الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ٥
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (والمحصن‍ات من النسآء إلا ما ملكت أيم‍انكم كت‍ابالله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مس‍افحين فما استمتعتم به منهن فااتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما) *.
* (والمحصن‍ات من النساء إلا ما ملكت أيم‍انكم) * عطف على ما قبله من المحرمات. والمراد بهن على المشهور ذوات الأزواج، أحصنهن التزوج أو الأزواج أو الأولياء أي منعهن عن الوقوع في الإثم، وأجمع القراء كما قال أبو عبيدة على فتح الصاد هنا؛ ورواية الفتح عن الكسائي لا تصح، والمشهور رواية ذلك عن طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب، وعليه يكون اسم فاعل لأنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجهن، أو أحصن أزواجهن، وقيل: الصيغة للفاعل على القراءة الأولى أيضا، فقد قال ابن الأعرابي: كل أفعل اسم فاعله بالكسر إلا ثلاثة أحرف أحصن، وألفج إذا ذهب ماله، وأسهب إذا كثر كلامه.
وحكي عن الأزهري مثله، وقال ثعلب: كل امرأة عفيفة محصنة ومحصنة، وكل امرأة متزوجة محصنة بالفتح لا غير، ويقال: حصنت المرأة بالضم حصنا أي عفت فهي حاصن وحصنان بالفتح وحصناء أيضا بينة الحصانة، وفرس حصان بالكسر بين التحصين والتحصن، ويقال: إنه سمي حصانا لأنه ضن بمائه فلم ينز إلا على كريمة، ثم كثر ذلك حتى سموا كل ذكر من الخيل حصانا، والإحصان في المرأة ورد في اللغة واستعمل في القرآن بأربعة معان: الإسلام والحرية والتزوج والعفة، وزاد الرافعي العقل لمنعه من الفواحش. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات أي حرمت عليكم المحصنات كائنات من النساء، وفائدته تأكيد عمومها، وقيل: دفع توهم شمولها للرجال بناءا على كونها صفة للأنفس وهي شاملة للذكور والإناث - وليس بشيء - كما لا يخفى، وفي المراد بالآية غموض حتى قال مجاهد: لو كنت أعلم من يفسرها لي لضربت إليه أكباد الإبل أخرجه عنه ابن جرير، وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي السوداء قال: سألت عكرمة عن هذه الآية * (والمحصنات) * الخ فقال: لا أدري، وللعلماء المتقدمين فيها أقوال: أحدها: أن المراد بها المزوجات كما قدمنا.
والمراد بالملك الملك بالسبي خاصة فإنه المقتضي لفسخ النكاح وحلها للسابي دون غيره، وهو قول عمر وعثمان وجمهور الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، لكن وقع الخلاف هل مجرد السبي محل لذلك أو سبيها وحدها؟ فعند الشافعي رحمه الله تعالى مجرد السبي موجب للفرقة ومحل للنكاح، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه سبيها وحدها حتى لو سبيت معه لم تحل للسابي، واحتج أهل هذا القول بما أخرجه مسلم عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أنه قال: أصبنا سبيا يوم أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فاستحللناهن، وهذه الرواية عنه أصح من الرواية الأخرى أنها نزلت في المهاجرات، واعترض بأن هذا من قصر العام على سببه وهو مخالف لما تقرر في الأصول من أنه لا يعتبر خصوص السبب، وأجيب بأنه ليس من ذاك القصر في شيء وإنما خص لمعارضة دليل آخر وهو الحديث
2

المشهور عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها لما اشترت بريرة وكانت مزوجة أعتقتها وخيرها صلى الله عليه وسلم فلو كان بيع الأمة طلاقا ما خيرها فاقتصر بالعام حينئذ على سببه الوارد عليه لما كان غير البيع من أنواع الانتقالات كالبيع في أنه ملك اختياري مترتب على ملك متقدم بخلاف السباء فإنه ملك جديد قهري فلا يلحق به غيره كذا قيل، واعترض أصحاب الشافعي بإطلاق الآية والخبر على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وجعلوا ذلك حجة عليه فيما ذهب إليه، وأجاب الشهاب بأن الإطلاق غير مسلم ففي الأحكام المروي أنه لما كان يوم أوطاس لحقت الرجال بالجبال وأخذت النساء فقال المسلمون: كيف نصنع ولهن أزواج؟ فأنزل الله تعالى الآية، وكذا في حنين كما ذكره أهل المغازي فثبت أنه لم يكن معهن أزواج. فإن احتجوا بعموم اللفظ قيل لهم: قد اتفقنا على أنه ليس بعام وأنه لا تجب الفرقة بتجدد الملك فإذا لم يكن كذلك علمنا أن الفرقة لمعنى آخر وهو اختلاف الدارين فلزم تخصيصها بالمسبيات وحدهن، وليس السبي سبب الفرقة بدليل أنها لو خرجت مسلمة أو ذمية ولم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بلا خلاف.
وقد حكم الله تعالى به في المهاجرات في قوله سبحانه: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * (الممتحنة: 10) فلا يرد ما أورد، وثانيها: أن المراد بالمحصنات ما قدمنا، وبالملك مطلق ملك اليمين فكل من انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو سباء أو غير ذلك وكانت مزوجة كان ذلك الانتقال مقتضيا لطلاقها وحلها لمن انتقلت إليه - وهو قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة - وإليه ذهب جمهور الإمامية. وثالثها: أن المحصنات أعم من العفائف والحرائر وذوات الأزواج، والملك أعم من ملك اليمين وملك الاستمتاع بالنكاح فيرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا وحرمة كل أجنبية إلا بعقد أو ملك يمين، وإلى ذلك ذهب ابن جبير وعطاء والسدي، وحكي عن بعض الصحابة، واختاره مالك في " لموطأ " ورابعها: كون المراد من المحصنات الحرائر، ومن الملك المطلق والمقصود تحريم الحرائر بعد الأربع. أخرج عبد الرزاق وغيره عن عبيدة أنه قال في هذه الآية: " أحل الله تعالى لك أربعا في أول السورة وحرم نكاح كل محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك " وروي مثله عن كثير.
وقال شيخ الإسلام: المراد من المحصنات ذوات الأزواج والموصول إما عام حسب عموم صلته، والاستثناء ليس لإخراج جميع الأفراد من حكم التحريم بطريق شمول النفي بل بطريق نفي الشمول المستلزم لإخراج البعض أي حرمت عليكم المحصنات على الإطلاق إلا المحصنات اللاتي ملكتموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لا يحرم نكاحهن في الجملة وهن المسبيات بغير أزواجهن أو مطلقا على اختلاف المذهبين، وإما خاص بالمسبيات فالمعنى حرمت عليكم المحصنات إلا اللاتي سبين فإن نكاحهن مشروع في الجملة أي لغير ملاكهن، وأما حلهن لهم بحكم ملك اليمين فمفهوم بدلالة النص لاتحاد المناط لا بعبارته لأن مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح، وإنما ثبوت حرمة التمتع بهن بحكم ملك اليمين بطريق دلالة النص وذلك مما لا يجري فيه الاستثناء قطعا، وأما عدهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفرقة بينهن وبين أزواجهن قطعا بتباين الدارين أو بالسباء فمبني على اعتقاد الناس حيث كانوا غافلين عن الفرقة كما ينبي عن
3

ذلك خبر أبي سعيد، وليس في ترتب ما فيه من الحكم على نزول الآية الكريمة ما يدل على كونها مسوقة له فإن ذلك إنما يتوقف على إفادتها له بوجه من وجوه الدلالات
لا على إفادتها بطريق العبارة أو نحوها. واعترض بأن فيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير ما وجه ولا مانع على تقدير تسليم أن يكون مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح فقط من أن يكون الاستثناء باعتبار لازم تحريم النكاح وهو تحريم الوطء فكأنه قيل: يحرم عليكم نكاح المحصنات فلا يجوز لكم وطؤهن إلا ما ملكت أيمانكم فإنه يجوز لكم وطؤهن فتدبر.
* (كتاب الله) * مصدر مؤكد أى كتب الله تعالى * (عليكم) * تحريم هؤلاء كتابا، ولا ينافيه الإضافة كما توهم، والجملة مؤكدة لما قبلها و * (عليكم) * متعلق بالفعل المقدر، وقيل: * (كتاب) * منصوب على الإغراء أي ألزموا كتاب الله، و * (عليكم) * متعلق إما بالمصدر أو بمحذوف وقع حالا منه، وقيل: هو إغراء آخر مؤكد لما قبله وقد حذف مفعوله لدلالة ما قبله عليه؛ وقيل: منصوب بعليكم، واستدلوا به على جواز تقديم المفعول في باب الإغراء وليس بشيء. وقرأ أبو السميقع (كتب الله) بالجمع والرفع أي: هذه فرائض الله تعالى عليكم، و - كتب الله - بلفظ الفعل.
* (وأحل لكم) * قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على البناء للمفعول، والباقون على البناء للمفاعل، وجعله الزمخشري على القراءة الأولى معطوفا على * (حرمت) *، وعلى الثانية معطوفا على (كتب) المقدر، وتعقبه أبو حيان بأن ما اختاره من التفرقة غير مختار لأن جملة (كتب) لتأكيد ما قبلها، وهذه غير مؤكدة فلا ينبغي عطفها على المؤكدة بل على الجملة المؤسسة خصوصا مع تناسبهما بالتحليل والتحريم، ونظر فيه الحلبي، ولعل وجه النظر أن تحليل ما سوى ذلك مؤكد لتحريمه معنى، وما ذكر أمر استحساني رعاية لمناسبة ظاهرة * (ما وراء ذلكم) * إشارة إلى ما تقدم من المحرمات أي أحل لكم نكاح ما سواهن انفرادا وجمعا، وفي إيثار اسم الإشارة على الضمير إشارة إلى مشاركة من في معنى المذكورات للمذكورات في حكم الحرمة فلا يرد حرمة الجمع بين المرأة وعمتها وكذا الجمع بين كل امرأتين أيتهما فرضت ذكرا لم تحل لها الأخرى كما بين في الفروع لأن تحريم من ذكر داخل فيما تقدم بطريق الدلالة كما مرت إليه الإشارة عن بعض المحققين، وحديث تخصيص هذا العموم بالكتاب والسنة مشهور.
* (أن تبتغوا) * مفعول له لما دل عليه الكلام أي بين لكم تحريم المحرمات المذكورات وإحلال ما سواهن إرادة، وطلب أن تبتغوا والمفعول محذوف أي تبتغوا النساء، أو متروك أي تفعلوا الابتغاء * (بأموالكم) * بأن تصرفوها إلى مهورهن، أو بدل اشتمال من * (ما وراء ذلكم) * بتقدير المفعول ضميرا. وجوز بعضهم كون * (ما) * عبارة عن الفعل كالتزوج والنكاح، وجعل هذا بدل كل من كل، والمروي عن ابن عباس تعميم الكلام بحيث يشمل صرف الأموال إلى المهور والأثمان * (محصنين) * حال من فاعل * (تبتغوا) *، والمراد بالإحصان هنا العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما لا يرضي الله تعالى * (غير مسافحين) * حال من الضمير البارز، أو من الضمير المستكن وهي في الحقيقة حال مؤكدة، والسفاح الزنا من السفح وهو صب الماء وسمي الزنا به لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة فقط لا النسل، وعن الزجاج المسافحة والمسافح: الزانيان اللذان لا يمتنعان من أحد، ويقال للمرأة إذا كانت تزني بواحد: ذات خدن، ومفعول الوصفين محذوف أي محصنين فروجكم أو نفوسكم غير مسافحين الزواني، وظاهر الآية حجة لمن ذهب إلى أن المهر لا بد وأن
4

يكون مالا كالإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال بعض الشافعية: لا حجة في ذلك لأن تخصيص المال لكونه الأغلب المتعارف فيجوز النكاح على ما ليس بمال، ويؤيد ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلا خطب الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وكذا وعددهن قال: تقرأهن على ظهر قلبك؟ قال: نعم قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن " ووجه التأييد أنه لو كان في الآية حجة لما خالفها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأجيب بأن كون القرآن معه لا يوجب كونه بدلا والتعليم ليس له ذكر في الخبر فيجوز أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك منه - قاله بعض المحققين - ولعل في الخبر إشارة إليه.
* (فما استمتعتم به منهن) * (ما) إما عبارة عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال وعليهما فهي إما شرطية أو موصولة وأيا ما كان فهي مبتدأ وخبرها على تقدير الشرطية فعل الشرط أو جوابه أو كلاهما وعلى تقدير الموصولية قوله تعالى: * (فئاتوهن أجورهن) * والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ثم على تقدير كونها بمعنى النساء بتقديرية العائد إلى المبتدأ الضمير المنصوب في * (فآتوهن) * و (من) بيانية أو تبعيضية في موضع النصب على الحال من ضمير * (به) * واستعمال (ما) للعقلاء لأنه أريد بها الوصف كما مر غير مرة، وقد روعي في الضمير أولا جانب اللفظ وأخيرا جانب المعنى، والسين للتأكيد لا للطلب، والمعنى فأي فرد أو فالفرد الذي تمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فأعطوهن أجورهن، وعلى تقدير كونها عبارة عما يتعلق بهن - فمن - ابتدائية متعلقة بالاستمتاع بمعنى التمتع أيضا و (ما) لما لا يعقل، والعائد إلى المبتدأ محذوف أي فأي فعل تمتعتم به من قبلهن من الأفعال المذكورة فآتوهن أجورهن لأجله أو بمقابلته، والمراد من الأجور المهور، وسمي المهر أجرا لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين * (فريضة) * حال من الأجور بمعنى مفروضة أو صفة مصدر محذوف أي إيتاءا مفروضا، أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة فهي كالقطيعة بمعنى القطع * (ولا جناح) * أي لا إثم * (عليكم فيما تراضيتم به) * من الحط عن المهر أو الإبراء منه أو الزيادة على المسمى، ولا جناح في زيادة الزيادة لعدم مساعدة * (لا جناح) * إذا جعل الخطاب للأزواج تغليبا فإن أخذ الزيادة مظنة ثبوت المنفى للزوجة * (من بعد الفريضة) * أي الشيء المقدر، وقيل: فيما تراضيتم به من نفقة ونحوها، وقيل: من مقام أو فراق، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه لا يساعده ذكر الفريضة إذ لا تعلق لهما بها إلا أن يكون الفراق بطريق المخالعة، وقيل: الآية في المتعة وهي النكاح إلى أجل معلوم من يوم أو أكثر، والمراد: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من استئناف عقد آخر بعد انقضاء الأجل المضروب في عقد المتعة بأن يزيد الرجل في الأجر وتزيده المرأة في المدة، وإلى ذلك ذهبت الإمامية، والآية أحد أدلتهم على جواز المتعة، وأيدوا استدلالهم بها بأنها في حرف أبي (فما استمعتم به منهن إلى أجل مسمى)، وكذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم - والكلام في ذلك شهير -
ولا نزاع عندنا في أنها أحلت ثم حرمت، وذكر القاضي عياض في ذلك كلاما طويلا، والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين، وكانت حلالا قبل يوم خيبر، ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاث
5

تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة، واستمر التحريم، ولا يجوز أن يقال: إن الإباحة مختصة بما قبل خيبر، والتحريم يوم خيبر للتأبيد وإن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم من غير تقدم إباحة يوم الفتح إذ الأحاديث الصحيحة تأبى ذلك، وفي " صحيح مسلم " ما فيه مقنع.
وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول بحلها ثم رجع عن ذلك حين قال له علي كرم الله تعالى وجهه: إنك رجل تائه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة كذا قيل، وفي " صحيح مسلم " ما يدل على أنه لم يرجع حين قال له علي ذلك، فقد أخرج عن عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه قام بمكة فقال: إن ناسا أعمى الله تعالى قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل - يعني ابن عباس - كما قال النووي، فناداه فقال إنك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين - يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال له ابن الزبير: فجرب نفسك فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك فإن هذا إنما كان في خلافة عبد الله بن الزبير، وذلك بعد وفاة علي كرم الله تعالى وجهه، فقد ثبت أنه مستمر القول على جوازها لم يرجع إلى قول الأمير كرم الله تعالى وجهه، وبهذا قال العلامة ابن حجر في " شرح المنهاج "، فالأولى أن يحكم بأنه رجع بعد ذلك بناءا على ما رواه الترمذي والبيهقي والطبراني عنه أنه قال: " إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه " حتى نزلت الآية * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * (المؤمنون: 6) فكل فرج سواهما فهو حرام، ويحمل هذا على أنه اطلع على أن الأمر إنما كان على هذا الوجه فرجع إليه وحكاه، وحكي عنه أيضا أنه إنما أباحها حالة الاضطرار والعنت في الأسفار، فقد روي عن ابن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: لقد سارت بفتياك الركبان، وقال فيها الشعراء قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا: قد قلت للشيخ لما طال مجلسه * يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف آنسة * تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال: سبحان الله! ما بهذا أفتيت وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير، ولا تحل إلا للمضطر، ومن هنا قال الحازمي: إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم، وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات حتى حرمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد، وأما ما روي أنهم كانوا يستمتعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر حتى نهى عنها عمر فمحمول على أن الذي استمتع لم يكن بلغه النسخ، ونهي عمر كان لإظهار ذلك حيث شاعت المتعة ممن لم يبلغه النهي عنها؛ ومعنى - أنا محرمها - في كلامه إن صح مظهر تحريمها لا منشئه كما يزعمه الشيعة، وهذه الآية لا تدل على الحل، والقول بأنها نزلت في المتعة غلط، وتفسير البعض لها بذلك غير مقبول لأن نظم القرآن الكريم يأباه حيث بين سبحانه أولا المحرمات ثم قال عز شأنه: * (وأحل لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا بأموالكم) * وفيه شرط بحسب المعنى فيبطل تحليل الفرج وإعارته، وقد قال بهما الشيعة، ثم قال جل وعلا: * (محصنين غير مسافحين) * وفيه إشارة إلى النهي عن كون القصد مجرد قضاء الشهوة وصب الماء واستفراغ أوعية المني فبطلت المتعة بهذا القيد لأن مقصود المتمتع ليس إلا ذاك دون التأهل والاستيلاد وحماية الذمار والعرض، ولذا تجد المتمتع بها في كل شهر تحت صاحب، وفي كل سنة بحجر ملاعب، فالإحصان غير حاصل في امرأة المتعة أصلا ولهذا قالت الشيعة: إن المتمتع الغير الناكح
6

إذا زنى لا رجم عليه، ثم فرع سبحانه على حال النكاح قوله عز من قائل: * (فإذا استمتعتم) * وهو يدل على أن المراد بالاستمتاع هو الوطء والدخول لا الاستمتاع بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة، والقراءة التي ينقلونها عمن تقدم من الصحابة شاذة. وما دل على التحريم كآية * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * (المؤمنون: 6) قطعي فلا تعارضه، على أن الدليلين إذا تساويا في القوة وتعارضا في الحل والحرمة قدم دليل الحرمة منهما، وليس للشيعة أن يقولوا: إن المرأة المتمتع بها مملوكة لبداهة بطلانه، أو زوجة لانتفاء جميع لوازم الزوجية - كالميراث والعدة والطلاق والنفقة - فيها، وقد صرح بذلك علماؤهم. وروى أبو نصير منهم في " صحيحه " عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن امرأة المتعة أهي من الأربع؟ قال: لا ولا من السبعين، وهو صريح في أنها ليست زوجة وإلا لكانت محسوبة في الأربع، وبالجملة الاستدلال بهذه الآية على حل المتعة ليس بشيء كما لا يخفى. ولا خلاف الآن بين الأئمة وعلماء الأمصار إلا الشيعة في عدم جوازها، ونقل الحل عن مالك رحمه الله تعالى غلط لا أصل له بل في حد المتمتع روايتان عنه، ومذهب الأكثرين (أنه لا يحد لشبهة العقد وشبهة الخلاف، ومأخذ الخلاف على ما قال النووي - اختلاف الأصوليين في أن الإجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف وتصير المسألة مجمعا عليها؟ فبعض قال: لا يرفعه بل يدوم الخلاف ولا تصير المسألة بعد ذلك مجمعا عليها أبدا، وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني)، وقال آخرون: بأن الإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق وتمامه في الأصول؛ وحكى بعضهم عن زفر أنه قال: من نكح نكاح متعة تأبد نكاحه ويكون ذكر التأجيل من باب الشروط الفاسدة في النكاح وهي ملغية فيها، والمشهور في " كتب أصحابنا " أنه قال ذلك في النكاح المؤقت - وفي كونه عين نكاح المتعة - بحث، فقد قال بعضهم باشتراط الشهود في المؤقت وعدمه في المتعة، ولفظ التزويج أو النكاح في الأول، وأستمتع أو أتمتع في الثاني، وقال آخرون: النكاح المؤقت من أفراد المتعة، وذكر ابن الهمام أن النكاح لا ينعقد بلفظ المتعة، وإن قصد به النكاح الصحيح المؤبد وحضر الشهود لأنه لا يصلح مجازا عن معنى النكاح كما بينه في " المبسوط ". بقي ما لو نكح مطلقا ونيته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها فهل يكون ذلك نكاحا صحيحا حلاليا أم لا؟ الجمهور على الأول (بل حكى القاضي الإجماع عليه، وشذ الأوزاعي فقال: هو نكاح متعة ولا خير فيه) فينبغي عدم نية ذلك * (إن الله كان عليما) * بما يصلح أمر الخلق * (حكيما) * فيما شرع لهم، ومن ذلك عقد النكاح الذي يحفظ الأموال والأنساب..
ومن لم يستطع منكم) * * (من) * إما شرطية وما بعدها شرطها، وإما موصولة وما بعدها صلتها، و * (منكم) * حال من الضمير في * (يستطع) * وقوله سبحانه: * (طولا) * مفعول به - ليستطع - وجعله مفعولا لأجله على حذف مضاف أي لعدم طول تطويل بلا طول. والمراد به الغنى والسعة وبذلك فسره ابن عباس ومجاهد، وأصله الفضل والزيادة، ومنه الطائل، وفسره بعضهم بالاعتلاء والنيل فهو من قولهم: طلته أي نلته، ومنه قول الفرزدق: إن الفرزدق صخرة ملمومة * (طالت) فليس تنالها إلا وعالا
قوله عز وجل: * (أن ينكح المحصنات المؤمنات) * أي الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات، وعبر عنهن بذلك لأن حريتهن أحصنتهن عن نقص الإماء - إما أن يكون متعلقا ب * (طولا) * على معنى - ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات - وإما أن يكون بتقدير إلى أو اللام والجار في موضع الصفة ل‍ * (طولا) * أي - ومن
7

لم يستطع غنى موصلا إلى نكاحهن - أو لنكاحهن - أو - على - على أن الطول بمعنى القدرة - كما قال الزجاج، ومحل * (أن) * بعد الحذف جر، أو نصب على الخلاف المعروف، وهذا التقدير قول الخليل، وإليه ذهب الكسائي، وجوز أبو البقاء أن يكون بدلا من * (طولا) * بدل الشيء من الشيء، وهما لشيء واحد بناءا على أن الطول هو القدرة أو الفضل والنكاح قوة وفضل، وقيل: يجوز أن يكون مفعولا - ليستطع - و * (طولا) * مصدر مؤكد له إذ الاستطاعة هي الطول أو تمييز - أي ومن لم يستطع منكم استطاعة - أو من جهة الطول والغنى أي لا من جهة الطبيعة والمزاج إذ لا تعلق لذلك بالمقام.
وقوله تعالى وتقدس: * (فمن ما ملكت أيم‍انكم) * جواب الشرط أو خبر الموصول وجاءت الفاء لما مر غير مرة، و * (ما) * موصولة في محل جر بمن التبعيضية، والجار والمجرور متعلق بفعل مقدر حذف مفعوله، وفي الحقيقة متعلق بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول أي فلينكح امرأة كائنة بعض النوع الذي ملكته أيمانكم، وأجاز أبو البقاء كون (من) زائدة أي فلينكح ما ملكته أيمانكم، وقوله تعالى: * (من فتي‍اتكم) * أي إمائكم * (المؤمن‍ات) * في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد إلى * (ما) *، وقيل: (من) زائدة، و * (فتياتكم) * هو المفعول للفعل المقدر قبل، و - مما ملكت - متعلق بنفس الفعل، و (من) لابتداء الغاية، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من هذا المفعول، و (من) للتبعيض، و (المؤمنات) على جميع الأوجه صفة (فتياتكم)، وقيل: هو مفعول ذلك الفعل المقدر، وفيه بعد.
وظاهر الآية يفيد عدم جواز نكاح الأمة للمستطيع لمفهوم الشرط - كما ذهب إليه الشافعي - وعدم جواز نكاح الأمة الكتابية مطلقا لمفهوم الصفة كما هو رأي أهل الحجاز - وجوزهما الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه لإطلاق المقتضى من قوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 3) و * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * (النساء: 24) فلا يخرج منه شيء إلا بما يوجب التخصيص؛ ولم ينتهض ما ذكر حجة مخرجة؛ أما أولا: فالمفهومان - أعني مفهوم الشرط ومفهوم الصفة - ليسا بحجة عنده رضي الله تعالى عنه كما تقرر في الأصول، وأما ثانيا: فبتقدير الحجة مقتضى المفهومين عدم الإباحة الثابتة عند وجود القيد المبيح، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الحرمة أو الكراهة، ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه فيجوز ثبوت الكراهة عند وجود - طول - الحرة كما يجوز ثبوت الحرمة على السواء، والكراهة أقل فتعينت فقلنا بها، وبالكراهة صرح في " البدائع "، وعلل بعضهم عدم حل تزوج الأمة حيث لم يتحقق الشرط بتعريض الولد للرق لتثبت الحرمة بالقياس على أصول شتى، أو ليتعين أحد فردي الأعم الذي هو عدم الإباحة وهو التحريم مرادا بالأعم.
واعترض بأنهم إن عنوا أن فيه تعريضا موصوفا بالحرية للرق سلمنا استلزامه للحرمة لكن وجود الوصف ممنوع إذ ليس هنا متصف بحرية عرض للرق بل الوصفان من الحرية والرق يقارنان وجود الولد باعتبار أمه إن كانت حرة فحر، أو رقيقة فرقيق، وإن أرادوا به تعريض الولد الذي سيوجد لأن يقارنه الرق في الوجود لا إرقاقه سلمنا وجوده ومنعنا تأثيره في الحرمة بل في الكراهة، وهذا لأنه كان له أن لا يحصل الولد أصلا بنكاح الآيسة ونحوها فلأن يكون له أن يحصل رقيقا بعد كونه مسلما أولى إذ المقصود بالذات من التناسل تكثير المقرين لله تعالى بالوحدانية والألوهية وما يجب أن يعترف له به وهذا ثابت بالولد المسلم، والحرية مع ذلك كمال يرجع أكثره إلى أمر دنيوي وقد جاز للعبد أن يتزوج أمتين بالاتفاق مع أن فيه تعريض الولد
8

للرق في موضع الاستغناء عن ذلك وعدم الضرورة، وكون العبد أبا لا أثر له في ثبوت رق الولد فإنه لو تزوج حرة كان ولده حرا والمانع إنما يعقل كونه ذات الرق لأنه الموجب للنقص الذي جعلوه محرما لا مع قيد حرية الأب فوجب استواء العبد والحر في هذا الحكم لو صح ذلك التعليل - قاله ابن الهمام - وفيه مناقشة ما فتأمل.
وفي هذه الآية ما يشير إلى وهن استدلال الشيعة بالآية السابقة على حل المتعة لأن الله تعالى أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإماء عند عدم الطول إلى نكاح الحرائر فلو كان أحل المتعة في الكلام السابق لما قال سبحانه بعده: * (ومن لم يستطع) * الخ لأن المتعة في صورة عدم الطول المذكور ليست قاصرة في قضاء حاجة الجماع بل كانت بحكم - لكل جديد لذة - أطيب وأحسن على أن المتعة أخف مؤنة وأقل كلفة فإنها مادة يكفي فيها الدرهم والدرهمان فأية ضرورة كانت داعية إلى نكاح الإماء؟ ولعمري إن القول بذلك أبعد بعيد كما لا يخفى على من أطلق من ربقة قيد التقليد
* (والله أعلم بإيم‍انكم) * جملة معترضة جيء بها تأنيسا لقلوبهم وإزالة للنفرة عن نكاح الإماء ببيان أن مناط التفاخر الإيمان دون الأحساب والأنساب، ورب أمة يفوق إيمانها إمان كثير من الحرائر. والمعنى أنه تعالى أعلم منكم بمراتب إيمانكم الذي هو المدار في الدارين فليكن هو مطمح نظركم، وقيل: جيء بها للإشارة إلى أن الإيمان الظاهر كاف في صحة نكاح الأمة ولا يشترط في ذلك العلم بالإيمان علما يقينيا إذ لا سبيل إلى الوقوف على الحقائق إلا لعلام الغيوب * (بعضكم من بعض) * أي أنتم وفتياتكم متناسبون إما من حيث الدين وإما من حيث النسب، وعلى الثاني يكون اعتراضا آخر مؤكدا للتأنيس من جهة أخرى؛ وعلى الأول يكون بيانا لتناسبهم من تلك الحيثية إثر بيان تفاوتهم في ذلك، وأيا ما كان - فبعضكم - مبتدأ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا له، وزعم بعضهم أن (بعضكم) فاعل للفعل المحذوف،
قيل: وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير فلينكح بعضكم من بعض الفتيات، ولا ينبغي أن يخرج كتاب الله تعالى الجلي على ذلك.
* (فانكحوهن بإذن أهلهن) * مترتب على ما قبله ولذا صدر بالفاء أي فإذا وقعتم على جلية الأمر فانكحوهن الخ وأعيد الأمر مع فهمه مما قبله لزيادة الترغيب في نكاحهن، أو لأن المفهوم منه الإباحة وهذا للوجوب. والمراد من الأهل الموالي، وحمل الفقهاء ذلك على من له ولاية التزويج ولو غير مالك فقد قالوا: للأب والجد والقاضي والوصي تزويج أمة اليتيم لكن في " الظهيرية " الوصي لو زوج أمة اليتيم من لكن في الظهيرية الوصي لو زوج أمة اليتيم من عبده لا يجوز، وفي " جامع الفصولين " القاضي لا يملك تزويج أمة الغائب، وفي " فتح القدير " للشريك المفاوض تزويج الأمة، وليس لشريك العنان والمضارب والعبد المأذون تزويجها عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ومحمد، وقال أبو يوسف: يملكون ذلك، وهذا الإذن شرط عندنا لجواز نكاح الأمة فلا يجوز نكاحها بلا إذن، والمراد بعدم الجواز عدم النفاذ لا عدم الصحة بل هو موقوف كعقد الفضولي، وإلى هذا ذهب مالك - وهو رواية عند أحمد - ومثل ذلك نكاح العبد واستدلوا على عدم الجواز فيهما بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث جابر، وقال: حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر " والعهرالزنا وهو محمول على ما إذا وطىء لا بمجرد العقد وهو زنا شرعي لا فقهي فلم يلزم منه وجوب الحد لأنه مرتب على الزنا الفقهي كما بين في الفروع، وبأن في تنفيذ نكاحهما تعييبهما إذ النكاح عيب فيهما فلا يملكانه إلا بإذن مولاهما، ونسب إلى الإمام مالك ولم يصح أنه يجوز نكاح العبد بلا إذن السيد لأنه يملك الطلاق فيملك النكاح، وأجيب بالفرق فإن الطلاق إزالة
9

عيب عن نفسه بخلاف النكاح، قال ابن الهمام: لا يقال: يصح إقرار العبد على نفسه بالحد والقصاص مع أن فيه هلاكه فضلا عن تعييبه لأنا نقول: هو لا يدخل تحت ملك السيد فيما يتعلق به خطاب الشرع أمرا ونهيا كالصلاة والغسل والصوم والزنا والشرب وغيره إلا فيما علم إسقاط الشارع إياه عنه كالجمعة. والحج، ثم هذه الأحكام تجب جزاءا على ارتكاب المحظور شرعا، فقد أخرجه عن ملكه في ذلك الذي أدخله فيه باعتبار غير ذلك - وهو الشارع - زجرا عن الفساد وأعاظم العيوب انتهى. ادعى بعض الحنفية أن الآية تدل على أن للإماء أن يباشرن العقد بأنفسهن لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم. واعترض بأن عدم الاعتبار لا يوجب اعتبار العدم فلعل العاقد يكون هو المولى أو الوكيل فلا يلزم جواز عقدهن كما لا يخفى، ولو كانت الأمة مشتركة بين اثنين مثلا لا يجوز نكاحها إلا بإذن الكل، وفي " الظهيرية " لو زوج أحد الموليين أمته ودخل بها الزوج فللآخر النقض فإن نقض فله نصف مهر المثل وللزوج الأقل من نصف مهر المثل، ومن نصف المسمى وحكى معتق البعض حكم كامل الرق عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وعندهما يجوز نكاحه بلا إذن لأنه حر مديون
* (وءاتوهن أجورهن) * أي أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلن وحذف هذا القيد لتقدم ذكره لا لأن العطف يوجب مشاركة المعطوف المعطوف عليه في القيد، ويحتمل أنه يكون في الكلام مضاف محذوف أي آتوا أهلهن، ولعل ما تقدم قرينة عليه، قيل: ونكتة اختيار (آتوهن) على أتوهم مع تقدم الأهل على ما ذكره بعض المحققين إن في ذلك تأكيدا لإيجاب المهر وإشعارا بأنه حقهن من هذه الجهة، وإنما تأخذه الموالي بجهة ملك اليمين، والداعي لهذا كله أن المهر للسيد عند أكثر الأئمة لأنه عوض حقه. وقال الإمام مالك: الآية على ظاهرها والمهر للأمة، وهذا يوجب كون الأمة مالكة مع أنه لا ملك للعبد فلا بد أن تكون مالكة له يدا كالعبد المأذون له بالتجارة لأن جعلها منكوحة إذن لها فيجب التسليم إليهن كما هو ظاهر الآية، وإن حملت الأجور على النفقات استغنى عن اعتبار التقدير أولا وآخرا، وكذا إن فسر قوله تعالى. * (بالمعروف) * بما عرف شرعا من إذن الموالي، والمعروف فيه أنه متعلق - بآتوهن - والمراد أدوا إليهن من غير مماطلة وإضرار، ويجوز أن يكون حالا أي متلبسات بالمعروف غير ممطولات أو متعلقا - بأنكحوهن - أي فانكحوهن بالوجه المعروف يعني بإذن أهلهن ومهر مثلهن
* (محصن‍ات) * حال إما من مفعول * (آتوهن) * فهو بمعنى متزوجات، أو من مفعول * (فانكحوهن) * فهو بمعنى عفائف، وحمله على مسلمات وإن جاز خصوصا على مذهب الجمهور الذين لا يجيزون نكاح الأمة الكتابية لكن هذا الشرط تقدم في قوله سبحانه: * (فتياتكم المؤمنات) * فليس في إعادته كثير جدوى، والمشهور هنا تفسير المحصنات بالعفائف فقوله تعالى: * (غير مس‍افح‍ات) * تأكيد له، والمراد غير مجاهرات بالزنا - كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - * (ولا متخذات أخدان) * عطف على (مسافحات) و (لا) لتأكيد ما في * (غير) * من معنى النفي - والأخدان - جمع خدن وهو الصاحب، والمراد به هنا من تتخذه المرأة صديقا يزني بها والجمع للمقابلة، والمعنى ولا مسرات الزنا. وكان الزنا في الجاهلية منقسما إلى سر وعلانية، وروي عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما ظهر منه ويقولون: إنه لؤم ويستحلون ما خفي ويقولون: لا بأس به، ولتحريم القسمين نزل قوله تعالى: * (ولا تقربوا
10

الفواحش ما ظهر منها وما بطن) * (الأنعام: 151).
* (فإذآ أحصن) * أي بالأزواج - كما قال ابن عباس وجماعة - وقرأ إبراهيم * (أحصن) * بالبناء للفاعل أي أحصن فروجهن وأزواجهن، وأخرج عبد بن حميد أنه قرىء كذلك ثم قال: إحصانها إسلامها، وذهب كثير من العلماء إلى أن المراد من الاحصان على القراءة الأولى الإسلام أيضا لا التزوج، وبعض من أراده من الآية قال: لا تحد الأمة إذا زنت ما لم تتزوج بحر، وروي ذلك مذهبا لابن عباس، وحكي عدم الحد قبل التزوج عن مجاهد وطاوس، وقال الزهري: هو فيها بمعنى التزوج. والحد واجب على الأمة المسلمة إذا لم تتزوج لما في " الصحيحين " عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: " اجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير " فالمزوجة محدودة بالقرآن وغيرها بالسنة، ورجح هذا الحمل بأنه سبحانه شرط الإسلام بقوله جل وعلا: * (من فتياتكم المؤمنات) * فحمل ما هنا على غيره أتم فائدة وإن جاز أنه تأكيد لطول الكلام. وذكر بعض المحققين أن تفسير الإحصان بالإسلام ظاهر على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من جهة أنه لا يشترط في التزوج بالأمة أن تكون مسلمة وإن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع، وهو مشكل على قول من يقول
بمفهوم الشرط من الشافعية فإنه يقتضي أن الأمة الكافرة إذا زنت لا تجلد، وليس مذهبه كذلك فإنه يقيم الحد على الكفار
* (فإن أتين بف‍احشة) * أي فإن فعلن فاحشة وهي الزنا وثبت ذلك. * (فعليهن) * أي فثابت عليهن شرعا * (نصف ما على المحصن‍ات) * أي الحرائر الأبكار * (من العذاب) * أي الحد الذي هو جلد مائة، فنصفه خمسون ولا رجم عليهن لأن لا يتنصف؛ وهذا دفع لتوهم أن الحد لهن يزيد بالإحصان، فيسقط الاستدلال به على أنهن قبل الإحصان لا حد عليهن كما روي ذلك عمن تقدم. قال الشهاب: وعلم من بيان حالهن حال العبيد بدلالة النص فلا وجه لما قيل: إنه خلاف المعهود لأن المعهود أن يدخل النساء تحت حكم الرجال بالتبعية وكأن وجهه أن دواعي الزنا فيهن أقوى وليس هذا تغليبا وذكرا بطريق التبعية حتى يتجه ما ذكر، ويرد على وجه التخصيص أنه لو كان كذلك لم يدل على حكم العبيد بل الوجه فيه أن الكلام في تزوج الإماء فهو مقتضى الحال انتهى. والظاهر أن المراد بالحال المعلوم بدلالة النص حال العبيد إذا أتوا بفاحشة لا مطلقا، فإن حال العبيد ليس حال الإماء في مسألة النكاح من كل وجه كما بين في " كتب الفروع "، وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قرىء (فإن أتوا)، و (أتين بفاحشة)، هذا والفاء في * (فإن أتين) * جواب (إذا)، والثانية: جواب (إن)، والشرط الثاني مع جوابه مترتب على وجود الأول، و * (من العذاب) * في موضع الحال من الضمير في الجار والمجرور والعامل فيها هو العامل في صاحبها، قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكون حالا من * (ما) * لأنها مجرورة بالإضافة فلا يكون لها عامل
* (ذلك) * أي نكاح الإماء * (لمن خشي العنت منكم) * أي لمن خاف الزنا بسبب غلبة الشهوة عليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نافع بن الأزرق سأله عن العنت فقال: الإثم، فقال نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول الشاعر:
11

رأيتك تبتغي (عنتي) وتسعى * مع الساعي علي بغير دخل
وقيل: أصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر يعتري الإنسان بعد صلاح حاله، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح، ويفهم من كلام كثير من اللغويين أنه حقيقة في الإثم وكذا في الجهد والمشقة، ومنه - أكمة عنوت - أي صعبة المرتقى، وفسره الزجاج هنا بالهلاك، والذي عليه الأكثرون ما تقدم وهو مأثور أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: المراد به الحد لأنه إذا هويها يخشى أن يواقعها فيحد، ورجح القول الأول بكثرة الذاهبين إليه مع ما فيه من الإشارة إلى أن اللائق بحال المؤمن الخوف من الزنا المفضي إلى العذاب، وفي هذا إيهام بأن المحذور عنده الحد لا ما يوجبه وأيا ما كان فهو شرط آخر لجواز تزوج الإماء عند الشافعي عليه الرحمة، ومذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه أنه ليس بشرط وإنما هو إرشاد للأصلح
* (وأن تصبروا) * أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين. * (خير لكم) * من نكاحهن وإن رخص لكم فيه لأن حق الموالي فيهن أقوى فلا يخلصن للأزواج خلوص الحرائر إذ هم يقدرون على استخدامهن سفرا وحضرا، وعلى بيعهن للحاضر والبادي، وفي ذلك مشقة عظيمة على الأزواج لا سميا إذا ولد لهم منهن أولاد، ولأنهن ممتهنات مبتذلات خراجات ولاجات وذلك ذل ومهانة سارية للناكح، ولا يكاد يتحمل ذلك غيور، ولأن في نكاحهن تعريض الولد للرق. وقد أخرج عبد الرزاق وغيره عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: " إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه وإذا نكح الحر الأمة فقد أرقه نصفه " وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: " ما تزحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا " وعن أبي هريرة وابن جبير مثله. وأخرج ابن أبي شيبة عن عامر قال: " نكاح الأمة كالميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل إلا للمضطر " وفي " مسند الديلمي والفردوس " عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت " وقال الشاعر: ومن لم تكن في بيته قهرمانة * فذلك بيت لا أبا لك ضائع
وقال الآخر: إذا لم يكن في منزل المرء حرة * تدبره ضاعت مصالح داره
* (والله غفور) * أي مبالغ في المغفرة فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن، وإنما عبر بذلك تنفيرا عنه حتى كأنه ذنب * (رحيم) * أي مبالغ في الرحمة فلذلك رخص لكم ما رخص.
هذا ومن باب الإشارة الاجمالية في بعض الآيات السابقة: أنه سبحانه أشار بقوله عز من قائل: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) * إلى النهي عن التصرف في السفليات التي هي الأمهات التي قد تصرف فيها الآباء العلوية * (إلا ما قد سلف) * (النساء: 22) من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح لضرورة الكمالات، فإن الركون إلى العالم السفلي يوجب مقت الحق سبحانه، وأشار سبحانه بتحريم المحصنات من النساء أي الأمور التي تميل إليها النفوس إلى تحريم طلب السالك مقاما ناله غيره، وليس له قابلية لنيله، ومن هنا قوبل الكليم بالصعق لما سأل الرؤية، وقال شاعر الحقيقة المحمدية:
ولست مريدا أرجعن بلن ترى * ولست بطور كي يحركني الصدع
12

وقال سيدي ابن الفارض على لسانها: وإذا سألتك أن أراك حقيقة * فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى
ولقد أحسن بعض المحجوبين حيث يقول: إذا لم تستطع شيئا فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع
وقال النيسابوري: المحصنات من النساء الدنيا حرمها الله تعالى على خلص عباده وأباح لهم بقوله: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * تناول الأمور الضرورية من المأكل والمشرب * (محصنين) * أي حرائر من الدنيا وما فيها * (غير مسافحين) * في الطلب مياه الوجوه، ثم أمرهم إذا استمتعوا بشيء من ذلك بأن يؤدوا حقوقه من الشكر والطاعة والذكر مثلا، وعلى هذا النمط ما في سائر الآيات، ولم يظهر لي في البنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت والمرضعات والأخوات من الرضاع والربائب والجمع بين الأختين ما ينشرح له الخاطر وتبتهج به الضمائر ولا شبهة لي في أن لله تعالى عبادا يعرفونه على التحقيق ولكنهم في الزوايا
، وكم في الزوايا من خبايا، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل..
* (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم) *.
* (يريد الله ليبين لكم) * استئناف مقرر لما سبق من الأحكام، ومثل هذا التركيب وقع في كلام العرب قديما وخرجه النحاة - كما قال الشهاب - على مذاهب فقيل: مفعول (يريد) محذوف أي تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ونحوه، واللام للتعليل أو العاقبة أي ذلك لأجل التبيين، ونسب هذا إلى سيبويه وجمهور البصريين، فتعلق الإرادة غير التبيين وإنما فعلوه لئلا يتعدى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام وهو ممتنع أو ضعيف. وقيل: إنه إذا قصد التأكيد جاز من غير ضعف، وقد قصد هنا تأكيد الاستقبال اللازم للإرادة ولكن باعتبار التعلق وإلا فإرادة الله تعالى قديمة، وسمى صاحب " اللباب " هذه اللام لام التكملة وجعلها مقابلة للام التعدية. وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤل بالمصدر من غير سابك كما قيل به في - تسمع بالمعيدي خير من أن تراه - على أنه مبتدأ والجار والمجرور خبره أي إرادتي كائنة للتبيين وفيه تكلف، وذهب الكوفيون إلى أن اللام هي الناصبة للفعل من غير إضمار وإن وهي وما بعدها مفعول للفعل المقدم لأن اللام قد تقام مقام إن في فعل الإرادة والأمر، والبصريون يمنعون ذلك ويقولون: إن وظيفة اللام الجر والنصب بأن مضمرة بعدها، ومفعول - يبين - على بعض الأوجه محذوف أي: ليبين لكم ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم، أو ما تعبدكم به أو نحو ذلك، وجوز أن يكون قوله تعالى: * (ليبين) * وقوله تعالى: * (ويهديكم) * تنازعا في قوله سبحانه: * (سنن الذين من قبلكم) * أي مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين لتقتفوا أثرهم وتتبعوا سيرهم، وليس المراد أن الحكم كان كذلك في الأمم السالفة كما قيل به، بل المراد كون ما ذكر من نوع طرائق المتقدمين الراشدين وجنسها في بيان المصالح * (ويتوب عليكم) * عطف على ما قبله وحيث كانت التوبة ترك الذنب مع الندم والعزم على عدم العود وهو مما يستحيل إسناده إلى الله تعالى ارتكبوا تأويل ذلك في هذا المقام بأحد أمور: فقيل إن التوبة هنا بمعنى المغفرة مجازا لتسببها عنها، أو بمعنى الإرشاد إلى ما يمنع عن المعاصي على سبيل الاستعارة التبعية لأن التوبة تمنع عنها كما أن إرشاده تعالى كذلك، أو مجاز عن حثه تعالى عليها لأنه سبب لها عكس الأول، أو بمعنى الإرشاد إلى ما يكفرها على التشبيه أيضا، وإلى جميع ذلك أشار ناصر الدين البيضاوي. وقرر العلامة الطيبي أن هذا من وضع المسبب موضع السبب وذلك لعطف * (ويتوب) * على * (ويهديكم) *
13

الخ على سبيل البيان كأنه قيل: ليبين لكم ويهديكم ويرشدكم إلى الطاعات، فوضع موضعه * (ويتوب عليكم) * وما يرد على بعض الوجوه من لزوم تخلف المراد عن الإرادة وهي علة تامة يدفعه كون الخطاب ليس عاما لجميع المكلفين بل لطائفة معينة حصلت لهم هذه التوبة * (والله عليم) * مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم ما شرع لكم من الأحكام وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم وما ينفع عباده المؤمنين وما يضرهم * (حكيم) * مراع في جميع أفعاله الحكمة والمصلحة فيبين لمن يشاء ويهدي من يشاء ويتوب على من يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون..
* (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما) *.
* (والله يريد أن يتوب عليكم) * جعله بعضهم تكرارا لما تقدم للتأكيد والمبالغة وهو ظاهر إذا كان المراد من التوبة هناك وهنا شيئا واحدا، وأما إذا فسر * (يتوب) * أولا: بقبول التوبة والإرشاد مثلا، وثانيا: بأن يفعلوا ما يستوجبون به القبول فلا يكون تكرارا، وأيضا إنما يتمشى ذلك على كون * (ليبين لكم) * (النساء: 26) مفعولا وإلا فلا تكرار أيضا لأن تعلق الإرادة بالتوبة في الأول: على جهة العلية، وفي الثاني: على جهة المفعولية وبذلك يحصل الاختلاف لا محالة * (ويريد الذين يتبعون الشهوات) * يعني الفسقة لأنهم يدورون مع شهوات أنفسهم من غير تحاش عنها فكأنهم بأنهماكهم فيها أمرتهم الشهوات باتباعها فامتثلوا أمرها واتبعوها فهو استعارة تمثيلية، وأما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له لا لها. وروي هذا عن ابن زيد، وأخرج مجاهد عن ابن عباس أنهم الزناة، وأخرج ابن جرير عن السدي أنهم اليهود والنصارى، وقيل: إنهم اليهود خاصة حيث زعموا أن الأخت من الأب حلال في التوراة، وقيل: إنهم المجوس حيث كانوا يحلون الأخوات لأب لأنهم لم يجمعهم رحم، وبنات الأخ والأخت قياسا على بنات العمة والخالة بجامع أن أمهما لا تحل، فكانوا يريدون أن يضلوا المؤمنين بما ذكر، ويقولون: لم جوزتم تلك ولم تجوزوا هذه؟! فنزلت، وغوير بين الجملتين ليفرق بين إرادة الله تعالى وإرادة الزائغين * (أن تميلوا) * عن الحق بموافقتهم فتكونوا مثلهم، وعن مجاهد أن تزنوا كما يزنون. وقرىء بالياء التحتانية فالضمير حينئذ - للذين يتبعون الشهوات - * (ميلا عظيما) * بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندرة، واعترف بأنها خطيئة ولم يستحل..
* (يريد الله أن يخفف عنكم وخلقنا ا الانسان ضعيفا) *.
* (يريد الله أن يخفف عنكم) * أي في التكليف في أمر النساء والنكاح بإباحة نكاح الإماء - قاله طاوس ومجاهد - وقيل: يخفف في التكليف على العموم فإنه تعالى خفف عن هذه الأمة ما لم يخفف عن غيرها من الأمم الماضية، وقيل: يخفف بقبول التوبة والتوفيق لها، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. * (وخلق الانس‍ان ضعيفا) * أي في أمر النساء لا يصبر عنهن - قاله طاوس - وفي الخبر: " لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم فأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا " وقيل: يستميله هواه وشهوته ويستشيطه خوفه وحزنه، وقيل: عاجز عن مخالفة الهوى وتحمل مشاق الطاعة، وقيل: ضعيف الرأي لا يدرك الأسرار والحكم إلا بنور إلهي. وعن الحسن رضي الله تعالى عنه أن المراد ضعيف الخلقة يؤلمه أدنى حادث نزل به، ولا يخفى ضعف مساعدة المقام لهما فإن الجملة اعتراض تذييلي مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف بالرخصة في نكاح الإماء، وليس لضعف الرأي ولا لضعف البنية مدخل في ذلك، وكونه إشارة إلى تجهيل المجوس في قياسهم على أول القولين ليس بشيء،
14

ونصب (ضعيفا) على الحال وقيل: على التمييز، وقيل: على نزع الخافض أي من ضعيف وأريد به الطين أو النطفة، وكلاهما كما ترى، وقرأ ابن عباس * (وخلق الإنسان) * على البناء للفاعل والضمير لله عز وجل.
وأخرج البيهقي في " الشعب " عنه أنه قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، الأولى: * (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم) * (النساء: 26) والثانية: * (والله يريد أن يتوب عليكم) * (النساء: 27) إلى آخرها، والثالثة: * (يريد الله أن يخفف عنكم) * إلى آخرها، والرابعة: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) * (النساء: 31) والخامسة: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) * (النساء: 40) والسادسة: * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) * (النساء: 110) والسابعة: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) * إلى آخرها، والثامنة: * (والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم) * (النساء: 152) الآية..
* (ياأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالب‍اطل إلا أن تكون تج‍ارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) *.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالب‍اطل) * بيان لبعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة، وفيه إشارة إلى كمال العناية بالحكم المذكور، والمراد من الأكل سائر التصرفات، وعبر به لأنه معظم المنافع، والمعنى لا يأكل بعضكم أموال بعض، والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالربا والقمار والبخس والظلم - قاله السدي - وهو المروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه، وعن الحسن هو ما كان بغير استحقاق من طريق الأعواض. وأخرج عنه وعن عكرمة بن جرير أنهما قالا: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية فنسخ ذلك بالآية التي في سورة النور (61) * (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) * الآية، والقول الأول أقوى لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق لا يكون أكلا بالباطل، وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في الآية: إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة، و * (بينكم) * نصب على الظرفية، أو الحالية من (أموالكم) * (إلا أن تكون تج‍ارة عن تراض منكم) * استثناء منقطع، ونقل أبو البقاء القول بالاتصال وضعفه، و * (عن) * متعلقة بمحذوف وقع صفة لتجارة، و * (منكم) * صفة * (تراض) * أي إلا أن تكون التجارة تجارة صادرة * (عن تراض) * كائن * (منكم) * أو إلا أن تكون الأموال أموال تجارة، والنصب قراءة أهل الكوفة، وقرأ الباقون بالرفع على أن - كان - تامة.
وحاصل المعنى لا تقصدوا أكل الأموال بالباطل لكن اقصدوا كون أي وقوع تجارة عن تراض أو لا تأكلوا ذلك كذلك فإنه منهي عنه لكن وجود تجارة عن تراض غير منهي عنه، وتخصيصها بالذكر من بين سائر أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا وأوفق لذوي المروءات، وقد أخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يمدحوا وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا " وأخرج سعيد بن منصور عن نعيم بن عبد الرحمن الأزدي قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: تسعة أعشار الرزق في التجارة والعشر في المواشي.
وجوز أن يراد بها انتقال المال من الغير بطريق شرعي سواء كان تجارة أو إرثا أو هبة أو غير ذلك من
15

استعمال الخاص وإرادة العام، وقيل: المقصود بالنهي المنع المبايعة عن صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى، وبالتجارة صرفه فيما يرضاه وهذا أبعد مما قبله، والمراد بالتراضي مراضاة المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال وقت الإيجاب والقبول عندنا وعند الإمام مالك، وعند الشافعي حالة الافتراق عن مجلس العقد، وقيل: التراضي التخيير بعد البيع، أخرج عبد بن حميد عن أبي زرعة أنه باع فرسا له فقال لصاحبه: اختر فخيره ثلاثا، ثم قال له: خيرني فخيره ثلاثا، ثم قال: سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: هذا البيع عن تراض.
* (ولا تقتلوا أنفسكم) * أي لا يقتل بعضكم بعضا، وعبر عن البعض المنهي عن قتلهم بالأنفس للمبالغة في الزجر، وقد ورد في الحديث " المؤمنون كالنفس الواحد " وإلى هذا ذهب الحسن وعطاء والسدي والجبائي؛ وقيل: المعنى لا تهلكوا أنفسكم بارتكاب الآثام كأكل الأموال بالباطل وغيره من المعاصي التي تستحقون بها العقاب، وقيل: المراد به النهي عن قتل الإنسان نفسه في حال غضب أو ضجر، وحكي ذلك عن البلخي. وقيل: المعنى لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه، وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، وقيل: المراد لا تتجروا في بلاد العدو فتفردوا بأنفسكم، وبه استدل مالك على كراهة التجارة إلى بلاد الحرب، وقيل: المعنى لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وأيد بما أخرجه أحمد وأبو داود عن عمرو بن العاص قال: " لما بعثني النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك له فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * الآية فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا "، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه: * (ولا تقتلوا) * بالتشديد والتكثير، ولا يخفى ما في الجمع بين التوصية بحفظ المال والوصية بحفظ النفس من الملائمة لما أن المال شقيق النفس من حيث إنه سبب لقوامها وتحصيل كمالاتها واستيفاء فضائلها، والملائمة بين النهيين على قول مالك أتم، وقدم النهي الأول لكثرة التعرض لما نهى عنه فيه.
* (إن الله كان بكم رحيما) * تعليل للنهي، والمعنى أنه تعالى لم يزل مبالغا في الرحمة، ومن رحمته بكم نهيكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس، وقيل: معناه إنه كان
بكم يا أمة محمد رحيما إذ لم يكلفكم قتل الأنفس في التوبة كما كلف بني إسرائيل بذلك..
* (ومن يفعل ذالك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذالك على الله يسيرا) *.
* (ومن يفعل ذلك) * أي قتل النفس فقط، أو هو وما قبله من أكل الأموال بالباطل، أو مجموع ما تقدم من المحرمات من قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * (النساء: 19)، أو من أول السورة إلى هنا أقوال: روي الأول: منها عن عطاء - ولعله الأظهر - وما في ذلك من البعد إيذان بفظاعة قتل النفس وبعد منزلته في الفساد، وإفراد اسم الإشارة على تقدير تعدد المشار إليه باعتبار تأويله بما سبق.
* (عدوانا) * أي إفراطا في التجاوز عن الحد، وقرىء * (عدوانا) * بكسر العين * (وظلما) * أي إيتاءا بما لا يستحقه، وقيل: هما بمعنى فالعطف للتفسير، وقيل: أريد بالعدوان التعدي على الغير، وبالظلم الظلم على النفس بتعريضها للعقاب، وأيا ما كان فهما منصوبان على الحالية، أو على العلية، وقيل: وخرج بهما السهو والغلط والخطأ وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام * (فسوف نصليه نارا) * أي ندخله إياها ونحرقه بها، والجملة جواب الشرط.
16

وقرىء (نصليه) بالتشديد، و (نصليه) بفتح النون من صلاه لغة كأصلاه، ويصليه بالياء التحتانية والضمير لله عز وجل، أو لذلك، والاسناد مجازى من باب الاسناد إلى السبب.
* (وكان ذالك) * أي إصلاؤه النار يوم القيامة * (على الله يسيرا) * هينا لا يمنعه منه مانع ولا يدفعه عنه دافع ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي..
* (إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئ‍اتكم وندخلكم مدخلا كريما) *.
* (إن تجتنبوا) * أي تتركوا جانبا * (كبائر ما تنهون) * أي ينهاكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم * (عنه) * أي عن ارتكابه مما ذكر ومما لم يذكر، وقرىء (كبير) على إرادة الجنس فيطابق القراءة المشهورة، وقيل: يحتمل أن يراد به الشرك * (نكفر) * أي نغفر ونمحو واختيار ما يدل على العظمة بطريق الالتفات تفخيم لشأن ذلك الغفران، وقرىء (يغفر) - بالياء التحتانية * (عنكم) * أيها المجتنبون * (سيئاتكم) * أي صغائركم كما قال السدي، واختلفوا في حد الكبيرة على أقوال: الأول: أنها ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وإليه ذهب بعض الشافعية، والثاني: أنها كل معصية أوجبت الحد، وبه قال البغوي وغيره، والثالث: أنها كل ما نصب الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حد، والرابع: أنها كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة وبه قال الإمام، والخامس: أنها ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد، وبه قال الماوردي في " فتاويه "، والسادس: أنها كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه، وحكي ذلك بتفصيل مذكور في محله عن الحليمي، والسابع: أنها كل فعل نص الكتاب على تحريمه بلفظ التحريم، وقال الواحدي: الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها، ولكن الله تعالى أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة انتهى.
وقال شيخ الإسلام البارزي: التحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن بنص كتاب أو سنة، أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد أو لعن أو أكثر من مفسدته، أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل معصوما فظهر أنه مستحق لدمه، أو وطيء امرأة ظانا أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته، وقال بعضهم: كل ما ذكر من الحدود إنما قصدوا به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه؟ وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبطها بحد، فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره الله تعالى من أول هذه السورة إلى هنا؛ وقيل: هي سبع، ويستدل له بخبر " الصحيحين " " اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات "، وفي رواية لهما " الكبائر الإشراك بالله تعالى والسحر وعقوق الوالدين وقتل النفس ". زاد البخاري
17

" واليمين الغموس " ومسلم بدلها " وقول الزور " والجواب أن ذلك محمول على أنه صلى الله عليه وسلم ذكره قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر لا لحصره الكبائر فيه - وممن صرح بأن الكبائر سبع - علي كرم الله تعالى وجهه وعطاء وعبيد بن عمير، وقيل: تسع لما أخرجه علي بن الجعد عن ابن عمر أنه قال حين سئل عن الكبائر: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هن تسع الإشراك بالله تعالى وقذف المحصنة وقتل النفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين والإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياءا وأمواتا " ونقل عن ابن مسعود أنها ثلاث؛ وعنه أيضا أنها عشرة، وقيل: أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: أربع، وروى عبد الرزاق عن ابن عباس أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب، وروى ابن جبير أنه قال له: هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وأنكر جماعة من الأئمة أن في الذنوب صغيرة وقالوا: بل سائر المعاصي كبائر منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني والقاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين في " الإرشاد ". وابن القشيري في " المرشد " بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة، واختاره في " تفسيره " فقال: معاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر، وإنما يقال لبعضها: صغيرة وكبيرة بالإضافة، وأول الآية بما ينبو عنه ظاهرها، وقالت المعتزلة: الذنوب على ضربين: صغائر وكبائر؛ وهذا ليس بصحيح انتهى، وربما ادعى في بعض المواضع اتفاق الأصحاب على ما ذكره واعتمد ذلك التقى السبكي، وقال القاضي عبد الوهاب: لا يمكن أن يقال في معصية إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر عند اجتناب الكبائر، ويوافق هذا القول ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال: " كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة "، وفي رواية " كل ما عصي الله تعالى فيه فهو كبيرة " - قاله العلامة ابن حجر - وذكر أن جمهور العلماء على الانقسام،
وأنه لا خلاف بين الفريقين في المعنى، وإنما الخلاف في التسمية، والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة، ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظرا إلى عظمة الله تعالى وشدة عقابه وإجلالا له عز وجل عن تسمية معصيته صغيرة لأنها إلى باهر عظمته تعالى كبيرة وأي كبيرة. ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم بل قسموها إلى قسمين - كما يقتضيه صرائح الآيات والأخبار - لا سيما هذه الآية وكون المعنى: - إن تجتنبوا كبائر ما نهيتم عنه في هذه السورة من المناكح الحرام وأكل الأموال وغير ذلك مما تقدم نكفر عنكم ما كان من ارتكابها فيما سلف، ونظير ذلك من التنزيل * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * (الأنفال: 38) - بعيد غاية البعد، ولذلك قال حجة الإسلام الغزالي: لا يليق إنكار الفرق بين الصغائر والكبائر وقد عرفتا من مدارك الشرع، نعم قد يقال لذنب واحد: كبير وصغير باعتبارين لأن الذنوب تتفاوت في ذلك باعتبار الأشخاص والأحوال، ومن هنا قال الشاعر: لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة * في السهو فيها للوضيع معاذر
(فكبائر) الرجل الصغير (صغائر)
وصغائر الرجل الكبير كبائر
قال سيدي ابن الفارض قدس سره: ولو خطرت لي في سواك إرادة * على خاطري سهوا حكمت بردتي
وأشار إلى التفاوت من قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، هذا وقد استشكلت هذه الآية مع ما في
18

حديث مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: " الصلوات الخمس مكفرة لما بينها ما اجتنبت الكبائر " ووجهه أن الصلوات إذا كفرت لم يبق ما يكفره غيرها فلم يتحقق مضمون الآية، وأجيب عنه بأجوبة أصحها - على ما قاله الشهاب - إن الآية والحديث بمعنى واحد لأن قوله صلى الله عليه وسلم فيه: " ما اجتنبت " الخ دال على بيان الآية لأنه إذا لم يصل ارتكب كبيرة وأي كبيرة فتدبر * (وندخلكم مدخلا) * الجمهور على ضم الميم، وقرأ أبو جعفر ونافع بفتحها، وهو على الضم إما مصدر ومفعول * (ندخلكم) * محذوف أي ندخلكم الجنة إدخالا، أو مكان منصوب على الظرف عند سيبويه، وعلى أنه مفعول به عند الأخفش، وهكذا كل مكان مختص بعد دخل فيه الخلاف، وعلى الفتح قيل: منصوب بمقدر أي ندخلكم فتدخلون مدخلا ونصبه كما مر، وجوز كونه كقوله تعالى: * (أنبتكم من الأرض نباتا) * (نوح: 17) ورجح حمله على المكان لوصفه بقوله سبحانه: * (كريما) * أي حسنا، وقد جاء في القرآن العظيم وصف المكان به فقد قال سبحانه، * (ومقام كريم) * (الشعراء: 58)..
* (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنسآء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شىء عليما) *.
* (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) * قال القفال: لما نهى الله تعالى المؤمنين عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل الأنفس عقبه بالنهي عما يؤدي إليه من الطعم في أموالهم، وقيل: نهاهم أولا عن التعرض لأموالهم بالجوارح، ثم عن التعرض لها بالقلب على سبيل الحسد لتطهر أعمالهم الظاهرة والباطنة، فالمعنى؛ ولا تتمنوا ما أعطاه الله تعالى بعضكم وميزه به عليكم من المال والجاه وكل ما يجري فيه التنافس، فإن ذلك قسمة صادرة من حكيم خبير وعلى كل من المفضل عليهم أن يرضى بما قسم له ولا يتمنى حظ المفضل ولا يحسده لأن ذلك أشبه الأشياء بالاعتراض على من أتقن كل شيء وأحكمه ودبر العالم بحكمته البالغة ونظمه. وأظلم خلق الله من بابت (حاسدا) * لمن بات في نعمائه يتقلب
وإلى هذا الوجه ذهب ابن عباس وأبو عبد الله رضي الله تعالى عنهم، فقد روي عنهما في الآية لا يقل أحدكم ليت ما أعطي فلان من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان عندي فإن ذلك يكون حسدا ولكن ليقل: اللهم أعطني مثله، ويفهم من هذا أن التمني المذكور كناية عن الحسد، وجعل بعضهم المقتضي للمنع عنه كونه ذريعة للحسد ولكل وجهة، وزعم البلخي أن المعنى لا يجوز للرجل أن يتمنى أن لو كان امرأة ولا للمرأة أن لو كانت رجلا لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو الأصلح فيكون قد تمنى ما ليس بأصلح، ونقل شيخ الإسلام أنه لما جعل الله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء: نحن أحوج لأن يكون لنا سهمان وللرجال سهم واحد لأنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر على طلب المعاش منا فنزلت، ثم قال: وهذا هو الأنسب بتعليل النهي بقوله:
* (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) * فإنه صريح في جريان التمني بين فريقي الرجال والنساء، ولعل صيغة المذكر في النهي لما عبر عنهن بالبعض، والمعني لكل من الفريقين في الميراث نصيب معين المقدار مما أصابه بحسب استعداده، وقد عبر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاه حاله لنصيبه باكتسابه إياه تأكيدا لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقوية لاختصاصه بحيث لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك ما يوجب الانتهاء عن التمني المذكور انتهى، وهذا المعنى الذي ذكره للآية مروي عن ابن
19

عباس رضي الله تعالى عنهما لكن القيل الذي نقله تبعا للزمخشري في سبب النزول لم نقف له على سند، والذي ذكره الواحدي في ذلك ثلاثة أخبار: الأول: ما أخرجه عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى الآية، والثاني: ما أخرجه عن عكرمة أن النساء سألنا الجهاد فقلن: وددن أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فنزلت، والثالث: ما أخرجه عن قتادة والسدي قالا: لما نزل قوله تعالى: * (للذكر مثل حظ الانثيين) * (النساء: 11) قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا كما فضلنا عليهن في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء، وقالت النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا فأنزل الله تعالى: * (ولا تتمنوا) * إلى آخرها، وذكر الجلال السيوطي في " الدر المنثور " نحو ذلك، ولا يخفى أن القيل الذي نقله ظاهر في حمل التمني المنهي عنه على الحسد، والخبر الأول.
والثاني: مما أخرجه الواحدي ليسا كذلك إذ عليهما يجوز حمله على الحسد أو على ما هو ذريعة له، وربما يتراءى أن حمله على الثاني نظرا إليهما أظهر، وأما الخبر الثالث: فيأباه معنى الآية سواء كان التمني كناية عن الحسد أو ذريعة إلا بتكلف بعيد جدا، ومعنى الآية على الأولين أن لكل من الرجال والنساء حظا من الثواب على حسب ما كلفه الله تعالى من الطاعات بحسن تدبيره فلا تتمنوا خلاف هذا التدبير، وروي ذلك عن قتادة، وفيه استعمال الاكتساب في الخير وقد استعمل في الشر، واستعمل الكسب في الخير في قوله تعالى: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * (البقرة: 286) وعن مقاتل وأبي جرير أنهما قالا المراد مما اكتسبوا من الإثم، وفيه استعمال اللام مع الشر دون على، وهو خلاف ما في الآية، وقيل: المراد لكل، وعلى كل من الفريقين مقدار من الثواب والعقاب حسبما رتبه الحكيم على أفعاله إلا أنه استغنى باللام عن علي وبالاكتساب عن الكسب - وهو كما ترى - ويرد على هذه المعاني أنه لا يساعدها النظم الكريم المتعلق بالمواريث وفضائل الرجال. ولعل من يذهب إليها يجعل الآية معترضة في البين. وذكر بعضهم أن معنى الآية على الوجه الأول المروي عن أبي عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مقدرا في أزل الآزال من نعيم الدنيا بالتجارات والزراعات وغير ذلك من المكاسب فلا يتمن خلاف ما قسم له.
* (واسئلوا الله من فضله) * عطف على النهي بعد تقرير الانتهاء بالتعليل كأنه قيل: لا تتمنوا نصيب غيركم ولا تحسدوا من فضل عليكم واسألوا الله تعالى من إحسانه الزائد وإنعامه المتكاثر فإن خزائنه مملوءة لا تنفد أبدا، والمفعول محذوف إفادة للعموم أي واسألوا ما شئتم فإنه سبحانه يعطيكموه إن شاء، أو لكونه معلوما من السياق، أي واسألوا مثله، ويقال لذلك: غبطة. وقيل: (من) زائدة أي واسألوا الله تعالى فضله، وقد ورد في الخبر " لا يتمنين أحدكم مال أخيه ولكن ليقل اللهم ارزقني اللهم أعطني مثله " وذهب بعض العلماء - كما في " البحر " - إلى المنع عن تمني مثل نعمة الغير ولو بدون تمني زوالها لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة له في دينه ومضرة عليه في دنياه، فلا يجوز عنده أن يقول: اللهم أعطني دارا مثل دار فلان ولا زوجا مثل زوجه بل ينبغي أن يقول: اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي، ولا يتعرض لمن فضل عليه، ونسب ذلك للمحققين وهم محجوجون بالخبر اللهم إلا إذا لم يسلموا صحته، وقيل: المعنى لا تتمنوا الدنيا بل اسألوا الله تعالى العبادة التي تقربكم إليه، وإلى هذا ذهب ابن جبير وابن سيرين، وأخرج ابن المنذر عن الثاني أنه إذا سمع الرجل يتمنى الدنيا يقول: قد نهاكم الله تعالى عن هذا
20

ويتلو الآية، والظاهر العموم، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سلوا الله تعالى من فضله فإن الله تعالى يحب أن يسأل وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج " وقال ابن عيينة: لما يأمر سبحانه بالمسألة إلا ليعطي * (إن الله بكل شيء عليما) * ولذلك فضل بعض الناس على بعض حسب مراتب استعداداتهم وتفاوت قابلياتهم. ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى لم يزل ولا يزال عليما بكل شيء فيعلم ما تضمرونه من الحسد ويجازيكم عليه..
* (ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والاقربون والذين عقدت أيم‍انكم فااتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شىء شهيدا) *.
* (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون) * لا بد فيه من تقدير مضاف إليه أي لكل إنسان أو لكل قوم، أو لكل مال أو تركة وفيه على هذا وجوه ذكرها الشهاب نور الله تعالى مرقده: الأول: أنه على التقدير الأول معناه لكل إنسان موروث جعلنا موالي أي وراثا مما ترك وهنا تم الكلام، فيكون * (مما ترك) * متعلقا بموالي أو بفعل مقدر، و * (موالي) * مفعول أولا - لجعل - بمعنى صير، و * (لكل) * هو المفعول الثاني له قدم عليه لتأكيد الشمول ودفع توهم تعلق الجعل ببعض دون بعض، وفاعل * (ترك) * ضمير (كل (، ويكون * (الوالدان) * مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل: ومن الوارث؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون، والثاني: أن التقدير لكل إنسان موروث جعلنا وراثا مما تركه ذلك الإنسان، ثم بين ذلك الإنسان بقوله سبحانه: * (الوالدان) * كأنه قيل: ومن هذا الإنسان الموروث؟ فقيل: الوالدان والأقربون وإعرابه كما قبله غير أن الفرق بينهما أن * (الوالدان والأقربون) * في الأول: وارثون، وفي الثاني: موروثون، وعليهما فالكلام جملتان، والثالث: أن التقدير ولكل إنسان وارث - مما تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي - أي موروثين، - فالمولى - الموروث و (الوالدان) مرفوع ب * (ترك) * و (ما) بمعنى من، والجار والمجرور صفة (ما) أضيفت إليه كل، والكلام جملة واحدة، والرابع: أنه على التقدير الثاني معناه، ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب - مما تركه والداهم وأقربوهم -، فلكل خبر نصيب المقدر مؤخرا وجعلناهم صفة قوم؛ والعائد الضمير المحذوف الذي هو مفعول جعل، وموالي: إما مفعول ثان أو حال و * (مما ترك) * صفة المبتدأ المحذوف الباقي صفته كصفة المضاف إليه وحذف العائد منها. ونظيره قولك: لكل من خلقه الله تعالى إنسانا من رزق الله تعالى، أي لكل واحد خلقه الله تعالى إنسانا نصيب من رزق الله تعالى، والخامس: أنه على التقدير الثالث معناه: لكل مال أو تركة مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي وراثا يلونه ويحوزونه، ويكون * (لكل) * متعلقا - بجعل - و * (مما ترك) * صفة كل، واعترض على الأول والثاني بأن فيهما تفكيك النظم الكريم مع أن المولى يشبه أن يكون في الأصل اسم مكان لا صفة فكيف تكون (من) صلة له؟ وأجيب عن هذا بأن ذلك لتضمنه معنى الفعل كما أشير إليه على أن كون المولى ليس صفة مخالف لكلام الراغب فإنه قال: إنه بمعنى الفاعل والمفعول أي الموالي والموالى لكن وزن مفعل في الصفة أنكره قوم، وقال ابن الحاجب في " شرح المفصل ": إنه نادر، فإما أن يجعل من النادر أو مما عبر عن الصفة فيه باسم المكان مجازا لتمكنها وقرارها في موصوفها، ويمكن أن يجعل من باب المجلس السامي، واعترض على الثالث بالبعد وعلى الرابع بأن فيه حذف المبتدأ الموصوف بالجار والمجرور وإقامته مقامه وهو قليل، وبأن لكل قوم من الموالي جميع ما ترك الوالدان والأقربون لا نصيب وإنما النصيب لكل فرد، وأجيب عن الأول بأنه ثابت مع قلته كقوله تعالى: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * (الصافات: 164) * (ومنا دون ذلك) * (الجن؛ 11)؛
21

وعن الثاني بأن ما يستحقه القوم بعض التركة لتقدم التجهيز والدين والوصية إن كانا، وأما حمل (من) على البيان للمحذوف فبعيد جدا، وتعقب الشهاب الجواب عن الأول بأن فيه خللا من وجهين: أما أولا: فلأن ما ذكر لا شاهد له فيه لما قرره النحاة أن الصفة إذا كانت جملة أو ظرفا تقام مقام موصوفها بشرط كون المنعوت بعض
ما قبله من مجرور بمن، أو في، وإلا لم تقم مقامه إلا في شعر، وما ذكر داخل فيه دون الآية، وأما ثانيا: فلأنه ليس المراد بقيامها مقامه أن تكون مبتدأ حقيقة بل المبتدأ محذوف وهذا بيانه كما أشير إليه في التقرير فلا وجه لاستبعاده، نعم ما ذكروه وإن كان مشهورا غير مسلم، فإن ابن مالك صرح بخلافه في " التوضيح "، وجوز حذف الموصوف في السعة بدون ذلك الشرط، فالحق أنه أغلبي لا كلي، واعترض على الخامس بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بجملة عاملة في الموصوف نحو - بكل رجل مررت تميمي - وفي جوازه نظر، ورد بأنه جائز كما في قوله تعالى: * (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض) * (الأنعام: 14) ففاطر صفة الاسم الجليل وقد فصل بينهما - باتخذ - العامل في غير، فهذا أولى، والجواب بأن العامل لم يتخلل بل المعمول تقدم فجاء التخلل من ذلك فلم يضعف إذ حق المعمول التأخر عن عامله وحينئذ يكون الموصوف مقرونا بصفته تكلف مستغنى عنه، واختار جمع من المحققين هذا الخامس والذي قبله، وجعلوا الجملة مبتدأة مقررة لمضمون ما قبلها، واعترضوا على الوجه الأول بأن فيه خروج الأولاد لأنهم لا يدخلون في الأقربين عرفا كما لا يدخل الوالدان فيهم، وإذا أريد المعنى اللغوي شمل الوالدين، ورد بأن هذا مشترك الورود على أنه قد أجيب عنه بأن ترك الأولاد لظهور حالهم من آية المواريث كما ترك ذكر الأزواج لذلك، أو بأن ذكر الوالدين لشرفهم والاهتمام بشأنهم فلا محذور من هذه الحيثية تدبر.
* (والذين عقدت أيمانكم) * هم موالي الموالاة. أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم، فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال (75) بقوله سبحانه: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) *. وروي ذلك من غير ما طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكذلك عن غيره، ومذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح وعليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وراث أصلا، وخبر النسخ المذكور لا يقوم حجة عليه إذ لا دلالة فيما ادعى ناسخا على عدم إرث الحليف لا سيما وهو إنما يرثه عند عدم العصبات وأولي الأرحام. والأيمان هنا جمع يمين بمعنى اليد اليمنى، وإضافة العقد إليها لوضعهم الأيدي في العقود أو بمعنى القسم وكون العقد هنا عقد النكاح خلاف الظاهر إذ لم يعهد فيه إضافته إلى اليمين؛ وقرأ الكوفيون * (عقدت) * بغير ألف، والباقون * (عاقدت) * بالألف، وقرىء بالتشديد أيضا، والمفعول في جميع القراءات محذوف أي عهودهم، والحذف تدريجي ليكون العائد المحذوف منصوبا كما هو الكثير المطرد، وفي الموصول أوجه من الإعراب: الأول: أن يكون مبتدأ وجملة قوله تعالى: * (فئاتوهم نصيبهم) * خبره وزيدت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، والثاني: أنه منصوب على الاشتغال؛ قيل: وينبغي أن يكون مختارا لئلا يقع الطلب خبرا لكنهم لم يختاروه لأن مثله قلما يقع في غير الاختصاص وهو غير مناسب هنا، ورد بأن زيدا ضربته إن قدر العامل فيه
22

مؤخرا أفاد الاختصاص، وإن قدر مقدما فلا يفيده، ولا خفاء أن الظاهر تقديره مقدما فلا يلزم الاختصاص والثالث: أنه معطوف على * (الوالدان) * فإن أريد أنهم موروثون عاد الضمير من - فآتوهم - على - موالى - وإن أريد أنهم وارثون جاز عوده على * (موالي) * وعلى (الوالدين) وما عطف عليهم، قيل: ويضعفه شهرة الوقف على (الأقربون) دون (أيمانكم)، والرابع: أنه منصوب بالعطف على موالي وهو تكلف. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجها البخاري وأبو داود والنسائي وجماعة أنه قال في الآية: كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت * (ولكل جعلنا موالي) * نسخت، ثم قال: * (والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) * من النصر والرفادة والنصيحة - وقد ذهب الميراث ويوصي له - وروي عن مجاهد مثله، وظاهر ذلك عدم جواز العطف إذ من عطف أراد * (فآتوهم نصيبهم) * من الإرث * (إن الله كان على كل شيء شهيدا) * أي لم يزل سبحانه عالما بجميع الأشياء مطلعا عليها جليها وخفيها فيطلع على الإيتاء والمنع، ويجازي كلا من المانع والمؤتي حسب فعله، ففي الجلة وعد ووعيد..
* (الرجال قوامون على النسآء بما فضل الله بعضهم على بعض وبمآ أنفقوا من أموالهم فالص‍الح‍ات ق‍انت‍ات حفظ‍ات للغيب بما حفظ الله والل‍اتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا) *.
* (الرجال قوامون على النساء) * أي شأنهم القيام عليهن قيام الولاة على الرعية بالأمر والنهي ونحو ذلك. واختيار الجملة الإسمية مع صيغة المبالغة للإيذان بعراقتهم ورسوخهم في الاتصاف بما أسند إليهم، وفي الكلام إشارة إلى سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث كما أن فيما تقدم رمزا إلى تفاوت مراتب الاستحقاق، وعلل سبحانه الحكم بأمرين: وهبي وكسبي فقال عز شأنه: * (بما فضل الله بعضهم على بعض) * فالباء للسببية وهي متعلقة ب * (قوامون) * كعلى ولا محذور أصلا، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من ضميره والباء للسببية أو للملابسة و (ما) مصدرية وضمير الجمع لكلا الفريقين تغليبا أي قوامون عليهن بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن، أو مستحقين ذلك بسبب التفضيل، أو متلبسين بالتفضيل، وعدل عن الضمير فلم يقل سبحانه بما فضلهم الله عليهن للإشعار بغاية ظهور الأمر وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه بالكلية، وقيل: للإبهام للإشارة إلى أن بعض النساء أفضل من كثير من الرجال وليس بشيء، وكذا لم يصرح سبحانه بما به التفضيل رمزا إلى أنه غني عن التفصيل، وقد ورد أنهن ناقصات عقل ودين، والرجال بعكسهن كما لا يخفى، ولذا خصوا بالرسالة والنبوة على الأشهر، وبالإمامة الكبرى والصغرى، وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة والجمعة وتكبيرات التشريق عند إمامنا الأعظم - والاستبداد بالفراق وبالنكاح عند الشافعية - وبالشهادة في أمهات القضايا وزيادة السهم في الميراث والتعصيب إلى غير ذلك * (وبما أنفقوا من أموالهم) * عطف على ما قبله فالباء متعلقة بما تعلقت به الباء الأولى، و (ما) مصدرية أو موصولة وعائدها محذوف، و * (من) * تبعيضية أو ابتدائية متعلقة - بأنفقوا - أو بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف وأريد بالمنفق - كما قال مجاهد
- المهر، ويجوز أن يراد بما أنفقوه ما يعمه، والنفقة عليهن، والآية - كما روي عن مقاتل - نزلت في سعد بن الربيع بن عمرو وكان من النقباء، وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لتقتص من زوجها، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ارجعوا هذا جبرائيل عليه السلام أتاني وأنزل الله هذه الآية فتلاها صلى الله عليه وسلم ثم قال: أردنا أمرا وأراد الله تعالى أمرا والذي أراده الله تعالى خير ".
23

وقال الكلبي: نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خولة بنت محمد بن سلمة وذكر القصة، وقال بعضهم: نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي وزوجها ثابت بن قيس بن شماس، وذكر قريبا منه، واستدل بالآية على أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته إلا في معصية الله تعالى، وفي الخبر " لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها " واستدل بها أيضا من أجاز فسخ النكاح عند الإعسار عن النفقة والكسوة وهو مذهب مالك والشافعي لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها، فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح، وعندنا لا فسخ لقوله تعالى: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * (البقرة: 280) واستدل بها أيضا من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه لأنه سبحانه جعل الرجل قواما بصيغة المبالغة وهو الناظر على الشيء الحافظ له.
* (فالص‍الح‍ات) * أي منهن * (قانت‍ات) * شروع في تفصيل أحوالهن وكيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن، والمراد فالصالحات منهن مطيعات لله تعالى ولأزواجهن * (حافظ‍ات للغيب) * أي يحفظن أنفسهن وفروجهن في حال غيبة أزواجهن، قال الثوري وقتادة: أو يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال، فاللام بمعنى في، والغيب بمعنى الغيبة، وأل عوض عن المضاف إليه على رأي، ويجوز أن يكون المراد حافظات لواجب الغيب أي لما يجب عليهن حفظه حال الغيبة، فاللام على ظاهرها، وقيل: المراد حافظات لأسرار أزواجهن أي ما يقع بينهم وبينهن في الخلوة، ومنه المنافسة والمنافرة واللطمة المذكورة في الخبر، وحينئذ لا حاجة إلى ما قيل في اللام، ولا إلى تفسير الغيب بالغيبة إلا أن ما أخرجه ابن جرير والبيهقي وغيرهم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم * (الرجال قوامون) * إلى الغيب " يبعد هذا القول؛ ومن الناس من زعم أنه أنسب بسبب النزول * (بما حفظ الله) * أي بما حفظهن الله تعالى في مهورهن، وإلزام أزواجهن النفقة عليهن قاله الزجاج، وقيل: بحفظ الله تعالى لهن وعصمته إياهن ولولا أن الله تعالى حفظهن وعصمهن لما حفظن - فما - إما موصولة أو مصدرية، وقرأ أبو جعفر * (بما حفظ الله) * بالنصب، ولا بد من تقدير مضاف على هذه القراءة - كدين الله، وحقه - لأن ذاته تعالى لا يحفظها أحد، و (ما) موصولة أو موصوفة، ومنع غير واحد المصدرية لخلو حفظ حينئذ عن الفاعل لأنه كان يجب أن يقال بما حفظن الله، وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكون فاعله ضميرا مفردا عائدا على جمع الإناث لأنه في معنى الجنس كأنه قيل. فمن حفظ الله، وجعله ابن جني كقوله: فإن الحوادث أودى بها (c)
ولا يخفى ما فيه من التكلف، وشذوذ ترك التأنيث ومثله لا يليق بالنظم الكريم كما لا يخفى، ثم إن صيغة جمع السلامة هنا للكثرة أما المعرف فظاهر، وأما المنكر فلأنه حمل عليه فلا بد من مطابقته له في الكثرة، وإلا لم يصدق على جميع أفراده، وقد نص على ذلك في " الدر المصون ". وقرأ ابن مسعود (فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن)، وأخرج ابن جرير عنه زيادة (فأصلحوا إليهن) فقط.
* (وال‍اتي تخافون نشوزهن) * أي ترفعهن عن مطاوعتكم وعصيانهن لكم، من النشز - بسكون الشين وفتحها - وهو المكان المرتفع ويكون بمعنى الارتفاع * (فعظوهن) * أي فانصحوهن
24

وقولوا لهن اتقين الله وارجعن عما أنتن عليه، وظاهر الآية ترتب هذا على خوف النشوز وإن لم يقع وإلا لقيل نشزن، ولعله غير مراد ولذا فسر في " التيسير " * (تخافون) * بتعلمون، وبه قال الفراء - كما نقله عنه الطبرسي - وجاء الخوف بهذا كما في " القاموس "، وقيل: المراد: تخافون دوام نشوزهن أو أقصى مراتبه كالفرار منهم في المراقد. واختار في " البحر " في الكلام مقدرا وأصله: واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن فعظوهن، وهو خطاب للأزواج وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن. * (واهجروهن في المضاجع) * أي مواضع الاضطجاع، والمراد: أتركوهن منفردات في مضاجعهن فلا تدخلونهن تحت اللحف ولا تباشروهن فيكون الكلام كناية عن ترك جماعهن، وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وقيل: المراد أهجروهن في الفراش بأن تولوهن ظهوركم فيه ولا تلتفتوا إليهن، وروي ذلك عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ولعله كناية أيضا عن ترك الجماع، وقيل: المضاجع المبايت أي أهجروا حجرهن ومحل مبيتهن، وقيل: * (في) * للسببية أي أهجروهن بسبب المضاجع أي بسبب تخلفهن عن المضاجعة، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة من طريق أبي الضحى، فالهجران على هذا بالمنطق، قال عكرمة: بأن يغلظ لها القول، وزعم بعضهم أن المعنى أكرهوهن على الجماع واربطوهن من هجر البعير إذا شده بالهجار، وتعقبه الزمخشري بأنه من تفسير الثقلاء، وقال ابن المنير: " لعل هذا المفسر يتأيد بقوله تعالى: * (فإن أطعنكم) * فإنه يدل على تقدم إكراه في أمر ما، وقرينة (المضاجع) ترشد إلى أنه الجماع، فإطلاق الزمخشري لما أطلقه في حق هذا المفسر من الإفراط " انتهى، وأظن أن هذا لو عرض على الزمخشري لنظم قائله في سلك ذلك المفسر، ولعد تركه من التفريط؛ وقرىء (في المضطجع) و (المضجع).
* (واضربوهن) * يعني ضربا غير مبرح - كما أخرجه ابن جرير عن حجاج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفسر غير المبرح بأنت لا يقطع لحما ولا يكسر عظما. وعن ابن عباس أنه الضرب بالسواك ونحوه، والذي يدل عليه السياق والقرينة العقلية أن هذه الأمور الثلاثة مترتبة فإذا خيف نشوز المرأة تنصح ثم تهجر ثم تضرب إذ لو عكس استغنى بالأشد عن الأضعف، وإلا فالواو لا تدل على الترتيب وكذا الفاء في * (فعظوهن) * لا دلالة لها على أكثر من ترتيب المجموع، فالقول
بأنها أظهر الأدلة على الترتيب ليس بظاهر، وفي " الكشف " الترتيب مستفاد من دخول الواو على " أجزئه " مختلفة في الشدة والضعف مترتبة على أمر مدرج، فإنما النص هو الدال على الترتيب. هذا وقد نص بعض أصحابنا أن للزوج أن يضرب المرأة على أربع خصال وما هو في معنى الأربع ترك الزينة والزوج يريدها وترك الإجابة إذا دعاها إلى فراشه وترك الصلاة في رواية والغسل، والخروج من البيت إلا لعذر شرعي، وقيل: له أن يضربها متى أغضبته، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فإذا غضب على واحدة منا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها، ولا يخفى أن تحمل أذى النساء والصبر عليهن أفضل من ضربهن إلا لداع قوي، فقد أخرج ابن سعد والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصديق رضي الله تعالى عنه قالت: " كان الرجال نهوا عن ضرب النساء ثم شكوهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلى بينهم وبين ضربهن، ثم قال: " ولم يضرب خياركم " وذكر الشعراني قدس سره " أن الرجل إذا ضرب زوجته ينبغي أن لا يسرع في جماعها بعد الضرب " وكأنه أخذ ذلك مما أخرجه الشيخان وجماعة عن عبد الله بن زمعة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
25

أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم " وأخرج عبد الرزاق عن عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ: " أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره " وللخبر محمل آخر لا يخفى.
* (فان أطعنكم) * أي وافقنكم وانقدن لما أوجب الله تعالى عليهن من طاعتكم بذلك كما هو الظاهر * (فلا تبغوا عليهن سبيلا) * أي فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدي عليهن، أو لا تظلموهن بطريق من الطرق بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي وغيره واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن، فالبغي إما بمعنى الطلب، و * (سبيلا) * مفعوله والجار متعلق به، أو صفة النكرة قدم عليها، وإما بمعنى الظلم، و * (سبيلا) * منصوب بنزع الخافض، وعن سفيان بن عيينة أن المراد فلا تكلفوهن المحبة، وحاصل المعنى إذا استقام لكم ظاهرهن فلا تعتلوا عليهن بما في باطنهن * (إن الله كان عليا كبيرا) * فاحذروه فإن قدرته سبحانه عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم منهن، أو أنه تعالى على علو شأنه وكمال ذاته يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم إذا تبتم فتجاوزوا أنتم عن سيئات أزواجكم واعفوا عنهن إذا تبن، أو أنه تعالى قادر على الانتقام منكم غير راض بظلم أحد، أو أنه سبحانه مع علوه المطلق وكبريائه لم يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن إلا ما يطقن..
* (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلهآ إن يريدآ إصل‍احا يوفق الله بينهمآ إن الله كان عليما خبيرا) *.
* (وإن خفتم) * الخطاب - كما قال ابن جبير والضحاك وغيرهما - للحكام، وهو وارد على بناء الأمر على التقدير المسكوت عنه للإيذان أن ذلك مما ليس ينبغي أن يفرض تحققه أعني عدم الإطاعة؛ وقيل: لأهل الزوجين أو للزوجين أنفسهما، وروى ذلك عن السدي، والمراد فإن علمتم - كما قال ابن عباس - أو فإن ظننتم - كما قيل - * (شقاق بينهما) * أي الزوجين، وهما وإن لم يجر ذكرهما صريحا فقد جرى ضمنا لدلالة النشوز الذي هو عصيان المرأة زوجها، والرجال والنساء عليهما، والشقاق الخلاف والعداوة واشتقاقه من الشق وهو الجانب لأن كلا من المتخالفين في شق غير شق الآخر، و - بين - من الظروف المكانية التي يقل تصرفها، وإضافة الشقاق إليها إما لإجراء الظرف مجرى المفعول كما في قوله: يا سارق الليلة أهل الدار (c)
أو الفاعل كقولهم صام نهاره، والأصل - شقاقا بينهما - أي أن يخالف أحدهما الآخر، فللملابسة بين الظرف والمظروف نزل منزلة الفاعل أو المفعول وشبه بأحدهما ثم عومل معاملته في الإضافة إليه، وقيل: الإضافة بمعنى في وقيل: إن - بين - هنا بمعنى الوصل الكائن بين الزوجين أعني المعاشرة وهو ليس بظرف، وإلى ذلك يشير كلام أبي البقاء، ولم يرتض ذلك المحققون.
* (فابعثوا) * أي وجهوا وأرسلوا إلى الزوجين لإصلاح ذات البين * (حكما) * أي رجلا عدلا عارفا حسن السياسة والنظر في حصول المصلحة * (من أهله) * أي الزوج، و * (من) * إما متعلق - بابعثوا - فهو لابتداء الغاية، وإما بمحذوف وقع صفة للنكرة فهي للتبعيض * (وحكما) * آخر على صفة الأول * (من أهلها) * أي الزوجة، وخص الأهل لأنهم أطلب للصلاح وأعرف بباطن الحال وتسكن إليهم النفس فيطلعون على ما في ضمير كل من حب وبغض وإرادة صحبة أو فرقة وهذا على وجه الاستحباب، وإن نصبا من الأجانب جاز، واختلف في أنهما هل يليان الجمع والتفريق إن رأيا ذلك؟ فقيل لهما - وهو المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإحدى الروايتين عن ابن جبير، وبه قال الشعبي - فقد أخرج الشافعي في الأم. والبيهقي
26

في " السنن ". وغيرهما عن عبيدة السلماني قال: " جاء رجل وامرأة إلى علي كرم الله تعالى وجهه ومع كل واحد منهم فئام من الناس فأمرهم علي كرم الله تعالى وجهه أن يبعثوا رجلا حكما من أهله ورجلا حكما من أهلها، ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله تعالى بما علي فيه ولي، وقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي كرم الله تعالى وجهه: كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هذه الآية: * (وإن خفتم) * الخ هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقسروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي، وقيل: ليس لهما ذلك، وروي ذلك عن الحسن. فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه أنه قال: إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه، وأما الفرقة فليست بأيديهما، وإلى ذلك ذهب الزجاج، ونسب إلى الإمام الأعظم، وأجيب عن فعل علي كرم الله تعالى وجهه بأنه إمام وللإمام أن يفعل ما رأى فيه المصلحة فلعله رأى المصلحة فيما ذكر فوكل الحكمين على ما رأى على أن في كلامه ما يدل على أن تنفيذ الأمر موقوف
على الرضا حيث قال: للرجل كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به. وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يصلح جوابا عما روي عن ابن عباس، ولعل المسألة اجتهادية وكلام أحد المجتهدين لا يقوم حجة على الآخر. وذهب الإمامية إلى ما ذهب إليه الحسن وكأن الخبر عن علي كرم الله تعالى وجهه لم يثبت عندهم، وعن الشافعي روايتان في المسألة، وعن مالك أن لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه، (ونقل عن بعض علمائنا أن الإساءة إن كانت من الزوج فرقا بينهما وإن كانت منها فرقا على بعض ما أصدقها)، والظاهر أن من ذهب إلى القول بنفاذ حكمهما جعلهما وكيلين حكما على ذلك. وقال ابن العربي في " الأحكام ": إنهما قاضيان لا وكيلان فإن الحكم اسم في الشرع له.
* (إن يريدا) * أي الحكمان * (إصلاحا) * أي بين الزوجين وتأليفا * (يوفق الله بينهما) * فتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما؛ فالضمير أيضا للحكمين، وإلى ذلك ذهب ابن عباس ومجاهد والضحاك وابن جبير والسدي. وجوز أن يكون الضميران للزوجين أي إن أرادا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما لألفة والوفاق، وأن يكون الأول: للحكمين، والثاني: للزوجين أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله تعالى أوقع الله سبحانه بين الزوجين الألفة والمحبة وألقى في نفوسهما الموافقة والصحبة، وأن يكون الأول: للزوجين، والثاني: للحكمين أي إن يرد الزوجان إصلاحا واتفاقا يوفق الله تعالى () بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح ويتحرياه * (إن الله كان عليما خبيرا) * بالظواهر والبواطن فيعلم () (1) العباد ومصالحهم وسائر أحوالهم، وقد استدل الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بهذه الآية على الخوارج في إنكارهم التحكيم في قصة علي كرم الله تعالى وجهه، وهو أحد أمور ثلاثة علقت في أذهانهم فأبطلها كلها رضي الله تعالى عنه فرجع إلى موالاة الأمير كرم الله تعالى وجهه منهم عشرون ألفا، وفيها - كما قال ابن الفرس -
27

رد على من أنكر من المالكية بعث الحكمين في الزوجين، وقال: تخرج المرأة إلى دار أمين أو يسكن معها أمين..
* (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحس‍انا وبذى القربى واليت‍امى والمس‍اكين والجار ذى القربى والجار الجنب والص‍احب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيم‍انكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) *.
* (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) * كلام مبتدأ مسوق للإرشاد إلى خلال مشتملة على معالي الأمور إثر إرشاد كل من الزوجين إلى المعاملة الحسنة، وإزالة الخصومة والخشونة إذا وقعت في البين وفيه تأكيد لرعاية حق الزوجية وتعليم المعاملة مع أصناف من الناس، وقدم الأمر بما يتعلق بحقوق الله تعالى لأنها المدار الأعظم، وفي ذلك إيماء أيضا إلى ارتفاع شأن ما نظم في ذلك السلك، والعبادة أقصى غاية الخضوع، و * (شيئا) * إما مفعول به أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء صنما كان أو غيره، فالتنوين للتعميم. واختار عصام الدين كونه لتحقير ليكون فيه توبيخ عظيم - أي لا تشركوا به شيئا حقيرا مع عدم تناهي كبريائه إذ كل شيء في جنب عظمته سبحانه أحقر حقير - ونسبة الممكن إلى الواجب أبعد من نسبة المعدوم إلى الموجود إذ المعدوم إمكان الموجود، وأين الإمكان من الوجوب؟ ضدان مفترقان أي تفرق، وإما مصدر أي لا تشركوا به عز شأنه شيئا من الإشراك جليا أو خفيا، وعطف النهي عن الإشراك على الأمر بالعبادة مع أن الكف عن الإشراك لازم للعبادة بذلك التفسير إذ لا يتصور غاية الخضوع لمن له شريك ضرورة أن الخضوع لمن لا شريك له فوق الخضوع لمن له شريك للنهي عن الإشراك فيما جعله الشرع علامة نهاية الخضوع، أو للتوبيخ بغاية الجهل حيث لا يدركون هذا اللزوم كذا قيل: ولعل الأوضح أن يقال: إن هذا النهي إشارة إلى الأمر بالإخلاص فكأنه قيل: واعبدوا الله مخلصين له ويؤل ذلك كما أومأ إليه الإمام إلى أنه سبحانه أمر أولا بما يشمل التوحيد وغيره من أعمال القلب والجوارح ثم أردفه بما يفهم منه التوحيد الذي لا يقبل الله تعالى عملا بدونه فالعطف من قبيل عطف الخاص على العام.
* (وبالوالدين إحس‍انا) * أي وأحسنوا بهما إحسانا فالجار متعلق بالفعل المقدر، وجوز تعلقه بالمصدر وقدم للاهتمام - وأحسن - يتعدى بالباء وإلى واللام، وقيل: إنما يتعدى بالباء إذا تضمن معنى العطف. والإحسان المأمور به أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما، ولا يخشن في الكلام معهما، ويسعى في تحصيل مطالبهما والانفاق عليهما بقدر القدرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهما. * (وبذي القربى) * أي بصاحب القرابة من أخ وعم وخال وأولاد كل ونحو ذلك، وأعيد الباء هنا ولم يعد في البقرةقال في " البحر ": لأن هذا توصية لهذه الأمة فاعتنى به وأكد، وذلك في بني إسرائيل. * (واليت‍امى والمس‍اكين) * من الأجانب * (والجار ذي القربى) * أي الذي قرب جواره * (والجار الجنب) * أي البعيد من الجنابة ضد القرابة، وهي على هذا مكانية، ويحتمل أن يراد - بالجار ذي القربى - من له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين - وبالجار الجنب - الذي لا قرابة له ولو مشركا، أخرج أبو نعيم. والبزار من حديث جابر بن عبد الله - وفيه ضعف - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق: حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام، وجار له حقان: حق الجوار وحق الإسلام، وجار له حق واحد: حق الجوار، وهو المشرك من أهل الكتاب "، وأخرج البخاري في الأدب عن عبد الله بن عمر أنه ذبحت له شاة فجعل يقول لغلامه: أهديت لجارنا اليهودي أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ".
28

والظاهر أن مبنى الجوار على العرف، وعن الحسن كما في الأدب أنه سئل عن الجار فقال: أربعين دارا أمامه وأربعين خلفه وأربعين عن يمينه وأربعين عن يساره، وروي مثله عن الزهري. وقيل: أربعين ذراعا، ويبدأ بالأقرب فالأقرب، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابا، وقرىء - والجار ذا القربى - بالنصب أي وأخص الجار، وفي ذلك تنبيه على عظم حق الجار. وقد أخرج الشيخان عن أبي شريح الخزاعي " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره " وفيما سمعه عبد الله كفاية، وأخرجه الشيخان وأحمد من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.
* (والصاحب بالجنب) * هو الرفيق في السفر أو المنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك، وكلا القولين عن ابن عباس، وقيل: الرفق في أمر حسن - كتعلم وتصرف وصناعة وسفر - وعدوا من ذلك من قعد بجنبك في مسجد أو مجلس وغير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، واستحسن جماعة هذا القيل لما فيه من العموم. وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه - الصاحب - بالجنب - المرأة، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الصاحب، والعامل فيه الفعل المقدر * (وابن السبيل) * وهو المسافر أو الضيف. * (وما ملكت أيم‍انكم) * قال مقاتل: من عبيدكم وإمائكم، وكان كثيرا ما يوصي بهم صلى الله عليه وسلم فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال: " كان عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغرها في صدره وما يفيض بها لسانه " ثم الإحسان إلى هؤلاء الأصناف متفاوت المراتب حسبما يليق بكل وينبغي * (إن الله لا يحب من كان مختالا) * أي ذا خيلاء وكبر يأنف من أقاربه وجيرانه مثلا ولا يلتفت إليهم * (فخورا) * يعد مناقبه عليهم تطاولا وتعاظما، والجملة تعليل للأمر السابق. أخرج الطبراني وابن مردويه عن ثابت بن قيس بن شماس قال: " كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية * (إن الله) * الخ فذكر الكبر وعظمه فبكى ثابت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ فقال: يا رسول الله إني لأحب الجمال حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي قال: فأنت من أهل الجنة إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس " والأخبار في هذا الباب كثيرة..
* (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون مآ ءات‍اهم الله من فضله وأعتدنا للك‍افرين عذابا مهينا) *.
* (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) * فيه أوجه من الإعراب: الأول: أن يكون بدلا من من بدل كل من كل، الثاني: أن يكون صفة لها بناءا على رأي من يجوز وقوع الموصول موصوفا، والزجاج يقول به، الثالث: أن يكون نصبا على الذم، الرابع: أن يكون رفعا عليه، الخامس: أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين، السادس: أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي مبغوضون، أو أحقاء بكل ملامة ونحو ذلك - مما يؤخذ من السياق - وإنما حذف لتذهب نفس السامع كل مذهب، وتقديره بعد تمام الصلة أولى، السابع: أن يكون كما قال أبو البقاء: مبتدأ * (والذين) * (النساء: 38) الآتي معطوفا عليه، والخبر * (إن الله لا يظلم) * (النساء: 40) على معنى لا يظلمهم وهو بعيد جدا. وفرق الطيبي بين كونه خبرا ومبتدأ بأنه على الأول: متصل بما قبله لأن هذا من جنس أوصافهم التي عرفوا بها، وعلى الثاني: منقطع جيء به لبيان أحوالهم، وذكر أن الوجه الاتصال وأطال الكلام عليه، وفي البخل أربع لغات: فتح الخاء والباء - وبها قرأ حمزة والكسائي - وضمهما - وبها قرأ الحسن وعيسى بن عمر
29

وفتح الباء وسكون الخاء - وبها قرأ قتادة - وضم الباء وسكون الخاء - وبها قرأ الجمهور -.
* (ويكتمون ما ءات‍اهم الله من فضله) * أي من المال والغنى أو من نعوته صلى الله عليه وسلم. * (وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) * أي أعددنا لهم ذلك ووضع المظهر موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعم الله تعالى، ومن كان كافرا لنعمه فله عذاب يهينه كما أهان النعم بالبخل والإخفاء، ويجوز حمل الكفر على ظاهره، وذكر ضمير التعظيم للتهويل لأن عذاب العظيم عظيم، وغضب الحليم وخيم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبلها، وسبب نزول الآية ما أخرجه ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحرى بن عمرو وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون فأنزل الله تعالى: * (الذين يبخلون) * إلى قوله سبحانه: * (وكان الله بهم عليما) * (النساء: 37 - 39)، وقيل: نزلت في الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وروي ذلك عن سعيد بن جبير وغيره، أخرج عبد بن حميد وآخرون عن قتادة أنه قال في الآية: هم أعداء الله تعالى أهل الكتاب بخلوا بحق الله تعالى عليهم وكتموا الإسلام ومحمدا صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في " التوراة " " والإنجيل "، والبخل على هذه الرواية ظاهر في البخل بالمال، وبه صرح ابن جبير في إحدى الروايتين عنه، وفي الرواية الأخرى أنه البخل بالعلم، وأمرهم الناس أي أتباعهم به يحتمل أن يكون حقيقة، ويحتمل أن يكون مجازا تنزيلا لهم منزلة الآمرين بذلك لعلمهم باتباعهم لهم..
* (والذين ينفقون أموالهم رئآء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ومن يكن الشيط‍ان له قرينا فسآء قرينا) *.
* (والذين ينفقون أموالهم رئآء الناس) * أي للفخار ولما يقال لا لوجه الله العظيم المتعال، والموصول عطف على نظيره أو على الكافرين، وإنما شاركوهم في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الانفاق لا على ما ينبغي من حيث إنهما طرفا إفراط وتفريط سواء في الشناعة واستجلاب الذم، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي قرينهم الشيطان كما يدل عليه الكلام الآتي. * (ورئاء) * مصدر منصوب على الحال من ضمير * (ينفقون) * وإضافته إلى الناس من إضافة المصدر لمفعوله أي مرائين الناس * (ولا يؤمنون بالله) * القادر على الثواب والعقاب * (ولا باليوم الآخر) * الذي يثاب فيه المطيع ويعاقب العاصي ليقصدوا بالإنفاق ما تورق به أغصانه ويجتنى منه ثمره وهم اليهود، وروي ذلك عن مجاهد، أو مشركو مكة أو المنافقون - كما قيل. * (ومن يكن الشيط‍ان) * والمراد به إبليس وأعوانه الداخلة والخارجة من قبيلته، والناس التابعين له أو من القوى النفسانية والهوى وصحبة الأشرار، أو من النفس والقوى الحيوانية وشياطين الإنس والجن * (له قرينا) * أي صاحبا وخليلا في الدنيا * (فسآء) * فبئس الشيطان أو القرين. * (قرينا) * لأنه يدعوه إلى المعصية المؤدية إلى النار - وساء - منقولة إلى باب - نعم، وبئس - فهي ملحقة بالجامدة؛ فلذا قرنت بالفاء، ويحتمل أن تكون على بابها بتقدير قد كقوله سبحانه: * (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار) * (النحل: 9) والغرض من هذه الجملة التنبيه على أن الشيطان قرينهم فحملهم على ذلك وزينه لهم، وجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يقرن بهم الشيطان يوم القيامة في النار فيتلاعنان ويتباغضان
وتقوم
30

لهم الحسرة على ساق..
* (وماذا عليهم لو ءامنوا بالله واليوم الاخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما) *.
* (وماذا عليهم) * أي ما الذي عليهم، أو أي وبال وضرر يحيق بهم. * (لو ءامنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا) * على من ذكر من الطوائف ابتغاء وجه الله تعالى - كما يشعر به السياق - ويفهمه الكلام * (مما رزقهم الله) * من الأموال، وليس المراد السؤال عن الضرر المترتب على الإيمان والإنفاق في سبيل الله تعالى كما هو الظاهر إذ لا ضرر في ذلك ليسأل عنه بل المراد توبيخهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه، وتحريضهم على صرف الفكر لتحصيل الجواب لعله يؤدي بهم إلى العلم بما في ذلك مما هو أجدى من تفاريق العصا، وتنبيههم على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب احتياطا، فكيف إذا تدفقت منه المنافع! وهذا أسلوب بديع كثيرا ما استعملته العرب في كلامها، ومن ذلك قول من قال: ما كان ضرك لو مننت وربما * من الفتى وهو المغيظ المحنق
وفي الكلام رد على الجبرية إذ لا يقال مثل ذلك لمن لا اختيار له ولا تأثير أصلا في الفعل، ألا ترى أن من قال للأعمى: ماذا عليك لو كنت بصيرا؟ وللقصير ماذا عليك لو كنت طويلا؟ نسب إلى ما يكره. واستدل به القائلون بجواز إيمان المقلد أيضا لأنه مشعر بأن الإيمان في غاية السهولة، ولو كان الاستدلال واجبا لكان في غاية الصعوبة، وأجيب بعد تسليم الإشعار بأن الصعوبة في التفاصيل - وليست واجبة - وأما الدلائل على سبيل الإجمال فسهلة وهي الواجبة، و * (لو) * إما على بابها والكلام محمول على المعنى أي - لو آمنوا لم يضرهم - وإما بمعنى أن المصدرية - كما قال أبو البقاء - وعلى الوجهين لا استئناف. وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وجوابها مقدر أي حصلت لهم السعادة ونحوه، وإنما قدم الإيمان ههنا وأخر في الآية المتقدمة لأنه ثمة ذكر لتعليل ما قبله من وقوع مصارفهم في دنياهم في غير محلها، وهنا للتحريض فينبغي أن يبدأ فيه بالأهم فالأهم، ولو قيل: أخر الإيمان هناك وقدم الإنفاق لأن ذلك الإنفاق كان بمعنى الإسراف الذي هو عديل البخل فأخر الإيمان لئلا يكون فاصلا بين العديلين لكان له وجه لا سيما إذا قلنا بالعطف. * (وكان الله عليما) * خبر يتضمن وعيدا وتنبيها على سوء بواطنهم، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم فيجازيهم به، وقيل: فيه إشارة إلى إثابته تعالى إياهم لو كانوا آمنوا وأنفقوا، ولا بأس بأن يراد - كان عليما بهم - وبأحوالهم المحققة والمفروضة فيعاقب على الأولى ويثيب على الثانية - كما ينبىء عن ذلك [بم قوله تعالى:
* (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يض‍اعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) *.
* (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) * المثقال مفعال من الثقل، ويطلق على المقدار المعلوم الذي لم يختلف كما قيل: جاهلية وإسلام وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أربعة وعشرون قيراطا، وعلى مطلق المقدار - وهو المراد هنا - ولذا قال السدي: أي وزن ذرة - وهي النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد ترى. وروي ذلك عن ابن عباس وابن زيد، وعن الأول: أنها رأس النملة، وعنه أيضا أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة، وقريب منه ما قيل: إنها جزء من أجزاء الهباء في الكوة، وقيل هي الخردلة، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي داود في " المصاحف " من طريق عطاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ - مثقال نملة - ولم يذكر سبحانه الذرة لقصر الحكم عليها بل لأنها أقل شيء مما يدخل في وهم البشر، أو أكثر ما يستعمل عند الوصف بالقلة، ولم يعبر سبحانه بالمقدار ونحوه بل عبر بالمثقال للإشارة بما يفهم منه من الثقل الذي يعبر به عن الكثرة والعظم كقوله تعالى: * (فأما من ثقلت موازينه) * (القارعة: 6) إلى أنه وإن كان حقيرا
31

فهو باعتبار جزئه عظيم، وانتصابه على أنه صفة مصدر محذوف كالمفعول، أي ظلما قدر مثقال ذرة فحذف المصدر وصفته، وأقيم المضاف إليه مقامهما، أو مفعول ثان ليظلم أي لا يظلم أحدا أو لا يظلمهم مثقال ذرة. قال السمين: وكأنهم ضمنوا (يظلم) معنى يغصب أو ينقص فعدوه لاثنين. وذكر الراغب أن الظلم عند أهل اللغة وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة أو بعدول عن وقته أو مكانه، وعليه ففي الكلام إشارة إلى أن نقص الثواب وزيادة العقاب لا يقعان منه تعالى أصلا، وفي ذلك حث على الإيمان والإنفاق بل إرشاد إلى أن كل ما أمر به مما ينبغي أن يفعل وكل ما نهى عنه مما ينبغي أن يجتنب.
واستدل المعتزلة بالآية على أن الظلم ممكن في حد ذاته إلا أنه تعالى لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة لأنه سبحانه مدح نفسه بتركه ولا مدح بترك القبيح ما لم يكن عن قدرة، ألا ترى أن العنين لا يمدح بترك الزنا، واعترض على ذلك بقوله تعالى: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * (البقرة: 552) فإنه ذكر في معرض المدح مع أن النوم غير ممكن عليه سبحانه، قال في " الكشف " وهو غير وارد لأنه مدح بانتفاء النقص عن ذاته المقدسة وهو كما نقول: الباري عز وعلا ليس بجسم ولا عرض، وأما ما نحن فيه فمدح بترك الفعل والترك الممدوح إنما يكون إذا كان بالاختيار، نعم للمانع أن لا يسلم أنه تعالى مدح بالترك بل من حيث الدلالة على النقص لأن وجوب الوجود ينافي جواز الاتصاف بالظلم، وتحقيقه على مذهبهم أن وضع الشيء في غير موضعه الحقيق به ممكن في نفسه وقدرة الحق جل شأنه تسع جميع الممكنات، لكن الحكمة - وهي الإتيان بالممكن على وجه الإحكام وعلى ما ينبغي - مانعة، وعن هذا قالوا: الحكيم لا يفعل إلا الحسن من بين الممكنات إلا إذا دعته حاجة؛ والمنزه عن الحاجات جمع يتعالى عن فعل القبيح، ونحن نقول: إنه عز اسمه لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أيضا بناءا على وعده المحتوم، فإن الحلف فيه ممتنع لكونه نقصا منافيا للألوهية وكمال الغنى، وبهذا الاعتبار يصح أن يسمى ظلما، وإن كان لا يتصور حقيقة الظلم منه تعالى لكونه المالك على الإطلاق، فالزيادة والنقص ممكنان لذاتهما، والخلف ممتنع لذاته، ولا يلزم من كون الخلف ممتنعا لذاته بالنسبة إلى الواجب تعالى وتقدس أن يكون متعلقه كذلك، وهذا على نحو ما تقرر في مسألة التكليف بالممتنع أن إخبار الله تعالى عن عدم إيمان المصر ووجوب الصدق اللازم له لا يخرج الفعل عن كونه مقدور المكلف بل يحقق قدرته عليه
فليحفظ فإنه مهم.
* (وإن تك حسنة) * الضمير المستتر في الفعل الناقص عائد إلى المثقال، وإنما أنث حملا على المعنى لأنه بمعنى وإن تكن زنة ذرة حسنة، وقيل: لأن المضاف قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان جزأه نحو. كما شرقت صدر القناة من الدم (c)
أو صفة له نحو * (لا تنفع نفسا إيمانها) * (الأنعام: 158) في قراءة من قرأ بالتاء الفوقانية ومقدار الشيء صفة له كما أن الإيمان صفة للنفس، وقيل: أنث الضمير لتأنيث الخبر، واعترض بأن تأنيث الخبر إنما يكون لمطابقة تأنيث المبتدأ، فلو كان تأنيث المبتدأ له لزم الدور، وأجيب بأن ذلك إذا كان مقصودا وصفيته، والحسنة غلبت عليها الإسمية فألحقت بالجوامد التي لا تراعى فيها المطابقة نحو - الكلام هو الجملة - وقيل: الضمير عائد إلى المضاف إليه وهو مؤنث بلا خفاء، وحذفت النون من آخر الفعل من غير قياس تشبيها لها بحروف العلة من حيث الغنة والسكون وكونها من حروف الزوائد، وكان القياس عود الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين بعد حذف النون إلا أنهم خالفوا القياس في ذلك أيضا حرصا على التخفيف فيما
32

كثر دوره، وقد أجاز يونس حذف النون من هذا الفعل أيضا في مثل قوله:
فإن لم (تك) المرآة أبدت وسامة * فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم
وسيبويه يدعي أن ذلك ضرورة، وقرأ ابن كثير * (حسنة) * بالرفع على أن * (تك) * تامة أي وإن توجد أو تقع * (حسنة) *.
* (يضاعفها) * أضعافا كثيرة حتى يوصلها - كما مر عن أبي هريرة - إلى ألفي ألف حسنة، وعنى التكثير لا التحديد، والمراد يضاعف ثوابها لأن مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مثلا مما لا يعقل، وإن ذهب إليه بعض المحققين، وما في الحديث - من أن تمرة الصدقة يربيها الرحمن حتى تصير مثل الجبل - محمول على هذا للقطع بأنها أكلت، واحتمال إعادة المعدوم بعيد، وكذا كتابة ثوابها مضاعفا، وهذه المضاعفة ليست هي المضاعفة في المدة عند الإمام لأنها غير متناهية، وتضعيف غير المتناهي محال بل المراد أنه تعالى يضعفه بحسب المقدار، مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين جزءا أو ثلاثين أو أزيد، وقيل: هي المضاعفة بحسب المدة على معنى أنه سبحانه لا يقطع ثواب الحسنة في المدد الغير المتناهية لا أنه يضاعف جل شأنه مدتها ليجيء حديث محالية تضعيف ما لا نهاية، وجعل قوله تعالى: * (ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * على هذا - عطفا لبيان الأجر المتفضل به، وهو الزيادة في المقدار إثر بيان الأجر المستحق وهو إعطاء مثله واحدا بعد واحد إلى أبد الدهر، وتسمية ذلك أجرا من مجاز المجاورة لأنه تابع للأجر مزيد عليه، وعلى الأول جعله البعض واردا على طريقة عطف التفسير على معنى يضاعف ثواب تلك الحسنة بإعطاء الزائد عليه من فضله، وزعموا أن القول بالأجر المستحق مذهب المعتزلة ولا يتأتى على مذهب الجماعة - وليس بشيء - لأن الجماعة يقولون بالاستحقاق أيضا لكن بمقتضى الوعد الذي لا يخلف، وبه يكون الأجر الموعود به كأنه حق للعبد كما أنه يكون كذلك أيضا بمقتضى الكرم كما قيل: وعد الكريم دين، نعم حمل الأجر على ما ذكر لا يخلو عن بعد، والداعي إليه عدم التكرار، وقال الإمام أيضا: " إن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعود بها في الجنة، وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية والاستغراق في المحبة والمعرفة... وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية، وهذا الأجر إشارة إلى السعادات الروحانية "، ولا يخلو عن حسن، و - لدن - بمعنى عند، وفرق بينهما بعضهم بأن لدن أقوى في الدلالة على القرب، ولذا لا يقال: لدي مال إلا وهو حاضر بخلاف عند، وتقول: هذا القول عندي صواب، ولا تقول: لدي ولدني - كما قاله الزجاج - ونظر فيه بأنه شاع استعمال لدن في غير المكان كقوله تعالى: * (من لدنا علما) * (الكهف: 65) اللهم إلا أن يخرج ما قاله الزجاج مخرج الغالب، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وابن جبير - يضعفها - بتضعيف العين وتشديدها، والمختار عند أهل اللغة والفارسي أنهما بمعنى، وقال أبو عبيدة: ضاعف يقتضي مرارا كثيرة، وضعف يقتضي مرتين، ورد بأنه عكس اللغة لأن المضاعفة تقتضي زيادة الثواب فإذا شددت دلت البنية على التكثير فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة، وقد تقدم من الكلام ما ينفعك فتذكر..
* (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على ه‍اؤلاء شهيدا) *.
* (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) * الفاء فصيحة، و (كيف) محلها إما الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، وإما النصب بفعل محذوف على التشبيه بالحال - كما هو رأي سيبويه - أو على التشبيه بالظرف
33

- كما هو رأي الأخفش - والعامل بالظرف مضمون الجملة من التهويل والتفخيم المستفاد من الاستفهام، أو الفعل المصدر كما قرره صاحب " الدر المصون "، والجار متعلق بما عنده أي إذا كان كل قليل وكثير يجازى عليه، فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم، أو كيف يصنعون، أو كيف يكون حالهم إذا جئنا يوم القيامة من كل أمة من الأمم وطائفة من الطوائف بشهيد يشهد عليهم بما كانوا عليه من فساد العقائد وقبائح الأعمال - وهو نبيهم -؟ * (وجئنا بك) * يا خاتم الأنبياء * (على ه‍اؤلاء) * إشارة إلى الشهداء المدلول عليهم بما ذكر * (شهيدا) * تشهد على صدقهم لعلمك بما أرسلوا واستجماع شرعك مجامع ما فرعوا وأصلوا، وقيل: إلى المكذبين المستفهم عن حالهم يشهد عليهم بالكفر والعصيان تقوية لشهادة أنبيائهم عليهم السلام، أو كما يشهدون على أممهم، وقيل: إلى المؤمنين لقوله تعالى: * (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (البقرة: 143) ومتى أقحم المشهود عليه في الكلام وأدخلت * (على) * عليه لا يحتاج لتضمين الشهادة معنى التسجيل، أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من طرق عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقرأ علي قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: نعم إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية * (فكيف إذا جئنا من كل أمة
بشهيد) * الخ فقال: حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان " فإذا كان هذا الشاهد تفيض عيناه لهول هذه المقالة وعظم تلك الحالة، فماذا لعمري يصنع المشهود عليه؟! وكأنه بالقيامة وقد أناخت لديه..
* (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا) *.
* (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول) * استئناف لبيان حالهم التي أشير إلى شدتها وفظاعتها، وتنوين (إذ) عوض - على الصحيح - عن الجملتين السابقتين، وقيل: عن الأولى، وقيل: عن الأخيرة، والظرف متعلق - بيود - وجعله متعلقا بشهيد، وجملة * (يود) * صفة، والعائد محذوف أي فيه بعيد، والمراد بالموصول إما المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعبير عنهم بذلك لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعلة ما اعتراهم من الحال الفظيعة والأمر الهائل، وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة لتشريفه وزيادة تقبيح حال مكذبيه، وإما جنس الكفرة ويدخل أولئك في زمرتهم دخولا أوليا، والمراد من * (الرسول) * الجنس أيضا ويزيد شرفه انتظامه للنبي صلى الله عليه وسلم انتظاما أوليا، و * (عصوا) * معطوف على * (كفروا) * داخل معه في حيز الصلة؛ والمراد عصيانهم بما سوى الكفر، فيدل على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة، وقال أبو البقاء: إنه في موضع الحال من ضمير * (كفروا) * وقد مرادة، وقيل: صلة لموصول آخر أي والذين عصوا، فالإخبار عن نوعين: الكفرة والعصاة، وهو ظاهر على رأي من يجوز إضمار الموصول كالفراء، وفي المسألة خلاف أي يود في ذلك اليوم لمزيد شدته ومضاعف هوله الموصوفون بما ذكر في الدنيا.
* (لو تسوى بهم الأرض) * إما مفعول * (يود) * على أن * (لو) * مصدرية أي يودون أن يدفنوا وتسوى الأرض ملتبسة بهم، أو تسوى عليهم كالموتى، وقيل: يودون أنهم بقوا ترابا على أصلهم من غير خلق، وتمنوا أنهم كانوا هم والأرض سواء، وقيل: تصير البهائم ترابا فيودون حالها. وعن ابن عباس أن المعنى يودون أن يمشي عليهم أهل الجمع يطأونهم بأقدامهم كما يطأون الأرض، وقيل: يودون لو يعدل بهم الأرض أي يؤخذ منهم ما عليها فدية، وإما مستأنفة على أن * (لو) * على بابها ومفعول * (يود) * محذوف
34

لدلالة الجملة، وكذا جواب * (لو) * إيذانا بغاية ظهوره أي يودون تسوية الأرض بهم لو تسوى لسروا. وقرأ نافع وابن عامر ويزيد * (تسوى) * على أن أصله تتسوى، فأدغم التاء في السين لقربها منها، وحمزة والكسائي * (تسوى) * بحذف التاء الثانية مع الإمالة يقال: سويته فتسوى.
* (ولا يكتمون الله حديثا) * عطف على * (يود) * أي أنهم يومئذ لا يكتمون من الله تعالى حديثا لعدم قدرتهم على الكتمان حيث إن جوارحهم تشهد عليهم بما صنعوا، أو أنهم لا يكتمون شيئا من أعمالهم بل يعترفون بها فيدخلون النار باعترافهم، وإنما لا يكتمون لعلمهم بأنهم لا ينفعهم الكتمان، وإنما يقولون: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23) في بعض المواطن قاله الحسن، وقيل: الواو للحال أي يودون أن يدفنوا في الأرض وهم لا يكتمون منه تعالى حديثا ولا يكذبونه بقولهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * إذ روى الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض وجعلها للعطف وما بعدها معطوف على * (تسوى) * على معنى - يودون لو تسوى بهم الأرض وأنهم لا يكونون كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وبعثه في الدنيا - كما روي عن عطاء بعيد جدا. وأقرب منه العطف على مفعول * (يود) * على معنى يودون تسوية الأرض بهم وانتفاء كتمانهم إذ قالوا * (والله ربنا ما كنا مشركين) *.
هذا ومن باب الإشارة: * (يريد الله ليبين لكم) * بأن يكاشفكم بأسراره المودعة فيكم أثناء السير إليه * (ويهديكم سنن الذين من قبلكم) * أي مقاماتهم وحالاتهم ورياضاتهم، وأشار بهم إلى الواصلين إليه قبل المخاطبين، ويجوز أن تكون الإشارة بالسنن إلى التفويض والتسليم والرضا بالمقدور فإن ذلك شنشنة الصديقين ونشنشة الواصلين * (ويتوب عليكم) * من ذنب وجودكم حين يفنيكم فيه، ويحتمل أن يكون التبيين إشارة إلى الإيصال إلى توحيد الأفعال والهداية إلى توحيد الصفات والتوبة إلى توحيد الذات * (والله عليم) * بمراتب استعدادكم * (حكيم) * (النساء: 26) ومن حكمته أن يفيض عليكم حسب قابلياتكم والله * (يريد الله أن يتوب عليكم) * تكرار لما تقدم إيذانا بمزيد الاعتناء به لأنه غاية المراتب * (ويريد الذين يتبعون الشهوات) * أي اللذائذ الفانية الحاجبة عن الوصول إلى الحضرة * (أن تميلوا) * إلى السوي * (ميلا عظيما) * (النساء: 27) لتكونوا مثلهم * (يريد الله أن يخفف عنكم) * أثقال العبودية في مقام المشاهدة، أو أثقال النفس بفتح باب الاستلذاذ بالعبادة بعد الصبر عليها * (وخلق الإنسان ضعيفا) * (النساء: 28) عن حمل واردات الغيب وسطوات المشاهدة فلا يستطيع حمل ذلك إلا بتأييد إلهي، أو ضعيفا لا يطيق الحجاب عن محبوبه لحظة؛ ولا يصبر عن مطلوبه ساعة لكمال شوقه ومزيد غرامه: والصبر يحمد في المواطن كلها * إلا عليك فإنه مذموم
وكان الشبلي قدس سره يقول: إلهي لا معك قرار ولا منك فرار المستغاث بك إليك * (يا أيها الذين آمنوا) * الإيمان الحقيقي * (لا تأكلوا) * أي تذهبوا * (أموالكم) * وهو ما حصل لكم من عالم الغيب بالكسب الاستعدادي * (بينكم بالباطل) * بأن تنفقوا على غير وجهه وتودعوه غير أهله * (إلا أن تكون تجارة) * أي إلا أن يكون التصرف تصرفا صادرا * (عن تراض منكم) * واستحسان ألقي من عالم الإلهام إليكم فإن ذلك مباح لكم * (ولا تقتلوا أنفسكم) * بالغفلة عنها فإن من غفل عنها فقد غفل عن ربه ومن غفل عن ربه فقد هلك، أو لا تقتلوا أنفسكم أي أرواحكم القدسية بمباشرتكم ما لا يليق فإن مباشرة ما لا يليق يمنع الروح من طيرانها في عالم المشاهدات ويحجب عنها أنوار المكاشفات * (إن الله كان) * في أزل الآزال * (بكم رحيما) * (النساء: 29) فلذا أرشدكم إلى ما أرشدكم * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * وهي عند العارفين رؤية
35

العبودية في مشهد الربوبية وطلب الأعواض في الخدمة وميل النفس إلى السوي من العرش إلى الثرى، والسكون في مقام الكرامات، ودعوى المقامات السامية قبل
الوصول إليها. وأكبر الكبائر إثبات وجود غير وجود الله تعالى * (نكفر عنكم سيئاتكم) * أي نمح عنكم تلوناتكم بظهور نور التوحيد * (وندخلكم مدخلا كريما) * (النساء: 31) وهي حضرة عين الجمع * (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) * من الكمالات التابعة للاستعدادات فإن حصول كمال شخص لآخر محال إذا لم يكن مستعدا له، ولهذا عبر بالتمني. * (للرجال) * وهم الأفراد الواصلون * (نصيب مما اكتسبوا) * بنور استعدادهم * (وللنساء) * وهم الناقصون القاصرون * (نصيب مما اكتسبن) * حسب استعدادهم * (واسألوا الله من فضله) * بأن يفيض عليكم ما تقتضيه قابلياتكم * (إن الله كان بكل شيء عليما) * (النساء: 32) ومن جملة ذلك ما أنتم عليه من الاستعداد فيعطيكم ما يليق بكم * (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون) * أي ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب من الاستعداد يرثون به مما تركه والداهم - وهما الروح والقلب - والأقربون - وهم القوى الروحانية - * (والذين عقدت أيمانكم) * وهم المريدون * (فآتوهم نصيبهم) * من الفيض على قدر نصيبهم من الاستعداد * (إن الله كان على كل شيء شهيدا) * (النساء: 33) إذ كل شيء مظهر لاسم من أسمائه * (الرجال قوامون على النساء) * أي الكاملون شأنهم القيام بتدبير الناقصين والإنفاق عليهم من فيوضاتهم * (بما فضل الله بعضهم على بعض) * بالاستعداد * (وبما أنفقوا في سبيل الله) * تعالى وطريق الوصول إليه من أموالهم أي قواهم أو معارفهم * (فالصالحات) * للسلوك من النساء بالمعنى السابق * (قانتات) * مطيعات لله تعالى بالعبادات القالبية * (حافظات للغيب) * أي القلب عن دنس الأخلاق الذميمة، ولعله إشارة إلى العبادات القلبية * (بما حفظ الله) * لهم من الاستعداد * (واللاتي تخافون نشوزهن) * ترفعهن عن الانقياد إلى ما ينفعهن * (فعظوهن) * بذكر أحوال الصالحين ومقاماتهم فإن النفس تميل إلى ما يمدح لها غالبا * (واهجروهن في المضاجع) * أي امنعوا دخول أنوار فيوضاتكم إلى حجرات قلوبهن ليستوحشن فربما يرجعن عن ذلك الترفع * (واضربوهن) * بعصي القهر إن لم ينجع ما تقدم فيهن * (فإن أطعنكم) * بعد ذلك ورجعن عن الترفع والأنانية * (فلا تبغوا عليهن سبيلا) * بتكليفهن فوق طاقتهن وخلاف مقتضى استعدادهن * (إن الله كان عليا كبيرا) * (النساء: 34) ومع هذا لم يكلف أحدا فوق طاقته وخلاف مقتضى استعداده * (وإن خفتم) * أيها المرشدون الكمل * (شقاق بينهما) * أي بين الشيخ والمريد * (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * فابعثوا متوسطين من المشايخ والسالكين * (إن يريدا إصلاحا) * ويقصداه * (يوفق الله) * تعالى * (بينهما) * (النساء: 35) وهمة الرجال تقلع الجبال. ويمكن أن يكون الرجال إشارة إلى العقول الكاملة والنساء إشارة إلى النفوس الناقصة، ولا شك أن العقل هو القائم بتدبير النفس وإرشادها إلى ما يصلحها، ويراد من الحكمين حينئذ ما يتوسط بين العقل والنفس من القوى الروحانية * (واعبدوا الله) * بالتوجه إليه والفناء فيه * (ولا تشركوا به شيئا) * مما تحسبونه شيئا وليس بشيء إذ لا وجود حقيقة لغيره سبحانه * (وبالوالدين) * الروح والنفس اللذين تولد بينهما القلب أحسنوا * (إحسانا) * فاستفيضوا من الأول وتوجهوا بالتسليم إليه وزكوا الثاني وطهروا برديه * (وبذي القربى) * وهم من يناسبكم بالاستعداد الأصلي والمشاكلة الروحانية * (واليتامى) * المستعدين المنقطعين عن نور الأب وهو الروح بالاحتجاب * (والمساكين) * العاملين الذين لا حظ لهم من المعارف ولذا سكنوا عن السير وهم الناسكون * (والجار ذي القربى) * القريب من مقامك في السلوك * (والجار الجنب) * البعيد مقامه عن مقامك * (والصاحب بالجنب) *
36

الذي هو في عين مقامك * (وابن السبيل) * أي السالك المتغرب عن مأوى النفس الذي لم يصل إلى مقام بعد * (وما ملكت أيمانكم) * من المنتمين إليكم بالمحبة والإرادة، وقيل: الوالدين إشارة إلى المشايخ وإحسان المريد إليهم إطاعتهم والانقياد إليهم وامتثال أوامرهم فإنهم أطباء القلوب وهم أعرف بالداء والدواء ولا يداوون إلا بما يرضي الله تعالى وإن خفي على المريد وجهه. ومن هنا قال الجنيد قدس سره: أمرني ربي أمرا وأمرني السري أمرا فقدمت أمر السري على أمر ربي وكل ما وجدت فهو من بركاته، وأول * (الجار ذي القربى) * بالروح الناطقة العارفة العاشقة الملكوتية التي خرجت من العدم بتجلي القدم وانقدحت من نور الأزل وهي أقرب كل شيء وهي جار الله تعالى المصبوغة بنوره والإحسان إليها أن تطلقها من فتنة الطبيعة وتقدس مسكنها من حظوظ البشرية لتطير بجناح المعرفة والشوق إلى عالم المشاهدة * (والجار الجنب) * بالصورة الحاملة للروح والإحسان إليها أن تفطم جوارحها من رضع ضرع الشهوات * (والصاحب بالجنب) * وهو القلب الذي يصحبك في سفر الغيب والإحسان إليه أن تفرده من الحدثان وتشوقه إلى جمال الرحمن، وقيل: هو النفس الأمارة، وفي الخبر " أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك " والإحسان إليها أن تحبسها في سجن العبودية وتحرقها بنيران المحبة، وأول * (ابن السبيل) * بالولي الكامل فإنه لم يزل ينتقل من نور الأفعال إلى نور الصفات ومن نور الصفات إلى نور الذات والإحسان إليه كتم سره وعدم الخروج عن دائرة أمره، وقال بعض العارفين: وإن شئت أولت (ذا القربى) بما يتصل بالشخص من المجردات (واليتامى) بالقوى الروحانية، (والمساكين) بالقوى النفسانية من الحواس الظاهرة وغيرها * (والجار ذي القربى) * بالعقل * (والجار الجنب) * بالوهم * (والصاحب بالجنب) * بالشوق والإرادة * (وابن السبيل) * بالفكر والمماليك بالملكات المكتسبة التي هي مصادر الأفعال الجميلة، وباب التأويل واسع جدا * (إن الله لا يحب من كان مختالا) * يسعى بالسلوك في نفسه * (فخورا) * (النساء: 36) بأحواله ومقاماته محتجبا برؤيتها * (الذين يبخلون) * على أنفسهم وعلى المستحقين فلا يعملون بعلومهم ولا يعلمونها * (ويأمرون الناس بالبخل) * قالا أو حالا * (ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) * فلا يشكرون نعمة الله، أو يكتمون ما أوتوا من المعارف في كتم الاستعداد وظلمة القوة حتى كأنها معدومة * (وأعتدنا للكافرين) * للحق الساترين أنوار الوحدة بظلمة الكثرة * (عذابا مهينا) * (النساء: 37) يهينهم في ذل وجودهم وشين صفاتهم * (والذين ينفقون أموالهم) * أي يبرزون كمالاتهم * (رئاء الناس) * مرائين الناس بأنها لهم * (ولا يؤمنون بالله) * الإيمان الحقيقي ليعلموا أن لا كمال إلا له * (ولا باليوم الآخر) * أي الفناء فيه سبحانه ليرزوا لله الواحد القهار * (ومن يكن الشيطان) * النفس وقواها * (له قرينا فساء قرينا) * (النساء: 38) لأنه يضله عن الحق كهؤلاء * (وماذا عليهم) * ما كان يضرهم * (لو آمنوا بالله واليوم الآخر) * فصدقوا بالتوحيد والفناء فيه * (وأنفقوا مما رزقهم الله) * ولم يروا كمالا لأنفسهم * (وكان الله بهم عليما) * (النساء: 39) فيجازيهم بالبقاء بعد الفناء * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) * مقدار ما
يظهر من الهباء * (وإن تك حسنة) * ولا تكون كذلك إلا إذا كانت له فإن كانت له يضاعفها بالتأييد الحقاني * (ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * (النساء: 40) وهو الشهود الذاتي، أو العلم اللداني * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) * وهو ما يحضر كل أحد ويظهر له بصورة معتقده فيكشف عن حاله * (وجئنا بك على هؤلاء) * وهم المحمديون * (شهيدا) * (النساء: 41) ومن لوازم الإتيان بالحقيقة المحمدية شهيدا للمحمديين معرفتهم لله تعالى عند التحول في جميع الصور فليس شهيدهم في الحقيقة إلا الحق سبحانه * (يومئذ يود الذين كفروا) * بالاحتجاب * (وعصوا الرسول) * بعدم المتابعة * (لو تسوى بهم الأرض) *
37

لتنطمس نفوسهم أو تصير ساذجة لا نقش فيها من العقائد الفاسدة والرذائل الموبقة * (ولا يكتمون الله حديثا) * (النساء: 42) أي لا يقدرون على كتم حديث من تلك النقوش وهيهات أنى يخفون شيئا منها، وقد صارت الجبال كالعهن المنفوش:
سهم أصاب وراميه بذي سلم * من بالعراق لقد أبعدت مرماك
والله تعالى يتولى الحق وهو يهدي السبيل..
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلواة وأنتم سك‍ارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من الغآئط أو ل‍امستم النسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا) *.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلواة وأنتم سك‍ارى حتى تعلموا ما تقولون) * إرشاد لإخلاص الصلاة التي هي رأس العبادة من شوائب الكدر ليجمعوا بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم وبين الخلق المبينة فيما تقدم وبهذا يحصل الربط، ويجوز أن يقال: لما نهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نهوا ههنا عما يؤدي إليه من حيث لا يحتسبون، فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: " صنع لنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فنزلت ". وفي رواية ابن جرير وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه: " إن إمام القوم يومئذ هو عبد الرحمن وكانت الصلاة صلاة المغرب وكان ذلك لما كانت الخمر مباحة، والخطاب للصحابة وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه اعتناءا بشأن الحكم، والمراد بالصلاة عند الكثير الهيئة المخصوصة، وبقربها القيام إليها والتلبس بها إلا أنه نهى عن القرب مبالغة، وبالسكر الحالة المقررة التي تحصل لشارب الخمر، ومادته تدل على الانسداد ومنه سكرت أعينهم أي انسدت، والمعنى لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولونه قبلها إذ بذلك يظهر أنكم ستعلمون ما ستقرءونه فيها، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى - لا تقربوا الصلاة وأنتم نشاوى من الشراب حتى تعلموا ما تقرءونه في صلاتكم - ولعل مراده حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقرءونه وإلا فهو يستدعي تقدم الشروع في الصلاة على غاية النهي، وإذا أريد ذلك رجع إلى ما تقدم ولكن فيه تطويل بلا طائل على أن إيثار * (ما تقولون) * على ما تقرؤون حينئذ يكون عاريا عن الداعي، وروي عن ابن المسيب والضحاك وعكرمة والحسن أن المراد من الصلاة مواضعها فهو مجاز من ذكر الحال وإرادة المحل بقرينة قوله تعالى فيما يأتي: * (إلا عابري سبيل) * فإنه يدل عليه بحسب الظاهر، فالآية مسوقة عن نهي قربان السكران المسجد تعظيما له، وفي الخبر " جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم " ويأباه ظاهر قوله تعالى: * (حتى تعلموا ما تقولون) * وروي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه حمل الصلاة على الهيئة المخصوصة وعلى مواضعها مراعاة للقولين، وفي الكلام حينئذ الجمع بين الحقيقة والمجاز ونحن لا نقول به، وروي عن جعفر رضي الله تعالى عنه والضحاك - وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - أن المراد من السكر سكر النعاس وغلبة النوم، وأيد بما أخرجه البخاري عن أنس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول " وروي مثله عن عائشة رضي الله تعالى عنها - وفيه بعد - وأبعد منه حمله على سكر الخمر وسكر النوم لما فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو عموم المجاز مع عدم القرينة الواضحة على ذلك، وأيا ما كان فليس مرجع النهي هو المقيد مع بقاء القيد مرخصا بحاله بل إنما هو القيد مع بقاء المقيد على حاله لأن القيد مصب النفي والنهي في كلامهم ولأنه مكلف بالصلاة مأمور بها والنهي ينافيه، نعم لا مانع عن النهي عنها للسكران مع الأمر المطلق إلا أن مرجعه إلى هذا.
38

والحاصل كما قال الشهاب: أنه مكلف بها في كل حال، وزوال عقله بفعله لا يمنع تكليفه ولذا وقع طلاقه ونحوه، ولو لم يكن مأمورا بها لم تلزمه الإعادة إذا استغرق السكر وقتها - وقد نص عليه الجصاص في " الأحكام " - وفصله انتهى، وزعم بعضهم أن النهي عن الصلاة نفسها لكن المراد بها الصلاة جماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما له عليه الصلاة والسلام وتوقيرا، ولا يخفى أنه مما لا يدل عليه نقل ولا عقل ويأباه الظاهر وسبب النزول، وقد روي أنهم كانوا بعدما أنزلت الآية لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون، وقرىء * (سكارى) * بفتح السين جمع سكران كندمان وندامى. وقرأ الأعمش - سكرى - بضم السين على أنه صفة - كحبلى - وقع صفة لجماعة أي وأنتم جماعة سكرى، والنخعي - سكرى - بالفتح، وهو إما صفة مفردة صفة جماعة كما في الضم، وإما جمع تكسير كجرحى، وإنما جمع سكران عليه لما فيه من الآفة اللاحقة للعقل، والصيغة على قراءة الجمهور جمع تكسير عند سيبويه، واسم جمع عند غيره لأنه ليس من أبنية الجمع، ورجح الأول.
* (ولا جنبا) * عطف على قوله تعالى: * (وأنتم سكارى) * فإنه في حيز النصب كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا‍ قاله غير واحد - وقال الشهاب نقلا عن " البحر ": إن هذا حكم الإعراب، وأما المعنى ففرق بين قولنا جاء القوم سكارى وجاءوا وهم سكارى إذ معنى الأول: جاؤوا كذلك، والثاني: جاءوا وهم كذلك باستئناف الإثبات - ذكره عبد القاهر - ويعني بالاستئناف أنه مقرر في نفسه مع قطع النظر عن ذي الحال وهو مع مقارنته له يشعر بتقرره في نفسه، ويجوز تقدمه واستمراره، ولذا قال السبكي في الأشباه: لو قال: لله تعالى علي أن أعتكف صائما لا بد له من صوم يكون لأجل ذلك النذر من غير سبب آخر فلا يجزئه الاعتكاف
بصوم رمضان، ولو قال: وأنا صائم أجزأه، ولعل وجه الفرق أن الحال إذا كانت جملة دلت على المقارنة، وأما اتصافه بمضمونها فقد يكون وقد لا يكون نحو - جاء زيد وقد طلعت الشمس - والحال المفردة صفة معنى فإذا قال: لله تعالى علي أن أعتكف وأنا صائم نذر مقارنته للصوم ولم ينذر صوما فيصح في رمضان، ولو قال: صائما نذر صومه فلا يصح فيه؛ وهذه المسألة نقلها الإسنوي في " التمهيد " ولم يبين وجهها، ولم نر لأئمتنا فيها كلاما انتهى كلامه. ولم يبين رحمه الله تعالى السر في مخالفة هذين الحالين على وجه يتضح به ما ذكره في المسألة، وبين العلامة الطيبي فائدتها غير أنه لم يتعرض لهذا الفرق فقال: فائدتها - والعلم عند الله تعالى - الإشعار بأن قربان الصلاة مع السكر مناف لحال المسلمين، ومن يناجي الحضرة الصمدانية دل عليه الخطاب بأنتم ولهذا قرنه بقوله سبحانه: * (حتى تعلموا) * الخ، والمجنبون لا يعدمون إحضار القلب، ومن ثم رخص لهم بالأعذار فتأمل جدا، - والجنب - من أصابته الجنابة يستوي فيه على اللغة الفصيحة المذكر والمؤنث والواحد والتثنية والجمع لجريانه مجرى المصدر وإن لم يكنه - كما قاله بعض المحققين - ومن العرب من يثنيه ويجمعه فيقول جنبان وأجناب وجنوب، واشتقاقه كما قال أبو البقاء: من المجانبة وهي المباعدة
* (إلا عابري) * أي مجتازي * (سبيل) * أي طريق، والمراد إلا مسافرين وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على أنه حال من ضمير * (لا تقربوا) * باعتبار تقييده بالحال الثانية دون الأولى، والعامل فيه معنى النهي أي لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين على معنى أنه في حالة السفر ينتهي حكم النهي لكن لا بطريق شمول النفي لجميع صورها بل بطريق نفي الشمول في الجملة من غير دلالة على
39

انتفاء خصوصية البعض المنتفي ولا على بقاء خصوصية البعض الباقي ولا ثبوت نقيضه لا كليا ولا جزئيا فإن الاستثناء لا يدل على ذلك عبارة، نعم يشير إلى مخالفة حكم ما بعده لما قبله إشارة إجمالية يكتفى بها في المقامات الخطابية لا في إثبات الأحكام الشرعية، فإن ملاك الأمر في ذلك إنما هو الدليل، وقد ورد عقيبه على طريق البيان، قاله المولى شيخ الإسلام، وقيل: هو صفة لجنبا على أن * (إلا) * بمعنى غير، واعترض بأن مثل هذا إنما يصح عند تعذر الاستثناء ولا تعذر هنا لعموم النكرة بالنفي، وأجيب بأن هذا الشرط في التوصيف ذكره ابن الحاجب وقد خالفه فيه النحاة، ورجح بعضهم الوصفية هنا بناءا على أن الكلام على تقدير الاستثناء يفيد الحصر ولا حصر لورود المريض إشكالا عليه بخلافه على تقدير الوصفية، وادعى البعض إفادة الكلام له مطلقا وأن المريض يرد إشكالا إلا أن يؤل - كما ستعرفه - ومن حمل الصلاة على مواضعها فسر العبور بالاجتياز بها وجوز للجنب عبور المسجد، - وبه قال الشافعي رحمه الله تعالى - والمشهور عندنا منع الجنب المسجد مطلقا، ورخص علي كرم الله تعالى وجهه كما في خبر الترمذي عن أبي سعيد بناءا على ما فسره ضرار بن صرد حين سأله عن معناه علي بن المنذر، وكونه كرم الله تعالى وجهه رخص ثم منع لم يثبت عندي وإن نقله البعض، ونقل الجصاص في " الأحكام " أنه لا يجوز الدخول إلا أن يكون الماء أو الطريق فيه، وعن الليث أن الجنب لا يمر فيه إلا أن يكون بابه في المسجد، فقد روي أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرا إلا فيه فرخص لهم في ذلك.
* (حتى تغتسلوا) * غاية للنهي عن قربان الصلاة حال الجنابة، ولعل تقديم الاستثناء عليه - كما قال شيخ الإسلام - للإيذان من أول الأمر بأن حكم النهي في هذه السورة ليس على الإطلاق كما في صورة السكر تشويقا إلى البيان وروما لزيادة تقربه في الأذهان، وقيل: لما لم يكن لقوله سبحانه: * (حتى تغتسلوا) * مدخل في المقصود إذ المقصود إنما هو صحة الصلاة جنبا أخره وقدم الاستثناء عليه، وكان الظاهر عدم ذكره لذلك إلا أنه ذكره تنبيها على أن الجنابة إنما ترتفع بالاغتسال، وفي الآية الكريمة رمز إلى أنه ينبغي للمصلي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه، وأن يزكي نفسه عما يدنسها لأنه إذا وجب تطهير البدن فتطهير القلب أولى أو لأنه إذا صين موضع الصلاة عمن به حدث فلأن يصان القلب الذي هو عرش الرحمن عن خاطر غير طاهر ظاهر الأولوية.
* (وإن كنتم مرضى) * تفصيل لما أجمل في الاستثناء وبيان ما هو في حكم المستثنى من الأعذار، والاقتصار فيما قبل على استثناء السفر مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيص للإشعار بأنه العذر الغالب المبني على الضرورة الذي يدور عليها أمر الرخصة، ولهذا قيل: المراد بغير عابري سبيل غير معذورين بعذر شرعي إما بطريق الكناية أو بإيماء النص ودلالته. وبهذا يندفع الإيراد السابق على الحصر - وإنما لم يقل: إلا عابري سبيل أو مرضى فاقدي الماء حسا أو حكما - لما أن ما في النظم الكريم أبلغ وأوكد منه لما فيه من الإجمال والتفصيل، ومعرفة تفاضل العقول والأفهام، والمراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقا سواء كان بتعذر الوصول إليه أو بتعذر استعماله، وأخرج ابن جريج عن ابن مسعود أنه قال: المريض الذي قد أرخص له في التيمم الكسير والجريح فإذا أصابته الجنابة لا يحل جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها، وأخرج البيهقي في " المعرفة " عن ابن عباس يرفعه " إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله تعالى أو القروح أو الجدري فيجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فليتيمم " والذي تقرر في الفروع:
40

أن المريض الذي يخاف إذا استعمل الماء أن يشتد مرضه يتيمم، ولا فرق بين أن يشتد مرضه بالتحرك - كالمبطون - أو بالاستعمال - كمن به حصبة أو جدري - ولم يشترط أصحابنا خوف التلف لظاهر النص وهو بإطلاقه يبيح التيمم لكل مريض إلا أن في بعض الآيات ما أخرج من لا يشتد مرضه، وتفصيل ذلك في كتب الفقه. * (أو على سفر) * عطف على (مرضى) أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصر، ولعل اختيار هذا على نحو مسافرين لأنه أوضح في المقصود منه، وفي " الهداية ": " ومن لم يجد الماء وهو مسافر أو خارج المصر بينه وبين المصر (نمو) ميل أو أكثر يتيمم "، والظاهر أن حكم من هو خارج المصر غير مسافر كما يقتضيه العطف معلوم بالقياس لا بالنص وإيراد المسافر صريحا مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعي عليه وبيان كيفيته. فإن الاستثناء - كما أشار إليه شيخ الإسلام - بمعزل من الدلالة على ثبوته فضلا عن الدلالة على كيفيته، وقيل: ذكر السفر هنا لإلحاق المرض به والتسوية بينه وبينه بإلحاق الواجد بالفاقد بجامع العجز عن الاستعمال، وهذه الشرطية ظاهرة على رأي من حمل الصلاة على مواضعها، وفسر العبور بالاجتياز بها إذ ليس فيها حينئذ ما يتوهم منه شائبة التكرار بل هي عنده بيان
حكم آخر لم يذكر قبل، وأيد بأن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله سبحانه: * (حتى تغتسلوا) * ويبتدءون بقوله تعالى: * (وإن كنتم) * الخ بل التعبير بالقرب يومىء إلى حمل الصلاة على ذلك لأن حقيقة القرب والبعد في المكان وكذا التعبير ب * (عابري سبيل) * هناك وب * (على سفر) * هنا فيه إيماء إلى الفرق بين ما هنا وما هناك إلا أن الكثير على خلافه، وإنما قدم المرض على السفر للإيذان بأصالته واستقلاله بأحكام لا توجد في غيره، وقيل: لأنه سبب النزول، فقد أخرج ابن جريج عن إبراهيم النخعي قال: " نال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: * (وإن كنتم مرضى) * الآية كلها " وهذا خلاف ما عليه الجمهور حيث رووا أن نزولها في غزوة المريسيع حين عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فسقطت عن عائشة رضي الله تعالى عنها قلادة لأسماء فلما ارتحلوا ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث رجلين في طلبها فنزلوا ينتظرونهما فأصبحوا وليس معهم ماء فأغلظ أبو بكر على عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين على غير ماء فنزلت فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر - وفي رواية - يرحمك الله تعالى يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجا " وهذا يدل على أن سبب النزول كان فقد الماء في السفر وهو ظاهر
* (أو جاء أحد منكم من الغائط) * هو المكان المنخفض، وجاء الغيط بفتح الغين وسكون الياء، وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه - وهو في رأي - مصدر يغوط، وكان القياس غوطا فقلبت الواو ياءا وسكنت وانفتح ما قبلها لخفتها، ولعل الأولى ما قيل: إنه تخفيف غيط كهين وهين، والغيط الغائط، والمجيء منه كناية عن الحدث لأن العادة أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس. وفي ذكر * (أحد) * فيه دون غيره إيماء إلى أن الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه، وقيل: إنما ذكر وأسند المجيء إليه دون المخاطبين تفاديا عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحي منه أو يستهجن التصريح به والفعل عطف على * (كنتم) *، والجار الأول: متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله، والثاني: متعلق بالفعل أي وإن جاء أحد كائن منكم من الغائط
* (أو لامستم النساء) * يريد سبحانه أو جامعتم النساء إلا أنه
41

كنى بالملامسة عن الجماع لأنه مما يستهجن التصريح به أو يستحي منه، وإلى ذلك ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن فيكون إشارة إلى الحدث الأكبر كما أن الأول إشارة إلى الحدث الأصغر. وعن ابن مسعود والنخعي والشعبي أن المراد بالملامسة ما دون الجماع أي ماسستم بشرتهن ببشرتكم، وبه استدل الشافعي رضي الله تعالى عنه على أن اللمس ينقض الوضوء، وبه قال الزهري والأوزاعي وقال مالك والليث بن سعد وأحمد في إحدى الروايات عنه: إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا، وذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا ينتقض الوضوء بالمس ولو بشهوة، قيل: ما لم يحدث الانتشار، واختلف قول الشافعي رضي الله تعالى عنه في لمس المحارم كالأم والبنت والأخت، وفي لمس الأجنبية الصغيرة وأصح القولين: أنه لا ينقض كلمس نحو السن والظفر والشعر وينتقض عنده وضوء الملموسة كاللامس في الأظهر لاشتراكهما في مظنة اللذة كالمشتركين في الجماع، وإنما لم ينتقض وضوء الملموس فرجه على مذهبه لأنه لم يوجد منه مس لمظنة لذة أصلا بخلافه هنا، ودليل القول بعدم نقض وضوء الملموس حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها وضعت يدها على قدميه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، ووجه استدلاله بما في الآية على ما استدل عليه أن الحمل على الحقيقة هو الراجح لا سيما في قراءة حمزة والكسائي - أو لمستم - إذ لم يشتهر اللمس في الجماع كالملامسة، ورجح بعضهم الحمل على الجماع في القراءتين ترجيحا للمجاز المشهور وعملا بهما إذ لا منافاة وهو الأفق بمذهبنا، وقال بعض المحققين: إن المتجه أن الملامسة حقيقة في تماس البدنين بشيء من أجزائهما من غير تقييد باليد، وعلى هذا فالجماع من أفراد مسمى الحقيقة فيتناوله اللفظ حقيقة، وإنما يكون مجازا لو اقتصر على إرادته باللفظ، وادعى الجلال المحلي أن الملامسة حقيقة في الجس باليد مجاز في الوطء، وأن الشافعي رحمه الله تعالى حملها على المعنيين جمعا بين الحقيقة والمجاز؛ وظاهر عبارة " الأم " أن الشافعي لم يحمل الملامسة على الوطء بل على ما عداه من أنواع التقاء البشرتين، وأنه إنما ذكر الجس باليد تمثيلا للملامسة بنوع من أنواعها لا تفسيرا لها بذكر كمال معناها الحقيقي كما بينه الكمال ابن أبي شريف فليفهم،
ثم إن نظم هذين الأمرين في سلك سببي سقوط الطهارة والمصير إلى التيمم مع كونهما سببي وجوبهما ليس باعتبار أنفسهما بل باعتبار قيدهما المستفاد من قوله سبحانه: * (فلم تجدوا مآء) * بل هو السبب في الحقيقة وإنما ذكرا تمهيدا له وتنبيها على أنه سبب للرخصة بعد انعقاد سبب الطهارة بقسميها كأنه قيل: أو لم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب مع تحقق ما يوجب استعماله من الحدث الأصغر أو الأكبر. قيل: وتخصيص ذكره بهذه الصورة مع أنه معتبر أيضا في صورة المرض والسفر لندرة وقوعه فيها واستغنائهما عن ذكره لأن الجنابة معتبرة فيهما قطعا فيعلم من حكمها حكم الحدث الأصغر بدلالة النص لأن تقدير النظم - لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا حال كونكم مسافرين فإن كنتم كذلك، أو كنتم مرضى - الخ، وقيل: إن هذا القيد راجع للكل، وقيد وجوب التطهر المكنى عنه بالمجيء من الغائط والملامسة معتبر فيه أيضا، واعترض بأن النظم الكريم لا يساعده، وفي " الكشف " عن بعضهم أن في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ولا جنبا ولا جائيا أحد منكم من الغائط، أو لامسا يعني ولا محدثين، ثم قيل: وإن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا، وفيه الفصل بين الشرط والجزاء والمعطوف والمعطوف عليه من غير نكتة، ثم قال بعد أن نقل ما اعترضه: ولعل الأوجه في تقرير الآية - والله تعالى أعلم - أن يجعل عدم الوجدان عبارة عن عدم القدرة على استعمال
42

الماء لفقد الماء، أو المانع ليصح أن يكون قيدا للكل، أو يحمل على ظاهره ويجعل قيدا للأخيرين لأن عموم الإعواز في حق المسافر غالبا، والمنع من القدرة على استعمال الماء القائم مقامه في حق المريض مغن عن التقييد لفظا، وأن يبقى قوله سبحانه: * (مرضى أو على سفر) * على إطلاقه من غير تقييد بكونهم محدثين أو
مجنبين لأن المقصود بيان سبب العدول عن الطهارة بالماء إلى التيمم، أما المشترك بين الطهارتين فلا يحتاج إلى ذكره قصدا وأن يجعل ذكر المحدثين من غير القبيلين بيانا لسبب العدول وهو فقد القدرة من غير سفر ولا مرض لا لأن الحدث سبب وإن أفاد ذلك ضمنا ولم يقل أو لم تجدوا دون ذكر السببين تنبيها على أن عدم الوجدان مرخص بعد انعقاد سبب الطهارة، وأفيد ضمنا أنهما معتبران أيضا في المريض والمسافر إذ لا فرق بين المرض والسفر وبين سائر الأعذار في ذلك انتهى، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر أظهر وما ذكره على تقدير الحمل عليه ليس بالبعيد عما قدمناه، نعم الآية من معضلات القرآن، ولعلها تحتاج بعد إلى نظر دقيق، والفاء في * (فلم) * عاطفة،
وأما الفاء في قوله سبحانه: * (فتيمموا صعيدا طيبا) * فواقعة في جواب الشرط، والظاهر أن الضمير راجع إلى جميع ما اشتمل عليه، وفيه تغليب الخطاب على الغيبة، ومثله في ذلك * (تجدوا) * فلا حاجة إلى تقدير فليتيمم جزاءا لقوله سبحانه: * (جاء أحد منكم) * والتيمم لغة القصد قال الأعشى:
(تيممت قيسا) وكم دونه * من الأرض من مهمه ذي شزن
والصعيد وجه الأرض كما روي عن الخليل وثعلب، وقال الزجاج: لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في أن الصعيد وجه الأرض وسمي بذلك لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض، أو لصعوده وارتفاعه فوق الأرض، والطيب الطاهر، وعن سفيان الحلال، وقيل: المنبت دون السبخة كما في قوله تعالى: * (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه) * (الأعراف: 58) والحمل على الأول هو الأنسب بمقام الطهارة، والمعنى فتعمدوا واقصدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا، وهذا دليل واضح لجواز التيمم بالكحل والآجر والمرداسنج والياقوت والفيروزج والمرجان والزمرذ ونحو ذلك، وإن لم يكن عليه غبار وإلى ذلك ذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ومحمد في إحدى الروايتين عنه، وفي رواية أخرى عنه - وهو قول أبي يوسف والشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهم - أنه لا يجوز التيمم إلا أن يعلق باليد شيء من التراب لتقييد المسح - ب * (منه) * - في المائدة (6)، وكلمة (من) للتبعيض وهو يقتضي التراب، والحنفية يحملونها على الإبتداء أو الخروج مخرج الأغلب، وقيل: الضمير للحدث المفهوم من السياق، و (من) للتعليل، وأغرب الإمام مالك فأجاز التيمم بالثلج، وقد شنع الشيعة عليه بذلك، وقد اعتذرنا عنه في كتابنا - " الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية " - ونصب * (صعيدا) * على أنه مفعول به، وقيل: إنه منصوب بنزع الخافض أي فتيمموا بصعيد
* (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) * أي وجوهكم وأيديكم على أن الباء صلة، والمراد استيعاب هذين العضوين بالمسح حتى إذا ترك شيئا منهما لم يجز كما في الوضوء وهو ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن عن الإمام رضي الله تعالى عنه أن الأكثر يقوم مقام الكل لأن الاستيعاب في الممسوحات ليس بشرط كما في مسح الخف والرأس، ووجه الظاهر أن التيمم قائم مقام الوضوء، ولهذا قالوا: يخلل الأصابع وينزع الخاتم ليتمم المسح، والاستيعاب في الوضوء شرط فكذا فيما قام مقامه، والأيدي جمع يد، وهي مشتركة بين معان من أطراف الأصابع إلى الرسغ وإلى المرفق وإلى الإبط،
43

وهل هي حقيقة في واحد منها مجاز في غيره، أو حقيقة فيها جميعا؟ رجح بعضهم الثاني، ولذا ذهب إلى كل منها بعض السلف، فأخرج ابن جرير عن الزهري أن التيمم إلى الآباط، وأخرج عن مكحول أنه قال: التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع، وأخرج الحاكم عن ابن عمر في كيفية تيممهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا من المرافق إلى الأكف على منابت الشعر من ظاهر وباطن، ومن حديث أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه - وهذا مذهبنا - ومذهب الشافعي والجمهور - ويشهد لهم القياس - على الوضوء الذي هو أصله؛ وإن كان الحدث والجنابة فيه كيفية سواء، وكذا جوازا على الصحيح المروي عن المعظم. ومن الناس من قال: لا يتيمم الجنب والحائض والنفساء - وهو المروي عن عمر. وابنه وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم - قيل: ومنشأ الخلاف فيما بينهم حمل الملامسة فيما سبق على الوقاع أو المس باليد. فذهب الأولون إلى الأول والآخرون إلى الأخير، وقالوا: القياس أن لا يكون التيمم طهورا وإنما أباحه الله تعالى للمحدث فلا يباح للجنب لأنه ليس معقول المعنى حتى يصح القياس، وليست الجنابة في معنى الحدث لتلحق به بل هي فوقه. وأنت تعلم أن الآية كالصريح في جواز تيمم الجنب وإن لم تحمل الملامسة على الوقاع - كما يشير إليه تفسيرها السابق - على أن الأحاديث ناطقة بذلك، فقد أخرج البخاري عن عمران بن حصين " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال: يا فلان ما منعك أن تصلي؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك " وروي " أن قوما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا قوم نسكن هذه الرمال ولم نجد الماء شهرا أو شهرين وفينا الجنب والحائض والنفساء فقال صلى الله عليه وسلم: عليكم بأرضكم " إلى غير ذلك، وهل يرفع التيمم الحدث أم لا؟ خلاف، ولا دلالة في الآية على أحد الأمرين عند من أمعن النظر
* (إن الله كان عفوا غفورا) * تعليل لما يفهمه الكلام من الترخيص والتيسير وتقرير لهما فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين لا بد أن يكون ميسرا لا معسرا، وجوز أن يكون كناية عن ذلك فإنه من روادف العفو وتوابع الغفران، وأدمج فيه أن الأصل الطهارة الكاملة وأن غيرها من الرخص من العفو والغفران، وقيل: العفو هنا بمعنى " التيسير " - كما في التيسير - واستدل على وروده بهذا المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم: " عفوت لكم صدقة الخيل والرقيق " وذكر المغفرة للدلالة على أنه غفر ذنب المصلين سكارى، وما صدر عنهم في القراءة، وأنت تعلم أن حمل العفو على التيسير في الحديث غير متعين وكون ذكر المغفرة لما ذكر بعيد..
* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكت‍ابيشترون الضل‍الة ويريدون أن تضلوا السبيل) *.
* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * استئناف لتعجيب المؤمنين من سوء حالهم والتحذير عن موالاتهم إثر ذكر أنواع التكاليف والأحكام الشرعية، والخطاب
لكل من يتأتى منه الرؤية من المؤمنين؛ وفيه إيذان بكمال شهرة شناعة حالهم، وقيل: لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم، وخطاب سيد القوم في مقام خطابهم والرؤية بصرية، وتعديها بإلى حملا لها على النظر - أي ألم تنظر إليهم - وجعلها علمية وتعديها بإلى لتضمينها معنى الانتهاء - أي ألم ينته علمك إليهم - منحط في مقام التعجيب وتشهير شنائعهم، ونظمها في سلك الأمور المشاهدة، والمراد من الموصول يهود المدينة. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم كانا إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لويا لسانهما وعاباه، وعنه أنها
44

نزلت في حبرين كانا يأتيان رأس المنافقين عبد الله بن أبي ورهطه يثبطانهم عن الإسلام. والمراد من الكتاب التوراة، وقيل: الجنس وتدخل فيه دخولا أوليا وفيه تطويل للمسافة، وقيل: القرآن لأن اليهود علموا أنه كتاب حق أتى به نبي صادق لا شبهة في نبوته، وفيه أنه خلاف الظاهر، وبالذي أوتوه ما بين لهم فيه من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعت النبي صلى الله عليه وسلم، والتعبير عن بالنصيب المشعر بأنه حق من حقوقهم التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بركاكة آرائهم في الإهمال، والتنوين للتفخيم، وهو مؤيد للتشنيع، ومثله ما لو حمل على التكثير، و * (من) * متعلقة بمحذوف وقع صفة لنصيبا مبينة لفخامته الإضافية إثر فخامته الذاتية، وقيل: متعلقة - بأوتوا -
وقوله تعالى: * (يشترون الضل‍الة) * استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجيب المفهومين من صدر الكلام مبني على سؤال نشأ منه كأنه قيل: ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم؟ فقيل: يختارون الضلالة على الهدى أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه المنزل منزلة الحصول، أو حصوله لهم بالفعل بإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الزجاج: المعنى يأخذون الرشا ويحرفون التوراة، فالضلالة هو هذا التحريف أي اشتروها بمال الرشا، وذهب أبو البقاء إلى أن جملة * (يشترون) * حال مقدرة من ضمير * (أوتوا) * أو حال من * (الذين) *، وتعقب الوجه الأول: بأنه لا ريب في أن اعتبار تقدير اشترائهم المذكور في الإيتاء مما لا يليق بالمقام، والثاني: بأنه خال عن إفادة أن مادة التشنيع والتعجيب هو الاشتراء المذكور، وما عطف عليه من قوله تعالى: * (ويريدون أن تضلوا السبيل) * فالأوجه الاستئناف والمعطوف شريك للمعطوف عليه فيما سبق له، والمعنى أنهم لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وكتم نعوته الناطقة بها التوراة أن تكونوا أنتم أيضا ضالين الطريق المستقيم الموصل إلى الحق، والتعبير بصيغة المضارع في الموضعين للإيذان بالاستمرار التجددي فإن تجدد حكم اشترائهم المذكور وتكرر العمل بموجبه في قوة تجدد نفسه وتكرره، وفي ذلك أيضا من التشنيع ما لا يخفى، وقرىء * (أن يضلوا) * بالياء بفتح الضاد وكسرها..
* (والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) *.
* (والله أعلم) * منكم أيها المؤمنون * (بأعدآئكم) * الذين من جملتهم هؤلاء، وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون فاحذروهم، فالجملة معترضة للتأكيد وبيان التحذير وإلا فأعملية الله تعالى معلومة، وقيل: المعنى أنه تعالى أعلم بحالهم ومآل أمرهم فلا تلتفتوا إليهم ولا تكونوا في فكر منهم * (وكفى بالله وليا) * يلي أمركم وينفعكم بما شاء * (وكفى بالله نصيرا) * يدفع عنكم مكرهم وشرهم فاكتفوا بولايته ونصرته ولا تبالوا بهم ولا تكونوا في ضيق مما يمكرون؛ وفي ذلك وعد للمؤمنين ووعيد لأعدائهم، والجملة معترضة أيضا، والباء مزيدة في فاعل * (كفى) * تأكيدا للنسبة بما يفيد الاتصال وهو الباء الإلصاقية، وقال الزجاج: إنما دخلت هذه الباء لأن الكلام على معنى اكتفوا بالله، و * (وليا) * و * (نصيرا) * منصوبان على التمييز، وقيل: على الحال، وتكرير الفعل في الجملتين مع إظهار الاسم الجليل لتأكيد كفايته عز وجل مع الإشعار بالعلية..
* (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا فى الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) *.
* (من الذين هادوا) * قيل: هو بيان - للذين أوتوا - المتناول بحسب المفهوم لأهل الكتابين، وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين عنهم والاهتمام بحثهم على
45

الثقة بالله تعالى والاكتفاء بولايته ونصرته، واعترضه أبو حيان بأن الفارسي قد منع الاعتراض بجملتين فما ظنك بالثلاث؟! وأجاب الحلبي بأن الخلاف إذا لم يكن عطف - والجمل هنا متعاطفة - وبه يصير الشيئان شيئا واحدا، وقيل: إنه بيان لأعدائكم، وفيه أنه لا وجه لتخصيص علمه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرض الاعتراض، وقيل: إنه صلة - لنصير - أي ينصركم من الذين هادوا وفيه تحجير لواسع نصرة الله تعالى مع أنه لا داعي لوضع الموصول موضع ضمير الأعداء وكون ما في حيز الصلة وصفا ملائما للنصر غير ظاهر، وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف،
وقوله تعالى: * (يحرفون الكلم عن مواضعه) * صفة له أي: من الذين هادوا قوم يحرفون ويتعين هذا في قراءة عبد الله و * (من الذين) * وقد تقرر أن المبتدأ إذا وصف بجملة أو ظرف، وكان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه يطرد حذفه، ومنه قوله: وما الدهر إلا تارتان فمنهما * أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
والفراء يجعل المبتدأ المحذوف اسما موصولا، و * (يحرفون) * صلته أي: من الذين هادوا من يحرفون والبصريون يمنعون حذف الموصول مع بقاء صلته إلا أنه يؤيده ما في مصحف حفصة رضي الله تعالى عنها - من يحرفون - واعترض هذا أيضا بأنه يقتضي بظاهره كون الفريق السابق بمعزل من التحريف الذي هو المصداق لاشترائهم في الحقيقة، والكلم اسم جنس واحده كلمة - كلبنة ولبن، ونبقة ونبق - وقيل: جمع - وليس بشيء على المختار - ولعل من أطلقه عليه أراد المعنى اللغوي أعني ما يدل على ما فوق الإثنين مطلقا، وتذكير ضميره باعتبار أفراده لفظا، وجمعيته باعتبار تعدده معنى، وقرىء بكسر الكاف وسكون اللام جمع - كلمة - تخفيف كلمة بنقل كسرة اللام إلى الكاف، وقرىء * (يحرفون الكلام) *، والمراد به ههنا إما ما في التوراة وإما ما هو أعم منه، ومما سيحكي عنهم من الكلمات الواقعة منهم
في أثناء محاورتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والأول: هو المأثور عن السلف كابن عباس ومجاهد وغيرهما، وتحريف ذلك إما إزالته عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم - ربعة - في نعت النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعهم مكانه طوال، وكتحريفهم - الرجم - ووضع الحد موضعه، وإما صرفه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى ما لا صحة له بالتأويلات الفاسدة والتمحلات الزائغة كما تفعله المبتدعة في الآيات القرآنية المخالفة لمذهبهم، ويؤيد الأول ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث تقرءونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله تعالى وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، واستشكل بأنه كيف يمكن ذلك في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر وانتشرت نسخه شرقا وغربا؟!. وأجيب بأن ذلك كا قبل اشتهار الكتاب في الآفاق وبلوغه مبلغ التواتر وفيه بعد، وإن أيد بوقوع الاختلاف في نسخ التوراة التي عند طوائف اليهود، وقيل: إن اليهود فعلوا ذلك في نسخ من التوراة ليضلوا بها ولما لم ترج عدلوا إلى التأويل، والمراد من * (مواضعه) * على تقدير إرادة الأعم ما يليق به مطلقا سواء كان ذلك بتعيينه تعالى صريحا كمواضع ما في التوراة أو بتعيين العقل والدين كمواضع غيره، وأصل التحريف إمالة الشيء إلى حرف أي طرف فإذا كان * (يحرفون) * بمعنى يزيلون كان كناية لأنهم إذا بدلوا الكلم ووضعوا مكانه غيره لزم أنهم أمالوه عن مواضعه وحرفوه، والفرق بين ما هنا وما يأتي في سورة المائدة (41) من قوله سبحانه: * (من بعد مواضعه) * أن الثاني أدل على ثبوت مقار الكلم واشتهارها مماهنا، وذلك لأن الظرف يدل على أنه بعد ما ثبت الموضع
46

وتقرر حرفوه عنه، واختار ذلك هنالك لأن فيه ما يقتضي الاتيان بالأدل الأبلغ
* (ويقولون) * عطف على * (يحرفون) * وأكثر العلماء على أن المراد به القول اللساني بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم، واختار البعض حمله على ما يعم ذلك وما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ليندرج فيه ما نطقت به ألسنة حالهم عند تحريف التوراة ولا يقيد حينئذ بزمان أو مكان ولا يخصص بمادة دون مادة ويحتاج إلى ارتكاب عموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز والمعنى عليه أنهم مع ذلك التحريف يقولون ويفهمون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم أو بلسان الحال أو المقال عنادا وتحقيقا للمخالفة * (سمعنا) * أي فهمنا * (وعصينا) * أي لم نأتمر وبذلك فسره الراغب * (واسمع غير مسمع) * عطف على * (سمعنا) * داخل معه تحت القول لكن باعتبار أنه لساني، وفي أثناء مخاطبته صلى الله عليه وسلم - وهو كلام ذو وجهين - محتمل للشر والخير، ويسمى في البديع بالتوجيه كما قاله غير واحد، ومثلوا له بقوله: خاط لي عمرو قباء * ليت عينيه سواء
واحتماله للشر بأن يحمل على معنى اسمع مدعوا عليك بلا سمعت، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، أو اسمع نابي السمع عما تسمعه لكراهيته عليك، أو اسمع كلاما غير مسمع إياك لأن أذنيك تنبو عنه - فغير - إما حال لا غير، وإما مفعول به وصحت الحالية على الاحتمال الأول باعتبار أن الدعاء هو المقصود لهم وأنهم لما قدروا - لعنهم الله تعالى - إجابته صار كأنه واقع مقرر، واحتماله للخير بأن يحمل على معنى: اسمع منا غير مسمع مكروها من قولهم: أسمعه فلان إذا سبه، وكان أصله أسمعه ما يكره فحذف مفعوله نسيا منسيا وتعورف في ذلك، وقد كانوا لعنهم الله تعالى يخاطبون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءا مظهرين له صلى الله عليه وسلم المعنى الأخير وهم يضمرون سواه.
* (وراعنا) * عطف على ما قبله أي ويقولون أيضا في أثناء خطابهم له صلى الله عليه وسلم هذا وهو ذو وجهين كسابقه، فاحتماله للخير على معنى أمهلنا وانظر إلينا، أو انتظرنا نكلمك، واحتماله للشر بحمله على السب، ففي " التيسير ": إن راعنا بعينه مما يتسابون به وهو للوصف بالرعونة، وقيل: إنه يشبه كلمة سب عندهم عبرانية أو سريانية وهي راعينا، وقيل: بل كانوا يشبعون كسر العين ويعنون - لعنهم الله تعالى - أنه - وحاشاه صلى الله عليه وسلم - بمنزلة خدمهم ورعاة غنمهم، وقد كانوا يقولون ذلك مظهرين الاحترام والتوقير مضمرين ما يستحقون به جهنم وبئس المصير. وهذا نوع من النفاق ولا ينافيه تصريحهم بالعصيان لما قيل: إن جميع الكفار يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر ولا يخاطبونه بالسب والذم والدعاء عليه عليه الصلاة والسلام، واعترض بأنه حينئذ لا وجه لإيراد السماع والعصيان مع التحريف وإلقاء الكلام المحتمل احتيالا، وأجيب بأنه يمكن أن يقال: المقصود على هذا عد صفاتهم الذميمة لا مجرد التحريف والاحتيال فكأنه قيل: يحرفون كتابهم ويجاهرون بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قالا وحالا وعصيانهم بعد سماع ما بلغهم وتحققه لديهم ويحتالون في سبه صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن قولهم * (سمعنا وعصينا) * لم يكن بمحضره عليه الصلاة والسلام بل كان فيما بينهم فلا ينافي نفاقهم في الجملتين بين يديه صلى الله عليه وسلم، وقيل: القول نظرا إلى الجملة الأولى حالي وإلى الجملتين الأخيرتين لساني، وقيل: إن الأولى أيضا ذات وجهين كالأخيرتين إذ يحتمل أن يكون مرادهم أطعنا أمرك وعصينا أمر قومنا،
47

ويحتمل أن يكون مرادهم ما تقدم. ومن الناس من جوز أن يراد بتحريف الكلم إمالتها عن مواضعها سواء كانت مواضع وضعها الله تعالى فيها أو جعلها المقام والعرف مواضع لذلك فيكون المعنى هم قوم عادتهم التحريف، ويكون قوله سبحانه: * (ويقولون) * الخ تعدادا لبعض تحريفاتهم، والمراد إنهم يقولون لك: سمعنا وعند قومهم عصينا ويقولون كذا وكذا فيظهرون لك شيئا ويبطنون خلافه
* (ليا بألسنتهم) * اللي يكون بمعنى الانحراف والالتفات والانعطاف عن جهة إلى أخرى، ويكون بمعنى ضم إحدى نحو طاقات الحبل على الأخرى. والمراد به هنا إما صرف الكلام من جانب الخير إلى جانب الشر، وإما ضم أحد الأمرين إلى الآخر، وأصله لوى فقلبت الواو ياءا وأدغمت، ونصبه على أنه مفعول له - ليقولون - باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين، وقيل: بالأقوال جميعها، أو على أنه حال أي - لاوين - ومثله في ذلك قوله تعالى: * (وطعنا في الدين) * أي قدحا فيه بالاستهزاء والسخرية، وكل من الظرفين متعلق بما عنده * (ولو أنهم) * عندما سمعوا شيئا من أوامر الله تعالى ونواهيه * (قالوا) * بلسان المقال كما هو الظاهر أو به وبلسان
الحال كما قيل: * (سمعنا) * سماع قبول مكان قولهم: * (سمعنا) * المراد به سماع الرد * (وأطعنا) * مكان قولهم: * (عصينا) * * (واسمع) * بدل قولهم: * (اسمع غير مسمع) *. * (وانظرنا) * بدل قولهم: * (راعنا) * * (لكان) * قولهم هذا * (خيرا لهم) * وأنفع من قولهم ذلك * (وأقوم) * أي أعدل في نفسه، وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفعل في المفضل عليه بناءا على اعتقادهم أو بطريق التهكم، وإما بمعنى اسم الفاعل فلا حاجة إلى تقدير من، وفي تقديم حال القول بالنسبة إليهم على حاله في نفسه إيماء إلى أن همم اليهود لعنهم الله تعالى طماحة إلى ما ينفعهم، والمنسبك من (أن) وما بعدها فاعل ثبت المقدر لدلالة أن عليه أي: لو ثبت قولهم سمعنا الخ وهو مذهب المبرد، وقيل: مبتدأ لا خبر له، وقيل: خبره مقدر.
* (ول‍اكن لعنهم الله بكفرهم) * أي ولكن لم يقولوا الأنفع والأقوم، واستمروا على ذلك فخذلهم الله تعالى وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم * (فلا يؤمنون) * بعد * (إلا قليلا) * اختار العلامة الثاني كونه استثناء من ضمير المفعول في * (لعنهم) * أي ولكن لعنهم الله تعالى إلا فريقا قليلا منهم فإنه سبحانه لم يلعنهم فلهذا آمن من آمن منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه، وقيل: هو مستثنى من فاعل * (يؤمنون) * ويتجه عليه أن الوجه حينئذ الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب مع أن القراء قد اتفقوا على النصب، ويبعد منهم الاتفاق على غير المختار مع أنه يقتضي وقوع إيمان من لعنه الله تعالى وخذله إلا أن يحمل * (لعنهم الله بكفرهم) * على لعن أكثرهم وهو كما ترى، وقيل: إنه صفة مصدر محذوف أي إلا إيمانا قليلا لأنهم وحدوا وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وشريعته، والإيمان بمعنى التصديق لا الإيمان الشرعي، وجوز على هذا الوجه أن يراد بالقلة العدم كما في قوله: قليل التشكي للمهم يصيبه * كثير الهوى شتى النوى والمسالك
والمراد أنهم لا يؤمنون إلا إيمانا معدوما إما على حد * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) * (الدخان: 56) أي إن كان المعدوم إيمانا فهم يحدثون شيئا من الإيمان فهو من التعليق بالمحال، أو أن ما أحدثوه منه لما لم يشتمل
48

على ما لا بد منه كان معدوما انعدام الكل بجزئه، والوجه هو الأول..
* (ي‍اأيهآ الذين أوتوا الكت‍ابءامنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدب‍ارهآ أو نلعنهم كما لعنآ أصح‍ابالسبت وكان أمر الله مفعولا) *.
* (يأيها الذين أوتوا الكت‍اب) * نزلت كما قال السدي في زيد بن التابوت ومالك بن الصيف. وأخرج البيهقي في " الدلائل " وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد فقال لهم: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد فأنزل الله تعالى فيهم الآية، ولا يخفى أن العبرة لعموم اللفظ وهو شامل لمن حكيت أحوالهم وأقوالهم ولغيرهم، وجعل الخطاب للأولين خاصة - بطريق الالتفات، وأن وصفهم بإيتاء الكتاب تارة وبإيتاء نصيب منه أخرى لتوفية كل من المقامين حظه - بعيد جدا، ولما كان تفصيل هاتيك الأحوال والأقوال من مظان إقلاع من توجه الخطاب إليهم عما هم عليه من الضلالة عقب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محجة الهدى مشفوعا بالتحذير والتخويف والوعيد الشديد على المخالفة فقال سبحانه:
* (ءامنوا) * إيمانا شرعيا * (بمآ نزلنا) * أي بالذي أنزلناه من عندنا على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن * (مصدقا لما معكم) * من التوراة الغير المبدلة، وقد تقدم كيفية تصديق القرآن لذلك وعبر عن التوراة بما ذكر للإيذان بكمال وقوفهم على حقيقة الحال المؤدي إلى العلم بكون القرآن مصدقا لها * (من قبل أن نطمس وجوها) * متعلق بالأمر مفيد للمسارعة إلى الامتثال لما فيه من الوعيد الوارد على أبلغ وجه وآكده حيث لم يعلق وقوع المتوعد به بالمخالفة ولم يصرح بوقوعه عندها تنبيها على أن ذلك أمر محقق غني عن الإخبار به؛ وأنه على شرف الوقوع متوجه نحو المخاطبين، وفي تنكير وجوه تهويل للخطب (مع) لطف وحسن استدعاء، وأصل الطمس استئصال أثر الشيء، والمراد آمنوا من قبل أن نمحو ما خطه الباري بقلم قدرته في صحائف الوجوه من نون الحاجب، وصاد العين، وألف الأنف، وميم الفم فنجعلها كخف البعير أو كحافر الدابة، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقال الفراء والبلخي وحسين المغربي: إن المعنى آمنوا من قبل أن نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة.
* (فنردها على أدبارها) * أي فنجعلها على هيئة أدبارها وإقفائها مطموسة مثلها فإن ما خلف الوجه لا تصوير فيه وهو منبت الشعر أيضا؛ والعطف بالفاء إما على إرادة نريد الطمس، أو على جعل العطف من عطف المفصل على المجمل، وعن عطية العوفي: أن المراد ننكسها بعد الطمس بجعل العيون التي فيها وما معها في القفا، فالعطف بالفاء ظاهر، وقيل: المراد بالوجوه الوجهاء على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب وجاهتهم وإقبالهم ونكسوهم صغارا وإدبارا، أو نردهم من حيث جاءوا منه وهي أذرعات الشام، فالمراد بذلك إجلاء بني النضير، وإلى هذا المراد ذهب ابن زيد، وضعف بأنه لا يساعده مقام تشديد الوعيد وتعميم التهديد للجميع.
وقد اختلف في أن الوعيد هل كان بوقوعه في الدنيا أو في الآخرة، فقال جماعة: كان بوقوعه في الدنيا وأيد بما أخرجه ابن جرير عن عيسى بن المغيرة قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب فقال: أسلم كعب في زمان عمر رضي الله تعالى عنه أقبل وهو يريد بيت المقدس فمر على المدينة فخرج إليه عمر فقال: يا كعب أسلم قال: ألستم تقرءون في كتابكم: * (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) * (الجمعة: 5)؟ وأنا قد حملت التوارة
49

فتركه، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص فسمع رجلا من أهلها يقرأ هذه الآية فقال: رب آمنت رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها، ثم رجع فأتى أهله باليمن ثم جاء بهم مسلمين، وروي أن عبد الله بن سلام لما قدم من الشام وقد سمع هذه الآية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله فأسلم، وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي إلى قفاي، ثم اختلفوا فقال المبرد: إنه منتظر بعد ولا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل قيام الساعة، وأيد بتنكير وجوه،
والتعبير بضمير الغيبة فيما يأتي، واعترضه شيخ الإسلام بأن انصراف العذاب الموعود عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسباب نزوله وموجبات حلوله حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبوها وفي التوراة فحرفوها وأصروا على الكفر والضلالة، وتعلق بهم خطاب المشافهة بالوعيد ثم نزوله على من (وجه بعد ما فات) من السنين من أعقابهم الضالين بإضلالهم (العاملين) بما مهدوا من قوانين الغواية بعيد من حكمة العزيز الحكيم، والجواب بأن عادة الله سبحانه قد جرت مع اليهود بأن ينتقم من أخلافهم بما صنعت أسلافهم وإن لم يعلم وجه الحكمة فيه على تقدير تسليمه لا يزيل البعد في هذه الصورة، وقال الطبرسي: " إن هذا الوعيد كان متوجها إليهم لو لم يؤمن أحد منهم، وقد آمن جماعة من أحبارهم فلم يقع ورفع عن الباقين "، واعترض أيضا بأن إسلام البعض إن لم يكن سببا لتأكد نزول العذاب على الباقين لتشديدهم النكير والعناد بعد ازدياد الحق وضوحا وقيام الحجة عليهم بشهادة أماثلهم العدول فلا أقل من أن لا يكون سببا لرفعه عنهم، وقيل: في الجواب إنه إذا جاز أن ينزل سبحانه البلاء على قوم بسبب عصيان بعض منهم كما يشير إليه قوله تعالى: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * (الأنفال: 25) فلأن يجوز أن يرفع ذلك عن الكل بسبب طاعة البعض من باب أولى لأنه سبحانه الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه. وقد ورد في الأخبار ما يدل على وقوع ذلك، ودعوى الفرق مما لا تكاد تسلم.
وقيل: كان الوعيد بوقوع أحد الأمرين كما ينطق به قوله تعالى: * (أو نلعنهم كما لعنآ أصح‍ابالسبت) * فإن لم يقع الأمر الأول فلا نزاع في وقوع الأمر الثاني فإن اليهود ملعونون بكل لسان وفي كل زمان، فاللعن بمعناه الظاهر؛ والمراد من التشبيه بلعن أصحاب السبت الإغراق في وصفه، واعترض بأن اللعن الواقع عليهم ما تداولته الألسنة وهو بمعزل من صلاحيته أن يكون حكما لهذا الوعيد أو مزجرة عن مخالفة للعنيد، فاللعن هنا الخزي بالمسخ وجعلهم قردة وخنازير كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وابن جرير عن الحسن، ويؤيده ظاهر التشبيه، وليس في عطفه على الطمس والرد على الأدبار شائبة دلالة (عدم) على إرادة ذلك ضرورة أنه (تعبير) مغاير لما عطف عليه، والاستدلال على مغايرة اللعن للمسخ بقوله تعالى: * (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) * (المائدة: 60) لا يفيد أكثر من مغايرته للمسخ في تلك الآية، وذهب البلخي والجبائي إلى أن الوعيد إنما كان بوقوع ما ذكر في الآخرة عند الحشر وسيقع فيها أحد الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيع. وأجيب عما روي عن الحبرين الظاهر في أن ذلك في الدنيا بأنه مبني على الاحتياط وغلبة الخوف اللائق (بشأنها)، وقد ورد " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الدخول والخروج في الحجرات ولا يكاد يقر له قرار إذا اشتد الهواء، ويقول: أخشى أن تقوم الساعة " مع علمه صلى الله عليه وسلم بأن قبل قيامها القائم وعيسى عليه السلام والدجال عليه اللعنة والدابة وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك مما قصه صلى الله عليه وسلم علينا، وجوز بعضهم على تقدير كون الوعيد بالوقوع في الآخرة أن يراد بالطمس والرد على الأدبار الختم
50

على العين والفم والطبع عليهما، فقد قال الله تعالى: * (لطمسنا على أعينهم) * (يس: 66) و * (اليوم نختم على أفواههم) * (يس: 65) وجوز نحو هذا بعض من ادعى أن ذلك في الدنيا فقال: إن المعنى آمنوا من قبل أن نطمس وجوها بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار، ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق بالطبع، ونردها عن الهداية إلى الضلالة. وروي ذلك عن الضحاك وأخرجه أبو الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، والحق أن الآية ليست بنص في كون ذلك في الدنيا أو في الآخرة بل المتبادر منها بحسب المقام كونه في الدنيا لأنه أدخل في الزجر، وعليه مبنى ما روي عن الحبرين لكن لما كان في وقوع ذلك خفاء واحتمال أنه وقع ولم يبلغنا - على ما في " التيسير " - مما لا يلتفت إليه، ورجح احتمال كونه في الآخرة، وأيا ما كان فلعل السر في تخصيصهم بهذه العقوبة من بين العقوبات - كما قال شيخ الإسلام - مراعاة المشاكلة (بينها) وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريف والتغيير والفاعل والراضي سواء، والضمير المنصوب في - نلعنهم - لأصحاب الوجوه، أو - للذين - على طريق الالتفات لأنه بعد تمام النداء يقتضي الظاهر الخطاب، وأما قبله فالظاهر الغيبة، ويجوز الخطاب لكنه غير فصيح كقوله:
يا من يعز علينا أن نفارقهم * وجداننا (كل شيء) بعدكم عدم
أو للوجوه إن أريد به الوجهاء * (وكان أمر الله) * بإيقاع شيء ما من الأشياء، فالمراد بالأمر معناه المعروف، ويحتمل أن يراد به واحد الأمور ولعله الأظهر أي كان وعيده أو ما حكم به وقضاه * (مفعولا) * نافذا واقعا في الحال أو كائنا في المستقبل لا محالة، ويدخل في ذلك ما أوعدتم به دخولا أوليا، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير بطريق الالتفات لما مر غير مرة..
* (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) *.
* (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * كلام مستأنف مقرر لما قبله من الوعيد ومؤكد وجوب امتثال الأمر بالإيمان حيث إنه لا مغفرة بدونه كما زعم اليهود، وأشار إليه قوله تعالى: * (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا) * (الأعراف: 169) وفيه أيضا إزالة خوفهم من سوء الكبائر السابقة إذا آمنوا. والشرك يكون بمعنى اعتقاد أن لله تعالى شأنه شريكا إما في الألوهية أو في الربوبية، وبمعنى الكفر مطلقا - وهو المراد هنا - كما أشار إليه ابن عباس فيدخل فيه كفر اليهود دخولا أوليا فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة وقضى بخلود أصناف الكفرة كيف كانوا، ونزول الآية في حق اليهود على ما روي عن مقاتل لا يقتضي الاختصاص بكفرهم بل يكفي الاندراج فيما يقتضيه عموم اللفظ، والمشهور أنها نزلت مطلقة، فقد أخرج ابن المنذر عن أبي مجلز قال: " لما نزل قوله تعالى: * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) * (الزمر: 53) الآية قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال: والشرك بالله؟ فسكت، ثم قام إليه فقال: يا رسول الله والشرك بالله تعالى؟ فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * " الخ والمعنى أن الله تعالى لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان لأنه سبحانه بت الحكم على خلود عذابه، وحكمه لا يتغير، ولأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب
الكفر ولذا لم يبعث نبي إلا لسده وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه، وقيل: لأن ذنبه لا ينمحي عنه أثره فلا يستعد للعفو بخلاف غيره، ولا يخفى أن هذا مبني على أن فعل الله تعالى تابع لاستعداد المحل، وإليه ذهب أكثر الصوفية وجميع الفلاسفة، فإن * (يشرك) * في موضع
51

النصب على المفعولية؛ وقيل: المفعول محذوف والمعنى لا يغفر من أجل أن يشرك به شيئا من الذنوب فيفيد عدم غفران الشرك من باب أولى، والذي عليه المحققون هو الأول.
* (ويغفر ما دون ذلك) * عطف على خبر (إن) لا مستأنف، وذلك إشارة إلى الشرك، وفيه إيذان ببعد درجته في القبح أي يغفر ما دونه من المعاصي وإن عظمت وكانت كرمل عالج، ولم يتب عنها تفضلا من لدنه وإحسانا * (لمن يشاء) * أن يغفر له ممن اتصف بما ذكر فقط، فالجار متعلق - بيغفر - المثبت، والآية ظاهرة في التفرقة بين الشرك وما دونه بأن الله تعالى لا يغفر الأول ألبتة ويغفر الثاني لمن يشاء، والجماعة يقولون بذلك عند عدم التوبة فحملوا الآية عليه بقرينة الآيات والأحاديث الدالة على قبول التوبة فيهما جميعا، ومغفرتهما عندها بلا خلاف من أحد، وذهب المعتزلة إلى أنه لا فرق بين الشرك وما دونه من الكبائر في أنهما يغفران بالتوبة ولا يغفران بدونها فحملوا الآية كما قيل: على معنى - إن الله لا يغفر الإشراك لمن يشاء أن لا يغفر له وهو غير التائب ويغفر ما دونه لمن يشاء أن يغفر له وهو التائب - وجعلوا * (لمن يشاء) * متعلقا بالفعلين وقيدوا المنفي بما قيد به المثبت على قاعدة التنازل لكن * (من يشاء) * في الأول: المصرون بالاتفاق، وفي الثاني: التائبون قضاءا لحق التقابل وليس هذا من استعمال اللفظ الواحد في معنيين متضادين لأن المذكور إنما تعلق بالثاني وقدر في الأول مثله والمعنى واحد لكن يقدر مفعول المشيئة في الأول: عدم الغفران، وفي الثاني: الغفران بقرينة سبق الذكر، ولايخفى أن كون هذا من التنازع مع اختلاف متعلق المشيئة مما لا يكاد يتفوه به فاضل ولا يرتضيه كامل على أنه لا جهة لتخصيص كل من القيدين بما خصص لأن الشرك أيضا يغفر للتائب وما دونه لا يغفر للمصر عندهم من غير فرق بينهما، وسوق الآية ينادي بالتفرقة وتقييد مغفرة * (ما دون ذلك) * بالتوبة مما لا دليل عليه إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى من آيات الوعد.
وقد ذكر الآمدي في " أبكار الأفكار " أنها راجحة على آيات الوعيد بالاعتبار من ثمانية أوجه سردها هناك وزعم أنها لو لم تقيد، وقيل: بجواز المغفرة لمن لم يتب لزم إغراء الله تعالى للعبد بالمعصية لسهولتها عليه حينئذ والإغراء بذلك قبيح يستحيل على الله سبحانه ليس بشيء، أما أولا: فلأنه مبني على القول بالحسن والقبح العقلين وقد أبطل في محلة، وأما ثانيا: فلأن لو سلم يلزم منه تقبيح العفو شاهدا وهو خلاف إجماع العقلاء، وأما ثالثا: فلأنه منقوض بالتوبة فإنهم قالوا: بوجوب قبولها ولا يخفى أن ذلك مما يسهل على العاصي الإقدام على المعصية أيضا ثقة منه بالتوبة حسب وثوقه بالمغفرة بل أبلغ من حيث إن التوبة مقدورة له بخلاف المغفرة فكان يجب أن لا تقبل توبته لما فيه من الإغراء وهو خلاف الإجماع فلئن قالوا: هو غير واثق بالإمهال إلى التوبة قلنا: هو غير واثق بالمغفرة لإبهام الموصول، والقول: بأنه لو لم تشترط التوبة لزم المحاباة من الله تعالى في الغفران للبعض دون البعض والمحاباة غير جائزة عليه تعالى ساقط من القول لأن الله تعالى متفضل بالغفران وللمتفضل أن يتفضل على قوم دون قوم وإنسان دون إنسان وهو عادل في تعذيب من يعذبه، وليس يمنع العقل والشرع من الفضل والعدل كما لا يخفى، ومن المعتزلة من قال: إن المغفرة قد جاءت بمعنى تأخير العقوبة دون إسقاطها كما في قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) * (الرعد: 6) فإنه لا يصح هنا حملها على إسقاط العقوبة لأن الآية في الكفار والعقوبة غير ساقطة عنهم إجماعا، وقوله تعالى: * (وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب) * (الكهف: 58) فإنه صريح في أن المغفرة بمعنى تأخير العقوبة
52

فلتحمل فيما نحن فيه على ذلك بقرينة إن الله تعالى خاطب الكفار وحذرهم تعجيل العقوبة عن ترك الإيمان، ثم قال سبحانه: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * الخ فيكون المعنى إن الله تعالى لا يؤخر عقوبة الشرك بل يعجلها ويؤخر عقوبة ما دونه لمن يشاء فلا تنهض الآية دليلا على ما هو محل النزاع على أنه لو سلم أن المغفرة فيها بمعنى إسقاط العقوبة لا يحصل الغرض أيضا لأنه إما أن يراد إسقاط كل واحد واحد من أنواع العقوبة، أو يراد إسقاط جملة العقوبات، أو يراد إسقاط بعض أنواعها لا سبيل إلى الأول لعدم دلالة اللفظ عليه بقي الاحتمالان الآخران، وعلى الأول: منهما لا يلزم من كونه لا يعاقب بكل أنواع العقوبات أن لا يعاقب ببعضها، وعلى الثاني: لا يلزم من إسقاط بعض الأنواع إسقاط البعض الآخر.
وأجيب بأن حمل المغفرة على إسقاط العقوبة أولى من حملها على التأخير لثلاثة أوجه: الأول: أنه المعنى المتبادر من إطلاق اللفظ، الثاني: أنه لو حمل لفظ المغفرة في الآية على التأخير لزم منه التخصيص في أن الله لا يغفر أن يشرك به لأن عقوبة الشرك مؤخرة في حق كثير من المشركين بل ربما كانوا في أرغد عيش وأطيبه بالنسبة إلى عيش بعض المؤمنين وأن لا يفرق في مثل هذه الصورة بين الشرك وما دونه بخلاف حملها على الإسقاط، الثالث: أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين لم يزالوا مجمعين على حمل لفظ المغفرة في الآية على سقوط العقوبة وما وقع عليه الإجماع هو الصواب وضده لا يكون صوابا. وقولهم: لا يحصل الغرض أيضا لو حملت على ذلك لأنه إما أن يراد الخ قلنا بل المراد إسقاط كل واحد واحد وبيانه أن قوله سبحانه: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * سلب للغفران فإذا كان المفهوم من الغفران إسقاط العقوبة فسلب الغفران سلب السلب فيكون إثباتا، ومعناه إقامة العقوبة، وعند ذلك فإما أن يكون المفهوم إقامة كل أنواع العقوبات، أو بعضها لا سبيل إلى الأول لاستحالة الجمع بين العقوبات المتضادة ولأن ذلك غير مشترط في حق الكفار إجماعا فلم يبق إلا الثاني، ويلزم من ذلك أن يكون الغفران فيما دون الشرك بإسقاط كل عقوبة وإلا لما تحقق الفرق بين الشرك وما دونه، ومنهم من وقع في حيص بيص في هذه الآية حتى زعم أن * (ويغفر) * عطف على المنفي والنفي منسحب عليهما، والآية للتسوية بين الشرك وما دونه لا للتفرقة، ولا يخفى أنه من تحريف كلام الله تعالى ووضعه في غير مواضعه.
ومن الجماعة من قال في الرد على المعتزلة: إن التقييد بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة ووجوب الصفح بعدها، وتعقبه صاحب " الكشف " بأنه لم يصدر عن
ثبت لأن الوجوب بالحكمة يؤكد المشيئة عندهم، وأيضا قد أشار الزمخشري في هذا المقام إلى أن المشيئة بمعنى الاستحقاق وهي تقتضي الوجوب وتؤكده فلا يرد ما ذكر رأسا. ثم إن هذه الآية كما يرد بها على المعتزلة يرد بها على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه خالد في النار، وذكر الجلال السيوطي أن فيها ردا أيضا على المرجئة القائلين: إن أصحاب الكبائر من المسلمين لا يعذبون. وأخرج ابن الضريس وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال: " كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * " الآية، وقال: إني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا ورجونا، وقد استبشر الصحابة رضي الله تعالى عنهم بهذه الآية جدا حتى قال علي كرم الله تعالى وجهه فيما أخرجه عنه الترمذي وحسنه: أحب آية إلي في القرآن * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) *.
* (ومن يشرك بالله) * استئناف مشعر بتعليل عدم غفران الشرك، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار
53

لإدخال الروعة وزيادة تقبيح الإشراك، وتفظيع حال من يتصف به أي ومن يشرك بالله تعالى الجامع لجميع صفات الكمال من الجمال والجلال أي شرك كان * (فقد افترى إثما عظيما) * أي ارتكب ما يستحقر دونه الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا، وأصل الافتراء من الفري، وهو القطع ولكون قطع الشيء مفسدة له غالبا غلب على الإفساد، واستعمل في القرآن بمعنى الكذب والشرك والظلم كما قاله الراغب، فهو ارتكاب ما لا يصلح أن يكون قولا أو فعلا، فيقع على اختلاف الكذب وارتكاب الإثم، وهو المراد هنا، وهل هو مشتك بين اختلاق الكذب وافتعال ما لا يصلح أم حقيقة في الأول مجاز مرسل أو استعارة في الثاني؟ قولان: أظهرهما عند البعض الثاني، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الشرك أعم من القولي والفعلي لأن المراد معنى عام وهو ارتكاب ما لا يصلح، وفي " مجمع البيان " التفرقة بين فريت وأفريت في أصل المعنى بأنه يقال: " فريت الأديم إذا قطعته على وجه الإصلاح، وأفريته إذا قطعته على وجه الإفساد "..
* (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشآء ولا يظلمون فتيلا) *.
* (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) * قال الكلبي: نزلت في رجال من اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطفالهم فقالوا: يا محمد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ فقال: لا فقالوا: والذي يحلف به ما نحن فيه إلا كهيئتهم ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار فهذا الذي زكوا به أنفسهم؛ وأخرج ابن جرير عن الحسن أنها نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (المائدة: 18) وقالوا: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * (البقرة: 111) والمعنى: انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم، أو من ادعائهم أن الله تعالى يكفر ذنوبهم الليلية والنهارية مع استحالة أن يغفر لكافر شيء من كفره أو معاصيه، وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها لغير غرض صحيح كالتحدث بالنعمة ونحوه * (بل الله يزكي من يشاء) * إبطال لتزكية أنفسهم وإثبات لتزكية الله تعالى وكون ذلك للإضراب عن ذمهم بتلك التزكية إلى ذمهم بالبخل والحسد بعيد لفظا ومعنى، والجملة عطف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل: هم لا يزكونها في الحقيقة بل الله يزكي من يشاء تزكيته ممن يستأهل من عباده المؤمنين إذ هو العليم الخبير وأصل التزكية التطهير والتنزيه من القبيح قولا - كما هو ظاهر - أو فعلا كقوله تعالى: * (قد أفلح من زكاها) * (الشمس: 9)، و * (خذ من أموالهم صدقة تطرهم وتزكيهم بها) * (التوبة: 103).
* (ولا يظلمون فتيلا) * عطف على جملة حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها، وإيذانا بأنها غنية عن الذكر أي يعاقبون بتلك الفعلة الشنيعة ولا يظلمون في ذلك العقاب أدنى ظلم وأصغره وهو المراد بالفتيل، وهو الخيط الذي في شق النواة وكثيرا ما يضرب به المثل في القلة والحقارة - كالنقير للنقرة التي في ظهرها - والقطمير - وهو قشرتها الرقيقة، وقيل: الفتيل ما خرج بين إصبعيك وكفيك من الوسخ، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي مالك والسدي رضي الله تعالى عنهم، وجوز أن تكون جملة * (ولا يظلمون) * في موضع الحال والضمير راجع إلى من حملا له على المعنى أي والحال أنهم لا ينقصون من ثوابهم أصلا بل يعطونه يوم القيامة كملا مع ما زكاهم الله تعالى ومدحهم في الدنيا. وقيل: هو استئناف، والضمير عائد على الموصولين من زكى نفسه، ومن زكاه الله تعالى أي لا ينقص هذا من ثوابه ولا ذاك من عقابه، والأول أمس بمقام الوعيد، وانتصاب * (فتيلا) * على أنه مفعول ثان كقولك: ظلمته حقه، قال علي بن عيسى: ويحتمل أن يكون تمييزا كقولك: تصببت عرقا..
54

* (انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا) *.
* (انظر كيف يفترون على الله الكذب) * في زعمهم أنهم أزكياء عند الله تعالى المتضمن لزعمهم قبول الله تعالى وارتضاءه إياهم ولشناعة هذا لما فيه من نسبته تعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية وجه النظر إلى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب الدال عليه الكلام وإلا فهم أيضا مفترون على أنفسهم بادعائهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه، و * (كيف) * في موضع نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال على الخلاف المشهور بين سيبويه والأخفش، والعامل * (يفترون) * و * (به) * متعلق به. وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من الكذب، وقيل: هو متعلق به، والجملة في موضع النصب بعد نزع الخافض وفعل النظر معلق بذلك والتصريح بالكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا للمبالغة في تقبيح حالهم * (وكفى به) * أي بافترائهم، وقيل: بهذا الكذب الخاص * (إثما مبينا) * لا يخفى كونه مأثما من بين آثامهم وهذا عبارة عن كونه عظيما منكرا، والجملة كما قال عصام الملة: في موضع الحال بتقدير قد أي - كيف يفترون الكذب والحال أن ذلك ينافي مضمونه لأن إثم مبين - والآثم المبين غير المتحاشي عنه مع ظهوره لا يكون ابن الله سبحانه وتعالى وحبيبه ولا يكون زكيا عند الله تعالى، وانتصاب * (إثما) * على التمييز..
* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكت‍ابيؤمنون بالجبت والط‍اغوت ويقولون للذين كفروا ه‍اؤلاء أهدى من الذين ءامنوا سبيلا) *.
* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكت‍ابيؤمنون بالجبت والط‍اغوت) * تعجيب من حال أخرى لهم ووصفهم بما في حيز الصلة تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب، وقد تقدم نظيره، والآية نزلت - كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف - في جمع من يهود، وذلك أنهم خرجوا إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة: إنكم أهل كتاب ومحمد صلى الله عليه وسلم صاحب كتاب فلا يؤمن هذا أن يكون مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل، ثم قال كعب: يا أهل مكة ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد صلى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ قال كعب: أعرضوا علي دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم اللبن ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد صلى الله عليه وسلم فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا القديم ودين محمد الحديث، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى في ذلك الآية، و - الجبت - في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل معبود غير الله تعالى، وقيل: أصله الجبس وهو كما قال الراغب: الرذيل الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاءا كما في قول عمرو بن يربوع: شرار - النات - أي الناس، وإلى ذلك ذهب قطرب - والطاغوت - يطلق على كل باطل من معبود أو غيره. وأخرج الفريابي وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: " الجبت الساحر والطاغوت الشيطان ". وأخرج ابن جرير من طرق عن مجاهد مثله، ومن طريق أبي الليث عنه قال: الجبت كعب بن الأشرف، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان، وعن سعيد بن جبير الجبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن وأخرج ابن حميد عن عكرمة أن الجبت الشيطان بلغة الحبشة، والطاغوت الكاهن - وهي رواية
55

عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - وفي رواية أخرى الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف، وفي أخرى الجبت الأصنام، والطاغوت الذين يكونون بين يديها يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس، ومعنى الإيمان بهما إما التصديق بأنهما آلهة وإشراكهما بالعبادة مع الله تعالى، وإما طاعتهما وموافقتهما على ما هما عليه من الباطل، وإما القدر المشترك بين المعنيين كالتعظيم مثلا، والمتبادر المعنى الأول أي أنهم يصدقون بألوهية هذين الباطلين ويشركونهما في العبادة مع الإله الحق ويسجدون لهما.
* (ويقولون للذين كفروا) * أي لأجلهم وفي حقهم فاللام ليست صلة القول وإلا لقيل أنتم بدل قوله سبحانه * (ه‍اؤلاء) * أي الكفار من أهل مكة. * (أهدى من الذين ءامنوا سبيلا) * أي أقوم دينا وأرشد طريقة، قيل: والظاهر أنهم أطلقوا أفعل التفضيل ولم يلحظوا معنى التشريك فيه؛ أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم، وإيراد النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفا لهم بالوصف الجميل وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأشنع القبائح..
* (أول‍ائك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) *.
* (أول‍ائك) * القائلون المبعدون في الضلالة * (الذين لعنهم الله) * أي أبعدهم عن رحمته وطردهم، واسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره، والجملة مستأنفة لبيان حالهم وإظهار مآلهم * (ومن يلعن) * أي يبعده * (الله) * من رحمته * (فلن تجد له نصيرا) * أي ناصرا يمنع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويا بشفاعة أو بغيرها، وفيه بيان لحرمانهم ثمرة استنصارهم بمشركي قريش وإيماء إلى وعد المؤمنين بأنهم المنصورون حيث كانوا بضد هؤلاء فهم الذين قربهم الله تعالى ومن يقربه الله تعالى فلن تجد له خاذلا. وفي الإتيان بكلمة - لن - وتوجيه الخطاب إلى كل واحد يصلح له وتوحيد النصير منكرا والتعبير عن عدمه بعدم الوجدان المؤذن بسبق الطلب مسندا إلى المخاطب العام من الدلالة على حرمانهم الأبدي عن الظفر بما أملوا بالكلية ما لا يخفى، وإن اعتبرت المبالغة في - نصير - متوجهة للنفي كما قيل ذلك في قوله سبحانه: * (وما ربك بظلام) * (فصلت: 46) قوى أمر هذه الدلالة.
* (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) *.
* (أم لهم نصيب من الملك) * شروع في تفصيل بعض آخر من قبائحهم، و * (أم) * منقطعة فتقدر ببل، والهمزة أي بل آلهم، والمراد إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك، وجحد لما تدعيه اليهود من أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان. وعن الجبائي أن المراد بالملك ههنا النبوة أي ليس لهم نصيب من النبوة حتى يلزم الناس اتباعهم وإطاعتهم والأول أظهر لقوله تعالى شأنه * (فإذا لا يؤتون الناس) * أي أحدا أو الفقراء أو محمدا صلى الله عليه وسلم وأتباعه - كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما * (نقيرا) * أي شيئا قليلا، وأصله ما أشرنا إليه آنفا. وأخرج ابن جرير من طريق أبي العالية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هذا النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم نقرها. وحاصل المعنى على ما قيل: إنهم لا نصيب لهم من الملك لعدم استحقاقهم له بل لاستحقاقهم حرمانه بسبب أنهم لو أوتوا نصيبا منه لما أعطوا الناس أقل قليل منه، ومن حق من أوتي الملك الإيتاء وهم ليسوا كذلك، فالفاء في * (فإذا) * للسببية والجزائية لشرط محذوف هو أن حصل لهم نصيب لا لو كان لهم نصيب كما قدره الزمخشري لأن الفاء لا تقع في جواب لو سيما مع إذا والمضارع، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة والهمزة لإنكار المجموع من المعطوف والمعطوف عليه بمعنى أنه لا ينبغي أن يكون هذا الذي
56

وقع وهو أنهم قد أوتوا نصيبا من الملك حيث كانت لهم أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك ويعقبه منهم البخل بأقل قليل، وفائدة * (إذا) * زيادة الإنكار والتوبيخ حيث يجعلون ثبوت النصيب الذي هو سبب الإعطاء سببا للمنع، والفرق بين الوجهين أن الإنكار في الأول: متوجه إلى الجملة الأولى وهو بمعنى إنكار الوقوع. وفي
الثاني: متوجه لمجموع الأمرين وهو بمعنى إنكار الواقع، و (إذا) في الوجهين ملغاة، ويجوز إعمالها لأنه قد شرط في إعمالها الصدارة فإذا نظر إلى كونها في صدر جملتها أعملت، وإن نظر إلى العطف وكونها تابعة لغيرها أهملت، ولذا قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم - فإذا لا يؤتوا الناس - بالنصب على الإعمال.
* (أم يحسدون الناس على مآ ءات‍اهم الله من فضله فقد ءاتينآ ءال إبراهيم الكت‍ابوالحكمة وءاتين‍اهم ملكا عظيما) *.
* (أم يحسدون الناس) * انتقال من توبيخهم بالبخل إلى توبيخهم بالحسد الذي هو من أقبح الرذائل المهلكة من اتصف بها دنيا وأخرى، وذكره بعده من باب الترقي، و * (أم) * منقطعة والهمزة المقدرة بعدها لإنكار الواقع، والمراد من الناس سيدهم بل سيد الخليقة على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم هذا ذهب عكرمة ومجاهد والضحاك وأبو مالك وعطية، وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " قال أهل الكتاب: زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة وليس همه إلا النكاح فأي ملك أفضل من هذا فأنزل الله تعالى هذه الآية ". وذهب قتادة والحسن وابن جريج إلى أن المراد بهم العرب، وعن أبي جعفر وأبي عبد الله أنهم النبي وآله عليه وعليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام، وقيل: المراد بهم جميع الناس الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم من الأسود والأحمر أي بل أيحسدونهم * (على ما ءات‍اهم الله من فضله) * يعني النبوة وإباحة تسع نسوة أو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم منهم ونزول القرآن بلسانهم أو جمعهم كمالات تقصر عنها الأماني، أو تهيئة سبب رشادهم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، والحسد على هذا مجاز لأن اليهود لما نازعوه في نبوته صلى الله عليه وسلم التي هي إرشاد لجميع الناس فكأنما حسدوهم جمع * (فقد ءاتينا) * تعليل للإنكار والاستقباح وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر، والفاء كما قيل: فصيحة أي أن يحسدوا الناس على ما أوتوا فقد أخطأوا إذ ليس الإيتاء ببدع منا لأنا قد آتينا من قبل هذا * (ءال إبراهيم الكت‍اب) * أي جنسه والمراد به التوراة والإنجيل أو هما والزبور * (والحكمة) * أي النبوة، أو إتقان العلم والعمل، أو الأسرار المودعة في الكتاب أقوال * (وءاتيناهم) * مع ذلك * (ملكا عظيما) * لا يقادر قدره، وجوز أن يكون المعنى أنهم لا ينتفعون بهذا الحسد فإنا قد آتينا هؤلاء ما آتينا مع كثرة الحساد الجبابرة من نمروذ. وفرعون. وغيرهما فلم ينتفع الحاسد ولم يتضرر المحسود، وأن يراد أن حسدهم هذا في غاية القبح والبطلان فإنا قد آتينا من قبل أسلاف هذا النبي المحسود صلى الله عليه وسلم وأبناء عمه ما آتيناهم فكيف يستبعدون نبوته عليه الصلاة والسلام ويحسدونه على إيتائها وتكرير الإيتاء لما يقتضيه مقام التفصيل مع الإشعار بما بين الملك وما قبله من المغايرة، والمراد من الإيتاء إما الإيتاء بالذات وإما ما هو أعم منه ومن الإيتاء بالواسطة، وعلى الأول: فالمراد من آل إبراهيم أنبياء ذريته، ومن الضمير الراجع إليهم من * (آتيناهم) * بعضهم، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، وخصه السدي بما أحل لداود. وسليمان من النساء فقد كان للأول تسع وتسعون امرأة ولولده ثلثمائة امرأة ومثلها سرية " وعن محمد بن كعب قال: " بلغني أنه كان لسليمان عليه السلام
57

ثلثمائة امرأة وسبعمائة سرية "، وعلى الثاني: فالمراد بهم ذريته كلها فإن تشريف البعض بما ذكر تشريف (للكل لاغتنامهم بآثار ذلك واقتباسهم من أنوار). ومن الناس من فسر الحكمة بالعلم والملك العظيم بالنبوة، ونسب ذلك إلى الحسن ومجاهد، ولا يخفى أن إطلاق الملك العظيم على النبوة في غاية البعد والحمل على المتبادر أولى..
* (فمنهم من ءامن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) *.
* (فمنهم) * أي من جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم * (من ءامن به) * أي بما أوتي آل إبراهيم * (ومنهم من صد) * أي أعرض * (عنه) * ولم يؤمن به وهذا في رأي حكاية لما صدر عن أسلافهم عقيب وقوع المحكي من غير أن يكون له دخل في الإلزام، وقيل: له دخل في ذلك ببيان أن الحسد لو لم يكن قبيحا لأجمع عليه أسلافهم فلم يؤمن منهم أحد كما أجمعوهم عليه فلم يؤمن أحد منهم، وليس بشيء، وقيل: معناه فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من كفر، ولم يكن في ذلك توهين أمره فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك فضمير * (به) * و * (عنه) * على هذا لإبراهيم، وفيه تسلية له عليه الصلاة والسلام ورجوع الضميرين لمحمد صلى الله عليه وسلم وجعل الكلام متفرعا على قوله تعالى: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) * (النساء: 47) أو على قوله سبحانه: * (ألم تر إلى الذين) * الخ في غاية البعد، وكذا جعل الضميرين لما ذكر من حديث آل إبراهيم * (وكفى بجهنم سعيرا) * أي نارا مسعرة موقدة إيقادا شديدا أي إن انصرف عنهم بعض العذاب في الدنيا فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم في العقبى..
* (إن الذين كفروا بااي‍اتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلن‍اهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما) *.
* (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا) * استئناف وقع كالبيان والتقرير لما قبله، والمراد بالموصول إما الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وإما ما يعمهم وغيرهم ممن كفر بسائر الأنبياء عليهم السلام، ويدخل أولئك دخولا أوليا، وعلى الأول: فالمراد بالآيات إما القرآن أو ما يعم كله وبعضه، أو ما يعم سائر معجزاته عليه الصلاة والسلام، وعلى الثاني: فالمراد بها ما يعم المذكورات وسائر الشواهد التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على مدعاهم، و * (سوف) * كما قال سيبويه: كلمة تذكر للتهديد والوعيد، وتنوب عنها السين كما في قوله تعالى: * (سأصليه سقر) * (المدثر: 26) وقد تذكر للوعد كما في قوله سبحانه: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * (الضحى: 5) و * (سوف أستغفر لكم ربي) * (يوسف: 98)؛ وكثيرا ما تفيد هي والسين توكيد الوعيد، وتنكير * (نارا) * للتفخيم أي: يدخلون ولا بد نارا هائلة
* (كلما نضجت جلودهم) * أي احترقت وتهرت وتلاشت، من نضج الثمر واللحم نضجا ونضجا إذا أدرك، و * (كلما) * ظرف زمان والعامل فيه * (بدلن‍اهم
جلودا غيرها) * أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدا جديدا مغايرا للمحترق صورة وإن كانت مادته الأصلية موجودة بأن يزال عنه الإحراق فلا يرد أن الجلد الثاني لم يعص فكيف يعذب؟ وذلك لأنه هو العاصي باعتبار أصله فإنه لم يبدل إلا صفته، وعندي أن هذا السؤال مما لا يكاد يسأله عاقل فضلا عن فاضل، وذلك لأن عصيان الجلد وطاعته وتألمه وتلذذه غير معقول لأنه من حيث ذاته لا فرق بينه وبين سائر الجمادات من جهة عدم الإدراك والشعور وهو أشبه الأشياء بالآلة فيد قاتل النفس ظلما مثلا آلة له كالسيف الذي قتل به ولا فرق بينهما إلا بأن اليد حاملة للروح، والسيف ليس كذلك، وهذا لا يصلح وحده سببا لإعادة اليد بذاتها وإحراقها دون إعادة السيف وإحراقه لأن ذلك
58

الحمل غير اختياري، فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت وفي أي جلد كانت وكذا يقال في النعيم، ويؤيد هذا أن من أهل النار من يملأ زاوية من زوايا جهنم وأن سن الجهنمي كجبل أحد، وأن أهل الجنة يدخلونها على طول آدم عليه السلام ستين ذراعا في عرض سبعة أذرع، ولا شك أن الفريقين لم يباشروا الشر والخير بتلك الأجسام بل من أنصف رأى أن أجزاء الأبدان في الدنيا لا تبقى على كميتها كهولة وشيوخة وكون الماهية واحدة لا يفيد لأنا لم ندع فيما نحن فيه أن الجلد الثاني يغاير الأول كمغايرة العرض للجوهر أو الإنسان للحجر بل كمغايرة زيد المطيع لعمرو العاصي مثلا على أنه لو قيل: إن الكافر يعذب أولا: ببدن من حديد تحله الروح، وثانيا: ببدن من غيره كذلك لم يسغ لأحد أن يقول: إن الحديد لم يعص فكيف أحرق بالنار ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجسماني بحيث صار إنكاره كفرا لم يبعد عقلا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط. ولما توقف الأمر عقلا على إثبات الأجسام أصلا، ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم معاذ الله تعالى، ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت، والنصوص في هذا الباب متعارضة، فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها، ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى، ولا أرى بأسا بعد القول بالمعاد الجسماني في اعتقاد أي الأمرين كان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في الآيات التي يدل ظاهرها على إعادة العين مثل قوله سبحانه: * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) * (النور: 24) وما في " شرح البخاري " للسفيري - من أنه لا تزال الخصومة بين الناس حتى تختصم الروح والجسد يوم القيامة، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت وأني كنت ريحا ولولاك لم أستطع أن أعمل شيئا، ويقول الجسد للروح: أنت أمرت وأنت سولت ولولاك لكنت بمنزلة الجذع الملقى لا أحرك يدا ولا رجلا، فيبعث الله تعالى ملكا يقضي بينهما فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستانا فقال المقعد للضرير: إني أرى ههنا ثمارا لكن لا أصل إليها فقال له الضرير: اركبني فتناولها فأيهما المتعدي؟ فيقولان كلاهما فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما - لا أراه صحيحا لظهور الفرق بين المثال والممثل له فإن الحامل فيما نحن فيه لا اختيار له ولا شعور بوجه من الوجوه اللهم إلا أن يكون هناك شعور لكن لا شعور لنا به " ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لتحقيق هذا المقام، ثم إن هذا التبديل كيفما كان يكون في الساعة الواحدة مرات كثيرة. فقد أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في " الحلية " عن ابن عمر قال: " قرىء عند عمر هذه الآية فقال كعب: عندي تفسيرها قرأتها قبل الإسلام فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها سمعت كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك قال: إني قرأتها قبل (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة) فقال عمر: هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن قال: " بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة كلما نضجتهم النار وأكلت لحومهم قيل لهم: عودوا فعادوا ".
* (ليذوقوا العذاب) * أي ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: أعزك الله والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرا أو على سرايته للباطن، ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن
59

النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق قاله مولانا شيخ الإسلام، وقيل: السر في ذلك أن في النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن، وأنكر بعضهم نضج الجلود بالمعنى المتبادر وتبديلها زاعما أن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها الله سبحانه بقوله: * (سرابيلهم من قطران) * (إبراهيم: 50) وسميت السرابيل جلودا للمجاورة، وفيه أنه ترك للظاهر، ويوشك أن يكون خلاف المعلوم ضرورة، وأن السرابيل لا توصف بالنضج وكأنه ما دعاه إلى هذا الزعم سوى استبعاد القول بالظاهر، وليس هو بالبعيد عن قدرة الله سبحانه وتعالى * (إن الله كان عزيزا) * أي لم يزل منيعا لا يدافع ولا يمانع، وقيل: إنه قادر لا يمتنع عليه ما يريده مما تواعد أو وعد به * (حكيما) * في تدبيره وتقديره وتعذيب من يعذبه؛ والجملة تعليل لما قبلها من الإصلاء والتبديل وإظهار الاسم الجليل لتعليل الحكم مع ما مر مرارا..
* (والذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات سندخلهم جن‍ات تجرى من تحتها الانه‍ار خ‍الدين فيهآ أبدا لهم فيهآ أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا) *.
* (والذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات) * عقب بيان سوء حال الكفرة ببيان حسن حال المؤمنين تكميلا للمساءة والمسرة، وقدم بيان حال الأولين لأن الكلام فيهم، والمراد بالموصول إما المؤمنون بنبينا صلى الله عليه وسلم، وإما ما يعمهم وسائر من آمن من أمم الأنبياء عليهم السلام أي إن الذين آمنوا بما يجب الإيمان به وعملوا الأعمال الحسنة * (سندخلهم جن‍ات تجري من تحتها الأنه‍ار) * قرأ عبد الله - سيدخلهم - بالياء والضمير للاسم الجليل، وفي السين تأكيد للوعد، وفي اختيارها هنا واختيار * (سوف) * في آية الكفر ما لا يخفى.
* (خ‍الدين فيها أبدا) * إعظاما للمنة وهو حال مقدرة من الضمير المنصوب في * (سندخلهم) * وقوله تعالى: * (لهم فيها أزواج مطهرة) * أي من الحيض والنفاس وسائر المعايب والأدناس والأخلاق الدنيئة والطباع الرديئة لا يفعلن ما يوحش أزواجهن ولا يوجد فيهن ما ينفر عنهن، في محل النصب على أنه حال من (جنات
)، أو حال ثانية من الضمير المنصوب أو أنه صفة لجنات بعد صفة، أو في محل الرفع على أنه خبر للموصول بعد خبر. والمراد أزواج كثيرة كما تدل عليه الأخبار.
* (وندخلهم ظلا ظليلا) * أي فينانا لا وجوب فيه، ودائما لا تنسخه الشمس وسجسجا لا حر فيه ولا قر، رزقنا الله تعالى التفيؤ فيه برحمته إنه أرحم الراحمين، والمراد بذلك إما حقيقته ولا يمنع منه عدم الشمس وإما أنه إشارة إلى النعمة التامة الدائمة، والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل للتأكيد كما هو عادتهم في نحو - يوم أيوم، وليل أليل - وقال الإمام المرزوقي: إنه مجرد لفظ تابع لما اشتق منه وليس له معنى وضعي بل هو - كبسن - في قولك: حسن بسن، وقرىء * (يدخلهم) * بالياء عطف على * (سيدخلهم) * لا على أنه غير الإدخال الأول بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى: * (ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ) * (هود: 58). هذا ومن باب الإشارة: في الآيات * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) * خطاب لأهل الإيمان العلمي، ونهي لهم أن يناجوا ربهم أو يقربوا مقام الحضور والمناجاة مع الله سبحانه وتعالى في حال كونهم سكارى خمر الهوى ومحبة الدنيا، أو نوم الغفلة حتى يصحوا ولا يشتغلوا بغير مولاهم، والمقصود النهي عن إشغال القلب بسوى الرب، وقيل: إنه خطاب لأهل المحبة العشق الذين أسكرهم
60

شراب ليلى ومدام مي، فبقوا حيارى مبهوتين لا يميزون الحي من اللي ولا يعرفون الأوقات ولا يقدرون على أداء شرائط الصلوات فكأنهم قيل لهم: يا أيها العارفون بي وبصفاتي وأسمائي السكارى من شراب محبتي وسلسبيل أنسي وتسنيم قدمي وزنجبيل قربي ومدام عشقي وعقار مشاهدتي إذا كشفت لكم جمالي وآنستكم في مقام ربوبيتي فلا تكلفوا نفوسكم أداء الرسوم الظاهرة لأنكم في جنان مشاهدتي، وليس في الجنان تقييد، وإذا سكنتم من سكركم وصرتم صاحين بنعت التمكين فأدوا ما افترضته عليكم وقوموا لله قانتين وحاصله رفع التكليف عن المجذوبين الغارقين في بحار المشاهدة إلى أن يعقلوا ويصحوا، فالإيمان على هذا محمول على الإيمان العيني والمعنى الأول أولى بالإشارة * (ولا جنبا) * أي ولا تقربوا الصلاة في حال كونكم بعداء عن الحق لشدة الميل إلى النفس ولذاتها * (إلا عابري سبيل) * أي سالكي طريق من طرق تمتعاتها بقدر الضرورة كعبور طريق الاغتذاء بالمأكل والمشرب لسد الرمق أو الاكتساء لدفع ضرورة الحر والقر وستر العورة، أو المباشرة لحفظ النسل * (حتى تغتسلوا) * وتتطهروا بمياه التوبة والاستغفار وحسن التنصل والاعتذار * (وإن كنتم مرضى) * بأدواء الرذائل * (أو على سفر) * في بيداء الجهالة والحيرة لطلب الشهوات * (أو جاء أحد منكم من الغائط) * أي الاشتغال بلوث المال ملوثا محبته * (أو لامستم النساء) * أي لازمتم النفوس وباشرتموها في قضاء وطرها * (فلم تجدوا ماء) * علما يهديكم إلى التخلص عن ذلك * (فتيمموا صعيدا طيبا) * أي فاقصدوا صعيد استعدادكم أو ارجعوا إلى المرشدين أرباب الاستعداد * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) * أي امسحوا ذواتكم وصفاتكم بما يتصاعد من أنوار استعدادهم وتخلقوا بأخلاقهم واسلكوا مسالكهم حتى تمحى عنكم تلك الهيئات المهلكة وتبقى أنفسكم صافية * (إن الله كان عفوا) * يعفو عما صدر منكم بمقتضى تلك الهيئات * (غفورا) * (النساء: 43) يستر الشين بالزين * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا) * أي بعضا * (من الكتاب) * وهو اعترافهم بالحق مع احتجابهم برؤية الخلق * (يشترون الضلالة) * ويتركون التوحيد الحقيقي * (ويريدون) * مع ذلك * (أن تضلوا السبيل) * (النساء: 44) الحق وهو التوحيد الصرف وعدم رؤية الأغيار فتكونوا مثلهم * (والله أعلم بأعدائكم) * وعنى بهم أولئك الموصوفين بما ذكر، وسبب عداوتهم لهم اختلاف الأسماء الظاهرة فيهم ولهذا ودوا تكفيرهم * (وكفى بالله وليا) * يلي أموركم بالتوفيق لطريق التوحيد * (وكفى بالله نصيرا) * (النساء: 45) ينصركم على أعدائكم فلا يستطيعون إيذاءكم وردكم عما أنتم عليه من الحق * (من الذين هادوا) * رجعوا عن مقتضى الاستعداد من نفي السوي إلى ما سولت لهم أنفسهم واستنتجته أفكارهم وأيدته أنظارهم ودعت إليه علومهم الرسمية * (يحرفون الكلم عن مواضعه) * يحتمل أن يراد بالكلم معناها الظاهر أي أنهم يؤولون جميع ما يشعر ظاهره بالوحدة على حسب إرادتهم زاعمين أنه لا يمكن أن يكون غير ذلك مرادا لله تعالى لا قصدا ولا تبعا لا عبارة ولا إشارة، ويحتمل أن يراد بها هذه الممكنات فإنها كلم الله تعالى بمعنى الدوال عليه، أو كلمه بمعنى آثار كلمه أعني كن المتعددة حسب تعدد تعلقات الإرادة. ومعنى تحريفها عن مواضعها إمالتها عما وضعها الله تعالى فيه من كونها مظاهر أسمائه فيثبتون لها وجودا غير وجود الله تعالى: * (ويقولون سمعنا) * ما يشعر بالوحدة أو سمعنا ما يقال في هذه الممكنات * (وعصينا) * فلا نقول بما تقولون ولا نعتقد ما تعتقدون * (و) * يقولون أيضا في أثناء مخاطبتهم للعارف مستخفين مستهزئين به * (اسمع) * ما يعارض ما تدعيه * (غير مسمع) * أي لا أسمعك الله * (وراعنا) * يعنون رميه بالرعونة وهي الحماقة * (ليا بألسنتهم وطعنا في الدين) * (النساء: 46) الذي عليه العارف بربه * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) * أي فهموا عليه الظاهر ولم يفهموا ما أشار إليه
61

من علم الباطن * (آمنوا بما نزلنا) * على قلوب أوليائي من العلم اللدني * (مصدقا لما معكم) * من علم الظاهر إذ كل باطن يخالف الظاهر فهو باطل * (من قبل أن نطمس وجوها) * وهي وجوه القلوب بالعمى * (فنردها على أدبارها) * ناظرة إلى الدنيا وزخارفها بعد أن كانت في أصل الفطرة متوجهة إلى ما في الميثاق الأول * (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) * (النساء: 47) فنمسخ صورهم المعنوية كما مسخنا صور اليهود الحسية، ويحتمل أن يكون هذا خطابا لمن أوتي كتاب الاستعداد أمرهم بالإيمان الحقيقي وهددهم بإزالة استعدادهم وردهم إلى أسفل سافلين، وإبعادهم بالمسخ * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * إلا بالتوبة عنه لشدة غيرته " لا أحد أغير من الله " * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * أن يغفر له تاب أو لم يتب، وقد ذكروا أن الشرك ثلاث مراتب ولكل مرتبة توبة: فشرك جلي بالأعيان وهو للعوام كعبدة الأصنام والكواكب مثلا، وتوبته إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقا بالسر والعلانية، وشرك خفي بالأوصاف - وهو للخواص وفسر بشوب العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية - وتوبته الالتفات عن ذلك الالتفات - وشرك أخفى لخواص الخواص وهو الأنانية - وتوبته بالوحدة - وهي فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية * (ومن يشرك بالله) * أي شرك كان من هذه المراتب * (فقد افترى) * وارتكب حسب مرتبته * (إثما عظيما) * (النساء: 48) لا يقدر قدره * (ألم تر إلى
الذين يزكون أنفسهم) * كعلماء السوء من أهل الظاهر الذين لم يحصلوا من علومهم سوى العجب والكبر والحسد والحقد وسائر الصفات الرذيلة * (بل الله يزكي من يشاء) * (النساء: 49) كالعارفين به الذين لا يرون لأنفسهم فعلا، ويحتمل أن يكون هذا تعجيبا ممن يزكي نفسه بنفسه ويسلك في مسالك القوم على رأيه غير معتمد على مرب مرشد له من ولي كامل أو أثارة من علم إلهي كبعض المتفلسفين من أهل الرياضات * (أنظر كيف يفترون على الله الكذب) * بادعاء تزكية نفوسهم من صفاتها وما تزكت أو بانتحال صفات الله تعالى إلى أنفسهم مع وجودها * (وكفى به إثما مبينا) * (النساء: 50) ظاهرا لا خفاء فيه * (ألم تر إلى الذين أتوا نصيبا) * بعضا * (من الكتاب) * الجامع، وأشير به إلى علم الظاهر * (يؤمنون بالجبت) * أي بجبت النفس * (والطاغوت) * أي طاغوت الهوى فيميلون مع أنفسهم وهواهم * (ويقولون للذين كفروا) * أي لأجل الذين ستروا الحق * (هؤلاء أهدى من الذين آمنوا) * الإيمان الحقيقي * (سبيلا) * (النساء: 51) * (أولئك الذي لعنهم الله) * أي أبعدهم عن معرفته وقربه * (ومن يلعن) * أي يبعده * (الله) * عن ذلك * (فلن تجد له نصيرا) * (النساء: 52) يهديه إلى الحق * (أم لهم نصيب من الملك فاذا لا يؤتون الناس نقيرا) * (النساء: 53) ذم لهم بالبخل الذي هو الوصمة الكبرى عند أهل الله تعالى * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) * من المعرفة وإعزازهم بين خلقه وإرشادهم لمن استرشدهم * (فقد آتينا آل إبراهيم) * وهم المتبعون له على ملته من أهل المحبة والخلة * (الكتاب) * أي علم الظاهر أو الجامع له ولعلم الباطن * (والحكمة) * علم الباطن أو باطن الباطن * (وآتيناهم ملكا عظيما) * (النساء: 54) وهو الوصول إلى العين وعدم الوقوف عند الأثر * (إن الذين كفروا بآياتنا) * أي حجبوا عن تجليات صفاتنا وأفعالنا أو أنكروا على أوليائنا الذين هم مظاهر الآيات * (سوف نصليهم نارا) * عظيمة وهي نار القهر والحجاب، أو نار الحسد * (كلما نضجت جلودهم) * وتقطعت أماني نفوسهم الأمارة ومقتضيات هواها * (بدلناهم جلودا غيرها) * بتجدد نوع آخر من أنواع تجليات القهر أو بتجدد نعم أخرى تظهر على أوليائنا الذين حسدوهم وأنكروا عليهم * (ليذوقوا العذاب) * (النساء: 56) ما داموا منغمسين في أوحال الرذائل * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) * أي الأعمال التي يصلحون بها لقبول التجليات * (سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار) * من ماء الحكمة ولبن الفطرة وخمر الشهود وعسل الكشف * (خالدين فيها أبدا) * لبقاء أرواحهم
62

المفاضة عليها ما يروحها * (لهم فيها أزواج) * من التجليات التي يلتذون بها * (مطهرة) * من لوث النقص * (وندخلهم ظلا ظليلا) * (النساء: 57) وهو ظل الوجود والصفات الإلهية وذلك بمحو البشرية عنهم، نسأل الله تعالى من فضله فلا فضل إلا فضله، ثم إنه سبحانه وتعالى أرشد المؤمنين بأبلغ وجه إلى بعض أمهات الأعمال الصالحة [بم فقال عز من قائل:
* (إن الله يأمركم أن تؤدوا الاحم‍ان‍ات إلىأهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) *.
* (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأم‍ان‍ات إلى أهلها) * أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن أبي طلحة فلما أتاه قال: أرني المفتاح فأتاه به فلما بسط يده إليه قام العباس فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجعله لي مع السقاية فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني المفتاح يا عثمان فبسط يده يعطيه، فقال العباس مثل كلمته الأولى فكف عثمان يده، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح، فقال: هاك بأمانة الله تعالى فقام ففتح الكعبة فوجد فيها تمثال إبراهيم عليه السلام معه قداح يستقسم بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما للمشركين قاتلهم الله تعالى وما شأن إبراهيم عليه السلام وشأن القداح وأزال ذلك، وأخرج مقام إبراهيم عليه السلام وكان في الكعبة؛ ثم قال: أيها الناس هذه القبلة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل عليه السلام - فيما ذكر لنا - برد المفتاح فدعا عثمان بن أبي طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال: * (إن الله يأمركم) * " الآية.
وفي رواية الطبراني " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أعطى المفتاح: خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم " يعني سدانة الكعبة، وفي " تفسير ابن كثير " " أن عثمان دفع المفتاح بعد ذلك إلى أخيه شيبة بن أبي طلحة فهو في يد ولده إلى اليوم "، وذكر الثعلبي والبغوي والواحدي " أن عثمان امتنع عن إعطاء المفتاح للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي كرم الله تعالى وجهه يده وأخذه منه فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يجمع له السدانة والسقاية فنزلت فأمر عليا كرم الله تعالى وجهه أن يرد ويعتذر إليه وصار ذلك سببا لإسلامه ونزول الوحي بأن السدانة في أولاده أبدا " وما ذكرناه أولى بالاعتبار. أما أولا: فلما قال الأشموني: إن المعروف عند أهل السير أن عثمان بن طلحة أسلم قبل ذلك في هدنة الحديبية مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص - كما ذكره ابن إسحق وغيره وجزم به ابن عبد البر في " الاستيعاب ". والنووي في " تهذيبه ". والذهبي وغيرهم، وأما ثانيا: فلما فيه من المخالفة لما ذكره ابن كثير، وقد نصوا على أنه هو الصحيح، وأما ثالثا: فلأن المفتاح على هذا لا يعد أمانة لأن عليا كرم الله تعالى وجهه أخذه منه قهرا وما هذا شأنه هو الغصب لا الأمانة، والقول - بأن تسمية ذلك أمانة لأن الله تعالى لم يرد نزعه منه، أو للإشارة إلى أن الغاصب يجب أن يكون كالمؤتمن في قصد الرد، أو إلى أن عليا كرم الله تعالى وجهه لما قصد بأخذه الخير وكان أيضا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم جعل كالمؤتمن في أنه لا ذنب عليه لا يخلو عن بعد، وأيا ما كان فالخطاب يعم كل أحد - كما أن الأمانات، وهي جمع أمانة مصدر سمي به المفعول - تعم الحقوق المتعلقة بذممهم من حقوق الله تعالى وحقوق العباد سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية، وعموم الحكم لا ينافي خصوص السبب، وقد روي ما يدل على العموم عن ابن عباس. وأبي. وابن مسعود. والبراء بن عازب وأبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وإليه ذهب الأكثرون، وعن زيد بن أسلم - واختاره الجبائي وغيره
63

أن هذا خطاب لولاة الأمر أن يقوموا برعاية الرعية وحملهم على موجب الدين والشريعة، وعدوا من ذلك تولية المناصب مستحقيها، وجعلوا الخطاب الآتي لهم أيضا،
وفي تصدير الكلام - بإن - الدالة على التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه، ولهذا ورد من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا إيمان لمن لا أمانة له ". وأخرج البيهقي في " الشعب " عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أربع إذا كن فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة طعمة ". وأخرج عن ميمون بن مهران " ثلاث تؤدين إلى البر والفاجر: الرحم توصل برة كانت أو فاجرة والأمانة تؤدى إلى البر والفاجر والعهد يوفى به للبر والفاجر "، وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان " والأخبار في ذلك كثيرة، وقرىء - الأمانة - بالإفراد والمراد الجنس لا المعهود أي يأمركم بأداء أي أمانة كانت.
* (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) * أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم، فالواو للعطف، والظرف متعلق بما بعد أن وهو معطوف على * (أن تؤدوا) * والجار متعلق به أو بمقدر وقع حالا من فاعله أي: ويأمركم أن تحكموا بالإنصاف والسوية، أو متلبسين بذلك إذا قضيتم بين الناس ممن ينفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم، وهذا مبني على مذهب من يرى جواز تقدم الظرف المعمول لما في حيز الموصول الحرفي عليه، والفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وفي " التسهيل " الفصل بين العاطف والمعطوف إذا لم يكن فعلا بالظرف والجار والمجرور جائز وليس ضرورة خلافا لأبي علي، ولقيام الخلاف في المسألة ذهب أبو حيان إلى أن الظرف متعلق بمقدر يفسره المذكور أي - وأن تحكموا إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا - ليسلم مما تقدم، ولا يجوز تعلقه بما قبله لعدم استقامة المعنى لأن تأدية الأمانة ليست وقت الحكومة، والمراد بالحكم ما كان عن ولاية عامة أو خاصة، وأدخلوا في ذلك ما كان عن تحكيم.
وفي بعض الآثار أن صبيين ارتفعا إلى الحسن رضي الله تعالى عنه بن علي كرم الله تعالى وجهه في خط كتباه وحكماه في ذلك ليحكم أي الخطين أجود فبصر به علي كرم الله تعالى وجهه فقال: يا بني أنظر كيف تحكم فإن هذا حكم والله تعالى سائلك عنه يقوم القيامة.
* (إن الله نعما يعظكم به) * جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين وحسن استدعائهم إلى الامتثال وإظهار الاسم الأعظم لتربية المهابة وهو اسم * (إن) * وجملة * (نعما يعظكم) * خبرها، و (ما) إما بمعنى الشيء معرفة تامة، و * (يعظكم) * صفة موصوف محذوف وهو المخصوص بالمدح، أي نعم الشيء شيء يعظكم به، ويجوز - نعم هو أي الشيء شيئا يعظكم به - والمخصوص بالمدح محذوف، وإما بمعنى الذي وما بعدها صلتها وهو فاعل - نعم - والمخصوص محذوف أيضا، أي نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل - قاله أبو البقاء - ونظر فيه بأنه قد تقرر أن فاعل - نعم - إذا كان مظهرا لزم أن
64

يكون محلى بلام الجنس أو مضافا إليه كما في " المفصل "، وأجيب بأن سيبويه جوز قيام (ما) إذا كانت معرفة تامة مقامه، وابن السراج أيضا جوز قيام الموصولة لأنها في معنى المعرف باللام، واعترض القول بوقوع (ما) تمييزا بأنها مساوية للمضمر في الإبهام فلا تميزه لأن التمييز لبيان جنس المميز، وأجيب بمنع كونها مساوية له لأن المراد بها شيء عظيم، والضمير لا يدل على ذلك، ومن الغريب ما قيل: إن (ما) كافة فتدبر، وقد تقدم الكلام فيما في * (نعما) * من القراءات * (إن الله كان سميعا) * بجميع المسموعات ومنها أقوالكم * (بصيرا) * بكل شيء ومن ذلك أفعالكم، ففي الجملة وعد ووعيد، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه: سو بين الخصمين في لحظك ولفظك..
* (ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذالك خير وأحسن تأويلا) *.
* (ياأيها الذين آمنوا) * بعدما أمر سبحانه ولاة الأمور بالعموم أو الخصوص بأداء الأمانة والعدل في الحكومة أمر الناس بإطاعتهم في ضمن إطاعته عز وجل وإطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال عز من قائل: * (أطيعوا الله) * أي الزموا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه * (وأطيعوا الرسول) * المبعوث لتبليغ أحكامه إليكم في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه أيضا، وعن الكلبي أن المعنى: أطيعوا الله في الفرائض وأطيعوا الرسول في السنن، والأول أولى وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله تعالى اعتناءا بشأنه عليه الصلاة والسلام وقطعا لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن وإيذانا بأن له صلى الله عليه وسلم استقلالا بالطاعة لم يثبت لغيره، ومن ثم لم يعد في قوله سبحانه: * (وأولي الأمر منكم) * إيذانا بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم، واختلف في المراد بهم فقيل: أمراء المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده ويندرج فيهم الخلفاء والسلاطين والقضاة وغيرهم، وقيل: المراد بهم أمراء السرايا، وروي ذلك عن أبي هريرة وميمون بن مهران، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي، وأخرجه ابن عساكر عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في سرية، وفيها عمار بن ياسر فساروا قبل القوم الذين يريدون فلما بلغوا قريبا منهم عرسوا وأتاهم ذو العيينتين فأخبرهم فأصبحوا قد هربوا غير رجل أمر أهله فجمعوا متاعهم ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد يسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال: يا أيا اليقظان إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن قومي لما سمعوا بكم هربوا وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غدا وإلا هربت؟ فقال عمار: بل هو ينفعك فأقم فأقام فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل فأخذه وأخذ ماله فبلغ عمارا الخبر فأتى خالدا فقال: خل عن الرجال فإنه قد أسلم وهو في أمان مني، قال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير فاستبا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال خالد: يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يشتمني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خالد لا تسب عمارا فإن من سب عمارا سبه الله تعالى ومن أبغض عمارا أبغضه
الله تعالى ومن لعن عمارا لعنه الله تعالى فغضب عمار فقام فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي، فأنزل الله تعالى هذه الآية " ووجه التخصيص على هذا أن في عدم إطاعتهم ولا سلطان ولا حاضرة مفسدة عظيمة، وقيل: المراد بهم أهل العلم، وروى ذلك غير واحد عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد والحسن وعطاء وجماعة، واستدل عليه أبو العالية بقوله تعالى: * (ولو ردوه
65

إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * (النساء: 83) فإن العلماء هم المستنبطون المستخرجون للأحكام، وحمله كثير - وليس ببعيد - على ما يعم الجميع لتناول الاسم لهم لأن للأمراء تدبير أمر الجيش والقتال، وللعلماء حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز. واستشكل إرادة العلماء لقوله تعالى: * (فإن تن‍ازعتم في شيء) * فإن الخطاب فيه عام للمؤمنين مطلقا والشيء خاص بأمر الدين بدليل ما بعده، والمعنى فإن تنازعتم أيها المؤمنون أنتم وأولو الأمر منكم في أمر من أمور الدين * (فردوه) * فراجعوا فيه * (إلى الله) * أي إلى كتابه * (والرسول) * أي إلى سنته، ولا شك أن هذا إنما يلائم حمل أولي الأمر على الأمراء دون العلماء لأن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء إذ المراد بهم المجتهدون والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم. وجعل بعضهم: الخطاب فيه لأولي الأمر على الالتفات ليصح إرادة العلماء لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضا مجادلة ومحاجة فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل، وقيل: على إرادة الأعم يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين وتكون المنازعة بينهم وبين أولي الأمر باعتبار بعض الأفراد وهم الأمراء، ثم إن وجوب الطاعة لهم ما داموا على الحق فلا يجب طاعتهم فيما خالف الشرع، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لبشر في معصية الله تعالى "، وأخرج هو وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي عنه أيضا كرم الله تعالى وجهه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا فجمعوا له حطبا قال: أوقدوا نارا فأوقدوا نارا قال: ألم يأمركم صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى قال: فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فسكن غضبه وطفئت النار فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا له ذلك فقال عليه الصلاة والسلام لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف ". وهل يشمل المباح أم لا؟ فيه خلاف، فقيل: إنه لا يجب طاعتهم فيه لأنه لا يجوز لأحد أن يحرم ما حلله الله تعالى ولا أن يحلل ما حرمه الله تعالى، وقيل: تجب أيضا كما نص عليه الحصكفي وغيره، وقال بعض محققي الشافعية: يجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يأمر بمحرم، وقال بعضهم: الذي يظهر أن ما أمر به مما ليس فيه مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهرا فقط بخلاف ما فيه ذلك فإنه يجب باطنا أيضا، وكذا يقال في المباح الذي فيه ضرر للمأمور به، ثم هل العبرة بالمباح والمندوب المأمور به باعتقاد الآمر فإذا أمر بمباح عنده سنة عند المأمور يجب امتثاله ظاهرا فقط أو المأمور فيجب باطنا أيضا وبالعكس فينعكس ذلك كل محتمل وظاهر إطلاقهم في مسألة أمر الإمام الناس بالصوم للاستسقاء الثاني لأنهم لم يفصلوا بين كون الصوم المأمور به هناك مندوبا عند الآمر أو لا، وأيد بما قرروه في باب الاقتداء من أن العبرة باعتقاد المأموم لا الإمام، ولم أقف على ما قاله أصحابنا في هذه المسألة فليراجع هذا، واستدل بالآية من أنكر القياس وذلك لأن الله تعالى أوجب الرد إلى الكتاب والسنة دون القياس، والحق أن الآية دليل على إثبات القياس بل هي متضمنة لجميع الأدلة الشرعية، فإن المراد بإطاعة الله العمل بالكتاب، وبإطاعة الرسول العمل بالسنة، وبالرد إليهما القياس
66

لأن رد المختلف فيه الغير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه، وليس القياس شيئا وراء ذلك، وقد علم من قوله سبحانه: * (فإن تنازعتم) * أنه عند عدم النزاع يعمل بما اتفق عليه وهو الإجماع.
* (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * متعلق بالأمر الأخير الوارد في محل النزاع إذ هو المحتاج إلى التحذير عن المخالفة، وجواب الشرط محذوف عند جمهور البصريين ثقة بدلالة المذكور عليه، والكلام على حد - إن كنت ابني فأطعني - فإن الإيمان بالله تعالى يوجب امتثال أمره، وكذا الإيمان باليوم الآخر لما فيه من العقاب على المخالفة * (ذالك) * أي الرد المأمور به العظيم الشأن ولو حمل - كما قيل - على جميع ما سبق على التفريع لحسن. وقال الطبرسي: " إنه إشارة إلى ما تقدم من الأوامر أي طاعة الله تعالى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر ورد المتنازع فيه إلى الله والرسول عليه الصلاة والسلام * (خير) * لكم وأصلح * (وأحسن) * أي أحمد في نفسه * (تأويلا) * أي عاقبة، قاله قتادة والسدي وابن زيد "، وأفعل التفضيل في الموضعين للإيذان بالكمال على خلاف الموضوع له، ووجه تقديم الأول على الثاني أن الأغلب تعلق أنظار الناس بما ينفعهم، وقيل: المراد: خير لكم في الدنيا وأحسن عاقبة في الآخرة "، ووجه التقديم عليه أظهر. " وعن الزجاج أن المراد: أحسن تأويلا من تأويلكم أنتم إياه من غير رد إلى أصل من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فالتأويل إما بمعنى الرجوع إلى المآل والعاقبة، وإما بمعنى بيان المراد من اللفظ الغير الظاهر منه، وكلاهما حقيقة، وإن غلب الثاني في العرف ولذا يقابل التفسير..
* (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الط‍اغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيط‍ان أن يضلهم ضل‍الا بعيدا) *.
* (ألم تر) * خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعجيب له عليه الصلاة والسلام أي ألم تنظر أو ألم ينته علمك. * (إلى الذين يزعمون) * من الزعم وهو كما في " القاموس " " مثلث القول: الحق والباطل والكذب ضد، وأكثر ما يقال فيما يشك فيه " ومن هنا قيل: إنه قول بلا دليل، وقد كثر استعماله بمعنى القول الحق، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " زعم جبريل " وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه " زعم رسولك " وقد أكثر سيبويه في الكتاب من قوله: زعم الخليل كذا - في أشياء يرتضيها - وفي " شرح مسلم للنووي " أن زعم في كل هذا بمعنى القول، والمراد به هنا مجرد الادعاء أي يدعون. * (أنهم ءامنوا بما أنزل
إليك) * أي القرآن. * (وما أنزل) * إلى موسى عليه السلام * (من قبلك) * وهو التوراة، ووصفوا بهذا الادعاء لتأكيد التعجيب وتشديد التوبيخ والاستقباح، وقرىء * (أنزل و * (أنزل) * بالبناء للفاعل.
* (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) * بيان لمحل التعجيب على قياس نظائره؛ أخرج الثعلبي وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " أن رجلا من المنافقين يقال له بشر: خاصم يهوديا فدعاه اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم إنهما احتكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال: تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب، فقال اليهودي لعمر رضي الله تعالى عنه: قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه، فقال للمنافق أكذلك؟ قال: نعم، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد ثم قال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فنزلت "، وفي بعض الروايات " وقال جبريل عليه السلام إن عمر فرق بين الحق والباطل وسماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاروق رضي الله تعالى عنه "، والطاغوت على هذا كعب
67

ابن الأشرف، وإطلاقه عليه حقيقة بناءا على أنه بمعنى كثير الطغيان، أو أنه علم لقب له - كالفاروق - لعمر رضي الله تعالى عنه، ولعله في مقابلة الطاغوت، وفي معناه كل من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله، ويحتمل أن يكون الطاغوت بمعنى الشيطان، وإطلاقه على الأخس بن الأشرف إما استعارة أو حقيقة، والتجوز في إسناد التحاكم إليه بالنسبة الإيقاعية بين الفعل ومفعوله بالواسطة، وقيل: إن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه فنقله عن الشيطان إليه على سبيل المجاز المرسل، وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس أيضا قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله تعالى فيهم الآية. وأخرج ابن جرير عن السدي كان أناس من يهود قريظة والنضير قد أسلموا ونافق بعضهم، وكانت بينهم خصومة في قتيل فأبى المنافقون منهم إلا التحاكم إلى أبي برزة فانطلقوا إليه فسألوه فقال: أعظموا اللقمة، فقالوا: لك عشرة أوساق فقال: لا بل مائة وسق، فأبوا أن يعطوه فوق العشرة، فأنزل الله تعالى فيهم ما تسمعون وعلى هذا ففي الآية من الإشارة إلى تفظيع التحاكم نفسه ما لا يخفى، وهو أيضا أنسب بوصف المنافقين بادعاء الإيمان بالتوراة، ويمكن حمل خبر الطبراني عليه بحمل المسلمين فيه على المنافقين ممن أسلم من قريظة والنضير.
* (وقد أمروا أن يكفروا به) * في موضع الحال من ضمير * (يريدون) * وفيه تأكيد للتعجيب كالوصف السابق، والضمير المجرور راجع إلى الطاغوت وهو ظاهر على تقدير أن يراد منه الشيطان وإلا فهو عائد إليه باعتبار الوصف لا الذات، أي أمروا أن يكفروا بمن هو كثير الطغيان أو شبيه بالشيطان، وقيل الضمير للتحاكم المفهوم من * (يتحاكموا) * وفيه بعد، وقرأ عباس بن المفضل بها، وقرىء بهن، والضمير أيضا للطاغوت لأنه يكون للواحد والجمع، وإذا أريد الثاني أنث باعتبار معنى الجماعة وقد تقدم * (ويريد الشيط‍ان أن يضلهم ضل‍الا بعيدا) * عطف على الجملة الحالية داخلة في حكم التعجيب، وفيها على بعض الاحتمالات وضع المظهر موضع المضمر على معنى: يريدون أن يتحاكموا إلى الشيطان وهو بصدد إرادة إضلالهم ولا يريدون أن يتحاكموا إليك وأنت بصدد إرادة هدايتهم، و * (ضلالا) * إما مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد على حد ما قيل في * (أنبتكم من الأرض نباتا) * (نوح: 17) وإما مؤكد لفعله المدلول عليه بالمذكور أي (فيضلون ضلالا)، ووصفه بالبعد الذي هو نعت موصوفه للمبالغة..
* (وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول رأيت المن‍افقين يصدون عنك صدودا) *.
* (وإذا قيل لهم) * أي لأولئك الزاعمين * (تعالوا إلى ما أنزل الله) * في القرآن من الأحكام * (وإلى الرسول) * المبعوث للحكم بذلك * (رأيت) * أي أبصرت أو علمت * (المن‍افقين) * وهم الزاعمون، والإظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق وذمهم به والإشعار بعلة الحكم أي رأيتهم لنفاقهم * (يصدون) * أي يعرضون * (عنك صدودا) * أي إعراضا أي إعراض فهو مصدر مؤكد لفعله وتنوينه للتفخيم، وقيل: هو اسم للمصدر الذي هو الصد وعزي إلى الخليل، والأظهر أنه مصدر لصد اللازم، والصد مصدر للمتعدي، ودعوى - أن يصدون هنا متعد حذف مفعوله أي يصدون المتحاكمين أي يمنعونهم - مما لا حاجة إليه، وهذه الجملة تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحا عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت، وقرأ الحسن * (تعالوا) * بضم اللام على أنه حذف لام الفعل اعتباطا كما قالوا: ما باليت به بالة وأصلها بالية كعافية، وكما قال الكسائي في آية: إن أصلها أيية كفاعلة فصارت اللام كاللام فضمت للواو، ومن ذلك قول أهل مكة: تعالى بكسر اللام للمرأة، وهي لغة مسموعة أثبتها ابن جني فلا عبرة بمن لحن (كابن هشام) الحمداني
68

فيها حيث يقول: أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا
(تعالى اقاسمك الهموم تعالى)
ولا حاجة إلى القول بأن - تعالى - الأولى: مفتوحة اللام، والثانية: مكسورتها للقافية كما لا يخفى، وأصل معنى هذا الفعل طلب الإقبال إلى مكان عال ثم عمم..
* (فكيف إذآ أص‍ابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جآءوك يحلفون بالله إن أردنآ إلا إحسانا وتوفيقا) *.
* (فكيف) * يكون حالهم * (إذا أص‍ابتهم) * نالتهم * (مصيبة) * نكبة تظهر نفاقهم * (بما قدمت أيديهم) * أي بسبب ما عملوا من الجنايات كالتحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك * (ثم جاءوك) * للاعتذار وهو عطف على * (أصابتهم) * والمراد تهويل ما (دهاهم)، وقيل: على * (يصدون) * (النساء: 61) وما بينهما اعتراض * (يحلفون) * حال من فاعل * (جاءوك) * أي حالفين لك * (بالله إن أردنا) * أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك * (إلا إحس‍انا) * إلى
الخصوم * (وتوفيقا) * بينهم ولم نرد بالمرافعة إلى غيرك عدم الرضا بحكمك فلا تؤاخذنا بما فعلنا، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم، ويعتذرون ولا يغني عنهم الاعتذار، وقيل: جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه وقالوا: إن أردنا بالتحاكم إلى عمر رضي الله تعالى عنه إلا أن يحسن إلى صاحبنا ويوفق بينه وبين خصمه - فإذا - على هذا لمرجد الظرفية دون الاستقبال. وقيل: المعني بالآية عبد الله بن أبي والمصيبة ما أصابه وأصحابه من الذل برجوعهم من غزوة بني المصطلق - وهي غزوة مريسيع - حين نزلت سورة المنافقين فاضطروا إلى الخشوع والاعتذار على ما سيذكر في محله إن شاء الله تعالى. وقالوا: ما أردنا بالكلام بين الفريقين المتنازعين في تلك الغزوة إلا الخير، أو مصيبة الموت لما تضرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإقالة والاستغفار واستوهبه ثوبه ليتقي به النار.
* (أول‍ائك الذين يعلم الله ما فى قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم فىأنفسهم قولا بليغا) *.
* (أولئك) * أي المنافقون المذكورون * (الذين يعلم الله ما في قلوبهم) * من فنون الشرور المنافية لما أظهروا لك من (بنات غير وجاءوا به من أذنى عناق) * (فأعرض) * حيث كانت حالهم كذلك * (عنهم) * أي قبول عذرهم، ويلزم ذلك الإعراض عن طلبهم دم القتيل لأنه هدر، وقيل: عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم، ولا تظهر لهم علمك بما في بواطنهم الخبيثة حتى يبقوا على نيران الوجل * (وعظهم) * بلسانك وكفهم عن النفاق * (وقل لهم في أنفسهم) * أي قل لهم خاليا لا يكون معهم أحد لأنه أدعى إلى قبول النصيحة، ولذا قيل: النصح بين الملأ تقريع، أو قل لهم في شأن أنفسهم ومعناها * (قولا بليغا) * مؤثرا واصلا إلى كنه المراد مطابقا لما سيق له من المقصود فالظرف على التقديرين متعلق بالأمر. وقيل: متعلق ب * (بليغا) * وهو ظاهر على مذهب الكوفيين، والبصريون لا يجيزون ذلك لأن معمول الصفة عندهم لا يتقدم على الموصوف لأن المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقدم عامله، وقيل: إنه إنما يصح إذا كان ظرفا وقواه البعض، وقيل: إنه متعلق بمحذوف يفسره المذكور - وفيه بعد - والمعنى على تقدير التعلق: قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا فيها يغتمون به اغتماما، ويستشعرون منه الخوف استشعارا، وهو التوعد بالقتل والاستئصال، والإيذان بأن ما انطوت عليه قلوبهم الخبيثة من الشر والنفاق بمرأى من الله تعالى ومسمع - غير خاف عليه سبحانه - وإن ذلك مستوجب (لما تشيب منه النواصي، وإنما هذه المكافة) والتأخير لإظهارهم الإيمان وإضمارهم الكفر، ولئن أظهروا الشقاق وبرزوا بأشخاصهم من نفق النفاق (لتسامرنهم السمر والبيض، وليضيقن عليهم رحب الفلا بالبلاء العريض)، واستدل بالآية الأولى على أنه قد تصيب المصيبة بما يكتسبه العبد
69

من الذنوب، ثم اختلف في ذلك فقال الجبائي: لا يكون ذلك إلا عقوبة في التائب، وقال أبو هاشم: يكون ذلك لطفا. وقال القاضي عبد الجبار: قد يكون لطفا وقد يكون جزاءا وهو موقوف على الدليل.
* (ومآ أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) *.
* (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) * تمهيد لبيان خطئهم باشتغالهم بستر نار جنايتهم بهشيم اعتذارهم الباطل وعدم إطفائها بماء التوبة أي وما أرسلنا رسولا من الرسل لشيء من الأشياء إلا ليطاع بسبب إذنه تعالى وأمره المرسل إليهم أن يطيعوه لأنه مؤد عنه عز شأنه فطاعته طاعته ومعصيته معصيته أو بتيسيره وتوفيقه سبحانه في طاعته، ولا يخفى ما في العدول عن الضمير إلى الإسم الجليل، واحتج المعتزلة بالآية على أن الله تعالى لا يريد إلا الخير والشر على خلاف إرادته، وأجاب عن ذلك صاحب " التيسير " بأن المعنى إلا ليطيعه من أذن له في الطاعة وأرادها منه، وأما من لم يأذن له فيريد عدم طاعته فلذا لا يطيعه ويكون كافرا، أو بأن المراد إلزام الطاعة أي وما أرسلنا رسولا إلا لإلزام طاعته الناس ليثاب من انقاد ويعاقب من سلك طريق العناد فلا تنتهض دعواهم الاحتجاج بها على مدعاهم، واحتج بها أيضا من أثبت الغرض في أفعاله تعالى وهو ظاهر، ولا يمكن تأويل ذلك بكونه غاية لا غرضا لأن طاعة الجميع لا تترتب على الإرسال إلا أن يقال إن الغاية كونه مطاعا بالإذن لا للكل إذ من لا إذن له لا يطيع، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة.
* (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) * وعرضوها للبوار بالنفاق والتحاكم إلى الطاغوت * (جاءوك) * على إثر ظلمهم بلا ريث متوسلين بك تائبين عن جنايتهم غير جامعين - حشفا وسوء كيلة - باعتذارهم الباطل وأيمانهم الفاجرة * (فاستغفروا الله) * لذنوبهم ونزعوا عما هم عليه وندموا على ما فعلوا. واستغفر لهم الرسول) * وسأل الله تعالى أن يقبل توبتهم ويغفر ذنوبهم، وفي التعبير - باستغفر - الخ دون استغفرت تفخيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عدل عن خطابه إلى ما هو من عظيم صفاته على طريق حكم الأمير بكذا مكان حكمت، وتعظيم لاستغفاره عليه الصلاة والسلام حيث أسنده إلى لفظ منبيء عن علو مرتبته * (لوجدوا الله توابا رحيما) * أي لعلموه قابلا لتوبتهم متفضلا عليهم بالتجاوز عما سلف من ذنوبهم، ومن فسر - الوجدان - بالمصادفة كان الوصف الأول: حال والثاني: بدلا منه أو حالا من الضمير فيه أو مثله، وفي وضع الاسم الجامع موضع الضمير إيذان بفخامة القبول والرحمة..
* (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فىأنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) *.
* (فلا وربك) * أي - فوربك - و (لا) مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد النفي في جوابه أعني قوله تعالى: * (لا يؤمنون) * لأنها تزاد في الإثبات أيضا كقوله تعالى: * (فلا أقسم بمواقع النجوم) * (الواقعة: 75) وهذا ما اختاره الزمخشري ومتابعوه في (لا) التي تذكر قبل القسم، وقيل: إنها رد لمقدر أي لا يكون الأمر كما زعمتم واختاره الطبرسي، وقيل: مزيدة لتأكيد النفي في الجواب ولتأكيد القسم إن لم يكن نفي، وقال ابن المنير: الظاهر عندي أنها ههنا لتوطئة النفي المقسم عليه، والزمخشري لم يذكر مانعا من ذلك سوى مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات وهو لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة على أنها لم ترد في القرآن إلا مع صريح فعل القسم ومع القسم بغير الله تعالى مثل * (لا أقسم بهذا البلد) * (البلد: 1) * (لا أقسم بيوم القيامة) * (القيامة: 1) * (فلا أقسم بالشفق) * (الانشقاق: 16) قصدا إلى تأكيد القسم
70

وتعظيم المقسم به إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له فكأنه بدخولها يقول إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها - كلا إعظام - يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك، وهو لا يحسن في القسم بالله تعالى إذ لا توهم ليزاح، ولم تسمع زيادتها مع القسم بالله إلا إذا كان الجواب منفيا فدل ذلك على أنها معه زائدة موطئة للنفي الواقع في الجواب، ولا تكاد تجدها في غير الكتاب العزيز داخلة على قسم مثبت وإنما كثر دخولها على القسم وجوابه نفي كقوله: (فلا وأبيك) ابنة العامري * (لا يدعي) القوم أني أفر
وقوله: ألا نادت أمامة (بارتحال * لتحزنني (فلا بك) ما أبالي
وقوله: رأى برقا فأوضع فوق بكر * (فلا بك ما أسال ولا أغاما)
إلى ما لا يحصى كثرة، ومن هذا يعلم الفرق بين المقامين؛ والجواب عن قولهم: " إنه لا فرق بينهما فتأمل ذلك فهو حقيق بالتأمل ".
* (حتى يحكموك) * أي يجعلوك حكما أو حاكما، وقال شيخ الإسلام: " يتحاكموا إليك ويترافعوا، وإنما جيء بصيغة التحكيم مع أنه صلى الله عليه وسلم حاكم بأمر الله إيذانا بأن اللائق بهم أن يجعلوه عليه الصلاة والسلام حكما فيما بينهم ويرضوا بحكمه وإن قطع النظر عن كونه حاكما على الإطلاق " * (فيما شجر بينهم) * أي فيما اختلف بينهم من الأمور واختلط، ومنه الشجر لتداخل أغصانه، وقيل: للمنازعة تشاجر لأن المتنازعين تختلف أقوالهم وتتعارض دعاويهم ويختلط بعضهم ببعض * (ثم لا يجدوا) * عطف على مقدر ينساق إليه الكلام أي فتحكم بينهم ثم لا يجدوا * (في أنفسهم) * وقلوبهم * (حرجا) * أي شكا - كما قاله مجاهد - أو ضيقا - كما قاله الجبائي - أو إثما - كما روي عن الضحاك - واختار بعض المحققين تفسيره بضيق الصدر لشائبة الكراهة والإباء لما أن بعض الكفرة كانوا يستيقنون الآيات بلا شك ولكن يجحدون ظلما وعتوا فلا يكونوا مؤمنين، وما روي عن الضحاك يمكن إرجاعه إلى أي الأمرين شئت ونفي وجدان الحرج أبلغ من نفي الحرج كما لا يخفى، وهو مفعول به - ليجدوا - والظرف قيل: حال منه أو متعلق بما عنده، وقوله تعالى: * (مما قضيت) * متعلق بمحذوف وقع صفة لحرجا، وجوز أبو البقاء تعلقه به، و (ما) يحتمل أن تكون موصولة ونكرة موصوفة ومصدرية أي من الذي قضيته أي قضيت به أو من شيء قضيت أو من قضائك. * (ويسلموا تسليما) * أي ينقادوا لأمرك ويذعنوا له بظاهرهم وباطنهم كما يشعر به التأكيد، ولعل حكم هذه الآية باق إلى يوم القيامة وليس مخصوصا بالذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فإن قضاء شريعته عليه الصلاة والسلام قضاؤه، فقد روي عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: لو أن قوما عبدوا الله تعالى وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا رمضان وحجوا البيت ثم قالوا لشيء صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا صنع خلاف ما صنع، أو وجدوا في أنفسهم حرجا لكانوا مشركين ثم تلا هذه الآية، وسبب نزولها - كما قال الشعبي ومجاهد: ما مر من قصة بشر -
71

واليهودي اللذين قضى بينهما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بما قضى. وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي من طريق الزهري " أن عروة بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام أنه خاصم رجلا من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل فقال الأنصاري: سرح الماء يمر فأبى عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك، واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري فلما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصاري استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك * (فلا وربك) * " الخ..
* (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دي‍اركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) *.
* (ولو أنا كتبنا عليهم) * أي فرضنا وأوجبنا * (أن اقتلوا أنفسكم) * أي كما أمرنا بني إسرائيل وتفسير ذلك بالتعرض له بالجهاد بعيد * (أو اخرجوا من دي‍اركم) * كما أمرنا بني إسرائيل أيضا بالخروج من مصر. والمراد إنما كتبنا عليهم إطاعة الرسول والانقياد لحكمه والرضا به ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من الديار كما كتبنا ذلك على غيرهم * (ما فعلوه إلا قليل منهم) * وهم المخلصون من المؤمنين كأبي بكر رضي الله تعالى عنه. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: " لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر يا رسول الله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت فقال: صدقت يا أبا بكر " وكعبد الله بن رواحة، فقد أخرج عن شريح بن عبيد " أنها لما نزلت أشار صلى الله عليه وسلم إليه بيده فقال: لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل "، وكابن أم عبد، فقد أخرج عن سفيان " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه لو نزلت كان منهم "، وأخرج عن الحسن قال: " لما نزلت هذه الآية قال أناس من الصحابة: لو فعل ربنا لفعلنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي " وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: " والله لو أمرنا لفعلنا فالحمد لله الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ".
وفي بعض الآثار أن الزبير وصاحبه لما خرجا بعد الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرا على المقداد فقال: لمن القضاء؟ فقال الأنصاري: لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال: قاتل الله تعالى هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ويتهمونه في قضاء يقضى بينهم وأيم الله تعالى لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى عليه السلام فدعانا إلى التوبة منه، وقال: اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا؛ فقال ثابت بن قيس: أما والله إن الله تعالى ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد صلى الله عليه وسلم أن أقتل نفسي لقتلتها، وروي أن قائل ذلك هو وابن مسعود وعمار بن ياسر، وأنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فقال: " والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي وإن الآية نزلت فيهم، وفي رواية البغوي
72

الاقتصار على ثابت بن قيس، وعلى هذا الأثر وجه مناسبة ذكر هذه الآية مما لا يخفى، وكأنه لذلك قال صاحب " الكشاف " في معناها: " لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا
على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل ما فعلوه إلا قليل "، وقال بعضهم: إن المراد أننا قد حففنا عليهم حيث اكتفينا منهم في توبتهم بتحكيمك والتسليم له ولو جعلنا توبتهم كتوبة بني إسرائيل لم يتوبوا، والذي يفهم من فحوى الأخبار المعول عليها أن هذه الكتابة لا تعلق لها بالاستتابة، ولعل المراد من ذكر ذلك مجرد التنبيه على قصور كثير من الناس ووهن إسلامهم إثر بيان أنه لا يتم إيمانهم إلا بأن يسلموا حق التسليم، وظاهر ما ذكره الزمخشري من أن بني إسرائيل أمروا بالخروج حين استتيبوا مما لا يكاد يصح إذا أريد بالديار الديار المصرية لأن الاستتابة من عبادة العجل إنما كانت بعد الخروج منها وبعد انفلاق البحر - وهذا مما لا امتراء فيه - على أنا لا نسلم أنهم أمروا بالخروج استتابة في وقت من الأوقات، وحمل الذلة على الخروج من الديار لأن ذل الغربة مثل مضروب في قوله تعالى: * (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة) * (الأعراف: 152) لا يفيد إذ الآية لا تدل على الأمر به والنزاع فيه على أن في كون هذه الآية في التائبين من عبادة العجل نزاعا، وقد حقق بعض المحققين أنها في المصرين المستمرين على عبادته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى؛ والعجب من صاحب " الكشف " كيف لم يتعقب كلام صاحب " الكشاف " بأكثر من أنه ليس منصوصا في القرآن، ثم نقل كلامه في الآية.
هذا والكلام في * (لو) * هنا أشهر من نار على علم، وحقها كما قالوا: أن يليها فعل، ومن هنا قال الطبرسي: " التقدير لو وقع كتبنا عليهم "، وقال الزجاج: إنها وإن كان حقها ذلك إلا أن إن الشديدة تقع بعدها لأنها تنوب عن الاسم والخبر فنقول ظننت أنك عالم كما تقول: ظننتك عالما أي ظننت علمك ثابتا فهي هنا نائبة عن الفعل والاسم كما أنها هناك نائبة عن الاسم والخبر، وضمير الجمع في * (عليهم) * وما بعده قيل: للمنافقين ونسب إلى ابن عباس ومجاهد، واعترض بأن فعل القليل منهم غير متصور إذ هم المنافقون الذين لا تطيب أنفسهم بما دون القتل بمراتب، وكل شيء دون المنية سهل، فكيف تطيب بالقتل ويمتثلون الأمر به؟ وأجيب بأن المراد لو كتبنا على المنافقين ذلك ما فعله إلا قليل منهم رياءا وسمعة وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم، فإذ لم نفعل بهم ذلك بل كلفناهم الأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليلزموا الإخلاص، ونسب ذلك للبلخي.
ولا يخفى أن قوله صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن رواحة: " لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان منهم " وكذا غيره من الأخبار السالفة تأبى هذا التوجيه غاية الإباء لأنها مسوقة للمدح، ولا مدح في كون أولئك المذكورين من القليل الذين يمتثلون الأمر رياءا وسمعة بل ذلك غاية في الذم لهم وحاشاهم، وقيل: للناس مطلقا، والقلة إضافية لأن المراد بالقليل المؤمنون وهم وإن كثروا قليلون بالنسبة إلى من عداهم من المنافقين، والكفرة المتمردين * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) * (يوسف: 103) وحينئذ لا يرد أنه يلزم من الآية كون بني إسرائيل أقوى إيمانا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث امتثلوا أمر الله تعالى لهم بقتل أنفسهم حتى بلغ قتلاهم سبعين ألفا، ولا يمتثله لو كان من الصدر الأول إلا قليل ومن الناس من جعل الآية بيانا لكمال اللطف بهذه الأمة حيث إنه لا يقبل القتل منهم إلا القليل لأن الله تعالى يعفو عنهم بقتل قليل ولا يدعهم أن يقتل الكثير كبني إسرائيل إلا أنهم لا يفعلون كما فعل بنو إسرائيل لقلة المخلصين فيهم وكثرة المخلصين في بني إسرائيل ليلزم التفضيل. وقيل: يحتمل أن يكون قتل كثير من بني إسرائيل لأنهم لو لم ينقادوا لأهلكهم عذاب الله تعالى، وهذه
73

الأمة مأمونون إلى يوم القيامة فلا يقدمون كما أقدموا لعدم خوف الاستئصال لا لأنهم دون، وأن بني إسرائيل أقوى منهم إيمانا، وأنت تعلم أن الآية بمراحل عن إفادتها كمال اللطف، والسباق والسياق لا يشعران به أصلا، وأن خوف الاستئصال وعدمه مما لا يكاد يخطر ببال كما لا يخفى على من عرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، والضمير المنصوب في * (فعلوه) * للمكتوب الشامل للقتل والخروج لدلالة الفعل عليه، أو هو عائد على القتل والخروج وللعطف - بأو - لزم توحيد الضمير لأنه عائد لأحد الأمرين، وقول الإمام الرازي: إن الضمير عائد إليهما معا بالتأويل تنبو عنه الصناعة، و * (قليل) * لكون الكلام غير موجب بدل من الضمير المرفوع في * (فعلوه) *، وقرأ ابن عامر * (إلا قليلا) * بالنصب وجعله غير واحد على أنه صفة لمصدر محذوف، والاستثناء مفرغ أي ما فعلوه إلا فعلا قليلا، و - من - في * (منهم) * حينئذ للابتداء على نحو ما ضربته إلا ضربا منك مبرحا، وقال الطيبي: إنها بيان للضمير في - فعلوا - كقوله تعالى: * (ليمسن الذين كفروا منهم) * (المائدة: 73) على التجريد وليس بشيء، وكأن الذي دعاهم إلى هذا والعدول عن القول بنصبه على الاستثناء أن النصب عليه في غير الموجب غير مختار، فلا يحمل القرآن عليه - كما يشير إليه كلام الزجاج - حيث قال: النصب جائز في غير القرآن لكن قال ابن الحاجب: لا بعد في أن يكون أقل القراء على الوجه الأقوى، وأكثرهم على الوجه الذي هو دونه بل التزم بعض الناس أنه يجوز أن يجمع القراء غير الأقوى وحققه الحمصي، وقيل: بل يكون إجماعهم دليلا على أن ذلك هو القوي لأنهم هم المتفننون الآخذون عن مشكاة النبوة، وأن تعليل النحاة غير ملتفت إليه.
ورجح بعضهم أيضا النصب على الاستثناء هنا بأن فيه توافق القراءتين معنى وهو مما يهتم به، وبأن توجيه الكلام على غيره لا يخلو عن تكلف ودغدغة، وقرأ أبو عمرو ويعقوب - أن اقتلوا - بكسر النون على الأصل في التخلص من الساكنين، و * (أو اخرجوا) * بضم الواو للاتباع، والتشبيه بواو الجمع في نحو * (ولا تنسوا الفضل بينكم) * (البقرة: 237)، وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل، والباقون بضمهما وهو ظاهر، و * (أن) * كيفما كانت نونها إما مفسرة - لأنا كتبنا - في معنى أمرنا ولا يضر تعديه بعلى لأنه لم يخرج عن معناه، ولو خرج فتعديه باعتبار معناه الأصلي جائز كما في - نطقت الحال بكذا - حيث تعدى الفعل بالباء مع أنهم قدير يدون به دل وهو يتعدى بعلى. وإن أبيت هذا ولا أظن قلنا: إنه بمعنى أو حينا وإما مصدرية وهو الظاهر ولا يضر زوال الأمر بالسبك لأنه أمر تقديري.
* (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به) * أي ما يؤمرون به مقرونا بالوعد والوعيد من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والانقياد إلى حكمه ظاهرا وباطنا * (لكان) * فعلهم ذلك * (خيرا لهم) * عاجلا وآجلا * (وأشد تثبيتا) * لهم على الحق والصواب وأمنع لهم من الضلال وأبعد من الشبهات كما قال سبحانه: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * (محمد: 17)، وقيل: معناه أكثر انتفاعا لأن الانتفاع بالحق يدوم ولا يبطل لاتصاله بثواب الآخرة، والانتفاع بالباطل يبطل ويضمحل ويتصل بعقاب
الآخرة..
* (وإذا لاتين‍اهم من لدنآ أجرا عظيما) *.
* (وإذا لآتيناهم) * لأعطيناهم * (من لدنا) * من عندنا * (أجرا) * ثوابا * (عظيما) * لا يعرف أحد مبداه ولا يبلغ منتهاه، وإنما ذكر (من لدنا) تأكيدا ومبالغة وهو متعلق بآتيناهم، وجوز أن يكون حالا من * (أجرا) * والواو للعطف و - لآتيناهم - معطوف على لكان خيرا لهم لفظا و * (إذا) * مقحمة للدلالة على أن هذا الجزاء الأخير بعد ترتب التالي السابق على المقدم ولإظهار ذلك وتحقيقه قال المحققون: إنه جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: وماذا يكون
74

لهم بعد التثبيت؟ فقيل: وإذا لو ثبتوا لآتيناهم وليس مرادهم أنه جواب لسؤال مقدر لفظا ومعنى، وإلا لم يكن لاقترانه بالواو وجه، أو إظهار (لو) ليس لأنها مقدرة بل لتحقيق أن ذلك جواب للشرط لكن بعد اعتبار جوابه الأول، والمراد بالجواب في قولهم جميعا: إن إذا حرف جواب دائما أنها لا تكون في كلام مبتدأ بل هو في كلام مبني على شيء تقدمه ملفوظ، أو مقدر سواء كان شرطا، أو كلام سائل، أو نحوه كما أنه ليس المراد بالجزاء اللازم لها، أو الغالب إلا ما يكون مجازاة لفعل فاعل سواء السائل وغيره، وبهذا تندفع الشبه الموردة في هذا المقام، وزعم الطيبي أن ما أشرنا إليه من التقدير تكلف من ثلاثة أوجه - وهو توهم منشأه الغفلة عن المراد - كالذي زعمه العلامة الثاني فتدبر..
* (ولهديناهم صراطا مستقيما) *.
* (ولهديناهم صراطا مستقيما) * وهو المراتب - بعد الإيمان - التي تفتح أبوابها للعاملين، فقد أخرج أبو نعيم في " الحلية " عن أنس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم "، وقال الجبائي: المعنى ولهديناهم في الآخرة إلى طريق الجنة..
* (ومن يطع الله والرسول فأول‍ائك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهدآء والص‍الحين وحسن أول‍ائك رفيقا) *.
* (ومن يطع الله) * بالانقياد لأمره ونهيه * (والرسول) * المبلغ ما أوحي إليه منه باتباع شريعته والرضا بحكمه، والكلام مستأنف فيه فضل ترغيب في الطاعة ومزيد تشويق إليها ببيان أن نتيجتها أقصى ما تنتهي إليه همم الأمم، وأرفع ما تمتد إليه أعناق (أمانيهم، وتشرأب إليه أعين) عزائمهم من مجاورة أعظم الخلائق مقدارا وأرفعهم منارا، ومتضمن لتفسير ما أبهم وتفصيل ما أجمل في جواب الشرطية السابقة و * (من) * شرطية وإفراد ضمير * (يطع) * مراعاة للفظ، والجمع في قوله سبحانه: * (فأولئك) * مراعاة للمعنى أي فالمطيعون الذين علت درجتهم وبعدت منزلتهم شرفا وفضلا.
* (مع الذين أنعم الله عليهم) * بما تقصر العبارة عن تفصيله وبيانه * (من النبيين) * بيان للمنعم عليهم فهو حال إما من * (الذين) * أي مقارنيهم حال كونهم من النبيين وإما من ضميره والتعرض لمعية الأنبياء دون نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة مع أن الكلام في بيان حكم طاعته عليه الصلاة والسلام لجريان ذكرهم في سبب النزول مع الإشارة إلى أن طاعته متضمنة لطاعتهم، أخرج الطبراني وأبو نعيم والضياء المقدسي وحسنه قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي وإنك لأحب إلي من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية * (ومن يطع الله) * " الخ، وروي مثله عن ابن عباس. وقال الكلبي: إن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب له عليه الصلاة والسلام قليل الصبر عنه، وقد نحل جسمه وتغير لونه خوف عدم رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد الموت فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعن مسروق " إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فنزلت " وبدأ بذكر النبيين لعلو درجتهم وارتفاعهم على من عداهم، وقد نقل الشعراني عن مولانا الشيخ الأكبر قدس سره أنه قال: " فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق " ثم عطف (عليهم) على سبيل التدلي قوله سبحانه:
* (والصدقين والشهداء والص‍الحين) * فالمنازل أربعة بعضها دون بعض: الأول: منازل الأنبياء وهم الذين تمدهم قوة
75

إلهية وتصحبهم نفس في أعلى مراتب القدسية ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من قريب، ولذلك قال تعالى في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم: * (أفتمارونه على ما يرى) * (النجم: 12)، والثاني: منازل الصديقين وهم الذين يتأخرون على الأنبياء عليهم السلام في المعرفة، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من بعيد، وإياه عنى علي كرم الله تعالى وجهه حيث قيل له: هل رأيت الله تعالى؟ فقال: ما كنت لأعبد ربا لم أره، ثم قال: لم تره العيون بشواهد العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، والثالث: منازل الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين، ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب كحال من قال: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " أعبد الله تعالى كأنك تراه "، والرابع: منازل الصالحين وهم الذين يعلمون الشيء بالتقليد الجازم، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " قاله الراغب ونقله الطيبي وغيره، ونقل بعض تلامذة مولانا الشيخ خالد النقشبندي قدس سره عنه " أنه قرر يوما أن مراتب الكمل أربعة: نبوة وقطب مدارها نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم صديقية وقطب مدارها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ثم شهادة وقطب مدارها عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه، ثم ولاية وقطب مدارها علي كرم الله تعالى وجهه، وأن الصلاح في الآية إشارة إلى الولاية فسأله بعض الحاضرين عن عثمان رضي الله تعالى عنه في أي مرتبة هو من مراتب الثلاثة بعد النبوة فقال: إنه رضي الله تعالى عنه قد نال حظا من رتبة الشهادة وحظا من رتبة الولاية، وأن معنى كونه ذا النورين هو ذلك عند العارفين انتهى.
وأنا مستعينا بالله تعالى ومستمدا من القوم قدس الله تعالى أسرارهم أقول: إن الولاية هي المحيطة العامة والفلك الدائر والدائرة الكبرى، وأن الولي من كان على بينة من ربه في حاله فعرف ما له بإخبار الحق إياه على الوجه الذي يقع به التصديق عنده ويصدق على أصناف كثيرة إلا أن المذكور منها في هذه الآية أربعة: الصنف الأول: الأنبياء، والمراد بهم هنا الرسل أهل الشرع سواء بعثوا أو لم يبعثوا أعني بطريق الوجوب عليهم ولا بحث لأهل الله تعالى عن مقاماتهم وأحوالهم إذ لا ذوق لهم فيها وكلهم معترفون بذلك غير أنهم يقولون: إن النبوة عامة وخاصة والتي لا ذوق لهم فيها هي الخاصة أعني نبوة التشريع وهي مقام خاص في الولاية. وأما النبوة العامة فهي مستمرة سارية في أكابر الرجال غير منقطعة دنيا وأخرى لكن باب الإطلاق قد انسد، وعلى هذا يخرج ما رواه البدر التماسكي البغدادي عن الشيخ بشير عن القطب عبد القادر الجيلي قدس سره أنه قال: - معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب وأوتينا ما لم تؤتوا - فإن معنى قوله: - أوتيتم اللقب - أنه حجر علينا إطلاق لفظ النبي، وإن كانت النبوة العامة أبدية، وقوله: وأوتينا ما لم تؤتوا - على حد قول الخضر لموسى عليه السلام - وهو أفضل منه - يا موسى أنا على علم علمنيه الله تعالى لا تعلمه أنت، وهذا وجه آخر غير ما أسلفنا من قبل في توجيه هذا الكلام.
والصنف الثاني: الصديقون وهم المؤمنون بالله تعالى ورسله عن قول المخبر لا عن دليل سوى النور الإيماني الذي أعد في قلوبهم قبل وجود المصدق به المانع لها من تردد أو شك يدخلها في قول المخبر الرسول ومتعلقه في الحقيقة الإيمان بالرسول ويكون الإيمان بالله تعالى على جهة القربة لا على إثباته إذ كان بعض الصديقين قد ثبت عندهم وجود الحق جل وعلا ضرورة أو نظرا لكن ما ثبت كونه قربة وليس بين النبوة والصديقية - كما قال حجة الإسلام وغيره - مقام، ومن تخطى رقاب الصديقين وقع في النبوة وهي باب مغلق، وأثبت الشيخ الأكبر قدس سره مقاما بينهما سماه مقام القربة، وهو السر الذي وقر في قلب أبي بكر رضي الله تعالى عنه المشار إليه في الحديث " فليس بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله تعالى عنه رجل أصلا " لا أنه ليس بين الصديقية والنبوة
76

مقام ولها أجزاء على عدد شعب الإيمان، وفسرها بعضهم بأنها نور أخضر بين نورين يحصل به شهود عين ما جاء به المخبر من خلف حجاب الغيب بنور الكرم وبين ذلك بما يطول.
والصنف الثالث: الشهداء تولاهم الله تعالى بالشهادة وجعلهم من المقربين، وهم أهل الحضور مع الله تعالى على بساط العلم به فقد قال سبحانه: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم) * (آل عمران: 18) فجمعهم مع الملائكة في بساط الشهادة فهم موحدون عن حضور إلهي وعناية أزلية فإن بعث الله تعالى رسولا وآمنوا به فهم المؤمنون العلماء ولهم الأجر التام يوم القيامة وإلا فليس هم الشهداء المنعم عليهم وإيمانهم بعد العلم بما قاله الله سبحانه: إن ذلك قربة إليه من حيث - قاله الله سبحانه، أو قاله الرسول الذي جاء من عنده - فقدم الصديق على الشهيد وجعل بإزاء النبي فإنه لا واسطة بينهما لاتصال نور الإيمان بنور الرسالة، والشهداء لهم نور العلم مساوق لنور الرسول من حيث هو شاهد لله تعالى بتوحيده لا من حيث هو رسول فلا يصح أن يكون بعده مع المساوقة لئلا تبطل ولا أن يكون معه لكونه رسولا، والشاهد ليس به فلا بد أن يتأخر فلم يبق إلا أن يكون في الرتبة التي تلي الصديقية فإن الصديق أتم نورا منه في الصديقية لأنه صديق من وجهين: وجه التوحيد ووجه القربة، والشهيد من وجه القربة خاصة لأن توحيده عن علم لا عن إيمان فنزل عن الصديق في مرتبة الإيمان وهو فوقه في مرتبة العلم فهو المتقدم في مرتبة العلم المتأخر برتبة الإيمان والتصديق فإنه لا يصح من العالم أن يكون صديقا، وقد تقدم العلم مرتبة الخبر فهو يعلم أنه صادق في توحيد الله تعالى إذا بلغ رسالة الله تعالى والصديق لم يعلم ذلك إلا بنور الإيمان المعد في قلبه فعندما جاء الرسول اتبعه من غير دليل ظاهر.
والصنف الرابع: الصالحون تولاهم الله تعالى بالصلاح وهم الذين لا يدخل في علمهم بالله تعالى ولا إيمانهم به وبما جاء من عنده سبحانه خلل فإذا دخله بطل كونه صالحا وكل من لم يدخله خلل في صديقيته فهو صالح، ولا في شهادته فهو صالح، ولا في توبته فهو صالح، ولكل أحد أن يدعو بتحصيل الصلاح له في المقام الذي يكون فيه لجواز دخول الخلل عليه في مقامه لأن الأمر اختصاص إلهي وليس بذاتي فيجوز دخول الخلل فيه، ويجوز رفعه، فصح أن يدعو الصالح بأن يجعل من الصالحين أي الذين لا يدخل صلاحهم خلل في زمان ما، وقد ذكر أنه ما من نبي إلا وذكر أنه صالح أو أنه دعا أن يكون من الصالحين مع كونه نبيا، ومن هنا قيل: إن مرتبة الصلاح خصوص في النبوة وقد تحصل لمن ليس بنبي ولا صديق ولا شهيد.
هذا ما وقفت عليه من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم، ولم أظفر بالتفصيل الذي ذكره مولانا الشيخ قدس سره فتدبر، وقد ذكر أصحابنا الرسميون أن الصديق صيغة مبالغة - كالسكير - بمعنى المتقدم في التصديق المبالغ في الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال، ويطلق على كل من أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأماثل خواصهم كأبي بكر رضي الله تعالى عنه، وأن الشهداء جمع شهيد، والمراد بهم الذين بذلوا أرواحهم في طاعة الله تعالى وإعلاء كلمته وهم المقتولون بسيف الكفار من المسلمين، وقيل: المراد بهم ههنا ما هو أعم من ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم: إن شهداء أمتي إذا لقليل من قتل في سبيل الله تعالى فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات مبطونا فهو شهيد " وعد بعضهم الشهداء أكثر من ذلك بكثير، وقيل: الشهيد هو الذي يشهد لدين الله تعالى تارة بالحجة والبيان، وأخرى
77

بالسيف والسنان، وزعم النيسابوري أنه لا يبعد أن يدخل كل هذه الأمة في الشهداء لقوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) * (البقرة: 143) وليس بشيء كما لا يخفى، وأن المراد بالصالحين الصارفين أعمارهم في طاعة الله تعالى وأموالهم في مرضاته سبحانه، ويقال: الصالح هو الذي صلحت حاله واستقامت طريقته. " والمصلح هو الفاعل لما فيه (الصلاح) قال الطبرسي: ولذا يجوز أن يقال: مصلح في حق الله تعالى دون صالح "، وليس المراد بالمعية اتحاد الدرجة ولا مطلق الاشتراك في دخول الجنة بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أراد وإن بعدت المسافة بينهما، وذكر غير واحد أنه
لا مانع من أن يرفع الأدنى إلى منزلة الأعلى متى شاء تكرمة له ثم يعود ولا يرى أنه أرغد منه عيشا ولا أكمل لذة لئلا يكون ذلك حسرة في قلبه، وكذا لا مانع من أن ينحدر الأعلى إلى منزلة الأدنى ثم يعود من غير أن يرى ذلك نقصا في ملكه أو حطا من قدره. وقد ثبت في غير ما حديث أن أهل الجنة يتزاورون، وادعى بعضهم أن لا تزاور مع رؤية كل واحد الآخر، وذلك لأن عالم الأنوار لا تمانع فيها ولا تدافع فينعكس بعضها على بعض كالمرايا المجلوة المتقابلة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: * (إخوانا على سرر متقابلين) * (الحجز: 47) وزعم أنه التحقيق وهو بعيد عنه، وأبعد من ذلك بمراحل ما قيل: يحتمل أن يكون المراد أن معنى كون المطيع مع هؤلاء أنه معهم في سلوك طريق الآخرة فيكون مأمونا من قطاع الطريق محفوظ الطاعة عن النهب.
* (وحسن أول‍ئك رفيقا) * أي صاحبا، وهو مشتق من الرفق، وهو لين الجانب واللطافة في المعاشرة قولا وفعلا، والإشارة يحتمل أن تكون إلى النبيين ومن بعدهم وما فيها من معنى البعد لما مر مرارا و * (رفيقا) * حينئذ إما تمييز أو حال على معنى أنهم وصفوا بالحسن من جهة كونهم رفقاء للمطيعين، أو حال كونهم رفقاء لهم ولم يجمع لأن فعيلا يستوي فيه الواحد وغيره أو اكتفاءا بالواحد عن الجمع في باب التمييز لفهم المعنى، وحسنه وقوعه في الفاصلة؛ أو لأنه بتأويل حسن كل واحد منهم أو لأنه قصد بيان الجنس مع قطع النظر عن الأنواع، ويحتمل أن تكون إلى - من يطع - والجمع على المعنى ف * (رفيقا) * حينئذ تمييز على معنى أنهم وصفوا بحسن الرفيق من الفرق الأربع لا بنفس الحسن، فلا يجوز دخول - من - عليه كما يجوز في الوجه الأول. والجملة على الاحتمالين تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب والتشويق، وفي " الكشاف " " فيه معنى التعجب كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجيب قرىء * (وحسن) * بسكون السين يقول المتعجب: حسن الوجه وجهك، وحسن الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين " انتهى. وفي " الصحاح " يقال: حسن الشيء وإن شئت خففت الضمة فقلت: حسن الشيء، ولا يجوز أن تنقل الضمة إلى الحاء لأنه خبر، وإنما يجوز النقل إذا كان بمعنى المدح أو الذم لأنه يشبه في جواز النقل بنعم وبئس، وذلك أن الأصل فيهما نعم وبئس فسكن ثانيهما، ونقلت حركته إلى ما قبله وكذلك كل ما كان في معناهما قال الشاعر:
لم يمنع الناس مني ما أردت وما * أعطيهم ما أرادوا (حسن ذا أدبا)
أراد حسن هذا أدبا فخفف ونقل، وأراد أنه لما نقل إلى الإنشاء حسن أن يغير تنبيها على مكان النقل، وفي " الإرتشاف ": إن فعل المحول ذهب الفارسي. وأكثر النحويين إلى إلحاقه بباب نعم وبئس فقط، وإجراء
78

أحكامه عليه، وذهب الأخفش والمبرد إلى إلحاقه بباب التعجب، وحكى الأخفش الاستعمالين عن العرب، ويجوز فيه ضم العين وتسكينها ونقل حركتها إلى الفاء، وظاهره تغاير المذهبين، وفي " التسهيل " إنه من باب نعم وبئس وفيه معنى التعجب، وهو يقتضي أن لا تغاير بينهما وإليه يميل كلام الشيخين فافهم، والحسن عبارة عن كل مبهج مرغوب إما عقلا أو هوى أو حسا، وأكثر ما يقال في متعارف العامة في المستحسن بالبصر، وقد جاء في القرآن له وللمستحسن من جهة البصيرة..
* (ذالك الفضل من الله وكفى بالله عليما) *.
* (ذالك) * إشارة إلى ما ثبت للمطيعين من جميع ما تقدم، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم وهو مبتدأ، وقوله سبحانه: * (الفضل) * صفة، وقوله تعالى: * (من الله) * خبره أي ذلك الفضل العظيم كائن من الله تعالى لا من غيره، وجوز أبو البقاء أن يكون * (الفضل) * هو الخبر، و * (من الله) * متعلق بمحذوف وقع حالا منه؛ والعامل فيه معنى الإشارة، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا أي ذلك الذي ذكر الفضل كائنا، أو كائن من الله تعالى لا أن أعمال العباد توجبه * (وكفى بالله عليما) * بثواب من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله بمقتضى الوعد فثقوا بما أخبركم به * (ولا ينبئك مثل خبير) * (فاطر: 14). وقيل: وكفى به سبحانه عليما بالعصاة والمطيعين والمنافقين والمخلصين ومن يصلح لمرافقة هؤلاء ومن لا يصلح..
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) *.
* (ي‍أيها الذين ءامنوا خذوا حذركم) * أي عدتكم من السلاح - قاله مقاتل - وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، وقيل: الحذر مصدر كالحذر، وهو الاحتراز عما يخاف فهناك الكناية والتخييل بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية، وليس الأخذ مجازا ليلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في قوله سبحانه: * (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) * (النساء: 102) إذ التجوز في الإيقاع، وقد صرح المحققون بجواز الجمع فيه، والمعنى استعدوا لأعدائكم أو تيقظوا واحترزوا منهم ولا تمكنوهم من أنفسكم * (فانفروا) * بكسر الفاء، وقرىء بضمها أي: أخرجوا إلى قتال عدوكم والجهاد معه عند خروجكم، وأصل معنى النفر الفزع كالنفرة، ثم استعمل فيما ذكر * (ثبات) * جمع - ثبة - وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة، وقيل: فوق الاثنين، وقد تطلق على غير الرجال ومنه قول عمرو بن كلثوم: فأما يوم خشيتنا عليهم * فتصبح خيلنا عصبا (ثباتا)
ووزنها في الأصل فعلة - كحطمة - حذفت لامها وعوض عنها هاء التأنيث وهل هي واو من - ثبا يثبو، كعدى يعدو - أي اجتمع، أو ياء من - ثبيت - على فلان بمعنى أثنيت عليه بذكر محاسنه وجمعها؟ قولان، وثبة الحوض وسطه واوية، وهي من ثاب يثوب إذا رجع، وقد جمع جمع المؤنث، وأعرب إعرابه على اللغة الفصيحة، وفي لغة ينصب بالفتح، وقد جمع أيضا جمع المذكر السالم فيقال: ثبون، وقد اطرد ذلك فيما حذف آخره وإن لم يستوف الشروط جبرا له، وفي ثائه حينئذ لغتان: الضم والكسر، والجمع هنا في موضع الحال أي انفروا جماعات متفرقة جماعة بعد جماعة * (أو انفروا جميعا) * أي مجتمعين جماعة واحدة، ويسمى الجيش إذا اجتمع ولم ينتشر كتيبة، وللقطعة المنتخبة المقتطعة منه سرية، وعن بعضهم أنها التي تخرج ليلا وتعود إليه وهي من مائة إلى خمسمائة، أو من خمسة أنفس إلى ثلثمائة وأربعمائة، وما زاد على السرية - منسر - كمجلس ومنبر إلى الثمانمائة فإن زاد يقال له: جيش إلى أربعة آلاف، فإن زاد يسمى - جحفلا - ويسمى الجيش
العظيم - خميسا - وما افترق من السرية - بعثا - وقد تطلق السرية على مطلق الجماعة، والآية وإن نزلت في الحرب لكن فيها إشارة إلى الحث
79

على المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات..
* (وإن منكم لمن ليبطئن فإن أص‍ابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا) *.
* (وإن منكم لمن ليبطئن) * أي ليتثاقلن وليتأخرن عن الجهاد من بطأ بمعنى أبطأ كعتم بمعنى أعتم إذا أبطأ، والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنيهم ومنافقيهم والمبطئون هم المنافقون منهم، وجوز أن يكون منقولا لفظا ومعنى من بطؤ نحو ثقل من ثقل، فيراد ليبطئن غيره وليثبطنه عن الجهاد كما ثبط ابن أبي ناسا يوم أحد، (والأنسب بما بعده)، واللام الأولى: لام التأكيد التي تدخل على خبر إن أو اسمها إذا تأخر، والثانية: جواب قسم، وقيل: " زائدة، وجملة القسم وجوابه صلة الموصول وهما كشيء واحد فلا يرد أنه لا رابطة في جملة القسم كما لا يرد أنها إنشائية فلا تقع صلة لأن المقصود الجواب، وهو خبري فيه عائد، ولا يحتاج إلى تقدير أقسم على صيغة الماضي ليعود ضميره إلى المبطىء بل هو خلاف الظاهر. وجوز في - من - أن تكون موصوفة، والكلام في الصفة كالكلام في الصلة، وهذه الجملة قيل: عطف على * (خذوا حذركم) * (النساء: 71) عطف القصة على القصة؛ وقيل: إنها معترضة إلى قوله سبحانه: * (فليقاتل) * (النساء: 74) وهو عطف على * (خذوا) *، وقرىء * (ليبطئن) * بالتخفيف.
* (فإن أص‍ابتكم مصيبة) * من العدو كقتل وهزيمة * (قال) * أي - المبطىء - فرحا بما فعل وحامدا لرأيه * (قد أنعم الله علي) * بالقعود * (إذ لم أكن معهم شهيدا) * حاضرا معهم في المعركة فيصيبني مثل الذي أصابهم من البلاء والشدة، وقيل: يحتمل أن يكون المعنى إذ لم أكن مع شهدائهم شهيدا، أو لم أكن معهم في معرض الشهادة، فالإنعام هو النجاة عن القتل وخوفه عبر عنه بالشهادة تهكما ولا يخفى بعده، والفاء في الشرطية لترتيب مضمونها على ما قبلها فإن ذكر التبطئة مستتبع لذكر ما يترتب عليها كما أن نفس التبطئة مستدعية لشيء ينتظر المبطىء وقوعه..
* (ولئن أص‍ابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتنى كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) *.
* (ولئن أص‍ابكم فضل) * كفتح وغنيمة * (من الله) * متعلق بأصابكم أو بمحذوف وقع صفة لفضل، وفي نسبة إصابة الفضل إلى (جانب) الله تعالى دون إصابة المصيبة تعليم لحسن الأدب مع الله تعالى وإن كانت المصيبة فضلا في الحقيقة، وتقديم الشرطية الأولى لما أن مضمونها لمقصدهم أوفق، وأثر نفاقهم فيها أظهر * (ليقولن) * ندامة على تثبطه وتهالكا على حطام الدنيا وحسرة على فواته، وفي تأكيد القول دلالة على فرط التحسر المفهوم من الكلام ولم يؤكد القول الأول، وأتى به ماضيا إما لأنه لتحققه غير محتاج إلى التأكيد أو لأن العدول عن المضارع للماضي تأكيد، وقرأ الحسن (ليقولن) بضم اللام مراعاة لمعنى (من) وذلك شائع سائغ.
وقوله تعالى: * (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) * من كلامه تعالى اعتراض بين القول ومقوله الذي هو. * (ي‍اليتني كنت معهم فافوز فوزا عظيما) * لئلا يتوهم من مطلع كلامه أن تمنيه المعية للنصرة والمظاهرة حسبما يقتضيه ما في البين من المودة بل هو للحرص على حطام الدنيا كما ينطق به آخره فإن الفوز العظيم الذي عناه هو ذلك، وليس إثبات المودة في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكم، وقيل: الجملة التشبيهية حال من ضمير يقولن، أي ليقولن مشبها بمن لا مودة بينكم وبينه حيث لم يتمن نصرتكم ومظاهرتكم، وقيل: هي من كلام المبطىء داخلة كجملة التمني في المقول أي ليقولن المبطىء لمن يثبطه من المنافقين وضعفة المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمد صلى الله عليه وسلم مودة حيث لم يستصحبكم معه في الغزو حتى تفوزوا بما فاز به المستصحبون يا ليتني كنت معهم الخ، وغرضه إلقاء العداوة
80

بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأكيدها، وإلى ذلك ذهب الجبائي، وذهب أبو علي الفارسي والزجاج وتبعه الماتريدي إلى أنها متصلة بالجملة الأولى أعني قال: قد أنعم الخ أي قال: ذلك كأن لم يكن الخ ورده الراغب والأصفهاني بأنها إذا كانت متصلة بالجملة الأولى فكيف يفصل بها بين أبعاض الجملة الثانية ومثله مستقبح، واعتذر بأن مرادهم أنها معترضة بين أجزاء هذه الجملة ومعناها صريحا متعلق بالأولى وضمنا بهذه، و * (كأن) * مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهو محذوف، وقيل: إنها لا تعمل إذا خففت.
وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب * (تكن) * بالتاء لتأنيث لفظ المودة، والباقون - يكن - بالياء للفصل ولأنها بمعنى الود، والمنادى في * (يا ليتني) * عند الجمهور محذوف أي يا قومي، وأبو علي يقول في نحو هذا: ليس في الكلام منادي محدوف بل تدخل - يا - خاصة على الفعل والحرف لمجرد التنبيه، ونصب - أفوز - على جواب التمني، وعن يزيد النحوي والحسن * (فأفوز) * بالرفع على تقدير فأنا أفوز في ذلك الوقت، أو العطف على (خبر ليت فيكون داخلا في) التمني..
* (فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحيواة الدنيا بالاخرة ومن يق‍اتل فى سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) *.
* (فليق‍اتل في سبيل الله الذين يشرون الحيواة الدنيا بالآخرة) * الموصول فاعل الفعل وقدم المفعول الغير الصريح عليه للاهتمام به، و * (يشرون) * مضارع شرى، ويكون بمعنى باع واشترى من الأضداد، فإن كان بمعنى - يشترون - فالمراد من الموصول المنافقون أمروا بترك النفاق والمجاهدة مع المؤمنين، والفاء للتعقيب أي ينبغي بعد ما صدر منهم من التثبيط والنفاق تركه وتدارك ما فات من الجهاد بعد، وإن كان بمعنى - يبيعون - فالمراد منه المؤمنون الذين تركوا الدنيا واختاروا الآخرة أمروا بالثبات على القتال وعدم الالتفات إلى تثبيط المبطئين، والفاء جواب شرط مقدر أي إن صدهم المنافقون فليقاتلوا ولا يبالوا. * (ومن يق‍اتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه) * ولا بد، وفي الالتفات مزيد التفات * (أجرا عظيما) * لا يكاد يعلم كمية وكيفية؛ وفي تعقيب القتال بما ذكر تنبيه على أن المجاهد ينبغي أن يكون همه أحد الأمرين إما إكرام نفسه بالقتل والشهادة، أو إعزاز الدين وإعلاء كلمة الله تعالى بالنصر ولا يحدث نفسه بالهرب بوجه، ولذا لم يقل: فيغلب، * (أو
يغلب) * وتقديم القتل للإيذان بتقدمه في استتباع الأجر، وفي الآية تكذيب للمبطىء بقوله: * (قد أنعم الله) * (النساء: 72) الخ..
* (وما لكم لا تق‍اتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنسآء والولدان الذين يقولون ربنآ أخرجنا من ه‍اذه القرية الظ‍الم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) *.
* (وما لكم) * خطاب للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفات مبالغة في التحريض والحث عليه وهو المقصود من الاستفهام، و * (ما) * مبتدأ و * (لكم) * خبره، وقوله تعالى: * (لا تق‍اتلون في سبيل الله) * في موضع الحال والعامل فيها الاستقرار، أو الظرف لتضمنه معنى الفعل (والاستفهام للإنكار والنفي) أي أي شيء لكم غير مقاتلين والمراد لا عذر لكم في ترك المقاتلة * (والمستضعفين) * إما عطف على الاسم الجليل أي في سبيل المستضعفين وهو تخليصهم عن الأسر وصونهم عن العدو - وهو المروي عن ابن شهاب - واستبعد بأن تخليصهم سبيل الله تعالى لا سبيلهم، وفيه أنه وإن كان سبيل الله عز اسمه له نوع اختصاص بهم فلا مانع من إضافته إليهم؛ واحتمال أن يراد بالمقاتلة في سبيلهم - المقاتلة في فتح طريق مكة إلى المدينة ودفع سد المشركين إياه ليتهيأ خروج المستضعفين - مستضعف جدا، وإما عطف على (سبيل) بحذف مضاف، وإليه ذهب المبرد أي وفي خلاص المستضعفين، ويجوز نصبه بتقدير أعني أو أخص فإن سبيل الله تعالى يعم أبواب الخير وتخليص المستضعفين من أيدي المشركين من أعظمها وأخصها، ومعنى المستضعفين الذين طلب المشركون ضعفهم وذلهم أو الضعفاء منهم والسين للمبالغة
* (من الرجال والنساء والولدان) * بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين
81

بقوا بمكة لمنع المشركين لهم من الخروج، أو ضعفهم عن الهجرة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كنت أنا وأمي من المستضعفين، وقد ذكر أن منهم سلمة بن هشام، والوليد بن الوليد وأبا جندل بن سهيل، وإنما ذكر الولدان تكميلا للاستعطاف والتنبيه على تناهي ظلم المشركين، والإيذان بإجابة الدعاء الآتي واقتراب زمان الخلاص وفي ذلك مبالغة في الحث على القتال. ومن هنا يعلم أن الآية لا تصلح دليلا على صحة إسلام الصبي بناءا على أنه لولا ذلك لما وجب تخليصهم على أن في انحصار وجوب التخليص في المسلم نظرا لأن صبي المسلم يتوقع إسلامه فلا يبعد وجوب تخليصه لينال مرتبة السعداء، وقيل: المراد - بالولدان العبيد والإماء وهو على الأول: جمع وليد ووليدة بمعنى صبي وصبية وقيل: إنه جمع ولد كورل وورلال، وعلى الثاني: كذلك أيضا إلا أن الوليد والوليدة بمعنى العبد والجارية. وفي " الصحاح ": الوليد الصبي والعبد والجمع ولدان، والوليدة الصبية والأمة والجمع ولائد، فالتعبير - بالولدان - على طريق التغليب ليشمل الذكور والإناث.
* (الذين) * في محل جر على أنه صفة للمستضعفين، أو لما في حيز البيان، وجوز أن يكون نصبا بإضمار فعل أي أعني أو أخص الذين. * (يقولون ربنا أخرجنا من ه‍اذه القرية الظالم أهلها) * بالشرك الذي هو ظلم عظيم، وبأذية المؤمنين ومنعهم عن الهجرة والوصف صفة قرية وتذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أجري على غير من هو له فتذكيره وتأنيثه على حسب الاسم الظاهر الذي عمل فيه، ولم ينسب الظلم إليها مجازا كما في قوله تعالى: * (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها) * (القصص: 58) وقوله سبحانه: * (ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمنئة) * إلى قوله عز وجل: * (فكفرت بأنعم الله) * (النحل: 112) لأن المراد بها مكة كما قال ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم، فوقرت عن نسبة الظلم إليها تشريفا لها شرفها الله تعالى. * (واجعل لنا من لدنك وليا) * يلي أمرنا حتى يخلصنا من أيدي الظلمة، وكلا الجارين متعلق - باجعل - لاختلاف معنييهما. وتقديمهما على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر بتقديم أحواله، وتقديم اللام على * (من) * للمسارعة إلى إبراز كون المسؤول نافعا لهم مرغوبا فيه لديهم، وجوز أن يكون * (من لدنك) * متعلقا بمحذوف وقع حالا من * (وليا) * وكذا الكلام في قوله تعالى: * (واجعل لنا من لدنك نصيرا) * أي حجة ثابتة قاله عكرمة ومجاهد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: المراد ول علينا واليا من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا وينصرنا على أعدائنا، ولقد استجاب الله تعالى شأنه دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقي منهم خير ولي وأعز ناصر، ففتح مكة على يدي نبيه صلى الله عليه وسلم فتولاهم أي تول، ونصرهم أي نصرة، ثم استعمل عليهم عتاب ابن أسيد وكان ابن ثماني عشرة سنة فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها، وقيل: المراد اجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة أي كن أنت ولينا وناصرنا. وتكرير الفعل ومتعلقيه للمبالغة في التضرع والابتهال.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * أمر للعارفين أن يظهروا ما كوشفوا به من الأسرار الإلهية لأمثالهم ويكتموا ذلك عن الجاهلين، أو أن يؤدوا حق كل ذي حق إليه فيعطوا الاستعداد حقه وألقوا حقها وآخر الآمانات أداء أمانة الوجود فليؤده العبد إلى سيده سبحانه وليفن فيه عز وجل: * (وإذا حكمتم بين الناس) * بالإرشاد ولا يكون إلا بعد الفناء والرجوع إلى البقاء * (أن تحكموا بالعدل) * (النساء: 58) وهو الإفاضة حسب الاستعداد * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله) * بتطهير كعبة تجليه - وهو القلب - عن
82

أصنام السوى * (وأطيعوا الرسول) * بالمجاهدة وإتعاب البدن بأداء رسوم العبادة التي شرعها لكم * (وأولي الأمر منكم) * وهم المشايخ المرشدون بامتثال أمرهم فيما يرونه صلاحا لكم وتهذيبا لأخلاقكم. وربما يقال: إنه سبحانه جعل الطاعة على ثلاث مراتب، وهي في الأصل ترجع إلى واحدة: فمن كان أهلا لبساط القربة وفهم خطاب الحق بلا واسطة كالقائل أخذتم علمكم ميتا عن ميت، ونحن أخدناه من الحي الذي لا يموت، فليطلع الله تعالى بمراده وليتمثل ما فهمه منه، ومن لم يبلغ هذه الدرجة فليرجع إلى بيان الواسطة العظمى وهو الرسول صلى الله عليه وسلم إن فهم بيانه، أو استطاع الأخذ منه كبعض أهل الله تعالى، وليطعه فيما أمر ونهى، ومن لم يبلغ إلى هذه الدرجة فليرجع إلى بيان أكابر علماء الأمة وليتقيد بمذهب من المذاهب وليقف عنده في الأوامر والنواهي * (فإن تنازعتم في شيء) * أنتم والمشايخ، وذلك في مبادي السلوك حيث النفس قوية * (فردوه إلى الله) * تعالى * (والرسول) * (النساء: 59) فارجعوا إلى الكتاب والسنة فإن فيهما ما يزيل النزاع عبارة
أو إشارة، أو إذا وقع عليكم حكم من أحكام الغيب المتشابهة، وظهر في أسراركم معارضات الامتحان فارجعوا إلى خطاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن فيه بحار علوم الحقائق، فكل خاطر لا يوافق خطاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو مردود * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) * من علم التوحيد * (وما أنزل من قبلك) * من علم المبدأ والمعاد * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) * وهو النفس الأمارة الحاكمة بما تؤدي إليه أفكارها الغير المستندة إلى الكتاب والسنة * (وقد أمروا أن يكفروا به) * ويخالفوه إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي * (ويريد الشيطان) * وهو الطاغوت * (أن يضلهم ضلالا بعيدا) * (النساء: 60) وهو الانحراف عن الحق * (فكيف إذا أصابتهم مصيبة) * وهي مصيبة التحير وفقد الطريق الموصل * (بما قدمت أيديهم) * من تقديم أفكارهم الفاسدة وعدم رجوعهم إليك * (ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا) * بأنفسنا لتمرنها على التفكر حتى يكون لها ملكة استنباط الأسرار والدقائق من عباراتك وإشاراتك * (وتوفيقا) * (النساء: 62) أي جمعا بين العقل والنقل أو بين الخصمين بما يقرب من عقولهم ولم نرد مخالفتك * (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم) * من رين الشكوك فيجازيهم على ذلك يوم القيامة * (فأعرض عنهم) * ولا تقبل عذرهم * (وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) * (النساء: 63) مؤثرا ليرتدعوا أو كلمهم على مقادير عقولهم ومتحمل طاقتهم * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) * باشتغالهم بحظوظها * (جاءوك فاستغفروا الله) * طلبوا منه ستر صفات نفوسهم التي هي مصادر تلك الأفعال * (واستغفر لهم الرسول) * بإمداده إياهم بأنوار صفاته * (لوجدوا الله توابا رحيما) * (النساء: 64) مطهرا لنفوسهم مفيضا عليها الكمال اللائق بها. وقال ابن عطاء في هذه الآية: أي لو جعلوك الوسيلة لدي لوصلوا إلي * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) * (النساء: 65) قال بعضهم: أظهر الله تعالى في هذه الآية على حبيبه خلعة من خلع الربوبية فجعل الرضا بحكمه ساء أم ستر سببا لإيمان المؤمنين كما جعل الرضا بقضائه سببا لإيقان الموقنين فأسقط عنهم اسم الواسطة لأنه صلى الله عليه وسلم متصف بأوصاف الحق متخلق بأخلاقه، ألا ترى كيف قال حسان:
وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد
وقال آخرون: سد سبحانه الطريق إلى نفسه على الكافة إلا بعد الإيمان بحبيبه صلى الله عليه وسلم فمن لم يمش تحت قبابه فليس من الله تعالى في شيء، ثم جعل جل شأنه من شرط الإيمان زوال المعارضة
83

بالكلية فلا بد للمؤمن من تلقي المهالك بقلب راض ووجه ضاحك * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم) * بسيف المجاهدة لتحيى حياة طيبة * (أو اخرجوا من دياركم) * وهي الملاذ التي ركنتم إليها وخيمتم فيها وعكفتم عليها، أو لو فرضنا عليهم أن اقمعوا الهوى أو اخرجوا من مقاماتكم التي حجبتم بها عن التوحيد الصرف كالصبر والتوكل مثلا * (ما فعلوه إلا قليل منهم) * وهم أهل التوفيق والهمم العالية، وأيد الاحتمال الثاني بما حكي عن بعض العارفين أنه سئل إبراهيم بن أدهم عن حاله فقال إبراهيم: أدور في الصحاري وأطوف في البراري حيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر فهل يصح حالي في التوكل فقال له: إذا أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد " * (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم) * لما فيه من الحياة الطيبة * (وأشد تثبيتا) * (النساء: 66) بالاستقامة بالدين * (وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما) * (النساء: 67) وهو كشف الجمال * (ولهديناهم صراطا مستقيما) * (النساء: 68) وهو التوحيد * (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) * بما لا يدخل في حيطة الفكر * (من النبيين) * أرباب التشريع الذين ارتفعوا قدرا فلا يدرك شأواهم * (والصديقين) * الذين قادهم نورهم إلى الانخلاع عن أنواع الربوب والشكوك فصدقوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من غير دليل ولا توقف * (والشهداء) * أهل الحضور * (والصالحين) * (النساء: 69) أهل الاستقامة في الدين * (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) * من أنفسكم فإنها أعدى أعدائكم * (فانفروا ثبات) * أسلكوا في سبيل الله تعالى جماعات كل فرقة على طريقة شيخ كامل * (أو انفروا جميعا) * (النساء: 71) في طريق التوحيد والإسلام واتبعوا أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلقوا بأخلاقه * (وإن منكم لمن ليبطئن) * أي ليثبطن المجاهدين المرتاضين * (فإن أصابتكم مصيبة) * شدة في السير * (قال قد أنعم الله علي) * (النساء: 72) حيث لم أفعل كما فعلوا * (ولئن أصابكم فضل من الله) * مواهب غيبية وعلوم لدنية ومراتب سنية وقبول عند الخواص والعوام * (ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) * أي حسدا لكم * (يا ليتني كنت معهم فأفوز) * دونهم * (فوزا عظيما) * (النساء: 73) وأنال ذلك وحدي * (ومن يقاتل) * نفسه * (في سبيل الله فيقتل) * بسيف الصدق * (أو يغلب) * عليها بالظفر لتسلم على يده * (فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * (النساء: 74) وهو الوصول إلينا * (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله و) * خلاص * (المستضعفين من الرجال) * العقول * (والنساء) * الأرواح * (والولدان) * القوى الروحانية * (الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية) * وهي قرية البدن * (الظالم أهلها) * وهي النفس الأمارة * (واجعل لنا من لدنك وليا) * يلي أمورنا ويرشدنا * (واجعل لنا من لدنك نصيرا) * (النساء: 75) ينصرنا على من ظلمنا وهو الفيض الأقدس، نسأل الله تعالى ذلك بمنه وكرمه..
* (الذين ءامنوا يق‍اتلون فى سبيل الله والذين كفروا يق‍اتلون فى سبيل الط‍اغوت فق‍اتلوا أولياء الشيط‍ان إن كيد الشيط‍ان كان ضعيفا) *.
* (الذين ءامنوا يقاتلون في سبيل الله) * كلام مستأنف سيق لتشجيع المؤمنين وترغيبهم في الجهاد أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين الله تعالى الموصل لهم إليه عز وجل وفي إعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لا محالة. * (والذين كفروا يق‍اتلون في سبيل الطاغوت) * فيما يبلغ بهم إلى الشيطان وهو الكفر فلا ناصر لهم سواه * (فقاتلوا) * يا أولياء الله تعالى إذا كان الأمر كذلك. * (أولياء الشيط‍ان) * جميع الكفار فإنكم تغلبونهم. * (إن كيد الشيط‍ان كان ضعيفا) * في حد ذاته فكيف بالقياس إلى قدرة الله تعالى الذي يقاتلون في سبيله وهو سبحانه وليكم، ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى إيذانا بظهورها، وفائدة * (كان) * التأكيد ببيان أن كيده مذ كان ضعيف،
وقيل: هي بمعنى صار أي صار ضعيفا بالإسلام، وقيل: إنها زائدة وليس بشيء..
84

(77) * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولاأخرتنا إلى أجل قريب قل مت‍اع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) *.
* (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) * نزلت كما قال الكلبي في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص كان يلقون من المشركين أذى شديدا وهم بمكة قبل الهجرة فيشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: ائذن لنا يا رسول الله في قتال هؤلاء فإنهم قد آذونا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: كفوا أيديكم وامسكوا عن القتال فإني لم أومر بذلك، وفي رواية: إني أمرت بالعفو. * (وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة) * واشتغلوا بما أمرتم به، ولعل أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تنبيها على أن الجهاد مع النفس مقدم وما لم يتمكن المسلم في الانقياد لأمر الله تعالى بالجود بالمال لا يكاد يتأتى منه الجود بالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، وبناء القول للمفعول مع أن القائل هو النبي صلى الله عليه وسلم لأن المقصود والمعتبر في التعجيب المشار إليه في صدر الكلام إنما هو كمال رغبتهم في القتال وكونهم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه، وإنما ذكر في حيز الصلة الأمر بكف الأيدي لتحقيقه وتصويره بطريق الكناية فلا يتعلق ببيان خصوصية الآمر غرض، وقيل: للإيذان بكون ذلك بأمر الله تعالى:
* (فلما كتب عليهم القتال) * وأمروا به بعد أن هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة * (إذا فريق منهم يخشون الناس) * أي الكفار أن يقتلوهم، وذلك لما ركز في طباع البشر من خوف الهلاك * (كخشية الله) * أي كما يخشون الله تعالى أن ينزل عليهم بأسه، والفاء عاطفة وما بعدها عطف على * (قيل لهم كفوا أيديكم) * باعتبار معناه الكنائي إذ حينئذ يتحقق التباين بين مدلولي المعطوفين، وعليه يدور أمر التعجيب كأنه قيل: ألم تر إلى الذين كانوا حراصا على القتال فلما كتب عليهم كرهه - بمقتضى البشرية - جماعة منهم، وتوجيه التعجيب إلى الكل مع أن تلك الكراهة إنما كانت من البعض للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدر من أحدهم ما ينافي حالته الأولى، و * (إذا) * للمفاجأة وهي ظرف مكان، وقيل: زمان وليس بشيء، وفيها تأكيد لأمر التعجيب، و * (فريق) * مبتدأ، و * (منهم) * صفته، و * (يخشون) * خبره، وجوز أن يكون صفة أيضا أو حالا، والخبر * (إذا) * و * (كخشية الله) * في موضع المصدر أي خشية كخشية الله، وجوز أن يكون حالا من فاعل * (يخشون) * ويقدر مضاف أي حال كونهم مثل أهل خشية الله تعالى أي مشبهين بأهل خشيته سبحانه، وقيل - وفيه بعد - إنه حال من ضمير مصدر محذوف أي يخشونها الناس كخشية الله * (أو أشد خشية) * عطف عليه إن جعلته حالا أي أنهم: أشد خشية من أهل خشية الله، بمعنى أن خشيتهم أشد من خشيتهم، ولا يعطف عليه على تقدير المصدرية - على ما قيل - بناءا على أن * (خشية) * منصوب على التمييز وعلى أن التمييز متعلق الفاعلية، وأن المجرور بمن التفضيلية يكون مقابلا للموصوف بأفعل التفضيل فيصير المعنى إن خشيتهم أشد من خشية غيرهم، ويؤل إلى أن خشية خشيتهم أشد، وهو غير مستقيم اللهم إلا على طريقة جد جده - على ما ذهب إليه أبو علي وابن جني - ويكون كقولك: زيد جد جدا بنصب جدا على التمييز لكنه بعيد، بل يعطف على الاسم الجليل فهو مجرور بالفتحة لمنع صرفه، والمعنى - يخشون الناس خشية كخشية الله، أو خشية كخشية أشد خشية منه تعالى - ولكن على سبيل الفرض إذ لا أشد خشية عند المؤمنين من الله تعالى، ويؤل هذا إلى تفضيل خشيتهم على سائر الخشيات إذا فصلت واحدة، وذكر ابن الحاجب أنه يجوز أن يكون هذا العطف من عطف الجمل - أي يخشون الناس كخشية
85

الناس، أو يخشون أشد خشية - على أن الأول: مصدر والثاني: حال، وقيل عليه: إن حذف المضاف أهون من حذف الجملة وأوفى بمقتضى المقابلة وحسن المطابقة؛ وجوز أن يكون * (خشية) * منصوبا على المصدرية و * (أشد) * صفة له قدمت عليه، فانتصب على الحالية، وذكر بعضهم أن التمييز بعد اسم التفضيل قد يكون نفس ما انتصب عنه نحو: * (فالله خير خافظا) * (يوسف: 64) فإن الحافظ هو الله تعالى كما لو قلت: الله خير حافظ بالجر، وحينئذ لا مانع من أن تكون الخشية نفس الموصوف ولا يلزم أن يكون للخشية خشية بمنزلة أن يقال: أشد خشية بالجر، والقول - بأن جواز هذا فيما إذا كان التمييز نفس الموصوف بحسب المفهوم واللفظ محل نظر محل نظر، إذ اتحاد اللفظ مع حذف الأول ليس فيه كبير محذور. وهذا إيراد قوي على ما قيل، وقد نقل ابن المنير عن " الكتاب " ما يعضده فتأمل، و * (أو) * قيل: للتنويع، وقيل: للإبهام على السامع، وقيل: للتخيير، وقيل: بمعنى الواو، وقيل: بمعنى بل
* (وقالوا) * عطف على جواب - لما - أي: فلما كتب عليهم القتال فاجأ بعضهم بألسنتهم أو بقلوبهم، وحكاه الله تعالى عنهم على سبيل تمني التخفيف لا الاعتراض على حكمه تعالى، والإنكار لإيجابه ولذا لم يوبخوا عليه * (ربنا لم كتبت علينا القتال) * في هذا الوقت. * (لولا أخرتنا إلى أجل قريب) * وهو الأجل المقدر؛ ووصف بالقريب للاستعطاف أي أنه قليل لا يمنع من مثله، والجملة كالبيان لما قبلها ولذا لم تعطف عليه، وقيل: إنما لم تعطف عليه للإيذان بأنهما مقولان مستقلان لهم، فتارة قالوا الجملة الأولى، وتارة الجملة الثانية، ولو عطفت لتبادر أنهم قالوا مجموع الكلامين بعطف الثانية على الأولى * (قل) * أي تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود عن القتال والتأخير إلى الأجل المقدر من المتاع الفاني وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي * (مت‍اع الدنيا) * أي جميع ما يستمتع به وينتفع في الدنيا * (قليل) * في نفسه سريع الزوال وهو أقل قليل بالنسبة إلى ما في الآخرة * (والآخرة) * أي ثوابها المنوط بالأعمال التي من جملتها القتال * (خير) * لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات، وفي اختلاف الأسلوب ما لا يخفى، وإنما قال سبحانه: * (لمن اتقى) * حثا لهم وترغيبا على الاتقاء والإخلال بموجب التكليف. وقيل: المراد أن نفس الآخرة خير ولكن للمتقين، لأن للكافر والعاصي هنالك نيرانا وأهوالا، ولذا قيل: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، ولا يخفى أن الأول أنسب بالسياق * (ولا تظلمون فتيلا) * عطف على مقدر أي تجزون فيها ولا تبخسون هذا المقدار اليسير فضلا عما زاد من ثواب أعمالكم فلا ترغبوا عن
القتال الذي هو من غرورها، وقرأ ابن كثير وكثير * (ولا يظلمون) * بالياء إعادة للضمير إلى ظاهر من..
* (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا ه‍اذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا ه‍اذه من عندك قل كل من عند الله فما له‍اؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) *.
* (أينما تكونوا يدرككم الموت) * يحتمل أن يكون ابتداء كلام مسوق من قبله تعالى بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم إلى ما ذكر أولا اعتناءا بإلزامهم إثر بيان حقارة الدنيا وفخامة الآخرة بواسطته صلى الله عليه وسلم فلا محل للجملة من الإعراب، ويحتمل أن يكون داخلا في حيز القول المأمور به، فمحل الجملة النصب، وجعل غير واحد ما تقدم جوابا للجملة الأولى من قولهم، وهذا جوابا للثانية منه، فكأنه لما قالوا: * (لم كتبت علينا القتال) *؟ أجيبوا ببيان الحكمة بأنه كتب عليكم ليكثر تمتعكم ويعظم نفعكم لأنه يوجب تمتع الآخرة، ولما قالوا: * (لولا أخرتنا) * (النساء: 77)؟! الخ أجيبوا بأنه: أينما تكونوا في السفر أو في الحضر يدرككم الموت لأن الأجل مقدر
86

فلا يمنع عنه عدم الخروج إلى القتال، وفي التعبير بالإدراك إشعار بأن القوم لشدة تباعدهم عن أسباب الموت وقرب وقت حلوله إليهم بممر الأنفاس والآنات كأنهم في الهرب منه وهو مجد في طلبهم لا يفتر نفسا واحدا في التوجه إليهم، وقرأ طلحة بن سليمان * (يدرككم) * بالرفع، واختلف في تخريجه فقيل: إنه على حذف الفاء كما في قوله - على ما أنشده سيبويه -:
من يفعل الحسنات الله يشكرها * والشر بالشر عند الله (مثلان)
وظاهر كلام " الكشاف " الاكتفاء بتقدير الفاء، وقدر بعضهم مبتدأ معها أي فأنتم يدرككم، وقيل: هو مؤخر من تقديم، وجواب الشرط محذوف أي - يدرككم الموت أينما تكونوا يدرككم - واعترض بأن هذا إنما يحسن فيما إذا كان ما قبله طالبا له كما في قوله: يا أقرع بن حابس يا أقرع * إنك إن (يصرع أخوك تصرع)
أو فيما إذا لم تكن الأداة اسم شرط، وأجيب بأن الشرط الأول: وإن نقل عن سيبويه إلا أنه نقل عنه أيضا الإطلاق، والشرط الثاني: لم يعول عليه المحققون، وقيل: إن الرفع على توهم كون الشرط ماضيا فإنه حينئذ لا يجب ظهور الجزم في الجواب لأن الأداة لما لم يظهر أثرها في القريب لم يجب ظهوره في البعيد وما قيل عليه من أن كون الشرط ماضيا والجزاء مضارعا إنما يحسن في كلمة - أن - لقلبها الماضي إلى معنى الاستقبال فلا يحسن - أينما كنتم يدرككم الموت - إلاعلى حكاية الماضي وقصد الاستحضار فيه نظر، نعم يرد عليه أن فيه تعسفا إذ التوهم - كما قال ابن المنير - أن يكون ما يتوهم هو الأصل، أو مما كثر في الاستعمال حتى صار كالأصل، وما توهم هنا ليس كذلك، وقيل: إن * (يدرككم) * كلام مبتدأ و * (أينما تكونوا) * متصل ب * (لا تظلمون) * (النساء: 77)، واعترض كما قال الشهاب: بأنه ليس بمستقيم معنى وصناعة، أما الأول: فلأنه لا يناسب اتصاله بما قبله لأن * (لا تظلمون فتيلا) * المراد منه في الآخرة فلا يناسبه التعميم، وأما الثاني: فلأنه يلزم عليه عمل ما قبل اسم الشرط فيه وهو غير صحيح لصدارته، وأجيب عن الأول: بأنه لا مانع من تعميم: ولا تظلمون للدنيا والآخرة أو يكون المعنى لا ينقصون شيئا من مدة الأجل المعلوم لا من الأجود وبه ينتظم الكلام، وعن الثاني: بأن المراد من الاتصال بما قبله - كما قال الحلبي - والسفاقسي اتصاله به معنى لا عملا على أن * (أينما تكونوا) * شرط جوابه محذوف تقديره: لا تظلمون وما قبله دليل الجواب، وأنت تعلم أن هذا التخريج وإن التزم الذب عنه بما ترى خلاف الظاهر المنساق إلى الذهن، وأولى التخريجات أنه على حذف الفاء وهو الذي اختاره المبرد، والقول بأن الحذف ضرورة في حيز المنع
* (ولو كنتم في بروج) * أي قصور، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج، وعن السدي والربيع رضي الله تعالى عنهم أنها قصور في السماء الدنيا، وقيل: المراد بها بروج السماء المعلومة، وعن أبي علي الجبائي أنها البيوت التي فوق القصور، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنها الحصون والقلاع وهي جمع ج وأصله من التبرج وهو الإظهار، ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت حسنها * (مشيدة) * أي مطلية بالشيد وهو الجص قال عكرمة أو مطولة بارتفاع - قاله الزجاج - فهو من شيد البناء إذا رفعه؛ وقرأ مجاهد * (مشيدة) * بفتح الميم وتخفيف الياء كما في قوله تعالى: * (وقصر مشيد) * (الحج: 45) وقرأ أبو نعيم بن ميسرة * (مشيدة) * بكسر الياء على التجوز ك‍ * (عيشة راضية) * وقصيدة شاعرة، والجملة معطوفة
87

على أخرى مثلها أي لو لم تكونوا في بروج ولو كنتم الخ، وقد اطرد الحذف في مثل ذلك لوضوح الدلالة * (وإن تصبهم حسنة يقولوا ه‍اذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا ه‍اذه من عندك) * نزلت على ما روي عن الحسن. وابن زيد في اليهود وذلك أنهم كانوا قد بسط عليهم الرزق فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فدعاهم إلى الإيمان فكفروا أمسك عنهم بعض الإمساك فقالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل، فالمعنى إن تصبهم نعمة أو رخاء نسبوها إلى الله تعالى وإن تصبهم بلية من جدب وغلاء أضافوها إليك متشائمين كما حكى عن أسلافهم بقوله تعالى: * (وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) * (الأعراف: 131) وإلى هذا ذهب الزجاج والفراء والبلخي والجبائي، وقيل: نزلت في المنافقين ابن أبي وأصحابه الذين تخلفوا عن القتال يوم أحد، وقالوا للذين قتلوا * (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) * (آل عمران: 156) فالمعنى إن تصبهم غنيمة قالوا: هي من عند الله تعالى، وأن تصبهم هزيمة قالوا: هي من سوء تدبيرك، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة، وقيل: نزلت فيمن تقدم وليس بالصحيح، وصحح غير واحد أنها نزلت في اليهود والمنافقين جميعا لما تشاءموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وقحطوا، وعلى هذا فالمتبادر من الحسنة والسيئة هنا النعمة والبلية، وقد شاع استعمالها في ذلك كما شاع استعمالها في الطاعة والمعصية، وإلى هذا ذهب كثير من المحققين، وأيد بإسناد الإصابة إليهما بل جعله صاحب " الكشف " دليلا بينا عليه وبأنه أنسب بالمقام لذكر الموت والسلامة قبل،
وقوله تعالى: * (قل كل من عند الله) * أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يرد زعمهم الباطل واعتقادهم الفاسد ويرشدهم إلى الحق ببيان إسناد الكل إليه تعالى على
الإجمال أي كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى خلقا وإيجادا من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلى بها عقوبة كما سيأتي بيانه. وهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل ردا على أسلاف اليهود من قوله تعالى: * (إنما طائرهم عند الله) * (الأعراف: 131) أي إنما سبب خيرهم وشرهم عند الله تعالى لا عند غيره حتى يستند ذلك إليه ويطيروا به - قاله شيخ الإسلام - ومنه يعلم اندفاع ما قيل: إن القوم لم يعتقدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل السيئة كما اعتقدوا أن الله تعالى فاعل الحسنة بل تشاءموا به وحاشاه عليه الصلاة والسلام فكيف يكون هذا ردا عليهم، ولا حاجة إلى ما أجاب به العلامة الثاني من أن الجواب ليس مجرد قوله تعالى: * (قل كل من عند الله) * بل هو إلى قوله سبحانه: * (وما أصابك من سيئة) * (النساء: 79) الخ
وقوله تعالى: * (فمال ه‍اؤلاء القوم) * أي اليهود والمنافقين المحتقرين * (لا يكادون يفقهون) * أي يفهمون * (حديثا) * أي كلاما يوعظون به وهو القرآن، أو كلاما ما أو كل شيء حدث وقرب عهده كلام من قبله تعالى معترض بين المبين وبيانه مسوق لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجيب من كمال غباوتهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والجملة المنفية حالية والعامل فيها ما في الظرف من الاستقرار أو الظرف نفسه، والمعنى حيث كان الأمر كذلك فأي شيء حصل لهؤلاء حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا نصوص القرآن الناطقة بأن الكل فائض من عند الله تعالى، أو بمعزل من أن يفهموا - حديثا - مطلقا حتى عدوا كالبهائم التي لا إفهام لها، أو بمعزل من أن يعقلوا صروف الدهر وتغيره حتى يعلموا أنه لها فاعلا حقيقيا بيده جميع الأمور ولا مدخل
88

لاحد معه، ويجوز أن تكون الجملة استئنافا مبنيا على سؤال نشأ من الاستفهام وهو ظاهر، وعلى التقديرين فالكلام مخرج مخرج المبالغة في عدم فهمهم فلا ينافي اعتقادهم أن الحسنة من عند الله تعالى، ويفهم من كلام بعضهم أن المراد من الحديث هو ما تفوهوا به آنفا حيث أنه يلزم منه تعدد الخالق المستلزم للشرك المؤدي إلى فساد العالم، وإن (ما) في حيز الأمر رد لهذا اللازم، وقدم لكونه أهم ثم استأنف بما هو حقيقة الجواب [بم أعني قوله سبحانه:
* (مآ أص‍ابك من حسنة فمن الله ومآ أص‍ابك من سيئة فمن نفسك وأرسلن‍اك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا) *.
* (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * وعلى ما ذكرنا - ولعله الأولى - يكون هذا بيانا للجواب المجمل المأمور به، والخطاب فيه كما قال الجبائي وروي عن قتادة: عام لكل من يقف عليه لا للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: إذا أنت أكرمت (الكريم) ملكته * وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ويدخل فيه المذكورون دخولا أوليا، وفي إجراء الجواب أولا: على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وسوق البيان من جهته تعالى ثانيا: بطريق تلوين الخطاب، والالتفات إيذان بمزيد الاعتناء به والاهتمام برد اعتقادهم الباطل وزعمهم الفاسد، والإشعار بأن مضمونه مبني على حكمة دقيقة حرية بأن يتولى بيانها علام الغيوب عز وجل، والعدول عن خطاب الجميع كما في قوله تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) * (الشورى: 30) للمبالغة في التحقيق بقطع احتمال سببية (معصية) بعضهم لعقوبة الآخرين، و * (ما) * كما قال أبو البقاء: شرطية وأصاب بمعنى يصيب والمراد - بالحسنة والسيئة - هنا ما أريد بهما من قبل، أي ما أصابك أيها الإنسان من نعمة من النعم فهي من الله تعالى بالذات تفضلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك كيف لا وكل ما يفعله العبد من الطاعات التي يرجى كونها ذريعة إلى إصابة نعمة ما فهي بحيث لا تكاد تكافىء نعمة الوجود، أو نعمة الإقدار على أدائها مثلا فضلا عن أن تستوجب نعمة أخرى، ولذا قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة: " لن يدخل أحدا عمله الجنة قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى بفضل رحمته ".
* (وما أصابك من (سيئة) (1)) * (أي) (1) بلية ما من البلايا فهي بسبب اقتراف نفسك المعاصي والهفوات المقتضية لها، وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى نازلة من عنده عقوبة وهذا كقوله تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) * (الشورى: 30)، وأخرج الترمذي عن أبي موسى قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها - أو ما دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر ". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: " ما كان من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك "، وعن أبي صالح مثله، وقال الزجاج: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمقصود منه الأمة، وقيل: له عليه الصلاة والسلام لكن لا لبيان حاله بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير، ولعل العدول عن خطابهم لإظهار كمال السخط والغضب عليهم؛ والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب لاسيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة، ثم اعلم أنه لا حجة لنا ولا للمعتزلة في مسألة الخير والشر بهاتين الآيتين لأن إحداهما بظاهرها لنا، والأخرى لهم فلا بد من التأويل وهو مشترك الإلزام ولأن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والبلية لا الطاعة والمعصية، والخلاف في الثاني، ولا تعارض بينهما أيضا لظهور اختلاف جهتي النفي والإثبات، وقد أطنب الإمام الرازي في هذا المقام كل الإطناب بتعديد الأقوال والتراجيح، واختار تفسير الحسنة والسيئة بما يعم النعم والطاعات والمعاصي والبليات، وقال بعضهم: يمكن أن يقال: لما جاء قوله تعالى:
89

* (وإن تصبهم حسنة) * بعد قوله سبحانه: * (أينما تكونوا يدرككم الموت) * (النساء: 78) ناسب أن تحمل الحسنة الأولى على النعمة، والسيئة على البلية، ولما أردف قوله عز وجل: * (ما أصابك من حسنة) * بما سيأتي ناسب أن يحملا على ما يتعلق بالتكليف من المعصية والطاعة - كما روي ذلك عن أبي العالية - ولهذا غير الأسلوب فعبر بالماضي بعد أن عبر بالمضارع، ثم نقل عن الراغب أنه فرق بين قولك: هذا من عند الله تعالى، وقولك: هذا من الله تعالى بأن من عند الله أعم من حيث إنه يقال فيما كان برضاه سبحانه وبسخطه، وفيما يحصل وقد أمر به ونهى عنه؛ ولا يقال: من الله إلا فيم كان برضاه وبأمره، وبهذا النظر قال عمر رضي الله تعالى عنه " إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن الشيطان " فتدبر.
ونقل أبو حيان عن طائفة من العلماء أن * (ما أصابك) * الخ على تقرير القول أي: فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا يقولون ما أصابك من حسنة الخ،
والداعي لهم على هذا التمحل توهم التعارض، وقد دعا آخرين إلى جعل الجملة بدلا من * (حديثا) * على معنى أنهم لا يفقهون هذا الحديث أعني * (ما أصابك) * الخ فيقولونه غير متحاشين عما يلزمه من تعدد الخالق وآخرين إلى تقدير استفهام إنكاري أي * (فمن نفسك) *، وزعموا أنه قرىء به، وقد علمت أن لا تعارض أصلا من غير احتياج إلى ارتكاب ما لا يكاد يسوغه الذوق السليم، وكذا لا حجة للمعتزلة في قوله سبحانه: * (حديثا) * على كون القرآن محدثا لما علمت من أنه ليس نصا في القرآن، وعلى فرض تسليم أنه نص لا يدل على حدوث الكلام النفسي والنزاع فيه، ثم وجه ارتباط هذه الآيات بما قبلها على ما قيل: إنه سبحانه بعد أن حكى عن المسلمين ما حكى ورد عليهم بما رد نقل عن الكفار ما رده عليهم أيضا وبين المحكيين مناسبة من حيث اشتمالها على إسناد ما يكره إلى بعض الأمور وكون الكراهة له بسبب ذلك وهو كما ترى.
وفي " الكشف " أن جملة * (وإن تصبهم) * (النساء: 78) الخ معطوفة على جملة قوله تعالى: * (فإن أصابتكم مصيبة) * (النساء: 72)، * (ولئن أصابكم فضل) * (النساء: 73) دلالة على تحقق التبطئة والتثبيط، أما دلالة الأولتين فلا خفاء بهما، وأما الثانية: فلأنهم إذا اعتقدوا في الداعي إلى الجهاد صلى الله عليه وسلم ذلك الاعتقاد الفاسد قطعوا أن في اتباعه - لا سيما فيما يجر إلى ما عدوه سيئة - الخبال والفساد، ولهذا قلب الله عليهم في قوله سبحانه: * (فمن نفسك) * ليصير ذلك كافا لهم عن التثبيط إلى التنشيط، وأردفه ذكر ما هم فيه من التعكيس في شأن من هو رحمة مرسلة للناس كافة، وأكد أمر اتباعه بأن جعل طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة الله تعالى مع ما أمده به من التهديد البالغ المضمن في قوله سبحانه: * (ومن تولى) * (النساء: 80) ثم قال - ولا يخفى أن ما وقع بين المعطوفين ليس بأجنبي - وأن * (فليقاتل) * (النساء: 74) شديد التعلق بسابقه، ولما لزم من هذا النسق تقسيم المرسل إليهم إلى كافر مبطىء ومؤمن قوي وضعيف استأنف تقسيمهم مرة أخرى في قوله سبحانه الآتي: * (ويقولون) * (النساء: 81) أي الناس المرسل إليهم إلى مبيت هو الأول ومذيع هو الثالث، ومن يرجع إليه هو الثاني فهذا وجه النظم والارتباط بين الآيات السابقة واللاحقة انتهى، ولا يخلو عن حسن وليس بمتعين كما لا يخفى.
هذا ووقف أبو عمرو والكسائي بخلاف عنه على (ما) من قوله تعالى: * (فمال هؤلاء) * (النساء: 78) وجماعة على - لام الجر - وتعقب ذلك السمين بأنه ينبغي أن لا يجوز كلا الوقفين إذ الأول: وقف على المبتدأ دون خبره، والثاني: على الجار دون مجروره، وقرأ أبي وابن مسعود ابن عباس (وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك) -.
* (وأرسلن‍اك للناس رسولا) * بيان لجلالة منصبه صلى الله عليه وسلم ومكانته عند ربه سبحانه بعد الذب عنه بأتم وجه، وفيه رد أيضا لمن زعم اختصاص رسالته عليه الصلاة والسلام بالعرب فتعريف - الناس -
90

للاستغراق، والجار متعلق ب * (رسولا) * قدم عليه للاختصاص الناظر إلى قيد العموم أي مرسلا لكل الناس لا لبعضهم فقط كما زعموا، و * (رسولا) * حال مؤكدة لعاملها، وجوز أن يتعلق الجار بما عنده، وأن يتعلق بمحذوف وقع حالا من * (رسولا) * وجوز أيضا أن يكون * (رسولا) * مفعولا مطلقا إما على أنه مصدر كما في قوله: لقد كذب الواشون ما فهت عندهم * (بشيء) ولا أرسلتهم برسول
وإما على أن الصفة قد تستعمل بمعنى المصدر مفعولا مطلقا كما استعمل الشاعر خارجا بمعنى خروجا في قوله: علي حلفة لا أشتم الدهر مسلما * ولا (خارجا) من زور كلام
حيث أراد كما قال سيبويه: ولا يخرج خروجا * (وكفى بالله شهيدا) * على رسالتك أو على صدقك في جميع ما تدعيه حيث نصب المعجزات وأنزل الآيات البينات، وقيل: المعنى كفى الله تعالى شهيدا على عباده بما يعملون من خير أو شر، والالتفات لتربية المهابة..
* (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فمآ أرسلن‍اك عليهم حفيظا) *.
* (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * بيان لأحكام رسالته صلى الله عليه وسلم إثر بيان تحققها، وإنما كان كذلك لأن الآمر والناهي في الحقيقة هو الحق سبحانه، والرسول إنما هو مبلغ للأمر والنهي فليس الطاعة له بالذات إنما هي لمن بلغ عنه. وفي بعض الآثار عن مقاتل " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: من أحبني فقد أحب الله تعالى ومن أطاعني فقد أطاع الله تعالى فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشرك، وهو نهى أن يعبد غير الله تعالى ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى عليه السلام؟ فنزلت " فالمراد بالرسول نبينا صلى الله عليه وسلم، والتعبير عنه بذلك ووضعه موضع المضمر للإشعار بالعلية، وقيل: المراد به الجنس ويدخل فيه نبينا صلى الله عليه وسلم دخولا أوليا، ويأباه تخصيص الخطاب في قوله تعالى: * (ومن تولاى فما أرسلناك عليهم حفيظا) * وجعله من باب الخطاب لغير معين خلاف الظاهر، و * (من) * شرطية وجواب الشرط محذوف، والمذكور تعليل له قائم مقامه أي ومن أعرض عن الطاعة فأعرض عنه لأنا إنما أرسلناك رسولا مبلغا لا حفيظا مهيمنا تحفظ أعمالهم عليهم وتحاسبهم عليها، ونفي - كما قيل - كونه حفيظا أي مبالغا في الحفظ دون كونه حافظا لأن الرسالة لا تنفك عن الحفظ لأن تبليغ الأحكام نوع حفظ عن المعاصي والآثام، وانتصاب الوصف على الحالية من الكاف، وجعله مفعولا ثانيا لأرسلنا لتضمينه معنى جعلنا مما لا حاجة إليه، و * (عليهم) * متعلق به وقدم رعاية للفاصلة، وفي إفراد ضمير الرفع وجمع ضمير الجر مراعاة للفظ - من - ومعناها، وفي العدول عن - ومن تولى فقد عصاه - الظاهر في المقابلة إلى ما ذكر ما لا يخفى من المبالغة..
* (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طآئفة منهم غير الذى تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) *.
* (ويقولون) * الضمير للمنافقين كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن والسدي، وقيل: للمسلمين الذين حكى عنهم أنهم يخشون الناس كخشية الله
أي ويقولون إذا أمرتهم بشيء * (طاعة) * أي أمرنا وشأننا طاعة على أنه خبر مبتدأ محذوف وجوبا، وتقدير طاعتك طاعة خلاف الظاهر أو عندنا أو منا طاعة على أنه مبتدأ وخبره محذوف وكان أصله النصب كما يقول المحب: سمعنا وطاعة لكنه يجوز في مثله الرفع - كما صرح به سيبويه - للدلالة على أنه ثابت لهم قبل الجواب * (فإذا برزوا من عندك) * أي خرجوا من مجلسك وفارقوك * (بيت طآئفة) * أي جماعة * (منهم) * وهم رؤساؤهم، والتبييت إما من البيتوتة لأنه تدبير الفعل
91

ليلا والعزم عليه، ومنه تبييت نية الصيام ويقال: هذا أمر تبيت بليل، وإما من بيت الشعر لأن الشاعر يدبره ويسويه، وإما من البيت المبني لأنه يسوى ويدبر، وفي هذا بعد - وإن أثبته الراغب لغة - والمراد زورت وسوت * (غير الذي تقول) * أي خلاف ما قلت لها أو ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة، والعدول عن الماضي لقصد الاستمرار، وإسناد الفعل إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدون له بالذات؛ والباقون أتباع لهم في ذلك لا لأنهم ثابتون على الطاعة، وتذكيره أولا لأن تأنيث الفاعل غير حقيقي، وقرأ أبو عمرو وحمزة (بيت طائفة) بالادغام لقربهما في المخرج، وذكر بعض المحققين أن الإدغام هنا على خلاف الأصل والقياس، ولم تدغم تاء متحركة غير هذه * (والله يكتب ما يبيتون) * أي يثبته في صحائفهم ليجازيهم عليه، أو فيما يوحيه إليك فيطلعك على أسرارهم ويفضحهم - كما قال الزجاج - والقصد على الأول: لتهديدهم، وعلى الثاني: لتحذيرهم * (فأعرض عنهم) * أي تجاف عنهم ولا تتصد للانتقام منهم، أو قلل المبالاة بهم والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها * (وتوكل على الله) * أي فوض أمرك إليك وثق به في جميع أمورك لا سيما في شأنهم، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم * (وكفى بالله وكيلا) * قائما بما فوض إليه من التدبير فيكفيك (مضرتهم) وينتقم لك منهم، والإظهار لما سبق للإيذان باستقلال الجملة واستغنائها عما عداها من كل وجه..
* (أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختل‍افا كثيرا) *.
* (أفلا يتدبرون القرءان) * لعله جواب سؤال نشأ من جعل الله تعالى شهيدا كأنه قيل: شهادة الله تعالى لا شبهة فيها ولكن من أين يعلم أن ما ذكرته شهادة الله تعالى محكية عنه؟ فأجاب سبحانه بقوله: * (أفلا يتدبرون) * وأصل التدبر التأمل في أدبار الأمور وعواقبها ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه أو سوابقه وأسبابه أو لواحقه وأعقابه، والفاء للعطف على مقدر أي - أيشكون في أن ما ذكر شهادة الله تعالى فلا يتدبرون القرآن الذي جاء به هذا النبي صلى الله عليه وسلم المشهود له ليعلموا كونه من عند الله فيكون حجة وأي حجة على المقصود - وقيل: المعنى أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونه من عند الله تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكي على ما هو عليه.
* (ولو كان) * أي القرآن. * (من عند غير الله) * كما يزعمون * (لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * بأن يكون بعض إخباراته الغيبية كالإخبار عما يسره المنافقون غير مطابق للواقع لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى فحيث اطرد الصدق فيه ولم يقع ذلك قط علم أنه بإعلامه تعالى ومن عنده، وإلى هذا يشير كلام الأصم والزجاج، وفي رواية عن ابن عباس أن المراد لوجدوا فيه تناقضا كثيرا، وذلك لأن كلام البشر إذا طال لم يخل - بحكم العادة - من التناقض، وما يظن من الاختلاف كما في كثير من الآيات، ومنه ما سبق آنفا ليس من الاختلاف عند المتدبرين، وقيل - وهو مما لا بأس به خلافا لزاعمه - " المراد لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته فكان بعضه بالغا حد الإعجاز وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم فلما تجاوب كله بلاغة معجزة (فائقة) لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق إخبار علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره عالم بما لا يعلمه سواه انتهى ".
92

وهو مبني على كون وجه الإعجاز عند علماء العربية كون القرآن في مرتبة الأعلى من البلاغة، وكون المقصود من الآية إثبات القرآن كله وبعضه من الله تعالى، وحينئذ لا يمكن وصف الاختلاف بالكثرة لأنه لا يكون الاختلاف حينئذ إلا بأن يكون البعض منه معجزا والبعض غير معجز، وهو اختلاف واحد فلذا جعل (وجدوا) متعديا إلى مفعولين أولهما: * (كثيرا) *، وثانيهما: * (اختلافا) * بمعنى مخلفا، وإليه يشير قوله: لكان الكثير منه مختلفا وإنما جعل اللازم على تقدير كونه من عند غير الله تعالى كون الكثير مختلفا مع أنه يلزم أن يكون الكل مختلفا اقتصارا على الأقل كما في قوله تعالى: * (يصبكم بعض الذي يعدكم) * (غافر: 28) وهو من الكلام المنصف، وبهذا يندفع ما أورد من أن الكثرة صفة الاختلاف والاختلاف صفة للكل في النظم، وقد جعل صفة الكثرة والكثرة صفة الكثير، لأنا لا نسلم أن الكثرة صفة الاختلاف بل هما مفعولا * (وجدوا) * وكذا ما أورد من أنه يفهم من قوله: لكان بعضه بالغا حد الإعجاز ثبوت قدرة غيره تعالى على الكلام المعجز وهو باطل لأنا لا نسلم ذلك فإن المقصود أن القرآن كلا وبعضا من الله تعالى أي البعض الذي وقع به التحدي - وهو مقدار أقصر سورة منه ولو كان بعض من أبعاضه من غيره تعالى - لوجدوا فيه الاختلاف المذكور، وهو أن لا يكون بعضه بالغا حد الإعجاز - قاله بعض المحققين - وقال بعضهم: لا محيص عن الإيراد الأخير سوى أن يحمل الكلام على الفرض والتقدير أي لو كان فيه مرتبة الإعجاز ففي البعض خاصة على أن يكون ذلك القدر مأخوذا من كلام الله تعالى كما في الاقتباس ونحوه - إلا أنه لا يخفى بعده، وإلى تفسير الاختلاف بالتفاوت بلاغة وعدم بلاغة ذهب أبو علي الجبائي إلى هذا ونقل عن الزمخشري أن في الآية فوائد: وجوب النظر في الحجج والدلالات، وبطلان التقليد وبطلان قول من يقول: إن المعارف الدينية ضرورية، والدلالة على صحة القياس، والدلالة على أن أفعال العباد ليست بخلق الله تعالى لوجود التناقض فيها انتهى. ولا يخفى أن دلالتها على وجوب النظر في الجملة وبطلان التقليد للكل وقول من يقول: إن المعارف الدينية كلها ضرورية، أما على صحة القياس على المصطلح الأصولي فلا، وأما تقرير الأخير - على ما في " الكشف " - فلأن اللازم كل مختلف من عند غير الله تعالى على قولهم: إن لو عكس لولا ولو كان أفعال العباد من خلقه لكانت من عنده بالضرورة، وكذبت القضية أو بعض المختلف من عند غير الله تعالى على ما حققه الشيخ ابن الحاجب، والمشهور عند أهل الاستدلال فيكون بعض أفعال العباد غير مخلوقة له تعالى ويكفي ذلك في الاستدلال إذ لا قائل بالفرق بين بعض وبعض إذا كان اختياريا، وأجاب فيه بأن اللازم كل
مختلف هو قرآن من عند غير الله تعالى على الأول، وحينئذ لا يتم الاستدلال، وذكر أن معنى * (ولو كان من عند غير الله) * تعالى عند الجماعة ولو كان قائما بغيره تعالى ولا مدخل للخلق في هذه الملازمة، وأنت تعلم أنه غير ظاهر الإرادة هنا وكذا استدل بالآية على فساد قول من زعم: إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم أو الإمام المعصوم - كما قال بعض الشيعة -..
* (وإذا جآءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيط‍ان إلا قليلا) *.
* (وإذا جاءهم) * أي المنافقين - كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك وأبي معاذ - أو ضعفاء المسلمين - كما روي عن الحسن وذهب إليه غالب المفسرين - أو الطائفتين كما نقله ابن عطية - * (أمر من الأمن أو الخوف) * أي مما يوجب الأمن والخوف * (أذاعوا به) * أي أفشوه، والباء مزيدة، وفي " الكشاف " " يقال: أذاع السر وأذاع به، ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاغة وهو
93

أبلغ من أذاعوه " لدلالته على أنه يفعل نفس الحقيقة كما في نحو - فلان يعطي ويمنع - ولما فيه من الإبهام والتفسير وقيل: الباء لتضمن الإذاعة معنى التحديث وجعلها بمعنى مع والضمير للمجيء مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه. والكلام مسوق لبيان جناية أخرى من جنايات المنافقين، أو لبيان جناية الضعفاء إثر بيان جناية المنافقين وذلك أنه إذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها فقالوا: أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يخبرهم به، ولا يكاد يخلو ذلك عن مفسدة، وقيل: كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف فيذيعونه فينشر فيبلغ الأعداء فتعود الإذاعة مفسدة، وقيل: الضعفاء يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنون غير معلوم الصحة فيذيعونه قبل أن يحققوه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين، وفيه إنكار على من يحدث بالشيء قبل تحقيقه، وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة مرفوعا " كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع " والجملة عند صاحب " الكشف " معطوفة على قوله تعالى: * (ويقولون طاعة) * (النساء: 81)، وقوله سبحانه: * (أفلا يتدبرون) * (النساء: 82) اعتراض تحذيرا لهم عن الإضمار لما يخالف الظاهر، فإن في تدبر القرآن جارا إلى طاعة المنزل عليه أي جار، وقيل: الكلام مسوق لدفع ما عسى أن يتوهم في بعض المواد من شائبة الاختلاف بناءا على عدم فهم المراد ببيان أن ذلك لعدم وقوفهم على معنى الكلام لا لتخلف مدلوله عنه، وذلك أن ناسا من ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة يذيعونه من غير فهم لمعناه ولا ضبط لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحملونه عليه من المحامل، وعلى تقدير الفهم قد يكون ذلك مشروطا بأمور تفوت بالإذاعة فلا يظهر أثره المتوقع فيكون ذلك منشأ لتوهم الاختلاف - ولا يخلو عن حسن - غير أن روايات السلف على خلافه، وأيا ما كان فقد نعى الله تعالى ذلك عليهم.
وقال سبحانه: * (ولو ردوه) * أي ذلك الأمر الذي جاءهم * (إلى الرسول) * صلى الله عليه وسلم * (وإلى أولي الأمر منهم) * وهم كبائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم البصراء في الأمور، وهو الذي ذهب إليه الحسن وقتادة وخلق كثير. وقال السدي وابن زيد وأبو علي الجبائي: المراد بهم أمراء السرايا والولاة، وعلى الأول: المعول * (لعلمه) * أي لعلم تدبير ذلك الأمر الذي أخبروا به * (الذين يستنبطونه منهم) * أي يستخرجون تدبيره بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايده، أو لو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ذكر، وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلم الذي يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون وما يذرون، أو: لو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم وقالوا نسكت حتى نسمعه منهم ونعلمه هل مما يذاع أو لا يذاع لعلم صحته، وهل هو مما يذاع أو لا هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر أي يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم، أو لو عرضوه على رأيه عليه الصلاة والسلام مستكشفين لمعناه وما ينبغي له من التدبير، وإلى أجلة صحبه رضي الله تعالى عنهم لعلم الرادون معناه وتدبيره وهم الذين يستنبطونه ويستخرجون علمه وتدبيره من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن تشرف بالعطف عليه، والتعبير بالرسالة لما أنها من موجبات الرد. وكلمة - من - إما ابتدائية والظرف لغو متعلق بيستنبطونه، وإما تبعيضية أو بيانية تجريدية والظرف حال، ووضع
94

الموصول موضع الضمير في الاحتمالين الأخيرين للإيذان بأنه ينبغي أن يكون القصد بالرد استكشاف المعنى واستيضاح الفحوى، والاستنباط في الأصل استخراج الشيء من مأخذه - كالماء من البئر والجوهر من المعدن - ويقال للمستخرج: نبط بالتحريك ثم تجوز به فأطلق على كل أخذ وتلق.
* (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) * خطاب للطائفة المذكورة آنفا بناءا على أنهم ضعفة المؤمنين على طريقة الالتفات، والمراد من الفضل والرحمة شيء واحد أي لولا فضله سبحانه عليكم ورحمته بإرشادكم إلى سبيل الرشاد الذي هو الرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر * (لاتبعتم الشيط‍ان) * وعملتم بآرائكم الضعيفة، أو أخذتم بآراء المنافقين فيما تأتون وتذرون ولم تهتدوا إلى (صوب) الصواب * (إلا قليلا) * وهم أولو الأمر المستنيرة عقولهم بأنوار الإيمان الراسخ، الواقفون على الأسرار الراسخون في معرفة الأحكام بواسطة الاقتباس من مشكاة النبوة، فالاستثناء منقطع أو الخطاب للناس أي: ولولا فضل الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بإنزال القرآن - كما فسرهما بذلك السدي والضحاك - وهو اختيار الجبائي، ولا يبعد العكس لاتبعتم كلكم الشيطان وبقيتم على الكفر والضلالة إلا قليلا منكم قد تفضل عليه بعقل راجح فاهتدى به إلى طريق الحق، وسلم من مهاوي الضلالة وعصم من متابعة الشيطان من غير إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام وإنزال الكتاب - كقس بن ساعدة الأيادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وأضرابهم - فالاستثناء متصل، وإلى ذلك ذهب الأنباري. وقال أبو مسلم: المراد بفضل الله تعالى ورحمته النصرة والمعونة مرة بعد أخرى، والمعنى لولا حصول النصر والظفر لكم على سبيل التتابع لاتبعتم الشيطان فيما يلقي إليكم من الوساوس
والخواطر الفاسدة المؤدية إلى الجبن والفشل والركون إلى الضلال وترك الدين إلا قليلا وهم أهل البصائر النافذة، والعزائم المتمكنة والنيات الخالصة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كون الدين حقا حصول الدولة في الدنيا، أو باطلا حصول الانكسار والانهزام، بل مدار الأمر في كونه حقا وباطلا على الدليل، ولا يرد أنه يلزم من جعل الاستثناء من الجملة التي وليها جواز أن ينتقل الإنسان من الكفر إلى الايمان، ومن اتباع الشيطان إلى عصيانه وخزيه، وليس لله تعالى عليه في ذلك فضل ومعاذ الله تعالى أن يعتقد هذا مسلم موحد سنيا كان أو معتزليا، وذلك لأن لولا حرف امتناع لوجود، وقد أنبأت أن امتناع اتباع المؤمنين للشيطان في الكفر وغيره إنما كان بوجود فضل الله تعالى عليهم، فالفضل هو السبب المانع من اتباع الشيطان فإذا جعل الاستثناء مما ذكر فقد سلبت تأثير فضل الله تعالى في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة، وجعلهم مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان الداعي إلى الكفر بأنفسهم لا بفضل الله تعالى، ألا تراك إذا قلت لمن تذكره بحقك عليه: لولا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب، وإنما مننت عليه في تأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله لا في كله، لأنا نقول هذا إذا عم الفضل لا إذا خص كما أشرنا إليه لأن عدم الاتباع إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص لا ينافي أن يكون بفضل آخر، نعم ظاهر عبارة " الكشاف " في هذا المقام مشكل حيث جعل الاستثناء من الجملة الأخيرة، وزاد التوفيق في البيان، ويمكن أن يقال أيضا: أراد به توفيقا خاصا نشأ مما قبله، وهذا أولى من الإطلاق ودفع الإشكال بأن عدم الفضل والرحمة على الجميع لا يلزم منه العدم على
95

البعض لما فيه من التكلف، وذهب بعضهم للتخلص من الإيراد إلى أن الاستثناء من قوله تعالى: * (أذاعوا به) *، وروي ذلك عن ابن عباس - وهو اختيار المبرد والكسائي والفراء والبلخي والطبري - واتخذ القاضي أبو بكر الآية دليلا في الرد على من جزم بعود الاستثناء عند تعدد الجمل إلى الأخيرة. وعن بعض أهل اللغة أن الاستثناء من قوله سبحانه: * (لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (النساء: 82) وعن أكثرهم أنه من قوله تعالى: * (لعلمه الذين يستنبطونه) * واعترضه الفراء والمبرد بأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله، وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك، وتعقب ذلك الزجاج بأنه غلط لأنه لا يراد بهذا الاستنباط ما يستخرج بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر؛ وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه ولا يجهله إلا البالغ في البلادة - وفيه نظر - وبعضهم إلى جعل الاستثناء مفرغا من المصدر فما بعد * (إلا) * منصوب على أنه مفعول مطلق أي لاتبعتموه كل اتباع إلا اتباعا قليلا بأن تبقوا على إجراء الكفر وآثاره إلا البقاء القليل النادر بالنسبة إلى البعض، وذلك قد يكون بمجرد الطبع والعادة، وأحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق عند الإمام ما ذكره أبو مسلم، وأيد التخصيص فيما ذهب إليه الأنباري بأن قوله تعالى: * (ومن يطع الرسول) * (النساء: 80) الخ، وقوله سبحانه: * (أفلا يتدبرون القرآن) * (النساء: 82) يشهدان له، وفي الذي بعده بأن قوله عز وجل: * (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف) * الخ [بم وقوله جل وعلا:.
* (فقاتل فى سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) *.
* (فق‍اتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) * يشهد له وأنت تعلم أن قرينة التخصيص بهما غير ظاهرة، والفاء في هذه الآية واقعة في جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم أي إذا كان الأمر كما حكى من عدم طاعة المنافقين وتقصير الآخرين في مراعاة أحكام الإسلام فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا. ونقل الطبرسي في اتصال الآية قولين: أحدهما: أنها متصلة بقوله تعالى: * (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * (النساء: 74) والمعنى فإن أردت الأجر العظيم فقاتل، ونقل عن الزجاج، وثانيهما: أنها متصلة بقوله عز وجل: * (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) * (النساء: 75) والمعنى إن لم يقاتلوا في سبيل الله فقاتل أنت وحدك، وقيل: هي متصلة بقوله تعالى: * (فقاتلوا أولياء الشيطان) * (النساء: 76) ومعنى * (لا تكلف إلا نفسك) * لا تكلف إلا فعلها إذ لا تكليف بالذوات، وهو استثناء مقرر لما قبله فإن اختصاص تكليفه عليه الصلاة والسلام بفعل نفسه من موجبات مباشرته صلى الله عليه وسلم للقتال وحده، وفيه دلالة على أن ما فعلوه من التثبيط والتقاعد لا يضره صلى الله عليه وسلم ولا يؤاخذ به، وذهب بعض المحققين إلى أن الكلام مجاز أو كناية عن ذلك فلا يرد أنه مأمور بتكليف الناس، فكيف هذا ولا حاجة إلى ما قيل، بل في ثبوته فقال: إنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بأن يقاتل وحده أولا، ولهذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه في أهل الردة: أقاتلهم وحدي ولو خالفتني يميني لقاتلتها بشمالي، وجعل أبو البقاء هذه الجملة في موضع الحال من فاعل - قاتل - أي فقاتل غير مكلف إلا نفسك، وقرىء * (لا تكلف) * بالجزم على أن لا ناهية والفعل مجزوم بها أي لا تكلف أحدا الخروج إلا نفسك، وقيل: هو مجزوم في جواب الأمر وهو بعيد، و (لا نكلف) بالنون على بناء الفاعل فنفسك مفعول ثان بتقدير مضاف، وليس في موقع المفعول الأول أي لا نكلفك إلا فعل نفسك لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك، وقيل: لا مانع من ذلك على معنى لا نكلف أحدا هذا التكليف إلا نفسك. والمراد من هذا التكليف مقاتلته وحده.
* (وحرض المؤمنين) * أي حثهم على القتال ورغبهم فيه وعظهم
96

لما أنهم آثمون بالتخلف لفرضه عليهم قبل هذا بسنين، وأصل التحريض إزالة الحرض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به، فالتفعيل للسلب والإزالة - كقذيته، وجلدته - ولم يذكر المحرض عليه لغاية ظهوره. * (عسى الله أن يكف بأس) * نكاية * (الذين كفروا) * ومنهم قريش وعسى من الله تعالى - كما قال الحسن وغيره - تحقيق، وقد فعل سبحانه ما وعد به، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واعد صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم حتى أتى موسم بدر فكفاهم الله سبحانه بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان، وألقى الله تعالى الرعب في قلبه، ولم يكن قتال يومئذ وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه سالمين * (والله أشد بأسا) * من الذين كفروا * (وأشد تنكيلا) * أي تعذيبا، وأصله التعذيب بالنكل وهو القيد فعمم، والمقصود من الجملة التهديد والتشجيع، وإظهار الاسم الجليل لتربية
المهابة، وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة، (وتذكير) الخبر لتأكيد التشديد [بم وقوله تعالى:
* (من يشفع شف‍اعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شف‍اعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شىء مقيتا) *.
* (من يشفع شف‍اعة حسنة يكن له نصيب) * أي حظ وافر * (منها) * أي من ثوابها، جملة مستأنفة سيقت لبيان أن له عليه الصلاة والسلام فيما أمر به من تحريض المؤمنين حظا موفورا من الثواب، وبه ترتبط الآية بما قبلها كما قال القاضي. وقال علي بن عيسى: إنه سبحانه لما قال: * (لا تكلف إلا نفسك) * (النساء: 84) مشيرا به إلى أنه عليه الصلاة والسلام غير مؤاخذ بفعل غيره كان مظنة لتوهم أنه كما لا يؤاخذ بفعل غيره لا يزيد عمله بعمل غيره أيضا فدفع ما عسى أن يتوهم بذلك، وليس بشيء كما لا يخفى، و - الشفاعة - هي التوسط بالقول في وصول الشخص ولو كان أعلى قدرا من الشفيع إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الأخروية، أو خلاصه عن مضرة ما كذلك من الشفع ضد الوتر كأن المشفوع له كان وترا فجعله الشفيع شفعا، ومنه الشفيع في الملك لأنه يضم ملك غيره إلى نفسه أو يضم نفسه إلى من يشتريه ويطلبه منه، و - الحسنة - منها ما كانت في أمر مشروع روعي بها حق مسلم ابتغاءا لوجه الله تعالى، ومنها الدعاء للمسلمين فإنه شفاعة معنى عند الله تعالى، روى مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال الملك: ولك مثل ذلك "، وفيه بيان لمقدار النصيب الموعود ولا أرى حسنا إطلاق الشفاعة على الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بل لا أكاد أسوغه، وإن كانت فيه منفعة له صلى الله عليه وسلم كما أن فيه منفعة لنا على الصحيح.
وتفسيرها بالدعاء - كما نقل عن الجبائي - أو بالصلح بين إثنين - كما روي الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - لعله من باب التمثيل لا التخصيص، وكون التحريض الذي فعله صلى الله عليه وسلم من باب الشفاعة ظاهر فإن المؤمنين تخلصوا بذلك من مضرة التثبط وتعيير العدو، واحتمال الذل وفازوا بالأجر الجزيل المخبوء لهم يوم القيامة؛ وربحوا أموالا جسيمة بسبب ذلك، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما وافى بجيشه بدرا ولم ير بها أحدا من العدو أقام ثماني ليال وكان معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا كثيرا، ومن الناس من فسر الشفاعة هنا بأن يصير الإنسان شفع صاحبه في طاعة أو معصية، والحسنة منها ما كان في طاعة، فالجملة مسوقة للترغيب في الجهاد والترهيب عن التخلف والتقاعد، وأمر الارتباط عليه ظاهر ولا بأس به غير أن الجمهور على خلافه.
97

* (ومن يشفع شف‍اعة سيئة) * وهي ما كانت بخلاف الحسنة، ومنها الشفاعة في حد من حدود الله تعالى ففي الخبر: " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله تعالى في ملكه ومن أعان على خصومة بغير علم كان في سخط الله تعالى حتى ينزع " واستثني من الحدود القصاص، فالشفاعة في إسقاطه إلى الدية غير محرمة * (يكن له كفل منها) * أي نصيب من وزرها، وبذلك فسره السدي والربيع وابن زيد وكثير من أهل اللغة، فالتعبير بالنصيب في الشفاعة الحسنة، وبالكفل في الشفاعة السيئة للتفنن، وفرق بينهما بعض المحققين بأن النصيب يشمل الزيادة، والكفل هو المثل المساوي، فاختيار النصيب أولا لأن جزاء الحسنة يضاعف؛ والكفل ثانيا لأن من جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها، ففي الآية إشارة إلى لطف الله تعالى بعباده، وقال بعضهم: إن الكفل وإن كان بمعنى النصيب إلا أنه غلب في الشر وندر في غيره كقوله تعالى: * (يؤتكم كفلين من رحمته) * (الحديد: 28) فلذا خص بالسيئة تطرية وهربا من التكرار * (وكان الله على كل شيء مقيتا) * أي مقتدرا - كما قاله ابن عباس - حين سأله عنه نافع بن الأزرق واستشهد عليه بقول أحيحة الأنصاري: وذي ضغن كففت النفس عنه * وكنت على مساءته (مقيتا)
وروي ذلك عن جماعة من التابعين، وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه الحفيظ واشتقاقه من القوت، فإنه يقوي البدن ويحفظه، وعن الجبائي أنه المجازي أي يجازي على كل شيء من الحسنات والسيئات، وأصله مقوت فأعل كمقيم؛ والجملة تذييل مقرر لما قبلها على سائر التفاسير..
* (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ إن الله كان على كل شىء حسيبا) *.
* (وإذا حييتم بتحية) * ترغيب كما قال شيخ الإسلام: في فرد شائع من (أفراد) الشفاعة الحسنة إثر ما رغب فيها على الإطلاق وحذر عما يقابلها من الشفاعة السيئة، فإن تحية الإسلام من المسلم شفاعة منه لأخيه عند الله عز وجل، وهذا أولى في الارتباط مما قاله الطبرسي: " إنه لما كان المراد بالسلام المسالمة التي هي ضد الحرب - وقد تقدم ذكر القتال - عقبه به للإشارة إلى الكف عمن ألقى إلى المؤمنين السلم وحياهم بتحية الإسلام "، والتحية مصدر حيي أصلها تحيية - (كتتمية)، وتزكية - وأصل الأصل تحيي بثلاث ياءات فحذفت الأخيرة وعوض عنها هاء التأنيث ونقلت حركة الياء الأولى إلى ما قبلها، ثم أدغمت وهي في الأصل كما قال الراغب: الدعاء بالحياة وطولها، ثم استعملت في كل دعاء، وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضا تقول: حياك الله تعالى، ثم استعملها الشرع في السلام، وهو تحية الإسلام قال الله تعالى: * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) * (الأحزاب: 44) وقال سبحانه: * (فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله) * (النور: 61)، وفيه على ما قالوا: مزية على قولهم: حياك الله تعالى لما أنه دعاء بالسلامة عن الآفات، وربما تستلزم طول الحياة، وليس في ذلك سوى الدعاء بطول الحياة أو به وبالملك، ورب حياة الموت خير منها. ألا موت يباع فأشتريه * فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن نفس حر * تصدق بالممات على أخيه
وقال آخر: ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا * كاسفا باله قليل الرجاء
ولأن السلام من أسمائه تعالى والبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته أي إذا سلم عليكم من جهة المؤمنين
98

كما قال الحسن وعطاء، أو مطلقا كما أخرج ابن أبي شيبة والبخاري في " الأدب " وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. * (فحيوا بأحسن منها) * أي بتحية
أحسن من التحية التي حييتم بها بأن تقولوا وعليكم السلام ورحمة الله تعالى إن اقتصر المسلم على الأول، وبأن تزيدوا وبركاته إن جمعهما المسلم وهي النهاية، فقد أخرج البيهقي عن عروة بن الزبير - أن رجلا سلم عليه فقال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته فقال عروة: ما ترك لنا فضلا إن السلام قد انتهى إلى وبركاته - وفي معناه ما أخرجه الإمام أحمد والطبراني عن سلمان الفارسي مرفوعا وذلك لانتظام تلك التحية لجميع فنون المطالب التي هي السلامة عن المضار، ونيل المنافع ودوامها ونمائها، وقيل: يزيد المحيي إذا جمع المحيي الثلاثة له، فقد أخرج البخاري في " الأدب المفرد " عن سالم مولى عبد الله بن عمر قال: كان ابن عمر إذا سلم عليه فرد زاد فأتيته فقلت: السلام عليكم فقال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى، ثم أتيته مرة أخرى فقلت: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، فقال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيب صلواته، ولا يتعين ما ذكر للزيادة، فقد ورد خبر رواه أبو داود والبيهقي عن معاذ زيادة ومغفرته، فما في " الدر " من أن المراد لا يزيد على - وبركاته - غير مجمع عليه.
* (أو ردوها) * أي حيوا بمثلها؛ و * (أو) * للتخيير بين الزيادة وتركها، والظاهر أن الأول هو الأفضل في الجواب، بل لو زاد المسلم على السلام عليكم كان أفضل، فقد أخرج البيهقي عن سهل بن حنيف قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال: السلام عليكم كتب الله تعالى له عشر حسنات فإن قال السلام عليكم ورحمة الله تعالى كتب الله تعالى له عشرين حسنة، فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته كتب الله تعالى له ثلاثين حسنة " وورد في معناه غير ما خبر. " وقد نصوا على أن جواب - السلام - المسنون واجب، ووجوبه على الكفاية، ولا يؤثر فيه إسقاط المسلم (لحقه) لأن الحق لله تعالى، ودليل الوجوب الكفائي خبر أبي داود، وفي معناه ما أخرجه البيهقي عن زيد بن أسلم ولم يضعفه - " يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم " فبه يسقط الوجوب عن الباقين (ويختص بالثواب) فلو ردوا كلهم ولو مرتبا أثيبوا ثواب الواجب " وفي " المبتغى " يسقط عن الباقين برد صبي يعقل لأنه من أهل إقامة الفرض في الجملة بدليل حل ذبيحته، وقيل: لا، وظاهر " النهاية " ترجيحه - وعليه الشافعية - قالوا: " ولو رد صبي أو (من) لم يسمع منهم لم يسقط بخلاف نظيره في الجنازة لأن القصد ثم الدعاء، وهو منه أقرب للإجابة، وهنا الأمن، وهو ليس من أهله وقضيته أنه يجزىء تشميت الصبي عن جمع لأن القصد التبرك والدعاء - كصلاة الجنازة " - ويسقط برد العجوز. وفي رد الشابة قولان عندنا، وعند الشافعية لو ردت امرأة عن رجل أجزأ إن شرع السلام عليها وعليه فلا يختص بالعجوز بل المحرم وأمة الرجل وزوجته كذلك، وفي " تحفتهم " ويدخل في المسنون سلام امرأة على امرأة أو نحو محرم أو سيد أو زوج، وكذا على أجنبي وهي عجوز لا تشتهى، ويلزمها في هذه الصورة رد سلام الرجل، أما مشتهاة ليس معها امرأة أخرى فيحرم عليها رد سلام أجنبي، ومثله ابتداءه، ويكره له رد سلامها ومثله ابتداءه أيضا، والفرق أن ردها وابتداءها يطمعه فيها أكثر بخلاف ابتدائه ورده؛ والخنثى مع رجل كامرأة ومع امرأة كرجل في النظر فكذا هنا، ولو سلم على جمع نسوة وجب رد إحداهن إذ لا يخشى فتنة حينئذ، ومن ثم حلت الخلوة بامرأتين، والظاهر أن الأمرد هنا كالرجل ابتداءا وردا، وفي " الدر المختار " لو قال:
99

السلام عليك يا زيد لم يسقط برد غيره، ولو قال: يا فلان أو أشار لمعين سقط، ولو سلم جمع مترتبون على واحد فرد مرة قاصدا جميعهم، وكذا لو أطلق على الأوجه أجزأه ما لم يحصل فصل ضار، ولا بد في الابتداء والرد من رفع الصوت بقدر ما يحصل به السماع بالفعل ولو في ثقيل السمع، نعم إن مر عليه سريعا بحيث لم يبلغه صوته فالذي يظهر أنه يلزمه الرفع وسعه، ولا يجهر بالرد الجهر الكثير، والمروي عن الإمام رضي الله تعالى عنه لعله مقيد بغير هذه الصورة دون العدو خلفه، واستظهر أنه لا بد من سماع جميع الصيغة ابتداءا وردا، والفرق بينه وبين إجابة أذان سمع بعضه ظاهر، ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا بأس بالرد، ولكن لا يزيد في الجواب على قوله: وعليك كما في " الخانية "، وروي ذلك مرفوعا في الصحيح، ولا يسلم ابتداءا على كافر لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه " رواه البخاري؛ وأوجب بعض الشافعية رد سلام الذمي بعليك فقط، وهو الذي يقتضيه كلام " الروضة " لكن قال البلقيني والأذرعي والزركشي: إنه يسن ولا يجب، وعن الحسن يجوز أن يقال للكافر: وعليك السلام، ولا يقل رحمة الله تعالى فإنها استغفار، وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه ذلك - فقيل له فيه فقال: أليس في رحمة الله تعالى يعيش. وأخرج ابن المنذر من طريق يونس بن عبيد عن الحسن أنه قال في الآية: إن - حيوا بأحسن منها - للمسلمين أو ردوها لأهل الكتاب، وورد مثله عن قتادة، ورخص بعض العلماء ابتداءهم به إذا دعت إليه داعية ويؤدي حينئذ بالسلام، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول للذمي - والظاهر عند الحاجة - السلام عليك ويريد - كما قال الله تعالى عليك - أي هو عدوك، ولا مانع عندي إن لم يقصد ذلك من أن يقصد الدعاء له بالسلامة بمعنى البقاء حيا ليسلم أو يعطي الجزية ذليلا، وفي " الأشباه " النص على ذلك في الدعاء له بطول البقاء، بقي الخلاف في الاتيان بالواو عند الرد له، وعامة المحدثين - كما قال الخطابي - بإثباتها في الخبر غير سفيان بن عيينة فإنه يرويه بغير واو، واستصوب لأن الواو تقتضي الاشتراك معه، والدخول فيما قال، وهو قد يقول السام عليكم كما يدل عليه خبر عمر رضي الله تعالى عنه، ووجه العلامة الطيبي إثباتها بأن مدخولها قد يقطع عما عطف عليه لإفادة العموم بحسب اقتضاء المقام فيقدر هنا عليكم اللعنة، أو الغضب، وعليكم ما قلتم، ولا يخفى خفاء ذلك، وإن أيده بما ظنه شيئا فالأولى ما في " الكشف " من أن رواية الجمهور هو الصواب وهما مشتركان في أنهما على سبيل الدعاء. ولكن يستجاب دعاء المسلم على الكافر ولا يستجاب دعاؤه عليه، فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت عائشة في رهط اليهود القائلين له عليه الصلاة والسلام: " السام عليك، بل عليكم السام واللعنة، أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا تكوني فاحشة، قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟! قال: رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في " ويجب في الرد على الأصم الجمع بين اللفظ والإشارة ليعلم، بل العلم هو المدار، ولا يلزمه الرد إلا إن جمع له المسلم عليه بينهما، وتكفي إشارة الأخرس ابتداءا وردا ويجب رد جواب كتاب التحية كرد السلام. وعند الشافعية يكفي جوابه كتابة ويجب فيها - إن لم يرد لفظا - الفور فيما يظهر، ويحتمل خلافه، ولو قال لآخر: أقرىء فلانا السلام يجب عليه أن يبلغه وعللوه بأن ذلك أمانة ويجب
أداؤهما، ويؤخذ منه أن محله ما إذا رضي بتحمل تلك الأمانة أما لو ردها فلا، وكذا إن سكت أخذا من قولهم: لا ينسب لساكت قول،
100

ويحتمل التفصيل بين أن تظهر منه قرينة تدل على الرضا وعدمه، وإذا قلنا بالوجوب، فالظاهر عند بعض أنه لا يلزمه قصد الموصي له بل إذا اجتمع به وذكر بلغه، وقال بعض المحققين الذي يتجه أنه يلزمه قصد محله حيث لا مشقة شديدة عرفا عليه لأن أداء الأمانة ما أمكن واجب، وفرق بعضهم بين أن يقول المرسل: قل له فلان يقول: السلام عليك وبين ما لو قال له سلم لي، والظاهر عدم الفرق وفاقا لما نقل عن النووي فيجب فيهما الرد ويسن الرد على المبلغ والبداءة فيقول: وعليك وعليه السلام للخبر المشهور فيه.
وأوجبوا رد سلام صبي أو مجنون مميز، وكذا سكران مميز لم يعص بسكره، وقول " المجموع ": لا يجب رد سلام مجنون وسكران يحمل على غير المميز وزعم أن الجنون والسكر ينافيان التمييز غفلة عما صرحوا به من عدم التنافي، ولا يجب رد سلام فاسق أو مبتدع زجرا له أو لغيره، وإن شرع سلامه، وكذا لا يجب رد سلام السائل لأنه ليس للتحية بل لأجل أن يعطى، ولا رد سلام المتحلل من الصلاة إذا نوى الحاضر عنده على الأوجه لأن المهم له التحلل وقصد الحاضر به لتعود عليه بركته وذلك حاصل وإن لم يرد، وإنما حنث به الحالف على ترك الكلام والسلام لأن المدار فيهما على صدق الاسم لا غير، وقد نص على ذلك علماء الشافعية ولم أر لأصحابنا سوى التصريح بالحنث فيمن حلف لا يكلم زيدا فسلم على جماعة هو فيهم، وأما التصريح بهذه المسألة فلم أره، وصرح في " الضياء " بعدم وجوب الرد لو قال المسلم: السلام عليكم بجزم الميم، وكأنه على ما في " تحفتنا " لمخالفة السنة، وعليه لو رفع الميم بلا تنوين ولا تعريف كان كجزم الميم في عدم وجوب الرد لمخالفته السنة أيضا.
وجزم غير واحد من الشافعية أن صيغة السلام ابتداءا وجوابا عليك السلام وعكسه، وأنه يجوز تنكير لفظه وإن حذف التنوين، وأنه يجزىء سلاما عليكم، وكذا سلام الله تعالى، بل وسلامي عليك وعكسه، واستظهر إجزاء سلمت عليك، وأنا مسلم عليك، ونحو ذلك أخذا مما ذكروه أنه يجزىء في التشهد صلى الله تعالى على محمد والصلاة على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ونحوهما، ولا بأس فيما قالوه عندي، ولعل تفسير تحية في الآية لتشمل كل هذه الصيغ، وقال بعض الجماعة: السلام معرفة تحية الأحياء ونكرة تحية الموتى، ورووا في ذلك خبرا والشيعة ينكرون مطلقا وينكرون.
وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأنس " أن السلام في السلام اسم من أسماء الله تعالى " وهذا يقتضي أولوية التعريف أيضا فافهم، والأفضل في الرد واو قبله، ويجزىء بدونه على الصحيح، ويضر في الابتداء كالاقتصار في أحدهما على أحد جزئي الجملة، وإن نوى إضمار الآخر، وفي " الكشف " ما يؤيده، والخبر الذي فيه الاكتفاء - بو عليك - في الجواب لا يراد منه الاكتفاء على هذه اللفظة، بل المراد منه أنه صلى الله عليه وسلم أجاب بمثل ما سلم به عليه، ولم يزد كما يشعر به آخره، وذكر الطحاوي أن المستحب الرد على طهارة أو تيمم، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي الجهم قال: " أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الحائط فوضع يده عليه ثم مسح وجهه ويديه، ثم رد على الرجل السلام " والظاهر عدم الفرق بين الرد والابتداء في ذلك، ويسن السلام عينا للواحد وكفاية للجماعة كما أشرنا إليه ابتداءا عند إقباله وانصرافه للخبر الصحيح الحسن " إن أولى الناس بالله تعالى من بدأهم السلام، وفارق الرد بأن الإيحاش والإخافة في ترك الرد أعظم منهما في ترك الابتداء، وأفتى غير واحد بأن الابتداء أفضل - كإبراء المعسر أفضل من إنظاره - ويؤخذ من قولهم: ابتداءا أنه لو أتى به بعد تكلم لم
101

يعتد به، نعم يحتمل في تكلم سهوا أو جهلا، وعذر به أنه لا يفوت الابتداء فيجب جوابه، ومثل ذلك بل أولى لمشروعيته الكلام للاستئذان، فقد صرحوا بأنه إذا أتى دار إنسان يجب أن يستأذن قبل السلام، ويسن إظهار البشر عنده، فقد أخرج البيهقي عن الحسن قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت منطلق الوجه " وعن عمر " إذا التقى المؤمنان فسلم كل واحد منهما على الآخر وتصافحا كان أحبهما إلى الله تعالى أحسنهما بشرا لصاحبه " ويسن عليكم في الواحد، وإن جاء في بعض الآثار بالإفراد نظرا لمن معه من الملائكة، ويقصدهم ليردوا عليه فينال بركة دعائهم، ولو دخل بيتا ولم ير أحدا يقول: السلام علينا وعلى عباد الله تعالى الصالحين، فإن السكنة ترد عليه، وفي " الآكام " إن في كل بيت سكنة من الجن، ويسن عند التلاقي سلام صغير على كبير، وماش على واقف أو مضطجع، وراكب عليهم، وراكب فرس على راكب حمار، وقليلين على كثيرين لأن نحو الماشي يخاف من نحو الراكب، ولزيادة نحو مرتبة الكبير على نحو الصغير، وخرج بالتلاقي الجالس والواقف والمضطجع، فكل من ورد على أحدهم يسلم عليه مطلقا ولو سلم كل على الآخر فإن ترتبا كان الثاني جوابا أي ما لم يقصد به الابتداء وحده - كما قيل - وإلا لزم كلا الرد، وكره أصحابنا السلام في مواضع، وفي " النهر " عن صدر الدين الغزي: سلامك مكروه على من ستسمع * ومن بعد ما أبدى يسن ويشرع
مصل وتال ذاكر ومحدث * خطيب ومن يصغى إليهم ويسمع
مكرر فقه جالس لقضائه * ومن بحثوا في الفقه دعهم لينفعوا
مؤذن أيضا مع مقيم مدرس * كذا الأجنبيات الفتيات أمنع
ولعاب شطرنج وشبه بخلقهم * ومن هو مع أهل له يتمتع
ودع كافرا أيضا ومكشوف عورة * ومن هو في حال التغوط أشنع
ودع آكلا إلا إذا كنت جائعا * وتعلم منه أنه ليس يمنع
كذلك أستاذ مغن مطير * فهذا ختام والزيادة تنفع
فلو سلم على هؤلاء لا يستحق الرد عند بعضهم، وأوجب بعض الرد في بعضها وذكر الشافعية أن مستمع الخطيب يجب عليه الرد، وعندنا يحرم الرد كسائر الكلام بلا فرق بين قريب وبعيد على الأصح، وكرهوه لقاضي الحاجة ونحوه كالمجامع، وسنوه للآكل كسن السلام عليه بعد البلع وقبل وضع اللقمة بالفم ويلزمه الرد حينئذ ولمن بالحمام ونحوهما باللفظ. ورجحوا أنه يسلم على من بمسلخه ولا يمنع كونه مأوى الشياطين فالسوق كذلك والسلام على من فيه مشروع، وإن اشتغل بمساومة ومعاملة ومصل ومؤذن بالإشارة، وإلا فبعد الفراغ إن قرب الفصل، وحرموا الرد على من سلم عليه نحو مرتد وحربي، وندبه بعضهم على القارىء وإن اشتغل بالتدبر، وأوجب الرد عليه، ومحله في متدبر لم يستغرق التدبر قلبه وإلا لم يسن ابتداءا، ولا جواب كالداعي المستغرق لأنه الآن بمنزلة غير المميز، بل ينبغي فيمن استغرقه الهم كذلك أن يكون حكمه ذلك، وصرحوا أيضا بعدم السلام على فاسق بل يسن تركه على مجاهر بفسقه، ومرتكب ذنب عظيم لم يتب عنه، ومبتدع إلا لعذر أو خوف مفسدة، وعلى ملب وساجد وناعس ومتخاصمين بين يدي قاض، وأفتى بعضهم بكراهة حني الظهر،
102

وقال كثيرون: حرام للحديث الحسن أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وعن التزام الغير وتقبيله، وأمر بمصافحته ما لم يكن ذميا، وإلا فيكره للمسلم مصافحته بل يكفر إن قصد التبجيل كما يكفر بالسلام عليه كذلك.
وأفتى البعض أيضا بكراهة الانحناء بالرأس وتقبيل نحو الرأس أو يد أو رجل لا سيما لنحو غني لحديث: " من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه " وندب ذلك لنحو صلاح أو علم أو شرف لأن أبا عبيدة قبل يد عمر رضي الله تعالى عنهما، ولا يعد - نحو صبحك الله تعالى بالخير، أو قواك الله تعالى - تحية ولا يستحق مبتدأ به جوابا، والدعاء له بنظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام ونحو مرحبا مثل ذلك في ذلك، وذكر أنه لو قال المسلم السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، فقال الراد: عليك السلام فقط أجزأه لكنه خلاف الأولى، وظاهر الآية خلافه إذ الأمر فيها دائر بين الجواب بالأحسن والجواب بالمثل، وليس ما ذكر شيئا منهما، وحمل التحية على السلام هو ما ذهب إليه الأكثرون من المحققين وأئمة الدين، وقيل: المراد بها الهدية والعطية، وأوجب القائل العوض أو الرد على المتهب - وهو قول قديم للشافعي - ونسب أيضا لإمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه، وعلل ذلك بعضهم بأن السلام قد وقع فلا يرد بعينه فلذا حمل على الهدية وقد جاء إطلاقها عليها، وأجيب بأنه مجاز كقول المتنبي: قفى تغرم الأولى من اللحظ مقلتي * بثانية والمتلف الشيء غارمه
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عيينة أنه قال في الآية: أترون هذا في السلام وحده هذا في كل شيء من أحسن إليك فأحسن إليه وكافه، فإن لم تجد فادع له واثن عليه عند إخوانه، ولعل مراده رحمه الله تعالى قياس غير السلام من أنواع الإحسان عليه لأن المراد من التحية ما يعم السلام وغيره لخفاء ذلك، ولعل من أراد الأعم فسرها بما يسدى إلى الشخص مما تطيب به حياته * (إن الله كان على كل شيء حسيبا) * فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم؛ ويدخل في ذلك ما أمروا به من التحية دخولا أوليا.
هذا ومن باب الإشارة في هذه الآيات: * (الذين آمنوا يقاتلون) * أنفسهم * (في سبيل الله) * فيهلكونها بسيوف المجاهدة ليصلوا إليه تعالى شأنه: * (والذين كفروا يقاتلون) * عقولهم وينازعونها * (في سبيل) * طاغوت أنفسهم ليحصلوا اللذات ويغنموا في هذه الدار الفانية أمتعة الشهوات * (فقاتلوا أولياء الشيطان) * وهي القوى النفسانية أو النفس وقواها * (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) * (النساء: 76) فوليه ضعيف عاذ بقرملة * (ألم تر إلى الذين قيل لهم) * أي قال لهم المرصدون * (كفوا أيديكم) * عن خاربة الأنفس الآن قبل أداء رسوم العبادات * (وأقيموا الصلاة) * والمراد بها إتعاب البدن بأداء العبادة البدنية * (وآتوا الزكاة) * والمراد بها إتعاب القلب بأداء العبادة المالية فإذا تم لكم ذلك فتوجهوا إلى محاربة النفس فإن محاربتها قبل ذلك بغير سلاح، فإن هذه العبادات الرسمية سلاح السالكين فلا يتم لأحد تهذيب الباطن قبل إصلاح الظاهر * (فلما كتب عليهم القتال) * حين أداء ما أمروا بأدائه * (إذا فريق منهم) * لضعف استعدادهم * (يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) * فلا يستطيعون هجرهم، ولا ارتكاب ما فيه ذل نفوسهم خشية اعتراضهم عليهم، أو إعراضهم عنهم، * (وقالوا) * بلسان الحال: * (ربنا لم كتبت علينا القتال) * الآن * (لولا أخرتنا إلى أجل قريب) * وهو الموت الاضطراري، فالمنية ولا الدنية، وهذا حال كثير من الناسكين يرغبون عن السلوك وتحمل مشاقه مما فيه إذلال نفوسهم وامتهانها خوفا من الملامة، واعتراض الناس عليهم فيبقون في حجاب أعمالهم - ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون - * (قل متاع الدنيا قليل) *
103

فلا ينبغي أن يلاحظوا الناس في تركه وعدم الالتفات إليه * (والآخرة خير لمن اتقى) * فينبغي أن يتحملوا الملامة في تحصيلها * (ولا تظلمون فتيلا) * (النساء: 77) مما كتب لكم فينبغي عدم خشية سوى الله تعالى * (أينما تكونوا يدرككم الموت) * وتفارقون ولا بد من تخشون فراقه إن سلكتم ففارقوهم بالسلوك وهو الموت الاختياري قبل أن تفارقوهم بالهلاك وهو الموت الاضطراري * (ولو كنتم في بروج مشيدة) * أي أجساد قوية:
فمن يك ذا عظم صليب رجابه * ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره
* (وإن تصبهم) * أي المحجوبين * (حسنة) * أي شيء يلائم طباعهم * (يقولوا هذه من عند الله) * فيضيفونها إلى الله تعالى من فرح النفس ولذة الشهوة لاتبعت المعرفة والمحبة * (وإن تصبهم سيئة) * أي شيء تنفر عنه طباعهم وإن كان على خلاف ذلك في نفس الأمر * (يقولوا) * لضيق أنفسهم * (هذه من عندك) * فيضيفونها إلى غيره تعالى ويرجعون إلى الأسباب لعدم رسوخ الإيمان الحقيقي في قلوبهم * (قل كل من عند الله) * وهذا دعاء لهم إلى توحيد الأفعال، ونفي التأثير عن الأغيار، والإقرار بكونه سبحانه خالق الخير والشر * (فمال هؤلاء القوم) * المحجوبين * (لا يكادون يفقهون حديثا) * (النساء: 78) لاحتجابهم بصفات النفوس
وارتياج آذان قلوبهم التي هي أوعية السماع والوعي، ثم زاد سبحانه في البيان بقوله عز وجل: * (ما أصابك من حسنة) * صغرت أو عظمت * (فمن الله) * تعالى أفاضها حسب الاستعداد الأصلي * (وما أصابك من سيئة) * حقرت أو جلت * (فمن نفسك) * أي من قبلها بسبب الاستعداد الحادث بسبب ظهور النفس بالصفات والأفعال الحاجبة للقلب المكدرة لجوهره حتى احتاج إلى الصقل بالرزايا والمصائب والبلايا والنوائب، لا من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره * (وأرسلناك للناس رسولا) * فأنت الرحمة لهم فلا يكون من عندك شر عليهم * (وكفى بالله شهيدا) * (النساء: 79) على ذلك * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * (النساء: 80) لأنه صلى الله عليه وسلم مرآة الحق يتجلى منه للخلق، وقال بعض العارفين: إن باطن الآية إشارة إلى عين الجمع * (أفلا يتدبرون القرآن) * ليرشدهم إلى أنك رسول الله تعالى، وأن إطاعتك إطاعته سبحانه حيث إنه مشتمل على الفرق والجمع، وقيل: ألا يتدبرونه فيتعظون بكريم مواعظه ويتبعون محاسن أوامره، أو أفلا يتدبرونه ليعلموا أن الله جل شأنه تجلى لهم فيه * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (النساء: 82) أي لوجدوا الكثير منه مختلفا بلاغة وعدمها فيكون مثل كلام المخلوقين فيكون لهم مساغ إلى تكذيبه وعدم قبول شهادته، أو القول بأنه لا يصلح أن يكون مجلى لله تعالى، * (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) * إخبار عمن في مبادي السلوك أي إذا ورد عليهم شيء من آثار الجمال أو الجلال أفشوه وأشاعوه * (ولو ردوه) * أي عرضوه * (إلى الرسول) * إلى ما علم من أحواله، وما كان عليه * (وإلى أولي الأمر منهم) * وهم الراشدون الكاملون الذين نالوا مقام الوراثة المحمدية * (لعلمه) * أي لعلم مآله وأنه مما يذاع أو أنه لا يذاع * (الذين يستنبطونه) * ويتلقونه منهم أي من جهتهم وواسطة فيوضاتهم، والمراد بالموصول الرادون أنفسهم، وحاصل ذلك أنه لا ينبغي للمريد إذا عرض له في أثناء سيره وسلوكه شيء من آثار الجمال أو الجلال أن يفشيه لأحد قبل أن يعرضه على شيخه فيوقفه على حقيقة الحال فإن في إفشائه قبل ذلك ضررا كثيرا * (ولولا فضل الله عليكم) * أيها الناس بالواسطة العظمى رسول الله صلى الله عليه وسلم * (ورحمته) * بالمرشدين الوارثين * (لاتبعتم الشيطان) * والنفس أعظم جنوده إن لم تكنه * (إلا قليلا) * (النساء: 83) وهم السالكون بواسطة نور إلهي أفيض عليهم فاستغنوا به كبعض أهل الفترة، قيل: وهم على قدم الخليل عليه الصلاة والسلام * (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) * أي قاتل من يخالفك
104

وحدك * (وحرض المؤمنين) * على أن يقاتلوا من يحول بينهم وبين ربهم * (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا) * أي ستروا أوصاف الربوبية * (والله أشد) * منهم * (بأسا) * أي نكاية * (وأشد) * منهم * (تنكيلا) * (النساء: 84) أي تعذيبا * (من يشفع شفاعة حسنة) * أي من يرافق نفسه على الطاعات * (يكن له نصيب منها) * أي حظ وافر من ثوابها * (ومن يشفع شفاعة سيئة) * أي من يرافق نفسه على معصية * (يكن له كفل منها) * أي مثل مساو من عقابها * (وكان الله على كل شيء مقيتا) * (النساء: 85) فيوصل الثواب والعقاب إلى مستحقيهما * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * (النساء: 86) تعليم لنوع من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وقيل: المعنى إذا من الله تعالى عليكم بعطية فابذلوا الأحسن من عطاياه أو تصدقوا بما أعطاكم وردوه إلى الله تعالى على يد المستحقين، والله تعالى خير الموفقين.
* (الله لا إله إلا هو) * مبتدأ وخبر، وقوله سبحانه: * (ليجمعنكم إلى يوم القي‍امة) * جواب قسم محذوف أي والله ليجمعنكم، والجملة إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب، أو خبر ثان، أو هي الخبر، و * (لا إله إلا هو) * اعتراض واحتمال - أن تكون خبرا بعد خبر لكان، وجملة * (الله لا إله إلا هو) * معترضة مؤكدة لتهديد قصد بما قبلها وما بعدها - بعيد، ثم الخبر وإن كان هو القسم وجوابه لكنه في الحقيقة الجواب فلا يرد وقوع الإنشاء خبرا، ولا أن جواب القسم من الجمل التي لا محل لها من الإعراب فكيف يكون خبرا مع أنه لا امتناع من اعتبار المحل وعدمه باعتبارين، والجمع بمعنى الحشر، ولهذا عدي بإلى كما عدي الحشر بها في قوله تعالى: * (لإلى الله تحشرون) * (آل عمران: 158)، وقد يقال: إنما عدي بها لتضمينه معنى الإفضاء المتعدي بها أي ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة، أو مفضين إليه، وقيل: إلى بمعنى في كما أثبته أهل العربية أي ليجمعنكم في ذلك اليوم * (لا ريب فيه) * أي في يوم القيامة، أو في الجمع، فالجملة إما حال من اليوم، أو صفة مصدر محذوف أي: جمعا لا ريب فيه والقيامة بمعنى القيام، ودخلت التاء فيه للمبالغة - كعلامة ونسابة - وسمي ذلك اليوم بذلك لقيام الناس فيه للحساب مع شدة ما يقع فيه من الهول، ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة، وهي أنه تعالى لما ذكر * (إن الله) * تعالى * (كان على كل شيء حسيبا) * (النساء: 86) تلاه بالإعلام بوحدانيته سبحانه والحشر والبعث من القبور للحساب بين يديه، وقال الطبرسي: وجه النظم أنه سبحانه لما أمر ونهى فيما قبل بين بعد أنه لا يستحق العبادة سواه (ليعملوا على حسب ما أوجبه عليهم، وأشار إلى أن لهذا العمل جزاءا ببيان وقته)، وهو يوم القيامة ليجدوا فيه ويرغبوا ويرهبوا
* (ومن أصدق من الله حديثا) * الإستفهام إنكاري، والتفضيل باعتبار الكمية في الأخبار الصادقة لا الكيفية إذ لا يتصور فيها تفاوت لما أن الصدق المطابقة للواقع وهي لا تزيد، فلا يقال لحديث معين: إنه أصدق من آخر إلا بتأويل وتجوز، والمعنى لا أحد أكثر صدقا منه تعالى في وعده وسائر أخباره ويفيد نفي المساواة أيضا كما في قولهم: ليس في البلد أعلم من زيد، وإنما كان كذلك لاستحالة نسبة الكذب إليه سبحانه بوجه من الوجوه، ولا يعرف خلاف بين المعترفين بأن الله تعالى متكلم بكلام في تلك الاستحالة، وإن اختلف مأخذهم في الاستدلال.
وقد استدل المعتزلة على استحالة الكذب في كلام الرب تعالى بأن الكلام من فعله تعالى، والكذب قبيح لذاته - والله تعالى لا يفعل القبيح - وهو مبني على قولهم: بالحسن والقبح الذاتيين وإيجابهم رعاية الصلاح والأصلح، وأما الأشاعرة فلهم - كما قال الآمدي - في بيان استحالة الكذب في كلامه تعالى القديم النفساني مسلكان:
105

عقلي وسمعي، أما المسلك الأول: فهو أن الصدق والكذب في الخبر من الكلام النفساني القديم ليس لذاته ونفسه بل بالنظر إلى ما يتعلق به من المخبر عنه فإن كان قد تعلق به على ما هو عليه كان الخبر صدقا، وإن كان على خلافه كان كذبا، وعند ذلك فلو تعلق من الرب سبحانه كلامه القائم على خلاف ما هو عليه لم يخل إما أن
يكون ذلك مع العلم به أو لا لا جائز أن يكون الثاني، وإلا لزم الجهل الممتنع عليه سبحانه من أوجه عديدة، وإن كان الأول فمن كان عالما بالشيء يستحيل أن لا يقوم به الإخبار عنه على ما هو به وهو معلوم بالضرورة، وعند ذلك فلو قام بنفسه الإخبار عنه على خلاف ما هو عليه حال كونه عالما به مخبرا عنه على ما هو عليه لقام بالنفس الخبر الصادق والكاذب بالنظر إلى شيء واحد من جهة واحدة، وبطلانه معلوم بالضرورة. واعترض بأنا نعلم ضرورة من أنفسنا أنا حال ما نكون عالمين بالشيء يمكننا أن نخبر بالخبر الكاذب، ونعلم كوننا كاذبين، ولولا أنا عالمون بالشيء المخبر عنه لما تصور علمنا بكوننا كاذبين، وأجيب بأن الخبر الذي نعلم من أنفسنا كوننا كاذبين فيه إنما هو الخبر اللساني، وأما النفساني فلا نسلم صحة علمنا بكذبه حال الحكم به، وأما الملسك الثاني: فهو أنه قد ثبت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بدلالة المعجزة القاطعة فيما هو رسول فيه على ما بين في محله. وقد نقل عنه بالخبر المتواتر أن كلام الله تعالى صدق، وأن الكذب عليه سبحانه محال، ونظر فيه الآمدي بأن لقائل أن يقول: صحة السمع متوقفة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه متوقف على استحالة الكذب على الله تعالى من حيث إن ظهور المعجزة على وفق تحديه بالرسالة نازل منزلة التصديق من الله سبحانه له في دعواه، فلو جاز الكذب عليه جل شأنه لأمكن أن يكون كاذبا في تصديقه له ولا يكون الرسول صادقا، وإذا توقف كل منهما على صاحبه كان دورا. لا يقال إثبات الرسالة لا يتوقف على استحالة الكذب على الله تعالى ليكون دورا فإنه لا يتوقف إثبات الرسالة على الإخبار بكونه رسولا حتى يدخله الصدق والكذب، بل على إظهار المعجزة على وفق تحديه، وهو منزل منزلة الإنشاء، وإثبات الرسالة وجعله رسولا في الحال كقول القائل: وكلتك في أشغالي، واستنبتك في أموري، وذلك لا يستدعي تصديقا ولا تكذيبا إذ يقال حينئذ: فلو ظهرت المعجزة على يد شخص لم يسبق منه التحدي بناءا على جوازه على أصول الجماعة لم تكن المعجزة دالة على ثبوت رسالته إجماعا ولو كان ظهور المعجزة على يده منزل منزلة الإنشاء لرسالته لوجب أن يكون رسولا متبعا بعد ظهورها، وليس كذلك، وكون الإنشاء مشروطا بالتحدي بعيد بالنظر إلى حكم الإنشاءات، وبتقدير أن يكون كذلك غايته ثبوت الرسالة بطريق الإنشاء، ولا يلزم منه أن يكون الرسول صادقا في كل ما يخبر به دون دليل عقلي يدل على صدقه فيما يخبر به، أو تصديق الله تعالى له في ذلك، ولا دليل عقلي يدل على ذلك، وتصديق الله تعالى له لو توقف على صدق خبره عاد ما سبق، فينبغي أن يكون هذا المسلك السمعي في بيان استحالة الكلام اللساني وهو صحيح فيه، والسؤال الوارد ثم منقطع هنا فإن صدق الكلام اللساني وإن توقف على صدق الرسول لكن صدق الرسول غير متوقف على صدق الكلام اللساني بل على الكلام اللساني نفسه فامتنع الدور الممتنع، وفي " المواقف ": الاستدلال على امتناع الكذب عليه تعالى عند أهل السنة بثلاثة أوجه: الأول: أنه نقص والنقص ممنوع إجماعا، وأيضا فيلزم أن يكون نحن أكمل منه سبحانه في بعض الأوقات أعني وقت صدقنا في كلامنا، والثاني: أنه لو اتصف بالكذب سبحانه لكان كذبه قديما إذ لا يقوم الحادث
106

بذاته تعالى فيلزم أن يمتنع عليه الصدق، فإن ما ثبت قدمه استحال عدمه واللازم باطل، فإنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن له أن يخبر عنه على ما هو عليه، وهذان الوجهان إنما يدلان على أن الكلام النفسي الذي هو صفة قائمة بذاته تعالى يكون صادقا، ثم أتى بالوجه الثالث: دليلا على استحالة الكذب في الكلام اللفظي والنفسي على طرز ما في المسلك الثاني، وقد علمت ما للآمدي فيه فتدبر جميع ذلك ليظهر لك الحق..
* (فما لكم فى المن‍افقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) *.
* (فما لكم) * مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار، والنفي والخطاب لجميع المؤمنين، (وما فيه من معنى التوبيخ لبعضهم)، وقوله سبحانه: * (في المن‍افقين) * يحتمل - كما قال السمين - أن يكون متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى: * (فئتين) * (من معنى الافتراق) أي فما لكم تفترقون في المنافقين، وأن يكون حالا من * (فئتين) * أي فئتين مفترقتين في المنافقين، فلما قدم نصب على الحال، وأن يكون متعلقا بما تعلق به الخبر أي أي شيء كائن لكم في أمرهم وشأنهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وفي انتصاب * (فئتين) * وجهان - كما في " الدر المصون " -. وأحدهما: أنه حال من ضمير * (لكم) * المجرور والعامل فيه الاستقرار، أو الظرف لنيابته عنه، وهذه الحال لازمة لا يتم الكلام بدونها، وهذا مذهب البصريين في هذا التركيب وما شابهه، وثانيهما: - وهو مذهب الكوفيين - أنه خبر كان مقدرة أي مالكم في شأنهم كنتم فئتين، ورد بالتزام تنكيره في كلامهم نحو * (فما لهم عن التذكرة معرضين) * (المدثر: 49) وأما ما قيل على الأول: من أن كون ذي الحال بعضا من عامله غريب لا يكاد يصح عند الأكثرين فلا يكون معمولا له، ولا يجوز اختلاف العامل في الحال وصاحبها فمن فلسفة النحو كما قال الشهاب، والمراد إنكار أن يكون للمخاطبين شيء مصحح لاختلافهم في أمر المنافقين، وبيان وجوب قطع القوم بكفرهم وإجرائهم مجرى المجاهرين في جميع الأحكام وذكرهم بعنوان النفاق باعتبار وصفهم السابق.
أخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: هم قوم خرجوا من مكة حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيهم المسلمون فقائل يقول: هم منافقون وقائل يقول: هم مؤمنون، فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: " هم ناس تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتولاهم ناس وتبرأ من ولايتهم آخرون وقالوا: تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا فسماهم الله تعالى منافقين وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا "، وأخرج الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد وغيرهم عن زيد بن ثابت " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فئتين فرقة تقول: نقتلهم وفرقة تقول: لا فأنزل الله تعالى: * (فما لكم في المنافقين) * الآية كلها " ويشكل على هذا ما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى من جعل هجرتهم غاية للنهي عن توليتهم إلا أن يصرف عن الظاهر كما ستعلمه، وقيل: هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وأخذوا يسارا راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثلوا به فقطعوا يديه ورجليه وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، ويرده كما قال شيخ الإسلام
ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الآيات الناطقة بكيفية المعاملة معهم من السلم والحرب وهؤلاء قد أخذوا، وفعل بهم ما فعل من المثلة والقتل ولم ينقل في أمرهم اختلاف المسلمين، وقيل غير ذلك.
107

* (والله أركسهم بما كسبوا) * حال من المنافقين مفيد لتأكيد الإنكار السابق، وقيل: من ضمير المخاطبين والرابط الواو، وقيل: مستأنفة والباء للسببية، وما إما مصدرية وإما موصولة، وأركس وركس بمعنى، واختلف في معنى الركس لغة، فقيل: الرد - كما قيل - في قول أمية بن أبي الصلت: فأركسوا في جحيم النار أنهم * كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا
وهذه رواية الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى حينئذ والله تعالى ردهم إلى الكفر بعد الإيمان بسبب ما كسبوه من الارتداد واللحوق بالمشركين أو نحو ذلك أو بسبب كسبهم، وقيل: هو قريب من النكس، وحاصله أنه تعالى رماهم منكسين فهو أبلغ من التنكيس لأن من يرمى منكسا في هوة قلما يخلص منها، والمعنى أنه سبحانه بكسبهم الكفر، أو بما كسبوه منه قلب حالهم ورماهم في حفر النيران. وأخرج ابن جرير عن السدي أنه فسر * (أركسهم) * بأضلهم وقد جاء الإركاس بمعنى الإضلال، ومنه: (وأركستني) عن طريق الهدى * وصيرتني مثلا للعدا
وأخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: المعنى حبسهم في جهنم، والبخاري عنه أن المعنى بددهم أي فرقهم وفرق شملهم، وابن المنذر عن قتادة أهلكهم، ولعلها معان ترجع إلى أصل واحد، وروي عن عبد الله وأبي أنهما قرآ - ركسوا - بغير ألف، وقد قرأ - ركسهم - مشددا.
* (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) * توبيخ للفئة القائلة بإيمان أولئك المنافقين على زعمهم ذلك، وإشعار بأن يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى، وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم مع أنهم بمعزل من ذلك سعي في هدايتهم وإرادة لها، فالمراد بالموصول المنافقون إلا أن وضع موضع ضميرهم لتشديد الإنكار وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيز الصلة، وحمله على العموم، والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا - كما زعمه أبو حيان - ليس بشيء، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها للمبالغة في إنكاره ببيان أن إرادته مما لا يمكن فضلا عن إمكان نفسه، والآية ظاهرة في مذهب الجماعة، وحمل الهداية والإضلال على الحكم بها خلاف الظاهر، ويبعده قوله تعالى: * (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) * فإن المتبادر منه الخلق أي من يخلق فيه الضلال كائنا من كان ويدخل هنا من تقدم دخولا أوليا - فلن تجد له سبيلا من السبل فضلا عن أن تهديه إليه، والخطاب في * (تجد) * لغير معين، أو لكل أحد من المخاطبين للإشعار (بعدم) الوجدان للكل على سبيل التفصيل، ونفي وجدان السبيل أبلغ من نفي الهادي، وحمل إضلاله تعالى على حكمه وقضائه بالضلال مخل بحسن المقابلة بين الشرط والجزاء، وجعل السبيل بمعنى الحجة، وأن المعنى من يجعله الله تعالى في حكمه ضالا فلن تجد له في ضلالته حجة - كما قال جعفر بن حرب - ليس بشيء كما لا يخفى، والجملة إما اعتراض تذييلي مقرر للإنكار السابق مؤكد لاستحالة الهداية، أو حال من فاعل * (تريدون) * أو * (تهدوا) *، والرابط الواو..
* (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سوآء فلا تتخذوا منهم أوليآء حتى يهاجروا فى سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) *.
* (ودوا لو تكفرون) * بيان لغلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالتهم في أنفسهم، و * (لو) * مصدرية لا جواب لها أي تمنوا أن تكفروا؛ وقوله تعالى: * (كما كفروا) * نعت لمصدر محذوف، و (ما) مصدرية أي كفرا مثل كفرهم، أو حال من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه، ولا دلالة
108

في نسبة الكفر إليهم على أنه مخلوق لهم استقلالا لا دخل لله تعالى فيه لتكون هذه الآية دليلا على صرف ما تقدم عن ظاهره كما زعمه ابن حرب لأن أفعال العباد لها نسبة إلى الله تعالى باعتبار الخلق، ونسبة إلى العباد باعتبار الكسب بالمعنى الذي حققناه فيما تقدم، وقوله تعالى: * (فتكونون سوآء) * عطف على * (لو تكفرون) * داخل معه في حكم التمني أي: ودوا لو تكفرون فتكونون مستوين في الكفر والضلال، وجوز أن تكون كلمة * (لو) * على بابها، وجوابها محذوف كمفعول (ود) أي ودوا كفركم لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء لسروا بذلك
* (فلا تتخذوا منهم أوليآء) * الفاء فصيحة، وجمع * (أولياء) * مراعاة لجمع المخاطبين فإن المراد نهي كل من المخاطبين عن اتخاذ كل من المنافقين وليا أي إذا كان حالهم ما ذكر من الودادة فلا توالوهم. * (حتى يهاجروا في سبيل الله) * أي حتى يؤمنوا وتحققوا إيمانهم بهجرة هي لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا لغرض من أغراض الدنيا، وأصل السبيل الطريق، واستعمل كثيرا في الطريق الموصلة إليه تعالى وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، والآية ظاهرة في وجوب الهجرة. وقد نص في " التيسير " على أنها كانت فرضا في صدر الإسلام، وللهجرة ثلاث استعمالات: أحدها: الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام وهو الاستعمال المشهور، وثانيها: ترك المنهيات، وثالثها: الخروج للقتال وعليه حمل الهجرة من قال: إن الآية نزلت فيمن رجع يوم أحد على ما حكاه خبر الشيخين وجزم به في الخازن * (فإن تولوا) * أي أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله تعالى - كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - * (فخذوهم) * إذا قدرتم عليهم * (واقتلوهم حيث وجدتموهم) * من الحل والحرم فإن حكمهم حكم سائر المشركين أسرا وقتلا، وقيل: المراد القتل لا غير إلا أن الأمر بالأخذ لتقدمه على القتل عادة. * (ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) * أي جانبوهم مجانبة كلية ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة أبدا كما يشعر بذلك المضارع الدال على الاستمرار أو التكرير المفيد للتأكيد..
* (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميث‍اق أو جآءوكم حصرت صدورهم أن يق‍اتلونكم أو يق‍اتلوا قومهم ولو شآء الله لسلطهم عليكم فلق‍اتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يق‍اتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) *.
* (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) * استثناء من الضمير في قوله سبحانه: * (فخذوهم واقتلوهم) * (النساء: 89) أي إلا الذين يصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم بنو مدلج. أخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال: لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة: بلغني أنه عليه الصلاة والسلام يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي من بني مدلج فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، فقالوا: مه؛ فقال: دعوه ما تريد؟ قلت: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد فقال: اذهب معه فافعل ما يريد فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم فأنزل الله تعالى: * (ودوا) * (النساء: 89) حتى بلغ * (إلا الذين يصلون) * فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة بن عامر،
109

ولا يجوز أن يكون استثناء من الضمير في * (فلا تتخذوا) * (النساء: 89) وإن كان أقرب لأن اتخاذ الولي منهم حرام مطلقا.
* (أو جآءوكم) * عطف على الصلة أي (و) الذين جاءوكم كافين من قتالكم وقتال قومهم، فقد استثنى من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان: من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين؛ ومن أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين، أو عطف على صفة قوم كأنه قيل: إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو إلى قوم كافين عن القتال لكم وعليكم، والأول: أرجح رواية ودراية إذ عليه يكون لمنع القتال سببان: الاتصال بالمعاهدين، والاتصال بالكافين وعلى الثاني: يكون السببان الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين لكن قوله تعالى الآتي: * (فإن اعتزلوكم) * الخ يقرر أن أحد السببين هو الكف عن القتال لأن الجزاء مسبب عن الشرط فيكون مقتضيا للعطف على الصلة إذ لو عطف على الصفة كان أحد السببين الاتصال بالكافين لا الكف عن القتال، فإن قيل: لو عطف على الصفة تحققت المناسبة أيضا لأن سبب منع التعرض حينئذ الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين، والاتصال بهؤلاء وهؤلاء سبب للدخول في حكمهم،
وقوله سبحانه: * (فإن اعتزلوكم) * يبين حكم الكافين لسبق حكم المتصلين بهم، أجيب: بأن ذلك جائز إلا أن الأول أظهر وأجرى على أسلوب كلام العرب لأنهم إذا استثنوا بينوا حكم المستثنى تقريرا وتوكيدا، وقال الإمام: " جعل الكف عن القتال سببا لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن يكف عن القتال سببا (قريبا) لترك التعرض لأنه سبب بعيد " على أن المتصلين بالمعاهدين ليسوا معاهدين لكن لهم حكمهم بخلاف المتصلين بالكافين فإنهم إن كفوا فهم هم وإلا فلا أثر له، وقرأ أبي * (جاءوكم) * بغير أو على أنه استئناف وقع جوابا لسؤال كأنه قيل: كيف كان الميثاق بينكم وبنيهم؟ فقيل: جاءوكم الخ، وقيل: يقدر السؤال كيف وصلوا إلى المعاهدين ومن أين علم ذلك وليس بشيء، أو على أنه صفة بعد صفة لقوم، أو بيان ليصلون، أو بدل منه، وضعف أبو حيان البيان بأنه لا يكون في الأفعال، والبدل أنه ليس إياه ولا بعضه ولا مشتملا عليه، وأجيب بأن الإنتهاء إلى المعاهدين والاتصال بهم حاصله الكف عن القتال فصح جعل مجيئهم إلى المسلمين بهذه الصفة، وعلى هذه العزيمة بيانا لاتصالهم بالمعاهدين، أو بدلا منه كلا أو بعضا أو اشتمالا وكون ذلك لا يجري في الأفعال لا يقول به أهل المعاني، وقيل: هو معطوف على حذف العاطف،
وقوله تعالى: * (حصرت صدورهم) * حال بإضمار قد، ويؤيده قراءة الحسن - حصرة صدورهم - وكذا قراءة - حصرات وحاصرات - واحتمال الوصفية السببية لقوم لاستواء النصب والجر بعيد. وقيل: هو صفة لموصوف محذوف هو حال من فاعل جاءوا أي جاءكم قوما حصرت صدورهم ولا حاجة حينئذ إلى تقدير قد، وما قيل: إن المقصود بالحالية هو الوصف لأنها حال موطئة فلا بد من قد سيما عند حذف الموصوف فما ذكر التزام لزيادة الإضمار من غير ضرورة غير مسلم، وقيل: بيان لجاءوكم وذلك كما قال الطيبي لأن مجيئهم غير مقاتلين و * (حصرت صدورهم) * أن يقاتلوكم بمعنى واحد، وقال العلامة الثاني: من جهة أن المراد بالمجيء الاتصال وترك المعاندة والمقاتلة لا حقيقة المجيء، أو من جهة أنه بيان لكيفية المجيء، وقيل: بدل اشتمال من * (جاءوكم) * لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره، وقيل: إنها جملة دعائية، ورد بأنه لا معنى للدعاء على الكفار بأن لا يقاتلوا قومهم، بل بأن يقع بينهم اختلاف وقتل، والحصر بفتحتين الضيق والانقباض
* (أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم) * أي عن أن يقاتلوكم، أو لأن، أو كراهة أن * (ولو شاء الله لسلطهم عليكم) *
110

بأن قوى قلوبهم وبسط صدورهم وأزال الرعب عنهم * (فلقاتلوكم) * عقيب ذلك ولم يكفوا عنكم، واللام جوابية لعطفه على الجواب، ولا حاجة لتقدير لو، وسماها مكي وأبو البقاء لام المجازاة والازدواج، وهي تسمية غريبة، وفي الإعادة إشارة إلى أنه جواب مستقل والمقصود من ذلك الامتنان على المؤمنين، وقرىء (فلقتلوكم). بالتخفيف والتشديد * (فإن اعتزلوكم) * ولم يتعرضوا لكم * (فلم يقاتلوكم) * مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله تعالى * (وألقوا إليكم السلم) * أي الصلح فانقادوا واستسلموا، وكان إلقاء السلم استعارة لأن من سلم شيئا ألقاه وطرحه عند المسلم له، وقرىء بسكون اللام مع فتح السين وكسرها * (فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) * فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم، وفي - نفي جعل السبيل - مبالغة في عدم التعرض لهم لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له. وهذه الآيات منسوخة الحكم بآية براءة * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * (التوبة: 5) وقد روي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره..
* (ستجدون ءاخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأول‍ائكم جعلنا لكم عليهم سلط‍انا مبينا) *.
* (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم) * هم أناس كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا نبي الله تعالى صلى الله عليه وسلم ويأمنوا قومهم فأبى الله تعالى ذلك عليهم - قاله ابن عباس ومجاهد - وقيل: الآية في حق المنافقين * (كل ما
ردوا إلى الفتنة) * أي دعوا إلى الشرك - كما روي عن السدي - وقيل: إلى قتال المسلمين * (أركسوا فيها) * أي قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه، يروى عن ابن عباس أنه كان الرجل يقول له قومه: بماذا آمنت؟ فيقول: آمنت بهذا القرد والعقرب والخنفساء * (فإن لم يعتزلوكم) * بالكف عن التعرض لكم بوجه ما * (ويلقوا إليكم السلم) * أي ولم يلقوا إليكم الصلح والمهادنة * (ويكفوا أيديهم) * أي ولم يكفوا أنفسهم عن قتالكم.
* (فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم) * أي وجدتموهم وأصبتموهم حيث تمكنتم منهم، وعن بعض المحققين إن هذه الآية مقابلة للآية الأولى، وبينهما تقابل إما بالإيجاب والسلب، وإما بالعدم والملكة لأن إحداهما عدمية والأخرى وجودية وليس بينهما تقابل التضاد ولا تقابل التضايف لأنهما على ما قرروا لا يوجدان إلا بين أمرين وجوديين فقوله سبحانه: * (فإن لم يعتزلوكم) * مقابل لقوله تعالى: * (فإن اعتزلوكم) * (النساء: 90) وقوله جل وعلا: * (ويلقوا) * مقابل لقوله عز شأنه: * (وألقوا) * (النساء: 90) وقوله جل جلاله: * (ويكفوا) * مقابل لقوله عز من قائل: * (فلم يقاتلوكم) * (النساء: 90) والواو لا تقتضي الترتيب، فالمقدم مركب من ثلاثة أجزاء في الآيتين، وهي في الآية الأولى الاعتزال وعدم القتال وإلقاء السلم فبهذه الأجزاء الثلاثة تم الشرط، وجزاؤه عدم التعرض لهم بالأخذ والقتل كما يشير إليه قوله تعالى: * (فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) * (النساء: 90) وفي الآية الثانية عدم الاعتزال وعدم إلقاء السلم وعدم الكف عن القتال، فبهذه الأجزاء الثلاثة تم الشرط، وجزاؤه الأخذ والقتل المصرح به بقوله سبحانه: * (فخذوهم واقتلوهم) *. ومن هذا يعلم أن * (ويكفوا) * بمعنى لم يكفوا عطف على المنفي لا على النفي بقرينة سقوط النون الذي هو علامة الجزم، وعطفه على النفي والجزم بأن الشرطية لا يصح لأنه يستلزم التناقض لأن معنى * (فإن لم يعتزلوكم) * إن لم
111

يكفوا، وإذا عطف * (ويكفوا) * على النفي يلزم اجتماع عدم الكف والكف، وكلام الله تعالى منزه عنه، وكذا لا يصح كون قوله سبحانه: * (ويكفوا) * جملة حالية أو استئنافية بيانية أو نحوية لاستلزام كل منهما التناقض مع أنه يقتضي ثبوت النون في * (يكفوا) * على ما هو المعهود في مثله، وأبو حيان جعل الجزاء في الأول: مرتبا على شيئين وفي الثانية: على ثلاثة، والسر في ذلك الإشارة إلى مزيد خباثة هؤلاء الآخرين، وكلام العلامة البيضاوي - بيض الله تعالى غرة أحواله - في هذا المقام لا يخلو عن تعقيد، وربما لا يوجد له محمل صحيح إلا بعد عناية وتكلف فتأمل جدا * (وأولئكم) * الموصوفون بما ذكر من الصفات الشنيعة. * (جعلنا لكم عليهم سلط‍انا مبينا) * أي حجة واضحة فيما أمرناكم به في حقهم لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وخباثتهم، أو تسلطا لا خفاء فيه من حيث أذنا لكم في أخذهم وقتلهم..
* (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلىأهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما) *.
* (وما كان لمؤمن) * شروع في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين والمنافقين، وقيل: لما رغب سبحانه في قتال الكفار ذكر إثره ما يتعلق بالمحاربة في الجملة أي ما صح له وليس من شأنه * (أن يقتل) * بغير حق * (مؤمنا) * فإن الإيمان زاجر عن ذلك * (إلا خطئا) * فإنه مما لا يكاد يحترز عنه بالكلية وقلما يخلو المقاتل عنه، وانتصابه إما على أنه حال أي ما كان له أن يقتل مؤمنا في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، أو على أنه مفعول له أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ، أو على أنه صفة للمصدر أي إلا قتلا خطأ فالاستثناء في جميع ذلك مفرغ وهو استثناء متصل على ما يفهمه كلام بعض المحققين، ولا يلزم جواز القتل خطأ شرعا حيث كان المعنى أن من شأن المؤمن أن لا يقتل إلا خطأ. وقال بعضهم: الإستثناء في الآية منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر، وقيل: إلا بمعنى ولا، والتقدير وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ، وقيل: الإستثناء من مؤمن أي إلا خاطئا، والمختار مع الفصل الكثير في مثل ذلك النصب، والخطأ ما لا يقارنه القصد إلى الفعل أو الشخص، أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا، أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه، وقرىء - خطاء - بالمد - وخطا - بوزن عمى بتخفيف الهمزة، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي - وكان أخا أبي جهل والحرث بن هشام لأمهما - أسلم وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان أحب ولد أمه إليها فشق ذلك عليها فحلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه، فأقبل أبو جهل والحرث حتى قدما المدينة فأخبرا عياشا بما لقيت أمه، وسألاه أن يرجع معهما فتنظر إليه ولا يمنعاه أن يرجع وأعطياه - موثقا أن يخليا سبيله بعد أن تراه أمه فانطلق معهما حتى إذا خرجا من المدينة عمدا إليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة، وأعانهما على ذلك رجل من بني كنانة فحلف عياش ليقتلن الكناني إن قدر عليه فقدما به مكة فلم يزل محبوسا حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فخرج عياش فلقي الكناني وقد أسلم، وعياش لا يعلم بإسلامه فضربه حتى قتله فأخبر بعد بذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فنزلت، وروي مثل ذلك عن مجاهد وعكرمة. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد " أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه بالسيف، فقال: لا إله إلا الله فبدر فضربه،
112

ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد في نفسه شيئا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا شققت عن قلبه وقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه؟! فقال: كيف بي يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: فكيف بلا إلا إلا الله؟! وتكرر ذلك - قال أبو الدرداء - فتمنيت أن ذلك اليوم مبتدأ إسلامي ثم نزل القرآن ".
* (ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة) * أي فعليه - (أي فواجبة) تحرير رقبة - والتحرير الإعتاق؛ وأصل معناه جعله حرا أي كريما لأنه يقال لكل مكرم حر، ومنه حر الوجه - للخد - وأحرار الطير، وكذا تحرير الكتاب من هذا أيضا، والمراد بالرقبة النسمة تعبيرا عن الكل بالجزء، قال الراغب: إنها في المتعارف للمماليك كما يعبر بالرأس والظهر عن المركوب، فيقال: فلان يربط كذا رأسا وكذا ظهرا * (مؤمنة) * محكوم بإيمانها وإن كانت صغيرة، وإلى ذلك ذهب عطاء، وعن ابن
عباس والشعبي وإبراهيم والحسن لا يجزىء في كفارة القتل الطفل ولا الكافر، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال في حرف أبي: (فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزىء فيها صبي)، وفي الآية رد على من زعم جواز عتق كتابي صغير أو مجوسي كبير أو صغير، واستدل بها على عدم إجزاء نصف رقبة ونصف أخرى * (ودية مسلمة إلى أهله) * أي مؤداة إلى ورثة القتيل يقتسمونها بينهم على حسب الميراث، فقد أخرج أصحاب " السنن الأربعة " عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال: كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها، ويقضي منها الدين وتنفذ الوصية ولا فرق بينها وبين سائر التركة، وعن شريك لا يقضى من الدية دين ولا تنفذ وصية. وعن ربيعة الغرة لأم الجنين وحدها؛ وذلك خلاف قول الجماعة، وتجب الرقبة في مال القاتل، والدية تتحملها عنه العاقلة، فإن لم تكن فهي في بيت المال، فإن لم يكن ففي ماله.
* (إلا أن يصدقوا) * أي يتصدق أهله عليه، وسمي العفو عنها صدقة حثا عليه، وقد أخرج الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم: " كل معروف صدقة " وهو متعلق بعليه قبل، أو - بمسلمة - أي فعليه الدية أو يسلمها في جميع الأحيان إلا حين أن يتصدق أهله بها فحينئذ تسقط ولا يلزم تسليمها، وليس فيه - كما قيل - دلالة على سقوط التحرير حتى يلزم تقدير عليه آخر قبل قوله: * (ودية مسلمة) * فالمنسبك في محل نصب على الإستثناء، وقال الزمخشري: إن المنسبك في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو الظرف، وتعقبه أبو حيان بأن كلا التخريجين خطأ لأن * (أن) * والفعل لا يجوز وقوعهما حالا، ولا منصوبا على الظرفية - كما نص عليه النحاة - وذكر أن بعضهم استشهد على وقوع * (أن) * وصلتها موقع ظرف الزمان بقوله: فقلت لها لا تنكحيه فإنه
لأول سهم (أن) يلاقي مجمعا
أي لأول سهم زمان ملاقاته، وابن مالك - كما قال السفاقسي - يقدر في الآية والبيت حرف الجر أي بأن يصدقوا وبأن يلاقي، وقرأ أبي - إلا أن يتصدقوا.
* (فإن كان) * أي المقتول خطأ * (من قوم عدو لكم) * أي كفار يناصبونكم الحرب * (وهو مؤمن) * ولم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه بأن أتاهم بعد (أن أسلم) لمهم، أو بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم، والآية نزلت - كما قال ابن جبير - في مرداس بن عمرو لما قتله خطأ أسامة بن زيد * (فتحرير رقبة مؤمنة) * أي فعلى قاتله الكفارة دون الدية إذ وراثة بينه وبين أهله * (وإن كان) *
113

أي المقتول المؤمن - ما روي عن جابر بن زيد - * (من قوم) * كفار * (بينكم وبينهم ميث‍اق) * أي عهد مؤقت أو مؤبد * (فدية) * أي فعلى قاتله دية * (مسلمة إلى أهله) * من أهل الإسلام إن وجدوا، ولا تدفع إلى ذوي قرابته من الكفار وإن كانوا معاهدين إذ لا يرث الكافر المسلم، ولعل تقديم هذا الحكم - كما قيل - مع تأخير نظيره فيما سلف للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشيا عن توهم نقض الميثاق * (وتحرير رقبة مؤمنة) * كما هو حكم سائر المسلمين، ولعل إفراده بالذكر - ما قيل - أيضا مع اندراجه في حكم ما سبق في قوله سبحانه: * (ومن قتل مؤمنا خطأ) * الخ لبيان أن كونه فيما بين المعاهدين لا يمنع وجوب الدية كما منعه كونه بين المحاربين. وقيل: المراد بالمقتول هنا أحد أولئك القوم المعاهدين فيلزم قاتله تحرير الرقبة، وأداء الدية إلى أهله المشركين للعهد الذي بيننا وبينهم، وروي ذلك عن ابن عباس والشعبي وأبي مالك، واستدل بها على أن دية المسلم والذمي سواء لأنه تعالى ذكر في كل الكفارة والدية فيجب أن تكون ديتهما سواءا كما أن الكفارة عنهما سواء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: بلغنا أن دية المعاهد كانت كدية المسلم ثم نقصت بعد في آخر الزمان فجعلت مثل نصف دية المسلم؛ وأخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن دية أهل الكتاب كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم النصف من دية المسلمين وبذلك أخذ مالك. وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه دية اليهودي والنصراني نصف دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشرها، وزعم بعضهم وجوب الدية أيضا فيما إذا كان المقتول من قوم عدو لنا وهو مؤمن لعموم الآية الأولى، وأن السكوت عن الدية في آيته لا ينفيها، وإنما سكت عنها لأنه لا يجب فيه دية تسلم إلى أهله لأنهم كفار بل تكون لبيت المال، فأراد أن يبين بالسكوت أن أهله لا يستحقون شيئا، وقال آخرون إن الدية تجب في المؤمن إذا كان من قوم معاهدين، وتدفع إلى أهله الكفار وهم أحق بديته لعهدهم، ولعل هؤلاء لا يعدون ذلك إرثا إذ لا يرث الكافر - ولو معاهدا - المسلم كما برهن عليه.
* (فمن لم يجد) * رقبة يحررها بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها من الثمن * (فصيام) * أي فعليه صيام * (شهرين متتابعين) * قال مجاهد: لا يفطر فيهما ولا يقطع صيامهما، فإن فعل من غير مرض ولا عذر استقبل صيامهما جميعا، فإن عرض له مرض أو عذر صام ما بقي منهما، فإن مات ولم يصم أطعم عنه ستين مسكينا لكل مسكين مد، رواه ابن أبي حاتم. وأخرج عنه أيضا أنه قال: فمن لم يجد دية أو عتاقة فعليه الصوم، وبه أخذ من قال: إن الصوم لفاقد الدية والرقبة يجزيه عنهما، والاقتصار على تقدير الرقبة مفعولا - هو المروي عن الجمهور - وأخرج ابن جرير عن الضحاك أنه قال: الصيام لمن لم يجد رقبة، وأما الدية فواجبة لا يبطلها شيء، ثم قال - وهو الصواب - لأن الدية في الخطأ على العاقلة والكفارة على القاتل، فلا يجزىء صوم صائم عما لزم غيره في ماله، واستدل بالآية من قال: إنه لا إطعام في هذه الكفارة، ومن قال: ينتقل إليه عند العجز عن الصوم قاسه على الظهار وهو أحد قولين للشافعي رحمه الله تعالى، وبذكر الكفارة في الخطأ دون العمد، من قال: أن لا كفارة في العمد، والشافعي يقول: هو أولى بها من الخطأ * (توبة) * نصب على أنه مفعول له أي شرع لكم ذلك توبة أي قبولا لها من تاب الله تعالى عليه إذا قبل توبته، وفيه إشارة إلى التقصير بترك الاحتياط.
114

وقيل: التوبة هنا بمعنى التخفيف أي شرع لكم هذا تخفيفا عليكم، وقيل: إنه منصوب على الحالية من الضمير المجرور في - عليه - بحذف المضاف أي فعليه صيام شهرين حال كونه ذا توبة، وقيل: على المصدرية أي تاب عليكم توبة، وقوله سبحانه: * (من الله) * متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة أي توبة كائنة من الله تعالى. * (وكان الله عليما) * بجميع الأشياء التي من جملتها حال هذا القاتل * (حكيما) * في كل ما شرع وقضى من الأحكام التي من جملتها ما شرع وقضى في شأنه..
* (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) *.
* (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) * بأن يقصد قتله بما يفرق الأجزاء، أو بما لا يطيقه ألبتة عالما بإيمانه، وهو نصب على الحال من فاعل * (يقتل) *. وروي عن الكسائي أنه سكن التاء وكأنه فر من توالي الحركات * (فجزاؤه) * الذي يستحقه بجنايته * (جهنم خالدا فيها) * أي ماكثا إلى الأبد، أو مكثا طويلا إلى حيث شاء الله تعالى، وهو حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل: فجزاؤه أن يدخل جهنم خالدا. وقال أبو البقاء: هو حال من الضمير المرفوع أو المنصوب في يجزاها المقدر، وقيل: هو المنصوب لا غير ويقدر جازاه، وأيد بأنه أنسب بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغة، ومنع جعله حالا من الضمير المجرور في * (فجزاؤه) * لوجهين، أحدهما: أنه حال من المضاف إليه، وثانيهما: أنه فصل بين الحال وذيها بخبر المبتدأ، وقوله سبحانه: * (وغضب الله عليه) * عطف على مقدر تدل عليه الشرطية دلالة واضحة كأنه قيل: بطريق الاستئناف تقريرا لمضمونها حكم الله تعالى بأن جزاءه ذلك - وغضب عليه - أي انتقم منه على ما عليه الأشاعرة * (ولعنه) * أي أبعده عن رحمته بجعل جزائه ما ذكر، وقيل: هو وما بعده معطوف على الخبر بتقدير أن وحمل الماضي على معنى المستقبل أي فجزاؤه جهنم وأن يغضب الله تعالى عليه الخ * (وأعد له عذابا عظيما) * لا يقادر قدره.
والآية - كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير - نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني أنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة فوجد مقيس أخاه هشاما ذات يوم قتيلا في الأنصار في بني النجار فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من قريش من بني فهر - ومعه مقيس إلى بني النجار ومنازلهم يومئذ بقباء - أن ادفعوا إلى مقيس قاتل أخيه إن علمتم ذلك وإلا فادفعوا إليه الدية فلما جاءهم الرسول قالوا: السمع والطاعة لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم والله تعالى ما نعلم له قاتلا ولكن نؤدي الدية فدفعوا إلى مقيس مائة من الإبل دية أخيه، فلما انصرف مقيس والفهري راجعين من قباء إلى المدينة، وبينهما ساعة عمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله وارتد عن الإسلام، وفي رواية أنه ضرب به الأرض وفضخ رأسه بين حجرين وركب جملا من الدية وساق معه البقية ولحق بمكة، وهو يقول في شعر له: قتلت به فهرا وحملت عقله * سراة بني النجار أرباب (قارع)
وأدركت ثأري واضجعت موسدا * وكنت إلى الأوثان أول راجع
فنزلت هذه الآية مشتملة على إبراق وإرعاد وتهديد وإبعاد، وقد تأيدت بغير ما خبر ورد عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أحمد والنسائي عن معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل ذنب عسى الله تعالى أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا، وأخرج ابن المنذر
115

عن أبي الدرداء مثله، وأخرج ابن عدي والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أعان على دم امرىء مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله تعالى "، وأخرجا عن البراء بن عازب " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله تعالى من قتل مؤمن ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله تعالى النار "، وفي رواية الأصبهاني عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال: " لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبهم الله تعالى على مناخرهم في النار، وإن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر "، واستدل بذلك ونحوه من القوارع المعتزلة على خلود من قتل مؤمنا متعمدا في النار، وأجاب بعض المحققين بأن ذلك خارج مخرج التغليظ في الزجر لا سيما الآية لاقتضاء النظم له فيها كقوله تعالى: * (ومن كفر) * (آل عمران: 97) في آية الحج، وقول صلى الله عليه وسلم للمقداد بن الأسود - كما في " الصحيحين " حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب - " لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال "، وعلى ذلك يحمل ما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نازلت ربي في قاتل المؤمن أن يجعل له توبة فأبى علي " وما أخرجه عن سعيد بن عينا أنه قال: " كنت جالسا بجنب أبي هريرة رضي الله تعالى عنه إذ أتاه رجل فسأله عن قاتل المؤمن هل له من توبة؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو لا يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ".
وشاع القول بنفي التوبة عن ابن عباس، وأخرجه غير واحد عنه وهو محمول على ما ذكرنا، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن حميد والنحاس عن سعيد بن عبيدة أن ابن عباس كان يقول: لمن قتل مؤمنا توبة فجاءه رجل فسأله ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: لا إلا النار فلما قام الرجل قال له جلساؤه: ما كنت هكذا تفتينا كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة فما شأن هذا اليوم؟! قال: إني أظنه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك، وكان هذا أيضا شأن غيره من الأكابر فقد قال سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له فإذا ابتلى رجل قالوا له: تب، وأجاب آخرون بأن المراد من الخلود في الآية المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم، وأخرج ابن المنذر عن عون بن عبد الله أنه قال: (فجزاؤه جهنم إن هو جازاه)، وروي مثله بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: وهذا كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر: إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب، ثم إن لم يجازه لم يكن ذلك منه كذبا، والأصل في هذا على ما قال الواحدي: إن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد وإن امتنع أن يخلف الوعد، وبهذا وردت السنة ففي حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من وعده الله تعالى على عمله ثوابا فهو منجزه له، ومن أوعده على عمله عقابا فهو بالخيار " " ومن أدعية الأئمة الصادقين رضي الله تعالى عنهم: يا من إذا وعد وفا، وإذا توعد عفا "، وقد افتخرت العرب بخلف الوعيد، ولم تعده نقصا كما يدل عليه قوله:
وإني إذا أوعدته أو وعدته * لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
واعترض بأن الوعيد قسم من أقسام الخبر، وإذا جاز الخلف فيه وهو كذب لإظهار الكرم، فلم لا يجوز في القصص والأخبار لغرض من الأغراض، وفتح ذلك الباب يفضي إلى الطعن في الشرائع كلها.
116

والقائلون بالعفو عن بعض المتوعدين منهم من زعم أن آيات الوعيد إنشاء، ومنهم من قال: إنها أخبار إلا أن هناك شرطا محذوفا للترهيب فلا خلف بالعفو فيها، وقال شيخ الإسلام: " والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه (بذلك) كيف لا وقد قال عز وجل: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) ولو كان هذا إخبارا بأنه سبحانه يجزي كل سيئة بمثلها لعارضه قوله جل شأنه: * (ويعفو عن كثير) * " (الشورى: 30) وهذا مأخوذ من كلام أبي صالح وبكر بن عبد الله، واعترضه أبو علي الجبائي بأن ما لا يفعل لا يسمى جزاءا ألا ترى أن الأجير إذا استحق الأجرة فالدراهم التي عند مستأجره لا تسمى جزاءا ما لم تعط له وتصل إليه؟ وتعقبه الطبرسي " بأن هذا لا يصح لأن الجزاء عبارة عن المستحق سواء فعل أم لم يفعل، ولهذا يقال: جزاء المحسن الإحسان وجزاء المسيء الإساءة، وإن لم يتعين المحسن والمسيء حتى يقال: فعل ذلك معهما أو لم يفعل، ويقال لمن قتل غيره: جزاء هذا أن يقتل، (وهو كلام صادق وإن لم يفعل القتل) وإنما لا يقال للدراهم: إنها جزاء الأجير لأن الأجير إنما يستحق الأجرة في الذمة لا في الدراهم المعينة، فللمستأجر أن يعطيه منها ومن غيرها ".
واعترض بأنا سلمنا أنه لا يلزم في الجزاء أن يفعل إلا أن كثيرا من الآيات كقوله تعالى: * (من يعمل سوءا يجز به) * (النساء: 123) * (ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 8) يدل على أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين ألبتة، وفي الآية ما يشير إليه؛ ولا يخفى ما فيه لأن الآيات التي فيها أنه تعالى يوصل الجزاء إلى مستحقه كلها في حكم آيات الوعيد والعفو فيه جائز، فلا معنى للقول بالبت، ومن هنا قيل: إن الآية لا تصلح دليلا للمعتزلة مع قوله تعالى: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48).
وقد أخرج البيهقي عن قريش بن أنس قال: " كنت عند عمرو بن عبيد في بيته فأنشأ يقول: يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله تعالى فيقول لي: لم قلت: إن القاتل في النار؟ فأقول أنت قلته ثم تلا هذه الآية * (ومن يقتل مؤمنا) * الخ فقلت له: وما في البيت أصغر مني أرأيت إن قال لك فإني قد قلت: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) فمن أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ قال: فما استطاع أن يرد علي شيئا "، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن المنذر عن إسماعيل بن ثوبان قال: " جالست الناس قبل الداء الأعظم في المسجد الأكبر فسمعتهم يقولون لما نزلت * (ومن يقتل مؤمنا) * الآية: قال المهاجرون والأنصار وجبت لمن فعل هذا النار حتى نزلت * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * الخ، فقال المهاجرون والأنصار يصنع الله تعالى ما شاء " وبآية المغفرة رد ابن سيرين على من تمسك بآية الخلود وغضب عليه وأخرجه من عنده وكون آية الخلود بعد تلك الآية نزولا بستة أشهر، أو بأربعة أشهر - كما روي عن زيد بن ثابت - لا يفيد شيئا، ودعوى النسخ في مثل ذلك مما لا يكاد يصح كما لا يخفى، وأجاب بعض الناس بأن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل وكفره مما لا شك فيه فليس ذلك محلا للنزاع، ويدل عليه أنها نزلت في الكناني حسبما مرت حكايته، وقد روى عن عكرمة وابن جريج وجماعة أنهم فسروا * (متعمدا) * بمستحيلا؛ واعترض بأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وبأن تفسير المتعمد بالمستحل مما لا يكاد يقبل إذ ليس هو معناه لغة ولا شرعا فإن التزم المجاز فلا دليل عليه وسبب النزول لا يصلح أن يكون دليلا لما علمت الآن على أنه يفوت التقابل بين هذا القتل المذكور في هذه الآية والقتل المذكور في الآية السابقة وهو الخطأ الصرف، وقيل: إن الاستحلال يفهم من تعليق القتل بالمؤمن لأنه مشتق؛ وتعليق الحكم بالمشتق
117

يفيد علية مبدأ الاشتقاق، فكأنه قيل: ومن يقتل مؤمنا لأجل إيمانه ولا شك أن من يقتله لذلك لا يكون إلا مستحلا فلا يكون إلا كافرا فيخرج هذا القاتل عن محل النزاع وإن لم يعتبر سبب النزول، واعترض بأن المؤمن وإن كان مشتقا في الأصل إلا أنه عومل معاملة الجوامد، ألا ترى أن قولك كلمت مؤمنا مثلا لا يفهم منه أنك كلمته لأجل إيمانه؟ ولو أفاد تعليق الحكم بالمؤمن العلية لكان ضرب المؤمن وترك السلام عليه والقيام له كقتله كفرا ولا قائل به، واعتبار الاشتقاق تارة وعدم اعتباره أخرى خارج عن حيز الاعتبار فليفهم، ثم إنه سبحانه ذكر هنا حكم القتل العمد الأخروي، ولم يذكر حكمه الدنيوي اكتفاءا بما تقدم في آية البقرة. (178)..
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقىإليكم السل‍ام لست مؤمنا تبتغون عرض الحيواة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذالك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا) *.
* (يا أيها الذين ءآمنوا) * شروع في التحذير عما يوجب الندم من قتل من لا ينبغي قتله. * (إذا ضربتم في سبيل الله) * أي سافرتم للغزو على ما يدل عليه السباق والسياق * (فتبينوا) * أي فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وتذرون ولا (تعملوا) فيه من غير تدبر وروية، وقرأ حمزة وعلي وخلف - فتثبتوا - أي فاطلبوا ثبات الأمر ولا تعجلوا فيه، والمعنيان متقاربان، وصيغة التفعيل بمعنى الاستقبال، ودخلت الفاء لما في * (إذا) * من معنى الشرط كأنه قيل: إن غزوتم فتبينوا * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام) * أي حياكم بتحية الإسلام ومقابلها تحية الجاهلية - كأنعم صباحا وحياك الله تعالى - وقرأ حمزة وخلف وأهل الشام - السلم - بغير ألف، وفي بعض الروايات عن عاصم أنه قرأ - السلم - بكسر السين وفتح اللام، ومعناه في القرائتين الاستسلام والانقياد، وبه فسر بعضعم * (السلام) * أيضا في القراءة المشهورة، واللام على ما قال السمين: للتبليغ، والماضي بمعنى المضارع، و (من) موصولة أو موصوفة، والمراد النهي عما هو نتيجة لترك المأمور به، وتعيين مادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبيين والتثبيت، وتقييد ذلك بالسفر لأن عدم التبيين كان فيه لا لأنه لا يجب إلا فيه، والمعنى لا تقولوا لمن أظهر لكم ما يدل على إسلامه: * (لست مؤمنا) * وإنما فعلت ذلك خوف القتل بل اقبلوا منه ما أظهر وعاملوه بموجبه.
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه ومحمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهما وأبي جعفر القاري أنهم قرؤوا * (مؤمنا) * بفتح الميم الثانية أي مبذولا لك الأمان.
* (تبتغون عرض الحيواة الدنيا) * أي تطلبون ماله الذي هو حطام سريع الزوال وشيك الانتقال، والجملة في موضع الحال من فاعل * (تقولوا) * مشعرا بما هو
الحامل لهم على العجلة، والنهي راجع إلى القيد والمقيد، وقوله تعالى: * (فعند الله مغانم كثيرة) * تعليل للنهي عن القيد بما فيه من الوعد الضمني كأنه قيل: لا تبتغوا ذلك العرض القليل الزائل فإن عنده سبحانه وفي مقدوره مغانم كثيرة يغنمكموها فيغنيكم عن ذلك، وقوله سبحانه: * (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم) * تعليل للنهي عن المقيد باعتبار أن المراد منه رد إيمان الملقي لظنهم أن الإيمان العاصم ما ظهرت على صاحبه دلائل تواطىء الباطن والظاهر ولم تظهر فيه، واسم الإشارة إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فيه حيز الصلة، والفاء في * (فمن) * للعطف على * (كنتم) * وقدم خبرها للقصر المفيد لتأكيد المشابهة كأنه قيل: لا تردوا إيمان من حياكم بتحية الإسلام وتقولوا إنه ليس بإيمان عاصم ولا يعد المتصف به مؤمنا معصوما لظنكم اشتراط التواطؤ في العصمة ومجرد التحية لا يدل عليه، فإنكم كنتم أنتم في مبادىء إسلامكم مثل هذا الملقي في عدم ظهور شيء للناس منكم غير ما ظهر منه لكم من التحية ونحوها، ولم يظهر منكم ما تظنونه شرطا مما يدل على التواطؤ،
118

ومجرد أن الدخول في الإسلام لم يكن تحت ظلال السيوف لا يدل على ذلك فمن الله تعالى عليكم بأن قبل ذلك منكم ولم يأمر بالفحص عن تواطؤ ألسنتكم وقلوبكم، وعصم بذلك دماءكم وأموالكم، فإذا كان الأمر كذلك * (فتبينوا) * هذا الأمر ولا تعجلوا وتدبروا ليظهر لكم أن ظاهر الحال كاف في الإيمان العاصم حيث كفى فيكم من قبل، وأخر هذا التعليل على ما قيل لما فيه من نوع تفصيل ربما يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم مع ما فيه من مراعاة المقارنة بين التعليل السابق وبين ما علل به، أو لأن في تقديم الأول إشارة ما إلى ميل القوم نحو ذلك العرض، وأن سرورهم به أقوى، ففي تقديمه تعجيل لمسرتهم، وفيه نوع حط عليهم - رفع الله تعالى قدرهم ورضي المولى عز شأنه عنهم - أو لأنه أوضح في التعليل من التعليل الأخير وأسبق للذهن منه، ولعله لم يعطف أحد التعليلين على الآخر لئلا يتوهم أنهما تعليلا شيء واحد أو أن مجموعهما علة، وقيل: موافقة لما علل بهما من القيد والمقيد حيث لم يتمايزا بالعطف، وقيل: إنما لم يعطف لأن الأول تعليل للنهي الثاني بالوعد بأمر أخروي لأن المعنى لا تبتغوا عرض الحياة الدنيا لأن عنده سبحانه ثوابا كثيرا في الآخرة أعده لمن لم يبتغ ذلك، وعبر عن الثواب - بالمغانم - مناسبة للمقام، والتعليل الثاني للنهي الأول ليس كذلك، وذكر الزمخشري وغيره في الآية ما رده شيخ الإسلام بما يلوح عليه مخايل التحقيق، وقال بعض الناس فيها: إن المعنى كما كان هذا الذي قتلتموه مستخفيا بدينه في قومه خوفا على نفسه منهم كنتم أنتم مستخفين بدينكم حذرا من قومكم على أنفسكم، فمن الله تعالى عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله حتى أظهرتم الإسلام بعدما كنتم تكتمونه من أهل الشرك فتبينوا نعمة الله تعالى عليكم، أو تبينوا أمر من تقتلونه، ولا يخفى أن هذا - وإن كان بعضه مرويا عن ابن جبير - غير واف بالمقصود على أن القول بأن المخاطبين كانوا مستخفين بدينهم حذرا من قومهم في حيز المنع اللهم إلا أن يقال: إن كون البعض كان مستخفيا كاف في الخطاب، وقيل: إن قوله سبحانه: * (فمن الله عليكم) * منقطع عما قبله، وذلك أنه تعالى لما نهى القوم عن قتل من ذكر أخبرهم بعد بأنه من عليهم بأن قبل توبتهم عن ذلك الفعل المنكر، ثم أعاد الأمر بالتبيين مبالغة في التحذير، أو أمر بتبيين نعمته سبحانه شكرا لما من عليهم به - وهو كما ترى -. واختلف في سبب الآية، فأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن حميد وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا له فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ". وأخرج ابن جرير عن السدي قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة فلقوا رجلا منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر فآوى إلى كهف جبل واتبعه أسامة فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه ثم أقبل عليهم فقال: السلام عليكم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة أحب أن يثني عليه خيرا ويسأل عنه أصحابه، فلما رجعوا لم يسألهم عنه فجعل القوم يحدثون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: يا رسول الله لو رأيت أسامة وقد لقيه رجل فقال الرجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله فشد عليه فقتله وهو معرض عنهم فلما أكثروا عليه رفع رأسه إلى أسامة فقال: كيف أنت ولا إله إلا الله؟! فقال يا رسول الله إنما قالها متعوذا يتعوذ بها فقال عليه الصلاة والسلام: هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه؟! " ثم نزلت الآية.
119

وأخرج عن ابن زيد أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء، وذكر من قصته مثل ما ذكر من قصة أسامة، والاقتصار على ذكر تحية الإسلام على هذا - مع أنها كانت مقرونة بكلمة الشهادة - للمبالغة في النهي والزجر، والتنبيه على كمال ظهور خطئهم ببيان أن التحية كانت كافية في المكافة والانجزار عن التعرض لصاحبها فكيف وهي مقرونة بتلك الكلمة الطيبة، واستدل بالآية وسياقها على صحة إيمان المكره وأن المجتهد قد يخطىء وإن خطأه مغتفر، وجه الدلالة على الأول أنه مع ظن القاتلين أن إسلام من ذكر لخوف القتل وهو إكراه معنى أنكر عليهم قتله فلولا صحة إسلامه لم ينكر، ووجه الدلالة على الثاني أنه أمر فيها بالتبيين المشعر بأن العجلة خطأ. ووجه الدلالة على الثالث مأخوذ من السياق وعدم الوعيد على ترك التبيين، وذهب بعضهم إلى أنه لا عذر في ترك التثبت في مثل هذه الأمور، وأن المخطىء آثم، واحتج على ذلك بما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن " أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبوا يتطرقون فلقوا ناسا من العدو فحملوا عليهم فهزموهم فشد رجل منهم فتبعه رجل يريد متاعه فلما غشيه بالسنان قال: إني مسلم إني مسلم فأوجره السنان فقتله وأخذ متيعه، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام للقاتل: أقتلته بعد ما قال: إني مسلم؟! قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذا قال: أفلا شققت عن قلبه؟! قال: لم يا رسول الله؟ قال: لتعلم أصادق هو أو كاذب؟ قال: كنت عالم ذلك يا رسول الله قال عليه الصلاة والسلام: إنما كان يبين عنه لسانه إنما كان يعبر عنه لسانه، قال: فما لبث القاتل أن مات فحفر له أصحابه فأصبح وقد وضعته الأرض، ثم عادوا فحفروا له، فأصبح وقد وضعته الأرض إلى جنب قبره، قال الحسن فلا أدري كم قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: دفناه مرتين أو ثلاثا كل ذلك لا تقبله الأرض فلما رأينا الأرض لا تقبله أخذنا برجله فألقيناه في بعض تلك الشعاب " فأنزل الله تعالى قوله سبحانه: * (
يا أيها الذين آمنوا) * الآية، وفي رواية عبد الرزاق عن قتادة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الأرض أبت أن تقبله فألقوه في غار من الغيران " ووجه الدلالة في هذا على الإثم ظاهر، وأجيب بأن هذا القاتل لعله لم يفعل ذلك لكون المقتول غير مقبول الإسلام عنده بل لأمر آخر، واعتذر بما اعتذر كاذبا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد وابن المنذر والطبراني وجماعة عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال: " بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحرث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود معه متيع له ووطب من لبن فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه فقتله وأخذ متيعة فلما قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن * (يا أيها الذين آمنوا) * الخ، والظاهر أن الرجل المبهم في خبر الحسن هو هذا الرجل المصرح به في هذا الخبر، وهو يدل على أن القتل كان لشيء كان في القلب من ضغائن قديمة، وإنما قلنا: إن هذا هو الظاهر لما في خبر ابن عمر أن محلما بن جثامة لما رجع جاء النبي صلى الله عليه وسلم في بردين فجلس بين يديه عليه الصلاة والسلام ليستغفر له فقال: لا غفر الله تعالى لك، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه فما مضت ساعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ولكن الله تعالى أراد أن يعظكم، ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة، فإن الذي يميل القلب إليه اتحاد القصة، واعترض على القول بعدم الوعيد بأ قوله تعالى: * (إن الله كان بما تعملون خبيرا) *
120

يستفاد منه الوعيد أي أنه سبحانه لم يزل ولا يزال بكل ما تعملونه من الأعمال الظاهرة والخفية وبكيفياتها، ويدخل في ذلك التثبيت وتركه دخولا أوليا مطلع أتم اطلاع فيجازيكم بحسب ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والجملة تعليل بطريق الاستئناف، وقرىء بفتح * (أن) * على أنه معمول - لتبينوا - أو على حذف لام التعليل.
* (لا يستوى الق‍اعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمج‍اهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المج‍اهدين بأموالهم وأنفسهم على الق‍اعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المج‍اهدين على الق‍اعدين أجرا عظيما) *.
* (لا يستوي القاعدون) * شروع في الحث على الجهاد ليأنفوا عن تركه وليرغبوا عما يوجب خللا فيه، والمراد بالقاعدين الذين أذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاءا بغيرهم، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - هم القاعدون - عن بدر؛ وهو الظاهر الموافق للتاريخ على ما قيل، وقال أبو حمزة: إنهم المتخلفون عن تبوك، وروي أن الآية نزلت في كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف والربيع وهلال بن أمية من بني واقف حين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة. * (من المؤمنين) * حال من القاعدين، وجوز أن يكون من الضمير المستتر فيه، وفائدة ذلك الإيذان من أول الأمر بأن القعود عن الجهاد لا يقعد بهم عن الإيمان، والإشعار بعلة استحقاقهم لما سيأتي من الحسنى أي لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد حال كونهم كائنين من المؤمنين * (غير أولي الضرر) * بالرفع على أنه صفة - للقاعدون - وهو إن كان معرفة، و * (غير) * لا تتعرف في مثل هذا الموضع لكنه غير مقصود منه - قاعدون - بعينهم بل الجنس، فأشبه الجنس فصح وصفه بها، وزعم عصام الدين إن * (غير) * هنا معرفة، و * (غير أولي الضرر) * بمعنى لا ضرر له. ونقل عن الرضي - وبه ضعف ما تقدم - أن المعرف باللام المبهم وإن كان في حكم النكرة لكنه لا يوصف بما توصف به النكرة، بل يتعين أن تكون صفته جملة فعلية فعلها مضارع كما في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني * فأصد ثم أقول ما يعنيني
واستحسن بعضهم جعله بدلا من * (القاعدون) * لأن أل فيه موصولة، والمعروف إرادة الجنس في المعرف بالألف واللام، وبينهما فرق، وجوز الزجاج الرفع على الاستثناء، وتبعه الواحدي فيه، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب على أنه حال، وهو نكرة لا معرفة، أو على الاستثناء ظهر إعراب ما بعده عليه، وقرىء بالجر على أنه صفة للمؤمنين، أو بدل منه وكون النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة أكثري لاكلي، والضرر المرض والعلل التي لا سبيل معها إلى الجهاد، وفي معناها - أو هو داخل فيها - العجز عن الأهبة، وقد نزلت الآية وليس فيها * (غير أولي الضرر) * ثم نزل بعد، فقد روى مالك عن الزهري عن خارجة بن زيد قال: قال زيد بن ثابت: " كنت أكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في كتف - لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون - وابن أم مكتوم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد أنزل الله تعالى في فضل الجهاد ما أنزل وأنا رجل ضرير فهل لي من رخصة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أدري قال زيد: وقلمي رطب ما جف حتى غشي النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ووقع فخذه على فخذي حتى كادت تدق من ثقل الوحي، ثم جلى عنه، فقال لي: أكتب يا زيد * (غير أولي الضرر) * ".
* (والمج‍اهدون في سبيل الله) * في منهاج دينه * (بأموالهم) * إنفاقا فيما يوهن كيد الأعداء * (وأنفسهم) * حملا لها على الكفاح عند اللقاء، وكلا الجارين متعلق - بالمجاهدون - وأوردوا بهذا العنوان دون عنوان الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه، وقيده بما قيده مدحا لهم وإشعارا بعلة استحقاقهم لعلو المرتبة مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود كما قيل، وقيل: إنما أوردوا بعنوان الجهاد
121

إشعارا بأن القعود كان عنه ولكن ترك التصريح به هناك رعاية لهم في الجملة، وقدم (القاعدون) على - المجاهدين - ولم يؤخر عنهم ليتصل التصريح بتفضيلهم بهم، وقيل: للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء من جهة القاعدين لا من جهة مقابليهم، فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد، لكن المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر، وعليه قوله تعالى: * (هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور) * (الرعد؛ 16) إلى غير ذلك، وأما قوله تعالى: * (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * (الزمر: 9) فلعل تقديم الفاضل فيه لأن صلته ملكة لصلة المفضول. وأنت تعلم أنه لا تزاحم في النكات وأنه قد يكون في شيء واحد جهة تقديم وجهة تأخير، فتعتبر هذه تارة وتلك أخرى، وإنما قدم سبحانه وتعالى هنا
ذكر الأموال على الأنفس وعكس في قوله عز شأنه: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) * (التوبة: 111) لأن النفس أشرف من المال فقدم المشتري النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد وأخر البائع تنبيها على أن المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها إلا في فائدة.
وعلى ذلك النمط جاء أيضا قوله تعالى: * (فضل الله المج‍اهدين) * في سبيله * (بأموالهم وأنفسهم على الق‍اعدين) * من المؤمنين غير أولي الضرر * (درجة) * لا يقادر قدرها ولا يبلغ كنهها، وهذا تصريح بما أفهمه نفي المساواة فإنه يستلزم التفضيل إلى أنه لم يكتف بما فهم اعتناءا به وليتمكن أشد تمكن، ولكون الجملة مبينة وموضحة لما تقدم لم تعطف عليه، وجوز أن تكون جواب سؤال ينساقه إليه المقال كأنه قيل: كيف وقع ذلك التفضيل؟ فقيل: فضل الله الخ، واللام كما أشرنا إليه في الجمعين للعهد ولا يأباه كون مدخولها وصفا - كما قيل - إذ كثيرا ما ترد أل فيه للتعريف كما صرح به النحاة، و (درجة) منصوب على المصدر لتضمنها التفضيل لأنها المنزلة والمرتبة وهي تكون في الترقي والفضل، فوقعت موقع المصدر كأنه قيل: فضلهم تفضيلة، وذلك مثل قولهم: ضربته سوطا أي ضربة، وقيل: على الحال أي ذوي درجة، وقيل: على التمييز، وقيل: على تقدير حذف الجار أي بدرجة، وقيل: هو واقع موقع الظرف أي في درجة ومنزلة، وقوله تعالى: * (وكلا) * مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإفادة القصر تأكيدا للوعد، وتنوينه عوض عن المضاف إليه أي كل واحد من الفريقين المجاهدين والقاعدين * (وعد الله) * المثوبة * (الحسنى) * وهي الجنة - كما قال قتادة وغيره - لا أحدهما فقط، وقرأ الحسن - وكل - بالرفع على الابتداء، فالفعول الأول - وهو العائد في جملة الخبر - محذوف أي وعده، وكأن التزام النصب في المتواترة لأن قبله جملة فعلية وبذلك خالف ما في - الحديد - و (الحسنى) على القراءتين هو المفعول الثاني، والجملة اعتراض جيء به تداركا لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول.
وقوله سبحانه: * (وفضل الله المج‍اهدين على الق‍اعدين) * عطف على ما قبله، وأغنت أل عن ذكر ما ترك على سبيل التدريج من القيود، وإنما لم يعتبر التدريج في ترك ما ذكر مع القاعدين أولا بأن يترك من المؤمنين فقط، ويذكر * (غير أولي الضر) * في الآية الأولى ويتركهما معا في الآية الثانية، بل تركهما دفعة واحدة عند أول قصد التدريج قيل: لأن قيد * (غير أولى الضرر) * كان بعد السؤال كما يشير إليه سبب النزول. وفي بعض أخباره أن ابن أم مكتوم لما نزلت الآية جعل يقول: أي رب أين عذري أي رب أين عذري؟؟ فنزل ذلك فانسدت باب الحاجة إليه، وقنع السائل بذكره مرة فأسقط مع ما معه الساقط لذلك القصد دفعة، ولا كذلك
122

ما ذكر مع المجاهدين، فإن الإيتان به كان عن محض الفضل والامتنان من غير سابقة سؤال فلما فتحت باب الإسقاط اعتبر فيه التدريج فرقا بين المقامين، وقوله تعالى: * (أجرا عظيما) * مصدر مؤكد - لفضل - وهو وإن كان بمعنى أعطى الفضل وهو أعم من الأجر لأنه ما يكون في مقابلة أمر لكن أريد به هنا الأخص لأنه في مقابلة الجهاد، ويجوز أن يبقى على معناه، و * (أجرا) * مفعول به ولتضمنه معنى الإعطاء نصب المفعول أي أعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما، وقيل: هو منصوب بنزع الخافض أي فضلهم بأجر. [بم وجعله - صفة لقوله تعالى:
* (درج‍ات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما) *.
* (درج‍ات) * قدم عليها فانتصب على الحال، ولكونه مصدرا في الأصل يستوي فيه الواحد وغيره جاز نعت الجمع به - بعيد، وجوز في * (درجات) * أن يكون بدلا من * (أجرا) * (النساء: 95) بدل الكل مبينا لكمية التفضيل، وأن يكون حالا أي ذوي درجات، وأن يكون واقعا موقع الظرف أي في درجات، وقوله سبحانه: * (منه) * متعلق بمحذوف وقع صفة - لدرجات - دالة على فخامتها وعلو شأنها، أخرج عبد بن حميد عن ابن محيرز أنه قال: هي سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين سنة، وأخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من رضي بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولا وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله فأعادها عليه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: وأخرى يرفع الله تعالى بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله تعالى "، وعن السدي أنها سبعمائة، وجوز أن يكون انتصاب درجات على المصدرية كما في قولك: ضربته أسواطا أي ضربات، كأنه قيل: فضلهم تفضيلات، وجمع القلة هنا قائم مقام جمع الكثرة، وقيل: إنه على بابه. والمراد بالدرجات ما ذكر في آية براءة * (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح) * إلى قوله سبحانه: * (ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) * (التوبة: 120، 121) ونسب إلى عبد الله بن زيد.
وقوله عز شأنه: * (ومغفرة) * عطف على * (درجات) * الواقع بدلا من * (أجرا) * (النساء: 95) بدل الكل إلا أن هذا بدل البعض منه لأن بعض الأجر ليس من باب المغفرة، أي ومغفرة عظيمة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا يكفرها سائر الحسنات التي يأتي بها القاعدون، (فحينئذ) تعد من خصائصهم، وقوله تعالى: * (ورحمة) * عطف عليه أيضا وهو بدل الكل من * (أجرا) *، وجوز أن يكون انتصابهما بفعل مقدر أي غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة. هذا ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبىء عن المغايرة، وتقييده - تارة بدرجة وأخرى بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه حسبما يستدعيه الظاهر إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيدا لسلوك طريق الإبهام ثم التفسير روما لمزيد التحقيق والتقرير المؤذن بأن فضل المجاهدين بمحل لا تستطيع طير الأفكار الخضر أن تصل إليه، ولما كان هذا مما يكاد أن يتوهم منه حرمان القاعدين اعتنى سبحانه بدفع ذلك بقوله عز قائلا: * (وكلا وعد الله الحسنى) * (النساء: 95) ثم أراد جل شأنه تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة، فقال ما قال وسد باب الاحتمال.
123

ولا يخفى ما في الإبهام والتفسير من اللطف، وأما ما قيل من إفراد الدرجة أولا لأن المراد هناك تفضيل كل مجاهد، والجمع ثانيا لأن المراد فيه تفضيل الجمع ففي
الدرجات مقابلة الجمع بالجمع، فلكل مجاهد درجة ومآل العبارتين واحد والاختلاف تفنن، فمن الكلام الملفوظ لا من اللوح المحفوظ، وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات، وفي هذا - رغب الراغب، واستطيبه الطيبي - على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيقي بكونه درجة واحدة، وبالتفضيل الثاني ما ادخره سبحانه لهم من الدرجات العالية والمنازل الرفيعة المتعالية عن الحصر كما ينبىء عنه تقديم الأول وتأخير الثاني وتوسيط الوعد بالجنة بينهما، كأنه قيل: فضلهم عليهم في الدنيا درجة واحدة، وفي الأخرى درجات لا تحصى، وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود أعني الوعد بالجنة توضيحا لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول كذا قرره الفاضل مولانا شيخ الإسلام، وقيل: المراد من التفضيل الأول رضوان الله تعالى ونعيمه الروحاني، ومن التفضيل الثاني نعيم الجنة المحسوس، وفيه أن عطف المغفرة والرحمة يبعد هذا التخصيص، وقيل: المراد من المجاهدين الأولين من جاهد الكفار، ومن المجاهدين الآخرين من جاهد نفسه، وزيد لهم في الأجر لمزيد فضلهم كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " وفيه أن السياق وسبب النزول يأبيان ذلك، والحديث الذي ذكره لا أصل له كما قال المحدثون. وقيل المراد من القاعدين في الأول الأضراء، وفي الثاني غيرهم كما قال ابن جريج، وأخرج عنه ابن جرير، وفيه من تفكيك النظم ما لا يخفى.
بقي أن الآية لا تدل نصا على حكم أولي الضرر بناءا على التفسير المقبول عندنا، نعم في بعض الأحاديث ما يؤذن بمساواتهم للمجاهدين، فقد صح من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال: " إن في المدينة لأقواما ما سرتم من سير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر " وعليه دلالة مفهوم الصفة والاستثناء في * (غير أولي الضرر) * (النساء: 95)، وعن الزجاج أنه قال: إلا أولوا الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، وعن بعضهم إن هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى غير الضرر قد ذكرت في قوله تعالى: * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) * إلى قوله سبحانه: * (إذا نصحوا لله ورسوله) * (التوبة؛ 91) والذي يشهد له النقل والعقل أن الأضراء أفضل من غيرهم درجة كما أنهم دون المجاهدين في الدرجة الدنيوية، وأما إنهم مساوون لهم في الدرجة الأخروية فلا قطع به، والآية - على ما قاله ابن جريج - تدل على أنهم دونهم في ذلك أيضا.
وقد أخرج ابن المنذر من طريق ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن ابن أم مكتوم كان بعد نزول الآية يغزو، ويقول: ادفعوا إلي اللواء وأقيموني بين الصفين فإني لن أفر، وأخرج ابن منصور عن أنس بن مالك أنه قال: لقد رأيت ابن أم مكتوم بعد ذلك في بعض مشاهد المسلمين ومعه اللواء، ويعلم من نفي المساواة في صدر الآية المستلزم للتفضيل المصرح به بعد بين المجاهد بالمال والنفس والقاعد نفيها بين المجاهد بأحدهما والقاعد؛ واحتمال أن يراد من الآية نفي المساواة بين القاعد عن الجهاد بالمال والمجاهد به وبين القاعد عن الجهاد بالنفس والمجاهد بها بأن يكون المراد بالمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم المجاهدين فيه بأموالهم، والمجاهدين
124

فيه بأنفسهم وبالقاعدين أيضا قسمي القاعد، ويكون المراد نفي المساواة بين كل قسم من القاعد ومقابله بعيد جدا، واحتج بها كمال قال ابن الغرس: من فضل الغنى على الفقر بناءا على أنه سبحانه فضل المجاهد بماله على المجاهد بغير ماله، ولا شك أن الدرجة الزائدة من الفضل للمجاهد بماله إنما هي من جهة المال، واستدلوا بها أيضا على تفضيل المجاهد بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديوان ونحوه * (وكان الله غفورا رحيما) * تذييل مقرر لما وعد سبحانه من قبل..
* (إن الذين توف‍اهم المل‍ائكة ظ‍المىأنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فته‍اجروا فيها فأول‍ائك مأواهم جهنم وسآءت مصيرا) *.
* (إن الذين توف‍اهم المل‍ئكة) * بيان لحال القاعدين عن الهجرة إثر بيان القاعدين عن الجهاد، أو بيان لحال القاعدين عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه من المنافقين عقب بيان حال القاعدين من المؤمنين، و * (توفاهم) * يحتمل أن يكون ماضيا، وتركت علامة التأنيث للفصل ولأن الفاعل غير مؤنث حقيقي، ويحتمل أن يكون مضارعا، وأصله - تتوفاهم - فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، وهو لحكاية الحال الماضية، ويؤيد الأول قراءة من قرأ (توفتهم)، والثاني قراءة إبراهيم * (توفاهم) * بضم التاء على أنه مضارع وفيت بمعنى أن الله تعالى يوفي الملائكة أنفسهم، فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها، وإلى ذلك أشار ابن جني، والمراد من التوفي قبض الروح، وهو الظاهر الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وعن الحسن أن المراد به الحشر إلى النار، والمراد من الملائكة ملك الموت وأعوانه، وهم - كما في " البحر " - ستة: ثلاثة لأرواح المؤمنين، وثلاثة لأرواح الكافرين، وعن الجمهور أن المراد بهم ملك الموت فقط وهو من إطلاق الجمع مرادا به الواحد تفخيما له وتعظيما لشأنه، ولا يخفى أن إطلاق الجمع على الواحد لا يخلو عن بعد، والتحقيق أنه لا مانع من نسبة التوفي إلى الله تعالى وإلى ملك الموت وإلى أعوانه، والوجه في ذلك أن الله تعالى هو الآمر بل هو الفاعل الحقيقي، والأعوان هم المزاولون لإخراج الروح من نحو العروق والشرايين والعصب، والقاطعون لتعلقها بذلك، والملك هو القابض المباشر لأخذها بعد تهيئتها، وفي القرآن * (الله يتوفى الأنفس) * (الزمر؛ 42) و * (يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) * (السجدة: 11) و * (توفته رسلنا) * (الأنعام: 61) ومثله * (توفاهم الملائكة) *.
* (ظالمي أنفسهم) * بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفار الموجبة للإخلال بأمور الدين، أو بنفاقهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعانتهم الكفرة، فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس " أنه كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يهاجروا وخافوا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ". وأخرج ابن جرير عن الضحاك " إن هؤلاء أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فلم يخرجوا معه إلى المدينة وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر فأصيبوا فيمن أصيب فأنزل الله فيهم هذه الآية " وروي عن عكرمة أن الآية نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحرث بن زمعة بن الأسود وقيس بن
الوليد بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر مع المشركين من قريش فقتلوا هناك كفارا، ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، و * (ظالمي) * منصوب على الحالية من ضمير المفعول في * (توفاهم) * وإضافته لفظية فلا تفيده تعريفا، والأصل ظالمين أنفسهم.
* (قالوا) * أي الملائكة عليهم السلام للمتوفين توبيخا لهم بتقصيرهم في إظهار إسلامهم وإقامة أحكامه وشعائره أو قالوا تقريعا لهم وتوبيخا بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة وتكثير سوادهم وانتظامهم في عسكرهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم * (فيم كنتم) * أي في أي شيء كنتم من أمور دينكم وحذفت ألف - ما - الاستفهامية المجرورة وفاءا بالقاعدة، وتكتب متصلة تنزيلا لها مع ما قبلها منزلة الكلمة الواحدة، ولهذا تكتب - إلى وعلى وحتى -
125

في إلام وعلام وحتى م بالألف ما لم يوقف على - م - بالهاء، ولكن السؤال كما علمت طابقه الجواب بقوله تعالى: * (قالوا كنا مستضعفين في الأرض) * وإلا فالظاهر في الجواب كنا في كذا، أو لم نكن في شيء، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤال الملائكة كأنه قيل: فماذا قال أولئك المتوفون في الجواب؟ فقيل: قالوا في جوابهم: كنا مستضعفين في أرض مكة بين ظهراني المشركين الأقرباء. والمراد أنهم اعتذروا عن تقصيرهم في إظهار الإسلام وإدخالهم الخلل فيه بالاستضعاف والعجز عن القيام بمواجب الدين بين أهل مكة فلذا قعدوا وناموا، أو تعللوا عن الخروج معهم؛ والانتظام في ذلك الجمع المكسر بأنهم كانوا مقهورين تحت أيديهم، وأنهم فعلوا ذلك كارهين، وعلى التقديرين لم تقبل الملائكة ذلك منهم كما يشير إليه قوله سبحانه: * (قالوا) * أي الملائكة * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) * أي إن عذركم عن ذلك التقصير بحلولكم بين أهل تلك الأرض أبرد من الزمهرير إذ يمكنكم حل عقدة هذا الأمر الذي أخل بدينكم بالرحيل إلى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعل من هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، أو إن تعللكم عن الخروج مع أعداء الله تعالى لما يغيظ رسوله صلى الله عليه وسلم بأنكم مقهورون بين أولئك الأقوام غير مقبول لأنكم بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكنون من المهاجرة عن مجاورتهم والخروج من تحت أيديهم. * (فأولئك) * الذي شرحت حالهم الفظيعة * (مأواهم) * أي مسكنهم في الآخرة * (جهنم) * لتركهم الفريضة المحتومة، فقد كانت الهجرة واجبة في صدر الإسلام، وعن السدي كان يقول: من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر، والأصح الأول أو لنفاقهم وكفرهم ونصرتهم أعداء الله تعالى على سيد أحبائه عليه الصلاة والسلام، وعدم التقييد بالتأييد ليس نصا في العصيان بما دون الكفر، وإنما النص التقييد بعدمه، واسم الإشارة مبتدأ أول، و * (مأواهم) * مبتدأ ثان، و * (جهنم) * خبر الثاني وهما خبر الأول، والرابط الضمير المجرور، والمجموع خبر إن، والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط، وقوله سبحانه: * (قالوا فيم كنتم) * في موضع الحال من الملائكة، وقد معه مقدرة في المشهور، وجعله حالا - من الضمير المفعول بتقدير قد أولا، ولهم آخرا - بعيد، أو هو الخبر والعائد فيه محذوف أي لهم، والجملة المصدرة بالفاء معطوفة عليه مستنتجة منه ومما في (خبره)، ولا يصح جعل شيء من * (قالوا) * الثاني، والثالث خبرا لأنه جواب، ومراجعة - فمن قال: لو جعل * (قالوا) *: الثاني خبرا لم يحتج إلى تقدير عائد فقد - وهم، وقيل: الخبر محذوف تقديره هلكوا ونحوه، و * (تهاجروا) * منصوب في جواب الاستفهام وقوله تعالى: * (وساءت) * من باب بئس أي بئست * (مصيرا) * والمخصوص بالذم مقدر أي مصيرهم أو جهنم.
واستدل بعضهم بالآية على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه، وهو مذهب الإمام مالك، ونقل ابن العربي وجوب الهجرة من البلاد الوبيئة أيضا، وفي " كتاب الناسخ والمنسوخ " أنها كانت فرضا في صدر الإسلام فنسخت وبقي ندبها، وأخرج الثعلبي من حديث الحسن مرسلا " من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم " وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا فتذكر..
* (إلا المستضعفين من الرجال والنسآء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) *.
* (إلا المستضعفين) * استثناء منقطع (لأن الموصول وضمائره)، والإشارة
126

إليه بأولئك لمن توفته الملائكة ظالما لنفسه، فلم يندرج فيهم المستضعفون المذكورون، وقيل: إنه متصل والمستثنى منه * (فأولئك مأواهم جهنم) * (النساء: 97) وليس بشيء أي إلا الذين عجزوا عن الهجرة وضعفوا * (من الرجال) * كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد * (والنساء) * كأم الفضل لبابة بنت الحرث أم عبد الله بن عباس وغيرها * (والولدان) * كعبد الله المذكور وغيره رضي الله تعالى عنهم، والجار حال من المستضعفين، أو من الضمير المستتر فيه أي كائنين من هؤلاء، وذكر الولدان للقصد إلى المبالغة في وجوب الهجرة والأمر بها حتى كأنها مما كلف بها الصغار، أو يقال: إن تكليفهم عبارة عن تكليف أوليائهم بإخراجهم من ديار الكفر، وأن المراد بهم المراهقون، أو من قرب عهده بالصغر مجازا كما مر في اليتامى أو أن المراد التسوية بين هؤلاء في عدم الإثم والتكليف، أو أن العجز ينبغي أن يكون كعجز الولدان، أو المراد بهم العبيد والإماء.
* (لا يستطيعون حيلة) * أي لا يجدون أسباب الهجرة ومباديها * (ولا يهتدون سبيلا) * أي ولا يعرفون طريق الموضع المهاجر إليه بأنفسهم أو بدليل، والجملة صفة لما بعد (من)، أو للمستضعفين لأن المراد به الجنس سواء كانت أل موصولة أو حرف تعريف وهو في المعنى كالنكرة، أو حال منه، أو من الضمير المستتر فيه، وجوز أن تكون مستأنفة مبينة لمعنى الاستضعاف المراد هنا
* (فأول‍ائك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) *.
* (فأولائك) * أي المستضعفون * (عسى الله أن يعفو عنهم) * فيه إيذان بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المضطر الذي تحقق عدم وجوبها عليه ينبغي أن يعد تركها ذنبا، ولا يأمن، ويترصد الفرصة ويعلق قلبه بها. * (وكان الله عفوا غفورا) * تذييل مقرر لما قبله بأتم وجه..
* (ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الارض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مه‍اجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما) *.
* (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا) * ترغيب في المهاجرة وتأنيس لها، والمراد من المراغم المتحول والمهاجر - كما روي ذلك عن ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم فهو اسم مكان، وعبر عنه بذلك تأكيدا للترغيب لما فيه من الأشعار بكون ذلك المتحول الذي يجده يصل فيه المهاجر إلى ما يكون سببا لرغم أنف قومه الذين هاجرهم، وعن مجاهد: إن المعنى يجد فيها متزحزحا عما يكره، وقيل: متسعا مما كان فيه من ضيق المشركين، وقيل: طريقا يراغم بسلوكه قومه - أي يفارقهم على رغم أنوفهم والرغم الذل والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب، وقرىء مرغما * (وسعة) * أي من الرزق وعليه الجمهور، وعن مالك سعة من البلاد.
* (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت) * أي يحل به قبل أن يصل إلى المقصد ويحط رحال التسيار، بل وإن كان ذلك خارج بابه كما يشعر به إيثار الخروج من بيته على المهاجرة، وثم لا تأبى ذلك كما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى، وهو معطوف على فعل الشرط، وقرىء * (يدركه) * بالرفع، وخرجه ابن جني كما قال السمين على أنه فعل مضارع مرفوع للتجرد من الناصب والجازم، والموت فاعله، والجملة خبر لمبتدأ محذوف أي - ثم هو يدركه الموت - وتكون الجملة الإسمية معطوفة على الفعلية الشرطية وعلى ذلك حمل يونس قول الأعشى:
127

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا * (أو تنزلون فإنا معشر نزل)
أي أو أنتم تنزلون وتكون الاسمية حينئذ كما قال بعض المحققين: في محل جزم وإن لم يصح وقوعها شرطا لأنهم يتسامحون في التابع، وإنما قدروا المبتدأ ليصح رفعه مع العطف على الشرط المضارع، وقال عصام الملة: ينبغي أن يعلم أنه على تقدير المبتدأ يجب جعل * (من) * موصولة لأن الشرط لا يكون جملة اسمية ويكون * (يخرج) * أيضا مرفوعا، ويرد عليه حينئذ أنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ، فالأولى أن الرفع بناءا على توهم رفع * (يخرج) * لأن المقام من مظان الموصول، ولا يخفى أنه خبط وغفلة عما ذكروا، وقيل: إن ضم الكاف منقول من الهاء كأنه أراد أن يقف عليها، ثم نقل حركتها إلى الكاف كقوله: عجبت والدهر كثير عجبه * من عنزي يسبني لم أضربه
وهو كما في " الكشف " ضعيف جدا لإجراء الوصل مجرى الوقف والنقل أيضا، ثم تحريك الهاء بعد النقل بالضم وإجراء الضمير المتصل مجرى الجزء من الكلمة؛ والبيت ليس فيه إلا النقل وإجراء الضمير مجرى الجزء، وقرأ الحسن * (يدركه) * بالنصب، وخرجه غير واحد على أنه بإضمار إن نظير ما أنشده سيبويه من قوله: سأترك منزلي لبني تميم * وألحق بالحجاز فأستريحا
ووجهه فيه أن سأترك مستقبل مطلوب فجرى مجرى الأمر ونحوه، والآية - لكون المقصود منها الحث على الخروج وتقدم الشرط الذي هو شديد الشبه بغير الموجب - كانت أقوى من البيت، وذكر بعض المحققين أن النصب في الآية جوزه الكوفيون لما أن الفعل الواقع بين الشرط والجزاء يجوز فيه الرفع والنصب والجزم عندهم إذا وقع بعد الواو والفاء كقوله: ومن لا يقدم رجله مطمئنة * فيثبتها في مستوى القاع يزلق
وقاسوا عليهما ثم، فليس ما ذكر في البيت نظير الآية، وقيل: من عطف المصدر المتوهم على المصدر المتوهم مثل - أكرمني وأكرمك - أي ليكن منك إكرام ومني، والمعنى من يكن منه خروج من بيته وإدراك الموت له.
* (فقد وقع أجره على الله) * أي وجب بمقتضى وعده وفضله وهو جواب الشرط، وفي مقارنة هذا الشرط مع الشرط السابق الدلالة على أن المهاجر له إحدى الحسنيين إما أن يرغم أنف أعداء الله ويذلهم بسبب مفارقته لهم واتصالهم بالخير والسعة، وإما أن يدركه الموت ويصل إلى السعادة الحقيقية والنعيم الدائم، وفي الآية ما لا يخفى من المبالغة في الترغيب فقد قيل: كان مقتضى الظاهر - ومن يهاجر إلى الله ورسوله ويمت يثبه - إلا أنه اختير * (ومن يخرج مهاجرا من بيته) * على - ومن يهاجر - لما أشرنا إليه آنفا، ووضع * (يدركه الموت) * موضع - يمت - إشعارا بمزيد الرضا من الله تعالى، وأن الموت كالهدية منه سبحانه له لأنه سبب للوصول إلى النعيم المقيم الذي لا ينال إلا بالموت، وجيء - بثم - بدل الواو تتميما لهذه الدقيقة، وأن مرتبة الخروج دون هذه المرتبة، وأقيم * (فقد وقع أجره على الله) * مقام - يثبه - لما أنه مؤذن باللزوم والثبوت، وأن الأجر عظيم لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه لأنه على الذات الأقدس المسمى بذلك الاسم الجامع؛ وعن الزمخشري: إن فائدة * (ثم يدركه) * بيان أن الأجر إنما يستقر إذا لم يحبط العمل الموت، واختلف فيمن نزلت؛ فأخرج ابن جرير عن ابن جبير أنها نزلت في جندب بن ضمرة، وكان بلغه قوله تعالى: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * (النساء: 97) الآية وهو بمكة حين بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسلميها فقال لبنيه: احملوني فإني لست
128

من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق، وإني لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم ولما أدركه الموت أخذ يصفق يمينه على شماله؛ ويقول: اللهم هذه لك وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم أبايعك على ما بايع عليه رسولك، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: ليته مات بالمدينة فنزلت، وروى الشعبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في أكتم بن صيفي لما أسلم ومات وهو مهاجر، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير أنها نزلت في خالد بن حزام وقد كان هاجر إلى الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات، وروي غير ذلك، وعلى العلات فالمراد عموم اللفظ لا خصوص السبب، وقد ذكر أيضا غير واحد أن من سار لأمر فيه ثواب كطلب علم وحج وكسب حلال وزيارة صديق وصالح ومات قبل الوصول
إلى المقصد فحكمه كذلك، وقد أخرج أبو يعلى والبيهقي عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيا في سبيل الله تعالى فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة "، واحتج أهل المدينة بالآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه في الغنيمة، والصحيح ثبوت الأجر الأخروي فقط * (وكان الله غفورا) * مبالغا في المغفرة فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج * (رحيما) * مبالغا في الرحمة فيرحمه سبحانه بإكمال ثواب هجرته ونيته.
ومن باب الإشارة في بعض ما تقدم من الآيات: * (وما كان لمؤمن) * أي وما ينبغي لمؤمن الروح * (أن يقتل مؤمنا) * وهو مؤمن القلب * (إلا) * أن يكون قتلا * (خطأ) *، وذلك إنما يكون إذا خلصت الروح من حجب الصفات البشرية فإذا أرادت أن تتوجه إلى النفس أنوارها لتميتها وقع تجليها على القلب فخر صعقا من ذلك التجلي ودك جبل النفس دكا فكان قتله خطأ لأنه لم يكن مقصودا * (ومن قتل) * قلبا * (مؤمنا) * خطأ * (فتحرير رقبة مؤمنة) * وهي رقبة السر الروحاني وتحريرها إخراجها عن رق المخلوقات * (ودية مسلمة إلى أهله) * تسلمها العاقلة وهي الألطاف الإلهية إلى القوى الروحانية فيكون لكل منهما من حظ الأخلاق الربانية * (إلا أن يصدقوا) * وذلك وقت غنائهم بالفناء بالله تعالى * (فإن كان) * المقتول بالتجلي * (من قوم عدو لكم) * بأن كان من قوى النفس الأمارة * (وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) * وهي رقبة القلب فيطلقه من وثاق رق حب الدنيا والميل إليها، ولا دية في هذه الصورة لأهل القتيل * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) * بأن كان من قوى النفس القابلة للأحكام الشرعية ظاهرا والمهادنة للقلب * (فدية مسلمة) * واجبة على عاقلة الرحمة * (إلى أهله) * أي أهل تلك النفس من الصفات الأخر * (وتحرير رقبة مؤمنة) * وهي رقبة الروح وتحريرها إفناؤها وإطلاقها عن سائر القيود * (فمن لم يجد) * رقبة كذلك بأن كانت روحه محررة قبل * (فصيام شهرين متتابعين) * (النساء: 92) أي فعليه الإمساك عن العاديات وترك المألوفات ستين يوما، وهي مقدار مدة الميقات الموسوي ونصفها رجاء أن يحصل له البقاء بعد الفناء * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * (النساء: 93) إشارة إلى أن النفس إذا قتلت القلب واستولت عليه بقيت معذبة في نيران الطبيعة مبعدة عن الرحمة مظهرا لغضب الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله) * لإرشاد عباده * (فتبينوا) * حال المريد في الرد والقبول * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست
129

مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) * أي لا تنفروا من استسلم لكم وأسلم نفسه بأيديكم لترشدوه فتقولوا له لست مؤمنا صادقا لتعلق قلبك بالدنيا فسلم ما عندك من حطامها ليخلو قلبك لربك وتصلح لسلوك الطريق * (فعند الله مغانم كثيرة) * للسالكين إليه فإذا حظي بها السالك ترك لها ما في يده من الدنيا وأعرض قلبه عن ذلك * (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا) * (النساء: 94) أي مثل هذا المريد كنتم أنتم في مبادي طلبكم وتسليم أنفسكم للمشايخ حيث كان لكم تعلق بالدنيا فمن الله عليكم بعد السلوك بتلك المغانم الكثيرة التي عنده فأنساكم جميع ما في أيديكم وفطم قلوبكم عن الدنيا بأسرها فقيسوا حال من يسلم نفسه إليكم بحالكم لتعلموا أن الله سبحانه بمقتضى ما عود المتوجهين إليه الطالبين له سيمن على هؤلاء بما من به عليكم، ويخرج حب الدنيا من قلوبهم بأحسن وجه كما أخرجه من قلوبكم. والحاصل أنه لا ينبغي أن يقال لمن أراد التوجه إلى الحق جل وعلا من أرباب الدنيا في مبادي الأمر: أترك دنياك واسلك لأن ذلك مما ينفره ويسد باب التوجه عليه لشدة ترك المحبوب دفعة واحدة، ولكن يؤمر بالسلوك ويكلف من الأعمال ما يخرج ذلك عن قلبه لكن على سبيل التدريج * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * بمنعها عن حقوقها التي اقتضتها استعداداتهم من الكمالات المودعة فيها * (قالوا فيم كنتم) * حيث قعدتم عن السعي وفرطتم في جنب الله تعالى وقصرتم عن بلوغ الكمال الذي ندبتم إليه * (قالوا كنا مستضعفين في الأرض) * أي أرض الاستعداد باستيلاء قوى النفس الأمارة وغلبة سلطان الهوى وشيطان الوهم * (قالوا ألم تك أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) * أي ألم تكن سعة استعدادكم بحيث تهاجروا فيها من مبدأ فطرتكم إلى نهاية كمالكم، وذلك مجال واسع فلو تحركتم وسرتم بنور فطرتكم خطوات يسيرة بحيث ارتفعت عنكم بعض الحجب انطلقتم عن أسر القوى وتخلصتم عن قيود الهوى وخرجتم عن القرية الظالم أهلها التي هي مكة النفس الأمارة إلى البلدة الطيبة التي هي مدينة القلب، وإنما نسب سبحانه وتعالى هنا التوفي إلى الملائكة لأن التوفي وهو استيفاء الروح من البدن بقبضها عنه على ثلاثة أوجه: توفي الملائكة وتوفي ملك الموت وتوفي الله تعالى، فأما توفي الملائكة فهو لأرباب النفوس، وهم إما سعداء وإما أشقياء، وأما توفي ملك الموت فهو لأرباب القلوب الذين برزوا عن حجاب النفس إلى مقام القلب، وأما توفي الله تعالى فهو للموحدين الذين عرج بهم عن مقام القلب إلى محل الشهود فلم يبق بينهم وبين ربهم حجاب فهو سبحانه يتولى قبض أرواحهم بنفسه ويحشرهم إلى نفسه عز وجل، ولما لم يكن هؤلاء الظالمين من أحد الصنفين الأخيرين نسب سبحانه توفيهم إلى الملائكة، وقيد ذلك بحال ظلمهم أنفسهم * (فأولئك مأواهم جهنم) * الطبيعة * (وساءت مصيرا) * (النساء: 97) لما أن نار البعد والحجاب بها موقدة * (إلا المستضعفين من الرجال) * وهم كما قال بعض العارفين: أقوياء الاستعداد الذين قويت قواهم الشهوية والغضبية مع قوة استعدادهم فلم يقدروا على قمعها في سلوك طريق الحق ولم يذعنوا لقواهم الوهبية والخيالية فيبطل استعدادهم بالعقائد الفاسدة فبقوا في أسر قواهم البدنية مع تنور استعدادهم بنور العلم وعجزهم عن السلوك برفع القيود * (والنساء) * أي القاصرين الاستعداد عن درك الكمال العلمي وسلوك طريق التحقيق الضعفاء القوى، قيل: وهم البله المذكورون في خبر " أكثر أهل الحنة البله " * (والولدان) * أي القاصرين عن بلوغ درجة الكمال لفترة تلحقهم من قبل صفات النفس * (لا يستطيعون حيلة) * لعدم قدرتهم وعجزهم عن كسر النفس وقمع الهوى * (ولا يهتدون سبيلا) * (النساء: 98) لعدم علمهم بكيفية السلوك * (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم) * بمحو تلك الهيئات المظلمة لعدم رسوخها وسلامة عقائدهم * (وكان الله عفوا) * عن
130

الذنوب ما لم تتغير الفطرة * (غفورا) * النساء: 99) يستر بنور صفاته صفات النفوس القابلة لذلك * (ومن يهاجر في سبيل الله) * عن مقار النفس المألوفة * (يجد في الأرض) * أي أرض استعداده * (مراغما كثيرا) * أي منازلا كثيرة يرغم فيها أنوف قوى نفسه * (وسعة) * أي انشراحا في الصدر لسبب الخلاص من
مضايق صفات النفس وأسر الهوى * (ومن يخرج من بيته) * أي مقامه الذي هو فيه مهاجرا إلى الله بالتوجه إلى توحيد الذات * (ورسوله) * بالتوجه إلى طلب الاستقامة في توحيد الصفات * (ثم يدركه الموت) * أي الانقطاع * (فقد وقع أجره على الله) * حسبما توجه إليه * (وكان الله غفورا رحيما) * (النساء: 100) فيستر بصفاته صفات من توجه إليه ويرحم من انقطع دون الوصول بما هو أهله، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، ثم إنه سبحانه بعد أن أمر بالجهاد ورغب في الهجرة أردف ذلك ببيان كيفية الصلاة عند الضرورات من تخفيف المؤنة ما يؤكد العزيمة على ذلك [بم فقال سبحانه وتعالى:
* (وإذا ضربتم فى الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الك‍افرين كانوا لكم عدوا مبينا) *.
* (وإذا ضربتم في الأرض) * أي سافرتم أي سفر كان، ولذا لم يقيد بما قيد به المهاجرة، والشافعي رضي الله تعالى عنه يخص السفر بالمباح - كسفر التجارة - والطاعة - كسفر الحج - ويخرج سفر المعصية - كقطع الطريق والإباق - فلا يثبت فيه الحكم الآتي لأنه رخصة، وهي إنما تثبت تخفيفا وما كان كذلك لا يتعلق بما يوجب التغليظ لأن إضافة الحكم إلى وصف يقتضي خلافه فساد في الوضع، ولنا إطلاق النصوص مع وجود قرينة في بعضها تشعر بإرادة المطلق وزيادة قيد عدم المعصية نسخ على ما عرف في موضعه، ولأن نفس السفر ليس بمعصية إذ هو عبارة عن خروج مديد وليس في هذا شيء من المعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده كما في السرقة، أو مجاوره كما في الإباق فيصلح من حيث ذاته متعلق الرخصة لإمكان الانفكاك عما يجاوره كما إذا غصب خفا ولبسه فإنه يجوز له أن يمسح عليه لأن الموجب ستر قدمه ولا محظور فيه، وإنما هو في مجاوره وهو صفة كونه مغصوبا وتمامه في الأصول والمراد من الأرض ما يشمل البر والبحر، والمقصود التعميم أي إذا سافرتم في أي مكان يسافر فيه من بر أو بحر.
* (فليس عليكم جناح) * أي حرج وإثم * (أن تقصروا) * أي في أن تقصروا، والقصر خلاف المد يقال: قصرت الشيء إذا جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه، فمتعلق القصر إنما هو ذلك الشيء لا بعضه فإنه متعلق الحذف دون القصر، فقوله تعالى: * (من الصلواة) * ينبغي على هذا أن يكون مفعولا لتقصروا و * (من) * زائدة حسبما نقله أبو البقاء عن الأخفش القائل بزيادتها في الإثبات، وأما على تقدير أن تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفا والجار والمجرور في موضع الصفة - على ما نقله الفاضل المذكور عن سيبويه - أي شيئا من الصلاة فينبغي أن يصار إلى وصف الجزء بوصف الكل، أو يراد بالقصر الحبس كما في قوله تعالى: * (حور مقصورات في الخيام) * (الرحمن: 72) أو يراد بالصلاة الجنس ليكون (المقصود) بعضا منها وهي الرباعية أي فليس عليكم جناح في أن تقصروا بعض الصلاة بتنصيفها، وقرىء * (تقصروا) * من أقصر ومصدره الإقصار وقرأ الزهري * (تقصروا) * بالتشديد ومصدره التقصير والكل بمعنى.
وأدنى مدة السفر الذي يتعلق به القصر في المشهور - عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه - مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل، ومشي الأقدام بالاقتصاد في البر، وجري السفينة والريح معتدلة في البحر، ويعتبر في الجبل كون هذه المسافة من طريق الجبل بالسير الوسط أيضا، وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه التقدير بالمراحل وهو قريب من المشهور.
131

وقدر أبو يوسف بيومين وأكثر الثالث، والشافعي رحمه الله تعالى في قول: بيوم وليلة، وقدر عامة المشايخ ذلك بالفراسخ، ثم اختلفوا فقال بعضهم: أحد وعشرون فرسخا وقال آخرون ثمانية عشر، وآخرون خمسة عشر، والصحيح عدم التقدير بذلك، ولعل كل من قدر بقدر مما ذكر اعتقد أنه مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، والدليل على هذه المدة ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: " يمسح المقيم كمال يوم وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها " لأنه صلى الله عليه وسلم عمم الرخصة الجنس، ومن ضرورته عموم التقدير، والقول بكون " ثلاثة أيام " ظرفا للمسافر لا ليمسح يأباه أن السوق ليس إلا لبيان كمية مسح المسافر لا لإطلاقه، وعلى تقدير كونه ظرفا للمسافر يكون يمسح مطلقا وليس بمقصود، وأيضا يبطل كونه ظرفا لذلك أن المقيم يمسح يوما وليلة إذ يلزم عليه اتحاد حكم السفر والإقامة في بعض الصور وهي صورة مسافر يوم وليلة لأنه إنما يمسح يوما وليلة وهو معلوم البطلان للعلم بفرق الشرع بين المسافر والمقيم على أن ظرفية " ثلاثة " للمسافر تستدعي ظرفية اليوم للمقيم ليتفق طرفا الحديث، وحينئذ - يكون لا يكاد ينسب إلى أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم، وربما يستدل للقصر في أقل من ثلاثة بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: " يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان " فإنه يفيد القصر في الأربعة برد وهي تقطع في أقل من ثلاثة، وأجيب بأن راوي الحديث عبد الوهاب بن مجاهد، وهو ضعيف عند النقلة جدا حتى كان سفيان يزريه بالكذب فليفهم. واحتج الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بظاهر الآية الكريمة على عدم وجوب القصر وأفضلية الإتمام، وأيد ذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة والبزار والدارقطني عن عائشة رضي الله تعالى عنها: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم " وما أخرجه النسائي والدارقطني وحسنه البيهقي وصححه " أن عائشة رضي الله تعالى عنها لما اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله قصرت وأتممت وصمت وأفطرت؟ فقال: أحسنت يا عائشة " وبما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه كان يتم ويقصر، وعندنا يجب القصر لا محالة خلا أن بعض مشايخنا سماه عزيمة، وبعضهم رخصة إسقاط بحيث لا مساغ للإتمام لا رخصة (توفية) إذ لا معنى للتخيير بين الأخف والأثقل، وهو قول عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وجابر وجميع أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة، وهو قول مالك، وأخرج النسائي. وابن ماجه عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: " صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام " وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: " أول ما فرض الله تعالى الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر " وأما روي عنها من الإتمام فقد اعتذرت عنه؛ وقالت: أنا أم المؤمنين فحيث حللت فهي داري كما اعتذر عثمان رضي الله تعالى عنه عن إتمامه بأنه تأهل بمكة وأزمع الإقامة بها كما روي عن الزهري فلا يرد أنها رضي الله تعالى عنها خالف رأيها روايتها، وإذا خالف الراوي روايته في أمر لا يعمل بروايته فيه، والقول: بأن حديثها غير مرفوع لأنها لم تشهد فرض الصلاة غير
مسلم لجواز أنها سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، نعم ذكر بعض الشافعية أن الخبر مؤل بأن الفرض في قولها: " فرضت ركعتين " بمعنى البيان، وقد ورد بهذا المعنى ك‍ * (فرض الله لكم تحلة أيمانكم) * (التحريم: 2).
وقال الطبري: معناه فرضت لمن اختار ذلك من المسافرين، وهذا كما قيل في الحاج: إنه مخير في النفر
132

في اليوم الثاني والثالث، وأيا فعل فقد قام بالفرض وكان صوابا، وقال النووي: " المعنى فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في (صلاة) الحضر ركعتان على سبيل التحتم، وأقرت صلاة السفر على جواز (الإتمام) وحيث ثبتت دلائل (جواز) (2) الإتمام وجب المصير إلى ذلك جمعا بين الأدلة "، وقال ابن حجر عليه الرحمة: " والذي يظهر لي في جمع الأدلة أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت عقب الهجرة إلا الصبح كما رواه ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة، وفيه: وتركت الفجر لطول القراءة والمغرب لأنها وتر النهار، ثم بعد ما استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية، ويؤيده قول ابن الأثير (في شرح المسند): إن القصر كان في السنة الرابعة من الهجرة، وهو مأخوذ من قول غيره: إن نزول آية الخوف (كان) (2) فيها، وقيل: القصر كان في ربيع الآخر من السنة الثانية كما ذكره الدولابي، وقال السهيلي: إنه بعد الهجرة بعام أو نحوه، وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما فعلى هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها " فأقرت صلاة السفر " أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف لا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة " انتهى. واستبعد هذا الجمع بأنها لو كانت قبل الهجرة ركعتين لاشتهر ذلك، وقال آخرون منهم: إن الآية صريحة في عدم وجوب الإتمام، وما ذكر خبر واحد فلا يعارض النص الصريح على أنه مخصوص بغير الصبح والمغرب، وحجية العام المخصوص مختلف فيها، وذكر أصحابنا أن كثرة الأخبار، وعمل الجم الغفير من الصحابة والتابعين وجميع العترة رضي الله تعالى عنهم أجمعين بما يقوي القول بالوجوب ووروده بنفي الجناح لأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة أن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فصرح بنفي الجناح عليهم لتطيب به نفوسهم وتطمئن إليه كما في قوله تعالى: * (فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * (البقرة: 158) مع أن ذلك الطواف واجب عندنا، ركن عند الشافعي رحمه الله تعالى، وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه تلا هذه الآية لمن استبعد الوجوب بنفي الجناح.
* (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * جوابه محذوف لدلالة ما قبل عليه أي إن خفتم أن يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال أو غيره فليس عليكم جناح الخ، وقد أخذ بعضهم بظاهر هذا الشرط فقصر القصر على الخوف، وأخرج ابن جرير عن عائشة رضي الله تعالى عنها، والذي عليه الأئمة أن القصر مشروع في الأمن أيضا؛ وقد تظاهرت الأخبار على ذلك فقد أخرج النسائي والترمذي وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين " وأخرج الشيخان وغيرهما من أصحاب السنن عن حارثة بن وهب الخزاعي أنه قال: " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين " إلى غير ذلك، ولا يتوهمن أنه مخالف للكتاب لأن التقييد بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط، وأما عدمه عند عدمه فساكت عنه فإن وجد له دليل ثبت عنده أيضا، وإلا يبقى على حاله لعدم تحقق دليله لا لتحقق دليل عدمه. وناهيك ما سمعت من الأدلة الواضحة، وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما يدل على نفي الحكم عند عدم الشرط إذا لم يكن فيه فائدة أخرى، وقد خرج الشرط ههنا مخرج الأغلب كما قيل في قوله تعالى: * (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * (البقرة: 229) بل قد يقال إن الآية الكريمة مجملة
133

في حق مقدار القصر وكيفيته وفي حق ما يتعلق به من الصلوات وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر فكلما ورد منه صلى الله عليه وسلم من القصر في حال الأمن وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف وبالضرب في المدة المعينة بيان لإجمال الكتاب كما قاله شيخ الإسلام، وقال بعضهم: إن القصر في الآية محمول على قصر الأحوال من الإيماء وتخفيف التسبيح والتوجه إلى أي وجه وحينئذ يبقى الشرط على ظاهر مقتضاه المتبادر إلى الأذهان، ونسب ذلك إلى طاوس والضحاك.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: قصر الصلاة إن لقيت العدو وقد حانت الصلاة أن تكبر الله تعالى وتخفض رأسك إيماءا راكبا كنت أو ماشيا، وقيل: إن قوله تعالى: * (إن خفتم) * الخ متعلق بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله. فقد أخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: " سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى: * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في إثرها فأنزل الله تعالى بين الصلاتين * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * إلى قوله سبحانه وتعالى: * (إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) * (النساء: 102) فنزلت صلاة الخوف " ولعل جواب الشرط على هذا محذوف أيضا على طرز ما تقدم، ونقل الطبرسي عن بعضهم أن القصر في الآية بمعنى الجمع بين الصلاتين وليس بشيء أصلا. وقرأ أبي كما قال ابن المنذر: فأقصروا من الصلاة أن يفتنكم، والمشهور أنه كعبد الله أسقط * (إن خفتم) * فقط، وأيا ما كان فإن في موضع المفعول له لما دل عليه الكلام بتقدير مضاف كأنه قيل: شرع لكم ذلك كراهة * (أن يفتنكم) * الخ فإن استمرار الاشتغال بالصلاة مظنة لاقتداء الكافرين على إيقاع الفتنة، وقوله تعالى: * (إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) * إما تعليل لذلك باعتبار تعلله بما ذكر، أو تعليل لما يفهم من الكلام من كون فتنتهم متوقعة فإن كمال العداوة من موجبات التعرض بالسوء، و * (عدوا) * كما قال أبو البقاء: في موضع أعداء، وقيل: هو مصدر على فعول مثل الولوع والقبول، و * (لكم) * حال منه، أو متعلق ب (كان)..
* (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلواة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضىأن تضعوا أسلحتكم
وخذوا حذركم إن الله أعد للك‍افرين عذابا مهينا) *.
* (وإذا كنت فيهم) * بيان لما قبله من النص المجمل في مشروعية القصر بطريق التفريع وتصوير لكيفيته عند الضرورة التامة، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بطريق التجريد، وتعلق بظاهره من خص صلاة الخوف بحضرته عليه الصلاة والسلام كالحسن بن (زيد)، ونسب ذلك أيضا لأبي يوسف، ونقله عنه الجصاص في كتاب " الأحكام "، والنووي في المهذب، وعامة الفقهاء على خلافه فإن الأئمة بعده صلى الله عليه وسلم نوابه وقوام بما كان يقوم به فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * (التوبة: 103) وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن حبان وغيرهم عن ثعلبة بن زهدم قال: " كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، ثم وصف له ذلك فصلوا كما وصف ولم يقضوا، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكره أحد منهم وهم الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم " وهذا يحل محل الإجماع، ويرد ما زعمه المزني من دعوى النسخ أيضا * (فأقمت لهم الصلواة) * أي أردت أن تقيم بهم الصلاة * (فلتقم طائفة منهم معك) * بعد أن جعلتهم طائفتين ولتقف الطائفة الأخرى تجاه العدو للحراسة
134

ولظهور ذلك ترك * (وليأخذوا) * أي الطائفة المذكورة القائمة معك * (أسلحتهم) * مما لا يشغل عن الصلاة كالسيف والخنجر. وعن ابن عباس أن الآخذة هي الطائفة الحارسة فلا يحتاج حينئذ إلى التقييد إلا أنه خلاف الظاهر، والمراد من الأخذ عدم الوضع وإنما عبر بذلك عنه للإيذان بالاعتناء باستصحاب الأسلحة حتى كأنهم يأخذونها ابتداءا.
* (فإذا سجدوا) * أي القائمون معك أي إذا فرغوا من السجود وأتموا الركعة - كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - * (فليكونوا من ورائكم) * أي فلينصرفوا (للحراسة من العدو) * (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا) * بعد وهي التي كانت تحرس، ونكرها لأنها لم تذكر قبل * (فليصلوا معك) * الركعة الباقية من صلاتك، والتأنيث والتذكير مراعاة للفظ، والمعنى - ولم يبين في الآية الكريمة - حال الركعة الباقية لكل من الطائفتين، وقد بين ذلك بالسنة، فقد أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن سالم عن أبيه في قوله سبحانه: * (فأقمت لهم الصلاة) * هي صلاة الخوف صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو، ثم انصرفت التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقاموا مقام أولئك مقبلين على العدو، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى، ثم سلم بهم، ثم قامت كل طائفة فصلوا ركعة ركعة فتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل من الطائفتين ركعتان ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعة بعد سلامه وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الأخرى ركعة كما في الآية فجاءت الطائفة الأولى وذهبت هذه إلى مقابلة العدو حتى قضت الأولى الركعة الأخرى بلا قراءة وسلموا، ثم جاءت الطائفة الأخرى وقضوا الركعة الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان، وهذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وإنما سقطت القراءة عن الطائفة الأولى في صلاتهم الركعة الثانية بعد سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم وإن كانوا في ثانيته عليه الصلاة والسلام في مقابلة العدو إلا أنهم في الصلاة وفي حكم المتابعة فكانت قراءة الإمام قائمة مقام قراءتهم كما هو حكم الاقتداء ولا كذلك الطائفة الأخرى لأنهم اقتدوا بالإمام في الركعة الثانية وأتم الإمام صلاته فلا بد لهم من القراءة في ركعتهم الثانية إذ لم يكونوا مقتدين بالإمام حينئذ، وذهب بعضهم إلى أن صلاة الخوف هي ما في هذه الآية ركعة واحدة، ونسب ذلك إلى ابن عباس وغيره، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي شيبة والنحاس عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: " فرض الله تعالى على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة " وأخرج الأولان وابن أبي حاتم عن يزيد الفقير " قال سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر أقصرهما فقال: الركعتان في السفر تمام إنما القصر واحدة عند القتال بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال إذ أقيمت الصلاة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفت طائفة وطائفة وجوهها قبل العدو فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ثم انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس فسلم وسلم الذين خلفه وسلم الأولون فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان وللقوم ركعة ركعة ثم قرأ الآية "، وذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه إلى أن كيفية صلاة الخوف أن يصلي الإمام بطائفة ركعة فإذا قام للثانية فارقته وأتمت وذهبت إلى وجه العدو وجاء الواقفون في وجهه والإمام ينتظرهم فاقتدوا به وصلى بهم الركعة الثانية فإذا جلس للتشهد قاموا فأتموا ثانيتهم ولحقوه وسلم بهم،
135

وهذه - كما رواه الشيخان - صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، وهي أحد الأنواع التي اختارها الشافعي رضي الله تعالى عنه، واستشكل من ستة عشر نوعا، ويمكن حمل الآية عليها، ويكون المراد من السجود الصلاة؛ والمعنى فإذا فرغوا من الصلاة فليكونوا الخ، وأيد ذلك بأنه لا قصور في البيان عليه، وبأن ظاهر قوله سبحانه: * (فليصلوا معك) * أن الطائفة الأخيرة تتم الصلاة مع الإمام، وليس فيه إشعار بحراستها مرة ثانية وهي في الصلاة ألبتة، وتحتمل الآية بل قيل: إنها ظاهرة في ذلك أن الإمام يصلي مرتين كل مرة بفرقة وهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما رواه الشيخان أيضا - ببطن نخل، واحتمالها للكيفية التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان بعيد جدا، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام - كما قال ابن عباس ورواه عنه أحمد وأبو داود وغيرهما - صف الناس خلفه صفين، ثم ركع فركعوا جميعا، ثم سجد بالصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وهؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ثم ركع عليه الصلاة والسلام فركعوا جميعا، ثم رفع فرفعوا ثم سجد هو والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ثم سلم عليهم، ثم انصرف صلى الله عليه وسلم وتمام الكلام يطلب من محله.
* (وليأخذوا) * أي الطائفة الأخرى * (حذرهم) * أي احترازهم وشبهه بما يتحصن به من الآلات ولذا أثبت له الأخذ تخييلا وإلا فهو أمر معنوي لا يتصف بالأخذ، ولا يضر عطف قوله سبحانه: * (وأسلحتهم) * عليه للجمع بين الحقيقة والمجاز لأن التجوز في التخييل في الإثبات والنسبة لا في الطرف على الصحيح، ومثله لا بأس فيه بالجمع كما في قوله تعالى: * (تبوءوا الدار والإيمان) * (الحشر: 9)، وقال بعض المحققين: إن هذا وأمثاله من المشاكلة لما يلزم على الكناية التصريح بطرفيها وإن دفع بأن المشبه به أعم من المذكور، وإن فسر الحذر بما يدفع به فلا كلام، ولعل زيادة الأمر بالحذر - كما قال شيخ الإسلام - في هذه المرة لكونها مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم في شغل شاغل، وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحراب.
* (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) * بيان لما لأجله أمروا بأخذ السلاح، والخطاب للفريقين بطريق الالتفات أي تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم فيحملون عليكم جملة واحدة، والمراد بالأمتعة ما يمتع به في الحرب لا مطلقا وقرىء - أمتعاتكم - والأمر للوجوب لقوله تعالى: * (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم) * حيث رخص لهم في وضعها إذا ثقل عليهم حملها واستصحابها بسبب مطر أو مرض، وأمروا بعد ذلك بالتيقظ والاحتياط فقال سبحانه: * (وخذوا حذركم) * أي بعد إلقاء السلاح للعذر لئلا يهجم عليكم العدو غيلة، واختار بعض أئمة الشافعية أن الأمر للندب، وقيدوه بما إذا لم يخف ضررا يبيح التيمم بترك الحمل، أما لو خاف وجب الحمل على الأوجه ولو كان السلاح نجسا ومانعا للسجود وفي " شرح المنهاج " للعلامة ابن حجر ولو انتفى خوف الضرر وتأذى غيره بحمله كره إن خف الضرر بأن احتمل عادة وإلا حرم، وبه يجمع بين إطلاق كراهته وإطلاق حرمته، والآية كما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا، وذكر أبو ضمرة ورواه الكلبي عن أبي صالح أن رسول الله
136

صلى الله عليه وسلم غزا محاربا وبني أنمار فهزمهم الله تعالى وأحرزهم الذراري والمال، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ولا يرون من العدو واحدا فوضعوا أسلحتهم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة له وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء ترش فحال الوادي بينه صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه فجلس في ظل سمرة فبصر به غورث بن الحرث المحاربي فقال: قتلني الله تعالى إن لم أقتله وانحدر من الجبل؛ ومعه السيف ولم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سله من غمده، فقال: يا محمد من يعصمك مني الآن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله عز وجل، ثم قال: اللهم اكفني غورث بن الحرث بما شئت فانكب عدو الله تعالى لوجهه وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ سيفه فقال: يا غورث من يمنعك مني الآن؟ فقال: لا أحد قال صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني عبد الله ورسوله؟ قال: لا، ولكني أعهد إليك أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه فقال له غورث: لأنت خير مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أحق بذلك فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا: يا غورث لقد رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه؟ قال: الله عز وجل أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من لزجني بين كتفي فخررت لوجهي وخر سيفي وسبقني إليه محمد عليه الصلاة والسلام فأخذه وأتم لهم القصة فآمن بعضهم ولم يلبث الوادي أن سكن، فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فأخبرهم الخبر وقرأ عليهم الآية.
* (إن الله أعد للك‍افرين عذابا مهينا) * تعليل للأمر بأخذ الحذر أي أعد لهم عذابا مذلا وهو عذاب المغلوبية لكم ونصرتكم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تهملوا مباشرة الأسباب كي يعذبهم بأيديكم، وقيل: لما كان الأمر بالحذر من العدو موهما لغلبته واعتزازه نفى ذلك الإيهام بالوعد بالنصر وخذلان العدو لتقوى قلوب المأمورين ويعلموا أن التحرز في نفسه عبادة كما أن النهي عن إلقاء النفس في التهلكة لذلك لا للمنع عن الإقدام على الحرب، وقيل: لا يبعد أن يراد بالعذاب المهين شرع صلاة الخوف فيكون لختم الآية به مناسبة تامة، ولا يخفى بعده..
* (فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا الله قي‍اما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلواة إن الصلواة كانت على المؤمنين كت‍ابا موقوتا) *.
* (فإذا قضيتم الصلواة) * أي فإذا أديتم صلاة الخوف على الوجه المبين وفرغتم منها. * (فاذكروا الله قي‍اما وقعودا وعلى جنوبكم) * أي فداوموا على ذكره سبحانه في جميع الأحوال حتى في حال (المسابقة) والمقارعة والمراماة، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال عقب تفسيرها: لم يعذر الله تعالى أحدا في ترك ذكره إلا المغلوب على عقله، وقيل: المعنى وإذا أردتم أداء الصلاة واشتد الخوف أو التحم القتال فصلوا كيفما كان، وهو الموافق لمذهب الشافعي من وجوب الصلاة حال المحاربة وعدم جواز تأخيرها عن الوقت، ويعذر المصلي حينئذ في ترك القبلة لحاجة القتال لا لنحو جماح دابة وطال الفصل، وكذا الأعمال الكثيرة لحاجة في الأصح لا الصياح أو النطق بدونه ولو دعت الحاجة إليه كتنبيه من خشي وقوع مهلك به أو زجر الخيل أو الإعلام بأنه فلان المشهور بالشجاعة لندرة الحاجة ولا قضاء بعد الأمن فيه، نعم لو صلوا كذلك لسواد ظنوه ولو بإخبار عدل عدوا فبان أن لا عدو وأن بينهم وبينه ما يمنع وصوله إليهم كخندق، أو أن بقربهم عرفا حصنا يمكنهم التحصن به من غير أن يحاصرهم فيه قضوا في الأظهر، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك في غاية البعد
* (فإذا اطمأننتم) * أي أقمتم - كما قال قتادة ومجاهد - وهو راجع إلى قوله تعالى: * (وإذا ضربتم
137

في الأرض) * (النساء: 101) ولما كان الضرب اضطرابا وكنى به عن السفر ناسب أن يكنى بالاطمئنان عن الإقامة، وأصله السكون والاستقرار أي إذا استقررتم وسكنتم من السير والسفر في أمصاركم * (فأقيموا الصلواة) * أي أدوا الصلاة التي دخل وقتها وأتموها وعدلوا أركانها وراعوا شروطها وحافظوا على حدودها، وقيل: المعنى فإذا أمنتم فأتموا الصلاة أي جنسها معدلة الأركان ولا تصلوها ماشين أو راكبين أو قاعدين، وهو المروي عن ابن زيد، وقيل: المعنى: فإذا اطمأننتم في الجملة فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي حال القلق والانزعاج، ونسب إلى الشافعي رضي الله عنه وليس بالصحيح لما علمت من مذهبه * (ولا ينبئك مثل خبير) * (فاطر: 14).
* (إن الصلواة كانت على المؤمنين كت‍ابا) * أي مكتوبا مفروضا * (موقوتا) * محدود الأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال فلا بد من إقامتها سفرا أيضا، وقيل: المعنى كانت عليهم أمرا مفروضا مقدرا في الحضر بأربع ركعات وفي السفر بركعتين فلا بد أن تؤدى في كل وقت حسبما قدر فيه، واستدل بالآية من حمل الذكر فيما تقدم على الصلاة وأوجبها في حال القتال على خلاف ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه..
* (ولا تهنوا فى ابتغآء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما) *.
* (ولا تهنوا في ابتغاء القوم) * أي لا تضعفوا ولا تتوانوا في طلب الكفار بالقتال. * (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) * تعليل للنهي وتشجيع لهم أي ليس ما ينالكم من الآلام مختصا بكم بل الأمر مشترك بينكم وبينهم ثم إنهم يصبرون على ذلك فما لكم أنتم لا تصبرون مع أنكم أولى بالصبر منهم حيث أنكم ترجون وتطمعون من الله تعالى ما لا يخطر لهم ببال من ظهور دينكم الحق على سائر الأديان الباطلة، ومن الثواب الجزيل والنعيم المقيم في الآخرة. وجوز أن يحمل الرجال على الخوف فالمعنى - إن الألم لا ينبغي أن يمنعكم لأن لكم خوفا من الله تعالى ينبغي أن يحترز عنه فوق الاحتراز عن الألم وليس لهم خوف يلجئهم إلى الألم وهم يختارونه لإعلاء دينهم الباطل فما لكم والوهن - ولا يخلو عن بعد، وأبعد منه ما قيل: إن المعنى أن الألم قدر مشترك وأنكم تعبدون الإله العالم القادر السميع البصير الذي يصح أن يرجى منه، وأنهم يعبدون الأصنام التي لا خيرهن يرجى ولا شرهن يخشى. وقرأ أبو عبدالرحمن الأعرج * (أن تكونوا) * بفتح الهمزة أي لا تهنوا لأن تكونوا تألمون؛
وقوله تعالى: * (فإنهم) * تعليل للنهي عن الوهن لأجله، وقرىء - تئلمون كما يئلمون - بكسر حرف المضارعة، والآية قيل: نزلت في الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان يوم أحد، وقيل: نزلت يوم أحد في الذهاب خلف أبي سفيان وعسكره إلى حمراء الأسد، وروي ذلك عن عكرمة * (وكان الله عليما) * مبالغا في العلم فيعلم مصالحكم وأعمالكم ما تظهرون منها وما تسرون * (حكيما) * فيما يأمر وينهى فجدوا في الامتثال لذلك فإن فيه عواقب حميدة وفوزا بالمطلوب..
* (إنآ أنزلنا إليك الكت‍ابب الحق لتحكم بين الناس بمآ أراك الله ولا تكن للخآئنين خصيما) *.
* (إنا أنزلنا إليك الكت‍ابب الحق) * أخرج غير واحد عن قتادة بن النعمان رضي الله تعالى عنه أنه قال: كان أهل بيت منا يقال لهم: بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشر رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله بعض العرب، ويقول: قال فلان كذا، وقال فلان كذا فإذا سمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا
138

الشعر إلا هذا الخبيث فقال: أو كلما قال الرجال قصيدة * أضموا فقالوا: ابن الأبيرق قالها
وكانوا أهل حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان طعام الناس بالمدينة التمر والشعير وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع منها فخص بها نفسه فقدمت ضافطة فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما فعدا عدي من تحت الليل فنقب المشربة وأخذ الطعام والسلام فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلم أنه قد عدى علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا فتحسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم فقال بنو أبيرق: ونحن نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق، وقال: أنا أسرق فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة قالوا: إليك عنا أيها الرجل فوالله ما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأنظر في ذلك فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك واجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله تعالى المستعان فلم نلبث أن نزل القرآن * (إن أنزلنا إليك الكتاب) * الخ فلما نزل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عسى في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا قال: يا ابن أخي هو في سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا ثم لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد أنزل الله تعالى: * (ومن يشاقق الرسول) * (النساء: 115) الآية، ثم إن حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه هجا سلافة فقال: فقد أنزلته بنت سعد وأصبحت * ينازعها جلد أستها وتنازعه
ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم * وفينا نبي عنده الوحي واضعه
فلما سمعت ذلك حملت رحله على رأسها فألقته بالأبطح فقالت: أهديت إلى شعر حسان ما كنت تأتيني بخير، وأخرج ابن جرير عن السدي - واختاره الطبري - أن يهوديا استودع طعمة بن أبيرق درعا فانطلق بها إلى داره فحفر لها اليهودي ودفنها فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها فلما جاء اليهودي يطلب درعه كافره عنها فانطلق إلى أناس من اليهود من عشيرته فقال: انطلقوا معى فإني أعرف موضع الدرع فلما علم به طعمة أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مليك الأنصاري فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها وقع به طعمة وأناس
139

من قومه فسبوه، وقال طعمة: أتخونوني فانطلقوا يطلبونها في داره فأشرفوا على دار أبي مليك فإذا هم بالدرع فقال طعمة: أخذها أبو مليك وجادلت الأنصار دون طعمة، وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له: ينضح عني ويكذب حجة اليهود، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أن يفعل فأنزل الله تعالى الآية فلما فضح الله تعالى طعمة بالقرآن هرب حتى أتى مكة فكفر بعد إسلامه ونزل على الحجاج بن علاط السلمي فنقب بيته وأراد أن يسرقه فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقعة جلود كانت عنده فنظر فإذا هو بطعمة فقال: ضيفي وابن عمي أردت أن تسرقني؟! فأخرجه فمات بحرة بني سليم كافرا وأنزل الله تعالى فيه * (ومن يشاقق) * (النساء: 115) الخ، وعن عكرمة أن طعمة لما نزل فيه القرآن ولحق بقريش ورجع عن دينه وعدا على مشربة للحجاج سقط عليه حجر فلحج فلما أصبح أخرجوه من مكة فخرج فلقي ركبا من قضاعة فعرض لهم فقالوا: ابن سبيل منقطع به فحملوه حتى إذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ثم انطلق فرجعوا في طلبه فأدركوه فقذفوه بالحجارة حتى مات، وعن ابن زيد أنه بعد أن لحق بمكة نقب بيتا يسرقه فهدمه الله تعالى عليه فقتله، وقيل: إنه أخرج فركب سفينة إلى جدة فسرق فيها كيسا فيه دنانير فأخذ وألقى في البحر. هذا وفي تأكيد الحكم إيذان بالاعتناء بشأنه كما أن في إسناد الإنزال إلى ضمير العظمة تعظيما لأمر المسند، وتقديم المفعول الغير الصريح للاهتمام والتشويق، وقوله سبحانه: * (بالحق) * في موضع الحال أي إنا أنزلنا إليك القرآن متلبسا بالحق * (لتحكم بين الناس) * برهم وفاجرهم * (بما أراك الله) * أي بما عرفك وأوحى به إليك، و (ما) موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول - لأرى - وهي من رأى بمعنى عرف المتعدية لواحد وقد تعدت لاثنين بالهمزة، وقيل: إنها من الرأي من قولهم: رأى الشافعي كذا وجعلها علمية يقتضي التعدي إلى ثلاثة مفاعيل وحذف اثنين منها أي بما أراكه الله تعالى حقا وهو بعيد، وإما جعلها - من رأى البصرية مجازا - فلا حاجة إليه * (ولا تكن للخائنين) * وهم بنو أبيرق أو طعمة ومن يعينه، أو هو ومن يسير بسيرته، واللام للتعليل، وقيل: بمعنى عن أي لا تكن لأجلهم أو عنهم * (خصيما) * أي مخاصما للبرآء، والنهي معطوف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم كأنه قيل: إنا أنزلنا إليك الكتاب فاحكم به ولا تكن الخ، وقيل: عطف على * (أنزلنا) * بتقدير قلنا، وجوز عطفه على الكتاب لكونه منزلا ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا..
* (واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما) *.
* (واستغفر الله) * مما قلت لقتادة أو مما هممت به في أمر طعمة وبراءته لظاهر الحال، وما قاله صلى الله عليه وسلم لقتادة، وكذا الهم بالشيء خصوصا إذ يظن أنه الحق ليس بذنب حتى يستغفر منه لكن لعظم النبي صلى الله عليه وسلم - وعصمة الله تعالى له وتنزيهه عما يوهم النقص وحاشاه - أمره بالاستغفار لزيادة الثواب وإرشاده إلى التثبت وأن ما ليس بذنب مما يكاد يعد حسنة من غيره إذا صدر منه عليه الصلاة والسلام بالنسبة لعظمته ومقامه المحمود يوشك أن يكون كالذنب فلا متمسك بالأمر بالاستغفار في عدم العصمة كما زعمه البعض، وقيل: يحتمل أن يكون المراد: واستغفر لأولئك الذين برءوا ذلك الخائن * (إن الله كان غفورا رحيما) * مبالغا في المغفرة والرحمة لمن استغفره، وقيل: لمن استغفر له..
* (ولا تج‍ادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) *.
* (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) * أي يخونونها وجعلت خيانة الغير خيانة لأنفسهم لأن وبالها وضررها عائد عليهم، ويحتمل أنه جعلت المعصية خيانة فمعنى * (يختانون أنفسهم) *
140

يظلمونها باكتساب المعاصي وارتكاب الآثام، وقيل: الخيانة مجاز عن المضرة ولا بعد فيه، والمراد بالموصول إما السارق أو المودع المكافر وأمثاله، وإما هو ومن عاونه فإنه شريك له في الإثم والخيانة، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو عليه الصلاة والسلام المقصود بالنهي، والنهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي مرتكبا للمنهي عنه، وقد يقال: إن ذلك من قبيل * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) ومن هنا قيل: المعنى لا تجادل أيها الإنسان.
* (إن الله لا يحب من كان خوانا) * كثير الخيانة مفرطا فيها * (أثيما) * منهمكا في الإثم، وتعليق عدم المحبة المراد منه البغض والسخط بصيغة المبالغة ليس لتخصيصه بل لبيان إفراط بني أبيرق وقومهم في الخيانة والإثم. وقال أبو حيان: أتى بصيغة المبالغة فيهما ليخرج منه من وقع منه الإثم والخيانة مرة ومن صدر منه ذلك على سبيل الغفلة وعدم القصد، وليس بشيء، وإرداف الخوان بالإثم قيل: للمبالغة، وقيل: إن الأول: باعتبار السرقة أو إنكار الوديعة، والثاني: باعتبار تهمة البريء، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وقدمت صفة الخيانة على صفة الإثم لأنها سبب له، أو لأن وقوعهما كان ذلك، أو لتواخي الفواصل على ما قيل:.
* (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا) *.
* (يستخفون من الناس) * أي يستترون منهم حياءا وخوفا من ضررهم، وأصل ذلك طلب الخفاء وضمير الجمع عائد على * (الذين يختانون) * (النساء: 107) على الأظهر، والجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب. وقيل: هي في موضع الحال من * (من) * * (ولا يستخفون من الله) * أي ولا يستحيون منه سبحانه وهو أحق بأن يستحى منه ويخاف من عقابه، وإنما فسر الاستخفاء منه تعالى بالاستحياء لأن الاستتار منه عز شأنه محال فلا فائدة في نفيه ولا معنى للذم في عدمه، وذكر بعض المحققين أن التعبير بذلك من باب المشالكة * (وهو معهم) * على الوجه اللائق بذاته سبحانه، وقيل: المراد أنه تعالى عالم بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى الاستخفاء منه تعالى سوى ترك ما يؤاخذ عليه؛ والجملة في موضع الحال من ضمير يستخفون.
* (إذ يبيتون) * أي يدبرون ولما كان أكثر التدبير مما يبيت عبر به عنه والظرف متعلق بما تعلق به قبله، وقيل: متعلق ب * (يستخفون) *. * (ما لا يرضى من القول) * من رمي البريء وشهادة الزور. قال النيسابوري: وتسمية التدبير وهو معنى في النفس قولا لا إشكال فيها عند القائلين بالكلام النفسي؛ وأما عند غيرهم
فمجاز، أو لعلهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية المكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه سبحانه، وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك ههنا فتذكر * (وكان الله بما يعملون) * أي بعملهم أو بالذي يعملونه من الأعمال الظاهرة والخافية * (محيطا) * أي حفيظا - كما قال الحسن - أو عالما لا يعزب عنه شيء ولا يفوت - كما قال غيره - وعلى القولين الإحاطة هنا مجاز ونظمها البعض في سلك المتشابه..
* (ه‍اأنتم ه‍اؤلاء ج‍ادلتم عنهم فى الحيواة الدنيا فمن يج‍ادل الله عنهم يوم القي‍امة أم من يكون عليهم وكيلا) *.
* (ه‍اأنتم ه‍اؤلاء) * خطاب للذابين مؤذن بأن تعديد جناياتهم يوجب مشافهتهم بالتوبيخ والتقريع، والجملة مبتدأ وخبر، وقوله سبحانه: * (ج‍ادلتم عنهم في الحيواة الدنيا) * جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا فهو بمعنى المجادلين وبه تتم الفائدة، ويجوز أن يكون أولاء إسما موصولا كما هو مذهب بعض النحاة في كل اسم إشارة، و * (جادلتم) * صلته، فالحمل حينئذ ظاهر، والمجادلة أشد المخاصمة وأصلها من الجدل وهو شدة الفتل، ومنه قيل للصقر: أجدل والمعنى هبوا أنكم بذلتم الجهد في المخاصمة عمن أشارت إليه الأخبار في الدنيا.
141

* (فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة) * أي فمن يخاصمه سبحانه عنهم يوم لا يكتمون حديثا ولا يغني عنهم من عذاب الله تعالى شيء * (أم من يكون عليهم) * يومئذ * (وكيلا) * أي حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وعقابه، وأصل معنى الوكيل الشخص الذي توكل الأمور له وتسند إليه، وتفسيره بالحافظ المحامي مجاز من باب استعمال الشيء في لازم معناه، و * (أم) * هذه منقطعة كما قال السمين، وقيل: عاطفة كما نقله في " الدر المصون "، والاستفهام كما قال الكرخي: في الموضعين للنفي أي لا أحد يجادل عنهم ولا أحد يكون عليهم وكيلا..
* (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) *.
* (ومن يعمل سوءا) * أي شيئا يسوء به غيره كما فعل بشير برفاعة أو طعمة باليهودي * (أو يظلم نفسه) * بما يختص به كالإنكار، وقيل: السوء ما دون الشرك، والظلم الشرك، وقيل: السوء الصغيرة والظلم الكبيرة. * (ثم يستغفر الله) * بالتوبة الصادقة ولو قبل الموت بيسير * (يجد الله غفورا) * لما استغفره منه كائنا ما كان * (رحيما) * متفضلا عليه، وفيه حث لمن فيهم نزلت الآية من المذنبين على التوبة والاستغفار، قيل: وتخويف لمن لم يستغفر لوم يتب بحسب المفهوم فإنه يفيد أن لم يستغفر حرم من رحمته تعالى وابتلي بغضبه..
* (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما) *.
* (ومن يكسب) * أي يفعل * (إثما) * ذنبا من الذنوب * (فإنما يكسبه على نفسه) * بحيث لا يتعدى ضرره إلى غيرها فليحترز عن تعريضها للعقاب والوبال * (وكان الله عليما) * بكل شيء ومنه الكسب * (حكيما) * في كل ما قدر وقضى، ومن ذلك لا تحمل وازرة وزر أخرى، وقيل: * (عليما) * بالسارق * (حكيما) * في إيجاب القطع عليه، والأولى أولى..
* (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهت‍انا وإثما مبينا) *.
* (ومن يكسب خط‍يئة) * أي صغيرة أو ما لا عمد فيه من الذنوب. وقرأ معاذ بن جبل * (يكسب) * بكسر الكاف والسين المشددة وأصله يكتسب * (أو إثما) * أي كبيرة أو ما كان عن عمد، وقيل: الخطيئة الشرك والإثم ما دونه، وفي " الكشاف " الإثم الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب، والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه، وفي " الكشف " كأن هذا أصله، ثم استعمل في مطلق الذنب في نحو قوله تعالى: * (كبائر الإثم) * (الشورى: 37)، ومن هذا يعلم ضعف ما ذكره صاحب القيل * (ثم يرم به) * أي يقذف به ويسنده، وتوحيد الضمير لأنه عائد على أحد الأمرين لا على التعيين كأنه قيل: ثم يرم بأحد الأمرين، وقيل: إنه عائد على * (إثما) * فإن المتعاطفين - بأو - يجوز عود الضمير فيما بعدهما على المعطوف عليه نحو * (إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) * (الجمعة: 11) وعلى المعطوف نحو * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) * (التوبة: 34)، وقيل: إنه عائد على الكسب على حد * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) * (المائدة: 8)، وقيل: في الكلام حذف أي - يرم بها وبه - و * (ثم) * للتراخي في الرتبة، وقرىء (يرم) بهما * (بري‍ئا) * مما رماه به ليحمله عقوبة العاجلة كما فعل من عنده الدرع بلبيد بن سهل أو بأبي مليك
* (فقد احتمل) * بمافعل من رمى البريء، وقصده تحميل جريرته عليه وهو أبلغ من حمل، وقيل: افتعل بمعنى فعل فاقتدر وقدر * (بهت‍انا) * وهو الكذب على الغير بما يبهت منه ويتحير عند سماعه لفظاعته، وقيل: هو الكذب الذي يتحير في عظمه، والماضي - بهت - كمنع، ويقال في المصدر: بهتا وبهتا وبهتا * (وإثما مبينا) * أي بينا لا مرية فيه ولا خفاء وهو صفة - لإثما - وقد اكتفى في بيان عظم البهتان بالتنكير التفخيمي على أن وصف الإثم بما ذكر بمنزلة وصف البهتان به لأنهما عبارة عن أمر واحد
142

هو رمي البريء بجناية نفسه.
وعبر عنه بهما تهويلا لأمره وتفظيعا لحاله فمدار العظم والفخامة كون المرمي به للرامي فإن رمي البريء بجناية ما خطيئة كانت أو إثما بهتان وإثم في نفسه، أما كونه بهتانا فظاهر، وأما كونه إثما فلأن كون الذنب بالنسبة إلى من فعله خطيئة لا يلزم منه كونه بالنسبة إلى من نسبه إلى البريء منه أيضا كذلك، بل لا يجوز ذلك قطعا كيف لا وهو كذب محرم في سائر الأديان، فهو في نفسه بهتان وإثم لا محالة، وبكون تلك الجناية للرامي يتضاعف ذلك شدة ويزداد قبحا لكن لا لانضمام جنايته المكسوبة إلى رمي البريء وإلا لكان الرمي بغير جنايته مثله في العظم، ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرمي بغير جنايته مع تبرئة نفسه مثله في العظم بل
لاشتماله على قصد تحميل جنايته على البريء وإجراء عقوبتها عليه كما ينبىء عنه إيثار الاحتمال على الاكتساب ونحوه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديره مع ما فيه من الإشعار بثقل الوزر وصعوبة الأمر على ما يقتضيه ظاهر صيغة الافتعال، نعم بما ذكر من انضمام كسبه وتبرئة نفسه إلى رمي البريء تزداد الجناية قبحا لكن تلك الزيادة وصف للمجموع لا للإثم فقط - كذا قاله شيخ الإسلام - ولا يخفى أنه أولى مما يفهم من ظاهر كلام " الكشاف " من أن في التنزيل لفا ونشرا غير مرتب حيث قال إثر قوله تعالى: * (فقد احتمل) * الخ لأنه بكسبه الإثم آثم، وبرميه البريء باهت فهو جامع بين الأمرين لخلوه عما يلزمه، وإن أجيب عنه فافهم..
* (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طآئفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شىء وأنزل الله عليك الكت‍ابوالحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) *.
* (ولولا فضل الله عليك ورحمته) * بإعلامك بما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق، وقيل: لولا فضله بالنبوة ورحمته بالعصمة، وقيل: لولا فضله بالنبوة ورحمته بالوحي؛ وقيل: المراد لولا حفظه لك وحراسته إياك. * (لهمت طائفة منهم) * أي من الذين يختانون، والمراد بهم أسير بن عروة وأصحابه، أو الذابون عن طعمة المطلعون على كنه القصة العالمون بحقيقتها، ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى الناس، والمراد بالطائفة الذين انتصروا للسارق أو المودع الخائن، وقيل: المراد بهم وفد ثقيف، فقد روي عن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " أنهم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد جئناك نبايعك على أن لا نكسر أصنامنا بأيدينا وعلى أن نتمتع بالعزى سنة، فلم يجبهم صلى الله عليه وسلم وعصمه الله تعالى من ذلك فنزلت ". وعن أبي مسلم أنهم المنافقون هموا بما لم ينالوا من إهلاك النبي صلى الله عليه وسلم فحفظه الله تعالى منهم وحرسه بعين عنايته.
* (أن يضلوك) * أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق، أو عن اتباع ما جاءك في أمر الأصنام، أو بأن يهلكوك، وقد جاء الإضلال بهذا المعنى، ومنه على ما قيل: قوله تعالى: * (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض) * (السجدة: 10) والجملة جواب * (لولا) * وإنما نفى همهم مع أن المنفي إنما هو تأثيره فقط إيذانا بانتفاء تأثيره بالكلية، وقيل: المراد هو الهم المؤثر ولا ريب في انتفائه حقيقة. وقال الراغب: إن القوم كانوا مسلمين ولم يهموا بإضلاله صلى الله عليه وسلم أصلا وإنما كان ذلك صوابا عندهم وفي ظنهم؛ وجوز أبو البقاء أن يكون الجواب محذوفا والتقدير - ولولا فضل الله عليك ورحمته لأضلوك - ثم استأنف بقوله سبحانه: * (لهمت) * أي لقد همت بذلك * (وما يضلون إلا أنفسهم) * أي ما يزيلون عن الحق إلا أنفسهم، أو ما يهلكون إلا إياها لعود وبال ذلك وضرره عليهم، والجملة اعتراضية، وقوله تعالى: * (وما يضرونك من شيء) * عطف عليه وعطف على * (أن يضلوك) * وهم محض؛ و * (من) * صلة، والمجرور
143

في محل النصب على المصدرية أي وما يضرونك شيئا من الضرر لما أنه تعالى عاصمك عن الزيغ في الحكم، وأما ما خطر ببالك فكان عملا منك بظاهر الحال ثقة بأقوال القائلين من غير أن يخطر لك أن الحقيقة على خلاف ذلك، أو لما أنه سبحانه عاصمك عن المداهنة والميل إلى آراء الملحدين والأمر بخلاف ما أنزل الله تعالى عليك، أو لما أنه جل شأنه وعدك العصمة من الناس وحجبهم عن التمكن منك.
* (وأنزل الله عليك الكت‍ابوالحكمة) * أي القرآن الجامع بين العنوانين، وقيل: المراد بالحكمة السنة، وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك، والجملة على ما قال الأجهوري: في موضع التعليل لما قبلها، وإلى ذلك أشار الطبرسي وهو غير مسلم على ما ذهب إليه أبو مسلم. * (وعلمك) * بأنواع الوحي * (ما لم تكن تعلم) * أي الذي لم تكن تعلمه من خفيات الأمور وضمائر الصدور، ومن جملتها وجوه إبطال كيد الكائدين، أو من أمور الدين وأحكام الشرع - كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو من الخير والشر - كما قال الضحاك - أو من أخبار الأولين والآخرين - كما قيل - أو من جميع ما ذكر - كما يقال -. ومن الناس من فسر الموصول بأسرار الكتاب والحكمة أي أنه سبحانه أنزل عليك ذلك وأطلعك على أسراره وأوقفك على حقائقه فتكون الجملة الثانية كالتتمة للجملة الأولى، واستظهر في " البحر " العموم. * (وكان فضل الله عليك عظيما) * لا تحويه عبارة ولا تحيط به إشارة، ومن ذلك النبوة العامة والرياسة التامة والشفاعة العظمى يوم القيامة..
* (لا خير فى كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصل‍اح بين الناس ومن يفعل ذالك ابتغآء مرض‍ات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) *.
* (لا خير في كثير من نجوهم) * أي الذين يختانون، واختار جمع أن الضمير للناس، وإليه يشير كلام مجاهد، و - النجوى - في الكلام كما قال الزجاج: ما يتفرد به الجماعة أو الاثنان، وهل يشترط فيه أن يكون سرا أو لا؟ قولان: وتكون بمعنى التناجي، وتطلق على القوم المتناجين - ك‍ * (إذ هم نجوى) * (الإسرار: 47) وهو إما من باب رجل عدل، أو على أنه جمع نجي - كما نقله الكرماني - والظرف الأول خبر * (لا) * والثاني في موضع الصفة للنكرة أي: كائن من نجواهم.
* (إلا من أمر) * أي إلا في نجوى من أمر * (بصدقة) * فالكلام على حذف مضاف، وبه يتصل الاستثناء، وكذا إن أريد بالنجوى المتناجون على أحد الاعتبارين، ولا يحتاج إلى ذلك التقدير حينئذ، ويكفي في صحة الاتصال صحة الدخول وإن لم يجزم به فلا يرد ما توهمه عصام الدين من أن مثل جاءني كثير من الرجال إلا زيدا لا يصح فيه الاتصال لعدم الجزم بدخول زيد في الكثير، ولا الانقطاع لعدم الجزم بخروجه، ولا حاجة إلى ما تكلف في دفعه - بأن المراد لا خير في كثير من نجوى واحد منهم إلا نجوى من أمر الخ، فإنه في كثير من نجواه خير - فإنه على ما فيه لا يتأتى مثله على احتمال الجمع، وجوز رحمه الله تعالى، بل زعم أنه الأولى أن يجعل * (إلا من أمر) * متعلقا بما أضيف إليه النجوى بالاستثناء أو البدل، ولا يخفى أنه إن سلم أن له معنى خلاف الظاهر، وجوز غير واحد أن يكون الاستثناء منقطعا على معنى لكن من أمر بصدقة وإن قلت ففي نجواه الخير.
* (أو معروف) * وهو كل ما عرفه الشرع واستحسنه، فيشمل جميع أصناف البر كقرض وإغاثة ملهوف، وإرشاد ضال إلى غير ذلك، ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير إليه بقوله تعالى: * (أو إصل‍اح بين الناس) * وتخصيصه بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع، وتخصيص الصدقة فيما تقدم بالصدقة الواجبة
مما لا داعي إليه وليس له سند يعول عليه، وخص الصدقة والإصلاح بين الناس
144

بالذكر من بين ما شمله هذا العام إيذانا بالاعتناء بهما لما في الأول: من بذل المال الذي هو شقيق الروح وما في الثاني: من إزالة فساد ذات البين - وهي الحالقة للدين - كما في الخبر، وقدم الصدقة على الإصلاح لما أن الأمر بها أشق لما فيه من تكليف بذل المحبوب، والنفس تنفر عمن يكلفها ذلك، ولا كذلك الأمر بالإصلاح، وذكر الإمام الرازي أن السر في إفراد هذه الأقسام الثلاثة بالذكر " أن عمل الخير المتعدي إلى الناس، إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة، والمنفعة إما جسمانية كإعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (إلا من أمر بصدقة) * وإما روحانية وإليه الإشارة بالأمر بالمعروف، وأما رفع الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى: * (أو إصلاح بين الناس) * " ولا يخفى ما فيه، والمراد من الإصلاح بين الناس التأليف بينهم بالمودة إذا تفاسدوا من غير أن يجاوز في ذلك حدود الشرع الشريف، نعم أبيح الكذب لذلك، فقد أخرج الشيخان وأبو داود عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا، وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها ". وعد غير واحد الإصلاح من الصدقة، وأيد بما أخرجه البيهقي عن أبي أيوب " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا أيوب ألا أدلك على صدقة يرضى الله تعالى ورسوله موضعها؟ قال: بلى قال: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا "، وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصدقة إصلاح ذات البين " وهذا الخبر ظاهر في أن الإصلاح أفضل من الصدقة بالمال. ومثله ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى قال: إصلاح ذات البين " ولا يخفى أن هذا ونحوه مخرج مخرج الترغيب، وليس المراد ظاهره إذ لا شك أن الصيام المفروض والصلاة المفروضة والصدقة كذلك أفضل من الإصلاح اللهم إلا أن يكون إصلاح يترتب على عدمه شر عظيم وفساد بين الناس كبير.
* (ومن يفعل ذالك) * أي المذكور من الصدقة وأخويها، والكلام تذييل للاستثناء، وكان الظاهر ومن يأمر بذلك ليكون مطابقا للمذيل إلا أنه رتب الوعد على الفعل إثر بيان خيرية الآمر لما أن المقصود الترغيب في الفعل وبيان خيرية الآمر به للدلالة على خيريته بالطريق الأولى، وجوز أن يكون عبر عن الأمر بالفعل إذ هو يكنى به عن جميع الأشياء كما إذا قيل: حلفت على زيد وأكرمته وكذا وكذا فتقول: نعم ما فعلت، ولعل نكتة العدول عن يأمر إلى * (يفعل) * حينئذ الإشارة إلى أن التسبب لفعل الغير الصدقة والإصلاح والمعروف بأي وجه كان كاف في ترتب الثواب، ولا يتوقف ذلك على اللفظ، ويجوز جعل ذلك إشارة إلى الأمر فيكون معنى من أمر * (ومن يفعل) * الأمر واحدا، وقيل: لا حاجة إلى جعله تذييلا ليحتاج إلى التأويل تحصيلا للمطابقة، بل لما ذكر الآمر استطراد ذكر ممتثل أمره كأنه قيل: ومن يمتثل. * (ابتغاء مرضآت الله) * أي لأجل طلب رضاء الله تعالى * (فسوف نؤتيه) * بنون العظمة على الالتفات، وقرأ أبو عمرو وحمزة وقتيبة عن الكسائي وسهل وخلف بالياء * (أجرا عظيما) * لا يحيط به نطاق الوصف، قيل: وإنما قيد الفعل بالابتغاء المذكور لأن الأعمال بالنيات، وإن من فعل خيرا لغير ذلك لم يستحق به غير الحرمان، ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الرياء محبط لثواب
145

الأعمال بالكلية وهو ما صرح به ابن عبد السلام والنووي، وقال الغزالي: إذا غلب الإخلاص فهو مثاب وإلا فلا، وقيل: هو مثاب غلب الإخلاص أم لا لكن على قدر الإخلاص، وفي دلالة الآية - على أن غير المخلص لا يستحق غير الحرمان - نظر لأنه سبحانه أثبت فيها للمخلص أجرا عظيما وهو لا ينافي أن يكون لغيره ما دونه، وكون العظمة بالنسبة إلى أمور الدنيا خلاف الظاهر..
* (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا) *.
* (ومن يشاقق الرسول) * أي يخالفه - من الشق فإن كلا من المتخالفين في شق غير شق الآخر، ولظهور الانفكاك بين الرسول - ومخالفه فك الإدغام هنا، وفي قوله سبحانه في الأنفال (13) * (ومن يشاقق الله ورسوله) * - رعاية لجانب المعطوف، ولم يفك في قوله تعالى في الحشر (4) * (ومن يشاق الله) *. وقال الخطيب: في حكمة الفك والإدغام أن أل في الاسم الكريم لازمة بخلافها في الرسول، واللزوم يقتضي الثقل فخفف بالإدغام فيما صحبته الجلالة بخلاف ما صحبه لفظ الرسول، وفي آية الأنفال صار المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد، وما ذكرناه أولى، والتعرض لعنوان الرسالة لإظهار كمال شناعة ما اجترءوا إليه من المشاقة والمخالفة، وتعليل الحكم الآتي بذلك، والآية نزلت كما قدمناه في سارق الدرع أو مودعها، وقيل: في قوم طعمة لما ارتدوا بعد أن أسلموا، وأيا ما كان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيندرج فيه ذلك وغيره من المشاقين.
* (من بعد ما تبين له الهدى) * أي ظهر له الحق فيما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم أو فيما يدعيه عليه الصلاة والسلام بالوقوف على المعجزات الدالة على نبوته * (ويتبع غير سبيل المؤمنين) * أي غير ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل فيعم الأصول والفروع والكل والبعض * (نوله ما تولى) * أي نجعله واليا لما تولاه من الضلال ويؤول إلى أنا نضله، وقيل: معناه (نخذله بأن) نخل بينه وبين ما اختاره لنفسه، وقيل: نكله في الآخرة إلى ما اتكل عليه وانتصر به في الدنيا من الأوثان * (ونصله جهنم) * أي ندخله إياها، وقد تقدم. وقرىء بفتح النون من صلاه * (وساءت مصيرا) * أي جهنم أو التولية.
واستدل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه على حجية الإجماع بهذه الآية، فعن المزني أنه قال: كنت عند الشافعي يوما فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا فلما رآه ذا مهابة استوى جالسا وكان مستندا لأسطوانة وسوى ثيابه فقال له: ما الحجة في دين الله تعالى؟ قال: كتابه، قال: وماذا؟ قال: سنة نبيه صلى الله عليه وسلم قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة، قال: من أين هذا الأخير أهو في كتاب الله تعالى؟ فتدبر ساعة ساكتا، فقال له الشيخ: أجلتك ثلاثة أيام بلياليهن فإن جئت بآية وإلا
فاعتزل الناس فمكث ثلاثة أيام لا يخرج وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر وقد تغير لونه فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس، وقال: حاجتي، فقال: نعم أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله عز وجل: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له) * الخ لم يصله جهنم على خلاف المؤمنين إلا واتباعهم فرض، قال: صدقت وقام وذهب، وروي عنه أنه قال: قرأت القرآن في كل يوم وفي كل ليلة ثلاث مرات حتى ظفرت بها. ونقل الإمام عنه أنه سئل عن آية من كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلثمائة مرة حتى وجد هذه الآية.
واعترض ذلك الراغب بأن سبيل المؤمنين الإيمان كما إذا قيل: اسلك سبيل الصائمين والمصلين أي في الصوم والصلاة، فلا دلالة في الآية على حجية الإجماع، ووجوب اتباع المؤمنين في غير الإيمان،
146

ورده في " الكشف " بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول، ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف مثلا تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضا فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه، فسبيل المؤمنين هنا عام على ما أشرنا إليه. واعترض بأن المعطوف عليه مقيد بتبين الهدى فيلزم في المعطوف ذلك فإذا لم يكن في الإجماع فائدة لأن الهدى عام لجميع الهداية، ومنها دليلا الإجماع وإذا حصل الدليل لم يكن للمدلول فائدة، وأجيب بمنع لزوم القيد في المعطوف، وعلى تقدير التسليم فالمراد بالهداية الدليل على التوحيد والنبوة، فتفيد الآية أن مخالفة المؤمنين بعد دليل التوحيد والنبوة حرام، فيكون الإجماع مفيدا في الفروع بعد تبين الأصول، وأوضح القاضي وجه الاستدلال بها على حجية الإجماع وحرمة مخالفته بأنه تعالى رتب فيها الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين، وذلك إما لحرمة كل واحد منهما أو أحدهما أو الجمع بينهما، والثاني باطل إذ يقبح أن يقال: من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحد، وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم، وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرما كان اتباع سبيلهم واجبا لأن ترك اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم.
فإن قيل: لا نسلم أن ترك اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين لأنه لا يمتنع أن لا يتبع سبيل المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين. أجيب بأن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير فإذا كان من شأن غير المؤمنين أن لا يقتدوا في أفعالهم بالمؤمنين فكل من لم يتبع من المؤمنين سبيل المؤمنين فقد أتى بفعل غير المؤمنين واقتفى أثرهم فوجب أن يكون متبعا لهم، وبعبارة أخرى إن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل ألبتة، واعترض أيضا بأن هذا الدليل غير قاطع لأن * (غير سبيل المؤمنين) * يحتمل وجوها من التخصيص لجواز أن يراد سبيلهم في متابعة الرسول أو في مناصرته أو في الاقتداء به عليه الصلاة والسلام أو فيما صاروا به مؤمنين، وإذا قام الاحتمال كان غايته الظهور، والتمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن فيكون إثباتا للإجماع بما لا يثبت حجيته إلا به فيصير دورا، واستصعب التفصي عنه، وقد ذكره ابن الحاجب في " المختصر "، وقريب منه قول الاصفهاني في اتباع سبيلهم لما احتمل ما ذكر وغيره صار عاما، ودلالته على فرد من أفراده غير قطعية لاحتمال تخصيصه بما يخرجه مع ما فيه من الدور، وأجاب عن الدور بأنه إنما يلزم لو لم يقم عليه دليل آخر، وعليه دليل آخر، وهو أنه مظنون يلزم العمل به لأنا إن لم نعمل به وحده فإما أن نعمل به وبمقابله أو لا نعمل بهما، أو نعمل بمقابله، وعلى الأول يلزم الجمع بين النقيضين، وعلى الثاني ارتفاعهما، وعلى الثالث العمل بالمرجوح مع وجود الراجح والكل باطل، فيلزم العمل به قطعا، واعترض أيضا بمنع حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين مطلقا بل بشرط المشاقة، وأجاب عنه القوم بما لا يخلو عن ضعف وبأن الاستدلال يتوقف على تخصيص المؤمنين بأهل الحل والعقد في كل عصر، والقرينة عليه غير ظاهرة، وبأمور أخر ذكرها الآمدي والتلمساني وغيرهما، وأجابوا عما أجابوا عنه منها، وبالجملة لا يكاد يسلم هذا الاستدلال من قيل وقال، وليست حجية الإجماع موقوفة على ذلك كما لا يخفى.
* (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذالك لمن يشاء) * قد مر تفسيره فيما سبق وكرر للتأكيد، وخص هذا الموضع به ليكون كالتكميل لقصة من سبق بذكر الوعد بعد ذكر الوعيد في ضمن الآيات السابقة فلا يضر بعد العهد، أو لأن للآية سببا آخر في النزول، فقد أخرج الثعلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " أن شيخا من العرب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إني شيخ منهمك
147

في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله تعالى منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم (أوقع) المعاصي جراءة وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله تعالى هربا وإني لنادم تائب، فما ترى حالي عند الله تعالى؟ " فنزلت.
* (ومن يشرك بالله) * شيئا من الشرك، أو أحدا من الخلق، وفي معنى الشرك به تعالى نفي الصانع، ولا يبعد أن يكون من أفراده * (فقد ضل ضل‍الا بعيدا) * عن الحق، أو عن الوقوع ممن له أدنى عقل، وإنما جعل الجزاء على ما قيل هنا * (فقد ضل) * الخ، وفيما تقدم * (فقد افترى إثما عظيما) * (النساء: 48) لما أن تلك كانت في أهل الكتاب وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباع شريعته وما يدعو إليه من الإيمان بالله تعالى ومع ذلك أشركوا وكفروا فصار ذلك افتراءا واختلافا وجراءة عظيمة على الله تعالى، وهذه الآية كانت في أناس لم يعلموا كتابا ولا عرفوا من قبل وحيا ولم يأتهم سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق فأشركوا بالله عز وجل وكفروا وضلوا مع وضوح الحجة وسطوع البرهان فكان ضلالهم بعيدا، ولذلك جاء بعد تلك * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) * (النساء: 49) وقوله سبحانه: * (أنظر كيف يفترون على الله الكذب) * (النساء: 50) وجاء بعد هذه [بم قوله تعالى:
* (إن يدعون من دونه إلا إن‍اثا وإن يدعون إلا شيط‍انا مريدا) *.
* (إن يدعون من دونه إلا إناثا) * أي ما يعبدون أو ما ينادون لحوائجهم من دون الله تعالى إلا أصناما، والجملة مبينة لوجه ما قبلها ولذا لم تعطف عليه، وعبر عن
الأصنام بالإناق لما روي عن الحسن أنه كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان لأنهم يجعلون عليه الحلي وأنواع الزينة كما يفعلون بالنسوان، أو لما أن أسماءها مؤنثة - كما قيل - وهم يسمون ما اسمه مؤنث أنثى كما في قوله: وما (ذكر فإن يكبر فأنثى) * شديد اللزم ليس له ضروس
فإنه عنى القراد، وهو ما دام صغيرا يسمى قرادا فإذا كبر سمي حلمة كثمرة، واعترض بأن من الأصنام ما اسمه مذكر - كهبل وود وسواع وذي الخلصة - وكون ذلك باعتبار الغالب غير مسلم، وقيل: إنها جمادات وهي كثيرا ما تؤنث لمضاهاتها الإناث لانفعالها، ففي التعبير عنها بهذا الاسم تنبيه على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم حيث يدعون ما ينفعل ويدعون الفعال لما يريد، وقيل: المراد بالإناث الأموات، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن الحسن أن الأنثى كل ميت ليس فيه روح مثل الخشبة اليابسة والحجر اليابس، ففي التعبير بذلك دون أصناما التنبيه السابق أيضا إلا أن الظاهر أن وصف الأصنام بكونهم أمواتا مجاز، وقيل: سماها الله تعالى إناثا لضعفها وقلة خيرها وعدم نصرها، وقيل: لاتضاع منزلتها وانحطاط قدرها بناءا على أن العرب تطلق الأنثى على كل ما اتضعت منزلته من أي جنس كان، وقيل: كان في كل صنم شيطانة تتراءى للسدنة وتكلمهم أحيانا فلذلك أخبر سبحانه أنهم ما يعبدون من دونه إلا أناثا؛ وروي ذلك عن أبي بن كعب، وقيل: المراد الملائكة لقولهم: الملائكة بنات الله عز اسمه، وروي ذلك عن الضحاك، وهو جمع أنثى - كرباب وربى - في لغة من كسر الراء. وقرىء - إلا أنثى - على التوحيد - وإلا أنثى - بضمتين كرسل، وهو إما صفة مفردة مثل امرأة جنب، وإما جمع أنيث كقليب وقلب، وقد جاء حديد أنيث، وإما جمع إناث كثمار وثمر، وقرىء - وثنا وأثنا - بالتخفيف والتثقيل، وتقديم الثاء على النون - جمع وثن - كقولك: أسد وأسد وأسد ووسد، وقلبت الواو ألفا كأجوه في وجوه. وأخرج ابن جرير أنه كان في مصحف عائشة رضي الله تعالى عنها - إلا أوثانا -.
* (وإن يدعون) * أي
148

وما يعبدون بعبادة تلك الأوثان * (إلا شيط‍انا مريدا) * إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم فكانت طاعتهم له عبادة فالكلام محمول على المجاز فلا ينافي الحصر السابق، وقيل: المراد من يدعون يطيعون فلا منافاة أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أنه قال: " ليس من صنم إلا فيه شيطان " والظاهر أن المراد من الشيطان هنا إبليس، وهو المروي عن مقاتل وغيره، والمريد والمارد والمتمرد: العاتي الخارج عن الطاعة، وأصل مادة - م رد - للملامسة والتجرد، ومنه * (صرح ممرد) * (النمل: 44) وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها، ووصف الشيطان بذلك إما لتجرده للشر أو لتشبيهه بالأملس الذي لا يعلق به شيء، وقيل: لظهور شره كظهور ذقن الأمرد وظهور عيدان الشجرة المرداء..
* (لعنه الله وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) *.
* (لعنه الله) * أي طرده وأبعده عن رحمته، وقيل: المراد باللعنة فعل ما يستحقها به من الاستكبار عن السجود كقولهم: أبيت اللعن أي ما فعلت ما تستحقه به، والجملة في موضع نصب صفة ثانية لشيطان. وجوز أبو البقاء أن تكون مستأنفة على الدعاء فلا موضع لها من الاعراب. * (وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) * عطف على الجملة المتقدمة، والمراد شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله تعالى وهذا القول الشنيع الصادر منه عند اللعن، وجوز أن تكون في موضع الحال بتقدير قد أي وقد قال، وأن تكون مستأنفة مستطردة كما أن ما قبلها اعتراضية في رأي، والجار والمجرور إما متعلق بالفعل، وإما حال مما بعده، واختاره البعض، والاتخاذ أخذ الشيء على وجه الاختصاص، وأصل معنى الفرض القطع وأطلق هنا على المقدار المعين لاقتطاعه عما سواه، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك، وابن المنذر عن الربيع من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، والظاهر أن هذا القول وقع نطقا من اللعين، وكأنه عليه اللعنة لما نال من آدم عليه السلام ما نال طمع في ولده، وقال ذلك ظنا، وأيد بقوله تعالى: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) * (سبأ: 20)، وقيل: إنه فهم طاعة الكثير له مما فهمت منه الملائكة حين قالوا: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * (البقرة: 30) وادعى بعضهم أن هذا القول حالي كما في قوله: امتلأ الحوض وقال: (قطني * مهلا رويدا قد ملأت بطني)
وفي هذه الجمل ما ينادي على جهل المشركين وغاية انحطاط درجتهم عن الانخراط في سلك العقلاء على أتم وجه وأكمله، وفيها توبيخ لهم كما لا يخفى.
* (ولاضلنهم ولأمنينهم ولامرنهم فليبتكن ءاذان الانع‍ام ولامرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيط‍ان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) *.
* (ولأضلنهم) * عن الحق * (ولأمنينهم) * الأماني الباطلة وأقول لهم: ليس وراءكم بعث ولا نشر ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فافعلوا ما شئتم، وقيل: أمنيهم بطول البقاء في الدنيا فيسوفون العمل وقيل: أمنيهم بالأهواء بالباطلة الداعية إلى المعصية وأزين لهم شهوات الدنيا وزهراتها وأدعو كلا منهم إلى ما يميل طبعه إليه فأصده بذلك عن الطاعة، وروي الأول عن الكبي * (ولآمرنهم) * بالتبتيك - كما قال أبو حيان - أو بالضلال كما قال غيره * (فليبتكن ءاذان الأنعام) * أي فليقطعنها من أصلها كما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، أو ليشقنها - كما قال الزجاج - بموجب أمري من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير كما يؤذن بذلك الفاء، وهذا إشارة إلى ما كانت الجاهلية تفعله من شق أو قطع أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا وتحريم ركوبها والحمل عليها وسائر وجوه الانتفاع بها.
* (ولآمرنهم فليغيرن) * ممتثلين به بلا ريث * (خلق الله) * عن نهجه صورة أو صفة، ويندرج فيه ما (فعل) من فقء عين فحل الإبل
149

إذا طال مكثه حتى بلغ نتاج نتاجه، ويقال له الحامي وخصاء العبيد والوشم والوشر واللواطة والسحاق ونحو ذلك وعبادة الشمس والقمر والنار والحجارة مثلا وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإسلام واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا ولا يوجب لها من الله سبحانه زلفى.
وورد عن السلف الاقتصار على بعض المذكورات وعموم اللفظ بمنع الخصاء مطلقا، وروي النهي عنه عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء الخيل والبهائم ". وادعى عكرمة أن الآية نزلت في ذلك، وأجاز بعضهم ذلك في الحيوان، وأخرج
ابن المنذر عن عروة أنه خصى بغلا له، وعن طاوس أنه خصى جملا، وعن محمد بن سيرين أن سئل عن خصاء الفحول، فقال: لا بأس به، وعن الحسن مثله، وعن عطاء أنه سئل عن خصاء الفحل فلم ير به عند عضاضة وسوء خلقه بأسا. وقال النووي: " لا يجوز خصاء حيوان لا يؤكل في صغره ولا في كبره ويجوز إخصاء المأكول في صغره لأن فيه غرضا وهو طيب لحمه، ولا يجوز في كبره "، والخصاء في بني آدم محظور عند عامة السلف والخلف، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يكره شراء الخصيان واستخدامهم وإمساكهم لأن الرغبة فيهم تدعو إلى إخصائهم، وخص من تغيير خلق الله تعالى الختان والوشم لحاجة وخضب اللحية وقص ما زاد منها على السنة ونحو ذلك، وعن قتادة أنه قرأ الآية ثم قال: ما بال أقوام جهلة يغيرون صبغة الله تعالى ولونه سبحانه، ولا يكاد يسلم له إن أراد ما يعم الخضاب المسنون كالخضاب بالحناء بل وبالكتم أيضا لإرهاب العدو، وقد صح عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم فعلوا ذلك منهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وحديث النهي محمول على غير ذلك * (ومن يتخذ الشيط‍ان وليا من دون الله) * بإيثار ما يدعو إليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزته عن طاعة الله تعالى إلى طاعته، وقيد * (من دون الله) * لبيان أن اتباعه ينافي متابعة أمر الله تعالى وليس احترازيا كما يتوهم، وأما ما قيل: من أنه ما من مخلوق لله تعالى إلا ولك فيه ولاية لو عرفتها، ولك في وجوده منفعة لو طلبتها، فلهذا قيدت الولاية بكونها من دون الله تعالى فناشىء من الغفلة عن تحقيق معنى الولاية فافهم * (فقد خسر خسرانا مبينا) * أي ظاهرا وأي خسران أعظم من استبدال الجنة بالنار؟ وأي صفقة أخسر من فوات رضا الرحمن برضا الشيطان؟.
* (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيط‍ان إلا غرورا) *.
* (يعدهم) * ما لا يكاد ينجزه، وقيل: النصر والسلامة، وقيل: الفقر والحاجة إن أنفقوا وقرأ الأعمش * (يعدهم) * بسكون الدال وهو تخفيف لكثرة الحركات. * (ويمنيهم) * الأماني الفارغة، وقيل: طول البقاء في الدنيا ودوام النعيم فيها، وجوز أن يكون المعنى في الجملتين يفعل لهم الوعد ويفعل التمنية على طريقة: فلان يعطي ويمنع، وضمير الجمع المنصوب في * (يعدهم ويمنيهم) * راجع إلى - من - باعتبار معناها كما أن ضمير الرفع المفرد في * (يتخذ) * (النساء: 119) و * (خسر) * (النساء: 119) راجع إليها باعتبار لفظها، وأخبر سبحانه عن وقوع الوعد والتمنية مع وقوع غير ذلك مما أقسم عليه اللعين أيضا لأنهما من الأمور الباطنة وأقوى أسباب الضلال وحبائل الاحتيال.
* (وما يعدهم الشيط‍ان إلا غرورا) * وهو (إيهام) النفع فيما فيه الضرر، وهذا الوعد والأمر عندي مثله إما بالخواطر الفاسدة، وإما بلسان أوليائه، واحتمال أن يتصور بصورة إنسان فيفعل ما يفعل بعيد، و * (غرورا) * إما مفعول ثان للوعد، أو مفعول لأجله، أو نعت لمصدر محذوف أي وعدا ذا غرور، أو غارا، أو مصدرا على غير لفظ المصدر لأن * (يعدهم) * في قوة يغرهم بوعده
150

كما قال السمين، والجملة اعتراض وعدم التعرض للتمنية لأنها من باب الوعد، وفي " البحر " إنهما متقاربان فاكتفى بأولهما..
* (أول‍ائك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا) *.
* (أولئك) * إشارة إلى من اتخذ الشيطان وليا باعتبار معناه، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الخسران * (مأواهم) * ومستقرهم جميعا * (جهنم ولا يجدون عنها محيصا) * أي معدلا ومهربا، وهو اسم مكان، أو مصدر ميمي من حاص يحيص إذا عدل وولى، ويقال: محيص ومحاص، وأصل معناه كما قيل: الروغان، ومنه وقعوا في حيص بيص، وحاص باص أي في أمر يعسر التخلص منه، ويقال: حاص يحوص أيضا وحوصا وحياصا، و * (عنها) * متعلق بمحذوف وقع حالا من * (محيصا) *. ولم يجوزوا تعلقه ب * (يجدون) * لأنه لا يتعدى بعن، ولا بمحيصا لأنه إن كان اسم مكان فهو لا يعمل لأنه ملحق بالجوامد، وإن كان مصدرا فمعمول المصدر لا يتقدم عليه، ومن جوز تقدمه إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا جوزه هنا..
* (والذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات سندخلهم جن‍ات تجرى من تحتها الانه‍ار خ‍الدين فيهآ أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا) *.
* (والذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات) * مبتدأ خبره قوله تعالى: * (سندخلهم جن‍ات تجري من تحتها الأنه‍ار خالدين فيها أبدا) * وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول في موضع نصب بفعل محذوف يفسره ما بعده ولا يخفى مرجوحيته، وهذا وعد للمؤمنين إثر وعيد الكافرين، وإنما قرنهما سبحانه وتعالى زيادة لمسرة أحبائه ومساءة أعدائه * (وعد الله حقا) * أي وعدهم وعدا وأحقه حقا، فالأول: مؤكد لنفسه كله على ألف عرفا فإن مضمون الجملة السابقة لا تحتمل غيره إذ ليس الوعد إلا الإخبار عن إيصال المنافع قبل وقوعه، والثاني: مؤكد لغيره كزيد قائم حقا فإن الجملة الخبرية بالنظر إلى نفسها وقطع النظر عن قائلها تحتمل الصدق والكذب والحق والباطل، وجوز أن ينتصب وعد علي أنه مصدر ل‍ * (سندخلهم) * على ما قال أبو البقاء من غير لفظه لأنه في معنى نعدهم إدخال جنات، ويكون * (حقا) * حالا منه.
* (ومن أصدق من الله قيلا) * تذييل للكلام السابق مؤكد له، فالواو اعتراضية و - القيل - مصدر قال ومثله القال. وعن ابن السكيت: إنهما اسمان لا مصدران، ونصبه على التمييز، ولا يخفى ما في الاستفهام وتخصيص اسم الذات الجليل الجامع، وبناء أفعل، وإيقاع القول تمييزا من المبالغة، والمقصود معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه التي غرتهم حتى استحقوا الوعيد بوعد الله تعالى الصادق لأوليائه الذي أوصلهم إلى السعادة العظمى، ولذا بالغ سبحانه فيه وأكده حثا على تحصيله وترغيبا فيه، وزعم بعضهم أن الواو عاطفة والجملة معطوفة على محذوف أي صدق الله ومن أصدق من الله قيلا أي صدق ولا أصدق منه، ولا يخفى أنه تكلف مستغنى عنه، وكأن الداعي إليه الغفلة عن حكم الواو الداخلة على الجملة التذييلة، وتجويز أن تكون الجملة مقولا لقول محذوف أي وقائلين: من أصدق من الله قيلا، فيكون عطفا على * (خالدين) * أدهى وأمر.
وقرأ الكوفي غير عاصم. وورش باشمام الصاد الزاي..
* (ليس بأم‍انيكم ولاأمانى أهل الكت‍ابمن يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) *.
* (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكت‍اب) * الخطاب المؤمنين، والأماني بالتشديد والتخفيف - وبهما قرىء - جمع أمنية على وزن أفعولة، وهي كما قال الراغب: الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء أي تقديره في النفس وتصويره فيها، ويقال: منى له الماني أي قدر له المقدر، ومنه قيل: منية أي مقدرة؛ وكثيرا ما يطلق التمني على تصور ما لا حقيقة له، ومن هنا يعبر به عن
151

الكذب لأنه تصور ما ذكر، وإيراده باللفظ فكأن التمني مبدأ له فلهذا صح التعبير به عنه، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه: ما تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت؛ والباء في * (بأمانيكم) * مثلها في - زيد بالباب - وليست زائدة والزيادة محتملة، ونفاها البعض، واسم * (ليس) * مستتر فيها عائد على الوعد بالمعنى المصدري، أو بمعنى الموعود فهو استخدام كما قال السعد وقيل: عائد على الموعود الذي تضمنه عامل وعد الله، أو على إدخال الجنة أو العمل الصالح، وقيل: عائد على الإيمان المفهوم من الذين آمنوا؛ وقيل: على الأمر المتحاور فيه بقرينة سبب النزول.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى قال: التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى، فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم؛ ونبينا صلى الله عليه وسلم بعد نبيكم، وديننا بعد دينكم وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا، فأنزل الله تعالى: * (ليس بأمانيكم) *، وقوله سبحانه: * (ومن أحسن) * (النساء: 125) الخ أي ليس وعد الله تعالى، أو ما وعده سبحانه من الثواب أو إدخال الجنة، أو العمل الصالح، أو الإيمان، أو ما تحاورتم فيه حاصلا بمجرد أمانيكم أيها المسلمون ولا أماني اليهود والنصارى، وإنما يحصل بالسعي والتشمير عن ساق الجد لامتثال الأمر، ويؤيد عود الضمير على الإيمان المفهوم مما قبله، ض أنه أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا " ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله تعالى وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل " وأخرج البخاري في " تاريخه " عن أنس مرفوعا " ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب فأما علم القلب فالعلم النافع وعلم اللسان حجة على بني آدم ". وروي عن مجاهد وابن زيد أن الخطاب لأهل الشرك فإنهم قالوا: لا نبعث ولا نعذب كما قال أهل الكتاب: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * (البقرة: 111) وأيد بأنه لم يجر للمسلمين ذكر في الأماني وجرى للمشركين ذكر في ذلك أي ليس الأمر بأماني المشركين وقولهم: لا بعث ولا عذاب، ولا بأماني أهل الكتاب وقولهم ما قالوا:
وقرر سبحانه ذلك بقوله عز من قائل: * (من يعمل سوءا يجز به) * عاجلا أو آجلا، فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: " كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ألا أقرئك آية نزلت علي؟ فقلت: بلى يا رسول الله فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصاما في ظهري حتى تمطأت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا أبا بكر؟ قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله تعالى ليس عليكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزون يوم القيامة ". وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: " لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله تعالى فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سددوا وقاربوا فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها " والأحاديث بهذا المعنى أكثر من أن تحصى، ولهذا أجمع عامة العلماء على أن الأمراض والاسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلت مشقتها يكفر الله تعالى بها الخطيئات،
152

والأكثرون على أنها أيضا يرفع بها الدرجات وتكتب الحسنات وهو الصحيح المعول عليه، فقد صح في غير ما طريق " ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة. وحكى القاضي عن بعضهم أنها تكفر الخطايا فقط ولا ترفع درجة، وروي عن ابن مسعود - الوجع لا يكتب به أجر لكن يكفر به الخطايا - واعتمد على الأحاديث التي فيها التكفير فقط ولم تبلغه الأحاديث الصحيحة المصرحة برفع الدرجات وكتب الحسنات، بقي الكلام في أنها هل تكفر الكبائر أم لا؟، وظاهر الأحاديث - ومنها خبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه - أنها تكفرها، وقد جاء في خبر حسن عن عائشة أن العبد ليخرج بذلك من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير، وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن يزيد بن أبي حبيب قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال الصداع والمليلة بالمرء المسلم حتى يدعه مثل الفضة البيضاء " إلى غير ذلك. ولا يخفى أن إبقاء ذلك على ظاهره مما يأباه كلامهم، وخص بعضهم الجزاء بالآجل، ومن بالمشركين وأهل الكتاب، وروي ذلك عن الحسن والضحاك وابن زيد قالوا: وهذا كقوله تعالى: * (وهل نجازي إلا الكفور) * (سبأ: 17)، وقيل: المراد من السوء هنا الشرك، وأخرجه ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جبير، وكلا القولين خلاف الظاهر، وفي الآية رد على المرجئة القائلين: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
* (ولا يجد له من دون الله) * أي مجاوزا لولاية الله تعالى ونصرته * (وليا) * يلي أمره ويحامي عنه ويدفع ما ينزل به من عقوبة الله تعالى * (ولا نصيرا) * ينصره وينجيه من عذاب الله تعالى إذا حل به، ولا مستند في الآية لمن منع العفو عن العاصي إذ العموم فيها مخصص بالتائب إجماعا، وبعد فتح باب التخصيص لا مانع من أن نخصصه أيضا بمن يتفضل الله تعالى بالعفو عنه على ما دلت عليه الأدلة الأخر..
* (ومن يعمل من الص‍الح‍ات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأول‍ائك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) *.
* (ومن يعمل من) * الأعمال * (الصالح‍ات) * أي بعضها أو شيئا منها لأن أحدا لا يمكنه عمل كل الصالحات وكم من مكلف لا حج عليه ولا زكاة ولا جهاد، فمن تبعيضية، وقيل: هي زائدة. واختاره الطبرسي وهو ضعيف، وتخصيص الصالحات بالفرائض كما روي عن ابن عباس خلاف الظاهر، وقوله سبحانه: * (من ذكر أو أنثى) * في موضع الحال من ضمير * (يعمل) * و * (من) * بيانية. وجوز أن يكون حالا من * (الصالحات) * و * (من) * ابتدائية أي: كائنة من ذكر الخ، واعترض بأنه ليس بسديد من جهة المعنى، ومع هذا الأظهر تقدير كائنا لا كائنة لأنه حال من شيئا منها وكون المعنى - الصالحات الصادرة من الذكر والأنثى - لا يجدي نفعا لما في ذلك من الركاكة ولعل تبيين العامل بالذكر والأنثى لتوبيخ المشركين في إهلاكهم إناثهم، وجعلهن محرومات من الميراث، وقوله تعالى: * (وهو مؤمن) * حال أيضا، وفي اشتراط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب الذي تضمنه ما يأتي تنبيه على أنه لا اعتداد به دونه، وفيه دفع توهم أن العمل الصالح ينفع الكافر حيث قرن بذكر العمل السوء المضر للمؤمن والكافر، والتذكير لتغليب الذكر على الأنثى كما قيل، وقد مر لك قريبا ما ينفعك فتذكر.
* (فأول‍ئك) * إشارة إلى من بعنوان اتصافه بالعمل الصالح والإيمان، والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد السابق باعتبار لفظها، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة. * (يدخلون الجنة) * جزاء عملهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر * (يدخلون) * مبنيا للمفعول من الإدخال
153

* (ولا يظلمون نقيرا) * أي لا ينقصون شيئا حقيرا من ثواب أعمالهم، فإن النقير علم في القلة والحقارة، وأصله نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة، ويعلم من نفي تنقيص ثواب المطيع نفي زيادة عقاب العاصي من باب الأولى لأن الأذى في زيادة العقاب أشد منه في تنقيص الثواب، فإذا لم يرض بالأول - وهو أرحم الراحمين - فكيف يرضى بالثاني - وهو السر في تخصيص عدم تنقيص الثواب بالذكر دون ذكر عدم زيادة العقاب - مع أن المقام مقام ترغيب في العمل الصالح فلا يناسبه إلا هذا، والجملة تذييل لما قبلها أو عطف عليه..
* (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا) *.
* (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله) * أي أخلص نفسه له تعالى لا يعرف لها ربا سواه، وقيل: أخلص توجهه له سبحانه، وقيل: بذل وجهه له عز وجل في السجود، والاستفهام إنكاري وهو في معنى النفي، والمقصود مدح من فعل ذلك على أتم وجه، و * (دينا) * نصب على التمييز من * (أحسن) * منقول من المبتدأ، والتقدير: ومن دينه أحسن من دين من أسلم الخ، فيؤول الكلام إلى تفضيل دين على دين، وفيه تنبيه على أن صرف العبد نفسه بكليتها لله تعالى أعلى المراتب التي تبلغها القوة البشرية، و * (ممن) * متعلق بأحسن وكذا الإسم الجليل، وجوز فيه أن يكون حالا من * (وجهه) *.
* (وهو محسن) * أي آت بالحسنات تارك للسيئات، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الإحسان فقال عليه الصلاة والسلام: " أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "، وقيل: الأظهر أن يقال: المراد وهو محسن في عقيدته، وهو مراد من قال: أي وهو موحد، وعلى هذا فالأولى أن يفسر إسلام الوجه لله تعالى بالانقياد إليه سبحانه بالأعمال، والجملة في موضع الحال من فاعل * (أسلم) *.
* (واتبع ملة إبراهيم) * الموافقة لدين الإسلام المتفق على صحتها، وهذا عطف على * (أسلم) * وقوله سبحانه: * (حنيفا) * أي مائلا عن الأديان الزائغة حال من * (إبراهيم) *. وجوز أن يكون حالا من فاعل * (اتبع) * * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * تذييل جيء به للترغيب في اتباع ملته عليه السلام، والإيذان بأنه نهاية في الحسن، وإظهار اسمه عليه السلام تفخيما له وتنصيصا على أنه الممدوح، ولا يجوز العطف خلافا لمن زعمه على * (ومن أحسن) * الخ سواء كان استطرادا أو اعتراضا، وتوكيدا لمعنى قوله تعالى: * (ومن يعمل من الصالحات) * (النساء: 124) وبيانا لأن الصالحات ما هي؟ وأن المؤمن من هو لفقد المناسبة، والجامع بين المعطوف والمعطوف عليه وأدائه ما يؤديه من التوكيد والبيان، ولا على صلة * (من) * لعدم صلوحه لها وعدم صحة عطفه على * (وهو محسن) * أظهر من أن يخفى، وجعل الجملة حالية بتقدير قد خلاف الظاهر، والعطف على * (حنيفا) * لا يصح إلا بتكلف، والخليل مشتق من الخلة بضم الخاء، وهي إما من الخلال بكسر الخاء فإنها مودة تتخلل النفس وتخالطها مخالطة معنوية، فالخليل من بلغت مودته هذه المرتبة كما قال:
قد (تخللت) مسلك الروح مني * ولذا سمي الخليل خليلا
فإذا ما نطقت كنت حديثي * وإذا ما سكت كنت الغليلا
وإما من الخلل كما قيل على معنى أن كلا من الخليلين يصلح خلل الآخر، وإما من الخل بالفتح، وهو الطريق
154

في الرمل لأنهما يتوافقان على طريقة، وإما من الخلة بفتح الخاء إما بمعنى الخصلة والخلق لأنهما يتوافقان في الخصال والأخلاق، وقد جاء " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " أو بمعنى الفقر والحاجة لأن كلا منهما محتاج إلى وصال الآخر غير مستغن عنه، وإطلاقه على إبراهيم عليه السلام قيل: لأن محبة الله تعالى قد تخللت نفسه وخالطتها مخالطة تامة، أو لتخلقه بأخلاق الله تعالى، ومن هنا كان يكرم الضيف ويحسن إليه ولو كان كافرا، فإن من صفات الله تعالى الإحسان إلى البر والفاجر، وفي بعض الآثار - ولست على يقين في صحته - أنه عليه السلام نزل به ضيف من غير أهل ملته فقال له: وحد الله تعالى حتى أضيفك وأحسن إليك، فقال: يا إبراهيم من أجل لقمة أترك ديني ودين آبائي فانصرف عنه، فأوحى الله تعالى إليه يا إبراهيم صدقك لي سبعون سنة أرزقه وهو يشرك بي، وتريد أنت منه أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فلحقه إبراهيم عليه السلام وسأله الرجوع إليه ليقريه واعتذر إليه فقال له المشرك: يا إبراهيم ما بدا لك؟ فقال: إن ربي عتبني فيك، وقال: أنا أرزقه منذ سبعين سنة على كفره بي وأنت تريد أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فقال المشرك: أو قد وقع هذا؟! مثل هذا ينبغي أن يعبد فأسلم ورجع مع إبراهيم
عليه السلام إلى منزله ثم عمت بعد كرامته خلق الله تعالى من كل وارد ورد عليه، فقيل له في ذلك فقال: تعلمت الكرم من ربي رأيته لا يضيع أعداءه فلا أضيعهم أنا فأوحى الله تعالى إليه أنت خليلي حقا، وأخرج البيهقي في " الشعب " عن ابن عمر قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل لم اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد "، وقيل - واختاره البلخي والفراء - لإظهاره الفقر والحاجة إلى الله تعالى وانقطاعه إليه وعدم الالتفات إلى من سواه كما يدل على ذلك قوله لجبريل عليه السلام حين قال له يوم ألقي في النار: ألك حاجة؟ أم إليك فلا، ثم قال: حسبي الله تعالى ونعم الوكيل، وقيل: في وجه تسميته عليه السلام خليل الله غير ذلك، والمشهور أن الخليل دون الحبيب. وأيد بما أخرجه الترمذي وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول: إن الله تعالى اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله " وقال آخر: ماذا بأعجب من أن كلم الله تعالى موسى تكليما وقال آخر: فعيسى روح الله تعالى وكلمته؛ وقال آخر: آدم اصطفاه الله تعالى فخرج عليهم فسلم فقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن إبراهيم خليل الله تعالى وهو كذلك وموسى كليمه وعيسى روحه وكلمته وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك ألا وإني حبيب الله تعالى ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتحه الله تعالى فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر، وأخرج الترمذي في " نوادر الأصول " والبيهقي في " الشعب " وضعفه وابن عساكر والديلمي قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذني حبيبا، ثم وقال وعزتي لأوثرون حبيبي على خليلي ونجيي "، والظاهر من كلام المحققين أن الخلة مرتبة من مراتب المحبة، وأن المحبة أوسع دائرة، وأن من مراتبها ما لا تبلغه أمنية الخليل عليه السلام، وهي المرتبة الثابتة له صلى الله عليه وسلم، وأنه قد حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام من مقام الخلة ما لم يحصل لأبيه إبراهيم عليه السلام، وفي الفرع ما في الأصل وزيادة، ويرشدك إلى ذلك أن التخلق بأخلاق الله تعالى الذي هو من آثار الخلة عند أهل الاختصاص أظهر وأتم في نبينا صلى الله عليه وسلم منه في إبراهيم عليه السلام، فقد صح أن خلقه القرآن، وجاء عنه
155

صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " وشهد الله تعالى له بقوله: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * (القلم: 4) ومنشأ إكرام الضيف الرحمة وعرشها المحيط رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يؤذن بذلك قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (الأنبياء: 107) ولهذا كان الخاتم عليه الصلاة والسلام. وقد روى الحاكم وصححه عن جندب " أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يتوفى: إن الله تعالى اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا " والتشبيه على حد * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) * (البقرة: 183) في رأي، وقيل: إن يتوفى لا دلالة فيه على أن مقام الخلة بعد مقام المحبة كما لا يخفى. وفي لفظ الحب والخلة ما يكفي العارف في ظهور الفرق بينهما، ويرشده إلى معرفة أن أي الدائرتين أوسع، وذهب غير واحد من الفضلاء إلى أن الآية من باب الاستعارة التمثيلية لتنزهه تعالى عن صاحب وخليل، والمراد اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، وأما في الخليل وحده فاستعارة تصريحية على ما نص عليه الشهاب إلا أنه صار بعد علما على إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وادعى بعضهم أنه لا مانع من وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالخليل حقيقة على معنى الصادق، أو من أصفى المودة وأصحها أو نحو ذلك، وعدم إطلاق الخليل على غيره عليه الصلاة والسلام مع أن مقام الخلة بالمعنى المشهور عند العارفين غير مختص به بل كل نبي خليل الله تعالى، إما لأن ثبوت ذلك المقام له عليه الصلاة والسلام على وجه لم يثبت لغيره - كما قيل - وإما لزيادة التشريف والتعظيم كما نقول، واعترض بعض النصارى بأنه إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر لذلك؟ وأجيب بأن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف البنوة فإنها تقتضيها قطعا، والله تعالى هو المنزه عن مجانسة المحدثات.
* (ولله ما فى السم‍اوات وما فى الارض وكان الله بكل شىء محيطا) *.
* (ولله ما في السم‍اوات وما في الأرض) * يحتمل أن يكون متصلا بقوله تعالى: * (ومن يعمل من الصالحات) * (النساء: 124) على أنه كالتعليل لوجوب العمل، وما بينهما من قوله سبحانه: * (ومن أحسن دينا) * (النساء: 125) اعتراض أي إن جميع ما في العلو والسفل من الموجودات له تعالى خلقا وملكا لا يخرج من ملكوته شيء منها فيجازي كلا بموجب أعماله إن خيرا فخير وإن شرا فشر وأن يكون متصلا بقوله جل شأنه: * (واتخذ الله) * (النساء؛ 125) الخ بناءا على أن معناه اختاره واصطفاه أي هو مالك لجميع خلقه فيختار من يريده منهم كإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو لبيان أن اصطفاءه عليه الصلاة والسلام بمحض مشيئته تعالى. وقيل: لبيان أن اتخاذه تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك لشأن من شؤونه كما هو دأب المخلوقين، فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم، بل لمجرد تكرمته وتشريفه، وفيه أيضا إشارة إلى أن خلته عليه السلام لا تخرجه عن العبودية لله تعالى.
* (وكان الله بكل شيء محيطا) * إحاطة علم وقدرة بناءا على أن حقيقة الإحاطة في الأجسام، فلا يوصف الله تعالى بذلك فلا بد من التأويل وارتكاب المجاز على ما ذهب إليه الخلف، والجملة تذييل مقرر لمضمونه ما قبله على سائر وجوهه.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (وإذا ضربتم في الأرض) * أي سافرتم في أرض الاستعداد لمحاربة عدو النفس أو لتحصيل أحوال الكمالات * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * أي تنقصوا من
156

الأعمال البدنية * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * (النساء: 101) أي حجبوا عن الحق من قوى الوهم والتخيل، وحاصله الترخيص لأرباب السلوك عند خوف فتنة القوى أن ينقصوا من الأعمال البدنية ويزيدوا في الأعمال القلبية كالفكر والذكر ليصفوا القلب ويشرق نوره على القوى فتقل غائلتها فتزكو عند ذلك الأعمال البدنية، ولا يجوز عند أهل الاختصاص ترك الفرائض لذلك كما زعمه بعض الجهلة * (وإذا كنت فيهم) * ولم تكن غائبا عنهم بسيرك في غيب الغيب وجلال المشاهدة وعائما
في بحار " لي مع الله تعالى وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل " * (فأقمت لهم الصلاة) * أي الأعمال البدنية * (فلتقم طائفة منهم معك) * وليفعلوا كما تفعل * (وليأخذوا أسلحتهم) * من قوى الروح ويجمعوا حواسهم ليتأتى لهم المشابهة، أو ليقفوا على ما في فعلك من الأسرار فلا تضلهم الوسائس * (فإذا سجدوا) * وبلغوا الغاية في معرفة ما أقمته لهم وأتوا به على وجهه * (فليكونوا من ورائكم) * ذابين عنكم اعتراض الجاهلين، أو قائمين بحوائجكم الضرورية * (ولتأت طائفة أخرى) * منهم * (لم يصلوا) * بعد * (فليصلوا معك) * وليفعلوا فعلك * (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) * كما أخذ الأولون أسلحتهم، وإنما أمر هؤلاء بأخذ الحذر أيضا حثا لهم على مزيد الاحتياط لئلا يقصروا فيما يراد منهم اتكالا على الأخذ بعد ممن أخذ أولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحاصل هذا الإشارة إلى أن تعليم الشرائع والآداب للمريدين ينبغي أن يكون لطائفة طائفة منهم ليتمكن ذلك لديهم أتم تمكن، وقيل: الطائفة الأولى إشارة إلى الخواص، والثانية إلى العوام ولهذا اكتفى في الأول بالأمر بأخذ الأسلحة، وفي الثاني أمر الحذر أيضا * (ود الذين كفروا) * وهم قوى النفس الأمارة * (لو تغفلون عن أسلحتكم) * وهي قوى الروح * (وأمتعتكم) * وهي المعارف الإلهية * (فيميلون عليكم ميلة واحدة) * ويرمونكم بنبال الآفات والشكوك ويهلكونكم * (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى) * بأن أصابكم شؤبوب * (من مطر) * يعني مطر سحائب التجليات * (أو كنتم مرضى) * بحمى الوجد والغرام وعجزتم عن أعمال القوى الروحانية * (أن تضعوا أسلحتكم) * وتتركوا أعمال تلك القوى حتى يتجلى ذلك السحاب وينقطع المطر وتهتز أرض قلوبكم بأزهار رحمة الله تعالى وتطفأ حمى الوجد بمياه القرب * (وخذوا حذركم) * عند وضع أسلحتكم واحفظوا قلوبكم من الالتفات إلى غير الله تعالى * (إن الله أعد للكافرين) * من القوى النفسانية * (عذابا مهينا) * (النساء: 102) أي مذلا لهم وذلك عند حفظ القلب وتنور الروح * (فإذا قضيتم الصلاة) * أي أديتموها * (فاذكروا الله) * في جميع الأحوال * (قياما) * في مقام الروح بالمشاهدة * (وقعودا) * في محل القلب بالمكاشفة * (وعلى جنوبكم) * أي تقلباتكم في مكان النفس بالمجاهدة * (فإذا اطمأننتم) * ووصلتم إلى محل البقاء * (فأقيموا الصلاة) * فأدوها على الوجه الأتم لسلامة القلب حينئذ عن الوساوس النفسانية التي هي بمنزلة الحدث عند أهل الاختصاص * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * (النساء: 103) فلا تسقط عنهم ما دام العقل والحياة * (ولا تهنوا في ابتغاء القوم) * الذين يحاربونكم وهم النفس وقواها * (فإنهم يألمون) * منكم لمنعكم لهم عن شهواتهم * (كما تألمون) * منهم لمعارضتهم لكم عن السير إلى الله تعالى * (وترجون من الله) * أي تأملون منه سبحانه * (ما لا يرجون) * لأنكم ترجون التنعم بجنة القرب والمشاهدة، ولا يخطر ذلك لهم ببال، أو تخافون القطيعة وهم لا يخافونها * (وكان الله عليما) * فيعلم أحوالكم وأحوالهم * (حكيما) * (النساء؛ 104) فيفيض على القوابل حسب القابليات * (إنا أنزلنا إليك الكتاب) * أي علم تفاصيل الصفات وأحكام تجلياتها * (بالحق) * متلبسا ذلك الكتاب بالصدق أو قائما أنت بالحق لا بنفسك * (لتحكم بين الناس) * خواصهم وعوامهم * (بما أراك الله) * أي بما علمك الله سبحانه
157

من الحكمة * (ولا تكن للخائنين) * الذين لم يؤدوا أمانة الله تعالى التي أودعت عندهم في الأزل مما ذكر في استعدادهم من إمكان طاعته وامتثال أمره * (خصيما) * (النساء: 105) تدفع عنهم العقاب وتسلط الخلق عليهم بالذل والهوان، أو تقول لله تعالى: يا رب لم خذلتهم وقهرتهم فإنهم ظالمون، ولله تعالى الحجة البالغة عليهم.
* (واستغفر الله) * من الميل الطبيعي الذي اقتضته الرحمة التي أحاطت بك * (إن الله كان غفورا رحيما) * (النساء: 106) فيفعل ما تطلبه منه وزيادة * (ولا تجادل) * أحدا * (عن الذين يختانون أنفسهم) * بتضييع حقوقها * (إن الله لا يحب من كان خوانا) * لنفسه * (أثيما) * (النساء: 107) مرتكبا الإثم ميالا مع الشهوات * (يستخفون من الناس) * بكتمان رذائلهم وصفات نفوسهم * (ولا يستخفون من الله) * بإزالتها وقلعها * (وهو معهم) * محيط بظواهرهم وبواطنهم * (إذ يبيتون) * أي يدبرون في ظلمة عالم النفس والطبيعة * (ما لا يرضى من القول) * من الوهميات والتخيلات الفاسدة * (وكان الله بما يعملون محيطا) * (النساء: 108) فيجازيهم حسب أعمالهم * (ومن يعمل سوءا) * بظهور صفة من صفات نفسه * (أو يظلم نفسه) * بنقص شيء من كمالاتها * (ثم يستغفر الله) * ويطلب منه ستر ذلك بالتوجه إليه والتذلل بين يديه * (يجد الله غفورا رحيما) * (النساء: 110) فيستر ويعطي ما يقتضيه الاستعداد * (ومن يكسب خطيئة) * بإظهار بعض الرذائل * (أو إثما) * بمحو ما في الاستعداد * (ثم يرم به بريئا) * بأن يقول: حملني الله تعالى على ذلك، أو حملني فلان عليه * (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) * (النساء: 112) حيث فعل ونسب فعله إلى الغير ولو لم تكن مستعدة لذلك طالبة له بلسان الاستعداد في الأزل لم يفض عليه ولم يبرز إلى ساحة الوجود، ولذا أفحم إبليس اللعين أتباعه بما قص الله تعالى لنا من قوله: * (إن الله وعدكم وعد الحق) * إلى أن قال: * (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * (إبراهيم: 22)، * (ولولا فضل الله عليك) * أي توفيقه وإمداده لسلوك طريقه * (ورحمته) * حيث وهب لك الكمال المطلق * (لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم) * لعود ضرره عليهم، وحفظك في قلاع استعدادك عن أن ينالك شيء من ذلك * (وأنزل (الله) عليك الكتاب) * الجامع لتفاصيل العلم * (والحكمة) * التي هي أحكام تلك التفاصيل مع العمل * (وعلمك ما لم تكن تعلم) * من علم عواقب الخلق وعلم ما كان وما سيكون * (وكان فضل الله عليك عظيما) * (النساء: 113) حيث جعلك أهلا لمقام قاب قوسين أو أدنى ومن عليك بما لا يحيط به سوى نطاق الوجود * (لا خير في كثير من نجواهم) * وهو ما كان من جنس الفضول، والأمر الذي لا يعني * (إلا) * نجوى * (من أمر بصدقة) * وأرشد إلى فضيلة السخاء الناشىء من العفة، * (أو معروف) * قولي كتعلم علم، أو فعلي كإغاثة ملهوف * (إو إصلاح بين الناس) * الذي هو من باب العدل * (ومن يفعل ذلك) * ويجمع بين تلك الكمالات * (ابتغاء مرضاة الله) * لا للرياء والسمعة من كل ما يعود به الفضيلة رذيلة فسوف يؤتيه الله تعالى * (أجرا عظيما) * (النساء: 114) ويدخله جنات الصفات * (ومن يشاقق الرسول) * أي يخالف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أو العقل المسمى عندهم بالرسول النفسي * (ويتبع غير سبيل المؤمنين) * أي غير ما عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن اقتفى أثرهم من الأخيار أو القوى الروحانية * (نوله ما تولى ونصله جهنم) * الحرمان * (وساءت مصيرا) * (النساء؛ 115) لمن يصلاها * (إن يدعون من دونه إلا إناثا) * وهي الأصنام
المسماة بالنفوس إذ كل من يعبد غير الله تعالى فهو عابد لنفسه مطيع لهواها، أو المراد بالإناث الممكنات لأن كل ممكن محتاج ناقص من جهة إمكانه منفعل متأثر عند تعينه فهو أشبه كل شيء بالأنثى * (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) * (النساء؛ 117) وهو شيطان الوهم حيث قبلوا إغواءه وأطاعوه * (لعنه الله) * أي أبعده عن رياض قربه * (وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) * (النساء؛ 118) وهم غير المخلصين الذين استثنوا
158

في آية أخرى * (ولأضلنهم) * عن الطريق الحق * (ولأمنينهم) * الأماني الفاسدة من كسب اللذات الفانية * (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام) * أي فليقطعن آذان نفوسهم عن سماع ما ينفعهم * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * (النساء: 119) وهي الفطرة التي فطر الناس عليها من التوحيد * (والذين آمنوا) * ووحدوا * (وعملوا الصالحات) * واستقاموا * (سندخلهم جنات) * (النساء: 122) جنة الأفعال وجنة الصفات وجنة الذات * (ليس) * أي حصول الموعود * (بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) * بل لا بد من السعي فيما يقتضيه، وفي المثل إن التمني رأس مال المفلس، * (ومن أحسن دينا) * أي حالا * (ممن أسلم وجهه لله) * وسلم نفسه إليه وفنى فيه * (وهو محسن) * مشاهد للجمع في عين التفصيل سالك طريق الإحسان بالاستقامة في الأعمال * (واتبع ملة إبراهيم) * في التوحيد * (حنيفا) * مائلا عن السوي * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * (النساء: 125) حيث تخللت المعرفة جميع أجزائه من حيث ما هو مركب فلم يبق جوهر فرد إلا وقد حلت فيه معرفة ربه عز وجل فهو عارف به بكل جزء منه، ومن هنا قيل: إن دم الحلاج لما وقع على الأرض انكتب بكل قطرة منه الله؛ وأنشد:
ما قد لي عضو ولا مفصل * إلا وفيه لكم ذكر
* (ولله ما في السموات وما في الأرض) * لأن كل ما برز في الوجود فهو شأن من شؤونه سبحانه * (وكان الله بكل شيء محيطا) * (النساء: 126) من حيث إنه الذي أفاض عليه الجود، وهو رب الكرم والجود، لا رب غيره؛ ولا يرجى إلا خيره..
* (ويستفتونك فى النسآء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم فى الكت‍ابفى يت‍امى النسآء الل‍اتى لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليت‍امى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما) *.
* (ويستفتونك في النساء) * أي يطلبون منك تبيين المشكل من الأحكام في النساء مما يجب لهن وعليهن مطلقا فإنه عليه الصلاة والسلام قد سئل عن (أحكام) كثيرة مما يتعلق بهن فما بين (حكمه) فيما سلف أحيل بيانه على ما ورد في ذلك من الكتاب وما لم يبين (حكمه) (2) بعد بين هنا، وقال غير واحد: إن المراد: يستفتونك في ميراثهن، والقرينة الدالة على ذلك سبب النزول، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا، فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس، وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل؟! فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بد، ثم قالوا: سلوا فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئا كانوا يقولون لا يغزون ولا يغنمون خيرا فنزلت، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه، وإلى الأول مال شيخ الإسلام.
* (قل الله يفتيكم فيهن) * أي يبين لكم حكمه فيهن، والإفتاء إظهار المشكل على السائل، وفي " البحر " " يقال: أفتاه إفتاءا وفتيا وفتوى، وأفتيت فلانا رؤياه عبرتها له ". * (وما يتلى عليكم في الكت‍اب) * في * (ما) * ثلاثة احتمالات: الرفع والنصب والجر، وعلى الأول: إما أن تكون مبتدأ والخبر محذوف أي - وما يتلى عليكم في القرآن يفتيكم ويبين لكم - وإيثار صيغة المضارع للإيذان بدوام التلاوة واستمرارها، وفي الكتاب متعلق - بيتلى - أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه أي يتلى كائنا في الكتاب، وإما أن تكون مبتدأ، و * (في الكتاب) * خبره، والمراد بالكتاب حينئذ اللوح المحفوظ إذ لو أريد به معناه المتبادر لم يكن فيه فائدة إلا أن يتكلف له، والجملة معترضة مسوقة لبيان عظم شأن المتلو، وما يتلى
159

متناول لما تلى وما سيتلى، وإما أن تكون معطوفة على الضمير المستتر في * (يفتيكم) * وصح ذلك للفصل، والجمع بين الحقيقة والمجار في المجاز العقلي سائغ شائع، فلا يرد أن الله تعالى فاعل حقيقي للفعل، والمتلو فاعل مجازي له، والإسناد إليه من قبيل الإسناد إلى السبب فلا يصح العطف، ونظير ذلك أغناني زيد وعطاؤه، وإما أن تكون معطوفة على الاسم الجليل، والإيراد أيضا غير وارد، نعم المتبادر أن هذا العطف من عطف المفرد على المفرد، ويبعده إفراد الضمير كما لا يخفى، وعلى الثاني: تكون مفعولا لفعل محذوف أي ويبين لكم ما يتلى، والجملة إما معطوفة على جملة * (يفتيكم) * وإما معترضة، وعلى الثالث: إما أن تكون في محل الجر على القسم المنبىء عن تعظيم المقسم به وتفخيمه كأنه قيل: قل الله يفتيكم فيهن وأقسم - بما يتلى عليكم في الكتاب - وإما أن تكون معطوفة على الضمير المجرور كما نقل عن محمد بن أبي موسى، وما عند البصريين ليس بوحي فيجب اتباعه، نعم فيه اختلال معنوي لا يكاد يندفع، وإما أن تكون معطوفة على النساء كما نقله الطبرسي عن بعضهم، ولا يخفى ما فيه.
وقوله سبحانه: * (في يت‍امى النساء) * متعلق - بيتلى - في غالب الاحتمالات أي ما يتلى عليكم في شأنهن ومنعوا ذلك على تقدير كون * (ما) * مبتدأ، و * (في الكتاب) * خبره لما يلزم عليه من الفصل بالخبر بين أجزاء الصلة، وكذا على تقدير القسم إذ لا معنى لتقييده بالمتلو بذلك ظاهرا، وجوزوا أن يكون بدلا من * (فيهن) * وأن يكون صلة أخرى - ليفتيكم - ومتى لزم تعلق حرفي جر بشيء واحد بدون اتباع يدفع بالتزام كونهما ليسا بمعنى، والممنوع تعلقهما كذلك إذا كانا بمعنى واحد، وفي الثاني هنا سببية كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " إن امرأة دخلت النار في هرة " فالكلام إذا مثل جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد أي بسببه، وإضافة اليتامى إلى النساء بمعنى من لأنها إضافة الشيء إلى جنسه، وجعلها أبو حيان بمعنى اللام ومعناها الاختصاص، وادعى أنه الأظهر وليس بشيء - كما قال الحلبي وغيره -
وقرىء - ييامى - بياءين على أنه جمع أيم والعرب تبدل الهمزة ياءا كثيرة * (ال‍اتي لا تؤتونهن ما كتب لهن) * أي ما فرض لهن من الميراث وغيره على ما اختاره شيخ الإسلام، أو ما فرض لهن من الميراث فقط على ما روي عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد رضي الله تعالى عنه، واختاره الطبري، أو ما وجب لهن من الصداق على ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، واختاره الجبائي، وقيل: ما كتب لهن من النكاح فإن الأولياء كانوا يمنعوهن من التزوج. وروي ذلك عن الحسن، وقتادة، والسدي، وإبراهيم.
* (وترغبون) * عطف على صلة * (اللاتي) * أو على المنفي وحده، وجوز أن يكون حالا من فاعل * (تؤتونهن) * فإن قلنا بجواز اقتران الجملة المضارعية الحالية بالواو: فظاهر، وإذا قلنا بعدم الجواز: التزم تقدير مبتدأ أي وأنتم ترغبون * (أن تنكحوهن) * أي؛ في أن تنكحوهن أو عن أن تنكحوهن فإن أولياء اليتامى - كما ورد في غير ما خبر - كانوا يرغبون فيهن إن كن جميلات ويأكلون مالهن، وإلا كانوا يعضلوهن طمعا في ميراثهن، وحذف الجار هنا لا يعد لبسا بل إجمال، فكل من الحرفين مراد على سبيل البدل، واستدل بعض أصحابنا بالآية على جواز تزويج اليتيمة لأنه ذكر الرغبة في نكاحها فاقتضى جوازه، والشافعية يقولون: إنه إنما ذكر ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذم فلا دلالة فيها على ذلك مع أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها فعله في حال الصغر، وهذا الخلاف في غير الأب والجد، وأما هما فيجوز لهما تزويج الصغير بلا خلاف.
* (والمستضعفين من الولدان) *
160

عطف على * (يتامى النساء) *، وكانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النساء كما تقدم آنفا.
* (وأن تقوموا لليتامى بالقسط) * عطف على ما قبله، وإن جعل في يتامى بدلا، فالوجه النصب في هذا، و * (المستضعفين) * عطفا على محل * (فيهن) * ومنعوا العطف على البدل بناءا على أن المراد بالمستضعفين الصغار مطلقا الذين منعوهم عن الميراث ولو ذكورا، ولو عطف على البدل لكان بدلا، ولا يصح فيه غير بدل الغلط وهو لا يقع في فصيح الكلام، وجوز في * (أن تقوموا) * الرفع على أنه مبتدأ، والخبر محذوف أي خير ونحوه، والنصب بإضمار فعل أي ويأمركم - أن تقوموا -، وهو خطاب للأئمة أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم، أو للأولياء والأوصياء بالنصفة في حقهم * (وما تفعلوا) * في حقوق المذكورين * (من خير) * حسبما أمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق ويندرج فيه ما يتعلق بهؤلاء اندراجا أوليا. * (فإن الله كان به عليما) * فيجازيكم عليه، واقتصر على ذكر الخير لأنه الذي رغب فيه، وفي ذلك إشارة إلى أن الشر مما لا ينبغي أن يقع منهم أو يخطر ببال..
* (وإن امرأة خ‍افت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهمآ أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) *.
* (وإن امرأة خافت) * شروع في بيان أحكام لم تبين قبل، وأخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: " خشيت سودة رضي الله تعالى عنها أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل " ونزلت هذه الآية، وأخرج الشافعي رضي الله تعالى عنه عن ابن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره، فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك فاصطلحا على صلح فجرت السنة بذلك ونزل القرآن، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في أبي السائب أي وإن خافت امرأة خافت، فهو من باب الاشتغال، وزعم الكوفيون أن * (امرأة) * مبتدأ وما بعده الخبر وليس بالمرضي، وقدر بعضهم هنا - كانت - لاطراد حذف كان بعد إن، ولم يجعله من الإشتغال وهو مخالف للمشهور بين الجمهور، والخوف إما على حقيقته، أو بمعنى التوقع أي وإن امرأة توقعت لما ظهر لها من المخايل * (من بعلها) * أي زوجها، وهو متعلق - بخافت - أو بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى: * (نشوزا) * أي استعلاءا وارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها لسبب من الأسباب، ويطلق على كل من صفة أحد الزوجين * (أو إعراضا) * أي انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه، وفي " البحر " " النشوز أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته والمودة التي بينهما، وأن يؤذيها بسب أو ضرب مثلا، والإعراض أن يقلل محادثتها ومؤانستها لطعن في سن أو دمامة، أو شين في خلق أو خلق، أو ملال أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك وهوأخف من النشوز "
* (فلا جناح) * أي فلا حرج ولا إثم * (عليهما) * أي الامرأة وبعلها حينئذ. * (أن يصلحا بينهما صلحا) * أي في أن يصلحا بينهما بأن تترك المرأة له يومها كما فعلت سودة رضي الله تعالى عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة، أو كسوة، أو تهبه المهر، أو شيئا منه، أو تعطيه مالا لتستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله، وصدر ذلك بنفي الجناح لنفي ما يتوهم من أن ما يؤخذ كالرشوة فلا يحل، وقرأ غير أهل الكوفة - يصالحا - بفتح الياء وتشديد الصاد وألف بعدها، وأصله يتصالحا فأبدلت التاء صادا وأدغمت، وقرأ الجحدري - يصلحا - بالفتح والتشديد
161

من غير ألف وأصله يصطلحا فخفف بإبدال الطاء المبدلة من تاء الافتعال صادا وأدغمت الأولى فيها لا أنه أبدلت التاء ابتداءا صادا وأدغم - كما قال أبو البقاء - لأن تاء الافتعال يجب قلبها طاءا بعد الأحرف الأربعة. وقرىء يصطلحا - وهو ظاهر، و * (صلحا) * على قراءة أهل الكوفة إما مفعول به على معنى يوقعا الصلح، أو بواسطة حرف أي يصلح، والمراد به ما يصلح به، و * (بينهما) * ظرف ذكر تنبيها على أنه ينبغي أن لا يطلع الناس على ما بينهما بل يسترانه عنهم أو حال من * (صلحا) * أي كائنا بينهما، وإما مصدر محذوف الزوائد، أو من قبيل (أنبتها الله نباتا) و * (بينهما) * هو المفعول على أنه اسم بمعنى التباين والتخالف، أو على التوسع في الظرف لا على تقدير ما بينهما كما قيل، ويجوز أن يكون * (بينهما) * ظرفا، والمفعول محذوف أي حالهما ونحوه، وعلى قراءة غيرهم يجوز أن يكون واقعا موقع تصالحا واصطلاحا، وأن يكون منصوبا بفعل مترتب على المذكور أي فيصلح حالهما صلحا واحتمال هذا في القراءة الأولى بعيد؛ وجوز أن يكون منصوبا
على إسقاط حرف الجر أي يصالحا أو يصلحا بصلح أي بشيء تقع بسببه المصالحة * (والصلح خير) * أي من الفرقة وسوء العشرة أو من الخصومة، فاللام للعهد، وإثبات الخيرية للمفضل عليه على سبيل الفرض والتقدير أي إن يكن فيه خير فهذا أخير منه وإلا فلا خيرية فيما ذكر، ويجوز أن لا يراد بخير التفضيل بل يراد به المصدر أو الصفة أي أنه خير من الخيور فاللام للجنس، وقيل: إن اللام على التقديرين تحتمل العهدية والجنسية، والجملة اعتراضية، وكذا قوله تعالى: * (وأحضرت الأنفس الشح) * ولذلك اغتفر عدم تجانسهما إذ الأولى: إسمية والثاني: فعلية ولا مناسبة معنى بينهما، وفائدة الأولى: الترغيب في المصالحة، والثانية: تمهيد العذر في المماكسة والمشاقة كما قيل، وحضر متعد لواحد وأحضر لإثنين، والأول: هو * (الأنفس) * القائم مقام الفاعل؛ والثاني: * (الشح) *، والمراد أحضر الله تعالى الأنفس الشح وهو البخل مع الحرص، ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل هو الثاني أي إن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا، أو إنها جعلت حاضرة له مطبوعة عليه فلا تكاد المرأة تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجل يكاد يجود بالإنفاق وحسن المعاشرة مثلا على التي لا يريدها، وذكر شيخ الإسلام " أن في ذلك تحقيقا للصلح وتقريرا له بحث كل من الزوجين عليه لكن لا بالنظر إلى حال نفسه فإن ذلك يستدعي التمادي في (المماكسة و) الشقاق بل بالنظر إلى حال صاحبه، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استماله مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته، وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقنع من قبلها بشيء يسير ولا يكلفها بذل الكثير فيتحقق بذلك الصلح " الذي هو خير.
* (وإن تحسنوا) * في العشرة مع النساء * (وتتقوا) * النشوز والإعراض وإن تظافرت الأسباب الداعية إليهما وتصبروا على ذلك ولم تضطروهن على فوت شيء من حقوقهن، أو بذل ما يعز عليهن. * (فإن الله كان بما تعملون) * من الإحسان والتقوى أو بجميع ما تعملون، ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا * (خبيرا) * فيجازيكم ويثيبكم على ذلك، وقد أقام سبحانه كونه عالما مطلعا أكمل اطلاع على أعمالهم مقام مجازاتهم وإثابتهم عليها الذي هو في الحقيقة جواب الشرط إقامة السبب مقام المسبب، ولا يخفى ما في خطاب الأزواج بطريق الإلتفات، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، ولفظ التقوى المنبىء عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وترتيب الوعد الكريم على ذلك من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة.
* (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النسآء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها ك المعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما) *.
* (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء) * أي لا تقدروا ألبتة على العدل بينهن بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب (إحداهن) (1)
162

في شأن من الشؤون كالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه. وأخرج البيهقي عن عبيدة أنه قال: لن تستطيعوا ذلك في الحب والجماع، وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال: في الجماع، وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وابن جرير عن مجاهد أنهما قالا: في المحبة، وأخرجا عن أبي مليكة أن الآية نزلت في عائشة رضي الله تعالى عنها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها أكثر من غيرها، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عنها أنها قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " وعنى صلى الله عليه وسلم: " بما تملك " المحبة وميل القلب الغير الاختياري * (ولو حرصتم) * على إقامة ذلك وبالغتم فيه * (فلا تميلوا كل الميل) * أي فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها حقها من غير رضا منها واعدلوا ما استطعتم فإن عجزكم عن حقيقة العدل لا يمنع عن تكليفكم بما دونها من المراتب التي تستطيعونها، وانتصاب * (كل) * على المصدرية فقد تقرر أنها بحسب ما تضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره * (فتذروها) * أي فتدعوا التي ملتم عنها * (ك المعلقة) * وهي كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: التي ليست مطلقة ولا ذات بعل، وقرأ أبي - كالمسجونة - وبذلك فسر قتادة المعلقة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المنصوب في * (تذروها) * وجوز السمين كونه في موضع المفعول الثاني لتذر على أنه بمعنى تصير، وحذف نون * (تذروها) * إما للناصب وهوأن المضمرة في جواب النهي، إما للجازم بناءا على أنه معطوف على الفعل قبله، وفي الآية ضرب من التوبيخ، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط "، وأخرج غير واحد عن جابر بن زيد أنه قال: - كانت لي امرأتان فلقد كنت أعدل بينهما حتى أعد القبل -، وعن مجاهد قال: كانوا يستحبون أن يسووا بين الضرائر حتى في الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه، وعن ابن سيرين في الذي له امرأتان يكره أن يتوضأ في بيت إحداهما دون الأخرى. * (وإن تصلحوا) * ما كنتم تفسدون من أمورهن * (وتتقوا) * الميل الذي نهاكم الله تعالى عنه فيما يستقبل * (فإن الله كان غفورا) * فيغفر لكم ما مضى من الحيف * (رحيما) * فيتفضل عليكم برحمته..
* (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما) *.
* (وإن يتفرقا) * أي المرأة وبعلها، وقرىء - يتفارقا - أي وإن لم يصطلحا ولم يقع بينهما وفاق بوجه ما من الصلح وغيره ووقعت بينهما الفرقة بطلاق * (يغن الله كلا) * منهما أي يجعله مستغنيا عن آخر ويكفه ما أهمه، وقيل: يغني الزوج بامرأة أخرى والمرأة بزوج الآخر * (من سعته) * أي من غناه وقدرته، وفي ذلك تسلية لكل من الزوجين بعد الطلاق، وقيل: زجر لهما عن المفارقة، وكيفما كان فهو مقيد بمشيئة الله تعالى * (وكان الله واسعا) * أي غنيا وكافيا للخلق، أو مقتدرا أو عالما * (حكيما) * متقنا في أفعاله وأحكامه..
* (ولله ما فى السم‍اوات وما فى الارض ولقد وصينا الذين أوتوا الكت‍ابمن قبلكم وإي‍اكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما فى السم‍اوات وما فى الارض وكان الله غنيا حميدا) *.
* (ولله ما في السم‍اوات وما في الأرض) * فلا يتعذر عليه الإغناء بعد الفرقة، ولا الإيناس بعد الوحشة - ولا ولا - وفيه من التنبيه على كمال سعته وعظم قدرته ما لا يخفى، والجملة مستأنفة جيء بها - على ما قيل - لذلك * (ولقد وصينا الذين أوتوا الكت‍ابمن قبلكم) * أي أمرناهم بأبلغ وجه، والمراد بهم اليهود والنصارى ومن
163

قبلهم من الأمم، والكتاب عام للكتب الإلهية، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الموصول باليهود والكتاب بالتوراة، بل قد يدعى أن التعميم أولى بالغرض المسوق له الكلام وهو تأكيد الأمر بالإخلاص، و * (من) * متعلقة - بوصينا - أو - بأوتوا - * (وإياكم) * عطف على الموصول وحكم الضمير المعطوف أن يكون منفصلا ولم يقدم ليتصل لمراعاة الترتيب الوجودي * (أن اتقوا الله) * أي وصينا كلا منهم ومنكم بأن اتقوا الله تعالى على أن * (أن) * مصدرية بتقدير الجار ومحلها نصب أو جر على المذهبين، ووصلها بالأمر - كالنهي وشبهه - جائز كما نص عليه سيبويه، ويجوز أن تكون مفسرة للوصية لأن فيها معنى القول.
وقوله تعالى: * (وإن تكفروا فإن لله ما في السم‍اوات وما في الأرض) * عطف على * (وصينا) * بتقدير قلنا - أي وصينا وقلنا لكم ولهم إن تكفروا فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لا يضره كفركم ومعاصيكم، كما أنه لا ينفعه شكركم وتقواكم وإنما وصاكم وإياهم لرحمته لا لحاجته - وفي الكلام تغليب للمخاطبين على الغائبين، ويشعر ظاهر كلام البعض أن العطف على * (اتقوا الله) * وتعقب بأن الشرطية لا تقع بعد أن المصدرية، أو المفسرة فلا يصح عطفها على الواقع بعدها سواء كان إنشاءا أم إخبارا، والفعل * (وصينا) * أو أمرنا أو غيره، وقيل: إن العطف المذكور من باب: علفتها تبنا وماءا باردا (c)
وجوز أبو حيان أن تكون جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمة وحدها، أو مع الذين أوتوا الكتاب * (وكان الله غنيا) * بالغنى الذاتي عن الخلق وعبادتهم * (حميدا) * أي محمودا في ذاته حمدوه أم لم يحمدوه، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وقيل: إن قوله سبحانه: * (ولله ما في السموات) * الخ تهديد على الكفر أي أنه تعالى قادر على عقوبتكم بما يشاء، ولا منجى عن عقوبته فإن جميع ما في السموات والأرض له، وقوله عز وجل: * (وكان الله غنيا حميدا) * للإشارة إلى أنه جل وعلا لا يتضرر بكفرهم [بم وقوله سبحانه:
* (ولله ما فى السم‍اوات وما فى الارض وكفى بالله وكيلا) *.
* (ولله ما في السم‍اوات وما في الأرض) * يحتمل أن يكون كلاما مبتدأ مسوقا للمخاطبين توطئة لما بعده من الشرطية أي له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا وملكا يتصرف في ذلك كيفما يشاء إيجادا وإعداما وإحياءا وإماتة، ويحتمل أن يكون كالتكميل للتذييل ببيان الدليل فإن جميع المخلوقات تدل لحاجتها وفقرها الذاتي على غناه وبما أفاض سبحانه عليها من الوجود والخصائص والكمالات على كونه حميدا * (وكفى بالله وكيلا) * تذييل لما قبله، والوكيل هو القيم والكفيل بالأمر الذي يوكل إليه، وهذا على الإطلاق هو الله تعالى، وفي " النهاية " يقال: " وكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة (بكفايته) أو عجزا عن القيام بأمر نفسه، والوكيل في أسماء الله تعالى هو القيم (الكفيل) (1) بأرزاق العباد، وحقيقته أنه يستقل (بالأمر) الموكول إليه "، ولا يخفى أن الاقتصار على الأرزاق قصور فعمم، وتوكل على الله تعالى، وادعى البيضاوي - بيض الله تعالى غرة أحواله - أن هذه الجملة راجعة إلى قوله سبحانه: * (يغن الله كلا من سعته) * (النساء: 130) فإنه إذا توكلت وفوضت فهو الغني لأن من توكل على الله عز وجل كفاه، ولما كان ما بينهما تقريرا له لم يعد فاصلا، ولا يخفى أن على بعده لا حاجة إليه..
* (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت باخرين وكان الله على ذالك قديرا) *.
* (إن يشأ) * إن يرد إذهابكم وإيجاد آخرين * (يذهبكم) * يفنكم ويهلككم. * (أيها الناس ويأت بآخرين) * أي يوجد مكانكم دفعة قوما آخرين من البشر، فالخطاب لنوع من الناس، وقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه " أنه لما نزل قوله تعالى:
164

* (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) * (محمد: 38) ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقال: إنهم قوم هذا " وفيه نوع تأييد لما ذكر في هذه الآية، وما نقل عن العراقي أن الضرب كان عند نزولها وحينئذ يتعين ما ذكر سهو على ما نص عليه الجلال السيوطي، وجوز الزمخشري وابن عطية ومقلدوهما أن يكون المراد خلقا آخرين أي جنسا غير جنس الناس، وتعقبه أبو حيان بأنه خطأ وكونه من قبيل المجاز - كما قيل - لا يتم به المراد لمخالفته لاستعمال العرب فإن - غيرا - تقع على المغاير في جنس أو وصف، - وآخر - لا يقع إلا على المغايرة بين أبعاض جنس واحد.
وفي " درة الغواص في أوهام الخواص " أنهم يقولون: ابتعت عبدا وجارية أخرى فيوهمون فيه لأن العرب لم تصف بلفظي آخر وأخرى وجمعهما إلا ما يجانس المذكور قبله كما قال تعالى: * (أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى) * (النجم: 19، 20) وقوله سبحانه: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * (البقرة: 185) فوصف جل اسمه - مناة - بالأخرى لما جانست - العزى اللات - ووصف الأيام بالأخر لكونها من جنس الشهر، والأمة ليست من جنس العبد لكونها مؤنثة وهو مذكر فلم يجز لذلك أن يتصف بلفظ أخرى كما لا يقال: جاءت هند ورجل آخر، والأصل في ذلك أن آخر من قبيل أفعل الذي يصحبه من، ويجانس المذكور بعده كما يدل على ذلك أنك إذا قلت: قال: الفند الزماني، وقال آخر: كان تقدير الكلام، وقال آخر: من الشعراء وإنما حذفت لفظة من لدلالة الكلام عليها، وكثرة استعمال آخر في النطق، وفي " الدر المصون " إن هذا غير متفق عليه، وإنما ذهب إليه كثير من النحاة وأهل اللغة؛ وارتضاه نجم الأئمة الرضي إلا أنه يرد على الزمخشري ومن معه أن آخرين صفة موصوف محذوف، والصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا إذا كانت خاصة نحو مررت بكاتب، أو إذا دل الدليل على تعيين الموصوف - وهنا ليست بخاصة - فلا بد أن يكون من جنس الأول لتدل على المحذوف؛ وقال ابن يسعون والصقلي وجماعة: إن العرب لا تقول: مررت برجلين وآخر لأنه إنما يقابل آخر ما كان من جنسه تثنية وجمعا وإفرادا، وقال ابن هشام هذا غير صحيح لقول ربيعة بن يكدم: ولقد (شفعتهما بآخر ثالث) * وأبى الفرار إلى الغداة تكرمى
وقال أبو حية النميري: وكنت أمشي على ثنتين معتدلا * فصرت أمشيء على (أخرى) من الشجر
وإنما يعنون بكونه من جنس ما قبله أن يكون اسم الموصوف بآخر في اللفظ، أو التقدير يصح وقوعه على المتقدم الذي قوبل بآخر على جهة التواطؤ ولذلك لو قلت: جاءني زيد وآخر كان سائغا لأن التقدير ورجل آخر، وكذا جاءني زيد وأخرى تريد نسمة أخرى؛ وكذا اشتريت فرسا ومركوبا آخر سائغ، وإن كان المركوب الآخر جملا لوقوع المركوب عليهما بالتواطؤ فإن كان وقوع الاسم عليهما على جهة الإشتراك المحض فإن كانت حقيقتهما واحدة جازت المسألة نحو قام أحد الزيدين وقعد الآخر، وإن لم تكن حقيقتهما واحدة لم تجز لأنه لم يقابل به ما هو من جنسه نحو رأيت المشتري والمشتري الآخر تريد بأحدهما الكوكب، وبالآخر مقابل البائع، وهل يشترط مع التواطؤ اتفاقهما في التذكير؟ فيه خلاف، فذهب المبرد إلى عدم اشتراطه فيجوز جاءتني جاريتك وإنسان آخر، واشتراطه ابن جني، والصحيح ما ذهب إليه المبرد بدليل قول عنترة: والخيل تقتحم الغبار عوابسا * من بين منظمة (وآخر ينظم)
165

وما ذكر من أن آخر يقابل به ما تقدمه من جنسه هو المختار، وإلا فقد يستعملونه من غير أن يتقدمه شيء من جنسه، وزعم أبو الحسن أن ذلك لا يجوز إلا في الشعر، فلو قلت: جاءني آخر من غير أن تتكلم قبله بشيء من صنفه لم يجز، ولو قلت: أكلت رغيفا، وهذا قميص آخر لم يحسن، وأما قول الشاعر: صلى على عزة الرحمن وابنتها * ليلى وصلى على جاراتها (الأخر)
فمحمول على أنه جعل ابنتها جارة لها لتكون الأخرى من جنسها، ولولا هذا التقدير لما جاز أن يعقب ذكر البنت بالجارات، بل كان يقول: وصلى على بناتها الأخر، وقد قوبل في البيت أيضا - أخر - وهو جمع بابنتها وهو مفرد، وزعم السهيلي أن - أخرى - في قوله تعالى: * (ومناة الثالثة الأخرى) * (النجم: 20) استعملت من غير أن يتقدمها شيء من صنفها لأنه غير مناة الطاغية التي كانوا يهلون إليها بقديد؛ فجعلها ثالثة اللاة والعزى، وأخرى لمناة التي كان يعبدها عمرو بن الجموح وغيره من قومه مع أنه لم يتقدم لها ذكر، والصواب أنه جعلها أخرى بالنظر إلى اللات والعزى، وساغ ذلك لأن الموصوف بالأخرى، وهو الثالثة يصح وقوعه على اللات والعزى، ألا ترى أن كل واحدة منهن ثالثة بالنظر إلى صاحبتها؟ وإنما اتجه ذلك لما ذكره أبو الحسن من أن استعمال آخر وأخرى من غير أن يتقدمهما صنفهما لا يجوز إلا في الشعر انتهى. وهو تحقيق نفيس إلا أنه سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في الآية الآتي ذكرها، وفي " المسائل الصغرى " للأخفش في باب عقده لتحقيق هذه المسألة أن العرب لا تستعمل آخر إلا فيما هو من صنف ما قبله، فلو قلت: أتاني صديق لك وعدو لك آخر لم يحسن لأنه لغو من الكلام، وهو يشبه - سائر وبقية وبعض - في أنه لا يستعمل إلا في جنسه، فلو قلت: ضربت رجلا وتركت سائر النساء لم يكن كلاما، وقد يجوز ما امتنع بتأويل كرأيت فرسا وحمارا آخر نظرا إلى أنه دابة قال امرؤ القيس:
إذا قلت: هذا صاحبي ورضيته * وقرت به العينان بدلت (آخرا)
وفي الحديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفة في مرضه فقال: أنظروا من أتكيء عليه فجاءت بريرة ورجل آخر فاتكأ عليهما ". وحاصل هذا أنه لا يوصف بآخر إلا ما كان من جنس ما قبله لتتبين مغايرته في محل يتوهم فيه اتحاده ولو تأويلا، وحينئذ لا يكون ما ذكره الزمخشري نصا في الخطأ ومخالفة استعمال العرب المعول عليه عند الجمهور * (وكان الله على ذلك) * أي إفنائكم بالمرة وإيجاد آخرين * (قديرا) * بليغ القدرة لكنه سبحانه لم يفعل وأبقاكم على ما أنتم عليه من العصيان لعدم تعلق مشيئته لحكمة اقتضت ذلك لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا..
* (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والاخرة وكان الله سميعا بصيرا) *.
* (من كان يريد ثواب الدنيا) * كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة والمنافع الدنيوية. * (فعند الله ثواب الدنيا والآخرة) * جزاء الشرط بتقدير الإعلام والإخبار أي: من كان يريد ثواب الدنيا فأعلمه وأخبره أن عند الله تعالى ثواب الدارين فما له لا يطلب ذلك كمن يقول: * (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) * (البقرة: 201)، أو يطلب الأشرف وهو ثواب الآخرة فإن من جاهد مثلا خالصا لوجه الله تعالى لم (تخطه) المنافع الدنيوية وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شيء، وفي " مسند أحمد " عن زيد بن ثابت " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان همه الآخرة جمع الله تعالى شمله وجعل غناه في قلبه وأتته
166

الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله تعالى عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له " وجوز أن يقدر الجزاء من جنس الخسران فيقال: من كان يريد ثواب الدنيا فقط فقد خسر وهلك، فعند الله تعالى ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده، وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: جرىء فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما فعلت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم وقرأت ليقال: هو قارىء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله تعالى عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار "، وقيل: إنه الجزاء إلا أنه مؤل بما يجعله مرتبا على الشرط لأن مآله أنه ملوم موبخ لتركه الأهم الأعلى الجامع لما أراده مع زيادة لكن من يشترط العائد في الجزاء يقدره كما أشرنا إليه، وقيل: المراد أنه تعالى عنده ثواب الدارين فيعطي كلا ما يريده كقوله تعالى: * (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه) * (الشورى: 20) الآية.
* (وكان الله سميعا بصيرا) * تذييل لمعنى التوبيخ أي كيف يرائي المرائي وأن الله تعالى سميع بما يهجس في خاطره وما تأمر به دواعيه بصير بأحواله كلها ظاهرها
وباطنها فيجازيه على ذلك، وقد يقال: ذيل بذلك لأن إرادة الثواب إما بالدعاء وإما بالسعي، والأول: مسموع، والثاني: مبصر، وقيل: السمع والبصر عبارتان عن اطلاعه تعالى على غرض المريد للدنيا أو الآخرة وهو عبارة عن الجزاء، ولا يخفى أنه وإن كان لا يخلو عن حسن إلا أنه يوهم إرجاع صفة السمع والبصر إلى العلم وهو خلاف المقرر في الكلام..
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهدآء لله ولو علىأنفسكم أو الوالدين والاقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط) * أي مواظبين على العدل في جميع الأمور مجتهدين في ذلك كل الاجتهاد لا يصرفكم عنه صارف. وعن الراغب أنه سبحانه نبه بلفظ القوامين على أن مراعاة العدالة مرة أو مرتين لا تكفي بل يجب أن تكون على الدوام، فالأمور الدينية لا اعتبار بها ما لم تكن مستمرة دائمة، ومن عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة عادلا أي لا ينبغي أن يطلق فيه ذلك * (شهداء) * بالحق * (لله) * بأن تقيموا شهاداتكم لوجه الله تعالى لا لغرض دنيوي، وانتصاب * (شهداء) * على أنه خبر ثان لكونوا ولا يخفى ما في تقديم الخبر الأول من الحسن. وجوز أن يكون على أنه حال من الضمير المستكن فيه، وأيد بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في معنى الآية: أي كونوا قوالين بالحق في الشهادة على من كانت ولمن كانت من قريب وبعيد، وقيل: إنه صفة * (قوامين) *، وقيل: إنه خبر * (كونوا) * وقوامين حال * (ولو على أنفسكم) * أي ولو كانت الشهادة على أنفسكم، وفسرت الشهادة ببيان الحق مجازا فتشمل الإقرار المراد ههنا والشهادة بالمعنى الحقيقي المراد فيما بعد فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وقيل: الكلام خارج مخرج المبالغة وليس المقصود حقيقته فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز ليشمل الإقرار حيث إن شهادة المرء على نفسه لم تعهد، والجار - على ما أشير إليه -
167

ظرف مستقر وقع خبرا لكان المحذوفة وإن كان في الأصل صلة الشهادة لأن متعلق المصدر قد يجعل خبرا عنه فيصير مستقرا مثل الحمد لله ولا يجوز ذلك في اسم الفاعل ونحوه، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بخبر محذوف أي ولو كانت الشهادة وبالا على أنفسكم، وعلقه أبو البقاء بفعل دل عليه * (شهداء) * أي لو شهدتم على أنفسكم وجوز تعلقه - بقوامين - وفيه بعد، * (ولو) * إما على أصلها أو بمعنى إن وهي وصلية، وقيل: جوابها مقدر أي لوجب أن تشهدوا عليها * (أو الوالدين والأقربين) * أي ولو كانت على والديكم وأقرب الناس إليكم أو ذوي قرابتكم، وعطف الأول - بأو - لأنه مقابل للأنفس وعطف الثاني عليه بالواو لعدم المقابلة.
* (إن يكن) * أي المشهود عليه * (غنيا) * يرجى في العادة ويخشى * (أو فقيرا) * يترحم عليه في الغالب ويحنى، وقرأ عبد الله - إن يكن غني أو فقير - بالرفع على إن كان تامة، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله تعالى: * (فالله أولى بهما) * أي فلا تمتنعوا عن الشهادة على الغني طلبا لرضاه أو على الفقير شفقة عليه لأن الله تعالى أولى بالجنسين وأنظر لهما من سائر الناس، ولولا أن حق الشهادة مصلحة لهما لما شرعها فراعوا أمر الله تعالى فإنه أعلم بمصالح العباد منكم، وقرأ أبي - فالله أولى بهم - بضمير الجمع وهو شاهد على أن المراد جنسا الغني والفقير وأن ضمير التثنية ليس عائدا على الغني والفقير المذكورين لأن الحكم في الضمير العائد على المعطوف - بأو - الإفراد كما قيل: لأنها لأحد الشيئين أو الأشياء، وقيل: إن * (أو) * بمعنى الواو، والضمير عائد إلى المذكورين، وحكي ذلك عن الأخفش، وقيل: إنها على بابها وهي هنا لتفصيل ما أبهم في الكلام، وذلك مبني على أن المراد بالشهادة ما يعم الشهادة للرجل والشهادة عليه، فكل من المشهود له والمشهود عليه يجوز أن يكون غنيا وأن يكون فقيرا فقد يكونان غنيين، وقد يكونان فقيرين، وقد يكون أحدهما فقيرا والآخر غنيا، فحيث لم تذكر الأقسام أتى - بأو - لتدل على ذلك، فضمير التثنية على المشهود له والمشهود عليه على أي وصف كانا عليه، وقيل: غير ذلك، وقال الرضي: الضمير الراجع إلى المذكور المتعدد الذي عطف بعضه على بعض - بأو - يجوز أن يوحد وأن يطابق المتعدد، وذلك يدور على القصد، فيجوز: جاءني زيد أو عمرو وذهب، أو وهما ذاهبان إلى المسجد، وعلى هذا لا حاجة إلى التوجيه لعدم صحة التثنية ووجوب الإفراد في مثل هذا الضمير، نعم قيل: إن الظاهر الإفراد دون التثنية، وإن جاز كل منهما فيحتاج العدول عن الظاهر إلى نكتة. وادعى بعضهم أنها تعميم الأولوية ودفع توهم اختصاصها بواحد فتأمل.
* (فلا تتبعوا الهوى) * أي هوى أنفسكم * (أن تعدلوا) * من العدول والميل عن الحق، أو من العدل مقابل الجور وهو في موضع المفعول له، إما للاتباع المنهي عنه أو للنهي، فالاحتمالات أربعة: الأول: أن يكون بمعنى العدول وهو علة للمنهي عنه، فلا حاجة إلى تقدير، والثاني: أن يكون بمعنى العدل وهو علة للمنهي عنه فيقدر مضاف أي كراهة أن تعدلوا، والثالث: أن يكون بمعنى العدول وهو علة للنهي فيحتاج إلى التقدير كما في الاحتمال الثاني أي أنهاكم عن اتباع الهوى كراهة العدول عن الحق، والرابع: أن يكون بمعنى العدل وهو علة للنهي فلا يحتاج إلى التقدير كما في الاحتمال الأول، أي أنهاكم عن اتباع الهوى للعدل وعدم الجور.
* (وإن تلووا) * ألسنتكم عن الشهادة بأن تأتوا بها على غير وجهها الذي تستحقه كما روي ذلك عن ابن زيد والضحاك، وحكي عن أبي جعفر
168

رضي الله تعالى عنه وهو الظاهر، وقيل: اللي المطل في أدائها، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنها. * (أو تعرضوا) * أي تتركوا إقامتها رأسا وهو خطاب للشهود، وقيل: إن الخطاب للحكام، واللي الحكم بالباطل، والإعراض عدم الإلتفات إلى أحد الخصمين، ونسب هذا إلى السدي، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا، وقرأ حمزة * (وإن تلوا) * بضم اللام وواو ساكنة وهو من الولاية بمعنى مباشرة الشهادة، وقيل: إن أصله تلووا بواوين أيضا نقلت ضمة الواو بعد قلبها همزة، أو ابتداءا إلى ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وعلى هذا فالقراءتان بمعنى * (فإن الله كان بما تعملون) * من اللي والإعراض، أو من جميع الأعمال التي من جملتها ما ذكر * (خبيرا) * عالما مطلعا فيجازيكم على ذلك، وهو وعيد محض على القراءة الأولى، وعلى القراءة الأخيرة يحتمل أن يكون كذلك
وأن يكون متضمنا " للوعد ".
والآية كما أخرج ابن جرير عن السدي نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم تصم إليه رجلان غني وفقير فكان خلقه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبى الله تعالى إلا أن يقول بالقسط في الغني والفقير، وهي متضمنة للشهادة على من ذكره الله تعالى، ولا تعرض فيها للشهادة لهم على ما هو الظاهر، وحملها بعضهم على ما يشمل القسمين، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أشرنا إليه فيجوز عنده شهادة الولد لوالده والوالد لولده. وحكي عن ابن شهاب الزهري أنه قال: كان سلف المسلمين على ذلك حتى ظهر من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك بعيد جدا، وأبعد منه بمراحل - بل ينبغي أن يكون من باب الإشارة - كون المراد منها كونوا شهداء لله تعالى بوحدانيته وكمال صفاته وحقية أحكامه ولو كان ذلك مضرا لأنفسكم أو لوالديكم وأقربيكم بأن توجب الشهادة ذهاب حياة هؤلاء أو أموالهم أو غير ذلك * (إن يكن) * أي الشاهد * (غنيا) * تضر شهادته بغناه * (أو فقيرا) * تسد شهادته باب دفع الحاجة عليه * (فالله) * تعالى * (أولى بهما) * من أنفسهما، فينبغي أن يرجحا الله تعالى على أنفسهما، واستدل بالآية على أن العبد لا مدخل له في الشهادة إذ ليس قواما بذلك لكونه ممنوعا من الخروج إلى القاضي؛ وعلى وجوب التسوية بين الخصمين على الحاكم، وهو ظاهر على رأي، ووجه مناسبتها لما تقدم على ما في " البحر " " أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة عقبه بالقيام لأداء الحقوق، وفي الشهادة حقوق، أو لأنه سبحانه لما بين أن طالب الدنيا ملوم وأشار إلى أن طالب الأمرين أو أشرفهما هو الممدوح بين أن كمال ذلك أن يكون قول الإنسان وفعله لله تعالى، أو لأنه تعالى شأنه لما ذكر في هذه السورة * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * (النساء: 3) والإشهاد عند دفع أموالهم إليهم وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله تعالى وذكر قصة الخائن واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل وندب للمصالحة عقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله تعالى ":.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله ورسوله والكت‍ابالذى نزل على رسوله والكت‍ابالذىأنزل من قبل ومن يكفر بالله ومل‍ائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضل‍الا بعيدا) *.
* (يا أيها الذين ءآمنوا) * خطاب للمسلمين كافة فمعنى قوله تعالى: * (ءآمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل) * أثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه، وروي هذا عن الحسن واختاره الجبائي، وقيل: الخطاب لهم، والمراد ازدادوا في الإيمان طمأنينة ويقينا، أو: آمنوا بما ذكر مفصلا بناءا على أن إيمان بعضهم إجمالي، وأيا ما كان فلا يلزم تحصيل الحاصل، وقيل: الخطاب للمنافقين المؤمنين ظاهرا فمعنى * (آمنوا) * أخلصوا الإيمان، واختاره الزجاج وغيره. وقيل: لمؤمني اليهود خاصة، ويؤيده ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " أن عبد الله بن سلام وأسد
169

وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وابن أخت عبد الله بن سلام ويامين بن يامين أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل آمنوا بالله تعالى ومحمد صلى الله عليه وسلم وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا: لا نفعل " فنزلت فآمنوا كلهم، وقيل: لمؤمني أهل الكتابين، وروي ذلك عن الضحاك، وقيل: للمشركين المؤمنين باللات والعزى، وقيل: لجميع الخلق لإيمانهم يوم أخذ الميثاق حين قال لهم سبحانه: * (ألست بربكم قالوا بلى) * (الأعراف: 172) والكتاب الأول القرآن، والمراد من الكتاب الثاني الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية، ويدل عليه قوله تعالى فيما بعد: * (وكتبه) * والمراد بالإيمان بها الإيمان بها في ضمن الإيمان بالكتاب المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم على معنى أن الإيمان بكل واحد منها مندرج تحت الإيمان بذلك الكتاب، وأن أحكام كل منها كانت حقة ثابتة يجب الأخذ بها إلى ورود ما نسخها، وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث إنها من أحكام ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ولا تغيير يعتريه. ومن هنا يعلم أن أمر مؤمني أهل الكتاب بالإيمان بكتابهم بناءا على أن الخطاب لهم ليس على معنى الثبات لأن هذا النحو من الإيمان غير حاصل لهم وهو المقصود، ولا حاجة إلى القول بأن متعلق الأمر حقيقة هو الإيمان بما عداه كأنه قيل: آمنوا بالكل ولا تخصوه بالبعض، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو - نزل وأنزل - على البناء للمفعول، واستعمال - نزل - أولا وأنزل ثانيا لأن القرآن نزل مفرقا بالإجماع، وكان تمامه في ثلاث وعشرين سنة على الصحيح ولا كذلك غيره من الكتب فتذكر.
* (ومن يكفر بالله ومل‍ائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر) * أي بشيء من ذلك فإن الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو - كما قال العلامة الثاني - قد يرجع إلى كل واحد، وقد يرجع إلى المجموع، والتعويل على القرائن، وههنا قد دلت القرينة على الأول لأن الإيمان بالكل واجب والكل ينتفي بانتفاء البعض ومثل هذا ليس من جعل الواو بمعنى أو في شيء، وجوز بعضهم رجوعه إلى المجموع لوصف الضلال بغاية البعد في قوله تعالى: * (فقد ضل ضل‍الا بعيدا) * ويستفاد منه أن الكفر بأي بعض كان ضلال متصف - ببعد - والمشهور أن المراد - بالضلال البعيد - الضلال البعيد عن المقصد بحيث لا يكاد يعود المتصف به إلى طريقه، ويجوز أن يراد ضلالا بعيدا عن الوقوع، والجملة الشرطية تذييل للكلام السابق وتأكيد له، وزيادة - الملائكة واليوم الآخر - في جانب الكفر على ما ذكره شيخ الإسلام لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمان أصلا، وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو رسول كفر بالكل، وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلا عليه، وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسائط بين الله عز وجل وبين الرسل في إنزال الكتب، وقيل: اختلاف الترتيب في الموضعين من باب التفنن في الأساليب والزيادة في الثاني لمجرد المبالغة، وقرىء بكتابه على إرادة الجنس..
* (إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) *.
* (إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا) * هم قوم تكرر منهم الارتداد وأصروا على الكفر وازدادوا تماديا في الغي، وعن مجاهد وابن زيد
أنهم أناس منافقون أظهروا الإيمان ثم ارتدوا ثم أظهروا ثم ارتدوا ثم ماتوا على كفرهم، وجعلها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عامة لكل منافق في عهده صلى الله عليه وسلم في البر والبحر، وعن الحسن أنهم طائفة من
170

أهل الكتاب أرادوا تشكيك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يظهرون الإيمان بحضرتهم، ثم يقولون قد عرضت لنا شبهة فيكفرون ثم يظهرون ثم يقولون: قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون، ويستمرون على الكفر إلى الموت، وذلك معنى قوله تعالى: * (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) * (آل عمران: 72)، وقيل: هم اليهود آمنوا بموسى عليه السلام، ثم كفروا بعبادتهم العجل حين غاب عنهم، ثم آمنوا عند عوده إليهم، ثم كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وروي ذلك عن قتادة، وقال الزجاج والفراء: إنهم آمنوا بموسى عليه السلام، ثم كفروا بعده، ثم آمنوا بعزيز، ثم كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازدادوا كفرا بنبينا عليه الصلاة والسلام، وأورد على ذلك بأن الذين ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم ليسوا بمؤمنين بموسى عليه السلام، ثم كافرين بعبادة العجل أو بشيء آخر، ثم مؤمنين بعوده إليهم أو بعزير، ثم كافرين بعيسى عليه السلام بل هم إما مؤمنون بموسى عليه السلام وغيره، أو كفار لكفرهم بعيسى عليه السلام والإنجيل. وأجيب بأنه لم يرد على هذا قوم بأعيانهم بل الجنس، ويحصل التبكيت على اليهود الموجودين باعتبار عد ما صدر من بعضهم كأنه صدر من كلهم، والذي يميل القلب إليه أن المراد قوم تكرر منهم الارتداد أعم من أن يكونوا منافقين أو غيرهم، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في المرتد: إن كنت لمستتيبه ثلاثا، ثم قرأ هذه الآية وإلى رأي الإمام كرم الله تعالى وجهه ذهب بعض الأئمة فقال: يقتل المرتد في الرابعة ولا يستتاب، وكأنه أراد أنه لا فائدة في الإستتابة إذ لا منفعة.
وعليه فالمراد من قوله سبحانه: * (لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) * أنه سبحانه لا يفعل ذلك أصلا وإن تابوا، وعلى القول المشهور الذي عليه الجمهور: المراد من نفي المغفرة والهداية نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت ومعنى نفيه استبعاد وقوعه فإن من تكرر منهم الإرتداد وازدياد الكفر والإصرار عليه صاروا بحيث قد ضربت قلوبهم بالكفر وتمرنت على الردة وكان الإيمان عندهم أدون شيء وأهونه فلا يكادون يقربون منه قيد شبر ليتأهلوا للمغفرة وهداية سبيل الجنة لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم. وخص بعضهم عدم الاستتابة بالمتلاعب المستخف إذا قامت قرينة على ذلك، وخبر كان في أمثال هذا الموضع محذوف وبه تتعلق اللام كما ذهب إليه البصريون أي ما كان الله تعالى مريدا للغفران لهم، ونفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه. وذهب الكوفيون إلى أن اللام زائدة والخير هو الفعل. وضعف بأن ما بعدها قد انتصب فإن كان النصب باللام نفسها فليست بزائدة، وإن كان - بأن - ففاسد لما فيه من الإخبار بالمصدر عن الذات. وأجيب باختيار الشق الأول وأنه لا مانع من العمل مع الزيادة كما في حروف الجر الزائدة، وباختيار الشق الثاني وامتناع الإخبار بالمصدر عن الذات لعدم كونه دالا بصيغته على فاعل وعلى زمان دون زمان، والفعل المصدر - بأن - يدل عليهما فيجوز الإخبار به - وإن لم يجز بالمصدر - ولا يخفى ما فيه، فإن الإخبار على هذا بالفعل لا بالمصدر وإن أول المصدر باسم الفاعل كان الإخبار باسم الفاعل لا به أيضا فافهم. واختار قوم في القوم ما ذهب إليه مجاهد وأيد ذلك [بم بقوله تعالى:
* (بشر المن‍افقين بأن لهم عذابا أليما) *.
ووضع فيه * (بشر) * موضع أنذر تهكما بهم، ففي الكلام استعارة تهكمية. وقيل: موضع أخبر فهناك مجاز مرسل تهكمي..
171

* (الذين يتخذون الك‍افرين أوليآء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) *.
* (الذين يتخذون الكافرين أولياء) * في موضع النصب أو الرفع على الذم على معنى أريد بهم الذين أو هم الذين، ويجوز أن يكون منصوبا على اتباع المنافقين ولا يمنع منه وجود الفاصل فقد جوزه العرب، والمراد بالكافرين قيل: اليهود، وقيل: مشركو العرب، وقيل: ما يعم ذلك والنصارى، وأيد الأول بما روي أنه كان يقول بعضهم لبعض: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم لا يتم فتولوا اليهود. * (من دون المؤمنين) * أي متجاوزين ولاية المؤمنين، وهو حال من فاعل * (يتخذون) *.
* (أيبتغون) * أي المنافقون * (عندهم) * أي الكافرين * (العزة) * أي القوة والمنعة وأصلها الشدة، ومنه قيل للأرض الصلبة: عزاز، والاستفهام للإنكار، والجملة معترضة مقررة لما قبلها، وقيل: للتهكم، وقيل: للتعجب. * (فإن العزة لله جميعا) * أي أنها مختصة به تعالى يعطيها من يشاء وقد كتبها سبحانه لأوليائه فقال عز شأنه: * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * (المنافقون: 8) والجملة تعليل لما يفيده الاستفهام الإنكاري من بطلان رأيهم وخيبة رجائهم. وقيل: بيان لوجه التهكم أو التعجب، وقيل: إنها جواب شرط محذوف أي إن يبتغوا العزة من هؤلاء فإن العزة الخ، وهي على هذا التقدير قائمة مقام الجواب لا أنها الجواب حقيقة، و * (جميعا) * قيل: حال من الضمير في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ، وليس في الكلام مضاف أي لأولياء كما زعمه البعض..
* (وقد نزل عليكم فى الكت‍ابأن إذا سمعتم ءاي‍ات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المن‍افقين والك‍افرين فى جهنم جميعا) *.
وقوله سبحانه: * (وقد نزل عليكم) * خطاب للمنافقين بطريق الالتفات مفيد لتشديد التوبيخ الذي يستدعيه تعديد جناياتهم. وقرأ - ما عدا عاصما - ويعقوب * (نزل) * بالبناء لما لم يسم فاعله، والجملة حال من ضمير * (يتخذون) * (النساء: 139) مفيدة أيضا لكمال قباحة حالهم ببيان أنهم فعلوا ما فعلوا من موالاة أعداء الله تعالى مع تحقق ما يمنعهم عن ذلك، وهو ورود النهي عن المجالسة المستلزم للنهي عن الموالاة على آكد وجه وأبلغه إثر بيان انتفاء ما يدعوهم إليه بالجملة المعترضة كأنه قيل: تتخذونهم أولياء؛ والحال أنه تعالى نزل عليكم قبل هذا بمكة * (في الكت‍اب) * أي القرآن العظيم الشأن.
* (أن إذا سمعتم ءاي‍ات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) * وذلك قوله تعالى: * (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم) * (الأنعام: 68) الآية، وهذا يقتضي الإنزجار عن مجالستهم في تلك الحالة القبيحة، فكيف بموالاتهم والاعتزاز بهم؟! و * (أن) * هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر أي أنه إذا سمعتم، وقدره بعضهم ضمير المخاطبين أي أنكم، وكون المخففة لا تعمل في غير ضمير الشأن إلا لضرورة - كما قال أبو حيان - في حيز المنع، وقد صحح غير واحد جواز ذلك من غير ضرورة، والجملة الشرطية خبر وهي تقع خبرا في كلام العرب، و * (أن) * وما بعدها في موضع النصب على أنه مفعول به - لنزل - وهو القائم مقام الفاعل على القراءة الثانية، واحتمال أنه قد يجعل القائم مقامه عليكم، وتكون * (أن) * مفسرة لأن التنزيل في معنى القول لا يلتفت إليه، و * (يكفر بها ويستهزأ) * في موضع الحال من الآيات جىء بهما لتقييد النهي عن المجالسة، فإن قيد القيد قيد، والمعنى لا تقعدوا معهم وقت كفرهم واستهزائهم بالآيات، وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتشريفها وإبانة خطرها وتهويل أمر الكفر بها، والضمير في * (معهم) * للكفرة المدلول عليهم ب * (يكفر) * * (ويستهزأ) * والضمير في غيره راجع إلى تحديثهم بالكفر والاستهزاء، وقيل: الكفر والاستهزاء
172

لأنهما في حكم شيء واحد. وقوله تعالى: * (إنكم إذا مثلهم) * تعليل للنهي غير داخل تحت التنزيل و * (إذا) * ملغاة لأن شرط عملها النصب في الفعل أن تكون في صدر الكلام فلذا لم يجىء بعدها فعل، و - مثل - خبر عن ضمير الجمع وصح مع إفراده لأنه في الأصل مصدر، فيستوي فيه الواحد المذكر وغيره، وقيل: لأنه كالمصدر في الوقوع على القليل والكثير؛ أو لأنه مضاف لجمع فيعم، وقد يطابق ما قبله كقوله تعالى: * (ثم لا يكونوا أمثالكم) * (محمد: 38)، والجمهور على رفعه، وقرىء شاذا بالنصب، فقيل: إنه منصوب على الظرفية لأن معنى قولك: زيد مثل عمرو في أنه حال مثله، وقيل: إنه إذا أضيف إلى مبنى اكتسب البناء ولا يختص ذلك بما المصدرية كما توهم بل يكون فيها مثل * (مثل ما أنكم تنطقون) * (الذاريات: 23)، وفي غيرها كقوله: فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم * إذ هم قريش وإذ (ما) مثلهم بشر
وابن مالك يشترط لاكتساب البناء أن لا يقبل المضاف التثنية والجمع - كدون وغير وبين - ولم يصحح ذلك في - مثل - وأعربه حالا من الضمير المستتر في - حق - في قوله تعالى: * (إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) * (الذاريات: 23).
وقوله تعالى: * (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) * تعليل لكونهم مثلهم في الكفر ببيان ما يستلزمه من شركتهم لهم في العذاب، والمراد من المنافقين إما المخاطبون، وأقيم المظهر مقام المضمر تسجيلا لنفاقهم وتعليلا للحكم بمأخذ الإشتقاق، وإما للجنس وهم داخلون دخولا أوليا وتقديمهم لتشديد الوعيد على المخاطبين وانتصابه على الحال طرز ما مر، واستشكل كون الخطاب للمنافقين بأنهم مثل الكافرين في الكفر من غير سببية القعود معهم فلا وجه لترتب الجزاء على الشرط، والعدول عن كون المماثلة في الكفر إلى المماثلة في المجاهرة به لا يحسن معه كون جملة * (إن الله) * الخ تعليلا لكونهم مثلهم بتلك المماثلة بالطريق الذي ذكر، وأيضا الذين نهوا عن مجالسة الكافرين والمستهزئين بمكة هم المؤمنون المخلصون لا المنافقون لأن نجم النفاق إنما ظهر بالمدينة، فكيف يذكر المنافقون فيها بنهي نزل في مكة قبل أن يكونوا؟. وأجيب عن هذا بأنه إن سلم أن المنزل على النبي كان خوطب به خاصة منزل على الأمة مخلصهم ومنافقهم إلى قيام الساعة، صح دخول المنافقين وإن لم يكونوا وقت النزول وإن لم يسلم ذلك فإن ادعى الاقتصار على النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل المؤمنون المخلصون أيضا. وإن ادعى دخولهم فقط دون المنافقين الذين هم مؤمنون ظاهرا فلا دليل عليه، كيف وجميع الأحكام متعلقة بالمؤمنين كيف كانوا ولسنا مكلفين بأن نشق على قلوب العباد، بل لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر، على أنه قد قام الدليل على أن الأحكام الشرعية التي كانت صدر الإسلام ولم تنسخ مخاطب بها من نطق بالكلمة الطيبة وبلغته قبل يوم الساعة، فقد قال الله تعالى: * (لأنذركم به ومن بلغ) * (الأنعام: 19) ولهذه الدغدغة قال بعض المحققين: إن المقصود من الخطاب هنا المؤمنون الصادقون، والمراد بمن يكفر ويستهزىء أعم من المنافقين والكافرين، وضمير * (معهم) * للمفهوم من الفعلين، ويؤيد ذلك ما نقل عن الواحدي أنه قال: كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهى الله تعالى المسلمين عن مجالستهم، والمراد من المماثلة في الجزاء المماثلة في الإثم لأنهم قادرون على الإعراض والإنكار لا عاجزون كما في مكة، أو في الكفر على معنى إن رضيتم بذلك وهو مبني على أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل، وهي رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه عثر عليها صاحب " الذخيرة ".
173

وقال شيخ الإسلام خواهر زاده: الرضا بكفر الغير إنما يكون كفرا إذا كان يستجيز الكفر أو يستحسنه أما إذا لم يكن كذلك ولكن أحب الموت أو القتل على الكفر لمن كان مؤذيا حتى ينتقم الله تعالى منه فهذا لا يكون كفرا، ومن تأمل قوله تعالى: * (ربنا اطمس) * (يونس: 88) الآية يظهر له صحة هذه الدعوى وهو المنقول عن الماتريدي، وقول بعضهم: إن من جاءه كافر ليسلم فقال: اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفره لرضاه بكفره في زمان موافق لما روي عن الإمام لكن يدل على خلافه ما روي في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بايعه فكف صلى الله عليه وسلم يده ونظر إليه ثلاث مرات وهو معروف في السير، وهو يدل بظاهره على أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا. واستدل بعضهم بالآية على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين من أي جنس كانوا، وإليه ذهب ابن مسعود وإبراهيم وأبو وائل، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وروى عنه هشام بن عروة أنه ضرب رجلا صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر، فقيل له في ذلك: فتلا الآية، وهي أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر، والتنبيه عليه والاعتماد على المعنى، ومن هنا قيل: إن مدار الإعراض عن الخائضين فيما يرضي الله تعالى هو العلم بخوضهم، ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالستهم لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط، وعن الجبائي إن المحذور مجالستهم من غير إظهار كراهة لما يسمعه أو يراه، وعلى هذا -
الذي ذهب إليه بعض المحققين - يحتمل أن يراد بالمنافقين والكافرين في جملة التعليل ما أريد بضمير * (معهم) *، وصرح بهذا العنوان لما أشرنا إليه قبل، ويحتمل أن يراد الجنس ويدخل أولئك فيه دخولا أوليا..
* (الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للك‍افرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القي‍امة ولن يجعل الله للك‍افرين على المؤمنين سبيلا) *.
والخطاب في قوله تعالى: * (الذين يتربصون بكم) * للمؤمنين الصادقين بلا خلاف، والموصول إما بدل من - * (الذين يتخذون) * - (النساء: 139) أو صفة للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين. وجوز أبو البقاء وغيره كونه صفة لهما أو مرفوع أو منصوب على الذم، وجعله مبتدأ خبره الجملة شرطية لا يخلو من تكلف، والتربص الانتظار، والظاهر من كلام البعض أن مفعوله مقدر والجار والمجرور متعلق به أي ينتظرون وقوع أمر بكم وكلام الراغب يقتضي أنه يتعدى بالباء لأنه من انتظر بالسلعة غلاء السعر، والفاء في قوله تعالى: * (فإن كان لكم فتح من الله) * لترتيب مضمونه على ما قبلها فإن حكاية تربصهم مستتبعة لحكاية ما يقع بعد ذلك أي فإن اتفق لكم فتح وظفر على الأعداء * (قالوا) * أي لكم * (ألم نكن معكم) * نجاهد عدوكم فأعطونا نصيبا من الغنيمة * (وإن كان للك‍افرين نصيب) * أي حظ من الحرب، فإنها سجال * (قالوا) * أي المنافقون للكفار * (ألم نستحوذ عليكم) * أي ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم، أو ألم نغلبكم بالتفضل ونطلعكم على أسرار محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونكتب إليكم بأخبارهم حتى غلبتم عليهم * (ونمنعكم من المؤمنين) * أي ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلنا إياهم وتثبيطنا لهم وتوانينا في مظاهرتهم وإلقائنا عليهم ما ضعفت به قلوبهم عن قتالكم فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم وهاتوا نصيبنا مما أصبتم. وقيل: المعنى ألم نغلبكم على رأيكم بالموالاة لكم ونمنعكم من الدخول في جملة المؤمنين وهو خلاف الظاهر، وأصل الاستحواذ الاستيلاء، وكان القياس فيه استحاذ يستحيذ استحاذة بالقلب لكن صحت فيه الواو وكثر ذلك فيه، وفي نظائر له حتى ألحق بالمقيس
174

وعد فصيحا، وقال أبو زيد: إنه قياسي، وعلى كل حال لا يرد على فصاحة القرآن كما حقق في موضعه. وقرىء * (ونمنعكم) * بالنصب بإضمار أن، والتقدير لم يكن منا الاستحواذ والمنع كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، سمي ظفر المسلمين فتحا وما للكافرين نصيبا لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين، وقيل: سمي الأول فتحا إشارة إلى أنه من مداخل فتح دار الإسلام بخلاف ما للكافرين فإنه لا فتح لهم في استيلائهم بل سينطفىء ضياء ما نالوا.
* (فالله يحكم بينكم يوم القيامة) * فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه، وأما في الدنيا فأنتم وهم سواء في العصمة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم " وفي الكلام قيل: تغليب، وقيل: حذف أي بينكم وبينهم * (ولن يجعل الله للك‍افرين على المؤمنين سبيلا) * أي يوم القيامة وحين الحكم كما قد يجعل ذلك في الدنيا ابتلاءا واستدراجا، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو في الدنيا أي لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانا تاما بالاستئصال، أو حجة قائمة عليهم مفحمة لهم، وحكي ذلك عن السدي، ويجوز إبقاء الكلام على إطلاقه ليشمل الدنيا والآخرة ولعله الأولى، واحتج الشافعية بالآية على فساد شراء الكافر العبد المسلم لأنه لو صح لكان له عليه يد وسبيل بتملكه، ونحن نقول: يصح ولكن يمنع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع والإخراج عن ملكه فلم يحصل له سبيل عليه، واحتج بظاهرها بعض الأصحاب على وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح، والمؤمنين والكافرين شامل للإناث وكذا الكافر إذا أسلمت زوجته، وضعف بأن الارتداد لا ينفي أن يكون النكاح إذا عاد إلى الإيمان قبل مضي العدة، واعترض بأنه حين الكفر لا سبيل له ونفي السبيل بوقوع الفرقة وبعد وقوع الفرقة لا بد لحدوث العلقة من موجب - وهو ظاهر - فإن كان العود يكون الارتداد كالطلاق الرجعي، والعود كالرجعة فلا ضعف فيه. وأنت تعلم أنه إذا كان نفي السبيل في الآخرة أو في الدنيا بالاستئصال، أو السبيل بمعنى الحجة لا متمسك في الآية لأصحابنا ولا الشافعية فلا تغفل..
* (إن المن‍افقين يخ‍ادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلواة قاموا كسالى يرآءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) *.
* (إن المنافقين يخادعون الله) * أي يفعلون ما يفعل المخادع فيظهرون الإيمان ويضمرون نقيضه، وعن الحسن - واختاره الزجاج - أن المراد يخادعون النبي صلى الله عليه وسلم على حد * (إنما يبايعون الله) * (الفتح: 10) * (وهو خادعهم) * أي فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا معصومي الدماء والأموال وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار، وقيل: خداعه تعالى لهم أن يعطيهم سبحانه نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين ثم يسلبهم ذلك النور ويضرب بينهم بسور، وروي ذلك عن الحسن، أيضا - والسدي - واختاره جماعة من المفسرين - وقد مر تحقيق ذلك ولله تعالى الحمد. والجملة في محل نصب على الحال أو معطوفة على خبر * (إن) * أو مستأنفة كالأولى.
* (وإذا قاموا إلى الصل‍اوة قاموا كسالى) * أي متثاقلين متباطئين لا نشاط لهم ولا رغبة كالمكره على الفعل لأنهم لا يعتقدون ثوابا في فعلها ولا عقابا على تركها، وقرىء بفتح الكاف وهما جمعا كسلان. * (يرآءون الناس) * ليحسبوهم مؤمنين، والمراآة مفاعلة من الرؤية إما بمعنى التفعيل لأن فاعل بمعنى فعل
175

وارد في كلامهم - كنعم وناعم - وقراءة عبد الله وإسحق - يروون - تدل على ذلك، أو للمقابلة لأنهم لفعلهم في مشاهد الناس يرون الناس والناس يرونهم وهم يقصدون أن ترى أعمالهم والناس يستحسنونها، فالمفاعلة في الرؤية متحدة وإنما الاختلاف في متعلق الإراءة، فلا يرد على هذا الشق أن المفاعلة لا بد في حقيقتها من اتحاذ الفعل ومتعلقه، والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: فماذا يريدون بقيامهم هذا؟ فقيل: يراءون الخ، أو حال من ضمير * (قاموا) * أو من الضمير في * (كسالى) *.
* (ولا يذكرون الله إلا قليلا) * عطف على * (يراءون) *، وقيل: حال من فاعله أي ولا يذكرونه سبحانه مطلقا إلا زمانا قليلا، أو إلا ذكرا قليلا إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه وهو أقل أحواله، أو لأن ذكرهم باللسان قليل بالنسبة إلى الذكر بالقلب، وقيل: إنما وصف بالقلة لأنه لم يقبل وكل ما لم يقبله الله تعالى قليل وإن كان كثيرا، وروي ذلك عن قتادة، وأخرج البيهقي وغيره عن الحسن ما بمعناه. وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: - لا يقل عمل مع تقوى وكيف يقل ما يتقبل - وقيل: المراد بالذكر الذكر الواقع في الصلاة نحو التكبير والتسبيح، وإليه ذهب الجبائي، وأيد بما أخرجه مسلم وأبو داود عن أنس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلا "، وقيل: الذكر بمعنى الصلاة لأن الكلام فيها لا بمعناه المتبادر منه، وجوز أن يراد بالقلة العدم، واستشكل توجيه الاستثناء حينئذ. وأجيب بأن المعنى: لا يذكرون الله تعالى إلا ذكرا ملحقا بالعدم لأنه لا ينفعهم فلا إشكال، ولا يخفى ما فيه فإن القلة بمعنى العدم مجاز، وجعل العدم بمعنى ما لا نفع فيه مجاز آخر، ومع ذلك ليس في الكلام ما يدل عليه، وقال بعض المحققين: في توجيه الكلام على ذلك التقدير أن المعنى حينئذ لو صح أن يعد عدم الذكر ذكرا فذلك ذكرهم على طريقة قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب
وفيه - وإن كان أهون من الأول - ما فيه، واستدل بالآية على استحباب دخول الصلاة بنشاط، وعلى كراهة قول الإنسان كسلت، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يكره أن يقول الرجل إني كسلان ويتأول هذه الآية..
* (مذبذبين بين ذالك لا إلى ه‍اؤلاء ولا إلى ه‍اؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) *.
* (مذبذبين بين ذلك) * حال من فاعل * (يراءون) * (النساء: 142) أو من فاعل * (يذكرون) * (النساء: 142) وجوز أن يكون حالا من فاعل * (قاموا) * (النساء: 142) أو منصوب على الذم بفعل مقدر، وذلك إشارة إلى الإيمان والكفر المدلول عليه بذكر المؤمنين والكافرين، ولذا أضيف * (بين) * إليه، وروي هذا عن ابن زيد ويصح أن يكون إشارة إلى المؤمنين والكافرين فيكون ما بعده تفسيرا له على حد قوله: الألمعي الذي يظن بك الظن * كأن قد رأى وقد سمعا
والمعنى مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان، وأصل الذبذبة كما قال الراغب: صوت الحركة للشيء المعلق، ثم استعير لكل اضطراب وحركة، أو تردد بين شيئين، والذال الثانية أصلية عند البصريين، ومبدلة من باء عند الكوفيين، وهو خلاف معروف بينهم، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما * (مذبذبين) * بكسر الذال الثانية ومفعوله على هذا محذوف أي - مذبذبين قلوبهم أو دينهم أو رأيهم - ويحتمل أن يجعل لازما
176

على أن فعلل بمعنى تفعلل كما جاء صلصل بمعنى تصلصل أي متذبذبين، ويؤيده ما في مصحف ابن مسعود (متذبذبين). وقرىء بالدال غير المعجمة وهو مأخوذ من - الدبة - بضم الدال وتشديد الباء بمعنى الطريقة والمذهب كما في " النهاية "، ويقال: هو على دبتي أي طريقتي وسمتي، وفي حديث ابن عباس " اتبعوا دبة قريش ولا تفارقوا الجماعة " والمعنى حينئذ أنهم أخذ بهم تارة طريقا وأخرى أخرى.
* (لآ إلى ه‍اؤلاء ولا إلى ه‍اؤلاء) * أي لا منسوبين إلى المؤمنين حقيقة لإضمارهم الكفر، ولا إلى الكافرين لإظهارهم الإيمان، أو لا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخرين، ومحله النصب على أنه حال من ضمير * (مذبذبين) * أو على أنه بدل منه، ويحتمل أن يكون بيانا وتفسيرا له * (ومن يضلل الله) * لعدم استعداده للهداية والتوفيق * (فلن تجد له سبيلا) * موصلا إلى الحق والصواب فضلا عن أن تهديه إليه، والخطاب لكل من يصلح له وهو أبلغ في التفظيع..
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الك‍افرين أوليآء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) *.
* (ي‍ا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الك‍افرين أولياء من دون المؤمنين) * نهى المؤمنين الصادقين عن موالاة الكفار اليهود فقط - كما قيل - أو ما يعمهم وغيرهم كما هو الظاهر بعد بيان حال المنافقين، أي لا تتخذوهم أولياء فإن ذلك ديدن المنافقين ودينهم فلا تتشبهوا بهم، وقيل: المراد بالذين آمنوا المنافقون وبالمؤمنين المخلصون، فالآية نهي للمنافقين عن موالاة الكافرين دون الملخصين؛ وقيل: المراد بالموصول المخلصون، وبالكافرين المنافقون فكأنه قيل: قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء، وإلى ذلك ذهب القفال، وفي كلا القولين بعد.
* (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلط‍انا مبينا) * أي حجة ظاهرة في العذاب، وفيه دلالة على أن الله تعالى لا يعذب أحدا بمقتضى حكمته إلا بعد قيام الحجة عليه، ويشعر بذلك كثير من الآيات، وقيل: أتريدون بذلك أن تجعلوا له تعالى حجة بينة على أنكم موافقون فإن موالاة الكافرين أوضح أدلة النفاق. ومن الناس من أبقى السلطان على معناه المعروف، لكن أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة، وهو مما يجوز فيه التذكير والتأنيث إجماعا، فتذكيره باعتبار البرهان أو باعتبار معناه المعروف، والتأنيث باعتبار الحجة والتأنيث أكثر عند الفصحاء على ما قاله الفراء إلا أنه لم يعتبر هنا، واعتبر التذكير لتحسن الفاصلة، وادعى ابن عطية أن التذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع، و * (عليكم) * يجوز تعلقه بالجعل وبمحذوف وقع حالا من * (سلطانا) *، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال: أتجعلون الخ للمبالغة في إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته فضلا عن صدور نفسه..
* (إن المن‍افقين فى الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) *.
* (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) * أي في الطبقة السفلى منها وهو قعرها، ولها طبقات سبع تسمى الأولى كما قيل: جهنم، والثانية: لظى، والثالثة: الحطمة، والرابعة: السعير، والخامسة: سقر، والسادسة: الجحيم، والسابعة: الهاوية، وقد تسمى النار جميعا باسم الطبقة الأولى، وبعض الطبقات باسم بعض لأن
لفظ النار يجمعها؛ وتسمية تلك الطبقات دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض، والدرك كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط، والدرج باعتبار الصعود، وفي كون المنافق في الدرك الأسفل إشارة إلى شدة عذابه.
وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن الأحوص عن ابن مسعود - أن المنافق يجعل في تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل في الدرك الأسفل - وإنما كان أشد عذابا من غيره من الكفار لكونه ضم إلى الكفر المشترك استهزاءا بالإسلام
177

وخداعا لأهله، وأما ما روى في " الصحيحين " من قوله صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد غدر، وإذا خاصم فجر " فقد قال المحدثون فيه: إنه مخصوص بزمانه صلى الله عليه وسلم لاطلاعه بنور الوحي على بواطن المتصفين بهذه الخصال فأعلم عليه الصلاة والسلام أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأماراتهم ليحترزوا عنهم، ولم يعينهم حذرا عن الفتنة وارتدادهم ولحوقهم بالمحاربين، وقيل: ليس بمخصوص ولكنه مؤل بمن استحل ذلك، أو المراد من اتصف بهذه فهو شبيه بالمنافقين الخلص، وأطلق صلى الله عليه وسلم ذلك عليه تغليظا وتهديدا له، وهذا في حق من اعتاد ذلك لا من ندر منه، أو هو منافق في أمور الدين عرفا والمنافق في العرف يطلق على كل من أبطن خلاف ما يظهر مما يتضرر به وإن لم يكن إيمانا وكفرا، وكأنه مأخوذ من النافقاء، وليس المراد الحصر وهذا صدر منه صلى الله عليه وسلم باقتضاء المقام، ولذا ورد في بعض الروايات " ثلاث " وفي بعضها " أربع ".
وقرأ الكوفيون * (الدرك) * بسكون الراء وهو لغة كالسطر والسطر، والفتح أكثر وأفصح لأنه ورد جمعه على أفعال، وأفعال في فعل المحرك كثير مقيس، ووروده في الساكن نادر كفرخ وأفراخ، وزند وأزناد - وكونه استغنى بجمع أحدهما عن الآخر جائز لكنه خلاف الظاهر، فلا يندفع به الترجيح والكلام مخرج مخرج الحقيقة، وزعم أبو القاسم البلخي أن لا طبقات في النار، وأن هذا إخبار عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال: إن السلطان بلغ فلانا الحضيض وفلانا العرش، يريدون بذل انحطاط المنزلة وعلوها لا المسافة، ولايخفى أنه خلاف ما جاءت به الآثار، و * (من النار) * في محل النصب على الحال؛ وفي صاحبها وجهان: أحدهما: أنه * (الدرك) * والعامل الاستقرار، والثاني: أنه الضمير المستتر في * (الأسفل) * لأنه صفة، فيتحمل الضمير أي حال كون ذلك من النار.
* (ولن تجد لهم نصيرا) * يخرجهم منه أو يخفف عنهم ما هم فيه يوم القيامة حين يكونون في الدرك الأسفل وكون المراد ولن تجد لهم نصيرا في الدنيا لتكون الآية وصفا لهم بأنهم خسروا الدنيا والآخرة ليس بشيء كما لا يخفى، والخطاب لكل من يصلح له..
* (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأول‍ائك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) *.
* (إلا الذين تابوا) * عن النفاق وهو استثناء من المنافقين، أو من ضميرهم في الخبر، (أو) من الضمير المجرور في لهم؛ وقيل: هو في موضع رفع بالابتداء والخبر ما بعد الفاء؛ ودخلت - لما - في الكلام من معنى الشرط * (وأصلحوا) * ما أفسدوا من نياتهم وأحوالهم في حال النفاق، وقيل: ثبتوا على التوبة في المستقبل، والأول أولى * (واعتصموا بالله) * أي تمسكوا بكتابه، أو وثقوا به * (وأخلصوا دينهم لله) * لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه ورضاه سبحانه لا رياء الناس، ودفع الضرر كما في النفاق، وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي ثمامة قال: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: يا روح الله من المخلص لله؟ قال: الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده الناس عليه * (فأول‍ائك) * إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز (الصفة) وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة * (مع المؤمنين) * أي المعهودين من الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا منذ آمنوا، والمراد أنهم معهم في الدرجات العالية من الجنة، أو معدودون من جملتهم في الدنيا والآخرة.
* (وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) * لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه ويقاسمونهم
178

وفسر أبو حيان الأجر العظيم بالخلود، والتعميم أولى، والمراد بالمؤمنين ههنا ما أريد به فيما قبله، واعتبار المساهمة جرى عليه غير واحد، ولولا تفسير الآية بذلك لم يكن لها في ذكر أحوال من تاب من النفاق معنى ظاهر. وذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها، والمراد الإخبار بزيادة ثواب من لم يسبق منه نفاق أصلا، وعمم بعض المؤمنين ليشمل من لم يتقدم منه نفاق ومن تقدم منه وتاب عنه، والظاهر ما ذكرناه، ورسم * (يؤت) * بغير ياء، وهو مضارع مرفوع فحق يائه أن تثبت لفظا وخطا إلا أنها حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين، وجاء الرسم تبعا للفظ، والقراء يقفون عليه دونها اتباعا للرسم إلا يعقوب فإنه يقف بالياء نظرا إلى الأصل. وروي ذلك أيضا عن الكسائي وحمزة ونافع، وادعى السمين أن الأولى اتباع الرسم لأن الأطراف قد كثر حذفها..
* (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم وكان الله ش‍اكرا عليما) *.
* (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم) * خطاب للمنافقين - وقيل: للمؤمنين، وضعف - مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم لا شيء آخر، فتكون الجملة مقررة لما قبلها من (ثباتهم عند توبتهم)، و * (ما) * استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده، وقيل: نافية والباء سببية، وقيل: زائدة أي أي شيء يفعل الله سبحانه بسبب تعذيبكم أيتشفى به من الغيظ أم يدرك به الثأر أم يستجلب به نفعا أو يستدفع به ضررا كما هو شأن الملوك، وهو الغني المطلق المتعالي عن أمثال ذلك؟ وإنما هو أمر يقتضيه مرض كفركم ونفاقكم فإذا احتميتم عن النفاق ونقيتم نفوسكم بشربة الإيمان والشكر في الدنيا برئتم وسلمتم وإلا هلكتم هلاكا لا محيص عنه بالخلود في النار، وإنما قدم الشكر مع أن الظاهر تأخيره لأنه لا يعتد به إلا بعد الإيمان لما أنه طريق موصل إليه في أول درجاته، فقد ذكر العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن الشكر في الأصل اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى معرفة المنعم وله ثلاث درجات لأنه إذا نظر إلى النعمة كالرزق والخلق ينبعث منه شوق إلى معرفة
المنعم وهذه الحركة تسمى باليقظة والشكر القلبي والشكر المبهم لأن منعمه لم يتضح له تعيينه، وإنما عرف منعما ما فهو منعم عليه فإذا تيقظ لهذا وفق لنعمة أكبر منها، وهي المعرفة بأن المنعم عليه هو الصمد الواسع الرحمة المثيب المعاقب فتتحرك جوارحه لتعظيمه؛ ويضيف إلى شكر الجنان شكر الأركان، ثم ينادي على ذلك الجميل باللسان، ويقول: أفادتكم النعماء مني ثلاثة * يدي ولساني والضمير المحجبا
فالمذكور في الآية هو الشكر المبهم وهو مقدم على الإيمان، فلا حاجة إلى ما زعمه الإمام من أن الكلام على التقديم والتأخير أي آمنتم وشكرتم، وأما القول: بأن هذا السؤال إنما هو على تقدير أن تكون الواو للترتيب، وأما إذا لم تكن للترتيب فلا سؤال فمما لا ينبغي أن يتفوه به من له أدنى ذوق في علم الفصاحة والبلاغة لأن الواو وإن لم تفد الترتيب لكن تقديم ما ليس مقدما لا يليق بالكلام الفصيح فضلا عن المعجز، ولذا تراهم يذكرون لما يخالفه وجها ونكتة، وذكر النيسابوري وجها آخر في التقديم لكنه بناه على إفادة الواو للترتيب فقال: لعل الوجه في ذلك أن الآي مسوقة في شأن المنافقين ولا نزاع في إيمانهم ظاهرا وإنما النزاع في بواطنهم وأفعالهم التي تصدر عنهم غير مطابقة للقول اللساني، فكان تقديم الشكر ههنا أهم لأنه عبارة عن صرف جميع ما أعطاه الله تعالى فيما خلف لأجله حتى تكون أفعاله وأقواله على نهج السداد وسنن الاستقامة انتهى، ولايخفى أنه لم يحمل الشكر في الآية على الشكر المبهم، ولا يخلو عن حسن.
179

وأوضح منه وأطيب ما حاك في صدري، ثم رأيت العلامة الطيبي عليه الرحمة صرح به أن الذي يقتضيه النظم الفائق أن هذا الخطاب مع المنافقين، وأن قوله سبحانه: * (ما يفعل الله بعذابكم) * متصل بقوله تعالى: * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) * (النساء: 145) الخ، وتنبيه لهم على أن الذي ورطهم في تلك الورطة كفرانهم نعم الله تعالى وتهاونهم في شكر ما أوتوا وتفويتهم على أنفسهم بنفاقهم البغية العظمى، وهو الإسعاد بصحبة أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم والانخراط في زمرة الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله تعالى وأخلصوا دينهم له فأولئك حكمهم أن ينتظموا في سلك أولئك السعداء من المؤمنين بعد ما كانوا مستأهلين الدرجات السفلى من النيران، ثم التفت تعريضا لهم أن ذلك العذاب كان منهم وبسبب تقاعدهم وكفرانهم تلك النعمة الرفيعة وتفويتهم على أنفسهم تلك الفرصة السنية وإلا فإن الله تعالى غني مطلق عن عذابهم فضلا على أن يوقعهم في تلك الورطات، فقوله عز وجل: * (إن شكرتم) * فذلكة لمعنى الرجوع عن الفساد في الأرض إلى الإصلاح فيها، ومن اللجأ إلى الخلق إلى الاعتصام بالله تعالى، ومن الرياء في الدين إلى الإخلاص فيه، فقوله عز من قائل: * (وآمنتم) * تفسير له وتقرير لمعناه أي: وآمنتم الإيمان الذي هو حائز لتلك الخلال الفواضل جامع لتلك الخصال الكوامل، فتقديم الشكر على الايمان وحقه التأخير في الأصل إعلام بأن الكلام فيه، وأن الآية السابقة مسوقة لبيان كفران نعمة الله تعالى العظمى والكفر تابع فإذا أخر الشكر أخل بهذه الأسرار واللطائف، ومن ثم ذيل سبحانه الآية على سبيل التعليل بقوله جل وعلا:
* (وكان الله شاكرا) * أي مثيبا على الشكر * (عليما) * بجميع الجزئيات والكليات فلا يعزب عن علمه شيء فيوصل الثواب كاملا إلى الشاكر، وإلى هذا ذهب الإمام، وقال غير واحد: الشاكر وكذا الشكور من أسمائه تعالى هو الذي يجزي بيسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة، وعلى التقديرين يرجع إلى صفة فعلية، وقيل: معناه المثني على من تمسك بطاعته فيرجع إلى صفة كلامية.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: أما في قوله سبحانه: * (ويستفتونك في النساء) * إلى قوله عز وجل: * (وكان الله واسعا حكيما) * (النساء: 127 - 130) فقد قال النيسابوري فيه: إن النفس للروح كالمرأة للزوج، * (ويتامى النساء) * صفات النفوس، و * (ما كتب لهن) * ما أوجب الله تعالى من الحقوق. وحاصل المعنى إن نفسك مطيتك فارفق بها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح) * (النساء: 128) فالروح تشح بترك حقوق الله تعالى، والنفس تشح بترك حظوظها فلا تميلوا كل الميل في رفض حظوظ النفس، فقد جاء في الخبر " إن لنفسك عليك حقا " * (فتذروها كالمعلقة) * (النساء: 129) بين العالم العلوي والعالم السفلي * (وإن يتفرقا) * أي الروح والنفس * (يغن الله كلا من سعته) * فالروح يجتذب بجذبة - خل نفسك وائتني إلى سعة غنى الله تعالى في عالم هويته - فيستغني عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود، والنفس تجتذب بجذية ارجعي إلى ربك إلى سعة غنى الله تعالى في عالم * (فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي) * (الفجر: 28 - 30) انتهى، ولايخفى أن باب التأويل واسع، وما ذكره ليس بمتعين فيمكن أن تجعل الآية في شأن الشيخ والمريد؛ وأما في قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا) * الخ فنقول: إنه سبحانه أمر المؤمنين بالتوحيد العلمي المريدين لثواب الدارين أن يكونوا ثابتين في مقام العدالة التي
180

هي أشرف الفضائل * (قوامين) * (النساء) 135) بحقوقها بحيث تكون ملكة راسخة فيهم لا يمكن معها جور في شيء ولا ظهور صفة نفس لاتباع هوى في جلب نفع دنيوي أو رفع مضرة كذلك، ثم قال جل وعلا: * (يا أيها الذين آمنوا) * من حيث البرهان * (آمنوا) * (النساء) 136) من حيث البيان إلى أن تؤمنوا من حيث العيان أو: * (يا أيها الذين آمنوا) * بالإيمان التقليدي * (آمنوا) * بالإيمان العيني، أو المراد يا أيها المدعون تجريد الإيمان لي من غير وساطة لا سبيل لكم إلى الوصول إلى عين التجريد إلا بقبول الوسائط، فالآية إشارة إلى الفرق بعد الجمع * (إن الذين آمنوا) * بالتقليد * (ثم كفروا) * إذ لم يكن للتقليد أصل * (ثم آمنوا) * بالاستدلال العقلي * (ثم كفروا) * إذ لم تكن عقولهم مشرفة بالنور الإلهي * (ثم ازدادوا كفرا) * بالشبهات والاعتراضات، وقد يكون ذلك إشارة إلى وصف أهل التردد في سلوك سبيل أولياء الله تعالى، والإيمان بأحوالهم حين هاجت رغبتهم إلى رياسة القوم. فلما جن عليهم ليل المجاهدات لم يتحملوا وأنكروا ورجعوا إلى حظوظ أنفسهم، ولما رأوا نهاية الأكابر وظنوا اللحوق بهم لو استقاموا وآمنوا فلما لم يصلوا إلى شيء من مقامات القوم وكراماتهم لعدم إخلاصهم وسوء استعدادهم ارتدوا وصاروا منكرين عليهم وعلى مقاماتهم وازدادوا إنكارا على إنكار حين رجعوا إلى اللذات والشهوات واختاروا الدنيا على الآخرة وجعلوا يقولون للخلق: إن هؤلاء ليسوا على الحق فقد سلكنا ما سلكوا وخضنا ما خاضوا فلم نر إلا سرابا بقيعة، وهذا حال كثير من علماء السوء المنكرين على القوم قدس الله تعالى أسرارهم * (لم يكن الله
ليغفر لهم) * لمكان الريب الحاجب وفساد جوهر القلب وزوال الاستعداد * (ولا ليهديهم سبيلا) * (النساء: 137) إلى الحق ولا إلى الكمال لعدم قبولهم ذلك * (الذين يتخذون الكافرين أولياء) * لمناسبتهم إياهم وشبيه الشيء من منجذب إليه * (من دون المؤمنين) * لعدم الجنسية * (أيبتغون عندهم العزة) * أي أيطلبون التعزز بهم في الدنيا والتقوي بمالهم وجاههم * (فإن العزة لله جميعا) * (النساء: 139) فلا سبيل لهم إليها إلا منه سبحانه عز وجل، ثم ذكر سبحانه من وصف المنافقين أنهم - إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى - لعدم شوقهم إلى الحضور ونفورهم عنه لعدم استعدادهم واستيلاء الهوى عليهم * (يراءون الناس) * لاحتجابهم بهم عن رؤية الله تعالى * (ولا يذكرون الله إلا قليلا) * (النساء: 142) لأنهم لا يذكرونه إلا باللسان وعند حضورهم بين الناس بخلاف المؤمنين الصادقين فإنهم إذا قاموا إلى الصلاة يطيرون إليها بجناحي الرغبة والرهبة بل يحنون إلى أوقاتها.
حنين أعرابية حنت إلى * أطلال نجد فارقته ومرخه
ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: " أرحنا يا بلال " يريد عليه الصلاة والسلام أقم لنا الصلاة لنصلي فنستريح بها لا منها، وظن الأخير برسول الله صلى الله عليه وسلم كفر والعياذ بالله تعالى؛ وإذا عبدوا لا يرون إلا الله تعالى، وما قدر السوى عندهم ليراءوه؟ وإن كل جزء منهم يذكر الله تعالى، نعم إنهم قد يشتغلون به عنه فهناك لا يتأتى لهم الذكر، وقد عد العارفون الذكر لأهل الشهود ذنبا، ولهذا قال قائلهم: بذكر الله تزداد الذنوب * وتنكشف الرذائل والعيوب
وترك الذكر أفضل كل شيء * وشمس الذات ليس لها مغيب
لكن ذكر بعضهم أنه لا يصل العبد إلى ذلك المقام إلا بكثرة الذكر، وأشار إلى مقام عال من قال: لا يترك الذكر إلا من يشاهده * وليس يشهده من ليس يذكره
والذكر ستر على مذكوره ستر * فحين أذكره في الحال يستره
فلا أزال على الأحوال أشهده * ولا أزال على الأنفاس أذكره
181

* (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * لئلا تتعدى إليكم ظلمة كفرهم * (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) * (النساء: 144) حجة ظاهرة في عقابكم برسوخ الهيئة التي بها تميلون إلى ولايتهم * (إن المنافقين) * في الدرك الأسفل من النار) * لتحيرهم بضعف استعدادهم * (ولن تجد لهم نصيرا) * (النساء: 145) ينصرهم من عذاب الله تعالى لانقطاع وصلتهم وارتفاع محبتهم مع أهل الله تعالى * (إلا الذين تابوا) * رجعوا إلى الله تعالى ببقية نور الاستعداد وقبول مدد التوفيق * (وأصلحوا) * ما أفسدوا من استعدادهم بقمع الهوى وكسر صفات النفس ورفع حجاب القوى * (واعتصموا بالله) * بالتمسك بأوامره والتوجه إليه سبحانه * (وأخلصوا دينهم لله) * بإزالة خفايا الشرك وقطع النظر عن السوى * (فأولئك مع المؤمنين) * الصادقين * (وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) * (النساء: 146) من مشاهدة تجليات الصفات وجنات الأفعال * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم) * بالتوبة وإصلاح ما فسد والاعتصام بحبل الأوامر والتوجه إلى الله عز وجل وإخلاص الدين له سحبانه * (وآمنتم) * الإيمان الحائز لذلك * (وكان الله شاكرا عليما) * (النساء: 147) فيثيب ويوصل الثواب كاملا، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
182