الكتاب: حاشية على كفاية الأصول
المؤلف: تقرير بحث البروجردي ، للحجتي
الجزء: ١
الوفاة: ١٣٨٣
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

الحاشية
على
كفاية الأصول
طرح لمباني سيد الطائفة العلامة المحقق اية الله العظمى
الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي قدس سره
(1291 - 1380 ه‍)
في الأصول
للعلم الحجة آية الله الشيخ بهاء الدين الحجتي البروجردي
الجزء الأول
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين
مصابيح الظلم وعصم الأمم، ما أنار فجر ساطع، وخوى نجم طالع.
وبعد فهذه تقريرات أنيقة، وتحريرات نميقة حول " كفاية الأصول "
لأستاذ المتأخرين على الاطلاق، شيخ مشايخ المجتهدين المعاصرين في الآفاق،
المولى محمد كاظم الخراساني المتوفى (1329 ق ه‍).
ألقاها وحيد العصر، وفريد الدهر، الفقيه العيلم، والمحقق الأعظم،
المرجع الأعلى رئيس الملة والدين، حافظ شريعة جده سيد المرسلين صلى الله
عليه وآله آية الله العظمى الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي قدس الله
تربته.
حين إقامته في مسقط رأسه (بروجرد) وكان مجلس درسه يومئذ حاشدا
لاعلام الأفاضل، ويرحل إليه رحال التحقيق حتى من البلاد البعيدة على
الرواحل، واستفاضوا من إفاضاته الشريفة، وحفظوا دراساته المنيفة.
وممن حرر كلماته الرشيقة، هو العالم الفاضل، والفقيه الكامل حجة
الاسلام والمسلمين آية الله الحاج الشيخ بهاء الدين الحجتي البروجردي طاب ثراه،
3

وكان مجازا من حضرته بإجازة اجتهادية وقد تصديت لتنظيمه وتصحيحه
وإخراج مصادر الأقوال والأحاديث والكلمات وأرجو من الله المثوبة.
وأنا العبد المفتقر إلى عفو ربه غلام رضا بن علي أكبر مولانا البروجردي.
4

أما المقدمة ففي بيان أمور:
الأول
إن موضوع كل علم، وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية
5

لا العرض المصطلح بين الطبيعيين، الذي يكون عبارة عما لا يوجد إلا في
الموضوع، مثل الألوان مثلا في مقابل الجوهر الذي يوجد غير محتاج إلى موضوع
في مرتبة الوجود أصلا.

(1) ولعل مراده قدس سره ببعض الاجلة هو الشيخ محمد حسين بن محمد رحيم (عبد الرحيم)
الطهراني الأصفهاني الحائري المتوفى سنة (1250) ه‍.
6

أي بلا واسطة في العروض -

(1) الذاتي يستعمل في موردين: الأول الذاتي في الايساغوجي اي الكليات الخمس وهو ما ليس
خارجا عن ذات الشئ بل كان من اجزائه سواء أكان جزءا مشتركا كالجنس أم جزءا مختصا
كالفصل، والثاني الذاتي في البرهان وهو ما ينتزع من الذات ولا يفتقر في الانتزاع إلى غيره.
8

هو نفس موضوعات مسائله عينا، وما يتحد معها خارجا، وإن
كان يغايرها مفهوما، تغاير الكلي ومصاديقه، والطبيعي وأفراده،
والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتتة،
10

جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الذي لاجله دون هذا
العلم، فلذا قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل، مما كان له
دخل في مهمين، لاجل كل منهما دون علم على حدة، فيصير من مسائل
العلمين.
11

لا يقال: على هذا يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما، فيما كان
هناك مهمان متلازمان في الترتب على جملة من القضايا، لا يكاد
انفكاكهما.
فإنه يقال: مضافا إلى بعد ذلك، بل امتناعه عادة، لا يكاد يصح
لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين، بل تدوين علم واحد، يبحث فيه
تارة لكلا المهمين، وأخرى لأحدهما، وهذا بخلاف التداخل في بعض
المسائل، فان حسن تدوين علمين - كانا مشتركين في مسألة، أو أزيد - في
جملة مسائلهما المختلفة، لاجل مهمين، مما لا يخفى.
وقد انقدح بما ذكرنا، أن تمايز العلوم إنما هو باختلاف الأغراض
الداعية إلى التدوين، لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلا كان كل باب،
بل كل مسألة من كل علم، علما على حدة، كما هو واضح لمن كان له
أدنى تأمل، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجبا
للتعدد، كما لا يكون وحدتهما سببا لان يكون من الواحد.
ثم إنه ربما لا يكون لموضوع العلم - وهو الكلي المتحد مع موضوعات
المسائل - عنوان خاص واسم مخصوص، فيصح أن يعبر عنه بكل ما دل
عليه، بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيته أصلا.
12

وقد انقدح بذلك أن موضوع علم الأصول، هو الكلي المنطبق على
موضوعات مسائله المتشتتة، لا خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة، بل
ولا بما هي هي، ضرورة أن البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس
من عوارضها، وهو واضح لو كان المراد بالسنة منها هو نفس قول المعصوم أو
فعله أو تقريره، كما هو المصطلح فيها، لوضوح عدم البحث في كثير من
مباحثها المهمة، كعمدة مباحث التعادل والترجيح، بل ومسألة حجية خبر
الواحد، لا عنها ولا عن سائر الأدلة، ورجوع البحث فيهما - في الحقيقة -
إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد، في مسألة حجية الخبر - كما
أفيد - وبأي الخبرين في باب التعارض، فإنه أيضا بحث في الحقيقة عن
حجية الخبر في هذا الحال غير مفيد،

(1) نسب ذلك إلى المشهور.
(2) كما يظهر من الفصول فإنه صرح بأن الموضوع في علم الأصول ذات الأدلة لا هي مع وصف
الدليلية.
(3) المحقق القمي: آية الله العظمى أبو القاسم بن محمد حسن الفقيه الأصولي من تصانيفه
القيمة: القوانين المحكمة في الأصول، والغنائم، والمناهج في الفقه، توفى بقم ودفن في مقبرتها
الشهيرة بشيخون سنة (1231) ه‍.
13

فان البحث عن ثبوت الموضوع، وما هو مفاد كان التامة، ليس بحثا
عن عوارضه، فإنها مفاد كان الناقصة.
لا يقال: هذا في الثبوت الواقعي، وأما الثبوت التعبدي - كما هو
14

المهم في هذه المباحث - فهو في الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة.
فإنه يقال: نعم،
لكنه مما لا يعرض السنة، بل الخبر الحاكي لها، فإن الثبوت التعبدي
يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر كالسنة المحكية به، وهذا من
عوارضه لا عوارضها، كما لا يخفى.
وبالجملة: الثبوت الواقعي ليس من العوارض، والتعبدي وإن كان
منها، إلا أنه ليس للسنة، بل للخبر، فتأمل جيدا.
وأما إذا كان المراد من السنة ما يعم حكايتها، فلان البحث في تلك
المباحث وإن كان عن أحوال السنة بهذا المعنى، إلا أن البحث في غير واحد
من مسائلها، كمباحث الألفاظ، وجملة من غيرها، لا يخص الأدلة، بل
يعم غيرها، وإن كان المهم معرفة أحوال خصوصها، كما لا يخفى.
ويؤيد ذلك تعريف الأصول، بأنه (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط
الأحكام الشرعية)، وإن كان الأولى تعريفه بأنه (صناعة يعرف بها القواعد التي
يمكن أن تقع في طريق استنباط الاحكام، أو التي ينتهى إليها في مقام
العمل)،
بناء على أن مسألة حجية الظن على الحكومة، ومسائل الأصول
15

العملية في الشبهات الحكمية من الأصول، كما هو كذلك، ضرورة أنه
لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمات.

(1) في التنبيه الثالث من تنبيهات القطع من حاشيته المبسوطة على الفرائد.
16

الامر الثاني
الوضع هو نحو اختصاص للفظ بالمعنى، وارتباط بينهما، ناش
من تخصيصه به تارة، ومن كثرة استعماله فيه أخرى، وبهذا المعنى صح
تقسيمه إلى التعييني والتعيني، كما لا يخفى.
ثم إن الملحوظ حال الوضع: إما يكون معنى عاما، فيوضع اللفظ له
تارة، ولافراده ومصاديقه أخرى، وإما يكون معنى خاصا، لا يكاد يصح إلا
وضع اللفظ له دون العام، فتكون الأقسام ثلاثة، وذلك لان العام يصلح لان
يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك، فإنه من وجوهها، ومعرفة
وجه الشئ معرفته بوجه، بخلاف الخاص، فإنه بما هو خاص، لا يكون
وجها للعام، ولا لسائر الافراد، فلا يكون معرفته وتصوره معرفة له، ولا لها
- أصلا - ولو بوجه.
17

نعم ربما يوجب تصوره تصور العام بنفسه، فيوضع له اللفظ، فيكون
الوضع عاما، كما كان الموضوع له عاما، وهذا بخلاف ما في الوضع العام
والموضوع له الخاص، فإن الموضوع له - وهي الافراد - لا يكون متصورا إلا
بوجهه وعنوانه، وهو العام، وفرق واضح بين تصور الشئ، بوجهه، وتصوره
بنفسه، ولو كان بسبب تصور أمر آخر.

(1) المراد به هو العلامة المحقق المولى حبيب الله بن محمد علي الرشتي الفقيه الأصولي صاحب
" البدايع " توفى بالنجف الأشرف سنة (1312) ه‍.
18

ولعل خفاء ذلك على بعض (1) الاعلام، وعدم تميزه بينهما، كان
موجبا لتوهم امكان ثبوت قسم رابع، وهو أن يكون الوضع خاصا، مع كون
الموضوع له عاما، مع أنه واضح لمن كان له أدنى تأمل.

(1) المراد به صاحب " الفصول " أو أخوه المحقق الشيخ محمد تقي المتوفى سنة (1248) ه‍
صاحب " هداية المسترشدين ".
(2) المتوهم جماعة منهم المحقق السيد شريف علي بن محمد الجرجاني المتوفى بشيراز سنة (816) ه‍.
(3) عزى هذا القول إلى التفتازاني سعد الدين مسعود الأديب المتوفى بسمرقند سنة (791) ه‍.
19

ثم إنه لا ريب في ثبوت الوضع الخاص والموضوع له الخاص كوضع
الاعلام، وكذا الوضع العام والموضوع له العام، كوضع أسماء الأجناس
وأما الوضع العام والموضوع له الخاص، فقد توهم أنه وضع الحروف،
وما ألحق بها من الأسماء، كما توهم أيضا ان المستعمل فيه فيها خاص

(1) عبارات الأدباء والأصوليين وأقوالهم في وضع الحروف ومعناها مختلفة جدا، منها قول نجم الأئمة
الشارح الرضي بان الحروف لا معاني لها بل هي علامات لخصوصية المعاني الموجودة في
مدخولاتها، ومنها القول بأنها موضوعة لمعنى لوحظ حالة للغير ونعتا له كالاعراض الخارجية،
ومنها القول بأنها موضوعة للنسب والارتباطات المتقومة بالطرفين، ومنها القول بان المعنى إذا
لوحظ أليا فهو معنى حرفي وإذا لوحظ استقلاليا فهو معنى اسمي، ومنها القول بأن معانيها
ايجادية لا اخطارية. ومنها القول بالتفصيل بأن معاني بعض الحروف ايجادية كحروف النداء
والترجي ومعاني بعضها اخطارية.
20

مع كون الموضوع له كالوضع عاما
والتحقيق - حسبما يؤدي إليه النظر الدقيق - أن حال المستعمل فيه
والموضوع له فيها حالهما في الأسماء، وذلك لان الخصوصية المتوهمة، إن
كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها جزئيا خارجيا، فمن الواضح
أن كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك بل كليا، ولذا التجأ بعض
الفحول إلى جعله جزئيا إضافيا، وهو كما ترى. وإن كانت هي الموجبة
21

لكونه جزئيا ذهنيا، حيث أنه لا يكاد يكون المعنى حرفيا، إلا إذا لوحظ حالة
لمعنى آخر، ومن خصوصياته القائمة به، ويكون حاله كحال العرض، فكما
لا يكون في الخارج إلا في الموضوع، كذلك هو لا يكون في الذهن إلا في
مفهوم آخر، ولذا قيل في تعريفه: بأنه ما دل على معنى في غيره،
فالمعنى، وإن كان لا محالة يصير جزئيا بهذا اللحاظ، بحيث يباينه إذا لوحظ
ثانيا، كما لو حظ أولا، ولو كان اللاحظ واحدا، إلا أن هذا اللحاظ لا يكاد
يكون مأخوذا في المستعمل فيه، وإلا فلا بد من لحاظ آخر، متعلق بما هو
ملحوظ بهذا اللحاظ، بداهة أن تصور المستعمل فيه مما لا بد منه في
استعمال الألفاظ،
22

وهو كما ترى. مع أنه يلزم أن لا يصدق على
الخارجيات، لامتناع صدق الكلي العقلي عليها، حيث لا موطن له إلا
الذهن، فامتنع امتثال مثل (سر من البصرة) إلا بالتجريد وإلغاء
الخصوصية، هذا مع أنه ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف إلا
كلحاظه في نفسه في الأسماء، وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في
المستعمل فيه فيها، كذلك ذاك اللحاظ في الحروف، كما لا يخفى.
وبالجملة: ليس المعنى في كلمة (من) ولفظ الابتداء - مثلا - إلا
23

الابتداء، فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلا، كذلك لا يعتبر
في معناها لحاظه في غيرها وآلة، وكما لا يكون لحاظه فيه موجبا لجزئيته،
فليكن كذلك فيها.
إن قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم
كون مثل كلمة (من) ولفظ الابتداء مترادفين، صح استعمال كل منهما في
موضع الآخر، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها، وهو
باطل بالضرورة، كما هو واضح.
قلت: الفرق بينهما إنما هو في اختصاص كل منهما بوضع،
حيث أنه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليراد
منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره، كما مرت الإشارة إليه غير مرة،
فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع، يكون موجبا لعدم جواز استعمال
أحدهما في موضع الآخر، وإن اتفقا فيما له الوضع، وقد عرفت - بما
لا مزيد عليه - أن نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته
ومقوماته.
24

وقد اختلفت عبائر أرباب النظر في بيان الفرق بين معاني الأسماء
والحروف على وجه لا ينافي الاتحاد، فبعضهم اقتصر في المقام بأن معنى الاسم هو
الكلي من المفاهيم المذكورة، ومعنى الحرف هو الجزئي منها، فمعاني الحروف
متحدة مع معاني الأسماء وجودا، ومتغايرة مفهوما، فيصح قولهم: " من للابتداء "،
لكونها موضوعة لجزئياته، ولا يصح استعمال كل منهما مقام الاخر للتغاير بحسب
المفهوم، وفيه ما تقدم في المتن مع ما علقناه عليه.
وبعضهم ذكر على ما ببالي أن بين المعاني من الجواهر والاعراض ارتباطا
خاصا من الابتداء، والانتهاء، والاستعلاء، وغيرها، وهذه المعاني الجوهرية
والعرضية بعضها منتسب إلى بعض بهذه الارتباطات، فالأسماء المذكورة
موضوعة للارتباطات، والحروف للانتساب الحاصل فيها بالارتباطات المذكورة،
فقولهم: " من للابتداء " معناه أن " من " لانتساب شئ إلى شئ بأولية له، لا
لنفس الابتداء.
وفيه أن انتساب شئ إلى شئ بالارتباطات الخاصة ليس أمر زائدا على
تلك الارتباطات.
وبعضهم ذكر أن الحروف موضوعة لانشاء الارتباطات، لا لإفادة العلم
بها، بخلاف الأسماء، والشاهد عليه أن الاتيان بها في الكلام يوجب العلم بالمعاني
مرتبطة، فالارتباط بين المعاني يوجد بها، بخلاف الأسماء الموضوعة للارتباطات،
فإن مجيئها في الكلام لا يوجب إلا تصور الارتباطات، ولا يحصل بها ربط أصلا.
وفيه أن وضع اللفظ للانشاء إنما يصلح بالنسبة إلى المعاني الاعتبارية التي
يكون منشأ اعتبارها وانتزاعها عند العقلاء هو جعل المتكلمين، ولو في الجملة،
كالطلب، والبيع، والولاية، وشبهها، لا بالنسبة إلى المعاني الحقيقية كالانسان، ولا
25

في المعاني الاعتبارية التي يكون منشأ انتزاعها غير الجعل، كالأبوة، والاخوة،
لكون الانشاء حينئذ لغوا، ووضع الألفاظ للمعاني جعلا وإفادة إنما هو للحاجة،
كما هو ظاهر، والارتباط بين المعاني بالأولية والآخرية، والظرفية، والعلو، وغيرها،
إنما هو من الاعتبارات المنتزعة عن خصوصيات وجود الطرفين، لا من جعل
الجاعل لها وانشائها، ووجود الارتباط بين المعاني المفهومة عند استعمال الحروف
واستعمال الأسماء، ليس ملاكه ما ذكر من إنشاء الربط في الأول دون الثاني، بل
الملاك ما نذكره فيما بعد انشاء الله تعالى.
والتحقيق في الفرق بين الحروف وما يترائى ترادفه معها من الأسماء، أن
الأسماء موضوعة لإفادة مفاهيم الارتباطات على وجه الاستقلال، والحروف
لافادتها تبعا لملاحظة المتعلقات.
وهذه العبارة ذكرها كثير من المحققين في مقام الفرق، لكن لم يذكروا
كيفية نحو الإفادة.
إن قلت: المعنى الواحد كيف يتصور على وجهين؟
قلت في توضيحه: إن المفاهيم الجوهرية والعرضية بعضها مرتبط ببعض
بأنحاء كثيرة من العلية، والمعلولية، والتقدم، والتأخر، والأولية، والآخرية، والعلو،
وغيرها، وهذه الارتباطات لا وجود لها في الخارج إلا بوجود المرتبطين، فوجودهما
بالنحو الخاص منشأ لانتزاعها، ولا يمكن أن يوجد الارتباط في الخارج بوجود
غير وجود الطرفين، وأما في الذهن فيمكن أن يوجد الارتباط بعين وجود
الطرفين، ويتصور بتصورهما كما في الخارج، وذلك بأن يتصور الطرفان
متخصصين بالخصوصية التي بها يصح انتزاع الارتباط، بينهما، كما إذا تصورت
السير المتناهي المنقطع من أحد طرفيه بالبصرة، ومن الآخر بالكوفة، مع سبق
26

الأول زمان على الثاني.
ويمكن أن ينتزع من خصوصية وجود الطرفين مفهوم ثالث، ويتصور
مستقلا بغير تصور الطرفين، كما إذا تصورت السير مطلقا، والبصرة والأولية،
والكوفة والآخرية، فالطرفان في النحو الأول من التصور مرتبطان في الذهن
كارتباطهما في الخارج، وفي النحو الثاني غير مرتطبين، لخروج الارتباط عن كونه
ارتباطا بالحمل الشايع عند وجودة مستقلا كما هو واضح.
فالارتباط إنما يكون ارتباطا في الذهن حقيقة وبالحمل الشايع إذا كان
لحاظه مندكا في لحاظ المتعلقات، وملحوظا بعين لحاظها، ولما كان الانسان محتاجا
في مقام إفادة ما في ضميره للغير إلى إفادة هذه الإفادات بكلا النحوين، وضع
الواضع لافادتها على النحو الأول ألفاظا، وللثاني ألفاظا اخر، وهي الحروف،
والأولى الأسماء كساير الأسماء الموضوعة لغير الارتباطات من المفاهيم.
وهذا هو السر في عدم إفادة الحروف أصلا عند ذكرها بدون المتعلقات،
وإفادة الاسم مفهوم الارتباط الخاص تصورا ولو ذكر بدون المتعلقات.
ولعل من فرق بينهما بأن الاسم ما دل على معنى في نفسه، والحرف ما دل
على معنى في غيره نظره إلى ما ذكرنا.
فإذا تحقق ما ذكر علم أن افتراق الاسم والحرف الموضوعين للارتباط إنما
يكون من حيث نحوي الإفادة، ومن المعلوم أن إفادة اللفظ المعنى، وحصول
العلم به من اللفظ ليس مأخوذا في المعنى الذي يجعل بحذائه ويراد تفهيمه
باللفظ، فعمل اللفظ في المعنى مختلف، لا أن المعنى الذي يعمل فيه اللفظ ويؤثر
فيه إفادة مختلف، وهذا هو المراد من قوله: " فالاختلاف بين الاسم والحرف في
الوضع ".
27

ثم لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والانشاء أيضا كذلك،
28

وأسماء الإشارات هو مفهوم الإشارة، واستعمالها فيها عبارة عن إنشاء الإشارة
وايجادها، والدليل على ذلك أن العرف لا يفهمون من تلك الألفاظ إلا الإشارة،
ولذا يقال لمن يتكلم بتلك الألفاظ: إنه أشار، غاية الامر أنه لما كانت الإشارة
مندكة في المشار إليه، يدخل في ذهن السامع نفس المشار إليه، فلا يرد على ما
ذكرنا إشكال أن المتبادر منها هو نفس المشار إليه، وذلك دليل على أنه مدلولها
كما لا يخفى، ولا بد في المشار إليه من جهة يتعين بها، لأنه بدون ذلك لا يصح،
بل لا يمكن الإشارة، وجهة التعيين مختلفة: ففي أسماء الإشارة هي الحضور
خارجا أو ذهنا، وفي ضمير الغيبة سبق ذكر المشار إليه. في الخطاب كونه مخاطبا،
وفي المتكلم وحده كونه متكلما، وفي المتكلم مع الغير كون بعضه متكلما وبعضه
متعينا بالقرائن الحالية أو المقالية، وفي الموصولات هو ثبوت الصلة له.
ومحصل الكلام من بدء البحث في الحروف إلى هنا، أن لكل واحد من
الناس مقاصد وحوائج شتى لا يمكن التوصل إليها إلا بوسيلة من الوسائل،
وأسهلها في مقام الاعلام وتفهيم المقاصد والمرام هو؟ والمقاصد مختلفة،
فمنها ما يحتاج إلى الاعلام تصورا مثل " زيد " و " القيام "، أو تصديقا مثل " زيد
قائم " و " بكر عالم "، ومنها ما يحتاج إلى الايجاد، كالطلب والإشارة، وغيرهما من
الأمور التي يحتاج تحققه إلى الايجاد.
وكذلك الألفاظ التي تكون وسيلة وطريقا للوصول إلى المقاصد مختلفة
أيضا:
فمنها ما وضع لاعلام الأمور التصورية مثل لفظ " زيد و " قائم " وغيرهما
من الألفاظ المفردة اسما كان أو فعلا.
ومنها ما وضع لاعلام الأمور التصديقية، مثل لفظي " زيد قائم " وألفاظ
29

" سرت من البصرة إلى الكوفة " وغيرهما من الجملات والمركبات، ولما كان
التصديق محتاجا إلى النسبة والارتباط بين شيئين أو الأشياء شرطا أو شطرا،
فلا بد أن يوضع شئ بإزائها، فوضعت الحروف مثل " من " و " إلى " في المثال
المذكور، وما بمعناها من الهيئات الجملية والتركيبية بإزاء تلك النسبة.
ومنها ما وضع لايجاد المعاني كالانشاءات وألفاظ الطلب، والتمني،
والترجي، والاستفهام، والنداء وألفاظ الإشارات، والضمائر، والموصولات.
إذا عرفت ذلك ظهر لك بأنه لا إختلاف بين تلك الألفاظ بحسب
المعنى، بل الاختلاف إنما يكون من أطور الاستعمال، فاستعمال لفظ في مقام لفظ
آخر، مثل لفظ " من " في مقام لفظ " الابتداء " غلط، وان كان معناهما واحدا. فإنه
على خلاف الوضع والجعل، وبعبارة أخرى، وإن كان مثل هذا الاستعمال
استعمالا فيما وضع له لكنه استعمال بغير ما وضع له فتأمل.
بقي شئ، وهو أن الألفاظ التي وضعت للاعلام التصديقي لا تفيد تلك
الفائدة الا بشروط:
منها كون المتكلم بصدد الاعلام إعلاما تصديقيا، فإنه إن لم يكن بصدد
ذلك، كان في مقام الهزل والمزاح لم يترتب على إعلامه ما يترقب من كلامه
من التصديق، ولم يعمل اللفظ عمل المترقب منه، وإن كان يترتب على كلامه
تصورات، والدليل على ذلك فهم العرف.
ومنها كونه صادقا في مقالته عند المخاطب، فإنه بدون ذلك لم يحصل
للمخاطب تصديق أصلا، والدليل أيضا فهم العرف والوجدان.
ومنها كونه عالما بما أخبر به عند المخاطب، فإنه مع جهله بالواقع في علم
المخاطب لم يحصل للمخاطب تصديق كما هو واضح فافهم، فإنه يمكن أن يقال:
30

فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه،
والانشاء ليستعمل في قصد تحققه وثبوته، وإن اتفقا فيما استعملا فيه،
31

فتأمل.
ثم إنه قد انقدح مما حققناه، أنه يمكن أن يقال: إن المستعمل فيه في
مثل أسماء الإشارة والضمائر أيضا عام، وأن تشخصه إنما نشأ من قبل طور
استعمالها، حيث إن أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها، وكذا
بعض الضمائر، وبعضها ليخاطب به المعنى،
والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخص كما لا يخفى، فدعوى أن
المستعمل فيه في مثل (هذا) أو (هو) أو (إياك) إنما هو المفرد المذكر،
وتشخصه إنما جاء من قبل الإشارة، أو التخاطب بهذه الألفاظ إليه، فإن
الهواء مثلا، وهذا الاختلاف أيضا اختلاف في نحو الإعادة.
32

الإشارة أو التخاطب لا يكاد يكون إلا الشخص أو معه، غير مجازفة
فتلخص مما حققناه: ان التشخص الناشئ من قبل الاستعمالات،
لا يوجب تشخص المستعمل فيه، سواء كان تشخصا خارجيا - كما في مثل
أسماء الإشارة - أو ذهنيا - كما في أسماء الأجناس والحروف ونحو هما - من

(1) لعله من قبيل النقل بالمعنى، فان متن الحديث في نهج البلاغة هكذا: اعجبوا لهذا الانسان
ينظر بشحم، ويتكلم بلحم، ويسمع بعظم، ويتنفس من خرم!.
33

غير فرق في ذلك أصلا بين الحروف وأسماء الأجناس، ولعمري هذا
واضح. ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه
خاصا في الحرف عين ولا أثر، وإنما ذهب إليه بعض من تأخر، ولعله
لتوهم كون قصده بما هو في غيره، من خصوصيات الموضوع له،
أو المستعمل فيه،
34

والغفلة من أن قصد المعنى من لفظه على أنحائه، لا يكاد
يكون من شؤونه وأطواره، وإلا فليكن قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك،
فتأمل في المقام فإنه دقيق، وقد زل فيه أقدام غير واحد من أهل التحقيق
والتدقيق.
36

الثالث
صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له، هل هو بالوضع،
أو بالطبع؟ وجهان، بل قولان،
37

أظهرهما أنه بالطبع
38



(1) سورة سبأ: 46.
(2) سورة فصلت: 42.
(3) سورة الأعراف: 149.
(4) قال الزبيدي في تاج العروس ج 9 ص 454 ط الكويت: وفي حديث بدر " هذه مكة قد رمتكم
بأفلاذ كبدها " أراد صميم قريش ولبابها واشرافها.
40



(1 و 2) سورة المائدة: 6.
41

بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه ولو مع منع الواضع عنه،
وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه ولو مع ترخيصه، ولا معنى لصحته
42

إلا حسنه، والظاهر أن صحة استعمال اللفظ في نوعه أو مثله من قبيله، كما
يأتي الإشارة إلى تفصيله.
43

الرابع
لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ، وإرادة نوعه به، كما إذا قيل:
ضرب - مثلا - فعل ماض،

(1) الشعر لابي الزيعنق، وكان له أربعة أصحاب اجتمعوا يوما وأرسلوا إليه أن يأتيهم وان يختار
طعاما من غير روية وفكر حتى يطبخوه له، وكان عريانا ليس له ثوب يستره وكان الوقت باردا
فكتب إليهم: إخواننا عزموا الصبوح بسحرة، فاتى رسولهم إلي حصيصا، قالوا اقترح..
فأرسل إليه كل واحد منهم خلعة وعشرة دنانير. (جامع الشواهد) باب القاف بعده
الألف.
44

أو صنفه كما إذا قيل: (زيد) في (ضرب زيد) فاعل، إذا لم يقصد
به شخص القول أو مثله ك‍ (ضرب) في المثال فيما إذا قصد.
وقد أشرنا إلى أن صحة الاطلاق كذلك وحسنه، إنما كان بالطبع
لا بالوضع، وإلا كانت المهملات موضوعة لذلك، لصحة الاطلاق كذلك
فيها، والالتزام بوضعها كذلك كما ترى.
وأما إطلاقه وإرادة شخصه، كما إذا قيل: (زيد لفظ) وأريد منه
شخص نفسه، ففي صحته بدون تأويل نظر، لاستلزامه اتحاد الدال
والمدلول، أو تركب القضية من جزءين كما في الفصول.
بيان ذلك: أنه إن اعتبر دلالته على نفسه - حينئذ - لزم الاتحاد، وإلا
لزم تركبها من جزءين، لان القضية اللفظية - على هذا - إنما تكون حاكية عن
45

المحمول والنسبة، لا الموضوع، فتكون القضية المحكية بها مركبة من
جزءين، مع امتناع التركب إلا من الثلاثة، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون
المنتسبين.
قلت: يمكن أن يقال: إنه
يكفي تعدد الدال والمدلول اعتبارا، وإن اتحدا ذاتا، فمن حيث
أنه لفظ صادر من لافظه كان دالا، ومن حيث أن نفسه، وشخصه مراده
كان مدلولا،
مع أن حديث تركب القضية من جزءين - لولا اعتبار الدلالة في البين -
46

إنما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه، وإلا كان أجزاؤها الثلاثة تامة،
وكان المحمول فيها منتسبا إلى شخص اللفظ ونفسه، غاية الامر أنه نفس
الموضوع، لا الحاكي عنه، فافهم، فإنه لا يخلو عن دقة.
47

وعلى هذا، ليس من باب استعمال اللفظ بشئ، بل يمكن أن يقال:
إنه ليس أيضا من هذا الباب، ما إذا أطلق اللفظ وأريد به نوعه أو صنفه،
فإنه فرده ومصداقه حقيقة، لا لفظه وذاك معناه، كي يكون مستعملا فيه
استعمال اللفظ في المعنى، فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى
المخاطب خارجا، قد أحضر في ذهنه بلا وساطة حاك، وقد حكم عليه
ابتداء، بدون واسطة أصلا، لا لفظه، كما لا يخفى، فلا يكون في البين
لفظ قد استعمل في معنى، بل فرد قد حكم في القضية عليه - بما هو مصداق
لكلي اللفظ، لا بما هو خصوص جزئية.
48

نعم فيما إذا أريد به فرد آخر مثله، كان من قبيل استعمال اللفظ في
المعنى، اللهم إلا أن يقال: إن لفظ (ضرب) وإن كان فردا له، إلا أنه إذا
قصد به حكايته، وجعل عنوانا له ومرآته، كان لفظه المستعمل فيه، وكان
- حينئذ - كما إذا قصد به فرد مثله.
وبالجملة: فإذا أطلق وأريد به نوعه، كما إذا أريد به فرد مثله، كان
من باب استعمال اللفظ في المعنى، وإن كان فردا منه، وقد حكم في
القضية بما يعمه، وإن أطلق ليحكم عليه بما هو فرد كليه ومصداقه، لا بما
هو لفظه وبه حكايته، فليس من هذا الباب، لكن الاطلاقات المتعارفة ظاهرا
ليست كذلك، كما لا يخفى،
وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك، مما كان الحكم في القضية
لا يكاد يعم شخص اللفظ، كما في مثل: (ضرب فعل ماض).
49

الخامس
لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي، لا من
حيث هي مرادة للافظها، لما عرفت بما لا مزيد عليه، من أن قصد المعنى
على أنحائه من مقومات الاستعمال، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه.
50

هذا مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والاسناد في الجمل، بلا تصرف
في ألفاظ الأطراف، مع أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة، لما صح
بدونه، بداهة أن المحمول على (زيد) في (زيد قائم) والمسند إليه في
(ضرب زيد) - مثلا - هو نفس القيام والضرب، لا بما هما مرادان، مع أنه
يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا، لمكان اعتبار
خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ، فإنه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم
الإرادة فيه، كما لا يخفى، وهكذا الحال في طرف الموضوع.
51

وأما ما حكي عن العلمين (الشيخ الرئيس، والمحقق
الطوسي) من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة، فليس ناظرا إلى كون
الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة، كما توهمه بعض الأفاضل،
بل ناظرا إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية، أي
دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها، ويتفرع عليها تبعية
مقام الاثبات للثبوت، وتفرع الكشف على الواقع المكشوف، فإنه
لولا الثبوت في الواقع، لما كان للاثبات والكشف والدلالة مجال،
52

ولذا لا بد من إحراز كون المتكلم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو
ظاهر كلامه ودلالته على الإرادة، وإلا لما كانت لكلامه هذه الدلالة، وإن
كانت له الدلالة التصورية، أي كون سماعه موجبا لاخطار معناه الموضوع
له، ولو كان من وراء الجدار، أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار.
إن قلت: على هذا، يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ، والقطع
بما ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شئ، ولم يكن له من اللفظ مراد.
قلت: نعم لا يكون حينئذ دلالة، بل يكون هناك جهالة وضلالة،
يحسبها الجاهل دلالة، ولعمري ما أفاده العلمان من التبعية - على ما بيناه -
53

واضح لا محيص عنه، ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم أن
يجعل كلامهما ناظرا إلى ما ينبغي صدوره عن فاضل، فضلا عمن هو علم
في التحقيق والتدقيق؟!.
السادس
لا وجه لتوهم وضع للمركبات، غير وضع المفردات، ضرورة عدم
الحاجة إليه، بعد وضعها بموادها، في مثل (زيد قائم) و (ضرب عمرو
بكرا) شخصيا، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيا، ومنها
خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب والإضافات،
بمزاياها الخاصة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعيا، بداهة أن وضعها كذلك
واف بتمام المقصود منها، كما لا يخفى، من غير حاجة إلى وضع آخر لها
بجملتها،
مع استلزامه الدلالة على المعنى: تارة بملاحظة وضع نفسها،
وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها، ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك،
هو وضع الهيئات على حدة، غير وضع المواد، لا وضعها بجملتها، علاوة
على وضع كل منهما.
54

السابع
لا يخفى أن تبادر المعنى من اللفظ، وانسباقه إلى الذهن من نفسه
- وبلا قرينة - علامة كونه حقيقة فيه، بداهة أنه لولا وضعه له، لما تبادر.
55

ولا يقال: كيف يكون علامة؟ مع توقفه على العلم بأنه موضوع له،
كما هو واضح، فلو كان العلم به موقوفا عليه الدار.
فإنه يقال: الموقوف عليه غير الموقوف عليه، فإن العلم التفصي
- بكونه موضوعا له - موقوف على التبادر،
56

وهو موقوف على العلم الاجمالي الارتكازي به، لا التفصيلي، فلا دور.
هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم، وأما إذا كان المراد به
التبادر عند أهل المحاورة، فالتغاير أوضح من أن يخفى.
ثم إن هذا فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ، وأما فيما
احتمل استناده إلى قرينة، فلا يجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون
الاستناد إليه، لا إليها - كما قيل - لعدم الدليل على اعتبارها إلا في احراز
المراد، لا الاستناد.
ثم إن عدم صحة سلب اللفظ - بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن
اجمالا كذلك - عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه، كما أن صحة سلبه
عنه علامة كونه مجازا في الجملة.
57

والتفصيل: إن عدم صحة السلب عنه، وصحة الحمل عليه بالحمل
الأولي الذاتي، الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوما، علامة كونه نفس المعنى،
وبالحمل الشائع الصناعي، الذي ملاكه الاتحاد وجودا، بنحو من أنحاء
الاتحاد، علامة كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقة.
كما أن صحة سلبه كذلك علامة أنه ليس منها، وإن لم نقل بأن إطلاقه
عليه من باب المجاز في الكلمة، بل من باب الحقيقة، وإن التصرف فيه في
أمر عقلي، كما صار إليه السكاكي (1)، واستعلام حال اللفظ، وأنه حقيقة أو

(1) السكاكي: يوسف بن أبي بكر بن محمد الخوارزمي الأديب المتوفى سنة (626) ه‍.
58

مجاز في هذا المعنى بهما، ليس على وجه دائر، لما عرفت في التبادر من
التغاير بين الموقوف والموقوف عليه، بالاجمال والتفصيل أو الإضافة إلى
المستعلم والعالم، فتأمل جيدا.
ثم إنه قد ذكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا، ولعله
بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات، حيث لا يطرد صحة استعمال
اللفظ معها،
59

وإلا فبملاحظة خصوص ما يصح معه لاستعمال، فالمجاز
مطرد كالحقيقة، وزيادة قيد (من غير تأويل) أو (على وجه الحقيقة)،
60

وإن كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة، إلا أنه - حينئذ - لا يكون
علامة لها إلا على وجه دائر، ولا يتأتى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر
هنا، ضرورة أنه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة، لا يبقى
مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد، أو بغيره.
الثامن
انه للفظ أحوال خمسة، وهي: التجوز، والاشتراك، والتخصيص،
والنقل، والاضمار،
لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الامر بينه وبين المعنى الحقيقي،
إلا بقرينة صارفة عنه إليه.
61

وأما إذا دار الامر بينها، فالأصوليون، وإن ذكروا لترجيح بعضها على
بعض وجوها، إلا أنها استحسانية، لا اعتبار بها، إلا إذا كانت موجبة لظهور
اللفظ في المعنى، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك، كما
لا يخفى.
التاسع
إنه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه على أقوال، وقبل
الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقال، وهو: أن الوضع
التعييني، كما يحصل بالتصريح بإنشائه، كذلك يحصل باستعمال اللفظ في
62

غير ما وضع له، كما إذا وضع له، بأن يقصد الحكاية عنه، والدلالة عليه
بنفسه لا بالقرينة، وإن كان لا بد - حينئذ - من نصب قرينة، إلا أنه للدلالة
على ذلك، لا على إرادة المعنى، كما في المجاز، فافهم.
وكون استعمال اللفظ فيه كذلك في غير ما وضع له، بلا مراعاة ما
اعتبر في المجاز، فلا يكون بحقيقة ولا مجاز،
غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع ولا يستنكره، وقد عرفت سابقا،
أنه في الاستعمالات الشايعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز.
إذا عرفت هذا، فدعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان
الشارع هكذا قريبة جدا، ومدعي القطع به غير مجازف قطعا، ويدل عليه
تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته، ويؤيد ذلك أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية، فأي علاقة بين الصلاة سرعا والصلاة
بمعنى الدعاء، ومجرد اشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر
من علاقة الجزء والكل بينهما، كما لا يخفى. هذا كله بناء على كون معانيها
مستحدثة في شرعنا.
63

وأما بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة، كما هو قضية غير واحد
من الآيات، مثل قوله تعالى * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من

(1) قصي بن كلاب (بضم القاف وفتح الصاد المهملة) هو الأب الخامس في سلسلة النسب النبوي
صلى الله عليه وآله اسمه زيد مات أبوه وهو طفل فتزوجت أمه برجل من بني عذرة فانتقل بها
إلى أطراف الشام فشب في حجره وسمي قصيا لبعده عن دار قومه ولما كبر عاد إلى الحجاز،
وهدم الكعبة وجدد بنائها.
(2) أبرهة: بن الأشرم الحبشي، حاكم اليمن سار لهدم الكعبة لأربعين سنه من ملك أنوشروان.
(3) أشار قدس سره إلى وجه من وجود انكار من أنكر حج التمتع بعد ما صرح بجوازه النبي
صلى الله عليه وآله قولا وفعلا:
في صحيح مسلم ج 1 ص 474 بإسناده عن عمران بن حصين: نزلت آية المتعة في
كتاب الله، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه
عنها رسول الله صلى الله عليه وآله حتى مات، قال رجل برأيه بعد ما شاء.
والرجل هو الذي روى عنه البيهقي باسناده في سننه ج 7 ص 206: كانتا متعتان على =
64

قبلكم) * وقوله تعالى * (وأذن في الناس بالحج) * وقوله تعالى * (وأوصاني
بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) * إلى غير ذلك، فألفاظها حقائق لغوية،
لا شرعية، واختلاف الشرائع فيها جزءا وشرطا، لا يوجب اختلافها في الحقيقة
والماهية، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات،
كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما لا يخفى.
عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وانا أنهي عنهما، وأعاتب عليها: أحداهما متعة النساء
والأخرى متعة الحج.
قال العيني في " عمدة القاري في شرح صحيح البخاري " ج 4 ص 562: أجمع المسلمون
على إباحة التمتع في جميع الاعصار وانما اختلفوا في فضله.. إلى أن قال: إن هل الجاهلية كانوا
لا يجيزون التمتع ولا يرون العمرة في أشهر الحج الا فجورا، فبين النبي صلى الله عليه وآله
(كما في حديث جابر) ان الله قد شرع العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة.
فرأى الخليفة في النهي عن التمتع وأمره في غير أشهر الحج عود إلى الرأي الجاهلي - ومن
أراد التفصيل فليرجع إلى الغدير ج 6 ص 198 - 220. (*)
65

ثم لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال، لا مجال لدعوى الوثوق
- فضلا عن القطع - بكونها حقائق شرعية، ولا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها
على ثبوتها، لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه، ومنه قد انقدح حال
دعوى الوضع التعيني معه، ومع الغض عنه، فالانصاف أن منع حصوله في
زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة، نعم حصوله في خصوص لسانه
ممنوع، فتأمل.
وأما الثمرة بين القولين، فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام
الشارع بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت، وعلى معانيها الشرعية
على الثبوت، فيما إذا علم تأخر الاستعمال، وفيما إذا جهل التاريخ، ففيه
إشكال، وأصالة تأخر الاستعمال مع معارضتها بأصالة تأخر الوضع، لا دليل
على اعتبارها تعبدا، إلا على القول بالأصل المثبت، ولم يثبت بناء من

(1) الفصح (بكسر الفاء وسكون الصاد) عند النصارى: عيد تذكار قيامة المسيح عليه السلام،
وفصح اليهود: عيد تذكار خروجهم من مصر، وهو تعريب (فسح) بالسين بالعبرانية، ومعناه
اجتياز وعبور أو نجاة هذا العيد عند المسيحين يقع في الأحد الذي بعد البدر الأول من الربيع،
وعند اليهود يقع في يوم (15) من شهر نيسان.
(2) إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا - سورة مريم: 26.
66

العقلاء على التأخر مع الشك، وأصالة عدم النقل إنما كانت معتبرة فيما إذا
شك في أصل النقل، لا في تأخره، فتأمل.
العاشر
أنه وقع الخلاف في أن ألفاظ العبادات، أسام لخصوص الصحيحة
أو للأعم منها؟
وقبل الخوض في ذكر أدلة القولين، يذكر أمور:
منها: إنه لا شبهة في تأتي الخلاف، على القول بثبوت الحقيقة
الشرعية، وفي جريانه على القول بالعدم إشكال.
67

وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره: إن النزاع وقع - على هذا - في أن
الأصل في هذه الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع، هو استعمالها في
خصوص الصحيحة أو الأعم، بمعنى أن أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين
المعاني اللغوية ابتداء، وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبة، كي ينزل
كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية، وعدم قرينة أخرى
معينة للآخر.

(1) الباقلاني: القاضي محمد بن الطيب، بن محمد بن جعفر، من كبار علماء الكلام، انتهت إليه
الرياسة في مذهب الأشاعرة ولد في البصرة سنة 338 - وتوفى ببغداد سنة 403.
وجهه عضد الدولة سفيرا عنه إلى ملك الروم، فجرت له في القسطنطنية مناظرات مع علماء
النصرانية بين يدي ملكها له كتب في الكلام والأصول بين مطبوع ومخطوط.
حكى انه ناظر الشيخ الجليل المفيد المتوفى (413) فغلبه المفيد، فقال الباقلاني للشيخ:
68

وأنت خبير بأنه لا يكاد يصح هذا، إلا إذا علم أن العلاقة إنما اعتبرت
كذلك، وأن بناء الشارع في محاوراته، استقر عند عدم نصب قرينة أخر
على إرادته، بحيث كان هذا قرينة عليه، من غير حاجة إلى قرينة معينة
أخرى، وأنى لهم بإثبات ذلك.

= ألك في كل قدر مغرفة؟
فقال المفيد: نعم ما تمثلت بإدواة أبيك.
والباقلاني بكسر القاف نسبه إلى الباقلي (بتشديد اللام) وبيعه، وفيه لغتان: من شدد اللام
قصر الألف، ومن خففها مد الألف فقال: باقلاء وهذه النسبة شاذة لاجل زيادة النون فيها،
وهو نظير قولهم: في النسبة إلى صنعاء صنعاني، والى بهراء بهراني، وقد أنكر الحريري في " درة
الغواص " هذه النسبة وقال: من قصر الباقلي قال في النسبة إليه: باقلي، ومن مدها قال باقلاوى
وباقلائي، ولا يقاس على صنعاء وبهراء - والله اعلم بالصواب.
69

وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع - على ما نسب إلى الباقلاني -
وذلك بأن يكون النزاع، في أن قضية القرينة المضبوطة التي لا يتعدى عنها
إلا بالأخرى - الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه - هو تمام الأجزاء والشرائط
، أو هما في الجملة، فلا تغفل.
70



(1) دون ذلك خرط القتاد: الخرط هو قشر الورق عن الشجر اجتذابا بالكف، والقتاد شجر له
شوك أمثال الإبر وهذا مثل يضرب للامر دونه موانع.
71

ومنها: أن الظاهر أن الصحة الكل بمعنى واحد، وهو التمامية،
وتفسيرها بإسقاط القضاء - كما عن الفقهاء - أو بموافقة الشريعة - كما عن
المتكلمين - أو غير ذلك، إنما هو بالمهم من لوازمها، لوضوح اختلافه
بحسب اختلاف الانظار، وهذا لا يوجب تعدد المعنى، كما لا يوجبه
72

اختلافها بحسب الحالات من السفر، والحضر، والاختيار، والاضطرار إلى
غير ذلك، كما لا يخفى.
ومنه ينقدح أن الصحة والفساد أمران إضافيان، فيختلف شئ واحد
صحة وفسادا بحسب الحالات، فيكون تاما بحسب حالة، وفاسدا بحسب
أخرى، فتدبر جيدا.
73

ومنها: أنه لا بد - على كلا القولين - من قدر جامع في البين، كان هو
المسمى بلفظ كذا، ولا إشكال في وجوده بين الافراد الصحيحة، وإمكان
الإشارة إليه بخواصه وآثاره،
فإن الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد، يؤثر
الكل فيه بذاك الجامع،
74

فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا: بالناهية عن الفحشاء، وما
هو معراج المؤمن، ونحوهما.
والاشكال فيه - بأن الجامع لا يكاد يكون أمرا مركبا، إذ كل ما فرض
جامعا، يمكن أن يكون صحيحا وفاسدا، لما عرفت،
75

ولا أمرا بسيطا، لأنه لا يخلو: أما أن يكون هو عنوان المطلوب،
أو ملزوما مساويا له، والأول غير معقول، لبداهة استحالة أخذ ما لا يتأتى
إلا من قبل الطلب في متعلقة، مع لزوم الترادف بين لفظة الصلاة والمطلوب،
وعدم جريان البراءة مع الشك في أجزاء العبادات وشرائطها، لعدم الاجمال
- حينئذ - في المأمور به فيها، وإنما الاجمال فيما يتحقق به، وفي مثله لا
مجال لها، كما حقق في محله، مع أن المشهور القائلين بالصحيح، قائلون
بها في الشك فيها، وبهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب أيضا -
مدفوع، بأن الجامع إنما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات
المختلفة زيادة ونقيصة. بحسب إختلاف الحالات، متحد معها نحو
اتحاد، وفي مثله تجري البراءة، وإنما لا تجري فيما إذا كان المأمور به أمرا
77

واحدا خارجيا، مسببا عن مركب مردد بين الأقل والأكثر، كالطهارة المسببة
عن الغسل والوضوء فيما إذا شك في أجزائهما، هذا على الصحيح.
وأما على الأعم، فتصوير الجامع في غاية الاشكال، فما قيل في
تصويره أو يقال، وجوه:
أحدها: أن يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة، كالأركان في
الصلاة مثلا، وكان الزائد عليها معتبرا في المأمور به لا في المسمى.
وفيه ما لا يخفى، فإن التسمية بها حقيقة لا تدور مدارها، ضرورة
صدق الصلاة مع الاخلال ببعض الأركان، بل وعدم الصدق عليها مع
الاخلال بسائر الأجزاء والشرائط عند الأعمي، مع أنه يلزم أن يكون الاستعمال
فيما هو المأمور به - بأجزائه وشرائطه - مجازا عنده، وكان من باب استعمال
اللفظ الموضوع للجزء في الكل، لا من باب إطلاق الكلي على الفرد
والجزئي، كما هو واضح، ولا يلتزم به القائل بالأعم، فافهم.
78

ثانيها: أن تكون موضوعة لمعظم الاجزاء التي تدور مدارها التسمية
عرفا، فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمى، وعدم صدق عن
عدمه.
79

وفيه - مضافا إلى ما أورد على الأول أخيرا - أنه عليه يتبادل ما هو
المعتبر في المسمى، فكان شئ واحد داخلا فيه تارة، وخارجا عنه أخرى،
بل مرددا بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند اجتماع تمام الاجزاء، وهو كما
ترى، سيما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش
بحسب الحالات.
ثالثها: أن يكون وضعها كوضع الاعلام الشخصية ك‍ (زيد) فكما
لا يضر في التسمية فيها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر، ونقص
بعض الاجزاء وزيادته، كذلك فيها.
80

وفيه: أن الاعلام إنما تكون موضوعة للاشخاص، والتشخص إنما
يكون بالوجود الخاص، ويكون الشخص حقيقة باقيا ما دام وجوده باقيا، وإن
تغيرت عوارضه من الزيادة والنقصان، وغيرهما من الحالات والكيفيات،
فكما لا يضر اختلافها في التشخص، لا يضر اختلافها في التسمية، وهذا
بخلاف مثل ألفاظ العبادات مما كانت موضوعة للمركبات والمقيدات، ولا
يكاد يكون موضوعا له، إلا ما كان جامعا لشتاتها وحاويا لمتفرقاتها، كما
عرفت في الصحيح منها.
81

رابعها: ان ما وضعت له الألفاظ ابتداء هو الصحيح التام الواجد لتمام
الأجزاء والشرائط، إلا أن العرف يتسامحون - كما هو ديدنهم - ويطلقون تلك
82

الألفاظ على الفاقد للبعض، تنزيلا له منزلة الواجد، فلا يكون مجازا في
83

الكلمة - على ما ذهب إليه السكاكي في الاستعارة -

(1) الفقيه، كتاب الطهارة، باب وجوب الطهور، الحديث 1.
84

بل يمكن دعوى صيرورته حقيقة فيه، بعد الاستعمال فيه كذلك
دفعة أو دفعات، من دون حاجة إلى الكثرة والشهرة، للانس الحاصل من
جهة المشابهة في الصورة، أو المشاركة في التأثير، كما في أسامي

(1) المستدرك، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5 نقلا عن
عوالي اللئالي.
85

المعاجين الموضوعة ابتداء لخصوص مركبات واجدة لاجزاء خاصة، حيث
يصح إطلاقها على الفاقد لبعض الاجزاء المشابه له صورة، والمشارك في
المهم أثرا تنزيلا أو حقيقة.
وفيه: إنه إنما يتم في مثل أسامي المعاجين، وسائر المركبات
الخارجية مما يكون الموضوع له فيها ابتداء مركبا، خاصا،
ولا يكاد يتم في مثل العبادات، التي عرفت أن الصحيح منها
يختلف حسب إختلاف الحالات، وكون الصحيح بحسب حالة فاسدا بحسب
حالة أخرى، كما لا يخفى، فتأمل جيدا.
خامسها: أن يكون حالها حال أسامي المقادير والأوزان، مثل
المثقال، والحقة، والوزنة إلى غير ذلك، مما لا شبهة في كونها حقيقة في
الزائد والناقص في الجملة، فإن الواضع وإن لا حظ مقدارا خاصا، إلا أنه لم
يضع له بخصوصه، بل للأعم منه ومن الزائد والناقص، أو أنه وإن خص به
أولا، إلا أنه بالاستعمال كثيرا فيهما بعناية أنهما منه، قد صار حقيقة في الأعم
ثانيا.
وفيه: إن الصحيح - كما عرفت في الوجه السابق - يختلف زيادة
86

ونقيصة، فلا يكون هناك ما يلحظ الزائد والناقص بالقياس عليه، كي يوضع
اللفظ لما هو الأعم، فتدبر جيدا.
ومنها: ان الظاهر أن يكون الوضع والموضوع له - في ألفاظ العبادات -
عامين، واحتمال كون الموضوع له خاصا بعيد جدا، لاستلزامه كون
استعمالها في الجامع، في مثل: (الصلاة تنهى عن الفحشاء) و (الصلاة
معراج المؤمن) و (عمود الدين) و (الصوم جنة من النار) مجازا، أو منع
استعمالها فيه في مثلها، وكل منهما بعيد إلى الغاية، كما لا يخفى على أولي
النهاية.
ومنها: أن ثمرة النزاع إجمال الخطاب على القول الصحيحي.
87

وعدم جواز الرجوع إلى إطلاقه، في رفع ما إذا شك في جزئية شئ
للمأمور به أو شرطيته أصلا، لاحتمال دخوله في المسمى، كما لا يخفى،
88

وجواز الرجوع إليه في ذلك على القول الأعمي، في غير ما إحتمل دخوله
فيه، مما شك في جزئيته أو شرطيته، نعم لا بد في الرجوع إليه فيما
ذكر من كونه واردا مورد البيان، كما لا بد منه في الرجوع إلى سائر المطلقات،
وبدونه لا مرجع أيضا إلا البراءة أو الاشتغال، على الخلاف في مسألة دوران
الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
وقد انقدح بذلك: إن الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال في موارد إجمال
الخطاب أو إهماله على القولين،
فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع إلى البراءة على الأعم، والاشتغال
على الصحيح، ولذا ذهب المشهور إلى البراءة، مع ذهابهم إلى الصحيح
وربما قيل بظهور الثمرة في النذر أيضا.

(1) كصاحب " القوانين " وصاحب " الرياض ".
89

قلت: وإن كان تظهره فميا لو نذر لمن صلى إعطاء درهم في البرء فيما
لو أعطاه لمن صلى، ولو علم بفساد صلاته، لاخلاله بما لا يعتبر في الاسم
على الأعم، وعدم البرء على الصحيح، إلا أنه ليس بثمرة لمثل هذه
المسألة، لما عرفت من أن ثمرة المسألة الأصولية، هي أن تكون نتيجتها
واقعة في طريق استنباط الأحكام الفرعية، فافهم.
وكيف كان، فقد استدل للصحيحي بوجوده:
أحدها: التبادر، ودعوى أن المنسبق إلى الأذهان منها هو الصحيح،
ولا منافاة بين دعوى ذلك، وبين كون الألفاظ على هذا القول مجملات، فإن
المنافاة إنما تكون فيما إذا لم تكن معانيها على هذا مبينة بوجه،
وقد عرفت كونها مبينة بغير وجه.
ثانيها: صحة السلب عن الفاسد، بسبب الاخلال ببعض أجزائه، أو
شرائطه بالمداقة، وإن صح الاطلاق عليه بالعناية.
ثالثها: الاخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسميات
مثل (الصلاة عمود الدين) أو (معراج المؤمن) و (الصوم جنة من
90

النار) إلى غير ذلك،
أو نفي ماهيتها وطبائعها، مثل (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) ونحوه،
مما كان ظاهرا في نفي الحقيقة، بمجرد فقد ما يعتبر في الصحة شطرا أو
شرطا، وإرادة خصوص الصحيح من الطائفة الأولى، ونفي الصحة من
الثانية، لشيوع استعمال هذا التركيب في نفي مثل الصحة أو الكمال خلاف
الظاهر، لا يصار إليه مع عدم نصب قرينة عليه، واستعمال هذا التركيب في
نفي الصفة ممكن المنع، حتى في مثل (لا صلاة لجار المسجد إلا في
المسجد) مما يعلم أن المراد نفي الكمال، بدعوى استعماله في نفي الحقيقة،
91

في مثله أيضا بنحو من العناية، لا على الحقيقة، وإلا لما دل على المبالغة،
فافهم.
رابعها: دعوى القطع بأن طريقة الواضعين وديدنهم، وضع الألفاظ
للمركبات التامة، كما هو قضية الحكمة الداعية إليه، والحاجة وإن دعت
أحيانا إلى استعمالها في الناقص أيضا، إلا أنه لا يقتضي أن يكون بنحو
الحقيقة، بل ولو كان مسامحة، تنزيلا للفاقد منزلة الواجد.
والظاهر أن الشارع غير متخط عن هذه الطريقة.
ولا يخفى أن هذه الدعوى وإن كانت غير بعيدة، إلا أنها قابلة للمنع،
فتأمل.
وقد استدل للأعمي أيضا، بوجوه:
منها: تبادر الأعم، وفيه: أنه قد عرفت الاشكال في تصوير الجامع
الذي لا بد منه، فكيف معه دعوى التبادر.
92

ومنها: عدم صحة السلب عن الفاسد، وفيه منع، لما عرفت.
ومنها: صحة التقسيم إلى الصحيح والسقيم.
وفيه أنه يشهد على أنها للأعم، لو لم تكن هناك دلالة على كونها
موضوعة للصحيح، وقد عرفتها، فلا بد أن يكون التقسيم بملاحظة ما
يستعمل فيه اللفظ، ولو بالعناية.
ومنها: استعمال الصلاة وغيرها في غير واحد من الاخبار في
الفاسدة، كقوله عليه الصلاة والسلام (بني الاسلام على خمس: الصلاة،
والزكاة، والحج، والصوم، والولاية، ولم يناد أحد بشئ، كما نودي
بالولاية، فأخذ الناس بأربع، وتركوا هذه، فلو أن أحدا صام نهاره وقام
ليله، ومات بغير ولاية، لم يقبل له صوم ولا صلاة)، فإن الاخذ
بالأربع، لا يكون بناء على بطلان عبادات تاركي الولاية، إلا إذا كانت
أسامي للأعم. وقوله عليه السلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) ضرورة
أنه لو لم يكن المراد منها الفاسدة، لزم عدم صحة النهي عنها، لعدم قدرة
الحائض على الصحيحة منها.
وفيه: أن الاستعمال أعم من الحقيقة، مع أن المراد في الرواية
93

الأولى، هو خصوص الصحيح بقرينة أنها مما بني عليها الاسلام، ولا ينافي
ذلك بطلان عبادة منكري الولاية، إذ لعل أخذهم بها إنما كان بحسب
اعتقادهم لا حقيقة، وذلك لا يقتضي استعمالها في الفاسد أو الأعم،
والاستعمال في قوله: (فلو أن أحدا صام نهاره) إلى آخره، كان كذلك
- أي بحسب اعتقادهم - أو للمشابهة والمشاكلة.
وفي الرواية الثانية، الارشاد إلى عدم القدرة على الصلاة، وإلا كان
الاتيان بالأركان، وسائر ما يعتبر في الصلاة، بل بما يسمى في العرف بها،
ولو أخل بما لا يضر الاخلال به بالتسمية عرفا. محرما على الحائض ذاتا،
وإن لم تقصد به القربة.
ولا أظن أن يلتزم به المستدل بالرواية، فتأمل جيدا.
ومنها: أنه لا شبهة في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في
مكان تكره فيه. وحصول الحنث بفعلها، ولو كانت الصلاة المنذور تركها
94

خصوص الصحيحة، لا يكاد يحصل به الحنث أصلا، لفساد الصلاة المأتي
بها لحرمتها، كما لا يخفى، بل يلزم المحال، فإن النذر حسب الفرض قد
تعلق بالصحيح منها، ولا يكاد يكون معه صحيحة، وما يلزم من فرض
وجوده عدمه محال.
قلت: لا يخفى أنه لو صح ذلك، لا يقتضي إلا عدم صحة تعلق النذر
بالصحيح، لا عدم وضع اللفظ له شرعا، مع أن الفساد من قبل النذر
لا ينافي صحة متعلقة، فلا يلزم من فرض وجودها عدمها.
95

ومن هنا انقدح أن حصول الحنث إنما يكون لاجل الصحة، لولا
تعلقه، نعم لو فرض تعلقه بترك الصلاة المطلوبة بالفعل، لكان منع
حصول الحنث بفعلها بمكان من الامكان.
بقي أمور:
الأول: إن أسامي المعاملات، إن كانت موضوعة للمسببات فلا مجال
للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو للأعم، لعدم اتصافها بهما، كما
لا يخفى، بل بالوجود تارة وبالعدم أخرى، وأما إن كانت موضوعة للأسباب،
96

فللنزاع فيه مجال، لكنه لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضا، وان
الموضوع له هو العقد المؤثر لاثر كذا شرعا وعرفا. والاختلاف بين الشرع
والعرف فيما يعتبر في تأثير العقد، لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى،
97

بل الاختلاف في المحققات والمصاديق، وتخطئة الشرع العرف في تخيل
كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره، محققا لما هو المؤثر، كما لا يخفى
فافهم.
الثاني: إن كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيحة، لا يوجب
إجمالها، كألفاظ العبادات، كي لا يصح التمسك بإطلاقها عند الشك في
98

اعتبار شئ في تأثيرها شرعا، وذلك لان إطلاقها - لو كان مسوقا في مقام
البيان - ينزل على أن المؤثر عند الشارع، هو المؤثر عند أهل العرف، ولم
يعتبر في تأثيره عنده. غير ما اعتبر فيه عندهم، كما ينزل عليه إطلاق كلام
99

غيره، حيث أنه منهم، ولو اعتبر في تأثيره ما شك في اعتباره، كان
عليه البيان ونصب القرينة عليه، وحيث لم ينصب، بان عدم اعتباره عنده
أيضا. ولذا يتمسكون بالاطلاق في أبواب المعاملات، مع ذهابهم إلى كون
ألفاظها موضوعة للصحيح.
100

نعم لو شك في اعتبار شئ فيها عرفا، فلا مجال للتمسك بإطلاقها في
عدم اعتباره، بل لا بد من اعتباره، لأصالة عدم الأثر بدونه، فتأمل جيدا.
الثالث: إن دخل شئ وجودي أو عدمي في المأمور به:
101

تارة: بأن يكون داخلا فيما يأتلف منه ومن غيره، وجعل جملته متعلقا
للامر، فيكون جزءا له وداخلا في قوامه.
وأخرى: بأن يكون خارجا عنه، لكنه كان مما لا يحصل الخصوصية
المأخوذة فيه بدونه، كما إذا أخذ شئ مسبوقا أو ملحوقا به أو مقارنا له،
متعلقا للامر، فيكون من مقدماته لا مقوماته.
وثالثة: بأن يكون مما يتشخص به المأمور به، بحيث يصدق على
المتشخص به عنوانه، وربما يحصل له بسببه مزية أو نقيصة، ودخل هذا فيه
أيضا، طورا بنحو الشطرية وآخر بنحو الشرطية، فيكون الاخلال بماله دخل
بأحد النحوين في حقيقة المأمور به وماهيته، موجبا لفساده لا محالة، بخلاف
ماله الدخل في تشخصه وتحققه مطلقا. شطرا كان أو شرطا، حيث لا يكون
الاخلال به إلا إخلالا بتلك الخصوصية، مع تحقق الماهية بخصوصية أخرى،
غير موجبة لتلك المزية، بل كانت موجبة لنقصانها، كما أشرنا إليه،
كالصلاة في الحمام.
102

ثم إنه ربما يكون الشئ مما يندب إليه فيه، بلا دخل له أصلا - لا
شطرا ولا شرطا - في حقيقته، ولا في خصوصيته وتشخصه، بل له دخل
ظرفا في مطلوبيته، بحيث لا يكون مطلوبا إلا إذا وقع في أثنائه، فيكون
مطلوبا نفيسا في واجب، أو مستحب، كما إذا كان مطلوبا كذلك، قبل
أحدهما أو بعده، فلا يكون الاخلال به موجبا للاخلال به ماهية ولا تشخصا
وخصوصية أصلا.
إذا عرفت هذا كله، فلا شبهة في عدم دخل ما ندب إليه في العبادات
نفسيا في التسمية بأساميها، وكذا فيما له دخل في تشخصها مطلقا، وأما
103

ماله الدخل شرطا في أصل ماهيتها، فيمكن الذهاب أيضا إلى عدم دخله في
التسمية بها، مع الذهاب إلى دخل ماله الدخل جزءا فيها، فيكون الاخلال
بالجزء مخلا بها، دون الاخلال بالشرط، لكنك عرفت أن الصحيح
اعتبارهما فيها.
الحادي عشر
الحق وقوع الاشتراك، للنقل والتبادر، وعدم صحة السلب، بالنسبة
إلى معنيين أو أكثر للفظ واحد. وان أحاله بعض، لاخلاله بالتفهم المقصود
من الوضع لخفاء القرائن، لمنع الاخلال أولا، لامكان الاتكال على القرائن
الواضحة، ومنع كونه مخلا بالحكمة ثانيا، لتعلق الغرض بالاجمال أحيانا،
كما أن استعمال المشترك في القرآن ليس بمحال كما توهم، لاجل لزوم
التطويل بلا طائل، مع الاتكال على القرائن والاجمال في المقال، لولا
الاتكال عليها. وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى جل شأنه، كما لا يخفى،
وذلك لعدم لزوم التطويل، فيما كان الاتكال على حال أو مقال أتي به لغرض
آخر، ومنع كون الاجمال غير لائق بكلامه تعالى، مع كونه مما يتعلق به
الغرض، وإلا لما وقع المشتبه في كلامه، وقد أخبر في كتابه الكريم، بوقوعه
104

فيه قال الله تعالى * (فيه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات) *.
وربما توهم وجوب وقوع الاشتراك في اللغات، لاجل عدم تناهي
المعاني، وتناهي الألفاظ المركبات، فلا بد من الاشتراك فيها، وهو فاسد
لوضوح امتناع الاشتراك في هذه المعاني، لاستدعائه الأوضاع الغير
المتناهية، ولو سلم لم يكد يجدي إلا في مقدار متناه، مضافا إلى تناهي
المعاني الكلية، وجزئياتها وإن كانت غير متناهية، إلا أن وضع الألفاظ بإزاء
كلياتها، يغني عن وضع لفظ بإزائها، كما لا يخفى، مع أن المجاز باب
واسع، فافهم.
الثاني عشر
إنه قد اختلفوا في جواز استعمال اللفظ، في أكثر من معنى على سبيل
الانفراد والاستقلال، بأن يراد منه كل واحد، كما إذا لم يستعمل إلا فيه،
على أقوال:
أظهرها عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلا.
105

وبيانه: إن حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة
المعنى، بل جعله وجها وعنوانا له، بل بوجه نفسه كأنه الملقى، ولذا يسري
إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى، ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك، إلا
لمعنى واحد، ضرورة أن لحاظه هكذا في إرادة معنى، ينافي لحاظه كذلك
في إرادة الآخر، حيث أن لحاظه كذلك، لا يكاد يكون إلا بتبع لحاظ المعنى
فانيا فيه، فناء الوجه في ذي الوجه، والعنوان في المعنون، ومعه كيف
يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد، ومع استلزامه للحاظ
آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال.

(1) يعني بحيث يكون كل واحد منهما مدلولا مطابقيا للفظ، لا تضمنيا كما في
الصورة الثالثة.
106

وبالجملة: لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد، لحاظه وجها
لمعنيين وفانيا في الاثنين، إلا أن يكون اللاحظ أحوال العينين.
فانقدح بذلك امتناع استعمال اللفظ مطلقا - مفردا كان أو غيره - في أكثر
من معنى بنحو الحقيقة أو المجاز، ولولا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه فإن
اعتبار الواحدة في الموضوع له واضح المنع، وكون الوضع في حال وحدة
المعنى، وتوقيفيته لا يقتضي عدم الجواز، بعد ما لم تكن الوحدة قيدا
107

للوضع، ولا للموضوع له، كما لا يخفى.
ثم لو تنزلنا عن ذلك، فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو الحقيقة
في التثنية والجمع، وعلى نحو المجاز في المفرد، مستدلا على كونه بنحو
الحقيقة فيهما، لكونهما بمنزلة تكرار اللفظ وبنحو المجاز فيه، لكونه
موضوعا للمعنى بقيد الوحدة، فإذا استعمل في الأكثر لزم إلغاء قيد الوحدة،
فيكون مستعملا في جزء المعنى، بعلاقة الكل والجزء، فيكون مجازا،
108

وذلك لوضوح أن الألفاظ لا تكون موضوعة إلا لنفس المعاني، بلا ملاحظة
قيد الوحدة، وإلا لما جاز الاستعمال في الأكثر، لان الأكثر ليس جزء المقيد
بالوحدة، بل يباينه مباينة الشئ بشرط شئ، والشئ بشرط لا، كما لا
يخفى، والتثنية والجمع وإن كانا بمنزلة التكرار في اللفظ، إلا أن الظاهر أن
اللفظ فيهما كأنه كرر وأريد من كل لفظ فرد من أفراد معناه، لا أنه أريد منه
معنى من معانيه، فإذا قيل مثلا: (جئني بعينين) أريد فردان من العين
الجارية، لا العين الجارية والعين الباكية، والتثنية والجمع في الاعلام، إنما
هو بتأويل المفرد إلى المسمى بها، مع أنه لو قيل بعدم التأويل، وكفاية
الاتحاد في اللفظ، في استعمالهما حقيقة، بحيث جاز إرادة عين جارية
وعين باكية من تثنية العين حقيقة، لما كان هذا من باب استعمال اللفظ في
الأكثر، لان هيئتهما إنما تدل على إرادة المتعدد مما يراد من مفردهما،
فيكون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانيه، استعمالهما في معنى واحد،
كما إذا استعملا وأريد المتعدد من معنى واحد منهما، كما لا يخفى.
109

نعم لو أريد مثلا من عينين، فرد ان من الجارية، وفردان من الباكية،
كان من استعمال العينين في المعنيين، إلا أن حديث التكرار لا يكاد يجدي
في ذلك أصلا، فإن فيه إلغاء قيد الوحدة المعتبرة أيضا، ضرورة أن التثنية
عنده إنما يكون لمعنيين، أو لفردين بقيد الوحدة، والفرق بينهما وبين المفرد
إنما يكون في أنه موضوع للطبيعة، وهي موضوعة لفردين منها أو معنيين،
كما هو أوضح من أن يخفى.
وهم ودفع:
لعلك تتوهم أن الاخبار الدالة على أن للقرآن بطونا - سبعة أو سبعين -
تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، فضلا عن جوازه،
ولكنك غفلت عن أنه لا دلالة لها أصلا على أن إرادتها كان من باب إرادة
المعنى من اللفظ، فلعله كان بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى،
110

لا من اللفظ، كما إذا استعمل فيها، أو كان المراد من البطون لوازم معناه
المستعمل فيه اللفظ، وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها.
الثالث عشر
إنه اختلفوا في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدأ في
الحال، أو فيما يعمه وما انقضى عنه على أقوال، بعد الاتفاق على كونه

(1) لا يخفى ان الضاحك والضارب متساويان في الضيق والسعة، فان الضحك بالقوة ثابت لكل
انسان في كل أزمنة وجوده كذلك الضرب بالقوة ثابت له في كلها، وكما ان الضرب بالفعل يقع
في بعض الأوقات كذلك الضحك بالفعل، فالمثال ليس في محله.
111

مجازا فيما يتلبس به في الاستقبال، وقبل الخوض في المسألة، وتفصيل
الأقوال فيها، وبيان الاستدلال عليها، ينبغي تقديم أمور:
112

أحدها: إن المراد بالمشتق هاهنا ليس مطلق المشتقات، بل
خصوص ما يجري منها على الذوات، مما يكون مفهومه منتزعا عن الذات،
بملاحظة اتصافها بالمبدأ، واتحادها معه بنحو من الاتحاد، كان بنحو الحلول
أو الانتزاع أو الصدور والايجاد، كأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات
المشبهات، بل وصيغ المبالغة، وأسماء الأزمنة والأمكنة والآلات، كما هو
ظاهر العنوانات، وصريح بعض المحققين، مع عدم صلاحية ما يوجب

(1) قال صاحب " جامع العلوم ": الاشتقاق على ثلثة أنواع: " صغير، وكبير، وأكبر " اما الاشتقاق
الصغير فكون اللفظين متناسبين في أحد المدلولات الثلاثة ومشتركين في الحروف والترتيب
كضرب من الضرب، واما الكبير فهو ان تكون بينهما مناسبة ومشاركة في الحروف دون الترتيب
كجبذ من جذب، والأكبر أن يكون بينهما مشاركة في أكثر الحروف مع تقارب ما بقي في المخرج
كنعق من نهق.
114

اختصاص النزاع بالبعض إلا التمثيل به، وهو غير صالح، كما هو واضح.
فا وجه لما زعمه بعض الاجلة، من الاختصاص باسم الفاعل وما
بمعناه من الصفات المشبهة وما يلحق بها، وخروج سائر الصفات، ولعل
منشأه توهم كون ما ذكره لكل منها من المعنى، مما اتفق عليه الكل، وهو
كما ترى، واختلاف انحاء التلبسات حسب تفاوت مبادي المشتقات،
بحسب الفعلية والشأنية والصناعة والملكة - حسبما نشير إليه - لا يوجب تفاوتا
في المهم من محل النزاع هاهنا، كما لا يخفى.
115

ثم إنه لا يبعد أن يراد بالمشتق في محل النزاع، مطلق ما كان مفهومه
ومعناه جاريا على الذات ومنتزعا عنها، بملاحظة اتصافها بعض أو عرضي
ولو كان جامدا، كالزوج والزوجة والرق والحر، وإن أبيت إلا عن
اختصاص النزاع المعروف بالمشتق، كما هو قضية الجمود على ظاهر لفظه،
فهذا القسم من الجوامد أيضا محل النزاع.
كما يشهد به ما عن الايضاح في باب الرضاع، في مسألة من كانت
له زوجتان كبيرتان، أرضعتا زوجته الصغيرة، ما هذا لفظه: " تحرم المرضعة
الأولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين، وأما المرضعة الأخرى، ففي
تحريمها خلاف، فاختار والدي المصنف (رحمه الله) وابن إدريس تحريمها
لان هذه يصدق عليها أم زوجته، لأنه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه
هكذا ها هنا "، وما عن المسالك في هذه المسألة، من ابتناء الحكم فيها

(1) قال فخر المحققين في " إيضاح الفوائد " ج 3 ص 52 في كتاب النكاح في ذيل قول والده العلامة
قدس سرهما: (ولو أرضعت الصغيرة زوجتاه على التعاقب فالأقرب تحريم الجميع):
أقول: تحريم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين، بالاجماع، وأما
المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف، واختار والدي المصنف، وابن إدريس تحريمها، لان هذه
يصدق عليها أنها أم زوجته، لأنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه، فكذا هنا،
ولان عنوان الموضوع لا يشترط صدقه حال الحكم، بل لو صدق قبله كفى، فيدخل تحت قوله
تعالى: * (وأمهات نسائكم) * - النساء - 27.
116

على الخلاف في مسألة المشتق.
فعليه كلما كان مفهومه منتزعا من الذات، بملاحظة اتصافها بالصفات
الخارجة عن الذاتيات - كانت عرضا أو عرضيا - كالزوجية والرقية والحرية
وغيرها من الاعتبارات والإضافات، كان محل النزاع وإن كان جامدا، وهذا
بخلاف ما كان مفهومه منتزعا عن مقام الذات والذاتيات، فإنه لا نزاع في كونه
حقيقة في خصوص ما إذا كانت الذات باقية بذاتياتها.
ثانيها: قد عرفت أنه لا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقات
الجارية على الذوات، إلا أنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم
الزمان، لان الذات فيه وهي الزمان بنفسه ينقضي وينصرم، فكيف يمكن أن
يقع النزاع في أن الوصف الجاري عليه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ
في الحال، أو فيما يعم المتلبس به في المضي؟
117

ويمكن حل الاشكال بأن انحصار مفهوم عام بفرد - كما في المقام - لا
يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام، وإلا لما وقع الخلاف فيما
وضع له لفظ الجلالة، مع أن الواجب موضوع للمفهوم العام، مع انحصاره
فيه تبارك وتعالى.
ثالثها: إنه من الواضح خروج الأفعال والمصادر المزيد فيها عن حريم
النزاع، لكونها غير جارية على الذوات، ضرورة أن المصادر المزيد فيها
كالمجردة، في الدلالة على ما يتصف به الذوات ويقوم بها - كما لا يخفى -
وأن الأفعال إنما تدل على قيام المبادي بها قيام صدور أو حلول أو طلب فعلها
أو تركها منها، على اختلافها.
118

إزاحة شبهة:
قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان، حتى أخذوا
الاقتران بها في تعريفه. وهو اشتباه، ضرورة عدم دلالة الامر ولا النهي
عليه، بل على إنشاء طلب الفعل أو الترك، غاية الامر نفس الانشاء بهما في
119

الحال، كما هو الحال في الاخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما، كما لا
يخفى، بل يمكن منع دلالة غيرهما من الأفعال على الزمان إلا بالاطلاق
والاسناد إلى الزمانيات، وإلا لزم القول بالمجاز والتجريد، عند الاسناد إلى
غيرها من نفس الزمان والمجردات.
120

نعم لا يبعد أن يكون لكل من الماضي والمضارع - بحسب المعنى -
خصوصية أخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة، في الزمان الماضي في
الماضي، وفي الحال أو الاستقبال في المضارع، فيما كان الفاعل من
الزمانيات،
ويؤيده أن المضارع يكون مشتركا معنويا بين الحال والاستقبال،
ولا معنى له إلا أن يكون له خصوص معنى صح انطباقه على كل منهما، إلا أنه يدل على مفهوم زمان يعمهما، كما أن الجملة الاسمية ك‍ (زيد ضارب)
يكون لها معنى صح انطباقه على كل واحد من الأزمنة، مع عدم دلالتها على
121

واحد منها أصلا، فكانت الجملة الفعلية مثلها.
وربما يؤيد ذلك أن الزمان الماضي في فعله، وزمان الحال
أو الاستقبال في المضارع، لا يكون ماضيا أو مستقبلا حقيقة لا محالة، بل ربما
يكون في الماضي مستقبلا حقيقة، وفي المضارع ماضيا كذلك، وإنما يكون
ماضيا أو مستقبلا في فعلهما بالإضافة، كما يظهر من مثل قوله: يجيئني زيد
بعد عام، وقد ضرب قبله بأيام، وقوله: جاء زيد في شهر كذا، وهو يضرب
في ذلك الوقت، أو فيما بعده مما مضى، فتأمل جيدا.
ثم لا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عما عداه،
بما يناسب المقام، لاجل الاطراد في الاستطراد في تمام الأقسام.
فاعلم أنه وإن اشتهر بين الاعلام، أن الحرف ما دل على معنى في
غيره، وقد بيناه في الفوائد بما لا مزيد عليه، إلا أنك عرفت فيما تقدم،
عدم الفرق بينه وبين الاسم بحسب المعنى، وأنه فيهما ما لم يلحظ فيه
122

الاستقلال بالمفهومية، ولا عدم الاستقلال بها، وإنما الفرق هو أنه وضع
ليستعمل وأريد منه معناه حالة لغيره وبما هو في الغير، ووضع غيره ليستعمل
وأريد منه معناه بما هو هو.
وعليه يكون كل من الاستقلال بالمفهومية، وعدم الاستقلال بها، إنما
اعتبر في جانب الاستعمال، لا في المستعمل فيه، ليكون بينهما تفاوت
بحسب المعنى، فلفظ (الابتداء) لو استعمل في المعنى الآلي، ولفظة
(من) في المعنى الاستقلالي، لما كان مجازا واستعمالا له في غير ما وضع
له، وإن كان بغير ما وضع له، فالمعنى في كليهما في نفسه كلي طبيعي
يصدق على كثيرين، ومقيدا باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي عقلي،
وإن كان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهنا كان جزئيا ذهنيا، فإن الشئ ما لم
يتشخص لم يوجد، وإن كان بالوجود الذهني، فافهم وتأمل فيما وقع في
المقام من الاعلام، من الخلط والاشتباه، وتوهم كون الموضوع له
أو المستعمل فيه في الحروف خاصا، بخلاف ما عداه فإنه عام.
وليت شعري إن كان قصد الآلية فيها موجبا لكون المعنى جزئيا، فلم
لا يكون قصد الاستقلالية فيه موجبا له؟ وهل يكون ذلك إلا لكون هذا
القصد، ليس مما يعتبر في الموضوع له، ولا المستعمل فيه بل في
123

الاستعمال، فلم لا يكون فيها كذلك؟ كيف، وإلا لزم أن يكون معاني
المتعلقات غير منطبقة على الجزئيات الخارجية، لكونها على هذا كليات
عقلية، والكلي العقلي لا موطن له إلا الذهن، فالسير والبصرة والكوفة،
في (سرت من البصرة إلى الكوفة لا يكاد يصدق على السير والبصرة
والكوفة، لتقيدها بما اعتبر فيه القصد فتصير عقلية، فيستحيل انطباقها
على الأمور الخارجية.
وبما حققناه يوفق بين جزئية المعنى الحرفي بل الاسمي، والصدق
على الكثيرين، وإن الجزئية باعتبار تقيد المعنى باللحاظ في موارد
الاستعمالات آليا أو استقلاليا، وكليته بلحاظ نفس المعنى، ومنه ظهر عدم
اختصاص الاشكال والدفع بالحرف، بل يعم غيره، فتأمل في المقام فإنه
دقيق ومزال الاقدام للاعلام، وقد سبق في بعض الأمور بعض الكلام،
والإعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة والإفادة. فافهم.
رابعها: إن اختلاف المشتقات في المبادئ، وكون المبدأ في بعضها
حرفة وصناعة، وفي بعضها قوة وملكة، وفي بعضها فعليا، لا يوجب اختلافا
في دلالتها بحسب الهيئة أصلا، ولا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها، كما
لا يخفى، غاية الامر إنه يختلف التلبس به في المضي أو الحال، فيكون
التلبس به فعلا، لو أخذ حرفة أو ملكة، ولو لم يتلبس به إلى الحال، أو
انقضى عنه، ويكون مما مضى أو يأتي لو أخذ فعليا، فلا يتفاوت فيها أنحاء
التلبسات وأنواع التعلقات، كما أشرنا إليه.
124

خامسها: إن المراد بالحال في عنوان المسألة، هو حال التلبس
لا حال النطق ضرورة أن مثل (كان زيد ضاربا أمس) أو (سيكون غدا ضاربا)
حقيقة إذا كان متلبسا بالضرب في الأمس، في المثال الأول، ومتلبسا به في
الغد في الثاني، فجري المشتق حيث كان بلحاظ حال التلبس، وإن مضى
زمانه في أحدهما، ولم يأت بعد في آخر، كان حقيقة بلا خلاف، ولا ينافيه
الاتفاق على أن مثل (زيد ضارب غدا) مجاز، فإن الظاهر أنه فيما إذا كان
الجري في الحال، كما هو قضية الاطلاق، والغد إنما يكون لبيان زمان
التلبس، فيكون الجري والاتصاف في الحال، والتلبس في الاستقبال.
ومن هنا ظهر الحال في مثل (زيد ضارب أمس) وأنه داخل في محل
الخلاف والاشكال. ولو كانت لفظة (أمس) أو (غد) قرينة على تعيين زمان
النسبة والجري أيضا كان المثالان حقيقة.
وبالجملة: لا ينبغي الاشكال في كون المشتق حقيقة، فيما إذا جرى
على الذات، بلحاظ حال التلبس، ولو كان في المضي أو الاستقبال، وإنما
الخلاف في كونه حقيقة في خصوصه، أو فيما يعم ما إذا جرى عليها في
الحال بعد ما انقضى عنه التلبس، بعد الفراغ عن كونه مجازا فيما إذا جرى
عليها فعلا بلحاظ التلبس في الاستقبال، ويؤيد ذلك اتفاق أهل العربية على
عدم دلالة الاسم على الزمان، ومنه الصفات الجارية على الذوات، ولا
ينافيه اشتراط العمل في بعضها بكونه بمعنى الحال، أو الاستقبال، ضرورة
أن المراد الدلالة على أحدهما بقرينة، كيف لا؟ وقد اتفقوا على كونه مجازا
في الاستقبال.
لا يقال: يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه، كما هو
الظاهر منه عند إطلاقه، وادعي أنه الظاهر في المشتقات، إما لدعوى
الانسباق من الاطلاق، أو بمعونة قرينة الحكمة.
125

لأنا نقول: هذا الانسباق، وإن كان مما لا ينكر، إلا أنهم في هذا
العنوان بصدد تعيين ما وضع له المشتق، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه.
سادسها: إنه لا أصل في نفس هذه المسألة يعول عليه عند الشك،
وأصالة عدم ملاحظة الخصوصية، مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة
العموم، لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له، وأما ترجيح الاشتراك
المعنوي على الحقيقة والمجاز. إذا دار الامر بينهما لاجل الغلبة، فممنوع،
لمنع الغلبة أولا، ومنع نهوض حجة على الترجيح بها ثانيا.
وأما الأصل العملي فيختلف في الموارد، فأصالة البراءة في مثل
(أكرم كل عالم) يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل
الايجاب، كما أن قضية الاستصحاب وجوبه لو كان الايجاب قبل الانقضاء.
فإذا عرفت ما تلونا عليك، فاعلم أن الأقوال في المسألة وإن كثرت،
إلا أنها حدثت بين المتأخرين، بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين،
لاجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مباديه في المعنى، أو بتفاوت ما يعتريه
من الأحوال، وقد مرت الإشارة إلى أنه لا يوجب التفاوت فيما نحن
بصدده، ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار، وهو
اعتبار التلبس في الحال، وفاقا لمتأخري الأصحاب والأشاعرة، وخلافا
لمتقدميهم والمعتزلة،
ويدل عليه تبادر خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال، وصحة
السلب مطلقا عما انقضى عنه، كالمتلبس به في الاستقبال، وذلك
126

لوضوح أن مثل: القائم والضارب والعالم، وما يرادفها من سائر اللغات،
لا يصدق على من لم يكن متلبسا بالمبادئ، وإن كان متلبسا بها قبل الجري
والانتساب، ويصح سلبها عنه، كيف؟ وما يضادها بحسب ما ارتكز من
معناها في الأذهان يصدق عليه، ضرورة صدق القاعد عليه في حال تلبسه
بالقعود، بعد انقضاء تلبسه بالقيام، مع وضوح التضاد بين القاعد والقائم
بحسب ما ارتكز لهما من المعنى، كما لا يخفى.
وقد يقرر هذا وجها على حدة، ويقال: لا ريب في مضادة الصفات
المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة، على ما ارتكز لها من المعاني،
فلو كان المشتق حقيقة في الأعم، لما كان بينها مضادة بل مخالفة، لتصادقها
فيما انقضى عنه المبدأ وتلبس بالمبدأ الآخر.
ولا يرد على هذا التقرير ما أورده بعض الاجلة من المعاصرين، من
عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط، لما عرفت من ارتكازه بينها، كما
في مبادئها.
إن قلت: لعل ارتكازها لاجل الانسباق من الاطلاق، لا الاشتراط.
قلت: لا يكاد يكون لذلك، لكثرة استعمال المشتق في موارد
الانقضاء، لو لم يكن بأكثر.
127

إن قلت: على هذا يلزم أن يكون في الغالب أو الأغلب مجازا، وهذا
بعيد، ربما لا يلائمه حكمة الوضع.
لا يقال: كيف؟ وقد قيل: بأن أكثر المحاورات مجازات. فإن ذلك
لو سلم، فإنما هو لاجل تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي
الواحد. نعم ربما يتفق ذلك بالنسبة إلى معنى مجازي، لكثرة الحاجة إلى
التعبير عنه. لكن أين هذا مما إذا كان دائما كذلك؟ فافهم.
قلت: مضافا إلى أن مجرد الاستبعاد غير ضائر بالمراد، بعد مساعدة
الوجوه المتقدمة عليه، إن ذلك إنما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى
بلحاظ حال التلبس، مع أنه بمكان من الامكان، فيراد من (جاء الضارب أو
الشارب) - وقد انقضى عنه الضرب والشرب - جاء الذي كان ضاربا وشاربا قبل
مجيئه حال التلبس بالمبدأ، لا حينه بعد الانقضاء، كي يكون الاستعمال
بلحاظ هذا الحال، وجعله معنونا بهذا العنوان فعلا بمجرد تلبسه قبل مجيئه،
ضرورة أنه لو كان للأعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين.
وبالجملة: كثرة الاستعمال في حال الانقضاء يمنع عن دعوى انسباق
خصوص حال التلبس من الاطلاق، إذ مع عموم المعنى وقابلية كونه حقيقة
في المورد - ولو بالانطباق - لا وجه لملاحظة حالة أخرى، كما لا يخفى،
بخلاف ما إذا لم يكن له العموم، فإن استعماله - حينئذ - مجازا بلحاظ حال
الانقضاء وإن كان ممكنا، إلا أنه لما كان بلحاظ حال التلبس على نحو
128

الحقيقة بمكان من الامكان، فلا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازا
وبالعناية وملاحظة العلاقة، وهذا غير استعمال اللفظ فيما لا يصح استعماله
فيه حقيقة، كما لا يخفى، فافهم.
ثم إنه ربما أورد على الاستدلال بصحة السلب، بما حاصله: إنه
إن أريد بصحة السلب صحته مطلقا، فغير سديد، وإن أريد مقيدا، فغير
مفيد، لان علامة المجاز هي صحة السلب المطلق.
وفيه: إنه إن أريد بالتقييد، تقييد المسلوب الذي يكون سلبه أعم
من سلب المطلق - كما هو واضح - فصحة سلبه وإن لم تكن علامة على كون
المطلق مجازا فيه، إلا أن تقييده ممنوع، وإن أريد تقييد السلب، فغير ضائر
بكونها علامة، ضرورة صدق المطلق على أفراده على كل حال، مع إمكان
منع تقييده أيضا، بأن يلحظ حال الانقضاء في طرف الذات الجاري عليها
المشتق، فيصح سلبه مطلقا بلحاظ هذا الحال، كما لا يصح سلبه بلحاظ
129

حال التلبس، فتدبر جدا.
ثم لا يخفى أنه لا يتفاوت في صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ،
بين كون المشتق لازما وكونه متعديا، لصحة سلب الضارب عمن يكون فعلا
غير متلبس بالضرب، وكون متلبسا به سابقا، وأما إطلاقه عليه في الحال،
فإن كان بلحاظ حال التلبس، فلا إشكال كما عرفت، وإن كان بلحاظ
الحال، فهو وإن كان صحيحا إلا أنه لا دلالة على كونه بنحو الحقيقة، لكون
الاستعمال أعم منها كما لا يخفى، كما لا يتفاوت في صحة السلب عنه،
بين تلبسه بضد المبدأ وعدم تلبسه، لما عرفت من وضوح صحته مع عدم
التلبس - أيضا - وإن كان معه أوضح، ومما ذكرنا ظهر حال كثير من
التفاصيل، فلا نطيل بذكرها على التفصيل.

(1) وجه عدم علاميتها على مجازية المطلق هو ان المراد بصحة السلب بصحة مع قطع النظر عن
الضمائم الخارجة عن معناه.
130

حجة القول بعدم الاشتراط وجوه:
الأول: التبادر، وقد عرفت أن المتبادر هو خصوص حال التلبس.
الثاني: عدم صحة السلب في مضروب ومقتول، عمن انقضى عنه
المبدأ.
وفيه: إن عدم صحته في مثلهما، إنما هو لاجل أنه أريد من المبدأ
معنى يكون التلبس به باقيا في الحال، ولو مجازا.
وقد انقدح من بعض المقدمات أنه لا يتفاوت الحال فيما هو المهم في
محل البحث والكلام ومورد النقض والابرام، اختلاف ما يراد من المبدأ في
كونه حقيقة أو مجازا، وأما لو أريد منه نفس ما وقع على الذات، مما صدر
عن الفاعل، فإنما لا يصح السلب فيما لو كان بلحاظ حال التلبس والوقوع
- كما عرفت - لا بلحاظ الحال أيضا، لوضوح صحة أن يقال: إنه ليس
بمضروب الآن بل كان.
الثالث: استدلال الامام - عليه السلام - تأسيا بالنبي - صلوات الله
عليه - كما عن غير واحد من الاخبار بقوله * (لا ينال عهدي الظالمين) *
على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب الإمامة والخلافة، تعريضا بمن
تصدى لها ممن عبد الصنم مدة مديدة، ومن الواضح توقف ذلك على كون
المشتق موضوعا للأعم، وإلا لما صح التعريض، لانقضاء تلبسهم بالظلم
131

وعبادتهم للصنم حين التصدي للخلافة، والجواب منع التوقف على ذلك،
بل يتم الاستدلال ولو كان موضوعا لخصوص المتلبس.
وتوضيح ذلك يتوقف على تمهيد مقدمة، وهي: إن الأوصاف العنوانية
التي تؤخذ في موضوعات الاحكام، تكون على أقسام:
أحدها: أن يكون أخذ العنوان لمجرد الإشارة إلى ما هو في الحقيقة
موضوعا للحكم، لمعهوديته بهذا العنوان، من دون دخل لاتصافه به في
الحكم أصلا.
ثانيها: أن يكون لاجل الإشارة إلى علية المبدأ للحكم، مع كفاية
مجرة صحة جري المشتق عليه، ولو فيما مضى.
ثالثها: أن يكون لذلك مع عدم الكفاية، بل كان الحكم دائرا مدار
صحة الجري عليه، واتصافه به حدوثا وبقاء.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الاستدلال بهذا الوجه إنما يتم، لو كان أخذ
العنوان في الآية الشريفة على النحو الأخير، ضرورة أنه لو لم يكن المشتق
للأعم، لما تم بعد عدم التلبس بالمبدأ ظاهرا حين التصدي، فلا بد أن
يكون للأعم، ليكون حين التصدي حقيقة من الظالمين، ولو انقضى عنهم
التلبس بالظلم.
وأما إذا كان على النحو الثاني، فلا، كما لا يخفى، ولا قرينة على
أنه على النحو الأول، لو لم نقل بنهوضها على النحو الثاني، فإن الآية
132

الشريفة في مقام بيان جلالة قدر الإمامة والخلافة وعظم خطرها، ورفعة
محلها، وإن لها خصوصية من بين المناصب الإلهية، ومن المعلوم أن
المناسب لذلك، هو أن لا يكون المتقمص بها متلبسا بالظلم أصلا، كما
لا يخفى.
إن قلت: نعم، ولكن الظاهر أن الامام - عليه السلام - إنما استدل بما
هو قضية ظاهر العنوان وضعا، لا بقرينة المقام مجازا، فلا بد أن يكون
للأعم، وإلا لما تم.
قلت: لو سلم، لم يكن يستلزم جري المشتق على النحو الثاني كونه
مجازا، بل يكون حقيقة لو كان بلحاظ حال التلبس - كما عرفت - فيكون
معنى الآية، والله العالم: من كان ظالما ولو آنا في زمان سابق لا ينال
عهدي أبدا، ومن الواضح أن إرادة هذا المعنى لا تستلزم الاستعمال،
لا بلحاظ حال التلبس.
ومنه قد انقدح ما في الاستدلال على التفصيل بين المحكوم عليه
والمحكوم به، باختيار عدم الاشتراط في الأول، بآية حد السارق والسارقة،
والزاني والزانية، وذلك حيث ظهر أنه لا ينافي إرادة خصوص حال التلبس
دلالتها على ثبوت القطع والجلد مطلقا، ولو بعد انقضاء المبدأ، مضافا إلى
وضوح بطلان تعدد الوضع، حسب وقوعه محكوما عليه أو به، كما
لا يخفى.
ومن مطاوي ما ذكرنا - هاهنا وفي المقدمات - ظهر حال سائر الأقوال، وما ذكر لها من الاستدلال، ولا يسع المجال لتفصيلها، ومن أراد الاطلاع
عليها فعليه بالمطولات.
133

بقي أمور:
الأول: إن مفهوم المشتق - على ما حققه المحقق الشريف في
بعض حواشيه -: بسيط منتزع عن الذات - باعتبار تلبسها بالمبدأ واتصافها
به - غير مركب. وقد أفاد في وجه ذلك: أن مفهوم الشئ لا يعتبر في مفهوم
الناطق مثلا، وإلا لكان الغرض العام داخلا في الفصل، ولو اعتبر فيه ما
صدق عليه الشئ، انقلبت مادة الامكان الخاص ضرورة، فإن الشئ الذي
له الضحك هو الانسان، وثبوت الشئ لنفسه ضروري. هذا ملخص ما أفاده
الشريف، على ما لخصه بعض الأعاظم.
وقد أورد عليه في الفصول، بأنه يمكن أن يختار الشق الأول،
ويدفع الاشكال بأن كون الناطق - مثلا - فصلا، مبني على عرف المنطقيين،
134

حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات، وذلك لا يوجب وضعه لغة كذلك.
وفيه: إنه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في
معناه أصلا، بل بماله من المعنى، كما لا يخفى.
والتحقيق أن يقال إن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي، بل لازم ما هو
الفصل وأظهر خواصه، وإنما يكون فصلا مشهوريا منطقيا يوضع مكانه إذا
لم يعلم نفسه، بل لا يكاد يعلم، كما حقق في محله، ولذا ربما يجعل لازمان
مكانه إذا كانا متساوي النسبة إليه، كالحساس والمتحرك بالإرادة في
الحيوان، وعليه فلا بأس بأخذ مفهوم الشئ في مثل الناطق، فإنه وإن كان
عرضا عاما، لا فصلا مقوما للانسان، إلا أنه بعد تقييده بالنطق واتصافه به
كان من أظهر خواصه.
وبالجملة لا يلزم من أخذ مفهوم الشئ في معنى المشتق، إلا دخول
135

العرض في الخاصة التي هي من العرضي، لا في الفصل الحقيقي الذي هو
من الذاتي، فتدبر جيدا.
ثم قال:
إنه يمكن أن يختار الوجه الثاني أيضا، ويجاب بأن المحمول ليس
مصداق الشئ والذات مطلقا، بل مقيدا بالوصف، وليس ثبوته للموضوع
حينئذ بالضرورة، لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريا. انتهى.
ويمكن أن يقال: إن عدم كون ثبوت القيد ضروريا لا يضر بدعوى
الانقلاب، فإن المحمول إن كان ذات المقيد وكان القيد خارجا، وإن كان
التقييد داخلا بما هو معنى حرفي، فالقضية لا محالة تكون ضرورية، ضرورة
ضرورية دخلا بما هو معنى حرفي، فالقضية لا محالة تكون ضرورية، ضرورة
ضرورية ثبوت الانسان الذي يكون مقيدا بالنطق للانسان وان كان المقيد به
بما هو مقيد على أن يكون القيد داخلا، فقضية (الانسان
ناطق) تنحل في الحقيقة إلى قضيتين إحداهما قضية (الانسان انسان) وهي
136

ضرورية، والأخرى قضية (الانسان له النطق) وهي ممكنة، وذلك لان
الأوصاف قبل العلم بها أخبار كما أن الاخبار بعد العلم تكون أوصافا، فعقد
الحمل ينحل إلى القضية، كما أن عقد الوضع ينحل إلى قضية مطلقة عامة
عند الشيخ، وقضية ممكنة عند الفارابي، فتأمل.
لكنه (قدس سره) تنظر فيما أفاده بقوله: وفيه نظر لان الذات المأخوذة
مقيدة بالوصف قوة أو فعلا، إن كانت مقيدة به واقعا صدق الايجاب بالضرورة
وإلا صدق السلب بالضرورة، مثلا: لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن
يصدق زيد الكاتب بالقوة أو بالفعل كاتب بالضرورة. انتهى.
ولا يذهب عليك أن صدق الايجاب بالضرورة، بشرط كونه مقيدا به
واقعا لا يصحح دعوى الانقلاب إلى الضرورية، ضرورة صدق الايجاب
بالضرورة بشرط المحمول في كل قضية ولو كانت ممكنة، كما لا يكاد يضر
137

بها صدق السلب كذلك، بشرط عدم كونه مقيدا به واقعا، لضرورة السلب
بهذا الشرط، وذلك لوضوح أن المناط في الجهات ومواد القضايا، إنما هو
بملاحظة أن نسبة هذا المحمول إلى ذلك الموضوع موجهة بأي جهة منها،
ومع أية منها في نفسها صادقة، لا بملاحظة ثبوتها له واقعا أو عدم ثبوتها له
كذلك، وإلا كانت الجهة منحصرة بالضرورة، ضرورة صيرورة الايجاب أو
السلب - بلحاظ الثبوت وعدمه - واقعا ضروريا، ويكون من باب الضرورة
بشرط المحمول.
وبالجملة: الدعوى هو انقلاب مادة الامكان بالضرورة، فيما ليست
مادته واقعا في نفسه وبلا شرطه غير الامكان.
وقد انقدح بذلك عدم نهوض ما أفاده (رحمه الله) بإبطال الوجه
الأول، كما زعمه (قدس سره)، فإن لحوق مفهوم الشئ والذات
138

لمصاديقهما، إنما يكون ضروريا مع إطلاقهما، لا مطلقا، ولو مع التقيد
إلا بشرط تقيد المصاديق به أيضا، وقد عرفت حال الشرط، فافهم.
ثم إنه لو جعل التالي في الشرطية الثانية لزوم أخذ النوع في الفصل،
ضرورة أن مصداق الشئ الذي له النطق هو الانسان، كان أليق بالشرطية
الأولى، بل كان أولى لفساده مطلقا، ولو لم يكن مثل الناطق بفصل
حقيقي، ضرورة بطلان أخذ الشئ في لازمه وخاصته، فتأمل جيدا.
ثم إنه يمكن أن يستدل على البساطة، بضرورة عدم تكرار الموصوف في
مثل زيد الكاتب، ولزومه من التركب، وأخذ الشئ مصداقا أو مفهوما في
مفهومه.
139

إرشاد:
لا يخفى أن معنى البساطة - بحسب المفهوم - وحدته إدراكا وتصورا،
بحيث لا يتصور عند تصوره إلا شئ واحد لا شيئان، وإن انحل بتعمل من
العقل إلى شيئين، كانحلال مفهوم الشجر والحجر إلى شئ له الحجرية
أو الشجرية، مع وضوح بساطة مفهومهما.
وبالجملة: لا ينثلم بالانحلال إلى الاثنينية - بالتعمل العقلي - وحدة المعنى
وبساطة المفهوم، كما لا يخفى، وإلى ذلك يرجع الاجمال والتفصيل الفارقان
بين المحدود والحد، مع ما هما عليه من الاتحاد ذاتا، فالعقل بالتعمل يحلل
140

النوع، ويفصله إلى جنس وفصل، بعد ما كان أمرا واحدا إدراكا، وشيئا فاردا
تصورا، فالتحليل يوجب فتق ما هو عليه من الجمع والرتق.
الثاني: الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوما، أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل
على ما تلبس بالمبدأ، ولا يعصي عن الجري عليه، لما هما عليه من نحو من
الاتحاد، بخلاف المبدأ، فإنه بمعناه يأبى عن ذلك، بل إذا قيس ونسب إليه
كان غيره، لا هو هو، وملاك الحمل والجري إنما هو نحو من الاتحاد
141

والهوهوية، وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما، من أن
المشتق يكون لا بشرط والمبدأ يكون بشرط لا، أي يكون مفهوم المشتق غير آب
عن الحمل، ومفهوم المبدأ يكون آبيا عنه، وصاحب الفصول (رحمه الله)
- حيث توهم أن مرادهم إنما هو بيان التفرقة بهذين الاعتبارين، بلحاظ الطوارئ
142

والعوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد - أورد عليهم بعدم استقامة الفرق
بذلك، لاجل امتناع حمل العلم والحركة على الذات، وإن اعتبرا لا بشرط،
وغفل عن أن المراد ما ذكرنا، كما يظهر منهم من بيان الفرق بين الجنس
والفصل، وبين المادة والصورة، فراجع.
الثالث: ملاك الحمل - كما أشرنا إليه - هو الهوهوية والاتحاد من وجه،
والمغايرة من وجه آخر، كما يكون بين المشتقات والذوات، ولا يعتبر معه
ملاحظة التركيب بين المتغايرين، واعتبار كون مجموعهما - بما هو كذلك - واحدا،
143

بل يكون لحاظ ذلك مخلا، لاستلزامه المغايرة بالجزئية والكلية.
ومن الواضح أن ملاك الحمل لحاظ نحو اتحاد بين الموضوع والمحمول،
مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديدات وسائر القضايا في طرف
الموضوعات، بل لا يلحظ في طرفها إلا نفس معانيها، كما هو الحال في طرف
المحمولات، ولا يكون حملها عليها إلا بملاحظة ما هما عليه من نحو من
الاتحاد، مع ما هما عليه من المغايرة ولو بنحو من الاعتبار.
144

فانقدح بذلك فساد ما جعله في الفصول تحقيقا للمقام. وفي كلامه موارد
للنظر، تظهر بالتأمل وإمعان النظر.
الرابع: لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتق عليه
مفهوما، وإن اتحدا عينا وخارجا، فصدق الصفات - مثل: العالم، والقادر،
والرحيم، والكريم، إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال - عليه تعالى،
على ما ذهب إليه أهل الحق من عينية صفاته، يكون على الحقيقة، فإن المبدأ
فيها وإن كان عين ذاته تعالى خارجا، إلا أنه غير ذاته تعالى مفهوما.
ومنه قد انقدح ما في الفصول، من الالتزام بالنقل أو التجوز في ألفاظ
الصفات الجارية عليه تعالى، بناء على الحق من العينية، لعدم المغايرة المعتبرة
145

بالاتفاق، وذلك لما عرفت من كفاية المغايرة مفهوما، ولا اتفاق على اعتبار
غيرها، إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره، كما لا يخفى، وقد
عرفت ثبوت المغايرة كذلك بين الذات ومبادئ الصفات.
الخامس: إنه وقع الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة - كما عرفت -
بين المبدأ وما يجري عليه المشتق، في اعتبار قيام المبدأ به، في صدقه على نحو
الحقيقة، وقد استدل من قال بعدم الاعتبار، بصدق الضارب والمؤلم، مع
قيام الضرب والألم بالمضروب والمؤلم - بالفتح -.
والتحقيق: إنه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أولي الألباب، في أنه
يعتبر في صدق المشتق على الذات وجريه عليها، من التلبس بالمبدأ بنحو
خاص، على اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارة، واختلاف الهيئات
أخرى، من القيام صدورا أو حلولا أو وقوعا عليه أو فيه، أو انتزاعه عنه
مفهوما مع اتحاده معه خارجه، كما في صفاته تعالى، على ما أشرنا إليه آنفا،
أو مع عدم تحقق إلا للمنتزع عنه، كما في الإضافات والاعتبارات التي لا تحقق
لها، ولا يكون بحذائها في الخارج شئ، وتكون من الخارج المحمول،
146

لا المحمول بالضميمة، ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له تعالى
مفهوما، وقائما به عينا، لكنه بنحو من القيام، لا بأن يكون هناك اثنينية،
وكان ما بحذائه غير الذات، بل بنحو الاتحاد والعينية، وكان ما بحذائه عين
الذات، وعدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الأمور الخفية لا يضر
بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة، إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى
حقيقة، ولو بتأمل وتعمل من العقل. والعرف إنما يكون مرجعا في تعيين
المفاهيم، لا في تطبيقها على مصاديقها.
وبالجملة: يكون مثل العالم، والعادل، وغيرهما - من الصفات الجارية
عليه تعالى وعلى غيره - جارية عليهما بمفهوم واحد ومعنى فارد، وإن اختلفا فيما
يعتبر في الجري من الاتحاد، وكيفية التلبس بالمبدأ، حيث أنه بنحو العينية فيه
تعالى، وبنحو الحلول أو الصدور في غيره، فلا وجه لما التزم به في
الفصول، من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عما هي عليها من المعنى، كما
لا يخفى، كيف؟ ولو كانت بغير معانيها العامة جارية عليه تعالى كانت صرف
لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى، فإن غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره
تعالى غير مفهوم ولا معلوم إلا بما يقابلها، ففي مثل ما إذا قلنا: إنه تعالى
147

عالم، إما أن نعني أنه من ينكشف لديه الشئ فهو ذاك المعنى العام، أو أنه
مصداق لما يقابل ذاك المعنى، فتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وإما أن لا نعني
شيئا، فتكون كما قلناه من كونها صرف اللقلقة، وكونها بلا معنى، كما
لا يخفى.
والعجب أنه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره، وهو كما ترى،
وبالتأمل فيما ذكرنا، ظهر الخلل فيما استدل من الجانبين والمحاكمة بين
الطرفين، فتأمل.
السادس: الظاهر أنه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات
حقيقة، التلبس بالمبدأ حقيقة وبلا واسطة في العروض، كما في الماء الجاري،
بل يكفي التلبس به ولو مجازا، ومع هذه الواسطة، كما في الميزاب الجاري،
فاسناد الجريان إلى الميزاب، وإن كان إسنادا إلى غير ما هو له وبالمجاز، إلا أنه
في الاسناد، لا في الكلمة، فالمشتق في مثل المثال، بما هو مشتق قد استعمل في
148

معناه الحقيقي، وإن كان مبدؤه مسندا إلى الميزاب بالاسناد المجازي، ولا منافاة
بينهما أصلا، كما لا يخفى، ولكن ظاهر الفصول بل صريحه، اعتبار الاسناد
الحقيقي في صدق المشتق حقيقة، وكأنه من باب الخلط بين المجاز في الاسناد
والمجاز في الكلمة، وهذا - ها هنا - محل الكلام بين الاعلام، والحمد لله،
وهو خير ختام.

(1) يمكن أن يكون إشارة إلى ما قيل من التفصيل: وهو أن النزاع تارة في استعمال اللفظ في معناه
الموضوع له، وأخرى في تطبيقه على موضوعه واسناده وصدقه، فإن كان المتنازع فيه الأول
فالحق مع المصنف لعدم استلزام المجاز في التطبيق والاسناد المجاز في الاستعمال، وان كان الثاني
فالحق مع صاحب " الفصول " إذ لا شبهة في أن الاسناد على وجه الحقيقة متوقف على تلبس
الشئ بالمبدء حقيقة مثل " الماء جار ".
149

المقصد الأول
الأوامر
151

المقصد الأول: في الأوامر
وفيه فصول:
الأول: فيما يتعلق بمادة الامر من الجهات، وهي عديدة:
الأولى: إنه قد ذكر للفظ الامر معان متعددة، منها الطلب، كما
يقال: أمره بكذا.
ومنها الشأن، كما يقال: شغله أمر كذا.

(2) لا يجمع على وزن فواعل الا ما كان ثلاثيا زيد بعد فائه الف أو واو نحو جواهر وخواتم جمع
جوهر وخاتم، وكواكب وقواعد جمع كوكب وقاعدة، فعلى هذا لفظ الأوامر لا يكون جمعا قياسيا
للامر، نعم يمكن أن يكون جمعا سماعيا على خلاف القياس قال أمير المؤمنين عليه السلام على
ما في دعاء كميل: " وخالفت بعض أوامرك " أو يكون جمعا للآمرة على وزن الفاعلة كما صرح
به المقرر قدس سره، والله يعلم.
153

ومنها الفعل، كما في قوله تعالى: * (وما أمر فرعون برشيد) *.
ومنها الفعل العجيب، كما في قوله تعالى: * (فلما جاء أمرنا) *.
ومنها الشئ، كما تقول: رأيت اليوم أمرا عجيبا.
ومنها الحادثة، ومنها الغرض، كما تقول: جاء زيد لامر كذا.
ولا يخفى أن عد بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم،
ضرورة أن الامر في (جاء زيد لامر) ما استعمل في معنى الغرض، بل اللام قد
دل على الغرض، نعم يكون مدخوله مصداقه، فافهم، وهكذا الحال في قوله
تعالى * (فلما جاء أمرنا) * يكون مصداقا للتعجب، لا مستعملا في مفهومه،
وكذا في الحادثة والشأن.
وبذلك ظهر ما في دعوى الفصول، من كون لفظ الامر حقيقة في
المعنيين الأولين، ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشئ،
هذا بحسب العرف واللغة.
وأما بحسب الاصطلاح، فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول
المخصوص، ومجاز في غيره، ولا يخفى أنه عليه لا يمكن منه الاشتقاق، فإن
154

معناه - حينئذ - لا يكون معنى حدثيا، مع أن الاشتقاقات منه - ظاهرا - تكون
بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم، لا بالمعنى الآخر، فتدبر.
ويمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبيرا عنه بما يدل
عليه، نعم القول المخصوص - أي صيغة الامر - إذا أراد العالي بها الطلب
يكون من مصاديق الامر، لكنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.
وكيف كان، فالأمر سهل لو ثبت النقل، ولا مشاحة في الاصطلاح،
وإنما المهم بيان ما هو معناه عرفا ولغة، ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة،
وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة، ولا حجة على أنه علي
نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز.
وما ذكر في الترجيح، عند تعارض هذه الأحوال، لو سلم، ولم يعارض بمثله، فلا دليل على الترجيح به، فلا بد مع التعارض من الرجوع إلى الأصل
في مقام العمل، نعم لو علم ظهوره في أحد معانيه، ولو إحتمل أنه كان
للانسباق من الاطلاق، فليحمل عليه، وإن لم يعلم أنه حقيقة فيه
بالخصوص، أو فيما يعمه، كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأول.
الجهة الثانية: الظاهر اعتبار العلو في معنى الامر، فلا يكون الطلب
من السافل أو المساوي أمرا، ولو أطلق عليه كان بنحو من العناية، كما أن
155

الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء، فيكون الطلب من العالي أمرا ولو كان
مستخفضا لجناحه.
وأما احتمال اعتبار أحدهما فضعيف، وتقبيح الطالب السافل من العالي
المستعلي عليه، وتوبيخه بمثل: إنك لم تأمره، إنما هو على استعلائه، لا على
أمره حقيقة بعد استعلائه، وإنما يكون إطلاق الامر على طلبه بحسب ما هو
قضية استعلائه، وكيف كان، ففي صحة سلب الامر عن طلب السافل، ولو
كان مستعليا كفاية.
الجهة الثالثة: لا يبعد كون لفظ الامر حقيقة في الوجوب،
لانسباقه عنه عند إطلاقه، ويؤيد قوله تعالى * (فليحذر الذين يخالفون عن
156

أمره) * وقوله صلى الله عليه وآله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم
بالسواك) وقوله صلى الله عليه وآله - لبريرة بعد قولها: أتأمرني يا رسول الله؟ -:
(لا، بل إنما أنا شافع) إلى غير ذلك، وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته
بمجرد مخالفة أمره، وتوبيخه على مجرد مخالفته، كما في قوله تعالى * (ما منعك ألا
تسجد إذ أمرتك) *.
وتقسيمه إلى الايجاب والاستحباب، إنما يكون قرينة على إرادة المعنى
الأعم منه في مقام تقسيمه، وصحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو
الحقيقة، كما لا يخفى، وأما ما أفيد من أن الاستعمال فيهما ثابت، فلو لم
يكن موضوعا للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز، فهو غير مفيد، لما
مرت الإشارة إليه في الجهة الأولى، وفي تعارض الأحوال، فراجع.
والاستدلال بأن فعل المندوب طاعة، وكل طاعة فهو فعل المأمور به، فيه
ما لا يخفى من منع الكبرى، لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي، وإلا لا
يفيد المدعى.
157

الجهة الرابعة: الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى
الامر، ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي،
بل الطلب الانشائي الذي لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا، بل
طلبا إنشائيا، سواء أنشئ بصيغة إفعل، أو بمادة الطلب، أو بمادة
الامر، أو بغيرها، ولو أبيت إلا عن كونه موضوعا للطلب فلا أقل من كونه
منصرفا إلى الانشائي منه عند إطلاقه كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا، وذلك
لكثرة الاستعمال في طلب الانشائي، كما أن الامر في لفظ الإرادة على عكس
لفظ الطلب، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقية واختلافهما
في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة، من المغايرة
بين الطلب والإرادة، خلافا لقاطبة أهل الحق والمعتزلة، من اتحادهما، فلا
بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام، وإن حققناه في بعض
فوائدنا إلا أن الحوالة لما لم تكن عن المحذور خالية، والإعادة بلا فائدة ولا
إفادة، كان المناسب هو التعرض ها هنا أيضا.
158

فاعلم، أن الحق كما عليه أهله - وفاقا للمعتزلة وخلافا للأشاعرة - هو
اتحاد الطلب الإرادة، بمعنى أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء
أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة
الانشائية، وبالجملة هما متحدان مفهوما وإنشاء وخارجا، لا أن الطلب
الانشائي الذي هو المنصرف إليه طلاقه - كما عرفت - متحد مع الإرادة
الحقيقية التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا، ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر من
الشمس وأبين من الأمس. فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد، ففي
مراجعة الوجدان عند طلب شئ والامر به حقيقة كفاية، فلا يحتاج إلى مزيد
بيان إقامة برهان، فإن الانسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى
قائمة بها، يكون هو الطلب غيرها، سوى ما هو مقدمة تحققها، عند خطور
الشئ والميل وهيجان الرغبة إليه، والتصديق لفائدته، وهو الجزم بدفع ما
يوجب توقفه عن طلبه لاجلها.
159

وبالجملة: لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة والإرادة هناك صفة أخرى
قائمة بها يكون هو الطلب، فلا محيص عن اتحاد الإرادة والطلب، وأن
يكون ذلك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة،
أو المستتبع لامر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك، مسمى بالطلب والإرادة كما
يعبر به تارة وبها أخرى، كما لا يخفى. وكذا الحال في سائر الصيغ الانشائية،
والجمل الخبرية، فإنه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس، من
الترجي والتمني والعلم إلى غير ذلك، صفة أخرى كانت قائمة بالنفس، وقد
ذل اللفظ عليها، كما قيل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما * جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وقد انقدح بما حققناه، ما في الاستدلال الأشاعرة على المغايرة بالأمر مع
عدم الإرادة، كما في صورتي الاختبار والاعتذار من الخلل، فإنه كما لا إرادة
حقيقة في الصورتين، لا طلب كذلك فيهما، والذي يكون فيهما إنما هو الطلب
الانشائي والايقاعي، الذي هو مدلول الصيغة أو المادة، ولم يكن بينا ولا مبينا
في الاستدلال مغايرته مع الإرادة الانشائية.
160

وبالجملة: الذي يتكفله الدليل، ليس إلا الانفكاك بين الإرادة
الحقيقية، والطلب المنشأ بالصيغة الكاشف عن مغايرتهما. وهو مما لا محيص عن
الالتزام به، كما عرفت، ولكنه لا يضر بدعوى الاتحاد أصلا، لمكان هذه
المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والانشائي، كما لا يخفى.
ثم إنه يمكن - مما حققناه - أن يقع الصلح بين الطرفين، ولم يكن نزاع في
البين، بأن يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوما ووجودا
حقيقيا وانشائيا، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينية هو اثنينية الانشائي من
الطلب، كما هو كثيرا ما يراد من إطلاق لفظه، والحقيقي من الإرادة، كما هو
المراد غالبا منها حين إطلاقها، فيرجع النزاع لفظيا، فافهم.
161

دفع وهم: لا يخفى أنه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة، من نفي
غير الصفات المشهورة، وأنه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيا
مدلولا للكلام اللفظي، كما يقال به الأشاعرة، إن هذه الصفات المشهورة
مدلولات للكلام.
إن قلت: فماذا يكون مدلولا عليه عند الأصحاب والمعتزلة؟.
قلت: أما الجمل الخبرية، فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها،
أو نفيها في نفس الامر من ذهن أو خارج، كالانسان نوع أو كاتب.
162

وأما الصيغ الانشائية، فهي - على ما حققناه في بعض فوائدنا - موجدة
لمعانيها في نفس الامر، أي قصد ثبوت معانيها وتحققها بها، وهذا نحو من
الوجود، وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه شرعا وعرفا آثار،
كما هو الحال في صيغ العقود والايقاعات.
نعم لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني
- بالدلالة الالتزامية - على ثبوت هذه الصفات حقيقة، إما الاجل وضعها
لإيقاعها، فيما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات، أو انصراف إطلاقها
إلى هذه الصورة، فلو لم تكن هناك قرينة، كان إنشاء الطلب أو الاستفهام
أو غير هما بصيغتها، لاجل كون الطلب والاستفهام وغيرهما قائمة بالنفس،
وضعا أو إطلاقا.
163

إشكال ودفع: أما الاشكال، فهو إنه يلزم بناء على اتحاد الطلب
والإرادة، في تكليف الكفار بالايمان، بل مطلق أهل العصيان في العمل
بالأركان، إما أن لا يكون هناك تكليف جدي، إن لم يكن هناك
إرادة، حيث أنه لا يكون حينئذ طلب حقيقي، واعتباره في الطلب الجدي ربما

(1) سورة يس: 82.
164

يكون من البديهي، وإن كان هناك إرادة، فكيف تتخلف عن المراد؟ ولا تكاد
تتخلف، إذا أراد الله شيئا يقول له: كن فيكون.
وأما الدفع، فهو إن استحاله التخلف إنما تكون في الإرادة التكوينية
وهي العلم بالنظام على النحو الكامل التام، دون الإرادة التشريعية،
165

وهي العلم بالمصلحة في فعل المكلف. وما لا محيص عنه في التكليف إنما هو
هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية، فإذا توافقتا فلا بد من الإطاعة والايمان،
وإذا تخالفتا، فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان.
166

إن قلت: إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والايمان، بإرادته تعالى التي
لا تكاد تتخلف عن المراد، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف، لكونها خارجة
عن الاختبار المعتبر فيه عقلا.
167

قلت: إنما يخرج بذلك عن الاختيار، لو لم يكن تعلق الإرادة بها مسبوقة
بمقدماتها الاختيارية، وإلا فلا بد من صدورها بالاختيار، وإلا لزم تخلف
إرادته عن مراده، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
168

إن قلت: إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين
بإرادتهما، إلا أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار، كيف؟ وقد سبقهما الإرادة
الأزلية والمشية الإلهية، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالآخرة بلا
اختيار؟.
قلت: العقاب إنما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن
مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما، فإن (السعيد
سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه والناس معادن كمعادن
169

الذهب والفضة، كما في الخبر، والذاتي لا يعلل، فانقطع سؤال: إنه لم
جعل السعيد سعيدا والشقي شقيا؟ فإن السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي
كذلك، وإنما أوجدهما الله تعالى قلم اينجا رسيد سر بشكست، قد
إنتهى الكلام في المقام إلى ما ربما يسعه كثير من الافهام، ومن الله الرشد
والهداية وبه الاعتصام.
157.

(1) سورة الانسان: 2.
(2) أصول الكافي باب طينة المؤمن والكافر ج 2 ص 5 ح 7.
(3) كما صرح بهذا المعنى الامام السابع على ما روى الصدوق قدس سره في " التوحيد " بإسناده عن
ابن أبي عمير قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام عن معنى قول رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: " الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في أمه "
فقال: الشقي من علم الله وهو في بطن أمة انه سيعمل اعمال الأشقياء، والسعيد من علم الله
وهو في بطن أمه انه سيعمل اعمال السعداء، قلت له: فما قوله صلى الله عليه وآله:
" اعملوا فكل ميسر لما خلق له "؟ فقال: ان الله عز وجل خلق الجن والإنس ليعبدوه، ولم يخلقهم
ليعصوه، وذلك قوله عز وجل: * (وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون) * فيسر كلا لما خلق
له: فالويل لم استحب العمى على الهدى - " التوحيد " ص 366 بحار الأنوار ج 5 ص
170

وهم ودفع: لعلك تقول: إذا كانت الإرادة التشريعية منه تعالى عين
علمه بصلاح الفعل، لزم - بناء على أن تكون عين الطلب - كون المنشأ بالصيغة
في الخطابات الإلهية هو العلم، وهو بمكان من البطلان.
لكنك غفلت عن أن اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح، إنما يكون خارجا
لا مفهوما، وقد عرفت أن المنشأ ليس إلا المفهوم، لا الطلب الخارجي،
ولا غرو أصلا في اتحاد الإرادة والعلم عينا وخارجا، بل لا محيص عنه في جميع
صفاته تعالى، لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة، قال أمير المؤمنين صلوات الله
وسلامه عليه (2): (وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي
الصفات عنه).
171

الفصل الثاني
فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه مباحث:
الأول: إنه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها، وقد عد منها:
الترجي، والتمني، والتهديد، والانذار، والإهانة، والاحتقار، والتعجيز،
والتسخير، إلى غير ذلك، وهذا كما ترى، ضرورة أن الصيغة ما استعملت في
واحد منها، بل لم يستعمل إلا في إنشاء الطلب، إلا أن الداعي إلى ذلك، كما
يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي، يكون أخرى أحد هذه
الأمور، كما لا يخفى.
172

قصارى ما يمكن أن يدعى، أن تكون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب،
فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك، لا بداع آخر منها، فيكون إنشاء الطلب
بها بعثا حقيقة، وإنشاؤه بها تهديدا مجازا، وهذا غير كونها مستعملة في التهديد
وغيره، فلا تغفل.
إيقاظ: لا يخفى أن ما ذكرناه في صيغة الامر، جار في سائر الصيغ
الانشائية، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام
موضوعة لايجاد الاستفهام، ولا زال تكون مستعملة فيه، وليس عنوان التقرير
173

بصيغها، تارة هو ثبوت هذه الصفات حقيقة، يكون الداعي غيرها أخرى،
فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها، واستعمالها في غيرها، إذا وقعت في
كلامه تعالى، لاستحالة مثل هذه المعاني في حقه تبارك وتعالى، مما لازمه العجز
أو الجهل، وأنه لا وجه له، فإن المستحيل إنما هو الحقيقي منها لا الانشائي
الايقاعي، الذي يكون بمجرد قصد حصوله بالصيغة، كما عرفت، ففي كلامه تعالى
قد استعملت في معانيها الايقاعية الانشائية أيضا، لا لاظهار ثبوتها حقيقة، بل
لامر آخر حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبة أو الانكار أو التقرير إلى غير
ذلك، ومنه ظهر أن ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي
أيضا.
174

المبحث الثاني: في أن الصيغة حقيقة في الوجوب، أو في الندب،
أو فيهما، أو في المشترك بينهما، وجوه بل أقوال، لا يبعد تبادر الوجوب عند
استعمالها بلا قرينة، ويؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة
الندب، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو مقال، وكثرة الاستعمال فيه
في الكتاب والسنة وغيرهما لا يوجب نقله إليه أو حمله عليه، لكثرة
استعماله في الوجوب أيضا، مع أن استعمال وإن كثر فيه، إلا أنه كان مع
175

القرينة المصحوبة، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا يوجب
صيرورته مشهورا فيه، ليرجع أو يتوقف، على الخلاف في المجاز
المشهور، كيف؟ وقد كثر استعمال العام في الخاص، حتى قيل: (ما من
عام إلا وقد خص) ولم ينثلم به ظهوره في العموم، بل يحمل عليه ما لم تقم
قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص.
176

المبحث الثالث: هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب
والبعث - مثل: يغتسل، ويتوضأ، ويعيد - ظاهرة في الوجوب أو لا؟ لتعدد
المجازات فيها، وليس الوجوب بأقواها، بعد تعذر حملها على معناها من
الاخبار، بثبوت النسبة والحكاية عن وقوعها.
177

الظاهر الأول، بل تكون أظهر من الصيغة، ولكنه لا يخفى أنه ليست
الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام - أي الطلب - مستعملة في غير
معناها، بل تكون مستعملة فيه، إلا أنه ليس بداعي الاعلام، بل بداعي
البعث بنحو آكد، حيث أنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه، إظهارا بأنه
178

لا يرضى إلا بوقوعه، فيكون آكد في البعث من الصيغة، كما هو الحال في
الصيغ الانشائية، على ما عرفت من أنها أبدا تستعمل في معانيها الايقاعية
لكن بدواعي أخر، كما مر.
لا يقال: كيف؟ ويلزم الكذب كثيرا، لكثرة عدم وقوع المطلوب
كذلك في الخارج، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علوا كبيرا.
فإنه يقال: إنما يلزم الكذب، إذا أتى بها بداعي الاخبار، والاعلام،
لا لداعي البعث، كيف؟ وإلا يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل (زيد
179

كثير الرماد) أو (مهزول الفصيل) لا يكون كذبا، إذا قيل كناية عن وجوده،
ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلا، وإنما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد،
فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ، فإنه مقال بمقتضى الحال. هذا
مع أنه إذا أتى بها في مقام البيان، فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها على
الوجوب، فإن تلك النكتة إن لم تكن موجبة لظهورها فيه، فلا أقل من كونها
موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده، فإن شدة مناسبة الاخبار
بالوقوع مع الوجوب، موجبة لتعين إرادته إذا كان بصدد البيان، مع عدم
نصب قرينة خاصة على غيره، فافهم.
180

المبحث الرابع: إنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في
الوجوب، هل لا تكون ظاهرة فيه أيضا أو تكون؟ قيل بظهورها فيه، إما
لغلبة الاستعمال فيه، أو لغلبة وجوده أو أكمليته، والكل كما ترى، ضرورة
أن الاستعمال في الندب وكذا وجوده، ليس بأقل لو لم يكن بأكثر. وأما
181

الأكملية فغير موجبة للظهور، إذ الظهور لا يكاد يكون إلا لشدة أنس اللفظ
بالمعنى، بحيث يصير وجها له، ومجرد الأكملية لا يوجبه، كما لا يخفى،
نعم فيما كان الامر بصدد البيان، فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على
182

الوجوب، فإن الندب كأنه يحتاج إلى مؤونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع
من الترك، بخلاف الوجوب، فإنه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد، فإطلاق
اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان، كاف في بيانه، فافهم.
المبحث الخامس: إن إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب
توصليا، فيجزي إتيانه مطلقا، ولو بدون قصد القربة، أو لا؟ فلا بد من
الرجوع فيما شك في تعبديته وتوصليته إلى الأصل.
183

لا بد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات:
إحداها: الوجوب التوصلي، هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد
حصول الواجب، ويسقط بمجرد وجوده، بخلاف التعبدي، فإن الغرض منه
لا يكاد يحصل بذلك، بل لا بد - في سقوطه وحصول غرضه - من الاتيان به
متقربا به منه تعالى.
ثانيتها: إن التقرب المعتبر في التعبدي، إن كان بمعنى قصد الامتثال
والاتيان بالواجب بداعي أمره، كان مما يعتبر في الطاعة عقلا، لا مما أخذ
في نفس العبادة شرعا، وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلا من قبل الامر
بشئ في متعلق ذاك الامر مطلقا شرطا أو شطرا، فما لم تكن نفس الصلاة
متعلقة للامر، لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها.
184

وتوهم إمكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر، وإمكان الاتيان
بها بهذا الداعي، ضرورة إمكان تصور الامر بها مقيدة، والتمكن من إتيانها
كذلك، بعد تعلق الامر بها، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة
الامر إنما هو في حال الامتثال لا حال الامر، واضح الفساد، ضرورة أنه وإن
185

كان تصورها كذلك بمكان من الامكان، إلا أنه لا يكاد يمكن الاتيان بها
بداعي أمرها، لعدم الامر بها، فإن الامر حسب الفرض تعلق بها مقيدة
بداعي الامر، ولا يكاد يدعو الامر إلا إلى ما تعلق به، لا إلى غيره.
186

إن قلت: نعم، ولكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورة بها بالأمر بها
مقيدة.
188

قلت: كلا، لان ذات المقيد لا يكون مأمورا بها، فإن الجزء التحليلي
العقلي لا يتصف بالوجوب أصلا، فإنه ليس إلا وجود واحد واجب بالوجوب
النفسي، كما ربما يأتي في باب المقدمة.
إن قلت: نعم، لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطا، وأما إذا أخذ
شطرا، فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد، يكون
متعلقا للوجوب، إذ المركب ليس إلا نفس الاجزاء بالاسر، ويكون تعلقه
بكل بعين تعلقه بالكل، ويصح أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب، ضرورة
صحة الاتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه.
189

قلت: مع امتناع اعتباره كذلك، فإنه يوجب تعلق الوجوب بأمر غير
اختياري، فإن الفعل وإن كان بالإرادة اختياريا، إلا أن إرادته - حيث
لا تكون بإرادة أخرى، وإلا لتسلسلت - ليست باختيارية، كما لا يخفى. إنما
يصح الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي،
ولا يكاد يمكن الاتيان بالمركب عن قصد الامتثال، بداعي امتثال أمره.
190

إن قلت: نعم، لكن هذا كله إذا كان اعتباره في المأمور به بأمر
واحد، وأما إذا كان بأمرين: تعلق أحدهما بذات الفعل، وثانيهما بإتيانه
بداعي أمره، فلا محذور أصلا، كما لا يخفى. فللآمر أن يتوسل بذلك في
الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده، بلا منعة.
قلت: - مضافا إلى بأنه ليس في العبادات إلا أمر واحد، كغيرها
من الواجبات والمستحبات، غاية الامر يدور مدار الامتثال وجودا وعدما فيها
191

المثوبات والعقوبات، بخلاف ما عداها، فيدور فيه خصوص المثوبات،
وأما العقوبة فمترتبة على ترك الطاعة ومطلق الموافقة - أن الامر الأول إن كان
يسقط بمجرد موافقته، ولو لم يقصد به الامتثال، كما هو قضية الامر الثاني،
فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأول بدون قصد امتثاله، فلا يتوسل
الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة، وإن لم يكد يسقط بذلك، فلا يكاد
192

يكون له وجه، إلا عدم حصول غرضه بذلك من أمره، لاستحالة سقوطه مع
عدم حصوله، وإلا لما كان موجبا لحدوثه، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى
غرضه إلى وسيلة تعدد الامر، لاستقلال العقل، مع عدم حصول غرض الآمر
بمجرد موافقة الامر بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه، فيسقط
أمره.
193

هذا كله إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال.
وأما إذا كان بمعنى الاتيان بالفعل بداعي حسنه، أو كون ذا مصلحة
أو له تعالى، فاعتباره في متعلق الامر وإن كان بمكان من الامكان، إلا
أنه غير معتبر فيه قطعا، لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال، الذي عرفت
عدم إمكان أخذه فيه بديهة.
تأمل فيما ذكرناه في المقام، تعرف حقيقة المرام، كيلا تقع فيما وقع
196

فيه من الاشتباه بعض الاعلام.
ثالثتها: إنه إذا عرفت بما لا مزيد عليه، عدم إمكان أخذ قصد
الامتثال في المأمور به أصلا، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه - ولو كان مسوقا
في مقام البيان - على عدم اعتباره، كما هو أوضح من أن يخفى، فلا يكاد
يصح التمسك به إلا فيما يمكن اعتباره فيه.
فانقدح بذلك أنه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة
197

بمادتها، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه مما هو ناشئ من قبل الآمر،
من إطلاق المادة في العبادة لو شك في اعتباره فيها، نعم إذا كان الامر في
مقام بصدد بيان تمام ماله دخل في حصول غرضه، وإن لم يكن له دخل في
متعلق أمره، ومعه سكت في المقام، ولم ينصب دلالة على دخل قصد
الامتثال في حصوله، كان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه، وإلا لكان
198

سكوته نقضا له وخلاف الحكمة، فلا بد عند الشك وعدم إحراز هذا
المقام، من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل ويستقل به العقل.
فاعلم: أنه لا مجال - ها هنا - إلا لأصالة الاشتغال، ولو قيل بأصالة
البراءة فيما إذا دار الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وذلك لان الشك ها
هنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، مع استقلال العقل بلزوم
199

الخروج عنها، فلا يكون العقاب - مع الشك وعدم إحراز الخروج - عقابا بلا
بيان، والمؤاخذة عليه بلا برهان، ضرورة أنه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة
على المخالفة، وعدم الخروج عن العهدة، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد
الموافقة بلا قصد القربة، وهكذا الحال في كل ما شك دخله في الطاعة،
والخروج به عن العهدة، مما لا يمكن اعتباره في المأمور به كالوجه والتمييز.
نعم: يمكن أن يقال: إن كل ما ربما يحتمل بدوا دخله في الامتثال،
200

أمرا كان مما يغفل عنه غالبا العامة، كان على الآمر بيانه، ونصب قرينة
على دخله واقعا، وإلا لأخل بما هو همه وغرضه، أما إذا لم ينصب دلالة
على دخله، كشف عن عدم دخله، وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه
والتمييز في الطاعة بالعبادة، حيث ليس منهما عين ولا أثر في الاخبار والآثار،
وكانا مما يغفل عنه العامة، وإن احتمل اعتباره بعض الخاصة، فتدبر جيدا.
201

ثم إنه لا أظنك أن تتوهم وتقول: إن أدلة البراءة الشرعية مقتضية لعدم
الاعتبار، وإن كان قضية الاشتغال عقلا هو الاعتبار، لوضوح أنه لا بد في
عمومها من شئ قابل للرفع والوضع شرعا، وليس ها هنا، فإن دخل قصد
القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي، بل واقعي. ودخل الجزء والشرط
فيه وإن كان كذلك، إلا أنهما قابلان للوضع والرفع شرعا، فبدليل الرفع
- ولو كان أصلا - يكشف أنه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك،
يجب الخروج عن عهدته عقلا، بخلاف المقام، فإنه علم بثبوت الامر
الفعلي، كما عرفت، فافهم.
202

المبحث السادس: قضية إطلاق الصيغة، كون الوجوب نفسيا تعينيا
عينيا، لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب وتضيق دائرته،
فإذا كان في مقام البيان، ولم ينصب قرينة عليه، فالحكمة تقتضي كون
203

مطلقا، وجب هناك شئ آخر أو لا، أتى بشئ آخر أو لا، أتى به آخر
أو لا، كما هو واضح لا يخفى.
204

المبحث السابع: إنه اختلف القائلون بظهور صيغة الامر في الوجوب
وضعا أو إطلاقا فيما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهمه على أقوال:
نسب إلى المشهور ظهورها في الإباحة. وإلى بعض العامة ظهورها في
الوجوب، وإلى بعض تبعيته لما قبل النهي، إن علق الامر بزوال علة
النهي، إلى غير ذلك.

(1 و 2) سورة الجمعة: 10.
205

والتحقيق: إنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال، فإنه قل مورد منها
يكون خاليا عن قرينة على الوجوب، أو الإباحة، أو التبعية، ومع فرض
التجريد عنها، لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما
تكون ظاهرة فيه.
غاية الامر يكون موجبا لاجمالها، غير ظاهرة في واحد منها إلا بقرينة
أخرى، كما أشرنا.
المبحث الثامن: الحق أن صيغة الامر مطلقا، لا دلالة لها
على المرة ولا التكرار، فإن المنصرف عنها، ليس إلا طلب إيجاد الطبيعة
المأمور بها، فلا دلالة لها على أحدهما، لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتقاء
بالمرة، فإنما هو لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة، كما لا يخفى.
206

ثم لا يذهب عليك: أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام
والتنوين، لا يدل إلا على الماهية - على ما حكاه السكاكي - لا يوجب
كون النزاع هاهنا في الهيئة - كما في الفصول - فإنه غفلة وذهول عن كون
المصدر كذلك، لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على
الماهية، ضرورة أن المصدر ليست مادة لسائر المشتقات، بل هو صيغة
مثلها، كيف؟ وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات
بحسب المعنى، فكيف بمعناه يكون مادة لها؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار
المرة أو التكرار في مادتها، كما لا يخفى.
إن قلت: فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام.
قلت: مع أنه محل الخلاف، معناه أن الذي وضع أولا بالوضع
الشخصي، ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا سائر الصيغ التي تناسبه،
مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه، بصورة ومعنى كذلك،
هو المصدر أو الفعل، فافهم.
207

ثم المراد بالمرة والتكرار، هل هو الدفعة والدفعات؟ أو الفرد
والافراد؟
والتحقيق: أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع، وإن كان لفظهما ظاهرا
في المعنى الأول، وتوهم أنه لو أريد بالمرة الفرد، لكان الأنسب، بل
اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي، من أن الامر هل يتعلق
بالطبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك، وعلى تقدير تعلقه بالفرد، هل يقتضي
التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد؟ أو لا يقتضي شيئا منهما؟ ولم يحتج إلى
إفراد كل منهما بالبحث كما فعلوه، وأما لو أريد بها الدفعة، فلا علقة بين
المسألتين، كما لا يخفى، فاسد، لعدم العقلة بينهما لو أريد بها الفرد
أيضا، فإن الطلب على القول بالطبيعة إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في
الخارج، ضرورة أن الطبيعة من حيث هي ليست إلا هي، لا مطلوبة ولا غير
مطلوبة، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين، فيصح
النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها.
208

أما بالمعنى الأول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من
الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لان وجود الطبيعة
في الخارج هو الفرد، غاية الامر خصوصيته وتشخصه على القول بتعلق الامر
بالطبائع يلازم المطلوب وخارج عنه، بخلاف القول بتعلقه بالافراد، فإنه مما
يقومه.
تنبيه: لا إشكال بناء على القول بالمرة في الامتثال، وأنه لا مجال
للاتيان بالمأمور به ثانيا، على أن يكون أيضا به الامتثال، فإنه من الامتثال
بعد الامتثال. وأما على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة
على المرة ولا على التكرار، فلا يخلو الحال: إما أن لا يكون هناك إطلاق
209

الصيغة في مقام البيان، بل في مقام الاهمال أو الاجمال، فالمرجع هو
الأصل. وإما أن يكون إطلاقها في ذلك المقام، فلا إشكال في الاكتفاء
بالمرة في الامتثال، وإنما الاشكال في جواز أن لا يقتصر عليها، فإن لازم
إطلاق الطبيعة المأمور بها، هو الاتيان بها مرة أو مرارا لا، لزوم الاقتصار على
المرة، كما لا يخفى.
والتحقيق: إن قضية الاطلاق إنما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن
فرد أو أفرد، فيكون إيجادها في ضمنها نحوا من الامتثال، كإيجادها في
ضمن الواحد، لا جواز الاتيان بها مرة ومرات، فإنه مع الاتيان بها مرة
210

لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر، فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة
لحصول الغرض الأقصى، بحيث يحصل بمجرده، فلا يبقى معه مجال
لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر، أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا،
لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها، وسقوط الغرض معها، وسقوط الامر
بسقوطه، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة
لحصول الغرض، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتي به، ولم يشرب
أو لم يتوضأ فعلا، فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد أحسن منه، بل
مطلقا، كما كان له ذلك قبله، على ما يأتي بيانه في الاجزاء.
المبحث التاسع: الحق أنه لا دلالة للصيغة، لا على الفور ولا على
التراخي، نعم قضية إطلاقها جواز التراخي، والدليل عليه تبادر طلب إيجاد
211

الطبيعة منها، بلا دلالة على تقييدها بأحدهما، فلا بد في التقييد من دلالة
أخرى، كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية.
وفيه منع، ضرورة أن سياق آية * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) *
وكذا آية * (فاستبقوا الخيرات) * إنما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة
والاستباق إلى الخير، من دون استتباع تركهما للغضب والشر، ضرورة أن
تركهما لو مستتبعا للغضب والشر، كان البعث بالتحذير عنهما أنسب،
كما لا يخفى، فافهم.
مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات، وكثير من الواجبات بل
أكثرها، فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق
الطلب، ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق، وكان ما
ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه إرشادا إلى ذلك، كالآيات
والروايات الواردة في الحث على أصل الإطاعة، فيكون الامر فيها لما يترتب
على المادة بنفسها، ولو لم يكن هناك أمر بها، كما هو الشأن في الأوامر
الارشادية، فافهم.
تتمة: بناء على القول بالفور، فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا
بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا أيضا، في الزمان الثاني، أو لا؟
وجهان: مبنيان على أن مفاد الصيغة على هذا القول، هو وحدة المطلوب أو
212

تعدده، ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية، لما كان لها دلالة على نحو
المطلوب من وحدته أو تعدده، فتدبر جيدا.
الفصل الثالث
الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء في الجملة بلا شبهة،
وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام، ينبغي تقديم
أمور:
أحدها: الظاهر أن المراد من (وجهه) - في العنوان - هو النهج
الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا وعقلا، مثل أن يؤتى به بقصد
التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا، فإنه
عليه يكون (على وجهه) قيدا توضيحيا، وهو بعيد، مع أنه يلزم خروج
التعبديات عن حريم النزاع، بناء على المختار، كما تقدم من أن قصد القربة
من كيفيات الإطاعة عقلا، لا من قيود المأمور به شرعا، ولا الوجه المعتبر
213

عند بعض الأصحاب، فإنه - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره
عند من اعتبره، إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات - لا وجه
لاختصاصه بالذكر، على تقدير الاعتبار، فلا بد من إرادة ما يندرج فيه من
المعنى، وهو ما ذكرناه، كما لا يخفى.
ثانيها: الظاهر أن المراد من الاقتضاء - ها هنا - الاقتضاء بنحو العلية
والتأثير، لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة.
إن قلت: هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره، وأما بالنسبة إلى أمر
آخر، كالاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الامر
الواقعي، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره، بنحو يفيد الا جزا،
أو بنحو آخر لا يفيده.
قلت: نعم، لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما، كان في الاقتضاء بالمعنى
المتقدم، غايته أن العمدة في سبب الاختلاف فيهما، إنما هو الخلاف في دلالة
دليلهما، هل أنه على نحو يستقل العقل بأن الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر
فيه، وعدم دلالته؟ ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا، بخلافه في الاجزاء
بالإضافة إلى أمره، فإنه لا يكون إلا كبرويا، لو كان هناك نزاع، كما نقل عن
بعض. فافهم.
214

ثالثها: الظاهر أن الاجزاء - ها هنا - بمعناه لغة، وهو الكفاية، وإن
كان يختلف ما يكفي عنه، فإن الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي يكفي،
فيسقط به التعبد به ثانيا، وبالامر الاضطراري أو الظاهري الجعلي، فيسقط به القضاء،
لا أنه يكون - هاهنا - اصطلاحا، بمعنى اسقاط التبعد أو القضاء، فإنه بعيد جدا.
رابعها: الفرق بين هذه المسألة، ومسألة المرة والتكرار، لا يكاد
يخفى، فإن البحث - هاهنا - في أن الاتيان بما هو المأمور به يجزي عقلا،
بخلافه في تلك المسألة، فإنه في تعيين ما هو الأمور به شرعا بحسب دلالة
الصيغة بنفسها، أو بدلالة أخرى.
نعم كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، وهكذا
الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للأداء، فإن البحث في تلك المسألة في
دلالة الصيغة على التبعية وعدمها، بخلاف هذه المسألة، فإنه - كما عرفت - في
215

أن الاتيان بالمأمور به يجزي عقلا عن إتيانه ثانيا أداء أو قضاء، أو لا يجزي،
فلا علقة بين المسألة والمسألتين أصلا.
إذا عرفت هذه الأمور، فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في
موضعين:
الأول: إن الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي - بل بالأمر الاضطراري
أو الظاهري أيضا - يجزي عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بأنه لا مجال مع
موافقة الامر بإتيان المأمور به على وجهه، لاقتضائه التعبد به ثانيا.
نعم لا يبعد أن يقال: بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا،
بدلا عن التعبد به أولا، لا منضما إليه، كما أشرنا إليه في المسألة السابقة،
وذلك فيما علم أن مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض، وإن كان
وافيا به لو اكتفى، كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه، فلم يشربه بعد،
فإن الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد، ولذا لو أهريق الماء واطلع عليه
216

العبد، وجب عليه إتيانه ثانيا، كما إذا لم يأت به أولا، ضرورة بقاء طلبه
ما لم يحصل غرضه الداعي إليه، وإلا لما أوجب حدوثه، فحينئذ يكون له
الاتيان بماء آخر موافق للامر، كما كان له قبل إتيانه الأول بدلا عنه.
نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض، فلا يبقى موقع
للتبديل، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه، بل لو لم يعلم أنه
من أي القبيل، فله التبديل باحتمال أن لا يكون علة، فله إليه سبيل، ويؤيد
ذلك - بل يدل عليه - ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى فرادى
جماعة، وأن الله تعالى يختار أحبهما إليه.
الموضع الثاني: وفيه مقامان:
المقام الأول: في أن الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري، هل يجزي
عن الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ثانيا، بعد رفع الاضطرار في الوقت
217

إعادة، وفي خارجة قضاء، أو لا يجري؟.
تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه تارة في بيان ما يمكن أن يقع عليه
الامر الاضطراري من الانحاء، وبيان ما هو قضية كل منهما من الاجزاء وعدمه، وأخرى في تعيين ما وقع عليه.
فاعلم أنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار،
كالتكليف الاختياري في حال الاختيار، وافيا بتمام المصلحة، وكافيا فيما هو
المهم والغرض، ويمكن أن لا يكون وافيا به كذلك، بل يبقى منه شئ أمكن
استيفاؤه أو لا يمكن. وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه، أو يكون بمقدار
يستحب، ولا يخفى أنه إن كان وافيا به يجزي، فلا يبقى مجال أصلا للتدارك،
لا قضاء ولا إعادة، وكذا لو لم يكن وافيا، ولكن لا يمكن تداركه، ولا يكاد
يسوغ له البدار في هذه الصورة إلا لمصلحة كانت فيه، لما فيه من نقض
الغرض، وتفويت مقدار من المصلحة، لولا مراعاة ما هو فيه من الأهم،
فافهم.
لا يقال: عليه، فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار، لا مكان استيفاء
الغرض بالقضاء.
فإنه يقال: هذا كذلك، لولا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأما تسويغ
البدار أو إيجاب الانتظار في الصورة الأولى، فيدور مدار كون العمل - بمجرد
الاضطرار مطلقا، أو بشرط الانتظار، أو مع اليأس عن طرو الاختيار - ذا
مصلحة ووافيا بالغرض.
منها أن يكون مثل الاختياري وافيا بتمام المصلحة والغرض، بحيث لا
يشذ منهما عنه شئ، ولا شبهة في إجزائه.
ومنها أن لا يكون وافيا بتمام المصلحة والغرض بحيث بقي منهما شئ،
218

وإن لم يكن وافيا، وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت، أو مطلقا ولو
بالقضاء خارج الوقت، فإن كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزي، بل
لا بد من إيجاب الإعادة أو القضاء، وإلا فيجزي، ولا مانع عن البدار في
الصورتين، غاية الامر يتخير في الصورة الأولى بين البدار والاتيان بعملين:
العمل الاضطراري في هذا الحال، والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو
الانتظار، والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية يجزي
البدار ويستحب الإعادة بعد طرو الاختيار.
هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء، وأما ما وقع
219

عليه فظاهر إطلاق دليله، مثل قوله تعالى * (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا
طيبا) * وقوله (عليه السلام): (التراب أحد الطهورين) و: (يكفيك عشر
سنين) هو الاجزاء، وعدم وجوب الإعادة أو القضاء، ولا بد في إيجاب
الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص.
وبالجملة: فالمتبع هو الاطلاق لو كان، وإلا فالأصل، وهو يقتضي
البراءة من إيجاب الإعادة، لكونه شكا في أصل التكليف، وكذا عن إيجاب

(1) سورة النساء: 43، المائدة: 6.
(2) التهذيب: 1 / 196 - 197، 200 باب التيمم وأحكامه.
(3) التهذيب 1 / 194، الحديث 35، التيمم وأحكامه، وصفحة 199، الحديث 52.
220

القضاء بطريق أولى، نعم لو دل دليله على أن سببه فوت الواقع، ولو لم يكن
هو فريضة، كان القضاء واجبا عليه، لتحقق سببه، وإن أتى بالفرض لكنه
مجرد الفرض.
221

المقام الثاني: في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري وعدمه.
والتحقيق: إن ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق
متعلقه، وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره، كقاعدة الطهارة أو الحلية،
بل واستصحابهما في وجه قوي، ونحوها بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة
أو الحلية يجزي، فإن دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط، ومبينا لدائرة
الشرط، وأنه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، فانكشاف الخلاف فيه لا
يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل
ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل، وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنه ما هو
الشرط واقعا، كما هو لسان الامارات، فلا يجري، فإن دليل حجيته حيث
222

كان بلسان أنه واجد لما هو شرطه الواقعي، فبارتفاع الجهل ينكشف أنه لم يكن
كذلك، بل كان لشرطه فاقدا.
هذا على ما هو الأظهر الأقوى في الطرق والامارات، من أن حجيتها
ليست بنحو السببية، وأما بناء عليها، وأن العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان
شرطه أو شطره، يصير حقيقة صحيحا كأنه واجد له، مع كونه فاقده،
فيجزي لو كان الفاقد معه - في هذا الحال - كالواجد في كونه وافيا بتمام
الغرض، ولا يجزي لو لم يكن كذلك، ويجب الاتيان بالواجد لاستيفاء الباقي
- إن وجب - وإلا لاستحب.
هذا مع إمكان استيفائه، وإلا فلا مجال لاتيانه، كما عرفت في الامر
الاضطراري.
223

ولا يخفى أن قضية إطلاق دليل الحجية - على هذا - هو الاجتزاء بموافقته
أيضا، هذا فيما إذا أحرز أن الحجية بنحو الكشف والطريقية، أو بنحو
الموضوعية والسببية، وأما إذا شك فيها ولم يحرز أنها على أي الوجهين،
فأصالة عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للإعادة في الوقت،
واستصحاب عدم كون التكليف بالواقع فعليا في الوقت لا يجدي، ولا يثبت
كون ما أتى به مسقطا، إلا على القول بالأصل المثبت، وقد علم اشتغال ذمته
بما يشك في فراغها عنه بذلك المأتي.
وهذا بخلاف ما إذا علم أنه مأمور به واقعا، وشك في أنه يجزي عما هو
المأمور به الواقعي الأولي، كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية، بناء على أن
يكون الحجية على نحو السببية، فقضية الأصل فيها - كما أشرنا إليه - عدم
وجوب الإعادة، للاتيان بما اشتغلت به الذمة يقينا، وأصالة عدم فعلية
التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف.
224

وأما القضاء فلا يجب بناء على أنه فرض جديد، وكان الفوت المعلق عليه
وجوبه لا يثبت بأصالة عدم الاتيان، إلا على القول بالأصل المثبت، وإلا فهو
واجب، كما لا يخفى على المتأمل، فتأمل جيدا.
ثم إن هذا كله فيما يجري في متعلق التكاليف، من الامارات الشرعية
والأصول العملية، وأما ما يجري في إثبات أصل التكيف،
كما إذا قام الطريق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة، فانكشف
بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها، فلا وجه لاجزائها مطلقا، غاية الامر
أن تصير صلاة الجمعة فيها - أيضا - ذات مصلحة لذلك، ولا ينافي هذا بقاء
صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة، كما لا يخفى، إلا أن يقوم دليل
225

بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.
تذنيبان:
الأول: لا ينبغي توهم الاجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ، فإنه
لا يكون موافقة للامر فيها، وبقي الامر بلا موافقة أصلا، وهو أوضح من أن
يخفى، نعم ربما يكون ما قطع بكونه مأمورا به مشتملا على المصلحة في هذا
الحال، أو على مقدار منها، ولو في غير الحال، غير ممكن مع استيفائه استيفاء
الباقي منها، ومعه لا يبقى مجال لامتثال الامر الواقعي، وهكذا الحال في
الطرق، فالاجزاء ليس لاجل اقتضاء امتثال الامر القطعي أو الطريقي
للاجزاء - بل إنما هو لخصوصية اتفاقية في متعلقهما، كما في الاتمام والقصر،
والاخفات والجهر.
226

الثاني: لا يذهب عليك أن الاجزاء في بعض موارد الأصول والطرق
والامارات، على ما عرفت تفصيله، لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه في
تلك الموارد، فإن الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ فيها، فإن الحكم المشترك بين
العالم والجاهل والملتفت والغافل، ليس إلا الحكم الانشائي المدلول عليه
بالخطابات المشتملة على بيان الاحكام للموضوعات بعناوينها الأولية، بحسب ما
يكون فيها من المقتضيات، وهو ثابت في تلك الموارد كسائر موارد الامارات،
وإنما المنفي فيها ليس إلا الحكم الفعلي البعثي، وهو منفي في غير موارد
الإصابة، وإن لم تقل بالاجزاء، فلا فرق بين الاجزاء وعدمه، إلا في سقوط
التكليف بالواقع بموافقة الامر الظاهري، وعدم سقوطه بعد انكشاف عدم
227

الإصابة، وسقوط التكليف بحصول غرضه، أو لعدم إمكان تحصيله غير
التصويب المجمع على بطلانه، وهو خلو الواقعة عن الحكم غير ما أدت إليه
الامارة، كيف؟ وكان الجهل بها - بخصوصيتها أو بحكمها - مأخوذا في
موضوعها، فلا بد من أن يكون الحكم الواقعي بمرتبته محفوظا فيها، كما
لا يخفى.
فصل
في مقدمة الواجب
وقبل الخوض في المقصود، ينبغي رسم أمور:
الأول: الظاهر أن المهم المبحوث عنه في هذه المسألة، البحث عن
الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته، فتكون مسألة أصولية، لا عن
نفس وجوبها، كما هو المتوهم من بعض العناوين، كي تكون فرعية، وذلك
لوضوح أن البحث كذلك لا يناسب الأصولي، والاستطراد لا وجه له، بعد
228

إمكان أن يكون البحث على وجه تكون عن المسائل الأصولية.
ثم الظاهر أيضا أن المسألة عقلية، والكلام في استقلال العقل بالملازمة
وعدمه، لا لفظية كما ربما يظهر من صاحب المعالم، حيث استدل على النفي
بانتفاء الدلالات الثلاث، مضافا إلى أنه ذكرها في مباحث الألفاظ، ضرورة
أنه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته ثبوتا محل
الاشكال، فلا مجال لتحرير النزاع في الاثبات والدلالة عليها بإحدى الدلالات
الثلاث، كما لا يخفى.
229

الامر الثاني: إنه ربما تقسم المقدمة إلى تقسيمات:
منها: تقسيمها إلى داخلية وهي الاجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها،
والخارجية وهي الأمور الخارجة عن ماهيته مما لا يكاد يوجد بدونه.
وربما يشكل في كون الاجزاء مقدمة له وسابقة عليه، بأن المركب ليس
إلا نفس الاجزاء بأسرها.
230

والحل: إن المقدمة هي نفس الاجزاء بالاسر، وذو المقدمة هو الاجزاء
بشرط الاجتماع، فيحصل المغايرة بينهما، وبذلك ظهر أنه لا بد في اعتبار
الجزئية أخذ الشئ بلا شرط، كما لا بد في اعتبار الكلية من اعتبار اشتراط
الاجتماع.
وكون الاجزاء الخارجية كالهيولي والصورة، هي الماهية المأخوذة بشرط لا
ينافي ذلك، فإنه إنما يكون في مقام الفرق بين نفس الاجزاء الخارجية
والتحليلية، من الجنس والفصل، وأن الماهية إذا أخذت بشرط لا تكون هيولى
أو صورة، وإذا أخذت لا بشرط تكون جنسا أو فصلا، لا بالإضافة إلى
المركب، فافهم.
231

ثم لا يخفى أنه ينبغي خروج الاجزاء عن محل النزاع، كما صرح به
بعض وذلك لما عرفت من كون الاجزاء بالاسر عين المأمور به ذاتا، وإنما
كانت المغايرة بينهما اعتبارا، فتكون واجبة بعين وجوبه، ومبعوثا إليها بنفس
الامر الباعث إليه، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر، لامتناع اجتماع
المثلين، ولو قيل بكفاية تعدد الجهة، وجواز اجتماع الأمر والنهي معه، لعدم
تعددها ها هنا، لان الواجب بالوجوب الغيري، لو كان إنما هو نفس
الاجزاء، لا عنوان مقدميتها والتوسل بها إلى المركب المأمور به، ضرورة أن
الواجب بهذا الوجوب ما كان بالحمل الشائع مقدمة، لأنه المتوقف عليه،
لا عنوانها، نعم يكون هذا العنوان علة لترشح الوجوب على المعنون.
فانقدح بذلك فساد توهم اتصاف كل جزء من أجزاء الواجب بالوجوب
232

النفسي والغيري، باعتبارين، فباعتبار كونه في ضمن الكل واجب نفسي،
وباعتبار كونه مما يتوسل به إلى الكل واجب غيري، اللهم إلا أن يريد أن فيه
ملاك الوجوبين، وإن كان واجبا واحد نفسي لسبقه، فتأمل.
هذا كله في المقدمة الداخلية، وأما المقدمة الخارجية، فهي ما كان
خارجا عن المأمور به، وكان له دخل في تحققه، لا يكاد يتحقق بدونه، وقد
ذكر لها أقسام، وأطيل الكلام في تحديدها بالنقض والابرام، إلا أنه غير مهم
في المقام.
233

ومنها: تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية:
فالعقلية هي ما استحيل واقعا وجود ذي المقدمة بدونه.
والشرعية على ما قيل: ما استحيل وجوده بدونه شرعا، ولكنه لا يخفى
رجوع الشرعية إلى العقلية، ضرورة أنه لا يكاد يكون مستحيلا ذلك شرعا،
إلا إذا أخذ فيه شرطا وقيدا، واستحالة المشروط والمقيد بدون شرطه وقيده،
يكون عقليا.
وأما العادية، فإن كانت بمعنى أن يكون التوقف عليها بحسب العادة،
بحيث يمكن تحقق ذيها بدونها، إلا أن العادة جرت على الاتيان به بواسطتها،
فهي وإن كانت غير راجعة إلى العقلية، إلا أنه لا ينبغي توهم دخولها في محل
234

النزاع، وإن كانت بمعنى أن التوقف عليها وإن كان فعلا واقعيا، كنصب
السلم ونحوه للصعود على السطح، إلا أنه لاجل عدم التمكن من الطيران
الممكن عقلا فهي أيضا راجعة إلى العقلية، ضرورة استحالة الصعود بدون مثل
النصب عقلا لغير الطائر فعلا، وإن كان طيرانه ممكنا ذاتا، فافهم.
ومنها: تقسيمها إلى مقدمة الوجود، ومقدمة الصحة، ومقدمة
الوجوب، ومقدمة العلم.
لا يخفى رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود، ولو على القول بكون
الأسامي موضوعة للأعم، ضرورة أن الكلام في مقدمة الواجب، لا في مقدمة
المسمى بأحدها، كما لا يخفى.
235

ولا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع، وبداهة عدم
اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها، وكذلك المقدمة العلمية، وإن
استقل العقل بوجوبها، إلا أنه من باب وجوب الإطاعة إرشادا ليؤمن من
العقوبة على مخالفة الواجب المنجز، لا مولويا من بال الملازمة، وترشح الوجوب
عليها من قبل وجوب ذي المقدمة.
ومنها: تقسيمها إلى المتقدم، والمقارن، والمتأخر، بحسب الوجود
بالإضافة إلى ذي المقدمة، وحيث أنها كانت من أجزاء العلة، ولا بد من
تقدمها بجميع أجزائها على المعلول أشكل الامر في المقدمة المتأخرة، كالأغسال
الليلية المعتبرة في صحة صوم المستحاضة عند بعض، والإجازة في صحة العقد
على الكشف كذلك، بل في الشرط أو المقتضي المتقدم على الشروط زمانا
المتصرم حينه، كالعقد في الوصية والصرف والسلم، بل في كل عقد بالنسبة
236

إلى غالب أجزائه، لتصرمها حين تأثيره، مع ضرورة اعتبار مقارنتها معه
زمانا، ليس إشكال انخرام القاعدة العقلية مختصا بالشرط المتأخر في
الشرعيات - كما اشتهر في الألسنة - بل يعم الشرط والمقتضي المتقدمين المتصرمين
حين الأثر.
والتحقيق في رفع هذا الاشكال أن يقال: إن الموارد التي توهم انخرام
القاعدة فيها، لا يخلو إما يكون المتقدم أو المتأخر شرطا للتكليف، أو الوضع،
أو المأمور به.
237

أما الأول: فكون أحدهما شرطا له، ليس إلا أن للحاظه دخلا في
تكليف الآمر، كالشرط المقارن بعينه، فكما أن اشتراطه بما يقارنه ليس إلا أن لتصوره
دخلا في أمره، بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الامر، كذلك المتقدم أو المتأخر.
وبالجملة: حيث كان الامر من الأفعال الاختيارية، كان من مبادئه بما هو كذلك
تصور الشئ بأطرافه، ليرغب في طلبه والامر به، بحيث لولاه لما رغب فيه ولما أراده
واختاره، فيسمي كل واحد من هذه الأطراف التي لتصورها دخل في حصول الرغبة فيه
وإرادته شرطا، لاجل دخل لحاظه في حصوله، كان مقارنا له أو لم يكن كذلك، متقدما أو
238

متأخرا، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطا، كان فيهما كذلك، فلا إشكال،
وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقا ولو كان مقارنا، فإن دخل شئ في الحكم به وصحة
انتزاعه لدى الحاكم به، ليس إلا ما كان بلحاظه يصح انتزاعه، وبدونه لا يكاد يصح
اختراعه عنده، فيكون دخل كل من المقارن وغيره بتصوره ولحاظه وهو مقارن، فأين
انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن؟ فتأمل تعرف.
وأما الثاني: فكون شئ شرطا للمأمور به ليس إلا ما يحصل لذات
المأمور به بالإضافة إليه وجه وعنوان، به يكون حسنا أو متعلقا للغرض،
بحيث لولاها لما كان كذلك، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف
الوجوه والاعتبارات الناشئة من الإضافات، مما لا شبهة فيه ولا شك يعتريه،
239

والإضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخر أو المتقدم بلا تفاوت أصلا،
كما لا يخفى على المتأمل، فكما تكون إضافة شئ إلى مقارن له موجبا لكونه
معنونا بعنوان، يكون بذلك العنوان حسنا ومتعلقا للغرض، كذلك إضافته إلى
متأخر أو متقدم، بداهة أن الإضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلك أيضا، فلولا
حدوث المتأخر في محله، لما كانت للمتقدم تلك الإضافة الموجبة لحسنه الموجب
لطلبه والامر به، كما هو الحال في المقارن أيضا، ولذلك أطلق عليه الشرط
مثله، بلا انخرام للقاعدة أصلا، لان المتقدم أو المتأخر كالمقارن ليس إلا طرف
240

الإضافة الموجبة للخصوصية الموجبة للحسن، وقد حقق في محله أنه بالوجوه
والاعتبارات، ومن الواضح أنها تكون بالإضافات.
فمنشأ توهم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخر، وقد عرفت أن إطلاقه
عليه فيه، كإطلاقه على المقارن، إنما يكون لاجل كونه طرفا للإضافة الموجبة
للوجه، الذي يكون بذاك الوجه مرغوبا ومطلوبا، كما كان في الحكم لاجل
دخل تصوره فيه، كدخل تصور سائر الأطراف والحدود، التي لولا لحاظها لما
حصل له الرغبة في التكليف، أو لما صح عنده الوضع.
241

وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الاشكال، في بعض
فوائدنا، ولم يسبقني إليه أحد فيما أعلم، فافهم واغتنم.
ولا يخفى أنها بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع، وبناء على الملازمة
يتصف اللاحق بالوجوب كالمقارن والسابق، إذ بدونه لا تكاد تحصل الموافقة،
ويكون سقوط الامر بإتيان المشروط به مراعي بإتيانه، فلولا اغتسالها في الليل
- على القول بالاشتراط - لما صح الصوم في اليوم.
الامر الثالث: في تقسيمات الواجب
منها: تقسيمه إلى المطلق والمشروط، وقد ذكر لكل منهما تعريفات
242

وحدود، تختلف بحسب ما أخذ فيها من القيود، وربما أطيل الكلام بالنقض
والابرام في النقض على الطرد والعكس، مع أنها - كما لا يخفى - تعريفات
لفظية لشرح الاسم، وليست بالحد ولا بالرسم، والظاهر أنه ليس لهم
اصطلاح جديد في لفظ المطلق والمشروط، بل يطلق كل منهما بماله من معناه
العرفي، كما أن الظاهر أن وصفي الاطلاق والاشتراط، وصفان إضافيان لا
حقيقيان، وإلا لم يكد يوجد واجب مطلق، ضرورة اشتراط وجوب كل واجب
ببعض الأمور، لا أقل من الشرائط العامة، كالبلوغ والعقل.
243

فالحري أن يقال: إن الواجب مع كل شئ يلاحظ معه، إن كان وجوبه
غير مشروط به، فهو مطلق بالإضافة إليه، وإلا فمشروط كذلك، وإن كانا
بالقياس إلى شئ آخر كانا بالعكس.
ثم الظاهر أن الواجب المشروط كما أشرنا إليه، أن نفس الوجوب فيه
مشروط بالشرط، بحيث لا وجوب حقيقة، ولا طلب واقعا قبل حصول
الشرط، كما هو ظاهر الخطاب التعليقي، ضرورة أن ظاهر خطاب (إن جاءك
زيد فأكرمه) كون الشرط من قيود الهيئة، وأن طلب الاكرام وإيجابه معلق على
244

المجئ، لا أن الواجب فيه يكون مقيدا به، بحيث يكون الطلب والايجاب في
الخطاب فعليا ومطلقا، وإنما الواجب يكون خاصا ومقيدا، وهو الاكرام على
تقدير المجئ، فيكون الشرط من قيود المادة لا الهيئة، كما نسب ذلك إلى
شيخنا العلامة أعلى الله مقامه، مدعيا لامتناع كون الشرط من قيود الهيئة
واقعا، ولزوم كونه من قيود المادة لبا، مع الاعتراف بأن قضية القواعد العربية
أنه من قيود الهيئة ظاهرا.
245

أما امتناع كونه من قيود الهيئة، فلانه لا إطلاق في الفرد الموجود من
الطلب المتعلق بالفعل المنشأ بالهيئة، حتى يصح القول بتقييده بشرط ونحوه،
فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدل عليه الهيئة، فهو عند التحقيق
راجع إلى نفس المادة.
وأما لزوم كونه من قيود المادة لبا، فلان العاقل إذا توجه إلى شئ والتفت
إليه، فإما أن يتعلق طلبه به، أو لا يتعلق به طلبه أصلا، لا كلام على
الثاني.
246

وعلى الأول: فإما أن يكون ذاك الشئ موردا لطلبه وأمره مطلقا على
اختلاف طوارئه، أو على تقدير خاص، وذلك التقدير، تارة يكون من الأمور
الاختيارية، وأخرى لا يكون كذلك، وما كان من الأمور الاختيارية، قد
يكون مأخوذا فيه على نحو يكون موردا للتكليف، وقد لا يكون كذلك، على
اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه والامر به، من غير فرق في ذلك بين القول
247

بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد، والقول بعدم التبعية، كما لا يخفى، هذا
موافق لما أفاده بعض الأفاضل المقرر لبحثه بأدنى تفاوت، ولا يخفى ما فيه.
أما حديث عدم الاطلاق في مفاد الهيئة، فقد حققناه سابقا، إن كل
واحد من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف يكون عاما كوضعها، وإنما
الخصوصية من قبل الاستعمال كالأسماء، وإنما الفرق بينهما أنها وضعت
248

لتستعمل وقصد بها المعنى بما هو هو، والحروف وضعت لتستعمل وقصد بها
معانيها بما هي آلة وحالة لمعاني المتعلقات، فلحاظ الآلية كلحاظ الاستقلالية
ليس من طوارئ المعنى، بل من مشخصات الاستعمال، كما لا يخفى على
أولي الدراية والنهى.
فالطلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق، قابل لان يقيد، مع أنه لو
سلم أنه فرد، فإنما يمنع عن التقيد لو أنشئ أولا غير مقيد، لا ما إذا أنشئ
من الأول مقيدا، غاية الامر قد دل عليه بدالين، وهو غير إنشائه أولا ثم
تقييده ثانيا، فافهم.
249

فإن قلت: على ذلك، يلزم تفكيك الانشاء من المنشأ، حيث لا طلب
قبل حصول الشرط.
قلت: المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله، فلا بد أن لا يكون
قبل حصوله طلب وبعث، وإلا لتخلف عن إنشائه، وإنشاء أمر على تقدير
كالاخبار به بمكان من الامكان، كما يشهد به الوجدان، فتأمل جيدا.
وأما حديث لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبا ففيه: إن الشئ إذا توجه
إليه، وكان موافقا للغرض بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها، كما يمكن أن
يبعث فعلا إليه ويطلبه حالا، لعدم مانع عن طلبه كذلك، يمكن أن يبعث إليه
معلقا، ويطلبه استقبالا على تقدير شرط متوقع الحصول لاجل مانع عن الطلب
250

والبعث فعلا قبل حصوله، فلا يصح منه إلا الطلب والبعث معلقا بحصوله،
لا مطلقا ولو متعلقا بذاك على التقدير، فيصح منه طلب الاكرام بعد مجئ
زيد، ولا يصح منه الطلب المطلق الحالي للاكرام المقيد بالمجئ، هذا بناء
على تبعية الاحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح.

(1) سورة الحج: 78.
251

وأما بناء على تبعيتها للمصالح والمفاسد في المأمور به، والمنهي عنه
فكذلك، ضرورة أن التبعية كذلك، إنما تكون في الأحكام الواقعية بما هي
واقعية، لا بما هي فعلية، فإن المنع عن فعلية تلك الأحكام غير عزيز، كما في
موارد الأصول والامارات على خلافها، وفي بعض الاحكام في أول البعثة، بل
إلى يوم قيام القائم عجل الله فرجه، مع أن حلال محمد (صلى الله عليه وآله)
252

حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، ومع ذلك ربما يكون
المانع عن فعلية بعض الاحكام باقيا مر الليالي والأيام، إلى أن تطلع شمس
الهداية ويرتفع الظلام، كما يظهر من الاخبار المروية عن الأئمة (عليهم
السلام).
فان قلت: فما فائدة الانشاء؟ إذا لم يكن المنشأ به طلبا فعليا، وبعثا
حاليا.
253

قلت: كفى فائدة له أنه يصير بعثا فعليا بعد حصول الشرط، بلا حاجة
إلى خطاب آخر، بحيث لولاه لما كان فعلا متمكنا من الخطاب، هذا مع
شمول الخطاب كذلك للإيجاب فعلا بالنسبة إلى الواجد للشرط، فيكون بعثا
فعليا بالإضافة إليه، وتقديريا بالنسبة إلى الفاقد له، فافهم وتأمل جيدا.
ثم الظاهر دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط، في محل النزاع
أيضا، فلا وجه لتخصيصه بمقدمات الواجب المطلق، غاية الامر تكون في
الاطلاق والاشتراط تابعة لذي المقدمة كأصل الوجوب بناء على وجوبها من باب
الملازمة.
254

وأما الشرط المعلق عليه الايجاب في ظاهر الخطاب، فخروجه مما لا شبهة
فيه، ولا ارتياب:
أما على ما هو ظاهر المشهور والمتصور، لكونه مقدمة وجوبية.
وأما على المختار لشيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - فلانه وإن كان من
المقدمات الوجودية للواجب، إلا أنه أخذ على نحو لا يكاد يترشح عليه
الوجوب منه، فإنه جعل الشئ واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط، فمعه
كيف يترشح عليه الوجوب ويتعلق به الطلب؟ وهل هو إلا طلب الحاصل؟
نعم على مختاره - قدس سره - لو كانت له مقدمات وجودية غير معلق عليها
وجوبه، لتعلق بها الطلب في الحال على تقدير اتفاق وجود الشرط في
الاستقبال، وذلك لان إيجاب ذي المقدمة على ذلك حالي، والواجب إنما هو
استقبالي، كما يأتي في الواجب المعلق، فإن الواجب المشروط على مختاره،
هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلق، فلا تغفل.
255

هذا في غير المعرفة والتعلم من المقدمات، وأما المعرفة، فلا يبعد القول
بوجوبها، حتى في الواجب المشروط - بالمعنى المختار - قبل حصول شرطه، لكنه
لا بالملازمة، بل من باب استقلال العقل بتنجز الاحكام على الأنام بمجرد قيام
احتمالها، إلا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف، فيستقل
بعده بالبراءة، وإن العقوبة على المخالفة بلا حجة وبيان، والمؤاخذة عليها بلا
برهان، فافهم.
تذنيب: لا يخفى أن إطلاق الواجب على الواجب المشروط، بلحاظ
حال حصول الشرط على الحقيقة مطلقا، وأما بلحاظ حال قبل حصوله فكذلك
على الحقيقة على مختاره - قدس سره - في الواجب المشروط، لان الواجب وإن
كان أمرا استقباليا عليه، إلا أن تلبسه بالوجوب في الحال، ومجاز على المختار،
حيث لا تلبس بالوجوب عليه قبله، كما عن البهائي (رحمه الله) تصريحه
بأن لفظ الواجب مجاز في المشروط، بعلاقة الأول أو المشارفة.
256

وأما الصيغة مع الشرط، فهي حقيقة على كل حال لاستعمالها على
مختاره - قدس سره - في الطلب المطلق، وعلى المختار في الطلب المقيد، على
نحو تعدد الدال والمدلول، كما هو الحال فيما إذا أريد منها المطلق المقابل
للمقيد، لا المبهم المقسم، فافهم.
ومنها: تقسيمه إلى المعلق والمنجز، قال في الفصول: إنه ينقسم
باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف، ولا يتوقف حصوله على أمر غير
مقدور له، كالمعرفة، وليسم منجزا، وإلى ما يتعلق وجوبه به، ويتوقف
حصوله على أمر غير مقدور له، وليسم معلقا كالحج، فإن وجوبه يتعلق بالمكلف
من أول زمن الاستطاعة، أمر خروج الرفقة، ويتوقف فعله على مجئ وقته،
وهو غير مقدور له، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أن
التوقف هناك للوجوب، وهنا للفعل. انتهى كلامه رفع مقامه.
257

لا يخفى أن شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - حيث اختار في الواجب
المشروط ذاك المعنى، وجعل الشرط لزوما من قيود المادة ثبوتا وإثباتا، حيث
ادعى امتناع كونه من قيود الهيئة كذلك، أي إثباتا وثبوتا، على خلاف القواعد
العربية وظاهر المشهور، كما يشهد به ما تقدم آنفا عن البهائي، أنكر على
الفصول هذا التقسيم، ضرورة أن المعلق بما فسره، يكون من المشروط بما
اختار له من المعنى على ذلك، كما هو واضح، حيث لا يكون حينئذ هناك معنى
آخر معقول، كان هو المعلق المقابل للمشروط.
ومن هنا انقدح أنه في الحقيقة إنما أنكر الواجب المشروط، بالمعنى الذي
يكون هو ظاهر المشهور، والقواعد العربية، لا الواجب المعلق بالتفسير
المذكور.
وحيث قد عرفت - بما لا مزيد عليه - امكان رجوع الشرط إلى الهيئة، كما
هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد، فلا يكون مجال لانكاره عليه.
نعم يمكن أن يقال: إنه لا وقع لهذا التقسيم، لأنه بكلا قسميه من
المطلق المقابل للمشروط وخصوصية كونه حاليا أو استقباليا لا توجيه ما لم
258

توجب الاختلاف في المهم، وإلا لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيات، ولا
اختلاف فيه، فإن ما رتبه عليه من وجوب المقدمة فعلا - كما يأتي - إنما هو من
أثر إطلاق وجوبه وحاليته، لا من استقبالية الواجب، فافهم.
ثم إنه ربما حكي عن بعض أهل النظر من أهل العصر إشكال في
الواجب المعلق، وهو أن الطلب والايجاب إنما يكون بأزاء الإرادة المحركة
للعضلات نحو المراد، فكما لا تكاد تكون الإرادة منفكة عن المراد، فليكن
الايجاب غير منفك عما يتعلق به، فكيف يتعلق بأمر استقبالي؟ فلا يكاد يصح
الطلب والبعث فعلا نحو أمر متأخر.
قلت: فيه أن الإرادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي، كما تتعلق بأمر حالي،
259

وهو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلا عن فاضل، ضرورة أن تحمل المشاق
في تحصيل المقدمات - فيما إذا كان المقصود بعيد المسافة وكثير المؤونة - ليس إلا
لاجل تعلق إرادته به، وكونه مريدا له قاصدا إياه، لا يكاد يحمله على التحمل
إلا ذلك، ولعل الذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الإرادة بالشوق
المؤكد المحرك للعضلات نحو المراد، وتوهم أن تحريكها نحو المتأخر مما لا
يكاد، وقد غفل عن أن كونه محركا نحوه يختلف حسب اختلافه، في كونه مما لا
مؤونة له كحركة نفس العضلات، أو مما له مؤونة ومقدمات قليلة أو كثيرة،
فحركة العضلات تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له،
والجامع أن يكون نحو المقصود، بل مرادهم من هذا الوصف - في تعريف
الإرادة - بيان مرتبة الشوق الذي يكون هو الإرادة، وإن لم يكن هناك فعلا
تحريك، لكون المراد وما استاق إليه كمال لاشتياق أمرا استقباليا غير محتاج إلى
تهيئة مؤونة أو تمهيد مقدمة، ضرورة أن شوقه إليه ربما يكون أشد من الشوق
260

المحرك فعلا نحو أمر حالي أو استقبالي، محتاج إلى ذلك.
هذا مع أنه لا يكاد يتعلق البعث إلا بأمر متأخر عن زمان البعث،
ضرورة أن البعث إنما يكون لاحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به، بأن
يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة، وعلى تركه من العقوبة، ولا يكاد يكون هذا
إلا بعد البعث بزمان، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان، ولا
يتفاوت طوله وقصره، فيما هو ملاك الاستحالة والامكان في نظر العقل الحاكم
في هذا الباب، ولعمري ما ذكره واضح لا سترة عليه، والاطناب إنما هو
لاجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلاب.
وربما أشكل على المعلق أيضا بعدم القدرة على المكلف به في حال
البعث، مع أنها من الشرائط العامة.
وفيه: إن الشرط إنما هو القدرة على واجب في زمانه، لا في زمان
الايجاب والتكليف، غاية الامر يكون من باب الشرط المتأخر، وقد عرفت بما
لا مزيد عليه أنه كالمقارن، من غير انخرام للقاعدة العقلية أصلا، فراجع.
ثم لا وجه لتخصيص المعلق بما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور، بل
ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخر، أخذ على نحو يكون موردا للتكليف،
ويترشح عليه الوجوب من الواجب، أو لا، لعدم تفاوت فيما يهمه من وجوب
تحصيل المقدمات التي لا يكاد يقدر عليها في زمان الواجب المعلق، دون
261

المشروط، لثبوت الوجوب الحالي فيه، فيترشح منه الوجوب على المقدمة، بناء
على الملازمة، دونه لعدم ثبوته فيه إلا بعد الشرط.
نعم لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخر، وفرض وجوده، كان
الوجوب المشروط به حاليا أيضا، فيكون وجوب سائر المقدمات الوجودية
للواجب أيضا حاليا، وليس الفرق بينه وبين المعلق حينئذ إلا كونه مرتبطا
بالشرط، بخلافه، وإن ارتبط به الواجب.
تنبيه: قد انقدح - من مطاوي ما ذكرناه - أن المناط في فعلية وجوب
المقدمة الوجودية، وكونه في الحال بحيث يجب على المكلف تحصيلها، هو فعلية
وجوب ذيها، ولو كان أمرا استقباليا، كالصوم في الغد والمناسك في الموسم،
كان وجوبه مشروطا بشرط موجود أخذ فيه ولو متأخرا، أو مطلقا، منجزا كان
أو معلقا، فيما إذا لم تكن مقدمة للوجوب أيضا، أو مأخوذة في الواجب على
نحو يستحيل أن تكون موردا للتكليف، كما إذا أخذ عنوانا للمكلف، كالمسافر
والحاضر والمستطيع إلى غير ذلك، أو جعل الفعل المقيد باتفاق حصوله، وتقدير
وجوده - بلا اختيار أو باختياره - موردا للتكليف، ضرورة أنه لو كان مقدمة
الوجوب أيضا، لا يكاد يكون هناك وجوب إلا بعد حصوله، وبعد الحصول
262

يكون وجوبه طلب الحاصل، كما أنه إذا أخذ على أحد النحوين يكون
كذلك، فلو لم يحصل لما كان الفعل موردا للتكليف، ومع حصوله لا يكاد
يصح تعلقه به، فافهم.
إذا عرفت ذلك، فقد عرفت أنه لا إشكال أصلا في لزوم الاتيان بالمقدمة
قبل زمان الواجب، إذا لم يقدر عليه بعد زمانه، فيما كان وجوبه حاليا مطلقا،
ولو كان مشروطا بشرط متأخر، كان معلوم الوجود فيما بعد، كما لا يخفى،
ضرورة فعلية وجوبه وتنجزه بالقدرة عليه بتمهيد مقدمته، فيترشح منه الوجوب
عليها على الملازمة، ولا يلزم منه محدور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، وإنما
اللازم الاتيان بها قبل الاتيان به، بل لزوم الاتيان بها عقلا، ولو لم نقل بالملازمة،
لا يحتاج إلى مزيد بيان ومؤونة برهان، كالاتيان بسائر المقدمات في زمان الواجب
قبل إتيانه.
[فانقدح بذلك: أنه لا ينحصر التفصي عن هذه العويصة بالتعلق
بالتعليق، أو بما يرجع إليه، من جعل الشرط من قيود المادة في المشروط.
فانقدح بذلك: أنه لا إشكال في الموارد التي يجب في الشريعة الاتيان
بالمقدمة قبل زمان الواجب، كالغسل في الليل في شهر رمضان وغيره مما وجب
عليه الصوم في الغد، إذ يكشف به بطريق الآن عن سبق وجوب الواجب،
وإنما المتأخر وزمان إتيانه، ولا محذور فيه أصلا، ولو فرض العلم بعدم
سبقه، لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغيري، فلو نهض دليل على
263

وجوبها، فلا محالة يكون وجوبها نفسيا ولو تهيؤا، ليتهيأ بإتيانها،
ويستعد لايجاب ذي المقدمة عليه، فلا محذور أيضا.
إن قلت: لو كان وجوب المقدمة في زمان كاشفا عن سبق وجوب ذي المقدمة
لزم وجوب جميع مقدماته ولو موسعا، وليس كذلك بحيث يجب عليه المبادرة
لو فرض عدم تمكنه منها لو لم يبادر.
قلت: لا محيص عنه، إلا إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات
قدرة خاصة، وهي القدرة عليه بعد مجئ زمانه، لا القدرة عليه في زمانه
من زمان وجوبه، فتدبر جدا.
تتمة: قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل، وكونه موردا
للتكليف وعدمه، فإن علم حال قيد فلا إشكال، وإن دار أمره ثبوتا بين أن
يكون راجعا إلى الهيئة، نحو الشرط المتأخر أو المقارن، وأن يكون راجعا إلى
المادة على نهج يجب تحصيله أولا يجب، فإن كان في مقام الاثبات ما يعين
حاله، وأنه راجع إلى أيهما من القواعد العربية فهو، وإلا فالمرجع هو الأصول
العملية.
وربما قيل في الدوران بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة، بترجيح الاطلاق
في طرف الهيئة، وتقييد المادة، بوجهين:
أحدهما: إن إطلاق الهيئة يكون شموليا، كما في شمول العام لافراده،
264

فان وجوب الاكرام على تقدير الاطلاق، يشمل جميع التقادير التي يمكن أن
يكون تقديرا له، وإطلاق المادة يكون بدليا غير شامل لفردين في حالة واحدة.
ثانيهما: إن تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الاطلاق في المادة ويرتفع به
مورده، بخلاف العكس، وكلما دار الامر بين تقييدين كذلك كان التقييد
الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى.
أما الصغرى، فلأجل أنه لا يبقى مع تقييد الهيئة محل حاجة وبيان
لاطلاق المادة، لأنها لا محالة لا تنفك عن وجود قيد الهيئة، بخلاف تقييد
المادة، فإن محل الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله، فيمكن الحكم بالوجوب
على تقدير وجود القيد وعدمه.
وأما الكبرى، فلان التقييد وإن لم يكن مجازا إلا أنه خلاف الأصل،
ولا فرق في الحقيقة بين تقييد الاطلاق، وبين أن يعمل عملا يشترك مع التقييد في
الأثر، وبطلان العمل به.
وما ذكرناه من الوجهين موافق لما أفاده بعض مقرري بحث الأستاذ
العلامة أعلى الله مقامه، وأنت خبير بما فيهما.
أما في الأول: فلان مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليا بخلاف المادة،
إلا أنه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها، لأنه أيضا كان بالاطلاق ومقدمات
الحكمة، غاية الامر أنها تارة يقتضي العموم الشمولي، وأخرى البدلي، كما
ربما يقتضي التعيين أحيانا، كما لا يخفى.
265

وترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنما هو لاجل كونه دلالته
بالوضع، لا لكونه شموليا، بخلاف المطلق فإنه بالحكمة، فيكون العام
أظهر منه، فيقدم عليه، فلو فرض أنهما في ذلك على العكس، فكان عام
بالوضع دل على العموم البدلي، ومطلق بإطلاقه دل على الشمول، لكان العام
يقدم بلا كلام.
وأما في الثاني: فلان التقييد وإن كان خلاف الأصل، إلا أن العمل
الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة، وانتفاء بعض مقدماته، لا يكون
على خلاف الأصل أصلا، إذ معه لا يكون هناك إطلاق، كي يكون بطلان
العمل به على الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الأصل.
وبالجملة لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل، إلا كونه خلاف الظهور
المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة، ومع انتفاء المقدمات لا يكاد ينعقد له
هناك ظهور، كان ذاك العمل المشارك مع التقييد في الأثر، وبطلان العمل
بإطلاق المطلق، مشاركا معه في خلاف الأصل أيضا.
وكأنه توهم: أن إطلاق المطلق كعموم ثابت، ورفع اليد عن
العمل به، تارة لاجل التقييد، وأخرى بالعمل المبطل للعمل به، وهو فاسد،
لأنه لا يكون إطلاق إلا فيما جرت هناك المقدمات.
نعم إذا كان التقييد بمنفصل، ودار الامر بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة
كان لهذا التوهم مجال، حيث انعقد للمطلق إطلاق، وقد استقر له ظهور ولو
بقرينة الحكمة، فتأمل.
266

ومنها: تقسيمه إلى النفسي والغيري، وحيث كان طلب شئ وإيجابه
لا يكاد يكون بلا داع، فإن كان الداعي فيه هو التوصل به إلى واجب، لا يكاد
التوصل بدونه إليه، لتوقفه عليه، فالواجب غيري، وإلا فهو نفسي، سواء
كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه، كالمعرفة بالله، أو محبوبيته بماله من فائدة
مترتبة عليه، كأكثر الواجبات من العبادات والتوصليات.
هذا، لكنه لا يخفى أن الداعي لو كان هو محبوبيته كذلك - اي بماله من
الفائدة المترتبة عليه - كان الواجب في الحقيقة واجبا غيريا، فإنه لو لم يكن وجود
هذه الفائدة لازما، لما دعي إلى ايجاب ذي الفائدة.
267

فإن قلت: نعم وإن كان وجودها محبوبا لزوما، إلا أنه حيث كانت من
الخواص المترتبة على الأفعال التي ليست داخلة تحت قدرة المكلف، لما كاد يتعلق
بها الايجاب.
قلت: بل هي داخلة تحت القدرة، لدخول أسبابها تحتها، والقدرة على
السبب قدرة على المسبب، وهو واضح، وإلا لما صح وقوع مثل التطهير
والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق.. إلى غير ذلك من المسببات، موردا
لحكم من الأحكام التكليفية.
فالأولى أن يقال: إن الأثر المترتب عليه وإن كان لازما، إلا أن ذا الأثر
لما كان معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله، بل وبذم تاركه، صار
268

متعلقا للإيجاب بما هو كذلك، ولا ينافيه كونه مقدمة لامر مطلوب واقعا،
بخلاف الواجب الغيري، لتمحض وجوبه في أنه لكونه مقدمة لواجب نفسي.
وهذا أيضا لا ينافي أن يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه، إلا أنه لا دخل له
في إيجابه الغيري، ولعله مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه، وما أمر به لاجل
غيره، فلا يتوجه عليه بأن جل الواجبات - لولا الكل - يلزم أن يكون من
الواجبات الغيرية، فإن المطلوب النفسي قلما يوجد في الأوامر، فإن جلها
مطلوبات لاجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها، فتأمل.
269

ثم إنه لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين، وأما إذا شك في واجب أنه
نفسي أو غيري، فالتحقيق أن الهيئة، وإن كانت موضوعة لما يعمهما، إلا أن
إطلاقها يقتضي كونه نفسيا، فإنه لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على
المتكلم الحكيم.
وأما ما قيل من أنه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة، لدفع الشك
المذكور، بعد كون مفادها الافراد التي لا يعقل فيها التقييد، نعم لو كان مفاد
الامر هو مفهوم الطلب، صح القول بالاطلاق، لكنه بمراحل من الواقع، إذ
لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الامر، ولا يعقل
اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب، فإن الفعل يصير مرادا
بواسطة تعلق واقع الإرادة وحقيقتها، لا بواسطة مفهومها، وذلك واضح
لا يعتريه ريب.
270

ففيه: إن مفاد الهيئة - كما مرت الإشارة إليه - ليس الافراد، بل هو
مفهوم الطلب، كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف، ولا يكاد يكون فرد
الطلب الحقيقي، والذي يكون بالحمل الشائع طلبا، وإلا لما صح إنشاؤه بها،
ضرورة أنه من الصفات الخارجية الناشئة من الأسباب الخاصة.
نعم ربما يكون هو السبب لانشائه، كما يكون غيره أحيانا.
واتصاف الفعل بالمطلوبية الواقعية والإرادة الحقيقة - الداعية إلى إيقاع
طلبه، وإنشاء إرادته بعثا نحو مطلوبه الحقيقي وتحريكا إلى مرادة الواقعي -
لا ينافي اتصافه بالطلب الانشائي أيضا، والوجود الانشائي لكل شئ ليس إلا
قصد حصول مفهومه بلفظه، كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن، بل كان
إنشاؤه بسبب آخر.
ولعل منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب
المطلق، فتوهم منه أن مفاد الصيغة يكون طلبا حقيقيا، يصدق عليه الطلب
بالحمل الشائع، ولعمري إنه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق، فالطلب
الحقيقي إذا لم يكن قابلا للتقييد لا يقتضي أن لا يكون مفاد الهيئة قابلا له،
وإن تعارف تسميته بالطلب أيضا، وعدم تقييده بالانشائي لوضوح إرادة
خصوصه، وإن الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها، كما لا يخفى.
فانقدح بذلك صحة تقييد مفاد الصيغة بالشرط، كما مر هاهنا بعض
271

الكلام، وقد تقدم في مسألة اتحاد الطلب والإرادة ما يجدي [في] المقام.
هذا إذا كان هناك إطلاق، وأما إذا لم يكن، فلا بد من الاتيان به فيما إذا
كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليا، للعلم بوجوبه فعلا، وإن لم يعلم
جهة وجوبه، وإلا فلا، لصيرورة الشك فيه بدويا، كما لا يخفى.
تذنيبان
الأول: لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الامر النفسي
وموافقته، واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلا، وأما استحقاقهما على
امتثال الغيري ومخالفته، ففيه إشكال، وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق على
موافقته ومخالفته، بما هو موافقة ومخالفة، ضرورة استقلال العقل بعدم
الاستحقاق إلا لعقاب واحد، أو لثواب كذلك، فيما خالف الواجب ولم يأت
بواحدة من مقدماته على كثرتها، أو وافقه وأتاه بماله من المقدمات.
272

نعم لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدمة، وبزيادة
المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدمات بما هي مقدمات له، من باب أنه يصير
حينئذ من أفضل الاعمال، حيث صار أشقها، وعليه ينزل ما ورد في
الاخبار من الثواب على المقدمات، أو على التفضل فتأمل جيدا، وذلك
لبداهة أن موافقة الامر الغيري - بما هو أمر لا بما هو شروع في إطاعة الامر
النفسي - لا توجب قربا، ولا مخالفته - بما هو كذلك - بعدا، والمثوبة والعقوبة
إنما تكونان من تبعات القرب والبعد.
273

إشكال ودفع:
أما الأول: فهو أنه إذا كان الامر الغيري بما هو لا إطاعة له،
ولا قرب في موافقته، ولا مثوبة على امتثاله، فكيف حال بعض المقدمات؟
كالطهارات، حيث لا شبهة في حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها،
هذا مضافا إلى أن الامر الغيري لا شبهة في كونه توصليا، وقد اعتبر في صحتها
إتيانها بقصد القربة.
وأما الثاني: فالتحقيق أن يقال: إن المقدمة فيها بنفسها مستحبة
وعبادة، وغاياتها إنما تكون متوقفة على إحدى هذه العبادات، فلا بد أن يؤتى
بها عبادة، وإلا فلم يؤت بما هو مقدمة لها، فقصد القربة فيها إنما هو لاجل
كونها في نفسها أمورا عبادية ومستحبات نفسية، لا لكونها مطلوبات غيرية
274

والاكتفاء بقصد أمرها الغيري، فإنما هو لاجل أنه يدعو إلى ما هو كذلك في
نفسه، حيث أنه لا يدعو إلا إلى ما هو المقدمة، فافهم.
وقد تفصي عن الاشكال بوجهين آخرين:
أحدهما ما ملخصه: إن الحركات الخاصة ربما لا تكون محصلة لما هو
المقصود منها، من العنوان الذي يكون بذاك العنوان مقدمة وموقوفا عليها، فلا بد
في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها، لكونه لا يدعو إلا إلى ما هو الموقوف
عليه، فيكون عنوانا إجماليا ومرآة لها، فإتيان الطهارات عبادة وإطاعة لأمرها
ليس لاجل أن أمرها المقدمي يقضي بالاتيان كذلك، بل إنما كان لاجل إحراز
نفس العنوان، الذي يكون بذاك العنوان موقوفا عليها.
275

وفيه: مضافا إلى أن ذلك لا يقتضي الاتيان بها كذلك، لا مكان
الإشارة إلى عناوينها التي تكون بتلك العناوين موقوفا عليها بنحو آخر، ولو
بقصد أمرها وصفا لا غاية وداعيا، بل كان الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة
بكونها مأمورا بها شيئا آخر غير أمرها، غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة
عليها، كما لا يخفى.
ثانيهما: ما محصله أن لزوم وقوع الطهارات عبادة، إنما يكون لاجل أن
الغرض من الامر النفسي بغاياتها، كما لا يكاد يحصل بدون قصد التقرب
بموافقته، كذلك لا يحصل ما لم يؤت بها كذلك، لا باقتضاء أمرها الغيري.
276

وبالجملة وجه لزوم إتيانها عبادة، إنما هو لاجل أن الغرض في الغايات،
لا يحصل إلا بإتيان خصوص الطهارات من بين مقدماتها أيضا، بقصد
الإطاعة.
وفيه أيضا: إنه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها،
وأما ما ربما قيل في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات، من
277

الالتزام بأمرين:
أحدهما كان متعلقا بذات العمل، والثاني بإتيانه بداعي امتثال الأول، لا يكاد
يجزي في تصحيح اعتبارها في الطهارات، إذ لو لم تكن بنفسها مقدمة لغاياتها،
لا يكاد يتعلق بها أمر من قبل الامر بالغايات، فمن أين يجئ طلب آخر من
سنخ الطلب الغيري متعلق بذاتها، ليتمكن به من المقدمة في الخارج. هذا مع
أن في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة على ما عرفته
مفصلا سابقا، فتذكر.
الثاني: إنه قد انقدح مما هو التحقيق، في وجه اعتبار قصد القربة في
الطهارات صحتها ولو لم يؤت بها بقصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها، نعم
لو كان المصحح لاعتبار قصد القربة فيها امرها الغيري، لكان قصد الغاية مما
لا بد منه في وقوعها صحيحة، فان الامر الغيري لا يكاد يمتثل إلا إذا قصد
التوصل إلى الغير، حيث لا يكاد يصير داعيا إلا مع هذا القصد، بل في
الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة، ولو لم يقصد أمرها، بل ولو
لم نقل بتعلق الطلب بها أصلا
278

وهذا هو السر في اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة عبادة، لا ما
توهم من أن المقدمة إنما تكون مأمورا بها بعنوان المقدمية، فلا بد عند إرادة
الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان، وقصدها كذلك لا يكاد يكون بدون
قصد التوصل إلى ذي المقدمة بها، فإنه فاسد جدا، ضرورة أن عنوان المقدمية
ليس بموقوف عليه الواجب، ولا بالحمل الشائع مقدمة له، وإنما كان المقدمة
هو نفس المعنونات بعناوينها الأولية، والمقدمية إنما تكون علة لوجوبها.
الامر الرابع: لا شبهة في أن وجوب المقدمة بناء على الملازمة، يتبع في
الاطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدمة، كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا،
ولا يكون مشروطا بإرادته، كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم (رحمه الله) في
بحث الضد، قال: وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها
إنما تنهض دليلا على الوجوب، في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف
عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر.
وأنت خبير بأن نهوضها على التبعية واضح لا يكاد يخفى، وإن كان
279

نهوضها على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة، كما لا يخفى.
وهل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الاتيان بها بداعي
التوصل بها إلى ذي المقدمة؟ كما يظهر مما نسبه إلى شيخنا العلامة - أعلى الله
مقامه - بعض أفاضل مقرري بحثه، أو ترتب ذي المقدمة عليها؟ بحيث لو
لم يترتب عليها لكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب، كما زعمه
صاحب الفصول (قدس سره) أو لا يعتبر في وقوعها كذلك شئ منهما.
الظاهر عدم الاعتبار: أما عدم اعتبار قصد التوصل، فلأجل أن
الوجوب لم يكن بحكم العقل إلا لاجل المقدمية والتوقف، وعدم دخل قصد
التوصل فيه واضح، ولذا اعترف بالاجتزاء بما لم يقصد به ذلك في غير المقدمات
العبادية، لحصول ذات الواجب، فيكون تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد
به التوصل من المقدمة بلا مخصص، فافهم.
نعم انما اعتبر ذلك في الامتثال، لما عرفت من انه لا يكاد يكون الآتي
280

بها بدونه ممتثلا لأمرها، وآخذا في امتثال الامر بذيها، فيثاب بثواب أشق
الاعمال، فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب، ولو لم يقصد به التوصل،
كسائر الواجبات التوصلية، لا على حكمه السابق الثابت له، لولا عروض
صفة توقف الواجب الفعلي المنجز عليه، فيقع الدخول في ملك الغير واجبا
إذا كان مقدمة لانقاذ غريق أو إطفاء حريق واجب فعلي لا حراما، وإن لم
يلتفت إلى التوقف والمقدمية، غاية الامر يكون حينئذ متجرئا فيه، كما أنه مع
الالتفات يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة، فيما لم يقصد التوصل إليه أصلا.
وأما إذا قصده، ولكنه لم يأت بها بهذا الداعي، بل بداع آخر أكده
بقصد التوصل، فلا يكون متجرئا أصلا.
وبالجملة: يكون التوصل بها إلى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة على
المقدمة الواجبة، لا أن يكون قصده قيدا وشرطا لوقوعها على صفة الوجوب،
لثبوت ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه أصلا، وإلا لما حصل ذات
الواجب ولما سقط الوجوب به، كما لا يخفى.
281

ولا يقاس على ما إذا أتى بالفرد المحرم منها، حيث يسقط به الوجوب،
مع أنه ليس بواجب، وذلك لان الفرد المحرم انما يسقط به الوجوب، لكونه
كغيره في حصول الغرض به، بلا تفاوت أصلا، إلا أنه لاجل وقوعه على صفة
الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب، وهذا بخلاف [ما] ها هنا، فإنه إن كان
كغيره مما يقصد به التوصل في حصول الغرض، فلا بد أن يقع على صفة
الوجوب مثله، لثبوت المقتضي فيه بلا مانع، وإلا لما كان يسقط به الوجوب
ضرورة، والتالي باطل بداهة، فيكشف هذا عن عدم اعتبار قصده في الوقوع
على صفة الوجوب قطعا، وانتظر لذلك تتمة توضيح.
والعجب أنه شدد النكير على القول بالمقدمة الموصلة، واعتبار ترتب ذي
المقدمة عليها في. وقوعها على صفة الوجوب، على ما حرره بعض مقرري
بحثه (قدس سره) بما يتوجه على اعتبار قصد التوصل في وقوعها كذلك،
فراجع تمام كلامه زيد في علو مقامه، وتأمل في نقضه وإبرامه.
وأما عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب،
فلانه لا يكاد يعتبر في الواجب إلا ماله دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه
282

والباعث على طلبه، وليس الغرض من المقدمة إلا حصول ما لولاه لما أمكن
حصول ذي المقدمة، ضرورة أنه لا يكاد يكون الغرض إلا ما يترتب عليه من
فائدته وأثره، ولا يترتب على المقدمة إلا ذلك، ولا تفاوت فيه بين ما يترتب
عليه الواجب، وما لا يترتب عليه أصلا، وأنه لا محالة يترتب عليهما، كما لا
يخفى.
وأما ترتب الواجب، فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها
والباعث على طلبها، فإنه ليس بأثر تمام المقدمات، فضلا عن إحداها في غالب
الواجبات، فإن الواجب إلا ما قل في الشرعيات والعرفيات فعل اختياري،
يختار المكلف تارة إتيانه بعد وجود تمام مقدماته، وأخرى عدم إتيانه، فكيف
يكون اختيار إتيانه غرضا من إيجاب كل واحدة من مقدماته، مع عدم ترتبه على
تمامها، فضلا عن كل واحدة منها؟
نعم فيما كان الواجب من الأفعال التسبيبية والتوليدية، كان مترتبا لا محالة
على تمام مقدماته، لعدم تخلف المعلول عن علته.
ومن هنا قد انقدح أن القول بالمقدمة الموصلة، يستلزم إنكار
283

وجوب المقدمة في غالب الواجبات، والقول بوجوب خصوص العلة التامة في
خصوص الواجبات التوليدية.
فإن قلت: ما من واجب إلا وله علة تامة، ضرورة استحالة وجود
الممكن بدونها، فالتخصيص بالواجبات التوليدية بلا مخصص.
قلت: نعم وإن استحال صدور الممكن بلا علة، إلا أن مبادئ اختيار
الفعل الاختياري من أجزاء علته، وهي لا تكاد تتصف بالوجوب، لعدم كونها
بالاختيار، وإلا لتسلسل، كما هو واضح لمن تأمل، ولأنه لو كان معتبرا فيه
الترتب، لما كان الطلب يسقط بمجرد الاتيان بها، من دون انتظار لترتب
الواجب عليها، بحيث لا يبقى في البين إلا طلبه وإيجابه، كما إذا لم تكن هذه
بمقدمته، أو كانت حاصلة من الأول قبل إيجابه، مع أن الطلب لا يكاد
يسقط إلا بالموافقة، أو بالعصيان والمخالفة، أو بارتفاع موضوع التكليف، كما
في سقوط الامر بالكفن أو الدفن، بسبب غرق الميت أحيانا أو حرقه،
ولا يكون الاتيان بها بالضرورة من هذه الأمور غير الموافقة.
284

إن قلت: كما يسقط الامر في تلك الأمور، كذلك يسقط بما ليس بالمأمور
به فيما يحصل به الغرض منه، كسقوطه في التوصليات بفعل الغير،
أو المحرمات.
قلت: نعم، ولكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض، من
الفعل الاختياري للمكلف متعلقا للطلب فيما لم يكن فيه مانع، وهو كونه
بالفعل محرما، ضرورة أنه لا يكون بينهما تفاوت أصلا، فكيف يكون أحداهما
متعلقا له فعلا دون الآخر؟
وقد استدل صاحب الفصول على ما ذهب إليه بوجوه، حيث قال بعد
بيان أن التوصل بها إلى الواجب، من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط
الوجوب، ما هذا لفظه:
(والذي يدلك على هذا - يعني الاشتراط بالتوصل - أن وجوب المقدمة لما
كان من باب الملازمة العقلية، فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور،
وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم: أريد الحج، وأريد المسير الذي
285

يتوصل به إلى فعل الواجب، دون ما لم يتوصل به إليه، بل الضرورة قاضية
بجواز تصريح الامر بمثل ذلك، كما أنها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها
له مطقا، أو على تقدير التوصل بها إليه، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوبه
ووجوب مقدماته على تقدير عدم التوصل بها إليه، وأيضا حيث أن المطلوب
بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله، فلا جرم يكون التوصل بها إليه
وحصوله معتبرا في مطلوبيتها، فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه، وصريح
الوجدان قاض بأن من يريد شيئا بمجرد حصول شئ آخر، لا يريده إذا وقع
مجردا عنه، ويلزم منه أن يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطا بحصوله).
انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه.
وقد عرفت بما لا مزيد عليه، أن العقل الحاكم بالملازمة دل على
وجوب مطلق المقدمة، لا خصوص ما إذا ترتب عليها الواجب، فيما لم يكن
هناك مانع عن وجوبه، كما إذا كان بعض مصاديقه محكوما فعلا بالحرمة،
لثبوت مناط الوجوب حينئذ في مطلقها، وعدم اختصاصه بالمقيد بذلك منها.
وقد انقدح منه، أنه ليس للآمر الحكيم الغير المجازف بالقول ذلك
التصريح، وأن دعوى أن الضرورة قاضية بجوازه مجازفة، كيف يكون ذا مع
ثبوت الملاك في الصورتين بلا تفاوت أصلا؟ كما عرفت.
286

نعم إنما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النفسي في إحداهما،
وعدم حصوله في الأخرى، من دون دخل لها في ذلك أصلا، بل كان بحسن
اختيار المكلف وسوء اختياره، وجاز للآمر أن يصرح بحصول هذا المطلوب في
إحداهما، وعدم حصوله في الأخرى، بل من حيث أن الملحوظ بالذات هو
هذا المطلوب، وإنما كان الواجب الغيري ملحوظا إجمالا بتبعه، كما يأتي ان
وجوب المقدمة على الملازمة تبعي، جاز في صورة عدم حصول المطلوب
النفسي التصريح بعدم حصول المطلوب أصلا، لعدم الالتفات إلى ما حصل
من المقدمة، فضلا عن كونها مطلوبة، كما جاز التصريح بحصول الغيري مع
عدم فائدته لو التفت إليها، كما لا يخفى، فافهم.
إن قلت: لعل التفاوت بينهما في صحة اتصاف إحداهما بعنوان الموصلية
دون الأخرى، أوجب التفاوت بينهما في المطلوبية وعدمها، وجواز التصريح
بهما، وإن لم يكن بينهما تفاوت في الأثر، كما مر.
قلت: إنما يوجب ذلك تفاوتا فيهما، لو كان ذلك لاجل تفاوت في ناحية
المقدمة، لا فيما إذا لم يكن في ناحيتها أصلا - كما ها هنا - ضرورة أن الموصلية
إنما تنتزع من وجود الواجب، وترتبه عليها من دون اختلاف في ناحيتها،
وكونها في كلا الصورتين على نحو واحد وخصوصية واحدة، ضرورة أن الاتيان
بالواجب بعد الاتيان بها بالاختيار تارة، وعدم الاتيان به كذلك أخرى،
لا يوجب تفاوتا فيها، كما لا يخفى.
287

وأما ما أفاده (قدس سره) من أن مطلوبية المقدمة حيث كانت بمجرد
التوصل بها، فلا جرم يكون التوصل بها إلى الواجب معتبرا فيها.
ففيه: إنه إنما كانت مطلوبيتها لاجل عدم التمكن من التوصل بدونها،
لا لاجل التوصل بها، لما عرفت من أنه ليس من آثارها، بل مما يترتب عليها
أحيانا بالاختيار بمقدمات أخرى، وهي مبادئ اختياره، ولا يكاد يكون مثل ذا
غاية لمطلوبيتها وداعيا إلى إيجابها، وصريح الوجدان إنما يقضي بأن ما أريد
لاجل غاية، وتجرد عن الغاية بسبب عدم حصول سائر ماله دخل في حصولها،
يقع على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، كيف؟ وإلا يلزم أن يكون وجودها
من قيوده، ومقدمة لوقوعه على نحو يكون الملازمة بين وجوبه بذاك النحو
ووجوبها.
وهو كما ترى، ضرورة أن الغاية لا تكاد تكون قيدا لذي الغاية، بحيث
كان تخلفها موجبا لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية،
وإلا يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه كسائر قيوده، فلا يكون وقوعه على هذه
الصفة منوطا بحصولها، كما أفاده.
ولعل منشأ توهمه، خلطه بين الجهة التقييدية والتعليلية، هذا مع ما
عرفت من عدم التخلف ها هنا، وأن الغاية إنما هو حصول ما لولاه لما تمكن
من التوصل إلى المطلوب النفسي، فافهم واغتنم.
ثم إنه لا شهادة على الاعتبار في صحة منع المولى عن مقدماته بأنحائها،
إلا فيما إذا رتب عليه الواجب لو سلم أصلا، ضرورة أنه وإن لم يكن الواجب
288

منها حينئذ غير الموصلة، إلا أنه ليس لاجل اختصاص الوجوب بها في باب
المقدمة، بل لاجل المنع عن غيرها المانع عن الاتصاف بالوجوب ها هنا، كما
لا يخفى.
289

مع أن في صحة المنع كذلك نظر، وجهه أنه يلزم أن لا يكون ترك
الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا، لعدم التمكن شرعا منه، لاختصاص جواز
مقدمته بصورة الاتيان به.
290

وبالجملة يلزم أن يكون الايجاب مختصا بصورة الاتيان، لاختصاص جواز
المقدمة بها وهو محال فإنه يكون من طلب الحاصل المحال، فتدبر جيدا.
بقي شئ وهو أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة، هي تصحيح العبادة التي
يتوقف على تركها فعل الواجب، بناء على كون ترك الضد مما يتوقف عليه فعل
ضده، فإن تركها على هذا القول لا يكون مطلقا واجبا، ليكون فعلها محرما،
291

فتكون فاسدة، بل فيما يترتب عليه الضد الواجب، ومع الاتيان بها لا يكاد
يكون هناك ترتب، فلا يكون تركها مع ذلك واجبا، فلا يكون فعلها منهيا
عنه، فلا تكون فاسدة.
وربما أورد على تفريع هذه الثمرة بما حاصله بأن فعل الضد، وإن
لم يكن نقيضا للترك الواجب مقدمة، بناء على المقدمة الموصلة، إلا أنه لازم لما
هو من أفراد النقيض، حيث أن نقيض ذاك الترك الخاص رفعه، وهو أعم من
الفعل والترك الآخر المجرد، وهذا يكفي في إثبات الحرمة، وإلا لم يكن الفعل
المطلق محرما فيما إذا كان الترك المطلق واجبا، لان الفعل أيضا ليس نقيضا
292

للترك، لأنه أمر وجودي، ونقيض الترك إنما هو رفعه، ورفع الترك إنما يلازم
الفعل مصداقا، وليس عينه، فكما أن هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة
لمطلق الفعل، فكذلك تكفي في المقام، غاية الامر أن ما هو النقيض في مطلق
الترك، إنما ينحصر مصداقه في الفعل فقط، وأما النقيض للترك الخاص فله
فردان، وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده، كما لا يخفى.
قلت: وأنت خبير بما بينهما من الفرق، فإن الفعل في الأول لا يكون
إلا مقارنا لما هو النقيض، من رفع الترك المجامع معه تارة، ومع الترك
المجرد أخرى، ولا تكاد تسري حرمة الشئ إلى ما يلازمه، فضلا عما يقارنه
أحيانا.
نعم لا بد أن لا يكون الملازم محكوما فعلا بحكم آخر على خلاف
حكمه، لا أن يكون محكوما بحكمه، وهذا بخلاف الفعل في الثاني، فإنه
بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه، لا ملازم لمعانده ومنافيه، فلو لم يكن عين ما
يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما، لكنه متحد معه عينا وخارجا، فإذا كان
الترك واجبا، فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا، فتدبر جيدا.
293

ومنها: تقسيمه إلى الأصلي والتبعي، والظاهر أن يكون هذا التقسيم
بلحاظ الأصالة والتبعية في الواقع ومقام الثبوت، حيث يكون الشئ تارة متعلقا
للإرادة والطلب مستقلا، للالتفات إليه بما هو عليه مما يوجب طلبه فيطلبه،
كان طلبه نفسيا أو غيريا، وأخرى متعلقا للإرادة تبعا لإرادة غيره، لاجل كون
إرادته لازمة لإرادته، من دون التفات إليه بما يوجب إرادته، لا بلحاظ الأصالة
والتبعية في مقام الدلالة والاثبات، فإنه يكون في هذا المقام، تارة مقصودا
بالإفادة، وأخرى غير مقصود بها على حدة، إلا أنه لازم الخطاب، كما في
دلالة الإشارة ونحوها.
وعلى ذلك، فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري إليهما، واتصافه
بالأصالة والتبعية كليهما، حيث يكون متعلقا للإرادة على حدة عند الالتفات إليه
بما هو مقدمة، وأخرى لا يكون متعلقا لها كذلك عند عدم الالتفات إليه
كذلك، فإنه يكون لا محالة مرادا تبعا لإرادة ذي المقدمة على الملازمة.
كما لا شبهة في اتصاف النفسي أيضا بالأصالة، ولكنه لا يتصف
بالتبعية، ضرورة أنه لا يكاد يتعلق به الطلب النفسي ما لم تكن فيه مصلحة
نفسية، ومعها يتعلق الطلب بها مستقلا، ولو لم يكن هناك شئ آخر مطلوب
أصلا، كما لا يخفى.
نعم لو كان الاتصاف بهما بلحاظ الدلالة، اتصف النفسي بهما أيضا،
قوله: ومنها تقسيمه إلى الأصلي والتبعي... الخ.
ان تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي يمكن أن يكون بلحاظ دلالة
الدليل وباعتبار مقام الاثبات كما ذهب إليه بعض المحققين، والمراد بالأصلي هو
الواجب الذي يكون مقصودا بالافهام، والتبعي ما لم يكن مقصودا بالافهام،
ولكنه من لوازم الخطاب كما في دلالة الإشارة التي تكون عبارة عن دلالة الخطاب
على لوازم مدلوله التي لم تكن مقصودة من الدليل، كدلالة الآيتين على أن أقل
294

ضرورة أنه قد يكون غير مقصود بالإفادة، بل أفيد بتبع غيره المقصود بها، لكن
الظاهر - كما مر - أن الاتصاف بهما إنما هو في نفسه لا بلحاظ حال الدلالة عليه،
وإلا لما اتصف بواحد منهما، إذا لم يكن بعد مفاد دليل، وهو كما ترى.
ثم إنه إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلق به إرادة مستقلة، فإذا شك في
واجب أنه أصلي أو تبعي، فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به يثبت أنه
تبعي، ويترتب عليه آثاره إذا فرض له آثار شرعية، كسائر الموضوعات
المتقومة بأمور عدمية.
نعم لو كان التبعي أمرا وجوديا خاصا غير متقوم بعدمي، وإن كان
يلزمه، لما كان يثبت بها إلا على القول بالأصل المثبت، كما هو واضح،
فافهم.
تذنيب: في بيان الثمرة، وهي في المسألة الأصولية - كما عرفت سابقا -
ليست إلا أن تكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد، واستنباط حكم
فرعي، كما لو قيل بالملازمة في المسألة، فإنه بضميمة مقدمة كون شئ مقدمة
لواجب يستنتج انه واجب.
ومنه قد انقدح، أنه ليس منها مثل برء النذر بإتيان مقدمة واجب، عند
نذر الواجب، وحصول الفسق بترك واجب واحد بمقدماته إذا كانت له مقدمات
كثيرة، لصدق الاصرار على الحرام بذلك، وعدم جواز أخذ الأجرة على
المقدمة.
295

مع أن البرء وعدمه إنما يتبعان قصد الناذر، فلا برء بإتيان المقدمة لو
قصد الوجوب النفسي، كما هو المنصرف عند إطلاقه ولو قيل بالملازمة، وربما
يحصل البرء به لو قصد ما يعم المقدمة ولو قيل بعدمها، كما لا يخفى.
ولا يكاد يحصل الاصرار على الحرام بترك واجب، ولو كانت له مقدمات
غير عديدة، لحصول العصيان بترك أول مقدمة لا يتمكن معه من الواجب،
ولا يكون ترك سائر المقدمات بحرام أصلا، لسقوط التكليف حينئذ، كما هو
واضح لا يخفى.
وأخذ الأجرة على الواجب لا بأس به، إذا لم يكن إيجابه على المكلف مجانا
وبلا عوض، بل كان وجوده المطلق مطلوبا كالصناعات الواجبة كفائية التي
لا يكاد ينتظم بدونها البلاد، ويختل لولاها معاش العباد، بل ربما يجب أخذ
الأجرة عليها لذلك، أي لزوم الاختلال وعدم الانتظام لولا أخذها، هذا في
الواجبات التوصلية.
وأما الواجبات التعبدية، فيمكن أن يقال بجواز أخذ الأجرة على إتيانها
بداعي امتثالها، لا على نفس الاتيان، كي ينافي عباديتها، فيكون من قبيل
الداعي إلى الداعي، غاية الامر يعتبر فيها - كغيرها - أن يكون فيها منفعة عائدة
إلى المستأجر، كي لا تكون المعاملة سفهية، وأخذ الأجرة عليها أكلا بالباطل.
وربما يجعل من الثمرة، اجتماع الوجوب والحرمة - إذا قيل
296

بالملازمة - فيما كانت المقدمة محرمة، فيبتنى على جواز اجتماع الأمر والنهي
وعدمه، بخلاف ما لو قيل بعدمها، وفيه:
أولا: إنه لا يكون من باب الاجتماع، كي تكون مبتنية عليه، لما
أشرنا إليه غير مرة، إن الواجب ما هو بالحمل الشائع مقدمة، لا بعنوان
المقدمة، فيكون على الملازمة من باب النهي في العبادة والمعاملة.
وثانيا: إن الاجتماع وعدمه لا دخل له في التوصل بالمقدمة
المحرمة وعدمه أصلا، فإنه يمكن التوصل بها إن كانت توصلية، ولو لم نقل
بجواز الاجتماع، وعدم جواز التوصل بها إن كانت تعبدية على القول
بالامتناع، قيل بوجوب المقدمة أو بعدمه، وجواز التوصل بها على القول بالجواز
كذلك، أي قيل بالوجوب أو بعدمه.
وبالجملة لا يتفاوت الحال في جواز التوصل بها، وعدم جوازه أصلا،
بين أن يقال بالوجوب، أو يقال بعدمه، كما لا يخفى.
في تأسيس الأصل في المسألة
إعلم أنه لا أصل في محل البحث في المسألة، فإن الملازمة بين وجوب
المقدمة ووجوب ذي المقدمة وعدمها ليست لها حالة سابقة، بل تكون الملازمة
297

أو عدمها أزلية، نعم نفس وجوب المقدمة يكون مسبوقا بالعدم، حيث يكون
حادثا بحدوث وجوب ذي المقدمة، فالأصل عدم وجوبها.
وتوهم عدم جريانه، لكون وجوبها على الملازمة، من قبيل لوازم
الماهية، غير مجعولة، ولا أثر آخر مجعول مترتب عليه، ولو كان لم يكن بمهم ها
هنا، مدفوع بأنه وإن كان غير مجعول بالذات، لا بالجعل البسيط الذي هو
مفاد كان التامة، ولا بالجعل التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة، إلا أنه
مجعول بالعرض، ويتبع جعل وجوب ذي المقدمة، وهو كاف في جريان
الأصل.
ولزوم التفكيك بين الوجوبين مع الشك لا محالة، لأصالة عدم وجوب
المقدمة مع وجوب ذي المقدمة، لا ينافي الملازمة بين الواقعيين، وإنما ينافي
الملازمة بين الفعليين، نعم لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في المرتبة
الفعلية، لما صح التمسك بالأصل، كما لا يخفى.
298

إذا عرفت ما ذكرنا، فقد تصدى غير واحد من الأفاضل لإقامة
البرهان على الملازمة، وما أتى منهم بواحد خال عن الخلل، والأولى إحالة ذلك
إلى الوجدان، حيث أنه أقوى شاهد على أن الانسان إذا أراد شيئا له
مقدمات، أراد تلك المقدمات، لو التفت إليها بحيث ربما يجعلها في قالب
الطلب مثله، ويقول مولويا (أدخل السوق واشتر اللحم) مثلا، بداهة أن
الطلب المنشأ بخطاب (أدخل) مثل المنشأ بخطاب (اشتر) في كونه بعثا
مولويا، وأنه حيث تعلقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء، ترشحت منها له إرادة
أخرى بدخول السوق، بعد الالتفات إليه وأنه يكون مقدمة له، كما لا يخفى.
ويؤيد الوجدان، بل يكون من أوضح البرهان، وجود الأوامر الغيرية في
الشرعيات والعرفيات، لوضوح أنه لا يكاد يتعلق بمقدمة أمر غيري، إلا إذا
كان فيها مناطه، وإذا كان فيها كان في مثلها، فيصح تعلقه به أيضا، لتحقق
ملاكه ومناطه، والتفصيل بين السبب وغيره والشرط الشرعي وغيره سيأتي
بطلانه، وأنه لا تفاوت في باب الملازمة بين مقدمة ومقدمة.

(1) هو محمد بن علي الطيب، أبو الحسين البصري المعتزلي، ولد في البصرة وتوفي ببغداد سنه
(436) ه‍ ومن كتبه " المعتمد " في أصول الفقه - أعلام الزركلي ج 7 / 161.
299

ولا بأس بذكر الاستدلال الذي هو كالأصل لغيره - مما ذكره الأفاضل
عن الاستدلالات - وهو ما ذكره أبو الحسين البصري، وهو أنه لو لم يجب
المقدمة لجاز تركها، وحينئذ، فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف
بما لا يطاق، وإلا خرج الواجب المطلق عن وجوبه.
وفيه: - بعد إصلاحه بإرادة عدم المنع الشرعي من التالي في الشرطية
الأولى، لا الإباحة الشرعية، وإلا كانت الملازمة واضحة البطلان، وإرادة
الترك عما أضيف إليه الظرف، لا نفس الجواز، وإلا فمجرد الجواز بدون
الترك، لا يكاد يتوهم [معه] صدق القضية الشرطية الثانية - ما
لا يخفى، فان الترك بمجرد عدم المنع شرعا لا يوجب صدق إحدى الشرطيتين،
ولا يلزم أحد المحذورين، فإنه وإن لم يبق له وجوب معه، إلا أنه كان ذلك
بالعصيان، لكونه متمكنا من الإطاعة والاتيان، وقد اختار تركه بترك مقدمته
بسوء اختياره، مع حكم العقل بلزوم إتيانها، إرشادا إلى ما في تركها من
العصيان المستتبع للعقاب.
نعم لو كان المراد من الجواز جواز الترك شرعا وعقلا، يلزم أحد
المحذورين، إلا أن الملازمة على هذا في الشرطية الأولى ممنوعة، بداهة أنه لو
لم يجب شرعا لا يلزم أن يكون جائزا شرعا وعقلا، لامكان أن لا يكون محكوما
بحكم شرعا، وإن كان واجبا عقلا إرشادا، وهذا واضح.
300

كما كان متمكنا قبله، فلا دخل له أصلا في حصول ما هو المطلوب من ترك
الحرام أو المكروه، فلم يترشح من طلبه طلب ترك مقدمتهما، نعم ما لا يتمكن
معه من الترك المطلوب، لا محالة يكون مطلوب الترك، ويترشح من طلب
تركهما طلب ترك خصوص هذه المقدمة، فلو لم يكن للحرام مقدمة لا يبقى
معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته.
لا يقال: كيف؟ ولا يكاد يكون فعل إلا عن مقدمة لا محالة معها
يوجد، ضرورة أن الشئ ما لم يجب لم يوجد.
فإنه يقال: نعم لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام،
لكنه لا يلزم أن يكون ذلك من المقدمات الاختيارية، بل من المقدمات الغير
الاختيارية، كمبادئ الاختيار التي لا تكون بالاختيار، والا لتسلسل، فلا
تغفل، وتأمل.
فصل
الامر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده، أو لا؟
فيه أقوال، وتحقيق الحال يستدعي رسم أمور:
الأول: الاقتضاء في العنوان أعم من أن يكون بنحو العينية،
أو الجزئية، أو اللزوم من جهة التلازم بين طلب أحد الضدين، وطلب ترك
302

الآخر، أو المقدمية على ما سيظهر، كما أن المراد بالضد ها هنا، هو مطلق
المعاند والمنافي وجوديا كان أو عدميا.
الثاني: إن الجهة المبحوثة عنها في المسألة، وإن كانت أنه هل يكون
للامر اقتضاء بنحو من الانحاء المذكورة، إلا أنه لما كان عمدة القائلين
بالاقتضاء في الضد الخاص، إنما ذهبوا إليه لاجل توهم مقدمية ترك الضد،
كان المهم صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال وتحقيق المقال، في
المقدمية وعدمها، فنقول وعلى الله الاتكال:
إن توهم توقف الشئ على ترك ضده، ليس إلا من جهة المضادة
والمعاندة بين الوجودين، وقضيتها الممانعة بينهما، ومن الواضحات أن عدم
المانع من المقدمات.
وهو توهم فاسد، وذلك لان المعاندة والمنافرة بين الشيئين، لا تقتضي
إلا عدم اجتماعهما في التحقق، وحيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين وما هو
نقيض الآخر وبديله، بل بينهما كمال الملاءمة، كان أحد العينين مع نقيض
الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم
أحدهما على الآخر، كما لا يخفى.
303

فكما أن قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في
ثبوت الآخر، كذلك في المتضادين، كيف؟ ولو اقتضى التضاد توقف وجود
الشئ على عدم ضده، توقف الشئ على عدم مانعه، لاقتضى توقف عدم
الضد على وجود الشئ توقف عدم الشئ على مانعه، بداهية ثبوت المانعية في
الطرفين، وكون المطاردة من الجانبين، وهو دور واضح.
وما قيل في التفصي عن هذا الدور بأن التوقف من طرف الوجود
فعلي، بخلاف التوقف من طرف العدم، فإنه يتوقف على فرض ثبوت المقتضي
له، مع شراشر شرائطه غر عدم وجود ضده، ولعله كان محالا، لاجل انتهاء
عدم وجود أحد الضدين مع وجود الآخر إلى عدم تعلق الإرادة الأزلية به،
وتعلقها بالآخر حسب ما اقتضته الحكمة البالغة، فيكون العدم دائما مستندا إلى
عدم المقتضي، فلا يكاد يكون مستندا إلى وجود المانع، كي يلزم الدور.
إن قلت: هذا إذا لوحظا منتهيين إلى إرادة شخص واحد، وأما إذا كان
كل منهما متعلقا لإرادة شخص فأراد مثلا أحد الشخصين حركة شئ، وأراد
الآخر سكونه، فيكون المقتضي لكل منهما حينئذ موجودا، فالعدم - لا محالة -
يكون فعلا مستندا إلى وجود المانع.
304

قلت: هاهنا أيضا مستند إلى عدم قدرة المغلوب منهما في إرادته، وهي
مما لا بد منه في وجود المراد، ولا يكاد يكون بمجرد الإرادة بدونها لا إلى وجود
الضد، لكونه مسبوقا بعدم قدرته - كما لا يخفى - غير سديد، فإنه وإن كان قد
ارتفع به الدور، إلا أنه غائلة لزوم توقف الشئ على ما يصلح أن يتوقف عليه
على حالها، لاستحالة أن يكون الشئ الصالح لان يكون موقوفا عليه
[الشئ] موقوفا عليه، ضرورة أنه لو كان في مرتبة يصلح لان يستند إليه، لما
كاد يصح أن يستند فعلا إليه.
والمنع عن صلوحه لذلك بدعوى: أن قضية كون العدم مستندا إلى
وجود الضد، لو كان مجتمعا مع وجود المقتضي، وإن كانت صادقة، إلا أن
صدقها لا يقتضي كون الضد صالحا لذلك، لعدم اقتضاء صدق الشرطية
صدق طرفيها، مساوق لمنع مانعية الضد، وهو يوجب رفع التوقف رأسا
من البين، ضرورة أنه لا منشأ لتوهم توقف أحد الضدين على عدم الآخر، إلا
توهم مانعية الضد - كما أشرنا إليه - وصلوحه لها.
305

إن قلت: التمانع بين الضدين كالنار على المنار، بل كالشمس في
رابعة النهار، وكذا كون عدم المانع مما يتوقف عليه، مما لا يقبل الانكار،
فليس ما ذكر إلا شبهة في مقابل البديهة.
قلت: التمانع بمعنى التنافي والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع مما
لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، إلا أنه لا يقتضي إلا امتناع الاجتماع، وعدم
وجود أحدهما إلا مع عدم الاخر، الذي هو بديل وجوده المعاند له، فيكون في
مرتبته لا مقدما عليه ولو طبعا، والمانع الذي يكون موقوفا عليه الوجود هو
ما كان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره، لا ما يعاند الشئ ويزاحمه في وجوده.
نعم العلة التامة لاحد الضدين، ربما تكون مانعا عن الآخر، ومزاحما
لمقتضيه في تأثيره، مثلا تكون شدة الشفقة على الولد الغريق وكثرة المحبة
له، تمنع عن أن يؤثر ما في الأخ الغريق من المحبة والشفقة، لإرادة إنقاذه
306

مع المزاحمة فينقذ به الولد دونه، فتأمل جيدا.
ومما ذكرنا ظهر أنه لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم، في أن عدمه
الملائم للشئ المناقض لوجوده المعاند لذاك، لا بد أن يجامع معه من غير
مقتض لسبقه، بل عرفت ما يقتضي عدم سبقه.
فانقدح بذلك ما في تفصيل بعض الاعلام، حيث قال بالتوقف على
رفع الضد الموجود، وعدم التوقف على عدم الضد المعدوم، فتأمل في أطراف
ما ذكرناه، فإنه دقيق وبذلك حقيق.
فقد ظهر عدم حرمة الضد من جهة المقدمية.
307

وأما من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود، في الحكم،
فغايته أن لا يكون أحدهما فعلا محكوما بغير ما حكم به الآخر، لا أن يكون
محكوما بحكمه.
وعدم خلو الواقعة عن الحكم، فهو إنما يكون بحسب الحكم الواقعي
لا الفعلي، فلا حرمة للضد من هذه الجهة أيضا، بل على ما هو عليه، لولا
الابتلاء بالمضادة للواجب الفعلي، من الحكم الواقعي.
الامر الثالث: إنه قبل بدلالة الامر بالشئ بالتضمن على النهي عن
الضد العام، بمعنى الترك، حيث أنه يدل على الوجوب المركب من طلب الفعل
والمنع عن الترك. والتحقيق أنه لا يكون الوجوب إلا طلبا بسيطا، ومرتبة
وحيدة أكيدة من الطلب، لا مركبا من طلبين، نعم في مقام تحديد تلك المرتبة
وتعيينها، ربما يقال: الوجوب يكون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن
الترك، ويتخيل منه أنه يذكر له حدا، فالمنع عن الترك ليس من أجزاء
308

الوجوب ومقوماته، بل من خواصه ولوازمه، بمعنى أنه لو التفت الآمر إلى الترك
لما كان راضيا به لا محالة، وكان يبغضه البتة.
ومن هنا انقدح أنه لا وجه لدعوى العينية، ضرورة أن اللزوم يقتضي
الاثنينية، لا الاتحاد والعينية.
نعم لا بأس بها، بأن يكون المراد بها أنه يكون هناك طلب واحد، وهو
كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود وبعثا إليه، كذلك يصح أن ينسب إلى الترك
بالعرض والمجاز ويكون زجرا وردعا عنه، فافهم.
الامر الرابع: تظهر الثمرة في أن نتيجة المسألة، وهي النهي عن الضد
بناء على الاقتضاء، بضميمة أن النهي في العبادات يقتضي الفساد، ينتج فساده
إذا كان عبادة.
وعن البهائي (رحمه الله) أنه أنكر الثمرة، بدعوى أنه لا يحتاج في
استنتاج الفساد إلى النهي عن الضد، بل يكفي عدم الامر به، لاحتياج
العبادة إلى الامر.
309

وفيه: إنه يكفي مجرد الرجحان والمحبوبية للمولى، كي يصح أن يتقرب
به منه، كما لا يخفى، والضد بناء على عدم حرمته يكون كذلك، فإن المزاحمة
على هذا لا يوجب إلا ارتفاع الامر المتعلق به فعلا، مع بقائه على ما هو عليه
من ملاكه من المصلحة، كما هو مذهب العدلية، أو غيرها اي شئ كان، كما هو
مذهب الأشاعرة، وعدم حدوث ما يوجب مبغوضيته وخروجه عن قابلية
التقرب به كما حدث، بناء على الاقتضاء.
ثم إنه تصدى جماعة من الأفاضل، لتصحيح الامر بالضد بنحو الترتب
على العصيان، وعدم إطاعة الامر بالشئ بنحو الشرط المتأخر، أو البناء على
معصيته بنحو الشرط المتقدم، أو المقارن، بدعوى أنه لا مانع عقلا عن تعلق
الامر بالضدين كذلك، اي بأن يكون الامر بالأهم مطلقا، والامر بغيره معلقا
على عصيان ذاك الامر، أو البناء والعزم عليه، بل هو واقع كثيرا عرفا.
قلت: ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد، آت في
طلبهما كذلك، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما، إلا أنه
كان في مرتبة الامر بغيره اجتماعهما، بداهة فعلية الامر بالأهم في هذه المرتبة،
وعدم سقوطه بعد بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص، أو العزم عليها مع
310

فعلية الامر بغيره أيضا، لتحقق ما هو شرط فعليته فرضا.
لا يقال: نعم لكنه بسوء اختيار المكلف حيث يعصي فيما بعد بالاختيار،
فلولاه لما كان متوجها إليه إلا الطلب بالأهم، ولا برهان على امتناع الاجتماع،
إذا كان بسوء الاختيار.
فإنه يقال: استحالة طلب الضدين، ليس إلا لاجل استحالة طلب
المحال، واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته، لا تختص بحال دون
حال، وإلا لصح فيما علق على أمر اختياري في عرض واحد، بلا حاجة في
تصحيحه إلى الترتب، مع أنه محال بلا ريب ولا إشكال.
إن قلت: فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك، فإن
الطلب في كل منهما في الأول يطارد الآخر، بخلافه في الثاني، فإن الطلب بغير
الأهم لا يطارد الأهم، فإنه يكون على تقدير عدم الاتيان بالأهم، فلا
يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه، وعدم عصيان أمره.
قلت: ليت شعري كيف لا يطارده الامر بغير الأهم؟ وهل يكون طرده
له إلا من جهة فعليته، ومضادة متعلقه للأهم؟ والمفروض فعليته، ومضادة
متعلقه له.
311

وعدم إرادة غير الأهم على تقدير الاتيان به لا يوجب عدم طرده لطلبه مع
تحققه، على تقدير عدم الاتيان به وعصيان أمره، فيلزم اجتماعهما على هذا
التقدير، مع ما هما عليه من المطاردة، من جهة المضادة بين المتعلقين، مع أنه
يكفي الطرد من طرف الامر بالأهم، فإنه على هذا الحال يكون طاردا لطلب
الضد، كما كان في غير هذا الحال، فلا يكون له معه أصلا بمجال.
إن قلت: فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدين في العرفيات؟
قلت: لا يخلو: إما أن يكون الامر بغير الأهم، بعد التجاوز عن الامر
به وطلبه حقيقة.
وإما أن يكون الامر به إرشادا إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من
المصلحة والغرض لولا المزاحمة، وأن الاتيان به يوجب استحقاق المثوبة فيذهب
بها بعض ما استحقه من العقوبة على مخالفة الامر بالأهم، لا أنه أمر مولوي
فعلي كالامر به، فافهم وتأمل جيدا.
312

ثم إنه لا أظن أن يلتزم القائل بالترتب، بما هو لازمه من الاستحقاق في
صورة مخالفة الامرين لعقوبتين، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه
العبد، ولذا كان سيدنا الأستاذ (قدس سره) لا يلتزم به - على ما هو
ببالي - وكنا نورد به على الترتب، وكان بصدد تصحيحه، فقد ظهر أنه لا وجه
لصحة العبادة، مع مضادتها لما هو أهم منها، إلا ملاك الامر.
نعم فيما إذا كانت موسعة، وكانت مزاحمة بالأهم ببعض الوقت، لا في
تمامه، يمكن أن يقال: إنه حيث كان الامر بها على حاله، وإن صارت مضيقة
بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها من تحتها، أمكن أن يؤتى بما زوحم منها
بداعي ذاك الامر، فإنه وإن كان خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها، إلا أنه لما
كان وافيا بغرضها كالباقي تحتها، كان عقلا مثله في الاتيان به في مقام
الامتثال، والاتيان به بداعي ذاك الامر، بلا تفاوت في نظره بينهما أصلا.
ودعوى أن الامر لا يكاد يدعو إلا إلى ما هو من افراد الطبيعة المأمور
بها، وما زوحم منها بالأهم، وإن كان من أفراد الطبيعة، لكنه ليس من
313

أفرادها بما هي مأمور بها، فاسدة، فإنه إنما يوجب ذلك، إذا كان خروجه
عنها بما هي كذلك تخصيصا لا مزاحمة، فإنه معها وإن كان لا تعمه الطبيعة
المأمور بها، إلا أنه ليس لقصور فيه، بل لعدم إمكان تعلق الامر بما تعمه
عقلا، وعلى كل حال، فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال وإطاعة الامر
بها، بين هذا الفرد وسائر الافراد أصلا.
هذا على القول بكون الأوامر متعلقة بالطبائع.
وأما بناء على تعلقها بالافراد فكذلك، وإن كان جريانه عليه أخفى، كما
لا يخفى، فتأمل.
ثم لا يخفى أنه بناء على إمكان الترتب وصحته، لا بد من الالتزام
بوقوعه، من دون انتظار دليل آخر عليه، وذلك لوضوح أن المزاحمة على صحة
الترتب لا تقتضي عقلا إلا امتناع الاجتماع في عرض واحد، لا كذلك، فلو
قيل بلزوم الامر في صحة العبادة، ولم يكن في الملاك كفاية، كانت العبادة مع
ترك الأهم صحيحة لثبوت الامر بها في هذا الحال، كما إذا لم تكن هناك
مضادة.
314

فصل
لا يجوز أمر الآمر، مع علمه بانتفاء شرطه، خلافا لما نسب إلى أكثر
مخالفينا (2)، ضرورة أنه لا يكاد يكون الشئ مع عدم علته، كما هو المفروض
هاهنا، فإن الشرط من أجزائها، وانحلال المركب بانحلال بعض أجزائه مما
لا يخفى، وكون الجواز في العنوان بمعنى الامكان الذاتي بعيد عن محل الخلاف
بين الاعلام.
نعم لو كان المراد من لفظ الامر، الامر ببعض مراتبه، ومن الضمير
الراجع إليه بعض مراتبه الاخر، بان يكون النزاع في أن أمر الآمر يجوز إنشاء
مع علمه بانتفاء شرطه، بمرتبة فعلية.
وبعبارة أخرى: كان النزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى
المرتبة الفعلية لعدم شرطه، لكان جائزا، وفي وقوعه في الشرعيات والعرفيات
315

غنى وكفاية، ولا يحتاج معه إلى مزيد بيان أو مؤونة برهان.
وقد عرفت سابقا أن داعي إنشاء الطلب، لا ينحصر بالبعث
والتحريك جدا حقيقة، بل قد يكون صوريا امتحانا، وربما يكون غير ذلك.
ومنع كونه أمرا إذا لم يكن بداعي البعث جدا واقعا، وإن كان في محله،
إلا أن إطلاق الامر عليه، إذا كانت هناك قرينة على أنه بداع آخر غير البعث
توسعا، مما لا بأس به أصلا، كما لا يخفى.
وقد ظهر بذلك حال ما ذكره الاعلام في المقام من النقص والابرام، وربما
يقع به التصالح بين الجانبين ويرتفع النزاع من البين، فتأمل جيدا.
فصل
الحق أن الأوامر والنواهي تكون متعلقة بالطبائع دون الافراد، ولا
316

يخفى أن المراد أن متعلق الطلب في الأوامر هو صرف الايجاد، كما أن متعلقه في
النواهي هو محض الترك، ومتعلقهما هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود والمقيدة
بقيود، تكون بها موافقة للغرض والمقصود، من دون تعلق غرض بإحدى
الخصوصيات اللازمة للوجودات، بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكنا،
لما كان ذلك مما يضر بالمقصود أصلا، كما هو الحال في القضية الطبيعية في غير
الاحكام، بل في المحصورة، على ما حقق في غير المقام.
وفي مراجعة الوجدان للانسان غنى وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك،
حيث يرى إذا راجعه أنه لا غرض له في مطلوباته إلا نفس الطبائع، ولا نظر
له إلا إليها من دون نظر إلى خصوصياتها الخارجية، وعوارضها العينية، وإن
نفس وجودها السعي بما هو وجودها تمام المطلوب، وإن كان ذاك الوجود
317

لا يكاد ينفك في الخارج عن الخصوصية.
فانقدح بذلك أن المراد بتعلق الأوامر بالطبائع دون الافراد، انها بوجودها
السعي بما هو وجودها قبالا لخصوص الوجود، متعلقة للطلب، لا أنها بما هي
هي كانت متعلقة له، كما ربما يتوهم، فإنها كذلك ليست إلا هي، نعم هي
كذلك تكون متعلقة للامر، فإنه طلب الوجود، فافهم.
دفع وهم: لا يخفى أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلقا للطلب،
إنما يكون بمعنى أن الطالب يريد صدور الوجود من العبد، وجعله بسيطا الذي
هو مفاد كان التامة، وإفاضته، لا أنه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج كي
يلزم طلب الحاصل، كما توهم، ولا جعل الطلب متعلقا بنفس الطبيعة، وقد
جعل وجودها غاية لطلبها.
318

وقد عرفت أن الطبيعة بما هي هي ليست إلا هي، لا يعقل أن يتعلق بها
طلب لتوجد أو تترك، وأنه لا بد في تعلق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم
معها، فيلاحظ وجودها فيطلبه ويبعث إليه، كي يكون ويصدر منه، هذا بناء
على أصالة الوجود.
وأما بناء على أصالة الماهية، فمتعلق الطلب ليس هو الطبيعة بما هي
أيضا، بل بما هي بنفسها في الخارج، فيطلبها كذلك لكي يجعلها بنفسها من
الخارجيات والأعيان الثابتات، لا بوجودها كما كان الامر بالعكس على أصالة
الوجود.
وكيف كان فيلحظ الآمر ما هو المقصود من الماهية الخارجية أو الوجود،
فيطلبه ويبعث نحوه ليصدر منه ويكون ما لم يكن، فافهم وتأمل جيدا.
319

فصل
إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ، على بقاء الجواز
بالمعنى الأعم، ولا بالمعنى الأخص، كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من
الاحكام، ضرورة أن ثبوت كل واحد من الاحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع
الوجوب واقعا ممكن، ولا دلالة لواحد من دليلي الناسخ والمنسوخ - بإحدى
الدلالات - على تعيين واحد منها، كما هو أوضح من أن يخفى، فلا بد للتعيين
من دليل آخر، ولا مجال لاستصحاب الجواز، إلا بناء على جريانه في القسم
320

الثالث من أقسام استصحاب الكلي، وهو ما إذا شك في حدوث فرد كلي مقارنا
لارتفاع فرده الآخر، وقد حققنا في محله، أنه لا يجري الاستصحاب فيه،
ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع،
بحيث عد عرفا - لو كان - أنه باق، لا أنه أمر حادث غيره.
ومن المعلوم أن كل واحد من الاحكام مع الآخر عقلا وعرفا، من
المباينات والمتضادات، غير الوجوب والاستحباب، فإنه وإن كان بينهما التفاوت
بالمرتبة والشدة والضعف عقلا إلا أنهما متباينان عرفا، فلا مجال للاستصحاب إذا
شك في تبدل أحدهما بالآخر، فإن حكم العرف ونظره يكون متبعا في هذا
الباب.
321

فصل
إذا تعلق الامر بأحد الشيئين أو الأشياء، ففي وجوب كل واحد على
التخيير، بمعنى عدم جوز تركه إلا إلى بدل، أو وجوب الواحد لا بعينه، أو وجوب
كل منهما مع السقوط بفعل أحدهما، أو وجوب المعين عند الله، أقوال.
والتحقيق أن يقال: إنه إن كان الامر بأحد الشيئين، بملاك أنه هناك
غرض واحد يقوم به كل واحد منهما، بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام
322

الغرض، ولذا يسقط به الامر، كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما،
وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا، وذلك لوضوح أن الواحد
لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان، ما لم يكن بينهما جامع في البين، لاعتبار
نحو من السنخية بين العلة والمعلول.
وعليه: فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي، لبيان أن الواجب هو
الجامع بين هذين الاثنين.
323

وإن كان بملاك أنه يكون في كل واحد منهما غرض، لا يكاد يحصل مع
حصول الغرض في الآخر بإتيانه، كان كل واحد واجبا بنحو من الوجوب،
يستكشف عنه تبعاته، من عدم جواز تركه إلا إلى الآخر، وترتب الثواب على
فعل الواحد منهما، والعقاب على تركهما، فلا وجه في مثله للقول بكون
الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقا ولا مفهوما، كما هو واضح، إلا أن
324

يرجع إلى ما ذكرنا فيما إذا كان الامر بأحدهما بالملاك الأول، من أن الواجب هو
الواحد الجامع بينهما، ولا أحدهما معينا، مع كون كل منهما مثل الآخر في أنه
واف بالغرض [ولا كل واحد منهما تعينا مع السقوط بفعل أحدهما، بداهة عدم
السقوط مع إمكان استيفاء ما في كل منهما من الغرض، وعدم جواز الايجاب
كذلك مع عدم إمكانه فتدبر.
325

ربما يقال، بأنه محال، فإن الأقل إذا وجد كان هو الواجب لا محالة، ولو
كان في ضمن الأكثر، لحصول الغرض به، وكان الزائد عليه من أجزاء الأكثر
زائدا على الواجب، لكنه ليس كذلك، فإنه إذا فرض أن المحصل للغرض فيما
إذا وجد الأكثر، هو الأكثر لا الأقل الذي في ضمنه، بمعنى أن يكون لجميع
أجزائه حينئذ دخل في حصوله، وإن كان الأقل لو لم يكن في ضمنه كان وافيا
به أيضا، فلا محيص عن التخيير بينهما، إذ تخصيص الأقل بالوجوب حينئذ كان
بلا مخصص، فإن الأكثر بحده يكون مثله على الفرض، مثل أن يكون الغرض
الحاصل من رسم الخط مترتبا على الطويل إذا رسم بماله من الحد، لا على
القصير في ضمنه، ومعه كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه؟ ومن الواضح كون
هذا الفرض بمكان من الامكان.
326

إن قلت: هبه في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد، لم يكن للأقل في
ضمنه وجود على حدة، كالخط الطويل الذي رسم دفعة بلا تخلل سكون في
البين، لكنه ممنوع فيما كان له في ضمنه وجود، كتسبيحة في ضمن تسبيحات
ثلاث، أو خط طويل رسم مع تخلل العدم في رسمه، فإن الأقل قد وجد
بحده، وبه يحصل الغرض على الفرض، ومعه لا محالة يكون الزائد عليه مما
لا دخل له في حصوله، فيكون زائدا على الواجب، لا من اجزائه.
قلت: لا يكاد يختلف الحال بذاك، فإنه مع الفرض لا يكاد يترتب
الغرض على الأقل في ضمن الأكثر، وإنما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام،
ومعه كان مترتبا على الأكثر بالتمام.
327

وبالجملة إذا كان كل واحد من الأقل والأكثر بحده مما يترتب عليه
الغرض، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما، وكان التخيير بينهما عقليا
إن كان هناك غرض واحد، وتخييرا شرعيا فيما كان هناك غرضان، على ما
عرفت.
نعم لو كان الغرض مترتبا على الأقل، من دون دخل للزائد، لما كان
الأكثر مثل الأقل وعدلا له، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره، مستحبا كان
أو غيره، حسب اختلاف الموارد، فتدبر جيدا.
فصل
في الوجوب الكفائي:
والتحقيق أنه سنخ من الوجوب، وله تعلق بكل واحد، بحيث لو أخل
بامتثاله الكل لعوقبوا على مخالفته جميعا، وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم،
وذلك لأنه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد، حصل بفعل واحد، صادر
عن الكل أو البعض.
328

كما أن الظاهر هو امتثال الجميع لو أتوا به دفعة، واستحقاقهم للمثوبة،
وسقوط الغرض بفعل الكل، كما هو قضية توارد العلل المتعددة على معلول
واحد.
329

فصل
لا يخفى أنه وإن كان الزمان مما لا بد منه عقلا في الواجب، إلا أنه تارة مما له
دخل فيه شرعا فيكون موقتا، وأخرى لا دخل له فيه أصلا فهو غير موقت،
والموقت إما أن يكون الزمان المأخوذ فيه بقدره فمضيق، وإما أن يكون أوسع
منه فموسع.
ولا يذهب عليك أن الموسع كلي، كما كان له أفراد دفعية، كان له أفراد
تدريجية، يكون التخيير بينها كالتخيير بين أفرادها الدفعية عقليا.
ولا وجه لتوهم أن يكون التخيير بينها شرعيا، ضرورة أن نسبتها إلى
الواجب نسبة أفراد الطبائع إليها، كما لا يخفى، ووقوع الموسع فضلا عن
330

إمكانه، مما لا ريب فيه، ولا شبهة تعتريه، ولا اعتناء ببعض التسويلات كما
يظهر من المطولات.
ثم إنه لا دلالة للامر بالموقت بوجه على الامر به في خارج الوقت، بعد
فوته في الوقت، لو لم نقل بدلالته على عدم الامر به.
نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل، لم يكن له إطلاق على التقييد
بالوقت، وكان لدليل الواجب إطلاق، لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد
انقضاء الوقت، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله.
وبالجملة: التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب، كذلك ربما
يكون بنحو تعدد المطلوب، بحيث كان أصل الفعل، ولو في خارج الوقت
مطلوبا في الجملة، وإن لم يكن بتمام المطلوب، إلا أنه لا بد في إثبات أنه بهذا
331

النحو من دلالة، ولا يكفي الدليل على الوقت إلا فيما عرفت، ومع عدم
الدلالة فقضية أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت، ولا مجال
لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت، فتدبر جيدا.
فصل
الامر بالأمر بشئ، أمر به لو كان الغرض حصوله، ولم يكن له غرض
في توسيط أمر الغير به إلا تبليغ أمره به، كما هو المتعارف في أمر الرسل بالأمر
أو النهي. وأما لو كان الغرض من ذلك يحصل بأمره بذاك الشئ، من دون
تعلق غرضه به، أو مع تعلق غرضه به لا مطلقا، بل بعد تعلق أمره به، فلا يكون أمرا
بذاك الشئ، كما لا يخفى.
وقد انقدح بذلك أنه لا دلالة بمجرد الامر بالأمر، على كونه أمرا به، ولا بد في الدلالة
332

عليه من قرينة عليه.
فصل
إذا ورد أمر بشئ بعد الامر به قبل امتثاله، فهل يوجب تكرار ذاك الشئ، أو تأكيد
الامر الأول، والبعث الحاصل به؟ قضية إطلاق المادة هو التأكيد، فإن الطلب تأسيسا
لا يكاد يتعلق بطبيعة واحدة مرتين، من دون أن يجئ تقييد لها في البين، ولو كان بمثل (مرة
أخرى) كي يكون متعلق كل منهما غير متعلق الاخر، كما لا يخفى، والمنساق من إطلاق
الهيئة، وإن كان هو تأسيس الطلب لا تأكيده، إلا أن الظاهر هو انسباق التأكيد عنها، فيما
كانت مسبوقة بمثلها، ولم يذكر هناك سبب، أو ذكر سبب واحد.
333

المقصد الثاني
النواهي
335

المقصد الثاني: في النواهي
فصل
الظاهر أن النهي بمادته وصيغته في الدلالة على الطلب، مثل الامر بمادته
وصيغته، غير أن متعلق الطلب في أحدهما الوجود، وفي الآخر العدم، فيعتبر
فيه ما استظهرنا اعتباره فيه بلا تفاوت أصلا، نعم يختص النهي بخلاف،
وهو: إن متعلق الطلب فيه، هل هو الكف، أو مجرد الترك وأن لا يفعل؟
337

والظاهر هو الثاني، وتوهم أن الترك ومجرد أن لا يفعل خارج عن تحت
الاختيار، فلا يصح أن يتعلق به البعث والطلب، فاسد، فإن الترك أيضا
يكون مقدورا، وإلا لما كان الفعل مقدورا وصادرا بالإرادة والاختيار، وكون
العدم الأزلي لا بالاختيار، لا يوجب أن يكون كذلك بحسب البقاء والاستمرار
الذي يكون بحسبه محلا للتكليف.
338

ثم إنه لا دلالة لصيغته على الدوام والتكرار، كما لا دلالة لصيغة الامر
وإن كان قضيتهما عقلا تختلف ولو مع وحدة متعلقهما، بأن يكون طبيعة واحدة
بذاتها وقيدها تعلق بها الامر مرة والنهي أخرى، ضرورة أن وجودها يكون
بوجود فرد واحد، وعدمها لا يكاد يكون إلا بعدم الجميع، كما لا يخفى.
339

ومن ذلك يظهر أن الدوام والاستمرار، إنما يكون في النهي إذا كان
متعلقه طبيعة مطلقة غير مقيدة بزمان أو حال، فإنه حينئذ لا يكاد يكون مثل
هذه الطبيعة معدومة، إلا بعدم جميع أفرادها الدفعية والتدريجية.
340

وبالجملة قضية النهي، ليس إلا ترك تلك الطبيعة التي تكون متعلقة له،
كانت مقيدة أو مطلقة، وقضية تركها عقلا، إنما هو ترك جميع أفرادها.
ثم إنه لا دلالة للنهي على إرادة الترك لو خولف، أو عدم إرادته، بل
لا بد في تعيين ذلك من دلالة، ولو كان إطلاق المتعلق من هذه الجهة، ولا يكفي
إطلاقها من سائر الجهات، فتدبر جيدا.
فصل
اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد، وامتناعه، على
341

أقوال: ثالثها: جوازه عقلا وامتناعه عرفا، وقبل الخوض في المقصود
يقدم أمور:
342

الأول: المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين، ومندرجا تحت
عنوانين، بأحدهما كان موردا للامر، وبالآخر للنهي، وإن كان كليا مقولا على
كثيرين، كالصلاة في المغصوب، وإنما ذكر لاخراج ما إذا تعدد متعلق الامر
343

والنهي ولم يجتمعا وجودا، ولو جمعهما واحد مفهوما، كالسجود لله تعالى،
والسجود للصنم مثلا، لا لاخراج الواحد الجنسي أو النوعي كالحركة والسكون
الكليين المعنونين بالصلاتية والغصبية.
الثاني: الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادة، هو أن الجهة
المبحوث عنها فيها التي بها تمتاز المسائل، هي أن تعدد الوجه والعنوان في الواحد
يوجب تعدد متعلق الأمر والنهي، بحيث يرتفع به غائلة استحالة الاجتماع في
الواحد بوجه واحد، أو لا يوجبه، بل يكون حاله حاله، فالنزاع في سراية كل
344

من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر، لاتحاد متعلقيهما وجودا، وعدم سرايته
لتعددهما وجها، وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الأخرى، فإن
البحث فيها في أن النهي في العبادة [أو المعاملة] يوجب فسادها، بعد
الفراغ عن التوجه إليها.
نعم لو قيل بالامتناع مع ترجيح جانب النهي في مسألة الاجتماع، يكون
345

مثل الصلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك المسألة.
فانقدح أن الفرق بين المسألتين في غاية الوضوح، وأما ما أفاده في
الفصول، من الفرق بما هذه عبارته:
(ثم اعلم أن الفرق بين المقام والمقام المتقدم، وهو أن الأمر والنهي هل
يجتمعان في شئ واحد أو لا؟ أما في المعاملات فظاهر، وأما في العبادات، فهو
أن النزاع هناك فيما إذا تعلق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة،
وإن كان بينهما عموم مطلق، وهنا فيما إذا اتحدتا حقيقة وتغايرتا بمجرد الاطلاق
والتقييد، بأن تعلق الامر بالمطلق، والنهي بالمقيد) انتهى موضع الحاجة،
346

فاسد، فإن مجرد تعدد الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات، لا يوجب
التمايز بين المسائل، ما لم يكن هناك اختلاف الجهات، ومعه لا حاجة أصلا
إلى تعددها، بل لا بد من عقد مسألتين، مع وحدة الموضوع وتعدد الجهة
المبحوث عنها، وعقد مسألة واحدة في صورة العكس، كما لا يخفى.
ومن هنا انقدح أيضا فساد الفرق، بأن النزاع هنا في جواز الاجتماع
عقلا، وهناك في دلالة النهي لفظا، فإن مجرد ذلك لو لم يكن تعدد الجهة في
البين، لا يوجب إلا تفصيلا في المسألة الواحدة، لا عقد مسألتين، هذا مع
347

عدم اختصاص النزاع في تلك المسألة بدلالة اللفظ، كما سيظهر.
الثالث: إنه حيث كانت نتيجة هذه المسألة مما تقع في طريق الاستنباط،
كانت المسألة من المسائل الأصولية، لا من مبادئها الأحكامية، ولا التصديقية،
ولا من المسائل الكلامية، ولا من المسائل الفرعية، وإن كانت فيها جهاتها،
كما لا يخفى، ضرورة أن مجرد ذلك لا يوجب كونها منها إذا كانت فيها جهة
أخرى، يمكن عقدها معها من المسائل، إذ لا مجال حينئذ لتوهم عقدها من
348

غيرها في الأصول، وإن عقدت كلامية في الكلام، وصح عقدها فرعية
أو غيرها بلا كلام، وقد عرفت في أول الكتاب أنه لا ضير في كون مسألة
واحدة، يبحث فيها عن جهة خاصة من مسائل علمين، لانطباق جهتين
عامتين على تلك الجهة، كانت بإحداهما من مسائل علم، وبالأخرى من
آخر، فتذكر.
الرابع: إنه قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه، أن المسألة عقلية، ولا
اختصاص للنزاع في جواز الاجتماع والامتناع فيها بما إذا كان الايجاب والتحريم
باللفظ، كما ربما يوهمه التعبير بالأمر والنهي الظاهرين في الطلب بالقول، إلا أنه
349

لكون الدلالة عليهما غالبا بهما، كما هو أوضح من أن يخفى، وذهاب البعض
إلى الجواز عقلا والامتناع عرفا، ليس بمعنى دلالة اللفظ، بل بدعوى أن
الواحد بالنظر الدقيق العقلي اثنين، وأنه بالنظر المسامحي العرفي واحد ذو
وجهين، وإلا فلا يكون معنى محصلا للامتناع العرفي، غاية الامر دعوى دلالة
اللفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع، فتدبر جيدا.
الخامس: لا يخفى أن ملاك النزاع في جواز الاجتماع والامتناع يعم
جميع أقسام الايجاب والتحريم، كما هو قضية إطلاق لفظ الأمر والنهي،
350

ودعوى الانصراف إلى النفسيين التعيينيين العينيين في مادتهما، غير خالية عن
الاعتساف، وإن سلم في صيغتهما، مع أنه فيها ممنوع.
نعم لا يبعد دعوى الظهور والانسباق من الاطلاق، بمقدمات الحكمة
351

الغير الجارية في المقام، لما عرفت من عموم الملاك لجميع الأقسام، وكذا ما وقع
في البين من النقض والابرام، مثلا إذا أمر بالصلاة والصوم تخييرا بينهما،
وكذلك نهي عن التصرف في الدار والمجالسة مع الأغيار، فصلى فيها مع
352

مجالستهم، كان حال الصلاة فيها حالها، كما إذا أمر بها تعيينا، ونهى عن
التصرف فيها كذلك في جريان النزاع في الجواز والامتناع، ومجئ أدلة
الطرفين، وما وقع من النقض والابرام في البين، فتفطن.
353

السادس: إنه ربما يؤخذ في محل النزاع قيد المندوحة في مقام
الامتثال، بل ربما قيل: بأن الاطلاق إنما هو للاتكال على الوضوح، إذ بدونها
يلزم التكليف بالمحال.
ولكن التحقيق مع ذلك عدم اعتبارها في ما هو المهم في محل النزاع من
لزوم المحال، وهو اجتماع الحكمين المتضادين، وعدم الجدوى في كون موردهما
موجها بوجهين في رفع غائلة اجتماع الضدين، أو عدم لزومه، وأن تعدد
الوجه يجدي في رفعها، ولا يتفاوت في ذلك أصلا وجود المندوحة وعدمها،
ولزوم التكليف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع.
354

نعم لا بد من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلا، لمن يرى التكليف بالمحال
محذورا ومحالا، كما ربما لا بد من اعتبار أمر آخر في الحكم به كذلك أيضا.
وى حملة لا وجه لاعتبارها، إلا لاجل اعتبار القدرة على الامتثال، وعدم
لزوم التكليف بالمحال، ولا دخل له بما هو المحذور في المقام من التكليف
المحال، فافهم واغتنم.
السابع: إنه ربما يتوهم تارة أن النزاع في الجواز والامتناع، يبتني على
القول بتعلق الاحكام بالطبائع، وأما الامتناع على القول بتعلقها بالافراد فلا
يكاد يخفى، ضرورة لزوم تعلق الحكمين بواحد شخصي، ولو كان ذا
وجهين على هذا القول.
355

وأخرى أن القول بالجواز مبني على القول بالطبائع، لتعدد متعلق الأمر والنهي
ذاتا عليه، وإن اتحد وجودا، والقول بالامتناع على القول بالافراد،
لاتحاد متعلقهما شخصا خارجا، وكونه فردا واحدا.
وأنت خبير بفساد كلا التوهمين، فإن تعدد الوجه إن كان يجدي بحيث
لا يضر معه الاتحاد بحسب الوجود والايجاد، لكان يجدي ولو على القول بالافراد،
فإن الموجود الخارجي الموجه بوجهين، يكون فردا لكل من الطبيعتين، فيكون
مجمعا لفردين موجودين بوجود واحد، فكما لا يضر وحدة الوجود بتعدد
356

الطبيعتين، لا يضر بكون المجمع اثنين بما هو مصداق وفرد لكل من
الطبيعتين، وإلا لما كان يجدي أصلا، حتى على القول بالطبائع، كما
لا يخفى، لوحدة الطبيعتين وجودا واتحادهما خارجا، فكما أن وحدة الصلاتية
والغصبية في الصلاة في الدار المغصوبة وجودا غير ضائر بتعددهما وكونهما
طبيعتين، كذلك وحدة ما وقع في الخارج من خصوصيات الصلاة فيها وجودا
غير ضائر بكونه فردا للصلاة، فيكون مأمورا به، وفردا للغصب فيكون منهيا
عنه، فهو على وحدته وجودا يكون اثنين، لكونه مصداقا للطبيعتين، فلا
تغفل.
357

الثامن: إنه لا يكاد يكون من باب الاجتماع، إلا إذا كان في كل
واحد من متعلقي الايجاب والتحريم مناط حكمه مطلقا، حتى في مورد
التصادق والاجتماع، كي يحكم على الجواز بكونه فعلا محكوما بالحكمين
وعلى الامتناع بكونه محكوما بأقوى المناطين، أو بحكم آخر غير الحكمين فيما
لم يكن هناك أحدهما أقوى، كما يأتي تفصيله.
358

وأما إذا لم يكن للمتعلقين مناط كذلك، فلا يكون من هذا الباب،
ولا يكون مورد الاجتماع محكوما إلا بحكم واحد منهما، إذا كان له مناطه،
أو حكم آخر غيرهما، فيما لم يكن لواحد منهما، قيل بالجواز والامتناع، هذا
بحسب مقام الثبوت.
359

وأما بحسب مقام الدلالة والاثبات، فالروايتان الدالتان على الحكمين
متعارضتان، إذا أحرز أن المناط من قبيل الثاني، فلا بد من حمل المعارضة حينئذ
بينهما من الترجيح والتخيير، وإلا فلا تعارض في البين، بل كان من باب
التزاحم بين المقتضيين، فربما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلا، لكونه
أقوى مناطا، فلا مجال حينئذ لملاحظة مرجحات الروايات أصلا، بل لا بد من
360

مرجحات المقتضيات المتزاحمات، كما يأتي الإشارة إليها.
نعم لو كان كل منهما متكفلا للحكم الفعلي، لوقع بينهما التعارض، فلا
بد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة، لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على
الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة، فتفطن.
361

المقتضي والمناط في مورد الاجتماع، فيكون من هذا الباب، ولو كان بصدد
الحكم الفعلي، فلا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي في الحكمين على القول
بالجواز، إلا إذا علم إجمالا بكذب أحد الدليلين، فيعامل معهما معاملة
المتعارضين. وأما على القول بالامتناع فالاطلاقان متنافيان، من غير دلالة على
ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلا، فإن انتفاء أحد المتنافيين،
كما يمكن أن يكون لاجل المانع مع ثبوت المقتضي له، يمكن أن يكون لاجل
363

انتفائه، إلا أن يقال: إن قضية التوفيق بينهما، هو حمل كل منهما على الحكم
الاقتضائي، لو لم يكن أحدهما أظهر، وإلا فخصوص الظاهر منهما.
فتلخص أنه كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين، كان
من مسألة الاجتماع، وكلما لم تكن هناك دلالة عليه، فهو من باب التعارض
مطلقا، إذا كانت هناك دلالة على انتفائه في أحدهما بلا تعيين ولو على الجواز،
وإلا فعلى الامتناع.
364

العاشر: إنه لا إشكال في سقوط الامر وحصول الامتثال بإتيان
المجمع بداعي الامر على الجواز مطلقا، ولو في العبادات، وإن كان معصية
للنهي أيضا، وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الامر، إلا أنه لا
معصية عليه، وأما عليه وترجيح جانب النهي فيسقط به الامر به مطلقا في غير
365

العبادات، لحصول الغرض الموجب له، وأما فيها فلا، مع الالتفات إلى
الحرمة أو بدونه تقصيرا، فإنه وإن كان متمكنا - مع عدم الالتفات - من قصد
القربة، وقد قصدها، إلا أنه مع التقصير لا يصلح لان يتقرب به أصلا، فلا
يقع مقربا، وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للامر به عبادة، كما
لا يخفى. وأما إذا لم يلتفت إليها قصورا، وقد قصد القربة بإتيانه، فالامر
يسقط، لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به، لاشتماله على المصلحة، مع
صدوره حسنا لاجل الجهل بحرمته قصورا، فيحصل به الغرض من الامر،
فيسقط به قطعا، وإن لم يكن امتثالا له بناء على تبعية الاحكام لما هو الأقوى من
جهات المصالح والمفاسد واقعا، لا لما هو المؤثر منها فعلا للحسن أو القبح،
لكونهما تابعين لما علم منهما كما حقق في محله.
366

مع أنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك، فإن العقل لا يرى
تفاوتا بينه وبين سائر الافراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها، وإن
لم تعمه بما هي مأمور بها، لكنه لوجود المانع لا لعدم المقتضي.
ومن هنا انقدح أنه يجزي، ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة
العبادة، وعدم كفاية الاتيان بمجرد المحبوبية، كما يكون كذلك في ضد
الواجب، حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلا.
وبالجملة مع الجهل قصورا بالحرمة موضوعا أو حكما، يكون الاتيان
بالمجمع امتثالا، وبداعي الامر بالطبيعة لا محالة، غاية الامر أنه لا يكون مما
تسعه بما هي مأمور بها، لو قيل بتزاحم الجهات في مقام تأثيرها للاحكام
الواقعية، وأما لو قيل بعدم التزاحم إلا في مقام فعلية الاحكام، لكان مما تسعه
وامتثالا لأمرها بلا كلام.
367

وقد انقدح بذلك الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب
متعارضين، وقدم دليل الحرمة تخييرا أو ترجيحا، حيث لا يكون معه مجال
للصحة أصلا، وبين ما إذا كانا من باب الاجتماع.
وقيل بالامتناع، وتقديم جانب الحرمة، حيث يقع صحيحا في غير
مورد من موارد الجهل والنسيان، لموافقته للغرض بل للامر، ومن هنا علم أن
368

الثواب عليه من قبيل الثواب على الإطاعة، لا الانقياد ومجرد اعتقاد الموافقة.
وقد ظهر بما ذكرناه، وجه حكم الأصحاب بصحة الصلاة في الدار
المغصوبة، مع النسيان أو الجهل بالموضوع، بل أو الحكم إذا كان عن قصور،
مع أن الجل لولا الكل قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة، ويحكمون بالبطلان في
غير موارد العذر، فلتكن من ذلك على ذكر.
إذا عرفت هذه الأمور،
فالحق هو القول بالامتناع، كما ذهب إليه المشهور، وتحقيقه على
وجه يتضح به فساد ما قيل، أو يمكن أن يقال، من وجوه الاستدلال لسائر
الأقوال، يتوقف على تمهيد مقدمات:
369

إحداها: إنه لا ريب في أن الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها،
وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين
البعث نحو واحد في زمان والزجر عنه في ذاك الزمان، وإن لم يكن بينها مضادة
ما لم يبلغ إلى تلك المرتبة، لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الانشائية قبل
البلوغ إليها، كما لا يخفى، فاستحالة اجتماع الأمر والنهي في واحد لا تكون
من باب التكليف بالمحال، بل من جهة أنه بنفسه محال، فلا يجوز عند من
يجوز التكليف بغير المقدور أيضا.
370

ثانيتها: إنه لا شبهة في أن متعلق الاحكام، هو فعل المكلف وما هو في
الخارج يصدر عنه، وهو فاعله وجاعله، لا ما هو اسمه، وهو واضح، ولا ما
هو عنوانه مما قد انتزع عنه، بحيث لولا انتزاعه تصورا واختراعه ذهنا، لما كان
بحذائه شئ خارجا ويكون خارج المحمول، كالملكية والزوجية والرقية والحرية
والمغصوبية، إلى غير ذلك من الاعتبارات والإضافات، ضرورة أن البعث
ليس نحوه، والزجر لا يكون عنه، وإنما يؤخذ في متعلق الاحكام آلة للحاظ
371

متعلقاتها، والإشارة إليها، بمقدار الغرض منها والحاجة إليها، لا بما هو هو
وبنفسه، وعلى استقلاله وحياله.
ثالثتها: إنه لا يوجب تعدد الوجه والعنوان تعدد المعنون، ولا ينثلم به
وحدته، فإن المفاهيم المتعددة والعناوين الكثيرة ربما تنطبق على الواحد،
وتصدق على الفارد الذي لا كثرة فيه من جهة، بل بسيط من جميع الجهات،
ليس فيه حيث غير حيث، وجهة مغايرة لجهة أصلا، كالواجب تبارك وتعالى،
فهو على بساطته ووحدته وأحديته، تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلالية
والجمالية، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا، لكنها بأجمعها حاكية عن ذاك
الواحد الفرد الأحد.
372

عباراتنا شتى وحسنك واحد * وكل إلى ذاك الجمال يشير
رابعتها: إنه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد، إلا ماهية واحدة
وحقيقة فاردة، لا يقع في جواب السؤال عن حقيقته بما هو إلا تلك الماهية،
فالمفهومان المتصادقان على ذاك لا يكاد يكون كل منهما ماهية وحقيقة، وكانت
عينه في الخارج كما هو شأن الطبيعي وفرده، فيكون الواحد وجودا واحدا ماهية
وذاتا لا محالة، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلقا الأمر والنهي، إلا أنه كما
يكون واحدا وجودا، يكون واحدا ماهية وذاتا، ولا يتفاوت فيه القول بأصالة
الوجود أو أصالة الماهية.
373

ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في المسألة، على القولين في
تلك المسألة، كما توهم في الفصول، كما ظهر عدم الابتناء على تعدد وجود
الجنس والفصل في الخارج، وعدم تعدده، ضرورة عدم كون العنوانين
المتصادقين عليه من قبيل الجنس والفصل له، وإن مثل الحركة في دار من اي
مقولة كانت، لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيتها ويتخلف ذاتياتها، وقعت جزءا
للصلاة أو لا، كانت تلك الدار مغصوبة أو لا.
374

إذا عرفت ما مهدناه، عرفت أن المجمع حيث كان واحدا وجودا وذاتا،
كان تعلق الأمر والنهي به محالا، ولو كان تعلقهما به بعنوانين، لما عرفت من
كون فعل المكلف بحقيقته وواقعيته الصادرة عنه، متعلقا للاحكام لا بعناوينه
الطارئة عليه، وأن غائلة اجتماع الضدين فيه لا تكاد ترتفع بكون الاحكام
تتعلق بالطبائع لا الافراد، فإن غاية تقريبه أن يقال: إن الطبائع من حيث
هي هي، وإن كانت ليست إلا هي، ولا تتعلق بها الأحكام الشرعية، كالآثار
375

العادية والعقلية، إلا أنها مقيدة بالوجود، بحيث كان القيد خارجا والتقيد
داخلا، صالحة لتعلق الاحكام بها، ومتعلقا الأمر والنهي على هذا لا يكونان
متحدين أصلا، لا في مقام تعلق البعث والزجر، ولا في مقام عصيان النهي
وإطاعة الامر بإتيان المجمع بسوء الاختيار.
أما في المقام الأول، فلتعددهما بما هما متعلقان لهما وإن كانا متحدين فيما
هو خارج عنهما، بما هما كذلك.
376

وأما في المقام الثاني، فلسقوط أحدهما بالإطاعة، والآخر بالعصيان بمجرد
الاتيان، ففي أي مقام اجتمع الحكمان في واحد؟.
وأنت خبير بأنه لا يكاد يجدي بعد ما عرفت، من أن تعدد العنوان
لا يوجب تعدد المعنون لا وجودا ولا ماهية، ولا تنثلم به وحدته أصلا، وأن
المتعلق للاحكام هو المعنونات لا العنوانات، وأنها إنما تؤخذ في المتعلقات بما
377

هي حاكيات كالعبارات، لا بما هي على حيالها واستقلالها.
كما ظهر مما حققناه: أنه لا يكاد يجدي أيضا كون الفرد مقدمة لوجود
الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه، وأنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة
عدم الانحصار بسوء الاختيار، وذلك - مضافا إلى وضوح فساده، وأن الفرد هو
378

عين الطبيعي في الخارج، كيف؟ والمقدمية تقتضي الاثنينية بحسب الوجود،
ولا تعدد كما هو واضح - أنه إنما يجدي لو لم يكن المجمع واحدا ماهية، وقد
عرفت بما لا مزيد عليه أنه بحسبها أيضا واحد.
ثم إنه قد استدل على الجواز بأمور:
379

منها: إنه لو لم يجز اجتماع الأمر والنهي، لما وقع نظيره وقد وقع،
كما في العبادات المكروهة، كالصلاة في مواضع التهمة وفي الحمام والصيام
في السفر وفي بعض الأيام.
بيان الملازمة: إنه لو لم يكن تعدد الجهة مجديا في إمكان اجتماعهما لما جاز
اجتماع حكمين آخرين في مورد مع تعددها، لعدم اختصاصهما من بين
380

الاحكام بما يوجب الامتناع من التضاد، بداهة تضادها بأسرها، والتالي
باطل، لوقوع اجتماع الكراهة والايجاب أو الاستحباب، في مثل الصلاة في
الحمام، والصيام في السفر، وفي عاشوراء ولو في الحضر، واجتماع الوجوب
أو الاستحباب مع الإباحة أو الاستحباب، في مثل الصلاة في المسجد
أو الدار.
والجواب عنه أما إجمالا: فبأنه لا بد من التصرف والتأويل فيما وقع في
الشرعية مما ظاهره الاجتماع، بعد قيام الدليل على الامتناع، ضرورة ان
الظهور لا يصادم البرهان، مع أن قضية ظهور تلك الموارد، اجتماع الحكمين
فيها بعنوان واحد، ولا يقول الخصم بجوازه كذلك، بل بالامتناع ما لم يكن
بعنوانين وبوجهين، فهو أيضا لا بد [له] من التفصي عن إشكال الاجتماع
فيها لا سيما إذا لم يكن هناك مندوحة، كما في العبادات المكروهة التي لا بدل
لها، فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلا، كما
لا يخفى.
381

وأما تفصيلا: فقد أجيب عنه بوجوه، يوجب ذكرها بما فيها من
النقض والابرام طول الكلام بما لا يسعه المقام، فالأولى الاقتصار على ما هو
التحقيق في حسم مادة الاشكال، فيقال وعلى الله الاتكال: إن العبادات
المكروهة على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته، ولا بدل له، كصوم يوم
عاشوراء، والنوافل المبتدئة في بعض الأوقات.
382

ثانيها: ما تعلق به النهي كذلك، ويكون له البدل، كالنهي عن
الصلاة في الحمام.
ثالثها: ما تعلق النهى به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجودا،
أو ملازم له خارجا، كالصلاة في مواضع التهمة، بناء على كون النهي عنها
لاجل اتحادها مع الكون في مواضعها.
383

أما القسم الأول: فالنهي تنزيها عنه بعد الاجماع على أنه يقع
صحيحا، ومع ذلك يكون تركه أرجح، كما يظهر من مداومة الأئمة عليهم
السلام على الترك، إما لاجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، فيكون
الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض، وإن كان مصلحة الترك أكثر، فهما
حينئذ يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن
أهم في البين، وإلا فيتعين الأهم وإن كان الآخر يقع صحيحا، حيث أنه كان
راجحا وموافقا للغرض، كما هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات بل
الواجبات، وأرجحية الترك من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فيه أصلا،
كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته، ولذا لا يقع
صحيحا على الامتناع، فإن الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب
به، بخلاف المقام، فإنه على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض،
384

كما إذا لم يكن تركه راجحا بلا حدوث حزازة فيه أصلا.
وإما لاجل ملازمة الترك لعنوان كذلك، من دون انطباقه عليه، فيكون
كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت، إلا في أن الطلب المتعلق به حينئذ ليس
بحقيقي، بل بالعرض والمجاز، فإنما يكون في الحقيقة متعلقا بما يلازمه من
العنوان، بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به حقيقة، كما في سائر المكروهات من
غير فرق، إلا أن منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل، وفيه رجحان في
الترك، من دون حزازة في الفعل أصلا، غاية الامر كون الترك أرجح.
385

نعم يمكن أن يحمل النهي - في كلا القسمين - على الارشاد إلى الترك
الذي هو أرجح من الفعل، أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثوابا لذلك، وعليه
يكون النهي على نحو الحقيقة، لا بالعرض والمجاز، فلا تغفل.
وأما القسم الثاني: فالنهي فيه يمكن أن يكون لاجل ما ذكر في القسم
الأول، طابق النعل بالنعل، كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في
الطبيعة المأمور بها، لاجل تشخصها في هذا القسم بمشخص غير ملائم لها، كما
في الصلاة في الحمام، فإن تشخصها بتشخص وقوعها فيه، لا يناسب كونها
معراجا، وإن لم يكن نفس الكون في الحمام بمكروه ولا حزازة فيه أصلا، بل
كان راجحا، كما لا يخفى.
386

وربما يحصل لها لاجل تخصصها بخصوصية شديدة الملاءمة معها مزية فيها
كما في الصلاة في المسجد والأمكنة الشريفة، وذلك لان الطبيعة المأمور بها في
حد نفسها، إذا كانت مع تشخص لا يكون له شدة الملاءمة، ولا عدم الملاءمة
لها مقدار من المصلحة والمزية، كالصلاة في الدار مثلا، وتزداد تلك المزية فيما
كان تشخصها بماله شدة الملاءمة، وتنقص فيما إذا لم تكن له ملاءمة، ولذلك
ينقص ثوابها تارة ويزيد أخرى، ويكون النهي فيه لحدوث نقصان في مزيتها فيه
إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الافراد، ويكون أكثر ثوابا منه، وليكن
387

هذا مراد من قال: إن الكراهة في العبادة بمعنى أنها تكون أقل ثوابا، ولا يرد
عليه بلزوم اتصاف العبادة التي تكون أقل ثوابا من الأخرى بالكراهة، ولزوم
اتصاف ما لا مزيد فيه ولا منقصة بالاستحباب، لأنه أكثر ثوابا مما فيه المنقصة،
لما عرفت من أن المراد من كونه أقل ثوابا، إنما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة
المتشخصة بما لا يحدث معه مزية لها، ولا منقصة من المشخصات، وكذا كونه
أكثر ثوابا، ولا يخفى أن النهي في هذا القسم لا يصح إلا للارشاد، بخلاف
القسم الأول، فإنه يكون فيه مولويا، وإن كان حمله على الارشاد بمكان من
الامكان.
وأما القسم الثالث: فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة المتحدة
مع ذاك العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز، وكان المنهي عنه به حقيقة ذاك
العنوان، ويمكن أن يكون على الحقيقة إرشادا إلى غيرها من سائر الافراد، مما
لا يكون متحدا معه أو ملازما له، إذ المفروض التمكن من استيفاء مزية
العبادة بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان أصلا، هذا على القول بجواز
الاجتماع.
388

وأما على الامتناع، فكذلك في صورة الملازمة، وأما في صورة الاتحاد
وترجيح جانب الامر - كما هو المفروض، حيث أنه صحة العبادة - فيكون حال
النهي فيه حاله في القسم الثاني، فيحمل على ما حمل عليه فيه، طابق النعل
بالنعل، حيث أنه بالدقة يرجع إليه، إذ على الامتناع، ليس الاتحاد مع
العنوان الآخر إلا من مخصصاته ومشخصاته التي تختلف الطبيعة المأمور بها في
المزية زيادة ونقيصة بحسب اختلافها في الملاءمة كما عرفت.
وقد انقدح بما ذكرناه، أنه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة بأقلية
الثواب في القسم الأول مطلقا، وفي هذا القسم على القول بالجواز، كما انقدح
حال اجتماع الوجوب والاستحباب فيها، وأن الامر الاستحبابي يكون على نحو
389

الارشاد إلى أفضل الافراد مطلقا على نحو الحقيقة، ومولويا اقتضائيا كذلك،
وفعليا بالعرض والمجاز فيما كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحب، أو متحدا
معه على القول بالجواز.
ولا يخفى أنه لا يكاد يأتي القسم الأول هاهنا، فإن انطباق عنوان راجح
على الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد إيجابه، لا أنه يوجب استحبابه
أصلا، ولو بالعرض والمجاز، إلا على القول بالجواز، وكذا فيما إذا لازم مثل
هذا العنوان، فإنه لو لم يؤكد الايجاب لما يصحح الاستحباب إلا اقتضائيا
بالعرض والمجاز، فتفطن.
ومنها: إن أهل العرف يعدون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد
المحرم، مطيعا وعاصيا من وجهين، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه
390

عن الكون في مكان خاص، كما مثل به الحاجبي والعضدي، فلو خاطه
في ذاك المكان، عد مطيعا لامر الخياطة وعاصيا للنهي عن الكون في ذلك
المكان.
وفيه - مضافا إلى المناقشة في المثال، بأنه ليس من باب الاجتماع،
ضرورة أن الكون المنهي عنه غير متحد مع الخياطة وجودا أصلا، كما لا يخفى -
المنع إلا عن صدق أحدهما، إما الإطاعة بمعنى الامتثال فيما غلب جانب الامر،
أو العصيان فيما غلب جانب النهي، لما عرفت من البرهان على الامتناع.
391

نعم لا بأس بصدق الإطاعة بمعنى حصول الغرض والعصيان في
التوصليات، وأما في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها، إلا فيما صدر من
المكلف فعلا غير محرم وغير مبغوض عليه، كما تقدم.
بقي الكلام في حال التفصيل من بعض الاعلام، والقول بالجواز عقلا
والامتناع عرفا.
وفيه: إنه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع، إلا طريق
العقل، فلا معنى لهذا التفصيل إلا ما أشرنا إليه من النظر المسامحي الغير
المبتني على التدقيق والتحقيق، وأنت خبير بعدم العبرة به، بعد الاطلاع على
خلافه بالنظر الدقيق، وقد عرفت فيما تقدم أن النزاع ليس في خصوص
مدلول صيغة الأمر والنهي، بل في الأعم، فلا مجال لان يتوهم أن العرف هو
392

المحكم في تعيين المداليل، ولعله كان بين مدلوليهما حسب تعيينه تناف،
لا يجتمعان في واحد ولو بعنوانين، وإن كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب
والحرمة في واحد بوجهين، فتدبر.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: إن الاضطرار إلى ارتكاب الحرام، وإن كان يوجب ارتفاع
حرمته، والعقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه - لو كان - مؤثرا له، كما إذا لم يكن
بحرام بلا كلام، إلا أنه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، بأن يختار ما
يؤدي إليه لا محالة، فإن الخطاب بالزجر عنه حينئذ، وإن كان ساقطا، إلا أنه
حيث يصدر عنه مبغوضا عليه وعصيانا لذاك الخطاب ومستحقا عليه العقاب،
لا يصلح لان يتعلق به الايجاب، وهذا في الجملة مما لا شبهة فيه ولا ارتياب.
393

وإنما الاشكال فيما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره، مما ينحصر به
التخلص عن محذور الحرام، كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسطها
بالاختيار في كونه منهيا عنه، أو مأمورا به، مع جريان حكم المعصية عليه، أو
بدونه، فيه أقوال، هذا على الامتناع.
وأما على القول بالجواز: فعن أبي هاشم أنه مأمور به ومنهي عنه،
واختاره الفاضل القمي، ناسبا له إلى أكثر المتأخرين وظاهر الفقهاء.
والحق أنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه،
وعصيان له بسوء الاختيار، ولا يكاد يكون مأمورا به، كما إذا لم يكن هناك
توقف عليه، أو بلا انحصار به، وذلك ضرورة أنه حيث كان قادرا على ترك
الحرام رأسا، لا يكون عقلا معذورا في مخالفته فيما اضطر إلى ارتكابه بسوء
اختياره، ويكون معاقبا عليه، كما إذا كان ذلك بلا توقف عليه، أو مع عدم
الانحصار به، ولا يكاد يجدي توقف انحصار التخلص عن الحرام به، لكونه بسوء
الاختيار.
394

إن قلت: كيف لا يجديه، ومقدمة الواجب واجبة؟
قلت: إنما يجب المقدمة لو لم تكن محرمة، ولذا لا يترشح الوجوب من
الواجب إلا على ما هو المباح من المقدمات دون المحرمة مع اشتراكهما في
المقدمية.
وإطلاق الوجوب بحيث ربما يترشح منه الوجوب عليها مع انحصار
المقدمة بها، إنما هو فيما إذا كان الواجب أهم من ترك المقدمة المحرمة،
والمفروض هاهنا وإن كان ذلك إلا أنه كان بسوء الاختيار، ومعه لا يتغير عما هو
عليه من الحرمة والمبغوضية، وإلا لكانت الحرمة معلقة على إرادة المكلف
واختياره لغيره، وعدم حرمته مع اختياره له، وهو كما ترى، مع أنه خلاف
الفرض، وأن الاضطرار يكون بسوء الاختيار.
إن قلت: إن التصرف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء
حرام، بلا إشكال ولا كلام، وأما التصرف بالخروج الذي يترتب عليه رفع
395

الظلم، ويتوقف عليه التخلص عن التصرف الحرام، فهو ليس بحرام في حال
من الحالات، بل حاله حال مثل شرب الخمر، المتوقف عليه النجاة من
الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الأوقات.
ومنه ظهر المنع عن كون جميع انحاء التصرف في أرض الغير مثلا حراما
قبل الدخول، وأنه يتمكن من ترك الجميع حتى الخروج، وذلك لأنه لو
لم يدخل لما كان متمكنا من الخروج وتركه، وترك الخروج بترك الدخول رأسا ليس
في الحقيقة إلا ترك الدخول، فمن لم يشرب الخمر، لعدم وقوعه في المهلكة التي
يعالجها به مثلا، لم يصدق عليه إلا أنه لم يقع في المهلكة، لا أنه ما شرب
الخمر فيها، إلا على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، كما لا يخفى.
وبالجملة لا يكون الخروج - بملاحظة كونه مصداقا للتخلص عن الحرام أو
سببا له إلا - مطلوبا، ويستحيل أن يتصف بغير المحبوبية، ويحكم عليه بغير
المطلوبية.
396

قلت: هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما
انحصر به التخلص مأمورا به، وهو موافق لما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله
مقامه، على ما في تقريرات بعض الاجلة، لكنه لا يخفى أن ما به التخلص
عن فعل الحرام أو ترك الواجب، إنما يكون حسنا عقلا ومطلوبا شرعا بالفعل،
وإن كان قبيحا ذاتا إذا لم يتمكن المكلف من التخلص بدونه، ولم يقع بسوء
اختياره: إما في الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام، وإما في الاقدام على
ما هو قبيح وحرام، لولا [أن] به التخلص بلا كلام كما هو المفروض في
المقام، ضرورة تمكنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره.
وبالجملة كان قبل ذلك متمكنا من التصرف خروجا، كما يتمكن منه
دخولا، غاية الامر يتمكن منه بلا واسطة، ومنه بالواسطة، ومجرد عدم
التمكن منه إلا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدورا، كما هو الحال في البقاء،
فكما يكون تركه مطلوبا في جميع الأوقات، فكذلك الخروج، مع أنه مثله في
397

الفرعية على الدخول، فكما لا تكون الفرعية مانعة عن مطلوبيته قبله وبعده،
كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيته، وإن كان العقل يحكم بلزومه إرشادا إلى
اختيار أقل المحذورين وأخف القبيحين.
ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجا وتخلصا عن المهلكة، وأنه إنما
يكون مطلوبا على كل حال لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، وإلا فهو
على ما هو عليه من الحرمة، وإن كان العقل يلزمه إرشادا إلى ما هو أهم وأولى
بالرعاية من تركه، لكون الغرض فيه أعظم، من ترك الاقتحام فيما
يؤدي إلى هلاك النفس، أو شرب الخمر، لئلا يقع في أشد المحذورين منهما،
فيصدق أنه تركهما، ولو بتركه ما لو فعله لادى لا محالة إلى أحدهما، كسائر
الأفعال التوليدية، حيث يكون العمد إليها بالعمد إلى أسبابها، واختيار تركها
بعدم العمد إلى الأسباب، وهذا يكفي في استحقاق العقاب على الشرب
للعلاج، وإن كان لازما عقلا للفرار عما هو أكثر عقوبة.
ولو سلم عدم الصدق إلا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، فهو غير
ضائر بعد تمكنه من الترك، ولو على نحو هذه السالبة، ومن الفعل بواسطة
398

تمكنه مما هو من قبيل الموضوع في هذه السالبة، فيوقع نفسه بالاختيار في
المهلكة، أو يدخل الدار فيعالج بشرب الخمر ويتخلص بالخروج، أو يختار ترك
الدخول والوقوع فيهما، لئلا يحتاج إلى التخلص والعلاج.
إن قلت: كيف يقع مثل الخروج والشرب ممنوعا عنه شرعا ومعاقبا عليه
عقلا؟ مع بقاء ما يتوقف عليه على وجوبه، و [وضوح] سقوط الوجوب
مع امتناع المقدمة المنحصرة، ولو كان بسوء الاختيار، والعقل قد استقل بان
الممنوع شرعا كالممتنع عادة أو عقلا.
قلت: أولا: إنما كان الممنوع كالممتنع، إذا لم يحكم العقل بلزومه
إرشادا إلى ما هو أقل المحذورين، وقد عرفت لزومه بحكمه، فإنه مع لزوم
الاتيان بالمقدمة عقلا، لا بأس في بقاء ذي المقدمة على وجوبه، فإنه حينئذ ليس
من التكليف بالممتنع، كما إذا كانت المقدمة ممتنعة.
وثانيا: لو سلم، فالساقط إنما هو الخطاب فعلا بالبعث والايجاب
لا لزوم إتيانه عقلا، خروجا عن عهدة ما تنجز عليه سابقا، ضرورة أنه لو لم يأت
به لوقع في المحذور الأشد ونقض الغرض الأهم، حيث أنه الآن كما كان عليه
من الملاك والمحبوبية، بلا حدوث قصور أو طروء فتور فيه أصلا، وإنما كان
سقوط الخطاب لاجل المانع، وإلزام العقل به لذلك إرشادا كاف، لا حاجة
معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والايجاب له فعلا، فتدبر جيدا.
وقد ظهر مما حققناه فساد القول بكونه مأمورا به، مع أجراء حكم
399

المعصية عليه نظرا إلى النهي السابق، مع ما فيه من لزوم اتصاف فعل واحد
بعنوان واحد بالوجوب والحرمة، ولا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم
والايجاب، قبل الدخول وبعده، كما في الفصول، مع اتحاد زمان الفعل
المتعلق لهما، وإنما المفيد اختلاف زمانه ولو مع اتحاد زمانهما، وهذا أوضح من
أن يخفى، كيف؟ ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول، عصيانا للنهي السابق،
وإطاعة للامر اللاحق فعلا، ومبغوضا ومحبوبا كذلك بعنوان واحد، وهذا مما
لا يرضى به القائل بالجواز، فضلا عن القائل بالامتناع.
كما لا يجدي في رفع هذه الغائلة، كون النهي مطلقا وعلى كل حال،
وكون الامر مشروطا بالدخول، ضرورة منافاة حرمة شئ كذلك، مع وجوبه
في بعض الأحوال.
وأما القول بكونه مأمورا به ومنهيا عنه، ففيه - مضافا إلى ما عرفت من
امتناع الاجتماع فيما إذا كان بعنوانين، فضلا عما إذا كان بعنوان واحد كما في
المقام، حيث كان الخروج بعنوانه سببا للتخلص، وكان بغير إذن المالك،
وليس التخلص إلا منتزعا عن ترك الحرام المسبب عن الخروج، لا عنوانا
له - أن الاجتماع هاهنا لو سلم أنه لا يكون بمحال، لتعدد العنوان، وكونه
مجديا في رفع غائلة التضاد، كان محالا لاجل كونه طلب المحال، حيث
لا مندوحة هنا، وذلك لضرورة عدم صحة تعلق الطلب والبعث حقيقة بما هو
واجب أو ممتنع، ولو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار، وما قيل أن
الامتناع أو الايجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار، إنما هو في قبال استدلال
400

الأشاعرة للقول بأن الأفعال غير اختيارية، بقضية أن الشئ ما لم يجب
لم يوجد.
فانقدح بذلك فساد الاستدلال لهذا القول، بأن الامر بالتخلص والنهي
عن الغصب دليلان يجب إعمالهما، ولا موجب للتقييد عقلا، لعدم استحالة
كون الخروج واجبا وحراما باعتبارين مختلفين، إذ منشأ الاستحالة: إما لزوم
اجتماع الضدين وهو غير لازم، مع تعدد الجهة، وإما لزوم التكليف بما
لا يطاق وهو ليس بمحال إذا كان مسببا عن سوء الاختيار، وذلك لما عرفت من
ثبوت الموجب للتقييد عقلا ولو كانا بعنوانين، وأن اجتماع الضدين لازم ولو مع
تعدد الجهة، مع عدم تعددها هاهنا، والتكليف بما لا يطاق محال على كل
حال، نعم لو كان بسوء الاختيار لا يسقط العقاب بسقوط التكليف بالتحريم
أو الايجاب.
ثم لا يخفى أنه لا إشكال في صحة الصلاة مطلقا في الدار المغصوبة على
القول بالاجتماع، وأما على القول بالامتناع، فكذلك، مع الاضطرار إلى
الغصب، لا بسوء الاختيار أو معه ولكنها وقعت في حال الخروج، على القول
بكونه مأمورا به بدون إجراء حكم المعصية عليه، أو مع غلبة ملاك الامر
401

على النهي مع ضيق الوقت، أما مع السعة فالصحة وعدمها مبنيان على عدم
اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن الضد واقتضائه، فإن الصلاة في الدار
المغصوبة، وإن كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة، إلا أنه لا شبهة
في أن الصلاة في غيرها تضادها، بناء على أنه لا يبقى مجال مع إحداهما
للأخرى، مع كونها أهم منها، لخلوها من المنقصة الناشئة من قبل اتحادها مع
الغصب، لكنه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه، فالصلاة في الغصب
اختيارا في سعة الوقت صحيحة، وإن لم تكن مأمورا بها.
402

الامر الثاني: قد مر - في بعض المقدمات - أنه لا تعارض بين مثل
خطاب (صل) وخطاب (لا تغصب) على الامتناع، تعارض الدليلين بما هما
دليلان حاكيان، كي يقدم الأقوى منهما دلالة أو سندا، بل إنما هو من باب
تزاحم المؤثرين والمقتضيين، فيقدم الغالب منهما، وإن كان الدليل على مقتضى
الآخر أقوى من دليل مقتضاه، هذا فيما إذا أحرز الغالب منهما، وإلا كان بين
الخطابين تعارض، فيقدم الأقوى منهما دلالة أو سندا، وبطريق الآن يحرز به أن
مدلوله أقوى مقتضيا، هذا لو كان كل من الخطابين متكفلا لحكم فعلي، وإلا
فلا بد من الاخذ بالمتكفل لذلك منهما لو كان، وإلا فلا محيص عن الانتهاء إلى
ما تقتضيه الأصول العملية.
403

ثم لا يخفى أن ترجيح أحد الدليلين وتخصيص الآخر به في المسألة
لا يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأسا، كما هو قضية التقييد
والتخصيص في غيرها مما لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين، بل قضيته ليس
إلا خروجه فيما كان الحكم الذي هو مفاد الآخر فعليا، وذلك لثبوت المقتضي
في كل واحد من الحكمين فيها، فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثرا لها،
لاضطرار أو جهل أو نسيان، كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثرا لها فعلا، كما
404

إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى، أو لم يكن واحد من الدليلين دالا على الفعلية
أصلا.
فانقدح بذلك فساد الاشكال في صحة الصلاة في صورة الجهل أو النسيان
ونحوهما، فيما إذا قدم خطاب (لا تغصب) كما هو الحال فيما إذا كان الخطابان
من أول الامر متعارضين، ولم يكونا من باب الاجتماع أصلا، وذلك لثبوت
المقتضي في هذا الباب كما إذا لم يقع بينهما تعارض، ولم يكونا متكفلين للحكم
الفعلي، فيكون وزان التخصيص في مورد الاجتماع وزان التخصيص العقلي
الناشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلا المختص بما إذا لم يمنع عن
405

تأثيره مانع المقتضي، لصحة مورد الاجتماع مع الامر، أو بدونه فيما كان هناك
مانع عن تأثير المقتضي للنهي له، أو عن فعليته، كما مر تفصيله.
وكيف كان، فلا بد في ترجيح أحد الحكمين من مرجح، وقد ذكروا
لترجيح النهي وجوها:
منها: إنه أقوى دلالة، لاستلزامه انتفاء جميع الافراد، بخلاف الامر.
وقد أورد عليه بأن ذلك فيه من جهة إطلاق متعلقه بقرينة الحكمة،
كدلالة الامر على الاجتزاء بأي فرد كان.
وقد أورد عليه بأنه لو كان العموم المستفاد من النهي بالاطلاق بمقدمات
الحكمة، وغير مستند إلى دلالته عليه بالالتزام، لكان استعمال مثل (لا
تغصب) في بعض أفراد الغصب حقيقة، وهذا واضح الفساد، فتكون دلالته
على العموم من جهة أن وقوع الطبيعة في حيز النفي أو النهي، يقتضي عقلا
سريان الحكم إلى جميع الافراد، ضرورة عدم الانتهاء عنها أو انتفائها، إلا
بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه.
406

قلت: دلالتها على العموم والاستيعاب ظاهرا مما لا ينكر، لكنه من
الواضح أن العموم المستفاد منهما كذلك، إنما هو بحسب ما يراد من متعلقهما،
فيختلف سعة وضيقا، فلا يكاد يدل على استيعاب جميع الافراد، إلا إذا أريد
منه الطبيعة مطلقة وبلا قيد، ولا يكاد يستظهر ذلك مع عدم دلالته عليه
بالخصوص، إلا بالاطلاق وقرينة الحكمة، بحيث لو لم يكن هناك قرينتها
بأن يكون الاطلاق في غير مقام البيان، لم يكد يستفاد استيعاب أفراد الطبيعة،
وذلك لا ينافي دلالتهما على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلق، إذ الفرض عدم
الدلالة على أنه المقيد أو المطلق.
اللهم إلا أن يقال: إن في دلالتهما على الاستيعاب كفاية ودلالة على أن
المراد من المتعلق هو المطلق، كما ربما يدعى ذلك في مثل (كل رجل)، وإن مثل
لفظة (كل) تدل على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة
407

إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة، بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة
ولا بشرط في دلالته على الاستيعاب وإن كان لا يلزم مجاز أصلا، لو أريد منه
خاص بالقرينة، لا فيه لدلالته على استيعاب أفراد ما يراد من المدخول، ولا
فيه إذا كان بنحو تعدد الدال والمدلول، لعدم استعماله إلا فيما وضع له،
والخصوصية مستفادة من دال آخر، فتدبر.
ومنها: إن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
وقد أورد عليه في القوانين، بأنه مطلقا ممنوع، لان في ترك الواجب
أيضا مفسدة إذا تعين.
ولا يخفى ما فيه، فإن الواجب ولو كان معينا، ليس إلا لاجل أن في
فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة، كما أن الحرام
ليس إلا لاجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه.
408

ولكن يرد عليه أن الأولوية مطلقا ممنوعة، بل ربما يكون العكس أولى،
كما يشهد به مقايسة فعل بعض المحرمات مع ترك بعض الواجبات، خصوصا
مثل الصلاة وما يتلو تلوها.
ولو سلم فهو أجنبي عن المقام، فإنه فيما إذا دار بين الواجب
والحرام.
ولو سلم فإنما يجدي فيما لو حصل به القطع.
ولو سلم أنه يجدي ولو لم يحصل، فإنما يجري فيما لا يكون هناك مجال
لأصالة البراءة أو الاشتغال، كما في دوران الامر بين الوجوب والحرمة
التعيينيين، لا فيما تجري، كما في محل الاجتماع، لأصالة البراءة عن حرمته
فيحكم بصحته، ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الأجزاء والشرائط
فإنه لا مانع عقلا إلا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلا ونقلا.
409

نعم لو قيل بأن المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم يكن
الغلبة بمحرزة، فأصالة البراءة غير جارية، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب
لو كان عبادة محكمة، ولو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء والشرائط، لعدم تأتي
قصد القربة مع الشك في المبغوضية، فتأمل.
ومنها: الاستقراء، فإنه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على جانب
الوجوب، كحرمة الصلاة في أيام الاستظهار، وعدم جواز الوضوء من الإناءين
المشتبهين.
وفيه: أنه لا دليل على اعتبار الاستقراء، ما لم يفد القطع.
ولو سلم فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار.
410

ولو سلم فليس حرمة الصلاة في تلك الأيام، ولا عدم جواز الوضوء منهما
مربوطا بالمقام، لان حرمة الصلاة فيها إنما تكون لقاعدة الامكان
والاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضا، فيحكم بجميع أحكامه، ومنها حرمة
الصلاة عليها لا لاجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدعى، هذا لو قيل
بحرمتها الذاتية في أيام الحيض، وإلا فهو خارج عن محل الكلام.
ومن هنا انقدح أنه ليس منه ترك الوضوء من الإناءين، فإن حرمة
الوضوء من الماء النجس ليس إلا تشريعيا، ولا تشريع فيما لو توضأ منهما
احتياطا، فلا حرمة في البين غلب جانبها، فعدم جواز الوضوء منهما ولو
كذلك، بل إراقتهما كما في النص، ليس إلا من باب التعبد، أو من جهة
الابتلاء بنجاسة البدن ظاهرا بحكم الاستصحاب، للقطع بحصول النجاسة
حال ملاقاة المتوضئ من الاناء الثانية، إما بملاقاتها، أو بملاقاة الأولى، وعدم
استعمال مطهر بعده، ولو طهر بالثانية مواضع الملاقاة بالأولى.
411

نعم لو طهرت على تقدير نجاستها بمجرد ملاقاتها، بلا حاجة إلى التعدد
وانفصال الغسالة لا يعلم تفصيلا بنجاستها، وإن علم بنجاستها حين ملاقاة
الأولى أو الثانية إجمالا، فلا مجال لاستصحابها بل كانت قاعدة الطهارة محكمة.
الامر الثالث: الظاهر لحوق تعدد الإضافات، بتعدد العنوانات
والجهات، في أنه لو كان تعدد الجهة والعنوان كافيا مع وحدة المعنون وجودا،
في جواز الاجتماع، كان تعدد الإضافات مجديا، ضرورة أنه يوجب أيضا
اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح عقلا، وبحسب
الوجوب والحرمة شرعا، فيكون مثل (أكرم العلماء ولا تكرم الفساق) من باب
412

الاجتماع (كصل ولا تغصب) لا من باب التعارض، إلا إذا لم يكن للحكم
في أحد الخطابين في مورد الاجتماع مقتض، كما هو الحال أيضا في تعدد
العنوانين، فما يتراءى منهم من المعاملة مع مثل (أكرم العلماء ولا تكرم
الفساق) معاملة تعارض العموم من وجه، إنما يكون بناء على الامتناع،
أو عدم المقتضي لاحد الحكمين في مورد الاجتماع.
فصل
في أن النهي عن الشئ، هل يقتضي فساده أم لا؟
وليقدم أمور:
الأول: إنه قد عرفت في المسألة السابقة الفرق بينهما وبين هذه المسألة،
وإنه لا دخل للجهة المبحوث عنها في إحداهما، بما هو جهة البحث في
الأخرى، وإن البحث في هذه المسألة في دلالة النهي بوجه يأتي تفصيله على
الفساد بخلاف تلك المسألة، فإن البحث فيها في أن تعدد الجهة يجدي في رفع
غائلة اجتماع الأمر والنهي في مورد الاجتماع أم لا؟
413

الثاني: إنه لا يخفى أن عد هذه المسألة من مباحث الألفاظ، إنما هو
لاجل أنه في الأقوال قول بدلالته على الفساد في المعاملات، مع إنكار الملازمة بينه
وبين الحرمة التي هي مفاده فيها، ولا ينافي ذلك أن الملازمة على تقدير ثبوتها
في العبادة إنما تكون بينه وبين الحرمة ولو لم تكن مدلولة بالصيغة، وعلى تقدير
عدمها تكون منتفية بينهما، لامكان أن يكون البحث معه في دلالة الصيغة، بما
تعم دلالتها بالالتزام، فلا تقاس بتلك المسألة التي لا يكاد يكون لدلالة اللفظ
بها مساس، فتأمل جيدا.
414

الثالث: ظاهر لفظ النهي وإن كان هو النهي التحريمي، إلا أن ملاك
البحث يعم التنزيهي، ومعه لا وجه لتخصيص العنوان، واختصاص عموم
ملاكه بالعبادات لا يوجب التخصيص به، كما لا يخفى.
كما لا وجه لتخصيصه بالنفسي، فيعم الغيري إذا كان أصليا، وأما إذا
كان تبعيا، فهو وإن كان خارجا عن محل البحث، لما عرفت أنه في دلالة
النهي والتبعي منه من مقولة المعنى، إلا أنه داخل فيما هو ملاكه، فإن دلالته
على الفساد على القول به فيما لم يكن للارشاد إليه، إنما يكون لدلالته على
415

الحرمة، من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك، كما توهمه
القمي (قدس سره) ويؤيد ذلك أنه جعل ثمرة النزاع في أن الامر بالشئ
يقتضي النهي عن ضده، فساده إذا كان عبادة، فتدبر جيدا.
الرابع: ما يتعلق به النهي، إما أن يكون عبادة أو غيرها، والمراد
بالعبادة - هاهنا - ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له تعالى، موجبا بذاته للتقرب
من حضرته لولا حرمته، كالسجود والخضوع والخشوع له وتسبيحه و تقديسه،
أو ما لو تعلق الامر به كان أمره أمرا عباديا، لا يكاد يسقط إلا إذا أتى به بنحو
قربى، كسائر أمثاله، نحو صوم العيدين والصلاة في أيام العادة، لا ما أمر به
لاجل التعبد به، ولا ما يتوقف صحته على النية، ولا ما لا يعلم انحصار
المصلحة فيها في شئ، كما عرف بكل منها العبادة، ضرورة أنها بواحد
منها، لا يكاد يمكن أن يتعلق بها النهي، مع ما أورد عليها بالانتقاض طردا
أو عكسا، أو بغيره، كما يظهر من مراجعة المطولات، وإن كان الاشكال
بذلك فيها في غير محله، لاجل كون مثلها من التعريفات، ليس بحد
ولا برسم، بل من قبيل شرح الاسم كما نبهنا عليه غير مرة، فلا وجه لإطالة
الكلام بالنقض والابرام في تعريف العبادة، ولا في تعريف غيرها كما هو
العادة.
416

الخامس: إنه لا يدخل في عنوان النزاع إلا ما كان قابلا للاتصاف
بالصحة والفساد، بأن يكون تارة تاما يترتب عليه ما يترقب عنه من الأثر،
وأخرى لا كذلك، لاختلال بعض ما يعتبر في ترتبه، أما ما لا أثر له شرعا،
أو كان أثره مما لا يكاد ينفك عنه، كبعض أسباب الضمان، فلا يدخل في
عنوان النزاع لعدم طروء الفساد عليه كي ينازع في أن النهي عنه يقتضيه أو لا،
فالمراد بالشئ في العنوان هو العبادة بالمعنى الذي تقدم، والمعاملة بالمعنى
الأعم، مما يتصف بالصحة والفساد، عقدا كان أو إيقاعا أو غيرهما، فافهم.
السادس: إن الصحة والفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار
والانظار، فربما يكون شئ واحد صحيحا بحسب أثر أو نظر وفاسدا بحسب
آخر، ومن هنا صح أن يقال: إن الصحة في العبادة والمعاملة لا تختلف، بل
فيهما بمعنى واحد وهو التمامية، وإنما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار
417

التي بالقياس عليها تتصف بالتمامية وعدمها، وهكذا الاختلاف بين الفقيه
والمتكلم في صحة العبادة، إنما يكون لاجل الاختلاف فيما هو المهم لكل منهما من
الأثر، بعد الاتفاق ظاهرا على أنها بمعنى التمامية، كما هي معناها لغة وعرفا.
فلما كان غرض الفقيه، هو وجوب القضاء، أو الإعادة، أو عدم
الوجوب، فسر صحة العبادة بسقوطهما، وكان غرض المتكلم هو حصول
الامتثال الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة، فسرها بما يوافق الامر تارة، وبما
يوافق الشريعة أخرى.
وحيث أن الامر في الشريعة يكون على أقسام: من الواقعي الأولي،
والثانوي، والظاهري، والانظار تختلف في أن الأخيرين يفيدان الاجزاء أو
لا يفيدان، كان الاتيان بعبادة موافقة لامر ومخالفة لآخر، أو مسقطا للقضاء
والإعادة بنظر، وغير مسقط لهما بنظر آخر، فالعبادة الموافقة للامر الظاهري،
تكون صحيحة عند المتكلم والفقيه، بناء على أن الامر في تفسير الصحة بموافقة
418

الامر أعم من الظاهري، مع اقتضائه للاجزاء، وعدم اتصافها بها عند الفقه
بموافقته، بناء على عدم الاجزاء، وكونه مراعى بموافقة الامر الواقعي وعند
المتكلم، بناء على كون الامر في تفسيرها خصوص الواقعي.
تنبيه: وهو أنه لا شبهة في أن الصحة والفساد عند المتكلم، وصفان
اعتباريان ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به وعدمها، وأما الصحة بمعنى
سقوط القضاء والإعادة عند الفقيه، فهي من لوازم الاتيان بالمأمور به بالأمر
الواقعي الأولي عقلا، حيث لا يكاد يعقل ثبوت الإعادة أو القضاء معه جزما،
فالصحة بهذا المعنى فيه، وإن كان ليس بحكم وضعي مجعول بنفسه أو بتبع
تكليف، إلا أنه ليس بأمر اعتباري ينتزع كما توهم، بل مما يستقل به
العقل، كما يستقل باستحقاق المثوبة به وفي غيره، فالسقوط ربما يكون مجعولا،
419

وكان الحكم به تخفيفا ومنة على العباد، مع ثبوت المقتضي لثبوتهما، كما عرفت
في مسألة الاجزاء، كما ربما يحكم بثبوتهما، فيكون الصحة والفساد فيه حكمين
مجعولين لا وصفين انتزاعيين.
نعم، الصحة والفساد في الموارد الخاصة، لا يكاد يكونان مجعولين، بل
إنما هي تتصف بهما بمجرد الانطباق على ما هو المأمور به، هذا في العبادات.
وأما الصحة في المعاملات، فهي تكون مجعولة، حيث كان ترتب الأثر
على معاملة إنما هو بجعل الشارع وترتيبه عليها ولو إمضاء، ضرورة أنه لولا
جعله، لما كان يترتب عليه، لأصالة الفساد.
نعم صحة كل معاملة شخصية وفسادها، ليس إلا لاجل انطباقها مع ما
هو المجعول سببا وعدمه، كما هو الحال في التكليفية من الاحكام، ضرورة أن
اتصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة أو غيرهما، ليس إلا لانطباقه مع ما هو
الواجب أو الحرام.
السابع: لا يخفى أنه لا أصل في المسألة يعول عليه، لو شك في دلالة
النهي على الفساد. نعم، كان الأصل في المسألة الفرعية الفساد، لو لم يكن
هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحة في المعاملة.
420

وأما العبادة فكذلك، لعدم الامر بها مع النهي عنها، كما لا يخفى.
الثامن: إن متعلق النهي إما أن يكون نفس العبادة، أو جزأها،
أو شرطها الخارج عنها، أو وصفها الملازم لها كالجهر والاخفات للقراءة،
أو وصفها الغير الملازم كالغصبية لأكوان الصلاة المنفكة عنها.
لا ريب في دخول القسم الأول في محل النزاع، وكذا القسم الثاني بلحاظ
أن جزء العبادة عبادة، إلا أن بطلان الجزء لا يوجب بطلانها، إلا مع الاقتصار
عليه، لا مع الاتيان بغيره مما لا نهي عنه، إلا أن يستلزم محذورا آخر.
وأما القسم الثالث، فلا يكون حرمة الشرط والنهي عنه موجبا لفساد
العبادة، إلا فيما كان عبادة، كي تكون حرمته موجبة لفساده المستلزم لفساد
المشروط به.
وبالجملة لا يكاد يكون النهي عن الشرط موجبا لفساد العبادة المشروطة
به، لو لم يكن موجبا لفساده، كما إذا كانت عبادة.
وأما القسم الرابع، فالنهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن
موصوفه، فيكون النهي عن الجهر في القراءة مثلا مساوقا للنهي عنها، لاستحالة
كون القراءة التي يجهر بها مأمورا بها، مع كون الجهر بها منهيا عنه فعلا، كما
لا يخفى.
وهذا بخلاف ما إذا كان مفارقا، كما في القسم الخامس، فإن النهي عنه
421

لا يسري إلى الموصوف، إلا فيما إذا اتحد معه وجودا، بناء على امتناع
الاجتماع، وأما بناء على الجواز فلا يسري إليه، كما عرفت في المسألة السابقة،
هذا حال النهي المتعلق بالجزء أو الشرط أو الوصف.
وأما النهي عن العبادة لاجل أحد هذه الأمور، فحاله حال النهي عن
أحدها إن كان من قبيل الوصف بحال المتعلق. وبعبارة أخرى: كان النهي
عنها بالعرض، وإن كان النهي عنها على نحو الحقيقة، والوصف بحاله، وإن
كان بواسطة أحدها، إلا أنه من قبيل الواسطة في الثبوت لا العروض، كان
حاله حال النهي في القسم الأول، فلا تغفل.
ومما ذكرنا في بيان أقسام النهي في العبادة، يظهر حال الأقسام في
المعاملة، فلا يكون بيانها على حدة بمهم، كما أن تفصيل الأقوال في الدلالة على
الفساد وعدمها، التي ربما تزيد على العشرة - على ما قيل - كذلك، إنما المهم
بيان ما هو الحق في المسألة، ولا بد في تحقيقه على نحو يظهر الحال في الأقوال،
من بسط المقال في مقامين:
422

الأول في العبادات: فنقول وعلى الله الاتكال: إن النهي المتعلق
بالعبادة بنفسها، ولو كانت جزء عبادة بما هو عبادة - كما عرفت - مقتض
لفسادها، لدلالته على حرمتها ذاتا، ولا يكاد يمكن اجتماع الصحة بمعنى
موافقة الامر أو الشريعة مع الحرمة، وكذا بمعنى سقوط الإعادة، فإنه مترتب
على إتيانها بقصد القربة، وكانت مما يصلح لان يتقرب به، ومع الحرمة لا تكاد
تصلح لذلك، ويتأتى قصدها من الملتفت إلى حرمتها، كما لا يخفى.
لا يقال: هذا لو كان النهي عنها دالا على الحرمة الذاتية، ولا يكاد
يتصف بها العبادة، لعدم الحرمة بدون قصد القربة، وعدم القدرة عليها مع
قصد القربة بها إلا تشريعا، ومعه تكون محرمة بالحرمة التشريعية لا محالة،
ومعه لا تتصف بحرمة أخرى، لامتناع اجتماع المثلين كالضدين.
فإنه يقال: لا ضير في اتصاف ما يقع - عبادة لو كان مأمورا به - بالحرمة
الذاتية، مثلا صوم العيدين كان عبادة منهيا عنها، بمعنى أنه لو أمر به كان
عبادة، لا يسقط الا به إلا إذا أتى به بقصد القربة، كصوم سائر الأيام،
هذا فيما إذا لم يكن ذاتا عبادة، كالسجود لله تعالى ونحوه، وإلا كان محرما مع
كونه فعلا عبادة، مثلا إذا نهي الجنب والحائض عن السجود له تبارك وتعالى،
كان عبادة محرمة ذاتا حينئذ، لما فيه من المفسدة والمبغوضية في هذا الحال، مع
423

أنه لا ضير في اتصافه بهذه الحرمة مع الحرمة التشريعية، بناء على أن الفعل فيها
لا يكون في الحقيقة متصفا بالحرمة، بل إنما يكون المتصف بها ما هو من أفعال
القلب، كما هو الحال في التجري والانقياد، فافهم.
هذا مع أنه لو لم يكن النهي فيها دالا على الحرمة، لكان دالا على
الفساد، لدلالته على الحرمة التشريعية، فإنه لا أقل من دلالته على أنها ليست
بمأمور بها، وإن عمها إطلاق دليل الامر بها أو عمومه، نعم لو لم يكن النهي
عنها إلا عرضا، كما إذا نهى عنها فيما كانت ضد الواجب مثلا، لا يكون
مقتضيا للفساد، بناء على عدم اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن الضد الا كذلك
اي عرضا، فيخصص به أو يقيد.
المقام الثاني في المعاملات: ونخبة القول، أن النهي الدال على
حرمتها لا يقتضي الفساد، لعدم الملازمة فيها - لغة ولا عرفا - بين حرمتها
وفسادها أصلا، كانت الحرمة متعلقة بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة، أو
بمضمونها بما هو فعل بالتسبيب أو بالتسبب بها إليه، وإن لم يكن السبب ولا
المسبب بما هو فعل من الأفعال بحرام، وإنما يقتضي الفساد فيما إذا كان دالا
على حرمة ما لا يكاد يحرم مع صحتها، مثل النهي عن أكل الثمن أو المثمن في
بيع أو بيع شئ.
424

نعم لا يبعد دعوى ظهور النهي عن المعاملة في الارشاد إلى فسادها، كما
أن الامر بها يكون ظاهرا في الارشاد إلى صحتها من دون دلالته على إيجابها أو
استحبابها، كما لا يخفى، لكنه في المعاملات بمعنى العقود والايقاعات،
لا المعاملات بالمعنى الأعم المقابل للعبادات، فالمعول هو ملاحظة القرائن في
خصوص المقامات، ومع عدمها لا محيص عن الاخذ بما هو قضية صيغة النهي
من الحرمة، وقد عرفت أنها غير مستتبعة للفساد، لا لغة ولا عرفا.
نعم ربما يتوهم استتباعها له شرعا، من جهة دلالة غير واحد من الاخبار
عليه، منها ما رواه في الكافي والفقيه، عن زرارة، عن الباقر عليه السلام:
(سأله عن مملوك تزوج بغير إذن سيده، فقال: ذلك إلى سيده، إن شاء أجازه
وإن شاء فرق بينهما، قلت: أصلحك الله تعالى، إن الحكم بن عتيبة
وإبراهيم النخعي وأصحابهما، يقولون: إن أصل النكاح فاسد، ولا يحل
إجازة السيد له، فقال أبو جعفر عليه السلام: إنه لم يعص الله، إنما عصى
سيده، فإذا أجاز فهو له جائز) حيث دل بظاهره ان النكاح لو كان مما حرمه
الله تعالى عليه كان فاسدا، ولا يخفى أن الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية
هاهنا، أن النكاح ليس مما لم يمضه الله ولم يشرعه كي يقع فاسدا، ومن المعلوم
استتباع المعصية بهذا المعنى للفساد كما لا يخفى، ولا بأس بإطلاق المعصية على
عمل لم يمضه الله ولم يأذن به، كما أطلق عليه بمجرد عدم إذن السيد فيه أنه
425

معصية.
وبالجملة: لو لم يكن ظاهرا في ذلك، لما كان ظاهرا فيما توهم، وهكذا
حال سائر الأخبار الواردة في هذا الباب، فراجع وتأمل.
تذنيب: حكي عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة،
وعن الفخر أنه وافقهما في ذلك، والتحقيق انه في المعاملات كذلك إذا
كان عن المسبب أو التسبيب، لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالامر، ولا يكاد
يقدر عليهما إلا فيما كانت المعاملة مؤثرة صحيحة، وأما إذا كان عن السبب،
فلا، لكونه مقدورا وإن لم يكن صحيحا، نعم قد عرفت أن النهي عنه
لا ينافيها.
وأما العبادات فما كان منها عبادة ذاتية كالسجود والركوع والخشوع
والخضوع له تبارك وتعالى، فمع النهي عنه يكون مقدورا، كما إذا كان مأمورا
به، وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأمورا به، فلا يكاد
يقدر عليه إلا إذا قيل باجتماع الأمر والنهي في شئ ولو بعنوان واحد، وهو
محال، وقد عرفت أن النهي في هذا القسم إنما يكون نهيا عن العبادة، بمعنى أنه
لو كان مأمورا به، كان الامر به أمر عبادة لا يسقط إلا بقصد القربة، فافهم.
426

المقصد الثالث
المفاهيم
427

المقصد الثالث: في المفاهيم
مقدمة
وهي: إن المفهوم - كما يظهر من موارد إطلاقه - هو عبارة عن حكم
إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصية المعنى الذي أريد من اللفظ، بتلك
الخصوصية ولو بقرينة الحكمة، وكان يلزمه لذلك، وافقه في الايجاب والسلب
429

أو خالفه، فمفهوم (إن جاءك زيد فأكرمه) مثلا - لو قيل به - قضية شرطية
سالبة بشرطها وجزائها، لازمة للقضية الشرطية التي تكون معنى القضية
اللفظية، وتكون لها خصوصية، بتلك الخصوصية كانت مستلزمة لها، فصح
430

أن يقال: إن المفهوم إنما هو حكم غير مذكور، لا أنه حكم لغير مذكور، كما
فسر به، وقد وقع فيه النقض والابرام بين الاعلام، مع أنه لا موقع له
كما أشرنا إليه في غير مقام، لأنه من قبيل شرح الاسم، كما في التفسير
اللغوي.
431

ومنه قد انقدح حال غير هذا التفسير مما ذكر في المقام، فلا يهمنا التصدي
لذلك، كما لا يهمنا بيان أنه من صفات المدلول أو الدلالة وإن كان بصفات
المدلول أشبه، وتوصيف الدلالة به أحيانا كان من باب التوصيف بحال
المتعلق.
432

وقد انقدح من ذلك أن النزاع في ثبوت المفهوم وعدمه في الحقيقة، إنما
يكون في أن القضية الشرطية أو الوصفية أو غيرهما هل تدل بالوضع أو بالقرينة
العامة على تلك الخصوصية المستتبعة لتلك القضية الأخرى، أم لا؟
433

فصل
الجملة الشرطية هل تدل على الانتفاء عند الانتفاء، كما تدل على
435

الثبوت عند الثبوت بلا كلام، أم لا؟ فيه خلاف بين الاعلام.
لا شبهة في استعمالها وإرادة الانتفاء عند الانتفاء في غير مقام، أنما
الاشكال والخلاف في أنه بالوضع أو بقرينة عامة، بحيث لا بد من الحمل عليه
لو لم يقم على خلافه قرينة من حال أو مقال، فلا بد للقائل بالدلالة من إقامة
الدليل على الدلالة، بأحد الوجهين على تلك الخصوصية المستتبعة لترتب الجزاء
على الشرط، نحو ترتب المعلول على علته المنحصرة.
واما القائل بعدم الدلالة ففي فسحة، فإن له منع دلالتها على اللزوم،
بل على مجرد الثبوت عند الثبوت ولو من باب الاتفاق، أو منع دلالتها على
الترتب، أو على نحو الترتب على العلة، أو العلة المنحصرة بعد تسليم اللزوم
أو العلية.
436

لكن منع دلالتها على اللزوم، ودعوى كونها اتفاقية، في غاية السقوط،
لانسباق اللزوم منها قطعا، وأما المنع عن أنه بنحو الترتب على العلة فضلا عن
كونها منحصرة، فله مجال واسع.
ودعوى تبادر اللزوم والترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة - مع كثرة
استعمالها في الترتب على نحو الترتب على الغير المنحصرة منها بل في مطلق
اللزوم - بعيدة، عهدتها على مدعيها، كيف؟ ولا يرى في استعمالها فيهما
عناية، ورعاية علاقة، بل إنما تكون إرادته كإرادة الترتب على العلة المنحصرة
بلا عناية، كما يظهر على من أمعن النظر وأجال البصر في موارد
الاستعمالات، وفي عدم الالزام والاخذ بالمفهوم في مقام المخاصمات
والاحتجاجات، وصحة الجواب بأنه لم يكن لكلامه مفهوم، وعدم صحته لو
كان له ظهور فيه معلوم.
437

وأما دعوى الدلالة، بادعاء انصراف إطلاق العلاقة اللزومية إلى ما هو
أكمل افرادها، وهو اللزوم بين العلة المنحصرة ومعلولها، ففاسدة جدا، لعدم
كون الأكملية موجبة للانصراف إلى الأكمل، لا سيما مع كثرة الاستعمال في
غيره، كما لا يكاد يخفى.
هذا مضافا إلى منع كون اللزوم بينهما أكمل مما إذا لم تكن العلة
بمنحصرة، فإن الانحصار لا يوجب أن يكون ذاك الربط الخاص الذي لا بد
منه في تأثير العلة في معلولها آكد وأقوى.
إن قلت: نعم، ولكنه قضية الاطلاق بمقدمات الحكمة، كما أن قضية
إطلاق صيغة الامر هو الوجوب النفسي.
قلت: أولا: هذا فيما تمت هناك مقدمات الحكمة، ولا تكاد تتم فيما هو
مفاد الحرف كما هاهنا، وإلا لما كان معنى حرفيا، كما يظهر وجهه بالتأمل.
وثانيا: تعينه من بين أنحائه بالاطلاق المسوق في مقام البيان بلا معين،
ومقايسته مع تعين الوجوب النفسي بإطلاق صيغة الامر مع الفارق، فإن
النفسي هو الواجب على كل حال بخلاف الغيري، فإنه واجب على تقدير دون
438

تقدير، فيحتاج بيانه إلى مؤونة التقييد بما إذا وجب الغير، فيكون الاطلاق في
الصيغة مع مقدمات الحكمة محمولا عليه، وهذا بخلاف اللزوم والترتب بنحو
الترتب على العلة المنحصرة، ضرورة أن كل واحد من أنحاء اللزوم والترتب،
محتاج في تعينه إلى القرينة مثل الآخر، بلا تفاوت أصلا، كما لا يخفى.
ثم إنه ربما يتمسك للدلالة على المفهوم بإطلاق الشرط، بتقريب أنه لو لم
يكن بمنحصر يلزم تقييده، ضرورة أنه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثر وحده،
وقضية إطلاقه أنه يؤثر كذلك مطلقا.
وفيه أنه لا تكاد تنكر الدلالة على المفهوم مع إطلاقه كذلك، إلا أنه من
المعلوم ندرة تحققه، لو لم نقل بعدم اتفاقه.
فتلخص بما ذكرناه، أنه لم ينهض دليل على وضع مثل (إن) على تلك
الخصوصية المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء، ولم تقم عليها قرينة عامة، أما
قيامها أحيانا كانت مقدمات الحكمة أو غيرها، مما لا يكاد ينكر، فلا يجدي
439

القائل بالمفهوم، انه قضية الاطلاق في مقام من باب الاتفاق.
وأما توهم أنه قضية إطلاق الشرط، بتقريب أن مقتضاه تعينه، كما أن
مقتضى إطلاق الامر تعين الوجوب.
ففيه: أن التعين ليس في الشرط نحوا يغاير نحوه فيما إذا كان متعددا، كما
كان في الوجوب كذلك، وكان الوجوب في كل منهما متعلقا بالواجب بنحو
آخر، لا بد في التخييري منهما من العدل، وهذا بخلاف الشرط فإنه واحدا
كان أو متعددا، كان نحوه واحدا ودخله في المشروط بنحو واحد، لا تتفاوت
الحال فيه ثبوتا كي تتفاوت عند الاطلاق إثباتا، وكان الاطلاق مثبتا لنحو لا
يكون له عدل لاحتياج ماله العدل إلى زيادة مؤونة، وهو ذكره بمثل (أو كذا)
واحتياج ما إذا كان الشرط متعددا إلى ذلك إنما يكون لبيان التعدد، لا لبيان
440

نحو الشرطية، فنسبة إطلاق الشرط إليه لا تختلف، كان هناك شرط آخر أم
لا، حيث كان مسوقا لبيان شرطيته بلا إهمال ولا إجمال.
بخلاف إطلاق الامر، فإنه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني،
فلا محالة يكون في مقام الاهمال أو الاجمال، تأمل تعرف. هذا مع أنه لو سلم
لا يجدي القائل بالمفهوم، لما عرفت أنه لا يكاد ينكر فيما إذا كان مفاد الاطلاق
من باب الاتفاق.
ثم إنه ربما استدل المنكرون للمفهوم بوجوه:
أحدها: ما عزي إلى السيد من أن تأثير الشرط، إنما هو تعليق
الحكم به، وليس بممتنع ان يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه، ولا
يخرج عن كونه شرطا، فإن قوله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين من
رجالكم) * يمنع من قبول الشاهد الواحد، حتى ينضم إليه شاهد آخر،
441

فانضمام الثاني إلى الأول شرط في القبول، ثم علمنا أن ضم امرأتين إلى
الشاهد الأول شرط في القبول، ثم علمنا أن ضم اليمين يقوم مقامه أيضا،
فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى، مثل الحرارة، فإن انتفاء
الشمس لا يلزم انتفاء الحرارة، لاحتمال قيام النار مقامها، والأمثلة لذلك
كثيرة شرعا وعقلا.
والجواب: أنه (قدس سره) إن كان بصدد إثبات إمكان نيابة بعض
الشروط عن بعض في مقام الثبوت وفي الواقع، فهو مما لا يكاد ينكر، ضرورة
أن الخصم يدعي عدم وقوعه في مقام الاثبات، ودلالة القضية الشرطية عليه،
وإن كان بصدد إبداء احتمال وقوعه، فمجرد الاحتمال لا يضره، ما لم يكن
بحسب القواعد اللفظية راجحا أو مساويا، وليس فيما أفاده ما يثبت ذلك
أصلا، كما لا يخفى.
442

ممكنا، وإنما وقع النزاع في أن لها دلالة على الانتفاء عند الانتفاء، أو لا يكون
لها دلالة.
ومن هنا انقدح أنه ليس من المفهوم دلالة القضية على الانتفاء عند
الانتفاء في الوصايا والأوقاف والنذور والايمان، كما توهم، بل عن الشهيد
في تمهيد القواعد، أنه لا إشكال في دلالتها على المفهوم، وذلك لان انتفاءها
عن غير ما هو المتعلق لها، من الاشخاص التي تكون بألقابها أو بوصف شئ
أو بشرطه، مأخوذة في العقد أو مثل العهد ليس بدلالة الشرط أو الوصف
444

أو اللقب عليه،، بل لاجل أنه إذا صار شئ وقفا على أحد أو أوصى به أو نذر له،
إلى غير ذلك، لا يقبل أن يصير وقفا على غيره أو وصية أو نذرا له، وانتفاء
شخص الوقف أو النذر أو الوصية عن غير مورد المتعلق، قد عرفت أنه عقلي
مطلقا، ولو قيل بعدم المفهوم في مورد صالح له.
إشكال ودفع: لعلك تقول: كيف يكون المناط في المفهوم هو سنخ
الحكم؟ لا نفس شخص الحكم في القضية، وكان الشرط في الشرطية إنما وقع
شرطا بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه دون غيره، فغاية قضيتها انتفاء ذاك
الحكم بانتفاء شرطه، لا انتفاء سنخه، وهكذا الحال في سائر القضايا التي
تكون مفيدة للمفهوم.
445

ولكنك غفلت عن أن المعلق على الشرط، إنما هو نفس الوجوب الذي
هو مفاد الصيغة ومعناها، وأما الشخص والخصوصية الناشئة من قبل استعمالها
فيه، لا تكاد تكون من خصوصيات معناها المستعملة فيه، كما لا يخفى، كما
لا تكون الخصوصية الحاصلة من قبل الاخبار به، من خصوصيات ما أخبر به
واستعمل فيه إخبارا لا إنشاء.
وبالجملة: كما لا يكون المخبر به المعلق على الشرط خاصا بالخصوصيات
الناشئة من قبل الاخبار به، كذلك المنشأ بالصيغة المعلق عليه، وقد عرفت بما
حققناه في معنى الحرف وشبهه، أن ما استعمل فيه الحرف عام كالموضوع له،
وأن خصوصية لحاظه بنحو الآلية والحالية لغيره من خصوصية الاستعمال، كما
أن خصوصية لحاظ المعنى بنحو الاستقلال في الاسم كذلك، فيكون اللحاظ
الآلي كالاستقلالي، من خصوصيات الاستعمال لا المستعمل فيه.
446

وبذلك قد انقدح فساد ما يظهر من التقريرات في مقام التفصي عن
هذا الاشكال، من التفرقة بين الوجوب الاخباري والانشائي، بأنه كلي في
الأول، وخاص في الثاني، حيث دفع الاشكال بأنه لا يتوجه في الأول، لكون
الوجوب كليا، وعلى الثاني بأن ارتفاع مطلق الوجوب فيه من فوائد العلية
المستفادة من الجملة الشرطية، حيث كان ارتفاع شخص الوجوب ليس
مستندا إلى ارتفاع العلة المأخوذة فيها، فإنه يرتفع ولو لم يوجد في حيال أداة
الشرط كما في اللقب والوصف.
وأورد على ما تفصي به عن الاشكال بما ربما يرجع إلى ما ذكرناه، بما
حاصله: إن التفصي لا يبتني على كلية الوجوب، لما أفاده، وكون الموضوع له
في الانشاء عاما لم يقم عليه دليل، لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه، حيث
أن الخصوصيات بأنفسها مستفادة من الألفاظ.
وذلك لما عرفت من أن الخصوصيات في الانشاءات والاخبارات، إنما
تكون ناشئة من الاستعمالات بلا تفاوت أصلا بينهما، ولعمري لا يكاد
ينقضي تعجبي كيف تجعل خصوصيات الانشاء من خصوصيات المستعمل
فيه؟ مع أنها كخصوصيات الاخبار، تكون ناشئة من الاستعمال، ولا يكاد
يمكن أن يدخل في المستعمل فيه ما ينشأ من قبل الاستعمال، كما هو واضح لمن تأمل.
447

الامر الثاني: إنه إذا تعدد الشرط، مثل (إذا خفي الأذان فقصر،
وإذا خفي الجدران فقصر)، فبناء على ظهور الجملة الشرطية في المفهوم، لا بد
من التصرف ورفع اليد عن الظهور.
إما بتخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر، فيقال بانتفاء وجوب
القصر عند انتفاء الشرطين.
وإما برفع اليد عن المفهوم فيهما، فلا دلالة لهما على عدم مدخلية شئ
آخر في الجزاء، بخلاف الوجه الأول، فإن فيهما الدلالة على ذلك.
وإما بتقييد إطلاق في كل منهما بالآخر، فيكون الشرط هو خفاء
الأذان والجدران معا، فإذا خفيا وجب القصر، ولا يجب عند انتفاء خفائهما ولو
خفي أحدهما.
448

وإما بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما، بأن يكون تعدد الشرط قرينة
على أن الشرط في كل منهما ليس بعنوانه الخاص، بل بما هو مصداق لما يعمهما
من العنوان.
ولعل العرف يساعد على الوجه الثاني، كما أن العقل ربما يعين هذا
الوجه، بملاحظة أن الأمور المتعددة بما هي مختلفة، لا يمكن أن يكون كل منهما
مؤثرا في واحد، فإنه لا بد من الربط الخاص بين العلة والمعلول، ولا يكاد
يكون الواحد بما هو واحد مرتبطا بالاثنين بما هما اثنان، ولذلك أيضا لا
يصدر من الواحد إلا الواحد، فلا بد من المصير إلى أن الشرط في الحقيقة
واحد، وهو المشترك بين الشرطين بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم، وبقاء
إطلاق الشرط في كل منهما على حاله، وإن كان بناء العرف والأذهان العامية
على تعدد الشرط وتأثير كل شرط بعنوانه الخاص، فافهم.
الامر الثالث: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء، فلا إشكال على الوجه
الثالث، وأما على سائر الوجوه، فهل اللازم لزوم الاتيان بالجزاء متعددا،
حسب تعدد الشروط؟ أو يتداخل، ويكتفى بإتيانه دفعة واحدة؟.
449

فيه أقوال: والمشهور عدم التداخل، وعن جماعة منهم المحقق
الخوانساري التداخل، وعن الحلي التفصيل بين اتحاد جنس الشروط وتعدده.
والتحقيق: إنه لما كان ظاهر الجملة الشرطية، حدوث الجزاء عند
حدوث الشرط بسببه، أو بكشفه عن سببه، وكان قضيته تعدد الجزاء عند
تعدد الشرط، كان الاخذ بظاهرها إذا تعدد الشرط حقيقة أو وجودا محالا،
ضرورة أن لازمه أن يكون الحقيقة الواحدة - مثل الوضوء - بما هي واحدة، في
450

مثل (إذا بلت فتوضأ، وإذا نمت فتوضأ)، أو فيما إذا بال مكررا، أو نام
كذلك، محكوما بحكمين متماثلين، وهو واضح الاستحالة كالمتضادين.
فلا بد على القول بالتداخل من التصرف فيه: إما بالالتزام بعدم دلالتها
في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث، بل على مجرد الثبوت، أو الالتزام
بكون متعلق الجزاء وإن كان واحدا صورة، إلا أنه حقائق متعددة حسب تعدد
الشرط، متصادقة على واحد، فالذمة وإن اشتغلت بتكاليف متعددة، حسب
451

تعدد الشروط، إلا أن الاجتزاء بواحد لكونه مجمعا لها، كما في (أكرم هاشميا
وأضف عالما)، فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة، ضرورة أنه بضيافته بداعي
الامرين، يصدق أنه امتثلهما، ولا محالة يسقط الامر بامتثاله وموافقته، وإن
كان له امتثال كل منهما على حدة، كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضيافة، وأضاف
العالم الغير الهاشمي.
إن قلت: كيف يمكن ذلك - أي الامتثال بما تصادق عليه العنوانان -
452

مع استلزامه محذور اجتماع الحكمين المتماثلين فيه؟
قلت: انطباق عنوانين واجبين على واحد لا يستلزم اتصافه بوجوبين،
بل غايته أن انطباقهما عليه يكون منشأ لاتصافه بالوجوب وانتزاع صفته له، مع
أنه - على القول بجواز الاجتماع - لا محذور في اتصافه بهما، بخلاف ما إذا كان
بعنوان واحد، فافهم.
453

أو الالتزام بحدوث الأثر عند وجود كل شرط، إلا أنه وجوب الوضوء في
المثال عند الشرط الأول، وتأكد وجوبه عند الآخر.
ولا يخفى أنه لا وجه لان يصار إلى واحد منها، فإنه رفع اليد عن الظاهر
بلا وجه، مع ما في الأخيرين من الاحتياج إلى إثبات أن متعلق الجزاء متعدد
متصادق على واحد، وإن كان صورة واحدا سمي باسم واحد، كالغسل،
454

وإلى إثبات أن الحادث بغير الشرط الأول تؤكد ما حدث بالأول، ومجرد
الاحتمال لا يجدي، ما لم يكن في البين ما يثبته.
إن قلت: وجه ذلك هو لزوم التصرف في ظهور الجملة الشرطية، لعدم
امكان الاخذ بظهورها، حيث أن قضيته اجتماع الحكمين في الوضوء في
455

المثال، كما مرت الإشارة إليه.
قلت: نعم، إذا لم يكن المراد بالجملة - فيما إذا تعدد الشرط كما في
المثال - هو وجوب وضوء مثلا بكل شرط غير ما وجب بالآخر، ولا ضير في
كون فرد محكوما بحكم فرد آخر أصلا، كما لا يخفى.
إن قلت: نعم، لو لم يكن تقدير تعدد الفرد على خلاف الاطلاق
قلت: نعم، لو لم يكن ظهور الجملة [الشرطية] في كون الشرط
سببا أو كاشفا عن السبب، مقتضيا لذلك أي لتعدد الفرد، وبيانا لما هو
المراد من الاطلاق.
456

وبالجملة: لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور الاطلاق
ضرورة أن ظهور الاطلاق يكون معلقا على عدم البيان، وظهورها في ذلك صالح
لان يكون بيانا، فلا ظهور له مع ظهورها، فلا يلزم على القول بعدم
التداخل تصرف أصلا، بخلاف القول بالتداخل كما لا يخفى.
فتلخص بذلك، أن قضية ظاهر الجملة الشرطية، هو القول بعدم
التداخل عند تعدد الشرط.
457

وقد انقدح مما ذكرناه، أن المجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه
التي ذكرناها، لا مجرد كون الأسباب الشرعية معرفات لا مؤثرات، فلا وجه لما
عن الفخر وغيره، من ابتناء المسألة على أنها معرفات أو مؤثرات، مع أن
الأسباب الشرعية حالها حال غيرها، في كونها معرفات تارة ومؤثرات أخرى،
ضرورة أن الشرط للحكم الشرعي في الجمل الشرطية، ربما يكون مما له
دخل في ترتب الحكم، بحيث لولاه لما وجدت له علة، كما أنه في الحكم الغير
الشرعي، قد يكون أمارة على حدوثه بسببه، وإن كان ظاهر التعليق أن له
الدخل فيهما، كما لا يخفى.
458

نعم، لو كان المراد بالمعرفية في الأسباب الشرعية أنها ليست بدواعي
الاحكام التي هي في الحقيقة علل لها، وإن كان لها دخل في تحقق موضوعاتها،
بخلاف الأسباب الغير الشرعية، فهو وإن كان له وجه، إلا أنه مما لا يكاد
يتوهم أنه يجدي فيما هم وأراد.
459

ثم إنه لا وجه للتفصيل بين اختلاف الشروط بحسب الأجناس
وعدمه، واختيار عدم التداخل في الأول، والتداخل في الثاني، إلا توهم عدم
صحة التعلق بعموم اللفظ في الثاني، لأنه من أسماء الأجناس، فمع تعدد أفراد
شرط واحد لم يوجد إلا السبب الواحد، بخلاف الأول، لكون كل منها سببا،
460

فلا وجه لتداخلها، وهو فاسد.
فإن قضية اطلاق الشرط في مثل (إذا بلت فتوضأ) هو حدوث الوجوب
عند كل مرة لو بال مرات، وإلا فالأجناس المختلفة لا بد من رجوعها إلى
واحد، فيما جعلت شروطا وأسبابا لواحد، لما مرت إليه الإشارة، من أن
461

الأشياء المختلفة بما هي مختلفة لا تكون أسبابا لواحد، هذا كله فيما إذا كان
موضوع الحكم في الجزاء قابلا للتعدد.
وأما ما لا يكون قابلا لذلك، فلا بد من تداخل الأسباب، فيما لا يتأكد
المسبب، ومن التداخل فيه فيما يتأكد.
462

فصل
الظاهر أنه لا مفهوم للوصف وما بحكمه مطلقا، لعدم ثبوت الوضع،
وعدم لزوم اللغوية بدونه، لعدم انحصار الفائدة به، وعدم قرينة أخرى
ملازمة له، وعليته فيما إذا استفيدت غير مقتضية له، كما لا يخفى، ومع كونها
بنحو الانحصار وإن كانت مقتضية له، إلا أنه لم يكن من مفهوم الوصف،
463

ضرورة أنه قضية العلة الكذائية المستفادة من القرينة عليها في خصوص مقام،
وهو ممالا إشكال فيه ولا كلام، فلا وجه لجعله تفصيلا في محل النزاع، وموردا
للنقض والابرام.
ولا ينافي ذلك ما قيل من أن الأصل في القيد أن يكون احترازيا، لان
الاحترازية لا توجب إلا تضييق دائرة موضوع الحكم في القضية، مثل ما إذا
كان بهذا الضيق بلفظ واحد، فلا فرق أن يقال: جئني بإنسان أو بحيوان
464

ناطق، كما أنه لا يلزم في حمل المطلق على المقيد، فيما وجد شرائطه إلا ذلك،
من دون حاجة فيه إلى دلالته على المفهوم، فإنه من المعلوم أن قضية الحمل ليس
إلا أن المراد بالمطلق هو المقيد، وكأنه لا يكون في البين غيره، بل ربما قيل:
إنه لا وجه للحمل لو كان بلحاظ المفهوم، فإن ظهوره فيه ليس بأقوى من
ظهور المطلق في الاطلاق، كي يحمل عليه، لو لم نقل بأنه الأقوى، لكونه
بالمنطوق، كما لا يخفى.
465

وأما الاستدلال على ذلك - أي عدم الدلالة على المفهوم - بآية * (وربائبكم
اللاتي في حجوركم) * ففيه أن الاستعمال في غيره أحيانا مع القرينة مما
لا يكاد ينكر، كما في الآية قطعا، مع أنه يعتبر في دلالته عليه عند القائل
بالدلالة، أن لا يكون واردا مورد الغالب كما في الآية، ووجه الاعتبار واضح،
لعدم دلالته معه على الاختصاص، وبدونها لا يكاد يتوهم دلالته على المفهوم،
فافهم.
466

تذنيب: لا يخفى أنه لا شبهة في جريان النزاع، فيما إذا كان الوصف
أخص من موصوفه ولو من وجه، في مورد الافتراق من جانب الموصوف، وأما
في غيره، ففي جريانه إشكال أظهره عدم جريانه، وإن كان يظهر مما عن بعض
الشافعية، حيث قال: (قولنا في الغنم السائمة زكاة، يدل على عدم الزكاة
في معلوفة الإبل) جريانه فيه، ولعل وجهه استفادة العلية المنحصرة منه.
467

وعليه فيجري فيما كان الوصف مساويا أو أعم مطلقا أيضا، فيدل على
انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه، فلا وجه في التفصيل بينهما وبين ما إذا كان
أخص من وجه، فيما إذا كان الافتراق من جانب الوصف، بأنه لا وجه
للنزاع فيهما، معللا بعدم الموضوع، واستظهار جريانه من بعض الشافعية
فيه، كما لا يخفى، فتأمل جيدا.
468

فصل
هل الغاية في القضية تدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية، بناء على
دخول الغاية في المغيى، أو عنها وبعدها، بناء على خروجها، أو لا؟
فيه خلاف، وقد نسب إلى المشهور الدلالة على الارتفاع، وإلى جماعة
منهم السيد والشيخ، عدم الدلالة عليه.
والتحقيق: إنه إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربية قيدا للحكم،
كما في قوله: (كل شئ حلال حتى تعرف أنه حرام)، و (كل شئ طاهر
حتى تعلم أنه قذر)، كانت دالة على ارتفاعه عند حصولها، لانسباق ذلك
منها كما لا يخفى، وكونه قضية تقييده بها، وإلا لما كان ما جعل غاية له
بغاية، وهو واضح إلى النهاية.
469

وأما إذا كانت بحسبها قيدا للموضوع، مثل (سر من البصرة إلى
الكوفة)، فحالها حال الوصف في عدم الدلالة، وإن كان تحديده بها بملاحظة
حكمه وتعلق الطلب به، وقضيته ليس إلا عدم الحكم فيها إلا بالمغيى، من
دون دلالة لها أصلا على انتفاء سنخه عن غيره، لعدم ثبوت وضع لذلك،
وعدم قرينة ملازمة لها ولو غالبا، دلت على اختصاص الحكم به، وفائدة
التحديد بها كسائر أنحاء التقييد، غير منحصرة بإفادته كما مر في الوصف.
ثم إنه في الغاية خلاف آخر، كما أشرنا إليه، وهو أنها هل هي داخلة في
المغيى بحسب الحكم؟ أو خارجة عنه؟ والأظهر خروجها، لكونها من
حدوده، فلا تكون محكومة بحكمه، ودخوله فيه في بعض الموارد إنما يكون
بالقرينة، وعليه تكون كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الأول، كما أنه على القول
الآخر تكون محكومة بالحكم منطوقا، ثم لا يخفى أن هذا الخلاف لا يكاد
يعقل جريانه فيما إذا كان قيدا للحكم، فلا تغفل.
470

فصل
لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم - سلبا أو إيجابا -
بالمستثنى منه ولا يعم المستثنى، ولذلك يكون الاستثناء من النفي إثباتا، ومن
الاثبات نفيا، وذلك للانسباق عند الاطلاق قطعا، فلا يعبأ بما عن أبي
حنيفة من عدم الإفادة، محتجا بمثل (لا صلاة إلا بطهور) ضرورة ضعف
احتجاجه:
أولا: يكون المراد من مثله أنه لا تكون الصلاة التي كانت واجدة
لاجزائها وشرائطها المعتبرة فيها صلاة، إلا إذا كانت واجدة للطهارة، وبدونها
لا تكون صلاة على وجه، وصلاة تامة مأمورا بها على آخر.
وثانيا: بأن الاستعمال مع القرينة، كما في مثل التركيب، مما علم فيه
الحال لا دلالة له على مدعاه أصلا، كما لا يخفى.
ومنه قد انقدح أنه لا موقع للاستدلال على المدعى، بقبول رسول الله
صلى الله عليه وآله إسلام من قال كلمة التوحيد، لامكان دعوى أن دلالتها على
التوحيد كان بقرينة الحال أو المقال.
471

والاشكال في دلالتها عليه - بأن خبر (لا) اما يقدر (ممكن) أو
(موجود) وعلى كل تقدير لا دلالة لها عليه، أما على الأول: فإنه حينئذ
لا دلالة لها إلا على إثبات إمكان وجوده تبارك وتعالى، لا وجوده، وأما على
الثاني: فلانها وإن دلت على وجوده تعالى، إلا أنه لا دلالة لها على عدم إمكان
إله آخر - مندفع، بأن المراد من الاله هو واجب الوجود، ونفي ثبوته ووجوده
في الخارج، وإثبات فرد منه فيه - وهو الله - يدل بالملازمة البينة على امتناع تحققه
في ضمن غيره تبارك وتعالى، ضرورة أنه لو لم يكن ممتنعا لوجد، لكونه من
أفراد الواجب.
ثم إن الظاهر أن دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم،
وأنه لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه التي دلت عليها الجملة
الاستثنائية، نعم لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة،
كانت بالمنطوق، كما هو ليس ببعيد، وإن كان تعيين ذلك لا يكاد يفيد.
472

ومما يدل على الحصر والاختصاص (إنما) وذلك لتصريح أهل اللغة
بذلك، وتبادره منها قطعا عند أهل العرف والمحاورة.
ودعوى - أن الانصاف أنه لا سبيل لنا إلى ذلك، فإن موارد استعمال
هذه اللفظة مختلفة، ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا، حتى يستكشف
منها ما هو المتبادر منها - غير مسموعة، فإن السبيل إلى التبادر لا ينحصر
بالانسباق إلى أذهاننا، فإن الانسباق إلى أذهان أهل العرف أيضا سبيل.
وربما يعد مما دل على الحصر، كلمة (بل) الاضرابية، والتحقيق أن
الاضراب على أنحاء:
منها: ما كان لاجل أن المضرب عنه، إنما أتى به غفلة أو سبقه به
لسانه، فيضرب بها عنه إلى ما قصد بيانه، فلا دلالة له على الحصر أصلا،
فكأنه أتى بالمضرب إليه ابتداء، كما لا يخفى.
473

ومنها: ما كان لاجل التأكيد، فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة
والتمهيد لذكر المضرب إليه، فلا دلالة له عليه أيضا.
ومنها: ما كان في مقام الردع، وإبطال ما أثبت أولا، فيدل عليه وهو
واضح.
ومما يفيد الحصر - على ما قيل - تعريف المسند إليه باللام، والتحقيق أنه
لا يفيده إلا فيما اقتضاه المقام، لان الأصل في اللام أن تكون لتعريف الجنس،
كما أن الأصل في الحمل في القضايا المتعارفة، هو الحمل المتعارف الذي
ملاكه مجرد الاتحاد في الوجود، فإنه الشائع فيها، لا الحمل الذاتي الذي
ملاكه الاتحاد بحسب المفهوم، كما لا يخفى، وحمل شئ على جنس وماهية
كذلك، لا يقتضي اختصاص تلك الماهية به وحصرها عليه، نعم، لو قامت
474

قرينة على أن اللام للاستغراق، أو أن مدخوله أخذ بنحو الارسال والاطلاق،
أو على أن الحمل عليه كان ذاتيا لأفيد حصر مدخوله على محموله واختصاصه
به.
وقد انقدح بذلك الخلل في كثير من كلمات الاعلام في المقام، وما وقع
منهم من النقض والابرام، ولا نطيل بذكرها فإنه بلا طائل، كما يظهر
للمتأمل، فتأمل جيدا.
475

فصل
لا دلالة للقب ولا للعدد على المفهوم، وانتفاء سنخ الحكم عن غير
موردهما أصلا، وقد عرفت أن انتفاء شخصه ليس بمفهوم، كما أن قضية
التقييد بالعدد منطوقا عدم جواز الاقتصار على ما دونه، لأنه ليس بذاك
الخاص والمقيد، وأما الزيادة فكالنقيصة إذا كان التقييد به للتحديد بالإضافة إلى
كلا طرفيه، نعم لو كان لمجرد التحديد بالنظر إلى طرفه الأقل لما كان في
الزيادة ضير أصلا، بل ربما كان فيها فضيلة وزيادة، كما لا يخفى، وكيف
كان، فليس عدم الاجتزاء بغيره من جهة دلالته على المفهوم، بل إنما يكون
لاجل عدم الموافقة مع ما أخذ في المنطوق، كما هو معلوم.
476

المقصد الرابع
العام والخاص
477

المقصد الرابع: في العام والخاص
فصل
قد عرف العام بتعاريف، وقد وقع من الاعلام فيها النقض بعدم
الاطراد تارة والانعكاس أخرى بما لا يليق بالمقام، فإنها تعاريف لفظية، تقع
في جواب السؤال عنه ب‍ (ما) الشارحة، لا واقعة في جواب السؤال عنه
ب‍ (ما) الحقيقية، كيف؟ وكان المعنى المركوز منه في الأذهان أوضح مما عرف
به مفهوما ومصداقا، ولذا يجعل صدق ذاك المعنى على فرد وعدم صدقه،
المقياس في الاشكال عليها بعدم الاطراد أو الانعكاس بلا ريب فيه ولا شبهة
479

يعتريه من أحد، والتعريف لا بد أن يكون بالأجلى، كما هو أوضح من أن
يخفى.
فالظاهر أن الغرض من تعريفه، إنما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعا بين
ما لا شبهة في أنها أفراد العام، ليشار به إليه في مقام إثبات ما له من الاحكام،
لا بيان ما هو حقيقته وماهيته، لعدم تعلق غرض به بعد وضوح ما هو
محل الكلام بحسب الاحكام من أفراده ومصاديقه، حيث لا يكون بمفهومه
العام محلا لحكم من الاحكام.
480

ثم الظاهر أن ما ذكر له من الأقسام: من الاستغراقي والمجموعي
والبدلي إنما هو باختلاف كيفية تعلق الاحكام به، وإلا فالعموم في الجميع بمعنى
واحد، وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه، غاية الامر أن
تعلق الحكم به تارة بنحو يكون كل فرد موضوعا على حدة للحكم، وأخرى
بنحو يكون الجميع موضوعا واحدا، بحيث لو أخل بإكرام واحد في (أكرم كل
481

فقيه) مثلا، لما امتثل أصلا، بخلاف الصورة الأولى، فإنه أطاع وعصى،
وثالثة بنحو يكون كل واحد موضوعا على البدل، بحيث لو أكرم واحدا منهم،
لقد أطاع وامتثل، كما يظهر لمن أمعن النظر وتأمل.
وقد انقدح أن مثل شمول عشرة وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من
العموم، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كل واحد منها، فافهم.
فصل
لا شبهة في أن للعموم صيغة تخصه - لغة وشرعا - كالخصوص كما يكون
ما يشترك بينهما ويعمهما، ضرورة أن مثل لفظ (كل) وما يرادفه في أي لغة كان
تخصه، ولا يخص الخصوص ولا يعمه، ولا ينافي اختصاصه به استعماله في
الخصوص عناية، بادعاء أنه العموم، أو بعلاقة العموم والخصوص.
482

ومعه لا يصغى إلى أن إرادة الخصوص متيقنة، ولو في ضمنه بخلافه،
وجعل اللفظ حقيقة في المتيقن أولى، ولا إلى التخصيص قد اشتهر وشاع،
حتى قيل: (ما من عام إلا وقد خص)، والظاهر يقتضي كونه حقيقة، لما هو
الغالب تقليلا للمجاز، مع أن تيقن إرادته لا يوجب اختصاص الوضع به، مع
كون العموم كثيرا ما يراد، واشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز، لعدم
الملازمة بين التخصيص والمجازية، كما يأتي توضيحه، ولو سلم فلا محذور فيه
أصلا إذا كان بالقرينة، كما لا يخفى.
483

فصل
ربما عد من الألفاظ الدالة على العموم، النكرة في سياق النفي أو
النهي، ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلا، لضرورة أنه لا يكاد يكون طبيعة
معدومة، إلا إذا لم يكن فرد منها بموجود، وإلا كانت موجودة، لكن لا يخفى
أنها تفيده إذا أخذت مرسلة لا مبهمة قابلة للتقيد، وإلا فسلبها لا يقتضي
إلا استيعاب السلب، لما أريد منها يقينا، لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه
من أفرادها، وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية، فإنها بالإضافة إلى أفراد ما
يراد منها، لا الافراد التي يصلح لانطباقها عليها، كما لا ينافي دلالة مثل لفظ
484

(كل) على العموم وضعا كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله، ولذا
لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة.
نعم لا يبعد أن يكون ظاهرا عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها،
وهذا هو الحال في المحلى باللام جمعا كان أو مفردا - بناء على إفادته للعموم -
ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره، وإطلاق التخصيص على تقييده،
ليس إلا من قبيل (ضيق فم الركية)، لكن دلالته على العموم وضعا محل
منع، بل إنما يفيده فيما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أخرى، وذلك لعدم
اقتضائه وضع اللام ولا مدخوله ولا وضع آخر للمركب منهما، كما
لا يخفى، وربما يأتي في المطلق والمقيد بعض الكلام مما يناسب المقام.
485

فصل
لا شبهة في أن العام المخصص بالمتصل أو المنفصل حجة فيما بقي فيما
علم عدم دخوله في المخصص مطلقا ولو كان متصلا، وما احتمل دخوله فيه
أيضا إذا كان منفصلا، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل لا ينسب
الخلاف إلا إلى بعض أهل الخلاف.
486

وربما فصل بين المخصص المتصل فقيل بحجيته فيه، وبين المنفصل
فقيل بعدم حجيته، واحتج النافي بالاجمال، لتعدد المجازات حسب مراتب
الخصوصيات، وتعيين الباقي من بينها بلا معين ترجيح بلا مرجح.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إنه لا يلزم من التخصيص كون العام
مجازا، أما في التخصيص بالمتصل، فلما عرفت من أنه لا تخصيص أصلا، وإن
أدوات العموم قد استعملت فيه، وإن كان دائرته سعة وضيقا تختلف باختلاف
ذوي الأدوات، فلفظة (كل) في مثل (كل رجل) و (كل رجل عالم) قد
استعملت في العموم، وإن كان أفراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر بل في
نفسها في غاية القلة.
واما في المنفصل، فلان إرادة الخصوص واقعا لا تستلزم استعماله فيه
وكون الخاص قرينة عليه، بل من الممكن قطعا استعماله معه في العموم
قاعدة، وكون الخاص مانعا عن حجية ظهوره تحكيما للنص، أو الأظهر على
الظاهر، لا مصادما لأصل ظهوره، ومعه لا مجال للمصير إلى أنه قد استعمل
487

فيه مجازا، كي يلزم الاجمال.
لا يقال: هذا مجرد احتمال، ولا يرتفع به الاجمال، لاحتمال
الاستعمال في خصوص مرتبة من مراتبه.
فإنه يقال: مجرد احتمال استعماله فيه لا يوجب إجماله بعد استقرار
ظهوره في العموم، والثابت من مزاحمته بالخاص أنما هو بحسب الحجية تحكيما
لما هو الأقوى، كما أشرنا إليه آنفا.
وبالجملة: الفرق بين المتصل والمنفصل، وإن كان بعدم انعقاد الظهور
في الأول إلا في الخصوص، وفي الثاني إلا في العموم، إلا أنه لا وجه لتوهم
استعماله مجازا في واحد منهما أصلا، وإنما اللازم الالتزام بحجية الظهور في
الخصوص في الأول، وعدم حجية ظهوره في خصوص ما كان الخاص حجة فيه
في الثاني، فتفطن.
488

وقد أجيب عن الاحتجاج، بأن الباقي أقرب المجازات.
وفيه: لا اعتبار في الأقربية بحسب المقدار، وإنما المدار على الأقربية
بحسب زيادة الانس الناشئة من كثرة الاستعمال، وفي تقريرات بحث شيخنا
الأستاذ (قدس سره) في مقام الجواب عن الاحتجاج، ما هذا لفظه:
والأولى أن يجاب بعد تسليم مجازية الباقي، بأن دلالة العام على كل فرد من
أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده، ولو كانت دلالة مجازية، إذ
هي بواسطة عدم شموله للافراد المخصوصة، لا بواسطة دخول غيرها في
مدلوله، فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود، لان المانع في مثل
المقام إنما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله، والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى
الباقي لاختصاص المخصص بغيره، فلو شك فالأصل عدمه، انتهى موضع
الحاجة.
489

قلت: لا يخفى أن دلالته على كل فرد إنما كانت لاجل دلالته على
العموم والشمول، فإذا لم يستعمل فيه واستعمل في الخصوص - كما هو
المفروض - مجازا، وكان إرادة كل واحد من مراتب الخصوصيات مما جاز انتهاء
التخصيص إليه، واستعمال العام فيه مجازا ممكنا، كان تعين بعضها بلا
معين ترجيحا بلا مرجح، ولا مقتضي لظهوره فيه، ضرورة أن الظهور إما
بالوضع وإما بالقرينة، والمفروض أنه ليس بموضوع له، ولم يكن هناك قرينة،
وليس له موجب آخر، ودلالته على كل فرد على حدة حيث كانت في ضمن
دلالته على العموم، لا يوجب ظهوره في تمام الباقي بعد عدم استعماله في
العموم، إذا لم تكن هناك قرينة على تعيينه، فالمانع عنه وإن كان مدفوعا
بالأصل، إلا أنه لا مقتضي له بعد رفع اليد عن الوضع، نعم إنما يجدي إذا
لم يكن مستعملا إلا في العموم، كما فيما حققناه في الجواب، فتأمل جيدا.
490

فصل
إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملا، بأن كان دائرا بين الأقل والأكثر
وكان منفصلا، فلا يسري إجماله إلى العام، لا حقيقة ولا حكما، بل كان
العام متبعا فيما لا يتبع فيه الخاص، لوضوح أنه حجة فيه بلا مزاحم أصلا،
ضرورة أن الخاص إنما يزاحمه فيما هو حجة على خلافه، تحكيما للنص أو الأظهر
على الظاهر، لا فيما لا يكون كذلك، كما لا يخفى.
وإن لم يكن كذلك بأن كان دائرا بين المتباينين مطلقا، أو بين الأقل والأكثر فيما كان متصلا، فيسري إجماله إليه حكما في المنفصل المردد بين
المتباينين، وحقيقة في غيره:
491

أما الأول: فلان العام - على ما حققناه - كان ظاهرا في عمومه،
إلا أنه لا يتبع ظهوره في واحد من المتباينين اللذين علم تخصيصه بأحدهما.
وأما الثاني: فلعدم انعقاد ظهور من رأس للعام، لاحتفاف الكلام بما
يوجب احتماله لكل واحد من الأقل والأكثر، أو لكل واحد من المتباينين، لكنه
حجة في الأقل، لأنه المتيقن في البين.
492

فانقدح بذلك الفرق بين المتصل والمنفصل، وكذا في المجمل بين المتباينين
والأكثر والأقل، فلا تغفل.
وأما إذا كان مجملا بحسب المصداق، بأن اشتبه فرد وتردد بين أن يكون
فردا له أو باقيا تحت العام، فلا كلام في عدم جواز التمسك بالعام لو كان
متصلا به، ضرورة عدم انعقاد ظهور للكلام إلا في الخصوص، كما عرفت.
493

وأما إذا كان منفصلا عنه، ففي جواز التمسك به خلاف، والتحقيق
عدم جوازه، إذ غاية ما يمكن أن يقال في وجه جوازه، أن الخاص إنما يزاحم
العام فيما كان فعلا حجة، ولا يكون حجة فيما اشتبه أنه من أفراده، فخطاب
(لا تكرم فساق العلماء) لا يكون دليلا على حرمة إكرام من شك في فسقه من
العلماء، فلا يزاحم مثل (أكرم العلماء) ولا يعارضه، فإنه يكون من قبيل
494

مزاحمة الحجة بغير الحجة، وهو في غاية الفساد، فإن الخاص وإن لم يكن دليلا
في الفرد المشتبه فعلا، إلا أنه يوجب اختصاص حجية العام في غير عنوانه من
الافراد، فيكون (أكرم العلماء) دليلا وحجة في العالم الغير الفاسق، فالمصداق
المشتبه وأن كان مصداقا للعام بلا كلام، إلا أنه لم يعلم أنه من مصاديقه بما هو
حجة، لاختصاص حجيته بغير الفاسق.
وبالجملة العام المخصص بالمنفصل، وإن كان ظهوره في العموم، كما إذا
495

لم يكن مخصصا، بخلاف المخصص بالمتصل كما عرفت، إلا أنه في عدم
الحجية إلا في غير عنوان الخاص مثله، فحينئذ يكون الفرد المشتبه غير معلوم
الاندراج تحت إحدى الحجتين، فلا بد من الرجوع إلى ما هو الأصل في البين،
هذا إذا كان المخصص لفظيا.
496

وأما إذا كان لبيا، فإن كان مما يصح أن يتكل عليه المتكلم، إذا كان
بصدد البيان في مقام التخاطب، فهو كالمتصل، حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور
للعام إلا في الخصوص، وإن لم يكن كذلك، فالظاهر بقاء العام في المصداق
المشتبه على حجيته كظهوره فيه.
497

والسر في ذلك، أن الكلام الملقى من السيد حجة، ليس إلا ما اشتمل
على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم، فلا بد من اتباعه ما لم يقطع
بخلافه، مثلا إذا قال المولى: (أكرم جيراني) وقطع بأنه لا يريد إكرام من كان
عدوا له منهم، كان أصالة العموم باقية على الحجية بالنسبة إلى من لم يعلم
498

بخروجه عن عموم الكلام، للعلم بعداوته، لعدم حجة أخرى بدون ذلك على
خلافه، بخلاف ما إذا كان المخصص لفظيا، فإن قضية تقديمه عليه، هو كون
الملقى إليه كأنه كان من رأس لا يعم الخاص، كما كان كذلك حقيقة فيما كان
الخاص متصلا، والقطع بعدم إرادة العدو لا يوجب انقطاع حجيته، إلا فيما
499

قطع أنه عدوه، لا فيما شك فيه، كما يظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة
المولى لو لم يكرم واحدا من جيرانه لاحتمال عداوته له، وحسن عقوبته على
مخالفته، وعدم صحة الاعتذار عنه بمجرد احتمال العداوة، كما لا يخفى على
من راجع الطريقة المعروفة، والسيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك
500

حجية أصالة الظهور.
وبالجملة كان بناء العقلاء على حجيتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا بخلاف
هناك، ولعله لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما، بإلقاء حجتين هناك، تكون
قضيتهما بعد تحكيم الخاص وتقديمه على العام، كأنه لم يعمه حكما من رأس،
501

وكأنه لم يكن بعام، بخلاف هاهنا، فإن الحجة الملقاة ليست إلا واحدة،
والقطع بعدم إرادة إكرام العدو في (أكرم جيراني) مثلا، لا يوجب رفع اليد
عن عمومه إلا فيما قطع بخروجه من تحته، فإنه على الحكيم إلقاء كلامه على
وفق غرضه ومرامه، فلا بد من اتباعه ما لم تقم حجة أقوى على خلافه.
502

بل يمكن أن يقال: إن قضية عمومه للمشكوك، أنه ليس فردا لما علم
بخروجه من حكمه بمفهومه، فيقال في مثل (لعن الله بني أمية قاطبة): إن
فلانا وإن شك في ايمانه يجوز لعنه لمكان العموم، وكل من جاز لعنه لا يكون
مؤمنا، فينتج أنه ليس بمؤمن، فتأمل جيدا.
503

إيقاظ: لا يخفى أن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو
كالاستثناء من المتصل، لما كان غير معنون بعنوان خاص، بل بكل عنوان
لم يكن ذاك بعنوان الخاص، كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب
504

الموارد - إلا ما شذ - ممكنا، فبذلك يحكم عليه بحكم العام وإن لم يجز التمسك
به بلا كلام، ضرورة أنه قلما لا يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقح به أنه مما
بقي تحته، مثلا إذا شك أن امرأة تكون قرشية، فهي وأن كانت وجدت اما
قرشية أو غيرها، فلا أصل يحرز أنها قرشية أو غيرها، إلا أن أصالة عدم تحقق
505

الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح أنها ممن لا تحيص إلا إلى خمسين،
لان المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش انتساب أيضا باقية تحت ما دل على
أن المرأة إنما ترى الحمرة إلى خمسين، والخارج عن تحته هي القرشية، فتأمل
تعرف.
506

وهم وإزاحة: ربما يظهر عن بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك
في فرد، لا من جهة احتمال التخصيص، بل من جهة أخرى، كما إذا شك في
509

صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف، فيستكشف صحته بعموم مثل (أوفوا
بالنذور) فيما إذا وقع متعلقا للنذر، بأن يقال: وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء
للنذر للعموم، وكل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا، للقطع بأنه لولا
صحته لما وجب الوفاء به، وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الاحرام والصيام
قبل الميقات وفي السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك.
510

والتحقيق أن يقال: إنه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكفلة لاحكام
العناوين الثانوية فيما شك من غير جهة تخصيصها، إذا أخذ في موضوعاتها أحد
الاحكام المتعلقة بالأفعال بعناوينها الأولية، كما هو الحال في وجوب إطاعة
الوالد، والوفاء بالنذر وشبهه في الأمور المباحة أو الراجحة، ضرورة أنه معه
511

لا يكاد يتوهم عاقل أنه إذا شك في رجحان شئ أو حليته جواز التمسك بعموم
دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حليته.
نعم لا بأس بالتمسك به في جوازه بعد إحراز التمكن منه والقدرة عليه،
فيما لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلا، فإذا شك في جوازه صح التمسك
512

بعموم دليلها في الحكم بجوازها، وإذا كانت محكومة بعناوينها الأولية بغير
حكمها بعناوينها الثانوية، وقع المزاحمة بين المقتضيين، ويؤثر الأقوى منهما لو
كان في البين، وإلا لم يؤثر أحدهما، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، فليحكم
عليه حينئذ بحكم آخر، كالإباحة إذا كان أحدهما مقتضيا للوجوب والآخر
للحرمة مثلا.
513

وأما صحة الصوم في السفر بنذره فيه - بناء على عدم صحته فيه بدونه -
وكذا الاحرام قبل الميقات، فإنما هو لدليل خاص، كاشف عن رجحانهما ذاتا
في السفر وقبل الميقات، وإنما لم يأمر بهما استحبابا أو وجوبا لمانع يرتفع مع
514

النذر، وإما لصيرورتهما راجحين بتعلق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك، كما
ربما يدل عليه ما في الخبر من كون الاحرام قبل الميقات كالصلاة قبل
الوقت.
لا يقال: لا يجدي صيرورتهما راجحين بذلك في عباديتهما، ضرورة كون
515

وجوب الوفاء توصليا لا يعتبر في سقوطه إلا الاتيان بالمنذور بأي داع كان.
فإنه يقال: عباديتهما إنما تكون لاجل كشف دليل صحتهما عن عروض
عنوان راجح عليهما، ملازم لتعلق النذر بهما، هذا لو لم نقل بتخصيص عموم
دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بهذا الدليل، وإلا أمكن أن يقال بكفاية
وهذا البحث على ما كتبه المقرر بتقرير آخر هكذا:
قد تمسك العلامة على ما نقل عنه بعموم " وليوفوا نذورهم " لصحة الوضوء
والغسل بالماء المضاف بعد الشك في صحتهما كذلك فيما إذا وقعا متعلقا للنذر،
بتقريب ان الوضوء الكذائي يجب الاتيان به بحكم عموم " وليوفوا نذورهم "
ووجوب الاتيان به يلازم صحته، فإنه إن لم يكن صحيحا لما وجب الوفاء به.
ويشكل هذا بان أصالة العموم انما تكون حجة بالإضافة إلى حكم
المشكوك خروجه عن تحت العام، ولا يكون مثبتها حجة، بمعنى ان أصالة
العموم ليست حجة في اثبات لوازم حكم العام، وان كانت حجة بالإضافة إلى
نفس الحكم، مثل عنوان الصحة الذي جعل من لوازم وجوب الوفاء بالوضوء
بالماء المضاف في مثل المقام.
مضافا إلى أن العموم المذكور لا يشمل المقام، ضرورة انه لا بد في شموله
من القدرة على متعلق النذر، ولا شبهة في عدم القدرة على الوضوء الرافع، فان
وقوعه رافعا مشكوك فيه كما هو المفروض، ومع الشك في رافعيته كيف يمكن ان
يتعلق به النذر ليجب الوفاء به.
وأيضا ان عموم " وليوفوا نذورهم " مخصص أو مقيد با لدليل الدال على أنه
لا نذر الا في طاعة الله سبحانه، ومعه لا بد من احراز كون متعلقه طاعة،
خارجا في شمول دليل وجوب الوفاء للفرد المشكوك، ولا يجوز التمسك به
لاحراز كونه طاعة الا على القول بجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية،
516

الرجحان الطارئ عليهما من قبل النذر في عباديتهما، بعد تعلق النذر بإتيانهما
عباديا ومتقربا بهما منه تعالى، فإنه وإن لم يتمكن من إتيانهما كذلك قبله، إلا أنه
يتمكن منه بعده، ولا يعتبر في صحة النذر إلا التمكن من الوفاء ولو بسببه،
فتأمل جيدا.
517

مع أن مفروض الكلام انه يصحان عبادة، ولا يكاد يكون دليل وجوب الوفاء
بالنذر ناهضا ودليلا على لزوم قصد القربة، لان الامر بالوفاء توصلي قطعا،
بحيث يحصل الوفاء ويتحقق بأي داع حصل، وان أتى بالمتعلق رياء، ولا يكون
في المقام على الفرض امر غير امر الوفاء يدل على ايجاب القربة.
والثاني انه، على فرض تسليم وجوب قصد القربة بأي دليل، ما الملاك
في عباديتهما وقصد القربة فيهما؟ فإنه ليس في المقام على مفروض الكلام امر
يصير داعيا إلى الفعل، مع أن قصد القربة ليس إلا كون الامر داعيا إليه،
والامر بالوفاء توصلي يسقط بأتيان المتعلق ولو رياءا.
وأجاب المصنف قدس سره عن هذا الاشكال بجوابين: أحدهما ناظر إلى
التقريب الأول، والآخر إلى التقريب الثاني.
ومحصل ما أفاد ان الدليل على لزوم قصد التقرب فيهما هو نفس الامر
المتعلق بالوفاء بعد تعلق النذر باتيانهما عباديا فإنه حينئذ لا يصدق الوفاء ولا
يسقط الامر به الا بإتيانهما بداعي القربة.
واما ملاك التقرب فيهما فهو عروض عنوان راجح عليهما ملازم لتعلق
النذر بهما، لان دليل صحتهما يكشف عن ذلك، ومثل هذا الرجحان الطارئ
عليهما ولو باعتبار انطباق العنوان الكذائي عليهما يكفي في حصول التقرب
وملاكه هذا.
ولكن يرد على هذا التوجيه انه يشكل من جهة أخرى، وهي انه لا يصح،
بل لا يمكن اخذ قصد التقرب في متعلق الامر كما ذكرناه في بحث الأوامر، وما
افاده قدس سره في مقام الجواب في غير المقام، من تعلق الامر بالأوسع من
الغرض لا يجري هنا، ضرورة عدم امكان تعلق الامر الا بما هو وفاء بالنذر
518

بقي شئ، وهو أنه هل يجوز التمسك بأصالة عدم التخصيص؟ في
إحراز عدم كون ما شك في أنه من مصاديق العام، مع العلم بعدم كونه محكوما
519

بحكمه، مصداقا له، مثل ما إذا علم أن زيدا يحرم إكرامه، وشك في أنه
عالم، فيحكم عليه بأصالة عدم تخصيص (أكرم العلماء) أنه ليس بعالم،
بحيث يحكم عليه بسائر ما لغير العالم من الاحكام.
520

فيه إشكال، لاحتمال اختصاص حجيتها بما إذا شك في كون فرد العام
محكوما بحكمه، كما هو قضية عمومه، والمثبت من الأصول اللفظية وإن كان
حجة، إلا أنه لا بد من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل، ولا دليل هاهنا
إلا السيرة وبناء العقلاء، ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك، فلا تغفل.
521

فصل
هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص؟ فيه خلاف، وربما
نفي الخلاف عن عدم جوازه، بل ادعي الاجماع عليه، والذي ينبغي أن
يكون محل الكلام في المقام، أنه هل يكون أصالة العموم متبعة مطلقا؟ أو بعد
522

الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به؟ بعد الفراغ عن اعتبارها
بالخصوص في الجملة، من باب الظن النوعي للمشافه وغيره، ما لم يعلم
بتخصيصه تفصيلا، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا، وعليه فلا
مجال لغير واحد مما استدل به على عدم جواز العمل به قبل الفحص والياس.
523

فالتحقيق عدم جواز التمسك به قبل الفحص، فيما إذا كان في معرض
التخصيص كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة، وذلك لاجل أنه لولا
القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله، فلا أقل من الشك،
524

كيف؟ وقد ادعي الاجماع على عدم جوازه، فضلا عن نفي الخلاف عنه، وهو
كاف في عدم الجواز، كما لا يخفى.
وأما إذا لم يكن العام كذلك، كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة
في السنة أهل المحاورات، فلا شبهة في أن السيرة على العمل به بلا فحص عن
525

مخصص، وقد ظهر لك بذلك أن مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن
المعرضية له، كما أن مقداره اللازم منه بحسب سائر الوجوه التي استدل بها
من العمل الاجمالي به أو حصول الظن بما هو التكليف، أو غير ذلك رعايتها،
فتختلف مقداره بحسبها، كما لا يخفى.
526

ثم إن الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل، باحتمال أنه
كان ولم يصل، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز، وقد اتفقت كلماتهم على
عدم الاعتناء به مطلقا، ولو قبل الفحص عنها، كما لا يخفى.
527

إيقاظ: لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا، وبينه في الأصول
العملية، حيث أنه هاهنا عما يزاحم الحجة، بخلافه هناك، فإنه بدونه
لا حجة، ضرورة أن العقل بدونه يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة، فلا
530

يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها من غير برهان، والنقل إن دل
على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقا، إلا أن الاجماع بقسميه على
تقييده به، فافهم.
531

فصل
هل الخطابات الشفاهية مثل: (يا أيها المؤمنون) تختص بالحاضر مجلس
التخاطب، أو تعم غيره من الغائبين، بل المعدومين؟
533

فيه خلاف، ولا بد قبل الخوض في تحقيق المقام، من بيان ما يمكن أن
يكون محلا للنقض والابرام بين الاعلام.
فاعلم أنه يمكن أن يكون النزاع في أن التكليف المتكفل له الخطاب هل
يصح تعلقه بالمعدومين، كما صح تعلقه بالموجودين، أم لا؟ أو في صحة
534

المخاطبة معهم، بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة
للخطاب، أو بنفس توجيه الكلام إليهم، وعدم صحتها، أو في عموم الألفاظ
الواقعة عقيب أداة الخطاب، للغائبين بل المعدومين، وعدم عمومها لهما،
بقرينة تلك الأداة.
535

ولا يخفى أن النزاع على الوجهين الأولين يكون عقليا، وعلى الوجه
الأخير لغويا.
إذا عرفت هذا، فلا ريب في عدم صحة تكليف المعدوم عقلا، بمعنى
بعثه أو زره فعلا، ضرورة أنه بهذا المعنى يستلزم الطلب منه حقيقة، ولا يكاد
يكون الطلب كذلك إلا من الموجود ضرورة، نعم هو بمعنى مجرد إنشاء الطلب
536

بلا بعث ولا زجر، لا استحالة فيه أصلا، فإن الانشاء خفيف المؤونة، فالحكيم
تبارك وتعالى ينشئ على وفق الحكمة والمصلحة، طلب شئ قانونا من الموجود
والمعدوم حين الخطاب، ليصير فعليا بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع بلا
حاجة إلى إنشاء آخر، فتدبر.
537

ونظيره من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون، فإن
المعدوم منهم يصير مالكا للعين الموقوفة، بعد وجوده بإنشائه، ويتلقى لها من
الواقف بعقده، فيؤثر في حق الموجود منهم الملكية الفعلية، ولا يؤثر في حق
538

المعدوم فعلا، إلا استعدادها لان تصير ملكا له بعد وجوده، هذا إذا أنشئ
الطلب مطلقا.
وأما إذا أنشئ مقيدا بوجود المكلف ووجد انه الشرائط، فإمكانه بمكان
من الامكان.
539

وكذلك لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم بل الغائب حقيقة، وعدم
إمكانه، ضرورة عدم تحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة إلا إذا كان
موجودا، وكان بحيث يتوجه إلى الكلام، ويلتفت إليه.
ومنه قد انقدح أن ما وضع للخطاب، مثل أدوات النداء، لو كان
540

موضوعا للخطاب الحقيقي، لأوجب استعماله فيه تخصيص ما يقع في تلوه
بالحاضرين، كما أن قضية إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره، لكن
الظاهر أن مثل أدوات النداء لم يكن موضوعا لذلك، بل للخطاب الايقاعي
الانشائي، فالمتكلم ربما يوقع الخطاب بها تحسرا وتأسفا وحزنا مثل:
يا كوكبا ما كان أقصر عمره........
541

أو شوقا، ونحو ذلك، كما يوقعه مخاطبا لمن يناديه حقيقة، فلا يوجب
استعماله في معناه الحقيقي - حينئذ - التخصيص بمن يصح مخاطبته، نعم
لا يبعد دعوى الظهور، انصرافا في الخطاب الحقيقي، كما هو الحال في حروف
الاستفهام والترجي والتمني وغيرها، على ما حققناه في بعض المباحث
السابقة، من كونها موضوعة للايقاعي منها بدواع مختلفة مع ظهورها في
الواقعي منها انصرافا، إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه، كما يمكن دعوى وجوده
غالبا في كلام الشارع، ضرورة وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل:
(يا أيها الناس اتقوا) و (يا أيها المؤمنون) بمن حضر مجلس الخطاب، بلا شبهة
ولا ارتياب.
542

ويشهد لما ذكرنا صحة النداء بالأدوات، مع إرادة العموم من العام
الواقع تلوها بلا عناية، ولا للتنزيل والعلاقة رعاية.
وتوهم كونه ارتكازيا، يدفعه عدم العلم به مع الالتفات إليه، والتفتيش
عن حاله مع حصوله بذلك لو كان مرتكزا، وإلا فمن أين يعلم بثبوته كذلك؟
كما هو واضح.
وإن أبيت إلا عن وضع الأدوات للخطاب الحقيقي، فلا مناص عن
التزام اختصاص الخطابات الإلهية بأداة الخطاب، أو بنفس توجيه الكلام بدون
الأداة كغيرها بالمشافهين، فيما لم يكن هناك قرينة على التعميم.
وتوهم صحة التزام التعميم في خطاباته تعالى لغير الموجودين، فضلا عن
الغائبين، لاحاطته بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال، فاسد، ضرورة
للفظ الخطاب فافهم. 2
543

أن إحاطته لا توجب صلاحية المعدوم بل الغائب للخطاب، وعدم صحة
المخاطبة معهما لقصورهما لا يوجب نقصا في ناحيته تعالى، كما لا يخفى، كما أن
خطابه اللفظي لكونه تدريجيا ومتصرم الوجود، كان قاصرا عن أن يكون موجها
نحو غير من كان بمسمع منه ضرورة، هذا لو قلنا بأن الخطاب بمثل يا أيها
الناس اتقوا في الكتاب حقيقة إلى غير النبي صلى الله عليه وآله بلسانه.
وأما إذا قيل بأنه المخاطب والموجه إليه الكلام حقيقة وحيا أو إلهاما، فلا
محيص إلا عن كون الأداة في مثله للخطاب الايقاعي ولو مجازا، وعليه لا مجال
لتوهم اختصاص الحكم المتكفل له الخطاب بالحاضرين، بل يعم المعدومين،
فضلا عن الغائبين.
فصل
ربما قيل: إنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان:
الأولى: حجية ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين.
وفيه: إنه مبني على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالافهام، وقد
حقق عدم الاختصاص بهم. ولو سلم، فاختصاص المشافهين بكونهم
544

مقصودين بذلك ممنوع، بل الظاهر أن الناس كلهم إلى يوم القيامة يكونون
كذلك، وإن لم يعمهم الخطاب، كما يومئ إليه غير واحد من الاخبار.
الثانية: صحة التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية بناء على
التعميم، لثبوت الاحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين، وإن لم يكن متحدا مع
المشافهين في الصنف، وعدم صحته على عدمه، لعدم كونها حينئذ متكفلة
لاحكام غير المشافهين، فلا بد من إثبات اتحاده معهم في الصنف، حتى يحكم
بالاشتراك مع المشافهين في الاحكام، وحيث لا دليل عليه حينئذ إلا الاجماع،
ولا إجماع عليه إلا فيما اتحد الصنف، كما لا يخفى.
545

ولا يذهب عليك، أنه يمكن إثبات الاتحاد، وعدم دخل ما كان البالغ
الآن فاقدا له مما كان المشافهون واجدين له، بإطلاق الخطاب إليهم من دون
التقييد به، وكونهم كذلك لا يوجب صحة الاطلاق، مع إرادة المقيد معه فيما
يمكن أن يتطرق الفقدان، وإن صح فيما لا يتطرق إليه ذلك. وليس المراد
بالاتحاد في الصنف إلا الاتحاد فيما اعتبر قيدا في الاحكام، لا الاتحاد فيما كثر
546

الاختلاف بحسبه، والتفاوت بسببه بين الأنام، بل في شخص واحد بمرور
الدهور والأيام، وإلا لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين - فضلا عن المعدومين -
حكم من الاحكام.
ودليل الاشتراك إنما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص
المشافهين، فيما لم يكونوا مختصين بخصوص عنوان، لو لم يكونوا معنونين
به لشك في شمولها لهم أيضا، فلولا الاطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان في
547

الحكم، لما أفاد دليل الاشتراك، ومعه كان الحكم يعم غير المشافهين ولو قيل
باختصاص الخطابات بهم، فتأمل جيدا.
فتلخص: أنه لا يكاد تظهر الثمرة إلا على القول باختصاص حجية
الظواهر لمن قصد إفهامه، مع كون غير المشافهين غير مقصودين بالافهام، وقد
حقق عدم الاختصاص به في غير المقام، وأشير إلى منع كونهم غير مقصودين
به في خطاباته تبارك وتعالى في المقام.
فصل
هل تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده، يوجب تخصيصه به أو
لا؟
فيه خلاف بين الاعلام وليكن محل الخلاف ما إذا وقعا في كلامين، أو في
كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام، كما في قوله تبارك

(1) سورة الجمعة: 10.
548

وتعالى: * (والمطلقات يتربصن) * إلى قوله * (وبعولتهن أحق بردهن) * وأما ما
إذا كان مثل: والمطلقات أزواجهن أحق بردهن، فلا شبهة في تخصيصه به.

(1) سورة البقرة: 228.
549

والتحقيق أن يقال: إنه حيث دار الامر بين التصرف في العام، بإرادة
خصوص ما أريد من الضمير الراجع إليه، أو التصرف في ناحية الضمير: إما
بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه، أو إلى تمامه مع التوسع في الاسناد،
بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقة إلى الكل توسعا وتجوزا، كانت أصالة
550

الظهور في طرف العام سالمة عنها في جانب الضمير، وذلك لان المتيقن من
بناء العقلاء هو اتباع الظهور في تعيين المراد، لا في تعيين كيفية الاستعمال،
وإنه على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الاسناد مع القطع بما يراد، كما هو
الحال في ناحية الضمير.
551

وبالجملة: أصالة الظهور إنما يكون حجة فيما إذا شك فيما أريد، لا فيما
إذا شك في أنه كيف أريد، فافهم، لكنه إذا انعقد للكلام ظهور في العموم،
بأن لا يعد ما اشتمل عليه الضمير مما يكتنف به عرفا، وإلا فيحكم عليه
بالاجمال، ويرجع إلى ما يقتضيه الأصول، إلا أن يقال باعتبار أصالة الحقيقة
تعبدا، حتى فيما إذا احتف بالكلام ما لا يكون ظاهرا معه في معناه الحقيقي كما
عن بعض الفحول.
552

فصل
قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف، مع الاتفاق على
الجواز بالمفهوم الموافق، وقد استدل لكل منهما بما لا يخلو عن
قصور.
وتحقيق المقام: أنه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين،
ولكن على نحو يصلح أن يكون كل منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر، ودار
الامر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فالدلالة على كل منهما إن كانت
554

بالاطلاق بمعونة مقدمات الحكمة، أو بالوضع، فلا يكون هناك عموم،
ولا مفهوم، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لاجل المزاحمة، كما في
مزاحمة ظهور أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك، فلا بد من العمل بالأصول
العملية فيما دار فيه بين العموم والمفهوم، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر،
وإلا كان مانعا عن انعقاد الظهور، أو استقراره في الآخر.

(1) المراد بها " إذا جاءكم فاسق بنبأ.. ". سورة الحجرات آية: 6.
555

ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دل على العموم وما له
المفهوم، ذاك الارتباط والاتصال، وأنه لا بد أن يعامل مع كل منهما معاملة
المجمل، لو لم يكن في البين أظهر، والا فهو المعول، والقرينة على التصرف في
الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل.
فصل
الاستثناء المتعقب لجمل متعددة، هل الظاهر هو رجوعه إلى الكل أو
خصوص الأخيرة، أو لا ظهور له في واحد منهما، بل لا بد في التعيين من
قرينة؟ أقوال.

(1) جامع الأحاديث ج 2 ص 4 عن السرائر والمعتبر.
556

والظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أي حال،
ضرورة أن رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة، وكذا في
صحة رجوعه إلى الكل، وإن كان المتراءى من كلام صاحب المعالم (رحمه
الله) حيث مهد مقدمة لصحة رجوعه إليه، أنه محل الاشكال والتأمل.
وذلك ضرورة أن تعدد المستثنى منه، كتعدد المستثنى، لا يوجب تفاوتا
أصلا في ناحية الأداة بحسب المعنى، كان الموضوع له في الحروف عاما أو
خاصا، وكان المستعمل فيه الأداة فيما كان المستثنى منه متعددا هو المستعمل فيه
فيما كان واحدا، كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال، وتعدد
557

المخرج أو المخرج عنه خارجا لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الاخراج
مفهوما، وبذلك يظهر أنه لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع، أو خصوص
الأخيرة، وإن كان الرجوع إليها متيقنا على كل تقدير، نعم غير الأخيرة أيضا
من الجمل لا يكون ظاهرا في العموم لاكتنافه بما لا يكون معه ظاهرا فيه،
فلا بد في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلى الأصول.
558

اللهم إلا أن يقال بحجية أصالة الحقيقة تعبدا، لا من باب الظهور،
فيكون المرجع عليه أصالة العموم إذا كان وضعيا، لا ما إذا كان بالاطلاق
ومقدمات الحاكمة، فإنه لا يكاد يتم تلك المقدمات مع صلوح الاستثناء
للرجوع إلى الجميع، فتأمل.
فصل
الحق جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص كما جاز
بالكتاب، أو بالخبر المتواتر، أو المحفوف بالقرينة القطعية من خبر الواحد،
559

بلا ارتياب، لما هو الواضح من سيرة الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في
قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمة عليهم السلام، واحتمال أن يكون ذلك
بواسطة القرينة واضح البطلان.
مع أنه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحكمه، ضرورة ندرة خبر
لم يكن على خلافه عموم الكتاب، لو سلم وجود ما لم يكن كذلك.
وكون العام الكتابي قطعيا صدورا، وخبر الواحد ظنيا سندا، لا يمنع
عن التصرف في دلالته الغير القطعية قطعا، وإلا لما جاز تخصيص المتواتر به
أيضا، مع أنه جائز جزما.
560

والسر: أن الدوران في الحقيقة بين أصالة العموم ودليل سند الخبر، مع
أن الخبر بدلالته وسنده صالح للقرينية على التصرف فيها، بخلافها، فإنها
غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره، ولا ينحصر الدليل على الخبر
بالاجماع، كي يقال بأنه فيما لا يوجد على خلافه دلالة، ومع وجود الدلالة
القرآنية يسقط وجوب العمل به.
كيف؟ وقد عرفت أن سيرتهم مستمرة على العمل به في قبال العمومات
الكتابية، والاخبار الدالة على أن الاخبار المخالفة للقران يجب طرحها أو
ضربها على الجدار، أو أنها زخرف، أو أنها مما لم يقل بها الإمام عليه السلام
، وإن كانت كثيرة جدا، وصريحة الدلالة على طرح المخالف، إلا
561

أنه لا محيص عن أن يكون المراد من المخالفة في هذه الأخبار غير مخالفة
العموم، إن لم نقل بأنها ليست من المخالفة عرفا، كيف؟ وصدور الاخبار
المخالفة للكتاب بهذه المخالفة منهم عليهم السلام كثيرة جدا، مع قوة
احتمال أن يكون المراد أنهم لا يقولون بغير ما هو قول الله تبارك وتعالى واقعا
- وإن كان هو على خلافه ظاهرا - شرحا لمرامه تعالى وبيانا لمراده من كلامه،
فافهم.
562

والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النسخ به ممنوعة، وإن كان مقتضى
القاعدة جوازهما، لاختصاص النسخ بالاجماع على المنع، مع وضوح الفرق
بتوافر الدواعي إلى ضبطه، ولذا قل الخلاف في تعيين موارده، بخلاف
التخصيص.
فصل
لا يخفى أن الخاص والعام المتخالفين، يختلف حالهما ناسخا ومخصصا
ومنسوخا، فيكون الخاص: مخصصا تارة، وناسخا مرة، ومنسوخا أخرى،
وذلك لان الخاص إن كان مقارنا مع العام، أو واردا بعده قبل حضور وقت
العمل به، فلا محيص عن كونه مخصصا وبيانا له.
وإن كان بعد حضوره كان ناسخا لا مخصصا، لئلا يلزم تأخير البيان عن
وقت الحاجة فيما إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي، وإلا لكان الخاص
أيضا مخصصا له، كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات
والروايات.
563

وإن كان العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص، فكما يحتمل أن
يكون الخاص مخصصا للعام، يحتمل أن يكون العام ناسخا له، وإن كان
الأظهر أن يكون الخاص مخصصا، لكثرة التخصيص، حتى اشتهر (ما من عام
الا وقد خص) مع قلة النسخ في الاحكام جدا، وبذلك يصير ظهور الخاص في
الدوام - ولو كان بالاطلاق - أقوى من ظهور العام ولو كان بالوضع، كما
لا يخفى، هذا فيما علم تاريخهما.
وأما لو جهل وتردد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام
وقبل حضوره، فالوجه هو الرجوع إلى الأصول العملية.
وكثرة التخصيص وندرة النسخ هاهنا، وإن كانا يوجبان الظن
بالتخصيص أيضا، وأنه واجد لشرطه إلحاقا له بالغالب، إلا أنه لا دليل على
564

اعتباره، وإنما يوجبان الحمل عليه فيما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل
بالخاص، لصيرورة الخاص لذلك في الدوام أظهر من العام، كما أشير إليه،
فتدبر جيدا.
ثم إن تعين الخاص للتخصيص، إذا ورد قبل حضور وقت العمل
بالعام، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به، إنما يكون مبنيا على عدم
جواز النسخ قبل حضور وقت العمل، وإلا فلا يتعين له، بل يدور بين كونه
مخصصا وناسخا في الأول، ومخصصا ومنسوخا في الثاني، إلا أن الأظهر كونه
مخصصا، وإن كان ظهور العام في عموم الافراد أقوى من ظهوره وظهور الخاص
في الدوام، لما أشير إليه من تعارف التخصيص وشيوعه، وندرة النسخ جدا
في الاحكام.
565

ولا بأس بصرف الكلام إلى ما هو نخبة القول في النسخ، فاعلم أن
النسخ وإن كان رفع الحكم الثابت إثباتا، إلا أنه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتا،
وإنما اقتضت الحكمة إظهار دوام الحكم واستمراره، أو أصل إنشائه وإقراره،
مع أنه بحسب الواقع ليس له قرار، أو ليس له دوام واستمرار، وذلك لان
النبي صلى الله عليه وآله الصادع للشرع، ربما يلهم أو يوحى إليه أن
يظهر الحكم أو استمراره مع اطلاعه على حقيقة الحال، وأنه ينسخ في
الاستقبال، أو مع عدم اطلاعه على ذلك، لعدم إحاطته بتمام ما جرى في
علمه تبارك وتعالى، ومن هذا القبيل لعله يكون أمر إبراهيم بذبح إسماعيل.
وحيث عرفت أن النسخ بحسب الحقيقة يكون دفعا، وإن كان بحسب
الظاهر رفعا، فلا بأس به مطلقا ولو كان قبل حضور وقت العمل، لعدم لزوم
البداء المحال في حقه تبارك وتعالى، بالمعنى المستلزم لتغير إرادته تعالى مع اتحاد
الفعل ذاتا وجهة، ولا لزوم امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ، فإن الفعل إن
كان مشتملا عل مصلحة موجبة للامر به امتنع النهي عنه، وإلا امتنع الامر
به، وذلك لان الفعل أو دوامه لم يكن متعلقا لإرادته، فلا يستلزم نسخ أمره
بالنهي تغيير إرادته، ولم يكن الامر بالفعل من جهة كونه مشتملا على مصلحة،
وإنما كان إنشاء الامر به أو إظهار دوامه عن حكمه ومصلحة.
566

وأما البداء في التكوينيات بغير ذاك المعنى، فهو مما دل عليه الروايات
المتواترات، كما لا يخفى، ومجمله أن الله تبارك وتعالى إذا تعلقت مشيته
تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه، لحكمة داعية إلى إظهاره، ألهم أو أوحى إلى نبيه
أو وليه أن يخبر به، مع علمه بأنه يمحوه، أو مع عدم علمه به، لما أشير إليه
من عدم الإحاطة بتمام ما جرى في علمه، وإنما يخبر به لأنه حال الوحي أو
الالهام لارتقاء نفسه الزكية، واتصاله بعالم لوح المحو والاثبات اطلع على
ثبوته، ولم يطلع على كونه معلقا على أمر غير واقع، أو عدم الموانع،
قال الله تبارك وتعالى: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت) * الآية، نعم من شملته
العناية الإلهية، واتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ الذي [هو] من
أعظم العوالم الربوبية، وهو أم الكتاب، يكشف عنده الواقعيات على ما هي
عليها، كما ربما يتفق لخاتم الأنبياء، ولبعض الأوصياء، كان عارفا
بالكائنات كما كانت وتكون.
نعم مع ذلك، ربما يوحى إليه حكم من الاحكام، تارة بما يكون ظاهرا
في الاستمرار والدوام، مع أنه في الواقع له غاية وأمد يعينها بخطاب آخر،
وأخرى بما يكون ظاهرا في الجد، مع أنه لا يكون واقعا بجد، بل لمجرد
567

الابتلاء والاختبار، كما أنه يؤمر وحيا أو الهاما بالاخبار بوقوع عذاب أو غيره مما
لا يقع، لاجل حكمة في هذا الاخبار أو ذاك الاظهار، فبدا له تعالى بمعنى أنه
يظهر ما أمر نبيه أو وليه بعدم إظهاره أولا، ويبدي ما خفي ثانيا.
وإنما نسب إليه تعالى البداء، مع أنه في الحقيقة الابداء، لكمال شباهة
إبدائه تعالى كذلك بالبداء في غيره، وفيما ذكرنا كفاية فيما هو المهم في باب
النسخ، ولا داعي بذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب كما لا يخفى على أولي الألباب
ثم لا يخفى ثبوت الثمرة بين التخصيص والنسخ، ضرورة أنه على
التخصيص يبنى على خروج الخاص عن حكم العام رأسا، وعلى النسخ، على
ارتفاع حكمه عنه من حينه، فيما دار الامر بينهما في المخصص، وأما إذا دار
بينهما في الخاص والعام، فالخاص على التخصيص غير محكوم بحكم العام
أصلا، وعلى النسخ كان محكوما به من حين صدور دليله، كما لا يخفى.
568

المقصد الخامس
المطلق والمقيد
569

المقصد الخامس: في المطلق والمقيد والمجمل والمبين
فصل
عرف المطلق بأنه: ما دل على شائع في جنسه، وقد أشكل عليه
بعض الاعلام، بعدم الاطراد أو الانعكاس، وأطال الكلام في النقض
571

والابرام، وقد نبهنا في غير مقام على أن مثله شرح الاسم، وهو مما يجوز أن
لا يكون بمطرد ولا بمنعكس، فالأولى الاعراض عن ذلك، ببيان ما وضع له
بعض الألفاظ التي يطلق عليها المطلق، أو من غيرها مما يناسب المقام.
572

فمنها: اسم الجنس، كإنسان ورجل وفرس وحيوان وسواد وبياض إلى
غير ذلك من أسماء الكليات من الجواهر والاعراض بل العرضيات، ولا ريب
أنها موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة مهملة، بلا شرط أصلا ملحوظا
معها، حتى لحاظ أنها كذلك.
573

وبالجملة: الموضوع له اسم الجنس هو نفس المعنى، وصرف المفهوم
الغير الملحوظ معه شئ أصلا الذي هو المعنى بشرط شئ، ولو كان ذاك الشئ
هو الارسال والعموم البدلي، ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شئ معه الذي هو
الماهية اللابشرط القسمي، وذلك لوضوح صدقها بما لها من المعنى، بلا عناية
التجريد عما هو قضية الاشتراط والتقييد فيها، كما لا يخفى، مع بداهة عدم
574

صدق المفهوم بشرط العموم على فرد من الافراد، وإن كان يعم كل واحد منها
بدلا أو استيعابا، وكذا المفهوم اللابشرط القسمي، فإنه كلي عقلي لا موطن
له إلا الذهن لا يكاد يمكن صدقه وانطباقه عليها، بداهة أن مناطه الاتحاد
بحسب الوجود خارجا، فكيف يمكن أن يتحد معها ما لا وجود له إلا ذهنا؟
ومنها: علم الجنس كأسامة، والمشهور بين أهل العربية أنه موضوع
للطبيعة لا بما هي هي، بل بما هي متعينة بالتعين الذهني ولذا يعامل معه
معاملة المعرفة بدون أداة التعريف.
575

لكن التحقيق أنه موضوع لصرف المعنى بلا لحاظ شئ معه أصلا كاسم
الجنس، والتعريف فيه لفظي، كما هو الحال في التأنيث اللفظي، وإلا لما صح
حمله على الافراد بلا تصرف وتأويل، لأنه على المشهور كلي عقلي، وقد عرفت
أنه لا يكاد صدقه عليها مع صحة حمله عليها بدون ذلك، كما لا يخفى،
ضرورة أن التصرف في المحمول بإرادة نفس المعنى بدون قيده تعسف، لا يكاد
يكون بناء القضايا المتعارفة عليه، مع أن وضعه لخصوص معنى يحتاج إلى تجريده
576

عن خصوصيته عند الاستعمال، لا يكاد يصدر عن جاهل، فضلا عن الواضع
الحكيم.
ومنها: المفرد المعرف باللام، والمشهور أنه على أقسام: المعرف بلام
الجنس، أو الاستغراق، أو العهد بأقسامه، على نحو الاشتراك بينها لفظا أو
معنى، والظاهر أن الخصوصية في كل واحد من الأقسام من قبل خصوص
577

اللازم، أو من قبل قرائن المقام، من باب تعدد الدال والمدلول، لا باستعمال
المدخول ليلزم فيه المجاز أو الاشتراك، فكان المدخول على كل حال مستعملا
فيما يستعمل فيه الغير المدخول.
والمعروف أن اللام تكون موضوعة للتعريف، ومفيدة للتعيين في غير
العهد الذهني، وأنت خبير بأنه لا تعين في تعريف الجنس إلا الإشارة إلى المعنى
المتميز بنفسه من بين المعاني ذهنا، ولازمه أن لا يصح حمل المعرف باللام بما هو
معرف على الافراد، لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلا الذهن إلا
بالتجريد، ومعه لا فائدة في التقييد، مع أن التأويل والتصرف في القضايا
المتداولة في العرف غير خال عن التعسف.
578

هذا مضافا إلى أن الوضع لما لا حاجة إليه، بل لا بد من التجريد عنه
وإلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام أو الحمل
عليه، كان لغوا، كما أشرنا إليه، فالظاهر أن اللام مطلقا يكون للتزيين، كما
في الحسن والحسين، واستفادة الخصوصيات إنما تكون بالقرائن التي لا بد منها
لتعينها على كل حال، ولو قيل بإفادة اللام للإشارة إلى المعنى، ومع الدلالة
عليه بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الإشارة، لو لم تكن مخلة، وقد
عرفت إخلالها، فتأمل جيدا.
579

وأما دلالة الجمع المعرف باللام على العموم مع عدم دلالة المدخول
عليه، فلا دلالة فيها على أنها تكون لاجل دلالة اللام على التعين (2)، حيث
لا تعين إلا للمرتبة المستغرقة لجميع الافراد، وذلك لتعين المرتبة الأخرى، وهي
أقل مراتب الجمع، كما لا يخفى.
فلا بد أن يكون دلالته عليه مستندة إلى وضعه كذلك لذلك، لا إلى دلالة
580

اللام على الإشارة إلى المعين، ليكون به التعريف، وإن أبيت إلا عن استناد
الدلالة عليه إليه، فلا محيص عن دلالته على الاستغراق بلا توسيط الدلالة
على التعيين، فلا يكون بسببه تعريف إلا لفظا، فتأمل جيدا.
ومنها: النكرة مثل (رجل) في (وجاء رجل من أقصى المدينة) أو في
581

(جئني برجل) ولا اشكال أن المفهوم منها في الأول، ولو بنحو تعدد الدال
والمدلول، هو الفرد المعين في الواقع المجهول عند المخاطب المحتمل الانطباق
على غير واحد من افراد الرجل.
كما أنه في الثاني، هي الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة، فيكون حصة
من الرجل، ويكون كليا ينطبق على كثيرين، لا فردا مرددا بين الافراد.
582

وبالجملة: النكرة - أي [ما] بالحمل الشائع يكون نكرة عندهم - إما هو فرد
معين في الواقع غير معين للمخاطب، أو حصة كلية، لا الفرد المردد بين
الافراد، وذلك لبداهة كون لفظ (رجل) في (جئني برجل) نكرة، مع أنه
يصدق على كل من جئ به من الافراد ولا يكاد يكون واحد منها هذا أو غيره،
كما هو قضية الفرد المردد، لو كان هو المراد منها، ضرورة أن كل واحد هو
هو، لا هو أو غيره، فلا بد أن تكون النكرة الواقعة في متعلق الامر، هو
الطبيعي المقيد بمثل مفهوم الوحدة فيكون كليا قابلا للانطباق، فتأمل جيدا.
583

إذا عرفت ذلك،
فالظاهر صحة اطلاق المطلق عندهم حقيقة على اسم الجنس والنكرة
بالمعنى الثاني، كما يصح لغة. وغير بعيد أن يكون جريهم في هذا الاطلاق
على وفق اللغة، من دون أن يكون لهم فيه اصطلاح على خلافها، كما
لا يخفى.
نعم لو صح ما نسب إلى المشهور، من كون المطلق عندهم موضوعا لما
584

قيد بالارسال والشمول البدلي، لما كان ما أريد منه الجنس أو الحصة عندهم
بمطلق، إلا أن الكلام في صدق النسبة، ولا يخفى أن المطلق بهذا المعنى لطروء
القيد غير قابل، فإن ماله من الخصوصية ينافيه ويعانده، بل وهذا بخلافه
بالمعنيين، فإن كلا منهما له قابل، لعدم انثلامهما بسببه أصلا، كما لا يخفى.
وعليه لا يستلزم التقييد تجوزا في المطلق، لامكان إرادة معنى لفظه منه،
وإرادة قيده من قرينة حال أو مقال، وإنما استلزامه لو كان بذاك المعنى، نعم لو
أريد من لفظه المعنى المقيد، كان مجازا مطلقا، كان التقييد بمتصل أو منفصل.
585

فصل
قد ظهر لك أنه لا دلالة لمثل (رجل) إلا على الماهية المبهمة وضعا،
وأن الشياع والسريان كسائر الطوارئ يكون خارجا عما وضع له، فلا بد في
الدلالة عليه من قرينة حال أو مقال أو حكمة، وهي تتوقف على مقدمات:
586

إحداها: كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد، لا الاهمال أو الاجمال.
ثانيتها: انتفاء ما يوجب التعيين.
ثالثتها: انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب، ولو كان المتيقن
بملاحظة الخارج عن ذاك المقام في البين، فإنه غير مؤثر في رفع الاخلال
587

بالغرض، لو كان بصدد البيان، كما هو الفرض، فإنه فيما تحققت لو لم يرد
الشياع لأخل بغرضه، حيث أنه لم ينبه مع أنه بصدده، وبدونها لا يكاد يكون
هناك إخلال به، حيث لم يكن مع انتفاء الأولى، إلا في مقام الاهمال أو
الاجمال، ومع انتفاء الثانية، كان البيان بالقرينة، ومع انتفاء الثالثة،
588

لا إخلال بالغرض لو كان المتيقن تمام مراده، فإن الفرض أنه بصدد بيان تمامه،
وقد بينه، لا بصدد بيان أنه تمامه، كي أخل ببيانه، فافهم.
589

ثم لا يخفى عليك أن المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده، مجرد بيان
ذلك وإظهاره وإفهامه، ولو لم يكن عن جد، بل قاعدة وقانونا، لتكون حجة فيما
لم تكن حجة أقوى على خلافه، لا البيان في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت
593

الحاجة، فلا يكون الظفر بالمقيد - ولو كان مخالفا - كاشفا عن عدم كون المتكلم
في مقام البيان، ولذا لا ينثلم به إطلاقه وصحة التمسك به أصلا، فتأمل
جيدا.
594

وقد انقدح بما ذكرنا أن النكرة في دلالتها على الشياع والسريان - أيضا -
تحتاج فيما لا يكون هناك دلالة حال أو مقال من مقدمات الحكمة، فلا تغفل.
595

بقي شئ: وهو أنه لا يبعد أن يكون الأصل فيما إذا شك في كون المتكلم
في مقام بيان تمام المراد، هو كونه بصدد بيانه، وذلك لما جرت عليه سيرة أهل
المحاورات من التمسك بالاطلاقات فيما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف
وجهها إلى جهة خاصة، ولذا ترى أن المشهور لا يزالون يتمسكون بها، مع
597

عدم إحراز كون مطلقها بصدد البيان، وبعد كونه لاجل ذهابهم إلى أنها
موضوعة للشياع والسريان، وإن كان ربما نسب ذلك إليهم، ولعل وجه النسبة
ملاحظة أنه لا وجه للتمسك بها بدون الاحراز والغفلة عن وجهه، فتأمل
جيدا.
ثم إنه قد انقدح بما عرفت - من توقف حمل المطلق على الاطلاق، فيما
598

لم يكن هناك قرينة حالية أو مقالية على قرينة الحكمة المتوقفة على المقدمات
المذكورة - أنه لا إطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الافراد أو
الأصناف، لظهوره فيه، أو كونه متيقنا منه، ولو لم يكن ظاهرا فيه
بخصوصه، حسب اختلاف مراتب الانصراف، كما إنه منها ما لا يوجب ذا
ولا ذاك، بل يكون بدويا زائلا بالتأمل، كما أنه منها ما يوجب الاشتراك أو النقل.
لا يقال: كيف يكون ذلك وقد تقدم أن التقييد لا يوجب التجوز في
المطلق أصلا.
فإنه يقال: مضافا إلى أنه إنما قيل لعدم استلزامه له، لا عدم إمكانه،
فإن استعمال المطلق في المقيد بمكان من الامكان، إن كثرة إرادة المقيد لدى
إطلاق المطلق ولو بدال آخر ربما تبلغ بمثابة توجب له مزية أنس، كما في
المجاز المشهور، أو تعينا واختصاصا به، كما في المنقول بالغلبة، فافهم.
تنبيه: وهو أنه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة، كان واردا في
مقام البيان من جهة منها، وفي مقام الاهمال أو الاجمال من أخرى، فلا بد في
حمله على الاطلاق بالنسبة إلى جهة من كونه بصدد البيان من تلك الجهة،
ولا يكفي كونه بصدده من جهة أخرى، إلا إذا كان بينهما ملازمة عقلا أو شرعا أو
عادة، كما لا يخفى.
599

فصل
إذا ورد مطلق ومقيد متنافيين، فإما يكونان مختلفين في الاثبات
والنفي، وإما يكونان متوافقين، فإن كانا مختلفين مثل (أعتق رقبة) و (لا
تعتق رقبة كافرة) فلا إشكال في التقييد، وإن كانا متوافقين، فالمشهور فيهما
الحمل والتقييد، وقد استدل بأنه جمع بين الدليلين وهو أولى.
وقد أورد عليه بإمكان الجمع على وجه آخر، مثل حمل الامر في المقيد على
الاستحباب.
وأورد عليه بأن التقييد ليس تصرفا في معنى اللفظ، وإنما هو تصرف في
وجه من وجوه المعنى، اقتضاه تجرده عن القيد، مع تخيل وروده في مقام بيان
تمام المراد، وبعد الاطلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الاجمال،
فلا إطلاق فيه حتى يستلزم تصرفا، فلا يعارض ذلك بالتصرف في المقيد،
بحمل أمره على الاستحباب.
600

وأنت خبير بأن التقييد أيضا يكون تصرفا في المطلق، لما عرفت من أن
الظفر بالمقيد لا يكون كاشفا عن عدم ورود المطلق في مقام البيان، بل عن عدم
كون الاطلاق الذي هو ظاهره بمعونة الحكمة، بمراد جدي، غاية الامر أن
التصرف فيه بذلك لا يوجب التجوز فيه، مع أن حمل الامر في المقيد على
الاستحباب لا يوجب تجوزا فيه، فإنه في الحقيقة مستعمل في الايجاب، فإن
المقيد إذا كان فيه ملاك الاستحباب، كان من أفضل أفراد الواجب،
لا مستحبا فعلا، ضرورة أن ملاكه لا يقتضي استحبابه إذا اجتمع مع ما يقتضي
وجوبه.
نعم، فيما إذا كان إحراز كون المطلق في مقام البيان بالأصل، كان من
التوفيق بينهما، حمله على أنه سيق في مقام الاهمال على خلاف مقتضى الأصل،
فافهم. ولعل وجه التقييد كون ظهور إطلاق الصيغة في الايجاب التعييني
أقوى من ظهور المطلق في الاطلاق.
601

وربما يشكل بأنه يقتضي التقييد في باب المستحبات، مع أن بناء المشهور
على حمل الامر بالمقيد فيها على تأكد الاستحباب، اللهم إلا أن يكون الغالب في
هذا الباب هو تفاوت الافراد بحسب مراتب المحبوبية، فتأمل.
أو أنه كان بملاحظة التسامح في أدلة المستحبات، وكان عدم رفع اليد من
دليل استحباب المطلق بعد مجئ دليل المقيد، وحمله على تأكد استحبابه، من
التسامح فيها.
ثم إن الظاهر أنه لا يتفاوت فيما ذكرنا بين المثبتين والمنفيين بعد فرض
كونهما متنافيين، كما لا يتفاوتان في استظهار التنافي بينهما من استظهار اتحاد
التكليف، من وحدة السبب وغيره، من قرينة حال أو مقال حسبما يقتضيه
النظر، فليتدبر.
تنبيه: لا فرق فيما ذكر من الحمل في المتنافيين، بين كونهما في بيان
الحكم التكليفي، وفي بيان الحكم الوضعي، فإذا ورد مثلا: إن البيع سبب،
602

وإن البيع الكذائي سبب، وعلم أن مراده إما البيع على إطلاقه، أو البيع
الخاص، فلا بد من التقييد لو كان ظهور دليله في دخل القيد أقوى من ظهور
دليل الاطلاق فيه، كما هو ليس ببعيد، ضرورة تعارف ذكر المطلق وإرادة
المقيد - بخلاف العكس - بإلغاء القيد، وحمله على أنه غالبي، أو على وجه
آخر، فإنه على خلاف المتعارف.
تبصرة لا تخلو من تذكرة، وهي: إن قضية مقدمات الحكمة
في المطلقات تختلف حسب اختلاف المقامات، فإنها تارة يكون حملها على
العموم البدلي، وأخرى على العموم الاستيعابي، وثالثة على نوع خاص مما
ينطبق عليه حسب اقتضاء خصوص المقام، واختلاف الآثار والاحكام، كما هو
الحال في سائر القرائن بلا كلام.
فالحكمة في إطلاق صيغة الامر تقتضي أن يكون المراد خصوص الوجوب
603

التعييني العيني النفسي، فإن إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان، ولا معنى لإرادة
الشياع فيه، فلا محيص عن الحمل عليه فيما إذا كان بصدد البيان، كما أنها قد
تقتضي العموم الاستيعابي، كما في (أحل الله البيع) إذ إرادة البيع مهملا أو
مجملا، ينافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان، وإرادة العموم البدلي
لا يناسب المقام، ولا مجال لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلف، أي بيع كان، مع
أنها تحتاج إلى نصب دلالة عليها، لا يكاد يفهم بدونها من الاطلاق، ولا يصح
قياسه على ما إذا أخذ في متعلق الامر، فإن العموم الاستيعابي لا يكاد يمكن
إرادته، وإرادة غير العموم البدلي، وإن كانت ممكنة، إلا أنها منافية للحكمة،
وكون المطلق بصدد البيان.
فصل
في المجمل والمبين
والظاهر أن المراد من المبين في موارد إطلاقه، الكلام الذي له ظاهر،
ويكون بحسب متفاهم العرف قالبا لخصوص معنى، والمجمل بخلافه، فما
ليس له ظهور مجمل وإن علم بقرينة خارجية ما أريد منه، كما أن ماله الظهور
مبين وإن علم بالقرينة الخارجية أنه ما أريد ظهوره وأنه مؤول، ولكل منهما في
604

الآيات والروايات، وإن كان أفراد كثيرة لا تكاد تخفى، إلا أن لهما أفراد
مشتبهة وقعت محل البحث والكلام للاعلام، في أنها من أفراد أيهما؟ كآية
السرقة، ومثل * (حرمت عليكم أمهاتكم) * و * (أحلت لكم بهيمة الانعام)
مما أضيف التحليل إلى الأعيان ومثل (لا صلاة إلا بطهور).
ولا يذهب عليك أن إثبات الاجمال أو البيان لا يكاد يكون بالبرهان،
لما عرفت من أن ملاكهما أن يكون للكلام ظهور، ويكون قالبا لمعنى، وهو مما
يظهر بمراجعة الوجدان، فتأمل.
ثم لا يخفى أنهما وصفان إضافيان، ربما يكون مجملا عند واحد، لعدم
معرفته بالوضع، أو لتصادم ظهوره بما حف به لديه، ومبينا لدى الآخر،
لمعرفته وعدم التصادم بنظره، فلا يهمنا التعرض لموارد الخلاف والكلام والنقض
والابرام في المقام، وعلى الله التوكل وبه الاعتصام.
605