضحى. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: نزلت سورة ألم نشرح بمكة.
سورة ألم نشرح (1 - 8)
460

معنى شرح الصدر: فتحه بإذهاب ما يصد عن الإدراك، والاستفهام إذا دخل على النفي قرره، فصار
المعنى: قد شرحنا لك صدرك، وإنما خص الصدر لأنه محل أحوال النفس من العلوم والإدراكات، والمراد
الامتنان عليه صلى الله عليه وآله وسلم بفتح صدره وتوسيعه حتى قام بما قال به من الدعوة، وقدر على ما قدر
عليه من حمل أعباء النبوة وحفظ الوحي، وقد مضى القول في هذا عند تفسير قوله - أفمن شرح الله صدر "
للإسلام فهو على نور من ربه - (ووضعنا عنك وزرك) معطوف على معنى ما تقدم، لا على لفظه: أي قد شرحنا
لك صدرك ووضعنا الخ، ومنه قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح
أي أنتم خير من ركب المطايا، وأندى الخ. قرأ الجمهور " نشرح " بسكون الحاء بالجزم، وقرأ أبو جعفر المنصور
العباسي بفتحها. قال الزمخشري: قالوا لعله بين الحاء وأشبعها في مخرجها، فظن السامع أنه فتحها. وقال ابن
عطية: إن الأصل ألم نشرحن بالنون الخفيفة، ثم إبدالها ألفا، ثم حذفها تخفيفا كما أنشد أبو زيد:
من أي يومى من الموت أفر * أيوم لم يقدر أم يوم قدر
بفتح الراء من لم يقدر، ومثله قوله:
اضرب عنك الهموم طارقها * ضربك بالسيف قونس الفرس
بفتح الباء من اضرب، وهذا مبني على جواز توكيد المجزوم بلم، وهو قليل جدا كقوله:
يحسبه الجاهل ما لم يعلما * شيخا على كرسيه معمما
فقد تركبت هذه القراءة من ثلاثة أصول كلها ضعيفة: الأول توكيد المجزوم بلم، وهو ضعيف. الثاني
إبدالها ألفا، وهو خاص بالوقف، فإجراء الوصل مجرى الوقف ضعيف. والثالث حذف الألف، وهو ضعيف
أيضا لأنه خلاف الأصل، وخرجها بعضهم على لغة بعض العرب الذين ينصبون بلم ويجزمون بلن، ومنه قول
الشاعر: في كل ما هم أمضى رأيه قدما * ولم يشاور في إقدامه أحدا
بنصب الراء من يشاور، وهذه اللغة لبعض العرب ما أظنها تصح، وإن صحت فليست من اللغات المعتبرة فإنها
جاءت بعكس ما عليه لغة العرب بأسرها. وعلى كل حال فقراءة هذا الرجل مع شدة جوره ومزيد ظلمه وكثرة
جبروته وقلة علمه ليست بحقيقة بالاشتغال بها. والوزر: الذنب أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية.
قال الحسن وقتادة والضحاك ومقاتل: المعنى حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية، وهذا كقوله - ليغفر
لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر - ثم وصف هذا الوزر فقال (الذي أنقض ظهرك) قال المفسرون: أي أثقل
ظهرك. قال الزجاج: أثقله حتى سمع له نقيض: أي صوت، وهذا مثل معناه: أنه لو كان حملا يحمل لسمع
نقيض ظهره، وأهل اللغة يقولون: أنقض الحمل ظهر الناقة: إذا سمع له صرير، ومنه قول جميل:
وحتى تداعت بالنقيض حباله * وهمت ثواني زوره أن تحطما
وقول العباس بن مرداس:
وأنقض ظهري ما تطويت منهم * وكنت عليهم مشفقا متحننا
قال قتادة: كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذنوب قد أثقلته فغفرها الله له، وقوم يذهبون إلى أن هذا
تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها سهل الله ذلك عليه حتى تيسرت له: وكذا قال أبو عبيدة وغيره
461

وقرأ ابن مسعود " وحللنا عنك وقرك " ثم ذكر سبحانه منته عليه وكرامته فقال (ورفعنا لك ذكرك) قال
الحسن: وذلك أن الله لا يذكر في موضع إلا ذكر معه صلى الله عليه وآله وسلم. قال قتادة: رفع الله ذكره في
الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادى، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن
محمدا رسول الله. قال مجاهد: (ورفعنا لك ذكرك) يعني بالتأذين. وقيل المعنى: ذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء
قبله وأمرناهم بالبشارة به، وقيل رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وعند المؤمنين في الأرض. والظاهر أن هذا
الرفع لذكره الذي أمتن الله به عليه يتناول جميع هذه الأمور، فكل واحد منها من أسباب رفع الذكر، وكذلك
أمره بالصلاة والسلام عليه، وإخباره صلى الله عليه وآله وسلم عن الله عز وجل أن من صلى عليه واحدة صلى الله
عليه بها عشرا، وأمر الله بطاعته كقوله - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول - وقوله - وما آتاكم الرسول فخذوه وما
نهاكم عنه فانتهوا - وقوله - قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله - وغير ذلك. وبالجملة فقد ملأ ذكره الجليل
السماوات والأرضين، وجعل الله له من لسان الصدق والذكر الحسن والثناء الصالح ما لم يجعله لأحد من عباده
- ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم - اللهم صل وسلم عليه وعلى آله عدد ما صلى عليه المصلون
بكل لسان في كل زمان، وما أحسن قول حسان:
أغر عليه للنبوة خاتم * من الله مشهور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي مع اسمه * إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد
(فإن مع العسر يسرا) أي إن مع الضيقة سعة، ومع الشدة رخاء، ومع الكرب فرج. وفي هذا وعد منه
سبحانه بأن كل عسير يتيسر، وكل شديد يهون، وكل صعب يلين. ثم زاد سبحانه هذا الوعد تقريرا وتأكيدا،
فقال مكررا له بلفظ (إن مع العسر يسرا) أي إن مع ذلك العسر المذكور سابقا يسرا آخر لما تقرر من أنه إذا أعيد
المعرف يكون الثاني عين الأول سواء كان المراد به الجنس أو العهد، بخلاف المنكر إذا أعيد فإنه يراد بالثاني فرد
مغاير لما أريد بالفرد الأول في الغالب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معنى هذه الآية " لن يغلب
عسر يسرين " قال الواحدي: وهذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والمفسرين على أن العسر
واحد واليسر اثنان. قال الزجاج: ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثنى ذكره، فصار المعنى: إن مع العسر
يسرين. قيل والتنكير في اليسر للتفخيم والتعظيم، وهو في مصحف ابن مسعود غير مكرر. قرأ الجمهور بسكون
السين في العسر واليسر في الموضعين. وقرأ يحيى بن وثاب وأبو جعفر وعيسى بضمها في الجميع (فإذا فرغت
فانصب) أي إذا فرغت من صلاتك، أو من التبليغ، أو من الغزو فانصب: أي فاجتهد في الدعاء واطلب من
الله حاجتك، أو فانصب في العبادة، والنصب التعب، يقال نصب ينصب نصبا: أي تعب. قال قتادة والضحاك
ومقاتل والكلبي: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء وأرغب إليه في المسألة يعطك،
وكذا قال مجاهد: قال الشعبي: إذا فرغت من التشهد فادعو لدنياك وآخرتك، وكذا قال الزهري. وقال الكلبي
أيضا: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب: أي استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات. وقال الحسن وقتادة:
إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب لعبادة ربك. وقال مجاهد أيضا: إذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك
(وإلى ربك فارغب) قال الزجاج: أي اجعل رغبتك إلى الله وحده. قال عطاء: يريد أنه يضرع إليه راهبا من
النار، راغبا في الجنة، والمعنى: أنه يرغب إليه سبحانه لا إلى غيره كائنا من كان، فلا يطلب حاجاته إلا منه،
462

ولا يعول في جميع أموره إلا عليه. قرأ الجمهور " فارغب " وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة " فرغب " بتشديد
الغين: أي فرغب الناس إلى الله وشوقهم إلى ما عنده من الخير.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (ألم نشرح لك صدرك) قال:
شرج الله صدره للإسلام. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه
وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " أتاني جبريل فقال: إن ربك
يقول: تدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي " وإسناد ابن
جرير هكذا: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد.
وأخرجه أبو يعلى من طريق ابن لهيعة عن دراج. وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق يونس بن عبد الأعلى به.
وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله (ورفعنا لك ذكرك) الآية قال:
لا يذكر الله إلا ذكر معه. وأخرج البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم وابن مردويه والبيهقي
في الشعب عن أنس قال: " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم جالسا وحياله جحر، فقال " العسر لو دخل العسر
هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه، فأنزل الله (إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا) " ولفظ
الطبراني " وتلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا) ". وأخرج ابن النجار
عنه مرفوعا نحوه. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه أيضا مرفوعا نحوه. قال السيوطي وسنده ضعيف. وأخرج
عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في الصبر وابن المنذر والبيهقي في الشعب عن ابن
مسعود مرفوعا " لو كان العسر في جحر لتبعه اليسر حتى يدخل فيه فيخرجه، ولن يغلب عسر يسرين إن الله
يقول (إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا) " قال البزار: لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح. قال فيه
أبو حاتم الرازي في حديثه ضعف، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن رجل عن عبد الله بن مسعود.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي عن الحسن قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يوما فرحا مسرورا وهو يضحك ويقول: " لن يغلب عسر يسرين، إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا " وهذا
مرسل. وروى نحوه مرفوعا مرسلا عن قتادة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن
مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله (فإذا فرغت فانصب) الآية قال: إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء
واسأل الله وارغب إليه. وأخرج ابن مردويه عنه قال: قال الله لرسوله: إذا فرغت من الصلاة وتشهدت فانصب
إلى ربك واسأله حاجتك. وأخرج ابن أبي الدنيا في الذكر عن ابن مسعود (فإذا فرغت فانصب) إلى الدعاء (وإلى
ربك فارغب) في المسئلة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (فإذا فرغت فانصب) قال: إذا فرغت من
الفرائض فانصب في قيام الليل.
463

تفسير سورة التين
هي ثمان آيات
وهي مكية في قول الجمهور، وروى القرطبي عن ابن عباس أنها مدنية، ويخالف هذه الرواية ما أخرجه
ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: أنزلت سورة التين بمكة. وأخرج ابن مردويه
عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن البراء بن عازب قال: " كان النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في سفر فصلى العشاء فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون، فما سمعت أحدا أحسن صوتا ولا
قراءة منه ". وأخرج الخطيب عنه قال: " صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المغرب، فقرأ بالتين
والزيتون ". وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد في مسنده والطبراني عن عبد الله بن يزيد " أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قرأ في المغرب. والتين والزيتون ". وأخرج ابن قانع وابن السكن والشيرازي في الألقاب عن
زرعة بن خليفة قال " أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اليمامة، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، فلما صلينا
الغداة قرأ بالتين والزيتون، وإنا أنزلناه في ليلة القدر ".
سورة التين (1 - 8)
قال أكثر المفسرين: هو التين الذي يأكله الناس (والزيتون) الذي يعصرون منه الزيت، وإنما أقسم بالتين،
لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التنغيص وفيها أعظم عبرة لدلالتها على من هيأها لذلك، وجعلها على مقدار اللقمة.
قال كثير من أهل الطب: إن التين أنفع الفواكه للبدن وأكثرها غذاء، وذكروا له فوائد كما في كتب المفردات
والمركبات، وأما الزيتون فإنه يعصر منه الزيت الذي هو إدام غالب البلدان، ودهنهم، ويدخل في كثير من
الأدوية. وقال الضحاك: التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى. وقال ابن زيد: التين مسجد دمشق،
والزيتون مسجد بيت المقدس. وقال قتادة: التين الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون الجبل الذي عليه بيت
المقدس. وقال عكرمة وكعب الأحبار: التين دمشق، والزيتون بيت المقدس.
وليت شعري ما الحامل لهؤلاء الأئمة على العدول عن المعنى الحقيقي في اللغة العربية، والعدول إلى هذه
التفسيرات البعيدة عن المعنى، المبنية على خيالات لا ترجع إلى عقل ولا نقل. وأعجب من هذا اختيار ابن جرير
للآخر منها مع طول باعه في علم الرواية والدراية. قال الفراء: سمعت رجلا يقول: التين جبال حلوان إلى همدان،
والزيتون جبال الشام. قلت: هب أنك سمعت هذا الرجل، فكان ماذا؟ فليس بمثل هذا تثبيت اللغة، ولا هو نقل
464

عن الشارع. وقال محمد بن كعب: التين مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيلياء، وقيل إنه على أحد
مضاف: أي ومنابت التين والزيتون. قال النحاس: لا دليل على هذا من ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوز
خلافه (وطور سينين) هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى اسمه الطور، ومعنى سينين: المبارك الحسن بلغة
الحبشة قاله قتادة. وقال مجاهد: هو المبارك بالسريانية. وقال مجاهد والكلبي: سينين كل جبل فيه شجر مثمر
فهو سينين وسيناء بلغة النبط. قال الأخفش: طور: جبل، وسينين شجر، واحدته سينة. قال أبو علي الفارسي:
سينين فعليل فكررت اللام التي هي نون فيه ولم ينصرف سينين كما لم ينصرف سيناء لأنه جعل اسما للبقعة، وإنما
أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام، وهي الأرض المقدسة كما في قوله - إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله - وأعظم
بركة حلت به ووقعت عليه تكليم الله لموسى عليه. قرأ الجمهور " سينين " بكسر السين، وقرأ ابن إسحاق وعمرو
ابن ميمون وأبو رجاء بفتحها، وهي لغة بكر وتميم. وقرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود والحسن وطلحة " سيناء "
بالكسر والمد (وهذا البلد الأمين) يعني مكة، سماه أمينا لأنه آمن كما قال - أنا جعلنا حرما آمنا - يقال أمن الرجل
أمانة فهو أمين. قال الفراء وغيره: الأمين بمعنى الآمن، ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون
الغوائل (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) هذا جواب القسم: أي خلقنا جنس الإنسان كائنا في أحسن تقويم
وتعديل. قال الواحدي: قال المفسرون: إن الله خلق كل ذي روح مكبا على وجهه إلا الإنسان، خلقه مديد
القامة يتناول مأكوله بيده، ومعنى التقويم: التعديل، يقال: قومته فاستقام. قال القرطبي: هو اعتداله واستواء
شأنه، كذا قال عامة المفسرين. قال ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حيا عالما
قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا مدبرا حكيما، وهذه صفات الرب سبحانه، وعليها حمل بعض العلماء قوله صلى
الله عليه وآله وسلم " إن الله خلق آدم على صورته " يعني على صفاته التي تقدم ذكرها. قلت: وينبغي أن يضم إلى
كلامه هذا قوله سبحانه - ليس كمثله شئ - وقوله - ولا يحيطون به علما - ومن أراد أن يقف على حقيقة ما اشتمل
عليه الإنسان من بديع الخلق وعجيب الصنع فلينظر في كتاب العبر والاعتبار للجاحظ، وفي الكتاب الذي عقده
النيسابوري على قوله - وفي أنفسكم أفلا تبصرون - وهو في مجلدين ضخمين (ثم رددناه أسفل سافلين) أي رددناه
إلى أرذل العمر، وهو الهرم والضعف بعد الشباب والقوة حتى يصير كالصبي فيخرف وينقص عقله، كذا قال
جماعة من المفسرين. قال الواحدي: والسافلون هم الضعفاء والزمناء والأطفال، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء
جميعا. وقال مجاهد وأبو العالية والحسن: المعنى ثم رددنا الكافر إلى النار، وذلك أن النار درجات بعضها أسفل
من بعض، فالكافر يرد إلى أسفل الدرجات السافلة، ولا ينافي هذا قوله تعالى - إن المنافقين في الدرك الأسفل من
النار - فلا مانع من كون الكفار والمنافقين مجتمعين في ذلك الدرك الأسفل، وقوله (أسفل سافلين) إما حال من
المفعول: أي رددناه حال كونه أسفل سافلين، أو صفة لمقدر محذوف: أي مكانا أسفل سافلين (إلا الذين
آمنوا وعملوا الصالحات) هذا الاستثناء على القول الأول منقطع: أي لكن الذين آمنوا الخ، ووجهه أن الهرم والرد
إلى أرذل العمر يصاب به المؤمن كما يصاب به الكافر فلا يكون لاستثناء المؤمنين على وجه الاتصال معنى. وعلى
القول الثاني يكون الاستثناء متصلا من ضمير رددناه، فإنه في معنى الجمع: أي رددنا الإنسان أسفل سافلين من
النار - إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات - (فلهم أجر غير ممنون) أي غير مقطوع: أي فلهم ثواب دائم غير منقطع
على طاعاتهم، فهذه الجملة على القول الأول مبينة لكيفية حال المؤمنين، وعلى القول الثاني مقررة لما يفيده
الاستثناء من خروج المؤمنين عن حكم الرد، وقال: أسفل سافلين على الجمع، لأن الإنسان في معنى الجمع،
465

ولو قال أسفل سافل لجاز، لأن الإنسان باعتبار اللفظ واحد. وقيل معنى رددناه أسفل سأفلين: رددناه إلى
الضلال، كما قال - إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات - أي إلا هؤلاء فلا يردون إلى ذلك (فما
يكذبك بعد بالدين) الخطاب للإنسان الكافر، والاستفهام للتقريع والتوبيخ وإلزام الحجة: أي إذا عرفت أيها
الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردك أسفل سافلين، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؟
وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي أي شئ يكذبك يا محمد بعد ظهور هذه الدلائل الناطقة،
فاستيقن مع ما جاءك من الله أنه أحكم الحاكمين. قال الفراء والأخفش: المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا
البيان بالدين، كأنه قال: من يقدر على ذلك؟ أي على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما ظهر من قدرتنا على
خلق الإنسان ما ظهر، واختار هذا ابن جرير. والدين الجزاء، ومنه قول الشاعر:
دنا تميما كما كانت أوائلنا * دانت أوائلهم من سالف الزمن
وقال الآخر:
ولما صرح الشر * فأمسى وهو عريان
ولم يبق سوى العدوان * دناهم كما دانوا
(أليس الله بأحكم الحاكمين) أي أليس الذي فعل ما فعل مما ذكرنا بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا؟ حتى تتوهم
عدم الإعادة والجزاء، وفيه وعيد شديد للكفار، ومعنى أحكم الحاكمين: أتقن الحاكمين في كل ما يخلق، وقيل
أحكم الحاكمين قضاء وعدلا. والاستفهام إذا دخل على النفي صار الكلام إيجابا كما تقدم تفسير قوله - ألم نشرح
لك صدرك -.
وقد أخرج الخطيب وابن عساكر قال السيوطي بسند فيه مجهول عن الزهري عن أنس قال: لما أنزلت
سورة التين والزيتون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرح فرحا شديدا حتى تبين لنا شدة فرحه، فسألنا
ابن عباس عن تفسيرها فقال: التين بلاد الشام، والزيتون بلاد فلسطين، وطور سيناء الذي كلم الله عليه موسى
وهذا البلد الأمين مكة (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) محمدا (ثم رددناه أسفل سافلين) عبدة اللات
والعزى (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) أبو بكر وعمر وعثمان وعلى (فما يكذبك بعد
بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين) إذ بعثك فيهم نبيا وجمعك على التقوى يا محمد، ومثل هذا التفسير من ابن
عباس لا تقوم به حجة لما تقدم من كون في إسناده ذلك المجهول. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه
عن ابن عباس في قوله (والتين والزيتون) قال: مسجد نوح الذي بنى على الجودي، والزيتون قال: بيت
المقدس (وطور سنين) قال: مسجد الطور (وهذا البلد الأمين) قال: مكة (لقد خلقنا الإنسان في أحسن
تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين) يقول: يرد إلى أرذل العمر كبر حتى ذهب عقله، هم نفر كانوا على عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم أن
لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم (فما يكذبك بعد بالدين) يقول: بحكم الله. وأخرج ابن مردويه عنه
نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه أيضا (والتين والزيتون) قال: الفاكهة التي يأكلها الناس
(وطور سينين) قال: الطور الجبل، والسينين المبارك. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه
أيضا قال: سينين هو الحسن. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن مردويه عنه أيضا (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) قال في أعدل خلق (ثم رددناه أسفل سافلين) يقول:
466

إلى أرذل العمر (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) يعني غير منقوص، يقول فإذا بلغ
المؤمن أرذل العمر وكان يعمل في شبابه عملا صالحا كتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته وشبابه ولم
يضره ما عمل في كبره، ولم تكتب عليه الخطايا التي يعمل بعد ما يبلغ أرذل العمر. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي
في الشعب عن ابن عباس قال: من قرأ القران لم يرد إلى أرذل العمر، وذلك قوله (ثم رددناه أسفل سافلين إلا
الذين آمنوا وعملوا الصالحات) قال: لا يكون حتى لا يعلم من بعد علم شيئا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (ثم رددناه
أسفل سافلين) يقول: إلى الكبر وضعفه، فإذا كبر وضعف عن العمل كتب له مثل أجر ما كان يعمل في
شبيبته. وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا
مرض العبد أو سافر كتب الله له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما ". وأخرج الترمذي وابن مردويه عن
أبي هريرة مرفوعا " من قرأ التين والزيتون، فقرأ (أليس الله بأحكم الحاكمين) فليقل: بلى وأنا على ذلك من
الشاهدين ". وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعا " إذا قرأت التين والزيتون فقرأت (أليس الله بأحكم الحاكمين)
فقيل بلى ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ (أليس الله بأحكم الحاكين) قال:
سبحانك اللهم قبلي اه‍.
تفسير سورة اقرأ
ويقال سورة العلق، وهي تسع عشرة آية، وقيل عشرون آية
وهي مكية بلا خلاف، وهي أول ما نزل من القرآن. وأخرج ابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال:
أول ما نزل من القرآن (اقرأ باسم ربك الذي خلق). وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن الأنباري والطبراني
والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن أبي موسى الأشعري قال (اقرأ باسم ربك الذي خلق) أول
سورة أنزلت على محمد. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وصححه عن عائشة قالت: إن
أول ما نزل من القرآن (اقرأ باسم ربك الذي خلق) ويدل على أن هذه السورة أول ما نزل الحديث الطويل الثابت
في البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة، وفيه " فجاءه الحق وهو في غار حراء، فقال له اقرأ " الحديث،
وفي الباب أحاديث وآثار عن جماعة من الصحابة. وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن.
سورة اقرأ (1 - 19)
467

قرأ الجمهور (اقرأ) بسكون الهمزة أمرا من القراءة. وقرأ عاصم في رواية عنه بفتح الراء، وكأنه قلب الهمزة
ألفا ثم حذفها للأمر، والأمر بالقراءة يقتضي مقروءا، فالتقدير: اقرأ ما يوحى إليك، أو ما نزل عليك، أو
ما أمرت بقراءته، وقوله (باسم ربك) متعلق بمحذوف هو حال: أي اقرأ ملتبسا باسم ربك أو مبتدئا باسم ربك
أو مفتتحا، ويجوز أن تكون الباء زائدة، والتقدير: اقرأ اسم ربك كقول الشاعر:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور * قاله أبو عبيدة. وقال أيضا: الاسم صلة: أي أذكر ربك. وقيل
الباء بمعنى على: أي اقرأ على اسم ربك، يقال افعل كذا بسم الله، وعلى اسم الله قاله الأخفش. وقيل الباء
للاستعانة: أي مستعينا باسم ربك، ووصف الرب بقوله (الذي خلق) لتذكير النعمة لأن الخلق هو أعظم النعم،
وعليه يترتب سائر النعم. قال الكلبي: يعني الخلائق (خلق الإنسان من علق) يعني بني آدم، والعلقة الدم الجامد،
وإذا جرى فهو المسفوح. وقال: من علق بجمع علق لأن المراد بالإنسان الجنس، والمعنى: خلق جنس الإنسان
من جنس العلق، وإذا كان المراد بقوله " الذي خلق " كل المخلوقات، فيكون تخصيص الإنسان بالذكر تشريفا له لما
فيه من بديع الخلق وعجيب الصنع، وإذا كان المراد بالذي خلق الذي خلق الإنسان فيكون الثاني تفسيرا للأول.
والنكتة ما في الإبهام، ثم التفسير من التفات الذهن وتطلعه إلى معرفة ما أبهم أولا ثم فسر ثانيا. ثم كرر الأمر
بالقراءة للتأكيد والتقرير فقال (اقرأ وربك الأكرم) أي افعل ما أمرت به من القراءة، وجملة (وربك الأكرم)
مستأنفة لإزاحة ما اعتذر به صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: " ما أنا بقارئ " يريد أن القراءة شأن من يكتب
ويقرأ وهو أمي، فقيل له اقرأ وربك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم. قال الكلبي: يعني الحليم عن جهل العباد فلم
يعجل بعقوبتهم، وقيل إنه أمره بالقراءة أولا لنفسه، ثم أمره بالقراءة ثانيا للتبليغ، فلا يكون من باب التأكيد،
والأول أولى (الذي علم بالقلم) أي علم الإنسان الخط بالقلم، فكان بواسطة ذلك يقدر على أن يعلم كل مكتوب
قال الزجاج: علم الإنسان الكتابة بالقلم. قال قتادة: القلم نعمة من الله عز وجل عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين
ولم يصلح عيش، فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه
على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا
ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين ولا أمور
الدنيا، وسمى قلما لأنه يقلم: أي يقطع (علم الإنسان ما لم يعلم) هذه الجملة بدل اشتمال من التي قبلها: أي علمه
بالقلم من الأمور الكلية والجزئية ما لم يعلم به منها، قيل المراد بالإنسان هنا آدم كما في قوله - وعلم آدم الأسماء كلها -
وقيل الإنسان هنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والأولى حمل الإنسان على العموم، والمعنى: أن من علمه
الله سبحانه من هذا الجنس بواسطة القلم فقد علمه ما لم يعلم، وقوله (كلا) ردع وزجر لمن كفر نعم الله عليه
بسبب طغيانه، وإن لم يتقدم له ذكر، ومعنى (إن الإنسان ليطغى) أنه يجاوز الحد ويستكبر على ربه. وقيل
المراد بالإنسان هنا أبو جهل، وهو المراد بهذا وما بعده إلى آخر السورة، وأنه تأخر نزول هذا وما بعده عن
الخمس الآيات المذكورة في أول هذه السورة. وقيل " كلا " هنا بمعنى حقا قاله الجرجاني، وعلل ذلك بأنه
468

ليس قبله ولا بعده شئ يكون كلا ردا له، وقوله (أن رآه استغنى) علة ليطغى: أي ليطغى أن رأى نفسه
مستغنيا، أو لأن رأى نفسه مستغنيا، والرؤية هنا بمعنى العلم، ولو كانت البصرية لامتنع الجمع بين الضميرين
في فعلها لشئ واحد لأن ذلك من خواص باب علم، ونحوه. قال الفراء: لم يقل رأى نفسه كما قيل قتل نفسه
لأن رأى من الأفعال التي تريد اسما وخبرا نحو الظن والحسبان فلا يقتصر فيه على مفعول واحد، والعرب تطرح
النفس من هذا الجنس تقول: رأيتني وحسبتني، ومتى تراك خارجا، ومتى تظنك خارجا، قيل والمراد هنا أنه
استغنى بالعشيرة والأنصار والأموال. قرأ الجمهور " أن رآه " بمد الهمزة. وقرأ قنبل عن ابن كثير بقصرها. قال
مقاتل: كان أبو جهل إذا أصاب مالا زاد في ثيابه ومركبه وطعامه وشرابه فذلك طغيانه، وكذا قال الكلبي:
ثم هدد سبحانه وخوف، فقال (إن إلى ربك الرجعي) أي المرجع، والرجعي والمرجع والرجوع مصادر،
يقال: رجع إليه مرجعا ورجوعا ورجعي، وتقدم الجار والمجرور للقصر: أي الرجعي إليه سبحانه لا إلى غيره
(أرأيت الذي ينهى. عبدا إذا صلى) قال المفسرون: الذي ينهى أبو جهل، والمراد بالعبد محمد صلى الله عليه وآله
وسلم، وفيه تقبيح لصنعه وتشنيع لفعله حتى كأنه بحيث يراه كل من تتأتى منه الرؤية (أرأيت إن كان على الهدى)
يعني العبد المنهى إذا صلى، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أو أمر بالتقوى) أي بالإخلاص والتوحيد
والعمل الصالح الذي تتقى به النار (أرأيت إن كذب وتولى) يعني أبا جهل، كذب بما جاء به رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وتولى عن الإيمان، وقوله (أرأيت) في الثلاثة المواضع بمعنى أخبرني لأن الرؤية لما كانت سببا
للإخبار عن المرئي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستفهام عن متعلقها، والخطاب لكل من يصلح له. وقد
ذكر هنا أرأيت ثلاث مرات، وصرح بعد الثالثة منها بجملة استفهامية فتكون في موضع المفعول الثاني لها،
ومفعولها الأول محذوف، وهو ضمير يعود على الذي ينهى الواقع مفعولا أولا لأرأيت الأولى، ومفعول أرأيت
الأولى الثاني محذوف، وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد أرأيت الثانية، وأما أرأيت الثانية فلم يذكر لها
مفعول لا أول ولا ثاني، حذف الأول لدلالة مفعول أرأيت الثالثة عليه فقد حذف الثاني من الأولى، والأول من
الثالثة، والاثنان من الثانية، وليس طلب كل من رأيت للجملة الاستفهامية على سبيل التنازع لأنه يستدعي
إضمارا، والجمل لا تضمر، إنما تضمر المفردات، وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة، وأما جواب الشرط
المذكور مع أرأيت في الموضعين الآخرين. فهو محذوف تقديره: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى (ألم يعلم
بأن الله يرى) وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني، ومعنى (ألم يعلم بأن الله يرى) أي يطلع على
أحواله، فيجازيه بها، فكيف اجترأ على ما اجترأ عليه؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وقيل أرأيت الأولى
مفعولها الأول الموصول، ومفعولها الثاني الشرطية الأولى بجوابها المحذوف المدلول عليه بالمذكور، وأرأيت في
الموضعين تكرير للتأكيد، وقيل كل واحدة من أرأيت بدل من الأولى، و (ألم يعلم بأن الله يرى) الخبر. قوله
(كلا) ردع للناهي، واللام في قوله (لئن لم ينته) هي الموطئة للقسم: أي والله لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر
(لنسفعا بالناصية) السفع الجذب الشديد، والمعنى: لنأخذن بناصيته ولنجرنه إلى النار وهذا كقوله - فيؤخذ
بالنواصي والأقدام - ويقال سفعت الشئ: إذا قبضته وجذبته، ويقال سفع بناصية فرسه. قال الراغب: السفع
الأخذ بسفعة الفرس: أي بسواد ناصيته وباعتبار السواد قيل: به سفعة غضب اعتبارا بما يعلو من اللون الدخاني
وجه من اشتد به الغضب، وقيل للصقر أسفع لما فيه من لمع السواد، وامرأة سفعاء اللون انتهى، وقيل هو
مأخوذ من سفع النار والشمس: إذا غيرت وجهه إلى سواد، ومنه قول الشاعر:
469

أثافي سفعا في معرس مرجل وقوله (ناصية) بدل من الناصية، وإنما أبدل النكرة من المعرفة
لوصفها بقوله (كاذبة خاطئة) وهذا على مذهب الكوفيين فإنهم لا يجيزون إبدال النكرة من المعرفة إلا بشرط
وصفها. وأما على مذهب البصريين، فيجوز إبدال النكرة من المعرفة بلا شرط، وأنشدوا:
فلا وأبيك خير منك إني * ليؤذيني التحمحم والصهيل
قرأ الجمهور بجر " ناصية كاذبة خاطئة " والوجه ما ذكرنا. وقرأ الكسائي في رواية عنه برفعها على إضمار مبتدإ:
أي هي ناصية، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي بنصبها على الذم. قال مقاتل: أخبر عنه بأنه فاجر
خاطئ، فقال ناصية كاذبة خاطئة، تأويلها: صاحبها كاذب خاطئ (فليدع ناديه) أي أهل ناديه، والنادي:
المجلس الذي يجلس فيه القوم ويجتمعون فيه من الأهل والعشيرة، والمعنى: ليدع عشيرته وأهله ليعينوه وينصروه،
ومنه قول الشاعر: واستب بعدك يا كليب المجلس * أي أهله. قيل إن أبا جهل قال لرسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: أتهددني وأنا أكثر الوادي ناديا؟ فنزلت (فليدع ناديه سندع الزبانية) أي الملائكة
الغلاظ الشداد، كذا قال الزجاج: قال الكسائي والأخفش وعيسى بن عمر: واحدهم زابن، وقال أبو عبيدة:
زبنية، وقيل زباني، وقيل هو اسم للجمع لا واحد له من لفظه كعباديد وأبابيل. وقال قتادة: هم الشرط في
كلام العرب، وأصل الزبن الدفع، ومنه قول الشاعر:
ومستعجب مما يرى من أناتنا * ولو زبنته الحرب لم يترمرم
والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتد بطشه، ومنه قول الشاعر:
مطاعيم في القصوى مطاعين في الوغى * زبانية غلب عظام حلومها
قرأ الجمهور " سندع " بالنون، ولم ترسم الواو كما في قوله - يوم يدع الداع - وقرأ ابن أبي عبلة " سيدعى "
على البناء للمفعول ورفع الزبانية على النيابة. ثم كرر الردع والزجر فقال (كلا لا تطعه) أي لا تطعه فيما دعاك إليه
من ترك الصلاة (واسجد) أي صل لله غير مكترث به، ولا مبال بنهيه (واقترب) أي تقرب إليه سبحانه بالطاعة
والعبادة. وقيل المعنى: إذا سجدت اقترب من الله بالدعاء. وقال زيد بن أسلم: واسجد أنت يا محمد، واقترب
أنت يا أبا جهل من النار، والأول أولى. والسجود هذا الظاهر أن المراد به الصلاة، وقيل سجود التلاوة، ويدل
على هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من السجود عند تلاوة هذه الآية، كما سيأتي إن شاء الله.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن شداد قال: " أتى جبريل محمدا صلى
الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد اقرأ. فقال: وما أقرأ؟ فضمه ثم قال: يا محمد اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال
(اقرأ باسم ربك الذي خلق) حتى بلغ (ما لم يعلم) " وفي الصحيحين: وغيرهما من حديث عائشة " فجاءه الملك،
فقال: اقرأ، فقال: قلت ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ،
فقلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ
فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد فقال (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك
الأكرم الذي علم بالقلم) " الآية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن
مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن عنقه،
فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال " لو فعل لأخذته الملائكة عيانا " وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي
470

وصححه وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وآله
وسلم يصلي، فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ إنك لتعلم أن ما بها رجل أكثر ناديا مني، فأنزل الله
(فليدع ناديه سندع الزبانية) فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي، فقيل: ما يمنعك؟ فقال: قد اسود ما بيني
وبينه ". قال ابن عباس: والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه. وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن
جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أبي هريرة قال قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين
أظهركم؟ قالوا نعم، قال: واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب
فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي ليطأن على رقبته، قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على
عقبيه ويتقى بيده، فقيل له مالك؟ فقال: إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة، فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: " لودنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا " قال: وأنزل الله (كلا إن الإنسان ليطغى
أن رآه استغنى) إلى آخر السورة: يعني أبا جهل (فليدع ناديه) يعني قومه (سندع الزبانية) يعني الملائكة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) قال: أبو جهل بن هشام حين
رمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسلى على ظهره وهو ساجد لله عز وجل. وأخرج ابن المنذر عنه في
قوله (لنسفعا) قال: لنأخذن. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (فليدع ناديه) قال: ناصره، وقد قدمنا أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم كان يسجد في (إذا السماء انشقت) وفي (اقرأ باسم ربك الذي خلق).
تفسير سورة القدر
هي خمس آيات
وهي مكية عند أكثر المفسرين. كذا قال الماوردي. وقال الثعلبي: هي مدنية في قول أكثر المفسرين، وذكر
الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت بمكة.
سورة القدر (1 - 5)
الضمير في أنزلناه للقرآن، وإن لم يتقدم له ذكر، أنزل جملة واحدة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا من اللوح
المحفوظ، وكان ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم نجوما على حسب الحاجة، وكان بين نزول أوله وآخره
على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث وعشرون سنة، وفي آية أخرى - إنا أنزلناه في ليلة مباركة - وهي
ليلة القدر، وفي آية أخرى - شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن - وليلة القدر في شهر رمضان. قال مجاهد: في
ليلة القدر ليلة الحكم (وما أدراك ما ليلة القدر) ليلة الحكم، قيل سميت ليلة القدر لأن الله سبحانه يقدر فيها ما شاء
471

من أمره إلى السنة القابلة. وقيل إنها سميت بذلك لعظيم قدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر: أي شرف ومنزلة،
كذا قال الزهري. وقيل سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدرا عظيما وثوابا جزيلا. وقال الخليل: سميت ليلة
القدر، لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة، كقوله - ومن قدر عليه رزقه - أي ضيق.
وقد اختلف في تعيين ليلة القدر على أكثر من أربعين قولا، قد ذكرناها بأدلتها وبينا الراجح منها في شرحنا
للمنتقى (وما أدراك ما ليلة القدر) هذا الاستفهام فيه تفخيم لشأنها حتى كأنها خارجة عن دراية الخلق لا يدريها إلا
الله سبحانه. قال سفيان: كل ما في القرآن من قوله: وما أدراك فقد أدراه، وكل ما فيه وما يدريك فلم يدره،
وكذا قال الفراء. والمعنى: أي شئ تجعله داريا بها؟ وقد قدمنا الكلام في إعراب هذه الجملة في قوله - وما
أدراك ما الحاقة - ثم قال (ليلة القدر خير من ألف شهر) قال كثير من المفسرين: أي العمل فيها خير من العمل
في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، واختار هذا الفراء والزجاج، ولك أن الأوقات إنما يفضل بعضها على بعض
بما يكون فيها من الخير والنفع، فلما جعل الله الخير الكثير في ليلة كانت خيرا من ألف شهر لا يكون فيها من
الخير والبركة ما في هذه الليلة. وقيل أراد بقوله ألف شهر جميع الدهر، لأن العرب تذكر الألف في كثير من
الأشياء على طريق المبالغة. وقيل وجه ذكر الألف الشهر أن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابدا حتى يعبد الله
ألف شهر، وذلك ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فجعل الله سبحانه لأمة محمد عبادة ليلة خيرا من عبادة ألف
شهر كانوا يعبدونها. وقيل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى أعمار أمته قصيرة، فخاف أن لا يبلغوا من
العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر لسائر الأمم، وقيل غير
ذلك مما لا طائل تحته، وجملة (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم) مستأنفة مبينة لوجه فضلها موضحة للعلة
التي صارت بها خيرا من ألف شهر، وقوله (بإذن ربهم) يتعلق بتنزل أو بمحذوف هو حال: أي ملتبسين بإذن
ربهم، والإذن الأمر، ومعنى تنزل: تهبط من السماوات إلى الأرض. والروح هو جبريل عند جمهور المفسرين:
أي تنزل الملائكة ومعهم جبريل. ووجه ذكره بعد دخوله في الملائكة التعظيم له والتشريف لشأنه. وقيل الروح
صنف من الملائكة هم أشرافهم، وقيل هم جند من جنود الله من غير الملائكة، وقيل الروح الرحمة، وقد تقدم
الخلاف في الروح عند قوله - يوم يقوم الروح والملائكة صفا - قرأ الجمهور " تنزل " بفتح التاء، وقرأ طلحة بن
مصرف وابن السميفع بضمها على البناء للمفعول، وقوله (من كل أمر) أي من أجل كل أمر من الأمور التي
قضى الله بها في تلك السنة، وقيل إن من بمعنى اللام: أي لكل أمر، وقيل هي بمعنى الباء: أي بكل أمر،
قرأ الجمهور " أمر " وهو واحد الأمور، وقرأ علي وابن عباس وعكرمة والكلبي " امرئ " مذكر امرأة: أي من
أجل كل إنسان، وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل مع الملائكة فيسلمون على كل إنسان، فمن على هذا بمعنى
على، والأول أولى. وقد تم الكلام عند قوله من كل أمر، ثم ابتدأ فقال (سلام هي) أي ما هي إلا سلامة
وخير كلها لا شر فيها، وقيل هي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن أو مؤمنة. قال مجاهد: هي ليلة
سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى. وقال الشعبي: هو تسليم الملائكة على أهل المساجد من حين
تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر يمرون على كل مؤمن ويقولون السلام عليك أيها المؤمن، وقيل يعني سلام
الملائكة بعضهم على بعض. قال عطاء: يريد سلام على أولياء الله وأهل طاعته (حتى مطلع الفجر) أي حتى
وقت طلوعه. قرأ الجمهور " مطلع " بفتح اللام. وقرأ الكسائي وابن محيصن بكسرها، فقيل هما لغتان في المصدر،
والفتح أكثر نحو المخرج والمقتل، وقيل بالفتح اسم مكان، وبالكسر المصدر، وقيل العكس، وحتى متعلقة
472

يتنزل على أنها غاية لحكم التنزل أي لمكثهم في محل تنزلهم بأن لا ينقطع تنزلهم فوجا بعد فوج إلى طلوع الفجر،
وقيل متعلقة بسلام بناء على أن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر.
وقد أخرج ابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في
الدلائل عن ابن عباس في قوله (إنا أنزلناه في ليلة القدر) قال: أنزل القرآن في ليلة القدر حتى وضع في بيت العزة
في السماء الدنيا، ثم جعل جبريل ينزل على محمد بجواب كلام العباد وأعمالهم. وأخرج عبد بن حميد عن أنس قال:
العمل في ليلة القدر والصدقة والصلاة والزكاة أفضل من ألف شهر. وأخرج الترمذي وضعفه وابن جرير
والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الحسن بن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أرى بني أمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت - إنا أعطيناك الكوثر - يا محمد يعني نهرا في الجنة، ونزلت (إنا
أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر) يملكها بعدك بنو أمية. قال القاسم.
فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص يوما، والمراد بالقاسم هو القاسم بن الفضل المذكور في إسناده.
قال الترمذي: إن يوسف هذا مجهول، يعني يوسف بن سعد الذي رواه عن الحسن بن علي. قال ابن كثير:
فيه نظر، فإنه قد روى عنه جماعة: منهم حماد بن سلمة وخالد الحذاء ويونس بن عبيد. وقال فيه يحيى بن معين:
هو مشهور. وفي رواية عن ابن معين قال: هو ثقة، ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن عيسى
ابن مازن. قال ابن كثير: ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جدا. قال المزي: هو حديث منكر، وقول
القاسم بن الفضل إنه حسب مدة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد ولا تنقص ليس بصحيح، فإن جملة مدتهم
من عند أن استقل بالملك معاوية وهي سنة أربعين إلى أن سلبهم الملك بنو العباس، وهي سنة اثنين وثلاثين ومائة
مجموعها اثنتان وتسعون سنة. وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس نحو ما روى عن الحسن بن علي.
وأخرج الخطيب عن سعيد بن المسيب مرفوعا مرسلا نحوه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في
قوله (سلام) قال: في تلك الليلة تصفد مردة الشياطين وتغل عفاريت الجن وتفتح فيها أبواب السماء كلها ويقبل
الله فيها التوبة لكل تائب، فلذا قال (سلام هي حتى مطلع الفجر) قال: وذلك من غروب الشمس إلى أن يطلع
الفجر، والأحاديث في فضل ليلة القدر كثيرة، وليس هذا موضع بسطها، وكذلك الأحاديث في تعيينها
والاختلاف في ذلك.
تفسير سورة لم يكن
هي ثمان آيات
وهي مدنية في قول الجمهور، وقيل مكية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة (لم يكن)
بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: نزلت سورة لم يكن بمكة. وأخرج أبو نعيم في المعرفة عن إسماعيل
ابن أبي حكيم المزني، حدثني فضل، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " إن الله يستمع قراءة
(لم يكن الذين كفروا) فيقول: أبشر عبدي وعزتي وجلالي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى " قال ابن كثير:
حديث غريب جدا. وأخرجه أبو موسى المديني عن مطر المزني، أو المدني بنحوه. وأخرج البخاري ومسلم
وغيرهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بن كعب " إن الله أمرني أن أقرأ عليك
473

(لم يكن الذين كفروا) قال: وسماني لك؟ قال نعم، فبكى ". وأخرج أحمد وابن قانع في معجم الصحابة
والطبراني وابن مردويه عن أبي حية البدري قال: " لما نزلت (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) إلى آخرها
قال جبريل: يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي: إن جبريل
أمرني أن أقرئك هذه السورة، فقال أبى: وقد ذكرت ثم يا رسول الله؟ قال نعم، فبكى ".
سورة لم يكن (1 - 8)
المراد ب‍ (الذين كفروا من أهل الكتاب) اليهود والنصارى، (و) المراد ب‍ (المشركين) مشركو العرب، وهم
عبدة الأوثان، و (منفكين) خبر كان، يقال فككت الشئ فانفك: أي انفصل، والمعنى: أنهم لم يكونوا
مفارقين لكفرهم ولا منتهين عنه (حتى تأتيهم البينة) وقيل الانفكاك بمعنى الانتهاء وبلوغ الغاية: أي لم يكونوا
يبلغون نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة، وقيل منفكين زائلين: أي لم تكن مدتهم لتزول حتى تأتيهم
البينة، يقال ما انفك فلان قائما: أي ما زال قائما، وأصل الفك الفتح، ومنه فك الخلخال. وقيل منفكين
بارحين: أي لم يكونوا ليبرحوا أو يفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة. وقال ابن كيسان: المعنى لم يكن أهل الكتاب
تاركين صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى بعث، فلما بعث حسدوه وجحدوه، وهو كقوله - فلما جاءهم
ما عرفوا كفروا به - وعلى هذا فيكون قوله (والمشركين) أنهم ما كانوا يسيئون القول في محمد صلى الله عليه وآله
وسلم حتى بعث، فإنهم كانوا يسمونه الأمين، فلما بعث عادوه وأساءوا القول فيه. وقيل (منفكين) هالكين،
من قولهم: انفك صلبه: أي انفصل فلم يلتئم فيهلك، والمعنى: لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة
عليهم. وقيل إن المشركين هم أمل الكتاب، فيكون وصفا لهم لأنهم قالوا المسيح ابن الله وعزيز ابن الله.
قال الوحدي: ومعنى الآية إخبار الله تعالى عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله حتى أتاهم محمد صلى الله
عليه وآله وسلم بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان، وهذا بيان عن النعمة والانقاذ به من الجهل
474

والضلالة والآية فيمن آمن من الفريقين. قال: وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا، وقد تخبط
فيها الكبار من العلماء، وسلكوا في تفسيرها طرقا لا تفضي بهم إلى الصواب. والوجه ما أخبرتك فأحمد الله إذ أتاك
بيانها من غير لبس ولا إشكال. قال: ويدل على أن البينة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه فسرها وأبدل منها
فقال (رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة) يعني ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها، وهو القرآن، ويدل على ذلك
أنه كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب انتهى كلامه. وقيل إن الآية حكاية لما كان يقوله أهل الكتاب
والمشركون إنهم لا يفارقون دينهم حتى يبعث النبي الموعود به، فلما بعث تفرقوا كما حكاه الله عنهم في هذه
السورة. والبينة على ما قاله الجمهور هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه في نفسه بينة وحجة ولذلك سماه
سراجا منيرا، وقد فسر الله سبحانه هذه البينة المجملة بقوله (رسول من الله) فلتضح الأمر وتبين أنه المراد بالبينة.
وقال قتادة وابن زيد: البينة هي القرآن كقوله - أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى - وقال أبو مسلم: المراد
بالبينة مطلق الرسل، والمعنى: حتى تأتيهم رسل من الله، وهم الملائكة يتلون عليهم صحفا مطهرة، والأول أولى
قرأ الجمهور " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين " وقرأ ابن مسعود " لم يكن المشركون وأهل
الكتاب " قال ابن العربي: وهي قراءة في معرض البيان، لا في معرض التلاوة. وقرأ الأعمش والنخعي:
والمشركون بالرفع عطفا على الموصول. وقرأ أبي " فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون " قرأ الجمهور
" رسول من الله " برفع رسول على أنه بدل كل من كل مبالغة، أو بدل اشتمال. قال الزجاج: رسول
رفع على البدل من البينة. وقال الفراء: رفع على أنه خبر مبتدأ مضمر: أي هي رسول أو هو رسول.
وقرأ أبي وابن مسعود " رسولا " بالنصب على القطع، وقوله (من الله) متعلق بمحذوف هو صفة لرسول: أي
كائن من الله، ويجوز تعلقه بنفس رسول، وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من صحف، والتقدير: يتلو صحفا
مطهرة منزلة من الله، وقوله (يتلو صحفا مطهرة) يجوز أن تكون صفة أخرى لرسول، أو حالا من متعلق الجار
والمجرور قبله. ومعنى يتلو: يقرأ، يقال تلا يتلو تلاوة، والصحف جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب، ومعنى
مطهرة: أنها منزهة من الزور والضلال. قال قتادة: مطهرة من الباطل، وقيل مطهرة من الكذب والشبهات
والكفر، والمعنى واحد، والمعنى: أنه يقرأ ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها لأنه كان صلى الله عليه وآله
وسلم يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب كما تقدم، وقوله (فيها كتب قيمة) صفة لصحفا، أو حال من
ضميرها، والمراد الآيات والأحكام المكتوبة فيها، والقيمة المستقيمة المستوية المحكمة، من قول العرب: قام
الشئ: إذا استوى وصح. وقال صاحب النظم: الكتب بمعنى الحكم كقوله - كتب الله لأغلبن أنا ورسلي - أي
حكم، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في قصة العسيف " لأقضين بينكما بكتاب الله " ثم قضى بالرجم، وليس
لرجم في كتاب الله، فالمعنى: لأقضين بينكما بحكم الله، وبهذا يندفع ما قيل إن الصحف هي الكتب، فكيف قال
(صحفا مطهرة فيها كتب قيمة) وقال الحسن: يعني بالصحف المطهرة التي في السماء، يعني في اللوح المحفوظ كما
في قوله - بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ - (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) هذه
الجملة مستأنفة لتوبيخ أهل الكتاب وتقريعهم، وبيان أن ما نسب إليهم من عدم الانفكاك لم يكن لاشتباه الأمر،
بل كان بعد وضوح الحق وظهور الصواب. قال المفسرون: لم يزل أهل الكتاب مجتمعين حتى بعث الله محمدا،
فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا، فآمن به بعضهم وكفر آخرون. وخص أهل الكتاب، وإن كان غيرهم
مثلهم في التفرق بعد مجئ البينة لأنهم كانوا أهل علم، فإذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا
475

الوصف، والاستثناء في قوله (إلا من بعد ما جاءتهم البينة) مفرغ من أعم الأوقات: أي وما تفرقوا في وقت من
الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة، وهي بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة الغراء
والمحجة البيضاء. وقيل البينة: البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل كقوله - وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من
بعد ما جاءهم العلم - قال القرطبي: قال العلماء: من أول السورة إلى قوله (كتب قيمة) حكمها فيمن امن من أهل
الكتاب والمشركين، وقوله (وما تفرق) الخ فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب والمشركين بعد قيام الحجج، وجملة
(وما أمروا إلا ليعبدوا الله) في محل نصب على الحال مفيدة لتقريعهم وتوبيخهم بما فعلوا من التفرق بعد مجئ
البينة: أي والحال أنهم ما أمروا في كتبهم إلا لأجل أن يعبدوا الله ويوحدوه حال كونهم (مخلصين له الدين)
أي جاعلين دينهم خالصا له سبحانه أو جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين، وقيل إن اللام في ليعبدوا بمعنى أن:
أي ما أمروا إلا بأن يعبدوا كقوله - يريد الله ليبين لكم - أي أن تبين، و - يريدون ليطفئوا نور الله - أي أن يطفئوا
قرأ الجمهور " مخلصين " بكسر اللام. وقرأ الحسن بفتحها. وهذه الآية من الأدلة الدالة على وجوب النية في
العبادات لأن الإخلاص من عمل القلب، وانتصاب (حنفاء) على الحال من ضمير مخلصين، فتكون من باب
التداخل، ويجوز أن تكون من فاعل يعبدوا، والمعنى: مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام. قال أهل
اللغة: أصله أن يحنف إلى دين الإسلام: أي يميل إليه (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) أي يفعلوا الصلوات في
أوقاتها، ويعطوا الزكاة عند محلها، وخص الصلاة والزكاة لأنهما من أعظم أركان الدين. قيل إن أريد بالصلاة
والزكاة ما في شريعة أهل الكتاب من الصلاة والزكاة فالأمر ظاهر، وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في
الكتابين أمرهم باتباع شريعتنا، وهما من جملة ما وقع الأمر به فيها (وذلك دين القيمة) أي وذلك المذكور من
عبادة الله وإخلاصها وإقامة الصلاة والزكاة (دين القيمة) أي دين الملة المستقيمة. قال الزجاج: أي ذلك دين
الملة المستقيمة، فالقيمة صفة لموصوف محذوف. قال الخليل: القيمة جمع القيم، والقيم: القائم. قال الفراء:
أضاف الدين إلى القيمة، وهو نعته لاختلاف اللفظين. وقال أيضا: هو من إضافة الشئ إلى نفسه، ودخلت
الهاء للمدح والمبالغة. ثم بين سبحانه حال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا فقال (إن الذين كفروا من
أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم) الموصول اسم إن، والمشركين معطوف عليه، وخبرها في نار جهنم،
و (خالدين فيها) حال من المستكن في الخبر، ويجوز أن يكون قوله والمشركين مجرورا عطفا على أهل الكتاب
ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة، والإشارة بقوله (أولئك) إلى من تقدم ذكرهم من
أهل الكتاب والمشركين المتصفين بالكون في نار جهنم والخلود فيها (هم شر البرية) أي الخليقة، يقال برأ: أي
خلق، والبارئ الخالق، والبرية الخليقة. قرأ الجمهور " البرية " بغير همز في الموضعين وقرأ نافع وابن ذكوان
فيهما بالهمز. قال الفراء: إن أخذت البرية من البراء وهو التراب لم تدخل الملائكة تحت هذا اللفظ، وإن أخذتها
من بريت القلم: أي قدرته دخلت. وقيل إن الهمز هو الأصل لأنه يقال برأ الله الخلق بالهمز: أي ابتدعه واخترعه
ومنه قوله - من قبل أن نبرأها - ولكنها خففت الهمزة، والتزم تخفيفها عند عامة العرب. ثم بين حال الفريق الاخر
فقال (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح (أولئك) المنعوتون بهذا (هم خير
البرية) قال: والمراد أن أولئك شر البرية في عصره صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم من
هو شر منهم، وهؤلاء خير البرية في عصره صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يبعد أن يكون في مؤمني الأمم السابقة
من هو خير منهم (جزاؤهم عند ربهم) أي ثوابهم عند خالقهم بمقابلة ما وقع منهم من الإيمان والعمل الصالح
476

(جنات عدن تجري من تحتها الأنهار) والمراد بجنات عدن هي أوسط الجنات وأفضلها، يقال عدن بالمكان يعدن
عدنا: أي أقام، ومعدن الشئ: مركزه ومستقره، ومنه قول الأعشى:
وإن يتضافوا إلى علمه * يضافوا إلى راجح قد عدن
وقد قدمنا في غير موضع أنه إن أريد بالجنات الأشجار الملتفة، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد
مجموع قرار الأرض والشجر، فجرى الأنهار من تحتها باعتبار جزئها الظاهر، وهو الشجر (خالدين فيها أبدا)
لا يخرجون منها ولا يظعنون عنها، بل هم دائمون في نعيمها مستمرون في لذاتها (رضي الله عنهم ورضوا عنه)
الجملة مستأنفة لبيان ما تفضل الله به عليهم من الزيادة على مجرد الجزاء، وهو رضوانه عنهم حيث أطاعوا أمره
وقبلوا شرائعه، ورضاهم عنه حيث بلغوا من المطالب مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ويجوز أن تكون الجملة خبرا ثانيا، وأن تكون في محل نصب على الحال باضمار قد (ذلك لمن خشى ربه) أي ذلك
الجزاء والرضوان لمن وقعت منه الخشية لله سبحانه في الدنيا وانتهى عن معاصيه بسبب تلك الخشية التي وقعت له
لا مجرد الخشية مع الانهماك في معاصي الله سبحانه فإنها ليست بخشية على الحقيقة.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (منفكين) قال: برحين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة
قال: أتعجبون من منزلة الملائكة من الله، والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من
منزلة ملك، واقرءوا إن شئتم (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية). وأخرج ابن مردويه عن
عائشة قالت " قلت يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟ قال: يا عائشة أما تقرئين (إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات أولئك هم خير البرية) ". وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: " كنا عند النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فأقبل علي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون
يوم القيامة، ونزلت (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) فكان أصحاب محمد صلى الله عليه
وآله وسلم إذا أقبل قالوا: قد جاء خير البرية ". وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعا " على
خير البرية ". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: " لما نزلت هذه الآية (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات
أولئك هم خير البرية) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين
مرضيين ". وأخرج ابن مردويه عن علي مرفوعا نحوه. وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: " ألا أخبركم بخير البرية؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله
كلما كانت هيعة استوى عليه، ألا أخبركم بشر البرية؟ قالوا بلى، قال: الذي يسأل بالله ولا يعطى به ". قال
أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبو هريرة عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكره
477

تفسير سورة الزلزلة
هي ثمان آيات
وهي مدنية في قول ابن عباس وقتادة، ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر. أخرج ابن مردويه عن
ابن عباس قال نزلت (إذا زلزلت) بالمدينة. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي ومحمد بن نصر والحاكم وصححه
والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو قال " أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: أقرئني يا رسول الله، قال: اقرأ ثلاثا من ذوات الراء، فقال الرجل: كبر سني، واشتد قلبي، وغلظ
لساني، قال: اقرأ ثلاثا من ذوات حم، فقال مثل مقالته الأولى، فقال: اقرأ ثلاثا من المسبحات، فقال مثل
مقالته الأولى، وقال: ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة، فاقرأه (إذا زلزلت الأرض زلزالها) حتى فرغ
منها، قال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفلح الرويجل،
أفلح الرويجل ". وأخرج الترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" من قرأ إذا زلزلت الأرض عدلت له بنصف القرآن، ومن قرأ: قل هو الله أحد عدلت له بثلث القرآن، ومن
قرأ: قل يا أيها الكافرون عدلت له بربع القرآن ". وأخرج الترمذي وابن الضريس ومحمد بن نصر والحاكم وصححه
والبيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو
الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن ". قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث
يمان بن المغيرة. وأخرج الترمذي عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل من أصحابه: هل
تزوجت يا فلان؟ قال: لا والله يا رسول الله، ولا عندي ما أتزوج به، قال: أليس معك قل هو الله أحد؟ قال
بلى، قال: ثلث القرآن، قال: أليس معك إذا جاء نصر الله والفتح؟ قال بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس
معك قل يا أيها الكافرون؟ قال بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك إذا زلزلت الأرض؟ قال بلى، قال
ربع القرآن تزوج ". قال الترمذي: هذا حديث حسن. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول " من قرأ في ليلة إذا زلزلت كان له عدل نصف القرآن ".
سورة الزلزلة (1 - 8)
قوله (إذا زلزلت الأرض زلزالها) أي إذا حركت حركة شديدة، وجواب الشرط: تحدث، والمراد تحركها
عند قيام الساعة فإنها تضطرب حتى يتكسر كل شئ عليها. قال مجاهد: وهي النفخة الأولى لقوله تعالى - يوم
ترجف الراجفة تتبعها الرادفة - وذكر المصدر للتأكيد ثم أضافه إلى الأرض فهو مصدر مضاف إلى فاعله، والمعنى:
478

زلزالها المخصوص الذي يستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها. قرأ الجمهور " زلزالها " بكسر الزاي، وقرأ الجحدري
وعيسى بفتحها، وهما مصدران بمعنى، وقيل المكسور مصدر والمفتوح اسم. قال القرطبي: والزلزال بالفتح مصدر
كالوسواس والقلقال. (وأخرجت الأرض أثقالها) أي ما في جوفها من الأموات والدفائن، والأثقال جمع ثقل،
قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها. قال
مجاهد: أثقالها موتاها تخرجهم في النفخة الثانية، وقد قيل للإنس والجن الثقلان، وإظهار الأرض في موضع
الإضمار لزيادة التقرير (وقال الإنسان مالها) أي قال كل فرد من أفراد الإنسان ما لها زلزلت؟ لما يدهمه من أمرها
ويبهره * من خطبها، وقيل المراد بالإنسان الكافر، وقوله: مالها مبتدأ وخبر، وفيه معنى التعجيب: أي أي شئ
لها، أو لأي شئ زلزلت. وأخرجت أثقالها؟ وقوله (يومئذ) بدل من إذا، والعامل فيهما قوله (تحدث أخبرها)
ويجوز أن يكون العامل في إذا محذوفا والعامل في يومئذ تحدث، والمعنى: يوم إذا زلزلت وأخرجت تخبر
بأخبارها وتحدثهم بما عمل عليها من خير وشر، وذلك إما بلسان الحال حيث يدل على ذلك دلالة ظاهرة، أو
بلسان المقال، بأن ينطقها الله سبحانه. وقيل هذا متصل بقوله (وقال الإنسان مالها) أي قال مالها (تحدث
أخبارها) متعجبا من ذلك، وقال يحيى بن سلام: تحدث أخبارها بما أخرجت من أثقالها، وقيل تحدث بقيام
الساعة، وأنها قد أتت وأن الدنيا قد انقضت. قال ابن جرير: تبين أخبارها بالرجفة والزلزلة وإخراج الموتى،
ومفعول تحدث الأول محذوف والثاني هو أخبارها: أي تحدث الخلق أخبارها (بأن ربك أوحى لها) متعلق
بتحدث، ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها، وقيل الباء زائدة، وأن وما في حيزها بدل من أخبارها، وقيل الباء
سببية: أي بسبب إيحاء الله إليها. قال الفراء: تحدث أخبارها بوحي الله وإذنه لها، واللام في أوحى لها بمعنى إلى
وإنما أثرت على إلى لموافقة الفواصل، والعرب تضع لام الصفة موضع إلى، كذا قال أبو عبيدة. وقيل إن أوحى
يتعدى باللام تارة، وبإلى أخرى، وقيل إن اللام على بابها من كونها للعلة، والموحى إليه محذوف، وهو
الملائكة، والتقدير: أوحى إلى الملائكة لأجل الأرض: أي لأجل ما يفعلون فيها، والأول أولى (يومئذ يصدر
الناس أشتاتا) الظرف إما بدل من يومئذ الذي قبله، وإما منصوب بمقدر هو أذكر، وإما منصوب بما بعده،
والمعنى: يوم إذ يقع ما ذكر يصدر الناس من قبورهم إلى موقف الحساب أشتاتا: أي متفرقين، والصدر: الرجوع
وهو ضد الورود، وقيل يصدرون من موضع الحساب إلى الجنة أو النار، وانتصاب أشتاتا على الحال: والمعنى:
أن بعضهم آمن وبعضهم خائف، وبعضهم بلون أهل الجنة وهو البياض، وبعضهم بلون أهل النار وهو السواد،
وبعضهم ينصرف إلى جهة اليمين وبعضهم إلى جهة الشمال، مع تفرقهم في الأديان واختلافهم في الأعمال (ليروا
أعمالهم) متعلق بيصدر، وقيل فيه تقديم وتأخير: أي تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها ليروا أعمالهم (يومئذ
يصدر الناس أشتاتا). قرأ الجمهور " ليروا " مبنيا للمفعول، وهو من رؤية البصر: أي ليريهم الله أعمالهم. وقرأ
الحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة ونصر بن عاصم وطلحة بن مصرف على البناء للفاعل، ورويت هذه
القراءة عن نافع، والمعنى: ليروا جزاء أعمالهم (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) أي وزن نملة، وهي أصغر ما يكون
من النمل. قال مقاتل: فمن يعمل في الدنيا مثقال ذرة خيرا يره يوم القيامة في كتابه فيفرح به، (و) كذلك (من
يعمل) في الدنيا (مثقال ذرة شرا يره) يوم القيامة فيسوؤه، ومثل هذه الآية قوله - إن الله لا يظلم مثقال ذرة -.
وقال بعض أهل اللغة: إن الذرة هو أن يضرب الرجل بيده على الأرض فما علق من التراب فهو الذرة، وقيل
الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء، والأول أولى، ومنه قول امرئ القيس:
479

من القاصرات الطرف لو دب محول * من الذر فوق الأتب منها لأثرا
و " من " الأولى عبارة عن السعداء، و " من " الثانية عبارة عن الأشقياء. وقال محمد بن كعب: فمن يعمل مثقال
ذرة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا وفي نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا، وليس له عند الله
خير، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في ماله ونفسه وأهله وولده حتى يخرج من
الدنيا، وليس له عند الله شر، والأول أولى. قال مقاتل: نزلت في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن
يعطيه التمرة والكسرة، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ويقول: إنما أوعد الله النار على الكافرين. قرأ الجمهور
" يره " في الموضعين بضم الهاء وصلا وسكونها وقفا، وقرأ هشام بسكونها وصلا ووقفا، ونقل أبو حيان عن
هشام وأبي بكر سكونها، وعن أبي عمرو ضمها مشبعة، وباقي السبعة بإشباع الأولى وسكون الثانية، وفي هذا
النقل نظر، والصواب ما ذكرنا. وقرأ الجمهور " يره " مبنيا للفاعل في الموضعين. وقرأ ابن عباس وابن عمر
والحسن والحسين ابنا علي وزيد بن علي وأبو حيوة وعاصم والكسائي في رواية عنهما والجحدري والسلمي
وعيسى على البناء للمفعول فيهما: أي يريه الله إياه. وقرأ عكرمة " يراه " على توهم أن من موصولة، أو على
تقدير الجزم بحذف الحركة المقدرة في الفعل.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (إذا زلزلت
الأرض زلزالها) قال: تحركت من أسفلها (وأخرجت الأرض أثقالها) قال: الموتى (وقال الإنسان مالها) قال:
الكافر يقول مالها (يومئذ تحدث أخبارها) قال: قال لها ربك قولي (بأن ربك أوحى لها) قال: أوحى لها
(يومئذ يصدر الناس أشتاتا) قال: من كل من ههنا وههنا. وأخرج ابن المنذر عنه (وأخرجت الأرض أثقالها).
قال: الكنوز والموتى. وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" تقئ الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجئ القاتل فيقول في هذا قتلت، ويجئ
القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي، ويجئ السارق فيقول في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه
شيئا ". وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن
مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال " قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يومئذ تحدث أخبارها)
قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على
ظهرها، تقول عمل كذا وكذا، فهذا أخبارها ". وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أنس أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال " إن الأرض لتجئ يوم القيامة بكل عمل عمل على ظهرها، وقرأ رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم (إذا زلزلت الأرض زلزالها) حتى بلغ (يومئذ تحدث أخبارها) ". وأخرج الطبراني عن ربيعة الخرشي
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " تحفظوا من الأرض فإنها أمكم، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرا
أو شرا إلا وهي مخبرة ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم في تاريخه
وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال " بينما أبو بكر الصديق يأكل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ
نزلت عليه (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) فرفع أبو بكر يده وقال: يا رسول الله
إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر، فقال: يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر
لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة ". وأخرج إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد والحاكم وابن مردويه
480

عن أبي أسماء قال " بينا أبو بكر يتغدى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ نزلت هذه الآية (فمن يعمل مثقال
ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال شرا يره) فأمسك أبو بكر وقال: يا رسول الله ما عملنا من شر رأيناه، فقال:
ما ترون مما تكرهون فذاك مما تجزون ويؤخر الخير لأهله في الآخرة ". وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير والطبراني
وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال " أنزلت إذا زلزلت الأرض زلزالها وأبو بكر
الصديق قاعد فبكى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما يبكيك يا أبا بكر؟ قال: يبكيني هذه
السورة، فقال: لولا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر لكم لخلق الله قوما يخطئون ويذنبون فيغفر لهم ". وأخرج
البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " الخيل لثلاثة: لرجل أجر،
ولرجل ستر، وعلى رجل وزر " الحديث. وقال: " وسئل عن الحمر فقال: ما أنزل علي فيها إلا هذه الآية
الجامعة الفاذة (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) ".
تفسير سورة العاديات
هي إحدى عشرة آية
وهي مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، ومدنية في قول ابن عباس وأنس بن مالك
وقتادة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة (والعاديات) بمكة. وأخرج أبو عبيد في فضائله
عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، والعاديات تعدل
نصف القرآن "، وهو مرسل. وأخرج محمد بن نصر من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس مرفوعا مثله،
وزاد " وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن ".
سورة العاديات (1 - 11)
(العاديات) جمع عادية، وهي الجارية بسرعة، من العدو: وهو المشي بسرعة، فأبدلت الواو ياء لكسر
ما قبلها كالغازيات من الغزو، والمراد بها الخيل العادية في الغزو نحو العدو، وقوله (ضبحا) مصدر مؤكد لاسم
الفاعل، فإن الضبح نوع من السير ونوع من العدو، يقال ضبح الفرس: إذا عدا بشدة، مأخوذ من الضبع،
وهو الدفع، وكأن الحاء بدل من العين. قال أبو عبيدة والمبرد: الضبح من إضباعها بعد في السير ومنه قول عنترة:
والخيل تكدح في حياض الموت ضبحا * ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال: أي
481

ضابحات، أو ذوات صبح، ويجوز أن يكون مصدرا لفعل محذوف: أي تضبح ضبحا، وقيل الضبح: صوت
حوافرها إذا عدت، وقال الفراء: الضبح صوت أنفاس الخيل إذا عدت. قيل كانت تكعم لئلا تصهل فيعلم
العدو بهم، فكانت تتنفس في هذه الحالة بقوة، وقيل الضبح: صوت يسمع من صدور الخيل عند العدو ليس
بصهيل. وقد ذهب الجمهور إلى ما ذكرنا من أن العاديات ضبحا هي الخيل. وقال عبيد بن عمير ومحمد بن كعب
والسدي: هي الإبل، ومنه قول صفية بنت عبد المطلب:
فلا والعاديات غداة جمع * بأيديها إذا صدع الغبار *
ونقل أهل اللغة أن أصل الضبح للثعلب فاستعير للخيل، ومنه قول الشاعر: تضبح في الكف ضباح الثعلب
(فالموريات قدحا) هي الخيل حين تورى النار بسنابكها، والإيراء إخراج النار، والقدح الصك، فجعل ضرب
الخيل بحوافرها كالقدح بالزناد. قال الزجاج: إذا عدت الخيل بالليل وأصاب حوافرها الحجارة انقدح منها النيران
والكلام في انتصاب قدحا كالكلام في انتصاب ضبحا، والخلاف في كونها الخيل أو الإبل كالخلاف الذي
تقدم في العاديات. والراجح أنها الخيل كما ذهب إليه الجمهور، وكما هو الظاهر من هذه الأوصاف المذكورة
في هذه السورة ما تقدم منها وما سيأتي، فإنها في الخيل أوضح منها، في الإبل، وسيأتي ما في ذلك من الخلاف بين
الصحابة (فالمغيرات صبحا) أي التي تغير على العدو وقت الصباح، يقال أغار يغير إغارة إذا باغت عدوه بقتل
أو أسر أو نهب وأسند الإغارة إليها وهي لأهلها للإشعار بأنها عمدتهم في إغارتهم، وانتصاب صبحا على الظرفية
(فأثرن به نقعا) معطوف على الفعل الذي دل عليه اسم الفاعل، إذ المعنى: واللاتي عدون فأثرن، أو على اسم
الفاعل نفسه لكونه في تأويل الفعل لوقوعه صلة للموصول، فإن الألف واللام في الصفات أسماء موصولة،
فالكلام في قوة: واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن، والنقع: الغبار الذي أثرته في وجه العدو عند الغزو،
وتخصيص إثارته بالصبح لأنه وقت الإغارة، ولكونه لا يظهر أثر النقع في الليل الذي اتصل به الصبح. وقيل
المعنى: فأثرن بمكان عدوهن نقعا، يقال ثار النقع وأثرته: أي هاج أو هيجته. قرأ الجمهور " فأثرن " بتخفيف
المثلثة. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بالتشديد: أي فأظهرن به غبارا. وقال أبو عبيدة: النقع رفع الصوت،
وأنشد قول لبيد:
فمتى ينقع صراخ صادق * يجلبوها ذات جرس وزجل
يقول حين سمعوا صراخا أجلبوا الحرب: أي جمعوا لها. قال أبو عبيدة: وعلى هذا رأيت قول أكثر أهل
العلم انتهى، والمعروف عند جمهور أهل اللغة والمفسرين أن النقع الغبار، ومنه قول الشاعر:
يخرجن من مستطار النقع دامية * كأن أذنابها أطراف أقلام
وقول عبد الله بن رواحة:
عدمنا خيلنا إن لم تروها * تثير النقع من كنفي كداء
وقول الآخر: كأن مثار النقع رؤوسنا * وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وهذا هو المناسب لمعنى الآية، وليس لتفسير النقع بالصوت فيها كثير معنى، فإن قولك أغارت الخيل على
بني فلان صبحا فأثرن به صوتا، قليل الجدوى مغسول المعنى بعيد من بلاغة القرآن المعجزة. وقيل النقع: شق
الجيوب، وقال محمد بن كعب: النقع ما بين مزدلفة إلى منى، وقيل إنه طريق الوادي. قال في الصحاح: النقع
482

الغبار، والجمع أنقاع، والنقع محبس الماء، وكذلك ما اجتمع في البئر منه، والنقع الأرض الحرة الطين يستنقع
فيها الماء (فوسطن به جمعا) أي توسطن بذلك الوقت، أو توسطن ملتبسات بالنقع جمعا من جموع الأعداء، أو
صرن بعدوهن وسط جمع الأعداء، والباء إما للتعدية، أو للحالية، أو زائدة، يقال: وسطت المكان: أي
صرت في وسطه، وانتصاب جمعا على أنه مفعول به، والفاآت في المواضع الأربعة للدلالة على ترتب ما بعد كل
واحدة منها على ما قبلها. قرأ الجمهور " فوسطن " بتخفيف السين، وقرئ بالتشديد (إن الإنسان لربه لكنود) هذا
جواب القسم، والمراد بالإنسان بعض أفراده، وهو الكافر، والكنود: الكفور للنعمة، وقوله " لربه " متعلق
بكنود، قدم لرعاية الفواصل، ومنه قول الشاعر:
كنود لنعماء الرجال ومن يكن * كنودا لنعماء الرجال يبعد
أي كفور لنعماء الرجال، وقيل هو الجاحد للحق، قيل إنها إنما سميت كندة لأنها جحدت أباها. وقيل
الكنود مأخوذ من الكند، وهو القطع، كأنه قطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر. يقال كند الحبل: إذا قطعه،
ومنه قول الأعشى: وصول حبال وكنادها * وقيل الكنود البخيل، وأنشد أبو زيد:
إن نفسي لم تطب منك نفسا * غير أني أمسي بدين كنود
وقيل الكنود الحسود، وقيل الجهول لقدره، وتفسير الكنود بالكفور للنعمة أولى بالمقام، والجاحد للنعمة
كافر لها، ولا يناسب المقام سائر ما قيل (وإنه على ذلك لشهيد) أي وإن الإنسان على كنوده لشهيد يشهد على
نفسه به لظهور أثره عليه، وقيل المعنى: وإن الله جل ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد، وبه قال الجمهور.
وقال بالأول الحسن وقتادة ومحمد بن كعب، وهو أرجح من قول الجمهور لقوله (وإنه لحب الخير لشديد)
فإن الضمير راجع إلى الإنسان، والمعنى: إنه لحب المال قوي مجد في طلبه وتحصيله متهالك عليه، يقال هو
شديد لهذا الأمر وقوي له: إذا كان مطيقا له، ومنه قوله تعالى - إن ترك خيرا - ومنه قول عدي بن حاتم:
ماذا ترجي النفوس من طلب الخير * وحب الحياة كاذبها
وقيل المعنى: وإن الإنسان من أجل حب المال لبخيل، والأول أولى. واللام في " لحب " متعلقة بشديد.
قال ابن زيد: سمى الله المال خيرا، وعسى أن يكون شرا، ولكن الناس يجدونه خيرا، فسماه خيرا. قال الفراء:
أصل نظم الآية أن يقال: وإنه لشديد الحب للخير، فلما قدم الحب قال: لشديد، وحذف من آخره ذكر
الحب، لأنه قد جرى ذكره، ولرءوس الآي كقوله - في يوم عاصف - والعصوف للريح لا لليوم، كأنه قال:
في يوم عاصف الريح (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور) الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه
المقام: أي يفعل ما يفعل من القبائح فلا يعلم، وبعثر معناه نثر وبحث: أي نثر ما في القبور من الموتى وبحث
عنهم وأخرجوا. قال أبو عبيدة: بعثرت المتاع جعلت أسفله أعلاه. قال الفراء: سمعت بعض العرب من بني
أسد يقول: بحثر بالحاء مكان العين، وقد تقدم الكلام على هذا في قوله - وإذا القبور بعثرت - (وحصل ما في
الصدور) أي ميز وبين ما فيها من الخير والشر، والتحصيل التمييز، كذا قال المفسرون، وقيل حصل أبرز.
قرأ الجمهور " حصل " بضم الحاء وتشديد الصاد مكسورا مبنيا للمفعول. وقرأ عبيد بن عمير وسعيد بن جبير
ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم حصل بفتح الحاء والصاد وتخفيفها مبنيا للفاعل: أي ظهر (إن ربهم بهم يومئذ
لخبير) أي إن رب المبعوثين بهم لخبير لا تخفى عليه منهم خافية فيجازيهم بالخير خيرا، وبالشر شرا. قال
483

الزجاج: الله خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره، ولكن المعنى: إن الله يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم،
ومثله قوله تعالى - أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم - معناه: أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم. قرأ الجمهور " إن
ربهم " بكسر الهمزة وباللام في لخبير، وقرأ أبو السماك بفتح الهمزة وإسقاط اللام من لخبير.
وقد أخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد وابن مردويه عن ابن عباس قال " بعث
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيلا فاستمرت شهرا لا يأتيه منها خبر فنزلت (والعاديات ضبحا) ضبحت
بأرجلها " ولفظ ابن مردويه: ضبحت بمناخرها (فالموريات قدحا) قدحت بحوافرها الحجارة فأورت نارا
(فالمغيرات صبحا) صبحت القوم بغارة (فأثرن به نقعا) أثارت بحوافرها التراب (فوسطن به جمعا) صبحت القوم
جميعا. وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عنه قال " بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية إلى العدو فأبطأ
حبرها، فشق ذلك عليه، فأخبره الله خبرهم وما كان من أمرهم، فقال (والعاديات ضبحا) قال: هي الخيل ".
والضبح نخير الخيل حين تنخر (فالموريات قدحا) قال: حين تجرى الخيل تورى نارا أصابت سنابكها الحجارة
(فالمغيرات صبحا) قال: هي الخيل أغارت فصبحت العدو (فأثرن به نقعا) قال: هي الخيل أثرن بحوافرها،
يقول بعدو الخيل، والنقع الغبار (فوسطن به جمعا) قال: الجمع العدو. وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح
قال: تقاولت أنا وعكرمة في شأن العاديات، فقال: قال ابن عباس: هي الخيل في القتال، وضبحها حين ترخى
مشافرها إذا عدت (فالموريات قدحا) أرت المشركين مكرهم (فالمغيرات صبحا) قال: إذا صبحت العدو
(فوسطن به جمعا) قال: إذا توسطت العدو. وقال أبو صالح: فقلت قال علي هي الإبل في الحج ومولاي كان
أعلم من مولاك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد والحاكم وصححه وابن
مردويه عن ابن عباس قال: بينما أنا في الحجر جالس إذ أتاني رجل يسأل عن العاديات ضبحا، فقلت: الخيل
- حين تغير في سبيل الله ثم تأوى إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم، فانفتل عني فذهب إلى علي
ابن أبي طالب وهو جالس تحت سقاية زمزم، فسأله عن العاديات ضبحا، فقال: سألت عنها أحدا قبلي؟ قال:
نعم سألت عنها ابن عباس، فقال: هي الخيل حين تغير في سبيل الله، فقال اذهب فادعه لي، فلما وقفت على
رأسه قال: تفتى الناس بما لا علم لك، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام لبدر، وما كان معنا إلا فرسان
فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون (العاديات ضبحا) إنما العاديات ضبحا من عرفة إلى
المزدلفة، فإذا أووا إلى المزدلفة أوقدوا النيران، والمغيرات صبحا: من المزدلفة إلى منى، فذلك جمع، وأما قوله
(فأثرن به نقعا) فهي نقع الأرض تطؤه بأخفافها وحوافرها. قال ابن عباس: فنزعت عن قولي ورجعت إلى
الذي قال علي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود (والعاديات ضبحا) قال: الإبل،
أخرجوه عنه من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي. قال إبراهيم: وقال علي بن أبي طالب: هي الإبل. وقال
ابن عباس: هي الخيل، فبلغ عليا قول ابن عباس: فقال: ما كانت لنا خيل يوم بدر. قال ابن عباس: إنما
كانت تلك في سرية بعثت. وأخرج عبد بن حميد عن عامر الشعبي قال: تمارى علي وابن عباس في العاديات
ضبحا، فقال ابن عباس: هي الخيل، وقال علي: كذبت يابن فلانة، والله ما كان معنا يوم بدر فارس إلا
المقداد كان على فرس أبلق. قال: وكان يقول هي الإبل، فقال ابن عباس: ألا ترى أنها تثير نقعا فما شئ تثير
إلا بحوافرها. وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عباس (والعاديات ضبحا) قال:
الخيل (فالموريات قدحا) قال: الرجل إذا أورى زنده (فالمغيرات صبحا) قال: الخيل تصبح العدو (فأثرن به
484

نقعا) قال: التراب (فوسطن به جمعا) قال: العدو. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد (والعاديات ضبحا) قال:
قال ابن عباس: القتال. وقال ابن مسعود: الحج. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن ابن عباس (والعاديات ضبحا) قال: ليس شئ من الدواب
يضبح إلا الكلب أو الفرس (فالموريات قدحا) قال: هو مكر الرجل قدح فأورى (فالمغيرات صبحا) قال:
غارة الخيل صبحا (فأثرن به نفعا) قال. غبارا وقع سنابك الخيل (فوسطن به جمعا) قال: جمع العدو. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس (والعاديات ضبحا) قال: الخيل ضبحها زحيرها، ألم تر أن الفرس إذا عدا
قال: أح أح، فذلك ضبحها. وأخرج ابن المنذر عن علي قال: الضبح من الخيل الحمحمة، ومن الإبل النفس.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود (والعاديات ضبحا) قال: هي الإبل في الحج (فالموريات قدحا) إذا سفت
الحصى بمناسمها فضرب الحصى بعضه بعضا فيخرج منه النار (فالمغيرات صبحا) حين يفيضون من جمع (فأثرن به
نقعا) قال: إذا سرن يثرن التراب. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: الكنود بلساننا أهل البلد الكفور. وأخرج ابن عساكر عن
أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (إن الإنسان لربه لكنود) قال لكفور. وأخرج عبد بن حميد
والبخاري في الأدب والحكيم الترمذي وابن مردويه عن أبي أمامة قال: الكنود الذي يمنع رفده وينزل وحده
ويضرب عبده. ورواه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والديلمي وابن عساكر مرفوعا،
وضعف إسناده السيوطي، وفي إسناده جعفر بن الزبير وهو متروك، والموقوف أصح لأنه لم يكن من طريقه.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (وإنه على ذلك لشهيد) قال: الإنسان (وإنه لحب الخير) قال: المال.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه (إذا بعثر ما في القبور) قال: بحث (وحصل ما في الصدور) قال: أبرز.
تفسير سورة القارعة
هي إحدى عشرة آية، وقيل عشر آيات
وهي مكية بلا خلاف. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة القارعة بمكة.
سورة القارعة (1 - 11)
(القارعة) من أسماء القيامة، لأنها تقرع القلوب بالفزع وتقرع أعداء الله بالعذاب، والعرب تقول قرعتهم
القارعة إذا وقع بهم أمر فظيع. قال ابن أحمر:
485

وقارعة من الأيام لولا * سبيلهم لراحت عنك حينا
وقال آخر: متى نقرع بمروءتكم نسؤكم * ولم يوقد لنا في القدر نار
والقارعة مبتدأ وخبرها قوله (ما القارعة) وبالرفع قرأ الجمهور، وقرأ عيسى بنصبها على تقدير: احذروا
القارعة، والاستفهام للتعظيم والتفخيم لشأنها، كما تقدم بيانه في قوله - الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة -
وقيل معنى الكلام على التحذير. قال الزجاج: والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب، وأنشد قول الشاعر:
لجديرون بالوفاء إذا قال * أخو النجدة السلاح السلاح
والحمل على معنى التفخيم والتعظيم أولى، ويؤيده وضع الظاهر موضع الضمير، فإنه أدل على هذا المعنى،
ويؤيده أيضا قوله (وما أدراك ما القارعة) فإنه تأكيد لشدة هولها ومزيد فظاعتها حتى كأنها خارجة عن دائرة
علوم الخلق بحيث لا تنالها دراية أحد منهم، وما الاستفهامية مبتدأ، وأدرك خبرها وما القارعة مبتدأ وخبر،
والجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني، والمعنى: وأي شئ أعلمك ما شأن القارعة؟ ثم بين سبحانه متى
تكون القارعة فقال (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) وانتصاب الظرف بفعل محذوف تدل عليه القارعة:
أي تقرعهم يوم يكون الناس الخ، ويجوز أن يكون منصوبا بتقدير أذكر. وقال ابن عطية ومكي وأبو البقاء:
هو منصوب بنفس القارعة، وقيل هو خبر مبتدإ محذوف وإنما نصب لإضافته إلى الفعل، فالفتحة فتحة بناء
لا فتحة إعراب: أي هي يوم يكون الخ، وقيل التقدير: ستأتيكم القارعة يوم يكون، وقرأ زيد بن علي برفع يوم
على الخبرية للمبتدأ المقدر. والفراش: الطير الذي تراه يتساقط في النار والسراج والواحدة فراشة، كذا قال
أبو عبيدة وغيره. قال الفراء: الفراش هو الطائر من بعوض وغيره، ومنه الجراد. قال وبه يضرب المثل في الطيش
والهوج، يقال: أطيش من فراشة، وأنشد:
فراشة الحلم فرعون العذاب وإن * يطلب نداه فكلب دونه كلب
وقول آخر: وقد كان أقوام رددت حلومهم * عليهم وكانوا كالفراش من الجهل
والمراد بالمبثوث المتفرق المنتشر، يقال بثه: إذا فرقه، ومثل هذا قوله سبحانه في آية أخرى - كأنهم جراد
منتشر - وقال المبثوث ولم يقل المبثوثة، لأن الكل جائز كما في قوله - أعجاز نخل منقعر - و - أعجاز نخل خاوية -
وقد تقدم بيان وجه ذلك (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) أي كالصوف الملون بالألوان المختلفة الذي نفش
بالندف، والعهن عند أهل اللغة: الصوف المصبوغ بالألوان المختلفة، وقد تقدم بيان هذا في سورة سأل سائل
وقد ورد في الكتاب العزيز أوصاف للجبال يوم القيامة، وقد قدمنا بيان الجمع بينها. ثم كرر سبحانه أحوال
الناس وتفرقهم فريقين على جهة الإجمال فقال (فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية) قد تقدم القول في
الميزان في سورة الأعراف وسورة الكهف وسورة الأنبياء.
وقد اختلف فيها هنا، فقيل هي جمع موزون، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، وبه قال الفراء
وغيره، وقيل هي جمع ميزان، وهو الآلة التي توضع فيها صحائف الأعمال، وعبر عنه بلفظ الجمع، كما يقال
لكل حادثة ميزان، وقيل المراد بالموازين الحجج والدلائل، كما في قول الشاعر:
لقد كنت قبل لقائكم ذا مرة * عندي لكم مخاصم ميزانه
ومعنى عيشة راضية مرضية يرضاها صاحبها. قال الزجاج: أي ذات رضى يرضاها صاحبها، وقيل عيشة
486

راضية: أي فاعلة للرضي، وهو اللين، والانقياد لأهلها. والعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة (وأما من
خفت موازينه) أي رجحت سيئاته على حسناته أو لم تكن له حسنات يعتد بها (فأمه هاوية) أي فمسكنه جهنم،
وسماها أمه، لأنه يأوى إليها كما يأوى إلى أمه، والهاوية من أسماء جهنم، وسميت هاوية، لأنه يهوى فيها مع بعد
قعرها، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
فالأرض معقلنا وكانت أمنا * فيها مقابرنا وفيها نولد
وقول الآخر: يا عمرو لو نالتك أرماحنا * كنت كمن تهوى به الهاوية
والمهوى والمهواة: ما بين الجبلين، وتهاوى القوم في المهواة: إذا سقط بعضهم في إثر بعض. قال قتادة:
معنى " فأمه هاويه " فمصيره إلى النار. قال عكرمة: لأنه يهوى فيها على أم رأسه. قال الأخفش: أمه مستقره (وما
أدراك ماهيه) هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع ببيان أنها خارجة عن المعهود بحيث لا تحيط بها علوم البشر ولا
ندري كنهها. ثم بينها سبحانه فقال (نار حامية) أي قد انتهى حرها وبلغ في الشدة إلى الغاية وارتفاع نار على
أنها خبر مبتدإ محذوف: أي هي نار حامية.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال (القارعة) من أسماء يوم القيامة،
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله (فأمه هاوية) قال: كقوله هوت أمه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة (فأمه
هاوية) قال: أم رأسه هاوية في جهنم. وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " إذا مات المؤمن تلقته أرواح المؤمنين يسألونه ما فعل فلان ما فعلت فلانة؟ فإذا كان مات ولم يأتهم
قالوا خولف به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم وبئست المربية ". وأخرج ابن مردويه من حديث أبي أيوب
الأنصاري نحوه. وأخرج ابن المبارك من حديث أبي أيوب نحوه أيضا.
تفسير سورة التكاثر
هي ثمان آيات
وهي مكية عند الجميع. وروى البخاري أنها مدنية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزل بمكة
(ألهاكم التكاثر). وأخرج الحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قال: أما
يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر ". وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي عن عمر بن الخطاب قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ في ليلة ألف آية لقى الله وهو ضاحك في وجهه، قيل يا رسول
الله ومن يقوى على ألف آية؟ فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ألهاكم التكاثر إلى آخرها، ثم قال: والذي نفسي بيده
إنها لتعدل ألف آية ". وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عبد الله بن الشخير قال " انتهيت إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ ألهاكم التكاثر، وفي لفظ: وقد أنزلت عليه ألهاكم التكاثر، وهو يقول:
ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ". وأخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة ولم
يذكر فيه قراءة هذه السورة ولا نزولها بلفظ " يقول العبد مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاثة: ما أكل فأفنى، أو
487

لبس فأبلى، أو تصدق فأقنى وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ". وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر
الأصول والبيهقي في الشعب وضعفه عن جرير بن عبد الله قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إني
قارئ عليكم سورة ألهاكم التكاثر، فمن بكى فله الجنة، فقرأها فمنا من بكى ومنا من لم يبك، فقال الذين لم يبكوا:
قد جهدنا يا رسول الله أن نبكي فلم نقدر عليه، فقال: إني قارئها عليكم الثانية فمن بكى فله الجنة، ومن لم يقدر
أن يبكي فليتباكى ".
سورة التكاثر (1 - 8)
قوله (ألهاكم التكاثر) أي شغلكم التكاثر بالأموال والأولاد والتفاخر بكثرتها والتغالب فيها. يقال: ألهاه
عن كذا وألهاه إذا شغله، ومنه قول امرئ القيس: فألهيتها عن ذي تمائم محول وقال الحسن:
معنى ألهاكم: أنساكم (حتى زرتم المقابر) أي حتى أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال. وقال قتادة: إن التكاثر
التفاخر بالقبائل والعشائر. وقال الضحاك: ألهاكم التشاغل بالمعاش. وقال مقاتل وقتادة أيضا وغيرهما: نزلت
في اليهود حين قالوا نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا. وقال الكلبي:
نزلت في حيين من قريش: بني عبد مناف، وبني سهم تعاذوا وتكاثروا بالسيادة والأشراف في الإسلام،
فقال كل حي منهم نحن أكثر سيدا وأعز عزيزا وأعظم نفرا وأكثر قائدا، فكثر بنو عبد مناف بني سهم، ثم
تكاثروا بالأموات فكثرتهم بهم، فنزلت (ألهاكم التكاثر) فلم ترضوا (حتى زرتم المقابر) مفتخرين بالأموات.
وقيل نزلت في حيين من الأنصار. والمقابر جمع مقبرة بفتح الباء وضمها. وفي الآية دليل على أن الاشتغال بالدنيا
والمكاثرة بها والمفاخرة فيها من الخصال المذمومة، وقال سبحانه (ألهاكم التكاثر) ولم يقل عن كذا، بل أطلقه
لأن الإطلاق أبلغ في الذم، لأنه يذهب الوهم فيه كل مذهب، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام، ولأن حذف
المتعلق مشعر بالتعميم، كما تقرر في علم البيان، والمعنى أنه شغلكم التكاثر عن كل شئ يجب عليكم الاشتغال
به من طاعة الله والعمل للآخرة، وعبر عن موتهم بزيارة المقابر لأن الميت قد صار إلى قبره كما يصير الزائر إلى
الموضع الذي يزوره هذا على قول من قال: إن معنى (زرتم المقابر) متم، وأما على قول من قال: إن معنى
(زرتم المقابر) ذكرتم الموتى وعددتموهم للمفاخرة والمكاثرة، فيكون ذلك على طريق التهكم بهم، وقيل إنهم
كانوا يزورون المقابر، فيقولون هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان يفتخرون بذلك (كلا سوف تعلمون) ردع
وزجر لهم عن التكاثر وتنبيه على أنهم سيعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة وفيه وعيد شديد. قال الفراء: أي ليس
الأمر على ما أنتم عليه من التكاثر والتفاخر، ثم كرر الردع والزجر والوعيد فقال (ثم كلا سوف تعلمون) وثم
للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأول، وقيل الأول عند الموت أو في القبر، والثاني يوم القيامة. قال الفراء: هذا
التكرار على وجه التغليظ والتأكيد. قال مجاهد: هو وعيد بعد وعيد. وكذا قال الحسن ومجاهد (كلا لو تعلمون
488

علم اليقين) أي لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علما يقينا كعلمكم ما هو متيقن عندكم في الدنيا
وجواب لو محذوف: أي لشغلكم ذلك عن التكاثر والتفاخر، أو لفعلتم ما ينفعكم من الخير وتركتم مالا ينفعكم
مما أنتم فيه، وكلا في هذا الموضع الثالث للزجر والردع كالموضعين الأولين. وقال الفراء: هي بمعنى حقا،
وقيل هي في المواضع الثلاثة بمعنى ألا. قال قتادة: اليقين هنا الموت، وروى عنه أيضا أنه قال: هو البعث. قال الأخفش: التقدير لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم، وقوله (لترون الجحيم) جواب قسم محذوف، وفيه زيادة
وعيد وتهديد: أي والله لترون الجحيم في الآخرة. قال الرازي: وليس هذا جواب لو، لأن جواب لو يكون
منفيا، وهذا مثبت ولأنه عطف عليه (ثم لتسألن) وهو مستقبل لا بد من وقوعه قال: وحذف جواب لو كثير،
والخطاب للكفار، وقيل عام كقوله - وإن منكم إلا واردها - قرأ الجمهور " لترون " بفتح التاء مبننا للفاعل
وقرأ الكسائي وابن عامر بضمها مبنيا للمفعول، ثم كرر الوعيد والتهديد للتأكيد فقال (ثم لترونها عين اليقين)
أي ثم لترون الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين، وهي المشاهدة والمعاينة، وقيل المعنى: لترون الجحيم
بأبصاركم على البعد منكم، ثم لترونها مشاهدة على القرب. وقيل المراد بالأول رؤيتها قبل دخولها، والثاني
رؤيتها حال دخولها. وقيل هو إخبار عن دوام بقائهم في النار: أي هي رؤية دائمة متصلة. وقيل المعنى:
لو تعلمون اليوم علم اليقين وأنتم في الدنيا لترون الجحيم بعيون قلوبكم، وهو أن تتصوروا أمر القيامة وأهوالها (ثم
لتسألن يومئذ عن النعيم) أي عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة. قال قتادة: يعني كفار مكة كانوا
في الدنيا في الخير والنعمة، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه، ولم يشكروا رب النعم حيث عبدوا غيره
وأشركوا به. قال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار. وقال قتادة: إن الله سبحانه سائل كل ذي نعمة عما
أنعم عليه، وهذا هو الظاهر، ولا وجه لتخصيص النعيم بفرد من الأفراد، أو نوع من الأنواع لأن تعريفه
للجنس أو الاستغراق، ومجرد السؤال لا يستلزم تعذيب المسئول على النعمة التي يسئل عنها، فقد يسأل الله المؤمن
عن النعم التي أنعم بها عليه فيم صرفها، وبم عمل فيها؟ ليعرف تقصيره وعدم قيامه بما يجب عليه من الشكر، وقيل
السؤال عن الأمن والصحة، وقيل عن الصحة والفراغ، وقيل عن الإدراك بالحواس، وقيل عن ملاذ المأكول
والمشروب، وقيل عن الغداء والعشاء، وقيل عن بارد الشراب وظلال المساكن، وقيل عن اعتدال الخلق،
وقيل عن لذة النوم، والأولى والعموم كما ذكرنا.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بردة في قوله (ألهاكم التكاثر) قال: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار
في بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان وفلان. وقال الآخرون:
مثل ذلك تفاخروا بالأحياء. ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان
يشيرون إلى القبر، ومثل فلان، وفعل الآخرون كذلك، فأنزل الله (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) لقد
كان لكم فيما زرتم عبرة وشغل. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (ألهاكم التكاثر) قال: في الأموال
والأولاد. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " ألهاكم التكاثر " يعنى عن الطاعة (حتى زرتم المقابر) يقول: حتى يأتيكم الموت (كلا سوف تعلمون)
يعني لو قد دخلتم قبوركم (ثم كلا سوف تعلمون) يقول: لو قد خرجتم من قبوركم إلى محشركم (كلا لو تعلمون
علم اليقين) قال: لو قد وقفتم على أعمالكم بين يدي ربكم (لترون الجحيم) وذلك أن الصراط يوضع وسط
جهنم، فناج مسلم ومخدوش مسلم ومكدوش في نار جهنم (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) يعني شبع البطون وبارد
489

الشرب وظلال المساكن واعتدال الخلق ولذة النوم. وأخرج ابن مردويه عن عياض بن غنم مرفوعا نحوه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله (ثم لتسألن
يومئذ عن النعيم) قال: صحة الأبدان والأسماع والأبصار، وهو أعلم بذلك منهم، وهو قوله - إن السمع والبصر
والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا - وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن
ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) قال: الأمن والصحة. وأخرج
البيهقي عن علي بن أبي طالب قال: النعيم العافية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية
قال: من أكل خبز البر وشرب ماء الفرات مبردا وكان له منزل يسكنه، فذلك من النعيم الذي يسأل عنه.
وأخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الآية: أكل خبز البر والنوم
في الظل وشرب ماء الفرات مبردا. ولعل رفع هذا لا يصح، فربما كان من قول أبي الدرداء. وأخرج أحمد في
الزهد وابن مردويه عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية قال " ناس من أمتي يعقدون السمن
والعسل بالنفي فيأكلونه " وهذا مرسل. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت هذه
الآية. قال الصحابة: يا رسول الله أي نعيم نحن فيه؟ وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير، فأوحى الله إلى
نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن قل لهم: أليس تحتذون النعال، وتشربون الماء البارد، فهذا من النعيم. وأخرج
ابن أبي شيبة وهناد وأحمد وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن محمود بن لبيد قال: لما نزلت (ألهاكم
التكاثر) فقرأ حتى بلغ (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) قالوا: يا رسول الله أي نعيم نسأل عنه؟ وإنما هما الأسودان:
الماء والتمر، وسيوفنا على رقابنا، والعدو حاضر، فعن أي نعيم نسأل؟ قال: أما إن ذلك سيكون: وأخرجه
عبد بن حميد والترمذي وابن مردويه من حديث أبي هريرة. وأخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن المنذر
وابن مردويه من حديث الزبير بن العوام. وأخرج أحمد في الزهد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن حبان
وابن مردويه والحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن أول
ما يسأل العبد عنه يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسدك ونروك من الماء البارد؟ ". وأخرج أحمد
وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن جابر بن عبد الله قال " جاءنا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر فأطعمناهم رطبا وسقيناهم ماء، فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: هذا من النعيم الذي تسألون عنه ". وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي من حديث جابر بن
عبد الله نحوه. وأخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة قالا " خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا
هو بأبي بكر وعمر، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله، قال: والذي نفسي
بيده لأخرجني الذي أخرجكما فقوما فقاما معه، فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة
قالت: مرحبا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أين فلان؟ قالت: انطلق يستعذب لنا الماء إذ جاء الأنصاري
فنظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه فقال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني، فانطلق فجاء
بعذق فيه بسر وتمر. فقال: كلوا من هذا وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إياك
والحلوب، فذبح لهم فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق وشربوا، فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده لنسألن عن هذا النعيم يوم القيامة " وفي الباب أحاديث اه‍.
490

تفسير سورة العصر
هي ثلاث آيات
وهي مكية عند الجمهور. وقال قتادة: هي مدنية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة
العصر بمكة. وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن أبي مزينة الدارمي، وكانت له صحبة قال: كان
الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر. ثم
يسلم أحدهما على الآخر:
سورة العصر (1 - 3)
أقسم سبحانه بالعصر وهو الدهر، لما فيه من العبر من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار وتعاقب
الظلام والضياء، فإن في ذلك دلالة بينة على الصانع عز وجل وعلى توحيده، ويقال لليل عصر وللنهار عصر،
ومنه قول حميد بن ثور:
ولم ينته العصران يوم وليلة * إذا طلبا أن يدركا ما تمنيا
ويقال للغداة والعشي عصران، ومنه قول الشاعر:
وأمطله العصرين حتى يملني * ويرضى بنصف الدين والأنف راغم *
وقال قتادة والحسن: المراد به في الآية العشي، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها، ومنه قول الشاعر:
يروح بنا عمرو وقد قصر العصر * وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر
وروى عن قتادة أيضا أنه آخر ساعة من ساعات النهار. وقال مقاتل: إن المراد به صلاة العصر وهي الصلاة
الوسطى التي أمر الله سبحانه بالمحافظة عليها، وقيل هو قسما بعصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال الزجاج:
قال بعضهم: معناه ورب العصر، والأول أولى (إن الإنسان لفي خسر) هذا جواب القسم. الخسر والخسران
النقصان وذهاب رأس المال، والمعنى: أن كل إنسان في المتاجر والمساعي وصرف الأعمار في أعمال الدنيا لفي
نقص وضلال عن الحق حتى يموت. وقيل المراد بالإنسان الكافر، وقيل جماعة من الكفار: وهم الوليد بن المغيرة،
والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، والأول أولى لما في لفظ الإنسان من العموم ولدلالة
الاستثناء عليه. قال الأخفش (في خسر) في هلكة. وقال الفراء: عقوبة. وقال ابن زيد: لفي شر. قرأ الجمهور
" والعصر " بسكون الصاد. وقرءوا أيضا " خسر " بضم الخاء وسكون السين. وقرأ يحيى بن سلام " والعصر "
بكسر الصاد. وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى: " خسر " بضم الخاء والسين، ورويت هذه القراءة عن عاصم (إلا
491

الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح، فإنهم في ربح لا في خسير، لأنهم
عملوا للآخرة ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها، والاستثناء متصل ومن قال: إن المراد بالإنسان الكافر فقط، فيكون
منقطعا، ويدخل تحت هذا الاستثناء كل مؤمن ومؤمنة، ولا وجه لما قيل من أن المراد الصحابة أو بعضهم، فإن
اللفظ عام لا يخرج عنه أحد ممن يتصف بالإيمان والعمل الصالح (وتواصوا بالحق) أي وصى بعضهم بعضا بالحق
الذي يحق القيام به، وهو الإيمان بالله والتوحيد، والقيام بما شرعه الله، واجتناب ما نهى عنه. قال قتادة: بالحق:
أي بالقرآن، وقيل بالتوحيد، والحمل على العموم أولى (وتواصوا بالصبر) أي بالصبر عن معاصي الله سبحانه
والصبر على فرائضه. وفي جعل التواصي بالصبر قريبا للتواصي بالحق دليل على عظيم قدره وفخامة شرفه،
ومزيد ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه - إن الله مع الصابرين - وأيضا التواصي بالصبر مما يندرج تحت
التواصي بالحق، فإفراده بالذكر وتخصيصه بالنص عليه من أعظم الأدلة الدالة على إنافته على خصال الحق،
ومزيد شرفه عليها، وارتفاع طبقته عنها.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (والعصر) قال: الدهر. وأخرج ابن جرير عنه قال: هو
ساعة من ساعات النهار. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال: هو ما قبل مغيب الشمس من العشى. وأخرج الفريابي
وأبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن علي بن أبي طالب
أنه كان يقرأ " والعصر، ونوائب الدهر، إن الإنسان لفي خسر، وإنه فيه إلى آخر الدهر ". وأخرج عبد بن
حميد عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: " والعصر إن الإنسان لفي خسر، وإنه لفيه إلى آخر الدهر " اه‍.
تفسير سورة الهمزة
هي تسع آيات، وهي مكية بلا خلاف
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت (ويل لكل همزة لمزة) بمكة.
سورة الهمزة (1 - 9)
الويل: هو مرتفع على الابتداء، وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة كونه دعاء عليهم، وخبره (لكل همزة لمزة)
والمعنى: خزي أو عذاب أو هلكة أو واد في جهنم لكل همزة لمزة. قال أبو عبيدة والزجاج: الهمزة اللمزة الذي
يغتاب الناس، وعلى هذا هما بمعنى: وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح: الهمزة الذي يغتاب
الرجل في وجهه، واللمزة: الذي يغتابه من خلفه. وقال قتادة عكس هذا. وروى عن قتادة ومجاهد أيضا أن
الهمزة: الذي يغتاب الناس في أنسابهم. وروى عن مجاهد أيضا أن الهمزة: الذي يهمز الناس بيده، واللمزة:
492

الذي يلمزهم بلسانه. وقال سفيان الثوري: يهمزهم بلسانه ويلمزهم بعينه. وقال ابن كيسان: الهمزة: الذي
يؤذي جلساءه بسوء اللفظ، والهمزة: الذي يكسر عينه على جليسه ويشير بيده وبرأسه وبحاجبه، والأول أولى،
ومنه قول زياد الأعجم:
تدلى بود إذا لاقيتني كذبا * وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه
وقول الآخر: إذا لقيتك من سخط تكاشرني * وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه
وأصل الهمز الكسر، يقال: همز رأسه كسره، ومنه قول العجاج: ومن همزنا رأسه تهشما
وقيل أصل الهمز واللمز: الضرب والدفع، يقال: همزه يهمزه همزا، ولمزه يلمزه لمزا: إذا دفعه وضربه،
ومنه قول الشاعر:
ومن همزنا عزه تبركعا * على استه زوبعة أو زوبعا
البركعة: القيام على أربع، يقال بركعه فتبركع: أي صرعه فوقع على استه، كذا في الصحاح وبناء فعلة
يدل على الكثرة، ففيه دلالة على أنه يفعل ذلك كثيرا، وأنه قد صار ذلك عادة له، ومثله ضحكة ولعنة. قرأ
الجمهور " همزة لمزة " بضم أولهما وفتح الميم فيهما. وقرأ الباقر والأعرج بسكون الميم فيهما. وقرأ أبو وائل والنخعي
والأعمش " ويل للهمزة اللمزة " والآية تعم كل من كان متصفا بذلك، ولا ينافيه نزولها على سبب خاص، فإن
الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (الذي جمع مالا وعدده) الموصول بدل من كل، أو في محل نصب على
الذم، وهذا أرجح، لأن البدل يستلزم أن يكون المبدل منه في حكم الطرح، وإنما وصفه سبحانه بهذا الوصف
لأنه يجرى مجرى السبب، والعلة في الهمز واللمز، وهو إعجابه بما جمع من المال وظنه أنه الفضل، فلأجل ذلك
يستقصر غيره. قرأ الجمهور " جمع " مخففا. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتشديد. وقرأ الجمهور " وعدده "
بالتشديد، وقرأ الحسن والكلبي ونصر بن عاصم وأبو العالية بالتخفيف، والتشديد في الكلمتين يدل على التكثير
وهو جمع الشئ بعد الشئ وتعديده مرة بعد أخرى. قال الفراء: معنى عدده أحصاه. وقال الزجاج: وعدده
لنوائب الدهور. يقال أعددت الشئ وعددته: إذا أمسكته. قال السدي: أحصى عدده. وقال الضحاك:
أعد ماله لمن يرثه. وقيل المعنى: فاخر بكثرته وعدده، والمقصود ذمه على جمع المال، وإمساكه وعدم إنفاقه
في سبيل الخير. وقيل المعنى على قراءة التخفيف في عدده: أنه جمع عشيرته وأقاربه. قال المهدوي: من خفف
وعدده فهو معطوف على المال: أي وجمع عدده، وجملة (يحسب أن ماله أخلده) مستأنفة لتقرير ما قبلها،
ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال: أي يعمل عمل من يظن أن ماله يتركه حيا مخلدا لا يموت. وقال عكرمة:
يحسب أن ماله يزيد في عمره، والإظهار في موضع الإضمار للتقريع والتوبيخ. وقيل هو تعريض بالعمل الصالح،
وأنه الذي يخلد صاحبه في الحياة الأبدية، لا المال. وقوله (كلا) ردع له عن ذلك الحسبان: أي ليس الأمر
على ما يحسبه هذا الذي جمع المال وعدده، واللام في (لينبذن في الحطمة) جواب قسم محذوف: أي ليطرحن
في النار وليلقين فيها. قرأ الجمهور " لينبذن " وقرأ علي والحسن ومحمد بن كعب ونصر بن عاصم ومجاهد وحميد
وابن محيصن: لينبذان بالتثنية: أي لينبذ هو وماله في النار. وقرأ الحسن أيضا: لينبذن: أي لينبذن ماله في
النار (وما أدراك ما الحطمة) هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع حتى كأنها ليست مما تدركه العقول وتبلغه الأفهام،
493

ثم بينها سبحانه فقال (نار الله الموقدة) أي هي نار الله الموقدة بأمر الله سبحانه، وفي إضافتها إلى الاسم الشريف
تعظيم لها وتفخيم، وكذلك في وصفها بالإيقاد: وسميت حطمة لأنها تحطم كل ما يلقى فيها وتهشمه، ومنه:
إنا حطمنا بالقضيب مصعبا * يوم كسرنا أنفه ليغضبا
قيل: هي الطبقة السادسة من طبقات جهنم، وقيل الطبقة الثانية منها، وقيل الطبقة الرابعة (التي تطلع على
الأفئدة) أي يخلص حرها إلى القلوب فيعلوها ويغشاها، وخص الأفئدة مع كونها تغشى جميع أبدانهم لأنها محل
العقائد الزائغة، أو لكون الألم إذا وصل إليها مات صاحبها: أي إنهم في حال من يموت وهم لا يموتون. وقيل
معنى (تطلع على الأفئدة) أنها تعلم بمقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب، وذلك بأمارات عرفها الله بها
(إنها عليهم مؤصدة) أي مطبقة مغلقة كما تقدم بيانه في سورة البلد، يقال أصدت الباب: إذا أغلقته، ومنه
قول قيس بن الرقيات:
إن في القصر لو دخلنا غزالا * مصبيا موصدا عليه الحجاب
(في عمد ممددة) في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم: أي كائنين في عمد ممددة موثقين فيها،
أو في محل رفع على أنه خبر مبتدإ محذوف: أي هم في عمد، أو صفة لمؤصدة: أي مؤصدة بعمد ممددة. قال
مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم ثم شدت بأوتاد من حديد، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح.
ومعنى كون العمد ممددة: أنها مطولة، وهي أرسخ من القصيرة. وقيل العمد أغلال في جهنم، وقيل القيود.
قال قتادة: المعنى هم في عمد يعذبون بها، واختار هذا ابن جرير: قرأ الجمهور " في عمد " بفتح العين والميم. قيل
هو اسم جمع لعمود. وقيل جمع له. قال الفراء: هي جمع لعمود كأديم وأدم. وقال أبو عبيدة: هي جمع عماد.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بضم العين والميم جمع عمود. قال الفراء: هما جمعان صحيحان لعمود. واختار
أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الجمهور. قال الجوهري: العمود عمود البيت، وجمع القلة أعمدة، وجمع الكثرة عمد
وعمد، وقرئ بهما. قال أبو عبيدة: العمود كل مستطيل من خشب أو حديد.
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن
ابن عباس أنه سئل عن قوله (ويل لكل همزة لمزة) قال: هو المشاء بالنميمة، المفرق بين الجمع، المغرى بين
الإخوان. وأخرج ابن جرير عنه (ويل لكل همزة) قال: طعان (لمزة) قال: مغتاب. وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر عنه أيضا في قوله (إنها عليهم مؤصدة) قال: مطبقة (في عمد ممددة) قال: عمد من نار.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: هي الأدهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأبواب هي
الممددة. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: أدخلهم في عمد فمدت عليهم في أعناقهم فشدت بها الأبواب.
494

تفسير سورة الفيل
هي خمس آيات، وهي مكية بلا خلاف
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت بمكة (ألم تر كيف فعل ربك).
سورة الفيل (1 - 5)
الاستفهام في قوله (ألم تر) لتقرير رؤيته صلى الله عليه وآله وسلم بإنكار عدمها. قال الفراء: المعنى ألم تخبر.
وقال الزجاج: ألم تعلم، وهو تعجيب له صلى الله عليه وآله وسلم بما فعله الله (بأصحاب الفيل) الذين قصدوا
تخريب الكعبة من الحبشة، وكيف منصوبة بالفعل الذي بعدها، ومعلقة لفعل الرؤية، والخطاب لرسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، ويجوز أن يكون لكل من يصلح له. والمعنى: قد علمت يا محمد، أو علم الناس الموجودون
في عصرك ومن بعدهم بما بلغكم من الأخبار المتواترة من قصة أصحاب الفيل وما فعل الله بهم فما لكم لا تؤمنون؟
والفيل هو الحيوان المعروف، وجمعه أفيال، وفيول، وفيلة. قال ابن السكيت: ولا تقول أفيلة، وصاحبه
فيال، وسيأتي ذكر قصة أصحاب الفيل إن شاء الله (ألم يجعل كيدهم في تضليل) أي ألم يجعل مكرهم وسعيهم في
تخريب الكعبة واستباحة أهلها في تضليل عما قصدوا إليه حتى لم يصلوا إلى البيت ولا إلى ما أرادوه بكيدهم،
والهمزة للتقرير كأنه قيل: قد جعل كيدهم في تضليل، والكيد: هو إرادة المضرة بالغير، لأنهم أرادوا أن
يكيدوا قريشا بالقتل والسبي، ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب والهدم (وأرسل عليهم طيرا أبابيل) أي أقاطيع
يتبع بعضها بعضا كالإبل المؤبلة. قال أبو عبيدة: أبابيل جماعات في تفرقة، يقال جاءت الخيل أبابيل) أي جماعات
من ههنا وههنا. قال النحاس: وحقيقته أنها جماعات عظام، يقال فلان توبل على فلان: أي تعظم عليه وتكبر،
وهو مشتق من الإبل، وهو من الجمع الذي لا واحد له. وقال بعضهم: واحدة أبول مثل عجول. وقال
بعضهم: أبيل. قال الواحدي: ولم نر أحدا يجعل لها واحدا. قال الفراء: لا واحد له من لفظه. وزعم الرؤاسي
وكان ثقة أنه سمع في واحدها: أبالة مشددا. وحكى الفراء أيضا: أبالة بالتخفيف. قال سعيد بن جبير: كانت
طيرا من السماء لم ير قبلها ولا بعدها. قال قتادة: هي طير سود جاءت من قبل البحر فوجا فوجا مع كل طائر
ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره لا يصيب شيئا إلا هشمه. وقيل كانت طيرا خضرا خرجت
من البحر لها رؤوس كرءوس السباع. وقيل كان لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب. وقيل
في صفتها غير ذلك، والعرب تستعمل الأبابيل في الطير كما في قول الشاعر:
495

تراهم إلى الداعي سراعا كأنهم * أبابيل طير تحت دجن سجن
وتستعملها في غير الطير كقول الآخر:
كادت تهد من الأصوات راحلتي * أن سالت الأرض بالجرد الأبابيل
(ترميهم بحجارة من سجيل) الجملة في محل نصب صفة لطير. قرأ الجمهور (ترميهم) بالفوقية. وقرأ أبو حنيفة
وأبو معمر وعيسى وطلحة بالتحتية، واسم الجمع يذكر ويؤنث. وقيل: الضمير في القراءة الثانية لله عز وجل
قال الزجاج (من سجيل) أي مما كتب عليهم العذاب به، مشتقا من السجل. قال في الصحاح قالوا: هي حجارة
من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم. قال عبد الرحمن بن أبزي: (من سجيل) من السماء، وهي
الحجارة التي نزلت على قوم لوط، وقيل: من الجحيم التي هي سجين، ثم أبدلت النون لاما، ومنه قول ابن
مقبل: ضربا تواصت به الأبطال سجيلا * وإنما هو سجينا. قال عكرمة: كانت ترميهم بحجارة
معها، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري، وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة، وقد قدمنا
الكلام في سجيل في سورة هود (فجعلهم كعصف مأكول) أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته
الدواب فرمت به من أسفل، شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزائه. وقيل المعنى: أنهم صاروا كورق زرع قد
أكلت منه الدواب وبقى منه بقايا، أو أكلت حبه فبقى بدون حبه. والعصف جمع عصفة وعصافة وعصيفة،
وقد قدمنا الكلام في العصف في سورة الرحمن فارجع إليه.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال: جاء أصحاب الفيل
حتى نزلوا الصفاح فأتاهم عبد المطلب فقال: إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحدا، قالوا: لا نرجع حتى نهدمه
وكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر، فدعا الله الطير الأبابيل، فأعطاها حجارة سودا عليها الطين، فلما حاذتهم
رمتهم فما بقى منهم أحد إلا أخذته الحكة، فكان لا يحك الإنسان منهم جلده إلا تساقط لحمه. وأخرج ابن المنذر
والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عنه قال: أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب، فقال
لملكهم: ما جاء بك إلينا؟ ألا بعثت فنأتيك بكل شئ؟ فقال: أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمن،
فجئت أخيف أهله، فقال: إنا نأتيك بكل شئ تريد فارجع، فأبى إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه، وتخلف
عبد المطلب، فقام على جبل فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله، فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى
أظلتهم طير أبابيل التي قال الله (ترميهم بحجارة من سجيل) فجعل الفيل يعج عجا (فجعلهم كعصف مأكول).
وقصة أصحاب الفيل مبسوطة مطولة في كتب التاريخ والسير فلا نطول بذكرها. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن
ابن عباس في قوله (ترميهم بحجارة من سجيل) قال: حجارة مثل البندق وبها نضح حمرة مختمة مع كل طائر ثلاثة
أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره حلقت عليهم من السماء ثم أرسلت عليهم تلك الحجارة فلم تعد
عسكرهم. وأخرج أبو نعيم من طريق عطاء والضحاك عنه أن أبرهة الأشرم قدم من اليمن يريد هدم الكعبة، فأرسل
الله عليهم طيرا أبابيل بريد مجتمعة، لها خراطيم تحمل حصاة في منقارها وحصاتين في رجليها، ترسل واحدة على
رأس الرجل فيسيل لحمه ودمه ويبقى عظاما خاوية لا لحم عليها ولا جلد ولا دم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
والبيهقي في الدلائل عنه أيضا (فجعلهم كعصف مأكول) يقول: كالتبن. وأخرج ابن إسحاق في السيرة والواقدي
وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن عائشة قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان.
496

وأخرج الواقدي نحوه عن أسماء بنت أبي بكر. وأخرج أبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال: ولد النبي صلى الله
عليه وآله وسلم عام الفيل. وأخرج ابن إسحاق وأبو نعيم والبيهقي عن قيس بن مخرمة قال: ولدت أنا ورسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عام الفيل.
تفسير سورة قريش
ويقال سورة لإيلاف، وهي أربع آيات
وهي مكية عند الجمهور. وقال الضحاك والكلبي: هي مدنية.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة (لإيلاف) بمكة. وأخرج البخاري في تاريخه،
والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال " فضل الله قريشا بسبع خصال لم يعطها أحدا قبلهم ولا يعطيها أحدا بعدهم: أني فيهم. وفي لفظ:
النبوة فيهم، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل، وعبدوا الله سبع سنين. وفي
لفظ: عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم (لإيلاف قريش) "
قال ابن كثير: هو حديث غريب، ويشهد له ما أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن عساكر عن
الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " فضل الله قريشا بسبع خصال: فضلهم بأنهم
عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلا قريش، وفضلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون، وفضلهم بأنها نزلت
فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين غيرهم، وهي لإيلاف قريش، وفضلهم بأن فيهم النبوة،
والخلافة، والسقاية ". وأخرج الخطيب في تاريخه عن سعيد بن المسيب مرفوعا نحوه، وهو مرسل.
سورة قريش (1 - 4)
اللام في قوله (لإيلاف) قيل هي متعلقة بآخر السورة التي قبلها، كأنه قال سبحانه: أهلكت أصحاب الفيل
لأجل تألف قريش. قال الفراء: هذه السورة متصلة بالسورة الأولى، لأنه ذكر سبحانه أهل مكة بعظيم نعمته
عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال (لإيلاف قريش) أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش، وذلك أن
قريشا كانت تخرج في تجارتها فلا يغار عليها في الجاهلية، يقولون: هم أهل بيت الله عز وجل، حتى جاء
صاحب الفيل ليهدم الكعبة ويأخذ حجارتها فيبنى بها بيتا في اليمن يحج الناس إليه، فأهلكهم الله عز وجل،
فذكرهم نعمته: أي فعل ذلك لإيلاف قريش: أي ليألفوا الخروج ولا يجترأ عليهم، وذكر نحو هذا ابن قتيبة،
قال الزجاج: والمعنى - فجعلهم كعصف مأكول (لإيلاف قريش) أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما
قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف. وقال في الكشاف: إن اللام متعلق بقوله (فليعبدوا) أمرهم أن يعبدوه لأجل
497

إيلافهم الرحلتين، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى: أما لا فليعبدوه. وقد تقدم صاحب
الكشاف إلى هذا القول الخليل بن أحمد، والمعنى: إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة. وقال
الكسائي والأخفش: اللام لام التعجب: أي اعجبوا لإيلاف قريش. وقيل هي بمعنى إلى. قرأ الجمهور " لإيلاف "
بالياء مهموزا من ألفت أؤلف إئلافا. يقال: ألفت الشئ ألافا وألفا، وألفته إيلافا بمعنى، ومنه قول الشاعر:
المنعمين إذا النجوم تغيرت * والظاعنين لرحلة الإيلاف
وقرأ ابن عامر " لإلاف " بدون الياء، وقرأ أبو جعفر " لإلف " وقد جمع بين هاتين القراءتين الشاعر، فقال:
زعمتم أن إخوتكم قريش * لهم إلف وليس لكم إلاف
وقرأ عكرمة " ليألف قريش " بفتح اللام على أنها لام الأمر، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود وفتح لام
الأمر لغة معروفة. وقرأ بعض أهل مكة " إلاف قريش " واستشهد بقول أبي طالب:
تذود الورى من عصبة هاشمية * إلا فهم في الناس خير إلاف
وقريش هم: بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فكل من كان من ولد النضر فهو
قرشي، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي، وقريش يأتي منصرفا إن أريد به الحي، وغير منصرف إن أريد به القبيلة
ومنه قول الشاعر: وكفى قريش المعضلات وسادها * وقيل إن قريشا بنو فهر بن مالك بن
النضر، والأول أصح، وقوله (إيلافهم) بدل من إيلاف قريش، و (رحلة) مفعول به لإيلافهم وأفردها،
ولم يقل رحلتي الشتاء والصيف لأمن الإلباس، وقيل إن إيلافهم تأكيد للأول لا بدل، والأول أولى. ورجحه
أبو البقاء، وقيل إن رحلة منصوبة بمصدر مقدر: أي ارتحالهم رحلة (الشتاء والصيف) وقيل هي منصوبة على
الظرفية، والرحلة: الارتحال، وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء لأنها بلاد حارة، والرحلة الأخرى إلى
الشام في الصيف لأنها بلاد باردة. وروى أنهم كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف. والأول أولى، فإن
ارتحال قريش للتجارة معلوم معروف في الجاهلية والإسلام. قال ابن قتيبة: إنما كانت تعيش قريش بالتجارة
وكانت لهم رحلتان في كل سنة: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، ولولا هاتان الرحلتان
لم يمكن بها مقام، ولولا الأمن بجوارهم البيت لم يقدروا على التصرف (فليعبدوا رب هذا البيت) أمرهم سبحانه
بعبادته بعد أن ذكر لهم ما أنعم به عليهم: أي إن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الخاصة المذكورة،
والبيت الكعبة. وعرفهم سبحانه بأنه رب هذا البيت لأنها كانت لهم أوثان يعبدونها، فميز نفسه عنها. وقيل لأنهم
بالبيت تشرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك تذكيرا لنعمته (الذي أطعمهم من جوع) أي أطعمهم بسبب
تينك الرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، وقيل إن هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا النبي صلى الله عليه
وآله وسلم دعا عليهم، فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف، فاشتد القحط، فقالوا: يا محمد ادع
الله لنا فإنا مؤمنون، فدعا فأخصبوا وزال عنهم الجوع وارتفع القحط (وآمنهم من خوف) أي من خوف شديد
كانوا فيه. قال ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض ويسبي بعضها بعضا، فأمنت قريش من ذلك
لمكان الحرم. وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان: آمنهم من خوف الحبشة مع الفيل.
وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد قالت " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول
(لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) ويحكم يا قريش، اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من
498

جوع وآمنكم من خوف ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (لإيلاف قريش)
قال: نعمتي على قريش (إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف (فليعبدوا
رب هذا البيت) قال: الكعبة (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) قال: الجذام. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه (لإيلاف قريش إيلافهم) قال: لزومهم (الذي أطعمهم من جوع)
يعني قريشا أهل مكة بدعوة إبراهيم حيث قال - وارزق أهله من الثمرات - (وآمنهم من خوف) حيث قال إبراهيم
- رب اجعل هذا البلد آمنا -. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا في قوله (لإيلاف قريش) الآية، قال:
نهاهم عن الرحلة وأمرهم أن يعبدوا رب هذا البيت، وكفاهم المؤنة، وكانت رحلتهم في الشتاء والصيف ولم يكن
لهم راحة في شتاء ولا صيف، فأطعمهم الله بعد ذلك من جوع، وآمنهم من خوف فألفوا الرحلة وكان ذلك من
نعمة الله عليهم. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في الآية قال: أمروا أن يألفوا عبادة رب هذا البيت كإلفهم رحلة
الشتاء والصيف، وقد وردت أحاديث في فضل قريش وإن الناس تبع لهم في الخير والشر، وإن هذا الأمر يعني
الخلافة لا يزال فيهم ما بقى منهم اثنان، وهي في دواوين الإسلام.
تفسير سورة أرأيت
ويقال سورة الدين، ويقال سورة الماعون، ويقال سورة اليتيم، وهي سبع آيات
وهي مكية في قول عطاء وجابر، وأحد قولي ابن عباس، ومدنية في قول قتادة وآخرين. وأخرج ابن
مردويه عن ابن عباس قال: نزلت (أرأيت الذي يكذب بالدين) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
سورة أرأيت (1 - 7)
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح له، والاستفهام لقصد التعجيب من حال من
يكذب بالدين. والرؤية: بمعنى المعرفة، والدين: الجزاء والحساب في الآخرة. قيل وفي الكلام حذف، والمعنى:
أرأيت الذي يكذب بالدين أمصيب هو أم مخطئ. قال مقاتل والكلبي: نزلت في العاص بن وائل السهمي.
وقال السدي: في الوليد بن المغيرة. وقال الضحاك: في عمرو بن عائذ. وقال ابن جريج في أبي سفيان، وقيل
في رجل من المنافقين. قرأ الجمهور (أرأيت) بإثبات الهمزة الثانية. وقرأ الكسائي بإسقاطها. قال الزجاج: لا يقال
في رأيت ريت، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفا. وقيل الرؤية: هي البصرية، فيتعدى إلى مفعول
واحد، وهو الموصول: أي أبصرت المكذب. وقيل إنها بمعنى أخبرني، فيتعدى إلى اثنين. الثاني محذوف:
أي من هو (فذلك الذي يدع اليتيم) الفاء جواب شرط مقدر: أن إن تأملته أو طلبته فذلك الذي يدع اليتيم،
499

ويجوز أن تكون عاطفة على الذي يكذب: إما عطف ذات على ذات، أو صفة على صفة. فعلى الأول يكون
اسم الإشارة مبتدأ وخبره الموصول بعده، أو خبر لمبتدأ محذوف: أي فهو ذلك، والموصول صفته. وعلى الثاني
يكون في محل نصب لعطفه على الموصول الذي هو في محل نصب. ومعنى يدع يدفع دفعا بعنف وجفوة: أي
يدفع اليتيم عن حقه دفعا شديدا، ومنه قوله سبحانه - يوم يدعون إلى نار جهنم دعا - وقد قدمنا أنهم كانوا
لا يورثون النساء والصبيان (ولا يحض على طعام المسكين) أي لا يحض نفسه ولا أهله ولا غيرهم على ذلك بخلا
بالمال، أو تكذيبا بالجزاء، وهو مثل قوله في سورة الحاقة - ولا يحض على طعام المسكين - (فويل) يومئذ
(للمصلين) الفاء جواب لشرط محذوف كأنه قيل إذا كان ما ذكر من عدم المبالاة باليتيم والمسكين فويل للمصلين
(الذين هم عن صلاتهم ساهون) أي عذاب لهم، أو هلاك، أو واد في جهنم لهم كما سبق الخلاف في معنى الويل،
ومعنى ساهون: غافلون غير مبالين بها، ويجوز أن تكون الفاء لترتيب الدعاء عليهم بالويل على ما ذكر من
قبائحهم، ووضع المصلين موضع ضميرهم للتوصل بذلك إلى بيان أن لهم قبائح أخر غير ما ذكر. قال الواحدي:
نزلت في المنافقين الذين لا يرجون بصلاتهم ثوابا إن صلوا، ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا، فهم عنها غافلون
حتى يذهب وقتها، وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا، وهو معنى قوله (الذين
هم يراءون) أي يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا، أو يراءون الناس بكل ما عملوه من أعمال البر ليثنوا عليهم. قال
النخعي (الذين هم عن صلاتهم ساهون) هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا وهكذا ملتفتا. وقال قطرب: هو
الذي لا يقرأ ولا يذكر الله. وقرأ ابن مسعود الذين هم عن صلاتهم لاهون (ويمنعون الماعون). قال أكثر
المفسرين: الماعون اسم لما يتعاوزه ذلك الناس بينهم: من الدلو والفأس والقدر، ومالا يمنع كالماء والملح. وقيل
هو الزكاة: أي يمنعون زكاة أموالهم. وقال الزجاج وأبو عبيد والمبرد: الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة
حتى الفأس والدلو والقدر والقداحة وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير، وأنشدوا قول الأعشى:
بأجود منه بماعونه * إذا ما سماؤهم لم تغم
قال الزجاج وأبو عبيد والمبرد أيضا: والماعون في الإسلام الطاعة والزكاة، وأنشدوا قول الراعي:
أخليفة الرحمن إنا معشر * حنفا نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله من أموالنا * حق الزكاة منزلا تنزيلا
قوم على الإسلام لما يمنعوا * ما عونهم ويضيعوا التهليلا
وقيل الماعون الماء. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الماعون الماء، وأنشدني:
تمج صبيرة الماعون صبا * والصبيرة السحاب، وقيل الماعون: هو الحق على العبد على العموم،
وقيل هو المستغل من منافع الأموال، مأخوذ من المعن، وهو القليل. قال قطرب: أصل الماعون من القلة،
والمعن: الشئ القليل، فسمى الله الصدقة والزكاة ونحو ذلك من المعروف ماعونا، لأنه قليل من كثير، وقيل
هو ما لا يبخل به كالماء والملح والنار.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (أرأيت الذي يكذب بالدين) قال: يكذب بحكم الله
(فذلك الذي يدع اليتيم) قال: يدفعه عن حقه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه
والبيهقي في الشعب عنه (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) قال: هم المنافقون يراءون الناس بصلاتهم
500

إذا حضروا ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العارية بغضا لهم، وهي الماعون. وأخرج ابن جرير وابن مردويه
عنه أيضا (الذين هم عن صلاتهم ساهون) قال: هم المنافقون يتركون الصلاة في السر ويصلون في العلانية.
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه
عن مصعب بن سعد قال: قلت لأبي: أرأيت قول الله (الذين هم عن صلاتهم ساهون) أينا لا يسهو، أينا لا يحدث
نفسه؟ قال: إنه ليس ذلك، إنه إضاعة الوقت. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني
في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن
قوله (الذين هم عن صلاتهم ساهون) قال: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها. قال الحاكم والبيهقي: الموقوف
أصح. قال ابن كثير: وهذا يعني الموقوف أصح إسنادا. قال: وقد ضعف البيهقي رفعه وصحح وقفه وكذلك
الحاكم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن أبي برزة الأسلمي قال " لما نزلت هذه
الآية (الذين هم عن صلاتهم ساهون) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الله أكبر، هذه الآية خير لكم
من أن يعطى كل رجل منكم جميع الدنيا، هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته، وإن تركها لم يخف ربه " وفي
إسناده جابر الجعفي، وهو ضعيف، وشيخه مبهم لم يسم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: هم
الذين يؤخرونها عن وقتها. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والبزار وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن ابن مسعود قال: كنا نعد
الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عارية الدلو والقدر والفأس والميزان وما تتعاطون بينكم.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان المسلمون يستعيرون من المنافقين القدر والفأس وشبهه فيمنعونهم، فأنزل الله
(ويمنعون الماعون) وأخرج أبو نعيم والديلمي وابن عساكر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في الآية قال: ما تعاون الناس بينهم الفأس والقدر والدلو وأشباهه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن قرة بن
دعموص النميري " أنهم وفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا رسول الله ما تعهد إلينا؟ قال:
لا تمنعوا الماعون، قالوا: وما الماعون؟ قال: في الحجر والحديدة وفي الماء، قالوا: فأي الحديدة؟ قال:
قدوركم النحاس وحديد الفأس الذي تمتهنون به، قالوا: وما الحجر،؟ قال: قدوركم الحجارة ". قال ابن
كثير: غريب جدا، ورفعه منكر، وفي إسناده من لا يعرف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن سعيد بن
عياض عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الماعون: الفأس والقدر والدلو. وأخرج سعيد بن منصور
وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي، والضياء في المختارة من طرق عن ابن
عباس في الآية قال: عارية متاع البيت. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب قال: الماعون الزكاة المفروضة (يراءون)
بصلاتهم (ويمنعون) زكاتهم.
501

تفسير سورة الكوثر
هي ثلاث آيات
وهي مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة. وأخرج
ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت سورة الكوثر بمكة.
سورة الكوثر (1 - 3)
قرأ الجمهور (إنا أعطيناك) وقرأ الحسن وابن محيصن وطلحة والزعفراني " أنطيناك " بالنون. قيل هي
لغة العرب العاربة. قال الأعشى:
حباؤك خير حبا الملوك * يصان الحلال وتنطى الحلولا
و (الكوثر) فوعل من الكثرة وصف به للمبالغة في الكثرة، مثل النوفل من النفل، والجوهر من الجهر:
والعرب تسمى كل شئ كثير في العدد أو القدر أو الخطر كوثرا، ومنه قول الشاعر:
وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا * فالمعنى على هذا: إنا أعطيناك يا محمد الخير الكثير البالغ في
الكثرة إلى الغاية. وذهب أكثر المفسرين كما حكاه الواحدي إلى أن الكوثر نهر في الجنة، وقيل هو حوض النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في الموقف قاله عطاء. وقال عكرمة: الكوثر النبوة. وقال الحسن: هو القرآن. وقال
الحسن بن الفضل: هو تفسير القرآن وتخفيف الشرائع. وقال أبو بكر بن عياش: هو كثرة الأصحاب والأمة.
وقال ابن كيسان: هو الإيثار. وقيل هو الإسلام، وقيل رفعة الذكر، وقيل نور القلب، وقيل الشفاعة، وقيل
المعجزت، وقيل إجابة الدعوة، وقيل لا إله إلا الله، وقيل الفقه في الدين، وقيل الصلوات الخمس، وسيأتي
بيان ما هو الحق (فصل لربك) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمراد الأمر له صلى الله عليه وآله وسلم بالدوام
على إقامة الصلوات المفروضة (وانحر) البدن التي هي خيار أموال العرب. قال محمد بن كعب: إن ناسا كانوا
يصلون لغير الله وينحرون لغير الله، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون صلاته ونحره له. وقال
قتادة وعطاء وعكرمة: المراد صلاة العيد، ونحر الأضحية. وقال سعيد بن جبير: صل لربك صلاة الصبح
المفروضة بجمع، وانحر البدن في منى. وقيل النحر وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة حذاء النحر قاله محمد
ابن كعب. وقيل هو أن يرفع يديه في الصلاة عند التكبيرة إلى حذاء نحره. وقيل هو أن يستقبل القبلة بنحره قاله
الفراء والكلبي وأبو الأحوص. قال الفراء: سمعت بعض العرب نتناحر: أي نتقابل: نحر هذا إلى نحر هذا
أي قبالته، ومنه قول الشاعر:
أبا حكم ما أنت عمرا مجالد * وسيد أهل الأبطح المتناحر
أي المتقابل. وقال ابن الأعرابي: هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب، من قولهم: منازلهم تتناحر
502

تتقابل. وروى عن عطاء أنه قال: امره أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحره. وقال سليمان التيمي:
المعنى: وارفع يديك بالدعاء إلى نحرك، وظاهر الآية الأمر له صلى الله عليه وآله وسلم بمطلق الصلاة ومطلق
النحر وأن يجعلهما لله عز وجل لا لغيره، وما ورد في السنة من بيان هذا المطلق بنوع خاص فهو في حكم التقييد
له، وسيأتي إن شاء الله (إن شانئك هو الأبتر) أي إن مبغضك هو المنقطع عن الخير على العموم، فيعم خيري
الدنيا والآخرة، أو الذي لا عقب له، أو الذي لا يبقى ذكره بعد موته. وظاهر الآية العموم، وأن هذا شأن كل
من يبغض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ينافي ذلك كون سبب النزول هو العاص بن وائل، فالاعتبار
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما مر غير مرة. قيل كان أهل الجاهلية إذا مات الذكور من أولاد الرجل قالوا:
قد بتر فلان، فلما مات ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إبراهيم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال: بتر
محمد، فنزلت الآية. وقيل القائل بذلك عقبة بن أبي معيط. قال أهل اللغة: الأبتر من الرجال: الذي لا ولد له،
ومن الدواب: الذي لا ذنب له، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر، وأصل البتر القطع، يقال بترت الشئ
بترا: قطعته.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن
أنس قال " أغفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إغفاءه فرفع رأسه مبتسما فقال: إنه أنزل على آنفا سورة،
فقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر) حتى ختمها قال: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله
أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته كعدد الكواكب يختلج
العبد منهم فأقول يا رب إنه من أمتي، فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك ". وأخرجه أيضا مسلم في صحيحه.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " دخلت الجنة فإذا أنا
بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال:
هذا الكوثر الذي أعطاكه الله " وقد روى عن أنس من طرق كلها مصرحة بأن الكوثر هو النهر الذي في الجنة.
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن جرير وابن مردويه عن عائشة أنها سئلت عن قوله (إنا أعطيناك الكوثر)
قالت: هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم في بطنان الجنة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه نهر
في الجنة. وأخرج الطبراني في الأوسط عن حذيفة في قوله (إنا أعطيناك الكوثر) قال: نهر في الجنة، وحسن
السيوطي إسناده. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أسامة بن زيد مرفوعا " أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم إنك أعطيت نهرا في الجنة يدعى الكوثر، فقال: أجل وأرضه ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ ".
وأخرج ابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن رجلا قال: يا رسول الله ما الكوثر؟ قال: هو
نهر من أنهار الجنة أعطانيه الله " فهذه الأحاديث تدل على أن الكوثر هو النهر الذي في الجنة، فيتعين المصير إليها،
وعدم التعويل على غيرها، وإن كان معنى الكوثر: هو الخير الكثير في لغة العرب، فمن فسره بما هو أعم مما
ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو تفسير ناظر إلى المعنى اللغوي. كما أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي
وصححه وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عطاء بن السائب قال: قال محارب بن دثار: قال
سعيد بن جبير في الكوثر: قلت حدثنا عن ابن عباس أنه قال: هو الخير الكثير، فقال: صدق إنه للخير الكثير.
ولكن حدثنا ابن عمر قال نزلت (إنا أعطيناك الكوثر) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " الكوثر نهر في
الجنة حافتاه من ذهب يجري على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من
503

العسل " وأخرج البخاري وابن جرير والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال
في الكوثر هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة
قال: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. وهذا التفسير من حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه
ناظر إلى المعنى اللغوي كما عرفناك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد فسره فيما صح عنه أنه النهر
الذي في الجنة، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن
علي بن أبي طالب قال " لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إنا أعطيناك الكوثر فصل
لربك وانحر) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجبريل: ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ فقال: إنها
ليست بنحيرة، ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت، وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من
الركوع، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السماوات السبع، وإن لكل شئ زينة، وزينة الصلاة رفع
اليدين عند كل تكبيرة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: رفع اليدين من الاستكانة التي قال الله - فما استكانوا
لربهم وما يتضرعون - " وهو من طريق مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن علي. وأخرج ابن مردويه عن
ابن عباس في الآية قال " إن الله أوحى إلى رسوله أن ارفع يديك حذاء نحرك إذا كبرت للصلاة، فذاك النحر ".
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد وأبو الشيخ
والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب في قوله (فصل لربك وانحر) قال: وضع يده
اليمنى على وسط ساعده اليسرى ثم وضعهما على صدره في الصلاة. وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في سننه عن أنس
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله. وأخرج ابن أبي حاتم وابن شاهين في سننه وابن مردويه والبيهقي عن ابن
عباس (فصل لربك وانحر) قال: إذا صليت فرفعت رأسك من الركوع فاستو قائما. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر عن ابن عباس في الآية قال: الصلاة المكتوبة، والذبح يوم الأضحى. وأخرج البيهقي في سننه عنه (وانحر)
قال: يقول واذبح يوم النحر. وأخرج البزار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: قدم
كعب بن الأشرف مكة. فقالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم، ألا ترى إلى هذا الصابئ المنبتر من
قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السقاية وأهل السدانة، قال: أنتم خير منه، فنزلت (إن
شانئك هو الأبتر) ونزلت - ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب - إلى قوله - فلن تجد له نصيرا - قال ابن كثير:
وإسناده صحيح. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب قال: لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا: إن هذا الصابئ قد بتر الليلة فأنزل الله (إنا أعطيناك الكوثر)
إلى آخر السورة. وأخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان أكبر
ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القاسم ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، فمات
القاسم وهو أول ميت من أهله وولده بمكة، ثم مات عبد الله، فقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع نسله
فهو أبتر، فأنزل الله (إن شانئك هو الأبتر) وفي إسناده الكلبي. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن مردويه عن ابن عباس (إن شانئك هو الأبتر) قال: أبو جهل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (إن
شانئك) يقول: عدوك.
504

تفسير سورة الكافرون
هي ست آيات
وهي مكية في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة. ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت سورة (يا أيها الكافرون) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله
ابن الزبير قال: أنزلت (يا أيها الكافرون) بالمدينة. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر " أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قرأ بهذه السورة، وبقل هو الله أحد في ركعتي الطواف. وفي صحيح مسلم أيضا من حديث
أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه
والنسائي وابن ماجة وابن حبان وابن مردويه عن ابن عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في الركعتين
قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعا وعشرين مرة، أو بضع عشرة مرة (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله
أحد) ". وأخرج الحاكم وصححه عن أبي قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوتر بسبح، و (قل يا أيها
الكافرون) و (قل هو الله أحد) وأخرج محمد بن نصر والطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، و (قل يا أيها الكافرون) تعدل ربع القرآن، وكان
يقرأ بهما في ركعتي الفجر ". وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
" من قرأ يا أيها الكافرون كانت له عدل ربع القرآن ". وأخرج الطبراني في الصغير والبيهقي في الشعب عن سعد بن
أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ (قل يا أيها الكافرون) فكأنما قرأ ربع القرآن،
ومن قرأ (قل هو الله أحد) فكأنما قرأ ثلث القرآن ". وأخرج أحمد وابن الضريس والبغوي وحميد بن زنجويه في ترغيبه
عن شيخ أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فمر برجل
يقرأ (قل يا أيها الكافرون) فقال: أما هذا فقد برئ من الشرك، وإذا آخر يقرأ (قل هو الله أحد) فقال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: بها وجبت له الجنة "، وفي رواية " أما هذا فقد غفر له ". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد
وأبو داود والترمذي والنسائي وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن
فروة بن نوفل بن معاوية الأشجعي عن أبيه أنه قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أويت إلى فراشي قال " اقرأ
(قل يا أيها الكافرون) ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك ". وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن
مردويه عن عبد الرحمن بن نوفل الأشجعي عن أبيه مرفوعا مثله. وأخرج ابن مردويه عن البراء قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لنوفل بن معاوية الأشجعي " إذا أتيت مضجعك للنوم فاقرأ (قل يا أيها الكافرون) فإنك
إذا قلتها فقد برئت من الشرك ". وأخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن الحارث بن جبلة، وقال الطبراني عن
جبلة بن حارثة، وهو أخو زيد بن حارثة قال: " قلت يا رسول الله علمني شيئا أقوله عبد عند منامي قال: إذا أخذت
مضجعك من الليل فاقرأ (قل يا أيها الكافرون) حتى تمر بآخرها فإنها براءة من الشرك ". وأخرج البيهقي في الشعب عن
أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ " اقرأ (قل يا أيها الكافرون) عند منامك فإنها براءة من
الشرك ". وأخرج أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ألا أدلكم على
505

كلمة تنجيكم من الإشراك بالله تقرؤون (قل يا أيها الكافرون) عند منامكم ". وأخرج البزار والطبراني وابن مردويه عن
خباب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إذا أخذت مضجعك فاقرأ (قل يا أيها الكافرون) وإن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم لم يأت فراشه قط إلا قرأ (قل يا أيها الكافرون) حتى يختم ". وأخرج ابن مردويه عن زيد بن
أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من لقي الله بسورتين فلا حساب عليه (قل يا أيها الكافرون)
و (قل هو الله أحد) ". وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس عن أبي مسعود الأنصاري قال: من قرأ
(قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) في ليلة فقد أكثر وأطاب.
سورة الكافرون (1 - 6)
الألف واللام في (يا أيها الكافرون) للجنس، ولكنها لما كانت الآية خطابا لمن سبق في علم الله أنه يموت
على كفره كان المراد بهذا العموم خصوص من كان كذلك، لأن من الكفار عند نزول هذه الآية من أسلم وعبد الله
سبحانه. وسبب نزول هذه السورة أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعبد آلهتهم سنة
ويعبدوا إلهه سنة، فأمره الله سبحانه أن يقول لهم (لا أعبد ما تعبدون) أي لا أفعل ما تطلبون مني من عبادة ما تعبدون
من الأصنام، قيل والمراد فيما يستقبل من الزمان لأن لا النافية لا تدخل في الغالب إلا على المضارع الذي في معنى
الاستقبال، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال (ولا أنتم عابدون ما أعبد) أي ولا أنتم فاعلون
في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي (ولا أنا عابد ما عبدتم) أي ولا أنا قط فيما سلف عابد ما عبدتم فيه،
والمعنى: أنه لم يعهد مني ذلك (ولا أنتم عابدون ما أعبد) أي وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته،
كذا قيل، وهذا على قول من قال إنه لا تكرار في هذه الآيات لأن الجملة الأولى لنفى العبادة في المستقبل لما قدمنا
من أن " لا " لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، والدليل على ذلك أن لن تأكيد لما تنفيه لا. قال الخليل
في لن: إن أصله لا، فالمعنى: لا أعبد ما تعبدون في المستقبل، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أطلبه من عبادة
إلهي. ثم قال (ولا أنا عابد ما عبدتم) أي ولست في الحال بعابد معبودكم، ولا أنتم في الحال بعابدين معبودي،
وقيل بعكس هذا، وهو أن الجملتين الأوليين للحال، والجملتين الأخريين للاستقبال بدليل قوله (ولا أنا عابد
ما عبدتم) كما لو قال القائل: أنا ضارب زيدا، وأنا قاتل عمرا، فإنه لا يفهم منه إلا الاستقبال. قال الأخفش
والفراء: المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون، ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم،
ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد. قال الزجاج: نفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه السورة عبادة
آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل، ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل. وقيل إن كل واحد منهما
يصلح للحال والاستقبال، ولكنا نخص أحدهما بالحال، والثاني بالاستقبال رفعا للتكرار. وكل هذا فيه من
التكلف والتعسف مالا يخفي على منصف، فإن جعل قوله: ولا أعبد ما تعبدون للاستقبال، وإن كان صحيحا على
506

مقتضى اللغة العربية، ولكنه لا يتم جعل قوله (ولا أنتم عابدون ما أعبد) للاستقبال، لأن الجملة اسمية تفيد
الدوام والثبات في كل الأوقات فدخول النفي عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام، والثبات في كل الأوقات،
ولو كان حملها على الاستقبال صحيحا للزم مثله في قوله (ولا أنا عابد ما عبدتم) وفي قوله (ولا أنتم عابدون ما أعبد)
فلا يتم ما قيل من حمل الجملتين الأخريين على الحال، وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس، لأن الجملة الثانية
والثالثة والرابعة كلها جمل اسمية مصدرة بالضمائر التي هي المتبدأ في كل واحد منها مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيما
بعده منفية كلها بحرف واحد، وهو لفظ لا في كل واحد منها، فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها
في الحال والاستقبال مختلفة. وأما قول من قال: إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال، فهو إقرار منه
بالتكرار، لأن حمل هذا على معنى وحمل هذا على معنى مع الاتحاد يكون من باب التحكم الذي لا يدل عليه عليل.
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب، ومن مذاهبهم التي لا تجحد، واستعمالاتهم التي لا تنكر
أنهم إذا أرادوا التأكيد كرروا، كما أن من مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا، هذا معلوم لكل من له
علم بلغة العرب، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه لأنه إنما يستدل على ما فيه خفاء ويبرهن على ما هو متنازع
فيه. وأما ما كان من الوضوح والظهور والجلاء بحيث لا يشك فيه شاك، ولا يرتاب فيه مرتاب فهو مستغن عن
التطويل غير محتاج إلى تكثير القال والقيل. وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن، وربما يكثر
في بعض السور كما في سورة الرحمن وسورة المرسلات وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر، ومن
ذلك قول الشاعر: يالبكر انشروا لي كليبا * يالبكر أين أين الفرار
وقول الآخر: هلا سألت جموع كندة * يوم ولوا أين أينا
وقول الآخر: يا علقمة يا علقمة يا علقمة * خير تميم كلها وأكرمه
وقول الآخر: ألا يا اسلمي ثمت اسلمي * ثلاث تحيات وإن لم تكلم
وقول الآخر: يا جعفر يا جعفر يا جعفر * إن أك دحداحا فأنت أقصر
وقول الآخر: * أتاك أتاك اللاحقوك احبس احبس *
وقد ثبت عن الصادق المصدوق، وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث
مرات، وإذا عرفت هذا ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم، وإنما عبر سبحانه بما التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة لأنه
يجوز ذلك كما في قوله: سبحان ما سخركن لنا ونحوه، والنكتة في ذلك أن يجرى الكلام على نمط واحد ولا يختلف.
وقيل إنه أراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق. وقيل إن " ما " في المواضع الأربعة هي
المصدرية لا الموصولة: أي لا أعبد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتي الخ، وجملة (لكم دينكم) مستأنفة لتقرير
قوله (لا أعبد ما تعبدون) وقوله (ولا أنا عابد ما عبدتم) كما أن قوله (ولى دين) تقرير لقوله (ولا أنتم عابدون)
ما أعبد) في الموضعين: أي إن رضيتم بدينكم فقد رضيت بديني كما في قوله - لنا أعمالنا ولكم أعمالكم - والمعنى:
أن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول لي كما تطمعون، وديني الذي هو
التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم. وقيل المعنى: لكم جزاؤكم ولي جزائي، لأن الدين
الجزاء. قيل وهذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل ليست بمنسوخة، لأنها أخبار والأخبار لا يدخلها النسخ
507

قرأ الجمهور بإسكان الياء من قوله " ولى " وقرأ نافع وهشام وحفص والبزي بفتحها. وقرأ الجمهور أيضا بحذف
الياء من ديني وقفا ووصلا، وأثبتها نصر بن عاصم وسلام ويعقوب وصلا ووقفا. قالوا لأنها اسم فلا تحذف.
ويجاب بأن حذفها لرعاية الفواصل سائغ وإن كانت اسما.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس " أن قريشا دعت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إلى أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد وكف عن
شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح، قال: ما هي؟ قالوا:
تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فجاء الوحي من عند الله (قل يا أيها
الكافرون لا أعبد ما تعبدون) إلى آخر السورة، وأنزل الله - قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون - إلى قوله
- بل الله فاعبد وكن من الشاكرين - ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد
ابن مينا مولى أبي البحتري قال " لقى الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله،
فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظا، وإن كان الذي أنت عليه أصح من
الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظا، فأنزل الله (قل يا أيها الكافرون) إلى آخر السورة ". وأخرج عبد بن
حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس أن قريشا قالت: لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك، فأنزل الله (قل
يا أيها الكافرون) السورة كلها.
تفسير سورة النصر
وتسمى سورة التوديع، هي ثلاث آيات
وهي مدنية بلا خلاف. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزل بالمدينة (إذا جاء نصر الله والفتح).
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال: هذه السورة
نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوسط أيام التشريق بمنى، وهو في حجة الوداع (إذا جاء نصر الله
والفتح) حتى ختمها فعرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها الوداع. وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن
مردويه عن ابن عباس قال " لما نزلت (إذا جاء نصر الله والفتح) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
نعيت إلى نفسي ". وأخرج ابن مردويه عنه قال " لما نزلت (إذا جاء نصر الله والفتح) قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: نعيت إلى نفسي وقرب إلى أجلى ". وأخرج النسائي وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن
أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه أيضا قال: لما نزلت (إذا جاء نصر الله والفتح) نعيت لرسول الله نفسه حين
أنزلت، فأخذ في أشد ما كان قط اجتهادا في أمر الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أم حبيبة قالت
" لما أنزل (إذا جاء نصر الله والفتح) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لم يبعث نبيا إلا عمر في أمته
شطر ما عمر النبي الماضي قبله، فإن عيسى ابن مريم كان أربعين سنة في بني إسرائيل، وهذه لي عشرون سنة وأنا
ميت في هذه السنة، فبكت فاطمة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنت أول أهلي بي لحوقا، فتبسمت ".
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال " لما نزلت (إذا جاء نصر الله والفتح) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
508

فاطمة وقال: إنه قد نعيت إلى نفسي، فبكت ثم ضحكت، وقالت: أخبرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت؟
فقال: اصبري فإنك أول أهلي لحاقا بي فضحكت " وقد تقدم في تفسير سورة الزلزلة أن هذه السورة تعدل
ربع القرآن.
سورة النصر (1 - 3)
النصر: العون، مأخوذ من قولهم: قد نصر الغيث الأرض: إذا أعان على نباتها ومنع من قحطها، ومنه
قول الشاعر:
إذا انصرف الشهر الحرام فودعي * بلاد تميم وانصري أرض عامر
يقال نصره على عدوه ينصره نصرا: إذا أعانه، والاسم النصرة، واستنصره على عدوه: إذا سأله أن ينصره
عليه. قال الواحدي: قال المفسرون (إذا جاء) ك يا محمد (نصر الله) على من عاداك، وهم قريش (والفتح)
فتح مكة، وقيل المراد نصره صلى الله عليه وآله وسلم على قريش من غير تعيين، وقيل نصره على من قاتله من
الكفار، وقيل هو فتح سائر البلاد، وقيل هو ما فتحه الله عليه من العلوم، وعبر عن حصول النصر والفتح
بالمجئ للإيذان بأنهما متوجهان إليه صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل إذا بمعنى قد، وقيل بمعنى إذ. قال الرازي:
الفرق بين النصر والفتح: أن الفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان منغلقا، والنصر كالسبب للفتح، فلهذا بدأ
بذكر النصر وعطف عليه الفتح، أو يقال النصر كمال الدين، والفتح إقبال الدنيا الذي هو تمام النعمة، أو يقال
النصر الظفر، والفتح الجنة، هذا معنى كلامه. ويقال الأمر أوضح من هذا وأظهر، فإن النصر هو التأييد الذي
يكون به قهر الأعداء وغلبهم والاستعلاء عليهم، والفتح هو فتح مساكن الأعداء ودخول منازلهم (ورأيت
الناس يدخلون في دين الله أفواجا) أي أبصرت الناس من العرب وغيرهم يدخلون في دين الله الذي بعثك به
جماعات فوجا بعد فوج. قال الحسن: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة قال العرب: أما إذ ظفر
محمد بأهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان، فكانوا يدخلون في دين الله أفواجا:
أي جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون واحدا واحدا، واثنين اثنين، فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام.
قال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن، وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين، وانتصاب أفواجا
على الحال من فاعل يدخلون، ومحل قوله يدخلون في دين الله النصب على الحال إن كانت الرؤية بصرية، وإن
كانت بمعنى العلم فهو في محل نصب على أنه المفعول الثاني (فسبح بحمد ربك) هذا جواب الشرط، وهو العامل
فيه، والتقدير: فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله. وقال مكي: العامل في إذا هو جاء، ورجحه أبو حيان
وضعف الأول بأن ما جاء بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها، وقوله (بحمد ربك) في محل نصب على الحال:
أي فقل سبحان الله ملتبسا بحمده، أو حامدا له. وفيه الجمع بين تسبيح الله المؤذن بالتعجب مما يسره الله له مما لم
يكن يخطر بباله ولا بال أحد من الناس، وبين الحمد له على جميل صنعه له وعظيم منته عليه بهذه النعمة التي هي
509

النصر والفتح لأم القرى التي كان أهلها قد بلغوا في عداوته إلى أعلى المبالغ حتى أخرجوه منها بعد أن افتروا عليه
من الأقوال الباطلة، والأكاذيب المختلفة ما هو معروف من قولهم: هو مجنون، هو ساحر، هو شاعر، هو
كاهن، ونحو ذلك. ثم ضم سبحانه إلى ذلك أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار: أي اطلب منه المغفرة
لذنبك هضما لنفسك واستقصارا لعملك، واستدراكا لما فرط منك من ترك ما هو الأولى، وقد كان صلى الله
عليه وآله وسلم يرى قصوره عن القيام بحق الله ويكثر من الاستغفار والتضرع وإن كان قد غفر الله له ما تقدم
من ذنبه وما تأخر. وقيل إن الاستغفار منه صلى الله عليه وآله وسلم ومن سائر الأنبياء هو تعبد تعبدهم الله به،
لا لطلب المغفرة لذنب كائن منهم. وقيل إنما أمره الله سبحانه بالاستغفار تنبيها لأمته وتعريضا بهم، فكأنهم هم
المأمورون بالاستغفار. وقيل إن الله سبحانه أمره بالاستغفار لأمته لا لذنبه. وقيل المراد بالتسبيح هنا الصلاة.
والأولى حمله على معنى التنزيه مع ما أشرنا إليه من كون فيه معنى التعجب سرورا بالنعمة، وفرحا بما هيأه الله من
نصر الدين، وكبت أعدائه ونزول الذلة بهم وحصول القهر لهم. قال الحسن: أعلم الله رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والتوبة ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح، فكان يكثر أن
يقول: سبحانك اللهم وبحمدك اغفر لي إنك أنت التواب. قال قتادة ومقاتل: وعاش صلى الله عليه وآله وسلم
بعد نزول هذه السورة سنتين، وجملة (إنه كان توابا) تعليل لأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار: أي من
شأنه التوبة على المستغفرين له يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم، وتواب من صيغ المبالغة، ففيه دلالة على أنه
سبحانه مبالغ في قبول توبة التائبين. وقد حكى الرازي في تفسيره اتفاق الصحابة على أن هذه السورة دلت على
نعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عمر سألهم عن قول الله (إذا جاء نصر الله والفتح) فقالوا: فتح
المدائن والقصور، قال: فأنت يا ابن عباس ما تقول؟ قال: قلت مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم
نعيت له نفسه. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم
وجد في نفسه فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من قد علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخله
معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل (إذا جاء نصر الله
والفتح)؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي:
أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت لا، فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أعلمه الله له، قال (إذا جاء نصر الله والفتح) فذلك علامة أجلك (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) فقال
عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول. وأخرج ابن النجار عن سهل بن سعد عن أبي بكر أن سورة (إذا جاء نصر الله
والفتح) حين أنزلت على رسول الله أن نفسه نعيت إليه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن
مردويه عن عائشة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من قول: سبحان الله وبحمده، وأستغفره
وأتوب إليه، فقلت: يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه، فقال:
خبرني ربي أني سأرى علامة من أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب
إليه، فقد رأيتها (إذا جاء نصر الله والفتح) فتح مكة (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد
ربك واستغفره إنه كان توابا) ". وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن عائشة
قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك،
510

اللهم اغفر لي يتأول القرآن " يعني إذا جاء نصر الله والفتح، وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن مردويه عن
أبي هريرة قال " لما نزلت (إذا جاء نصر الله والفتح) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: جاء أهل اليمن
هم أرق قلوبا، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية ". وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال
" بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة إذ قال الله أكبر قد جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن،
قوم رقيقة قلوبهم لينة طاعتهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية ". وأخرج ابن مردويه عن جابر بن
عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا وسيخرجون
منه أفواجا ". وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال " تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ورأيت
الناس يدخلون في دين الله أفواجا) قال: ليخرجن منه أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا ".
تفسير سورة تبت
هي خمس آيات
وهي مكية بلا خلاف. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة قالوا: نزلت (تبت يدا
أبي لهب) بمكة.
سورة تبت (1 - 5)
معنى (تبت) هلكت. وقال مقاتل: خسرت، وقيل خابت. وقال عطاء: ضلت. وقيل صفرت من كل
خير، وخص اليدين بالتباب، لأن أكثر العمل يكون بهما. وقيل المراد باليدين نفسه، وقد يعبر باليد عن
النفس، كما في قوله - بما قدمت يداك - أي نفسك، والعرب تعبر كثيرا ببعض الشئ عن كله، كقولهم: أصابته
يد الدهر، وأصابته يد المنايا، كما في قول الشاعر:
لما أكبت يد الرزايا * عليه نادي ألا مخبر
وأبو لهب اسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم، وقوله (وتب) أي هلك. قال الفراء: الأول دعاء
عليه، والثاني خبر، كما تقول: أهلكه الله، وقد هلك. والمعنى: أنه قد وقع ما دعا به عليه ويؤيده قراءة ابن
مسعود: وقد تب. وقيل كلاهما إخبار، أراد بالأول هلاك عمله، وبالثاني هلاك نفسه. وقيل كلاهما دعاء
عليه، ويكون في هذا شبه من مجئ العام بعد الخاص، وإن كان حقيقة اليدين غير مرادة، وذكره سبحانه
بكنيته لاشتهاره بها، ولكون اسمه كما تقدم عبد العزى، والعزى اسم صنم، ولكون في هذه الكنة ما يدل
على أنه ملابس للنار، لأن اللهب هي لهب النار، وإن كان إطلاق ذلك عليه في الأصل لكونه كان جميلا، وأن
وجهه يتلهب لمزيد حسنه كما تتلهب النار. قرأ الجمهور " لهب " بفتح اللام والهاء. وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير
511

وابن محيصن بإسكان الهاء، واتفقوا على فتح الهاء في قوله (ذات لهب) وروى صاحب الكشاف أنه قرئ تبت
يدا أبو لهب، وذكر وجه ذلك (ما أغنى عنه ماله وما كسب) أي ما دفع عنه ما حل به من التباب وما نزل به من
عذاب الله ما جمع من المال ولا ما كسب من الأرباح والجاه، أو المراد بقوله: ماله ما ورثه من أبيه، وبقوله (وما
كسب) الذي كسبه بنفسه. قال مجاهد: وما كسب من ولد، وولد الرجل من كسبه، ويجوز أن تكون " ما "
في قوله (ما أغنى) استفهامية: أي أي شئ أغنى عنه؟ وكذا يجوز في قوله (وما كسب) أن تكون استفهامية:
أي وأي شئ كسب؟ ويجوز أن تكون مصدرية أي وكسبه. والظاهر أن ما الأولى نافية، والثانية موصولة. ثم
أوعده سبحانه بالنار فقال (سيصلى نارا ذات لهب) قرأ الجمهور " سيصلى " بفتح الياء وإسكان الصاد وتخفيف
اللام: أي سيصلى هو بنفسه، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوة وابن مقسم والأشهب العقيلي وأبو السماك والأعمش
ومحمد بن السميفع بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير، والمعنى سيصليه
الله، ومعنى (ذات لهب) ذات اشتعال وتوقد، وهي نار جهنم (وامرأته حمالة الحطب) معطوف على الضمير
في يصلى، وجاز ذلك للفصل: أي وتصلى امرأته نارا ذات لهب، وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان،
وكانت تحمل الغضى والشوك فتطرحه بالليل على طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كذا قال ابن زيد والضحاك
والربيع بن أنس ومرة الهمداني. وقال مجاهد وقتادة والسدي: إنها كانت تمشي بالنميمة بين الناس. والعرب
تقول: فلان يحطب على فلان: إذا نم به، ومنه قول الشاعر:
إن بني الأدرم حمالوا الحطب * هم الوشاة في الرضا والغضب * عليهم اللعنة تترى والحرب
وقال آخر:
من البيض لم يصطد على ظهر لامة * ولم يمش بين الناس بالحطب الرطب
وجعل الحطب في هذا البيت رطبا لما فيه من التدخين الذي هو زيادة في الشر، ومن الموافقة للمشي بالنميمة،
وقال سعيد بن جبير: معنى حمالة الحطب أنها حمالة الخطايا والذنوب، من قولهم: فلان يحتطب على ظهره، كما
في قوله - وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم - وقيل المعنى: حمالة الحطب في النار. قرأ الجمهور " حمالة " بالرفع
على الخبرية على أنها جملة مسوقة للإخبار بأن امرأة أبي لهب حمالة الحطب، وأما على ما قدمنا من عطف وامرأته على
الضمير في تصلى، فيكون رفع حمالة على النعت لامرأته، والإضافة حقيقية لأنها بمعنى المضي، أو على أنه خبر
مبتدإ محذوف: أي هي حمالة. وقرأ عاصم بنصب " حمالة " على الذم، أو على أنه حال من امرأته. وقرأ أبو قلابة
" حاملة الحطب " (في جيدها حبل من مسد) الجملة في محل نصب على الحال من امرأته، والجيد العنق، والمسد
الليف الذي تفتل منه الحبال، ومنه قول النابغة:
مقذوفة بدحيض النحض نازلها * له صريف صريف القعواء بالمسد
وقول الآخر: يا مسد الخوص تعوذ منى * إن كنت لدنا لينا فإني
وقال أبو عبيدة: المسد هو الحبل يكون من صوف. وقال الحسن: هي حبال تكون من شجر ينبت باليمن
تسمى بالمسد. وقد تكون الحبال من جلود الإبل أو من أوبارها. قال الضحاك وغيره: هذا في الدنيا، كانت
تعير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في عنقها فخنقها الله به فأهلكها، وهو في
الآخرة حبل من نار. وقال مجاهد وعروة بن الزبير: هو سلسلة من نار تدخل في فيها وتخرج من أسفلها. وقال
قتادة: هو قلادة من ودع كانت لها. قال الحسن: إنما كان خرزا في عنقها. وقال سعيد بن المسيب: كانت
512

لها قلادة فاخرة من جوهر، فقالت: واللات والعزى لأنفقنها في عداوة محمد، فيكون ذلك عذابا في جسدها يوم
القيامة. والمسد الفتل يقال: مسد حبله يمسده مسدا: أجاد فتله اه‍.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال: " لما نزلت - وأنذر عشيرتك الأقربين - خرج النبي
صلى الله عليه وآله وسلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا
تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب
شديد، فقال أبو لهب: تبا لك إنما جمعتنا لهذا؟ ثم قام فنزلت هذه السورة (تبت يدا أبي لهب وتب) ". وأخرج
عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (تبت يدا أبي لهب) قال: خسرت. وأخرج ابن
أبي حاتم عن عائشة قالت: إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ابنه من كسبه، ثم قرأت (ما أغنى عنه ماله
وما كسب) قالت: وما كسب ولده. وأخرج عبد الرزاق والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (وما
كسب) قال: كسبه ولده. وأخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن ابن عباس في قوله (وامرأته
(حمالة الحطب) قال: كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليعقره وأصحابه، وقال
حمالة الحطب) نقالة الحديث (حبل من مسد) قال: هي حبال تكون بمكة. ويقال: المسد العصا التي تكون في
البكرة. ويقال: المسد قلادة من ودع. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو زرعة عن أسماء بنت أبي بكر قالت " لما نزلت
(تبت يدا أبي لهب) أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة، وفي يدها فهر، وهي تقول:
مذمما أبينا * ودينه قلينا * وأمره عصينا
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال يا رسول الله
قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنها لن تراني وقرأ قرآنا اعتصم به كما
قال تعالى - وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا - فأقبلت حتى وقفت على
أبي بكر ولم تر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني، قال:
لا ورب البيت ما هجاك، فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها " وأخرجه البزار بمعناه، وقال:
لا نعلمه يروى بأحسن من هذا الإسناد.
تفسير سورة الإخلاص
هي أربع آيات
وهي مكية في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة
والضحاك والسدي. وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير وابن خزيمة وابن أبي عاصم في
السنة والبغوي في معجمه وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي
ابن كعب " أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا محمد انسب لنا ربك، فأنزل الله - قل هو الله
أحد، لم يلد ولم يولد، الخ ليس شئ يولد إلا سيموت، وليس شئ يموت إلا سيورث، وإن الله لا يموت
ولا يورث - ولم يكن له كفوا أحد - قال: لم يكن له شبيه ولا عدل، وليس كمثله شئ " ورواه الترمذي من
طريق أخرى عن أبي العالية مرسلا ولم يذكر أبيا، ثم قال: وهذا أصح. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر
513

والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي عن جابر قال " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: انسب لنا ربك، فأنزل الله (قل هو الله أحد) إلى آخر السورة " وحسن السيوطي إسناده. وأخرج
الطبراني وأبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود قال " قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انسب لنا
ربك فنزلت هذه السورة (قل هو الله أحد) ". وأخرج ابن أبي حاتم وابن عدي والبيهقي في الأسماء والصفات عن
ابن عباس " أن اليهود جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منهم كعب بن الأشرف وحيى بن أخطب،
فقالوا: يا محمد صف لنا ربك الذي بعثك، فأنزل الله (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد) فيخرج منه الولد.
ولم يولد، فيخرج منه شئ ". وأخرج أبو عبيد في فضائله وأحمد والنسائي في اليوم والليلة وابن منيع ومحمد بن
نصر وابن مردويه والضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ قل
هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن ". وأخرج ابن الضريس والبزار والبيهقي في الشعب عن أنس عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم " من قرأ قل هو الله أحد مائتي مرة غفر له ذنب مائتي سنة ". قال البزار: لا نعلم رواه عن أنس
إلا الحسن بن أبي جعفر والأغلب بن تميم، وهما يتقاربان في سوء الحفظ. وأخرج أحمد والترمذي وابن الضريس
والبيهقي في سننه عن أنس قال " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أحب هذه السورة
(قل هو الله أحد)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حبك إياها أدخلك الجنة ". وأخرج ابن الضريس
وأبو يعلى وابن الأنباري في المصاحف عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " أما
يستطيع أحدكم أن يقرأ (قل هو الله أحد) ثلاث مرات في ليلة؟ فإنها تعدل ثلث القرآن " وإسناده ضعيف. وأخرج
محمد بن نصر وأبو يعلى عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " من قرأ (قل هو الله أحد) خمسين
مرة غفر له ذنوب خمسين سنة " وإسناده ضعيف. وأخرج الترمذي وابن عدي والبيهقي في الشعب عن أنس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ (قل هو الله أحد) مائتي مرة، كتب الله له ألفا وخمسمائة حسنة،
ومحى عنه ذنوب خمسين سنة، إلا أن يكون عليه دين " وفي إسناده حاتم بن ميمون ضعفه البخاري وغيره، ولفظ
الترمذي " من قرأ في يوم مائتي مرة (قل هو الله أحد)، محى عنه ذنوب خمسين سنة، إلا أن يكون عليه دين "،
وفي إسناده حاتم بن ميمون المذكور. وأخرج الترمذي ومحمد بن نصر وأبو يعلى وابن عدي والبيهقي عن أنس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من أراد أن ينام على فراشه من الليل فنام على يمينه، ثم قرأ (قل هو
الله أحد) مائة مرة، فإذا كان يوم القيامة يقول له الرب: يا عبدي ادخل على يمينك الجنة " وفي إسناده أيضا حاتم
ابن ميمون المذكور. قال الترمذي بعد إخراجه: غريب من حديث ثابت. وقد روى من غير هذا الوجه عنه.
وأخرج ابن سعد وابن الضريس وأبو يعلى والبيهقي في الدلائل عن أنس قال " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بالشام، وفي لفظ: بتبوك فهبط جبريل فقال: يا محمد إن معاوية بن معاوية المزني هلك، أفتحب أن تصلي
عليه؟ قال نعم، فضرب بجناحه الأرض فتضعضع له كل شئ ولزق بالأرض ورفع له سريره فصلى عليه، فقال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أي شئ أوتى معاوية هذا الفضل، صلى عليه صفان من الملائكة في كل صف
ستة آلاف ملك؟ قال: بقراءة (قل هو الله أحد) كان يقرؤها قائما وقاعدا وجائيا وذاهبا ونائما "، وفي إسناده
العلاء بن محمد الثقفي وهو متهم بالوضع. وروى عنه من وجه آخر بأطول من هذا، وفي إسناده هذا المتهم. وفي
الباب أحاديث في هذا المعنى وغيره. وقد روى من غير الوجه أنها تعدل ثلث القرآن، وفيها ما هو صحيح وفيها
ما هو حسن، فمن ذلك ما أخرجه مسلم والترمذي وصححه وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
514

عليه وآله وسلم " احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقرأ (قل هو الله أحد) ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإني سأقرأ
عليكم ثلث القرآن، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني قلت سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها
تعدل ثلث القرآن ". وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن " يعني (قل هو الله أحد). وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما
من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن
في ليلة؟ فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك؟ فقال: الله الواحد الصمد ثلث القرآن ". وأخرج مسلم وغيره
من حديث أبي الدرداء نحوه. وقد روى نحو هذا بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة وحديث ابن مسعود،
وحديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وروى نحو هذا عن غير هؤلاء بأسانيد بعضها حسن وبعضها ضعيف،
ولو لم يرد في فضل هذه السورة إلا حديث عائشة عند البخاري ومسلم وغيرهما " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بعث رجلا في سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: سلوه لأي شئ يصنع ذلك؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن
أقرأ بها، فقال: أخبروه أن الله تعالى يحبه " هذا لفظ البخاري في كتاب التوحيد. وأخرج البخاري أيضا في
كتاب الصلاة من حديث أنس قال " كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة
فقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بقل هو الله أحد حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع
ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى.
فإما أن تقرأ بها وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى، قال: ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم
تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم فكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبروه
الخبر، فقال: يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟
فقال: إني أحبها، قال: حبك إياها أدخلك الجنة " وقد روى بهذا اللفظ من غير وجه عند غير البخاري.
سورة الاخلاص (1 - 4)
قوله (قل هو الله أحد) الضمير يجوز أن يكون عائدا إلى ما يفهم من السياق لما قدمنا من بيان سبب النزول،
وأن المشركين قالوا: يا محمد انسب لنا ربك، فيكون مبتدأ، والله مبتدأ ثان، وأحد خبر المبتدأ الثاني، والجملة
خبر المبتدأ الأول، ويجوز أن يكون الله بدلا من هو، والخبر أحد. ويجوز أن يكون الله خبرا أول، وأحد
خبرا ثانيا، ويجوز أن يكون أحد خبرا لمبتدأ محذوف: أي هو أحد. ويجوز أن يكون هو ضمير شأن لأنه موضع
تعظيم، والجملة بعده مفسرة له وخبر عنه، والأول أولى. قال الزجاج: هو كناية عن ذكر الله، والمعنى: إن
سألتم تبيين نسبته هو الله أحد، قيل وهمزة أحد بدل من الواو وأصله واحد. وقال أبو البقاء: همزة أحد أصل
بنفسها غير مقلوبة، وذكر أن أحد يفيد العموم دون واحد، ومما يفيد الفرق بينهما ما قاله الأزهري: أنه
لا يوصف بالأحدية غير الله تعالى، لا يقال رجل أحد، ولا درهم أحد، كما يقال رجل واحد ودرهم واحد،
515

قيل والواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل فيه فإذا قلت لا يقاومه واحد جاز أن يقال لكنه يقاومه اثنان بخلاف
قولك لا يقاومه أحد. وفرق ثعلب بين واحد وبين أحد بأن الواحد يدخل في العدد، وأحد لا يدخل فيه. ورد عليه
أبو حيان بأنه يقال أحد وعشرون ونحوه فقد دخله العدد، وهذا كما ترى، ومن جملة القائلين بالقلب الخليل.
قرأ الجمهور " قل هو الله أحد " بإثبات قل. وقرأ عبد الله بن مسعود وأبى " الله أحد " بدون قل. وقرأ الأعمش
" قل هو الله الواحد " وقرأ الجمهور بتنوين أحد، وهو الأصل. وقرأ زيد بن علي وأبان بن عثمان وابن أبي إسحاق
والحسن وأبو السماك وأبو عمرو في رواية عنه بحذف التنوين للخفة كما في قول الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف
وقيل إن ترك التنوين لملاقاته لام التعريف، فيكون الترك لأجل الفرار من التقاء الساكنين. ويجاب عنه بأن
الفرار من التقاء الساكنين قد حصل مع التنوين بتحريك الأول منهما بالكسر (الله الصمد) الاسم الشريف مبتدأ،
والصمد خبره، والصمد هو الذي يصمد إليه في الحاجات: أي يقصد لكونه قادرا على قضائها، فهو فعل بمعنى
مفعول كالقبض بمعنى المقبوض لأنه مصمود إليه: أي مقصود إليه، قال الزجاج: الصمد السند الذي انتهى
إليه السودد فلا سيد فوقه. قال الشاعر:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد * بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وقيل معنى الصمد: الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزول. وقيل معنى الصمد ما ذكر بعده من أنه الذي لم يلد
ولم يولد. وقيل هو المستغنى عن كل أحد، والمحتاج إليه كل أحد. وقيل هو المقصود في الرغائب والمستعان به
في المصائب، وهذان القولان يرجعان إلى معنى القول الأول. وقيل هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقيل
هو الكامل الذي لا عيب فيه. وقال الحسن وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ومجاهد وعبد الله
ابن بريدة وعطاء وعطية العوفي والسدي: الصمد هو المصمت الذي لا جوف له، ومنه قول الشاعر:
شهاب حروب لا تزال جياده * عوابس يعلكن الشكيم المصمدا
وهذا لا ينافي القول الأول لجواز أن يكون هذا أصل معنى الصمد، ثم استعمل في السيد المصمود إليه في
الحوائج، ولهذا أطبق على القول الأول أهل اللغة وجمهور أهل التفسير، ومنه قول الشاعر:
علوته بحسام ثم قلت له * خذها حذيف فأنت السيد الصمد
وقال الزبرقان بن بدر:
سيروا جميعا بنصف الليل واعتمدوا * ولا رهينة إلا سيد صمد
وتكرير الاسم الجليل للإشعار بأن من لم يتصف بذلك فهو بمعزل عن استحقاق الألوهية، وحذف العاطف
من هذه الجملة لأنها كالنتيجة للجملة الأولى، وقيل إن الصمد صفة للاسم الشريف والخبر هو ما بعده، والأول
أولى لأن السياق يقتضي استقلال كل جمله (لم يلد ولم يولد) أي لم يصدر عنه ولد، ولم يصدر هو عن شئ،
لأنه لا يجانسه شئ ولاستحالة نسبة العدم إليه سابقا ولاحقا. قال قتادة: إن مشركي العرب قالوا: الملائكة
بنات الله. وقالت اليهود: عزيز ابن الله. وقالت النصارى: المسيح ابن الله فأكذبهم الله فقال (لم يلد ولم يولد)
قال الرازي: قدم ذكر نفى الولد مع أن الولد مقدم للاهتمام لأجل ما كان يقوله الكفار من المشركين: إن الملائكة
بنات الله، واليهود: عزيز ابن الله، والنصارى: المسيح ابن الله، ولم يدع أحد أن لا له والدا، فلهذا السبب بدأ بالأهم
516

فقال (لم يلد) ثم أشار إلى الحجة فقال (ولم يولد) كأنه قيل الدليل على امتناع الولد اتفاقنا على أنه ما كان ولدا
لغيره، وإنما عبر سبحانه بما يفيد انتفاء كونه لم يلد ولم يولد في الماضي ولم يذكر ما يفيد انتفاء كونه كذلك في
المستقبل لأنه ورد جوابا عن قولهم: ولد الله كما حكى الله عنهم بقوله - ألا إنهم من إفكهم سنة ليقولون ولد الله -
فلما كان المقصود من هذه الآية تكذيب قولهم، وهم إنما قالوا ذلك بلفظ يفيد النفي فيما مضى، وردت الآية لدفع
قولهم هذا (ولم يكن له كفوا أحد) هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها لأنه سبحانه إذا كان متصفا بالصفات
المتقدمة كان متصفا بكونه لم يكافئه أحد ولا يماثله ولا يشاركه في شئ، وأخر اسم كان لرعاية الفواصل، وقوله
" له " متعلق بقوله " كفوا " قدم عليه لرعاية الاهتمام، لأن المقصود نفى المكافأة عن ذاته. وقيل إنه في محل نصب
على الحال، والأول أولى. وقد رد المبرد على سيبويه بهذه الآية لأن سيبويه قال: إنه إذا تقدم الظرف كان هو
الخبر، وههنا لم يجعل خبرا مع تقدمه، وقد رد على المبرد بوجهين: أحدهما أن سيبويه لم يجعل ذلك حتما بل
جوزه. والثاني أنا لا نسلم كون الظرف هنا ليس بخبر، بل يجوز أن يكون خبرا ويكون كفوا منتصبا على الحال
وحكى في الكشاف عن سيبويه على أن الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر، واقتصر
في هذه الحكاية على نقل أول كلام سيبويه ولم ينظر إلى آخره، فإنه قال في آخر كلامه: والتقديم والتأخير والإلغاء
والاستقرار عربي جيد كثير انتهى. قرأ الجمهور " كفوا " بضم الكاف والفاء وتسهيل الهمزة، وقرأ الأعرج
وسيبويه ونافع في رواية عنه بإسكان الفاء، وروى ذلك عن حمزه مع إبداله الهمزة واوا وصلا ووقفا، وقرأ نافع
في رواية عنه " كفأ " بكسر الكاف وفتح الفاء من غير مد، وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس كذلك
مع المد، وأنشد قول النابغة * لا تقذفني بركن لا كفاء له * والكفء في لغة العرب النظير،
يقول هذا كفؤك: أي نظيرك، والاسم الكفاءة بالفتح.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والمحاملي في أماليه والطبراني وأبو الشيخ في العظمة عن بريد
لا أعلمه إلا رفعه. قال (الصمد) الذي لا جوف له، ولا يصح رفع هذا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن
ابن مسعود قال (الصمد) الذي لا جوف له، وفي لفظ: ليس له أحشاء. وأخرج ابن أبي عاصم وابن جرير
وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن المنذر عنه قال (الصمد) الذي لا يطعم،
وهو المصمت. وقال: أو ما سمعت النائحة وهي تقول:
لقد بكر الناعي بخير بني أسد * بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وكان لا يطعم عند القتال، وقد روى عنه أن الذي يصمد إليه في الحوائج، وأنه أنشد البيت واستدل به على
هذا المعنى، وهو أظهر في المدح وأدخل في الشرف، وليس لوصفه بأنه لا يطعم عند القتال كثير معنى. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق على
ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال (الصمد) السيد الذي قد كمل في سودده، والشريف الذي قد كمل في شرفه،
والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي
قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في
أنواع الشرف والسودد، وهو الله سبحانه هذه صفة لا تنبغي إلا له ليس له كفو وليس كمثله شئ. وأخرج
ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال (الصمد) هو السيد الذي قد انتهى سودده فلا
517

شئ أسود منه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال (الصمد) الذي تصمد إليه
الأشياء إذا نزل بهم كربة أو بلاء. وأخرج ابن جرير من طرق عنه في قوله (ولم يكن له كفوا أحد) قال:
ليس له كفوا ولا مثل.
تفسير سورة الفلق
هي خمس آيات
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة، وأخرج أحمد
والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق. قال السيوطي: صحيحه عن ابن مسعود أنه كان يحك المعوذتين في
المصحف يقول: لا تخلطوا القرآن بما ليس منه إنهما ليستا من كتاب الله، إنما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أن يتعوذ بهما، وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما. قال البزار: لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة، وقد صح عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف. وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم
عن زر بن حبيش قال " أتيت المدينة فلقيت أبي بن كعب، فقلت له: أبا المنذر إني رأيت ابن مسعود لا يكتب
المعوذتين في مصحفه، فقال: أما والذي بعث محمدا بالحق لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهما
وما سألني عنهما أحد منذ سأله غيرك، قال: قيل لي قل، فقلت فقولوا فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم ". وأخرج الطبراني عن ابن مسعود " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن هاتين السورتين،
فقال قيل لي، فقلت فقولوا كما قلت ". وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عقبة بن عامر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أنزلت علي الليلة آيات لم أر مثلهن قط (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ
برب الناس) ". وأخرج ابن الضريس وابن الأنباري والحاكم وصححه وابن مردويه في الشعب عن عقبة بن عامر
قال " قلت يا رسول الله: أقرئني سورة يوسف وسورة هود، قال: يا عقبة اقرأ بقل أعوذ برب الفلق، فإنك لن
تقرأ سورة أحب إلى الله وأبلغ منها، فإذا استطعت أن لا تفوتك فافعل ". وأخرج ابن سعد والنسائي والبغوي
والبيهقي عن أبي حابس الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " يا أبا حابس أخبرك بأفضل ما تعوذ
به المتعوذون؟ قال بلى يا رسول الله، قال (قل أعوذ برب الفلق - و - قل أعوذ برب الناس) هما المعوذتان ".
وأخرج الترمذي وحسنه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال " كان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يتعوذ من عين الجان ومن عين الإنس، فلما نزلت سورة المعوذتين أخذ بهما وترك ما سوى ذلك ".
وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن ابن مسعود " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكره عشر
خصال، ومنها أنه كان يكره الرقي إلا بالمعوذتين ". وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " من أحب السور إلى الله (قل أعوذ برب الفلق - و - قل أعوذ برب الناس) ". وأخرج
النسائي وابن الضريس وابن حبان في صحيحه وابن الأنباري وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال " أخذ بمنكبي
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال اقرأ، قلت: ما أقرأ بأبي أنت وأمي؟ قال: قل أعوذ برب الفلق، ثم
قال اقرأ، قلت: بأبي أنت وأمي ما أقرأ؟ قال: قل أعوذ برب الناس، ولم تقرأ بمثلهما ". وأخرج مالك في الموطأ
عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه
518

بالمعوذتين وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده عليه رجاء بركتهما ". وأخرجه البخاري ومسلم
في صحيحهما من طريق مالك بالإسناد المذكور. وأخرج عبد بن حميد في مسنده عن زيد بن أرقم قال " سجر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم رجل من اليهود، فاشتكى فأتاه جبريل، فنزل عليه بالمعوذتين، وقال: إن رجلا من
اليهود سحرك، والسحر
في بئر فلان، فأرسل عليا فجاء به فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية ويحل حتى قام النبي صلى
الله عليه وآله وسلم كأنما نشط من عقال ". وأخرجه ابن مردويه والبيهقي من حديث عائشة مطولا، وكذلك
أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عباس. وقد ورد في فضل المعوذتين، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم لهما في الصلاة وغيرهما أحاديث، وفيما ذكرناه كفاية. وأخرج الطبراني في الصغير عن علي بن
أبي طالب قال " لدغت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقرب وهو يصلي، فلما فرغ قال: لعن الله العقرب
لا تدع مصليا ولا غيره، ثم دعا بماء وملح وجعل يمسح عليها ويقرأ: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، وقل
أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس ".
سورة الفلق (1 - 5)
(الفلق) الصبح، يقال: هو أبين من فلق الصبح، وسمي فلقا لأنه يفلق عنه الليل، وهو فعل بمعنى مفعول:
قال الزجاج: لأن الليل ينفلق عنه الصبح، ويكون بمعنى مفعول، يقال: هو أبين من فلق الصبح، ومن فرق
الصبح، وهذا قول جمهور المفسرين، ومنه قول ذي الرمة:
حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق * هادئة في أخريات الليل منتصب
وقول الآخر:
يا ليلة لم أتمها بت مرتفقا * أرعى النجوم لي أن نور الفلق
وقيل هو سجن في جهنم، وقيل هو اسم من أسماء جهنم، وقيل شجرة في النار، وقيل هو الجبال والصخور،
لأنها تفلق بالمياه أي تشقق، وقيل هو التفليق بين الجبال، لأنها تنشق من خوف الله. قال النحاس: يقال لكل
ما اطمأن من الأرض فلق، ومنه قول زهير:
ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت * أيدي الركاب بهم من راكس فلقا
والراكس: بطن الوادي، ومثله قول النابغة * ودوني راكس فالضواجع * وقيل هو الرحم
تنفلق بالحيوان، وقيل هو كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله من الحيوان والصبح والحب والنوى وكل شئ من
نبات وغيره قاله الحسن والضحاك. قال القرطبي: هذا القول يشهد له الانشقاق، فإن الفلق الشق، فلقت
الشئ فلقا: شققته، والتفليق مثله، يقال فلقته فانفلق وتفلق، فكل ما انفلق عن شئ من حيوان وصبح وحب
ونوى وماء فهو فلق. قال الله سبحانه - فالق الإصباح - وقال - فالق الحب والنوى - انتهى. والقول الأول أولى
لأن المعنى وإن كان أعم منه وأوسع مما تضمنه لكنه المتبادر عند الإطلاق. وقد قيل في وجه تخصيص الفلق الإيماء
519

إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم يقدر أيضا أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه،
وقيل طلوع الصبح كالمثال لمجئ الفرح، فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظرا لطلوع الصباح، كذلك الخائف
يكون مترقبا لطلوع صباح النجاح، وقيل غير هذا مما هو مجرد بيان مناسبة ليس فيها كثير فائدة تتعلق بالتفسير
(من شر ما خلق) متعلق بأعوذ: أي من شر كل ما خلقه سبحانه من جميع مخلوقاته فيعم جميع الشرور، وقيل هو
إبليس وذريته، وقيل جهنم، ولا وجه لهذا التخصيص كما أنه لا وجه لتخصيص من خصص هذا العموم بالمضار
البدنية. وقد حرف بعض المتعصبين هذه الآية مدافعة عن مذهبه وتقويما لباطله، فقرءوا بتنوين شر على أن " ما "
نافية، والمعنى: من شر لم يخلقه، ومنهم عمرو بن عبيد وعمرو بن عائذ (ومن شر غاسق إذا وقب) الغاسق الليل،
والغسق الظلمة، يقال غسق الليل يغسق إذا أظلم. قال الفراء: يقال غسق الليل وأغسق إذا أظلم، ومنه قول
قيس بن الرقيات:
إن هذا الليل قد غسقا * واشتكيت الهم والأرقا
وقال الزجاج: قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار، والغاسق البارد، والغسق البرد، ولأن في الليل تخرج
السباع من آجامها والهوام من أماكنها وينبعث أهل الشر على العبث والفساد، كذا قال، وهو قول بارد، فإن
أهل اللغة على خلافه، وكذا جمهور المفسرين. ووقوبه: دخول ظلامه، ومنه قول الشاعر:
وقب العذاب عليهم فكأنهم * لحقتهم نار السموم فأخمدوا
أي دخل العذاب عليهم، ويقال وقبت الشمس: إذا غابت، وقيل الغاسق الثريا، وذلك أنها إذا سقطت
كثرت الأسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك، وبه قال ابن زيد. وهذا محتاج إلى نقل عن العرب أنهم
يصفون الثريا بالغسوق. وقال الزهري: هو الشمس إذا غربت، وكأنه لاحظ معنى الوقوب ولم يلاحظ معنى
الغسوق، وقيل هو القمر إذا خسف، وقيل إذا غاب. وبهذا قال قتادة وغيره، واستدلوا بحديث أخرجه أحمد
والترمذي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه، وابن مردويه عن عائشة قالت " نظر
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما إلى القمر لما طلع فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا
هو الغاسق إذا وقب ". قال الترمذي: بعد إخراجه حسن صحيح، وهذا لا ينافي قول الجمهور، لأن القمر آية
الليل ولا يوجد له سلطان إلا فيه، وهكذا يقال في جواب من قال إنه الثريا. قال ابن الأعرابي: في تأويل هذا
الحديث: وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر. وقيل الغاسق: الحية إذا لدغت. وقيل الغاسق: كل
هاجم يضر كائنا ما كان، من قولهم غسقت القرحة: إذا جرى صديدها. وقيل الغاسق هو السائل، وقد عرفناك
أن الراجح في تفسير هذه الآية هو ما قاله أهل القول الأول، ووجه تخصيصه أن الشر فيه أكثر، والتحرز من
الشرور فيه أصعب، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل (ومن شر النفاثات في العقد) النفاثات هن السواحر: أي
ومن شر النفوس النفاثات، أو النساء النفاثات، والنفخ كما يفعل ذلك من يرقى ويسحر، قيل مع ريق،
وقيل بدون ريق، والعقد جمع عقدة، وذلك أنهن كن ينفثن في عقد الخيوط حين يسحرن بها، ومنه قول
عنترة: فان يبرأ فلم أنفث عليه * وإن يعقد فحق له العقود
وقول متمم بن نويرة:
نفث في الخيط شبيه الرقي * من خشية الجنة والحاسد
520

قال أبو عبيدة: النفاثات هن بنات لبيد الأعصم اليهودي، سحرن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قرأ
الجمهور " النفاثات " جمع نفاثة على المبالغة. وقرأ يعقوب وعبد الرحمن بن ساباط وعيسى بن عمر " النافثات " جمع
نافثة. وقرأ الحسن " النفاثات " بضم النون. وقرأ أبو الربيع " النفثات " بدون ألف (ومن شر حاسد إذا حسد)
الحسد: تمنى زوال النعمة التي أنعم الله بها على المحسود، ومعنى إذا حسد: إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل
بمقتضاه وحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود. قال عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالما أشبه بالمظلوم من حاسد، وقد
نظم الشاعر: هذا المعنى فقال:
قل للحسود إذا تنفس طعنة * يا ظالما وكأنه مظلوم
ذكر الله سبحانه في هذه السورة إرشاد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاستعاذة من شر كل مخلوقاته
على العموم، ثم ذكر بعض الشرور على الخصوص مع اندراجه تحت العموم لزيادة شره ومزيد ضره، وهو
الغاسق والنفاثات والحاسد، فكأن هؤلاء لما فيهم من مزيد الشر حقيقون بإفراد كل واحد منهم بالذكر.
وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن عبسة قال " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ (قل أعوذ
برب الفلق) فقال: يا ابن عبسة أتدري ما الفلق؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: بئر في جهنم ". وأخرجه ابن
أبي حاتم من قول عمرو بن عبسة غير مرفوع. وأخرج ابن مردويه عن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " اقرأ (قل أعوذ برب الفلق) هل تدري ما الفلق؟ باب في النار إذا فتحت سعرت جهنم "
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال " سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن
قول الله عز وجل (قل أعوذ برب الفلق) فقال: هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون، وإن جهنم
لتتعوذ بالله منه ". وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " الفلق جب في جهنم ".
وهذه الأحاديث لو كانت صحيحة ثابته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكان المصير إليها واجبا،
والقول بها متعينا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الفلق سجن في جهنم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: الفلق الصبح. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: الفلق الخلق. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (ومن شر غاسق إذا وقب) وقال: النجم هو الغاسق، وهو الثريا.
وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من وجه آخر عنه غير مرفوع. وقد قدمنا تأويل هذا، وتأويل ما ورد أن
الغاسق القمر. وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا ارتفعت النجوم
رفعت كل عاهة عن كل بلد " وهذا لو صح لم يكن فيه دليل على أن الغاسق هو النجم أو النجوم. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر عن ابن عباس (ومن شر غاسق إذا وقب) قال: الليل إذا أقبل. وأخرج ابن المنذر عن ابن
عباس (ومن شر النفاثات في العقد) قال: الساحرات. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: هو ما خالط السحر
من الرقي. وأخرج النسائي وابن مردويه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " من عقد عقدة ثم
نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئا وكل إليه ". وأخرج ابن سعد وابن ماجة والحاكم وابن
مردويه عن أبي هريرة قال " جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعودني فقال: ألا أرقيك برقية رقاني بها جبريل؟
521

فقلت: بلى بأبي أنت وأمي، قال: بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء فيك " (من شر النفاثات في العقد ومن
شر حاسد إذا حسد) فرقى بها ثلاث مرات ". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (ومن شر حاسد إذا
حسد) قال: نفس ابن آدم وعينه اه‍.
تفسير سورة الناس
هي ست آيات
والخلاف في كونها مكية أو مدنية كالخلاف الذي تقدم في سورة الفلق. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس
قال: أنزل بمكة (قل أعوذ برب الناس). وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: أنزل بالمدينة (قل أعوذ
برب الناس) وقد قدمنا في سورة الفلق ما ورد في سبب نزول هذه السورة وما ورد في فضلها فارجع إليه.
سورة الناس (1 - 6)
قرأ الجمهور (قل أعوذ) بالهمزة. وقرئ بحذفها ونقل حركتها إلى اللام. وقرأ الجمهور بترك الإمالة في الناس،
وقرأ الكسائي بالإمالة. ومعنى رب الناس: مالك أمرهم ومصلح أحوالهم، وإنما قال رب الناس مع أنه رب جميع
مخلوقاته للدلالة على شرفهم، ولكون الاستعاذة وقعت من شر ما يوسوس في صدورهم، وقوله (ملك الناس)
عطف بيان جئ به لبيان أن ربيته سبحانه ليست كربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم، بل بطريق
الملك الكامل، والسلطان القاهر (إله الناس) هو أيضا عطف بيان كالذي قبله لبيان أن ربوبيته وملكه قد انضم
إليهما المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلى بالاتحاد والإعدام، وأيضا الرب
قد يكون ملكا، وقد لا يكون ملكا، كما يقال رب الدار ورب المتاع، ومنه قوله - اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا
من دون الله - فبين أنه ملك الناس. ثم الملك قد يكون إلها، وقد لا يكون، فبين أنه إله لأن اسم الإله خاص به
لا يشاركه فيه أحد، وأيضا بدأ باسم الرب وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه من أوائل عمره إلى أن صار عاقلا
كاملا، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك فذكر أنه ملك الناس. ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه،
وأنه عبد مخلوق وأن خالقه إله معبود بين سبحانه أنه إله الناس، وكرر لفظ الناس في الثلاثة المواضع لأن عطف
البيان يحتاج إلى مزية الإظهار، ولأن التكرير يقتضي مزيد شرف الناس (من شر الوسواس) قال الفراء: هو
بفتح الواو بمعنى الاسم: أي الموسوس، وبكسرها المصدر: أي الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، وقيل هو
بالفتح اسم بمعنى الوسوسة، والوسوسة: هي حديث النفس، يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة: أي حدثته
حديثا، وأصلها الصوت الخفي، ومنه قيل لأصوات الحلى وسواس، ومنه قول الأعشى:
تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت * قال الزجاج: الوسواس هو الشيطان: أي ذي الوسواس،
522

ويقال إن الوسواس ابن لإبليس، وقد سبق تحقيق معنى الوسوسة في تفسير قوله - فوسوس لهما الشيطان - ومعنى
(الخناس) كثير الخنس، وهو التأخر، يقال خنس يخنس: إذا تأخر، ومنه قول العلاء بن الحضرمي يمدح
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
فإن دخسوا بالشر فاعف تكرما * وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل
قال مجاهد: إذا ذكر الله خنس وانقبض، وإذا لم يذكر انبسط على القلب. ووصف بالخناس لأنه كثير
الاختفاء، ومنه قوله تعالى - فلا أقسم بالخنس - يعني النجوم لاختفائها بعد ظهورها كما تقدم، وقيل الخناس
اسم لابن إبليس كما تقدم في الوسواس (الذي يوسوس في صدور الناس) الموصول يجوز أن يكون في محل جر
نعتا للوسواس، ويجوز أن يكون منصوبا على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعا على تقدير مبتدإ. وقد تقدم معنى
الوسوسة. قال قتادة: إن الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا غفل ابن آدم عن ذكر الله
وسوس له، وإذا ذكر العبد ربه خنس. قال مقاتل: إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم
في عروقه سلطه الله على ذلك، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفي يصل إلى القلب من غير سماع صوت،
ثم بين سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان: جني وإنسي، فقال (من الجنة والناس) أما شيطان الجن فيوسوس
في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فوسوسته في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق فيوقع في
الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته كما قال سبحانه - شياطين الإنس
والجن - ويجوز أن يكون متعلقا بيوسوس: أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ومن جهة الناس، ويجوز
أن يكون بيانا للناس. قال الرازي وقال قوم: من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله (في صدور الناس)
لأن القدر المشترك بين الجن والإنس يسمى إنسانا، والإنسان أيضا يسمى إنسانا، فيكون لفظ الإنسان واقعا على
الجنس والنوع بالاشتراك. والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجن ما روى أنه جاء نفر من
الجن، فقيل لهم: من أنتم؟ قالوا: ناس من الجن. وأيضا قد سماهم الله رجالا في قوله - وأنه كان رجال من
الإنس يعوذن لو برجال من الجن - وقيل يجوز أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس الذي
يوسوس في صدور الناس ومن الجنة والناس، كأنه استعاذ ربه من ذلك الشيطان الواحد، ثم استعاذ بربه من
جميع الجنة والناس، وقيل المراد بالناس الناسي وسقطت الياء كسقوطها في قوله - يوم يدع الداع - ثم بين بالجنة
والناس لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان، وأحسن من هذا أن يكون قوله (والناس)
معطوفا على الوسواس: أي من شر الوسواس ومن شر الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس. قال
الحسن: أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من
الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين، فنعوذ بالله من شياطين الجن والإنس، وقيل إن إبليس يوسوس في
صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس، وواحد الجنة جنى كما أن واحد الإنس إنسي. والقول الأول هو
أرجح هذه الأقوال، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلا بالمعنى الذي قدمنا، ويكون هذا
البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة.
وقد أخرج ابن أبي داود عن ابن عباس في قوله (الوسواس الخناس) قال: مثل الشيطان كمثل ابن عرس
واضع فمه على فم القلب فيوسوس إليه، فإن ذكر الله خنس، وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخناس.
523

وأخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وأبو يعلى وابن شاهين والبيهقي في الشعب عن أنس عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال " إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس، وإن نسيه التقم قلبه، فذلك
الوسواس الخناس ". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله " الوسواس الخناس "
قال: الشيطان جاث على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس. وأخرج ابن أبي الدنيا
وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة، والبيهقي عنه قال: ما من مولود
يولد إلا على قلبه الوسواس، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس، فذلك قوله (الوسواس الخناس) وقد
ورد في معنى هذا غيره، وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان، وإن لم يكن على طريق الاستعاذة، ولذكر
الله سبحانه فوائد جليلة حاصلها الفوز بخيري الدنيا والآخرة.
وإلى هنا انتهي هذا التفسير المبارك بقلم مؤلفه محمد بن علي بن محمد الشوكاني، غفر الله له ذنوبه. وكان الفراغ
منه في ضحوة يوم السبت لعله الثامن والعشرون من شهر رجب أحد شهور سنة تسع وعشرين بعد مائتين وألف
سنة من الهجرة النبوية.
اللهم كما مننت على بإكمال هذا التفسير وأعنتنى على تحصيله وتفضلت على بالفراغ منه، فامنن على بقبوله،
واجعله لي ذخيرة خير عندك، وأجزل لي المثوبة بما لاقيته من التعب والنصب في تحريره وتقريره، وانفع به من
شئت من عبادك ليدوم لي الانتفاع به بعد موتي، فإن هذا هو المقصد الجليل من التصنيف، واجعله خالصا لك،
وتجاوز عني إذا خطر لي من خواطر السوء ما فيه شائبة تخالف الإخلاص، واغفر لي مالا يطابق مرادك، فإني لم
أقصد في جميع أبحاثي فيه إلا إصابة الحق وموافقة ما ترضاه، فإن أخطأت فأنت غافر الخطيئات، ومسبل ذيل
الستر على الهفوات، يا بارئ البريات، وأحمدك لا أحصى حمدا لك، وأشكرك لا أحصى شكرك، أنت كما
أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله اه‍.
تم سماعا على مؤلفه حفظ الله عزته يوم الاثنين صبح اليوم الخامس من شهر ربيع الأول سنة 1241 ه‍.
كتبه
يحيى بن علي الشوكاني
غفر الله لهما.
524