الكتاب: أضواء البيان
المؤلف: الشنقيطي
الجزء: ٥
الوفاة: ١٣٩٣
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: مكتب البحوث والدراسات.
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤١٥ - ١٩٩٥م
المطبعة: بيروت. - دار الفكر للطباعة والنشر.
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

المسألة الثانية عشرة في التلبية في بيان أول وقتها ووقت انتهائها وفي حكمها وكيفية لفظها ومعناها:
أما لفظها: فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفي صحيح البخاري، من حديث عائشة رضي الله عنها، ومسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في تلبيته، إذا أهل محرما (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) ورواية البخاري عن عائشة المذكورة إلى قوله (إن الحمد والنعمة لك) وقد أجمع المسلمون على لفظ التلبية المذكورة في حديث ابن عمر المتفق عليه، وحديث جابر، عند مسلم عند الإحرام بالحج أو العمرة. ولكن اختلفوا في الزيادة عليه بألفاظ فيها تعظيم الله، ودعاؤه، ونحو ذلك فكره بعضهم: الزيادة، على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكاه ابن عبد البر، عن مالك قال: وهو أحد قولي الشافعي: انتهى منه بواسطة نقل ابن حجر في الفتح.
وقال آخرون: لا بأس بالزيادة المذكورة، واستحب بعضهم الزيادة المذكورة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي في هذه المسألة: أن الأفضل هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والاقتصار على لفظ تلبيته الثابت في الصحيحين وغيرهما، لأن الله تعالى يقول: * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) * وهو صلى الله عليه وسلم يقول (لتأخذوا عني مناسككم) وأن الزيادة المذكورة لا بأس بها. والدليل على ذلك من وجهين:
أحدهما: ما رواه مسلم في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنهما بعد أن ساق حديثه بلفظ تلبية النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة قال: قال نافع: كان عبد الله رضي الله عنه، يزيد مع هذا: لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك لبيك، والرغباء إليك، والعمل. وقال مسلم
3

رحمه الله في صحيحه أيضا بعد أن ساق حديثه، بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ابن عمر من رواية ابنه سالم رضي الله عنه، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الكلمات ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك والرغباء إليك والعمل. ا ه.
وقال ابن حجر في الفتح بعد أن ذكر الرواية عن عمر وابنه عبد الله، فعرف أن ابن عمر اقتدى في ذلك بأبيه ا ه.
ومعلوم أن الزيادة على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، لو كان فيها محذور، لما فعلها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما.
الوجه الثاني: هو ما ثبت في صحيح مسلم في حديث جابر الطويل، فإن فيه ما نصه: فأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه. انتهى محل الغرض من حديث جابر المذكور، وهو واضح في أنهم يزيدون على تلبيته صلى الله عليه وسلم، ويقرهم على ذلك، ولم ينكره عليهم كما ترى.
وأما أول وقتها: فأظهر أقوال أهل العلم فيه: أنه أول الوقت، الذي يركب فيه مركوبه عند إرادة ابتداء السير لصحة الأحاديث الواردة، بأنه صلى الله عليه وسلم أهل حين استوت به راحلته.
قال البخاري في صحيحه: باب من أهل حين استوت به راحلته قائمة: حدثنا أبو عاصم، أخبرنا ابن جريج، قال أخبرني صالح بن كيسان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة: باب الإهلال مستقبل القبلة، وقال أبو معمر: حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما: إذا صلى بالغداة بذي الحليفة، أمر براحلته فرحلت، ثم ركب، فإذا استوت به استقبل القبلة قائما، ثم يلبي حتى يبلغ الحرم، ثم يمسك، حتى إذا جاء ذا طوى بات به، حتى يصبح، فإذا صلى الغداة اغتسل، وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. تابعه إسماعيل عن أيوب في الغسل: حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع، حدثنا فليح، عن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أراد الخروج إلى مكة ادهن بدهن، ليس له رائحة طيبة، ثم يأتي مسجد الحليفة، فيصلي ثم يركب، وإذا استوت به راحلته قائمة أحرم، ثم قال: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. انتهى من صحيح البخاري.
4

فهذه الروايات الصحيحة الثابتة، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم أحرم حين استوت به راحلته قائمة واضحة فيما ذكرنا، من أن أول وقت الإحرام، عندما يركب حالة شروعه في السير من الميقات.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله أنه سمع أباه رضي الله عنه يقول: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا من عند المسجد يعني ذا الحليفة، وحدثناه قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم يعني: ابن إسماعيل، عن موسى بن عقبة، عن سالم قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قيل له: الإحرام من البيداء قال: البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة، حين قام به بعيره. وفي لفظ لابن عمر رضي الله عنهما عند مسلم: فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته. وفي لفظ له أيضا عند مسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا وضع رجله في الغرز، وانبعثت به راحلته قائمة أهل من ذي الحليفة. وفي مسلم عنه ألفاظ أخرى متعددة بهذا المعنى، ومراد ابن عمر رضي الله عنهما بكذبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإحرام من البيداء هو ما رواه البخاري، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، بلفظ: فأصبح بذي الحليفة ركب راحلته، حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه. الحديث، وما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه أيضا، عن أنس بن مالك بلفظ قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي
الحليفة ركعتين، ثم بات بها، حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد الله وسبح، وكبر، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما. الحديث. ومراد ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل محرما حين استوت به راحلته قائمة من منزله بذي الحليفة، قبل أن يصل البيداء، ووجه الجمع بين حديث ابن عمر، وحديث ابن عباس، وأنس معروف عند أهل الحديث، وهو أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ إهلاله حين استوت به راحلته قائمة فسمعه قوم، ثم لما استوت به على البيداء أعاد تلبيته فسمعه آخرون لم يسمعوا تلبيته الأولى فحدث كل واحد منهم بما سمع.
وقال بعضهم: أحرم في مصلاه فسمعه بعضهم، ولم يسمعه ابن عمر، حتى استوت به راحلته، وجزم ابن عمر أنه ما أهل حتى استوت به راحلته يدل على أنه علم أنه لم يهل حتى استوت به، فالأحاديث متفقة ومراد ابن عمر بالإنكار والتكذيب خاص بمن زعم أنه
5

لم يلب قبل وصوله البيداء، وهذا الجمع ذكره ابن حجر، عن أبي داود، والحاكم وقال ابن حجر في الفتح: فائدة البيداء هذه فوق علمي ذي الحليفة، لمن صعد من الوادي قاله أبو عبيد البكري وغيره. انتهى منه.
وإذا عرفت مما ذكرنا أول وقت التلبية. وأنه وقت انعقاد الإحرام فاعلم أن الصحيح الذي قام عليه الدليل: أن الحاج لا يقطع التلبية، حتى يشرع في رمي جمرة العقبة، وقال بعض أهل العلم: حتى ينتهي رميه إياها.
والدليل على أن القول هو الصواب دون غيره من أقوال أهل العلم هو ما ثبت في صحيح مسلم من حديث الفضل بن العباس رضي الله عنهما، وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من مزدلفة إلى منى، ففي لفظ لمسلم عن الفضل بن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة. وقوله في هذا الحديث الصحيح: حتى بلغ الجمرة، هو حجة من قال: يقطع التلبية، عند الشروع في الرمي لأن بلوغ الجمرة هو وقت للشروع في الرمي وفي لفظ مسلم، عن الفضل أيضا (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي، حتى رمى جمرة العقبة) وقوله في هذا الحديث (حتى رمى جمرة العقبة) هو حجة من قال يلبي حتى ينتهي رميه، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، من طريق عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله: ونحن نجمع سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة، يقول في هذا المقام: (لبيك اللهم لبيك) وجمع هي المزدلفة. وهذا الحديث الصحيح يدل على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بمزدلفة بعد الرجوع من عرفة، وفي لفظ لابن مسعود عند مسلم أيضا: قال عبد الله: أنسي الناس أم ضلوا سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المكان: (لبيك اللهم لبيك) وفي لفظ عنه أيضا عند مسلم، من رواية عبد الرحمن بن يزيد والأسود بن يزيد قالا: سمعنا عبد الله بن مسعود يقول بجمع: سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة ههنا يقول (لبيك اللهم لبيك) ثم لبى ولبينا معه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: فهذه النصوص الصحيحة، تدل على عدم قطع التلبية بعرفة، والأظهر أنه يقطعها عند الشروع في رمي العقبة، وأن رواية مسلم حتى رمى جمرة العقبة يراد به الشروع في رميها لا الانتهاء منه.
ومن القرائن الدالة على ذلك: ما ثبت في الروايات الصحيحة من التكبير مع كل حصاة فظرف الرمي لا يستغرق غير التكبير، مع الحصاة لتتابع رمي الحصيات.
6

قال الزرقاني في شرح الموطأ، ولابن خزيمة عن الفضل: أفضت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يلبي، حتى رمى جمرة العقبة يكبر من كل حصاة، ثم قطع التلبية، مع آخر حصاة، قال ابن خزيمة: حديث صحيح مفسر لما أبهم في الرواية الأخرى، وأن المراد بقوله (حتى رمى جمرة العقبة) أتم رميها ا ه وعلى تقدير صحة هذه الرواية لا ينبغي العدول عنها. وإذا علمت الصحيح الذي دلت عليه النصوص، فاعلم أن في وقت انتهاء الرمي مذاهب للعلماء غير ما ذكرنا. فقد روي عن سعد بن أبي وقاص، وعائشة: أنه يقطع التلبية، إذا راح إلى الموقف، وعن علي، وأم سلمة: أنهما كانا يلبيان حتى تزول الشمس يوم عرفة، وهذا قريب من قول سعد وعائشة، وكان الحسن يقول: يلبي حتى يصلي الغداة يوم عرفة، ومذهب مالك أنه يقطعها إذا زاغت الشمس من يوم عرفة، وقد روى مالك رحمه الله في الموطأ عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يلبي في الحج. حتى إذا زاغت الشمس من يوم عرفة، قطع التلبية قال مالك: وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا ا ه. وروى مالك في الموطأ أيضا عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج للنبي صلى الله عليه وسلم: أنها كانت تترك التلبية إذا رجعت إلى الموقف، وروي في الموطأ أيضا عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم. حتى يطوف بالبيت. وبين الصفا والمروة. ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة. فإذا غدا ترك التلبية. وكان يترك التلبية في العمرة، إذا دخل الحرم ا ه.
والتحقيق أنه لا يقطعها، إلا إذا رمى جمرة العقبة، لدلالة حديث الفضل بن عباس الثابت في الصحيح على ذلك، دلالة واضحة ودلالة حديث ابن مسعود الثابت في الصحيح على تلبية النبي بمزدلفة أيضا، ولم يثبت في كتاب الله، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يخالف ذلك، والعلم عند الله تعالى.
وأما حكم التلبية فقد اختلف فيه أهل العلم اختلافا معروفا، قال ابن حجر في فتح الباري: لم يتعرض المصنف لحكم التلبية، وفيها مذاهب أربعة، يمكن توصيلها إلى عشرة.
الأول: أنها سنة من السنن لا يجب بتركها شيء وهو قول الشافعي وأحمد.
ثانيها: واجبة ويجب بتركها دم حكاه الماوردي عن ابن أبي هريرة من الشافعية،
7

وقال: إنه وجد للشافعي نصا يدل عليه وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكية والخطابي عن مالك وأبي حنيفة وأغرب النووي فحكى عن مالك أنها سنة، ويجب بتركها دم، ولا يعرف ذلك عندهم إلا أن ابن الجلاب قال: التلبية في الحج مسنونة غير مفروضة، وقال ابن التين: يريد أنها ليست من أركان الحج وإلا فهي واجبة، ولذلك يجب
بتركها الدم، ولو لم تكن واجبة لم يجب، وحكى ابن العربي: أنه يجب عندهم بترك تكرارها دم، وهذا قدر زائد على أصل الوجوب.
ثالثها: واجبة لكن يقوم مقامها فعل يتعلق بالحج، كالتوجه على الطريق، وبهذا صدر ابن شاس من المالكية كلامه في الجواهر له، وحكى صاحب الهداية من الحنفية مثله، لكن زاد القول الذي يقوم مقام التلبية من الذكر كما في مذهبهم من أنه لا يجب لفظ معين، وقال ابن المنذر: قال أصحاب الرأي: إن كبر أو هلل أو سبح ينوي بذلك الإحرام، فهو محرم.
رابعها: أنها ركن في الإحرام لا ينعقد بدونها حكاه ابن عبد البر عن الثوري، وأبي حنيفة، وابن حبيب من المالكية، والزبير من الشافعية، وأهل الظاهر قالوا: هي نظيرة تكبيرة الإحرام للصلاة، ويقويه ما تقدم من بحث ابن عبد السلام، عن حقيقة الإحرام، وهو قول عطاء، أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه، قال: التلبية فرض الحج، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وطاوس، وعكرمة، وحكى النووي: عن داود: أنه لا بد من رفع الصوت بها، وهذا قدر زائد على أصل كونها ركنا. انتهى من فتح الباري.
وإذا عرفت مذاهب أهل العلم في حكم التلبية، فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى كما ذكرنا وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا التلبية، وهذا القدر هو الذي قام عليه الدليل: أما كونها مسنونة أو مستحبة أو واجبة يصح الحج بدونها، وتجبر بدم فكل ذلك لم يرد فيه دليل خاص، والخير كله في اتباعه صلى الله عليه وسلم، والعلم عند الله تعالى.
وأما معنى التلبية: فهي من لبى بمعنى: أجاب، فلفظة: لبيك مثناة على قول سيبويه والجمهور، وتثنيتها للتكثير: أي إجابة لك بعد إجابة، ولزوما لطاعتك، وقال يونس بن حبيب البصري: لبيك: اسم مفرد لا مثنى، قال: وإنما انقلبت ألفه ياء لاتصالها بالضمير، كما قلبت ألف لدي، وإلي، وعلي في حالة الاتصال بالضمير فتقول: لديك، وإليك وعليك بإبدال الألف ياء، والأظهر قول سيبويه، وجمهور أهل اللغة.
ومما يدل على ذلك أنه سمع في كلام العرب ثبوت الياء مع الإضافة للاسم الظاهر
8

لا الضمير كما في قول الشاعر، وهو أعرابي من بني أسد: ومما يدل على ذلك أنه سمع في كلام العرب ثبوت الياء مع الإضافة للاسم الظاهر لا الضمير كما في قول الشاعر، وهو أعرابي من بني أسد:
* دعوت لما نابني مسورا
* فلبي فلبي يدي مسور
*
وقال ابن الأنباري: ثنوا لبيك كما ثنوا حنانيك: أي تحننا بعد تحنن، وقال القاضي عياض: اختلفوا في معنى لبيك واشتقاقها، فقيل معناها: اتجاهي وقصدي إليك، مأخوذ من قولهم: داري تلب دارك أي تواجهها، وقيل معناها محبتي لك مأخوذ من قولهم: امرأة لبة، إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه، وقيل معناها: إخلاصي لك مأخوذ من قولهم: حب لباب، إذا كان خالصا محضا، ومن ذلك لب الطعام ولبابه، وقيل معناها: أنا مقيم على طاعتك، وإجابتك مأخوذ من قولهم: لب الرجل بالمكان، وألب به إذا أقام فيه قال ابن الأنباري: وبهذا قال الخليل. وقيل في لبيك: أي قربا منك، وطاعة، والإلباب: القرب، وقال أبو نصر معناه: أنا ملب بين يديك أي خاضع. انتهى كلام عياض، مع تصرف، وحذف يسير بواسطة نقل النووي في شرح مسلم، وما قاله الشيخ عياض رحمه الله، يدور حوله كلام أهل اللغة في معنى التلبية، وبقية ألفاظ التلبية معانيها ظاهرة.
واعلم أن لفظة لبيك ملازمة للإضافة لضمير المخاطب، وشذ إضافتها للظاهر كما تقدم قريبا، وشذ أيضا إضافتها لضمير الغائب كقول الراجز: واعلم أن لفظة لبيك ملازمة للإضافة لضمير المخاطب، وشذ إضافتها للظاهر كما تقدم قريبا، وشذ أيضا إضافتها لضمير الغائب كقول الراجز:
* إنك لو دعوتني ودوني
* زوراء ذات متزع بيون
*
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أنه ينبغي للرجال رفع أصواتهم بالتلبية، لما رواه مالك في الموطأ، والشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم. من حديث خلاد بن السائب الأنصاري، عن أبيه السائب بن خلاد بن سويد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) ا ه.
ولفظ مالك في موطئه (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي، أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال) يريد أحدهما. وقال الترمذي في هذا الحديث: حديث حسن صحيح، وجمهور أهل العلم على أن هذا الأمر المذكور في الحديث للاستحباب، وذهب الظاهرية إلى أنه للوجوب، والقاعدة المقررة في الأصول مع الظاهرية، وهي أن
9

الأمر يقتضي الوجوب إلا لدليل صارف عنه، وأما النساء فلا ينبغي لهن رفع الصوت بالتلبية كما عليه جماهير أهل العلم.
قال مالك في موطئه: إنه سمع أهل العلم يقولون: ليس على النساء رفع الصوت بالتلبية، لتسمع المرأة نفسها، وعلل بعض أهل العلم خفض المرأة صوتها بالتلبية، بخوف الافتتان بصوتها.
وقال الرافعي في شرحه الكبير المسمى فتح العزيز في شرح الوجيز: وإنما يستحب الرفع في حق الرجل، ولا يرفع حيث يجهد ويقطع صوته، والنساء تقتصرن على إسماع أنفسهن، ولا يجهرن كما لا يجهرن بالقراءة في الصلاة.
قال القاضي الروياني: ولو رفعت صوتها بالتلبية لم يحرم، لأن صوتها ليس بعورة خلافا لبعض أصحابنا ا ه. وذكر نحوه النووي عن الروياني ثم قال: وكذا قال غيره: لا يحرم لكن يكره صرح به الدارمي، والقاضي أبو الطيب والبندنيجي، ويخفض الخنثى صوته كالمرأة ذكره صاحب البيان وهو ظاهر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما المرأة الشابة الرخيمة الصوت، فلا شك أن صوتها من مفاتن النساء ولا يجوز لها رفعه بحال، ومن المعلوم أن الصوت الرخيم من محاسن النساء ومفاتنها، ولأجل ذلك يكثر ذكره في التشبيب بالنساء، كقول غيلان ذي الرمة: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما المرأة الشابة الرخيمة الصوت، فلا شك أن صوتها من مفاتن النساء ولا يجوز لها رفعه بحال، ومن المعلوم أن الصوت الرخيم من محاسن النساء ومفاتنها، ولأجل ذلك يكثر ذكره في التشبيب بالنساء، كقول غيلان ذي الرمة:
* لها بشر مثل الحرير ومنطق
* رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
*
* وعينان قال الله: كونا فكانتا
* فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
*
فتراه جعل الصوت الرخيم من محاسن النساء، كالبشرة الناعمة والعينين الحسنتين، وكقول قعنب ابن أم صاحب: فتراه جعل الصوت الرخيم من محاسن النساء، كالبشرة الناعمة والعينين الحسنتين، وكقول قعنب ابن أم صاحب:
* وفي الخدود لو أن الدار جامعة
* بيض أوانس في أصواتها غنن
*
فتراه جعل الصوت الأغن من جملة المحاسن، وهذا أمر معروف لا يمكن الخلاف فيه، وقد قال جل وعلا مخاطبا لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وهن خير أسوة لنساء المسلمين * (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض وقلن قولا معروفا) * لأن تليين الصوت وترخيمه يدل على الاهتمام بالريبة كإبداء غيره من محاسن المرأة للرجال كما قال الشاعر:
10

* يحسبن من الكلام زوانيا
* ويصدهن عن الخنا الإسلام
*
الفرع الثاني: اعلم أنه يستحب لإكثار من التلبية في دوام الإحرام، ويتأكد استحبابها في كل صعود وهبوط، وحدوث أمر من ركوب، أو نزول، أو اجتماع رفاق، أو فراغ من صلاة وعند إقبال الليل والنهار، ووقت السحر، وغير ذلك من تعاير الأحوال، وعلى هذا أكثر أهل العلم.
قال صاحب المهذب: يستحب أن يكثر من التلبية، ويلبي عند اجتماع الرفاق، وفي كل صعود وهبوط، وفي أديار الصلوات، وإقبال الليل والنهار، لما روى جابر رضي الله عنه، قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي إذا رأى ركبا أو صعد أكمة هبط واديا) وفي أدبار المكتوبة وآخر الليل. انتهى محل الغرض منه. ولم يتكلم النووي في شرحه للمهذب على حديث جابر المذكور، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير في حديث جابر المذكور: هذا الحديث ذكره الشيخ في المهذب، وبيض له النووي، والمنذري، وقد رواه ابن عسكر في تخريجه لأحاديث المهذب من طريق عبد الله بن محمد بن ناجية في فوائده بإسناد له إلى جابر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي إذا لقى ركبا) فذكره، وفي إسناده من لا يعرف، وروى الشافعي، عن سعيد بن سالم عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يلبي راكبا، ونازلا، ومضطجعا. وروى ابن أبي شيبة من رواية ابن سابط قال: كان السلف يستحبون التلبية في أربعة مواضع: في دبر الصلاة، وإذا هبطوا واديا أو علوه، وعند التقاء الرفاق، وعند خيثمة نحوه وزاد: وإذا استقلت بالرجل راحلته. انتهى من التلخيص.
وقال مالك في الموطأ: سمعت بعض أهل العلم يستحب التلبية دبر كل صلاة، وعلى كل شرف من الأرض. ويستأنس لحديث جابر المذكور يقول البخاري: باب التلبية، إذا انحدر في الوادي، ثم ساق بسنده الحديث عن ابن عباس وفيه قال (أما موسى كأني أنظر إليه، إذا انحدر في الوادي يلبي) وقال في الفتح في شرح هذا الحديث، وفي الحديث: أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين، وأنها تتأكد عند الهبوط كما تتأكد عند الصعود.
الفرع الثالث: اعلم أن العلماء اختلفوا في استحباب التلبية في حال طواف القدوم والسعي بعده، وممن قال إنه لا يلبي في طواف القدوم، والسعي بعده: مالك وأصحابه، وهو الجديد الصحيح من قولي الشافعي، وقال ابن عيينة: ما رأيت أحدا يقتدي به يلبي
11

حول البيت إلا عطاء بن السائب، وممن أجاز التلبية في طواف القدوم: أحمد، وقال ابن قدامة في المغني: وبه يقول ابن عباس، وعطاء بن السائب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وابن أبي ليلى، وداود والشافعي. وروي عن سالم بن عبد الله أنه قال: لا يلبي حول البيت، وقال ابن عيينة: ما رأينا أحدا يقتدي به يلبي حول البيت، إلا عطاء بن السائب، وذكر أبو الخطاب: أنه لا يلبي، وهو قول للشافعي، لأنه مشتغل بذكر يخصه، فكان أولى. انتهى محل الغرض من المغني، وقد قدمنا لك أن القول الجديد الأصح في مذهب الشافعي: أنه لا يلبي خلافا لما يوهمه كلام صاحب المغني، وروى مالك في موطئه عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم. حتى يطوف بالبيت. وبين الصفا والمروة. ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة. فإذا غدا ترك التلبية. وكان يترك التلبية في العمرة، إذا دخل الحرم. انتهى في الموطأ، وروى مالك في الموطأ أيضا عن ابن شهاب، أنه كان يقول: كان عبد الله بن عمر لا يلبي، وهو يطوف بالبيت انتهى منه، وقد روي عن ابن عمر أيضا خلاف هذا، فقد ذكر ابن حجر في التلخيص: أن ابن أبي شيبة أخرج من طريق ابن سيرين قال: كان ابن عمر إذا طاف بالبيت لبى.
الفرع الرابع: اعلم أنه لا خلاف بين من يعتد به من أهل العلم في أن المحرم يلبي في المسجد الحرام، ومسجد الخيف بمنى، ومسجد نمرة بقرب عرفات، لأنها مواضع نسك. واختلفوا في التلبية فيما سوى ذلك من المساجد.
وأظهر القولين عندي: أنه يلبي في كل مسجد، إلا أنه لا يرفع صوته رفعا يشوش على المصلين، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس: أظهر قولي أهل العلم عندي: أن المحرم يلبي في كل مكان في الأمصار وفي البراري، ونقل النووي عن العبدري أنه قال به أكثر الفقهاء. خلافا لمن قال: التلبية مسنونة في الصحارى، ولا يعجبني أن يلبي في المصر، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة عشرة فيما يمتنع بسبب الإحرام على المحرم حتى يحل من إحرامه.
فمن ذلك ما صرح الله بالنهي عنه في كتابه في قوله * (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق
12

ولا جدال في الحج) * والصيغة في قوله * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال) * صيغة خبر أريد بها الإنشاء: أي فلا يرفث ولا يفسق، ولا يجادل، وقد تقرر في فن المعاني أن الصيغة قد تكون خبرية، والمراد بها الإنشاء لأسباب منها التفاؤل كقولك: رحم الله زيدا، فالصيغة خبرية، والمراد بها إنشاء الدعاء له بالرحمة، ومنها إظهار تأكيد الإتيان بالفعل، وإلزام ذلك كقوله تعالى: * (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله) *: أي آمنوا بالله بدليل جزم الفعل في قوله * (يغفر لكم من ذنوبكم) * فهو مجزوم بالطلب المراد بالخبر في قوله * (تؤمنون بالله) * أي آمنوا بالله، يغفر لكم ذنوبكم كقوله * (قاتلوهم يعذبهم الله) * * (تعالوا أتل) *، ونحو ذلك، فالمسوغ لكون الصيغة في الآية خبرية، هو إظهار التأكد، واللزوم في الإتيان بالإيمان فعبر عنه بصيغة الخبر، لإظهار أنه يتأكد ويلزم أن يكون كالواقع بالفعل المخبر عن وقوعه، وكقوله تعالى * (والوالدات يرضعن أولادهن) *، وقوله * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن) *. فالمراد الأمر بالإرضاع، والتربص وقد عبر عنه بصيغة خبرية لما ذكرنا، كما هو معروف في فن المعاني.
والأظهر في معنى الرفث في الآية أنه شامل لأمرين:
أحدهما: مباشرة النساء بالجماع ومقدماته.
والثاني: الكلام بذلك كأن يقول المحرم لامرأته: إن أحللنا من إحرامنا فعلنا كذا وكذا، ومن إطلاق الرفث على مباشرة المرأة كجماعها قوله تعالى * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم) * فالمراد بالرفث في الآية: المباشرة بالجماع ومقدماته، ومن إطلاق الرفث على الكلام قول العجاج: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم) * فالمراد بالرفث في الآية: المباشرة بالجماع ومقدماته، ومن إطلاق الرفث على الكلام قول العجاج:
* ورب أسراب حجيج كظم
* عن اللغا ورفث التكلم
*
وقد قدمنا هذا البيت في سورة المائدة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما أنشد وهو محرم قول الراجز: وقد قدمنا هذا البيت في سورة المائدة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما أنشد وهو محرم قول الراجز:
* وهن يمشين بنا هميسا
* إن تصدق الطير تنك لميسا
*
فقيل له أترفث، وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث: ما روجع به النساء، وفي لفظ: ما قيل من ذلك عند النساء.
والأظهر في معنى الفسوق في الآية أنه شامل لجميع أنواع الخروج عن طاعة الله
13

تعالى، والفسوق في اللغة: ومنه قول العجاج: والفسوق في اللغة: ومنه قول العجاج:
* يهوين في نجد وغورا غائرا
* فواسقا عن قصدها جوائرا
*
يعني بقوله: فواسقا عن قصدها: خوارج عن جهتها التي كانت تقصدها.
والأظهر في الجدال في معنى الآية: أنه المخاصمة والمراء أي لا تخاصم صاحبك وتماره حتى تغضبه، وقال بعض أهل العلم: معنى لا جدال في الحج: أي لم يبق فيه مراء ولا خصومة، لأن الله أوضح أحكامه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما صرح الله بالنهي عنه في كتابه، من حلق شعر الرأس في قوله تعالى * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) * ومن ذلك تغطية المحرم الذكر رأسه لما ثبت في الصحيح، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في المحرم الذي خر عن راحلته فوقصته فمات (ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا)، وفي رواية في صحيح مسلم (ولا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) وهذا الحديث في صحيح مسلم بألفاظ متعددة في بعضها الاقتصار على النهي عن تخمير الرأس، وفيها النهي عن تخيير الرأس والوجه، وفي بعضها: النهي عن مسه بطيب، وفي بعضها: النهي عن أن يقربوه طيبا وأن يغطوا وجهه، وكل ذلك ثابت، وهو نص صريح في منع تغطية المحرم الذكر رأسه أو وجهه، أما المرأة فإنها تغطي رأسها، ولا تغطي وجهها، إلا إذا خافت نظر الرجال الأجانب إليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومن ذلك لبس كل شيء محيط بالبدن، أو بعضه، وكل شيء يغطي الرأس كما تقدم قريبا: فلا يجوز للمحرم لبس القميص، ولا العمامة، ولا السروايل، ولا البرنس، ولا القباء، ولا الخف إلا إذا لم يجد نعلا فإنه يجوز له لبس الخفين، ويلزمه أن يقطعهما أسفل من الكعبين، وكذلك إذا لم يجد إزارا: فله أن يلبس السراويل على الأصح فيهما.
وكذلك لا يجوز له أن يلبس ثوبا مسه ورس أو زعفران. وهذه أدلة منع ما ذكر.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا قال يا رسول الله: ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران أو ورس) انتهى من صحيح البخاري.
14

وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس). وأخرج مسلم رحمه الله هذا الحديث عن ابن عمر أيضا من طريق ابنه سالم. وأخرج بعضه عنه أيضا من طريق عبد الله بن دينار. ثم قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو الربيع الزهراني، وقتيبة بن سعيد جميعا، عن حماد قال يحيى: أخبرنا حماد بن زيد، عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يقول: (السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين) يعني المحرم. وقد ذكر مسلم هذا الحديث من طرق، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، وزاد شعبة في روايته، عن عمرو: يخطب بعرفات. وأخرج البخاري نحوه عن ابن عباس أيضا ثم قال مسلم رحمه الله: وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يجد نعلين، فليلبس خفين، ومن لم يجد إزار فليلبس سراويل) ا ه من صحيح مسلم، وهو يدل دلالة واضحة على جواز لبس السراويل للمحرم، الذي لم يجد إزارا، كجواز لبس الخفين لمن لم يجد نعلين، وفي حديث ابن عباس، وجابر المذكورين زيادة على حديث ابن عمر: وهي جواز السراويل لمن لم يجد إزارا وهذه الزيادة، يجب قبولها، خلافا لمن منع قبولها، وإطلاق الخفين في حديث ابن عباس، وجابر المذكورين يجب تقييده بما في حديث ابن عمر من قطعهما أسفل من الكعبين، لوجوب حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا اتحد حكمهما وسببهما كما هنا، كما هو مقرر في الأصول.
فأظهر الأقوال دليلا: أنه لا يجوز لبس الخفين، إلا في حالة عدم وجود النعلين، وأن قطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين لا بد منه، وأن لبس السراويل جائز للمحرم الذي لم يجد إزارا، خلافا لمن ذهب إلى غير ذلك.
وقال النووي في شرح المهذب: وأما حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يلبس المحرم القميص ولا السراويلات ولا البرنس ولا العمامة ولا الخف إلا
15

أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران) فرواه البخاري ومسلم هكذا، وزاد البيهقي وغيره وفيه (ولا يلبس القباء) وقال البيهقي: هذه الزيادة صحيحة محفوظة انتهى منه وهو دليل على منع لبس القباء للمحرم.
وقال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لحديث ابن عمر المذكور. زاد الثوري في روايته، عن أيوب، عن نافع في هذا الحديث: ولا القباء، أخرجه عبد الرزاق، ورواه الطبراني من وجه آخر عن الثوري، وأخرجه الدارقطني، والبيهقي من طريق حفص بن غياث، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع أيضا. انتهى محل الغرض منه، وهذا الذي ذكرنا من تحريم اللباس المذكور إنما هو في حق الرجال، وأما النساء فلهن أن يلبسن ما شئن من أنواع الثياب، إلا أنهن لا يجوز لهن أن ينتقبن، ولا أن يلبسن القفازين، لأن إحرام المرأة في وجهها وكفيها.
وقد قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا الليث، حدثنا نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل فقال: يا رسول الله،
ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب الحديث وفيه (ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين) تابعه موسى بن عقبة، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وجويرية، وابن إسحاق في النقاب والقفازين، وقال عبيد الله: ولا ورس، وكان يقول: لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين، وقال مالك عن نافع عن ابن عمر: لا تنتقب المحرمة، وتابعه ليث بن أبي سليم. انتهى من صحيح البخاري.
وقال أبو داود رحمه الله في سننه بعد أن ساق حديث ابن عمر المتقدم: حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث، عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه. وزاد: (ولا تنتقب المرأة الحرام، ولا تلبس القفازين). وفي لفظ عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم (المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين) وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: وأما حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين، والنقاب، وما مسه الورس، والزعفران من الثياب وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حرير، أو حليا أو سراويل أو قميصا أو خفا، فرواه أبو داود بإسناد حسن، وهو من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي إلا أنه قال: حدثني نافع عن ابن عمر وأكثر ما أنكر على ابن إسحاق التدليس، وإذا قال المدلس: حدثني،
16

احتج به على المذهب الصحيح المشهور. انتهى منه.
وقال ابن حجر في التلخيص: حديث: أنه صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن النقاب، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب معصفرا، أو خزا، أو حليا، أو سراويل، أو قميصا، أو خفا. رواه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر، واللفظ لأبي داود زاد فيه بعد قوله: عن النقاب: وما مس الزعفران والورس من الثياب: وليلبسن بعد ذلك. ورواه أحمد إلى قوله من الثياب، ومن ذلك استعمال المحرم الطيب في بدنه. أو ثيابه، والطيب هو ما يتطيب به، ويتخذ منه الطيب، كالمسك، والكافور، والعنبر، والصندل، والورس، والزعفران، والورد، والياسمين ونحو ذلك، والأصل في منع استعمال الطيب للمحرم هو ما قدمنا في حديث ابن عمر المتفق عليه من نهيه صلى الله عليه وسلم عن لبس ما مسه الزعفران، والورس من الثياب في الإحرام، وما قدمنا من حديث مسلم في الذي وقع عن راحلته فأوقصته فمات. ففي لفظ في صحيح مسلم: فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل بماء وسدر وأن يكفن في ثوبين، ولا يمس طيبا الحديث. وفي لفظ في صحيح مسلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم (اغسلوه ولا تقربوه طيبا ولا تغطوا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة يلبي) فقوله (ولا يمس طيبا) في الرواية الأولى نكرة في سياق النفي وقوله (ولا تقربوه طيبا) في الرواية الثانية نكرة في سياق النهي، وكلتاهما من صيغ العموم، كما هو مقرر في الأصول فهو يدل على منع جميع أنواع الطيب للمحرم، وترتيبه صلى الله عليه وسلم على ذلك بالفاء:
قوله: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) دليل على أن علة منع ذلك الطيب كونه محرما ملبيا، الدلالة على العلة المذكورة: هي من دلالة مسلك الإيما والتنبيه، كما هو معروف في الأصول. ومن ذلك عقد النكاح، فإنه لا يجوز للمحرم أن يتزوج، ولا أن يزوج غيره بولاية أو وكالة، وسيأتي الخلاف في تزويج المحرم غيره بالولاية العامة إن شاء الله تعالى، وكون إحرام أحد الزوجين أو الولي مانعا من عقد النكاح، هو الذي عليه أكثر أهل العلم. وعزاه النووي في شرح المهذب لجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وقال: وهو مذهب عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري، ومالك، وأحمد، والشافعي، وإسحاق، وداود، وغيرهم. وقال في شرح مسلم: قال مالك والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء من الصحابة، فمن بعدهم: لا يصح نكاح المحرم ا ه. وقال ابن قدامة في المغني. وروي ذلك عن عمر وابنه، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وبه
17

قال سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي ا ه.
وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم: إلى أن إحرام أحد الزوجين، أو الولي، ليس مانعا من عقد النكاح، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة، وهو مروي عن الحكم، والثوري، وعطاء، وعكرمة، وعزاه صاحب المغني، لابن عباس، والظاهر أن عزو هذا القول الأخير لابن عباس أصح من عزو النووي له القول الأول كما ذكرناه عنه آنفا كما سترى: ما يدل على ذلك إن شاء الله تعالى.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في الإحرام بحج أو عمرة، هل هو مانع من عقد النكاح، أو لا، فهذه أدلتهم. أما الجمهور القائلون: بأن الإحرام مانع من النكاح، فاستدلوا بما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن نبيه بن وهب. أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر، بنت شيبة بن جبير. فأرسل إلى أبان بن عثمان يحضر ذلك وهو أمير الحج. فقال أبان: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ينكح المحرم، ولا ينكح ولا يخطب).
وحدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي. حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن نافع. حدثني نبيه بن وهب. قال: بعثني عمر بن عبيد الله بن معمر. وكان يخطب بنت شيبة بن عثمان على ابنه. فأرسلني إلى أبان بن عثمان وهو على الموسم. فقال: ألا أراه أعرابيا (إن المحرم لا ينكح ولا ينكح)، أخبرنا بذلك عثمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثني أبو غسان المسمعي. حدثنا عبد الأعلى. ح وحدثني أبو الخطاب زياد بن يحيى. حدثنا محمد بن سواء. قالا جميعا: حدثنا سعيد عن مطر ويعلى بن حكيم، عن نافع، عن نبيه بن وهب، عن أبان بن عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا ينكح المحرم، ولا ينكح ولا يخطب).
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، وزهير بن حرب. جميعا عن ابن عيينة. قال زهير: حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى، عن نبيه بن وهب، عن أبان بن عثمان، عن عثمان يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم. قال (المحرم لا ينكح ولا يخطب).
حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث. حدثني أبي عن جدي. حدثني خالد بن يزيد. حدثني سعيد بن أبي هلال عن نبيه بن وهب. أن عمر بن عبيد الله بن معمر أراد
18

أن ينكح ابنه طلحة بنت شيبة بن جبير في الحج. وأبان بن عثمان يومئذ أمير الحاج. فأرسل إلى أبان: إني أردت أن أنكح طلحة بن عمر. فأحب أن تحضر ذلك. فقال له أبان: ألا أراك عراقيا جافيا! إني سمعت عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ينكح المحرم).
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وإسحاق الحنظلي. جميعا عن ابن عيينة. قال ابن نمير: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء. أن ابن عباس أخبره. أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. زاد ابن نمير: فحدثت به الزهري فقال: أخبرني يزيد بن الأصم: أنه نكحها وهو حلال. وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا داود بن عبد الرحمن عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، أبي الشعثاء، عن ابن عباس. أنه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا يحيى بن آدم. حدثنا جرير بن حازم. حدثنا أبو فزارة عن يزيد بن الأصم حدثتني ميمونة بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال. قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس. انتهى من صحيح مسلم. وحديث عثمان المذكور في صحيح مسلم رواه أيضا مالك وأحمد وأصحاب السنن. وقال أبو عيسى الترمذي بعد أن ساقه: حديث عثمان حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وهو قول بعض فقهاء التابعين، وبه يقول مالك، والشافعي وأحمد، وإسحاق لا يرون أن يتزوج المحرم. وقالوا: إن نكح فنكاحه باطل. وحديث يزيد بن الأصم، عن ميمونة المذكور في صحيح مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها وهو حلال) رواه أيضا الترمذي، وأبو داود وابن ماجة والإمام أحمد، وقال الترمذي: حدثنا قتيبة، أخبرنا حماد بن زيد عن مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع قال (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة، وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول فيما بينهما). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، لا نعلم أحدا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر الوراق، عن ربيعة. وروى مالك بن أنس عن ربيعة، عن سليمان بن يسار (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال) رواه مالك مرسلا، ورواه أيضا سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلا. انتهى: محل الغرض منه. وحديث أبي رافع هذا رواه أيضا الإمام أحمد، وروى مالك رحمه الله في موطئه، عن نافع. أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول: لا ينكح المحرم، ولا يخطب على نفسه، ولا على غيره. وفي الموطأ أيضا، عن مالك أنه بلغه: أن سعيد بن
19

المسيب وسالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار سئلوا عن نكاح المحرم؟ فقالوا: لا ينكح المحرم، ولا ينكح. وفي الموطأ أيضا عن مالك، عن داود بن الحصين. أن أبا غطفان بن طريف المري، أخبره أن أباه طريفا، تزوج امرأة وهو محرم. فرد عمر بن الخطاب رضي الله عنه نكاحه. وحديث أبي غطفان بن طريف، هذا رواه أيضا الدارقطني، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل، وهو خارج من مكة، فأراد أن يعتمر أو يحج؟ فقال: لا تتزوجها، وأنت محرم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه انتهى منه بواسطة نقل المجد في المنتقى.
فهذا هو حاصل أدلة من قال: بأن الإحرام مانع من عقد النكاح، وأما الذين قالوا: بأن الإحرام لا يمنع عقد النكاح، فقد استدلوا بما رواه الشيخان في صحيحيهما، وأصحاب السنن، والإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم) وللبخاري (تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف) ا ه.
قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه، عن ابن عباس رضي الله عنهما فيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، والله تعالى يقول * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) * وهو المشرع لأمته بأقواله، وأفعاله، وتقريره صلوات الله وسلامه عليه، فلو كان تزويج المحرم حراما لما فعله صلى الله عليه وسلم واحتج الجمهور القائلون: يمنع نكاح المحرم بالأحاديث المتقدمة، قالوا: ثبت في صحيح مسلم من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب) وصيغة النفي في قوله: (لا ينكح ولا ينكح ولا يخطب) يراد بها النهي كقوله تعالى * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * أي لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا في الحج، وإيراد الإنشاء بصيغة الخبر أبلغ من إيراده بصيغة الإنشاء، كما هو مقرر في المعاني.
والحديث دليل صحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم على منع نكاح المحرم وهو معتضد بما ذكرنا معه من الأحاديث، والآثار الدالة على منع نكاح المحرم. وأجاب الجمهور القائلون: يمنع إحرام أحد الزوجين: أو الولي عقد النكاح عن حديث ابن عباس المذكور، بأجوبة.
20

واعلم أولا: أن المقرر في الأصول: أنه إذا اختلف نصان وجب الجمع بينهما إن أمكن، وإن لم يمكن وجب الترجيح.
وإذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن من أجوبتهم عن حديث ابن عباس المذكور، أنه يمكن الجمع بينه وبين حديث ميمونة، وأبي رافع (أنه تزوجها وهو حلال) ووجه الجمع في ذلك، هو أن يفسر قول ابن عباس: أنه تزوجها وهو محرم بأن المراد بكونه محرما كونه في الشهر الحرام، وقد تزوجها صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام، وهو ذو القعدة عام سبع في عمرة القضاء، كما ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب: المغازي في باب عمرة القضاء.
قال بعد أن ساق حديث ابن عباس المذكور، وزاد ابن إسحاق: حدثني ابن أبي نجيح، وأبان بن صالح، عن عطاء، ومجاهد، عن ابن عباس قال: (تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة في عمرة القضاء) ا ه منه. ومعلوم أن عمرة القضاء كانت في الشهر الحرام، وهو ذو القعدة من سنة سبع، ولا خلاف بين أهل اللسان العربي في إطلاق الإحرام على الدخول في حرمة لا تهتك كالدخول في الشهر الحرام، أو في الحرم أو غير ذلك.
وقال ابن منظور في اللسان: وأحرم الرجل: إذا دخل في حرمة لا تهتك، ومن إطلاق الإحرام على الدخول في الشهر الحرام، وقد أنشده في اللسان شاهدا لذلك قول زهير: وقال ابن منظور في اللسان: وأحرم الرجل: إذا دخل في حرمة لا تهتك، ومن إطلاق الإحرام على الدخول في الشهر الحرام، وقد أنشده في اللسان شاهدا لذلك قول زهير:
* جعلن القنان عن يمين وحزنه
* وكم بالقنان من محل ومحرم
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* وإذ فتك النعمان بالناس محرما
* فملىء من عوف بن كعب سلاسله
*
وقول الراعي: وقول الراعي:
* قتلوا ابن عفان الخليفة محرما
* ودعا فلم أر مثله مقتولا
*
* فتفرقت من بعد ذاك عصاهم
* شقفا وأصبح سيفهم مسلولا
*
ويروى: فلم أر مثله مخذولا، فقوله: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما: أي في الشهر الحرام وهو ذو الحجة، وقيل المعنى: أنهم قتلوه في حرم المدينة، لأن المحرم يطلق لغة على كل داخل في حرمة لا تهتك، سواء كانت زمانية، أو مكانية أو غير ذلك.
وقال بعض أهل اللغة منهم الأصمعي: إن معنى قول الراعي: محرما في بيته
21

المذكور كونه في حرمة الإسلام، وذمته التي يجب حفظها، ويحرم انتهاكها وأنه لم يحل من نفسه شيئا يستوجب به القتل، ومن إطلاق المحرم على هذا المعنى الأخير قول عدي بن زيد: وقال بعض أهل اللغة منهم الأصمعي: إن معنى قول الراعي: محرما في بيته المذكور كونه في حرمة الإسلام، وذمته التي يجب حفظها، ويحرم انتهاكها وأنه لم يحل من نفسه شيئا يستوجب به القتل، ومن إطلاق المحرم على هذا المعنى الأخير قول عدي بن زيد:
* قتلوا كسرى بليل محرما
* غادروه لم يمتع بكفن
*
يدريد قتل شيرويه أباه أبرويز بن هرمز، مع أن له حرمة العهد الذي عاهدوه به، حين ملكوه عليهم، وحرمة الأبوة ولم يفعل لهم شيئا يستوجب به منهم القتل. وذلك هو مراده بقوله: محرما، وعلى تفسير قول ابن عباس: وهو محرم بما ذكر فلا تعارض بين حديث ابن عباس، وبين حديث ميمونة وأبي رافع، ولو فرضنا أن تفسير حديث ابن عباس بما ذكر ليس بمتعين وليس بظاهر كل الظهور، وأن التعارض بين الحديثين باق، فالمصير إلى الترجيح إذا واجب. وحديث ميمونة وأبي رافع أرجح من حديث ابن عباس، لأن ميمونة هي صاحب القصة، ولا شك أن صاحب القصة أدرى بما جرى له في نفسه من غيره. وقد تقرر في الأصول أن خبر صاحب الواقعة المروية مقدم على خبر غيره، لأنه أعرف بالحال من غيره، والأصوليون يمثلون له بحديث ميمونة المذكور، مع حديث ابن عباس. وإليه أشار في مراقي السعود في مبحث الترجيح، باعتبار حال الراوي بقوله عاطفا على ما ترجح به رواية أحد الراويين على رواية الآخر: يدريد قتل شيرويه أباه أبرويز بن هرمز، مع أن له حرمة العهد الذي عاهدوه به، حين ملكوه عليهم، وحرمة الأبوة ولم يفعل لهم شيئا يستوجب به منهم القتل. وذلك هو مراده بقوله: محرما، وعلى تفسير قول ابن عباس: وهو محرم بما ذكر فلا تعارض بين حديث ابن عباس، وبين حديث ميمونة وأبي رافع، ولو فرضنا أن تفسير حديث ابن عباس بما ذكر ليس بمتعين وليس بظاهر كل الظهور، وأن التعارض بين الحديثين باق، فالمصير إلى الترجيح إذا واجب. وحديث ميمونة وأبي رافع أرجح من حديث ابن عباس، لأن ميمونة هي صاحب القصة، ولا شك أن صاحب القصة أدرى بما جرى له في نفسه من غيره. وقد تقرر في الأصول أن خبر صاحب الواقعة المروية مقدم على خبر غيره، لأنه أعرف بالحال من غيره، والأصوليون يمثلون له بحديث ميمونة المذكور، مع حديث ابن عباس. وإليه أشار في مراقي السعود في مبحث الترجيح، باعتبار حال الراوي بقوله عاطفا على ما ترجح به رواية أحد الراويين على رواية الآخر:
* أو راويا باللفظ أو ذا الواقع
* وكون من رواه غير مانع
*
ومحل الشاهد منه قوله: أو ذا الواقع: أي يقدم خبر ذي الواقع المروي على خبر غيره كخبر ميمونة، مع خبر ابن عباس ومما يرجح به حديث أبي رافع على حديث ابن عباس: أن أبا رافع هو رسوله إليها يخطبها عليه، فهو مباشر للواقعة، وابن عباس ليس كذلك، وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المباشر، لما روى على خبر غيره، لأن المباشر لما روى أعرف بحاله من غيره، والأصوليون يمثلون له بخبر أبي رافع المذكور (أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال) قال: وكنت الرسول فيما بينهما، مع حديث ابن عباس المذكور (أنه تزوجها وهو محرم).
ومما يرجح به حديث ميمونة، وحديث أبي رافع معا، على حديث ابن عباس: أن ميمونة، وأبا رافع كانا بالغين وقت تحمل الحديث المذكور، وابن عباس ليس ببالغ وقت التحمل. وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المتحمل بعد البلوغ على المتحمل قبله، لأن البالغ أضبط من الصبي لما تحمل، وللاختلاف في قبول
22

خبر المتحمل، قبل البلوغ من الاتفاق على قبول خبر المتحمل بعد البلوغ، وإن كان الراجح قبول خير المتحمل قبل البلوغ إذا كان الأداء بعد البلوغ، لأن المتفق عليه أرجح من المختلف فيه، وإلى تقديم خبر الراوي المباشر على خبر غيره، وتقديم خبر المتحمل بعد البلوغ على خبر المتحمل قبله.
أشار في مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال الراوي بقوله عاطفا على ما يرجح أحد الخبرين: أشار في مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال الراوي بقوله عاطفا على ما يرجح أحد الخبرين:
* أو كونه مباشرا أو كلفا
* أو غير ذي اسمين للأمن من خفا
*
فإن قيل: يرجح حديث ابن عباس، بأنه اتفق عليه الشيخان في صحيحيهما. ومعلوم أن ما اتفق عليه مسلم والبخاري، أرجح مما انفرد به مسلم، وهو حديث ميمونة، وأرجح مما أخرجه الترمذي وأحمد، وهو حديث أبي رافع.
فالجواب: أن غاية ما يفيده اتفاق الشيخين صحة الحديث، إلى ابن عباس، ونحن لو جزمنا بأنه قاله قطعا لم يمنع ذلك من ترجيح حديث ميمونة وأبي رافع عليه، لأنهما أعلم بحال الواقعة منه، لأن ميمونة صاحبة الواقعة، وأبو رافع هو الرسول المباشر لذلك. فلنفرض أن ابن عباس قال ذلك، وأن أبا رافع وميمونة خلفاه، وهما أعلم بالحال منه، لأن لكل منهما تعلقا خاصا بنفس الواقعة ليس لابن عباس مثله.
ومن الرجحات التي رجح بها بعض العلماء: حديث تزوجه صلى الله عليه وسلم ميمونة، وهو حلال على حديث تزوجه إياها، وهو محرم: أن الأول: رواه أبو رافع، وميمونة. والثاني: رواه ابن عباس وحده، وما رواه الاثنان أرجح مما رواه الواحد كما هو مقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي: ميمونة، وهو حلال على حديث تزوجه إياها، وهو محرم: أن الأول: رواه أبو رافع، وميمونة. والثاني: رواه ابن عباس وحده، وما رواه الاثنان أرجح مما رواه الواحد كما هو مقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي:
* وكثرة الدليل والرواية
* مرجح لدى ذوي الدراية
*
كما تقدم في سورة البقرة. ولكن هذا الترجيح المذكور يرده ما ذكره ابن حجر في فتح الباري، ولفظه فالمشهور عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم) وصح نحوه عن عائشة وأبي هريرة. ا ه منه.
وعلى تقدير صحة ما ذكره ابن حجر فمن روى أن تزويجها في حالة الإحرام أكثر.
23

فإن قيل: يرجح حديثهم إذا بالكثرة.
فالجواب: أنهم وإن كثروا فميمونة، وأبو رافع أعلم منهم بالواقعة كما تقدم، والمرجحات يرجح بعضها على بعض، وضابط ذلك عند الأصوليين هو قوة الظن، ومعلوم أن ما أخبرت به ميمونة رضي الله عنها عن نفسها، وأخبر به الرسول بينها، وبين زوجها صلى الله عليه وسلم الذي هو أبو رافع أقوى في ظن الصدق مما أخبر به غيرهما، وأشار في مراقي السعود إلى ما ذكرنا بقوله: الذي هو أبو رافع أقوى في ظن الصدق مما أخبر به غيرهما، وأشار في مراقي السعود إلى ما ذكرنا بقوله:
* قطب رحاها قوة المظنة
* فهي لدى تعارض مئنه
*
ومن أقوى الأدلة الدالة على أن حديث ابن عباس، لا تنهض به الحجة، على جواز عقد النكاح في حال الإحرام هو: أنا لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو محرم، لم تكن في ذلك حجة على جواز ذلك بالنسبة إلى أمته صلى الله عليه وسلم، لأنه ثبت عنه في صحيح مسلم وغيره من حديث عثمان بن عفان
رضي الله عنه، ما يدل على منع النكاح في حال الإحرام وهو عام لجميع الأمة. والأظهر دخوله هو صلى الله عليه وسلم في ذلك العموم، فإذا فعل فعلا يخالف ذلك العموم المنصوص عليه بالقول، دل على أن ذلك الفعل خاص به صلى الله عليه وسلم لتحتم تخصيص ذلك العموم القولي بذلك الفعل. فيكون خاصا به صلى الله عليه وسلم.
وقد تقرر في الأصول: أن النص القولي العام الذي يشمل النبي بظاهر عمومه لا بنص صريح، إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعلا يخالفه كان ذلك الفعل مخصصا لذلك العموم القولي، فيكون ذلك الفعل خاصا به صلى الله عليه وسلم. وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى ذلك في كتاب السنة بقوله:. وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى ذلك في كتاب السنة بقوله:
* في حقه القول بفعل خصا
* إن يك فيه القول ليس نصا
*
فإن قيل: لا حجة في حديث عثمان المذكور في صحيح مسلم، على منع عقد النكاح في حال الإحرام، لأن المراد بالنكاح فيه وطء الزوجة، وهو حرام في حال الإحرام إجماعا، وليس المراد به العقد.
فالجواب من أوجه:
الأول: أن في نفس الحديث قرينتين دالتين على أن المراد به عقد النكاح، لا الوطء. الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المذكور (لا ينكح المحرم ولا ينكح) فقوله: (ولا ينكح) بضم الياء، دليل على أن المراد: لا يزوج، ولا يمكن أن يكون المراد بذلك
24

الوطء، لأن الولي إذا زوج قبل الإحرام، وطلب الزوج وطء زوجته في حال إحرام وليها، فعليه أن يمكنه من ذلك إجماعا، فدل ذلك على أن المراد بقوله: ولا ينكح ليس الوطء بل التزويج كما هو ظاهر القرينة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم قال أيضا: (ولا يخطب)، والمراد خطبة المرأة التي هي طلب تزويجها، وذلك دليل على أن المراد العقد، لأنه هو الذي يطلب بالخطبة، وليس من شأن وطء الزوجة أن يطلب بخطبة كما هو معلوم.
الوجه الثاني: أن أبان بن عثمان راوي الحديث وهو من أعلم الناس بمعناه، فسره بأن المراد بقوله: ولا ينكح: أي لا يزوج، لأن السبب الذي أورد فيه الحديث، هو أنه أرسل له عمر بن عبيد الله حين أراد أن يزوج ابنه طلحة بن عمر ابنة شيبة بن جبير، فأنكر عليه ذلك أشد الإنكار وبين له أن حديث عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، دليل على منع عقد النكاح في حال الإحرام، ولم يعلم أنه أنكر عليه أحد تفسيره الحديث، بأن المراد بالنكاح فيه العقد لا الوطء.
الوجه الثالث: هو ما قدمنا من الأحاديث، والآثار الدالة على منع التزويج في حال الإحرام، كحديث ابن عمر، عند أحمد: أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل، وهو خارج من مكة: فأراد أن يعتمر أو يحج فقال: لا تتزوجها وأنت محرم. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ا ه.
فتراه: صرح بأن النكاح المنهي عنه في الإحرام: التزويج.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار في حديث ابن عمر هذا: في إسناده أيوب بن عيينة، وهو ضعيف وقد وثق، وكالأثر الذي رواه مالك والبيهقي والدارقطني، عن أبي غطفان بن طريف: أن أباه طريفا تزوج امرأة، وهو محرم فرد عمر بن الخطاب نكاحه ا ه.
وذلك دليل على أن عمر يفسر النكاح الممنوع في الإحرام بالتزويج ولا يخصه بالوطء. وقد روى البيهقي في السنن الكبرى بإسناده عن الحسن، عن علي قال: من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته.
وروي بإسناده أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن عليا رضي الله عنه قال: لا ينكح المحرم، فإن نكح رد نكاحه. وروي بإسناده أيضا عن شوذب مولى زيد بن ثابت: أنه تزوج، وهو محرم، ففرق بينهما زيد بن ثابت.
25

قال: وروينا في ذلك عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وروى بإسناده أيضا عن قدامة بن موسى قال: تزوجت، وأنا محرم فسألت سعيد بن المسيب فقال: يفرق بينهما، وروي بإسناده أيضا عن سعيد بن المسيب: أن رجلا تزوج، وهو محرم فأجمع أهل المدينة على أن يفرق بينهما. ا ه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي رجحانه بدليل هو أن إحرام أحد الزوجين أو الولي مانع من عقد النكاح لحديث عثمان الثابت في صحيح مسلم، ولما قدمنا من الآثار الدالة على ذلك، ولم يثبت في كتاب الله، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يعارض ذلك الحديث. وحديث ابن عباس معارض بحديث ميمونة، وأبي رافع، وقد قدمنا لك أوجه ترجيحهما عليه. ولو فرضنا أن حديث ابن عباس، لم يعارضه معارض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو محرم. فهذا فعل خاص لا يعارض عموما قوليا لوجوب تخصيص العموم القولي المذكور بذلك الفعل كما تقدم إيضاحه.
أما ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا ابن بشار، ثنا عبد الرحمان بن مهدي، ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن رجل، عن سعيد بن المسيب قال: وهم ابن عباس في تزويج ميمونة وهو محرم. فلا تنهض به حجة على توهيم ابن عباس، لأن الراوي، عن سعيد، لم تعرف عينه كما ترى، وما احتج به كل واحد من المتنازعين في هذه المسألة من الأقيسة كقياس من أجاز النكاح في الإحرام، النكاح على شراء الأمة في الإحرام. لقصد الوطء، وكقياس من منعه النكاح في الإحرام على نكاح المعتدة بجامع أن كل منهما لا يعقبه جواز التلذذ كالوطء والقبلة تركناه وتركنا مناقشته، لأن هذه المسألة من المسائل المنصوصة فلا حاجة فيها إلى القياس، مع أن كل الأقيسة
التي استدل بها الطرفان لا تنهض بها حجة.
فروع تتعلق بهذه المسألة
التي هي ما يمتنع بالإحرام على المحرم حتى يحل من إحرامه:
الفرع الأول: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي: أن المحرم يجوز له أن يرتجع مطلقته في حال الإحرام، لأن الرجعة ليست بنكاح مؤتنف لأنها لا يحتاج فيها إلى عقد، ولا صداق، ولا إلى إذن الولي ولا الزوجة فلا تدخل في قوله صلى الله عليه وسلم (لا ينكح المحرم ولا ينكح) وجواز الرجعة في الإحرام هو قول جمهور أهل العلم منهم: الأئمة الثلاثة، وأصحابهم:
26

مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وهو إحدى الروايتين، عن الإمام أحمد، وعزاه النووي في شرح المهذب لعامة العلماء إلا رواية عن الإمام أحمد.
وقال ابن قدامة في المغني في شرحه قول الخرقي: وللمحرم أن يتجر ويصنع الصنائع، ويرتجع امرأته ما نصه:
فأما الرجعة: فالمشهور إباحتها، وهو قول أكثر أهل العلم، وفيه رواية ثانية أنها لا تباح. إلى أن قال: وجه الرواية الصحيحة: أن الرجعية زوجة والرجعة إمساك بدليل قوله تعالى * (فأمسكوهن بمعروف) * فأبيح ذلك كالإمساك قبل الطلاق. انتهى محل الغرض منه.
وقال مالك في الموطأ في الرجل المحرم: أنه يراجع امرأته، إذا كانت في عدة منه. وذكر النووي عن الخراسانيين من الشافعية وجهين، أصحهما: جواز الرجعة، والثاني: منعها في الإحرام.
الفرع الثاني: اعلم أن التحقيق أن الولي إذا وكل وكيلا على تزويج وليته، فلا يجوز لذلك الوكيل تزويجها بالوكالة في حالة إحرامه، لأنه يدخل في عموم الحديث المذكور، وكذلك وكيل الزوج.
الفرع الثالث: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي: أن السلطان لا يجوز له أن يزوج بالولاية العامة في حال إحرامه، لدخوله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم (لا ينكح المحرم ولا ينكح) فلا يجوز إخراج السلطان من هذا العموم، إلا بدليل خاص به من كتاب أو سنة، ولم يرد بذلك دليل، فالتحقيق منع تزويجه في الإحرام وهو قول جمهور العلماء خلافا لبعض الشافعية القائلين: يجوز ذلك للسلطان، ولا دليل معهم من كتاب ولا سنة، وإنما يحتجون بأن الولاية العامة أقوى من الولاية الخاصة. بدليل أن الولي المسلم الخاص، لا يزوج الكافرة بخلاف السلطان، فله عندهم أن يزوج الكافرة بالولاية العامة.
الفرع الرابع: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي: أن للشاهد المحرم، أن يشهد على عقد نكاح، لأن الشاهد لا يتناوله حديث (لا ينكح المحرم ولا ينكح) لأن عقد النكاح بالإيجاب والقبول والشاهد لا صنع له في ذلك، وخالف في ذلك أبو سعيد الإصطخري من الشافعية، قائلا: إن شهادة الشاهد ركن في العقد، فلم تجز في حال الإحرام كالولي، وكره بعض أهل العلم للمحرم أن يشهد على النكاح.
27

الفرع الخامس: الأظهر عندي: أن المحرم لا يجوز له أن يخطب امرأة، وكذلك المحرمة، لا يجوز للرجل خطبتها لما تقدم من حديث عثمان، عند مسلم: (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب) فالظاهر أن حرمة الخطبة كحرمة النكاح، لأن الصيغة فيهما متحدة، فالحكم بحرمة أحدهما دون الآخر، يحتاج إلى دليل خاص، ولا دليل عليه. والظاهر من الحديث حرمة النكاح وحرمة وسيلته التي هي الخطبة كما تحرم خطبة المعتدة.
وبه تعلم أن ما ذكره كثير من أهل العلم من أن الخطبة لا تحرم في الإحرام، وإنما تكره أنه خلاف الظاهر من النص ولا دليل عليه، وما استدل به بعض أهل العلم من الشافعية وغيرهم: على أن المتعاطفين قد يكون أحدهما مخالفا لحكم الآخر كقوله تعالى * (كلوا من ثمره إذآ أثمر وءاتوا حقه يوم حصاده) *. قالوا: الأكل مباح وإيتاء الحق واجب، لا دليل فيه، لأن الأمر بالأكل معلوم أنه ليس للوجوب، بخلاف قوله في الحديث (لا يخطب) فلا دليل على أنه ليس للتحريم كقوله قبله (لا ينكح المحرم).
الفرع السادس: إذا وقع عقد النكاح في حال إحرام أحد الزوجين أو الولي، فالعقد فاسد، ولا يحتاج إلى فسخه بطلاق، كما هو ظاهر الآثار التي قدمنا، ومذهب مالك وأحمد: أنه يفسخ بطلاق مراعاة لقول من أجازه كأبي حنيفة ومن تقدم ذكرهم.
الفرع السابع: أظهر قولي أهل العلم عندي: أنه إذا وكل حلال حلالا في التزويج، ثم أحرم أحدهما أو المرأة أن الوكالة لا تنفسخ بذلك، بل له أن يزوج بعد التحلل بالوكالة السابقة خلافا لمن قال تنفسخ الوكالة بذلك، والتحقيق أن الوكيل إذا كان حلالا والموكل محرما فليس للوكيل الحلال عقد النكاح، قبل تحلل موكله خلافا لمن حكى وجها بجواز ذلك، ولا شك أن تجويز ذلك غلط.
الفرع الثامن: اعلم أنا قدمنا في أول الكلام على هذه المسألة: أن الإحرام يحرم بسببه على المحرم وطء امرأته في الفرج، ومباشرتها فيما دون الفرج لقوله تعالى: * (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * وقد قدمنا أن الرفث شامل للجماع، ومقدماته. وقد أردنا في هذا الفرع أن نبين ما يلزمه لو فعل شيئا من ذلك، ولا خلاف بين أهل العلم: أن المحرم إذا جامع امرأته قبل الوقوف بعرفات: أن
28

حجه يفسد بذلك، ولا خلاف بينهم أنه لا يفسد الحج من محظورات الإحرام، إلا الجماع خاصة، وإذا فسد حجة بجماعه قبل الوقوف بعرفات: فعليه إتمام حجه هذا الذي أفسده عليه قضاء الحج، وعليه الهدي، وهو عند مالك، والشافعي، وأحمد، وجماعات من الصحابة بدنة، وقال أبو حنيفة: عليه شاة، وقال داود: هو مخير بين بدنة وبقرة وشاة، فإن كان جماعه بعد الوقوف بعرفات، وقبل رمي جمرة العقبة، وطواف الإفاضة فحجه فاسد عند مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: حجه صحيح، وعليه أن يهدي بدنة متمسكا بظاهر حديث (الحج عرفة) وإن كان جماعه بعد رمي جمرة العقبة، وقبل طواف الإفاضة: فحجه صحيح عند الجميع، وعند الشافعي: تلزمه فدية، وعند أبي حنيفة: إن جامع بعد الحلق: فعليه شاة، وإن جامع قبل الحلق، وبعد الوقوف: فعليه بدنة.
وعن أحمد روايتان: فيما يلزمه هل هو شاة، أو بدنة، ومذهب مالك: أن حجه صحيح، وعليه: هدي وعمرة، ووجهه عنده أن الجماع لما كان بعد التحلل الأول برمي جمرة العقبة، لم يفسد به الحج، ولكنه وقع فيه نقص بسبب الجماع قبل التحلل الثاني، فكان هذا النقص عنده يجبر بالعمرة والهدي.
وفي الموطأ قال مالك: في رجل وقع بامرأته في الحج ما بينه، وبين أن يدفع من عرفة، ويرمي الجمرة أنه يجب عليه الهدي وحج قابل، قال: فإن كانت إصابته أهله بعد رمي الجمرة، فإنما عليه أن يعتمر ويهدي، وليس عليه حج قابل ا ه.
ونقل الباجي عن مالك: أن محل فساد الحج بالجماع قبل الرمي والإفاضة وبعد الوقوف بعرفة، فيما إذا كان الوطء واقعا يوم النحر، أما إن أخر رمي جمرة العقبة، وطواف الإفاضة معا عن يوم النحر، وجامع قبلهما: فلا يفسد حجه: وعليه عمرة وهديان: هدي لوطئه، وهدي لتأخير رمي الجمرة انتهى منه بواسطة نقل المواق في شرحه لمختصر خليل في الكلام على قوله: والجماع ومقدماته، وأفسد مطلقا كاستدعاء منى، وإن ينظر قبل الوقوف مطلقا، إن وقع قبل إفاضة وعقبه يوم النحر أو قبله وإلا فهدي ا ه.
فتحصل: أن الجماع قبل الوقوف بعرفات مفسد للحج، عند الأئمة الأربعة وبعد التحلل الأول، وقبل الثاني: لا يفسد الحج عند الأربعة.
وقد عرفت مما قدمنا ما يقع به التحلل عند كل واحد منهم، وإن وقع بعد الوقوف
29

بعرفة، وقبل التحلل: أفسد عند الثلاثة، خلافا لأبي حنيفة كما تقدم إيضاحه قريبا.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في الجماع، فاعلم أنهم متفقون على أن مقدمات الجماع كالقبلة، والمفاخذة، واللمس بقصد اللذة حرام على المحرم.
ولكنهم اختلفوا فيما يلزمه لو فعل شيئا من ذلك: فمذهب مالك وأصحابه: أن كل تلذذ بمباشرة المرأة من قبلة، أو غيرها، إذا حصل معه إنزال أفسد الحج. وقد بينا قريبا ما يلزم من أفسد حجه حتى إنه لو أدام النظر بقصد اللذة فأنزل: فسد عند مالك حجه ولو أنزل بسبب النظرة الأولى من غير إدامة: لم يفسد حجه عند مالك، وعليه الهدي. أما إذا تلذذ بالمرأة بما دون الجماع، ولم ينزل فإن كان بتقبيل الفم: فعليه هدي، والقبلة حرام على المحرم مطلقا عند مالك، وأما إن كان بغير القبلة كاللمس باليد، فهو ممنوع إن قصد به اللذة، وإن لم يقصدها به، فليس بممنوع، ولا هدي فيه ولو قصد به اللذة وإنما عليه الإثم إلا إذا حصل بسببه مذي فيلزم فيه الهدي ومحل هذا عندهم في غير الملاعبة الطويلة والمباشرة الكثيرة ففيها الهدي.
فتحصيل: أن مذهب مالك فساد الحج بمقدمات الجماع، إن أنزل، وإن لم ينزل ففي القبلة خاصة مطلقا: هدي وكذلك كل تلذذ خرج بسببه مذي، وكذلك الملاعبة الطويلة والمباشرة الكثيرة وما عدا ذلك من التلذذ، فليس فيه إلا التوبة والاستغفار، ولا يفسد الحج عنده إلا بالجماع، أو الإنزال. ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: أن التلذذ بما دون الجماع كالقبلة، واللمس بشهوة، والمفاخذة ونحو ذلك: يلزم بسببه دم، وسواء عنده في ذلك أنزل أو لم ينزل، ولو ردد النظر إلى امرأته حتى أمنى، فلا شيء عليه عند أبي حنيفة.
ومذهب الشافعي رحمه الله: هو أنه إن باشر امرأته فيما دون الفرج بشهوة أو قبلها بشهوة: أن عليه فدية الأذى والاستمناء عنده كالمباشرة فيما دون الفرج. وصحح بعض الشافعية: أن عليه شاة، ولو ردد النظر إلى امرأته، حتى أمنى، فلا شيء عليه عند الشافعي. ومذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه إن وطئ فيما دون الفرج، ولم ينزل: فعليه دم، وإن أنزل: فعليه بدنة. وفي فساد حجه روايتان:
إحداهما: أنه إن أنزل فسد حجه، وعليه بدنة وبها جزم الخرقي.
وقال في المغني: في هذه الرواية اختارها الخرقي وأبو بكر، وهو قول عطاء
30

والحسن، والقاسم بن محمد، ومالك، وإسحاق.
والرواية الثانية: أنه إن أنزل فعليه بدنة، ولا يفسد حجه.
وقال ابن قدامة في المغني: في هذه الرواية: وهي الصحيحة، إن شاء الله، لأنه استمتاع لا يجب بنوعه حد فلم يفسد الحج كما لو لم ينزل، ولأنه لا نص فيه ولا إجماع، ولا هو في معنى المنصوص عليه. انتهى محل الغرض منه.
وما ذكرنا عن أحمد: من أنه إن أنزل تلزمه بدنة: أي سواء قلنا بفساد الحج، أو عدم فساده، وممن قال بلزوم البدنة في ذلك: الحسن وسعيد بن جبير، والثوري، وأبو ثور، كما نقله عنهم صاحب المغني. وإن قبل امرأته، ولم ينزل أو أنزل جرى على حكم الوطء فيما دون الفرج، وقد أوضحناه قريبا.
وإن نظر إلى امرأته، فصرف بصره، فأمنى فعليه دم عند أحمد، وإن كرر النظر، حتى أمنى: فعليه بدنة عنده.
وقد قدمنا عن مالك: أنه إن كرر النظر، حتى أمنى فسد حجه، وهو مروي عن الحسن وعطاء.
واعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي: أن الحج الفاسد بالجماع يجب قضاؤه فورا في العام القابل، خلافا لمن قال: إنه على التراخي، ودليل ذلك الآثار التي ستراها إن شاء الله في الكلام على أدلة هذا المبحث.
وأظهر قولي أهل العلم عندي أيضا: أن الزوجين اللذين أفسدا حجهما يفرق بينهما، إذا أحرما بحجة القضاء ليلا يفسدا حجة القضاء أيضا بجماع آخر كما يدل عليه بعض
الآثار المروية عن الصحابة، والأظهر أيضا: أن الزوجة إن كانت مطاوعة له في الجماع يلزمها مثل ما يلزم الرجل من الهدي والمضي في الفاسد والقضاء في العام القابل، خلافا لمن قال: يكفيهما هدي واحد. والأظهر أنه إن أكرهها: لا هدي عليها. وإذا علمت أقوال أهل العلم في جماع المحرم، ومباشرته بغير الجماع، فاعلم أن غاية ما دل عليه الدليل: أن ذلك لا يجوز في الإحرام لأن الله تعالى نص على ذلك في قوله تعالى * (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * أما أقوالهم في فساد الحج وعدم فساده، وفيما يلزم في ذلك، فليس على شيء، من أقوالهم في ذلك دليل من كتاب ولا سنة، وإنما يحتجون بآثار مروية عن الصحابة. ولم أعلم بشيء
31

مروي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديثا منقطعا لا تقوم بمثله حجة: وهو ما رواه أبو داود في المراسيل، والبيهقي في سننه: أخبرنا أبو بكر محمد بن صالح أنبأ أبو الحسن عبد الله بن إبراهيم الفسوي الداودي، ثنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي، ثنا أبو داود السجستاني ثنا أبو توبة، ثنا معاوية يعني: ابن سلام، عن يحيى قال: أخبرني يزيد بن نعيم أو زيد بن نعيم: شك أبو توبة: أن رجلا من جذم جامع امرأته، وهما محرمان، فسأل الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما (اقضيا نسككما وأهديا هديا ثم ارجعا حتى إذا جئتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا ولا يرى واحد منكما صاحبه وعليكما حجة أخرى فتقبلان حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتما فيه ما أصبنا فأحرما وأنتما نسككما واهديا). هذا منقطع، وهو يزيد بن نعيم الأسلمي بلا شك. انتهى من البيهقي وتراه صرح بأنه منقطع وانقطاعه ظاهر، لأن يزيد بن نعيم المذكور من صغار التابعين. وقال الزيلعي في نصب الراية بعد أن ذكر الحديث المذكور، عند أبي داود في المراسيل، والبيهقي، وذكر قول البيهقي: إنه منقطع ما نصه: وقال ابن القطان في كتابه: هذا حديث لا يصح، فإن زيد بن نعيم مجهول، ويزيد بن نعيم بن هزال ثقة. وقد شك أبو توبة، ولا يعلم عمن هو منهما، ولا عمن حدثهم به معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، فهو لا يصح. قال ابن القطان: وروى ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن المسيب: أن رجلا من جذام جامع امرأته، وهما محرمان، فسأل الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما: (أتما حجكما، ثم ارجعا، وعليكما حجة أخرى، فإذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما، فأحرما وتفرقا، ولا يرى واحد منكما صاحبة ثم أتما نسككما واهديا) انتهى.
قال ابن القطان: وفي هذا أنه أمرهما بالتفرق في العودة لا في الرجوع وحديث المراسيل على العكس منه قال: وهذا ضعيف أيضا بابن لهيعة انتهى كلامه انتهى محل الغرض منه من نصب الراية للزيلعي.
وإذا كانت هذه المسألة المذكورة ليس فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث المنقطع سنده تبين: أن عمدة الفقهاء فيها على الآثار المروية عن الصحابة، فمن ذلك ما رواه مالك في الموطأ بلاغا أن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبا هريرة رضي الله عنهم سئلوا عن رجل أصاب أهله، وهو محرم بالحج؟ فقالوا: ينفذان يمضيان لوجههما حتى يقضيا حجهما ثم عليهما حج قابل والهدي. قال: وقال علي بن أبي طالب رضي ال
32

له عنه: وإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما ا ه.
وهذا الأثر عن هؤلاء الصحابة منقطع أيضا كما ترى.
وفي الموطأ أيضا: عن مالك، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ما ترون في رجل وقع بامرأته وهو محرم؟ فلم يقل له القوم شيئا. فقال سعيد: إن رجلا وقع بامرأته، وهو محرم، فبعث إلى المدينة يسأل عن ذلك، فقال بعض الناس: يفرق بينهما إلى عام قابل، فقال سعيد بن المسيب: لينفذا لوجههما فليتما حجهما الذي أفسداه، فإذا فرغا رجعا، فإن أدركهما حج قابل فعليهما الحج والهدي، ويهلان من حيث أهلا بحجهما الذي أفسداه ويتفرقان، حتى يقضيا حجهما. قال مالك: يهديان جميعا بدنة بدنة.
قال مالك في رجل وقع بامرأته في الحج: ما بينه وبين أن يدفع عن عرفة، ويرمي الجمرة إنه يجب عليه الهدي وحج قابل، فإن كانت إصابته أهله بعد رمي الجمرة، فإنما عليه أن يعتمر، ويهدي، وليس عليه حج قابل.
قال مالك: والذي يفسد الحج أو العمرة حتى يجب عليه، في ذلك، الهدي في الحج أو العمرة، التقاء الختانين. وإن لم يكن ماء دافق. قال: ويوجب ذلك أيضا الماء الدافق، إذا كان من مباشرة، فأما رجل ذكر شيئا حتى خرج منه ماء دافق، فلا أرى عليه شيئا، ولو أن رجلا قبل امرأته، ولم يكن من ذلك ماء دافق، لم يكن عليه القبلة إلا الهدي، وليس على المرأة التي يصيبها زوجها، وهي محرمة مرارا في الحج أو العمرة، وهي له في ذلك مطاوعة: إلا الهدي وحج قابل، إن أصابها في الحج، وإن كان أصابها في العمرة، فإنما عليها قضاء العمرة التي أفسدت والهدي ا ه. وفي الموطأ أيضا عن مالك عن أبي الزبير المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنه سئل عن رجل وقع بأهله، وهو بمنى، قبل أن يفيض، فأمره أن ينحر بدنة. وفي الموطأ أيضا عن مالك، عن ثور بن زيد الديلي، عن عكرمة مولى ابن عباس أنه قال: الذي يصيب أهله قبل أن يفيض يعتمر ويهدي. وفي الموطأ أيضا عن مالك: أنه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول في ذلك مثل قول عكرمة، عن ابن عباس. قال مالك: وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك. انتهى محل الغرض منه.
وروى البيهقي بإسناده، عن عطاء: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في محرم بحجة أصاب امرأته: يعني وهي محرمة؟ قال: يقضيان حجهما وعليهما الحج من
33

قابل من حيث كانا أحرما، ويفترقان حتى يتما حجهما، قال وقال عطاء: وعليهما بدنة، إن أطاعته، أو استكرهها، فإنما عليهما بدنة واحدة ا ه. وهذا الأثر منقطع
أيضا، لأن عطاء لم يدرك عمر رضي الله عنه وروى البيهقي بإسناده أيضا: أن مجاهدا سئل عن المحرم، يواقع امرأته؟ فقال: كان ذلك على عهد عمر رضي الله عنه، قال: يقضيان حجهما والله أعلم بحجهما، ثم يرجعان حلالا، كل واحد منهما لصاحبه، فإذا كان من قابل حجا وأهديا، وتفرقا في المكان الذي أصابها فيه.
وروى البيهقي بإسناده أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما: في رجل وقع على امرأته وهو محرم؟ قال: اقضيا نسككما، وارجعا إلى بلدكما، فإذا كان عام قابل فأخرجا حاجين، فإذا أحرمتما فتفرقا، ولا تلتقيا حتى تقضيا نسككما، وأهديا هديا. وفي رواية: ثم أهلا من حيث أهللتما أول مرة ا ه. قال النووي في هذا الأثر الذي رواه البيهقي عن ابن عباس، إسناده صحيح وروى البيهقي بإسناده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه: أن رجلا أتى عبد الله بن عمرو يسأله عن محرم، وقع بامرأته؟ فأشار إلى عبد الله بن عمر فقال: اذهب إلى ذلك فسله. قال شعيب: فلم يعرفه الرجل، فذهبت معه، فسأل ابن عمر فقال: بطل حجك. فقال الرجل: فما أصنع؟ قال: اخرج مع الناس واصنع ما يصنعون، فإذا أدركت قابلا، فحج واهد، فرجع إلى عبد الله بن عمرو، وأنا معه فأخبره، فقال: اذهب إلى ابن عباس فسله، قال شعيب: فذهبت معه إلى ابن عباس فسأله فقال له، كما قال ابن عمر، فرجع إلى عبد الله بن عمرو، وأنا معه، فأخبره بما قال ابن عباس، ثم قال: ما تقول أنت؟ فقال: قولي مثل ما قالا ا ه. ثم قال البيهقي هذا إسناد صحيح وفيه دليل على صحة سماع شعيب بن محمد بن عبد الله عن جده بن عمرو بن العاص، فترى هذا الأثر عن هؤلاء الصحابة الثلاثة فيه ذلك الحكم عنهم بإسناد صحيح.
وروى البيهقي أيضا من طرق أخرى، عن ابن عباس مثل ذلك، وفي بعض الروايات عن ابن عباس: أن على كل واحد منهما بدنة، وفي بعضها: أنهما تكفيهما بدنة واحدة، فهذه الآثار عن الصحابة وبعض خيار التابعين هي عمدة الفقهاء في هذه المسألة.
الفرع التاسع: اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي: أنه إذا جامع مرارا قبل أن يكفر كفاه هدي واحد، وإن كان كفر لزمته بالجماع الثاني كفارة أخرى، كما أنه إن زنى مرارا قبل إقامة الحد عليه كفاه حد واحد إجماعا، وإن زنى بعد إقامة الحد عليه لزمه حد آخر،
34

وهذا هو مذهب الإمام أحمد، وممن قال بأنه يكفيه هدي واحد مطلقا: مالك، وإسحاق، وعطاء.
والأصح في مذهب الشافعي: أنه يلزمه في الجماع الأول بدنة، وفي كل مرة بعد ذلك شاة. وعن أبي ثور: تلزمه بكل مرة بدنة، وهو رواية عن أحمد.
وعن أبي حنيفة: إن كان ذلك في مجلس واحد. فدم واحد وإلا فدمان.
واعلم أنهم اختلفوا فيما إذا جامع ناسيا لإحرامه؟ ومذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد: أن العمد والنسيان سواء بالنسبة إلى فساد الحج، وهو قول للشافعي، وهو قوله القديم. وقال في الجديد: إن وطئ ناسيا أو جاهلا لا يفسد حجه ولا شيء عليه، أما إن قبل امرأته ناسيا لإحرامه، فليس عليه شيء عند الشافعي وأصحابه قولا واحدا.
وقال ابن قدامة في المغني: ينبغي أن يكون الأمر كذلك في المذهب الحنبلي.
واعلم أن الجماع المفسد للحج هو التقاء الختانين الموجب للحد والغسل كما قدمناه في كلام مالك في الموطأ، والأظهر أن الإتيان في الدبر كالجماع في إفساد الحج، وكذلك الزنا أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من فعل كل ما لا يرضي الله تعالى.
وقد قدمنا أن أظهر قولي أهل العلم عندنا أنه يفرق بين الزوجين اللذين أفسدا حجهما، وذلك التفريق بينهما في حجة القضاء. لا في جميع السنة.
وظاهر الآثار المتقدمة أن ذلك التفريق بينهما إنما يكون من الموضع الذي جامعها فيه، وعن مالك: يفترقان من حيث يحرمان، ولا ينتظر موضع الجماع، وهو رواية عن أحمد، وهو أظهر. وعن مالك وأحمد: أن التفريق المذكور واجب وهو قول أو وجه عند الشافعية، والثاني عندهم: أنه مستحب وهو وجه أيضا عن الحنابلة، وممن قال بالتفريق بينهما: عمر بن الخطاب، وعثمان، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والثوري، وإسحاق، وابن المنذر. كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب ونقله ابن قدامة في المغني، عن عمر وابن عباس، وسعيد بن المسيب وعطاء، والنخعي والثوري، وأصحاب الرأي وغيرهم، وعن أبي حنيفة وعطاء: لا يفرق بينهما، ولا يفترقان قياسا على الجماع في نهار رمضان، فإنهما إذا قضيا اليوم الذي أفسداه لا يفرق بينهما.
واعلم أنا قدمنا خلاف العلماء في الهدي الذي على المفسد حجه بالجماع، وذكرنا أنه عند مالك والشافعي وأحمد: بدنة، وهو قول جماعات من الصحابة وغيرهم منهم ابن
35

عباس، وطاوس، ومجاهد الثوري، وأبو ثور، وإسحاق، وغيرهم. ولم نتكلم على ما يلزمه إن عجز عن البدنة، وفي ذلك خلاف بين أهل العلم، فذهب بعضهم إلى أنه إن عجز عن البدنة كفته شاة، وممن قال به الثوري، وإسحاق، وذهب بعضهم: إلى أنه إن لم يجد بدنة فبقرة، فإن لم يجد بقرة فسبع من الغنم، فإن لم يجد أخرج بقيمة البدنة طعاما، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما، وهذا هو مذهب الشافعي، وبه قال جماعة من أهل العلم. وعن أحمد رواية: أنه مخير بين هذه الخمسة المذكورة.
واعلم أن المفسد حجه بالجماع إذا قضاه على الوجه الذي أحرم به في حجه الفاسد، كأن يكون في حجه الفاسد مفردا ويقضيه مفردا أو قارنا، ويقضيه قارنا فلا إشكال في ذلك وكذلك إن كان مفردا في الحج الذي أفسده وقضاه قارنا فلا إشكال لأنه جاء بقضاء الحج مع زيادة العمرة، وأما إذا كان قارنا في الحج الذي أفسده ثم قضاه مفردا، فالظاهر أن الدم اللازم له بسبب القران لا يسقط عنه بإفراده في القضاء، خلافا لمن زعم ذلك.
وقال النووي في شرح المهذب: إذا وطئ القارن، فسد حجه وعمرته، ولزمه المضي في فاسدهما، وتلزمه بدنة للوطء، وشاة بسبب القران، فإذا قضى لزمته أيضا شاة أخرى، سواء قضى قارنا، أم مفردا لأنه توجه عليه القضاء قارنا، فإذا قضى مفردا لا يسقط عنه دم القران. قال العبدري: وبهذا كله قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: إن وطئ قبل طواف العمرة، فسد حجه وعمرته، ولزمه المضي في فاسدهما والقضاء، وعليه شاتان: شاة لإفساد الحج، وشاة لإفساد العمرة ويسقط عنه دم القران، فإن وطئ بعد طواف العمرة فسد حجه، وعليه قضاؤه وذبح شاة، ولا تفسد عمرته فتلزمه بدنة بسببها، ويسقط عنه دم القران.
قال ابن المنذر، وممن قال يلزمه هدي واحد: عطاء وابن جريج ومالك والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور. وقال الحكم: يلزمه هديان ا ه. من شرح المهذب.
وقد قدمنا أن الأظهر عندنا: أن الزوجين المفسدين حجهما بالجماع تلزم كل واحد منهما بدنة، إن كانت مطاوعة له، وهو مذهب مالك. وبه قال النخعي، وهو أحد القولين للشافعي.
قال النووي: قال ابن المنذر: وأوجب ابن عباس، وابن المسيب والضحاك والحكم، وحماد، والثوري، وأبو ثور على كل واحد منهما هديا، وقال النخعي ومالك:
36

على كل واحد منهما بدنة.
وقال أصحاب الرأي: إن كان قبل عرفة، فعلى كل واحد منهما شاة، وعن أحمد روايتان:
إحداهما: يجزئهما هدي واحد.
والثانية: على كل واحد منهما هدي، وقال عطاء وإسحاق: لزمهما هدي واحد.
الفرع العاشر: إذا جامع المحرم بعمرة قبل طوافه: فسدت عمرته إجماعا، وعليه المضي في فاسدها والقضاء والهدي، فإن كان جماعه بعد الطواف، وقبل السعي فعمرته فاسدة أيضا عند الشافعي، وأحمد، وأبي ثور، وهو مذهب مالك فعليه إتمامها، والقضاء والدم، وقال عطاء: عليه شاة، ولم يذكر القضاء. وقال أبو حنيفة: إن جامع المعتمر بعد أن طاف بالبيت أربعة أشواط لم تفسد عمرته، وعليه دم، وإن طاف ثلاثة أشواط، فسدت، وعليه إتمامها والقضاء ودم، وأما إن كان جماعه بعد الطواف والسعي، ولكنه قبل الحلق، فلم يقل بفساد عمرته إلا الشافعي.
قال ابن المنذر: ولا أحفظ هذا عن غير الشافعي. وقال ابن عباس، والثوري، وأبو حنيفة: عليه دم دم، وقال مالك: عليه الهدي، وعن عطاء: أنه يستغفر الله، ولا شيء عليه، قال ابن المنذر: قول ابن عباس أعلا. انتهى بواسطة نقل النووي.
وأظهر قولي أهل العلم عندي: أن المحرمة التي أكرهها زوجها على الوطء حتى أفسد حجها أو عمرتها بذلك، أن جميع التكاليف اللازمة لها بسبب حجة القضاء من نفقات سفرها في الحج، كالزاد والراحلة والهدي اللازم لها كله على الزوج، لأنه هو الذي تسبب لها في ذلك وإن كانت بانت منه، ونكحت غيره، وأنه إن كان عاجزا لفقره صرفت ذلك من مالها، ثم رجعت عليه بذلك، إن أيسر، وهذا مذهب مالك وأصحابه وعطاء، ومن وافقهم، خلافا لمن قال: إن جميع تكاليف حجة القضاء في مالها لا في مال الزوج، وهو قول بعض أهل العلم.
قال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته، على تبيين الحقائق، شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي ما نصه: قال في شرح الطحاوي: أما المرأة إذا كانت نائمة، أو جامعها صبي أو مجنون، فذلك كله سواء، ولا ترجع المرأة من ذلك بما لزمها على المكره، لأن ذلك شيء لزمها فيما بينها، وبين الله غير محبور عليه كرجل أكره على
37

النذر، فإنه يلزمه، فإذا أدى ما لزمه، فإنه لا يرجع على المكره، كذلك هنا انتهى إتقاني رحمه الله تعالى. انتهى كلام الشلبي في حاشيته.
وقال في موضع آخر من حاشيته المذكورة: ثم إذا كانت مكرهة حتى فسد حجها ولزمها دم، هل ترجع على الزوج، عن أبي شجاع: لا، وعن القاضي أبي حازم: نعم ا ه.
وقد ذكرنا أن الأظهر عندنا لزوم ذلك لزوجها الذي أكرهها، ووجهه ظاهر جدا، لأن سببه هو جنابته بالجماع، الذي لا يجوز له شرعا، ومن تسبب في غرامة إنسان بفعل حرام، فإلزامه تلك الغرامة لا شك في ظهور وجهه، والعلم عند الله تعالى.
وقال ابن قدامة في المغني: في مذهب أحمد في هذه المسألة: ما نصه: وإذا كانت المرأة مكرهة على الجماع، فلا هدي عليها، ولا على الرجل أن يهدي عنها نص عليه أحمد لأنه جماع يوجب الكفارة، فلم يجب به حال الإكراه أكثر من كفارة واحدة كما في الصيام، وهذا قول إسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر.
وعن أحمد رواية أخرى: أن عليه أن يهدي عنها، وهو قول عطاء، ومالك، لأن إفساد الحج وجد منه في حقها، فكان عليه لإفساده حجها هدي قياسا على حجه، وعنه ما يدل على أن الهدي عليها، لأن فساد الحج ثبت بالنسبة إليها، ويحتمل أنه أراد أن الهدي عليها، ويتحمله الزوج عنها، فلا يكون رواية ثالثة. انتهى منه.
وفي مذهب الشافعي في هذه المسألة وجهان، الأصح منهما عند أصحاب الشافعي: وجوب ذلك على الزوج كما بينه النووي في شرح المهذب. كما إن كانت مطاوعة له، فالأظهر أن على كل واحد منهما تكاليف حجة القضاء، وكل ما سببه الوطء المذكور لأنهما سواء فيه، ولا ينبغي العدول عن ذلك.
الفرع الحادي عشر: اعلم أنا قدمنا أن من أفسد حجه أو عمرته، لزمه القضاء، وقد بينا أن الصحيح وجوبه على الفور لا على التراخي، وسواء في ذلك كان الحج والعمرة فرضا أو نفلا، لأن النفل منهما يصير فرضا بالشروع فيه، وقد أردنا أن نبين في هذا الفرع أنه لو أحرم بالقضاء، فأفسده أيضا بالجماع، لزمته الكفارة ولزمه قضاء واحد، ولو تكرر ذلك منه مائة مرة، ويقع القضاء عن الحج الأول أي الذي أفسده أولا، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني عشر: قد قدمنا أن مما يمنع بسبب الإحرام، حلق شعر الرأس لقوله
38

تعالى * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) * فإن حلق شعر رأسه لأجل مرض، أو أذى ككثرة القمل في رأسه، فقد نص تعالى على ما يلزمه بقوله * (
ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) *.
وهذه الآية الكريمة نزلت في كعب بن عجرة رضي الله عنه، والتحقيق الذي لا شك فيه: أن الثلاثة المذكورة في الآية على سبيل التخيير بينها لأن لفظة أو في قوله * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * حرف تخيير، والتحقيق أن الصيام المذكور ثلاثة أيام، وأن الصدقة المذكورة ثلاثة آصع بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وما سوى هذا فهو خلاف التحقيق.
وقد روى الشيخان في صحيحيهما، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: كان بي أذى من رأسي، فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: (ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ منك ما أرى، أتجد شاة؟ قلت: لا. فنزلت الآية * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * قال: هو صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين نصف صاع نصف صاع طعاما لكل مسكين) وفي رواية (أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فقال: كأن هوام رأسك تؤذيك؟ فقلت: أجل. قال: فاحلقه، واذبح شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو تصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين) رواه مسلم، وأحمد، وأبو داود، ولأبي داود في رواية (فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، فرقا من زبيب، أو انسك شاة فحلقت رأسي ثم نسكت) وفي رواية عند البخاري، عن كعب بن عجرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لعلك آذاك هوامك؟ قال: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة) وفي رواية عند البخاري أيضا، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال (وقف علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ورأسي يتهافت قملا فقال: يؤذيك هوامك؟ قلت: نعم. قال: فاحلق رأسك، أو قال: احلق قال: في نزلت هذه الآية * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) * إلى آخرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق بين ستة، أو انسك بما تيسر) وفي رواية عند البخاري أيضا (فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يطعم فرقا بين ستة أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام). وبعض هذه الروايات في صحيح مسلم وفيه غيرها بمعناها.
39

والفرق ثلاثة آصع. فهذه النصوص الصحيحة الصريحة: مبينة غاية البيان آية الفدية، موضحة: أن الصيام المذكور في الآية ثلاثة أيام، وأن الصدقة فيها ثلاثة آصع بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وأن النسك فيها ما تيسر شاة فما فوقها، وأن ذلك على سبيل التخيير بين الثلاثة، كما هو نص الآية، والأحاديث المذكورة، وهذا لا ينبغي العدول عنه، لدلالة القرآن، والسنة الصحيحة عليه، وهو قول جماهير العلماء.
وبه تعلم أن قول الحسن والثوري وعكرمة ونافع: أن الصيام عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين، خلاف الصواب لما ذكرنا، وإنما يقول أصحاب الرأي: من أنه يجزئ نصف صاع من البر خاصة لكل مسكين، وأما غير البر كالتمر والشعير مثلا، فلا بد من صاع كامل لكل مسكين، خلاف الصواب أيضا لمخالفته للروايات الصحيحة، عن النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها آنفا، وأن ما رواه الطبري وغيره، عن سعيد بن جبير: من أن الواجب أولا النسك، فإن لم يجد نسكا، فهو مخير بين الصوم والصدقة، خلاف الصواب أيضا، للأدلة التي ذكرناها، وهي واضحة صريحة في التخيير.
ومن أصرحها في التخيير ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، عن داود، عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له (إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين) ا ه. فصراحة هذا في التخيير بين الثلاثة كما ترى وما رواه مالك في موطئه، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما، فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه، وقال: (صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين، لكل إنسان أو انسك بشاة. أي ذلك فعلت أجزأ عنك) ا ه من الموطأ.
وقوله (أي ذلك فعلت أجزأ عنك) صريح في التخيير كما ترى، مع أن الآية الكريمة، والروايات الثابتة في الصحيحين نصوص صريحة في ذلك لصراحة لفظة، أو في التخيير والعلم عند الله تعالى.
وهذا الذي بينا حكمه الآن: هو حلق جميع شعر الرأس أما حلق بعض شعر الرأس، أو شعر باقي الجسد غير الرأس، فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.
40

واعلم أن ما جاء في بعض الروايات أن النسك المذكور في الآية بقرة، يجاب عنه من وجهين، وسنذكر هنا إن شاء الله بعض الروايات الواردة بذلك، والجواب عنها.
قال أبو داود في سننه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن نافع: أن رجلا من الأنصار أخبره عن كعب بن عجرة، وكان قد أصابه في رأسه أذى، فحلق فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدي هديا بقرة. ا ه منه.
وقال ابن حجر في الفتح: بعد أن أشار لحديث أبي داود: هذا وللطبراني من طريق عبد الوهاب بن بخت، عن نافع عن ابن عمر قال: حلق كعب بن عجرة رأسه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتدي فافتدى ببقرة.
ولعبد بن حميد من طريق أبي معشر، عن نافع، عن ابن عمر قال: افتدى كعب من أذى كان في رأسه، فحلقه ببقرة قلدها وأشعرها.
ولسعيد بن منصور من طريق ابن أبي ليلى، عن نافع عن سليمان بن يسار قيل لابن كعب بن عجرة: ما صنع أبوك حين أصابه الأذى في رأسه؟ قال: ذبح بقرة. انتهى من الفتح. ثم قال: فهذه الطرق كلها تدور على نافع.
وقد اختلف عليه في الواسطة التي بينه وبين كعب، وقد عارضها ما هو أصح منها، من أن الذي أمر به كعب وفعله إنما هو شاة. وروى سعيد بن منصور، وعبد بن
حميد من طريق المقبري، عن أبي هريرة: أن كعب بن عجرة ذبح شاة لأذى كان أصابه، وهذا أصوب من الذي قبله، واعتمد ابن بطال على رواية نافع، عن سليمان بن يسار فقال: أخذ كعب بأرفع الكفارات، ولم يخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمره به من ذبح الشاة، بل وافقه، وزاد ففيه: أن من أفتى بأيسر الأشياء فله أن يأخذ بأرفعها، كما فعل كعب.
قلت: هو فرع ثبوت الحديث ولم يثبت لما قدمته. والله أعلم. انتهى كلام ابن حجر.
وقد علمت منه الروايات المقضية: أن النسك في آية الفدية المذكورة بقرة، وأن الجواب عنها من وجهين:
الأول: عدم ثبوت الروايات الواردة بالبقرة، ومعارضتها بما هو صحيح ثابت من أن النسك المذكور في الآية شاة كما قدمناه.
والجواب الثاني: أنا لو فرضنا أن تلك الروايات ثابتة، فهي لا تعارض الروايات
41

الصحيحة الدالة، على أن النسك المذكور: شاة، وذلك بأن اللازم هو الشاة، والتطوع بالبقرة تطوع بأكثر من اللازم. ولا مانع من التطوع بأكثر مما يلزم، والعلم عند الله تعالى.
وهذا الذي ذكرنا حكمه: هو حلق الرأس لعذر كمرض، أو أذى في الرأس ككثرة القمل فيه، كما هو موضوع آية الفدية، والأحاديث التي ذكرنا.
أما إن حلق رأسه قبل وقت الحلق لغير عذر من مرض، أو أذى من رأسه، فقد اختلف أهل العلم فيما يلزمه، فذهب مالك والشافعي وهو ظاهر مذهب أحمد: إلى أن الفدية في العمد بلا عذر، حكمها حكم الفدية لعذر المرض، أو الأذى في الرأس، ولا فرق بين المعذور وغيره، إلا في الإثم، فإن المعذور تلزمه الفدية، ولا إثم عليه ومن لا عذر له تلزمه الفدية المذكورة مع الإثم، وهو مروي عن الثوري.
وعن الحنابلة وجه: أنه لا فدية على من حلق ناسيا إحرامه، وهو قول إسحاق، وابن المنذر، واحتجوا بالأدلة الدالة على العذر بالنسيان.
وذهب أبو حنيفة: إلى الفرق بين من حلق لعذر ومن حلق لغير عذر، فإن حلقه لعذر، فعليه الفدية المذكورة في الآية على سبيل التخيير، وفاقا للجمهور، وإن كان حلقه لغير عذر تعين عليه الدم دون الصيام والصدقة، ولا أعلم لأقوالهم رحمهم الله في هذه المسألة نصا واضحا يجب الرجوع إليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع.
أما الذين قالوا: إن فدية غير المعذور كفدية المعذور. فاحتجوا، بأن الحلق إتلاف، فاستوى عمده وخطأه كقتل الصيد. قالوا: ولأن الله تعالى أوجب الفدية على من حلق رأسه لأذى به وهو معذور، فكان ذلك تنبيها على وجوبها على غير المعذور ا ه. ولا يخفى أن هذا النوع من الاستدلال وأمثاله ليس فيه مقنع.
وأما الذين فرقوا بين المعذور وغيره، وهم الحنفية فاستدلوا بظاهر قوله تعالى: * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * قالوا: فرتب الفدية المذكورة على العذر، فدل ذلك على أن من ليس له عذر، لا يكون له هذا الحكم المرتب على العذر خاصة.
واحتج بعض أجلاء علماء الشافعية على استدلال الحنفية بالآية المذكورة بأنه قول بدليل الخطاب: يعني مفهوم المخالفة، والمقرر في أصول الحنفية: عدم الاحتجاج بدليل الخطاب.
42

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا يلزم الحنفية احتجاج الشافعية المذكور علهيم لأنهم يقولون: نعم نحن لا نعتبر مفهوم المخالفة، ولكن نرى أن قوله * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) * ليس فيه تعرض لحكم الحالق لغير عذر، لا بنفي الفدية المذكورة، ولا بإثباتها وقد ظهر لنا من دليل آخر خارج عن الآية: أنه يلزمه دم ا ه. ولا خلاف بين أهل العلم: أن صيام الفدية له أن يصومه حيث شاء، والأظهر عندي في النسك، والصدقة أيضا أن له أن يفعلهما حيث شاء، لأن فدية الأذى أشبه بالكفارة منها بالهدي، ولأن الله لم يذكر للفدية محلا معينا، ولم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم وسماها نسكا ولم يسمها هديا، والظاهر أنه لا مانع من أن ينوي بالنسك المذكور الهدي، فيجري على حكم الهدي، فلا يصح في غير الحرم، إلا أنه لا يجوز له الأكل منه، لأنه في حكم الكفارة، كما قاله علماء المالكية، وعند الحنفية، ومن وافقهم يختص النسك المذكور بالحرم. والعلم عند الله تعالى. أما إذا كان الذي حلقه بعض شعر رأسه لا جميعه، أو كان شعر جسده، أو بعضه لا شعر الرأس، فليس في ذلك نص صريح من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، لأن الله جل وعلا إنما ذكر في آية الفدية: حلق الرأس، وظاهرها حلق جميعه لا بعضه، والعلماء مختلفون في ذلك ولم يظهر لنا في مستندات أقوالهم. ما فيه مقنع، يجب الرجوع إليه والعلم عند الله تعالى.
فذهب مالك رحمه الله وأصحابه إلى أن ضابط ما تلزم به فدية: الأذى من الحلق هو حصول أحد أمرين:
أحدهما: أن يحصل له بذلك ترفه.
والثاني: أن يزيل عنه به أذى. أما حلق القليل من شعر رأسه، أو غيره مما لا يحصل به ترفه، ولا إماطة أذى، فيلزم فيه التصدق بحفنة: وهي يد واحدة، وكذلك عندهم الظفر الواحد لا لإماطة أذى، وقتل القملة أو القملات.
وقال ابن القاسم في المدونة: ما سمعت بحد فيما دون إماطة الأذى أكثر من حفنة من شيء من الأشياء، وقد قال في قملة أو قملات حفنة من طعام، والحفنة بيد واحدة. انتهى بواسطة نقل المواق في شرحه لقول خليل في مختصره، وفي الظفر الواحد، لا لإماطة الأذى حفنة ا ه.
43

وذهب الشافعي وأصحابه: إلى أن حلق ثلاث شعرات فصاعدا تلزم فيه فدية الأذى كاملة، واحتجوا بأن الثلاث: يقع عليها اسم الجمع المطلق، فكان حلقها كحلق الجميع، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وقال القاضي: إنها المذهب، وبذلك قال الحسن، وعطاء، وابن عيينة وأبو ثور، كما نقله عنهم صاحب المغني. أما حلق الشعرة الواحدة، أو الشعرتين فللشافعية فيه أربعة أقوال:
الأول: وهو أصحها عند محققيهم، وهو نص الشافعي في أكثر كتبه: أنه يجب في الشعرة الواحدة مد وفي الشعرتين مدان.
الثاني: يجب في شعرة واحدة درهم، وفي شعرتين درهمان.
الثالث: يجب في شعرة: ثلث دم وفي شعرتين: ثلثاه.
الرابع: أن في الشعرة الواحدة دما كاملا. ومذهب الإمام أحمد: وجوب الفدية كاملة في أربع شعرات فصاعدا، وهذه الرواية اقتصر عليها الخرقي، وقد قدمنا قريبا، الرواية عنه بوجوب الفدية بثلاث شعرات فصاعدا. أما ما هو أقل من القدر. الذي يوجب الفدية، وهو ثلاث شعرات، أو شعرتان بحسب الروايتين المذكورتين ففي الشعرة الواحدة: مد من طعام، وفي الشعرتين: مدان، وعنه أيضا في كل شعرة: قبضة من طعام، وروي نحوه عن عطاء.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن حلق ربع رأسه، أو ربع لحيته، أو حلق عضوا كاملا كرقبته، أو عانته أو أحد إبطيه، ونحو ذلك: لزمته فدية الأذى، إن كان ذلك لعذر، وإن كان لغير عذر: لزمه دم، ويلزم عنده في حلق أقل مما ذكر كحلق أقل من ربع الرأس، أو ربع اللحية، أو أقل من عضو كامل صدقة، والصدقة عندهم: نصف صاع من بر، أو صاع من غيره.
وروي عن أبي حنيفة وأصحابه: أن في كل شعرة قبضة من طعام كما ذكره عنهم صاحب المغني.
وأما حلق شعر البدن غير الرأس، فقد علمت مما ذكرنا آنفا أن مذهب أبي حنيفة فيه: أنه إن حلق عضوا كاملا ففيه الفدية أو الدم، وإن حلق أقل من عضو، ففيه الصدقة، وأن حكم اللحية عنده كحكم الرأس، وحلق الربع فيهما كحلق الجميع.
ومذهب الشافعي أن حلق شعر الجسد غير الرأس كحكم حلق الرأس، فتلزم الفدية
44

في ثلاث شعرات فصاعدا، سواء كانت من شعر الرأس أو غيره من الجسد، وفي الشعرة، أو الشعرتين من الجسد عندهم الأقوال الأربعة المتقدمة، وإن حلق شعر رأسه وشعر بدنة معا، لزمه عند الشافعي، وأصحابه: فدية واحدة، خلافا لأبي القاسم الأنماطي القائل: يلزمه فديتان، محتجا بأن شعر الرأس مخالف لشعر البدن، لأن النسك يتعلق بشعر الرأس، فيلزم حلقه، أو تقصيره بخلاف شعر البدن.
واحتج الشافعية بأنهما، وإن اختلف حكمهما في النسك فهما جنس واحد، فأجزأت لهما فدية واحدة.
ومذهب الإمام أحمد في هذه المسألة كمذهب الشافعي فشعر الرأس وشعر البدن حكمهما عنده سواء. وإن حلق شعر رأسه، وبدنه: فعليه فدية واحدة، وعنه رواية أخرى: أنه يلزمه دمان، إذا حلق من كل من الرأس، والجسد ما تجب به الفدية منفردا عن الآخر كقول الأنماطي المتقدم.
قال في المغني: وهو الذي ذكره القاضي، وابن عقيل، لأن الرأس يخالف البدن، بحصول التحلل به دون البدن، ولنا أن الشعر كله جنس واحد في البدن، فلم تتعدد الفدية فيه باختلاف مواضعه كسائر البدن، وكاللباس، ودعوى الاختلاف تبطل باللباس فإنه يجب كشف الرأس، دون غيره، والجزا في اللبس فيهما واحد.
وقال ابن قدامة في المغني أيضا: وإن حلق من رأسه شعرتين، ومن بدنه شعرتين فعليه دم واحد هذا ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي الخطاب، ومذهب أكثر الفقهاء. ومذهب مالك في هذه المسألة: أن شعر البدن كشعر الرأس فإن حلق من شعر بدنه ما فيه ترفه، أو إماطة أذى: لزمته الفدية، وإلا فالتصدق بحفنة بيد واحدة.
وسئل مالك: عن المحرم يتوضأ فيمر يديه على وجهه، أو يخلل لحيته في الوضوء، أو يدخل يده في أنفه لمخاط ينزعه، أو يمسح رأسه، أو يركب دابته، فيحلق ساقه إلا كاف أو السرج؟ قال مالك: ليس عليه في ذلك كله شيء، وهذا خفيف، ولا بد للناس منه انتهى بواسطة نقل الخطاب في كلامه على قول خليل، وتساقط شعر لوضوء أو ركوب ا ه.
وإذا علمت أقوال الأئمة رحمهم الله في شعر الجسد. فاعلم أني لا أعلم لشيء منها مستندا من نص كتاب، أو سنة.
45

والأظهر أنهم قاسوا شعر الجسد على شعر الرأس، بجامع أن الكل قد يحصل بحلقه الترفه، والتنظف، والظاهر أن اجتهادهم في حلق بعض شعر الرأس يشبه بعض أنواع تحقيق المناط، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث عشر في حكم قص المحرم أظافره أو بعضها:
وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فالصحيح من مذهب مالك: أنه إن قلم ظفرين فصاعدا: لزمته الفدية مطلقا، وإن قلم ظفرا واحدا، الإماطة أذى عنه: لزمته الفدية أيضا، وإن قلمه لا لإماطة أذى: لزمه إطعام حفنة بيد واحدة.
قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره: وفي الظفر الواحد لا لإماطة الأذى حفنة، ما نصه: أما لو قلم ظفرين فلم أر في ابن عبد السلام والتوضيح، وابن فرحون في شرحه، ومناسكه وابن عرفة، والتادلي، والطراز وغيرهم خلافا في لزوم الفدية، ولم يفصلوا كما فصلوا في الظفر الواحد والله أعلم انتهى منه.
ولا ينبغي أن يختلف في أن الظفر إذا انكسر جاز أخذه، ولا شيء فيه، لأنه بعد الكسر لا ينمو فهو كحطب شجر الحرم. والله أعلم.
ومذهب الشافعي وأصحابه: أن حكم الأظفار كحكم الشعر، فإن قلم ثلاثة أظفار، فصاعدا، فعليه الفدية كاملة، وأظفار اليد والرجل في ذلك سواء، وإن قلم ظفرا واحدا أو ظفرين ففيه الأقوال الأربعة فيمن حلق شعرة واحدة أو شعرتين، وقد قدمنا أن أصحها عندهم أن في الشعرة: مدا، وفي الشعرتين: مدين، وباقي الأقوال المذكورة موضح قريبا ومذهب الإمام أحمد في الأظفار كمذهبه في الشعر، ففي أربعة أظفار، أو ثلاثة على الرواية الأخرى: فدية كاملة، وحكم الظفر الواحد كحكم الشعرة الواحدة، وحكم الظفرين كحكم الشعرتين. وقد تقدم موضحا قريبا.
ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة: أنه لو قص أظفار يديه ورجليه جميعا بمجلس واحد، أو قص أظفار يد واحدة كاملة في مجلس، أو رجل كذلك لزمه الدم، وإن قطع مثلا خمسة أظفار ثلاثة من يد واثنان من رجل، أو يد أخرى، أو عكس ذلك: فعليه الصدقة: وهي نصف صاع من بر عن كل ظفر، والمعروف عند الحنفية في باب الفدية: أن ما كان لعذر ففيه فدية الأذى المذكورة في الآية، وما كان لغير عذر ففيه الدم.
46

أما لو قص أظفار إحدى يديه، أو رجليه في مجلس، والأخرى في مجلس آخر، فعند أبي حنيفة، وأبي يوسف: يتعدد الدم، حتى إنه يمكن أن تلزمه أربعة دماء للرجلين واليدين، إذا كانت كل واحدة في مجلس، وعند محمد: لا يلزمه إلا دم واحد، ولو تعددت المجالس إلا إذا تخللت الكفارة بينهما، وقد علمت أنه لو قص أظافر أكثر من خمسة متفرقة من الرجلين واليدين: ليس عليه إلا الصدقة عندهم.
وقال زفر: يجب الدم بقص ثلاثة أظفار من اليد أو من الرجل، وهو قول أبي حنيفة الأول، بناء على اعتبار الأكثر، والثلاثة أكثر من الباقي بعدها بالنسبة إلى الخمسة.
وقال ابن قدامة في المغني: قال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره، وعليه الفدية بأخذها في قول أكثرهم، وهو قول حماد، ومالك، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي. وروي ذلك عن عطاء، وعنه لا فدية عليه، لأن الشرع لم يرد فيه بفدية، ولم يعتبر ابن المنذر في حكايته الإجماع قول داود الظاهري: إن المحرم له أن يقص أظفاره، ولا شيء عليه لعدم النص، وفي اعتبار داود في الإجماع خلاف معروف، والأظهر عند الأصوليين اعتباره في الإجماع. والله تعالى أعلم.
ثم قال صاحب المغني: ولنا أنه أزال ما منع إزالته لأجل الترفه، فوجبت عليه الفدية كحلق الشعر، وعدم النص فيه، لا يمنع قياسه. كشعر البدن مع شعر الرأس، والحكم في فدية الأظفار كالحكم في فدية الشعر سواء في أربعة منها: دم. وعنه في ثلاثة: دم، وفي الظفر الواحد: مد من طعام وفي الظفرين: مدان على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف فيه. وقول الشافعي وأبي ثور كذلك انتهى محل الغرض منه.
وإذا عرفت مذاهب الأئمة في حكم قص المحرم أظفاره، وما يلزمه في ذلك فاعلم أني لا أعلم لأقوالهم مستندا من النصوص، إلا ما ذكرنا عن ابن المنذر، من الإجماع على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره، أما لزوم الفدية، فلم يدع فيه إجماعا، وإلا ما جاء عن بعض السلف من الصحابة والتابعين، من تفسير آية الحج، فإنه يدل على منع المحرم من أخذ أظفاره كمنعه من حلق شعره حتى يبلغ الهدي محله، والآية المذكورة هي قوله تعالى: * (ثم ليقضوا تفثهم) *.
قال صاحب الدر المنثور في التفسير بالمأثور: وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله * (ثم ليقضوا تفثهم) * قال: (يعني
47

بالتفث: وضع إحرامهم من حلق الرأس، ولبس الثياب، وقص الأظفار، ونحو ذلك).
وقال أيضا: وأخرج ابن أبي شيبة، عن محمد بن كعب قال: التفث: حلق العانة ونتف الإبط، والأخذ من الشارب، وتقليم الأظفار ا ه. ونحو هذا كثير في كلام المفسرين وإن فسر بعضهم الآية بغيره.
وعلى التفسير المذكور فالآية تدل على: أن الأظفار كالشعر بالنسبة إلى المحرم، ولا سيما أنها معطوفة بثم على نحر الهدايا لأن الله تعالى قال * (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) * والمراد بذكر اسمه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام: التسمية عند نحر الهدايا والضحايا، ثم رتب على ذلك قوله * (ثم ليقضوا تفثهم) * فدل على أن الحلق وقص الأظافر، ونحو ذلك، ينبغي أن يكون بعد النحر كما قال تعالى: * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) * وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: أن من حلق قبل أن ينحر لا شيء عليه. كما بيناه موضحا في سورة البقرة في الكلام على قوله * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) * ويؤيد التفسير المذكور الدال على ما ذكرنا كلام أهل اللغة.
قال الجوهري في صحاحه: التفث في المناسك: ما كان من نحو قص الأظفار، والشارب وحلق الرأس، والعانة، ورمي الجمار، ونحر البدن، وأشباه ذلك. قال أبو عبيدة: ولم يجئ فيه شعر يحتج به ا ه منه.
قال صاحب القاموس: التفث محركة في المناسك: الشعث، وما كان من نحو قص الأظفار، والشارب، وحلق العانة، وغير ذلك. وككتف الشعث والمغبر ا ه.
وقال صاحب اللسان: التفث: الشعر وقص الأظفار. الخ.
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره في الكلام على معنى التفث. قال ابن العربي: وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعرا، ولا أحاطوا بها خبرا، لكني تتبعت التفتث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال: إنه قص الأظفار وأخذ الشارب، وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح، ولم يجئ فيه شعر يحتج به. وقال صاحب العين: التفث: هو الرمي والحلق، والتقصير، والذبح، وقص الأظفار، والشارب، والإبط. وذكر الزجاج والفراء نحوه، ولا أراهم أخذوه إلا من قول العلماء، وقال قطرب: تفث الرجل: إذا كثر وسخه. قال أمية بن أبي الصلت: وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره في الكلام على معنى التفث. قال ابن العربي: وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعرا، ولا أحاطوا بها خبرا، لكني تتبعت التفتث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال: إنه قص الأظفار وأخذ الشارب، وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح، ولم يجئ فيه شعر يحتج به. وقال صاحب العين: التفث: هو الرمي والحلق، والتقصير، والذبح، وقص الأظفار، والشارب، والإبط. وذكر الزجاج والفراء نحوه، ولا أراهم أخذوه إلا من قول العلماء، وقال قطرب: تفث الرجل: إذا كثر وسخه. قال أمية بن أبي الصلت:
48

* حلقوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا
* ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا
*
وما أشار إليه قطرب هو الذي قاله ابن وهب عن مالك، وهو الصحيح في التفث، وهذه صورة إلقاء التفث لغة، إلى أن قال: قلت ما حكاه عن قطرب، وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماوردي، وذكر بيتا آخر فقال: وما أشار إليه قطرب هو الذي قاله ابن وهب عن مالك، وهو الصحيح في التفث، وهذه صورة إلقاء التفث لغة، إلى أن قال: قلت ما حكاه عن قطرب، وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماوردي، وذكر بيتا آخر فقال:
* قضوا تفثا ونحبا ثم ساروا
* إلى نجد وما انتظروا عليا
*
وقال الثعلبي: وأصل التفث في اللغة: الوسخ، تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك أي ما أوسخك وأقذرك.
قال أمية بن أبي الصلت: قال أمية بن أبي الصلت:
* ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا
* وينزعوا عنهم قملا وصئبانا
*
انتهى من القرطبي.
والظاهر أن قوله: ساخين آباطهم البيت، من قولهم: سخا يسخو سخوا إذا سكن من حركته: يعني أنهم ساكنون عن الحركة إلى آباطهم بالحلق، بدليل قوله بعده: والظاهر أن قوله: ساخين آباطهم البيت، من قولهم: سخا يسخو سخوا إذا سكن من حركته: يعني أنهم ساكنون عن الحركة إلى آباطهم بالحلق، بدليل قوله بعده:
*... لم يقذفوا تفثا
* وينزعوا عنهم قملا وصئبانا
*
الفرع الرابع عشر: وقد قدمنا في أول الكلام في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه، ما يمنع المحرم من لبسه من أنواع الملبوس، وسنذكر في هذا الفرع ما يلزم في ذلك عند الأئمة.
فذهب الشافعي، وأصحابه: إلى أنه إن لبس شيئا مما قدمنا أنه لا يجوز لبسه مختارا عامدا، أثم بذلك، ولزمته المبادرة إلى إزالته ولزمته الفدية سواء قصر زمان اللبس أو طال، لا فرق عندهم في ذلك، ولا دليل عندهم للزوم الفدية في ذلك، إلا القياس على حلق الرأس المنصوص عليه في آية الفدية، واللبس الحرام الموجب للفدية عندهم محمول على ما يعتاد في كل ملبوس، فلو التحف بقميص أو قباء، أو ارتدى بهما، أو ائتزر سراويل: فلا فدية عليه عندهم، لأنه ليس لبسا له في العادة، فهو عندهم كمن لفق إزارا من خرق وطبقها وخاطها: فلا فدية عليه بلا خلاف، وكذا لو التحف بقميص أو بعباءة أو إزار ونحوها ولفها عليه طاقا أو طاقين، أو أكثر فلا فدية، وسواء فعل ذلك في النوم أو اليقظة
49

قاله النووي ثم قال: قال أصحابنا: وله أن يتقلد المصحف وحمائل السيف، وأن يشد الهميان والمنطقة في وسطه، ويلبس الخاتم، ولا خلاف في جواز هذا كله، وهذا الذي ذكرناه في المنطقة والهميان مذهبنا، وبه قال العلماء كافة، إلا ابن عمر في أصح الروايتين عنه فكرههما، وبه قال نافع مولاه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ما ذكره النووي رحمه الله، من كون جواز شد المنطقة والهميان في وسطه، هو قول العلماء كافة، إلا ابن عمر في أصح الروايتين فيه نظر، فإن مذهب مالك، وأصحابه: منع شد المنطقة والهميان، فوق الإزار مطلقا، وتجب به الفدية عندهم. أما شد المنطقة مباشرة للجلد تحت الإزار، فهو جائز عندهم، بشرط كونه يريد بذلك حفظ نفقته، فلا يجوز إلا تحت الإزار، لضرورة حفظ النفقة خاصة، وإلا فتجب الفدية، وشد المنطقة لغير النفقة تجب به الفدية أيضا، عند أحمد. والهميان قريب مما تسميه العامة اليوم: بالكمر.
قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره عاطفا على ما يجوز للمحرم: وشد منطقة لنفقته على جلده. قال ابن فرحون في شرح ابن الحاجب: المنطقة: الهميان، وهو مثل الكيس تجعل فيه الدراهم ا ه.
وروى البيهقي بإسناده عن عائشة: أنه لا بأس بشد المنطقة لحفظ النفقة، وما في المغني من رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيه نظر، والظاهر أنه من قول ابن عباس، والمرفوع عند الطبراني وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي، وهو ضعيف. قاله في مجمع الزوائد، وقال في التقريب في يوسف المذكور: تركوه، وكذبوه.
وإذا علمت مما مر أن اللبس الحرام على المحرم، تجب به الفدية عند الشافعية، وأنه لا فرق عندهم بين اللحظة والزمن الطويل، فاعلم أن الأصح عندهم، وبه جزم
الأكثرون: أن اللازم في ذلك هو فدية الأذى المذكورة في آية الفدية. ودليلهم القياس كما تقدم، ولهم طريقان غير هذا في المسألة إحداهما، وذكر أبو علي الطبري في الإيضاح، وآخرون من العراقيين أن في المسألة قولين:
أحدهما: أنه كالمتمتع، فيلزمه ما استيسر من الهدي فإن لم يجد فصيام عشرة أيام كما هو معلوم.
والقول الثاني: أنه يلزمه الهدي فإن لم يجده قومه دراهم، وقوم الدراهم طعاما، ثم
50

يصوم عن كل مد يوما.
الطريق الثانية: هي أن في المسألة عندهم أربعة أوجه أصحها: أنه كالحلق لاشتراكهما في الترفه.
والثاني: أنه مخير بين شاة، وبين تقويمها، ويخرج قيمتها طعاما، ويصوم عن كل مد يوما.
الثالث: تجب شاة، فإن عجز عنها، لزمه الطعام بقيمتها.
والرابع: أنه كالمتمتع. ا ه من النووي.
وقد علمت أن الصحيح عند الشافعية: أن اللبس الحرام تلزم فيه فدية الأذى، وهذا حاصل مذهب الشافعي، وأصحابه في المسألة ومذهب أحمد، وأصحابه: أن الفدية تجب بقليل اللبس وكثيره كمذهب الشافعي. ويجوز عند الشافعي، وأصحابه: للرجل المحرم ستر وجهه، ولا فدية عليه، بخلاف البياض الذي وراء الآذان.
قال النووي: وبه قال جمهو العلماء: يعني جواز ستر المحرم وجهه، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز كرأسه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وهذا القول الأخير أرجح عندي كما تقدم، لأن في صحيح مسلم في المحرم الذي خر من بعيره، فمات (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه) وقد قدمنا أن العلة كونه يبعث ملبيا. فدل هذا الحديث الصحيح على أن إحرام الرجل مانع من ستر وجهه، وما أول به الشافعية وغيرهم الحديث المذكور، ليس بمقنع فلا يجوز العدول عن ظاهر الحديث إليه، ولا عبرة بالأجلاء الذين خالفوا ظاهره، لأن السنة أولى بالاتباع، والآثار التي رووها عن عثمان وزيد بن ثابت، ومروان بن الحكم، لا يعارض بها المرفوع الصحيح والله أعلم.
والظاهر لنا: أن ما يروى عن أبي حنيفة والثوري وسعد بن أبي وقاص: من جواز لبس المحرمة القفازين، خلاف الصواب لما قدمنا من حديث ابن عمر الثابت في الصحيح، وفيه (ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين) الحديث. ولم يثبت شيء صحيح من كتاب أو سنة، يخالفه، وما قاله بعض أهل العلم من الحنابلة وغيرهم، من النهي عن لبس المرأة الخلخال والسوار خلاف الصواب: والظاهر: جواز ذلك: ولا دليل يمنع منه. والله أعلم.
51

أما لبس الرجل القفازين، فلم يخالف في منعه أحد، وعند الشافعية: إذا طلى المحرم رأسه بطين، أو حناء أو مرهم ونحو ذلك فإن كان رقيقا لا يستر فلا فدية، وإن كان ثخينا ساترا فوجهان أصحهما: وجوب الفدية.
والثاني: لا تجب لأن ذلك لا يعد ساترا ولو توسد وسادة، أو وضع يده على رأسه، أو انغمس في ماء أو استظل بمحمل، أو هودج، فذلك عند الشافعية: جائز، ولا شيء فيه، سواء مس المحمل رأسه أم لا، وفيه قول ضعيف: أنه إن مس المحمل رأسه، وجبت الفدية.
وضابط ما تجب به الفدية عندهم هو: أن يستر من رأسه قدرا يقصد ستره، لغرض كشد عصابة وإلصاق لصوق لشجة ونحوها: والصحيح عندهم: أنه إن شد خيطا على رأسه لم يضره، ولا فدية عليه، ولو جرح المحرم فشد على جرحه خرقة، فإن كان الجرح في غير الرأس فلا فدية، وإن كان في الرأس، لزمته الفدية ولا إثم عليه.
وقد قدمنا أن إحرام المرأة في وجهها فلا يجوز لها ستره بما يعد ساترا، ولها ستر وجهها عن الرجال، والأظهر في ذلك أن تسدل الثوب على وجهها متجافيا عنه لا لاصقا به. والله أعلم.
ويجوز عند الشافعية: أن يعقد الإزار ويشد عليه خيطان، وأن يجعل له مثل الحجزة، ويدخل فيها التكة، لأن ذلك من مصلحة الإزار لا يستمسك، إلا بنحو ذلك، وقيل: لا يجوز له جعل حجزة في الإزار، وإدخال التكة فيها، لأنه حينئذ يصير كالسراويل، والصحيح عندهم الأول، والأخير ضعيف عندهم، وكذلك القول بمنع عقد الإزار ضعيف عندهم. أما عقد الرداء فهو حرام عندهم، وكذلك عندهم خله بخلال، وربط طرفه إلى طرفه الآخر بخيط، كل ذلك لا يجوز عندهم، وفيه الفدية، وفيه خلاف ضعيف عندهم. ووجه تفريقهم بين الإزار والرداء أن الإزار يحتاج إلى العقد، بخلاف الرداء، ولو حمل المحرم على رأسه زنبيلا، أو حملا، ففي ذلك عند الشافعية طريقان أصحهما: أن ذلك جائز، ولا فدية فيه، لأنه لا يقصد به الستر كما لا يمنع المحدث من حمل المصحف في متاع ا ه. ومذهب الإمام أحمد في جواز عقد الإزار، ومنع عقد الرداء كمذهب الشافعي. ويجوز عند الإمام أحمد أن يشد في وسطه منديلا أو عمامة أو حبلا ونحو ذلك، إذا لم يعقده فإن عقده منع ذلك عنده، وإنما يجوز إذا أدخل بعض ذلك الذي شد على وسطه في بعضه.
52

قال في المغني: قال أحمد في محرم: حزم عمامة على وسطه لا تعقدها، ويدخل بعضها في بعض، ثم قال: قال طاوس: رأيت ابن عمر يطوف بالبيت، وعليه عمامة قد شدها على وسطه، فأدخلها هكذا. وقد قدمنا أن مثل هذا يجوز عند المالكية لضرورة العمل خاصة، ثم قال في المغني: ولا يجوز أن يشق أسفل ردائه نصفين، ويعقد كل نصف على ساق لأنه يشبه السراويل انتهى من المغني. وفيه عند الشافعية وجهان أصحهما: المنع، ولزوم الفدية، لأنه كالسراويل، كما قال صاحب المغني.
والوجه الثاني: لا فدية في ذلك، وهو ضعيف ا ه.
وأظهر قولي أهل العلم عندي: أن لبس الخف المقطوع، مع وجود النعل تلزم به الفدية. والله أعلم.
ومذهب مالك وأصحابه في هذه المسألة: هو أن المحرم إن لبس ما يحرم عليه لبسه لزمته فدية الأذى، ويستوي عندهم الخياطة والعقد والتزرر والتخلل والنسخ على هيئة المحيط، ولكن بشرط أن ينتفع بذلك اللبس، من حر، أو برد، أو يطول زمنه كيوم كامل، لأن ذلك مظنة انتفاعه به من حر أو برد. أما إذا لبس المحرم ما يحرم عليه لبسه، ولم ينتفع بلبسه من حر أو برد، ولم يدم لبسه له يوما كاملا، فلا فدية عليه عندهم، ومشهور مذهب مالك: أن للمحرم أن يشد في وسطه الحزام، لأجل العمل خاصة، ولا يعقده، وأن له أن يستثفر عند الركوب والنزول. وعنه في الاستثفار للركوب والنزول قول بالكراهة ولا فدية فيه على كل حال. والاستثفار: شد الفرج بخرقة عريضة ويوثق طرفاها إلى شيء مشدود على الوسط، وهو مأخوذ من ثثفر الدابة، الذي يجعل تحت ذنبها، أو من ثفر الدابة بمعنى: فرجها، ومنه قول الأخطل: ومذهب مالك وأصحابه في هذه المسألة: هو أن المحرم إن لبس ما يحرم عليه لبسه لزمته فدية الأذى، ويستوي عندهم الخياطة والعقد والتزرر والتخلل والنسخ على هيئة المحيط، ولكن بشرط أن ينتفع بذلك اللبس، من حر، أو برد، أو يطول زمنه كيوم كامل، لأن ذلك مظنة انتفاعه به من حر أو برد. أما إذا لبس المحرم ما يحرم عليه لبسه، ولم ينتفع بلبسه من حر أو برد، ولم يدم لبسه له يوما كاملا، فلا فدية عليه عندهم، ومشهور مذهب مالك: أن للمحرم أن يشد في وسطه الحزام، لأجل العمل خاصة، ولا يعقده، وأن له أن يستثفر عند الركوب والنزول. وعنه في الاستثفار للركوب والنزول قول بالكراهة ولا فدية فيه على كل حال. والاستثفار: شد الفرج بخرقة عريضة ويوثق طرفاها إلى شيء مشدود على الوسط، وهو مأخوذ من ثثفر الدابة، الذي يجعل تحت ذنبها، أو من ثفر الدابة بمعنى: فرجها، ومنه قول الأخطل:
* جزى الله عنا الأعورين ملامة
* وفروة ثفر الثورة المتضاجم
*
فقوله: ثفر الثورة يعني: فرج البقرة، وهو بدل من فروة، والمتضاجم المائل وهو مخفوض بالمجاورة، لأنه صفة للثفر، وهو منصوب وفروة اسم رجل جعله في الخبث، والحقارة كأنه فرج بقرة مائل. وستر المحرم وجهه عند المالكية، كستر رأسه: تلزم فيه الفدية، إن ستر ذلك بما يعد ساترا كالمخيط، ويدخل في ذلك ما لو ستره بطين أو جلد حيوان يسلخ، فيلبس، ولا يمنع عندهم لبس المخيط، إذا استعمل استعمال غير المخيط، كأن يجعل القميص إزارا أو رداء، لأنه إذا ارتدى بالقميص مثلا، لم يدخل فيه
53

حتى يحيط به، لأنه استعمله استعمال الرداء، ولا بأس عندهم باتقاء الشمس أو الريح باليد يجعلها على رأسه أو وجهه. وله وضع يده على أنفه من غبار، أو جيفة مر بها. ويستحب ذلك له عندهم، إن مر على طيب وتلزم عندهم الفدية بلبس القباء، وإن لم يدخل يده في كمه، وحمله بعضهم على ما إذا أدخل فيه منكبيه، وأطلقه بعضهم. ولا يجوز عندهم أن يظلل المحرم على رأسه، أو وجهه بعصا فيها ثوب فإن فعل افتدى، وفيه قول عندهم: بعد لزوم الفدية، وهو الحق. والحديث الذي قدمنا في التظليل على النبي صلى الله عليه وسلم بثوب يقيه الحر، وهو يرمي جمرة العقبة: يدل على ذلك، وعلى أنه جائز، فالسنة أولى بالاتباع، وأجاز المالكية للمحرم أن يرفع فوق رأسه شيئا يقيه من المطر.
واختلفوا في رفعه فوقه شيئا يقيه من البرد. والأظهر الجواز والله أعلم. لدخوله في معنى الحديث المذكور، إذ لا فرق بين الأذى من البرد والحر والمطر والله أعلم. وبعضهم يقول: إن الفدية المذكورة مندوبة لا واجبة. وما يذكره المالكية، من أن من لم يجد الإزار، يكره له لبس السراويل أو يمنع وأن ذلك تلزم فيه الفدية، خلاف التحقيق للحديث المتقدم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل) وهو حديث صحيح كما تقدم. وظاهره أن من لم يجد إزارا، فله لبس السراويل من غير إثم ولا فدية، إذ لو كانت الفدية تلزمه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة إليه، ولا خلاف بين أهل العلم في الاستظلال بالخباء، والقبة المضروبة والفسطاط والشجرة، وأن يرمي عليها ثوبا. وعن مالك منع إلقاء الثوب على الشجرة، وأجازه عبد الملك بن الماجشون قياسا على الخيمة، وهو الأظهر.
واعلم: أن الاستظلال بالثوب على العصا عندهم إذا فعله وهو سائر لا خلاف في منعه، ولزوم الفدية فيه، وإن فعله وهو نازل ففيه خلاف عندهم أشرنا له قريبا. والحق: الجواز مطلقا للحديث المذكور، لأن ما ثبتت فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز العدول عنه إلى رأي مجتهد من المجتهدين، ولو بلغ ما بلغ من العالم والعدالة، لأن سنته صلى الله عليه وسلم حجة على كل أحد، وليس قول أحد حجة على سنته صلى الله عليه وسلم، وقد صح على الأئمة الأربعة رحمهم الله أنهم كلهم قالوا: إذا وجدتم قولي يخالف كتابا أو سنة، فاضربوا بقولي الحائط، واتبعوا الكتاب والسنة. وقد قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثني سلمة بن شبيب، حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل، عن زيد بن أبي أنيسة، عن يحيى بن حصين، عن جدته أم الحصين قال: سمعتها تقول: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
54

حجة الوداع، فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف، وهو على راحلته، ومعه بلال، وأسامة أحدهما يقود به راحلته، والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس. الحديث. وفي لفظ لمسلم، عن أم الحصين: فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه، يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة. انتهى محل الغرض من صحيح مسلم، وهو نص صحيح صريح في جواز استظلال المحرم الراكب بثوب مرفوع فوقه
يقيه حر الشمس. والنازل أحرى بهذا الحكم، عند المالكية من الراكب، وهذا الحديث الصحيح المرفوع لا يعارض بما روي من فعل عمر. وقول ابنه عبد الله رضي الله عنهما، موقوفا عليهما ولا بحديث جابر الضعيف في منع استظلال المحرم، والعلم عند الله تعالى. ويجوز عند المالكية: حمل المحرم زاده على رأسه في خرج أو جراب إن كان فقيرا تدعوه الحاجة إلى ذلك، أما إن كان ذلك لبخله بأجرة الحمل، وهو غني، أو لأجل تجارة بالمحمول، فلا يجوز، وتلزم به الفدية عندهم، ويجوز عندهم إبدال ثوبه الذي أحرم فيه بثوب آخر، ويجوز عندهم بيعه، ولو قصد بذلك الاستراحة من الهوام التي فيه، إلا أن ينقل الهوام من جسده، أو ثوبه الذي عليه إلى الثوب الذي يريد طرحه فيكون ذلك كطرحه لها. قاله صاحب الطراز، ويكره للمحرم عند المالكية غسل ثوبه الذي أحرم فيه، إلا لنجاسة فيه، فيجوز غسله بالماء فقط، وقال بعضهم: يجوز غسله بالماء أيضا، لأجل الوسخ، فلا يختص الجواز بالنجاسة، لأن الوسخ مبيح لغسله بالماء على هذا القول، ولا يجوز للمحرم عندهم أن يغسل ثوب غيره خوف أن يقتل بغسله إياه بعض الدواب التي في الثوب. وقال بعضهم: فإن فعل افتدى. والظاهر أن محل ذلك، فيما إذا لم يعلم أن الثوب ليس فيه شيء من الدواب، فإن علم ذلك، فلا بأس بغسله، ولا شيء فيه إن كان ذلك لنجاسة أو وسخ والله تعالى أعلم. ويجوز عندهم: أن يعصب المحرم على جرحه خرقا وتلزمه الفدية بذلك. وقال التونسي: وفي المدونة: صغير خرق التعصيب والربط ككبيرها، وروى محمد: رقعة قدر الدرهم كبيرة فيها الفدية، وظاهر قول خليل في مختصره المالكي: أو لصق خرقة كدرهم: أن الخرقة التي هي أصغر من الدرهم، لا شيء فيها. وقال شارحه الحطاب: انظر إذا كان به جروح متعددة، والصق على كل واحد منها خرقة، دون الدرهم والمجموع كدرهم، أو أكثر. وظاهر ما في التوضيح، وابن الحاجب: أنه لا شيء عليه. انتهى. وسمع ابن
55

القاسم: لا بأس، ولا فدية في جعل فرجه في خرقة عند النوم فإن لفها على ذكره لبول، أو مذي افتدى. انتهى بواسطة نقل المواق. ولا يجوز للمحرم عندهم: أن يجعل القطن في أذنيه، فإن فعل افتدى، لأن كشف الأذن واجب في الإحرام، فلا يجوز تغطيتها بالقطن، وكذلك لو جعل على صدغه قرطاسا تلزمه الفدية عندهم، سواء كان ذلك لعذر أو لغير عذر، ولا يجوز عندهم عصب رأسه بعصابة، فإن فعل افتدى. ويكره عندهم لبس المصبوغ بغير طيب، لمن يقتدي به خاصة دون غيره، إذا كان لون الصبغ يشبه لون صبغ الطيب: ويكره عندهم شد نفقته بعضده أو فخذه أو ساقه، ولا فدية عليه في ذلك، وإن شد عضده، أو ساقه، أو فخذه بما يحيط به لغير نفقة أو لنفقة غيره افتدى. وإن شد نفقته، وجعل معها نفقة لغيره فلا بأس، فإن فرغت نفقته ألقى المنطقة ونحوها مما كان يشده لحفظها ورد نفقة غيره إلى ربها فورا، وإن ترك ردها إليه افتدى، وإن ذهب صاحبها، وهو عالم افتدى، وإن لم يعلم فلا شيء عليه. انتهى من المواق. ويكره عند المالكية: كب المحرم وجهه على الوسادة، وبعضهم يقول: بكراهة ذلك مطلقا للمحرم وغيره. وهو الأظهر، ويكره عندهم غمس رأسه في الماء، وإن فعل ذلك أطعم شيئا، قاله مالك في المدونة ونقلناه بواسطة نقل المواق والحطاب، وعن بعضهم: أن إطعام الشيء، المذكور مستحب لا واجب، وهذا في حق من له شعر يكون فيه القمل. أما من لا شعر له، ولا يكون فيه القمل فلا يكره غمس رأسه في الماء، ولا شيء فيه قاله اللخمي، وصاحب الطراز. انتهى بواسطة نقل الحطاب. وغسل الرأس لجنابة: لا خلاف فيه. أما غسله لغير جنابة بل للتبرد ونحوه: ففيه عندهم قولان: بالجواز، والكراهة والجواز: أظهر. والله تعالى أعلم.
ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة أنه إن لبس اللبس الحرام، ويدخل فيه تغطية الرأس كما تقدم لا يلزمه بذلك دم، إلا إذا لبسه يوما كاملا لأن اليوم الكامل مظنة الانتفاع باللبس، من حر أو برد، وعن أبي يوسف: أنه إذا لبس أكثر من نصف يوم، فعليه دم وهو قول أبي حنيفة الأول، عن محمد: أنه إن لبسه في بعض اليوم يجب عليه من الدم بحسابه ا ه. هذا هو حاصل مذهب أبي حنيفة وصاحبيه في هذه المسألة.
وقد قدمنا مرارا أن مثل ذلك إن كان فعله لعذر ففيه عندهم فدية الأذى، وإن كان لغير عذر، ففيه الدم، والعلم عند الله تعالى.
والظاهر: أن اختلافهم في القدر الذي تلزم به الفدية في اللبس الحرام من نوع
56

الاختلاف في تحقيق المناط والله تعالى أعلم. ولو ارتدى بالقميص أو اتشح به، أو اتزر بالسراويل، فلا بأس، ولا يلزمه شيء عند الحنفية كما قدمنا عن غيرهم، وكذلك لو أدخل منكبيه في القباء، ولم يدخل يديه في الكمين، فلا شيء عليه عندهم خلافا لزفر وقد بينا حكم ذلك عند غيرهم وعن أبي حنيفة: تغطية ربع الرأس كتغطية جميعه، وعن أبي يوسف: أنه يعتبر في ذلك الأكثر ودوام لبس المخيط عندهم بعد الإحرام كابتدائه، وهو كذلك عند غيرهم أيضا.
واعلم أن النووي قال في شرح المهذب: وله يعني: المحرم أن يتقلد المصحف وحمائل السيف وأن يشد الهميان والمنطقة في وسطه، ويلبس الخاتم، ولا خلاف في جواز هذا كله، وهذا الذي ذكرناه في المنطقة والهميان مذهبنا وبه قال العلماء كافة إلا ابن عمر في أصح الروايتين عنه، فكرههما وبه قال نافع مولاه. وقد علمت أنا ناقشناه في كلامه وبينا: أن مالكا وأصحابه لا يجيزون شد المنطقة والهميان، إلا تحت الإزار مباشرا جلده لخصوص النفقة، وأن شد الهميان فوق الإزار فيه عندهم الفدية مطلقا، وكذلك تحت الإزار لغير حفظ النفقة، وأن الإمام أحمد تلزم عنده الفدية في شد المنطقة لغير حفظ النفقة: أي ولو كان لوجع بظهره، وسنتمم الكلام هنا. أما ما ذكره من أن لبس الخاتم لا خلاف في جوازه للمحرم، ففيه نظر أيضا، لأن بعض العلماء يقول: يمنع لبس المحرم الخاتم والخلاف في جواز لبسه ومنعه معروف في مذهب مالك.
قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره: مشبها على ما لا يجوز لبسه للمحرم كخاتم ما نصه: قال ابن الحاجب: وفي الخاتم قولان، فحملهما في التوضيح على الجواز والمنع. وقال اللخمي وابن رشد: المعروف من قول مالك: منعه، لأنه أشبه بالإحاطة بالإصبع المحيط، وفي مختصر ما ليس في المختصر: لا بأس به. إلى أن قال: فالذي يظهر أن القائل بالمنع يقول: بالفدية، والقائل بالجواز يقول: بسقوط الفدية. انتهى منه.
ثم قال: تنبيه: وهذا في حق الرجل، وأما المرأة فيجوز لها لبس الخاتم ا ه.
وبما ذكرنا تعلم أن قول النووي، ولا خلاف في جواز هذا كله. فيه نظر، وأما تقلد حمائل السيف فعند المالكية، إن كان لعذر يلجئه إلى ذلك، فهو جائز له، ولا فدية فيه، فإن تقلده لغير حاجة فقد قال ابن المواق عن مالك: ينزعه ولا فدية عليه انتهى بواسطة نقل
57

المواق في كلامه على قول خليل في مختصره، ولا فدية في سيف، ولو بلا عذر ا ه. وظاهر قوله: ينزعه أنه لا يجوز تقلد السيف اختيارا عنده كما ترى، والعلم عند الله تعالى. وظاهر مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجوز للمحرم، أن يتقلد السيف إلا لضرورة، وقال الخرقي: ويتقلد بالسيف عند الضرورة، وقال في المغني في شرحه لكلام الخرقي: فأما من غير خوف، فإن أحمد قال: لا إلا من ضرورة. انتهى محل الغرض منه.
وقال البخاري في صحيحه في كتاب الحج: باب لبس السلاح للمحرم، وقال عكرمة: إذا خشي العدو، لبس السلاح وافتدى ولم يتابع عليه في الفدية.
حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم لا يدخل مكة سلاحا إلا في القراب) ا ه منه.
وقوله: ولم يتابع عليه في الفدية، يدل على أنه توبع في لبس السلاح للضرورة، لأن معنى قاضاهم: لا يدخل مكة سلاحا إلا في القراب، أنه صالح كفار مكة صلح الحديبية، أنه إن دخل معتمرا عام سبع في ذي القعدة لا يدخل مكة السيوف إلا في أغمادها، والقراب غمد السيف، فدل ذلك على جواز دخول المحرم متقلدا سيفه للخوف من العدو.
وقال البخاري في صحيحه في باب عمرة القضاء: حدثني عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال (لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام) الحديث بطوله، وفيه (فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب) الحديث. وفي لفظ للبخاري في كتاب الصلح (لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب) وفي لفظ له في كتاب الصلح أيضا (ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح) فسألوه ما جلبان السلاح؟ فقال: القراب بما فيه) والجلبان بضم الجيم واللام وتشديد الباء الموحدة بعدها ألف، ثم نون: هو قراب السيف ويطلق على أوعية السلاح، ويروى بتسكين اللام، وتخفيف الباء، وهو شبه الجراب من الأدم يوضع فيه السيف مغمودا.
وقال صاحب اللسان: والقراب غمد السيف والسكين، ونحوهما وجمعه قرب أي بضمتين، وفي صحاح الجوهري: قراب السيف: جفنه وهو وعاء يكون فيه السيف بغمده، وحمالته ا ه والقراب ككتاب ومن جمعه على قرب بضمتين قوله: وقال صاحب اللسان: والقراب غمد السيف والسكين، ونحوهما وجمعه قرب أي بضمتين، وفي صحاح الجوهري: قراب السيف: جفنه وهو وعاء يكون فيه السيف بغمده، وحمالته ا ه والقراب ككتاب ومن جمعه على قرب بضمتين قوله:
58

* يا ربة البيت قومي غير صاغرة
* ضمي إليك رحال القوم والقربا
*
يعني: ضمي إليك رحالهم وسلاحهم، في أوعيته.
وبهذه الأحاديث: استدل بعض أهل العلم على أن الصحابة دخلوا مكة محرمين عام سبع وهم متقلدو سيوفهم في أغمادها، وأن ذلك لعلة خوفهم من المشركين، لأن الكفار لا يوثق بعهودهم.
وقد علمت أن بعض أهل العلم قال: إن ذلك لا يجوز إلا لضرورة، والله تعالى أعلم.
وللمخالف أن يقول: إن الأحاديث المذكورة ليس فيها التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تقلدوها. ويمكن أن يكونوا حملوا السلاح معهم في رحالهم في أوعيته من غير أن يتقلدوه، وعلى هذا الاحتمال، فلا حجة في الأحاديث على تقلد المحرم حمائل السيف، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس عشر: قد بينا في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه أنه يمنع من الطيب، وسنذكر إن شاء الله في هذا الفرع ما يلزم في ذلك.
اعلم: أن الأئمة الثلاثة: مالكا، والشافعي، وأحمد: لا فرق عندهم، بين أن يطيب جسده كله أو عضوا منه، أو أقل من عضو، فكل ذلك عندهم إن فعله قصدا يأثم به، وتلزمه الفدية.
وقال أبو حنيفة: لا تجب عليه الفدية إلا إذا طيب عضوا كاملا، مثل الرأس، والفخذ، والساق: فإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة، وهي عندهم نصف صاع من بر أو صاع من غيره، كتمر وشعير. وقد قدمنا مرارا أن مذهب أبي حنيفة: أنه إن فعل المحظور، كاللباس، والتطيب، لا لعذر، فعليه دم، وتجزئه شاة وإن فعله لعذر فعليه فدية الأذى المذكورة في آية الفدية، على التخيير، وإن كان المحرم طيبا كثيرا: لزمه الدم عند أبي حنيفة، وقال صاحباه محمد وأبو يوسف: تجب في ذلك الصدقة، وعن محمد: أنه إن طيب أقل من عضو لزمه بحسبه من الدم فإن طيب ثلث العضو، فعليه ثلث دم مثلا، وهكذا، وعن بعض الحنفية: أنه إن طيب ربع عضو: لزمه الدم كاملا كحلق ربع الرأس، فهو عندهم كحلق جميعه وهذا خلاف المشهور في تطيب بعض العضو عندهم. وظاهر
59

كلامهم أنه لو جعل طيبا كثيرا على بعض عضو، فليس عليه إلا الصدقة. وصحح بعض الحنفية: أنه إن كان الطيب قليلا فالعبرة بالعضو، وإن كان كثيرا فالعبرة بالطيب، وله وجه من النظر، وعن بعض الحنفية أن من مس طيبا بأصبعه، فأصابها كلها فعليه دم. وعن أبي يوسف: إن طيب شاربه كله أو يقدره من لحيته، أو
رأسه فعليه دم، وعن بعض الحنفية: أنه إن اكتحل بكحل مطيب، فعليه صدقة، ومثله الأنف، فإن فعل ذلك مرارا كثيرة فعليه دم، وفي مناسك الكرماني: لو طيب جميع أعضائه فعليه دم واحد، لاتحاد الجنس، ولو كان الطيب في أعضاء متفرقة يجمع ذلك كله، فإن بلغ عضوا: فعليه دم، وإلا فصدقة، ولو شم طيبا فليس عليه شيء، وإن دخل بيتا مجمرا، فليس عليه شيء، وإن أجمر ثوبه، فإن تعلق به كثيرا، فعليه دم، وإلا فصدقة ا ه من تبيين الحقائق.
وقال بعض الحنفية: إن طيب أعضاءه كلها في مجلس واحد فعليه دم واحد كما تقدم، وإن كان ذلك في مجلسين مختلفين، فعليه لكل واحد دم في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، سواء ذبح للأول أو لم يذبح. وقال محمد: إن ذبح للأول، فكذلك، وإن لم يذبح فعليه دم واحد، والاختلاف فيه كاختلاف في الجماع ا ه.
وأظهرها عندي قول محمد: والحناء عندهم طيب، فلو خضب رأسه بالحناء، لزمه الدم. واستدلوا بحديث الحناء طيب. قالوا رواه البيهقي. وسيأتي ما يدل على أن البيهقي رواه في المعرفة، وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف. وقد روى البيهقي عن عائشة مرفوعا، ما يدل على أن الحناء ليس بطيب، والعلم عند الله تعالى: هذا حاصل مذهب أبي حنيفة وأصحابه في الطيب للمحرم.
وأما مذهب مالك في الطيب للمحرم فحاصله: أن الطيب عندهم نوعان: مذكر ومؤنث، أما المذكر فهو ما يظهر ريحه، ويخفى أثره: كالريحان، والياسمين، والورد، والبنفسج ونحو ذلك. وأما المؤنث: فهو ما يظهر ريحه، ويبقى أثره: كالمسك والورس والزعفران والكافور والعنبر والعود ونحو ذلك. فأما المذكر فيكره شمه والتطيب به، ولا فدية في مسه، والتطيب به ولو غسل يديه بماء الورد، فلا فدية عليه عندهم في ذلك، لأنه من الطيب المذكر، خلافا لابن فرحون في مناسكه حيث قال: إن ماء الورد فيه الفدية لأن أثره يبقى، وممن قال: بأن الطيب المذكر لا فدية في استعماله: عثمان بن عفان، والحسن، ومجاهد، وإسحاق. وأما ما ينبت في الأرض من النبات الطيب الريح ولا يقصد التطيب به، كالشيح، والقيصوم، والزنجبيل، والإذخر، فلا فدية فيه
60

عندهم، فهو كريح الفواكه الطيبة كالتفاح والليمون، والأترج وسائر الفواكه وبعض أهل العلم يكره شمه للمحرم، وإن خضب رأسه أو لحيته بحناء، أو خضبت المرأة رأسها أو رجليها، أو طرفت أصابعها بحناء فالفدية عندهم واجبة في ذلك. وأما مؤنث الطيب: كالمسك، والورس، والزعفران، فإن التطيب به عندهم حرام، وفيه الفدية.
ومعنى التطيب بالطيب عندهم: إلصاقه بالثوب، أو باليد وغيرها من الأعضاء، ونحو ذلك، فإن علق به ريح الطيب دون عينه بجلوسه في حانوت عطار، أو في بيت تجمر ساكنوه، فلا فدية عليه عندهم مع كراهة تماديه في حانوت العطار أو البيت الذي تجمر ساكنوه، هذا هو مشهور مذهب مالك. وإن مس الطيب المؤنث افتدى عندهم، وحد ريحه أولا، لصق به أولا، ويكره شم الطيب عندهم مطلقا.
وأظهر أقوال علماء المالكية في الثوب المصبوغ بالورس، والزعفران: إذا تقادم عهده، وطال زمنه حتى ذهبت ريحه بالكلية: أنه مكروه للمحرم، ما دام لون الصبغ باقيا ولكنه لا فدية فيه لانقطاع ريحه بالكلية.
وأقيس الأقوال: أنه يجوز مطلقا، لأن الرائحة الطيبة التي منع من أجلها زالت بالكلية، والعلم عند الله تعالى. وإن اكتحل عندهم بما فيه طيب، فالفدية، ولو لضرورة مع الجواز للضرورة وبما لا طيب فيه فهو جائز للضرورة ولغيرها، فثلاثة أقوال مشهورها: وجوب الفدية على الرجل، والمرأة معا، وقيل: لا تجب عليهما، وقيل: تجب على المرأة دون الرجل.
وحاصل مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة: أن النبات الذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب:
أحدها: ما لا ينبت للطيب ولا يتخذ منه، كنبات الصحراء من الشيخ، والقيصوم، والخزامي والفواكه كلها من الأترج، والتفاح وغيره، وما ينبته الآدميون لغير قصد الطيب، كالحناء والعصفر، وهذا النوع مباح شمه في مذهب الإمام أحمد، ولا فدية فيه.
قال في المغني: ولا نعلم فيه خلافا إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم: أن يشم شيئا من نبات الأرض من الشيخ والقيصوم وغيرهما قال: ولا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئا فإنه لا يقصد للطيب، ولا يتخذ منه فأشبه سائر نبات الأرض. وقد روي أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يحرمن في المعصفرات.
61

النوع الثاني: ما ينبته الآدميون للطيب، ولا يتخذ منه طيب، كالريحان، والنرجس، ونحو ذلك وفي هذا النوع للحنابلة وجهان.
أحدهما: يباح بغير فدية كالذي قبله.
قال في المغني: وبه قال عثمان بن عفان، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وإسحاق.
والوجه الثاني: يحرم شمه، فإن فعل فعليه الفدية.
قال في المغني: وهو قول جابر، وابن عمر، والشافعي، وأبي ثور، لأنه يتخذ للطيب فأشبه الورد. وكرهه مالك، وأصحاب الرأي، ولم يوجبوا فيه شيئا، وكلام أحمد فيه محتمل لهذا، فإنه قال في الريحان: ليس من آلة المحرم، ولم يذكر فديته، وذلك لأنه لا يتخذ منه طيب، فأشبه العصفر. ا ه من المغني.
والنوع الثالث عندهم: هو ما ينبت للطيب، ويتخذ منه طيب كالورد والبنفسج والياسمين، ونحو ذلك. وهذا النوع إذا استعمله، وشمه ففيه: الفدية عندهم، لأن الفدية تجب فيما يتخذ منه، فكذلك في أصله. وعن أحمد رواية أخرى في الورد: أنه لا فدية عليه في شمه، لأنه زهر كزهر سائر الشجر.
قال في المغني: وذكر أبو الخطاب في هذا، والذي قبله روايتين والأولى: تحريمه، لأنه ينبت للطيب، ويتخذ منه، فأشبه الزعفران والعنبر. قال القاضي يقال: إن العنبر ثمر شجر وكذلك الكافور. ا ه من المغني.
واختلفوا في رفعه فوقه شيئا يقيه من البرد. والأظهر الجواز والله أعلم. لدخوله في معنى الحديث المذكور، إذ لا فرق بين الأذى من البرد والحر والمطر والله أعلم. وبعضهم يقول: إن الفدية المذكورة مندوبة لا واجبة. وما يذكره المالكية، من أن من لم يجد الإزار، يكره له لبس السراويل أو يمنع وأن ذلك تلزم فيه الفدية، خلاف التحقيق للحديث المتقدم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل) وهو حديث صحيح كما تقدم. وظاهره أن من لم يجد إزارا، فله لبس السراويل من غير إثم ولا فدية، إذ لو كانت الفدية تلزمه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة إليه، ولا خلاف بين أهل العلم في الاستظلال بالخباء، والقبة المضروبة والفسطاط والشجرة، وأن يرمي عليها ثوبا. وعن مالك منع إلقاء الثوب على الشجرة، وأجازه عبد الملك بن الماجشون قياسا على الخيمة، وهو الأظهر.
واعلم: أن الاستظلال بالثوب على العصا عندهم إذا فعله وهو سائر لا خلاف في منعه، ولزوم الفدية فيه، وإن فعله وهو نازل ففيه خلاف عندهم أشرنا له قريبا. والحق: الجواز مطلقا للحديث المذكور، لأن ما ثبتت فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز العدول عنه إلى رأي مجتهد من المجتهدين، ولو بلغ ما بلغ من العالم والعدالة، لأن سنته صلى الله عليه وسلم حجة على كل أحد، وليس قول أحد حجة على سنته صلى الله عليه وسلم، وقد صح على الأئمة الأربعة رحمهم الله أنهم كلهم قالوا: إذا وجدتم قولي يخالف كتابا أو سنة، فاضربوا بقولي الحائط، واتبعوا الكتاب والسنة. وقد قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثني سلمة بن شبيب، حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل، عن زيد بن أبي أنيسة، عن يحيى بن حصين، عن جدته أم الحصين قال: سمعتها تقول: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف، وهو على راحلته، ومعه بلال، وأسامة أحدهما يقود به راحلته، والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس. الحديث. وفي لفظ لمسلم، عن أم الحصين: فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه، يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة. انتهى محل الغرض من صحيح مسلم، وهو نص صحيح صريح في جواز استظلال المحرم الراكب بثوب مرفوع فوقه يقيه حر الشمس. والنازل أحرى بهذا الحكم، عند المالكية من الراكب، وهذا الحديث الصحيح المرفوع لا يعارض بما روي من فعل عمر. وقول ابنه عبد الله رضي الله عنهما، موقوفا عليهما ولا بحديث جابر الضعيف في منع استظلال المحرم، والعلم عند الله تعالى. ويجوز عند المالكية: حمل المحرم زاده على رأسه في خرج أو جراب إن كان فقيرا تدعوه الحاجة إلى ذلك، أما إن كان ذلك لبخله بأجرة الحمل، وهو غني، أو لأجل تجارة بالمحمول، فلا يجوز، وتلزم به الفدية عندهم، ويجوز عندهم إبدال ثوبه الذي أحرم فيه بثوب آخر، ويجوز عندهم بيعه، ولو قصد بذلك الاستراحة من الهوام التي فيه، إلا أن ينقل الهوام من جسده، أو ثوبه الذي عليه إلى الثوب الذي يريد طرحه فيكون ذلك كطرحه لها. قاله صاحب الطراز، ويكره للمحرم عند المالكية غسل ثوبه الذي أحرم فيه، إلا لنجاسة فيه، فيجوز غسله بالماء فقط، وقال بعضهم: يجوز غسله بالماء أيضا، لأجل الوسخ، فلا يختص الجواز بالنجاسة، لأن الوسخ مبيح لغسله بالماء على هذا القول، ولا يجوز للمحرم عندهم أن يغسل ثوب غيره خوف أن يقتل بغسله إياه بعض الدواب التي في الثوب. وقال بعضهم: فإن فعل افتدى. والظاهر أن محل ذلك، فيما إذا لم يعلم أن الثوب ليس فيه شيء من الدواب، فإن علم ذلك، فلا بأس بغسله، ولا شيء فيه إن كان ذلك لنجاسة أو وسخ والله تعالى أعلم. ويجوز عندهم: أن يعصب المحرم على جرحه خرقا وتلزمه الفدية بذلك. وقال التونسي: وفي المدونة: صغير خرق التعصيب والربط ككبيرها، وروى محمد: رقعة قدر الدرهم كبيرة فيها الفدية، وظاهر قول خليل في مختصره المالكي: أو لصق خرقة كدرهم: أن الخرقة التي هي أصغر من الدرهم، لا شيء فيها. وقال شارحه الحطاب: انظر إذا كان به جروح متعددة، والصق على كل واحد منها خرقة، دون الدرهم والمجموع كدرهم، أو أكثر. وظاهر ما في التوضيح، وابن الحاجب: أنه لا شيء عليه. انتهى. وسمع ابن القاسم: لا بأس، ولا فدية في جعل فرجه في خرقة عند النوم فإن لفها على ذكره لبول، أو مذي افتدى. انتهى بواسطة نقل المواق. ولا يجوز للمحرم عندهم: أن يجعل القطن في أذنيه، فإن فعل افتدى، لأن كشف الأذن واجب في الإحرام، فلا يجوز تغطيتها بالقطن، وكذلك لو جعل على صدغه قرطاسا تلزمه الفدية عندهم، سواء كان ذلك لعذر أو لغير عذر، ولا يجوز عندهم عصب رأسه بعصابة، فإن فعل افتدى. ويكره عندهم لبس المصبوغ بغير طيب، لمن يقتدي به خاصة دون غيره، إذا كان لون الصبغ يشبه لون صبغ الطيب: ويكره عندهم شد نفقته بعضده أو فخذه أو ساقه، ولا فدية عليه في ذلك، وإن شد عضده، أو ساقه، أو فخذه بما يحيط به لغير نفقة أو لنفقة غيره افتدى. وإن شد نفقته، وجعل معها نفقة لغيره فلا بأس، فإن فرغت نفقته ألقى المنطقة ونحوها مما كان يشده لحفظها ورد نفقة غيره إلى ربها فورا، وإن ترك ردها إليه افتدى، وإن ذهب صاحبها، وهو عالم افتدى، وإن لم يعلم فلا شيء عليه. انتهى من المواق. ويكره عند المالكية: كب المحرم وجهه على الوسادة، وبعضهم يقول: بكراهة ذلك مطلقا للمحرم وغيره. وهو الأظهر، ويكره عندهم غمس رأسه في الماء، وإن فعل ذلك أطعم شيئا، قاله مالك في المدونة ونقلناه بواسطة نقل المواق والحطاب، وعن بعضهم: أن إطعام الشيء، المذكور مستحب لا واجب، وهذا في حق من له شعر يكون فيه القمل. أما من لا شعر له، ولا يكون فيه القمل فلا يكره غمس رأسه في الماء، ولا شيء فيه قاله اللخمي، وصاحب الطراز. انتهى بواسطة نقل الحطاب. وغسل الرأس لجنابة: لا خلاف فيه. أما غسله لغير جنابة بل للتبرد ونحوه: ففيه عندهم قولان: بالجواز، والكراهة والجواز: أظهر. والله تعالى أعلم.
62

ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة أنه إن لبس اللبس الحرام، ويدخل فيه تغطية الرأس كما تقدم لا يلزمه بذلك دم، إلا إذا لبسه يوما كاملا لأن اليوم الكامل مظنة الانتفاع باللبس، من حر أو برد، وعن أبي يوسف: أنه إذا لبس أكثر من نصف يوم، فعليه دم وهو قول أبي حنيفة الأول، عن محمد: أنه إن لبسه في بعض اليوم يجب عليه من الدم بحسابه ا ه. هذا هو حاصل مذهب أبي حنيفة وصاحبيه في هذه المسألة.
وقد قدمنا مرارا أن مثل ذلك إن كان فعله لعذر ففيه عندهم فدية الأذى، وإن كان لغير عذر، ففيه الدم، والعلم عند الله تعالى.
والظاهر: أن اختلافهم في القدر الذي تلزم به الفدية في اللبس الحرام من نوع الاختلاف في تحقيق المناط والله تعالى أعلم. ولو ارتدى بالقميص أو اتشح به، أو اتزر بالسراويل، فلا بأس، ولا يلزمه شيء عند الحنفية كما قدمنا عن غيرهم، وكذلك لو أدخل منكبيه في القباء، ولم يدخل يديه في الكمين، فلا شيء عليه عندهم خلافا لزفر وقد بينا حكم ذلك عند غيرهم وعن أبي حنيفة: تغطية ربع الرأس كتغطية جميعه، وعن أبي يوسف: أنه يعتبر في ذلك الأكثر ودوام لبس المخيط عندهم بعد الإحرام كابتدائه، وهو كذلك عند غيرهم أيضا.
واعلم أن النووي قال في شرح المهذب: وله يعني: المحرم أن يتقلد المصحف وحمائل السيف وأن يشد الهميان والمنطقة في وسطه، ويلبس الخاتم، ولا خلاف في جواز هذا كله، وهذا الذي ذكرناه في المنطقة والهميان مذهبنا وبه قال العلماء كافة إلا ابن عمر في أصح الروايتين عنه، فكرههما وبه قال نافع مولاه. وقد علمت أنا ناقشناه في كلامه وبينا: أن مالكا وأصحابه لا يجيزون شد المنطقة والهميان، إلا تحت الإزار مباشرا جلده لخصوص النفقة، وأن شد الهميان فوق الإزار فيه عندهم الفدية مطلقا، وكذلك تحت الإزار لغير حفظ النفقة، وأن الإمام أحمد تلزم عنده الفدية في شد المنطقة لغير حفظ النفقة: أي ولو كان لوجع بظهره، وسنتمم الكلام هنا. أما ما ذكره من أن لبس الخاتم لا خلاف في جوازه للمحرم، ففيه نظر أيضا، لأن بعض العلماء يقول: يمنع لبس المحرم الخاتم والخلاف في جواز لبسه ومنعه معروف في مذهب مالك.
قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره: مشبها على ما لا يجوز لبسه للمحرم كخاتم ما نصه: قال ابن الحاجب: وفي الخاتم قولان، فحملهما في التوضيح على الجواز والمنع. وقال اللخمي وابن رشد: المعروف من قول مالك: منعه، لأنه أشبه بالإحاطة بالإصبع المحيط، وفي مختصر ما ليس في المختصر: لا بأس به. إلى أن قال: فالذي يظهر أن القائل بالمنع يقول: بالفدية، والقائل بالجواز يقول: بسقوط الفدية. انتهى منه.
ثم قال: تنبيه: وهذا في حق الرجل، وأما المرأة فيجوز لها لبس الخاتم ا ه.
وبما ذكرنا تعلم أن قول النووي، ولا خلاف في جواز هذا كله. فيه نظر، وأما تقلد حمائل السيف فعند المالكية، إن كان لعذر يلجئه إلى ذلك، فهو جائز له، ولا فدية فيه، فإن تقلده لغير حاجة فقد قال ابن المواق عن مالك: ينزعه ولا فدية عليه انتهى بواسطة نقل المواق في كلامه على قول خليل في مختصره، ولا فدية في سيف، ولو بلا عذر ا ه. وظاهر قوله: ينزعه أنه لا يجوز تقلد السيف اختيارا عنده كما ترى، والعلم عند الله تعالى. وظاهر مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجوز للمحرم، أن يتقلد السيف إلا لضرورة، وقال الخرقي: ويتقلد بالسيف عند الضرورة، وقال في المغني في شرحه لكلام الخرقي: فأما من غير خوف، فإن أحمد قال: لا إلا من ضرورة. انتهى محل الغرض منه.
62

وقال البخاري في صحيحه في كتاب الحج: باب لبس السلاح للمحرم، وقال عكرمة: إذا خشي العدو، لبس السلاح وافتدى ولم يتابع عليه في الفدية.
حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم لا يدخل مكة سلاحا إلا في القراب) ا ه منه.
وقوله: ولم يتابع عليه في الفدية، يدل على أنه توبع في لبس السلاح للضرورة، لأن معنى قاضاهم: لا يدخل مكة سلاحا إلا في القراب، أنه صالح كفار مكة صلح الحديبية، أنه إن دخل معتمرا عام سبع في ذي القعدة لا يدخل مكة السيوف إلا في أغمادها، والقراب غمد السيف، فدل ذلك على جواز دخول المحرم متقلدا سيفه للخوف من العدو.
وقال البخاري في صحيحه في باب عمرة القضاء: حدثني عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال (لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام) الحديث بطوله، وفيه (فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب) الحديث. وفي لفظ للبخاري في كتاب الصلح (لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب) وفي لفظ له في كتاب الصلح أيضا (ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح) فسألوه ما جلبان السلاح؟ فقال: القراب بما فيه) والجلبان بضم الجيم واللام وتشديد الباء الموحدة بعدها ألف، ثم نون: هو قراب السيف ويطلق على أوعية السلاح، ويروى بتسكين اللام، وتخفيف الباء، وهو شبه الجراب من الأدم يوضع فيه السيف مغمودا.
وقال صاحب اللسان: والقراب غمد السيف والسكين، ونحوهما وجمعه قرب أي بضمتين، وفي صحاح الجوهري: قراب السيف: جفنه وهو وعاء يكون فيه السيف بغمده، وحمالته ا ه والقراب ككتاب ومن جمعه على قرب بضمتين قوله: وقال صاحب اللسان: والقراب غمد السيف والسكين، ونحوهما وجمعه قرب أي بضمتين، وفي صحاح الجوهري: قراب السيف: جفنه وهو وعاء يكون فيه السيف بغمده، وحمالته ا ه والقراب ككتاب ومن جمعه على قرب بضمتين قوله:
* يا ربة البيت قومي غير صاغرة
* ضمي إليك رحال القوم والقربا
*
يعني: ضمي إليك رحالهم وسلاحهم، في أوعيته.
وبهذه الأحاديث: استدل بعض أهل العلم على أن الصحابة دخلوا مكة محرمين عام سبع وهم متقلدو سيوفهم في أغمادها، وأن ذلك لعلة خوفهم من المشركين، لأن الكفار لا يوثق بعهودهم.
وقد علمت أن بعض أهل العلم قال: إن ذلك لا يجوز إلا لضرورة، والله تعالى أعلم.
وللمخالف أن يقول: إن الأحاديث المذكورة ليس فيها التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تقلدوها. ويمكن أن يكونوا حملوا السلاح معهم في رحالهم في أوعيته من غير أن يتقلدوه، وعلى هذا الاحتمال، فلا حجة في الأحاديث على تقلد المحرم حمائل السيف، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس عشر: قد بينا في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه أنه يمنع من الطيب، وسنذكر إن شاء الله في هذا الفرع ما يلزم في ذلك.
اعلم: أن الأئمة الثلاثة: مالكا، والشافعي، وأحمد: لا فرق عندهم، بين أن يطيب جسده كله أو عضوا منه، أو أقل من عضو، فكل ذلك عندهم إن فعله قصدا يأثم به، وتلزمه الفدية.
وقال أبو حنيفة: لا تجب عليه الفدية إلا إذا طيب عضوا كاملا، مثل الرأس، والفخذ، والساق: فإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة، وهي عندهم نصف صاع من بر أو صاع من غيره، كتمر وشعير. وقد قدمنا مرارا أن مذهب أبي حنيفة: أنه إن فعل المحظور، كاللباس، والتطيب، لا لعذر، فعليه دم، وتجزئه شاة وإن فعله لعذر فعليه فدية الأذى المذكورة في آية الفدية، على التخيير، وإن كان المحرم طيبا كثيرا: لزمه الدم عند أبي حنيفة، وقال صاحباه محمد وأبو يوسف: تجب في ذلك الصدقة، وعن محمد: أنه إن طيب أقل من عضو لزمه بحسبه من الدم فإن طيب ثلث العضو، فعليه ثلث دم مثلا، وهكذا، وعن بعض الحنفية: أنه إن طيب ربع عضو: لزمه الدم كاملا كحلق ربع الرأس، فهو عندهم كحلق جميعه وهذا خلاف المشهور في تطيب بعض العضو عندهم. وظاهر كلامهم أنه لو جعل طيبا كثيرا على بعض عضو، فليس عليه إلا الصدقة. وصحح بعض الحنفية: أنه إن كان الطيب قليلا فالعبرة بالعضو، وإن كان كثيرا فالعبرة بالطيب، وله وجه من النظر، وعن بعض الحنفية أن من مس طيبا بأصبعه، فأصابها كلها فعليه دم. وعن أبي يوسف: إن طيب شاربه كله أو يقدره من لحيته، أو رأسه فعليه دم، وعن بعض الحنفية: أنه إن اكتحل بكحل مطيب، فعليه صدقة، ومثله الأنف، فإن فعل ذلك مرارا كثيرة فعليه دم، وفي مناسك الكرماني: لو طيب جميع أعضائه فعليه دم واحد، لاتحاد الجنس، ولو كان الطيب في أعضاء متفرقة يجمع ذلك كله، فإن بلغ عضوا: فعليه دم، وإلا فصدقة، ولو شم طيبا فليس عليه شيء، وإن دخل بيتا مجمرا، فليس عليه شيء، وإن أجمر ثوبه، فإن تعلق به كثيرا، فعليه دم، وإلا فصدقة ا ه من تبيين الحقائق.
وقال بعض الحنفية: إن طيب أعضاءه كلها في مجلس واحد فعليه دم واحد كما تقدم، وإن كان ذلك في مجلسين مختلفين، فعليه لكل واحد دم في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، سواء ذبح للأول أو لم يذبح. وقال محمد: إن ذبح للأول، فكذلك، وإن لم يذبح فعليه دم واحد، والاختلاف فيه كاختلاف في الجماع ا ه.
وأظهرها عندي قول محمد: والحناء عندهم طيب، فلو خضب رأسه بالحناء، لزمه الدم. واستدلوا بحديث الحناء طيب. قالوا رواه البيهقي. وسيأتي ما يدل على أن البيهقي رواه في المعرفة، وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف. وقد روى البيهقي عن عائشة مرفوعا، ما يدل على أن الحناء ليس بطيب، والعلم عند الله تعالى: هذا حاصل مذهب أبي حنيفة وأصحابه في الطيب للمحرم.
62

وأما مذهب مالك في الطيب للمحرم فحاصله: أن الطيب عندهم نوعان: مذكر ومؤنث، أما المذكر فهو ما يظهر ريحه، ويخفى أثره: كالريحان، والياسمين، والورد، والبنفسج ونحو ذلك. وأما المؤنث: فهو ما يظهر ريحه، ويبقى أثره: كالمسك والورس والزعفران والكافور والعنبر والعود ونحو ذلك. فأما المذكر فيكره شمه والتطيب به، ولا فدية في مسه، والتطيب به ولو غسل يديه بماء الورد، فلا فدية عليه عندهم في ذلك، لأنه من الطيب المذكر، خلافا لابن فرحون في مناسكه حيث قال: إن ماء الورد فيه الفدية لأن أثره يبقى، وممن قال: بأن الطيب المذكر لا فدية في استعماله: عثمان بن عفان، والحسن، ومجاهد، وإسحاق. وأما ما ينبت في الأرض من النبات الطيب الريح ولا يقصد التطيب به، كالشيح، والقيصوم، والزنجبيل، والإذخر، فلا فدية فيه عندهم، فهو كريح الفواكه الطيبة كالتفاح والليمون، والأترج وسائر الفواكه وبعض أهل العلم يكره شمه للمحرم، وإن خضب رأسه أو لحيته بحناء، أو خضبت المرأة رأسها أو رجليها، أو طرفت أصابعها بحناء فالفدية عندهم واجبة في ذلك. وأما مؤنث الطيب: كالمسك، والورس، والزعفران، فإن التطيب به عندهم حرام، وفيه الفدية.
ومعنى التطيب بالطيب عندهم: إلصاقه بالثوب، أو باليد وغيرها من الأعضاء، ونحو ذلك، فإن علق به ريح الطيب دون عينه بجلوسه في حانوت عطار، أو في بيت تجمر ساكنوه، فلا فدية عليه عندهم مع كراهة تماديه في حانوت العطار أو البيت الذي تجمر ساكنوه، هذا هو مشهور مذهب مالك. وإن مس الطيب المؤنث افتدى عندهم، وحد ريحه أولا، لصق به أولا، ويكره شم الطيب عندهم مطلقا.
وأظهر أقوال علماء المالكية في الثوب المصبوغ بالورس، والزعفران: إذا تقادم عهده، وطال زمنه حتى ذهبت ريحه بالكلية: أنه مكروه للمحرم، ما دام لون الصبغ باقيا ولكنه لا فدية فيه لانقطاع ريحه بالكلية.
وأقيس الأقوال: أنه يجوز مطلقا، لأن الرائحة الطيبة التي منع من أجلها زالت بالكلية، والعلم عند الله تعالى. وإن اكتحل عندهم بما فيه طيب، فالفدية، ولو لضرورة مع الجواز للضرورة وبما لا طيب فيه فهو جائز للضرورة ولغيرها، فثلاثة أقوال مشهورها: وجوب الفدية على الرجل، والمرأة معا، وقيل: لا تجب عليهما، وقيل: تجب على المرأة دون الرجل.
وحاصل مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة: أن النبات الذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب:
أحدها: ما لا ينبت للطيب ولا يتخذ منه، كنبات الصحراء من الشيخ، والقيصوم، والخزامي والفواكه كلها من الأترج، والتفاح وغيره، وما ينبته الآدميون لغير قصد
الطيب، كالحناء والعصفر، وهذا النوع مباح شمه في مذهب الإمام أحمد، ولا فدية فيه.
قال في المغني: ولا نعلم فيه خلافا إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم: أن يشم شيئا من نبات الأرض من الشيخ والقيصوم وغيرهما قال: ولا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئا فإنه لا يقصد للطيب، ولا يتخذ منه فأشبه سائر نبات الأرض. وقد روي أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يحرمن في المعصفرات.
النوع الثاني: ما ينبته الآدميون للطيب، ولا يتخذ منه طيب، كالريحان، والنرجس، ونحو ذلك وفي هذا النوع للحنابلة وجهان.
أحدهما: يباح بغير فدية كالذي قبله.
قال في المغني: وبه قال عثمان بن عفان، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وإسحاق.
والوجه الثاني: يحرم شمه، فإن فعل فعليه الفدية.
قال في المغني: وهو قول جابر، وابن عمر، والشافعي، وأبي ثور، لأنه يتخذ للطيب فأشبه الورد. وكرهه مالك، وأصحاب الرأي، ولم يوجبوا فيه شيئا، وكلام أحمد فيه محتمل لهذا، فإنه قال في الريحان: ليس من آلة المحرم، ولم يذكر فديته، وذلك لأنه لا يتخذ منه طيب، فأشبه العصفر. ا ه من المغني.
والنوع الثالث عندهم: هو ما ينبت للطيب، ويتخذ منه طيب كالورد والبنفسج والياسمين، ونحو ذلك. وهذا النوع إذا استعمله، وشمه ففيه: الفدية عندهم، لأن الفدية تجب فيما يتخذ منه، فكذلك في أصله. وعن أحمد رواية أخرى في الورد: أنه لا فدية عليه في شمه، لأنه زهر كزهر سائر الشجر.
قال في المغني: وذكر أبو الخطاب في هذا، والذي قبله روايتين والأولى: تحريمه، لأنه ينبت للطيب، ويتخذ منه، فأشبه الزعفران والعنبر. قال القاضي يقال: إن العنبر ثمر شجر وكذلك الكافور. ا ه من المغني.
وفي المغني أيضا: وإن مس من الطيب ما يعلق بيده كالغالية، وماء الورد والمسك المسحوق الذي يعلق بأصابعه فعليه الفدية، لأنه مستعمل للطيب، وإن مس ما لا يعلق بيده كالمسك غير المسحوق، وقطع الكافور والعنبر، فلا فدية لأنه غير مستعمل للطيب، فإنه شمه فعليه الفدية لأنه يستعمل هكذا، وإن شم العود، فلا فدية عليه لأنه لا يتطيب به هكذا ا ه من المغني.
وقال في المغني أيضا: فكل ما صبغ بزعفران، أو ورس، أو غمس في ماء ورد، أو بخر بعود، فليس للمحرم لبسه ولا الجلوس عليه، ولا النوم عليه نص أحمد عليه، وذلك لأنه استعمال له، فأشبه لبسه، ومتى لبسه أو استعمله، فعليه الفدية. وبذلك قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن كان رطبا يلي بدنه أو يابسا ينفض فعليه الفدية، وإلا فلا،
62

لأنه ليس بمتطيب ثم قال صاحب المغني: وإن انقطعت رائحة الثوب، لطول الزمن عليه أو لكونه صبغ بغيره فغلب عليه بحيث لا يفوح له رائحة إذا رش فيه الماء، فلا بأس باستعماله لزوال الطيب منه. وبهذا قال سعيد بن المسيب، والحسن، والنخعي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وروي ذلك عن عطاء، وطاوس، وذكره ذلك مالك، إلا أن يغسل، ويذهب لونه: لأن عين الزعفران ونحوه فيه. ثم قال: فأما إن لم يكن له رائحة في الحال لكن كان بحيث إذا رش فيه الماء فاح ريحه: ففيه الفدية، لأنه متطيب بدليل أن رائحته تظهر عند رش الماء فيه. والماء لا رائحة له، وإنما هي من الصبغ الذي فيه. فأما إن فرش فوق الثوب ثوبا صفيقا يمنع الرائحة والمباشرة: فلا فدية عليه بالجلوس، والنوم عليه، وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه ففيه الفدية، لأنه يمنع من استعمال الطيب في الثوب الذي عليه كمنعه من استعماله في بدنه. ا ه من المغني.
وأما العصفر: فليس عندهم بطيب، ولا بأس باستعماله، وشمه، ولا بما صبغ به.
قال في المغني: وهذا قول جابر، وابن عمر، وعبد الله بن جعفر، وعقيل بن أبي طالب، وهو مذهب الشافعي، وعن عائشة وأسماء، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: (أنهن كن يحرمن في المعصفرات) وكرهه مالك: إذا كان ينتفض في بدنه، ولم يوجب فيه فدية، ومنع ذلك الثوري، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن وشبهوه بالمورس، والمزعفر، لأنه صبغ طيب الرائحة فأشبه ذلك ا ه.
والأظهر: أن العصفر ليس بطيب مع أنه لا يجوز لبس المحرم، ولا غيره للمعصفر، وقد قدمنا فيه حديث ابن عمر، عند أبي داود (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أوخز) الحديث وهو صريح في أن العصفر: ليس بطيب. وقد قدمنا الكلام على هذا الحديث.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء، وهن محرمات، ويلبسن المعصفر وهن محرمات).
وقال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الكبير، وفيه يعقوب بن عطاء، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة ا ه. وسيأتي ما يدل على منع لبس المعصفر مطلقا.
وقال صاحب المغني أيضا: ولا بأس بالمصبوغ بالمغرة، لأنه مصبوغ بطين لا بطيب، وكذلك المصبوغ بسائر الأصباغ، سوى ما ذكرنا، لأن الأصل الإباحة، إل
63

ا ما ورد الشرع بتحريمه، وما كان في معناه، وليس هذا كذلك، وأما المصبوغ بالرياحين: فهو مبني على الرياحين في نفسها، فما منع المحرم من استعماله منع من لبس المصبوغ به إذا ظهرت رائحته، وإلا فلا، وهذا الذي ذكرنا هو حاصل مذهب الإمام أحمد في الطيب للمحرم، ولا فرق عنده بين قليل الطيب وكثيره، ولا بين قليل اللبس وكثيره، كما تقدم إلا أنه يفرق بين تعمد استعمال الطيب، واللبس وبين استعماله لذلك ناسيا، فإن فعله متعمدا أثم وعليه الفدية، وإزالة الطيب، واللباس فورا، وإن تطيب، أو لبس ناسيا: فلا فدية عليه، ويخلع اللباس، ويغسل الطيب.
قال ابن قدامة في المغني: المشهور أن المتطيب ناسيا، أو جاهلا لا فدية عليه، وهو مذهب عطاء، والثوري، وإسحاق، وابن المنذر. انتهى محل الغرض منه، ثم ذكر أن الذي يستوي عمده ونسيانه في لزوم الكفارة ثلاثة أشياء: وهي الجماع، وقتل الصيد، وحلق الرأس، وأن كل ما سوى هذه الثلاثة يفرق فيه بين العمد والنسيان. وذكر أن الإمام أحمد نقل عن سفيان أن الثلاثة المذكورة يستوي عمدها ونسيانها في لزوم الكفارة.
وقال في المغني: ويلزمه غسل الطيب، وخلع اللباس، لأنه فعل محظورا، فيلزمه إزالته، وقطع استدامته كسائر المحظورات، والمستحب أن يستعين في غسل الطيب بحلال لئلا يباشر المحرم الطيب بنفسه. ويجوز أن يليه بنفسه، ولا شيء عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي رأى عليه طيبا أو خلوقا (اغسل عنك الطيب) ولأنه تارك له، فإن لم يجد ما يغسله به، مسحه بخرقة، أو حكه بتراب، أو ورق أو حشيش، لأن الذي عليه إزالته بحسب القدرة. وهذا نهاية قدرته ثم قال: وإذا احتاج إلى الوضوء، وغسل الطيب، ومعه ماء لا يكفي إلا أحدهما: قدم غسل الطيب ويتيمم للحدث، لأنه لا رخصة في إبقاء الطيب، وفي ترك الوضوء إلى التيمم رخصة، فإن قدر على قطع رائحة الطيب بغير الماء فعل، وتوضأ فإن المقصود من إزالة الطيب قطع رائحته، فلا يتعين الماء والوضوء، بخلافه ا ه منه. وهذا خلاصة المذهب الحنبلي في مسألة الطيب للمحرم. ومذهب الشافعي في هذه المسألة: أنه يحرم على الرجل والمرأة استعمال الطيب، ولا فرق عنده بين القليل والكثير، واستعمال الطيب عنده: هو أن يلصق الطيب ببدنه، أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطيب. فلو طيب جزءا من بدنه بغالية، أو مسك مسحوق، أو ماء ورد: لزمته الفدية، سواء كان الإلصاق بظاهر البدن أو باطنه، فإن أكله أو احتقن به، أو استعط، أو اكتحل أو لطخ به رأسه، أو وجهه أو غير ذلك من بدنه أثم،
64

ولزمته الفدية، ولا خلاف عندهم في شيء من ذلك، إلا الحقنة والسعوط ففيهما وجه ضعيف: أنه لا فدية فيهما، ومشهور مذهب الشافعي: وجوب الفدية فيهما، ولو لبس ثوبا مبخرا بالطيب، أو ثوبا مصبوغا بالطيب، أو علق بنعله طيب، لزمته الفدية عند الشافعية ولو عبقت رائحة الطيب دون عينه، بأن جلس في دكان عطار أو عند الكعبة، وهي تبخر أو في بيت يبخر ساكنوه: فلا فدية عليه بلا خلاف، ثم إن لم يقصد الموضع لاشتمام الرائحة، لم يكره، وإن قصده لاشتمامها ففي كراهته قولان: للشافعي أصحهما: يكره، وبه قطع القاضي أبو الطيب، وآخرون، وهو نصه في الإملاء، والثاني: لا يكره، وقطع القاضي حسين: بالكراهة، وقال: إنما القولان في وجوب الفدية، والمذهب الأول، وبه قطع الأكثرون. قاله النووي ثم قال: ولو احتوى على مجمرة فتبخر بالعود بدنه أو ثيابه: لزمته الفدية، بلا خلاف، لأنه يعد استعمالا للطيب، ولو مس طيبا يابسا كالمسك والكافور، فإن علق بيده لونه وريحه وجبت الفدية، بلا خلاف، لأن استعماله هكذا يكون، وإن لم يعلق بيده شيء من عينه، لكن عبقت به الرائحة، ففي وجوب الفدية قولان الأصح عند الأكثرين وهو نصه في الأوسط: لا تجب، لأنها عن مجاورة فأشبه من قعد عند الكعبة، وهي تبخر، والثاني: تجب. وصححه القاضي أبو الطيب، وهو نصه في الأم والإملاء والقديم، لأنها عن مباشرة، وإن ظن أن الطيب يابس فمسه، فعلق بيده ففي الفدية عند الشافعية قولان أصحهما: لا تجب عليه الفدية، خلافا لإمام الحرمين. وأما إن مس الطيب، وهو عالم بأنه رطب وكان قاصدا مسه، فعلق بيده، فعليه فدية عندهم، ولو شد مسكا أو كافورا، أو عنبرا في ظرف ثوبه أو جبته: وجبت الفدية عندهم قطعا، لأنه استعمال له، ولو شد العود فلا فدية، لأنه لا يعد تطيبا، بخلاف شد المسك، ولو شم الورد فقد تطيب عندهم، بخلاف ما لو شم ماء الورد، فإنه لا يكون متطيبا عندهم، بل استعمال ماء الورد عندهم هو أن يصبه على بدنه أو ثوبه ولو حمل مسكا، أو طيبا غيره في كيس، أو خرقة مشدودا، أو قارورة مصممة الرأس، أو حمل الورد في وعاء: فلا فدية عليه. نص عليه في الأم وقطع به الجمهور: وفيه وجه شاذ: أنه إن كان يشمه قصدا: لزمته الفدية، ولو حمل مسكا في قارورة غير مشقوقة: فلا فدية في أصح الوجهين. ولو كانت القارورة مشقوقة، أو مفتوحة الرأس، فعن جماعة من الأصحاب
65

الشافعيين: تجب الفدية، وخالف الرافعي قائلا: إن ذلك لا يعد تطيبا، ولو جلس على فراش مطيب أو أرض مطيبة، أو نام عليها مفضيا إليها ببدنه أو ملبوسه: لزمته الفدية عندهم. ولو فرش فوقه ثوبا، ثم جلس عليه، أو نام: لم تجب الفدية. نص عليه الشافعي في الأم. واتفق عليه الأصحاب، لكن إن كان الثوب رقيقا كره، وإلا فلا، ولو داس بنعله طيبا لزمته الفدية، وإن خفيت رائحة الطيب في الثوب لطول الزمان، فإن كانت تفوح عند رشه بالماء حرم استعماله، وإن بقي لون الطيب دون ريحه، لم يحرم على أصح الوجهين. ولو صب ماء ورد في ماء كثير، حتى ذهب ريحه ولونه: لم تجب الفدية باستعماله في أصح الوجهين. فلو ذهبت الرائحة، وبقي اللون، أو الطعم فحكمه عندهم حكم من أكل طعاما فيه زعفران أو طيب. وذلك أن الطيب إن استهلك في الطعام، حتى ذهب لونه، وريحه وطعمه: فلا فدية. ولا خلاف في ذلك عندهم، وإن ظهر لونه وطعمه، وريحه وجبت الفدية، بلا خلاف، وإن بقيت الرائحة فقط: وجبت الفدية لأنه يعد طيبا، وإن بقي اللون وحده، فطريقان مشهوران أصحهما: أن فيه قولين الأصح منهما: أنه لا فدية فيه، وهو نص الشافعي في الأم والإملاء والقديم الثاني: تجب الفدية، وهو نصه في الأوسط والطريق الثاني: أنه لا فدية فيه قطعا، وإن بقي الطعم وحده ففيه عندهم ثلاث طرق أصحها: وجوب الفدية قطعا: كالرائحة، والثاني: فيه طريقان بلزومها وعدمه، والثالث: لا فدية، وهذا ضعيف أو غلط. وحكى بعض الشافعية طريقا رابعا: وهو أنه لا فدية قطعا ولو كان المحرم أخشم لا يجد رائحة الطيب، واستعمل الطيب: لزمته الفدية عندهم، بلا خلاف لأنه وجد منه استعمال الطيب مع علمه بتحريم الطيب على المحرم فوجبت الفدية وإن لم ينتفع به كما لو نتف شعر لحيته أو غيرها من شعوره التي لا ينفعه نتفها قال النووي: وممن صرح بهذا المتولي، وصاحب العدة والبيان ا ه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لزوم الفدية للأخشم الذي لا يجد ريح الطيب، إذا استعمل الطيب، مبني على قاعدة هي: أن المعلل بالمظان لا يتخلف بتخلف حكمته، لأن مناط الحكم مظنة وجود حكمة العلة، فلو تخلفت في صورة لم يمنع ذلك من لزوم الحكم كمن كان منزله على البحر، وقطع مسافة القصر في لحظة في سفينة، فإنه يباح له قصر الصلاة والفطر في رمضان بسفره، هذا الذي لا مشقة فيه، لأن الحكم الذي هو الرخصة علق بمظنة المشقة في الغالب، وهو سفر أربعة برد مثلا
والمعلل بالظان لا تتخلف أحكامه، بتخلف حكمها في بعض الصور كما عقده بعض أهل العلم بقوله: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لزوم الفدية للأخشم الذي لا يجد ريح الطيب، إذا استعمل الطيب، مبني على قاعدة هي: أن المعلل بالمظان لا يتخلف بتخلف حكمته، لأن مناط الحكم مظنة وجود حكمة العلة، فلو تخلفت في صورة لم يمنع ذلك من لزوم الحكم كمن كان منزله على البحر، وقطع مسافة القصر في لحظة في سفينة، فإنه يباح له قصر الصلاة والفطر في رمضان بسفره، هذا الذي لا مشقة فيه، لأن الحكم الذي هو الرخصة علق بمظنة المشقة في الغالب، وهو سفر أربعة برد مثلا والمعلل بالظان لا تتخلف أحكامه، بتخلف حكمها في بعض الصور كما عقده بعض أهل العلم بقوله:
66

* إن علل الحكم بعلة غلب
* وجودها اكتفى بذا عن الطلب
*
وإيضاحه: أن الغالب كون الإنسان يجد ريح الطيب، فأنيط الحكم بالأغلب الذي هو وجوده ريح الطيب، فلو تخلفت الحكمة في الأخشم الذي لا يجد ريح الطيب لم يتخلف الحكم لإناطته بالمظنة، وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من أمثلتها في غير هذا الموضع.
وقد تقرر في الأصول: أن وجود الحكم مع تخلف حكمته من أنواع القادح المسمى بالكسر، وقد أشار إلى ذلك صاحب المراقي بقوله في مبحث القوادح: وقد تقرر في الأصول: أن وجود الحكم مع تخلف حكمته من أنواع القادح المسمى بالكسر، وقد أشار إلى ذلك صاحب المراقي بقوله في مبحث القوادح:
* والكسر قادح ومنه ذكرا
* تخلف الحكمة عنه من درا
*
وهذا الذي قررنا في مسألة الأخشم مبني على القول، بأن الكسر بتخلف الحكمة عن حكمها، لا يقدح في المعلل بالمظان، كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن الحكمة في اصطلاح أهل الأصول: هي الفائدة التي صار بسببها الوصف علة للحكم، فتحريم الخمر مثلا حكم والإسكار هو علة هذا الحكم، والمحافظة على العقل من الاختلال: هي الحكمة التي من أجلها صار الإسكار علة لتحريم الخمر، وقد عرف صاحب المراقي الحكمة بقوله: واعلم: أن الحكمة في اصطلاح أهل الأصول: هي الفائدة التي صار بسببها الوصف علة للحكم، فتحريم الخمر مثلا حكم والإسكار هو علة هذا الحكم، والمحافظة على العقل من الاختلال: هي الحكمة التي من أجلها صار الإسكار علة لتحريم الخمر، وقد عرف صاحب المراقي الحكمة بقوله:
* وهي التي من أجلها الوصف جرى
* علة حكم عند كل من درى
*
وعلة الرخصة بقصر الصلاة والإفطار في رمضان: هي السفر، والحكمة التي صار السفر علة بسببها: هي تخفيف المشقة على المسافر مثلا، وهكذا.
واعلم: أن علماء الشافعية قالوا: إنه يشترط في الطيب الذي يحكم بتحريمه: أن يكون معظم الغرض منه التطيب، واتخاذ الطيب منه، أو يظهر فيه هذا الغرض. هذا ضابطه عندهم.
ثم فصلوه فقالوا: الأصل في الطيب: المسك، والعنبر، والكافور، والعود، والصندل، والذريرة، وهذا كله لا خلاف فيه عندهم قالوا: والكافور صنع شجر معروف.
وأما النبات الذي له رائحة فأنواع:
67

منها: ما يطلب للتطيب، واتخاذ الطيب منه كالورد والياسمين، والخيرى، والزعفران، والورس ونحوها، فكل هذا طيب. وعن الرافعي وجه شاذ في الورد والياسمين والخيرى: أنها ليست طيبا والمذهب الأول.
ومنها: ما يطلب للأكل والتداوي غالبا، كالقرنفل والدارصيني، والفلفل، والمصطكي، والسنبل وسائر الفواكه كل هذا وشبهه ليس بطيب، فيجوز أكله وشمه وصبغ الثوب به، ولا فدية فيه سواء قليله وكثيره، ولا خلاف عند الشافعية في شيء من هذا إلا القرنفل، ففيه وجهان عندهم. والصحيح المشهور أنه ليس بطيب عندهم.
ومنها: ما ينبت بنفسه، ولا يراد للطيب كنور أشجار الفواكه كالتفاح، والمشمش، والكمثري، والسفرجل، وكالشيح، والقيصوم، وشقائق النعمان والإذخر، والخزامي، وسائر أزهار البراري، فكل هذا ليس بطيب فيجوز أكله وشمه، وصبغ الثوب به، ولا فدية فيه، بلا خلاف.
ومنها: ما يتطيب به، ولا يتخذ منه الطيب: كالنرجس، والآس، وسائر الرياحين وفي هذا النوع عند الشافعية طريقان.
أحدهما: أنه طيب قولا واحدا.
والطريق الثاني: وهو الصحيح المشهور عندهم: أن فيه قولين مشهورين الصحيح منهما، وهو قوله الجديد: أنه طيب موجب للفدية. القول الثاني وهو القديم: أنه ليس بطيب، ولا فدية فيه ا ه والحناء والعصفر ليسا بطيب عند الشافعية بلا خلاف على التحقيق، خلافا لمن زعم خلافا عندهم في الحناء.
واعلم: أن الأدهان عند الشافعية ضربان أحدهما دهن ليس بطيب، ولا فيه طيب، كالزيت، والشيرج، والسمن، والزبد، ودهن الجوز، واللوز ونحوها. فهذا لا يحرم استعماله في جميع البدن، ولا فدية فيه، إلا في الرأس، واللحية، فيحرم عندهم استعماله فيهما بلا خلاف، وفيه: الفدية. لأنه إزالة للشعث، إن كان في الرأس واللحية، فإن كان أصلع لا ينبت الشعر في رأسه فدهن رأسه أو أمرد فدهن ذقنه: فلا فدية عندهم في ذلك، بلا خلاف، وإن كان محلوق الرأس فدهنه بما ذكر، ففيه عندهم وجهان: أصحهما: وجوب الفدية بناء على أن الشعر إن نبت جمله ذلك الدهن، الذي جعل عليه، وهو محلوق والوجه الثاني: لا فدية، لأنه لا يزول به شعث. واختاره المزني وغيره ولو كان
68

برأسه شجة فجعل هذا الدهن في داخلها من غير أن يمس شعر رأسه: فلا فدية، بلا خلاف، ولو طلى شعر رأسه ولحيته بلين جاز: ولا فدية، وإن كان اللبن يستخرج منه السمن، لأنه ليس بدهن ولا يحصل به ترجيل الشعر، والشحم، والشمع عندهم، إذا أذبيا كالدهن يحرم على المحرم ترجيل شعره بهما.
الضرب الثاني: دهن هو طيب ومنه: دهن الورد، والمذهب عندهم: وجوب الفدية فيه، وقيل فيه وجهان. ومنه: دهن البنفسج، فعلى القول بأن نفس البنفسج: لا فدية فيه، فدهنه أولى، وعلى أن فيه الفدية، فدهنه كدهن الورد، والأدهان كثيرة، وخلاف العلماء فيها من الخلاف في تحقيق المناط كدهن البان والزنبق، وهو دهن الياسمين والكاذي وهو دهن، ونبت طيب الرائحة والخيري، وهو معرب، وهو نبت طيب الرائحة ويقال للنحاسي: خيري البر، ومذهب الشافعي: أن الأدهان المذكورة، ونحوها طيب، تجب باستعماله الفدية.
واعلم: أن محل وجوب الفدية عند الشافعية في الطيب: إذا كان استعمله عامدا، فإن كان ناسيا أو ألقته الريح عليه، لزمته المبادرة بإزالته بما يقطع ريحه، وكون الأولى أن يستعين في غسله بحلال وتقديمه غسله على الوضوء، إن لم يكف الماء، إلا أحدهما عند الشافعية موافق لما قدمنا عن الحنابلة، بخلاف غسل النجاسة، فهو مقدم عندهم على غسل الطيب ولو لصق بالمحرم طيب يوجب الفدية، لزمه المبادرة إلى إزالته فإن أخره عصى ولا تتكرر به الفدية والاكتحال عندهم بما فيه طيب حرام، فإن احتاج إليه اكتحل به ولزمته الفدية.
وأما الاكتحال بما لا طيب فيه، فإن كان فيه زينة كره عندهم: كالإثمد، وإن كان بما لا زينة فيه: كالتوتيا الأبيض فلا كراهة.
وقال النووي بعد أن ذكر الإجماع على تحريم الطيب للمحرم: ومذهبنا أنه لا فرق بين أن يتبخر، أو يجعله في ثوبه، أو بدنه، وسواء كان الثوب مما ينغض الطيب، أم لم يكن.
قال العبدري: وبه قال أكثر العلماء.
وقال أبو حنيفة: يجوز للمحرم أن يتبخر بالعود، والند، ولا يجوز أن يجعل شيئا من الطيب في بدنه، ويجوز أن يجعله على ظاهر ثوبه، فإن جعله في باطنه، وكان الثوب لا
69

بنقض، فلا شيء عليه، وإن كان بنقص لزمته الفدية ا ه منه.
والظاهر المنع مطلقا لصريح الحديث الصحيح في النهي عن ثوب مسه ورس أو زعفران، وكل هذه الصور يصدق فيها: أنه مسه ورس أو زعفران، وغيرهما من أنواع الطيب وحكمه كحكمهما، كما أوضحنا الأحاديث الدالة عليه في أول الكلام في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه. وكذلك المتبخر بالعود متطيب عرفا، والأحاديث دالة على اجتناب المحرم للطيب كما تقدم، والعلم عند الله تعالى.
وقال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا: أن الزيت، والشيرج، والسمن، والزبد ونحوها من الأدهان غير المطيبة، لا يحرم على المحرم استعمالها في بدنه ويحرم عليه في شعر رأسه ولحيته.
وقال الحسن بن صالح: يجوز استعمال ذلك في بدنه وشعر رأسه ولحيته.
وقال مالك: لا يجوز أن يدهن بها أعضاءه الظاهرة كالوجه، واليدين، والرجلين، ويجوز دهن الباطنة: وهي ما يوارى باللباس.
وقال أبو حنيفة: كقولنا في السمن والزبد، وخالفنا في الزيت والشيرج فقال: يحرم استعمالها في الرأس والبدن.
وقال أحمد: إن ادهن بزيت أو شيرج: فلا فدية في أصح الروايتين، سواء دهن يديه أو رأسه.
وقال داود: يجوز دهن رأسه، ولحيته، وبدنه بدهن غير مطيب.
وحجة من قال بهذا حديث جاء بذلك: فقد قال البيهقي في السنن الكبرى: أخبرنا أبو ظاهر الفقيه، وأبو سعيد بن أبي عمرو قراءة عليهما، وأبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني إملاء قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، أنبأ أبو سلمة الخزاعي، أنبأ حماد بن سلمة، عن فرقد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم) يعني غير مطيب، لم يذكر ابن يوسف تفسيره. قال الإمام أحمد: ورواه الأسود بن عامر شاذان، عن حماد بن سلمة، عن فرقد، عن سعيد، عن ابن عمر فذكره من غير تفسير ا ه منه: ثم ذكر بإسناده عن أبي ذر رضي
70

الله عنه: أنه مر عليه قوم محرمون، وقد تشققت أرجلهم فقال: ادهنوها. وفرقد المذكور في سند هذا الحديث، هو فرقد بن يعقوب السبخي بفتح السين المهملة والباء الموحدة وبخاء معجمة: أبو يعقوب البصري، وهو معروف بالزهد والعبادة. ولكنه ضعفه غير واحد. وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق عابد، لكنه لين الحديث كثير الخطأ. وقال النووي في شرح المهذب: واحتج أصحابنا بحديث فرقد السبخي الزاهد رحمه الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم) رواه الترمذي والبيهقي، وهو ضعيف. وفرقد غير قوي عند المحدثين. قال الترمذي: هو ضعيف غريب، لا يعرف إلا من حديث فرقد، وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد. وقوله: غير مقتت: أي غير مطيب انتهى محل الغرض منه.
وفي المغني أيضا: وإن مس من الطيب ما يعلق بيده كالغالية، وماء الورد والمسك المسحوق الذي يعلق بأصابعه فعليه الفدية، لأنه مستعمل للطيب، وإن مس ما لا يعلق بيده كالمسك غير المسحوق، وقطع الكافور والعنبر، فلا فدية لأنه غير مستعمل للطيب، فإنه شمه فعليه الفدية لأنه يستعمل هكذا، وإن شم العود، فلا فدية عليه لأنه لا يتطيب به هكذا ا ه من المغني.
وقال في المغني أيضا: فكل ما صبغ بزعفران، أو ورس، أو غمس في ماء ورد، أو بخر بعود، فليس للمحرم لبسه ولا الجلوس عليه، ولا النوم عليه نص أحمد عليه، وذلك لأنه استعمال له، فأشبه لبسه، ومتى لبسه أو استعمله، فعليه الفدية. وبذلك قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن كان رطبا يلي بدنه أو يابسا ينفض فعليه الفدية، وإلا فلا، لأنه ليس بمتطيب ثم قال صاحب المغني: وإن انقطعت رائحة الثوب، لطول الزمن عليه أو لكونه صبغ بغيره فغلب عليه بحيث لا يفوح له رائحة إذا رش فيه الماء، فلا بأس باستعماله لزوال الطيب منه. وبهذا قال سعيد بن المسيب، والحسن، والنخعي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وروي ذلك عن عطاء، وطاوس، وذكره ذلك مالك، إلا أن يغسل، ويذهب لونه: لأن عين الزعفران ونحوه فيه. ثم قال: فأما إن لم يكن له رائحة في الحال لكن كان بحيث إذا رش فيه الماء فاح ريحه: ففيه الفدية، لأنه متطيب بدليل أن رائحته تظهر عند رش الماء فيه. والماء لا رائحة له، وإنما هي من الصبغ الذي فيه. فأما إن فرش فوق الثوب ثوبا صفيقا يمنع الرائحة والمباشرة: فلا فدية عليه بالجلوس، والنوم عليه، وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه ففيه الفدية، لأنه يمنع من استعمال الطيب في الثوب الذي عليه كمنعه من استعماله في بدنه. ا ه من المغني.
وأما العصفر: فليس عندهم بطيب، ولا بأس باستعماله، وشمه، ولا بما صبغ به.
قال في المغني: وهذا قول جابر، وابن عمر، وعبد الله بن جعفر، وعقيل بن أبي طالب، وهو مذهب الشافعي، وعن عائشة وأسماء، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: (أنهن كن يحرمن في المعصفرات) وكرهه مالك: إذا كان ينتفض في بدنه، ولم يوجب فيه فدية، ومنع ذلك الثوري، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن وشبهوه بالمورس، والمزعفر، لأنه صبغ طيب الرائحة فأشبه ذلك ا ه.
والأظهر: أن العصفر ليس بطيب مع أنه لا يجوز لبس المحرم، ولا غيره للمعصفر، وقد قدمنا فيه حديث ابن عمر، عند أبي داود (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أوخز) الحديث وهو صريح في أن العصفر: ليس بطيب. وقد قدمنا الكلام على هذا الحديث.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء، وهن محرمات، ويلبسن المعصفر وهن محرمات).
وقال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الكبير، وفيه يعقوب بن عطاء، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة ا ه. وسيأتي ما يدل على منع لبس المعصفر مطلقا.
وقال صاحب المغني أيضا: ولا بأس بالمصبوغ بالمغرة، لأنه مصبوغ بطين لا بطيب، وكذلك المصبوغ بسائر الأصباغ، سوى ما ذكرنا، لأن الأصل الإباحة، إلا ما ورد الشرع بتحريمه، وما كان في معناه، وليس هذا كذلك، وأما المصبوغ بالرياحين: فهو مبني على الرياحين في نفسها، فما منع المحرم من استعماله منع من لبس المصبوغ به إذا ظهرت رائحته، وإلا فلا، وهذا الذي ذكرنا هو حاصل مذهب الإمام أحمد في الطيب للمحرم، ولا فرق عنده بين قليل الطيب وكثيره، ولا بين قليل اللبس وكثيره، كما تقدم إلا أنه يفرق بين تعمد استعمال الطيب، واللبس وبين استعماله لذلك ناسيا، فإن فعله متعمدا أثم وعليه الفدية، وإزالة الطيب، واللباس فورا، وإن تطيب، أو لبس ناسيا: فلا فدية عليه، ويخلع اللباس، ويغسل الطيب.
قال ابن قدامة في المغني: المشهور أن المتطيب ناسيا، أو جاهلا لا فدية عليه، وهو مذهب عطاء، والثوري، وإسحاق، وابن المنذر. انتهى محل الغرض منه، ثم ذكر أن الذي يستوي عمده ونسيانه في لزوم الكفارة ثلاثة أشياء: وهي الجماع، وقتل الصيد، وحلق الرأس، وأن كل ما سوى هذه الثلاثة يفرق فيه بين العمد والنسيان. وذكر أن الإمام أحمد نقل عن سفيان أن الثلاثة المذكورة يستوي عمدها ونسيانها في لزوم الكفارة.
وقال في المغني: ويلزمه غسل الطيب، وخلع اللباس، لأنه فعل محظورا، فيلزمه إزالته، وقطع استدامته كسائر المحظورات، والمستحب أن يستعين في غسل الطيب بحلال لئلا يباشر المحرم الطيب بنفسه. ويجوز أن يليه بنفسه، ولا شيء عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي رأى عليه طيبا أو خلوقا (اغسل عنك الطيب) ولأنه تارك له، فإن لم يجد ما يغسله به، مسحه بخرقة، أو حكه بتراب، أو ورق أو حشيش، لأن الذي عليه إزالته بحسب القدرة. وهذا نهاية قدرته ثم قال: وإذا احتاج إلى الوضوء، وغسل الطيب، ومعه ماء لا يكفي إلا أحدهما: قدم غسل الطيب ويتيمم للحدث، لأنه لا رخصة في إبقاء الطيب، وفي ترك الوضوء إلى التيمم رخصة، فإن قدر على قطع رائحة الطيب بغير الماء فعل، وتوضأ فإن المقصود من إزالة الطيب قطع رائحته، فلا يتعين الماء والوضوء، بخلافه ا ه منه. وهذا خلاصة المذهب الحنبلي في مسألة الطيب للمحرم. ومذهب الشافعي في هذه المسألة: أنه يحرم على الرجل والمرأة استعمال الطيب، ولا فرق عنده بين القليل والكثير، واستعمال الطيب عنده: هو أن يلصق الطيب ببدنه، أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطيب. فلو طيب جزءا من بدنه بغالية، أو مسك مسحوق، أو ماء ورد: لزمته الفدية، سواء كان الإلصاق بظاهر البدن أو باطنه، فإن أكله أو احتقن به، أو استعط، أو اكتحل أو لطخ به رأسه، أو وجهه أو غير ذلك من بدنه أثم، ولزمته الفدية، ولا خلاف عندهم في شيء من ذلك، إلا الحقنة والسعوط ففيهما وجه ضعيف: أنه لا فدية فيهما، ومشهور مذهب الشافعي: وجوب الفدية فيهما، ولو لبس ثوبا
71

مبخرا بالطيب، أو ثوبا مصبوغا بالطيب، أو علق بنعله طيب، لزمته الفدية عند الشافعية ولو عبقت رائحة الطيب دون عينه، بأن جلس في دكان عطار أو عند الكعبة، وهي تبخر أو في بيت يبخر ساكنوه: فلا فدية عليه بلا خلاف، ثم إن لم يقصد الموضع لاشتمام الرائحة، لم يكره، وإن قصده لاشتمامها ففي كراهته قولان: للشافعي أصحهما: يكره، وبه قطع القاضي أبو الطيب، وآخرون، وهو نصه في الإملاء، والثاني: لا يكره، وقطع القاضي حسين: بالكراهة، وقال: إنما القولان في وجوب الفدية، والمذهب الأول، وبه قطع الأكثرون. قاله النووي ثم قال: ولو احتوى على مجمرة فتبخر بالعود بدنه أو ثيابه: لزمته الفدية، بلا خلاف، لأنه يعد استعمالا للطيب، ولو مس طيبا يابسا كالمسك والكافور، فإن علق بيده لونه وريحه وجبت الفدية، بلا خلاف، لأن استعماله هكذا يكون، وإن لم يعلق بيده شيء من عينه، لكن عبقت به الرائحة، ففي وجوب الفدية قولان الأصح عند الأكثرين وهو نصه في الأوسط: لا تجب، لأنها عن مجاورة فأشبه من قعد عند الكعبة، وهي تبخر، والثاني: تجب. وصححه القاضي أبو الطيب، وهو نصه في الأم والإملاء والقديم، لأنها عن مباشرة، وإن ظن أن الطيب يابس فمسه، فعلق بيده ففي الفدية عند الشافعية قولان أصحهما: لا تجب عليه الفدية، خلافا لإمام الحرمين. وأما إن مس الطيب، وهو عالم بأنه رطب وكان قاصدا مسه، فعلق بيده، فعليه فدية عندهم، ولو شد مسكا أو كافورا، أو عنبرا في ظرف ثوبه أو جبته: وجبت الفدية عندهم قطعا، لأنه استعمال له، ولو شد العود فلا فدية، لأنه لا يعد تطيبا، بخلاف شد المسك، ولو شم الورد فقد تطيب عندهم، بخلاف ما لو شم ماء الورد، فإنه لا يكون متطيبا عندهم، بل استعمال ماء الورد عندهم هو أن يصبه على بدنه أو ثوبه ولو حمل مسكا، أو طيبا غيره في كيس، أو خرقة مشدودا، أو قارورة مصممة الرأس، أو حمل الورد في وعاء: فلا فدية عليه. نص عليه في الأم وقطع به الجمهور: وفيه وجه شاذ: أنه إن كان يشمه قصدا: لزمته الفدية، ولو حمل مسكا في قارورة غير مشقوقة: فلا فدية في أصح الوجهين. ولو كانت القارورة مشقوقة، أو مفتوحة الرأس، فعن جماعة من الأصحاب الشافعيين: تجب الفدية، وخالف الرافعي قائلا: إن ذلك لا يعد تطيبا، ولو جلس على فراش مطيب أو أرض مطيبة، أو نام عليها مفضيا إليها ببدنه أو ملبوسه: لزمته الفدية عندهم. ولو فرش فوقه ثوبا، ثم جلس عليه، أو نام: لم تجب الفدية. نص عليه الشافعي في الأم. واتفق عليه الأصحاب، لكن إن كان الثوب رقيقا كره، وإلا فلا، ولو داس بنعله طيبا لزمته الفدية، وإن خفيت رائحة الطيب في الثوب لطول الزمان، فإن كانت تفوح عند رشه بالماء حرم استعماله، وإن بقي لون الطيب دون ريحه، لم يحرم على أصح الوجهين. ولو صب ماء ورد في ماء كثير، حتى ذهب ريحه ولونه: لم تجب الفدية باستعماله في أصح الوجهين. فلو ذهبت الرائحة، وبقي اللون، أو الطعم فحكمه عندهم حكم من أكل طعاما فيه زعفران أو طيب. وذلك أن الطيب إن استهلك في الطعام، حتى ذهب لونه، وريحه وطعمه: فلا فدية. ولا خلاف في ذلك عندهم، وإن ظهر لونه وطعمه، وريحه وجبت الفدية، بلا خلاف، وإن بقيت الرائحة فقط: وجبت الفدية لأنه يعد طيبا، وإن بقي اللون وحده، فطريقان مشهوران أصحهما: أن فيه قولين الأصح منهما: أنه لا فدية فيه، وهو نص الشافعي في الأم والإملاء والقديم الثاني: تجب الفدية، وهو نصه في الأوسط والطريق الثاني: أنه لا فدية فيه قطعا، وإن بقي الطعم وحده ففيه عندهم ثلاث طرق أصحها: وجوب الفدية قطعا: كالرائحة، والثاني: فيه طريقان بلزومها وعدمه، والثالث: لا فدية، وهذا ضعيف أو غلط. وحكى بعض الشافعية طريقا رابعا: وهو أنه لا فدية قطعا ولو كان المحرم أخشم لا يجد رائحة الطيب، واستعمل الطيب: لزمته الفدية عندهم، بلا خلاف لأنه وجد منه استعمال الطيب مع علمه بتحريم الطيب على المحرم فوجبت الفدية وإن لم ينتفع به كما لو نتف شعر لحيته أو غيرها من شعوره التي لا ينفعه نتفها قال النووي: وممن صرح بهذا المتولي، وصاحب العدة والبيان ا ه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لزوم الفدية للأخشم الذي لا يجد ريح الطيب، إذا استعمل الطيب، مبني على قاعدة هي: أن المعلل بالمظان لا يتخلف بتخلف حكمته، لأن مناط الحكم مظنة وجود حكمة العلة، فلو تخلفت في صورة لم يمنع ذلك من لزوم الحكم كمن كان منزله على البحر، وقطع مسافة القصر في لحظة في سفينة، فإنه يباح له قصر الصلاة والفطر في رمضان بسفره، هذا الذي لا مشقة فيه، لأن الحكم الذي هو الرخصة علق بمظنة المشقة في الغالب، وهو سفر أربعة برد مثلا والمعلل بالظان لا تتخلف أحكامه، بتخلف حكمها في بعض الصور كما عقده بعض أهل العلم بقوله: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لزوم الفدية للأخشم الذي لا يجد ريح الطيب، إذا استعمل الطيب، مبني على قاعدة هي: أن المعلل بالمظان لا يتخلف بتخلف حكمته، لأن مناط الحكم مظنة وجود حكمة العلة، فلو تخلفت في صورة لم يمنع ذلك من لزوم الحكم كمن كان منزله على البحر، وقطع مسافة القصر في لحظة في سفينة، فإنه يباح له قصر الصلاة والفطر في رمضان بسفره، هذا الذي لا مشقة فيه، لأن الحكم الذي هو الرخصة علق بمظنة المشقة في الغالب، وهو سفر أربعة برد مثلا والمعلل بالظان لا تتخلف أحكامه، بتخلف حكمها في بعض الصور كما عقده بعض أهل العلم بقوله:
71

* إن علل الحكم بعلة غلب
* وجودها اكتفى بذا عن الطلب
*
وإيضاحه: أن الغالب كون الإنسان يجد ريح الطيب، فأنيط الحكم بالأغلب الذي هو وجوده ريح الطيب، فلو تخلفت الحكمة في الأخشم الذي لا يجد ريح الطيب لم يتخلف الحكم لإناطته بالمظنة، وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من أمثلتها في غير هذا الموضع.
وقد تقرر في الأصول: أن وجود الحكم مع تخلف حكمته من أنواع القادح المسمى بالكسر، وقد أشار إلى ذلك صاحب المراقي بقوله في مبحث القوادح: وقد تقرر في الأصول: أن وجود الحكم مع تخلف حكمته من أنواع القادح المسمى بالكسر، وقد أشار إلى ذلك صاحب المراقي بقوله في مبحث القوادح:
* والكسر قادح ومنه ذكرا
* تخلف الحكمة عنه من درا
*
وهذا الذي قررنا في مسألة الأخشم مبني على القول، بأن الكسر بتخلف الحكمة عن حكمها، لا يقدح في المعلل بالمظان، كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن الحكمة في اصطلاح أهل الأصول: هي الفائدة التي صار بسببها الوصف علة للحكم، فتحريم الخمر مثلا حكم والإسكار هو علة هذا الحكم، والمحافظة على العقل من الاختلال: هي الحكمة التي من أجلها صار الإسكار علة لتحريم الخمر، وقد عرف صاحب المراقي الحكمة بقوله: واعلم: أن الحكمة في اصطلاح أهل الأصول: هي الفائدة التي صار بسببها الوصف علة للحكم، فتحريم الخمر مثلا حكم والإسكار هو علة هذا الحكم، والمحافظة على العقل من الاختلال: هي الحكمة التي من أجلها صار الإسكار علة لتحريم الخمر، وقد عرف صاحب المراقي الحكمة بقوله:
* وهي التي من أجلها الوصف جرى
* علة حكم عند كل من درى
*
وعلة الرخصة بقصر الصلاة والإفطار في رمضان: هي السفر، والحكمة التي صار السفر علة بسببها: هي تخفيف المشقة على المسافر مثلا، وهكذا.
واعلم: أن علماء الشافعية قالوا: إنه يشترط في الطيب الذي يحكم بتحريمه: أن يكون معظم الغرض منه التطيب، واتخاذ الطيب منه، أو يظهر فيه هذا الغرض. هذا ضابطه عندهم.
ثم فصلوه فقالوا: الأصل في الطيب: المسك، والعنبر، والكافور، والعود، والصندل، والذريرة، وهذا كله لا خلاف فيه عندهم قالوا: والكافور صنع شجر معروف.
وأما النبات الذي له رائحة فأنواع:
منها: ما يطلب للتطيب، واتخاذ الطيب منه كالورد والياسمين، والخيرى، والزعفران، والورس ونحوها، فكل هذا طيب. وعن الرافعي وجه شاذ في الورد والياسمين والخيرى: أنها ليست طيبا والمذهب الأول.
ومنها: ما يطلب للأكل والتداوي غالبا، كالقرنفل والدارصيني، والفلفل، والمصطكي، والسنبل وسائر الفواكه كل هذا وشبهه ليس بطيب، فيجوز أكله وشمه وصبغ الثوب به، ولا فدية فيه سواء قليله وكثيره، ولا خلاف عند الشافعية في شيء من هذا إلا القرنفل، ففيه وجهان عندهم. والصحيح المشهور أنه ليس بطيب عندهم.
ومنها: ما ينبت بنفسه، ولا يراد للطيب كنور أشجار الفواكه كالتفاح، والمشمش، والكمثري، والسفرجل، وكالشيح، والقيصوم، وشقائق النعمان والإذخر، والخزامي، وسائر أزهار البراري، فكل هذا ليس بطيب فيجوز أكله وشمه، وصبغ الثوب به، ولا فدية فيه، بلا خلاف.
ومنها: ما يتطيب به، ولا يتخذ منه الطيب: كالنرجس، والآس، وسائر الرياحين وفي هذا النوع عند الشافعية طريقان.
أحدهما: أنه طيب قولا واحدا.
والطريق الثاني: وهو الصحيح المشهور عندهم: أن فيه قولين مشهورين الصحيح منهما، وهو قوله الجديد: أنه طيب موجب للفدية. القول الثاني وهو القديم: أنه ليس بطيب، ولا فدية فيه ا ه والحناء والعصفر ليسا بطيب عند الشافعية بلا خلاف على التحقيق، خلافا لمن زعم خلافا عندهم في الحناء.
واعلم: أن الأدهان عند الشافعية ضربان أحدهما دهن ليس بطيب، ولا فيه طيب، كالزيت، والشيرج، والسمن، والزبد، ودهن الجوز، واللوز ونحوها. فهذا لا يحرم استعماله في جميع البدن، ولا فدية فيه، إلا في الرأس، واللحية، فيحرم عندهم استعماله فيهما بلا خلاف، وفيه: الفدية. لأنه إزالة للشعث، إن كان في الرأس واللحية، فإن كان أصلع لا ينبت الشعر في رأسه فدهن رأسه أو أمرد فدهن ذقنه: فلا فدية عندهم في ذلك، بلا خلاف، وإن كان محلوق الرأس فدهنه بما ذكر، ففيه عندهم وجهان: أصحهما: وجوب الفدية بناء على أن الشعر إن نبت جمله ذلك الدهن، الذي جعل عليه، وهو محلوق والوجه الثاني: لا فدية، لأنه لا يزول به شعث. واختاره المزني وغيره ولو كان برأسه شجة فجعل هذا الدهن في داخلها من غير أن يمس شعر رأسه: فلا فدية، بلا خلاف، ولو طلى شعر رأسه ولحيته بلين جاز: ولا فدية، وإن كان اللبن يستخرج منه السمن، لأنه ليس بدهن ولا يحصل به ترجيل الشعر، والشحم، والشمع عندهم، إذا أذبيا كالدهن يحرم على المحرم ترجيل شعره بهما.
الضرب الثاني: دهن هو طيب ومنه: دهن الورد، والمذهب عندهم: وجوب الفدية فيه، وقيل فيه وجهان. ومنه: دهن البنفسج، فعلى القول بأن نفس البنفسج: لا فدية فيه، فدهنه أولى، وعلى أن فيه الفدية، فدهنه كدهن الورد، والأدهان كثيرة، وخلاف العلماء فيها من الخلاف في تحقيق المناط كدهن البان والزنبق، وهو دهن الياسمين والكاذي وهو دهن، ونبت طيب الرائحة والخيري، وهو معرب، وهو نبت طيب الرائحة ويقال للنحاسي: خيري البر، ومذهب الشافعي: أن الأدهان المذكورة، ونحوها طيب، تجب باستعماله الفدية.
واعلم: أن محل وجوب الفدية عند الشافعية في الطيب: إذا كان استعمله عامدا، فإن كان ناسيا أو ألقته الريح عليه، لزمته المبادرة بإزالته بما يقطع ريحه، وكون الأولى أن يستعين في غسله بحلال وتقديمه غسله على الوضوء، إن لم يكف الماء، إلا أحدهما عند الشافعية موافق لما قدمنا عن الحنابلة، بخلاف غسل النجاسة، فهو
71

مقدم عندهم على غسل الطيب ولو لصق بالمحرم طيب يوجب الفدية، لزمه المبادرة إلى إزالته فإن أخره عصى ولا تتكرر به الفدية والاكتحال عندهم بما فيه طيب حرام، فإن احتاج إليه اكتحل به ولزمته الفدية.
وأما الاكتحال بما لا طيب فيه، فإن كان فيه زينة كره عندهم: كالإثمد، وإن كان بما لا زينة فيه: كالتوتيا الأبيض فلا كراهة.
وقال النووي بعد أن ذكر الإجماع على تحريم الطيب للمحرم: ومذهبنا أنه لا فرق بين أن يتبخر، أو يجعله في ثوبه، أو بدنه، وسواء كان الثوب مما ينغض الطيب، أم لم يكن.
قال العبدري: وبه قال أكثر العلماء.
وقال أبو حنيفة: يجوز للمحرم أن يتبخر بالعود، والند، ولا يجوز أن يجعل شيئا من الطيب في بدنه، ويجوز أن يجعله على ظاهر ثوبه، فإن جعله في باطنه، وكان الثوب لا بنقض، فلا شيء عليه، وإن كان بنقص لزمته الفدية ا ه منه.
والظاهر المنع مطلقا لصريح الحديث الصحيح في النهي عن ثوب مسه ورس أو زعفران، وكل هذه الصور يصدق فيها: أنه مسه ورس أو زعفران، وغيرهما من أنواع الطيب وحكمه كحكمهما، كما أوضحنا الأحاديث الدالة عليه في أول الكلام في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه. وكذلك المتبخر بالعود متطيب عرفا، والأحاديث دالة على اجتناب المحرم للطيب كما تقدم، والعلم عند الله تعالى.
وقال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا: أن الزيت، والشيرج، والسمن، والزبد ونحوها من الأدهان غير المطيبة، لا يحرم على المحرم استعمالها في بدنه ويحرم عليه في شعر رأسه ولحيته.
وقال الحسن بن صالح: يجوز استعمال ذلك في بدنه وشعر رأسه ولحيته.
وقال مالك: لا يجوز أن يدهن بها أعضاءه الظاهرة كالوجه، واليدين، والرجلين، ويجوز دهن الباطنة: وهي ما يوارى باللباس.
وقال أبو حنيفة: كقولنا في السمن والزبد، وخالفنا في الزيت والشيرج فقال: يحرم استعمالها في الرأس والبدن.
وقال أحمد: إن ادهن بزيت أو شيرج: فلا فدية في أصح الروايتين، سواء دهن يديه أو رأسه.
وقال داود: يجوز دهن رأسه، ولحيته، وبدنه بدهن غير مطيب.
وحجة من قال بهذا حديث جاء بذلك: فقد قال البيهقي في السنن الكبرى: أخبرنا أبو ظاهر الفقيه، وأبو سعيد بن أبي عمرو قراءة عليهما، وأبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني إملاء قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، أنبأ أبو سلمة الخزاعي، أنبأ حماد بن سلمة، عن فرقد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم) يعني غير مطيب، لم يذكر ابن يوسف تفسيره. قال الإمام أحمد: ورواه الأسود بن عامر شاذان، عن حماد بن سلمة، عن فرقد، عن سعيد، عن ابن عمر فذكره من غير تفسير ا ه منه: ثم ذكر بإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه: أنه مر عليه قوم محرمون، وقد تشققت أرجلهم فقال: ادهنوها. وفرقد المذكور في سند هذا الحديث، هو فرقد بن يعقوب السبخي بفتح السين المهملة والباء الموحدة وبخاء معجمة: أبو يعقوب البصري، وهو معروف بالزهد والعبادة. ولكنه ضعفه غير واحد. وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق عابد، لكنه لين الحديث كثير الخطأ. وقال النووي في شرح المهذب: واحتج أصحابنا بحديث فرقد السبخي الزاهد رحمه الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم) رواه الترمذي والبيهقي، وهو ضعيف. وفرقد غير قوي عند المحدثين. قال الترمذي: هو ضعيف غريب، لا يعرف إلا من حديث فرقد، وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد. وقوله: غير مقتت: أي غير مطيب انتهى محل الغرض منه.
وفي القاموس: وزيت مقتت طبخ بالرياحين أو خلط بأدهان طيبة، واحتجاج الشافعية بهذا الحديث الذي ذكرنا على جواز دهن جميع البدن غير الرأس واللحية بالزيت والسمن ونحوهما فيه أمران:
الأول: أن الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج، لضعف فرقد المذكور.
والثاني: أنه على تقدير صحة الاحتجاج به فظاهره عدم الفرق بين الرأس واللحية وبين سائر البدن، لأن الأدهان فيه مطلق غير مقيد بما سوى الرأس واللحية ا ه.
وحجة من منع الأدهان بغير الطيب، لأنه يزيل الشعث الحديث الذي فيه (انظروا إلى عبادي جاؤوا شعثا غبرا) وهو مشهور، وفيه دليل على أنه لا ينبغي إزالة الشعث، ولا التنظيف. والله أعلم.
وقال النووي في شرح المهذب: قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن. قال: وأجمع عوام أهل العلم، على أنه له دهن بدنه بالزيت والشحم والشيرج والسمن، قال: وأجمعوا على أنه ممنوع من حيث استعمال الطيب في جميع بدنه.
وقال النووي أيضا: الحناء ليس بطيب عندنا كما سبق: ولا فدية، وبه قال مالك، وأحمد، وداود. وقد قدمنا أن الخضاب بالحناء: يوجب الفدية عند المالكية، ثم قال النووي: وقال أبو حنيفة: هو طيب يوجب الفدية، وإذا لبس ثوبا معصفرا: فلا فدية، والعصفر: ليس بطيب هذا مذهبنا، وبه قال أحمد وداود، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر
71

وجابر، وعبد الله بن جعفر، وعقيل بن أبي طالب وعائشة وأسماء وعطاء، قال: وكرهه عمر بن الخطاب، وممن تبعه الثوري ومالك، ومحمد بن الحسن، وأبو ثور
، وقال أبو حنيفة: إن نفض على البدن: وجبت الفدية، وإلا وجبت صدقة. انتهى محل الغرض منه.
وقال النووي أيضا: ذكرنا أن مذهبنا في تحريم الرياحين قولان: الأصح تحريمها، ووجوب الفدية، وبه قال ابن عمر، وجابر، والثوري، ومالك، وأبو ثور، وأبو حنيفة، إلا أن مالكا، وأبا حنيفة يقولان: يحرم ولا فدية.
قال ابن المنذر: واختلف في الفدية، عن عطاء وأحمد، وممن جوزه وقال: هو حلال لا فدية فيه: عثمان، وابن عباس، والحسن البصري، ومجاهد وإسحاق، قال العبدري: وهو قول أكثر الفقهاء.
وقال النووي أيضا: قد ذكرنا أن مذهبنا: جواز جلوس المحرم، عند العطار: ولا فدية فيه. وبه قال ابن المنذر، قال: وأوجب عطاء فيه الفدية، وكره ذلك مالك. انتهى منه.
واعلم: أن المحرم عند الشافعية، إذا فعل شيئا من محظورات الإحرام ناسيا أو جاهلا، فإن كان إتلافا كقتل الصيد والحلق والقلم، فالمذهب وجوب الفدية، وفيه حلاف ضعيف. وإن كان استمتاعا محضا: كالتطيب، واللباس، ودهن الرأس واللحية، والقبلة، وسائر مقدمات الجماع: فلا فدية، وإن جامع ناسيا أو جاهلا: فلا فدية في الأصح أيضا. قال النووي: وبهذا قال عطاء، والثوري وإسحاق وداود. وقال مالك، وأبو حنيفة، والمزني وأحمد في أصح الروايتين عنه: عليه الفدية، وقاسوه على قتل الصيد.
وقد قدمنا حكم المجامع ناسيا وأقوال الأئمة فيه. هذا هو حاصل كلام العلماء من الصحابة ومن بعدهم، ومنهم الأئمة الأربعة في مسألة الطيب. وقد علمت من النقول التي ذكرنا عن الأئمة وغيرهم، من فقهاء الأمصار، ما اتفقوا عليه، وما اختلفوا فيه.
واعلم: أنهم مجمعون على منع الطيب للمحرم في الجملة، إلا أنهم اختلفوا في أشياء كثيرة، اختلافا من نوع الاختلاف في تحقيق المناط. فيقول بعضهم مثلا: الريحان والياسمين، كلاهما طيب فمناط تحريمهما، على المحرم موجود، وهو كونهما طيبا،
72

فيخالفه الآخر، ويقول: مناط التحريم، ليس موجودا فيهما، لأنهما لا يتخذ منهما الطيب، فليسا بطيب وهكذا.
واعلم: أنهم متفقون على لزوم الفدية في استعمال الطيب، ولا دليل من كتاب ولا سنة، على أن من استعمل الطيب، وهو محرم يلزمه فدية، ولكنهم قاسوا الطيب على حلق الرأس المنصوص على الفدية فيه، إن وقع لعذر في آية * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) *.
وأظهر أقوال أهل العلم: أن الفدية اللازمة كفدية الأذى وهي على التخيير المذكور في الآية، لأنها هي حكم الأصل المقيس عليه، والمقرر في الأصول أنه لا بد من اتفاق الفرع المقيس، والأصل المقيس عليه في الحكم وذلك هو مذهب أبي حنيفة، إن كان التطيب، أو اللبس لعذر، لأن الآية نزلت في العذر؟ وقد قدمنا أنه هو الصحيح من مذهب الشافعي مطلقا كان لعذر أو غيره، وهو أيضا مذهب مالك وأحمد.
فتحصيل: أن مذاهب الأئمة الأربعة متفقون على أن فدية الطيب، وتغطية الرأس، واللبس، وتقليم الأظافر، كفدية حلق الرأس المنصوصة في آية الفدية؟ وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى، وقدمنا الأقوال المخالفة لهذا المذهب الصحيح المشهور عند الأربعة. وقد بينا أنه مقتضى الأصول، لوجوب اتفاق الأصل والفرع في الحكم، واعلم عند الله تعالى. تنبيهان
الأول: في ذكر أشياء مما ذكر وردت فيها نصوص، وتفصيل ذلك: فمن ذلك العصفر وقد رأيت في النقول التي ذكرنا كثرة من قال من أهل العلم: بأنه ليس بطيب، وأنه لا بأس بلبس المحرم له، وقد قدمنا فيه حديث أبي داود المصرح بأنه لا بأس بلبس النساء له، وهن محرمات، وفيه ابن إسحاق، وقد صرح فيه بالسماع، فعلم أنه لم يدلس فيه إلى آخر ما قدمنا فيه، والظاهر بحسب الدليل: أن المعصفر لا يجوز لبسه، وإن جوزه كثير من أجلاء العلماء من الصحابة ومن بعدهم، لأن السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أحق بالاتباع.
وقد قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن يحيى، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث: أن ابن معدان أخبره: أن عبد الله بن عمرو بن العاص، أخبره قال (رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين، فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها) ا ه.
73

وابن معدان المذكور: هو خالد كما ثبت في صحيح مسلم بعد الحديث المذكور مباشرة، وفي لفظ مسلم بإسناد، غير الأول، عن عبد الله بن عمرو قال (رأى النبي صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين، فقال: أأمك أأمرتك بهذا؟ قلت: أغسلهما قال: بل أحرقهما).
وقال مسلم في صحيحه أيضا: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن لبس القسي، والمعصفر، وعن تختم الذهب وعن قراءة القرآن في الركوع) وفي لفظ لمسلم، عن علي رضي الله عنه (نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن القراءة، وأنا راكع، وعن لبس الذهب، والمعصفر) وفي لفظ لمسلم عنه أيضا رضي الله عنه (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب، وعن لباس القسي، وعن القراءة في الركوع والسجود، وعن لباس المعصفر) ا ه منه.
فهذا الحديث الثابت في صحيح مسلم، وغيره عن صحابيين جليلين، وهما علي، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، صريح في منع لبس المعصفر مطلقا، لأن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو (إنهما من ثياب الكفار فلا تلبسهما) صريح في منع لبسهما، لأن النهي يقتضي التحريم كما تقرر في
الأصول، ويؤيد ذلك هنا أنه رتب النهي عنهما على أنهما من ثياب الكفار، وهذا دليل واضح على منع لبس المعصفر مطلقا في الإحرام وغيره. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو (بل أحرقهما) فهو دليل واضح على منع لبسهما لأن لبس الجائز لبسه، لا يستوجب الإحراق بحال، فهو نص في منع المعصفر مطلقا، وقول علي رضي الله عنه (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي والمعصفر، وعن تختم الذهب) الحديث دليل أيضا على منع لبس المعصفر مطلقا. لأن النهي يقتضي التحريم، إلا لدليل صارف عنه، وليس موجودا، ويؤيده أنه قرنه بالتختم بالذهب، وهو ممنوع، وما زعمه بعض أهل العلم: من أن رواية علي المذكورة آنفا في مسلم (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم) تدل على اختصاص هذا الحكم، بعلي لأنه قال: نهاني بياء المتكلم في الرواية المذكورة، مردود من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم بين في حديث ابن عمرو عموم هذا الحكم، حيث قال لعبد الله (إن هذا من ثياب الكفار فلا تلبسهما) وهذا صريح في عدم اختصاص هذا الحكم، بعلي رضي الله عنه.
الوجه الثاني: أنه ثبت في صحيح مسلم، عن علي رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
74

نهى عن لبس القسي، والمعصفر وعن تختم الذهب) بحذف مفعول نهى، وحذف المفعول في ذلك، يدل على عموم الحكم، على التحقيق كما حرره القرافي في شرح التنقيح من أن مثل نهى صلى الله عليه وسلم عن كذا صيغة عموم بما لا يدع مجالا للشك؟ وممن انتصر لذلك: ابن الحاجب وغيره، واختاره الفهري.
والحاصل: أن التحقيق في مثل نهى صلى الله عليه وسلم، عن بيع الغرر وقضى بالشفعة، وقضى بالشاهد واليمين ونحو ذلك: أنه يعم كل غرر وكل شفعة، وكل شاهد، ويمين، وإن خالف في ذلك كثير من الأصوليين، كما حررنا أدلة الفريقين، وناقشناها في غير هذا الموضع.
الوجه الثالث: أن رواية نهاني التي احتج بها مدعي اختصاص هذا الحكم بعلي: تدل أيضا على عموم الحكم، لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من أمته يعم حكمه جميع الأمة لاستوائهم في أحكام التكليف، إلا بدليل خاص يجب الرجوع إليه، وخلاف أهل الأصول في خطاب الواحد، هل هو من صيغ العموم الدالة على عموم الحكم، خلاف في حال لا خلاف حقيقي، فخطاب الواحد عند الحنابلة صيغة عموم، وعند غيرهم من الشافعية، والمالكية وغيرهم: أن خطاب الواحد لا يعم، لأن اللفظ للواحد لا يشمل بالوضع غيره، وإذا كان لا يشمله وضعا، فلا يكون صيغة عموم، ولكن أهل هذا القول موافقون: على أن حكم خطاب الواحد عام لغيره لكن بدليل آخر غير خطاب الواحد، وذلك الدليل بالنص والقياس. أما القياس فظاهر، لأن قياس غير ذلك المخاطب عليه بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي والنص، كقوله صلى الله عليه وسلم في مبايعة النساء (إني لا أصافح النساء، وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة).
قالوا: ومن أدلة ذلك حديث (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة).
قال ابن قاسم العبادي في الآيات البينات: اعلم أن حديث (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة) لا يعرف له أصل بهذا اللفظ، ولكن روى الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، قوله صلى الله عليه وسلم في مبايعة النساء (إني لا أصافح النساء) وساق الحديث كما ذكرناه.
وقال صاحب كشف الخفاء ومزيل الألباس، عما اشتهر من الأحاديث، على ألسنة الناس: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة، وفي لفظ: كحكمي على الجماعة، ليس له أصل بهذا اللفظ، كما قال العراقي: في تخريج أحاديث البيضاوي.
75

وقال في الدرر كالزركشي لا يعرف، وسئل عنه المزي، والذهبي فأنكراه. نعم يشهد له ما رواه الترمذي، والنسائي من حديث أميمة بنت رقيقة، فلفظ النسائي (ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة) ولفظ الترمذي (إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة) وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها، لثبوتها على شرطهما.
وقال ابن قاسم العبادي في شرح الورقات الكبير: حكمي على الجماعة، لا يعرف له أصل، إلى آخره قريبا مما ذكرنا عنه ا ه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الحديث المذكور ثابت من حديث أميمة بنت رقيقة بقافين مصغرا: وهي صحابية من المبايعات، ورقيقة أمها: وهي أخت خديجة بنت خويلد. وقيل عمتها واسم أبيها بجاد بموحدة، ثم جيم ابن عبد الله بن عمير التيمي تيم بن مرة، وأشار إلى ذلك في المراقي بقوله: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الحديث المذكور ثابت من حديث أميمة بنت رقيقة بقافين مصغرا: وهي صحابية من المبايعات، ورقيقة أمها: وهي أخت خديجة بنت خويلد. وقيل عمتها واسم أبيها بجاد بموحدة، ثم جيم ابن عبد الله بن عمير التيمي تيم بن مرة، وأشار إلى ذلك في المراقي بقوله:
* خطاب واحد لغير الحنبلي
* من غير رعي النص والقيس الجلي
*
وبهذا كله تعلم أن التحقيق منع لبس المعصفر، وظاهر النصوص الإطلاق: أي سواء كان في الإحرام، أو غيره كما رأيت، وجمع بعض العلماء بين الأحاديث التي ذكرناها في صحيح مسلم، الدالة على منع لبس المعصفر مطلقا، وبين حديث أبي داود المتقدم الدال على إباحته للنساء في الإحرام، بأن الأحاديث المنع إنما هي بالنسبة للرجال، وحديث الجواز بالنسبة إلى النساء، فيكون ممنوعا للرجال جائزا للنساء، وتتفق الأحاديث.
وممن اعتمد هذا الجمع الترمذي في سننه حيث قال: باب ما جاء في كراهة المعصفر للرجال: حدثنا قتيبة، ثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن
حنين، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي والمعصفر) وفي الباب عن أنس، وعبد الله بن عمرو، وحديث علي: حديث حسن صحيح انتهى منه. فتراه في ترجمة الحديث جعله خاصا بالرجال، وهو عين الجمع الذي ذكرنا، وأشار النووي في شرح مسلم: إلى أن الجمع المذكور يشير إليه الحديث الصحيح عند مسلم، وذلك في قوله: أعني النووي قوله صلى الله عليه وسلم (أأمك أمرتك بهذا) معناه: أن هذا من لباس النساء، وزيهن، وأخلاقهن. انتهى محل الغرض منه.
76

وتفسيره للحديث: يدل على أن الحديث فيه تحريم المعصفر على الرجال دون النساء.
ويدل لهذا الجمع ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا مسدد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا هشام بن الغاز، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: هبطنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية فالتفت إلي وعلي ريطة مضرجة بالعصفر فقال (ما هذه الريطة عليك) فعرفت ما كره فأتيت أهلي، وهم يسجرون تنورا لهم فقذفتها فيه، ثم أتيته من الغد فقال (يا عبد الله ما فعلت الريطة؟ فأخبرته فقال: ألا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس به للنساء) ا ه من سنن أبي داود، وهو صريح في الجمع المذكور، وهذا الإسناد لا يقل عن درجة الحسن، وهذا الحديث أخرجه ابن ماجة: حدثنا أبو بكر، ثنا عيسى بن يونس، عن هشام بن الغاز إلى آخر الإسناد، ثم قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية أذاخر، فالتفت إلي وعلي ريطة إلى آخر الحديث. كلفظ أبي داود ا ه.
وجمع الخطابي بين الأحاديث: بأن النهي فيما صبغ من الثياب بعد النسج، وأن الإباحة منصرفة إلى ما صبغ غزله، ثم نسج نقل هذا الجمع النووي في شرح مسلم عن الخطابي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا الجمع فيه نظر، لأنه تحكم، والظاهر أن العصفر ليس بطيب، فأبيح للنساء ومنع للرجال، كالحرير وخاتم الذهب. والله تعالى أعلم.
فاتضح أن الظاهر بحسب الدليل أن المعصفر: لا يحل لبسه للرجال، ويحل للنساء، لأن ظاهر أحاديث النهي عنه العموم، وكونه من ثياب الكفار قرينة على التعميم، إلا أن أحاديث النهي تخصص بالأحاديث المتقدمة المصرحة، بجوازه للنساء كحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عند أبي داود وابن ماجة، وحديث الترمذي وما فسر به النووي حديث مسلم وحديث أبي داود المتقدم الذي فيه ابن إسحاق، وكونه من ثياب الكفار: لا ينافي أن ذلك بالنسبة للرجال. دون النساء، كما قال في الذهب والفضة والديباج والحرير (إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) مع إباحتها للنساء.
والذين أباحوا لبس المعصفر للرجال والنساء معا، احتجوا بما ذكره النووي في شرح مسلم قال: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء.
77

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة) ا ه منه فانظره.
والذين منعوه للرجال دون النساء استدلوا بالأحاديث المذكورة المصرحة بإباحته للنساء، وعضدوا الأحاديث المذكورة بآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، فمن ذلك ما رواه مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أنها كانت تلبس الثياب المعصفرات المشبعات، وهي محرمة ليس فيها زعفران. انتهى محل الغرض منه.
وقال شارحه الزرقاني: وكذلك جاء عن أختها. روى سعيد بن منصور، عن القاسم بن محمد قال: كانت عائشة رضي الله عنها، تلبس الثياب المعصفرة، وهي محرمة. إسناده صحيح انتهى منه.
وروى البيهقي بإسناده، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر نحو رواية مالك في الموطأ عنها ثم قال: هكذا رواه مالك، وخالفه أبو أسامة، وحاتم بن إسماعيل، وابن نمير فرووه عن هشام، عن فاطمة، عن أسماء قاله مسلم بن الحجاج. انتهى من السنن الكبرى.
وقال البيهقي: وروينا عن نافع أن نساء ابن عمر كن يلبسن المعصفر، وهن محرمات، ثم ذكر عن أبي داود في المراسيل: أن مكحولا قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب مشبع بعصفر، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج، فأحرم في هذا قال (لك غيره؟ قالت: لا. قال: فأحرمي فيه) ثم ساق سنده به إلى أبي داود، وذكر بسنده عن جابر أنه قال (لا تلبس المرأة ثياب الطيب وتلبس الثياب المعصفرة لا أرى المعصفر طيبا) وروى البيهقي بسنده عن عائشة رضي الله عنها، (أنها كانت تلبس الثياب الموردة بالعصفر الخفيف: وهي محرمة)، وقد قدمنا حديث ابن عباس، عند الطبراني في الكبير قال: كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء، وهن محرمات، ويلبسن المعصفر، وهن محرمات، وفي إسناده يعقوب بن عطاء. قال في مجمع الزوائد: وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة.
وقال أبو داود في سننه: حدثنا زهير بن حرب، ثنا يحيى بن أبي بكير، ثنا إبراهيم بن طهمان، حدثني بديل عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة، عن أم سلمة زوج
78

النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال (المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب) ا ه منه، وهذا الإسناد صحيح كما ترى.
وقال صاحب الجوهر النقي في حاشيته على سنن البيهقي، لما أشار إلى حديث أبي داود هذا، وفيه دليل على أن العصفر طيب، ولذلك نهيت عن المعصفر، إذ لو كان النهي لكونه زينة نهيت عن ثوب العصب، لأنه في الزينة فوق المعصفر، والعصب برود اليمن يعصب غزلها: أي تطوى، ثم تصنع مصبوغا، ثم تنسج.
وفي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم استثنى من المنع ثوب العصب، والشافعية خالفت هذا الحديث.
قال النووي: الأصح عندنا تحريم العصب مطلقا، والحديث حجة لمن أجازه. وقال أيضا: الأصح أنه يجوز لها لبس الحرير. انتهى منه.
وفي صحيح مسلم من حديث أم عطية، في المتوفى عنها زوجها (ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل ولا تمس طيبا) الحديث.
وفي صحيح البخاري: من حديث أم عطية قالت: (كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج). الحديث، وفيه (ولا تكتحل ولا تطيب ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب) الحديث.
والممشقة في حديث أم سلمة المذكور هي المصبوغة بالمشق بالكسر والفتح وهو المغرة والعصفر بالضم نبات يصبغ به ويزره هو القرطم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن منع المتوفى عنها زوجها، من لبس المعصفر المذكور، ليس لكونه طيبا كما ظنه صاحب الجوهر النقي، بدليل الأحاديث الدالة على المنع منه في غير الإحرام، مع جواز الطيب لغير المحرم، والأظهر أن المنع منه للزينة: وهي محرمة على المتوفى عنها زوجها، دون غيرها من النساء. والعلم عند الله تعالى.
ولا يتعين كون العصب فوقه في الزينة لأن المتوفى عنها زوجها ممنوعة في العدة، من الطيب، والتزين، فإباحة العصب لها تدل على ضعف مرتبته في الزينة. والله تعالى أعلم.
ومن ذلك الحناء قد قدمنا اختلاف العلماء فيها، هل هي طيب أو لا؟ وقد قدمنا
79

آثارا تدل: على أنها ليست بطيب، وقدمنا حديث ابن عباس، عند الطبراني أن أزواج النبي كن يختضبن بالحناء، وهن محرمات، وقد قدمنا أن في إسناده يعقوب بن عطاء، وقد روى البيهقي بإسناده في السنن الكبرى عن عائشة رضي الله عنها أنها قيل لها: ما تقولين في الحناء والخضاب؟ قالت: كان خليلي لا يحب ريحه، ثم قال البيهقي: فيه كالدلالة على أن الحناء ليس بطيب (فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الطيب ولا يحب ريح الحناء) ا ه منه.
وهذا حاصل مستند من قال: إن الحناء ليس بطيب وقال صاحب الجوهر النقي: بعد أن ذكر كلام البيهقي الذي ذكرنا، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم خلاف هذا. قال أبو عمر في التمهيد: ذكر ابن بكير عن ابن لهيعة، عن بكير بن الأشج، عن خولة بنت حكيم، عن أمها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة (لا تطيبي، وأنت محرمة ولا تمسي الحناء فإنه طيب) وأخرجه البيهقي في كتاب المعرفة، من هذا الوجه وقد عد أبو حنيفة الدينوري وغيره: من أهل اللغة: الحناء من أنواع الطيب. وقال الهروي في الغريبين: وفي الحديث (سيد رياحين الجنة الفاغية) قال الأصمعي: هو نور الحناء. وفي الحديث أيضا، عن أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفاغية) انتهى منه. وقال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس. وقال النجم، وعند الطبراني والبيهقي، وأبي نعيم في الطب عن بريدة (سيد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم، وسيد الشراب في الدنيا والآخرة الماء، وسيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية) انتهى محل الحاجة منه، وقال ابن الأثير في النهاية فيه (سيد رياحين الجنة الفاغية هي نور الحناء) وقيل نور الريحان. وقيل: نور كل نبت من أنوار الصحراء، التي لا تزرع. وقيل فاغية كل نبت نوره، ومنه: حديث أنس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الفاغية) ا ه.
وفي القاموس: والفاغية نور الحناء أو يغرس غصن الحناء مقلوبا فيثمر زهرا أطيب من الحناء، فذلك الفاغية ا ه محل الغرض منه. ولا يخفى أن الحناء لم يثبت فيه شيء مرفوع وأكثر أنواع الطيب لم تثبت في خصوصها نصوص، ومنها: ما ثبت بالنص كالزعفران، والورس، كما تقدم إيضاح، وكالذريرة، والمسك كما سيأتي إن شاء الله، وقد قدمنا أن الذي اختلف فيه أهل العلم من الأنواع: هل هو طيب، أوليس بطيب؟ أن ذلك من نوع الاختلاف في تحقيق المناط، والعلم عند الله تعالى.
80

الفرع السادس عشر: اعلم أن العلماء اختلفوا في التطيب عند إرادة الإحرام قبله بحيث يبقى أثر الطيب، وريحه أو عينه بعد التلبس بالإحرام، هل يجوز ذلك لأنه وقت الطيب غير محرم، والدوام على الطيب، ليس كابتدائه كالنكاح عند من يمنعه في حال الإحرام، مع إباحة الدوام على نكاح مقعود، قبل الإحرام أو لا يجوز ذلك، لأن وجود ريح الطيب، أو عينه، أو أثره في المحرم بعد إحرامه كابتدائه للتطيب، ولأنه متلبس حال الإحرام بالطيب، مع أن الطيب منهي عنه في الإحرام، فقال جماهير من أهل العلم: إن الطيب عند إرادة الإحرام مستحب. قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا استحبابه، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف والمحدثين والفقهاء منهم سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن الزبير، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة، وأبو حنيفة، والثوري، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وداود وغيرهم ا ه.
وقال النووي في شرح مسلم: وبه قال خلائق من الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء والمحدثين منهم: سعد بن أبي وقاص، وابن عباس إلى آخره، كما في شرح المهذب.
وقال ابن قدامة في المغني في شرحه لقول الخرقي: ويتطيب.
وجملة ذلك أنه يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة، ولا فرق بين ما يبقى عينه كالمسك والغالية، أو أثره كالعود والبخور وماء الورد هذا قول ابن عباس، وابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص وعائشة، وأم حبيبة، ومعاوية، وروي عن محمد ابن الحنفية، وأبي سعيد الخدري، وعروة، والقاسم، والشعبي وابن جريج. ا ه محل الغرض منه.
وقال جماعة آخرون من أهل العلم: لا يجوز التطيب عند إرادة الإحرام، فإن فعل ذلك لزمه غسله حتى يذهب أثره وريحه، وهذا هو مذهب مالك.
وقال النووي في شرح مسلم: وقال آخرون بمعنه منهم: الزهري، ومالك، ومحمد بن الحسن، وحكي أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين ا ه.
وقال في شرح المهذب: وقال عطاء والزهري ومالك ومحمد بن الحسن: يكره.
81

قال القاضي عياض: وحكي أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين ا ه.
وقال ابن قدامة في المغني: وكان عطاء يكره ذلك، وهو قول مالك، وروي ذلك عن عمر وعثمان، وابن عمر رضي الله عنهم ا ه.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة: فهذه أدلتهم ومناقشتها وما يظهر رجحانه بالدليل منها.
أما الذين منعوا ذلك: فقد احتجوا بحديث يعلى بن أمية التميمي رضي الله عنه، وهو متفق عليه. قال البخاري في صحيحه، قال أبو عاصم: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء: أن صفوان بن يعلى أخبره: أن يعلى قال لعمر رضي الله عنه: أرني النبي صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه؟ فبينما النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، ومعه نفر من أصحابه، جاء رجل فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلما: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة، وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، فجاءه الوحي فأشار عمر رضي الله عنه إلى يعلى، فجاء يعلى، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب، وقد أظل به، فأدخل رأسه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه، وهو يغط، ثم سري عنه فقال (أين الذي سأل عن العمرة فأوتي برجل فقال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك) قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: نعم. ا ه من صحيح البخاري قالوا: فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الطيب الذي تضمخ به قبل الإحرام، وأمر بإنقائه كما قاله عطاء، ولا شك أن هذا الحديث يقتضي أن الطيب في بدنه إذ لو كان في الجبة، دون البدن لكفى نزع الجبة كما ترى، خلافا لما توهمه ترجمة الحديث الذي ترجمه بها البخاري: وهي قوله: باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب. وقول البخاري في أول هذا الإسناد: قال أبو عاصم: قد قدمنا الكلام على مثله مستوفى وبينا أنه صحيح سواء قلنا: إنه موصول كما هو الصحيح، أو معلق، لأنه أورده بصيغة الجزم.
وقال البخاري أيضا في صحيحه: في أبواب العمرة: حدثنا أبو نعيم، حدثنا همام، حدثنا عطاء قال: حدثني صفوان بن يعلى بن أمية: يعني عن أبيه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بالجعرانة، وعليه جبة، وعليه أثر الخلوق، أو قال صفرة، فقال: كيف
82

تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم فستر بثوب وودت أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل عليه الوحي فقال عمر: تعال أيسرك أن تنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل الله الوحي؟ قلت: نعم، فرفع طرف الثوب، فنظرت إليه له غطيط: وأحسبه قال: كغطيط البكر، فلما سري عنه قال (أين السائل عن العمرة: اخلع عنك الجبة، واغسل أثر الخلوق عنك، وأنق الصفرة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك) ا ه منه. وقوله في هذا الحديث: (اخلع عنك الجبة واغسل أثر الخلوق وأنق الصفرة) صريح في أن غسل ذلك وإنقاءه من بدنه لأن ما في الجبة من الخلوق، والصفرة يزول بخلعها كما ترى.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا همام، حدثنا عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه رضي الله عنه قال (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة عليه جبة، وعليها خلوق أو قال: أثر صفرة. فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فستر بثوب وكان يعلى يقول: وددت أن أرى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نزل عليه الوحي قال فقال: أيسرك أن تنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل عليه الوحي؟ قال: فرفع عمر طرف الثوب، فنظرت إليه له غطيط قال: وأحسبه قال: كغطيط البكر. قال: فلما سري عنه قال: أين السائل عن العمرة: اغسل عنك أثر الصفرة أو قال أثر الخلوق واخلع عنك جبتك واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).
وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، وهو بالجعرانة، وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه مقطعات، يعني جبة، وهو متضمخ بالخلوق فقال: إني أحرمت بالعمرة، وعلي هذا، وأنا متضمخ بخلوق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ما كنت صانعا في حجك؟ قال: أنزع عني هذه الثياب، وأغسل عني هذا الخلوق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك) وفي لفظ في صحيح مسلم، عن يعلى فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك) وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى رضي الله عنه (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الجعرانة قد أهل بالعمرة، وهو مصفر لحيته ورأسه، وعليه جبة، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أحرمت بعمرة، وأنا كما ترى فقال: (انزع عنك الجبة، واغسل عنك الصفرة، وما كنت صانعا في حجك، فاصنعه في عمرتك) وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى أيضا قال (انزع عنك جبتك واغسل أثر الخلوق الذي بك.
83

وافعل في عمرتك ما كنت فاعلا في حجك) انتهى من صحيح مسلم.
قالوا: فهذه الروايات الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: فيها التصريح، بأن من تضمخ بالطيب قبل إحرامه لا يجوز له الدوام على ذلك، بل يجب غسله ثلاثا، وإنقاؤه، ولا شك أن بعض الروايات الصحيحة التي أوردنا صريحة في ذلك. وهذا هو حجة مالك ومن ذكرنا معه من أهل العلم في وجوب إزالة المحرم الطيب، الذي تلبس به قبل إحرامه.
وروى مالك في الموطأ، عن حميد بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح (إن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بحنين، وعلى الأعرابي قميص، وبه أثر صفرة فقال: يا رسول الله إني أهللت بعمرة فكيف تأمرني أن أصنع؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انزع قميصك، واغسل هذه الصفرة عنك وافعل في
عمرتك ما تفعل في حجتك) ا ه.
والذين قالوا بهذا قالوا: يعتضد حديث يعلى المتفق عليه ببعض الآثار الواردة، عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، كما أشرنا إليه غير بعيد، وقد روى مالك في الموطأ، عن نافع، عن أسلم مولى عمر بن الخطاب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجد ريح طيب، وهو بالشجرة، فقال: ممن ريح هذا الطيب، فقال معاوية بن أبي سفيان: مني يا أمير المؤمنين، فقال منك لعمر الله فقال معاوية: أن أم حبيبة طيبتني يا أمير المؤمنين، فقال عمر: عزمت عليك لترجعن فلتغسلنه.
وروى مالك في الموطأ عن الصلت بن زيد عن غير واحد من أهله: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجد ريح طيب وهو بالشجرة، وإلى جنبه كثير بن الصلت، فقال عمر: ممن ريح هذا الطيب؟ فقال كثير: مني يا أمير المؤمنين، لبدت رأسي، وأردت ألا أحلق فقال عمر: فاذهب إلى شربة فادلك رأسك، حتى تنقيه، ففعل كثير بن الصلت. قال مالك: الشربة حفير تكون عند أصل النخلة. انتهى من الموطأ.
قالوا: ففعل هذا الخليفة الراشد في زمن خلافته مطابق لما تضمنه حديث يعلى بن أمية المتفق عليه، فتبين بذلك أنه غير منسوخ، وذكر الزرقاني في شرح الموطأ: أن عمر أنكر أيضا ذلك على البراء بن عازب، وقال: إنه رواه ابن أبي شيبة عن بشير بن يسار، كما أنكر على معاوية وكثير المذكورين، قال: فهذا عمر قد أنكر على صحابيين، وتابعي كثير الطيب بمحضر الجمع الكثير من الناس صحابة وغيرهم، وما أنكر عليه منهم أحد، فهو من أقوى الأدلة على تأويل حديث عائشة، ثم ذكر عن وكيع، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه: أن عثمان رأى رجلا قد تطيب عند الإحرام، فأمره أن يغسل رأسه بطين ا ه.
84

وقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر: أن محمد بن المنتشر سأله عن الرجل يتطيب، ثم يصبح محرما، فقال: (ما أحب أن أصبح محرما أنضخ طيبا، لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك). هذا لفظ مسلم في صحيحه. وفيه بعده رد عائشة على ابن عمر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فحديث يعلى المتفق عليه، والآثار التي ذكرنا عن بعض الصحابة، ومنها ما لم نذكره هو حجة مالك، ومن ذكرنا معه في منع التطيب قبل الإحرام، ووجوب غسله، وإنقائه إن فعل ذلك، ولا فدية فيه عندهم مطلقا، وذكر بعضهم: أن المشهور عن مالك: الكراهة لا التحريم.
واحتج الجمهور القائلون باستحباب التطيب عند الإحرام بما رواه الشيخان وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها وبعض الآثار الدالة على ذلك، عن بعض الصحابة رضي الله عنهم. قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن عبد الرحمان بن القاسم، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه، حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت. وفي صحيح البخاري: قبل هذا الحديث متصلا به من طريق الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم. وقد ذكرنا هذا الحديث في الكلام على التحلل الأول.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الرحمان بن القاسم: أنه سمع أباه وكان أفضل أهل زمانه يقول: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها ا ه منه.
وقال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن عباد أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه، حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. وفي لفظ لمسلم عنها من طريق القاسم بن محمد قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، لحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف بالبيت. وفي لفظ عند مسلم عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه، قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. وفي لفظ عنها عند مسلم قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة في حجة الوداع، للحل والإحرام.
85

وفي النهاية الذريرة: نوع من الطيب مجموع من أخلاط. وقال السيوطي في تلخيصه للنهاية: وقيل هي فتات قصب، وقال النووي في شرح مسلم: هي فتات قصب طيب، يجاء به من الهند، وقد قدمنا في سورة الأنعام أن الذريرة قصب يجاء به من الهند كقصب النشاب أحمر يتداوى به. وفي لفظ عند مسلم أيضا، عن عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه؟ قالت: بأطيب الطيب، وفي لفظ: بأطيب ما أقدر عليه، قبل أن يحرم، ثم يحرم. وفي لفظ: بأطيب ما وجدت. وفي لفظ عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، وفي لفظ عنها قالت: لكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يهل. وفي لفظ: وهو يلبي. والألفاظ المماثلة لهذا متعددة في صحيح مسلم عنها رضي الله عنها، وفي لفظ عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم، يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته. وفي لفظ عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم، ويوم النحر، قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك. وفي صحيح مسلم: أن عائشة لما بلغها قول ابن عمر المتقدم: لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك، قالت: أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرما ا ه. كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم. قالوا فهذا الحديث الذي اتفق عليه الشيخان، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، دليل صحيح صريح في مشروعية الطيب قبل الإحرام، وإن كان أثره باقيا بعد الإحرام، بل ولو بقي عينه وريحه، لأن رؤيتها وبيص الطيب في مفارقه صلى الله عليه وسلم، وهو محرم صريح في ذلك، قالوا: وقد وردت آثار عن بعض الصحابة بذلك، تدل على عدم خصوصية ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب نصب الراية: وقيل إن ذلك من خواصه صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر، فقد رئي ابن عباس محرما، وعلى رأسه مثل الرب من الغالية. وقال مسلم بن صبح: رأيت ابن الزبير، وهو محرم، وفي رأسه ولحيته من الطيب ما لو كان لرجل أعد منه رأس مال. انتهى منه.
فهذا الحديث، وهذه الآثار: حجة من قال: بالتطيب قبل الإحرام، ولو كان الطيب يبقى بعد الإحرام.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم وحججهم في هذه المسألة فهذه مناقشة أقوالهم: اعلم أن المالكية، ومن وافقهم أجابوا عن حديث عائشة المذكور، بأجوبة:
منها: أنهم حملوه على أنه تطيب، ثم اغتسل بعده، فذهب الطيب قبل الإحرام
86

قالوا: ويؤيد هذا قولها في الرواية الأخرى (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه ثم طاف على نسائه، ثم أصبح محرما) فظاهره أنه إنما تطيب لمباشرة نسائه ثم زال بالغسل بعده، لا سيما وقد نقل أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى، ولا يبقى مع ذلك طيب، ويكون قولها: ثم أصبح ينضح طيبا: أي قبل غسله، وقد سبق في رواية لمسلم: أن ذلك الطيب كان ذريرة وهي مما يذهبه الغسل، قالوا: وقولها: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم المراد به: أثره لا جرمه قاله القاضي عياض. وقال ابن العربي: ليس في شيء من طرق حديث عائشة: أن عين الطيب بقيت.
ومنها: أن ذلك التطيب خاص به صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن الدوام على الطيب بعد الإحرام كابتداء الطيب في الإحرام، بجامع الاستمتاع بريح الطيب في حال الإحرام، في كل منهما قالوا: ومما يؤيد أن ذلك التطيب خاص به صلى الله عليه وسلم: أنه لو كان مشروعا لعامة الناس لما أنكره عمر، وعثمان، وابن عمر مع علمهم بالمناسك وجلالتهم في الصحابة. ولم ينكر عليهم أحد إلا ما أنكرت عائشة على ابن عمر ولما أنكره الزهري، وعطاء مع علمهما بالمناسك.
ومنها: أن حديث عائشة المذكور يقتضي إباحة الطيب، لمن أراد الإحرام، وحديث يعلى بن أمية: يقتضي منع ذلك، والمقرر في الأصول: أن الدال على المنع مقدم على الدال على الإباحة، لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام.
ومنها: أن حديث يعلى من قول النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه الصريح في الأمر بإزالة الطيب، وإنقائه من البدن، وظاهره العموم لما قدمنا أن خطاب الواحد يعم حكمه الجميع لاستواء الجميع في التكليف، والعموم القولي لا يعارضه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه مخصص له كما تقرر في الأصول، كما أوضحناه سابقا، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:، لأنه مخصص له كما تقرر في الأصول، كما أوضحناه سابقا، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:
* في حقه القول بفعل خصا
* إن يك فيه القول ليس نصا
*
ومن ذلك الحناء قد قدمنا اختلاف العلماء فيها، هل هي طيب أو لا؟ وقد قدمنا آثارا تدل: على أنها ليست بطيب، وقدمنا حديث ابن عباس، عند الطبراني أن أزواج النبي كن يختضبن بالحناء، وهن محرمات، وقد قدمنا أن في إسناده يعقوب بن عطاء، وقد روى البيهقي بإسناده في السنن الكبرى عن عائشة رضي الله عنها أنها قيل لها: ما تقولين في الحناء والخضاب؟ قالت: كان خليلي لا يحب ريحه، ثم قال البيهقي: فيه كالدلالة على أن الحناء ليس بطيب (فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الطيب ولا يحب ريح الحناء) ا ه منه.
وهذا حاصل مستند من قال: إن الحناء ليس بطيب وقال صاحب الجوهر النقي: بعد أن ذكر كلام البيهقي الذي ذكرنا، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم خلاف هذا. قال أبو عمر في التمهيد: ذكر ابن بكير عن ابن لهيعة، عن بكير بن الأشج، عن خولة بنت حكيم، عن أمها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة (لا تطيبي، وأنت محرمة ولا تمسي الحناء فإنه طيب) وأخرجه البيهقي في كتاب المعرفة، من هذا الوجه وقد عد أبو حنيفة الدينوري وغيره: من أهل اللغة: الحناء من أنواع الطيب. وقال الهروي في الغريبين: وفي الحديث (سيد رياحين الجنة الفاغية) قال الأصمعي: هو نور الحناء. وفي الحديث أيضا، عن أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفاغية) انتهى منه. وقال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس. وقال النجم، وعند الطبراني والبيهقي، وأبي نعيم في الطب عن بريدة (سيد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم، وسيد الشراب في الدنيا والآخرة الماء، وسيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية) انتهى محل الحاجة منه، وقال ابن الأثير في النهاية فيه (سيد رياحين الجنة الفاغية هي نور الحناء) وقيل نور الريحان. وقيل: نور كل نبت من أنوار الصحراء، التي لا تزرع. وقيل فاغية كل نبت نوره، ومنه: حديث أنس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الفاغية) ا ه.
وفي القاموس: والفاغية نور الحناء أو يغرس غصن الحناء مقلوبا فيثمر زهرا أطيب من الحناء، فذلك الفاغية ا ه محل الغرض منه. ولا يخفى أن الحناء لم يثبت فيه شيء مرفوع وأكثر أنواع الطيب لم تثبت في خصوصها نصوص، ومنها: ما ثبت بالنص كالزعفران، والورس، كما تقدم إيضاح، وكالذريرة، والمسك كما سيأتي إن شاء الله، وقد قدمنا أن الذي اختلف فيه أهل العلم من الأنواع: هل هو طيب، أوليس بطيب؟ أن ذلك من نوع الاختلاف في تحقيق المناط، والعلم عند الله تعالى.
الفرع السادس عشر: اعلم أن العلماء اختلفوا في التطيب عند إرادة الإحرام قبله بحيث يبقى أثر الطيب، وريحه أو عينه بعد التلبس بالإحرام، هل يجوز ذلك لأنه وقت الطيب غير محرم، والدوام على الطيب، ليس كابتدائه كالنكاح عند من يمنعه في حال الإحرام، مع إباحة الدوام على نكاح مقعود، قبل الإحرام أو لا يجوز ذلك، لأن وجود ريح الطيب، أو عينه، أو أثره في المحرم بعد إحرامه كابتدائه للتطيب، ولأنه متلبس حال الإحرام بالطيب، مع أن الطيب منهي عنه في الإحرام، فقال جماهير من أهل العلم: إن الطيب عند إرادة الإحرام مستحب. قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا استحبابه، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف والمحدثين والفقهاء منهم سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن الزبير، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة، وأبو حنيفة، والثوري، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق،
وأبو ثور، وابن المنذر، وداود وغيرهم ا ه.
وقال النووي في شرح مسلم: وبه قال خلائق من الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء والمحدثين منهم: سعد بن أبي وقاص، وابن عباس إلى آخره، كما في شرح المهذب.
87

وقال ابن قدامة في المغني في شرحه لقول الخرقي: ويتطيب.
وجملة ذلك أنه يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة، ولا فرق بين ما يبقى عينه كالمسك والغالية، أو أثره كالعود والبخور وماء الورد هذا قول ابن عباس، وابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص وعائشة، وأم حبيبة، ومعاوية، وروي عن محمد ابن الحنفية، وأبي سعيد الخدري، وعروة، والقاسم، والشعبي وابن جريج. ا ه محل الغرض منه.
وقال جماعة آخرون من أهل العلم: لا يجوز التطيب عند إرادة الإحرام، فإن فعل ذلك لزمه غسله حتى يذهب أثره وريحه، وهذا هو مذهب مالك.
وقال النووي في شرح مسلم: وقال آخرون بمعنه منهم: الزهري، ومالك، ومحمد بن الحسن، وحكي أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين ا ه.
وقال في شرح المهذب: وقال عطاء والزهري ومالك ومحمد بن الحسن: يكره.
قال القاضي عياض: وحكي أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين ا ه.
وقال ابن قدامة في المغني: وكان عطاء يكره ذلك، وهو قول مالك، وروي ذلك عن عمر وعثمان، وابن عمر رضي الله عنهم ا ه.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة: فهذه أدلتهم ومناقشتها وما يظهر رجحانه بالدليل منها.
أما الذين منعوا ذلك: فقد احتجوا بحديث يعلى بن أمية التميمي رضي الله عنه، وهو متفق عليه. قال البخاري في صحيحه، قال أبو عاصم: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء: أن صفوان بن يعلى أخبره: أن يعلى قال لعمر رضي الله عنه: أرني النبي صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه؟ فبينما النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، ومعه نفر من أصحابه، جاء رجل فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلما: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة، وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، فجاءه الوحي فأشار عمر رضي الله عنه إلى يعلى، فجاء يعلى، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب، وقد أظل به، فأدخل رأسه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه، وهو يغط، ثم سري عنه فقال (أين الذي سأل عن العمرة فأوتي برجل فقال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك) قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: نعم. ا ه من صحيح البخاري قالوا: فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الطيب الذي تضمخ به قبل الإحرام، وأمر بإنقائه كما قاله عطاء، ولا شك أن هذا الحديث يقتضي أن الطيب في بدنه إذ لو كان في الجبة، دون البدن لكفى نزع الجبة كما ترى، خلافا لما توهمه ترجمة الحديث الذي ترجمه بها البخاري: وهي قوله: باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب. وقول البخاري في أول هذا الإسناد: قال أبو عاصم: قد قدمنا الكلام على مثله مستوفى وبينا أنه صحيح سواء قلنا: إنه موصول كما هو الصحيح، أو معلق، لأنه أورده بصيغة الجزم.
وقال البخاري أيضا في صحيحه: في أبواب العمرة: حدثنا أبو نعيم، حدثنا همام، حدثنا عطاء قال: حدثني صفوان بن يعلى بن أمية: يعني عن أبيه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بالجعرانة، وعليه جبة، وعليه أثر الخلوق، أو قال صفرة، فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم فستر بثوب وودت أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل عليه الوحي فقال عمر: تعال أيسرك أن تنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل الله الوحي؟ قلت: نعم، فرفع طرف الثوب، فنظرت إليه له غطيط: وأحسبه قال: كغطيط البكر، فلما سري عنه قال (أين السائل عن العمرة: اخلع عنك الجبة، واغسل أثر الخلوق عنك، وأنق الصفرة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك) ا ه منه. وقوله في هذا الحديث: (اخلع عنك الجبة واغسل أثر الخلوق وأنق الصفرة) صريح في أن غسل ذلك وإنقاءه من بدنه لأن ما في الجبة من الخلوق، والصفرة يزول بخلعها كما ترى.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا همام، حدثنا عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه رضي الله عنه قال (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة عليه جبة، وعليها خلوق أو قال: أثر صفرة. فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فستر بثوب وكان يعلى يقول: وددت أن أرى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نزل عليه الوحي قال فقال: أيسرك أن تنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل عليه الوحي؟ قال: فرفع عمر طرف الثوب، فنظرت إليه له غطيط قال: وأحسبه قال: كغطيط البكر. قال: فلما سري عنه قال: أين السائل عن العمرة: اغسل عنك أثر الصفرة أو قال أثر الخلوق واخلع عنك جبتك واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).
وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، وهو بالجعرانة، وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه مقطعات، يعني جبة، وهو متضمخ بالخلوق فقال: إني أحرمت بالعمرة، وعلي هذا، وأنا متضمخ بخلوق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ما كنت صانعا في حجك؟ قال: أنزع عني هذه الثياب، وأغسل عني هذا الخلوق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك) وفي لفظ في صحيح مسلم، عن يعلى فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك) وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى رضي الله عنه (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الجعرانة قد أهل بالعمرة، وهو مصفر لحيته ورأسه، وعليه جبة، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم
87

: إني أحرمت بعمرة، وأنا كما ترى فقال: (انزع عنك الجبة، واغسل عنك الصفرة، وما كنت صانعا في حجك، فاصنعه في عمرتك) وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى أيضا قال (انزع عنك جبتك واغسل أثر الخلوق الذي بك. وافعل في عمرتك ما كنت فاعلا في حجك) انتهى من صحيح مسلم.
قالوا: فهذه الروايات الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: فيها التصريح، بأن من تضمخ بالطيب قبل إحرامه لا يجوز له الدوام على ذلك، بل يجب غسله ثلاثا، وإنقاؤه، ولا شك أن بعض الروايات الصحيحة التي أوردنا صريحة في ذلك. وهذا هو حجة مالك ومن ذكرنا معه من أهل العلم في وجوب إزالة المحرم الطيب، الذي تلبس به قبل إحرامه.
وروى مالك في الموطأ، عن حميد بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح (إن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بحنين، وعلى الأعرابي قميص، وبه أثر صفرة فقال: يا رسول الله إني أهللت بعمرة فكيف تأمرني أن أصنع؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انزع قميصك، واغسل هذه الصفرة عنك وافعل في عمرتك ما تفعل في حجتك) ا ه.
والذين قالوا بهذا قالوا: يعتضد حديث يعلى المتفق عليه ببعض الآثار الواردة، عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، كما أشرنا إليه غير بعيد، وقد روى مالك في الموطأ، عن نافع، عن أسلم مولى عمر بن الخطاب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجد ريح طيب، وهو بالشجرة، فقال: ممن ريح هذا الطيب، فقال معاوية بن أبي سفيان: مني يا أمير المؤمنين، فقال منك لعمر الله فقال معاوية: أن أم حبيبة طيبتني يا أمير المؤمنين، فقال عمر: عزمت عليك لترجعن فلتغسلنه.
وروى مالك في الموطأ عن الصلت بن زيد عن غير واحد من أهله: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجد ريح طيب وهو بالشجرة، وإلى جنبه كثير بن الصلت، فقال عمر: ممن ريح هذا الطيب؟ فقال كثير: مني يا أمير المؤمنين، لبدت رأسي، وأردت ألا أحلق فقال عمر: فاذهب إلى شربة فادلك رأسك، حتى تنقيه، ففعل كثير بن الصلت. قال مالك: الشربة حفير تكون عند أصل النخلة. انتهى من الموطأ.
قالوا: ففعل هذا الخليفة الراشد في زمن خلافته مطابق لما تضمنه حديث يعلى بن أمية المتفق عليه، فتبين بذلك أنه غير منسوخ، وذكر الزرقاني في شرح الموطأ: أن عمر أنكر أيضا ذلك على البراء بن عازب، وقال: إنه رواه ابن أبي شيبة عن بشير بن يسار، كما أنكر على معاوية وكثير المذكورين، قال: فهذا عمر قد أنكر على صحابيين، وتابعي كثير الطيب بمحضر الجمع الكثير من الناس صحابة وغيرهم، وما أنكر عليه منهم أحد، فهو من أقوى الأدلة على تأويل حديث عائشة، ثم ذكر عن وكيع، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه: أن عثمان رأى رجلا قد تطيب عند الإحرام، فأمره أن يغسل رأسه بطين ا ه.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر: أن محمد بن المنتشر سأله عن الرجل يتطيب، ثم يصبح محرما، فقال: (ما أحب أن أصبح محرما أنضخ طيبا، لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك). هذا لفظ مسلم في صحيحه. وفيه بعده رد عائشة على ابن عمر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فحديث يعلى المتفق عليه، والآثار التي ذكرنا عن بعض الصحابة، ومنها ما لم نذكره هو حجة مالك، ومن ذكرنا معه في منع التطيب قبل الإحرام، ووجوب غسله، وإنقائه إن فعل ذلك، ولا فدية فيه عندهم مطلقا، وذكر بعضهم: أن المشهور عن مالك: الكراهة لا التحريم.
واحتج الجمهور القائلون باستحباب التطيب عند الإحرام بما رواه الشيخان وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها وبعض الآثار الدالة على ذلك، عن بعض الصحابة رضي الله عنهم. قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن عبد الرحمان بن القاسم، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه، حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت. وفي صحيح البخاري: قبل هذا الحديث متصلا به من طريق الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم. وقد ذكرنا هذا الحديث في الكلام على التحلل الأول.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الرحمان بن القاسم: أنه سمع أباه وكان أفضل أهل زمانه يقول: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها ا ه منه.
وقال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن عباد أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه، حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. وفي لفظ لمسلم عنها من طريق القاسم بن محمد قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، لحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف بالبيت. وفي لفظ عند مسلم عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه، قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. وفي لفظ عنها عند مسلم قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة في حجة الوداع، للحل والإحرام.
وفي النهاية الذريرة: نوع من الطيب مجموع من أخلاط. وقال السيوطي في تلخيصه للنهاية: وقيل هي فتات قصب، وقال النووي في شرح مسلم: هي فتات قصب طيب، يجاء به من الهند، وقد قدمنا في سورة الأنعام أن الذريرة قصب يجاء به من الهند كقصب النشاب أحمر يتداوى به. وفي لفظ عند مسلم أيضا، عن عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه؟ قالت: بأطيب الطيب، وفي لفظ: بأطيب ما أقدر عليه، قبل أن يحرم، ثم يحرم. وفي لفظ: بأطيب ما وجدت. وفي لفظ عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، وفي لفظ عنها قالت: لكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يهل. وفي لفظ: وهو يلبي. والألفاظ المماثلة لهذا متعددة في صحيح مسلم عنها رضي الله عنها، وفي لفظ عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم، يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته. وفي لفظ عنها
87

قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم، ويوم النحر، قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك. وفي صحيح مسلم: أن عائشة لما بلغها قول ابن عمر المتقدم: لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك، قالت: أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرما ا ه. كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم. قالوا فهذا الحديث الذي اتفق عليه الشيخان، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، دليل صحيح صريح في مشروعية الطيب قبل الإحرام، وإن كان أثره باقيا بعد الإحرام، بل ولو بقي عينه وريحه، لأن رؤيتها وبيص الطيب في مفارقه صلى الله عليه وسلم، وهو محرم صريح في ذلك، قالوا: وقد وردت آثار عن بعض الصحابة بذلك، تدل على عدم خصوصية ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب نصب الراية: وقيل إن ذلك من خواصه صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر، فقد رئي ابن عباس محرما، وعلى رأسه مثل الرب من الغالية. وقال مسلم بن صبح: رأيت ابن الزبير، وهو محرم، وفي رأسه ولحيته من الطيب ما لو كان لرجل أعد منه رأس مال. انتهى منه.
فهذا الحديث، وهذه الآثار: حجة من قال: بالتطيب قبل الإحرام، ولو كان الطيب يبقى بعد الإحرام.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم وحججهم في هذه المسألة فهذه مناقشة أقوالهم: اعلم أن المالكية، ومن وافقهم أجابوا عن حديث عائشة المذكور، بأجوبة:
منها: أنهم حملوه على أنه تطيب، ثم اغتسل بعده، فذهب الطيب قبل الإحرام قالوا: ويؤيد هذا قولها في الرواية الأخرى (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه ثم طاف على نسائه، ثم أصبح محرما) فظاهره أنه إنما تطيب لمباشرة نسائه ثم زال بالغسل بعده، لا سيما وقد نقل أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى، ولا يبقى مع ذلك طيب، ويكون قولها: ثم أصبح ينضح طيبا: أي قبل غسله، وقد سبق في رواية لمسلم: أن ذلك الطيب كان ذريرة وهي مما يذهبه الغسل، قالوا: وقولها: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم المراد به: أثره لا جرمه قاله القاضي عياض. وقال ابن العربي: ليس في شيء من طرق حديث عائشة: أن عين الطيب بقيت.
ومنها: أن ذلك التطيب خاص به صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن الدوام على الطيب بعد الإحرام كابتداء الطيب في الإحرام، بجامع الاستمتاع بريح الطيب في حال الإحرام، في كل منهما قالوا: ومما يؤيد أن ذلك التطيب خاص به صلى الله عليه وسلم: أنه لو كان مشروعا لعامة الناس لما أنكره عمر، وعثمان، وابن عمر مع علمهم بالمناسك وجلالتهم في الصحابة. ولم ينكر عليهم أحد إلا ما أنكرت عائشة على ابن عمر ولما أنكره الزهري، وعطاء مع علمهما بالمناسك.
ومنها: أن حديث عائشة المذكور يقتضي إباحة الطيب، لمن أراد الإحرام، وحديث يعلى بن أمية: يقتضي منع ذلك، والمقرر في الأصول: أن الدال على المنع مقدم على الدال على الإباحة، لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام.
ومنها: أن حديث يعلى من قول النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه الصريح في الأمر بإزالة الطيب، وإنقائه من البدن، وظاهره العموم لما قدمنا أن خطاب الواحد يعم حكمه الجميع لاستواء الجميع في التكليف، والعموم القولي لا يعارضه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه مخصص له كما تقرر في الأصول، كما أوضحناه سابقا، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:، لأنه مخصص له كما تقرر في الأصول، كما أوضحناه سابقا، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:
* في حقه القول بفعل خصا
* إن يك فيه القول ليس نصا
*
فهدذا هو حاصل ما أجاب به القائلون: بمنع التطيب، عند إرادة الإحرام أو كراهته. وأجاب المخالفون بمنع ذلك كله قالوا: دعوى أن التطيب للنساء لا الإحرام، يرده صريح الحديث في قولها: طيبته لإحرامه، وادعاء أن اللام للتوقيت، خلاف الظاهر قالوا وادعاء أن الطيب زال بالمغسل قبل الإحرام ترده الروايات الصريحة، عن عائشة: أنها كأنها تنظر إلى وبيص الطيب، في مفرقه صلى الله عليه وسلم وهو محرم، لأن الوبيص في اللغة: البريق، واللمعان، وهو
87

وصف وجودي، والوصف الوجودي: لا يوصف به المعدوم، وإنما يوصف به الموجود. فدل على أن الطيب الموصوف بالوبيص موجود بعينه، وهو يرد قول ابن العربي أنه لم يرد في شيء من طرق حديث عائشة أن عين الطيب بقيت.
ويؤيده ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا الحسين بن الجنيد الدامغاني: ثنا أبو أسامة، قال: أخبرني عمر بن سويد الثقفي، قال: حدثتني عائشة بنت طلحة: أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حدثتها قالت: (كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة. فنضمد جباهنا بالشك المطيب، عند الإحرام، فإذا عرفت إحدانا سأل على وجهها، فيراه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينهانا) ا ه منك والسك بضم السين، وتشديد الكاف: نوع من الطيب، يضاف إلى غيره من الطيب، ويستعمل.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار في حديث أبي داود هذا: سكت عنه أبو داود، والمنذري، وإسناده رواته ثقات إلا الحسين بن الجنيد شيخ أبي داود وقد قال النسائي، لا بأس به، وقال ابن حبان في الثقات: مستقيم الأمر فيما يروى ا ه. وقال فيه ابن حجر في التقريب: لا بأس به، وقال فيه: في تهذيب التهذيب: قال النسائي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال من أهل سمغان: مستقيم الأمر فيما يروي.
قلت: وقال أحمد بن حمدان العابدي، ثنا الحسين بن الجنيد، وكان رجلا صالحا وقال: مسلمة بن القاسم ثقة ا ه منه.
وبما ذكرنا: تعلم أن حديث عائشة المذكور عند أبي داود أقل درجاته أنه حسن، وقال فيه النووي في شرح المهذب: هذا حديث حسن، رواه أبو داود بإسناد حسن ا ه
منه، وهو حجة في جواز بقاء عين الطيب في المحرم بعد الإحرام، إن كان استعماله للطيب، قبل الإحرام.
قال في القاموس: والسك بالضم طيب، يتخذ من الرامك مدقوقا منخولا معجونا بالماء، ويعرك شديدا، ويمسح بدهن الخيري لئلا يلصق بالإناء، ويترك ليلة ثم يسحق المسك ويلقمه ويعرك شديدا، ويقرص، ويترك يومين، ثم يثقب بمسلة وينظم في خيط قتب، ويترك سنة، وكلما عتق طابت رائحته ا ه منه. وقال أيضا: والرامك كصاحب: شيء أسود يخلط بالمسك، ويفتح انتهى منه. ولا يخفى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كن يضمدن به جباههن في حال كونه معجونا، قبل أن يقرص ويجف.
88

وقال ابن منظور في اللسان: والسك ضرب من الطيب يركب من مسك ورامك، وقال في اللسان أيضا ابن سيده: والرامك والرامك، والكسر أعلى، شيء أسود كالقار يخلط بالمسك فيجعل سكا قال: وقال ابن منظور في اللسان: والسك ضرب من الطيب يركب من مسك ورامك، وقال في اللسان أيضا ابن سيده: والرامك والرامك، والكسر أعلى، شيء أسود كالقار يخلط بالمسك فيجعل سكا قال:
* إن لك الفضل على صحبتي
* والمسك قد يستصحب الرامكا
*
وأجابوا عن كون التطيب المذكور خاصا به صلى الله عليه وسلم: بأن حديث عائشة هذا نص في عدم خصوص ذلك به صلى الله عليه وسلم، وعضدوه بالآثار المروية، عن بعض الصحابة كما تقدم، عن ابن عباس، وابن الزبير قالوا: وإنكار عمر وعثمان لا يعارض به الصحيح المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن سنته أولى بالاتباع، من قول كل صحابي، مع أنهم خالفهم بعض الصحابة.
وقد ثبت في صحيح مسلم: أن عائشة أنكرت ذلك على ابن عمر رضي الله عنهما. وأجابوا عن كون حديث يعلى، كالعموم القولي، فلا يعارضه فعله صلى الله عليه وسلم، بل يخصص به بما ذكرناه آنفا من الأدلة، على أن ذلك الفعل الذي هو التطيب قبل الإحرام، ليس خاصا به كما دل عليه حديث عائشة المذكور آنفا. وقولها في الصحيح: (طيبته بيدي هاتين). صريح في أنها شاركته في ملابسة ذلك الطيب كما ترى.
وأجابوا عن كون حديث يعلى: دالا على المنع، وحديث عائشة: دالا على الجواز. والدال على المنع مقدم على الدال على الجواز، بأن محل ذلك فيما إذا جهل المتقدم منهما. أما إذا علم المتقدم، فإنه يجب الأخذ بالمتأخر لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث، فالأحدث وقصة يعلى، وقعت بالجعرانة عام ثمان بلا خلاف، وحديث عائشة في حجة الوداع، عام عشر ومن المقرر في الأصول أن النصين، إذا تعارضا وعلم المتأخر منهما فهو ناسخ للأول كما هو معلوم في محله. وأجابوا عن كون الدوام على الطيب كابتدائه بأنه منتقض بالنكاح، فإن ابتداء عقده في حال الإحرم ممنوع عند الجمهور كما تقدم إيضاحه خلافا لأبي حنيفة، مع الإجماع على جواز الدوام على نكاح، وقع عقده قبل الإحرام، ثم أحرم بعد عقده الزوجان، وهو دليل على أنه ما كل دوام كالابتداء.
وقد تقرر في الأصول أن المانع بالنسبة إلى الابتداء والدوام ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: هو المانع للدوام والابتداء معا كالرضاع، فإن الرضاع مانع من ابتداء عقد النكاح كما أنه أيضا مانع من الدوام عليه فلو تزوج رضيعة، غير محرم منه في حال العقد، ثم أرضعتها أمه بعد العقد فإن هذا الرضاع الطارىء على عقد النكاح مانع من الدوام عليه،
89

لوجوب فسخ ذلك النكاح بذلك الرضاع الطارىء عليه، وكالحدث فإنه مانع من ابتداء الصلاة، مانع من الدوام عليها إذا طرأ في أثنائها.
والثاني: هو المانع للدوام فقط دون الابتداء، كالطلاق فإنه مانع من الدوام على العقد الأول، والاستمتاع بالزوجة بموجبه، وليس مانعا من ابتداء عقد جديد والاستمتاع بها بموجبه.
والثالث: هو المانع من الابتداء فقط، دون الدوام، كالنكاح بالنسبة إلى الإحرام، فإن الإحرام مانع من ابتداء العقد، وليس مانعا من الدوام على عقد كان قبله، وكالاستبراء، فإنه مانع من النكاح في حال الاستبراء، وليس مانعا من الدوام على النكاح، لأن الزوج إذا وطئت امرأته بشبهة، فلزمها الاستبراء بذلك فإن ذلك لا يمنع من الدوام، على عقد زواجها الأول، قالوا: ومن هذا الطيب فإن الإحرام مانع من ابتدائه، وليس مانعا من الدوام عليه، كالنظائر المذكورة وإلى تعريف المانع وأقسامه، أشار في المراقي بقوله: والثالث: هو المانع من الابتداء فقط، دون الدوام، كالنكاح بالنسبة إلى الإحرام، فإن الإحرام مانع من ابتداء العقد، وليس مانعا من الدوام على عقد كان قبله، وكالاستبراء، فإنه مانع من النكاح في حال الاستبراء، وليس مانعا من الدوام على النكاح، لأن الزوج إذا وطئت امرأته بشبهة، فلزمها الاستبراء بذلك فإن ذلك لا يمنع من الدوام، على عقد زواجها الأول، قالوا: ومن هذا الطيب فإن الإحرام مانع من ابتدائه، وليس مانعا من الدوام عليه، كالنظائر المذكورة وإلى تعريف المانع وأقسامه، أشار في المراقي بقوله:
* ما من وجوده يجيء العدم
* ولا لزوم في انعدام يعلم
*
* بمانع يمنع للدوام
* والابتدا أو آخر الأقسام
*
* أو أول فقط على نزاع
* كالطول الاستبراء والرضاع
*
هذا هو حاصل أقوال العلماء ومناقشتها. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر قولي أهل العلم عندي في هذه المسألة: أن الطيب جائز عند إرادة الإحرام، ولو بقيت ريحه بعد الإحرام، لحديث عائشة المتفق عليه، ولإجماع أهل العلم على أنه آخر الأمرين، والأخذ بآخر الأمرين أولى كما هو معلوم.
وقد علمت الأدلة على أنه ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم فحديث عائشة في حجة الوداع عام عشر، وحديث يعلى عام الفتح، وهو عام ثمان فحديث عائشة بعد حديث يعلى بسنتين، هذا ما ظهر، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
أظهر قولي أهل العلم عندي: إنه إن طيب ثوبه قبل الإحرام فله الدوام على لبسه كتطييب بدنه، وأنه إن نزع عنه ذلك الثوب المطيب بعد إحرامه، فليس له يعيد لبسه، فإن لبسه صار كالذي ابتدأ الطيب في الإحرام، فتلزمه الفدية، وكذلك إن نقل الطيب الذي
90

تلبس به قبل الإحرام، من موضع من بدنه إلى موضع آخر بعد الإحرام، فهو ابتداء تطيب في ذلك الموضع، الذي نقله إليه، وكذلك إن تعمد مسه بيده أو نحاه من موضعه، ثم رده إليه، لأن كل تلك الصور فيها ابتداء تلبس جديد بعد الإحرام بالطيب، وهو لا يجوز. أما إن كان قد عرق فسال الطيب من موضعه إلى موضع آخر فلا شيء عليه في ذلك، لأنه ليس من فعله.
ولحديث عائشة: عند أبي داود الذي ذكرناه قريبا. وقال بعض علماء المالكية: ولا فرق في ذلك، بين أن يكون الطيب في بدنه، أو ثوبه، إلا أنه إذا نزع ثوبه لا يعود إلى لبسه، فإن عاد فهل عليه في العود فدية، يحتمل أن نقول: لا فدية، لأن ما فيه قد ثبت له حكم العفو كما لو لم ينزعه. وقال أصحاب الشافعي: تجب عليه الفدية، لأنه لبس جديد وقع بثوب مطيب. انتهى من الحطاب والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع عشر: في أحكام أشياء متفرقة: كالنظر في المرآة للمحرم، وغسل الرأس، والبدن وما يلزم من قتل بغسله رأسه قملا، والحجامة، وحك الجسد، والرأس وتقريد البعير، وتضميد العين بالصبر ونحوه، والسواك. أما النظر في المرآة: فالظاهر أنه لا بأس به للمحرم، ولم يرد شيء يدل على النهي عنه فيما أعلم.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب الطيب عند الإحرام، وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل، ويدهن. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يشم المحرم الريحان، وينظر في المرآة، ويتداوى بما يأكل الزيت والسمن، وقال عطاء: يتختم ويلبس الهميان، وطاف ابن عمر رضي الله عنهما، وهو محرم، وقد حزم على بطنه بثوب، ولم تر عائشة رضي الله عنها بالتبان بأسا للذين يرحلون هودجها انتهى منه.
ومحل الشاهد عنه قول ابن عباس: وينظر في المرآة وهذه المسائل التي ذكرها البخاري، قد قدمنا كلها وأوضحنا مذاهب العلماء فيها، إلا النظر في المرآة الذي هو غرضنا منها الآن. وكون عائشة لم تر بأسا بالتبان، للذين يرحلون هودجها، والتبان كرمان، سراويل صغير يستر العورة المغلظة، وإباحة عائشة للتبان للذين يرحلون هودجها قريب من قول المالكية: بجواز الاستثفار للركوب والنزول وما ذكره البخاري عن ابن عمر من: (أنه طاف وهو محرم، وقد حزم على بطنه بثوب) خصص المالكية، جواز شد الحزام
91

على البطن من غير عقد بضرورة العمل خاصة كما تقدم.
والحاصل: أنه لا ينبغي أن يختلف في جواز نظر المحرم في المرآة، إذ لا دليل على النهي عنه، وذكر ابن حجر في الفتح: أنه نقلت كراهته عن القاسم بن محمد، وذلك هو مشهور مذهب مالك، وفي سماع ابن القاسم: لا أحب نظر المحرم في المرآة، فإن نظر فلا شيء عليه، وليستغفر الله.
وأصح القولين عند الشافعية: أنه لا كراهة فيه، ونقل ابن المنذر عدم الكراهة عن ابن عباس، وأبي هريرة، وطاوس، والشافعي، وأحمد، وإسحاق قال: وبه أقول، وكره ذلك عطاء الخراساني. وقال مالك: لا يفعل ذلك إلا عن ضرورة، قال: وعن عطاء في المسألة قولان: بالكراهة والجواز، وصح عن ابن عمر: أنه نظر في المرآة. انتهى بالمعنى من النووي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق إن شاء الله في هذه المسألة: أن مجرد نظر المحرم في المرآة لا بأس به، ما لم يقصد به الاستعانة على أمر من محظورات الإحرام، كنظر المرأة فيها لتكتحل بما فيه طيب أو زينة، ونحو ذلك، والعلم عند الله تعالى.
وذكر في الفتح أيضا: أن سعيد بن منصور روى من طريق عبد الرحمان بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: أنها حجت، ومعها غلمان لها، وكانوا إذا شدوا رحلها يبدو منهم الشيء، فأمرتهم أن يتخذوا التبابين فيلبسوها، وهم محرمون قال: وأخرجه من وجه آخر مختصرا بلفظ: (يشدون هودجها انتهى محل الغرض منه، وقوله: يرحلون هودجها هو بفتح الياء المثناة التحتية، وسكون الراء، وفتح الحاء من قولهم: رحلت البعير أرحله بفتح الحاء، في المضارع، والماضي رحلا بمعنى: شددت الرحل على ظهره، ومنه قول الأعشى: وذكر في الفتح أيضا: أن سعيد بن منصور روى من طريق عبد الرحمان بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: أنها حجت،
ومعها غلمان لها، وكانوا إذا شدوا رحلها يبدو منهم الشيء، فأمرتهم أن يتخذوا التبابين فيلبسوها، وهم محرمون قال: وأخرجه من وجه آخر مختصرا بلفظ: (يشدون هودجها انتهى محل الغرض منه، وقوله: يرحلون هودجها هو بفتح الياء المثناة التحتية، وسكون الراء، وفتح الحاء من قولهم: رحلت البعير أرحله بفتح الحاء، في المضارع، والماضي رحلا بمعنى: شددت الرحل على ظهره، ومنه قول الأعشى:
* رحلت سمية غدوة أجمالها
* غضبى عليك فما تقول بدالها
*
وقول المثقب العبدي وهو عائذ بن محصن: وقول المثقب العبدي وهو عائذ بن محصن:
* إذا ما قمت أرحلها بليل
* تأوه آهة الرجل الحزين
*
والهودج: مركب من مراكب النساء معروف، وما ذكر عن عائشة رضي الله عنها ظاهره أنها إنما رخصت في التبان، لمن يرحل هودجها، لضرورة انكشاف العورة، وهو
92

يدل على أنه لا يجوز لغير ضرورة، والعلم عند الله تعالى.
وأما غسل الرأس والبدن بالماء، فإن كان لجنابة كاحتلام، فلا خلاف في وجوبه، وإن كان لغير ذلك فهو جائز على التحقيق، ولكن ينبغي أن يكون برفق لئلا يقتل بعض الدواب في رأسه واغتسال المحرم، وغسله رأسه، لا ينبغي أن يختلف فيه: لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلما خالف السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، فهو مردود على قائله.
قال البخاري في صحيحه: باب الاغتسال للمحرم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يدخل المحرم الحمام، ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسا. حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه: (أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله بن عباس: يغسل المحرم رأسه. وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، فأرسلني عبد الله بن العباس، إلى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين، وهو يستر بثوب، فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن العباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه، وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب، فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب عليه: اصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما، وأدبر وقال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل.
وقال ابن حجر في الكلام على هذا الحديث: وكأنه خص الرأس بالسؤال لأنه موضع الإشكال في هذه المسألة، لأنه محل الشعر الذي يخشى انتتافه بخلاف سائر البدن غالبا، وحديث أبي أيوب المذكور أخرجه أيضا مسلم في صحيحه كلفظ البخاري، وزاد مسلم فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبدا. وقال النووي في شرحه لحديث أبي أيوب: هذا عند مسلم، وفي هذا الحديث فوائد.
منها: جواز اغتسال المحرم، وغسله رأسه، وإمرار اليد على شعره بحيث لا ينتف شعرا إلى آخره، وهذا حديث متفق عليه فيه التصريح: بجواز غسل الرأس في الإحرام، وكذلك غسل البدن، وقال النووي في شرح المهذب: قال الماوردي: أما اغتسال المحرم بالماء والانغماس فيه، فجائز لا يعرف بين العلماء، خلاف فيه، لحديث أبي أيوب السابق: أما دخول الحمام وإزالة الوسخ عن نفسه فجائز أيضا، عن ناوبه، قال الجمهور وقال مالك: تجب الفدية بإزالة الوسخ، وقال أبو حنيفة: إن غسل رأسه بخطمى: لزمته الفدية دليلنا حديث ابن عباس في المحرم الذي خر عن بعير. وقال ابن المنذر: وكره
93

جابر بن عبد الله ومالك: غسل المحرم رأسه بالخطمى قال مالك: وعليه الفدية وبه قال أبو حنيفة وقال أبو يوسف، ومحمد: عليه صدقة. قال ابن المنذر: هو مباح لحديث ابن عباس. انتهى محل الغرض منه.
وقد قدمنا جواز غسل الرأس بالماء وحده، عن المالكية، وكراهة غمس الرأس في الماء ما لم يتيقن أنه لا يقتل بذلك بعض دواب الرأس.
وقال صاحب اللسان: والخطمى: ضرب من النبات، يغسل به، وفي الصحاح: يغسل به الرأس. قال الأزهري: هو بفتح الخاء، ومن قال: خطمى بكسر الخاء فقد لحن، وفي المدونة عن مالك: لا يدخل المحرم الحمام، فإن دخله، وتدلك، وألقى الوسخ: افتدى. وقال اللخمي: أرى أن يفتدي، ولو لم يتدلك، لأن الشأن فيمن دخل الحمام، ثم اغتسل أن الشعث يذهب عنه، ولو لم يتدلك ا ه بواسطة نقل المواق.
فتحصل: أن مطلق الغسل الذي لا تنظيف فيه لا خلاف فيه إلا ما رواه مالك، عن ابن عمر: (أنه كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام) وروى مالك في الموطأ، عن عمر بن الخطاب (أنه غسل رأسه، وهو محرم، وأمر يعلى بن منية: أن يصب على رأسه أي عمر الماء. وقال: اصبب، فلن يزيده الماء إلا شعثا). وقد ثبت في الصحيحين جوازه، وأن إزالة الوسخ بالتدلك في الحمام، وغسل الرأس بالخطمى ونحو ذلك: فيه خلاف كما رأيت أقوال أهل العلم فيه.
وحجة من قال: من التدلك وإزالة الوسخ لا شيء فيه حديث ابن عباس في المحرم الذي خر عن بعيره، ومات، ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخمروا رأسه
ووجهه، وعلل ذلك: بأنه يبعث ملبيا، ومع ذلك فقد أمرهم أن يغسلوه بماء وسدر، وذلك ثابت في الصحيح، وأن الأصل عدم الوجوب.
واحتج من منع إزالة الوسخ: بأن الوسخ من التفث وقد دلت آية * (ثم ليقضوا تفثهم) * على أن إزالة التفث: لا تجوز قبل وقت التحلل الأول.
واحتجوا أيضا بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثا غبرا) قال النووي في شرح المهذب: رواه البيهقي، بإسناد صحيح.
وأخرج الترمذي، وابن ماجة، عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الحاج الشعث التفل) وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي.
94

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما مجرد الغسل الذي لا يزيده إلا شعثا كما قال عمر رضي الله عنه، فلا ينبغي أن يختلف فيه، لحديث أبي أيوب المتفق عليه، وأما التدلك في الحمام، وغسل الرأس بالخطمى، فلا نص فيه، والأحسن تركه احتياطا، وأما لزوم الفدية فيه فلا أعلم له دليلا يجب الرجوع إليه والعلم عنده الله تعالى.
وأما حكم من قتل بغسله رأسه قملا فلا أعلم في خصوص قتل المحرم القمل نصا من كتاب، ولا سنة.
وقد قدمنا أن مذهب مالك: أنه إن قتل قملة أو قملات أطعم ملء يد واحدة من الطعام كفارة لذلك، وإن قتل كثيرا منه لزمته الفدية، وعن الشافعي أن من قتل قملة: أطعم شيئا قال: وأي شيء فداها به فهو خير منها. وعند الشافعي: أنه إن ظهر القمل على بدنه أو ثيابه، لم يكره له أن ينحيه، لأنه ألجأه.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن قتل القمل لا فدية فيه، وهو مذهب أحمد وأصحابه مع أن عنه روايتين:
أحداهما: إباحة قتله، لأنه يؤذي، والأخرى منع قتله، لأن فيه ترفها.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر أقوال أهل العلم عندي في ذلك: أن القمل لا يجوز قتله، وأخذه من الرأس، بدليل قصة كعب بن عجرة المتقدمة، فإنه لو كان قتله يجوز لما صبر على أذاه، ولتسبب في التفلي، لإزالته من رأسه، كما هو العادة المعروفة فيمن آذاه القمل، وهو غير محرم إن لم يرد الحلق، وأنه لا شيء على من قتله. والدليل على ذلك أمران.
أحدهما: أن الأصل عدم الوجوب إلا لدليل، ولا دليل على لزوم شيء في قتل القمل، مع أنه يؤذي أشد الإيذاء.
الأمر الثاني: أن ظاهر حديث كعب بن عجرة المتفق عليه، وظاهر القرآن العظيم كلاهما: يدل على أن الفدية إنما لزمت بسبب حلق الرأس، مع كثرة ما فيه من القمل، فلو كانت الفدية تلزم من قتل القمل، وإزالته، لبينه صلى الله عليه وسلم فقوله تعالى * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * ظاهره أن الأذى الذي برأسه من القمل ونحوه: كالمرض في إباحة الحلق، وأن الفدية لزمت بسبب الحلق لا بسبب المرض، ولا بسبب إزالة القمل، وكذلك
95

ظاهر حديث كعب، حيث أمره بالحلق والفدية، فهو يدل على أن الفدية من أجل الحلق لا غيره.
ومما يؤيد ذلك: أن القمل لا قيمة له فهو كالبراغيث والبعوض، وليس القمل بمأكول، وليس بصيد.
قال صاحب المغني: وحكي عن ابن عمر قال: هي أهون مقتول، وسئل ابن عباس، عن محرم ألقى قملة، ثم طلبها فلم يجدها؟ قال: تلك ضالة لا تبتغى. قال: وهذا قول طاوس، وسعيد بن جبير، وعطاء، وأبي ثور، وابن المنذر، وعن أحمد فيمن قتل قملة قال: يطعم شيئا فعلى هذا أي شيء تصدق به أجزأه، سواء قتل كثيرا أو قليلا، وهذا قول أصحاب الرأي وقال إسحاق: تمرة فما فوقها. وقال مالك: حفنة من طعام. وروي ذلك عن ابن عمر، وقال عطاء: قبضة من طعام.
وهذه الأقوال كلها راجعة إلى ما قلناه، فإنهم لم يريدوا بذلك التقدير، وإنما هو على التقريب لأقل ما يتصدق به. انتهى من المغني. ولا يخفى أنها أقوال لا دليل على شيء منها.
وحجة القائلين بها في الجملة: أن قتل القمل فيه ترفه للمحرم، والعلم عند الله تعالى.
وأما الحجامة: إن دعت إليها ضرورة، فلا خلاف في جوازها للمحرم، وإنما اختلف أهل العلم في الفدية، إن احتجم. أما جوازها لضرورة فهو ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتا لا مطعن فيه.
قال البخاري في صحيحه: باب الحجامة للمحرم: وكوى ابن عمر ابنه، وهو محرم، ويتداوى ما لم يكن فيه طيب.
حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال: قال عمرو: أول شيء سمعت عطاء يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، ثم سمعته يقول: حدثني طاوس، عن ابن عباس فقلت: لعله سمعه منها.
حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، عن علقمة بن أبي علقمة، عن عبد الرحمان الأعرج، عن ابن بحينة رضي الله عنه قال (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم بلحيى جمل في وسط رأسه) انتهى من صحيح البخاري.
96

وقال البخاري في كتاب: الطب: باب الحجم في السفر والإحرام: قاله ابن بحينة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، وعطاء، عن ابن عباس قال (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محرم).
وقال البخاري في كتاب: الطب أيضا: باب الحجامة على الرأس.
حدثنا إسماعيل، حدثني سليمان، عن علقمة: أنه سمع عبد الرحمان الأعرج: أنه سمع عبد الله ابن بحينة، يحدث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم بلحيى
جمل من طريق مكة وهو محرم في وسط رأسه) وقال الأنصاري: أخبرنا هشام بن حسان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في رأسه) وفي لفظ للبخاري، عن ابن عباس قال: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في رأسه وهو محرم من وجع كان به بماء يقال له لحيى جمل) وفي لفظ له أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به) انتهى منه. وحديث ابن عباس الذي ذكره البخاري: أخرجه مسلم أيضا، عن طاوس، وعطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم) وأخرج مسلم أيضا حديث ابن بحينة المذكور بلفظ (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه) ا ه.
فهذا الحديث المتفق عليه، عن صحابيين جليلين وهما: عبد الله بن عباس وعبد الله ابن بحينة: صريح في جواز الحجامة للمحرم إن دعت إلى ذلك ضرورة وجع. والحديث المتفق عليه المذكور فيه أن الحجامة المذكورة كانت في الرأس.
قال ابن حجر في الفتح: وخالف ذلك حديث أنس فأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان من طريق معمر، عن قتادة عنه قال (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به) ورجاله رجال الصحيح، إلا أن أبا داود، حكى عن أحمد أن سعيد بن أبي عروبة رواه عن قتادة، فأرسله وسعيد أحفظ من معمر وليست هذه بعلة قادحة، والجمع بين حديث ابن عباس، وحديث أنس، واضح بالحمل على التعدد أشار إلى ذلك الطبري. ا ه منه.
ولا يخفى أن مثل هذا لا تعارض فيه، وأنه احتجم مرة في الرأس، ومرة على ظهر القدم كما لا يخفى. وقوله في الحديث المتفق عليه (بلحيي جمل) هو بفتح اللام،
97

ويجوز كسرها وسكون الحاء وياء مثناة تحتية، وفي بعض رواياته: بياءين بصيغة التثنية، وجمل يفتح الجيم، والميم. وقد جاء في الروايات، أنه اسم موضع بين مكة، والمدينة. وقال في الفتح: قال ابن وضاح: هي بقعة معروفة وهي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا ا ه.
وقال صاحب القاموس: ولحى جمل موضع بين الحرمين، وإلى المدينة أقرب. وزعم صاحب القاموس: أن السقيا بالضم: موضع بين المدينة، ووادي الصفراء، وما ظنه بعضهم: من أن المراد به أحد فكي الجمل الذي هو ذكر الإبل، وأن فكه كان هو آلة الحجامة، فهو غلط لا شك فيه.
فهذه النصوص التي ذكرنا لا يبقى معها شك في جواز الحجامة للمحرم الذي به وجع يحتاج إلى الحجامة.
أما ما يلزم في ذلك فاختلفوا فيه: قال النووي في شرح مسلم: وفي هذا الحديث دليل لجواز الحجامة للمحرم. وقد أجمع العلماء على جوازها له في الرأس وغيره، إذا كان له عذر في ذلك وإن قطع الشعر حينئذ، لكن عليه الفدية لقطع الشعر، فإن لم يقطع فلا فدية عليه، ودليل المسألة قوله تعالى * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) *. وهذا الحديث محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له عذر في الحجامة في وسط الرأس، لأنه لا ينفك عن قطع شعر، أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة، فإن تضمنت قلع شعر، فهي حرام لتحريم قطع الشعر وإن لم تتضمن ذلك، بأن كانت في موضع لا شعر فيه، فهي جائزة عندنا.
وعند الجمهور: ولا فدية فيها، ووافق الجمهور سحنون، من أصحاب مالك، وعن ابن عمر ومالك كراهتها، وعن الحسن البصري: فيها الفدية.
دليلنا: أن إخراج الدم ليس حراما في الإحرام. انتهى منه.
وما ذكره النووي، عن ابن عمر ومالك: من كراهة الحجامة لغير عذر، ذكره مالك في الموطأ، عن نافع، عن ابن عمر بلفظ: أنه كان يقول: (لا يحتجم المحرم إلا مما لا بد منه) وفيه قال مالك: لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة، ولا شك أنها إن أدت إلى قطع شعر من غير حاجة إليها أنها حرام، وإن كانت لا تؤدي إلى قطع شعر، فقد وجه المالكية كراهتها المذكورة، عن مالك وابن عمر بأمرين.
98

أحدهما: أن إخراج الدم من الحاج، قد يؤدي إلى ضعفه، كما كره صوم يوم عرفة للحاج، مع أن الصوم أخف من الحجامة، قالوا: فبطل الاستدلال المجيز، بأنه لم يقم دليل على تحريم إخراج الدم في الإحرام، لأنا لم نقل بالحرمة، بل بالكراهة لعلة أخرى علمت. قاله الزرقاني في شرح الموطأ.
ومرادهم أن ضعفه بإخراج الدم منه، قد يؤدي إلى عجزه عن إتمام بعض المناسك.
الأمر الثاني: هو أن الحجامة إنما تكون في العادة، بشد الزجاج ونحوه والمحرم ممنوع من العقد والشد على جسده. قاله الشيخ سند.
وقال الحطاب في شرحه لقول خليل عاطفا على ما يكره: وحجامة بلا عذر ما نصه: وأما مع العذر فتجوز، فإن لم يزل بسببها شعرا، ولم يقتل قملا فلا شيء ما عليه، وإن أزال بسببها شعرا: فعليه الفدية. وذكر ابن بشير قولا بسقوطها قال في التوضيح: وهو غريب، وإن قتل قملا، فإن كان كثيرا، فالفدية وإلا أطعم حفنة من طعام. والله سبحانه أعلم انتهى منه.
والقول الذي ذكره ابن بشير من المالكية واستغربه خليل في التوضيح بسقوط الفدية مطلقا. ولو أزال بسبب الحجامة شعرا له وجه من النظر، ولا يخلو عندي من قوة والله تعالى أعلم. وإيضاح ذلك أن جميع الروايات المصرحة (بأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في رأسه) لم يرد في شيء منها أنه افتدى لإزالة ذلك الشعر من أجل الحجامة، ولو وجبت عليه في ذلك فدية، لبينها للناس، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
والاستدلال على وجوب الفدية في ذلك بعموم قوله تعالى: * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) *. لا ينهض كل النهوض، لأن الآية واردة في حلق جميع الرأس، لا في حلق بعضه، وقد قدمنا أن حلق بعضه: ليس فيه نص صريح.
ولذلك اختلف العلماء فيه، فذهب الشافعي: إلى أن الفدية تلزم بحلق ثلاث شعرات فصاعدا. وذهب أحمد في إحدى الروايتين إلى ذلك، وفي الأخرى: إلى لزومها
بأربع شعرات، وذهب أبو حنيفة: إلى لزومها بحلق الربع، وذهب مالك: إلى لزومها بحلق ما فيه ترفه، أو إماطة أذى، وهذا الاختلاف يدل على عدم النص الصريح في حلق بعض
99

الرأس، فلا تتعين دلالة الآية على لزوم الفدية، في من أزال شعرا قليلا، لأجل تمكن آلة الحجامة من موضع الوجع والله تعالى أعلم.
وممن قال بأن إزالة الشعر عن موضع الحجامة: لا فدية فيه: محمد وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة بل قالا: في ذلك صدقة، وقد قدمنا مرارا: أن الصدقة عندهم نصف صاع من بر أو صاع كامل من غيره كتمر وشعير.
والحاصل: أن أكثر أهل العلم منهم الأئمة الأربعة، على أنه إن حلق الشعر لأجل تمكن آلة الحجامة، لزمته الفدية على التفصيل المتقدم في قدر ما تلزم به الفدية، من حلق الشعر كما تقدم إيضاحه. وأن عدم لزومها عندنا له وجه من النظر قوي، وحكاه ابن بشير من المالكية. وأما إن لم يحلق بالحجامة شعرا، فقد قدمنا قريبا أقوال أهل العلم فيها، وتفصيلهم بين ما تدعو إليه الضرورة، وبين غيره. والعلم عند الله تعالى.
واستدل أهل العلم بأحاديث الحجامة المذكورة، على جواز الفصد، وربط الجرح، والدمل، وقلع الضرس، والختان: وقطع العضو، وغير ذلك من وجوه التداوي، إذا لم يكن في ذلك محظور: كالطيب، وقطع الشعر.
وأما الحك فإن كان في موضع لا شعر فيه فلا ينبغي أن يختلف في جوازه، وإن كان في موضع فيه شعر كالرأس، وكان برفق بحيث لا يحصل به نتف بعض الشعر فكذلك، وإن كان بقوة بحيث يحصل به نتف بعض الشعر، فالظاهر أنه لا يجوز.
وهذا هو الصواب إن شاء الله في مسألة الحك. ولم أعلم في ذلك بشيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما فيه بعض الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، وقد قدمنا قول البخاري، ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسا.
وروى مالك في الموطأ عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه أنها قالت: سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسأل عن المحرم، أيحك جسده؟ قالت: نعم فليحككه، وليشدد، ولو ربطت يداي، ولم أجد إلا رجلي لحككت ا ه.
وأما نزع القراد والحلمة من بعيره، فقد أجازه عمر بن الخطاب. وكرهه ابن عمر ومالك. وقد روى مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن ربيعة بن أبي عبد الله بن الهدير: أنه رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرد بعيرا له في طين بالسقيا، وهو محرم. قال مالك: وأنا أكرهه. وروي أيضا في
100

الموطأ عن نافع: أن عبد الله بن عمر، كان يكره أن ينزع المحرم حلمة، أو قرادا عن بعيره. قال مالك: وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك. وقوله: يقرد بعيره: أي ينزع عنه القراد ويرميه.
وأما تضميد العين بالصبر ونحوه مما لا طيب فيه لضرورة الوجع فلا خلاف فيه، بين العلماء وأنه لا فدية فيه، كما أجمعوا على أنه إن دعته الضرورة إلى تضميد العين ونحوها بما فيه طيب. أن ذلك جائز له، وعليه الفدية.
ومن أدلتهم على جواز تضميد العين بالصبر ونحوه: ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب جميعا، عن ابن عيينة قال أبو بكر: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا أيوب بن موسى، عن نبيه بن وهب قال: خرجنا مع أبان بن عثمان، حتى إذا كنا بملل اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه، فلما كنا بالروحاء اشتد وجعه، فأرسل إلى أبان بن عثمان يسأله، فأرسل إليه: أن اضمدهما بالصبر، فإن عثمان رضي الله عنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل إذا اشتكى عينيه، وهو محرم ضمدهما بالصبر. وفي لفظ عن مسلم: أن عمر بن عبيد الله بن معمر رمدت عينه، فأراد أن يكحلها، فنهاه أبان بن عثمان، وأمره أن يضمدها بالصبر، وحدث عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه فعل ذلك. انتهى من صحيح مسلم.
وأما السواك في الإحرام، فلا خلاف في جوازه بين أهل العلم.
قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره: وربط جرحه ما نصه: قال التادلي في مناسك ابن الحاج: وأجمع أهل العلم على أن للمحرم أن يتسوك، وإن دمي فمه. انتهى.
وقال ابن عرفة الشيخ: روى محمد والعتبي: للمحرم أن يتسوك، ولو أدمى فاه انتهى، ثم قال: قلت: لا يلزم من منع القاضي الزينة منع السواك بالجوزاء ونحوه. انتهى والله أعلم. انتهى كلام الحطاب.
فصل فيما تتعدد فيه الفدية ونحوهاوما لا يتعدد فيه ذلك وأقوال العلماء فيه
اعلم أولا أن هذا الفصل يدخل في مسألة كبيرة، يذكرها علماء الأصول في مبحث الأمر وهي: هل الأمر يقتضي التكرار أو لا؟ وهي ذات واسطة وطرفين، طرف يتعدد فيه اللازم بلا خلاف، وطرف لا يتعدد فيه، بلا خلاف، وواسطة: هي محل الخلاف، وهذا البحث أعم مما نحن بصدده، ولكن إذا تكلمنا عليه على سبيل العموم، رحعنا إلى
101

مسألتنا، فذكرنا فيها كلام أهل الكلام، وأدلتهم، وناقشناها.
والمسألة المذكورة: هي إذا تعددت الأسباب، واتحد موجبها بصيغة اسم المفعول، هل يتعدد الموجب نظرا لتعدد أسبابه أو لا يتعدد نظرا لاتحاده في نفسه؟ وأشار إلى
هذه المسألة في الجملة الشيخ ميارة في التكميل بقوله: هل يتعدد الموجب نظرا لتعدد أسبابه أو لا يتعدد نظرا لاتحاده في نفسه؟ وأشار إلى هذه المسألة في الجملة الشيخ ميارة في التكميل بقوله:
* إن يتعدد سبب والموجب
* متحد كفى لهن موجب
*
* كناقض سهو ولوغ والفدا
* حكاية حد تيمم بدا
*
* وذا الكثير والتعدد ورد
* بخلف أو وفق بنص معتمد
*
فقوله: الموجب في الموضعين بصيغة اسم المفعول. وقوله كناقض: يعني أن نواقض الوضوء، إن تعددت كمن بال مرات. أو بال ونام وقبل، فإنه يكفي لجميعها وضوء واحد. وكذلك الجنابة، إن تعددت أسبابها بوطء مرات، وإنزال بلذة، واحتلام، وانقطاع حيض، فإنه يكفي لجميع ذلك غسل واحد.
وقوله: سهو يعني: أن من سها في صلاته مرات متعددة، يكفيه لجميعها سجود سهو واحد.
وقوله: ولوغ: يعني: أنه إذا تعدد ولوغ الكلب في الإناء بأن ولغ فيه مرات متعددة أو ولغت فيه كلاب متعددة، فإنه يكفي لجميع ذلك غسله سبع مرات على نحو ما في الحديث، ولا يتعدد الغسل بتعدد الولوغ.
وقوله: والفدا: يعني أن من تكرر منه موجب الفدية، كمن لبس ثوبا مخيطا مطيبا تكفيه فدية واحدة.
قوله: حكاية: يعني: أن من سمع أذان جماعة من المؤذنين في وقت واحد، يكفيه حكاية أذان واحد، ولا تتعدد حكاية الأذان لتعدد المؤذنين.
وقوله: حد: يعني أن من زنى مرات متعددة قبل أن يقام عليه الحد يكفي حده حدا واحدا، ولا يتعدد الحد بتعدد الزنى مثلا. أما إذا أقيم عليه الحد، ثم زنى بعد إقامة الحد، فإنه يقام عليه الحد لزناه الواقع بعد إقامة الحد.
وقوله: تيمم: يعني: أن الجنب مثلا الذي حكمه التيمم، إذا أراد حمل المصحف وقراءة القرآن فيه يكفيه تيمم واحد، ولا يلزمه أن يتيمم لكل واحد منهما.
102

وقوله: وذا الكثير: يعني أن الكثير في فروع هذه المسألة، عدم تعدد الموجب الذي تعددت أسبابه.
وقوله: والتعدد ورد بخلف، أو وفق يعني: أن تعدد الموجب، لتعدد أسبابه وارد في الشرع، وتارة يكون مجمعا على تعدده، وتارة يكون مختلفا فيه فقوله: أن وفق يعني: بالوفق الاتفاق، ومراده به الإجماع. وقد نظم العلوي الشنقيطي في نشر البنود شرح مراقي السعود ما يتعدد بتعدد سببه إجماعا، وما يتعدد بخلاف في شرحه لقوله في المراقي: وقوله: والتعدد ورد بخلف، أو وفق يعني: أن تعدد الموجب، لتعدد أسبابه وارد في الشرع، وتارة يكون مجمعا على تعدده، وتارة يكون مختلفا فيه فقوله: أن وفق يعني: بالوفق الاتفاق، ومراده به الإجماع. وقد نظم العلوي الشنقيطي في نشر البنود شرح مراقي السعود ما يتعدد بتعدد سببه إجماعا، وما يتعدد بخلاف في شرحه لقوله في المراقي:
* أو التكرر إذا ما علقا
* بشرط أو بصفة تحققا
*
فقال رحمه الله: فقال رحمه الله:
* وما تعدد بوفق غره
* أودية ومهر غصب الحرة
*
* عقيقة ومهر من لم تعلم
* والثلث من بعد الخروج فاعلم
*
* والخلف في صاع المصراة وفي
* كفارة الظهار من نسا يفي
*
* وهدى من نذر نحر ولده
* غسل إنا الولغ يرى بعدده
*
* حكاية المؤذنين وسجود
* تلاوة وبعد تكفير يعود
*
* قذف جماعة وثلث قبل أن
* يخرج ثلثا قاله من قد فطن
*
* كفارة اليمين بالله علا
* لقصد تأسيس من الذي ائتلا
*
وحاصل كلامه في نظمه: أن الذي يتعدد إجماعا خمس مسائل:
الأولى: أن من ضرب بطن حامل، فأسقطت جنينين مثلا، يتعدد الواجب فيهما من غرة أو دية على ما مر تفصيله في سورة بني إسرائيل، وهذا مراده بقوله: وما تعدد بوفق غرة أو دية.
المسألة الثانية: أن من غصب حرة فزنى بها مرات متعددة، يتعدد عليه مهرها بتعدد الزنى بها.
والثالثة: أن من ولد له توأمان لزمته عقيقتان.
الرابعة: أن من وطئت مرات وهي غير عالمة كالنائمة، فإنه يتعدد لها المهر بتعدد الوطء.
الخامسة: أن من نذر ثلث ماله فأخرجه ثم نذر بعد ذلك ثلثه، فإنه يلزمه، ومراده
103

بهذا واضح من النظم، وقد يقال: إن بعض المذكورات، لا يخلو من خلاف.
أما ما ذكر تعدده على خلاف فيه، فهو عشر مسائل:
الأولى: صاع المصراة يعني صاع التمر الذي يرده مع المصراة إذا حلبها، هل يتعدد بتعدد الشياه المصراة، أو يكفي عن جميعها صاع واحد، والأظهر في هذه التعدد.
الثانية: إذا ظاهر من زوجاته الأربع، هل تتعدد كفارة الظهار بتعددهن، أو تكفي كفارة واحدة؟
والثالثة: إذا تكرر منه نذر ذبح ولده، بأن نذر أنه يذبح اثنين، أو ثلاثة من ولده، وقلنا: يلزمه الهدي، هل يتكرر بتكرر الأولاد المنذور ذبحهم، أو يكفي هدي واحد؟.
والرابعة: تعدد ولوغ الكلاب في الإناء، هل يتعدد الغسل سبعا بتعدد الولوغ، أو يكفي غسله سبعا مرة واحدة؟.
والخامسة: حكاية أذان المؤذنين.
والسادسة: سجود التلاوة، إذا كرر آية السجود مرارا في وقت واحد، هل يكفي سجود واحدا أو لا؟
والسابعة: إذا جامع في نهار رمضان، ثم كفر من حينه، ثم جامع مرة أخرى في نفس اليوم، هل تتعدد الكفارة أو لا؟
والثامنة: إذا قذف جماعة، هل يتعدد عليه حد القذف بتعددهم، أو يكفي حد واحد؟
والتاسعة: إذا نذر ثلث ماله، ثم نذر ثلثا آخر قبل أن يخرج الثلث الأول هل يلزمه النذر في الثلثين، أو يكفي واحد؟
والعاشرة: إذا حلف بالله مرات متعددة، وقصد بكل يمين التأسيس لا التأكيد، هل تتعدد الكفارة بتعدد الأيمان، أو تكفي كفارة واحدة، هذا هو حاصل مراده بالأبيات.
ولا شك أن المسائل المتفق على تعددها والمختلف فيها أكثر مما ذكر بكثير، فمن السائل المتفق على التعدد فيها، ولم يذكرها من صاد ظبيين مثلا، وهو محرم فإنه يتكرر عليه الجزاء إجماعا. وما روي عن أحمد من أنه يكفي جزاء واحد، لا يصح، كما قاله صاحب المغني، لأنه مخالف لصريح قوله تعالى * (فجزآء مثل ما قتل من النعم) * لأن الواحد لا يكون مثلا للاثنين.
104

والحاصل: أن هذه المسألة، إنما تعرف فروعها بالتتبع، فقد يكفي موجب واحد مع تعدد الأسباب إجماعا، كتعدد نواقض الوضوء، وأسباب الجنابة، وتعدد سبب الحد كالزنى، وقد يتعدد إجماعا كالمسائل المذكورة آنفا، وقد يختلف في تعدده، وعدم تعدده وهذا هو الغالب في فروع هذه المسألة، خلافا لما قاله الشيخ ميارة في التكميل.
فإذا علمت هذه المسألة في الجملة وعلمت أنها عند الأصوليين من المسائل المبنية على مسألة الأمر هل يقتضي التكرار أو لا يقتضيه؟ فهذه أقوال أهل العلم، وأدلتهم في المسألة التي نحن بصددها، وهي ما تعدد فيه الفدية ونحوها، بتعدد أسبابها، وما لا تتعدد فيه.
واعلم أولا: أن تعدد اللازم في الجماع بتعدد الجماع، وعدم تعدده قد قدمنا أقوال أهل العلم فيه، واستوفينا الكلام عليه.
أما مذهب مالك رحمه الله في هذه المسألة ففيه تفصيل. حاصله: أن الجماع لا يتعدد الهدي اللازم فيه بتعدده، سواء جامع بعد إخراج الهدي عن الجماع الأول أو قبله. وأما غير الجماع من محظورات الإحرام كلبس المخيط والتطيب، وحلق الرأس، وقلم الأظافر، ونحو ذلك، فتارة تكفي عنده في ذلك فدية واحدة، عن الجميع، وتارة تتعدد بتعدد أسبابها.
أمو موجبات عدم تعدد الفدية فهي في مذهب مالك ثلاثة.
الأولى: أن يكون فعل أسباب الفدية في وقت واحد أو بعضها بالقرب من بعض، فإن لبس وتطيب وحلق في وقت واحد، فعليه فدية واحدة، وكذلك إن فعل بعضها قريبا من بعض، والقول الذي خرجه اللخمي بالتعدد في ذلك ضعيف، لا يعول عليه.
الثانية: أن ينوي فعل جميعها، بأن ينوي اللبس والتطيب والحلق فتلزمه فدية واحدة، ولو كان بعضها بعد بعض غير قريب منه.
الثالثة: أن يكون فعل محظورات الإحرام ظانا أنها مباحة، كالذي يطوف على غير وضوء في عمرته، ثم يسعى، ويحل ويفعل محظورات متعددة، وكالذي يرفض إحرامه ظانا أن الإحرام يصح رفضه، فيفعل بعد رفضه محظورات متعددة، وكمن أفسد إحرامه بالوطء، ثم فعل موجبات الفدية ظانا أن الإحرام تسقط حرمته بالفساد، وجعل بعض المالكية من صور ظن الإباحة من ظن أن الإحرام لا يمنعه من محرماته أو لا يمنعه من
105

بعضها. وأما ما يوجب تعدد الفدية عند المالكية، فهو أن يفعل محظورات الإحرام مترتبة بعضها بعد بعض، غير قريب منه، فإنه تلزمه بكل محظور فدية، ولو كثر ذلك سواء كانت المحظورات من نوع واحد، كمن كرر التطيب، أو كرر اللبس، أو كرر الحلق في أوقات غير متقاربة، والظاهر أن القرب بحسب العرف، أو من أنواع كمن لبس مخيطا، ثم تطيب، ثم حلق، فإن الفدية تتعدد في جميع ذلك، إن لم يكن بعضه قريبا من بعض، أو في وقت واحد، فإن احتاج إلى لبس قميص، ثم احتاج بعد ذلك إلى لبس سراويل، ففدية واحدة عندهم، لأن محل السراويل كان يستره القميص قبل لبس السراويل. أما إن احتاج إلى السراويل أولا، ثم احتاج بعد ذلك إلى القميص، ففديتان، لأن القميص يستر من أعلى بدنه شيئا ما كان يستره السراويل.
هذا هو حاصل مذهب مالك في تعدد الفدية وعدمه في تعدد محظورات الإحرام.
وأما مذهب أبي حنيفة: فهو أنه إن تكرر منه موجب الفدية من نوع واحد في مجالس واحد، فعليه كفارة واحدة، وهي فدية الأذى إن كان ذلك لعذر، ودم إن كان لغير عذر، وإن فعل ذلك في مجالس متعددة تعددت الكفارة. وقال محمد: لا تتعدد إلا إذا كفر عن الأول قبل فعل الثاني، فلو لبس قميصا وقباء وسراويل وخفين يوما كاملا لزمه دم واحد أو فدية واحدة، لأنها من جنس واحد فصارت كجناية واحدة، وكذلك لو دام على لبس ذلك أياما، وكذا لو كان ينزعه بالليل، ويلبسه بالنهار، لا يجب عليه إلا دم واحد، إلا إذا نزعه على عدم الترك، ثم لبسه بعد ذلك، فإنه يجب عليه دم آخر، لأن اللبس الأول انفصل عن الثاني بالعزم على الترك، وكذا لو لبس قميصا للضرورة ولبس خفين من غير ضرورة فعليه دم وفدية، لأن السبب اختلف فلا يمكن التداخل، وكذلك لو طيب جميع أعضائه، فإن كان في مجلس واحد فعليه دم واحد، إن كان لغير عذر، وفدية واحدة، إن كان ذلك لعذر، وإن كان تطييب أعضائه في مجالس تعددت الفدية أو الدم بتعدد الأعضاء التي طيبها في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، سواء ذبح للأول أو لم يذبح. وقال محمد: إن ذبح للأول، فكذلك، وإن لم يذبح فعليه دم واحد، وإن اختلفت أسباب الفدية، كمن تطيب، ولبس مخيطا أو تطيب، وغطى رأسه يوما كاملا مثلا، تعددت الفدية، أو الدم سواء كان ذلك في مجلس واحد، أو في مجلسين. وقد قدمنا أنه لا خلاف في تعدد جزاء الصيد بتعدد الصيد. وما روي عن أحمد مما يخالف ذلك، لم يصح لمخالفته صريح القرآن العظيم.
106

هذا هو حاصل مذهب أبي حنيفة، في المسألة.
وأما مذهب أحمد في هذه المسألة فهو: أنه إن فعل محظورات متعددة من جنس واحد، كما لو حلق مرة بعد مرة، أو لبس مرة بعد مرة، أو تطيب مرة بعد مرة: فعليه فدية واحدة، ولا تتعدد الفدية بتعدد الأسباب، التي هي من نوع واحد، سواء كانت في مجلس واحد، أو مجالس متفرقة، ومحل هذا ما لم يكفر عن الفعل الأول، قبل الفعل الثاني. فلو تطيب مثلا، ثم افتدى ثم تطيب بعد الفدية لزمته فدية أخرى، لتطيبه بعد أن افتدى.
وعن أحمد: أنه إن كرر ذلك لأسباب مختلفة، مثل أن لبس للبرد، ثم لبس للحر، ثم لبس للمرض فكفارات، وإن كان لسبب واحد فكفارة واحدة وقد روى عنه الأثرم فيمن لبس قميصا وجبة وعمامة وغير ذلك لعلة واحد.
قلت له: فإن اعتل فلبس جبة، ثم برأ ثم اعتل فلبس جبة، قال: هذا الآن عليه كفارتان قاله في المغني، ثم قال: وعن الشافعي كقولنا، وعنه لا يتداخل. وقال مالك: تتداخل كفارة الوطء دون غيره، وقال أبو حنيفة: إن كرره في مجلس واحد فكفارة واحدة، وإن كان في مجلس فكفارات، لأن حكم المجلس الواحد حكم الفعل الواحد، بخلاف غيره، ولنا أنما يتداخل إذا كان بعضه عقب بعض، يجب أن يتداخل، وإن تفرق كالحدود وكفارة الأيمان، ولأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس: فدية واحدة، ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو دفعات، والقول بأنه لا يتداخل غير صحيح، فإنه إذا حلق رأسه لا يمكن إلا شيئا بعد شيء. انتهى من المغني.
وأما إن كانت المحظورات من أجناس مختلفة، كأن حلق، ولبس، وتطيب، ووطىء فعليه لكل واحد منها فدية، سواء فعل ذلك مجتمعا أو متفرقا. قال في المغني:
وهذا مذهب الشافعي.
وعن أحمد: أن في الطيب واللبس والحلق فدية واحدة، وإن فعل ذلك واحدا بعد واحد، فعليه لكل واحد دم، وهو قول إسحاق.
وقال عطاء وعمرو بن دينار: إذا حلق ثم احتاج إلى الطيب أو إلى قلنسوة أو إليهما، ففعل ذلك، فليس عليه إلا فدية.
وقال الحسن: إن لبس القميص، وتعمم، وتطيب فعل ذلك جميعا: فليس عليه إلا كفارة واحدة، ونحو ذلك عن مالك.
107

ولنا أنها محظورات مختلفة الأجناس، فلم تتداخل أجزاؤها كالحدود المختلفة، والأيمان المختلفة، وعكسه ما إذا كان من جنس واحد. ا ه من المغني.
وهذا هو حاصل مذهب أحمد في المسألة.
وأما مذهب الشافعي في هذه المسألة: فهو أن المحظورات تنقسم عند الشافعية إلى استهلاك، كالحلق، والقلم، والصيد وإلى استمتاع، وترفه كالطيب، واللباس، ومقدمات الجماع فإذا فعل محظورين، فله ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون أحدهما: استهلاكا والآخر: استمتاعا، فينظر إن لم يستند إلى سبب واحد، كالحلق، ولبس القميص تعددت الفدية كالحدود المختلفة، وإن استند إلى سبب واحد، كمن أصابت رأسه شجة، واحتاج إلى حلق جوانبها، وسترها بضماد، وفيه طيب، ففي تعدد الفدية وجهان، والصحيح منهما تعددها.
الحال الثاني: أن يكون استهلاكا وهو على ثلاثة أضرب:
الأول: أن يكون مما يقابل بمثله، وهو الصيد. فتتعدد الفدية بتعدده، بلا خلاف عندهم، سواء فدى عن الأول، أم لا، وسواء اتحد الزمان والمكان، أو اختلفا كضمان المتلفات.
الضرب الثاني: أن يكون أحدهما مما يقابل بمثله، دون الآخر كالصيد والحلق فتتعدد بلا خلاف. الضرب الثالث: أن لا يقابل واحد منهما بمثله، فينظر إن اختلف نوعهما كحلق وطيب أو لباس وحلق، تعددت الفدية، سواء فرق بينهما أو والى في مكان أو مكانين بفعلين أو بفعل واحد، وإن لبس ثوبا مطيبا فوجهان عندهم، الصحيح المنصوص منهما: أن عليه فدية واحدة، والثاني: عليه فديتان، وإن اتحد النوع، فإن كرر الحلق، وكان ذلك في وقت واحد: لزمته فدية واحدة، كمن يحلق رأسه شيئا بعد شيء في وقت واحد، ولو طال الزمان، وهو في أثناء الحلق، فهو كما لو حلف لا يأكل في اليوم إلا مرة واحد، فوضع الطعام، وجعل يأكل لقمة لقمة من بكرة إلى العصر، فإنه لا يحنث عندهم.
وأما إن كان الحلق في أمكنة متعددة أو في مكان واحد في أوقات متفرقة ففيه عندهم طريقان. أصحهما: تتعدد الفدية فتفرد كل مرة بحكمها، فإن كان حلق في كل مرة ثلاث شعرات فصاعدا، وجب لكل مرة فدية وإن كانت شعرة أو شعرتين، ففيها الأقوال السابقة
108

الأربعة: وهي أنه قيل في الشعرة والواحدة مد. وقيل: درهم. وقيل: ثلث دم. وقيل: دم كامل وحكم الشعرتين معروف من هذا كما تقدم إيضاحه.
الطريق الثاني: أن في المسألة قولين: بالتعدد، وعدمه، وعدم التعدد: هو القديم، والتعدد: هو الجديد. وإن حلق عندهم ثلاث شعرات في ثلاثة أمكنة أو ثلاثة أزمنة متفرقة ففي ذلك عندهم طريقان، أصحهما، أنه يفرد كل شعرة بحكمها، وفيها الأقوال الأربعة الماضية.
والطريق الثاني: هو تفريع ذلك على القول، بالتداخل وعدمه. فإن قلنا بالتداخل: لزمته فدية كاملة، لأنه كأنه قطع الشعرات الثلاث في وقت واحد، وإن قلنا: بعدمه، وهو الصحيح عندهم، فلكل شعرة حكمها كما تقدم في الطريق الصحيح عندهم. ولو أخذ ثلاث شعرات في وقت واحد من ثلاثة مواضع من بدنه. ففيه عندهم طريقان:
أصحهما: لزوم الفدية، كما لو أخذها من موضع واحد.
والطريق الثاني: فيه وجهان أحدهما: هذا الذي ذكرناه آنفا.
والثاني: أنه كما لو أزالها في أزمنة متفرقة، أو أمكنة متفرقة، فيجري على الخلاف في ذلك أو قد قدمنا أن حكم الأظفار عندهم كحكم الشعر.
الحال الثالث: أن يكون استمتاعا، فإن اتحد النوع بأن تطيب بأنواع من الطيب أو لبس أنواعا من الثياب كعمامة وقميص وسراويل، وخف أو استعمل نوعا واحدا مرات، فإن فعل ذلك متواليا من غير أن يتخلله تكفير عن الأول ففدية واحدة تكفي للجميع، وإن تخلله تكفير وجبت الفدية للثاني أيضا، وإن فعل ذلك في مكانين، أو زمانين متفرقين فإن تخللهما تكفير: وجبت الفدية للثاني، وإن لم يتخللهما تكفير فقولان الأصح عندهم منهما، وهو الجديد: تعدد الفدية، والقديم: تتداخل، ولا تتعدد وإن اختلف النوع، بأن لبس وتطيب في مجلس واحد، قبل أن يكفر عن الأول منهما أو فعلهما معا، ففيه ثلاثة أوجه مشهورة عندهم.
أصحها: تعدد الفدية لاختلاف نوع السبب.
الثاني: تجب فدية واحدة، لأنهما استمتاع، فيتداخلان، لاتحاد الجنس.
الثالث: التفصيل، فإن اتحد سببهما بأن أصابته شجة، واحتاج في مداواتها إلى طيب وسترها. لزمته فدية واحدة، وإن لم يتحد السبب: ففديتان، وهذا كله في غير
109

الجماع، وقد قدمنا حكم تعدد الجماع، وفيه للشافعية خمسة أقوال:
أصحها: تجب بالجماع الأول: بدنة، وبالثاني: شاة.
والثاني: تجب بكل جماع بدنة.
الثالث: تكفي بدنة واحدة عن الجميع.
الرابع: إن كفر عن الأول، قبل الجماع الثاني وجبت الكفارة للثاني: وهي شاة في الأصح، وبدنة في القول الآخر، وإن لم يكن كفر عن الأول كفته بدنة عنهما.
والخامس: إن طال الزمان بين الجماعين أو اختلف المجلس: وجبت كفارة أخرى للثاني، وفيها القولان. وإلا فكفارة واحدة، وإن وطئ مرة ثالثة ورابعة، أو أكثر ففيه الأقوال المذكورة، الأظهر: تجب للأول بدنة، ولكل جماع بعد ذلك شاة.
والثاني: تجب بكل جماع بدنة إلى آخر الأقوال المذكورة آنفا. هذا هو حاصل مذهب الشافعي في المسألة.
ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام الحج في الكلام على آية الحج هذه خوف الإطالة المملة.
تنبيهان
الأول: اعلم أن مسألة الإحصار والفوات وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة البقرة، ومسألة الصيد وجزائه في الإحرام، أو أحد الحرمين، وأشجار الحرمين، ونباتهما ونحو ذلك وصيد وج قد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة المائدة، وأحكام الهدي سيأتي تفصيلها إن شاء الله في الآيات الدالة عليها من سورة الحج هذه.
التنبيه الثاني: اعلم أن جميع ما ذكرنا في هذا الفصل من تعدد الفدية، وعدم تعددها، إذا تعددت أسبابها لا نص فيه من كتاب، ولا سنة فيما نعلم، واختلاف أهل العلم فيه كما ذكرنا من نوع الاختلاف في تحقيق المناط. والعلم عند الله تعالى. * *
قوله تعالى: * (ليشهدوا منافع لهم) *. اللام في قوله: ليشهدوا: هي لام التعليل: وهي متعلقة بقوله تعالى: * (وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) *: أي إن تؤذن فيهم يأتوك مشاة وركبانا، لأجل أن يشهدوا: أي يحضروا منافع لهم، والمراد بحضورهم المنافع: حصولها لهم.
110

وقوله: * (منافع) * جمع منفعة، ولم يبين هنا هذه المنافع ما هي. وقد جاء بيان بعضها في بعض الآيات القرآنية، وأن منها ما هو دنيوي، وما هو أخروي، أما الدنيوي فكأرباح التجارة، إذا خرج الحاج بمال تجارة معه، فإنه يحصل له الربح غالبا، وذلك نفع دنيوي.
وقد أطبق علماء التفسير على أن معنى قوله تعالى: * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) * أنه ليس على الحاج إثم ولا حرج، إذا ابتغى ربحا بتجارة في أيام الحج، إن كان ذلك لا يشغله عن شيء، من أداء مناسكه كما قدمنا إيضاحه.
فقوله تعالى: * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) * فيه بيان لبعض المنافع المذكورة في آية الحج هذه وهذا نفع دنيوي.
ومن المنافع الدنيوية ما يصيبونه من البدن والذبائح كما يأتي تفصيله إن شاء الله قريبا كقوله في البدن: * (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى) * على أحد التفسيرين.
وقوله: * (فكلوا منها) * في الموضعين، وكل ذلك نفع دنيوي، وفي ذلك بيان أيضا لبعض المنافع المذكورة في آية الحج هذه.
وقد بينت آية البقرة على ما فسرها به جماعة من الصحابة ومن بعدهم، واختاره أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره، ووجه اختياره له، بكثرة الأحاديث الدالة عليه: أن من المنافع المذكورة في آية الحج: غفران ذنوب الحاج، حتى لا يبقى عليه إثم إن كان متقيا ربه في حجه بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهي عنه.
وذلك أنه قال: إن معنى قوله تعالى: * (فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) * أن الحاج يرجع مغفورا له، ولا يبقى عليه إثم سواه تعجل في
111

يومين، أو تأخر إلى الثالث، ولكن غفران ذنوبه هذا مشروط بتقواه ربه في حجه، كما صرح به في قوله تعالى: * (لمن اتقى) *: أي وهذا الغفران للذنوب، وحط الآثام إنما هو لخصوص من اتقى.
ومعلوم أن هذه الآية الكريمة فيها أوجه من التفسير غير هذا.
وممن نقل عنهم ابن جرير أن معناها: أنه يغفر للحاج جميع ذنوبه، سواء تعجل في يومين، أو تأخر: علي وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وإبراهيم، وعامر، ومعاوية بن قرة.
ولما ذكر أقوال أهل العلم فيها قال وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: تأويل ذلك: فمن تعجل من أيام منى الثلاثة، فنفر في اليوم الثاني، فلا إثم عليه، يحط الله ذنوبه إن كان قد اتقى في حجه، فاجتنب فيه ما أمر الله باجتنابه، وفعل فيه ما أمر الله بفعله، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدوده، ومن تأخر إلى اليوم الثالث منهن، فلم ينفر إلى النفر الثاني، حتى نفر من غد النفر الأول، فلا إثم عليه، لتكفير الله ما سلف من آثامه، وإجرامه إن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده.
وإنما قلنا إن ذلك أولى تأويلاته: لتظاهر الأخبار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وأنه قال (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديث والذهب والفضة) وساق ابن جرير رحمه الله بأسانيده أحاديث دالة على ذلك ففي لفظ له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديث والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة) وفي لفظ له، عن عمر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تابعوا بين الحج والعمرة فإن المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير الخبث أو خبث الحديد) وفي لفظ له عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قضيت حجك فأنت مثل ما ولدتك أمك) وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكر جميعها الكتاب مما ينبئ عن أن من حج، فقضاه بحدوده على ما أمره الله، فهو خارج من ذنوبه كما قال جل ثناؤه * (فلا إثم عليه لمن اتقى) * الله في حجه فكان في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يوضح أن معنى قوله جل وعز * (فلا إثم عليه) * أنه خارج من ذنوبه، محطوطة عنه آثامه، مغفورة أجرامه إلى آخر كلامه الطويل في الموضوع.
وقد بين فيه أنه لا وجه لقول من قال: إن المعنى لا إثم عليه في تعجله ولا إثم عليه في تأخره، لأن التأخر إلى اليوم الثالث، لا يحتمل أن يكون فيه إثم، حتى يقال فيه
* (فلا إثم عليه) * وأن قول من قال: إن سبب النزول أن بعضهم كان يقول: التعجل لا يجوز، وبعضهم يقول: التأخر لا يجوز.
112

فمعنى الآية: النهي عن تخطئة المتأخر المتعجل كعكسه: أي لا يؤثمن أحدهما الآخر أن هذا القول خطأ، لمخالفته لقول جميع أهل التأويل.
والحاصل: أنه أعني الطبري بين كثيرا من الأدلة على أن معنى الآية: هو ما ذكر من أن الحاج يخرج مغفورا له، كيوم ولدته أمه، لا إثم عليه، سواء تعجل في يومين، أو تأخر، وقد يظهر للناظر أن ربط نفي الإثم في قوله: * (فلا إثم عليه) * بالتعجل والتأخر في الآية ربط الجزاء بشرطه يتبادر منه، أن نفي الإثم إنما هو في التعجل والتأخر، ولكن الأدلة التي أقامها أبو جعفر الطبري، على المعنى الذي اختار فيها فيه مقنع، وتشهد لها أحاديث كثيرة، وخير ما يفسر به القرآن بعد القرآن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فقوله في آية البقرة هذه * (فلا إثم عليه) * هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم (رجع كيوم ولدته أمه) وقوله: * (لمن اتقى) * هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق) لأن من لم يرفث، ولم يفسق، هو الذي اتقى.
ومن كلام ابن جرير الطويل الذي أشرنا إليه أنه قال: ما نصه: فإن قال قائل ما الجالب للام في قوله: * (لمن اتقى) * وما معناها؟
قيل: الجالب لها معنى قوله: * (فلا إثم عليه) *، لأن في قوله: * (فلا إثم عليه) * معنى: حططنا ذنوبه، وكفرنا آثامه، فكان في ذلك معنى: جعلنا تكفير الذنوب لمن اتقى الله في حجه، وترك ذكر جعلنا تكفير الذنوب اكتفاء بدلالة قوله: * (فلا إثم عليه) *، وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه كأنه إذا ذكر هذه الرخصة، فقد أخبر عن أمر فقال: * (لمن اتقى) * أي هذا لمن اتقى، وأنكر بعضهم ذلك من قوله: وقد زعم أن الصفة لا بد لها من شيء تتعلق به، لأنها لا تقوم بنفسها، ولكنها فيما زعم من صلة قول متروك.
فكان معنى الكلام عنده ما قلنا: من أن من تأخر لا إثم عليه لمن اتقى، وقام قوله: * (ومن تأخر فلا إثم عليه) * مقام القول. انتهى محل الغرض من كلام ابن جرير.
وعلى تفسير هذه الآية الكريمة بأن معنى * (فلا إثم عليه) * في الموضعين: أن الحاج يغفر جميع ذنوبه، فلا يبقى عليه إثم، فغفران جمع ذنوبه هذا الذي دل عليه هذا التفسير من أكبر المنافع المذكورة في قوله: * (ليشهدوا منافع لهم) * وعليه فقد بينت آية البقرة هذه بعض ما دلت عليه آية الحج، وقد أوضحت السنة هذا البيان بالأحاديث الصحيحة التي ذكرنا كحديث (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم
113

ولدته أمه) وحديث (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) ومن تلك المنافع التي لم يبينها القرآن حديث (إن الله يباهى بأهل عرفة أهل السماء) الحديث كما تقدم. ومن تلك المنافع التي لم يبينها القرآن تيسر اجتماع المسلمين من أقطار الدنيا في أوقات معينة، في أماكن معينة ليشعروا بالوحدة الإسلامية، ولتمكن استفادة بعضهم من بعض، فيما يهم الجميع من أمور الدنيا والدين، وبدون فريضة الحج، لا يمسكن أن يتسنى لهم ذلك، فهو تشريع عظيم من حكيم خبير، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) *.
قوله: ويذكروا منصوب بحذف النون، لأنه معطوف على المنصوب، بأن المضمرة بعد لام التعليل أعني قوله: * (ليشهدوا منافع لهم) *.
وإيضاح المعنى: وأذن في الناس بالحج يأتوك مشاة وركبانا، لأجل أن يشهدوا منافع لهم، ولأجل أن يتقربوا إليه بإراقة دماء ما رزقهم من بهيمة الأنعام، مع ذكرهم اسم الله عليها عند النحر والذبح، وظاهر القرآن يدل على أن هذا التقرب بالنحر في هذه الأيام المعلومات، إنما هو الهدايا لا الضحايا، لأن الضحايا لا يحتاج فيها إلى الأذان بالحج، حتى يأتي المضحون مشاة وركبانا، وإنما ذلك في الهدايا على ما يظهر، ومن هنا ذهب مالك، وأصحابه إلى أن الحاج بمنى لا تلزمه الأضحية ولا تسن له، وكل ما يذبح في ذلك المكان والزمان، فهو يجعله هديا لا أضحية.
وقوله: * (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم) * أي على نحر وذبح ما رزقهم * (من بهيمة الا نعام) * ليتقربوا إليه بدمائها، لأن ذلك تقوى منهم، فهو يصل إلى ربهم كما في قوله تعالى: * (لن ينال الله لحومها ولا دمآؤها ولاكن يناله التقوى منكم) * وقد بين في بعض المواضع أنه لا يجوز الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه منها كقوله: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) *. وقوله * (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) * وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل الحرم المكي منسكا تراق فيه الدماء تقربا إلى الله، ويذكر عليها عند تذكيتها اسم الله، ولم يبين في هذه الآية، هل وقع مثل هذا لكل أمة أولا، ولكنه بين في موضع آخر: أنه جعل مثل هذا لكل أمة من الأمم، وذلك في قوله تعالى: * (ولكل أمة جعلنا
114

منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) *.
وإذا علمت أن من حكم الأذان في الناس بالحج، ليأتوا مشاة، وركبانا تقربهم إلى ربهم بدماء الأنعام، ذاكرين عليها اسم الله عند تذكيتها، وأن الآية أقرب إلى إرادة الهدي من إرادة الأضحية، فدونك تفصيل أحكام الهدايا التي دعوا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم منها.
اعلم أولا: أن الهدي قسمان: هدي واجب، وهدي غير واجب بل تطوع به صاحبه تقربا لله تعالى، والأيام المعلومات التي ذكر الله عز وجل أنه يذبح فيها، ويذكر عليه اسم الله فيها، للعلماء فيها أقوال كثيرة. والتحقيق إن شاء الله تعالى: أن غير اثنين من تلك الأقوال الكثيرة باطل لا يعول عليه، وأن المعول عليه منها اثنان، لأن القرآن دل على أن الأيام المعلومات: هي أيام النحر، بدليل قوله: * (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) * وذكرهم الله عليها يعني: التسمية عند تذكيتها. فاتضح أنها أيام النحر، والقولان المعول عليهما دون سائر الأقوال الأخرى أحدهما: أنها يوم النحر: ويومان بعده، وعليه فلا يذبح الهدي، ولا
الأضحية في اليوم الأخير من أيام منى، الذي هو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة.
قال ابن قدامة في المغني: وهذا القول نص عليه أحمد وقال: وهو عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال مالك والثوري، ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: أيام النحر: يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده. وبه قال الحسن، وعطاء، والأوزاعي، والشافعي، وابن المنذر. انتهى محل الغرض منه.
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية: اختلفوا كم أيام النحر. فقال مالك: ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد بن حنبل. وروي ذلك عن أبي هريرة، وأنس بن مالك، من غير اختلاف عنهما.
وقال الشافعي: أربعة أيام، يوم النحر، وثلاثة بعده، وبه قال الأوزاعي، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم. وروى عنهم أيضا مثل قول مالك وأحمد. ا ه محل الغرض منه.
وقال أيضا: قال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على أن يوم النحر: يوم
115

أضحى. وأجمعوا على ألا أضحي بعد انسلاخ ذي الحجة، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان:
أحدهما: قول مالك والكوفيين.
والآخر: قول الشافعي، والشاميين، وهذان القولان مرويان عن الصحابة، فلا معنى للاشتغال بما خالفهما، لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة، ولا في قول الصحابة، وما خرج عن هذين فمتروك لهما ا ه.
وقال النووي في شرح المهذب: في وقت ذبح الهدي طريقان: أصحهما وبه قطع العراقيون وغيرهم: أنه يختص بيوم النحر وأيام التشريق، والثاني: فيه وجهان أصحهما: هذا، والثاني: لا يختص بزمان كدماء الجبران. فعلى الصحيح لو أخر الذبح، حتى مضت هذه الأيام، فإن كان الهدي واجبا: لزمه ذبحه، ويكون قضاء، وإن كان تطوعا فقد فات الهدي.
قال الشافعي والأصحاب: فإن ذبحه كان شاة لحم لا نسكا. ا ه محل الغرض منه.
وذكر النووي عن الرافعي: أنه في بعض المواضع من كتابه في باب صفة الحج، جزم بأنه لا يختص بيوم النحر، وأيام التشريق، وأنه ذكر المسألة على الصواب في باب الهدي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: القول بعدم الاختصاص بيوم النحر ويومين أو ثلاثة بعده ظاهر البطلان، لأن عدم الاختصاص يجعل زمن النحر مطلقا، ليس مقيدا بزمان، وهذا يرده صريح في قوله * (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) * فجعل ظرفه أياما معلومات يرد الإطلاق في الزمن ردا لا ينبغي أن يختلف فيه كما ترى.
وقال النووي أيضا في شرح المهذب: اتفق العلماء على أن الأيام المعدودات هي: أيام التشريق، وهي ثلاثة بعد يوم النحر ا ه.
ولا وجه للخلاف في ذلك، مع أنه يدل عليه قوله تعالى متصلا به: * (فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه) *، والمراد بذلك: أيام الرمي التي هي أيام التشريق كما ترى، ثم قال النووي: وأما الأيام المعلومات فمذهبنا: أنها العشر الأوائل من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر. انتهى محل الغرض منه. وعزا ابن كثير هذا القول لابن عباس قال: وعلقه عنه البخاري بصيغة الجزم، ونقله ابن كثير أيضا عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وقتادة،
116

وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، وعطاء الخراساني، وإبراهيم النخعي، قال: وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد بن حنبل، ثم شرع يذكر الأحاديث الدالة على فضل الأيام العشرة الأول من ذي الحجة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: تفسير الأيام المعلومات في آية الحج هذه: بأنها العشر الأول من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر، لا شك في عدم صحته، وإن قال به من أجلاء العلماء، وبعض أجلاء الصحابة من ذكرنا. والدليل الواضح على بطلانه أن الله بين أنها أيام النحر بقوله: * (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) * وهو ذكره بالتسمية عليها عند ذبحها تقربا إليه كما لا يخفى، والقول: بأنها العشرة المذكورة، يقتضي أن تكون العشرة كلها أيام نحر، وأنه لا نحر بعدها، وكلا الأمرين باطل كما ترى، لأن النحر في التسعة التي قبل يوم النحر لا يجوز والنحر في اليومين، بعده جائز. وكذلك الثالث عند من ذكرنا، فبطلان هذا القول واضح كما ترى. ثم قال النووي متصلا بكلامه الأول، وقال مالك: هي ثلاثة أيام: يوم النحر، ويومان بعده فالحادي عشر، والثاني عشر عنده من المعلومات، والمعدودات.
وقال أبو حنيفة المعلومات: ثلاثة أيام: يوم عرفة والنحر والحادي عشر. وقال علي رضي الله عنه: المعلومات أربعة: يوم عرفة والنحر ويومان بعده.
وفائدة الخلاف: أن عندنا يجوز ذبح الهدايا والضحايا في أيام التشريق كلها، وعند مالك، لا يجوز في اليوم الثالث. هذا كلام صاحب البيان انتهى من النووي. وقد سكت على كلام صاحب البيان: وهو باطل بطلانا واضحا، لأن القول بأن الأيام المعلومات هي العشرة الأول، لا يدل على جواز الذبح فيما بعد يوم النحر لأنه آخرها، وقد يدل على جواز الذبح قبل يوم النحر في جميع التسعة الأول، لأن القرآن دل على أن الأيام المعلومات، هي ظرف الذبح كما بينا مرارا فإن كانت هي العشرة كانت العشرة هي ظرف الذبح. فلا يجوز فيما قبلها ولا ما بعدها، ولكنه يجوز في جميعها، وبطلان هذا واضح كما ترى، ثم قال النووي متصلا بكلامه السابق.
وقال العبدري: فائدة وصفه بأنه معلوم جواز النحر فيه، وفائدة وصفه بأنه معدود انقطاع الرمي فيه. وقال: وبمذهبنا قال أحمد، وداود، وقال الإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره: قال أكثر المفسرين الأيام المعلومات: هي عشر ذي الحجة. قال: وإنما قيل
117

لها معلومات للحرص على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها.
قال: وقال مقاتل: المعلومات أيام التشريق. وقال محمد بن كعب: المعلومات والمعدودات واحد.
قلت: وكذا نقل القاضي أبو الطيب والعبدري، وخلائق إجماع العلماء على أن المعدودات: هي أيام التشريق. وأما ما نقله صاحب البيان عن ابن عباس فخلاف المشهور عنه.
فالصحيح المعروف عن ابن عباس: أن المعلومات: أيام العشر كلها كمذهبنا، وهو مما احتج به أصحابنا، كما سأذكره قريبا إن شاء الله. واحتج لأبي حنيفة، ومالك بأن الله تعالى قال: * (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) * وأراد بذكر اسم الله في الأيام المعلومات: تسمية الله تعالى على الذبح، فينبغي أن يكون ذكر اسم الله تعالى في جميع المعلومات، وعلى قول الشافعي: لا يكون ذلك إلا في يوم واحد منها، وهو يوم النحر. واحتج أصحابنا بما رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قال: الأيام المعلومات: أيام العشر، والمعدودات: أيام التشريق. رواه البيهقي بإسناد صحيح.
واستدلوا أيضا بما استدل به المزني في مختصره: وهو أن الاختلاف الأسماء، يدل على اختلاف المسميات، فلما خولف بين المعدودات والمعلومات في الاسم دل على اختلافهما، وعلى ما يقول المخالفون يتداخلان في بعض الأيام، والجواب عن الآية من وجهين:
أحدهما: جواب المزني: أنه لا يلزم من سياق الآية: وجود الذبح في الأيام المعلومات، بل يكفي وجوده في آخرها وهو يوم النحر.
قال المزني والأصحاب: ونظيره قوله تعالى: * (وجعل القمر فيهن نورا) * وليس هو نورا في جميعها، بل في بعضها.
الثاني: أن المراد بالذكر في الآية الذكر على الهدايا، ونحن نستحب لمن رأى هديا أو شيئا من بهيمة الأنعام في العشر أن يكبر، والله أعلم. انتهى كلام النووي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن مذهب الشافعية في الأيام المعلومات، خلاف الصواب، وإن قال به من قال من أجلاء العلماء،
118

وأن الأجوبة التي أجابوا بها عن الاعتراضات الواردة عليه، لا ينهض شيء منها لما قدمنا من أن الله بين في كتابه، أن الأيام المعلومات هي ظرف الذبح والنحر، فتفسيرها بأنها العشرة الأول، يلزمه جواز الذبح في جميعها، وعدم جوازه بعد غروب شمس اليوم العاشر، وهذا كله باطل كما ترى.
وزعم المزني رحمه الله: أن الآية كقوله * (وجعل القمر فيهن نورا) * ظاهر السقوط، لأن كون القمر كوكبا واحدا والسماوات سبعا طباقا قرينة دالة على أنه في واحدة منها دون الست الأخرى.
وأما قوله تعالى: * (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) * فظاهره المتبادر منه أن جميع الأيام المعلومات ظرف لذكر الله على الذبائح، وليس هنا قرينة تخصصه ببعضها دون بعض. فلا يجوز التخصيص ببعضها، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وليس موجودا هنا وتفسيرهم ذكر اسم الله عليها، بأن معناه: أن من رأى هديا أو شيئا من بهيمة الأنعام في العشر استحب له أن يكبر، وأن ذلك التكبير هو ذكر الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ظاهر السقوط كما ترى، لأنه مخالف لتفسير عامة المفسرين للآية الكريمة، والتحقيق في تفسيرها ما هو مشهور عند عامة أهل التفسير، وهو ذكر اسم الله عليها عند التذكية، كما دل عليه قوله بعده مقترنا به * (فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير) *. وقوله: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) *. وقوله: * (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) * وتداخل الأيام لا يمنع من مغايرتها، لأن الأعمين من وجه متغايران إجماعا مع تداخلهما في بعض الصور.
ومما يبطل القول بأن الأيام المعلومات هي العشرة المذكورة أن كونها العشرة المذكورة يستلزم عدم جواز الذبح بعد غروب شمس اليوم العاشر، وهو خلاف الواقع لجواز الذبح في الحادي عشر والثاني عشر، بل والثالث عشر عند الشافعية. والتحقيق إن شاء الله في هذه المسألة: أن الأيام المعدودات: هي أيام التشريق التي هي أيام رمي الجمرات. وحكى عليه غير واحد الإجماع، ويدل عليه قوله تعالى متصلا به * (فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه) *، وأن الأيام المعلومات: هي: أيام النحر، فيدخل فيها يوم النحر واليومان بعده، والخلاف في الثالث عشر، هل هو منها كما مر تفصيله، وقد رجع بعض أهل العلم أن الثالث عشر منها. ورجح بعضهم: أنه ليس منها.
119

وقد قال ابن قدامة في المغني في ترجيح القول بأنه ليس منها: ما نصه: ولنا (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل من النسك، فوق ثلاث) وغير جائز أن يكون الذبح مشروعا في وقت يحرم فيه الأكل، ثم نسخ تحريم الأكل، وبقي وقت الذبح بحاله، ولأن اليوم الرابع: لا يجب فيه الرمي، فلم يجز فيه الذبح كالذي بعده.
ومما رجح به بعضهم أن اليوم الرابع منها: أنه يؤدي فيه بعض المناسك: وهو الرمي، إذا لم يتعجل فهو كسابقيه من أيام التشريق، والعلم عند الله تعالى.
ومما يوضح أن الأيام المعلومات، هي: أيام النحر، سواء قلنا إنها ثلاثة، أو أربعة: أن الله نص على أنها هي التي يذكر فيها اسم الله: أي عند التذكية، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، كما قدمنا إيضاحه.
وإذا عرفت كلام أهل العلم في الأيام المعلومات، التي هي زمن الذبح.
فاعلم: أن العلماء اختلفوا في ليالها، هل يجوز فيها الذبح؟ فذهب مالك، وأصحابه: إلى أنه لا يجوز ذبح النسك ليلا، فإن ذبحه ليلا لم يجز، وتصير شاة لحم لا نسك، وهو رواية عن أحمد، وهي ظاهر كلام الخرقي. وذهب الشافعي، وأصحابه: إلى جواز الذبح ليلا قال النووي: وبه قال أبو حنيفة، وإسحاق، وأبو ثور
والجمهور وهو الأصح عن أحمد.
وحجة من قال لا يجوز الذبح ليلا: أن الله خصصه بلفظ الأيام في قوله * (فى أيام معلومات) * قالوا: وذكر اليوم يدل على أن الليل ليس كذلك.
وحجة من أجازه: أن الأيام تطلق لغة على ما يشمل الليالي، وتخصيصه بالأيام أحوط، لمطابقة لفظ القرآن والعلم عند الله تعالى.
وإذا علمت وقت نحر الهدي وأن الهدي نوعان: واجب، وغير واجب، وهو هدي التطوع، فهذه تفاصيل أحكام كل منهما.
أما الهدي الواجب فهو بالتقسيم الأول نوعان.
أحدهما: هدي واجب بالنذر، وسيأتي الكلام عليه، إن شاء الله في الكلام على قوله تعالى * (وليوفوا نذورهم) *. وهدي واجب بغير النذر، وهو أيضا ينقسم إلى قسمين:
120

أحدهما: الهدي المنصوص عليه.
والثاني: الهدي المسكوت عنه، ولكن العلماء قاسوه على الهدي المنصوص عليه.
أما المنصوص عليه فهو أربعة أقسام:
الأول: هدي التمتع، ويدخل فيه القران، لأن الصحابة رضي الله عنهم جاء عنهم التصريح، بأن اسم التمتع في الآية، صادق بالقران، كما قدمناه واضحا عن ابن عمر، وعمران بن حصين، وغيرهما، والصحابة هم أعلم الناس بلغة العرب وبدلالة القرآن.
وهدي التمتع المذكور منصوص في قوله تعالى: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى) *.
الثاني: دم الإحصار المنصوص عليه في قوله: * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) *.
الثالث: دم جزاء الصيد المنصوص عليه بقوله تعالى: * (ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) *.
الرابع: دم فدية الأذى المذكور في قوله: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) *، وهذه الدماء الأربعة اثنان منها على التخيير، وهما: دم الفدية في الأذى المذكور في قوله: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * كما قدمنا إيضاحه. والثاني: جزاء الصيد فهو على التخيير أيضا كما قدمنا إيضاحه مستوفى في الكلام على قوله: * (يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذالك صياما) *.
وقد أوضحنا الكلام على التخيير فيهما غاية الإيضاح بما أغنى عن إعادته هنا، وواحد من الدماء الأربعة المذكورة على الترتيب إجماعا، وهو دم التمتع الشامل للقران، لأن الله بين أنه على الترتيب بقوله: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى) * ثم قال مبينا الترتيب: * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) *.
والرابع: من الدماء المذكورة اختلف فيه فمن قال: له بدل عند العجز عنه قال: هو على الترتيب، ومن قال: لا بدل له فالأمر على قوله واضح، لأنه ليس هناك تعدد،
121

يقتضي الترتيب أو عدمه، وهذا القسم هو دم الإحصار وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة البقرة في الكلام على قوله: * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) *.
والحاصل: أن ثلاثة من الدماء الأربعة المذكورة، قد قدمنا الكلام على كل واحد منها، بغاية الإيضاح، والاستيفاء فدم الفدية قدمناه في مبحث آية الحج التي هي: * (وأذن فى الناس بالحج) *. في جملة مسائل الحج، التي ذكرنا في الكلام عليها.
ودم جزاء الصيد قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في المائدة في الكلام على قوله تعالى: * (هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذالك صياما) *.
ودم الإحصار قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في البقرة، في الكلام على قوله * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) *.
وأما هدي التمتع، فلم يتقدم لنا فيه إيضاح، وسنبينه الآن.
أما التمتع بالعمرة فمعلوم: أن كل من اعتمر في أشهر الحج، ثم حل من عمرته، ثم حج من عامه، ولم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أنه متمتع.
وقد بينا أن الصحابة بينوا أنه يشمل القران من حيث إن كلا منهما عمرة في أشهر الحج مع الحج، وإن كان بين حقيقتيهما اختلاف كما هو واضح.
اعلم أولا: أن العلماء اشترطوا لوجوب هدي التمتع شروطا.
منها: ما هو مجمع عليه.
ومنها: ما هو مختلف فيه.
الأول: أن يعتمر في أشهر الحج فإن اعتمر في غير أشهر الحج، لم يلزمه دم، لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج، فلم يلزمه دم كالمفرد، ولا يخفى سقوط قول طاوس: إنه متمتع، كما لا يخفى سقوط قول الحسن: إن من اعتمر بعد النحر فهو متمتع.
وقال ابن المنذر: لا نعلم أحدا قال بواحد من هذين القولين. قاله في المغني فإن أحرم بها في غير أشهر الحج، ولكنه أتى بأفعالها في أشهر الحج، ففي ذلك للعلماء قولان:
122

أحدهما: يجب عليه الدم نظرا إلى أفعال العمرة الواقعة في أشهر الحج.
والثاني: لا يجب عليه دم نظرا إلى وقوع الإحرام، قبل أشهر الحج، وهو نسك لا تتم العمرة بدونه، ولكليهما وجه من النظر، ولا نص فيهما، وممن قال بأنه لا دم عليه، وأنه غير متمتع: الإمام أحمد.
قال في المغني: ونقل معنى ذلك، عن جابر، وأبي عياض، وهو قول إسحاق، وأحد قولي الشافعي، وقال طاوس عمرته: في الشهر الذي يدخل فيه الحرم. وقال الحسن، والحكم، وابن شبرمة، والثوري، والشافعي في أحد قوليه: عمرته في الشهر الذي يطوف فيه. وقال عطاء: عمرته في الشهر الذي يحل فيه، وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: إن طاف للعمرة أربعة أشواط، قبل أشهر الحج فليس بمتمتع، وإن طاف الأربعة في أشهر الحج، فهو متمتع. لأن العمرة صحت في أشهر الحج، بدليل أنه لو وطئ أفسدها، فأشبه إذا أحرم بها في أشهر الحج. قاله في المغني والله تعالى أعلم.
الشرط الثاني: أن يحج في نفس تلك السنة، التي اعتمر في أشهر الحج منها. أما إذا كان حجه في سنة أخرى: فلا دم عليه.
قال صاحب المهذب: وذلك لما روى سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك، لم يهدوا، قال: ولأن الدم إنما يجب لترك الإحرام بالحج من الميقات وهذا لم يترك الإحرام بالحج من الميقات، فإنه إن أقام بمكة صارت مكة ميقاته، وإن رجع إلى بلده، وعاد فقد أحرم من الميقات. وقال النووي في الأثر المذكور: المروي عن ابن المسيب حسن رواه البيهقي بإسناد حسن، ولا يخفى سقوط قول الحسن: إنه متمتع وإن لم يحج من عامه.
الشرط الثالث: أن لا يعود إلى بلده، أو ما يماثله في المسافة. وقال بعضهم: يكفي في هذا الشرط، أن يرجع إلى ميقاته فيحرم بالحج منه، وبعضهم يكتفي بمسافة القصر بعد العمرة، ثم يحرم للحج من مسافة القصر.
والحاصل: أن الأئمة الأربعة متفقون على أن السفر بعد العمرة، والإحرام بالحج من منتهى ذلك السفر مسقط لدم التمتع، إلا أنهم مختلفون في قدر المسافة، فمنهم من يقول: لا بد أن يرجع بعد العمرة في أشهر الحج، إلى المحل الذي جاء منه، ثم ينشئ سفرا للحج ويحرم من الميقات. وبعضهم يقول: يكفيه أن يرجع إلى بلده أو يسافر مسافة
123

مساوية لمسافة بلده، وبعضهم يكفي عنده سفر مسافة القصر، وبعضهم يقول: يكفيه أن يرجع لإحرام الحج إلى ميقاته، وقد قدمنا أقوالهم مفصلة، ودليلهم في ذلك ما فهموه من قوله تعالى * (ذالك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام) * قالوا: لا فرق بين حاضري المسجد الحرام، وبين غيرهم، إلا أن غيرهم ترفهوا بإسقاط أحد السفرين الذي هو السفر للحج، بعد السفر للعمرة، وإن سافر للحج بعد العمرة زال السبب، فسقط الدم بزواله، وعضدوا ذلك بآثار رووها، عن عمر وابنه رضي الله عنهما، وقد قدمنا قولي العلماء في الشيء الذي ترجع إليه الإشارة في قوله: * (ذالك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام) * وناقشنا أدلتهما، وبينا أنه على القول الذي يراه البخاري رحمه الله، ومن وافقه: أن الإشارة راجعة إلى نفس التمتع وأن أهل مكة لا متعة لهم أصلا، فلا دليل في الآية على أقوال الأئمة التي ذكرنا، وعلى القول الآخر أن الإشارة راجعة إلى حكم التمتع وهو لزوم ما استيسر من الهدي، والصوم عند العجز عنه لا نفس التمتع فاستدلال الأئمة بها على الأقوال المذكورة له وجه من النظر كما ترى.
والحاصل: أن استدلالهم بها إنما يصح على أحد التفسيرين في مرجع الإشارة في الآية، وقد قدمنا الكلام على ذلك مستوفى.
والأحوط عندي: إراقة دم التمتع، ولو سافر لعدم صراحة دلالة الآية، في إسقاطه، وللاحتمال الآخر الذي تمسك به البخاري والحنفية كما تقدم إيضاحه. وممن قال بذلك الحسن واختاره ابن المنذر لعموم الآية قاله في المغني. والعلم عند الله تعالى.
الشرط الرابع: أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام، فأما إذا كان من حاضري المسجد الحرام فلا دم عليه لقوله تعالى: * (ذالك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام) *.
وأظهر الأقوال أهل العلم عندي في المراد بحاضري المسجد الحرام: أنهم أهل الحرم ومن بينه وبينه مسافة لا تقصر فيها الصلاة، لأن المسجد الحرام، قد يطلق كثيرا ويراد به الحرم كله، ومن على مسافة دون مسافة القصر، فهو كالحاضر، ولذا تسمى صلاته إن سافر من الحرم، إلى تلك المسافة صلاة حاضر، فلا يقصرها لا صلاة مسافر، حتى يشرع له قصرها فظهر دخوله في اسم حاضري المسجد الحرام، بناء على أن المراد به جميع الحرم، وهو الأظهر خلافا لمن خصه بمكة، ومن خصه بالحرم، ومن عممه في كل ما دون الميقات،
124

وقد علمت أن هذا الشرط إنما يتمشى على أحد القولين في الآية.
الشرط الخامس: ما قال به بعض أهل العلم: من أنه يشترط نية التمتع بالحج إلى العمرة عند الإحرام بالعمرة. قال: لأنه جمع بين عبادتين في وقت إحداهما، فافتقر إلى نية الجمع كالجمع بين الصلاتين، وعلى الاشتراط المذكور، فمحل نية التمتع هو وقت الإحرام بالعمرة. وقال بعضهم: له نية التمتع، ما لم يفرغ من أعمال العمرة كالخلاف في وقت نية الجمع بين الصلاتين فقال بعضهم: ينوي عند ابتداء الأولى منهما، وقال بعضهم: له نيته ما لم يفرغ من الصلاة الأولى، هكذا قاله بعض أهل العلم، وعليه فلو اعتمر في أشهر الحج، وهو لا ينوي الحج في تلك السنة، ثم بعد الفراغ من العمرة بدا له أن يحج في تلك السنة، فلا دم تمتع عليه، واشتراط النية المذكور عزاه صاحب الإنصاف للقاضي، وأكثر الحنابلة، وحكي عدم الاشتراط بقيل ثم قال: واختاره المصنف، والشارح، وقدمه في المحرر والفائق، والظاهر
سقوط هذا الشرط، وأنه متى حج بعد أن اعتمر في أشهر الحج من تلك السنة: فعليه الهدي، لظاهر عموم الآية الكريمة، فتخصيصه بالنية تخصيص القرآن، بلا دليل يجب الرجوع إليه: ويؤيده أنهم يقولون: إن سبب وجوب الدم: أنه ترفه بإسقاط سفر الحج، وتلك العلة موجودة في هذه الصورة، والعلم عند الله تعالى:
الشرط السادس: هو ما اشترطه بعض أهل العلم من كون الحج والعمرة المذكورين عن شخص واحد، كأن يعتمر بنفسه ويحج بنفسه، وكل ذلك عن نفسه لا عن غيره أو يحج شخص، ويعتمر عن شخص واحد. أما إذا حج عن شخص، واعتمر عن شخص آخر، أو اعتمر عن شخص، وحج عن نفسه، أو اعتمر عن نفسه، وحج عن شخص آخر، فهل يلزم دم التمتع نظرا إلى أن مؤدي النسكين شخص واحد أو لا يلزم، نظرا إلى أن الحج وقع عن شخص والعمرة وقعت عن شخص آخر فهو كما لو فعله شخصان فحج أحدهما، واعتمر الآخر، وإذن فلا تمتع على أحدهما، وكلاهما له وجه من النظر، ومذهب الشافعي الذي عليه جمهور الشافعية: هو عدم اشتراط هذا الشرط نظرا إلى اتحاد فاعل النسك، ومقابله المرجوح عدم وجوب الدم نظرا إلى أن الحج عن شخص، والعمرة عن آخر، ومذهب مالك في هذا قريب من مذهب الشافعي في وجود الخلاف. وترجيح عدم الاشتراط.
قال الشيخ المواق في شرح قول خليل في مختصره، في عده شروط وجوب دم التمتع، وفي شرط كونهما عن واحد تردد ما نصه: ذكر ابن شاس من الشروط التي يكون
125

بها متمتعا: أن يقع النسكان عن شخص واحد: ابن عرفة لا أعرف هذا، بل في كتاب محمد من اعتمر عن نفسه، ثم حج من عامه عن غيره فتمتع. وقال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل المذكور ما نصه: أشار بالتردد لتردد المتأخرين في النقل، فالذي نقله صاحب النوادر وابن يونس، واللخمي عدم اشتراط ذلك. وقال ابن الحاجب: الأشهر اشتراط كونهما عن واحد، وحكى ابن شاس في ذلك قولين قال في التوضيح: لم يعزهما ولم يعين المشهور منهما، ولم يحك صاحب النوادر وابن يونس، إلا ما وقع في الموازية أنه تمتع. انتهى. وقال في مناسكه بعد أن ذكر كلام ابن الحاجب خليل: ولم أر في ابن يونس وغيره، إلا القول بوجوب الدم. وقال ابن عرفة: وشرط ابن شاش كونهما عن واحد، ونقل ابن حاجب: لا أعرفه، بل في كتاب محمد من اعتمر عن نفسه، ثم حج من عامه عن غيره متمتع فما ذكره المصنف من التردد صحيح. لكن المعروف: عدم اشتراط ذلك وعادته أن يشير بالتردد لما ليس فيه ترجيح.
وقال ابن جماعة: الشافعي في منسكه الكبير: لا يشترط أن يقع النسكان عن واحد عند جمهور الشافعية، وهو قول الحنفية ورواية ابن المواز، عن مالك، وعلى ذلك جرى جماعة من أئمة المالكية منهم الباجي، والطرطوشي، ومن الشافعية من شرط ذلك. وقال ابن الحاجب: إنه الأشهر من مذهب مالك، وتبع ابن الحاجب في اشتراط ذلك صاحب الجواهر، وقوله: إنه الأشهر غير مسلم، فإن القرافي في الذخيرة ذكر ما سوى هذا الشرط، وقال: إن صاحب الجواهر زاد هذا الشرط، ولم يعزه لغيره. انتهى كلام الحطاب، والظاهر من النقول التي نقلها أن عدم اشتراط كون النسكين عن واحد: هو المعروف في مذهب مالك، وهو كذلك، ومذهب أحمد قريب من مذهب مالك والشافعي، ففيه خلاف أيضا، هل يشترط كون النسكين عن واحد أو لا يشترط؟ وعدم اشتراطه عليه الأكثر من الحنابلة، وعزاه في الإنصاف لبعض الأصحاب قال منهم المنصف، والمجد، قاله الزركشي، واقتصر عليه في الفروع وعزا مقابله لصاحب التلخيص، وقد قدمنا في كلام ابن جماعة الشافعي: أن عدم اشتراط كون النسكين، عن شخص واحد هو مذهب الحنفية أيضا، فظهر أن المشهور في المذاهب الأربعة عدم اشتراط هذا الشرط، وقول من اشترطه له وجه من النظر. والعلم عند الله تعالى.
الشرط السادس: أن يحل من العمرة قبل إحرامه بالحج، فإن أحرم قبل حله منها صار
126

قارنا، كما وقع لعائشة رضي الله عنها في حجة الوداع على التحقيق كما تقدم إيضاحه.
الشرط السابع: هو ما اشترطه بعض أهل العلم من كونه لا يعد متمتعا، حتى يحرم بالعمرة من الميقات، فإن أحرم بها من دون الميقات صار غير متمتع، لأنه كأنه من حاضري المسجد الحرام، ولا يخفى سقوط هذا الشرط.
قال صاحب الإنصاف: لما ذكر هذا الشرط ذكره أبو الفرج والحلواني وجزم به ابن عقيل في التذكرة، وقدمه في الفروع. وقال القاضي وابن عقيل: وجزم به في المستوعب والتلخيص والرعاية وغيرهم: إن بقي بينه، وبين مكة مسافة قصر، فأحرم منه لم يلزمه دم المتعة لأنه من حاضري المسجد الحرام، بل دم مجاوزة الميقات. واختار المصنف والشارح وغيرهما، أنه إذا أحرم بالعمرة من دون الميقات: يلزمه دمان دم المتعة، ودم الإحرام من دون الميقات، لأنه لم يقم ولم ينوها به، وليس بساكن وردوا ما قاله القاضي. انتهى منه وهذا الأخير هو الظاهر. والله تعالى أعلم.
وقال صاحب الإنصاف بعد كلامه: هذا متصلا به.
قال المصنف والشارح: ولو أحرم الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج ثم أقام بمكة واعتمر من التنعيم، فهو متمتع نص عليه، وفي نص على هذه الصورة تنبيه على إيجاب الدم في الصورة الأولى بطريق الأولى ا ه منه. ولا ينبغي أن يختلف في واحدة منهما لدخولهما صريحا في عموم آية التمتع، كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن من يعتد به من أهل العلم: أجمعوا على أن القارن يلزمه ما يلزم المتمتع من الهدي، والصوم عند العجز عن الهدي، وقد قدمنا الروايات الصحيحة الثابتة عن بعض أجلاء الصحابة، بأن القران داخل في اسم التمتع، وعلى هذا فهو داخل في عموم الآية، وكلا النسكين فيه تمتع لغة، لأن التمتع من المتاع أو المتعة، وهو الانتفاع أو النفع ومنه قوله: واعلم أن من يعتد به من أهل العلم: أجمعوا على أن القارن يلزمه ما يلزم المتمتع من الهدي، والصوم عند العجز عن الهدي، وقد قدمنا الروايات الصحيحة الثابتة عن بعض أجلاء الصحابة، بأن القران داخل في اسم التمتع، وعلى هذا فهو داخل في عموم الآية، وكلا النسكين فيه تمتع لغة، لأن التمتع من
المتاع أو المتعة، وهو الانتفاع أو النفع ومنه قوله:
* وقفت على قبر غريب بقفرة
* متاع قليل من حبيب مفارق
*
جعل استئناسه بقبره متاعا لانتفاعه بذلك الاستئناس، وكل من القارن والمتمتع، انتفع بإسقاط أحد السفرين وانتفع القارن عند الجمهور باندراج أعمال العمرة في الحج.
وقال جماعة من أهل العلم: إن القران لم يدخل في عموم الآية بحسب مدلول لفظها، وهو الأظهر، لأن الغاية في قوله * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * تدل على
127

ذلك، والذين قالوا هذا قالوا: هو ملحق به في حكمه لأنه في معناه. وعلى أن القارن يلزمه ما يلزم المتمتع عامة العلماء منهم: الأئمة الأربعة، إلا من شذ شذوذا لا عبرة به. فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * تدل على ذلك، والذين قالوا هذا قالوا: هو ملحق به في حكمه لأنه في معناه. وعلى أن القارن يلزمه ما يلزم المتمتع عامة العلماء منهم: الأئمة الأربعة، إلا من شذ شذوذا لا عبرة به.
* وليس كل خلاف جاء معتبرا
* إلا خلاف له وجه من النظر
*
قال في الإنصاف: وسأله يعني الإمام أحمد بن مشيش القارن يجب عليه الدم وجوبا؟ فقال: كيف يجب عليه وجوبا، وإنما شبهوه بالمتمتع قال في الفروع، فتتوجه منه رواية لا يلزمه دم. ا ه منه.
ولا يخفى أن مذهب أحمد مخالف لما زعموه رواية، وأن القارن كالمتمتع في الحكم. وقال ابن قدامة في المغني: ولا نعلم في وجوب الدم على القارن خلافا إلا ما حكي عن داود أنه لا دم عليه. وروي ذلك عن طاوس. وحكى ابن المنذر: أن ابن داود لما دخل مكة، سئل عن القارن هل يجب عليه دم؟ فقال: لا، فجر برجله، وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم. ا ه منه. وذكر النووي: أن العبدري حكى هذا القول، عن الحسن بن علي بن سريج. والتحقيق خلافه، وأنه يلزمه ما يلزم المتمتع.
ومن النصوص الدالة على ذلك. حديث عائشة المتفق عليه، وفيه (فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ فقيل: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه) متفق عليه.
قال المجد في المنتقى: وفيه دليل على الأكل من دم القران، لأن عائشة كانت قارنة. ا ه منه. وهو يدل على أن القارن عليه دم. والله أعلم.
ومن أصرح الأدلة في ذلك: ما رواه مسلم في صحيحه، عن جابر بلفظ (ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرة يوم النحر) ومعلوم أنها كانت قارنة، على التحقيق فتلك البقرة دم قران، وذلك دليل على لزومه، وما ذكره ابن قدامة في المغني، من أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من قرن بين حجه وعمرته فليهرق دما) لم أعرف له أصلا، والظاهر أنه لا يصح مرفوعا. والله تعالى أعلم.
وأكثر أهل العلم: على أن القارن إن كان أهله حاضري المسجد الحرام، أنه لا دم عليه، لأنه متمتع أو في حكم المتمتع، والله يقول * (ذالك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام) *.
وقال ابن قدامة في المغني، وهو قول جمهور العلماء: وقال ابن الماجشون: عليه دم، لأن الله تعالى أسقط الدم عن المتمتع، وهذا ليس متمتعا، وليس هذا بصحيح، فإننا
128

ذكرنا أنه متمتع، وإن لم يكن متمتعا، فهو مفرع عليه، ووجوب الدم على القارن، إنما كان بمعنى النص على التمتع، فلا يجوز أن يخالف الفرع أصله. انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: حاصل هذا الكلام: أن القارن كالمتمتع في أن كلا منهما إن كان من حاضري المسجد الحرام، لا دم عليه، وذكر صاحب المغني: أن ابن الماجشون خالف في ذلك، وقال: عليه دم، وله وجه قوي من النظر على قول الجمهور: أنه يكفيه طواف واحد وسعي واحد لحجه، وعمرته. فقد انتفع بإسقاط عمل أحد النسكين، ولزوم الدم في مقابل ذلك، له وجه من النظر كما ترى.
وقال النووي في شرح المهذب: قال أصحابنا: ولا يجب على حاضري المسجد الحرام دم القران، كما لا يجب على المتمتع، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى الحناطي والرافعي وجها: أنه يلزمه. انتهى محل الغرض منه. وهذا الوجه عند الشافعية هو قول ابن الماجشون من المالكية، كما ذكره صاحب المغني، ومذهب مالك، وأصحابه، كمذهب الشافعي وأحمد، في أن القارن إن كان من حاضري المسجد الحرام، لا دم عليه، وحاضروا المسجد عند مالك وأصحابه أهل مكة، وذي طوى.
قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره: وشرط دمهما عدم إقامته بمكة أو ذي طوى الخ ما نصه: وذو طوى هو ما بين الثنية التي يهبط منها إلى مقبرة مكة المسماة بالمعلاة، والثنية الأخرى التي إلى جهة الزاهر وتسمى عند أهل مكة بين الحجونين ا ه. محل الغرض منه.
وقد قدمنا أن مذهب أبي حنيفة، وأصحابه: أن أهل مكة ونحوهم ممن دون الميقات: لا تشرع لهم العمرة أصلا فلا تمتع لهم ولا قران، بناء على رجوع الإشارة في قوله * (ذالك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام) * لنفس التمتع كما تقدم إيضاحه، مع أنهم يقولون: إنهم إن تمتعوا أو قرنوا أساؤوا وانعقد إحرامهم، ولزمهم
دم الجبر، وهذا الدم عندهم دم جناية لا يأكل صاحبه منه، بخلاف دم التمتع والقران من غير حاضري المسجد الحرام، فهو عندهم دم نسك، يجوز لصاحبه الأكل منه، ونقل بعض الحنفية، عن ابن عمر وابن عباس، وابن الزبير: أن أهل مكة لا متعة لهم. وقد قدمنا أنه رأي البخاري.
واعلم: أنا قدمنا أن من شروط وجوب دم التمتع: ألا يرجع بعد العمرة إلى بلده أو مسافة مثله، أو يسافر مسافة القصر على ما بينا هناك من أقوال الأئمة في ذلك، وأردنا أن
129

نذكر هنا حكم القارن إذا أتى بأفعال العمرة، ثم رجع إلى بلده، ثم حج من عامه، أو سافر مسافة قصر، ثم أحرم بالحج من الميقات، هل يسقط عنه الدم بذلك كالتمتع أولا. ومذهب أبي حنيفة: أن الدم لا يسقط عنه برجوعه إلى بلده بعد إتيانه بأفعال العمرة، إن رجع، وحج لأنه لم يزل قارنا.
وقال صاحب الإنصاف في الكلام على القارن: لا يلزم الدم حاضري المسجد الحرام، كما قال المصنف: وقاله في الفروع وغيره، وقال: والقياس أنه لا يلزم من سافر سفر قصر أو إلى الميقات، إن قلنا به، كظاهر مذهب الشافعي، وكلامهم يقتضي لزومه، لأن اسم القران باق بعد السفر، بخلاف التمتع ا ه. منه.
وحاصل كلامه: أن ظاهر كلام الحنابلة: أن السفر بعد وصول مكة، لا يسقط دم القران، وأن مقتضى القياس أنه يسقطه إلحاقا له بالتمتع، وقال النووي في شرح المهذب: لو دخل القارن مكة قبل يوم عرفة، ثم عاد إلى الميقات، فالمذهب: أنه لا دم عليه في الإملاء، وقطع به كثيرون أو الأكثرون، وصححه الحناطي وآخرون. وقال إمام الحرمين: إن قلنا المتمتع إذا أحرم بالحج ثم عاد إليه لا يسقط عنه الدم فهنا أولى، وإلا فوجهان: والفرق أن اسم القران، ولا يزول بالعود، بخلاف التمتع، ولو أحرم بالعمرة من الميقات، ودخل مكة، ثم رجع إلى الميقات قبل طوافه فأحرم بالحج، فهو قارن.
قال الدارمي في آخر باب الفوات: إن قلنا إذا أحرم بهما جميعا، ثم رجع سقط الدم فهنا أولى، وإلا فوجهان. انتهى منه.
وظاهر كلام خليل في مختصره المالكي: أن السفر لا يسقط دم القران والحاصل: أنا بينا اختلاف أهل العلم في السفر بعد أفعال العمرة أو بعد دخول مكة، هل يسقط دم القران أو لا؟ وبينا قول صاحب الإنصاف: أن سقوطه بالسفر، هو مقتضى قياسه على التمتع.
وأقرب الأقوال عندي للصواب: أن دم القران لا يسقطه السفر، وقد بينا أن الأحوط عندنا: أن دم التمتع لا يسقطه السفر، لتصريح القران بوجوب الهدي على المتمتع، وعدم صراحة الآية في سقوطه بالسفر. وقد ذكرنا أن لزوم الدم للقارن الذي هو من حاضري المسجد الحرام له وجه من النظر، لأنه اكتفى عن النسكين بعمل أحدهما على قول الجمهور، كما تقدم.
130

وأظهر قولي أهل العلم عندنا: أن المكي إذا أراد الإحرام بالقران، أحرم به من مكة، لأنه يخرج في حجه إلى عرفة، فيجمع بين الحل والحرم، خلافا لمن قال: يلزم المكي القارن إنشاء إحرامه من أدنى الحل وكذلك الآفاقي، إذا كان في مكة، وأراد أن يحرم قارنا، فالأظهر أنه يحرم بالقران من مكة خلافا لمن قال: يحرم به من أدنى الحل لما بينا. والعلم عند الله تعالى.
وإذا عرفت الشروط التي بها يجب دم التمتع والقران، فاعلم أنا أردنا هنا أن نبين ما يجزئ فيه ووقت ذبحه، أما ما يجزئ فيه، فالتحقيق أنه ما تيسر من الهدي، وأقله شاة تجزىء ضحية، وأعلاه: بدنة وأوسطه: بقرة، والتحقيق: أن سبع بدنة أو بقرة يكفي، فلو اشترك سبعة من المتمتعين في بدنة أو بقرة وذبحوها أجزأت عنهم، للنصوص الصحيحة الدالة على ذلك، كحديث جابر الثابت في الصحيح قال (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة) وفي لفظ لمسلم (قال اشتركنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة) فقال رجل لجابر: أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن.
قال مسلم في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا مالك ح وحدثنا يحيى بن يحيى. واللفظ له قال: قرأت على مالك عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال (نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) وفي لفظ لمسلم عن جابر قال (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة) وفي لفظ له عنه أيضا قال (حجحنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة) وفي لفظ له عنه أيضا قال (اشتركنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة) فقال رجل لجابر: أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور؟ قال: ما هي إلا من البدن، وحضر جابر الحديبية قال (نحرنا يومئذ سبعين بدنة اشتركنا كل سبعة في بدنة) وفي لفظ له عنه، وهو يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال (فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية) وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث، وفي لفظ له عنه أيضا قال (كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذبح البقرة، عن سبعة نشترك فيها) ا ه. محل الغرض من صحيح مسلم.
وهذه الروايات الصحيحة تدل: على أن دم التمتع يكفي فيه الاشتراك بالسبع في بدنة، أو بقرة، ويدل على أن ذلك داخل فيما استيسر من الهدي. أما الشاة والبدنة كاملة
131

فإجزاء كل منهما لا إشكال فيه. وقال البخاري في صحيحه: حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا النضر، أخبرنا شعبة، حدثنا أبو جمرة قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما، عن المتعة؟ فأمرني بها، وسألته عن الهدي فقال: فيها جزور أو بقرة، أو شاة، أو شرك في دم. الحديث. فقوله: أو شرك في دم: يعني به ما بينته الروايات المذكورة الصحيحة. عن جابر: أن البدنة والبقرة كلتاهما تكفي عن سبعة من المتمتعين، وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث: وهذا موافق لما رواه مسلم عن جابر قال (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فأمرنا أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة) ثم قال وبهذا قال الشافعي والجمهور، سواء كان الهدي تطوعا أو واجبا، وسواء كانوا كلهم متقربين بذلك، أو كان بعضهم يريد التقرب، وبعضهم يريد اللحم. وعن أبي حنيفة: يشترط في الاشتراك أن
يكونوا كلهم متقربين بالهدي، وعن زفر مثله بزيادة: أن تكون أسبابهم واحدة، وعن داود وبعض المالكية: يجوز في هدي التطوع، دون الواجب، وعن مالك: لا يجوز مطلقا ا ه منه.
والتحقيق أن سبع البدنة وسبع البقرة كل واحد منهما يقوم مقام الشاة، ويدخل في عموم * (فما استيسر من الهدى) * والروايات الصحيحة التي ذكرنا حجة على كل من خالف ذلك كمالك، ومن وافقه وما احتج به إسماعيل القاضي لمالك، من أن الاشتراك في الهدي، لا يصح من أن حديث جابر، إنما كان بالحديبية، حيث كانوا محصرين. وأن حديث ابن عباس خالف فيه أبو جمرة عنه ثقات أصحابه، فرووا عنه أن ما استيسر من الهدي: شاة ثم ساق ذلك عنهم بأسانيد صحيحة مردودة. أما دعوى أن حديث جابر إنما كان بالحديبية، حيث كانوا محصرين، فهي مردودة، بما ثبت في الروايات الصحيحة في مسلم التي حجه، ولا شك أن المراد بحجه حجة الوداع، لأنه لم يحج بعد الهجرة حجة غيرها. وفي بعض الروايات الصحيحة، عند مسلم التي سقناها بألفاظها آنفا التصريح بوقوع الاشتراك في الحجة المذكورة، كما هو واضح من ألفاظ مسلم التي ذكرناها. وأما دعوى مخالفة أبي جمرة في ذكره الاشتراك المذكور ثقات أصحاب ابن عباس، فهي مردودة أيضا، بما ذكره ابن حجر في الفتح، حيث قال: وليس بين رواية أبي جمرة، ورواية غيره منافاة، لأنه زاد عليهم ذكر الاشتراك، ووافقهم على ذكر الشاة، وإنما أراد ابن عباس بالاقتصار على الشاة الرد على من زعم اختصاص الهدي بالإبل والبقر. وذلك واضح فيما سنذكره بعد هذا، إلى
132

أن قال: وبهذا تجتمع الأخبار، وهو أولى من الطعن في رواية من أجمع العلماء، على توثيقه، وهو أبو جمرة الضبعي. وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يرى التشريك، ثم رجع عن ذلك لما بلغته السنة، وذكر ابن حجر رجوع ابن عمر عن ذلك، عن أحمد بسنده من طريق الشعبي، عن ابن عمر.
وأظهر قولي أهل العلم عندي: أن البدنة لا تجزىء عن أكثر من سبعة، وذكر ابن حجر في الفتح، عن سعيد بن المسيب في إحدى الروايتين عنه: أنها تجزىء عن عشرة. قال: وبه قال إسحاق بن راهويه، وابن خزيمة من الشافعية. واحتج لذلك في صحيحه، وقواه واحتج له ابن خزيمة بحديث رافع بن خديج: (أنه صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير) الحديث. وهو في الصحيحين.
وأجمعوا على أن الشاة: لا يصح الاشتراك فيها وقوله: أو شاة هو قول جمهور العلماء. ورواه الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد صحيحة عنهم، ورويا بإسناد قوي عن القاسم بن محمد، عن عائشة، وابن عمر: أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي: إلا من الإبل والبقر، ووافقهما القاسم، وطائفة. قال إسماعيل القاضي في الأحكام له: أظن أنهم ذهبوا إلى ذلك لقوله تعالى: * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) * فذهبوا إلى تخصيص ما يقع عليه اسم البدن، قال: ويرد هذا قوله تعالى * (هديا بالغ الكعبة) * وأجمع المسلمون على أن في الظبي شاة، فوقع عليها اسم هدي.
قلت: قد احتج بذلك ابن عباس، فأخرج الطبري بإسناد صحيح إلى عبد الله بن عبيد بن عمير قال: قال ابن عباس: الهدي شاة. فقيل له في ذلك، فقال: أنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تقرون به ما في الظبي، قالوا: شاة، قال: فإن الله يقول * (هديا بالغ الكعبة) * ا ه من فتح الباري.
وقد قدمنا في سورة البقرة: أنه ثبت في الصحيحين، عن عائشة أنها قالت (أهدي صلى الله عليه وسلم مرة غنما) وهو نص صحيح عنها صريح في تسمية الغنم هديا كما ترى.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أنه هو الصواب في هدي التمتع، الذي نص الله في كتابه على أنه ما استيسر من الهدي: أنه شاة، أو بدنة، أو بقرة. ويكفي في ذلك سبع البدنة وسبع البقرة، عن المتمتع الواحد، وتكفي البدنة عن سبعة متمتعين لثبوت الروايات الصحيحة بذلك، ولم يقم من كتاب الله، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم: نص
133

صريح في محل النزاع يقاومها، ورواية جابر: أن البدنة تكفي في الهدي، عن سبعة أخص في محل النزاع من حديث رافع بن خديج (أنه صلى الله عليه وسلم جعل البعير في القسمة يعدل عشرا من الغنم) لأن هذا هو في القسمة، وحديث جابر في خصوص الهدي، والأخص في محل النزاع مقدم على الأعم، والعلم عند الله تعالى.
ومما يوضح ذلك ما ذكره ابن حجر في الفتح في شرح حديث رافع المذكور، وقد أورده البخاري في كتاب الذبائح، عن رافع بن خديج بلفظ قال (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فأصبنا إبلا وغنما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس فعجلوا فنصبوا القدور، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأمر بالقدور فأكفئت، ثم قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير فند منها بعير) الحديث.
ونص كلام ابن حجر في هذا الحديث، وهذا محمول على أن هذا كان قيمة الغنم إذ ذاك، فلعل الإبل كانت قليلة، أو نفيسة، والغنم كانت كثيرة، أو هزيلة بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه، ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحي، من أن البعير يجزئ عن سبع شياه، لأن ذلك هو الغالب في قيمة الشاة والبعير المعتدلين. وأما هذه القسمة، فكانت واقعة عين، فيحتمل أن يكون التعديل لما ذكر من نفاسه الإبل، دون الغنم.
وحديث جابر عند مسلم صريح في الحكم حيث قال فيه (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة منا في بدنة) والبدنة تطلق على الناقة، والبقرة.
وأما حديث ابن عباس (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة تسعة وفي البدنة عشرة) فحسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وعضده بحديث رافع بن خديج هذا. والذي يتحرر في هذا: أن الأصل أن البعير بسبع ما لم يعرض عارض من نفاسة، ونحوها، فيتغير الحكم بحسب ذلك، وبهذا تجتمع الأخبار الواردة في ذلك، ثم الذي يظهر من القسمة المذكورة، أنها وقعت فيما عدا ما طبخ وأريق من الإبل والغنم، التي كانوا غنموها، ويحتمل إن كانت الواقعة
تعددت أن تكون القصة التي ذكرها ابن عباس، أتلف فيها اللحم لكونه كان قطع للطبخ، والقصة التي في حديث رافع طبخت الشياه صحاحا مثلا، فلما أريق مرقها ضمت إلى الغنم لتقسم، ثم يطبخها من وقعت في سهمه، ولعل هذا هو النكتة في انحطاط قيمة الشياه، عن العادة والله أعلم. انتهى كلام ابن حجر.
134

وكون اللحم رد ليطبخه من وقع في سهمه مرة أخرى، غير ظاهر عندي والله أعلم.
وحديث رافع المذكور: أخرجه أيضا مسلم في كتاب: الصيد والذبائح، ولفظ المراد منه عن رافع قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة فأصبنا غنما وإبلا فعجل القوم فأغلوا بها القدور فأمر بها فكفئت، ثم عدل عشرا من الغنم بجزور).
والحاصل: أن أخص شيء في محل النزاع وأصرحه فيه، وأوضحه فيه حديث جابر، الذي ذكرنا روايته عند مسلم. أما حديث رافع، فهو في قسمة الغنيمة لا في الهدي. وأما حديث ابن عباس، فظاهره أنه في الضحايا، وعلى كل حال: فحديث جابر أصح منه، فالذي يظهر أن المتمتع يكفيه سبع بدنة، وأن النص الصريح الوارد بذلك ينبغي تقديمه، على أنه يكفيه عشر بدنة، وقد رأيت أدلة القولين. والعلم عند الله تعالى.
فإذا علمت أقوال أهل العلم في تعيين القدر المجزىء في هدي التمتع، والقران، وأن أظهر الأقوال: أن أقله شاة، أو سبع بدنة أو بقرة، وأن إجزاء البدنة الكاملة، لا نزاع فيه.
فاعلم: أن أهل العلم اختلفوا في وقت وجوبه، ووقت نحره، وهذه تفاصيل أقوالهم وأدلتها، وما يرجحه الدليل منها.
أما مذهب مالك فالتحقيق فيه: أن هدي التمتع والقران لا يجب وجوبا تاما إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة، لأن ذبحه في ذلك الوقت هو الذي فعله صلى الله عليه وسلم، وقال (لتأخذوا عني مناسككم) ولذا لو مات المتمتع يوم النحر، قبل رمي جمرة العقبة، لا يلزم إخراج هدي التمتع من تركته، لأنه لم يتم وجوبه، وهذا هو الصحيح المشهور في مذهب مالك، وقد كنت قلت في نظمي في فروع مالك، وفي الفرائض على مقتضى مذهبه في الكلام على ما يخرج من تركة الميت، قبل ميراث الورثة بعد أن ذكرت قضاء ديونه:، وقال (لتأخذوا عني مناسككم) ولذا لو مات المتمتع يوم النحر، قبل رمي جمرة العقبة، لا يلزم إخراج هدي التمتع من تركته، لأنه لم يتم وجوبه، وهذا هو الصحيح المشهور في مذهب مالك، وقد كنت قلت في نظمي في فروع مالك، وفي الفرائض على مقتضى مذهبه في الكلام على ما يخرج من تركة الميت، قبل ميراث الورثة بعد أن ذكرت قضاء ديونه:
* وأتبعن دينه بهدي
* تمتع إن مات بعد الرمي
*
واعلم: أن قول من قال من المالكية: إنه يجب بإحرام الحج، وأنه يجزئ قبله كما هو ظاهر قول خليل في مختصره المالكي الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى: ودم التمتع يجب بإحرام الحج، وأجزأ قبله، قد اغتر به بعض من لا تحقيق عنده بالمذهب المالكي، والتحقيق أن الوجوب عندهم برمي جمرة العقبة، وبه جزم ابن رشد وابن العربي، وصاحب
135

الطراز وابن عرفة، قال ابن عرفة: سمع ابن القاسم إن مات. يعني: المتمتع قبل رمي جمرة العقبة، فلا دم عليه.
ابن رشد: لأنه إنما يجب في الوقت، الذي يتعين فيه نحره، وهو بعد رمي جمرة العقبة، فإن مات قبله لم يجب عليه.
ابن عرفة: قلت: ظاهره لو مات يوم النحر قبل رميه: لم يجب، وهو خلاف نقل النوادر، عن كتاب محمد عن ابن القاسم، وعن سماع عيسى: من مات يوم النحر، ولم يرم فقد لزمه الدم، ثم قال ابن عرفة: فقول ابن الحاجب: يجب بإحرام الحج يوهم وجوبه على من مات قبل وقوفه، ولا أعلم في سقوطه خلافا.
ولعبد الحق، عن ابن الكاتب، عن بعض أصحابنا: من مات بعد وقوفه، فعليه الدم. ا ه من الحطاب.
فأصح الأقوال الثلاثة وهو المشهور: أنه لا يجب على من مات، إلا إذا كان موته بعد رمي جمرة العقبة، وفيه قول: بلزومه، إن مات يوم النحر قبل الرمي، وأضعفها أنه يلزمه، إن مات يعد الوقوف بعرفة. أما لو مات قبل الوقوف بعرفة، فلم يقل أحد بوجوب الدم عليه من عامة المالكية، وقول من قال منهم: إنه يجب بإحرام الحج لا يتفرع عليه من الأحكام شيء، إلا جواز إشعاره وتقليده، وعليه فلو أشعره، أو قلده قبل إحرام الحج، كان هدي تطوع، فلا يجزئ عن هدي التمتع، فلو قلده، وأشعره بعد إحرام الحج أجزأه، لأنه قلده بعد وجوبه: أي بعد انعقاد الوجوب في الجملة، وعن ابن القاسم: أنه لو قلده وأشعره قبل إحرام الحج، ثم أخر ذبحه إلى وقته: أنه يجزئه عن هدي التمتع، وعليه فالمراد يقول خليل: وأجزأ قبله أي أجزأ الهدي الذي تقدم تقليده، وإشعاره على إحرام الحج هذا هو المعروف عند عامة علماء المالكية. فمن ظن أن المجزىء هو نحره قبل إحرام الحج، أو بعده قبل وقت النحر. فقد غلط غلطا فاحشا.
قال الشيخ المواق في شرحه: قول خليل: وأجزأ قبله ما نصه: ابن عرفة: يجزئ تقليده، وإشعاره بعد إحرام حجه، ويجوز أيضا قبله على قول ابن القاسم. ا ه منه.
وقال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره: ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله ما نصه:
فإن قلت: إذا كان هدي التمتع إنما ينحر بمنى، إن وقف به بعرفة، أو بمكة بعد ذلك على ما سيأتي فما فائدة الوجوب هنا؟
136

قلت: يظهر في جواز تقليده، وإشعاره بعد الإحرام بالحج، وذلك أنه لو لم يجب الهدي حينئذ مع كونه يتعين بالتقليد، لكان تقليده إذ ذاك قبل وجوبه، فلا يجزئ إلا إذا
قلد بعد كمال الأركان.
وقال الشيخ الحطاب أيضا: والحاصل: أن دم التمتع والقران، يجوز تقليدهما قبل وجوبهما على قول ابن القاسم، ورواية عن مالك، وهو الذي مشى عليه المصنف. فإذا علم ذلك فلم يبق للحكم بوجوب دم التمتع بإحرام الحج فائدة تعم على القول، بأنه لا يجزئه ما قلده قبل الإحرام بالحج تظهر ثمرة الوجوب في ذلك، ويكون المعنى: أنه يجب بإحرام الحج، وجوبا غير متحتم، لأنه معرض للسقوط بالموت، والفوات، فإذا رمى جمرة العقبة تحتم الوجوب، فلا يسقط بالموت. كما نقول في كفارة الظهار، أنها تجب بالعود وجوبا، غير متحتم بمعنى أنها تسقط بموت الزوجة وطلاقها فإن وطئ تحتم الوجوب ولزمت الكفارة، ولو ماتت الزوجة، أو طلقها إلى أن قال: بل تقدم في كلام ابن عبد السلام في شرح المسألة الأولى: أن هدي التمتع إنما ينحر بمنى، إن وقف به بعرفة، أو بمكة بعد ذلك إلى آخره، وهو يدل: على أنه لا يجزئ نحره قبل ذلك. والله أعلم ونصوص أهل المذهب شاهدة لذلك.
قال القاضي عبد الوهاب في المعونة: ولا يجوز نحر هدي التمتع والقران، قبل يوم النحر، خلافا للشافعي لقوله تعالى * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) * وقد ثبت أن الحلق، لا يجوز قبل يوم النحر، فدل على أن الهدي، لم يبلغ محله إلا يوم النحر، وله نحو ذلك في شرح الرسالة. وقال في التلقين: الواجب لكل واحد من التمتع والقران هدي ينحره بمنى، ولا يجوز تقديمه قبل فجر يوم النحر، وله مثله في مختصر عيون المجالس، ثم قال الحطاب رحمه الله: فلا يجوز الهدي عند مالك، حتى يحل، وهو قول أبي حنيفة وجوزه الشافعي: من حين يحرم بالحج. واختلف قوله فيما بعد التحلل من العمرة قبل الإحرام بالحج.
ودليلنا أن الهدي متعلق بالتحلل، وهو المفهوم من قوله تعالى * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) * ا ه منه. وكلام علماء المالكية بنحو هذا كثير معروف.
والحاصل: أنه لا يجوز ذبح دم التمتع، والقران عند مالك، وعامة أصحابه قبل يوم النحر وفيه قول ضعيف، بجوازه بعد الوقوف بعرفة، وهو لا يعول عليه، وأن قولهم: أنه
137

يجب بإحرام الحج، لا فائدة فيه إلا جواز إشعار الهدي وتقليده بعد إحرام الحج، لا شيء آخر فما نقل عن عياض وغيره من المالكية، مما يدل على جواز نحره قبل يوم النحر كله غلط. إما من تصحيف الإشعار، والتقليد وجعل النحر بدل ذلك غلطا، وإما من الغلط في فهم المراد عند علماء المالكية، كما لا يخفى على من عنده علم بالمذهب المالكي، فاعرف هذا التحقيق، ولا تغتر بغيره.
ومذهب الإمام أحمد في وقت وجوبه فيه خلاف، فقيل: وقت وجوبه، هو وقت الإحرام بالحج. قال في المغني: وهو قول أبي حنيفة، والشافعي. لأن الله تعالى قال * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى) * وهذا قد فعل ذلك، ولأن ما جعل غاية فوجود أوله كاف كقوله تعالى * (ثم أتموا الصيام إلى اليل) * إلى أن قال: وعنه أنه يجب إذا وقف بعرفة. قال: وهو قول مالك، واختيار القاضي ووجه في المغني هذا القول، بأنه قبل الوقوف، لا يعلم أيتم حجه أو لا، لأنه قد يعرض له الفوات، فلا يكون متمتعا، فلا يجب عليه دم، وذكر عن عطاء وجوبه برمي جمرة العقبة.
وعن أبي الخطاب يجب إذا طلع فجر يوم النحر، ثم قال في المغني: فأما وقت إخراجه فيوم النحر، وبه قال مالك، وأبو حنيفة: لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز فيه ذبح الأضحية، فلا يجوز فيه ذبح هدي التمتع، ثم قال: وقال أبو طالب: سمعت أحمد قال في الرجل: يدخل مكة في شوال، ومعه هدي قال: ينحر بمكة، وإن قدم قبل العشر ينحره لا يضيع أو يموت أو يسرق. وكذلك قال عطاء: وإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدموا في العشر، فلم ينحروا، حتى نحروا بمنى، ومن جاء قبل ذلك نحره عن عمرته، وأقام على إحرامه، وكان قارنا ا ه محل الغرض منه. وسترى ما يرد هذا إن شاء الله تعالى.
وقال صاحب الإنصاف: يلزم دم التمتع، والقران بطلوع فجر يوم النحر على الصحيح من المذهب، وجزم به القاضي في الخلاف، ورد ما نقل عنه خلافه إليه وجزم به في البلغة، وقدمه في الهداية والمستوعب والخلاصة، والتلخيص، والفروع، والرعايتين، والحاويين، وعنه يلزم الدم إذا أحرم بالحج، وأطلقهما في المذهب، ومسبوك الذهب وعنه يلزم الدم بالوقوف وذكره المصنف والشارح اختيار القاضي.
138

قال الزركشي: ولعله في المجرد وأطلقها، والتي قبلها في الكافي، ولم يذكر غيرها، وكذا قال المغني والشرح، وقال ابن الزاغوني في الواضح: يجب دم القران بالإحرام. قال في الفروع: كذا قال، وعنه يلزم بإحرام العمرة لنية التمتع، إذ قال في الفروع: ويتوجه أن يبني عليها، ما إذا مات بعد سبب الوجوب، يخرج عنه من تركته.
وقال بعض الأصحاب: فائدة الروايات إذا تعذر الدم، وأراد الانتقال إلى الصوم، فمتى يثبت العذر فيه الروايات، ثم قال في الإنصاف: هذا الحكم المتقدم في لزوم الدم. وأما وقت ذبحه فجزم في الهداية، والمذهب ومسبوك الذهب والمستوعب، والخلاصة، والهادي، والتلخيص، والبلغة، والرعايتين والحاويين وغيرهم: أنه لا يجوز ذبحه قبل وجوبه.
قال في الفروع: وقال القاضي وأصحابه: لا يجوز قبل فجر يوم النحر، ثم ذكر صاحب الإنصاف، عن بعضهم ما يدل على جواز ذبحه قبل ذلك، وذكر رده، ورده الذي ذكر هو الصحيح.
ومن جملة ما رده به فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، لأنهم لم يذبحوا قبل يوم النحر قارنهم ومتمتعهم جميعا، ثم قال: وقد جزم في المحرر والنظم، والحاوي، والفائق وغيرهم: أن وقت دم المتعة والقران: وقت دم الأضحية على ما يأتي في بابه، ثم قال: واختار أبو الخطاب في الانتصار يجوز له نحره بإحرام
العمرة، وأنه أولى من الصوم، لأنه بدل، وحمل رواية ابن منصور بذبحه يوم النحر على وجوبه يوم النحر، ثم قال:
ونقل أبو طالب إن قدم قبل العشر ومعه هدي: ينحره لا يضيع، أو يموت، أو يسرق. قال في الفروع وهذا ضعيف.
قال في الكافي: وإن قدم قبل العشر نحره، وإن قدم به في العشر لم ينحره، حتى ينحره بمنى استدل بهذه الرواية، واقتصر عليه. انتهى محل الغرض من الإنصاف.
وقد رأيت في كلامه أن الروايات بتحديد وقت الوجوب يبني عليها لزوم الهدي في تركته، إن مات بعد الوجوب، وتحقق وقت العذر المبيح، للانتقال إلى الصوم، إن لم يجد الهدى، لا أن المراد بوقت الوجوب استلزام جواز الذبح، لأنهم يفردون وقت الذبح بكلام مستقل، عن وقت الوجوب.
139

وأن الصحيح المشهور من مذهبه: أنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر، واختيار أبي الخطاب: جواز ذبحه بإحرام المتعة.
ورواية أبي طالب: جواز ذبحه إن قدم به. قبل العشر كلاهما ضعيف لا يعول عليه، ولا يعضده دليل، والتعليل بخوف الموت والضياع، والسرقة منتقض بما إذا قدم به في العشر، لأن العشر يحتمل أن يموت فيها، أو يضيع، أو يسرق كما ترى والتحديد بنفس العشر، لا دليل عليه من نص ولا قياس، فبطلانه واضح لعدم اعتضاده بشيء غير احتمال الموت والضياع والسرقة، وذلك موجود في الهدي الذي قدم به العشر، مع أن الأصل في كليهما السلامة، والعلم عند الله تعالى.
ومذهب الشافعي في هذه المسألة: هو أن وقت وجوب دم التمتع، هو وقت الإحرام بالحج.
قال النووي في شرح المهذب: وبه قال أبو حنيفة، وداود، وقال عطاء: لا يجب حتى يقف بعرفات.
وقال مالك: لا يجب حتى يرمي جمرة العقبة، وأما وقت جواز ذبحه عند الشافعية ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز قبل الإحرام بالحج، قالوا: لأن الذبح قربة تتعلق بالبدن، فلا تجوز قبل وجوبها، كالصلاة والصوم.
والقول الثاني: يجوز بعد الفراغ من العمرة لأنه حق مالي يجب بسببين، فجاز تقديمه على أحدهما، كالزكاة بعد ملك النصاب وقبل الحول، أما جواز ذبحه بعد الإحرام بالحج، فلا خلاف فيه عند الشافعية، كما أن ذبحه قبل الإحرام بالعمرة، لا يجوز عندهم، بلا خلاف.
وقد قدمنا نقل النووي، عن أبي حنيفة: أن وقت وجوبه: هو وقت الإحرام بالحج، أما وقت نحره فهو عند أبي حنيفة، وأصحابه: يوم النحر فلا يجوز تقديمه عليه عند الحنفية، وإن قدمه لم يجزئه، وينبغي تحقيق الفرق بين وقت الوجوب، ووقت النحر، لأن وقت الوجوب إنما تظهر فائدته، فيما لو مات المحرم هل يخرج الهدي من تركته بعد موته، ويتعين به وقت ثبوت العذر المجيز للانتقال إلى الصوم، ولا يلزم من دخول وقت الوجوب، جواز الذبح.
140

ومن فوائد ذلك: أنه إن فاته الحج بعد وجوبه بالإحرام، عند من يقول بذلك، لا يتعين لزوم الدم. لأنه بفوات الحج انتفى عنه اسم المتمتع: فلا دم تمتع عليه، وإنما عليه دم الفوات. كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في وقت ذبح دم التمتع، والفران فدونك أدلتهم، ومناقشتها، وبيان الحق الذي يعضده الدليل منها.
اعلم: أن من قال بجوازه قبل يوم النحر: كالشافعية، وأبي الخطاب من الحنابلة، ورواية ضعيفة، عن أحمد: إن جاء به صاحبه قبل عشر ذي الحجة فقد احتجوا، واحتج لهم بأشياء. أما رواية أبي طالب عن أحمد: بجواز تقديم ذبحه، إن قدم به صاحبه، قبل العشر. فقد ذكرنا تضعيف صاحب الفروع لها، وبينا أنها لا مستند لها لأن مستندها مصلحة مرسلة مخالفة لسنة ثابتة.
وأما قول أبي الخطاب: إنه يجوز بإحرام العمرة، فلا مستند له من كتاب، ولا سنة ولا قياس. والظاهر: أنه يرى أن هدي التمتع له سببان، وهما العمرة والحج في تلك السنة، فإن أحرم بالعمرة انعقد السبب الأول في الجملة فجاز الإتيان بالمسبب، كوجوب قضاء الحائض أيام حيضها من رمضان، لأن انعقاد السبب الأول الذي هو وجود شهر رمضان كفى في وجوب الصوم، وإن لم تتوفر الأسباب الأخرى، ولم تنتف الموانع، لأن قضاء الصوم فرع عن وجوب سابق في الجملة، كما أوضحناه في غير هذا الموضع. ولا يخفى سقوط هذا، كما ترى. وأما الشافعية: فقد ذكروا لمذهبهم أدلة.
منها: أن هدي التمتع حق مالي، يجب بسببين: هما الحج، والعمرة.
فجاز تقديمه على أحدهما قياسا، على الزكاة بعد ملك النصاب، وقبل حلول الحلول.
ومنها: قوله تعالى * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى) * قالوا: قوله * (فما استيسر من الهدى) * أي عليه ما استيسر من الهدي، وبمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعا، فوجب حينئذ، لأنه معلق على التمتع: وقد وجد. قالوا: ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله كقوله تعالى * (ثم أتموا الصيام إلى اليل) * فالصيام ينتهي بأول جزء من الليل، فكذلك التمتع، يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام.
ومنها: أن شروط التمتع وجدت عند الإحرام بالحج، فوجد التمتع، وذبح الهدى معلق على التمتع، وإذا حصل المعلق عليه حصل المعلق.
141

ومنها: أن الصوم الذي هو بدل الهدي عند العجز عنه، يجوز تقديم يعضه على يوم النحر، وهو الأيام الثلاثة المذكورة في قوله * (فصيام ثلاثة أيام في الحج) * وتقديم البدل، يدل على تقديم المبدل منه.
ومنها: أنه دم جبران، فجاز بعد وجوبه قبل يوم النحر كدم فدية الطيب واللباس.
ومنها: ظواهر بعض الأحاديث التي قد يفهم منها الذبح قبل يوم النحر، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه في باب الاشتراك في الهدي.
وحدثني محمد بن حاتم حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرنا: أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأمرنا
إذا أحللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدية) وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث. انتهى بلفظه من صحيح مسلم. وقال النووي في شرحه لهذا الحديث: وفيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع، بعد التحلل من العمرة، وقبل الإحرام بالحج. وفي المسألة خلاف، وتفصيل إلى آخر كلام النووي.
ومن ذلك أيضا ما رواه الحاكم في المستدرك: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم، ثنا أحمد بن النضر بن عبد الوهاب، ثنا يحيى بن أيوب، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وعطاء، عن جابر بن عبد الله، قال: كثرت القالة من الناس، فخرجنا حجاما، حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل، أمرنا بالإحلال الحديث. وفيه: قال عطاء قال ابن عباس رضي الله عنهما (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت يدي ناقته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اصرخ أيها الناس، هل تدرون أي شهر هذا) إلى آخر الحديث، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وفيه ألفاظ من ألفاظ حديث جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، عن جابر أيضا، وفيه أيضا زيادة ألفاظ كثيرة ا ه. وأقره الحافظ الذهبي على تصحيح الحديث المذكور، وقوله في هذا الحديث (فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه فلما وقف بعرفة) إلخ. قد يتوهم منه، أن ذبح سعد لتيسه كان قبل الوقوف بعرفة.
142

هذا هو حاصل ما استدل به القائلون بجواز ذبح هدي التمتع قبل يوم النحر، وغيره مما زعموه أدلة تركناه لوضوح سقوطه، ولأنه لا يحتاج في سقوطه، إلى دليل.
وأما الجمهور القائلون: بأنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران قبل يوم النحر فاستدلوا بأدلة واضحة، وأحاديث كثيرة صحيحة صريحة، في أن أول وقت نحر الهدي: هو يوم النحر، وكان صلى الله عليه وسلم قارنا كما قدمنا، ما يدل على الجزم بذلك، سواء قلنا: إذا بدأ إحرامه، قارنا أو أدخل العمرة على الحج، وأن ذلك خاص به كما تقدم. وكانت أزواجه كلهن متمتعات كما هو ثابت في الأحاديث الصحيحة، إلا عائشة فإنها كانت قارنة على التحقيق كما قدمنا إيضاحه بالأدلة الصحيحة الصريحة، ولم ينحر عن نفسه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أزواجه، إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة، وكذلك كل من كان معه من المتمتعين، وهم أكثر أصحابه والقارنين الذين ساقوا الهدي، لم ينحر أحد منهم البتة، قبل يوم النحر، وعلى ذلك جرى عمل الخلفاء الراشدين، والمهاجرين، والأنصار، وعامة المسلمين فلم يثبت عن أحد من الصحابة، ولا من الخلفاء: أنه نحر هدي تمتعه، أو قرانه قبل يوم النحر البتة. فإن قيل: فعله صلى الله عليه وسلم لا يتعين به الوجوب، لإمكان أن يكون سنة لا فرضا، لأن الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصيا، فلا عموم له، ولذلك كانت أفعال هيئات صلاة الخوف كلها جائزة، ولم ينسخ الأخير منها الأول، وإذا فلا مانع من أن يكون هو ذبح يوم النحر، مع جواز الذبح قبله.
فالجواب من وجهين، الأول: هو ما تقرر في الأصول، من أن فعله صلى الله عليه وسلم، إذا كان بيانا لنص فهو محمول على الوجوب، إن كان الفعل المبين واجبا كما أطبق عليه الأصوليون. وقد قدمنا إيضاحه فقطعه السارق من الكوع مبينا به المراد من اليد في قوله * (فاقطعوا أيديهما) * يقتضي الوجوب، فلا يجوز لأحد القطع من غير الكوع، وأفعاله في جميع مناسك الحج مبينة للآيات الدالة على الحج، ومن ذلك الذبائح، وأوقاتها لأنها من جملة المناسك المذكورة في القرآن المبينة بالسنة. ولذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (لتأخذوا عني مناسككم) وإذا يجب الاقتداء به في فعله في نوعه وزمانه، ومكانه ما لم يكن هنالك قول منه أعم من الفعل كبيانه أن عرفة كلها موقف، وأن مزدلفة كلها موقف، وأن منى كلها منحر، ونحو ذلك، فلا يختص الحكم بنفس محل موقفه أو نحره.
قال صاحب جمع الجوامع عاطفا على ما تعرف به جهة فعله صلى الله عليه وسلم من وجوب أو
143

ندب ما نصه: ووقوعه بيانا إلخ. يعني: أن وقوع الفعل بيانا لنص مجمل إن كان مدلول النص واجبا، فالفعل المبين به ذلك النص واجب بلا خلاف، وإن كان مندوبا فمندوب. سواء كان الفعل المبين للنص، دل على كونه بيانا قرينة أو قول.
قال شارحه صاحب الضياء اللامع ما نصه: الثاني: أن يكون فعله بيانا لمجمل إما بقرينة حال مثل القطع من الكوع، فإنه بيان لقوله تعالى * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * وإما بقول مثل قوله (صلوا كما رأيتموني أصلي) فإن الصلاة فرضت على الجملة، ولم تبين صفاتها فبينها بفعله، وأخبر بقوله أن ذلك الفعل بيان، وكذا قوله (خذوا عني مناسككم) وحكم هذا القسم وجوب الاتباع. ا ه محل الغرض منه، وهو واضح فيما ذكرنا ولا أعلم فيه خلافا فجميع أفعال الحج، والصلاة التي بين بها صلى الله عليه وسلم آيات الصلاة والحج يجب حمل كل شيء منها، على الوجوب إلا ما أخرجه دليل خاص يجب الرجوع إليه. وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي: مسألة فعله صلى الله عليه وسلم، ما أوضح فيه أمر الجبلة، كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، أو تخصيصه، كالضحى، والوتر، والتهجد، والمشاورة، والتخيير، والوصال والزيادة على أربع فواضح، وما سواهما إن وضع أنه بيان بقول أو قرينة مثل: صلوا، وخذوا، وكالقطع من الكوع والغسل إلى المرافق، اعتبر اتفاقا انتهى محل الغرض منه. ومعنى قوله: اعتبر اتفاقا: أنه إن كان المبين باسم المفعول واجبا، فالفعل المبين باسم الفاعل واجب، لأن المبين بحسب المبين وقال شارحه العضد: فإن عرف أنه بيان لنص على جهته من الوجوب، والندب، والإباحة اعتبر على جهة المبين من كونه خاصا وعاما اتفاقا، ومعرفة كونه بيانا إما بقول، وإما بقرينة، فالقول نحو (خذوا عني مناسككم) (وصلوا كما رأيتموني أصلي) والقرينة مثل: أن يقع الفعل، بعد إجمال، كقطع يد السارق من الكوع، دون المرفق، والعضد بعد ما نزل قوله * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * والغسل إلى المرافق، بإدخال المرافق، أو إخراجها بعد ما نزلت * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) * ا ه محل الغرض منه، وهو واضح فيما ذكرنا من أن الفعل المبين لنص دال على واجب، يكون واجبا لأن البيان به بيان لواجب، كما هو واضح. وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) * ا ه محل الغرض منه، وهو واضح فيما ذكرنا من أن الفعل المبين لنص دال على واجب، يكون واجبا لأن البيان به بيان لواجب، كما هو واضح. وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله:
* من غير تخصيص وبالنص يرى
* وبالبيان وامتثال ظهرا
*
ومحل الشاهد منه قوله:
144

وبالبيان، فيكون حكمه حكم المبين ا ه منه، وهو واضح، والمبين بصيغة اسم المفعول في آيات الحج، وهدي التمتع واجب، لأن الحج واجب إجماعا، وهدي التمتع واجب إجماعا، فالفعل المبين لهما يكون واجبا على ما قررناه، وعليه عامة أهل الأصول، إلا ما أخرجه دليل خاص وبه تعلم أن ذبحه صلى الله عليه وسلم هديه يوم النحر، وهو قارن وذبحه عن أزواجه يوم النحر، وهن متمتعات، وعن عائشة وهي قارنة: فعل مبين لنص واجب، فهو واجب، ولا تجوز مخالفته في نوع الفعل، ولا في زمانه، ولا في مكانه إلا فيما أخرجه دليل خاص، كغير المكان الذي ذبح فيه من منى، لأنه بين أن منى كلها منحر، ولم يبين أن الزمن كله وقت نحر، ومما يؤيد ذلك ما اختاره بعض أهل الأصول، من أن فعله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن بيانا لمجمل، ولم يعلم هل فعله على سبيل الوجوب، أو على سبيل الندب أنه يحمل على الوجوب، لأنه أحوط وأبعد من لحوق الإثم، إذ على احتمال الندب، والإباحة لا يقتضي ترك الفعل إثما، وعلى احتمال الوجوب يقتضي الترك الإثم، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في مبحث أفعاله صلى الله عليه وسلم بقوله: بقوله:
* وكل ما الصفة فيه تجهل
* فللوجوب في الأصح يجعل
*
وقال في شرحه لمراقي السعود المسمى: نشر البنود: يعني أن ما كان من أفعاله صلى الله عليه وسلم مجهول الصفة: أي مجهول الحكم، فإنه يحمل على الوجوب إلى أن قال: وكونه للوجوب هو الأصح، وهو الذي ذهب إليه الإمام مالك، والأبهري وابن القصار وبعض الشافعية، وأكثر أصحابنا وبعض الحنفية، وبعض الحنابلة. ا ه محل الغرض منه.
وقال صاحب الضياء اللامع: وبهذا قال مالك في رواية أبي الفرج، وابن خويز مقداد وقال به الأبهري، وابن القصار، وأكثر أصحابنا، وبعض الشافعية، وبعض الحنفية، وبعض الحنابلة، وبعض المعتزلة. واستدل أهل هذا القول بأدلة.
منها قوله تعالى * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الا خر) * قالوا: معناه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فله فيه أسوة حسنة، ويستلزم أن من ليس له فيه أسوة حسنة، فهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وملزوم الحرام حرام ولازم الواجب واجب. وقالوا أيضا: وهو مبالغة في التهديد، على عدم الأسوة فتكون الأسوة واجبة، ولا شك أن من الأسوة اتباعه في أفعاله.
ومنها: قوله تعالى: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * قالوا: وما فعله فقد آتاناه، لأنه هو المشرع لنا بأقواله وأفعاله. وتقريره.
145

ومنها: قوله تعالى: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله) *. ومن اتباعه التأسي به في فعله، قالوا: وصيغة الأمر في قوله * (فاتبعونى) * للوجوب.
ومنها: أن الصحابة لما اختلفوا، في وجوب الغسل من الوطء، بدون إنزال سألوا عائشة، فأخبرتهم أنها هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فعلا ذلك، فاغتسلا فحملوا ذلك الفعل الذي هو الغسل، من الوطء، بدون إنزال على الوجوب.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه في الصلاة، خلعوا نعالهم، فلما سألهم: لم خلعوا نعالهم؟ قالوا: رأيناك خلعت نعليك، فخلعنا نعالنا، فحملوا مطلق فعله على الوجوب، فخلعوا لما خلع، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك قالوا: فلو كان الفعل الذي لم يعلم حكمه لا يدل على الوجوب، لبين لهم أنه لا يلزم من خلعه، أن يخلعوا، ولكنه أقرهم على خلع نعالهم، وأخبرهم أن جبريل أخبره: أن في باطنهما قذرا والقصة في ذلك ثابتة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عند أحمد، وأبي داود، والحاكم وغيرهم. وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: رواه أبو داود بإسناد صحيح، ورواه الحاكم في المستدرك. وقال: هو صحيح على شرط مسلم، وقال الشوكاني في نيل الأوطار في شرحه لحديث أبي سعيد المذكور في المنتقى بعد أن قال المجد في المنتقى: رواه أحمد وأبو داود ا ه الحديث: أخرجه أيضا الحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان واختلف في وصله وإرساله ورجح أبو حاتم في العلل الموصول، ورواه الحاكم من حديث أنس، وابن مسعود إلى آخر كلامه. ومعلوم أن المخالفين القائلين: بأن الفعل الذي لم يكن بيانا لمجمل، ولم يعلم حكمه من وجوب لا يحمل على الوجوب، بل على الندب، أو الإباحة إلى آخر أقوالهم ناقشوا الأدلة التي ذكرنا مناقشة معروفة في الأصول قالوا قوله * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه) * أي ما أمركم به بدليل قوله * (وما نهاكم عنه) * فهي في الأمر، والنهي لا في مطلق الفعل، ولا يخفى أن تخصيص: وما آتاكم، بالأمر تخصيص لا دليل عليه، وذكر النهي بعده لا يعينه وقالوا * (إن كنتم تحبون الله فاتبعونى) * إنما يكون الاتباع واجبا فيما علم أنه واجب، أما إذا كان فعله مندوبا فالاتباع فيه مندوب، ولا يتعين أن الفعل واجب، على الأمة بالاتباع إلا إذا علم أنه صلى الله عليه وسلم، فعله على سبيل الوجوب. أما لو كان فعله على سبيل الندب وفعلته الأمة على
146

سبيل الوجوب، فلم يتحقق الاتباع بذلك قالوا: وكذلك يقال في قوله تعالى * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) * فلا تتحقق الأسوة، إذا كان هو صلى الله عليه وسلم فعله، على سبيل الندب، وفعلته أمته على سبيل الوجوب، بل لا بد في الأسوة من علم جهة الفعل، الذي فيه التأسي قالوا: وخلعهم نعالهم لا دليل فيه، لأنه فعل
داخل في نفس الصلاة: وإنما أخذوه من قوله صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) لأن خلع النعال كأنه في ذلك الوقت من هيئة أفعال الصلاة، قالوا: وإنما أخذوا وجوب الغسل من الفعل، الذي أخبرتهم به عائشة، لأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الغسل من التقاء الختانين، أو لأنه فعل مبين لقوله * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * والفعل المبين لإحمال النص، لا خلاف فيه كما تقدم إيضاحه. قالوا: والاحتياط في مثل هذا: لا يلزم، لأن الاحتياط لا يلزم إلا فيما يثبت وجوبه أو كان وجوبه، هو الأصل كليلة الثلاثين من رمضان، إن حصل غيم يمنع رؤية الهلال عادة أما غير ذلك، فلا يلزم فيه الاحتياط، كما لو حصل الغيم المانع من رؤية هلال رمضان ليلة ثلاثين من شعبان: فلا يجوز صوم يوم الشك، ولا يحتاط فيه، لأنه لم يثبت له وجوب ولم يكن وجوبه هو الأصل إلى آخر أدلتهم ومناقشاتها. فلم نطل بجميعها الكلام، ولا شك: أن الأدلة التي ذكرها الفريق الأول كقوله * (فاتبعونى) * وقوله * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه) * وقوله * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) * وإن لم تكن مقنعة بنفسها في الموضوع، فلا تقل عن أن تكون عاضدة لما قدمنا من وجوب الفعل الواقع به البيان، وما سنذكره من غير ذلك وهو الوجه الثاني من وجهي الجواب اللذين ذكرنا: وهو أن ذلك الفعل الذي هو ذبح هدي التمتع، والقران يوم النحر، هو الذي مشى عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين. ودلت عليه الأحاديث ولن يصلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أولها، ومن أوضح الأدلة الثابتة في ذلك الأحاديث المتفق عليها التي لا مطعن فيها بوجه أنه صلى الله عليه وسلم، أمر أصحابه بفسخ حجهم في عمرة، وأن يحلوا منها الحل كله، ثم يحرموا بالحج، وتأسف على أنه لم يفعل مثل فعلهم وقال (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) وفي تلك النصوص الصحيحة: التصريح بأمرهم بفسخ الحج في العمرة ومعناه: أنه هو صلى الله عليه وسلم، يجوز له أن يفسخ الحج في العمرة، كما أمر أصحابه بذلك. وقد صرح في الأحاديث الصحيحة، بأن الذي منعه من ذلك. أنه ساق الهدي، فلو كان هدي التمتع يجوز ذبحه بعد
147

الإحلال من العمرة لجعل الحج عمرة، وأحل منها، ونحر الهدي بعد الإحلال منها. ولكن المانع الذي منعه من ذلك هو عدم جواز النحر في ذلك الوقت. والحلق الذي لا يصح الإحلال دونه، معلق على بلوغ الهدي محله كما قال * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذالك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب) * وقد بين صلى الله عليه وسلم بفعله الثابت عنه أن محله: منى يوم النحر. وقد قدمنا في سورة البقرة: أن القرآن دل في موضعين، على أن النحر قبل الحلق.
أحدهما: قوله تعالى * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) *.
والثاني: قوله تعالى * (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) * وقد قدمنا أنه التسمية عند نحرها تقربا لله، ثم قال بعد النحر الذي هو معنى الآية * (ثم ليقضوا تفثهم) * ومن قضاء تفثهم: الحلق، أو التقصير. وقد ثبت في الصحيح (أنه صلى الله عليه وسلم حلق قبل أن ينحر وأمر بذلك) كما قدمناه في سورة البقرة مستوفى، ولكنه صلى الله عليه وسلم بين أن من قدم الحلق، على النحر: لا شيء عليه. ولا خلاف أن كل الواقع من ذلك في حجته، أنه كان يوم النحر كما هو معروف. وقد دلت آية الحج على أن كل هدي له تعلق بالحج، ويدخل فيه التمتع دخولا أوليا أن وقت ذبحه مخصص بأيام معلومات، دون غيرها من الأيام، وذلك في قوله تعالى * (وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) * لأن معنى الآية الكريمة: أذن فيهم بالحج، يأتوك مشاة، وركبانا لأجل أن يشهدوا منافع لهم، ولأجل أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام: أي ولأجل أن يتقربوا بدماء الأنعام في خصوص تلك الأيام المعلومات وهو واضح كما ترى. وقد قدمنا أن هذه الأنعام التي يتقرب بها في هذه الأيام المعلومات، ويسمى عليها الله عند تذكيتها، أنها أظهر في الهدايا من الضحايا، لأن الضحايا لا تحتاج أن يؤذن فيها للمضحين، ليأتوا رجالا وركبانا، ويذبحوا ضحاياهم كما ترى، والأحاديث الصحيحة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا ونحر هديه يوم النحر، وأنه ما منعه من فسح الحج في العمرة إلا سوق الهدي، وأن الهدي لو كان يجوز ذبحه بعد الإحلال من العمرة، لأحل بعمرة، وذبح هدي التمتع عند الإحلال منها، أو عند الإحرام بالحج كما يقول من ذكرنا: أنه جائز، وقد قدمنا كثيرا منها موضحا بأسانيده، وسنعيد طرفا منه هنا إن شاء الله تعالى.
148

فمن ذلك حديث حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم المتفق عليه قال البخاري في صحيحه: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك، وحدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع عن ابن عمر عن حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت (يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا بعمرة، ولم تتحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحره) ا ه من صحيح البخاري، وقوله: حتى أنحر يعني يوم النحر، فلو جاز نحر هدي التمتع قبل ذلك، لأحل بعمرة، ونحر.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن حفصة رضي الله عنهم، زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت (يا رسول الله ما شأن الناس حلوا، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) وفي لفظ له عنها قالت قال (إني قلدت هديي فلا أحل حتى أحل من الحج) وفي لفظ له عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، قالت حفصة: قلت ما يمنعك أن تحل؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر هديي) ا ه.
ففي هذه الروايات الصحيحة ما يدل على أن الهدي الذي معه مانع من الحل، ولو كان النحر قبل يوم النحر جائزا لتحلل بعمرة ثم نحر، وفيه أن أزواجه صلى الله عليه
وسلم متمتعات، وقد نحر عنهن البقر يوم النحر.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمان قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة، لا نرى إلا الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل. قالت: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه) قال يحيى: فذكرته للقاسم بن محمد فقال: أتتك بالحديث على وجهه، انتهى من صحيح البخاري.
وقال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير عن جابر قال (ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عائشة بقرة يوم النحر) وفي لفظ لمسلم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال (نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه) وفي حديث أبي بكر عن عائشة بقرة في
149

حجته. انتهى من صحيح مسلم، وقد تركنا ذكر اختلاف الروايات، هل ذبح عن جميعهن بقرة واحدة، أو عن كل واحدة بقرة، كما جاء التصريح به في حديث مسلم، هذا بالنسبة إلى عائشة، وعلى كل حال فهذه الروايات الصحيحة، وأمثالها الكثيرة التي قدمنا كثيرا منها: تدل على أنه صلى الله عليه وسلم نحر عمن تمتع من أزواجه، ومن قرن في خصوص يوم النحر، وأنه هو صلى الله عليه وسلم كذلك فعل عن نفسه، وكان قارنا مع أنه كان يتمنى أن يعتمر، ويحل منها، ثم يحرم بالحج، كما أمر أصحابه بفعل ذلك، وصرح في الروايات الصحيحة: بأن المانع له من ذلك سوق الهدي، فلو كان الهدي يجوز نحره قبل يوم النحر لتحلل ونحر كما أوضحناه، وفعله هذا كالتفسير لقوله تعالى * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) * فبين بفعله: أن بلوغه محله يوم النحر بمنى، بعد رمي جمرة العقبة، فمن أجاز ذبح هدي التمتع قبل ذلك، فقد خالف فعله صلى الله عليه وسلم المبين لإجمال القرآن، وخالف ما كان عليه أصحابه من بعده وجرى عليه عمل عامة المسلمين، ولا يثبت بنص صحيح عن صحابي واحد أنه نحر هدي تمتع أو قران قبل يوم النحر، فلا يجوز العدول عن هذا الذي فعله صلى الله عليه وسلم مبينا به إجمال الآيات القرآنية، وأكده بقوله (لتأخذوا عني مناسككم) كما ترى.
فإذا عرفت مما ذكرنا: أن الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة، وفعل الخلفاء الراشدين، وغيرهم من كافة علماء المسلمين: هو أنه لا يجوز نحر هدي التمتع والقران، قبل يوم النحر. فدونك الأجوبة التي أجيب بها عن أدلة المخالفين القائلين: بجواز ذبحه عند إحرام الحج، أو عند الإحلال من العمرة.
أما استدلالهم بأن هدي التمتع له سببان، فجاز بأحدهما قياسا على الزكاة، بعد ملك النصاب، وقبل حلول الحول، فهو مردود بكونه فاسد الاعتبار، وفساد الاعتبار من القوادح المجمع على القدح بها، وهو بالنسبة إلى القياس أن يكون القياس مخالفا لنص من كتاب، أو سنة، أو إجماع، وهذا القياس مخالف للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم التي هي النحر يوم النحر، كما قدمنا إيضاحه، وعرف في مراقي السعود فساد الاعتبار بقوله في مبحث القوادح. التي هي النحر يوم النحر، كما قدمنا إيضاحه، وعرف في مراقي السعود فساد الاعتبار بقوله في مبحث القوادح.
* والخلف للنص أو إجماع دعا
* فساد الاعتبار كل من وعى
*
واستدلالهم بأن شروط التمتع وجدت عند الإحرام بالحج، فوجد التمتع بوجود شروطه، وذبح الهدي معلق على وجود التمتع في الآية. وإذا حصل المعلق عليه، حصل المعلق مردود من وجهين:
150

الأول: أن وجود التمتع لم يحقق بإحرام الحج، لاحتمال أن يفوته الحج بسبب عائق عن الوقوف بعرفة وقته، لأنه لو فاته الحج، لم يوجد منه التمتع، فدل ذلك على أن الإحرام بالحج لا يتحقق به وجود حقيقة التمتع التي علق على وجودها ما استيسر من الهدي.
الثاني: أن الهدي الواجب بالتمتع له محل معين، لا بد من بلوغه في زمن معين، كما دل عليه قوله تعالى: * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) *. وقد بين صلى الله عليه وسلم بفعله الثابت ثبوتا لا مطعن فيه. وقوله: (إني لبدت رأسي وقلدت هديي) الحديث المتقدم: أن محله هو منى يوم النحر كما تقدم إيضاحه، واستدلالهم بأن الصوم الذي هو بدل الهدي، عند العجز عنه يجوز تقديم بعضه على يوم النحر، وهو الأيام الثلاثة المذكورة في قوله * (فصيام ثلاثة أيام في الحج) * فجاز تقديم الهدي على يوم النحر، قياسا على بدله مردود من وجهين:
الأول: أنه قياس مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي فعلها مبينا بها القرآن. وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) فهو قياس فاسد الاعتبار، كما قدمنا إيضاحه قريبا.
الوجه الثاني: أنه قياس مع وجود فوارق تمنع من إلحاق الفرع بالأصل.
منها: أن الهدي يترتب على ذبحه قضاء التفث، كما يدل عليه قوله في ذبح الهدايا: * (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) * ثم رتب على ذلك قوله تعالى: * (ثم ليقضوا تفثهم) * وهذا الحكم الموجود في الأصل منتف عن الفرع، لأن الصوم لا يترتب عليه قضاء تفث.
ومنها: أن الهدي يختص بمكان، وهذا الوصف منتف عن الفرع، وهو الصوم، فإنه لا يختص بمكان.
ومنها: أن الصوم إنما يؤدي جزؤه الأكبر بعد الرجوع إلى الأهل في قوله تعالى: * (وسبعة إذا رجعتم) * وهذا منتف عن الأصل الذي هو الهدي، فلا يفعل منه شيء بعد الرجوع إلى الأهل كما ترى. واستدلالهم: بأنه دم جبران، فجاز بعد وجوبه قبل يوم النحر قياسا على فدية الطيب واللباس مردود من وجهين أيضا.
اعلم أولا: أنا قدمنا أقوال أهل العلم، ومناقشة أدلتهم مناقشة دقيقة في هدي التمتع
151

هل هو دم جبران، أو دم النسك كالأضحية؟ فعلى: أنه دم نسك فسقوط الاستدلال المذكور واضح، وعلى: أنه دم جبران، فقياسه على فدية الطيب واللباس يمنعه أمران.
الأول: أنه قياس فاسد الاعتبار لمخالفته السنة الثابتة، عنه صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنه لم يثبت نص صحيح من كتاب، ولا سنة على وجوب الهدي في الطيب واللباس، حتى يقاس عليه هدي التمتع، والعلماء إنما أوجبوا الفدية في الطيب، واللباس قياسا على الحلق المنصوص في آية الفدية، والقياس على حكم مثبت بالقياس فيه خلاف معروف بين أهل الأصول. فذهبت جماعة منهم إلى أن حكم الأصل المقيس عليه، لا بد أن يكون ثابتا بنص، أو اتفاق الخصمين. وذهب آخرون إلى جواز القياس على الحكم الثابت بالقياس، كأن تقول هنا: من لبس أو تطيب في إحرامه، لزمته فدية الأذى، قياسا على الحلق المنصوص عليه في قوله تعالى * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) * بجامع ارتكاب المحظور، ثم تقول: ثبت بهذا القياس أن في الطيب واللباس، فدية فتجعل الطيب واللباس الثابت حكمها بالقياس أصلا ثانيا، فتقيس عليهما هدي التمتع في جواز التقديم بجامع أن الكل دم جبران، وكأن تقول: يحرم الربا في الذرة، قياسا على البر بجامع الاقتيات، والادخار، أو الكيل مثلا ثم تقول: ثبت تحريم الربا في الربا في الذرة بالقياس على البر، فتجعل الذرة أصلا ثانيا، فتقيس عليها الأرز، ونحو ذلك فعلى أن مثل هذا لا يصح به القياس، فسقوط الاستدلال المذكور واضح وعلى القول بصحة القياس عليه، وهو الذي درج عليه في مراقي السعود بقوله: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) * بجامع ارتكاب المحظور، ثم تقول: ثبت بهذا القياس أن في الطيب واللباس، فدية فتجعل الطيب واللباس الثابت حكمها بالقياس أصلا ثانيا، فتقيس عليهما هدي التمتع في جواز التقديم بجامع أن الكل دم جبران، وكأن تقول: يحرم الربا في الذرة، قياسا على البر بجامع الاقتيات، والادخار، أو الكيل مثلا ثم تقول: ثبت تحريم الربا في الربا في الذرة بالقياس على البر، فتجعل الذرة أصلا ثانيا، فتقيس عليها الأرز، ونحو ذلك فعلى أن مثل هذا لا يصح به القياس، فسقوط الاستدلال المذكور واضح وعلى القول بصحة القياس عليه، وهو الذي درج عليه في مراقي السعود بقوله:
* وحكم الأصل قد يكون محلقا
* لما من اعتبار الأدنى حققا
*
فهو قياس مختلف في صحته أصلا، وهو فاسد الاعتبار أيضا، لمخالفته لسنته صلى الله عليه وسلم.
واستدلالهم بقوله تعالى: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى) * قائلين: إنه بمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعا، فيجب الهدي بإحرام الحج، لأن اسم التمتع يحصل به، والهدي معلق عليه قالوا: ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله كقوله تعالى * (ثم أتموا الصيام إلى اليل) * مردود أيضا.
أما كون التمتع بوجد بإحرام الحج، والهدي معلق عليه فيلزم وجوده بوجوده، فقد بينا رده من وجهين بإيضاح قريبا فأغنى عن إعادته هنا.
وقولهم: إن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله يعنون أن قوله تعالى: * (فمن تمتع
152

بالعمرة إلى الحج) * جعل فيه الحج غاية بحرف الغاية الذي هو إلى، فيجب تعلق الحكم الذي هو ذبح الهدي بأول الغاية، وهو الحج وأوله الإحرام، فيجب الذبح بالإحرام كقوله: * (ثم أتموا الصيام إلى اليل) * فإن حكم إتمام الصيام ينتهي بأول جزء من الليل، الذي هو الغاية لإتمامه مردود من وجهين.
الأول: أن هذا غير مطرد، فلا يلزم تعلق الحكم بأول ما جعل غاية.
ومن النصوص التي لم يتعلق الحكم فيها بأول ما جعل غاية قوله تعالى: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * فنكاحها زوجا غيره جعل غاية لعدم حليتها له، مع أن أول هذه الغاية الذي هو عقد النكاح، لا يتعلق به الحكم، بل لا بد من بلوغ آخر الغاية: وهو الجماع، ولذا قال صلى الله عليه وسلم (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فعلم أن التعلق بأول الغاية: لا يلزم على كل حال.
الوجه الثاني: أن سنة النبي الثابتة عنه من فعله، ومفهوم قوله: بينت أن هذا الحكم، لا يتعلق بأول الغاية، وإنما يتعلق بآخرها وهو الإحلال الأول: لأنه لم ينحر هدي تمتع، ولا قران إلا بعد رمي جمرة العقبة، وفعله فيه البيان الكافي للمراد من الغاية التي يترتب عليها * (فما استيسر من الهدى) * والله يقول * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الا خر) * ففعله مبين لقوله * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى) * لأنه ذبح عن أزواجه المتمتعات يوم النحر، وأمر أصحابه المتمتعين بذلك، وخير ما يبين به القرآن بعد القرآن السنة، والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) *، وهو صلى الله عليه وسلم يبين المناسك بأفعاله، موضحا بذلك المراد من القرآن، ويقول (لتأخذوا عني مناسككم).
الثالث: أنه لو جاز له ذبحه قبل يوم النحر، لجاز الحلق قبل يوم النحر، وذلك باطل فالحلق لا يجوز، حتى يبلغ الهدي محله. كما هو صريح القرآن، والحلق لم يجز قبل يوم النحر، فالهدي لم يبلغ محله قبل يوم النحر، وهو واضح كما ترى، ولذا لم يأذن صلى الله عليه وسلم في حجته، لمن ساق هديا أن يحل ويحلق، وإنما أمر
بفسخ الحج في العمرة من لم يسق هديا، ولا شك أن ذلك عمل منه بقوله تعالى: * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) *.
واستدلالهم بحديث جابر المتقدم عند مسلم قال: (فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي
153

ويجتمع النفر منا في الهدية) وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم مردود بالقادح المسمى في اصطلاح أهل الأصول بالقلب، لأن حديث جابر المذكور حجة عليهم، لا لهم وذلك هو عين القلب وإيضاحه أن لفظ الحديث (وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم) والإشارة في قوله: وذلك راجعة إلى الأمر بالهدية، والاشتراك فيها، والحديث صريح في أن ذلك حين إحلالهم من حجهم. وذلك إنما وقع يوم النحر، لأنه لا إحلال من حج البتة قبل يوم النحر.
والغريب من الشيخ النووي أنه قال في حديث جابر هذا: وفيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة، وقبل الإحرام بالحج، لأن لفظ الحديث مصرح بأن ذلك عند الأمر بالإحلال من الحج، وهو يستدل به على وقوعه قبل الإحرام بالحج.
والظاهر أن هذا سهو منه أو أنه ذهب ذهنه إلى أنه أمرهم بذلك حين تحللهم من العمرة، وظن أن اسم الحج لا ينافي ذلك. لأن أصل الإحرام بالحج، ففسخوه في عمرة، فلما أحلوا منها صاروا كأنهم محلون من الحج الذي فسخوه فيها، وهذا محتمل ولكنه بعيد جدا من ظاهر اللفظ لأن الحج الذي أحرموا به لما فسخوه في عمرة زال اسمه بالكلية، وصار الإحلال من عمرة لا من حج كما ترى، فحمل لفظ الإحلال من الحج على الإحلال من العمرة حمل للفظ الحديث، على ما لا يدل عليه بحسب الوضع العربي من غير دليل يجب الرجوع إليه.
ولو سلمنا جدليا: أن المراد في حديث جابر المذكور بالإحلال من الحج: هو الإحلال من العمرة التي فسخوا فيها الحج كما هو رأي النووي، فلا دليل في الحديث أيضا، لأن غاية ما دل عليه الحديث على التفسير المذكور: أنه أمرهم عند الإحلال من العمرة بالهدي وذلك لا يستلزم أنهم ذبحوه في ذلك الوقت، بل الأحاديث الصحيحة الكثيرة الدالة على أنهم لم يذبحوا شيئا من هداياهم، قبل يوم النحر، كما تقدم إيضاحه.
واستدلالهم بحديث ابن عباس المتقدم عند الحاكم (أنه صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة) إلى آخر الحديث المتقدم، لا دليل فيه، لأنه محمول على أنه لم يذبحه إلا يوم النحر، كما فعل جميع الصحابة. وجاء في مسند الإمام أحمد التصريح بذلك فصارت رواية أحمد المصرحة، بأن ذلك وقع يوم النحر مفسرة لرواية الحاكم.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد ما نصه: باب تفرقة الهدي عن ابن عباس رضي
154

الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنما يوم النحر في أصحابه وقال: اذبحوا لعمرتكم فإنها تجزىء عنكم فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. ا ه منه.
وهذه الرواية الصحيحة مبينة أن ذبحهم عن عمرتهم، إنما كان يوم النحر، وأن ذلك هو المراد في الرواية التي رواها الحاكم، لأن الروايات يفسر بعضها بعضا، كما هو معلوم في علم الحديث والأصول، ولقد صدق الهيثمي في أن رجاله رجال الصحيح، لأن أحمد رواه عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور أبي محمد مولى سليمان بن مجالد، وهو ترمذي الأصل سكن بغداد ثم تحول إلى المصيصة، أخرج له الجميع. وقال فيه ابن حجر في التقريب: ثقة ثبت، لكنه اختلط في آخر عمره، لما قدم بغداد قبل موته وقال فيه في تهذيب التهذيب بعد أن ذكر ثناء عليه كثيرا من نقاد رجال الحديث: كان ثقة صدوقا إن شاء الله، وكان قد تغير في آخر عمره حين رجع إلى بغداد. والظاهر أن الإمام أحمد إنما أخذ عنه قبل اختلاطه لأنه كان في بغداد قبل المصيصة، ثم رجع من المصيصة إلى بغداد في حاجة له، فمات بها واختلاطه في رجوعه الأخير كما يعلمه من نظر ترجمته في كتب الرجال، وحجاج المذكور رواه عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وقد أخرج له الجميع وهو ثقة فقيه فاضل معروف وكان يدلس ويرسل، ولكنه في هذا الحديث صرح بالإخبار عن عكرمة، عن ابن عباس وراوي الحديث عن أحمد ابنه، عبد الله وجلالته معروفة، فظهر صحة الإسناد المذكور كما قاله في مجمع الزوائد، والعلم عند الله تعالى وقد رأيت مما ذكرنا أدلة من قال: بجواز ذبح هدي التمتع عند الإحرام بالحج، ومن قال: بجوازه عند الفراغ من العمرة، وأدلة من قال: لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر ومناقشتها.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله أعلم: أنه لا يجوز ذبح هدي التمتع، والقران قبل يوم النحر لأدلة متعددة، أوضحناها غاية الإيضاح قريبا.
منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل فلم يذبح عن أزواجه المتمتعات ولا عن عائشة القارئة إلا يوم النحر، وكذلك فعل وهو وجميع أصحابه المتمتعين بأمره، واستمر على ذلك عمل الأمة، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. وقد أمرنا أن نأخذ عنه مناسكنا، ومن مناسكنا: وقت ذبح الهدايا، ولا شك أن القرآن العظيم دل على أن كل هدي له تعلق بالحج أن ذبحه في أيام معلومات، لا في أيام مجهولات كما أوضحناه مرارا لأنه تعالى
155

قال * (وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) * لأن مضمون الآية الكريمة: أذن فيهم بالحج يأتوك حجاجا مشاة وركبانا، لأجل أن يشهدوا منافع لهم، ولأجل أن يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام: أي وليتقربوا إلى الله بدماء ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ذاكرين اسم الله عليها عند التذكية.
فقد صرح بأن ذلك التقرب بدماء الأنعام الذي هو من جملة ما دعوا إلى الحج من أجله، أنه في أيام معلومات لا في زمن مطلق مجهول كما ترى.
وقد بينا الأيام المعلومات في أول هذا البحث، وقد بين صلى الله عليه وسلم أول وقتها، فذكر اسم الله على ما رزقه من بهيمة الأنعام: وقت تذكيتها يوم النحر، ويوضح أن ذكر اسم الله عليها إنما هو عند تذكيتها تقربا لله تعالى بدمائها قوله تعالى * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صوآف) * أي
ذكوها قائمة صواف على ثلاثة أرجل كما هو معلوم.
ولا شك أن الله جل وعلا في محكم كتابه بين أن الهدي له محل معروف لا يجوز التحلل بحلق الرأس، قبل بلوغه إياه، وذلك في قوله * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) *، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن فيها: أنه صلى الله عليه وسلم أمر من لم يسق هديا من أصحابه بفسخ حجه في عمرة، والإحلال من العمرة، وتأسف هو صلى الله عليه وسلم أنه لم يفعل ذلك وقال (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة).
ولا شك أن المانع له من فسخ الحج في العمرة أنه لا يمكنه التحلل، وحلق الرأس، حتى يبلغ الهدي محله.
ومن الضروري البديهي أن هدي التمتع، لو كان يجوز ذبحه عند الإحلال من العمرة، أو الإحرام بالحج أنه صلى الله عليه وسلم يتحلل بعمرة، ويذبح هديه عندما تحلل منها، فيكون متمتعا ذابحا عند الفراغ من العمرة، أو عند الإحرام بالحج، فلما صرح بامتناع هذا وعلله بأنه قلد هديه، وعلم أنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر كما هو واضح.
وقد أوضحنا أن جميع أفعاله في الحج، ويدخل فيها الذبح ووقته كلها بيان لإجمال آيات القرآن كقوله * (حتى يبلغ الهدى محله) * وقوله * (ويذكروا اسم الله فى
156

أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) * كما أنه بيان لقوله * (ولله على الناس حج البيت) *. ولذا قال صلى الله عليه وسلم مبينا: أن أفعاله في الحج، بيان للقرآن (لتأخذوا عني مناسككم) وقد قدمنا اتفاق الأصوليين، على أن فعله صلى الله عليه وسلم الذي هو بيان لإجمال نص يقتضي الوجوب: أنه واجب إلى آخر ما قدمناه من الأدلة.
وقد علمت مما ذكرنا أن القائلين بجواز ذبح هدي التمتع عند الإحرام بالحج، أو بعد الفراغ من العمرة كالشافعي وأبي الخطاب من الحنابلة، ليس معهم حجة واضحة من كتاب الله، ولا من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا فعل أحد من الصحابة وأن تمسكهم بآية * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * وبعض الأحاديث ليس في شيء منه حجة ناهضة، يجب الرجوع إليها، هذا ما ظهر لنا في هذه المسألة، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
اعلم أن ما يفعله كثير من الحجاج الذين يزعمون التقرب بالهدي، يوم النحر من ذبح الغنم في أماكن متفرقة من منى لا يقدر الفقراء على الوصول إليها، والتمكن منها، وتركها مذبوحة ليس بقربها فقير ينتفع بها، وتضيع تلك الغنم بكثرة وتنتفخ وينتشر نتن ريحها في أقطار منى، حتى يعم أرجاءها النتن كأنه نتن الجيف أن كل ذلك لا يجوز وهو إلى المعصية أقرب منه إلى الطاعة. ولا يجوز لمن بسط الله يده إقرارهم على ذلك، لأنه فساد وأذية لسائر الحجاج بالأرواح المنتنة، وإضاعة للمال، وإفساد له باسم التقرب إلى الله، ودواء ذلك الداء المنتشر في منى كل سنة أن يعلم كل مهد وكل مضح: أنه يلزمه إيصال لحم ما يتقرب به إلى الفقراء، فعليه إذا ذبحها أن يؤجر من يسلخها طرية حتى ذبحها أو يسلخها هو، ويحملها بنفسه أو بأجرة، حتى يوصلها إلى المستحقين، لأن الله يقول * (فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير) * ويقول * (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) * ولا يمكنه إطعام أحد ممن أمره الله بإطعامهم إلا بإيصال ذلك إليهم، ولو اجتهد في إيصاله إليهم، لأمكنه ذلك لأنه قادر عليه وعلى من بسط الله يده، أن يعين الحجاج المتقربين بالدماء على طريق الإيصال إلى الفقراء بالطرق الكفيلة بتيسير ذلك كتهيئة عدد ضخم من العاملين للإيجار يوم النحر على سلخ الهدايا والضحايا طرية، وحمل لحومها إلى الفقراء في أماكنهم، وكتعدد مواضع الذبح في أرجاء منى، وفجاج مكة، ونحو ذلك من الطرق المعينة على إيصال الحقوق لمستحقيها.
157

واعلم: أن التحقيق أن فقراء الحرم هم الموجودون فيه وقت نحر الهدايا منى الآفاقيين، وحاضري المسجد الحرام، فإن ذبح في موضع فيه فقراء، وخلى بينهم وبين الذبيحة أجزأه ذلك لأنه يسر لهم الأكل منها بطريق لا كلفة عليهم فيها، فكأنه أطعمهم بالفعل، والعلم عند الله تعالى.
ومعلوم أن المتمتع إذا لم يجد هديا أنه ينتقل إلى الصوم كما قال تعالى * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) *.
وأظهر قولي أهل العلم عندي أن معنى قوله في الحج: أي في حالة التلبس بإحرام الحج، لأن الظاهر من اسم الحج هو الدخول في نفس الحج، وذلك بالإحرام وقال بعض أهل العلم: المراد بالحج أشهره، واستدل بقوله تعالى * (الحج أشهر معلومات) * ولا دليل في الآية عندي، لأن الكلام على حذف مضاف: أي زمن الحج أشهر معلومات. وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أسلوب عربي كما أشار له في الخلاصة بقوله: الحج أشهر معلومات) * ولا دليل في الآية عندي، لأن الكلام على حذف مضاف: أي زمن الحج أشهر معلومات. وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أسلوب عربي كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* وما يلي المضاف يأتي خلفا
* عنه في الإعراب إذا ما حذفا
*
وعليه فينبغي أن يحرم بحجه، قبل يوم التروية ليتم الثلاثة. قبل يوم النحر لأن صومه لا يجوز. وكره بعض أهل العلم للحاج صوم يوم عرفة، واستحب أن يفرغ من صوم الثلاثة قبله، وجزم به صاحب المهذب والتحقيق: أن السبعة إنما يصومها بعد الرجوع إلى أهله، ووصوله إلى بلده، وأنه ليس المراد أنه يصومها في طريقه في رجوعه. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر: أن المراد الرجوع إلى أهله وهو ظاهر القرآن. فلا يجوز العدول عنه. والظاهر أن الأيام الثلاثة والأيام السبعة: لا يجب التتابع في واحد منهما، لعدم الدليل على ذلك قال في المغني: ولا نعلم فيه خلافا، وإن فاته صومها قبل يوم النحر، فهل يجوز له أن يصوم أيام التشريق الثلاثة
؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
أحدهما: أنه لا يجوز صوم أيام التشريق للمتمتع.
والثاني: يجوز له صومها، وفيها قول ثالث: أنها يجوز صومها مطلقا، ولا يخفى بعد هذا القول وسقوطه. أما حجة من قال: إنها لا يجوز صومها للمتمتع، ولا غيره فهو ما رواه مسلم في صحيحه. وحدثنا سريج بن يونس، حدثنا هشيم، أخبرنا خالد، عن أبي المليح،
158

عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيام التشريق أيام أكل الشرب) وفي لفظ عند مسلم عنه زيادة (وذكر الله).
وقال مسلم في صحيحه أيضا: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه أنه حدثه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق، فنادى: أنه لا يدخل الجنة، إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب) وفي لفظ عند مسلم: (فناديا) ا ه منه قالوا: فهذا الحديث الصحيح الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم صحابيان: هما كعب بن مالك، ونبيشة بن عبد الله الهذلي، فيه التصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بأن أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذلك يدل على أنها لا يجوز صومها. وظاهر الحديث الإطلاق في المتمتع وغيره. وفي الحديث المذكور: الرد على من أجاز صومها مطلقا، ومما يؤيد ذلك حديث عمرو بن العاص أنه قال لابنه عبد الله في أيام التشريق: إنها الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومهن، وأمر بفطرهن. قال ابن حجر في الفتح: أخرجه أبو داود، وابن المنذر وصححه ابن خزيمة والحاكم.
وأما حجة من قال بجواز صوم أيام التشريق الثلاثة للمتمتع الذي فاته صومها قبل يوم النحر، فهي ما رواه البخاري في صحيحه قال: باب صيام أيام التشريق، قال أبو عبد الله: قال لي محمد بن المثنى: حدثنا يحيى، عن هشام قال: أخبرني أبي كانت عائشة رضي الله عنها تصوم أيام منى، وكان أبوها يصومها.
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة: سمعت عبد الله بن عيسى عن الزهري عن عروة، عن عائشة، وعن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهم قالا: لم يرخص في أيام التشريق، أو يصمن، إلا لمن لم يجد الهدي. انتهى منه قالوا: فهذا الحديث له حكم الرفع وفيه التصريح بالترخيص في صوم أيام التشريق للمتمتع، الذي لم يجد هديا، والروايات الصحيحة التي رواها الحفاظ من أصحاب شعبة، لم يرخص بضم الياء وفتح الخاء مبينا للمفعول.
قال في الفتح: ووقع في رواية يحيى بن سلام عن شعبة عند الدارقطني، واللفظ له، والطحاوي: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق، وقال: إن يحيى بن سلام، ليس بالقوي، ولم يذكر طريق عائشة، وأخرجه من وجه آخر ضعيف عن
159

الزهري، عن عروة عن عائشة، وإذا لم تصح هذه الطرق المصرحة بالرفع، بقي الأمر على الاحتمال.
وقد اختلف علماء الحديث في قول الصحابي: أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، هل له حكم الرفع؟ على أقوال:
ثالثها: إن أضافه إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم الرفع، وإلا فلا. واختلف في الترجيح فيما إذا لم يضفه، ويلتحق به رخص لنا في كذا وعزم علينا ألا نفعل كذا كل في الحكم سواء، فمن يقول: إن له حكم الرفع فغاية ما وقع في رواية يحيى بن سلام، أنه روى بالمعنى. لكن قال الطحاوي: إن قول ابن عمر وعائشة أخذاه من عموم قوله تعالى * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج) * لأن قوله: في الحج يعم ما قبل النحر، وما بعده، فتدخل أيام التشريق فعلى هذا، فليس بمرفوع بل هو بطريق الاستنباط منهما، عما فهماه من عموم الآية. وقد ثبت نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق، وهو عام في حق المتمتع وغيره. وعلى هذا فقد تعارض عموم الآية المشعر بالإذن، وعموم الحديث المشعر بالنهي، وفي تخصيص عموم المتواتر الآحاد نظر لو كان الحديث مرفوعا، فكيف وفي كونه مرفوعا نظر، فعلى هذا يترجح القول بالجواز، وإلى هذا جنح البخاري والله أعلم. انتهى كلام ابن حجر في الفتح وتراه فيه يجعل: أمرنا ونهينا، ورخص لنا وعزم علينا كلها سواء في الخلاف المذكور هل لها حكم الرفع أو الوقف، وممن قال: بصوم أيام التشريق للمتمتع: ابن عمر، وعائشة، وعروة، وعبيد بن عمير، والزهري، ومالك، والأوزاعي وإسحاق، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد في إحدى الروايتين، وممن روى عنه عدم صوم المتمتع لها: الشافعي في القول الثاني، وأحمد في الرواية الثالثة، وروي نحوه عن علي والحسن، وعطاء وهو قول ابن المنذر قاله في المغني.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: مسألة صوم أيام التشريق للمتمتع يظهر لي فيها أنها بالنسبة إلى النصوص الصريحة، يترجح فيها، عدم جواز صومها وبالنظر إلى صناعة علم الحديث يترجح فيها جواز صومها، وإيضاح هذا أن عدم صومها: دل عليه حديث نبيشة الهذلي، وكعب بن مالك في صحيح مسلم، كما قدمنا وكلا الحديثين صريح في أن كونها: أيام أكل وشرب. من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نص صحيح صريح في عدم صومها، فظاهره الإطلاق في المتمتع، الذي لم يجد هديا وفي غيره.
160

ولم يثبت نص صريح من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا من القرآن: يدل على جواز صومها للمتمتع، الذي لم يجد هديا، وما ذكره ابن حجر عن الطحاوي من أن ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم أخذا جواز صومها من ظاهر عموم قوله تعالى: * (فصيام ثلاثة أيام في الحج) * ليس بظاهر، والظاهر سقوطه والله أعلم لإجماع جميع المسلمين: أن الحاج إذا طاف طواف الإفاضة، بعد رمي جمرة العقبة، والحلق: أنه يحل له كل شيء حرم عليه بالحج من النساء، والصيد، والطيب، وكل شيء. فقد زال عنه الإحرام بالحج بالكلية، وصار حلالا حلا تاما كل التمام. وذلك ينافي كونه يطلق عليه أنه في الحج، فإن صام أيام التشريق فقد صامها في غير الحج، لأنه تحلل من حجه، وقضى مناسكه.
ومن أصرح الأدلة في ذلك: أن الله صرح بأنه لا رفث في الحج، وأيام التشريق يجوز فيها الرفث بالجماع، فما دونه فدل على أن ذلك الرافث فيها ليس في الحج،
وأما الرمي في أيام التشريق فهو من السنن الواقعة بعد تمام الحج تابعة له، وكذلك النحر فيها إن لم ينحر يوم النحر.
أما كونه في أيام التشريق: يصدق عليه أنه في الحج بعد إحلاله منه، وفراغه منه، حتى يتناوله عموم الآية، فليس بظاهر عندي. والله تعالى أعلم.
وأما بالنظر إلى صناعة علم الحديث فالذي يترجح هو جواز صوم أيام التشريق للمتمتع، الذي لم يجد هديا، لأن المشهور الذي عليه جمهور المحدثين: أن قول الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو رخص لنا في كذا، أو أحل لنا كذا له كله حكم الرفع، فهو موقوف لفظا مرفوع حكما.
قال ابن الصلاح في علوم الحديث الثاني: قول الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا من نوع المرفوع، والمسند عند أصحاب الحديث، وهو قول أكثر أهل العلم، وخالف في ذلك فريق منهم: أبو بكر الإسماعيلي، والأول هو الصحيح، لأن مطلق ذلك ينصرف بظاهره إلى من إليه الأمر والنهي، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى محل الغرض منه
وقد قال بعد هذا: ولا فرق بين أن يقول ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعده.
وقال النووي في تقريبه: الثاني قول الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو من السنة كذا، أو أمر بلال أن يشفع الأذان وما أشبهه، كله مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور. وقيل: ليس بمرفوع، ولا فرق بين قوله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعده انتهى
161

منه، وعلى هذا درج العراقي في ألفيته في قوله: أو بعده انتهى منه، وعلى هذا درج العراقي في ألفيته في قوله:
* قول الصحابي من السنة أو
* نحو أمرنا حكمه الرفع ولو
*
* بعد النبي قاله بأعصر
* على الصحيح وهو قول الأكثر
*
وفي علوم الحديث مناقشات في هذه المسألة معروفة، والصحيح عندهم الذي عليه الأكثر: أن ذلك له حكم الرفع وبه تعلم أن حديث ابن عمر، وعائشة عند البخاري لم يرخص في أيام التشريق، أن ضمن الحديث له حكم الرفع. وإذا قلنا: إنه حديث صحيح مرفوع عن صحابيين، فلا إشكال في أنه يخصص به عموم حديث نبيشة، وكعب بن مالك، ولو كان ظاهر الآية، يدل على صومها، كما ذكره ابن حجر عن الطحاوي، فلا مانع من تخصيص عمومها بالحديث المرفوع.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن التحقيق، جواز تخصيص عموم المتواتر، بأخبار الآحاد كما هو معلوم، لأن التخصيص بيان، والبيان يجوز بكل ما يزيل اللبس، ولذا كان جمهور العلماء على جواز بيان المتواتر، بأخبار الآحاد، كتخصص عموم * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * وهو متواتر بحديث (لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها) وهو خبر آحاد، وقد أكثرنا من أمثلته في هذا الكتاب المبارك، وكذلك أجاز الجمهور تخصيص المنطوق بالمفهوم كتخصيص عموم: (في أربعين شاة شاة) وهو منطوق بمفهوم المخالفة في حديث (في الغنم السائمة زكاة) عند من يقول بذلك.
والحاصل: أن المبين باسم الفاعل، يجوز أن يكون دون المبين باسم المفعول في السند، وفي الدلالة، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله: والحاصل: أن المبين باسم الفاعل، يجوز أن يكون دون المبين باسم المفعول في السند، وفي الدلالة، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله:
* وبين القاصر من حيث السند
* أو الدلالة على ما يعتمد
*
وقد أوضحنا هذا، وذكرنا كلام أهل العلم فيه في ترجمة هذا الكتاب المبارك.
وقد يترجح عند الناظر عدم صومها للمتمتع من وجهين:
الأول: أن عدم صومها مرفوع رفعا صريحا، وصومها موقوف لفظا، مرفوع حكما على المشهور، والمرفوع صريحا أولى بالتقديم من المرفوع حكما.
والثاني: أن الجواز والنهي، إذا تعارضا قدم النهي، لأن ترك مباح أهون من ارتكاب منهي عنه، وقد يحتج المخالف، بأن دليل الجواز خاص بالمتمتع، ودليل النهي عام، والخاص يقضي على العام، والعلم عند الله تعالى. فإن أخر صوم الأيام الثلاثة، عن يوم
162

عرفة فقد فات وقتها على القول، بأن أيام التشريق لا يصومها المتمتع، وعلى القول بأنه يصومها إنما يخرج وقتها بانتهاء أيام التشريق وهل عليه قضاؤها بعد ذلك؟ لا أعلم في ذلك نصا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والعلماء مختلفون في ذلك فقال بعضهم: يقضيها فيصوم عشرة، ومن قال بهذا القول، من أهل العلم اختلفوا، هل يفرقها، فيفصل بين الثلاثة، والعشرة، بمقدار ما وجب التفريق بينهما في الأداء، لو لم تفت في وقتها بناء على أن تقديم الثلاثة على السبعة لا يتعلق بالوقت، فلم يسقط كترتيب أفعال الصلاة، أوليس عليه تفريقها، بل يجوز أن يصوم العشرة كلها متوالية، بناء على أن التفريق وجب بحكم الوقت المعين، وقد فات، فسقط كالتفريق بين الصلوات التي فاتت أوقاتها، فإنها تقضي متوالية،
لا متفرقة على أوقاتها حسب الأداء لو لم تفت، والتفريق بين الثلاثة والسبعة في الصوم هو مذهب الشافعي، وعدمه: مذهب أحمد، وعلى قول من قالوا: بلزوم قضاء الأيام الثلاثة، بعد خروج وقتها.
فبعضهم يقول: لا دم على المتمتع، لأنه قضى ما فات، وهو مذهب الشافعي. وقيل: عليه دم مع القضاء، لأجل التأخير، وجزم به الخرقي وهو مروي عن أحمد. وقال القاضي: إن أخره لعذر، فليس عليه إلا القضاء، ولا دم. وعن أحمد لا دم مع القضاء بحال.
وقيل: لا تقضي الأيام الثلاثة، بعد خروج وقتها، ويلزم الدم لسقوط قضائها بفوات وقتها، ولا يجوز صوم السبعة بعد ذلك، لأنها تابعة للثلاثة التي سقطت، ويتعين الدم، وهذا مذهب أبي حنيفة، وآخر وقت الثلاثة عنده يوم عرفة.
واعلم: أن أبا حنيفة وأحمد يقولان: إن صوم الثلاثة للعاجز عن الهدي، يجوز قبل التلبس بإحرام الحج، فمذهب أبي حنيفة: أن أول وقت صومها في أشهر الحج، بين الإحرامين، والأفضل عنده: أن يؤخرها إلى آخر وقتها، فيصوم السابع، ويوم التروية، ويوم عرفة. وبعض الحنفية يروي هذا عن علي رضي الله عنه. وعند أحمد: يجوز صومها، عند الإحرام بالعمرة، وعنه: إذا حل من العمرة، وهذه الأقوال مبنية على أن قوله: في الحج يراد به: أشهره. وقد بينا عدم ظهوره، وعند مالك والشافعي: لا يجوز صومها إلا بعد التلبس بإحرام الحج، وهذا أقرب لظاهر القرآن، وهما يقولان: ينبغي تقديمها قبل يوم النحر، والشافعي: يستحب إنهاءها قبل يوم عرفة، فإن لم يصم إلى يوم
163

النحر، أفطر يوم النحر، وصام عند مالك أيام التشريق، فإن لم يصمها، حتى رجع إلى بلده وله به مال: لزمه أن يبعث بالهدي، إلى الحرم، ولا يجزئه الصوم عنده، وليس له أن يؤخر الصيام، ليهدي من بلده، وفي صوم أيام التشريق، للمتمتع عند الشافعية: قولان. وعن أحمد: روايتان فيهما. وقد علمت أن أبا حنيفة لا يجيز صومها. وأن مالكا يجيزه ويكفي عنده في صوم السبعة الرجوع من منى.
وقد قدمنا أن التحقيق أن صومها بعد الرجوع إلى أهله لحديث ابن عمر الثابت في الصحيح: فما يروى عن مالك وأبي حنيفة، والشافعي، وغيرهم مما يخالف ذلك من الروايات لا ينبغي التعويل عليه، لمخالفته الحديث الصحيح. ولفظه: (فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) الحديث هذا لفظ مسلم في صحيحه، ولفظ البخاري (فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) فلفظة: إذا رجع إلى أهله في الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تفسير منه لقوله تعالى * (وسبعة إذا رجعتم) * وإذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، من حديث ابن عمر: تفسير الرجوع في الآية برجوعه إلى أهله، فلا وجه للعدول عنه.
وفي صحيح البخاري، من حديث ابن عباس بلفظ (وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم) وكل ذلك يدل على أن صوم السبعة بعد رجوعه، إلى أهله، لا في رجوعه إلى مكة، ولا في طريقه كما هو ظاهر النصوص، التي ذكرنا، بل صريحها، والعدول عن النص، بلا دليل يجب الرجوع إليه لا يجوز، والعلم عند الله تعالى.
والأظهر عندي: أنه إن صام السبعة قبل يوم النحر، لا يجزئه ذلك، فما ذلك اللخمي من المالكية: من أنه يرى إجزاءها لا وجه له. والله أعلم.
بل لو قال قائل: بمقتضى النصوص، وقال لا تجزىء قبل رجوعه إلى أهله، لكان له وجه من النظر واضح لأن من قدمها قبل الرجوع إلى أهله، فقد خالف لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، الثابت في الصحيحين عن ابن عمر وهو لفظ منه صلى الله عليه وسلم، في معرض تفسير آية * (وسبعة إذا رجعتم) * والعدول عن لفظه الصريح، المبين لمعنى القرآن. لو قيل: بأنه لا يجزئ فاعله، لكان له وجه، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن العاجز عن الهدي في حجه ينتقل إلى الصوم ولو غنيا في بلده هذا هو الظاهر، وإن عجز وابتدأ صوم الثلاثة ثم وجد الهدي، بعد أن صام يوما منها أو يومين،
164

فالأظهر عندي فيه: أنه لا يلزمه الرجوع إلى الحج، لأنه دخل في الصوم بوجه جائز وأنه ينبغي له أن ينتقل إلى الهدي، واستحباب الانتقال إلى الهدي هو مذهب مالك، ومن وافقه. وممن وافقه الحسن، وقتادة والشافعي وأحمد. وعن ابن أبي نجيح، وحماد، والثوري، والمزني: إن وجد الهدي، قبل أن يكمل صوم الثلاثة، فعليه الهدي. وقيل: متى قدر على الهدي قبل يوم النحر انتقل إليه صام، أو لم يصم، والأظهر ما قدمنا والله أعلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي: أنه إن فاته صوم الثلاثة في وقتها، إلى ما بعد أيام التشريق أنه يجري على القاعدة الأصولية التي هي: هل يستلزم الأمر المؤقت القضاء، إذا فات وقته، أو لا يستلزمه؟ وقد قدمنا الكلام على تلك المسألة مستوفى في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: * (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلواة) *.
فعلى القول: بأن الأمر يستلزم القضاء فلا إشكال في قضاء الثلاثة، بعد وقتها وعلى القول: بأنه لا يستلزم القضاء يحتمل أن يقال: بوجوب القضاء لعموم حديث: (فدين الله أحق أن يقضى) ويحتمل أن يقال بعدمه، بناء على أن صوم الثلاثة في الحج، ليكون ذلك مسوغا لقضاء التفث، لأن الدم مسوغ لقضاء التفث، ممن عنده هدي فلا يبعد أن يكون بعض الصوم، قدم لينوب عن الدم في تسويغ قضاء التفث. وعلى هذا الاحتمال: لا يظهر القضاء، ولا يبعد لزوم الدم للإخلال بالصوم في وقته، والعلم عند الله تعالى.
أما لزوم صوم السبعة بعد الرجوع، إلى أهله، فالذي يظهر لي: لزومه لمن لم يجد الهدي مطلقا: وأنه لا يسقط بحال لأن وجوبه ثابت بالقرآن فلا يمكن إسقاطه، إلا بدليل واضح، يجب الرجوع إليه. فجعل الدم بدلا منه إن فات صوم الثلاثة في وقتها، ليس عليه دليل يوجب ترك العمل بصريح القرآن في قوله: * (وسبعة إذا
رجعتم) *.
تنبيه
إذا أخر الحاج طواف الإفاضة، عن أيام التشريق إلى آخر ذي الحجة مثلا، فهل يجزئه حينئذ صوم الأيام الثلاثة لأنه لم يزل في الحج، لبقاء ركن منه، ولأنه لا يجوز له الرفث إلى النساء، لأنه لم يزل في الحج، أو لا يجوز له صومها نظرا إلى أن وقت الطواف، الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم وقال (لتأخذوا عني مناسككم) قد فات؟ وهذا التأخير مخالف
165

للسنة، فلا عبرة به، وهذا أظهر عندي. والله تعالى أعلم.
وبنحوه جزم النووي في شرح المهذب قائلا: إن تأخير الطواف بعيد فلا يحمل عليه قوله تعالى في الحج وذكر عن بعض الشافعية وجها آخر غير هذا. وإن مات المتمتع العاجز، عن الصوم قبل أن يصوم فقال بعض أهل العلم: يتصدق عما أمكنه صومه، عن كل يوم بمد من حنطة، وهو مروي عن الشافعي. وقيل: يهدي عنه. وقيل: لا هدي عنه، ولا إطعام. والله تعالى أعلم.
واختلف أهل العلم: إن وجب عليه الصوم فلا يشرع فيه، حتى قدر على الهدي هل ينتقل إلى الهدي، لأن الصوم إنما لزم للعجز عن الهدي، وقد زال بوجوده، وهذا إن وقع قبل يوم النحر، لا ينبغي أن يختلف فيه. أما إن وجد الهدي، بعد فوات وقت الأيام الثلاثة، فهو محل القولين، وهما روايتان، عن أحمد، وقد قدمنا كلام أهل العلم في ذلك، ولا نص فيه.
والأظهر: أن صوم السبعة الذي لم يعين له وقت لا ينبغي العدول عنه، إلى غيره، كما تقدم خلافا لمن قال بغير ذلك، والعلم عند الله تعالى.
هذا هو حاصل ما يتعلق بالدماء الواجبة، بغير النذر مع كونها منصوصا عليها في القرآن.
أما الدماء التي لم يذكر حكمها في القرآن، وقد قاسها العلماء على المذكورة في القرآن، فمنها: دم الفوات. فقد روى مالك في الموطأ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه أمر أبا أيوب الأنصاري، وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج، وأتيا يوم النحر: أن يحلا بعمرة، ثم يرجعا حلالا ثم يحجان عاما قابلا، ويهديان، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله. انتهى محل الغرض منه.
فقد قاس عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دم الفوات على دم التمتع حيث قال: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وقول عمر ثلاثة أيام في الحج، لا يظهر في الفوات، لأن الفوات لا يتحقق إلا بانتهاء ليلة النحر، اللهم إلا إذا كان عاقه عائق، وهو بعيد، بحيث لو سار ثلاثة أيام لم يدرك عرفة ليلة النحر، فحينئذ قد يصومها وكأنه في الحج، لأنه لم يحصل له الفوات فعلا، وإن كان الفوات محققا وقوعه في المستقبل، ووجه قياس: دم الفوات على دم التمتع، حتى صار بدله من الصوم كبدله.
166

ذكره ابن قدامة في المغني قائلا: إن هدي التمتع، إنما وجب للترفه بترك أحد السفرين وقضائه النسكين في سفر واحد، فيقاس عليه دم من فاته الحج بجامع أنه ترك بعض ما اقتضاه إحرامه، فصار كالتارك. لأحد السفرين انتهى محل الغرض منه. ولا يظهر عندي كل الظهور.
ثم قال في المغني: فإن قيل: فهلا ألحقتموه بهدي الإحصار فإنه أشبه به، إذ هو حلال من إحرامه قبل إتمامه. قلنا: الهدي فيهما سواء. وأما البدل، فإن الإحصار ليس بمنصوص على البدل فيه، وإنما ثبت قياسا، فقياس هذا على الأصل المنصوص عليه أولى من قياسه على فرعه، على أن الصيام ها هنا مثل الصيام، عن دم الإحصار، وهو عشرة أيام أيضا، إلا أن صيام الإحصار: يجب أن يكون قبل حله، وهذا يجوز فعله قبل حله وبعده، وهو أيضا مفارق لصوم المتعة، لأن الثلاثة في المتعة: يستحب أن يكون آخرها يوم عرفة، وهذا يكون بعد فوات عرفة. والخرقي، إنما جعل الصوم عن هدي الفوات مثل الصوم، عن جزاء الصيد، عن كل مد يوما. والمروي عن عمر وابنه مثل ما ذكرنا، ويقاس عليه أيضا: كل دم وجب لترك واجب، كدم القران وترك الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيت بمزدلفة، والرمي، والمبيت ليالي منى بها، وطواف الوداع. فالواجب فيه: ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام، وأما من أفسد حجه بالجماع، فالواجب فيه بدنة بقول الصحابة المنتشر الذي لم يظهر خلافه، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع، كصيام المتعة. كذا قال عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو رواه عنهم الأثرم، ولم يظهر في الصحابة خلافهم، فيكون إجماعا، فيكون بدله مقيسا على بدل دم المتعة.
وقال أصحابنا: يقوم البدنة بدراهم، ثم يشتري بها طعاما، فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما، فتكون ملحقة بالبدنة الواجبة في جزاء الصيد، ويقاس على فدية الأذى ما وجب بفعل محظور، يترفه به كتقليم الأظافر، واللبس، والطيب وكل استمتاع من النساء: كالوطء في العمرة، أو في الحج بعد رمي جمرة العقبة، فإنه في معنى فدية الأذى من الوجه الذي ذكرنا، فيقاس عليه، ويلحق به، فقد قال ابن عباس: لامرأة وقع عليها زوجها قبل أن تقصر: عليك فدية من صيام. أو صدقة. أو نسك انتهى بطوله من المغني.
وهذه الأمور المذكورة لا نص فيها من كتاب ولا سنة.
167

وقد قدمنا في سورة البقرة أقوال أهل العلم في المحصر إن عجز عن الهدي هل يلزمه بدله، أو لا يلزمه شيء بدلا منه. وأقوال من قالوا: يلزمه البدل في البدل. هل هو الصوم. أو الإطعام. بما أغنى عن إعادته هنا.
وقد علمت من كلام صاحب المغني: أن المشهور في مذهب أحمد: هو قياس دم الفوات على دم التمتع، كما فعل عمر رضي الله عنه، وأن الخرقي من الحنابلة قاسه
قاسه على دم جزاء الصيد فجعل الصوم عند دم الفوات، كالصوم عن جزاء الصيد، وأن مذهب أحمد أيضا، قياس كل دم وجب لترك واجب على دم التمتع. فيصوم عند العجز عنه عشرة أيام، وذلك كدم القران، وترك الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيت بمزدلفة والرمي والمبيت ليالي منى بها. وطواف الوداع. وكذلك قياس صوم من عجز عن البدنة في حال إفساد حجه بالجماع، فهو عند أحمد: عشرة أيام قياسا على التمتع. وقد قدمنا نقل صاحب المغني لذلك عن بعض الصحابة وعدم مخالفة غيرهم لهم.
وعن بعض الحنابلة: تقويم بدنة المجامع العاجز بالدراهم، فيشتري بها طعاما إلى آخر ما تقدم. وأن مذهب أحمد: قياس كل دم وجب بفعل محظور، كاللبس، والطيب، وتقليم الأظافر، ونحو ذلك على فدية الأذى. وقد قدمنا أن قياس تلك الأشياء على فدية الأذى، مجمع عليه من الأئمة الأربعة، إلا أن أبا حنيفة. يخصصه بما فعل للعذر، ويوجب الدم دون غيره، فيما فعل من ذلك لا لعذر كما تقدم إيضاحه.
وأما مذهب الشافعي في دم الفوات، ففيه طريقان أصحهما: قياسه على دم التمتع، في الترتيب، والتقدير، وسائر الأحكام.
والطريق الثاني: على قولين أحدهما: أنه كدم التمتع أيضا. والثاني: أنه كدم الجماع في الأحكام، إلا أن هذا شاة، والجماع بدنة لاشتراك الصورتين في وجوب القضاء، وقد قدمنا حكم المجامع العاجز عن البدنة في مذهب الشافعي ماذا يلزمه، ومذهب الشافعي في الدم الواجب بسبب ترك بعض المأمورات كالإحرام من الميقات، والرمي والوقوف بعرفة إلى الغروب، والمبيت بمزدلفة ليلة النحر، وبمنى ليالي منى، وطواف الوداع هو أن في ذلك أربعة أوجه أصحها: أنه كدم التمتع أيضا في الترتيب،
168

والتقدير، فإن عجز عن الهدي، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
الوجه الثاني: أنه إن عجز عن الهدي قوم شاة الهدي دراهم، واشترى بها طعاما وتصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوما، والوجهان الآخران عند الشافعية تركناهما لضعفهما وشذوذهما، كما قاله علماء الشافعية. ومذهب الشافعي في الدم اللازم. بسبب الاستمتاع: كالطيب واللباس، ومقدمات الجماع: أن فيه عندهم أربعة أوجه، وقد قدمناها.
وقدمنا أن أصحها أنه كفدية الأذى المنصوصة في آية الفدية. ودم الجماع فيه، عند الشافعية طرق واختلاف منتشر، والمذهب المشهور عندهم: أنه بدنة، فإن عجز عنها فبقرة، فإن عجز فسبع شياه، فإن عجز قوم البدنة بدراهم، والدراهم بطعام ثم تصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوما. وقيل: إن عجز عن الغنم قوم البدنة وصام، فإن عجز أطعم، فيقدم الصيام على الإطعام ككفارة الظهار ونحوها. وقيل: لا مدخل للإطعام والصيام، بل إذا عجز عن الغنم ثبت الفداء في ذمته. وقيل: إنه يتخير بين البدنة، والبقرة، والغنم، فإن عجز عنها، فالإطعام ثم الصوم. وقيل: يتخير بين البدنة، والبقرة والشياه، والإطعام والصيام وكل هذه الأقوال لا دليل على شيء منها من كتاب ولا سنة ولا قياس جلي.
وقول الظاهرية: إن كل ما لم يثبت من هذه المذكورات من صيام، ودم لا يجب، لأن كل ما سكت عنه الوحي فهو عفو له وجه من النظر، والعلم عند الله تعالى.
وقد قدمنا أن مذهب مالك هو قياس الطيب واللبس ونحو ذلك على فدية الأذى كغيره، من الأئمة.
وأما دم الفوات والفساد، وترك الرمي وتعدي الميقات، وترك المبيت بمزدلفة، فكل ذلك يقيس بدله على بدل التمتع، فإن عجز عن الهدي صام عشرة أيام، وإنما يصوم الثلاثة في الحج عندهم المتمتع، والقارن ومتعدي الميقات، ومفسد الحج ومن فاته الحج.
وأما من لزمه ذلك لترك جمرة أو النزول بمزدلفة، فيصوم متى شاء، لأنه يقضي في غير حج، فيصوم في غير حج. ا ه من المواق.
وقد قدمنا في مسائل الحج التي ذكرناها في الكلام على آية الحج: بعض المسائل التي يتعدد فيها الدم، وبعض المسائل التي لا يتعدد فيها في مواضع متفرقة، مع عدم النص في ذلك من كتاب أو سنة.
169

والأظهر عندي: أن الدماء إن اختلفت أسبابها كمن جاوز الميقات غير محرم، ودفع من عرفة قبل غروب الشمس عند من يقول حجه صحيح، وعليه دم، وترك المبيت بمزدلفة وترك المبيت بمنى أيام منى، أنه تتعدد عليه الدماء، بتعدد أسبابها مع اختلافها. أما إن كانت الأسباب المتعددة من نوع واحد، كأن ترك رمي يوم، ثم ترك رمي آخر أو بات ليلة من ليالي منى في غير منى ثم كرر ذلك، فللتعدد وجه وللاتحاد وجه، وقد قدمنا أقوال أهل العلم في ذلك في محله. والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن من اعتمر في أشهر الحج، وأحل من عمرته، وهو يريد التمتع ثم كرر العمرة في أشهر الحج: لا يلزمه إلا هدي تمتع واحد، ولا ينبغي أن يختلف في ذلك، والعلم عند الله تعالى.
وقد قدمنا أن أقل الهدي واجبا كان للتمتع والقران ونحوهما، أو غير واجب شاة تجزىء ضحية أو شرك في دم، كسبع بدنة أو بقرة على التحقيق، كما تقدم إيضاحه، ولا عبرة بخلاف من خالف في الاشتراك فيه لثبوته بالنص الصحيح.
واعلم: أن من أحرم بعمرة في أشهر الحج له أن يدخل عليها الحج، فيكون قارنا، وعليه دم القران ما لم يفتتح الطواف بالبيت، وإن افتتح الطواف: ففي جواز إدخاله عليها حينئذ، خلاف بين أهل العلم.
قال النووي: فجوزه مالك ومنعه عطاء، والشافعي، وأبو ثور.
واختلفوا أيضا في إدخال العمرة على الحج، فيكون قارنا، وعليه دم القران، وقد قدمنا أن الشافعية والمالكية يقولون: إن ذلك هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم
في حجة الوداع، وأكثرهم يقول: هو لا يجوز لغيره، بل جوازه خاص به صلى الله عليه وسلم كما قدمنا.
وقال النووي في شرح المهذب: واختلفوا في إدخال العمرة على الحج، فقال أصحابنا: يجوز، ويصير قارنا وعليه دم القران، وهو قول قديم للشافعي ومنعه الشافعي في مصر، ونقل منعه عن أكثر من لقيه. ا ه محل الغرض منه.
والظاهر: أن المحرم المتمتع إذا أحل من عمرته، يستحب له ألا يحرم بالحج، إلا يوم التروية لأن ذلك هو الذي فعله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بأمره في حجة الوداع، ومحل هذا إن كان واجدا هدي التمتع، فإن كان عاجزا عنه ويريد أن يصوم، استحب له تقديم الإحرام، ليصوم الأيام الثلاثة في إحرام الحج، وقد قدمنا أقوال من قال من أهل العلم: إنه
170

ينبغي أن يكون آخرها يوم عرفة، وقول من كره صوم يوم عرفة واستحب انتهاءها قبل يوم عرفة. والله تعالى أعلم.
تنبيه
إذا فرغ المتمتع من عمرته، وكان لم يسق هديا فإن له التحلل التام، فله مس الطيب والاستمتاع بالنساء، وكل شيء حرم عليه بإحرامه، فإن كان ساق الهدي ففيه للعلماء قولان:
أحدهما: أن له التحلل أيضا، لأن الله يقول في التمتع * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * ولا يمنعه سوق الهدي من ذلك، لأنه متمتع.
والقول الثاني: أنه لا يجوز له الإحلال حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر، واستدل من قال بهذا بحديث: حفصة رضي الله عنها، الذي قدمناه أنها قالت له صلى الله عليه وسلم: ما شأن الناس حلوا، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال (إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) وكلا القولين قال به جماعة من الأئمة رضي الله عنهم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي: أن له أن يحل من إحرامه، ولكنه يؤخر ذبح هدي تمتعه، حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر، كما قدمنا إيضاحه. والاحتجاج بحديث حفصة المذكور لا ينهض كل النهوض لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، فحديثها ليس في محل النزاع، لأن النزاع فيمن أحرم بعمرة يريد التحلل منها. والإحرام بالحج بعد ذلك. هل يمنعه سوق الهدي من التحلل؟ وحديث حفصة في القران، والقران ليس محل نزاع، وقولها: ولم تحلل أنت من عمرتك. تعني: عمرته المقرونة مع الحج، لا عمرة مفردة بإحرام، دون الحج كما هو معلوم، وكما تقدم إيضاحه.
ومما يوضحه أنه صلى الله عليه وسلم قال (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) فدل على أنه لم يجعلها عمرة مفردة الذي هو محل النزاع، لأن ظاهره أنها لو كانت مفردة لكان له الإحلال منها مطلقا، ولا حجة في قوله (لما سقت الهدي) لأنه ساقه لقران لا لعمرة مفردة عن الحج.
وقال النووي: فإن قيل: قد ثبت في صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة، حتى قدمنا مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن
171

أحرم بعمرة وأهدى فلا يتحلل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحجة فليتم حجه).
فالجواب: أن هذه الرواية مختصرة من روايتين ذكرهما مسلم قبل هذه الرواية، وبعدها قالت (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا) فهذه الرواية مفسرة للأولى ويتعين هذا التأويل، لأن القصة واحدة فصحت الروايات. انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ومما يؤيد ما ذكرنا عن النووي: أن رواية حديث عائشة المذكورة التي قال: إنها يجب تأويلها بتفسيرها بالروايات الصحيحة الأخرى فيها ما لفظه: ومن أهل بحجة فليتم حجه. لكثرة الروايات الصحيحة المتفق عليها عن جماعة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كل من أحرم بحج مفردا، ولم يسق هديا أن يفسخ حجه في عمرة، ويحل منها الحل كله، فعلم أن قولها: ومن أهل بحجة فليتم حجته: يجب تأويله، وتفسيره بالروايات الأخرى الصحيحة، كما قال النووي. وقول من قال: إن سوق الهدي في عمرته يمنعه من الإحلال منها، حتى ينحر يوم النحر له وجه قوي من النظر لدخوله في ظاهر عموم قوله تعالى: * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) *، وهذا المعتمر المتمتع الذي ساق معه هدي التمتع إن حل من عمرته حلق قبل أن يبلغ هديه محله، والعلم عند الله تعالى. ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام الدماء الواجبة بغير النذر.
أما الهدي الذي ليس بواجب: وهو هدي التطوع، وهو مستحب فيستحب لمن قصد مكة حاجا أو معتمرا أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام، وينحره ويفرقه (لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة وهو قارن) ويكفي لدم القران بدنة واحدة، بل شاة واحدة، وبقية المائة تطوع منه صلى الله عليه وسلم: ويستحب أن يكون ما يهديه سمينا حسنا لقوله تعالى: * (ذالك ومن يعظم شعائر الله) *. وعن ابن عباس رضي الله عنهما تعظيمها الاستسمان والاستحسان والاستعظام، ويؤيده قوله تعالى * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) *. ومعلوم: أن أقل الهدي: شاة تجزىء، ضحية أو سبع بدنة أو بقرة كما تقدم إيضاحه، ولا يكون من الحيوان إلا من بهيمة الأنعام، وقد تقدم إيضاح الأنعام، وأنها الأزواج الثمانية المذكورة في آيات من كتاب الله: وهي الجمل والناقة، والبقرة والثور، والنعجة، والكبش، والعنز، والتيس.
172

واعلم: أن التحقيق أن الهدي والإطعام يختص بهما فقراء الحرم المكي، وأن الصوم لا يختص به مكان دون مكان، مع اختلاف في الطعام كما تقدم إيضاحه في سورة المائدة.
وأظهر قولي أهل العلم أنه يلزمه ذبح الهدي في الحرم، وتفريقه، في الحرم أيضا، خلافا لمن زعم جواز الذبح في الحل، إن كان تفريق اللحم في الحرم، والتحقيق أن البدن يسن تقليدها، وإشعارها فيقلدها نعلين. ومعنى إشعارها: هو جرحها في صفحة سنامها، ويسلت الدم عنها. والجمهور على أن الإشعار في صفحة السنام اليمنى، كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس خلافا لمالك القائل: إنه في الصفحة اليسرى.
واعلم: أن التحقيق أن الإشعار المذكور سنة لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم، خلافا لأبي حنيفة القائل: بالنهي عنه، معللا: بأنه مثلة وهي منهي عنها. وروي مثله عن النخعي، لأن الأحاديث الصحيحة الواردة بالإشعار تخصص عموم النهي عن المثلة ولأنه لا يسلم أنه مثلة، فهو جرح لمصلحة كالقصد والختان والحجامة والكي والوسم.
واعلم: أن الهدي من الغنم يسن تقليده، عند عامة أهل العلم، وخالف مالك وأصحابه الجمهور، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة (أنه صلى الله عليه وسلم أهدى غنما فقلدها) وقال بعض أهل العلم: لا تقلد بالنعال لضعفها، وإنما تقلد بنحو عرى القرب، ولا تشعر الغنم إجماعا، والظاهر أن مالكا لم يبلغه حديث تقليد الغنم، ولو بلغه لعمل به، لأنه صحيح متفق عليه، وإشعار البقر إن كان له سنام لا نص فيه، وقاسه جماعة من أهل العلم على إشعار الإبل. والمقصود من الإشعار والتقليد وتلطيخ الهدي بالدم، هو أن يعلم كل من رآه أنه هدي، لأنه قد يختلط بغيره، فإذا أشعر وقلد تميز عن غيره، وربما شرد فيعرف أنه هدي فيرد، وهذه العلة موجودة في البقر، فمقتضى القياس: إشعاره إن كان له سنام.
وقال بعض أهل العلم: الحكمة في تقليده النعلين: أن المنتعل عندهم كالراكب لكون النعل تقي صاحبها الأذى من الحر والبرد والشوك، والقذر ونحو ذلك فكأن المهدي خرج لله عن مركوبه الحيواني، وغير الحيواني، وظاهر صنيع البخاري أنهم قلدوا البقر في حجة الوداع حيث قال: باب فتل القلائد للبدن والبقر. ثم ساق حديث حفصة المتقدم، وفيه قال: (إني لبدت رأسي وقلدت هديي). الحديث وحديث عائشة رضي الله عنها قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدي من المدينة، فأفتل قلائد هديه) الحديث، فترى البخاري قال في الترجمة هذه: باب فتل القلائد للبدن والبقر.
173

وقال ابن حجر. وترجمة البخاري صحيحه لأنه إن كان المراد بالهدي في الحديث الإبل والبقر معا فلا كلام وإن كان المراد الإبل خاصة، فالبقر في معناها. ا ه محل الغرض منه وهو كما قال.
والأظهر: أن الصواب إن شاء الله أن البقر والإبل والغنم كلها تقلد إن كانت هديا، وأن الغنم لا تشعر قولا واحدا، وأن السنة الصحيحة ثابتة بإشعار الإبل، ومقتضى القياس أن البقر كذلك إن كان له سنام. والله تعالى أعلم.
واعلم: أن التحقيق أن من أهدى إلى الحرم هديا وهو مقيم في بلده ليس بحاج ولا معتمر، لا يحرم عليه شيء بإرسال الهدي كما هو ثابت في الصحيح، عن عائشة رضي الله عنها ثبوتا لا مطعن فيه فلا ينبغي أن يعول على ما خالفه، والعلم عند الله تعالى، ولذا ثبت في صحيح البخاري: أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي الله عنها أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: من أهدي هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج، حتى ينحر هديه قالت: عمرة. فقالت عائشة رضي الله عنها: ليس كما قال ابن عباس: فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله حتى نحر الهدي. وحديث عائشة المذكور عند البخاري: أخرجه مسلم بألفاظ كثيرة معناها واحد، إلا أن فيه: أن الذي سأل عائشة ابن زياد.
والصواب ما في البخاري من أن الذي كتب إليها يسألها هو زياد بن أبي سفيان المعروف بزياد ابن أبيه، كما نبه عليه غير واحد، فما في مسلم من كونه ابن زياد، وهم من بعض الرواة، وقد قدمنا مرارا أن السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتا لا مطعن فيه يجب تقديمها على قول كل عالم، ولو بلغ ما بلغ من العلم والدين، وبه تعلم أن التحقيق أن من بعث بهدي، وأقام في بلده لا يحرم عليه شيء بإرسال هديه، وأن ما خالف ذلك لا يلتفت إليه، وإن زعم جماعة أنه مروي عن عمر وابنه، وعلي وقيس بن سعد بن عبادة، وسعيد بن جبير وابن سيرين، وعطاء، والنخعي، ومجاهد، لأن السنة الصحيحة مقدمة على أقوال كل العلماء وكذلك ما قاله سعيد بن المسيب: من أنه لا يجتنب إلا الجماع ليلة جمع: وهي ليلة النحر، لا يلتفت إليه. للحديث الصحيح المتفق عليه المذكور آنفا، والحديث الذي رواه الطحاوي وغيره من طريق عبد الملك بن جابر، عن أبيه: الدال على أنه يحرم عليه ما يحرم على الحاج ضعيف، كما ذكره الحافظ في الفتح، فلا يعارض به الحديث المتفق
174

عليه. وذكر ابن حجر في الفتح عن الزهري: ما يدل على أن الأمر استقر على حديث عائشة لما بينت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم ورجع الناس عن فتوى ابن عباس، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن التحقيق الذي عليه جمهور أهل العلم: أن من أراد النسك لا يصير محرما بمجرد تقليد الهدي، ولا يجب عليه بذلك شيء خلافا لما حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق، من أنه يصير محرما بمجرد تقليد الهدي، وخلافا لأصحاب الرأي في قولهم: إن من ساق الهدي، وأم البيت ثم قلد وجب عليه الإحرام، لأن إيجاب الإحرام يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه.
وقد دلت النصوص: على أنه لا يجب، إلا إذا بلغ الميقات وأراد مجاوزته كما هو معلوم، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
الظاهر: أن التحقيق أنه لا يشترط في الهدي أن يجمع به بين الحل والحرم، فلو اشتراه من منى ونحره بها من غير أن يخرجه إلى الحل أجزأه. قال النووي في شرح
المهذب: وهو مذهبنا، وبه قال ابن عباس، وأبو حنيفة وأبو ثور والجمهور. وقال ابن عمر وسعيد بن جبير: لا هدي إلا ما أحضر عرفات. وقال ابن قدامة في المغني: وليس من شرط الهدي أن يجمع فيه بين الحل، والحرم، ولا أن يقفه بعرفة لكن يستحب ذلك. وروي هذا عن ابن عباس وبه قال الشافعي، وأبو ثور وأصحاب الرأي، وكان ابن عمر لا يرى الهدي إلا ما عرف به ونحوه، عن سعيد بن جبير ا ه محل الغرض منه.
ومعلوم أن مذهب مالك: أنه لا يذبح هدي التمتع والقران بمنى، إلا إذا وقف به بعرفة، وإن لم يقف به بعرفة ذبحه في مكة، ولا بد عنده في الهدي أن يجمع به بين الحل والحرم، فإن اشتراه في الحرم. لزمه إخراجه إلى الحل والرجوع به إلى الحرم وذبحه فيه، وإنما قلنا: إن الظاهر لنا في هذه المسألة عدم اشتراط جمع الهدي، بين الحل والحرم لثلاثة أمور.
الأول: أنه لم يرد نص بذلك يجب الرجوع إليه.
الثاني: أن المقصود من الهدي نفع فقراء الحرم، ولا فائدة لهم في جمعه بين الحل والحرم.
175

الثالث: أنه قول أكثر أهل العلم. وقال جماعة من أهل العلم: يستحب أن يكون الهدي معه من بلده، فإن لم يفعل فشراؤه من الطريق أفضل من شرائه من مكة، ثم من مكة، ثم من عرفات، فإن لم يسقه أصلا بل اشتراه من منى جاز، وحصل الهدي ا ه.
وهذا هو الظاهر واحتج من قال: بأنه لا بد أن يجمع بين الحل والحرم، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهد هديا إلا جامعا بين الحل والحرم، لأنه يساق من الحل إلى الحرم وأن ذلك هو ظاهر قوله تعالى: * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) *. وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أن ابن عمر اشترى هديه من الطريق، ونحو ذلك من الأدلة، ولا شك أن سوق الهدي من الحل إلى الحرم: أفضل ولا يقل عن درجة الاستحباب، كما ذكرنا عن بعض أهل العلم. أما كونه لا يجزئ بدون ذلك، فإنه يحتاج إلى دليل خاص، ولا دليل يجب الرجوع إليه يقتضي ذلك، لأن الذي دل عليه الشرع أن المقصود التقرب إلى الله بما رزقهم من بهيمة الأنعام، في مكان معين في زمن معين والغرض المقصود شرعا حاصل، ولو لم يجمع الهدي بين حل وحرم، وجمع هديه صلى الله عليه وسلم بين الحل والحرم، محتمل للأمر الجبلي، فلا يتمحض لقصد التشريع، لأن تحصيل الهدي أسهل عليه من بلده، ولأن الإبل التي قدم بها علي من اليمن تيسر له وجودها هناك، والله جل وعلا أعلم. فحصول الهدي في الحل يشبه الوصف الطردي، لأنه لم يتضمن مصلحة كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
ولا خلاف بين أهل العلم: في أن المهدي إن اضطر لركوب البدنة المهداة في الطريق، أن له أن يركبها لما ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: اركبها. قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها بدنة، فقال: اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة) هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري فقال (اركبها فقال: إنها بدنة فقال: اركبها، قال: إنها بدنة فقال: اركبها، ويلك في الثانية أو في الثالثة) وروى مسلم نحوه عن أنس، وجابر رضي الله عنهما.
واعلم: أن أهل العلم اختلفوا في ركوب الهدي، فذهب بعضهم إلى أنه يجوز للضرورة دون غيرها، وهو مذهب الشافعي، قال النووي: وبه قال ابن المنذر، وهو رواية عن مالك، وقال عروة بن الزبير، ومالك، وأحمد وإسحاق: له ركوبه من غير حاجة، بحيث لا يضره. وبه قال أهل الظاهر، وقال أبو حنيفة: لا يركبه، إلا إن لم يجد منه بدا، وحكى القاضي عن بعض العلماء: أنه أوجب ركوبها لمطلق الأمر ولمخالفة ما كانت
176

الجاهلية عليه، من إهمال السائبة والبحيرة والوصيلة والحام.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر الأقوال دليلا عندي في ركوب الهدي، واجبا أو غير واجب: هو أنه إن دعته ضرورة لذلك جاز وإلا فلا، لأن أخص النصوص الواردة في ذلك بمحل النزاع. وأصرحها فيه ما رواه مسلم في صحيحه. وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله، سئل عن ركوب الهدي؟ فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا) وفي رواية عنه في صحيح مسلم: (اركبها بالمعروف حتى تجد ظهرا) ا ه. فهذا الحديث الصحيح فيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن ركوب الهدي إنما يجوز بالمعروف، إذا ألجأت إليه الضرورة، فإن زالت الضرورة بوجود ظهر يركبه غير الهدي: ترك ركوب الهدي، فهذا القيد الذي في هذا الحديث تقيد به جميع الروايات الخالية عن القيد، لوجوب حمل المطلق على المقيد، عند جماهير أهل العلم. ولا سيما إن اتحد الحكم، والسبب كما هنا.
أما حجة من قال: بوجوب ركوب الهدي، فهي ظاهرة السقوط، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يركب هديه كما هو معلوم. وأما حجة: من أجاز الركوب مطلقا، فهو قوله صلى الله عليه وسلم (ويلك اركبها) وقوله تعالى * (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى) * (الحج: 33) على أحد التفسيرين، ولا تنهض به الحجة فيما يظهر، لأنه محمول على كونه تدعوه الضرورة إلى ذلك، بدليل حديث جابر عند مسلم الذي ذكرناه آنفا فهو أخص نص في محل النزاع، فلا ينبغي العدول عنه، والعلم عند الله تعالى، والظاهر أن شرب ما فضل من لبنها، عن ولدها لا بأس به، لأنه لا ضرر فيه عليها ولا على ولدها. وقال بعض أهل العلم: إن ركبها الركوب المباح للضرورة ونقصها ذلك: فعليه قيمة النقص يصدق بها. وله وجه من النظر. والعلم عند الله تعالى.
وإنما قلنا: إن الظاهر أنه لا فرق في الحكم المذكور بين الهدي الواجب وغيره، لأنه صلى الله عليه وسلم قال لصاحب البدنة (اركبها) وهي مقلدة نعلا، وقد صرح له تصريحا مكررا بأنها بدنة، ولم يستفصله النبي صلى الله عليه وسلم، هل تلك البدنة من الهدي الواجب أو غيره، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم إيضاحه مرارا. وقد أشار إليه في
177

مراقي السعود بقوله:، هل تلك البدنة من الهدي الواجب أو غيره، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوالكما تقدم إيضاحه مرارا. وقد أشار إليه في مراقي السعود بقوله: ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال
مسألة في حكم الهدي إذا عطب في الطريق أو بعد بلوغ محله اعلم أولا أن الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه: أن من بعث معه هدي إلى الحرم فعطب في الطريق، قبل بلوغ محله: أنه ينحره ثم يصبغ نعليه في دمه، ويضرب بالنعل المصبوغ بالدم صفحة سنامها، ليعلم من مر بها أنها هدي ويخلى بينها وبين الناس، ولا يأكل منها هو، ولا أحد من أهل رفقته المرافقين له في سفره.
;
وإنما قلنا: إن هذا هو الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه: لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح، فقد روى مسلم في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله عنهما ما لفظه (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بست عشرة بدنة، مع رجل وامرأة فيها قال: فمضى ثم رجع فقال: يا رسول الله، كيف أصنع بما أبدع على منها؟ قال: انحرها، ثم اصبغ نعليها في دمها ثم اجعله على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك) انتهى من صحيح مسلم.
وفي رواية في صحيح مسلم، عن ابن عباس (أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن ثم يقول: إن عطب شيء منها فخشيت عليه موتا فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب بها صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك) انتهى منه. وقوله: كيف أصنع بما أبدع منها: هو بضم الهمزة، وإسكان الباء، وكسر الدال بصيغة المبني للمفعول: أي كل وأعيى حتى وقف من الإعياء، فهذا النص الصحيح، لا يلتفت معه إلى قول من قال: إن رفقته لهم الأكل مع جملة المساكين، لأنه مخالف للنص الصحيح، ولا قول أحد مع السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، كما أوضحناه مرارا. والظاهر أن علة منعه ومنع رفقته: هو سد الذريعة لئلا يتوصل هو أو بعض رفقته إلى نحره، بدعوى أنه عطب أو بالتسبب له في ذلك للطمع في أكل لحمه، لأنه صار للفقراء، وهم يعدون أنفسهم من الفقراء، ولو لم يبلغ محله. والظاهر: أنه لا يجوز الأكل منه للأغنياء، بل للفقراء والله أعلم.
فإن قيل: روى أصحاب السنن عن ناجية الأسلمي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه
178

بهدي فقال: إن عطب فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خل بينه وبين الناس) ا ه وظاهر قوله (وبين الناس) يشمل بعمومه سائق الهدي ورفقته.
فالجواب: أن حديث مسلم أصح وأخص، والخاص يقضي على العام. لأن حديث مسلم أخرج السائق ورفقته من عموم حديث أصحاب السنن. ومعلوم: أن الخاص يقضي على العام.
واعلم أن للعلماء تفاصيل في حكم ما عطب من الهدي، قبل نحره بمحل النحر، سنذكر أرجحها عندنا إن شاء الله من غير استقصاء للأقوال والحجج، لأن مسائل الحج أطلنا عليها الكلام طولا يقتضي الاختصار في بعضها خوف الإطالة المملة.
اعلم أولا: أن الهدي إما واجب، وإما تطوع، والواجب إما بالنذر، أو بغيره، والواجب بالنذر، إما معين، أو غير معين، فالظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه: أن الهدي الواجب بغير النذر كهدي التمتع والقران والدماء الواجبة بترك واجب، أو فعل محظور، والواجب بالنذر في ذمته كأن يقول: علي لله نذر أن أهدي هديا، أن لجميع ذلك حالتين.
الأولى: أن يكون ساق ما ذكر من الهدي ينوي به الهدي الواجب عليه، من غير أن يعينه بالقول، كأن يقول: هذا الهدي سقته أريد به أداء الهدي الواجب علي.
والحالة الثانية: هي أن يسوقه ينوي به الهدي المذكور مع تعيينه بالقول، فإن نواه، ولم يعينه بالقول. فالظاهر: أنه لا يزال في ضمانه ولا يزول ملكه عنه، إلا بذبحه ودفعه إلى مستحقيه، ولذا إن عطب في الطريق فله التصرف فيه بما شاء من أكل وبيع، لأنه لم يزل في ملكه، وهو مطالب بأداء الهدي الواجب عليه بشيء آخر غير الذي عطب، لأنه عطب في ضمانه، فهو بمنزلة من عليه دين فحمله إلى مستحقه بقصد دفعه إليه، فتلف قبل أن يوصله إليه: فعليه قضاء الدين بغير التالف، لأنه تلف في ذمته وإن تعيب الهدي المذكور قبل بلوغه محله، فعليه بدله سليما ويفعل بالذي تعيب ما شاء، لأنه لم يزل في ملكه، وضمانه. والذي يظهر أن له التصرف فيه، ولو لم يعطب، ولم يتعيب، لأن مجرد نية إهدائه عن الهدي الواجب لا ينقل ملكه عنه، والهدي المذكور لازم له في ذمته، حتى يوصله إلى مستحقه. والظاهر: أن له نماءه.
وأما الحالة الثانية: وهي ما إذا نواه وعينه بالقول كأن يقول: هذا هو الهدي
179

الواجب علي. والظاهر: أن الإشعار والتقليد كذلك. فالظاهر: أنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة، فليس له التصرف فيه ما دام سليما، وإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه، وعاد الوجوب إلى ذمته. فيجب عليه هدي آخر، لأن الذمة لا تبرأ بمجرد التعيين بالنية والقول أو التقليد والإشعار. والظاهر: أنه إن عطب فعل به ما شاء، لأن الهدي لازم في ذمته، وهذا الذي عطب صار كأنه شيء من ماله لا حق فيه لفقراء الحرم، لأن حقهم باق في الذمة، فله بيعه وأكله، وكل ما شاء. وعلى هذا جمهور أهل العلم. وعن مالك يأكل ويطعم من شاء من الأغنياء والفقراء، ولا يبيع من شيئا، وإن بلغ الهدي محله فذبحه وسرق: فلا شيء عليه عند أحمد.
قال في المغني: وبهذا قال الثوري وابن القاسم صاحب مالك، وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: عليه الإعادة، لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه، فأشبه ما لو لم يذبحه. ولنا أنه أدى الواجب عليه، فبرئ منه كما لو فرقه. ودليل أنه أدى الواجب: أنه لم يبق إلا التفرقة، وليست واجبة، بدليل أنه لو خلى بينه، وبين الفقراء أجزأه.
ولذلك لما نحر النبي صلى الله عليه وسلم البدنات قال: (من شاء اقتطع). انتهى محل الغرض من المغني.
وأظهر القولين عندي: أنه لا تبرأ ذمته بذبحه: حتى يوصله إلى المستحقين، لأن المستحقين إن لم ينتفعوا به، لا فرق عندهم بين ذبحه وبين بقائه حيا، ولأن الله تعالى يقول * (وأطعموا البآئس الفقير) * (الحج: 82) ويقول * (وأطعموا القانع والمعتر) * (الحج: 63) والآيتان تدلان على لزوم التفرقة، والتخلية بينه، وبين الفقراء يقتسمونه تفرقة ضمنية، لأن الإذن لهم في ذلك، وهو متيسر لهم كإعطائهم إياه بالفعل والعلم عند الله تعالى. وقول من قال: إن الهدي المذكور إن تعيب في الطريق فعليه نحره، ونحر هدي آخر غير معيب لا يظهر كل الظهور، إذ لا موجب لتعدد الواجب عليه وهو لم يجب عليه إلا واحد. وحجة من قال بذلك: أنه لما عينه متقربا به إلى الله لا يحسن انتفاعه به بعد ذلك، ولو لم يجزئه.
وأما الواجب المعين بالنذر، كأن يقول: نذرت لله إهداء هذا الهدي المعين، فالظاهر أنه يتعين بالنذر، ولا يكون في ذمته، فإن عطب أو سرق: لم يلزمه بدله، لأن حق الفقراء إذا تعلق بعينه، لا بذمة المهدي. والظاهر أنه ليس له الأكل منه سواء عطب في الطريق أو بلغ محله.
وحاصل ما ذكرنا: راجع إلى أن ما عطب بالطريق من الهدي إن كان متعلقا بذمته سليما فالظاهر: أن له الأكل منه، والتصرف فيه، لأنه يلزمه بدله سليما، وقيل: يلزم الذي عطب
180

والسليم معا لفقراء الحرم، وأن ما تعلق الوجوب فيه بعين الهدى كالنذر المعين للمساكين، ليس له تصرف فيه، ولا الأكل منه إذا عطب ولا بعد نحره، إن بلغ محله على الأظهر.
واعلم: أن مالكا وأصحابه يقولون: إن كل هدي، جاز الأكل منه للمهدي له، أن يطعم منه من شاء من الأغنياء والفقراء، وكل هدي لا يجوز له الأكل منه، فلا يجوز إطعامه إلا للفقراء الذين لا تلزمه نفقتهم، وكره عندهم إطعام الذميين منه. وستأتي تفاصيل ما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز إن شاء الله تعالى في الكلام على آية * (فكلوا منها) *.
وأما هدي التطوع: فالظاهر أنه إن عطب في الطريق ألقيت قلائده في دمه، وخلى بينه وبين الناس، وإن كان له سائق مرسل معه لم يأكل منه هو ولا أحد من رفقته، كما تقدم إيضاحه، وليس لصاحبه الأكل منه عند مالك وأصحابه. وهو ظاهر مذهب أحمد، وليس عليه بدله لأنه معين لم يتعلق بذمته. وأما مذهب الشافعي، وأصحابه: فهو أن هدي التطوع باق على ملك صاحبه، فله ذبحه، وأكله، وبيعه وسائر التصرفات فيه. ولو قلده لأنه لم يوجد منه إلا نية ذبحه والنية لا تزيل ملكه عنه، حتى يذبحه بمحله، فلو عطب في الطريق فلمهديه أن يفعل به ما شاء من بيع وأكل وإطعام، لأنه لم يزل في ملكه ولا شيء عليه في شيء من ذلك. وأما مذهب أبي حنيفة في هدي التطوع إذا عطب في الطريق قبل بلوغ محله: فهو أنه لا يجوز لمهديه الأكل منه ولا لغني من الأغنياء، وإنما يأكله الفقراء. ووجه قول من قال إن هدي التطوع إذا عطب في الطريق، لا يجوز لمهديه أن يأكل منه: هو أن الإذن له في الأكل، جاء النص به بعد بلوغه محله، أما قبل بلوغه محله فلم يأت الإذن بأكله، ووجه خصوص الفقراء به، لأنه حينئذ يصير صدقة، لأن كونه صدقة خير من أن يترك للسباع تأكله. هكذا قالوا: والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
الأظهر عندي أنه إذا عين هديا بالقول، أو التقليد، والإشعار ثم ضل ثم نحر هديا آخر مكانه ثم وجد الهدي الأول الذي كان ضالا: أن عليه أن ينحره أيضا، لأنه صار هديا للفقراء. فلا ينبغي أن يرده لملكه، مع وجوده، وكذلك إن عين بدلا عنه، ثم وجد الضال، فإنه ينحرهما معا.
181

قال ابن قدامة في المغني: وروي ذلك عن عمر وابنه، وابن عباس، وفعلته عائشة رضي الله عنهم. وبه قال مالك، والشافعي، وإسحاق، ويتخرج على قولنا فيما إذا تعيب الهدي، فأبدله فإن له أن يصنع ما شاء أن يرجع إلى ملك أحدهما، لأنه قد ذبح ما في الذمة، فلم يلزمه شيء آخر، كما لو عطب المعين وهذا قول أصحاب الرأي.
ووجه الأول: ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها أهدت هديين، فأضلتهما، فبعث إليها ابن الزبير هديين فنحرتهما، ثم عاد الضالان فنحرتهما، وقالت: هذه سنة الهدي رواه الدارقطني. وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه تعلق حق الله بهما بإيجابهما أو ذبح أحدهما، وإيجاب الآخر. انتهى محل الغرض من المغني. وليس في المسألة شيء مرفوع. والأحوط: ذبح الجميع كما ذكرنا أنه الأظهر، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن الهدي إن كان معينا بالنذر من الأصل، بأن قال: نذرت إهداء هذا الهدي بعينه أو معينا تطوعا، إذا رآه صاحبه في حالة يغلب على الظن: أنه سيموت، فإنه تلزمه ذكاته، وإن فرط فيها حتى مات كان عليه ضمانه، لأنه كالوديعة عنده.
أما لو مات بغير تفريطه، أو ضل أو سرق، فليس عليه بدل عنه كما أوضحناه، لأنه لم يتعلق الحق بذمته بل بعين الهدي.
والأظهر عندي: إن لزمه بدله بتفريطه أنه يشتري هديا مثله، وينحره بالحرم بدلا عن الذي فرط فيه، وإن قيل: أنه يلزمه التصدق بقيمته على مساكين الحرم، فله وجه من النظر. والله أعلم.
ولا نص في ذلك ولنكتف بما ذكرنا هنا من أحكام الهدي، وسيأتي إن شاء الله تفصيل ما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز من الهدايا.
تنبيه
قد قدمنا في سورة البقرة: أن القرآن دل في موضعين، على أن نحر الهدي قبل الحلق، والتقصير يوم النحر، وبينا أنه لو قدم الحلق على النحر لا شيء عليه،
وأوضحنا ذلك في الكلام على قوله تعالى: * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) *.
والحاصل: أن الحاج مفردا كان أو قارنا أو متمتعا إن رمى جمرة العقبة ونحر ما معه من الهدي: فعليه الحلق أو التقصير، وقد قدمنا أن التحقيق: أن الحلق نسك وأنه
182

أفضل من التقصير، لقوله صلى الله عليه وسلم (رحم الله المحلقين قالوا: يا رسول الله: والمقصرين. قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين؟ فقال: والمقصرين) في الرابعة، أو الثالثة كما تقدم إيضاحه. فدل دعاؤه للمحلقين بالرحمة مرارا: على أن الحلق نسك لأنه لو لم يكن قربة لله تعالى لما استحق فاعله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالرحمة، ودل تأخير الدعاء للمقصرين، إلى الثالثة أو الرابعة: أن التقصير مفضول، وأن الحلق أفضل منه، والتقصير مع كونه مفضولا: يجزئ بدلالة الكتاب، والسنة والإجماع، لأن الله تعالى يقول * (لتدخلن المسجد الحرام إن شآء الله ءامنين محلقين رءوسكم ومقصرين) * وقد روى الشيخان، وغيرهما: التقصير عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
فمن ذلك حديث جابر: أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد أهلوا بالحج مفردا، فقال لهم: (أحلوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا. وفي الصحيحين، عن ابن عمر قال: (حلق النبي صلى الله عليه وسلم وحلق طائفة من أصحابه وقصر بعضهم)، وقد قدمنا حديث معاوية الثابت في الصحيحين، قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة وحديث: (رحم الله المحلقين)، ثم قال بعد ذلك: (والمقصرين) إلى غير ذلك من الأحاديث.
وقد أجمع جميع علماء الأمة على أن التقصير مجزىء ولكنهم اختلفوا في القدر الذي يكفي في الحلق والتقصير، فقال الشافعي، وأصحابه: يكفي فيهما حلق ثلاث شعرات فصاعدا، أو تقصيرها، لأن ذلك يصدق عليه أنه حلق أو تقصير، لأن الثلاث جمع.
وقال أبو حنيفة: يكفي حلق ربع الرأس، أو تقصير ربعه بقدر الأنملة.
وقال مالك، وأحمد وأصحابهما: يجب حلق جميع الرأس، أو تقصير جميعه، ولا يلزمه في التقصير تتبع كل شعرة، بل يكفيه أن يأخذ من جميع جوانب الرأس، وبعضهم يقول: يكفيه قدر الأنملة، والمالكية يقولون: يقصره إلى القرب من أصول الشعر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر الأقوال عندي: أنه يلزم حلق جميع الرأس، أو تقصير جميعه، ولا يلزم تتبع كل شعرة في التقصير، لأن فيه مشقة كبيرة، بل يكفي تقصير جميع جوانب الرأس مجموعة أو مفرقة، وأنه لا يكفي الربع، ولا ثلاث شعرات خلافا للحنفية والشافعية، لأن الله تعالى يقول * (محلقين رءوسكم) * ولم يقل:
183

بعض رؤوسكم * (ومقصرين) * أي: رؤوسكم لدلالة ما ذكر قبله عليه، وظاهره حلق الجميع أو تقصيره، ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك). فمن حلق الجميع أو قصره ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، ومن اقتصر على ثلاث شعرات أو على ربع الرأس، لم يدع ما يريبه، إذ لا دليل يجب الرجوع إليه، من كتاب، ولا سنة على الاكتفاء بواحد منهما، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق في حجة الوداع، حلق جميع رأسه وأعطى شعر رأسه لأبي طلحة ليفرقه على الناس. وفعله في الحلق بيان للنصوص الدالة على الحلق كقوله: * (محلقين رءوسكم) *. وقوله: * (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) *.
وقد قدمنا أن فعله صلى الله عليه وسلم: إذا كان بيانا لنص مجمل يقتضي وجوب حكم: أن ذلك الفعل المبين لذلك النص المجمل واجب. ولا خلاف في ذلك بين من يعتد به من أهل الأصول.
تنبيه آخر
اعلم: أن محل كون الحلق أفضل من التقصير، إنما هو بالنسبة إلى الرجال خاصة. أما النساء: فليس عليهن حلق وإنما عليهن التقصير.
والصواب عندنا: وجوب تقصير المرأة جميع رأسها ويكفيها قدر الأنملة، لأنه يصدق عليه أنه تقصير من غير منافاة لظواهر النصوص، ولأن شعر المرأة من جمالها، وحلقه مثلة وتقصيره جدا إلى قرب أصول الشعر نقص في جمالها، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن النساء لا حلق عليهن، وإنما عليهن التقصير.
قال أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن الحسن العتكي، ثنا محمد بن بكر، ثنا ابن جريج، قال: بلغني عن صفية بنت شيبة بن عثمان، قالت: أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان: أن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير).
حدثنا أبو يعقوب البغدادي ثقة، ثنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن صفية بنت شيبة، قالت: أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير) انتهى منه.
وقال النووي في شرح المهذب: في حديث ابن عباس: هذا رواه أبو داود بإسناد
184

حسن. وقال صاحب نصب الراية في حديث ابن عباس المذكور: قال ابن القطان في كتابه: هذا ضعيف ومنقطع.
أما الأول: فانقطاعه من جهة ابن جريج، قال: بلغني عن صفية، فلم يعلم من حدثه به.
وأما الثاني: فقول أبي داود: حدثنا رجل ثقة، يكنى أبا يعقوب، وهذا غير كاف. وإن قيل: إنه أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل، فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه. وأما ضعفه: فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها. انتهى محل الغرض من نصب الراية للزيلعي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: حديث ابن عباس المذكور: في أن على النساء التقصير لا الحلق، أقل درجاته الحسن. فقول النووي: إنه حديث رواه أبو داود بإسناد
حسن أصوب مما نقله الزيلعي عن ابن القطان في كتابه، وسكت عليه من أن الحديث المذكور ضعيف ومنقطع، فقول ابن القطان: وأما ضعفه فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها فيه قصور ظاهر جدا لأن أم عثمان المذكورة من الصحابيات المبايعات، وقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس فدعوى أنها لا يعرف حالها ظاهرة السقوط كما ترى. وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: أم عثمان بنت سفيان القرشية الشيبية العبدرية، أم بني شيبة الأكابر، كانت من المبايعات. روت عنها صفية بنت شيبة، وروى عبد الله بن مسافع عن أمه عنها. انتهى منه.
وقال ابن حجر في الإصابة: أم عثمان بنت سفيان، والدة بني شيبة الأكابر، وكانت من المبايعات. قاله أبو عمر إلى آخر كلامه، وقد أورد فيه حديثا روته عن النبي صلى الله عليه وسلم، في السعي بين الصفا والمروة، وقد قدمناه.
وذكر ابن حجر في الإصابة عن أبي نعيم: حديثا أخرجه، وفيه: أن أم عثمان بنت سفيان هي أم بني شيبة الأكابر، وقد بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ا ه. وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب: أم عثمان بنت سفيان. ويقال: بنت أبي سفيان: هي أم ولد شيبة بن عثمان. روت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس. وروت عنها صفية بنت شيبة ا ه.
ومعلوم أن الصحابة كلهم عدول بتزكية الكتاب والسنة لهم، كما أوضحناه في غير
185

هذا الموضع، فتبين أن قول ابن القطان: إن الحديث ضعيف، لأنها لم يعلم حالها قصور منه رحمه الله كما ترى. وأما قوله: إن توثيق أبي داود لأبي يعقوب غير كاف، وأن أبا يعقوب المذكور، إن قيل: إنه إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه.
فجوابه: أن أبا يعقوب المذكور هو إسحاق بن إبراهيم واسم إبراهيم أبو إسرائيل، وقد وثقه أبو داود وأثنى عليه غير واحد من أجلاء العلماء بالرجال. وقال فيه الذهبي في الميزان: حافظ شهير قال: ووثقه يحيى بن معين، والدارقطني: وقال صالح جزرة صدوق، إلا أنه كان يقف في القرآن، ولا يقول: غير مخلوق بل يقول: كلام الله. وقال فيه أيضا: قال عبدوس النيسابوري: كان حافظا جدا لم يكن مثله أحد في الحفظ والورع واتهم بالوقف. وقال فيه ابن حجر في تهذيب التهذيب، قال ابن معين: ثقة. وقال أيضا: من ثقات المسلمين ما كتب حديثا قط، عن أحد من الناس، إلا ما خطه هو في ألواحه أو كتابه. وقال أيضا: ثقة مأمون أثبت من القواريري وأكيس، والقواريري ثقة صدوق، وليس هو مثل إسحاق، وذكر غير هذا من ثناء ابن معين عليه، وتفضيله على بعض الثقات المعروفين، ثم قال: وقال الدارقطني: ثقة. وقال البغوي: كان ثقة مأمونا، إلا أنه كان قليل العقل، وثناء أئمة الرجال عليه في الحفظ، والعدالة كثير مشهور وإنما نقموا عليه أنه كان يقول: القرآن كلام الله، ويسكت عندها ولا يقول: غير مخلوق، ومن هنا جعلوه واقفيا، وتكلموا في حديثه، كما قال فيه صالح جزرة: صدوق في الحديث إلا أنه يقول: القرآن كلام الله ويقف.
وقال الساجي: تركوه لموضع الوقف، وكان صدوقا. وقال أحمد: إسحاق بن أبي إسرائيل واقفي مشؤوم، إلا أنه كان صاحب حديث كيسا.
وقال السراج: سمعته يقول: هؤلاء الصبيان يقولون كلام الله غير مخلوق ألا قالوا كلام الله وسكتوا. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين فقال: ثقة قال عثمان: لم يكن أظهر الوقف حين سألت يحيى عنه ويوم كتبنا عنه كان مستورا وقال عبدوس النيسابوري: كان حافظا جدا، ولم يكن مثله في الحفظ والورع، وكان لقي المشايخ فقيل: كان يتهم بالوقف قال: نعم أتهم وليس بمتهم. وقال مصعب الزبيري: ناظرته فقال: لم أقل على الشك، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي.
والحاصل: أنهم متفقون على ثقته، وأمانته بالنسبة إلى الحديث إلا أنهم كانوا
186

يتهمونه بالوقف، وقد رأيت قول من نفى عنه التهمة، وقول من ناظره أنه قال له: لم أقل على الشك. ولكني سكت كما سكت القوم قبلي، ومعنى كلامه: أنه لا يشك في أن القرآن غير مخلوق، ولكنه يقتدي بمن لم يخض في ذلك، ولما حكى الذهبي في الميزان قول الساجي: إنهم تركوا الأخذ عنه لمكان الوقف، قال بعده ما نصه: قلت: قل من ترك الأخذ عنه ا ه، وهو تصريح منه بأن الأكثرين على قبوله فحديثه لا يقل عن درجة الحسن، وروايته عند أبي داود الذي وثقه تعتضد بالرواية المذكورة قبلها، وقول ابن جريج فيها: بلغني عن صفية بنت شيبة تفسره الرواية الثانية التي بين فيها ابن جريج: أن من بلغه عن صفية المذكورة: هو عبد الحميد بن جبير بن شيبة، وهو ثقة معروف.
فإن قيل: ابن جريج روى عنه بالعنعنة، وهو مدلس، والرواية بالعنعنة لا تقبل من المدلس بل لا بد من تصريحه، بما يدل على السماع.
والجواب: أنا قدمنا أن مشهور مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد هو الاحتجاج بالمرسل، ومن يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس، من باب أولى كما نبه عليه غير واحد من الأصوليين.
وقد قدمنا موضحا مرارا في هذا الكتاب المبارك مع اعتضاد هذه الرواية بالأخرى واعتضادها بغيرها.
قال الزيلعي في نصب الراية: بعد ذكره كلام ابن القطان في تضعيف حديث ابن عباس المذكور في تقصير النساء، وعدم حلقهن الذي ناقشنا تضعيفه له كما رأيت ما نصه: وأخرجه الدارقطني في سننه والطبراني في معجمه، عن أبي بكر بن عياش، من يعقوب بن عطاء، عن صفية بنت شيبة به، وأخرجه الدارقطني أيضا، والبزار في مسنده، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير، عن صفية به. وقال البزار: لا نعلمه يروي عن ابن عباس، إلا من هذا الوجه انتهى، وأخرجه الدارقطني في سننه، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر قال في المحرمة: تأخذ من شعرها قدر السبابة. انتهى، وليث هذا الظاهر أنه ابن أبي سليم، وهو ضعيف. انتهى من نصب الراية.
فتبين من جميع ما ذكر: أن حديث ابن عباس في أن على النساء المحرمات إذا أردن قضاء التفث التقصير، لا الحلق أنه لا يقل عن درجة الحسن، كما جزم النووي بأن إسناده عند أبي داود حسن وقد رأيت اعتضاده، بما ذكرنا من الروايات المتابعة له بواسطة نقل
187

الزيلعي، عند الطبراني، والدارقطني: والبزار ويعتضد عدم حلق النساء رؤوسهن بخمسة أمور غير ما ذكرنا.
الأول: الإجماع على عدم حلقهن في الحج، ولو كان الحلق يجوز لهن لشرع في الحج.
الثاني: أحاديث جاءت بنهي النساء عن الحلق.
الثالث: أنه ليس من عملنا، ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
الرابع: أنه تشبه بالرجال، وهو حرام.
الخامس: أنه مثلة والمثلة لا تجوز. أما الإجماع، فقد قال النووي في شرح المهذب، قال ابن المنذر: أجمعوا على ألا حلق على النساء، وإنما عليهن التقصير، ويكره لهن الحلق لأنه بدعة في حقهن، وفيه مثلة.
واختلفوا في قدر ما تقصره، فقال ابن عمر والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: تقصر من كل قرن مثل الأنملة، وقال قتادة: تقصر الثلث أو الربع، وقالت حفصة بنت سيرين: إن كانت عجوزا من القواعد أخذت نحو الربع، وإن كانت شابة فلتقلل، وقال مالك: تأخذ من جميع قرونها أقل جزء ولا يجوز من بعض القرون. انتهى محل الغرض منه، وتراه نقل عن ابن المنذر الإجماع على أن النساء: لا حلق عليهن في الحج، ولو كان الحلق يجوز لهن لأمرن به في الحج، لأن الحلق نسك على التحقيق، كما تقدم إيضاحه.
وأما الأحاديث الواردة في ذلك فسأنقلها بواسطة نقل الزيلعي، في نصب الراية لأنه جمعها فيه في محل واحد قال: فنهى النساء عن الحلق فيه أحاديث.
منها: ما رواه الترمذي في الحج، والنسائي في الزينة، قالا، حدثنا محمد بن موسى الحرشي، عن أبي داود الطيالسي، عن همام، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها) انتهى ثم رواه الترمذي، عن محمد بن بشار، عن أبي داود الطيالسي به، عن خلاس عن النبي مرسلا، وقال: هذا حديث فيه اضطراب، وقد روي عن حماد بن سلمة عن قتادة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا انتهى، وقال عبد الحق في أحكامه: هذا حديث يرويه همام عن يحيى، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي وخالفه هشام الدستوائي، وحماد بن سلمه فروياه عن قتادة، عن النبي مرسلا.
188

حديث آخر أخرجه البزار في مسنده عن معلى بن عبد الرحمان الواسطي. ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تحلق المرأة رأسها) انتهى. قال البزار، ومعلى بن عبد الرحمان الواسطي: روى عن عبد الحميد أحاديث، لم يتابع عليها، ولا نعلم أحدا تابعه على هذا الحديث. انتهى، ورواه ابن عدي في الكامل، وقال: أرجو أنه لا بأس به، قال عبد الحق: وضعفه أبو حاتم وقال: إنه متروك الحديث انتهى. وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء: يروي عن عبد الحميد بن جعفر المقلوبات، لا يجوز الاحتجاج به، إذا تفرد حديث آخر رواه البزار في مسنده أيضا: حدثنا عبد الله بن يوسف الثقفي، ثنا روح بن عطاء بن أبي ميمونة، ثنا أبي، عن وهب بن عمير قال: سمعت عثمان يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها) انتهى قال البزار: ووهب بن عمير لا نعلمه روى غير هذا الحديث، ولا نعلم روى عنه إلا عطاء بن أبي ميمونة، وروح ليس بالقوي. انتهى كلام الزيلعي في نصب الراية.
وهذه الروايات التي ذكرنا في نهي المرأة عن حلق رأسها، عن علي، وعثمان، وعائشة: يعضد بعضها بعضا كما تعتضد بما تقدم، وبما سيأتي إن شاء الله، وأما كون حلق المرأة رأسها ليس من عمل نساء الصحابة، فمن بعدهم، فهو أمر معروف، لا يكاد يخالف فيه إلا مكابر، فالقائل: بجواز الحلق للمرأة قائل بما ليس من عمل المسلمين المعروف، وفي الحديث الصحيح: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) فالحديث يشمل عمومه الحلق بالنسبة للمحرمة بلا شك، وإذا لم يبح لها حلقه في حال النسك، فغيره من الأحوال أولى، وأما كون حلق المرأة رأسها تشبها بالرجال، فهو واضح، ولا شك أن الحالقة رأسها متشبهة بالرجال، لأن الحلق من صفاتهم الخاصة بهم دون الإناث عادة. وقد قدمنا الحديث الصحيح في لعن المتشبهات من النساء بالرجال في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) * وأما كون حلق رأس المرأة مثلة، فواضح، لأن شعر رأسها من أحسن أنواع جمالها وحلقه تقبيح لها وتشويه لخلقتها، كما يدركه الحس السليم، وعامة الذين يذكرون محاسن النساء في أشعارهم، وكلامهم مطبقون على أن شعر المرأة الأسود من أحسن زينتها لا نزاع في ذلك بينهم في جميع طبقاتهم وهو في أشعارهم مستفيض استفاضة يعلمها كل من له أدنى إلمام، وسنذكر هنا منه أمثلة قليلة تنبيها بها على غيرها قال امرؤ القيس في معلقته: فواضح، لأن شعر رأسها من أحسن أنواع جمالها وحلقه تقبيح لها وتشويه لخلقتها، كما يدركه الحس السليم، وعامة الذين يذكرون محاسن النساء في أشعارهم، وكلامهم مطبقون على أن شعر المرأة الأسود من أحسن زينتها لا نزاع في ذلك بينهم في جميع طبقاتهم وهو في أشعارهم مستفيض استفاضة يعلمها كل من له أدنى إلمام، وسنذكر هنا منه أمثلة قليلة تنبيها بها على غيرها قال امرؤ القيس في معلقته:
189

* وفرع يزين المتن أسود فاحم
* أثيث كقنو النخلة المتعثكل
*
* غدائره مستشزرات إلى العلى
* تضل المداري في مثنى ومرسل
*
فتراه جعل كثرة شعر رأسها وسواده وطوله من محاسنها، وهو كذلك. وقال الأعشى ميمون بن قيس: فتراه جعل كثرة شعر رأسها وسواده وطوله من محاسنها، وهو كذلك. وقال الأعشى ميمون بن قيس:
* غراء فرعاء مصقول عوارضها
* تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
*
فقوله فرعاء يعني أن فرعها أي شعر رأسها تام في الطول والسواد والحسن وقال عمر بن أبي ربيعة: فقوله فرعاء يعني أن فرعها أي شعر رأسها تام في الطول والسواد والحسن وقال عمر بن أبي ربيعة:
* تقول يا أمتا كفى جوانبه
* ويلي بليت وأبلى جيدي الشعر
*
* مثل الأساود قد أعيى مواشطه
* تضل فيه مداريها وتنكسر
*
فلو لم تكن كثرة الشعر وسواده من الجمال عندهم، لما تعبوا في خدمته هذا التعب الذي ذكره هذا الشاعر ونظيره قول الآخر: فلو لم تكن كثرة الشعر وسواده من الجمال عندهم، لما تعبوا في خدمته هذا التعب الذي ذكره هذا الشاعر ونظيره قول الآخر:
* وفرع يصير الجيد وحف كأنه
* على الليث قنوان الكروم الدوالح
*
لأن قوله: يصير الجيد أي يميل العنق لكثرته، وقد بالغ من قال: لأن قوله: يصير الجيد أي يميل العنق لكثرته، وقد بالغ من قال:
* بيضاء تسحب من قيام فرعها
* وتغيب فيه وهو وجف أسحم
*
* فكأنها فيه نهار ساطع
* وكأنه ليل عليها مظلم
*
وأمثال هذا أكثر من أن تنحصر، وقصدنا مطلق التمثيل، وهو يدل على أن حلق المرأة شعر رأسها نقص في جمالها، وتشويه لها، فهو مثلة وبه تعلم: أن العرف الذي صار جاريا في كثير من البلاد، بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله سنة أفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين ونساء العرب قبل الإسلام، فهو من جملة الانحرافات التي عمت البلوى بها في الدين والخلق، والسمت وغير ذلك.
فإن قيل: جاء عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ما يدل على حلق المرأة رأسها، وتقصيرها إياه، فما دل على الحلق، فهو ما رواه ابن حبان في صحيحه في النوع الحادي عشر من القسم الخامس، من حديث وهب بن جرير ثنا أبي سمعت أبا فزارة، يحدث عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا وبنى بها وماتت بسرف فدفنها في الظلة التي بنى بها فيها فنزلنا قبرها أنا وابن عباس فلما وضعناها في اللحد مال رأسها فأخذت
190

ردائي فوضعته تحت رأسها فاجتذبه ابن عباس فألقاه وكانت قد حلقت رأسها في الحج فكان رأسها محجما) انتهى بواسطة نقل صاحب نصب الراية. فهذا الحديث يدل على أن ميمونة حلقت رأسها، ولو كان حراما ما فعلته، وأما التقصير فما رواه مسلم في صحيحه.
وحدثني عبيد الله بن معاذ العنبري قال: حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن أبي بكر بن حفص، عن أبي سلمة بن عبد الرحمان قال: دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاع، فسألها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الحنابلة فدعت بإناء قدر الصاع، فاغتسلت، وبيننا وبينها ستر، وأفرغت على رأسها ثلاثا. قال: وكان أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم، يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة. ا ه من صحيح مسلم.
فالجواب، عن حديث ميمونة على تقدير صحته: أن فيه أن رأسها كان محجما، وهو يدل على أن الحلق المذكور لضرورة المرض، لتتمكن آلة الحجم من الرأس، والضرورة يباح لها ما لا يباح بدونها وقد قال تعالى * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) *.
وأما الجواب: عن حديث مسلم فعلى القول، بأن الوفرة أطول من اللمة التي هي ما ألم بالمنكبين من الشعر، فلا إشكال، لأن ما نزل عن المنكبين طويل طولا يحصل به المقصود. قال النووي في شرح مسلم: والوفرة أشبع، وأكثر من اللمة. واللمة ما يلم بالمنكبين من الشعر. قاله الأصمعي. انتهى محل الغرض من النووي.
وأما على القول الصحيح المعروف عند أهل اللغة: من أنها لا تجاوز الأذنين. قال في القاموس: والوفرة: الشعر المجتمع على الرأس، أو ما سال على الأذنين منه أو ما جاوز شحمة الأذن، ثم الجمة، ثم اللمة ا ه منه.
وقال الجوهري في صحاحه: والوفرة: الشعر إلى شحمة الأذن، ثم الجمة ثم اللمة: وهي التي ألمت بالمنكبين. وقال ابن منظور في اللسان: والوفرة: الشعر المجتمع على الرأس، وقيل: ما سال على الأذنين من الشعر. والجمع وفار. قال كثير عزة: وقال الجوهري في صحاحه: والوفرة: الشعر إلى شحمة الأذن، ثم الجمة ثم اللمة: وهي التي ألمت بالمنكبين. وقال ابن منظور في اللسان: والوفرة: الشعر المجتمع على الرأس، وقيل: ما سال على الأذنين من الشعر. والجمع وفار. قال كثير عزة:
* كأن وفار القوم تحت رحالها
* إذا حسرت عنها العمائم عنصل
*
وقيل: الوفرة أعظم من الجمة. قال ابن سيده: وهذا غلط إنما هي وفرة، ثم جمة، ثم لمة، والوفرة: ما جاوز شحمة الأذنين، واللمة: ما ألم بالمنكبين. التهذيب، والوفرة:
191

الجمة من الشعر إذا بلغت الأذنين، وقيل: الوفرة الشعرة إلى شحمة الأذن، ثم الجمة ثم اللمة، إلى أن قال: والوفرة شعر الرأس، إذا وصل شحمة الأذن. انتهى من اللسان.
فالجواب: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصرن رؤوسهن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، لأنهن كن يتجملن له في حياته، ومن أجمل زينتهن شعرهن. أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فلهن حكم خاص بهن لا تشاركهن فيه امرأة واحدة من نساء جميع أهل الأرض، وهو انقطاع أملهن انقطاعا كليا من التزويج، ويأسهن منه اليأس، الذي لا يمكن أن يخالطه طمع، فهن كالمعتدات المحبوسات بسببه صلى الله عليه وسلم إلى الموت. قال تعالى * (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذالكم كان عند الله عظيما) * واليأس من الرجال بالكلية، قد يكون سببا للترخيص في الإخلال بأشياء من الزينة، لا تحل لغير ذلك السبب. وقال النووي في شرح مسلم في الكلام علي هذا الحديث: قال عياض رحمه الله تعالى: والمعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذون القرون، والذوائب، ولعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعلن هذا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لتركهن التزين، واستغنائهن عن تطويل الشعر وتخفيفا لمؤنة رؤوسهن، وهذا الذي ذكره القاضي عياض من كونهن فعلته، بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، لا في حياته. كذا قاله أيضا غيره، وهو متعين ولا يظن بهن فعله في حياته صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء. انتهى كلام النووي. وقوله: وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء، فيه عندي نظر لما قدمنا من أزواج النبي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا يقاس عليهن غيرهن، لأن قطع طمعهن في الرجال بالكلية خاص بهن دون غيرهن، وهو قد يباح له من الإخلال ببعض الزينة ما لا يباح لغيره حتى إن العجوز من غيرهن لتزين للخطاب، وربما تزوجت لأن كل ساقطة لها لاقطة. وقد يحب بعضهم العجوز كما قال القائل: لأن قطع طمعهن في الرجال بالكلية خاص بهن دون غيرهن، وهو قد يباح له من الإخلال ببعض الزينة ما لا يباح لغيره حتى إن العجوز من غيرهن لتزين للخطاب، وربما تزوجت لأن كل ساقطة لها لاقطة. وقد يحب بعضهم العجوز كما قال القائل:
* أبى القلب إلا أم عمرو وحبها
* عجوزا ومن يحبب عجوزا يفتد
*
* كثوب اليماني قد تقادم عهده
* ورقعته ما شئت في العين واليد
*
وقال الآخر: وقال الآخر:
* ولو أصبحت ليلى تدب على العصا
* لكان هوى ليلى جديدا أوائله
*
والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير) *. الضمير في قوله: منها. راجع إلى بهيمة الأنعام المذكورة في قوله تعالى
192

* (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) * وهذا الأكل الذي أمر به هنا منها وإطعام البائس الفقير منها، أمر بنحوه في خصوص البدن أيضا في قوله تعالى * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) * إلى قوله * (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) * ففي الآية الأولى: الأمر بالأكل من جميع بهيمة الأنعام الصادق بالبدن، وبغيرها، وقد بينت الآية الأخيرة أن البدن داخلة في عموم الآية الأولى.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يرد نص عام، ثم يرد نص آخر يصرح بدخول بعض أفراده في عمومه، ومثلنا لذلك بعض الأمثلة وفي الآية العامة هنا أمر بالأكل، وإطعام البائس الفقير، وفي الآية الخاصة بالبدن: أمر بالأكل، وإطعام القانع والمعتر.
وفي هاتين الآيتين الكريمتين مبحثان.
الأول: حكم الأكل المأمور به في الآيتين هل هو الوجوب لظاهر صيغة الأمر، أو الندب والاستحباب؟
المبحث الثاني: فيما يجوز الأكل منه لصاحبه، وما لا يجوز له الأكل منه، ومذاهب أهل العلم في ذلك.
أما المبحث الأول: فجمهور أهل العلم على أن الأمر بالأكل في الآيتين: للاستحباب، والندب، لا للوجوب، والقرينة الصارفة عن الوجوب في صيغة الأمر: هي ما زعموا من أن المشركين، كانوا لا يأكلون هداياهم فرخص للمسلمين في ذلك.
وعليه فالمعنى: فكلوا إن شئتم ولا تحرموا الأكل على أنفسكم كما يفعله المشركون، وقال ابن كثير في تفسيره: إن القول بوجوب الأكل غريب، وعزا للأكثرين أن الأمر للاستحباب قال: وهو اختيار ابن جرير في تفسيره، وقال القرطبي في تفسيره: فكلوا منها: أمر معناه: الندب عند الجمهور، ويستحب للرجل، أن يأكل من هديه وأضحيته، وأن يتصدق بالأكثر مع تجويزهم الصدقة بالكل، وأكل الكل وشذت طائفة، فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (فكلوا وادخروا وتصدقوا) قال الكيا قوله تعالى: * (فكلوا منها وأطعموا) * يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه، ولا التصدق بجميعه. انتهى كلام القرطبي.
193

ومعلوم: أن بيع جميعه لا وجه لحليته، بل ولا بيع بعضه، كما هو معلوم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أقوى القولين دليلا: وجوب الأكل والإطعام من الهدايا والضحايا، لأن الله تعالى قال: * (فكلوا منها) * في موضعين. وقد قدمنا أن الشرع واللغة دلا على أن صيغة أفعل: تدل على الوجوب إلا لدليل صارف، عن الوجوب، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك كقوله * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) *.
وأوضحنا جميع أدلة ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، منها آية الحج التي ذكرنا عندها مسائل الحج.
ومما يؤيد أن الأمر في الآية يدل على وجوب الأكل وتأكيده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر مائة من الإبل فأمر بقطعة لحم من كل واحدة، منها فأكل منها وشرب من مرقها). وهو دليل واضح على أنه أراد ألا تبقى واحدة، من تلك الإبل الكثيرة إلا وقد أكل منها أو شرب من مرقها، وهذا يدل على أن الأمر في قوله: * (فكلوا منها) * ليس لمجرد الاستحباب والتخيير، إذ لو كان كذلك لاكتفى بالأكل من بعضها، وشرب مرقه دون بعض، وكذلك الإطعام فالأظهر فيه الوجوب.
والحاصل: أن المشهور عند الأصوليين: أن صيغة أفعل: تدل على الوجوب إلا لصارف عنه، وقد أمر بالأكل من الذبائح مرتين، ولم يقم دليل يجب الرجوع إليه صارف عن الوجوب وكذلك الإطعام، هذا هو الظاهر بحسب الصناعة الأصولية، وقد دلت عليها أدلة الوحي، كما قدمنا إيضاحه. وقال أبو حيان في البحر المحيط: والظاهر وجوب الأكل والإطعام وقيل باستحبابهما. وقيل: باستحباب الأكل، ووجوب الإطعام. والأظهر أنه: لا تحديد للقدر الذي يأكله والقدر الذي يتصدق به، فيأكل ما شاء ويتصدق بما شاء، وقد قال بعض أهل العلم: يتصدق بالنصف، ويأكل النصف، واستدل لذلك بقوله تعالى: * (فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير) * قال: فجزأها نصفين نصف له، ونصف للفقراء، وقال بعضهم: يجعلها ثلاثة أجزاء، يأكل الثلث ويتصدق بالثلث، ويهدي الثلث، واستدل بقوله تعالى: * (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) * فجزأها ثلاثة أجزاء، ثلث له، وثلث للقانع، وثلث للمعتر. هكذا قالوا وأظهرها الأول، والعلم عند الله تعالى،
194

والبائس: هو الذي أصابه البؤس، وهو الشدة. قال الجوهري في صحاحه: وبئس الرجل بيأس بؤسا وبئسا: اشتدت حاجته، فهو بائس وأنشد أبو عمرو: فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) * فجزأها ثلاثة أجزاء، ثلث له، وثلث للقانع، وثلث للمعتر. هكذا قالوا وأظهرها الأول، والعلم عند الله تعالى، والبائس: هو الذي أصابه البؤس، وهو الشدة. قال الجوهري في صحاحه: وبئس الرجل بيأس بؤسا وبئسا: اشتدت حاجته، فهو بائس وأنشد أبو عمرو:
* لبيضاء من أهل المدينة لم تذق
* بئيسا ولم تتبع حمولة مجحد
*
وهو اسم وضع موضع المصدر ا ه منه يعني: أن البئيس في البيت لفظه لفظ الوصف، ومعناه المصدر، والفقير معروف، والقاعدة عند علماء التفسير: أن الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وعلى قولهم: فالفقير هنا يشمل المسكين، لأنه غير مذكور معه هنا، وذلك هو مرادهم، بأنهما إذا افترقا اجتمعا،
ومعلوم خلاف العلماء في الفقير والمسكين في آية الصدقة أيهما أشد فقرا، وقد ذكرنا حجج الفريقين وناقشناها في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة البلد، ومما استدل به القائل: إن الفقير أحوج من المسكين، وأن المسكين من عنده شيء لا يقوم بكفايته قوله تعالى: * (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر) *، قالوا: فسماهم مساكين، مع أن عندهم سفينة عاملة للإيجار.
ومما استدل به القائلون بأن المسكين أحوج من الفقير: أن الله قال في المسكين: * (أو مسكينا ذا متربة) * قالوا: ذا متربة: أي لا شيء عنده. حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر، ليس له مأوى إلا التراب.
قال ابن عباس: هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له. وقال مجاهد: هو الذي لا يقيه من التراب لباس، ولا غيره انتهى من القرطبي. وعضدوا هذا بأن العرب تطلق الفقير على من عنده مال لا يكفيه، ومنه قول راعي نمير: ولا غيره انتهى من القرطبي. وعضدوا هذا بأن العرب تطلق الفقير على من عنده مال لا يكفيه، ومنه قول راعي نمير:
* أما الفقير الذي كانت حلوبته
* وفق العيال فلم يترك له سبد
*
فسماه فقيرا مع أن له حلوبة قدر عياله.
وقد ناقشنا أدلة الفريقين مناقشة تبين الصواب في الكتاب المذكور، فأغناها ذلك عن إعادته هنا، والعلم عند الله تعالى.
وأما المبحث الثاني: وهو ما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز فقد اختلف فيه أهل العلم، وهذه مذاهبهم وما يظهر رجحانه بالدليل منها: فذهب مالك رحمه الله، وأصحابه إلى جواز الأكل من جميع الهدي واجبه وتطوعه إذا بلغ محله إلا ثلاثة أشياء: جزاء الصيد، وفدية الأذى، والنذر الذي هو للمساكين وقال اللخمي: كل هدي واجب في
195

الذمة، عن حج أو عمرة من فساد أو متعة أو قران، أو تعدي ميقات، أو ترك النزول بعرفة نهارا، أو ترك النزول بمزدلفة أو ترك رمي الجمار أو أخر الحلق يجوز الأكل منه قبل بلوغ محله وبعده. أما جزاء الصيد، وفدية الأذى فيؤكل منهما قبل بلوغها محلهما، ولا يؤكل منهما بعده. وأما النذر المضمون، إذا لم يسمه للمساكين: فإنه يأكل منه بعد بلوغه محله، وإن كان منذورا معينا، ولم يسمه للمساكين، أو قلده، وأشعره من غير نذر أكل منه بعد بلوغه محله، ولم يأكل منه قبله وإن عين النذر للمساكين أو نوى ذلك حين التقليد والإشعار لم يأكل منه قبل ولا بعد.
والحاصل: أن النذر المعين للمساكين لا يجوز له الأكل منه مطلقا، عند مالك وأن النذر المضمون للمساكين، حكمه عند المالكية: حكم جزاء الصيد، وفدية الأذى فيمتنع الأكل منه بعد بلوغه محله، ويجوز قبله، لأنه باقي في الذمة حتى يبلغ محله. وأما النذر المضمون الذي لم يسم للمساكين كقوله: على لله نذر أن أتقرب إليه بنحر هدي، فله عند المالكية: الأكل منه قبل بلوغ محله، وبعده، وقد قدمنا أن هدي التطوع إن عطب في الطريق. لا يجوز له الأكل منه عند المالكية، وأوضحنا دليل ذلك. هذا هو حاصل مذهب مالك في الأكل من الهدايا، ولا خلاف في جواز الأكل من الضحايا. وقد قدمنا قول اللخمي من المالكية: أن كل هدي جاز أن يأكل منه: جاز أن يطعم منه من شاء من غني وفقير، وكل هدي لم يجز له أن يأكل منه، فإنه يطعمه فقيرا، لا تلزمه نفقته كالكفارة. وكره ابن القاسم من أصحاب مالك إطعام الذمي من الهدايا كما تقدم. ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: أنه يأكل من هدي التمتع والقران، وهدي التطوع إذا بلغ محله، أما إذا عطب هدي التطوع، قبل بلوغ محله، فليس لصاحبه الأكل منه عند أبي حنيفة كما تقدم إيضاحه. ولا يأكل من غير ذلك، هو ولا غيره من الأغنياء، بل يأكله الفقراء. هذا حاصل مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
وأما مذهب الشافعي رحمه الله: فهو أن الهدي إن كان تطوعا، فالأكل منه مستحب، واستدل بعضهم لعدم وجوب الأكل بقوله: * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) *. قالوا: فجعلها لنا وما هو للإنسان فهو مخير بين تركه، وأكله، ولا يخفى ما في هذا الاستدلال.
واعلم: أنا حيث قلنا في هذا المبحث: يجوز الأكل، فإنا نعني: الإذن في الأكل الصادق بالاستحباب، وبالوجوب لما قدمنا من الخلاف، في وجوب الأكل والإطعام،
196

واستحبابهما، والفرق بينهما بإيجاب الإطعام دون الأكل، وكل هدي واجب لا يجوز الأكل منه في مذهب الشافعي، كهدي التمتع والقران، والنذر، وجميع الدماء الواجبة، قال النووي: وكذا قال الأوزاعي، وداود الظاهري: لا يجوز الأكل من الواجب. هذا هو حاصل مذهب الشافعي.
وأما مذهب أحمد رحمه الله: فهو أنه لا يأكل من هدي واجب، إلا هدي التمتع والقران، وأنه يستحب له أن يأكل من هدي التطوع، وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته، وما نحره تطوعا من غير أن يوجبه هذا هو مشهور مذهب الإمام أحمد. وعنه رواية أنه لا يأكل من المنذور، وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما.
قال في المغني: وهو قول ابن عمر وعطاء والحسن وإسحاق، لأن جزاء الصيد بدل والنذر جعله الله تعالى بخلاف غيرهما.
وقال ابن أبي موسى: لا يأكل أيضا من الكفارة، ويأكل مما سوى هذه الثلاثة، ونحوه مذهب مالك، لأن ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين، ولا مدخل للإطعام فيه فأشبه التطوع. وقال الشافعي: لا يأكل من واجب، لأنه هدي واجب بالإحرام فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة. انتهى من المغني.
فقد رأيت مذاهب الأربعة فيما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يرجحه الدليل في هذه المسألة: هو جواز الأكل من هدي التطوع وهدي التمتع والقران دون غير ذلك والأكل من هدي التطوع لا خلاف فيه بين العلماء بعد بلوغه محله، وإنما خلافهم في استحباب الأكل منه، أو وجوبه ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة في حجة الوداع (أنه أهدى مائة من الإبل) ومعلوم أن ما زاد على الواحدة منها تطوع، وقد أكل منها وشرب من مرقها جميعا.
وأما الدليل على الأكل من هدي التمتع والقران، فهو ما قدمنا مما ثبت في الصحيح (أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ذبح عنهن صلى الله عليه وسلم بقرا ودخل عليهن بلحمه وهن متمتعات وعائشة منهن قارنة وقد أكلن جميعا مما ذبح عنهن في تمتعهن وقرانهن بأمره صلى الله عليه وسلم) وهو نص صحيح صريح في جواز الأكل من هدي التمتع والقران. أما غير ما ذكرنا من الدماء فلم يقم دليل يجب الرجوع إليه على الأكل منه، ولا يتحقق دخوله في عموم * (فكلوا منها) * لأنه لترك
197

واجب أو فعل محظور، فهو بالكفارات أشبه، وعدم الأكل منه أظهر وأحوط. والعلم عند الله تعالى.
مسألة في الأضحية
لا يخفى أن كلامنا في الهدي وأن الآية التي نحن بصددها ظاهرها أنها في الهدي، ولما كان عمومها قد تدخل فيه الأضحية. أردنا هذا أن نشير إلى بعض أحكام الأضحية باختصار.
اعلم أولا: أن الأضحية فيها أربع لغات: أضحية بضم الهمزة، وإضحية بكسرها، وجمعهما أضاحي بتشديد الياء وتخفيفها، وضحية، وجمعها ضحايا، وأضحاة وجمعها: أضحى كأرطاة، وأرطى.
واعلم أنه لا خلاف في مشروعية الأضحية. قال بعض أهل العلم: وقد دل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: * (فصل لربك وانحر) * على ما قاله بعض أهل التفسير، من أن المراد به: ذبح الأضحية بعد صلاة العيد، ولا يخفى أن صلاة العيد داخلة في عموم * (فصل لربك) * وأن الأضحية داخلة في عموم قوله * (وانحر) *.
وأما الإجماع: فقد أجمع جميع المسلمين على مشروعية الأضحية. وأما السنة فقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة صحيحة في مشروعية الأضحية وسنذكر طرفا منها فيه كفاية إن شاء الله.
قال البخاري في صحيحه: باب أضحية النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين ويذكر سمينين. وقال يحيى بن سعيد: سمعت أبا أمامة بن سهل، قال: كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون. حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة، حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين) وأنا أضحي بكبشين. حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انكفأ إلى كبشين أقرنين أملحين فذبحهما بيده) وقال إسماعيل وحاتم بن وردان، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس تابعه وهيب عن أيوب، وقال: حدثنا
198

عمرو بن خالد، حدثنا الليث عن يزيد عن أبي الخير عن عقبة بن عامر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود، فذكره النبي صلى الله عليه وسلم فقال ضح به أنت) انتهى من صحيح البخاري. وفي لفظ له من حديث أنس رضي الله عنه قال (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين فرأيته واضعا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده) وفي لفظ للبخاري عن أنس أيضا قال (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما) وفي لفظ له عن أنس رضي الله عنه أيضا (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين ويضع رجله على صفاحهما، ويذبحهما بيده) انتهى منه.
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة عن قتادة، عن أنس قال (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما) وفي لفظ له عن أنس رضي الله عنه قال (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين قال ورأيته يذبحهما بيده ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما قال: وسمى وكبر)، وفي لفظ لمسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أنه قال ويقول. (بسم الله والله أكبر). وقال مسلم في صحيحه أيضا: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا عبد الله بن وهب قال: قال حيوة: أخبرني أبو صخر عن يزيد بن قسيط عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد، وينظر في سواد فأتى به ليضحي به فقال لها: يا عائشة، هلمي المدية ثم قال: أشحذيها بحجر، ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به) انتهى من صحيح مسلم، والأحاديث الواردة في مشروعية الأضحية كثيرة، معروفة.
وقد اختلف أهل العلم في حكمها فذهب أكثر أهل العلم: إلى أنها سنة مؤكدة في حق الموسر، ولا تجب عليه وقال النووي في شرح المهذب: وهذا مذهبنا وبه قال أكثر العلماء منهم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وبلال، وأبو مسعود البدري، وسعيد بن المسيب وعطاء وعلقمة، والأسود، ومالك، وأحمد، وأبو يوسف، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني، وداود وابن المنذر، وقال ربيعة والليث بن سعد، وأبو حنيفة، والأوزاعي: هي واجبة على الموسر إلا الحاج بمنى. وقال محمد بن الحسن: هي واجبة على المقيم بالأمصار. والمشهور عن أبي حنيفة: أنه إنما يوجبها على مقيم يملك نصابا. انتهى كلام النووي.
199

وقال النووي في شرح مسلم: واختلف العلماء في وجوب الأضحية، على الموسر؟ فقال جمهورهم: هي سنة في حقه إن تركها بلا عذر، لم يأثم، ولم يلزمه القضاء
، وممن قال بهذا: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب إلى آخر كلامه قريبا مما ذكرنا عنه في شرح المهذب.
وقال ابن قدامة في المغني: أكثر أهل العلم على أنها سنة مؤكدة غير واجبة: روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وبلال، وأبي مسعود البدري رضي الله عنهم. وبه قال سويد بن غفلة وسعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود، وعطاء، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر. وقال ربيعة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأبو حنيفة: هي واجبة ونقل ابن قدامة في المغني عن مالك وجوب الأضحية خلاف مذهبه، ومذهبه هو ما نقل عنه النووي: من أنها سنة، ولكنها عنده لا تسن على خصوص الحاج بمنى، لأن ما يذبحه هدي لا أضحية. وقد قدمنا أن آية الحج لا تخلو من دلالة على ما ذهب إليه مالك، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
فإذا رأيت أقوال أهل العلم في حكم الأضحية، فهذه أدلة أقوالهم ومناقشتها، وما يظهر رجحانه بالدليل منها، على سبيل الاختصار.
أما من قال: إنها واجبة فقد استدل بأدلة منها أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعلها والله يقول: * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) *.
وقد قدمنا قول من قال من أهل الأصول إن فعله صلى الله عليه وسلم الذي لم تعلم جهته من وجوب أو غيره يحمل على الوجوب. وأوضحنا أدلة ذلك. وذكرنا أن صاحب مراقي السعود ذكره بقوله في كتاب السنة في مبحث أفعال النبي صلى الله عليه وسلم::
* وكل ما الصفة فيه تجهل
* فللوجوب في الأصح يجعل
*
وذكرنا مناقشة الأقوال فيه في الحج، وغيره من سور القرآن.
ومن أدلتهم على وجوب الأضحية ما رواه البخاري في صحيحه: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا الأسود بن قيس: سمعت جندب بن سفيان البجلي قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: (من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح) اه. قالوا قوله: فليعد وقوله: فليذبح كلاهما صيغة أمر.
وقد قدمنا أن الصحيح عند أهل الأصول أن الأمر المتجرد عن القرائن، يدل على
200

الوجوب، وبينا أدلة ذلك من الكتاب والسنة، ورجحناه بالأدلة الكثيرة الواضحة كقوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) *. وقوله: * (أفعصيت أمرى) * فسمى مخالفة الأمر معصية، وقوله: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة) *. فجعل أمره وأمر رسوله مانعا من الاختيار، موجبا للامتثال، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) الحديث إلى آخر ما قدمنا، وحديث جندب بن سفيان الذي ذكرناه عن البخاري أخرجه أيضا مسلم في صحيحه بلفظ: (من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي أو نصلي، فليذبح مكانها أخرى ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله) وصيغة الأمر بالذبح في حديثه، واضحة كما بينا دلالتها على الوجوب آنفا.
ومن أدلتهم على وجوب الأضحية: ما رواه أبو داود في سننه، حدثنا مسدد، ثنا يزيد ح وثنا حميد بن مسعدة، ثنا بشر عن عبد الله بن عون، عن عامر أبي رملة قال: أخبرنا مخنف بن سليم قال: ونحن وقوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات قال: قال: (يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة أتدرون ما العتيرة؟ هي: التي يقول عنها الناس: الرجبية) اه منه.
وقال النووي في شرح المهذب: في هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، قال الترمذي: حديث حسن. قال الخطابي: هذا الحديث ضعيف المخرج، لأن أبا رملة مجهول. وهو كما قال الخطابي مجهول قال فيه ابن حجر في التقريب: عامر أبو رملة شيخ لابن عون لا يعرف اه منه. وقال فيه الذهبي في الميزان: عامر أبو رملة شيخ لابن عون فيه جهالة له عن مخنف بن سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس إن على كل بيت في الإسلام أضحية، وعتيرة). قال عبد الحق: إسناده ضعيف، وصدقه ابن القطان لجهالة عامر، رواه عنه ابن عون اه منه.
وبه تعلم أن قول ابن حجر في الفتح في حديث مخنف بن سليم أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي، خلاف التحقيق كما ترى. وقد قال أبو داود بعد أن ساق الحديث بسنده ومتنه كما ذكرناه عنه آنفا. قال أبو داود: العتيرة: منسوخة هذا خبر منسوخ اه منه. ولكنه لم يبين الناسخ، ولا دليل النسخ. وعلى كل حال فالحديث ضعيف لا يحتج به، لأن أبا رملة مجهول كما رأيت من قال ذلك.
ومن أدلتهم على وجوبها: ما رواه الإمام أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم عن أبي
201

هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا) قال ابن حجر في بلوغ المرام: في هذا الحديث رواه أحمد وابن ماجة، وصححه الحاكم ورجح الأئمة غيره وقفه، وقال ابن حجر في فتح الباري: وأقرب ما يتمسك به لوجوب الأضحية، حديث أبي هريرة، رفعه (من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا) أخرجه ابن ماجة، وأحمد ورجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه والموقوف أشبه بالصواب. قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك فليس صريحا في الإيجاب اه منه.
وذكر النووي في شرح المهذب، من أدلة من أوجبها: ما جاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة يوم عيد) ثم قال رواه البيهقي. وقال: تفرد به محمد بن ربيعة، عن إبراهيم بن يزيد الخوزي وليسا بقويين، ثم قال: وعن عائذ الله المجاشعي، عن أبي داود نفيع عن
زيد بن أرقم أنهم قالوا: يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما هذه الأضاحي قال: (سنة أبيكم إبراهيم (صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم)، قالوا: ما لنا فيها من الأجر؟ قال: بل كل قطرة حسنة) رواه ابن ماجة، والبيهقي. قال البيهقي: قال البخاري: عائذ الله المجاشعي عن أبي داود لا يصح حديثه، وأبو داود هذا ضعيف، ثم قال النووي: وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نسخ الأضحى كل ذبح، وصوم رمضان كل صوم والغسل من الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة) رواه الدارقطني والبيهقي قال: وهو ضعيف، واتفق الحفاظ على ضعفه، وعن عائشة قالت: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أستدين وأضحي؟ قال: (نعم فإنه دين مقضي) رواه الدارقطني والبيهقي، وضعفاه قالا: وهو مرسل اه كلام النووي. وما ذكره من تضعيف الأحاديث المذكورة: هو الصواب، وقد وردت أحاديث غير ما ذكرنا في الترغيب في الأضحية، وفيها أحاديث متعددة ليست بصحيحة. وهذا الذي ذكرنا هو عمدة من قال: بوجوب الأضحية، واستدلال بعض الحنفية على وجوبها بالإضافة في قولهم: يوم الأضحى قائلا: إن الإضافة إلى الوقت، لا تحقق إلا إذا كانت موجودة فيه بلا شك، ولا تكون موجودة فيه بيقين، إلا إذا كانت واجبة لا يخفى سقوطه، لأن الإضافة تقع بأدنى ملابسة، فلا تقتضي الوجوب على التحقيق، كما لا يخفى.
وأقوى أدلة من قال بالوجوب: هو ما قدمنا في الصحيحين من حديث جندب بن
202

سفيان البجلي، من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من ذبح قبل الصلاة بالإعادة، وأمر من لم يذبح بالذبح. وقد قدمنا دلالة الأمر على الوجوب والحديث المختلف في وقفه ورفعه، الذي قدمنا، لأن قوله فيه (فلا يقربن مصلانا) يفهم منه أن ترك الأضحية مخالفة غير هينة، لمنع صاحبها من قرب المصلى وهو يدل على الوجوب. والفرق بين المسافر والمقيم عند أبي حنيفة لا أعلم له مستندا من كتاب ولا سنة، وبعض الحنفية يوجهه، بأن أداءها له أسباب تشق على المسافر، وهذا وحده لا يكفي دليلا، لأنه من المعلوم أن كل واجب عجز عنه المكلف، يسقط عنه لقوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *. وأما الذين قالوا: بأن الأضحية سنة مؤكدة، وليست بواجبة، فاستدلوا بأدلة منها: ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر المكي، حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، سمع سعيد بن المسيب يحدث عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا) قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه. قال: لكني أرفعه اه وفي لفظ عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم: (إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذن شعرا ولا يقلمن ظفرا) وفي لفظ له عنها مرفوعا (إذا أراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره) اه.
كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث زوجه أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، ووجه الاستدلال بها، على عدم الوجوب أن ظاهر الرواية: أن الأضحية موكولة إلى إرادة المضحي، ولو كانت واجبة لما كانت كذلك.
قال النووي في شرح المهذب: بعد أن ذكر بعض روايات حديث أم سلمة المذكور ما نصه: قال الشافعي: هذا دليل أن التضحية ليست بواجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم، وأراد فجعله مفوضا إلى إرادته، ولو كانت واجبة لقال: فلا يمس من شعره، حتى يضحي اه منه. وقال النووي في شرح المهذب أيضا: واستدل أصحابنا، يعني لعدم الوجوب بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هن علي فرائض وهن لكم تطوع: النحر، والوتر، وركعتا الضحى) رواه البيهقي بإسناد ضعيف. ورواه في موضع آخر وصرح بضعفه وللحديث المذكور طرق، ولا يخلو شيء منها من الضعف ولم يذكرها النووي. ثم قال النووي: وصح عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: أنهما كانا لا يضحيان، مخافة أن يعتقد الناس وجوبها اه كلام النووي. وقال ابن حجر في فتح الباري: قال ابن
203

حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين. وقد استدل لعدم وجوبها: المجد في المنتقى بحديثين، ولا تظهر دلالتها على ذلك عندي كل الظهور. قال في المنتقى: باب ما احتج به في عدم وجوبها، بتضحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أمته: عن جابر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف (أتى بكبش فذبحه فقال: باسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي) وعن علي بن الحسين، عن أبي رافع (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب للناس أوتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: اللهم هذا عني وعن أمتي جميعا من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ، ثم يؤتي بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول: هذا عن محمد وآل محمد فيطعمهما جميعا المساكين، ويأكل هو وأهله منهما) فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤنة برسول الله صلى الله عليه وسلم والغرم رواه أحمد اه من المنتقى.
وقال شارحه في نيل الأوطار: ووجه دلالة الحديثين، وما في معناهما على عدم الوجوب: أن تضحيته صلى الله عليه وسلم عن أمته وعن أهله تجزىء كل من لم يضح، سواء كان متمكنا من الأضحية أو غير متمكن، ثم تعقبه بقوله: ويمكن أن يجاب عن ذلك، بأن حديث (على كل أهل بيت أضحية) يدل على وجوبها على كل أهل بيت، يجدونها فيكون قرينة على أن تضحية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غير الواجدين من أمته ولو سلم الظهور المدعي فلا دلالة له على عدم الوجوب، لأن محل النزاع من لم يضح عن نفسه، ولا ضحى عنه غيره، فلا يكون عدم وجوبها على من كان في عصره صلى الله عليه وسلم من الأمة مستلزما، لعدم وجوبها على من كان في غير عصره صلى الله عليه وسلم منهم اه. من نيل الأوطار. وقد رأيت أدلة القائلين بالوجوب، والقائلين بالسنة. والواقع في نظرنا أنه ليس في شيء من أدلة الطرفين، دليل جازم سالم من المعارض على الوجوب، ولا على عدمه لأن صيغة الأمر بالذبح في الحديث الصحيح وبإعادة من ذبح، قبل الصلاة، وإن كان يفهم منه الوجوب على أحد الأقوال، وهو المشهور في صيغة الأمر. فحديث أم سلمة الذي ظاهره: تفويض ذلك إلى إرادة المضحي، وهو في صحيح مسلم يمكن أن يكون قرينة صارفة عن الوجوب في صيغة الأمر المذكور، وكلا الدليلين لا يخلو من احتمال، وحديث (من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا) رجح أكثر الأئمة وقفه،
وقد قدمنا أن ابن حجر قال: إنه ليس صريحا
204

في الإيجاب وأجاب القرطبي في المفهم عن دلالة صيغة الأمر في قوله: فليعد، وقوله: فليذبح وقال: لا حجة في شيء من ذلك، على الوجوب وإنما المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية، لمن أراد أن يفعلها أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأ أو جهلا، فبين له وجه تدارك ما فرط منه اه محل الغرض منه بواسطة نقل ابن حجر في الفتح.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي في مثل هذا الذي لم تتضح فيه دلالة النصوص على شيء معين إيضاحا بينا أنه يتأكد على الإنسان: الخروج من الخلاف فيه، فلا يترك الأضحية مع قدرته عليها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، فلا ينبغي تركها قادر عليها، لأن أداءها هو الذي يتيقن به براءة ذمته، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الأول: قد علمت: أن أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على أن الأضحية: سنة لا واجبة، والمالكية يقولون: إن وجوبها خاص به صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن الأحاديث الواردة في ذلك لا تخلو من ضعف، وقد استثنى مالك، وأصحابه الحاج بمنى، قالوا: لا تسن له الأضحية لأن ما يذبحه هدي لا أضحية، وخالفهم جماهير أهل العلم نظرا لعموم أدلة الأمر بالأضحية في الحاج وغيره، ولبعض النصوص المصرحة بمشروعية الأضحية للحاج بمنى. قال البخاري في صحيحه: باب الأضحية للمسافر والنساء: حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وحاضت بسرف قبل أن تدخل مكة، وهي تبكي) الحديث وفيه: (فلما كنا بمنى أتيت بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ قالوا ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر) اه. وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج)، الحديث بطوله، وفيه فقالت: (وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر) اه من صحيح مسلم. قالوا: فقد ثبت في الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه ببقر يوم النحر بمنى)، وهو دليل صحيح على مشروعية الأضحية للحاج بمنى.
205

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين دليلا عندي في هذا الفرع قول مالك وأصحابه، وإن خالفهم الجمهور، وأن الأضحية لا تسن للحاج بمنى، وأن ما يذبحه هدي لا أضحية، وأن الاستدلال بحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفا لا تنهض به الحجة على مالك وأصحابه، ووجه كون مذهب مالك: أرجح في نظرنا هنا مما ذهب إليه جمهور أهل العلم، هو أن القرآن العظيم دال عليه، ولم يثبت ما يخالف دلالة القرآن عليه سالما من المعارض من كتاب أو سنة، ووجه دلالة القرآن على أن ما يذبحه الحاج بمنى: هدي لا أضحية، هو ما قدمناه موضحا لأن قوله تعالى: * (وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام فكلوا منها) * فيه معنى: أذن في الناس بالحج: يأتوك مشاة وركبانا لحكم. منها: شهودهم منافع لهم، ومنها: ذكرهم اسم الله: * (على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) *، عند ذبحها تقربا إلى الله، والذي يكون من حكم التأذين فيهم بالحج، حتى يأتوا مشاة وركبانا، ويشهدوا المنافع ويتقربوا بالذبح، إنما هو الهدي خاصة دون الأضحية لإجماع العلماء على أن للمضحي: أن يذبح أضحيته في أي مكان شاءه من أقطار الدنيا ولا يحتاج في التقرب بالأضحية، إلى إتيانهم مشاة وركبانا من كل فج عميق. فالآية ظاهرة في الهدي، دون الأضحية، وما كان القرآن أظهر فيه وجب تقديمه على غيره، أما الاحتجاج بحديث عائشة المتفق عليه: (أنه ضحى ببقر عن نسائه يوم النحر صلوات الله وسلامه عليه) فلا تنهض به الحجة، لكثرة الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنهن متمتعات، وأن ذلك البقر هدي واجب، وهو هدي التمتع المنصوص عليه في القرآن وأن عائشة منهن قارنة والبقرة التي ذبحت عنها: هدي قران، سواء قلنا إنها استقلت بذبح بقرة عنها وحدها، كما قدمناه في بعض الروايات الصحيحة، أو كان بالاشتراك مع غيرها في بقرة، كما قال به بعضهم: وأكثر الروايات ليس فيها لفظ: ضحى، بل فيها: أهدى، وفيها: ذبح عن نسائه وفيها: نحر عن نسائه فلفظ ضحى من تصرف بعض الرواة للجزم، بأن ما ذبح عنهن من البقر يوم النحر بمنى: هدي تمتع بالنسبة لغير عائشة، وهدي قران: بالنسبة إليها، كما هو معلوم بالأحاديث الصحيحة، التي لا نزاع فيها، وبهذا الذي ذكرنا تعلم أن ظاهر القرآن مع مالك، والحديث ليس فيه حجة عليه.
وقال ابن حجر في فتح الباري: في باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن
206

بعد ذكره رواية: ضحى المذكورة ما نصه: والظاهر أن التصرف من الرواة، لأنه في الحديث ذكر النحر، فحمله بعضهم على الأضحية، فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك، كان عمن اعتمر من نسائه فقويت رواية من رواه بلفظ: أهدى، وتبين أنه هدي التمتع، فليس فيه حجة على مالك في قوله: لا ضحايا على أهل منى اه محل الغرض من فتح الباري، وهو واضح فيما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: اعلم أن من ذبح أضحية، قبل أن يصلي إمام المسلمين صلاة العيد، فإن ذبيحته لا تجزئه عن الأضحية، وإنما شاته التي ذبحها شاة لحم يأكلها هو ومن شاء. وليست بشاة نسك، وهذا ثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن زبيد اليامي، عن الشعبي، عن البراء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه
وسلم: (إن أول ما يبدأ به في يومنا هذا أن يصلي، ثم نرجع فننحر، من فعل فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء) اه محل الغرض منه. وفي لفظ للبخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة، فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة. فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين) اه. وفي لفظ للبخاري، عن أنس بن مالك أيضا قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر: (من كان ذبح قبل الصلاة فليعد) الحديث. وفي لفظ للبخاري من حديث البراء، عنه صلى الله عليه وسلم قال: (من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين) اه.
وقد قدمنا في حديث جندب بن سفيان البجلي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى) الحديث إلى غير هذا من الروايات بمعناه في صحيح البخاري، وكون الأضحية المذبوحة قبل الصلاة: لا تجزىء صاحبها الذي ذكرنا في صحيح البخاري، أخرجه مسلم أيضا من حديث جندب بن سفيان البجلي، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك رضي الله عنهم، فهذه الأحاديث المتفق عليها عن جندب والبراء وأنس: نصوص صريحة في أن من ذبح أضحيته قبل صلاة الإمام صلاة العيد: أنها لا تجزئه، وإن كان الإمام الأعظم، هو إمام الصلاة فلا إشكال، وإن كان إمام الصلاة غيره، فالظاهر: أن المعتبر إمام الصلاة، لأن ظاهر الأحاديث: أنها يشترط لصحتها، أن تكون بعد الصلاة، وظاهرها العموم سواء كان إمام الصلاة الإمام الأعظم أو غيره، والعلم عند الله تعالى.
207

والأظهر: أن من أراد أن يضحي بمحل لا تقام فيه صلاة العيد، أنه يتحرى بذبح أضحيته قدر ما يصلي فيه الإمام صلاة العيد عادة، ثم يذبح. والله تعالى أعلم.
وقد جاء في صحيح مسلم وغيره، ما يدل على عدم إجزاء ما نحر قبل نحره صلى الله عليه وسلم. وظاهره: أنه لا بد لإجزاء الأضحية، من أن تكون بعد الصلاة، وبعد نحر الإمام، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث: في سن الأضحية التي تجزىء. والأظهر: أن السن التي تجزىء في الأضحية هي التي تكون مسنة، فإن تعسرت المسنة أجزأته جذعة من الضأن.
قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) اه.
وقال النووي في شرح هذا الحديث ما نصه: قال العلماء: المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم، فما فوقها. وهذا تصريح: بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال. وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض، ونقل العبدري وغيره، من أصحابنا، عن الأوزاعي أنه قال: يجزئ الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن. وحكي هذا عن عطاء. وأما الجذع من الضأن فمذهبنا، ومذهب العلماء كافة: أنه يجزئ سواء وجد غيره أو لا وحكوا عن ابن عمر والزهري: أنهما قالا: لا يجزئ. وقد يحتج لهما بظاهر هذا الحديث. قال الجمهور: هذا الحديث محمول على الاستحباب والأفضل، وتقديره: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فجذعة ضأن، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن، وأنها لا تجزىء بحال. وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره، لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن، مع وجود غيره وعدمه. وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب والله أعلم. إلى أن قال: والجذع من الضأن: ما له سنة تامة، هذا هو الأصح عند أصحابنا، وهو الأشهر عند أهل اللغة وغيرهم، وقيل ما له ستة أشهر.
وقيل: سبعة، وقيل: ثمانية، وقيل: ابن عشرة. حكاه القاضي، وهو غريب.
وقيل: إن كان متولدا من بين شابين، فستة أشهر، وإن كان من هرمين فثمانية أشهر اه محل الغرض منه. وقال في شرح المهذب: ثم الجذع ما استكمل سنة على
208

أصح الأوجه إلى آخر الأوجه التي ذكرها في شرح مسلم. وتقدم نقلها عنه آنفا. وقال أيضا: وأما الثني من الإبل فما استكمل خمس سنين، ودخل في السادسة. وروى حرملة عن الشافعي أنه الذي استكمل ست سنين، ودخل في السابعة.
قال الروياني: وليس هذا قولا آخر للشافعي، وإن توهمه بعض أصحابنا، ولكنه إخبار عن نهاية سن الثني، وما ذكره الجمهور بيان لابتداء سنه، وأما الثني من البقر فهو ما استكمل سنتين، ودخل في الثالثة.
وروى حرملة عن الشافعي: أنه ما استكمل ثلاث سنين، ودخل في الرابعة. والمشهور من نصوص الشافعي الأول وبه قطع الأصحاب وغيرهم من أهل اللغة وغيرهم. والثني من المعز فيه عندهم وجهان: أصحهما: ما استكمل سنتين. والثاني: ما استكمل سنة اه منه.
وقد علمت أن الثني هو المسن. قال ابن الأثير في النهاية في الجذع: هو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز: ما دخل في السنة الثانية، وقيل: البقر في الثالثة ومن الضأن: ما تمت له سنة، وقيل: أقل منها، ومنهم من يخالف بعض هذا في التقدير اه منه. وقال ابن الأثير في النهاية أيضا: الثنية من الغنم ما دخلت في السنة الثالثة، ومن البقر كذلك، ومن الإبل: في السادسة والذكر ثني، وعلى مذهب أحمد بن حنبل: ما دخل من المعز في الثانية، ومن البقر في الثالثة.
وقال ابن الأثير في النهاية في المسنة، قال الأزهري: البقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن، إذا أثنيا، ويثنيان في السنة الثالثة.
وقال الجوهري في صحاحه: الجذع، قبل الثني والجمع جذعان وجذاع، والأنثى: جذعة، والجمع: جذعات تقول منه لولد الشاة في السنة الثانية، ولولد البقر والحافر في السنة الثالثة، وللإبل في السنة الخامسة: أجذع والجذع اسم له في زمن ليس بسن تنبت ولا تسقط، وقد قيل: في ولد النعجة: إنه جذع في ستة أشهر، أو تسعة أشهر، وذلك جائز في الأضحية انتهى منه. وفي القاموس: والثنية: الناقة الطاعنة في السادسة، والبعير ثني والفرس الداخلة في الرابعة والشاة في الثالثة كالبقرة. اه منه.
وقد علمت مما مر: أن حديث مسلم الثابت فيه دليل على أن الأضحية لا تكون إلا بمسنة، وأنها إن تعسرت فجذعة من الضأن، فمن ضحى بمسنة، أو بجذعة من الضأن عند تعسرها: فضحيته مجزئة إجماعا.
209

واختلف أهل العلم فيما سوى ذلك، وهذه مذاهبهم وأدلتها.
فذهب مالك رحمه الله وأصحابه: إلى أن المجزىء في الضحية: جذع الضأن، وثني المعز والبقر، والإبل. وجذع الضأن عندهم: هو ما أكمل سنة على المشهور، وثني المعز عندهم: هو ما أكمل سنة، ودخل في الثانية دخولا بينا، فالدخول في السنة الثانية، دخولا بينا هو الفرق عندهم بين جذع الضأن، وثني المعز.
ودليل مالك وأصحابه على ما ذكرنا عنهم في سن الأضحية: أن جذع الضأن عندهم، لا فرق بينه وبين جذعة الضأن المنصوص على إجزائها في صحيح مسلم، وأن الثني ثبت إجزاؤه مطلقا، وتحديدهم له في المعز بما دخل في الثانية دخولا بينا من تحقيق المناط، والثني عندهم من البقر ابن ثلاث سنين والأنثى والذكر سواء عندهم. والثني عندهم من الإبل: ابن خمس سنين، والذكر والأنثى سواء.
ومعلوم أن الذكورة، والأنوثة في الضحايا والهدايا، وصفان طرديان، لا أثر لواحد منهما في الحكم فهما سواء. وقال بعض المالكية: إن الثني من البقر: ابن أربع سنين. والظاهر: أنه غير مخالف للقول الأول، وأن المراد به ابن ثلاث ودخل في الرابعة.
وقال ابن حبيب من المالكية: والثني من الإبل ابن ست سنين، والظاهر أيضا أنه غير مخالف للقول الأول، لأن المراد به ابن خمس، ودخل في السادسة، فإن قيل ظاهر... سلمنا أن جذعة الضأن المنصوص عليها في حديث جابر عند مسلم: لا فرق بينها، وبين الجذع الذكر، لأن الذكورة والأنوثة في الهدايا والضحايا وصفان طرديان، لا أثر لهما في الحكم. ولكن ظاهر الحديث، يدل على أن جذعة الضأن الأنثى المذكورة في الحديث، لا يذبحها، إلا من تعسرت عليه المسنة، التي هي الثنية، لأن لفظ الحديث المتقدم (لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن).
فالجواب: أن ظاهر الحديث أن الجذعة من الضأن: لا تجزىء إلا عند تعسر المسنة، وظاهره: أن الجذع الذكر من الضأن: لا يجزئ سواء عسر وجود المسنة، أو لم يعسر، وجمهور أهل العلم خالفوا ظاهر هذا الحديث من الجهتين المذكورتين، إلا ما روي عن ابن عمر، والزهري: من أن الجذع الذكر من الضأن: لا يجزئ مطلقا لظاهر هذا الحديث.
قال النووي: في شرحه لحديث مسلم: هذا ما نصه: قال العلماء: المسنة هي الثنية: من كل شيء من الإبل والبقر والغنم، فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير
210

الضأن في حال من الأحوال، وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض، ونقل العبدري، وغيره من أصحابنا أنه قال: يجوز الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن، وحكي هذا عن عطاء، وأما الجذع من الضأن: فمذهبنا، ومذهب العلماء كافة: أنه يجزئ، سواء وجد غيره أو لا، وحكوا عن ابن عمر والزهري أنهما قالا: تجزىء، وقد يحتج لهما بظاهر الحديث، قال الجمهور: هذا الحديث محمول على الاستحباب، والأفضل وتقديره: يستحب لكم ألا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فجذعة ضأن، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن، وأنها لا تجزىء بحال، وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره، لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزهري: يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب والله أعلم. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الحديث ظاهر في أن جذعة الضأن: لا تجزىء إلا إذا تعسر وجود المسنة، لأن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: (لا تذبحوا إلا مسنة) نهي صريح عن ذبح غير المسنة، التي هي الثنية. والنهي: يقتضي التحريم كما تقرر في الأصول، إلا إذا وجد صارف عنه، وهو دليل ظاهر على أن جذعة الضأن: لا تجزىء إلا عند تعسر المسنة كما ترى، وسيأتي إن شاء الله إيضاح بقية هذا البحث بعد ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة، ومناقشة أدلتهم، وأما مذهب الشافعي رحمه الله في هذه المسألة: فهو أن الجذع لا يجزئ إلا من الضأن خاصة، والجذع من الضأن والجذعة عنده سواء، وأما غير الضأن: فلا يجزئ عنده منه إلا الثنية، أو الثني. وقد قدمنا كلام أهل العلم، واللغة في سن الجذع، والثني والجذعة والثنية والوجه الذي حكاه الرافعي: أن جذع المعز يجزئ عند الشافعية غلط كما صرح به النووي. وأما مذهب أبي حنيفة: فهو كمذهب الشافعي، وهو جواز التضحية بالجذع من الضأن خاصة، وبالثني من غير الضأن وهو المعز والإبل والبقر.
وقال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي ما نصه: والجذع من الضأن: ما تمت له ستة أشهر عند الفقهاء، وذكر الزعفراني: أنه ابن سبعة أشهر. والثني من الضأن، والمعز ابن سنة، ومن البقر: ابن سنتين، ومن الإبل: ابن خمس سنين، وفي القرب: الجذع من البهائم قبل الثني إلا أنه من الإبل قبل السنة الخامسة، ومن البقر والشاة في السنة الثانية، ومن الخيل في الرابعة، وعن الزهري الجذع من المعز لسنة، ومن الضأن لثمانية أشهر. اه منه.
211

والأصح: هو ما قدمنا في سن الجذع والثني عن الفقهاء، وأهل اللغة، ومذهب الإمام أحمد كمذهب أبي حنيفة والشافعي، فلا يجوز عنده الجذع إلا من الضأن خاصة، ولا يجوز من غير الضأن: إلا الثني، والجذع من الضأن عندهم: ما له ستة أشهر، ودخل في السابع، وثني المعز عندهم: إذا تمت له سنة، ودخل في الثانية، وثني البقر عندهم: إذا تمت له سنتان، ودخل في الثالثة، وثني الإبل عندهم: إذا تمت له خمس سنين، ودخل في السادسة. قاله ابن قدامة في المغني: وقال أيضا قال الأصمعي، وأبو زياد الكلابي، وأبو زيد الأنصاري: إذا مضت السنة الخامسة على البعير، ودخل في السادسة، وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني، ونرى أنه إنما سمي ثنيا، لأنه ألقى ثنيتيه. وأما البقرة فهي التي لها سنتان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تذبحوا إلا مسنة) ومسنة البقر التي لها سنتان، وقال وكيع: الجذع من الضأن يكون ابن سبعة أشهر. انتهى كلام المغني. وقد عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في السن، التي تجزىء ضحية من بهيمة الأنعام، وأنهم متفقون على إجزاء جذع
الضأن، والثني من غيره مع بعض الاختلاف، الذي رأيت في سن الجذع والثني.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي: هو ما عليه جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وغيرهم: أنه لا يجزئ في الأضحية: الجذع إلا من الضأن خاصة، ومن غير الضأن وهو المعز، والإبل والبقر: لا يجزئ إلا الثني. فما فوقه. والذكر والأنثى سواء في الهدايا، والأضاحي كما تقدم.
والتأويل الذي قدمنا عن النووي في حديث جابر في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) أنه متعين بحمله على الاستحباب، والأفضل يظهر لي أنه متعين كما قاله النووي، والقرينة الصارفة عن ظاهر حديث جابر المذكور عند مسلم: هي أحاديث أخر جاءت من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الجذع من الضأن يجزئ، وظاهرها، ولو كان المضحي قادرا على المسنة، وسنذكرها هنا بواسطة نقل المجد في المنتقى، لأنه ذكرها في محل واحد، فمنها ما رواه الإمام أحمد والترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نعم أو نعمت الأضحية: الجذع من الضأن) ومنها: ما رواه الإمام أحمد وابن ماجة، عن أم بلال بنت هلال، عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجوز الجذع من الضأن ضحية) ومنها: ما رواه أبو داود وابن ماجة، عن مجاشع بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية) ومنها: ما رواه النسائي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (ضحينا
212

مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجذع من الضأن) اه. بواسطة نقل المجد في المنتقى.
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، فتصلح بمجموعها للاحتجاج، وتعتضد بأن عامة أهل العلم، على العمل بها، إلا ما نقل عن ابن عمر والزهري. وقد دل حديث جابر المذكور عند مسلم: على أن الجذع من غير الضأن لا يجزئ، وهو كذلك، وحديث البراء بن عازب الثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بردة: (ضح بجذعة من المعز ولن تجزىء عن أحد بعدك) دليل: على أن جذع المعز لا يجزئ في الأضحية. قال البخاري في صحيحه: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: (ضح بالجذع من المعز ولن تجزىء عن أحد بعدك). حدثنا مسدد، حدثنا خالد بن عبد الله، حدثنا مطرف، عن عامر عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: ضحى خال لي يقال له أبو بردة، قبل الصلاة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شاتك شاة لحم، فقال: يا رسول الله، إن عندي داجنا جذعة من المعز. قال: اذبحها ولا تصلح لغيرك) اه منه. وفي لفظ للبخاري من حديث البراء (ولن تجزىء عن أحد بعدك) وكذلك هي في بعض ألفاظ مسلم في حديث البراء المذكور (ولن تجزىء عن أحد بعدك) وفي لفظ عند مسلم من حديث البراء (ضح بها ولا تصلح لغيرك) وفي لفظ له عنه (ولا تجزىء جذعة من أحد بعدك).
والروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لأبي بردة في التضحية بعناق جذعة من المعز وصرح: بأنها لا تجزىء عن أحد بعده معروفة في الصحيحين وغيرهما: وهي دليل على أن جذع المعز لا يجزئ. فمن قال من أهل العلم بأنه يجزئ رد قوله بهذا الحديث الصحيح، المصرح بأن جذعة المعز لا تجزىء عن أحد بعد أبي بردة.
فإن قيل: جاء في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضح به أنت) وهذا لفظ البخاري في صحيحه، وفي لفظ لمسلم عن عقبة بن عامر الجهني المذكور رضي الله عنه قال: (قسم النبي صلى الله عليه وسلم فينا ضحايا فأصابني جذع، فقلت: يا رسول الله أصابني جذع فقال: ضح به) اه منه. وروايات هذا الحديث الصحيح، عن عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يضحي بجذع المعز، لأن العتود لا تطلق إلا على ولد المعز، والروايات مصرحة بأن المذكور جذع. وقال ابن الأثير في النهاية: والعتود من ولد المعز إذا قوي ورعى، وأتى عليه حول. وهذا حديث متفق عليه
213

فيه الدلالة الصريحة: على جواز التضحية بجذع المعز، وذكر ابن حجر في الفتح: أن البيهقي ذكر زيادة في حديث عقبة بن عامر، المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعقبة: (ولا رخصة فيها لأحد بعدك) وقال ابن حجر: إن الطريق التي روى بها البيهقي الزيادة المذكورة صحيحة: وإن حاول بعضهم تضعيفها.
فالجواب: أن الجمع بين ما وقع لأبي بردة، وعقبة بن عامر أشكل على كثير من أهل العلم، ويزيده إشكالا، أن الترخيص في الأضحية بجذع المعز ورد عنه صلى الله عليه وسلم لجماعة آخرين. قال ابن حجر في الفتح: فقد أخرج أبو داود وأحمد، وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتودا جذعا فقال: ضح به. فقلت: إنه جذع أفأضحي؟ قال: نعم ضح به فضحيت به) لفظ أحمد إلى أن قال: وفي الطبراني في الأوسط، من حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص جذعا من المعز فأمره أن يضحي به) وأخرجه الحاكم من حديث عائشة، وفي سنده ضعف، ولأبي يعلى، والحاكم من حديث أبي هريرة: أن رجلا قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا جذع من الضأن مهزول، وهذا جذع من المعز سمين، وهو خيرهما أفأضحي به؟ قال (ضح به فإن لله الخير) انتهى بواسطة نقل ابن حجر في فتح الباري.
وإذا عرفت أن في الأحاديث المذكورة إشكالا، فاعلم: أن الحافظ في الفتح تصدى لإزالة ذلك الإشكال، فقال في موضع بعد سوقه الأحاديث التي ذكرنا والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث، وبين حديثي أبي بردة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزئ، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك. وإنما قلت ذلك: لأن بعض الناس زعم أن هؤلاء شاركوا أبا بردة وعقبة في ذلك، والمشاركة إنما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير. انتهى محل الغرض منه بلفظه. ومقصوده: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لأحد ممن رخص لهم في التضحية بجذع المعز (ولن تجزىء عن أحد
بعدك) إلا لأبي بردة، وعقبة بن عامر على ما رواه البيهقي، والذين لم يقل لهم، ولن تجزىء عن أحد بعدك، لا إشكال في مسألتهم، لاحتمال أنها قبل تقرر الشرع بعدم إجزاء جذع المعز، فبقي الإشكال بين حديث أبي بردة، وحديث عقبة. وقد تصدى لحله ابن حجر في الفتح أيضا فقال في موضع: وأقرب ما يقال فيه: إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، ولا مانع من ذلك، لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره
214

صريحا اه محل الغرض منه. وقال في موضع آخر: وإن تعذر الجمع الذي قدمته، فحديث أبي بردة أصح مخرجا اه منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما الجمع الذي ذكره ابن حجر، فالظاهر عندي: أنه لا يصح. وقوله: لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع غلط منه رحمه الله، بل وقع في السياق التصريح باستمرار المنع لأن قوله صلى الله عليه وسلم (ولن تجزىء عن أحد بعدك) صريح في استمرار منع الإجزاء عن غيره، لأن لفظة (لن) تدل على نفي الفعل في المستقبل من الزمن، فهي دليل صريح على استمرار عدم الإجزاء عن غيره، في المستقبل من الزمن ويؤيد ذلك أن قوله (عن أحد بعدك) نكرة في سياق النفي، فهي تعم كل أحد في كل وقت كما ترى.
والصواب: الترجيح بين الحديثين، وحديث أبي بردة لا شك أن لفظة (ولن تجزىء عن أحد بعدك) فيه أصح سندا من زيادة نحو ذلك في حديث عقبة، فيجب تقديم حديث أبي بردة، على حديث عقبة، كما ذكره ابن حجر في كلامه الأخير والله تعالى أعلم.
فإن قيل: ذكر جماعة من علماء العربية أن لفظة: لن: لا تدل على تأبيد النفي. قال ابن هشام في المغني في الكلام على لن: ولا تفيد توكيد النفي، خلافا للزمخشري في كشافه، ولا تأبيده خلافا له في أنموذجه، وكلاهما دعوى بلا دليل، قيل: ولو كانت للتأبيد، لم يقيد منفيها باليوم في * (فلن أكلم اليوم إنسيا) * ولكان ذكر الأبد في * (ولن يتمنوه أبدا) * تكرارا والأصل عدمه اه محل الغرض منه.
فالجواب: أن قول الزمخشري بإفادة لن: التأبيد يجب رده، لأنه يقصد به استحالة رؤية الله تعالى يوم القيامة زاعما أن قوله لموسى: * (لن ترانى) * تفيد فيه لفظة: لن تأييد النفي، فلا يرى الله عنده أبدا لا في الدنيا، ولا في الآخرة. وهذا مذهب معتزلي معروف باطل ترده النصوص الصحيحة في القرآن والأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن في ثبوتها. وقد بينا مرارا أن رؤية الله تعالى بالأبصار: جائزة عقلا في الدنيا والآخرة. ولو كانت ممنوعة عقلا في الدنيا لما قال نبي الله موسى * (رب أرنى أنظر إليك) * لأنه لا يجهل المحال في حق خالقه تعالى، وأنها ممنوعة شرعا في الدنيا ثابتة الوقوع في الآخرة، وإفادة لن التأبيد التي زعمها الزمخشري في الآية تردها
215

النصوص الصحيحة الصريحة في الرؤية في الآخرة، ولا ينافي ذلك أن تفيد لن: التأبيد في موضع لم يعارضها فيه نص.
وبالجملة فقد اختلف أهل العربية في إفادة لن تأبيد النفي حيث لم يصرف عنه صارف، وعدم إفادتها لذلك، فعلى القول: بأنها تفيد التأبيد فقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: (ولن تجزىء عن أحد بعدك) يدل على تأبيد نفي الإجزاء، كما ذكرنا وعلى عدم اقتضائها التأبيد، فلا تقل عن الظهور فيه، حتى يصرف عنه صارف، وبذلك كله تعلم: أن الجمع بين حديث أبي بردة، وحديث عقبة بن عامر، كالمتعذر فيجب الترجيح، وحديث أبي بردة: أرجح. والعلم عند الله تعالى.
وهذا الذي ذكرنا في هذا الفرع هو حاصل كلام أهل العلم في السن التي تجزىء في الضحايا.
الفرع الرابع: اعلم: أنه لا يجوز في الأضحية إلا بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز بأنواعها، لقوله تعالى: * (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الا نعام) * فلا تشرع التضحية بالظباء ولا ببقرة الوحش وحمار الوحش مثلا. وقال النووي في شرح المهذب: ولا تجزىء بالمتولد من الظباء والغنم، لأنه ليس من بهيمة الأنعام. اه.
والظاهر أنه كذلك كما عليه جماهير أهل العلم، فما روي عن الحسن بن صالح من أن بقرة الوحش تجزىء عن سبعة، والظبي عن واحد، خلاف التحقيق. وعن أصحاب الرأي: أن ولد البقرة الإنسية يجزئ، وإن كان أبوه وحشيا وعن أبي ثور: يجزئ إن كان منسوبا إلى بهيمة الأنعام. والأظهر: أن المتولد من بين ما يجزئ، وما لا يجزئ، لا يجزئ بناء على قاعدة تقديم الحاظر على المبيح. ومعلوم أنها خالف فيها بعض أهل الأصول، وعلى كل حال، فالأحوط أن لا يضحي إلا ببهيمة الأنعام. لظاهر الآية الكريمة.
الفرع الخامس: اعلم: أن أكثر أهل العلم على أن أفضل أنواع الأضحية: البدنة، ثم البقرة، ثم الشاة، والضأن، أفضل من المعز. وسيأتي الكلام على حكم الاشتراك في الأضحية ببدنة، أو بقرة إن شاء الله. وكون الأفضل: البدنة، ثم البقرة، ثم شاة الضأن، ثم شاة المعز. قال النووي في شرح المهذب: هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة، وأحمد، وداود. وقال مالك: أفضلها الغنم ثم البقر، ثم الإبل. قال: والضأن أفضل من المعز
216

وإناثها أفضل من فحول المعز وفحول الضأن خير من إناث المعز، وإناث المعز خير من الإبل، والبقر. وقال بعض أصحاب مالك: الإبل أفضل من البقر.
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في أفضل ما يضحى به من بهيمة الأنعام فاعلم أن الجمهور الذين قالوا البدنة أفضل، ثم البقرة، ثم الشاة احتجوا بأدلة:
منها: أن البدنة أعظم من البقرة، والبقرة أعظم من الشاة. والله تعالى يقول: * (ذالك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) *.
ومنها: ما قدمنا ثابتا في الصحيح: أن البقرة والبدنة كلتاهما تجزىء عن سبعة في الهدي، فكل واحدة منهما تعدل سبع شياه. وكونها تعدل سبع شياه، دليل واضح على أنها أفضل من شاة واحدة.
ومنها: ما رواه الشيخان والإمام أحمد وأصحاب السنن، غير ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اغتسل يوم
الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر) اه. قالوا: ففي هذا الحديث الصحيح الدلالة الواضحة، على أن البدنة أفضل، ثم البقرة، ثم الكبش الأقرن، ووجهه ظاهر. واحتج مالك، وأصحابه: على أن التضحية بالغنم: أفضل لأنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالغنم لا بالإبل ولا بالبقر. وقد قدمنا الأحاديث بتضحيته بكبشين أقرنين أملحين، وتضحيته بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، وكلها ثابتة في الصحيح كما قدمنا أسانيدها ومتونها. قالوا: وهو صلى الله عليه وسلم لا يضحي مكررا ذلك عاما بعد عام، إلا بما هو الأفضل في الأضحية. فلو كانت التضحية: بالإبل، والبقر أفضل لفعل صلى الله عليه وسلم ذلك الأفضل.
قالوا فإن قيل: أهدى في حجته الإبل، ولم يهد الغنم.
فالجواب: أنه أهدى الغنم أيضا فبعث بها إلى البيت، ولو سلمنا أن الإبل أفضل في الهدي، فلا نسلم أنها أفضل في الأضحية، والمالكية لا ينكرون أفضلية الإبل في الهدي، وإنما يقولون: إن الغنم أفضل في الأضحية، ولكل من الغنم والإبل فضل من جهة، فالإبل أفضل من حيث كثرة لحمها، والغنم أفضل، من حيث إن لحمها أطيب، وألذ. وعند
217

المالكية: فلا مانع من أن يراعي كل واحد من الوصفين في نوع من أنواع النسك، ودليل الجمهور ظاهر. لكن دليل المالكية أخص في محل النزاع، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يضح إلا بالغنم والخير كله في اتباعه في أقواله، وأفعاله، وما جاء عنه من تفضيل البدنة، ثم البقرة، ثم الكبش الأقرن، لم يأت في خصوص الأضحية. ولكن فعله صلى الله عليه وسلم في خصوص الأضحية والله تعالى يقول: * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) *.
والحاصل: أن لكل من القولين وجها من النظر. والله تعالى أعلم بالصواب.
واعلم: أن الجمهور أجابوا عن دليل مالك بأن تضحيته صلى الله عليه وسلم بالغنم، لبيان الجواز، أو لأنه لم يتيسر له في ذلك الوقت بدنة ولا بقرة، وإنما تيسرت له الغنم هكذا قالوا. وظاهر الأحاديث تكرر تضحيته صلى الله عليه وسلم بالغنم، وقد يدل ذلك على قصده الغنم دون غيرها، لأنه لو لم يتيسر له إلا الغنم سنة، فقد يتيسر له غيرها في سنة أخرى. والله تعالى أعلم.
فإن قيل: روى البيهقي عن ابن عمر كان صلى الله عليه وسلم يضحي بالجزور أحيانا وبالكبش إذا لم يجد الجزور.
فالجواب: أن الزرقاني في شرح الموطأ قال ما نصه: وحديث البيهقي عن ابن عمر كان صلى الله عليه وسلم يضحي بالجزور أحيانا، وبالكبش إذا لم يجد الجزور. ضعيف. في سنده عبد الله بن نافع، وفيه مقال. اه منه. وقد روى البيهقي في السنن الكبرى، عن أبي أمامة، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير الضحايا الكبش الأقرن) اه منه. وقد ذكر النووي أن فيه ضعفا، ولا شك أنه تقويه الأحاديث الصحيحة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم بالمداومة على التضحية بالكبشين الأقرنين، أو الكبش الأقرن. كما تقدم إيضاحه.
الفرع السادس: اعلم: أن جمهور أهل العلم: أجازوا اشتراك سبعة، مضحين في بدنة أو بقرة، بأن يشتروها مشتركة بينهم، ثم يهدوا بها، أو يضحوا بها عن كل واحد سبعها.
وقد قدمنا النصوص الصريحة بذلك في الهدي، والظاهر: عدم الفرق في ذلك بين الهدي، والأضحية.
وخالف مالك وأصحابه الجمهور، فقالوا: لا يجوز ذبح بدنة مشتركة، ولا بقرة، وإنما يملكها واحد فيشرك غيره معه في الأجر. أما اشتراكهم في ملكها، فلا يجزئ عند مالك لا في الأضحية ولا في الهدي الواجب، وكذلك هدي التطوع خلافا لأشهب من أصحابه.
218

واعلم: أن مالكا رحمه الله حمل أحاديث اشتراك السبعة في البدنة والبقرة، على الاشتراك في الأجر، بأن يكون المالك واحدا، ويشرك غيره معه في الأجر لا في ملك الرقبة، وظاهر الأحاديث فيه الدلالة الواضحة على الاشتراك في الملك. وأجاز مالك للرجل: أن يضحي بالشاة الواحدة، ويشرك معه أهله في الأجر.
وقد قدمنا في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح كبشا وقال: (اللهم تقبل من محمد وآل محمد). والحاصل: أن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز اشتراك مالكين في شاة الأضحية، أما كون المالك واحدا فيضحي عن نفسه بالشاة وينوي اشتراك أهل بيته معه في الأجر، وأن ذلك يتأدى به الشعار الإسلامي عنهم جميعا فلا ينبغي أن يختلف فيه. لدلالة النصوص الصحيحة عليه، كالحديث المذكور آنفا وغيره، كحديث أبي أيوب الأنصاري: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه، وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، حتى تباهي الناس، فصار كما ترى. قال في المنتقى: رواه ابن ماجة، والترمذي، وصححه، وقال شارحه في النيل: وأخرجه مالك في الموطأ إلى غير ذلك من الأحاديث، والاشتراك المذكور في الأجر في الشاة الواحدة يصح ولو كانوا أكثر من سبعة، كما هو ظاهر النص، وكما صرح به المالكية وغيرهم واشترط المالكية لذلك شروطا ثلاثة. وهي سكناهم مع المضحي، وقرابتهم منه، وإنفاقه عليهم، وإن تبرعا. ولا أعلم لهذه الشروط مستندا من الوحي إلا أن يكون يراد بها تحقيق المناط في مسمى الأهل، وأن أهل الرجل هم ما اجتمع فيهم الأوصاف الثلاثة، ولا تساعد على الشروط المذكورة في جميع النسك الأحاديث المتقدمة باشتراك كل سبعة من الصحابة في بدنة أو بقرة في عمرة الحديبية وفي الحج، لأن ذلك الاشتراك عند مالك في الأجر لا في الرقبة، وظاهر الأحاديث أنهم لم تجتمع فيهم الشروط المذكورة، والعلم عند الله تعالى.
وما ذكرنا من التضحية بالشاة الواحدة عن المضحي وأهله. قال ابن قدامة في المغني: نص عليه أحمد، وبه قال مالك، والليث والأوزاعي، وإسحاق، وروي ذلك عن
ابن عمر، وأبي هريرة ثم قال: وكره ذلك الثوري، وأبو حنيفة، لأن الشاة لا تجزىء عن أكثر من واحد، فإذا اشترك فيها اثنان لم تجزىء عنهما اه منه. والحديث المتفق عليه المذكور: حجة على من خالفه.
الفرع السابع: اعلم: أنا قدمنا وقت الأضحية والهدي وأقوال أهل العلم في ذلك، بما
219

أغنى عن إعادته هنا، وقد قدمنا حديث أم سلمة، عند مسلم المقتضي: أن من أراد أن يضحي لا ينبغي له أن يحلق شيئا من شعره، ولا أن يقلم شيئا من أظفاره في عشر ذي الحجة، حتى يضحي، وظاهر الحديث: تحريم ذلك، لأن في لفظ الحديث عند مسلم، عن أم سلمة عنه صلى الله عليه وسلم (فلا يأخذن شعرا، ولا يقلمن ظفرا) وفي لفظ له عنها عنه صلى الله عليه وسلم: (فلا يمس من شعره وبشره شيئا) وفي الألفاظ المذكورة في الحديث الصحيح النهي عن حلق الشعر، وتقليم الأظفار في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي، والنهي يقتضي التحريم إلا لصارف عنه يجب الرجوع إليه كما تقرر في الأصول، وقال الشافعية والمالكية، ومن وافقهم: إن الحلق وتقليم الأظفار مكروه كراهة تنزيه لا تحريم، لأن المضحي ليس بمحرم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحريم أظهر لظاهر الحديث، ولأنه صلى الله عليه وسلم يقول: (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) والتحريم المذكور لظاهر النص وجه للشافعية، قال النووي: حكاه أبو الحسن العبادي في كتابه الرقم، وحكاه الرافعي عنه لظاهر الحديث، وحكى الشيخ المواق في شرحه لخليل، عن أحمد، وإسحاق: تحريم الحلق، وتقليم الأظافر في عشر ذي الحجة لمريد التضحية، وقال ابن قدامة في المغني: قال بعض أصحابنا: بالتحريم، وحكاه ابن المنذر عن أحمد، وإسحاق، وسعيد بن المسيب، وقال القاضي، وجماعة من أصحابنا: هو مكروه غير محرم، وبه قال مالك والشافعي لقول عائشة: (كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقلدها بيده)، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له، حتى ينحر الهدي متفق عليه، وقال أبو حنيفة: لا يكره ذلك، لأنه لا يحرم عليه الوطء واللباس، فلا يكره له حلق الشعر، وتقليم الأظفار، كما لو لم يرد أن يضحي. اه محل الغرض منه بلفظه.
وأظهر شيء في محل النزاع وأصرحه وأخصه فيه: حديث أم سلمة، وظاهره التحريم. وقال النووي في شرح المهذب: مذهبنا أن إزالة الشعر والظفر في العشر لمن أراد التضحية: مكروه كراهة تنزيه، حتى يضحي، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يكره، وقال سعيد بن المسيب، وأحمد، وربيعة، وإسحاق، وداود: يحرم، وعن مالك: أنه يكره، وحكى عنه الدارمي يحرم في التطوع، ولا يحرم في الواجب، ثم ذكر الدليلين المذكورين للقولين.
وقد ذكرنا آنفا أن أخصهما في محل النزاع ظاهره التحريم: وهو حديث أم سلمة، والعلم عند الله تعالى.
220

الفرع الثامن: أجمع العلماء: على إجزاء الذكر والأنثى. واختلفوا أيهما أفضل، وظاهر النصوص الصحيحة: أن ذكور الضأن خير من إناثها، لتضحيته بالكبش، دون النعجة وبعضهم قال: بأفضلية الذكور مطلقا، وبعضهم قال: بأفضلية الإناث مطلقا ولم يقم دليل صحيح في غير ذكر الضأن فلا ينبغي أن يختلف في ذكر الضأن أنه أفضل من أنثاه.
الفرع التاسع: اعلم: أن منع ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث منسوخ. فقد دلت الأحاديث الصحيحة، على أنه صلى الله عليه وسلم منع ادخار لحم الأضاحي بعد ثلاث، ومنع المضحي أن يأكل من أضحيته، بعد ثلاث، ثم نسخ ذلك، وصار الأكل والادخار منها مباحا مطلقا. وسنذكر هنا إن شاء الله طرفا من الأحاديث الصحيحة الدالة على المنع المذكور أولا، وعلى نسخه وإباحة ذلك مطلقا.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو عاصم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثه، وبقي في بيته منه شيء فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها) وحديث سلمة بن الأكوع، هذا أخرجه أيضا مسلم في صحيحه قريبا من لفظ البخاري.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني عبد الجبار بن العلاء، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، عن أبي عبيد قال: شهدت العيد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث) وفي لفظ لمسلم، عن علي أنه قال: (إنه صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوا).
وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يأكل أحد من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام) وفي لفظ له عنه (أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث) ثم قال: قال سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. وفي لفظ: بعد ثلاث.
وفي لفظ لمسلم، عن عبد الله بن واقد قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة فقالت: صدق
221

سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: دف أهل أبيات من أهل البادية صفرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخروا ثلاثا، ثم تصدقوا بما بقي فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويجملون منها الودك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قالوا نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال: إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا).
وفي لفظ لمسلم عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ثم قال بعد: كلوا وتزودوا وادخروا).
وفي لفظ لمسلم عن عطاء، عن جابر أيضا أنه قال: كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث في منى فأرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كلوا وتزودوا)
قلت لعطاء: قال جابر: حتى جئنا المدينة: قال؟ نعم.
وفي لفظ لمسلم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنا لا نمسك لحوم الأضاحي، فوق ثلاث، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتزود منها، ونأكل يعني: فوق ثلاث، وفي لفظ له عنه: كنا نتزودها إلى المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي لفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أهل المدينة لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث) وقال ابن المثنى: ثلاثة أيام، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم عيالا وحشما وخدما فقال: (كلوا وأطعموا واحبسوا وادخروا) قال ابن المثنى: شك عبد الأعلى.
وفي لفظ لمسلم، عن ثوبان رضي الله عنه قال: (ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحية ثم قال: يا ثوبان أصلح لهم هذه، فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة).
وفي بعض ألفاظ حديث ثوبان، هذا عند مسلم أن ذلك في حجة الوداع.
وفي لفظ لمسلم، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فامسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا) اه منه.
فكل هذه الألفاظ الثابتة بالأسانيد الصحيحة في مسلم وبعضها في البخاري فيها الدلالة الصحيحة الصريحة: أن تحريم الادخار، والأكل من لحوم الأضاحي، فوق ثلاث: أنه
222

منسوخ، وأن ذلك جائز مطلقا، وفي بعض الروايات: تعليل ذلك النهي الموقت بمجيء بعض الفقراء من البادية، وهم المعبر عنهم في الحديث بالدافة.
قال ابن الأثير في النهاية: الدافة القوم يسيرون جماعة سيرا ليس بالشديد. يقال لهم يدفون دفيفا، والدافة قوم من الأعراب يردون المصر يريد أنهم قدموا المدينة عند الأضحى، فنهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي، ليفرقوها ويتصدقوا بها، فينتفع أولئك القادمون بها. انتهى من النهاية.
تنبيه
في هذا الحديث دليل لمن قال من أهل الأصول: باشتراط انعكاس العلة في صحتها، لأن علة تحريم ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث: هي وجود دافة فقراء البادية، الذين دفوا عليهم. ولما زالت هذه العلة زال الحكم معها، ودوران الحكم مع علته في العدم، هو المعروف في الاصطلاح بانعكاسها. والمقرر في الأصول: أن محل القدح في العلة بعدم انعكاسها فيما إذا كانت علة الحكم واحدة، لا إن كانت له علل متعددة، فلا يقدح في واحدة منها بعدم العكس، لأنه إذا انعدمت واحدة منها ثبت الحكم بالعلة الأخرى، كالبول، والغائط، لنقض الوضوء مثلا. فإن البول يكون معدوما وعلة النقض ثابتة بخروج الغائط، وهكذا. وكذلك مع كونها علة واحدة لا بد أيضا في القدح فيها، بعدم العكس من عدم ورود دليل ببقاء الحكم مع ذهاب العلة، فإن دل دليل على بقاء الحكم، مع انتفاء العلة، فلا يقدح فيها بعدم العكس، كالرمي في الأشواط الأول، من الطواف، فإن علته هي أن يعلم المشركون: أن الصحابة أقوياء ولم تضعفهم حمى يثرب. وهذه العلة قد زالت مع أن حكمها وهو الرمل في الأشواط المذكورة باق لوجود الدليل على بقائه، لأنه صلى الله عليه وسلم رمى في حجة الوداع، والعلة المذكورة معدومة قطعا زمن حجة الوداع كما قدمنا إيضاحه، وإلى هذه المسألة أشار صاحب مراقي السعود في مبحث القوادح بقوله: رمى في حجة الوداع، والعلة المذكورة معدومة قطعا زمن حجة الوداع كما قدمنا إيضاحه، وإلى هذه المسألة أشار صاحب مراقي السعود في مبحث القوادح بقوله:
* وعدم العكس مع اتحاد
* يقدح دون النص بالتمادي
*
الفرع العاشر: أظهر قولي أهل العلم عندي: هو نسخ الأمر بالفرع والعتيرة. ونقل النووي في شرحه لمسلم، عن عياض: أن جماهير العلماء على نسخ الأمر بالفرع، والعتيرة. وذكر النووي أيضا في شرحه لمسلم: أن الصحيح عند علماء الشافعية: استحباب الفرع والعتيرة قال: وهو نص الشافعي.
223

والدليل عندنا على أن الأظهر هو نسخهما: هو ثبوت ما يدل على ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب قال يحيى: أخبرنا. وقال الآخرون: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ح وحدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد قال عبد: أخبرنا. وقال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا فرع ولا عتيرة) زاد ابن رافع في روايته: والفرع: أول النتاج، كان ينتج لهم فيذبحونه اه من صحيح مسلم. وهذا الإسناد في غاية الصحة من طريقيه كما ترى. وفيه: تصريح النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه لا فرع. والعتيرة والفرع بالفاء والراء المفتوحتين بعدهما عين مهملة، جاء تفسيره، عن ابن رافع كما ذكره عنه مسلم فيما رأيت. وقال النووي: قال الشافعي، وأصحابه وآخرون: الفرع: هو أول نتاج البهيمة، كانوا يذبحونه، ولا يملكونه رجاء البركة في الأم، وكثرة نسلها، وهكذا فسره كثيرون من أهل اللغة وغيرهم، وقال كثيرون منهم: هو أول النتاج كانوا يذبحونه لآلهتهم: وهي طواغيتهم. وكذا جاء في هذا التفسير في صحيح البخاري، وسنن أبي داود وقيل: هو أول النتاج لمن بلغت إبله مائة يذبحونه. وقال شمر: قال أبو مالك: كان الرجل إذا بلغت إبله مائة قدم بكرا فنحره لصنمه، ويسمونه الفرع. اه محل الغرض منه.
وأما العتيرة بعين مهملة مفتوحة، ثم تاء مثناة من فوق فهي: ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب، ويسمونها الرجبية أيضا، وحديث مسلم هذا الذي ذكرنا
صريح في نسخ الأمر بها، لأن قوله (لا فرع ولا عتيرة) نفي: أريد به النهي فيما يظهر كقوله: * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * أي لا ترفثوا ولا تفسقوا، وعليه فيكون المعنى: لا تعملوا عمل الجاهلية في ذبح الفرع والعتيرة، ولو قدرنا أن الصيغة نافية، فالظاهر أن المعنى: لا فرع ولا عتيرة مطلوبان شرعا، ونسخهما هو الأظهر عندنا للحديث الصحيح كما رأيت. ومن زعم بقاء مشروعيتهما، واستحبابهما فقد استدل ببعض الأحاديث، على ذلك، وسنذكر حاصلها بواسط نقل النووي لأنه جمعها في محل واحد، فقال منها: حديث نبيشة رضي الله عنه قال: نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فقال: (اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا لله وأطعموا) قال: إنا كنا نفرع فرعا في الجاهلية، فما تأمرنا؟ فقال: (في كل
224

سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه) رواه أبو داود، وغيره بأسانيد صحيحة. وقال ابن المنذر: هو حديث صحيح. قال أبو قلابة، أحد رواة هذا الحديث: السائمة مائة. ورواه البيهقي بإسناده الصحيح، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرعة من كل خمسين واحدة. وفي رواية: من كل خمسين شاة شاة. قال ابن المنذر: حديث عائشة صحيح، وفي سنن أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال الراوي: أراه عن جده. قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرع فقال: (الفرع حق وأن تتركوه حتى يكون بكرا شغزبا ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره وتكفأ إناؤك وتوله ناقتك) قال أبو عبيد في تفسير هذا الحديث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الفرع حق) ولكنهم كانوا يذبحونه حين يولد ولا شبع فيه، ولذا قال تذبحه، فيلزق لحمه بوبره، وفيه أن ذهاب ولدها يدفع لبنها، ولهذا قال (خير من أن تكفأ) يعني: أنك إذا فعلت ذلك، فكأنك كفأت إناءك وأرقته. وأشار به إلى ذهاب اللبن، وفيه: أنه يفجعها بولدها ولهذا قال: وتوله ناقتك فأشار بتركه، حتى يكون ابن مخاض، وهو ابن سنة، ثم يذهب وقد طاب لحمه واستمتع بلبن أمه، ولا تشق عليها مفارقته لأنه استغنى عنها. هذا كلام أبي عبيد. وروى البيهقي بإسناده عن الحارث بن عمر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، أو قال: بمنى، وسأله رجل عن العتيرة؟ فقال: (من شاء عتر ومن شاء لم يعتر ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع) وعن أبي رزين قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا نذبح في الجاهلية ذبائح في رجب، فنأكل منها، ونطعم من جاءنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا بأس بذلك) وعن أبي رملة، عن مخنف بن سليم قال: كنا وقوفا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات فسمعته يقول: (يا أيها الناس إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدري ما العتيرة؟ هي: التي تسمى الرجبية) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن. وقال الخطابي: هذا الحديث ضعيف المخرج، لأن أبا رملة مجهول، هذا مختصر ما جاء من الأحاديث في الفرع والعتيرة اه كلام النووي.
وقد قدمنا الكلام مستوفى على حديث مخنف بن سليم المقتضي: أن على كل أهل بيت في كل عام: أضحية وعتيرة، وقد علمت حجج الفريقين في الفرع والعتيرة.
وقد قدمنا أن الأظهر عندنا فيهما: النسخ ويترجح ذلك بأمور:
منها: أن حديث مسلم المصرح بذلك أصح من جميع الأحاديث المذكورة في الباب.
225

ومنها: أن أكثر أهل العلم على النسخ في ذلك، كما ذكره النووي عن عياض.
ومنها: أن ذلك كان من فعل الجاهلية، وكانوا يتقربون بهما لطواغيتهما، وللمخالف أن يقول في هذا الأخير: إن المسلمين يتقربون بهما لله ويتصدقون بلحومهما. ولم نستقص أقوال أهل العلم في المسألة لقصد الاختصار، لطول الكلام في موضوع آيات الحج هذه.
الفرع الحادي عشر: اعلم: أن المعيبة لا تجوز التضحية بها، ولا تجزىء. والأصل في ذلك ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والبيهقي، والحاكم عن البراء بن عازب رضي الله عنه، وصححه الترمذي. وقال النووي: في حديث البراء: صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم، بأسانيد حسنة قال أحمد بن حنبل: ما أحسنه من حديث. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع لا تجزىء في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والعجفاء التي لا تنقى) وفي رواية (والكسير التي لا تنقى) والتي لا تنقى هي التي لا مخ فيها لأن النقى بكسر النون المشددة، وسكون القاف المخ. فقول العرب: أنقت تنقى إنقاء: إذا كان لها مخ ومنه قول كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه:: (أربع لا تجزىء في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والعجفاء التي لا تنقى) وفي رواية (والكسير التي لا تنقى) والتي لا تنقى هي التي لا مخ فيها لأن النقى بكسر النون المشددة، وسكون القاف المخ. فقول العرب: أنقت تنقى إنقاء: إذا كان لها مخ ومنه قول كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه:
* يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعه
* إذا لم يكن في المنقيات حلوب
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* ولا يسرق الكلب السرو نعالنا
* ولا ينتقي المخ الذي في الجماجم
*
وقال ابن الأثير في النهاية: الكسير: التي لا تنقى، أي التي لا مخ فيها لضعفها وهزالها. وقوله في الحديث: البين ضلعها: أي عرجها كما هو واضح، والضلع بفتح
الضاد، واللام، وقد جاء في الحديث عن علي رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء) قال المجد في المنتقى: ورواه الخمسة، وصححه الترمذي. ومراده بالخمسة الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وقال الشوكاني في نيل الأوطار: في حديث علي المذكور: أخرجه أيضا البزار وابن حبان والحاكم والبيهقي. وأعله الدارقطني، والمقابلة والمدابرة: كلتاهما بفتح الباء بصيغة اسم المفعول، والمقابلة: هي التي قطع شيء من مقدم أذنها ولم ينفصل، بل بقي لاصقا بالأذن متدليا، والمدابرة: هي التي قطع شيء من مؤخر أذنها على نحو
226

ما ذكرنا فيما قبلها، والخرقاء: التي في أذنها خرق مستدير، والشرقاء: مشقوق الأذن اه. وضابط ما يمنع الإجزاء هو ما ينقص اللحم. وقال النووي في شرح المهذب: أجمعوا على أن العمياء لا تجزىء، وكذلك العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء.
واختلفوا في ذاهبة القرن ومكسورته فمذهبنا: أنها تجزىء. قال مالك: إن كانت مكسورة القرن، وهو يدمى لم تجزه، وإلا فتجزئه. وقال أحمد: إن ذهب أكثر من نصف قرنها لم تجزه، سواء دميت أم لا، وإن كان دون النصف أجزأته. وأما مقطوعة الأذن، فمذهبنا: أنها لا تجزىء، سواء قطع كلها أو بعضها. وبه قال مالك، وداود وقال أحمد: إن قطع أكثر من النصف لم تجزه، وإلا فتجزئه. وقال أبو حنيفة: إن قطع أكثر من الثلث لم تجزه وقال أبو يوسف، ومحمد: إن بقي أكثر من نصف أذنها: أجزأت، وأما مقطوعة بعض الألية: فلا تجزىء عندنا، وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة في رواية: إن بقي الثلث أجزأت، وفي رواية: إن بقي أكثرها أجزأت وقال داود: تجزىء بكل حال. انتهى محل الغرض من كلام النووي. ومعلوم أن هناك روايات أخر لم يذكرها عن الأئمة الذين نقل عنهم ولم نستقص هنا أقوال أهل العلم، لأن باب الأضحية جاء في هذا الكتاب استطرادا، مع أن الكلام في آيات الحج طال كثيرا، ولذلك اكتفينا هنا بهذه الجمل التي ذكرنا من أحكام الأضاحي.
مسألة
اعلم أنه لما كانت العمرة قرينة الحج في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * وقوله: * (فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه) * وقوله: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * أردنا أن نذكر هنا حكم العمرة على سبيل الاختصار استطرادا والعمرة في اللغة الزيارة ومنه قول الراجز: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * أردنا أن نذكر هنا حكم العمرة على سبيل الاختصار استطرادا والعمرة في اللغة الزيارة ومنه قول الراجز:
* لقد سما ابن معمر حين اعتمر
* مغزى بعيدا من بعيد وخبر
*
وهي في الشرع: زيارة بيت الله للنسك المعروف المتركب من إحرام، وطواف وسعي وحلق أو تقصير.
واعلم: أن العلماء أجمعوا على أن من أحرم بالعمرة، وجب عليه إتمامها، ولا
227

يجوز له قطعها وعدم إتمامها، لقوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) *.
أما حكم استئناف فعلها فقد اختلف فيه أهل العلم، فذهب بعضهم: إلى أنها واجبة في العمر كالحج، وذهب بعضهم: إلى أنها غير واجبة أصلا، ولكنها سنة في العمر مرة واحدة، وممن قال: بأنها فرض في العمر مرة: الشافعي في الصحيح من مذهبه. قال النووي: وبه قال عمر وابن عباس، وابن عمر وجابر وطاوس، وعطاء، وابن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وابن سيرين، والشعبي، ومسروق، وأبو بردة بن أبي موسى الحضرمي، وعبد الله بن شداد، والثوري، وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وداود.
وممن قال: بأنها سنة في العمر ليست بواجبة: مالك وأصحابه، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وحكاه ابن المنذر وغيره، عن النخعي قاله النووي. وقال ابن قدامة في المغني: وتجب العمرة على من يجب عليه الحج في إحدى الروايتين. وروي ذلك عن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت، وابن عمر وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس ومجاهد والحسن، وابن سيرين، والشعبي. وبه قال الثوري، وإسحاق، والشافعي في أحد قوليه. والرواية الثانية ليست بواجبة، وروي ذلك عن ابن مسعود وبه قال مالك، وأبو ثور، وأصحاب الرأي اه. محل الغرض منه.
وإذا علمت أقوال العلماء في العمرة: هل هي فرض في العمر، أو سنة؟ فدونك أدلتهم، ومناقشتها باختصار مع بيان ما يظهر رجحانه منها.
أما الذين قالوا: العمرة فرض في العمر، فقد احتجوا بأحاديث:
منها: حديث أبي رزين العقيلي، وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى وهو أنه (أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج، ولا العمرة ولا الظعن، فقال: حج عن أبيك واعتمر) رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي ومحل الدليل منه قوله: واعتمر، لأنه صيغة أمر بالعمرة، مقرونة بالأمر بالحج، فأفادت صيغة الأمر الوجوب كما أوضحنا توجيه ذلك مرارا في هذا الكتاب المبارك، وذكر غير واحد عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا ولا أصح.
ومن أدلتهم على وجوبها قوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * بناء على أن المراد بإتمامها في الآية ابتداء فعلها على الوجه الأكمل، لا إتمامها بعد الشروع،
228

وقد قدمنا الكلام في الآية بما أغنى عن إعادته هنا.
وأن الظاهر أن المتبادر منها: وجوب الإتمام بعد الشروع من غير تعرض إلى حكم ابتداء فعلها.
ومن أدلتهم على وجوبها: ما رواه الدارقطني من حديث زيد بن ثابت (الحج والعمرة فريضتان لا يضرك أيهما بدأت) اه.
ومن أدلتهم على وجوب العمرة: ما جاء في بعض روايات حديث في سؤال جبريل: (وأن تحج وتعتمر) أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، وغيرهم. ورواه المجد في المنتقى بلفظ فقال: (يا محمد ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء وتصوم رمضان) الحديث. وأنه قال: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) ثم قال المجد: رواه الدارقطني وقال: هذا إسناد ثابت صحيح. ورواه أبو بكر الجوزقي في كتابه المخرج على الصحيحين.
ومن أدلتهم على وجوبها: ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل على النساء من جهاد؟ قال: (نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) اه قال المجد في المنتقى: رواه أحمد وابن ماجة، وإسناده صحيح، ومن أجوبة المخالفين عن هذه الأدلة الدالة على وجوب العمرة أن الحديث الذي قال أحمد: لا أعلم حديثا أجود في إيجاب العمرة منه، وهو حديث أبي رزين العقيلي، الذي فيه: (حج عن أبيك واعتمر) أن صيغة الأمر في قوله: واعتمر واردة بعد سؤال أبي رزين، وقد قرر جماعة من أهل الأصول أن صيغة الأمر الواردة بعد المنع أو السؤال: إنما تقتضي الجواز لا الوجوب، لأن وقوعها في جواب السؤال، عن الجواز دليل صارف عن الوجوب، إلى الجواز والخلاف في هذه المسألة معروف.
وقد قدمنا الكلام عليه في آيات الحج هذه وأجابوا عن آية * (وأتموا الحج) * بأن المراد بها: الإتمام بعد الشروع كما تقدم إيضاحه، وأجابوا عن حديث (الحج والعمرة فريضتان) الحديث. بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حجر في التلخيص: ثم هو عن ابن سيرين، عن زيد وهو منقطع ورواه البيهقي موقوفا، على زيد من طريق ابن سيرين، وإسناده أصح وصححه الحاكم، ورواه ابن عدي والبيهقي من حديث ابن لهيعة، عن عطاء، عن جابر وابن لهيعة ضعيف. وقال ابن عدي:
229

هو غير محفوظ، عن عطاء انتهى محل الغرض منه وبه تعلم أن حديث زيد بن ثابت المذكور: ليس بصالح للاحتجاج، وأجابوا عما جاء في حديث جبريل، عن عمر مرفوعا بلفظ (وأن تحج وتعتمر) بجوابين.
أحدهما: أن الروايات الثابتة في صحيح مسلم، وغيره وليس فيها ذكر العمرة وهي أصح، وقد يجاب عن هذا بأن زيادة العدول مقبولة.
والجواب الثاني: هو ما ذكر الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار في شرحه للحديث المذكور، ونص كلامه.
فإن قيل: إن وقوع العمرة في جواب من سأل عن الإسلام: يدل على الوجوب فيقال: ليس كل أمر من الإسلام واجبا. والدليل على ذلك: حديث شعب الإسلام، والإيمان، فإنه اشتمل على أمور ليست بواجبة بالإجماع اه منه وله وجه من النظر.
وأجابوا عن حديث عائشة: بأن قوله صلى الله عليه وسلم: (عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) بأن لفظة: عليهن: ليست صريحة في الوجوب، فقد تطلق على ما هو سنة مؤكدة، وإذا كان محتملا لإرادة الوجوب والسنة المؤكدة، لزم طلب الدليل بأمر خارج وقد دل دليل خارج على وجوب الحج، ولم يدل دليل خارج، يجب الرجوع إليه على وجوب العمرة.
هذا هو حاصل أدلة القائلين بوجوب العمرة مرة في العمر ومناقشة مخالفيهم لهم.
أما القائلون: بأن العمرة سنة لا فرض، فقد احتجوا أيضا بأدلة:
منها: ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، والبيهقي، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد، عن جابر رضي الله عنه: أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟ فقال: (لا وأن تعتمر خير لك) وفي رواية: (أولى لك) وقال صاحب نيل الأوطار: وقد رواه البيهقي من حديث سعيد بن عفير عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله، عن جابر بنحوه، ورواه ابن جريج، عن ابن المنكدر، عن جابر وقال ابن حجر في التلخيص، وفي الباب عن أبي صالح، عن أبي هريرة رواه الدارقطني، وابن حزم والبيهقي وإسناده ضعيف. وأبو صالح: ليس هو ذكوان السمان، بل هو: أبو صالح ماهان الحنفي، كذلك رواه الشافعي، عن سعيد بن سالم عن الثوري، عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الحج جهاد والعمرة تطوع) ورواه ابن ماجة من حديث طلحة، وإسناده ضعيف. والبيهقي من حديث ابن عباس ولا يصح من ذلك شيء.
230

واستدل بعضهم بما رواه الطبراني من طريق يحيى بن الحارث عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا: (من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة).
هذا هو حاصل أدلة من قالوا: بأن العمرة غير واجبة.
وأجاب مخالفوهم عن أدلتهم، قالوا: أما حديث سؤال الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن وجوب العمرة، وأنه أجابه: بأنها غير واجبة، وأنه إن اعتمر تطوعا، فهو خير له بأنه حديث ضعيف، وتصحيح الترمذي له مردود، ووجه ذلك أن في إسناده: الحجاج بن أرطاة، وأكثر أهل الحديث على تضعيف الحجاج المذكور كما قدمناه مرارا، وقال ابن حجر في التلخيص: وفي تصحيحه نظر كثير من أجل الحجاج، فإن الأكثر على تضعيفه، والاتفاق على أنه مدلس، وقال النووي: ينبغي ألا يغتر بكلام الترمذي في تصحيحه، فإنه اتفق الحفاظ على تضعيفه وقد نقل الترمذي، عن الشافعي أنه قال: ليس في العمرة شيء ثابت: أنها تطوع. وأفرط ابن حزم
فقال: إنه مكذوب باطل. اه محل الغرض من كلام ابن حجر. ثم قال بعد هذا في الحديث المذكور: أنه موقوف على جابر، وقال كذلك: رواه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر اه منه.
هذا هو حاصل حجج من قالوا: إن العمرة سنة لا واجبة.
وقال الشوكاني: في نيل الأوطار، بعد أن ساق الأحاديث، التي ذكرنا في عدم وجوب العمرة ما نصه: قال الحافظ: ولا يصح من ذلك شيء، وبهذا تعرف أن الحديث من قسم الحسن لغيره، وهو محتج به عند الجمهور، ويؤيده ما عند الطبراني: عن أبي أمامة مرفوعا (من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة، ومن مشى إلى صلاة غير مكتوبة، فأجره كعمرة) إلى أن قال والحق عدم وجوب العمرة، لأن البراءة الأصلية، لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف، ولا دليل يصلح لذلك، لا سيما مع اعتضاده بما تقدم من الأحاديث القاضية: بعدم الوجوب، ويؤيد ذلك اقتصاره صلى الله عليه وسلم على الحج في حديث (بني الإسلام على خمس) واقتصار الله جل جلاله على الحج في قوله: * (ولله على الناس حج البيت) * انتهى محل الغرض منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن ما احتج به كل واحد من الفريقين، لا يقل عن درجة الحسن لغيره، فيجب الترجيح بينهما، وقد رأيت الشوكاني:
231

رجح عدم الوجوب بموافقته للبراءة الأصلية، والذي يظهر بمقتضى الصناعة الأصولية: ترجيح أدلة الوجوب، على أدلة عدم الوجوب وذلك من ثلاثة أوجه:
الأول: أن أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل: على الخبر المبقي على البراءة الأصلية، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار المدلول: الأول: أن أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل: على الخبر المبقي على البراءة الأصلية، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار المدلول:
* وناقل ومثبت والآمر
* بعد النواهي ثم هذا الآخر
*
على إباحة... الخ.
لأن معنى قوله: وناقل أن الخبر الناقل عن البراءة الأصلية مقدم على الخبر المبقي عليها. وعزاه في شرحه المسمى: نشر البنود للجمهور، وهو المشهور عند أهل الأصول.
الثاني: أن جماعة من أهل الأصول: رجحوا الخبر الدال على الوجوب، على الخبر الدال على عدمه. ووجه ذلك: هو الاحتياط في الخروج من عهدة الطلب، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود المذكور آنفا:
* ثم هذا الآخر.... على إباحة * الخ لأن مراده بالآخر المقدم على الإباحة: هو الخبر الدال على الأمر، فالأول الدال على النهي، لأن درأ المفاسد، مقدم على جلب المصالح، ثم الدال على الأمر للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب، ثم الدال على الإباحة ويشمل غير الواجب، فيدخل فيه المسنون والمندوب، لاشتراك الجميع في عدم العقاب على ترك الفعل.
الثالث: أنك إن عملت بقول من أوجبها فأديتها على سبيل الوجوب برئت ذمتك بإجماع أهل العلم من المطالبة بها، ولو مشيت على أنها غير واجبة فلم تؤدها على سبيل الوجوب بقيت مطالبا بواجب على قول جمع كثير من العلماء. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ويقول: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) وهذا المرجح راجع في الحقيقة لما قبله، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن جميع السنة وقت للعمرة إلا أيام التشريق. فلا تنبغي العمرة فيها حتى تغرب شمس اليوم الرابع عشر، على ما قاله جمع من أهل العلم.
232

الفرع الثاني: اعلم أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن عمرة في رمضان، تعدل حجة. وفي بعض روايات الحديث في الصحيح (حجة معي).
الفرع الثالث: اعلم: أن التحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب بعد الهجرة قطعا، وأنه لم يعتمر بعد الهجرة، إلا أربع عمر. الأولى: عمرة الحديبية في ذي القعدة، من عام ست، وصده المشركون، وأحل ونحر من غير طواف ولا سعي، كما هو معلوم. الثانية: عمرة القضاء في ذي القعدة، عام سبع: وهي التي وقع عليها صلح الحديبية.
وقد قدمنا في سورة البقرة وجه تسميتها عمرة القضاء وأوضحناه. الثالثة: عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان، بعد فتح مكة في رمضان عام ثمان. الرابعة: العمرة التي قرنها، مع حجة الوداع. هذا هو التحقيق.
وقد قدمنا الإشارة إليه ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام العمرة، لأن غالب أحكامها ذكرناه في أثناء كلامنا على مسائل الحج. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (وليوفوا نذورهم) * صيغة الأمر في هذه الآية الكريمة: تدل على وجوب الإيفاء بالنذر، كما قدمنا مرارا أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب، على الأصح، إلا لدليل صارف عنه.
ومما يدل من القرآن على لزوم الإيفاء بالنذر: أنه تعالى أشار إلى أنه هو، والخوف من أهوال يوم القيامة، من أسباب الشرب من الكأس الممزوجة بالكافور في قوله تعالى: * (إن الا برار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا * عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا) * ثم أشار إلى بعض أسباب ذلك فقال: * (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) * فالوفاء بالنذر ممدوح على كل حال، وإن كانت آية الإنسان ليست صريحة في وجوبه، وكذلك قوله في سورة البقرة: * (ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) *. وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان بالقرآن، إن لم يكن واقيا بالمقصود أتممناه بالبيان بالسنة. ولذلك سنبين هنا ما تقتضيه السنة من النذر الذي يجب الإيفاء به، والذي لا يجب الإيفاء به.
اعلم أولا: أن الأمر المنذور له في الجملة حالتان:
الأولى: أن يكون فيه طاعة لله.
233

والثانية: ألا يكون فيه طاعة لله، وهذا الأخير منقسم إلى قسمين:
أحدهما: ما هو معصية لله.
والثاني: ما ليس فيه معصية في ذاته، ولكنه ليس من جنس الطاعة كالمباح الذي لم يؤمر به.
والذي يجب اعتماده بالدليل في الأقسام الثلاثة المذكورة: أن المنذور إن كان طاعة لله، وجب الإيفاء به، سواء كان في ندب كالذي ينذر صدقة بدراهم على الفقراء، أو ينذر ذبح هدي تطوعا أو صوم أيام تطوعا، ونحو ذلك. فإن هذا ونحوه، يجب بالنذر، ويلزم الوفاء به. وكذلك الواجب إن تعلق النذر بوصف، كالذي ينذر أن يؤدي الصلاة في أول وقتها، فإنه يجب عليه الإيفاء بذلك.
أما لو نذر الواجب كالصلوات الخمس، وصوم رمضان، فلا أثر لنذره، لأن إيجاب الله لذلك أعظم من إيجابه بالنذر، وإن كان المنذور معصية لله: فلا يجوز الوفاء به، وإن كان جائزا لا نهي فيه، ولا أمر فلا يلزم الوفاء به.
أما الدليل على وجوب الإيفاء في نذر الطاعة وعلى منعه في نذر المعصية فهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه ذلك.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مالك، عن طلحة بن عبد الملك، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه) اه. وهو ظاهر في وجوب الإيفاء بنذر الطاعة، ومنع الإيفاء بنذر المعصية.
وقال البخاري أيضا: حدثنا أبو عاصم، عن مالك، عن طلحة بن عبد الملك، إلى آخر الإسناد والمتن المذكورين آنفا.
وإذا علمت أن هذا الحديث الصحيح، قد دل على لزوم الإيفاء بنذر الطاعة، ومنعه في نذر المعصية.
فاعلم: أن الدليل على عدم الإيفاء بنذر الأمر الجائز: هو أنه ثبت أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا أيوب، عن عكرمة عن ابن عباس قال: (بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم،
234

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مره فليتكلم، وليستظل وليقعد، وليتم صومه) اه محل الغرض من صحيح البخاري. وفيه التصريح بأن ما كان من نذره من جنس الطاعة، وهو الصوم أمره صلى الله عليه وسلم بإتمامه، وفاء بنذره وما كان من نذره مباحا لا طاعة، كترك الكلام، وترك القعود، وترك الاستظلال، أمره بعدم الوفاء به، وهو صريح في أنه لا يجب الوفاء به.
واعلم أنا لم نذكر أقوال أهل العلم هنا للاختصار، ولوجود الدليل الصحيح من السنة على ما ذكرنا.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أنه لا نذر لشخص في التقرب بشيء لا يملكه، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثني زهير بن حرب، وعلي بن حجر السعدي واللفظ لزهير قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث بطوله.
وفيه ما نصه: وأسرت امرأة من الأنصار، وأصيبت العضباء فكانت المرأة في الوثاق، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء، فلم ترغ قال: وناقة منوقة فقعدت في عجزها، ثم زجرتها فانطلقت ونذروا بها فطلبوها، فأعجزتهم قال: ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها. فلما قدمت المدينة، رآها الناس فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: (سبحان الله بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد) الحديث. ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا فيما لا يملك العبد) وهذا نص صحيح صريح فيما ذكرنا، ويؤيده حديث ثابت بن الضحاك: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا وفاء لنذر في معصية الله ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك ابن آدم) اه.
قال الحافظ في بلوغ المرام: رواه أبو داود والطبراني، واللفظ له، وهو صحيح الإسناد، وله شاهد من حديث كردم عند أحمد.
235

الفرع الثاني: اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن نذر نذرا لا يلزم الوفاء به هل تلزمه كفارة يمين، أو لا يلزمه شيء؟ وحجة من قال: لا يلزمه شيء: هو حديث نذر أبي إسرائيل، أنه لا يقعد ولا يتكلم، ولا يستظل، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المذكور آنفا: أنه لا يفي بهذا النذر، ولم يقل له إن عليه كفارة يمين. وقد قدمنا هذا في سورة مريم موضحا. وقد قدمنا أن القرطبي قال في قصة أبي إسرائيل: هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة، على من نذر معصية، أم ما لا طاعة فيه. فقد قال مالك: لما ذكره ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره بالكفارة، وأما الذين قالوا: إن النذر الذي لا يجب الوفاء به تجب فيه كفارة يمين فقد احتجوا بما رواه مسلم، في صحيحه: وحدثني هارون بن سعيد الأيلي، ويونس بن عبد الأعلى، وأحمد بن عيسى، قال يونس: أخبرنا وقال الآخران: حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كفارة النذر كفارة اليمين) اه، وظاهره شموله للنذر الذي لا يجب الوفاء به.
وقال النووي في شرح مسلم: اختلف العلماء في المراد به، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلا: إن كلمت زيدا مثلا، فلله علي حجة، أو غيرها، فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين، وبين ما التزمه. هذا هو الصحيح في مذهبنا، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله: علي نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث، على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخير في جميع المنذورات بين الوفاء بما التزم، وبين كفارة يمين والله أعلم اه كلام النووي.
ولا يخفى بعد القول الأخير لقوله تعالى: * (وليوفوا نذورهم) * فهو أمر جازم مانع للتخيير بين الإيفاء به، وبين شيء آخر.
والأظهر عندي في معنى الحديث: أن من نذر نذرا مطلقا كأن يقول: علي لله نذر أنه تلزمه كفارة يمين، لما رواه ابن ماجة، والترمذي وصححه، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين) وروي نحوه أبو داود، وابن ماجة، عن ابن عباس، وفي الحديثين بيان المراد بحديث مسلم، بأن المراد به: النذر
236

المطلق الذي لم يسم صاحبه ما نذره، بل أطلقه والبيان يجوز بكل ما يزيد الإيهام، كما قدمناه مرارا، والمطلق يحمل على المقيد.
ومما يؤيد القول بلزوم الكفارة في نذر اللجاج: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم شرب العسل على نفسه في قصة ممالأة أزواجه عليه. وأنزل الله في ذلك: * (لم تحرم مآ أحل الله لك) * قال الله بعد ذلك: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) * فدل ذلك على لزوم كفارة اليمين، وكذلك قال ابن عباس وغيره: بلزوم كفارة اليمين، على القول بأنه حرم جاريته، والأقوال فيمن حرم زوجته، أو جاريته، أو شيئا من الحلال معروفة عند أهل العلم. فغير لزوجة والأمة لا يحرم بالتحريم قولا واحدا والخلاف في لزوم كفارة اليمين، وعدم لزومها، وظاهر الآية لزومها، وبعض العلماء يقول: لا يلزم فيه شيء وهو مذهب مالك وأصحابه، أما تحريم الرجل امرأته أو جاريته، ففيه لأهل العلم ما يزيد على ثلاثة عشر مذهبا معروفة في محلها، وأجراها على القياس في تحريم الزوجة لزوم كفارة الظهار، لأن من قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فهو بمثابة ما لو قال لها: أنت حرام، والظهار نص الله في كتابه، على أن فيه كفارته المنصوصة في سورة المجادلة.
أما نذر اللجاج فقد قدمنا القول، بأن فيه كفارة يمين، والمراد بنذر اللجاج النذر الذي يراد به الامتناع من أمر لا التقرب إلى الله.
قال ابن قدامة في المغني: وجملته أنه إذا أخرج النذر مخرج اليمين، بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا، أو يحث به على شيء مثل أن يقول: إن كلمت زيدا، فلله علي الحج أو صدقة مالي أو صوم سنة، فهذا يمين، حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه، فلا يلزمه شيء، وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وبين كفارة يمين، ويسمى نذر اللجاج، والغضب، ولا يتعين الوفاء به، ثم قال: وهذا قول عمر وابن عباس، وابن عمر، وعائشة وحفصة، وزينب بنت أبي سلمة، وبه قال عطاء، وطاوس وعكرمة، والقاسم والحسن، وجابر بن زيد، والنخعي، وقتادة وعبد الله بن شريك، والشافعي، والعنبري وإسحاق وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، وقال سعيد بن المسيب: لا شيء في الحلف بالحج، وعن الشعبي، والحارث العكلي وحماد والحكم: لا شيء في الحلف بصدقة ماله، لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله لحرمة الاسم، وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه، لأنه لم يخرجه مخرج القربة، وإنما التزمه على طريق
237

العقوبة، فلم يلزمه. وقال أبو حنيفة ومالك: يلزمه الوفاء بنذره، لأنه نذر فيلزم الوفاء به كنذر البر. وروي نحو ذلك عن الشعبي.
ولنا ما روى عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين) رواه سعيد بن منصور والجوزجاني في المترجم، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بالمشي والهدي، أو جعل ماله في سبيل الله أو في المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة يمين) إلى أن قال: وعن أحمد رواية ثانية: أنه تتعين الكفارة، ولا يجزئه الوفاء بنذره. وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه يمين اه محل الغرض من المغني، وروى أبو داود، عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني القسمة، فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم وفيما لا تملك) اه رواه أبو داود وسعيد بن المسيب: لم يصح سماعه من عمر. قاله بعضهم: وعليه فهو من مراسيل سعيد، وذكر جماعة أنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه، وعن أحمد ما يدل على سماع سعيد، من عمر وأنه قال: إن لم نقبل سعيدا، عن عمر، فمن يقبل. والظاهر سماعه من عمر كما صدر بما يدل عليه صاحب تهذيب التهذيب، وعن مالك وغيره أنه لم يدرك عمر وحديث سعيد المذكور عن عمر: إما متصل، وإما مرسل من مراسيل سعيد، وقد قدمنا كلام العلماء فيها.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: ولكن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر بن الخطاب، فهو منقطع، وروي نحوه عن عائشة: أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة. فقالت: يكفر عن اليمين. أخرجه مالك، والبيهقي بسند صحيح. وصححه ابن السكن اه. ولفظ مالك في الموطأ فقالت عائشة رضي الله عنها: يكفره ما يكفر اليمين، وليس في الموطأ أن فتواها هذه في نذر لجاج بل الذي فيه: أنها سئلت عن رجل قال: مالي في رتاج الكعبة. وهو بابها وهو براء مكسورة، فمثناة فوقية بعدها ألف فجيم.
وهذا الذي ذكرنا هو: حاصل حجة من قال: إن نذر اللجاج فيه كفارة يمين، وهو الأقرب عندي لما ذكرنا، خلافا لمن قال: لا شيء فيه. وأما نذر المعصية فلا خلاف في
238

أنه حرام، وأن الوفاء به ممنوع، وإنما الخلاف في لزوم الكفارة به فذهب جمهور أهل العلم أنه لا كفارة فيه، وعن أحمد والثوري وإسحاق، وبعض الشافعية، وبعض الحنفية: فيه الكفارة وذكر الترمذي: اختلاف الصحابة في ذلك، واحتج من قال: بأنه ليس فيه كفارة بالأحاديث الصحيحة، الواردة بأنه: لا نذر في معصية، ونفي نذر المعصية مطلقا: يدل على نفي أثره، فإذا انتفى النذر من أصله انتفت كفارته لأن التابع ينتفي بانتفاء المتبوع. وإن قلنا: إن الصيغة في قوله: لا نذر في معصية، خبر أريد به الإنشاء وهو النهي عن نذر المعصية، فالنهي يقتضي الفساد، وإذا فسد المنذور بالنهي، بطل معه تأثيره في الكفارة. قالوا: والأصل براءة الذمة من الكفارة. قالوا: ومما يؤيد ذلك الأحاديث الواردة بأنه: لا نذر إلا فيما ابتغى به وجه الله. قال المجد في المنتقى: رواه أحمد، وأبو داود وفي لفظ عند أحمد: إنما النذر ما ابتغى به وجه الله، وهو من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده. وفي إسناده مناقشات تركناها اختصارا، واحتج من قال: بأن في نذر المعصية كفارة ببعض الأحاديث الواردة بذلك.
منها: ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين) قال المجد في المنتقى: رواه الخمسة، واحتج به أحمد، وإسحاق. ومعلوم أن مراده بالخمسة: الإمام أحمد وأصحاب السنن، ولفظ أبي داود في هذا الحديث:
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر، ثنا عبد الله بن المبارك، عن يونس عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين).
حدثنا ابن السرح قال: ثنا وهب عن يونس، عن ابن شهاب بمعناه. وإسناده قال أبو داود: سمعت أحمد بن شبويه، يقول: قال ابن المبارك: يعني في هذا الحديث: حدث أبو سلمة، فدل ذلك على أن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة، وقال أحمد بن محمد: وتصديق ذلك: ما حدثنا أيوب يعني ابن سليمان قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أفسدوا علينا هذا الحديث، قيل له: وصح إفساده عندك، وهل رواه غير ابن أبي أويس؟ قال: أيوب كان أمثل منه، يعني: أيوب بن سليمان بن بلال، وقد رواه أيوب.
حدثنا أحمد بن محمد المروزي، ثنا أيوب بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن ابن أبي عتيق وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سليمان بن
239

أرقم: أن يحيى بن أبي كثير أخبره، عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين) قال أحمد بن محمد المروزي: إنما الحديث حديث علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير، عن أبيه عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن سليمان بن أرقم وهم فيه، وحمله عنه الزهري، وأرسله عن أبي سلمة عن عائشة رحمها الله
قال أبو داود: روى بقية عن الأوزاعي، عن يحيى، عن محمد بن الزبير بإسناد علي بن المبارك مثله اه من سنن أبي داود بلفظه. وفيه سوء ظن كثير بالزهري، وهو أنه حذف من إسناد الحديث واسطتين: وهما سليمان بن أرقم، ويحيى بن أبي كثير، وأرسله عن أبي سلمة وكذلك قال الترمذي بعد إخراجه لحديث عائشة المذكور، لا يصح، لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة، ومما يقوي سوء الظن المذكور بالزهري: أن سليمان بن أرقم الذي حذفه من الإسناد متروك لا يحتج بحديثه، فحذف المتروك. ورواية حديثه عمن فوقه من العدول من تدليس التسوية، وهو شر أنواع التدليس وأقبحها، ولا شك أن هذا النوع من التدليس قادح فيمن تعمده. وما ذكره بعضهم: من أن الثوري والأعمش كانا يفعلان هذا النوع من التدليس مجاب عنه بأنهما لا يدلسان إلا عمن هو ثقة عندهما. وإن كان ضعيفا عند غيرهما. ومن المستبعد أن يكون الزهري يحسن الظن بسليمان بن أرقم مع اتفاق الحفاظ على عدم الاحتجاج به.
والحاصل: أن لزوم الكفارة في نذر المعصية، جاءت فيه أحاديث متعددة، لا يخلو شيء منها من كلام. وقد يقوي بعضها بعضا.
وقال الشوكاني: قال النووي في الروضة حديث (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين) ضعيف باتفاق المحدثين. قال الحافظ: قلت: قد صححه الطحاوي، وأبو علي بن السكن، فأين الاتفاق انتهى منه. وقد تركنا تتبع الأحاديث الواردة فيه، ومناقشتها اختصارا. والأحوط لزوم الكفارة، لأن الأمر مقدم على الإباحة كما تقرر في الأصول للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب. فمن أخرج كفارة عن نذر المعصية، فقد برئ من المطالبة بها باتفاق الجميع ومن لم يخرجها بقي مطالبا بها على قول أحمد، ومن ذكرنا معه.
الفرع الثالث: اعلم أن من نذر شيئا من الطاعة لا يقدر عليه لا يلزمه الوفاء به، لعجزه عنه.
240

واختلف فيما يلزمه في ذلك المعجوز عنه، فلو نذر مثلا أن يحج، أو يعتمر ماشيا على رجليه، وهو عاجز عن المشي: جاز له الركوب لعجزه عن المشي، وإن قدر
على المشي: لزمه.
وفي حالة ركوبه عند العجز اختلف العلماء فيما يلزمه فقال بعضهم: لا شيء عليه، لأنه عاجز والله يقول: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * فقد عجز عما نذر ولا يلزمه شيء غير ما نذر. وقال بعضهم: تلزمه كفارة يمين. وقال بعضهم: يلزمه صوم ثلاثة أيام. وقال بعضهم: تلزمه بدنة. وقال بعضهم: يلزمه هدي.
قال ابن قدامة في المغني: وجملته أن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام، لزمه الوفاء بنذره. وبهذا قال مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأبو عبيد، وابن المنذر، ولا نعلم فيه خلافا، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) ولا يجزئه المشي إلا في الحج أو العمرة. وبه يقول الشافعي. ولا أعلم فيه خلافا، وذلك لأن المشي المعهود في الشرع: هو المشي في حج أو عمرة، فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي. ويلزمه المشي فيه لنذره، فإن عجز عن المشي: ركب، وعليه كفارة يمين، وعن أحمد رواية أخرى: أنه يلزمه دم، وهو قول الشافعي. وأفتى به عطاء لما روى ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت الله الحرام، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب، وتهدي هديا. رواه أبو داود وفيه ضعف ولأنه أخل بواجب في الإحرام فلزمه هدي كتارك الإحرام من الميقات. وعن ابن عمر وابن الزبير قالا: يحج من قابل، بل ويركب ما مشي، ويمشي ما ركب ونحوه. قال ابن عباس وزاد فقال: ويهدي، وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة وعن النخعي روايتان: إحداهما: كقول ابن عمر والثانية: كقول ابن عباس، وهذا قول مالك. وقال أبو حنيفة: عليه هدي سواء عجز عن المشي، أو قدر عليه. وأقل الهدي: شاة، وقال الشافعي: لا يلزمه مع العجز كفارة بحال، إلا أن يكون النذر مشيا إلى بيت الله الحرام، فهل يلزمه هدي؟ فيه قولان. وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شيء ا ه محل الغرض من المغني.
وإذا علمت أقوال أهل العلم: فيما يلزم من نذر شيئا، وعجز عنه، فهذه أدلة أقوالهم نقلناها ملخصة بواسطة نقل المجد في المنتقى، لأنه جمعها في محل واحد أما من قال: تلزمه كفارة يمين فقد احتج بما رواه أبو داود، وابن ماجة، عن ابن عباس رضي الله
241

عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين) اه.
قال الحافظ في بلوغ المرام: في حديث ابن عباس، هذا إسناده صحيح، إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه اه كما تقدمت الإشارة إليه.
ومن أدلة أهل هذا القول ما رواه كريب، عن ابن عباس قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال: (إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا. لتخرج راكبة ولتكفر عن يمينها) رواه أحمد، وأبو داود وقال في نيل الأوطار: في هذا الحديث سكت عنه أبو داود، والمنذري، ورجاله رجال الصحيح. والظاهر المتبادر: أن المراد بالتكفير عن اليمين: هو كفارة اليمين المعروفة، ولقد صدق الشوكاني في أن رجال حديث أبي داود المذكور رجال الصحيح، لأن أبا داود قال: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب، ثنا أبو النضر، ثنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن كريب عن ابن عباس إلى آخر الحديث المذكور بمتنه فطبقة إسناده الأولى حجاج بن أبي يعقوب وهو حجاج بن الشاعر الذي أكثر مسلم في صحيحه من الإخراج له، وهو ثقة حافظ وطبقته الثانية: أبو النضر وهو هاشم بن القاسم بن مسلم بن مقسم الليثي البغدادي خراساني الأصل، ولقبه قيصر، وهو ثقة ثبت، أخرج له الجميع وطبقته الثالثة هي: شريك، وهو ابن عبد الله بن أبي شريك النخعي، أبو عبد الله الكوفي القاضي. أخرج له البخاري تعليقا، وهو من رجال مسلم وظاهر كلام ابن حجر في تهذيب التهذيب: أن مسلما إنما أخرج له في المتابعات، وكلام أهل العلم فيه كثير بين مثن وذاكر غير ذلك، وطبقته الرابعة: محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، وهو من رجال مسلم وهو ثقة. وطبقته الخامسة: كريب بن أبي مسلم الهاشمي، مولى ابن عباس ومعلوم أنه ثقة، وأنه أخرج له الجميع.
هذا هو حاصل حجة من قال: إن على من نذر نذرا، ولم يطقه كفارة يمين، وأما الذين قالوا: عليه صيام ثلاثة أيام، فقد احتجوا بما رواه أحمد، وأصحاب السنن عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن أخته نذرت أن تمشي حافية، غير مختمرة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا، مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام) اه بواسطة نقل المجد في المنتقى. قال الشوكاني في هذا الحديث: حسنه
242

الترمذي ولكن في إسناده عبيد الله بن زحر وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة اه محل الغرض منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ظاهر كلام أبي داود في عبيد الله بن زحر المذكور: أنه ثقة عنده، لأنه ذكر تزكيته عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ولم يتعقب ذلك بشيء.
فقد قال أبو داود في هذا الحديث: حدثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد القطان قال: أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري، أخبرني عبيد الله بن زحر: أن أبا سعيد أخبره أن عبد الله بن مالك أخبره: أن عقبة بن عامر أخبره: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة، فقال: (مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام). حدثنا مخلد بن خالد، ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج قال: كتبت إلى يحيى بن سعيد أخبرني عبيد الله بن زحر، مولى لبني ضمرة، وكان أيما رجل أن أبا سعيد الرعيني، أخبره بإسناد يحيى، ومعناه اه من سنن أبي داود، فكتابة يحيى بن سعيد الأنصاري إلى ابن جريج في ابن زحر المذكور. وكان أيما رجل فيه أعظم تزكية، لأن قولهم فكان أيما رجل يدل على أنه من أفاضل الرجال والتفضيل في هذا المقام، إنما هو في الثقة والعدالة، كما ترى ومن هذا القبيل قول الراعي:، عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة، فقال: (مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام). حدثنا مخلد بن خالد، ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج قال: كتبت إلى يحيى بن سعيد أخبرني عبيد الله بن زحر، مولى لبني ضمرة، وكان أيما رجل أن أبا سعيد الرعيني، أخبره بإسناد يحيى، ومعناه اه من سنن أبي داود، فكتابة يحيى بن سعيد الأنصاري إلى ابن جريج في ابن زحر المذكور. وكان أيما رجل فيه أعظم تزكية، لأن قولهم فكان أيما رجل يدل على أنه من أفاضل الرجال والتفضيل في
هذا المقام، إنما هو في الثقة والعدالة، كما ترى ومن هذا القبيل قول الراعي:
* فأومأت إيماء خفيا لحبتر
* فلله عينا حبتر أيما فتى
*
وقال ابن حجر في التقريب في ابن زحر المذكور: صدوق يخطئ، وكلام أئمة الحديث فيه كثير منهم المثنى ومنهم القادح.
وحجة من قال إن عليه بدنة: هي ما رواه عكرمة، عن ابن عباس: أن عقبة بن عامر سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله غني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة) رواه أحمد، وأبو داود. وقال الشوكاني في هذا الحديث: سكت عنه أبو داود والمنذري، ورجاله رجال الصحيح: قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح.
وحجة من قال: إن عليه هديا هي: ما رواه أبو داود، حدثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو الوليد ثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن أخت عقبة بن عامر، نذرت أن تمشي إلى البيت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب، وتهدي هديا. وقال الشوكاني في
243

هذا الحديث: سكت عنه أبو داود والمنذري، ولزوم الهدي المذكور مروي عن مالك في الموطأ وفسر الهدي: ببدنة، أو بقرة، أو شاة، إن لم تجد غيرها.
هذا هو حاصل أدلة أقوال أهل العلم: فيما يلزم من نذر شيئا، وعجز عن فعله. والقول بالهدي والقول بالبدنة، يمكن الجمع بينهما، لأن البدنة هدي، والخاص يقضي على العام.
وقد ذكرنا كلام الناس في أسانيد الأحاديث الواردة في ذلك وأحوطها: فيمن عجز عن المشي، الذي نذره في الحج: البدنة، لأنها أعظم ما قيل في ذلك، وليس من المستبعد، أن تلزم البدنة، وأنه يجزئ الهدي والصوم وكفارة اليمين، لأن كل الأحاديث الواردة بذلك ليس فيها التصريح بنفي إجزاء شيء آخر. فحديث لزوم كفارة اليمين: لم يصرح بعدم إجزاء البدنة، وحديث الهدي: لم يصرح بعدم إجزاء الصوم مثلا وهكذا. وقد عرفت أقوال أهل العلم في ذلك مع أن الأحاديث لا يخلو شيء منها من كلام. وظاهر النصوص العامة: أنه لا شيء عليه، لأن الله يقول: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * ويقول: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) وقد ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ * (ربنا لا تؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا) *. قال الله: قد فعلت. وفي رواية: نعم، ويدخل في حكم ذلك قوله تعالى: * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) *.
الفرع الرابع: في حكم الإقدام على النذر مع تعريفه لغة وشرعا.
اعلم أن الأحاديث الصحيحة، دلت على أن النذر، لا ينبغي وأنه منهي عنه، ولكن إذا وقع وجب الوفاء به، إن كان قربة كما تقدم.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا فليح بن سليمان، حدثنا سعيد بن الحارث: أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أو لم ينهوا عن النذر، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخر وإنما يستخرج بالنذر من البخيل) وفي البخاري، عن ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر فقال: (إنه لا يرد شيئا ولكنه يستخرج به من البخيل) وفي لفظ للبخاري من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قدر، ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قدر له فيستخرج الله به من البخيل فيؤتي عليه ما لم يكن يؤتي عليه من
244

قبل) اه من صحيح البخاري، وهو صريح في النهي عن النذر، وأنه ليس ابتداء فعله من الطاعات المرغب فيها.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثني زهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق: أخبرنا. وقال زهير: حدثنا جرير، عن منصور، عن عبد الله بن مرة، عن عبد الله بن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ينهانا عن النذر ويقول: (إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من الشحيح) وفي لفظ لمسلم، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره وإنما يستخرج به من البخيل) وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن النذر، وقال: (إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل).
وقال مسلم في صحيحه أيضا: وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز، يعني الدراوردي، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا، وإنما يستخرج به من البخيل) وفي لفظ لمسلم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال: (إنه لا يرد من القدر، وإنما يستخرج به من البخيل) وفي لفظ لمسلم، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج) اه. من صحيح مسلم.
وهذا الذي ذكرنا من حديث الشيخين، عن ابن عمر وأبي هريرة: فيه الدلالة الصريحة على النهي عن الإقدام على النذر، وأنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل. وفي الأحاديث المذكورة إشكال معروف، لأنه قد دل القرآن على الثناء على الذين يوفون بالنذر، وأنه من أسباب دخول الجنة كقوله تعالى: * (إن الا برار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا * عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا * يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) * وقوله تعالى: * (ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) * وقد دل الكتاب والسنة على وجوب الوفاء، بنذر الطاعة، كقوله تعالى في هذه الآية، التي نحن بصددها * (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) *. وكقوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح، من ذم الذين لم يوفوا بنذورهم.
245

قال البخاري في صحيحه: حدثنا مسدد، عن يحيى عن شعبة: حدثني أبو جمرة، حدثنا زهدم بن مضرب، قال: سمعت عمران بن حصين رضي الله عنهما، يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) قال عمران: لا أدري ذكر ثنتين أو ثلاثا بعد قرنه (ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن) اه من صحيح البخاري. وهو ظاهر جدا في إثم الذين لا يوفون بنذرهم، وأنهم كالذين يخونون، ولا يؤتمنون. وهذا الحديث أخرجه أيضا مسلم في صحيحه، عن عمران بن حصين. وقال النووي في شرحه لحديث عمران هذا فيه وجوب الوفاء بالنذر، وهو واجب، بلا خلاف، وإن كان ابتداء النذر منهيا عنه: كما سبق في بابه، اه محل الغرض منه.
ولأجل هذا الإشكال المذكور اختلف العلماء في حكم الإقدام على النذر، فذهب المالكية: إلى جواز نذر المندوبات إلا الذي يتكرر دائما كصوم يوم من كل أسبوع فهو مكروه عندهم، وذهب أكثر الشافعية: إلى أنه مكروه، ونقله بعضهم عن نص الشافعي للأحاديث الدالة على النهي عنه. ونقل نحوه عن المالكية أيضا، وجزم به عنهم ابن دقيق العيد. وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم، والجزم عن الشافعية بالكراهة. وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم، وتوقف بعضهم في صحتها، وكراهته مروية عن بعض الصحابة. اه بواسطة نقل ابن حجر في الفتح. وجزم صاحب المغني: بأن النهي عنه نهي كراهة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر لي في طريق إزالة هذا الإشكال، الذي لا ينبغي العدول عنه: أن نذر القربة على نوعين.
أحدهما: معلق على حصول نفع كقوله: إن شفى الله مريضي، فعلي لله نذر كذا أو إن نجاني الله من الأمر الفلاني المخوف، فعلي لله نذر كذا، ونحو ذلك.
والثاني: ليس معلقا على نفع للناذر، كأن يتقرب إلى الله تقربا خالصا بنذر كذا، من أنواع الطاعة، وأن النهي إنما هو في القسم الأول، لأن النذر فيه لم يقع خالصا للتقرب إلى الله، بل بشرط حصول نفع للناذر وذلك النفع الذي يحاوله الناذر هو الذي دلت الأحاديث على أن القدر فيه غالب على النذر وأن النذر لا يرد فيه شيئا من القدر.
أما القسم الثاني: وهو نذر القربة الخالص من اشتراط النفع في النذر، فهو الذي فيه
246

الترغيب والثناء على الموفين به المقتضي أنه من الأفعال الطيبة، وهذا التفصيل قالت به جماعة من أهل العلم.
وإنما قلنا: إنه لا ينبغي العدول عنه لأمرين:
الأول: أن نفس الأحاديث الواردة في ذلك فيها قرينة واضحة، دالة عليه، وهو ما تكرر فيها من أن النذر لا يرد شيئا من القدر، ولا يقدم شيئا، ولا يؤخر شيئا ونحو ذلك. فكونه لا يرد شيئا من القدر، قرينة واضحة على أن الناذر أراد بالنذر جلب نفع عاجل، أو دفع ضر عاجل فبين صلى الله عليه وسلم أن ما قضى الله به في ذلك واقع لا محالة، وأن نذر الناذر لا يرد شيئا كتبه الله عليه، ولكنه إن قدر الله ما كان يريده الناذر بنذره، فإنه يستخرج بذلك من البخيل الشيء الذي نذر وهذا واضح جدا كما ذكرنا.
الثاني: أن الجمع واجب إذا أمكن وهذا جمع ممكن بين الأدلة واضح تنتظم به الأدلة، ولا يكون بينها خلاف، ويؤيده أن الناذر الجاهل، قد يظن أن النذر قد يرد عنه ما كتبه الله عليه. هذا هو الظاهر في حل هذا الإشكال. وقد قال به غير واحد. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
فإن قيل: إن النذر المعلق كقوله: إن شفى الله مريضي أو نجاني من كذا، فلله علي نذر كذا، قد ذكرتم أنه هو المنهي عنه، وإذا تقرر أنه منهي عنه لم يكن من جنس القربة، فكيف يجب الوفاء بمنهي عنه.
والجواب: أن النص الصحيح دل على هذا فدل على النهي عنه أولا، كما ذكرنا الأحاديث الدالة على ذلك، ودل على لزوم الوفاء به بعد الوقوع فقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما يستخرج به من البخيل) نص صريح في أن البخيل يلزمه إخراج ما نذر إخراجه، وهو المصرح بالنهي عنه أولا، ولا غرابة في هذا، لأن الواحد بالشخص قد يكون له جهتان. فالنذر المنذور له جهة هو منهي عنه من أجلها ابتداء: وهي شرط حصول النفع فيه، وله جهة أخرى هو قربة بالنظر إليها، وهو إخراج المنذور تقربا لله وصرفه في طاعة الله، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن النذر في اللغة النحب وهو ما يجعله الإنسان نحبا واجبا عليه قضاؤه، ومنه قول لبيد:
247

واعلم: أن النذر في اللغة النحب وهو ما يجعله الإنسان نحبا واجبا عليه قضاؤه، ومنه قول لبيد:
* ألا تسألان المرء ماذا يحاول
* أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
*
وحاصله: أنه إلزام الإنسان نفسه بشيء لم يكن لازما لها، فيجعله واجبا عليها وهو في اصطلاح الشرع: التزام المكلف قربة لم تكن واجبة عليه. وقال ابن الأثير في النهاية: يقال: نذرت أنذر وأنذر نذرا إذا أوجبت على نفسي شيئا تبرعا من عبادة أو صدقة أو غير ذلك. وقد تكرر في أحاديثه ذكر النهي عنه وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه، وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية. فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا، ولا يصرف عنهم ضرا ولا يرد قضاء. فقال: لا تنذروا على أنكم قد تدركون بالنذر شيئا لم يقدره
الله لكم، أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاء عليكم، فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا فأخرجوا عنه بالوفاء، فإن الذي نذرتموه لازم لكم اه الغرض من كلام ابن الأثير. وقد قاله غيره، ولا يساعد عليه ظواهر الأحاديث.
فالظاهر أن الأرجح الذي لا ينبغي العدول عنه هو ما قدمنا من الجمع، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن تعريف المالكية للنذر شرعا: بأنه التزام مسلم مكلف، ولو غضبان إلى آخره فيه أمران.
الأول: أن اشتراط الإسلام في النذر فيه نظر، لأن ما نذره الكافر من فعل الطاعات قد ينعقد نذره له بدليل أنه يفعله إذا أسلم بعد ذلك، ولو كان لغوا غير منعقد، لما كان له أثر بعد الإسلام.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا عبد الله أخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر: أن عمر قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: (أوف بنذرك) انتهى منه. فقوله صلى الله عليه وسلم لعمر في هذا الحديث الصحيح: (أوف بنذرك) مع أنه نذره في الجاهلية صريح في ذلك كما ترى، ولا التفات إلى ما أوله به بعض العلماء من المالكية وغيرهم. وقول المالكية في تعريف النذر، ولو غضبان لا يخفى أن العلماء مختلفون في نذر الغضبان، هل يلزم فيه ما نذر أو هو من نوع اللجاج، تلزم فيه كفارة يمين كما أوضحنا حكمه سابقا.
الفرع الخامس: اعلم: أنه قد دل الحديث على أن من نذر أن ينحر تقربا لله في محل
248

معين، فلا بأس بإيفائه بنذره، بأن ينحر في ذلك المحل المعين، إذا لم يتقدم عليه أنه كان به وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية. ومفهومه أنه إن كان قد سبق أن فيه وثنا يعبد، أو عيدا من أعياد الجاهلية: أنه لا يجوز النحر فيه.
قال أبو داود في سننه: حدثنا داود بن رشيد، ثنا شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني ثابت بن الضحاك، قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ينحر إبلا ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم) اه منه.
وفيه الدلالة الظاهرة على أن النحر بموضع كان فيه وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية من معصية الله تعالى، وأنه لا يجوز بحال، والعلم عند الله تعالى. وإسناد الحديث صحيح.
الفرع السادس: اعلم: أن الأحاديث الصحيحة دلت على أن من مات وعليه نذر أنه يقضى عنه، وسنقتصر هنا على قليل منها اختصارا لصحته، وثبوته.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس، أخبره (أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه، فتوفيت قبل أن تقضيه، فأفتاه: أن يقضيه عنها فكانت سنة بعد) اه من صحيح البخاري.
وقد قدمنا بعض الأحاديث الدالة على ذلك فيمن مات وعليه نذر الحج أنه يقضي عنه كما تقدم إيضاحه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة معروفة.
تنبيه
اعلم: أن ابن عمر وابن عباس أفتيا بقضاء الصلاة المنذورة عن الميت إذا مات ولم يصل ما نذر. قال البخاري في صحيحه: باب من مات وعليه نذر، وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء فقال: صلي عنها. وقال ابن عباس نحوه اه من البخاري. وفي الموطأ عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته: أنها حدثته، عن جدته أنها كانت جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء، فماتت ولم تقضه، فأفتى
249

عبد الله بن عباس ابنتها: أن تمشي عنها. قال يحيى: وسمعت مالكا يقول: لا يمشي أحد عن أحد اه من الموطأ. وقال الزرقاني، في شرحه: قال ابن القاسم: أنكر مالك الأحاديث في المشي إلى قباء، ولم يعرف المشي إلا إلى مكة خاصة. قال ابن عبد البر يعني: لا يعرف إيجاب المشي للحالف، والناذر. وأما المتطوع، فقد روى مالك فيما مر أنه صلى الله عليه وسلم، كان يأتي قباء راكبا وماشيا، وأن إتيانه مرغب فيه. اه منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي عليه جمهور أهل العلم، وحكى ابن بطال الإجماع عليه أنه لا يصلي أحد عن أحد، أما الصوم والحج عن الميت فقد قدمنا مشروعيتهما. وإن خالف جل أهل العلم في الصوم عن الميت، والعلم عند الله تعالى. وفي الموطأ عن مالك بعد أن ذكر حديث (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) قال يحيى: وسمعت مالكا يقول: معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام، أو إلى مصر، أو إلى الربذة، أو ما أشبه ذلك مما ليس لله بطاعة، إن كلم فلانا أو ما أشبه ذلك فليس عليه في شيء من ذلك شيء إن هو كلمه، أو حنث بما حلف عليه، لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة. وإنما يوفي لله بما له فيه طاعة اه. من الموطأ.
الفرع السابع: الأظهر عندي: أن من نذر جميع ماله لله ليصرف في سبيل الله، أنه يكفيه الثلث ولا يلزمه صرف الجميع، وهذا قول مالك وأصحابه وأحمد وأصحابه، والزهري. وفي هذه المسألة للعلماء عشرة مذاهب أظهرها عندنا: هو ما ذكرنا، ويليه في الظهور عندنا قول من قال: يلزمه صرفه كله، وهو مروي عن الشافعي والنخعي، وعن أحمد رواية أخرى: أن عليه كفارة يمين، وعن ربيعة تلزمه الصدقة بقدر الزكاة، وعن جابر بن زيد، وقتادة: إن كان كثيرا وهو ألفان تصدق بعشره، وإن كان متوسطا وهو ألف تصدق بسبعه، وإن كان قليلا، وهو خمسمائة تصدق بخمسه، وعن أبي حنيفة: يتصدق بالمال الزكوي كله، وعنه في غيره روايتان.
إحداهما: يتصدق به.
والثانية: لا يلزم منه شيء، وعن النخعي، والبتي، والشافعي: يتصدق بماله كله، وعن الليث: إن كان مليا لزمه، وإن كان فقيرا فعليه كفارة يمين، ووافقه ابن وهب وزاد وإن كان متوسطا يخرج قدر زكاة ماله وهذا مروي أيضا عن أبي حنيفة، وهو قول ربيعة كما تقدم. وعن الشعبي: لا يلزم شيء أصلا، وقيل: يلزم الكل إلا في نذر اللجاج، فكفارة
250

يمين، وعن سحنون: يلزمه إخراج ما لا يضر به. وعن الثوري والأوزاعي، وجماعة: يلزمه كفارة يمين بغير تفصيل.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة:
فاعلم: أن أكثرها لا يعتضد بدليل، والذي يعتضد بالدليل منها ثلاثة مذاهب:
الأول: هو ما قدمنا أنه أظهرها عندنا، وهو الاكتفاء بالثلث.
والثاني: لزوم الصدقة بالمال كله.
والثالث: قول سحنون: أنه يلزمه إخراج ما لا يضر به. أما الاكتفاء بالثلث الذي هو أقربها عندنا، فقد يستدل له ببعض الأحاديث الصحيحة التي فيها النهي عن التصدق بالمال كله، وفيها أن الثلث كثير.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب إذا أهدى ماله على وجه النذر، والتوبة: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله عن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك يقول في حديثه: * (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) * فقال في آخر حديثه: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) اه.
فظاهر هذا الحديث الصحيح: أن كعبا غير مستشير بل مريد التجرد من جميع ماله على وجه النذر والتوبة، كما في ترجمة الحديث. وقد أمره صلى الله عليه وسلم بأن يمسك بعض ماله، وصرح له بأن ذلك خير له. وقد جاء في بعض الروايات أنه فسر ذلك البعض الذي يمسكه بالثلثين، وأنه يتصدق بالثلث. وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث قوله: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) زاد أبو داود عن أحمد بن صالح بهذا السند، فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر، وهو عند المصنف من وجه آخر عن ابن شهاب، ووقع في رواية ابن إسحاق عن الزهري بهذا السند، عند أبي داود: (إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله لله ورسوله صدقة قال: لا. قلت: فنصفه؟ قال: لا. قلت: فثلثه؟ قال: نعم. قلت: فإني سأمسك سهمي في خيبر).
واعلم أن ابن إسحاق في حديثه هذا عند أبي داود، صرح بالتحديث عن الزهري، فأمن تدليسه ثم قال ابن حجر: وأخرج من طريق ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن
251

كعب بن مالك، عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث وفيه: وإني أنخلع من مالي كله صدقة. قال: (يجزئ عنك الثلث) وفي حديث أبي لبابة، عند أحمد وأبي داود مثله اه محل الغرض من فتح الباري.
وقد رأيت الروايات المصرحة بأنه يجزئه الثلث عن جميع المال. وظاهر الحديث أنه جازم غير مستشير فمن زعم من أهل العلم أنه مستشير فهو مخالف لظاهر اللفظ، لأن اللفظ مبدوء بجملة خبرية مؤكدة بحرف التوكيد، الذي هو إن المكسورة في قوله: إن من توبتي أن أنخلع من مالي، واللفظ الذي هذه صفته، لا يمكن حمله على التوقف والاستشارة، كما ترى فقوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك وأبي لبابة: إن الثلث يكفي عن الصدقة بجميع المال. هو الدليل الذي ذكرنا بسببه: أن أقرب الأقوال عندنا الاكتفاء بالثلث. وأما قول من قال: يلزمه التصدق بجميعه، فيستدل له بالحديث الصحيح: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) وهو يدل على إيفائه بنذره، ولو أتى على كل المال، إلا أن دليل ما قبله أخص منه في محل النزاع والأخص مقدم على الأعم.
وأما قول سحنون: يلزمه التصدق بما لا يضر به فيستدل له بقوله تعالى: * (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) *، لأن العفو في أصح التفسيرين، هو ما لا يضر إنفاقه بالمنفق، ولا يجحف به لإمساكه ما يسد خلته الضرورية. وهذا قد يرجع إلى الأول لأن الثلث من العفو الذي لا يجحف به إنفاقه. فأظهرها الأول كما ذكرنا وباقي الأقوال لا أعلم له دليلا متجها من كتاب، ولا سنة، وما وجه به تلك الأقوال بعض أهل العلم لا يتجه عندي، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثامن: اعلم أنه قد دل النص الصحيح، على أن من نذر أن يسافر إلى مسجد ليصلي فيه كمسجد البصرة، أو الكوفة أو نحو ذلك: لا يلزمه السفر إلى مسجد من تلك المساجد، وليصل الصلاة التي نذرها به في موضعه الذي هو به. والنص الصحيح المذكور هو حديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس). والجاري على الأصول: أنه لا يخرج من هذا الحصر الذي صرح به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح، إلا ما أخرجه نص صحيح يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة. والأظهر أن من نذر السفر لصلاة في مسجد إيلياء، وصلاها في مسجد مكة أو المدينة أجزأته، لأنهما أفضل منه.
وقد قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد أخبرنا حبيب المعلم، عن
252

عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله: أن رجلا قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين قال: (صل ها هنا ثم أعاد عليه، فقال: صل ها هنا ثم أعاد عليه، فقال: شأنك إذا) قال أبو داود: وروي نحوه عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ لأبي داود عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي بعث محمدا بالحق لو صليت
هنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس) اه. والعلم عند الله تعالى.
ولنكتف بما ذكر هنا من مسائل النذر لكثرة ما كتبنا في آيات سورة الحج من الأحكام الشرعية وأقوال أهل العلم فيها، والنذر باب مذكور في كتب الفروع، فمن أراد الإحاطة بجميع مسائله، فلينظرها في كتب فروع المذاهب الأربعة، وقد ذكرنا هنا عيون مسائله المهمة، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) *.
في المراد بالعتيق هنا للعلماء ثلاثة أقوال:
الأول: أن المراد به القديم، لأنه أقدم مواضع التعبد.
الثاني: أن الله أعتقه من الجبابرة.
الثالث: أن المراد بالعتق فيه الكرم، والعرب تسمي القديم عتيقا وعاتقا ومنه قول حسان رضي الله عنه: الثالث: أن المراد بالعتق فيه الكرم، والعرب تسمي القديم عتيقا وعاتقا ومنه قول حسان رضي الله عنه:
* كالمسك تخلطه بماء سحابة
* أو عاتق كدم الذبيح مدام
*
لأن مراده بالعاتق الخمر القديمة التي طال مكثها في دنها زمنا طويلا، وتسمى الكرم عتقا ومنه قول كعب بن زهير: لأن مراده بالعاتق الخمر القديمة التي طال مكثها في دنها زمنا طويلا، وتسمى الكرم عتقا ومنه قول كعب بن زهير:
* قنواء في حرتيها للبصير بها
* عتق مبين وفي الخدين تسهيل
*
فقوله: عتق مبين: أي كرم ظاهر، ومنه قول المتنبي:
* ويبين عتق الخيل في أصواتها * أي كرمها، والعتق من الجبابرة كالعتق من الرق، وهو معروف.
وإذا علمت ذلك فاعلم: أنه قد دلت آية من كتاب الله، على أن العتيق في الآية
253

بمعنى: القديم الأول وهي قوله تعالى: * (إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا) * مع أن المعنيين الآخرين كلاهما حق، ولكن القرآن دل على ما ذكرنا، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
تنبيهان
الأول: دلت هذه الآية الكريمة، على لزوم طواف الإفاضة وأنه لا صحة للحج بدونه.
الثاني: دلت هذه الآية أيضا على لزوم الطواف من وراء الحجر الذي عليه الجدار القصير شمال البيت لأن أصله من البيت، فهو داخل في اسم البيت العتيق، كما تقدم إيضاحه.
قوله تعالى: * (وأحلت لكم الا نعام إلا ما يتلى عليكم) *. لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية الأنعام، ولكنه بينه بقوله في سورة الأنعام: * (قل لا أجد فى مآ أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به) * وهذا الذي ذكرنا هو الصواب، أما ما قاله جماعات من أهل التفسير من أن الآية التي بينت الإجمال في قوله تعالى هنا: * (إلا ما يتلى عليكم) * أنها قوله تعالى في المائدة: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة) * فهو غلط، لأن المائدة من آخر ما نزل من القرآن وآية الحج هذه نازلة قبل نزول المائدة بكثير، فلا يصح أن يحال البيان عليها في قوله: * (إلا ما يتلى عليكم) * بل المبين لذلك الإجمال آية الأنعام التي ذكرنا لأنها نازلة بمكة، فيصح أن تكون مبينة لآية الحج المذكورة كما نبه عليه غير واحد.
أما قوله تعالى في المائدة: * (أحلت لكم بهيمة الا نعام إلا ما يتلى عليكم) * فيصح بيانه بقوله في المائدة: * (حرمت عليكم الميتة والدم) *. كما أوضحنا في أول المائدة والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (فاجتنبوا الرجس من الا وثان) *. (من) في هذه الآية بيانية.
والمعنى: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان: أي
254

عبادتها والرجس القذر الذي تعافه النفوس، وفي هذه الآية الكريمة الأمر باجتناب عبادة الأوثان، ويدخل في حكمها، ومعناها عبادة كل معبود من دون الله كائنا من كان. وهذا الأمر باجتناب عبادة غير الله المذكور هنا، جاء مبينا في آيات كقوله تعالى: * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) * وبين تعالى أن ذلك شرط في صحة إيمانه بالله في قوله: * (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) * وأثنى الله على مجتنبي عبادة الطاغوت المنيبين لله، وبين
أن لهم البشرى، وهي ما يسرهم عند ربهم في قوله تعالى: * (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى) *. وقد سأل إبراهيم ربه أن يرزقه اجتناب عبادة الطاغوت، في قوله تعالى: * (واجنبنى وبنى أن نعبد الا صنام) * والأصنام، تدخل في الطاغوت دخولا أوليا.
قوله تعالى: * (واجتنبوا قول الزور حنفآء لله غير مشركين به) *. أمر في هذه الآية الكريمة باجتناب قول الزور، وهو الكذب والباطل كقولهم: إن الله حرم البحيرة والسائبة، ونحو ذلك، وكادعائهم له الأولاد والشركاء، وكل قول مائل عن الحق فهو زور، لأن أصل المادة التي هي الزور من الازورار بمعنى الميل، والاعوجاج، كما أوضحناه في الكلام على قوله: * (تزاور عن كهفهم) *.
واعلم أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها، أن يذكر لفظ عام، ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، وتقدمت لذلك أمثلة. وسيأتي بعض أمثلته في الآيات القريبة من سورة الحج هذه.
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه هنا قال: * (واجتنبوا قول الزور) * بصيغة عامة، ثم بين في بعض المواضع بعض أفراد قول الزور المنهي عنه كقوله تعالى في الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم: * (وقال الذين كفروا إن هاذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم ءاخرون فقد جآءوا ظلما وزورا) * فصرح بأن قولهم هذا من الظلم والزور. وقال في الذين يظاهرون من نسائهم، ويقول الواحد منهم لامرأته: أنت علي كظهر أمي * (وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) * فصرح بأن قولهم ذلك، منكر وزور، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس
255

فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت) اه وقد جمع تعالى هنا بين قول الزور والإشراك به تعالى في قوله: * (واجتنبوا قول الزور حنفآء لله غير مشركين به) * وكما أنه جمع بينهما هنا، فقد جمع بينهما أيضا في غير هذا الموضع كقوله: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * لأن قوله: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * هو قول الزور. وقد أتى مقرونا بقوله: * (وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) * وذلك يدل على عظمة قول الزور، لأن الإشراك بالله قد يدخل في قول الزور، كادعائهم الشركاء، والأولاد لله. وكتكذيبه صلى الله عليه وسلم فكل ذلك الزور فيه أعظم الكفر والإشراك بالله. نعوذ بالله من كل سوء.
ومعنى حنفاء: قد قدمناه مرارا مع بعض الشواهد العربية، فأغنى عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السمآء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن من أشرك بالله غيره أي ومات ولم يتب من ذلك فقد وقع في هلاك، لا خلاص منه بوجه ولا نجاة معه بحال، لأنه شبهه بالذي خر: أي سقط من السماء إلى الأرض، فتمزقت أوصاله، وصارت الطير تتخطفها وتهوي بها الريح فتلقيها في مكان سحيق: أي محل بعيد لشدة هبوبها بأوصاله المتمزقة، ومن كانت هذه صفته فإنه لا يرجى له خلاص ولا يطمع له في نجاة، فهو هالك لا محالة، لأن من خر من السماء إلى الأرض لا يصل الأرض عادة إلا متمزق الأوصال، فإذا خطفت الطير أوصاله وتفرق في حواصلها، أو ألقته الريح في مكان بعيد فهذا هلاك محقق لا محيد عنه. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من هلاك من أشرك بالله وأنه لا يرجى له خلاص، جاء موضحا في مواضع أخر كقوله: * (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) *. وكقوله: * (قالوا إن الله حرمهما على الكافرين) * وقوله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * في الموضعين من سورة النساء، والخطف الأخذ بسرعة والسحيق البعيد. ومنه قوله تعالى: * (فسحقا لاصحاب السعير) * أي بعدا لهم.
وقد دلت آيات أخر على أن محل هذا الهلاك الذي لا خلاص منه بحال الواقع بمن
256

يشرك بالله، إنما هو في حق من مات على ذلك الإشراك، ولم يتب منه قبل حضور الموت. أما من تاب من شركه قبل حضور الموت، فإن الله يغفر له، لأن الإسلام يجب ما قبله.
والآيات الدالة على ذلك متعددة كقوله: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * وقوله: * (والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق) * إلى قوله: * (إلا من تاب وءامن وعمل عملا صالحا فأولائك يبدل الله سيئاتهم حسنات) * وقوله في الذين: * (قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إلاه إلا إلاه واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم) * وقوله: * (وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا) *. إلى غير ذلك من الآيات. وأما إن كانت توبته من شركه عند حضور الموت، فإنها لا تنفعه.
وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله كقوله تعالى: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الا ن ولا الذين يموتون وهم كفار) * فقد دلت الآية على التسوية بين الموت على الكفر والتوبة منه، عند حضور الموت وكقوله تعالى: * (فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * وكقوله في فرعون: * (حتى إذآ أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إلاه إلا الذىءامنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين ءاأن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) * وقرأ هذا الحرف نافع فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أصله فتتخطفه الطير بتاءين فحذفت إحداهما وقرأه غيره من السبعة فتخطفه الطير بإسكان الخاء وتخفيف الطاء مضارع خطفه بالكسر.
* (ذالك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب * لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلهآ إلى البيت العتيق * ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الا نعام فإلاهكم إلاه واحد فله أسلموا وبشر المخبتين * الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على مآ أصابهم والمقيمى الصلواة ومما رزقناهم ينفقون *
والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صوآف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذالك سخرناها لكم لعلكم تشكرون * لن ينال الله لحومها ولا دمآؤها ولاكن يناله التقوى منكم كذالك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين * إن الله يدافع عن الذين ءامنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور * أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز * الذين إن مكناهم فى الا رض أقاموا الصلواة وآتوا الزكواة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الا مور) *
قوله تعالى: * (ذالك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) *. قد ذكرنا قريبا أنا ذكرنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر لفظ عام، ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، فيكون ذلك الفرد قطعي الدخول لا يمكن إخراجه بمخصص، وواعدنا بذكر بعض أمثلته في هذه الآيات. ومرادنا بذلك هذه الآية الكريمة لأن قوله تعالى: * (ذالك ومن يعظم شعائر الله) * عام في جميع شعائر الله، وقد نص تعالى على أن البدن فرد من
257

أفراد هذا العموم، داخل فيه قطعا وذلك في قوله: * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) * فيدخل في الآية تعظيم البدن واستسمانها واستحسانها كما قدمنا عن البخاري: أنهم كانوا يسمنون الأضاحي، وكانوا يرون أن ذلك من تعظيم شعائر الله. وقد قدمنا أن الله صرح بأن الصفا والمروة داخلان في هذا العموم بقوله: * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله) * وأن تعظيمها المنصوص في هذه الآية: يدل على عدم التهاون بالسعي بين الصفا والمروة كما تقدم إيضاحه في مبحث السعي، وقوله في هذه الآية ذلك فيه ثلاثة أوجه من الإعراب.
الأول: أن يكون في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف: أي ذلك حكم الله وأمره.
الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف: أي اللازم ذلك أو الواجب ذلك.
الثالث: أن يكون في محل نصب بفعل محذوف، أي اتبعوا ذلك أو امتثلوا ذلك، ومما يشبه هذه الإشارة في كلام العرب قول زهير: الثالث: أن يكون في محل نصب بفعل محذوف، أي اتبعوا ذلك أو امتثلوا ذلك، ومما يشبه هذه الإشارة في كلام العرب قول زهير:
* هذا وليس كمن يعي بخطته
* وسط الندى إذا ما قائل نطقا
*
قاله القرطبي وأبو حيان والضمير المؤنث في قوله: * (فإنها من تقوى القلوب) * قال القرطبي: هو عائد إلى الفعلة التي يتضمنها الكلام، ثم قال: وقيل إنه راجع إلى الشعائر بحذف مضاف: أي فإن تعظيمها أي الشعائر فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه فرجع الضمير إلى الشعائر. اه. وقال الزمخشري في الكشاف: فإنها من تقوى القلوب أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى من ليرتبط به اه. منه.
قوله تعالى: * (وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على مآ أصابهم) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر المخبتين: أي المتواضعين لله المطمئنين الذين من صفتهم: أنهم إذا سمعوا ذكر الله، وجلت قلوبهم: أي خافت من الله جل وعلا، وأن يبشر الصابرين على ما أصابهم من الأذى، ومتعلق التبشير محذوف لدلالة المقام عليه أي بشرهم بثواب الله وجنته. وقد بين في موضع آخر: أن الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم: هم المؤمنون حقا وكونهم هم المؤمنين حقا، يجعلهم جديرين بالبشارة
258

المذكورة هنا. وذلك في قوله تعالى: * (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) *. وأمره في موضع آخر أن يبشر الصابرين على ما أصابهم مع بيان بعض ما بشروا به، وذلك في قوله تعالى: * (وبشر الصابرين الذين إذآ أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنآ إليه راجعون أولائك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولائك هم المهتدون) *.
واعلم: أن وجل القلوب عند ذكر الله أي خوفها من الله عند سماع ذكره لا ينافي ما ذكره جل وعلا، من أن المؤمنين تطمئن قلوبهم بذكر الله كما في قوله تعالى: * (الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * ووجه الجمع بين الثناء عليهم بالوجل الذي هو الخوف عند ذكره جل وعلا، مع الثناء عليهم بالطمأنينة بذكره، والخوف والطمأنينة متنافيان هو ما أوضحناه في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وهو أن الطمأنينة بذكر الله تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد، وصدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فطمأنينتهم بذلك قوية لأنها لم تتطرقها الشكوك، ولا الشبه والوجل عند ذكر الله تعالى يكون بسبب خوف الزيغ عن الهدى، وعدم تقبل الأعمال، كما قال تعالى عن الراسخين في العلم * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) * وقال تعالى: * (والذين يؤتون مآ ءاتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) * وقال تعالى: * (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) * ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).
قوله تعالى: * (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) *. قد قدمنا أنه تعالى أمر بالأكل من بهيمة الأنعام: وهي الإبل والبقر والغنم بأنواعها الثمانية، وأمر بإطعام البائس الفقير منها. وأمر بالأكل من البدن وإطعام القانع والمعتر منها، وما كان من الإبل، فهو من البدن بلا خلاف.
واختلفوا في البقرة، هل هي بدنة، وقد قدمنا الحديث الصحيح: أن البقرة من البدن، وقدمنا أيضا ما يدل على أنها غير بدنة، وأظهرهما أنها من البدن، وللعلماء في تفسير القانع والمعتر أقوال متعددة متقاربة أظهرها عندي: أن القانع هو الطامع الذي يسأل أن يعطى من اللحم ومنه قول الشماخ: واختلفوا في البقرة، هل هي بدنة، وقد قدمنا الحديث الصحيح: أن البقرة من البدن، وقدمنا أيضا ما يدل على أنها غير بدنة، وأظهرهما أنها من البدن، وللعلماء في تفسير القانع والمعتر أقوال متعددة متقاربة أظهرها عندي: أن القانع هو الطامع الذي يسأل أن يعطى من اللحم ومنه قول الشماخ:
* لمال المرء يصلحه فيغني
* مفاقره أعف من القنوع
*
259

يعني أعف من سؤال الناس، والطمع فيهم، وأن المعتر هو الذي يعتري متعرضا للإعطاء من غير سؤال وطلب، والله أعلم وقد قدمنا حكم الأكل من أنواع الهدايا والضحايا، وأقوال أهل العلم في ذلك بما أغنى عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (كذالك سخرناها لكم لعلكم تشكرون) *. قوله كذلك: نعت لمصدر: أي سخرناها أي البدن لكم تسخيرا كذلك: أي مثل ذلك التسخير الذي تشاهدون: أي ذللناها لكم، وجعلناها منقادة لكم تفعلون بها ما شئتم من نحر وركوب، وحلب وغير ذلك من المنافع، ولولا أن الله ذللها لكم لم تقدروا عليها، لأنها أقوى منكم ألا ترى البعير، إذا توحش صار صاحبه غير قادر عليه، ولا متمكن من الانتفاع به. وقوله هنا: * (لعلكم تشكرون) * قد قدمنا مرارا أن لعل تأتي في القرآن لمعان أقربها. اثنان: أحدهما: أنها بمعناها الأصلي، الذي هو الترجي والتوقع، وعلى هذا فالمراد بذلك خصوص الخلق لأنهم هم الذين يترجى منهم شكر النعم من غير قطع، بأنهم يشكرونها أو لا ينكرونها لعدم علمهم بما تؤول إليه الأمور، وليس هذا المعنى في حق الله تعالى لأنه عالم بما سيكون فلا يجوز في حقه جل وعلا إطلاق الترجي والتوقع لتنزيهه عن ذلك، وإحاطة علمه بما ينكشف عنه الغيب، وقد قال تعالى لموسى وهارون: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * أي على رجائكما وتوقعكما أنه يتذكر أو يخشى، مع أن الله عالم في سابق أزله أن فرعون لا يتذكر ولا يخشى، فمعنى لعل بالنسبة إلى الخلق، لا إلى الخالق جل وعلا. المعنى الثاني: هو ما قدمنا من أن بعض أهل العلم، قال: كل لعل في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء * (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) * قال: فهي بمعنى: كأنكم تخلدون. وإتيان لفظة لعل للتعليل معروف في كلام العرب. وقد قدمناه موضحا مرارا وقد قدمنا من شواهده العربية قول الشاعر: وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) * قال: فهي بمعنى: كأنكم تخلدون. وإتيان لفظة لعل للتعليل معروف في كلام العرب. وقد قدمناه موضحا مرارا وقد قدمنا من شواهده العربية قول الشاعر:
* فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا
* نكف ووثقتم لنا كل موثق
*
يعني كفوا الحروب لأجل أن نكف، وإذا علمت أن هذه الآية الكريمة بين الله فيها أن تسخيره الأنعام لبني آدم نعمة من إنعامه، تستوجب الشكر لقوله: * (لعلكم تشكرون) *.
فاعلم: أنه بين هذا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما
260

عملت أيدينآ أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون * * (ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون) * وقوله في آية يس: هذه: * (منافع ومشارب) * كقوله في آية الحج: * (لعلكم تشكرون) * ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى قريبا: * (كذالك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم) *، وقد قدمنا معنى شكر العبد لربه وشكر الرب لعبده، مرارا بما أغنى عن إعادته هنا والتسخير التذليل.
قوله تعالى: * (إن الله يدافع عن الذين ءامنوا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يدفع السوء عن عباده الذين آمنوا به إيمانا حقا، ويكفيهم شر أهل السوء، وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) *. وقوله: * (أليس الله بكاف عبده) * وقوله تعالى: * (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم) * وقوله تعالى: * (إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا) *. وقوله: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) * وقوله: * (وإن جندنا لهم الغالبون) * إلى غير ذلك من الآيات، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو: * (إن الله يدافع عن الذين ءامنوا) * بفتح الياء والفاء بينهما دال ساكنة مضارع دفع المجرد، وعلى هذه القراءة، فالمفعول محذوف أي يدفع عن الذين آمنوا الشر والسوء، لأن الإيمان بالله هو أعظم أسباب دفع المكاره، وقرأ الباقون: يدافع بضم الياء، وفتح الدال بعدها ألف. وكسر الفاء مضارع دافع المزيد فيه ألف بين الفاء والعين على وزن فاعل. وفي قراءة الجمهور هذه إشكال معروف، وهو أن المفاعلة تقتضي بحسب الوضع العربي اشتراك فاعلين في المصدر. والله جل وعلا يدفع كل ما شاء من غير أن يكون له مدافع يدفع شيئا.
والجواب: هو ما عرف من أن المفاعلة قد ترد بمعنى المجرد، نحو: جاوزت المكان بمعنى جزته، وعاقبت اللص، وسافرت، وعافاك الله، ونحو ذلك، فإن فاعل في جميع ذلك بمعنى المجرد، وعليه فقوله: يدافع بمعنى: يدفع. كما دلت عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وقال الزمخشري: ومن قرأ يدافع فمعناه: يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ اه منه، ولا يبعد عندي أن يكون
261

وجه المفاعلة أن الكفار يستعملون كل ما في إمكانهم لإضرارهم بالمؤمنين، وإيذائهم، والله جل وعلا يدفع كيدهم عن المؤمنين، فكان دفعه جل وعلا لقوة عظيمة أهلها في طغيان شديد، يحاولون إلحاق الضرر بالمؤمنين وبهذا الاعتبار كان التعبير بالمفاعلة، في قوله: يدافع، وإن كان جل وعلا قادرا على إهلاكهم، ودفع شرهم عن عباده المؤمنين، ومما يوضح هذا المعنى الذي أشرنا إليه قول كعب بن مالك رضي الله عنه: والجواب: هو ما عرف من أن المفاعلة قد ترد بمعنى المجرد، نحو: جاوزت المكان بمعنى جزته، وعاقبت اللص، وسافرت، وعافاك الله، ونحو ذلك، فإن فاعل في جميع ذلك بمعنى المجرد، وعليه فقوله: يدافع بمعنى: يدفع. كما دلت عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وقال الزمخشري: ومن قرأ يدافع فمعناه: يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ اه منه، ولا يبعد عندي أن يكون وجه المفاعلة أن الكفار يستعملون كل ما في إمكانهم لإضرارهم بالمؤمنين، وإيذائهم، والله جل وعلا يدفع كيدهم عن المؤمنين، فكان دفعه جل وعلا لقوة عظيمة أهلها في طغيان شديد، يحاولون إلحاق الضرر بالمؤمنين وبهذا الاعتبار كان التعبير بالمفاعلة، في قوله: يدافع، وإن كان جل وعلا قادرا على إهلاكهم، ودفع شرهم عن عباده المؤمنين، ومما يوضح هذا المعنى الذي أشرنا إليه قول كعب بن مالك رضي الله عنه:
* زعمت سخينة أن ستغلب ربها
* وليغلبن مغالب الغلاب
*
والعلم عند الله تعالى: ومفعول يدافع: محذوف فعلى القول بأنه بمعنى: يدفع فقد ذكرنا تقديره، وعلى ما أشرنا إليه أخيرا فتقدير المفعول: يدافع عنهم أعداءهم، وخصومهم فيرد كيدهم في نحورهم.
وقوله تعالى: * (إن الله لا يحب كل خوان كفور) *. صرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة: بأنه لا يحب كل خوان كفور. والخوان والكفور كلاهما صيغة مبالغة، لأن الفعال بالتضعيف والفعول بفتح الفاء من صيغ المبالغة، والمقرر في علم العربية أن نفي المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصل الفعل، فلو قلت: زيد ليس بقتال للرجال فقد نفيت مبالغته، في قتلهم، ولم يستلزم ذلك أنه لم يحصل منه قتل لبعضهم ولكنه لم يبالغ في القتل، وعلى هذه القاعدة العربية المعروفة، فإن الآية قد صرحت بأن الله لا يحب المبالغين في الكفر والمبالغين في الخيانة، ولم تتعرض لمن يتصف بمطلق الخيانة ومطلق الكفر من غير مبالغة فيهما، ولا شك أن الله يبغض الخائن مطلقا، والكافر مطلقا، وقد أوضح جل وعلا ذلك في بعض المواضع، فقال في الخائن: * (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخائنين) * وقال في الكافر: * (قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) *.
قوله تعالى: * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) *. متعلق أذن محذوف في هذه الآية الكريمة: أي أذن لهم في القتال بدليل قوله: يقاتلون، وقد صرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أذن للذين يقاتلون وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودل قوله: يقاتلون: على أن المراد من يصلح للقتال منهم دون من لا يصلح له، كالأعمى والأعرج والمريض والضعيف والعاجز عن السفر للجهاد لفقره
262

بدليل قوله تعالى: * (ليس على الا عمى حرج ولا على الا عرج حرج ولا على المريض) *. وقوله جل وعلا: * (ليس على الضعفآء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل) * وقوله: * (بأنهم ظلموا) * الباء فيه سببية وهي من حروف التعليل، كما تقرر في مسلك النص الظاهر من مسالك العلة. وهذه الآية هي أول آية نزلت في الجهاد كما قال به جماعات من العلماء، وليس فيها من أحكام الجهاد إلا مجرد الإذن لهم فيه ولكن قد جاءت آيات أخر دالة على أحكام أخر زائدة على مطلق الإذن فهي مبينة عدم الاقتصار، على الإذن كما هو ظاهر هذه الآية. وقد قالت جماعة من أهل العلم: إن الله تبارك وتعالى لعظم حكمته في التشريع، إذا أراد أن يشرع أمرا شاقا على النفوس كان تشريعه على سبيل التدريج، لأن إلزامه بغتة في وقت واحد من غير تدريج فيه مشقة عظيمة، على الذين كلفوا به قالوا فمن ذلك الجهاد، فإنه أمر شاق على النفوس لما فيه من تعريضها لأسباب الموت، لأن القتال مع العدو الكافر القوي من أعظم أسباب الموت عادة، وإن كان الأجل محدودا عند الله تعالى كما قال تعالى: * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) * وقد بين تعالى مشقة إيجاب الجهاد عليهم، بقوله: * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب) * ومع تعريض النفوس فيه لأعظم أسباب الموت، فإنه ينفق فيه الملل أيضا كما قال تعالى: * (وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) * قالوا: ولما كان الجهاد فيه هذا من المشقة، وأراد الله تشريعه شرعه تدريجا، فأذن فيه أولا من غير إيجاب بقوله: * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) *. ثم لما استأنست به نفوسهم بسبب الإذن فيه، أوجب عليهم فقال: من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) *. وهذا تدريج من الإذن إلى نوع خاص من الإيجاب، ثم لما استأنست نفوسهم بإيجابه في الجملة أوجبه عليهم إيجابا عاما جازما في آيات من كتابه كقوله تعالى: * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) * وقوله تعالى: * (وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة) * وقوله
263

: * (تقاتلونهم أو يسلمون) * إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم: أن لبعض أهل العلم في بعض الآيات التي ذكرنا أقوالا غير ما ذكرنا. ولكن هذا التدريج الذي ذكرنا دل عليه استقراء القرآن في تشريع الأحكام الشاقة، ونظيره شرب الخمر فإن تركه شاق على من اعتاده، فلما أراد الله أن يحرم الخمر حرمها تدريجا. فذكر أولا بعض معائبها كقوله تعالى: * (يسألونك عن الخمر والميسر قل
فيهمآ إثم كبير ومنافع للناس وإثمهمآ أكبر من نفعهما) * ثم لما استأنست نفوسهم بأن في الخمر إنما أكثر مما فيها من النفع، حرمها عليهم في أوقات الصلاة بقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلواة وأنتم سكارى) *. فكانوا بعد نزولها، لا يشربونها إلا في وقت يزول فيه السكر قبل وقت الصلاة، وذلك بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح لأن ما بين العشاء والصبح يصحو فيه السكران عادة. وكذلك ما بين الصبح والظهر. وهذا تدريج من عيبها إلى تحريمها في بعض الأوقات. فلما استأنست نفوسهم بتحريمها حرمها عليهم تحريما عاما جازما بقوله: * (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والا نصاب والا زلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) * إلى قوله: * (فهل أنتم منتهون) * وكذلك الصوم، فإنه لما كان الإمساك عن شهوة العرج والبطن شاقا على النفوس، وأراد تعالى تشريعه شرعه تدريجا فخير أولا بين صوم اليوم وإطعام المسكين في قوله: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) * فلما استأنست النفوس به في الجملة، أوجبه أيضا إيجابا عاما جازما بقوله: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * وقال بعض أهل العلم: التدريج في تشريع الصوم على ثلاثة مراحل كما قبله قالوا: أوجب عليهم أولا صوما خفيفا لا مشقة فيه وهو صوم يوم عاشوراء وثلاثة من كل شهر، ثم لما أراد فرض صوم رمضان شرعه تدريجا على المرحلتين اللتين ذكرناهما آنفا، هكذا قالته جماعات من أهل العلم، وله اتجاه والعلم عند الله تعالى. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وإن الله على نصرهم لقدير) * يشير إلى معنيين.
أحدهما: أن فيه الإشارة إلى وعده للنبي وأصحابه، بالنصر على أعدائهم كما قال قبله قريبا: * (إن الله يدافع عن الذين ءامنوا) *.
والمعنى الثاني: أن الله قادر على أن ينصر المسلمين على الكافرين من غير قتال
264

لقدرته على إهلاكهم بما شاء، ونصرة المسلمين عليهم بإهلاكه إياهم، ولكنه شرع الجهاد لحكم منها اختبار الصادق في إيمانه، وغير الصادق فيه، ومنها تسهيل نيل فضل الشهادة في سبيل الله بقتل الكفار لشهداء المسلمين، ولولا ذلك لما حصل أحد فضل الشهادة في سبيل الله. كما أشار تعالى إلى حكمة اختبار الصادق في إيمانه وغيره بالجهاد في آيات من كتابه، كقوله تعالى: * (هو الذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا) * وكقوله تعالى: * (ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب) * وقوله تعالى: * (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون) * وقوله تعالى: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) * وقوله تعالى: * (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) * إلى غير ذلك من الآيات وكقوله تعالى في حكمة الابتلاء المذكور، وتسهيل الشهادة في سبيله: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الا يام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين ءامنوا ويتخذ منكم شهدآء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين ءامنوا ويمحق الكافرين) * وقرأ هذا الحرف نافع، وأبو عمرو وعاصم: أذن بضم الهمزة وكسر الذال مبنيا للمفعول، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة مبنيا للفاعل: أي أذن الله للذين يقاتلون، وقرأ نافع وابن عامر وحفص، عن عاصم: يقاتلون بفتح التاء مبنيا للمفعول، وقرأ الباقون بكسر التاء مبنيا للفاعل.
قوله تعالى: * (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) *. تقدم ما يوضح هذه الآية من الآيات في سورة براءة في الكلام على قوله: * (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) *.
قوله تعالى: * (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز) *. بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أقسم لينصرن من ينصره، ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه ونصرة رسله وأتباعهم، ونصرة دينه وجهاد أعدائه وقهرهم حتى تكون كلمته جل وعلا هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى. ثم إن الله جل وعلا بين صفات الذين وعدهم بنصره لتمييزهم عن غيرهم فقال
265

مبينا من أقسم أنه ينصره، لأنه ينصر الله جل وعلا: * (الذين إن مكناهم فى الا رض أقاموا الصلواة وآتوا الزكواة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) * وما دلت عليه هذه الآية الكريمة: من أن من نصر الله نصره الله جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم * والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم) * وقوله تعالى: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون) * وقوله تعالى: * (كتب الله لاغلبن أنا ورسلى) * وقوله: * (وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الا رض) *. إلى غير ذلك من الآيات وفي قوله تعالى: * (الذين إن مكناهم فى الا رض) *. دليل على أنه لا وعد من الله بالنصر، إلا مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فالذين يمكن الله لهم في الأرض ويجعل الكلمة فيها والسلطان لهم، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر فليس لهم وعد من الله بالنصر، لأنهم ليسوا من حزبه، ولا من أوليائه الذين وعدهم بالنصر، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه، فلو طلبوا النصر من الله بناء على أنه وعدهم إياه، فمثلهم كمثل الأجير الذي يمتنع من عمل ما أجر عليه، ثم يطلب الأجرة، ومن هذا شأنه فلا عقل له، وقوله تعالى: * (إن الله لقوى عزيز) * العزيز الغالب الذي لا يغلبه شيء، كما قدمناه مرارا بشواهده العربية. وهذه الآيات تدل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين، لأن الله نصرهم على أعدائهم، لأنهم نصروه فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وقد مكر لهم، واستخلفهم في الأرض كما قال: * (وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الا رض) *. والحق أن الآيات المذكورة تشمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من قام بنصرة دين الله على الوجه الأكمل. والعلم عند الله تعالى.
* (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود * وقوم إبراهيم وقوم لوط * وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير * فكأين من قرية أهلكناها وهى ظالمة فهى خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد) *
قوله تعالى: * (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود * وقوم إبراهيم وقوم لوط * وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير
) *. في هذه الآيات الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الذي عامله به قومه من التكذيب عومل به غيره من الرسل الكرام، وذلك يسليه ويخفف عليه كما قال تعالى: * (وكلا نقص
266

عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) *. وقوله تعالى: * (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) * وقوله: * (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك) * إلى غير ذلك من الآيات. وذكر تعالى في هذه الآيات سبع أمم كل واحدة منهم كذبت رسولها.
الأولى: قوم نوح في قوله: * (فقد كذبت قبلهم قوم نوح) * والآيات الدالة على تكذيب قوم نوح لا تكاد تحصى في القرآن، لكثرتها ولنقتصر على الأمثلة لكثرة الآيات الدالة على تكذيب هذه الأمم رسلها كقوله: * (كذبت قوم نوح المرسلين) * وقوله: * (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر) * إلى غير ذلك من الآيات.
الثانية: عاد، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع في آيات كثيرة أنهم كذبوا رسولهم هودا، كقوله تعالى: * (كذبت عاد المرسلين) * وقوله: * (قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركى ءالهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين) *.
الثالثة: ثمود وقد بين تعالى في غير هذا الموضع تكذيبهم لنبيهم صالح في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (كذبت ثمود المرسلين) * وقوله: * (فكذبوه فعقروها) * إلى غير ذلك من الآيات.
الرابعة: قوم إبراهيم، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم كذبوه في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار) * وقوله: * (قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم) *. وكقوله: * (أراغب أنت عن آلهتى ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا) * إلى غير ذلك من الآيات.
الخامسة: قوم لوط وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم كذبوه في آيات كثيرة كقوله: * (كذبت قوم لوط المرسلين) * وقوله: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا ءال لوط من قريتكم) *. إلى غير ذلك من الآيات.
السادسة: أصحاب مدين، وقد بين تعالى أنهم كذبوا نبيهم شعيبا في غير هذا الموضع في آيات كثيرة كقوله: * (ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) * وقوله: * (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره) * إلى قوله: * (قالوا يا
267

شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ أو أن نفعل فى أموالنا ما نشؤا إنك لانت الحليم الرشيد) * وقوله: * (قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك) *. إلى غير ذلك من الآيات.
السابعة: من كذبوا موسى وهم فرعون وقومه، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أن فرعون وقومه كذبوا موسى في آيات كثيرة كقوله: * (لئن اتخذت إلاها غيرى لأجعلنك من المسجونين) * وقوله: * (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التى فعلت وأنت من الكافرين) * وقوله: * (وقالوا مهما تأتنا به من ءاية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين) * إلى غير ذلك من الآيات، وقوله تعالى في هذه الآية: * (فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير) * قد بين تعالى نوع العذاب الذي عذب به كل أمة من تلك الأمم، بعد الإملاء لها والإمهال، فبين أنه أهلك قوم نوح بالغرق في مواضع كثيرة كقوله تعالى: * (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) * وقوله: * (ففتحنآ أبواب السمآء بماء منهمر * وفجرنا الا رض عيونا فالتقى المآء على أمر قد قدر) * وقوله: * (ثم أغرقنا بعد الباقين) * إلى غير ذلك من الآيات، وبين في مواضع كثيرة أنه بعد الإملاء والإمهال لعاد أهلكهم بالريح العقيم كقوله تعالى: * (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية) * الآيات وقوله تعالى: * (وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم * ما تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم) * وقوله: * (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شىء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) * إلى غير ذلك من الآيات وبين أنه أهلك ثمود بصيحة أهلكتهم جميعا كقوله فيهم: * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين) * وقوله: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون) * إلى غير ذلك من الآيات، وقوم إبراهيم الذين كذبوه هم نمروذ، وقومه، وقد ذكر المفسرون أن العذاب الدنيوي الذي أهلكهم الله به هو المذكور في قوله تعالى في سورة النحل: * (قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) * وقد بين تعالى أنه أهلك قوم لوط بجعل عالي أرضهم سافلها، وأنه
268

أرسل عليهم مطرا من حجارة السجيل في مواضع متعددة كقوله تعالى: * (فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) * ونحو ذلك من الآيات. وقد بين تعالى أنه أهلك أصحاب مدين بالصيحة في مواضع كقوله فيهم: * (وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيهآ ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) * إلى غير ذلك من الآيات وقد بين في مواضع كثيرة أنه أهلك الذين كذبوا موسى، وهم فرعون وقومه بالغرق كقوله: * (واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون) * وقوله تعالى: * (فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) * وقوله تعالى: * (حتى إذآ أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إلاه إلا الذىءامنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين) * إلى غير ذلك من الآيات.
ومعلوم أن الآيات كثيرة في بيان ما أهلكت به هذه الأمم السبع المذكورة، وقد ذكرنا قليلا منها كالمثال لغيره، وكل ذلك يوضح معنى قوله تعالى بعد أن ذكر تكذيب الأمم السبع لأنبيائهم * (فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم) * أي بالعذاب، وهو ما ذكرنا بعض الآيات الدالة على تفاصيله وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فكيف كان نكير) * النكير: اسم مصدر بمعنى الإنكار أي كيف كان إنكاري عليهم منكرهم، الذي هو كفرهم بي، وتكذيبهم رسلي، وهو ذلك العذاب المستأصل الذي بينا وبعده
عذاب الآخرة الذي لا ينقطع نرجو الله لنا ولإخواننا المسلمين العافية من كل ما يسخط خالقنا، ويستوجب عقوبته. والجواب إنكارك عليهم بذلك العذاب واقع موقعه على أكمل وجه، لأن الجزاء من جنس العمل، فجزاء العمل البالغ غاية القبح بالنكال العظيم جزاء وفاق واقع موقعه، فسبحان الحكيم الخبير الذي لا يضع الأمر إلا في موضعه ولا يوقعه إلا في موقعه، وقرأ هذا الحرف ورش وحده عن نافع: * (فكيف كان نكير) * بياء المتكلم بعد الراء وصلا فقط وقرأ الباقون بحذفها اكتفاء بالكسرة عن الياء.
قوله تعالى: * (فكأين من قرية أهلكناها وهى ظالمة فهى خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أهلك كثيرا من القرى في حال كونها ظالمة: أي بسبب ذلك الظلم، وهو الكفر بالله وتكذيب رسله، فصارت بسبب الإهلاك والتدمير ديارها متهدمة وآبارها معطلة، لا يسقي منها شيء لإهلاك أهلها الذين كانوا يستقون منها.
269

وهذا المعنى الذي ذكره تعالى في هذه الآية: جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا * فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا) * وقوله تعالى: * (وكذالك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد) * وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ صلى الله عليه وسلم * (وكذالك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد) * إلى غير ذلك من الآيات، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فهى خاوية على عروشها) * العروش السقوف والخاوية الساقطة ومنه قول الخنساء: فهى خاوية على عروشها) * العروش السقوف والخاوية الساقطة ومنه قول الخنساء:
* كان أبو حسان عرشا خوى
* مما بناه الدهر دان ظليل
*
والمعنى: أن السقوف سقطت ثم سقطت عليها حيطانها على أظهر التفسيرات، والقصر المشيد المطلي بالشيد بكسر الشين، وهو الجص، وقيل المشيد الرفيع الحصين. كقوله تعالى: * (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة) * أي حصون رفيعة منيعة. والظاهر أن قوله: * (وبئر معطلة) * معطوف على قرية: أي وكأين من قرية أهلكناها، وكم من بئر عطلناها بإهلاك أهلها، وكم من قصر مشيد أخليناه من ساكنيه، وأهلكناهم لما كفروا وكذبوا الرسل. وفي هذه الآية وأمثالها: تهديد لكفار قريش الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم، وتحذير لهم من أن ينزل بهم ما نزل بتلك القرى من العذاب لما كذبت رسلها.
تنبيه
يظهر لطالب العلم في هذه الآية سؤال: وهو أن قوله: * (فهى خاوية على عروشها) * يدل على تهدم أبنية أهلها، وسقوطها وقوله: * (وقصر مشيد) * يدل على بقاء أبنيتها قائمة مشيدة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر لي في جواب هذا السؤال: أن قصور القرى التي أهلكها الله، وقت نزول هذه الآية منها، هو متهدم كما دل عليه قوله: * (فهى خاوية على عروشها) * ومنها ما هو قائم باق على بنائه، كما دل عليه قوله تعالى: * (وقصر مشيد) * وإنما استظهرنا هذا الجمع، لأن القرآن دل عليه، وخير ما يفسر به القرآن
270

القرآن، وذلك في قوله جل وعلا في سورة هود: * (ذالك من أنبآء القرى نقصه عليك منها قآئم وحصيد) * فصرح في هذه الآية بأن منها قائما، ومنها حصيدا.
وأظهر الأقوال وأجراها على ظاهر القرآن: أن القائم هو الذي لم يتهدم. والحصيد هو الذي تهدم وتفرقت أنقاضه. ونظيره من كلام العرب قوله: وأظهر الأقوال وأجراها على ظاهر القرآن: أن القائم هو الذي لم يتهدم. والحصيد هو الذي تهدم وتفرقت أنقاضه. ونظيره من كلام العرب قوله:
* والناس في قسم المنية بينهم
* كالزرع منه قائم وحصيد
*
وفي معنى القائم والحصيد، أقوال أخر غير ما ذكرنا، ولكن ما ذكرنا هو أظهرها. وذكر الزمخشري ما يفهم منه وجه آخر للجمع، وهو أن معنى قوله: خاوية: خالية من أهلها من قوله: خوى المكان إذا خلا من أهله، وأن معنى: على عروشها: أن الأبنية باقية أي هي خالية من أهلها مع بقاء عروشها قائمة على حيطانها. وما ذكرناه أولا هو الصواب إن شاء الله تعالى.
وقد دلت هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن أن لفظ القرية: يطلق تارة على نفس الأبنية، وتارة على أهلها الساكنين بها، فالإهلاك في قوله: * (أهلكناها) *، والظلم في قوله: * (وهى ظالمة) *: يراد به أهلها الساكنون بها وقوله: * (فهى خاوية على عروشها) * يراد به الأبنية كما قال في آية: * (واسئل القرية التى كنا فيها) * وقال في أخرى: * (حتى إذآ أتيآ أهل قرية استطعمآ أهلها) *.
وقد بينا في رسالتنا المسماة منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز: أن ما يسميه البلاغيون مجاز النقص، ومجاز الزيادة، ليس بمجاز حتى عند جمهور القائلين بالمجاز من الأصوليين، وأقمنا الدليل على ذلك، وقرأ هذا الحرف ابن كثير: وكائن بألف بعد الكاف، وبعد الألف همزة مكسورة، فنون ساكنة وقرأه الباقون: وكأين
بهمزة مفتوحة بعد الكاف بعدها ياء مكسورة مشددة فنون ساكنة. ومعنى القراءتين واحد، فهما لغتان فصيحتان، وقراءتان سبعيتان صحيحتان. وأبو عمرو يقف على الياء، والباقون يقفون على النون، وقرأ أبو عمرو: أهلكتها بتاء المتكلم المضمومة بعد الكاف من غير ألف، والباقون بنون مفتوحة بعد الكاف، وبعد النون ألف، والمراد بصيغة الجمع، على قراءة الجمهور التعظيم، كما هو واضح، وقرأ ورش والسوسي وبير بإبدال الهمزة ياء والباقون بالهمزة الساكنة.
271

مسألة
اعلم: أن كأين فيها لغات عديدة أفصحها الاثنتان اللتان ذكرناهما، وكأين بفتح الهمزة والياء المكسورة المشددة أكثر في كلام العرب، وهي قراءة الجمهور كما بينا، وكأين بالألف والهمزة المكسورة أكثر في شعر العرب، ولم يقرأ بها من السبعة غير ابن كثير كما بينا، ومعنى كأين: كمعنى كم الخبرية، فهي تدل على الإخبار بعدد كثير ومميزها له حالتان:
الأولى: أن يجر بمن وهي لغة القرآن كقوله: * (وكأين من قرية) * وقوله * (وكأين من نبى) * * (وكأين من ءاية فى السماوات والا رض) *. ونظير ذلك من كلام العرب في جر مميز كأين بمن قوله: وكأين من ءاية فى السماوات والا رض) *. ونظير ذلك من كلام العرب في جر مميز كأين بمن قوله:
* وكائن بالأباطح من صديق
* يراني لو أصيب هو المصابا
*
الحالة الثانية أن ينصب ومنه قوله: الحالة الثانية أن ينصب ومنه قوله:
* وكائن لنا فضلا عليكم ومنة
* قديما ولا تدرون ما من منعم
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* اطرد اليأس بالرجاء فكائن
* آلما حم بسره بعد عسر
*
قال في الخلاصة: قال في الخلاصة:
* ككم كأين وكذا وينتصب
* تمييز ذين أو به صل من تصب
*
أما الاستفهام بكأين فهو نادر ولم يثبته إلا ابن مالك، وابن قتيبة، وابن عصفور، واستدل له ابن مالك بما روي عن أبي بن كعب أنه قال لابن مسعود: كأين تقرأ سورة الأحزاب آية فقال: ثلاثا وسبعين اه.
واختلف في كأين هل هي بسيطة أو مركبة وعلى أنها مركبة فهي مركبة من كاف التشبيه، وأي المنونة، قال بعضهم: ولأجل تركيبها جاز الوقف عليها بالنون في قراءة الجمهور، لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية، ولهذا رسم في المصحف نونا وقراءة أبي عمرو بالوقف على الياء لأجل اعتبار حكم التنوين في الأصل، وهو حذفه في الوقف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي أن كأين بسيطة، وأنها كلمة
272

وضعتها العرب للإخبار بعدد كثير نحو: كم. إذ لا دليل يجب الرجوع إليه على أن أصلها مركبة، ومن الدليل على أنها بسيطة: إثبات نونها في الخط لأن الأصل في نون التنوين عدم إثباتها في الخط، ودعوى أن التركيب جعلها كالنون الأصلية دعوى مجردة عن الدليل. واختار أبو حيان أنها غير مركبة، واستدل لذلك بتلاعب العرب بها في تعدد اللغات، فإن فيها خمس لغات اثنتان منها قد قدمناهما، وبينا أنهما قراءتان سبعيتان، لأن إحداهما قرأ بها ابن كثير والأخرى قرأ بها الجمهور. واللغة الثالثة فيها: كأين بهمزة ساكنة فياء مكسورة، والرابعة كيئن بياء ساكنة وهمزة مكسورة، الخامسة: كأن بهمزة مفتوحة ونون ساكنة اه، ولقد صدق أبو حيان في أن التلاعب بلفظ هذه الكلمة إلى هذه اللغات يدل على أن أصلها بسيطة لا مركبة. والله تعالى أعلم.
واعلم: أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة من أن البئر المعطلة، والقصر المشيد معروفان، وأنهما بحضرموت، وأن القصر مشرف على تلة جبل لا يرتقى إليه بحال، وأن البئر في سفحه لا تقر الرياح شيئا سقط فيها إلا أخرجته، وما يذكرونه أيضا من أن البئر هي: الرس، وأنها كانت بعدن باليمن بحضرموت في بلد يقال له: حضور، وأنها نزل بها أربعة آلاف ممن آمنوا بصالح، ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح، فسمي المكان حضرموت، لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضور وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم رجلا يقال له العلس بن جلاس بن سويد أو جلهس بن جلاس وكان حسن السيرة فيهم عاملا
عليهم، وجعلوا وزيره سنجاريب بن سوادة، فأقاموا دهرا، وتناسلوا حتى كثروا، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها، وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك، لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها، ورجال كثيرون موكلون بها، وحياض كثيرة حولها تملأ للناس وحياض للدواب وحياض للغنم، وحياض للبقر، ولم يكن لهم ماء غيرها، وآل بهم الأمر إلى أن مات ملكهم وطلوا جثته بدهن يمنعها من التغيير، وأن الشيطان دخل في جثته، وزعم لهم أنه هو الملك، وأنه لم يمت ولكنه تغيب عنهم ليرى صنيعهم وأمرهم أن يضربوا بينهم وبين الجثة حجابا، وكان الشيطان يكلمهم من جثة الملك من وراء حجاب لئلا يطلعوا على الحقيقة أنه ميت، ولم يزل بهم حتى كفروا بالله تعالى فبعث الله إليهم نبيا اسمه: حنظلة بن صفوان يوحي إليه في النوم دون اليقظة، فأعلمهم أن الشيطان أضلهم وأخبرهم أن ملكهم قد مات، ونهاهم عن الشرك بالله ووعظهم ونصح لهم، وحذرهم عقاب ربهم، فقتلوا نبيهم المذكور في
273

السوق، وطرحوه في بئر فعند ذلك نزل بهم عقاب الله، فأصبحوا والبئر غار ماؤها، وتعطل رشاؤها فصاحوا بأجمعهم، وضج النساء والصبيان حتى مات الجميع من العطش، وأن تلك البئر هي البئر المعطلة في هذه الآية كله لا معول عليه، لأنه من جنس الإسرائيليات، وظاهر القرآن يدل على خلافه، لأن قوله: * (وكأين من قرية) * معناه. الإخبار بأن عددا كبيرا من القرى أهلكهم الله بظلمهم، وأن كثيرا من آبارهم بقيت معطلة بهلاك أهلها، وأن كثيرا من القصور المشيدة بقيت بعد هلاك أهلها بدونهم، لأن مميز كأين، وإن كان لفظه مفردا فمعناه يشمل عددا كثيرا كما هو معلوم في محله.
وقال أبو حيان في البحر المحيط وعن الإمام أبي القاسم الأنصاري قال: رأيت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها: عكا فكيف يكون بحضرموت، ومعلوم أن ديار قوم صالح التي أهلكوا فيها معروفة يمر بها الذاهب من المدينة إلى الشام، وقد قدمنا في سورة الحجر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بها في طريقه إلى تبوك في غزوة تبوك. ومن المستبعد أن يقطع صالح، ومن آمن من قومه هذه المسافة الطويلة البعيدة من أرض الحجر إلى حضرموت من غير داع يدعوه ويضطره إلى ذلك، كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
* (أفلم يسيروا فى الا رض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو ءاذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الا بصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور * ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون * وكأين من قرية أمليت لها وهى ظالمة ثم أخذتها وإلى المصير * قل ياأيها الناس إنمآ أنا لكم نذير مبين * فالذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا فىءاياتنا معاجزين أولائك أصحاب الجحيم * ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله ءاياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفى شقاق بعيد * وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين ءامنوا إلى صراط مستقيم * ولا يزال الذين كفروا فى مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم * الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين ءامنوا وعملوا الصالحات فى جنات النعيم * والذين كفروا وكذبوا بأاياتنا فأولائك لهم عذاب مهين * والذين هاجروا فى سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم * ذالك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور * ذالك بأن الله يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وأن الله سميع بصير * ذالك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلى الكبير) *
قوله تعالى: * (أفلم يسيروا فى الا رض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو ءاذان يسمعون بها) *. بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن كفار مكة الذين كذبوا نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ينبغي لهم أن يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، لأنهم إذا سافروا مروا بأماكن قوم صالح، وأماكن قوم لوط، وأماكن قوم هود، فوجدوا بلادهم خالية وآثارهم منطمسة لم يبق منهم داع ولا مجيب، لتكذيبهم رسلهم، وكفرهم بربهم، فيدركون بعقولهم: أن تكذيبهم نبيهم لا يؤمن أن يسبب لهم من سخط الله مثل ما حل بأولئك الذين مروا بمساكنهم خالية، قد عم أهلها الهلاك، وتكون لهم آذان يسمعون بها ما قص الله في كتابه على نبيه من أخبار تلك الأمم، وما أصابها من الإهلاك المستأصل والتدمير، فيحذروا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك.
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة كقوله تعالى: * (أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم) * ثم بين تهديده لكفار مكة بما فعل بالأمم الماضية في قوله: * (وللكافرين أمثالها) * وكقوله في قوم لوط: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وباليل أفلا تعقلون) *
274

وكقوله فيهم: * (وإنها لبسبيل مقيم) *، وكقوله في قوم لوط وقوم شعيب: * (أصحاب الا يكة لظالمين وإنهما لبإمام مبين) * لأن معنى الآيتين: أن ديارهم على ظهر الطريق الذي يمرون فيه المعبر عنه بالسبيل والإمام، والآيات بمثل هذا كثيرة. وقد قدمنا منها جملا كافية في سورة المائدة وغيرها.
والآية تدل على أن محل العقل: في القلب، ومحل السمع: في الأذن، فما يزعمه الفلاسفة من أن محل العقل الدماغ باطل، كما أوضحناه في غير هذا الموضع، وكذلك قول من زعم أن العقل لا مركز له أصلا في الإنسان، لأنه زماني فقط لإمكاني فهو في غاية السقوط والبطلان كما ترى.
قوله تعالى: * (فإنها لا تعمى الا بصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور) *. قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: * (ومن كان فى هاذه أعمى فهو فى الا خرة أعمى) *. مع بعض الشواهد العربية، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم تعجيل العذاب الذي يعدهم به طغيانا وعنادا.
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة في القرآن كقوله تعالى: * (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) * وقوله: * (يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة
بالكافرين) * وقوله: * (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب) *.
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في مواضع متعددة، من هذا الكتاب المبارك في سورة الأنعام في الكلام على قوله: * (ما عندى ما تستعجلون به) * وفي يونس في الكلام على قوله: * (أثم إذا ما وقع ءامنتم به) * إلى غير ذلك من المواضع.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ولن يخلف الله وعده) * الظاهر أن المراد بالوعد هنا: هو ما أوعدهم به من العذاب الذي يستعجلون نزوله.
275

والمعنى: هو منجز ما وعدهم به من العذاب، إذا جاء الوقت المحدد لذلك كما قال تعالى: * (ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون) * وقوله تعالى: * (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) * وقوله تعالى: * (أثم إذا ما وقع ءامنتم به ءآأن وقد كنتم به تستعجلون) * وبه تعلم أن الوعد يطلق في القرآن على الوعد بالشر.
ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى: * (قل أفأنبئكم بشر من ذالكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير) * فإنه قال في هذه الآية في النار: وعدها الله بصيغة الثلاثي الذي مصدره الوعد، ولم يقل أوعدها وما ذكر في هذه الآية، من أن ما وعد به الكفار من العذاب واقع لا محالة، وأنه لا يخلف وعده بذلك، جاء مبينا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة ق * (قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدى) * والصحيح أن المراد بقوله: * (ما يبدل القول لدى) * أن ما أوعد الكفار به من العذاب، لا يبدل لديه، بل هو واقع لا محالة، وقوله تعالى: * (كل كذب الرسل فحق وعيد) * أي وجب وثبت فلا يمكن عدم وقوعه بحال وقوله تعالى: * (إن كل إلا كذب الر سل فحق عقاب) * كما أوضحناه في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب في سورة الأنعام، في الكلام على قوله تعالى: * (قال النار مثواكم خالدين فيهآ إلا ما شآء الله) *. وأوضحنا أنما أوعد به الكفار لا يخلف بحال، كما دلت عليه الآيات المذكورة. أما ما أوعد به عصاة المسلمين، فهو الذي يجوز ألا ينفذه وأن يعفو كما قال تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء) *.
وبالتحقيق الذي ذكرنا: تعلم أن الوعد يطلق في الخير والشر كما بينا، وإنما شاع على ألسنة كثير من أهل التفسير، من أن الوعد لا يستعمل إلا في الوعد بخير وأنه هو الذي لا يخلفه الله، وأما إن كان المتوعد به شرا، فإنه وعيد وإيعاد. قالوا: إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما، وعن الإيعاد كرما، وذكروا عن الأصمعي أنه قال: كنت عند أبي عمرو بن العلاء، فجاءه عمرو بن عبيد فقال: يا أبا عمرو، هل يخلف الله الميعاد؟ فقال: لا، فذكر آية وعيد، فقال له: أمن العجم أنت؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما، أما سمعت قول الشاعر:
276

وبالتحقيق الذي ذكرنا: تعلم أن الوعد يطلق في الخير والشر كما بينا، وإنما شاع على ألسنة كثير من أهل التفسير، من أن الوعد لا يستعمل إلا في الوعد بخير وأنه هو الذي لا يخلفه الله، وأما إن كان المتوعد به شرا، فإنه وعيد وإيعاد. قالوا: إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما، وعن الإيعاد كرما، وذكروا عن الأصمعي أنه قال: كنت عند أبي عمرو بن العلاء، فجاءه عمرو بن عبيد فقال: يا أبا عمرو، هل يخلف الله الميعاد؟ فقال: لا، فذكر آية وعيد، فقال له: أمن العجم أنت؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما، أما سمعت قول الشاعر:
* ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي
* ولا انثنى عن سطوة المتهدد
*
* فإني وإن أوعدته أو وعدته
* لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
*
فيه نظر من وجهين.
الأول: هو ما بيناه آنفا من إطلاق الوعد في القرآن على التوعد بالنار، والعذاب كقوله تعالى: * (النار وعدها الله الذين كفروا) * وقوله تعالى: * (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده) * لأن ظاهر الآية الذي لا يجوز العدول عنه، ولن يخلف الله وعده في حلول العذاب الذي يستعجلونك به بهم، لأنه مقترن بقوله: * (ويستعجلونك بالعذاب) * فتعلقه به هو الظاهر.
الثاني: هو ما بينا أن ما أوعد الله به الكفار لا يصح أن يخلفه بحال، لأن ادعاء جواز إخلافه، لأنه إيعاد وأن العرب تعد الرجوع عن الإيعاد كرما يبطله أمران:
الأول: أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر أصلا، لأن إيعادهم بإدخالهم النار مما زعموا أن الرجوع عنه كرم، وهذا لا شك في بطلانه.
الثاني: ما ذكرنا من الآيات الدالة: على أن الله لا يخلف ما أوعد به الكفار من العذاب كقوله: * (قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدى) * وقوله تعالى فيهم: * (فحق وعيد) * وقوله فيهم: * (فحق عقاب) * ومعنى حق: وجب وثبت، فلا وجه لانتفائه بحال، كما أوضحناه هنا وفي غير هذا الموضع.
قوله تعالى: * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن اليوم عنده جل وعلا كألف سنة مما يعده خلقه، وما ذكره هنا من كون اليوم عنده كألف سنة، أشار إليه في سورة السجدة بقوله: * (يدبر الا مر من السمآء إلى الا رض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) * وذكر في سورة المعارج أن مقدار اليوم خمسون ألف سنة وذلك في قوله: * (تعرج الملائكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) *. فآية الحج، وآية
السجدة متوافقتان تصدق كل واحدة منهما الأخرى، وتماثلها في المعنى. وآية المعارج تخالف ظاهرهما لزيادتها عليهما بخمسين ضعفا. وقد ذكرنا وجه الجمع بين هذه الآيات في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب. وسنذكره إن شاء ال
277

له هنا ملخصا مختصرا. ونزيد عليه بعض ما تدعو الحاجة إليه.
فقد ذكرنا ما ملخصه: أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلا من ابن عباس، وسعيد بن المسيب، سئل عن هذه الآيات: فلم يدر ما يقوله فيها، ويقول: لا أدري، ثم ذكرنا أن للجمع بينهما وجهين:
الأول: هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك، عن عكرمة عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج: هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ويوم الألف في سورة السجدة، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى ويوم الخمسين ألفا، هو يوم القيامة.
الوجه الثاني: أن المراد بجميعها يوم القيامة، وأن اختلاف زمن اليوم إنما هو باعتبار حال المؤمن، وحال الكافر لأن يوم القيامة أخف على المؤمن منه على الكافر كما قال تعالى: * (فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير) * اه. ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان.
وذكرنا أيضا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب في سورة الفرقان، في الكلام على قوله تعالى: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) * ما ملخصه: أن آية الفرقان هذه تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار، لأن المقيل القيلولة أو مكانها وهي الاستراحة نصف النهار في الحر، وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار: ابن عباس، وابن مسعود، وعكرمة وابن جبير لدلالة هذه الآية، على ذلك، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره.
وفي تفسير الجلالين ما نصه: وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار، كما ورد في حديث انتهى منه، مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله تعالى: * (فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) * وهو يوم القيامة بلا خلاف في ذلك.
والظاهر في الجواب: أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين، ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل * (الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا) * فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين: يدل على أن المؤمنين
278

ليسوا كذلك وقوله تعالى: * (فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير) * يدل بمفهوم مخالفته على أنه يسير على المؤمنين غير عسير كما دل عليه قوله تعالى: * (مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هاذا يوم عسر) *.
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أنبأنا عمرو بن الحارث: أن سعيدا الصواف حدثه أنه بلغه: أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين، حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وأنهم يتقلبون في رياض الجنة، حتى يفرغ من الناس وذلك قوله: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) * ونقله عنه ابن كثير في تفسيره، وأما على قول من فسر المقيل في الآية بأنه المأوى والمنزل كقتادة رحمه الله، فلا دلالة في الآية لشيء مما ذكرنا. ومعلوم أن من كان في سرور ونعمة، أنه يقصر عليه الزمن الطويل قصرا شديدا، بخلاف من كان في العذاب المهين والبلايا والكروب، فإن الزمن القصير يطول عليه جدا، وهذا أمر معروف، وهو كثير في كلام العرب. وقد ذكرنا في كتابنا المذكور بعض الشواهد الدالة عليه، كقول أبي سفيان بن الحارث رضي الله عنه يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم::
* أرقت فبات ليلي لا يزول
* وليل أخي المصيبة فيه طول
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* فقصارهن مع الهموم طويلة
* وطوالهن مع السرور قصار
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* ليلي وليلي نفى نومي اختلافهما
* في الطول والطول طوبى لي لو اعتدلا
*
* يجود بالطول ليلي كلما بخلت
* بالطول ليلي وإن جادت به بخلا
*
ونحو هذا كثير جدا في كلام العرب، ومن أظرف ما قيل فيه ما روي عن يزيد بن معاوية أنه قال: ونحو هذا كثير جدا في كلام العرب، ومن أظرف ما قيل فيه ما
روي عن يزيد بن معاوية أنه قال:
* لا أسأل الله تغييرا لما فعلت
* نامت وقد أسهرت عيني عيناها
*
* فالليل أطول شيء حين أفقدها
* والليل أقصر شيء حين ألقاها
*
وقد ورد بعض الأحاديث بما يدل على ظاهر آية الحج، وآية السجدة.
وسنذكر هنا طرفا منه بواسطة نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية من سورة الحج. قال ابن كثير: قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثني عبدة بن سليمان، عن
279

محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام) ورواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري عن محمد بن عمرو به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه ابن جرير عن أبي هريرة موقوفا فقال: حدثني يعقوب ثنا ابن علية، ثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة، عن سمير بن نهار قال: قال أبو هريرة: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء، بمقدار نصف يوم، قلت: وما مقدار نصف يوم؟ قال: أو ما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قال: * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه: حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المغيرة، حدثني صفوان عن شريح بن عبيد، عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم، قيل لسعد: وكم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة).
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن سماك عن عكرمة، عن ابن عباس * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * قال: من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض. ورواه ابن جرير عن ابن بشار، عن ابن المهدي وبه قال مجاهد، وعكرمة، ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية. وقال مجاهد: هذه الآية كقوله: * (يدبر الا مر من السمآء إلى الا رض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) * اه محل الغرض من ابن كثير، وظواهر الأحاديث التي ساق يمكن الجمع بينها وبين ما ذكرنا من أن أصل اليوم كألف سنة، ولكنه بالنسبة إلى المؤمنين يقصر ويخف، حتى يكون كنصف نهار. والله تعالى أعلم. وقرأ هذا الحرف ابن كثير، وحمزة، والكسائي: * (كألف سنة مما تعدون) * بياء الغيبة، وقرأه الباقون * (تعدون) * بتاء الخطاب ومعنى القراءتين واضح، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (وكأين من قرية أمليت لها وهى ظالمة ثم أخذتها وإلى المصير) *. تقدمت قريبا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية في الكلام على قوله تعالى * (كذبت قبلهم قوم نوح) * وإلى قوله * (وقصر مشيد) *.
قوله تعالى: * (ياأيها الناس إنمآ أنا لكم نذير مبين) *.
280

أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يقول للناس * (إنمآ أنا لكم نذير) * أي إني لست بربكم، ولا بيدي هدايتكم ولا علي عقابكم يوم القيامة، ولكني مخوف لكم من عذاب الله وسخطه.
والآيات بهذا المعنى كثيرة جدا كقوله تعالى * (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) * وقوله * (إنمآ أنت منذر) * وقوله * (إن أنا إلا نذير مبين) * وقوله * (فمآ أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ) * وقوله * (إن هو إلا نذير لكم بين يدى عذاب شديد) * وقوله * (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) * والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا. وقوله في هذه الآية الكريمة: مبين الظاهر أنه الوصف من أبان الرباعية اللازمة التي بمعنى بان، والعرب تقول: أبان فهو بين معنى بان، فهو بين من اللازم الذي ليس بمتعد إلى المفعول، ومنه قول كعب بن زهير: تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) * والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا. وقوله في هذه الآية الكريمة: مبين الظاهر أنه الوصف من أبان الرباعية اللازمة التي بمعنى بان، والعرب تقول: أبان فهو بين معنى بان، فهو بين من اللازم الذي ليس بمتعد إلى المفعول، ومنه قول كعب بن زهير:
* قنواء في حرتيها للبصير
* عتق مبين وفي الخدين تسهيل
*
فقوله: عتق مبين: أي كرم ظاهر ومن أبان اللازمة قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: فقوله: عتق مبين: أي كرم ظاهر ومن أبان اللازمة قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
* لو دب ذر فوق ضاحي جلدها
* لأبان من آثارهن حدور
*
يعني لظهر وبان من آثارهن ورم ومنه قول جرير: يعني لظهر وبان من آثارهن ورم ومنه قول جرير:
* إذا آباؤنا وأبوك عدوا
* أبان المقرفات من العراب
*
أي ظهر: وبان المقرفات من العراب، ويحتمل أن يكون قوله في هذه الآية: مبين: اسم فاعل أبان المتعدية، والمفعول محذوف للتعميم: أي مبين لكم في إنذاري كل ما ينفعكم، وما يضركم لتجتلبوا النفع، وتجتنبوا الضر، والأول أظهر. والله أعلم أعلم.
قوله تعالى: * (فالذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا فىءاياتنا معاجزين أولائك أصحاب الجحيم) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الذين آمنوا به وبرسله، وكل ما يجب الإيمان به، وعملوا الفعلات الصالحات من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي لهم من الله مغفرة لذنوبهم، ورزق كريم: أي حسن، هو ما يرزقهم من أنواع النعيم في جناته، وأن
281

الذين عملوا بخلاف ذلك فهم أصحاب الجحيم: أي النار الشديد حرها، وفي هذه الآية وعد لمن أطاعه ووعيد لمن عصاه. والآيات بمثل ذلك في القرآن كثيرة كقوله تعالى * (نبىء عبادى أنى أنا الغفور الرحيم * وأن عذابى هو العذاب الا ليم) * وقوله * (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول) * إلى غير ذلك من الآيات، وقد أوضحناها في غير هذا الموضع وقوله في هذه الآية الكريمة * (والذين سعوا فىءاياتنا معاجزين) * قال مجاهد: معاجزين يثبطون الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وكذا قال عبد الله بن الزبير: مثبطين. وقال ابن عباس: معاجزين أي مغالبين ومشاقين، وعن الفراء معاجزين: معاندين. وعن الأخفش معاجزين: معاندة مسابقين، وعن الزجاج معاجزين: أي ظانين أنهم يعجزوننا، لأنهم ظنوا ألا بعث، وأن الله لا يقدر عليهم.
واعلم: أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين قرأه الجمهور: معاجزين بألف بين العين والجيم بصيغة المفاعلة اسم فاعل عاجزه، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو: معجزين بلا ألف مع تشديد الجيم المكسورة على صيغة اسم الفاعل من عجزه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر بحسب الوضع العربي في قراءة الجمهور معاجزين: هو اقتضاء طرفين، لأن الظاهر لا يعدل عنه إلا لدليل يجب الرجوع إليه، والمفاعلة تقتضي الطرفين إلا لدليل يصرف عن ذلك، واقتضاء المفاعلة الطرفين في الآية من طريقين.
الأولى: هي ما قاله ابن عرفة من أن معنى معاجزين في الآية أنهم يعاجزون الأنبياء وأتباعهم، فيحاول كل واحد منهما إعجاز الآخر فالأنبياء وأتباعهم، يحاولون إعجاز الكفار وإخضاعهم لقبول ما جاء عن الله تعالى، والكفار يقاتلون الأنبياء، وأتباعهم، ويمانعونهم، ليصيروهم إلى العجز عن أمر الله. وهذا الوجه ظاهر كما قال تعالى * (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) * وعليه فمفعول معاجزين معاجزين محذوف: أي معاجزين الأنبياء وأتباعهم، أي مغالبين لهم، ليعجزوهم عن إقامة الحق.
الطريقة الثانية: هي التي ذكرناها آنفا عن الزجاج أن معنى معاجزين: ظانين أنهم يعجزون ربهم، فلا يقدر عليهم لزعمهم أنه لا يقدر على بعثهم بعد الموت كما قال تعالى
282

* (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) * وكما قال تعالى * (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم) * وقال تعالى عنهم إنهم قالوا * (وما نحن بمبعوثين) * * (وما نحن بمنشرين) * وعلى هذا القول فالكفار معاجزين الله في زعمهم الباطل، وقد بين تعالى في آيات كثيرة أن زعمهم هذا كاذب، وأنهم لا يعجزون ربهم بحال كقوله تعالى * (واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزى الكافرين) * وقوله * (فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) * وقوله * (ومآ أنتم بمعجزين فى الا رض ولا فى السمآء) * وقوله تعالى في الجن * (وأنا ظننآ أن لن نعجز الله فى الا رض ولن نعجزه هربا) * إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا أن مما يوضح هذا الوجه الأخير قول كعب بن مالك رضي الله عنه: وقد قدمنا أن مما يوضح هذا الوجه الأخير قول كعب بن مالك رضي الله عنه:
* زعمت سخينة أن ستغلب ربها
* وليغلبن مغالب الغلاب
*
ومراده بسخينة قريش: يعني أنهم يحاولون غلبة ربهم، والله غالبهم بلا شك والوجه الأول أظهر. وأما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو: معجزين بكسر الجيم المشددة، بلا ألف، فالأظهر أن المعنى معجزين: أي مثبطين من أراد الدخول في الإيمان عن الدخول فيه، وقيل معجزين من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى ذلك: أنهم ينسبونهم إلى العجز من قولهم: عجزه بالتضعيف إذا نسبه إلى العجز الذي هو ضد الحزم، يعنون أنهم يحسبون المسلمين سفهاء لا عقول لهم، حيث ارتكبوا أمرا غير الحزم والصواب، وهو اتباع دين الإسلام في زعمهم كما قال تعالى عن إخوانهم المنافقين * (وإذا قيل لهم ءامنوا كمآ ءامن الناس قالوا أنؤمن كمآ آمن السفهآء ألا
إنهم هم السفهآء) * وقوله في هذه الآية الكريمة * (والذين سعوا فىءاياتنا) *.
اعلم أولا: أن السعي يطلق على العمل في الأمر لإفساده وإصلاحه، ومن استعماله في الإفساد قوله تعالى هنا * (والذين سعوا فىءاياتنا) * أي سعوا في إبطالها وتكذيبها بقولهم: إنها سحر وشعر وكهانة وأساطير الأولين، ونحو ذلك. ومن إطلاق السعي في الفساد أيضا قوله تعالى * (وإذا تولى سعى فى الا رض ليفسد فيها) * ومن إطلاق السعي في العمل للإصلاح قوله تعالى * (إن هاذا كان لكم جزآء وكان سعيكم
283

مشكورا) * وقوله * (وأما من جآءك يسعى * وهو يخشى) * إلى غير ذلك من الآيات.
ومن إطلاق السعي على الخير والشر معا قوله تعالى * (إن سعيكم لشتى) * إلى قوله * (وما يغنى عنه ماله إذا تردى) * وهذه الآية التي ذكرها هنا في سورة الحج التي هي قوله تعالى * (فالذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا فىءاياتنا معاجزين أولائك أصحاب الجحيم) * جاء معناها واضحا في سورة سبأ في قوله تعالى * (ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولائك لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا فىءاياتنا معاجزين أولائك لهم عذاب من رجز أليم) * فالعذاب من الرجز الأليم المذكور في سبأ هو عذاب الجحيم المذكور في الحج.
قوله تعالى: * (ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله ءاياته والله عليم حكيم) *. معنى قوله تمنى في هذه الآية الكريمة فيه للعلماء وجهان من التفسير معروفان:
الأول: أن تمنى بمعنى: قرأ وتلا ومنه قول حسان في عثمان بن عفان رضي الله عنه: الأول: أن تمنى بمعنى: قرأ وتلا ومنه قول حسان في عثمان بن عفان رضي الله عنه:
* تمنى كتاب الله أول ليله
* وآخرها لاقى حمام المقادر
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* تمنى كتاب الله آخر ليلة
* تمنى داود الزبور على رسل
*
فمعنى تمنى في البيتين قرأ وتلا.
وفي صحيح البخاري، عن ابن عباس أنه قال: إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وكون تمنى بمعنى: قرأ وتلا. هو قول أكثر المفسرين.
القول الثاني: أن تمنى في الآية من التمني المعروف، وهو تمنية إسلام أمته وطاعتهم لله ولرسله، ومفعول ألقى محذوف فعلى أن تمنى بمعنى: أحب إيمان أمته،
284

وعلق أمله بذلك، فمفعول ألقى يظهر أنه من جنس الوساوس، والصد عن دين الله حتى لا يتم للنبي صلى الله عليه وسلم أو الرسول ما تمنى.
ومعنى كون الإلقاء في أمنيته على هذا الوجه: أن الشيطان يلقي وساوسه وشبهه ليصد بها عما تمناه الرسول أو النبي، فصار الإلقاء كأنه واقع فيها بالصد عن تمامها والحيلولة دون ذلك.
وهل أن تمنى بمعنى: قرأ. ففي مفعول ألقى تقديران:
أحدهما: من جنس الأول: أي ألقى الشيطان في قراءة الرسول الله صلى الله عليه وسلم أو النبي الشبه والوساوس ليصد الناس عن اتباع ما يقرؤه، ويتلوه الرسول أو النبي، وعلى هذا التقدير فلا إشكال.
وأما التقدير الثاني: فهو ألقى الشيطان في أمنيته أي قراءته ما ليس منها ليظن الكفار أنه منها.
وقوله * (فينسخ الله ما يلقى الشيطان) * يستأنس به لهذا التقدير.
وقد ذكر كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية قصة الغرانيق قالوا: سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم بمكة، فلما بلغ: * (أفرءيتم اللات والعزى * ومنواة الثالثة الا خرى) * ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون. وقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى رجع المهاجرون من الحبشة ظنا منهم أن قومهم أسلموا، فوجدوهم على كفرهم.
وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، ويكون في الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول، ومثلنا لذلك: بأمثلة متعددة، وهذا القول الذي زعمه كثير من المفسرين: وهو أن الشيطان ألقى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الشرك الأكبر والكفر البواح الذي هو قولهم: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى، يعنون: اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، الذي لا شك في بطلانه في نفس سياق آيات النجم التي تخللها إلقاء
الشيطان المزعوم قرينة قرآنية واضحة على بطلان هذا القول لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بعد موضع الإلقاء المزعوم بقليل قوله تعالى، في اللات
285

والعزى، ومناة الثالثة الأخرى: * (إن هى إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان) * وليس من المعقول أن النبي صلى الله عليه وسلم يسب آلهتهم هذا السب العظيم في سورة النجم متأخرا عن ذكره لها بخير المزعوم، إلا وغضبوا، ولم يسجدوا لأن العبرة بالكلام الأخير، مع أنه قد دلت آيات قرآنية على بطلان هذا القول، وهي الآيات الدالة على أن الله لم يجعل للشيطان سلطانا على النبي صلى الله عليه وسلم، وإخوانه من الرسل، وأتباعهم المخلصين كقوله تعالى: * (إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) * وقوله تعالى: * (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) * وقوله تعالى * (وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالا خرة) * وقوله: * (وما كان لى عليكم من سلطان) *. وعلى القول المزعوم أن الشيطان ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم ذلك الكفر البواح، فأي سلطان له أكبر من ذلك.
ومن الآيات الدالة على بطلان ذلك القول المزعوم قوله تعالى في النبي صلى الله عليه وسلم: * (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى) * وقوله * (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم) * وقوله في القرآن العظيم: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وقوله تعالى: * (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) * فهذه الآيات القرآنية تدل على بطلان القول المزعوم.
مسألة
اعلم: أن مسألة الغرانيق مع استحالتها شرعا، ودلالة القرآن على بطلانها لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من علماء الحديث كما هو الصواب، والمفسرون يروون هذه القصة عن ابن عباس من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. ومعلوم أن الكلبي متروك، وقد بين البزار رحمه الله: أنها لا تعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير، مع الشك الذي وقع في وصله، وقد اعترف الحافظ ابن حجر مع انتصاره، لثبوت هذه القصة بأن طرقها كلها إما منقطعة أو ضعيفة إلا طريق سعيد بن جبير.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن طريق سعيد بن جبير، لم يروها بها أحد متصلة إلا
286

أمية بن خالد، وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها.
فقد أخرج البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فيما أحسب، ثم ساق حديث القصة المذكورة، وقال البزار: لا يرى متصلا إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد، وهو ثقة مشهور، وقال البزار: وإنما يروى من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. والكلبي متروك.
فتحصل أن قصة الغرانيق، لم ترد متصلة إلا من هذا الوجه الذي شك رواية في الوصل، ومعلوم أن ما كان كذلك لا يحتج به لظهور ضعفه، ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: إنه لم يرها مسندة من وجه صحيح.
وقال الشوكاني في هذه القصة: ولم يصح شيء من هذا، ولا يثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته، بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله كقوله * (ولو تقول علينا بعض الا قاويل) * وقوله * (وما ينطق عن الهوى) *. وقوله * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) * فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون، ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل، وعن البيهقي أنه قال: هي غير ثابتة من جهة النقل، وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة: أن هذه القصة من وضع الزنادقة وأبطلها ابن العربي المالكي، والفخر الرازي وجماعات كثيرة، وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة النجم وسجود المشركين ثابت في الصحيح، ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق. وعلى هذا القول الصحيح وهو أنها باطلة فلا إشكال.
وأما على ثبوت القصة كما هو رأي الحافظ ابن حجر فإنه قال في فتح الباري: إن هذه القصة ثابتة بثلاثة أسانيد كلها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذلك من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها، دل ذلك على أن لها أصلا. فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة أحسنها، وأقربها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة ترتيلا تتخلله سكتات، فلما قرأ * (ومنواة الثالثة الا خرى) * قال الشيطان لعنه الله محاكيا لصوته: تلك الغرانيق العلى الخ فظن المشركون أن الصوت صوته صلى الله عليه وسلم، وهو برئ ومن ذلك براءة الشمس من اللمس، وقد أوضحنا هذه المسألة في رحلتنا إيضاحا وافيا، واختصرناها هنا، وفي كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب.
287

والحاصل: أن القرآن دل على بطلانها، ولم تثبت من جهة النقل، مع استحالة الإلقاء على لسانه صلى الله عليه وسلم لما ذكر شرعا، ومن أثبتها نسب التلفظ بذلك الكفر للشيطان. فتبين أن نطق النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الكفر، ولو سهوا مستحيل شرعا، وقد دل القرآن على بطلانه، وهو باطل قطعا على كل حال، والغرانيق: الطير البيض المعروفة واحدها: غرنوق كزنبور وفردوس، وفيه لغات غير ذلك، يزعمون أن الأصنام ترتفع إلى الله كالطير البيض، فتشفع عنده لعابديها قبحهم الله ما أكفرهم، ونحن وإن ذكرنا أن قوله * (فينسخ الله ما يلقى الشيطان) * يستأنس به لقول من قال: إن مفعول الإلقاء المحذوف تقديره: ألقى الشيطان في قراءته ما ليس منها، لأن النسخ هنا هو النسخ اللغوي، ومعناه الإبطال والإزالة من قولهم: نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الأثر، وهذا كأنه يدل على أن الله ينسخ شيئا ألقاه الشيطان، ليس مما يقرؤه الرسول أو النبي، فالذي يظهر لنا أنه الصواب. وأن القرآن يدل عليه دلالة واضحة، وإن لم ينتبه له من تكلم على الآية من المفسرين: هو أن ما يلقيه الشيطان في قراءة النبي: الشكوك والوساوس المانعة من تصديقها وقبولها، كإلقائه عليهم أنهم سحر أو شعر، أو أساطير الأولين، وأنها مفتراة على الله
ليست منزلة من عنده.
والدليل على هذا المعنى: أن الله بين أن الحكمة في الإلقاء المذكور امتحان الخلق، لأنه قال * (ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض) * ثم قال * (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم) * فقوله * (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق) *. يدل على الشيطان يلقي عليهم، أن الذي يقرأه النبي ليس بحق فيصدقه الأشقياء، ويكون ذلك فتنة لهم، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم، ويعلمون أنه الحق لا الكذب كما يزعم لهم الشيطان في إلقائه: فهذا الامتحان لا يناسب شيئا زاده الشيطان من نفسه في القراءة، والعلم عند الله تعالى.
وعلى هذا القول، فمعنى نسخ ما يلقى الشيطان: إزالته وإبطاله، وعدم تأثيره في المؤمنين الذين أوتوا العلم.
ومعنى يحكم آياته: يتقنها بالإحكام، فيظهر أنها وحي منزل منه بحق، ولا يؤثر في ذلك محاولة الشيطان صد الناس عنها بإلقائه المذكور، وما ذكره هنا من أنه يسلط الشيطان فيلقى في قراءة الرسول والنبي، فتنة للناس ليظهر مؤمنهم من كافرهم.
288

بذلك الامتحان، جاء موضحا في آيات كثيرة قدمناها مرارا كقوله * (وما جعلنآ أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين ءامنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين فى قلوبهم مرض والكافرون ماذآ أراد الله بهاذا مثلا كذلك يضل الله من يشآء ويهدى من يشآء) * وقوله تعالى * (وما جعلنا القبلة التى كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) * وقوله * (وما جعلنا الرءيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة فى القرءان) * أي لأنها فتنة، كما قال * (أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم) *. لأنه لما نزلت هذه الآية قالوا: ظهر كذب محمد صلى الله عليه وسلم لأن الشجر لا ينبت في الموضع اليابس، فكيف تنبت شجرة في أصل الجحيم إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدم إيضاحه مرارا، والعلم عند الله تعالى واللام في قوله * (ليجعل ما يلقى الشيطان) * الأظهر أنها متعلقة، بألقى أي ألقى الشيطان في أمنية الرسل والأنبياء، ليجعل الله ذلك الإلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض، خلافا للخوفي القائل: إنها متعلقة بيحكم، وابن عطية القائل: إنها متعلقة بينسخ. ومعنى كونه: فتنة لهم أنه سبب لتماديهم في الضلال والكفر، وقد أوضحنا معاني الفتنة في القرآن سابقا، وبينا أن أصل الفتنة في اللغة وضع الذهب في النار، ليظهر بسبكه فيها أخالص هو أم زائف، وأنها في القرآن تطلق على معان متعددة منها: الوضع في النار، ومنه قوله تعالى * (يوم هم على النار يفتنون) * أي يحرقون بها. وقوله تعالى * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) * أي أحرقوهم بنار الأخدود على أظهر التفسيرين، ومنها: الاختبار وهو أكثر استعالاتها في القرآن، كقوله تعالى * (إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة) * وقوله تعالى * (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) * وقوله تعالى * (وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم مآء غدقا لنفتنهم فيه) * ومنها: نتيجة الابتلاء إن كانت سيئة كالكفر والضلال كقوله * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) * أي شرك بدليل قوله * (ويكون الدين لله وقوله في الأنفال * (ويكون الدين كله لله) * ومما يوضح هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلاه إلا الله) الحديث. فالغاية في الحديث مبينة للغاية في الآية،
289

لأن خير ما يفسر به القرآن بعد القرآن السنة، ومنه بهذا المعنى قوله هنا * (ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض) * وقد جاءت الفتنة في موضع بمعنى الحجة، وهو قوله تعالى في الأنعام * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) * أي حجتهم كما هو الظاهر.
واعلم أن مرض القلب في القرآن يطلق على نوعين:
أحدهما: مرض بالنفاق والشك والكفر، ومنه قوله تعالى في المنافقين * (فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) * وقوله هنا * (ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض) * أي كفر وشك.
والثاني: منهما إطلاق مرض القلب على ميله للفاحشة والزنى، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى * (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض) * أي ميل إلى الزنى ونحوه، والعرب تسميى انطواء القلب على الأمور الخبيثة: مرضا وذلك معروف في لغتهم ومنه قول الأعشى: فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض) * أي ميل إلى الزنى ونحوه، والعرب تسميى انطواء القلب على الأمور الخبيثة: مرضا وذلك معروف في لغتهم ومنه قول الأعشى:
* حافظ للفرج راض بالتقى
* ليس ممن قلبه فيه مرض
*
وقوله هنا * (والقاسية قلوبهم) * قد بينا في سورة البقرة الآيات القرآنية الدالة على سبب قسوة القلوب في الكلام على قوله * (ثم قست قلوبكم من بعد ذالك فهى كالحجارة أو أشد قسوة) * وآية الحج هذه تبين أن ما أشهر على ألسنة أهل العلم، من أن النبي هو من أوحى إليه وحي، ولم يؤمر بتبليغه، وأن الرسول هو النبي الذي أوحى إليه، وأمر بتبليغ ما أوحى إليه غير صحيح، لأن قوله تعالى * (ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى) *. يدل على أن كلا منهما مرسل، وأنهما مع ذلك بينهما تغاير واستظهر بعضهم أن النبي الذي هو رسول أنزل إليه كتاب وشرع مستقل مع المعجزة التي ثبتت بها نبوته، وأن النبي المرسل الذي هو غير الرسول، هو من لم ينزل عليه كتاب وإنما أوحى إليه أن يدعو الناس إلى شريعة رسول قبله، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يرسلون ويؤمرون بالعمل بما في التوراة، كما بينه تعالى بقوله * (يحكم بها النبيون الذين أسلموا) * وقوله في هذه الآية * (فتخبت له قلوبهم) * أي تخشع وتخضع وتطمئن.
290

قوله تعالى: * (ولا يزال الذين كفروا فى مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) *. ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن الكفار لا
يزالون في مرية، أي شك وريب منه: أي من هذا القرآن العظيم كما هو الظاهر، واختاره ابن جرير وهو قول ابن جريج، كما نقله عنهم ابن كثير: وقال سعيد بن جبير، وابن زيد: في * (مرية منه) *: أي في شك مما ألقى الشيطان، وذكر تعالى في هذه الآية: أنهم لا يزالون كذلك، حتى تأتيهم الساعة: أي القيامة بغتة: أي فجأة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم. قد روى مجاهد عن أبي بن كعب: أن اليوم العقيم المذكور يوم بدر، وكذا قال مجاهد وعكرمة، وسعيد بن جبير وغير واحد: واختاره ابن جرير كما نقله عنهم ابن كثير في تفسيره ثم قال: وقال مجاهد وعكرمة في رواية عنهما: هو يوم القيامة لا ليل له، وكذا قال الضحاك والحسن البصري، ثم قال: وهذا القول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به ا ه. محل الغرض من ابن كثير.
وقد ذكرنا مرارا أنا بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، ويكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول. وذكرنا لذلك أمثلة كثيرة. وبه تعلم أن القرينة القرآنية هنا دلت على أن المراد باليوم العقيم: يوم القيامة، لا يوم بدر، وذلك أنه تعالى أتبع ذكر اليوم العقيم، بقوله * (الملك يومئذ لله يحكم بينهم) *. وذلك يوم القيامة وقوله: يومئذ: أي يوم إذ تأتيهم الساعة، أو يأتيهم عذاب عقيم، وكل ذلك يوم القيامة. فظهر أن اليوم العقيم: يوم القيامة، وإن كان يوم بدر عقيما على الكفار، لأنهم لا خير لهم فيه، وقد أصابهم ما أصابهم.
قوله تعالى: * (الملك يومئذ لله يحكم بينهم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الملك يوم القيامة له، وإن كان الملك في الدنيا له أيضا، لأن في الدنيا ملوكا من المخلوقين، ويوم القيامة لا يكون فيه اسم الملك إلا لله جل وعلا وحده، وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أن الملك يوم القيامة له، ومعلوم أن الملك هو الذي له الحكم بين الخلق بينه في غير هذا الموضع كقوله * (مالك يوم الدين) * وقوله * (الملك يومئذ الحق للرحمان) * وقوله
291

* (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * وقوله تعالى * (وله الملك يوم ينفخ فى الصور) *. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: * (فالذين ءامنوا وعملوا الصالحات فى جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بأاياتنا فأولائك لهم عذاب مهين) *. إدخال الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة المذكور هنا وكون الكفار المكذبين بآيات الله لهم العذاب المهين: يتضمن تفصيل حكم الله بينهم في قوله * (يحكم بينهم) * وما ذكره هنا من الوعد والوعيد قد بينا الآيات الدالة على معناه مررا بكثرة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (والذين هاجروا فى سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية: أن المؤمنين الذين هاجروا في سبيل الله، ثم قتلوا بأن قتلهم الكفار في الجهاد، لأن هذا هو الأغلب في قتل من قتل منهم، أو ماتوا على فرشهم حتف أنفهم في غير جهاد، أنه تعالى أقسم ليرزقهم رزقا حسنا وأنه خير الرازقين، وما تضمنته هذه الآية الكريمة مما ذكرنا جاء مبينا في غير هذا الموضع.
أما الذين قتلوا في سبيل الله: فقد بين الله جل وعلا أنه يرزقهم رزقا حسنا، وذلك في قوله تعالى * (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * ولا شك أن ذلك الذي يرزقهم رزق حسن، وأما الذين ماتوا في قتال المذكورين في قوله هنا: أو ماتوا، فقد قال الله فيهم * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) * ولا شك أن من وقع أجره على الله: أن الله يرزقه الرزق الحسن كما لا يخفى.
والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة.
وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية طرفا منها والعلم عند الله تعالى، وقوله تعالى في هذه الآية * (ثم قتلوا) * قرأه ابن عامر بتشديد التاء والباقون بتخفيفها.
قوله تعالى: * (ذالك بأن الله يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وأن الله سميع بصير ذالك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلى الكبير) *.
292

ذكر غير واحد من المفسرين: أن الإشارة في قوله: ذلك راجعة إلى نصرة من ظلم من عباده المؤمنين المذكور قبله في قوله * (ذالك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله) * أي ذلك النصر المذكور كائن بسبب أنه قادر لا يعجز عن نصرة من شاء نصرته، ومن علامات قدرته الباهرة: أنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل أو بسبب أنه خالق الليل والنهار، ومصرفهما، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار، وأنه سميع لما يقولون، بصير بما يفعلون: أي وذلك الوصف بخلق النهار والليل والإحاطة بما يجري فيهما، والإحاطة بكل قول وفعل بسبب أن الله هو الحق: أي الثابت الإلهية والاستحقاق للعبادة وحده، وأن كل ما يدعى إلاها غيره باطل وكفر، ووبال على صاحبه، وأنه جل وعلا هو العلي الكبير، الذي هو أعلا من كل شيء وأعظم وأكبر سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
وقد أشار تعالى لأول ما ذكرنا. بقوله * (ذالك بأن الله يولج اليل فى النهار) *، ولآخره بقوله * (ذالك بأن الله هو الحق) *.
والأظهر عندي: أن الإشارة في قوله ذلك: راجعة إلى ما هو أعم من نصرة المظلوم، وأنها ترجع لقوله * (الملك يومئذ لله يحكم بينهم) * إلى ما ذكره من نصرة المظلوم: أي ذلك المذكور من كون الملك له وحده، يوم القيامة، وأنه الحاكم وحده بين خلقه، وأنه المدخل الصالحين جنات النعيم والمعذب الذين كفروا العذاب المهين، والناصر من بغى عليه من عباده المؤمنين، بسبب أنه القادر على كل شيء، ومن أدلة ذلك: أنه يولج الليل في النهار إلى آخر ما ذكرنا. وهذا الذي وصف به نفسه هنا من صفات الكمال والجلال ذكره في غير هذا الموضع كقوله في سورة لقمان، مبينا أن من اتصف بهذه الصفات قادر على إحياء الموتى، وخلق الناس * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) *.
ثم استدل على قدرته على الخلق والبعث، فقال: * (ألم تر أن الله يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل مسمى وأن الله
بما تعملون خبير * ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلى الكبير) * فهذه الصفات الدالة على كمال قدرته، استدل بها على قدرته في الحج، وفي لقمان. وإيلاج كل من الليل والنهار في الآخر فيه معنيان:
293

الأول: وهو قول الأكثر: من أن إيلاج كل واحد منهما في الآخر، إنما هو بإدخال جزء منه فيه، وبذلك يطول النهار في الصيف، لأنه أولج فيه شيء من الليل ويطول الليل في الشتاء: لأنه أولج فيه شيء من النهار، وهذا من أدلة قدرته الكاملة.
المعنى الثاني: هو أن إيلاج أحدهما في الآخر، هو تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك، بغيبوبة الشمس. وضياء ذلك في مكان ظلمة هذا كما يضيء البيت المغلق بالسراج، ويظلم بفقده. ذكر هذا الوجه الزمخشري، وكأنه يميل إليه والأول أظهر، وأكثر قائلا، والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) * قرأه حفص وحمزة والكسائي: يدعون بالياء التحتية، وقرأه الباقون: بتاء الخطاب الفوقية.
* (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فتصبح الا رض مخضرة إن الله لطيف خبير * له ما فى السماوات وما فى الا رض وإن الله لهو الغنى الحميد * ألم تر أن الله سخر لكم ما فى الا رض والفلك تجرى فى البحر بأمره ويمسك السمآء أن تقع على الا رض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم * وهو الذى أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور * لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك فى الا مر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم * وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون * الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون * ألم تعلم أن الله يعلم ما فى السمآء والا رض إن ذالك فى كتاب إن ذالك على الله يسير * ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم ءاياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذالكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير * ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب * ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوى عزيز * الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الا مور * ياأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفى هاذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على الناس فأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) *
قوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فتصبح الا رض مخضرة إن الله لطيف خبير) *. الظاهر: أن (تر) هنا من رأى بمعنى: علم. لأن إنزال المطر وإن كان مشاهدا بالبصر فكون الله هو الذي أنزله، إنما يدرك بالعلم لا بالبصر. فالرؤية هنا علمية على التحقيق.
فالمعنى: ألم تعلم الله منزلا من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة: أي ذات خضرة بسبب النبات الذي ينبته الله فيها بسبب إنزاله الماء من السماء، وهذه آية من آياته وبراهين قدرته على البعث كما بيناه مرارا. وهذا المعنى المذكور هنا من كون إنبات نبات الأرض، بإنزال الماء من آياته الدالة، على كمال قدرته جاء موضحا في آيات كثيرة، كقوله تعالى * (ومن ءاياته أنك ترى الا رض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت) * ثم بين أن ذلك من براهين البعث بقوله: * (إن الذى أحياها لمحى الموتى) * وكقوله: * (فانظر إلىءاثار رحمة الله كيف يحى الا رض بعد موتهآ) * ثم بين أن ذلك من براهين البعث بقوله: * (إن ذلك لمحى الموتى وهو على كل شىء قدير) * وقوله: * (ونزلنا من السمآء مآء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا) * ثم بين أن ذلك من براهين البعث بقوله: * (كذالك الخروج) * أي
294

خروجكم من قبوركم أحياء بعد الموت، كقوله: * (ويحى الا رض بعد موتها وكذلك تخرجون) * وقوله: * (وأحيينا به بلدة ميتا كذالك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) * والآيات بمثل هذا كثيرة.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة سؤالان معروفان:
الأول: هو ما حكمة عطف المضارع في قوله: فتصبح على الماضي الذي هو أنزل؟
السؤال الثاني: ما وجه الرفع في قوله: فتصبح مع أن قبلها استفهاما؟
فالجواب عن الأول: أن النكتة في المضارع هي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان كما تقول: أنعم على فلان عام كذا وكذا، فأروح وأغدو شاكرا له، ولو قلت: فغدوت ورحت، لم يقع ذلك الموقع، هكذا أجاب به الزمخشري.
والذي يظهر لي والله أعلم: أن التعبير بالمضارع يفيد استحضار الهيأة التي اتصفت بها الأرض: بعد نزول المطر، والماضي لا يفيد دوام استحضارها لأنه يفيد انقطاع الشيء، أما الرفع في قوله: فتصبح، فلأنه ليس مسببا عن الرؤية التي هي موضع الاستفهام، وإنما هو مسبب الإنزال في قوله: أنزل، والإنزال الذي هو سبب إصباح الأرض مخضرة ليس فيه استفهام، ومعلوم أن الفاء التي ينصب بعدها المضارع إن حذفت جاز جعل مدخولها جزاء للشرط، ولا يمكن أن تقول هنا: إن تر أن الله أنزل من السماء ماء، تصبح الأرض مخضرة، لأن الرؤية لا أثر لها البتة في اخضرار الأرض، بل سببه إنزال الماء لا رؤية إنزاله.
وقد قال الزمخشري في الكشاف في الجواب عن هذا السؤال: فإن قلت: فما له رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام.
قلت: لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار.
مثاله: أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر، إن تنصبه فأنت ناف لشكره شاك تفريطه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر، وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من
295

اتسم بالعلم في علم الإعراب، وتوقير أهله. انتهى منه. وذكر نحوه أبو حيان وفسره ظانا أنه أوضحه، ولا يظهر لي كل الظهور، والعلم عند الله تعالى.
فإن قيل: كيف قال: فتصبح مع أن اخضرار الأرض، قد يتأخر عن صبيحة المطر.
فالجواب: أنه على قول من قال: فتصبح الأرض مخضرة: أي تصير مخضرة فالأمر واضح، والعرب تقول: أصبح فلان غنيا مثلا بمعنى صار. وذكر أبو حيان عن بعض أهل العلم: أن بعض البلاد تصبح فيه الأرض مخضرة في نفس صبيحة المطر. وذكر عكرمة وابن عطية وعلى هذا فلا إشكال. وقال بعضهم: إن الفاء للتعقيب، وتعقيب كل شيء بحسبه كقوله: * (ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة) * مع أن بين ذلك أربعين يوما كما في الحديث، قاله ابن كثير. وقوله: لطيف خبير: أي لطيف بعباده، ومن لطفه بهم إنزاله المطر وإنباته لهم به أقواتهم، خبير بكل شيء، لا يغرب عن عمله مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
قوله تعالى: * (ألم تر أن الله سخر لكم ما فى الا رض والفلك تجرى فى البحر بأمره) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الله سخر لخلقه ما في الأرض، وسخر لهم السفن تجري في البحر بأمره، وهذا الذي ذكره هنا جاء موضحا في مواضع كثيرة كقوله: * (وسخر لكم ما فى السماوات وما فى الا رض جميعا منه) * وقد بينا معنى تسخير ما في السماء بإيضاح في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) * وكقوله: * (وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) * وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة النحل وغيرها.
قوله تعالى: * (ويمسك السمآء أن تقع على الا رض إلا بإذنه) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه هو الذي يمسك السماء ويمنعها من أن تقع على الأرض، فتهلك من فيها، وأنه لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض فأهلكت من عليها، كما قال: * (إن نشأ نخسف بهم الا رض أو نسقط عليهم كسفا من السمآء) *. وقد أشار لهذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (إن الله يمسك السماوات والا رض أن تزولا ولئن زالتآ إن أمسكهما من أحد من بعده) *،
296

وكقوله: * (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرآئق وما كنا عن الخلق غافلين) * على قول من فسرها: بأنه غير غافل عن الخلق بل حافظ لهم من سقوط السماوات المعبر عنها بالطرائق عليهم.
تنبيه
هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن كقوله: * (ويمسك السمآء أن تقع على الا رض) * وقوله: * (إن الله يمسك السماوات والا رض أن تزولا ولئن زالتآ إن أمسكهما من أحد من بعده) * وقوله: * (إن نشأ نخسف بهم الا رض أو نسقط عليهم كسفا من السمآء) * وقوله: * (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) *، وقوله: * (والسمآء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) *، وقوله تعالى: * (وجعلنا السمآء سقفا محفوظا) *، ونحو ذلك من الآيات، يدل دلالة واضحة، على أن ما يزعمه ملاحدة الكفرة، ومن قلدهم من مطموسي البصائر ممن يدعون الإسلام أن السماء فضاء لا جرم مبنى، أنه كفر وإلحاد وزندقة، وتكذيب لنصوص القرآن العظيم، والعلم عند الله تعالى.
وقوله في هذه الآية الكريمة * (إن الله بالناس لرءوف رحيم) * أي ومن رأفته ورحمته بخلقه: أنه أمسك السماء عنهم، ولم يسقطها عليهم.
قوله تعالى: * (وهو الذى أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور) *. قوله: * (وهو الذى أحياكم) * أي بعد أن كنتم أمواتا في بطون أمهاتكم قبل نفخ الروح فيكم فهما إحياءتان، وإماتتان كما بينه بقوله: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) * وقوله تعالى: * (قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) *.
ونظير آية الحج المذكورة هذه قوله تعالى، في الجاثية: * (قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) *، وكفر الإنسان المذكور في هذه الآية في قوله: * (إن الإنسان لكفور) * مع أن الله أحياء مرتين، وأماته مرتين، هو الذي دل القرآن على استعباده وإنكاره مع دلالة الإماتتين والإحياءتين على وجوب الإيمان
297

بالمحيي المميت، وعدم الكفر به في قوله: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) *.
قوله تعالى: * (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه) *. الأظهر في معنى قوله * (منسكا هم ناسكوه) * أي متعبدا هم متعبدون فيه، لأن أصل النسك التعبد وقد بين تعالى أن منسك كل أمة فيه التقرب إلى الله بالذبح، فهو فرد من أفراد النسك صرح القرآن بدخوله في عمومه. وذلك من أنواع البيان الذي تضمنها هذا الكتاب المبارك.
والآية التي بين الله فيها ذلك هي قوله تعالى: * (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الا نعام فإلاهكم إلاه واحد فله أسلموا) * وقوله * (لكل أمة جعلنا منسكا) * في الموضعين قرأه حمزة والكسائي بكسر السين والباقون بفتحها.
قوله تعالى: * (وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يدعو الناس إلى ربهم أي إلى طاعته، وطاعة رسله، وأخبره فيها أنه على صراط مستقيم: أي طريق حق واضح لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام الذي أمره أن يدعو الناس إليه وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الأمرين المذكورين، جاء واضحا في مواضع أخر كقوله في الأول منهما * (ولا يصدنك عن ءايات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من
المشركين) * وقوله تعالى * (فلذلك فادع واستقم كمآ أمرت) * وقوله تعالى * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) * وأخبر جل وعلا أنه امتثل الأمر بدعائهم إلى ربهم في قوله تعالى * (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) * وقوله * (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم) * وكقوله في الأخير * (فتوكل على الله إنك على الحق المبين) * وقوله * (ثم جعلناك على شريعة من الا مر فاتبعها) * وقوله تعالى * (ويهديك صراطا مستقيما) *. والآيات بمثل هذا كثيرة.
قوله تعالى: * (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أنه إن جادله الكفار: أي خاصموه
298

بالباطل وكذبوه، أن يقول لهم: الله أعلم بما تعملون.
وهذا القول الذي أمر به تهديد لهم فقد تضمنت هذه الآية أمرين:
أحدهما: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهددهم بقوله: الله أعلم بما تعملون: أي من الكفر، فمجازيكم عليه أشد الجزاء.
الثاني: الإعراض عنهم، وقد أشار تعالى للأمرين اللذين تضمنتهما هذه الآية في غير هذا الموضع.
أما إعراضه عنهم عند تكذيبهم له بالجدال الباطل فمن المواضع التي أشير له فيها قوله تعالى * (وإن كذبوك فقل لى عملى ولكم عملكم أنتم بريئون ممآ أعمل وأنا برىء مما تعملون) *.
وأما تهديدهم فقد أشار له في مواضع كقوله * (هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بينى وبينكم) * وقوله * (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين) * فقوله * (ولا يرد بأسه) * فيه أشد الوعيد للمكذبين، كما قال * (ويل يومئذ للمكذبين) * في مواضع متعددة، وهم إنما يكذبونه بالجدال، والخصام بالباطل. وقد أمره الله في غير هذا الموضع أن يجادلهم بالتي هي أحسن وذلك في قوله * (وجادلهم بالتى هى أحسن) * وقوله * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن) * وبين له أنهم لا يأتونه بمثل ليحتجوا عليه به بالباطل، إلا جاءه الله بالحق الذي يدمغ ذلك الباطل، مع كونه أحسن تفسيرا وكشفا وإيضاحا للحقائق وذلك في قوله * (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) *.
قوله تعالى: * (ما قدروا الله حق قدره) *. أي: ما عظموه حتى عظمته حين عبدوا معه من لا يقدر على خلق ذباب، وهو عاجز أن يسترد من الذباب ما سلبه الذباب منه، كالطيب الذي يجعلونه على أصنامهم، إن سلبها الذباب منه شيئا لا تقدر على استنقاذه منه، وكونهم لم يعظموا الله حق عظمته، ولم يعرفوه حق معرفته، حيث عبدوا معه من لا يقدر على جلب نفع، ولا دفع ضر. ذكره تعالى في غير هذا الموضع كقوله في الأنعام * (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا مآ أنزل الله على بشر من شىء) * وكقوله في الزمر * (وما قدروا الله حق قدره والا رض
299

جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) *.
قوله تعالى: * (الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس) *. بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يصطفي أي يختار رسلا من الملائكة، ومن الناس فرسل الناس لإبلاغ الوحي، ورسل الملائكة لذلك أيضا، وقد يرسلهم لغيره، وهذا الذي ذكره هنا من اصطفائه الرسل منهما جاء واضحا في غير هذا الموضع، كقوله في رسل الملائكة * (الحمد لله فاطر السماوات والا رض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع) *. وقوله في جبريل * (إنه لقول رسول كريم) * ومن ذكره إرسال الملائكة بغير الوحي قوله تعالى: * (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جآء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) * وكقوله في رسل بني آدم * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * وقوله * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) *، وقوله * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا) *.
قوله تعالى: * (هو اجتباكم) *. أي اصطفاكم، واختاركم يا أمة محمد. ومعنى هذه الآية أوضحه بقوله * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) *.
قوله تعالى: * (وما جعل عليكم فى الدين من حرج) *. الحرج: الضيق كما أوضحناه في أول سورة الأعراف.
وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن هذه الحنيفية السمحة التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أنها مبينة على التخفيف والتيسير، لا على الضيق والحرج. وقد رفع الله فيها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا.
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ذكره جل وعلا في غير هذا لموضع كقوله تعالى * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * وقوله * (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) * وقد ثبت في صحيح مسلم من
300

حديث أبي هريرة، وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ خواتم سورة البقرة * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال الله قد فعلت) * في رواية ابن عباس. وفي رواية أبي هريرة قال: نعم. ومن رفع الحرج في هذه الشريعة الرخصة في قصر الصلاة في السفر والإفطار في رمضان فيه، وصلاة العاجز عن القيام قاعدا وإباحة المحظور للضرورة كما قال تعالى * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) * إلى غير ذلك من أنواع التخفيف والتيسير، وما تضمنته هذه الآية الكريمة والآيات التي ذكرنا معها من رفع الحرج، والتخفيف في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، هو إحدى القواعد الخمس، التي بنى عليها الفقه الإسلامي وهي هذه الخمس.
الأولى: الضرر يزال ومن أدلتها حديث: (لا ضرر ولا ضرار).
الثانية: المشقة تجلب التيسير: وهي التي دل عليها قوله هنا * (وما جعل عليكم فى الدين من حرج) * وما ذكرنا في معناها من الآيات.
الثالثة: لا يرفع يقين بشك، ومن أدلتها حديث (من أحس بشيء في دبره في الصلاة وأنه لا يقطع الصلاة حتى يسمع صوتا أو يشم ريحا) لأن تلك الطهارة المحققة لم
تنقض بتلك الريح المشكوك فيها.
الرابعة: تحكيم عرف الناس المتعارف عندهم في صيغ عقودهم ومعاملاتهم، ونحو ذلك. واستدل لهذه بعضهم بقوله * (وأمر بالعرف) *.
الخامسة: الأمور تبع المقاصد، ودليل هذه حديث (إنما الأعمال بالنيات) الحديث. وقد أشار في مراقي السعود في كتاب الاستدلال إلى هذه الخمس المذكورات بقوله: الخامسة: الأمور تبع المقاصد، ودليل هذه حديث (إنما الأعمال بالنيات) الحديث. وقد أشار في مراقي السعود في كتاب الاستدلال إلى هذه الخمس المذكورات بقوله:
* قد أسس الفقه على رفع الضرر
* وأن ما يشق يجلب الوطر
*
* ونفى رفع القطع بالشك وأن
* يحكم العرف وزاد من فطن
*
* كون الأمور تبع المقاصد
* مع التكلف ببعض وارد
*
قوله تعالى: * (ملة أبيكم إبراهيم) *. قال بعضهم: هو منصوب بنزع الخافض، ومال إليه ابن جرير: أي ما جعل عليكم في دينكم من ضيق، كملة إبراهيم، وأعربه بعضهم منصوبا بمحذوف: أي الزموا ملة
301

أبيكم إبراهيم، ولا يبعد أن يكون قوله * (ملة أبيكم إبراهيم) * شاملا لما ذكر قبله من الأوامر في قوله * (ياأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا فى الله حق جهاده) *. ويوضح هذا قوله تعالى * (قل إننى هدانى ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا) * والدين القيم الذي هو ملة إبراهيم: شامل لما ذكر كله.
قوله تعالى: * (هو سماكم المسلمين من قبل وفى هاذا) *. اختلف في مرجع الضمير الذي هو لفظ هو من قوله * (هو سماكم) * فقال بعضهم الله هو الذي سماكم المسلمين من قبل ومن هذا، وهذا القول مروى عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وعطاء، والضحاك، والسدي، ومقاتل بن حيان، وقتادة. كما نقله عنهم ابن كثير. وقال بعضهم: هو أي إبراهيم سماكم المسلمين، واستدل لهذا بقول إبراهيم وإسماعيل * (ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك) * وبهذا قال عبد الرحمان بن زيد بن أسلم، كما نقله عنه ابن كثير. وقد قدمنا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول. وجئنا بأمثلة كثيرة في الترجمة، وفيما مضى من الكتاب، وفي هذه الآيات قرينتان تدلان على أن قول عبد الرحمان بن زيد بن أسلم غير صواب.
إحداهما: أن الله قال * (هو سماكم المسلمين من قبل وفى هاذا) * أي القرآن، ومعلوم أن إبراهيم لم يسمهم المسلمين في القرآن، لنزوله بعد وفاته بأزمان طويلة كما نبه على هذا ابن جرير.
القرينة الثانية: أن الأفعال كلها في السياق المذكور راجعة إلى الله، لا إلى إبراهيم فقوله * (هو اجتباكم) * أي الله وما جعل عليكم في الدين من حرج: أي الله هو سماكم المسلمين: أي الله.
فإن قيل: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور للضمير المذكور: هو إبراهيم.
فالجواب: أن محل رجوع الضمير إلى أقرب مذكور محله ما لم يصرف عنه صارف، وهنا قد صرف عنه صارف، لأن قوله وفي هذا يعني القرآن، دليل على أن
302

المراد بالذي سماهم المسلمين فيه: هو الله لا إبراهيم، وكذلك سياق الجمل المذكورة قبله نحو * (هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج) * يناسبه أن يكون هو سماكم: أي الله المسلمين.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية بعد أن ذكر: أن الذي سماهم المسلمين من قبل وفي هذا: هو الله، لا إبراهيم ما نصه:
قلت: وهذا هو الصواب لأنه تعالى قال * (هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج) * ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ملة إبراهيم أبيهم الخليل، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها، والثناء عليها في سالف الدهر، وقديم الزمان في كتاب الأنبياء، تتلى على الأحبار والرهبان فقال * (هو سماكم المسلمين من قبل) * أي من قبل هذا القرآن.
وفي هذا روى النسائي عند تفسير هذه الآية: أنبأنا هشام بن عمار، حدثنا محمد بن شعيب، أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام، أخبره عن أبي سلام أنه أخبره قال: أخبرني الحارث الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم، قال رجل: يا رسول الله، وإن صام وإن صلى؟ قال: نعم وإن صام وإن صلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله) وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله * (ياأيها الناس
اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) * (البقرة: 12) ا ه من تفسير ابن كثير.
وقال ابن كثير في تفسير سورة البقرة: إن الحديث المذكور فيه أن الله هو الذي سماهم المسلمين المؤمنين.
قوله تعالى: * (ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على الناس) *. يعني: إنما اجتباكم، وفضلكم ونوه باسمكم المسلمين قبل نزول كتابكم، وزكاكم على ألسنة الرسل المتقدمين، فسماكم فيها المسلمين، وكذلك سماكم في هذا القرآن. وقد عرف بذلك أنكم أمة وسط عدول خيار مشهود بعدالتكم، لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة، أن الرسل بلغتهم رسالات ربهم، حين ينكر الكفار ذلك يوم القيامة، ويكون الرسول عليكم شهيدا، أنه بلغكم، وقيل: شهيدا على صدقكم فيما شهدتم به للرسل على أممهم من التبليغ.
303

وهذا المعنى المذكور هنا ذكره الله جل وعلا في قوله * (وكذالك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * وقال فيه صلى الله عليه وسلم * (إنآ أرسلناك شاهدا) *. والعلم عند الله تعالى.
304

((سورة المؤمنون))
* (قد أفلح المؤمنون * الذين هم فى صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكواة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى ورآء ذالك فأولائك هم العادون * والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلواتهم يحافظون) *
قوله تعالى: * (قد أفلح المؤمنون * الذين هم فى صلاتهم خاشعون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآيات التي ابتدأ بها أول هذه السورة علامات المؤمنين المفلحين فقال * (قد أفلح المؤمنون) * أي فازوا وظفروا بخير الدنيا والآخرة.
وفلاح المؤمنين مذكور ذكرا كثيرا في القرآن كقوله * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) * وقوله * (الذين هم فى صلاتهم خاشعون) * أصل الخشوع: الكون، والطمأنينة، والانخفاض ومنه قول نابغة ذبيان: الذين هم فى صلاتهم خاشعون) * أصل الخشوع: الكون، والطمأنينة، والانخفاض ومنه قول نابغة ذبيان:
* رماد ككحل العين لأيا أبينه
* ونؤى كجذم الحوض أثلم خاشع
*
وهو في الشرع: خشية من الله تكون في القلب، فتظهر آثارها على الجوارح.
وقد عد الله الخشوع من صفات الذين أعد لهم مغفرة وأجرا عظيما في قوله في الأحزاب * (والخاشعين والخاشعات) * إلى قوله * (أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) *.
وقد عد الخشوع في الصلاة هنا من صفات المؤمنين المفلحين، الذين يرثون الفردوس، وبين أن من لم يتصف بهذا الخشوع تصعب عليه الصلاة في قوله * (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) * وقد استدل جماعة من أهل العلم بقوله * (الذين هم فى صلاتهم خاشعون) * على أن من خشوع المصلي: أن يكون نظره في صلاته إلى موضع سجوده، قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء في الصلاة، فأنزل الله * (الذين هم فى صلاتهم خاشعون) * فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر حيث يسجد.
وقال صاحب الدر المنثور: وأخرج ابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى
305

السماء فنزلت * (الذين هم فى صلاتهم خاشعون) * فطأطأ رأسه) ا ه منه.
وأكثر أهل العلم على أن المصلي ينظر إلى موضع سجوده، ولا يرفع بصره. وخالف المالكية الجمهور، فقالوا: إن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده، واستدلوا لذلك بقوله تعالى * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * قالوا: فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء، وذلك ينافي كمال القيام. وظاهر قوله تعالى * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * لأن المنحني بوجهه إلى موضع سجوده، ليس بمول وجهه شطر المسجد الحرام، والجمهور على خلافهم كما ذكرنا.
واعلم أن معنى أفلح: نال الفلاح، والفلاح يطلق في لغة العرب على معنيين:
الأول: الفوز بالمطلوب الأكبر، ومنه قول لبيد: الأول: الفوز بالمطلوب الأكبر، ومنه قول لبيد:
* فاعقلي إن كنت لما تعقلي
* ولقد أفلح من كان عقل
*
أي فاز من رزق العقل بالمطلوب الأكبر.
والثاني: هو إطلاق الفلاح على البقاء السرمدي في النعيم، ومنه قول لبيد أيضا في رجز له: والثاني: هو إطلاق الفلاح على البقاء السرمدي في النعيم، ومنه قول لبيد
أيضا في رجز له:
* لو أن حيا مدرك الفلاح
* لناله ملاعب الرماح
*
يعني مدرك البقاء، ومنه بهذا المعنى قول كعب بن زهير، أو الأضبط بن قريع: يعني مدرك البقاء، ومنه بهذا المعنى قول كعب بن زهير، أو الأضبط بن قريع:
* لكل هم من الهموم سعة
* والمسى والصبح لا فلاح معه
*
أي لا بقاء معه، ولا شك أن من اتصف بهذه الصفات التي ذكرها الله في أول هذه السورة الكريمة دخل الجنة كما هو مصرح به في الآيات المذكورة، وأن من دخل الجنة نال الفلاح بمعنييه المذكورين، والمعنيان اللذان ذكرنا للفلاح بكل واحد منهما، فسر بعض العلماء حديث الأذان والإقامة في لفظة: حي على الفلاح.
قوله تعالى: * (والذين هم عن اللغو معرضون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين: إعراضهم عن اللغو. وأصل اللغو ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، فيدخل فيه اللعب واللهو والهزل، وما توجب المروءة تركه.
وقال ابن كثير * (عن اللغو معرضون) * أي عن الباطل، وهو يشمل
306

الشرك كما قال بعضهم، والمعاصي كما قاله آخرون، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال ا ه منه.
وما أثنى الله به على المؤمنين المفلحين في هذه الآية. أشار له في غير هذا الموضع كقوله * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * ومن مرورهم به كراما إعراضهم عنه، وعدم مشاركتهم أصابه فيه وقوله تعالى * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) *.
قوله تعالى: * (والذين هم للزكواة فاعلون) *. في المراد بالزكاة هنا وجهان من التفسير معروفان عند أهل العلم.
أحدهما: أن المراد بها زكاة الأموال، وعزاه ابن كثير للأكثرين.
الثاني: أن المراد بالزكاة هنا: زكاة النفس أي تطهيرها من الشرك، والمعاصي بالإيمان بالله، وطاعته وطاعة رسله عليهم الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمراد بالزكاة كالمراد بها في قوله * (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) * وقوله * (قد أفلح من تزكى) *. وقوله * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) * وقوله * (خيرا منه زكواة) * وقوله * (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكواة) * على أحد التفسيرين. وقد يستدل لهذا القول الأخير بثلاث قرائن:
الأولى: أن هذه السورة مكية، بلا خلاف، والزكاة إنما فرضت بالمدينة كما هو معلوم. فدل على أن قوله * (والذين هم للزكواة فاعلون) * نزل قبل فرض زكاة الأموال المعروفة، فدل على أن المراد به غيرها.
القرينة الثانية: هي أن المعروف في زكاة الأموال: أن يعبر عن أدائها بالإيتاء كقوله تعالى * (وآتوا الزكواة) * وقوله * (وإيتآء الزكواة) * ونحو ذلك. وهذه الزكاة المذكورة هنا، لم يعبر عنها بالإيتاء، بل قال تعالى فيها * (والذين هم للزكواة فاعلون) * فدل على أن هذه الزكاة: أفعال المؤمنين المفلحين، وذلك أولى بفعل الطاعات، وترك المعاصي من أداء مال.
الثالثة: أن زكاة الأموال تكون في القرآن عادة مقرونة بالصلاة، من غير فصل
307

بينهما كقوله * (وأقيموا الصلواة وآتوا الزكواة) * وقوله * (وأقاموا الصلواة وآتوا الزكواة) * وقوله * (وإقام الصلواة وإيتآء الزكواة) * وهذه الزكاة المذكورة هنا فصل بين ذكرها، وبين ذكر الصلاة بجملة * (والذين هم عن اللغو معرضون) *.
والذين قالوا المراد بها المراد بها زكاة الأموال قالوا: إن أصل الزكاة فرض بمكة قبل الهجرة، وأن الزكاة التي فرضت بالمدينة سنة اثنتين هي ذات النصب، والمقادير الخاصة.
وقد أوضحنا هذا القول في الأنعام في الكلام على قوله تعالى * (وءاتوا حقه يوم حصاده) * وقد يستدل، لأن المراد بالزكاة في هذه الآية غير الأعمال التي تزكى بها النفوس من دنس الشرك والمعاصي، بأنا لو حملنا معنى الزكاة على ذلك، كان شاملا لجميع صفات المؤمنين المذكورة في أول هذه السورة، فيكون كالتكرار معها، والحمل على التأسيس والاستقلال أولى من غيره، كما تقرر في الأصول. وقد أوضحناه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى * (فلنحيينه حيواة طيبة) * والذين قالوا: هي زكاة الأموال قالوا: فاعلون أي مؤدون، قالوا: وهي لغة معروفة فصيحة، ومنها قول أمية بن أبي الصلت: فلنحيينه حيواة طيبة) * والذين قالوا: هي زكاة الأموال قالوا: فاعلون أي مؤدون، قالوا: وهي لغة معروفة فصيحة، ومنها قول أمية بن أبي الصلت:
* المطعمون الطعام في السنة الأز
* مة والفاعلون للزكوات
*
وهو واضح، بحمل الزكاة على المعنى المصدري بمعنى التزكية للمال، لأنها فعل المزكي كما هو واضح. ولا شك أن تطهير النفس بأعمال البر، ودفع زكاة المال كلاهما من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الجنة.
وقد قال ابن كثير رحمه الله: وقد يحتمل أن المراد بالزكاة ها هنا: زكاة النفس من الشرك، والدنس إلى أن قال ويحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا وهو زكاة النفوس، وزكاة الأموال فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا والله أعلم. ا ه منه.
قوله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى ورآء ذالك فأولائك هم العادون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين الذين يرثون الفردوس ويخلدون فيها حفظهم لفروجهم: أي من اللواط والزنى، ونحو ذلك، وبين أن
308

حفظهم فروجهم، لا يلزمهم عن نسائهم الذين ملكوا الاستمتاع بهن بعقد الزواج أو بملك اليمين، والمراد به التمتع بالسراري، وبين أن من لم يحفظ فرجه عن زوجه أو سريته لا لوم عليه، وأن من ابتغى تمتعا بفرجه، ورواء ذلك غير الأزواج والمملوكات فهو من العادين: أي المعتدين المتعدين حدود الله، المجاوزين ما أحله الله إلى ما حرمه.
وبين معنى العادين في هذه الآية قوله تعالى في قوم لوط: * (أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) * وهذا الذي ذكره هنا ذكره أيضا في سورة سأل سائل لأنه قال فيها في الثناء على المؤمنين * (والذين هم لفروجهم حافظون) *.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: اعلم أن ما في قوله * (أو ما ملكت أيمانهم) * من صيغ العموم، والمراد بها من وهي من صيغ العموم. فآية * (قد أفلح المؤمنون) * وآية * (سأل سآئل) * تدل بعمومها المدلول عليه بلفظة ما، في قوله * (أو ما ملكت أيمانهم) * في الموضعين على جواز جمع الأختين بملك اليمين في التسري بهما معا لدخولهما في عموم * (أو ما ملكت أيمانهم) * وبهذا قال داود الظاهري، ومن تبعه: ولكن قوله تعالى * (وأن تجمعوا بين الا ختين) * يدل بعمومه على منع جمع الأختين، بملك اليمين، لأن الألف واللام في الأختين صيغة عموم، تشمل كل أختين. سواء كانتا بعقد أو ملك يمين ولذا قال عثمان رضي الله عنه، لما سئل عن جمع الأختين بملك اليمين: أحلتهما آية، وحرمتهما أخرى يعني بالآية المحللة * (أو ما ملكت أيمانهم) * وبالمحرمة * (وأن تجمعوا بين الا ختين) *.
وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب وسنذكر هنا إن شاء الله المهم مما ذكرنا فيه ونزيد ما تدعو الحاجة إلى زيادته.
وحاصل تحرير المقام في ذلك: أن الآيتين المذكورتين بينهما عموم، وخصوص من وجه، يظهر للناظر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها كما قال عثمان رضي الله عنهما: أحلتهما آية، وحرمتهما أخرى وإيضاحه أن آية: * (وأن تجمعوا بين الا ختين) * تنفرد عن آية * (أو ما ملكت أيمانهم) * في الأختين المجموع بينهما، بعقد نكاح وتنفرد
309

آية * (أو ما ملكت أيمانهم) * في الأمة الواحدة، أو الأمتين اللتين ليستا بأختين، ويجتمعان في الجمع بين الأختين، فعموم * (وأن تجمعوا بين الا ختين) * يقتضي تحريمه، وعموم * (أو ما ملكت أيمانهم) * يقتضي إباحته، وإذا تعارض الأعمان من وجه في الصورة التي يجتمعان فيها: وجب الترجيح بينهما، والراجح منهما، يقدم ويخصص به عموم الآخر، كما أشار له في مراقي السعود بقوله: أو ما ملكت أيمانهم) * يقتضي إباحته، وإذا تعارض الأعمان من وجه في الصورة التي يجتمعان فيها: وجب الترجيح بينهما، والراجح منهما، يقدم ويخصص به عموم الآخر، كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
* وإن يك العموم من وجه ظهر
* فالحكم بالترجيح حتما معتبر
*
وإذا علمت ذلك فاعلم أن عموم * (وأن تجمعوا بين الا ختين) * مرجح من خمسة أوجه على عموم * (أو ما ملكت أيمانهم) *:
الأول: منها أن عموم * (وأن تجمعوا بين الا ختين) * نص في محل المدرك المقصود بالذات، لأن السورة سورة النساء: وهي التي بين الله فيها من تحل منهن، ومن لا تحل وآية * (أو ما ملكت أيمانهم) * في الموضعين لم تذكر من أجل تحريم النساء، ولا تحليلهن بل ذكر الله صفات المؤمنين التي يدخلون بها الجنة. فذكر من جملتها حفظ الفرج، فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية. وقد تقرر في الأصول: أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها، لا من مظانها.
الوجه الثاني: أن آية * (أو ما ملكت أيمانهم) * ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين، لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين، إجماعا للإجماع على أن عموم أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم * (وأخواتكم من الرضاعة) * وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعا، للإجماع على أن عموم * (أو ما ملكت أيمانهم) * يخصصه عموم * (ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النسآء) *. والأصح عند الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص، مع العام الذي لم يدخله التخصيص: هو تقديم الذي لم يدخله التخصيص، وهذا هو قول جمهور أهل الأصول، ولم أعلم أحدا خالف فيه، إلا صفي الدين الهندي، والسبكي.
وحجة الجمهور أن العام المخصص، اختلف في كونه حجة في الباقي، بعد التخصيص، والذين قالوا: هو حجة في الباقي. قال جماعة منهم: هو مجاز في الباقي، وما اتفق على أنه حجة، وأنه حقيقة، وهو الذي لم يدخله التخصيص أولى مما اختلف في حجيته، وهل هو حقيقة، أو مجاز، وإن كان الصحيح: أنه حجة في الباقي، وحقيقة فيه،
310

لأن مطلق حصول الخلاف فيه يكفي في ترجيح غيره عليه، وأما حجة صفي الدين الهندي والسبكي، على تقديم الذي دخله التخصيص فهي أن الغالب في العام التخصيص، والحمل على الغالب أولى، وأن ما دخله التخصيص يبعد تخصيصه مرة أخرى، بخلاف الباقي على عمومه. الوجه الثالث: أن عموم * (وأن تجمعوا بين الا ختين) * غير وارد في معرض مدح ولا ذم وعموم * (أو ما ملكت أيمانهم) * وارد في معرض مدح المتقين، والعام الوارد في معرض المدح أو الذم.
اختلف العلماء في اعتبار عمومه، فأكثر العلماء: على أن عمومه معتبر كقوله تعالى: * (إن الا برار لفى نعيم * وإن الفجار لفى جحيم) * فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح، وكل فاجر مع أنه للذم قال في مراقي السعود: إن الا برار لفى نعيم * وإن الفجار لفى جحيم) * فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح، وكل فاجر مع أنه للذم قال في مراقي السعود:
* وما أتى للمدح أو للذم
* يعم عند جل أهل العلم
*
وخالف في ذلك بعض العلماء منهم: الإمام الشافعي رحمه الله، قائلا: إن العام الوارد في معرض المدح، أو الذم لا عموم له، لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم، ولذا لم يأخذ الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى: * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) * في الحلي المباح، لأن الآية سيقت الذم، فلا تعم عنده الحلي المباح.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه، عند بعض العلماء.
الوجه الرابع: أنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين، فالأصل في الفروج التحريم، حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة.
الوجه الخامس: أن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة، لأن ترك مباح أهو من ارتكاب حرام.
فهذه الأوجه الخمسة يرد بها استدلال داود الظاهري، ومن تبعه على إباحته جمع الأختين بملك اليمين، محتجا بقوله: * (أو ما ملكت أيمانهم) * ولكن داود يحتج بآية أخرى يعسر التخلص من الاحتجاج بها، بحسب المقرر في أصول الفقه المالكي والشافعي والحنبلي، وإيضاح ذلك أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين أنه إن ورد استثناء
311

بعد جمل متعاطفة، أو مفردات متعاطفة، أن الاستثناء المذكور يرجع لجميعها خلافا لأبي حنيفة القائل يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، قال في مراقي السعود: أو ما ملكت أيمانهم) * ولكن داود يحتج بآية أخرى يعسر التخلص من الاحتجاج بها، بحسب المقرر في أصول الفقه المالكي والشافعي والحنبلي، وإيضاح ذلك أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين أنه إن ورد استثناء بعد جمل متعاطفة، أو مفردات متعاطفة، أن الاستثناء المذكور يرجع لجميعها خلافا لأبي حنيفة القائل يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، قال في مراقي السعود:
* وكل ما يكون فيه العطف
* من قبل الاستثنا فكلا يقفو
*
* دون دليل العقل أو ذي السمع.
* الخ
*
وإذا علمت أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين رجوع الاستثناء لكل المتعاطفات، وأنه لو قال الواقف في صيغة وقفه: هو وقف على بني تميم وبني زهرة والفقراء إلا الفاسق منهم، أنه يخرج من الوقف فاسق الجميع لرجوع الاستثناء إلى الجميع، وأن أبا حنيفة وحده هو القائل برجوعه إلى الجملة الأخيرة فقط. ولذلك لم يقبل شهادة القاذف، ولو تاب وأصلح، وصار أعدل أهل زمانه لأن قوله تعالى * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولائك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) * يرجع عنده الاستثناء فيه للأخيرة فقط وهي * (وأولائك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) * أي فقد زال عنهم اسم الفسق، ولا يقبل رجوعه لقوله تعالى * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) * إلا الذين تابوا، فاقبلوا شهادتهم بل يقول: لا تقبلوا لهم شهادة أبدا مطلقا بلا استثناء لاختصاص الاستثناء عنده بالجملة الأخيرة، ولم يخالف أبو حنيفة أصوله في قوله * (والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) * لي قوله * (إلا من تاب وءامن وعمل عملا صالحا) *. فإن هذا الاستثناء راجع لجميع الجمل المتعاطفة قبله عند أبي حنيفة، وغيره.
ولكن أبا حنيفة لم يخالف فيه أصله لأن الجمل الثلاث المذكورة جمعت في الجملة الأخيرة، التي هي * (ومن يفعل ذالك يلق أثاما) * لأن الإشارة في قوله: ذلك راجعة إلى الشرك، والقتل والزنى في الجمل المتعاطفة قبله فشملت الجملة الأخيرة معاني الجمل قبلها، فصار رجوع الاستثناء لها وحدها، عند أبي حنيفة، على أصله المقرر: مستلزما لرجوعه للجميع.
وإذا حققت ذلك فاعلم أن داود يحتج لجواز جمع الأختين بملك اليمين أيضا،
312

برجوع الاستثناء في قوله * (أو ما ملكت أيمانهم) * لقوله * (وأن تجمعوا بين الا ختين) * فيقول: قوله تعالى: * (وأن تجمعوا بين الا ختين) * وقوله: * (والمحصنات من النسآء) * يرجع لكل منهما استثناء في قوله: * (أو ما ملكت أيمانهم) * فيكون المعنى: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين، إلا ما ملكت أيمانكم فلا يحرم عليكم فيه الجمع بينهما، وحرمت عليكم المحصنات من النساء، إلا ما ملكت أيمانكم، فلا يحرم عليكم.
وقد أوضحنا معنى الاستثناء من المحصنات في محله من هذا الكتاب المبارك، وبهذا تعلم أن احتجاج داود برجوع الاستثناء في قوله * (أو ما ملكت أيمانهم) * إلى قوله: * (وأن تجمعوا بين الا ختين) * جار على أصول المالكية والشافعية والحنابلة، فيصعب عليهم التخلص من احتجاج داود هذا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن الجواب عن استدلال داود المذكور من وجهين:
الأولى منهما: أن في الآية نفسها قرينة مانعة من رجوع الاستثناء، إلى قوله: * (وأن تجمعوا بين الا ختين) * لما قدمنا من أن قوله * (أو ما ملكت أيمانهم) * أي بالسبي خاصة مع الكفر، وأن المعنى والمحصنات من النساء، إلا ما ملكت أيمانكم: أي وحرمت عليكم المتزوجات من النساء، لأن المتزوجة لا تحل لغير زوجها إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي مع الكفر فإن السبي يرفع حكم الزوجية عن المسبية، وتحل لسابيها بعد الاستبراء كما قال الفرزدق: وتحل لسابيها بعد الاستبراء كما قال الفرزدق:
* وذات حليل أنكحتها رماحنا
* حلال لمن يبنى بها لم تطلق
*
وإذا كان ملك اليمين في قوله: * (أو ما ملكت أيمانهم) * في السبي خاصة كما هو مذهب الجمهور كان ذلك مانعا من رجوعه إلى قوله: * (وأن تجمعوا بين الا ختين) * لأن محل النزاع في ملك اليمين مطلقا، وقد قدمنا في سورة النساء أن قول من قال: * (أو ما ملكت أيمانهم) * مطلقا، وأن بيع الأمة طلاقها أنه خلاف التحقيق، وأوضحنا الأدلة على ذلك.
الوجه الثاني: هو أن استقراء القرآن يدل على أن الصواب في رجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة قبله أو بعضها، يحتاج إلى دليل منفصل، لأن الدليل قد يدل على
313

رجوعه للجميع أو لبعضها، دون بعض. وربما دل الدليل على عدم رجوعه للأخيرة التي تليه. وإذا كان الاستثناء ربما كان راجعا لغير الجملة الأخيرة التي تليه، تبين أنه لا ينبغي الحكم برجوعه إلى الجميع إلا بعد النظر في الأدلة. ومعرفة ذلك منها، وهذا القول الذي هو الوقف عن رجوع الاستثناء إلى الجميع أو بعضها المعين، دون بعض، إلا بدليل مروي عن ابن الحاجب من المالكية، والغزالي من الشافعية، والآمدي من الحنابلة، واستقراء القرآن يدل على أن هذا القول هو الأصح، لأن الله يقول * (فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول) * وإذا رددنا هذه المسألة إلى الله، وجدنا القرآن دالا على صحة هذا القول، وبه يندفع أيضا استدلال داود.
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) * فالاستثناء راجع للدية، فهي تسقط بتصدق مستحقها بها، ولا يرجع لتحرير الرقبة قولا واحدا، لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ، ومنها قوله تعالى: * (فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولائك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) * فالاستثناء لا يرجع لقوله * (فاجلدوهم ثمانين جلدة) * لأن القاذف إذا تاب لا تسقط توبته حد القذف.
وما يروى عن الشعبي من أنها تسقطه، خلاف التحقيق الذي هو مذهب جماهير العلماء ومنها قوله تعالى: * (فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) *.
فالاستثناء في قوله: * (إلا الذين يصلون إلى قوم) * لا يرجع قولا واحدا، إلى الجملة الأخيرة، التي تليه أعني قوله تعالى: * (ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) * لأنه لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار أبدا، ولو وصلوا إلى قوم بينكم، وبينهم ميثاق، بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله: * (فخذوهم واقتلوهم) * والمعنى: فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم، وبينهم ميثاق، فليس لكم أخذهم بأسر، ولا قتلهم، لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم، وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكروا أن هذه الآية: نزلت فيه وفي سراقة بن مالك المدلجي، وفي بني جذيمة بن عامر وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الحمل إليه في القرآن العظيم: الذي هو في الطرف الأعلى
314

من الإعجاز تبين أنه ليس نصا في الرجوع إلى غيرها.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * على ما قاله: جماعات من المفسرين، لأنه لولا فضل الله ورحمته لاتبعوا الشيطان، كلا بدون استثناء، قليل أو كثير كما ترى.
واختلفوا في مرجع هذا الاستثناء، فقيل: راجع لقوله: * (أذاعوا به) * وقيل: راجع لقوله * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * وإذا لم يرجع للجملة التي تليه، لم يكن نصا في رجوعه لغيرها.
وقيل: إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليه. وأن المعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم لاتبعتم الشيطان في الاستمرار، على ملة آبائكم من الكفر، وعبادة الأوثان إلا قليلا كمن كان على ملة إبراهيم في الجاهلية، كزيد بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل، وأمثالهم.
وذكر ابن كثير أن عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في قوله: * (لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * معناه: لاتبعتم الشيطان كلا، قال: والعرب تطلق العلة، وتريد بها
العدم. واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب: لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * معناه: لاتبعتم الشيطان كلا، قال: والعرب تطلق العلة، وتريد بها العدم. واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب:
* أشم ندى كثير النوادي
* قليل المثالب والقادحه
*
يعني: لا مثلبة فيه، ولا قادحة. وهذا القول ليس بظاهر كل الظهور، وإن كانت العرب تطلق القلة في لغتها، وتريد بها العدم كقولهم: مررت بأرض قليل بها الكراث والبصل، يعنون لا كراث فيها ولا بصل. ومنه قول ذي الرمة: يعني: لا مثلبة فيه، ولا قادحة. وهذا القول ليس بظاهر كل الظهور، وإن كانت العرب تطلق القلة في لغتها، وتريد بها العدم كقولهم: مررت بأرض قليل بها الكراث والبصل، يعنون لا كراث فيها ولا بصل. ومنه قول ذي الرمة:
* أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة
* قليل بها الأصوات إلا بغامها
*
يريد: أن تلك الفلاة لا صوت فيها غير بغام ناقته. وقول الآخر: يريد: أن تلك الفلاة لا صوت فيها غير بغام ناقته. وقول الآخر:
* فما بأس لو ردت علينا تحية
* قليلا لدى من يعرف الحق عابها
*
يعني لا عاب فيها: أي لا عيب فيها عند من يعرف الحق، وأمثال هذا كثير في كلام العرب، وبالآيات التي ذكرنا تعلم: أن الوقف عن القطع برجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة قبله إلا لدليل، هو الذي دل عليه القرآن في آيات متعددة، وبدلالتها يرد استدلال داود المذكور أيضا والعلم عند الله تعالى.
315

المسألة الثانية: اعلم أن أهل العلم أجمعوا على أن حكم هذه الآية الكريمة في التمتع بملك اليمين في قوله: * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * خاص بالرجال دون النساء، فلا يحل للمرأة أن تتسرى عبدها، وتتمتع به بملك اليمين، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وهو يؤيد قول الأكثرين: أن النساء لا يدخلن في الجموع المذكرة، الصحيحة إلا بدليل منفصل، كما أوضحنا أدلته في سورة الفاتحة، وذكر ابن جرير أن امرأة اتخذت مملوكها، وقالت: تأولت آية من كتاب الله * (أو ما ملكت أيمانهم) * فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال له ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: تأولت آية من كتاب الله عز وجل على غير وجهها، قال: فضرب العبد، وجز رأسه وقال: أنت بعده حرام على كل مسلم. ثم قال ابن كثير: هذا أثر غريب منقطع، ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة المائدة، وهو هو هنا أليق وإنما حرمها على الرجال، معاملة لها بنقيض قصدها، والله أعلم ا ه.
وقال أبو عبد الله القرطبي: قد روى معمر عن قتادة قال: تسررت امرأة غلامها، فذكر ذلك لعمر فسألها ما حملك على ذلك؟ قالت: كنت أراه يحل لي بملك يميني، كما تحل للرجل المرأة بملك اليمين، فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تأولت كتاب الله عز وجل على غير تأويله لا رجم عليها، فقال عمر: لا جرم، والله لا أحلك لحر بعده عاقبها بذلك، ودرأ الحد عنها، وأمر العبد ألا يقربها.
وعن أبي بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول: أنا حضرت عمر بن عبد العزيز جاءته امرأة بغلام لها وضيء، فقالت: إني استسررته، فمعنى بنو عمي عن ذلك، وإنما أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها، فإنه عنى بني عمي فقال عمر: أتزوجت قبله؟ قالت: نعم. قال: أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة، ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها ا ه. من القرطبي.
المسألة الثالثة: اعلم أنه لا شك في أن آية * (قد أفلح المؤمنون) * هذه التي هي * (فمن ابتغى ورآء ذالك فأولائك هم العادون) * تدل بعمومها على منع الاستمناء باليد المعروف، بجلد عميرة، ويقال له الخضخضة، لأن من تلذذ بيده حتى أنزل منيه بذلك، قد ابتغى وراء ما أحله الله، فهو من العادين بنص هذه الآية الكريمة المذكورة هنا، وفي سورة سأل سائل وقد ذكر ابن كثير: أن الشافعي ومن تبعه استدلوا بهذه
316

الآية، على منع الاستمناء باليد. وقال القرطبي: قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز، قال: سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة فتلا هذه الآية * (والذين هم لفروجهم حافظون) * إلى قوله * (العادون) *.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن استدلال مالك، والشافعي وغيرهما من أهل العلم بهذه الآية الكريمة، على منع جلد عميرة الذي هو الاستمناء باليد استدلال صحيح بكتاب الله، يدل عليه ظاهر القرآن، ولم يرد شيء يعارضه من كتاب ولا سنة، وما روي عن الإمام أحمد مع علمه، وجلالته وورعه من إباحة جلد عميرة مستدلا على ذلك بالقياس قائلا: هو إخراج فضلة من البدن تدعو الضرورة إلى إخراجها فجاز، قياسا على الفصد والحجامة، كما قال في ذلك بعض الشعراء: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن استدلال مالك، والشافعي وغيرهما من أهل العلم بهذه الآية الكريمة، على منع جلد عميرة الذي هو الاستمناء باليد استدلال صحيح بكتاب الله، يدل عليه ظاهر القرآن، ولم يرد شيء يعارضه من كتاب ولا سنة، وما روي عن الإمام أحمد مع علمه، وجلالته وورعه من إباحة جلد
عميرة مستدلا على ذلك بالقياس قائلا: هو إخراج فضلة من البدن تدعو الضرورة إلى إخراجها فجاز، قياسا على الفصد والحجامة، كما قال في ذلك بعض الشعراء:
* إذا حللت بواد لا أنيس به
* فاجلد عميرة لا عار ولا حرج
*
فهو خلاف الصواب، وإن كان قائله في المنزلة المعروفة التي هو بها، لأنه قياس يخالف ظاهر عموم القرآن، والقياس إن كان كذلك رد بالقادح المسمى فساد الاعتبار، كما أوضحناه في هذا الكتاب المبارك مرارا وذكرنا فيه قول صاحب مراقي السعود: فهو خلاف الصواب، وإن كان قائله في المنزلة المعروفة التي هو بها، لأنه قياس يخالف ظاهر عموم القرآن، والقياس إن كان كذلك رد بالقادح المسمى فساد الاعتبار، كما أوضحناه في هذا الكتاب المبارك مرارا وذكرنا فيه قول صاحب مراقي السعود:
* والخلف للنص أو إجماع دعا
* فساد الاعتبار كل من وعى
*
فالله جل وعلا قال: * (والذين هم لفروجهم حافظون) * ولم يستثن من ذلك البتة إلا النوعين المذكورين، في قوله تعالى: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * وصرح برفع الملامة في عدم حفظ الفرج، عن الزوجة، والمملوكة فقط ثم جاء بصيغة عامة شاملة لغير النوعين المذكورين، دالة على المنع هي قوله * (فمن ابتغى ورآء ذالك فأولائك هم العادون) * وهذا العموم لا شك أنه يتناول بظاهره، ناكح يده، وظاهر عموم القرآن، لا يجوز العدول عنه، إلا لدليل من كتاب أو سنة، يجب الرجوع إليه. أما القياس المخالف له فهو فاسد الاعتبار، كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية، بعد أن ذكر بعض من حرم جلد عميرة، واستدلالهم بالآية ما نصه: وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئة المشهور، حيث قال: حدثني علي بن ثابت الجزري، عن مسلمة بن جعفر، عن حسان بن حميد، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العاملين ويدخلهم النار أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله
317

عليه: الناكح يده، والفاعل والمفعول، ومدمن الخمر، والضارب والديه، حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره) ا ه.
ثم قال ابن كثير: هذا حديث غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته والله أعلم. انتهى منه ولكنه على ضعفه يشهد له في نكاح اليد ظاهر القرآن في الجملة، لدلالته على منع ذلك، وإنما قيل للاستمناء باليد: جلد عميرة، لأنهم يكنون بعميرة عن الذكر.
لطيفة: قد ذكر في نوادر المغفلين، أن مغفلا كانت أمه تملك جارية تسمى عميرة فضربتها مرة، فصاحب الجارية، فسمع قوم صياحها، فجاؤوا وقالوا ما هذا الصياح؟ فقال لهم ذلك المغفل: لا بأس تلك أمي كانت تجلد عميرة.
المسألة الثالثة: اعلم أنا قدمنا في سورة النساء، أن هذه الآية التي هي قوله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * تدل بظاهرها على منع نكاح المتعة، لأنه جل وعلا صرح فيها بما يعلم منه، وجوب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية، ثم صرح بأن المبتغي وراء ذلك من العادين بقوله * (فمن ابتغى ورآء ذالك فأولائك هم العادون) * وأن المرأة المستمتع بها في نكاح المتعة، ليست زوجة، ولا مملوكة. أما كونها غير مملوكة فواضح. وأما الدليل على كونها غير زوجة، فهو انتفاء لوازم الزوجية عنها كالميرث والعدة والطلاق والنفقة، ونحو ذلك، فلو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق، ووجبت لها النفقة، فلما انتفت عنها لوازم الزوجية علمنا أنها ليست بزوجة، لأن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم بإجماع العقلاء.
فتبين بذلك أن معنى نكاح المتعة من العادين المجاوزين ما أحل الله إلى ما حرم، وقد أوضحنا ذلك في سورة النساء بأدلة الكتاب والسنة، وأن نكاح المتعة ممنوع إلى يوم القيامة، وقد يخفى على طالب العلم معنى لفظة على في هذه الآية يعني قوله تعالى * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم) * لأن مادة الحفظ، لا تتعدى إلى المعمول الثاني في هذا الموضوع بعلى فقيل: إن على بمعنى: عن.
والمعنى: أنهم حافظون فروجهم عن كل شيء، إلا عن أزواجهم، وحفظ عن تتعدى بعن.
وحاول الزمخشري الجواب عن الإتيان بعلى هنا فقال ما نصه: على
318

أزواجهم في موضع الحال أي الأولين، على أزواجهم، أو قوامين عليهن من قولك: كان فلان على فلانة، فمات عنها، فخلف عليها فلان، ونظيره: كان زياد على البصرة: أي واليا عليها، ومنه قولهم: فلان تحت فلان، ومن ثمة سميت المرأة فراشا.
والمعنى: أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال، إلا في تزوجهم أو تسريهم، أو تعلق على بمحذوف يدل عليه غير ملومين، كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم، فإنهم غير ملومين عليه، أو تجعله صلة لحافظين من قولك: احفظ على عنان فرسي على تضمينه، معنى النفي كما ضمن قولهم: نشدتك الله إلا فعلت بمعنى: ما طلبت منك إلا فعلك ا ه منه ولا يخفى ما فيه من عدم الظهور.
قال أبو حيان: وهذه الوجوه التي تكلفها الزمخشري ظاهر فيها العجمة، وهي متكلفة، ثم استظهر أبو حيان أن يكون الكلام من باب التضمين، ضمن حافظون معنى:
ممسكون أو قاصرون، وكلاهما يتعدى بعلى كقوله: * (أمسك عليك زوجك) * والظاهر أن قوله هنا * (أو ما ملكت أيمانهم) * مع أن المملوكات من جملة العقلاء، والعقلاء يعبر عنهم بمن لا بما هو أن الإماء لما كن يتصفن ببعض صفات غير العقلاء كبيعهن وشرائهن، ونحو ذلك. كان ذلك مسوغا لإطلاق لفظة ما عليهن، والعلم عند الله تعالى.
وقال بعض أهل العلم: إن وراء ذلك، هو مفعول ابتغى: أي ابتغى سوى ذلك. وقال بعضهم: إن المفعول به محذوف، ووراء ظرف. أي فمن ابتغى مستمتعا لفرجه، وراء ذلك.
قوله تعالى: * (والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس: أنهم راعون لأماناتهم وعهدهم: أي محافظون على الأمانات، والعهود. والأمانة تشمل: كل ما استودعك الله، وأمرك بحفظه، فيدخل فيها حفظ جوارحك من كل ما لا يرضي الله، وحفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الناس، والعهود أيضا تشمل: كل ما أخذ عليك العهد بحفظه، من حقوق الله، وحقوق الناس. وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من حفظ الأمانات والعهود جاء مبينا في آيات كثيرة
319

كقوله تعالى * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الاحمانات إلى أهلها) * وقوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) * وقوله تعالى في سأل سائل * (والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون) * وقوله في العهد * (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) * وقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود) *. وقوله: * (ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) * وقوله تعالى: * (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) * وقد أوضحنا هذا في سورة الأنبياء في الكلام على قوله * (وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث) *. وقوله: راعون: جمع تصحيح للراعي، وهو القائم على الشيء، بحفظ أو إصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية، وفي الحديث (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) الحديث، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وحده: لأمانتهم بغير ألف بعد النون، على صيغة الإفراد والباقون بألف بعد النون، على صيغة الجمع المؤنث السالم.
قوله تعالى: * (والذين هم على صلواتهم يحافظون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس: أنهم يحافظون على صلواتهم والمحافظة عليها تشمل إتمام أركانها، وشروطها، وسننها، وفعلها في أوقاتها في الجماعات في المساجد، ولأجل أن ذلك من أسباب نيل الفردوس أمر تعالى بالمحافظة عليها في قوله تعالى: * (حافظوا على الصلوات والصلواة الوسطى) *. وقال تعالى في سورة المعارج * (والذين هم على صلاتهم يحافظون) * وقال فيها أيضا * (إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دآئمون) * وذم وتوعد من لم يحافظ عليها في قوله * (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلواة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) *.
وقد أوضحنا ذلك في سورة مريم، وقوله تعالى: * (فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون) *. وقال تعالى في ذم المنافقين * (وإذا قاموا إلى الصلواة قاموا كسالى يرآءون الناس) *. وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال (الصلاة على وقتها)
320

الحديث. وقد قدمناه والأحاديث في فضل الصلاة والمحافظة عليها كثيرة جدا، ولكن موضوع كتابنا بيان القرآن بالقرآن، ولا نذكر غالبا البيان من السنة، إلا إذا كان في القرآن بيان غير واف بالمقصود، فنتمم البيان من السنة كما قدمناه مرارا. وذكرناه في ترجمة هذا الكتاب المبارك. * (أولائك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون * ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين * ثم إنكم بعد ذالك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون * ولقد خلقنا فوقكم سبع طرآئق وما كنا عن الخلق غافلين) *
قوله تعالى: * (أولائك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المؤمنين المتصفين بالصفات، التي قدمناهم الوارثون، وحذف مفعول اسم الفاعل الذي هو الوارثون، لدلالة قوله: * (الذين يرثون الفردوس) * عليه. والفردوس: أعلا الجنة، وأوسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمان جل وعلا، وعبر تعالى عن نيل الفردوس هنا باسم الوارثة.
وقد أوضحنا معنى الوارثة والآيات الدالة على ذلك المعنى، كقوله تعالى: * (تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا) * وقوله: * (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) * وقوله تعالى: * (وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده وأورثنا الا رض نتبوأ من الجنة حيث نشآء) * في سورة مريم في الكلام على قوله: * (تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وقرأ هذا الحرف: حمزة والكسائي: على صلاتهم بغير واو، بصيغة الإفراد وقرأ الباقون: على صلواتهم بالواو المفتوحة بصيغة الجمع المؤنث السالم والمعنى واحد، لأن المفرد الذي هو اسم جنس، إذا أضيف إلى معرفة، كان صيغة عموم كما هو معروف في الأصول. وقوله هنا: * (هم فيها خالدون) * أي بلا انقطاع أبدا، كما قال تعالى * (عطآء غير مجذوذ) * أي غير مقطوع. وقال تعالى: * (إن هاذا لرزقنا ما له من نفاد) * وقال تعالى: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) * كما قدمناه مستوفى.
قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أطوار خلقه الإنسان ونقله له، من حال إلى حال، ليدل خلقه بذلك على
كمال قدرته واستحقاقه للعبادة وحده جل وعلا. وقد أوضحنا في
321

أول سورة الحج معنى النطفة، والعلقة، والمضغة، وبينا أقوال أهل العلم في المخلقة، وغير المخلقة. والصحيح من ذلك وأوضحنا أحكام الحمل إذا سقط علقة أو مضغة هل تنقضي به عدة الحامل أو لا؟ وهل تكون الأمة به أم ولد إن كان من سيدها أو لا؟ إلى غير ذلك من أحكام الحمل الساقط، ومتى يرث، ويورث، ومتى يصل عليه، وأقوال أهل العلم في ذلك في الكلام على قوله تعالى: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) *. وسنذكر هنا ما لم نبينه هنالك مع ذكر الآيات التي لها تعلق بهذا المعنى. أما معنى السلالة: فهي فعالة من سللت الشيء من الشيء، إذا استخرجته منه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) *. وسنذكر هنا ما لم نبينه هنالك مع ذكر الآيات التي لها تعلق بهذا المعنى. أما معنى السلالة: فهي فعالة من سللت الشيء من الشيء، إذا استخرجته منه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
* خلق البرية من سلالة منتن
* وإلى السلالة كلها ستعود
*
والولد سلالة أبيه كأنه انسل من ظهر أبيه.
ومنه قول حسان رضي الله عنه: ومنه قول حسان رضي الله عنه:
* فجاءت به عضب الأديم غضنفرا
* سلالة فرج كان غير حصين
*
وبناء الاسم على الفعالة، يدل على القلة كقلامة الظفر، ونحاتة الشيء المنحوت، وهي ما يتساقط منه عند النحت، والمراد بخلق الإنسان من سلالة الطين: خلق أبيهم آدم منه، كما قال تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب) *.
وقد أوضحنا فيما مضى أطوار ذلك التراب، وأنه لما بل بالماء صار طيبا ولما خمر صار طينا لازبا يلصق باليد، وصار حمأ مسنونا. قال بعضهم: طينا أسود منتنا، وقال بعضهم: المسنون: المصور، كما تقدم إيضاحه في سورة الحجر، ثم لما خلقه من طين خلق منه زوجه حواء، كما قال في أول النساء * (ياأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) * وقال في الأعراف * (وجعل منها زوجها) * وقال في الزمر: * (ثم جعل منها زوجها) * كما تقدم إيضاح ذلك كله، ثم لما خلق الرجل والمرأة، كان وجود جنس الإنسان منهما عن طريق التناسل، فأول أطواره: النطفة، ثم العلقة. الخ.
وقد بينا أغلب ذلك في أول سورة الحج، وقوله هنا: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * يعني: بدأه خلق نوع الإنسان بخلق آدم، وقوله * (ثم جعلناه نطفة) * أي بعد خلق آدم وحواء، فالضمير في قوله: ثم جعلناه
322

لنوع الإنسان، الذي هو النسل لدلالة المقام عليه، كقولهم: عندي درهم ونصفه: أي ونصف درهم آخر. كما أوضح تعالى هذا المعنى في سورة السجدة في قوله تعالى * (ذالك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من مآء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والا بصار والا فئدة قليلا ما تشكرون ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والا بصار والا فئدة قليلا ما تشكرون) * وأشار إلى ذلك بقوله تعالى: * (ومن ءاياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) * وما ذكره هنا من أطوار خلقه الإنسان، أمر كل مكلف أن ينظر فيه. والأمر المطلق، يقتضي الوجوب إلا لدليل صارف عنه، كما أوضحناه مرارا. وذلك في قوله: * (فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من مآء دافق) *. وقد أشار في آيات كثيرة، إلى كمال قدرته بنقله الإنسان في خلقه من طور إلى طور، كما أوضحه هنا وكما في قوله تعالى: * (ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا) * وبين أن انصراف خلقه عن التفكر في هذا والاعتبار به مما يستوجب التساؤل والعجب، وأن من غرائب صنعه وعجائب قدرته نقله الإنسان من النطفة، إلى العلقة، ومن العلقة إلى المضغة الخ. مع أنه لم يشق بطن أمه بل هو مستتر بثلاث ظلمات: وهي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة المنطوية على الجنين، وذلك في قوله جل وعلا: * (يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق فى ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إلاه إلا هو فأنى تصرفون) * فتأمل معنى قوله * (فأنى تصرفون) * أي عن هذه العجائب والغرائب، التي فعلها فيكم ربكم ومعبودكم. وقال تعالى: * (هو الذي يصوركم في الا رحام كيف يشآء) * وقال: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة) * ثم ذكر الحكمة فقال * (لنبين لكم) * أي لنظهر لكم بذلك عظمتنا، وكمال قدرتنا، وانفرادنا بالإلهية واستحقاق العبادة، وقال في سورة المؤمن * (هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا) * وقال تعالى: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من منى يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والا نثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) * والآيات بمثل هذا كثيرة، وقد أبهم هذه الأطوار المذكورة في قوله
323

* (كلا إنا خلقناهم مما يعلمون) * وذلك الإبهام يدل على ضعفهم وعظمة خالقهم جل وعلا، فسبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه وما أكمل قدرته، وما أظهر براهين توحيده، وقد بين في آية المؤمنون هذه: أنه يخلق المضغة عظاما، وبين في موضع آخر: أنه يركب بعض تلك العظام مع بعض، تركيبا قويا، ويشد بعضها مع بعض
، على أكمل الوجوه وأبدعها، وذلك في قوله * (نحن خلقناهم وشددنآ أسرهم) *، والأسر: شد العظام بعضها مع بعض، وتآسير السرج ومركب المرأة السيور التي يشد بها، ومنه قول حميد بن ثور: نحن خلقناهم وشددنآ أسرهم) *، والأسر: شد العظام بعضها مع بعض، وتآسير السرج ومركب المرأة السيور التي يشد بها، ومنه قول حميد بن ثور:
* وما دخلت في الخدب حتى تنقضت
* تآسير أعلى قده وتحطما
*
وفي صحاح الجوهري: أسر قتبه يأسره أسرا شدة بالأسار وهو القد، ومنه سمي الأسير، وكانوا يشدونه بالقد، فقول بعض المفسرين واللغويين: أسرهم: أي خلقهم فيه قصور في التفسير، لأن الأسر هو الشد القوي بالأسار الذي هو القد، وهو السير المقطوع من جلد البعير ونحوه، الذي لم يدبغ والله جل وعلا يشد بعض العظام ببعض، شدا محكما متماسكا كما يشد الشيء بالقد، والشد به قوي جدا. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (فى قرار مكين) * القرار هنا: مكان الاستقرار، والمكين: المتمكن. وصف القرار به لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال، أو لتمكن من يحل فيه. قاله أبو حيان في البحر. وقال الزمخشري: القرار: المستقر، والمراد به: الرحم وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها، أو بمكانتها في نفسها، لأنها مكنت بحيث هي وأحرزت. وقوله تعالى في هذه الآية * (ثم أنشأناه خلقا ءاخر) * قال الزمخشري: أي خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانا، وكان جمادا وناطقا، وكان أبكم وسميعا، وكان أصم وبصيرا، وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره، بل كل عضو من أعضائه وجزء من أجزائه عجائب فطرة، وغرائب حكمة، لا تدرك بوصف الواصف، ولا بشرح الشارح. انتهى منه.
وقال القرطبي: اختلف في الخلق الآخر المذكور، فقال ابن عباس، والشعبي وأبو العالية، والضحاك وابن زيد: (هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا) وعن ابن عباس: (خروجه إلى الدنيا)، وقال قتادة: عن فرقة نبات شعره. وقال الضحاك: خروج الأسنان، ونبات الشعر، وقال مجاهد: كمال شبابه. وروي عن ابن عمر والصحيح، أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك، وتحصيل المعقولات إلى أن يموت. ا ه منه.
324

والظاهر أن جميع أقوال أهل العلم في قوله * (خلقا ءاخر) * أنه صار بشرا سويا بعد أن كان نطفة، ومضغة، وعلقة، وعظاما كما هو واضح.
مسألة
وقد استدل بهذه الآية الإمام أبو حنيفة رحمه الله، على أن من غصب بيضة، فأفرخت عنه أنه يضمن البيضة، ولا يرد الفرخ، لأن الفرخ خلق آخر سوى البيضة، فهو غير ما غصب، وإنما يرد الغاصب ما غصب. وهذا الاستدلال له وجه من النظر، والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * وقوله * (فتبارك الله) * قال أبو حيان في البحر المحيط: تبارك: فعل ماض لا ينصرف، ومعناه: تعالى وتقدس. ا ه منه.
وقوله في هذه الآية * (أحسن الخالقين) * أي المقدرين والعرب تطلق الخلق وتريد التقدير. ومنه قول زهير: أحسن الخالقين) * أي المقدرين والعرب تطلق الخلق وتريد التقدير. ومنه قول زهير:
* ولأنت تفري ما خلقت وبعض
* القوم يخلق ثم لا يفري
*
فقوله: يخلق ثم لا يفري: أي يقدر الأمر، ثم لا ينفذه لعجزه عنه كما هو معلوم. ومعلوم أن النحويين مختلفون في صيغة التفضيل إذا أضيفت إلى معرفة، هل إضافتها إضافة محضة، أو لفظية غير محضة، كما هو معروف في محله؟ فمن قال: هي محضة أعرب قوله * (أحسن الخالقين) * نعتا للفظ الجلالة، ومن قال: هي غير محضة أعربه بدلا، وقيل: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو أحسن الخالقين. وقرأ هذين الحرفين * (فخلقنا المضغة عظاما) * وقوله * (فكسونا العظام لحما) * ابن عامر وشعبة عن عاصم عظما: بفتح العين، وإسكان الضاء من غير ألف بصيغة المفرد فيهما، وقرأه الباقون: عظاما بكسر العين وفتح الظاء، وألف بعدها بصيغة الجمع، وعلى قراءة ابن عامر وشعبة. فالمراد بالعظم: العظام.
وقد قدمنا بإيضاح في أول سورة الحج وغيرها أن المفرد إن كان اسم جنس، قد تطلقه العرب، وتريد به معنى الجمع. وأكثرنا من أمثلته في القرآن، وكلام العرب مع تعريفه وتنكيره وإضافته، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
325

قوله تعالى: * (ثم إنكم بعد ذالك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنهم بعد أن أنشأهم خلقا آخر، فأخرج الواحد منهم من بطن أمه صغيرا، ثم يكون محتلما، ثم يكون شابا، ثم يكون كهلا، ثم يكون شيخا، ثم هرما أنهم كلهم صائرون إلى الموت من عمر منهم ومن لم يعمر، ثم هم بعد الموت يبعثون أحياء، يوم القيامة للحساب والجزاء، وهذا الموت والحياة المذكوران هنا كل واحد منهما له نظير آخر، لأنهما إماتتان وإحياتان ذكر من كل منهما واحدة هنا، وذكر الجميع في قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) * وقوله: * (قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) * كما قدمنا
إيضاحه في سورة الحج والبقرة، وكل ذلك دليل على كمال قدرته، ولزوم الإيمان به، واستحقاقه للعبادة وحده سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
قوله تعالى: * (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرآئق وما كنا عن الخلق غافلين) *. في قوله تعالى طرائق، وجهان من التفسير:
أحدهما: أنها قيل لها طرائق، لأن بعضها فوق بعض من قولهم: طارق النعل إذا صيرها طاقا فوق طاق، وركب بعضها على بعض، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (كأن وجوههم المجان المطرقة) أي التراس التي جعلت لها طبقات بعضها فوق بعض، ومنه قول الشاعر يصف نعلا له مطارقة: (كأن وجوههم المجان المطرقة) أي التراس التي جعلت لها طبقات بعضها فوق بعض، ومنه قول الشاعر يصف نعلا له مطارقة:
* وطراق من خلفهن طراق
* ساقطات تلوي بها الصحراء
*
يعني: نعال الإبل، ومنه قولهم: طائر طراق الريش، ومطرقة إذا ركب بعض ريشه بعضا، ومنه قول زهير يصف بازيا: يعني: نعال الإبل، ومنه قولهم: طائر طراق الريش، ومطرقة إذا ركب بعض ريشه بعضا، ومنه قول زهير يصف بازيا:
* أهوى لها أسفع الخدين مطرق
* ريش القوادم لم تنصب له الشبك
*
وقول ذي الرمة يصف بازيا أيضا: وقول ذي الرمة يصف بازيا أيضا:
* طراق الخوافي واقع فوق ريعه
* ندى ليله في ريشه يترقرق
*
وقول الآخر يصف قطاة: وقول الآخر يصف قطاة:
* سكاء مخطومة في ريشها طرق
* سود قوادمها كدر خوافيها
*
فعلى هذا القول فقوله * (سبع طرآئق) * يوضح معناه قوله تعالى: * (ألم تروا كيف
326

خلق الله سبع سماوات طباقا) *.
الوجه الثاني: أنها قيل لها طرائق، لأنها طرق الملائكة في النزول والعروج، وقيل: لأنها طرائق الكواكب في مسيرها، وأما قول من قال قيل لها طرائق لأن الكل سماء طريقة، وهيأة غير هيأة الأخرى وقول من قال: طرائق؟ أي مبسوطات فكلاهما ظاهر البعد، وقوله تعالى: * (وما كنا عن الخلق غافلين) * قد قدمنا أن معناه كقوله * (ويمسك السمآء أن تقع على الا رض) * لأن من يمسك السماء لو كان يغفل لسقطت فأهلكت الخلق كما تقدم إيضاحه وقال بعضهم * (وما كنا عن الخلق غافلين) * بل نحن القائمون بإصلاح جميع شؤونهم، وتيسير كل ما يحتاجون إليه وقوله * (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرآئق) * يعني السماوات برهان على قوله قبله * (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) * لأن من قدر على خلق السماوات، مع عظمها فلا شك أنه قادر على خلق الإنسان كقوله تعالى * (لخلق السماوات والا رض أكبر من خلق الناس) * وقوله تعالى: * (أءنتم أشد خلقا أم السمآء بناها) *. وقوله: * (أوليس الذى خلق السماوات والا رض بقادر على أن يخلق مثلهم) * والآيات بمثل هذا متعددة.
وقد قدمنا براهين البعث التي هذا البرهان من جملتها، وأكثرنا من أمثلتها وهي مذكورة هنا، ولم نوضحها هنا لأنا أوضحناها فيما سبق في النحل والبقرة. والعلم عند الله تعالى. * (وأنزلنا من السمآء مآء بقدر فأسكناه فى الا رض وإنا على ذهاب به لقادرون * فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون * وشجرة تخرج من طور سينآء تنبت بالدهن وصبغ للأكلين * وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون * وعليها وعلى الفلك تحملون * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره أفلا تتقون * فقال الملؤا الذين كفروا من قومه ما هاذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شآء الله لانزل ملائكة ما سمعنا بهاذا فىءابآئنا الا ولين * إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين * قال رب انصرنى بما كذبون * فأوحينآ إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جآء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون * فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذى نجانا من القوم الظالمين * وقل رب أنزلنى منزلا مباركا وأنت خير المنزلين * إن فى ذالك لأيات وإن كنا لمبتلين * ثم أنشأنا من بعدهم قرنا ءاخرين * فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره أفلا تتقون * وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقآء الا خرة وأترفناهم فى الحيواة الدنيا ما هاذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون * أيعدكم أنكم إذا مت م وكنتم
ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين * قال رب انصرنى بما كذبون * قال عما قليل ليصبحن نادمين * فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثآء فبعدا للقوم الظالمين * ثم أنشأنا من بعدهم قرونا ءاخرين * ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون * ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جآء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون * ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بأاياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين * فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون * فكذبوهما فكانوا من المهلكين * ولقد ءاتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون * وجعلنا ابن مريم وأمه ءاية وءاويناهمآ إلى ربوة ذات قرار ومعين) *
قوله تعالى: * (وأنزلنا من السمآء مآء بقدر فأسكناه فى الا رض وإنا على ذهاب به لقادرون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أنزل من السماء ماء معظما نفسه جل وعلا بصيغة الجمع المراد بها التعظيم وأن ذلك الماء الذي أنزله من السماء أسكنه في الأرض لينتفع به الناس في الآبار، والعيون، ونحو ذلك. وأنه جل وعلا قادر على إذهابه لو شاء أن يذهبه فيهلك جميع الخلق بسبب ذهاب الماء من أصله جوعا وعطشا وبين أنه أنزله بقدر أي بمقدار معين عنده يحصل به نفع الخلق ولا يكثره عليهم، حتى يكون كطوفان نوح لئلا يهلكهم، فهو ينزله بالقدر الذي فيه المصلحة، دون المفسدة سبحانه جل وعلا ما أعظمه وما أعظم لطفه بخلقه. وهذه المسائل الثلاث التي ذكرها في هذه الآية الكريمة، جاءت مبينة في غير هذا الموضع.
327

الأولى: التي هي كونه: أنزله بقدر أشار إليها في قوله: * (وإن من شىء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) *.
والثانية: التي هي إسكانه الماء المنزل من السماء في الأرض بينها في قوله جل وعلا * (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فسلكه ينابيع فى الا رض) * والينبوع: الماء الكثير وقوله: * (فأنزلنا من السمآء ماء فأسقيناكموه ومآ أنتم له بخازنين) * على ما قدمنا في الحجر.
والثالثة: التي هي قدرته على إذهابه أشار لها في قوله تعالى: * (قل أرءيتم إن أصبح مآؤكم غورا فمن يأتيكم بمآء معين) * ويشبه معناها قوله تعالى: * (لو نشآء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون) * لأنه إذا صار ملحا أجاجا لا يمكن الشرب منه، ولا الانتفاع به صار في حكم المعدوم، وقد بين كيفية إنزاله الماء من السماء في قوله تعالى * (ألم تر أن الله يزجى سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله) * فصرح بأن الودق الذي هو المطر يخرج من خلال السحاب الذي هو المزن، وهو الوعاء الذي فيه الماء وبين أن السحابة تمتلئ من الماء حتى تكون ثقيلة لكثرة ما فيها من الماء في قوله تعالى: * (حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت) * فقوله: ثقالا جمع تقيلة، وثقلها إنما هو بالماء الذي فيها وقوله تعالى: * (وينشىء السحاب الثقال) * جمع سحابة ثقيلة.
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله يجمع الماء في المزن، ثم يخرجه من خلال السحاب، وخلال الشيء ثقوبه وفروجه التي هي غير مسدودة، وبين جل وعلا أنه هو الذي ينزله ويصرفه بين خلقه كيف يشاء، فيكثر المطر في بلاد قوم سنة، حتى يكثر فيها الخصب وتتزايد فيها النعم، ليبتلي أهلها في شكر النعمة، وهل يعتبرون بعظم الآية في إنزال الماء، ويقل المطر عليهم في بعض السنين، فتهلك مواشيهم من الجدب ولا تنبت زروعهم، ولا تثمر أشجارهم، ليبتليهم بذلك، هل يتوبون إليه، ويرجعون إلى ما يرضيه.
وبين أنه مع الإنعام العام على الخلق بإنزال المطر بالقدر المصلح وإسكان مائة في الأرض ليشربوا منه هم، وأنعامهم، وينتفعوا به أبى أكثرهم إلا الكفر به، وذلك في قوله تعالى: * (وأنزلنا من السمآء مآء طهورا لنحيى به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنآ أنعاما وأناسى كثيرا ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا) *.
328

ولا شك أن من جملة من أبى منهم إلا كفورا الذين يزعمون أن المطر لم ينزله منزل هو فاعل مختار، وإنما نزل بطبيعته، فالمنزل له عندهم: هو الطبيعة، وأن طبيعة الماء التبخر، إذا تكاثرت عليه درجات الحرارة من الشمس أو الاحتكاك بالريح، وأن ذلك البخار يرتفع بطبيعته. ثم يجتمع، ثم يتقاطر. وأن تقاطره ذلك أمر طبيعي لا فاعل له، وأنه هو المطر. فينكرون نعمة الله في إنزاله المطر وينكرون دلالة إنزاله على قدرة منزله، ووجوب الإيمان به واستحقاقه للعبادة وحده، فمثل هؤلاء داخلون في قوله * (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) * بعد قوله: * (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا) *. وقد صرح في قوله: * (ولقد صرفناه) * أنه تعالى، هو مصرف الماء، ومنزلة حيث شاء كيف شاء. ومن قبيل هذا المعنى: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية في أثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر بي: فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) هذا لفظ مسلم رحمه الله في صحيحه، ولا شك أن من قال: مطرنا ببخار كذا مسندا ذلك للطبيعة، أنه كافر بالله مؤمن بالطبيعة والبخار. والعرب كانوا يزعمون أن بعض المطر أصله من البحر، إلا أنهم يسندون فعل ذلك الفاعل المختار جل وعلا، ومن أشعارهم في ذلك قول طرفة بن العبد: الصبح بالحديبية في أثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر بي: فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) هذا لفظ مسلم رحمه الله في صحيحه، ولا شك أن من قال: مطرنا ببخار كذا مسندا ذلك للطبيعة، أنه كافر بالله مؤمن بالطبيعة والبخار. والعرب كانوا يزعمون أن بعض المطر أصله من البحر، إلا أنهم يسندون فعل ذلك الفاعل المختار جل وعلا، ومن أشعارهم في ذلك قول طرفة بن العبد:
* لا تلمني إنها من نسوة
* رقد الصيف مقاليت نزر
*
* كبنات البحر يمأدن إذا
* أنبت الصيف عساليج الخضر
*
فقوله: بنات البحر يعني: المزن التي أصل مائها من البحر.
وقول أبي ذؤيب الهذلي. وقول أبي ذؤيب الهذلي.
* سقى أم عمرو كل آخر ليلة
* حناتم غرماؤهن نجيج
*
* شربن بماء البحر ثم ترفعت
* متى لجج خضر لهن نئيج
*
ولا شك أن خالق السماوات والأرض جل وعلا، هو منزل المطر على القدر الذي يشاء كيف يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
329

قوله تعالى: * (فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية الكريمة في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: * (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب) * وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (وشجرة تخرج من طور سينآء تنبت بالدهن وصبغ للأكلين) *. قوله: وشجرة: معطوف على: جنات من عطف الخاص على العام. وقد قدمنا مسوغه مرارا: أي فأنشأنا لكم به جنات، وأنشأنا لكم به شجرة تخرج من طور سيناء وهي شجرة الزيتون، كما أشار له تعالى بقوله * (يوقد من شجرة مباركة زيتونة) *، والدهن الذي تنبت به: هو زيتها المذكور في قوله: * (يكاد زيتها يضىء) * ومع الاستضاءة منها، فهي صبغ للآكلين: أي إدام يأتدمون به، وقرأ هذا الحرف: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: سيناء بكسر السين، وقرأ الباقون: بفتحها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: تنبت بضم التاء، وكسر الباء الموحدة مضارع أنبت الرباعي، وقرأ الباقون: تنبت بفتح التاء، وضم الباء مضارع: نبت الثلاثي، وعلى هذه القراءة، فلا إشكال في حرف الباء في قوله: بالدهن: أي تنبت مصحوية بالدهن الذي يستخرج من زيتونها، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو، ففي الباء إشكال، وهو أن أنبت الرباعي يتعدى بنفسه، ولا يحتاج إلى الباء وقد قدمنا النكتة في الإتيان بمثل هذه الباء في القرآن، وأكثرنا من أمثلته في القرآن، وفي كلام العرب في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى * (وهزى إليك بجذع النخلة) *، ولا يخفى أن أنبت الرباعي، على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو هنا: لازمة لا متعدية المفعول، وأنبت تتعدى، وتلزم فمن تعديها قوله تعالى: * (ينبت لكم به الزرع والزيتون) * وقوله تعالى: * (فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) * ومن لزومها قراءة ابن كثير، وأبي عمرو المذكورة، ونظيرها من كلام العرب قول زهير: فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) * ومن لزومها قراءة ابن كثير، وأبي عمرو المذكورة، ونظيرها من كلام العرب قول زهير:
* رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم
* قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
*
فقوله: أنبت البقل لازم بمعنى: نبت، وهذا هو الصواب في قراءة: تنبت بضم التاء. خلافا لمن قال: إنها مضارع أنبت المتعدي: وأن المفعول محذوف: أي تنبت
330

زيتوتها، وفيه الزيت. وقال ابن كثير: الطور: هو الجبل، وقال بعضهم: إنما يسمى طورا إذا كان فيه شجر، فإن عرى عن الشجر، سمي جبلا لا طورا. والله أعلم. وطور سيناء: هو طور سنين، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام، وما حوله من الجبال، التي فيها شجر الزيتون ا ه محل الغرض من كلام ابن كثير.
وفي حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة) رواه أحمد ورواه الترمذي، وغيره عن عمر، والظاهر أنه لا يخلو من مقال، وقال فيه العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس رواه أحمد والترمذي وابن ماجة عن عمر وابن ماجة فقط عن أبي هريرة، وصححه الحاكم على شرطهما ثم قال: وفي الباب عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. ا ه منه والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية، وما يستفاد منها من الأحكام الفقيهة في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونها) * مع بيان أوجه القراءة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (وعليها وعلى الفلك تحملون) *. الضمير في قوله: عليها راجع إلى الأنعام المذكورة في قوله: * (وإن لكم فى الا نعام) * وقد بين تعالى في هذه
الآية: أنه يحمل خلقه على الأنعام، والمراد بها هنا الإبل، لأن الحمل عليها هو الأغلب، وعلى الفلك: وهي السفن ولفظ الفلك، يطلق على الواحد والجمع من السفن، وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة من الامتنان على خلقه بما يسر لهم من الركوب والحمل، على الأنعام والسفن جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى * (الله الذى جعل لكم الا نعام لتركبوا منها ومنها تأكلون * ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة فى صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون) * وقوله في الأنعام * (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون) * وقوله فيها * (وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم) * وقوله في
331

الفلك والأنعام معا * (والذى خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والا نعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذى سخر لنا هاذا وما كنا له مقرنين * وإنآ إلى ربنا لمنقلبون) * وقوله في السفن * (وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) * وقوله: * (سخر لكم ما فى الا رض والفلك تجرى فى البحر بأمره) * وقوله تعالى: * (وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله) * والآيات بمثل هذا كثيرة، وهذا من نعمه وآياته، وقرن الأنعام بالفلك في الآيات المذكورة لأن الإبل سفائن البر، كما قال ذو الرمة: وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله) * والآيات بمثل هذا كثيرة، وهذا من نعمه وآياته، وقرن الأنعام بالفلك في الآيات المذكورة لأن الإبل سفائن البر، كما قال ذو الرمة:
* ألا خيلت مني وقد نام صحبتي
* فما نفر التهويم إلا سلامها
*
* طروقا وجلب الرحل مشدودة بها
* سفينة بر تحت خدي زمامها
*
فتراه سمى ناقته سفينة بر وجلب الرحل بالضم والكسر عيدانه أو الرحل بما فيه:
قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا نوحا) * إلى قوله * (وما يستأخرون) *. قد تقدمت الإشارة إلى ما فيه من الآيات، التي لها بيان في مواضع متعددة فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جآء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه بعد إرسال نوح والرسول المذكور بعده أرسل رسله تترى: أي متواترين واحدا بعد واحدا، وكل متتابع متتال تسميه العرب متواترا، ومنه قول لبيد في معلقته: ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جآء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه بعد إرسال نوح والرسول المذكور بعده أرسل رسله تترى: أي متواترين واحدا بعد واحدا، وكل متتابع متتال تسميه العرب متواترا، ومنه قول لبيد في معلقته:
* يعلو طريقة متنها متواتر
* في ليلة كفر النجوم غمامها
*
يعني: مطرا متتابعا، أو غبار ريح متتابعا، وتاء تترى مبدلة من الواو، وأنه كل ما أرسل رسولا إلى أمة كذبوه فأهلكهم، وأتبع بعضهم بعضا في الإهلاك المتسأصل بسبب تكذيب الرسل. وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة: جاء موضحا في آيات كثيرة. وقد بينت آية استثناء أمة واحدة من هذا الإهلاك المذكور.
أما الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية فهي كثيرة جدا كقوله تعالى * (ومآ
332

أرسلنا فى قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا بمآ أرسلتم به كافرون) * وقوله تعالى: * (وكذلك مآ أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا علىءاثارهم مقتدون) * وقوله تعالى: * (ومآ أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأسآء والضرآء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضرآء والسرآء فأخذناهم بغتة) * والآيات بمثل هذا كثيرة جدا.
أما الآية التي بينت استثناء أمة واحدة من هذه الأمم فهي قوله تعالى: * (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعهآ إيمانها إلا قوم يونس لمآ ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا) *. وظاهر آية الصافات أنهم آمنوا إيمانا حقا، وأن الله عاملهم به معاملة المؤمنين، وذلك في قوله في يونس * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فأامنوا فمتعناهم إلى حين) * لأن ظاهر إطلاق قوله: فآمنوا، يدل على ذلك. والعلم عند الله تعالى. ومن الأمم التي نص على أنه أهلكها وجعلها أحاديث سبأ، لأنه تعالى قال فيهم: * (فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق) * وقوله * (فجعلناهم أحاديث) * أي أخبارا وقصصا يسمر بها، ويتعجب منها، كما قال ابن دريد في مقصورته: فجعلناهم أحاديث) * أي أخبارا وقصصا يسمر بها، ويتعجب منها، كما قال ابن دريد في مقصورته:
* وإنما المرء حديث بعده
* فكن حديثا حسنا لمن وعى
*
وقرأ هذا الحرف ابن كثير، وأبو عمرو: تترا بالتنوين: وهي لغة كنانة، والباقون بألف التأنيث المقصورة من غير تنوين: وهي لغة أكثر العرب، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو والهمزة الثانية من قوله: جاء أمة، وقرأها الباقون بالتحقيق، كما هو معلوم وقوله * (فبعدا لقوم لا يؤمنون) * مصدر لا يظهر عامله، وقد بعد بعدا بفتحتين، وبعدا بضم فسكون: أي هلك فقوله: بعدا: أي هلاكا مستأصلا، كما قال تعالى * (ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) * قال الشاعر: ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) * قال الشاعر:
* قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا
* قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا
*
وقد قال سيبويه: إن بعدا وسحقا ودفرا أي نتنا من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر. ا ه ومن هذا القبيل قولهم: سقيا ورعيا، كقول نابغة ذبيان:
333

وقد قال سيبويه: إن بعدا وسحقا ودفرا أي نتنا من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر. ا ه ومن هذا القبيل قولهم: سقيا ورعيا، كقول نابغة ذبيان:
* نبئت نعما على الهجران عاتية
* سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري
*
والأحاديث في قوله: فجعلناهم أحاديث في مفرده وجهان معروفان.
أحدهما: أنه جمع حديث كما تقول: هذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تريد بالأحاديث جمع حديث، وعلى هذا فهو من الجموع الجارية على غير القياس المشار لها بقول ابن مالك في الخلاصة:، تريد بالأحاديث جمع حديث، وعلى هذا فهو من الجموع الجارية على غير القياس المشار لها بقول ابن مالك في الخلاصة:
* وحائد عن القياس كل ما
* خالف في البابين حكما رسما
*
يعني بالبابين: التكسير والتصغير، كتكسير حديث على أحاديث وباطل على أباطيل، وكتصغير مغرب، على مغيربان، وعشية على عشيشية. وقال بعضهم: إنها اسم جمع للحديث.
الوجه الثاني: أن الأحاديث جمع أحدوثة التي هي مثل: أضحوكة، وألعوبة، وأعجوبة بضم الأول، وإسكان الثاني: وهي ما يتحدث به الناس تلهيا، وتعجبا ومنه بهذا المعنى قول توبة بن الحمير: الوجه الثاني: أن الأحاديث جمع أحدوثة التي هي مثل: أضحوكة، وألعوبة، وأعجوبة بضم الأول، وإسكان الثاني: وهي ما يتحدث به الناس تلهيا، وتعجبا ومنه بهذا المعنى قول توبة بن الحمير:
* من الخفرات البيض ود جليسها
* إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
*
وهذا الوجه أنس هنا لجريان الجمع فيه على القياس، وجزم به الزمخشري. والعلم عند الله تعالى.
* (ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إنى بما تعملون عليم * وإن هاذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون * فذرهم فى غمرتهم حتى حين * أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون * إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بأايات ربهم يؤمنون * والذين هم بربهم لا يشركون * والذين يؤتون مآ ءاتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أولائك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون * ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون * بل قلوبهم فى غمرة من هاذا ولهم أعمال من دون ذالك هم لها عاملون * حتى إذآ أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون * لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون) *
قوله تعالى: * (ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إنى بما تعملون عليم) *. أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة رسله عليهم الصلاة والسلام مع أن الموجود منهم، وقت نزولها واحد، وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، بالأكل من الطيبات: وهي الحلال الذي لا شبهة فيه على التحقيق، وأن يعلموا العمل الصالح، وذلك يدل على أن الأكل من الحلال له أثر في العمل الصالح، وهو كذلك، وهذا الذي أمر به الرسل في هذه الآية الكريمة، أمر به المؤمنين من هذه الأمة التي هي خير الأمم، وذلك في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) * والآية تدل على أن كل رسول أمر في زمنه بالأكل من الحلال، والعمل الصالح، وتأثير الأكل من الحلال في الأعمال معروف. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: * (ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إنى بما تعملون
334

عليم) * وقال: * (ياأيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) * ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر. ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب فأنى يستجاب له) وهو يدل دلالة واضحة أن دعاءه الذي هو أعظم القرب لم ينفعه، لأنه لم يأكل من الحلال ولم يشرب منه، ولم يركب منه.
قوله تعالى: * (وإن هاذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون) *. قد أوضحنا معنى هاتين الآيتين، وفسرنا ما يحتاج منهما إلى تفسير وبينا الآيات الموضحة لمعناهما في سورة الأنبياء في الكلام على قوله: * (إن هاذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون * وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون) * وبينا المراد بالأمة مع بعض الشواهد العربية، وبينا جمع معاني الأمة في القرآن في أول سورة هود في الكلام على قوله: * (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (فذرهم فى غمرتهم حتى حين) *. أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذر الكفار أي يتركهم في غمرتهم إلى حين، أي وقت معين عند الله، والظاهر أنه وقت انقضاء آجالهم بقتل أو موت، وصيرورتهم إلى ما هم صائرون إليه بعد الموت من العذاب البرزخي، والأخروي، وكون المراد بالحين المذكور: وقت قتلهم، أو موتهم ذكره الزمخشري عن علي رضي الله عنه، بغير سند.
وأقوال أهل العلم في معنى غمرتهم راجعة إلى شيء واحد كقول الكلبي في غمرتهم: أي جهالتهم: وقول ابن بحر: في حيرتهم، وقول ابن سلام: في غفلتهم، وقول بعضهم: في ضلالتهم فمعنى كل هذه الأقوال واحد، وهو أنه، أمره أن يتركهم فيما هم فيه من الكفر والضلال، والغي والمعاصي قال الزمخشري: الغمرة: الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم، وعمايتهم أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل، قال ذو الرمة: وأقوال أهل العلم في معنى غمرتهم راجعة إلى شيء واحد كقول الكلبي في غمرتهم: أي جهالتهم: وقول ابن بحر: في حيرتهم، وقول ابن سلام: في غفلتهم، وقول بعضهم: في ضلالتهم فمعنى كل هذه الأقوال واحد، وهو أنه، أمره أن يتركهم فيما هم فيه من الكفر والضلال، والغي والمعاصي قال الزمخشري: الغمرة: الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم، وعمايتهم أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل، قال ذو الرمة:
* ليالي اللهو يطبيني فأتبعه
* كأنني ضارب في غمرة لعب
*
وصيغة الأمر في قوله * (فذرهم فى غمرتهم) * للتهديد، وقد تقرر في
335

فن الأصول في مبحث الأمر وفي فن المعاني في مبحث الإنشاء، أن من المعاني التي تأتي لها صيغة أفعل التهديد وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، من تهديد الكفار الذين كذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم، جاء موضحا في مواضع أخر. كقوله * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الا مل فسوف يعلمون) * وقوله تعالى: * (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) * وقوله: * (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) * وقوله: * (قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) *.
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الا مل) *، وتكلمنا هناك على لفظ ذرهم.
قوله تعالى: * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون) *. قد أوضحنا الكلام على الآيات الموضحة لهاتين الآيتين في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: * (ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (ولا نكلف نفسا إلا وسعها) *. ما تضمنته هذه الآية من التخفيف في هذه الحنيفية السمحة، التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وسلم قد ذكرنا طرفا من الآيات الدالة عليه في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: * (وما جعل عليكم فى الدين من حرج) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون) *. الحق أن المراد بهذا الكتاب: كتاب الأعمال الذي يحصيها الله فيه، كما يدل عليه قوله تعالى * (هاذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) * وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في الكهف، في الكلام على قوله: * (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه) *، وفي سورة الإسراء في الكلام على قوله: * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) *.
والظاهر أن معنى نطق الكتاب بالحق: أن جميع المكتوب فيه حق، فمن قرأ المكتوب فيه، كأنه لا ينطق في قراءته له إلا بالحق، وربما أطلقت العرب اسم الكلام على
336

الخط، كما روي عن عائشة أنها قالت: ما بين دفتي المصحف كلام الله، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: * (حتى إذآ أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون * لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون) *. حتى هنا في هذه الآية التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام الجملة الشرطية، والعذاب الذي أخذهم ربهم به، قيل: هو عذاب يوم بدر بالقتل والأسر، وقيل: الجوع والقحط الشديد الذي أصابهم، لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) فأصابهم بسبب دعوته صلى الله عليه وسلم من الجوع الشديد، عذاب أليم، وأظهرها عندي أنه أخذهم بالعذاب يوم القيامة. وقد بين تعالى في هاتين الآيتين أنه أخذ مترفيهم بالعذاب، والمترفون هم أصحاب النعمة والرفاهية في دار الدنيا. وهذا المعنى أشار له بقوله: * (وذرنى والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا * إن لدينآ أنكالا وجحيما * وطعاما ذا غصة وعذابا أليما) * فقوله: أولي النعمة يريد بهم: المترفين في الدنيا، وبين أنه سيعذبهم بعد التهديد بقوله: * (إن لدينآ أنكالا وجحيما) * وقوله: يجأرون، الجؤار: الصراخ باستغاثة، والعرب تقول: جأر الثور
يجأر: صاح، فالجؤار كالخوار وفي بعض القراءات عجلا جسدا له جؤار بالجيم والهمزة: أي خوار، وجأر الرجل إلى الله: تضرع بالدعاء.
فمعنى الآية الكريمة: أن المنعمين في الدنيا من الكفار، إذا أخذهم الله بالعذاب يوم القيامة، صاحوا مستصرخين مستغيثين، يطلبون الخلاص مما هم فيه، وصراخهم واستغاثتهم المشار له هنا، جاء في آيات أخر كقوله تعالى: * (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنآ أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل) * فقوله: يصطرخون: يفتعلون من الصراخ، مستغيثين يريدون الخروج مما هم فيه، بدليل قوله تعالى عنهم * (ربنآ أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل) * فهذا الصراخ المذكور في هذه الآية العام للمترفين وغيرهم، هو الجؤار المذكور عن المترفين هنا، ومن إطلاق العرب الجؤار على الصراخ والدعاء للاستغاثة قول الأعشى
337

: ربنآ أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل) * فهذا الصراخ المذكور في هذه الآية العام للمترفين وغيرهم، هو الجؤار المذكور عن المترفين هنا، ومن إطلاق العرب الجؤار على الصراخ والدعاء للاستغاثة قول الأعشى:
* يراوح من صلوات المليك
* فطورا سجودا وطورا جؤارا
*
والجؤار المذكور: هو النداء في قوله * (كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص) * لأن نداءهم نداء استغاثة واستصراخ وكقوله تعالى: * (ونادوا يامالك ليقض علينا ربك) *، لأن القضاء عليهم من أعظم الأمور التي يطلبونها، فيستغيثون بالموت من دوام ذلك العذاب الشديد، أجارنا الله وإخواننا المسلمين منه وكقوله تعالى: * (وإذآ ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا) * وذلك الدعاء بالثبور الذي هو أعظم الهلاك، والويل عن أنواع جؤارهم والعياذ بالله. وقوله تعالى في هذه الآية * (لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون) * يدل على أنهم إن استغاثوا لم يغاثوا، وإن استرحموا لم يرحموا، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: * (وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وسآءت مرتفقا) *.
* (قد كانت ءايتى تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون * مستكبرين به سامرا تهجرون * أفلم يدبروا القول أم جآءهم ما لم يأت ءابآءهم الا ولين * أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون * أم يقولون به جنة بل جآءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون * ولو اتبع الحق أهوآءهم لفسدت السماوات والا رض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون * أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين) *
قوله تعالى: * (قد كانت ءايتى تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون) *. لما بين أن المترفين من الكفار إذا أخذهم ربهم بالعذاب، ضجوا وصاحوا واستغاثوا، وبين أنهم لا يغاثون كما أوضحناه آنفا بين سبب ذلك بقوله: * (قد كانت ءايتى) * أي التي أرسلت بها رسلي * (تتلى عليكم) *: تقرأ عليكم واضحة مفصلة، فكنتم على أعقابكم تنكصون: ترجعون عنها القهقرى. والعقب: مؤخر القدم، والنكوص: الرجوع عن الأمر، ومنه قوله تعالى: * (فلما ترآءت الفئتان نكص على عقبيه) * ومنه قول الشاعر: فلما ترآءت الفئتان نكص على عقبيه) * ومنه قول الشاعر:
* زعموا بأنهم على سبل النجا
* ة وإنما نكص على الأعقاب
*
وهذا المعنى الذي ذكره هنا: أشار له في غير هذا الموضع كقوله تعالى * (قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل * ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير) * فكفرهم عند الله ذكر الله وحده، من نكوصهم على أعقابهم، وبين في موضع آخر أنهم إذا تتلى عليهم آياته، لم يقتصروا على النكوص عنها، على أعقابهم، بل يكادون يبطشون بالذي يتلوها عليهم، لشدة بغضهم لها، وذلك في قوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات تعرف فى
338

وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم ءاياتنا) * وهذا الذي ذكرنا أن العذاب عذاب يوم القيامة، أظهر عندنا من قول من قال: إنه يوم بدر أو الجوع، ومن قال من زعم: أن الذين يجأرون: هم الذين لم يقتلوا يوم بدر وأن جؤارهم من قبل إخوانهم، فكل ذلك خلاف الظاهر، وإن قاله من قاله:
قوله تعالى: * (أفلم يدبروا القول) *. يتضمن حضهم، على تدبر هذا القول الذي هو القرآن العظيم، لأنهم إن تديروه تدبرا صادقا، علموا أنه حق، وأن اتباعه واجب وتصديق من جاء به لازم. وقد أشار لهذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * وقوله: * (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالهآ) * وقوله في هذه الآية الكريمة * (أم جآءهم ما لم يأت ءابآءهم الا ولين) * قال القرطبي: فأنكروه، وأعرضوا عنه، وقيل: أم بمعنى: بل جاءهم مالا عهد لآبائهم به، فلذلك أنكروه، وتركوا التدبر له
وقال ابن عباس: وقيل المعنى: أم جاءهم أمان من العذاب، وهو شيء لم يأت آباءهم الأولين، قال أبو حيان في تفسير هذه الآية: قرعهم أولا بترك الانتفاع بالقرآن، ثم ثانيا بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين: أي إرسال الرسل ليس بدعا، ولا مستغربا، بل أرسلت الرسل للأمم قبلهم، وعرفوا ذلك بالتواتر ونجاة من آمن، واستئصال من كذب وآباؤهم إسماعيل وأعقابه إلى آخر كلامه. وهذا الوجه من التفسير له وجه من النظر وعليه فالآية كقوله: * (قل ما كنت بدعا من الرسل) * ونحوها من
الآيات.
قوله تعالى: * (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية في سورة يونس، في الكلام على قوله تعالى: * (فقد لبثت فيكم عمرا من قبله) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (أم يقولون به جنة بل جآءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) *. أم المذكورة في هذه الآية هي المعروفة عند النحويين بأم المنقطعة. وضابطها ألا تتقدم عليها همزة تسوية نحو * (سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم) * أو همزة مغنية، عن لفظة: أي كقولك أزيد عندك أم عمرو؟ أي أيهما عندك فالمسبوقة
339

بإحدى الهمزتين المذكورتين، هي المعروفة عندهم بأم المتصلة، والتي لم تسبق بواحدة منهما هي المعروفة بالمنقطعة كما هنا. وأم المنقطعة تأتي لثلاثة معان.
الأول: أن تكون بمعنى: بل الإضرابية.
الثاني: أن تكون بمعنى همزة استفهام الإنكار.
الثالث: أن تكون بمعناهما معا فتكون جامعة بين الإضراب والإنكار، وهذا الأخير هو الأكثر في معناها، خلافا لابن مالك في الخلاصة في اقتصاره على أنها بمعنى: بل في قوله: الثالث: أن تكون بمعناهما معا فتكون جامعة بين الإضراب والإنكار، وهذا الأخير هو الأكثر في معناها، خلافا لابن مالك في الخلاصة في اقتصاره على أنها بمعنى: بل في قوله:
* وبانقطاع وبمعنى بل وفت
* إن تك مما قيدت به خلت
*
ومراده بخلوها مما قيدت به: ألا تسبقها إحدى الهمزتين المذكورتين، فإن سبقتها إحداهما، فهي المتصلة كما تقدم قريبا، وعلى ما ذكرنا فيكون المعنى متضمنا للاضراب عما قبله إضرابا انتقاليا، مع معنى استفهام الإنكار، فتضمن الآية الإنكار على الكفار في دعواهم: أن نبينا صلى الله عليه وسلم به جنة: أي جنون يعنون: أن هذا الحق الذي جاءهم به هذيان مجنون، قبحهم الله ما أجحدهم للحق، وما أكفرهم ودعواهم عليه هذه أنه مجنون كذبها الله هنا بقوله: * (بل جآءهم بالحق) * فالإضراب ببل إبطالي.
والمعنى: ليس بمجنون بل هو رسول كريم جاءكم بالحق الواضح، المؤيد بالمعجرات الذي يعرف كل عاقل، أنه حق، ولكن عاندتم وكفرتم لشدة كراهيتكم للحق، وما نفته هذه الآية الكريمة من دعواهم عليه الجنون صرح الله بنفيه في مواضع أخر كقوله تعالى: * (وما صاحبكم بمجنون) * وقوله تعالى: * (فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون) * وهذا الجنون الذي افترى على آخر الأنبياء، افترى أيضا على أولهم، كما تعالى في هذه السورة الكريمة عن قوم نوح أنهم قالوا فيه * (إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين) * وقد بين في موضع آخر أن الله لم يرسل رسولا إلا قال قومه: إنه ساحر، أو مجنون، كأنهم اجتمعوا فتواصوا على ذلك لتواطىء أقوالهم لرسلهم عليه، وذلك في قوله تعالى: * (كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون) * فبين أن سبب تواطئهم على ذلك ليس التواصي به، لاختلاف أزمنتهم، وأمكنتهم. ولكن الذي جمعهم على ذلك مشابهة بعضهم لبعض في الطغيان، وقد أوضح هذا المعنى في سورة
340

البقرة في قوله * (كذالك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم) * فهذه الآيات تدل على أن سبب تشابه مقالاتهم لرسلهم، هو تشابه قلوبهم في الكفر والطغيان، وكراهية الحق وقوله: * (وأكثرهم للحق كارهون) * ذكر نحو معناه في قوله تعالى: * (لقد جئناكم بالحق ولاكن أكثركم للحق كارهون) * وقوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر) *، وذلك المنكر الذي تعرفه في وجوههم، إنما هو لشدة كراهيتهم للحق، ومن الآيات الموضحة لكراهيتهم للحق. أنهم يمتنعون من سماعه، ويستعملون الوسائل التي تمنعهم من أن يسمعوه، كمال قال تعالى في قصة أول الرسل الذين أرسلهم بتوحيده والنهي عن الإشراك به، وهو نوح: * (وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فىءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) * وإنما جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم خوف أن يسمعوا ما يقوله لهم نبيهم نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، من الحق، والدعوة إليه. وقال تعالى في أمة آخر الأنبياء صلى الله عليه وسلم * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهاذا القرءان والغوا فيه) *. فترى بعضهم ينهى بعضا عن سماعه، ويأمرهم باللغو فيه، كالصياح والتصفيق المانع من السماع لكراهتهم للحق، ومحاولتهم أن يغلبوا الحق بالباطل.
وهذه الآية الكريمة سؤال معروف وهو أن يقال: قوله: * (وأكثرهم للحق كارهون) * يفهم من مفهوم مخالفته، أن قليلا من الكفار، ليسوا كارهين للحق. وهذا السؤال وارد أيضا على آية الزخرف التي ذكرنا آنفا، وهي قوله تعالى: * (ولاكن أكثركم للحق كارهون) *.
والجواب عن هذا السؤال: هو ما أجاب به بعض أهل العلم بأن قليلا من الكفار. كانوا لا يكرهون الحق، وسبب امتناعهم عن الإيمان بالله ورسوله ليس هو كراهيتهم للحق، ولكن سببه الأنفة والاستنكاف من توبيخ قومهم، وأن يقولوا صبأوا وفارقوا دين آبائهم، ومن أمثلة من وقع له هذا أبو طالب فإنه لا يكره الحق، الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان يشد عضده في تبليغه رسالته كما قدمنا في شعره في قوله: * اصدع بأمرك ما عليك غضاضة
الأبيات وقال فيها،
341

الأبيات وقال فيها،
* ولقد علمت بأن دين محمد
* من خير أديان البرية دينا
*
وقال فيه صلى الله عليه وسلم أيضا: أيضا:
* لقد علموا أن ابننا لا مكذب
* لدينا ولا يعني بقول الأباطل
*
وقد بين أبو طالب في شعره: أن السبب المانع له من اعتناق الإسلام ليس كراهية الحق، ولكنه الأنفة والخوف من ملامة قومه أو سبهم له كما في قوله: وقد بين أبو طالب في شعره: أن السبب المانع له من اعتناق الإسلام ليس كراهية الحق، ولكنه الأنفة والخوف من ملامة قومه أو سبهم له كما في قوله:
* لولا الملامة أو حذار مسبة
* لوجدتني سمعا بذاك يقينا
*
قوله تعالى: * (ولو اتبع الحق أهوآءهم لفسدت السماوات والا رض ومن فيهن) *. اختلف العلماء في المراد بالحق في هذه الآية، فقال بعضهم: الحق: هو الله تعالى، ومعلوم أن الحق من أسمائه الحسنى، كما في قوله تعالى: * (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) * وقوله: * (ذالك بأن الله هو الحق) * وكون المراد بالحق في الآية: هو الله عزاه القرطبي للأكثرين، وممن قال به: مجاهد وابن جريح، وأبو صالح، والسدي. وروي عن قتادة، وغيرهم.
وعلى هذا القول فالمعنى لو أجابهم الله إلى تشريع ما أحبوا تشريعه وإرسال من اقترحوا إرسالة، بأن جعل أمر التشريع وإرسال الرسل ونحو ذلك تابعا لأهوائهم الفاسدة، لفسدت السماوات والأرض، ومن فيهن، لأن أهواءهم الفاسدة وشهواتهم الباطلة، لا يمكن أن تقوم عليها السماء والأرض وذلك لفساد أهوائهم، واختلافها. فالأهواء الفاسدة المختلفة لا يمكن أن يقوم عليها نظام السماء والأرض ومن فيهن، بل لو كانت هي المتبعة لفسد الجميع.
ومن الآيات الدالة على أن أهواءهم لا تصلح، لأن تكون متبعة قوله تعالى: * (وقالوا لولا نزل هاذا القرءان على رجل من القريتين عظيم) * لأن القرآن لو أنزل على أحد الرجلين المذكورين، وهو كافر يعبد الأوثان فلا فساد أعظم من ذلك. وقد رد الله عليهم بقوله: * (أهم يقسمون رحمة ربك) * وقال تعالى: * (قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا) * وقال تعالى: * (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) * قال ابن كثير رحمه الله: ففي هذا كله تبيين عجز العباد، واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو
342

الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
ومما يوضح أن الحق لو اتبع الأهواء الفاسدة المختلفة لفسدة السماوات والأرض ومن فيهن قوله تعالى: * (لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا) * فسبحان الله رب العرش عما يصفون.
القول الثاني: أن المراد بالحق في الآية: الحق الذي هو ضد الباطل المذكور في قوله قبله: * (وأكثرهم للحق كارهون) * وهذا القول الأخير اختاره ابن عطية، وأنكر الأول.
وعلى هذا القول فالمعنى: أنه لو فرض كون الحق متبعا لأهوائهم، التي هي الشرك بالله، وادعاء الأولاد، والأنداد له ونحو ذلك: لفسد كل شيء لأن هذا الغرض يصير به الحق، هو أبطل الباطل، ولا يمكن أن يقوم نظام السماء والأرض على شيء، هو أبطل الباطل، لأن استقامة نظام هذا العالم لا تمكن إلا بقدرة وإرادة إله هو الحق منفرد بالتشريع، والأمر والنهي كما لا يخفى على عاقل والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون) *. اختلف العلماء في الذكر في الآية فمنهم من قال: ذكرهم: فخرهم، وشرفهم، لأن نزول هذا الكتاب على رجل منهم فيه لهم أكبر الفخر والشرف، وعلى هذا، فالآية كقوله: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * على تفسير الذكر بالفخر والشرف، وقال بعضهم: الذكر في الآية: الوعظ والتوصية، وعليه فالآية كقوله: * (ذالك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) * وقال بعضهم: الذكر هو ما كانوا يتمنونه في قوله: * (لو أن عندنا ذكرا من الا ولين * لكنا عباد الله المخلصين) * وعليه، فالآية كقوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الا مم) * وعلى هذا القول فقوله: * (جهد أيمانهم لئن جآءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الا مم فلما جآءهم نذير ما زادهم إلا نفورا) * كقوله هنا، فهم عن ذكرهم معرضون. وكقوله: * (أو تقولوا لو أنآ أنزل علينا الكتاب لكنآ أهدى منهم) * والآيات بمثل هذا على القول الأخير كثيرة والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين) *.
343

المراد بالخرج والخراج هنا: الأجر والجزاء.
والمعنى: أنك لا تسألهم على ما بلغتهم من الرسالة المتضمنة لخيري الدنيا والآخرة، أجرة ولا جعلا، وأصل الخرج والخراج: هو ما تخرجه إلى كل عامل في مقابلة أجرة، أو جعل. وهذه الآية الكريمة تتضمن أنه صلى الله عليه وسلم، لا يسألهم أجرا، في مقابلة تبليغ الرسالة.
وقد أوضحنا الآيات القرآنية الدالة على أن الرسل لا يأخذون الأجرة على التبليغ في سورة هود، في الكلام على قوله تعالى عن نوح: * (وياقوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله) *. وبينا وجه الجمع بين تلك الآيات، مع آية: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى) * وبينا هناك حكم أخذ الأجرة، على تعليم القرآن وغيره، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقرأ هذين الحرفين ابن عامر: خرجا فخرج ربك، بإسكان الراء فيهما معا، وحذف الألف فيهما، وقرأ حمزة والكسائي: خراجا فخراج ربك بفتح الراء بعدها ألف فيهما معا، وقرأ الباقون: خرجا فخراج ربك بإسكان الراء، وحذف الألف في الأول، وفتح الراء وإثبات الألف في الثاني، والتحقيق: أن معنى الخرج والخراج واحد، وأنهما لغتان فصيحتان وقراءتان سبعيتان، خلافا لمن زعم أن بين معناهما فرقا زاعما أن الخرج ما تبرعت به، والخراج: ما لزمك أداؤه.
ومعنى الآية: لا يساعد على هذا الفرق كما ترى، والعلم عند الله تعالى. وصيغة التفضيل في قوله: * (وهو خير الرازقين) * نظرا إلى أن بعض المخلوقين يرزق بعضهم كقوله تعالى: * (وارزقوهم فيها واكسوهم) * وقوله تعالى: * (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن) *. ولا شك أن فضل رزق الله خلقه، على رزق بعض خلقه بعضهم كفضل ذاته، وسائر صفاته على ذوات خلقه، وصفاتهم.
* (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم * وإن الذين لا يؤمنون بالا خرة عن الصراط لناكبون * ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا فى طغيانهم يعمهون * ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون * حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون * وهو الذى أنشأ لكم السمع والا بصار والا فئدة قليلا ما تشكرون * وهو الذى ذرأكم فى الا رض وإليه تحشرون * وهو الذى يحاى ويميت وله اختلاف اليل والنهار أفلا تعقلون * بل قالوا مثل ما قال الا ولون * قالوا أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * لقد وعدنا نحن وءابآؤنا هاذا من قبل إن هاذآ إلا أساطير الا ولين * قل لمن الا رض ومن فيهآ إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون * بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون * ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إلاه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون * قل رب إما ترينى ما يوعدون * رب فلا تجعلنى فى القوم الظالمين * وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون * ادفع بالتى هى أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون) *
قوله تعالى: * (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) *. قد قدمنا الآيات الموضحة، لمعنى هذه الآية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: * (وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم) * فأغنى عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (وإن الذين لا يؤمنون بالا خرة عن الصراط لناكبون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الذين لا يؤمنون بالآخرة لإنكارهم البعث والجزاء، ناكبون عن الصراط، والمراد بالصراط، الذي هم ناكبون عنه: الصراط المستقيم
344

الموصل إلى الجنة المذكور في قوله قبله: * (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) * ومن نكب عن هذا الصراط المستقيم، دخل النار بلا شك.
والآيات الدالة على ذلك كثيرة كقوله تعالى في سورة الروم: * (وأما الذين كفروا وكذبوا بأاياتنا ولقآء الاخرة فأولائك فى العذاب محضرون) * ومعنى قوله: لناكبون: عادلون عنه، حائدون غير سالكين إياه وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول نصيب: حائدون غير سالكين إياه وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول نصيب:
* خليلي من كعب ألما هديتما
* بزينب لا تفقد كما أبدا كعب
*
* من اليوم زوراها فإن ركابنا
* غداة غد عنها وعن أهلها نكب
*
جمع ناكبة، عنها: أي عادلة عنها متباعدة عنها، وعن أهلها.
قوله تعالى: * (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا فى طغيانهم يعمهون) *. قد بينا الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية من أنه تعالى يعلم المعدوم الذين سبق في علمه أنه لا يوجد أن لو وجد، كيف يكون في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقوله في هذه الآية: * (للجوا فى طغيانهم يعمهون) * اللجاج هنا: التمادي في الكفر والضلال. والطغيان: مجاوزة الحد، وهو كفرهم بالله، وادعاؤهم له الأولاد والشركاء، وقوله: يعمهون: يترددون متحيرين لا يميزون حقا، من باطل. وقال بعض أهل العلم: العمة: عمى القلب، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: * (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أخذ الكفار بالعذاب، والظاهر أنه هنا: العذاب
الدنيوي كالجوع والقحط والمصائب، والأمراض والشدائد، * (فما استكانوا لربهم) * أي ما خضعوا له، ولا ذلوا * (وما يتضرعون) * أي ما يبتهلون إليه بالدعاء متضرعين له، ليكشف عنهم ذلك العذاب لشدة قسوة قلوبهم، وبعدهم من الاتعاظ، ولو كانوا متصفين بما يستوجب ذلك من إصابة عذاب الله لهم. وهذا المعنى الذي ذكره هنا جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة الأنعام: * (ولقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأسآء والضرآء لعلهم يتضرعون * فلولا إذ جآءهم بأسنا تضرعوا ولاكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) * وقوله في سورة
345

الأعراف: * (ومآ أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأسآء والضرآء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضرآء والسرآء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: * (وهو الذى أنشأ لكم السمع والا بصار والا فئدة قليلا ما تشكرون) *. قد ذكرنا الآيات التي فيها إيضاح لمعنى هذه الآية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (وجعل لكم السمع والا بصار والأفئدة لعلكم تشكرون) * وبينا هناك وجه أفراد السمع مع الجمع للأبصار والأفئدة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
346

قوله تعالى: * (وهو الذى ذرأكم فى الا رض وإليه تحشرون) *. ذرأكم معناه: خلقكم، ومنه قوله تعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * وقوله في الأرض: أي خلقكم وبثكم في الأرض، عن طريق التناسل، كما قال تعالى: * (وبث منهما رجالا كثيرا ونسآء) * وقال: * (ثم إذآ أنتم بشر تنتشرون) * وقوله: * (وإليه تحشرون) * أي إليه وحده، تجمعون يوم القيامة أحياء بعد البعث للجزاء والحساب.
وما تضمنته هذه الآية، من أنه خلقهم، وبثهم في الأرض. وأنه سيحشرهم إليه يوم القيامة. جاء معناه في آيات كثيرة كقوله في أول هذه السورة * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * إلى قوله: * (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) * وذكر جل وعلا أيضا هاتين الآيتين في سورة الملك في قوله تعالى: * (قل هو الذى أنشأكم وجعل لكم السمع والا بصار والا فئدة قليلا ما تشكرون * قل هو الذى ذرأكم فى الا رض وإليه تحشرون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين) * والآيات في هذا المعنى كثيرة.
قوله تعالى: * (وهو الذى يحاى ويميت) *. قد قدمنا الآيات الدالة على الإماتتين والإحياءتين، وأن ذلك من أكبر الدواعي للإيمان به جل وعلا في سورة الحج في الكلام على قوله: * (وهو الذى أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) * وفي سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) *. فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (وله اختلاف اليل والنهار أفلا تعقلون) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن له اختلاف الليل والنهار، يعني: أن ذلك هو الفاعل له وهو الذي يذهب بالليل، ويأتي بالنهار، ثم يذهب بالنهار ويأتي بالليل، واختلاف الليل والنهار، من أعظم آياته الدالة على كما قدرته، ومن أعظم مننه على خلقه كما بين الأمرين في سورة القصص في قوله تعالى * (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم اليل سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بضيآء أفلا تسمعون * قل أرءيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *. أي لتسكنوا في الليل وتطلبوا معايشكم بالنهار. والآيات الدالة على اختلاف الليل والنهار، من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله، واستحقاقه للعبادة وحده كثيرة جدا كقوله تعالى: * (ومن ءاياته اليل والنهار) * وقوله: * (وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) * وقوله * (يغشى اليل النهار) * وقوله * (ولا اليل سابق النهار) * وقوله تعالى: * (وسخر لكم اليل والنهار) *. وقوله تعالى: * (إن فى اختلاف اليل والنهار وما خلق الله فى السماوات والا رض لآيات لقوم يتقون) * والآيات بمثل هذا كثيرة جدا، وقوله تعالى: أفلا تعقلون: أي تذكرون بعقولكم أن الذي ينشئ السمع والأبصار والأفئدة، ويذرؤكم في الأرض وإليه تحشرون، وهو الذي يحيي ويميت ويخالف بين الليل والنهار أنه الإله الحق المعبود وحده جل وعلا، الذي لا يصح أن يسوى به غيره سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
قوله تعالى: * (بل قالوا مثل ما قال الا ولون قالوا أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون) *. لفظة بل هنا للإضراب الانتقالي.
والمعنى: أن الكفار الذين كذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم، قالوا مثل ما قالت الأمم قبلهم، من إنكار البعث، لأن الاستفهام في قوله: * (أءنا لمبعوثون) * إنكار منهم للبعث. والآيات الدالة على إنكارهم للبعث كثيرة كقوله تعالى عنهم: * (من يحى العظام وهى رميم) * وكقوله عنهم: * (وما نحن بمبعوثين) *
347

* (وما نحن بمنشرين) * وقوله عنهم: * (أءذا كنا عظاما نخرة * قالوا تلك إذا كرة خاسرة) *. والآيات بمثل هذا في إنكارهم البعث كثيرة: وقد بينا في سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى: * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم) *. وفي أول سورة النحل، وغيرهما الآيات الدالة على البعث بعد الموت، وأوردنا منها كثيرا كقوله: * (قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة) *. وقوله: * (وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) * وقوله تعالى: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) *. وأوضحنا أربعة براهين قرآنية دالة على البعث بعد الموت، وأكثرنا من ذكر الآيات الدالة على ذلك. فأغنى ذلك عن التطويل هنا. وقوله تعالى في هذه الآية * (أءذا متنا) * قرأ نافع والكسائي، بالاستفهام في: أئذا متنا، وحذف همزة الاستفهام، في أئنا لمبعوثون، بل قرأ إنا لمبعوثون بصيغة الخبر لدلالة الاستفهام الأول، على الاستفهام الثاني المحذوف وقرأه ابن عامر بالعكس، فحذف همزة الاستفهام، من أئذا، وقرأ إذا بدون استفهام، وأثبت همزة الاستفهام في قوله: * (أءنا لمبعوثون) * وقد دل الاستفهام الثاني المثبت في قراءة ابن عامر، على الاستفهام الأول المحذوف فيها، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة بالاستفهام فيهما معا: * (أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون) * وهم على أصولهم في الهمزتين، فنافع وابن كثير وأبو عمرو يسهلون الثانية، والباقون يحققونها، وأدخل قالون، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر ألفا بين الهمزتين. وقرأ الباقون بالقصر دون الألف، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص، عن
عاصم: متنا بكسر الميم، والباقون: بضم الميم. وقد قدمنا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: * (قالت ياليتنى مت قبل هاذا) * (مريم: 32) الآية وجه كسر الميم في إسناد الفعل الذي هو مات إلى تاء الفاعل، وبينا أنه يخفى على كثير من طلبة العلم. وأوضحنا وجهة غاية مع بعض الشواهد العربية، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (لقد وعدنا نحن وءابآؤنا هاذا من قبل إن هاذآ إلا أساطير الا ولين) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن الكفار المنكرين للبعث قالوا: إنهم وعدوا بالبعث، ووعد به آباؤهم من قبلهم. والظاهر أنهم يعنون أجدادهم، الذين جاءتهم الرسل، وأخبرتهم بأنهم يبعثون بعد الموت للحساب والجزاء، وقالوا: إن البعث الذي وعدوا به
348

هم وآباؤهم كذب لا حقيقة له، وأنه ما هو إلا أساطير الأولين: أي ما سطروه وكتبوه من الأباطيل والترهات، والأساطير: جمع أسطورة، وقيل: جمع أسطارة. وهذا الذي ذكره عنهم من إنكارهم البعث ذكر مثله في سورة النمل في قوله: * (وقال الذين كفروا أءذا كنا ترابا وءابآؤنآ أءنا لمخرجون * لقد وعدنا هاذا نحن وءابآؤنا من قبل إن هاذآ إلا أساطير الا ولين) * ثم إنه تعالى أقام البرهان على البعث، الذي أنكروه في هذه الآية بقوله: * (قل لمن الا رض ومن فيهآ إن كنتم تعلمون) * إلى قوله: * (فأنى تسحرون) * لأن من له الأرض، ومن فيها، ومن هو رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيء، وهو يجبر ولا يجاز عليه، لا شك أنه قادر على بعث الناس بعد الموت، كما أوضحنا فيما مر البراهين القرآنية القطعية، الدالة على ذلك.
قوله تعالى: * (قل لمن الا رض ومن فيهآ إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون) *. قدمنا ما دلت عليه هذه الآيات الكريمة، من كماله وجلاله وأوصاف ربوبيته المستلزمة لإخلاص العبادة له وحده، في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى: * (قل من يرزقكم من السمآء والا رض أمن يملك السمع والا بصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الا مر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) * وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) * وأوضحنا دلالة توحيده في ربوبيته، على توحيده في عبادته وقد ذكرنا كثيرا من الآيات القرآنية الدالة على ذلك، مع الإيضاح، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقوله في هذه الآية الكريمة: * (من بيده ملكوت كل شىء) * الملكوت: فعلوت من الملك: أي من بيده ملك كل شيء، بمعنى: من هو مالك كل شيء كائنا ما كان: وقال بعض أهل العلم: زيادة الواو والتاء في نحو: الملكوت، والرحموت، والرهبوت بمعنى الملك والرحمة، والرهبة: تفيد المبالغة في ذلك. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وهو يجير ولا يجار عليه) * أي هو يمنع من
349

شاء ممن شاء، ولا يمنع أحد منه أحدا شاء أن يهلكه أو يعذبه، لأنه هو القادر وحده، على كل شيء، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير. ومنه قول الشاعر. وهو يجير ولا يجار عليه) * أي هو يمنع من شاء ممن شاء، ولا يمنع أحد منه أحدا شاء أن يهلكه أو يعذبه، لأنه هو القادر وحده، على كل شيء، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير. ومنه قول الشاعر.
* أراك طفقت تظلم من أجرنا
* وظلم الجار إذلال المجير
*
وقوله تعالى: * (فأنى تسحرون) * أي كيف تخدعون، وتصرفون عن توحيد ربكم، وطاعته مع ظهور براهينه القاطعة وأدلته الساطعة، وقيل: * (فأنى تسحرون) * أي كيف يخيل إليكم: أن تشركوا به ما لا يضر، ولا ينفع، ولا يغني عنكم شيئا بناء على أن السحر هو التخييل.
وقد قدمنا الكلام على السحر مستوفى في سورة طه في الكلام على قوله تعالى: * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) * والظاهر أن معنى تسحرون هنا: تخدعون بالشبه الباطلة فيذهب بعقولكم، عن الحق كما يفعل بالمسحور. والله تعالى أعلم
وقوله: * (أفلا تذكرون) * قرأه حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي بتخفيف الذال بحذف إحدى التاءين، والباقون بالتشديد لإدغام إحدى التاءين في الذال.
وقوله تعالى: * (سيقولون لله) * جاء في هذه الآيات ثلاث مرات. الأول: * (سيقولون لله قل أفلا تذكرون) *. وهذه اتفق جميع السبعة على قراءتها بلام الجر الداخلة على لفظ الجلالة، لأنها جواب المجرور بلام الجر، وهو قوله: * (قل لمن الا رض ومن فيهآ) * فجواب لمن الأرض، هو أن تقول: لله، وأما الثاني الذي هو * (سيقولون لله قل أفلا تتقون) * والثالث: الذي هو قوله * (سيقولون لله قل فأنى تسحرون) * فقد قرأهما أبو عمرو بحذف لام الجر ورفع الهاء من اللفظ الجلالة.
والمعنى: على قراءة أبي عمرو المذكورة واضح لا إشكال فيه، لأن الظاهر في جواب من رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، أن تقول: الله بالرفع أي رب ما ذكر هو الله، وكذلك جواب قوله: * (من بيده ملكوت كل شىء) *. فالظاهر في جوابه أيضا أن يقال: الله بالرفع: أي الذي بيده ملكوت كل شيء هو الله، فقراءة أبي عمرو جارية على الظاهر، الذي لا إشكال فيه. وقرأ الحرفين المذكورين غيره من السبعة، بحرف الجر وخفض الهاء من لفظ الجلالة كالأول.
وفي هذه القراءة التي هي قراءة الجمهور سؤال معروف: وهو أن يقال: ما وجه الإتيان بلام الجر، مع أن السؤال لا يستوجب الجواب بها، لأن قول: * (من رب
السماوات
350

السبع ورب العرش العظيم) * الظاهر أن يقال في جوابه: ربهما الله، وإذا يشكل وجه الإتيان بلام الجر. والجواب عن هذا السؤال معروف واضح، لأن قوله تعالى: * (من رب السماوات) * وقوله: * (من بيده ملكوت كل شىء) * فيه معنى من هو مالك السماوات والأرض، والعرش، وكل شيء فيحسن الجواب بأن يقال: لله: أي كل ذلك مالك لله، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر: من بيده ملكوت كل شىء) * فيه معنى من هو مالك السماوات والأرض، والعرش، وكل شيء فيحسن الجواب بأن يقال: لله: أي كل ذلك مالك لله، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر:
* إذا قيل من رب المزالف والقرى
* ورب الجياد الجرد قلت لخالد
*
لأن قوله: من رب المزالف فيه معنى من هو مالكها، فحسن الجواب باللام: أي هي لخالد. والمزالف: جمع مزلفة كمرحلة. قال في القاموس: هي كل قرية تكون بين البر والريف، وجمعها مزالف.
قوله تعالى: * (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إلاه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) *. بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل:
الأولى: أنه لم يتخذ ولدا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
الثانية: أنه لم يكن معه إله آخر سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
والثالثة: أنه أقام البرهان على استحالة تعدد الآلهة بقوله: * (إذا لذهب كل إلاه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) * أما ادعاؤهم له الأولاد، فقد بينا الآيات الدالة على عظم فريتهم في ذلك، وظهور بطلان دعواهم، ورد الله عليهم في ذلك مواضع متعددة، فقد أوضحناه في سورة النحل في الكلام، على قوله تعالى: * (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالا نثى) *. وذكرنا طرفا منه في أول الكهف في الكلام على قوله: * (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا) * وفي مواضع غير ما ذكر، فأغنى ذلك عن إعادته.
وأما تفرده تعالى بالألوهية مع إقامة الدليل على ذلك فقد بيناه، وذكرنا ما يدل عليه من الآيات في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: * (قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا) * ولم نتعرض لما يسميه المتكلمون دليل التمانع، لكثرة المناقشات الواردة على أهل الكلام فيه، وإنما بينا الآيات، بالقرآن على طريق الاستدلال القرآني بها فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
351

قوله تعالى: * (قل رب إما ترينى ما يوعدون * رب فلا تجعلنى فى القوم الظالمين) *. أمر جلا وعلا نبيه في هاتين الآيتين الكريمتين أن يقول: رب إما تريني ما يوعدون: أي أن ترني ما توعدهم من العذاب، بأن تنزله بهم، وأنا حاضر شاهد أرى نزوله بهم * (فلا تجعلنى فى القوم الظالمين) * أي لا تجعلني في جملة المعذبين الظالمين، بل أخرجني منهم، ونجني من عذابهم، وقد بين تعالى في مواضع أخر: أنه لا ينزل بهم العذاب، وهو فيهم وذلك في قوله تعالى: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) *، وبين هنا أنه قادر على أنه يره العذاب، الذي وعدهم به في قوله: * (وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون) * وبين في سورة الزخرف، أنه إن ذهب به قبل تعذيبهم، فإنه معذب لهم ومنتقم منهم لا محالة، وأنه إن عذبهم، وهو حاضر فهو مقتدر عليهم. وذلك في قوله تعالى: * (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون * أو نرينك الذى وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون) *.
قوله تعالى: * (ادفع بالتى هى أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون) *. هذا الذي تضمنته هذه الآيات الثلاث مما ينبغي أن يعامل به شياطين الإنس وشياطين الجن. قد قدمنا الآيات الدالة عليه بإيضاح عليه بإيضاح في آخر سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) *. وقوله في هذه الآية: * (بالتى هى أحسن) * أي بالخصلة التي هي أحسن الخصال، والسيئة مفعول ادفع ووزن السيئة، فيعلة أصلها: سيوئة وحروفها الأصلية السين والواو والهمزة، وقد زيدت الياء الساكنة بين الفاء والعين، فوجب إبدال الواو التي هي عين الكلمة ياء وإدغام ياء الفيعلة الزائدة فيها على القاعدة التصريفية المشارك بقول ابن مالك في الخلاصة: بالتى هى أحسن) * أي بالخصلة التي هي أحسن الخصال، والسيئة مفعول ادفع ووزن السيئة، فيعلة أصلها: سيوئة وحروفها الأصلية السين والواو والهمزة، وقد زيدت الياء الساكنة بين الفاء والعين، فوجب إبدال الواو التي هي عين الكلمة ياء وإدغام ياء الفيعلة الزائدة فيها على القاعدة التصريفية المشارك بقول ابن مالك في الخلاصة:
* إن يسكن السابق من واو ويا
* واتصلا ومن عروض عريا
*
* فياء الواو اقلبن مدغما
* وشذ معطى غير ما قد رسما
*
كما قدمناه مرارا. والسيئة في اللغة: الخصلة من خصال السوء. وقوله تعالى: * (نحن أعلم بما يصفون) * أي بما تصفه ألسنتهم من الكذب في تكذيبهم لك، وادعائهم
352

الأولاد والشركاء لله. وقد قدمنا في سورة المائدة أن اللين والصفح المطلوب في آيات القرآن بعد نزول القتال إنما هو بالنسبة إلى المؤمنين، دون الكافرين في الكلام على قوله تعالى: * (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) * وبينا الآيات الدالة على ذلك كقوله في النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه * (أشدآء على الكفار رحمآء بينهم) * وقوله: * (واخفض جناحك للمؤمنين) * وقوله: * (ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) * إلى آخر ما تقدم. وقوله في هذه الآية: * (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) * الهمزات: جمع همزة وهي المرة من فعل الهمز، وهو في اللغة: النخس والدفع، وهمزات الشياطين: نخساتهم لبني آدم ليحثوهم، ويحضوهم على المعاصي، كما أوضحنا الكلام عليه في قوله تعالى: * (أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) * وكقوله تعالى: * (ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل) *.
والظاهر في قوله: * (وأعوذ بك رب أن يحضرون) * أن المعنى: أعوذ بك أن يحضرني الشيطان في أمر من أموري كائنا ما كان، سواء كان ذلك وقت تلاوة القرآن، كما قال تعالى: * (فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) * أو عند حضور الموت أو غير ذلك من جميع الشؤون في جميع الأوقات. والعلم عند الله تعالى.
* (حتى إذا جآء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قآئلها ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون * فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون * فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولائك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون * ألم تكن ءاياتى تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون * قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين * ربنآ أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسئوا فيها ولا تكلمون * إنه كان فريق من عبادى يقولون ربنآ ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون * إنى جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفآئزون * قال كم لبثتم فى الا رض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العآدين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون * أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش الكريم * ومن يدع مع الله إلها ءاخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون * وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) *
قوله تعالى: * (حتى إذا جآء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا) *. الظاهر عندي: أن حتى في هذه الآية: هي التي يبتدأ بعدها الكلام، ويقال لها: حرف ابتداء، كما قاله ابن عطية، خلافا للزمخشري القائل: إنها غاية لقوله: * (نحن أعلم بما يصفون) * ولأبي حيان القائل: إن الظاهر له أن قبلها جملة محذوفة هي غاية له يدل عليها ما قبلها، وقدر الجملة المذكورة بقوله فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم، حتى إذا جاء أحدهم الموت قال: رب ارجعون. ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر وهو الفرزدق: نحن أعلم بما يصفون) * ولأبي حيان القائل: إن الظاهر له أن قبلها جملة محذوفة هي غاية له يدل عليها ما قبلها، وقدر الجملة المذكورة بقوله فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم، حتى إذا جاء أحدهم الموت قال: رب ارجعون. ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر وهو الفرزدق:
* فواعجبا حتى كليب تسبني
* كأن أباها نهشل أو مجاشع
*
قال: المعنى: يسبني الناس حتى كليب، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة.
353

وفي الآية دل ما قبلها عليها. انتهى الغرض من كلام أبي حيان، ولا يظهر عندي كل الظهور.
بل الأظهر عندي: هو ما قدمتها وهو قول ابن عطية، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الكافر والمفرط في عمل الخير إذا حضر أحدهما الموت طلبا الرجعة إلى الحياة، ليعملا العمل الصالح الذي يدخلهما الجنة، ويتداركا به ما سلف منهما من الكفر والتفريط وأنهما لا يجابان لذلك، كما دل عليه حرف الزجر والردع الذي هو كلا جاء موضحا في مواضع أخر كقوله تعالى: * (وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلهآ) *. وقوله تعالى: * (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنآ أخرنآ إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) * إلى غير ذلك من الآيات، وكما أنهم يطلبون الرجعة عند حضور الموت، ليصلحوا أعمالهم فإنهم يطلبون ذلك يوم القيامة ومعلوم أنهم لا يجابون إلى ذلك.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جآءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل) * وقوله تعالى: * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) * وقوله تعالى: * (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بأايات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) *
وقوله تعالى: * (وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل) * وقوله تعالى: * (قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) * وقوله تعالى: * (وهم يصطرخون فيها ربنآ أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجآءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير) * وقوله تعالى: * (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب * وقالوا ءامنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد وقد كفروا به من قبل) *. وقد تضمنت هذه الآيات التي ذكرنا، وأمثالها في القرآن: أنهم يسألون الرجعة فلا
354

يجابون عند حضور الموت، ويوم النشور ووقت عرضهم على الله تعالى، ووقت عرضهم على النار.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف: وهو أن يقال: ما وجه صيغة الجمع في قوله: * (رب ارجعون) * ولم يقل: رب ارجعني بالإفراد.
وقد أوضحنا الجواب عن هذا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وبينا أنه يجاب عنه من ثلاثة أوجه:
الأول: وهو أظهرها: أن صيغة الجمع في قوله: ارجعون، لتعظيم المخاطب وذلك النادم السائل الرجعة يظهر في ذلك الوقت تعظيمه ربه، ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر حسان بن ثابت أو غيره: الأول: وهو أظهرها: أن صيغة الجمع في قوله: ارجعون، لتعظيم المخاطب وذلك النادم السائل الرجعة يظهر في ذلك الوقت تعظيمه ربه، ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر حسان بن ثابت أو غيره:
* ألا فارحموني يا إله محمد
* فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل
*
وقول الآخر يخاطب امرأة:
* وإن شئت حرمت النساء سواكم
* وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
*
والنقاخ الماء البارد والبرد: النوم، وقيل: ضد الحر. والأول أظهر.
الوجه الثاني: قوله: رب استغاثة به تعالى، وقوله: ارجعون: خطاب للملائكة، ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير، عن ابن جريج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: (إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى دار الدنيا فيقول: إلى دار الهموم والأحزان، فيقول: بل قدموني إلى الله وأما الكافر فيقولون له: نرجعك؟ فيقول: رب ارجعون).
الوجه الثالث: وهو قول المازني: إنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال: رب ارجعني ارجعني ارجعني، ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (لعلى أعمل صالحا) * الظاهر أن لعل فيه التعليل: أي ارجعون، لأجل أن أعمل صالحا، وقيل: هي للترجي والتوقع، لأنه غير جازم، بأنه إذا رد للدنيا عمل صالحا، والأول أظهر، والعمل الصالح يشمل جميع الأعمال من الشهادتين والحج الذي كان قد فرط فيه والصلوات والزكاة ونحو ذلك. والعلم عند الله تعالى. وقوله كلا: كلمة زجر: وهي دالة على أن الرجعة التي طلبها لا يعطاها كما هو واضح.
355

قوله تعالى: * (فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون) *. في هذه الآية الآية الكريمة، سؤالان معروفان يحتاجان إلى جواب مبين للمقصود مزيل للإشكال.
السؤال الأول: أنه تعالى ذكر في هذه الآية: أنه إذا نفخ في الصور، والظاهر أنها النفخة الثانية، أنهم لا أنساب بينهم يومئذ، فيقال: ما وجه نفي الأنساب بينهم، مع أنها باقية كما دل عليه قوله تعالى: * (فإذا جآءت الصآخة * يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه) * ففي هذه الآية ثبوت الأنساب بينهم.
السؤال الثاني: أنه قال: * (ولا يتسآءلون) * مع أنه ذكر في آيات أخر أنهم في الآخرة يتساءلون، كقوله في سورة الطور * (وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون) * وقوله في الصافات * (فأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد ذكرنا الجواب عن هذين السؤالين في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب بما حاصله:
إن الجواب عن السؤال الأول: هو أن المراد بنفي الأنساب انقطاع آثارها، التي كانت مترتبة عليها في دار الدنيا، من التفاخر بالآباء، والنفع والعواطف والصلات. فكل ذلك ينقطع يوم القيامة، ويكون الإنسان لا يهمه إلا نفسه، وليس المراد نفي حقيقة الأنساب، من أصلها بدليل قوله: * (يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه) *.
وإن الجواب عن السؤال الثاني من ثلاثة أوجه:
الأول: هو قول من قال: إن نفي السؤال بعد النفخة الأولى، وقبل الثانية، وإثباته بعدهما معا. وهذا الجواب فيما يظهر لا يخلو من نظر.
الثاني: أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة، والجواز على الصراط وإثباته فيما عدا ذلك وهو عن السدي، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
الثالث: أن السؤال المنفي سؤال خاص، وهو سؤال بعضهم العفو من بعض، فيما
356

بينهم من الحقوق، لقنوطهم من الإعطاء، ولو كان المسؤول أبا أو ابنا أو أما أو زوجة، ذكر هذه الأوجه الثلاثة صاحب الإتقان.
قوله تعالى: * (فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولائك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون) *. قد قدمنا الآيات الموضحة، لمعنى هاتين الآيتين في سورة الأعراف في الكلام على قوله: * (والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون ومن خفت موازينه) *. وقوله في سورة الكهف: * (فإن الله عدو للكافرين) * وغير ذلك. فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: * (تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون) *. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار تلفح وجوههم النار: أي تحرقها إحراقا شديدا، جاء موضحا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: * (يوم تقلب وجوههم فى النار) *. وقوله تعالى: * (ومن جآء بالسيئة فكبت وجوههم فى النار) *. وقوله تعالى: * (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم) *. وقوله تعالى: * (سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار) * ز. وقوله تعالى: * (أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب يوم القيامة) * وقوله: * (يشوى الوجوه بئس الشراب) *. إلى غير ذلك من الآيات وقوله: * (وهم فيها كالحون) * الكالح: هو الذي تقلصت شفتاه حتى بدت أسنانه، والنار والعياذ بالله تحرق شفاههم، حتى تتقلص عن أسنانهم، كما يشاهد مثله في رأس الشاة المشوي في نار شديدة الحر، ومنه قول الأعشى: وهم فيها كالحون) * الكالح: هو الذي تقلصت شفتاه حتى بدت أسنانه، والنار والعياذ بالله تحرق شفاههم، حتى تتقلص عن أسنانهم، كما يشاهد مثله في رأس الشاة المشوي في نار شديدة الحر، ومنه قول الأعشى:
* وله المقدم لا مثل له
* ساعة الشدق عن الناب كلح
*
وعن ابن عباس: كالحون: عابسون.
قوله تعالى: * (ألم تكن ءاياتى تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون * قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين) *.
357

ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن أهل النار يسألون يوم القيامة، فيقول لهم ربهم * (ألم تكن ءاياتى تتلى عليكم) * أي في دار الدنيا على ألسنة الرسل فكنتم بها تكذبون، وأنهم اعترفوا بذلك، وأنهم لم يجيبوا الرسل لما دعوهم إليه من الإيمان، لأن الله أراد بهم الشقاء وهم ميسرون لما خلقوا له، فلذلك كفروا، وكذبوا الرسل.
قد أوضحنا الآيات الدالة عليه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله هنا: * (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين) * الظاهر أن معنى قولهم: * (غلبت علينا شقوتنا) * أن الرسل بلغتهم، وأنذرتهم وتلت عليهم آيات ربهم، ولكن ما سبق في علم الله من شقاوتهم الأزلية، غلب عليهم، فكذبوا الرسل، ليصيروا إلى ما سبق في علمه جل وعلا، من شقاوتهم. ونظير الآية على هذا الوجه قوله تعالى: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جآءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الا ليم) * وقوله عن أهل النار * (قالوا بلى ولاكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) * إلى غير ذلك من الآيات، ويزيد ذلك إيضاحا قوله صلى الله عليه وسلم (كل ميسر لما خلق له) وقوله تعالى: * (هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) * وقوله: * (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذالك خلقهم) * على أصح التفسيرين وقوله عنهم * (وكنا قوما ضآلين) * اعتراف منهم بضلالهم، حيث لا ينفع الاعتراف بالذنب ولا الندم عليه، كقوله تعالى: * (فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير) * ونحو ذلك من الآيات.
وهذا الذي فسرنا به الآية، هو الأظهر الذي دل عليه الكتاب والسنة، وبه تعلم أن قول أبي عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية، وأحسن ما قيل في معناه: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا، فسمى اللذات والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها كما قال الله عز وجل: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا) * لأن ذلك يؤديهم إلى النار ا ه تكلف مخالف للتحقيق.
ثم حكى القرطبي ما ذكرنا أنه الصواب بقيل ثم قال: وقيل حسن الظن بالنفس، وسوء الظن بالخلق ا ه.
ولا يخفى أن الصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى، وقوله هنا: * (قوما ضآلين) *
358

أي عن الإسلام إلى الكفر، وعن طريق الجنة إلى طريق النار، وقرأ هذا الحرف: حمزة، والكسائي: شقاوتنا بفتح الشين، والقاف وألف بعدها، وقرأه الباقون: بكسر الشين، وإسكان القاف وحذف الألف.
قوله تعالى: * (ربنآ أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أهل النار يدعون ربهم فيها فيقولون: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا إلى ما لا يرضيك بعد إخراجنا منها، فإنا ظالمون، وأن الله يجيبهم بقوله: * (اخسئوا فيها ولا تكلمون) * أي امكثوا فيها خاسئين: أي أذلاء صاغرين حقيرين، لأن لفظة أخسأ إنما تقال للحقير الذليل، كالكلب ونحوه. فقوله: * (اخسئوا فيها) * أي ذلوا فيها ماكثين في الصغار والهوان.
وهذا الخروج من النار الذي طلبوه قد بين تعالى أنهم لا ينالونه كقوله تعالى * (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم) * وقوله تعالى: * (كذالك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) * وقوله تعالى: * (كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) *، وقوله تعالى: * (
كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد جاء في القرآن أجوبة متعددة لطلب أهل النار فهنا قالوا: * (ربنآ أخرجنا منها) * فأجيبوا * (اخسئوا فيها ولا تكلمون) * وفي السجدة * (ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا) * فأجيبوا * (ولاكن حق القول منى لاملأن جهنم) *، وفي سورة المؤمن * (قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) * فأجيبوا * (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير) * وفي الزخرف * (ونادوا يامالك ليقض علينا ربك) * فأجيبوا * (إنكم ماكثون) * وفي سورة إبراهيم * (فيقول الذين ظلموا ربنآ أخرنآ إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل) * فيجابون * (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) * وفي سورة فاطر * (وهم يصطرخون فيها ربنآ أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل) * فيجابون * (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجآءكم النذير فذوقوا فما
359

للظالمين من نصير) * إلى غير ذلك من الآيات الدالة على مثل هذه الأجوبة.
وعن ابن عباس: أن بين كل طلب منها وجوابه ألف سنة والله أعلم. وقوله في هذه الآية: ولا تكلمون: أي في رفع العذاب عنكم، ولا إخراجكم من النار أعاذنا الله، وإخواننا المسلمين منها.
قوله تعالى: * (إنه كان فريق من عبادى يقولون ربنآ ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون) *. قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، أن إن المكسورة المشددة من حروف التعليل، كقولك: عاقبه إنه مسيء: أي لأجل إساءته. وقوله في هذه الآية: * (إنه كان فريق من عبادى) *. يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة، على أن الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم، وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن الذي يقول: * (ربنآ ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين) * فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله، والإيمان به فيدخلون بذلك النار.
وما ذكره تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين أشار له في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: * (إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون) * وكقوله تعالى: * (وكذالك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهاؤلاء من الله عليهم من بيننآ) * وكل ذلك احتقار منهم لهم، وإنكارهم أن الله يمن عليهم بخير، وكقوله تعالى: * (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) *. وقوله تعالى عنهم: * (لو كان خيرا ما سبقونآ إليه) * وكل ذلك احتقار منهم لهم. وقوله: * (فاتخذتموهم سخريا) * والسخري بالضم والكسر: مصدر سخر منه، إذا استهزأ به على سبيل الاحتقار. قال الزمخشري في ياء النسب: زيادة في الفعل، كما قيل في الخصوصية بمعنى الخصوص، ومعناه: أن الياء المشددة في آخره تدل على زيادة سخرهم منهم: ومبالغتهم في ذلك، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: سخريا بضم السين، والباقون بكسرها ومعنى القراءتين واحد، وهو سخرية الكفار واستهزاؤهم بضعفاء المؤمنين، كما بينا. وممن قال بأن معناهما واحد: الخليل وسيبويه، وهو الحق إن شاء الله تعالى. وعن الكسائي والفراء: أن السخري بكسر السين من قبيل ما ذكرنا من الاستهزاء، وأن السخري بضم السين من التسخير، الذي هو التذليل والعبودية.
360

والمعنى: أن الكفار يسخرون ضعفاء المؤمنين، ويستعبدونهم كما كان يفعله أمية بن خلف ببلال، ولا يخفى أن الصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى، وحتى في قوله: * (حتى أنسوكم ذكرى) * حرف غاية، لاتخاذهم إياهم سخريا: أي لم يزالوا كذلك، حتى أنساهم ذلك ذكر الله والإيمان به، فكان مأواهم النار، والعياذ بالله.
قوله تعالى: * (إنى جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفآئزون) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جزى أولئك المؤمنين المستضعفين في الدنيا بالفوز بالجنة في الآخرة. وقوله: * (بما صبروا) * أي بسبب صبرهم في دار الدنيا، على أذى الكفار الذين اتخذوهم سخريا، وعلى غير ذلك من امتثال أمر الله، واجتناب نهيه، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة، من أن أولئك المستضعفين الذين كان الكفار يستهزؤون بهم، جزاهم الله يوم القيامة الفوز بجنته، ورضوانه، جاء مبينا في مواضع أخر مع بيان أنهم يوم القيامة يهزؤون بالكفار، ويضحكون منهم، والكفار في النار. والعياذ بالله كقوله تعالى: * (فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون) * وقوله تعالى: * (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) * وقوله: * (زين للذين كفروا الحيواة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) * إلى غير ذلك من الآيات. وقرأ حمزة والكسائي: إنهم هم الفائزون بكسر همزة إن، وعلى قراءتهما فمفعول جزيتهم: محذوف: أي جزيتهم جنتي إنهم هم الفائزون، وعلى هذه القراءة فإن لاستئناف الكلام، وقرأ الباقون: أنهم هم الفائزون. بفتح همزة أن، وعلى قراءة الجمهور هذه فالمصدر المنسبك، من أن وصلتها: مفعول به لجزيتهم: أي جزيتهم فوزهم كما لا يخفى. والفوز نيل المطلوب الأعظم.
قوله تعالى: * (قال كم لبثتم فى الا رض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العآدين) *. في هذه الآية سؤال معروف: وهو أنهم لما سئلوا يوم القيامة عن قدر مدة لبثهم في الأرض في الدنيا أجابوا بأنهم لبثوا يوما أو بعض يوم، مع أنه قد دلت آيات أخر على أنهم أجابوا بغير هذا الجواب كقوله تعالى: * (يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا) * والعشر أكثر من يوم أو بعضه، وكقوله تعالى: * (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا
361

غير ساعة) * والساعة: أقل من يوم أو بعضه، وقوله: * (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) * وقوله: * (كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم) * وقوله تعالى: * (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) *.
وقد بينا الجواب عن هذا السؤال في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام على هذه الآية بما حاصله: أن بعضهم يقول لبثنا يوما أو بعض يوم، ويقول بعض آخر منهم: لبثنا ساعة ويقول بعض الآخر منهم: لبثنا عشرا.
والدليل على هذا الجواب من القرآن أنه تعالى بين أن أقواهم إدراكا، وأرجحهم عقلا، وأمثلهم طريقة هو من يقول: إنهم ما لبثوا إلا يوما واحدا، وذلك في قوله تعالى:
* (يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما) * فالآية صريحة في اختلاف أقوالهم، وعلى ذلك فلا إشكال والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى: * (فاسأل العآدين) * أي الحاسبين، الذين يضبطون مدة لبثنا، وقرأ ابن كثير والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السين، وحذف الهمزة. والباقون: فاسأل بغير نقل، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: قل كم لبثتم بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر، وقرأ الباقون: قال كم لبثتم بفتح القاف بعدها ألف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي.
وقال الزمخشري ما حاصله: إنه على قراءة قال بصيغة الماضي فالفاعل ضمير يعود إلى الله، أو إلى من أمر بسؤالهم من الملائكة، وعلى قراءة قل بصيغة الأمر، فالضمير راجع إلى الملك المأمور بسؤالهم أو بعض رؤساء أهل النار هكذا قال. والله تعالى أعلم. وقد صدقهم الله جل وعلا في قلة لبثهم في الدنيا بقوله: * (قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون) * لأن مدة مكثهم في الدنيا قليلة جدا. بالنسبة إلى طول مدتهم خالدين في النار، والعياذ بالله. وقرأ حمزة والكسائي: قل إن لبثتم إلا قليلا بصيغة الأمر والباقون بصيغة الماضي.
362

قوله تعالى: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش الكريم) *. الاستفهام في قوله: أفحسبتم للانكار، والحسبان هنا معناه: الظن. يعني: أظننتم أنا خلقناكم عبثا لا لحكمة، وأنكم لا ترجعون إلينا يوم القيامة، فنجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا شر، ثم نزه جل وعلا نفسه، عن أن يكون خلقهم عبثا، وأنهم لا يرجعون إليه للحساب والجزاء.
وقوله: * (فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش الكريم) * أي تعاظم وتقدس، وتنزه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، ومنه خلقكم عبثا سبحانه وتعالى، عن ذلك علوا كبيرا.
وما تضمنته هذه الآية من إنكار الظن المذكور جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (وما خلقنا السمآء والا رض وما بينهما باطلا ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) * وقوله تعالى: * (وما خلقنا السماوات والا رض وما بينهما لاعبين ما خلقناهمآ إلا بالحق) * وقوله تعالى: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من منى يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والا نثى) * وقوله: سدى: أي مهملا لا يحاسب ولا يجازي، وهو محل إنكار ظن ذلك في قوله: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) * وقوله: عبثا: يجوز إعرابه حالا، لأنه مصدر منكر أي إنما خلقناكم في حال كوننا عابثين، ويجوز أن يعرب مفعولا من أجله: أي إنما خلقناكم، لأجل العبث لا لحكمة اقتضت خلقنا إياكم، وأعربه بعضهم مفعولا مطلقا، وليس بظاهر. قال القرطبي عبثا: أي مهملين، والعبث في اللغة: اللعب، ويدل على تفسيره في الآية باللعب قوله تعالى: * (وما خلقنا السماوات والا رض وما بينهما لاعبين) * وقوله: * (الملك الحق) * قال بعضهم أي الذي يحق له الملك، لأن كل شيء منه وإليه. وقال بعضهم: الملك الحق: الثابت الذي لا يزول ملكه، كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: * (وله الدين واصبا) * وإنما وصف عرشه بالكرم لعظمته وكبر شأنه والظاهر أن قوله: * (وأنكم إلينا لا ترجعون) * معطوف على قوله: * (أنما خلقناكم عبثا) * خلافا لمن قال: إنه معطوف على قوله: عبثا، لأن الأول أظهر منه والعلم عند الله تعالى.
363

قوله تعالى: * (ومن يدع مع الله إلها ءاخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) *. البرهان: الدليل الذي لا يترك في الحق لبسا، وقوله: لا برهان له به كقوله * (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا) *. والسلطان: هو الحجة الواضحة وهو بمعنى: البرهان وقوله في هذه الآية الكريمة * (فإنما حسابه عند ربه) * قد بين أن حسابه الذي عند ربه، لا فلاح له فيه بقوله بعده * (إنه لا يفلح الكافرون) * وأعظم الكفارين كفرا هو من يدعو مع الله إلاها آخر، لا برهان له به، ونفي الفلاح عنه يدل على هلاكه وأنه من أهل النار، وقد حذر الله من دعاء إلاه معه في آيات كثيرة كقوله: * (ولا تجعلوا مع الله إلاها ءاخر إنء لكم منه نذير مبين) * وقوله: * (ولا تدع مع الله إلاها ءاخر لا إلاه إلا هو كل شىء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) * وقوله تعالى: * (لا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا) * والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا، ولا خلاف بين أهل العلم أن قوله هنا: * (لا برهان له به) * لا مفهوم مخالفة له، فلا يصح لأحد أن يقول: أما من عبد معه إلاها آخر له برهان به فلا مانع من ذلك، لاستحالة وجود برهان على عبادة آلاه آخر معه، بل البراهين القطعية المتواترة، دالة على أنه هو المعبود وحده جل وعلا ولا يمكن أن يوجد دليل على عبادة غيره البتة. وقد تقرر في فن الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة، كون تخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع فيرد النص ذاكرا لوصف الموافق للواقع ليطبق عليه الحكم، فتخصيصه بالذكر إذا ليس لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق، بل لتخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع.
ومن أمثلته في القرآن هذه الآية لأن قوله: * (لا برهان له به) * وصف مطابق للواقع، لأنهم يدعون معه غيره بلا برهان، فذكر الوصف لموافقته الواقع، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق.
ومن أمثلته في القرآن أيضا قوله تعالى: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين) * لأنه نزل في قوم والوا اليهود دون المؤمنين، فقوله * (من دون المؤمنين) * ذكر لموافقته للواقع لا لإخراج المفهوم، عن حكم المنطوق ومعلوم أن اتخاذ
364

المؤمنين الكافرين أولياء، ممنوع على كل حال، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في ذكره موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله: من دون المؤمنين) * ذكر لموافقته للواقع لا لإخراج المفهوم، عن حكم المنطوق ومعلوم أن اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، ممنوع على كل حال، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في ذكره موانع اعتبار
مفهوم المخالفة بقوله:
* أو امتنان أو وفاق الواقع
* والجهل والتأكيد عند السامع
*
وقوله تعالى في خاتمة هذه السورة الكريمة: * (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) * فيه الدليل على أن ذلك الفريق، الذين كانوا يقولون: ربنا آمنا، فاغفر لنا، وارحمنا، وأنت خير الراحمين. موفقون في دعائهم ذلك ولذا أثنى الله عليهم به، وأمر به نبيه صلى الله عليه وسلم لتقتدي به أمته في ذلك، ومعمول اغفر وارحم حذف هنا، لدلالة ما تقدم عليه في وقوله: * (فاغفر لنا وارحمنا) * والمغفرة: ستر الذنوب بعفو الله وحلمه حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها، والرحمة صفة الله التي اشتق لنفسه منها اسمه الرحمان، واسمه الرحيم: وهي صفة تظهر آثارها في خلقه الذين يرحمهم، وصيغة التفضيل في قوله: * (وأنت خير الراحمين) * لأن المخلوقين قد يرحم بعضهم بعضا، ولا شك أن رحمة الله تخالف رحمة خلقه، كمخالفة ذاته وسائر صفاته لذواتهم، وصفاتهم كما أوضحناه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: * (ثم استوى على العرش) * والعلم عند الله تعالى.
365

((سورة النور))
* (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيهآ ءايات بينات لعلكم تذكرون * الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الا خر وليشهد عذابهما طآئفة من المؤمنين * الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحهآ إلا زان أو مشرك وحرم ذالك على المؤمنين * والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولائك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذالك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم * والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهدآء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) *
* (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل زانية وكل زان يجب جلد كل واحد منهما مائة جلدة؛ لأن الألف واللام في قوله: * (الزانية والزانى) *، إن قلنا: إنهما موصول وصلتهما الوصف الذي هو اسم الفاعل الذي هو * (الزانية والزانى) *، فالموصولات من صيغ العموم.
وإن قلنا: إنهما للتعريف لتناسي الوصفية، وأن مرتكب تلك الفاحشة يطلق عليه اسم الزاني، كإطلاق أسماء الأجناس، فإن ذلك يفيد الاستغراق، فالعموم الشامل لكل زانية وكل زان، هو ظاهر الآية، على جميع الاحتمالات.
وظاهر هذا العموم شموله للعبد، والحر، والأمة، والحرة، والبكر، والمحصن من الرجال وا لنساء.
وظاهره أيضا: أنه لا تغرب الزانية، ولا الزاني عاما مع الجلد، ولكن بعض الآيات القرآنية دل على أن عموم الزانية يخصص مرتين.
إحداهما: تخصيص حكم جلدها مائة بكونها حرة، أما إن كانت أمة، فإنها تجلد نصف المائة وهو خمسون، وذلك في قوله تعالى في الإماء: * (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) *، والمراد بالمحصنات هنا: الحرائر والعذاب الجلد، وهو بالنسبة إلى الحرة الزانية: مائة جلدة والأمة عليها نصفه بنص آية (النساء) هذه، وهو خمسون؛ فآية * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) *، مخصصة لعموم قوله: * (الزانية والزانى) *، بالنسبة إلى الزانية الأنثى.
وأما التخصيص المرة الثانية لعموم الزانية في آية (النور) هذه فهو بآية منسوخة التلاوة، باقية الحكم، تقتضي أن عموم الزانية هنا مخصص بكونها بكرا.
366

أما إن كانت محصنة، بمعنى أنها قد تزوجت من قبل الزنى، وجامعها زوجها في نكاح صحيح فإنها ترجم.
والآية التي خصصتها بهذا الحكم الذي ذكرنا أنها منسوخة التلاوة باقية الحكم، هي قوله تعالى: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله، والله عزيز حكيم).
وهذا التخصيص إنما هو على قول من يقول: لا يجمع للزاني المحصن، بين الجلد والرجم، وإنما يرجم فقط بدون جلد.
أما على قول من يرى الجمع بينهما فلا تخصيص، وإنما في آية الرجم زيادته على الجلد، فكلتا الآيتين أثبتت حكما لم تثبته الأخرى، وسيأتي إيضاح هذا إن شاء الله غير بعيد وأقوال أهل العلم فيه ومناقشة أدلتهم.
أما الزاني الذكر فقد دلت الآية التي ذكرنا، أنها منسوخة التلاوة باقية الحكم على تخصيص عمومه، وأن الذي يجلد المائة من الذكور، إنما هو الزاني البكر، وأما المحصن فإنه يرجم، وهذا التخصيص في الذكر أيضا إنما هو على قول من لا يرى الجمع بين الجلد والرجم؛ كما أوضحناه قريبا في الأنثى.
وأما على قول من يرى الجمع بينهما فلا تخصيص، بل كل واحدة من الآيتين أثبتت حكما لم تثبته الأخرى.
وعموم الزاني في آية (النور) هذه، مخصص عند الجمهور أيضا مرة أخرى، بكون جلد المائة خاصا بالزاني الحر، أما الزاني الذكر العبد فإنه يجلد نصف المائة، وهو الخمسون.
ووجه هذا التخصيص: إلحاق العبد بالأمة في تشطير حد الزنى بالرق؛ لأن مناط التشطير الرق بلا شك؛ لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى الحدود وصفان طرديان، لا
يترتب عليهما حكم، فدل قوله تعالى في آية (النساء) في الإماء: * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) *، أن الرق مناط تشطير حد الزنى، إذ لا فرق بين الذكر والأنثى في الحدود، فالمخصص لعموم الزاني في الحقيقة، هو ما أفادته آية: * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) *، وإن سماه الأصوليون تخصيصا بالقياس، فهو في الحقيقة تخصيص آية بما فهم من آية أخرى.
367

مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: اعلم أن رجم الزانيين المحصنين دلت عليه آيتان من كتاب الله، إحداهما نسخت تلاوتها، وبقي حكمها. والثانية: باقية التلاوة والحكم، أما التي نسخت تلاوتها، وبقي حكمها فهي قوله تعالى: (الشيخ والشيخة) إلى آخرها؛ كما سيأتي. وكون الرجم ثابتا بالقرءان ثابت في الصحيح.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: في باب رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت:
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس قال: كنت أقرىء رجالا من المهاجرين منهم: عبد الرحمان بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها، إذ رجع إلى عبد الرحمان، فقال: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، الحديث بطوله.
وفيه: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى، إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، انتهى محل الغرض من صحيح البخاري.
وفيه: أن الرجم نزل في القرءان في آية من كتاب الله، وكونها لم تقرأ في الصحف، يدل على نسخ تلاوتها، مع بقاء حكمها؛ كما هو ثابت في الحديث المذكور.
وفي رواية في البخاري من حديث عمر رضي الله عنه: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى، وقد أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحمل، أو الاعتراف.
قال سفيان: كذا حفظت: ألا وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده.
368

وقال ابن حجر في (فتح الباري)، في شرحه لهذه الرواية الأخيرة، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية جعفر الفريابي، عن علي بن عبد الله شيخ البخاري فيه، فقال بعد قوله: أو الاعتراف، وقد قرأناها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فسقط من رواية البخاري من قوله: وقد قرأناها إلى قوله: البتة، ولعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدا، فقد أخرجه النسائي عن محمد بن منصور، عن سفيان كرواية جعفر، ثم قال: لا أعلم أحدا ذكر في هذا الحديث: (الشيخ والشيخة...) غير سفيان، وينبغي أن يكون وهم في ذلك.
قلت: وقد أخرج الأئمة هذا الحديث من رواية مالك، ويونس، ومعمر، وصالح بن كيسان، وعقيل، وغيرهم من الحفاظ عن الزهري.
وقد وقعت هذه الزيادة في هذا الحديث من رواية الموطأ عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: لما صدر عمر من الحج، وقدم المدينة خطب الناس فقال: أيها الناس، قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة، ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أن يقول قائل: لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، والذي نفسي بيده، لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة). قال مالك: الشيخ والشيخة: الثيب والثيبة.
ووقع في الحلية في ترجمة داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب، عن عمر: لكتبتها في آخر القرءان.
ووقعت أيضا في هذا الحديث في رواية أبي معشر الآتي التنبيه عليها، في الباب الذي يليه فقال متصلا بقوله: قد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، ولولا أن يقولوا: كتب عمر ما ليس في كتاب الله، لكتبته قد قرأنا: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم).
وأخرج هذه الجملة النسائي وصححه الحاكم، من حديث أبي بن كعب، قال: ولقد كان فيها، أي سورة (الأحزاب)، آية الرجم: (الشيخ)، فذكر مثله.
369

ومن حديث زيد بن ثابت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الشيخ والشيخة) مثله، إلى قوله: (البتة).
ومن رواية أسامة بن سهل أن خالته أخبرته، قالت: لقد أقرأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الرجم، فذكره إلى قوله: (البتة)، وزاد (بما قضيا من اللذة).
وأخرج النسائي أيضا أن مروان بن الحكم قال لزيد: ألا تكتبها في المصحف؟ قال: لا ألا ترى أن الشابين الثيبين يرجمان ولقد ذكرنا ذلك، فقال عمر: أنا أكفيكم، فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اكتبني آية الرجم، فقال: (لا أستطيع).
وروينا في فضائل القرءان لابن الضريس من طريق يعلى وهو ابن حكيم، عن زيد بن أسلم أن عمر خطب الناس، فقال: لا تشكوا في الرجم فإنه حق، ولقد هممت أن أكتبه في المصحف، فسألت أبي بن كعب، فقال: أليس أتيتني، وأنا أستقرئها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعت في صدري، وقلت: استقرئه آية الرجم، وهم يتسافدون تسافد الحمر، ورجاله ثقات، وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها، وهو الاختلاف.
وأخرج الحاكم من طريق كثير بن الصلت، قال: كان زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص يكتبان في المصحف، فمرا على هذه الآية، فقال زيد: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: (الشيخ والشيخة فارجموهما البتة)، فقال عمر: لما نزلت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: أكتبها، فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى، ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم.
فيستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها، انتهى بطوله من فتح الباري.
وفيه الدلالة الظاهرة على ما ذكرنا من أن آية الرجم منسوخة التلاوة، باقية الحكم، وأنها مخصصة لآية الجلد، على القول بعدم الجمع بين الرجم والجلد، كما تقدم.
ولكن ما أشار إليه ابن حجر من استفادة سبب نسخ تلاوتها من بعض الأحاديث المذكورة غير ظاهر؛ لأن كثيرا من الآيات يبين النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص عمومه، ويوضح المقصود به وإن كان خلاف الظاهر المتبادر منه، ولم يؤد شئ من ذلك إلى نسخ تلاوته كما هو معلوم، والآية القرءانية عند نزولها تكون لها أحكام متعددة، كالتعبد بتلاوتها،
370

وكالعمل بما تضمنته من الأحكام الشرعية، والقراءة بها في الصلاة، ونحو ذلك من الأحكام. وإذا أراد الله أن ينسخها بحكمته فتارة ينسخ جميع أحكامها من تلاوة، وتعبد، وعمل بما فيها من الأحكام كآية عشر رضعات معلومات يحرمن، وتارة ينسخ بعض أحكامها دون بعض، كنسخ حكم تلاوتها، والتعبد بها مع بقاء ما تضمنته من الأحكام الشرعية، وكنسخ حكمها دون تلاوتها، والتعبد بها كما هو غالب ما في القرءان من النسخ.
وقد أوضحنا جميع ذلك بأمثلته في سورة (النحل) في الكلام على قوله تعالى: * (وإذا بدلنآ ءاية مكان ءاية) *، وله الحكمة البالغة في جميع ما يفعله من ذلك.
فآية الرجم المقصود منها إثبات حكمها، لا التعبد بها، ولا تلاوتها، فأنزلت وقرأها الناس، وفهموا منها حكم الرجم، فلما تقرر ذلك في نفوسهم نسخ الله تلاوتها، والتعبد بها، وأبقى حكمها الذي هو المقصود، والله جل وعلا أعلم.
فالرجم ثابت في القرءان، وما سيأتي عن علي رضي الله عنه أنه قال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ينافي ذلك؛ لأن السنة هي التي بينت أن حكم آية الرجم باق بعد نسخ تلاوتها فصار حكمها من هذه الجهة، فإنه ثابت بالسنة، والله تعالى أعلم.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني أبو الطاهر، وحرملة بن يحيى قالا: حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أنه سمع عبد الله بن عباس يقول: قال عمر بن الخطاب، وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان، أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف، اه منه.
فهذا الحديث الذي اتفق عليه الشيخان، عن هذا الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، دليل صريح صحيح على أن الرجم ثابت بآية من كتاب الله،
371

أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها الصحابة، ووعوها، وعقولوها وأن حكمها باق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله والصحابة رضي الله عنهم فعلوه بعده.
فتحققنا بذلك بقاء حكمها مع أنها لا شك في نسخ تلاوتها مع الروايات التي ذكرنا في كلام ابن حجر، ومن جملة ما فيها لفظ آية الرجم المذكورة، والعلم عند الله تعالى.
وأما الآية التي هي باقية التلاوة والحكم، فهي قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم) *، على القول بأنها نزلت في رجم اليهوديين الزانيين بعد الإحصان، وقد رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقصة رجمه لهما مشهورة، ثابتة في الصحيح، وعليه فقوله: * (ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) *، أي: عما في التوراة من حكم الرجم، وذم المعرض عن الرجم في هذه الآية، يدل على أنه ثابت في شرعنا، فدلت الآية على هذا القول أن الرجم ثابت في شرعنا، وهي باقية التلاوة.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: أجمع العلماء على أن الرجم لا يكون إلا على من زنى، وهو محصن.
ومعنى الإحصان: أن يكون قد جامع في عمره، ولو مرة واحدة في نكاح صحيح، وهو بالغ عاقل حر، والرجل والمرأة في هذا سواء، وكذلك المسلم، والكافر، والرشيد، والمحجور عليه لسفه، والدليل على أن الكافر إذا كان محصنا يرجم الحديث الصحيح الذي ثبت فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا بعد الإحصان، وقصة رجمهما مشهورة مع صحتها؛ كما هو معلوم.
الفرع الثاني: أجمع أهل العلم على أن من زنى، وهو محصن يرجم، ولم نعلم بأحد من أهل القبلة خالف في رجم الزاني المحصن، ذكرا كان أو أنثى إلا ما حكاه القاضي عياض وغيره عن الخوارج، وبعض المعتزلة كالنظام وأصحابه. فإنهم لم يقولوا بالرجم، وبطلان مذهب من ذكر من الخوارج، وبعض المعتزلة واضح من النصوص الصحيحة الصريحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده كما قدمنا من حديث عمر المتفق عليه، وكما سيأتي إن شاء الله.
الفرع الثالث: أجمع العلماء على أن الزاني ذكرا كان أو أنثى، إذا قامت عليه البينة،
372

أنهم رأوه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، أنه يجب رجمه إذا كان محصنا، وأجمع العلماء أن بينة الزنى، لا يقبل فيها أقل من أربعة عدول ذكور، فإن
شهد ثلاثة عدول، لم تقبل شهادتهم وحدوا، لأنهم قذفة كاذبون؛ لأن الله تعالى يقول: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) *، ويقول جل وعلا: * (واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) *، وكلتا الآيتين المذكورتين صريحة في أن الشهود في الزنى، لا يجوز أن يكونوا أقل من أربعة، وقد قال جل وعلا: * (لولا جاءو عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) *، وقد بينت هذه الآية اشتراط الأربعة كما في الآيتين المذكورتين قبلها، وزادت أن القاذفين إذ لم يأتوا بالشهداء الأربعة هم الكاذبون عند الله.
ومن كذب في دعواه الزنى على محصن أو محصنة وجب عليه حد القذف؛ كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله.
وما ذكره أبو الخطاب من الحنابلة عن أحمد والشافعي من أن شهود الزنى، إذا لم يكملوا لا حد قذف عليهم، لأنهم شهود لا قذفة، لا يعول عليه، والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا.
ومما يؤيده قصة عمر مع الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة فإن رابعهم لما لم يصرح بالشهادة على المغيرة بالزنى، جلد عمر الشهود الثلاثة جلد القذف ثمانين، وفيهم أبو بكرة رضي الله عنه، والقصة معروفة مشهورة، وقد أوضحناها في غير هذا الموضع.
وجمهور أهل العلم أن العبيد لا تقبل شهادتهم في الزنى، ولا نعلم خلافا عن أحد من أهل العلم، في عدم قبول شهادة العبيد في الزنى، إلا رواية عن أحمد ليست هي مذهبه وإلا قول أبي ثور.
ويشترط في شهود الزنى أن يكونوا ذكورا ولا تصح فيه شهادة النساء بحال، ولا نعلم أحدا من أهل العلم خالف في ذلك، إلا شيئا يروى عن عطاء، وحماد أنه يقبل فيه ثلاثة رجال وامرأتان.
وقال ابن قدامة في (المغني): وهو شذوذ لا يعول عليه؛ لأن لفظ الأربعة اسم لعدد
373

المذكورين، ويقتضي أن يكتفى فيه بأربعة، ولا خلاف أن الأربعة إذا كان بعضهم نساء لا يكتفى بهم، وأن أقل ما يجزئ خمسة، وهذا خلاف النص؛ ولأن في شهادتهن شبهة لتطرق الضلال إليهن، قال الله تعالى: * (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى) *، والحدود تدرأ بالشبهات، انتهى منه.
ولا خلاف بين أهل العلم أن شهادة الكفار كالذميين لا تقبل على المسلم بالزنى.
واختلف هل تقبل على كافر مثله؟ فقيل: لا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما رجم اليهوديين باعترافهما بالزنى، لا بشهادة شهود من اليهود عليهم بالزنى، والذين قالوا هذا القول زعموا أن شهادة الشهود في حديث جابر أنها شهادة شهود مسلمين، يشهدون على اعتراف اليهوديين المذكورين بالزنى، وممن قال هذا القول: ابن العربي المالكي.
وقال بعض أهل العلم: تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض إن تحاكموا إلينا.
وقال القرطبي: الجمهور على أن الكافر لا تقبل شهادته على مسلم، ولا على كافر لا في حد ولا في غيره، ولا فرق بين السفر والحضر في ذلك، وقبل شهادتهم جماعة من التابعين، وبعض الفقهاء إذا لم يوجد مسلم، واستثنى أحمد حالة السفر إذا لم يوجد مسلم.
وأجاب القرطبي عن الجمهور عن واقعة اليهوديين بأنه صلى الله عليه وسلم نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة، وألزمهم العمل به ظاهرا لتحريفهم كتابهم، وتغييرهم حكمه أو كان ذلك خاصا بهذه الواقعة.
وقال ابن حجر بعد نقله كلام القرطبي المذكور، كذا قال: والثاني مردود، ثم قال: وقال النووي: الظاهر أنه رجمهما بالاعتراف، فإن ثبت حديث جابر فلعل الشهود كانوا مسلمين وإلا فلا عبرة بشهادتهم، ويتعين أنهما أقرا بالزنى.
ثم قال ابن حجر: قلت: لم يثبت أنهما كانوا مسلمين، ويحتمل أن يكون الشهود أخبروا بذلك بقية اليهود، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامهم، ولم يحكم فيهما إلا مستندا لما أطلعه الله تعالى عليه، فحكم بالوحي، وألزمهم الحجة بينهم؛ كما قال تعالى: * (وشهد شاهد من أهلها) *، وأن شهودهم شهدوا عليهما عند إخبارهم بما ذكر، فلما رفعوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم استعلم القصة على وجهها فذكر كل من حضره من الرواة ما حفظه في
374

ذلك، ولم يكن مستند حكم النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما أطلعه الله عليه، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر في (فتح الباري).
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي رجحانه بالدليل، هو مذهب الجمهور من عدم قبول شهادة الكفار مطلقا؛ لأن الله يقول في المسلمين الفاسقين: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) *، وإذا نص الله جل وعلا في محكم كتابه على عدم قبول شهادة الفاسق، فالكافر أولى بذلك، كما لا يخفى. وقد قال جل وعلا في شهود الزنا، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منه: * (واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) *، فخص الأربعة بكونهم منا، ويمكن أن يجيب المانع بأن أول الآية فيه * (من نسائكم) *، فلا نتناول نساء أهل الذمة ونحوهم من الكفار، وأنه لا تقبل شهادة كافر في شئ إلا بدليل خاص كالوصية في السفر، إذا لم يوجد مسلم؛ لأن الله نص على ذلك بقوله: * (يأيها الذين ءامنوا شهادة) *.
والتحقيق أن حكمها غير منسوخ، لأن القرءان لا يثبت نسخ حكمه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، والآيات التي زعم من ادعى النسخ أنها ناسخة لها؛ كقوله: * (ذوى عدل منكم) *، وقوله: * (ممن ترضون من الشهداء) *، وقوله: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) *.
والجمهور على أن الأعم لا ينسخ الأخص، خلافا لأبي حنيفة.
أما حديث جابر المشار إليه الذي يفهم منه قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض في حد الزنى، فقد قال فيه أبو داود رحمه الله في سننه: حدثنا يحيى بن موسى البلخي، ثنا أبو أسامة، قال مجالد: أخبرنا عن عامر، عن جابر بن عبد الله، قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال: (ائتوني بأعلم رجلين منكم)، الحديث. وفيه: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاءوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما، انتهى محل الغرض منه.
وظاهر المتبادر منه: أن الشهود الذين شهدوا من اليهود كما لا يخفى، فظاهر الحديث دال دلالة واضحة على قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض، في حد الزنى، إن كان صحيحا، والسند المذكور الذي أخرجه به أبو داود لا يصح؛ لأن فيه مجالدا وهو
375

مجالد بن سعيد بن عمير بن بسطام بن ذي مران بن شرحبيل الهمداني أبو عمرو، ويقال أبو سعيد الكوفي، وأكثر أهل العلم على ضعفه، وعدم الاحتجاج به، والإمام مسلم بن الحجاج، إنما أخرج حديثه مقرونا بغيره، فلا عبرة بقول يعقوب بن سفيان، إنه صدوق، ولا بتوثيق النسائي له مرة، لأنه ضعفه مرة أخرى، ولا بقول ابن عدي أن له عن الشعبي، عن جابر أحاديث صالحة؛ لأن أكثر أهل العلم بالرجال على تضعيفه، وعدم الاجتجاج به. أما غير مجالد من رجال سند أبي داود فهم ثقات معروفون؛ لأن يحيى بن موسى البلخي ثقة، وأبو أسامة المذكور فيه هو حماد بن أسامة القرشي مولاهم، وهو ثقة ثبت، ربما دلس وكان بأخرة يحدث من كتب غيره، وعامر الذي روى عن مجالد هو الإمام الشعبي، وجلالته معروفة.
والحاصل: أن مثل هذا السند الذي فيه مجالد المذكور، لا يجب الرجوع إليه عن عموم النصوص الصحيحة المقتضية، أن الكفار لا تقبل شهادتهم مطلقا، والله تعالى أعلم.
الفرع الرابع: اعلم أن أهل العلم قد اختلفوا في اشتراط اتحاد المجلس لشهادة شهود الزنا، وعلى اشتراط ذلك لو شهدوا في مجلسين أو مجالس متفرقة، بطلت شهادتهم، وحدوا حد القذف. وعلى عدم اشتراط اتحاد المجلس تصح شهادتهم ولو جاءوا متفرقين، وأدوا شهادتهم في مجالس متعددة، وممن قال باشتراط اتحاد المجلس: مالك وأصحابه، وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد وأصحابه. وممن قال بعدم اشتراط اتحاد المجلس: الشافعي، وعثمان البتي، وابن المنذر.
قال في المغني: وإنما قالوا بعدم اشتراط ذلك لقوله تعالى: * (لولا جاءو عليه بأربعة شهداء) *، ولم يذكر المجلس. وقال تعالى: * (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن فى البيوت) *، ولأن كل شهادة مقبولة، إن اتفقت تقبل إذا افترقت في مجالس كسائر الشهادات، ولنا أن أبا بكرة، ونافعا، وشبل بن معبد شهدوا عند عمر رضي الله عنه على المغيرة بن شعبة بالزنى ولم يشهد زياد فحد الثلاثة، ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم؛ لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر، ولأنه لو شهد ثلاثة فحدهم، ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط اتحاد المجلس لكملت شهادتهم، وبهذا فارق سائر الشهادات.
376

وأما الآية فإنها لم تتعرض للشروط، ولهذا لم تذكر العدالة، وصفة الزنى، ولأن قوله: * (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم) *، لا يخلو من أن يكون مطلقا في الزمان كله أو مقيدا، ولا يجوز أن يكون مطلقا؛ لأنه يمنع من جواز جلدهم، لأنه ما من زمن إلا يجوز أن يأتي فيه بأربعة شهداء، أو بكمالهم إن كان قد شهد بعضهم فيمتنع جلدهم المأمور به، فيكون تناقضا، وإذا ثبت أنه مقيد فأولى ما قيد به المجلس، لأن المجلس كله بمنزلة الحال الواحدة، ولهذا ثبت فيه خيار المجلس، واكتفى فيه بالقبض فيما يعتبر القبض فيه إذا ثبت هذا، فإنه لا يشترط اجتماعهم حال مجيئهم ولو جاءوا متفرقين واحدا بعد واحد في مجلس واحد، قبلت شهادتهم.
وقال مالك وأبو حنيفة: إن جاءوا متفرقين فهم قذفة؛ لأنهم لم يجتمعوا في مجيئهم، فلم تقبل شهادتهم، كالذين لم يشهدوا في مجلس واحد ولنا قصة المغيرة، فإن الشهود جاءوا واحدا بعد واحد وسمعت شهادتهم، وإنما حدوا لعدم كمالها.
وفي حديثه أن أبا بكرة، قال: أرأيت إن جاء آخر يشهد أكنت ترجمه؟ قال عمر: إي والذي نفسي بيده، ولأنهم اجتمعوا في مجلس واحد أشبه ما لو جاءوا وكانوا مجتمعين، ولأن المجلس كله بمنزلة ابتدائه لما ذكرناه، وإذا تفرقوا في مجالس فعليهم الحد، لأن من شهد بالزنى، ولم يكمل الشهادة يلزمه الحد؛ لقوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) *، انتهى من (المغني) لابن قدامة.
وقد عرفت أقوال أهل العلم في اشتراط اتحاد المجلس لشهادة شهود الزنى، وما احتج به كل واحد من الفريقين.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي دليلا هو قبول شهادتهم، ولو جاءوا متفرقين في مجالس متعددة، لأن الله جل وعلا صرح في كتابه بقبول شهادة الأربعة في الزنى، فإبطالها مع كونهم أربعة بدعوى عدم اتحاد المجلس إبطال لشهادة العدول بغير دليل مقنع يجب الرجوع إليه، وما وجه من اشتراط اتحاد المجلس قوله به لا يتجه كل الاتجاه، فإن قال: الشهود معنا من يشهد مثل شهادتنا، انتظره الإمام، وقبل شهادته فإن لم يدعو زيادة شهود ولا علم الحاكم بشاهد أقام عليهم الحد، لعدم كمال
377

شهادتهم، هذا هو الظاهر لنا من عموم الأدلة، وإن كان مخالفا لمذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
اعلم أن مالكا وأصحابه يشترط عندهم زيادة على أداء شهود الزنى شهادتهم في وقت واحد، أن يكونوا شاهدين على فعل واحد، فلو اجتمعوا ونظر واحد بعد واحد، لم تصح شهادتهم على الأصح من مذهب مالك؛ لاحتمال تعدد الوطء وأن يكون الزاني نزع فرجه من فرجها بعد رؤية الأول، ورأى الثاني إيلاجا آخر غير الإيلاج الذي رآه من قبله؛ لأن الأفعال لا يضم بعضها إلى بعض في الشهادة عندهم، ومتى لم تقبل شهادتهم حدوا حد القذف. ومشهور مذهب مالك أيضا: وجوب تفرقتهم، أعني
شهود الزنى خاصة، دون غيرهم من سائر الشهود.
ومعناه عندهم: أنه لا بد من إتيانهم مجتمعين، فإذا جاءوا مجتمعين فرق بينهم عند أداء الشهادة فيسأل كل واحد منهم دون حضرة الآخرين، ويشهد كل واحد منهم، أنه رآه أدخل فرجه في فرجها، أو أولجه فيه، ولا بد عندهم من زيادة كالمرود في المكحلة ونحوه، ويجوز للشهود النظر إلى عورة الزانيين، ليمكنهم أن يؤدوا الشهادة على وجهها، ولا إثم عليهم في ذلك، ولا يقدح في شهادتهم لأنه وسيلة إقامة حد من حدود الله، ومحل هذا إن كانوا أربعة، فإن كانوا أقل من أربعة لم يجز لهم النظر إلى عورة الزاني إذ لا فائدة في شهادتهم، ولأنهم يجلدون حد القذف.
وقال بعض المالكية: لا يجوز لهم النظر إلى عورات الزناة، ولو كانوا أربعة، لما نبه عليه الشرع من استحسان الستر، ويندب للحاكم عند المالكية سؤال الشهود في الزنى عما ليس شرطا في صحة الشهادة، كأن يقول لكل واحد من الشهود بانفراده دون حضرة الآخرين: على أي حال رأيتهما وقت زناهما، وهل كانت المرأة على جنبها الأيمن، أو الأيسر، أو على بطنها، أو على قفاها، وفي أي جوانب البيت ونحو ذلك، فإن اختلفوا بأن قال أحدهم: كانت على قفاها، وقال الآخر: كانت على جنبها الأيمن ونحو ذلك بطلت شهادتهم؛ لدلالة اختلافهم على كذبهم، وكذلك إن اختلفوا في جانب البيت الذي وقع فيه الزنى.
ولا شك أن مثل هذا السؤال أحوط في الدفع عن أعراض المسلمين، لأنهم إن كانوا
378

صادقين لم يختلفوا، وإن كانوا كاذبين علم كذبهم باختلافهم، وقد قدمنا ما يستأنس به لتفرقة شهود الزنى، وسؤالهم متفرقين في قصة سليمان وداود في المرأة التي شهد عليها أربعة، أنها زنت بكلبها فرجمها داود فجاء سليمان بالصبيان، وجعل منهم شهودا، وفرقهم وسألهم متفرقين عن لون الكلب الذي زنت به، فأخبر كل واحد منهم بلون غير اللون الذي أخبر به الآخر، فأرسل داود للشهود، وفرقهم وسألهم متفرقين عن لون الكلب الذي زنت به، فاختلفوا في لونه؛ كما تقدم إيضاحه.
واعلم أن كلما يثبت به الرجم يثبت به الجلد فطريق ثبوتهما متحدة لا فرق بينهما، كما لا يخفى.
الفرع الخامس: اعلم أنه إذا شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت، واثنان أنه زنى بها في بيت آخر، أو شهد كل اثنين عليه بالزنى في بلد غير البلد الذي شهد عليه فيه صاحباهما، أو اختلفوا في اليوم الذي وقع فيه الزنى، فقد اختلف أهل العلم هل قبل شهادتهم، نظرا إلى أنهم أربعة شهدوا بالزنى، أو لا تقبل؛ لأنه لم تشهد أربعة على زنى واحد، فكل زنى شهد عليه اثنان، ولا يثبت زنى باثنين.
قال ابن قدامة في (المغني): الجميع قذفة وعليهم الحد، وبهذا قال مالك، والشافعي، واختار أبو بكر أنه لا حد عليهم، وبه قال النخعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، لأنهم كملوا أربعة، ولنا أنه لم يكمل أربعة على زنى واحد، فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما. فأما المشهود عليه، فلا حد عليه في قولهم جميعا، وقال أبو بكر: عليه الحد، وحكاه قولا لأحمد، وهذا بعيد، فإنه لم يثبت زنى واحد بشهادة أربعة، فلم يجب الحد، ولأن جميع ما تعتبر له البينة يعتبر فيه كمالها في حق واحد، فالموجب للحد أولى؛ لأنه مما يحتاط فيه ويدرأ بالشبهات؛ وقد قال أبو بكر: إنه لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة بيضاء، وشهد اثنان أنه زنى بسوداء فهم قذفة، ذكره القاضي عنه وهذا ينقض قوله، انتهى منه. ثم قال: وإن شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت، وشهد اثنان أنه زنى بها في زاوية منه أخرى، وكانت الزاويتان متباعدتين، فالقول فيهما كالقول في البيتين وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم، وحد المشهود عليه، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا حد عليه، لأن شهادتهم لم تكمل، ولأنهم اختلفوا في المكان، فأشبه ما لو اختلفا في البيتين، وعلى قول أبي بكر تكمل شهادتهم، سواء تقاربت الزاويتان، أو تباعدتا، ولنا أنها
379

إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود، بأن يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الأخرى أو ينسبه كل اثنين إلى إحدى الزاويتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا، بخلاف ما إذا كانتا متباعدتين، فإنه لا يمكن كون المشهود به فعلا واحدا.
فإن قيل: فقد يمكن أن يكون المشهود به فعلين، فلم أوجبتم الحد مع الاحتمال، والحد يدرأ بالشبهات؟
قلنا: ليس هذا بشبهة، بدليل ما لو اتفقوا على موضع واحد، فإن هذا يحتمل فيه والحد واجب، والقول في الزمان كالقول في هذا، وأنه متى كان بينهما زمن متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه، كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم، ومتى تقاربا كملت شهادتهم، انتهى من (المغني).
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد رأيت كلام أهل العلم في هذا الفرع، والظاهر أنه لا تكمل شهادة الأربعة إلا إذا شهدوا على فعل واحد في مكان متحد ووقت متحد؛ فإن اختلفوا في الزمان أو المكان حدوا، لأنهما فعلان، ولم يشهد على واحد منهما أربعة عدول، فلم يثبت واحد منهما. والقول بتلفيق شهادتهم، وضم شهادة بعضهم إلى شهادة بعض لا يظهر، وقد علمت أن مالكا وأصحابه زادوا أن تكون شهادة الأربعة على إيلاج متحد، فلو نظروا واحدا بعد واحد مع اتحاد الوقت والمكان لم تقبل عنده شهادتهم حتى ينظروا فرجه في فرجها نظرة واحدة في لحظة واحدة، وله وجه.
الفرع السادس: إن شهد اثنان أنه زنى بها في قميص أبيض، وشهد اثنان أنه زنى بها في قميص أحمر، أو شهد اثنان أنه زنى بها في ثوب كتان، وشهد اثنان أنه زنى بها في ثوب خز.
فقد اختلف أهل العلم هل تكمل شهادتهم أو لا؟ فقال بعضهم: لا تكمل شهادتهم؛ لأن كل اثنين منهما تخالف شهادتهما شهادة الاثنين الآخرين، وممن روي عنه ذلك الشافعي، وقال بعضهم: تكمل شهادتهم قائلا: إنه لا تنافي بين الشهادتين؛ لإمكان أن يكون عليه قميصان فذكر كل اثنين أحد القميصين، وتركا ذكر الآخر، فيكون الجميع صادقين؛ لأن أحد الثوبين الذي سكت عنه هذان هو الذي ذكره ذانك كعكسه، فلا تنافي، ويمكن أن يكون عليها هي قميص أحمر، وعليه هو قميص أبيض كعكسه، أو عليه هو ثوب كتان، وعليها هي ثوب خز كعكسه، فيمكن صدق الجميع؛ وإذا أمكن صدقهم فلا
380

وجه لرد شهادتهم، وبهذا جزم صاحب المغني موجها له بما ذكرنا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لنا في هذا الفرع هو وجوب استفسار الشهود، فإن جزم اثنان بأن عليه ثوبا واحدا أحمر، وجزم الآخران أن عليه ثوبا واحدا أبيض لم تكمل شهادتهم لتنافي الشهادتين، وإن اتفقوا على أن عليه ثوبين مثلا أحدهما أحمر، والثاني أبيض، وذكر كل اثنين أحد الثوبين، فلا إشكال في كمال شهادتهم؛ لاتفاق الشهادتين. وإن لم يمكن استفسار الشهود لموتهم، أو غيبتهم غيبة يتعذر معها سؤالهم، فالذي يظهر لي عدم كمال شهادتهم؛ لاحتمال تخالف شهادتهما، ومطلق احتمال اتفاقهما لا يكفي في إقامة الحد؛ لأن الحد يدرأ بالشبهات، فلا يقام بشهادة محتملة البطلان، بل الظاهر من الصيغة اختلاف الشهادتين والعمل بالظاهر لازم، ما لم يقم دليل صارف عنه يجب الرجوع إليه.
والذي يظهر أنهم إن لم تكمل شهادتهم يحدون حد القذف. أما في الشهادة المحتملة فإنه قبل إمكان استفسارهم، فلا إشكال في عدم إمكان حدهم وإن أمكن استفسارهم، فإن فسروا. بما يقتضي كمال شهادتهم حد المشهود عليه بشهادتهم، وإن فسروا بما يوجب بطلان شهادتهم، فالظاهر أنهم يحدون حد القذف؛ كما قدمنا، والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع: إن شهد اثنان أنه زنى بها مكرهة، وشهد اثنان أنه زنى بها مطاوعة، فلا حد على المرأة إجماعا؛ لأن الشهادة عليها لم تكمل على فعل موجب للحد، وإنما الخلاف في حكم الرجل والشهود.
قال ابن قدامة في (المغني): وفي الرجل وجهان:
أحدهما: لا حد عليه، وهو قول أبي بكر، والقاضي وأكثر الأصحاب، وقول أبي حنيفة، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي؛ لأن البينة لم تكمل على فعل واحد، فإن فعل المطاوعة غير فعل المكرهة، ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين، ولأن كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين، وذلك يمنع قبول الشهادة، أو يكون شبهة في درء الحد ولا يخرج عن أن يكون قول واحد منهما مكذبا للآخر إلا بتقدير فعلين تكون مطاوعة في أحدهما، مكرهة في الآخر، وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل واحد، ولأن شاهدي المطاوعة قاذفان لها، ولم تكمل البينة عليها، فلا تقبل شهادتهما على غيرها.
381

والوجه الثاني: أنه يجب الحد عليه، اختاره أبو الخطاب، وهو قول أبي يوسف ومحمد، ووجه ثان للشافعي؛ لأن الشهادة كملت على وجود الزنى منه، واختلافهما إنما هو في فعلها لا في فعله، فلا يمنع كمال الشهادة عليه.
وفي الشهود ثلاثة أوجه:
أحدها: لا حد عليهم، وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم.
والثاني: عليهم الحد لأنهم شهدوا بالزنى، ولم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد، كما لو لم يكمل عددهم.
والثالث: يجب الحد على شاهدي المطاوعة، لأنهما قذفا المرأة بالزنى، ولم تكمل شهادتهم عليها، ولا تجب على شاهدي الإكراه لأنهما لم يقذفا المرأة، وقد كملت شهادتهم على الرجل، وإنما انتفى عنه الحد للشبهة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد رأيت خلاف أهل العلم في هذا الفرع، وأظهر أقوالهم عندي فيه: أن الرجل والمرأة لا حد على واحد منهما، وأن على الشهود الأربعة حد القذف. أما نفي الحد عن المرأة، فلا خلاف فيه، ووجهه ظاهر؛ لأنها لم تكمل عليها شهادة بالزنى. وأما نفي الحد عن الرجل، فلأن الاثنين الشاهدين بالمطاوعة يكذبان الشاهدين بالإكراه كعكسه، وإذا كان كل اثنين من الأربعة يكذبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الفعل لم تكمل شهادتهم على فعل واحد، فلم تكمل على الرجل شهادة على حالة زنى واحد؛ لأن الإكراه والطوع أمران متنافيان، وإذا لم تكمل عليه شهادة بفعل واحد على حالة واحدة فعدم حده هو الأظهر، أما وجه حد الشهود، فلأن الشاهدين على المرأة بأنها زنت مطاوعة للرجل قاذفان لها بالزنى، ولم تكمل شهادتهما عليها فحدهما لقذفهما المرأة ظاهر جدا؛ ولأن الشاهدين بأنه زنى بها مكرهة قاذفان للرجل بأنه أكرهها فزنى بها، ولم تكمل شهادتهم؛ لأن شاهدي الطوع مكذبان لهما في دعواهما الإكراه فحدهما لقذفهما للرجل، ولم تكمل شهادتهما عليه ظاهر. أما كون الأربعة قد اتفقت شهادتهم على أنه زنى بها، فيرده أن كل اثنين منهما يكذبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الزنى، هذا هو الأظهر عندنا من كلام أهل العلم في هذا الفرع، والعلم عند الله تعالى.
382

ومن المعلوم أن كل ما يثبت به الرجم على المحصن يثبت به الجلد على البكر، فثبوت الأمرين طريقه واحدة.
الفرع الثامن: اعلم أنه إن شهد أربعة عدول على امرأة أنها زنت وتمت شهادتهم على الوجه المطلوب، فقالت إنها عذراء، لم تزل بكارتها ونظر إليها أربع من النساء معروفات بالعدالة، وشهدن بأنها عذراء لم تزل بكارتها بمزيل. فقد اختلف أهل العلم: هل تدرأ شهادة النساء عنها الحد أو لا؟ فذهب مالك وأصحابه إلى أنها يقام عليها الحد ولا يلتفت لشهادة النساء، وعبارة المدونة في ذلك: إذا شهد عليها بالزنى أربعة عدول، فقالت: إنها عذراء ونظر إليها النساء، وصدقنها لم ينظر إلى قولهن وأقيم عليها الحد. انتهى بواسطة نقل المواق في شرحه لقول خليل في مختصره، وبالبينة فلا يسقط بشهادة أربع نسوة ببكارتها، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن شهادة النساء ببكارتها تدرأ عنها الحد، وهو مذهب الإمام أحمد. قال ابن قدامة في (المغني): وبه قال الشعبي، والثوري، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي ووجه قول مالك وأصحابه بأنها يقام عليها الحد، هو أن الشهادة على زناها تمت بأربعة عدول، وأن شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود، فلا تسقط بشهادتهن شهادة الرجال عليها بالزنى، ووجه قول الآخرين بأنها لا تحد هو أن بكارتها ثبتت بشهادة النساء، ووجود البكارة مانع من الزنى ظاهرا؛ لأن الزنى لا يحصل بدون الإيلاج في الفرج
، ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة، لأن البكر هي التي لم توطأ في قبلها، وإذا انتفى الزنى لم يجب الحد، كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه الزنى مجبوب.
وقال ابن قدامة في (المغني): ويجب أن يكتفى بشهادة امرأة واحدة، لأنها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال، يعني البكارة المذكورة، انتهى. وأما الأربعة الذين شهدوا بالزنى فلا حد عليهم لتمام شهادتهم وهي أقوى من شهادة النساء بالبكارة.
وقال صاحب (المغني): وإنما لم يجب الحد عليهم لكمال عدتهم، مع احتمال صدقهم لأنه يحتمل أن يكون وطئها، ثم عادت عذرتها، فيكون ذلك شبهة في درء الحد عنهم. وأما إن شهدت بينة على رجل بالزنى فثبت ببينة أخرى أنه مجبوب، أو شهدت بينة على امرأة بالزنى فثبت ببينة أخرى أنها رتقاء، فالظاهر وجوب حد القذف على بينة الزنى، لظهور كذبها؛ لأن المجبوب من الرجال والرتقاء من النساء لا يمكن حصول الزنى من واحد منهما، كما هو معلوم.
383

المسألة الثانية: اعلم أن العلماء أجمعوا على ثبوت الزنى، ووجوب الحد رجما كان أو جلدا بإقرار الزاني والزانية، ولكنهم اختلفوا هل يثبت الزنى بإقرار الزاني مرة واحدة، أو لا يكفي ذلك حتى يقر به أربع مرات؟ فذهب الإمام أحمد، وأبو حنيفة، وابن أبي ليلى، والحكم: إلى أنه لا يثبت إلا إذا أقر به أربع مرات، وزاد أبو حنيفة وابن أبي ليلى: أن يكون ذلك في أربع مجالس، ولا تكفي عندهما الإقرارات الأربعة في مجلس واحد. وذهب مالك، والشافعي، والحسن، وحماد، وأبو ثور، وابن المنذر إلى أن الزنى يثبت بالإقرار مرة واحدة.
أما حجج من قال يكفي الإقرار به مرة واحدة، فمنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنيس في الحديث الصحيح المشهور: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)، فاعترفت فرجمها. وفي رواية في الصحيح: فأعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت، قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما ظاهرا ظهورا واضحا في أن الزنى يثبت بالاعتراف به مرة واحدة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم فيه: (فإن اعترفت فارجمها)، ظاهر في الاكتفاء بالاعتراف مرة واحدة، إذ لو كان الاعتراف أربع مرات لا بد منه لقال له صلى الله عليه وسلم: فإن اعترفت أربع مرات فارجمها، فلما لم يقل ذلك عرفنا أن المرة الواحدة تكفي؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما هو معلوم.
ومن أدلتهم على الاكتفاء بالاعتراف بالزنى مرة واحدة ما ثبت في الصحيح من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله، أصبت حدا فأقمه علي، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها فقال: (أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها)،، ففعل فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟ فقال: (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى)، هذا لفظ مسلم في صحيحه، وهو نص صحيح في أنه صلى الله عليه وسلم، أمر برجمها بإقرارها مرة واحدة؛ لأنها قالت: إني أصبت حدا، مرة واحدة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجمها من غير تعدد الإقرار؛ لأن الحديث لم يذكر فيه إلا إقرارها مرة واحدة.
ومن أدلتهم على ذلك أيضا: ما ثبت في الصحيح من قصة الغامدية التي جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول (صلى الله عليه وسلم)، إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردها، فلما كان من الغد،
384

قالت: يا رسول الله، لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا، فوالله إني لحبلى، فقال: (أما لا فاذهبي حتى تلدي)، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: (اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه)، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله، قد فطمته وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من السلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد، فسبها، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال: (مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له)، ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت، هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن بريدة، عن أبيه، وهو من أصرح الأدلة على الاكتفاء بإقرار الزاني بالزنا مرة واحدة؛ لأن الغامدية المذكورة لما قالت له صلى الله عليه وسلم: لعلك أن تردني كما رددت ماعزا، لم ينكر ذلك عليها، ولو كان الإقرار أربع مرات شرطا في لزوم الحد لقال لها إنما رددته، لكونه لم يقر أربعا.
وقد قال الشوكاني في (نيل الأوطار)، بعد ذكره لهذه الواقعة: وهذه الواقعة من أعظم الأدلة الدالة على أن تربيع الإقرار، ليس بشرط للتصريح فيها، بأنها متأخرة عن قضية ماعز، وقد اكتفى فيها بدون أربع كما سيأتي، اه منه.
وفي صحيح مسلم أيضا من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه، ما نصه: قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله طهرني، فقال: (ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه)، فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالكا قال: (وما ذاك)؟ قالت: إنها حبلى من الزنا، فقال: (آنت)؟ قالت: نعم، فقال لها: (حتى تضعي ما في بطنك)، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: (إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه)، فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله، قال: فرجمها، اه منه.
وهذه الرواية كالتي قبلها في الدلالة على الاكتفاء بالإقرار مرة واحدة إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عدم اشتراط تكرر الإقرار بالزنا أربعا، وأما حجة من قالوا: يشترط في ثبوت الإقرار بالزنا، أن يقر به أربع مرات، وأنه لا يجب عليه الحد إلا بالإقرار أربعا، فهي ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الناس وهو في المسجد، فناداه: يا رسول اللها إني زنيت، يريد
385

نفسه، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله، فقال: يا رسول اللها إني زنيت، فأعرض عنه، فجاء لشق وجه النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أبك جنون)؟ قال: لا يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: (أحصنت)؟ قال: نعم، قال: (اذهبوا فارجموه)، الحديث. هذا لفظ البخاري في صحيحه، ولفظ مسلم: فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أبك جنون)؟ قال: لا، قال: (فهل أحصنت)؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا به فارجموه) اه.
قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه فيه ترتيب الرجم على أربع شهادات على نفسه، أي: أربع إقرارات بصيغة ترتيب الجزاء على الشرط؛ لأن لما مضمنة معنى الشرط وترتيب الحد على الأربع ترتيب الجزاء على شرطه، دليل على اشتراط الأربع المذكورة، والرجل المذكور في هذا الحديث، هو ماعز بن مالك وقصته مشهورة صحيحة، وفي ألفاظ رواياتها ما يدل على أنه لم يرجمه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات؛ كما رأيت في الحديث المذكور آنفا، وقد علمت مما ذكرنا ما استدل به كل واحد من الفريقين.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر قولي أهل العلم في هذه المسألة عندي: هو الجمع بين الأحاديث الدالة على اشتراط الأربع، والأحاديث الدالة على الاكتفاء بالمرة الواحدة؛ لأن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ووجه الجمع المذكور هو حمل الأحاديث التي فيها التراخي، عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في صحة عقله، واختلاله، وفي سكره، وصحوه من السكر، ونحو ذلك. وحمل أحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من عرفت صحة عقله وصحوه من السكر، وسلامة إقراره من المبطلات، وهذا الجمع رجحه الشوكاني في (نيل الأوطار).
ومما يؤيده أن جميع الروايات التي يفهم منها اشتراط الأربع كلها في قصة ماعز، وقد دلت روايات حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدري أمجنون هو أم لا؟ صاح هو أو سكران؟ بدليل قوله له في الحديث المتفق عليه المذكور آنفا: (أبك جنون)؟ وسؤاله صلى الله عليه وسلم لقومه عن عقله، وسؤاله صلى الله عليه وسلم: (أشرب خمرا)؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، وكل
386

ذلك ثابت في الصحيح، وهو دليل قوي على الجمع بين الأحاديث كما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن الظاهر اشتراط التصريح بموجب الحد الذي هو الزنى تصريحا ينفي كل احتمال؛ لأن بعض الناس قد يطلق اسم الزنى على ما ليس موجبا للحد.
ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم لماعز لما قال: إنه زنى، (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت)؟ قال: لا، قال: (أفنكتها)؟ لا يكنى، قال: نعم، قال: فعند ذلك أمر برجمه، وهذا ثابت في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عباس، ويؤخذ منه التعريض للزاني بأن يستر على نفسه، ويستغفر الله فإنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
الفرع الثاني: اعلم أنه إذا تمت شهادة الشهود الأربعة بالزنى فصدقهم الزاني المشهود عليه، بأن أقر أنه زنى مرة واحدة فصارت الشهادة تامة، والإقرار غير تام عند من يشترط أربعا.
الفرع الخامس: اعلم أنه إذا شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت، واثنان أنه زنى بها في بيت آخر، أو شهد كل اثنين عليه بالزنى في بلد غير البلد الذي شهد عليه فيه صاحباهما، أو اختلفوا في اليوم الذي وقع فيه الزنى، فقد اختلف أهل العلم هل قبل شهادتهم، نظرا إلى أنهم أربعة شهدوا بالزنى، أو لا تقبل؛ لأنه لم تشهد أربعة على زنى واحد، فكل زنى شهد عليه اثنان، ولا يثبت زنى باثنين.
قال ابن قدامة في (المغني): الجميع قذفة وعليهم الحد، وبهذا قال مالك، والشافعي، واختار أبو بكر أنه لا حد عليهم، وبه قال النخعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، لأنهم كملوا أربعة، ولنا أنه لم يكمل أربعة على زنى واحد، فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما. فأما المشهود عليه، فلا حد عليه في قولهم جميعا، وقال أبو بكر: عليه الحد، وحكاه قولا لأحمد، وهذا بعيد، فإنه لم يثبت زنى واحد بشهادة أربعة، فلم يجب الحد، ولأن جميع ما تعتبر له البينة يعتبر فيه كمالها في حق واحد، فالموجب للحد أولى؛ لأنه مما يحتاط فيه ويدرأ بالشبهات؛ وقد قال أبو بكر: إنه لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة بيضاء، وشهد اثنان أنه زنى بسوداء فهم قذفة، ذكره القاضي عنه وهذا ينقض قوله، انتهى منه. ثم قال: وإن شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت، وشهد اثنان أنه زنى بها في زاوية منه أخرى، وكانت الزاويتان متباعدتين، فالقول فيهما كالقول في البيتين وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم، وحد المشهود عليه، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا حد عليه، لأن شهادتهم لم تكمل، ولأنهم اختلفوا في المكان، فأشبه ما لو اختلفا في البيتين، وعلى قول أبي بكر تكمل شهادتهم، سواء تقاربت الزاويتان، أو تباعدتا، ولنا أنها إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود، بأن يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الأخرى أو ينسبه كل اثنين إلى إحدى الزاويتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا، بخلاف ما إذا كانتا متباعدتين، فإنه لا يمكن كون المشهود به فعلا واحدا.
فإن قيل: فقد يمكن أن يكون المشهود به فعلين، فلم أوجبتم الحد مع الاحتمال، والحد يدرأ بالشبهات؟
قلنا: ليس هذا بشبهة، بدليل ما لو اتفقوا على موضع واحد، فإن هذا يحتمل فيه والحد واجب، والقول في الزمان كالقول في هذا، وأنه متى كان بينهما زمن متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه، كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم، ومتى تقاربا كملت شهادتهم، انتهى من (المغني).
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد رأيت كلام أهل العلم في هذا الفرع، والظاهر أنه لا تكمل شهادة الأربعة إلا إذا شهدوا على فعل واحد في مكان متحد ووقت متحد؛
فإن اختلفوا في الزمان أو المكان حدوا، لأنهما فعلان، ولم يشهد على واحد منهما أربعة عدول، فلم يثبت واحد منهما. والقول بتلفيق شهادتهم، وضم شهادة بعضهم إلى شهادة بعض لا يظهر، وقد علمت أن مالكا وأصحابه زادوا أن تكون شهادة الأربعة على إيلاج متحد، فلو نظروا واحدا بعد واحد مع اتحاد الوقت والمكان لم تقبل عنده شهادتهم حتى ينظروا فرجه في فرجها نظرة واحدة في لحظة واحدة، وله وجه.
الفرع السادس: إن شهد اثنان أنه زنى بها في قميص أبيض، وشهد اثنان أنه زنى بها في قميص أحمر، أو شهد اثنان أنه زنى بها في ثوب كتان، وشهد اثنان أنه زنى بها في ثوب خز.
فقد اختلف أهل العلم هل تكمل شهادتهم أو لا؟ فقال بعضهم: لا تكمل شهادتهم؛ لأن كل اثنين منهما تخالف شهادتهما شهادة الاثنين الآخرين، وممن روي عنه ذلك الشافعي، وقال بعضهم: تكمل شهادتهم قائلا: إنه لا تنافي بين الشهادتين؛ لإمكان أن يكون عليه قميصان فذكر كل اثنين أحد القميصين، وتركا ذكر الآخر، فيكون الجميع صادقين؛ لأن أحد الثوبين الذي سكت عنه هذان هو الذي ذكره ذانك كعكسه، فلا تنافي، ويمكن أن يكون عليها هي قميص أحمر، وعليه هو قميص أبيض كعكسه، أو عليه هو ثوب كتان، وعليها هي ثوب خز كعكسه، فيمكن صدق الجميع؛ وإذا أمكن صدقهم فلا وجه لرد شهادتهم، وبهذا جزم صاحب المغني موجها له بما ذكرنا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لنا في هذا الفرع هو وجوب استفسار الشهود، فإن جزم اثنان بأن عليه ثوبا واحدا أحمر، وجزم الآخران أن عليه ثوبا واحدا أبيض لم تكمل شهادتهم لتنافي الشهادتين، وإن اتفقوا على أن عليه ثوبين مثلا أحدهما أحمر، والثاني أبيض، وذكر كل اثنين أحد الثوبين، فلا إشكال في كمال شهادتهم؛ لاتفاق الشهادتين. وإن لم يمكن استفسار الشهود لموتهم، أو غيبتهم غيبة يتعذر معها سؤالهم، فالذي يظهر لي عدم كمال شهادتهم؛ لاحتمال تخالف شهادتهما، ومطلق احتمال اتفاقهما لا يكفي في إقامة الحد؛ لأن الحد يدرأ بالشبهات، فلا يقام بشهادة محتملة البطلان، بل الظاهر من الصيغة اختلاف الشهادتين والعمل بالظاهر لازم، ما لم يقم دليل صارف عنه يجب الرجوع إليه.
387

والذي يظهر أنهم إن لم تكمل شهادتهم يحدون حد القذف. أما في الشهادة المحتملة فإنه قبل إمكان استفسارهم، فلا إشكال في عدم إمكان حدهم وإن أمكن استفسارهم، فإن فسروا. بما يقتضي كمال شهادتهم حد المشهود عليه بشهادتهم، وإن فسروا بما يوجب بطلان شهادتهم، فالظاهر أنهم يحدون حد القذف؛ كما قدمنا، والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع: إن شهد اثنان أنه زنى بها مكرهة، وشهد اثنان أنه زنى بها مطاوعة، فلا حد على المرأة إجماعا؛ لأن الشهادة عليها لم تكمل على فعل موجب للحد، وإنما الخلاف في حكم الرجل والشهود.
قال ابن قدامة في (المغني): وفي الرجل وجهان:
أحدهما: لا حد عليه، وهو قول أبي بكر، والقاضي وأكثر الأصحاب، وقول أبي حنيفة، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي؛ لأن البينة لم تكمل على فعل واحد، فإن فعل المطاوعة غير فعل المكرهة، ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين، ولأن كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين، وذلك يمنع قبول الشهادة، أو يكون شبهة في درء الحد ولا يخرج عن أن يكون قول واحد منهما مكذبا للآخر إلا بتقدير فعلين تكون مطاوعة في أحدهما، مكرهة في الآخر، وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل واحد، ولأن شاهدي المطاوعة قاذفان لها، ولم تكمل البينة عليها، فلا تقبل شهادتهما على غيرها.
والوجه الثاني: أنه يجب الحد عليه، اختاره أبو الخطاب، وهو قول أبي يوسف ومحمد، ووجه ثان للشافعي؛ لأن الشهادة كملت على وجود الزنى منه، واختلافهما إنما هو في فعلها لا في فعله، فلا يمنع كمال الشهادة عليه.
وفي الشهود ثلاثة أوجه:
أحدها: لا حد عليهم، وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم.
والثاني: عليهم الحد لأنهم شهدوا بالزنى، ولم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد، كما لو لم يكمل عددهم.
والثالث: يجب الحد على شاهدي المطاوعة، لأنهما قذفا المرأة بالزنى، ولم تكمل شهادتهم عليها، ولا تجب على شاهدي الإكراه لأنهما لم يقذفا المرأة، وقد كملت شهادتهم على الرجل، وإنما انتفى عنه الحد للشبهة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد رأيت خلاف أهل العلم في هذا الفرع، وأظهر أقوالهم عندي فيه: أن الرجل والمرأة لا حد على واحد منهما، وأن على الشهود الأربعة حد القذف. أما نفي الحد عن المرأة، فلا خلاف فيه، ووجهه ظاهر؛ لأنها لم تكمل عليها شهادة بالزنى. وأما نفي الحد عن الرجل، فلأن الاثنين الشاهدين بالمطاوعة يكذبان الشاهدين بالإكراه كعكسه، وإذا كان كل اثنين من الأربعة يكذبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الفعل لم تكمل شهادتهم على فعل واحد، فلم تكمل على الرجل شهادة على حالة زنى واحد؛ لأن الإكراه والطوع أمران متنافيان، وإذا لم تكمل عليه شهادة بفعل واحد على حالة واحدة فعدم حده هو الأظهر، أما وجه حد الشهود، فلأن الشاهدين على المرأة بأنها زنت مطاوعة للرجل قاذفان لها بالزنى، ولم تكمل شهادتهما عليها فحدهما لقذفهما المرأة ظاهر جدا؛ ولأن الشاهدين بأنه زنى بها مكرهة قاذفان للرجل بأنه أكرهها فزنى بها، ولم تكمل شهادتهم؛ لأن شاهدي الطوع مكذبان لهما في دعواهما الإكراه فحدهما لقذفهما للرجل، ولم تكمل شهادتهما عليه ظاهر. أما كون الأربعة قد اتفقت شهادتهم على أنه زنى بها، فيرده أن كل اثنين منهما يكذبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الزنى، هذا هو الأظهر عندنا من
كلام أهل العلم في هذا الفرع، والعلم عند الله تعالى.
ومن المعلوم أن كل ما يثبت به الرجم على المحصن يثبت به الجلد على البكر، فثبوت الأمرين طريقه واحدة.
الفرع الثامن: اعلم أنه إن شهد أربعة عدول على امرأة أنها زنت وتمت شهادتهم على الوجه المطلوب، فقالت إنها عذراء، لم تزل بكارتها ونظر إليها أربع من النساء معروفات بالعدالة، وشهدن بأنها عذراء لم تزل بكارتها بمزيل. فقد اختلف أهل العلم: هل تدرأ شهادة النساء عنها الحد أو لا؟ فذهب مالك وأصحابه إلى أنها يقام عليها الحد ولا يلتفت لشهادة النساء، وعبارة المدونة في ذلك: إذا شهد عليها بالزنى أربعة عدول، فقالت: إنها عذراء ونظر إليها النساء، وصدقنها لم ينظر إلى قولهن وأقيم عليها الحد. انتهى بواسطة نقل المواق في شرحه لقول خليل في مختصره، وبالبينة فلا يسقط بشهادة أربع نسوة ببكارتها، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن شهادة النساء ببكارتها تدرأ عنها الحد، وهو مذهب الإمام أحمد. قال ابن قدامة في (المغني): وبه قال الشعبي، والثوري، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي ووجه قول مالك وأصحابه بأنها يقام عليها الحد، هو أن الشهادة على زناها تمت بأربعة عدول، وأن شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود، فلا تسقط بشهادتهن شهادة الرجال عليها بالزنى، ووجه قول الآخرين بأنها لا تحد هو أن بكارتها ثبتت بشهادة النساء، ووجود البكارة مانع من الزنى ظاهرا؛ لأن الزنى لا يحصل بدون الإيلاج في الفرج، ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة، لأن البكر هي التي لم توطأ في قبلها، وإذا انتفى الزنى لم يجب الحد، كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه الزنى مجبوب.
387

وقال ابن قدامة في (المغني): ويجب أن يكتفى بشهادة امرأة واحدة، لأنها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال، يعني البكارة المذكورة، انتهى. وأما الأربعة الذين شهدوا بالزنى فلا حد عليهم لتمام شهادتهم وهي أقوى من شهادة النساء بالبكارة.
وقال صاحب (المغني): وإنما لم يجب الحد عليهم لكمال عدتهم، مع احتمال صدقهم لأنه يحتمل أن يكون وطئها، ثم عادت عذرتها، فيكون ذلك شبهة في درء الحد عنهم. وأما إن شهدت بينة على رجل بالزنى فثبت ببينة أخرى أنه مجبوب، أو شهدت بينة على امرأة بالزنى فثبت ببينة أخرى أنها رتقاء، فالظاهر وجوب حد القذف على بينة الزنى، لظهور كذبها؛ لأن المجبوب من الرجال والرتقاء من النساء لا يمكن حصول الزنى من واحد منهما، كما هو معلوم.
المسألة الثانية: اعلم أن العلماء أجمعوا على ثبوت الزنى، ووجوب الحد رجما كان أو جلدا بإقرار الزاني والزانية، ولكنهم اختلفوا هل يثبت الزنى بإقرار الزاني مرة واحدة، أو لا يكفي ذلك حتى يقر به أربع مرات؟ فذهب الإمام أحمد، وأبو حنيفة، وابن أبي ليلى، والحكم: إلى أنه لا يثبت إلا إذا أقر به أربع مرات، وزاد أبو حنيفة وابن أبي ليلى: أن يكون ذلك في أربع مجالس، ولا تكفي عندهما الإقرارات الأربعة في مجلس واحد. وذهب مالك، والشافعي، والحسن، وحماد، وأبو ثور، وابن المنذر إلى أن الزنى يثبت بالإقرار مرة واحدة.
أما حجج من قال يكفي الإقرار به مرة واحدة، فمنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنيس في الحديث الصحيح المشهور: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)، فاعترفت فرجمها. وفي رواية في الصحيح: فأعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت، قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما ظاهرا ظهورا واضحا في أن الزنى يثبت بالاعتراف به مرة واحدة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم فيه: (فإن اعترفت فارجمها)، ظاهر في الاكتفاء بالاعتراف مرة واحدة، إذ لو كان الاعتراف أربع مرات لا بد منه لقال له صلى الله عليه وسلم: فإن اعترفت أربع مرات فارجمها، فلما لم يقل ذلك عرفنا أن المرة الواحدة تكفي؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما هو معلوم.
ومن أدلتهم على الاكتفاء بالاعتراف بالزنى مرة واحدة ما ثبت في الصحيح من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله، أصبت حدا فأقمه علي، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها فقال: (أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها)،، ففعل فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟ فقال: (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى)، هذا لفظ مسلم في صحيحه، وهو نص صحيح في أنه صلى الله عليه وسلم، أمر برجمها بإقرارها مرة واحدة؛ لأنها قالت: إني أصبت حدا، مرة واحدة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجمها من غير تعدد الإقرار؛ لأن الحديث لم يذكر فيه إلا إقرارها مرة واحدة.
ومن أدلتهم على ذلك أيضا: ما ثبت في الصحيح من قصة الغامدية التي جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول (صلى الله عليه وسلم)، إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردها، فلما كان من الغد، قالت: يا رسول الله، لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا، فوالله إني لحبلى، فقال: (أما لا فاذهبي حتى تلدي)، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: (اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه)، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله، قد فطمته وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من السلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد، فسبها، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال: (مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له)، ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت، هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن بريدة، عن أبيه، وهو من أصرح الأدلة على الاكتفاء بإقرار الزاني بالزنا مرة واحدة؛ لأن الغامدية المذكورة لما قالت له صلى الله عليه وسلم: لعلك أن تردني كما رددت ماعزا، لم ينكر ذلك عليها، ولو كان الإقرار أربع مرات شرطا في لزوم الحد لقال لها إنما رددته، لكونه لم يقر أربعا.
وقد قال الشوكاني في (نيل الأوطار)، بعد ذكره لهذه الواقعة: وهذه الواقعة من أعظم الأدلة الدالة على أن تربيع الإقرار، ليس بشرط للتصريح فيها، بأنها متأخرة عن
قضية ماعز، وقد اكتفى فيها بدون أربع كما سيأتي، اه منه.
وفي صحيح مسلم أيضا من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه، ما نصه: قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله طهرني، فقال: (ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه)، فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالكا قال: (وما ذاك)؟ قالت: إنها حبلى من الزنا، فقال: (آنت)؟ قالت: نعم، فقال لها: (حتى تضعي ما في بطنك)، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: (إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه)، فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله، قال: فرجمها، اه منه.
387

وهذه الرواية كالتي قبلها في الدلالة على الاكتفاء بالإقرار مرة واحدة إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عدم اشتراط تكرر الإقرار بالزنا أربعا، وأما حجة من قالوا: يشترط في ثبوت الإقرار بالزنا، أن يقر به أربع مرات، وأنه لا يجب عليه الحد إلا بالإقرار أربعا، فهي ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الناس وهو في المسجد، فناداه: يا رسول اللها إني زنيت، يريد نفسه، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله، فقال: يا رسول اللها إني زنيت، فأعرض عنه، فجاء لشق وجه النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أبك جنون)؟ قال: لا يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: (أحصنت)؟ قال: نعم، قال: (اذهبوا فارجموه)، الحديث. هذا لفظ البخاري في صحيحه، ولفظ مسلم: فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أبك جنون)؟ قال: لا، قال: (فهل أحصنت)؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا به فارجموه) اه.
قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه فيه ترتيب الرجم على أربع شهادات على نفسه، أي: أربع إقرارات بصيغة ترتيب الجزاء على الشرط؛ لأن لما مضمنة معنى الشرط وترتيب الحد على الأربع ترتيب الجزاء على شرطه، دليل على اشتراط الأربع المذكورة، والرجل المذكور في هذا الحديث، هو ماعز بن مالك وقصته مشهورة صحيحة، وفي ألفاظ رواياتها ما يدل على أنه لم يرجمه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات؛ كما رأيت في الحديث المذكور آنفا، وقد علمت مما ذكرنا ما استدل به كل واحد من الفريقين.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر قولي أهل العلم في هذه المسألة عندي: هو الجمع بين الأحاديث الدالة على اشتراط الأربع، والأحاديث الدالة على الاكتفاء بالمرة الواحدة؛ لأن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ووجه الجمع المذكور هو حمل الأحاديث التي فيها التراخي، عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في صحة عقله، واختلاله، وفي سكره، وصحوه من السكر، ونحو ذلك. وحمل أحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من عرفت صحة عقله وصحوه من السكر، وسلامة إقراره من المبطلات، وهذا الجمع رجحه الشوكاني في (نيل الأوطار).
ومما يؤيده أن جميع الروايات التي يفهم منها اشتراط الأربع كلها في قصة ماعز، وقد دلت روايات حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدري أمجنون هو أم لا؟ صاح هو أو سكران؟ بدليل قوله له في الحديث المتفق عليه المذكور آنفا: (أبك جنون)؟ وسؤاله صلى الله عليه وسلم لقومه عن عقله، وسؤاله صلى الله عليه وسلم: (أشرب خمرا)؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، وكل ذلك ثابت في الصحيح، وهو دليل قوي على الجمع بين الأحاديث كما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن الظاهر اشتراط التصريح بموجب الحد الذي هو الزنى تصريحا ينفي كل احتمال؛ لأن بعض الناس قد يطلق اسم الزنى على ما ليس موجبا للحد.
ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم لماعز لما قال: إنه زنى، (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت)؟ قال: لا، قال: (أفنكتها)؟ لا يكنى، قال: نعم، قال: فعند ذلك أمر برجمه، وهذا ثابت في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عباس، ويؤخذ منه التعريض للزاني بأن يستر على نفسه، ويستغفر الله فإنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
الفرع الثاني: اعلم أنه إذا تمت شهادة الشهود الأربعة بالزنى فصدقهم الزاني المشهود عليه، بأن أقر أنه زنى مرة واحدة فصارت الشهادة تامة، والإقرار غير تام عند من يشترط أربعا.
فأظهر قولي أهل العلم عندي: أن الحد يقام عليه لكمال البينة خلافا لمن زعم أنه لا يقام عليه الحد؛ لأن شرط صحة البينة الإنكار، وهذا غير منكر.
وقال ابن قدامة في (المغني): إن سقوط الحد بإقراره مرة قول أبي حنيفة اه. وكذلك لو تمت عليه شهادة البينة وأقر على نفسه أربع مرات، ثم رجع عن إقراره، فلا ينفعه الرجوع لوجوب الحد عليه بشهادة البينة، فلا حاجة لإقراره ولا فائدة في رجوعه عنه، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي: أنه إذا أقر بزنى قديم قبل إقراره، ولا يبطل الإقرار بأنه لم يقر إلا بعد زمن طويل؛ لأن الظاهر اعتبار الإقرار مطلقا، سواء تقادم عهده، أو لم يتقادم، وكذلك شهادة البينة، فإنها تقبل، ولو لم تشهد إلا بعد طول الزمن؛ لأن عموم النصوص يقتضي ذلك، لأنها ليس فيها التفريق بين تعجيل الشهادة وتأخيرها، خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه في قولهم: إن الإقرار يقبل بعد زمن طويل والشهادة لا تقبل مع التأخير.
وقال ابن قدامة في (المغني): وإن شهدوا بزنى قديم أو أقر به وجب الحد، وبهذا
387

قال مالك، والأوزاعي، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور.
وقال أبو حنيقة: لا أقبل بينة على زنى قديم وأحده بالإقرار به، وهذا قول ابن حامد، وذكره ابن أبي موسى مذهبا لأحمد، اه منه.
أما قبول الإقرار بالزنا القديم ووجوب الحد به فلا وجه للعدول عنه بحال؛ لأنه مقر على نفسه، ولا يتهم في نفسه.
وأما شهادة البينة بزنا قديم، فالأظهر قبولها، لعموم النصوص كما ذكرنا آنفا. وحجة أبي حنيفة، ومن وافقه في رد شهادة البينة على زنا قديم، هو أن تأخير الشهادة، يدل على التهمة فيدرأ ذلك الحد.
وقال في (المغني): ومن حجتهم على ذلك ما روي عن عمر، أنه قال: أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا بحضرته فهم شهود ضغن، ثم قال: رواه الحسن مرسلا، ومراسيل الحسن ليست بالقوية، اه منه.
وقد قدمنا الكلام مستوفى على مراسيل الحسن، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الرابع: اعلم أنه إن أقر بأنه زنى بامرأة وسماها فكذبته، وقالت: إنه لم يزن بها.
فأظهر أقوال أهل العلم عندي: أنه يجب عليه حد الزنى بإقراره، وحد القذف أيضا؛ لأنه قذف المرأة بالزنا ولم يأت بأربعة شهود فوجب عليه حد القذف.
وقال في (المغني): وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا حد عليه، لأنا صدقناها في إنكارها فصار محكوما بكذبه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وجوب الحد عليه بإقراره لا ينبغي العدول عنه، ولا يمكن أن يصح خلافه لأمرين:
الأول: أنه أقر على نفسه بالزنا إقرارا صحيحا، وقولهم إننا صدقناها ليس بصحيح، بل نحن لم نصدقها، ولم نقل إنها صادقة، ولكن انتفاء الحد عنها إنما وقع لأنها لم تقر، ولم تقم عليها بينة؛ فعدم حدها لانتفاء مقتضيه، لا لأنها صادقة كما ترى.
الأمر الثاني: ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا طلق بن غنام،
388

ثنا عبد السلام بن حفص، ثنا أبو حازم، عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا أتاه، فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها، اه منه. وعبد السلام المذكور في هذا الإسناد وثقه ابن معين، وتوثيقه له أولى من قول أبي حاتم الرازي: إنه غير معروف؛ لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ.
والحديث المذكور نص في أن المقر يقام عليه الحد وهو واضح؛ لأن من أقر على نفسه بالزنا لا نزاع في وجوب الحد عليه. وأما كونه يحد مع ذلك حد القذف فظاهر أيضا، ويدل عليه عموم قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) *، والأخذ بعموم النصوص واجب، إلا بدليل مخصص يجب الرجوع إليه، وكون حديث سهل بن سعد الساعدي الذي ذكرناه آنفا عند أبي داود ليس فيه أن النبي حد الرجل المذكور حد القذف، بل حد الزنا فقط لا يعارض به عموم النصوص.
وقال الشوكاني في (نيل الأوطار): وحده للزنا والقذف معا هو الظاهر، لوجهين:
الأول: أن غاية ما في حديث سهل: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد ذلك الرجل للقذف وذلك لا ينتهض للاستدلال به على السقوط؛ لاحتمال أن يكون ذلك لعدم الطلب من المرأة أو لوجود مسقط، إلى أن قال:
الوجه الثاني: أن ظاهر القذف العموم فلا يخرج من ذلك إلا ما خرج بدليل، وقد صدق على كل من كان كذلك أنه قاذف، اه منه. وهو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه، وكذلك ما جاء في بعض روايات حديث ماعز بن مالك أنه عين الجارية التي زنا بها، ولم يحده النبي صلى الله عليه وسلم لقذفها بل حده للزنا فقط، فإن ترك حده لم يوجه بما قدمنا قريبا.
وعلى كل حال فمن قال: زنبت بفلانة فلا شك أنه مقر على نفسه بالزنا، وقاذف لها هي به، وظاهر النصوص مؤاخذته بإقراره على نفسه، وحده أيضا حد القذف؛ لأنه قاذف بلا شك، كما ترى.
ومما يؤيد هذا المذهب ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا موسى بن هارون البردي، ثنا هشام بن يوسف، عن القاسم بن فياض الأبناوي
389

، عن خلاد بن عبد الرحمان، عن ابن المسيب، عن ابن عباس: أن رجلا من بني بكر بن ليث أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات، فجلده مائة وكان بكرا، ثم سأله البينة على المرأة، فقالت: كذب والله يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فجلده حد الفرية ثمانين، اه.
فإن قيل: هذا الحديث ضعيف، لأن في إسناده القاسم بن فياض الأبناوي الصنعاني، قال فيه ابن حجر في التقريب: مجهول. وقال فيه الذهبي في (الميزان): ضعفه غير واحد منهم عباس عن ابن معين، فالجواب من وجهين:
الأول: أن القاسم المذكور قال فيه أبو داود ثقة، كما نقله عنه الذهبي في الميزان، والتعديل يقبل مجملا، والتجريح لا يقبل مجملا، كما تقدم.
الثاني: أن حديث ابن عباس هذا الذي فيه الجمع بين حد القذف، وحد الزنا إن قال: أنه زنى بامرأة عينها فأنكرت، معتضد اعتضادا قويا بظواهر النصوص الدالة على مؤاخذته بإقراره، والنصوص الدالة على أن من قذف امرأة بالزنى، فأنكرت ولم يأت ببينة أنه يحد حد القذف.
فالحاصل: أن أظهر الأقوال عندنا أنه يحد حد القذف وحد الزنا، وهو مذهب مالك، وقد نص عليه في المدونة خلافا لمن قال يحد حد الزنا فقط، كأحمد والشافعي، ولمن قال: يحد حد القذف فقط، ويؤيد هذا المذهب الذي اخترناه في هذه المسألة ما قاله مالك وأصحابه: من أن الرجل لو قال لامرأة: زنيت، فقالت له: زنيت بك
أنها تحد للقذف وللزنا معا، ولا يحد الرجل لهما لأنها صدقته، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس: اعلم أنه لا يصح إقرار المكره، فلو أكره الرجل بالضرب أو غيره من أنواع التعذيب ليقر بالزنا فأقر به مكرها لم يلزمه إقراره به فلا يحد، ولا يثبت عليه الزنا، ولا نعلم من أهل العلم من خالف في هذا، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة: اعلم أنا قد قدمنا ثبوت الزنا بالبينة والإقرار، ولا خلاف في ثبوته بكل واحد منهما إن وقع على الوجه المطلوب، أما ظهور الحمل بامرأة، لا يعرف لها زوج ولا سيد، فقد اختلف العلماء في ثبوت الحد به. فقال بعض أهل العلم: الحبل في التي لا يعرف لها زوج ولا سيد يثبت عليها به الزنا، ويجب عليها الحد به، وقد ثبت هذا في حديث عمر رضي الله عنه الذي قدمناه في قوله: إذا قامت البينة أو كان الحبل، أو
390

الاعتراف. والحديث المذكور في الصحيحين وغيرهما كما تقدم. وقد صرح فيه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، بأن الحبل الذي هو الحمل يثبت به الزنا كما يثبت بالبينة والإقرار، وممن ذهب إلى أن الحبل يثبت به الزنا، عمر رضي الله عنه كما رأيت، ومالك وأصحابه. وذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وجماهير أهل العلم إلى أنه لا يثبت الزنا ولا يجب الحد بمجرد الحبل، ولو لم يعرف لها زوج ولا سيد، وهذا القول عزاه النووي في شرح مسلم للشافعي، وأبي حنيفة، وجماهير أهل العلم، وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة، فهذه أدلتهم.
أما الذين قالوا: إن الزنا يثبت بالحمل، إن لم يكن لها زوج ولا سيد، فقد احتجوا بحديث عمر المتفق عليه المتقدم وفيه التصريح من عمر بأن الحبل يثبت به الزنا، كالبينة والإقرار.
وقال ابن قدامة في (المغني): إنما قال من قال: بوجوب الحد وثبوت الزنا بالحمل، لقول عمر رضي الله عنه، والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء، إذا كان محصنا، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، وروي أن عثمان أوتى بامرأة ولدت لستة أشهر فأمر بها عثمان أن ترجم، فقال علي: ليس لك عليها سبيل، قال الله: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) *، وهذا يدل على أنه كان يرجمها بحملها وعن عمر نحو هذا، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناسا إن الزنا زناءان: زنا سر، وزنا علانية، فزنا السر: أن يشهد الشهود، فيكون الشهود أول من يرمي، وزن العلانية: أن يظهر الحبل أو الاعتراف، فيكون الإمام أول من يرمي، وهذا قول سادة الصحابة ولم يظهر في عصرهم مخالف، فيكون إجماعا، انتهى محل الغرض من (المغني).
وانظر أسانيد الآثار التي ذكرها عن الصحابة، هذا هو حاصل ما احتج به من قال: إن الزنا يثبت بالحمل.
وأما الذين قالوا: إن الحمل وحده لا يثبت به الزنا، ولا يجب به الحد، بل لا بد من البينة أو الإقرار، فقد قال في (المغني): حجتهم أنه يحتمل أن الحمل من وطء إكراه أو شبهة يسقط بالشبهات، وقد قيل: إن المرأة تحمل من غير وطء بأن يدخل ماء الرجل في فرجها، إما بفعلها، أو فعل غيرها، ولهذا تصور حمل البكر فقد وجد ذلك.
وأما قول الصحابة، فقد اختلفت الرواية عنهم فروى سعيد: حدثنا خلف بن خليفة
391

، حدثنا هاشم: أن امرأة رفعت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليس لها زوج، وقد حملت فسألها عمر، فقالت: إنني امرأة ثقيلة الرأس وقع علي رجل، وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ، فدرأ عنها الحد. وروى البراء بن صبرة، عن عمر أنه أوتي بامرأة حامل، فادعت أنها أكرهت، فقال: خل سبيلها، وكتب إلى أمراء الأجناد، ألا يقتل أحد إلا بإذنه. وروي عن علي وابن عباس أنهما قالا: إذا كان في الحد لعل وعسى فهو معطل. وروى الدارقطني بإسناده عن عبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم أنهم قالوا: إذا اشتبه عليك الحد فادرأ ما استطعت، ولا خلاف في أن الحد يدرأ بالشبهات، وهي متحققة هنا، اه بلفظه من (المغني).
وانظر أيضا أسانيد هذه الآثار التي ذكرها عن الصحابة، وهذا الذي ذكر هو حاصل ما احتج به الجمهور الذين قالوا إن الحبل لا يثبت به الزنا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر قولي أهل العلم عندي: أن الزنا لا يثبت بمجرد الحبل، ولو لم يعرف لها زوج ولا سيد؛ لأن الحمل قد يقع لا شك من غير وطء في الفرج، بل قد يطأ الرجل المرأة في فخديها، فتتحرك شهوتها فينزل ماؤها وينزل الرجل، فيسيل ماؤه فيدخل في فرجها، فيلتقي ماؤه بمائها فتحمل من غير وطء وهذا مشاهد لا يمكن إنكاره.
ولأجل ذلك فالأصح أن الزوج إذا كان يطأ امرأته في الفخذين، ولم يجامعها في الفرج فظهر بها حمل أنه لا يجوز له اللعان لنفي ذلك الحمل؛ لأن ماءه قد يسيل إلى فرجها، فتحمل منه، وقول عمر رضي الله عنه: إذا كان الحبل أو الاعتراف اجتهاد منه؛ لأنه يظهر له رضي الله عنه أن الحمل يثبت به الزنا كالاعتراف والبينة.
وإنما قلنا: إن الأظهر لنا خلاف قوله رضي الله عنه، لأنا نعلم أن وجود الحمل لا يستلزم الوطء في الفرج بل قد تحبل بدون ذلك، وإذا كان الحبل لا يستلزم الوطء في الفرج فلا وجه لثبوت الزنا، وإقامة الحد بأمر محتمل غير مستلزم لموجب الحد، كما ترى.
ومن المعلوم أن الحدود تدرأ بالشبهات، هذا هو الأظهر عندنا، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
392

الفرع الأول: اعلم أن الذين قالوا: بوجوب الحد بالحمل قالوا: إن تلك الحامل إن كانت طارئة من بلاد أخرى، وادعت أن حملها من زوج لها تركته في بلدها فلا حد عليها عندهم، ولا يثبت عليها الزنا بذلك الحمل.
الفرع الثاني: اعلم أنه إن ظهر بها حمل فادعت أنها مكرهة لا يقبل دعواها الإكراه عند من يثبت الزنا بالحمل إلا إذا اعتضدت دعواها بما يقويها من القرائن كإتيانها صارخة مستغيثة ممن فعل بها ذلك، وكأن تأتي متعلقة برجل تزعم أنه هو الذي أكرهها وكأن تشتكي من الذي فعل بها ذلك قبل ظهور الحمل.
وقال بعض علماء المالكية: إن كانت شكواها من الرجل الذي فعل بها ذلك مشبهة لكون الرجل الذي ادعت عليه غير معروف بالصلاح، فلا حد عليها، وإن كان الذي ادعت عليه معروفا بالصلاح، والعفاف، والتقوى حدث ولم يقبل قولها عليه.
وقال بعض المالكية: إن لم تسم الرجل الذي ادعت أنه أكرهها تعزر، ولا تحد إن كانت معروفة بالصلاح والعفاف.
الفرع الثالث: قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره المالكي: أو مكرهة، ما نصه: قال في الطراز أو في أواخر الجزء الثالث في ترجمة تفسير الطلاق، وما يلزم من ألفاظه، قال ابن عبد الغفور: ويقال إن عبد الله بن عيسى سئل عن جارية بكر زوجها فابتنى بها زوجها فأتت بولد لأربعة أشهر، فذكر ذلك لها فقالت: إني كنت نائمة فانتهبت لبلل بين فخدي، وذكر الزوج أنه وجدها عذراء.
فأجاب فيها: أنها لا حد عليها إذا كانت معروفة بالعفاف، وحسن الحال، ويفسخ النكاح، ولها المهر كاملا، إلا أن تكون علمت الحمل، وغرت فلها قدر ما استحل منها، انتهى من الاستغناء، انتهى كلام الطراز، انتهى ما نقله الحطاب، وهو يؤيد أن الحمل قد يقع من غير وطء يوجب الحد كما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة: اعلم أن من ثبت عليه الزنا وهو محصن، اختلف أهل العلم فيه، فقال بعضهم: يجلد مائة جلدة أولا ثم يرجم بعد ذلك، فيجمع له بين الجلد والرجم، وقال بعضهم: يرجم فقط ولا يجلد؛ لأن غير القتل يندرج في القتل، وممن قال بالجمع بينهما علي رضي الله عنه، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. قال ابن قدامة في
393

(المغني): وبه قال ابن عباس، وأبي بن كعب، وأبو ذر. ذكر ذلك عبد العزيز عنهما واختاره، وبه قال الحسن، وإسحاق، وداود، وابن المنذر، وممن قال بأنه يرجم فقط ولا يجلد مع الرجم مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، والنخعي، والزهري، والأوزاعي. واختاره أبو إسحاق، الجوزجاني، وأبو بكر الأثرم، ونصراه في سننهما وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مروي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، قال ذلك كله ابن قدامة في (المغني)، وهذا القول الأخير الذي هو الاقتصار على الرجم عزاه النووي في شرح مسلم لجماهير العلماء.
وفي المسألة قول ثالث: وهو ما حكاه القاضي عياض، عن طائفة من أهل الحديث، وهو أنه يجب الجمع بينهما إذا كان الزاني شيخا ثيبا فإن كان شابا ثيبا اقتصر على الرجم.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه تفاصيل أدلتهم، أما الذين قالوا: يجمع للزاني المحصن بين الجلد والرجم، فقد احتجوا بأدلة.
منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بالجمع بينهما للزاني المحصن تصريحا ثابتا عن ثبوتا لا مطعن فيه.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وهذا تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن الثيب وهو المحصن يجلد مائة ويرجم، وهذا اللفظ أخرجه مسلم أيضا بإسناد آخر. وفي لفظ في صحيح مسلم: (الثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة)، وهو تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بالجمع بينهما. وفي لفظ عند مسلم أيضا: (والثيب يجلد ويرجم)، وهذه الروايات الثابتة في الصحيح فيها تصريحه صلى الله عليه وسلم بالجمع بين الجلد والرجم.
ومن أدلتهم على الجمع بينهما: أن عليا رضي الله عنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، ثنا سلمة بن كهيل،
394

قال: سمعت الشعبي يحدث عن علي رضي الله عنه، حين رجم المرأة يوم الجمعة، وقال: قد رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى منه.
وقال ابن حجر في (الفتح) في الكلام على هذا الحديث، ما نصه في رواية علي بن الجعد: أن عليا أتي بامرأة زنت فضربها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة إلى آخر ما ذكره من الروايات، بأن عليا ضربها ورجمها، وهي شراحة الهمدانية كما تقدم. وفي رواية: أنها مولاة لسعيد بن قيس. ومن أدلتهم على الجمع بينهما أن الله تعالى قال: * (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) *، واللفظ عام في البكر والمحصن، ثم جاءت السنة بالرجم في حق المحصن والتغريب سنة في حق البكر، فوجب الجمع بينهما عملا بدلالة الكتاب والسنة معا، كما قال علي رضي الله عنه، قالوا: وقد شرع في كل من المحصن والثيب عقوبتان: أما عقوبتا الثيب: فهما الجلد والرجم، وأما عقوبنا البكر: فهما الجلد والتغريب.
هذا هو حاصل ما احتج به الذين قالوا: إنه يجمع للمحصن بين الجلد والرجم.
وأما الذين قالوا: يرجم فقط، ولا يجلد فاحتجوا بأدلة.
منها: أنه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا، ولم يجلده مع الرجم؛ لأن جميع الروايات في رجم ماعز بن مالك ليس في شئ منها أنه جلده مع الرجم بل ألفاظها كلها مقتصرة على الرجم، قالوا: ولو كان الجلد مع الرجم لم ينسخ لأمر بجلد ماعز مع الرجم، ولو أمر به لنقله بعض رواة القصة، قالوا: وقصة ماعز متأخرة عن حديث
عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي فيه التصريح بالجمع بينهما.
والدليل على أن حديث عبادة متقدم وأنه أول نص نزل في حد الزنا أن قوله صلى الله عليه وسلم فيه: (خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا) الحديث، يشير بجعل الله لهن سبيلا بالحد، إلى قوله تعالى: * (واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل) *، فالزواني كن محبوسات في البيوت إلى أحد أمرين: وهما الموت، أو جعل الله لهن سبيلا فلما قال صلى الله عليه وسلم: (قد جعل الله لهن سبيلا)، ثم فسر السبيل بحد الزنا علمنا بذلك أن حديث عبادة أول نص في حد الزنا، وأن قصة ماعز متأخرة عن ذلك.
395

ومن أدلتهم أنه رجم الغامدية كما تقدم، ولم يقل أحد أنه جلدها، لو جلدها مع الرجم لنقل ذلك بعض الرواة.
ومن أدلتهم: أنه قال صلى الله عليه وسلم: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)، ولم يقل فاجلدها مع الرجم، فدل ذلك على سقوط الجلد؛ لأنه لو وقع لنقله بعض الرواة. وهذه الوقائع كلها متأخرة عن حديث عبادة بن الصامت كما أشرنا إلى ما يقتضي ذلك آنفا.
ومن أدلتهم على أنه يرجم فقط، ولا يجلد مع الرجم الروايات الصحيحة التي قدمناها في رجمه صلى الله عليه وسلم للمرأة الجهنية، والغامدية، فإنها كلها مقتصرة على الرجم، ولم يذكر فيها جلد. وقال أبو داود: قال الغساني: جهينة وغامد وبارق واحد، انتهى منه. وعليه فالجهنية هي الغامدية.
وعلى كل حال فجميع الروايات الواردة في رجم الغامدية، ورجم الجهنية ليس في شيء منها ذكر الجلد، وإنما فيها كلها الاقتصار على الرجم، وكذلك قصة اليهوديين اللذين رجمهما صلى الله عليه وسلم ليس فيها إلا الرجم ولم يذكر فيها جلد، هذا هو حاصل ما احتج به أهل هذا القول.
وأما الذين قالوا: إن الجمع بين الرجم والجلد خاص بالشيخ والشيخة. وأما الشاب فيجلد إن لم يحصن ويرجم فقط إن أحصن، فقد احتجوا بلفظ الآية التي نسخت تلاوتها، وهي قوله تعالى: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما) إلى آخره، قالوا: فرجم الشيخ والشيخة ثبت بهذه الآية، وإن نسخت تلاوتها فحكمها باق. وقال ابن حجر في (الفتح): وقال عياض: شذت فرقة من أهل الحديث، فقالت: الجمع على الشيخ الثيب دون الشاب، ولا أصل له. وقال النووي: هو مذهب باطل كذا قاله، ونفى أصله، ووصفه بالبطلان إن أراد به طريقه فليس بجيد؛ لأنه ثابت كما سأبينه في باب البكران يجلدان وإن كان المراد دليله ففيه نظر أيضا؛ لأن الآية وردت بلفظ: (الشيخ) ففهم هؤلاء من تخصيص الشيخ بذلك أن الشاب أعذر منه في الجملة فهو معنى مناسب، وفيه جمع بين الأدلة فكيف يوصف بالبطلان، انتهى محل الغرض من (فتح الباري).
وقد قال صاحب (فتح الباري): إن هذا القول حكاه ابن المنذر وابن حزم، عن أبي بن كعب زاد ابن حزم وأبي ذر وابن عبد البر، عن مسروق، انتهى.
396

وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة وحججهم، فاعلم أن كل طائفة منهم ترجح قولها على قول الأخرى.
أما الذين قالوا: يجمع بين الجلد والرجم للمحصن، فقد قالوا هذا القول، هو أرجح الأقوال، ولا ينبغي العدول عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن المحصن يجلد ويرجم بالحجارة، فهو حديث صحيح صريح في محل النزاع، فلا يعارض بعدم ذكر الجلد في قصة ماعز، والجهنية، والغامدية، واليهوديين؛ لأن ما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم لا يعدل عنه بأمر محتمل، ويجوز أن يكون الجلد وقع لماعز ومن ذكر معه ولم يذكره الرواة؛ لأن عدم ذكره لا يدل دلالة قطعية على عدم وقوعه، لأن الراوي قد يتركه لظهوره، وأنه معروف عند الناس جلد الزاني، قالوا: والمحصن داخل قطعا في عموم * (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) *، وهذا العموم القرءاني لا يجوز العدول عنه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وعدم ذكر الجلد مع الرجم لا يعارض الأدلة الصريحة في القرءان، والسنة الصحيحة. قالوا: وعمل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم دليل على أنه لم ينسخ، ولم يعلم أن أحدا من الصحابة أنكر عليه ذلك، ولا تخفى قوة هذا الاستدلال الذي استدل به أهل هذا القول.
وأما الذين قالوا: بأن المحصن يرجم فقط ولا يجلد، فقد رجحوا أدلتهم بأنها متأخرة عن حديث عبادة بن الصامت، الذي فيه التصريح بالجمع بين الرجم والجلد، والعمل بالمتأخر أولى. والحق أنها متأخرة عن حديث عبادة المذكور؛ كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (قد جعل الله لهن سبيلا)، فهو دليل على أن حديث عبادة، هو أول نص ورد في حد الزنا كما هو ظاهر من الغاية في قوله تعالى: * (حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) *، قالوا: ومن أصرح الأدلة في أن الجمع بين الجلد والرجم منسوخ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة العسيف الذي زنى بامرأة الرجل الذي كان أجيرا عنده: (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله)، وهذا قسم منه صلى الله عليه وسلم أنه يقضي بينهما بكتاب الله، ثم قال في الحديث الذي أقسم على أنه قضاء بكتاب الله: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)، قالوا: إن قوله: (فإن اعترفت) شرط، وقوله: (فارجمها) جزاء هذا الشرط، فدل الربط بين الشرط، وجزائه على أن جزاء اعترافها هو الرجم وحده، وأن ذلك قضاء بكتاب الله تعالى.
397

وهذا دليل من لفظ النبي الصريح على أن جزاء اعترافها بالزنا هو رجمها فقط، فربط هذا الجزاء بهذا الشرط أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضاء بكتاب الله وهو متأخر عن حديث عبادة، لما قدمنا.
وهذا الدليل أيضا قوي جدا، لأن فيه إقسامه صلى الله عليه وسلم بأن الاعتراف بالزنا من المحصن يترتب عليه الرجم، ولا يخلو هذا الحديث من أحد أمرين: إما أن يكون صلى الله عليه وسلم اقتصر على قوله: (فارجمها)، أو يكون قال مع ذلك فاجلدها، وترك الراوي الجلد، فإن كان قد اقتصر على الرجم، فذلك يدل على نسخ الجلد؛ لأنه جعل جزاء الاعتراف الرجم وحده، لأن ربط الجزاء بالشرط يدل على ذلك دلالة لفظية لا دلالة سكوت، وإن كان قال مع الرجم: واجلدها، وحذف الراوي
الجلد، فإن هذا النوع من الحذف ممنوع؛ لأن حذف بعض جزاء الشرط مخل بالمعنى موهم غير المراد، والحذف إن كان كذلك فهو ممنوع، ولا يجوز للراوي أن يفعله والراوي عدل فلن يفعله.
وقد أوضحنا في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله: * (قل لا أجد فيما أوحى إلى) *، أنه لا تعارض بين نصين، مع اختلاف زمنهما؛ كما هو التحقيق.
وأما القول الثالث وهو الفرق بين الشيخ والشاب، وإن وجهه ابن حجر بما ذكرنا، لا يخفى سقوطه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: دليل كل منهما قوي، وأقربهما عندي: أنه يرجم فقط، ولا يجلد مع الرجم لأمور:
منها: أنه قول جمهور أهل العلم. ومنها: أن روايات الاقتصار على الرجم في قصة ماعز، والجهنية، والغامدية، واليهوديين، كلها متأخرة بلا شك عن حديث عبادة، وقد يبعد أن يكون في كل منها الجلد مع الرجم، ولم يذكره أحد من الرواة مع تعدد طرقها.
ومنها: أن قوله الثابت في الصحيح: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)، تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن جزاء اعترافها رجمها، والذي يوجد بالشرط هو الجزاء، وهو في الحديث الرجم فقط.
ومنها: أن جميع الروايات المذكورة المقتضية لنسخ الجمع بين الجلد والرجم على أدنى الاحتمالات لا تقل عن شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
398

ومنها: أن الخطأ في ترك عقوبة لازمة أهون من الخطأ في عقوبة غير لازمة، والعلم عند الله تعالى.
قال بعضهم: ويؤيده من جهة المعنى أن القتل بالرجم أعظم العقوبات فليس فوقه عقوبة، فلا داعي للجلد معه؛ لاندراج الأصغر في الأكبر.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: إذا ثبت الزنا على الزاني فظن الإمام أنه بكر فجلده مائة، ثم ثبت بعد جلده أنه محصن فإنه يرجم، ولا ينبغي أن يختلف في هذا، وقد قال أبو داود رحمه الله في سننه: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا (ح) وثنا ابن السرح المعنى، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه: أن رجلا زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فجلد الحد، ثم أخبر أنه محصن، فأمر به فرجم. قال أبو داود: روى هذا الحديث محمد بن بكر البرساني، عن ابن جريج موقوفا على جابر، ورواه أبو عاصم عن ابن جريج بنحو ابن وهب، لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن رجلا زنى فلم يعلم بإحصانه، فجلد ثم علم بإحصانه فرجم.
حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز، أخبرنا أبو عاصم عن ابن جريج عن أبي الزبير، عن جابر: أن رجلا زنى بامرأة فلم يعلم بإحصانه فجلد، ثم علم بإحصانه فرجم، اه من سنن أبي داود.
وقال الشوكاني رحمه الله في (نيل الأوطار) في حديث أبي داود هذا، ما نصه: حديث جابر بن عبد الله سكت عنه أبو داود والمنذري، وقدمنا في أول الكتاب أن ما سكتا عنه، فهو صالح للاحتجاج به، وقد أخرجه أبو داود عنه من طريقين، ورجال إسناده رجال الصحيح، وأخرجه أيضا النسائي، اه منه.
الفرع الثاني: قد قدمنا في الروايات الصحيحة: أن الحامل من الزنا لا ترجم، حتى تضع حملها وتفطمه، أو يوجد من يقوم برضاعه؛ لأن رجمها وهي حامل فيه إهلاك جنينها الذي في بطنها وهو لا ذنب له، فلا يجوز قتله، وهو واضح مما تقدم.
الفرع الثالث: اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن وجب عليه الرجم، هل يحفر له أو لا يحفر له؟ فقال بعضهم: لا يحفر له مطلقا، وقال بعضهم: يحفر لمن زنى مطلقا، وقيل:
399

يحفر للمرأة إن كان الزنا ثابتا بالبينة دون الإقرار، واحتج من قال: بأن المرجوم لا يحفر له بما ثبت في صحيح مسلم وغيره، عن أبي سعيد الخدري في قصة رجم ماعز، ولفظ مسلم في صحيحه في المراد من الحديث، قال: فما أوثقناه، ولا حفرنا له.. الحديث، وفيه التصريح من أبي سعيد في هذا الحديث الصحيح: أنهم لم يحفروا له. وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على قول أبي سعيد: فما أوثقناه، ولا حفرنا له ما نصه: وفي الرواية الأخرى في صحيح مسلم، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم، وذكر بعده في حديث الغامدية، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. أما قوله: فما أوثقناه فهكذا الحكم عند الفقهاء. وأما الحفر للمرجوم والمرجومة ففيه مذاهب للعلماء.
قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد رضي الله عنهم في المشهور عنهم: لا يحفر لواحد منهما.
وقال قتادة، وأبو ثور، وأبو يوسف، وأبو حنيفة في رواية: يحفر لهما.
وقال بعض المالكية: يحفر لمن يرجم بالبينة لا من يرجم بالإقرار.
وأما أصحابنا فقالوا: لا يحفر للرجل سواء ثبت زناه بالبينة أم بالإقرار.
وأما المرأة ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا.
أحدها: بستحب الحفر لها إلى صدرها، ليكون أستر لها.
والثاني: لا يستحب ولا يكره، بل هو إلى خيرة الإمام.
والثالث: وهو الأصح إن ثبت زناها بالبينة استحب، وإن ثبت بالإقرار فلا، ليمكنها الهرب إن رجعت. فمن قال بالحفر لهما احتج بأنه حفر للغامدية، وكذا لماعز في
رواية، ويجيب هؤلاء عن الرواية الأخرى في ماعز أنه لم يحفر له، أن المراد حفيرة عظيمة أو غير ذلك من تخصيص الحفيرة.
وأما من قال: لا يحفر فاحتج برواية من روى: فما أوثقناه، ولا حفرنا له، وهذا المذهب ضعبف؛ لأنه منابذ لحديث الغامدية ولرواية الحفر لماعز.
وأما من قال بالتخيير فظاهر، وأما من فرق بين الرجل والمرأة، فيحمل رواية الحفر لماعز، على أنه لبيان الجواز، وهذا تأويل ضعيف، ومما احتج به من ترك الحفر حديث
400

اليهوديين المذكور بعد هذا، وقوله جعل يجنأ عليها، ولو حفر لهما لم يجنأ عليها. واحتجوا أيضا بقوله في حديث ماعز: فلما أذلقته الحجارة هرب، وهذا ظاهر في أنه لم تكن حفرة والله أعلم، انتهى كلام النووي. وقد ذكر فيه أقوال أهل العلم في المسألة، وبين حججهم، وناقشها، وقد ذكر في كلامه، أن المشهور عن أبي حنيفة عدم الحفر للرجل والمرأة. والظاهر أن المشهور عند الحنفية الحفر للمرأة دون الرجل، وأنه لو ترك الحفر لهما معا فلا بأس. قال صاحب كنز الدقائق في الفقه الحنفي: ويحفر لها في الرجم لا له، وقال شارحه في تبيين الحقائق: ولا بأس بترك الحفر لهما؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بذلك اه. وقال ابن قدامة في (المغني) في الفقه الحنبلي: وإن كان الزاني رجلا أقيم قائما، ولم يوثق بشئ ولم يحفر له، سواء ثبت الزنا ببينة أو إقرار لا نعلم فيه خلافا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز.
قال أبو سعيد: لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز، خرجنا به إلى البقيع فوالله ما حفرنا له، ولا أوثقناه، ولكنه قام لنا، رواه أبو داود؛ ولأن الحفر له ودفن بعضه عقوبة لم يرد بها الشرع في حقه، فوجب ألا تثبت، وإن كان امرأة فظاهر كلام أحمد أنها لا يحفر لها أيضا، وهو الذي ذكره القاضي في الخلاف، وذكر في المحرر أنه إن ثبت الحد بالإقرار لم يحفر لها، وإن ثبت بالبينة حفر لها إلى الصدر.
قال أبو الخطاب: وهذا أصح عندي، وهو قول أصحاب الشافعي لما روى أبو بكر، وبريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة فحفر لها إلى التندوة، رواه أبو داود، ولأنه أستر لها، ولا حاجة لتمكينها من الهرب لكون الحد ثبت بالبينة، فلا يسقط بفعل من جهتها بخلاف الثابت بالإقرار، فإنها تترك على حال، لو أرادت الهرب تمكنت منه؛ لأن رجوعها عن إقرارها مقبول، ولنا أن أكثر الأحاديث على ترك الحفر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر للجهنية ولا لماعز، ولا لليهوديين، والحديث الذي احتجوا به غير معمول به، ولا يقولون به، فإن التي نقل عنه الحفر لها ثبت حدها بإقرارها، ولا خلاف بيننا فيها، فلا يسوغ لهم الاحتجاج به مع مخالفتهم له إذا ثبت هذا فإن ثياب المرأة تشد عليها كيلا تنكشف. وقد روى أبو داود بإسناده عن عمران بن حصين، قال: فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها، ولأن ذلك أستر لها، اه من (المغني).
401

وقد علمت مما ذكرنا أقوال أهل العلم وأدلتهم في مسألة الحفر للمرجوم من الرجال والنساء.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أقوى الأقوال المذكورة دليلا بحسب صناعة أصول الفقه، وعلم الحديث: أن المرجوم يحفر له مطلقا ذكرا كان أو أنثى، ثبت زناه ببينة أو بإقرار، ووجه ذلك أن قول أبي سعيد في صحيح مسلم: فما أوثقناه ولا حفرنا له، يقدم عليه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث بريدة، بلفظ: فلما كان الرابعة حفر له حفرة، ثم أمر به فرجم، اه. وهو نص صحيح صريح في أن ماعزا حفر له.
وظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الحافر له، أي بأمره بذلك فبريدة مثبت للحفر، وأبو سعيد ناف له، والمقرر في الأصول وعلم الحديث: أن المثبت مقدم على النافي، وتعتضد رواية بريدة هذه بالحفر لماعز بروايته أيضا في صحيح مسلم بنفس الإسناد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالحفر للغامدية إلى صدرها، وهذا نص صحيح صريح في الحفر للذكر والأنثى معا، أما الأنثى فلم يرد ما يعارض هذه الرواية الصحيحة بالحفر لها إلى صدرها، وأما الرجل فرواية الحفر له الثابتة في صحيح مسلم مقدمة على الرواية الأخرى في صحيح مسلم بعدم الحفر؛ لأن المثبت مقدم على النافي.
وقول ابن قدامة في (المغني): والحديث الذي احتجوا به غير معمول به ظاهر السقوط؛ لأنه حديث صحيح وليس بمنسوخ، فلا وجه لترك العمل به مع ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم كما ترى، وبالرواية الصحيحة التي في صحيح مسلم من حديث بريدة: أنه صلى الله عليه وسلم حفر للغامدية، وزناها ثبت بإقرارها، لا ببينة تعلم أن الذين نفوا الحفر لمن ثبت زناها بإقرارها مخالفون لصريح النص الصحيح بلا مستند كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الرابع: اعلم أن أهل العلم اختلفوا فيمن يبدأ بالرجم فقال بعضهم: إن كان الزنا ثابتا ببينة، فالسنة أن يبدأ الشهود بالرجم، وإن كان ثبت بإقرار بدأ به الإمام أو الحاكم، إن كان ثبت عنده، ثم يرجم الناس بعده، وهذا مذهب أبي حنيفة، وأحمد، ومن وافقهما. واستدلوا لبداءة الشهود، وبداءة الإمام بما ذكره ابن قدامة في الفقه الحنبلي، وصاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي.
قال صاحب (المغني): وروى سعيد بإسناده عن علي رضي الله عنه، أنه قال:
402

الرجم رجمان، فما كان منه بإقرار فأول من يرجم الإمام ثم الناس، وما كان ببينة، فأول من يرجم البينة ثم الناس؛ ولأن فعل ذلك أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه، اه منه.
وحاصل هذا الاستدلال: أثر مروي عن علي، وكون مباشرتهم الرمي بالفعل أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه، وهذا كأنه استدلال عقلي لا نقلي. اه.
وقال صاحب (تبيين الحقائق) في شرحه لقول صاحب (كنزل الدقائق): يبدأ الشهود به فإن أبوا سقط ثم الإمام ثم الناس، ويبدأ الإمام، ولو مقرا ثم الناس.
ما نصه: أي يبدأ الشهود بالرجم. وقال الشافعي: لا تشترط بداءتهم اعتبارا بالجلد، ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال حين رجم شراحة الهمدانية: إن
الرجم سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان شهد على هذه أحد لكان أول من يرمي الشاهد يشهد، ثم يتبع شهادته حجره ولكنها أقرت فأنا أول من رماها بحجر. قال الراوي: ثم رمى الناس وأنا فيهم، ولأن الشاهد ربما يتجاسر على الشهادة ثم يستعظم المباشرة فيأبى أو يرجع، فكان في بداءته احتيال للدرء بخلاف الجلد، فإن كل أحد لا يحسنه، فيخاف أن يقع مهلكا أو متلفا لعضو، وهو غير مستحق ولا كذلك الرجم؛ لأن الإتلاف فيه متعين.
قال رحمه الله: فإن أبوا سقط، أي: إن أبى الشهود من البداءة سقط الحد لأنه دلالة الرجوع، وكذلك إن امتنع واحد منهم، أو جنوا، أو فسقوا، أو قذفوا فحدوا أو أحدهم، أو عمى، أو خرس، أو ارتد، والعياذ بالله تعالى؛ لأن الطارىء على الحد قبل الاستيفاء كالموجود في الابتداء، وكذا إذا غابوا أو بعضهم، أو ماتوا أو بعضهم لما ذكرنا، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، وروي عنه أنهم إذا امتنعوا أو ماتوا أو غابوا، رجم الإمام. ثم الناس، وإن كان الشهود مرضى لا يستطيعون أن يرموا أو مقطوعي الأيدي رجم بحضرتهم بخلاف ما إذا قطعت أيديهم بعد الشهادة، ذكره في النهاية.
قال رحمه الله: ثم الإمام ثم الناس لما روينا من أثر علي رضي الله عنه، ويقصدون بذلك مقتله إلا من كان منهم ذا رحم محرم منه، فإنه لا يقصد مقتله؛ لأن بغيره كفاية.
وروي أن حنظلة استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه، وكان كافرا فمنعه من ذلك، وقال: (دعه يكفيك غيرك)؛ ولأنه مأمور بصلة الرحم، فلا يجوز القطع من غير حاجة.
403

قال رحمه الله: ويبدأ الإمام، ولو مقرا ثم الناس، أي: يبدأ الإمام بالرجم إن كان الزاني مقرا لما روينا من أثر علي رضي الله عنه؛ ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغامدية بحصاة مثل الحمصة، ثم قال للناس: (ارموا)، وكانت أقرت بالزنا، انتهى محل الغرض من (تبيين الحقائق) ممزوجا بنص (كنزل الدقائق).
هذا حاصل ما استدل به من قال ببداءة الشهود أو الإمام.
وذهب مالك وأصحابه ومن وافقهم، إلى أنه لا تعيين لمن يبدأ من شهود ولا إمام، ولا غيرهم. واحتج مالك لهذا بأنه لم يعلم أحدا من الأئمة تولى ذلك بنفسه، ولا ألزم به البينة.
قال الشيخ المواق في شرحه لقول خليل في مختصره المالكي: ولم يعرف بداءة البينة، ولا الإمام، ما نصه: قال مالك: مذ أقامت الأئمة الحدود، فلم نعلم أحدا منهم تولى ذلك بنفسه، ولا ألزم ذلك البينة خلافا لأبي حنيفة القائل: إن ثبت الزنا ببينة بدأ الشهود ثم الإمام ثم الناس، اه منه. واستدل له بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبدأ برجم ماعز، وأنه قال لأنيس: (فإن اعترفت فارجمها)، ولم يحضر صلى الله عليه وسلم ليبدأ برجمها، وقول مالك رحمه الله إنه لم يعلم أحدا تولى ذلك بنفسه من الأئمة، ولا ألزم به البينة يدل على أنه لم يبلغه أثر علي أو بلغه ولم يصح عنده. وكذلك الحديث المرفوع الذي استدل به القائلون ببداءة الشهود والإمام، وهو أنه صلى الله عليه وسلم رمى الغامدية بحصاة كالحمصة، ثم قال للناس: (ارموا).
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما هذا الحديث المرفوع، فليس بثابت، ولا يصلح للاحتجاج؛ لأن في إسناده راويا مبهما.
قال أبو داود رحمه الله في سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع بن الجراح، عن زكريا أبي عمران، قال: سمعت شيخا يحدث عن ابن أبي بكرة، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة فحفر لها إلى التندوة، ثم قال أبو داود: حدثت عن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا زكرياء بن سليم بإسناده نحوه زاد: ثم رماها بحصاة مثل الحمصة، ثم قال: (ارموا واتقوا الوجه) الحديث، وهذا الإسناد الذي فيه زيادة، ثم رماها بحصاة مثل الحمصة، هو بعينه الإسناد الذي فيه قال: سمعت شيخا يحدث عن ابن أبي بكرة، وهذا الشيخ الذي حدث عن ابن أبي بكرة لم يدر أحد من هو، فهو مبهم، والمبهم
404

مجهول العين والعدالة، فلا يحتج به، كما ترى. وقال صاحب (نصب الراية) في هذا الحديث بعد أن ذكر رواية أبي داود التي سقناها آنفا: رواه النسائي في الرجم.
حدثنا محمد بن حاتم عن حبان بن موسى، عن عبد الله، عن زكريا أبي عمران البصري، قال: سمعت شيخا يحدث عن عبد الرحمان بن أبي بكرة بهذا الحديث بتمامه، ورواه البزار في مسنده والطبراني في معجمه.
قال البزار: ولا نعلم أحدا سمى هذا الشيخ وتراجع ألفاظهم، وذكره عبد الحق في أحكامه من جهة النسائي، ولم يعله بغير الانقطاع، اه منه. وأي علة أعظم من الانقطاع بإبهام الشيخ المذكور.
فتحصل أن الحديث المرفوع ضعيف ليس بصالح للاحتجاج.
أما الأثر المروي عن علي رضي الله عنه، فقد قال البيهقي في سننه الكبرى في باب من اعتبر حضور الإمام والشهود، وبداءة الإمام بالرجم، ما نصه: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، ثنا أبو الجواب، ثنا عمار هو ابن رزيق، عن أبي حصين عن الشعبي، قال: أتى علي رضي الله عنه بشراحة الهمدانية قد فجرت فردها حتى ولدت، فلما ولدت قال: ائتوني بأقرب النساء منها، فأعطاها ولدها ثم جلدها ورجمها، ثم قال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بالسنة، ثم قال: أيما امرأة نعى عليها ولدها أو كان اعتراف، فالإمام أول من يرجم، ثم الناس، فإن نعاها الشهود فالشهود أول من يرجم، ثم الإمام، ثم الناس. وأخبرنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق المزكي، أنبأ أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني، ثنا محمد بن عبد الوهاب، أنبأ جعفر بن عون، أنبأ الأجلح عن الشعبي، قال: جيء بشراحة الهمدانية إلى علي رضي الله عنه، فقال لها: ويلك لعل رجلا وقع عليك وأنت نائمة؟ قالت: لا، قال لعلك استكرهت؟ قالت: لا، قال: لعل زوجك من عدونا هذا أتاك فأنت تكرهين أن تدلي عليه، يلقنها لعلها تقول نعم، قال: فأمر بها فحبست، فلما وضعت ما في بطنها أخرجها يوم الخميس
فضربها مائة، وحفر لها يوم الجمعة في الرحبة فأحاط الناس بها، وأخذوا الحجارة، فقال: ليس هكذا الرجم، إنما يصيب بعضكم بعضا، صفوا كصف الصلاة صفا خلف صف؛ ثم قال: أيها الناس أيما امرأة جيء بها وبها حبل، يعني: أو اعترفت، فالإمام أول من يرجم، ثم الناس، وأيما امرأة جيء بها أو رجل زان فشهد عليه أربعة بالزنا
405

فالشهود أول من يرجم، ثم الإمام ثم الناس، ثم أمرهم فرجم صف ثم صف، ثم قال: افعلوا بها ما تفعلون بموتاكم.
قال الشيخ رحمه الله: قد ذكرنا أن جلد الثيب صار منسوخا، وأن الأمر صار إلى الرجم فقط، اه. من السنن الكبرى بلفظه، وذلك يدل على أن المرجوم يغسل ويكفن ويصلى عليه، وهو كذلك، وقد جاءت النصوص بالصلاة على المرجوم؛ كما هو معلوم.
وقال صاحب (نصب الراية) في أثر علي هذا، ما نصه: قلت: أخرجه البيهقي في سننه عن الأجلح عن الشعبي، قال: جيء بشراحة الهمدانية إلى علي رضي الله عنه إلى آخر ما ذكرنا، عن البيهقي باللفظ الذي سقناه به، والعجب من صاحب نصب الراية، حيث اقتصر على رواية البيهقي للأثر المذكور من طريق الأجلح عن الشعبي، ولم يشر إلى الرواية الأولى التي سقناها التي الراوي فيها عن الشعبي أبو حصين فاقتصاره على رواية الأجلح عن الشعبي وتركه للرواية التي ذكرنا أولا لا وجه له. والأجلح المذكور في الإسناد المذكور، هو: ابن عبد الله بن حجية بالمهملة والجيم مصغرا. ويقال: ابن معاوية، يكنى أبا حجية الكندي، ويقال: اسمه يحيى. قال فيه ابن حجر في (التقريب): صدوق شيعي، وقال عنه في (تهذيب التهذيب): قال القطان: في نفسي منه شئ. وقال أيضا: ما كان يفصل بين الحسين بن علي وعلي بن الحسين. وقال أحمد: أجلح ومجالد متقاربان في الحديث. وقد روى الأجلح غير حديث منكر. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ما أقرب الأجلح من فطر بن خليفة. وقال ابن معين: صالح، وقال مرة: ثقة، وقال مرة: ليس به بأس. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ضعيف ليس بذاك، وكان له رأي سوء. وقال الجوزجاني: مفتر. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، ويروي عنه الكوفيون وغيرهم، ولم أر له حديثا منكرا مجاوزا للحد لا إسنادا ولا متنا إلا أنه يعد في شيعة الكوفة، وهو عندي مستقيم الحديث صدوق. وقال شريك عن الأجلح: سمعنا أنه ما يسب أبا بكر وعمر أحد إلا مات قتلا أو فقيرا. وقال عمرو بن علي: مات سنة مائة وخمس وأربعين في أول السنة، وهو رجل من بجيلة مستقيم الحديث صدوق.
قلت: ليس هو من بجيلة، وقال أبو داود: ضعيف. وقال مرة: زكريا أرفع منه بمائة درجة، وقال ابن سعد: كان ضعيفا جدا. وقال العقيلي: روى عن الشعبي أحاديث
406

مضطربة لا يتابع عليها. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة، حديثه لين. وقال ابن حبان: كان لا يدري ما يقول جعل أبا سفيان أبا الزبير، انتهى منه.
وقد رأيت كثرة الاختلاف في الأجلح المذكور إلا أن روايته لهذا الأثر عن الشعبي عن علي تعتضد برواية أبي الحصين له عن الشعبي، عن علي. وأبو حصين المذكور، هو بفتح الحاء، وهو عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي الكوفي أخرج له الجميع، وقال فيه في (التقريب): ثقة ثبت سني وربما دلس، اه.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في بداءة الشهود والإمام بالرجم وما احتج به كل منهم.
فاعلم: أن أظهر القولين هو قول من قال ببداءة الشهود أو الإمام، كما ذكرنا. وقول الإمام مالك رحمه الله: إنه لم يعلم أحدا من الأئمة فعله يقتضي أنه لم يبلغه أثر علي رضي الله عنه المذكور، ولو بلغه لعمل به، والظاهر أن له حكم الرفع؛ لأنه لا يظهر أنه يقال من جهة الرأي، وإن كان الكلام الذي قدمنا عن صاحب (المغني)، وصاحب (تبيين الحقائق) يقتضي أن مثله يقال بطريق الرأي للتعليل الذي عللوا به القول به. وقال صاحب (نصب الراية) بعد أن ذكر رواية البيهقي للأثر المذكور عن علي من طريق الأجلح، عن الشعبي ما نصه: ورواه أحمد في مسنده، عن يحيى بن سعيد، عن مجالد، عن الشعبي، ثم ساق متن رواية الإمام أحمد بنحو ما قدمنا، ثم قال: ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن يزيد، عن عبد الرحمان بن أبي ليلى أن عليا رضي الله عنه، ثم ساق الأثر بنحو ما قدمنا. ثم قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن الحسن بن سعيد، عن عبد الرحمان بن عبد الله بن مسعود، عن علي، ثم ساق الأثر المذكور بنحو ما قدمنا، اه.
وهذه الروايات يعضد بعضها بعضا وهي تدل على أن عليا كان يقول ببداءة الإمام في الإقرار وبداءة الشهود في البينة، وإن كان له حكم الرفع فالأمر واضح، وإن كان له حكم الوقف فهي فتوى وفعل من خليفة راشد، ولم يعلم أن أحدا أنكر عليه، ولهذا استظهرنا بداءة البينة والإمام في الرجم، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس: اعلم أن المرجوم إذا هرب في أثناء الرجم عندما وجد ألم الضرب بالحجارة، فإن كان زناه ثابتا ببينة، فلا خلاف في أنهم يتبعونه حتى يدركوه، فيرجموه
407

لوجوب إقامة الحد عليه الذي هو الرجم بالبينة، وإن كان زناه ثابتا بإقرار، فقد اختلف أهل العلم فيه.
قال النووي في شرح مسلم: اختلف العلماء في المحصن: إذا أقر بالزنا فشرعوا في رجمه، ثم هرب هل يترك أم يتبع ليقام عليه الحد؟ فقال الشافعي وأحمد وغيرهما: يترك، ولا يتبع لكي يقال له بعد ذلك، فإن رجع عن الإقرار ترك، وإن أعاد رجم.
وقال مالك في رواية وغيره: إنه يتبع ويرجم. واحتج الشافعي وموافقوه بما جاء في رواية أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تركتموه حتى أنظر في شأنه)؟ وفي رواية: (هلا تركتموه فلعله يتوب فيتوب الله عليه)، واحتج الآخرون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزمهم ذنبه، مع أنهم قتلوه بعد هربه، وأجاب الشافعي وموافقوه عن هذا بأنه لم يصرح بالرجوع، وقد ثبت إقراره فلا يترك حتى يصرح بالرجوع، قالوا: وإنما قلنا لا يتبع في هربه لعله يريد الرجوع، ولم نقل إنه سقط الرجم بمجرد الهرب، والله أعلم. انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي أنه إن هرب في أثناء الرجم لا يتبع بل يمهل حتى ينظر في أمره، فإن صرح بالرجوع ترك، وإن تمادى على إقراره رجم، ويدل لهذا ما في رواية أبي داود التي أشار لها النووي، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة: اعلم أن البكر من الرجال والنساء، إذا زنا وجب جلده مائة جلدة كما هو نص الآية الكريمة، ولا خلاف فيه، ولكن العلماء اختلفوا هل يغرب سنة مع جلده مائة أو لا يغرب؟ فذهب جمهور أهل العلم إلى أن البكر يغرب سنة مع الجلد. قال ابن قدامة في (المغني): وهو قول جمهور أهل العلم. روي ذلك عن الخلفاء الراشدين، وبه قال أبي وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم. وإليه ذهب عطاء، وطاوس، والثوري، وابن أبي ليلى، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور. وقال مالك والأوزاعي: يغرب الرجل دون المرأة. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يجب التغريب على ذكر ولا أنثى. وقال النووي في شرح مسلم: قال الشافعي والجماهير: ينفى سنة رجلا كان أو امرأة. وقال الحسن: لا يجب النفي. وقال مالك والأوزاعي: لا نفي على النساء، وروي مثله عن علي رضي الله عنه إلى أن قال: وأما العبد والأمة ففيهما ثلاثة أقوال للشافعي.
408

أحدها: يغرب كل واحد منهما سنة لظاهر الحديث، وبهذا قال سفيان الثوري، وأبو ثور، وداود، وابن جرير.
والثاني: يغرب نصف سنة؛ لقوله تعالى: * (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) *، وهذا أصح الأقوال عند أصحابنا، وهذه الآية مخصصة لعموم الحديث، والصحيح عند الأصوليين: جواز تخصيص السنة بالكتاب، لأنه إذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب فتخصيص السنة به أولى.
والثالث: لا يغرب المملوك أصلا، وبه قال الحسن البصري، وحماد، ومالك، وأحمد، وإسحاق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الأمة إذا زنت: (فليجلدها)، ولم يذكر النفي، ولأن نفيه يضر سيده مع أنه لا جناية من سيده، وأجاب أصحاب الشافعي عن حديث الأمة إذا زنت أنه ليس فيه تعرض للنفي، والآية ظاهرة في وجوب النفي، فوجب العمل بها، وحمل الحديث على موافقتها، والله أعلم. اه كلام النووي، وقوله: إن الآية ظاهرة في وجوب النفي ليس بظاهر، فانظره.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وأن الأئمة الثلاثة: مالكا، والشافعي، وأحمد، متفقون على تغريب الزاني البكر الحر الذكر، وإن وقع بينهم خلاف في تغريب الإناث والعبيد، وعلمت أن أبا حنيفة، ومن ذكرنا معه يقولون: بأنه لا يجب التغريب على الزاني مطلقا ذكرا كان أو أنثى، حرا أو عبدا، فهذه تفاصيل أدلتهم.
أما الذين قالوا: يغرب البكر الزاني سنة، فاحتجوا بأن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتا لا مطعن فيه، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما وباقي الجماعة في حديث العسيف الذي زنى بامرأة الرجل الذي كان أجيرا عنده، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام) الحديث، وفيه التصريح من النبي صلى الله عليه وسلم برواية صحابيين جليلين أنه أقسم ليقضين بينهما بكتاب الله، ثم صرح بأن من ذلك القضاء بكتاب الله جلد ذلك الزاني البكر مائة وتغريبه عاما، وهذا أصح نص وأصرحه في محل النزاع. ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه وغيره وهو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي قدمناه، وفيه: (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة). وهو أيضا نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم صريح في محل النزاع. واحتج الحنفية ومن وافقهم من الكوفيين على عدم التغريب بأدلة:
409

منها: أن التغريب سنة زيادة على قوله تعالى: * (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) *، والمقرر في أصول الحنفية هو أن الزيادة على النص نسخ له، وإذا كانت زيادة التغريب على الجلد في الآية تعتبر نسخا للآية فهم يقولون: إن الآية متواترة، وأحاديث التغريب أخبار آحاد. والمتواتر عندهم لا ينسخ بالآحاد، وقد قدمنا في مواضع من هذا الكتاب المبارك أن كلا الأمرين ليس بمسلم، أما الأول منهما وهو أن كل زيادة على النص، فهي ناسخة له ليس بصحيح؛ لأن الزيادة على النص لا تكون ناسخة له على التحقيق، إلا إن كانت مثبتة شيئا قد نفاه النص أو نافية شيئا أثبته النص، أما إذا كانت زيادة شئ سكت عنه النص السابق، ولم يتعرض لنفيه، ولا لإثباته فالزيادة حينئذ إنما هي رافعة للبراءة الأصلية المعروفة في الأصول بالإباحة العقلية، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي، حتى يرد دليل ناقل عنه، ورفع البراءة الأصلية ليس بنسخ، وإنما النسخ رفع حكم شرعي كان ثابتا بدليل شرعي.
وقد أوضحنا هذا المبحث في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) *.
وفي سورة (الحج) في مبحث اشتراط الطهارة للطواف في كلامنا الطويل على آيات (الحج) وغير ذلك من مواضع هذا الكتاب المبارك.
وأما الأمر الثاني: وهو أن المتواتر لا ينسخ بأخبار الآحاد؛ فقد قدمنا في سورة (الأنعام) في الكلام على آية (الأنعام) المذكورة آنفا، أنه غلط فيه جمهور الأصوليين غلطا لا شك فيه، وأن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد؛ إذا ثبت تأخرها عنه، ولا منافاة بينهما أصلا، حتى يرجح المتواتر على الآحاد، لأنه لا تناقض مع اختلاف زمن الدليلين؛ لأن كلا منهما حق في وقته، فلو قالت لك جماعة من العدول: إن أخاك المسافر لم يصل بيته إلى الآن، ثم بعد ذلك بقليل من الزمن أخبرك إنسان واحد أن أخاك وصل بيته، فإن خبر هذا الإنسان الواحد أحق بالتصديق من خبر جماعة العدول المذكورة؛ لأن أخاك وقت كونهم في بيته لم يقدم، وبعد ذهابهم بزمن قليل قدم أخوك فأخبرك ذلك الإنسان بقدومه وهو صادق. وخبره لم يعارض خبر الجماعة الآخرين لاختلاف زمنهما كما أوضحناه في المحل المذكور؛ فالمتواتر في وقته قطعي، ولكن استمرار حكمه إلى الأبد ليس بقطعي،
410

فنسخه بالآحاد إنما نفى استمرار حكمه، وقد عرفت أنه ليس بقطعي، كما ترى.
ومن أدلتهم على عدم التغريب: حديث سهل بن سعد الساعدي عند أبي داود، وقد قدمناه: أن رجلا أقر عنده صلى الله عليه وسلم أنه زنى بامرأة سماها فأنكرت أن تكون
زنت، فجلده الحد، وتركها. وما رواه أبو داود أيضا عن ابن عباس: أن رجلا من بكر بن ليث أقر عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه زنى بامرأة أربع مرات، وكان بكرا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة، وسأله صلى الله عليه وسلم البينة على المرأة إذ كذبته، فلم يأت بها؛ فجلده حد الفرية ثمانين جلدة، قالوا: ولو كان التغريب واجبا لما أخل به النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أدلتهم أيضا: الحديث الصحيح (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها) الحديث، وهو متفق عليه، ولم يذكر فيه التغريب مع الجلد، فدل ذلك على أن التغريب منسوخ، وهذا الاستدلال لا ينهض لمعارضة النصوص الصحيحة الصريحة التي فيها إقسامه صلى الله عليه وسلم أن الجمع بين جلد البكر، ونفيه سنة قضاء منه صلى الله عليه وسلم بكتاب الله.
وإيضاح ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء بكتاب الله، وهذا النص الصحيح بالغ من الصراحة في محل النزاع، ما لم يبلغه شئ آخر يعارض به.
وقال الشوكاني في (نيل الأوطار): إن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبين، وقد أقسم أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء بكتاب الله، قال: وخطب بذلك عمر رضي الله عنه على رءوس المنابر، وعمل به الخلفاء الراشدون، ولم ينكره أحد فكان إجماعا، اه منه.
وذكر مرجحات أخرى متعددة لوجوب التغريب.
والحاصل: أن حديث أبي داود الذي استدلوا به من حديث سهل بن سعد وابن عباس ليس فيه ذكر التغريب، ولا التصريح بعدمه، ولم يعلم هل هو قبل حديث الإقسام، بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله أو بعده؟ فعلى أن المتأخر الإقسام المذكور فالأمر واضح، وعلى تقدير أن الإقسام هو المتقدم. فذلك التصريح، بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله مع الإقسام على ذلك لا يصح رفعه بمحتمل؛ ولو تكررت الروايات به تكررا كثيرا. وعلى أنه لا يعرف المتقدم منهما كما هو الحق، فالحديث المتفق عليه عن صحابيين جليلين هما: أبو هريرة، وزيد بن خالد الجهني الذي فيه الإقسام بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله، لا شك في تقديمه على حديث أبي داود الذي هو دونه في السند والمتن. أما
411

كونه في السند فظاهر، وأما كونه في المتن فلأن حديث أبي داود ليس فيه التصريح بنفي التغريب، والصريح مقدم على غير الصريح كما هو معروف في الأصول، وبه تعلم أن الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه جمع الجلد والتغريب.
وأما الاستدلال بحديث الأمة فليس بوجيه لاختلاف الأمة والأحرار في أحكام الحد، فهي تجلد خمسين، ولو محصنة، ولا ترجم. والأحرار بخلاف ذلك، فأحكام الأحرار والعبيد في الحدود قد تختلف.
وقد بينت آية (النساء) اختلاف الحرة والأمة في حكم حد الزنا من جهتين:
إحداهما: أنها صرحت بأنها إن كانت محصنة، فعليها الجلد لا الرجم.
والثانية: أن عليها نصفه، وذلك في قوله: * (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) *، فتأمل قوله: * (فإذا أحصن) *، وقوله: * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) *، يظهر لك ما ذكرنا.
ومما ذكرنا تعلم أن الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه هو وجوب تغريب البكر سنة مع جلده مائة لصراحة الأدلة الصحيحة في ذلك، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن الذين قالوا بالتغريب، وهم الجمهور، اختلفوا في تغريب المرأة، فقال جماعة من أهل العلم: تغرب المرأة سنة لعموم أدلة التغريب، وممن قال به: الشافعي وأحمد، وقال بعض أهل العلم: لا تغريب على النساء، وممن قال به مالك والأوزاعي، وروي مثله عن علي رضي الله عنه.
أما حجة من قال بتغريب النساء فهي عموم أدلة التغريب، وظاهرها شمول الأنثى، وأما الذين قالوا: لا تغريب على النساء، فقد احتجوا بالأحاديث الصحيحة الواردة بنهي المرأة عن السفر، إلا مع محرم أو زوج.
وقد قدمناها في سورة (النساء) في الكلام على مسافة القصر، قالوا: لا يجوز سفرها دون محرم، ولا يكلف محرمها بالسفر معها؛ لأنه لا ذنب له يكلف السفر بسببه، قالوا: ولأن المرأة عورة وفي تغريبها تضييع لها، وتعريض لها للفتنة، ولذلك نهيت عن السفر إلا
412

مع محرم أو زوج، قالوا: وغاية ما في الأمر، أن عموم أحاديث التغريب بالنسبة إلى النساء خصصته أحاديث نهي المرأة عن السفر إلا مع محرم أو زوج، وهذا لا إشكال فيه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أنها إن وجد لها محرم متبرع بالسفر معها إلى محل التغريب مع كون محل التغريب محل مأمن لا تخشى فيه فتنة، مع تبرع المحرم المذكور بالرجوع معها إلى محلها، بعد انتهاء السنة، فإنها تغرب؛ لأن العمل بعموم أحاديث التغريب لا معارض له في الحالة المذكورة. وأما إن لم تجد محرما متبرعا بالسفر معها، فلا يجبر؛ لأنه لا ذنب له، ولا تكلف هي السفر بدون محرم، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وقد قدمنا مرارا أن النص الدال على النهي يقدم على الدال على الأمر على الأصح؛ لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهذا التفصيل الذي استظهرنا لم نعلم أحدا ذهب إليه، ولكنه هو الظاهر من الأدلة، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: اعلم أن العلماء اختلفوا في تغريب العبد والأمة، وقد قدمنا أقوال أهل العلم في ذلك.
وأظهر أقوالهم عندنا: أن المملوك لا يغرب، لأنه مال، وفي تغريبه إضرار بمالكه، وهو لا ذنب له، ويستأنس له بأنه لا يرجم، ولو كان محصنا؛ لأن إهلاكه بالرجم إضرار بمالكه. ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها) الحديث، ولم يذكر تغريبا، وقد فهم البخاري رحمه الله عدم نفي الأمة من الحديث المذكور، ولذا قال في ترجمته: باب لا يثرب على الأمة إذا زنت ولا تنفى.
وقد قدمنا اختلاف الأصوليين في العبيد هل يدخلون في عموم نصوص الشرع، لأنهم من جملة المكلفين، أو لا يدخلون في عموم النصوص، إلا بدليل منفصل لكثرة خروجهم من عموم النصوص، كما تقدم إيضاحه.
وقد قدمنا أن الصحيح هو دخولهم في عموم النصوص إلا ما أخرجهم منه دليل، واعتمده صاحب (مراقي السعود)، بقوله: وقد قدمنا أن الصحيح هو دخولهم في عموم النصوص إلا ما أخرجهم منه دليل، واعتمده صاحب (مراقي السعود)، بقوله:
* والعبد والموجود والذي كفر
* مشمولة له لدى ذوي النظر
*
وإخراجهم هنا من نصوص التغريب، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بجلد الأمة الزانية وبيعها، ولم
413

يذكر تغريبها، ولأنهم مال، وفي تغريبهم إضرار بالمالك. وفي الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
أظهر القولين عندي: أنه لا بد في التغريب من مسافة تقصر فيها الصلاة؛ لأنه فيما دونها له حكم الحاضر بالبلد الذي زنى فيه.
وأظهر القولين أيضا عندي أن المغرب لايسجن في محل تغريبه؛ لأن السجن عقوبة زائدة على التغريب، فتحتاج إلى دليل، ولا دليل عليها، والعلم عند الله تعالى. والأظهر أن الغريب إذا زنى غرب من محل زناه إلى محل آخر غير وطنه الأصلي.
المسألة السادسة: اعلم أن من أقر بأنه أصاب حدا، ولم يعين ذلك الحد، فإنه لا يجب عليه الحد، لعدم التعيين وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه، لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، قال: كنت عند الني صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل، فقال: يا رسول اللها إني أصبت حدا فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، قام إليه الرجل، فقال: يا رسول اللها إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله، قال: (أليس صليت معنا)؟ قال: نعم، قال: (فإن الله قد غفر لك ذنبك)، أو قال: (حدك)، هذا لفظ البخاري في صحيحه، والحديث متفق عليه. ولمسلم وأحمد من حديث أبي أمامة نحوه: وهو نص صحيح صريح في أن من أقر بحد ولم يسمه، لا حد عليه كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
المسألة السابعة: في حكم رجوع الزاني المقر بالزنى أو رجوع البينة قبل إتمام إقامة الحد عليه.
أما الزاني المقر بزناه إذا رجع عن إقراره، سقط عنه الحد، ولو رجع في أثناء إقامة الحد من جلد أو رجم، هذا هو الظاهر.
قال ابن قدامة: وبه قال عطاء، ويحيى بن يعمر، والزهري، وحماد، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وقد حكى ابن قدامة خلاف هذا عن جماعة وروايته عن مالك ضعيفة.
والظاهر لنا هو ما ذكرنا من سقوط الحد عنه برجوعه عن إقراره، ولو في أثناء إقامة
414

الحد لما قدمنا من حديث أبي داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم لما تبعوا ماعزا بعد هربه: (ألا تركتموه؟)، وفي رواية: (هلا تركتموه؟ فلعله يتوب فيتوب الله عليه)، وفي ذلك دليل على قبول رجوعه، وعليه أكثر أهل العلم، وهو الحق إن شاء الله تعالى. وأما رجوع البينة أو بعضهم فلم أعلم فيه بخصوصه نصا من كتاب ولا سنة، والعلماء مختلفون فيه.
واعلم: أن له حالتين:
إحداهما: أن يكون رجوعهم، أو رجوع بعضهم قبل إقامة الحد على الزاني بشهادتهم.
والثانية: أن يكون رجوعهم، أو رجوع بعضهم بعد إقامة الحد عليه، والحد المذكور قد يكون جلدا، وقد يكون رجما، فإذا رجعوا كلهم أو واحد منهم قبل إقامة الحد، فقد قال في ذلك ابن قدامة في (المغني): فإن رجعوا عن الشهادة، أو واحد منهم فعلى جميعهم الحد في أصح الروايتين، وهو قول أبي حنيفة. والثانية: يحد الثلاثة دون الراجع، وهو اختيار أبي بكر، وابن حامد؛ لأنه إذا رجع قبل الحد فهو كالتائب قبل تنفيذ الحكم بقوله، فسقط عنه الحد، ولأن في درء الحد عنه تمكينا له من الرجوع الذي يحصل به مصلحة المشهود عليه. وفي إيجاب الحد زجر له عن الرجوع خوفا من الحد، فتفوت تلك المصلحة، وتتحقق المفسدة، فناسب ذلك نفي الحد عنه. وقال الشافعي: يحد الراجع دون الثلاثة؛ لأنه مقر على نفسه بالكذب في قذفه. وأما الثلاثة فقد وجب الحد بشهادتهم، وإنما سقط بعد وجوبه برجوع الراجع، ومن وجب الحد بشهادته لم يكن قاذفا فلم يحد، كما لو لم يرجع. ولنا أنه نقص العدد بالرجوع قبل إقامة الحد، فلزمهم الحد كما لو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من الشهادة، وقولهم: وجب الحد بشهادتهم يبطل بما إذا رجعوا كلهم، وبالراجع وحده، فإن الحد وجب، ثم سقط، ووجب الحد عليهم بسقوطه، ولأن الحد إذا وجب على الراجع
مع المصلحة في رجوعه، وإسقاط الحد عن المشهود عليه بعد وجوبه، وإحيائه المشهود عليه بعد إشرافه على التلف فعلى غيره أولى، انتهى من (المغني).
وحاصله: أنهم إن رجعوا كلهم حدوا كلهم، وإن رجع بعضهم، ففي ذلك ثلاثة أقوال:
الأول: يحدون كلهم.
415

والثاني: يحد من لم يرجع دون من رجع.
والثالث: عكسه، كما هو واضح من كلامه.
والأظهر: أنهم إن رجعوا بعد الحكم عليه بالرجم أو الجلد بشهادتهم أنه لا يقام عليه الحد، لرجوع الشهود أو بعضهم. وقول بعض المالكية: إن الحكم ينفذ عليه، ولو رجعوا كلهم أو بعضهم قبل التنفيذ خلاف التحقيق، وإن كان المعروف في مذهب مالك أن الحكم إذا نفذ بشهادة البينة، أنه لا ينقض برجوعهم وأنما ينقض بظهور كذبهم؛ لأن هذا لم يعمموه في الشهادة المفضية إلى القتل لعظم شأنه، والأظهر أنه لا يقتل بشهادة بينة كذبت أنفسها، فيما شهدت عليه به، كما لا يخفى. وأما إن كان رجوع البينة بعد إقامة الحد، فالأظهر أنه إن لم يظهر تعمدهم الكذب لزمتهم دية المرجوم، وإن ظهر أنهم تعمدوا الكذب، فقال بعض أهل العلم: تلزم الدية أيضا. وقال بعضهم: بالقصاص، وهو قول أشهب من أصحاب مالك، وله وجه من النظر، لأنهم تسببوا في قتله بشهادة زور، فقتلهم به له وجه، والعلم عند الله تعالى. وإن كان رجوعهم أو رجوع بعضهم بعد جلد المشهود عليه بالزنى بشهادتهم، فإن لم يظهر تعمدهم الكذب، فالظاهر أنهم لا شئ عليهم، لأنهم لم يقصدوا سوءا، وإن ظهر تعمدهم الكذب وجب تعزيرهم بقدر ما يراه الإمام رادعا لهم ولأمثالهم، لأنهم فعلوا معصيتين عظيمتين:
الأولى: تعمدهم شهادة الزور.
والثانية: إضرارهم بالمشهود عليه بالجلد، وهو أذى عظيم أوقعوه به بشهادة زور، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
اعلم: أنا قدمنا حكم من زنى ببهيمة في سورة (الإسراء)، في الكلام على قوله تعالى: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) *. وقدمنا حكم اللواط وأقوال أهل العلم وأدلتهم في ذلك في سورة (هود)، في الكلام على قوله تعالى: * (وما هى من الظالمين ببعيد) *. وقد قدمنا الكلام أيضا على أن من زنى مرات متعددة، قبل أن يقام عليه الحد، يكفي لجميع ذلك حد واحد في الكلام على آيات (الحج). وقد أوضحنا أن الأمة تجلد خمسين، سواء كانت محصنة أو غير محصنة؛ لأن
416

جلدها خمسين مع الإحصان منصوص في القرءان كما تقدم إيضاحه، وجلدها مع عدم الإحصان ثابت في الصحيح.
وأظهر الأقوال عندنا: أن الأمة غير المحصنة تجلد خمسين، وألحق أكثر أهل العلم العبد بالأمة.
والأظهر عندنا: أنه يجلد خمسين مطلقا أحصن أم لا. وقد تركنا الأقوال المخالفة لما ذكرنا لعدم اتجاهها عندنا مع أنا أوضحناها في سورة (النساء)، في الكلام على قوله تعالى: * (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة) *، ولنكتف بما ذكرنا هنا من أحكام الزنى المتعلقة بهذه الآية التي نحن بصددها.
وعادتنا أن الآية إن كان يتعلق بها باب من أبواب الفقه أنا نذكر عيون مسائل ذلك الباب والمهم منه، وتبيين أقوال أهل العلم في ذلك ونناقشها، ولا نستقصي جميع ما في الباب؛ لأن استقصاء ذلك في كتب فروع المذاهب كما هو معلوم، والعلم عند الله تعالى. * (الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحهآ إلا زان أو مشرك وحرم ذالك على المؤمنين) *. قد قدمنا مرارا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، ويكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول، ذكرنا هذا في ترجمة الكتاب وذكرنا فيما مضى من الكتاب أمثلة كثيرة لذلك، ومن أمثلة ذلك هذه الآية الكريمة.
وإيضاح ذلك: أن العلماء اختلفوا في المراد بالنكاح في هذه الآية، فقال جماعة: المراد بالنكاح في هذه الآية: الوطء الذي هو نفس الزنى، وقالت جماعة أخرى من أهل العلم: إن المراد بالنكاح في هذه الآية هو عقد النكاح. قالوا: فلا يجوز لعفيف أن يتزوج زانية كعكسه، وهذا القول الذي هو أن المراد بالنكاح في الآية: التزويج لا الوطء في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحته، وتلك القرينة هي ذكر المشرك والمشركة في الآية؛ لأن الزاني المسلم لا يحل له نكاح مشركة، لقوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) *، وقوله تعالى: * (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) *، وقوله تعالى: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) *. وكذلك الزانية المسلمة لا يحل
417

لها نكاح المشرك؛ لقوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) *، فنكاح المشركة والمشرك لا يحل بحال. وذلك قرينة على أن المراد بالنكاح في الآية التي نحن بصددها الوطء، الذي هو الزنى، لا عقد النكاح؛ لعدم ملاءمة عقد النكاح لذكر المشرك والمشركة، والقول بأن نكاح الزاني للمشركة والزانية للمشرك، منسوخ ظاهر السقوط؛ لأن سورة (النور) مدنية، ولا دليل على أن ذلك أحل بالمدينة، ثم نسخ. والنسخ لا بد له من دليل يجب الرجوع إليه.
مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة
اعلم أن العلماء اختلفوا في جواز نكاح العفيف الزانية، ونكاح العفيفة الزاني، فذهب جماعة من أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة إلى جواز نكاح الزانية مع الكراهة التنزيهية عند مالك وأصحابه، ومن وافقهم، واحتج أهل هذا القول بأدلة:
منها عموم قوله تعالى: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) *، وهو شامل بعمومه الزانية والعفيفة، وعموم قوله تعالى: * (وأنكحوا الايامى منكم) *، وهو شامل بعمومه الزانية أيضا والعفيفة.
ومن أدلتهم على ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي لا ترد يد لامس، قال: (غربها)، قال: أخاف أن تتبعها نفسي؟ قال: (فاستمتع بها). قال ابن حجر في (بلوغ المرام) في هذا الحديث، بعد أن ساقه باللفظ الذي ذكرنا: رواه أبو داود، والترمذي، والبزار ورجاله ثقات، وأخرجه النسائي من وجه آخر، عن ابن عباس رضي الله عنهما، بلفظ قال: (طلقها)، قال: لا أصبر عنها، قال: (فأمسكها)، اه من (بلوغ المرام). وفيه تصريح ابن حجر بأن رجاله ثقات، وبه تعلم أن ذكر ابن الجوزي لهذا الحديث في الموضوعات فيه نظر، وقد ذكره في الموضوعات مرسلا عن أبي الزبير، قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي... الحديث، ورواه أيضا مرسلا عن عبيد بن عمير، وحسان بن عطية كلاهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وقد حمله أبو بكر الخلال على الفجور، ولا يجوز هذا؛ وإنما يحمل على تفريطها في المال لو صح الحديث.
قال أحمد بن حنبل: هذا الحديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس له أصل. انتهى
418

من موضوعات ابن الجوزي، وكثرة اختلاف العلماء في تصحيح الحديث المذكور وتضعيفه معروفة.
وقال الشوكاني في (نيل الأوطار): ولا ريب أن العرب تكني بمثل هذه العبارة، عن عدم العفة عن الزنى، يعني بالعبارة المذكورة قول الرجل: إن امرأتي لا ترد يد لامس، اه. وما قاله الشوكاني وغيره هو الظاهر؛ لأن لفظ: لا ترد يد لامس، أظهر في عدم الامتناع ممن أراد منها ما لا يحل كما لا يخفى، فحمله على تفريطها في المال غير ظاهر؛ لأن إطلاق لفظ اللامس على أخذ المال ليس بظاهر، كما ترى.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الحديث المذكور في المرأة التي ظهر عدم عفتها، وهي تحت زوج، وكلامنا الآن في ابتداء النكاح لا في الدوام عليه، وبين المسألتين فرق، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى.
ثم اعلم أن الذين قالوا بجواز تزويج الزانية والزاني أجابوا عن الاستدلال بالآية التي نحن بصددها، وهي قوله تعالى: * (الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة) *، من وجهين:
الأول: أن المراد بالنكاح في الآية هو الوطء الذي هو الزنى بعينه، قالوا: والمراد بالآية تقبيح الزنى وشدة التنفير منه؛ لأن الزاني لا يطاوعه في زناه من النساء إلا التي هي في غاية الخسة لكونها مشركة لا ترى حرمة الزنى أو زانية فاجرة خبيثة.
وعلى هذا القول فالإشارة في قوله تعالى: * (وحرم ذالك على المؤمنين) *، راجعة إلى الوطء الذي هو الزنى، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منه، كعكسه، وعلى هذا القول فلا إشكال في ذكر المشركة والمشرك.
الوجه الثاني: هو قولهم: إن المراد بالنكاح في الآية التزويج، إلا أن هذه الآية التي هي قوله تعالى: * (الزانى لا ينكح إلا زانية) * الآية، منسوخة بقوله تعالى: * (وأنكحوا الايامى منكم) *، وممن ذهب إلى نسخها بها: سعيد بن المسيب، والشافعي. وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية، ما نصه: هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية، أو مشركة، أي: لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة
419

لا ترى حرمة ذلك، وكذلك الزانية لا ينكحها إلا زان، أي: عاص بزناه، أو مشرك لا يعتقد تحريمه.
قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: * (الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة) *، قال: ليس هذا بالنكاح إنما هو الجماع لا يزني بها، إلا زان أو مشرك، وهذا إسناد صحيح عنه، وقد روي عنه من غير وجه أيضا، وقد روي عن مجاهد وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، والضحاك، ومكحول، ومقاتل بن حيان، وغير واحد نحو ذلك، انتهى محل الغرض منه بلفظه.
فتراه صدر بأن المراد بالنكاح في الآية: الجماع، لا التزويج. وذكر صحته عن ابن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم الله أن يعلمه تأويل القرءان. وعزاه لمن ذكر معه من أجلاء المفسرين، وابن عباس رضي الله عنهما من أعلم الصحابة بتفسير القرءان العظيم، ولا شك في علمه باللغة العربية.
فقوله في هذه الآية الكريمة بأن النكاح فيها هو الجماع لا العقد يدل على أن ذلك جار على الأسلوب العربي الفصيح، فدعوى أن هذا التفسير لا يصح في العربية، وأنه قبيح، يرده قول البحر ابن عباس، كما ترى.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: وقد روي عن ابن عباس وأصحابه، أن النكاح في هذه الآية: الوطء.
واعلم أن إنكار الزجاج لهذا القول في هذه الآية، أعني القول بأن النكاح فيها الجماع، وقوله: إن النكاح لا يعرف في القرءان، إلا بمعنى التزويج، مردود من وجهين:
الأول: أن القرءان جاء فيه النكاح بمعنى الوطء، وذلك في قوله تعالى: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) *، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر قوله: * (حتى تنكح زوجا غيره) *، بأن معنى نكاحها له مجامعته لها، حيث قال: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)، ومراده بذوق العسيلة: الجماع، كما هو معلوم.
الوجه الثاني: أن العرب الذين نزل القرءان بلغتهم، يطلقون النكاح على الوطء، والتحقيق: أن النكاح في لغتهم الوطء. قال الجوهري في صحاحه: النكاح الوطء، وقد
420

يكون العقد، اه. وإنما سموا عقد التزويج نكاحا؛ لأنه سبب النكاح أي الوطء، وإطلاق المسبب، وإرادة سببه معروف في القرءان، وفي كلام العرب، وهو مما يسميه القائلون بالمجاز، المجاز المرسل، كما هو معلوم عندهم في محله، ومن إطلاق العرب النكاح على الوطء، قول الفرزدق: والتحقيق: أن النكاح في لغتهم الوطء.
قال الجوهري في صحاحه: النكاح الوطء، وقد يكون العقد، اه. وإنما سموا عقد التزويج نكاحا؛ لأنه سبب النكاح أي الوطء، وإطلاق المسبب، وإرادة سببه معروف في القرءان، وفي كلام العرب، وهو مما يسميه القائلون بالمجاز، المجاز المرسل، كما هو معلوم عندهم في محله، ومن إطلاق العرب النكاح على الوطء، قول الفرزدق:
* وذات حليل أنكحتها رماحنا
* حلال لمن يبنى بها لم تطلق
*
لأن الإنكاح في البيت ليس المراد به عقد التزويج، إذ لا يعقد على المسبيات، وإنما المراد به الوطء بملك اليمين والسبي مع الكفر، ومنه قوله أيضا: لأن الإنكاح في البيت ليس المراد به عقد التزويج، إذ لا يعقد على المسبيات، وإنما المراد به الوطء بملك اليمين والسبي مع الكفر، ومنه قوله أيضا:
* وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن
* لها خاطب إلا السنان وعامله
*
فالمراد بالنكاح في هذا البيت هو الوطء بملك اليمين، لا العقد؛ كما صرح بذلك بقوله: ولم يكن لها خاطب إلا السنان وعامله.
وقوله: وقوله:
* إذا سقى الله قوما صوب غادية
* فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا
*
* التاركين على طهر نساءهم
* والناكحين بشطي دجلة البقرا
*
ومعلوم أن نكاح البقر ليس معناه التزويج.
قالوا: ومما يدل على أن النكاح في الآية غير التزويج، أنه لو كان معنى النكاح فيها التزويج لوجب حد المتزوج بزانية؛ لأن زان، والزاني يجب حده. وقد أجمع العلماء على أن من تزوج زانية لا يحد حد الزنى، ولو كان زانيا لحد حد الزنى. فافهم، هذا هو حاصل حجج من قالوا إن النكاح في الآية الوطء، وأن تزويج العفيف الزانية ليس بحرام، كعكسه.
وقالت جماعة أخرى من أهل العلم: لا يجوز تزويج الزاني لعفيفة ولا عكسه، وهو مذهب الإمام أحمد، وقد روي عن الحسن وقتادة، واستدل أهل هذا القول بآيات وأحاديث.
فمن الآيات التي استدلوا بها هذه الآية التي نحن بصددها، وهي قوله تعالى: * (الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذالك على المؤمنين) *، قالوا: المراد بالنكاح في هذه الآية: التزويج، وقد نص الله على
421

تحريمه في قوله: * (وحرم ذالك على المؤمنين) *، قالوا: والإشارة بقوله: * (ذالك) *، راجعة إلى تزويج الزاني بغير الزانية أو المشركة وهو نص قرءاني في تحريم نكاح الزاني العفيفة، كعكسه.
ومن الآيات التي استدلوا بها قوله تعالى: * (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان) *، قالوا: فقوله * (محصنين غير مسافحين) *، أي: أعفاء غير زناة. ويفهم من مفهوم مخالفة الآية أنه لا يجوز نكاح المسافح الذي هو الزاني لمحصنة مؤمنة، ولا محصنة عفيفة من أهل الكتاب، وقوله تعالى: * (فانكحوهن بإذن أهلهن وءاتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) *، فقوله: * (محصنات غير مسافحات) *، أي: عفائف غير زانيات، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية، أنهن لو كن مسافحات غير محصنات، لما جاز تزوجهن.
ومن أدلة أهل هذا القول أن جميع الأحاديث الواردة في سبب نزول آية * (الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة) *، كلها في عقد النكاح وليس واحد منها في الوطء، والمقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول. وأنه قد جاء في السنة ما يؤيد صحة ما قالوا في الآية، من أن النكاح فيها التزويج، وأن الزاني لا يتزوج إلا زانية مثله، فقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله)، وقال ابن حجر في بلوغ المرام في حديث أبي هريرة هذا: رواه أحمد، وأبو داود ورجاله ثقات.
وأما الأحاديث الواردة في سبب نزول الآية:
فمنها ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول، كانت تسافح، وتشترط له أن تنفق
عليه، قال: فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر له أمرها، فقرأ عليه نبي الله: * (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) *، رواه أحمد.
وقال الشوكاني في (نيل الأوطار)، في شرحه لهذا الحديث: وقد عزاه صاحب المنتقى لأحمد وحده، وحديث عبد الله بن عمرو أخرجه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط. قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد ثقات.
422

ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكانت بمكة بغي يقال لها عناق، وكانت صديقته، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول اللها أنكح عناقا؟ قال: فسكت عني، فنزلت: * (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) *، فدعاني فقرأها علي، وقال: (لا تنكحها). رواه أبو داود، والنسائي والترمذي.
قال الشوكاني في (نيل الأوطار)، في كلامه على حديث عمرو بن شعيب هذا الذي ذكره صاحب المنتقى، وعزاه لأبي داود والنسائي والترمذي، وحديث عمرو بن شعيب حسنه الترمذي وساق ابن كثير في تفسير هذه الآية الأحاديث التي ذكرنا بأسانيدها، وقال في حديث عمرو بن شعيب هذا: قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد رواه أبو داود، والنسائي في كتاب النكاح من سننهما من حديث عبيد الله بن الأخنس به.
قالوا: فهذه الأحاديث وأمثالها تدل على أن النكاح في قوله: * (الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة) *، أنه التزويج لا الوطء، وصورة النزول قطعية الدخول؛ كما تقرر في الأصول. قالوا: وعلى أن المراد به التزويج، فتحريم نكاح الزانية والزاني منصوص في قوله تعالى: * (وحرم ذالك على المؤمنين) *.
وقال ابن القيم في (زاد المعاد)، ما نصه: وأما نكاح الزانية فقد صرح الله سبحانه وتعالى بتحريمه في سورة (النور)، وأخبر أن من نكحها فهو إما زان أو مشرك، فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه، ويعتقد وجوبه عليه أو لا، فإن لم يلتزمه، ولم يعتقده فهو مشرك، وإن التزمه واعتقد وجوبه، وخالفه فهو زان، ثم صرح بتحريمه، فقال: * (وحرم ذالك على المؤمنين) *، ولا يخفى أن دعوى النسخ للآية بقوله: * (وأنكحوا الايامى منكم) *، من أضعف ما يقال، وأضعف منه حمل النكاح على الزنى.
إذ يصير معنى الآية: الزاني لا يزنى إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك، وكلام الله ينبغي أن يصان عن مثل هذا، وكذلك حمل الآية على امرأة بغي مشركة في غاية البعد عن لفظها وسياقها، كيف، وهو سبحانه إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان، وهو العفة، فقال: * (فانكحوهن بإذن أهلهن وءاتوهن أجورهن
423

بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) *، فإنما أباح نكاحها في هذه الحالة دون غيرها، وليس هذا من دلالة المفهوم، فإن الابضاع في الأصل على التحريم، فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع، وما عداه فعلى أصل التحريم، انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم.
وهذه الأدلة التي ذكرنا هي حجج القائلين بمنع تزويج الزاني العفيفة كعكسه، وإذا عرفت أقوال أهل العلم، وأدلتهم في مسألة نكاح الزانية والزاني، فهذه مناقشة أدلتهم.
أما قول ابن القيم: إن حمل الزنا في الآية على الوطء ينبغي أن يصان عن مثله كتاب الله، فيرده أن ابن عباس وهو في المعرفة باللغة العربية وبمعاني القرءان صح عنه حمل الزنى في الآية على الوطء، ولو كان ذلك ينبغي أن يصان عن مثله كتاب الله لصانه عنه ابن عباس، ولم يقل به ولم يخف عليه أنه ينبغي أن يصان عن مثله.
وقال ابن العربي في تفسير ابن عباس للزنى في الآية بالوطء: هو معنى صحيح، انتهى منه بواسطة نقل القرطبي عنه.
وقول ابن القيم في كلامه هذا الذي ذكرنا عنه: فإن لم يتلزمه، ولم يعتقده فهو مشرك يقال فيه: نعم هو مشرك، ولكن المشرك لا يجوز له نكاح الزانية المسلمة، وظاهر كلامك جواز ذلك، وهو ليس بجائز فيبقى إشكال ذكر المشرك والمشركة واردا على القول بأن النكاح في الآية التزويج، كما ترى.
وقول ابن القيم في كلامه هذا: وليس هذا من باب دلالة المفهوم، فإن الابضاع في الأصل على التحريم فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع وما عداه فعلى أصل التحريم يقال فيه: إن تزويج الزانية وردت نصوص عامة تقتضى جوازه؛ كقوله تعالى: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * وهو شامل بعمومه للزانية والعفيفة والزاني والعفيف، وقوله: * (وأنكحوا الايامى منكم) * فهو أيضا شامل بعمومه لجميع من ذكر، ولذا قال سعيد بن المسيب: إن آية * (وأنكحوا الايامى) *، ناسخة لقوله تعالى: * (الزانى لا ينكح إلا زانية) *، وقال الشافعي: القول في ذلك كما قال سعيد من نسخها بها.
وبما ذكرنا يتضح أن دلالة قوله: * (محصنات غير مسافحات) *، على المقصود من
424

البحث من باب دلالة المفهوم كما أوضحناه قريبا؛ لأن العمومات المذكورة لا يصح تخصيص عمومها إلا بدليل منطوقا كان أو مفهوما، كما تقدم إيضاحه.
وأما قول سعيد بن المسيب والشافعي، بأن آية: * (الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة) *، منسوخة بقوله: * (وأنكحوا الايامى منكم) * فهو مستبعد؛ لأن المقرر في أصول الشافعي ومالك وأحمد هو أنه لا يصح نسخ الخاص بالعام، وأن الخاص يقضى على العام مطلقا، سواء تقدم نزوله عنه أو تأخر، ومعلوم أن آية * (وأنكحوا الايامى منكم) *، أعم مطلقا من آية: * (الزانى لا ينكح إلا زانية) *، فالقول بنسخها لها ممنوع على المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين، وإنما يجوز ذلك على المقرر في أصول أبي حنيفة رحمه الله، كما قدمنا إيضاحه في سورة (الأنعام)، وقد يجاب عن قول سعيد، والشافعي بالنسخ بأنهما فهماه من قرينة في الآية، وهي أنه لم يقيد الأيامى الأحرار بالصلاح، وإنما قيد بالصلاح في أيامى العبيد والإماء، ولذا قال بعد الآية: * (والصالحين من عبادكم وإمائكم) *.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذه الآية الكريمة من أصعب الآيات تحقيقا؛ لأن حمل النكاح فيها على التزويج، لا يلائم ذكر المشركة والمشرك، وحمل النكاح فيها على الوطء لا يلائم الأحاديث الواردة المتعلقة بالآية، فإنها تعين أن المراد بالنكاح في الآية: التزويج، ولا أعلم مخرجا واضحا من الإشكال في هذه الآية إلا مع بعض
تعسف، وهو أن أصح الأقوال عند الأصوليين كما حرره أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرءان، وعزاه لأجلاء علماء المذاهب الأربعة هو جواز حمل المشترك على معنييه، أو معانيه، فيجحوز أن تقول: عدا اللصوص البارحة على عين زيد، وتعني بذلك أنهم عوروا عينه الباصرة وغوروا عينه الجارية، وسرقوا عينه التي هي ذهبه أو فضته.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن النكاح مشترك بين الوطء والتزويج، خلافا لمن زعم أنه حقيقة في أحدهما، مجاز في الآخر كما أشرنا له سابقا، وإذا جاز حمل المشترك على معنييه، فيحمل النكاح في الآية على الوطء، وعلى التزويج معا، ويكون ذكر المشركة والمشرك على تفسير النكاح بالوطء دون العقد، وهذا هو نوع التعسف الذي أشرنا له، والعلم عند الله تعالى.
425

وأكثر أهل العلم على إباحة تزويج الزانية والمانعون لذلك أقل، وقد عرفت أدلة الجميع.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أن من نزوج امرأة يظنها عفيفة، ثم زنت وهي في عصمته أن أظهر القولين: أن نكاح لا يفسخ، ولا يحرم عليه الدوام على نكاحها، وقد قال بهذا بعض من منع نكاح الزانية مفرقا بين الدوام على نكاحها، وبين ابتدائه. واستدل من قال هذا بحديث عمرو بن الأحوص الجشمي رضي الله عنه، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه وذكر ووعظ، ثم قال: (استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عندكم عوان ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا).
قال الشوكاني في حديث عمرو بن الأحوص هذا: أخرجه ابن ماجة والترمذي وصححه، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة عمرو بن الأحوص المذكور: وحديثه في الخطبة صحيح، اه. وحديثه في الخطبة هو هذا الحديث، بدليل قوله: فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ، وهذا التذكير والوعظ هو الخطبة؛ كما هو معروف.
ومن الأدلة على هذا الحديث المتقدم قريبا، الذي فيه: أن الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي لا ترد يد لامس، فقال: (طلقها)، فقال: نفسي تتبعها، فقال: (أمسكها)، وبينا الكلام في سنده، وأنه في الدوام على النكاح، لا في ابتداء النكاح، وأن بينهما فرقا، وبه تعلم أن قول من قال: إن من زنت زوجته، فسخ نكاحها وحرمت عليه خلاف التحقيق، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي، أنه لا يجوز نكاح المرأة الحامل من الزنا قبل وضع حملها بل لا يجوز نكاحها، حتى تضع حملها. خلافا لجماعة من أهل العلم، قالوا: يجوز نكاحها وهي حامل، وهو مروي عن الشافعي وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأن نكاح الرجل امرأة حاملا من غيره فيه سقي الزرع بماء الغير، وهو لا يجوز ويدل لذلك قوله تعالى: * (وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن) *، ولا يخرج من عموم هذه الآية إلا ما أخرجه دليل يجب الرجوع إليه، فلا يجوز نكاح حامل
426

حتى ينتهي أجل عدتها، وقد صرح الله بأن الحوامل أجلهن أن يضعن حملهن، فيجب استصحاب هذا العموم، ولا يخرج منه إلا ما أخرجه دليل من كتاب أو سنة.
الفرع الثالث: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي أن الزانية والزاني إن تابا من الزنا وندما على ما كان منهما ونويا أن لا يعودا إلى الذنب، فإن نكاحهما جائز، فيجوز له أن ينكحها بعد توبتهما، ويجوز نكاح غيرهما لهما بعد التوبة؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ويدل لهذا قوله تعالى: * (والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل) *، فقد صرح جل وعلا في هذه الآية أن الذين يزنون ومن ذكر معهم إن تابوا وآمنوا، وعملوا عملا صالحا يبدل الله سيئاتهم حسنات، وهو يدل على أن التوبة من الزنا، تذهب أثره. فالذين قالوا: إن من زنا بامرأة لا تحل له مطلقا، ولو تابا وأصلحا فقولهم خلاف التحقيق، وقد وردت آثار عن الصحابة بجواز تزويجه بمن زنى بها إن تابا، وضرب له بعض الصحابة مثلا برجل سرق شيئا من بستان رجل آخر، ثم بعد ذلك اشترى البستان فالذي سرقه منه حرام عليه، والذي اشتراه منه حلال له، فكذلك ما نال من المرأة حراما فهو حرام عليه، وما نال منها بعد التوبة والتزويج حلال له، والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن قول من رد الاستدلال بآية: * (والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر) *، قائلا: إنها نزلت في الكفار لا في المسلمين، يرد قوله: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما أوضحنا أدلته من السنة الصحيحة مرارا، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الرابع: اعلم أن الذين قالوا بجواز نكاح العفيف الزانية، لا يلزم من قولهم أن يكون زوج الزانية العفيف ديوثا؛ لأنه إنما يتزوجها ليحفظها، ويحرسها، ويمنعها من ارتكاب ما لا ينبغي منعا باتا بأن يراقبها دائما، وإذا خرج ترك الأبواب مقفلة دونها، وأوصى بها من يحرسها بعده فهو يستمتع بها، مع شدة الغيرة والمحافظة عليها من الريبة، وإن جرى منها شئ لا علم له به مع اجتهاده في صيانتها وحفظها فلا شئ عليه فيه، ولا يكون به ديوثا، كما هو معلوم. وقد علمت مما مر أن أكثر أهل العلم على جواز نكاح العفيف الزانية كعكسه، وأن جماعة قالوا بمنع ذلك.
427

والأظهر لنا في هذ المسألة أن المسلم لا ينبغي له أن يتزوج إلا عفيفة صينة، للآيات التي ذكرنا والأحاديث ويؤيده حديث: (فاظفر بذات الدين تربت بداك)، والعلم عند الله تعالى. * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولائك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذالك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) *. قوله تعالى في هذه الآية: * (يرمون) *، معناه: يقذفون المحصنات بالزنا صريحا أو ما يستلزم الزنا كنفي نسب ولد المحصنة
عن أبيه؛ لأنه إن كان من غير أبيه كان من زنى، وهذا القذف هو الذي أوجب الله تعالى فيه ثلاثة أحكام:
الأول: جلد القاذف ثمانين جلدة.
والثاني: عدم قبول شهادته.
والثالث: الحكم عليه بالفسق.
فإن قيل: أين الدليل من القرءان على أن معنى * (يرمون المحصنات) * في هذه الآية، هو القذف بصريح الزنى، أو بما يستلزمه كنفي النسب؟
فالجواب: أنه دلت عليه قرينتان من القرءان:
الأولى: قوله تعالى: * (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * بعد قوله: * (يرمون المحصنات) *، ومعلوم أنه ليس شئ من القذف يتوقف إثباته على أربعة شهداء إلا الزنى، ومن قال: إن اللواط حكمه حكم الزنى أجرى أحكام هذه الآية على اللائط.
وقد قدمنا أحكام اللائط مستوفاة في سورة (هود)، كما أشرنا له غير بعيد.
القرينة الثانية: هي ذكر المحصنات بعد ذكر الزواني، في قوله تعالى: * (الزانى لا ينكح إلا زانية) *، وقوله تعالى: * (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) *، فذكر المحصنات بعد ذكر الزواني، يدل على إحصانهن، أي: عفتهن عن الزنى، وأن الذين يرمونهن إنما يرمونهن بالزنى، وقد قدمنا جميع المعاني التي تراد بالمحصنات في القرءان، ومثلنا لها كلها من القرءان في سورة (النساء)، في الكلام على قوله تعالى: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) *، فذكرنا أن من المعاني التي
428

تراد بالمحصنات كونهن عفائف غير زانيات؛ كقوله: * (محصنات غير مسافحات) *، أي: عفائف غير زانيات، ومن هذا المعنى قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات) *، أي: العفائف، وإطلاق المحصنات على العفائف معروف في كلام العرب. ومنه قول جرير: وقد قدمنا جميع المعاني التي تراد بالمحصنات في القرءان، ومثلنا لها كلها من القرءان في سورة (النساء)، في الكلام على قوله تعالى: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) *، فذكرنا أن من المعاني التي تراد بالمحصنات كونهن عفائف غير زانيات؛ كقوله: * (محصنات غير مسافحات) *، أي: عفائف غير زانيات، ومن هذا المعنى قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات) *، أي: العفائف، وإطلاق المحصنات على العفائف معروف في كلام العرب. ومنه قول جرير:
* فلا تأمنن الحي قيسا فإنهم
* بنو محصنات لم تدنس حجورها
*
وإطلاق الرمي على رمي الشخص لآخر بلسانه بالكلام القبيح معروف في كلام العرب. ومنه قول عمرو بن أحمر الباهلي: وإطلاق الرمي على رمي الشخص لآخر بلسانه بالكلام القبيح معروف في كلام العرب. ومنه قول عمرو بن أحمر الباهلي:
* رماني بأمر كنت منه ووالدي
* بريئا ومن أجل الطوى رماني
*
فقوله: رماني بأمر يعني أنه رماه بالكلام القبيح، وفي شعر امرئ القيس أو غيره: فقوله: رماني بأمر يعني أنه رماه بالكلام القبيح، وفي شعر امرئ القيس أو غيره:
* وجرح اللسان كجرح اليد
*
واعلم أن هذه الآية الكريمة مبينة في الجملة من ثلاث جهات:
الجهة الأولى: هي القرينتان القرءانيتان الدالتان على أن المراد بالرمي في قوله: * (يرمون المحصنات) *، هو الرمي بالزنى، أو ما يستلزمه كنفي النسب؛ كما أوضحناه قريبا.
الجهة الثانية: هي أن عموم هذه الآية ظاهر في شموله لزوج المرأة إذا رماها بالزنى، ولكن الله جل وعلا بين أن زوج المرأة إذا قذفها بالزنى خارج من عموم هذه الآية، وأنه إن لم يأت الشهداء، تلاعنا، وذلك في قوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) *.
ومضمونها: أن الزوج إذا قذف زوجته بالزنى ولم يكن له شاهد غير نفسه، والمعنى أنه لم يقدر على الإتيان ببينة تشهد له على الزنى الذي رماها به، فإنه يشهد أربع شهادات يقول في كل واحدة منها: أشهد بالله إني لصادق فيما رميتها به من الزنى، ثم يقول في الخامسة: علي لعنة الله إن كنت كاذبا عليها فيما رميتها به، ويرتفع عنه الجلد وعدم قبول الشهادة والفسق بهذه الشهادات. وتشهد هي أربع شهادات بالله، تقول في كل واحدة منها: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنى، ثم تقول في الخامسة: غضب الله
429

علي إن كان صادقا فيما رماني به من الزنى؛ كما هو واضح من نص الآية.
الجهة الثالثة: أن الله بين هنا حكم عقوبة من رمى المحصنات في الدنيا، ولم يبين ما أعد له في الآخرة، ولكنه بين في هذه السورة الكريمة ما أعد له في الدنيا والآخرة من عذاب الله، وذلك في قوله: * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا فى الدنيا والاخرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين) *، وقد زاد في هذه الآية الأخيرة كونهن مؤمنات غافلات لإيضاح صفاتهن الكريمة.
ووصفه تعالى للمحصنات في هذه الآية بكونهن غافلان ثناء عليهن بأنهن سليمات الصدور نقيات القلوب لا تخطر الريبة في قلوبهن لحسن سرائرهن، ليس فيهن دهاء ولا مكر؛ لأنهن لم يجربن الأمرو فلا يفطن لما تفطن له المجربات ذوات المكر والدهاء، وهذا النوع من سلامة الصدور وصفائها من الريبة من أحسن الثناء، وتطلق العرب على المتصفات به اسم البله مدحا لها لا ذما، ومنه قول حسان رضي الله عنه: وتطلق العرب على المتصفات به اسم البله مدحا لها لا ذما، ومنه قول حسان رضي الله عنه:
* نفج الحقيبة بوصها متنضد
* بلهاء غير وشيكة الإقسام
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* ولقد لهوت بطفلة ميالة
* بلهاء تطلعني على أسرارها
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* عهدت بها هندا وهند غريرة
* عن الفحش بلهاء العشاء نؤم
*
* رداح الضحى ميالة بحترية
* لها منطق بصبي الحليم رخيم
*
والظاهر أن قوله تعالى: * (لعنوا فى الدنيا والاخرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) *، محله فيما إذا لم يتوبوا ويصلحوا، فإن تابوا وأصلحوا، لم ينلهم شئ من ذلك الوعيد، ويدل له قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * إلى قوله: * (إلا الذين تابوا) *.
وعمومات نصوص الكتاب والسنة دالة على أن من تاب إلى الله من ذنبه توبة نصوحا
430

تقبلها منه، وكفر عنه ذنبه ولو من الكبائر، وبه تعلم أن قول جماعة من أجلاء المفسرين أن آية: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) *، التي جعل الله فيها التوبة بقوله: * (إلا الذين تابوا) * عامة، وأن آية: * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا فى الدنيا والاخرة) *، خاصة بالذين رموا عائشة رضي الله عنها أو غيرها من خصوص أزواجه صلى الله عليه وسلم، وأن من رماهن لا توبة له خلاف التحقيق، والعلم عند الله تعالى.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: لا يخفى أن الآية إنما نصت على قذف الذكور للإناث خاصة؛ لأن ذلك هو صريح قوله: * (والذين يرمون المحصنات) *، وقد أجمع جميع المسلمين على أن قذف الذكرو للذكور، أو الإناث للإناث، أو الإناث للذكور لا فرق بينه وبين ما نصت عليه الآية، من قذف الذكور للإناث؛ للجزم بنفي الفارق بين الجميع.
وقد قدمنا إيضاح هذا وإبطال قول الظاهرية فيه، مع إيضاح كثير من نظائره في سورة (الأنبياء)، في كلامنا الطويل على آية: * (وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث) *.
المسألة الثانية: اعلم أن المقرر في أصول المالكية، والشافعية والحنابلة أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات، أو مفردات متعاطفات، أنه يرجع لجميعها إلا لدليل من نقل أو عقل يخصصه ببعضها، خلافا لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط، وإلى هذه المسألة أشار في (مراقي السعود)، بقوله: المسألة الثانية: اعلم أن المقرر في أصول المالكية، والشافعية والحنابلة أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات، أو مفردات متعاطفات، أنه يرجع لجميعها إلا لدليل من نقل أو عقل يخصصه ببعضها، خلافا لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط، وإلى هذه المسألة أشار في (مراقي السعود)، بقوله:
* وكل ما يكون فيه العطف
* من قبل الاستثنا فكلا يقفو
*
* دون دليل العقل أو ذي السمع
* والحق الافتراق دون الجمع
*
ولذا لو قال إنسان: هذه الدار وقف على الفقراء والمساكين، وبني زهرة، وبني تميم إلا الفاسق منهم، فإنه يخرج من الوقف الفاسق من الجميع لرجوع الاستثناء للجميع، خلافا لأبي حنيفة القائل برجوعه للأخيرة، فلا يخرج عنده إلا فاسق الأخيرة فقط، ولأجل ذلك لا يرجع عنده الاستثناء في هذه الآية، إلا لجملة الأخيرة التي هي: * (وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا) *، فقد زال عنهم الفسق، ولا يقول: ولا تقبلوا لهم شهادة
431

أبدا إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم، بل يقول: إن شهادة القاذف لا تقبل أبدا، ولو تاب وأصلح، وصار أعدل أهل زمانه لرجوع الاستثناء عنده للجملة الأخيرة.
وممن قال كقول أبي حنيفة من أهل العلم: القاضي شريح، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومكحول، وعبد الرحمان بن زيد بن جابر، وقال الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته إلا إذا اعترف على نفسه بالكذب، قاله ابن كثير.
وقال جمهور أهل العلم، منهم الأئمة الثلاثة: إن الاستثناء في الآية راجع أيضا لقوله: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) *، وأن القاذف إذا تاب وأصلح قبلت شهادته. أما قوله: * (فاجلدوهم ثمانين جلدة) *، فلا يرجع له الاستثناء؛ لأن القاذف إذا تاب وأصلح، لا يسقط عنه حد القذف بالتوبة.
فتحصل أن الجملة الأخيرة التي هي قوله: * (وأولئك هم الفاسقون) *، يرجع لها الاستثناء بلا خلاف. وأن الجملة الأولى التي هي: * (فاجلدوهم ثمانين جلدة) *، لا يرجع لها الاستثناء في قول عامة أهل العلم، ولم يخالف إلا من شذ، وأن الجملة الوسطى، وهي قوله: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) *، يرجع لها الاستثناء في قول جمهور أهل العلم، منهم الأئمة الثلاثة خلافا لأبي حنيفة، وقد ذكرنا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، أن الذي يظهر لنا في مسألة الاستثناء بعد جمل متعاطفات أو مفردات متعاطفات هو ما ذكره بعض المتأخرين، كابن الحاجب من المالكية، والغزالي من الشافعية، والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف، ولا يحكم برجوعه إلى الجميع، ولا إلى الأخيرة إلا بدليل.
وإنما قلنا: إن هذا هو الأظهر؛ لأن الله تعالى يقول: * (فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول) *.
وإذا رددنا النزاع في هذه المسألة إلى الله وجدنا القرءان دالا على ما ذكرنا أنه الأظهر عندنا، وهو الوقف. وذلك لأن بعض الآيات لم يرجع فيها الاستثناء للأولى، وبعضها لم يرجع فيه الاستثناء للأخيرة، فدل ذلك على أن رجوعه لما قبله ليس شيئا مطردا.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: * (فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) *، فالاستثناء في هذه الآية راجع للدية فقط؛ لأن المطالبة بها تسقط
432

بتصدق مستحقها بها، ولا يرجع لتحرير الرقبة إجماعا، لأن تصدق مستحقي الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ.
ومن أمثلة ذلك آية (النور) هذه، لأن الاستثناء في قوله: * (إلا الذين تابوا) *، لا يرجع لقوله: * (فاجلدوهم ثمانين جلدة) *، كما ذكرناه آنفا.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: * (فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا * إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) *، فالاستثناء في قوله: * (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) * لا يرجع إلى الجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل المذكورة إليه، أعني قوله تعالى: * (ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) *، إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار، ولو وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، وهذا لا خلاف فيه بل الاستثناء راجع إلى الجملتين الأوليين، أعني قوله تعالى: * (فخذوهم واقتلوهم) *، أي: فخذوهم بالأسر، واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، فليس لكم أخذهم بأسر، ولا قتلهم؛ لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم، وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الآية نزلت فيه، وفي سراقة بن مالك المدلجي، وفي بني جذيمة بن عامر، وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع إلى أقرب الجمل إليه في القرءان العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز، تبين أنه لم يلزم رجوعه للجميع، ولا إلى الأخيرة، وأن الأظهر الوقف حتى يعلم ما يرجع إليه من المتعاطفات قبله بدليل، ولا يبعد أنه إن تجرد من القرائن والأدلة، كان ظاهرا في رجوعه للجميع.
وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، ولذلك اختصرناه هنا، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة: اعلم أن من قذف إنسانا بغير الزنى أو نفي النسب، كأن يقول له: يا فاسق، أو يا آكل الربى، ونحو ذلك من أنواع السب يلزمه التعزير، وذلك بما يراه الإمام رادعا له ولأمثاله من العقوبة، من غير تحديد شئ في ذلك من جهة الشرع. وقال بعض أهل العلم: لا يبلغ بالتعزير قدر الحد. وقال بعض العلماء: إن التعزير بحسب اجتهاد الإمام فيما يراه رادعا مطلقا، والعلم عند الله تعالى.
433

المسألة الرابعة: اعلم أن جمهور العلماء على أن العبد إذا قذف حرا يجلد أربعين، لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى. قال القرطبي: وروي عن ابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، وقبيصة بن ذؤيب: يجلد ثمانين، وجلد أبو بكر بن محمد عبدا قذف حرا ثمانين، وبه قال الأوزاعي، واحتج الجمهور بقوله تعالى: * (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) *، وقال الآخرون: فهمنا هناك أن حد الزنى لله، وأنه ربما كان أخف فيمن قلت نعم الله عليه، وأفحش فيمن عظمت نعم
الله عليه.
وأما حد القذف، فهو حق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية، وربما قالوا: لو كان يختلف لذكر، كما في الزنى.
قال ابن المنذر: والذي عليه علماء الأمصار القول الأول وبه أقول، انتهى كلام القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي دليلا: أن العبد إذا قذف حرا جلد ثمانين لا أربعين، وإن كان مخالفا لجمهور أهل العلم، وإنما استظهرنا جلده ثمانين؛ لأن العبد داخل في عموم: * (فاجلدوهم ثمانين جلدة) *، ولا يمكن إخراجه من هذا العموم، إلا بدليل ولم يرد دليل يخرج العبد من هذا العموم، لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من قياس، وإنما ورد النص على تشطير الحد عن الأمة في حد الزنى وألحق العلماء بها العبد بجامع الرق، والزنى غير القذف.
أما القذف، فلم يرد فيه نص ولا قياس في خصوصه.
وأما قياس القذف على الزنى فهو قياس مع وجود الفارق؛ لأن القذف جناية على عرض إنسان معين، والردع عن الأعراض حق للآدمي فيردع العبد كما يردع الحر، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
قد قدمنا في سورة (المائدة)، في الكلام على قوله تعالى: * (من أجل ذالك كتبنا على بنى) *، أن الحر إذا قذف عبدا لا يحد له، وذلك ثابت في
434

الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (من قذف عبده بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال) اه. وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: (أقيم عليه الحد يوم القيامة)، يدل على أنه لا يقام عليه الحد في الدنيا وهو كذلك، وهذا لا نزاع فيه بين من يعتد به من أهل العلم.
قال القرطبي: قال العلماء: وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى، ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة، واقتص لكل واحد من صاحبه إلا أن يعفو المظلوم، انتهى محل الغرض من كلام القرطبي.
المسألة الخامسة: اعلم أن العلماء أجمعوا على أنه إذا صرح في قذفه له بالزنى، كان قذفا ورميا موجبا للحد، وأما إن عرض ولم يصرح بالقذف، وكان تعريضه يفهم منه بالقرائن أنه يقصد قذفه؛ كقوله: أما أنا فلست بزان، ولا أمي بزانية، أو ما أنت بزان ما يعرفك الناس بالزنى، أو يا حلال بن الحلال، أو نحو ذلك.
فقد اختلف أهل العلم: هل يلزم القذف بالتعريض المفهم للقذف، وإن لم يصرح أو لا يحد حتى يصرح بالقذف تصريحا واضحا لا احتمال فيه؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن التعريض لا يوجب الحد، ولو فهم منه إرادة القذف، إلا أن يقر أنه أراد به القذف.
قال ابن قدامة في (المغني): وهذا القول هو رواية حنبل عن الإمام أحمد، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي بكر، وبه قال عطاء، وعمرو بن دينار، وقتادة، والثوري، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وابن المنذر، واحتج أهل هذا القول بكتاب وسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: * (خبير ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) *، ففرق تعالى بين التصريح للمعتدة والتعريض، قالوا: ولم يفرق الله بينهما في كتابه، إلا لأن بينهما فرقا، ولو كانا سواء لم يفرق بينهما في كتابه.
وأما السنة: فالحديث المتفق عليه، الذي قدمناه مرارا في الرجل الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: إن امرأتي ولدت غلاما أسود وهو تعريض بنفيه، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا قذفا، ولم يدعهما للعان بل قال للرجل: (ألك إبل)؟ قال: نعم، قال: (فما ألوانها)؟
435

قال: حمر، قال: (هل فيها من أورق)؟ قال: إن فيها لورقا، قال: (ومن أين جاءها ذلك)؟ قال: لعل عرقا نزعه، قال: (وهذا الغلام الأسود لعل عرقا نزعه)، قالوا: ولأن التعريض محتمل لمعنى آخر غير القذف، وكل كلام يحتمل معنيين لم يكن قذفا، هذا هو حاصل حجة من قالوا: بأن التعريض بالقذف، لا يوجب الحد وإنما يجب الحد بالتصريح بالقذف.
وذهبت جماعة آخرون من أهل العلم إلى أن التعريض بالقذف يجب به الحد، وهو مذهب مالك وأصحابه. وقال ابن قدامة في (المغني): وروى الأثرم وغيره، عن الإمام أحمد أن عليه الحد، يعني المعرض بالقذف، قال: وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه، وبه قال إسحاق إلى أن قال: وقال معمر: إن عمر كان يجلد الحد في التعريض، اه.
واحتج أهل هذا القول بأدلة منها ما ذكره القرطبي، قال: والدليل لما قاله مالك: هو أن موضوع الحد في القذف، إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، وإذا حصلت المعرة بالتعريض، وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم، وقد قال تعالى مخبرا عن قوم شعيب أنهم قالوا له: * (إنك لانت الحليم الرشيد) *، أي: السفيه الضال، فعرضوا له بالسب بكلام ظاهره المدح في أحد التأويلات حسب ما تقدم في سورة (هود). وقال تعالى في أبي جهل: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) *، وقال تعالى في الذين قذفوا مريم أنهم قالوا: * (فريا ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) *، فمدحوا أباها، ونفوا عن أمها البغاء، أي: الزنى وعرضوا لمريم بذلك، ولذلك قال تعالى: * (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما) *، وكفرهم معروف والبهتان العظيم هو التعريض لها، أي: * (ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) *، أي: أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد. وقال تعالى: * (قل من يرزقكم من * السماوات والارض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين) *، فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهدى، ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه، اه محل الغرض من كلام القرطبي مع تصرف قليل لإيضاح المراد.
وحاصل كلام القرطبي المذكور: أن من أدلة القائلين بوجوب الحد بالتعريض آيات قرءانية، وبين وجه دلالتها على ذلك كما رأيته، وذكر أن من أدلتهم أن المعرة اللاحقة
436

للمقذوف صريحا تلحقه بالتعريض له بالقذف، ولذلك يلزم استواؤهما، وذكر أن من أدلتهم أن المعول على الفهم، والتعريض يفهم منه القذف فيلزم أن يكون كالصريح.
ومن أدلتهم على أن التعريض يجب به الحد بعض الآثار المروية عن بعض الخلفاء الراشدين. قال ابن قدامة في (المغني): لأن عمر رضي الله عنه حين شاورهم في الذي قال لصاحبه: ما أنا بزان، ولا أمي بزانية، فقالوا: قد مدح أباه وأمه، فقال عمر: قد عرض بصاحبه وجلده الحد. وقال معمر: إن عمر كان يجلد الحد في التعريض. وروى الأثرم: أن عثمان رضي الله عنه جلد رجلا قال لآخر: يا ابن شامة الوذر، يعرض له بزنى أمه، والوذر: غدر اللحم يعرض له بكمر الرجال، وانظر أسانيد هذه الآثار.
ومن أدلة أهل هذا القول أن الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها، كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ولذلك وقع الطلاق بالكناية، فإن لم يكن ذلك في حال الخصومة، ولا وجدت قرينة تصرف إلى القذف، فلا شك في أنه لا يكون قذفا، انتهى من (المغني).
ثم قال صاحب المغني: وذكر أبو بكر عبد العزيز: أن أبا عبد الله رجع عن القول بوجوب الحد في التعريض، يعني بأبي عبد الله الإمام أحمد رحمه الله. وقال القرطبي: وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة، لما قال: ثم قال صاحب المغني: وذكر أبو بكر عبد العزيز: أن أبا عبد الله رجع عن القول بوجوب الحد في التعريض، يعني بأبي عبد الله الإمام أحمد رحمه الله. وقال القرطبي: وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة، لما قال:
* دع المكارم لا ترحل لبغيتها
* واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
*
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون ومثل هذا كثير، ومنه قول الحطيئة أو النجاشي: لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون ومثل هذا كثير، ومنه قول الحطيئة أو النجاشي:
* قبيلة لا يخفرون بذمة
* ولا يظلمون الناس حبة خردل
*
فإنه يروى أن عمر لما سمع هذا الهجاء حمله على المدح، وقال: ليت آل الخطاب كانوا كذلك، ولما قال الشاعر بعد ذلك: فإنه يروى أن عمر لما سمع هذا الهجاء حمله على المدح، وقال: ليت آل الخطاب كانوا كذلك، ولما قال الشاعر بعد ذلك:
* ولا يردون الماء إلا عشية
* وإذا صدر الوارد عن كل منهل
*
قال عمر أيضا: ليت آل الخطاب كانوا كذلك، فظاهر هذا الشعر يشبه المدح، ولذا ذكروا أن عمر تمنى ما فيه من الهجاء لأهل بيته؛ لأنه عنده مدح وصاحبه يريد الذم بلا
437

نزاع، ويدل على ذلك أول شعره وآخره، لأن أول الأبيات قوله: قال عمر أيضا: ليت آل الخطاب كانوا كذلك، فظاهر هذا الشعر يشبه المدح، ولذا ذكروا أن عمر تمنى ما فيه من الهجاء لأهل بيته؛ لأنه عنده مدح وصاحبه يريد الذم بلا نزاع، ويدل على ذلك أول شعره وآخره، لأن أول الأبيات قوله:
* إذا الله عادى أهل لؤم وذلة
* فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
*
* قبيلة لا يخفرون
*. البيت
*
وفي آخر شعره: وفي آخر شعره:
* وما سمى العجلان إلا لقوله
* خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل
*
وكون مثل هذا من التعريض بالذم لا شك فيه، وقول الحطيئة: وقول الحطيئة:
* دع المكارم لا ترحل لبغيتها
*
يهجو به الزبرقان بن بدر التميمي، كما ذكره بعض المؤرخين، وما ذكره القرطبي رحمه الله في الكلام الذي نقلنا عنه من أن البهتان العظيم الذي قالوه على مريم: هو تعريضهم لها بقولهم: * (ما كان أبوك امرأ سوء) *، لا يتعين بانفراده؛ لأن الله جل وعلا ذكر عنهم أنهم قالوا لها غير ذلك وهو أقرب للتصريح بالفاحشة مما ذكره القرطبي، وذلك في قوله تعالى: * (فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم * مريم لقد جئت شيئا فريا) *، فقولهم لها: * (لقد جئت شيئا فريا) * في وقت مجيئها بالولد تحمله ظاهر جدا في إرادتهم قذفها، كما ترى. والكلام الذي ذكر ابن قدامة: أن عثمان جلد الحد فيه وهو قول الرجل لصاحبه: يا ابن شامة الوذر. قال فيه الجوهري في صحاحه: الوذرة بالتسكين الغدرة، وهي القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة، ومنه قولهم: يا ابن شامة الوذرة، وهي كلمة قذف، وكانت العرب تتساب بها، كما كانت تتساب بقولهم: يا ابن ملقي أرحل الركبان، أو يا ابن ذات الرايات ونحوها، والجمع وذر مثل تمرة وتمر، اه من صحاح الجوهري.
والشامة بتشديد الميم اسم فاعل شمه. وقال صاحب (اللسان): وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رفع إليه رجل قال لرجل: يا ابن شامة الوذر، فحده، وهو من سباب العرب وذمهم، وإنما أراد با ابن شامة المذاكير يعنون الزنا، كأنها كانت تشم كمرا مختلفة فكنى عنه، والذكر قطعة من بدن صاحبه، وقيل: أرادوا بها القلف جع قلفة الذكر؛ لأنها تقطع، انتهى محل الغرض من (لسان العرب). وهذا لا يتضح منه قصد الزنا ولم أر من
438

أوضح معنى شامة الوذر أيضاحا شافيا، لأن شم كمر الرجال ليس من الأمر المعهود الواضح.
والذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن قائل الكلام المذكور يشبه من مرض لها بالزنا بسفاد الحيوانات؛ لأن الذكر من غالب الحيوانات إذا أراد سفاد الأنثى شم فرجها، واستنشق ريحه استنشاقا شديدا، ثم بعد ذلك ينزو عليها فيسافدها فكأنهم يزعمون أن المرأة تشم ذكر الرجل كما يشم الفحل من الحيوانات فرج أنثاه، وشمها لمذاكير الرجال كأنه مقدمة للمواقعة، فكنوا عن المواقعة بشم المذاكير، وعبروا عن ذكر الرجل بالوذرة؛ لأنه قطعة من بدن صاحبه كقطعة اللحم، ويحتمل أنهم أرادوا كثرة ملابستها لذلك الأمر، حتى صارت كأنها تشم ريح ذلك الموضع، والعلم عند الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد علمت مما ذكرنا أقوال أهل العلم، وحججهم في التعريض بالقذف، هل يلزم به الحد أو لا يلزم به.
وأظهر القولين عندي: أن التعريض إذا كان يفهم منه معنى القذف فهما واضحا من القرائن أن صاحبه يحد؛ لأن الجناية على عرض المسلم تتحقق بكل ما يفهم منه ذلك فهما واضحا، ولئلا يتذرع بعض الناس لقذف بعضهم بألفاظ التعريض التي يفهم منها القذف بالزنا، والظاهر أنه على قول من قال من أهل العلم: إن التعريض بالقذف لا يوجب الحد أنه لا بد من تعزير المعرض بالقذف للأذى الذي صدر منه لصاحبه بالتعريض، والعلم عند الله تعالى.
المسألة السادسة: قال القرطبي في تفسيره: الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم، وقال الزهري، وسعيد بن المسيب، وابن أبي ليلى: عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم، وفيه قول ثالث: وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد. قال ابن المنذر: وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول، ولم أدرك أحدا، ولا لقيته يخالف في ذلك، وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة، لا أعلم في ذلك خلافا، انتهى منه.
المسألة السابعة: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي في مسألة ما لو قذف رجل رجلا، فقال آخر: صدقت، أن المصدق قاذف فتجب إقامة الحد عليه؛ لأن تصديقه للقاذف قدف خلافا لزفر ومن وافقه.
439

وقال ابن قدامة في (المغني): ولو قال: أخبرني فلان أنك زنيت لم يكن قاذفا سواء كذبه المخبر عنه أو صدقه، وبه قال الشافعي، وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقال أبو الخطاب: فيه وجه آخر أنه يكون قاذفا إذا كذبه الآخر، وبه قال مالك، وعطاء، ونحوه عن الزهري؛ لأنه أخبر بزناه، اه منه.
وأظهر القولين عندي: أنه لا يكون قاذفا ولا يحد، لأنه حكى عن غيره ولم يقل من تلقاء نفسه، ويحتمل أن يكون صادقا، وأن الذي أخبره أنكر بعد إخباره إياه كما لو شهد على رجل أنه قذف رجلا وأنكر المشهود عليه، فلا يكون الشاهد قاذفا، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثامنة: أظهر قولي أهل العلم عندي فيمن قذف رجلا بالزنى، ولم يقم عليه الحد حتى زنا المقذوف أن الحد يسقط عن قاذفه؛ لأنه تحقق بزناه أنه غير محصن، ولو كان ذلك لم يظهر إلا بعد لزوم الحد للقاذف؛ لأنه قد ظهر أنه غير عفيف قبل إقامة الحد على من قذفه، فلا يحد لغير عفيف اعتبارا بالحالة التي يراد أن يقام فيها الحد، فإنه في ذلك الوقت ثبت عليه أنه غير عفيف.
وهذا الذي استظهرنا عزاه ابن قدامة: لأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، والقول بأنه يحد هو مذهب الإمام أحمد.
قال صاحب (المغني): وبه قال الثوري، وأبو ثور، والمزني، وداود. واحتجوا بأن الحد قد وجب وتم بشروطه فلا يسقط بزوال شرط الوجوب.
والأظهر عندنا هو ما قدمنا، لأنه تحقق أنه غير عفيف قبل إقامة الحد على قاذفه، فلا يحد لمن تحقق أنه غير عفيف.
وإنما وجب الحد قبل هذا، لأن عدم عفته كان مستورا، ثم ظهر قبل إقامة الحد، والعلم عند الله تعالى.
المسألة التاسعة: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندنا فيمن قال لرجل: يا من وطئ بين الفخذين، أنه ليس بقذف، ولا يحد قائله؛ لأنه رماه بفعل لا يعد زنا إجماعا،
خلافا لابن القاسم من أصحاب مالك القائل بوجوب الحد زاعما أنه تعريض به، والعلم عند الله تعالى.
440

المسألة العاشرة: اعلم أن حد القذف لا يقام على القاذف إلا إذا طلب المقذوف إقامة الحد عليه؛ لأنه حق له، ولم يكن للقاذف بينة على ما ادعى من زنا المقذوف؛ لأن الله يقول: * (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * ومفهوم الآية: أن القاذف لو جاء بأربعة شهداء على الوجه المقبول شرعا أنه لا حد عليه، وإنما يثبت بذلك حد الزنا على المقذوف، لشهادة البينة، ويشترط لذلك أيضا عدم إقرار المقذوف، فإن أقر بالزنا، فلا حد على القاذف. وإن كان القاذف زوجا اعتبر في حده حد القذف امتناعه من اللعان. قال ابن قدامة: ولا نعلم خلافا في هذا كله ثم قال: وتعتبر استدامة الطلب إلى إقامة الحد، فلو طلب ثم عفا عن الحد سقط، وبهذا قال الشافعي، وأبو ثور. وقال الحسن وأصحاب الرأي: لا يسقط بعفوه؛ لأنه حد فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود. ولنا أنه حد لا يستوفى إلا بعد مطالبة الآدمي باستيفائه فسقط بعفوه كالقصاص، وفارق سائر الحدود، فإنه لا يعتبر في إقامتها الطلب باستيفائها، وحد السرقة إنما تعتبر فيه المطالبة بالمسروق لا باستيفاء الحد، ولأنهم قالوا تصح دعواه، ويستحلف فيه، ويحكم الحاكم فيه بعلمه، ولا يقبل رجوعه عنه بعد الاعتراف، فدل على أنه حق لآدمي، اه من (المغني)، وكونه حقا لآدمي هو أحد أقوال فيه.
قال أبو عبد الله القرطبي: واختلف العلماء في حد القذف، هل هو من حقوق الله، أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما؟
الأول: قول أبي حنيفة.
والثاني: قول مالك والشافعي.
والثالث: قاله بعض المتأخرين.
وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا لله تعالى وبلغ الإمام أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنا، وإن كان حقا للآدمي، فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف، ا ه كلام القرطبي.
ومذهب مالك وأصحابه كأنه مبني على القول الثالث، وهو أن الحد يسقط بعفو
441

المقذوف قبل بلوغ الإمام، فإن بلغ الإمام، فلا يسقطه عفوه إلا إذا ادعى أنه يريد بالعفو الستر على نفسه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر أن القذف حق للآدمي وكل حق لآدمي فيه حق لله.
وإيضاحه: أن حد القذف حق للآدمي من حيث كونه شرع للزجر عن فعله، ولدفع معرة القذف عنه. فإذا تجرأ عليه القاذف انتهك حرمة عرض المسلم، وأن للمسلم عليه حق بانتهاك حرمة عرضه، وانتهك أيضا حرمة نهى الله عن فعله في عرض مسلم، فكان لله حق على القاذف بانتهاكه حرمة نهيه، وعدم امتثاله، فهو عاص لله مستحق لعقوبته، فحق الله يسقط بالتوبة النصوح، وحق المسلم يسقط بإقامة الحد، أو بالتحلل منه.
والذي يظهر على هذا التفصيل أن المقذوف إذا عفا وسقط الحد بعفوه أن للإمام تعزير القاذف لحق الله، والله جل وعلا أعلم.
المسألة الحادية عشرة: قال القرطبي: إن تمت الشهادة على الزاني بالزنا ولكن الشهود لم يعدلوا، فكان الحسن البصري والشعبي يريان ألا حد على الشهود، ولا على المشهود عليه، وبه قال أحمد، والنعمان، ومحمد بن الحسن.
وقال مالك: وإذا شهد عليه أربعة بالزنا وكان أحدهم مسخوطا عليه أو عبدا يجلدون جميعا. وقال سفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى: يضربون، فإن رجع أحد الشهود، وقد رجم المشهود عليه في الزنى، فقالت طائفة: يغرم ربع الدية، ولا شئ على الآخرين، وكذلك قال قتادة، وحماد، وعكرمة، وأبو هاشم، ومالك، وأحمد، وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: إن قال عمدت ليقتل، فالأولياء بالخيار إن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا عفوا، وأخذوا ربع الدية وعليه الحد. وقال الحسن البصري: يقتل وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية. وقال ابن سيرين: إذا قال أخطأت وأردت غيره، فعليه الدية كاملة، وإن قال تعمدت قتل، وبه قال ابن شبرمة، اه كلام القرطبي. وقد قدمنا بعضه.
وأظهر الأقوال عندي: أنهم إن لم يعدلوا حدوا كلهم؛ لأن من أتى بمجهول غير معروف العدالة، كمن لم يأت بشئ، وأنه إن أقر بأنه تعمد الشهادة عليه؛ لأجل أن يقتل
442

يقتص منه. وإن ادعى شبهة في رجوعه يغرم قسطه من الدية، والقول بأنه يغرم الدية كاملة له وجه من النظر، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية عشرة: قال القرطبي: قال مالك، والشافعي من قذف من يحسبه عبدا فإذا هو حر فعليه الحد، وقاله الحسن البصري، واختاره ابن المنذر، ومن قذف أم الولد حد. وروي عن ابن عمر، وهو قياس قول الشافعي، وقال الحسن البصري: لا حد عليه، انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما حده في قذف أم الولد، فالظاهر أنه لا يكون إلا بعد موت سيدها، وعتقها من رأس مال مستولدها، أما قبل ذلك فلم تتحقق حريتها بالفعل، ولا سيما على قول من يجيز بيعها من العلماء. والقاذف لا يحد بقذف من لم يكن حرا حرية كاملة فيما يظهر، وكذلك لو قيل: إن من قذف من يظنه عبدا، فإذا هو حر لا يجب عليه الحد لأنه لم ينو قذف حر، وإنما نوى قذف عبد لكان له وجه من النظر؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، ولأن المعرة تزول عن المقذوف بقول القاذف: ما قصدت قذفك ولا أقول: إنك زان، وإنما قصدت بذلك من كنت أعتقده عبدا فأنت عفيف في نظري، ولا أقول فيك إلا خيرا، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة عشرة: اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة، أو قذف واحدا، مرات متعددة. وقد قدمنا خلاف أهل العلم، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة في الكلام على آيات (الحج).
قال ابن قدامة في (المغني)، في شرحه لقول الخرقي: وإذا قذف الجماعة بكلمة واحدة، فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم، ما نصه: وبهذا قال: طاوس والشعبي، والزهري، والنخعي، وقتادة، وحماد، ومالك، والثوري، وأبو حنيفة وصاحباه، وابن أبي ليلى وإسحاق. وقال الحسن، وأبو ثور وابن المنذر: لكل واحد حد كامل، وعن أحمد مثل ذلك. وللشافعي قولان كالروايتين، ووجه هذا أنه قذف كل واحد منهم، فلزمه له حد كامل؛ كما لو قذفهم بكلمات، ولنا قول الله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) *، ولم يفرق بين قذف واحد أو جماعة؛ ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة، فلم يحدهم عمر إلا حد واحدا، ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحدا، ولأن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على
443

المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف، وتزول المعرة، فوجب أن يكتفي به بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفا منفردا، فإن كذبه في قذفه لا يلزم منه كذبه في آخر، ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحده للآخر، فإذا ثبت هذا، فإنهم إن طلبوه جملة حد لهم، وإن طلبه واحد أقيم الحد؛ لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل، فأيهم طالب به استوفى، وسقط فلم يكن لغيره الطلب به كحق المرأة على أوليائها في تزويجها، إذا قام به واحد سقط عن الباقين، وإن أسقطه أحدهم فلغيره المطالبة به واستيفاؤه؛ لأن المعرة لم تزل عنه بعفو صاحبه، وليس للعافي الطلب به، لأنه قد أسقط حقه.
وروي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى: أنهم إن طلبوه دفعة واحدة فحد واحد، وكذلك إن طلبوه واحدا بعد واحد إلا أنه لم يقم حتى طلبه الكل فحد واحد، وإن طلبه واحد فأقيم له، ثم طلبه آخر أقيم له، وكذلك جميعهم وهذا قول عروة؛ لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه، وقع استيفاؤه لجميعهم. وإذا طلبه واحد منفردا كان استيفاؤه له وحده، فلم يسقط حق الباقين بغير استيفائهم (في) إسقاطهم، وإن قذف الجماعة بكلمات فلكل واحد حد، وبهذا قال عطاء، والشعبي، وقتادة، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة والشافعي. وقال حماد ومالك: لا يجب إلا حد واحد، لأنها جناية توجب حدا، فإذا تكررت كفى حد واحد، كما لو سرق من جماعة أو زنى بنساء، أو شرب أنواعا من المسكر، ولنا أنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون والقصاص، وفارق ما قاسوا عليه فإنه حق لله تعالى، إلى أن قالا: وإن قذف رجلا مرات فلم يحد، فحد واحد رواية واحدة، سواء قذفه بزنا واحد أو بزنيات، وإن قذفه فحد ثم أعاد قذفه نظرت، فإن قذفه بذلك الزنا الذي حد من أجله لم يعد عليه الحد في قول عامة أهل العلم، وحكي عن ابن القاسم: أنه أوجب حدا ثانيا، وهذا يخالف إجماع الصحابة، فإن أبا بكرة لما حد بقذف المغيرة أعاد قذفه فلم يروا عليه حدا ثانيا، فروى الأثرم بإسناده عن ظبيان بن عمارة، قال: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر أنه زان، فبلغ ذلك عمر فكبر عليه، وقال: شاط ثلاثة أرباع المغيرة بن شعبة، وجاء زياد فقال: ما عندك؟ فلم يثبت فأمر بجلدهم فجلدوا، وقال: شهود زور. فقال أبو بكرة: أليس ترضى إن أتاك رجل عندك يشهد رجمه؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده، فقال أبو بكرة: وأنا أشهد أنه زان، فأراد أن يعيد عليه الحد، فقال علي: يا أمير المؤمنينا إنك إن أعدت عليه الحد، أوجبت عليه الرجم. وفي حديث آخر: فلا يعاد فيه فرية جلد مرتين. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله قول علي: إن جلدته فارجم صاحبك، قال: كأنه جعل
444

شهادته شهادة رجلين، قال أبو عبد الله: وكنت أنا أفسره على هذا حتى رأيته في هذا الحديث فأعجبني، ثم قال يقول: إذا جلدته ثانية فكأنك جعلته شاهدا آخر، فأما إن حد له وقذفه بزنا ثان نظرت، فإن قذفه بعد طول الفصل فحد ثان؛ لأنه لا يسقط حرمة المقذوف بالنسبة إلى القاذف أبدا بحيث يمكن من قذفه بكل حال، وإن قذفه عقيب حده ففيه روايتان:
إحداهما: يحد أيضا؛ لأنه قذف لم يظهر كذبه فيه بحد، فيلزم فيه حد كما لو طال الفصل، ولأن سائر أسباب الحد إذا تكررت بعد أن حد للأول ثبت للثاني حكمه، كالزنا والسرقة وغيرهما من الأسباب.
والثانية: لا يحد؛ لأنه قد حد له لمرة فلم يحد له بالقذف عقبه، كما لو قذفه بالزنا الأول، انتهى من (المغني). وقد رأيت نقله لأقوال أهل العلم، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات أو قذف واحدا مرات.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذه المسائل لم نعلم فيها نصا من كتاب ولا سنة.
والذي يظهر لنا فيه، والله تعالى أعلم: أن من قذف جماعة بكلمة واحدة فعليه حد واحد، لأنه يظهر به كذبه على الجميع وتزول به المعرة عن الجميع، ويحصل شفاء الغيط بحده للجميع.
والأظهر عندنا فيمن رمى جماعة بكلمات أنه يتعدد عليه الحد، بعدد الكلمات التي قذف بها؛ لأنه قذف كل واحد قذفا مستقلا لم يشاركه فيه غيره وحده لبعضهم لا يظهر به كذبه على الثاني الذي قذفه بلفظ آخر، ولا تزول به عنه المعرة. وهذا إن كان قذف كل واحد منهم قذفا مفردا لم يجمع معه غيره لا ينبغي أن يختلف فيه، والأظهر أنه إن قذفهم بعبارات مختلفة تكرر عليه الحد بعددهم، كما اختاره صاحب (المغني).
والأظهر عندنا أنه إن كرر القذف لرجل واحد قبل إقامة الحد عليه يكفي فيه حد واحد، وأنه إن رماه بعد حده للقذف الأول بعد طول حد أيضا، وإن رماه قرب زمن حده بعين الزنا الذي حد له لا يعاد عليه الحد؛ كما حكاه صاحب المغني في قصة أبي بكرة والمغيرة بن شعبة، وإن كان القذف الثاني غير الأول، كأن قال في الأول: زنيت بامرأة بيضاء،
445

وفي الثاني قال: بامرأة سوداء، فالظاهر تكرره، والعلم عند الله تعالى.
وعن مالك رحمه الله في (المدونة): إن قذف رجلا فلما ضرب أسواطا قذفه ثانيا أو آخر ابتدىء الحد عليه ثمانين من حين يقذفه، ولا يعتد بما مضى من السياط.
المسألة الرابعة عشرة: الظاهر أن من قال لجماعة: أحدكم زان أو ابن زانية لا حد عليه؛ لأنه لم يعين واحدا فلم تلحق المعرة واحدا منهم، فإن طلبوا إقامة الحد عليه
جميعا لا يحد، لأنه لم يرم واحدا منهم بعينه، ولم يعرف من أراد بكلامه. نقله المواق عن الباجي عن محمد بن المواز، ووجهه ظاهر كما ترى. واقتصر عليه خليل في مختصره في قوله عاطفا على ما لا حد فيه، أو قال لجماعة: أحدكم زان.
وقال ابن قدامة في (المغني): وإذا قال من رماني فهو ابن الزانية فرماه رجل، فلا حد عليه، في قول أحد من أهل العلم. وكذلك إن اختلف رجلان في شئ، فقال أحدهما: الكاذب هو ابن الزانية، فلا حد عليه، نص عليه أحمد؛ لأنه لم يعين أحدا بالقذف، وكذلك ما أشبه هذا، ولو قذف جماعة لا يتصور صدقه في قذفهم، مثل أن يقذف أهل بلدة كثيرة بالزنى كلهم، لم يكن عليه حد؛ لأنه لم يلحق العار بأحد غير نفسه للعلم بكذبه، انتهى منه.
المسألة الخامسة عشرة: اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندنا فيمن قال لرجل: أنت أزنى من فلان، فهو قاذف لهما، وعليه حدان؛ لأن قوله أزنى صيغة تفضيل، وهي تدل على اشتراك المفضل، والمفضل عليه في أصل الفعل، إلا أن المفضل أفضل فيه من صاحبه المشارك له فيه، فمعنى كلامه بدلالة المطابقة في صيغة التفضيل: أنت وفلان زانيان، ولكنك تفوقه في الزنى، وكون هذا قذفا لهما واضح، كما ترى. وبه تعلم أن أحد الوجهين عند الحنابلة أنه يحد للمخاطب فقط، دون فلان المذكور لا ينبغي أن يعول عليه، وكذلك ما عزاه ابن قدامة للشافعي، وأصحاب الرأي من أنه ليس بقذف للأول، ولا للثاني إلا أن يريد به القذف كل ذلك لا يصح ولا ينبغي التعويل عليه؛ لأن صيغة: أنت أزنى من فلان قذف صريح لهما بعبارة واضحة، لا إشكال فيها.
وقال ابن قدامة في (المغني) محتجا للوجه الذي ذكرنا عن الحنابلة: أنه لا حد على الثاني، ما نصه: والثاني يكون قذفا للمخاطب خاصة؛ لأن لفظة افعل قد تستعمل للمنفرد بالفعل؛ كقول الله تعالى: * (أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن
446

يهدى) *، وقال تعالى: * (فأى الفريقين أحق بالامن) *، وقال لوط: * (بناتى هن أطهر لكم) *، أي من أدبار الرجال، ولا طهارة فيها لا ينبغي التعويل عليه كما أنه هو ساقه، ولم يعول عليه.
وحاصل الاحتجاج المذكور: أن صيغة التفضيل قد ترد مرادا بها مطلق الوصف، لا حصول التفضيل بين شيئين، ومثل له هو بكلمة: * (أحق أن يتبع) *، وكلمة: * (أحق بالامن) *، وكلمة: * (أطهر لكم) *؛ لأن صيغة التفضيل في الآيات المذكورة لمطلق الوصف لا للتفضيل.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا يخفى أن صيغة التفضيل قد ترد لمطلق الوصف، كما هو معلوم. ومن أمثلته الآيات التي ذكرها صاحب (المغني)، ولكنها لا تحمل على غير التفضيل، إلا بدليل خارج يقتضي ذلك والآيات التي ذكر معلوم أنها لا يمكن أن تكون للفضيل؛ لأن الأصنام لا نصيب لها من أحقية الاتباع أصلا في قوله: * (أحق أن يتبع أمن لا يهدى) *، ولأن الكفار لا نصيب لهم في الأحقية بالأمن، ولأن أدبار الرجال لا نصيب لها في الطهارة.
ومن أمثلة ورود صيغة التفضيل لمطلق الوصف أيضا قوله تعالى: * (وهو أهون عليه) *، أي: هين سهل عليه، وقول الشنفري: ومن أمثلة ورود صيغة التفضيل لمطلق الوصف أيضا قوله تعالى: * (وهو أهون عليه) *، أي: هين سهل عليه، وقول الشنفري:
* وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
* بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
*
أي: لم أكن بالعجل منهم. وقول الفرزدق: أي: لم أكن بالعجل منهم. وقول الفرزدق:
* إن الذي سمك السماء بنى لنا
* بيتا دعائمه أعز وأطول
*
أي: عزيزة طويلة. وقول معن بن أوس: أي: عزيزة طويلة. وقول معن بن أوس:
* لعمرك ما أدري وإني لأوجل
* على أينا تعدو المنية أول
*
أي: لوجل. وقول الأحوص بن محمد الأنصاري: أي: لوجل. وقول الأحوص بن محمد الأنصاري:
* إني لأمنحك الصدود وإنني
* قسما إليك مع الصدود لأميل
*
أي: لمائل. وقول الآخر
447

: أي: لمائل. وقول الآخر:
* تمنى رجال أن أموت وإن مت
* فتلك سبيل لست فيها بأوحد
*
أي: بواحد. وقال الآخر: بواحد. وقال الآخر:
* لعمرك إن الزبرقان لباذل
* لمعروفه عند السنين وأفضل
*
أي: وفاضل. إلى غير ذلك من الشواهد، ولكن قدمنا أنها لا تحمل على مطلق الوصف، إلا لدليل خارج، أو قرينة واضحة تدل على ذلك.
وقوله له: أنت أزنى من فلان، ليس هناك قرينة، ولا دليل صارف لصيغة التفضيل عن أصلها، فوجب إبقاؤها على أصلها، وحد القاذف لكل واحد منهما، والإتيان بلفظة من في قوله: أنت أزنى من فلان، يوضح صراحة الصيغة في التفضيل، والعلم عند الله تعالى.
المسألة السادسة عشرة: اعلم أنه لا يجوز رمي الملاعنة بالزنى، ولا رمي ولدها بأنه ابن زنى، ومن رمى أحدهما فعليه الحد، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه؛ لأنه لم يثبت عليها زنى، ولا على ولدها أنه ابن زنى، وإنما انتفى نسبه عن الزوج بلعانه.
وفي سنن أبي داود: حدثنا الحسن بن علي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا عباد بن منصور عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، فجاء من أرضه عشيا فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينه وسمع بأذنه... الحديث، وفيه: ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى إلا يدعى ولدها لأب، ولا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد... إلى آخر الحديث. وفي هذا الحديث التصريح بأن من رماها أو رمى ولدها فعليه الحد.
واعلم: أن ما نقله الشيخ الحطاب عن بعض علماء المالكية من أن من قال لابن ملاعنة: لست لأبيك الذي لاعن أمك، فعليه الحد خلاف التحقيق؛ لأن الزوج الملاعن ينتفى عنه نسب الولد باللعان، فنفيه عنه حق مطابق للواقع، ولذا لا يتوارثان، ومن قال كلاما حقا، فإنه لا يستوجب الحد بذلك؛ كما لو قال له: يا من نفاه زوج أمه، أو يا ابن ملاعنة، أو يا ابن من لوعنت؛ وإنما يجب الحد على قاذفه، فيما لو قال: أنت ابن زنى ونحوها من صريح القذف، والعلم عند الله تعالى.
448

المسألة السابعة عشرة: في حكم ما لو قال لرجل: يا زانية بتاء الفرق، أو قال لامرأة: يا زاني، بلا تاء. قال ابن قدامة في (المغني): هو قذف صريح لكل منهما، قال: واختار هذا أبو بكر، وهو مذهب الشافعي، واختار ابن حامد أنه ليس بقذف إلا أن يفسره به، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه يحتمل أن يريد بقوله: يا زانية، أي: يا علامة في الزنا؛ كما يقال للعالم: علامة، ولكثير الرواية: راوية، ولكثير الحفظ: حفظة، ولنا أن ما كان قذفا لأحد الجنسين كان قذفا للآخر؛ كقوله: زنيت بفتح التاء وكسرها لهما جميعا، ولأن هذا اللفظ خطاب لهما وإشارة إليهما بلفظ الزنا، وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها، ولذلك لو قال للمرأة: يا شخصا زانيا، وللرجل: يا نسمة زانية، كان قاذفا. وقولهم: إنه يريد بذلك أنه علامة في الزنا لا يصح فإنما كان اسما للفعل، إذا دخلته لهاء كانت للمبالغة؛ كقولهم: حفظة للمبالغ في الحفظ وراوية للمبالغ في الرواية، وكذلك همزة لمزة وصرعة؛ ولأن كثيرا من الناس يذكر المؤنث ويؤنث المذكر، ولا يخرج بذلك عن كون المخاطب به مرادا بما يراد باللفظ الصحيح، انتهى كلام صاحب (المغني).
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي فيمن قال لذكر: يا زانية بصيغة التأنيث، أو قال لامرأة: يا زاني بصيغة التذكير، أنه يلزمه الحد.
وإيضاحه أن القاذف بالعبارتين المذكورتين لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون عاميا لا يعرف العربية، أو يكون له علم باللغة العربية، فإن كان عاميا فقد يكون غير عالم بالفرق بين العبارتين، ونداؤه للشخص بلفظ الزنى ظاهر في قصده قذفه، وإن كان عالما باللغة، فالله يكثر فيها إطلاق وصف الذكر على الأنثى باعتبار كونها شخصا.
وقد قدمنا بعض أمثلة ذلك في سورة (النحل)، في الكلام على قوله: * (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) *، ومما ذكرنا من الشواهد هناك قول حسان رضي الله عنه: وقد قدمنا بعض أمثلة ذلك في سورة (النحل)، في الكلام على قوله: * (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) *، ومما ذكرنا من الشواهد هناك قول حسان رضي الله عنه:
* منع النوم بالعشاء الهموم
* وخيال إذا تغار النجوم
*
* من حبيب أصاب قلبك منه
* سقم فهو داخل مكتوم
*
ومراده بالحبيب أنثى، بدليل قوله بعده: ومراده بالحبيب أنثى، بدليل قوله بعده:
* لم تفتها شمس النهار بشئ
* غير أن الشباب ليس يدوم
*
449

وقول كثير: وقول كثير:
* لئن كان يرد الماء هيمان صاديا
* إلى حبيبا إنها لحبيب
*
ومن أمثلة ذلك قول مليح بن الحكم الهذلي: ومن أمثلة ذلك قول مليح بن الحكم الهذلي:
* ولكن ليلى أهلكتني بقولها
* نعم ثم ليلى الماطل المتبلح
*
يعني ليلى الشخص الماطل المتبلح.
وقول عروة بن حزام العذري: وقول عروة بن حزام العذري:
* وعفراء أرجى الناس عندي مودة
* وعفراء عني المعرض المتواني
*
أي: الشخص المعرض.
وإذا كثر في كلام العرب تذكير وصف الأنثى باعتبار الشخص كما رأيت أمثلته، فكذلك لا مانع من تأنيثهم صفة الذكر باعتبار النسمة أو النفس، وورود ذلك لتأنيث اللفظ مع تذكير المعنى معروف؛ كقوله: وإذا كثر في كلام العرب تذكير وصف الأنثى باعتبار الشخص كما رأيت أمثلته، فكذلك لا مانع من تأنيثهم صفة الذكر باعتبار النسمة أو النفس، وورود ذلك لتأنيث اللفظ مع تذكير المعنى معروف؛ كقوله:
* أبوك خليفة ولدته أخرى
* وأنت خليفة ذاك الكمال
*
المسألة الثامنة عشرة: اعلم أن من رمى رجلا قد ثبت عليه الزنى سابقا أو امرأة، قد ثبت عليها الزنى سابقا ببينة، أو إقرار، فلا حد عليه؛ لأنه صادق، ولأن إحصان المقذوف قد زال بالزنى، ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله: * (والذين يرمون المحصنات) *، فهو يدل بمفهومه أن من رمى غير محصنة لا حد عليه، وهو كذلك، ولكنه يلزم تعزيره؛ لأنه رماه بفاحشة ولم يثبتها، ولا يترك عرض من ثبت عليه الزنى سابقا مباحا لكل من شاء أن يرميه بالزنى دون عقوبة رادعة، كما ترى.
المسألة التاسعة عشرة: اعلم أن الإنسان إذا كان مشركا وزنى في شركه، أو كان مجوسيا ونكح أمه أو ابنته مثلا في حال كونه مجوسيا، ثم أسلم بعد ذلك فرماه أحد بالزنى بعد إسلامه، فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يقول له: يا من زنى في أيام شركه أو يا من نكح أمه مثلا في أيامه مجوسيا، وهذه الصورة لا حد فيها؛ لأن صاحبها أخبر بحق والإسلام يجب ما قبله.
450

الثانية: أن يقول له: يا من زنى بعد إسلامه أو نكح أمه بعد إسلامه، فعليه الحد؛ كما لا يخفى.
الثالثة: أن يقول له: يا زاني، ولم يتعرض لكون ذلك قبل إسلامه أو بعده، فإن فسره بأنه أراد أنه زنى بعد إسلامه، فعليه الحد. وإن قال: أردت بذلك زناه في زمن شركه، فهل يقبل منه هذا التفسير، ويسقط عنه الحد، أو لا يقبل ذلك منه، ويقام عليه الحد، اه. اختلف العلماء في ذلك، وممن قال بأنه يحد ولا يلتفت إلى تفسيره ذلك: مالك وأصحابه، وصرح به الخرقي من الحنابلة. وقال ابن قدامة في (المغني): لا حد عليه، وخالف في ذلك الخرقي في شرحه لقول الخرقي: ومن قذف من كان مشركا، وقال: أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت إلى قوله، وحد القاذف إذا طالب المقذوف، وكذلك من كان عبدا، انتهى.
المسألة العشرون: اعلم أن من قذف بنتا غير بالغة بالزنى، أو قذف به ذكرا غير بالغ، فقد اختلف أهل العلم: هل يجب على القاذف الحد أو لا يجب عليه؟ وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير الآية التي نحن بصددها: إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: ليس بقذف؛ لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها ويعزر. قال ابن العربي: والمسألة محتملة مشكلة لكن مالك غلب حماية عرض المقذوف، وغيره راعى حماية ظهر القاذف، وحماية عرض المقذوف أولى؛ لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد. قال ابن المنذر: وقال أحمد في الجارية بنت تسع، يحد قاذفها، وكذلك الصبي إذا بلغ عشرا
ضرب قاذفه، قال إسحاق: إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه الحد، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك. قال ابن المنذر: لا يحد من قذف من لم يبلغ؛ لأن ذلك كذب، ويعزر على الأذى، اه محل الغرض منه بلفظه.
وإذا عرفت مما ذكرنا أقوال أهل العلم في المسألة، فاعلم أن أظهرها عندنا قول ابن المنذر: إنه لا يحد ولكن يعزر، ووجه ذلك أن من لم يبلغ من الذكور والإناث مرفوع عنه القلم، ولا معرة تلحقه بذنب؛ لأنه غير مؤاخذ، ولو جاء قاذف الصبي بأربعة يشهدون على الصبي بالزنى فلا حد عليه إجماعا، ولو كان قذفه قذفا على الحقيقة للزمه الحد بإقامة القاذف البينة على زناه، وإن خالف في هذا جمع من أجلاء العلماء، ولكنه يعزر التعزير البالغ الرادع له، ولغيره عن قذف من لم يبلغ، والعلم عند الله تعالى.
451

المسألة الحادية والعشرون: اعلم أن الظاهر فيما لو قال رجل لآخر زنأت بالهمزة، أن القاذف إن كان عاميا لا يفرق بين المعتل والمهموز أنه يحد لظهور قصده لقذفه بالزنى، وإن كان عالما بالعربية، وقال: إنما أردت بقولي: زنأت بالهمزة معناه اللغوي، ومعنى زنأت بالهمزة: لجأت إلى شئ، أو صعدت في جبل، ومنه قول قيس بن عاصم المنقري يرقص ابنه حكيما وهو صغير: المسألة الحادية والعشرون: اعلم أن الظاهر فيما لو قال رجل لآخر زنأت بالهمزة، أن القاذف إن كان عاميا لا يفرق بين المعتل والمهموز أنه يحد لظهور قصده لقذفه بالزنى، وإن كان عالما بالعربية، وقال: إنما أردت بقولي: زنأت بالهمزة معناه اللغوي، ومعنى زنأت بالهمزة: لجأت إلى شئ، أو صعدت في جبل، ومنه قول قيس بن عاصم المنقري يرقص ابنه حكيما وهو صغير:
* أشبه أبا أمك أو أشبه حمل
* ولا تكونن كهلوف وكل
*
* يصبح في مضجعه قد انجدل
* وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل
*
ومحل الشاهد منه قوله: زنأ في الجبل أي صعودا فيه، والهلوف الثقيل الجافي العظيم اللحية، والوكل الذي يكل أمره إلى غيره، وزعم الجوهري أن هذا الرجز لأم الصبي المذكور ترقصه به وهي منفوسة ابنة زيد الفوارس، ورد ذلك على الجوهري أبو محمد بن بري. ورواه هو وغيره على ما ذكرنا، قال: وقالت أمه ترد على أبيه: ومحل الشاهد منه قوله: زنأ في الجبل أي صعودا فيه، والهلوف الثقيل الجافي العظيم اللحية، والوكل الذي يكل أمره إلى غيره، وزعم الجوهري أن هذا الرجز لأم الصبي المذكور ترقصه به وهي منفوسة ابنة زيد الفوارس، ورد ذلك على الجوهري أبو محمد بن بري. ورواه هو وغيره على ما ذكرنا، قال: وقالت أمه ترد على أبيه:
* أشبه أخي أو أشبهن أباكا
* أما أبي فلن تنال ذاكا
*
* تقصر أن تناله يداكا
*
قاله في اللسان.
المسألة الثانية والعشرون: فمن نفى رجلا عن جده أو عن أمه أو نسبه إلى شعب غير شعبه، أو قبيلة غير قبيلته، فذهب مالك: أنه إن نفاه عن أمه فلا حد عليه؛ لأنه لم يدع عليها الزنا، ولم ينف نسبه عن أبيه، وإن نفاه عن جده لزمه الحد، ولا حد عنده في نسبة حنس لغيره، ولو أبيض لأسود. قال في (المدونة): إن قال لفارسي: يا رومي أو يا حبشي، أو نحو هذا لم يحد. وقال ابن القاسم: اختلف عن مالك في هذا، وإني أرى ألا حد عليه، إلا أن يقول: يا ابن الأسود، فإن لم يكن في آبائه أسود فعليه الحد، وأما إن نسبه إلى حبشي؛ كأن قال: يا ابن الحبشي وهو بربري، فالحبشي والرومي في هذا سواء، إذا كان بربريا. وقال ابن يونس: وسواء قال: يا حبشي أو يا ابن الحبشي والرومي، أو يا ابن الرومي، فإنه لا يحد، وكذلك عنه في كتاب محمد، قال الشيخ المواق: هذا ما ينبغي أن تكون به الفتوى على طريقة ابن يونس، فانظره أنت، اه.
وهذا الذي ذكرنا من عدم حد من نسب جنسا إلى غيره هو مشهور مذهب مالك، وقد
452

نص عليه في المدونة، ومحل هذا عنده إن لم يكن من العرب.
قال مالك في (المدونة): من قال لعربي: يا حبشي، أو يا فارسي، أو يا رومي، فعليه الحد؛ لأن العرب تنسب إلى آبائها وهذا نفي لها عن آبائها.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الفرق بين العربي وغيره المذكور عن مالك لا يتجه كل الاتجاه، ووجه كون من قال لرومي: يا حبشي مثلا، لا يحد. أن الظاهر أن مراده أنه يشبه الحبشي في بعض أخلاقه أو أفعاله، وهو استعمال معروف في العربية، اه. ومذهب أبي حنيفة أنه إن نفاه عن جده لا حد عليه، بأن قال له: لست ابن
جدك أنه لا حد عليه؛ لأنه صادق إذ هو ابن أبيه لا جده، وكذلك لو نسب جنسا إلى غيره؛ كقوله لعربي: يا نبطي، فلا حد عليه عنده على المشهور، وكذلك عنده إذا نسبه لقبيلة أخرى غير قبيلته أو نفاه عن قبيلته؛ لأنه يراد به التشبيه بتلك القبيلة التي نسبه لها في الأخلاق أو الأفعال، أو عدم الفصاحة، ونحو ذلك، فلا يتعين قصد القذف.
وقال صاحب (تبيين الحقائق): وروي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قال لرجل من قريش: يا نبطي، فقال: لا حد عليه، اه. وكذلك لا يحد عند أبي حنيفة من قال لرجل: يا ابن ماء السماء، أو نسبه إلى عمه أو خاله، خلافا للمالكية، ومن وافقهم القائلين بحد من نسبه لعمه ونحوه، أو زوج أمه الذي هو ربيبه؛ لأن العم والخال كلاهما كالأب في الشفقة، وقد يريد التشبيه بالأب في المحبة والشفقة، وقوله: ابن ماء السماء، فإنه قد يراد به التشبيه في الجود والسماحة والصفاء، قالوا: وكان عامر بن حارثة: يلقب بماء السماء لكرمه، وأنه يقيم ماله في القحط مقام المطر، قالوا: وسميت أم المنذر بن امرئ القيس بماء السماء، لحسنها وجمالها. وقيل لأولادها: بنو ماء السماء وهم ملوك العراق، اه. وإن نسبه لجده فلا حد عليه عند أبي حنيفة، ولا ينبغي أن يختلف في ذلك لصحة نسبته إلى جده؛ كما هو واقع بكثرة على مر الأزمنة من غير نكير، اه. ومذهب الإمام أحمد: أنه إن نفاه عن أمه فلا حد عليه.
واختلف عنه فيمن نفى رجلا عن قبيلته أو نسب جنسا لغيره. قال ابن قدامة في (المغني): وإذا نفى رجلا عن أبيه، فعليه الحد نص عليه أحمد، وكذلك إذا نفاه عن قبيلته وبهذا قال إبراهيم النخعي، وإسحاق، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وحماد، اه.
وقد علمت الخلاف عن أبي حنيفة والمشهور عنه بما ذكرناه قريبا، ثم قال ابن قدامة
453

في (المغني): والقياس يقتضي ألا يجب الحد بنفي الرجل عن قبيلته؛ ولأن ذلك لا يتعين فيه الرمي بالزنا، فأشبه ما لو قال لأعجمي: إنك عربي، ولو قال للعربي: أنت نبطي أو فارسي فلا حد عليه، وعليه التعزير نص عليه أحمد؛ لأنه يحتمل أنك نبطي اللسان أو الطبع. وحكي عن أحمد رواية أخرى أن عليه الحد كما لو نفاه عن أبيه، والأول أصح. وبه قال مالك، والشافعي؛ لأنه يحتمل غير القذف احتمالا كثيرا فلا يتعين صرفه إليه، ومتى فسر شيئا من ذلك بالقذف فهو قاذف، ا ه من (المغني).
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذا، فاعلم أن المسألة ليست فيها نصوص من الوحي، والظاهر أن ما احتمل غير القذف من ذلك لا يحد صاحبه؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات واحتمال الكلام غير القذف لا يقل عن شبهة قوية. وقد ذكر ابن قدامة في (المغني): أن الأشعث بن قيس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (لا أوتى برجل يقول: إن قريشا ليست من كنانة إلا جلدته)، اه. وانظر إسناده.
المسألة الثالثة والعشرون: في أحكام كلمات متفرقة كمن قال لرجل: يا قرنان، أو يا ديوث، أو يا كشخان، أو يا قرطبان، أو يا معفوج، أو يا قواد، أو يا ابن منزلة الركبان، أو يا ابن ذات الرايات، أو يا مخنث، أو قال لامرأة: يا قحبة.
اعلم أن أهل العلم اختلفوا في هذه العبارات المذكورة، فمذهب مالك: هو أن من قال لرجل: يا قرنان، لزمه حد القذف لزوجته إن طلبته؛ لأن القرنان عند الناس زوج الفاعلة، وكذلك من قال لامرأة: يا قحبة، لزمه الحد عند المالكية، وكذلك من قال: يا ابن منزلة الركبان، أو يا ابن ذات الرايات. كل ذلك فيه حد القذف عند المالكية، كما تقدمت الإشارة إليه. قالوا: لأن الزانية في الجاهلية كانت تنزل الركبان، وتجعل على بابها راية، وكذلك لو قال له: يا مخنث، لزمه الحد إن لم يحلف أنه لم يرد قذفا، فإن حلف أنه لم يرده أدب، ولم يحد. قاله في (المدونة)، وإن قال له: يا ابن الفاسقة، أو يا ابن الفاجرة، أو يا فاسق، أو يا فاجر أو يا حمار ابن الحمار، أو يا كلب، أو يا ثور، أو يا خنزير، ونحو ذلك فلا حد عليه، ولكنه يعزر تعزيرا رادعا حسبما يراه الإمام. ومذهب أبي حنيفة: أنه لو قال له: يا فاسق، يا كافر، يا خبيث، يا لص، يا فاجر، يا منافق، يا لوطي، يا من يلعب بالصبيان، يا آكل الربا، يا شارب الخمر، يا ديوث، يا مخنث، يا خائن، يا ابن القحبة، يا زنديق، يا قرطبان، يا مأوى الزواني أو اللصوص، يا حرام،
454

أنه لا حد عليه في شئ من هذه الألفاظ، وعليه التعزير، وآكد التعزير عند الحنفية تسعة وثلاثون سوطا، وأما لو قال له: يا كلب، يا تيس، يا حمار، يا خنزير، يا بقر، يا حية، يا حجام، يا ببغاء، يا مؤاجر، يا ولد الحرام، يا عيار، يا ناكس، يا منكوس، يا سخرة، يا ضحكة، يا كشخان، يا أبله، يا مسوس؛ فلا شئ عليه في شئ من هذه الألفاظ عند الحنفية، ولا يعزر بها. قال صاحب (تبيين الحقائق): لا يعزر بهذه الألفاظ كلها؛ لأن من عادتهم إطلاق الحمار ونحوه بمعنى البلادة والحرص أو نحو ذلك، ولا يريدون به الشتيمة، ألا ترى أنهم يسمون به ويقولون: عياض بن حمار، وسفيان الثوري، وأبو ثور وجمل؛ ولأن المقذوف لا يلحقه شين بهذا الكلام، وإنما يلحق بالقاذف، وكل أحد يعلم أنه آدمي، وليس بكلب ولا حمار وأن القاذف كاذب في ذلك. وحكى الهندواني أنه يعزر في زماننا في مثل قوله: يا كلب، يا خنزير؛ لأنه يراد به الشتم في عرفنا.
وقال شمس الأئمة السرخسي: الأصح عندي أنه لا يعزر. وقيل: إن كان المنسوب إليه من الأشراف كالفقهاء والعلوية يعزر؛ لأنه يعد شينا في حقه، وتلحقه الوحشة بذلك، وإن كان من العامة لا يعزر، وهذا أحسن ما قيل فيه، ومن الألفاظ التي لا توجب التعزير، قوله: يا رستاقي، ويا ابن الأسود، ويا ابن الحجام، وهو ليس كذلك، اه من (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي).
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما الألفاظ التي ذكرنا عنهم أنها توجب التعزير فوجوب التعزير بها كما ذكروا واضح لا إشكال فيه. وأما الألفاظ التي ذكرنا عنهم أنها لا تعزير فيها، فالأظهر عندنا أنها يجب فيها التعزير؛ لأنها كلها شتم وعيب، ولا يخفى أن من قال لإنسان: يا كلب، يا خنزير، يا حمار، يا تيس، يا بقر.. إلى
آخره، أن هذا شتم واضح لا خفاء به وليس مراده أن الإنسان كلب أو خنزير، ولكن مراده تشبيه الإنسان بالكلب والخنزير في الخسة والصفات الذميمة كما لا يخفى، فهو من نوع التشبيه الذي يسميه البلاغيون تشبيها بليغا ولا شك أن عاقلا قيل له: يا كلب، أو يا خنزير مثلا أن ذلك يؤذيه، ولا يشك أنه شتم، فهو أذى ظاهر، وعليه فالظاهر التعزير في الألفاظ المذكورة. وكونهم يسمون الرجل حمارا أو كلبا لا ينافي ذلك؛ لأن من الناس من يسم ابنه باسم قبيح لا يرضى غيره أن يعاب به. والظاهر أنه إن قال لرجل: يا ابن الأسود، وليس أبوه ولا أحد من أجداده بأسود، أنه يلزمه الحد لأنه نفي لنسبه، وكذلك قوله: يا ابن الحجام إن لم يكن أبوه ولا أحد من أجداده حجاما فهو قذف؛ لأنه نفي لنسبه وإلصاق له بأسود أو حجام ليس
455

بينه وبينه نسب؛ كما هو قول المالكية ومن وافقهم.
وقال صاحب (تبيين الحقائق): وتفسير القرطبان هو الذي يرى مع امرأته أو محرمه رجلا، فيدعه خاليا بها. وقيل: هو السبب للجمع بين اثنين لمعنى غير ممدوح. وقيل: هو الذي يبعث امرأته مع غلام بالغ أو مع مزارعه إلى الضيعة، أو يأذن لهما بالدخول عليها في غيبته، اه منه.
وقال ابن قدامة في (المغني): وإن قال لرجل: يا ديوث، أو يا كشخان، فقال أحمد: يعزر، وقال إبراهيم الحربي: الديوث الذي يدخل الرجال على امرأته. وقال ثعلب: القرطبان الذي يرضى أن يدخل الرجال على امرأته. وقال: القرنان والكشخان لم أرهما في كلام العرب، ومعناه عند العامة مثل معنى الديوث، أو قريب منه، فعلى القاذف به التعزير على قياس قوله في الديوث؛ لأنه قذفه بما لا حد فيه. وقال خالد بن يزيد، عن أبيه في الرجل يقول للرجل: يا قرنان إذا كان له أخوات، أو بنات في الإسلام ضرب الحد، يعني أنه قاذف لهن. وقال خالد عن أبيه: القرنان عند العامة من له بنات. والكشخان: من له أخوات، يعني والله أعلم إذا كان يدخل الرجال عليهن. والقواد عند العامة: السمسار في الزنى والقذف بذلك كله يوجب التعزير؛ لأنه قذف بما لا يوجب الحد، اه من (المغني). وقال في (المغني) أيضا المنصوص عن أحمد فيمن قال: يا معفوج أن عليه الحد، وظاهر كلام الخرقي يقتضي أن يرجع إلى تفسيره، فإن فسر بغير الفاحشة مثل أن يقول: أردت يا مفلوج، أو يا مصابا دون الفرج ونحو هذا، فلا حد عليه؛ لأنه فسره بما لا حد فيه. وإن فسره بعمل قوم لوط فعليه الحد؛ كما لو صرح به. وقال صاحب (القاموس): القرنان: الديوث المشارك في قرينته لزوجته، اه منه. وقال في (القاموس) أيضا: القرطبان بالفتح الديوث، والذي لا غيرة له أو القواد، اه منه. وقال في (القاموس): والتديث القيادة، وفي (القاموس) تحت الخط لا بين قوسين الكشخان ويكسر: الديوث، وكشخه تكشيخا وكشخنة، قال له: يا كشخان، اه منه. وهو بالخاء المعجمة، وقال الجوهري في (صحاحه): والديوث القنذع وهو الذي لا غيرة له، اه منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر أن التحقيق في جميع الألفاظ المذكورة التي ذكرنا كلام العلماء فيها أنها تتبع العرف الجاري في البلد الذي قيلت فيه،
456

فإن كان من عرفهم أن المراد بها الشتم بما لا يوجب الحد وجب التعزير؛ لأجل الأذى ولا حد، وإن كان عرفهم أنها يراد بها الشتم بالزنى، أو نفي النسب، وكان ذلك معروفا أنه هو المقصود عرفا، وجب الحد؛ لأن العرف متبع في نحو ذلك، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة والعشرون: في حكم من قذف محصنا بعد موته، ومذهب مالك في ذلك هو قوله في (المدونة): من قذف ميتا فلولده، وإن سفل وأبيه وإن علا القيام بذلك، ومن قام منهم أخذه بحده، وإن كان ثم من هو أقرب منه؛ لأنه عيب، وليس للأخوة، وسائر العصبة مع هؤلاء قيام، فإن لم يكن من هؤلاء واحد فللعصبة القيام، اه بواسطة نقل المواق.
وحاصله: أن الميت المقذوف يحد قاذفه بطلب من وجد من فروعه، وإن سفلوا أو واحد من أصوله، وإن علوا. ولا كلام في حال وجود الأصول أو الفروع لغيرهم من الإخوة والعصبة، فإن لم يوجد من الأصول والفروع أحد، فللأخوة والعصبة القيام، ويحد للمقذوف بطلبهم. هذا حاصل مذهب مالك في المسألة، وظاهره عدم الفرق بين كون المقذوف الميت أبا أو أما، وبعض أهل العلم يفرق بين قذف الأب والأم؛ لأن قذف الأم بالزنى فيه قدح في نسب ولدها؛ لأن ابن الزانية قد يكون لغير أبيه من أجل زنا أمه.
وقال ابن قدامة في (المغني): وإن قذف أمه وهي ميتة مسلمة كانت أو كافرة حرة أو أمة، حد القاذف إذا طلب الابن وكان حرا مسلما، أما إذا قذفت وهي في الحياة، فليس لولدها المطالبة؛ لأن الحق لها، فلا يطالب به غيرها، ولا يقوم غيرها مقامها، سواء كانت محجورا عليها أو غير محجور عليها، لأنه حق يثبت للتشفي فلا يقوم فيه غير المستحق مقامه كالقصاص، وتعتبر حصانتها؛ لأن الحق لها فتعتبر حصانتها كما لو لم يكن لها ولد. وأما إن قذفت وهي ميتة، فإن لولدها المطالبة؛ لأنه قدح في نسبه، ولأنه يقذف أمه بنسبته إلى أنه ابن زنى، ولا يستحق ذلك بطريق الإرث، ولذلك تعتبر الحصانة فيه، ولا تعتبر الحصانة في أمه؛ لأن القذف له. وقال أبو بكر: لا يجب الحد بقذف ميتة بحال، وهو قول أصحاب الرأي؛ لأنه قذف لمن لا تصح منه المطالبة، فأشبه قذف المجنون. وقال الشافعي: إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة، وينقسم بانقسام الميراث، وإن لم يكن محصنا فلا حد على قاذفه؛ لأنه ليس بمحصن، فلا يجب الحد بقذفه كما لو كان حيا، وأكثر أهل العلم لا يرون الحد على من يقذف من ليس محصنا حيا ولا ميتا؛ لأنه إذا لم
457

يحد بقذف غير المحصن إذا كان حيا فلأن لا يحد بقذفه ميتا أولى، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الملاعنة: (ومن رمى ولدها فعليه الحد)، يعني: من رماه بأنه ولد زنى، وإذا وجب بقذف ولد الملاعنة بذلك، فبقذف غيره أولى؛ ولأن أصحاب الرأي أوجبوا الحد على من نفى رجلا عن أبيه إذا كان أبواه حرين مسلمين، ولو كانا ميتين، والحد إنما وجب للولد؛ لأن الحد لا يورث عندهم. فإما إن قذفت أمه بعد موتها، وهو مشرك أو عبد، فلا حد عليه في ظاهر كلام الخرفي، سواء كانت الأم حرة مسلمة أو لم تكن. وقال أبو ثور وأصحاب الرأي: إذا قال لكافر أو عبد: لست لأبيك، وأبواه حران مسلمان فعليه الحد، وإن قال لعبد أمه حرة وأبوه عبد:
لست لأبيك فعليه الحد، وإن كان العبد للقاذف عند أبي ثور، وقال أصحاب الرأي: يصح أن يحد المولى لعبده، واحتجوا بأن هذا قذف لأمه فيعتبر إحصانها دون إحصانه؛ لأنها لو كانت حية كان القذف لها فكذلك إذا كانت ميتة، ولأن معنى هذا: إن أمك زنت فأتت بك من الزنى، فإذا كان من الزنى منسوبا إليها كانت هي المقذوفة دون ولدها، ولنا ما ذكرناه؛ ولأنه لو كان القذف لها لم يجب الحد، لأن الكافر لا يرث المسلم، والعبد لا يرث الحر، ولأنهم لا يوجبون الحد لقذف ميتة بحال، فيثبت أن القذف له فيعتبر إحصانه دون إحصانها، والله أعلم، اه بطولة من (المغني).
وقد رأيت في كلامه أقوال أهل العلم في رمي المرأة الميتة، إن كان لها أولاد، ورمي المرأة الحية التي لها أولاد، وبه نعلم أن الحد يورث عند المالكية والشافعية، إلا أنه عند المالكية لا يطلبه إلا الفروع والأصول، ويحد بطلب كل منهم وإن كان يوجد منهم من هو أقرب من طالب الحد، وأنه عند عدم الفروع والأصول يطالب به الأخوة والعصبة، وكل ذلك يدل على أنهم ورثوا ذلك الحق في الجملة عن المقذوف الميت، وأن الشافعية يقولون: إنه ينقسم بانقسام الميراث، كما نقله عنهم صاحب المغني في كلامه المذكور، وأن الحنفية يقولون: إن الحد لا يورث، وهو ظاهر المذهب الحنبلي، وأن بعض أهل العلم قال: لا يحد من قذف ميتة بحال.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي، والله تعالى أعلم في هذه المسألة: أن قذف الأم إن كان يستلزم نفي نسب ولدها فلها القيام حية، ولولدها القيام إذا لم تطالب هي؛ لأنه مقذوف بقذفها، خلافا لما في كلام صاحب (المغني)، وكذلك إن كانت ميتة فله القيام، ويحد له القاذف. وقول صاحب (المغني): تعتبر حصانته هو دون حصانتها هي لم يظهر له معنى؛ لأن نفي نسب إنسان لا تشترط فيه حصانة المنفي نسبه،
458

لأنا لو فرضنا أنها جاءت به من زنى، فإنه هو لا ذنب له، ولا يعتبر زانيا، كما ترى.
والحاصل أن قذف الأم إن كان يستلزم قذف ولدها، فالأظهر إقامة الحد على القاذف بطلب الأم، وبطلب الولد، وإن كانت حية؛ لأنه مقذوف وأحرى إن كانت ميتة، وإن كانت الأم لا ولد لها، أو لها ولد لا يستلزم قذفها قذفه فهي مسألة: هل يحد من قذف ميتا أو لا؟ وقد رأيت خلاف العلماء فيها، ولكل واحد من القولين وجه من النظر؛ لأن الظاهر أن حرمة عرض الإنسان لا تسقط بالموت، وهذا يقتضي حد من قذف ميتة، ووجه الثاني: أن الميتة لا يصح منها الطلب، فلا يحد بدون طلب؛ ولأن من مات لا يتأذى بكلام القاذف، وإن كان كذبا بل يفرح به؛ لأنه يكون له فيه حسنات، وإن كان حقا ما رماه به، فلا حاجة له بحده بعد موته، لأنه لم يقل إلا الحق وحده وهو صادق لا حاجة للميت فيه، اه.
وأقربهما عندي أنه يعزر تعزيرا رادعا ولا يقام عليه الحد.
واعلم أن الحي إذا قذفه آخر بالزنا، وهو يعلم في نفسه أن القاذف صادق، فقد قال بعض أهل العلم: إن له المطالبة بحده مع علمه بصدقه فيما رماه به، وهو مذهب مالك، ومن وافقه.
والأظهر عندي أنه إن كان يعلم أنما قذفه به حق أنه لا تنبغي له المطالبة بحده؛ لأنه يتسبب في إيذائه بضرب الحد، وهو يعلم أنه محق فيما قال، والعلم عند الله تعالى.
وذكر غير واحد من أهل العلم أن من قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم أو قذفه هو صلى الله عليه وسلم أن ذلك ردة، وخروج من دين الإسلام، وهو ظاهر لا يخفى، وأن حكمه القتل، ولكنهم اختلفوا إذا تاب هل تقبل توبته؟ فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لا تقبل توبته ويقتل على كل حال. وقال بعض أهل العلم: تقبل توبته إن تاب، وهذا الأخير أقرب لكثرة النصوص الدالة على قبول توبة من تاب، ولو من أعظم أنواع الكفر، والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة والعشرون: في حكم من قذف ولده.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك، (قال في المغني): وإذا قذف ولده وإن نزل لم يجب الحد عليه، سواء كان القاذف رجلا أو امرأة وبهذا قال عطاء، والحسن، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وقال مالك، وعمر بن عبد العزيز، وأبو ثور، وابن المنذر عليه الحد لعموم الآية؛ ولأنه حد فلا تمنع من وجوبه قرابة الولادة كالزنى.
459

وأظهر القولين دليلا: أنه لا يحد الوالد لولده؛ لعموم قوله: * (وبالوالدين إحسانا) *، وقوله: * (فلا تقل لهما أف) *، فلا ينبغي للولد أن يطلب حد والده للتشفي منه. وقول المالكية في هذه المسألة في غاية الإشكال، لأنهم يقولون: إن الولد يمكن من حد والده القاذف له وأنه يعد بحده له فاسقا بالعقوق؛ كما قال خليل في (مختصره): وله حد أبيه وفسق، ومعلوم أن الفسق لا يكون إلا بارتكاب كبيرة، والشرع لا يمكن أحدا من ارتكاب كبيرة؛ كما ترى مع أن الروايات عن مالك نفسه ظاهرها عدم الحد وقاله غير واحد من أهل مذهبه.
المسألة السادسة والعشرون: في حكم من قتل أو أصاب حدا خارج الحرم، ثم لجأ إلى الحرم هل يستوفى منه الحق في الحرم، أو لا يستوفى منه حتى يخرج من الحرم؟
اعلم أن هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة مذاهب:
الأول: أنه يستوفى منه الحق قصاصا كان أو حدا قتلا كان أو غيره.
الثاني: أنه لا يستوفى منه حد ولا قصاص ما دام في الحرم، سواء كان قتلا أو غيره.
الثالث: أنه يستوفى منه كل شئ من الحدود إلا القتل، فإنه لا يقتل في الحرم في حد كالرجم، ولا في قصاص والخلاف في هذه المسألة مشهور عند أهل العلم.
قال ابن قدامة في (المغني): وجملته أن من جنى جناية توجب قتلا خارج الحرم، ثم لجأ إليه لم يستوف منه فيه، وهذا قول ابن عباس، وعطاء، وعبيد بن عمير،
والزهري، وإسحاق، ومجاهد، والشعبي، وأبي حنيفة وأصحابه.
وأما غير القتل من الحدود كلها والقصاص فيما دون النفس، فعن أحمد فيه روايتان:
إحداهما: لا يستوفى من الملتجىء إلى الحرم فيه.
والثانية: يستوفي وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأن المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن القتل لقوله عليه الصلاة والسلام: (فلا يسفك فيها دم)، وحرمة النفس أعظم فلا يقاس غيرها عليها، ولأن الحد بالجلد جرى مجرى التأديب، فلم يمنع كتأديب السيد عبده والأولى ظاهر كلام الخرقي، وهي ظاهر المذهب.
قال أبو بكر: هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه: أن الحدود كلها تقام في
460

الحرم إلا القتل والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه حد جنايته، حتى يخرج منه إلى أن قال: وقال مالك والشافعي وابن المنذر: يستوفى منه فيه لعموم الأمر بجلد الزاني، وقطع السارق، واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان، اه محل الغرض منه.
وقال ابن حجر في (فتح الباري): وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم، حتى يخرج إلى الحل باختياره ولكن لا يجالس ولا يكلم، ويوعظ، ويذكر حتى يخرج. وقال أبو يوسف: يخرج مضطرا إلى الحل وفعله ابن الزبير.
وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس: من أصاب حدا ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع. وعن مالك والشافعي: يجوز إقامة الحد مطلقا فيها؛ لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن، اه محل الغرض منه.
وقال الشوكاني في (نيل الأوطار)، مشيرا إلى إقامة الحدود واستيفاء القصاص في الحرم، وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي وهو اختيار ابن المنذر، ويؤيد ذلك عموم الأدلة القاضية باستيفاء الحدود في كل مكان وزمان، وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والحنفية، وسائر أهل العراق، وأحمد ومن وافقه من أهل الحديث والعترة: إلى أنه لا يحل لأحد أن يسفك بالحرم دما، ولا يقيم به حدا حتى يخرج منه من لجأ إليه، اه محل الغرض منه.
وإذا عرفت من هذه النقول أقوال أهل العلم في هذه المسألة، فهذه أدلتهم ومناقشتها. أما الذين قالوا: يستوفى منه كل حد في الحرم إن لجأ إليه كمالك، والشافعي، وابن المنذر ومن وافقهم، فقد استدلوا بأدلة:
منها أن نصوص الكتاب والسنة الدالة على إقامة الحدود واستيفاء القصاص، ليس في شئ منها تخصيص مكان دون مكان، ولا زمان دون زمان، وظاهرها شمول الحرم وغيره. قالوا: والعمل بظواهر النصوص واجب، ولا سيما إذا كثرت.
ومنها أن استيفاء القصاص وإقامة الحدود حق واجب بتشريع الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وفعل الواجب الذي هو عين طاعة الله في الحرم ليس فيه أي انتهاك لحرمة
461

الحرم؛ لأن أحق البلاد، بأن يطاع فيها الله بامتثال أوامره هي حرمه، وطاعة الله في حرمه ليس فيها انتهاك له، كما ترى.
أما استدلال هؤلاء بما في الصحيحين بلفظ إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم، ولا فارا بخربة، فهو استدلال في غاية السقوط؛ لأن من ظن أنه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط غلط غلطا فاحشا؛ لأنه من كلام عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق كما هو صريح في الصحيحين وغيرهما. قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغد من يوم الفتح، فسمعته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب)، فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرام لا يعيذ عاصيا إلى آخره، وهذا صريح في أنه من كلام عمرو بن سعيد الأشدق يعارض به أبا شريح لما ذكر له كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنه لا حجة البتة في كلام الأشدق، ولا سيما في حال معارضته به لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان كلامه لا يطابق الجواب عن الحديث الذي ذكره أبو شريح رضي الله عنه. وفي صحيح مسلم رحمه الله مثل ما في البخاري من حديث أبي شريح إسنادا ومتنا.
وإذا تقرر أن القائل إن الحرم لا يعيذ عاصيا إلى آخره، هو الأشدق علمت أنه لا دلالة فيه وكذلك احتجاجهم بما ثبت في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة؛ لأن أمره بقتله وهو متعلق بأستار الكعبة في نفس الوقت الذي أحل الله له فيه الحرم، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم أن حرمتها عادت كما كانت، ففعله صلى الله عليه وسلم في وقت إحلال الحرم له ساعة من نهار، لا دليل فيه بعد انقضاء وقت الإحلال ورجوع الحرمة، كما ترى.
وأما الذين منعوا القتل في الحرم دون ما سواه من الحدود التي لا قتل فيها والقصاص
462

في غير النفس، فقد احتجوا بأن الحديث الصحيح الذي هو حديث أبي شريح المتفق عليه، فيه: (فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما) الحديث، قالوا: تصريحه صلى الله عليه وسلم بالنهي عن سفك الدم دون غيره دليل على أنه ليس كغيره، ولا يقاس غيره عليه؛ لأن النفس أعظم حرمة مما لا يستوجب القتل من حد أو قصاص في غير النفس، فيبقى غير القتل داخلا في عموم النصوص المقتضية له في كل مكان وزمان، ويخرج خصوص القتل من تلك العمومات بهذا الحديث
الصحيح، ويؤيده أن قوله: (دما) نكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم، فيشمل العموم المذكور إراقة الدم في قصاص أو حد، أو غير ذلك.
واستدلوا أيضا بقول ابن عمر رضي الله عنهما: لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته. قال المجد في المنتقى: حكاه أحمد في رواية الأثرم.
وأما الذين قالوا: بأن الحرم لا يستوفى فيه شئ من الحدود، ولا من القصاص قتلا كان أو غيره، فقد استدلوا بقوله تعالى: * (ومن دخله كان ءامنا) *، قالوا: وجملة * (ومن دخله كان ءامنا) *، خبر أريد به الإنشاء فهو أمر عام، يستوجب أمن من دخل الحرم، وعدم التعرض له بسوء، وبعموم النصوص الدالة على تحريم الحرم.
واستدلوا أيضا بآثار عن بعض الصحابة، كما روي عن ابن عباس، أنه قال في الذي يصيب حدا ثم يلجأ إلى الحرم: يقام عليه الحد، إذا خرج من الحرم، قال المجد في (المنتقى): حكاه أحمد في رواية الأثرم، وهذا ملخص أقوال أهل العلم وأدلتهم في هذه المسألة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر والله تعالى أعلم أن أجرى هذه الأقوال على القياس قول من قال: يستوفى من اللاجىء إلى الحرم كل حق وجب عليه شرعا، قتلا كان أو غيره؛ لأن إقامة الحدود واستيفاء القصاص مما أوجبه الله، وفعل ذلك طاعة، وتقرب إليه وليس في طاعة الله، وامتثال أمره انتهاك لحرمة حرمه، وأجراها على الأصول، وهو أولاها، هو الجمع بين الأدلة، وذلك بقول من قال: يضيق على الجاني اللاجىء إلى الحرم، فلا يباع له، ولا يشترى منه، ولا يجالس، ولا يكلم حتى يضطر إلى الخروج، فيستوفى منه حق الله إذا خرج من الحرم؛ لأن هذا القول جامع بين النصوص، فقد جمع بين استيفاء الحق، وكون ذلك ليس في الحرم، وفي هذا خروج من الخلاف،
463

والعلم عند الله تعالى. ولنكتف بما ذكرنا من أحكام هذه الآية. * (ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليهآ إن كان من الصادقين * ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم * إن الذين جآءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذى تولى كبره منهم له عذاب عظيم * لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هاذآ إفك مبين * لولا جآءو عليه بأربعة شهدآء فإذ لم يأتوا بالشهدآء فأولائك عند الله هم الكاذبون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته فى الدنيا والا خرة لمسكم فى مآ أفضتم فيه عذاب عظيم * إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم * ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنآ أن نتكلم بهاذا سبحانك هاذا بهتان عظيم * يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين * ويبين الله لكم الا يات والله عليم حكيم * إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين ءامنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والا خرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم * ياأيها الذين ءامنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشآء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولاكن الله يزكى من يشآء والله سميع عليم) *.) * قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله) *، معنى: * (يدرؤا) *: يدفعوا، والمراد بالعذاب هنا: الحد، والمصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله: * (العذاب أن تشهد) * فاعل يدرأ، أي: يدفع عنها الحد شهادتها * (أربع شهادات) *.
والدليل على أن المراد بالعذاب في قوله: * (ويدرؤا عنها العذاب) *، الحد من أوجه:
الأول: منها سياق الآية، فهو يدل على أن العذاب الذي تدرؤه عنها شهاداتها هو الحد.
والثاني: أنه أطلق اسم العذاب في مواضع أخر، على الحد مع دلالة السياق فيها على أن المراد بالعذاب فيها الحد؛ كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة: * (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) *، فقوله: * (وليشهد عذابهما) *، أي: حدهما بلا نزاع. وذلك قوله تعالى في الإماء: * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) *، أي: نصف ما على الحرائر من الجلد.
وهذه الآية تدل على أن الزوج إذا رمى زوجته وشهد شهاداته الخمس المبينة في الآية أن المرأة يتوجه عليها الحد بشهاداته، وأن ذلك الحد المتوجه إليها بشهادات الزوج تدفعه عنها شهاداتها هي الموضحة في الآية.
ومفهوم مخالفة الآية يدل على أنها لو نكلت عن شهاداتها، لزمها الحد بسبب نكولها مع شهادات الزوج، وهذا هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه، فشهادات الزوج القاذف تدرأ عنه هو حد القذف، وتوجه إليها هي حد الزنى، وتدفعه عنه شهاداتها.
وظاهر القرءان أيضا أنه لو قذف زوجته وامتنع من اللعان أنه يحد حد القذف، فكل من امتنع من الزوجين من الشهادات الخمس وجب عليه الحد، وهذا هو الظاهر من الآيات
464

القرآنية؛ لأن الزوج القاذف داخل في عموم قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) *؛ ولكن الله بين خروج الزوج من هذا العموم بشهاداته، حيث قال: * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن * لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين) *، فلم يجعل له مخرجا من جلد ثمانين، وعدم قبول الشهادة، والحكم بالفسق إلا بشهاداته التي قامت له مقام البينة المبرئة له من الحد، فإن نكل عن شهاداته فالظاهر وجوب الحد عليه؛ لأنه لم تدرأ عنه أربعة عدول يشهدون بصدقه، ولا شهادات تنوب عن الشهود. فتعين أنه يحد لأنه قاذف، ولم يأت بما يدفع عنه حد القذف، وكذلك الزوجة إذا نكلت عن أيمانها فعليها الحد؛ لأن الله نص على أن الذي يدرأ عنها الحد هو شهاداتها في قوله تعالى: * (ويدرؤا عنها
العذاب) *، وممن قال إن الزوج يلزمه الحد إن نكل عن الشهادات الأئمة الثلاثة، خلافا لأبي حنيفة القائل بأنه يحبس حتى يلاعن، أو يكذب نفسه، فيقام عليه حد القذف. ومن قال بأنها إن شهد هو، ونكلت هي أنها تحد بشهاداته ونكولها: مالك، والشافعي، والشعبي، ومكحول، وأبو عبيد، وأبو ثور؛ كما نقله عنهم صاحب (المغني).
وهذا القول أصوب عندنا، لأنه ظاهر قوله: * (ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله) *، ولا ينبغي العدول عن ظاهر القرءان إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة. وقال أبو حنيفة وأحمد: لا حد عليها بنكولها عن الشهادات، وتحبس أيضا حتى تلاعن أو تقر فيقام عليها الحد.
قال في (المغني): وبهذا قال الحسن، والأوزاعي، وأصحاب الرأي. وروي ذلك عن الحارث العكلي، وعطاء الخراساني، واحتج أهل هذا القول بحجج يرجع جميعها إلى أن المانع من حدها أن زناها لم يتحقق ثبوته؛ لأن شهادات الزوج ونكولها هي لا يتحقق بواحد منهما، ولا بهما مجتمعين ثبوت الزنى عليها.
وقول الشافعي ومالك ومن وافقهما في هذه المسألة أظهر عندنا؛ لأن مسألة اللعان أصل مستقل لا يدخله القياس على غيره، فلا يعدل فيه عن ظاهر النص إلى القياس على مسألة أخرى، والعلم عند الله تعالى.
465

مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: اعلم أن اللعان لا يلزم بين الزوجين، إلا بقذف الرجل زوجته قذفا يوجب عليه الحد لو قاله لغير زوجة كرميها بالزنى، ونفي ولدها عنه، وقول الجمهور هنا: إنه يكفي في وجوب اللعان قذفها بالزنى من غير اشتراط أن يقول: رأيت بعيني، أظهر عندي مما روي عن مالك، من أنه لا يلزم اللعان، حتى يصرح برؤية العين؛ لأن القذف بالزنى كاف دون التصريح برؤية العين. وقول الملاعن في زمنه صلى الله عليه وسلم: رأت عيني وسمعت أذني، لا يدل على أنه لو اقتصر على أنها زنت، أن ذلك لا يكفي، دون اشتراط رؤية العين، وسماع الأذن كما لا يخفى، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية: اعلم أن العلماء اختلفوا في شهادات اللعان المذكورة في قوله: * (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله) * إلى آخر الآيات، هل هي شهادات أو أيمان على أربعة أقوال:
الأول: أنها شهادات؛ لأن الله سماها في الآية شهادات.
والثاني: أنها أيمان.
والثالث: أنها أيمان مؤكدة بلفط الشهادة.
والرابع: عكسه، وينبني على الخلاف في ذلك أن من قال: إنها شهادات لا يصح عنده اللعان، إلا ممن تجوز شهادته، فيشترط في الملاعن والملاعنة العدالة وغيرها من شروط قبول الشهادة، ومن قال: إنها أيمان صح عنده اللعان من كل زوجين، ولو كانا لا تصح شهادتهما لفسق أو غيره من مسقطات قبول الشهادة، وينبني على الخلاف المذكور ما لو شهد مع الزوج ثلاثة عدول، فعلى أنها شهادة يكون الزوج رابع الشهود، فيجب عليها حد الزنى، وعلى أنها أيمان يحد الثلاثة ويلاعن الزوج. وقيل: لا يحدون. وممن قال: بأنها شهادات وأن اللعان لا يصح إلا ممن تقبل شهادته، وأنها تحد بشهادة الثلاثة مع الزوج أبو حنيفة رحمه الله ومن تبعه، والأكثرون على أنها أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر الأقوال عندي: أنها أيمان مؤكدة بالشهادة، وأن لفظ الشهادة ربما أطلق في القرءان، مرادا بها اليمين، مع دلالة القرائن على ذلك، وإنما استظهرنا أنها أيمان لأمور:
الأول: التصريح في الآية بصيغة اليمين في قوله: * (فشهادة أحدهم أربع شهادات
466

بالله) *؛ لأن لفظة بالله يمين فدل قوله: * (بالله) * على أن المراد بالشهادة اليمين للتصريح بنص اليمين، فقوله: أشهد بالله في معنى: أقسم بالله.
الثاني: أن القرءان جاء فيه إطلاق الشهادة وإرادة اليمين في قوله: * (فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما) *، ثم بين أن المراد بتلك الشهادة اليمين في قوله: * (ذالك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) *، فقوله: * (أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) *، دليل على أن المراد بلفظ الشهادة في الآية اليمين، وهو واضح كما ترى.
وقال القرطبي: ومنه قوله تعالى: * (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله) *؛ لأن قوله تعالى: * (اتخذوا أيمانهم جنة) *، يدل على أن المراد بشهادتهم الأيمان، هكذا قال، ولا يتعين عندي ما ذكره من الاستدلال بهذه الآية، والعلم عند الله تعالى.
الثالث: ما قاله ابن العربي، قال: والفيصل أنها يمين لا شهادة، أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل، معدوم في النظر، اه منه بواسطة نقل القرطبي.
وحاصل استدلاله هذا: أن استقراء الشريعة استقراء تاما، يدل على أنه لم يوجد فيها شهادة إنسان لنفسه بما يوجب حكما على غيره، وهو استدلال قوي؛ لأن المقرر في الأصول أن الاستقراء التام حجة؛ كما أوضحناه مرارا، ودعوى الحنفية ومن وافقهم أن الزوج غير متهم لا يسوغ شهادته لنفسه؛ لإطلاق ظواهر النصوص في عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه مطلقا.
الرابع: ما جاء في بعض روايات حديث اللعان أنه صلى الله عليه وسلم قال لما جاءت الملاعنة بالولد شبيها بالذي رميت به: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)، عند
أحمد وأبي داود، وقد سمى صلى الله عليه وسلم في هذه الرواية شهادات اللعان أيمانا، وفي إسناد الرواية المذكور عباد بن منصور، تكلم فيه غير واحد، ويقال: إنه كان قدريا إلى غير ذلك من أدلتهم.
وأما الذين قالوا: إنها شهادات لا أيمان، فاحتجوا بأن الله سماها شهادات في قوله:
467

* (ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) *، وفي قوله: * (فشهادة أحدهم أربع شهادات) *، وقوله: * (ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات) *. واستدلوا أيضا بحديث: (أربعة لا لعان بينهم وبين أزواجهم: اليهودية والنصرانية تحت المسلم، والمملوكة تحت الحر، والحرة تحت المملوك)، اه. قالوا: إنما منع لعان اليهودية والنصرانية والعبد والأمة، لأنهم ليسوا ممن تقبل شهادتهم، ولو كانت شهادات اللعان أيمانا لصح لعانهم؛ لأنهم ممن تقبل يمينه. وقال الزيلعي في (نصب الراية)، في الحديث المذكور: قلت: أخرجه ابن ماجة في سننه عن ابن عطاء، عن أبيه عطاء الخراساني، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من النساء لا ملاعنة بينهن وبين أزواجهن: النصرانية تحت المسلم، واليهودية تحت المسلم، والمملوكة تحت الحر، والحرة تحت المملوك)، انتهى. وأخرجه الدارقطني في سننه، عن عثمان بن عبد الرحمان الوقاصي، عن عمرو بن شعيب به، وقال: عن جده عبد الله بن عمرو مرفوعا: (أربعة ليس بينهم لعان: ليس بين الحر والأمة لعان، وليس بين العبد والحرة لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان)، انتهى. وقال الدارقطني: والوقاصي متروك الحديث، ثم أخرجه عن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن عمرو بن شعيب به، قال: وعثمان بن عطاء الخراساني ضعيف الحديث جدا، وتابعه يزيد بن زريع عن عطاء وهو ضعيف أيضا. وروي عن الأوزاعي، وابن جريج وهما إمامان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قوله، ولم يرفعاه، ثم أخرجه كذلك موقوفا. ثم أخرجه عن عمار بن مطر، ثنا حماد بن عمرو، عن زيد بن رفيع، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عتاب بن أسيد: (ألا لعان بين أربع) فذكر نحوه، قال: وعمار بن مطر، وحماد بن عمرو، وزيد بن رفيع ضعفاء، انتهى. وقال البيهقي في (المعرفة): هذا حديث رواه عثمان بن عطاء، ويزيد بن زريع الرملي، عن عطاء الخراساني، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعة لا ملاعنة بينهم: النصرانية تحت المسلم) إلى آخره، قال: وعطاء الخراساني معروف بكثرة الغلط، وابنه عثمان وابن زريع ضعيفان، ورواه عثمان بن عبد الرحمان الوقاصي، عن عمرو بن شعيب به، وهو متروك الحديث ضعفه يحيى بن معين وغيره من الأئمة، ورواه عمار بن مطر، عن حماد بن عمرو، عن زيد بن رفيع، عن عمرو بن شعيب، وعمار بن مطر، وحماد بن عمرو، وزيد بن رفيع ضعفاء.
468

وروي عن ابن جريج والأوزاعي، وهما إمامان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده موقوفا، وفي ثبوته موقوفا أيضا نظر، فإن راويه عن ابن جريج والأوزاعي عمرو بن هارون، وليس بالقوي. ورواه يحيى بن أبي أنيسة أيضا، عن عمرو بن شعيب به موقوفا، وهو متروك، ونحن إنما نحتج بروايات عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، إذا كان الراوي عنه ثقة وانضم إليه ما يؤكده، ولم نجد لهذا الحديث طريقا صحيحا إلى عمرو، والله أعلم، انتهى كلامه، انتهى كلام صاحب (نصب الراية).
وقال صاحب (الجوهر النقي): إن الحديث المذكور جيد الإسناد، ولو فرضنا جودة إسناده كما ذكره لم يلزم من ذلك أن شهادات اللعان شهادات لا أيمان؛ لاحتمال كون عدم الملاعنة من بين من ذكر في الحديث لعدم المكافأة.
والأظهر عندنا أنها أيمان أكدت بلفظ الشهادة، للأدلة التي ذكرنا، وهو قول أكثر أهل العلم، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة: اعلم أنه لا يجوز في اللعان، الاعتماد على إتيان المرأة بالولد أسود، وإن كانت بيضاء وزوجها أبيض؛ لقصة الرجل الذي ولدت امرأته غلاما أسود، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يعرض بنفي الولد الأسود باللعان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هل لك من إبل)؟ قال: نعم، قال: (ما ألوانها)؟ قال: حمر، قال: (هل فيها من أورق)؟ قال: إن فيها لورقا، قال: (ومن أين جاءتها الورقة)؟ قال: لعل عرقا نزعها، قال: (وهذا الغلام الأسود لعل عرقا نزعه)، والقصة مشهورة ثابتة في الصحيحين، وقد قدمناها مرارا، وفيها الدلالة على أن سواد الولد لا يجوز أن يكون مستندا للرجل في اللعان، كما ترى.
المسألة الرابعة: اعلم أن التحقيق أن من قذف امرأة بالزنى قبل أن يتزوجها ثم تزوجها أنه إن لم يأت بأربعة شهداء على زناها أنه يجلد حد القذف، ولا يقبل منه اللعان؛ لأنها وقت القذف أجنبية محصنة داخلة في عموم قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) *، والزواج الواقع بعد ذلك لا يغير الحكم الثابت قبله، فما يروى عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله من أنه إن قذفها قبل الزواج، ثم تزوجها بعد القذف أنهما يلتعنان، خلاف الظاهر عندنا من نص الآية الكريمة، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة: اعلم أن التحقيق أن الزوج إن قذف زوجته وأمها بالزنا، ولم يأت
469

بالبينة أنه يحد للأم حد القذف؛ لأنه قذفها بالزنى وهي محصنة غير زوجة، فهي داخلة في عموم قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات) *، وأما البنت فإنه يلاعنها؛ لأنه قذفها، وهي زوجة له، فتدخل في عموم قوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين) *، إلى آخر آيات اللعان.
وبما ذكرنا تعلم أن قول بعض الأئمة: إنه إن حد للأم سقط حد البنت، وإن لاعن البنت لم يسقط حد الأم، أنه خلاف التحقيق الذي دلت عليه آيات القرءان، وقد قال ابن العربي في القول المذكور: وهذا باطل جدا، فإنه خصص عموم الآية في البنت وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه، اه. وهو ظاهر.
المسألة السادسة: اعلم أن الذي يظهر لنا أنه الصواب أن من قذف زوجته بالزنى، ثم زنت قبل لعانه لها أنه لا حد عليه ولا لعان؛ لأنه تبين بزناها قبل اللعان أنها غير محصنة، ولا لعان في قذف غير المحصنة، كما قدمنا أنه إن قذف أجنبية بالزنى، ثم زنت قبل أن يقام عليه الحد أن الظاهر لنا سقوط الحد؛ لأنه قد تبين بزناها أنها غير محصنة قبل استيفاء الحد، فلا يحد بقذف من ظهر أنها غير محصنة، وذكرنا الخلاف في ذلك.
وحجة من قال: يحد إن كانت أجنبية ويلاعن إن كانت زوجة أن الحد واللعان قد وجبا وقت القذف فلا يسقطان بالزنى الطارىء، وبينا أن الأظهر سقوط الحد واللعان، لتبين عدم الإحصان قبل الحد وقبل اللعان، والعلم عند الله تعالى.
المسألة السابعة: اعلم أن من رمى زوجته الكبيرة التي لا تحمل لكبر سنها أنهما يلتعنان هو لدفع الحد، وهي لدرء العذاب. وأما إن رمي زوجته الصغيرة التي لا تحمل لصغرها، فقد قدمنا خلاف العلماء: هل يلزمه حد القذف إن كانت صغيرة تطيق الوطء، ولم تبلغ؟ فعلى أنه يلزمه الحد يجب عليه أن يلتعن لدفع الحد. وأما على القول: بأنه لا حد في قذف الصغيرة مطلقا فلا لعان عليه في قذفها، وقد قدمنا الأظهر عندنا في ذلك، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثامنة: اعلم أنه إن نفى حمل زوجته فقد اختلف أهل العلم، هل له أن يلاعنها، وهي حامل لنفي ما في بطنها، أو لا يجوز له اللعان حتى تضع الولد؟ فذهب جمهور أهل العلم: إلى أنه يلاعنها وهي حامل وينتفي عنه حملها باللعان. وقال ابن حجر
470

في (الفتح)، بعد أن ساق أحاديث اللعان، وفيه أن الحامل تلاعن قبل الوضع؛ لقوله في الحديث: (انظروا فإن جاءت) الخ، كما تقدم في حديث سهل، وفي حديث ابن عباس، وعند مسلم من حديث ابن مسعود، فجاء، يعني الرجل هو وامرأته فتلاعنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلها أن تجيء به أسود جعدا)، فجاءت به أسود جعدا، وبه قال الجمهور، خلافا لمن أبى ذلك من أهل الرأي معتلا بأن الحمل لا يعلم؛ لأنه قد يكون نفخة.
وحجة الجمهور: أن اللعان شرع لدفع حد القذف عن الرجل، ودفع حد الرجم عن المرأة، فلا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا، ولذلك شرع اللعان مع الآيسة.
وقد اختلف في الصغيرة، والجمهور: على أن الرجل إذا قذفها فله أن يلتعن لدفع حد القذف عنه دونها، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر.
وقد قدمنا أن التعان قاذف الصغيرة مبني على أنه يحد لقذفها، وقد قدمنا كلام أهل العلم واختلافهم في حد قاذف الصغيرة المطيقة للوطء، وذكرنا ما يظهر لنا رجحانه من ذلك.
وأما الذين قالوا: لا تلاعن الحامل حتى تضع ولدها، فقد استدلوا بأمرين:
الأول: أن الحمل لا يتيقن وجوده قبل الوضع؛ لأنه قد يكون انتفاخا وقد يكون ريحا.
والثاني: هو ما جاء في بعض الروايات في أحاديث اللعان، مما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أخر لعان الحامل حتى وضعت. ففي البخاري من حديث ابن عباس، ما نصه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بين)، فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، الحديث. قالوا: فترتيبه فلاعن بالفاء على قوله: فوضعت شبيها بالرجل، إلخ. دليل على أن اللعان كان بعد الوضع كما هو مدلول الفاء، وأجيب من قبل الجمهور عن هذه الرواية بما ذكر ابن حجر في (فتح الباري)، فإنه قال في كلامه على الرواية المذكورة: ظاهره أن الملاعنة تأخرت إلى وضع المرأة لكن أوضحت أن رواية ابن عباس هذه هي في القصة في حديث سهل بن سعد، وتقدم قبل من حديث سهل أن اللعان وقع بينهما قبل أن تضع، فعلى هذا تكون الفاء في قوله: فلاعن معقبة لقوله فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، وهذه الجملة التي ذكر ابن حجر أن جملة فلاعن معطوفة عليها مذكورة
471

في حديث ابن عباس الذي ذكرنا محل الغرض منه.
والذي يظهر لنا أن الحامل تلاعن قبل الوضع لتصريح الأحاديث الصحيحة بذلك، ولما ذكره ابن حجر في كلامه الذي نقلناه آنفا، والعلم عند الله تعالى.
المسألة التاسعة: اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي فيمن طلق امرأته ثم قذفها بعد الطلاق، أنه إن كان قذفه لها بنفي حمل لم يعلم به إلا بعد الطلاق، أنه يلاعنها لنفي ذلك الحمل عنه، وإن كانت بائنا، وأنه إن قذفها بالزنى بعد الطلاق حد، ولم يلاعن لأن تأخيره القذف واللعان إلى زمن بعد الطلاق دليل على أنه قاذف، والأظهر ولو كان الطلاق رجعيا، ولم تنقض العدة، وإن كانت الرجعية في حكم الزوجة؛ لأن طلاقه إياها قبل القذف دليل على أنه لا يريد اللعان ويجلد، وهو قول ابن عباس. وقيل: يلاعن الرجعية قبل انقضاء العدة، لأنها في حكم
472

الزوجة، وهو مذهب أحمد المشهور ورواية أبي طالب عنه، وبه قال ابن عمر، وجابر، وزيد، والنخعي، والزهري، والشافعي، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي وله وجه من النظر، والله أعلم.
وقال القرطبي: لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة، وهي أن يكون الرجل غائبا فتأتي امرأته بولد في مغيبه، وهو لا يعلم فيطلقها فتنقضي عدتها ثم يقدم فينفيه، فله أن يلاعنها هنا بعد العدة. وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفى الولد لاعن لنفسه وهي ميتة بعد مدة من العدة ويرثها؛ لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما، اه منه. ولا نص فيه، وله وجه من النظر.
وقال القرطبي أيضا: إذا قذفها بعد الطلاق نظرت، فإن كان هناك نسب يريد أن ينفيه، أو حمل يريد أن يتبرأ منه لاعن، وإلا لم يلاعن، وقال عثمان البتي: لا يلاعن بحال. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن في الوجهين؛ لأنها ليست بزوجة، وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفا بل هذا أولى؛ لأن النكاح قد تقدم، وهو يريد الانتفاء من النسب، وتبرئته من ولد يلحق به، فلا بد من اللعان، وإذا لم يكن هناك حمل يرجى، ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به، وكان قذفا
مطلقا داخلا تحت عموم قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات) *، فوجب عليه الحد، وبطل ما قاله البتي لظهور فساده، انتهى كلام القرطبي.
وقد قدمنا أن القول بلعان الرجعية قبل انقضاء العدة له وجه من النظر؛ لأنها في حكم الزوجة، وذكرنا ما يظهر لنا أنه أظهر الأقوال في ذلك، وأقوال العلماء، وفائدة لعانه أن يدفع عنه حد القذف، وكون الرجعية كالزوجة قبل انقضاء العدة فيتوارثان، ولا يجوز له تزوج أختها، قبل انقضاء العدة، ولا تزويج رابعة غيرها؛ لأنها تكون كالخامسة نظرا إلى أن الرجعية كالزوجة، يقتضي أن يقول بلعان الرجعية قبل انقضاء العدة له وجه من النظر، وقد رأيت كثرة من قال به من أهل العلم، ووجه القول بعدمه أنه لما طلقها عالما بزناها في زعمه، دل ذلك على أنه تارك للعان، وينبني على الخلاف المذكور، ما لو ادعى أنها زنت بعد الطلاق الرجعي، وقبل انقضاء العدة، هل يحكم عليه بأنه قاذف؛ لأنه رماها بزنى واقع بعد الفراق أو له أن يلاعنها لنفي الحد عنه بناء على أن الرجعية في حكم الزوجة.
أما إن قذفها قبل أن يطلقها ثم طلقها بعد القذف، فالأظهر أن له لعانها مطلقا، ولو كان الطلاق بائنا؛ لأن القذف وقع وهي زوجة غير مطلقة، وروي ذلك عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والقاسم بن محمد، ومكحول، ومالك، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، وقال الحارث العكلي، وجابر بن زيد، وقتادة والحكم: يجلد. وقال حماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي: لا حد ولا لعان؛ لأن اللعان إنما يكون بين الزوجين وليس هذان بزوجين، ولا يحد؛ لأنه لم يقذف أجنبية.
المسألة العاشرة: اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي فيمن ظهر بامرأته حمل، وهو قائل إنه ليس منه إذا سكت عن نفي ذلك الحمل حتى وضعته ثم قال إنه إنما سكت عن نفيه مدة الحمل رجاء أن يكون ريحا أو انتفاخا فينفش أو يسقط ميتا، فيستريح بذلك من اللعان أنه يمكن من نفيه بلعان بعد الوضع؛ لأن العذر الذي أبدى وجيه جدير بالقبول، فإن بادر بنفيه فورا عند وضعه، فلا ينبغي أن يختلف في أن له أن ينفيه بلعان، وإن سكت عن نفيه بعد الوضع، ثم أراد أن ينفيه بعد السكوت، فهل له ذلك أوليس له؟ لأن سكوته بعد الوضع يعد رضى منه بالولد، فلا يمكن من اللعان بعده.
لم أعلم في هذه المسألة نصا من كتاب، ولا سنة، والعلماء مختلفون فيه. قال القرطبي: قد اختلف في ذلك ونحن نقول: إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام، فهو راض به وليس له نفيه، وبهذا قال الشافعي، وقال أيضا: متى أمكنه نفيه على ما جرت به العادة من تمكنه من الحاكم، فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك. وقال أبو حنيفة: لا أعتبر مدة. وقال أبو يوسف، ومحمد: يعتبر فيه أربعون يوما مدة النفاس. قال
473

ابن القصار: والدليل لقولنا هو أن نفي ولده محرم عليه واستلحاق ولد ليس منه، محرم عليه فلا بد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه، ويفكر هل يجوز له نفيه أو لا؟ وإنما جعلنا الحد ثلاثة؛ لأنه أول حد الكثرة، وآخر حد القلة، وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر فيها حال المصراة، وكذلك ينبغي أن يكون هنا.
وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهما بأولى من اعتبار مدة الولادة والرضاع، إذ لا شاهد لهما في الشريعة، وقد ذكرنا نحن شاهدا في الشريعة من مدة المصراة، انتهى كلام القرطبي. ولا يخفى ضعف ما استدل به ابن القصار من علماء المالكية للتحديد بثلاثة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذه المسألة مبنية على الاختلاف في قاعدة أصولية، وهي: هل ينزل السكوت منزلة الإقرار أو لا؟ وقد أشار إلى ذلك صاحب (مراقي السعود)، بقوله: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذه المسألة مبنية على الاختلاف في قاعدة أصولية، وهي: هل ينزل السكوت منزلة الإقرار أو لا؟ وقد أشار إلى ذلك صاحب (مراقي السعود)، بقوله:
* وجعل من سكت مثل من أقر
* فيه خلاف بينهم قد اشتهر
*
* فالاحتجاج بالسكوتي نمى
* تفريعه عليه من تقدما
*
* وهو بفقد السخط والضد حرى
* مع مضي مهلة للنظر
*
فمن قال: إن السكوت لا يعد رضى. قال: لأن الساكت قد يسكت عن الإنكار مع أنه غير راضي، ومن قال: إنه يعد رضى، قال: لأن سكوته قرينة دالة على رضاه واستأنسوا بقوله صلى الله عليه وسلم في البكر: (إذنها صماتها)، وبعضهم يقول تخصيص البكر بذلك، يدل على أن غيرها ليس كذلك، والخلاف في هذه المسألة معروف في فروغ الأئمة وأصولهم، ومن تتبع فروعهم وجدهم في بعض الصور يجعلون السكوت كالرضى، كالسكوت عن اللعان زمنا بعد العلم بموجبه، وكالسكوت عن القيام بالشفعة ونحو ذلك، ويكثر في فروع مذهب مالك جعل السكوت كالرضى.
ومن أمثلة ذلك ما قاله ابن عاصم في رجزه في أحكام القضاء في مذهب مالك: ومن أمثلة ذلك ما قاله ابن عاصم في رجزه في أحكام القضاء في مذهب مالك:
* وحاضر لواهب من ماله
* ولم يغير ما رأى من حاله
*
* الحكم منعه القيام بانقضا
* مجلسه إذا صمته عين الرضى
*
ولكل واحد من القولين وجه من النظر.
والذي يظهر لنا في مسألة السكوت عن اللعان أنه إن سكت زمنا يغلب على الظن فيه
474

عادة أنه لا يسكت فيه إلا راض عد رضى، وإلا فلا؛ لأن العرف محكم، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الحادية عشرة: اعلم أنه إن كان النكاح فاسدا، وقذفها زوجها بالزنى إن كان لنفي نسب يلحق به في ذلك النكاح الفاسد، فلا ينبغي أن يختلف في أنه يلاعن لنفي النسب عنه، وإن كان النكاح الفاسد يلحق فيه الولد ولكنه قذفها بالزنى، وأراد اللعان لنفي الحد عنه، فالأظهر أن له ذلك؛ لأنها لما صارت يلحق به ولدها صارت في حكم الفراش، قاله مالك في (المدونة). وقال القرطبي: يلاعن في النكاح الفاسد زوجته، لأنها صارت فراشا ويلحق النسب فيه مجرى اللعان فيه، اه منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن النكاح الفاسد إن كان مجمعا على فساده ولا يلحق الولد فيه أن الزوج القاذف فيه لا يمكن من اللعان، بل يحد حد القذف إن لم يأت بأربعة شهداء، وهذا ظاهر لا يخفى، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية عشرة: اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي في الذي يقذف زوجته الحامل بالزنى، ثم يأتي بأربعة شهداء على زناها أن له أن يلاعن لنفي الحمل مع الشهود؛ لأن شهادة البينة لا تفيد الزوج إلا درأ الحد عنه. أما رفع الفراش ونفي الولد، فلا بد فيه من اللعان.
وقال القرطبي رحمه الله: اختلفوا أيضا هل للزوج أن يلاعن مع شهوده؟ قال مالك والشافعي: يلاعن كان له شهود أو لم يكن؛ لأن الشهود ليس لهم عمل في غير درإ الحد، وأما رفع الفراش ونفي الولد، فلا بد فيه من اللعان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنما جعل اللعان إذا لم يكن له شهود غير نفسه؛ لقوله تعالى: * (ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) *، اه منه.
المسألة الثالثة عشرة: قال القرطبي أيضا في تفسيره: يفتقر اللعان إلى أربعة أشياء: عدد الألفاظ، وهو أربع شهادات على ما تقدم، والمكان: وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان، إن كان بمكة فبين الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كانت ببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر البلدان ففهي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه إن كانا يهوديين فالكنيسة، وإن كانا مجوسيين ففي
475

بيت النار، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين، فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه، والوقت: وذلك بعد صلاة العصر، وجمع الناس: وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا، فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والزمان والمكان مستحبان، اه منه. مع أن مشهور مذهب مالك الذي هو مذهب القرطبي أنه لا ملاعنة بين كافرين وبعض ما ذكره لا يخلو من خلاف.
المسألة الرابعة عشرة: اعلم أن الزوج لا يجوز له نفي الولد بلعان، إلا بموجب يقتضي أن ذلك الولد ليس منه كأن تكون الزوجة زنت، قبل أن يمسها الزوج أصلا، أو زنت بعد أن وضعت، ولم يمسها الزوج بعد الوضع حتى زنت، أو زنت في طهر لم يمسها فيه؛ لأن الحيضة قبل الزنى تدل على أن الحمل من الزنى الواقع بعد الحيض، ولا يجوز له الاعتماد في نفي الحمل باللعان على شبه الولد بغيره ولا بسواد الولد؛ كما قدمنا، ولا بعزل لأن الماء قد يسبق نزعه فتحبل منه، ولا بوطء في فخذين؛ لأن الماء يسيل إلى الفرج فتحمل منه، كما قدمنا.
المسألة الخامسة عشرة: اعلم أن كل ولدين بينهما أقل من ستة أشهر فهما توأمان، فلا يجوز نفي أحدهما، دون الآخر، فإن أقر الزوج بأحدهما لزمه قبول الآخر، والظاهر أنه إن نفى أحدهما مع اعترافه بالثاني حد لقذفه؛ كما قاله مالك وأصحابه، ومن وافقهم.
وقد أوضحنا في سورة (الرعد)، في الكلام على قوله تعالى: * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شىء عنده بمقدار) *، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك، ويعلم منه أن كل ولدين بينهما أقل من ستة أشهر، فهما توأمان.
وقال ابن قدامة في (المغني): وإن ولدت امرأته توأمين وهو أن يكون بينهما دون ستة أشهر، فاستحلق أحدهما، ونفى الآخر لحقا به؛ لأن الحمل الواحد، لا يجوز أن يكون بعضه منه، وبعضه من غيره، فإذا ثبت نسب أحدهما منه ثبت نسب الآخر ضرورة، فجعلنا ما نفاه تابعا لما استلحقه، ولم نجعل ما أقر به تابعا لما نفاه؛ لأن النسب يحتاط لإثباته لا لنفيه، ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن أن يكون منه، ويمكن أن يكون من غيره ألحقناه به احتياطا، ولم نقطعه عنه احتياطا لنفيه، إلى أن قال: وإن استلحق أحد التوأمين، وسكت عن الآخر لحقه؛ لأنه لو نفاه للحقه، فإذا سكت عنه كان أولى، ولأن امرأته متى
476

أتت بولد لحقه ما لم ينفه عنه بلعان، وإن نفى أحدهما وسكت عن الآخر، لحقاه جميعا.
فإن قيل: ألا نفيتم المسكوت عنه؛ لأنه قد نفى أخاه، وهما حمل واحد.
قلنا: لحوق النسب مبني على التغليب، وهو يثبت لمجرد الإمكان، وإن كان لم يثبت الوطء ولا ينتفي الإمكان للنفي فافترقا، فإن أتت بولد فنفاه ولاعن لنفيه، ثم ولدت آخر لأقل من ستة أشهر لم ينتف الثاني باللعان الأول؛ لأن اللعان تناول الأول وحده، ويحتاج في نفي الثاني إلى لعان ثان، ويحتمل أن ينتفي بنفيه من غير حاجة إلى
لعان ثان؛ لأنهما حمل واحد وقد لاعن لنفيه مرة، فلا يحتاج إلى لعان ثان، ذكره القاضي، اه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وهذا الأخير هو الأظهر؛ لأن الحمل الواحد لا يحتاج إلى لعانين، ثم قال في (المغني) متصلا بكلامه الأول: فإن أقر بالثاني لحقه هو والأول لما ذكرناه، وإن سكت عن نفيه لحقاه أيضا، فأما إن نفى الولد باللعان ثم أتت بولد آخر بعد ستة أشهر فهذا من حمل آخر، فإنه لا يجوز أن يكون بين ولدين من حمل واحد مدة الحمل، ولو أمكن لم تكن هذه مدة حمل كامل، فإن نفى هذا الولد باللعان انتفى، ولا ينتفي بغير اللعان؛ لأنه حمل منفرد، وإن استلحقه أو ترك نفيه لحقه، وإن كانت قد بانت باللعان؛ لأنه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع الأول. وإن لاعنها قبل وضع الأول، فأتت بولد ثم ولدت آخر بعد ستة أشهر لم يلحقه الثاني؛ لأنها بانت باللعان، وانقضت عدتها بوضع الأول، وكان حملها الثاني بعد انقضاء العدة في غير نكاح فلم يحتج إلى نفيه. ثم قال في (المغني) أيضا: وإن مات أحد التوأمين فله أن يلاعن لنفي نسبهما، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يلزمه نسب الحي، ولا يلاعن إلا لنفي الحد؛ لأن الميت لا يصح نفيه باللعان، فإن نسبه قد انقطع بموته، فلا حاجة إلى نفيه باللعان، كما لو ماتت امرأته فإنه لا يلاعنها بعد موتها لكون النكاح قد انقطع، وإذا لم ينتف الميت لم ينتف الحي؛ لأنهما حمل واحد ولنا أن الميت ينسب إليه، ويقال ابن فلان ويلزمه تجهيزه وتكفينه، فكان له نفي نسبه وإسقاط مؤنته كالحي، وكما لو كان للميت ولد، اه كلام صاحب (المغني).
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر أنه إن كان للولد الميت الذي يراد نفيه بعد الموت ولد كان حكمه في اللعان كحكم الحي؛ لأن ولده الحي لا ينتفي إلا بنفي أبيه، فله اللعان لنفي نسب الميت لينتفي عنه ولده، وهذا إن قلنا إن له أن يلاعن بعد هذه
477

المدة الطويلة؛ لأنه لم ينف الولد الميت إلا بعد أن عاش عمرا يولد له فيه، وقد يكون معذورا بالغيبة زمنا طويلا، وكذلك عند من يقول: إن السكوت لا يسقط اللعان مطلقا كما تقدم، وكذلك إن أريد إلزامه بتكفين الولد الميت وتجهيزه، فالأظهر أن له أن ينفيه عنه بلعان ليتخلص من مئونة تجهيزه وتكفينه. والظاهر أنه إن نفى ولدا بعد موته، فإن كانت أمه حية فلا بد من اللعان؛ لأنه قاذف أمه، وإن كانت الأم ميتة جرى على الخلاف في حد من قذف ميتة، فعلى القول بالحد فله اللعان، وعلى القول بعدمه فلا لعان، وقد قدمنا الخلاف في ذلك. ويعتضد ما ذكرنا بما تقدم قريبا من أن له اللعان لنفي الولد؛ لأنه يجتمع به موجبان للعان، وهما إسقاط الحد ونفي الولد، وبه تعلم أن الأظهر عدم النظر إلى الولد الميت هل ترك مالا أو لا؟ والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
اعلم أن أهل العلم اختلفوا في توأمي الملاعنة المنفيين باللعان، هل يتوارثان توارث الشقيقين أو الأخوين لأم؟ وقال ابن الحاجب من المالكية: هما شقيقان، وقال خليل في (التوضيح)، وهو شرحه لمختصر ابن الحاجب في الفقه المالكي: إن كونهما شقيقين هو مشهور مذهب مالك. وقال المغيرة من المالكية: يتوارثان توارث الأخوين لأم، كالمشهور عند المالكية في توأمي الزانية والمغتصبة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لنا أن توأمي الملاعنة يتوارثان توارث الأخوين لأم، وأنهما لا يحكم لهما بحكم الشقيقين، لأنهما لا يلحقان بأب معروف، وإذا لم يكن لهما أب معروف فلا وجه لكونهما شقيقين، ويوضح ذلك أنهما إنما ينسبان لأمهما، وبه تعلم أن مشهور مذهب مالك في هذه المسألة خلاف الأظهر. وأما قول ابن نافع من المالكية: إن توأمي الزانية شقيقان، فهو خلاف التحقيق؛ لأن الزاني لا يلحق به نسب حتى يكون أبا لابنه من الزنى، والرواية عن ابن القاسم بنحو قول ابن نافع ظاهرها السقوط، كما ترى. وأما ما قاله ابن رشد في (البيان) من أن توأمي المسبية، والمستأمنة شقيقان، فوجهه ظاهر، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة عشرة: اعلم أنه إن تزوجها ثم قذفها بعد النكاح قائلا إنها زنت قبل أن يتزوجها، فإن أهل العلم اختلفوا هل له لعانها نظرا إلى أن القذف وقع وهي زوجته أو
478

يحد لقذفها ولا يمكن من اللعان نظرا إلى أنها وقت الزنى الذي قذفها به أجنبية منه، وليست بزوجة.
قال ابن قدامة في (المغني): وإن قذفها بعد تزوجها بزنى أضافه إلى ما قبل النكاح حد ولم يلاعن، سواء كان ثم ولد أو لم يكن، وهو قول مالك وأبي ثور. وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والشعبي. وقال الحسن وزرارة بن أبي أوفى وأصحاب الرأي: له أن يلاعن؛ لأنه قذف امرأته، فيدخل في عموم قوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهم) *، ولأنه قذف امرأته فأشبه ما لو قذفها ولم يضفه إلى ما قبل النكاح، وحكى الشريف أبو جعفر عن أحمد رواية أخرى كذلك. وقال الشافعي: إن لم يكن ثم ولد لم يلاعن وإن كان بينهما ولد ففيه وجهان، ولنا أنه قذفها قذفا مضافا إلى حال البينونة فأشبه ما لو قذفها وهي بائن وفارق قذف الزوجة؛ لأنه محتاج إليه، لأنها غاظته وخانته، وإن كان بينهما ولد فهو محتاج إلى نفيه، وهاهنا إذا تزوجها وهو يعلم زناها فهو المفرط في نكاح حامل من الزنى، فلا يشرع له طريق إلى نفيه، اه من (المغني).
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر الأقوال عندي في هذه المسألة أنه إن لم يكن ولد، فلا يمكن الزوج من اللعان، ويحد لقذفها إن لم يأت بأربعة شهداء؛ لأنه قذفها وهي أجنبية، فيدخل في عموم قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) *، لأنه قاذف محصنة ليست بزوجة، والنكاح الطارىء لا يغير الحكم الذي تقرر قبله؛ كما ترى. وإن كان هناك ولد يلحق به لو سكت، وهو يعلم أنه ليس منه استنادا إلى بعض الأمور المسوغة لنفي الولد التي قدمناها أن له أن يلاعن لنفي الولد.
والحاصل: أنه له اللعان لنفي الولد لا لدفع الحد فيما يظهر لنا، والعلم عند الله تعالى.
المسألة السادسة عشرة: فيما لو قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا يا زانية، فقيل: يلاعن، وقيل: لا يلاعن؛ لأن القذف إنما وقع بعد البينونة بالثلاث على القول بالبينونة
بها، وهو قول جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وأصحابهم.
قال ابن قدامة في (المغني): نقل مهنأ قال: سألت أحمد عن رجل قال لامرأته: أنت طالق يا زانية ثلاثا، فقال: يلاعن، قلت: إنهم يقولون يحد، ولا يلزمها إلا واحدة، قال: بئس ما يقولون فهذا يلاعن؛ لأنه قذفها قبل الحكم ببينونتها، فأشبه قذف الرجعية، اه
479

منه. وله وجه من النظر، والعلم عند الله تعالى.
المسألة السابعة عشرة: فيما لو جاءت زوجته بولد فنفاه فصدقته الزوجة في أن الولد من غيره، فعلى الزوجة حد الزنى.
واختلف أهل العلم هل ينتفي نسب الولد بتصادقهما بدون لعان، أو لا ينتفي إلا بلعان، وكلا القولين مروي عن مالك، وأكثر الرواة عنه أنه لا ينتفي إلا بلعان.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي أنه لا ينتفي عن الزوج إلا بلعانه، ولا يسقط حقه من لحوق نسبه بتصديق أمه للزوج؛ لأن للولد حقا في لحوق نسبه فلا يسقط إلا بلعان الزوج، وأما الزوجة فلا يصح منها اللعان في هذه الصورة؛ لأنها مقرة بصدق الزوج في دعواه.
المسألة الثامنة عشرة: اعلم أن الأظهر عندنا فيمن قذف امرأته فطالبت بحده لقذفها فأقام شاهدين على إقرارها بالزنى الذي قذفها به أن حكم هذه المسألة مبني على الاختلاف في الإقرار بالزنى، هل يثبت بشاهدين كغيره من سائر الأقارير أو لا يثبت إلا بأربعة شهود. فمن قال: يثبت بشاهدين يلزم قوله: أن الرجل لا يحد لقذفها؛ لأن إقرارها بالزنى ثبت بالشاهدين، وعلى القول الآخر يحد؛ لأن إقرارها لم يثبت، هذا هو الأظهر عندنا، والعلم عند الله تعالى.
المسألة التاسعة عشرة: اعلم أن الأظهر أنهما إن شهدا عليه بأنه قذف امرأته وقذفهما أعني الشاهدين لم تقبل شهادتهما بقذف المرأة؛ لأنهما لما ادعيا عليه أنه قذفهما صارا له عدوين؛ لأن القذف يستوجب العداوة. قال ابن قدامة في (المغني): فإن شهد شاهدان أنه قذف فلانة، وقذفنا لم تقبل شهادتهما لاعترافهما بعداوته لهما وشهادة العدو لا تقبل على عدوه، فإن أبرآه وزالت العداوة ثم شهدا عليه بذلك القذف لم تقبل لأنها ردت للتهمة، فلم تقبل بعد كالفاسق إذا شهد فردت شهادته لفسقه ثم تاب وأعادها، ولو أنهما ادعيا عليه أنه قذفهما ثم أبرآه وزالت العداوة، ثم شهدا عليه بقذف زوجته قبلت شهادتهما؛ لأنهما لم يردا في هذه الشهادة، ولو شهدا أنه قذف امرأته ثم ادعيا بعد ذلك أنه قذفهما فإن أضافا دعواهما إلى ما قبل شهادتهما، بطلت شهادتهما لاعترافهما أنه كان عدوا لهما حين شهدا عليه، وإن لم يضيفاها إلى ذلك الوقت، وكان ذلك قبل الحكم بشهادتهما لم يحكم بها؛ لأنه لا يحكم عليه بشهادة عدوين، وإن كانت بعد الحكم لم يبطل؛ لأن الحكم تم قبل
480

وجود المانع كظهور الفسق، وإن شهدا أنه قذف امرأته وأمنا لم تقبل شهادتهما، لأنها ردت في البعض للتهمة، فوجب أن ترد للكل وإن شهدا على أبيهما أنه قذف ضرة أمهما قبلت شهادتهما، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد. وقال في القديم: لا تقبل؛ لأنهما يجران إلى أمهما نفعا، وهو أنه يلاعنها فتبين ويتوفر على أمهما وليس بشئ؛ لأن لعانه لها ينبني على معرفته بزناها لا على الشهادة عليه بما لا يعترف به، وإن شهدا بطلاق الضرة، ففيه وجهان:
أحدهما: لا تقبل، لأنهما يجران إلى أمهما نفعا وهو توفيره على أمهما.
والثاني: تقبل، لأنهما لا يجران إلى نفسهما نفعا، اه من (المغني). وكله لا نص فيه ولا يخلو بعضه من خلاف، والأظهر عدم قبول شهادتهما بطلاق ضرة أمهما؛ لأنهما متهمان بجر النفع لأمهما، لأن طلاق الضرة فيه نفع لضرتها كما لا يخفى وشهادة الإنسان بما ينفع أمه لا تخلو من تهمة كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
المسألة العشرون: في اختلاف اللغات أو الأزمنة في القذف أو الإقرار به.
قال ابن قدامة في (المغني): ولو شهد شاهد أنه أقر بالعربية أنه قذفها وشهد آخر أنه أقر بذلك بالعجمية، تمت الشهادة؛ لأن الاختلاف في العربية والعجمية عائد إلى الإقرار دون القذف، ويجوز أن يكون القذف واحدا والإقرار به في مرتين. وكذلك لو شهد أحدهما أنه أقر يوم الخميس بقذفها، وشهد آخر أنه أقر بذلك يوم الجمعة تمت الشهادة لما ذكرناه، وإن شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية وشهد الآخر أنه قذفها بالعجمية، أو شهد أحدهما أنه قذفها يوم الخميس، وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه أقر أنه قذفها بالعربية أو بالعجمية، أو شهد أحدهما أنه أقر بأنه قذفها بالعربية، أو يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قذفها بالعجمية أو يوم الجمعة، أو يوم الخميس، وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة، ففيه وجهان:
أحدهما: تكمل الشهادة وهو قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة؛ لأن الوقت ليس ذكره شرطا في الشهادة، وكذلك اللسان فلم يؤثر الاختلاف؛ كما لو شهد أحدهما أنه أقر بقذفها يوم الخميس بالعربية، وشهد الآخر أنه أقر بقذفها يوم الجمعة بالعجمية، والآخر لا تكمل الشهادة، وهو مذهب الشافعي؛ لأنهما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما فلم يثبت، كما لو شهد أحدهما أنه تزوجها يوم الخميس، وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الجمعة
481

وفارق الإقرار بالقذف فإنه يجوز أن يكون المقر به واحدا أقر به في وقتين بلسانين، انتهى من (المغني).
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذه المسألة هي المعروفة عند العلماء بالشهادة هل تلفق في الأفعال والأقوال، أو لا تلفق؟ وبعضهم يقول تلفق في الأقوال دون الأفعال، وبعضهم يقول: تلفق فيهما، والفرق بينهما ليس بظاهر، وقولهم: هما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما قد يقال فيه، وكذلك الإقرار المختلف وقته أو لسانه هما إقراران لم تتم الشهادة على واحد منهما، وهذه المسألة لا نص فيها وكل من الأقوال فيها له وجه من النظر، والخلاف المذكور وعدم النص لا يبعد أن يكون شبهة تدرأ الحد، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الواحدة والعشرون: اعلم أن الذي يظهر لنا أنه الصواب أن من نفى حمل امرأته بلعان أنه ينتفى عنه، ولا يلزمه لعان آخر بعد وضعه، وهذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى. وبه تعلم أن قول أبي حنيفة رحمه الله ومن وافقه من أهل الكوفة، وقول الخرقي ومن وافقه من الحنابلة أن الحمل لا يصح نفيه باللعان، فلا بد من اللعان
بعد الوضع؛ لأن الحمل قبل الوضع غير محقق؛ لاحتمال أن يكون ريحا خلاف التحقيق فيما يظهر لنا من انتفاء الحمل باللعان، كما هو قول مالك والشافعي ومن وافقهم من أهل الحجاز، كما نقله عنهم ابن قدامة في (المغني)، وقصة هلال بن أمية رضي الله عنه صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى عنه حمل امرأته باللعان، ولم يلزمه بإعادة اللعان بعد الوضع، والرواية التي توهم أن لعانه كان بعد الوضع أوضحنا الجواب عنها فيما تقدم بما أجاب به عنها ابن حجر في (الفتح)، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية والعشرون: في حكم من قذف امرأته باللواط، وقد أوضحنا في سورة (هود)، في الكلام على قصة قوم لوط أقوال أهل العلم في عقوبة اللائط وبينا أن أقواها دليلا قتل الفاعل والمفعول به، وعليه فلا حد بالقذف باللواط وإنما فيه التعزير، وذكرنا قول من قال من أهل العلم أن اللواط حكمه حكم الزنى وعلى هذا القول يلاعن القاذف باللواط، وإن امتنع من اللعان حد، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة والعشرون: في حكم من ولدت امرأته ولدا لا يمكن أن يكون منه، فإن الولد لا يلحقه ولا يحتاج إلى نفيه بلعان؛ لأنه معلوم أنه ليس منه كما لو تزوج امرأة
482

فجاءت بولد كامل لأقل من ستة أشهر؛ لأن أقل أمد الحمل ستة أشهر، كما أوضحناه في سورة (الرعد)، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم، وككون الزوج صبيا لا يولد لمثله عادة لصغره ونحو ذلك.
واعلم أن الذي يظهر لنا أنه هو الصواب أن كل ولد جاءت به امرأة الصغير قبل بلوغه أنه لا يلحق به، ولا يحتاج إلى لعان، وبه تعلم أن قول من قال من الحنابلة، ومن وافقهم: إن الزوج إن كان ابن عشر سنين لحقه الولد وكذلك تسع سنين ونصف، كما قاله القاضي من الحنابلة، إنه خلاف التحقيق واستدلالهم على لحوق الولد بالزوج الذي هو ابن عشر سنين بحديث: (واضربوهم على الصلاة لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) ظاهر السقوط، وإن اعتمده ابن قدامة مع علمه، وغيره من الحنابلة.
فالتحقيق إن شاء الله تعالى هو ما قاله أبو بكر من الحنابلة من أنه لا يلحق به الولد حتى يبلغ وهو ظاهر لا يخفى، وكما لو تزوج امرأة في مجلس، ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم ثم أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين العقد أو تزوج مشرقي مغربية أو عكسة، ثم مضت ستة أشهر وأتت بولد لم يلحقه. قال ابن قدامة في (المغني): وبذلك قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: يلحقه نسبه؛ لأن الولد إنما يلحقه بالعقد ومدة الحمل ألا ترى أنكم قلتم إذا مضى زمان الإمكان لحق الولد، وإن علم أنه لم يحصل منه الوطء، انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق إن شاء الله عدم لحوق الولد فيما ذكر للعلم بأنه ليس منه ولا حاجة لنفيه، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة والعشرون: اعلم أن أظهر الأقوال وأقواها دليلا، أن المتلاعنين يتأبد التحريم بينهما، فلا يجتمعان أبدا، وقد جاءت بذلك أحاديث منها ما رواه أبو داود من حديث سهل بن سعد، وفيه: فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدا، انتهى.
وقال في (نيل الأوطار): في هذا الحديث سكت عنه أبو داود، والمنذري ورجاله رجال الصحيح، ومنها ما رواه الدارقطني عن سهل أيضا، وفيه: ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقال: (لا يجتمعان أبدا)، انتهى منه بواسطة نقل المجد في (المنتقى)، وقال فيه
483

صاحب (نيل الأوطار): وفي إسناده عياض بن عبد الله، قال في (التقريب): فيه لين، ولكنه قد أخرج له مسلم، اه.
ومنها ما رواه الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا)، انتهى منه بواسطة نقل المجد أيضا.
ومنها ما رواه الدارقطني أيضا، عن علي رضي الله عنه، قال: مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدا، وما رواه الدارقطني أيضا، عن علي، وابن مسعود، قالا: مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان. وقال صاحب (نيل الأوطار) في حديث ابن عباس: أخرج نحوه أبو داود في قصة طويلة، وفي إسنادها عباد بن منصور وفيه مقال، وقال في حديث علي وابن مسعود: أخرجهما أيضا عبد الرزاق وابن أبي شيبة، انتهى منه.
وبه تعلم أن تأبيد التحريم أصوب من قول من قال من العلماء إن أكذب نفسه حد، ولا يتأبد تحريمها عليه، ويكون خاطبا من الخطاب وهو مروي عن أبي حنيفة ومحمد وسعيد بن المسيب والحسن، وسعيد بن جبير، وعبد العزيز بن أبي سلمة، والأظهر أنه إن أكذب نفسه لحق به الولد وحد، خلافا لعطاء القائل: إنه لا يحد.
تنبيه
اعلم أن أقوال أهل العلم في فرقة اللعان قدمناها مستوفاة في سورة (البقرة)، في كلامنا الطويل على آية: * (الطلاق مرتان) *، وقد قدمنا كلام أهل العلم واختلافهم في لعان الأخرس في سورة (مريم)، ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية، ومن أراد استقصاء مسائل اللعان فلينظر كتب فروع المذاهب الأربعة. قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشآء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولاكن الله يزكى من يشآء والله سميع عليم) *
بين جل وعلا في هذه الآية، أنه لولا فضله ورحمته، ما زكا أحد من خلقه ولكنه بفضله ورحمته يزكي من يشاء تزكيته من خلقه.
ويفهم من الآية أنه لا يمكن أحدا أن يزكي نفسه بحال من الأحوال، وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (ألم تر
484

إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء) * الآية. وقوله تعالى: * (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض وإذ أنتم أجنة فى بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو
أعلم بمن) *.
والزكاة في هذه الآية: هي الطهارة من أبحاس الشرك، والمعاصي.
وقوله: * (ولاكن الله يزكى من يشاء) * أي يطهره من أدناس الكفر والمعاص بتوفيقه وهدايته إلى الإيمان والتوبة النصوح والأعمال الصالحة.
وهذا الذي دلت عليه هذه الآيات المذكورة لا يعارضه قوله تعالى: * (قد أفلح من زكاها) * ولا قوله: * (قد أفلح من تزكى) * على القول بأن معنى تزكى تطهر من أدناس الكفر والمعاصي، لا على أن المراد بها خصوص زكاة الفطر، ووجه ذلك في قوله: من زكاها أنه لا يزكيها إلا بتوفيق الله وهدايته إياه للعمل الصالح، وقبوله منه.
وكذلك الأمر في قوله: * (قد أفلح من تزكى) * كما لا يخفى.
والأظهر أن قوله: * (ما زكى منكم من أحد) * الآية: جواب لولا التي تليه، خلافا لمن زعم أنه جواب لولا في قوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله * رءوف رحيم) * وقد تكرر في الآيات التي قبل هذه الآية حذف جواب لولا، لدلالة القرائن عليه. قوله تعالى: * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم * إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا فى الدنيا والا خرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين * الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولائك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم * ياأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذالكم خير لكم لعلكم تذكرون * فإن لم تجدوا فيهآ أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم * ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) * نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر رضي الله عنه، ومسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، وكان مسطح المذكور من المهاجرين وهو فقير، وكانت أمه ابنة خالة أبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو بكر ينفق عليه لفقره وقرباته وهجرته، وكان ممن تكلم في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالإفك المذكور في قوله تعالى: * (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) *، وهو ما رموها به من أنها فجرت مع صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه.
485

وقصة الإفك معروفة مشهورة ثابتة في عشر آيات من هذه السورة الكريمة، وفي الأحاديث الصحاح، فلما نزلت براءة عائشة رضي الله عنها في الآيات المذكورة، حلف أبو بكر ألا ينفق على مسطح، ولا ينفعه بنافعة بعد ما رمى عائشة بالإفك ظلما وافتراء، فأنزل الله في ذلك: * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين * فى سبيل الله) * الآية. وقوله: * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة) * أي لا يحلف فقوله: يأتل وزنه يفتعل من الألية وهي اليمين، تقول العرب آلى يؤلى وائتلي يأتلى إذا حلف، ومنه قوله تعالى: * (للذين يؤلون من نسائهم) * أي يحلفون مضارع آلى يؤلى إذا حلف. ومنه قول امرئ القيس. وقصة الإفك معروفة مشهورة ثابتة في عشر آيات من هذه السورة الكريمة، وفي الأحاديث الصحاح، فلما نزلت براءة عائشة رضي الله عنها في الآيات المذكورة، حلف أبو بكر ألا ينفق على مسطح، ولا ينفعه بنافعة بعد ما رمى عائشة بالإفك ظلما وافتراء، فأنزل الله في ذلك: * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين * فى سبيل الله) * الآية. وقوله: * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة) * أي لا يحلف فقوله: يأتل وزنه يفتعل من الألية وهي اليمين، تقول العرب آلى يؤلى وائتلي يأتلى إذا حلف، ومنه قوله تعالى: * (للذين يؤلون من نسائهم) * أي يحلفون مضارع آلى يؤلى إذا حلف. ومنه قول امرئ القيس.
* ويوما على ظهر الكثيب تعذرت
* على وآلت حلفة لم تحلل
*
أي حلفت حلفة. وقول عاتكة بنت زيد العدوية ترثى زوجها عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهم: أي حلفت حلفة. وقول عاتكة بنت زيد العدوية ترثى زوجها عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهم:
* فآليت لا تنفك عيني حزينة
* عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
*
والألية اليمين، ومنه قول الآخر يمدح عمر بن عبد العزيز: والألية اليمين، ومنه قول الآخر يمدح عمر بن عبد العزيز:
* قليل الألابا حافظ ليمينه
* وإن سبقت منه الألية برت
*
أي لا يحلف أصحاب الفضل والسعة: أي الغنى كأبي بكر رضي الله عنه، أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله كمسطح بن أثاثة. وقوله: أن
يؤتوا: أي لا يحلفوا عن أن يؤتوا، أو لا يحلفوا ألا يؤتوا وحذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من أن وأن وصلتهما مطرد. وكذلك حذف لا النافية قبل المضارع بعد القسم، ولا يؤثر في ذلك هنا كون القسم منهيا عنه، ومعفول يؤتوا الثاني محذوف: أي أن يؤتوا أولى القربى النفقة والإحسان، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه.
وقال بعض أهل العلم قوله: ولا يأتل: أي لا يقصر أصحاب الفضل، والسعة كأبي بكر في إيتاء أولى القربى كمسطح، وعلى هذا فقوله يأتل يفتعل من ألا يألوا في الأمر إذا قصر فيه وأبطأ.
ومنه قوله تعالى: * (يظلمون ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) *
486

أي لا يقصورن في مضرتكم، ومنه بهذا المعنى قول الجعدي: ومنه قوله تعالى: * (يظلمون ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) * أي لا يقصورن في مضرتكم، ومنه بهذا المعنى قول الجعدي:
* وأشمط عريان يشد كتافه
* بلام على جهد القتال وما ائتلا
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* وإن كنائنى لنساء صدق
* فما آلى بنى ولا أساءوا
*
فقوله: فما آلى بنى: يعني ما قصروا، ولا أبطؤا والأول هو الأصح. لأن حلف أبي بكر ألا ينفع مسطحا بنافعة، ونزول الآية الكريمة في ذلك الحلف معروف. وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الحلف عن فعل البر من إيتاء أولى القربى والمساكين والمهاجرين، جاء أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: * (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) * أي لا تحلفوا بالله عن فعل الخير، فإذا قيل لكم: اتقوا وبروا، وأصلحوا بين الناس قلتم: حلفنا بالله لا نفعل ذلك، فتجعلوا الحلف بالله سببا للامتناع من فعل الخير على الأصح في تفسير الآية.
وقد قدمنا دلالة هاتين الآيتين على المعنى المذكور، وذكرنا ما يوضحه من الأحاديث الصحيحة في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: * (لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم ولاكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (وليعفوا وليصفحوا) * فيه الأمر من الله للمؤمنين إذا أساء إليهم بعض إخوانهم المسلمين أن يعفوا عن إساءتهم ويصفحوا وأصل العفو: من عفت الريح الأثر إذا طمسته.
والمعنى: فليطمسوا آثار الإساءة بحلمهم وتجاوزهم، والصفح، قال بعض أهل العلم مشتق من صفحة العنق أي أعرضوا عن مكافأة إساءتهم حتى كأنكم تولونها بصفحة العنق، معرضين عنها. وما تضمنته هذه الآية من العفو والصفح جاء مبينا في مواضع أخر كقوله تعالى: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض أعدت للمتقين * الذين ينفقون فى السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) * وقد دلت هذه الآية على أن كظم الغيط والعفو عن الناس، من صفات أهل الجنة، وكفى بذلك حثا على ذلك. ودلت أيضا: على أن ذلك من الإحسان الذي يجب الله المتصفين به وكقوله تعالى: * (إن تبدوا خيرا أو
487

تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا) * وقد بين تعالى في هذا الآية أن العفو مع القدرة من صفاته تعالى، وكفى بذلك حثا عليه، وكقوله تعالى: * (فاصفح الصفح الجميل) * وكقوله: * (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور) * إلى غير ذلك لمن عزم الأمور) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * () * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) * دليل على أن العفو والصفح على المسئ المسلم من موجبات غفران الذنوب، والجزاء من جنس العمل، ولذا لما نزلت قال أبو بكر: بلى والله نحب أن يغفر لنا ربنا، ورجع للإنفاق في مسطح، ومفعول أن يغفر الله محذوف للعلم به: أي يغفر لكم ذنوبكم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (أولى القربى) * أي أصحاب القرابة، ولفظة أولى اسم جمع لا واحد له من لفظه يعرب إعراب الجمع المذكر السالم. فائدة
في هذه الآية الكريمة، دليل على أن كبائر الذنوب لا تحبط العمل الصالح، لأن هجرة مسطح بن أثاثة من عمله الصالح، وقذفه لعائشة من الكبائر ولم يبطل هجرته لأن الله قال فيه بعد قذفه لها * (والمهاجرين فى سبيل الله) * فدل ذلك على أن هجرته في سبيل الله، لم يحبطها قذفه لعائشة رضي الله عنها.
قال القرطبي في هذه الآية: دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال، لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان، وكذلك سائر الكبائر، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال تعالى: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * ا ه.
وما ذكر من أن في الآية وصف مسطح بالإيمان لم يظهر من الآية، وإن كان معلوما.
وقال القرطبي أيضا: قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله. ثم قال بعد هذا: قال بعض العلماء، هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ. وقيل: أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى: * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) * وقد قال تعالى في آية أخرى * (
والذين ءامنوا وعملوا الصالحات فى روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير) *
488

فشرح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشر به المؤمنين في تلك.
ومن آيات الرجاء قوله تعالى: * (قل ياأهل عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) *. وقوله تعالى: * (الله لطيف بعباده) * وقال بعضهم: أرجى آية في كتاب الله عز وجل * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار. انتهى كلام القرطبي.
وقال بعض أهل العلم: أرجى آية في كتاب الله عز وجل، آية الدين: وهي أطول آية في القرآن العظيم، وقد أوضح الله تبارك وتعالى فيها الطرق الكفيلة بصيانة الدين من الضياع، ولو كان الدين حقيرا كما يدل عليه قوله تعالى فيها: * (ولا يأب كاتب تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله) * الآية، قالوا: هذا من المحافظة في آية الدين على صيانة مال المسلم، وعدم ضياعه، ولو قليلا يدل على العناية التامة يمصالح المسلم، وذلك يدل على أن اللطيف الخبير لا يضيعه يوم القيامة عند اشتداد الهول، وشدة حاجته إلى ربه.
قال مقيده عفا الله وغفر له: من أرجى آيات القرآن العظيم قوله تعالى: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو) *.
فقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن إيراث هذه الأمة لهذا الكتاب، دليل على أن الله اصطفاها في قوهل: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) * وبين أنهم ثلاثة أقسام:
الأول: الظالم لنفسه وهو الذي يطيع الله، ولكنه يعصيه أيضا فهو الذي قال الله فيه * (خلطوا عملا صالحا وءاخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم) *.
489

والثاني: المقتصد وهو الذي يطيع الله، ولا يعصيه، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات.
والثالث: السابق بالخيرات: وهو الذي يأتي بالواجبات ويجتنب المحرمات ويتقرب إلى الله بالطاعات والقربات التي هي غير واجبة، وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه، والمقتصد والسابق، ثم إنه تعالى بين أن إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير منه عليهم، ثم وعد الجميع بجنات عدن وهو لا يخلف الميعاد في قوله: * (جنات عدن يدخلونها) * إلى قوله: * (ولا يمسنا فيها لغوب) * والواو في يدخلونها شاملة للظالم، والمقتصد والسابق على التحقيق. ولذا قال بعض أهل العلم: حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين، فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة، وأولهم الظالم لنفسه يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن، ولم يبق من المسلمين أخد خارج عن الأقسام الثلاثة، فالوعد الصادق بالجنة في الآية شامل لجميع المسلمين ولذا قال بعدها متصلا بها * (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور) * إلى قوله: * (فما للظالمين من نصير) *.
واختلف أهل العلم في سبب تقديم الظالم في الوعد بالجنة على المقتصد والسابق، فقال بعضهم: قد الظالم لئلا يقنط، وأخر السابق بالخيرات لئلا يعجب بعمله فيحبط. وقال بعضهم: قدم الظالم لنفسه، لأن أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم لأن الذين لم تقع منهم معصية أقل من غيرهم. كما قال تعالى: * (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن) *. قوله تعالى: * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) *. ذكر جلا وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، أنهم ملعونون في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب عظيم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم بما كانوا يعملون، وبين في غير هذا الموضع أن بعض أجزاء الكافر تشهد عليه يوم القيامة غير اللسان كقوله تعالى: * (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) * وقوله تعالى: * (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون * وقالوا لجلودهم لم
490

شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء) * إلى قوله تعالى: * (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولاكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما) *. قوله تعالى: * (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) *. المراد بالدين هنا الجزاء، ويدل على ذلك قوله: يوفيهم، لأن التوفية تدل على الجزاء كقوله تعالى: * (ثم يجزاه الجزاء الاوفى) * وقوله تعالى: * (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) * وقوله. * (وتوفى كل نفس ما كسبت) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: دينهم، أي جزاءهم الذي هو في غاية العدل والإنصاف، وقال الزمخشري: دينهم الحق: أي جزاءهم الواجب الذي هم أهله والأول أصح، لأن الله يجازي عباده بإنصاف تام، وعدل كامل، والآيات القرآنية في ذلك كثيرة كقوله تعالى: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) * وقوله: * (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولاكن الناس أنفسهم يظلمون) * وقوله: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا) * إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه. ومن إتيان الدين بمعنى الجزاء في القرآن قوله تعالى: * (مالك يوم الدين) *. قوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذالكم خير لكم لعلكم تذكرون) *. اعلم أن هذه الآية الكريمة أشكلت على كثير من أهل العلم، وذلك من أجل التعبير عن الاستئذان بالاستئناس، مع أنهما مختلفان في الماد والمعنى. وقال ابن حجر في الفتح: وحكى الطحاوي: أن الاستئناس في لغة ليمن: الاستئذان. وفي تفسير هذه الآية الكريمة بما يناسب لفظها وجهان، ولكل منهما شاهد من كتاب الله تعالى.
الوجه الأول: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو ضد الاستيحاش، لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له
491

استأنس وزال عنه الاستيحاش، ولما كان الاستئناس لازما للإذن أطلق اللازم، وأريد ملزومه الذي هو الإذن، وإطلاق اللازم، وإرادة الملزوم أسلوب عربي معروف،
والقائلون بالمجاز يقولون: إن ذلك من المجاز المرسل، وعلى أن هذه الآية أطلق فيها اللازم الذي هو الاستئناس وأريد ملزومه الذي هو الإذن يصير المعنى: حتى تستأذنوا، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: * (لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم) *، وقوله تعالى بعده: * (فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم) *، وقال الزمخشري في هذا الوجه بعد أن ذكره: وهذا من قبيل الكناية، والإرداف، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن.
الوجه الثاني في الآية: هو أن يكون الاستئناس بمعنى الاستعلام، والاستكشاف. فهو استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا أو علمه.
والمعنى: حتى تستعملوا وتستكشفوا الحال، هل يؤذن لكم أو لا؟ وتقول العرب: استئنس هل ترى أحدا، واستأنست فلم أر أحدا، أي تعرفت واستعلمت، ومن هذا المعنى قوله تعالى: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن) * أي علمتم رشدهم وظهر لكم. وقوله تعالى عن موسى: * (إذ رأى نارا فقال لاهله امكثوا إنى) * وقوله تعالى: * (فلما قضى موسى الاجل وسار بأهله ءانس من جانب الطور نارا) * فمعنى آنس نارا: رآها مكشوفة. ومن هذا المعنى قول نابغة ذبيان: والمعنى: حتى تستعملوا وتستكشفوا الحال، هل يؤذن لكم أو لا؟ وتقول العرب: استئنس هل ترى أحدا، واستأنست فلم أر أحدا، أي تعرفت واستعلمت، ومن هذا المعنى قوله تعالى: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن) * أي علمتم رشدهم وظهر لكم. وقوله تعالى عن موسى: * (إذ رأى نارا فقال لاهله امكثوا إنى) * وقوله تعالى: * (فلما قضى موسى الاجل وسار بأهله ءانس من جانب الطور نارا) * فمعنى آنس نارا: رآها مكشوفة. ومن هذا المعنى قول نابغة ذبيان:
* كأن رحلي وقد زال النهار بنا
* بذي الجليل على مستأنس وحد
*
* من وحش وجرة موشى أكارعه
* طاوى المصير كيف الصيقل الفرد
*
فقوله على مستأنس يعني: حمار وحش شبه به ناقته، ومعنى كونه مستأنسا أنه يستكشف، ويستعمل القانصين بشمه ريحهم وحدة بصره في نظره إليهم. ومنه أيضا قول الحرث بن حلزمة اليشكري: يصف نعامة شبه بها ناقته: فقوله على مستأنس يعني: حمار وحش شبه به ناقته، ومعنى كونه مستأنسا أنه يستكشف، ويستعمل القانصين بشمه ريحهم وحدة بصره في نظره إليهم. ومنه أيضا قول الحرث بن حلزمة اليشكري: يصف نعامة شبه بها ناقته:
* آنست نبأة وأفزعها القنا
* ص عصرا وقد دنا الإمساء
*
فقوله: آنست نبأة: أي أحست بصوت خفي، وهذا الوجه الذي هو أن معنى تستأنسوا تستكشفوا وتستعلوا، هل يؤذن لكم وذلك الاستعلام والاستكشاف إنما يكون
492

بالاستئذان أظهر عندي: وإن استظهر بعض أهل العلم الوجه الأول، وهناك وجه ثالث في تفسير الآية تركناه لعدم اتجاهه عندنا.
وبما ذكرنا تعلم أنما يروى عن ابن عباس وغيره من أن أصل الآية: حتى تستأذنوا وأن الكاتبين غلطوا في كتابتهم، فكتبوا تستأنسوا غلطا بدل تستأذنوا لا يعول عليه، ولا يمكن أن يصح عن ابن عباس، وإن صصح سنده عنه بعض أهل العلم. ولو فرضنا صحته فهو من القراءات التي نسخت وتركت، ولعل القارئ بها لم يطلع على ذلك، لأن جميع الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على كتابة تستأنسوا في جميع نسخ المصحف العثماني، وعلى تلاوتها بلفظ: تستأنسوا، ومضى على ذلك إجماع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في مصاحفهم وتلاوتهم من غير نكير. والقرآن العظيم تولى الله تعالى حفظه من التبديل والتغيير، كما قال تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وقال فيه * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) * وقال تعالى: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرءانه) *. مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: اعلم أن هذه الآية الكريمة دلت بظاهرها على أن دخول الإنسان بيت غيره بدون الاستئذان والسلام لا يجوز لأن قوله: * (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم) * الآية. نهي صريح، والنهي المتجرد عن القرائن يفيد التحريم على الأصح، كما تقرر في الأصول.
المسألة الثانية: اعلم أن الاستئذان ثلاث مرات، يقول المستأذون في كل واحدة منها: السلام عليكم أأدخل؟ فإن لم يؤذن له عند الثالثة، فليرجع، ولا يزد على الثلاث، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه، لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتا لا مطعن فيه.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال: استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي، فرجعت قال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال
493

رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع) فقال: والله لتقيمن عليه بينة أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
وقال ابن المبارك: أخبرني ابن عيينة: حدثني يزيد بن خصيفة عن بسر سمعت أبا سعيد بهذا ا ه بلفظه من صحيح البخاري، وهو نص صحيح صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستئذان ثلاث مرات، فإن لم يؤذن له بعد الثالثة رجع. وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا والله يزيد بن حصفية، عن بسر بن سعيد قال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: كنت جالسا بالمدينة في مجلس الأنصار فأتاه أبو موسى فزعا أو مذعورا قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلي أن آتيه فأتيت بابه، فسلمت ثلاثا فلم يرد علي فرجعت فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إنني أتيتك، فسلمت على بابك ثلاثا، فلم يردوا علي فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع) فقال عمر: أقم عليها البينة، وإلا أوجعتك. فقال أبي بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم: قال أبو سعيد: قلت: أنا أصغر القوم، قال: فادهب به حدثنا قتيبة بن سعيد وابن أبي عمر قالا: حدثنا سفيان، عن يزيد بن خصيفة بهذا الإسناد، وزاد ابن أبي عمر في حديثه: قال أبو سعيد: فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت. ا ه بلفظه من صحيح مسلم. وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي سعيد قال: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا فقال أبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا، قم يا أبا سعيد فقمت حتى أتيت عمر فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا.
وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي سعيد فقال: إن كان هذا شيئا حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فها، وإلا فلأجعلنك عظة. قال أبو سعيد: فأتانا فقال: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الاستئذان ثلاث. قال فجعلوا يضحكون، قال فقلت: أتاكم أخوكم المسلم قد أفزع، تضحكون انطلق فأنا شريكك في هذه العقوبة فأتاه، فقال هذا أبو سعيد.
وفي لفظ عند مسلم من حديث عبيد بن عمير أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثا إلى قوله: قال لتقيمن على هذا بينة، أو لأفعلن فخرج فانطلق إلى مجلس من الأنصار،
494

فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا، فقام أبو سعيد، فقال: وكنا نؤمر بهذا، فقال عمر: خفى على هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصفق في الأسواق. وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: لتأتيني على هذا ولا فعلت وفعلت، فذهب أبو موسى قال عمر: إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية، وإن لم يجد بينة فلم تجدوه، فلما أن جاء العشى وجدوه قال يا أبا موسى: ما تقول أقد وجدت قال: نعم أبي بن كعب رضي الله عنه قال عدل يا أبا الصفيل ما يقول هذا؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سبحان الله: إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت. وفي لفظ لمسلم: أن عمر قال لأبي: يا أبا المنذر آنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، فلا تكن يا بن الخطاب عذاب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في هذه الرواية قول عن سبحان الله، وما بعده.
فهذه الروايات الصحيحة عن أبي سعيد وأبي موسى، وأبي بن كعب رضي الله عنهم تدل دلالة صحيحة صريحة على أن الاستئذان ثلاث. وقال النووي في شرح مسلم: وأما قوله لا يقوم معه إلا أصغر القوم، فمعناه أن هذا حديث مشهور بيننا معروف لكبارنا، وصغارنا. حتى إن أصغرنا يحفظه وسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا ه منه. والظاهر منه كما قال وهذه الروايات الصحيحة الصريحة تبين أن هذا الاستئذان المعبر عنه في الآية بالاستئناس والسلام المذكور فيها لا يزاد فيه على ثلاث مرات، وأن الاستئناس المذكور في الآية، هو الاستئذان المكرر ثلاثا، لأن خير ما يفسر به كتاب الله بعد كتاب الله سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه. وبذلك تعلم أنما قاله ابن حجر في فتح الباري: من أن المراد بالاستئناس في قوله تعالى: حتى تستأنسوا: الاستئذان بتنحنح، ونحوه عند الجمهور خلاف التحقيق، وما استدل به لذلك من رواية الطبري من طريق مجاهد تفسير الآية بما ذكر إلى آخر ما ذكر من الأدلة لا يعول عليه، وأن الحق هو ما جاءت به الروايات الصحيحة من الاستئذان والتسليم ثلاثا كما رأيت.
وأن الصواب في ذلك هو ما نقله ابن حجر عن الطبري من طريق قتادة، قال الاستئناس: هو الاستئذان ثلاثا إلى آخره. والرواية الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الاستئذان ثلاث يؤيدها أنه صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل. قال ابن حجر في الفتح: وفي رواية عبيد بن حنين، التي أشرت إليها في الأدب المفرد، زيادة مفيدة، وهي أن أبا سعيد أو أبا
495

مسعود قال لعمر: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد سعد بن عبادة، حتى أتاه فسلم، فلم يؤذن له، ثم سلم الثانية فلم يؤذن له، ثم سلم الثالثة، فلم يؤذن له. فقال قضينا ما علينا، ثم رجع فأذن له سعد الحديث. فثبت ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ومن فعله وقصة سعد بن عبادة هذه أخرجها أبو داود من حديث قيس بن سعد بن عبادة مطولة بمعناه، وأحمد من طريق ثابت، عن أنس أو غيره كذا فيه، وأخرجه البزار عن أنس بغير تردد، وأخرجه الطبراني من حديث أم طارق مولاة سعد. ا ه محل الغرض منه. وقوله: فثبت ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعله: يدل على أن قصة استئذانه صلى الله عليه وسلم على سعد بن عبادة صحيحة ثابتة. وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا عمر عن ثابت، عن أنس أو غيره (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال: السلام عليك ورحمة الله، فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثا ورد عليه سعد ثلاثا ولم يسمعه فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه سعد فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي، ما سشلمت تسليمة إلا وهي بأذني ولقد رددت عليك ولم أسمعك، وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيبا فأكل النبي صلى الله عليه وسلم، فلم فرغ قال: (أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون) وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي عمرو الأوزاعء، سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: حدثني محمد بن عبد الرحمان بن أسعد بن زرارة، عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال: (زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله فرد سعد ردا خفيا فقلت ألا
تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعه يكثر علينا من السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد ردا خفيا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبعه سعد، فقال: يا رسول الله إني كنت أسمع سلامك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وذكر ابن كيير القصة إلى آخرها ثم قال: وقد روى هذا من وجوه أخرى، فهو حديث جيد قوي والله أعلم.
وبما ذكرنا تعلم أن الاستئناس في الآية الاستئذان ثلاثا، وليس المراد به التنحنح ونحوه، كما عزاه في فتح الباري للجمهور. واختلف هل يقدم السلام أو الاستئذان؟ وقال النووي في شرح مسلم: أجمع العلماء على أن الاستئذان مشروع، وتظاهرت به دلائل القرآن والسنة وإجماع الأمة، والسنة: أن يسلم ويستأذن ثلاثا فيجمع بين السلام،
496

والاستئذان. كما صرح به في القرآن، واختلفوا في أنه عل يستحب تقديم السلام، ثم الاستئذان أو تقديم الاستئذان أو تقدم الاستئذان ثم السلام والصحيح الذي جاءت به السنة. وقاله المحققون: إنه يقدم السلام، فيقول: السلام عليكم أأدخل؟ والثاني يقدم الاستئذان، والثالث وهو اختيار الماوردي من أصحابنا إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام، وإلا قدم الاستئذان، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان في تقديم السلام. انتهى محل الغرض منه بلفظ. ولا يخفى أن ما صح فيه حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على غيره، فلا ينبغي العدول عن تقديم السلام على الاستئذان، وتقديم الاستئناس الذي هو الاستئذان على السلام في قوله: * (حتى تستأنسوا وتسلموا) * لا يدل على تقديم الاستئذان، لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وإنما يقتضي مطلق التشريك، فيجوز عطف الأول على الأخير بالواو كقوله تعالى: * (العالمين يامريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الركعين) * والركوع قبل السجود، وقوله تعالى: * (ومنك ومن نوح) * الآية ونوح قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا معروف ولا ينافي ما ذكرنا أن الواو ربما عطف بها مرادا بها الترتيب كقوله تعالى: * (إن الصفا والمروة) * الآية وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أبدأ بما بدأ الله به) وفي رواية (ابدأوا بما بدأ الله به) بصيغة الأمر وكقول حسان رضي الله عنه:: (أبدأ بما بدأ الله به) وفي رواية (ابدأوا بما بدأ الله به) بصيغة الأمر وكقول حسان رضي الله عنه:
* هجوت محمدا وأجبت عنه
* وعند الله في ذاك الجزاء
*
على رواية الواو في هذا البيت.
وإيضاح ذلك أن الواو عند التجرد من القرائن والأدلة الخارجية لا تقتضي إلا مطلق التشريك بين المعطوف، والمعطوف عليه، ولا ينافي ذلك أنه إن قام دليل على إرادة الترتيب في العطف، كالحديث المذكور في البدء بالصاف، أو دلت على ذلك قرينة كالبيت المذكور، لأن جواب الهجاء لا يكون إلا بعده، أنها تدل على الترتيب لقيام الدليل أو القرينة على ذلك، والآية التي نحن بصددها لم يقم دليل راجح، ولا قرينة على إرادة الترتيب فيها بالواو. ا ه.
وذكر ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن وغيرها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم تكرر منه تعليم الاستئذان لمن لا يعلمه، بأن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ فانظره، وقد قدمنا أن النووي ذكر أنه صح فيه حديثان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمختار أن
497

صيغة الاستئذان التي لا ينبغي العدول عنها أن يقول المستأذن: السلام عليكم أأدخل؟ فإن لم يؤذن له بعد الثالثة انصرف، كما دلت عليه الأدلة.
واعلم أن الأحاديث الواردة في قصة عمر مع أبي موسى في الصحيح في سياقها تغاير لأن في بعضها: أن عمر أرسل إلى أبي موسى بعد انصرافه، فرده من حينه، وفي بعضها أنه لم يأته إلا في الثوم الثاني، وجمع بينها ابن حجر في الفتح قال: وظاهر هذين السياقين التغاير، فإن الأول يقتضي أنه لم يرجع إلى عمر إلا في اليوم الثاني، وفي الثاني أنه أرسل إليه في أحال إلى أن قال ويجمع بينهما: بأن عمر لما فرع من الشغل الذي كان فيه تذكره فسأل عنه فأخبر برجوعه فأرسل إليه، فلم يجده الرسول في ذلك الوقت وجاء هو إلى عمر في اليوم الثاني. ا ه. منه. والعلم عند الله تعالى. تنبيهات تتعلق بهذه المسألة
الأول: اعلم أن المستأذن إن تحقق أن أهل البيت سمعوه لزمه الانصراف بعد الثالثة، لأنهم لما سمعوه، ولم يأذنوا له دل ذلك على عدم الإذن، وقد بينت السنة الصحيحة عدم الزيادة على الثلاثة، خلافا لمن قال من أهل العلم: إن له أن يزيد على الثلاث مطلقا، وكذلك إذا لم يدر هل سمعوه أولا، فإنه يلزمه الانصراف بعد الثالثة، كما أوضحنا أدلتة ولم يقيد شيء منها بعلمه بأنهم سمعوه.
التنبيه الثاني: اعلم أن الذي يظهر لنا رجحانه من الأدلة، أنه إن علم أن أهل البيت، لم يسمعوا استئذانه لا يزيد على الثالثة، بل ينصرف بعدها لعموم الأدلة، وعدم تقييد شيء منها بكونهم لم يسمعوه خلافا لمن قال له الزيادة، ومن فصل في ذلك، وقال النووي في شرح مسلم: أما إذا استأذن ثلاثا، فلم يؤذن له، وظن أنه لم يسمعه، ففيه ثلاثة مذاهب أشهرها أنه ينصرف، ولا يعيد الاستئذان. والثاني يزيد فيه، والثالث إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعده، وإن كان بغيره أعاده. فمن قال بالأظهر فحجته قوله صلى الله عليه وسلم: (فلم يؤذن له فليرجع) ومن قال بالثاني: حمل الحديث على من علم أو ظن أنه سمعه، فلم يأذن والله أعلم.
والصواب إن شاء الله تعالى هو ما قدمنا من عدم الزيادة على الثلاث، لأنه ظاهر النصوص ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا بدليل يجب الرجوع إليه، كما هو مقرر في الأصول.
498

التنبيه الثالث: قال بعض أهل العلم: إن المستأذن ينبغي له ألا يقف تلقاء الباء بوجهه ولكنه يقف جاعلا الباب عن يمينه أو يساره، ويستأذن وهو كذلك، قال ابن كثير: ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليكن الباب عن يمينه، أو يساره لما رواه أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني في آخرين قالوا: حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا محمد بن عبد الرحمان عن عبد الله بن بشر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول السلام عليكم: السلام عليكم) وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور، انفرد به أبو داود. وقال أبو داود أيضا: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا جرير، ح، وثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا حفص عن الأعمش عن طلحة عن هزيل قال: جاء رجل قال عثمان: سعد، فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم، يستأذن فقام على الباب، قال عثمان: مستقبل الباب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هكذا عنك أو هكذا فإنما الاستئذان من النظر) ورواه أبو داود الطيالسي عن سفيان الثوري، عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود، من حديث انتهى من ابن كثير، والحديثان اللذان ذكرهما عن أبي داود نقلناهما من سنن أبي داود لأن نسخة ابن كثير التي عندنا فيها تحريف فيهما.
وفيما ذكرنا دلالة على ما ذكرنا من أن المستأذن لا يقف مستقبل الباب خوفا أو يفتح له الباب، فيرى من أهل المنزل ما لا يحبون أن يراه، بخلاف ما لو كان الباب عن يمينه أو يساره فإنه وقت فتح الباب لا يرى ما في داخل البيت. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة: اعلم أن المستأذن إذا قال له رب المنزل: من أنت، فلا تجوز له أن يقول له: أنا بل يفصح باسمه وكنيته إن كان مشهورا به، لأن لفظه: أنا يعبر بها كل أحد عن نفسه فلا تحصل بها معرفة المستأذن، وقد ثبت معنى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتا لا مطعن فيه.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك، حدثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابرا رضي الله عنه يقول: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي، فدققت الباب فقال من ذا؟ فقلت: أنا. فقال: أنا أنا، كأنه كرهها) انتهى منه، وتكريره صلى الله عليه وسلم لفظه: أنا دليل على أنه لم يرضها من جابر، لأنها لا يعرف بها المستأذن فهي جواب له صلى الله عليه وسلم، بما لا يطابق سؤاله، وظاهر الحديث أن جواب
499

المستأذن بأنا، لا يجوز لكراهة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وعدم رضاه به خلافا لمن قال: إنه مكروه كراهة تنزيه، وهو قول الجمهور.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن شعبة عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدعوت فقال البني صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ قلت أنا فخجر وهو يقول: أنا أنا).
حدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر بن أبي شيبة، واللفظ لأبي بكر قال قال يحيى أخبرنا وقال أبو بكر: حدثنا وكيع عن شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: (استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا؟ فقلت: أنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أنا).
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا النضر بن شميل، وأبو عامر العقدي (ح) وحدثنا محمد بن المينى، حدثني وهب بن جرير (ح) وحدثني عبد الرحمان بن بشر، حدثنا بهز كلهم عن شعبة بهذا الإسناد، وفي حديثهم كأنه كره ذلك انتهى منه، وقول جابر، كأنه كره ذلك فيه أنه لا يخفى من تكريره صلى الله عليه وسلم لفظة أنا أنه كره ذلك ولم يرضه، وحديث جابر هذا أخرجه غير الشيخين من باقي الجماعة.
المسألة الرابعة: اعلم أن الأظهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن الرجل يلزمه أن يستأذن على أمه وأخته وبنيه وبناته البالغين، لأنه إن دخل على من ذكر بغير استئذان فقد تقع عينه على عورات من ذكر، وذلك لا يحل له.
وقال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لحديث: إنما جعل الاستئذان من أجل البصر، ما نصه: ويؤخذ منه أنه يشرع الاستئذان عى كل أحد حتى المحارم، لئلا تكون منكشفة العورة: وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن نافع: كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلا بإذن، ومن طريق علقمة جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: استأذن على أمي؟ فقال ما على كل أحيانها تريد أن تراها، ومن طريق مسلم بن نذير بالنون مصغرا: سأل رجل حذيفة: أستأذن على أمي؟ فقال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره، ومن طريق موسى بن طلحة، دخلت مع أبي على أمي فدخل، واتبعته فدفع في صدري، وقال: تدخل بغير إذن؟ ومن طريق عطاء سألت ابن عباس استأذن على أختي؟
500

قال نعم، قلت إنها في حجري؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة. انتهى من فتح الباري.
وهذه الآثار عن هؤلاء الصحابة تؤيد ما ذكرنا من الاستئذان على من ذكرنا، ويفهم من الحديث الصحيح: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)، فوقوع البصر على عورات من ذكر لا يحل، كما ترى. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية التي نحن بصددها: وقال هشيم: أخبرنا أشعث بن سوار، عن كردوس، عن ابن مسعود، قال: عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم، وقال أشعث، عن عدي بن ثابت: أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهل بيتي، وأنا على تلك الحال، فنزلت: * (كريم يأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوتا) *، وقال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ثلاث أيات جحدهن الناس، قال الله تعالى: * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) *، قال ويقولون: إن أكرمكم عند الله أعظمكم بيتا، إلى أن قال: والأدب كله قد جحده الناس، قال: قلت: أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال: نعم، فرددت عليه ليرخص لي فأبى، فقال: تحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا، قال: فاستأذن، قال: فراجعته، فقال: أتحب أن تطيع الله؟ قال: قلت: نعم، قال: فاستأذن، قال ابن جريج: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه، قال: ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم، قال: وكان
يشدد في ذلك، وقال ابن جريج عن الزهري: سمعت هزيل بن شرحبيل الأودي الأعمى أنه سمع ابن مسعود يقول: عليكم الإذن على أمهاتكم، اه محل الغرض منه، وهو يدل على ما ذكرنا من الاستئذان على من ذكرنا، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة: اعلم أنه إن لم يكن مع الرجل في بيته إلا امرأته أن الأظهر أنه لا يستأذن عليها، وذلك يفهم من ظاهر قوله تعالى: * (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم) *، ولأنه لا حشمة بين الرجل وامرأته، ويجوز بينهما من الأحوال والملابسات ما لا يجوز لأحد غيرهما، ولو كان أبا أو أما أو ابنا، كما لا يخفى. ويدل له الأثر الذي ذكرناه آنفا عن موسى بن طلحة: أنه دخل مع أبيه طلحة على أمه فزجره طلحة عن أن يدخل على أمه بغير إذن، مع أن طلحة زوجها دخل بغير إذن.
501

وقال ابن كثير في (تفسيره): وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا، ثم قال ابن كثير: وهذا محمول على عدم الوجوب، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به؛ لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها، ثم نقل ابن كثير عن ابن جرير بسنده عن زينب امرأة ابن مسعود، قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة، فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه، قال: وإسناده صحيح، اه محل الغرض منه. والأول أظهر ولا سيما عند من يرى إباحة نظر الزوج إلى فرج امرأته كمالك وأصحابه ومن وافقهم، والعلم عند الله تعالى.
المسألة السادسة: إذا قال أهل المنزل للمستأذن: ارجع، وجب عليه الرجوع؛ لقوله تعالى: * (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم) *، وكان بعض أهل العلم يتمنى إذا استأذن على بعض أصدقائه أن يقولوا له: ارجع، ليرجع، فيحصل له فضل الرجوع المذكور في قوله: * (هو أزكى لكم) *؛ لأن ما قال الله إنه أزكى لنا لا شك أن لنا فيه خيرا وأجرا، والعلم عند الله تعالى.
المسألة السابعة: اعلم أن أقوى الأقوال دليلا وأرجحها فيمن نظر من كوة إلى داخل منزل قوم ففقأوا عينه التي نظر إليهم بها، ليطلع على عوراتهم أنه لا حرج عليهم في ذلك من إثم ولا غرم دية العين ولا قصاص، وهذا لا ينبغي العدول عنه لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتا لا مطعن فيه، ولذا لم نذكر هنا أقوال من خالف في ذلك من أهل العلم لسقوطها عندنا، لمعارضتها النص الثابت عنه صلى الله عليه وسلم. قال البخاري رحمه الله في (صحيحه): باب من اطلع في بيت قوم ففقأوا عينه فلا دية له، ثم ذكر من أحاديث هذه الترجمة: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح)، اه منه. والجناح الحرج. وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: (لم يكن عليك جناح)، لفظ جناح فيه نكرة في سياق النفي فهي تعم رفع كل حرج من إثم ودية وقصاص، كما ترى.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في (صحيحه): حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه)، اه منه.
502

وهذا الحديث الصحيح فيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم أنهم يحل لهم أن يفقأوا عينه، وكون ذلك حلالا لهم مستلزم أنهم ليس عليهم فيه شئ من إثم، ولا دية، ولا قصاص؛ لأن كل ما أحله الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لا مؤاخذة على فعله البتة بنوع من أنواع المؤاخذة، كما لا يخفى.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى في (صحيحه) متصلا بكلامه هذا الذي نقلنا عنه: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح)، اه منه.
وقد بينا وجه دلالته على أنه لا شئ في عين المذكور، وثبوت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رأيت يدل على أنه لما تعدى وانتهك الحرمة، ونظر إلى بيت غيره دون استئذان، أن الله أذن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في أخذ عينه الخائنة، وأنها هدر لا عقل فيها، ولا قود، ولا إثم، ويزيد ما ذكرنا توكيدا وإيضاحا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم منه أنه هم أن يفعل ذلك.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه تحت الترجمة المذكور آنفا، وهي قوله: باب من اطلع في بيت قوم ففقأوا عينه فلا دية له: حدثنا أبو اليمان، حدثنا حماد بن زيد، عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، عن أنس رضي الله عنه: أن رجلا اطلع في بعض جحر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه بمشقص أو مشاقص، وجعل يختله ليطعنه.
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن ابن شهاب، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدري يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أعلم أنك تنتظرني لطعنت به في عينيك)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإذن من قبل البصر)، اه منه. وقد ذكر البخاري هذه الأحاديث التي ذكرناها عنه هنا في كتاب الديات.
وقد قال في كتاب الاستئذان: باب الاستئذان من أجل البصر:
503

حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال الزهري: حفظته كما أنك هاهنا عن سهل بن سعد، قال: اطلع رجل من جحر في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدري يحك بها رأسه، فقال: (لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر).
حدثنا مسدد، حدثنا حماد بن زيد، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص أو بمشاقص، فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه، وهذه النصوص الصحيحة تؤيد ما ذكرنا فلا التفات لمن خالفها من أهل العلم، ومن أولها؛ لأن النص لا يجوز العدول عنه، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
واعلم أن المشقص بكسر أوله وسكون ثانيه، وفتح ثالثه هو نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض، وقوله في الحديث المذكور: من جحر في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، الجحر الأول: بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وهو كل ثقب مستدير في أرض أو حائط. والثاني: بضم الحاء المهملة وفتح الجيم جمع حجرة: وهي ناحية البيت.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو كامل فضيل بن الحسين وقتيبة بن سعيد، واللفظ ليحيى، وأبي كامل قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا حماد بن زيد، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه بمشقص أو مشاقص، فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختله ليطعنه، وفي لفظ عند مسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي: أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدري يحك بها رأسه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)، وفي مسلم روايات أخر بهذا المعنى قد اكتفينا منها بما ذكرنا.
وهذه النصوص الصحيحة التي ذكرنا لا ينبغي العدول عنها، ولا تأويلها بغير مستند صحيح من كتاب أو سنة، ولذلك اخترنا ما جاء فيها من أن تلك العين الخائنة يحل أخذها، وتكون هدرا، ولم نلتفت إلى قول من أقوال من خالف ذلك، ولا لتأويلهم للنصوص بغير مستند يجب الرجوع إليه، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثامنة: اعلم أن صاحب المنزل إذا أرسل رسولا إلى شخص ليحضر عنده، فإن أهل العلم قد اختلفوا: هل يكون الإرسال إليه إذنا؛ لأنه طلب حضوره بإرساله إليه، وعلى هذا القول إذا جاء منزل من أرسل إليه فله الدخول بلا إذن جديد اكتفاء بالإرسال إليه، أو لا بد من أن يستأذن إذا أتى المنزل استئذانا جديدا، ولا يكتفي بالإرسال؟ وكل من
504

القولين قال به بعض أهل العلم، واحتج من قال: إن الإرسال إليه إذن يكفي عن الاستئذان عند إتيان المنزل بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد عن حبيب، وهشام عن محمد عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رسول الرجل إلى الرجل إذنه). حدثنا حسين بن معاذ، ثنا عبد الأعلى، ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن)، قال أبو علي اللؤلؤي: سمعت أبا داود يقول: قتادة لم يسمع من أبي رافع شيئا، اه من أبي داود.
قال ابن حجر في (فتح الباري): وقد ثبت سماعه منه في الحديث الذي سيأتي في البخاري في كتاب التوحيد من رواية سليمان التيمي، عن قتادة: أن أبا رافع حدثه، اه.
ويدل لصحة ما رواه أبو داود ورواه البخاري تعليقا: باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن؟ وقال سعيد عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هو إذنه) اه. ومعلوم أن البخاري لا يعلق بصيغة الجزم، إلا ما هو صحيح عنده، كما قدمناه مرارا. وقال ابن حجر في (الفتح): في حديث كون (رسول الرجل إلى الرجل إذنه)، وله متابع أخرجه البخاري في الأدب المفرد من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة، بلفظ: (رسول الرجل إلى الرجل إذنه)، وأخرج له شاهدا موقوفا على ابن مسعود، قال: (إذا دعي الرجل فهو إذنه)، وأخرجه ابن أبي شيبة مرفوعا، انتهى محل الغرض منه.
فهذه جملة أدلة من قالوا: بأن من دعي لا يستأذن إذا قدم.
وأما الذين قالوا: يستأذن إذا قدم إلى منزل المرسل، ولا يكتفي بإرسال الرسول، فقد احتجوا بما رواه البخاري في (صحيحه): حدثنا أبو نعيم، حدثنا عمر بن ذر، وحدثني محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا عمر بن ذر، أخبرنا مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد لبنا في قدح، فقال: (أبا هر ألحق أهل الصفة فادعهم إلي)، قال: فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فدخلوا، اه منه. قال: هذا الحديث الصحيح صريح في أنه صلى الله عليه وسلم أرسل أبا هر لأهل الصفة، ولم يكتفوا بالإرسال عن الاستئذان ولو كان يكفي عنه لبينه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة.
ومن أدلة أهل هذا القول ظاهر عموم قوله تعالى: * (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى
505

تستأنسوا) *؛ لأن ظاهرها يشمل من أرسل إليه وغيره، وقد جمع بعض أهل العلم بين أدلة القولين. قال ابن حجر في (فتح الباري): وجمع المهلب وغيره بتنزيل ذلك على اختلاف حالين إن طال العهد بين الطلب والمجيء احتاج إلى استئناف الاستئذان، وكذا إن لم يطل لكن كان المستدعي في مكان يحتاج معه إلى الإذن في العادة، وإلا لم يحتج إلى استئناف إذن. وقال ابن التين: لعل الأول فيمن علم أنه ليس عنده من يستأذن لأجله، والثاني بخلافه. قال: والاستئذان على كل حال أحوط. وقال غيره: إن حضر صحبة الرسول أغناه استئذان الرسول، ويكفيه سلام الملاقاة، وإن تأخر عن الرسول احتاج إلى الاستئذان، وبهذا جمع الطحاوي، واحتج بقوله في الحديث: (فاقبلوا فاستأذنوا)، فدل على أن أبا هريرة لم يكن معهم، إلا لقال فأقبلنا، كذا قال، إ ه كلام ابن حجر. وأقربها عندي الجمع الأخير، ويدل له الحديث المذكور فيه، وقوله في حديث أبي داود المتقدم: فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن، والعلم عند الله تعالى.
* (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذالك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ءابآئهن أو ءابآء بعولتهن أو أبنآئهن أو أبنآء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن
أو بنى أخواتهن أو نسآئهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النسآء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون * وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم * وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وءاتوهم من مال الله الذىءاتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحيواة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم * ولقد أنزلنآ إليكم ءايات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين * الله نور السماوات والا رض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح فى زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدى الله لنوره من يشآء ويضرب الله الا مثال للناس والله بكل شىء عليم * فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والا صال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلواة وإيتآء الزكواة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والا بصار * ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشآء بغير حساب) * * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذالك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) *. أمر الله جل وعلا المؤمنين والمؤمنات بغض البصر، وحفظ الفرج، ويدخل في حفظ الفرج: حفظه من الزنى، واللواط، والمساحقة، وحفظه من الإبداء للناس والانكشاف لهم، وقد دلت آيات أخر على أن حفظه من المباشرة المدلول عليه بهذه الآية يلزم عن كل شئ إلا الزوجة والسرية، وذلك في قوله تعالى في سورة (المؤمنون) و (سأل سائل)، * (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) *.
فقد بينت هذه الآية أن حفظ الفرج من الزنى، واللواط لازم، وأنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والموطوءة بالملك.
وقد بينا في سورة (البقرة) أن الرجل يجب عليه حفظ فرجه عن وطء زوجته في الدبر، وذكرنا لذلك أدلة كثيرة، وقد أوضحنا الكلام على آية: * (والذين هم لفروجهم) *، في سورة (قد أفلح المؤمنون)، وقد وعد الله تعالى من امتثل أمره في هذه الآية من الرجال والنساء بالمغفرة والأجر العظيم، إذا عمل معها الخصال المذكورة معها في سورة (الأحزاب)، وذلك في قوله تعالى: * (خبيرا إن المسلمين والمسلمات) *، إلى
506

قوله تعالى: * (والحافظين فروجهم والحافظات والذكرين الله كثيرا والذكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) *، وأوضح تأكيد حفظ الفرج عن الزنى في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا) *، وقوله تعالى: * (والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل) *، إلى غير ذلك من الآيات. وأوضح لزوم حفظ الفرج عن اللواط، وبين أنه عدوان في آيات متعددة في قصة قوم لوط؛ كقوله: * (أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) *، وقوله تعالى: * (ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون فى ناديكم المنكر) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا كلام أهل العلم وأدلتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط في سورة (هود)، وعقوبة الزاني في أول هذه السورة الكريمة.
واعلم أن الأمر بحفظ الفرج يتناول حفظه من انكشافه للناس. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنى؛ كما قال تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون) *، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن: (احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك)، اه منه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) *، قال الزمخشري في الكشاف: من للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحل، وجوز الأخفش أن تكون مزيدة، وأباه سيبويه، فإن قلت: كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفرج؟ قلت: دلالة على أن أمر النظر أوسع، إلا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن، وصدورهن، وثديهن، وأعضادهن، وأسوقهن، وأقدامهن، وكذلك الجواري المستعرضات، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين، وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استنثي منه، ويجوز أن يراد مع حفظها من الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء.
507

وعن ابن زيد: كل ما في القرءان من حفظ الفرج فهو عن الزنى إلا هذا فإنه أراد به الاستتار، اه كلام الزمخشري.
وما نقل عن ابن زيد من أن المراد بحفظ الفرج في هذه الآية الاستتاء فيه نظر. بل يدخل فيه دخولا أوليا حفظه من الزنى واللواط، ومن الأدلة على ذلك تقديمه الأمر بغض البصر على الأمر بحفظ الفرج؛ لأن النظر بريد الزنى، كما سيأتي إيضاحه قريبا إن شاء الله تعالى. وما ذكر جواز النظر إليه من المحارم لا يخلو بعضه من نظر، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى وتفصيله في سورة (الأحزاب)، كما وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أنا نوضح مسألة الحجاب في سورة (الأحزاب).
وقول الزمخشري: إن * (من) * في قوله: * (يغضوا من أبصارهم) * للتبعيض، قاله غيره، وقواه القرطبي بالأحاديث الواردة في أن نظرة الفجاءة لا حرج فيها وعليه أن يغض بصره بعدها، ولا ينظر نظرا عمدا إلى ما لا يحل، وما ذكره الزمخشري عن الأخفش، وذكره القرطبي وغيرهما من أن * (من) * زائدة، لا يعول عليه. وقال القرطبي: وقيل الغض: النقصان. يقال: غض فلان من فلان، أي: وضع منه، فالبصر إذا لم يمكن من عمله، فهو موضوع منه ومنقوص، ف * (من) * صلة للغض، وليست للتبعيض، ولا للزيادة، اه منه.
والأظهر عندنا أن مادة الغض تتعدى إلى المفعول بنفسها وتتعدى إليه أيضا بالحرف الذي هو * (من) *، ومثل ذلك كثير في كلام العرب، ومن أمثله تعدي الغض للمعقول بنفسه قول جرير: والأظهر عندنا أن مادة الغض تتعدى إلى المفعول بنفسها وتتعدى إليه أيضا بالحرف الذي هو * (من) *، ومثل ذلك كثير في كلام العرب، ومن أمثله تعدي الغض للمعقول بنفسه قول جرير:
* فغض الطرف إنك من نمير
* فلا كعبا بلغت ولا كلابا
*
وقول عنترة: وقول عنترة:
* وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
* حتى يواري جارتي مأواها
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* وما كان غض الطرف منا سجية
* ولكننا في مذحج غربان
*
لأن قوله: غض الطرف مصدر مضاف إلى مفعوله بدون حرف.
508

ومن أمثلة تعدي الغض ب * (من) * قوله تعالى: * (يغضوا من أبصارهم) * و * (يغضضن من أبصارهن) *، وما ذكره هنا من الأمر بغض البصر قد جاء في آية أخرى تهديد من لم يمتثله، ولم يغض بصره عن الحرام، وهي قوله تعالى: * (يعلم خائنة الاعين) *.
وقد قال البخاري رحمه الله: وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن: إن نساء العجم يكشفن صدرهن ورءوسهن، قال: اصرف بصرك عنهن، يقول الله عز وجل: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) *، قال قتادة: عما لا يحل لهم، * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) *، خائنة الأعين النظر إلى ما نهي عنه، اه محل الغرض منه بلفظه.
وبه تعلم أن قوله تعالى: * (يعلم خائنة الاعين) * فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له، وهذا الذي دلت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحل جاء موضحا في أحاديث كثيرة.
منها: ما ثبت في الصحيح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والجلوس بالطرقات)، قالوا: يا رسول اللها ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، قال: (فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه)، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)، انتهى. هذا لفظ البخاري في (صحيحه).
ومنها ما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلا وضيئا فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها، الحديث.
ومحل الشاهد منه: أنه صلى الله عليه وسلم صرف وجه الفضل عن النظر إليها، فدل ذلك على أن نظره إليها لا يجوز، واستدلال من يرى أن للمرأة الكشف عن وجهها بحضرة الرجال الأجانب بكشف الخثعمية وجهها في هذا الحديث، سيأتي إن شاء الله الجواب عنه في
509

الكلام على مسألة الحجاب في سورة (الأحزاب).
ومنها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما: من أن نظر العين إلى ما لا يحل لها تكون به زانية، فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس، أنه قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين: النظر، وزنى اللسان: المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه)، اه. هذا لفظ البخاري، والحديث متفق عليه، وفي بعض رواياته زيادة على ما ذكرنا هنا.
ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: (فزنى العين النظر)، فإطلاق اسم الزنى على نظر العين إلى ما لا يحل دليل واضح على تحريمه والتحذير منه، والأحاديث بمثل هذا كثيرة معلومة.
ومعلوم أن النظر سبب الزنى فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلا قد يتمكن بسببه حبها من قلبه تمكنا يكون سبب هلاكه، والعياذ بالله، فالنظر بريد الزنى. وقال مسلم بن الوليد الأنصاري: ومعلوم أن النظر سبب الزنى فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلا قد يتمكن بسببه حبها من قلبه تمكنا يكون سبب هلاكه، والعياذ بالله، فالنظر بريد الزنى. وقال مسلم بن الوليد الأنصاري:
* كسبت لقلبي نظرة لتسره
* عيني فكانت شقوة ووبالا
*
* ما مر بي شئ أشد من الهوى
* سبحان من خلق الهوى وتعالى
*
وقال آخر: وقال آخر:
* ألم تر أن العين للقلب رائد
* فما تألف العينان فالقلب آلف
*
وقال آخر: وقال آخر:
* وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا
* لقلبك يوما أتعبتك المناظر
*
* رأيت الذي لا كله أنت قادر
* عليه ولا عن بعضه أنت صابر
*
وقال أبو الطيب المتنبي: وقال أبو الطيب المتنبي:
* وأنا الذي اجتلب المنية طرفه
* فمن المطالب والقتيل القاتل
*
وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله في كتابه (ذم الهوى) فصولا جيدة نافعة أوضح فيها الآفات التي يسببها النظر وحذر فيها منه، وذكر كثيرا من أشعار الشعراء، والحكم النثرية
510

في ذلك وكله معلوم، والعلم عند الله تعالى. * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) *. اعلم أولا أن كلام العلماء في هذه الآية يرجع جميعه إلى ثلاثة أقوال:
الأول: أن الزينة هنا نفس شئ من بدن المرأة؛ كوجهها وكفيها.
الثاني: أن الزينة هي ما يتزين به خارجا عن بدنها.
وعلى هذا القول ففي الزينة المذكورة الخارجة عن بدن المرأة قولان:
أحدهما: أنها الزينة التي لا يتضمن إبداؤها رؤية شئ من البدن؛ كالملاءة التي تلبسها المرأة فوق القميص والخمار والإزار.
والثاني: أنها الزينة التي يتضمن إبداؤها رؤية شئ من البدن كالكحل في العين، فإنه يتضمن رؤية الوجه أو بعضه، وكالخضاب والخاتم، فإن رؤيتهما تستلزم رؤية اليد، وكالقرط والقلادة والسوار، فإن رؤية ذلك تستلزم رؤية محله من البدن؛ كما لا يخفى.
وسنذكر بعض كلام أهل العلم في ذلك، ثم نبين ما يفهم من آيات القرءان رجحانه.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية، وقوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) *، أي: لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه، قال ابن مسعود كالرداء والثياب، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه، وقال بقول ابن مسعود: الحسن، وابن سيرين، وأبو الجوزاء، وإبراهيم النخغي وغيرهم، وقال الأعمش عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) *، قال: وجهها وكفيها والخاتم. وروي عن ابن عمر، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، والضحاك، وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك. وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها؛ كما قال أبو إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال في قوله: * (ولا يبدين زينتهن) * الزينة: القرط، والدملوج، والخلخال، والقلادة. وفي رواية عنه بهذا الإسناد، قال: الزينة زينتان، فزينة لا يراها إلا الزوج الخاتم والسوار، وزينة يراها
511

الأجانب، وهي الظاهر من الثياب، وقال الزهري: لا يبدو لهؤلاء الذين سمى الله ممن لا تحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر، وأما عامة الناس،
فلا يبدو منها إلا الخواتم. وقال مالك، عن الزهري * (إلا ما ظهر منها) *: الخاتم والخلخال. ويحتمل أن ابن عباس، ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها: بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في (سننه):
حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي، ومؤمل بن الفضل الحراني، قالا: حدثنا الوليد، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد بن دريك، عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال: (يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا)، وأشار إلى وجهه وكفيه. لكن قال أبو داود، وأبو حاتم الرازي: هو مرسل، خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله عنها، والله أعلم، اه كلام ابن كثير.
وقال القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: * (إلا ما ظهر منها) *: واختلف الناس في قدر ذلك، فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب. وزاد ابن جبير: الوجه. وقال سعيد بن جبير أيضا، وعطاء، والأوزاعي: الوجه والكفان والثياب. وقال ابن عباس، وقتادة، والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ ونحو هذا، فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس. وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آخر عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هاهنا)، وقبض على نصف الذراع.
قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك، فما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء، فهو المعفو عنه.
قلت: وهذا قول حسن إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة، وعبادة وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما يدل لذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها، ثم ذكر القرطبي حديث عائشة المذكور الذي
512

قدمناه قريبا، ثم قال: وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا: إن المرأة إذا كانت جميلة، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة، فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوز أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها، اه محل الغرض من كلام القرطبي.
وقال الزمخشري: الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب، فلا بأس به، وما خفي منها كالسوار، والخلخال، والدملج، والقلادة، والإكليل، والوشاح، والقرط، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين، وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر؛ لأن هذه الزينة واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء، وهي الذراع، والساق، والعضد، والعنق، والرأس، والصدر، والأذن. فنهى عن إبداء الزينة نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع، بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها لا مقال في حله، كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر، ثابت القدم في الحرمة، شاهد على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله في الكشف عنها، إلى آخر كلامه.
وقال صاحب (الدر المنثور): وأخرج عبد الرزاق والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن) *، قال: الزينة السوار والدملج والخلخال، والقرط، والقلادة * (إلا ما ظهر منها) *، قال: الثياب والجلباب.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: الزينة زينتان،، زينة ظاهرة، وزينة باطنة لا يراها إلا الزوج. فأما الزينة الظاهرة: فالثياب، وأما الزينة الباطنة: فالكحل، والسوار والخاتم. ولفظ ابن جرير: فالظاهرة منها الثياب، وما يخفى: فالخلخالان والقرطان والسواران.
وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله: * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) *، قال: الكحل والخاتم.
513

وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) *، قال: الكحل والخاتم والقرط والقلادة.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد، عن ابن عباس في قوله: * (إلا ما ظهر منها) *، قال: هو خضاب الكف، والخاتم.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: * (إلا ما ظهر منها) *، قال: وجهها، وكفاها والخاتم.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: * (إلا ما ظهر منها) *، قال: رقعة الوجه، وباطن الكف.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في سننه، عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عن الزينة الظاهرة؟ فقالت: القلب والفتخ، وضمت طرف كمها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة في قوله: * (إلا ما ظهر منها) *، قال: الوجه وثغرة النحر.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: * (إلا ما ظهر منها) *، قال: الوجه والكف.
وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله: * (إلا ما ظهر منها) *، قال: الكفان والوجه.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير، عن قتادة * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) *، قال: المسكتان والخاتم والكحل.
قال قتادة: وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إلا إلى هاهنا) ويقبض نصف الذراع. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير، عن المسور بن مخرمة في قوله: * (إلا ما ظهر منها) *، قال: القلبين، يعني السوار والخاتم والكحل.
وأخرج سعيد وابن جرير، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس في قوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) *، قال: الخاتم والمسكة. قال ابن جريج: وقالت عائشة رضي الله عنها: القلب والفتخة. قالت عائشة: دخلت علي ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة، فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وأعرض، فقالت عائشة رضي الله عنها: إنها ابنة أخي وجارية، فقال: (إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها وإلا ما دون
514

هذا)، وقبض على ذراعه نفسه، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى، اه محل الغرض من كلام صاحب (الدر المنثور).
وقد رأيت في هذه النقول المذكورة عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والزينة الباطنة، وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال؛ كما ذكرنا.
الأول: أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجا عن أصل خلقتها، ولا يستلزم النظر إليه رؤية شئ من بدنها؛ كقول ابن مسعود، من وافقه: إنها ظاهر الثياب؛ لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها وهي ظاهرة بحكم الاضطرار، كما ترى.
وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها، وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة.
القول الثاني: أن المراد بالزينة: ما تتزين به، وليس من أصل خلقتها أيضا، لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم رؤية شئ من بدن المرأة، وذلك كالخضاب والكحل، ونحو ذلك؛ لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع الملابس له من البدن، كما لا يخفى.
القول الثالث: أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها؛ كقول من قال: إن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان، وما تقدم ذكره عن بعض أهل العلم.
وإذا عرفت هذا، فاعلم أننا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، وتكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول، وقدمنا أيضا في ترجمته أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون الغالب في القرءان إرادة معنى معين في اللفظ، مع تكرر ذلك اللفظ في القرءان، فكون ذلك المعنى هو المراد من اللفظ في الغالب، يدل على أنه هو المراد في محل النزاع؛ لدلالة غلبة إرادته في القرءان بذلك اللفظ، وذكرنا له بعض الأمثلة في الترجمة.
وإذا عرفت ذلك، فاعلم أن هذين النوعين من أنواع البيان للذين ذكرناهما في ترجمة هذا الكتاب المبارك، ومثلنا لهما بأمثلة متعددة كلاهما موجود في هذه الآية، التي نحن بصددها.
أما الأول منهما، فبيانه أن قول من قال في معنى: * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) *، أن المراد بالزينة: الوجه والكفان مثلا، توجد في الآية قرينة تدل على عدم صحة
515

هذا القول، وهي أن الزينة في لغة العرب، هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها: كالحلى، والحلل. فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يجوز الحمل عليه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وبه تعلم أن قول من قال: الزينة الظاهرة: الوجه، والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية، وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول، فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه.
وأما نوع البيان الثاني المذكور، فإيضاحه: أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرءان العظيم مرادا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشئ المزين بها؛ كقوله تعالى: * (مهتدون يابنىءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد) *، وقوله تعالى: * (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده) *، وقوله تعالى: * (إنا جعلنا ما على الارض زينة لها) *، وقوله تعالى: * (وما أوتيتم من شىء فمتاع ياأيها النبى قل) *، وقوله تعالى: * (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) *، وقوله تعالى: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) *، وقوله تعالى: * (فخرج على قومه فى زينته) *، وقوله تعالى: * (المال والبنون زينة الحيواة الدنيا) *، وقوله تعالى: * (اعلموا أنما الحيواة الدنيا لعب ولهو) *، وقوله تعالى: * (قال موعدكم يوم الزينة) *، وقوله تعالى عن قوم موسى: * (ولاكنا حملنا أوزارا من زينة القوم) *، وقوله تعالى: * (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) *، فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشئ وهو ليس من أصل خلقته، كما ترى. وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرءان، يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى، الذي غلبت إرادته في القرءان العظيم، وهو المعروف في كلام العرب؛ كقول الشاعر: وأما نوع البيان الثاني المذكور، فإيضاحه: أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرءان العظيم مرادا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشئ المزين بها؛ كقوله تعالى: * (مهتدون يابنىءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد) *، وقوله تعالى: * (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده) *، وقوله تعالى: * (إنا جعلنا ما على الارض زينة لها) *، وقوله تعالى: * (وما أوتيتم من شىء فمتاع ياأيها النبى قل) *، وقوله تعالى: * (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) *، وقوله تعالى: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) *، وقوله تعالى: * (فخرج على قومه فى زينته) *، وقوله تعالى: * (المال والبنون زينة الحيواة الدنيا) *، وقوله تعالى: * (اعلموا أنما الحيواة الدنيا لعب ولهو) *، وقوله تعالى: * (قال موعدكم يوم الزينة) *، وقوله تعالى عن قوم موسى: * (ولاكنا حملنا أوزارا من زينة القوم) *، وقوله تعالى: * (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) *، فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشئ وهو ليس من أصل خلقته، كما ترى. وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ
الزينة في القرءان، يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى، الذي غلبت إرادته في القرءان العظيم، وهو المعروف في كلام العرب؛ كقول الشاعر:
* يأخذن زينتهن أحسن ما ترى
* وإذا عطلن فهن خير عواطل
*
وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين، فيه نظر.
وإذا علمت أن المراد بالزينة في القرءان ما يتزين به مما هو خارج عن أصل الخلقة، وأن من فسروها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين، فقال بعضهم: هي زينة لا يستلزم النظر إليها رؤية شئ من بدن المرأة كظاهر الثياب. وقال بعضهم: هي زينة يستلزم النظر
516

إليها رؤية موضعها من بدن المرأة؛ كالكحل والخطاب، ونحو ذلك.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود رضي الله عنه: أن الزينة الظاهرة هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شئ من بدن المرأة الأجنبية، وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر؛ لأنه هو أحوط الأقوال، وأبعدها عن أسباب الفتنة، وأطهرها لقلوب الرجال والنساء، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها؛ كما هو معلوم والجاري على قواعد الشرع الكريم، هو تمام المحافظة والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي.
واعلم أن مسألة الحجاب وإيضاح كون الرجل لا يجوز له النظر إلى شئ من بدن الأجنبية، سواء كان الوجه والكفين أو غيرهما قد وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك وغيرها من المواضع، بأننا سنوضح ذلك في سورة (الأحزاب)، في الكلام على آية الحجاب، وسنفي إن شاء الله تعالى بالوعد في ذلك بما يظهر به للمنصف ما ذكرنا.
واعلم أن الحديث الذي ذكرنا في كلام ابن كثير عند أبي داود، وهو حديث عائشة في دخول أسماء على النبي صلى الله عليه وسلم، في ثياب رقاق، وأنه قال لها: (إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا)، وأشار إلى وجهه وكفيه، حديث ضعيف عند أهل العلم بالحديث؛ كما قدمنا عن ابن كثير أنه قال فيه: قال أبو داود، وأبو حاتم الرازي: هو مرسل، وخالد بن دريك لم يسمع من عائشة، والأمر كما قال، وعلى كل حال فسنبين هذه المسألة إن شاء الله بيانا شافيا مع مناقشة أدلة الجميع في سورة (الأحزاب)، ولذلك لم نطل الكلام فيها هاهنا.
تنبيه
قد ذكرنا في كلام أهل العلم في الزينة أسماء كثير من أنواع من الزينة، ولعل بعض الناظرين في هذا الكتاب، لا يعرف معنى تلك الأنواع من الزينة، فأردنا أن نبينها هاهنا تكميلا للفائدة.
أما الكحل والخضاب فمعروفان، وأشهر أنواع خضاب النساء الحناء، والقرط ما يعلق في شحمة الأذن، ويجمع على قرطة كقردة، وقراط، وقروط، وأقراط، ومنه قول الشاعر:
517

أما الكحل والخضاب فمعروفان، وأشهر أنواع خضاب النساء الحناء، والقرط ما يعلق في شحمة الأذن، ويجمع على قرطة كقردة، وقراط، وقروط، وأقراط، ومنه قول الشاعر:
* أكلت دما إن لم أرعك بضرة
* بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
*
والخاتم معروف، وهو حلية الأصابع. والفتخ: جمع فتخة بفتحات وهي حلقة من فضة لا فص فيها، فإذا كان فيها فص، فهو الخاتم. وقيل: قد يكون للفتخة فص، وعليه فهي نوع من الخواتم، والفتخة تلبسها النساء في أصابع أيديهن، وربما جعلتها المرأة في أصابع رجليها، ومن ذلك قول الراجزة، وهي الدهناء بنت مسحل زوجة العجاج: والخاتم معروف، وهو حلية الأصابع. والفتخ: جمع فتخة بفتحات وهي حلقة من فضة لا فص فيها، فإذا كان فيها فص، فهو الخاتم. وقيل: قد يكون للفتخة فص، وعليه فهي نوع من الخواتم، والفتخة تلبسها النساء في أصابع أيديهن، وربما جعلتها المرأة في أصابع رجليها، ومن ذلك قول الراجزة، وهي الدهناء بنت مسحل زوجة العجاج:
* والله لا تخدعني بضم
* ولا بتقبيل ولا بشم
*
* إلا بزعزاع يسلي همي
* تسقط منه فتخي في كمي
*
والخلخال، ويقال له: الخلخل حلية معروفة تلبسها النساء في أرجلهن كالسوار في المعصم، والمخلخل: موضع الخلخال من الساق، ومنه قول امرئ القيس: والخلخال، ويقال له: الخلخل حلية معروفة تلبسها النساء في أرجلهن كالسوار في المعصم، والمخلخل: موضع الخلخال من الساق، ومنه قول امرئ القيس:
* إذا قلت هاتي نوليني تمايلت
* على هضيم الكشح ريا المخلخل
*
والدملج: ويقال له الدملوج: هو المعضد، وهو ما شد في عضد المرأة من الخرز وغيره، والعضد من المرفق إلى المنكب، ومنه قول الشاعر: والدملج: ويقال له الدملوج: هو المعضد، وهو ما شد في عضد المرأة من الخرز وغيره، والعضد من المرفق إلى المنكب، ومنه قول الشاعر:
* ما مركب وركوب الخيل يعجبني
* كمركب بين دملوج وخلخال
*
والسوار: حلية من الذهب، أو الفضة مستديرة كالحلقة تلبسها المرأة في معصمها، وهو ما بين مفصل اليد والمرفق، وهو القلب بضم القاف.
وقال بعض أهل اللغة: إن القلب هو السوار المفتول من طاق واحد؛ لا من طاقين أو أكثر، ومنه قول خالد بن يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزبير بن العوام رضي الله عنه: وقال بعض أهل اللغة: إن القلب هو السوار المفتول من طاق واحد؛ لا من طاقين أو أكثر، ومنه قول خالد بن يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزبير بن العوام رضي الله عنه:
* تجول خلاخيل النساء ولا أرى
* لرملة خلخالا يجول ولا قلبا
*
* أحب بني العوام من أجل حبها
* ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
*
والمسكة بفتحات: السوار من عاج أو ذبل، والعاج سن الفيل، والذبل بالفتح شئ كالعاج، وهو ظهر السلحفاة البحرية، يتخذ منه السوار، ومنه قول جرير يصف امرأة: والمسكة بفتحات: السوار من عاج أو ذبل، والعاج سن الفيل، والذبل بالفتح شئ كالعاج، وهو ظهر السلحفاة البحرية، يتخذ منه السوار، ومنه قول جرير يصف امرأة:
* ترى العبس الحولى جونا بكوعها
* لها مسكا من غير عاج ولا ذبل
*
518

قاله الجوهري في (صحاحه)، والمسك بفتحتين: جمع مسكة.
وقال بعض أهل اللغة: المسك أسورة من عاج أو قرون أو ذبل، ومقتضى كلامهم أنها لا تكون من الذهب، ولا الفضة، وقد قدمنا في سورة (التوبة)، في الكلام على قوله تعالى: * (والذين يكنزون الذهب والفضة) *، في مبحث زكاة الحلي المباح من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عند أبي داود النسائي: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنتها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، الحديث. وهو دليل على أن المسكة تكون من الذهب، كما تكون من العاج، والقرون، والذبل. وهذا هو الأظهر خلافا لكلام كثير من اللغويين في قولهم: إن المسك لا يكون من الذهب، والفضة، والقلادة معروفة، والله تعالى أعلم. * (وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون) *. لما أمر الله تعالى بهذه الآداب المذكورة في الآيات المتقدمة، وكان التقصير في امتثال تلك الأوامر قد يحصل علم خلقه ما يتداركون به، ما وقع منهم من التقصير في امتثال الأمر، واجتناب النهي، وبين لهم أن ذلك إنما يكون بالتوبة، وهي الرجوع عن الذنب والإنابة إلى الله بالاستغفار منه، وهي ثلاثة أركان:
الأول: الإقلاع عن الذنب إن كان متلبسا به.
والثاني: الندم على ما وقع منه من المعصية.
والثالث: النية ألا يعود إلى الذنب أبدا، والأمر في قوله في هذه الآية: * (وتوبوا إلى الله جميعا) *، الظاهر أنه للوجوب وهو كذلك، فالتوبة واجبة على كل مكلف، من كل ذنب اقترفه، وتأخيرها لا يجوز فتجب منه التوبة أيضا.
وقوله: * (لعلكم تفلحون) *، قد قدمنا مرارا أن أشهر معاني لعل في القرءان اثنان:
الأول: أنها على بابها من الترجي، أي: توبوا إلى الله رجاء أن تفلحوا، وعلى هذا فالرجاء بالنسبة إلى العبد، أما الله جل وعلا، فهو عالم بكل شئ، فلا يجوز في حقه إطلاق الرجاء، وعلى هذا فقوله تعالى لموسى وهارون في مخاطبة فرعون: * (فقولا له قولا
519

لينا لعله يتذكر أو يخشى) *، وهو جل وعلا عالم بما سبق في الأزل من أنه لا يتذكر ولا يخشى.
معناه: فقولا له قولا لينا رجاء منكما بحسب عدم علمكما بالغيب أن يتذكر أو يخشى.
والثاني: هو ما قاله بعض أهل العلم بالتفسير من أن كل لعل في القرءان للتعليل، إلا التي في سورة (الشعراء)، وهي في قوله تعالى: * (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) *، قالوا: فهي بمعنى كأنكم، وقد قدمنا أن إطلاق لعل للتعليل معلوم في العربية، ومنه قول الشاعر: والثاني: هو ما قاله بعض أهل العلم بالتفسير من أن كل لعل في القرءان للتعليل، إلا التي في سورة (الشعراء)، وهي في قوله تعالى: * (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) *، قالوا: فهي بمعنى كأنكم، وقد قدمنا أن إطلاق لعل للتعليل معلوم في العربية، ومنه قول الشاعر:
* فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا
* نكف ووثقتم لنا كل موثق
*
أي: كفوا الحروب، لأجل أن نكف؛ كما تقدم.
وعلى هذا القول، فالمعنى: وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون، لأجل أن تفلحوا، أي: تنالوا الفلاح، والفلاح في اللغة العربية: يطلق على معنيين:
الأول: الفوز بالمطلوب الأعظم، ومن هذا المعنى قول لبيد: الأول: الفوز بالمطلوب الأعظم، ومن هذا المعنى قول لبيد:
* فاعقلي إن كنت لما تعقلي
* ولقد أفلح من كان عقل
*
أي: فاز بالمطلوب الأعظم من رزقه الله العقل.
المعنى الثاني: هو البقاء الدائم في النعيم والسرور، ومنه قول الأضبط بن قريع، وقيل: كعب بن زهير: المعنى الثاني: هو البقاء الدائم في النعيم والسرور، ومنه قول الأضبط بن قريع، وقيل: كعب بن زهير:
* لكل هم من الهموم سعة
* والمسى والصبح لا فلاح معه
*
يعني: أنه لا بقاء لأحد في الدنيا مع تعاقب المساء والصباح عليه. وقول لبيد بن ربيعة أيضا: يعني: أنه لا بقاء لأحد في الدنيا مع تعاقب المساء والصباح عليه. وقول لبيد بن ربيعة أيضا:
* لو أن حيا مدرك الفلاح
* لناله ملاعب الرماح
*
يعني: لو كان أحد يدرك البقاء، ولا يموت لناله ملاعب الرماح، وهو عمه عامر بن
520

مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة. وقد قال فيه الشاعر يمدحه، ويذم أخاه الطفيل والد عامر بن الطفيل المشهور: يعني: لو كان أحد يدرك البقاء، ولا يموت لناله ملاعب الرماح، وهو عمه عامر بن مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة. وقد قال فيه الشاعر يمدحه، ويذم أخاه الطفيل والد عامر بن الطفيل المشهور:
* فررت وأسلمت ابن أمك عامرا
* يلاعب أطراف الوشيج المزعزع
*
وبكل من المعنيين اللذين ذكرناهما في الفلاح فسر حديث الأذان والإقامة: حي على الفلاح؛ كما هو معروف. ومن تاب إلى الله كما أمره الله نال الفلاح بمعنييه، فإنه يفوز بالمطلوب الأعظم وهو الجنة، ورضى الله تعالى، وكذلك ينال البقاء الأبدي في النعيم والسرور، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره جل وعلا لجميع المسلمين بالتوبة، مشيرا إلى أنها تؤدي إلى فلاحهم في قوله: * (لعلكم تفلحون) *، أوضحه في غير هذا الموضع، وبين أن التوبة التي يمحو الله بها الذنوب، ويكفر بها السيئات، أنها التوبة النصوح، وبين أنها يترتب عليها تكفير السيئات، ودخول الجنة، ولا سيما عند من يقول من أهل العلم: إن عسى من الله واجبة، وله وجه من
النظر؛ لأنه عز وجل جواد كريم، رحيم غفور، فإذا أطمع عبده في شئ من فضله، فجوده وكرمه تعالى وسعة رحمته يجعل ذلك الإنسان الذي أطعمه ربه في ذلك الفضل يثق، بأنه ما أطعمه فيه، إلا ليتفضل به عليه.
ومن الآيات التي بينت هذا المعنى هنا، قوله تعالى: * (تعملون يأيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الانهار) *، فقوله في آية (التحريم) هذه: * (ذلك بأن الذين كفروا) *؛ كقوله في آية (النور): * (أيه المؤمنون) *، لأن من كفرت عنه سيئاته وأدخل الجنة، فقد نال الفلاح بمعنييه. وقوله في آية (التحريم): * (توبوا إلى الله توبة نصوحا) * موضح لقوله في (النور): * (وتوبوا إلى الله جميعا) *، ونداؤه لهم بوصف الإيمان في الآيتين فيه تهييج لهم، وحث على امتثال الأمر؛ لأن الاتصاف بصفة الإيمان بمعناه الصحيح، يقتضي المسارعة إلى امتثال أمر الله، واجتناب نهيه، والرجاء المفهوم من لفظة عسى في آية (التحريم)، هو المفهوم من لفظة لعل في آية (النور)، كما لا يخفى.
تنبيهات
الأول: التوبة النصوح: هي التوبة الصادقة.
وحاصلها أن يأتي بأركانها الثلاثة على الوجه الصحيح، بأن يقلع عن الذنب إن كان
521

ملتبسا به، ويندم على ما صدر منه من مخالفة أمر ربه جل وعلا، وينوي نية جازمة ألا يعود إلى معصية الله أبدا.
وأظهر أقوال أهل العلم أنه إن تاب توبة نصوحا وكفر الله عنه سيئاته بتلك التوبة النصوح، ثم عاد إلى الذنب بعد ذلك أن توبته الأولى الواقعة على الوجه المطلوب، لا يبطلها الرجوع إلى الذنب، بل تجب عليه التوبة من جديد لذنبه الجديد، خلافا لمن قال: إن عوده للذنب نقض لتوبته الأولى.
الثاني: اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا تصح توبة من ذنب إلا بالندم على فعل الذنب، والإقلاع عنه، إن كان ملتبسا به كما قدمنا أنهما من أركان التوبة، وكل واحد منهما فيه إشكال معروف، وإيضاحه في الأول الذي هو الندم، أن الندم ليس فعلا، وإنما هو انفعال، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الله لا يكلف أحدا إلا بفعل يقع باختيار المكلف، ولا يكلف أحدا بشئ إلا شيئا هو في طاقته؛ كما قال تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *، وقال تعالى: * (فاتقوا الله ما استطعتم) *.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن الندم انفعال ليس داخلا تحت قدرة العبد، فليس بفعل أصلا، وليس في وسع المكلف فعله، والتكليف لا يقع بغير الفعل، ولا بما لا يطاق، كما بينا. قال في (مراقي السعود): وإذا علمت ذلك، فاعلم أن الندم انفعال ليس داخلا تحت قدرة العبد، فليس بفعل أصلا، وليس في وسع المكلف فعله، والتكليف لا يقع بغير الفعل، ولا بما لا يطاق، كما بينا. قال في (مراقي السعود):
* ولا يكلف بغير الفعل
* باعث الأنبيا ورب الفضل
*
وقال أيضا: وقال أيضا:
* والعلم والوسع على المعروف
* شرط يعم كل ذي تكليف
*
واعلم أن كلام الأصوليين في مسألة التكليف بما لا يطاق، واختلافهم في ذلك إنما هو بالنسبة إلى الجوار العقلي، والمعنى هل يجيزه العقل أو يمنعه.
أما وقوعه بالفعل فهو مجمعون على منعه؛ كما دلت عليه آيات القرءان والأحاديث النبوية، وبعض الأصوليين يعبر عن هذه المسألة بالتكليف بالمحال هل يجوز عقلا، أو لا؟ أما وقوع التكليف بالمحال عقلا، أو عادة، فكلهم مجمعون على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله تعالى بعدم وقوعه أزلا، ومثال المستحيل عقلا أن يكلف بالجمع بين الضدين كالبياض والسواد، أو النقيضين كالعدم والوجود. والمستحيل عادة كتكليف المقعد
522

بالمشي وتكليف الإنسان بالطيران ونحو ذلك، فمثل هذا لا يقع التكليف به إجماعا.
وأما المستحيل لأجل علم الله في الأزل بأنه لا يقع، فهو جائز عقلا ولا خلاف في التكليف به فإيمان أبي لهب مثلا كان الله عالما في الأزل بأنه لا يقع؛ كما قال الله تعالى عنه: * (سيصلى نارا ذات لهب) *، فوقوعه محال عقلا لعلم الله في الأزل، بأنه لا يوجد؛ لأنه لو وجد لاستحال العلم بعدمه جهلا، وذلك مستحيل في حقه تعالى. ولكن هذا المستحيل للعلم بعدم وقوعه جائز عقلا، إذ لا يمنع العقل إيمان أبي لهب، ولو كان مستحيلا لما كلفه الله بالإيمان، على لسانه نبيه صلى الله عليه وسلم، فالإمكان عام، والدعوة عامة، والتوفيق خاص.
وإيضاح مسألة الحكم العقلي أنه عند جمهور النظار، ثلاثة أقسام:
الأول: الواجب عقلا.
الثاني: المستحيل عقلا.
الثالث: الجائز عقلا، وبرهان الحصر الحكم العقلي في الثلاثة المذكورة، أن الشئ من حيث هو شئ، لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات: إما أن يكون العقل يقبل وجوده، ولا يقبل عدمه بحال. وإما أن يكون يقبل عدمه ولا يقبل وجوده بحال. وإما أن يكون يقبل وجوده وعدمه معا، فإن كان العقل يقبل وجوده دون عدمه، فهو الواجب عقلا، وذلك كوجود الله تعالى متصفا بصفات الكمال والجلال. فإن العقل السليم لو عرض عليه وجود خالق هذه المخلوقات لقبله، ولو عرض عليه عدمه وأنها خلقت بلا خالق، لم يقبله، فهو واجب عقلا. وأما إن كان يقبل عدمه، دون وجوده، فهو المستحيل عقلا؛ كشريك الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، فلو عرض على العقل السليم عدم شريك لله في ملكه، وعبادته لقبله، ولو عرض عليه وجوده لم يقبله بحال؛ كما قال تعالى: * (لو كان فيهما الهة إلا الله لفسدتا) *، وقال: * (إذا لذهب كل إلاه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) *، فهو مستحيل عقلا. وأما إن كان العقل يقبل وجوده وعدمه معا، فهو الجائز العقلي، ويقال له الجائز الذاتي، وذلك كإيمان أبي لهب، فإنه لو عرض وجوده على العقل السليم لقبله، ولو عرض عليه عدمه بدل وجوده لقبله أيضا، كما لا يخفى، فهو جائز عقلا جوازا ذاتيا، ولا خلاف في التكليف بهذا النوع الذي هو الجائز العقلي الذاتي.
523

وقالت جماعات من أهل الأهواء: إن الحكم العقلي قسمان فقط، وهما: الواجب عقلا، والمستحيل عقلا، قالوا: والجائز عقلا لا وجود له أصلا، وزعموا أن دليل الحصر في الواجب والمستحيل أن الأمر إما أن يكون الله عالما في أزله، بأنه سيوجد فهو الواجب الوجود لاستحالة عدم وجوده مع سبق العلم الأزلي بوجوده كإيمان أبي بكر فهو واجب عندهم عقلا لعلم الله بأنه سيقع، إذ لو لم يقع لكان علمه جهلا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وذلك محال. وإما أن يكون الله عالما في أزله، بأنه لا يوجد كإيمان أبي لهب، فهو مستحيل عقلا، إذ لو وجد لانقلب العلم جهلا، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وهذا القول لا يخفى بطلانه، ولا يخفى أن إيمان أبي لهب، وأبي بكر كلاهما يجيز العقل وجوده وعدمه، فكلاهما جائز إلا أن الله تعالى شاء وجود أحد هذين الجائزين، فأوجده وشاء عدم الآخر، فلم يوجده.
والحاصل أن المستحيل لغير علم الله السابق بعدم وجوده؛ لأنه مستحيل استحالة ذاتية كالجمع بين النقيضين لا يقع التكليف به إجماعا، وكذلك المستحيل عادة، كما لا يخفى.
أما الجائز الذاتي فالتكليف به جائز، وواقع إجماعا كإيمان أبي لهب فإنه جائز عقلا، وإن استحال من جهة علم الله بعدم وقوعه، وهم يسمون هذا الجائز الذاتي مستحيلا عرضيا، ونحن ننزه صفة علم الله عن أن نقول إن الاستحالة بسببها عرضية.
فإذا علمت هذا، فاعلم أن علماء الأصول وجميع أهل العلم مجمعون على وقوع التكليف بالجائز العقلي الذاتي، كإيمان أبي لهب، وإن كان وقوعه مستحيلا لعلم الله بأنه لا يقع.
أما المستحيل عقلا لذاته كالجمع بين النقيضين، والمستحيل عادة كمشي المقعد، وطيران الإنسان بغير آلة، فلا خلاف بين أهل العلم في منع وقوع التكليف بكل منهما؛ كما قال تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *، وقال تعالى: * (فاتقوا الله ما استطعتم) *، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم).
وأما المستحيل العقلي: فقالت جماعة من أهل الأصول: يجوز التكليف بالمستحيل الذاتي عادة وعقلا، وبالمستحيل عادة. وقال بعضهم: لا يجوز عقلا مع إجماعهم على أنه
524

لا يصح وقوعه بالفعل. وحجة من يمنعه عقلا أنه عبث لا فائدة فيه؛ لأن المكلف به لا يمكن أن يقدر عليه بحال، فتكليفه بما هو عاجز عنه محققا عبث لا فائدة فيه، قالوا فهو مستحيل؛ لأن الله حكيم خبير. وحجة من قال بجوازه أن فائدته امتحان المكلف، هل يتأسف على عدم القدرة، ويظهر أنه لو كان قادرا لا مثل، والامتحان سبب من أسباب التكليف، كما كلف الله إبراهيم بذبح ولده، وهو عالم أنه لا يذبحه، وبين أن حكمة هذا التكليف هي ابتلاء إبراهيم، أي: اختباره، هل يمتثل؟ فلما شرع في الامتثال فداه الله بذبح عظيم؛ كما قال تعالى عنه: * (فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن ياإبراهيم إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين * إن هاذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم) *.
وقد أشار صاحب (مراقي السعود) إلى مسألة التكليف بالمحال وأقوال الأصوليين فيها، وهي اختلافهم في جواز ذلك عقلا، مع إجماعهم على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله، بعدم الوقوع كالاستحالة الذاتية، بقوله: وقد أشار صاحب (مراقي السعود) إلى مسألة التكليف بالمحال وأقوال الأصوليين فيها، وهي اختلافهم في جواز ذلك عقلا، مع إجماعهم على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله، بعدم الوقوع كالاستحالة الذاتية، بقوله:
* وجوز التكليف بالمحال
* في الكل من ثلاثة الأحوال
*
* وقيل بالمنع لما قد امتنع
* لغير علم الله أن ليس يقع
*
* وليس واقعا إذا استحالا
* لغير علم ربنا تعالى
*
وقوله: وجوز التكليف، يعني: الجواز العقلي.
وقوله: وقيل بالمنع، أي: عقلا ومراده بالثلاثة الأحوال: ما استحال عقلا وعادة، كالجمع بين النقيضين، وما استحال عادة كمشي المقعد، وطيران الإنسان، وإبصار الأعمى، وما استحال لعلم الله بعدم وقوعه.
وإذا عرفت كلام أهل الأصول في هذه المسألة، فاعلم أن التوبة تجب كتابا وسنة وإجماعا من كل ذنب اقترفه الإنسان فورا، وأن الندم ركن من أركانها، وركن الواجب واجب، والندم ليس بفعل، وليس استطاعة المكلف؛ لأنه انفعال لا فعل والانفعالات ليست بالاختيار، فما وجه التكليف بالندم، وهو غير فعل للمكلف، ولا مقدور عليه.
والجواب عن هذا الإشكال: هو أن المراد بالتكليف بالندم التكليف بأسبابه التي يوجد بها، وهي في طوق المكلف، فلو راجع صاحب المعصية نفسه مراجعة صحيحة،
525

ولم يحابها في معصية الله لعلم أن لذة المعاصي كلذة الشراب الحلو الذي فيه السم القاتل، والشراب الذي فيه السم القاتل لا يستلذه عاقل لما يتبع لذته من عظيم الضرر وحلاوة المعاصي فيها ما هو أشد من السم القاتل، وهو ما تستلزمه معصية الله جل وعلا من سخطه على العاصي، وتعذيبه له أشد العذاب، وعقابه على المعاصي قد يأتيه في الدنيا فيهلكه، وينغص عليه لذة الحياة، ولا شك أن من جعل أسباب الندم على المعصية وسيلة إلى الندم، أنه يتوصل إلى حصول الندم على المعصية، بسبب استعماله الأسباب التي يحصل بها.
فالحاصل أنه مكلف بالأسباب المستوجبة للندم، وأنه إن استعملها حصل له الندم، وبهذا الاعتبار كان مكلفا بالندم، مع أنه انفعال لا فعل.
ومن أمثلة استعمال الأسباب المؤدية إلى الندم على المعصية، قول الشاعر وهو الحسين بن مطير: ومن أمثلة استعمال الأسباب المؤدية إلى الندم على المعصية، قول الشاعر وهو الحسين بن مطير:
* فلا تقرب الأمر الحرام فإنه
* حلاوته تفنى ويبقى مريرها
*
ونقل عن سفيان الثوري رحمه الله أنه كان كثيرا ما يتمثل بقول الشاعر: ونقل عن سفيان الثوري رحمه الله أنه كان كثيرا ما يتمثل بقول الشاعر:
* تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها
* من الحرام ويبقى الإثم والعار
*
* تبقى عواقب سوء في مغبتها
* لا خير في لذة من بعدها النار
*
وأما الإشكال الذي في الإقلاع عن الذنب، فحاصله أن من تاب من الذنب الذي هو متلبس به، مع بقاء فساد ذلك الذنب، أي: أثره السيىء هل تكون توبته صحيحة، نظرا إلى أنه فعل في توبته كل ما يستطيعه، وإن كان الإقلاع عن الذنب لم يتحقق للعجز عن إزالة فساده في ذلك الوقت، أو لا تكون توبته صحيحة؛ لأن الإقلاع عن الذنب الذي هو ركن التوبة لم يتحقق.
ومن أمثلة هذا، من كان على بدعة من البدع السيئة المخالفة للشرع المستوجبة للعذاب إذا بث بدعته، وانتشرت في أقطار الدنيا، ثم تاب من ارتكاب تلك البدعة، فندم على ذلك ونوى ألا يعود إليه أبدا، مع أن إقلاعه عن بدعته لا قدرة له عليه، لانتشارها في أقطار الدنيا؛ ولأن من سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووز من عمل بها إلى يوم القيامة، ففساد بدعته باق.
526

ومن أمثلته: من غصب أرضا، ثم سكن في وسطها، ثم تاب من ذلك الغصب نادما عليه، ناويا ألا يعود إليه، وخرج من الأرض المغصوبة بسرعة، وسلك أقرب طريق للخروج منها، فهل تكون توبته صحيحة، في وقت سيره في الأرض المغصوبة قبل خروجه منها؛ لأنه فعل في توبته كل ما يقدر عليه، أو لا تكون صحيحة؛ لأن إقلاعه عن الغصب، لم يتم ما دام موجودا في الأرض المغصوبة، ولو كان يسير فيها، ليخرج منها.
ومن أمثلته: من رمى مسلما بسهم، ثم تاب فندم على ذلك، ونوى ألا يعود قبل إصابة السهم للإنسان الذي رماه به بأن حصلت التوبة والسهم في الهواء في طريقة إلى المرمى، هل تكون توبته صحيحة؛ لأنه فعل ما يقدر عليه، أو لا تكون صحيحة؛ لأن إقلاعه عن الذنب لم يتحقق وقت التوبة، لأن سهمه في طريقه إلى إصابة مسلم، فجمهور أهل الأصول على أن توبته في كل الأمثلة صحيحة؛ لأن التوبة واجبة عليه، وقد فعل من هذا الواجب كل ما يقدر عليه، وما لا قدرة له عليه معذور فيه؛ لقوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *، إلى آخر الأدلة التي قدمناها قريبا.
وقال أبو هاشم، وهو من أكابر المعتزلة كابنه أبي علي الجبائي: إن التائب الخارج من الأرض المغصوبة آت بحرام، لأن ما أتى به من الخروج تصرف في ملك الغير بغير إذن، كالمكث، والتوبة إنما تحقق عند انتهائه إذ لا إقلاع إلا حينئذ، والإقلاع ترك المنهي عنه، فالخروج عنده قبيح؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهو مناف للإقلاع، فهو منهي عنه، مع أن الخروج المذكور مأمور به عنده أيضا، لأنه انفصال عن المكث في الأرض المغصوبة، وهذا بناه على أصله الفاسد، وهو القبح العقلي، لكنه أخل بأصل له آخر، وهو منع التكليف بالمحال فإنه قال: إن خرج عصى، وإن مكث عصى، فقد حرم عليه الضدين كليهما، اه. قاله في (نشر البنود).
وإلى هذه المسألة أشار في (مراقي السعود) مقتصرا على مذهب الجمهور، بقوله: وإلى هذه المسألة أشار في (مراقي السعود) مقتصرا على مذهب الجمهور، بقوله:
* من تاب بعد أن تعاطى السببا
* فقد أتى بما عليه وجبا
*
* وإن بقي فساده كمن رجع
* عن بث بدعة عليها يتبع
*
* أو تاب خارجا مكان الغصب
* أو تاب بعد الرمي قبل الضرب
*
527

وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم الله من فضله) *. الإنكاح هنا معناه: التزويج، * (وأنكحوا الايامى) *، أي: زوجوهم، والأيامى: جمع أيم بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة، والأيم: هو من لا زوج له من الرجال والنساء، سواء كان قد تزوج قبل ذلك، أو لم يتزوج قط، يقال: رجل أيم، وامرأة أيم. وقد فسر الشماخ بن ضرار في شعره: الأيم الأنثى بأنها التي لم تتزوج في حالتها الراهنة، وذلك في قوله: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم الله من فضله) *. الإنكاح هنا معناه: التزويج، * (وأنكحوا الايامى) *، أي: زوجوهم، والأيامى: جمع أيم بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة، والأيم: هو من لا زوج له من الرجال والنساء، سواء كان قد تزوج قبل ذلك، أو لم يتزوج قط، يقال: رجل أيم، وامرأة أيم. وقد فسر الشماخ بن ضرار في شعره: الأيم الأنثى بأنها التي لم تتزوج في حالتها الراهنة، وذلك في قوله:
* يقر بعيني أن أنبأ أنها
* وإن لم أنلها أيم لم تزوج
*
فقوله: لم تزوج تفسير لقوله: أنها أيم، ومن إطلاق الأيم على الذكر الذي لا زوج له قول أمية بن أبي الصلت الثقفي: فقوله: لم تزوج تفسير لقوله: أنها أيم، ومن إطلاق الأيم على الذكر الذي لا زوج له قول أمية بن أبي الصلت الثقفي:
* لله دربني على
* أيم منهم وناكح
*
ومن إطلاقه على الأنثى قول الشاعر: ومن إطلاقه على الأنثى قول الشاعر:
* أحب الأيامى إذ بثينة أيم
* وأحببت لما أن غنيت الغوانيا
*
والعرب تقول: آم الرجل يئيم، وآمت المرأة تئيم، إذا صار الواحد منهما أيما. وكذلك تقول: تأيم إذا كان أيما.
ومثاله في الأول قول الشاعر: ومثاله في الأول قول الشاعر:
* لقد إمت حتى لامني كل صاحب
* رجاء بسلمى أن تئيم كما إمت
*
ومن الثاني قوله: ومن الثاني قوله:
* فإن تنكحي أنكح وأن تتأيمي
* وإن كنت أفتى منكم أتأيم
*
ومن الأول أيضا، قول يزيد بن الحكم الثقفي: ومن الأول أيضا، قول يزيد بن الحكم الثقفي:
* كل امرئ ستئيم منه
* العرس أو منها يئيم
*
وقول الآخر:
528

وقول الآخر:
* نجوت بقوف نفسك غير أني
* إخال بأن سييتم أو تئيم
*
يعني: ييتم ابنك وتئيم امرأتك.
فإذا علمت هذا، فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية: * (وأنكحوا الايامى) * شامل للذكور والإناث، وقوله في هذه الآية: * (منكم) *، أي: من المسلمين، ويفهم من دليل الخطاب أي مفهوم المخالفة في قوله: * (منكم) *، أن الأيامى من غيركم، أي: من غير المسلمين، وهم الكفار ليسوا كذلك.
وهذا المفهوم الذي فهم من هذه الآية جاء مصرحا به في آيات أخر؛ كقوله تعالى في أيامى الكفار الذكور: * (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) *، وقوله في أياماهم الإناث: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) *، وقوله فيهما جميعا: * (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) *.
وبهذه النصوص القرآنية الصريحة الموضحة لمفهوم هذه الآية، تعلم أنه لا يجوز تزويج المسلمة للكافر مطلقا وأنه لا يجوز تزويج المسلم للكافرة إلا أن عموم هذه الآيات خصصته آية (المائدة)، فأبانت أن المسلم يجوز له تزوج المحصنة الكتابية خاصة؛ وذلك في قوله تعالى: * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) *، فقوله تعالى عاطفا على ما يحل للمسلمين: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) *، صريح في إباحة تزويج المسلم للمحصنة الكتابية، والظاهر أنها الحرة العفيفة.
فالحاصل أن التزويج بين الكفار والمسلمين ممنوع في جميع الصور، إلا صورة واحدة، وهي تزوج الرجل المسلم بالمرأة المحصنة الكتابية، والنصوص الدالة على ذلك قرءانية، كما رأيت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (والصالحين من عبادكم وإمائكم) *، يدل على لزوم تزويج الأيامى من المملوكين الصالحين، والإماء المملوكات، وظاهر هذا الأمر الوجوب؛ لما تقرر في الأصول.
529

وقد بينا مرارا من أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب، وبذلك تعلم أن الخالية من زوج إذا خطبها كفء ورضيته، وجب على وليها تزويجها إياه، وأن ما يقوله بعض أهل العلم من المالكية ومن وافقهم، من أن السيد له منع عبده وأمته من التزويج مطلقا غير صواب لمخالفته لنص القرءان في هذه الآية الكريمة.
واعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة: * (وإمائكم) *، بينت آية (النساء) أن الأمة لا تزوج للحر إلا بالشروط التي أشارت إليها الآية، فآية (النساء) المذكورة مخصصة بعموم آية (النور) هذه بالنسبة إلى الإيماء، وآية (النساء) المذكورة هي قوله تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * إلى قوله تعالى: * (ذلك لمن خشى العنت منكم وأن تصبروا خير لكم) *، فدلت آية (النساء) هذه على أن الحر لا يجوز له أن يتزوج المملوكة المؤمنة، إلا إذا كان غير مستطيع تزويج حرة لعدم الطول عنده، وقد خاف الزنى فله حينئذ تزوج الأمة بإذن أهلها المالكين لها، ويلزمه دفع مهرها، وهي مؤمنة عفيفة ليست من الزانيات ولا متخذات الأخدان، ومع هذا كله فصبره عن تزويجها خير له، وإذا كان الصبر عن تزويجها مع ما ذكرنا من الاضطرار خيرا له فمع عدمه أولى بالمنع. وبما ذكرنا تعلم أن الصواب قول الجمهور من منع تزويج الحر الأمة، إلا بالشروط المذكورة في القرءان؛ كقوله تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا) *، وقوله: * (ذلك لمن خشى العنت منكم) *، أي: الزنى إلى آخر ما ذكر في الآية خلافا لأبي حنيفة القائل بجواز نكاحها مطلقا، إلا إذا تزوجها على حرة.
والحاصل أن قوله تعالى في آية (النور) هذه: * (وإمائكم) * خصصت عمومه آية (النساء) كما أوضحناه آنفا، والعلماء يقولون: إن علة منع تزويج الحر الأمة، أنها إن ولدت منه كان ولدها مملوكا؛ لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها، فيلزمه ألا يتسبب في رق أولاده ما استطاع، ووجهه ظاهر كما ترى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) *، فيه وعد من الله للمتزوج الفقير من الأحرار، والعبيد بأن الله يغنيه، والله لا يخلف الميعاد، وقد وعد الله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقراء باليسر بعد ذلك العسر، وأنجز لهم ذلك، وذلكم في قوله تعالى: * (ومن قدر عليه رزقه) *، أي: ضيق عليه رزقه إلى قوله
530

تعالى: * (سيجعل الله بعد عسر يسرا) *، وهذا الوعد منه جل وعلا وعد به من اتقاه في قوله تعالى: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب) *، ووعد بالرزق أيضا من يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها، وذلك في قوله: * (وأمر أهلك بالصلواة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) *، وقد وعد المستغفرين بالرزق الكثير على لسان نبيه نوح في قوله تعالى عنه: * (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) *، وعلى لسان نبيه هود في قوله تعالى عنه: * (تعقلون وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم) *، وعلى لسان نبينا صلى الله عليه وعليهما جميعا وسلم: * (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى) *.
ومن الآيات الدالة على أن طاعة الله تعالى سبب للرزق، قوله تعالى: * (ولو أن أهل القرىءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض) *، ومن بركات السماء المطر، ومن بركات الأرض النبات مما يأكل الناس والأنعام. وقوله تعالى: * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) *، وقوله تعالى: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيواة طيبة) *، أي: في الدنيا؛ كما قدمنا إيضاحه في سورة (النحل)، وكما يدل عليه قوله بعده في جزائه في الآخرة: * (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) *، وقد قدمنا أنه جل وعلا وعد بالغنى عند التزويج وعند الطلاق.
أما التزويج، ففي قوله هنا: * (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) *.
وأما الطلاق ففي قوله تعالى: * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) *، والظاهر أن المتزوج الذي وعده الله بالغنى، هو الذي يريد بتزويجه الإعانة على طاعة الله بغض البصر، وحفظ الفرج؛ كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) الحديث، وإذا كان قصده بالتزويج طاعة الله بغض البصر وحفظ الفرج، فالوعد بالغنى إنما هو على طاعة الله بذلك.
531

وقد رأيت ما ذكرنا من الآيات الدالة على وعد الله بالرزاق من أطاعه سبحانه جل وعلا ما أكرمه، فإنه يجزي بالعمل بالصالح في الدنيا والآخرة، وما قاله أهل الظاهر من أن هذه الآية الكريمة تدل على أن العبد يملك ماله؛ لأن قوله: * (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) * بعد قوله: * (والصالحين من عبادكم وإمائكم) *، يدل على وصف العبيد بالفقر والغنى، ولا يطلق الغنى إلا على من يملك المال الذي به صار غنيا، ووجهه قوي ولا ينافي أن لسيده أن ينتزع منهم ذلك المال الذي ملك له، والعلم عند الله تعالى.
* (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) *.
هذا الاستعفاف المأمور به في هذه الآية الكريمة، هو المذكور في قوله: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذالك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون) *، وقوله تعالى: * (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا) *، ونحو ذلك من الآيات. * (ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) *. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) *، قيل: غفور لهن، وقيل: غفور لهم، وقيل: غفور لهن ولهم.
وأظهرها أن المعنى غفور لهن لأن المكره لا يؤاخذ بما أكره عليه، بل يغفره الله له لعذره بالإكراه؛ كما يوضحه قوله تعالى: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *، ويؤيده قراءة ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وابن جبير، فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم، ذكره عنه القرطبي، وذكره الزمخشري عن ابن عباس رضي الله عنهم جميعا.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أنا لا نبين القرءان بقراءة شاذة، وربما ذكرنا القراءة الشاذة استشهادا بها لقراءة سبعية كما هنا، فزيادة لفظة لهن في قراءة من ذكرنا استشهاد بقراءة شاذة لبيان بقراءة غير شاذة أن الموعود بالمغفرة والرحمة، هو المعذور بالإكراه دون المكره؛ لأنه غير معذور في فعله القبيح، وذلك بيان المذكور بقوله: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *.
532

وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن؛ لأن المكرهة على الزنى، بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة.
قلت: لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل، أو بما يخاف منه التلف، أو ذهاب العضو من ضرب عنيف أو غيره، حتى يسلم من الإثم، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة، انتهى منه.
والذي يظهر أنه لا حاجة إليه، لأن إسقاط المؤاخذة بالإكراه يصدق عليه أنه غفران ورحمة من الله بعبده، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين. ذكر الله جلا وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أنزل إلينا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم آيات مبينات، ويدخل فيها دخولا أوليا الآيات التي بينت في هذه السورة الكريمة، وأوضحت في معاني الأحكام والحدود، ودليل ما ذكر من القرآن قوله تعالى: * (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون) * ولا شك أن هذه الآيات المبينات المصرح بنزولها في هذه السورة الكريمة، داخلة في قوله تعالى هنا * (ولقد أنزلنا إليكم ءايات مبينات) * الآية.
وبذلك تعلم أن قوله تعالى هنا * (ولقد أنزلنا إليكم ءايات مبينات) * معناه: أنزلناها إليكم لعلكم تذكرون: أي تتعظون بما فيها من الأوامر والنواهي، والمواعظ، ويدل لذلك قوله تعالى: * (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها ءايات) * فقد صرح في هذه الآية الكريمة بأن من حكم إنزالها، أن يتذكر الناس، ويتعظوا بما فيها، ويدل لذلك عموم قوله تعالى: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر * أولوا الالباب) * وقوله تعالى: * (المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين) * إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ومثلا من الذين خلوا من قبلكم) * معطوف على آيات: أي أنزلنا إليكم آيات، وأنزلنا إليكم مثلا من الذين خلوا من قبلكم.
533

قال أبو حيان في البحر المحيط: ومثلا معطوف على آيات، فيحتمل أن يكون المعنى ومثلا من أمثال الذين من قبلكم: أي قصة غريبة من قصصهم كقصة يوسف، ومريم في براءتهما.
وقال الزمخشري: ومثلا من أمثال من قبلكم أي قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف، ومريم يعني قصة عائشة رضي الله عنها، وما ذكرنا عن أبي حيان والزمخشري ذكره غيرهما.
وإيضاحه: أن المعنى: وأنزلنا إليكم مثلا أي قصة عجيبة غريبة في هذه السورة الكريمة، وتلك القصة العجيبة من أمثال الذين خلوا من قبلكم: أي من جنس قصصهم العجيبة، وعلى هذا الذي ذكرنا فالمراد بالقصة العجيبة التي أنزل إلينا، وعبر عنها بقوله: ومثلا هي براءة عائشة رضي الله عنها مما رماها به أهل الإفك، وذلك مذكور في قوله تعالى: * (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) * إلى قوله تعالى: * (أولئك مبرءون مما يقولون) * الآية. فقد بين في الآيات العشر المشار إليها أن أهل الإفك رموا عائشة، وأن الله برأها في كتابه مما رموها به، وعلى هذا:
فمن الآيات المبينة لبعض أمثال من قبلنا قوله تعالى في رمي امرأة العزيز يوسف بأنه أراد بها سوءا تعني الفاحشة قالت: * (ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم) * وقوله تعالى: * (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين) * لأنهم سجنوه بضع سنين، بدعوى أنه كان أراد الفاحشة من امرأة العزيز، وقد برأه الله من تلك الفرية التي افتريت عليه بإقرار النسوة وامرأة العزيز نفسهاوذلك في قوله تعالى: * (فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الاتى قطعن أيديهن إن ربى بكيدهن عليم قال) * وقال تعالى عن امرأة العزيز في كلامها مع النسوة اللاتي قطعن أيديهن * (قالت فذالكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) * الآية.
فقصة يوسف هذه مثل من أمثال من قبلنا، لأنه رمى بإرادة الفاحشة وبرأه الله من
534

ذلك، والمثل الذي أنزله إلينا في هذه السورة، شبيه بقصة يوسف، لأنه هو وعائشة كلاهما رمى بما لا يليق، وكلاهما برأه الله تعالى، وبراءة كل منهما نزل بها هذا القرآن العظيم، وإن كانت براءة يوسف وقعت قبل نزول القرآن بإقرار امرأة العزيز، والنسوة كما تقدم قريبا بشهادة الشاهد من أهلها. * (إن كان قميصه قد من قبل) * إلى قوله: * (فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن) * الآية.
ومن الآيات المبينة لبعض أمثال الذين من قبلنا ما ذكرنا تعالى عن قوم مريم من أنهم رموها بالفاحشة، لما ولدت عيسى من غير زوج كقوله تعالى: * (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما) * يعني فاحشة الزنى. وقوله تعالى: * (فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم * مريم لقد جئت شيئا فريا) * يعنون الفاحشة، ثم بين الله تعالى براءتها مما رموها به في مواضع من كتاب كقوله تعالى: * (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا * قال إنى عبد الله ءاتانى الكتاب وجعلنى نبيا * وجعلنى مباركا) * إلى قوله: * (ويوم أبعث حيا) * فكلام عيسى، وهو رضيع ببراءتها، يدل على أنها بريئة. وقد أوضح الله براءتها مع بيان سبب حملها بعيسى، من غير زوج، وذلك في قوله تعالى: * (واذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إنى أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا * قال كذالك قال ربك هو على هين ولنجعله * للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا * فحملته * فحملته فانتبذت به مكانا قصيا) * إلى آخر الآيات.
ومن الآيات التي بين الله فيها براءتها قوله تعالى في الأنبياء: * (والتى أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها ءاية للعالمين) * وقوله تعالى في التحريم: * (ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) * وقوله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب) *.
فهذه الآيات التي ذكرنا التي دلت على قذف يوسف وبراءته وقذف مريم وبراءتها
535

من أمثال من قبلنا فهي ما يبين بعض ما دل عليه قوله: * (ومثلا من الذين خلوا من قبلكم) *.
والآيات التي دلت على قذف عائشة وبراءتها بينت المثل الذي أنزل إلينا وكونه من نوع أمثال من قبلنا واضح، لأن كلام من عائشة، ومريم، ويوسف رمى بما لا يليق، وكل منهم برأه الله، وقصة كل منهم عجيبة، ولذا أطلق عليها اسم المثل في قوله: * (ومثلا من الذين خلوا من قبلكم) *. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (وموعظة للمتقين) *.
قال الزمخشري: وموعظة ما وعظ به في الآيات والمثل من نحو قوله تعالى * (ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله) * لولا إذ سمعتموه، ولولا إذ سمعتموه. يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا. ا ه كلام الزمخشري. والظاهر أن وجه خصوص الموعظة بالمتقين دون غيرهم أنهم هم المنتفعون بها.
ونظيره في القرآن قوله تعالى: * (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب) * وقوله تعالى: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * فخص الأنذار بمن ذكر في الآيات، لأنهم هم المنتفعون به مع أنه صلى الله عليه وسلم في الحقيقة منذر لجميع الناس كما قال تعالى: * (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) * ونظيره أيضا قوله تعالى: * (فذكر بالقرءان من يخاف وعيد) * ونحوها من الآيات. وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ولقد أنزلنا إليكم ءايات مبينات) * قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عرو، وشعبة بن عاصم: مبينات بفتح الياء المثناة التحتية المشددة بصيغة اسم المفعول، وقرأه ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: مبينات بكسر الياء المشددة بصيغة اسم الفاعل: فعلى قراءة من قرأ بفتح الياء فلا إشكال في الآية، لأن الله بينها، وأوضحها، وعلى قراءة من قرأ مبينات بكسر الياء بصيغة اسم الفاعل، ففي معنى الآية وجهان معروفا.
أحدهما: أن قوله: مبينات اسم فاعل بين المتعدية وعليه فالمفعول محذوف أي مبينات الأحكام والحدود.
والثاني: أن قوله: مبينات وصف من بين اللازمة، وهو صفة مشبهة، وعليه
536

فالمعنى آيات مبينات أي بينات واضحات، ويدل لهذا الوجه الأخير قوله تعالى: * (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا) *. وذكر الوجهين المذكورين الزمخشري، وأبو حيان وغيرهما ومثلوا لبين اللازمة بالمثل المعروف، وهو قول العرب: قد بين الصبح لذي عينين.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: من المعروف في العربية أن بين مضعفا، وأبان كلتاهما تأتي متعدية للمفعول ولازمة، فتعدى بين للمفعول مشهور واضح كقوله تعالى: * (قد بينا لكم الايات) * وتعدى أبان للمفعول مشهود واضح أيضا كقولهم: أبان له الطريق: أي بينها له، وأوضحها، وأما ورود بين لازمة بمعنى تبين ووضح فمنه المثل المذكور: قد بين الصبح لذي عينين. أي تبين وظهر ومنه قول جرير: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: من المعروف في العربية أن بين مضعفا، وأبان كلتاهما تأتي متعدية للمفعول ولازمة، فتعدى بين للمفعول مشهور واضح كقوله تعالى: * (قد بينا لكم الايات) * وتعدى أبان للمفعول مشهود واضح أيضا كقولهم: أبان له الطريق: أي بينها له، وأوضحها، وأما ورود بين لازمة بمعنى تبين ووضح فمنه المثل المذكور: قد بين الصبح لذي عينين. أي تبين وظهر ومنه قول جرير:
* وجوه مجاشع طليت بلؤم
* يبين في المقلد والعذار
*
فقوله: يبين بكسر الياء بمعنى: يظهر، ويتضح وقول جرير أيضا: فقوله: يبين بكسر الياء بمعنى: يظهر، ويتضح وقول جرير أيضا:
* رأى الناس البصيرة فاستقاموا
* وبينت المراض من الصحاح
*
ومنه أيضا قول قيس بن ذريح: ومنه أيضا قول قيس بن ذريح:
* وللحب آيات تبين بالفتى
* شحوب وتعرى من يديه الأشاجع
*
على الرواية المشهورة برفع شحوب.
والمعنى: للحب علامات تبين بالكسر أي تظهر وتتضح بالفتى، وهي شحوب إلخ، وأنشد ثعلب هذا البيت فقال: شحوبا بالنصب، وعليه فلا شاهد في البيت، لأن شحوبا على هذا مفعول، تبين فهو على هذا من بين المتعدية، وأما ورود أبان لازمه بمعنى بان وظهر، فهو كثير في كلام العرب أيضا ومنه قول جرير: والمعنى: للحب علامات تبين بالكسر أي تظهر وتتضح بالفتى، وهي شحوب إلخ، وأنشد ثعلب هذا البيت فقال: شحوبا بالنصب، وعليه فلا شاهد في البيت، لأن شحوبا على هذا مفعول، تبين فهو على هذا من بين المتعدية، وأما ورود أبان لازمه بمعنى بان وظهر، فهو كثير في كلام العرب أيضا ومنه قول جرير:
* إذا آباؤنا وأبوك عدوا
* أبان المقرفات من العراب أي ظهرت المفرقات وتبينت، وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي.
* لو دب ذر فوق ضاحي جلدها
* لأبان من آثارهن حدود
*
أي لظهر وبان من آثارهن حدود أي ورم وقول كعب بن زهير:
537

أي لظهر وبان من آثارهن حدود أي ورم وقول كعب بن زهير:
* قنواء في حريتها للبصير بها
* عتق مبين وفي الخدين تسهيل
*
فقوله: مبين وصف من أبانب اللازمة: أي عتق بين واضح، أي كرم ظاهر. قوله تعالى: * (يسبح له فيها بالغدو والاصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) *. قرأ هذا الحرف جميع السبعة غير ابن عامر، وشعبة، عن عاصم: يسبح له فيها بكسر الباء الموحدة المشددة، مبنيا للفاعل، وفاعله رجال والمعنى واضح على هذه القراءة. وقرأه ابن عامر، وشعبة، عن عاصم: يسبح له فيها بفتح الباء الموحدة المشددة، مبنيا للمفعول، وعلى هذه القراءة فالفاعل المحذوف قد دلت القراءة الأولى على أن تقديره: رجال فكأنه لما قال يسبح له فيها، قيل: ومن يسبح له فيها؟ قال رجال: أي يسبح له فيها رجال.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ما لفظه، وقد التزمنا أنا لا نبين القرآن إلا بقراءة سبعية، سواء كانت قراءة أخرى في الآية المبينة نفسها، أو آية أخرى غيرها إلى آخره، وإنما ذكرنا أن الآية يبين بعض القراءات فيها معنى بعض، لأن المقرر عند العلماء أن القراءتين في الآية الواحدة كالآيتين.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة الجمهور: يسبح بكسر الباء وفاعله رجال، مبينة أن الفاعل المحذوف في قراءة ابن عامر، وشعبة، عن عاصم: يسبح بفتح الباء مبنيا للمفعول لحذف الفاعل هو رجال كما لا يخفى. والآية على هذه القراءة حذف فيها الفاعل ليسبح، وحذف أيضا الفعل الرافع للفاعل الذي هو رجال على حد قوله في الخلاصة: وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة الجمهور: يسبح بكسر الباء وفاعله رجال، مبينة أن الفاعل المحذوف في قراءة ابن عامر، وشعبة، عن عاصم: يسبح بفتح الباء مبنيا للمفعول لحذف الفاعل هو رجال كما لا يخفى. والآية على هذه القراءة حذف فيها الفاعل ليسبح، وحذف أيضا الفعل الرافع للفاعل الذي هو رجال على حد قوله في الخلاصة:
* ويرفع الفاعل فعل أضمرا
* كمثل زيد في جواب من قرا
*
ونظير ذلك من كلام العرب قول ضرار بن نهشل يرثى أخاه يزيد أو غيره: ونظير ذلك من كلام العرب قول ضرار بن نهشل يرثى أخاه يزيد أو غيره:
* ليبك يزيد ضارع لخصومة
* ومختبط مما تطيح الطوائح
*
فقوله: ليبك يزيد بضم الياء المثناة التحتية، وفتح الكاف مبنيا للمفعول، فكأنه قيل ومن
538

يبكيه فقال: يبكيه ضارع لخصومة الخ. وقراءة ابن عامر، وشعبة هنا كقراءة ابن كثير: كذلك يوحى إليك بفتح الحاء مبنيا للمفعول فقوله: الله فاعل يوحى المذحوفة، ووصفه تعالى لهؤلاء الرجال الذين يسبحون له بالغدو والآصال، بكونهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة على سبيل مدحهم، والثناء عليهم. يدل على أن تلك الصفات لا ينبغي التساهل فيها بحال، لأن ثناء الله على المتصف بها يدل على أن من أجل بها يستحق الذم الذي هو ضد الثناء، ويوضح ذلك أن الله نهى عن الإخلال بها نهيا جازما في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولائك هم الخاسرون) * وقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) * الآية إلى غير ذلك من الآيات. مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: اعلم أنه على قراءة ابن عامر، وشعبة: يسبح بفتح الباء يحسن الوقف على قوله: بالآصال، وأما على قراءة الجمهور يسبح بالكسر، فلا ينبغي الوقف على قوله: بالآصال، لأن فاعل يسبح رجال، والوقف دون الفاعل لا ينبغي كما لا يخفى.
المسألة الثانية: اعلم أن الضمير المؤنث في قوله: * (يسبح له فيها) * راجع إلى المساجد المعبر عنها بالبيوت في قوله: * (فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) * والتحقيق: أن البيوت المذكورة، هي المساجد.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن تخصيصه من يسبح له فيها بالرجال في قوله * (يسبح له فيها بالغدو والاصال رجال) * يدل بمفهومه على أن النساء يسبحن له في بيوتهن لا في المساجد، وقد يظهر للناظر أن مفهوم قوله: رجال مفهوم لقب، والتحقيق عند الأصوليين أنه لا يحتج به.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا شك أن مفهوم لفظ الرجال، مفهوم لقب بالنظر إلى مجرد لفظه، وأن مفهوم اللقب ليس بحجة على التحقيق، كما أوضحناه في غير هذا الموضع. ولكن مفهوم الرجال هنا معتبر، وليس مفهوم لقب على التحقيق، وذلك لأن
539

لفظ الرجال، وإن كان بانلظر إلى مجرده اسم جنس جامد وهو لقب بلا نزاع، فإنه يستلزم من صفات الذكورة ما هو مناسب لإناطة الحكم به، والفرق بينه وبين النساء، لأن الرجال لا تخشى منهم الفتنة، وليسوا بعورة بخلاف النساء، ومعلوم أن وصف الذكورة وصف صالح لإناطة الحكم به الذي هو التسبيح في المساجد، والخروج إليها دون وصف الأنوثة.
والحاصل: أن لفظ الرجال في الآية، وإن كان في الاصطلاح لقبا فإنما يشتمل عليه من أوصاف الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإنثار، يقتضي اعتبار مفهوم المخالفة في لفظ رجال، فهو في الحقيقة مفهوم صفة لا مفهوم لقب، لأن لفظ الرجال مستلزم لأوصاف صالحة لإناطة الحكم به، والفرق في ذلك بين الرجال والنساء
كما لا يخفى.
المسألة الثالثة: إذا علمت أن التحقيق أن مفهوم قوله: رجال مفهوم صفة باعتبار ما يستلزمه من صفات الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإناث، في حكم الخروج إلى المساجد لا مفهوم لقب، وأن مفهوم الصفة معتبر عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة.
فاعلم أن مفهوم قوله هنا: رجال فيه إجمال، لأن غاية ما يفهم منه أن النساء لسن كالرجال في الخروج للمساجد، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان القرآني إذا كان غير واف بالمقصود من تمام البيان. فإنا نتمم البيان من السنة من حيث إنها تفسير للمبين باسم الفاعل، وتقدمت أمثلة لذلك.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن السنة النبوية بينت مفهوم المخالفة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: رجال، فبينت أن المفهوم المذكور معتبر، وأن النساء لسن كالرجال في حكم الخروج إلى المساجد، وأوضحت أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لهن من الخروج إلى المساجد والصلاة فيها في الجماعة، بخلاف الرجال، وبينت أيضا أنهن يجوز لهن الخروج إلى المساجد بشروط سيأتي إيضاحها إن شاء الله تعالى، وأنهن إذا استأذن أزواجهن في الخروج إلى المساجد فهم مأمورون شرعا بلإذن لهن في ذلك مع التزام الشروط المذكورة.
أما أمر أزواجهن بالإذن لهن في الخروج إلى المساجد إذا طلبن ذلك فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب النكاح: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا استأذنت
540

امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها) وقال البخاري أيضا في صحيحه في كتاب الصلاة: باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد: حدثنا مسدد، حدثنا يزيد بن زريع، عن معمر عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها) وقال البخاري رحمه الله في صحيحه أيضا، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن حنظلة، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن) تابعه شعبة عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني عمرو الناقد، وزهير بن حرب جميعا عن ابن عيينة قال زهير: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري سمع سالما يحدث عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها (وفي لفظ عند مسلم، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذكم إليها) وفي لفظ عند مسلم أيضا، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) وفي لفظ له عنه أيضا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا استأذكم نساؤكم إلى المسجد فأذنوا لهن) وفي لفظ عنه أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل) وفي رواية له عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد) وفي لفظ له عنه أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم) وفي رواية (إذا استأذنوكم). قال النووي في شرح مسلم: وهو صحيح وعوملن معاملة الذكور لطلبهن الخروج إلى مجلس الذكور، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا الذي ذكرناه عن الشيخين بروايات متعددة، أخرجه أيضا غيرهما وهو صريح في أن أزواج النساء مأمورون على لسانه صلى الله عليه وسلم بالإذن لهن في الخروج إلى الساجد، إذا طلبن ذلك، ومنهيون عن منعهن من الخروج إليها.
وذكر بعض أهل العلم أن أمر الأزواج بالإذن لهن في الروايات المذكورة ليس للإيجاب، وإنما هو للندب، وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن منعهن. قالوا: هو لكراهة التنزيه لا للتحريم.
قال ابن حجر في فتح الباري: وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب،
541

لأنه لو كان واجبا لانتفى معنى الاستئذان، لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيرا في الإجابة أو الرد.
وقال النووي في شرح المذهب: فإن منعها لم يحرم عليه هذا مذهبنا، قال البيهقي: وبه قال عامة العلماء. ويجاب عن حديث (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) بأنه نهى تنزيه، لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه لفضيلة ا ه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي في هذه المسألة: أن الزوج إذا استأذنته امرأته في الخروج إلى المسجد، وكانت غير متطيبة، ولا متلبسة بشيء يستوجب الفتنة مما سيأتي إيضاحه إن شاء الله، أنه يجب عليه الإذن لها، ويحرم عليه منعها للنهي الصريح منه صلى الله عليه وسلم عن منعها من ذلك، وللأمر الصريح بالإذن لها وصيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب، كما أوضحناه في مواضع من هذا الكتاب المبارك، وصيغة النهي كذلك تقتضي التحريم، وقد قال تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) * وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) إلى غير ذلك من الأدلة، كما قدمنا. وقول ابن حجر: إن الإذن لا يتحقق إلا إذا كان المستأذن مخيرا في الإجابة، والرد غير مسلم، إذ لا مانع عقلا، ولا شرعا ولا عادة من أن يوجب الله عليه الإذن لامرأته في الخروج إلى المسجد من غير تخيير، فإيجاب الإذن لا مانع منه. وكذلك تحريم المنع، وقد دل النص الصحيح على إيجابه فلا وجه لم لرده بأمر محتمل كما ترى. وقول النووي: لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه للفضيلة لا يصلح، لأن يرد به النص الصريح منه صلى الله عليه وسلم، فأمره صلى الله عليه وسلم الزوج بالإذن لها يلزمه ذلك، ويوجبه عليه، فلا يعارض بما ذكره النووي كما ترى. وما ذكره النووي عن البيهقي: من أن عدم الوجوب قال به عامة العلماء غير مسلم أيضا، فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه لما حدث
عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الذي ذكرنا عنه في أمر الأزواج بالإذن للنساء في الخروج إلى المساجد، وقال ابنه: لا ندعهن يخرجن، غضب وشتمه ودفع في صدره منكرا عليه، مخالفته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك دليل واضح على اعتقاده وجوب امتثال ذلك الأمر بالإذن لهن.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني حرملة بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن
542

عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها) فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن، فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: والله لنمنعهن، وفي لفظ عند مسلم: فزبره ابن عمر وقال: أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لا ندعهن. وفي لفظ لمسلم أيضا: فضرب في صدره.
واعلم أن ابن عبد الله بن عمر الذي زعم أنه لم يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإذن للنساء إلى المساجد جاء في صحيح مسلم أنه بلال بن عبد الله بن عمر.
وفي رواية عند مسلم: أنه واقد بن عبد الله بن عمر. والحق تعدد ذلك فقد قاله كل من بلال، وواقد ابني عبد الله بن عمر، وقد أنكر ابن عمر على كل منهما. كما جاءت به الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره، فكون ابن عمر رضي الله عنهما أقبل على ابنه بلال وسبه سبا سيئا وقال منكرا عليه، أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لنمنعهن فيه دليل واضح أن ابن عمر يرى لزوم الإذن لهن، وأن منعهن لا يجوز، ولو كان يراه جائزا ما شدد النكير على ابنيه كما لا يخفى.
وقال النووي في شرح مسلم: قوله: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا. وفي رواية فزبره. وفي رواية: فضرب في صدره، فيه تعزير المعترض على السنة والمعارض لها برأيه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وكلام النووي هذا الذي رأيت اعتراف منه بأن مذهبه وهو مذهب الشافعي ومن قال بقوله، كما نقل عن البيهقي، أنه قول عامة العلماء، أن جميع القائلين بذلك مستحقون للتعزير، معترضون على السنة، معارضون لها برأيهم، والعجب منه كيف يقر بأن بلال بن عبد الله بن عمر مستحق للتعزير لاعتراضه على السنة، ومعارضته لها برأيه، مع أن مذهبه الذي ينصره وينقل أنه قول عامة العلماء عن البيهقي هو بعينه قول بلال ابن عبد الله بن عمر الذي صرح هو بأنه يستحق به العزير، وأنه اعتراض على السنة ومعارضة لها بالرأي. وقال النووي: قوله: فزبره: أي نهره. وقال ابن حجر في فتح الباري: ففي رواية بلال عند مسلم، فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا شديدا ما سمعته سبه مثله قط، وفسر عبد الله بن هبيرة في رواية الطبراني السب المذكور باللعن ثلاث مرات وفي رواية زائدة عن الأعمش فانتهره وقال: أف لك. وله عن ابن نمير عن
543

الأعمش فعل الله بك وفعل، ومثله للترمذي من رواية عيسى بن يونس. ولمسلم من رواية أبي معاوية: فزبره. ولأبي داود من رواية جرير: فسبه وغضب عليه، إلى أن قال: وأخذ من إنكار عبد الله على ولده تأديب العترض على السنن برأيه، وهو اعتراف منه أيضا بأن من خالف الحديث المذكور معترض على السنن برأيه.
وبه تعلم أن ما قدمنا عنه من كون الأمر بالإذن لهن إلى المساجد ليس للوجوب اعتراض على السنن بالرأي كما ترى.
وبما ذكرنا تعلم أن الدليل قد دل من السنة الصحيحة على وجوب الإذن للنساء في الخروج إلى المساجد كما ذكرنا، ويؤيده أن ابن عمر لم ينكر عليه أحد من الصحابة تشنيعه على ولديه كما أوضحناه آنفا. والعلم عند الله تعالى.
وإذا علمت أن ما ذكرنا من النصوص الصريحة في الأمر بالإذن لهن يقتضى جواز خروجهن إلى المساجد، فاعلم أنه ثبت في الصحيح أنهن كن يخرجن إلى المسجد، فيصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم. قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن بكير قال: أخبرنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن عائشة رضي الله عنها أخبرته قالت: كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر منلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس ا ه. وهذا الحديث أخرجه أيضا مسلم وغيره. وقد جاءت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما دالة على ما دل عليه حديث عائشة هذا المتفق عليه من كون النساء كن يشهدن الصلاة في المسجد معه صلى الله عليه وسلم. تنبيه
قد علمنا مما ذكرنا في روايات حديث ابن عمر المتفق عليه: أن في بعض رواياته المتفق عليها تقييد أمر الرجال بالإذن للنساء في الخروج إلى المسجد بالليل، وفي بعضها الإطلاق وعدم التقييد بالليل، وهو أكثر الروايات كما أشار له ابن حجر في الفتح.
وقد يتبادر للناظر أن الأزواج ليسوا مأمورين بالإذن للنساء إلا في خصوص الليل، لأنه أستر، ويترجح عنده هذا بما هو مقرر في الأصول من حمل المطلق على المقيد، فتحمل روايات الإطلاق على التقييد بالليل، فيختص الإذن المذكور بالليل.
544

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي تقديم روايات الإطلاق وعدم التقييد بالليل لكثرة الأحاديث الصحيحة الدالة على حضور النساء الصلاة معه صلى الله عليه وسلم في غير الليل، كحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفا الدال على حضورهن معه صلى الله عليه وسلم الصبح، وهي صلاة نهار لا ليل، ولا يكون لها حكم صلاة الليل، بسبب كونهن يرجعن لبيوتهن، لا يعرفن من الغلس، لأن ذلك الوقت من النهار قطعا، لا من الليل، وكونه من النهار مانع من التقييد بالليل، والعلم عند الله تعالى. وأما ما يشترط في جواز خروج النساء إلى المساجد فهو المسألة الرابعة.
اعلم أن خروج المرأة إلى المسجد يشترط فيه عند أهل العلم شروط يرجع جميعها إلى شيء واحد، وهو كون المرأة وقت خروجها للمسجد ليست متلبسة بما يدعو إلى الفتنة مع الأمن من الفساد.
قال النووي في شرح مسلم في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ما نصه: هذا وما أشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع
المسجد، ولكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث، وهي ألا تكون متطيبة، ولا متزينة، ولا ذات خلاخل يسمع صوتها، ولا ثياب فاخرة، ولا مختلطة بالرجال، ولا شابة ونحوها. ممن يفتن بها، وألا يكون في الطريق ما يخاف منه مفسدة ونحوها. انتهى محل الغرض من كلام النووي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذه الشروط التي ذكرها النووي وغيره منها ما هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما لا نص فيه، ولكنه ملحق بالنصوص لمشاركته له في علته، وإلحاق بعضها لا يخلو من مناقشة كما سترى إيضاح ذلك كله إن شاء تعالى. أما ما هو ثابت عند صلى الله عليه وسلم من تلك الشروط، فهو عدم التطيب، فشرط جواز خروج المرأة إلى المسجد ألا تكون متطيبة.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا مرون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، أخبرني مخرمة، عن أبيه عن بسر بن سعيد أن زينب الثقفية كانت تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا شهدت إحداكن العشاء، فلا تطيب تلك الليلة).
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن محمد بن عجلان
545

حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج، عن بسر بن سعيد، عن زينب امرأة عبد الله قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا).
حدثنا يحيى بن يحيى وإسحاق بن إبراهيم، قال يحيى: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة، عن يزيد بن حصيفة، عن بسر بن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة) ا ه.
فهذا الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن صحابيين، وهما: أبو هريرة، وزينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع، صريح في أن المتطيبة ليس لها الخروج إلى المسجد، ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات) ا ه. وقوله: وهن تفلات: أي غير متطيبات. وقال النووي في شرح المهذب. في هذا الحديث رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم. وتفلات بفتح التاء المثناة فوق وكسر الفاء: أي تاركات الطيب ا ه. ومنه قول امرئ القيس: قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات) ا ه. وقوله: وهن تفلات: أي غير متطيبات. وقال النووي في شرح المهذب. في هذا الحديث رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم. وتفلات بفتح التاء المثناة فوق وكسر الفاء: أي تاركات الطيب ا ه. ومنه قول امرئ القيس:
* إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها
* تميل عليه هونة غير متغالى
*
وهذا الحديث أخرجه أيضا الإمام أحمد وابن خزيمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه ابن حبان من حديث زيد بن خالد. قاله الشوكاني وغيره.
وإذا علمت أن هذه الأحاديث دلت على أن المتطيبة ليس لها الخروج إلى المسجد، لأنها تحرك شهوة الرجال بريح طيبها.
فاعلم أن أهل العلم ألحقوا بالطيب ما في معناه كالزينة الظاهرة، وصوت الخلخال والثياب الفاخرة، والاختلاط بالرجال، ونحو ذلك بجامع أن الجميع سبب الفتنة بتحريك شهوة الرجال، ووجهه ظاهر كما ترى. وألحق الشافعية بذلك الشابة مطلقا، لأن الشاب مظنة الفتنة، وخصصوا الخروج إلى المساجد بالعجائز. والأظهر أن الشابة إذا خرجت مستترة غير متطيبة، ولا متلبسة بشيء آخر من أسباب الفتنة أن لها الخروج إلى المسجد لعموم النصوص المتقدمة. والعلم عند الله تعالى.
546

المسألة الخامسة: اعمل أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل لهن من الصلاة في المساجد، ولو كان المسجد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبه تعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) خاص بالرجال، أما النساء فصلاتهن في بيوتهن خير لهن من الصلاة في الجماعة في المسجد.
قال أبو داود في سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام بن حوشب، حدثني حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن) وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: وحديث ابن عمر صحيح رواه أبو داود بلفظه هذا، بإسناد صحيح على شرط البخاري ا ه.
وهذا الحديث أخرجه أيضا الإمام أحمد. وقال ابن حجر في فتح الباري: وقد ورد في بعض روايات هذا الحديث وغيره، ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، وذلك في رواية حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر بلفظ: (لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن) أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة، ولأحمد والطبراني من حديث أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، فقال: (قد علمت وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجد الجماعة) وإسناد أحمد حسن وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود، ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة. انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر.
وحديث ابن مسعود الذي أشار له هو ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا ابن المثنى، أن عمرو بن عاصم حدثهم قال: ثنا همام عن قتادة، عن مورق عن أبي الأحوص،
عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها). ا ه.
وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم، وقد روى أحمد عن أم سلمة عنه صلى الله عليه وسلم: (خير مساجد النساء قعر بيوتهن).
547

وبما ذكرنا من النصوص تعلم أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل لهن من صلاتهن في الجماعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره من المساجد لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما يؤكد صلاتهن في بيوتهن ما أحدثنه من دخول المسجد في ثياب قصيرة هي مظنة الفتنة، ومزاحمتهن للرجال في أبواب المسجد عند الدخول والخروج، وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى من النساء ما رأينا، لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها.
وقد علمت مما ذكرنا من الأحاديث أن مفهوم المخالفة في قوله تعالى: * (يسبح له فيها بالغدو والاصال رجال) * الآية معتبر، وأنه ليس مفهوم لقب، وقد أوضحنا المفهوم المذكور بالسنة كما رأيت. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الرجال الذين يسبحون له في المساجد بالغدو والآصال، إلى آخر ما ذكر من صفاتهم: أنهم يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهو يوم القيامة لشدة هوله، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من عظم هول ذلك اليوم، وتأثيره في القلوب والأبصار، جاء في آيات كثيرة من كتاب الله العظيم كقوله تعالى: * (قلوب يومئذ واجفة * أبصارها خاشعة) * وقوله تعالى: * (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار) * وقوله تعالى: * (وأنذرهم يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر) * الآية. ونحو ذلك من الآيات الدالة على عظم ذلك اليوم كقوله تعالى: * (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا * السماء منفطر به) * الآية. وقوله تعالى: * (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) * إلى غير ذلك من الآيات. وفي معنى تقلب القلوب والأبصار أقوال متعددة لأهل التفسير، ذكرها القرطبي وغيره.
وأظهرها عندي: أن تقلب القلوب هو حركتها من أماكنها من شدة الخوف كما قال تعالى: * (إذ القلوب لدى الحناجر) * وأن تقلب الأبصار هو زيغوغتها ودورانها بالنظر في جميع الجهات من شدة الخوف، كما قال تعالى: * (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك
548

تدور أعينهم كالذى يغشى عليه من الموت) * الآية. وكقوله تعالى: * (وإذا زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر) * فالدوران والزيغوغة المذكوران يعلم بهما معنى تقلب الأبصار، وإن كانا مذكورين في الخوف من المكروه في الدنيا. قوله تعالى: * (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله) *. الظاهر أن اللام في قوله: ليجزيهم، متعلقة بقوله: يسبح: أي يسبحون له، ويخافون يوما ليجزيهم الله أحسن ما عملوا. وقوله في هذه الآية الكريمة: ويزيدهم من فضله، الظاهر أن هذه الزيادة من فضله تعالى، هي مضاعفة الحسنات، كما دل عليه قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) *، وقوله تعالى: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) *، وقوله تعالى: * (والله يضاعف لمن يشاء) *.
وقال بعض أهل العلم: الزيادة هنا كالزيادة في قوله: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * والأصح: أن الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم، وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى: * (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) *.
وقد قدمنا قول بعض أهل العلم: أن قوله تعالى: * (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا) * ونحوها من الآيات يدل على أن المباح حسن، لأن قوله: أحسن ما عملوا صيغة تفضيل، وصيغة التفضيل المذكورة تدل على أن من أعمالهم حسنا لم يجزوه وهو المباح. قال في مراقي السعود: وقد قدمنا قول بعض أهل العلم: أن قوله تعالى: * (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا) * ونحوها من الآيات يدل على أن المباح حسن، لأن قوله: أحسن ما عملوا صيغة تفضيل، وصيغة التفضيل المذكورة تدل على أن من أعمالهم حسنا لم يجزوه وهو المباح. قال في مراقي السعود:
* ما ربنا لم ينه عنه حسن
* وغيره القبيح والمستهجن
* * (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب * أو كظلمات فى بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذآ أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور * ألم تر أن الله يسبح له من فى السماوات والا رض والطير صآفات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون * ولله ملك السماوات والا رض وإلى الله المصير * ألم تر أن الله يزجى سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السمآء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشآء ويصرفه عن من يشآء يكاد سنا برقه يذهب بالا بصار * يقلب الله اليل والنهار إن فى ذالك لعبرة لأولى الا بصار * والله خلق كل دآبة من مآء فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على أربع يخلق الله ما يشآء إن الله على كل شىء قدير * لقد أنزلنآ ءايات مبينات والله يهدى من يشآء إلى صراط مستقيم * ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذالك ومآ أولائك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفى قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولائك هم الظالمون * إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولائك هم
المفلحون * ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولائك هم الفآئزون * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون * قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين * وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الا رض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا ومن كفر بعد ذالك فأولائك هم الفاسقون * وأقيموا الصلواة وآتوا الزكواة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون) * * (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أعمال الكفار باطلة، وأنها لا شئ؛ لأنه قال في السراب الذي مثلها به: * (حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) *، وما دلت عليه هذه الآية
549

الكريمة من بطلان أعمال الكفار، جاء موضحا في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (مثل * الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شىء) *، وقوله تعالى: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا أن عمل الكافر إذا كان على الوجه الصحيح أنه يجزى به في الدنيا؛ كما أوضحناه في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) *.
وقد دلت آيات من كتاب الله على انتفاع الكافر بعمله في الدنيا، دون الآخرة؛ كقوله تعالى: * (من كان يريد حرث الاخرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له فى) *، وقوله تعالى: * (من كان يريد الحيواة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم فى الاخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) *، وهذا الذي دلت عليه هذه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا، دون الآخرة ثبت في صحيح مسلم وغيبره من حديث أنس رضي الله عنه؛ كما أوضحناه في الكلام على آية (النحل) المذكورة، وهو أحد التفسيرين في قوله تعالى: * (ووجد الله عنده فوفاه حسابه) *، أي: وفاه حسابه في الدنيا على هذا القول، وقد بين الله جل وعلا في سورة (بني إسرائيل) أن ما دلت عليه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا، أنه مقيد بمشيئة الله تعالى، وذلك في قوله تعالى: * (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا) *.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ذكرناه وذكرنا الجواب عنه في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، وذلك في قولنا فيه: لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن الضمير في قوله: * (جاءه) *، يدل على شئ موجود واقع عليه المجيء؛ لأن وقوع المجيء على العدم لا يعقل، ومعلوم أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضائفين، فلا تدرك إلا بإدراكهما، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل، إلا بإدراك فاعل واقع منه المجيء، ومفعول به
550

واقع عليه المجيء. وقوله تعالى: * (لم يجده شيئا) * يدل على عدم وجود شئ يقع عليه المجيء في قوله تعالى: * (جاءه) *.
والجواب عن هذا من وجهين، ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة.
قال: فإن قال قائل كيف قيل: * (حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) *، فإن لم يكن السراب شيئا فعلام دخلت الهاء في قوله: * (حتى إذا جاءه) *؟ قيل: إنه شئ يرى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفا من بعيد، فإذا قرب منه رق وصار كالهواء، وقد يحتمل أن يكون معناه حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا، فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه، انتهى منه.
والوجه الأول أظهر عندي، وعنده، بدليل قوله: وقد يحتمل أن يكون معناه، إلخ. انتهى كلامنا في (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، وقد رأيت فيه جواب ابن جرير الطبري عن السؤال المذكور، وقوله تعالى في هذه الآية: * (بقيعة) *، قيل: جمع قاع، كجار وجيرة. وقيل: القيعة والقاع بمعنى، وهو المنبسط المستوي المتسع من الأرض، وعلى هذا فالقاع واحد القيعان، كجار وجيران. * (ألم تر أن الله يسبح له من فى السماوات والا رض والطير صآفات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون) *. اعلم أن الضمير المحذوف الذي هو فاعل * (علم) *، قال بعض أهل العلم: إنه راجع إلى الله في قوله: * (ألم تر أن الله يسبح له من فى السماوات) *، وعلى هذا فالمعنى كل من المسبحين والمصلين، قد علم الله صلاته وتسبيحه. وقال بعض أهل العلم: إن الضمير المذكور راجع إلى قوله: * (كل) *، أي: كل من المصلين والمسبحين، قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه، وقد قدمنا في سورة (النحل)، في الكلام على قوله تعالى: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) *، كلام الأصوليين في أن اللفظ إن احتمل التوكيد والتأسيس حمل على التأسيس، وبينا أمثلة متعددة لذلك من القرءان العظيم.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن الأظهر على مقتضى ما ذكرنا عن الأصوليين، أن يكون ضمير الفاعل المحذوف في قوله: * (كل قد علم صلاته وتسبيحه) *، راجعا إلى قوله:
551

* (كل) *، أي: كل من المصلين قد علم صلاة نفسه، وكل من المسبحين قد علم تسبيح نفسه، وعلى هذا القول فقوله تعالى: * (والله عليم بما يفعلون) *، تأسيس لا تأكيد، أما على القول بأن الضمير راجع إلى * (الله) *، أي: قد علم الله صلاته يكون قوله: * (والله عليم بما يفعلون) * كالتكرار مع ذلك، فيكون من قبيل التوكيد اللفظي.
وقد علمت أن المقرر في الأصول أن الحمل على التأسيس أرجح من الحمل على التوكيد؛ كما تقدم إيضاحه. والظاهر أن الطير تسبح وتصلي صلاة وتسبيحا يعلمهما الله، ونحن لا نعلمهما؛ كما قال تعالى: * (وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولاكن لا تفقهون تسبيحهم) *.
ومن الآيات الدالة على أن غير العقلاء من المخلوقات لها إدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، قوله تعالى في الحجارة: * (وإن منها لما يهبط من خشية الله) *، فأثبت خشيته للحجارة، والخشية تكون بإدراك. وقوله تعالى: * (لو أنزلنا هاذا القرءان على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) *، وقوله تعالى: * (إنا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) *، والإباء والإشفاق إنما يكونان بإدراك، والآيات والأحاديث واردة بذلك، وهو الحق. وظاهر الآية أن للطير صلاة وتسبيحا، ولا مانع من الحمل على الظاهر، ونقل القرطبي عن سفيان: أن للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود، اه.
ومعلوم أن الصلاة في اللغة الدعاء، ومنه قول الأعشى: ومعلوم أن الصلاة في اللغة الدعاء، ومنه قول الأعشى:
* تقول بنتي وقد غربت مرتحلا
* يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
*
* عليك مثل الذي صليت فاغتبطي
* نوما فإن لجنب المرء مضجعا
*
فقوله: مثل الذي صليت، أي: دعوت، يعني قولها: يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا.
وقوله: * (صافات) *، أي: صافات أجنحتها في الهواء. وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أن إمساكه الطير صافات أجنحتها في الهواء وقابضات لها من آيات قدرته، واستحقاقه العبادة وحده، وذلك في قوله تعالى: * (أو لم يروا إلى الطير صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان) *، وقوله تعالى: * (ألم يروا إلى الطير مسخرات
552

فى جو السمآء ما يمسكهن إلا الله إن فى ذالك لآيات لقوم يؤمنون) *. قوله تعالى: * (وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الا رض كما استخلف الذين من قبلهم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذه الأمة: * (ليستخلفنهم فى الارض) *، أي: ليجعلنهم خلفاء الأرض، الذين لهم السيطرة فيها، ونفوذ الكلمة، والآيات تدل على أن طاعة الله بالإيمان به، والعلم الصالح سبب للقوة والاستخلاف في الأرض ونفوذ الكلمة؛ كقوله تعالى: * (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الارض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره) *، وقوله تعالى: * (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز * الذين إن مكناهم فى الارض أقاموا الصلواة واتوا الزكواة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور) *، وقوله تعالى: * (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (كما استخلف الذين من قبلهم) *، أي: كبني إسرائيل.
ومن الآيات الموضحة لذلك، قوله تعالى: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم فى الارض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) *، وقوله تعالى عن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: * (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الارض فينظر كيف تعملون) *، وقوله تعالى: * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التى باركنا فيها) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى: * (ليستخلفنهم) * اللام موطئة لقسم محذوف، أي: وعدهم الله، وأقسم في وعده ليستخلفنهم. * (وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم) *. هذا الدين الذي ارتضاه لهم هو دين الإسلام بدليل قوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الأسلام دينا) *، وقوله تعالى: * (إن
553

الدين عند الله الإسلام) *، وقوله تعالى: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الاخرة من الخاسرين) *، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وليمكنن لهم دينهم) *، قال الزمخشري: تمكينه هو تثبيته وتوطيده. * (وأقيموا الصلواة وآتوا الزكواة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون) *. هذه الآية الكريمة تدل على أن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لرحمة الله تعالى، سواء قلنا إن لعل في قوله: * (لعلكم ترحمون) *، حرف تعليل أو ترج؛ لأنها إن قلنا: إنها حرف تعليل فإقامة الصلاة وما عطف عليه سبب لرحمة الله؛ لأن العلل أسباب شرعية، وإن قلنا: إن لعل للترجي، أي: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة على رجائكم أن الله يرحمكم بذلك، لأن الله ما أطمعهم بتلك الرحمة عند علمهم بموجبها إلا ليرحمهم لما هو معلوم من فضله وكرمه، وكون لعل هنا للترجي، إنما هو بحسب علم المخلوقين؛ كما أوضحناه في غير هذا الموضع. وهذا الذي دلت عليه هذه الآية من أنهم إن أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأطاعوا الرسول رحمهم الله بذلك جاء موضحا في آية أخرى، وهي قوله تعالى: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم) *، وقوله تعالى في هذه الآية: * (وأطيعوا الرسول) *، بعد قوله: * (وإذ أخذنا) * من عطف العام على الخاص؛ لأن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، داخلان في عموم قوله: * (وأطيعوا الرسول) *، وقد قدمنا مرارا أن عطف العام على الخاص وعكسه كلاهما من الإطناب المقبول إذا كان في الخاص مزية ليست في غيره من أفراد العام.
* (لا تحسبن الذين كفروا معجزين فى الا رض ومأواهم النار ولبئس المصير * ياأيها الذين ءامنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلواة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلواة العشآء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض
كذلك يبين الله لكم الا يات والله عليم حكيم * وإذا بلغ الا طفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذالك يبين الله لكم ءاياته والله عليم حكيم * والقواعد من النسآء اللاتى لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم * ليس على الا عمى حرج ولا على الا عرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت ءابآئكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الا يات لعلكم تعقلون * إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولائك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم * لا تجعلوا دعآء الرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم * ألا إن لله ما فى السماوات والا رض قد يعلم مآ أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شىء عليم) * * (لا تحسبن الذين كفروا معجزين فى الا رض) *. نهى الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يحسب، أي: يظن الذين كفروا معجزين في الأرض، ومفعول * (معاجزين) * محذوف، أي: لا يظنهم معجزين ربهم، بل قادر على عذابهم لا يعجز عن فعل ما أراد بهم؛ لأنه قادر على كل شئ.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر؛ كقوله تعالى: * (واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزى الكافرين) *، وقوله تعالى: * (وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) *، وقوله تعالى
554

: * (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون) *، وقوله تعالى: * (قل إى وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين) *، وقوله تعالى: * (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون * وما أنتم بمعجزين فى الارض ولا فى السماء) *، وقوله في (الشورى): * (وما أنتم بمعجزين فى الارض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (لا تحسبن الذين كفروا) *، قرأه ابن عامر وحمزة: * (لا * يحسبن) *، بالياء المثناة التحتية على الغيبة، وقرأه باقي السبعة: * (لا تحسبن) *، بالتاء الفوقية. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة بفتح السين، وباقي السبعة بكسرها.
والحاصل أن قراءة ابن عامر وحمزة بالياء التحتية وفتح السين، وقراءة عاصم بالتاء الفوقية وفتح السين، وقراءة الباقين من السبعة بالتاء الفوقية وكسر السين، وعلى قراءة من قرأ بالتاء الفوقية فلا أشكال في الآية مع فتح السين وكسرها؛ لأن الخطاب بقوله: * (لا تحسبن) * للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: * (الذين كفروا) * هو المفعول الأول، وقوله: * (معاجزين) * هو المفعول الثاني ل: * (تحسبن) *، وأما على قراءة: * (ولا يحسبن) * بالياء التحتية، ففي الآية إشكال معروف، وذكر القرطبي الجواب عنه من ثلاثة أوجه:
الأول: أن قوله * (الذين كفروا) * في محل رفع فاعل * (يحسبن) *، والمفعول الأول محذوف، تقديره: أنفسهم. و * (معاجزين) * مفعول ثان، أي: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض، وعزا هذا القول للزجاج، والمفعول المحذوف قد تدل عليه قراءة من قرأ بالتاء الفوقية، كما لا يخفى. ومفعولا الفعل القلبي يجوز حذفهما أو حذف أحدهما إن قام عليه دليل؛ كما أشار له ابن مالك في (الخلاصة)، بقوله: الأول: أن قوله * (الذين كفروا) * في محل رفع فاعل * (يحسبن) *، والمفعول الأول محذوف، تقديره: أنفسهم. و * (معاجزين) * مفعول ثان، أي: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض، وعزا هذا القول للزجاج، والمفعول المحذوف قد تدل عليه قراءة من قرأ بالتاء الفوقية، كما لا يخفى. ومفعولا الفعل القلبي يجوز حذفهما أو حذف أحدهما إن قام عليه دليل؛ كما أشار له ابن مالك في (الخلاصة)، بقوله:
* ولا تجز هنا بلا دليل
* سقوط مفعولين أو مفعول
*
ومثال حذف المفعولين معا مع قيام الدليل عليهما، قوله تعالى: * (أين شركائى الذين كنتم تزعمون) *، أي: تزعمونهم شركائي. وقول الكميت: ومثال حذف المفعولين معا مع قيام الدليل عليهما، قوله تعالى: * (أين شركائى الذين كنتم تزعمون) *، أي: تزعمونهم شركائي. وقول الكميت:
* بأي كتاب أم بأية سنة
* ترى حبهم عارا علي وتحسب
*
555

أي: وتحسب حبهم عارا علي، ومثال حذف أحد المفعولين قول عنترة: أي: وتحسب حبهم عارا علي، ومثال حذف أحد المفعولين قول عنترة:
* ولقد نزلت فلا تظني غيره
* مني بمنزلة المحب المكرم
*
أي: لا تظني غيره واقعا.
الجواب الثاني: أن فاعل * (يحسبن) * النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه مذكور في قوله قبله: * (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) *، أي: لا يحسبن محمد صلى الله عليه وسلم الذين كفروا معجزين، وعلى هذا ف: * (الذين كفروا) * مفعول أول، و * (معاجزين) * مفعول ثان، وعزا هذا القول للفراء، وأبي علي.
الجواب الثالث: أن المعني: لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض وعزا هذا القول لعلي بن سليمان، وهو كالذي قبله، إلا أن الفاعل في الأول النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الثاني الكافر. وقال الزمخشري: وقرئ * (لا * يحسبن) * بالياء، وفيه أوجه أن يكون * (معجزين فى الارض) * هما المفعولان.
والمعنى: لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله في الأرض، حتى يطمعوا هم في مثل ذلك، وهذا معنى قوي جيد، وأن يكون فيه ضمير الرسول لتقدم ذكره في قوله: * (قل أطيعوا لله وأطيعوا الرسول) *، وأن يكون الأصل: لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول، وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشئ واحد، اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث، اه.
وما ذكره النحاس وأبو حاتم وغيرهما من أن قراءة من قرأ: * (لا * يحسبن) * بالياء التحتية خطأ أو لحن، كلام ساقط لا يلتفت إليه؛ لأنها قراءة سبعية ثابتة ثبوتا لا يمكن الطعن فيه، وقرأ بها من السبعة: ابن عامر، وحمزة؛ كما تقدم.
وأظهر الأجوبة عندي: أن * (معجزين فى الارض) * هما المفعولان، فالمفعول الأول * (معاجزين) *، والمفعول الثاني دل عليه قوله: * (فى الارض) *، أي: لا تحسبن معجزين الله موجودين أو كائنين في الأرض، والعلم عند الله تعالى. * (لا تجعلوا دعآء الرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا) *. لأهل العلم في هذه الآية أقوال، راجعة إلى قولين:
556

أحدهما: أن المصدر الذي هو: * (دعاء) * مضاف إلى مفعوله، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالرسول مدعو.
الثاني: أن المصدر المذكور مضاف إلى فاعله، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا: فالرسول داع.
وإيضاح معنى قول من قال: إن المصدر مضاف إلى مفعوله، أن المعنى: لا تجعلوا دعاءكم إلى الرسول إذا دعوتموه كدعاء بعضكم بعضا، فلا تقولوا له: يا محمد مصرحين باسمه، ولا ترفعوا أصواتكم عنده كما يفعل بعضكم مع بعض، بل قولوا له: يا نبي الله، يا رسول الله، مع خفض الصوت احتراما له صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول هو الذي تشهد له آيات من كتاب الله تعالى؛ كقوله: * (ياأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم) *، وقوله تعالى: * (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم) *، وقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تقولوا راعنا) *، وهذا القول في الآية مروي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة؛ كما ذكره عنهم القرطبي، وذكره ابن كثير عن الضحاك، عن ابن عباس، وذكره أيضا عن سعيد بن جبير، ومجاهد، ومقاتل، ونقله أيضا عن مالك، عن زيد بن أسلم، ثم قال: إن هذا القول هو الظاهر، واستدل له بالآيات التي ذكرنا.
وأما على القول الثاني: وهو أن المصدر مضاف إلى فاعله، ففي المعنى وجهان:
الأول: ما ذكره الزمخشري في (الكشاف)، قال: إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرقوا عنه إلا بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي.
والوجه الثاني: هو ما ذكره ابن كثير في تفسيره، قال: والقول الثاني في ذلك أن المعنى في * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) *، أي: لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم، فتهلكوا.
557

حكاه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، والحسن البصري، وعطية العوفي، والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا الوجه الأخير يأباه ظاهر القرءان؛ لأن قوله تعالى: * (كدعاء بعضكم بعضا) * يدل على خلافه، ولو أراد دعاء بعضهم على بعض، لقال: لا تجعلوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فدعاء بعضهم بعضا، ودعاء بعضهم على بعض متغايران، كما لا يخفى. والظاهر أن قوله: * (لا تجعلوا) * من جعل التي بمعنى اعتقد، كما ذكرنا عن ابن كثير آنفا. * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) *. الضمير في قوله: * (عن أمره) * راجع إلى الرسول، أو إلى الله والمعنى واحد؛ لأن الأمر من الله، والرسول مبلغ عنه، والعرب تقول: خالف أمره وخالف عن أمره: وقال بعضهم: * (يخالفون) *: مضمن معنى يصدون، أي: يصدون عن أمره.
وهذه الآية الكريمة قد استدل بها الأصوليون على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب؛ لأنه جل وعلا توعد المخالفين عن أمره بالفتنة أو العذاب الأليم، وحذرهم من مخالفة الأمر. وكل ذلك يقتضي أن الأمر للوجوب، ما لم يصرف عنه صارف، لأن غير الواجب لا يستوجب تركه الوعيد الشديد والتحذير.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة من اقتضاء الأمر المطلق الوجوب، دلت عليه آيات أخر من كتاب الله؛ كقوله تعالى: * (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) *، فإن قوله: * (اركعوا) * أمر مطلق، وذمه تعالى للذين لم يمتثلوه بقوله: * (لا يركعون) * يدل على أن امتثاله واجب. وكقوله تعالى لإبليس: * (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) *، فإنكاره تعالى على إبليس موبخا له بقوله: * (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) * يدل على أنه تارك واجبا. وأن امتثال الأمر واجب مع أن الأمر المذكور مطلق، وهو قوله تعالى: * (اسجدوا لادم) *، وكقوله تعالى عن موسى: * (أفعصيت أمرى) *، فسمى مخالفة الأمر معصية، وأمره المذكور
مطلق، وهو قوله: * (اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) *، وكقوله تعالى: * (لا
558

يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) *، وإطلاق اسم المعصية على مخالفة الأمر يدل على أن مخالفه عاص، ولا يكون عاصيا إلا بترك واجب، أو ارتكاب محرم؛ وكقوله تعالى: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) *، فإنه يدل على أن أمر الله، وأمر رسوله مانع من الاختيار موجب للامتثال، وذلك يدل على اقتضائه الوجوب، كما ترى. وأشار إلى أن مخالفته معصية بقوله بعده: * (ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) *.
واعلم أن اللغة تدل على اقتضاء الأمر المطلق الوجوب، بدليل أن السيد لو قال لعبده: اسقني ماء مثلا، ولم يمتثل العبد أمر سيده فعاقبه السيد، فليس للعبد أن يقول عقابك لي ظلم؛ لأن صيغة الأمر في قولك: اسقني ماء لم توجب على الامتثال، فقد عاقبتني على ترك ما لا يلزمني، بل يفهم من نفس الصيغة أن الامتثال يلزمه، وأن العقاب على عدم الامتثال واقع موقعه، والفتنة في قوله: * (أن تصيبهم فتنة) *، قيل: هي القتل، وهو مروي عن ابن عباس. وقيل: الزلازل والأهوال، وهو مروي عن عطاء. وقيل: السلطان الجائر، وهو مروي عن جعفر بن محمد. قال بعضهم: هي الطبع على القلوب بسبب شؤم مخالفة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال بعض العلماء: * (فتنة) * محنة في الدنيا * (أو يصيبهم عذاب أليم) * في الآخرة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد دل استقراء القرءان العظيم أن الفتنة فيه أطلقت على أربعة معان:
الأول: أن يراد بها الإحراق بالنار؛ كقوله تعالى: * (يوم هم على النار يفتنون) *، وقوله تعالى: * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) *، أي: أحرقوهم بنار الأخدود على القول بذلك.
الثاني: وهو أشهرها إطلاق الفتنة على الاختبار؛ كقوله تعالى: * (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) *، وقوله تعالى: * (وإن لوطا استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه) *.
والثالث: إطلاق الفتنة على نتيجة الاختيار إن كانت سيئة؛ كقوله تعالى: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) *. وفي (الأنفال): * (ويكون
559

الدين كله لله) *، فقوله: * (حتى لا تكون فتنة) *، أي: حتى لا يبقى شرك على أصح التفسيرين، ويدل على صحته قوله بعده: * (ويكون الدين لله) *؛ لأن الدين لا يكون كله لله حتى لا يبقى شرك، كما ترى. ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلاه إلا الله)، كما لا يخفى.
والرابع: إطلاق الفتنة على الحجة في قوله تعالى: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) *، أي: لم تكن حجتهم، كما قال به بعض أهل العلم.
والأظهر عندي: أن الفتنة في قوله هنا: * (أن تصيبهم فتنة) *، أنه من النوع الثالث من الأنواع المذكورة.
وأن معناه أن يفتنهم الله، أي: يزيدهم ضلالا بسبب مخالفتهم عن أمره، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى تدل عليه آيات كثيرة من كتاب الله تعالى؛ كقوله جل وعلا: * (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) *، وقوله تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *، وقوله تعالى: * (فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) *، وقوله تعالى: * (وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة، والعلم عند الله تعالى. * (قد يعلم مآ أنتم عليه) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يعلم ما عليه خلقه، أي من الطاعة والمعصية وغير ذلك.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية مع أنه معلوم بالضرورة من الدين، جاء مبينا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة) *، وقوله تعالى: * (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) *، وقوله تعالى: * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) *، أي: هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر. وقوله
560

تعالى: * (وتوكل على العزيز الرحيم * الذى يراك حين تقوم * وتقلبك فى الساجدين إنه هو السميع العليم) *، وقوله تعالى: * (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف باليل وسارب بالنهار) *، وقوله تعالى: * (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور) *، وقوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما فى البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا) *، وقوله تعالى: * (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل فى كتاب مبين) *، وقوله تعالى: * (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وفي هذه الآيات وما في معناها أحسن وعد للمطيعين، وأشد وعيد للعصاة المجرمين، ولفظة * (قد) * في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (قد يعلم ما أنتم عليه) * للتحقيق، وإتيان * (قد) * للتحقيق مع المضارع كثير جدا في القرءان العظيم؛ كقوله تعالى: * (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا) *، وقوله تعالى: * (قد يعلم الله المعوقين منكم) *، وقوله تعالى: * (قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون) *، وقوله تعالى: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء) *. * (ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شىء عليم) *. قوله تعالى في هذه الآية: * (ويوم يرجعون إليه) *، الظاهر أنه ليس بظرف، بل هو معطوف على المفعول به الذي هو * (ما) *، من قوله: * (قد يعلم ما أنتم عليه) *، أي: ويعلم يوم يرجعون إليه، وقد ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة ينبىء الخلائق بكل ما عملوا، أي: يخبرهم به ثم يجازيهم عليه.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كونه جل وعلا يخبرهم يوم القيامة بما عملوا جاء موضحا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: * (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) *،
وقوله تعالى: * (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة، والعلم عند الله تعالى.
561