الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ٢٤
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (فمن أظلم ممن كذب على الله) * بأن أضاف إليه سبحانه وتعالى الشرك أو الولد * (وكذب بالصدق) * أي بالأمر الذي هو عين الحق ونفس الصدق وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم * (إذ جاءه) * أي في أول مجيئه من غير تدبر فيه ولا تأمل - فإذ - فجائية كما صرح به الزمخشري لكن اشترط فيها في المغنى أن تقع بعد بينا أو بينما ونقله عن سيبويه فلعله أغلبي، وقد يقال: هذا المعنى يقتضيه السياق من غير توقف على كون إذ فجائية، ثم المراد أن هذا الكاذب والمكذب أظلم من كل ظالم * (أليس في جهنم مثوى للكافرين) * أي لهؤلاء الذين افتروا على الله سبحانه وتعالى وسارعوا إلى التكذيب بالصدق، ووضع الظاهر موضع الضمير للتسيجل عليهم بالكفر، والجمع باعتبار معنى * (من) * كما أن الافراد في الضمائر السابقة باعتبارلفظها أو لجنس الكفرة فيشمل أهل الكتاب ويدخل هئلاء في الحكم دخولا أوليا، وأيا ما كان فالمعنى على كفاية جهنم مجازاة لهم كأنه قيل: أليست جهنم كافية للكافرين مثوى كقوله تعالى: * (حسبهم جهنم يصلونها) * (المجادلة: 8) أي هي تكفي عقوبة لكفرهم وتكذيبهم، والكفاية مفهومة من السياق كما تقول لمن سألك شيئا: ألم أنعم عليك تريد كفاك سابق أنعامي عليك، واستدل بالآية على تفكير أهل البدع لأنهم مكذبون بما علم صدقه.
وتعقب بأن * (من كذب) * مخصوص بمن كذب الأنبياء شفاها في وقت تبليغهم لا مطلقا لقوله تعالى: * (إذ جاءه) * ولو سلم اطلاقه فهم لكونهم يتأولون ليسوا مكذبين وما نفوه وكذبوه ليس معلوما صدقه بالضرورة إذ لو علم من الدين ضرورة كان جاحدة كافرا كمنكر فرضية الصلاة ونحوها.
وقال الخفاجي: الأظهر أن المراد تكذيب الأنبياء عليهم السلام بعد ظهور المعجزات في أن ما جاؤوا به من عند الله تعالى لا مطلق التكذيب، وكأني بك تختار أن المتأول غير مكذب لكن لا عذر في تأويل ينفي ما علم من الدين ضرورة.
* (والذى جآء بالصدق وصدق به أول‍ائك هم المتقون) *.
* (والذي جاء بالصدق وصدق به) * الموصول عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن مردويه. والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس، وفسر الصدق بلا إله إلا الله، والؤمنون داخلون بدلالة السياق وحكم التبعية دخول الجند في قولك: نزل الأمير موضع كذا، وليس هذا من الجمع بين الحقيقة والمجاز في شيء لأن الثاني لم يقصد من حاق اللفظ، ولا يضر في ذلك أن
2

المجيء بالصدق ليس وصفا للمؤمنين الأتباع كما لا يخفى، والموصول على هذا مفرد لفظا ومعنى، والجمع في قوله تعالى: * (أول‍ئك هم المتقون) * باعتبار دخول الأتباع تبعا، ومراتب باعتبار دخول الأتباع تبعاف، ومراتب التقوى متفاوتة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلاها، وجوز أن يكون الموصول صفة لمحذوف أي الفوج الذي أو الفريق الذي الخ فيكون مفرد اللفظ مجموع المعنى فقيل: الكلام حينئذ على التوزيع لأن المجيء بالصدق على الحقيقة له عليه الصلاة والسلام والتصديق بما جاء به وان عمه وأتباعه صلى الله عليه وسلم لكنه فيهم أظهر فليحمل عليه للتقابل، وفي الكشف الأوجه أن لا يحمل على التوزيع غاية ما في الباب ان أحد الوصفين في أحد الموصوفين أظهر، وعليه يحمل كلام الزمخشري الموهم للتوزيع، وحمل بعضهم الموصول على الجنس فإن تعريفه كتعريف ذي اللام يكون للجنس والعهد، والمراد حينئذ به الرسل والمؤمنون.
وأيد إرادة ما ذكر بقراءة ابن مسعود * (والذين جاؤوا بالصدق وصدقوا به) * وزعم بعضهم أنه أريد والذين فحذفت النون كما في قوله: إن الذي حانت بفلج دماؤهم $ هم القوم كل القوم يا أم مالك
وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بصحيح لوجوب جمع الضمير في الصلة حينئذ كما في البيت ألا ترى أنه إذا حذفت النون من اللذان كان الضمير مثنى كقوله: إن الذي حانت بفلج دماؤهم * هم القوم كل القوم يا أم مالك
وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بصحيح لوجوب جمع الضمير في الصلة حينئذ كما في البيت ألا ترى أنه إذا حذفت النون من اللذان كان الضمير مثنى كقوله: أبني كليب ان عمى اللذا * قتلا وفككا الاغلالا
وقال علية. وأبو العالية. والكلبي. وجماعة * (الذي جاء بالصدق) * هو الرسول صلى الله عليه وسلم والذي صدق به هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه. وأخرج ذلك ابن جرير. والماوردي في معرفة الصحابة. وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان وله صحبة عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقال أبو الأسود. ومجاهد في رواية. وجماعة من أهل البيت. وغيرهم: الذي صدق به هو علي كرم الله تعالى وجهه. وأخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن السدى أنه قال: * (الذي جاء بالصدق) * جبريل عليه السلام * (وصدق به) * هو النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: وعلى الأقوال الثلاثة يقتضي اضمار الذي وهو غير جائز على الأصح عند النحاة من أنه لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته مطلقا أي سواء عطف على موصول آخر أم لا.
ويضعفه أيضا الأخبار عنه بالجمع. وأجيب بأنه لا ضرورة إلى الاضمار ويراد بالذي الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق أو علي كرم الله تعالى وجههما معا على أن الصلة للتوزيع، أو يراد بالذي جبريل عليه السلام والرسول صلى الله عليه وسلم معا كذلك، وضمير الجمع قد يرجع إلى الاثنين وقد أريدا بالذي، ولا يخفى ما ذلك من التكلف والله تعالى أعلم بحال الأخبار، ولعل ذكر أبي بكر مثلا على تقدير الصحة من الاقتصار على بعض أفراد العام لنكتة وهي في أبي بكر رضي الله تعالى عنه كونه أول من آمن وصدق من الرجال، وفي علي كرم الله تعالى وجهه كونه أول من آمن وصدق من الصبيان، ويقال نحو ذلك على تقدير صحة خبر السدى ولا يكاد يصح لقوله تعالى: فيما بعد * (ليكفر) * الخ، وبما ذكر يجمع بين الأخبار إن صحت ولا يعتبر في شيء منها الحصر فتدبر. وقرأ أبو صالح. وعكرمة بن سليمان *
(وصدق به) * مخففا أي وصدق به الناس ولم يكذبهم به يعني أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف فالمفعول محذوف لأن الكلام في القائم به الصدق وفي الحديث الصدق، والكلام على العموم دون خصوصه عليه الصلاة والسلام فإن جملة القرآن حفظه الصحابة عنه عليه الصلاة والسلام وأدوه كما أنزل، وقيل: المعنى وصار صادقا به أي بسببه لأن القرآن معجز والمعجز يدل على صدق النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فالوصف خاص، وقد تجوز في ذلك باستعمال * (صدق) * بمعنى صار صادقا به ولا كناية فيه كما قيل؛ وقال أبو صالح: أي وعمل به وهو كما ترى.
3

وقرىء * (وصدق به) * مبنيا للمفعول مشددا.
* (لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك جزآء المحسنين) *.
* (لهم ما يشاؤون عند ربهم) * بيان لما لأولئك الموصوفين بالمجيء بالصدق والتصديق به في الآخرة من حسن المآب بعد بيان ما لهم في الدنيا من حسن الأعمال أي لهم كل ما يشاؤونه من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما أن بعض ما يشاؤونه من تكفير السيئات والامن من الفزع الأكبر وسائر أهوال القيامة إنما يقع قبل دخول الجنة * (ذلك) * الذي ذكر من حصول كل ما يشاؤونه * (جزاء المحسنين) * أي الذي أحسنوا أعمالهم، والمراد بهم أولئك المحدث عنهم لكن أقيم الظاهر مقام الضمير تنبيها على العلة لحصول الجزاء، وقيل: المراد ما يعمهم وغيرهم ويدخلون دخولا أوليا [بم وقوله تعالى:
* (ليكفر الله عنهم أسوأ الذى عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذى كانوا يعملون) *.
* (ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا) * الخ متعلق بمحذوف أي ليكفر الله عنهم ويجزيهم خصهم سبحانه بما خص أو بما قبله باعتبار فحواه على ما قيل أي وعدهم الله جميع ما يشاؤونه من زوال المضار وحصول المسار ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا الخ، وليس ببعيد معنى عن الأول، وجوز أن يكون متعلقا بقوله سبحانه: * (وذلك جزاء المحسنين) * أي بما يدل عليه من الثبوت أو بالمحسنين كما قال أبو حيان فكأنه قيل: وذلك جزاء الذين أحسنوا أعمالهم ليكفر الله تعالى عنهم أسوأ الذي عملوه * (ويجزيهم أجرهم) * ويعطيهم ثوابهم * (بأحسن الذي كانوا يعملون) * وتقديم التكفير على إعطاء الثواب لأن درء المضار أهم من جلب المسار.
وأقيم الاسم الجليل مقام الضمير الراجع إلى * (ربهم) * لإبراز كمال الاعتناء بمضمون الكلام، وإضافة * (أسوأ وأحسن) * إلى ما بعدهما من إضافة افعل التفضيل إلى غير المفضل عليه للبيان والتوضيح كما في الأشج أعدل بني مروان ويوسف أحسن أخوته، والتفضيل على ما قال الزمخشري للدلالة على أن الزلة المكفرة عندهم هي الأسوأ لاستعظامهم المعصية مطلقا لشدة خوفهم، والحسن الذي يعملونه عند الله تعالى هو الأحسن لحسن إخلاصهم فيه.
وذلك على ما قرر في الكشف لأن التفضيل هنا من باب الزيادة المطلقة من غير نظر إلى مفضل عليه نظرا إلى وصوله إلى أقصر الغاية الكمالية، ثم لما كانوا متقين كاملي التقي لم يكن في عملهم أسوأ إلا فرضا وتقديرا.
وقوله سبحانه: * (بأحسن الذي كانوا يعملون) * دون أحسن الذي كانوا يعملون يدل على أن حسنهم عند الله تعالى من الأحسن لدلالته على أن جميع أجرهم يجري على ذلك الوجه فلو لم يعملوا إلا الأحسن كان التفصيل بحسب الأمر نفسه ولو كان في العمل الأحسن والحسن وكان الجزاء بالأحسن بأن ينظر إلى أحسن الأعمال فيجري الباقي في الجزاء على قياسه دل أن الحسن عند المجازي كالأحسن، فصح على التقديرين أن حسنهم عند الله تعالى هو الأحسن، ويعلم من هذا أن لا اعتزال فيما ذكره الزمخشري كما توهمه أبو حيان، وأما قوله في الاعتراض عليه: إنه قد استعمل * (أسوأ) * في التفضيل على معتقدهم و * (حسن) * في التفضيل على ما هو عند الله عز وجل وذلك توزيع في أفعل التفضيل وهو خلاف الظاهر. فقد يسلم إذا لم يكن في الكلام ما يؤذن بالمغايرة فحيث كان فيه ههنا ذلك على ما قرر لا يسلم أن التوزيع خلاف الظاهر، وقيل: إن * (اسوأ) * على ما هو الشائع في أفعل التفضيل، وليس المراد أن لهم عملا سيئا وعملا أسوأ والمكفر هو الأسوأ فإنهم المتقون الذين وإن كانت لهم سيئات لا تكون سيئاتهم من الكبائر العظيمة، ولا يناسب التعرض لها في مقام مدحهم بل الكلام كناية عن تكفير جميع سيئاتهم بطريق برهاني، فإن الأسوأ إذا كفر كان غيره أولى بالتكفير لا أن ذلك صدر منهم، ولا نسلم
4

وجوب تحقق المعنى الحقيقي في الكناية وهو كما ترى، وقال غير واحد: أفعل على ما هو الشائع والأسوأ الكفر السابق على التقوى والإحسان، والمراد تكفير جميع ما سلف منهم قبل الإيمان من المعاصي بطريق برهاني.
وعلى هذا لا يتسنى تفسير * (وصدق به) * بعلي كرم الله تعالى وجهه إذ لم يسبق له كفر أصلي ولا يكاد يعبر عن الكفر التبعي بأسوأ العمل، وقيل: أفعل ليس للتفضيل أصلا فأسوأ بمعنى السيء صغيرا كان أو كبيرا كما هو وجه أيضا في الأشج أعدل بني مروان، وأيد بقراءة ابن مقسم. وحامد بن يحيى عن ابن كثير رواية عن البزي عنه * (أسواء) * بوزن أفعال جمع سوء، وأحسن عند أكثر أهل هذه الأقوال على بابه على معنى أنه تعالى ينظر إلى أحسن طاعاتهم فيجري سبحانه الباقي في الجزاء على قياسه لطفا وكرما، وزعم الطبرسي أن الأحسن الواجب والمندوب والحسن المباح والجزاء إنما هو على الأولين دون المباح، وقيل: المراد يجزيهم بأحسن من عملهم وهو الجنة، وفيه ما فيه، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني دون الأول للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة بخلاف السيئة.
* (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد) *.
* (أليس الله بكاف عبده) * انكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه كأن الكفاية من التحقق والظهور بحيث لا يقدر أحد على أن يتفوه بعدمها أو يتلعثم في الجواب بوجودها، والمراد - بعبده - إما رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي عن السدى وأيد بقوله تعالى: * (ويخوفونك بالذين من دونه) * أي الأوثان التي
اتخذوها آلهة؛ فإن الخطاب سواء كانت الجملة استئنافا أو حالا له صلى الله عليه وسلم: وقد روي أن قريشا قالت له عليه الصلاة والسلام: انا نخاف أن تخبلك آلهتنا وتصيبك معرتها لعيبك إياها فنزلت، وفي رواية قالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منها خبل فنزلت، أو الجنس المنتظم له عليه الصلاة والسلام انتظاما أوليا، وأيد بقراءة أبي جعفر. ومجاهد. وابن وثاب. وطلحة والأعمش. وحمزة. والكسائي * (عباده) * بالجمع وفسر بالأنبياء عليهم السلام والمؤمنين، وعلى الأول يراد أيضا الأتباع كما سمعت في قوله تعالى: * (والذي جاء بالصدق وصدق به) * (الزمر: 33) * (ويخوفونك) * شامل لهم أيضا على ما سلف والتئام الكلام بقوله تعالى: * (فمن أظلم) * إلى هذا المقام لدلالته على أنه تعالى يكفي نبيه صلى الله عليه وسلم منهم دينه ودنياه ويكفي أتباعه المؤمنين أيضا المهمين وفيه أنه سبحانه يكفيهم شر الكافرين من وجهين من طريق المقابلة ومن انه داخل في كفاية مهمى الرسول عليه الصلاة والسلام وأتباعه، وهذا ما تقتضيه البلاغة القرآنية ويلائم ما بني عليه السورة الكريمة من ذكر الفريقين وأحوالهما توكيدا لما أمر به أولا من العبادة والإخلاص. وقرىء * (بكافي عباده) * بالإضافة و * (يكافي عباده) * مضارع كافي ونصب * (عباده) * فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية كقولك: يجاري في يجري وهو أبلغ من كفى لبنائه على لفظ المبالغة وهو الظاهر لكثرة تردد هذا المعنى في القرآن نحو * (فسيكفيكهم الله) * ويحتمل أن يكون مهموزا من المكافأة وهي المجازاة، ووجه الارتباط أنه تعالى لما ذكر حال من كذب على الله وكذب بالصدق وجزاء، وحال مقابله أعني الذي جاء بالصدق وصدق به وجزاءه وعرض بقوله سبحانه: * (ذلك جزاء المحسنين) * بأن ما سلف جزاء الكافرين المسيئين لما هو معروف من فائدة البناء على اسم الإشارة ثم عقبه تعالى بقوله عز وجل: * (ليكفر) * الخ على معنى ليكفر عنهم ويجزيهم خصهم بما خص فنبه على المقابل أيضا من ضرورة الاختصاص والتعليل، وفيه أيضا ما يدل على حكم المقابل على اعتبار المتعلق غير
5

ما ذكر كما يظهر بأدنى التفات أردف بقوله تعالى: * (أليس الله بكاف عبده) * وحيث أن مطمح النظر من العباد السيد الحبيب صلى الله عليه وسلم كان المعنى الله تعالى يجازي عبده ونبيه عليه الصلاة والسلام هذا الجزاء المذكور وفيه أنه الذي يجزيه البتة ويلائمه قوله تعالى: * (ويخوفونك) * فإنه لما كان في مقابلة ذم آلهتهم كما سمعت في سبب النزول كان تحذيرا من جزاء الآلهة فلا مغمز بعدم الملاءمة. نعم لا ننكر أن معنى الكفاية أبلغ كما هو مقتضى القراءة المشهورة فاعلم ذاك والله تعالى يتولى هداك.
* (ومن يضلل الله) * حتى غفل عن كفايته تعالى عبده وخوف بما لا ينفع ولا يضر أصلا * (فما له من هاد) * يهديه إلى خير ما.
* (ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذى انتقام) *.
* (ومن يهد الله) * فيجعل كونه تعالى كافيا نصيب عينه عاملا بمقتضاه * (فما له من مضل) * يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه إذ لا راد لفعله ولا معارض لإرادته عز وجل كما ينطق به قوله تعالى: * (أليس الله بعزيز) * غالب لا يغالب منيع لا يمانع ولا ينازع * (ذي انتقام) * ينتقم من أعدائه لأوليائه، وإظهار الاسم الجليل في موضع الاضمار لتحقيق مضمون الكلام وتربية المهابة.
* (ولئن سألتهم من خلق السم‍اوات والارض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هل هن ك‍اشف‍ات ضره أو أرادنى برحمة هل هن ممسك‍ات رحمته قل حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون) *.
* (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) * لظهور الدليل ووضوح السبيل فقد تقرر في العقول وجوب انتهاء الممكنات إلى واجب الوجود، والاسم الجليل فاعل لفعل محذوف أي خلقهن الله * (قل) * تبكيتا لهم * (أفرأيتم ما تدعون من دون الله ان أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره) * أي إذا كان خالق العالم العلوي والسفلي هو الله عز وجل كما أقررتم فأخبروني أن آلهتكم ان أرادني الله سبحانه بضر هل هن يكشفن عني ذلك الضر، فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر؛ وقال بعضهم: التقدير إذا لم يكن خالق سواه تعالى فهل يمكن غيره كشف ما أراد من الضر، وجوز أن تكون عاطفة على مقدر أي أتفكرتم بعد ما أقررتم فرأيتم ما تدعون الخ. * (أو أرادني برحمة) * أي أو أن أرادني بنفع * (هل هن ممسكات رحمته) * فيمنعها سبحانه عني. وقرأ الأعرج. وشيبة. وعمرو بن عبيد. وعيسى بخلاف عنه. وأبو عمرو. وأبو بكر * (كاشفات وممسكات) * بالتنوين فيهما ونصب ما بعدهما وتعليق إرادة الضر والرحمة بنفسه التفيسة عليه الصلاة والسلام للرد في نحورهم حيث كانوا خوفوه معرة الأوثان ولما فيه من الإيذان بامحاض النصحية، وقدم الضر لأن دفعه أهم، وقيل: * (كاشفات وممسكات) * على ما يصفونها به من الأنوثة تنبيها على كمال ضعفها * (قل حسبي الله) * كافي جل شأنه في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر. روي عن مقاتل أنه صلى الله عليه وسلم لما سألهم سكتوا فنزل ذلك.
* (عليه يتوكل) * لا على غيره في كل شيء * (المتوكلون) * لعلمهم أن كل ما سواه تحت ملكوته تعالى.
* (قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إنى ع‍امل فسوف تعلمون) *.
* (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم) * على حالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنتهم فيها فإن المكانة نقلت من المكان المحسوس إلى الحالة التي عليها الشخص واستعيرت لها استعارة محسوس لمعقول، وهذا كما تستعار حيث وهنا للزمان بجامع الشمول والإحاطة، وجوز أن يكون المعنى اعملوا على حسب تمكنكم واستطاعتكم.
وروي عن عاصم * (مكاناتكم) * بالجمع والأمر للتهديد، وقوله تعالى: * (إني عامل) * وعيد لهم واطلاقه لزيادة الوعيد لأنه لو قيل: على مكانتي لتراءى أنه عليه الصلاة والسلام على حالة واحدة لا تتغير ولا تزداد فلما
6

أطلق أشعر بأنه له صلى الله عليه وسلم كل زمان مكانة أخرى وأنه لا يزال يزداد قوة بنصر الله تعالى وتأييده ويؤيد ذلك قوله تعالى: * (فسوف تعلمون) * فإنه دال
على أنه صلى الله عليه وسلم منصور عليهم في الدنيا والآخرة بدليل قوله تعالى:
* (من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) *.
* (من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) * فإن الأول اشارة إلى العذاب الدنيوي وقد نالهم يوم بدر والثاني إشارة إلى العذاب الأخروي فإن العذاب المقيم عذاب النار فلو قيل إني عامل على مكانتي وكان إذ ذاك غير غالب بل الأمر بالعكس لم يلائم المقصود، و * (من) * تحتمل الاستفهامية والموصولية وجملة * (يخزيه) * صفة * (عذاب) * والمراد بمقيم دائم وفي الكلام مجاز في الظرف أو الإسناد وأصله مقيم فيه صاحبه.
* (إنآ أنزلنا عليك الكت‍ابللناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ومآ أنت عليهم بوكيل) *.
* (إنا أنزلنا عليك الكتب للناس) * لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في المعاش والمعاد * (بالحق) * حال من مفعول * (أنزلنا) * أو من فاعله أي أنزلنا الكتاب ملتبسا أو ملتبسين بالحق * (فمن اهتدى) * بأن عمل بما فيه * (فلنفسه) * إذ نفع به نفسه * (ومن ضل) * بأن لم يعمل بموجبه * (فإنما يضل عليها) * لما أن وبال ضلاله مقصور عليها * (وما أنت عليهم بوكيل) * لتجبرهم على الهدى وما وظيفتك إلا البلاغ وقد بلغت أي بلاغ.
* (الله يتوفى الانفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها فيمسك التى قضى عليها الموت ويرسل الاخرى إلى أجل مسمى إن فى ذلك لاي‍ات لقوم يتفكرون) *.
* (الله يتوفى الأنفس) * أي يقبضها عن الإبدان بأن يقطع تعلقها تعلق التصرف فيها عنها * (حين موتها) * أي في وقت موتها * (والتي لم تمت) * أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت * (في منامها) * متعلق - بيتوفى - أي يتوفاها في وقت نومها على أن مناما اسم زمان، وجوز فيه كونه مصدرا ميميا بأن يقطع سبحانه تعلقها بالأبدان تعلق التصرف فيها عنها أيضا فتوفى الأنفس حين الموت وتوفيها في وقت النوم بمعنى قبضها عن الأبدان وقطع تعلقها بها تعلق التصرف إلا أن توفيها حين الموت قطع لتعلقها بها تعلق التصرف ظاهرا وباطنا وتوفيها في وقت النوم قطع لذلك ظاهرا فقط، وكأن التوفي الذي يكون عند الموت لكونه شيئا واحدا في أول زمان الموت وبعد مضي أيام منه قيل: * (حين موتها) * والتوفي الذي يكون في وقت النوم لكونه يتفاوت في أول وقت النوم وبعد مضي زمان منه قوة وضعفا قيل: * (في منامها) * أي في وقت نومها كذا قيل فتدبره ولمسلك الذهن السليم اتساع، وإسناد الموت والنوم إلى الأنفس قيل: مجاز عقلي لأنهما حالا ابدانها لا حالاها، وزعم الطبرسي أن الكلام على حذف مضاف أعني الأبدان، وجعل الزمخشري الأنفس عبارة عن الجملة دون ما يقابل الأبدان، وحمل توفيها على إماتتها وسلب صحة أجزائها بالكلية فلا تبقى حية حساسة داركة حتى كأن ذاتها قد سلبت، وحيث لم يتحقق هذا المعنى في التوفي حين النوم لأن ليس إلا سلب كمال الصحة وما يترتب عليه من الحركات الاختيارية وغيرها قال في قوله تعالى: * (والتي لم تمت في منامها) * أي يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى، ومنه قوله تعالى: * (وهو الذي يتوفاكم بالليل) * (الأنعام: 60) حيث لا تميزون ولا تتصرفون كما أن الموتى كذلك، وما يتخايل فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز يدفع بالتأمل؛ وتقديم الاسم الجليل وبناء * (يتوفى) * عليه للحصر أو للتقوى أو لهما، واعتبار الحصر أوفق بالمقام من اعتبار التقوى وحده أي الله يتوفى الأنفس حقيقة لا غيره عز وجل * (فيمسك التي) * أي الأنفس التي * (قضى) * في الأزل * (عليها الموت) * ولا يردها إلى أبدانها بل يبقيها على ما كانت عليه وينضم إلى ذلك قطع تعلق التصرف باطنا، وعبر عن ذلك بالإمساك ليناسب التوفي.
7

وقرأ حمزة. والكسائي. وعيسى. وطلحة. والأعمش. وابن وثاب * (قضى) * على البناء للمفعول ورفع * (الموت) *.
* (ويرسل الأخرى) * أي الأنفس الأخرى وهي النائمة إلى أبدانها فتكون كما كانت حال اليقظة متعلقة بها تعلق التصرف ظاهرا وباطنا، وعبر بالإرسال رعاية للتقابل * (إلى أجل مسمى) * هو الوقت المضروب للموت حقيقة وهو غاية لجنس الارسال الواقع بعد الإمساك لا لفرد منه فإني آتي لا امتداد له فلا يغيا، واعتبر بعضهم كون الغاية للجنس لئلا يرد لزوم أن لا يقع نوم بعد اليقظة الأولى أصلا وهو حسن، وقيل: * (يرسل) * مضمن معنى الحفظ والمراد يرسل الأخرى حافظا إياها عن الموت الحقيقي إلى أجل مسمى، وروي عن ابن عباس أن في ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هي التي بها العقل والتمييز والورح هي التي بها النفس والتحرك فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم، وهو قول بالفرق بين النفس والروح، ونسبه بعضهم إلى الأكثرين ويعبر عن النفس بالنفس الناطقة وبالورح الامرية وبالروح الالهية، وعن الروح بالروح الحيوانية وكذا بالنفس الحيوانية، والثانية كالعرش للأولى، قال بعض الحكماء المتألهين: إن القلب الصنوبري فيه بخار لطيف هو عرش للروح الحيوانية وحافظ لها وآلة يتوقف عليها آثارها، والروح الحيوانية عرش ومرآة للروح الإلهية التي هي النفس الناطقة وواسطة بينها وبين البدن بها يصل حكم تدبير النفس إليه، وإلى عدم التغاير ذهب جماعة، وهو قول ابن جبير واحد قولين لابن عباس، وما روي عنه أولا في الآية يوافق ما ذكرناه من حيث أن النفس عليه ليست بمعنى الجملة كما قال الزمخشري وادعى أن الصحيح ما ذكره دون هذا المروى بدليل موتها ومنامها، والضمير للأنفس وما أريد منها غير متصف بالموت والنوم وإنما الجملة هي التي تتصف بهما.
وقال في الكشف. ولأن الفرق بين النفسين رأى يدفعه البرهان، وإيقاع الاستيفاء أيضا لا بد له من تأويل أيضا فلا ينبغي أن يعدل عن المشهور الملائم يعني حمل التوفي على الاماتة فإن أصله أخذ الشيء من المستوفي منه وافيا كملا وسلبه منه بالكلية ثم نقل عن ذلك إلا الإماتة لما أنه موجود فيها حتى صارت المتبادرة إلى الفهم منه.، وفيه دغدغة، والذي يشهد له كثير من الآثار الصحيحة أن المتوفى الأنفس التي تقابل الإبدان دون الجملة.
أخرج الشيخان في صحيحهما عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليقل اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين من عبادك، وأخرج أحمد. والبخاري. وأبو
داود. والنسائي. وابن أبي شيبة عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ليلة الوادي: " إن الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء " وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: من يكلؤنا الليلة؟ فقلت: أنا فنام ونام الناس ونمت فلم نستيقظ إلا بحر الشمس فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: أيها الناس إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد فيقبضها الله إذا شاء ويرسلها إذا شاء ". وأخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال: العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فتكون رؤياه كأخذ باليد ويرى الرجل الرؤيا فلا تكون رؤياه شيئا فقال علي كرم الله تعالى وجهه: أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ يقول الله تعالى: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) * (الزمر: 42) فالله تعالى يتوفى الأنفس
8

كلها فما رأت وهي عنده سبحانه في السماء فهي الرؤيا الصادقة وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهي الكاذبة لأنها إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها فعجب عمر من قوله رضي الله تعالى عنهما؛ وظاهر هذا الأثر أن النفس النائمة المقبوضة تكون في السماء حتى ترسل، ومثل ذلك مما يجب تأويله على القول بتجرد النفس ولا يجب على القول الآخر. نعم لعلك تختاره وكأنك تقول: إن النفس شريفة علوية هبطت من المحل الأرفع وأرسلت من حمى ممنع وشغلت بتدبير منزلها في نهارها وليلها ولم تزل تنتظر فرصة العود إلى ذياك الحمى والمحل الرفيع الأسمى وعند النوم تنتهز تلك الفرصة وتهون عليها في الجملة هاتيك الغصة فيحصل لها نوع توجه إلى عالم النور ومعلم السرور الخالي من الشرور بحيث تستعد استعدادا ما لقبول بعض آثاره والاستضاءة بشيء من أنواره وجعلها كذلك هو قبضها وبه لعمري بسطها وقبضها، فمتى رأت وهي في تلك الحال مستفيضة من ذلك العالم الموصوف بالكمال رؤيا كانت صادقة، ومتى رأت وهي راجعة القهقرى إلى ما ابتليت به من تدبير منزل تحوم فيه شياطين الأوهام وتزدحم فيه أي ازدحام كانت رؤياها كاذبة ثم إنها في كلا الحالين متفاوتة الأفراد فيما يكون من الاستعداد، والوقوف على حقيقة الحال لا يتم إلا بالكشف دون القيل والقال * (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) * الإشارة إلى ما ذكر من التوفي والإمساك والإرسال، والإفراد لتأويله بالمذكور أو نحوه، وصيغة البعيد باعتبار مبدئه أو تقضي ذكره أو بعد منزلته، والتنوين في * (آيات) * للتكثير والتعظيم أي أن فيما ذكر الآيات كثيرة عظيمة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته وشمول رحمته سبحانه لقوم يتفكرون في كيفية تعلق الأنفس بالأبدان وتوفيها عنها تارة بالكلية عند الموت وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها إلى أن يعيد الله تعالى الخلق وما يعتريها من السعادة والشقاوة وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النوم وإرسالها حينا بعد حين إلى انقضاء آجالها.
* (أم اتخذوا من دون الله شفعآء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون) *.
* (أم اتخذوا) * أي بل اتخذ قريش - فأم - منقطعة والاستفهام المقدر لإنكار اتخاذهم * (من دون الله شفعاء) * تشفع لهم عند الله تعالى في رفع العذاب، وقيل: في أمورهم الدنيوية والأخروية، وجوز كونها متصلة بتقدير معادل كما ذكره ابن الشيخ في حواشي البيضاوي وهو تكلف لا حاجة إليه، ومعنى * (من دون الله) * من دون رضاه أو إذنه لأنه سبحانه لا يشفع عنده إلا من أذن له ممن أرضاه ومثل هذه الجمادات الخسيسة ليست مرضية ولا مأذونة ولو لم يلاحظ هذا اقتضى أن الله تعالى شفيع ولا يطلق ذلك عليه سبحانه أو التقدير أو اتخذوا آلهة سواه تعالى لتشفع لهم وهو يؤل لما ذكر * (قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون) * أي أيشفعون حال تقدير عدم ملكهم شيئا من الأشياء وعدم وعقلهم إياه، وحاصله أيشفعون وهم جمادات لا تقدر ولا تعلم فالهمزة داخلة على محذوف والواو للحال والجملة حال من فاعل الفعل المحذوف. وذهب بعضهم إلى أنها للعطف على شرطية قد حذفت لدلالة * (لو كانوا لا يملكون) * الخ عليها أي أيشفعون لو كانوا يملكون شيئا ويعقلون ولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون، والمعنى على الحالية أيض كأنه قيل: أيشفعون على كل حال، وقال بعض المحققين من النحاة: إنها اعتراضية ويعني بالجملة الاعتراضية ما يتوسط بين أجزاء الكلام متعلقا به معنى مستأنفا لفظا على طريق الالتفات كقوله: فأنت طلاق والطلاق ألية
وقوله: ترى كل من فيها وحاشاك فانيا
وقد تجىء بعد تمام الكلام كقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " وفي احتياج أداة الشرط في مثل هذا التركيب إلى
9

الجواب خلاف وعلى القول بالاحتياج هو محذوف لدلالة ما قبل عليه وتحقيق الأقوال في كتب العربية.
وجوز أن يكون مدخول الهمزة المحذوف هنا الاتخاذ أي قل لهم أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئا من الأشياء فضلا عن أن يملكوا الشفاعة عند الله تعالى ولا يعقلون.
* (قل لله الشف‍اعة جميعا له ملك السم‍اوات والارض ثم إليه ترجعون) *.
* (قل لله الشفاعة جميعا) * لعله كما قال الإمام رد لما يجيبون به وهوان الشفعاء ليست الأصنام أنفسها بل أشخاص مقربون هي تماثيلهم، والمعنى أنه تعالى مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة ما إلا أن يكون المشفوع مرتضى والشفيع مأذونا له وكلاهما مفقودان ههنا، وقد يستدل بهذه الآية على وجود الشفاعة في الجملة يوم القيامة لأن الملك أو الاختصاص الذي هو مفاد اللام هنا يقتضي الوجود فالاستدلال بها على نفي الشفاعة مطلقا في غاية الضعف.
وقوله تعالى: * (له ملك السموات والأرض) * استئناف تعليلي لكون الشفاعة جميعا له عز وجل كأنه قيل: له ذلك لأنه جل وعلا مالك الملك كله فلا يتصرف أحد بشيء منه بدون إذنه ورضاه فالسماوات والأرض كناية عن كل ما سواه سبحانه، وقوله تعالى: * (ثم إليه ترجعون) * عطف على قوله تعالى: * (له ملك) * الخ وكأنه تنصيص على مالكية الآخرة التي فيها معظم نفع الشفاعة وإيماء إلى انقطاع الملك الصوري عما سواه عز وجل.
وجوز أن يكون عطفا على قوله تعالى: * (لله الشفاعة) * وجعله في " البحر " تهديدا لهم كأنه قيل: ثم إليه ترجعون فتعلمون أنهم لا يشفعون لكم ويخيب سعيكم في
عبادتهم، وتقديم * (إليه) * للفاصلة وللدلالة على الحصر إذ المعنى إليه تعالى لا إلى أحد غيره سبحانه لا استقلالا ولا اشتراكا ترجعون.
* (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالاخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) *.
* (وإذا ذكر الله وحده) * أي مفردا بالذكر ولم تذكر معه آلهتهم، وقيل: أي إذا قيل لا إله إلا الله * (اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة) * أي انقبضت ونفرت كما في قوله تعالى: * (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا) * (الإسراء: 46) * (وإذا ذكر الذين من دونه) * فرادى أو مع ذكر الله عز وجل * (إذا هم يستبشرون) * لفرط افتتانهم بهم ونسيانهم حق الله تعالى، وقد بولغ في بيان حالهم القبيحة حيث بين الغاية فيهما فإن الاستبشار أن يمتلىء القلب سرورا حتى ينبسط له بشرة الوجه، والاشمئزاز أن يمتلىء غيظا وغما ينقبض عنه أديم الوجه كما يشاهد في وجه العابس المحزون، و * (إذا) * الأولى: شرطية محلها النصب على الظرفية وعاملها الجواب عند الأكثرين وهو * (اشمأزت) * أو الفعل الذي يليها وهو * (ذكر) * عند أبي حيان وجماعة، وليست مضافة إلى الجملة التي تليها عندهم، وكذا * (إذا) * الثانية: فالعامل فيها إما * (ذكر) * بعدها وإما * (يستبشرون) * و * (إذا) * الثالثة: فجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط كالفاء، فعلى القول بحرفيتها لا يعمل فيها شيء وعلى القول باسميتها وأنها ظرف زمان أو مكان عاملها هنا خبر المبتدأ بعدها، وقال الزمخشري: عاملها فعل مقدر مشتق من لفظ المفاجأة تقديره فاجاؤا وقت الاستبشار فهي مفعول به، وجوز أن تكون فاعلا على معنى فاجأهم وقت الاستبشار، وهذا الفعل المقدر هو جواب إذا الثانية فتتعلق به بناء على قول الأكثرين من أن العامل في إذا جوابها، ولا يلزم تعلق ظرفين بعامل واحد لأن الثاني منهما ليس منصوبا على الظرفية.
نعم قيل على الزمخشري: إنه لا سلف له فيما ذهب إليه، وأنت تعلم أن الرجل في العربية لا يقلد غيره، ومن العجيب قول الحوفي إن * (إذا) * الثالثة ظرفية جىء بها تكرارا لإذا قبلها وتوكيدا وقد حذف شرطها والتقدير إذا كان ذلك هم يستبشرون، ولا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا، والآية في شأن المشركين مطلقا. وأخرج ابن مردويه عن ابن
10

عباس أنه فسر * (الذين لا يؤمنون بالآخرة) * بأبي جهل بن هشام. والوليد بن عقبة. وصفوان. وأبي بن خلف، وفسر * (الذين من دونه) * باللات والعزى وكأن ذلك تنصيص على بعض أفراد العام. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد أن الآية حكت ما كان من المشركين يوم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم * (والنجم) * عند باب الكعبة: وهذا أيضا لا ينافي العموم كما لا يخفى، وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم واعتقادهم فيهم ويعظمون من يحكي لهم ذلك وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يوما لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني فقلت له: قل يا ألله فقد قال سبحانه: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) * فغضب وبلغني أنه قال: فلان منكر على الأولياء، وسمعت عن بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل وهذا من الكفر بمكان نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان.
* (قل اللهم فاطر السم‍اوات والارض عالم الغيب والشه‍ادة أنت تحكم بين عبادك فى ما كانوا فيه يختلفون) *.
* (قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) * أمر بالدعاء والالتجاء إلى الله تعالى لما قاساه في أمر دعوتهم وناله من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد فإنه تعالى القادر على الأشياء بجملتها والعالم بالأحوال برمتها، والمقصود من الأمر بذلك بيان حالهم ووعيدهم وتسلية حبيبه الأكرم صلى الله عليه وسلم وأن جده وسعيه معلوم مشكور عنده عز وجل وتعليم العباد الالتجاء إلى الله تعالى والدعاء بأسمائه العظمى، ولله تعالى در الربيع بن خيثم فإنه لما سئل عن قتل الحسين رضي الله تعالى عنه تأوه وتلا هذه الآية، فإذا ذكر لك شيء مما جرى بين الصحابة قل: * (اللهم فاطر السموات) * الخ فإنه من الآداب التي ينبغي أن تحفظ، وتقديم المسند إليه في * (أنت تحكم) * للحصر أي أنت تحكم وحدك بين العباد فيما استمر اختلافهم فيه حكما يسلمه كل مكابر معاند ويخضع له كل عات مارد وهو العذاب الدنيوي أو الأخروي، والمقصود من الحكم بين العباد الحكم بينه عليه الصلاة والسلام وبين هؤلاء الكفرة.
* (ولو أن للذين ظلموا ما فى الارض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القي‍امة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) *.
* (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا) * الخ قيل مستأنف مسوق لبيان آثار الحكم الذي استدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وغاية شدته وفظاعته أي لو أن لهم جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر * (ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة) * أي لجعلوا كل ذلك فدية لأنفسهم من العذاب السيء الشديد وقيل الجملة معطوفة على مقدر والتقدير فأنا أحكم بينهم وأعذبهم ولو علموا ذلك ما فعلوا ما فعلوا، والأول أظهر، وليس المراد إثبات الشرطية بل التمثيل لحالهم بحال من يحاول التخلص والفداء مما هو فيه بما ذكر فلا يتقبل منه، وحاصله أن العذاب لازم لهم لا يخلصون منه ولو فرض هذا المحال ففيه من الوعيد والإقناط ما لا يخفى.
وقوله تعالى: * (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) * أي ظهر لهم من فنون العقوبات ما لم يكن في حسابهم زيادة مبالغة في الوعيد، ونظير ذلك في الوعد قوله تعالى: * (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) * (السجدة: 17) والجملة قيل: الظاهر أنها حال من فاعل * (افتدوا) *.
* (وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) *.
11

* (وبدا لهم) * حين تعرض عليهم صحائفهم * (سيآت ما كسبوا) * أي الذي كسبوه وعملوه على أن * (ما) * موصولة أو كسبهم وعملهم على أنها مصدرية، وإضافة * (سيئات) * على معنى من أو اللام * (وحاق) * أي أحاط * (بهم ما كانوا به يستهزؤن) * أي جزاء ذلك على أن الكلام على تقدير المضاف أو على أن هناك مجازا بذكر السبب وإرادة مسببه، و * (ما) * محتملة للموصولية والمصدرية أيضا.
* (فإذا مس الإنس‍ان ضر دعانا ثم إذا خولن‍اه نعمة منا قال إنمآ أوتيته على علم بل هى فتنة ول‍اكن أكثرهم لا يعلمون) *.
* (فإذا مس الإنسان ضر دعانا) * إخبار عن الجنس بما يغلب فيه، وقيل: المراد بالإنسان حذيفة بن المغيرة، وقيل: الكفرة * (ثم إذا خولناه نعمة منا) * أي أعطيناه إياها تفضلا فإن التخويل على ما قيل مختص به لا يطلق على ما أعطى جزاء * (قال إنما أوتيته على علم) * أي على علم مني بوجوه كسبه أو بأني سأعطاه لمالي من الاستحقاق أو على علم من الله تعالى بي وباستيجابي، وإنما للحصر أي ما أوتيته لشيء من الأشياء إلا لأجل علم، والهاء للنعمة، والتذكير لتأويلها بشيء من النعم، والقرينة على ذلك التنكير، وقيل: لأنها بمعنى الإنعام، وقيل: لأن المراد بها المال، وقيل: لأنها تشتمل على مذكر ومؤنث فغلب المذكر، وجوز أن يكون لما في * (إنما) * على أنها موصولة أي إن الذي أوتيته كائن على علم ويبعد موصوليتها كتابتها متصلة في المصاحف * (بل هي فتنة) * رد لقوله ذلك، والضمير للنعمة باعتبار لفظها كما أن الأول لها باعتبار معناها، واعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى جائز وإن كان الأكثر العكس، وجوز أن يكون التأنيث باعتبار الخبر، وقيل: هو ضمير الإتيانة وقرىء بالتذكير فهو للنعمة أيضا كالذي مر أو للإتيان أي ليس الأمر كما يقول بل ما أوتيه امتحان له أيشكر أم يكفر، وأخبر عنه بالفتنة مع أنه آلة لها لقصد المبالغة، ونحو هذا يقال على تقدير عود الضمير للإتيانة أو الإتيان * (ول‍اكن أكثرهم لا يعلمون) * إن الأمر كذلك وهذا ظاهر في أن المراد بالإنسان الجنس إذ لو أريد العهد لقيل لكنه لا يعلم أو لكنهم لا يعلمون وإرادة العهد هناك وإرجاع الضمير للمطلق هنا على أنه استخدام نظير عندي درهم ونصفه تكلف.
والفاء للعطف وما بعدها عطف على قوله تعالى: * (وإذا ذكر الله وحده) * (الزمر: 45) الخ وهي لترتيبه عليه والغرض منه التهكم والتحميق، وفيه ذمهم بالمناقضة والتعكيس حيث أنهم يشمئزون عن ذكر الله تعالى وحده ويستبشرون بذكر الآلهة فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره دون من استبشروا بذكره، وهذا كما تقول: فلان يسىء إلى فلان فإذا احتاج سأله فأحسن إليه، ففي الفاء استعارة تبعية تهكمية، وقيل: يجوز أن تكون للسببية داخلة على السبب لأن ذكر المسبب يقتضي ذكر سببه لأن ظهور ما لم يكونوا يحتسبون الخ مسبب عما بعد الفاء إلا أنه يتكرر مع قوله تعالى الآتي: * (والذين ظلموا منهم) * إلى آخره إن لم يتغايرا بكون أحدهما في الدنيا والآخر في الأخرى، وإلى ما قدمنا ذهب الزمخشري، والجمل الواقعة في البين عليه أعني قوله سبحانه: * (قل اللهم - إلى - يستهزئون) * (الزمر: 46، 48) اعتراض مؤكد للإنكار عليهم، وزعم أبو حيان أن في ذلك تكلفا واعتراضا بأكثر من جملتين وأبو علي الفارسي لا يجيز الاعتراض بجملتين فكيف يجيزه بالأكثر، وأنا أقول: لا بأس بذلك لا سيما وقد تضمن معنى دقيقا لطيفا، والفارسي محجوج بما ورد في كلام العرب من ذلك.
* (قد قالها الذين من قبلهم فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) *.
* (قد قالها الذين من قبلهم) * ضمير * (قالها) * لقوله تعالى: * (إنما أوتيته على علم) * لأنها كلمة أو جملة، وقرىء بالتذكير أي القول أو الكلام المذكور، والذين من قبلهم قارون وقومه فإنه قال ورضوا به فالإسناد من باب إسناد ما للبعض إلى الكل وهو مجاز عقلي.
12

وجوز أن يكون التجوز في الظرف فقالها الذين من قبلهم بمعنى شاعت فيهم، والشائع الأول، والمراد قالوا مثل هذه المقالة أو قالوها بعينها ولاتحاد صورة اللفظ تعد شيئا واحدا في العرف * (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) * من متاع الدنيا ويجمعونه منه.
* (فأص‍ابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من ه‍اؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين) *.
* (فأصابهم سيآت ما كسبوا) * أي أصابهم جزاء سيئات كسبهم أو الذي كسبوه على أن الكلام بتقدير مضاف أو أنه تجوز بالسيئات عما تسبب عنها وقد يقال لجزاء السيئة سيئة مشاكلة نحو قوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * فيكون ما هنا من المشاكلة التقديرية، وإذا كان المعنى على جعل جزاء جميع ما كسبوا سيئا دل الكلام على أن جميع ما كسبوا سيء إذ لو كان فيه حسن جوزي عليه جزاء حسنا، وفيه من ذمهم ما فيه.
* (والذين ظلموا من هؤلاء) * المشركين، و * (من) * للبيان فإنهم كلهم كانوا ظالمين إذا الشرك ظلم عظيم أو للتبعيض فالمراد بالذين ظلموا من أصر على الظلم حتى تصيبهم قارعة وهم بعض منهم * (سيصيبهم سيئآت ما كسبوا) * كما أصاب الذين من قبلهم، والمراد به العذاب الدنيوي وقد قحطوا لسبع سنين، وقتل: ببدر صناديدهم وقيل العذاب الأخروي، وقيل: الأعم، ورجح الأول بأنه الأوفق للسياق، وأشير بقوله تعالى: * (وما هم بمعجزين) * أي بفائتين على ما قيل إلى العذاب الأخروي.
* (أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن فى ذلك لاي‍ات لقوم يؤمنون) *.
* (أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء) * أن يبسطه له * (ويقدر) * لمن يشاء أن يقدر له من غير أن يكون لأحد ما مدخل في ذلك حيث حبس عنهم الرزق سبعا ثم بسطه لهم سبعا * (إن في ذلك) * الذي ذكر * (لآيات) * دالة على أن الحوادث كافة من الله تعالى شأنه والأسباب في الحقيقة ملغاة * (لقوم يؤمنون) * إذ هم المستدلون بها على مدلولاتها.
* (قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) *.
* (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) * أي أفرطوا في المعاصي جانين عليها، وأصل الإسراف الإفراط في صرف المال ثم استعمل فيما ذكر مجازا بمرتبتين على ما قيل، وقال الراغب: هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر وهذا ظاهر في أنه حقيقة فيما ذكرنا وهو حسن.
وضمن معنى الجناية ليصح تعديه بعلى والمضمن لا يلزم فيه أن يكون معناه حقيقيا، وقيل: هو مضمن معنى الحمل، وحمل غير واحد الإضافة في * (عبادي) * على العهد أو على التشريف، وذهبوا إلى أن المراد بالعباد المؤمنون وقد غلب استعماله فيهم مضافا إليه عز وجل في القرآن العظيم فكأنه قيل: أيها المؤمنون المذنبون * (
لا تقنطوا من رحمة الله) * أي لا تيأسوا من مغفرته سبحانه وتفضله عز وجل على أن المغفرة مدرجة في الرحمة أو أن الرحمة مستلزمة لها لأنه لا يتصور الرحمة لمن لم يغفر له، وتعليل النهي بقوله تعالى:
* (إن الله يغفر الذنوب جميعا) * يقتضي دخولها في المعلل، والتذييل بقوله سبحانه: * (إنه هو الغفور الرحيم) * كالصريح في ذلك، وجوز أن يكون في الكلام صنعة الاحتباك كأنه قيل: لا تقنطوا من رحمة الله ومغفرته إن الله يغفر الذنوب جميعا ويرحم، وفيه بعد، وقالوا: المراد بمغفرة الذنوب التجافي عنها وعدم المؤاخذة بها في الظاهر والباطن وهو المراد بسترها، وقيل: المراد بها محوها من الصحائف بالكلية مع التجافي عنها وأن الظاهر إطلاق الحكم وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر كيف لا وقوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
13

يشاء) * (النساء: 48) ظاهر في الإطلاق فيما عدا الشرك، ويشهد للإطلاق أيضا أمور، الأول: نداؤهم بعنوان العبودية فإنها تقتضي المذلة وهي أنسب بحال العاصي إذا لم يتب واقتضاؤها للترحم ظاهر. الثاني: الاختصاص الذي تشعر به الإضافة إلى ضميره تعالى فإن السيد من شأنه أن يرحم عبده ويشفق عليه. الثالث: تخصيص ضرر الإسراف المشعرة به * (على) * بأنفسهم فكأنه قيل: ضرر الذنوب عائد عليهم لا علي فيكفي ذلك من غير ضرر آخر كما في المثل أحسن إلى من أساء كفى المسيء إساءته، فالعبد إذا أساء ووقف بين يدي سيده ذليلا خائفا عالما بسخط سيده عليه ناظرا لإكرام غيره ممن أطاع لحقه ضرر إذ استحقاق العقاب عقاب عند ذوي الألباب. الرابع: النهي عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة وإطلاقها. الخامس: إضافة الرحمة إلى الاسم الجليل المحتوي على جميع معاني الأسماء على طريق الالتفات فإن ذلك ظاهر في سعتها وهو ظاهر في شمولها التائب وغيره. السادس: التعليل بقوله تعالى: * (إن الله) * الخ فإن التعليل يحسن مع الاستبعاد وترك القنوط من الرحمة مع عدم التوبة أكثر استبعادا من تركه مع التوبة. السابع: وضع الاسم الجليل فيه موضع الضمير لإشعاره بأن المغفرة من مقتضيات ذاته لا لشيء آخر من توبة أو غيرها. الثامن: تعريف الذنوب فإنه في مقام التمدح ظاهر في الاستغراق فتشمل الذنب الذي يعقبه التوبة والذي لا تعقبه. التاسع: التأكيد بالجميع. العاشر: التعليل - بأنه هو - الخ. الحادي عشر: التعبير بالغفور فإنه صيغة مبالغة وهي إن كانت باعتبار الكم شملت المغفرة جميع الذنوب أو باعتبار الكيف شملت الكبائر بدون توبة. الثاني عشر: حذف معمول * (الغفور) * فإن حذف المعمول يفيد العموم. الثالث عشر: إفادة الجملة الحصر فإن من المعلوم أن الغفران قد يوصف به غيره تعالى فالمحصور فيه سبحانه إنما هو الكامل العظيم وهو ما يكون بلا توبة. الرابع عشر: المبالغة في ذلك الحصر.
الخامس عشر: الوعد بالرحمة بعد المغفرة فإنه مشعر بأن العبد غير مستحق للمغفرة لولا رحمته وهو ظاهر فيما إذا لم يتب. السادس عشر: التعبير بصيغة المبالغة فيها. السابع عشر: إطلاقها، ومنع المعتزلة مغفرة الكبائر والعفو عنها من غير توبة وقالوا: إنها وردت في غير موضع من القرآن الكريم مقيدة بالتوبة فإطلاقها هنا يحمل على التقييد لاتحاد الواقعة وعدم احتمال النسخ، وكون القرآن في حكم كلام واحد [بم وأيدوا ذلك بقوله تعالى:
* (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) *.
* (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) * فإنه عطف على لا تقنطوا والتعليل معترض، وبعد تسليم حديث حمل الإطلاق على التقييد يكون عطفا لتتميم الإيضاح كأنه قيل: لا تقنطوا من رحمة الله تعالى فتظنوا أنه لا يقبل توبتكم وأنيبوا إليه تعالى وأخلصوا له عز وجل.
وأجاب بعض الجماعة بمنع وجوب حمل الإطلاق على التقييد في كلام واحد نحو أكرم الفضلاء أكرم الكاملين فضلا عن كلام لا يسلم كونه في حكم كلام واحد وحينئذ لا يكون المعطوف شرطا للمعطوف عليه إذ ليس من تتمته، وقيل إن الأمر بالتوبة والإخلاص لا يخل بالإطلاق إذ ليس المدعي أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن الأمر بهما وتنافي الوعيد بالعذاب.
وقال بعض أجلة المدققين: إن قوله تعالى: * (يا عبادي الذين أسرفوا) * (الزمر: 53) خطاب للكافرين والعاصين وإن كان المقصود الأولى الكفار لمكان القرب وسبب النزول، فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: إن أهل مكة قالوا: يزعم محمد صلى الله عليه وسلم أنه من عبد الأوثان ودعا مع الله تعالى إلها آخر وقتل
14

النفس التي حرم الله لم يغفر له فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله تعالى: * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) * (الزمر: 53) الخ.
وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد. ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول: لا يقبل الله تعالى من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا أقوام أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه فنزلت هؤلاء الآيات وكان عمر رضي الله تعالى عنه كاتبا فكتبها بيده ثم كتب بها إلى عياش وإلى الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.
وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت هذه الآيات الثلاث * (قل يا عبادي - إلى - وأنتم لا تشعرون) * (الزمر: 53 - 55) بالمدينة في وحشي وأصحابه وتخلل قوله تعالى: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) * (الزمر: 53) بين المعطوفين تعليلا للجزء الأول قبل الوصول إلى الثاني للدلالة على سعة رحمته تعالى وأن مثله حقيق بأن يرجى وإن عظم الذنب لا سيما وقد عقب بقوله تعالى: * (إنه هو) * الآية الدال على انحصار الغفران والرحمة على الوجه الأبلغ فالوجه أن يجري على عمومه ليناسب عموم الصدر ولا يقيد بالتوبة لئلا ينافي غرض التخلل مع أنه جمع محلي باللام، وقد أكد بما صار نصا في الاستغراق، ولا يغني المعتزلي أن القرآن العظيم كالكلام الواحد وأنه سليم من التناقض بل يضره، وكذلك ما ذكر من أسباب النزول انتهى، وقد تضمن الإشارة إلى بعض مؤكدات الإطلاق التي حكيناها
آنفا، والذي يترجح في نظري ما اختاره من عموم الخطاب في * (يا عبادي) * للعاصين والكافرين، وأمر الإضافة سهل، وإن قوله تعالى: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) * مقيد بلمن يشاء بقرينة التصريح به في قراءة عبد الله هنا، وكون الأمور كلها معلقة بالمشيئة ولا نسلم أن متعلق المشيئة التائب وحده، وكونها تابعة للحكمة على تقدير صحته لا ينفع إذ دون إثبات كون المغفرة لغير التائب منافية للحكمة خرط القتاد. نعم لا تتعلق بالمشرك ما لم يؤمن لقوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * فمغفرة الشرك مشروطة بالإيمان فالمشرك داخل فيمن يشاء لكن بالشرط المعروف، واعتبار الشرط فيه لا يضر في عدم اعتبار شرط التوبة في العاصي بما دونه.
ويشهد لذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده. وابن جرير. وابن أبي حاتم. وابن مردويه. والبيهقي في " شعب الإيمان " عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إلى آخر الآية فقال رجل: يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال: الا ومن أشرك ثلاث مرات " لا يقال المغفرة لمن أشرك بشرط الإسلام أمر واضح فلا يجوز أن تخفى على السائل وعليه عليه الصلاة والسلام حتى يسكت لانتظار الوحي أو الاجتهاد لأنا نقول: السؤال للاستبعاد من حيث العادة والسكوت لتعليم سلوك طريق التأني والتدبر وإن كان الأمر واضحا.
وقيل: الظاهر أنه لانتظار الإذن أو الاجتهاد في التصريح بعموم المغفرة فإنهم ربما اتكلوا على ذلك فيخشى التفريط في العمل وهو لا ينافي التعليم فإنه عليه الصلاة والسلام إنما يعلمهم التدبر بعد أن يتدبر هو في نفسه صلى الله عليه وسلم. وزعم أن الحديث دال على اشتراط التوبة ليس بشيء، ويؤيد إطلاق المغفرة عن قيد التوبة ما أخرجه الإمام أحمد. وعبد بن حميد. وأبو داود. والترمذي. وحسنه. وابن المنذر. وابن الأنباري في المصاحف. والحاكم. وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد قالت: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم " فإنه ليس للا يبالي كثير حسن إن
15

كانت المغفرة مشروطة بالتوبة كما لا يخفى، وكذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن سيرين قال: قال علي كرم الله تعالى وجهه أي آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن * (من يعمل سوأ أو يظلم نفسه) * (النساء: 110) الآية ونحوها فقال علي كرم الله تعالى وجهه: ما في القرآن أوسع آية من * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) * (الزمر: 53) الآية.
والمؤكدات السابقة أعني السبعة عشر لا يخلو بعضها عن بحث، والظاهر أن مغفرة ذنب لا تجامع العذاب عليه أصلا، وذهب بعضهم إلى أنها تجامعه إذا كان انقض من الذنب لا إذا كان بمقداره فمن عذب بمقدار ذنبه في النار، وأخرج منها لا يقال إنه غفر له إذ السيئات إنما تجزى بأمثالها، وقيل: تجامعه مطلقا وكون السيئات لا تجزى إلا بأمثالها بلطفه تعالى أيضا فهو نوع من عفوه عز وجل وفيه ما فيه فتأمل، وأصل الإنابة الرجوع.
ومعنى * (وأنيبوا إلى ربكم) * (الزمر: 54) الخ أي ارجعوا إليه سبحانه بالإعراض عن معاصيه والندم عليها، وقيل: بالانقطاع إليه تعالى بالعبادة وذكر الرب كالتنبيه على العلة، وقال القشيري: الإنابة الرجوع بالكلية، والفرق بين الإنابة والتوبة أن التائب يرجع من خوف العقوبة والمنيب يرجع استحياء لكرمه تعالى، والإسلام له سبحانه الإخلاص في طاعاته عز وجل، وذكر أن الإخلاص بعد الإنابة أن يعلم العبد أن نجاته بفضل الله تعالى لا بإنابته فبفضله سبحانه وصل إلى إنابته لا بإنابته وصل إلى فضله جل فضله. وعن ابن عباس من حديث أخرجه ابن جرير. وابن المنذر عنه " من آيس العباد من التوبة فقد جحد كتاب الله تعالى ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله تعالى عليه ".
* (واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) *.
* (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) * الظاهر أنه خطاب للعباد المخاطبين فيما تقدم سواء أريد بهم المؤمنون أو ما يعمهم والكافرين، والمراد بما أنزل القرآن وهو كما أنزل إلى المؤمنين أنزل إلى الكافرين ضرورة أنه أنزل عليه صلى الله عليه وسلم لدعوة الناس كافة، والمراد بأحسنه ما تضمن الإرشاد إلى خير الدارين دون القصص ونحوها أو المأمور به أو العزائم أو الناسخ، وأفعل على الأول والثالث على ظاهره وعلى الثاني والرابع فيه احتمالان؛ وقيل: لعل الأحسن ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة وأفعل فيه على ظاهره أيضا، وجوز أن يكون الخطاب للجنس، والمراد بما أنزل الكتب السماوية وبأحسنه القرآن، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر، وفي ذكر الرب ترغيب في الاتباع * (من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة) * أي فجأة * (وأنتم لا تشعرون) * لا تعلمون أصلا بمجيئه فتتداركون ما يدفعه
* (أن تقول نفس ياحسرتى على ما فرطت فى جنب الله وإن كنت لمن الس‍اخرين) *.
* (أن تقول نفس) * في موضع المفعول له بتقدير مضاف، وقدره الزمخشري كراهة وهو منصوب بفعل محذوف يدل عليه ما قبل أي أنذركم وأمركم بأحسن ما أنزل إليكم كراهة أن تقول، ومن لا يشترط للنصب اتحاد الفاعل يجوز كون الناصب * (أنيبوا) * أو * (اتبعوا) * وأيا ما كان فهذه الكراهة مقابل الرضا دون الإرادة فلا اعتزال في تقديرها، وهو أولى من تقدير مخافة كما فعل الحوفي حيث قال: أي أنذرناكم مخافة أن تقول، وابن عطية جعل العامل * (أنيبوا) * ولم يقدر شيئا من الكراهة والمخافة حيث قال: أي أنيبوا من أجل أن تقول، وذهب بعض النحاة إلى أن التقدير لئلا تقول؛ وتنكير * (نفس) * للتكثير بقرينة المقام كما في قول الأعشى: ورب بقيع لو هتفت بجوه * أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا
فأنه أراد أفواجا من الكرام ينصرونه لا كريما واحدا، وجوز أن يكون للتبعيض لأن القائل بعض الأنفس واستظهره أبو حيان، قيل: ويكفي ذلك في الوعيد لأن كل نفس يحتمل أن تكون ذلك، وجوز أيضا أن
16

يكون للتعظيم أي نفس متميزة من الأنفس إما بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم، وليس بذاك * (يا حسرتي) * بالألف بدل ياء الإضافة، والمعنى كما قال سيبويه يا حسرتي احضري فهذا وقتك. وقرأ ابن كثير في الوقف * (يا حسرتاه) * بهاء السكت. وقرأ أبو جعفر * (يا حسرتي) * بياء الإضافة، وعنه * (يا حسرتاي) * بالألف والياء التحتية مفتوحة أو ساكنة جمعا بين العوض والمعوض كذا قيل، ولا يخفى أن مثل هذا غير جائز اللهم إلا شاذا استعمالا وقياسا، فالأوجه أن يكون ثنى الحسرة مبالغة على نحو لبيك وسعديك وأقام بين ظهريهم وظهرانيهم على لغة بلحرث بن كعب من إبقاء المثنى على الألف في الأحوال كلها، واختار ذلك " صاحب الكشف "، وجوز أبو الفضل الرازي أيضا في كتابه اللوامح أن تكون التثنية على ظاهرها على تلك اللغة، والمراد حسرة فوت الجنة وحسرة دخول النار، واعتبار التكثير أولى لكثرة حسراتهم يوم القيامة * (على ما فرطت) * أي بسبب تفريطي - فعلى - تعليلية و * (مصدرية) * كما في قوله تعالى: * (ولتكبروا الله على ما هداكم) * (الحج: 37) والتفريط التقصير * (في جنب الله) * أي جانبه، قال الراغب: أصل الجنب الجارحة ثم يستعار للناحية والجهة التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال، والمراد هنا الجهة مجازا، والكلام على حذف مضاف أي في جنب طاعة الله أو في حقه تعالى أي ما يحق له سبحانه ويلزم وهو طاعته عز وجل؛ وعلى ذلك قول سابق البربري من شعراء الحماسة: أما تتقين الله في جنب عاشق * له كبد حرى عليك تقطع
والتفريط في جهة الطاعة كناية عن التفريط في الطاعة نفسها لأن من ضيع جهة ضيع ما فيها بطريق الأولى الأبلغ لكونه بطريق برهاني، ونير ذلك قول زياد الأعجم: إن السماحة والمروءة والندى * في قبة ضربت على ابن الحشرج
ولا مانع من أن يكون للطاعة وكذا حق الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه جهة بالتبعية للمطيع كمكان السماحة وما معها في البيت، ومما ذكرنا يعلم أنه لا مانع من الكناية كما توهم، وقال الإمام: سمي الجنب جنبا لأنه جانب من جوانب الشيء، والشيء الذي يكون من لوازم الشيء وتوابعه يكون كأنه جند من جنوده وجانب من جوانبه فلما حصلت المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازما للشيء وتابعا له لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب على الحق والأمر والطاعة انتهى. وجعلوا في الكلام عليه استعارة تصريحية وليس هنا مضاف مقدر، وليس بذاك. وقول ابن عباس: يريد على ما ضيعت من ثواب الله، ومقاتل: على ما ضيعت من ذكر الله؛ ومجاهد. والسدي: على ما فرطت في أمر الله، والحسن: في طاعة الله، وسعيد بن جبير: في حق الله بيان لحاصل المعنى، وقيل: الجنب مجاز عن الذات كالجانب أو المجلس يستعمل مجازا لربه، فيكون المعنى على ما فرطت في ذات الله. وضعف بأن الجنب لا يليق إطلاقه عليه تعالى ولو مجازا، وركاكته ظاهرة أيضا، وقيل: هو مجاز عن القرب أي على ما فرطت في قرب الله. وضعف بأنه محتاج إلى تجوز آخر، ويرجع الأمر في الآخرة إلى طاعة الله تعالى ونحوها. وبالجملة لا يمكن إبقاء الكلام على حقيقته لتنزهه عز وجل من الجنب بالمعنى الحقيقي.
ولم أقف على عد أحد من السلف إياه من الصفات السمعية، ولا أعول على ما في المواقف، وعلى فرض العد
17

كلامهم فيها شهير وكلهم مجمعون على التنزيه وسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وفي حرف عبد الله. وحفصة * (في ذكر الله) * * (وإن كنت لمن الس‍اخرين) * أي المستهزئين بدين الله تعالى وأهله، و * (إن) * هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والجملة في محل النصب على الحال عند الزمخشري أي فرطت في حال سخريتي.
وقال في " البحر ": ويظهر أنها استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا لا حال، والمقصود من ذلك الاخبار التحسر والتحزن.
* (أو تقول لو أن الله هدانى لكنت من المتقين) *.
* (أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين) * أي من الشرك والمعاصي.
وفسر غير واحد الهداية هنا بالإرشاد والدلالة الموصلة بناء على أنه الأنسب بالشرطية والمطابق للرد بقوله سبحانه: * (بلى) * الخ، وفسرها أبو حيان بخلق الاهتداء، وأيا ما كان فالظاهر أن هذه المقالة في الآخرة.
* (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لى كرة فأكون من المحسنين) *.
* (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة) * أي رجوعا إلى الحياة الدنيا * (فأكون من المحسنين) * في العقيدة والعمل، و * (لو) * للتمني * (فأكون) * منصوب في جوابها، وجوز في " البحر " أن يكون منتصبا بالعطف على * (كرة) * إذ هو مصدر فيكون مثل قوله: فما لك عنها غير ذكري وحسرة * وتسأل عن ركبانها أين يمموا
وقول الآخر: ولبس عباءة وتقر عيني * أحب لي من لبس الشفوف
ثم قال: والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني كانت أن واجبة الإضمار وكان الكون مترتبا على حصول المتمني لا متمنى، وإذا كانت للعطف على * (كرة) * جاز إظهار أن وإضمارها وكان الكون متمني. [بم وقوله تعالى:
* (بلى قد جآءتك ءاي‍اتى فكذبت بها واستكبرت وكنت من الك‍افرين) *.
* (بلى قد جاءتك ءاي‍اتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) * جواب من الله عز وجل لما تضمنه قول القائل * (لو أن الله هداني) * (الزمر: 57) من نفى أن يكون الله تعالى هداه ورد عليه، ولا يشترط في الجواب ببلى تقدم النفي صريحا وقد وقع في موقعه اللائق به لأنه لو قدم على القرينة الأخيرة أعني * (أو تقول حين ترى العذاب) * (الزمر: 58) الخ وأوقع بعده غير مفصول بنيهما بها لم يحسن لتبتير النظم الجليل، فإن القرائن الثلاث متناسبة متناسقة متلاصقة، والتناسب
بينهن أتم من التناسب بين القرينة الثانية وجوابها، ولو أخرت القرينة الثانية وجعلت الثالثة ثانية لم يحسن أيضا لأن رعاية الترتيب المعنوي وهي أهم تفوت إذ ذاك، وذلك لأن التحسر على التفريط عند تطاير الصحف على ما يدل عليه مواضع من القرآن العظيم، والتعلل بعدم الهداية إنما يكون بعد مشاهدة حال المتقين واغتباطهم، ولأنه للتسلي عن بعض التحسر أو من باب تمسك الغريق فهو لا حق وتمني الرجوع بعد ذوق النار، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب) * (الأنعام: 27) وكذلك لو حمل الوقوف على الحبس على شفيرها أو مشاهدتها، وكل بعد مشاهدة حال المتقين وما لقوا من خفة الحساب والتكريم في الموقف، ولأن اللجأ إلى التمني بعد تحقق أن لا جدوى للتعليل.
وقال الطيبي: إن النفس عند رؤية أهوال يوم القيامة يرى الناس مجزيين بأعمالهم فيتحسر على تفويت الأعمال عليها ثم قد يتعلل بأن التقصير لم يكن مني فإذا نظر وعلم أن التقصير كان منه تمني الرجوع، ثم الظاهر من السياق أن النفوس جمعت بين الأقوال الثلاثة - فأو - لمنع الخلو، وجيء بها تنبيها على أن كل واحد يكفي صارفا عن إيثار الكفر وداعيا إلى الإنابة واتباع أحسن ما أنزل وتذكير الخطاب في * (جاءتك) * الخ على المعني
18

لأن المراد بالنفس الشخص وإن كان لفظها مؤنثا سماعيا.
وقرأ ابن يعمر. والجحدري. وأبو حيوة. والزعفراني. وابن مقسم. ومسعود بن صالح. والشافعي عن ابن كثير. ومحمد بن عيسى في اختياره. والعبسى * (جاءتك) * الخ بكسر الكاف والتاء، وهي قراءة أبي بكر الصديق. وابنته عائشة رضي الله تعالى عنهما، وروتها أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الحسن. والأعمش. والأعرج * (جأتك) * بالهمز من غير مد بوزن فعتك، وهو على ما قال أبو حيان: مقلوب من جاءتك قدمت لام الكلمة وأخرت العين فسقطت الألف. واستدل المعتزلة بالآية على أن العبد خالق لأفعال. وأجاب الأشاعرة بأن إسناد الأفعال إلى العبد باعتبار قدرته الكاسبة. وحقق الكوراني أنه باعتبار قدرته المؤثرة بإذن الله عز وجل لا كما ذهب إليه المعتزلة من أنه باعتبار قدرته المؤثرة أذن الله تعالى أم لم يأذن.
* (ويوم القي‍امة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس فى جهنم مثوى للمتكبرين) *.
* (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) * بما ينالهم من الشدة التي تغير ألوانهم حقيقة، ولا مانع من أن يجعل سواد الوجوه حقيقة علامة لهم غير مترتب على ما ينالهم، وجوز أن يكون ذلك من باب المجاز لا أنها تكون مسودة حقيقة بأن يقال: إنهم لما يلحقهم من الكآبة ويظهر عليهم من آثار الجهل بالله عز وجل يتوهم فيه ذلك. والظاهر أن الرؤية بصرية. والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، وإما لكل من تتأتى منه الرؤية، وجملة * (وجوههم مسودة) * في موضع الحال على ما استظهره أبو حيان، وكون المقصود رؤية سواد وجوههم لا ينافي الحالية كما توهم لأن القيد مصب الفائدة، ولا بأس بترك الواو والاكتفاء بالضمير فيها لا سيما وفي ذكرها ههنا اجتماع واوين وهو مستثقل. وزعم الفراء شذوذ ذلك، ومن سلمه جعل الجملة هنا بدلا من * (الذين) * كما ذهب إليه الزجاج، وهم جوزوا إبدال الجملة من المفرد، أو مستأنفة كالبيان لما أشعرت به الجملة قبلها وأدركه الذوق السليم منها من سوء حالهم، أو جعل الرؤية علمية والجملة في موضع الثاني، وأيد بأنه قرىء * (وجوههم مسودة) * بنصبهما على أن * (وجوههم) * مفعول ثان و * (مسودة) * حال منه. وأنت تعلم أن اعتبار الرؤية بصرية أبلغ في تفضيحهم وتشهير فظاعة حالهم لا سيما مع عموم الخطاب، والنصب في القراءة الشاذة يجوز أن يكون على الإبدال، والمراد بالذين ظلموا أولئك القائلون المتحسرون فهو من باب إقامة الظاهر مقام المضمر، وينطبق على ذلك أشد الانطباق قوله تعالى: * (أليس في جهنم مثوى) * أي مقام * (للمتكبرين) * الذين جاءتهم آيات الله فكذبوا بها واستكبروا عن قبولها والانقياد لها، وهو تقرير لرؤيتهم كذلك، وينطبق عليه أيضا قوله الآتي: * (وينجى) * الخ. وكذبهم على الله تعالى لوصفهم له سبحانه بأن له شريكا ونحو ذلك تعالى عما يصفون علوا كبيرا، وقيل: لوصفهم له تعالى بما لا يليق في الدنيا وقولهم في الأخرى: * (لو أن الله هداني) * (الزمر: 57) المتضمن دعوى أن الله سبحانه لم يهدهم ولم يرشدهم، وقيل: هم أهل الكتابين، وعن الحسن أنهم القدرية القائلون إن شئنا فعلنا وإن لم يشأ الله تعالى وإن شئنا لم نفعل وإن شاء الله سبحانه؛ وقيل: المراد كل من كذب على الله تعالى ووصفه بما لا يليق به سبحانه نفيا وإثباتا فأضاف إليه ما يجب تنزيهه تعالى عنه أو نزهه سبحانه عما يجب أن يضاف إليه، وحكى ذلك عن القاضي وظاهره يتقضي تكفير كثير من أهل القبلة، وفيه ما فيه، والأوفق لنظم الآية
19

الكريمة ما قدمنا، ولا يبعد أن يكون حكم كل من كذب على الله تعالى عالما بأنه كذب عليه سبحانه أو غير عالم لكنه مستند إلى شبهة واهية كذلك؛ وكلام الحسن إن صح لا أظنه إلا من باب التمثيل، وتعريض الزمخشري بأهل الحق بما عرض خارج عن دائرة العدل فما ذهبوا إليه ليس من الكذب على الله تعالى في شيء، والكذب فيه وفي أصحابه ظاهر جدا. وقرأ أبي * (أجوههم) * بإبدال الواو همزة.
* (وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون) *.
* (وينجي الله الذين اتقوا) * ما اتصف به أولئك المتكبرون من جهنم. وقرىء * (ينجى) * بالتخفيف من الانجاء * (بمفازتهم) * اسم مصدر كالفلاح على ما في " الكشف " أو مصدر ميمي على ما في غيره من فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه، وقال الراغب: هي مصدر فاز أو اسم الفوز ويراد بها الظفر بالبغية على أتم وجه كالفلاح وبه فسرها السدي، والباء للملابسة متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول مفيدة لمقارنة تنجيتهم من العذاب لنيل الثواب أي ينجيهم الله تعالى من جهنم مثوى المتكبرين لتقواهم مما اتصف المتكبرون به ملتبسين بفلاحهم وظفرهم بالبغية وهي الجنة، ومآله ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة، وكون الجنة بغية المتقي كائنا من كان مما لا شبهة فيه. نعم هي بغية لبعض المتقين من حيث أنها محل رؤية محبوبهم التي هي غاية مطلوبهم ولك أن تعمم البغية، وقوله تعالى: * (لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون) * في موضع الحال أيضا إما من الموصول أو من ضمير * (مفازتهم) * مفيدة لكونهم مع التنجية أو الفوز منفيا عنهم على الدوام مساس جنس السوء والحزن
، والظاهر أن هذه الحال مقدرة، وقيل: إنها مقارنة مفيدة لكون تنجيتهم أو مفازتهم بالجنة غير مسبوقة بمساس العذاب والحزن، ولا يخفى أنه لا يتسنى بالنسبة إلى جميع المتقين إذ منهم من يمسه العذاب ويحزن لا محالة، وعد وجود ذلك لقلته وانقطاعه كلا وجود تكلف بعيد، وجوز أن يراد بالمفازة الفلاح ويجعل قوله تعالى: * (لا يمسهم) * الخ استئنافا لبيانها كائنة قيل: ما مفازتهم؟ فقيل: لا يمسهم الخ.
والباء حينئذ على ما في " الكشف " سببية متعلقة بينجي أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم. وتعقب بأن في جعل عدم الحزن وعدم السوء سبب النجاة تكلفا فهما من النجاة، والظاهر أنه لو جعلت الباء على هذا الوجه أيضا للملابسة لا يرد ذلك، وجوز كون المفازة اسم مكان أي محل الفوز، وفسرت بالمنجاة مكان النجاة، وصح ذلك لأن النجاة فوز وفلاح، وجعلت الباء عليه للسببية وهناك مضاف محذوف بقرينة باء السببية وإن المنجاة لا تصلح سببا أي ينجيهم بسبب منجاتهم وهو الايمان، وهو كالتصريح بما اقتضاه تعليق الفعل بالموصول السابق، وفسره الزمخشري بالأعمال الصالحة، وقواه بما حكاه عن ابن عباس ليتم مذهبه؛ أو لا مضاف بل هناك مجاز بتلك القرينة من إطلاق اسم المسبب على السبب، والجملة بعد على الاحتمالين في هذا الوجه حال ولا يخفى أن المفازة بمعنى المنجاة مكان النجاة هي الجنة والايمان أو العمل الصالح ليس سببا لها نفسها وإنما هو سبب دخولها فلا بد من اعتباره فلا تغفل، وجوز أن تكون المفازة مصدرا ميميا من فاز منه أي نجا منه يقال: طوبى لمن فاز بالثواب وفاز من العقاب أي ظفر به ونجا، والباء إما للملابسة والجملة بيان للمفازة أي ينجيهم الله تعالى ملتبسين بنجاتهم الخاصة لهم أي بنفي السوء والحزن عنهم، ولا يخفى ركاكة هذا المعنى، وإما للسببية إما على حذف المضاف أو التجوز نظير ما مر آنفا، ولا يحتاج هنا إلى اعتبار الدخول كما لا يخفى، والجملة في موضع الحال أيضا.
وجوز على بعض الأوجه تعلق * (بمفازتهم) * بما بعده ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وبالجملة الاحتمالات العقلية في الآية كثيرة لأن المفازة إما اسم مصدر أو مصدر ميمي أو اسم مكان من فاز به ظفر أو من فاز منه نجا والباء إما
20

للملابسة أو للسببية أو للاستعانة، وهي إما متعلقة بما قبلها أو بما بعدها وهذه ستة وثلاثون احتمالا وإذا ضممت إليها احتمال حذف المضاف في بمفازتهم بمعنى منجاتهم أو نجاتهم واحتمال التجوز فيه كذلك وكذا احتمال كون جملة * (لا يمسهم) * الخ حالا من الموصول واحتمال كونها حالا من ضمير - مفازتهم - واحتمال كون الحال مقدرة وكونها مقارنة زادت كثيرا، ولا يخفي أن فيها المقبول ودونه بل فيها ما لا يتسنى أصلا فأمعن النظر ولا تجمد. وقرأ السلمي. والحسن. والأعرج. والأعمش. وحمزة والكسائي. وأبو بكر * (بمفازاتهم) * جمعا لتكون على طبق المضاف إليه في الدلالة على التعدد صريحا.
* (الله خ‍الق كل شىء وهو على كل شىء وكيل) *.
* (الله خالق كل شيء) * من خير وشر وإيمان وكفر لكن لا بالجبر بل بمباشرة المتصف بهما لأسبابهما فالآية رادة على المعتزلة ردا ظاهرا * (وهو على كل شيء وكيل) * يتولى التصرف فيه كيفما يشاء حسبما تقتضيه الحكمة، وكأن ذكر ذلك للدلالة على أنه سبحانه الغني المطلق وإن المنافع والمضار راجعة إلى العباد، ولك أن تقول: المعنى أنه تعالى حفيظ على كل شيء كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى: * (وما أنت عليهم بوكيل) * وحاصله أنه تعالى يتولى حفظ كل شيء بعد خلقه فيكون إشارة إلى احتياج الأشياء إليه تعالى في بقائها كما أنها محتاجة إليه عز وجل في وجودها.
* (له مقاليد السم‍اوات والارض والذين كفروا بااي‍ات الله أول‍ائك هم الخ‍اسرون) *.
* (له مقاليد السموات والأرض) * أي مفاتيحها كما قال ابن عباس. والحسن. وقتادة. وغيرهم فقيل هو جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: جمع مقليد وقيل: جمع مقلاد من التقليد بمعنى الإلزام ومنه تقليد القضاء وهو إلزامه النظر في أموره، وكذا القلادة للزومها للعنق، وجعل اسما للآلة المعروفة للإلزام بمعنى الحفظ وهو على جميع هذه الأقوال عربي والأشهر الأظهر كونه معربا فهو جمع اقليد معرب إكليد وهو جمع شاذ لأن جمع افعيل على مفاعيل مخالف للقياس وجاء أقاليد على القياس ويقال: في اكليد كليد بلا همزة، وذكر الشهاب أنه بلغة الروم اقليدس وكليد واكليد منه، والمشهور أن كليد فارسي ولم يشتهر في الفارسية اكليد بالهمزة، وله مقاليد كذا قيل: مجاز عن كونه مالك أمره ومتصرفا فيه بعلاقة اللزوم، ويكنى به عن معنى القدرة والحفظ، وجوز كون المعنى الأول كنائيا لكن قد اشتهر فنزل منزلة المدلول الحقيقي فكنى به عن المعنى الآخر فيكون هناك كناية على كناية وقد يقتصر على المعنى الأول في ازرادة وعليه قيل هنا المعنى لا يملك أمر السماوات والأرض ولا يتمكن من التصرف فيها غيره عز وجل. والبيضاوي بعد ذكر ذلك قال: هو كناية عن قدرته تعالى وحفظه لها وفيه مزيد دلالة على الاستقلال والاستبداد لمكان اللام والتقديم، وقال الراغب: مقاليد السماوات والأرض ما يحيط بها، وقيل: خزائنها، وقيل: مفاتيحها، والإشارة بكلها إلى معنى واحد وهو قدرته تعالى عليه وحفظه لها انتهى.
وجوز أن يكون المعنى لا يملك التصرف في خزائن السماوات والأرض أي ما أودع فيها واستعدت له من المنافع غيره تعالى، ولا يخفى أن هذه الجملة إن كانت في موضع التعليل لقوله سبحانه: * (وهو على كل شيء وكيل) * على المعنى الأول فالأظهر الاقتصار في معناها على أنه لا يملك أمر السماوات والأرض أي العالم بأسره غيره تعالى فكأنه قيل: تعالى يتولى التصرف في كل شيء لأنه لا يملك أمره سواه عز وجل، وإن كانت تعليلا له على المعنى الثاني فالأظهر الاقتصار في معناها على أنه لا قدرة عليها لأحد غيره جل شأنه فكأنه قيل: هو تعالى يتولى حفظه كل شيء لأنه لا قدرة لأحد عليه غيره تعالى، وجوز أن تكون عطف بيان للجملة قبلها وأن تكون صفة * (وكيل) * وأن تكون خبرا بعد خبر فأمعن النظر في ذلك وتدبر. وأخرج أبو يعلى. ويوسف القاضي في
21

" سننه ". وأبو الحسن القطان في المطولات. وابن السني في عمل اليوم والليلة. وابن المنذر. وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: له مقاليد السموات والأرض فقال: لا إله إلا الله والله أكبر سبحان الله والحمد لله استغفر الله الذي لا
إله إلا هو الأول والآخر والظاهر والباطين يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير " الحديث.
وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أن عثمان جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: اخبرني عن مقاليد السماوات والأرض فقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير يا عثمان من قالها إذا أصبح عشر مرات وإذا أمسى أعطاه الله ست خصال. أما أولهن: فيحرس من إبليس وجنوده. وأما الثانية: فيعطي قنطارا من من الأجر. وأما الثالثة: فيتزوج من الحور العين. وأما الرابعة: فيغفر له ذوبه. وأما الخامسة: فيكون مع إبراهيم عليه السلام. وأما السادسة: فيحضره اثنا عشر ملكا عند موته يبشرونه بالجنة ويزفونه من قبره إلى الموقف فإن أصابه شيء من أهاويل يوم القيامة قالوا له لا تخف إنك من الآمنين ثم يحاسبه الله حسابا يسيرا ثم يؤمر به إلى الجنة فيزفونه إلى الجنة من موقفه كما تزف العروس حتى يدخلوه الجنة بإذن الله تعالى والناس في شدة الحساب. وفي رواية العقيلي. والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر أن عثمان سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن تفسير * (له مقاليد السموات والأرض) * فقال عليه الصلاة والسلام: ما سألني عنها أحد تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير. وفي رواية الحرث بن أبي أسامة. وابن مردويه عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: " هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله " وبالجملة اختلفت الروايات في الجواب، وقيل في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: إنه ضعيف في سنده من لا تصلح روايته، وابن الجوزي قال: إنه موضوع ولم يسلم له وحال الاخبار الآخر الله تعالى أعلم به والظن الضعف.
والمعنى عليها أن لله تعالى هذه الكلمات يوحد بها سبحانه ويمجد وهي مفاتيح خير السماوات والأرض من تكلم بها من المؤمنين أصابه، فوجه إطلاق المقاليد عليها أنها موصلة إلى الخير كما توصل المفاتيح إلى ما في الخزائن، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم شيئا من الخير في حديث ابن عباس وعد في الحديث قبله عشر خصال لمن قالها كل يوم مائة مرة وهو بتمامه في " الدر المنثور ".
* (والذين كفروا بآي‍ات الله أول‍ائك هم الخ‍اسرون) * معطوف على قوله تعالى: * (الله خالق كل شيء) * (الزمر: 62) الخ أي أنه عز شأنه متصف بهذه الصفات الجليلة الشأن والذين كفروا وجحدوا ذلك أولئك هم الكاملون في الخسران، وقيل: على قوله تعالى: * (له مقاليد السموات والأرض) * ولا يظهر ذلك على بعض الأوجه السابقة فيه.
وقيل: على مقدر تقديره فالذين اتقوا أو فالذين آمنوا بآيات الله هم الفائزون والذين كفروا الخ، وفيه تكلف.
وجوز أن يكون معطوفا على قوله تعالى: * (وينجى الله) * فيكون التقدير وينجي الله المتقين والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون وما بينهما اعتراض للدلالة على أنه تعالى مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها، وفيه تأكيد لثواب المؤمنين وفلاحهم وعقاب الكفرة وخسرانهم ولم يقل ويهلك الذين كفروا
22

بخسرانهم ما قاله سبحانه: * (وينجي) * الخ للاشعار بأن العمدة في فوز المؤمنين فضله تعالى فلذا جعل نجاتهم مسندة له تعالى حادثة له يوم القيامة غير ثابتة قبل ذلك بالاستحقاق والأعمال بخلاف هلاك الفكرة فإنهم قدموه لأنفسهم بما اتصفوا به من الكفر والضلال ولم يسند له تعالى ولم يعبر عنه بالمضارع أيضا، وفي ذلك تصريح بالوعد وتعريض بالوعيد حيث قيل: * (الخاسرون) * ولم يقل الهالكون أو المعذبون أو نحوه وهو قضية الكرم.
وعطف الجملة الاسمية على الفعلية مما لا شبهة في جوازه عند النحويين، ومما ذكرنا يعلم رد قول الإمام الرازي: إن هذا الوجه ضعيف من وجهين: الأول: وقوع الفصل الكثير بين المعطوف والمعطوف عليه. الثاني: وقوع الاختلاف بينهما في الفعلية والاسمية وهو لا يجوز، والإمام أبو حيان منع كون الفاصل كثيرا.
وقال في الوجه الثاني: إنه كلام من لم يتأمل كلام العرب ولا نظر في أبواب الاشتغال. نعم قال في " الكشف " يؤيد الاتصال بما يليه دون قوله تعالى: * (وينجي) * أن قوله سبحانه: * (وينجي الله) * متصل بقوله تعالى: * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا) * (الزمر: 60) فلو قيل بعده: * (والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون) * (الزمر: 63) لم يحسن لأن الأحسن على هذا المساق أن يقدم على قوله تعالى: * (وينجي الله) * على ما لا يخفى ولأنه كالتخلص إلى ما بعده من حديث الأمر بالعبادة والإخلاص إذ ذاك، وهو كلام حسن، ثم الحصر الذي يقتضيه تعريف الطرفين وضمير الفصل باعتبار الكمال كما أشرنا إليه لا باعتبار مطلق الخسران فإنه لا يختص بهم؛ وجوز أن يكون قصر قلب فإنهم يزعمون المؤمنين خاسرين.
* (قل أفغير الله تأمرونىأعبد أيها الج‍اهلون) *.
* (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الج‍اهلون) * أي أبعد الآيات المقتضية لعبادته تعالى وحده غير الله أعبد، فغير مفعول مقدم لأعبد و * (تأمروني) * اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك وقالوا له صلى الله عليه وسلم: استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك لفرط غباوتهم ولذا نودوا بعنوان الجهل، وجوز أن يكون * (أعبد) * في موضع المفعول - لتأمروني - على أن الأصل تأمروني أن أعبد فحذفت أن وارتفع الفعل كما قيل في قوله: ألا أيهذا الزاجري احضر الوغي
ويؤيد قراءة من قرأ * (أعبد) * بالنصب، و * (غير) * منصوب بما دل عليه * (تأمروني أعبد) * أي تعبدونني غير الله أي أتصيرونني عابدا غيره تعالى، ولا يصح نصبه باعبد لأن الصلة لا تعمل فيما قبلها والمقدر كالموجود، وقال بعضهم: هو منصوب به وأن بعد الحذف يبطل حكمها المانع عن العمل، وقرأ ابن كثير * (تأمروني) * بالإدغام وفتح الياء.
وقرأ ابن عامر * (تأمرونني) * بإظهار النونين على الأصل، ونافع * (تأمروني) * بنون واحدة مكسورة وفتح الياء، وفي تعيين المحذوف من النونين خلاف فقيل:
الثانية لأنها التي حصل بها التكرار، وقيل: الأولى لأنها حرف إعراب عرضة للتغيير.
* (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخ‍اسرين) *.
* (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك) * أي من الرسل عليهم السلام * (لئن أشركت) * أي بالله تعالى شيئا ما * (ليحبطن عملك ولتكونن من الخ‍اسرين) * الظاهر أن جملة * (لئن) * الخ نائب فاعل * (أوحى) * لكن قيل في الكلام حذف والأصل أوحى إليك لئن أشرت ليحبطن عملك الخ، وإلى الذين من قبك مثل ذلك، وقيل: لا حذف، وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد منه صلى الله عليه وسلم والمرسلين الموحي إليهم فإنه أوحى لكل * (لئن أشركت) * الخ بالافراد، وذهب البصريون إلى أن الجمل لا تكون فاعلة فلا تقوم مقام الفاعل، ففي " البحر " أن * (إليك) * حينئذ نائب الفاعل، والمعنى كما قال مقاتل أوحى إليك وإلى الذين
23

من قبلك بالتوحيد، وقوله تعالى: * (لئن أشركت) * الخ استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وهو كما ترى، وأيا ما كان فهو كلام على سبيل الفرض لتهييج المخاطب المعصوم وإقناط الكفرة والإيذان بغاية شناعة الإشراك وقبحه وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يباشره فكيف بمن عداه، فالاستدلال بالآية على جواز صدور الكبائر من الأنبياء عليهم السلام كما في " المواقف " ليس بشيء، فاحتمال الوقوع فرضا كاف في الشرطية لكن ينبغي أن يعلم أن استحالة الوقوع شرعية، ولاما * (لقد ولئن) * موطئتان للقسم واللامان بعد للجواب، وفي عدم تقييد الإحباط بالاستمرار على الإشراك إلى الموت دليل للحنفية الذاهبين إلى أن الردة تحبط الأعمال التي قبلها مطلقا. نعم قالوا: لا يقضي منها بعد الرجوع إلى الإسلام إلا الحج، ومذهب الشافعي أن الردة لا تحبط العمل السابق عليها ما لم يستمر المرتد على الكفر إلى الموت، وترك التقييد هنا اعتمادا على التصريح به في قوله تعالى: * (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * (البقرة: 217) ويكون ذلك من حمل المطلق على المقيد.
وأجاب بعض الحنفية بأن في الآية المذكورة توزيعا * (فأولئك حبطت أعمالهم) * ناظر إلى الارتداد عن الدين * (وأولئك أصحاب النار) * الخ ناظر إلى الموت على الكفر فلا مقيد ليحمل المطلق عليه، ومن هذا الخلاف نشأ الخلاف في الصحابي إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أو قبلها ولم يره هل يقال له: صحابي أم لا، فمن ذهب إلى الإطلاق قال لا ومن ذهب إلى التقييد قال: نعم، وقيل: يجوز أن يكون الإحباط مطلقا من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام إذ شركه وحاشاه أقبح، وفيه ضعف لأن الغرض تحذير أمته وتصوير فظاعة الكفر فتقدير أمر يختص به لا يتعدى من النبي إلى الأمة لا اتجاه له مع أنه لا مستند له من نقل أو عقل، والمراد بالخسران على مذهب الحنفية ما لزم من حبط العمل فكان الظاهر - فتكون - إلا أنه عدل إلى ما في النظم الجليل للاشعار بأن كلا من الاحباط والخسران يستقل في الزجر عن الاشراك، وقيل: الخلود في النار فيلزم التقييد بالموت كما هو عند الشافعي عليه الرحمة.
وقرىء * (ليحبطن) * من أحبط * (عملك) * بالنصب أي ليحبطن الله تعالى أو الإشراك عملك، وقرىء بالنون ونصب * (عملك) * أيضا.
* (بل الله فاعبد وكن من الش‍اكرين) *.
* (بل الله فاعبد) * رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم، والفاء جزائية في جواب شرط مقدر كأنه قيل: إن كنت عابدا أو عاقلا فاعبد الله فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا عنه، وإلى هذا ذهب الزمخشري وسلفه في كونها جزائية الزجاج، وأنكر أبو حيان كون التقديم عوضا عن الشرط، ومذهب الفراء. والكسائي أن الفاء زائدة بين المؤكد والمؤكد والاسم الجليل منصوب بفعل محذوف والتقدير الله اعبد فاعبده وقدر مؤخرا ليفيد الحصر.
وفي الانتصاف مقتضى كلام سيبويه أن الأصل تنبه فاعبد الله فحذفوا الفعل الأول اختصارا واستنكروا الابتداء بالفاء ومنشأنها التوسط بين المعطوف والمعطوف عليه فقدموا المفعول فصارت الفاء متوسطة لفظا ودالة على المحذوف وانضاف إليها فائدة الحصر لإشعار التقديم بالاختصاص، واعتبار الاختصاص قيل: مما لا بد منه لأنه لم يكن الكلام ردا عليهم فيما أمروه به لولاه فإنهم لم يطلبوا منه عليه الصلاة والسلام ترك عبادة الله سبحانه بل استلام آلهتهم والشرك به عز وجل اللهم إلا أن يقال: عبادة الله سبحانه مع الشرك
24

كلا عبادة، والله جل وعلا أغنى الشركاء فمن أشرك في عمله أحدا معه عز وجل فعمله لمن أشرك كما يدل عليه كثير من الأخبار،
25

وقرأ عيسى * (بل الله) * بالرفع * (وكن من الشاكرين) * انعامه تعالى عليك الذي يضيق عنه نطاق الحصر، وفيه إشارة إلى موجب الاختصاص.
* (وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القي‍امة والسم‍اوات مطوي‍ات بيمينه سبح‍انه وتعالى عما يشركون) *.
* (وما قدروا الله حق قدره) * أي ما عظموه جل جلاله حق عظمته إذ عبدوا غيره تعالى وطلبوا من نبيه صلى الله عليه وسلم عبارة غيره سبحانه قاله الحسن. والسدي، وقال المبرد: أصله من قولهم: فلان عظيم القدر يريدون بذلك جلالته، وأصل القدر اختصاص الشيء بعظم أو صغر أو مساواة، وقال الراغب: أي ما عرفوا كنهه عز وجل. وتعقب بأن معرفة كنهه تعالى أي حقيقته سبحانه لا يخص هؤلاء لتعذر الوقوف على الحقيقة، ومن هنا: العجز عن درك الإدراك إدراك * والبحث عن كنه ذات الله إشراك
ولا يخفى أن المسألة خلافية، وما ذكر على تقدير التسليم يمكن دفعه بالعناية. نعم أولى منه ما قيل: أي ما عرفوه كما يليق به سبحانه حيث جعلوا له سبحانه شريكا، وظاهر كلام بعضهم أن الكلام على تقدير مضاف أي ما قدروا في أنفسهم وما تصوروا عظمة الله حق التصوف فلم يعظموه كما هو حقه عز وجل حيث وصفوه بما لا يليق بشؤنه الجليلة من الشركة ونحوها، وأيا ما كان فهو متعلق بما قبله من حيث أن فيه تجهيلهم في الإشراك ودعائهم رسوله صلى الله عليه وسلم إليه، وقيل: المعنى ما وصفوا الله تعالى حق صفته إذ جحدوا البعث ووصفوه سبحانه بأنه خالق الخلق عبثا وأنه سبحانه عاجز عن الإعادة والبعث وهو خلاف الظاهر، وعليه يكون للتمهيد
لأمر النفخ في الصور، وضمير الجمع على جميع ما ذكر لكفار قريش كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: الضمير لليهود تكلموا في صفات الله تعالى وجلاله فالحدوا وجسموا وجاءوا بكل تخليط فنزلت.
وقرأ الأعمش حق * (قدره) * بفتح الدال، وقرأ الحسن. وعيسى. وأبو نوفل. وأبو حيوة * (وما قدروا) * بتشديد الدال * (حق قدره) * بفتح الدال * (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطوي‍ات بيمينه) * الجملة في موضع الحال من الاسم الجليل و * (جميعا) * حال من المبتدأ عند من يجوزه أو من يقدر كأثبتها جميعا كما قيل، وهو جار مجرى الحال المؤكدة في أن العامل منتزع من مضمون الجملة، وفي " التقريب " هو حال من الضمير في * (قبضته) * لأنه بمعنى مقبوضة وكان الظاهر أن يؤخر عنه وإنما قدم عليه ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة أو بعض دون بعض ولكن عن الأرضين كلها أو عن جميع أبعاضها. وجاز هذا التقديم لأن المصدر لم يعمل من حيث كونه مصدرا بل لكونه بمعنى اسم المفعول، وقال الحوفي: العامل في الحال ما دل عليه قبضته لا هي، وهو كما ترى، و * (يوم القيامة) * معمول * (قبضته) * وهي في الأصل المرة الواحدة من القبض وتطلق على المقدار المقبوض كالقبضة بضم القاف وجعلت صفة مشبهة حينئذ، وجوز كل من إرادة المقبوضة والمعنى المصدري هنا، والكلام على الثاني على تقدير مضاف أي ذوات قبضته أي يقبضهن سبحانه قبضة واحدة، وقرأ الحسن * (قبضته) * بالنصب على أنه ظرف مختص مشبه بالمبهم ولذا لم يصرح بفي معه وهو مذهب الكوفيين، والبصريون يقولون: إن النصب في مثل ذلك خطأ غير جائز وأنه لا بد من التصريح بفي.
/ وقرأ عيسى. والجحدري * (مطويات) * بالنصب على أن * (السموات) * عطف على * (الأرض) * مشاركة لها في الحكم أي والسماوات قبضته، و * (مطويات) * حال من * (السموات) * عند من يجوز مجيء الحال من مثل ذلك أو من ضميرها المستتر في * (قبضته) * على أنها بمعنى مقبوضته أو من ضميرها محذوفا أي أثبها مطويات، و * (بيمينه) * متعلق بمطويات أو على أن * (السموات) * مبتدأ و * (بيمينه) * الخبر و * (مطويات) * حال أيضا إما من المبتدأ أو من الضمير المحذوف أو من الضمير المستتر في الخبر بناء على مذهب الأخفش من جواز تقديم الحال في مثل ذلك.
والكلام عند كثير من الخلف تمثيل لحال عظمته تعالى ونفاذ قدرته عز وجل وحقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإضافة إليها بحال من يكون له قبضة فيها الأرض جميعا ويمين بها يطوي السماوات أو بحال من يكون له قبضة فيها الأرض والسماوات ويمين بها يطوي السماوات من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز بالنسبة إلى المجرى عليه وهو الله عز شأنه، وقال بعضهم: المراد التنبيه على مزيد جلالته عز وجل وعظمته سبحانه بإفادة أن الأرض جميعا تحت ملكه تعالى يوم القيامة فلا يتصرف فيها غيره تعالى شأنه بالكلية كما قال سبحانه: * (الملك يومئذ لله) * والسماوات مطويات طي السجل للكتب بقدرته التي لا يتعاصاها شيء.
وفيه رمز إلى أن ما يشركونه معه عز وجل أرضيا كان أم سماويا مقهور تحت سلطانه جل شأنه وعز سلطانه فالقبضة مجاز عن الملك أو التصرف كما يقال: بلد كذا في قبضة فلان، واليمين مجاز عن القدرة التامة، وقيل: القبضة مجاز عما ذكر ونحوه والمراد باليمين القسم أي والسماوات مفنيات بسبب قسمه تعالى لأنه عز وجل أقسم أن يفنيها، وهو ما يهزأ منه لا مما يهتز استحسانا له، والسلف يقولون أيضا: إن الكلام تنبيه على مزيد جلالته تعالى وعظمته سبحانه ورمز إلى أن آلهتهم أرضية أم سماوية مقهورة تحت سلطانه عز وجل إلا أنهم لا يقولون: إن القبضة مجاز عن الملك أو التصرف ولا اليمين مجاز عن القدرة بل ينزهون الله تعالى عن الأعضاء والجوارح ويؤمنون بما نسبه إلى ذاته بالمعنى الذي أراده سبحانه وكذا يفعلون في الأخبار الواردة في هذا المقام.
فقد أخرج البخاري. ومسلم. والترمذي. والنسائي. وغيرهم عن ابن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إنا نجد الله يحمل السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع فيقول: أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله عليه الصلاة والسلام * (وما قدروا الله حق قدره) * الآية، والمتأولون يتأولون الأصابع على الاقتدار وعدم الكلفة كما في قول القائل: أقتل زيدا بأصبعي، ويبعد ذلك ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد. والترمذي وصححه. والبيهقي. وغيرهم عن ابن عباس قال: مر يهودي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس قال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه وأشار بالسبابة والأرضين على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه؟ كل ذلك يشير بأصابعه فأنزل الله تعالى * (وما قدروا الله حق قدره) * وجعل بعض المتأولين الإشارة إعانة على التمثيل والتخييل. وزعم بعضهم أن الآية نزلت ردا لليهودي حيث شبه وذهب إلى التجسيم وإن ضحكه عليه الصلاة واللام المحكي في الخبر السابق كان للرد أيضا وأن * (تصديقا له) * في الخبر من كلام الراوي على ما فهم، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر جدا، وجعلوا أيضا من باب الإعانة على التمثيل وتخييل العظمة فعله عليه الصلاة والسلام حين قرأ هذه الآية، فقد أخرج الشيخان. والنسائي. وابن ماجه. وجماعة عن ابن عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم المنبر * (وما قدروا الله حق قدره والأرض
26

جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه) * ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده ويحركها يقبل بها ويدبر يمجد الرب نفسه أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخرجن به " وفي " صحيح مسلم " عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى ابن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يأخذ الله تعالى سماواته وأرضيه بيديه ويقول: أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك.
وفي " شرح الصحيح " للإمام النووي نقلا عن المازري أن قبض النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه وبسطها تمثيل لقبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وحكاية
للمبسوط المقبوض وهو السماوات والأرضون لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة للقابض والباسط سبحانه وتعالى ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليست بجارحة انتهى، ثم إن ظاهر بعض الأخبار يقتضي أن قبض الأرض بعد طي السماوات وأنه بيد أخرى. أخرج مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطوي الله تعالى السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أين الجبارون أين المتكبرون؟، وفي الشرح نقلا عن المازري أيضا أن إطلاق اليدين لله تعالى متأول على القدرة، وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوضح وأوكد في النفوس، وذكر اليمين والشمال حتى يتم التأول لأنا نتناول باليمين ما نكرمه وبالشمال ما دون ولأن اليمين في حقنا تقوى لما لا تقوى له الشمال، ومعلوم أن السماوات أعظم من الأرض فأضافها إلى اليمين وأضاف الأرضين إلى الشمال ليظهر التقريب في الاستعارة وإن كان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأن شيئا أخف عليه من شيء ولا أثقل من شيء انتهى. والصوفية يقولون بالتجلي الصوري مع بقاء الإطلاق والتنزيه المدلول عليه بليس كمثله شيء، والأمر عليه سهل جدا. ثم إن التصرف في الأرض والسماوات يكون والناس على الصراط كما جاء في خبر رواه مسلم عن عائشة مرفوعا، وروى أيضا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة " والكلام في هذا الخبر كالكلام في نظائره، وإياك من التشبيه والتجسيم، وكذا من نسبة ذلك إلى السلف ولا تك كالمعتزلة في التحامل عليهم والوقيعة فيهم، ويكفي دليلا على جهل المعتزلة بربهم زعمهم أنه عز وجل فوض العباد فهم يفعلون ما لا يشاء ويشاء ما لا يفعلون * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * أي أبعد من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم أو عما يشركونه من الشركاء - فسبحان - للتعجب وتتعلق به * (عن) * بالتأويل بما ذكر و * (ما) * تحتمل المصدرية والموصولية.
* (ونفخ فى الصور فصعق من فى السم‍اوات ومن فى الارض إلا من شآء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) *.
* (ونفخ في الصور) * المشهور أن النافخ فيه ملك واحد وأنه إسرافيل عليه السلام بل حكى القرطبي الإجماع عليه. وفي حديث أخرجه ابن ماجه. والبزار. وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أن النافخ اثنان، ويدل عليه أيضا أخبار أخر، منها ما أخرجه أحمد. والحاكم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا " وفي بعض الآثار ما يدل على أنه واحد وأنه شاخص ببصره إلى إسرافيل عليه السلام ما طرف منذ خلقه الله تعالى ينتظر متى يشير إليه فينفخ في الصور. والصور قرن عظيم فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة. وأخرج أبو الشيخ
27

عن وهب أنه من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة به ثقب دقيقة بعدد الأرواح وفي وسطه كوة كاستدارة السماء والأرض ونحن نؤمن به ونفوض كيفيته إلى علام الغيوب جل شأنه. وأنكر بعضهم ذلك وقال: هو جمع صورة كما في قراءة قتادة. وزيد بن علي * (في الصور) * بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، وبني الفعل للمفعول لعدم تعلق الغرض بالفاعل بل الغرض إفادة هذا الفعل من أي فاعل كان فكأنه قيل. ووقع النفخ في الصور * (فصعق من في السموات ومن في الأرض) * أي ماتوا بسبب ذلك، ويحتمل أنهم يغشى عليهم أولا ثم يموتون، ففي الأساس صعق الرجل إذا غشي عليه من هدة أو صوت شديد يسمعه وصعق إذا مات. وفي " صحيح مسلم " من حديث طويل فيه ذكر الدجال " ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغي ليتا ورفع ليتا فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس ". وقرىء * (فصعق) * بضم الصاد * (إلا من شاء الله) * قال السدي: جبريل. وإسرافيل. وميكائيل. وملك الموت عليهم السلام، وقيل: هم وحملة العرش فإنهم يموتون بعد، وفي ترتيب موتهم اضطراب مذكور في " الدر المنثور "، وقيل: رضوان والحور ومالك والزبانية وروى ذلك عن الضحاك، وقيل: من مات قبل ذلك أي يموت من في السماوات والأرض إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا؛ قال في البحر: وهذا نظير * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) * (الدخان: 56) ومن الغريب ما حكى فيه أن المستثنى هو الله عز وجل، ولا يخفى عليك حاله متصلا كان الاستثناء أم منقطعا، وقيل: هو موسى عليه السلام وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في تحقيق ذلك، وقيل غير ذلك.
ويراد بالسماوات على أكثر الأقوال جهة العلو وإلا لم يتصل الاستثناء فإن حملة العرش مثلا ليسوا في السماوات بالمعنى المعروف، وقيل: إنه لم يرد في التعيين خبر صحيح * (ثم نفخ فيه) * أي في الصور وهو ظاهر في أنه ليس بجمع وإلا لقيل فيها * (أخرى) * أي نفخة أخرى، وهو يدل على أن المراد بالأول ونفخ في الصور نفخة واحدة كما صرح به في مواضع لأن العطف يقتضي المغايرة فلو أريد المطلق الشامل للأخرى لم يكن لذكرها ههنا وجه، و * (أخرى) * تحتمل النصب على أنها صفة مصدر مقدر أي نفخة أخرى، والرفع على أنها صفة لنائب الفاعل، وعلى الأول كان النائب عنه الظرف. وصح في " صحيحي البخاري ". ومسلم أن الله تعالى ينزل بين النفختين ماء من السماء جاء في بعض الروايات أنه كالطل بالمهملة وفي بعضها كمني الرجال فتنبت منه أجساد الناس وإن بين النفختين أربعين وهذا عن أبي هريرة مرفوعا ولم يبين فيه ما هذه الأربعون.
وفي حديث أخرجه أبو داود أنها أربعون عاما، وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن العاص قال: ينفخ في الصور النفخة الأولى من باب إيلياء الشرقي أو قال الغربي والنفخة الثانية من باب آخر * (فإذا هم قيام) * قائمون من قبورهم * (ينظرون) * أي نتظرون ما يؤمرون أو ينتظروم ماذا يفعل بهم، وقيل: يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم. وتعقب بأن قولهم عند قيامهم * (من بعثنا من مرقدنا) * (يس: 52) يأباه ظاهرا نوع إباء.
وجوز أن يكون قيام من القيام مقابل الحركة أي فإذا هم متوقفون جامدون في أمكنتهم لتحيرهم. واعترض بأن قوله تعالى: * (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) * (يس: 51) ظاهر في خلافه لأن النسل الاسراع
28

في المشي، وكذا قوله تعالى: * (يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون) * (المعارج: 43) وقرأ زيد بن علي * (قياما) * بالنصب على أن جملة * (ينظرون) * خبرهم * (وقياما) * حال من ضمير * (ينظرون) * للفاصلة، أو من المبتدأ عند من يجوز ذلك. وفي " البحر " النصب على الحال وخبر المبتدأ الظرف الذي هو * (إذا) * الفجائية وهي حال لا بد منها إذ هي محط الفائدة إلا أن يقدر الخبر محذوفا أي فإذا هم مبعوثون أو موجودون قياما، وإذا نصب * (قياما) * على الحال فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف إن قلنا به وإلا فالعامل هو العامل في الظرف فإن كان * (إذا) * ظرف مكان على ما يقتضيه ظاهر كلام سيبويه فتقديه فبالحضرة هم قياما، وإن كان ظرف زمان كما ذهب إليه الرياشي فتقديره ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه هم أي وجودهم، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة، وإن كانت * (إذا) * حرفا كما زعم الكوفوين فلا بد من تقدير الخبر إلا إن اعتقدنا أن * (ينظرون) * هو الخبر ويكون عاملا في الحال انتهى. ولعمري أن مذهب الكوفيين أقل تكلفا، هذا وههنا إشكال بناء على أنهم فسروا نفخة الصعق بالنفخة الأولى التي يموت بها من بقي على وجه الأرض. فإنه قد أخرج البخاري. ومسلم. والترمذي. وابن ماجه. والإمام أحمد. وغيرهم عن أبي هريرة قال: " قال رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه قال: أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: قال الله تعالى: * (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) * (الزمر: 68) فأكون أول من يرفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله تعالى " وهو يأبى تفسير النفخة بذلك ضرورة أن موسى عليه السلام قد مات قبل تلك النفخة بألوف سنين، واحتمال أنه عليه السلام لم يمت كما قيل في الخضر وإلياس مما لا ينبغي أن يتفوه به حي، ويدل كما قال بعض الأجلة: على أنها نفخة البعث.
وقال القاضي عياض: يحتمل أن تكون هذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السماوات فتتوافق الآيات والأحاديث وتكون النفخات ثلاثا وهو اختيار ابن العربي. ورده القرطبي بأن أخذ موسى عليه السلام بقائمة العرش إنما هو عند نفخة البعث وادعى أن الصحيح أن ليس إلا نفختان لا ثلاث ولا أربع كما قيل.
ثم قال: والذي يزيح الإشكال ما قال بعض مشايخنا: إن الموت ليس بعدم محض بالنسبة للأنبياء عليهم السلام والشهداء فإنهم موجودون أحياء وإن لم نرهم فإذا نفخت نفخة الصعق صعق كل من في السماء والأرض وصعقة غير الأنبياء موت وصعقتهم غشي فإذا كانت نفخة البعث عاش من مات وأفاق من غشي عليه، ولذا وقع في " الصحيحين " فأكون أول من يفيق انتهى، ولا يخفى أنه يحتاج إلى القول بجواز استعمال المشترك في معنييه معا أو إلى ارتكاب عموم المجاز أو التزام إرادة غشي عليهم وأن موت من يموت بعض الغشي مفاد من أمر آخر فتدبر.
* (وأشرقت الارض بنور ربها ووضع الكت‍ابوجىء بالنبيين والشهدآء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون) *.
* (وأشرقت الأرض) * أي أرض المحشر وهي الأرض المبدلة من الأرض المعروفة. وفي " الصحيح " يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد وهي أوسع بكثير من الأرض المعروفة. وفي بعض الروايات أنها يومئذ من فضة ولا يصح أي أضاءت * (بنور ربها) * هو على ما روي عن ابن عباس نور
29

يخلقه الله تعالى بلا واسطة أجسام مضيئة كشمس وقمر، واختاره الإمام وجعل الإضافة من باب * (ناقة الله) * وعن محيي السنة تفسير بتجلي الرب لفصل القضاء، وعن الحسن. والسدي تفسيره بالعدل وهو من باب الاستعارة وقد استعير لذلك وللقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل أي وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسط سبحانه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات، واختار هذا الزمخشري وصحح أولا تلك الاستعارة بتكررها في القرآن العظيم، وحققها ثانيا بقوله: وينادي على ذلك إضافته إلى اسمه تعالى لأنه عز وجل هو الحق العدل إشارة إلى الصارف إلى التأويل، وعينها ثالثها بإضافة إسمه تعالى الرب إلى الأرض لأن العدل هو الذي يتزين به الأرض لا البرهان مثلا، ورابعا بما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق لأنه كله تفصيل العدل بالحقيقة، وأيدها خامسا بالعرف العام فإن الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك وأضاءت الدنيا بقسطك، وسادسا بقوله صلى الله عليه وسلم: " الظلم ظلمات يوم القيامة " فإنه يقتضي أن يكون العدل نورا فيه، وسابعا بأن فتح الآية وختمها بنفي الظلم يدل عليه ليكون من باب رد العجز على الصدر على طريقة الطرف والعكس. ورجح ما اختار الإمام بأن الأصل الحقيقة ولا صارف لأن الإضافة تصح بأدنى ملابسة، وأيد ما حكى عن محيى السنة ببعض الأحاديث.
وتعقب ذلك صاحب الكشف فقال: إن إضافة الملابسة مجاز والترجيح لما اختاره جار الله لما ذكر من الفوائد ولأنه الشائع في استعمال القرآن، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (الله نور السموات والأرض) * (النور: 35) وأما تجلي الرب سبحانه فسواء حمل على تجلي الجلال أو تجلي الجمال لا يقتضي إشراق الأرض بنور إلا بأحد المعنيين أعني العدل أو عرضا يخلقه الله تعالى عند التجلي في الأرض فلو توهم من تجليه تعالى أنه ينعكس نور منه على الأرض لاستحال إلا بالتفسير المذكور فليس قولا ثالثا لينصر ويؤيد بالحديث الذي لا يدل على أنه تفسير الآية المشتمل على حديث الرؤية وإلقاء ستره تعالى على العبد يذكر ما فعل به وما جنى انتهى، ولعل الأوفق بما يشعر به كثير من الأخبار أن قوله سبحانه: * (وأشرقت الأرض بنور ربها) * (الزمر: 69) إشارة إلى تجليه عز وجل لفصل القضاء وقد يعبر عنه بالاتيان، وقد صرح به في قوله تعالى: * (يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) * (البقرة: 210) ولم يتأول ذلك السلف بل أثبتوه له سبحانه كالنزول على الوجه الذي أثبته عز وجل لنفسه. ولا يبعد أن يكون هذا النور هو النور الوارد في الحديث الصحيح * (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور) * ويقال فيه كالحجاب نحو ما قال السلف في سائر المتشابهات أو هو نو آخر يظهر عند ذلك التجلي،
ولا أقول: هو نور منعكس من الذات المقدس انعكاس نور الشمس مثلا من الشمس بل الأمر فوق ما تنتهي إليه العقول، وأني وهيهات وكيف ومتى يتصور إلى حقيقة ذلك الوصول، ويومىء إلى أن ذلك التجلي مقرون بالعدل التعبير بعنوان الربوبية مضافا إلى ضمير الأرض والله تعالى أعلم بمراده. وقرأ ابن عباس. وعبيد بن عمير. وأبو الجوزاء * (أشرقت) * بالبناء للمفعول، قال الزمخشري: من شرقت بالضوء تشرق إذا امتلأت به واغتصت وأشرقها الله تعالى كما تقول: ملأ الأرض عدلا وطبقها عدلا، وقال ابن عطية: هذا إنما يترتب من فعل يتعدى فهذا
30

على أن يقال: أشرق البيت وأشرقه السراج فيكون الفعل مجاوزا وغير مجاوز، وقال صاحب اللوامح وجب أن يكون الإشراق على هذه القراءة منقولا من شرق الشمس إذا طلعت فيصير متعديا والمعنى أذهبت ظلمة الأرض، ولا يجوز أن يكون من أشرقت إذا أضاءت فإن ذلك لازم وهذا قد يتعدى إلى المفعول * (ووضع الكتاب) * قال السدي الحساب، فالكتاب مجاز عن الحساب ووضعه ترشيح له، والمراد به الشروع فيه ويجوز جعل الكلام تمثيلا.
وقال بعضهم: صحائف الأعمال وضعت بأيدي العمال فالتعريف للجنس أو الاستغراق، وقيل: اللوح المحفوظ وضع ليقابل به الصحائف فالتعريف للعهد، وروي هذا القول عن ابن عباس، واستبعده أبو حيان وقال: لعله لا يصح عن ابن عباس * (وجىء بالنبيين) * قيل ليسئلوا هل بلغوا أممهم؟ وقيل: ليحضروا حسابهم * (والشهداء) * قال عطاء. ومقاتل. وابن زيد: الحفظة، وكأنهم أرادوا أنهم يشهدون على كل من الأمم أنهم بلغوا أو يشهدون على كل بعمله كما قال سبحانه: * (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) * (ق: 21) وفي بعض الآثار أنه يؤتى باللوح المحفوظ وهو يرتعد فيقال له: هل بلغت إسرافيل؟ فيقول: نعم يا رب بلغته فيؤتى بإسرافيل وهو يرتعد فيقال له: هل بلغك اللوح؟ فيقول: نعم يا رب فعند ذلك يسكن روع اللوح ثم يقال لإسرافيل فأنت هل بلغت جبرائيل؟ فيقول: نعم يا رب فيؤتى بجبرائيل وهو يرتعد فيقال له: هل بلغك إسرافيل؟ فيقول: نعم يا رب فعند ذلك يسكن روع إسرافيل ثم يقال لجبرائيل: فأنت هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب فيؤتى بالمرسلين وهم يرتعدون فيقال لهم: هل بلغكم جبرائيل؟ فيقولون: نعم فيسكن عند ذلك روع جبرائيل ثم يقال لهم: فأنتم هل بلغتم؟ فيقولون: نعم فيقال للأمم: هل بلغكم الرسل؟ فيقول كفرتهم: ما جاءنا من بشير ولا نذير فيعظم على الرسل الحال ويشتد البلبال فيقال لهم: من يشهد لكم؟ فيقولون: النبي الأمي وأمته فيؤتى بالأمة المحمدية فيشهدون لهم أنهم بلغوا فيقال لهم: من أين علمتم ذلك؟ فيقولون: من كتاب أنزله الله تعالى علينا ذكر سبحانه فيه أن الرسل بلغوا أممهم ويزكيهم النبي عليه الصلاة والسلام وذلك قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (البقرة: 143) ومن هنا قيل: المراد بالشهداء في الآية أمة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقال الجبائي. وأبو مسلم: هم عدول الآخرة يشهدون للأمم وعليهم، وقيل: جميع الشهداء من الملائكة وأمة محمد عليه الصلاة والسلام والجوارح والمكان، وأيا ما كان فالشهداء جمع شاهد، وقال قتادة. والسدي: المراد بهم المستشهدون في سبيل الله تعالى فهو جمع شهيد وليس بذاك * (وقضي بينهم) * أي بين العباد المفهوم من السياق * (بالحق) * بالعدل * (وهم لا يظلمون) * بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد بناء على أن الظلم حقيقة لا يتصور في حقه تعالى فإن الأمر كله له عز وجل.
* (ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) *.
* (ووفيت كل نفس ما عملت) * أي أعطيت جزاء ذلك كاملا * (وهو أعلم بما يفعلون) * فلا يفوته سبحانه شيء من أعمالهم [بم وقوله تعالى:
* (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم ءاي‍ات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم ه‍اذا قالوا بلى ول‍اكن حقت كلمة العذاب على الك‍افرين) *.
* (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا) * الخ تفصيل للتوفية وبيان لكيفيتها، والفاء ليس بلازم، والسوق يقتضي الحث على المسير بعنف وإزعاج وهو الغالب ويشعر بالإهانة وهو المراد هنا أي سيقوا إليها بالعنف والإهانة أفواجا متفرقة بعضها في أثر بعض مترتبة حسب ترتب طبقاتهم
31

في الضلالة والشرارة، والزمر جمع زمرة قال الراغب: هي الجماعة القليلة، ومنه قيل شاة زمرة قليلة الشعر ورجل زمر قليل المروءة، ومنه اشتق الزمر، والزمارة كناية عن الفاجرة، وقال بعضهم. اشتقاق الزمرة من الزمر وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه * (حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها) * ليدخلوها وكانت قبل مجيئهم غير مفتوحة فهي كسائر أبواب السجون لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها فتفتح ليدخلوها فإذا دخلوها أغلقت عليهم، و * (حتى) * هي التي تحكي بعدها الجملة، والكلام على إذا الواقعة بعدها قد مر في الانعام. وقرأ غير واحد * (فتحت) * بالتشديد * (وقال لهم خزنتها) * على سبيل التقريع والتوبيخ * (ألم يأتكم رسل منكم) * أي من جنسكم تفهمون ما ينبؤنكم به ويسهل عليكم مراجعتهم.
وقرأ ابن هرمز * (تأتكم) * بتاء التأنيث، وقرىء * (نذر منكم) * * (يتلون عليكم آيات ربكم) * المنزلة لمصلحتكم * (وينذرونكم لقاء يومكم هذا) * أي وقتكم هذا وهو وقت دخولكم النار لأن المنذر به في الحقيقة العذاب ووقته، وجوز أن يراد به يوم القيامة والآخرة لاشتماله على هذا الوقت أو على ما يختص بهم من عذابه وأهواله، ولا ينافيه كونه في ذاته غير مختص بهم؛ والإضافة لامية تفيد الاختصاص لأنه يكفي للاختصاص ما ذكر، نعم الأول أظهر فيه. واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل الشرع لأنهم ويخوهم بكفرهم بعد تبليغ الرسل للشرائع وإنذارهم ولو كان قبح الكفر معلوما بالعقل دون الشرع لقيل. ألم تعلموا بما أودع الله تعالى فيكم من العقل قبح كفركم، ولا وجه لتفسير الرسل بالعقول لإباء الأفعال المستندة إليها عن ذلك، نعم هو دليل إقناعي لأنه إنما يتم على اعتبار المفهوم وعموم الذين كفروا وكلاهما محل نزاع، وقيل في وجه الاستدلال: إن الخطاب للداخلين عموما يقتضي أنهم جميعا أنذرهم الرسل ولو تحقق تكليف قبل الشرع لم يكن الأمر كذلك. وتعقب بأن للخصم أن لا يسلم العموم، ولمن قال بوجوب الإيمان عقلا أن يقول: إنما وبخوهم بالكفر بعد التبليغ لأنه أبعد عن الاعتذار وأحق بالتوبيخ والإنكار * (قالوا بلى) * قد
أتانا رسل منا تلوا علينا آيات ربنا وأنذرونا لقاء يومنا هذا * (ول‍اكن حقت) * أي وجبت * (كلمة العذاب) * أي كلمة الله تعالى المقتضية له * (على الكافرين) * والمراد بها الحكم عليهم بالشقاوة وأنهم من أهل النار لسوء اختيارهم أو قوله تعالى لإبليس: * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * (ص: 85) ووضعوا الكافرين موضع ضميرهم للإيماء إلى علية الكفر، والكلام اعتراف لا اعتذار.
* (قيل ادخلوا أبوابجهنم خ‍الدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) *.
* (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها) * أي مقدرا خلودكم فيها، والقائل يحتمل أن يكون الخزنة وترك ذكرهم للعلم به مما قبل، ويحتمل أن يكون غيرهم ولم يذكر لأن المقصود ذكر هذا المقول المهول من غير نظر إلى قائله؛ وقال بعض الأجلة: أبهم القائل لتهويل المقول.
* (فبئس مثوى المتكبرين) * أل فيه سواء كانت حرف تعريف أم اسم موصول للجنس وفاء بحق فاعل باب نعم وبئس والمخصوص بالذم محذوف ثقة بذكره آنفا أي فبئس مثواهم جهنم والتعبير بالمثوى لمكان * (خالدين) * وفي التعبير بالمتكبرين إيماء إلى أن دخولهم النار لتكبرهم عن قبول الحق والانقياد للرسل المنذرين عليهم الصلاة والسلام وهو في معنى التعليل بالكفر، ولا ينافي تعليل ذلك بسبق كلمة العذاب عليهم لأن حكمه تعالى
32

وقضاءه سبحانه عليهم بدخول النار ليس إلا بسبب تكبرهم وكفرهم لسوء اختيارهم المعلوم له سبحانه في الأزل، وكذا قول عز وجل لأملأن فهناك سببان قريب وبعيد والتعليل بأحدهما لا ينافي التعليل بآخر فتذكر وتدبر.
* (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سل‍ام عليكم طبتم فادخلوها خ‍الدين) *.
* (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا) * جماعات مرتبة حسب ترتب طبقاتهم في الفضل، وفي " صحيح مسلم " وغيره عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك منازل " والمراد بالسوق هنا الحث على المسير للإسراع إلى الإكرام بخلافه فيما تقدم فإنه لإهانة الكفرة وتعجيلهم إلى العقاب والآلام واختير للمشاكلة، وقوله سبحانه: * (إلى الجنة) * يدفع إيهام الإهانة مع أنه قد يقال: إنهم لما أحبوا لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءهم فلذا حثوا على دخول دار كرامته جل شأنه قاله بعض الأجلة، واختار الزمخشري أن المراد هنا بسوقهم سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين، وهذا السوق والحث أيضا للإسراع بهم إلى دار الكرامة.
وتعقب بأنه لا قرينة على إرادة ذلك وكون جميع المتقين لا يذهب بهم إلا راكبين يحتاج إلى دليل، والاستدلال بقوله تعالى: * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) * (مريم: 85) لا يتم إلا على القول بأن الوفد لا يكونون إلا ركبانا وأن الركوب يستمر لهم إلى أن يدخلوا الجنة، وفي " الكشف " أنه تفسير ظاهر يؤيده الأحاديث الكثيرة ويناسب المقام لأن السوقين بعد فصل القضاء واللطف الخالص في شأن البعض والقهر الخالص في شأن البعض ولا ينافي مقام عظمة مالك الملوك على ما توهم انتهى، وأقول: إن حمل الذين اتقوا على المخلصين فالقول بركوبهم قول قوي وإن حمل على المحترز عن الشرك خاصة ليشمل المخلصين فالقول بذلك قول ضعيف إذ منهم من لا يدخل الجنة إلا بعد أن يدخل النار ويعذب فيها، وظاهر كثير من الأخبار أن من هذا الصنف من يذهب إلى الجنة مشيا.
ففي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو أخرى وتسفعه النار مرة فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله تعالى شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها فأشرب من مائها فيقول الله تعالى: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول: لا يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه " الحديث، وقال بعض العارفين: إن المتقين يساقون إلى الجنة لأنهم قد رأوا الله تعالى في المحشر فلرغبتهم في رؤيته عز وجل ثانيا لا يحبون فراق ذلك الموطن الذي رأوه فيه ولشدة حبهم وشغفهم لا يكاد يخطر لهم أنهم سيرونه سبحانه إذا دخلوا الجنة، والمحبة إذا عظمت فعلت بصاحبها أعظم من ذلك وأعظم فكأنها غلبتهم حتى خيلت إليهم أن ذلك الموطن هو الموطن الذي يرى فيه عز وجل وهو محل تجليه على محبيه جل جلاله وعظم نواله فأحجموا عن المسير ووقفوا منتظرين رؤية اللطيف الخبير وغدا لسان حال كل منهم يقول: وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي * متأخر عنه ولا متقدم
ويدل على رؤيتهم إياه عز وجل هناك ما في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة قال: " إن أناسا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا قال:
33

فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من يعبد الشمس الشمس وينبع من يعبد القمر القمر ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم " الحديث، ومع هذا فسوقهم ليس كسوق الذين كفروا كما لا يخفى.
وقبل: السائق للكفرة ملائكة الغضب والسائق للمتقين شوقهم إلى مولاهم فهو سبحانه لهم غاية الإرب، وليست الجنة عندهم هي المقصودة بالذات ولا مجرد الحلول بها أقصى اللذات وإنما هي وسيلة للقاء محبوبهم الذي هو نهاية مطلوبهم * (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) * وقرىء بالتشديد، والواو للحال والجملة حالية بتقدير قد على المشهور أي جاءوها وقد فتحت لهم أبوابها كقوله تعالى: * (جنات عدن مفتحة لهم الأبواب) * (ص: 50) ويشعر ذلك بتقدم الفتح كأن خزنة الجنات فتحوا
أبوابها ووقفوا منتظرين لهم، وهذا كما تفتح الخدم باب المنزل للمدعو للضيافة قبل قدومه وتقف منتظرة له، وفي ذلك من الاحترام والإكرام ما فيه، والظاهر أن قوله تعالى: * (وقال لهم خزنتها) * الخ عطف على * (فتحت أبوابها) * وجواب * (إذا) * محذوف مقدر بعد * (خالدين) * للإيذان بأن لهم حينئذ من فنون الكرامات ما لا يحيط به نطاق العبارات كأنه قيل: إذا جاؤها مفتحة لهم أبوابها وقال لهم خزنتها * (سلام عليكم) * أي من جميع المكاره والآلام وهو يحتمل الإخبار والإنشاء.
* (طبتم) * أي من دنس المعاصي، وقيل: طبتم نفسا بما أتيح لكم من النعيم المقيم، والأول مروى عن مجاهد وهو الأظهر، والجملة في موضع التعليل * (فادخلوها خالدين) * أي مقدرين الخلود كان ما كان مما يقصر عنه البيان أو فازوا بما لا يعد ولا يحصى من التكريم والتعظيم، وقدره المبرد سعدوا بعد * (خالدين) * أيضا، ومنهم من قدره قبل * (وفتحت) * أي حتى إذا جاءوها جاؤها وقد فتحت وليس بشيء، ومنهم من قدره نحو ما قلنا قبل * (وقال) * وجعل جملة * (قال) * الخ معطوفة عليه، وما تقدم أقوى معنى وأظهر.
وقال الكوفيون: واو * (وفتحت) * زائدة والجواب جملة * (فتحت) * وقيل: الجواب * (قال لهم خزنتها) * والواو زائدة، والمعول عليه ما ذكرنا أولا وبه يعلم وجه اختلاف الجملتين أعني قوله تعالى في أهل النار: * (حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها) * وقوله جل شأنه في أهل الجنة: * (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) * حيث جىء بواو في الجملة الثانية وحذف الجواب ولم يفعل كذلك في الجملة الأولى، فما قيل: إن الواو في الثانية واو الثمانية لأن المفتح ثمانية أبواب ولما كانت أبواب النار سبعة لا ثمانية لم يؤت بها وجه ضعيف لا يعول عليه.
واستدل المعتزلة بقوله: * (طبتم فادخلوها) * حيث رتب فيه الأمر بالدخول على الطيب والطهارة من دنس المعاصي على أن أحدا لا يدخل الجنة إلا وهو طيب طاهر من المعاصي إما لأنه لم يفعل شيئا منها أو لأنه تاب عما فعل توبة مقبولة في الدنيا. ورد بأنه وإن دل على أن أحدا لا يدخلها إلا وهو طيب لكن قد يحصل ذلك بالتوبة المقبولة وقد يكون بالعفو عنه أو الشفاعة له أو بعد تمحيصه بالعذاب فلا متمسك فيها للمعتزلة.
34

وقيل: المراد بالذين اتقوا المحترزون عن الشرك خاصة فطبتم على معنى طبتم عن دنس الشرك ولا خلاف في أن دخول الجنة مسبب عن الطيب والطهارة عنه. وتعقب بأن ذاك خلاف الظاهر لأن التقوى في العرف الغالب تقع على أخص من ذلك لا سيما في معرض الإطلاق والمدح بما عقبه من قوله تعالى: * (فنعم أجر العاملين) * فتدبر.
* (وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده وأورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر الع‍املين) *.
* (وقالوا) * عطف على * (قال) * أو على الجواب المقدر بعد * (خالدين) * أو على مقدر غيره أي فدخلوها وقالوا: * (الحمد لله الذي صدقنا وعده) * بالبعث والثواب * (وأورثنا الأرض) * يريدون المكان الذي استقروا فيه فإن كانت أرض الآخرة التي يمشي عليها تسمى أرضا حقيقة فذاك وإلا فإطلاقهم الأرض على ذلك من باب الاستعارة تشبيها له بأرض الدنيا، والظاهر الأول، وحكي عن قتادة. وابن زيد. والسدي أن المراد أرض الدنيا وليس بشيء، وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه بناء على أنه لا ملك في الآخرة لغيره عز وجل وإنما هو إباحة التصرف والتمكين مما هو ملكه جل شأنه، وقيل: ورثوها من أهل النار فإن لكل منهم مكانا في الجنة كتب له بشرط الإيمان.
* (نتبوأ من الجنة حيث نشاء) * أي يتبوأ كل منا في أي مكان أراده من جنته الواسعة لا أن كلا منهم يتبوأ في أي مكان من مطلق الجنة أو من جنات غيره المعينة لذلك الغير، فلا يقال: إنه يلزم جواز تبوؤ الجميع في مكان واحد وحدة حقيقة وهو محال أو أن يأخذ أحدهم جنة غيره وهو غير مراد، وقيل: الكلام على ظاهره ولكل منهم أن يتبوأ في أي مكان شاء من مطلق الجنة ومن جنات غيره إلا أنه لا يشاء غير مكانه لسلامة نفسه وعصمة الله تعالى له عن تلك المشيئة، وقال الإمام: قالت حكماء الإسلام: إن لكل جنتين جسمانية وروحانية ومقامات الثانية لا تمانع فيها فيجوز أن يكون في مقام واحد منها ما لا يتناهى من أربابها، وهذه الجملة حالية فالمعنى أورثنا مقامات الجنة حالة كوننا نسرح في منازل الأرواح كما نشاء.
وقد قال بعض متألهي الحكماء: الدار الضيقة تسع ألف ألف من الأرواح والصور المثالية التي هي أبدان المتجردين عن الأبدان العنصرية لعدم تمانعها كما قيل: سم الخياط مع الأحباب ميدان
وفسر المقام الروحاني بما تدركه الروح من المعارف الإلهية وتشاهده من رضوان الله تعالى وعنايته القدسية مما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
وتعقب بأن هذا أن عد من بطون القرآن العظيم فلا كلام وإلا فحمل الجنة على مثل ذلك مما لا تعرفه العرب ولا ينبغي أن يفسر به، على أنه ربما يقال: يرد عليه أنه يقتضي أن لكل أحد أن يصل إلى مقام روحاني من مقاماتها مع أن منها ما يخص الأنبياء المكرمين والملائكة المقربين، والظاهر أنه لا يصل إلى مقاماتهم كل أحد من العارفين فافهم ولا تغفل * (فنعم أجر العاملين) * من كلام الداخلين عند الأكثر والمخصوص بالمدح محذوف أي هذا الأجر أو الجنة، ولعل التعبير - بأجر العاملين - دون أجرنا للتعريض بأهل النار أنهم غير عاملين، وقال مقاتل: هو من كلام الله تعالى.
* (وترى المل‍ائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب الع‍المين) *.
* (وترى الملائكة حافين) * أي محدقين من الحفاف بمعنى الجانب جمع حاف كما قال الأخفش، وقال الفراء: لا يفرد فقيل: أراد أن المفرد لا يكون حافا إذ الإحداق والإحاطة لا يتصور بفرد وإنما يتحقق بالجمع، وقيل: أراد أنه لم يرد استعمال مفرده. وأورد على الأول أن الإحاطة بالشيء بمعنى محاذاة جميع جوانبه فتتصور في الواحد بدورانه حول الشيء فإنه حينئذ يحاذي جميع
35

جوانبه تدريجا فيكون الحفوف بمعنى الدوران حوله أو يراد بكونه حافا أنه جزء من الحاف وله مدخل في الحفوف، ولو صح ما ذكر لم يصح أن يقال: طائف أو محدق أو محيط أو نحوه مما يدل على الإحاطة. وأورد على الثاني أنا لم نجد ورود جمع سالم لم يرد استعمال مفرده فبعد ورود حافين الظاهر ورود حاف كما لا يخفى، والخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم، وجوز أن يكون لكل من تصح منه الرؤية كأنه قيل: وترى أيها الرائي الملائكة حافين * (من حول العرش) * أي حول العرش على أن * (من) * مزيد على رأي الأخفش وهو الأظهر، وقيل: هي للابتداء - فحول العرش - مبتدأ الحفوف وكأن الحفوف حينئذ للخلق، وفي بعض الآثار ما هو ناطق بذلك، وفيها ما يدل على أن العرش يوم فصل القضاء يكون في الأرض حيث يشاء الله تعالى والأرض يومئذ غير هذه الأرض، على أن أحوال يوم القيامة وشؤون الله تعالى وراء عقولنا وسبحان من لا يعجزه شيء، والظاهر أن الرؤية بصرية - فحافين - حال أولى وقوله تعالى: * (يسبحون بحمد ربهم) * حال ثانية، ويجوز أن يكون حالا من ضمير * (حافين) * المستتر، وجوز كون الرؤية علمية - فحافين - مفعول ثان وجملة * (يسبحون) * حال من * (الملائكة) * أو من ضميرهم في * (حافين) * والباء في * (بحمده) * للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ينزهونه تعالى عما لا يليق به ملتبسين بحمده، وحاصله يذكرون الله تعالى بوصفي جلاله وإكرامه تبارك وتعالى، وهذا الذكر إما من باب التلذذ فإن ذكر المحبوب من أعظم لذائذ المحب كما قيل: أجد الملامة في هواك لذيذة * حبا لذكرك فليلمني اللوم
أو من باب الامتثال ويدعي أنهم مكلفون، ولا يسلم أنهم خارجون عن خطة التكليف أو يخرجون عنها يوم القيامة، نعم لا يرون ذلك كلفة وإن أمروا به. وفي حديث طويل جدا أخرجه عبد بن حميد. وعلي بن سعيد في كتاب الطاعة والعصيان. وأبو يعلى. وأبو الحسن القطان في المطولات. وأبو الشيخ في العظمة. والبيهقي في البعث والنشور عن أبي هريرة " فبيننما نحن وقوف - أي في المحشر - إذ سمعنا حسا من السماء شديدا فينزل أهل سماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم ثم تنزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة ومثلي من فيها من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم ثم تنزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة ومثلي من فيها من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف إلى السماوات السبع ثم ينزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة تحمل عرشه يومئذ ثمانية وهم اليوم أربعة أقدامهم على تخوم الأرض السفلي والأرضون والسماوات إلى حجزهم والعرش على مناكبهم لهم زجل بالتسبيح فيقولون: سبحان ذي العزة والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبحان ربنا الأعلى الذي يميت الخلائق ولا يموت فيضع عرشه حيث يشاء من الأرض ثم يهتف سبحانه بصوته فيقول عز وجل: يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت لكم منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع قولكم وأبصر أعمالكم فأنصتوا إلي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " الحديث.
36

* (وقضي بينهم بالحق) * أي بين العباد كلهم بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار فإن القضاء المعروف يكون بينهم، ولوضوح ذلك لا يضر كون الضمير لغير الملائكة مع أن ضمير * (يسبحون) * لهم إذ التفكيك لا يمتنع مطلقا كما توهم، وقيل: ضمير * (بينهم) * للملائكة واستظهره أبو حيان، وثوابهم وإن كانوا كلهم معصومين يكون على حسب تفاضل أعمالهم فيختلف تفاضل مراتبهم فإقامة كل في منزلته حسب عمله هو القضاء بينهم بالحق.
* (وقيل الحمد لله رب الع‍المين) * أي على ما قضى بيننا بالحق، والقائل قيل: هم المؤمنين المقضي لهم لا ما يعمهم والمقضي عليهم، وحمدهم الأول على إنجاز وعده سبحانه وإيراثهم الأرض يتبوؤون من الجنة ما شاؤا، وحمدهم هذا على القضاء بالحق بينهم فلا تكرار.
وقال الطيبي: إن الأول للتفصلة بين الفريقين بحسب الوعد والوعيد والسخط والرضوان، والثاني للتفرقة بينهما بحسب الأبدان ففريق في الجنة وفريق في السعير والأول أحسن، وقيل: هم الملائكة يحمدونه تعالى على قضائه سبحانه بينهم بالحق وإنزال كل منهم منزلته، وعليه ليس في الحمدين شائبة تكرار لتغاير الحامدين.
وقيل: * (قيل) * دون قالوا لتعينهم وتعظيمهم، وجوز كون القائل جميع العباد منعمهم ومعذبهم؛ وكأنه أريد أن الحمد من عموم الخلق المقضي بينهم هنا إشارة إلى التمام وفصل الخصام كما يقوله المنصرفون من مجلس حكومة ونحوها، فيحمده المؤمنون لظهور حقهم وغيرهم لعدله واستراحتهم من انتظار الفصل، ففي بعض الآثار أنه يطول الوقوف في المحشر على العباد حتى إن أحدهم ليقول: رب أرحني ولو إلى النار، وقيل: إنهم يحمدونه إظهارا للرضا والتسليم.
وقال ابن عطية: هذا الحمد ختم للأمر يقال عند انتهاء فصل القضاء أي إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه، ومن هذه الآية جعلت * (الحمد لله رب العالمين) * خاتمة المجالس في العلم، هذا والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على رسوله محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
ومن باب الإشارة في بعض الآيات: * (فاعبد الله مخلصا له الدين) * (الزمر: 2) أي اعبده تعالى بنفسك وقلبك وروحك مخلصا، وإخلاص العبادة بالنفس التباعد عن الانتقاص، وإخلاص العبادة بالقلب العمى عن رؤية الأشخاص، وإخلاص العبادة بالروح نفي طلب الاختصاص. وذكر أن المخلص من خلص بالجود عن حبس الوجود * (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) * (الزمر: 3) فيه إشارة إلى تهديد من يدعي رتبة من الولاية ليس بصادق فيها وعقوبته حرمان تلك الرتبة * (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) * (الزمر: 5) فيه إشارة إلى أحوال السائرين إلى الله سبحانه من القبض والبسط والصحو والسكر والجمع والفرق والستر والتجلي وغير ذلك * (في ظلمات ثلاث) * (الزمر: 6) قيل: يشير إلى ظلمة الإمكان وظلمة الهيولى وظلمة الصورة * (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما) * يشير إلى القيام بآداب العبودية ظاهرا وباطنا من غير فتور ولا تقصير * (يحذر الآخرة) * ونعيمها كما يحذر الدنيا وزينتها * (ويرجو رحمة ربه) * رضاه سبحانه عنه وقربه عز وجل: * (قل هل يستوي الذين يعلمون) * قدر معبودهم جل شأنه فيطلبونه * (والذين لا يعلمون) * ذلك فيطلبون ما سواه * (إنما يتذكر) * حقيقة
الأمر * (أولو الألباب) * (الزمر: 9) وهم الذين انسلخوا من جلد وجودهم وصفوا عن شوائب أنانيتهم * (قل يا عبادي الذين آمنوا) * بي شوقا إلي * (اتقوا ربكم) * فلا تطلبوا غيره سبحانه * (للذين أحسنوا) * (الزمر: 10) في طلبي في هذه الدنيا بأن لم يطلبوا مني غيري
37

* (حسنة) * عظيمة وهي حسنة وجداني * (وأرض الله واسعة) * وهي حضرة جلاله وجماله فإنها لا نهاية لها فليسر فيها ليرى ما يرى ولا يظن بما فتح عليه انتهاء السير وانقطاع الفيض * (إنما يوفى الصابرون) * على صدق الطلب * (أجرهم) * من التجليات بغير حساب إذ لا نهاية لتجلياته تعالى: * (وكل يوم هو في شأن) * * (قل إني أخاف إن عصيت ربي) * بطلب ما سواه * (عذاب يوم عظيم) * وهو عذاب القطيعة والحرمان * (قل الله أعبد مخلصا له ديني) * فلا أطلب دنيا ولا أخرى كما قيل: وكل له سؤل ودين ومذهب * ولي أنتم سؤل وديني هواكم
* (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم) * أي الذين تبين خسران أنفسهم بإفساد استعدادها للوصول والوصال * (وأهليهم) * من القلوب والإسرار والأرواح بالإعراض عن طلب المولى * (يوم القيامة) * الذي تتبين فيه الحقائق * (ذلك هو الخسران المبين) * (الزمر: 15) الذي لا خفاء فيه لفوات رأس المال وعدم إمكان التلافي، وقال بعض الأجلة: إن للإنسان قوتين يستكمل بإحداهما علما وبالأخرى عملا، والآلة الواسطة في القسم الأول هي العلوم المسماة بالمقدمات وترتيبها على الوجه المؤدي إلى النتائج التي هي بمنزلة الربح يشبه تصرف التاجر في رأس المال بالبيع والشراء، والآلة في القسم العملي هو القوى البدنية وغيرها من الأسباب الخارجية المعينة عليها، واستعمال تلك القوى في وجوه أعمال البر التي هي بمنزلة الربح يشبه التجارة، فكل من أعطاه الله تعالى العقل والصحة والتمكين ثم إنه لم يستفد منها معرفة الحق ولا عمل الخير فإذا مات فات ربحه وضاع رأس ماله ووقع في عذاب الجهل وألم البعد عن عالمه والقرب مما يضاده أبد الآباد، فلا خسران فوق هذا ولا حرمان أبين منه، وقد أشار سبحانه إلى هذا بقوله تعالى: * (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل) * (الزمر: 16) وهذا على الأول إشارة إلى إحاطة نار الحسرة بهم * (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار) * (الزمر: 20) قيل الغرف المبنية بعضها فوق بعض إشارة إلى العلوم المكتسبة المبنية على النظريات وأنها تكون في المتانة واليقين كالعلوم الغريزية البديهية * (ألم تر أن الله أنزل من السماء) * من سماء حضرته سبحانه أو من سماء القلب * (ماء) * ماء المعارف والعلوم * (فسلكه ينابيع) * مدارك وقوى * (في الأرض) * أرض البشرية * (ثم يخرج به زرعا) * من الأعمال البدنية والأقوال اللسانية * (ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما) * (الزمر: 21) إشارة إلى أفعال المرائين وأقوالهم ترى مخضرة وفق الشرع ثم تصفر من آفة الرياء ثم تكون حطاما لا حاصل لها إلا الحسرة * (أفمن شرح الله صدره للإسلام) * للانقياد إليه سبحانه * (فهو على نور من ربه) * (الزمر: 22) يستضىء به في طلبه سبحانه، ومن علامات هذا النور محو ظلمات الصفات الذميمة النفسانية والتحلية بالأخلاق الكريمة القدسية.
* (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) * إذا قرعت صفات الجلال أبواب قلوبهم * (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) * (الزمر: 23) بالشوق والطلب * (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون) * يتجاذبونه وهم شغل الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشغال * (ورجلا سلما لرجل) * (الزمر: 29) إشارة إلى المؤمن الخالص الذي لم يشغله شيء عن مولاه عز شأنه * (فمن أظلم ممن كذب على الله) * يشير إلى حال الكاذبين في دعوى الولاية * (وكذب بالصدق إذ جاءه) * (الزمر: 32) يشير إلى حال أقوام نبذوا الشريعة وراء ظهورهم وقالوا: هي قشر والعياذ بالله تعالى: * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) * (الزمر: 60) قيل: هو سواد قلوبهم ينعكس على وجوههم * (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا) * (الزمر: 73) قيل المتقون قد عبدوا الله تعالى
38

لله جل شأنه لا للجنة فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مطالع الجمال والجلال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة فلا جرم يفتقرون إلى السوق، وقيل: كل خصلة ذميمة أو شريفة في الإنسان فإنها تجره من غير اختيار شاء أم أبى إلى ما يضاهي حاله فداك معنى السوق في الفريقين، وقيل: القوم أهل وفاء فهم يقولون: لا ندخل الجنة حتى يدخلها أحبابنا فلذا يساقون إليها ولكن لا كسوق الكفرة * (وترى الملائكة حافين من حول العرش) * إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم في مقعد صدق عند مليك مقتدر بناء على أن العرش لا يتحول * (يسبحون بحمد ربهم) * إشارة إلى نعيمهم * (وقضى بينهم بالحق) * أعطى كل ما يستحقه * (وقيل الحمد لله رب العالمين) * (الزمر: 75) على انقضاء الأمر وفصل القضاء بالعدل الذي لا شبهة فيه ولا امتراء، هذا والحمد لله تعالى على أفضاله والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله.
سورة المؤمن
وتسمى سورة غافر وسورة الطول، وهي كما روي عن ابن عباس. وابن الزبير. ومسروق. وسمرة بن جندب مكية، وحكى أبو حيان الإجماع على ذلك، وعن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى: * (وسبح بحمد ربك) * (غافر: 55) لأن الصلوات نزلت بالمدينة وكانت الصلاة بمكة ركعتين من غير توقيت. وأنت تعلم أن الحق قول الأكثرين: إن الخمس نزلت بمكة على أنه لا يتعين إرادة الصلاة بالتسبيح في الآية، وقيل: هي مكية إلا قوله تعالى: * (إن الذين يجادلون) * (غافر: 56) الآية فإنها مدنية، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية وغيره أنها نزلت في اليهود لما ذكروا الدجال، وهذا ليس بنص على أنها نزلت بالمدينة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قولهم نزلت الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول: عنى بهذه الآية كذا، وقال الزركشي في البرهان: قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع. نعم سيأتي إن شاء الله تعالى عن أبي العالية ما هو كالنص على ذلك.
وآيها خمس وثمانون في الكوفي والشامي، وأربع في الحجازي، واثنتان في البصري، وقيل: ست وثمانون، وقيل: ثمان وثمانون، ووجه مناسبة أولها لآخر الزمر
أنه تعالى لما ذكر سبحانه هناك ما يؤول إليه حال الكافر وحال المؤمن ذكر جل وعلا هنا أنه تعالى غافر الذنب وقابل التوب ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عما هو فيه، وبين السورتين أنفسهما أوجه من المناسبة، ويكفي فيها أنه ذكر في كل من أحوال يوم القيامة وأحوال الكفرة فيه وهم في المحشر وفي النار ما ذكر، وقد فصل في هذه من ذلك ما لم يفصل منه في تلك.
وفي تناسق الدرر وجه إيلاء الحواميم السبع لسورة الزمر تواخي المطالع في الافتتاح بتنزيل الكتاب. وفي مصحف ابن مسعود أول الزمر * (حم) * (غافر: 1) وتلك مناسبة جلية، ثم إن الحواميم ترتبت لاشتراكها في الافتتاح - بحم - وبذكر الكتاب وأنها مكية بل ورد عن ابن عباس. وجابر بن زيد أنها نزلت عقب الزمر متتاليات كترتيبها في المصحف، وورد في فضلها أخبار كثيرة، أخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن عباس قال: إن لكل شيء لبابا وإن لباب القرآن الحواميم. وأخرج هو. وابن الضريس. وابن المنذر. والحاكم. والبيهقي في " شعب الإيمان " عن ابن مسعود قال: الحواميم ديباج القرآن. وأخرجه أبو الشيخ. وأبو نعيم. والديلمي عن أنس
39

رضي الله تعالى عنه مرفوعاف، وأخرج الديلمي. وابن مردويه عن سمرة بن جندب مرفوعا " الحواميم روضة من رياتض الجنة ".
وأخرج محمد بن نصر. والدارمي عن سعد بن إبراهيم قال: كن الحواميم يسمين العرائس. وأخرج ابن نصر. وابن مردويه عن أنس بن مالك قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفضل ما قرأهن نبي قبلي ".
وأخرج البيهقي في الشعب عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع تجىء كل * (حم) * منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول: اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤوني " وجاء في خصوص بعض آيات هذه السورة ما يدل على فضله. أخرج الترمذي. والبزار. ومحمد بن نصر. وابن مردويه. والبيهقي في " الشعب " عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ * (حم) * إلى واليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح ".
* (حم) *.
* (حم) * بتفخيم الألف وتسكين الميم، وقرأ ابن عامر برواية ذكوان، وحمزة. والكسائي. وأبو بكر بالإمالة الصريحة، ونافع برواية ورش. وأبو عمرو بالإمالة بين بين، وقرأ ابن أبي إسحاق. وعيسى بفتح الميم على التحريك لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة كما في أين وكيف، وجوز أن يكون ذلك نصبا بإضمار اقرأ ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه بمعنى السورة أو للعلمية وشبه العجمة لأن فاعيل ليس من أوزان أبنية العرب وإنما وجد ذلك في لغة العجم كقابيل وهابيل، ونقل هذا عن سيبويه. وفي " الكشف " أن الأولى أن يعلل بالتعريف والتركيب.
وقرأ أبو السمال بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين كما في جيز: والزهري برفعها والظاهر أنه إعراب فهو إما مبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف، والكلام في المراد به كالكلام في نظائره، ويجمع على حواميم وحاميمات أما الثاني فقد أنشد فيه ابن عساكر في تاريخه: هذا رسول الله في الخيرات * جاء بياسين وحاميمات
وأما الأول فقد تقدم عدة أخبار فيه ولا أظن أن أحدا ينكر صحة جميعها أو يزعم أن لفظ حواميم فيها من تحريف الرواة الأعاجم؛ وأيضا أنشد أبو عبيدة: حلفت بالسبع الا لى تطولت * وبمئين بعدها قد أمئيت
وبثمان ثنيت وكررت * وبالطواسين اللواتي تليت
وبالحواميم اللواتي سبعت * وبالمفصل التي قد فصلت
وذهب الجواليقي. والحريري. وابن الجوزي إلى أنه لا يقال حواميم، وفي " الصحاح " عن الفراء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب، وحكى صاحب زاد المسير عن شيخه أبي منصور اللغوي أن من الخطأ أن تقول: قرأت الحواميم والصواب أن تقول قرأت آل حم، وفي حديث ابن مسعود إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات:
40

وجدنا لكم في آل حم آية * تأولها منا تقي ومعرب
والطواسين والطواسيم بالميم بدل النون كذلك عندهم، وما سمعت يكفي في ردهم. نعم ما قالوه مسموع مقبول كالذي قلناه لكن ينبغي أن يعلم أن آل في قولهم آل حم كما قال الخفاجي ليس بمعنى الآل المشهور وهو الأهل بل هو لفظ يذكر قبل ما لا يصح تثنيته وجمعه من الأسماء المركبة ونحوها كتأبط شرا فإذا أرادوا تثنيته أو جمعه وهو جملة لا يتأتى فيها ذلك إذ لم يعهد مثله في كلام العرب زادوا قبله لفظة آل أو ذوا فيقال: جاءني آل تابط شرا أو ذواتا بط شرا أي الرجلان أو الرجال المسمون بهذا الاسم، فآل حم بمعنى الحواميم وآل بمعنى ذو، والمراد به ما يطلق عليه ويستعمل فيه هذا اللفظ وهو مجاز عن الصحبة المعنوية، وفي كلام الرضى وغيره إشارة إلى هذا إلا أنهم لم يصرحوا بتفسيره فعليك بحفظه، وحكي في الكشف أن الأولى أن يجمع بذوات حم أي دون حواميم أو حاميمات ومعناه السور المصحوبات بهذا اللفظ اعني حم.
* (تنزيل الكت‍ابمن الله العزيز العليم) *.
* (تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) * الكلام فيه إعرابا كاكلام في مطلع سورة الزمر بيد أنه يجوز هنا أن يكون * (تنزيل) * خبرا عن * (حم) * ولعل
تخصيص الوصفين لما في القرآن الجليل من الإعجاز وأنواع العلوم التي يضيق عن الإحاطة بها نطاق الأفهام أو هو على نحو تخصيص الوصفين فيما سبق فإن شأن البليغ عمله بالأشياء أن يكون حكيما إلا أنه قيل * (العليم) * دون الحكيم تفننا [بم وقوله تعالى:
* (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا إل‍اه إلا هو إليه المصير) *.
* (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول) * صفات للاسم الجليل كالعزيز العليم، وذكر * (غافر الذنب وقابل التوب، وذي الطول) * للترغيب وذكر * (شديد العقاب) * للترهيب والمجموع للحث على المقصود من * (تنزيل الكتاب) * وهو المذكور بعد من التوحيد والإيمان بالبعث المستلزم للإيمان بما سواهما والإقبال على الله تعالى، والأولان منها وان كانا اسمي فاعل إلا أنهما لم يرد بهما التجدد ولا التقييد بزمان بل أريد بهما الثبوت والاستمرار فاضافتهما للمعرفة بعدهما محضة اكسبتهما تعريفا فصح أن يوصف بهما أعرف المعارف، والأمر في * (ذي الطول) * ظاهر جدا. نعم الأمر في * (شديد العقاب) * مشكل فإن شديدا صفة مشبهة وقد نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة إذا أضيف إلى معرفة جاز أن ينوي بإضافته التمحض فيتعرف وينعت به المعرفة إلا ما كان من باب الصفة المشبهة فإنه لا يتعرف ومن هنا ذهب الزجاج إلى أن * (شديد العقاب) * بدل، ويرد عليه أن في توسيط البدل بين الصفات تنافرا بينا لأن الوصف يؤذن بأن الموصوف مقصود والبدل بخلافه فيكون بمنزلة استئناف القصد بعد ما جعل غير مقصود، والجواب أنه إنما يشكل ظاهرا على مذهب سيبويه وسائر البصريين القائلين بأن الصفة المشبهة لا تتعرف أصلا بالإضافة إلى المعرفة، وأما على مذهب الكوفيين القائلين بأنها كغيرها من الصفات قد تتعرف بالإضافة ويجوز وصف المعرفة بها نحو مررت بزيد حسن الوجه فلا، ويقال فيما ذكر على المذهب الأول: إن * (شديدا) * مؤول بمشدد اسم فاعل من أشده جعله شديدا كاذين بمعنى مئذن فيعطي حكمه، أو يقال: إنه معرف بال والأصل الشديد عقابه لكن حذفت لأمن اللبس بغير الصفة لوقوعه بين الصفات واحتمال كونه بدلا وحده لا يلتفت على ما سمعت إليه ورعاية لمشاكلة ما معه من الأوصاف المجردة منها والمقدر في حكم الموجود، وقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل المشاكلة حتى قالوا: ما يعرف سحادليه من عنادليه أرادوا ما يعرف ذكره من أنثييه
41

فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع، وجوز كون جميع التوابع المذكورات أبدالا وتعمد تنكير * (شديد العقاب) * وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار. وفي الكشف جعل كلها أبدالا فيه تنافر عظيم لا سيما في إبدال * (العزيز) * من * (الله) * الاسم الجامع لسائر الصفات العلم النص وأين هذا من براعة الاستهلال؟ وذهب مكي إلى جوز كون * (غافر الذنب وقابل التوب) * دون ما قبلهما بدلين وانهما حئنئذ نكرتان، وقد علمت ما فيه مما تقدم، وقال أبو حيان: إن بدل البداء عند من أثبته قد يتكرر وأما بدل كل من كل وبدل بعض من كل وبدل اشتمال فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها أو منعه إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل من البدل جائز دون تعدد البدل واتحاد المبدل منه، وظاهر كلام الخفاجي أن النحاة صرحوا بجواز تعدده حيث قال: لا يرد على القول الإبدال قلة البدل في المشتقات، ولا أن النكرة لا تبدل من المعرفة ما لم توصف، ولا أن تعدد البدل لم يذكره النحاة كما قيل لأن النحاة صرحوا بخلافه في الجميع، وللدماميني فيه كلام طويل الذيل في أول شرح الخزرجية لا يسعه هذا المقام فإن أردته فانظر فيه انتهى. وعندي أن الإبدال هنا ليس بشيء كلا أو بعضا، و * (التوب) * يحتمل أن يكون مصدرا كالأوب بمعنى الرجوع ويحتمل أن يكون اسم جمع لتوبة كتمر وتمره، و * (الطول) * الفضل بالثواب والانعام أو بذلك وبترك العقاب المستحق كما قيل وهو أولى من تخصيصه بترك العقاب وإن وقع بعد " شديد العقاب " وكون الثواب موعودا فصار كالواجب فلا يكون فضلا ليس بشيء فإن الوعد به ليس بواجب، وفسره ابن عباس بالسعة والغني، وقتادة بالنعم، وابن زيد بالقدرة، وتوسيط الواو بين " غافر الذنب وقابل التوب " لإفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل سبحانه توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات وأن يجعلها مجاءة للذنب كأنه لم يذنب كأنه قيل: جامع المغفرة والقبول قاله الزمخشري، ووجه كما في الكشف أنها صفات متعاقبة بدون الواو دالة على معنى الجمع المطلق من مجرد الاجراء فإذا خصت بالواو احدى القرائن دل على أن المراد المعتبر فيها وفيما تقدمها خاصة صونا لكلام البليغ عن الالغاء، ففي الواو هنا الدلالة على أنه سبحانه جامع بين الغفران وقبول التوب للتائب خاصة، ولا ينافي ذلك أنه عز وجل قد يغفر لمن لم يتب، وما قيل: إن التوسيط يدل على أن المعنى كما أخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن غافر الذنب لمن لم يتب وقابل التوب لمن تاب فغير مسلم، والتغاير الذي يذكرونه بين موقع الفعلين وهما غفران الذنب وقبول التوبة عنه المقتضى لكون الغفران بالنسبة إلى قوم والقبول بالنسبة إلى آخرين إذ جعلوا موقع الأول الذنب الباقي في الصحائف من غير مؤاخذة وموقع الثاني الذنب الزائل الممحو عنها حاصل مع الإجراء فلا مدخل للواو، ثم ما ذكر من الوجه السابق جار على أصلي أهل السنة والمعتزلة فلا وجه لرده بما ليس بقادح وإيثار ما هو مرجوح، وتقديم الغافر على القابل من باب تقديم التخلية على التحلية فافهم. وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة. وفي البحر الظاهر من الآية أن توبة العاصي بغير الكفر كتوبة العاصي به مقطوع بقبولها، وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفاته تعالى الدالة على الرحمة دليل على زيادة الرحمة وسبقها فسبحانه من إله ما أرحمه وأكرمه * (لا إلاه إلا هو) * فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه * (إليه المصير) * فحسب لا إلى غيره تعالى لا استقلالا ولا اشتراكا فيجازي كلا من المطيع والعاصي، وجملة * (لا إله إلا هو) * مستأنفة أو حالية، وقيل: صفة لله تعالى أو لشديد
42

العقاب، وفي الآيات مما يقتضي الاتعاظ ما فيها. أخرج عبد بن حميد عن يزيد بن الأصم أن رجلا كان ذا بأس وكان من أهل الشام وأن عمر رضي الله تعالى عنه فقده فسأل عنه فقيل له: تتابع في الشراب فدعا عمر كاتبه فقال له: اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو بسم الله الرحمن الرحيم * (حم - إلى قوله تعالى - إليه المصير) * وختم الكتاب، وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده ماحيا ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة فلما أتته
الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني ربي أن يغفر لي وحذرني عقابه فلم يبرح يرددها على نفسه حتى بكي ثم نزع فأحسن النزوع فلما بلغ عمر توبته قال: هكذا فافعلوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه ووقفوه وادعوا الله تعالى أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه.
* (ما يج‍ادل فىءاي‍ات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم فى البلاد) *.
* (ما يجادل في ءاي‍ات الله إلا الذين كفروا) * نزلت على ما قال أبو العالية في الحرث بن قيس السلمي أحد المستهزئين، والمراد بالجدال الجدال بالباطل من الطعن في الآيات والقصد إلى ادحاض الحق وإطفاء نور الله عز وجل لقوله تعالى بعد، * (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) * فإنه مذكور تشبيها لحال كفار مكة بكفار الأحزاب من قبل وإلا فالجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ عنها أعظم جهاد في سبيل الله تعالى؛ وفي قوله صلى الله عليه وسلم وقد أخرجه عبد بن حميد عن أبي هريرة مرفوعا: " إن جدالا في القرآن كفر " إيماء إلى ذلك حيث ذكر فيه جدالا منكرا للتنويع فأشعر أن نوعا منه كفر وضلال ونوعا آخر ليس كذلك.
والتحقيق كما في الكشف إن المجادلة في الشيء تقتضي أن يكون ذلك الشيء إما مشكوكا عند المجادلين أو أحدهما أو منكرا كذلك، وأيا ما كان فهو مذموم اللهم إلا إذا كان من موحد لخارج عن الملة أو من محقق لزائغ إلى البدعة فهو محمود بالنسبة إلى أحد الطرفين، وأما ما قيل: إن البحث فيها لإيضاح الملتبس ونحوه جدال عنها لا فيها فإن الجدال يتعدى بعن إذا كان للمنع والذب عن الشيء وبفي لخلافه كما ذكره الإمام وبالباء أيضا كما في قوله تعالى: * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * (النحل: 125) ففيه بحث، وفي قوله تعالى: * (في آيات الله) * (غافر: 4) دون - فيه - بالضمير العائد إلى الكتاب دلالة على أن كل آية منه يكفي كفرا لمجادلة فكيف بمن ينكره كله ويقول فيه ما يقول، وفيه أن كل آية منه آية أنه من الله تعالى الموصوف بتلك الصفات فيدل على شدة شكيمة المجادلة في الكفر وانه جادل في الواضح الذي لا خفاء به، ومما ذكر يظهر اتصال هذه الآية بما قبلها وارتباط قوله تعالى: * (فلا يغررك تقلبهم في البلاد) * بها أي إذا علمت ان هؤلاء شديدو الشكائم في الكفر قد خسروا الدنيا والآخرة حيث جادلوا في آيات الله العزيز العليم وأصروا على ذلك فلا تلتفت لاستدراجهم بتوسعة الرزق عليهم وإمهالهم فإن عاقبتهم الهلاك كما فعل بمن قبلهم من أمثالهم مما أشير إليه بقوله سبحانه:
* (كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وج‍ادلوا بالب‍اطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب) *.
* (كذبت قبلهم قوم نوح) * الخ، والتقلب الخروج من أرض إلى أخرى. والمراد بالبلاد بلاد الشام واليمن فإن الآية في كفار قريش وهم كانوا يتقلبون بالتجارة في هاتيك البلاد ولهم رحلة الشتاء لليمن ورحلة الصيف للشام، ولا بأس في إرادة ما يعم ذلك وغيره، وقرأ زيد بن علي. وعبيدة بن عمير * (فلا يغرك) * بالادغام مفتوح الراء وهي لغة تميم والفك لغة الحجازين، وبدأ بقوم نوح لأنه عليه الصلاة والسلام على ما في البحر أول رسول في الأرض أو لأنهم أول قوم كذبوا رسولهم وعتوا عتوا شديدا * (والأحزاب من بعدهم) * أي
43

والذين تحزبوا واجتمعوا على معاداة الرسل عليهم السلام من قوم نوح كعاد. وثمود. وقوم فرعون * (وهمت كل أمة) * من تلك الأمم * (برسولهم) * وقرأ عبد الله * (برسولها) * رعاية اللفظ الأمة * (ليأخذوه) * ليتمكنوا من إيقاع ما يريدون به من حبس وتعذيب وقتل وغيره، فالأخذ كناية عن التمكن المذكور، وبعضهم فسره بالاسر وهو قريب مما ذكر، وقال قتادة: أي ليقتلوه * (وجادلوا بالباطل) * بما لا حقيقة له قيل هو قولهم: * (ما أنتم إلا بشر مثلنا) * (يس: 15) والأولى أن يقال هو كل ما يذكرونه لنفي الرسالة وتحسين ما هم عليه، وتفسيره بالشيطان ليس بشيء * (ليدحضوا) * ليزيلوا * (به) * أي بالباطل، وقيل: أي بجدالهم بالباطل * (الحق) * الأمر الثابت الذي لا محيد عنه * (فأخذتهم) * بالاهلاك المستأصل لهم * (فكيف كان عقاب) * فانكم تمرون على ديارهم وترون أثره، وهذا تقرير فيه تعجيب للسامعين مما وقع بهم، وجوز أن يكون من عدم اعتبار هؤلاء، واكتفى بالكسرة عن ياء الإضافة في عقاب لأنه فاصلة، واختلف في المسبب عنه الأخذ المذكور فقيل: مجموع التكذيب والهم بالأخذ والجدال بالباطل، واختار الزمخشري كونه الهم بالأخذ، وقال في الكشف: وذلك لأن قوله تعالى: * (وجادلوا بالباطل ليدحضوا) * (غافر: 5) هو التكذيب بعينه والأخذ يشاكل الأخذ وإنما التكذيب موجب استحقاق العذاب الأخروي المشار إليه بعد، ولا ينكر أن كليهما يقتضي كليهما لكن لما كان ملاءمة الأخذ للأخذ أتم والتكذيب للعذاب الأخروي أظهر أنه متعلق بالأخذ تنبيها على كمال الملاءمة، ثم المجادلة العنادية ليس الغرض منها إلا الإيذاء فهي تؤكد الهم من هذا الوجه بل التكذيب أيضا يؤكده، والغرض من تمهيد قوله تعالى: * (ما يجادل) * وذكر الأحزاب إلا لما بهذا المعنى، ثم التصريح بقوله سبحانه: * (وهمت كل أمة برسولهم) * يدل على ما اختاره دلالة بينه فلا حاجة إلى أن يعتذر بأنه إنما اعتبر هذا لا ما سيق له الكلام من المجادلة الباطلة للتسلي انتهى، والانصاف إن فيما صنعه جار الله رعاية جانب المعنى ومناسبة لفظية إلا أن الظاهر هو التفريع على المجموع كما لا يخفى.
* (وكذالك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصح‍ابالنار) *.
* (وكذالك حقت كلمت ربك على الذين كفروا) * أي كما وجب حكمه تعالى بالاهلاك على هؤلاء المتحزبين على الأنبياء وجب حكمه سبحانه بالاهلاك على هؤلاء المتحزبين عليك أيضا وهم كفار قريش * (أنهم أصحاب النار) * أي لأنهم أصحاب النار أي لأن العلة متحدة وهي أنهم كفار معاندون مهتمون بقتل النبي مثلهم، فوضع * (أصحاب النار) * موضع ما ذكر لأنه آخر أوصافهم وشرها والدال على الباقي، و * (أنهم) * الخ في حيز النصب بحذف لام التعليل كما أشرنا إليه، وجوز أن يكون في محل رفع على أنه بدل من * (كلمة ربك) * بدل كل من كل ان أريد بالكلمة قوله تعالى أو حكمه سبحانه بأنهم من أصحاب النار، وبدل اشتمال أن أريد بها الأعم، ويراد بالذين كفروا أولئك المتحزبون، والمعنى كما وجب اهلاكهم بالعذاب المستأصل في الدنيا وجب اهلاكهم بعذاب النار في الآخرة أيضا لكفرهم، والوجه
الأول أظهر بالمساق.
والتعبير بعنوان الربوبية من الإضافة إلى ضمير صلى الله عليه وسلم، وفسرت * (كلمة ربك) * عليه بقوله سبحانه: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) * (الروم: 47) ونحوه. وفي مصحف عبد الله * (وكذلك سبقت) * وهو على ما قيل تفسير معنى لا قراءة. وقرأ ابن هرمز. وشيبة. وابن القعقاع. ونافع. وابن عامر * (كلمات) * على الجمع.
* (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) *.
* (الذين يحملون العرش) * وهو جسم عظيم له قوائم الكرسي وما تحته بالنسبة إليه كحلقة في فلاة.
44

وفي بعض الآثار خلق الله تعالى العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وذكر بعضهم في سعته أنه لو مسح مقعره بجميع مياه الدنيا مسحا خفيفا لقصرت عن استيعابه ويزعم أهل الهيئة ومن وافقهم أنه كرى وأنه المحدد وفلك الأفلاك وأنه كسائر الأفلاك لا يوصف بثقل ولا خفة وليس لهم في ذلك خبر يعول عليه بل الأخبار ظاهرة في خلافه.
والظاهر أن الحمل على حقيقته وحملته ملائكة عظام. أخرج أبو يعلى. وابن مردويه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الألاض السابعة السفلى والعرش على منكبيه وهو يقول: سبحانك أين كنت وأين تكون. وأخرج أبو داود. وجماعة بسند صحيح عن جابر بفظ " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين شحمة إذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام " وهم على ما في بعض الآثار ثمانية. أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ. والبيهقي في شعب الإيمان عن هارون بن رباب قال: حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت رخيم يقول أربعة منهم سبحانك وبحمدك على حلمك بعد عفوك وأربعة منهم سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك. وأخرج أبو الشيخ. وابن أبي حاتم من طريق أبي قبيل أنه سمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: حملة العرش ثمانية ما بين موق أحدهم إلى مؤخر عينيه مسيرة خمسمائة عام، وفي بعض الآثار أنهم اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية.
أخرج أبو الشيخ عن وهب قال: حملة العرش أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدوا بأربعة آخرين، ملك منهم في صورة إنسان يشفع لبني آدم في أرزاقهم، وملك منهم في صورة نسر يشفع للطير في أرزاقهم، وملك منهم في صورة ثور يشفع للبهائم في أرزاقهم، وملك منهم في صورة أسد يشفع للسباع في أرزاقهم فلما حملوا العرش وقعوا على ركبهم من عظمة الله تعالى فلقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستووا قياما على أرجلهم.
وجاء رواية عن وهب أيضا أنهم يحملون العرش على أكتافهم وهو الذي يشعر به ظاهر خبر أبي هريرة السابق.
وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ عن حبان بن عطية قال: حملة العرش ثمانية أقدامهم مثبتة في الأرض السابعة ورؤوسهم قد جاوزت السماء السابعة وقرونهم مثل طولهم عليها العرش.
وفي بعض الآثار أنهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وفي بعض لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور، وهم على ما أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أمامة يتكلمون بالفارسية أي إذا تكلموا بغير التسبيح وإلا فالظاهر أنهم يسبحون بالعربية، على أن الخبر الله تعالى أعلم بصحته، وفي بعض الآثار عن وهب أنه ليس لهم كلام إلا أن يقولوا قدوس الله القوى ملأت عظمته السماوات والأرض، وما سيأتي إن شاء الله تعالى بعيد هذا في الآية يأبى ظاهر الحصر * (ومن حوله) * أي والذين من حول العرش وهم ملائكة في غاية الكثرة لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى.
وقيل: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وذكر في كثرتهم
45

أن مخلوقات البر عشر مخلوقات البحر والمجموع عشر مخلوقات الجو والمجموع عشر ملائكة السماء الدنيا والمجموع عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة والمجموع عشر ملائكة الكرسي والمجموع عشر الملائكة الحافين بالعرش، ولا نسبة بين مجموع المذكور وما يعلمه الله تعالى من جنوده سبحانه: * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * (المدثر: 31) ويقال لحملة العرش والحافين به الكروبيون جمع كروبي بفتح الكاف وضم الراء المهملة المخففة وتشديدها خطأ ثم واو بعدها باء موحدة ثم ياء. مشددة من كرب بمعنى قرب، وقد توقف بعضهم في سماعه من العرب وأثبته أبو علي الفارسي واستشهد له بقوله: كروبية منهم ركوع وسجد
وفيه دلالة على المبالغة في القرب لصيغة فعول والياء التي تزاد للمبالغة، وقيل: من الكرب بمعنى الشدة والحزن وكأن وصفهم بذلك لأنه أشد الملائكة خوفا.
وزعم بعضهم أن الكروبيين حملة العرش وأنهم أول الملائكة وجودا ومثله لا يعرف إلا بسماع. وعن البيهقي أنهم ملائكة العذاب وكأن ذلك إطلاق آخر من الكرب بمعنى الشدة والحزن، وقال ابن سيناء في رسالة: الملائكة الكروبيون هم العامرون لعرصات التيه الاعلى الواقفون في الموقف الأكرم زمرا الناظرون إلى المنظر الأبهى نظرا وهم الملائكة المقربون والأرواح المبرؤون، وأما الملائكة العاملون فهم حملة العرش والكرسي وعمار السماوات انتهى.
وذهب بعضهم إلى أن حمل العرش مجاز عن تدبيره وحفظه من أن يعرض له ما يخل به أو بشيء من أحواله التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، وجعلوا القرينة عقلية لأن العرش كرى في حيزه الطبيهي فلا يحتاج إلى حمل ونسب ذلك إلى الحكماء وأكثر المتكلمين، وكذا ذهبوا إلى إن الحفيف والطواف بالعرش كناية أو مجاز عن القريب من ذي العرش سبحانه ومكانتهم عنده تعالى وتوسطهم في نفاذ أمره عز وجل، والحق الحقيقة في الموضعين؛ وما ذكر من القرينة العقلية في حيز المنع.
وقرأ ابن عباس. وفرقة * (العرش) * بضم العين فقيل: هو جمع عرش كسقف وسقف أو لغة في العرش، والموصول الأول مبتدأ والثاني عطف عليه والخبر قوله تعالى: * (يسبحون بحمد ربهم) * والجملة استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان أن الملائكة الذين هم في المحل الأعلى مثابرون على ولاية من معه من المؤمنين ونصرتهم واستدعاء ما يسعدهم في الدراين أي ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل كالجسمية وكون العرش حاملا له عز وجل ملتبسين بحمده جل شأنه على نعمائهالتي لا تتناهي.
* (ويؤمنون به) * إيمانا حقيقيا كاملا، والتصريح بذلك مع الغني عن ذكره رأسا لإظهار فضيلة الإيمان وإبراز شرف أهله والاشعار بعلة دعائهم للمؤمنين حسبما ينطق به قوله تعالى: * (ويستغفرون للذين ءامنوا) * فإن المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمها وادعى الدواعي إلى النصح والشقفة وإن تخالفت الأجناس وتباعدت الأماكن، وفيه على ما قيل: اشعار بأن حملة العرش وسكان الفرش سواء في الإيمان بالغيب إذ لو كان هناك مشاهدة للزومها من الحمل بناء على العادة الغالبة أو على أن العرش جسم شفاف لا يمنع الأبصار البتة لم يقل يؤمنون لأن الإيمان هو التصديق القلبي أعني العلم أو ما يقوم مقامه مع اعتراف وإنما يكون في الخبر ومضمونه من معتقد علمي أو ظني ناشىء من البرهان أو قول الصادق كأنه اعترف بصدق المخبر أو البرهان
46

وأما العيان فيغنى عن البيان، ففي ذلك رمز إلى الرد على المجسمة، ونظيره في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تفضلوني على ابن متى " كذا قيل، وينبغي أن يعلم أن كون حملة العرش لا يرونه عز وجل بالحاسة لا يلزم منه عدم رؤسة المؤمنين إياه تعالى في الدار الآخرة * (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما) * على إرادة القول أي يقولون ربنا الخ، والجملة لا محل لها من الإعراب على أنها تفسير - ليستغفرون - أو في محل رفع على أنه عطف بيان على تلك الجملة بناء على جوازه في الجمل أو في محل نصب على الحالية من المضير في * (يستغفرون) *.
وفسر استغفارهم على هذا الوجه بشفاعتهم للمؤمنين وحملهم على التوبة بما يفيضون على سرائرهم، وجوز أن يكونالاستغفار في قوله تعالى: * (ويستغفرون لمن في الأرض) * (الشورى: 5) المفسر بترك معاجلة العقاب وادرار الرزق والارتفاق بما خلق من المنافع الجمة ونحو ذلك وهو وإن لم يخص المؤمنين لكنهم أصل فيه فتخصيصهم هنا بالذكر للإشارة إلى ذلك، والأظهر كون الجملة تفسيرا، ونصب * (رحمة وعلما) * على التمييز وهو محمول عن الفاعل والأصل وسعت رحمتك وعلمك كل شيء وحول إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في وصفه عز وجل بالرحمة والعلم حيث جعلت ذاته سبحانه كأنها عين الرحمة والعلم مع التلويح إلى عمومها لأن نسبة جميع الأشياء إليه تعالى مستوية فتقتضي استواءها في شمولهما، ووصفه تعالى بكمال الرحمة والعلم كالتمهيد لقوله سبحانه: * (فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) * الخ، وتسبب المغفرة عن الرحمة ظاهر، وأما تسببها عن العلم فلأن المعنى فاغفر للذين عملت منهم التوبة أي من الذنوب مطلقا بناء على أنه المتبادر من الاطلاق واتباع سبيلك وهو سبيل الحق التي نهجها الله تعالى لعباده ودعا إليها الإسلام أي علمك الشامل المحيط بما خفي وما علن يقتضي ذلك، وفيه تنبيه على ظهارتهم من كدورات الرياء والهوى فإن ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى وحده.
ويتضمن التمهيد المذكور الإشارة إلا أن الرحمة الواسعة والعلم الشامل يقتضينان أن ينال هؤلاء الفوز العظيم والقسط الأعلى من الرضوان وفيه إيماء إلى معنى. إن تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما
فإن العبد وإن بالغ حق المبالغة في أداء حقوقه تعالى فهو مقصر، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته " وتقديم الرحمة لأنها المقصودة بالذات ههنا، وفي تصدير الدعاء بربنا من الاستعطاف ما لا يخفى ولذا كثر تصدير الدعاء به، وقوله تعالى: * (وقهم عذاب الجحيم) * أي واحفظهم عنه تصريح بعد تلويح للتأكيد فإن الدعاء بالمغفرة يستلزم ذلك، وفيه دلالة على شدة العذاب.
* (ربنا وأدخلهم جن‍ات عدن التى وعدتهم ومن صلح من ءابآئهم وأزواجهم وذري‍اتهم إنك أنت العزيز الحكيم) *.
* (ربنا أدخلهم جن‍ات عدن التي وعدتهم) * أي وعدتهم إياها فالمفعول الآخر مقدر والمراد وعدتهم دخولها، وتكرير النداء لزيادة الاستعطاف، وقرأ زيد بن علي. والأعمش " جنة عدن " بالإفراد وكذا في مصحف عبد الله * (ومن صلح من ءابائهم وأزواجهم وذرياتهم) * عطف على الضمير المنصوب في * (أدخلهم) * أي وأدخل معهم هؤلاء ليتم سرورهم ويتضاعف ابتهاجهم، وجوز الفراء. والزجاج العطف على الضمير في * (وعدتهم) * أي وعدتهم ووعدت من صلح الخ فقيل: المراد بذلك الوعد العام. وتعقب بأنه لا يبقى على هذا للعطف وجه فالمراد الوعد الخاص بهم بقوله تعالى: * (ألحقنا بهم ذرياتهم) * (الطور: 21) والظاهر العطف على الأول والدعاء بالادخال
47

فيه صريح، وفي الثاني ضمني والظاهر أن المراد بالصلاح الصلاح المصحح لدخول الجنة وإن كان دون صلاح المتبوعين، وقرأ ابن أبي عبلة * (صلح) * بضم اللام يقال: صلح فهو صليح وصلح فهو صالح، وقرأ عيسى " ذريتهم " بالافراد * (إنك أنت العزيز) * أي الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور * (الحكيم) * الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة الباهرة من الأمور التي من جملتها ادخال من طلب ادخالهم الجنات فالجملة تعليل لما قبلها.
* (وقهم السيئ‍ات ومن تق السيئ‍ات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم) *.
* (وقهم السيئات) * أي العقوبات على ما روي عن قتادة، واطلاق السيئة على العقوبة لأنها سيئة في نفسها، وجوز أن يراد بها المعنى المشهور وهو المعاصي والكلام على تقدير مضاف أي وقهم جزاء السيآت أو تجوز بالسبب عن المسبب، وأيا ما كان يتكرر هذا مع * (وقهم عذاب الجحيم) * بل هو تعميم بعد تخصيص لشموله العقوبة الدنيوية والأخروية مطلقا أو الدعاء الأول للمتبوعين وهذا للتابعين، وجوز أن يراد بالسيآت المعنى المشهور بدون تقدير مضاف ولا تجوز أي المعاصي
أي وقهم المعاصي في الدنيا ووقايتهم منها حفظهم عن ارتكابها وهو دعاء بالحفظ عن سبب العذاب بعد الدعاء بالحفظ عن المسبب وهو العذاب، وتعقب بأن الأنسل على هذا تقديم هذا الدعاء على ذاك * (ومن تق السيئات يومئذ) * أي يوم المؤاخذة * (فقد رحمته) * ويقال على الوجه الأخير ومن تق السيآت يوم العمل أي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة وأيد هذا الوجه بأن المتبادر من يومئذ الدنيا لأن * (إذ) * تدل على المضي، وفيه منع ظاهر * (وذالك) * إشارة إلى الرحمة المفهومة من رحمته أو إلى الوقاية المفهومة من فعلها أو إلى مجموعهما، وأمر التذكير على الاحتمالين الأولين وكذا أمر الافراد على الاحتمال الأخير ظاهر * (هو الفوز) * أي الظفر * (العظيم) * الذي لا مطمع وراءه لطامع، هذا وإلى كون المراد بالذين تابوا الذين تابوا من الذنوب مطلقا ذهب الزمخشري، وقال في السيآت على تقدير حذف المضاف هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها، وذكر أن الوقاية منها للتكفير أو قبول التوبة وأن هؤلاء المستغفر لهم تائبون صالحون مثل الملائكة في الطهارة وأن الاستغفار لهم بمنزلة الشفاعة وفائدته زيادة الكرامة والثواب فلا يضر كونهم موعودين المغفرة والله تعالى لا يخلف الميعاد، وتعقب بأنه لا فائدة في ذكر الرحمة والمبالغة فيها إذا كان المغفور له مثل الملائكة عليهم السلام في الطهارة وأي حاجة إلى الاستغفار فضلا عن المبالغة، وأن ما قاله في السيآت لا يجوز فإن إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة واجب في مذهبه وما كان فعله واجبا كان طلبه بالدعاء عبثا قبيحا عند المعتزلة، وكذا إسقاط عقوبة الصغيرة فلا يحسن طلبه بالدعاء، ولا يجوز أن يكون ذلك لزيادة منفعة لأن ذلك لا يسمى مغفرة، حكى هذا الطيبي عن الإمام ثم قال: فحينئذ يجب القول بأن المراد بالتوبة التوبة عن الشرك كما قال الواحدي فاغفر للذين تابوا عن الشرك واتبعوا سبيلك أي دينك الإسلام، فإن قلت لو لم يكن التوبة من المعاصي مرادا لكان يكفي أن يقولوا: فاغفر للذين آمنوا ليطابق السابق، قلت: والله تعالى أعلم هو قريب من وضع المظهر موضع المضمر من غير اللفظ السابق وبيانه إن قوله تعالى: * (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا) * (غافر: 7) الآية جار مفصولا عن قوله تعالى: * (ويستغفرون للذين آمنوا) * (غافر: 7) فالآية بيان لكيفية الاستغفار لا لحال المستغفر لهم، ووصفهم المميز يعرف بالذوق، وأما فائدة العدول عن المضمر وانه لم يقل: فاغفر لهم بل قيل: للذين
48

تابوا فهي أن الملائكة كما عللوا الغفران في حق مفيض الخيرات جل شأنه بالعلم الشامل والرحمة الواسعة عللوا قابل الفيض أيضا بالتوبة عن الشرك وإتباع سبيل الإسلام، فإن قلت: هذه التوبة إنما تصح في حق من سبق شركه على إسلامه دون من ولد مسلما ودام عليه، قلت: الآية نازلت في زمن الصحابة وجلهم انتقلوا من الشرك إلى الإسلام ولو قيل: فاغفر لمن لم يشرك لخرجوا فغلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم على سنن جميع الأحكام انتهى، ولعمري أن للبحث فيه مجالا أي مجال.
وفي " الكشف " إنما اختار الزمخشري ما اختاره على ما قال الواحدي من أن التوبة عن الشرك لأن التوبة عند الاطلاق تنصرف إلى التوبة من الذنوب مطلقا على أن فيه تكرارا إذ ذاك لأن التائب عن الشرك هو المسلم، وقد فسر متبع السبيل في هذا القول به وإذا شرط حمله العرش ومن حوله عليهم السلام صلاح التابع وهو الذرية مع ما ورد من قوله تعالى: * (بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) * (الطور: 21) فما بال المتبوع، وأنت تعلم أن الصلاح من أخص أوصاف المؤمن وكفاك دعاء إبراهيم ويوسف عليهما السلام في الإلحاق بالصالحين شاهدا، وأما أنهم غير محتاجين إلى الدعاء فجوابه أنه لا يجب أن يكون للحاجة، ألا ترى إلى قولنا: اللهم صل على سيدنا محمد وما ورد فيه من الفضائل والمعلوم حصوله منه تعالى يحسن طلبه فإن الدعاء في نفسه عبادة ويوجب للداعي والمدعو له من الشرف ما لا يتقاعد عن حصول أصل الثواب، ثم إن الوقاية عن السيئات إن كانت بمعنى التفكير وقع الكلام في أن السيئات المكفرة ما هي ولا خفاء أن النصوص دالة على تكفير التوبة للسيئات كلها وأن الصغائر مكفرات ما اجتنبت الكبائر فلا بد من تخصيصها به كما ذكر وإن كان معناها أن يعفى عنها ولا يؤاخذ بهما كما هو قول الواحدي ومختار الإمام ومن ائتم به فينبغي أن ينظر أن الوقاية في أي المعنيين أظهر وأن قوله تعالى: * (ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته) * وما يفيده من المبالغة على نحو من أدرك مرعى الصمان فد أدرك.
وتعقيبه بقوله سبحانه: * (وذلك هو الفوز العظيم) * في شأن المقصرين أظهر أو شأن المكفرين، ومن هذا التقرير قد لاح أن هذا الوجه ظاهر هذا السياق وأنه يوافق أصل الفريقين وليس فيه أنه سبحانه يعفو عن الكبائر بلا توبة أو لا يعفو فلا ينافي جوازه من أدلة أخرى إلى آخر ما قال وهو كلام حسن وإن كان في بعضه كحديث التكرار وكون الصلاح في الآية ما هو من أخص أوصاف المؤمن نوع مناقشة، وقد يرجح كون المراد بالتوبة التوبة من الذنوب مطلقا دون التوبة عن الشرك فقط بأن المتبادر من * (وقههم عذاب الجحيم) * (غافر: 7) وق كل واحد منهم ذلك، ومن المعلوم أنه لا بد من نفوذ الوعيد في طائفة من المؤمنين العاصين وتعذيهم في النار فيكون الدعاء بحفظ كل من المؤمنين من العذاب محرما.
وقد نصوا على حرمة أن يقال: اللهم اغفر لجميع المؤمنين جميع ذنوبهم لذلك، ولا يلزم ذلك على كون الدعاء للتائبين الصالحين، وحمل الإضافة على العهد بأن يراد بعذاب الجحيم ما كان على سبيل الخلود لا يخفى حاله؛ والاعتراض بلزوم الدعاء بمعلوم الحصول على كون المراد بالتوبة ذلك بخلاف ما إذا أريد بها التوبة عن الشرك فإنه لا يلزم ذلك إذ المعنى عليه فاغفر للذين تابوا عن الشرك ذنوبهم التي لم يتوبوا عنها وغفران تلك الذنوب غير معلوم الحصول قد علم جوابه مما في " الكشف "، على أن كون الغفران للتائب معلوم الحصول خلافا أشرنا إليه أول السورة. نعم هذا اللزوم ظاهر في قولهم: * (وأدخلهم جنات عدت التي وعدتهم) * (غافر: 8) ونظير ذلك ما ورد في الدعاء
49

إثر الأذان وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، وقد أجيب عن ذلك بغير ما أشير إليه أيضا وهو أن سبق الوعد لا يستدعي حصول الموعود بلا توسط دعاء.
وبالجملة لا بأس بحمل التوبة على التوبة من الذنوب مطلقا ولا يلزم من القول به القول بشيء من أصول المعتزلة فتأمل وأنصف [بم وقوله تعالى:
* (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيم‍ان فتكفرون) *.
* (إن الذين كفروا) * شروع في بيان أحوال الكفال بعد دخول النار.
* (ينادون) * وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم الأمارة بالسوء التي وقعوا فيما وقعوا باتباع هواها حتى أكلوا أناملهم من المقت كما أخرج ذلك عبد بن حميد عن الحسن.
وفي بعض الآثار أنهم يمقتون أنفسهم حين يقول لهم الشيطان: * (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * (إبراهيم: 22) وقيل: يمقتونها حين يعلمون أنهم من أصحاب النار، والمنادي الخزنة أو المؤمنون يقولون لهم إعظاما لحسرتهم: * (لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم) * وهذا معمول للنداء لتضمنه معنى القول كأنه قيل ينادون مقولا لهم لمقت الخ أو معمول لقول مقدر بفاء التفسير أي ينادون فيقال لهم: لمقت الخ، وجعله معمولا للنداء على حذف الجار وإيصال الفعل بالجملة ليس بشيء، و * (مقت) * مصدر مضاف إلى الاسم الجليل إضافة المصدر لفاعله، وكذا إضافة المقت الثاني إلى ضمير الخطاب.
وفي الكلام تنازع أو حذف معمول الأول من غير تنازل أي لمقت الله إياكم أو أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، واللام للابتداء أو للقسم، والمقت أشد البغض؛ والخلف يؤولونه مسندا إليه تعالى بأشد الإنكار.
* (إذ تدعون) * أي إذ يدعوكم الأنبياء ونوابهم * (إلى الايمان) * فتأبون قبوله * (فتكفرون) * وهذا تعليل للحكم أو للمحكوم به - فإذ - متعلقة - بأكبر - وكان التعبير بالمضارع للإشارة إلى الاستمرار التجددي كأنه قيل: لمقت الله تعالى أنفسكم أكبر من مقتكم إياها لأنكم دعيتم مرة بعد مرة إلى الايمان فتكرر منكم الكفر، وزمان المقتين واحد على ما هو المتبادر وهو زمان مقتهم أنفسهم الذي حكيناه آنفا ".
ويجوز أن يكون تعليلا لمقتهم أنفسهم وإذ متعلق - بمقت - الثاني فهم مقتوا أنفسهم لأنهم دعوا مرارا إلى الايمان فكفروا، والتعبير بالمضارع كما في الوجه السابق، وزمان المقتين كذلك، والعلة في الحقيقة إصرارهم على الكفر مع تكرر دعائهم إلى الايمان، وجوز أن يكون تعليلا لمقت الله و * (إذ) * متعلقة به، ويعلم مما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما عليه وما له، وظاهر صنيع جماعة من الأجلة اختيار كون * (إذ) * ظرفية لا تعليلية فقيل: هي ظرف - لمقت - الأول، والمعنى لمقت الله تعالى أنفسكم في الدنيا إذ تدعون إلى الايمان فتكفرون أشد من مقتكم إياها اليوم وأنتم في النار أو وأنتم متحققون إنكم من أصحابها فزمان المقتين مختلف، وكون زمان الأول الدنيا وزمان الثاني الآخرة مروي عن الحسن، وأخرجه عبد بن حميد. وابن المنذر عن مجاهد، واعترض عليه غير واحد بلزوم الفصل بين المصدر وما في صلته بأجنبي هو الخبر، وفي أمالي ابن الحاجب لا بأس بذلك لأن الظروف متسع فيها، وقيل: هي لمصدر آخر يدل عليه الأول أو لفعل يدل عليه ذلك كما في البحر.
وفي " الكشف " فيه أن المقدر لا بد له من جزاآت أن استقل ويتسع الخرق وإن جعل بدلا فحذفه وأعمال
50

المصدر المحذوف لا يتقاعد عن الفصل بالخبر وليس أجنبيا من كل وجه؛ وتقدير الفعل أي مقتكم الله إذ تدعون أبعد وأبعد، وقيل: هي ظرف لمقت الثاني. واعترض بأنهم لم يمقتوا أنفسهم وقت الدعوة بل في القيامة.
وأجيب بأن الكلام على هذا الوجه من قبيل قول الأمير كرم الله تعالى وجهه: إنما أكلت يوم أكل الثور الأحمر وقو لعمرو بن عدس التميمي لمطلقته دختنوس بنت لقيط وقد سألته لبنا وكانت مقفرة من الزاد: الصيف ضيعت اللبن وذلك بأن يكون مجازا بتنزيل وقوع السبب وهو كفرهم وقت الدعوة منزلة وقوع المسبب وهو مقتهم لأنفسهم حين معاينتهم ما حل بهم بسببه، وقيل: إن المراد عليه إذ تبين أنكم دعيتم إلى الايمان المنجي والحق الحقيق بالقبول فأبيتم أو أن المراد بأنفسهم جنسهم من المؤمنين فإنهم كانوا يمقتون المؤمنين في الدنيا إذ يدعون إلى الايمان وهو أبعد التأويلات؛ وقال لمكي: * (إذ) * معمولة لا ذكروا مضمرا والمراد التحير والتنديم واستحسنه بعضهم وأراه خلاف المتبادر. وادعى " صاحب الكشف " أن فيه تنافرا بينا وعلله بما لم يظهر لي وجهه فتأمل.
وتفسير * (مقتكم أنفسكم) * بمقت كل واحد نفسه هو الظاهر، وجوز أن يراد به مقت بعضهم بعضا فقيل: إن الاتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر والرؤساء يمقتون الاتباع لما أنهم اتبعوهم فحملوا أوزارا مثل أوزارهم فلا تغفل.
* (قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) *.
* (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) * صفتان لمصدري الفعلين، والتقدير امتنا امتاتتين اثنتين وأحييتنا إحياءتين اثنتين.
وجوز كون المصدرين موتتين وحياتين وهما إما مصدران للفعلين المذكورين أيضا بحذف الزوائد أو مصدارن لفعلين آخرين يدل عليهما المذكوران فإن الإماتة والإحياء ينبئان عن الموت والحياة حتما فكأنه أمتنا فمتنا موتتين اثنتين على طرز قوله: وعض زمان يا ابن مروان لم يدع * من المال إلا مسحت أو مجلف
أي لم يدع فلم يبق إلا مسحت الخ، واختلف في المراد بذلك فقيل: أرادوا بالاماتة الأولى خلقهم أمواتا وبالثانية إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياءتهم بنفخ الروح فيهم وهم في الأرحام وبالثانية إحياءتهم بإعادة أرواحهم إلى أبدانهم للبعث. وأخرج هذا ابن جرير. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس وجماعة من الحاكم وصححه عن ابن مسعود، وعبد بن حميد. وابن المنذر عن قتادة، وروى أيضا عن الضحاك وأبي مالك وجعلوا ذلك نظير آية البقرة * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) * (البقرة: 28) والإماتة إن كانت حقيقة في جعل الشيء عادم الحياة سبق بحياة أم لا فالأمر ظاهر وإن كانت حقيقة في تصيير الحياة معدومة بعد أن كانت موجودة كما هو ظاهر كلامهم حيث قالوا: إن صيغة الأفعال وصيغة التفعيل موضوعتان للتصيير أي النقل من حال إلى حال ففي إطلاقها على ما عدا إماته أولى خفاء لاقتضاء ذلك سبق الحياة ولا سبق فيما ذكر، ووجه بأن ذلك من باب المجاز كما قرروه في ضيق فم الركية ووسع أسفلها قالوا: إن الصانع إذا اختار أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع الجائز عن الآخرة فجعل صرفه عنه كنقله منه يعني أنه تجوز بالأفعال أو التفعيل الدال على التصيير وهو النقل من حال إلى حال أخرى عن لازمه وهو الصرف عما في حيز الإمكان، ويتبعه جعل الممكن الذي تجوز إرادته بمنزلة الواقع، وكذا جعل الأمر في
ضيق فم الركية مثلا بإنشائه على الحال الثانية بمنزلة أمره بنقله عن غيرها، ولذا جعله بعض الأجلة بمنزلة الاستعارة
51

بالكناية فيكون مجازا مرسلا مستتبعا للاستعارة بالكناية، فالمراد بالاماتة هناك الصرف لا النقل، وذكر بعضهم أنه لا بد من القول بعموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الآية استعمال المشترك في معنييه بناء على زعم أن الصيغة مشتركة بين الصرف والنقل، ومن أجاز ما ذكر لم يحتج للقول بذلك. وفي " الكشف " آثر جار الله أن إحدى الإماتتين ما ذكر في قوله تعالى: * (وكنتم أمواتا فأحياكم) * (البقرة: 28) وإطلاقها عليه من باب المجاز وهو مجاز مستعمل في القرآن، وقد ذكر وجه التجوز، وتحقيق ذلك يبتني على حرف واحد وهو أن الإحياء معناه جعل الشيء حيا فالمادة الترابية أو النطفية إذا أفيضت عليها الحياة صدق أنها صارت ذات حياة على الحقيقة إذ لا يحتاج إلى سبق موت على الحقيقة بل إلى سبق عدم الحياة فهناك إحياء حقيقة، وأما الإماتة فإن جعل بين الموت والحياة التقابل المشهوري استدعى المسبوقية بالحياة فلا تصح الإماتة قبلها حقيقة، وإن جعل التقابل الحقيقي صحت، لكن الظاهر في الاستعمال بحسب عرفي العرب والعجم أنه مشهوري انتهى، وأراد بالمشهوري والحقيقي ما ذكروه في التقابل بالعدم والملكة فإنهم قالوا: المتقابلان بالعدم والملكة وهما أمران يكون أحدهما وجوديا والآخر عدم ذلك الوجودي في موضوع قابل له إن اعتبر قبوله بحسب شخصه في وقت اتصافه بالأمر العدمي فهو العدم والملكة المشهوران كالكوسجية فإنها عدم اللحية عما من شأنه الوقت أن يكون ملتحيا فإن الصبي لا يقال له كوسج، وإن اعتبر قبوله أعم من ذلك بأن لا يقيد بذلك الوقت كعدم اللحية عن الطفل أو يعتبر قبوله بحسب نوعه كالعمى للأكمه أو جنسه القريب كالعمى للعقرب أو البعيد كعدم الحركة الإرادية عن الجبل فإن جنسه البعيد أعني الجسم الذي هو فوق الجماد قابل للحركة الإرادية فهو العدم والملكة الحقيقيات لكن في بناء اقتضاء المسبوقية بالحياة وعدمه على ذلك خفاء، وإن ضم إليه التعبير بصيغة الماضي كما لا يخفى على المتدبر.
ثم وجه تسبب الإماتة مرتين والإحياء كذلك لقوله تعالى: * (فاعترفنا بذنوبنا) * أنهم قد أنكروا البعث فكفروا وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى لأن من لم يخش العاقبة تخرق في المعاصي فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم علموا بأن الله تعالى قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم.
وقال السدي: أرادوا بالإماتة الأولى إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياءتهم في القبر للسؤال وبالإماتة الثانية إماتتهم بعد هذه الإحياءة إلى قيام الساعة وبالإحياءة الثانية إحياءتهم للبعث، واعترض عليه بأنه يلزم هذا القائل ثلاث إحياءات فكان ينبغي أن يكون المنزل أحييتنا ثلاثا فإن ادعى عدم الاعتداد بالإحياءة المعروفة وهي التي كانت في الدنيا لسرعة انصرامها وانقطاع آثارها وأحكامها لزمه أن لا يعتد بالإماتة بعدها.
وقال بعض المحققين في الانتصار له: إن مراد الكفار من هذا القول اعترافهم بما كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون الأنبياء حين كانوا يدعونهم إلى الايمان بالله تعالى واليوم الآخر لأن قولهم هذا كالجواب عن النداء في قوله تعالى: * (ينادون لمقت الله) * (غافر: 10) كأنهم أجابوا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعونا وكنا نعتقد أن لا حياة بعد الموت فالآن نعترف بالموتين والحياتين لما قاسينا من شدائدهما وأحوالهما فالذنب المعترف به تكذيب البعث، ولهذا جعل مرتبا على القول وإنما ذكروا الإماتتين ليذكروا الإحياءين إذ كلتا الحياتين كانتا منكرتين عندهم دون الحياة المعروفة ومقام هذه الآية غير مقام قوله تعالى: * (وكنتم أمواتا فأحياكم) * (البقرة: 28) فإن هذه
52

كما سمعت لبيان الإقرار والاعتراف منهم في الآخرة بما أنكروه في الدنيا وتلك لبيان الامتنان الذي يستدعي شكر المنعم أو لبيان الدلائل لتصرفهم عن الكفر.
ويرجح هذا القول إن أمر إطلاق الاماتة على كلتا الإماتتين ظاهر. وتعقبه في " الكشف " بأنه لا قرينة في اللفظ تدل على خروج الإحياء الأول مع أن الإطلاق عليه أظهر والمقابلة تنادي على دخوله. ويكفي في الاعتراف إثبات إحياء واحد منهما غير الأول، وقيل: إنما قالوا: * (أحييتنا اثنتين) * لأنهما نوعان إحياء البعث وإحياء قبله، ثم إحياء البعث قسمان إحياء في القبر وإحياء عند القيام ولم يذكر تقسيمه لأنهم كانوا منكرين لقسميه.
وتعقب بأن ذكر الإماتة الثانية التي في القبر دليل على أن التقسيم ملحوظ، والمراد التعدد الشخصي لا النوعي نعم هذا يصلح تأييدا لما اختاره جار الله، وروى عن جمع من السلف من أن الإحياءات وإن كانت ثلاثا إنما سكت عن الثانية لأنها داخلة في إحياءة البعث قاله " صاحب الكشف " ثم قال: وعلى هذا فالإماتة على مختار جار الله إماتة قبل الحياة وإماتة بعدها وطويت إماتة القبر كما طويت إحياءته ولك أن تقول إن الإماتة نوع واحد بخلاف الإحياء فروعي التعدد فيها شخصا بخلافه، وذكر الإماتة الثانية لأنها منكرة عندهم كالحياتين، ويجب الاعتراف بها لا للدلالة على أن التعدد في الإحياء شخصي والحق أن ذلك وجه لكن قوله تعالى: * (اثنتين) * ظاهر في المرة فلذا آثر من آثر الوجه الأول وإن كانت الإماتة فيه غير ظاهرة ذهابا إلى أن ذلك مجاز مستعمل في القرآن فتأمل. وقال الإمام: إن أكثر العلماء احتجوا بهذه الآية في إثبات عذاب القبر وذلك أنهم أثبتوا لأنفسهم وموتتين فإحدى الموتتين مشاهد في الدنيا فلا بد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي عقيبها موتا ثانيا، وذلك يدل على حصول حياة في القبر، وأطال الكلام في تحقيق ذلك والانتصار له، والمنصف يرى أن عذاب القبر ثابت بالأحاديث الصحيحة دون هذه الآية لقيام الوجه المروي عمن سمعت أولا فيها، وقد قيل: إنه الوجه لكني أظن أن اختيار الزمخشري له لدسيسة اعتزالية، وقال ابن زيد في الآية أريد إحياؤهم نسما عند أخذ العهد عليهم من صلب آدم ثم إماتتهم بعد ثم إحياؤهم في الدنيا ثم إماتتهم ثم إحياؤهم وهذا صريح في أن الإحياءات ثلاث، وقد أطلق فيه الإحياء الثالث؛ والأغلب على الظن أنه عني به إحياء البعث، وقيل: التثنية في كلامهم مثلها في قوله تعالى: * (ثم أرجع البصر كرتين) * (الملك: 4) مراد بها التكرير والتكثير فكأنهم قالوا: أمتنا مرة بعد مرة وأحييتنا مرة بعد مرة فعلمنا عظيم قدرتك وأنه لا يتعاصاها الإعادة كما لا يتعاصاها غيرها فاعترفتا بذنوبنا التي اقترفناها من إنكار ذلك، وحينئذ فلا عليك أن تعتبر الموت في صلب آدم ثم الإحياء لأخذ العهد ثم الإماتة ثم الإحياء بنفخ الروح في الأرحام ثم الإماتة عند انقضاء الأجل في الدنيا ثم الإحياء في القبر للسؤال أو لغيره ثم
الإماتة ثم الإحياء بنفخ الروح في الأرحام ثم الإماتة عند انقضاء الأجل في الدنيا ثم الإحياء في القبر للسؤال أو لغيره ثم الإماتة فيه ثم الإحياء للبعث ولا يخفى أنه على ما فيه إنما يتم لو كان المقول أمتنا إماتتين أو كرتين وأحييتنا إحياءتين أو كرتين مثلا دون ما في المنزل، فإن * (اثنتين) * فيه وصف لإماتتين ولإحياءتين وهو دافع لاحتمال إرادة التكثير كما قيل في * (إلهين اثنين) * وبناء الأمر على أن العدد لا مفهوم له لا يخلو عن بحث، ومن غرائب ما قيل في ذلك ما روى عن محمد بن كعب أن الكافر في الدنيا حي الجسد ميت القلب فاعتبرت الحالتان فهناك إماتة وإحياء للقلب والجسد في الدنيا ثم إماتتهم عند انقضاء الآجال ثم إحياؤهم للبعث، ومثل هذا يحكي ليطلع على حاله * (فهل إلى خروج) * أي إلى نوع خروج من النار أي فهل إلى خروج سريع أو بطيء أو من مكان منها إلى آخر أو إلى الدنيا أو غيرها
53

* (من سبيل) * طريق من الطرق فنسلكه ومثل هذا التركيب يستعمل عند اليأس، وليس المقصود به الاستفهام وإنما قالوه من فرط قنوط تعللا أو تحيرا ولذلك أجيبوا بذكر ما أوقعهم في الهلاك وهو قوله تعالى:
* (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير) *.
* (ذالكم) * الخ من غير جواب عن الخروج نفيا أو إثباتا وإن كان الاستفهام على ظاهره، والمراد طلب الخروج نظير * (فارجعنا نعمل صالحا) * (السجدة: 12) ونحوه لقيل: * (اخسؤا فيها) * أو نحو ذلك كذا قيل، وجوز أن يكونوا طلبوا الرجعة ليعملوا بموجب ذلك الاعتراف لكن مع استبعاد لها واستشعار يأس منه والجواب إقناط لهم ببيان أنهم كانوا مستمرين على الشرك فجوزوا باستمرار العقاب والخلود في النار كما يقتضيه حكمه تعالى وذلك جواب بنفي السبيل إلى الخروج على أبلغ وجه، ولا أرى في هذا الوجه بأسا ويوشك أن يكون المتبادر، والمعنى ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب * (بأنه) * أي بسبب أن الشأن * (إذا دعي الله) * أي عبد سبحانه في الدنيا * (وحده) * أي متحدا منفردا فهو نصب على الحال مؤول بمشتق منكر أو يوحد وحده على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر على حد * (أنبتكم من الأرض نباتا) * (نوح: 17) والجملة بتمامها حال أيضا حذفت وأقيم المصدر مقامها، وفيه كلام آخر مفصل في الوفدة وقد تقدم بعضه.
* (كفرتم) * بتوحيده تعالى أي جحدتم وأنكرتم ذلك * (وإن يشرك به تؤمنوا) * بالإشراك أي تذعنوا وتقروا به، وفي إيراد * (إذا) * وصيغة الماضي في الشرطية الأولى و * (إن) * وصيغة المضارع في الثانية ما لا يخفى من الدلالة على سوء حالهم وحيث كان كذلك * (فالحكم لله) * الذي لا يحكم إلا بالحق ولا يقضي إلا بما تقتضيه الحكمة * (العلي الكبير) * المتصف بغاية العلوم نهاية الكبرياء فليس كمثله شيء في ذاته وصفاته وأفعاله، ولذا اشتدت سطوته بمن أشرك به واقتضت حكمته خلوده في النار فلا سبيل لخروجكم منها أبدا إذ كنتم مشركين.
واستدلال الحرورية بهذه الآية على زعمهم الفاسد في غاية السقوط، ويكفي في الرد عليهم قوله تعالى: * (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * (النساء: 35) الآية وقوله تعالى: * (يحكم به ذوا عدل منكم) * (المائدة: 95).
* (هو الذى يريكم ءاي‍اته وينزل لكم من السمآء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب) *.
* (هو الذي يريكم ءاياته) * الدالة على شؤننه العظيمة الموجبة لتفرده بالألوهية لتستدلوا بها على ذلك وتعملوا بموجبها فإذا دعي سبحانه وحده تؤمنوا وإن يشرك به تكفروا، وهذه الآيات ما يشاهد من آثار قدرته عز وجل: وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد
* (وينزل) * بالتشديد وقرىء بالتخفيف من الإنزال * (لكم من السماء رزقا) * أي سبب رزق وهو المطر، وإفراده بالذكر مع كونه من جملة تلك الآيات لتفرده بعنوان كونه من آثار رحمته وجلائل نعمته الموجبة للشكر، وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على تجدد الإراءة والتنزيل واستمرارهما، وتقديم الجار والمجرور على المفعول لما مر غير مرة * (وما يتذكر) * بتلك الآيات التي هي كالمركوزة في العقول لظهورها المغفول عنها للانهماك في التقليد واتباع الهوى * (إلا من ينيب) * يرجع عن الإنكار بالإقبال عليها والتفكر فيها، فإن الجازم بشيء لا ينظر فيما ينافيه فمن لا ينيب بمعزل عن التذكر.
* (فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الك‍افرون) *.
* (فادعوا الله) * اعبدوه عز وجل * (مخلصين له الدين) * من الشرك * (ولو كره الك‍افرون) * إخلاصكم وشق عليهم.
وظاهر كلام الكشاف أن * (ادعوا) * الخ مسبب عن الإنابة وأن فيه التفاتا حيث قال: ثم قال للمنيبين
54

والأصل فليدع ذلك المنيب، على معنى إن صحت الإنابة على نحو فقد جئنا خراسانا، وقد وافق على كونه خطابا لمن ذكر غير واحد. وفي " الكشف " التحقيق أن قوله تعالى: * (وما يتذكر) * الخ اعتراض وقوله سبحانه: * (فادعوا الله) * مسبب عن قوله تعالى: * (هو الذي يريكم) * على أنه خطاب يعم المؤمن والكافر لسبق ذكرهما لا للكفار وحدهم على نحو * (من مقتكم أنفسكم) * إذ ليس مما نودوا به يوم القيامة، والمعنى فادعوه فوضع الظاهر موضع المضمر ليتمكن فضل تمكن وليشعر بأن كونه تعالى هو المعبود بحق هو الذي يقتضي أن يعبد وحده. وفائدة الاعتراض أن هذه الآيات ودلالتها على اختصاصه سبحانه وحده بالعبادة بالنسبة إلى من ينيب لا المعاند.
وقوله في " الكشاف ": ثم قال للمنيبين إشارة إلى أن فائدة تقديم الاعتراض أن الانتفاع بالآيات على هذا التقدير فكأنه مسبب عن الإنابة معنى لما كان تسبب السابق للأحق الإنابة، فهذا هو الوجه ولا يأباه تفسير * (ولو كره الكافرون) * بقوله: وإن غاظ ذلك أعداءكم فإنه للتنبيه على أن امتثال ذلك الأمر إنما يكون بعد إنابتهم وكأن قد حصل ذلك وحصل التضاد بينهم وبين الكافرين، وهو تحقيق حقيق بالقبول لكن في توجيه كلام الكشاف تكلف ظاهر.
* (رفيع الدرج‍ات ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشآء من عباده لينذر يوم التلاق) *.
* (رفيع الدرجات) * صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها من رفع الشيء بالضم إذا علا، وجوز أن يكون صيغة مبالغة من باب أسماء الفاعلين وأضيف إلى المفعول وفيه بعد، و * (الدرجات) * مصاعد الملائكة عليهم السلام إلى أن يبلغوا العرش أي رفيع درجات ملائكته ومعارجهم إلى عرشه.
وفسرها ابن جبير بالسماوات ولا بأس بذلك فإن الملائكة يعرجون من سماء إلى سماء حتى يبلغوا العرش إلا أنه جعل * (رفيعا) * اسم فاعل مضافا إلى المفعول فقال: أي رفع سماء فوق سماء والعرش فوقهن، وقد سمعت آنفا أن فيه بعدا، ووصفه عز وجل بذلك للدلالة على سبيل الإدماج على عزته سبحانه وملكوته جل شأنه.
ويجوز أن يكون كناية عن رفعة شأنه وسلطانه عز شأنه وسلطانه كما أن قوله تعالى: * (ذو العرش) * كناية عن ملكه جل جلاله، ولا نظر في ذلك إلى أن له سبحانه عرشا أو لا، فالكناية وإن لم تناف إرادة الحقيقة لكن لا تقتضي وجوب إرادتها فقد وقد؛ وعن ابن زيد أنه قال: أي عظيم الصفات وكأنه بيان لحاصل المعنى الكنائي، وقيل: هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياءها تعالى يوم القيامة، وروى ذلك عن ابن عباس وابن سلام، وهذا أنسب بقوله تعالى: * (فادعوا الله مخلصين) * والمعنى الأول أنسب بقوله تعالى: * (يلقى الروح من أمره) * لتضمنه ذكر الملائكة عليهم السلام وهم المنزلون بالروح كما قال سبحانه: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره) * (النحل: 2) وأيا ما كان - فرفيع الدرجات - و * (ذو العرش) * وجملة * (يلقى) * أخبار ثلاثة قيل: - لهو - السابق في قوله تعالى: * (هو الذي يريكم) * (الرعد: 12) الخ واستبعده أبو حيان بطول الفصل، وقيل: لهو محذوفا، والجملة كالتعليل لتخصيص العبادة وإخلاص الدين له تعالى، وهي متضمنة بيان إنزال الرزق الروحاني بعد بيان إنزال الرزق الجسماني في * (ينزل لكم من السماء رزقا) * (غافر: 13) فإن المراد بالروح على ما روى عن قتادة الوحي وعلى ما روى عن ابن عباس القرآن وذلك جار من القلوب مجرى الروح من الأجساد، وفسره الضحاك بجبريل عليه السلام وهو عليه والسلام حياة القلوب باعتبار ما ينزل به من العلم.
وجوز ابن عطية أن يراد به كمل ما ينعم الله تعالى به على عباده المهتدين في تفهيم الايمان والمعقولات الشريفة وهو كما ترى، وقوله تعالى: * (من أمره) * قيل: بيان للروح، وفسر بما يتناول الأمر والنهي، وأوثر على
55

لفظ الوحي للإشارة إلى أن اختصاص حياة القلوب بالوحي من جهتي التخلي والتحلي الحاصلين بالامتثال والانتهاء.
وعن ابن عباس تفسير الأمر بالقضاء فجعلت * (من) * ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع حالا من * (الروح) * أي ناشئا من أمره أو صفة له على رأي من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أي الكائن من أمره، وفسره بعضهم بالملك وجعل * (من) * ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع حالا أو صفة على ما ذكر آنفا، وكون الملك مبدأ للوحي لتلقيه عنه، ومن فسر الروح بجبريل عليه الصلاة والسلام قال: * (من) * سببية متعلقة - بيلقى - والمعنى ينزل الروح من أجل تبليغ أمره * (على من يشاء من عباده) * وهو الذي اصطفاه سبحانه لرسالته وتبليغ أحكامه إليهم، والاستمرار التجددي المفهوم من * (يلقى) * ظاهر فإن الإلقاء لم يزل من لدن آدم عليه السلام إلى انتهاء زمان نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو في حكم المتصل إلى قيام الساعة بإقامة من يقوم بالدعوة على ما روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها " أي بإحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما، وأمر ذلك التجدد على ما جوزه ابن عطية لا يحتاج إلى ما ذكر. وقرىء * (رفيع) * بالنصب على المدح * (لينذر) * علة للالقاء، وضميره المستتر لله تعالى أو لمن وهو الملقى إليه أو للروح أو للأمر، وعوده على الملقى إليه وهو الرسول أقرب لفظا ومعنى لقرب المرجع وقوة الإسناد فإنه الذي ينذر الناس حقيقة بلا واسطة، واستظهر أبو حيان رجوعه إليه تعالى لأنه سبحانه المحذف عنه، وقوله تعالى: * (يوم التلاق) * مفعول - لينذر - أو ظرف والمنذر به محذوف أي لينذر العذاب أو نحو يوم التلاق [بم وقوله سبحانه:
* (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شىء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) *.
* (يوم هم بارزون) * بدل من * (يوم التلاق) * و * (هم) * مبتدأ و * (بارزون) * خبر والجملة في محل جر بإضافة * (يوم) * إليها، وقيل: وهذا تخريج على مذهب أبي الحسن من جواز إضافة الظرف المستقبل كاذا إلى الجملة الاسمية نحو اجيئك إذا زيد ذاهب، وسيبويه لا يجوز ذلك ويوجب تقدير فعل بعد الظرف يكون الاسم مرتفعا به، وجوز أن يكون * (يوم) * ظرفا لقوله تعالى: * (لا يخفى على الله منهم شيء) * والظاهر البدلية، وهذه الجملة استئناف لبيان بروزهم وتقرير له وإزاحة لما كان يتوهمه بعض المتوهمين في الدنيا من الاستتار توهما باطلا، وجوز أن تكون خبرا ثانيا - لهم -.
وقيل: هي حال من ضمير * (بارزون) * و * (يوم التلاق) * يوم القيامة سمي بذلك قال ابن عباس: لالتلقاء الخلائق فيه، وقال مقاتل: للالتقاء الخالق والمخلوق فيه. وحكاه الطبرسي عن ابن عباس، وقال السدي: لالتقاء أهل السماء وأهل الأرض؛ وقال ميمون بن مهران: لالتقاء الظالم والمظلوم، وحكى الثعلبي أن ذلك لالتقاء كل امرء وعمله، واختار بعض الأجلة ما قال مقاتل وقال: هو أولى الوجوه لما فيه من حل المطلق على ما ورد في كثير من المواضع نحو * (فمن كان يرجو لقاء له) * (الكهف: 110) * (إن الذين لا يرجون لقاءنا) * (يونس: 7) * (وقال الذين لا يرجون لقاءنا) * (الفرقان: 21).
وقال " صاحب الكشف ": القول الأول وهو ما نقل عن ابن عباس أولا أشبه لجريان الكلام فيه على الحقيقة ونفي ما يتوهم من المساواة بين الخالق والمخلوق واستقلال كل من البدلين بفائدة التهويل لما في الأول من تصوير تلاقي الخلائق على اختلاف أنواعها، وفي الثاني من البروز لمالك أمرها بروزا لا يبقى لأحد فيه شبهة.
وأما نحو قوله تعالى: * (لقاء ربه) * فمسوق بمعنى آخر، و * (بارزون) * من برز وأصله حصل في براز أي
56

فضاء، والمراد ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء لأن الأرض يومئذ قاع صفصف وليس عليهم ثياب إنما هم عراة مكشوفون كما جاء في " الصحيحين "
عن ابن عباس " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلا " وقيل: المراد خارجون من قبورهم أو ظاهرة أعمالهم وسرائرهم، وقيل: ظاهرة نفوسهم لا تحجب بغواشي الأبدان مع تعلقها بها، ولا يقبل هذا بدون ثبت من المعصوم، والمراد بقوله تعالى: * (منهم) * على ما قيل: من أحوالهم وأعمالهم. وقيل: من أعيانهم، واختير التعميم أي لا يخفى عليه عز شأنه شيء ما من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم الجلية والخفية السابقة واللاحقة.
وقرأ أبي * (لينذر يوم) * ببناء ينذر للفاعل ورفع يوم على الفاعلية مجازا. وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب اللوامح * (لينذر) * مبنيا للمفعول * (يوم) * بالرفع على النيابة عن الفاعل. وقرأ الحسن. واليماني فيما ذكر ابن خالويه * (لتنذر) * بالتاء الفوقية فقيل: الفاعل فيه ضمير الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: ضمير الروح لأنها تؤنث؛ وقوله تعالى: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * حكاية لما يسئل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به بتقدير قول معطوف على ما قبله من الجملة المنفية المستأنفة أو مستأنف يقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية بروزهم وظهور أحوالهم كأنه قيل: فما يكون حينئذ؟ فقيل: يقال: * (لمن الملك) * الخ [بم وقوله تعالى:
* (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) *.
* (اليوم تجزى كل نفس) * أي من النفوس البرة والفاجرة * (بما كسبت) * أي من خير أو شر * (لا ظلم اليوم) * بنقص الثواب وزيادة العقاب * (إن الله سريع الحساب) * أي سريع حسابه إذ لا يشغله سبحانه شأن عن شأن فيصل إلى المحاسب من النفوس ما يستحقه سريعا. روي عن ابن عباس أنه تعالى إذا أخذ في حسابهم لم يقل أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها من تتمة الجواب جىء به لبيان إجمال فيه، والتذييل لتعليل ما قبله.
والمنادي بذلك سؤالا وجوابا واحد. أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال: " يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله تعالى فيها قط ولم يخطأ فيها فأول ما يتكلم أن ينادي مناد * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار * اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) * (غافر: 16، 17) فأول ما يبدؤن به من الخصومات الدماء " الحديث، وهو عند الحسن الله نفسه عز وجل، وقيل: ملك، وقيل: السائل هو الله تعالى أو ملك والمجيب الناس.
وذكر الطيبي تقريرا لعبارة الكشاف أن قوله تعالى: * (اليوم تجزى) * الخ تعليل فيجب أن يكون السائل والمجيب هو الله عز وجل، فإنه سبحانه لما سأل * (لمن الملك اليوم) * وأجاب هو سبحانه بنفسه * (لله الواحد القهار) * كان المقام موقع السؤال وطلب التعليل فأوقع * (اليوم تجزى) * جوابا عنه يعني إنما اختص الملك بن تعالى لأنه وحده يقدر على مجازاة كل نفس بما كسبت وله العدل التام فلا يظلم أحدا وله التصرف فلا يشغله شأن عن شأن فيسرع الحساب، ولو أوقع * (لله الواحد القهار) * جوابا عن أهل المحشر لم يحسن هذا الاستئناف انتهى، وفيه ما فيه.
والحق أن قوله تعالى: * (اليوم تجزى كل نفس) * الخ إن كان من كلام المجيب كما هو ظاهر حديث ابن مسعود بعد أن يكون من الناس، وجوز فيه أن لا يكون من تتمة الجواب بل هو حكاية لما سيقوله تعالى في ذلك
57

اليوم عقيب السؤال والجواب. وأيا ما كان فتخصيص الملك به تعالى في ذلك اليوم إنما هو بالنظر إلى ظاهر الحال من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط وظهور ذلك للكفرة والجهلة. وأما حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما. وذهب محمد بن كعب القرظي إلى أن السؤال والجواب منه تعالى ويكونان بين النفختين حين يفنى عز وجل الخلائق. وروي نحوه عن ابن عباس.
أخرج عبد بن حميد في " زوائد الزهد ". وابن أبي حاتم. والحاكم وصححه. وأبو نعيم في الحلية عنه رضي الله تعالى عنه قال: " ينادي مناد بين يدي الساعة يا أيها الناس أتتكم الساعة فيسمعها الأحياء والأموات وينزل الله سبحانه إلى السماء الدنيا فيقول: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " والسياق ظاهر في أن ذلك يوم القيامة فلعله على تقدير صحة الحديث يكون مرتين. ومعنى جزاء النفوس بما كسبت أنها تجزى خيرا إن كسبت خيرا وشرا إن كسبت شرا. وقيل: إن النفوس تكتسب بالعقائد والأعمال هيآت توجب لذتها وألمها لكنها لا تشعر بها في الدنيا فإذا قامت قيامتها وزالت العوائق أدركت ألمها ولذتها. والظاهر أن هذا قول باللذة والألم الروحانيين ونحن لا ننكر حصولهما يومئذ لكن نقول: إن الجزاء لا ينحصر بهما بل يكون أيضا بلذة وألم جسمانيين. فالاقتصار في تفسير الآية على ذلك قصور.
* (وأنذرهم يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر ك‍اظمين ما للظ‍المين من حميم ولا شفيع يطاع) *.
* (وأنذرهم يوم الآزفة) * يوم القيامة كما قال مجاهد. وقتادة. وابن زيد، ومعنى * (الآزفة) * القريبة يقال: أزف الشخوص إذا قرب وضاق وقته، فهي في الأصل اسم فاعل ثم نقلت منه وجعلت اسما للقيامة لقربها بالإضافة لما مضى من مدة الدنيا أو لما بقي فإن كل آت قريب، ويجوز أن تكون باقية على الأصل فتكون صفة لمحذوف أي الساعة الآزفة، وقدر بعضهم الموصوفة الخطة بضم الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة وهي القصة والأمر العظيم الذي يستحق أن يخط ويكتب لغرابته، ويراد بذلك ما يقع يوم القيامة من الأمور الصعبة وقربها لأن كل آت قريب، والمراد باليوم الوقت مطلقا أو هو يوم القيامة، وقال أبو مسلم: * (يوم الآزفة) * يوم المنية وحضور الأجل.
ورجح بأنه أبعد عن التكرار وأنسب بما بعده ووصف القرب فيه أظهر * (إذ القلوب لدى الحناجر) * بدل من * (يوم الآزفة) * و * (الحناجر) * جمع حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى؛ وهي كما قال الراغب: رأس الغلصمة من خارج وهي لحمة بين الرأس والعنق، والكلام كناية عن شدة الخوف أو فرط التألم، وجوز أن يكون على حقيقته وتبلغ قلوب الكفار حناجرهم يوم القيامة ولا يموتون كما لو كان ذلك في الدنيا.
* (كاظمين) * حال من أصحاب القلوب على المعنى فإن ذكر القلوب يدل على ذكر أصحابها فهو من باب * (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا) * (الحجر: 47) فكأنه قيل: إذ قلوبهم لدى الحناجر كاظمين عليها، وهو من كظم القربة إذا ملأها وسد فاها، فالمعنى ممسكين أنفسهم على قلوبهم لئلا تخرج مع النفس فإن كاظم القربة كاظم على الماء ممسكها علية لئلا يخرج امتلاء. وفيه مبالغة عظيمة، وجوز كونه حالا من ضمير * (القلوب) * المستتر في الخبر أعني * (لدى الحناجر) * وعلى رأي من يجوز مجىء الحال من المبتدأ كونه حالا من * (القلوب) * نفسها.
وجمع جمع العقلاء لتنزيلها منزلتهم لوصفها بصفتهم كما في قوله تعالى: * (فظلت أعناقهم لها خاضعين) * (الشعراء: 4) والمعنى حال كون القلوب كاظمة على الغم والكرب، ومنه يعلم أنه لا يجوز أن يكون * (لدى الحناجر) * ظرف * (كاظمين) *
58

لفساد المعنى والحاجة إلى تقدير محذوف مع الغنى عنه، وكذلك على قراءة * (كاظمون) * للأول فقط فيتعين كون * (لدى الحناجر) * خبرا و * (كاظمون) * خبرا آخر وبذلك يترجح كون الحال من القلوب، وقدر الكواشي هم كاظمون ليوافق وجه الحالية من الأصحاب " وجوز كونه حالا من مفعول * (أنذرهم) * أي أنذرهم مقدرا كظمهم أو مشارفين الكظم. * (ما للظالمين من حميم) * أي قريب مشفق من احتم فلان لفلان احتد فكأنه الذي يحتد حماية لذويه ويقال لخاصة الرجل حامته ومن هنا فسر الحميم بالصديق * (ولا شفيع يطاع) * أي ولا شفيع يشفع فالجملة في محل جر أو رفع صفة * (شفيع) * والمراد نفي الصفة والموصوف لا الصفة فقط ليدل على أن ثم شفيعا لكن لا يطاع فالكلام من باب: لا ترى الضب بها ينجحر
ولم يقتصر على نفع الشفيع بل ضم إليه ما ضم ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة فيكون ذلك الضم إزالة لتوهم وجود الموصوف حيث جعل انتفاؤه أمرا مسلما مشهورا لا نزاع فيه لأن الدليل ينبغي أن يكون أوضح من المدلول، وهذا كما تقول لمن عاتبك على القعود عن الغزو مالي فرس أركبه وما معي سلاح أحارب به فليفهم، والضمائر المذكورة من قوله تعالى: * (وأنذرهم) * إلى هنا إن كانت للكفار كما هو الظاهر فوضع الظالمين موضع ضميرهم للتسجيل عليهمب الظلم وتعليل الحكم، وإن كانت عامة لهم ولغيرهمف ليس هذا من باب وضع الظاهر موضع الضمير وإنما هو بيان حكم للظالمين بخصوصهم، والمراد بهم الكاملون في الظلم وهم الكافرون لقوله تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13).
* (يعلم خآئنة الاعين وما تخفى الصدور) *.
* (يعلم خائنة الأعين) * أي النظرة الخائنة كالنظرة إلى غير المحرم واستراق النظر إليه وغير ذلك - فخائنة - صفة لموصوف مقدر، وجعل النظرة خائنة إسناد مجازي أو استعارة مصرحة أو مكنية وتخييلية بجعل النظر بمنزلة شيء يسرق من المنظور إليه ولذا عبر فيه بالاستراق، ويجوز أن يكون خائنة مصدرا كالكاذبة والعاقبة والعافية أي يعلم سبحانه خيانة الأعين، وقيل: هو وصف مضاف إلى موصوفه كما في قوله: وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
أي يعلم سبحانه الأعين الخائنة ولا يحسن ذلك لقوله تعالى: * (وما تعخفى الصدور) * أي والذي تخفيه الصدور من الضمائر أو إخفاء الصدور لما تخفيه من ذلك لأن الملاءمة واجبة الرعاية في علم البيان وملائم الأعين الخائنة الصدور المخفية، وما قيل في عدم حسن ذلك من أن مقام المبالغة يقتضي أن يراد استراق العين ضم إليه هذه القرينة أولا فغير قادح في التعليل المذكور إذ لا مانع من أن يكون على مطلوب دلائل ثم لولا القرينة لجاز أن تجعل الأعين تمهيدا للوصف فالقرينة هي المانعة وهذه الجملة على ما في " الكشاف " متصلة بأول الكلام خبر من أخبار هو في قوله تعالى: * (هو الذي يريكم) * (الرعد: 12) على معنى هو الذي يريكم الخ وهو يعلم خائنة الأعين ولم يجعله تعليلا لنفي الشفاعة على معنى ما لهم من شفيع لأن الله تعالى يعلم منهم الخيانة سرا وعلانية قيل: لأنه لا يصلح تعليلا لنفيها بل لنفي قبولها فإن الله تعالى هو العالم لا الشفيع والمقصود نفي الشفاعة، ووجه تقرير هذا الخبر في هذا الموضع ما فيه من التخلص إلى ذم آلهتهم مع أن تقديمه على * (الذي يريكم) * لا وجه له لتعلقه بما قبله أشد التعلق كما أشير إليه وكذلك على * (رفيع الدرجات) * (غافر: 15) لاتصاله بالسابق وأمر المنيبين بالإخلاص ولما فيه من النبو من توسيط المنكر الفعلي بين المبتدأ وخبره المعرف الإسمي، وأما توسيطه بين القرائن الثلاث فبين العصا
59

ولحائها فلا موضع له أحق من هذا ولا يضر البعد اللفظي في مثل ذلك كما لا يخفى، وظن بعضهم ضرره فمنهم من قال: الجملة متصلة بمجموع قوله عز وجل: * (وأنذرهم يوم الآزفة) * (غافر: 18) إلى آخره، وذلك أنه سبحانه لما أمر بإنذار ذلك اليوم وما يعرض فيه من شدة الكرب والغم وذكر تعالى أن الظالم لا يجد من يحميه من ذلك ولا من يشفع له ذكر جل وعلا اطلاعه على جميع ما يصدر من العبد وإنه مجازي بما عمل ليكون على حذر من ذلك اليوم إذا علم أن الله تعالى مطلع على أعماله وإلى هذا ذهب أبو حيان.
وقال ابن عطية: هي متصلة بقوله تعالى: * (سريع الحساب) * لأن سرعة حسابه تعالى للخلق إنما هي لعلمه تعالى الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكر ولا لشيء مما يحتاجه المحاسبون، وحكى رحمه الله تعالى عن فرقة أنها متصلة بقوله تعالى: لا يخفى على الله منهم شيء ثم قال: وهذا قول حسن يقويه تناسب المعنيين ويضعفه البعد وكثرة الحائل، وجعلها بعض متثلة بنفي قبول الشفاعة الذي تضمنه قوله تعالى: * (ولا شفيع يطاع) * (غافر: 18) فإن * (يطاع) * المنفي بمعنى تقبل شفاعته على أنها تعليل لذلك أي لا تقبل شفاعة شفيع لهم لأن الله تعالى يعلم منه الخيانة سرا وعلانية وليست تعليلا لنفي الشفاعة ليرد ما قيل، ولا يخفى ما فيه، ولعمري أن جار الله في مثل هذا المقام لا يجارى.
* (والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشىء إن الله هو السميع البصير) *.
* (والله يقضي بالحق) * أي والذي هذه صفاته يقضي قضاء ملتبسا بالحق لا بالباطل لاستغنائه سبحانه عن الظلم، وتقديم المسند إليه للتقوى، وجوز أن يكون للحصر
وفائدة العدول عن المضمر إلى المظهر والإتيان بالاسم الجامع عقيب ذكر الأوصاف ما أشير إليه من إرادة الموصوف بتلك الصفات.
* (والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء) * تهكم بآلهتهم لأن الجماد لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي، وجعله بعضهم من باب المشاكلة وأصله لا يقدرون على شيء، واختير الأول قيل لأن التهكم أبلغ لأنه ليس المقصود الاستدلال على عدم صلاحيتهم للإلهية.
وقرأ أبو جعفر. وشيبة. ونافع بخلاف عنه. وهشام * (تدعون) * بتاء الخطاب على الالتفات، وجوز أن يكون على إضمار قل فلا يكون التفاتا وإن عبر عنه بالغيبة قبله لأنه ليس على خلاف مقتضى الظاهر إذ هو ابتداء كلام مبني على خطابهم * (إن الله هو السميع البصير) * تقرير لعلمه تعالى بخائنة الأعين وما تخفي الصدور وقضاؤه سبحانه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون وتعريض بحال ما يدعون من دونه عز وجل، وفيه إشارة إلى أن القاضي ينبغي أن يكون سميعا بصيرا.
* (أولم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان ع‍اقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وءاثارا فى الارض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق) *.
* (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم) * أي مآل حال الذين كذبوا الرسل عليهم السلام قبلهم كعاد. وثمود، و * (ينظروا) * مجزوم على أنه معطوف على * (يسيروا) *، وجوز أبو حيان كونه منصوبا في جواب النفي كما في قوله:
* (ألم تسأل فتخبرك الرسوم) * () وتعقب بأنه لا يصح تقديره بأن لم يسيروا ينظروا. وأجيب بأن الاستفهام إنكاري وهو في معنى النفي فيكون جواب نفي النفي * (كانوا هم أشد منهم قوة) * قدرة وتمكنا من التصرفات، والضمير المنفصل تأكيد للمضير المتصل قبله، وجوز كونه ضمير فصل ولا يتعين وقوعه بين معرفتين فقد أجاز الجرجاني وقوع المضارع بعده كما في قوله تعالى: * (إنه هو يبدىء ويعيد) * نعم الأصل الأكثر فيه ذلك، على أن أفعل التفضيل الواقع بعده من الداخلة على المفضل عليه مضارع للمعرفة لفظا في عدم دخول أل عليه ومعنى لأن المراد به الأفضل باعتبار أفضلية معينة.
60

وجملة * (كانوا) * الخ مستأنفة في جواب كيف صارت أمورهم. وقرأ ابن عامر * (منكم) * بضمير الخطاب على الالتفات.
* (وءاثارا في الأرض) * عطف على قوة أي وأشد آثارا في الأرض مثل القلاع المحكمة والمدائن الحصينة، وقد حكى الله تعالى عن قوم منهم أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا.
وجوز كونه عطفا على * (أشد) * بتقدير محذوف أي وأكثر آثارا فتشمل الآثار القوية وغيرها، وهو ارتكاب خلاف المتبادر من غير حاجة يعتد بها، وقيل: المراد بهذه الآثار آثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم وليس بشيء أصلا * (فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق) * أي وليس لهم واق من الله تعالى يقيهم ويمنع عنهم عذابه تعالى أبدا، فكان للاستمرار والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، ومن الثانية زائدة ومن الأولى متعلقة بواق، وقدم الجار والمجرور للاهتمام والفاصلة لأن اسم الله تعالى قيل: لم يقع مقطعا للفواصل. وجوز أن تكون من الأولى للبدلية أي ما كان لهم بدلا من المتصف بصفات الكمال واق وأريد بذلك شركاؤهم، وأن تكون ابتدائية تنبيها على أن الأخذ في غاية العنف لأنه إذا لم يبتدىء من جهته سبحانه واقية لم يكن لهم باقية.
* (ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبين‍ات فكفروا فأخذهم الله إنه قوى شديد العقاب) *.
* (ذلك) * الأخذ * (بأنهم) * أي بسبب أنهم * (كانت تأتيهم رسلهم بالبينات) * بالمعجزات والأحكام الواضحة * (فكفروا) * ريثما أتتهم رسلهم بذلك * (فأخذهم الله إنه قوي) * متمكن مما يريده عز وجل غاية التمكن * (شديد العقاب) * لا يعتد بعقاب عند عقابه سبحانه، وهذا بيان للإجمال في قوله تعالى: * (فأخذهم الله بذنوبهم) * (غافر: 21) إن كانت الباء هناك سببية وبيان لسبب الأخذ إن كانت للملابسة أي أخذهم ملابسين لذنوبهم غير تائبين عنها فتأمل.
* (ولقد أرسلنا موسى بااي‍اتنا وسلطان مبين) *.
* (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) * وهي معجزاته عليه السلام * (وسلطان مبين) * حجة قاهرة ظاهرة، والمراد بذلك قيل ما أريد بالآيات ونزل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين فعطف الثاني على الأول، وقيل: المراد به بعض من آياته له شأن كالعصا، وعطف عليه تفخيما لشأنه كما عطف جبريل وميكال عليهما السلام على الملائكة.
وتعقب بأن مثله إنما يكون إذا غير الثاني بعلم أو نحوه أما مع إبهامه ففيه نظر، وحكى الطبرسي أن المراد بالآيات حجج التوحيد وبالسلطان المعجزات الدالة على نبوته عليه السلام، وقيل الآيات المعجزات والسلطان ما أوتيه عليه السلام من القوة القدسية وظهورها باعتبار ظهور آثارها من الإقدام على الدعوة من غير اكتراث. وقرأ عيسى * (سلطان) * بضم اللام.
* (إلى فرعون وه‍ام‍ان وقشرون فقالوا س‍احر كذاب) *.
* (إلى فرعون وهامان) * وزير فرعون، وزعم اليهود أنه لم يكن لفرعون وزير يدعى هامان وإنما هامان ظالم جاء بعد فرعون بزمان مديد ودهر داهر نفى جاءهم من اختلال أمر كتبهم وتواريخ فرعون لطول العهد وكثرة المحن التي ابتلوا بها فاضمحلت منها أنفسهم وكتبهم.
* (وقارون) * قيل هو الذي كان من قوم موسى عليه السلام، وقيل: هو غيره وكان مقدم جنود فرعون، وذكرهما من بين أتباع فرعون لمكانتهما في الكفر وكونهما أشهر الأتباع.
وفي ذكر قصة الإرسال إلى فرعون ومن معه وتفصيل ما جرى تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان لعاقبة من هو أشد الذين كانوا من قبل وأقر بهم زمانا ولذا
خص ذلك بالذكر، ولا بعد في كون فرعون
61

وجنوده أشد من عاد * (فقالوا ساحر) * أي هو يعنون موسى عليه السلام ساحر فيما أظهر من المعجزات * (كذاب) * في دعواه أنه رسول من رب العالمين.
* (فلما جآءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبنآء الذين ءامنوا معه واستحيوا نسآءهم وما كيد الك‍افرين إلا فى ضل‍ال) *.
* (فلما جاءهم بالحق من عندنا) * وبلغهم أمر الله تعالى غير مكترث بقولهم ساحر كذاب * (قالوا) * غيظا وحنقا وعجزا عن المعارضة * (اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم) * أي أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلونه بهم أولا كي تصدوهم عن مظاهرة موسى عليه السلام، فالأمر بالقتل والاستحياء وقع مرتين. المرة الأولى حين أخبرت الكهنة والمنجمون في قول فرعون بمولود من بني إسرائيل يسلبه ملكه، والمرة الثانية هذه، وضمير * (قالوا) * لفرعون ومن معه.
وقيل: إن قارون لم يصدر منه مثل هذه المقالة لكنهم غلبوا عليه * (وما كيد الكافرين إلا في ضلال) * في ضياع من ضلت الدابة إذا ضاعت، والمراد أنه لا يفيدهم شيئا فالعاقبة للمتقين، واللام إما للعهد والإظهار في موقع الإضمار لذمهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم أو للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولا أولياف، والجملة اعتراض جىء به في تضاعيف ما حكي عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه من الإبراق والإرعاد واضمحلاله بالمرة.
* (وقال فرعون ذرونىأقتل موسى وليدع ربه إنىأخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر فى الارض الفساد) *.
* (وقال فرعون ذروني أقتل موسى) * كان إذا هم بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه وهو أقل من ذلك وأضعف وما هو إلا ساحر يقاومه ساحر مثله وإنك إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس واعتقدوا أنك عجزت عن مظاهرته بالحجة، والظاهر أنه لعنه الله تعالى استيقن أنه عليه السلام نبي ولكن كان فيه خب وجريرة وكان قتالا سفاكا للدماء في أهون شيء فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه الذي يثل عرشه ويهدم ملكه ولكنه يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك فقوله: * (ذروني) * الخ كان تمويها على قومه وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع ويرشد إلى ذلك قوله: * (وليدع ربه) * لأن ظاهره الاستهانة بموسى عليه السلام بدعائه ربه سبحانه كما يقال: ادع ناصرك فإني منتقم منك، وباطنه أنه كان يرعد فرائصه من دعاء ربه فلهذا تكلم به أول ما تكلم وأظهر أنه لا يبالي بدعاء ربه وما هو إلا كمن قال: ذروني أفعل كذا وما كان فليكن وإلا فما لمن يدعي أنه ربهم الأعلى أن يجعل لما يدعيه موسى عليه السلام وزنا فيتفوه به تهكما أو حقيقة * (إني أخاف) * إن لم أقتله * (أن يبدل دينكم) * أن يغير حالكم الذي أنتم عليه من عبادتي وعادة الأصنام وكان عليه اللعنة قد أمرهم بنحتها وإن تجعل شفعاء لهم عنده كما كان كفار مكة يقولون: * (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) * (يونس: 18) ولهذا المعنى أضافوا الآلهة إليه في قولهم: * (ويذرك وآلهتك) * (الأعراف: 127) فهي إضافة تشريف واختصاص وهذا ما ذهب إليه بعض المفسرين، وقال ابن عطية: الدين السلطان ومنه قول زهير: لئن حللت بحي من بني أسد * في دين عمرو وحالت بيننا فدك
أي إني أخاف أن يغير سلطانكم ويستذلكم * (أو أن يظهر) * إن لم يقدر على تغيير دينكم بالكلية * (في الأرض الفساد) * وذلك بالتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب ويهلك الناس قتلاف وضياعا فالفساد الذي عناه فساد دنياهم، فيكون حاصل المعنى على ما قرر أولا إني أخاف أن يفسد عليكم
62

أمر دينكم بالتبديل أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل وهما أمران كل منهما مر، ونحو هذا يقال على المعنى الثاني للدين، وعن قتادة أن اللعين عنى بالفساد طاعة الله تعالى: وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو * (وأن) * بالواو الواصلة.
وقرأ الأعرج. والأعمش. وابن وثاب. وعيسى. وابن كثير. وابن عامر. والكوفيون غير حفص * (يظهر) * بفتح الياء والهاء * (الفساد) * بالرفع. وقرأ مجاهد * (يظهر) * بتشديد الظاء والهاء * (الفساد) * بالرفع. وقرأ زيد بن علي * (يظهر) * بضم الياء وفتح الهاء مبنيا للمفعول * (الفساد) * بالرفع.
* (وقال موسى إنى عذت بربى وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) *.
* (وقال موسى) * لما سمع بما أجراه اللعين من حديث قتله * (إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) * قاله عليه السلام مخاطبا به قومه على ما ذهب إليه غير واحد، وذلك أنه لما كان القول السابق من فرعون خطابا لقومه على سبيل الاستشارة وإجالة الرأي لا بمحضر منه عليه السلام كان الظاهر أن موسى عليه السلام أيضا خاطب قومه لا فرعون وحاضريه بذلك، ويؤيده قوله تعالى: في الأعراف * (وقال موسى لقومه استعينوا) * (الأعراف: 128) في هذه القصة بعينها، وقوله تعالى هنا: * (وربكم) * فإن فرعون ومن معه لا يعتقدون ربوبيته تعالى واردة أنه تعالى كذلك في نفس الأمر لا يضر في كونه مؤيدا لأن التأييد مداره الظاهر، وصدر الكلام بأن تأكيدا وتنبيها على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله تعالى، وخص اسم الرب لأن المطلوب هو الحفظ، والتربية وأضافه إليه وإليهم حثا لهم على موافقته في العياذ به سبحانه والتوجه التام بالروح إليه جل شأنه لما في تظاهر الأرواح من استجلاب الإجابة، وهذا هو الحكمة في مشروعية الجماعة في العبادات، و * (من كل) * على معنى من شر كل وأراد بالتكبر الاستكبار عن الإذعان للحق وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة ومهانة نفسه وعلى فرط ظلمه وعسفه، وضم إليه عدم الإيمان بيوم الجزاء ليكون أدل وأدل، فمن اجتمع فيه التكبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله تعالى وعباده ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها، واختير المنزل دون منه سلوكا لطريق التعريض لأنه كلام وارد في عرضهم فلا يلبسون جلد النمر إذا عرض عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على علة الاستعاذة ورعاية حق تربية اللعين له عليه السلام في الجملة. وقرأ أبو عمرو. وحمزة. والكسائي * (عت) * بإدغام الذال المعجمة في التاء بعد قلبها تاء.
* (وقال رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيم‍انه أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جآءكم بالبين‍ات من ربكم وإن يك ك‍اذبا فعليه كذبه وإن يك ص‍ادقا يصبكم بعض الذى
يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب) *.
* (وقال رجل مؤمن من ءال فرعون) * قيل كان قبطيا ابن عم فرعون وكان يجري مجرى ولي العهد ومجرى صاحب الشرطة، وقيل: كان إسرائيليا، وقيل: كان غريبا ليس من الفئتين، ووصفه على هذين القولين بكونه من آل فرعون باعتبار دخوله في زمرتهم وإظهار أنه على دينهم وملتهم تقية وخوفا، ويقال نحو هذا في الإضافة في مؤمن آل فرعون الواقع في عدة أخبار، وقيل: * (من آل فرعون) * على القولين متعلق بقوله تعالى: * (يكتم إيمانه) * والتقديم للتخصيص أي رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون دون موسى عليه السلام ومن اتبعه، ولا بأس على هذا في الوقف على مؤمن. واعترض بأن كتم يتعدى بنفسه دون من فيقال: كتمت فلانا كذا دون كتمت من فلان قال الله تعالى: * (ولا يكتمون الله حديثا) * وقال الشاعر: كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا * وهمين هما مستكنا وظاهرا
أحاديث نفس تشتكي ما يريبها * وورد هموم لن يجدن مصادرا
وأراد على ما في " البحر " كتمتك أحاديث نفس وهمين، وفيه أنه صرح بعض اللغويين بتعديه بمن أيضا قال
63

في " المصباح " كتم من باب قتل يتعدى إلى مفعولين ويجوز زيادة من في المفعول الأول فيقال: كتمت من زيد الحديث كما يقال: بعته الدار وبعتها منه. نعم تعلقه بذلك خلاف الظاهر بل الظاهر تعلقه بمحذوف وقع صفة ثانية لرجل، والظاهر على هذا كونه من آل فرعون حقيقة وفي كلامه المحكي عنه بعدما هو ظاهر في ذلك واسمه قيل: شمعان بشين معجمة، وقيل: خربيل بخاء معجمة مكسورة وراء مهملة ساكنة، وقيل: حزبيل بحاء مهملة وزاي معجمة، وقيل: حبيب.
وقرأ عيسى. وعبد الوارث. وعبيد بن عقيل. وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو * (رجل) * بسكون الجيم وهي لغة تميم ونجد * (أتقتلون رجلا) * أي أتقصدون قتله فهو مجاز ذكر فيه المسبب وأريد السبب، وكون الإنكار لا يقتضي الوقوع لا يصححه من غير تجوز * (أن يقول ربي الله) * أي لأن يقول ذلك * (وقد جاءكم بالبينات) * الشاهدة على صدقه من المعجزات، والاستدلالات الكثيرة وجمع المؤنث السالم وإن شاع أنه للقلة لكنه إذا دخلت عليه أل يفيد الكثرة بمعونة المقام. والجملة حالية من الفاعل أو المفعول، وهذا إنكار من ذلك الرجل عظيم وتبكيت لهم شديد كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم عليه في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله: * (ربي الله) * مع أنه قد جاءكم بالبينات * (من ربكم) * أي من عند من نسب إليه الربوبية وهو ربكم لا ربه وحده، وهذا استدراج إلى الاعتراف وفي * (أن يقول ربي الله - إلى - من ربكم) * نكتة جليلة وهي أن من يقول ربي الله أو فلان لا يقتضي أن يقابل بالقتل كما لا تقابلون بالقتل إذا قلتم: ربنا فرعون كيف وقد جعل رب من هو ربكم فكان عليكم بأن تعزروه وتوقروه لا أن تخذلوه وتقتلوه، وجوز الزمخشري كون * (أن يقول) * على تقدير مضاف أي وقت أن يقول فحذف الظرف فانتصب المضاف إليه على الظرفية لقيامه مقامه، والمعنى أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره، ورده أبو حيان بأن القائم مقام الظرف لا يكون إلا المصدر الصريح كجئت صياح الديك أو ما كان بما الدوامية دون الغير الصريح كجئت أن صاح أو أن يصيح الديك، وفيه أن ابن جني كالزمخشري صرح بالجواز وكل إمام. ثم أن الرجل احتاط لنفسه خشية أني عرف اللعين حقيقة أمره فيبطش به فتلطف في الاحتجاج فقال: * (وإن يك كاذبا فعليه كذبه) * لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله * (وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) * فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذي يعدكم به أو يعدكموه، وفيه مبالغة في التحذير فإنه إذا حذرهم من إصابة البعض أفاد أنه مهلك مخوف فما بال الكل وإظهار للإنصاف وعدم التعصب ولذا قدم احتمال كونه كاذبا، وقيل: المراد يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالا عندهم، وقيل: بعض بمعنى كل وأنشدوا لذلك قول عمرو القطامي: قد يدرك المتأني بعض حاجته * وقد يكون مع المستعجل الزلل
وذهب الزجاج إلى أن * (بعض) * فيه على ظاهره، والمراد إلزام الحجة وإبانة فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعن فالبيت كالآية على الوجه الأول، وأنشدوا لمجىء بعض بمعنى كل قول الشاعر: إن الأمور إذا الأحداث دبرها * دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
64

ولا يتعين فيه ذلك كما لا يخفى، وعن أبي عبيدة أنه فسر البعض بالكل أيضا وأنشد قول لبيد: تراك أمكنة إذا لم أرضها * أو يرتبط بعض النفوس حمامها
حمل البيت على معنى لا أزال أنتقل في البلاد إلى أن لا يبقى أحد أقصده من العباد، والمحققون على أن البعض فيه على ظاهره والمراد به نفسه، والمعنى لا أزال أترك ما لم أرضه من الأمكنة إلا أن أموت، وقال الزمخشري: إن صحت الرواية عن أبي عبيدة في ذلك فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقي كان أجفى من أن يفقه ما أقول له، وفيه مبالغة في الرد * (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) * احتجاج آخر ذو وجهين. أحدهما أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله تعالى إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات. وثانيهما إن كان كذلك خذ له الله تعالى وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله، ولعله أراد به المعنى الأول وأوهمهم أنه أراد الثاني لتلين شكيمتهم؛ وعرض لفرعون بأنه مسرف أب في القتل والفساد كذاب في ادعاء الربوبية لا يهديه الله تعالى سبيل الصواب ومنهاج النجاة، فالجملة مستأنفة متعلقة معنى بالشرطية الأولى أو بالثانية أو بهما.
* (ياقوم لكم الملك اليوم ظ‍اهرين فى الارض فمن ينصرنا من بأس الله إن جآءنا قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ أهديكم إلا سبيل الرشاد) *.
* (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين) * غالبين عالين على بني إسرائيل * (في الأرض) * أي في أرض مصر لا يقاومكم أحد في هذا الوقت * (فمن ينصرنا من بأس الله) * من أخده وعذابه سبحانه * (إن جاءنا) * أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله فإن ان جاءنا لم يمنعنا منه أحد، فالفاء في - فمن - الخ فصيحة والاستفهام إنكاري، وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصة ونظم نفسه في سلكهم فيما يسؤهم من مجيء بأس الله تعالى تطييبا لقلوبهم وإيذانا بأنه مناصح لهم ساع في تحصيل ما يجديهم ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه ليتأثروا بنصحه.
* (قال فرعون) * بعدما سمع ذلك * (ما أريكم) * أي ما أشير عليكم * (إلا ما أرى) * إلا الذي أراده واستصوبه من قتله يعني لا استصوب إلا قتله وهذا الذي تقولونه غير صواب * (وما أهديكم) * بهذا الرأي * (إلا سبيل الرشاد) * طريق الصواب والصلاح أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ولا أدخر منه شيئا ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر يعني أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول، وقد كذب عدو الله فقد كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام لكنه كان يتجلد ولولا استشعاره لم يستشر أحدا، وعن معاذ بن جبل. والحسن انهما قرءا * (الرشاد) * بشد الشين على أنه فعال للمبالغة من رشد بالكسر كعلام من علم أو من رشد بالفتح كعباد من عبد.
وقيل: هو من أرشد المزيد كجبار من أجبر، وتعقب بأن فعالا لم يجىء من المزيد إلا في عدة أحرف نحو جبار ودراك وقصار وسآر ولا يحسن القياس على القليل مع أنه ثبت في بعضه كجبار سماع الثلاثي فلا يتعين كونه من المزيد فقد جاء جبره على كذا كأجبره وقصار كجبار عند بعض لا يتعين كونه من أقصر لمجيء قصر عن الشيء كأقصر عنه، وحكى عن الجوهري أن الأقصار كف مع قدرة والقصر كف مع عجز فلا يتم هذا عليه، واما دراك وسآر فقد خرجا على حذف الزيادة تقديرا لا استعمالا كما قالوا: ابقل المكان فهو باقل وأورس الرمث فهو وارس، قال ابن جنى: وعلى هذا خرج الرشاد فيكون من رشد بمعنى أرشد تقديرا لا استعمالا فإن المعنى على ذلك، ثم قال: فإن قيل إذا كان المعنى على أرشد فكيف أجزت أن يكون من رشد المكسور أو من
65

رشد المفتتوح؟ قيل: المعنى راجع إلى أنه مرشد لأنه إذا رشد أرشد لأن الإرشاد من الرشد فهو من باب الاكتفاء بذكر السبب عن المسبب انتهى، وقيل: أجيز ذلك لأن المبالغة في الرشد تكون بالإرشاد كما قرروا في قيوم وطهور.
وقال بعض المحققين: إن رشد بمعنى اهتدى فالمعنى ما أهديكم إلا سبيل من اهتدى وعظم رشده فلا حاجة إلى ما سمعت، وإنما يحتاج إليه لو وجب كون المعنى ما أهديكم إلا سبيل من كثر ارشاده ومن أين وجب ذلك؟ وجوز كون فعال في هذه القراءة للنسبة كما قالوا: عواج لبياع العاج وبتات لبياع البت وهو كساء غليظ، وقيل: طيلسان من خز أو صوف، وأنكر بعضهم كون القراءة على صيغة فعال في كلام فرعون وإنما هي في قول الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد، فإن معاذ بن جبل كان كما قال أبو الفضل الرازي. وأبو حاتم يفسر * (سبيل الرشاد) * على قراءته بسبيل الله تعالى وهو لا يتسنى في كلام فرعون كما لا يخفى، وستعلم إن شاء الله تعالى ان معاذا قرأ كذلك في قول المؤمن فلعل التفسير بسبيل الله عز وجل كان فيه دون كلام فرعون والله تعالى أعلم.
* (وقال الذىءامن ياقوم إنىأخاف عليكم مثل يوم الاحزاب) *.
* (وقال الذين ءامن) * الجمهور على أنه الرجل المؤمن الكاتم إيمانه القائل: * (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) * (غافر: 28) قوى الله تعالى نفسه وثبت قلبه فلم يهب فرعون ولم يعبأ به فأتى بنوع آخر من التهديد والتخويف فقال: * (يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب) * إلى آخره، وقالت فرقة: كلام ذلك المؤمن قد تم، والمراد بالذي آمن هنا هو موسى نفسه عليه السلام، واحتجت بقوة كلامه، وعلى الأول المعول أي قال ناصحا لقومه: يا قوم إني أخاف عليكم في تكذيب موسى عليه السلام والتعرض له بالسوء إن يحل بكم مثل ما حل الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية، واليوم واحد الأيام بمعنى الوقائع وقد كثر استعمالها بذلك حتى صار حقيقة عرفية أو بمعناها المعروف لغة، والكلام عليه على حذف مضاف أي مثل حادث يوم الأحزاب.
وأيا ما كان فالظاهر جمع اليوم لكن جمع الأحزاب المضاف هو إليه مع التفسير بما بعد أغنى عن جمعه، والمعنى عليه ورجح الافراد بالخفة والاختصار، وقال الزجاج: المراد يوم حزب حزب بمعنى أن جمع حزب مراد به شمول أفراده على طريق البدل وهو تأويل في الثاني وما تقدم أظهر.
* (مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد) *.
* (مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود) * أي مثل جزاء دأبهم أي عادتهم الدائمة من الكفر وإيذاء الرسل، وقدر المضاف لأن المخوف في الحقيقة جزاء العمل لا هو، وجاء هذا من نصب * (مثل) * الثاني على أنه عطف بيان لمثل الأول لأن آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح، ولو قلت: أهلك الله الأحزاب قوم نوح. وعاد. وثمود لم يكن إلا عطف بيان لإضافة قوم إلى أعلام فسرى ذلك الحكم إلى أول ما تناولته الإضافة.
وقال ابن عطية: هو بدل من * (مثل) * الأول، والاحتياج إلى تقدير المضاف على حاله * (والذين من بعدهم) * كقوم لوط * (وما الله يريد ظلما للعباد) * أي فما فعل سبحانه بهؤلاء الأحزاب لم يكن ظلما بل كان عدلا وقسطا لأنه عز وجل أرسل إليهم رسلهم بالبينات فكذبوهم وتحزبوا عليهم فاقتضى ذلك اهلاكهم، وهذا أبلغ من قوله تعالى: * (وما ربك بظلام للعبيد) * (فصلت: 46) من حيث جعل المنفى فيه إرادة الظلم لأن من كان عن إرادة
66

الظلم بعيدا كان عن الظلم نفسه أبعد، وحيث نكر الظلم كأنه نفي أن يريد ظلما ما لعباده، وجوز الزمخشري أن يكون معناه كمعنى قوله تعالى: * (ولا يرضى لعباده الكفر) * (الزمر: 7) أي لا يريد سبحانه لهم أن يظلموا يعني أنه عز وجل دمرهم لأنهم كانوا ظالمين، ولا يخفى أن هذا المعنى مرجوح لفظا ومعنى، ثم لا حجة فيه للمعتزلة لثبوت الفرق بين أراده منه وأراده له فلو سلم أنه سبحانه لا يريد لهم أن يظلمو لم يلزم أن لا يريده منهم والممتنع عند أهل السنة هو هذا فلا احتياج إلى صرف الآية عن الظاهر عندهم أيضا.
* (وياقوم إنىأخاف عليكم يوم التناد) *.
* (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد) * خفهم بالعذاب الأخروي بعد تخويفهم بالعذاب الدنيوي، والتناد مصدر تنادي القوم أي نادي بعضهم بعضا، ويوم التناد يوم القيامة سمي بذلك لأنه ينادي فيه بعضهم بعضا للاستغاثة أو يتصايحون فيه بالويل والثبور أو لتنادي أهل الجنة وأهل النار كما حكي في سورة الأعراف أو لأن الخلق
ينادون إلى المحشر أو لنداء المؤمن * (هاؤم اقرؤوا كتابيه) * (الحاقة: 19) والكافر * (ليتني لم أوت كتابيه) * (الحاقة: 25).
وعن ابن عباس أن هذا التنادي هو التنادي الذي يكون بين الناس عند النفخ في الصور ونفخة الفزع في الدنيا وأنهم يفرون على وجوههم للفزع الذي نالهم وينادي بعضهم بعضا، وروي هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عطية: يحتمل أن يراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة.
وقرأت فرقة * (التناد) * بسكون الدال في الوصل إجراء له مجرى الوقف. وقرأ ابن عباس. والضحاك. وأبو صالح. والكلبى. والزعفراني. وابن مقسم * (التناد) * بتشديد الدال من ند البعير إذا هرب أي يوم الهرب والفرار لقوله تعالى: * (يوم يفر المرء من أخيه) * (عيسى: 34) الآية، وفي الحديث إن للناس جولة يوم القيامة يندون يظنون أنهم يجدون مهربا.
وقيل: المراد به يوم الاجتماع من ندا إذا اجتمع ومنه النادي.
* (يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد) *.
* (يوم تولون مدبرين) * بدل من يوم التناد أي يوم تولون عن الموقف منصرفين عنه إلى النار، وقيل: فارين من النار، فقد روي أنهم إذا سمعوا زفير النار هربوا فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا فلا ينفعهم الهرب، ورجح هذا القول بأنه أتم فائدة وأظهر ارتباطا بقوله تعالى: * (معا لكم من الله من عاصم) * أي يعصمكم في فراركم حتى لا تعذبوا في النار قاله السدى، وقال قتادة: أي ما لكم في الانطلاق إلى النار من مانع يمنعكم منها أو ناصر، وهذا ما يقال على المعنى الأول - ليوم تولون مديرين - وأيا ما كان فالجملة حال أخرى من ضمير * (تولون) *.
* (ومن يضلل الله فما له من هاد) * يهديه إلى طريق النجاه أصلا، وكأن الرجل يئس من قبولهم نصحه فقال ذلك ثم وبخهم على تكذيب الرسل السالفين فقال:
* (ولقد جآءكم يوسف من قبل بالبين‍ات فما زلتم فى شك مما جآءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) *.
* (ولقد جاءكم يوسف) * بن يعقوب عليهما السلام * (من قبل) * أي من قبل موسى * (بالبينات) * الأمور الظاهرة الدالة على صدقه * (فما زلتم في شك مما جاءكم به) * من الدين * (حتى إذا هلك) * بالموت * (قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا) * غاية لقوله: * (فما زلتم) * وأرادوا بقولهم: * (لن يبعث الله من بعده رسولا) * تكذيب رسالته ورسالة غيره أي لا رسول فيبعث فهم بعد الشك بتوا بهذا التكذيب ويكون ذلك ترقيا.
ويجوز أن يكون الشك في رسالته على حاله وبتهم إنما هو بتكذيب رسالة غيره من بعده، وقيل: يحتمل أن يكونوا أظهروا الشك في حياته حسدا وعنادا علما مات عليه السلام أقروا بها وانكروا أن يبعث
67

الله تعالى من بعده رسولا وهو خلاف الظاهر، ومجىء يوسف بن يعقوب عليهما السلام المخاطبين بالبينات قيل: من باب نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد وكذلك نسبة الأفعال الباقية إليهم، وجوز كون بعض الذين جاءهم يوسف عليه السلام حقيقة حيا؛ ففي بعض التواريخ ان وفاة يوسف عليه السلام قبل مولد موسى عليه السلام بأربعين وستين سنة فيكون من نسبة حال البعض إلى الكل، واستظهر في البحر أن فرعون يوسف عليه السلام هو فرعون موسى عليه السلام، وذكر عن أشهب عن مالك أنه بلغه أنه عمر اربعمائة وأربعين سنة، والذي ذكره أغلب المؤرخين أن فرعون موسى اسمه الريان وفرعون يوسف اسمه الوليد.
وذكر القرطبي أن فرعون الأول من العمالقة وهذا قبطي، وفرعون يوسف عليه السلام مات في زمنه، واختار القول بتغايرهما، وأمر المجيء وما معه من الأفعال على ما سمعت، وقيل: المراد بيوسف المذكور هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف الصديق أرسله الله تعالى نبينا فأقام فيهم عشرين سنة وكان من أمرهم ما قص الله عز وجل: ومن الغريب جدا ما حكاه النقاش. والماوردي أن يوسف المذكور في هذه السورة من الجن بعثه الله تعالى رسولا إليهم، نقله الجلال السيوطي في الاتقان ولا يقبله من له أدنى إتقان. نعم القول بأن للجن نبيا منهم اسمه يوسف أيضا مما عسى أن يقبل كما لا يهفى.
وقرىء * (ألن يبعث) * بادخال عمزة الاستفهام على حرف النفي كأن بعضهم يقرر بعضا على نفي البعثة.
* (كذالك) * أي مثل ذلك الاضلال الفظيع * (يضل الله من هو مسرف) * في العصيان * (مرتاب) * في دينه شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الوهم والانهماك في التقليد.
* (الذين يج‍ادلون فىءاي‍ات الله بغير سلط‍ان أت‍اهم كبر مقتا عند الله وعند الذين ءامنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) *.
* (الذين يج‍ادلون في ءاي‍ات الله) * بدل من الموصول الأول - أعني من - أو بيان أو صفة له باعتبار معناه كأنه قيل: كل مسرف مرتاب أو المسرفين المرتابين، وجوز نصبه بأعني مقدرا، وقوله تعالى شأنه: * (بغير سلطان) * على الأوجه المذكورة متعلق - بيجادلون - وقوله سبحانه: * (أت‍ايهم) * صفة * (سلطان) * والمراد باتيانه اتيانه من جهته سبحانه وتعالى اما على أيدي الرسل عليهم السلام فيكون ذاك إشارة إلى الدليل النقلي، واما بطريق الإفاضة على عقولهم فيكون ذاك إشارة إلى الدليل العقلي، وقد يعمم فيكون المعنى يجادلون بغير حجة صالحة للتمسك بها أصلا لا عقلية ولا نقلية.
وقوله سبحانه: * (كبر مقتا عند الله وعند الذين ءامنوا) * تقرير لما أشعر به الكلام من ذمهم وفيه ضرب من التعجب والاستعظام، وفاعل * (كبر) * ضمير راجع إلى الجدال الدال عليه * (يجادلون) * على نحو من كذب كان شرا له أي كبر الجدال في آيات الله بغير حجة مقتا عند الله الخ، أو إلى الموصول الأول وأفرد رعاية للفظه، واعترض عليه بأنه حمل على اللفظ من بعد الحمل على المعنى، وأهل العربية يجتنبونه.
وقال صاحب الكشف: هذا شيء نقله ابن الحاجب ولم يساعده غيره وهو غير مسلم أي كبر المسرف المرتاب المجادل في آيات الله بغير حجة مقتا أي كبر مقته وعظم
عند الله تعالى وعند المؤمنين * (كذالك) * أي مثل ذلك الطبع الفظيع * (يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) * فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الاسراف والارتياب والمجادلة بغير حق؛ وجوز أن يكون * (الذين) * مبتدأ وجملة * (كبر) * خبره لكن على حذفل مضاف هو المخبر عنه حقيقة أي جدال الذين يجادلون كبر مقتا، وان يكون * (الذين) * مبتدأ على حذف المضاف * (وبغير سلطان) *
68

خبر المضاف المقدر أي جدال الذين يجادلون في ءايات الله تعالى كائن بغير سلطان، وظاهر كلام البعض ان * (الذين) * مبتدأ من غير حذف مضاف و * (بغير سلطان) * خبره، وفيه الأخبار عن الذات والجثة بالظرف وفاعل * (كبر) * كذلك على مذهب من يرى اسمية الكاف كالأخفش أي كبر مقتا مثل ذلك الجدال فيكون قوله تعالى: * (يطبع) * الخ استئنافا للدلالة على الموجب لجدالهم، ولا يخفى ما في ذلك من العدول عن الظاهر، وفي البحر الأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون * (الذين) * مبتدأ وخبره * (كبر) * والفاعل ضمير المصدر المفهوم من * (يجادلون) * أي الذين يجادلون كبر جدالهم مقتا فتأمل.
وقرأ أبو عمرو. وابن ذكوان. والأعرج بخلاف عنه * (قلب) * بالتنوين فما بعده صفته، ووصفه بالكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم: رأت عيني وسمعت أذني، وجوز أن يكون ذاك على حذف مضاف أي كل ذي قلب متكبر جبار، وجعل الصفتين لصاحب القلب لتتوافق القراءتان هذه وقراءة باقي السبعة بلا تنوين، وعن مقاتل المتكبر المعاند في تعظيم أمر الله تعالى، والجبار المتسلط على خقل الله تعالى، والظاهر أن عموم كل منسحب على المتكبر والجبار أيضا فكأنه اعتبر أولا إضافة * (قلب) * إلى ما بعد ثم اعتبرت إضافته إلى المجموع.
* (وقال فرعون ياه‍ام‍ان ابن لى صرحا لعلىأبلغ الاسب‍اب) *.
* (وقال فرعون يا ه‍ام‍ان ابن لي صرحا) * بناء مكشوفا عاليا من صرح الشيء إذا ظهر * (لعلي أبلغ الأسباب) * أي الطرق كما روي عن السدى، وقال قتادة: الأبواب وهي جمع سبب ويطلق على كل ما يتوصل به إلى شيء.
* (أسب‍ابالسم‍اوات فأطلع إلى إل‍اه موسى وإنى لاظنه ك‍اذبا وكذالك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا فى تباب) *.
* (أسباب السموات) * بيان لها، وفي إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامه إلى معرفتها.
* (فأطلع إلى إلاه موسى) * بالنصب على جواب الترجى عند الكوفيين فإنهم يجوزون النصب بعد الفاء في جواب الترجى كالتمني؛ ومنع ذلك البصريون وخرجوا النصب هنا على أنه في جواب الأمر وهو * (ابن) * كما في قوله: يا ناق سيري عنقا فسيحا * إلى سليمان فنستريحا
وجوز أن يكون بالعطف على خبر لعلي بتوهم أن فيه لأنه كثيرا ما جاءنا مقرورنا بها أو على * (الأسباب) * على حد. ولبس عباءة وتقر عيني
وقال بعض: إن هذا الترجي تمن في الحقيقة لكن أخرجه اللعين هذا المخرج تمويها على سامعيه فكان النصب في جواب التمني، والظاهر أن البصريين لا يفرقون بين ترج وترج. وقرأ الجمهور بالرفع عطفا على * (أبلغ) * قيل: ولعله أراد أن يبني له رصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله تعالى إياه، وهذا يدل على أنه مقر بالله عز وجل وإنما طلب ما يزيل شكه في الرسالة، وكان للعين وأهل عصره اعتناء بالنجوم وأحكامها على ما قيل.
وهذا الاحتمال في غاية البعد عندي، وقيل: أراد أن يعلم الناس بفساد قول موسى عليه السلام: إني رسول من رب السماوات بأنه إن كان رسولا منه فهو ممن يصل إليه وذلك بالصعود للسماء وهو محال فما بني عليه مثله، ومنشأ ذلك جهله بالله تعالى وظنه أنه سبحانه مستقر في السماء وان رسله كرسل الملوك يلاقونه ويصلون إلى مقره، وهو عز وجل منزه عن صفات المحدثات والأجسام ولا تحتاج إلى ما تحتاج إليه رسل الملوك رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، وهذا نفي لرسالته من الله تعالى ولا تعرض فيه لنفي الصانع المرسل له، وقال الإمام: الذي عندي في تفسبر الآية أن فرعون كان من الدهرية وغرضه من هذا الكلام إيراد شبهة في نفسي الصانع وتقريره أنه قال: إنا لا نرى شيئا نحكم عليه بأنه إله العالم فلم يجزا إثبات هذا الإله، أما أنا لا نراه فلأنه لو كان موجودا لكان في السماء
69

ونحن لا سبيل لنا إلى صعود السماوات فكيف يمكننا أن نراه، وللمبالغة في بيان عدم الإمكان قال: * (يا هامان ابن لي صرحا) * فما هو ألا لاظهار عدم إمكان ما ذكر لكل أحد، ولعل لا تأبى ذلك لأنها للتهكم على هذا وهي شبهة في غاية الفساد إذ لا يلزم من انتفاء أحد طرق العلم بالشيء انتفاء ذلك الشيء، ورأيت لبعض السلفيين إن اللعين ما قال ذلك إلا لأنه سمع من موسى عليه السلام أو من أحد من المؤمنين وصف الله تعالى بالعلو أو بأنه سبحانه في السماء فحمله على معنى مستحيل في حقه تعالى لم يرده موسى عليه السلام ولا أحد من المؤمنين فقال ما قال تهكما وتمويها على قومه، وللإمام في هذا المقام كلام رد به على القائلين بأن الله تعالى في السماء ورد احتجاجهم بما أشعرت به الآية على ذلك وسماهم المشبهة، والبحث في ذلك طويل المجال والحق مع السلف عليهم رحمة الملك المتعال وحاشاهم ثم حاشاهم من التشبيه، وقوله: * (وإني لأظنه كاذبا) * يحتمل أن يكون عني به كاذبا في دعوى الرسالة وأن يكون عني به كاذبا في دعوى أن له إلها غيري لقوله: * (ما علمت لكم من إله غيري) *.
* (وكذالك) * أي ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط * (زين لفرعون سوء عمله) * فانهمك فيه انهماكا لا يرعوى عنه بحال * (وصد عن السبيل) * أي عن سبيل الرشاد، فالتعريف للعهد والفعلان مبنيان للمفعول والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى، ولم يفعل سبحانه كلا من التزيين والصد إلا لأن فرعون طلبه بلسان استعداده واقتضى ذلك سوء اختياره؛ ويدل على هذا أنه قرىء * (زين) * مبنيا للفاعل ولم يسبق سوى ذكره تعالى دون الشيطان.
وجوز أن يكون الفاعل الشيطان ونسبة الفعل إليه بواسطة الوسوسة، وقرأ الحجازيان. والشامي. وأبو عمرو * (وصد) * بالبناء للفاعل وهو ضمير فرعون على أن
المعنى وصد فرعون الناس عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات، ويؤيده * (وما كيد فرعون إلا في تباب) * أي في خسار لأنه يشعر بتقدم ذكر للكيد وهو في هذه القراءة أظهر، وقرأ ابن وثاب * (وصد) * بكسر الصاد أصله صدد نقلت الحركة إلى الصاد بعد توهم حذفها، وابن أبي إسحق. وعبد الرحمن بن أبي بكرة * (وصد) * بفتح الصاد وضم الدال منونة عطفا على * (سوء عمله) *، وقرىء * (وصدوا) * بواو الجمع أي هو وقومه.
* (وقال الذىءامن ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد) *.
* (وقال الذي ءامن) * هو مؤمن آل فرعون، وقيل: فيه نظير ما قيل في سابقه أنه موسى عليه السلام وهو ضعيف كما لا يخفى * (يا قوم اتبعون) * فيما دللتكم عليه * (أهدكم سبيل الرشاد) * سبيلا يصل به سالكه إلى المقصود، وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي. وقرأ معاذ بن جبل كما في البحر * (الرشاد) * بتشديد الشين وتقدم الكلام في ذلك فلا تغفل.
* (ياقوم إنما ه‍اذه الحيواة الدنيا مت‍اع وإن الاخرة هى دار القرار) *.
* (يا قوم إنما ه‍اذه الحياة الدنيا متاع) * أي تمتع أو متمتع به يسير لسرعة زواله * (وإن الآخرة هي دار القرار) * لخلودها ودوام ما فيها.
* (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل ص‍الحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأول‍ائك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) *.
* (من عمل سيئة) * في الدنيا * (فلا يجزى) * في الآخرة * (إلا مثلها) * عدلا من الله عز وجل، واستدل به على أن الجنايات تغرم بمثلها أي بوزانها من غير مضاعفة * (ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأول‍ائك) * الذين عملوا ذلك * (يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) * بغير تقدير وموازنة بالعمل بل اضعافا مضاعفة فضلا منه تعالى ورحمة، وقسم العمال إلى ذكر وأنثى للاهتمام والاحتياط في الشمول لاحتمال نقص الاناث، وجعل الجزاء في جزاء أعمالهم جملة اسمية مصدرة باسم الإشارة مع تفضيل الثواب وتفصيله تغليبا للرحمة وترغيبا فيما
70

عند الله عز وجل، وجعل العمل عمدة وركنا من القضية الشرطية والإيمان حالا للدلالة على أن الإيمان شرط في اعتبار العمل والاعتداد به والثواب عليه لأن الأحوال قيود وشروط للحكم التي وقعت فيه، ويتضمن ذلك الإشارة إلى عظيم شرفه ومزيد ثوابه، وقرأ الأعرج. والحسن. وأبو جعفر. وعيسى. وغير واحد من السبعة * (يدخلون) * مبنيا للمفعول.
* (وياقوم ما لىأدعوكم إلى النجواة وتدعوننىإلى النار) *.
* (ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجواة وتدعونني إلى النار) * كرر نداءهم إيقاظا لهم عن سنة الغفلة واهتماما بالمنادي له ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به دعوته، وترك العطف في النداء الثاني وهو * (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا) * (غافر: 39) الخ لأنه تفسير لما أجمل في النداء قبله من الهداية إلى سبيل الرشاد فإنها التحذير من الاخلاد إلى الدنيا والترغيب في إيثار الآخرة على الأولى وقد أدى ذلك فيه على أتم وجه وأحسنه ولم يترك في هذا النداء لأنه ليس بتلك المثابة وذلك لأنه للموازنة بين الدعوتين دعوته إلى دين الله الذي ثمرته النجاة ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وليس ذلك من تفسير الهداية في شيء بل ذلك لتحقيق أنه هادوانهم مضلون وأن ما عليه هو الهدى وما هم عليه هو الضلال فهو عطف على النداء الأول أو المجموع، وقيل: هو عطف على النداء الثاني داخل معه في التفسير لما أجمل في النداء الأول تصريحا وتعريضا، ولكل وجه وفي الترجيح كلام.
* (تدعوننى لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار) *.
* (تدعونني لأكفر بالله) * بدل من تدعونني إلى النار أو عطف بيان له بناء على أنه يجري في الجمل كالمفردات أو جملة مستأنفة مفسرة لذلك، والدعاء كالهداية في التعدية بإلى واللام * (واشرك به ما ليس لي به) * أي بكونه شريكا له تعالى في المعبودية أو بربوبيته وألوهيته * (علم) * ونفي العلم هنا كناية عن نفي المعلوم، وفي إنكاره للدعوة إلى ما لا يعلمه اشعار بأن الألوهية لا بد لها من برهان موجب للعلم بها.
* (وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار) * المستجمع لصفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة وما يتوقف عليه من العلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران وخص هذان الوصفان بالذكر وإن كان كناية عن جميع الصفات لاستلزامهما ذلك كما أشير إليه لما فيهما من الدلالة على الخوف والرجاء المناسب لحاله وحالهم.
* (لا جرم أنما تدعوننىإليه ليس له دعوة فى الدنيا ولا فى الاخرة وأن مردنآ إلى الله وأن المسرفين هم أصح‍ابالنار) *.
* (لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة) * سياقه على مذهب البصريين ان * (لا) * رد لكلام سابق وهو ما يدعونه إليه ههنا من الكفر بالله سبحانه وشرك الآلهة الباطلة عز وجل به ودجرم) * فعل ماض بمعنى ثبت وحق كما في قوله: ولقد طعنت أبا عبيدة طعنة * جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وأن ما في حيزها فاعله أي ثبت وحق عدم دعوة للذي تدعونني إليه من الأصنام إلى نفسه أصلا يعني ان من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد المكرمين كالأنبياء والملائكة إلى نفسه ويأمرهم بعبادته ثم يدعو العباد بعضهم بعضا إليه تعالى وإلى طاعته سبحانه اظهارا لدعوة ربهم عز وجل وما تدعون إليه وإلى عبادته من الأصنام لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعى الربوبية أصلا لا في الدنيا لأنه جماد فيها لا يستطيع شيئا من دعاء وغيره ولا في الآخرة لأنه إذا انشأه الله تعالى فيها حيوانا تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته وحاصله حق إن ليس لآلهتكم دعوة أصلا فليست بالهة حقة أو بمعنى كسب وفاعله ضمير الدعاء السابق الذي دعاه قومه وان مع ما في حيزها مفعوله أي كسب دعاؤكم إياي إلى آلهتكم أن لا دعوة لها أي ما حصل من ذلك
71

إلا ظهور بطلان دعوتها وذهابها ضياعا، وقيل: * (جرم) * اسم لا وهو مصدر مبني على الفتح بمعنى القطع والخبر أن مع ما في حيزها على معنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع ذلك البطلان في وقت من الأوقات فينقلب حقا، وهذا البطلان هو معنى النفي الذي يفهم من قوله تعالى: * (ليس له دعوة) * الخ، و * (لا جرم) * على هذا مثل لا بد فإنه من التبديد وهو التفريق وانقطاع بعض الشيء من بعض، ومن ثم قيل: المعنى لا بد من بطلان دعوة الأصنام أي بطلانها أمر ظاهر مقرر، ونقل هذا القول عن الفراء، وعنه ان ذلك هو أصل * (لا جرم) * لكنه كثر استعماله حتى صار بمعنى حقا فلهذا يجاب بما يجاب به القسم في مثل لا جرم لآتينك. وفي الكشاف وروي عن العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء أي لا بد وفعل وفعل إخوان كرشد ورشد وعدم وعدم، وهذه للغة تؤيد القول بالاسمية في اللغة الأخرى ولا تعينها كما لا يخفى، وقد تقدم شيء من الكلام في لا جرم أيضا فليتذكر.
ولام له في جميع هذه الأوجه لنسبة الدعوة إلى الفاعل على ما سمعت من المعنى، وجوز أن يكون لنسبتها لي المفعول فإن الكفار كانوا يدعون آلهتهم فنفي في الآية دعاءهم إياها على معنى نفي الاستجابة منها لدعائهم إياها، فالمعنى ان ما تدعونني إليه من الأصنام ليس له استجابة دعوة لمن يدعوه أصلا أو ليس له دعوة مستجابة أي لا يدعي دعاء يستجيبه لداعيه. فالكلام اما على حذف الماضف أو على حذف الموصوف، وجوز التجوز فيه للدعوة عن استجابتها التي تترتب عليها، وهذا كما سمي الفعل المجازي عليه باسم الجزاء في قولهم: كما تدين تدان هو من باب المشاكلة عند بعض * (وأن مردنا إلى الله) * أي مرجعنا إليه تعالى بالموت، وهذا عطف على * (أن تدعونني داخل في حكمه، وكذا قوله تعالى: * (وأن المسرفين هم أصحاب النار) * وفسر ابن مسعود. ومجاهد. * (المسرفين) * هنا بالسفاكين للدماء بغير حلها فيكون المؤمن قد ختم تعريضا بما أفتتح به تصريحا في قوله: * (أتقتلون رجلا) *.
وعن قتادة أنهم المشركون فإن الاشراك اسراف في الضلالة، وعن عكرمة أنهم الجبارون المتكبرون، وقيل: كل غلب شره خيره فهو مسرف والمراد بأصحاب النار ملازموها، فإن أريد بالمسرفين ما يدخل فيه المؤمن أريد بالملازمة العرفية الشاملة للمكث الطويل، وإن أريد بهم ما يخص الكفرة فهي بمعنى الخلود.
* (فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمرىإلى الله إن الله بصير بالعباد) *.
* (فستذكرون) * وقرىء * (فستذكرون) * بالتشديد أي فسيذكر بعضكم بعضا عند معاينة العذاب * (ما أقول لكم) * من النصائح * (وأفوض أمري إلى الله) * ليعصمني من كل سوء * (إن الله بصير بالعباد) * فيحرس من يلوذ به سبحانه منهم من المكاره، وهذا يحتمل أن يكون جواب توعدهم المفهوم من قوله تعالى: * (وما كيد فرعون إلا في تباب) * أو من قوله سبحانه:
* (فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق باال فرعون سوء العذاب) *.
* (فوقي‍اه الله سيئات ما مكروا) * ويحتمل أن يكون متاركة والتفريع في * (فستذكرون) * على قوله الأخير: * (يا قوم ما لي أدعوكم) * الخ، وجعله من جعل ذلك معطوفا على * (يا قوم) * الثاني تفريعا على جملة الكلام، و * (ما) * في * (ما مكروا) * مصدرية و * (السيئات) * الشدائد أي فوقاه الله تعالى شدائد مكرءهم * (وحاق بآل فرعون) * أي بفرعون وقومه، فاستغنى بذكرهم عن ذكره ضرورة أنه أولى منهم بذلك، ويجوز أن يكون آل فرعون شاملا له عليه اللعنة بأن يراد بهم مطلق كفرة القبط كما قيل في قوله تعالى: * (اعلموا آل داود وشكرا) * (سبأ: 13) انه شامل لداود عليه السلام، وكانوا على ما حكي الاوزاعي ولا اعتقد صحته ألفي ألف وستمائة ألف.
وعن ابن عباس أن هذا المؤمن لما أظهر إيمانه قصد فرعون قتله فهرب إلى جبل فبعث في طلبه ألف رجل
72

فمنهم من أدركه يصلي والسباع حوله فلما هموا ليأخذوه ذبت عنه فأكلتهم، ومنهم من مات في الجبل عطشا، ومنهم من رجع إلى فرعون خائبا فاتهمه وقتله وصبله، فالمراد بآل فرعون هؤلاء الألف الذين بعثهم إلى قتله أي فنزل بهم وأصابهم * (سوء العذاب) * الغرق على الأول وأكل السباع والموت عطشا والقتل والصلب على ما روى عن ابن عباس والنار عليهما ولعله الأولى، وإضافة * (سوء) * إلى العذاب لامية أو من إضافة الصفة للموصوف
* (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب) *.
* (النار) * مبتدأ وجملة قوله تعالى * (يعرضون عليها غدوا وعشيا) * خبره والجملة تفسير لقوله تعالى: * (وحاق) * الخ.
وجوز أن تكون * (النار) * بدلا من * (سوء العذاب) * و * (يعرضون) * في ضموع الحال منها أو من الآل، وأن تكون النار خبر مبتدأ محذوف هو ضمير * (سوء العذاب) * كأنه قيل: ما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار، وجملة * (يعرضون) * تفسير على ما مر، وفي الوجه الأول من تعظيم أمر النار وتهويل عذابها ما ليس في هذا الوجه كما ذكره " صاحب الكشاف "، ومنشأ التعظيم على ما في " الكشف " الاجمال والتفسير في كيفية تعذيبهم وإفادة كل من الجملتين نوعا من التهويل. الأولى: الإحاطة بعذاب يستحق أن يسمى سوء العذاب. والثانية: النار المعروض هم عليها غدوا وعشيا.
والسر في إفادة تعظيم النار في هذا الوجه دون ما تضمن تفسير * (سوء العذاب) * وبيان كيفية التعذيب أنك إذا فسرت * (سوء العذاب) * بالنار فقد بالغت في تعظيم سوء العذاب. ثم استأنفت بيعرضون عليها تتميما لقوله تعالى: * (وحاق بآل فرعون) * من غير مدخل للنار فيما سيق له الكلام، وإذا جئت بالجملتين من غير نظر إلى المفردين وإن أحدهما تفسير للآخر فقد قصدت بالنار قصد الاستدلال حيث جعلتها معتمد الكلام وجئت بالجملة بيانا وإيضاحا للأولى كأنك قد آذنت بأنها أوضح لاشتمالها على ما لا أسوأ منه أعني النار؛ على أن من موجبات تقديم المسند إليه إنباؤه عن التعظيم مع اقتضاء المقام له وههنا كذلك على ما لا يخفى، والتركيب أيضا يفيد التقوى على نحو زيد ضربته.
ومن هنا قال " صاحب الكشف ": هذا هو الوجه، وأيد بقراءة من نصب * (النار) * بناء على أنها ليست منصوبة بأخص أو أعني بل بإضمار فعل يفسره * (يعرضون) * مثل يصلون فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم: عرض الأساري على السيف قتلوا به، وهو من باب الاستعارة التمثيلية بتشبيه حالهم بحال متاع يبرز لمن يريد أخذه، وفي ذلك جعل النار كالطالب الراغب فيهم لشدة استحقاقهم الهلاك، وهذا العرض لأرواحهم.
أخرج ابن أبي شيبة. وعبد بن حميد. عن هزيل بن شرحبيل أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها.
أخرج ابن أبي شيبة. وهناد. وعبد بن حميد. عن هزيل بن شرحبيل أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها.
وأخرج عبد الرزاق. وابن أبي حاتم عن ابن مسعود نحو ذلك، وهذه الطير صور تخلق لهم من صور أعمالهم، وقيل. ذاك من باب التمثيل وليس بذاك، وذكر الوقتين ظاهر في التخصيص بمعنى أنهم يعرضون على النار صباحا مرة ومساء مرة أي فيما هو صباح ومساء بالنسبة إلينا، ويشهد له ما أخرجه ابن المنذر. والبيهقي في " شعب الايمان " وغيرهما عن أبي هريرة أنه كان له صرختان في كل يوم غدوة وعشية كان يقول أول النهار: ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار، ويقول أول الليل: ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون
73

على النار فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله تعالى من النار، والفصل بين الوقتين إما بترك العذاب أو بتعذبهم بنوع آخر غير النار.
وجوز أن يكون المراد التأبيد اكتفاء بالطرفين المحيطين عن الجميع، وأيا ما كان ففي الآية دليل ظاهر على بقاء النفس وعذاب البرزخ لأنه تعالى بعد أن ذكر ذلك العرض قال جل شأنه:
* (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) * وهو ظاهر في المغايرة فيتعين كون ذلك في البرزخ، ولا قائل بالفرق بينهم وبين غيرهم فيتم الاستدلال على العموم، وفي " الصحيحين ". وغيرهما عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيء إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى " و * (يوم) * على ما استظهره أبو حيان معمول لقول مضمر، والجملة عطف على ما قبلها أي ويوم تقوم الساعة يقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب أي عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه أو أشد عذاب جهنم فإن عذابها ألوان بعضها أشد من بعض، وعن بعض أشد العذاب هو عذاب الهاوية، وقيل: هو معمول * (أدخلوا) *.
وقيل: هو عطف على * (عشيا) * فالعامل فيه * (يعرضون) * و * (أدخلوا) * على إضمار القول وهو كما ترى، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والحسن. وقتادة. وابن كثير، والعربيان. وأبو بكر * (ادخلوا) * على أنه أمر لآل فرعون بالدخول أي ادخلوا يا آل فرعون [بم وقوله تعالى:
* (وإذ يتحآجون فى النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار) *.
* (وإذ يتحاجون في النار) * معمولا لا ذكر محذوفا أي واذكر وقت تخاصمهم في النار، والجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة لا على مقدر تقديره اذكر ما تلي عليك من قصة موسى عليه السلام. وفرعون. ومؤمن آل فرعون ولا على قوله تعالى: * (فلا يغررك تقلبهم في البلاد) * (غافر: 4) أو على قوله سبحانه: * (وأنذرهم يوم الآزفة) * لعدم الحاجة إلى التقدير في الأول وبعد المعطوف عليه في الأخيرين.
وزعم الطبري أن * (إذ) * معطوفة على * (إذ القلوب لدى الحناجر) * (غافر: 18) وهو مع بعده فيه ما فيه، وجوز أن تكون معطوف على * (غدوا) * وجملة * (يوم تقوم) * اعتراض بينهما وهو مع كونه خلاف الظاهر قليل الفائدة، وضمير يتحاجون على ما اختاره ابن عطية وغيره لجميع كفار الأمم، ويتراءى من كلام بعضهم أنه لكفار قريش، وقيل: هو لآل فرعون، وقوله تعالى: * (فيقول الضعفاء للذين استكبروا) * تفصيل للمحاجة والتخاصم في النار أي يقول المرؤسون لرؤسائهم: * (إنا كنا) * في الدنيا * (لكم تبعا) * تباعا فهو كخدم في جمع خادم.
وذهب جمع لقلة هذا الجمع إلى أن * (تبعا) * مصدر إما بتقدير مضاف أي إنا كنا لكم ذوي تبع أي أتباعا أو على التجوز في الظرف أو الإسناد للمبالغة بجعلهم لشدة تبعيتهم كأنهم عين التبعية * (فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار) * بدفع بعض عذابها أو بتحمله عنا، و * (مغنون) * من الغناء بالفتح بمعنى الفائدة، و * (نصيبا) * بمعنى حصة مفعول لما دل عليه من الدفع أو الحمل أوله بتضمين أحدهما أي دافعين أو حاملين عنا نصيبا، ويجوز أن يكون نصيبا قائما مقام المصدر كشيئا في قوله تعالى: * (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) *. و * (من النار) * على هذا متعلق - بمغنون - وعلى ما قبله ظرف مستقر بيان - لنصيبا -.
* (قال الذين استكبروا إنا كل فيهآ إن الله قد حكم بين العباد) *.
* (قال الذين استكبروا) * للضعفاء * (إنا كل فيها) * نحن وأنتم
74

فكيف نغني عنكم ولو قدرنا لدفعنا عن أنفسنا شيئا من العذاب؛ ورفع * (كل) * على الابتداء وهو مضاف تقديرا لأن المراد كلنا و * (فيها) * خبره والجملة خبر إن.
وقرأ ابن السميقع. وعيسى بن عمر * (كلا) * بالنصب، وخرجه ابن عطية. والزمخشري على أنه توكيد لاسم إن، وكون كل المقطع عن الإضافة يقع تأكيدا اكتفاء بأن المعنى عليها مذهب الفراء ونقله أبو حيان عن الكوفيين. ورده ابن مالك في " شرحه للتسهيل "، وقيل: هو حال من المستكن في الظرف. وتعقب بأنه في معنى المضاف ولذا جاز الابتداء به فكيف يكون حالا، وإذا سلم كفاية هذا المقدار من التنكير في الحالية فالظرف لا يعمل في الحال المتقدمة كما يعمل في الظرف المتقدم نحو كل يوم لك ثوب.
وأجيب عن أمر العمل بأن الأخفش أجاز عمل الظرف في حال إذا توسطت بينه وبين المبتدأ نحو زيد قائما في الدار عندك وما في الآية الكريمة كذلك، على أن بعضهم أجاز ذلك ولو تقدمت الحال على المبتدأ والظرف؛ نعم منعه بعضهم مطلقا لكن المخرج لم يقلده، وابن الحاجب جوزه في بعض كتبه ومنعه في بعض، قيل: وقد يوفق بينهما بأن المنع على تقدير عمل الظرف لنيابته عن متعلقه، والجواز على جعل العامل متعلقه المقدر فيكون لفظيا لا معنويا، وإلى هذا التخريج ذهب ابن مالك وأنشد له قول بعض الطائيين: دعا فأجبنا وهو بادي ذلة * لديكم فكان النصر غير قريب
وحمل قوله تعالى: * (والسموات مطويات بيمينه) * (الزمر: 67) في قراءة النصب على ذلك، وقال أبو حيان: الذي اختاره في تخريج هذه القراءة أن كلا بدل من اسم إن لأن كلا يتصرف فيها بالابتداء ونواسخه وغير ذلك فكأنه قيل: أن كلا فيها. وإذا كانوا قد تأولوا حولا أكتعا ويوما أجمعا على البدل مع أنهما لا يليان العوامل فأن يدعي في كل البدل أولى، وأيضا فتنكير * (كل) * ونصبه حالا في غاية الشذوذ نحو مررت بهم كلا أي جميعا. ثم قال: فإن قلت: كيف تجعله بدلا وهو بدل كل من كل من ضمير المتكلم وهو لا يجوز على مذهب جمهور النحويين؟ قلت: مذهب الأخفش. والكوفيين جوازه وهو الصحيح، على أن هذا ليس مما وقع فيه الخلاف بل إذا كان البدل يفيد الإحاطة جاز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا نعلم خلافا في ذلك كقوله تعالى: * (تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا) * (المائدة: 114) وكقولك: مررت بكم صغيركم وكبيركم معناه مررت بكم كلكم وتكون لنا عيدا كلنا، فإذا جاز ذلك فيما هو بمعنى الإحاطة فجوازه فيما دل على الإحاطة وهو * (كل) * أولى ولا التفات لمنع المبرد البدل فيه لأنه بدل من ضمير المتكلم لأنه لم يحقق مناط الخلاف انتهى، ولعل القول بالتوكيد أحسن من هذا وأقرب، ورد ابن مالك له لا يعول عليه * (إن الله قد حكم بين العباد) * فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وقدر لكل منا ومنكم عذابا لا يدفع عنه ولا يتحمله عنه غيره.
* (وقال الذين فى النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب) *.
* (وقال الذين في النار) * من الضعفاء والمستكبرين جميعا لما ضاقت بهم الحيل وعيت بهم العلل * (لخزنة جهنم) * أي للقوام بتعذيب أهل النار، وكان الظاهر - لخزنتها - بضمير النار لكن وضع الظاهر موضعه للتهويل، فإن جهنم أخص من النار بحسب الظاهر لإطلاقها على ما في الدنيا أو لأنها محل لأشد العذاب لشامل للنار وغيرها، وجوز أن يكون ذلك لبيان محل الكفرة في النار بأن تكون جهنم أبعد درجاتها من قولهم: بئر جهنام بعيدة القعر وفيها أعتى الكفرة وأطغاهم، فلعل الملائكة الموكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله عز وجل فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة
75

منهم وقالوا لهم: * (ادعوا ربكم يخفف عنا يوما) * أي مقدار يوم من أيام الدنيا * (من العذاب) * أي شيئا من العذاب، فمفعول * (يخفف) * محذوف، و * (من) * تحتمل البيان والتبعيض، ويجوز أن يكون المفعول * (يوما) * بحذف المضاف نحو ألم يوم و * (من العذاب) * بيانه، والمراد يدفع عنا يوما من أيام العذاب:
* (قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبين‍ات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الك‍افرين إلا فى ضل‍ال) *.
* (قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبين‍ات) * أي لم تنبهوا على هذا ولم تك تأتيكم رسلكم في الدنيا على الاستمرار بالحجج الواضحة الدالة على سوء مغبة ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي كما في قوله تعالى: * (ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا) * وأرادوا بذلك إلزامهم وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء وتعطيل أسباب الإجابة * (قالوا بلى) * أي أتونا بها فكذبناهم كما نطق به قوله تعالى: * (بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير) * (الملك: 9) والفاء في قوله تعالى: * (قالوا فادعوا) * فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم فإن الدعاء لمن يفعل فعلكم ذلك مستحيل صدوره عنا، وقيل: في تعليل امتناع الخزنة عن الدعاء: لأنا لم نؤذن في الدعاء لأمثالكم، وتعقب بأنه مع عرائه عن بيان أن سببه من قبل الكفرة كما يفصح عنه الفاء ربما يوهم أن الإذن في حيز الإمكان وأنهم لو أذن لهم لفعلوا فالتعليل الأول أولى، ولم يريدوا بأمرهم بالدعاء اطماعهم في الإجابة بل إقناطهم منها وإظهار خيبتهم حيثما صرحوا به في قولهم: * (وما دع‍اؤا الك‍افرين إلا في ضلال) * أي في ضياع وبطلان أي لا يجاب، فهذه الجملة من كلام الخزنة، وقيل: هي من كلامه تعالى إخبارا منه سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم. واستدل بها مطلقا من قال: إن دعاء الكافر لا يستجاب وأنه لا يمكن من الخروج في الاستسقاء، والحق أن الآية في دعاء الكفار يوم القيامة وأن الكافر قد يقع في الدنيا ما يدعو به ويطلبه من الله تعالى إثر دعائه كما يشهد بذلك آيات كثيرة، وأما أنه هل يقال لذلك إجابة أم لا فبحث لا جدوى له [بم وقوله تعالى:
* (إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا ويوم يقوم الاشه‍اد) *.
* (إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا) * الخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى لبيان أن ما أصاب الكفرة من العذاب المحكى من فروع حكم كلي تقتضيه الحكمة هو أن شأننا المستمر أننا ننصر رسلنا وأتباعهم * (في الحياة الدنيا) * بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبي وغير ذلك من العقوبات، ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق للكفرة من صورة الغلبة امتحانا إذ العبرة إنما هي بالعواقب وغالب الأمر، وقد تقدم تمام الكلام في ذلك فتذكر * (ويوم يقوم الأشهاد) * أي ويوم القيامة عبر عنه بذلك للأشعار بكيفية النصرة وأنها تكون عند جمع الأولين والآخرين وشهادة الأشهاد للرسل بالتبليغ وعلى الكفرة بالتكذيب، فالاشهاد جمع شهيد بمعنى شاهد كإشراف جميع شريف، وقيل: جمع شاهد بناء على أن فاعلا قد يجمع على أفعال، وبعض من لم يجوز يقول: هو جمع شهد بالسكون اسم جمع لشاهد كما قالوا في صحب بالسكون اسم جمع لصاحب، وفسر بعضهم * (الأشهاد) * بالجوارح وليس بذاك، وهو عليهما من الشهادة، وقيل: هو من المشاهدة بمعنى الحضور.
وفي " الحواشي الخفاجية " أن النصرة في الآخرة لا تتخلف أصلا بخلافها في الدنيا فإن الحرب فيها سجال وإن كانت العاقبة للمتقين ولذا دخلت * (في) * على * (
الحياة) * دون قرينه لأن الظرف المجرور بفي لا يستوعب كالمنصوب على الظرفية كما ذكره الأصوليون انتهى، وفيه بحث.
76

وقرأ ابن هرمز. وإسماعيل وهي رواية عن أبي عمرو * (تقوم) * بتاء التأنيث على معنى جماعة الأشهاد.
* (يوم لا ينفع الظ‍المين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) *.
* (يوم لا ينفع الظ‍المين معذرتهم) * بدل من * (يوم يقوم) * و * (لا) * قيل: تحتمل أن تكون لنفي النفع فقط على معنى أنهم يعتذرون ولا ينفعهم معذرتهم لبطلانها وتحتمل أن تكون لنفي النفع والمعذرة على معنى لا تقع معذرة لتنفع، وفي " الكشاف " يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع لأنها باطلة وأنهم لو جاءوا بمعذرة لم تكن مقبولة لقوله تعالى: * (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) * (المرسلات: 36) وأراد على ما في " الكشف " أن عدم النفع إما لأمر راجع إلى المعذرة الكائنة وهو بطلانها، وإما لأمر راجع إلى من يقبل العذر ولا نظر فيه إلى وقوع العذر؛ والحاصل أن المقصود بالنفي الصفة ولا نظر فيه إلى الموصوف نفيا أو إثباتا، وليس في كلامه إشارة إلى إرادة نفيهما جميعا فتدبر، وقرأ غير الكوفيين. ونافع * (لا تنفع) * بالتاء الفوقية، ووجهها ظاهر، وأما قراءة الياء فلأن المعذرة مصدر وتأنيثه غير حقيقي مع أنه فصل عن الفعل بالمفعول * (ولهم اللعنة) * أي البعد من الرحمة.
* (ولهم سوء الدار) * هي جهنم وسوءها ما يسوء فيها من العذاب فإضافته لأمية أو هي من إضافة الصفة للموصوف أي الدار السوأى. ولا يخفى ما في الجملتين من إهانتهم والتهكم بهم.
* (ولقد ءاتينا موسى الهدى وأورثنا بنىإسراءيل الكت‍اب) *.
* (ولقد ءاتينا موسى الهدى) * ما يهتدي به من المعجزات والصحف والشرائع فهو مصدر تجوز به عما ذكر أو جعل عين الهدى مبالغة فيه.
* (وأورثنا بني إسرائيل الكت‍اب) * تركنا عليهم بعد وفاته عليه السلام من ذلك التوراة فالإيراث مجاز مرسل عن الترك أو هو استعارة تبعية له، ويجوز أن يكون المعنى جعلنا بني إسرائيل آخذين الكتاب عنه عليه السلام بلا كسب فيشمل من في حياته عليه السلام كما يقال: العلماء ورثة الأنبياء، وهو وجه إلا أن اعتبار بعد الموت أوفق في الإيراث والعلاقة عليه أتم، وإرادة التوراة من الكتاب هو الظاهر، وجوز أن يكون المراد به جنس ما أنزل على أنبيائهم فيشمل التوراة والزبور والإنجيل.

* (هدى وذكرى لاولى الالب‍اب) *.
* (هدى وذكرى) * هداية وتذكرة أي لأجلهما أو هاديا ومذكرا فهما مصدران في موضع الحال * (لأولى الألباب) * لذوي العقول السليمة الخالصة من شوائب الوهم، وخصوا لأنهم المنتفعون به.
* (فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والابكار) *.
* (فاصبر) * أي إذا عرفت ما قصصناه عليك للتأسي فاصبر على ما نالك من أذية المشركين * (إن وعد الله) * إياك والمؤمنين بالنصر المشار إليه بقوله سبحانه: * (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) * أو جميع مواعيده تعالى ويدخل فيه وعده سبحانه بالنصر دخولا أوليا * (حق) * لا يخلفه سبحانه أصلا فلا بد من وقوع نصره جل شأنه لك وللمؤمنين، واستشهد بحال موسى ومن معه وفرعون ومن تبعه * (واستغفر لذنبك) * أقبل على أمر الدين وتلاف ما ربما يفرط مما يعد بالنسبة إليك ذنبا وإن لم يكنه، ولعل ذلك هو الاهتمام بأمر العدا بالاستغفار فإن الله تعالى كافيك في النصر وإظهار الأمر، وقيل: * (لذنبك) * لذنب أمتك في حقك، قيل: فإضافة المصدر للمفعول * (وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار) * أي ودم على التسبيح والتحميد لربك على أنه عبر بالطرفين وأريد جميع الأوقات، وجوز أن يراد خصوص الوقتين، والمراد بالتسبيح معناه الحقيقي كما في الوجه الأول أو الصلاة، قال قتادة: أريد صلاة الغداة وصلاة العصر، وعن الحسن أريد ركعتان بكرة وركعتان عشيا، قيل: لأن الواجب بمكة كان ذلك، وقد قدمنا
77

إن الحس لا يقول بفرضية الصلوات الخمس بمكة فقيل: كان يقول بفرضية ركعتين بكرة وركعتين عشيا.
وقيل: إنه يقول كان الواجب ركعتين في أي وقت اتفق، والكل مخالف للصريح المشهور، وجوز على إرادة الدوام أن يراد بالتسبيح الصلاة ويراد بذلك الصلوات الخمس، وحكى ذلك في " البحر " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
* (إن الذين يج‍ادلون فىءاي‍ات الله بغير سلط‍ان أت‍اهم إن فى صدورهم إلا كبر ما هم بب‍الغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير) *.
* (إن الذين يجادلون في ءاي‍ات الله) * دلائله سبحانه التي نصبها على توحيده وكتبه المنزلة وما أظهر على أيدي رسله من المعجزات * (بغير سلط‍ان أتياهم) * أي بغير حجة في ذلك أتتهم من جهته تعالى، والجال متعلق - بيجادلون - وتقييد المجادلة بذلك مع استحالة إتيان الحجة للإيذان بأن المتكلم في أمر الدين لا بد من استناده إلى حجة واضحة وبرهان مبين، وهذا عام في كل مجادل مبطل وإن نزل في قوم مخصوصين وهم على الأصح مشركو مكة.
وقوله تعالى: * (إن في صدورهم إلا كبر) * خبر لإن و * (إن) * نافية، والمراد بالصدور القلوب أطلق عليها للمجاورة والملابسة، والكبر والتكبر والتعاظم أي ما في قلوبهم إلا تكبرا عن الحق وتعاظم عن التفكر والتعلم أو هو مجاز عن إرادة الرياسة والتقدم على الإطلاق أو إرادة أن تكون النبوة لهم أي ما في قلوبهم إلا إرادة الرياسة أو أن تكون النبوة لهم دونك حسدا وبغيا حسبما قالوا: * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * وقالوا: * (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) * (الأحقاف: 11) ولذلك يجادلون في آياته تعالى لا أن فيها موقع جدال ما أو أن لهم شيئا يتوهم صلاحيته لأن يكون مدارا لمجادلتهم في الجملة، وقوله تعالى: * (ما
هم ببالغيه) * صفة - لكبر - أي ما هم ببالغي موجب الكبر ومقتضيه وهو ما متعلق إرادتهم من دفع الآيات أو من الرياسة أو النبوة، وقال الزجاج: المعنى ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر عليك وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر لأن الله تعالى أذلهم، وقيل: الجملة مستأنفة وضمير * (بالغيه) * لدفع الآيات المفهوم من المجادلة، وما تقدم أظهر، وقال مقاتل: المجادلون الذين نزلت فيهم الآية اليهود عظموا أمر الدجال فنزلت. وإلى هذا ذهب أبو العالية. أخرج عبد بن حميد. وابن أبي حاتم بسند صحيح عنه قال: إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الدجال يكون منا في آخر الزمان ويكون من أمره ما يكون فعظموا أمره وقالوا: يصنع كذا وكذا فأنزل الله تعالى * (إن الذين يجادلون) * الخ، وهذا كالنص في أن أمر اليهود كان السبب في نزولها، وعليه تكون الآية مدنية وقد مر الكلام في ذلك فتذكر. وفي رواية أن اليهود كانوا يقولون: يخرج صاحبنا المسيح بن داود يريدون الدجال ويبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الانهار وهو آية من آيات الله فيرجع إلينا الملك، حكاها في " الكشاف " ثم قال: فسمي الله تعالى تمنيهم ذلك كبرا ونفي سبحانه أن يبلغوا متمناهم، ويخطر لي على هذا القول أن اليهود لم يريدوا من تعظيم أمر الدجال سوى نفي أن يكون نبينا صلى الله عليه وسلم النبي المبعوث في آخر الزمان الذي بشر به أنبياؤهم وزعم أن المبشر به هو ذلك اللعين، ففي بعض الروايات أنهم قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: لست صاحبنا - يعنون النبي المبشر به أنبياؤهم، فالإضافة لأدنى ملابسة بل هو المسيح بن داود يبلغ سلطانه البر والبحر ويسير معه الأنهار، وفي ذلك بزعمهم دفع الآيات الدالة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم والداعي لهم إلى ذلك الكبر والحسد وحب أن لا تخرج النبوة من بني إسرائيل، فمعنى الآية عليه نحو معناها على القول بكون المجادلين مشركي مكة. ثم إن اليهود عليهم اللعنة
78

كذبوا أولا بقولهم للنبي عليه الصلاة والسلام: لست صاحبنا، وثانيا بقولهم: بل هو المسيح بن داود يعنون الدجال، أما الكذب الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه لم يبعث نبي إلا وقد حذر أمته الدجال وأنذرهم إياه كما نطقت بذلك الأخبار، وهم قالوا: هو صاحبنا يعنون المبشر ببعثته آخر الزمان، وكل ذلك من الجدال في آيات الله تعالى بغير سلطان * (فاستعذ بالله) * أي فالتجىء إليه تعالى من كيد من يحسدك ويبغي عليك، وفيه رمز إلى أنه من همزات الشياطين، وقال أبو العالية: هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من فتنة الدجال بالله عز وجل * (إنه السميع البصير) * أي لأقوالكم وأفعالكم، والجملة لتعليل الأمر قبلها. [بم وقوله تعالى:
* (لخلق السم‍اوات والارض أكبر من خلق الناس ول‍اكن أكثر الناس لا يعلمون) *.
* (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس) * تحقيق للحق وتبيين لأشهر ما يجادلون فيه من أمر البعث الذي هو كالتوحيد في وجوب الايمان به على منهاج قوله تعالى: * (أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) * (يس: 81) وإضافة * (خلق) * إلى ما بعده من إضافة المصدر إلى مفعوله أي لخلق الله تعالى السماوات والأرض أعظم من خلقه سبحانه الناس لأن الناس بالنسبة إلى تلك الأجرام العظيم كلا شيء، والمراد أن من قدر على خلق ذلك فهو سبحانه على خلق ما لا يعد شيئا بالنسبة إليه بدأ وإعادة أقدر وأقدر.
وقال أبو العالية: الناس الدجال وهو بناء على ما روى عنه في المجادلين، ولعمري أن تطبيق هذا ونحوه على ذلك في غاية البعد وأنا لا أقول به * (ول‍اكن أكثر الناس لا يعلمون) * وهم الكفرة، ولما كان ما قبل لإثبات البعث الذي يشهد له العقل وتقتضيه الحكم اقتضاء ظاهرا ناسب نفي العلم عمن كفر به لأنهم لو كانوا من العقلاء الذين من شأنهم التدبر والتفكر فيما يدل عليه لم يصدر عنهم إنكاره، ولم يذكر للعلم مفعولا لأن المناسب للمقام تنزيله منزلة اللازم، وقيل: المراد لا يعلمون أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس أي لا يجرون على موجب العلم بذلك من الإقرار بالبعث ومن لا يجري على موجب علمه هو والجاهل سواء.
وفي " البحر " أنه تعالى نبه على أنه لا ينبغي أن يجادل في آيات الله ولا يتكبر الإنسان بقوله سبحانه: * (لخلق) * الخ أي أن مخلوقاته تعالى أكبر وأجل من خلق البشر فما لأحدهم يجادل ويتكبر على خالقه سبحانه وتعالى ولكن أكثر الناس لا يعلمون لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم ولذلك جادلوا وتكبروا، ولا يخفى أنه تفسير قليل الجدوى.
* (وما يستوى الاعمى والبصير والذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات ولا المسىء قليلا ما تتذكرون) *.
* (وما يستوي الأعمى والبصير) * أي الغافل عن معرفة الحق في مبدئه ومعاده ومن كانت له بصيرة في معرفتها، وتفسير * (البصير) * بالله تعالى و * (الأعمى) * بالصنم غير مناسب هنا * (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات) * أي المحسن ولذا قوبل بقوله تعالى: * (ولا المسيء) * وعدل عن التقابل الظاهر كما في الأعمى والبصير إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى أن المؤمنين علم في الإحسان، وقدم * (الأعمى) * لمناسبة العمى ما قبله من نفي العلم، وقدم الذين آمنوا بعد لمجاورة البصير ولشرفهم، وفي مثله طرق أن يجاور كل ما يناسبه كما هنا، وأن يقدم ما يقابل الأول ويؤخر ما يقابل الآخر كقوله تعالى: * (وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور) * (فاطر: 19 - 21) وأن يؤخر المتقابلان كالأعمى والأصم والسميع والبصير وكل من باب التفنن
79

في البلاغة وأساليب الكلام، والمقصود من نفي استواء من ذكر بيان أن هذا التفاوت مما يرشد إلى البعث كأنه قيل: ما يستوي الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء فلا بد أن يكون لهم حال أخرى يظر فيها ما بين الفريقين من التفاوت وهي فيما بعد البعث.
وأعيدت * (لا) * في المسيء تذكيرا للنفي السابق لما بينهما من الفصل بطول الصلة، ولأن المقصود بالنفي أن الكافر المسيء لا يساوي المؤمن المحسن، وذكر عدم مساواة الأعمى للبصير توطئة له، ولو لم يعد النفي فيه فربما ذهل عنه وظن أنه ابتداء كلام، ولو قيل: ولا الذين آمنوا والمسيء لم يكن نصا فيه أيضا لاحتمال أنه مبتدأ كلام، ولو قيل: ولا الذين آمنوا والمسيء لم يكن نصا فيه أيضا لاحتمال أنه مبتدأ و * (قليلا ما تتذكرون) * خبره وجمع على المعنى قاله الخفاجي، وهو إن تم فعلى القراءة بياء الغيبة، وقيل: لم يقل ولا الذين آمنوا والمسيء لأن المقصود نفي مساواة المسيء للمحسن لا نفي مساواة المحسن له إذ المراد بيان خسارته ولا يصفو عن
كدر فتدبر، والموصول مع عطف عليه معطوف على * (الأعمى) * مع ما عطف عليه عطف المجموع على المجموع كما في قوله تعالى: * (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) * (الحديد: 2) ولم يترك العطف بينهما بناء على أن الأول مشبه به والثاني مشبه وهما متحدان مآلا لأن كلا من الوصفين الأولين مغاير لكل من الوصفين الأخيرين وتغاير الصفات كتغاير الذوات في صحة التعاطف، ووجه التغاير أن الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء صفات متغايرة المفهوم بقطع النظر عن اتحاد ما صدقهما وعدمه، وقيل: التغاير بين الوصفين الأولين والوصفين الأخيرين من جهة أن القصد في الأولين إلى العلم، وفي الأخيرين إلى العمل، وهو وجه لا بأس به، وقيل: هما وإن اتحدا ذاتا متغايران اعتبارا من حيث أن الثاني صريح والأول مذكور على طريق التمثيل، ونظر فيه بأنه لو اكتفى بمجرد هذه المغايرة لزم جواز عطف المشبه على المشبه به وعكسه.
* (قليلا ما تتذكرون) * أي تذكرا قليلا تتذكرون. وقرأ الجمهور. والأعرج. والحسن. وأبو جعفر. وشيبة بياء الغيبة والضمير للناس أو الكفار، قال الزمخشري: والتاء أعم، وعلله " صاحب التقريب " بأن فيه تغليب الخطاب على الغيبة، وقال القاضي: إن التاء للتغليب أو الالتفات أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة أي بتقدير قل قبله، وآثر العلامة الطيبي الالتفات لأن العدول من الغيبة إلى الخطاب في مقام التوبيخ يدل على العنف الشديد والإنكار البليغ، فهذه الآية متصلة بخلق السماوات وهو كلام مع المجادلين. وتعقبه " صاحب الكشف " بأنه يجوز أن يجعل ما ذكر نكتة التغليب فيكون أولى لفائدة التعميم أيضا فليفهم، والظاهر أن التغليب جار على احتمال كون الضمير للناس واحتمال كونه للكفار لأن بعض الناس أو الكفار مخاطب هنا؛ والتقليل أيضا يصح إجراؤه على ظاهره لأن منهم من يتذكر ويهتدي، وقال الجلبي: الضمير إذا كان للناس فالتقليل على معناه الحقيقي والمستثنى هم المؤمنون وإذا كان للكفار فهو بمعنى النفي، ثم الظاهر أن المخاطب من خاطبه صلى الله عليه وسلم من قريش فمن قال: المخاطب هو النبي عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: * (فاصبر) * ولا يناسب إدخاله فيمن لم يتذكر فقدسها ولم يتذكر.
* (إن الساعة لاتية لا ريب فيها ول‍اكن أكثر الناس لا يؤمنون) *.
* (إن الساعة لآتية لا ريب فيها) * أي في مجيئها أي لا بد من مجيئها ولا محالة لوضوح الدلالة على جوازها وإجماع الأنبياء على الوعد الصادق بوقوعها. ويجوز أن يكون المعنى أنها آتية وأنها ليست محلا للريب أي لوضوح الدلالة إلى آخر ما مر، والفرق أن متعلق الريب على الأول المجيء وعلى هذا الساعة والحمل عليه أولى.
* (ول‍اكن أكثر الناس لا يؤمنون) * لا يصدقون بها لقصور نظرهم على ما يدركونه بالحواس الظاهرة واستيلاء
80

الأوهام على عقولهم.
* (وقال ربكم ادعونىأستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين) *.
* (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) * أي اعبدوني أثبكم على ما روي عن ابن عباس. والضحاك. ومجاهد. وجماعة. وعن الثوري أنه قيل له: ادع الله تعالى فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء يعني أن الدعاء باللسان ترجمة عن طلب الباطن وأنه إنما يصح لصحة التوجه وترك المخالفة فمن ترك الذنوب فقد سأل الحق بلسان الاستعداد وهو الدعاء الذي يلزمه الإجابة ومن لا يتركها فليس بسائل وإن دعاه سبحانه ألف مرة؛ وما ذكر مؤيد لتفسير الدعاء بالعبادة ومحقق له فإن ترك الذنوب من أجل العبادات وينطبق على ذلك كمال الانطباق قوله تعالى: * (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) * أي صاغرين أذلاء.
وجوز أن يكون المعنى اسألوني أعطكم وهو المروى عن السدي فمعنى قوله تعالى: * (يستكبرون عن عبادتي) * يستكبرون عن دعائي لأن الدعاء نوع من العبادة ومن أفضل أنواعها، بل روى ابن المنذر. والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال: أفضل العبادة الدعاء وقرأ الآية، والتوعد على الاستكبار عنه لأن ذلك عادة المترفين المسرفين وإنما المؤمن يتضرع إلى الله تعالى في كل تقلباته، وفي إيقاع العبادة صلة الاستكبار ما يؤذن بأن الدعاء باب من أبواب الخضوع لأن العبادة خضوع ولأن المراد بالعبادة الدعاء والاستكبار إنما يكون عن شيء إذا أتى به لم يكن مستكبرا.
قال في " الكشف ": وهذا الوجه أظهر بحسب اللفظ وأنسب إلى السياق لأنه لما جعل المجادلة في آيات الله تعالى من الكبر جعل الدعاء وتسليم آياته من الخضوع لأن الداعي له تعالى الملتجىء إليه عز وجل لا يجادل في آياته بغير سلطان منه البتة، والعطف في قوله تعالى: * (وقال) * من عطف مجموع قصة على مجموع أخرى لاستئوائهما في الغرض، ولهذا لما تمم هذه القصة أعني قوله سبحانه: * (وقال ربكم) * إلى قوله عز وجل: * (كن فيكون) * صرح بالغرض في قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله) * (غافر: 69) كما بني القصة أولا على ذلك في قوله تبارك وتعالى: * (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان) * (غافر: 56) ولو تؤمل في هذه السورة الكريمة حق التأمل وجد جل الكلام مبنيا على رد المجادلين في آيات الله المشتملة على التوحيد والبعث وتبيين وجه الرد في ذلك بفنون مختلفة، ثم انظر إلى ما ختم به السورة كيف يطابق ما بدئت من قوله سبحانه: * (فلا يغررك تقلبهم) * (غافر: 4) وكيف صرح آخرا بما رمز إليه أولا لتقضي منه العجب فهذا وجه العطف انتهى. وما ذكره من أظهرية هذا الوجه بحسب اللفظ ظاهر جدا لما في الأولى من ارتكاب خلاف الظاهر قبل الحاجة إليه في موضعين في الدعاء حيث تجوز به عن العبادة لتضمنها له أو لأنه عبادة خاصة أريد به المطلق، وفي الاستجابة حيث جعلت الإثابة على العبادة لترتبها عليها استجابة مجازا أو مشاكلة بخلاف الثاني فإن فيه ارتكاب خلاف الظاهر وهو التجوز في موضع واحد وهو * (عن عبادتي) * ومع هذا هو بعد الحاجة فلم يكن كنزع الخف قبل الوصول إلى الماء بل قيل: لا حاجة إلى التجوز فيه لأن الإضافة مراد بها العهد هنا فتفيد ما تقدم، لكن كونه أنسب بالسياق أيضا مما لا يتم في نظري، وأيا ما كان * (فأستجب) * جزم في جواب الأمر أي إن تدعوني أستجب لكم والاستجابة على الوجهين مشروطة بالمشيئة حسبما تقتضيه أصولنا، وقد صرح
81

بذلك في استجابة الدعاء قال سبحانه: * (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) * (الأنعام: 41) والاستكبار عن عبادة الله تعالى دعاء كانت أو غيره كفر يترتب عليه ما ذكر في الآية الكريمة.
وأما ترك ذلك لا عن استكبار فتفصيل الكلام فيه لا يخفى، والمقامات في ترك الدعاء فقيل: متفاوتة فقد لا يحسن كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " من لم يدع الله تعالى يغضب عليه " أخرجه أحمد. وابن أبي شيبة. والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا، وقد يحسن كما يدل عليه ما روي من ترك الخليل عليه السلام الدعاء يوم ألقي في النار وقوله علمه بحالي يغني عن سؤالي، وربما يقال: ترك الدعاء اكتفاء بعلم الله عز وجل دعاء والله تعالى أعلم.
وقرأ ابن كثير. وأبو بكر. وزيد بن علي. وأبو جعفر * (سيدخلون) * مبنيا للمفعول من الإدخال واختلفت الرواية عن عاصم.، وأبي عمرو.
* (الله الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ول‍اكن أكثر الناس لا يشكرون) *.
* (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) * لتستريحوا فيه بأن أغاب سبحانه فيه الشمس فجعله جل شأنه باردا مظلما وجعل عز وجل برده سببا لضعف القوى المحركة وظلمته سببا لهدو الحواس الظاهرة إلى أشياء أخرى جعلها أسبابا للسكون والراحة * (والنهار مبصرا) * يبصر فيه أو به فالنهار إما ظرف زمان للإبصار أو سبب له.
وأيا ما كان فإسناد الإبصار له بجعله مبصرا إسناد مجازي لما بينهما من الملابسة، وفيه مبالغة وأنه بلغ الإبصار إلى حد سرى في نهار المبصر، ولذا لم يقل: لتبصروا فيه على طرز ما وقع في قرينه، فإن قيل: لم لم يقل جعل لكم الليل ساكنا ليكون فيه المبالغة المذكورة وتخرج القرينتان مخرجا واحدا في المبالغة، قلت: أجيب عن ذلك بأن نعمة النهار أتم وأعظم من نعمة الليل فسلك مسلك المبالغة فيها، وتركت الأخرى على الظاهر تنبيها على ذلك، وقيل: إن النعمتين فرسا رهان فدل على فضل الأولى بالتقديم وعلى فضل الأخرى بالمبالغة وهو كما ترى، وقيل: لم يقل ذلك لأن الليل يوصف على الحقيقة بالسكون فيقال: ليل ساكن أي لا ريح فيه ولا يبعد أن يكون السكون بهذا المعنى حقيقة عرفية. فلو قيل: ساكنا لم يتميز المراد نظرا إلى الإطلاق وإن تميز نظرا إلى قرينة التقابل.
وكان رجحان هذا الأسلوب لأن الكلام المحكم الواضح بنفسه من أول الأمر هو الأصل لا سيما في خطاب ورد في معرض الامتنان للخاصة والعامة، وهم متفاوتون في الفهم والدراية الناقصة والتامة، وفي " الكشف " لما لم يكن الإبصار علة غائية في نفسه بل العلة ابتغاء الفضل كما ورد مصرحا به في سورة القصص بخلاف السكون والدعة في الليل صرح بذلك في الأول ورمز في الثاني مع إفادة نكتة سرية في الإسناد المجازي.
وقال الجلبي: إذا حملت الآية على الاحتباك، وقيل: المراد جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتنتشروا فيه ولتبتغوا من فضل الله تعالى فحذف من الأول بقرينة الثاني ومن الثاني بقرينة الأول لم يحتج إلى ما ذكر في تعليل ترك المبالغة في القرينة الأولى، وهذا هو المشهور في الآية والله سبحانه وتعالى أعلم.
* (إن الله لذو فضل) * لا يوازيه فضل ولقصد الإشعار به لم يقل المفضل * (على الناس) * برهم وفاجرهم * (ول‍اكن أكثر الناس لا يشكرون) * لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواقع النعم، وتكرير الناس لتخصيص الكفران
82

بهم، وذلك من إيقاعه على صريح اسمهم الظاهر الموضوع موضع الضمير الدال على أنه من شأنهم وخاصتهم في الغالب.
* (ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون) *.
* (ذلكم) * المتصف بالصفات المذكورة المقتضية للألوهية والربوبية * (الله ربكم خالق كل شيء لا إلاه إلا هو) * أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة وتقلل اشتراكها في المفهوم نظرا إلى أصل الوضع وتقررها، وجوز في بعضها الوصفية والبدلية، وأخر * (خالق كل شيء) * عن * (لا إله إلا هو) * في آية سورة الأنعام، وقدم هنا لما أن المقصود ههنا على ما قيل الرد على منكري البعث فناسب تقديم ما يدل عليه، وهو أنه منه سبحانه وتعالى مبدأ كل شيء فكذا إعادته.
وقرأ زيد بن علي * (خالق) * بالنصب على الاختصاص أي أعني أو أخص خالق كل شيء فيكون * (لا إله إلا هو) * استئنافا مما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة فكأنه قيل: الله تعالى متصف بما ذكر من الصفات ولا إله إلا من اتصف بها فلا إله إلا هو * (فأنى تؤفكون) * فكيف ومن أي جهة تصرفون من عبادته سبحانه إلى عبادة غيره عز وجل. وقرأ طلحة في رواية * (يؤفكون) * بياء الغيبة.
* (كذلك يؤفك الذين كانوا بااي‍ات الله يجحدون) *.
* (كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون) * أي مثل ذلك الإفك العجيب الذي لا وجه له ولا مصحح أصلا يؤفك كل من جحد بآياته تعالى أي آية كانت لا إفكا آخر له وجه ومصحح في الجملة.
* (الله الذى جعل لكم الارض قرارا والسمآء بنآء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيب‍ات ذلكم الله ربكم فتب‍ارك الله رب الع‍المين) *.
* (الله الذي جعل لكم الأرض قرارا) * أي مستقرا * (والسماء بناءف) * أي قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب وإطلاق ذلك على السماء على سبيل التشبيه، وهو تشبيه بليغ وفيه إشارة لكريتها. وهذا بيانل فضله تعالى المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان، وقوله سبحانه: * (وصوركم فأحسن صوركم) * بيان لفضله تعالى المتعلق بأنفسهم، والفاء في * (فأحسن) * تفسيرية فالمراد صوركم أحسن تصوير حيث خلق كلا منكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء والتخطيطات متهيأ لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات. وقرأ الأعمش. وأبو رزين * (صوركم) * بكسر الصاد فرارا من الضمة قبل الواو، وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسرها شاذ ومنه قوة وقوى بكسر القاف في الجمع. وقرأ فرقة * (صوركم) * بضم الصاد وإسكان الواو على نحو بسرة وبسر * (ورزقكم من الطيبات)
* أي المستلذات طعما ولباسا وغيرهما وقيل الحلال * (ذلكم) * الذي نعت بما ذكر من النعوت الجليلة * (الله ربكم) * خبران لذلكم * (فتبارك الله) * تعالى بذاته * (رب العالمين) * أي مالكهم ومربيهم والكل تحت ملكوته مفتقر إليه تعالى في ذاته ووجوده وسائر أحواله جميعها بحيث لو انقطع فيضه جل شأنه عنه آنا لعدم بالكلية.
* (هو الحى لا إل‍اه إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب الع‍المين) *.
* (هو الحي) * المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية * (لا إله إلا هو) * إذ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله عز وجل * (فادعوه) * فاعبدوه خاصة لاختصاص ما يوجب ذلك به تعالى.
وتفسير الدعاء بالعبادة هو الذي يقتضيه قوله تعالى: * (مخلصين له الدين) * أي الطاعة من الشرك الخفي والجلي وأنه الأليق بالترتب على ما ذكر من أوصاف الربوبية والألوهية، وإنما ذكرت بعنوان الدعاء لأن اللائق هو العبادة على وجه التضرع والانكسار والخضوع * (الحمد لله رب العالمين) * أي قائلين ذلك.
83

أخرج ابن جرير. وابن المنذر. والحاكم وصححه. والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين وذلك قوله تعالى: * (فادعوه مخلصين) * الخ. وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير نحو ذلك، وعلى هذا * (فالحمد لله) * الخ من كلام المأمورين بالعبادة قبله، وجوز كونه من كلام الله تعالى على أنه إنشاء حمد ذاته سبحانه بذاته جل شأنه.
* (قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جآءنى البين‍ات من ربى وأمرت أن أسلم لرب الع‍المين) *.
* (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي) * من الحجج والآيات أو من الآيات لكونها مؤيدة لأدلة العقل منبهة عليها فإن الآيات التنزيلية مفسرات للآيات التكوينية الآفاقية والأنفسية * (وأمرت أن أسلم لرب العالمين) * أي بأن انقاد له تعالى وأخلص له عز وجل ديني.
* (هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون) *.
* (هو الذي خلقكم من تراب) * في ضمن خلق آدم عليه السلام منه حسبما مر تحقيقه * (ثم من نطفة) * أي ثم خلقكم خلقا تفصيليا من نطفة أي من منى * (ثم من علقة) * قطعة دم جامد * (ثم يخرجكم طفلا) * أي أي أطفالا وهو اسم جنس صادق على القليل والكثير.
وفي " المصباح "، قال ابن الأنباري: يكون الطفل بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والجمع ويجوز فيه المطابقة أيضا؛ وقيل: إنه أفرد بتأويل خلق كل فرد من هذا النوع ثم يخرج كل فرد منه طفلا * (ثم لتبلغوا أشدكم) * لللام فيه متعلقة بمحذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا وذلك المحذوف عطف على * (يخرجكم) * وجوز أن يكون * (لتبلغوا) * عطفا على علة مقدرة ليخرجكم كأنه قيل: ثم يخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا أشدكم وكمالكم في القوة والعقل، وكذا الكلام في قوله تعالى: * (ثم لتكونوا شيوخا) * ويجوز عطفه على * (لتبلغوا) *.
وقرأ ابن كثير. وابن ذكوان. وأبو بكر. وحمزة. والكسائي * (شيوخا) * بكسر الشين. وقرىء * (شيخا) * كقوله تعالى: * (طفلا) * * (ومنكم من يتوفى من قبل) * أي من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد أو قبله أيضا * (ولتبلغوا) * متعلق بفعل مقدر بعده أي ولتبلغوا * (أجلا مسمى) * هو يوم القيامة بفعل ذلك الخلق من تراب وما بعده من الأطوار، وهو عطف على * (خلقكم) * والمراد من يوم القيامة ما فيه من الجزاء فإن الخلق ما خلقوا إلا ليعبدوا ثم يبلغوا الجزاء، وتفسير الأجل المسمى بذلك مروى عن الحسن، وقال بعض: هو يوم الموت. وتعقب بأن وقت الموت فهم من ذكر التوفي قبله فالأولى تفسيره بما تقدم، وظاهر صنيع الزمخشري ترجيح هذا على ما بين في " الكشف " * (ولعلكم تعقلون) * ولكي تعقلوا ما في ذلك التنقل في الأطوار من فنون الحكم والعبر.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: أي ولعلكم تعقلون عن ربكم أنه يحييكم كما أماتكم.
* (هو الذى يحى ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *.
* (هو الذي يحيا - ى) * الأموات * (ويميت) * الأحياء أو الذي يفعل الإحياء والإماتة * (فإذا قضى أمرا) * أراد بروز أمر من الأمور إلى الوجود الخارجي * (فإنما يقول له كن فيكون) * من غير توقف على شيء من الأشياء أصلا.
وهذا عند الخلف تمثيل لتأثير قدرته تعالى في المقدورات عند تعلق إرادته سبحانه بها وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور وقد تقدم الكلام في ذلك، والفاء الأولى
84

للدلالة على أن ما بعدها من نتائج ما قبلها من حيث أنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمواد، وجوز فيها كونها تفصيلية وتعليلية أيضا فتدبر.
* (ألم تر إلى الذين يج‍ادلون فىءاي‍ات الله أنى يصرفون) *.
* (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون) * تعجيب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الركيكة وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن وبسائر الكتب والشرائع وترتيب الوعيد على ذلك، كما أن ما سبق من قوله تعالى: * (إن الذين يجادلون) * الخ بيان لابتناء جدالهم على مبنى فاسد لا يكاد يدخل تحت الوجود فلا تكرير فيه كذا في إرشاد العقل السليم.
وقال القاضي: تكرير ذكر المجادلة لتعدد المجادل بأن يكون هناك قوما وهنا قوما آخرين أو المجادل فيه بأن يحمل في كل على معنى مناسب ففيما مر في البعث وهنا في التوحيد أو هو للتأكيد اهتماما بشأن ذلك. واختار ما في الإرشاد، أي انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن
الجدال فيها كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها وانتفاء الصوارف عنها بالكلية. [يم الله تعالى:
* (الذين كذبوا بالكت‍ابوبمآ أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون) *.
* (الذين كذبوا بالكتاب) * أي بكل القرآن أو بجنس الكتب السماوية فإن تكذيبه تكذيب لها في محل الجر على أنه بدل من الموصول الأول أو بيان أو صفة له أو في محل النصب على الذم أو في محل الرفع على أنه خبر محذوف أو مبتدأ خبره * (فسوف يعلمون) * وإنما وصل الموصول الثاني بالتكذيب دون المجادلة لأن المعتاد وقوع المجادلة في بعض المواد لا في الكل. وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق كما أن صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على تجدد المجادلة وتكررها * (وبما أرسلنا به رسلنا) * من سائر الكتب على الوجه الأول في تفسير الكتاب أو مطلق الوحى والشرائع على الوجه الثاني فيه.
* (فسوف يعلمون) * كنه ما فعلوا من الجدال والتكذيب عند مشاهدتهم لعقوباته.
* (إذ الاغل‍ال فىأعن‍اقهم والسل‍اسل يسحبون) *.
* (إذ الأغلال في أعناقهم) * ظرف ليعلمون، والمعنى على الاستقبال، والتعبير بلفظ المضي للدلالة على تحققه حتى كأنه ماض حقيقة فلا تنافر بين سوف وإذ * (والسلاسل) * عطف على * (الأغلال) * والجار والمجرور في نية التأخير كأنه قيل: إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم، وقوله تعالى: * (يسحبون) * أي يجرون.
* (فى الحميم ثم فى النار يسجرون) *.
* (في الحميم) * حال من ضمير * (يعلمون) * أو ضمير * (في أعناقهم) * أو جملة مستأنفة لبيان حالهم بعد ذلك، وجوز كون * (السلاسل) * مبتدأ وجملة * (يسحبون) * خبره والعائد محذوف أي يسحبون بها.
وجوز كون * (الأغلال) * مبتدأ * (والسلاسل) * عطف عليه والجملة خبر المبتدأ و * (في أعناقهم) * في موضع الحال، ولا يخفى حاله، وقرأ ابن مسعود. وابن عباس. وزيد بن علي. وابن وثاب * (والسلاسل يسحبون) * بنصب السلاسل وبناء يسحبون للفاعل فيكون السلاسل مفعولا مقدما ليسحبون، والجملة معطوفة على ما قبلها، ولا بأس بالتفاوت اسمية وفعلية.
وقرأت فرقة منهم ابن عباس في رواية * (والسلاسل) * بالجر، وخرج ذلك الزجاج على الجر بخافض محذوف كما في قوله: أشارت كليب بالأكف الأصابع
أي وبالسلاسل كما قرىء به أو في السلاسل كما في مصحف أبي، والفراء على العطف بحسب المعنى إذ الأغلال في أعناقهم بمعنى أعناقهم في الأغلال، ونظيره قوله: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة * ولا ناعب إلا ببين غرابها
85

ويسمى في غير القرآن عطف التوهم، وذهب إلى هذا التخريج الزمخشري. وابن عطية، وابن الأنباري بعد أن ضعف تخريج الزجاج خرج القراءة على ما قال الفراء قال: وهذا كما تقول: خاصم عبد الله زيدا العاقلين بنصب العاقلين ورفعه لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصم الآخر، وهذه المسألة لا تجوز عند البصريين ونقل جوازها عن محمد بن سعدان الكوفي قال: لأن كل واحد منهما فاعل مفعول * (ثم في النار يسجرون) * يحرقون ظاهرا وباطنا من سجر التنور إذا ملأه إيقادا ويكون بمعنى ملأه بالحطب ليحميه، ومنه السجير للصديق الخليل كأنه سجر بالحب أي ملىء، ويفهم من " القاموس " أن السجر من الأضداد، وكلا الاشتقاقين مناسب في السجير أي ملىء من حبك أو فرغ من غيرك إليك والأول أظهر.
والمراد بهذا وما قبله أنهم معذبون بأنواع العذاب سحبهم على وجوههم في النار الموقدة ثم تسليط النار على باطنهم وأنهم يعذبون ظاهرا وباطنا فلا استدراك في ذكر هذا بعد ما تقدم.
* (ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون * من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الك‍افرين) *.
* (ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون * من دون الله قالوا ضلوا عنا) * أي يقال لهم ويقولون، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع، والسؤال للتوبيخ، وضلالهم عنهم بمعنى غيبتهم من ضلت دابته إذا لم يعرف مكانها، وهذا لا ينافي ما يشعر بأن آلهتهم مقرونون بهم في النار لأن للنار طبقات ولهم فيها مواقف فيجوز غيبتهم عنهم في بعضها واقترانهم بهم في بعض آخر، ويجوز أن يكون ضلالهم استعارة لعدم النفع فحضورهم كالعدم فذكر على حقيقته في موضع وعلى مجازه في آخر * (بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا) * أي بل تبين لنا اليوم إنا لم نكن نعبد في الدنيا شيئا يعتد به، وهو إضراب عن كون الآلهة الباطلة ليست بموجودة عندهم أو ليست بنافعة إلى أنها ليست شيئا يعتد به.
وفي ذلك اعتراف بخطئهم وندم على قبيح فعلهم حيث لا ينفع ذلك، وجعل الجلبي هذه الآية كقوله تعالى: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23) يفزعون إلى الكذب لحيرتهم واضطرابهم، ومعنى قوله تعالى: * (كذلك يضل الله الكافرين) * أنه تعالى يحيرهم في أمرهم حتى يفزعون إلى الكذب مع علمهم بأنه لا ينفعهم، ولعل ما تقدم هو المناسب للسياق.
ومعنى هذا مثل ذلك الإضلال يضل الله تعالى في الدنيا الكافرين حتى أنهم يدعون فيها ما يتبين لهم أنه ليس بشيء أو مثل ضلال آلهتهم عنهم في الآخرة نضلهم عن آلهتهم فيها حتى لو طلبوا الآلهة وطلبتهم لم يلق بعضهم بعضا أو مثل ذلك الضلال وعدم النفع يضل الله تعالى الكافرين حتى لا يهتدوا في الدنيا إلى ما ينفعهم في الآخرة، وفي المجمع كما أضل الله تعالى أعمال هؤلاء وأبطل ما كانوا يؤملونه كذلك يفعل بأعمال جميع من يتدين بالكفر فلا ينتفعون بشيء منها، فإضلال الكافرين على معنى إضلال
أعمالهم أي إبطالها، ونقل ذلك عن الحسن، وقيل في معناه غير ذلك. [بم وقوله تعالى:
* (ذلكم بما كنتم تفرحون فى الارض بغير الحق وبما كنتم تمرحون) *.
* (ذلكم) * إشارة إلى المذكور من سحبهم في السلاسل والأغلال وتسجيرهم في النار وتوبيخهمب السؤال، وجوز على بعض الأوجه أن يكون إشارة إلى إضلال الله تعالى الكافرين، وإلى الأول ذهب ابن عطية أي ذلكم العذاب الذي أنتم فيه * (بما كنتم تفرحون في الأرض) * تبطرون وتأشرون كما
86

قال مجاهد: * (بغير الحق) * وهو الشرك والمعاصي أو بغير استحقاق لذلك، وفي ذكر * (الأرض) * زيادة تفظيع للبطر * (وبما كنتم تمرحون) * تتوسعون في الفرح، وقيل: المعنى بما كنتم تفرحون بما يصيب أنبياء الله تعالى وأولياءه من المكاره وبما كنتم تتوسعون في الفرح بما أوتيتم حتى نسيتم لذلك الآخرة واشتغلتم بالنعمة عن المنعم، وفي الحديث " الله تعالى يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين " وبين الفرح والمرح تجنيس حسن، والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ لأن ذم المرء في وجهه تشهير له، ولذا قيل: النصح بين الملأ تقريع.
* (ادخلوا أبوابجهنم خ‍الدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) *.
* (ادخلوا أبواب جهنم) * أي الأبواب المقسومة لكم * (خ‍الدين فيها) * مقدرين الخلود * (فبئس مثوى المتكبرين) * عن الحق جهنم، وكان مقتضى النظم الجليل حيث صدر بادخلوا أن يقال: فبئس مدخل المتكبرين ليتجاوب الصدر والعجز لكن لما كان الدخول المقيد بالخلود سبب الثواء عبر بالمثوى وصح التجاوب معنى، وهذا الأمر على ما استظهره في " البحر " مقول لهم بعد المحاورة السابقة وهم في النار، ومطمح النظر فيه الخلود فهو أمر بقيد الخلود لا بمطلق الدخول، ويجوز أن يقال: هم بعد الدخول فيها أمروا أن يدخلوا الأبواب المقسومة لهم فكان أمرا بالدخول بقيد التجزئة لكل باب، وقال ابن عطية: يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر ادخلوا.
* (فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون) *.
* (فاصبر إن وعد الله) * بتعذيب أعدائك الكفرة * (حق) * كائن لا محالة * (فإما نرينك) * أصله فإن نرك فزيدت * (ما) * لتوكيد * (إن) * الشرطية ولذلك جاز أن يلحق الفعل نون التوكيد على ما قيل: وإلى التلازم بين ما ونون التوكيد بعد أن الشرطية ذهب المبرد. والزجاج فلا يجوز عندهما زيادة ما بدون إلحاق نون ولا إلحاق نون بدون زيادة ما ورد بقوله: فإما تريني ولي لمة * فإن الحوادث أودي بها
ونسب أبو حيان على كلام فيه جواز الأمرين إلى سيبويه والغالب أن إن إذا أكدت - بما - يلحق الفعل بعدها نون التوكيد على ما نص عليه غير واحد * (بعحض الذي نعدهم) * وهو القتل والأسر * (أو نتوفينك) * قبل ذلك * (فإلينا يرجعون) * يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم، وهو جواب * (نتوفينك) * وجواب * (نرينك) * محذوف مثل فذاك، وجوز أن يكون جوابا لهما على معنى أن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب ويدل على شدته الاقتصار على ذكر الرجوع في هذا المعرض. والزمخشري آثر في الآية هنا ما ذكر أولا وذكر في الرعد في نظيرها أعني قوله تعالى: * (وأما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ) * (الرعد: 40) ما يدل على أن الجملة المقرونة بالفاء جواب على التقديرين، قال في " الكشف ": والفرق أن قوله تعالى: * (فاصبر إن وعد الله حق) * (الروم: 60) عدة للإنجاز والنصر وهو الذي همه عليه الصلاة والسلام وهم المؤمنين معقود به لمقتضى هذا السياق فينبغي أن يقدر فذاك هناك ثم جىء بالتقدير الثاني ردا لشماتتهم وإنه منصور على كل حال وإتماما للتسلي، وأما مساق التي في الرعد فلا يجاب التبليغ وإنه ليس عليه غير ذلك كيفما دارت القضية، فمن ذهب إلى إلحاق ما هنا بما في الرعد ذهب عنه مغزى الزمخشري انتهى فتأمل ولا تغفل.
وقرأ أبو عبد الرحمن. ويعقوب * (يرجعون) * بفتح الياء، وطلحة بن مصرف. ويعقوب في رواية الوليد بن
87

حسان بفتح تاء الخطاب.
* (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتى بااية إلا بإذن الله فإذا جآء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون) *.
* (ولقد أرسلنا رسلا) * ذوي خطر وكثرة * (من قبلك) * من قبل إرسالك.
* (منهم من قصصنا) * أوردنا أخبارهم وآثارهم * (عليك) * كنوح وإبراهيم. وموسى عليهم السلام.
* (ومنهم من لم نقصص عليك) * وهم أكثر الرسل عليهم الصلاة والسلام، أخرج الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: " قلت يا رسول الله كم عدة الأنبياء؟ قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر جما غفيرا " والظاهر أن المراد بالرسول في الآية ما هو أخص من النبي، وربما يوهم صنيع القاضي أن المراد به ما هو مساو للنبي.
وأيا ما كان لا دلالة في الآية على عدم علمه صلى الله عليه وسلم بعدد الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كما توهم بعض الناس، ورد لذلك خبر الإمام أحمد وجرى بيننا وبينه من النزع ما جرى، وذلك لأن المنفي القص وقد علمت معناه فلا يلزم من نفي ذلك نفي ذكر أسمائهم، ولو سلم فلا يلزم من نفى ذكر الأسماء نفى ذكر أن عدتهم كذا من غير تعرض لذكر أسمائهم، على أن النفي بلم وهي على الصحيح تقلب المضارع ماضيا فالمنفي القص في الماضي ولا يلزم من ذلك استمرار النفي فيجوز أن يكون قد قصوا عليه عليه الصلاة والسلام جميعا بعد ذلك ولم ينزل ذلك قرآنا، وأظهر من ذلك في الدلالة على عدم استمرار النفي قوله تعالى: * (رسلا قد
قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك) * لتبادر الذهن فيه إلى أن المراد لم نقصصهم عليك من قبل لمكان * (قصصناهم عليك من قبل) * وبالجملة الاستدلال بالآية على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم عدة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ولا علمها بعد جهل عظيم بل خذلان جسيم نعوذ بالله تعالى من ذلك، وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه. عن علي كرم الله تعالى وجهه في قوله تعالى: * (ومنهم من لم نقصص عليك) * قال: بعث الله تعالى عبدا حبشيا نبيا فهو ممن لم يقصص على محمد صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس بلفظ " إن الله تعالى بعث نبيا أسود في الحبش فهو ممن لم يقصص عليه عليه الصلاة والسلام " والمراد بذلك على نحو ما مر أنه لم تذكر له صلى الله عليه وسلم قصصه وآثاره ولا أوردت عليه أحواله وأخباره كما كان في شأن موسى وعيسى وغيرهما من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولا يمكن أن يقال: المراد أنه لم يذكر له صلى الله عليه وسلم بعثة شخص موصوف بذلك إذ لا يساعد عليه اللفظ، وأيضا لو أريد ما ذكر فمن أين علم علي كرم الله تعالى وجهه أو ابن عباس ذلك وهل يقول باب مدينة العلم على علم لم يفض عليه من تلك المدينة حاشاه ثم حاشاه وكذا ابن عمه العباس عبد الله. واستشكل هذا الخبر بأن فيه رسالة العبد وقد قالوا العبد لا يكون رسولا، وأجيب بأن العبد فيه ليس بمعنى المملوك وهو الذي لا يكون رسولا لنقصان تصرفه ونفرة النفوس عن اتباعه بل هو أحد العبيد بمعنى السودان عرفا ولو قيل: إن العبد بهذا المعنى لا يكون رسولا أيضا لنفرة النفوس عن اتباعه كنفرتها عن اتباع المملوك قلنا: على تقدير تسليم النفرة إنما هي فيما إذا كان الإرسال لغير السودان وأما إذا كان الإرسال للسودان فليست هناك نفرة أصلاف، وظاهر لفظ ابن عباس أن ذلك الأسود إنما بعث في الحبش والتزام أنه لا يكون رسول من السودان أولاد حام مما لا يساعد عليه الدليل لأنه إن كانت النفرة مانعة من الإرسال فهي لا تتحقق فيما إذا كان الإرسال إلى بني صنفه؛ وإن كان المانع أنه لا يوجد متأهر للإرسال في بني حام لنقصان عقولهم وقلة كما لهم فدعوى ذلك جهل والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته وكم رأينا في أبناء حام من هو أعقل وأكمل من كثير من أبناء سام ويافث، وإن كان قد ورد فأطع من نبينا
88

صلى الله عليه وسلم أنه لا يكون من أولئك رسول فليذكر وأنى به ثم أن أمر النبوة فيمن ذكر أهون من أمر الرسالة كما لا يخفى، وكأنه لمجموع ما ذكرنا قال الخفاجي عليه الرحمة: في صحة الخبر نظر * (وما كان لرسول) * أي وما صح وما استقام لرسول من أولئك الرسل * (أن يأتي بآية) * بمعجزة * (إلا بإذن الله) * فالمعجزات على تشعب فنونها عطايا من الله تعالى قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة كسائر القسم ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها * (فإذا جاء أمر الله) * بالعذاب في الدنيا والآخرة * (قضي بالحق) * بإنجاء المحق وإثابته وإهلاك المبطل وتعذيبه * (وخسر هنالك) * أي وقت مجىء أمر الله تعالى اسم كان استعير للزمان * (المبطلون) * المتمسكون بالباطل على الإطلاق فيدخل فيهم المعاندون المقترحون دخولا أوليا ومن المفسرين من فسر المبطلين بهم وفسر أمر الله بالقيامة، ومنهم من فسره بالقتل يوم بدر وما ذكرنا أولى.
وأبعد ما رأينا في الآية أن المعنى فإذا أراد الله تعالى إرسال رسول وبعثة نبي قضى ذلك وأنفذه بالحق وخسر كل مبطل وحصل على فساد آخرته.
* (الله الذى جعل لكم الانع‍ام لتركبوا منها ومنها تأكلون) *.
* (الله الذي جعل لكم الأنعام) * المراد بها الإبل خاصة كما حكي عن الزجاج واختاره صاحب الكشاف، واللام للتعليل لا للاختصاص فإن ذلك هو المعروف في نظير الآية أي خلقها لأجلكم ولمصلحتكم، وقوله تعالى: * (لتركبوا منها) * الخ تفصيل لما دل عليه الكلام إجمالا، ومن هنا جعل ذلك بعضهم بدلا مما قبله بدل مفصل من مجمل بإعادة حرف الجر، و * (من) * لابتداء الغاية أي ابتداء تعلق الركوب بها أو تبعيضية وكذا * (من) * في قوله تعالى: * (ومنها تأكلون) * وليس المراد على إرادة التبعيض أن كلا من الركوب والأكل مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن كل بعض منها صالح لكل منهما. نعم كثيرا ما يعدون النجائب من الإبل للركوب، والجملة على ما ذهب إليه الجلبي عطف على المعنى فإن قوله تعالى: * (لتركبوا منها) * في معنى منها تركبون أو إن منها تأكلون في معنى لتأكلوا منها لكن لم يؤت به كذلك لنكتة.
وقال العلامة التفتازاني: إن هذه الجملة حالية لكن يرد على ظاهره أن فيه عطف الحال على المفعول له ولا محيص عنه سوى تقدير معطوف أي خلق لكم الأنعام منها تأكلون ليكون من عطف جملة على جملة.
وتعقبه الخفاجي بقوله: لم يلح لي وجه جعل هذا الواو عاطفة محتاجة إلى التقدير المذكور مع أن الظاهر أنها واو حالية سواء قلنا إنها حال من الفاعل أو المفعول والمنساق إلى ذهني العطف بحسب المعنى، ولعل اعتباره في جانب المعطوف أيسر فيعتبر أيضا في قوله تعالى:
* (ولكم فيها من‍افع ولتبلغوا عليها حاجة فى صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون) *.
* (ولكم فيها منافع) * أي غير الركوب والأكل كالألبان والأوبار والجلود ويقال: إنه في معنى ولتنتفعوا بمنافع فيها أو نحو ذلك * (ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم) * أي أمرا ذا بال تهتمون به وذلك كحمل الأثقال من بلد إلى بلد، وهذا عطف على لتركبوا منها جاء على نمطه، وكان الظاهر المزاوجة بين الفوائد المحصلة من الأنعام بأن يؤتى باللام في الجميع أو تترك فيه لكن عدل إلى ما في " النظم الجليل " لنكتة.
89

قال صاحب الكشف: إن الأنعام ههنا لما أريد بها الإبل خاصة جعل الركوب وبلوغ الحاجة من أتم الغرض منها لأن جل منافعها الركوب والحمل عليها، وأما الأكل منها والانتفاع بأوبارها وألبانها بالنسبة إلى ذينك الأمرين فنزر قليل، فأدخل اللام عليهما وجعلا مكتنفين لما بينهما تنبيها على أنه أيضا مما يصلح للتعليل ولكن قاصرا عنهما، وأما الاختصاص المستفاد من قوله تعالى: * (ومنها تأكلون) * فلأنها من بين ما يقصد للركوب ويعد للأكل فلا ينتقض بالخيل على مذهب من أباح لحمها ولا بالبقر، وقال صاحب الفرائد: إنما قيل * (ومنها تأكلون ولكم فيها منافع) * ولم يقل: لتأكلوا منها ولتصلوا إلى المنافع لأنهم في الحال آكلون وآخذون المنافع وأما الركوب
وبلوغ الحاجة فأمران منتظران فجىء فيهما بما يدل على الاستقبال. وتعقب بأن الكل مستقبل بالنسبة إلى زمن الخلق.
وقال القاضي: تغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة، وقيل في توجيهه: يعني أن مدخول الغرض لا يلزم أن يترتب على الفعل، فالتغيير إلى صورة الجملة الحالية مع الإتيان بصيغة الاستمرار للتنبيه على امتيازه عن الركوب في كونه من ضروريات الإنسان. ويطرد هذا الوجه في قوله تعالى: * (ولكم فيها منافع) * لأن المراد منفعة الشرب واللبس وهذا مما يلحق بالضروريات وهو لا يضر نعم فيه دغدغة لا تخفى. وقال الزمخشري: إن الركوب وبلوغ الحاجة يصح أن يكونا غرض الحكيم جل شأنه لما فيهما من المنافع الدينية كإقامة دين وطلب علم واجب أو مندوب فلذا جىء فيهما باللام بخلاف الأكل وإصابة المنافع فإنهما من جنس المباحات التي لا تكون غرض الحكيم. وهو مبني على مذهبه من الربط بين الأمر والإرادة ولا يصح أيضا لأن المباحات التي هي نعمة تصح أن تكون غرض الحكيم جل جلاله عندهم، ويا ليت شعري ماذا يقول في قوله تعالى: * (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) * نعم لو ذكر أنه لاشتماله على الغرض الديني كان أنسب بدخول اللام لكان وجها إن تم.
وقيل: تغيير النظم الجليل في الأكل لمراعاة الفواصل كما أن تقديم الجار والمجرور لذلك. وأما قوله تعالى: * (ولكم فيها منافع) * فكالتابع للأكل فأجرى مجراه وهو كما ترى، وقوله تعالى: * (وعليها) * توطئة لقوله سبحانه: * (وعلى الفلك تحملون) * ليجمع بين سفائن البر وسفائن البحر فكأنه قيل: وعليها في البر وعلى الفلك في البحر تحملون فلا تكرار. وفي إرشاد العقل السليم لعل المراد بهذا الحمل حمل النساء والولدان عليها بالهودج وهو السر في فصله عن الركوب، وتقديم الجار قيل: لمراعاة الفواصل كتقديمه قبل.
وقيل التقديم هنا وفيما تقدم للاهتمام؛ وقيل: * (على الفلك) * دون في الفلك كما في قوله تعالى: * (احمل فيها من كل زوجين اثنين) * (هود: 40) لأن معنى الظرفية والاستعلاء موجود فيها فيصح كل من العبارتين، والمرجح لعلى هنا المشاكلة.
وذهب غير واحد إلى أن المراد بالأنعام الأزواج الثمانية فمعنى الركوب والأكل منها تعلقهما بالكل لكن لا على أن كلا منهما مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن بعضها يتعلق به الأكل فقط كالغنم وبعضها يتعلق به كلاهما كالإبل ومنهم من عد البقر أيضا وركوبه معتاد عند بعض أهل الأخبية، وأدرج بعضهم الخيل والبغال وسائر ما ينتفع به من البهائم في الأنعام وهو ضعيف.
ورجح القول بأن المراد الأزواج الثمانية على القول المحكي عن الزجاج من أن المراد الإبل خاصة بأن المقام
90

مقام امتنان وهو مقتض للتعميم، والظاهر ذاك، وكون المقام مقام امتنان غير مسلم بل هو مقام استدلال كقوله تعالى: * (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) * (الغاشية: 17) كما يشعر به السياق، ولا يأباه ذكر المنافع فإنه استطرادي.
* (ويريكم ءاي‍اته فأى ءاي‍ات الله تنكرون) *.
* (ويريكم ءاياته) * أي دلائله الدالة على كمال شؤونه جل جلاله * (فأي ءايات الله) * أي فأي آية من تلك الآيات الباهرة * (تنكرون) * فإن كلا منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترىء على إنكارها من له عقل في الجملة، فأي للاستفهام التوبيخي وهي منصوبة بتنكرون، وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل إنكارها وتنكير أي في مثل ما ذكر هو الشائع المستفيض والتأنيث قليل ومنه قوله: بأي كتاب أم بأية سنة * ترى حبهم عارا علي وتحسب
قال الزمخشري: لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب لإبهامه لأنه اسم استفهام عما هو مبهم مجهول عند السائل والتفرقة مخالفة لما ذكر لأنها تقتضي التمييز بين ما هو مؤنث ومذكر فيكون معلوما له.
* (أفلم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان ع‍اقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا فى الارض فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) *.
* (أفلم يسيروا) * أي أقعدوا فلم يسيروا على أحد الرأيين:
* (كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا في الأرض) * الخ استئناف نظير ما مر في نظيره أول السورة بل أكثر الكلام هناك جار ههنا * (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) * * (ما) * الأولى: نافية أو استفهامية في معنى النفي في محل نصب بأغنى، والثانية: موصولة في موضع رفع به أو مصدرية والمصدر الحاصل بالتأويل مرفوع به أيضا أي لم يغن عنهم أو أي شيء أغنى عنهم الذي كسبوه أو كسبهم.
* (فلما جآءتهم رسلهم بالبين‍ات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) *.
* (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات) * المعجزات أو الآيات الواضحات الشاملة لذلك * (فرحوا بما عندهم من العلم) * ذكر فيه ستة أوجه. الأول: أن المراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة فيما يتعلق بالمبدأ والمعاد وغيرهما أو عقائدهم المتعلقة بأحوال الآخرة كما هو ظاهر كلام الكشاف، والتعبير عن ذلك بالعلم على زعمهم للتهكم كما في قوله تعالى: * (بل ادارك علمهم في الآخرة) * (النمل: 66).
والمعنى أنهم كانوا يفرحون بذلك ويستحقرون له علم الرسل عليهم السلام ويدفعون به البينات. الثاني: أن المراد به علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان على اختلاف أنواعه فكانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغروا علم الأنبياء عليهم السلام إلى ما عندهم من ذلك. وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه الصلاة والسلام، وقيل له: لو هاجرت إليه فقال: نحن قوم مهذبون فلا حاجة لنا إلى من يهذبنا. والزمان متشابه فقد رأينا من ترك متابعة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم واستنكف عن الانتساب إلى شريعة أحد منهم فرحا بما لحس من فضلات الفلاسفة وقال: إن العلم هو ذاك دون ما جاء به الرسل صلوا ت الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين. الثالث:
أن أصل المعنى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بما جاءهم من العلم فوضعوا موضعه فرحوا بما عندهم من الجهل ثم سمي ذلك الجهل علما لاغتباطهم به ووضعهم إياه مكان ما ينبغي لهم من الاغتباط بما جاءهم من العلم، وفيه التهكم بفرط جهلهم والمبالغة في خلوهم من العلم، وضمير * (فرحوا) * و * (عندهم) * على هذه الأوجه للكفرة المحدث عنهم.
الرابع: أن يجعل ضمير * (فرحوا) * للكفرة وضمير * (عندهم) * للرسل عليهم السلام، والمراد بالعلم الحق الذي جاء المرسلون به أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، وخلاصته أنهم استهزؤا
91

بالبينات وبما جاء به الرسل من علم الوحي، ويؤيد هذا قوله تعالى: * (وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن) *.
الخامس: أن يجعل الضمير أن للرسل عليهم السلام، والمعنى أن الرسل لما رأوا جهل الكفرة المتمادي واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله تعالى وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم، وحكي هذا عن الجبائي السادس: أن يجعل الضميران للكفار، والمراد بما عندهم من العلم علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال تعالى: * (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. ذلك مبلغهم من العلم) * فلما جاءهم الرسل بعلم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به، قال صاحب الكشف: والأرجح من بين هذه الأوجه الستة الثالث ففيه التهكم والمبالغة في خلوهم من العلم ومشتمل على ما يشتمل عليه الأول وزيادة سالم عن عدم الطباق للواقع كما في الثاني وعن قصور العبارة عن الأداء كالرابع وعن فك الضمائر كما في الخامس، والسادس قريب لكنه قاصر عن فوائد الثالث انتهى فتأمله جدا.
وأبو حيان استحسن الوجه السادس وتعقب الوجه الثالث بأنه لا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام نحو شر أهر ذا ناب على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز، وأما الآية فينبغي أن لا تحمل على القليل لأن في ذلك تخليطا لمعاني الجمل المتباينة فلا يوثق بشيء منها، وأنت تعلم أنه لا تباين معنى بين لم يفرحوا بما جاءهم من العلم و * (فرحوا بما عندهم من العلم) * على ما قرر. نعم هذا الوجه عندي مع ما فيه من حسن لا يخلو عن بعد، وكلام صاحب الكشف لا يخلو عن دغدغة.
* (فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين) *.
* (فلما رأوا بأسنا) * شدة عذابنا ومنه قوله تعالى: * (بعذاب بئيس) * (الأعراف: 165) * (قالوا ءامنا بالله وحده وكعفرنا بما كنا به مشركين) * يعنون الأصنام أو سائر آلهتهم الباطلة:
* (فلم يك ينفعهم إيم‍انهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت فى عباده وخسر هنالك الك‍افرون) *.
* (فلم يك ينفعهم إيم‍انهم لما رأوا بأسنا) * أي عند رؤية عذابنا لأن الحكمة الإلهية قضت أن لا يقبل مثل ذلك الإيمان، و * (إيمانهم) * رفع بيك اسما لها أو فاعل * (ينفعهم) * وفي * (يك) * ضمير الشأن على الخلاف الذي في كان يقوم زيد، ودخل حرف النفي على الكون لا على النفع لإفادة معنى نفي الصحة فكأنه لم يصح ولم يستقم حكمة نفع إيمانهم إياهم عند رؤية العذاب، وههنا أربعة فاءات فاء * (فما أغنى) * وفاء * (فلما جاءتهم) * وفاء * (فلما رأوا) * وفاء * (فلم يك) * فالفاء الأولى: مثلها في نحو قولك: رزق المال فمنع المعروف فما بعدها نتيجة مآلية لما كانوا فيه من التكاثر بالأموال والأولاد والتمتع بالحصون ونحوها، والثانية: تفسيرية مثلها في قولك: فلم يحسن إلى الفقراء بعد فمنع المعروف في المثال فما بعدها إلى قوله تعالى: * (وحاق بهم) * إيضاح لذلك المجمل وأنه كيف انتهى بهم الأمر إلى عكس ما أملوه وأنهم كيف جمعوا واحتشدوا وأوسعوا في إطفاء نور الله وكيف حاق المكر السيء بأهله إذ كان في قوله سبحانه: * (فما أغنى عنهم) * إيماء بأنهم زاولوا أن يجعلوها مغنية، والثالثة: للتعقيب، وجعل ما بعدها تابعا لما قبلها واقعا عقيبه * (فلما رأوا بأسنا) * مترتب على قوله تعالى: * (فلما جاءتهم) * الخ تابع له لأنه بمنزلة فكفروا إلا أن * (فلما جاءتهم) * الآية بيان كفر مفصل مشتمل على سوء معاملتهم وكفرانهم بنعمة الله تعالى العظمى من الكتاب والرسول فكأنه قيل: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، ومثلها الفاء الرابعة
92

فما بعدها عطف على آمنوا دلالة على أن عدم نفع إيمانهم ورده عليهم تابع للإيمان عند رؤية العذاب كأنه قيل: فلما رأوا بأسنا آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم إذ النافع إيمان الاختيار * (سنت الله التي قد خلت في عباده) * أي سن الله تعالى ذلك أعني عدم نفع الإيمان عند رؤية البأس سنة ماضية في البعاد، وهي من المصادر المؤكدة كوعد الله وصبغة الله، وجوز انتصابها على التحذير أي احذروا يا أهل مكة سنة الله تعالى في أعداء الرسل.
* (وخسر هنالك الك‍افرون) * أي وقت رؤيتهم البأس على أنه اسم مكان قد استعير للزمان كما سلف آنفا، وهذا الحكم خاص بإيمان البأس وأما توبة البأس فهي مقبولة نافعة بفضل الله تعالى وكرمه، والفرق ظاهر.
وعن بعض الأكابر أن إيمان البأس مقبول أيضا ومعنى * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * أن نفس إيمانهم لم ينفعهم وإنما نفعهم الله تعالى حقيقة به، ولا يخفى عليك حال هذا التأويل وما كان من ذلك القبيل والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في بعض الآيات: على ما أشار إليه بعض السادات * (حم) * (غافر: 1) إشارة إلى ما أفيض على قلب محمد صلى الله عليه وسلم من الرحمن فإن الحاء والميم من وسط الاسمين الكريمين، وفي ذلك أيضا سر لا يجوز كشفه ولما صدرت السورة بما أشار إلى الرحمة وأنها وصف المدعو إليه والداعي ذكر بعد
من صفات المدعو إليه وهو الله عز وجل ما يدل على عظم الرحمة وسبقها، وفي ذلك من بشار المدعو ما فيه.
* (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) * (غافر: 7) الخ فيه إشارة إلى شرف الإيمان وجلالة قدر المؤمنين وإلى أنه ينبغي للمؤمنين من بني آدم أن يستغفر بعضهم لبعض؛ وفي ذلك أيضا من تأكيد الدلالة على عظم رحمة الله عز وجل ما لا يخفى * (فادعوا الله مخلصين له الدين) * (غافر: 14) بأن يكون غير مشوب بشيء من مقاصد الدنيا والآخرة * (يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده) * قيل: في إطلاق الروح إشارة إلى روح النبوة وهو يلقى على الأنبياء، وروح الولاية ويلقى على العارفين، وروح الدراية ويلقى على المؤمنين الناسكين * (لينذر يوم التلاق) * (غافر: 15) قيل التلاقي مع الله تعالى ولا وجود لغيره تعالى وهو مقام الفناء المشار إليه بقوله سبحانه: * (يوم هم بارزون) * من قبور وجودهم * (لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * (غافر: 16) إذ ليس في الدار غيره ديار * (اليوم تجزى كل نفس) * من التجلي * (بما كسبت) * في بذل الوجود للمعبود * (لا ظلم اليوم) * (غافر: 17) فتنال كل نفس من التجلي بقدر بذلها من الوجود لا أقل من ذلك.
* (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين) * (غافر: 18) هذه قيامة العوام المؤجلة ويشير إلى قيامة الخواص المعجلة لهم، فقد قيل: إن لهم في كل نفس قيامة من العتاب والعقاب والثواب والبعاد والاقتراب وما لم يكن لهم في حساب، وخفقان القلب ينطق والنحول يخبر واللون يفصح والمشوق يستر ولكن البلاء يظهر، وإذا أزف فناء الصفات بلغت القلوب الحناجر وشهدت العيون بما تخفي الضمائر * (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) * (غافر: 19) خائنة أعين المحبين استحسانهم تعمد النظر إلى غير المحبوب باستحسان واستلذاذ وما تخفيه الصدور من متمنيات النفوس ومستحسنات القلوب ومرغوبات الأرواح * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) * قيل أي اطلبوني مني أجبكم فتجدوني ومن وجدني وجد كل شيء فالدعاء الذي لا يرد هو هذا الدعاء، ففي بعض الأخبار من طلبني وجدني * (إن الذين يستكبرون عن عبادتي) * دعائي وطلبي * (سيدخلون جهنم) * (غافر: 60) الحرمان
93

والبعد مني * (داخرين) * ذليلين مهينين * (الله الذي عل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) * (غافر: 61) فيه إشارة إلى ليل البشرية ونهار الروحانية، وذكر أن سكون الناس في الليل المعروف على أقسام فأهل الغفلة يسكنون إلى استراحة النفوس والأبدان، وأهل الشهوة يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم من الرجال والنسوان، وأهل الطاعة يسكنون إلى حلاوة أعمالهم وقوة آمالهم. وأهل المحبة يسكنون إلى أنين النفوس وحنين القلوب وضراعة الإسرار واشتعال الأرواح بالأشواق التي هي أحر من النار * (الله الذي جعل لكم الأرض قرارا) * يشير إلى أنه تعالى جعل أرض البشرية مقرا للروح * (والسماء) * بناء أي سماء الروحانية مبنية عليها * (وصوركم فأحسن صوركم) * (غافر: 64) بأن جعلكم مرايا جماله وجلاله، وفي الخبر " خلق الله تعالى آدم على صورته " وفي ذلك إشارة إلى رد * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدخاء) * (البقرة: 30) ولله تعالى من قال: / جسم]
ما حطك الواشون عن رتبة * عندي ولا ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا ولم يعلموا * عليك عندي بالذي عابوا
والكافر لسوء اختياره التحق بالشياطين وصار مظهرا لصفات القهر من رب العالمين وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين، تم الكلام على سورة المؤمن والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا.
سورة فصلت
وتسمى سورة السجدة وسورة حم السجدة وسورة المصابيح وسورة الأقوات، وهي مكية بلا خلاف ولم أقف فيها على استثناء، وعدد آياتها كما قال الداني خمسون وآيتان بصري وشامي وثلاث مكي ومدني وأربع كوفي، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر قبل * (أفلم يسيروا في الأرض) * (يوسف: 109) الخ وكان ذلك متضمنا تهديدا وتقريعا لقريش وذكر جل شأنه هنا نوعا آخر من التهديد والتقريع لهم وخصهم بالخطاب في قوله تعالى: * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) * (فصلت: 13) ثم بين سبحانه كيفية إهلاكهم وفيه نوع بيان لما في قوله تعالى: * (أفلم يسيروا) * (غافر: 40) الآية، وبينهما أوجه من المناسبة غير ما ذكر. وأخرج البيهقي في " شعب الإيمان " عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ تبارك وحم السجدة.
* (حم) *.
* (ح‍ام) * أن جعل اسما للسورة أو القرآن فهو إما خبر لمحذوف أو مبتدأ خبره.
* (تنزيل من الرحم‍ان الرحيم) *.
* (تنزيل) * على المبالغة أو التأويل المشهور، وهو على الأول خبر بعد خبر، وخبر مبتدأ محذوف أن جعل * (حم) * مسرودا على نمط التعديد عند الفراء، وقوله تعالى: * (من الرحم‍ان الرحيم) * من تتمته مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أو خبر آخر للمبتدأ المحذوف أو تنزيل مبتدأ لتخصصه بما بعده خبره.
* (كت‍ابفصلت ءاي‍اته قرءانا عربيا لقوم يعلمون) *.
* (كت‍اب) * وحكي ذلك عن الزجاج. والحوفي، وهو على الأوجه الأول بدل منه أو خبر آخر أو خبر لمحذوف، وجملة * (فصلت ءاياته) * على جميع الأوجه في موضع الصفة لكتاب، وإضافة التنزيل إلى
94

* (الرحمن الرحيم) * من بين أسمائه تعالى للإيذان بأنه مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (الأنبياء: 107) وتفصيل آياته تمييزها لفظا بفواصلها ومقاطعها ومبادىء السور وخواتمها، ومعنى بكونها وعدا ووعيدا وقصصا وأحكاما إلى غير ذلك بل من أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمباحث المتباينة عبارة وإشارة مثل ما في القرآن. وعن السدي * (فصلت آياته) * أي بينت ففصل بين حرامه وحلاله وزجره وأمره ووعده ووعيده، وقال الحسن: فصلت بالوعد والوعيد، وقال سفيان: بالثواب والعقاب، وما ذكرنا أولا أعم ولعل ماذ كروه من باب التمثيل لا الحصر، وقيل: المراد فصلت آياته في التنزيل أي لم تنزل جملة واحدة وليس بذاك. وقرىء * (فصلت) * بفتح الفاء والصاد مخففة أي فرقت بين الحق والباطل، وقال ابن زيد: بين النبي صلى الله عليه وسلم ومن خالفه على أن فصل متعد أو فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل والمعاني على أن فصل لازم بمعنى انفصل كما في قوله تعالى: * (فصلت العير) *.
وقرىء * (فصلت) * بضم الفاء وكسر الصاد مخففة على أنه مبني للمفعول والمعنى على ما مر * (قرءانا عربيا) * نصب على المدح بتقدير أعني أو أمدح أو نحوه أو على الحال فقيل: من * (كتاب) * لتخصصه بالصفة، وقيل: من * (آياته) * وجوز في هذه الحال أن تكون مؤكدة لنفسها وأن تكون موطئة للحال بعدها، وقيل: نصب على المصدر أي يقرؤه قرآنا، وقال الأخفش: هو مفعول ثان لفصلت، وهو كما ترى إن لم تكن أخفش، وأيا ما كان ففي * (قرآنا عربيا) * امتنان بسهولة قراءته وفهمه لنزوله بلسان من نزل بين أظهرهم * (لقوم يعلمون) * أي معانيه لكونه على لسانهم على أن المفعول محذوف أو لأهل العلم والنظر على أن الفعل منزل منزلة اللازم ولام * (لقوم) * تعليلية أو اختصاصية وخصهم بذلك لأنهم هم المنتفعون به والجار والمجرور إما في موضع صفة أخرى - لقرآنا - أو صلة - لتنزيل - أو - لفصلت - قال الزمخشري: ولا يجوز أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده أي قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب لئلا يفرق بين الصلات والصفات، ولعله أراد لئلا يلزم التفريق بين الصفة وهي قوله تعالى:
* (بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) *.
* (بشيرا ونذيرا) * وموصوفها وهو * (قرآنا) * بناء على أنه صفة له بالصلة وهي * (لقوم) * على تقدير تعلقه - بتنزيل - أو - بفصلت - وبين الصلة وموصولها بالصفة أي * (تنزيل) * أو * (فصلت) * و * (لقوم) * والجمع للمبالغة على حد قولك لمن يفرق بين أخوين: لا تفعل فإن التفريق بين الأخوان مذموم أو أراد لئلا يفرق بين الصلتين في الحكم مع عدم الموجب للتفريق وهو أن يتصل * (من الرحمن) * بموصوله ولا يتصل * (لقوم) * وكذلك بين الصفتين وهو * (عربيا) * بموصوفه ولا يتصل * (بشيرا) * والجمع لذلك أيضا. واختار أبو حيان كون الجار والمجرور صلة * (فصلت) * وقال: يبعد تعلقه - بتنزيل - لكونه وصف قبل أخذ متعلقه إن كان * (من الرحمن) * في موضع الصفة أو أبدل منه * (كتاب) * أو كان خبرا - لتنزيل - فيكون في ذلك البدل من الموصول أو الإخبار عنه أخذه متعلقه وهو لا يجوز ولعل ذلك غير مجمع عليه، وكون * (بشيرا) * صفة * (قرآنا) * هو المشهور، وجوز أن يكون مع ما عطف عليه حال من * (كتاب) * أو من * (آياته) * وقرأ زيد بن علي * (بشير) * ونذير برفعهما وهي رواية شاذة عن نافع على الوصفية لكتاب أو الخبرية لمحذوف أي هو بشير لأهل الطاعة ونذير لأهل المعصية * (فأعرض أكثرهم) * عن تدبره وقبوله، والضمير للقوم على المعنى الأول ليعلمون وللكفار المذكورين حكما على المعنى الثاني، ويجوز أن يكون للقوم عليه أيضا بأن يراد به
95

ما من شأنهم العلم والنظر * (فهم لا يسمعون) * أي لا يقبلون ولا يطيعون من قولك: تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه فكأنه لم يسمعه وهو مجاز مشهور.
وفي " الكشف " أن قوله تعالى: * (فاعرض) * مقابل قوله تعالى: * (لقوم يعلمون) * وقوله سبحانه: * (فهم لا يسمعون) * مقابل قوله جل شأنه: * (بشيرا ونذيرا) * أي أنكروا إعجازه والإذعان له مع العلم ولم يقبلوا بشائره ونذره لعدم التدبر.
* (وقالوا قلوبنا فىأكنة مما تدعونا إليه وفى ءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا ع‍املون) *.
* (وقالوا قلوبنا في أكنة) * أي أغطية متكاثفة * (مما تدعونا إليه) * من الإيمان بالله تعالى وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا و * (من) * على ما في " البحر " لابتداء الغاية * (وفي ءاذاننا وقر) * أي صمم وأصله الثقل.
وقرأ طلحة بكسر الواو وقرىء بفتح القاف * (ومن بيننا وبينك حجاب) * غليظ يمنعنا عن التواصل ومن للدلالة على أن الحجاب مبتدأ من الجانبين بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة ولم يبق ثمت فراغ أصلا.
وتوضيحه أن البين بمعنى الوسط بالسكون وإذا قيل: بيننا وبينك حجاب صدق على حجاب كائن بينهما استوعب أولا، وأما إذا قيل: من بيننا فيدل على أن مبتدأ الحجاب من الوسط أعني طرفه الذي يلي المتكلم فسواء أعيد * (من) * أو لم يعد يكون الطرف الآخر منتهى باعتبار ومبتدأ باعتبار فيكون الظاهر الاستيعاب لأن جميع الجهة أعني البين جعل مبتدأ الحجاب فالمنتهى غيره البتة، وهذا كاف في الفرق بين الصورتين كيف وقد أعيد البين لاستئناف الابتداء من تلك الجهة أيضا إذ لو قيل: ومن بيننا بتغليب المتكلم لكفى، ثم ضرورة العطف على نحو بيني وبينك إن سلمت لا تنافي إرادة الإعادة له فتدبر، وما ذكروه من الجمل الثلاث تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله ومج أسماعهم له وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا بذلك إقناطه عليه الصلاة والسلام عن اتباعهم إياه عليه الصلاة والسلام حتى لا يدعوهم إلى الصراط المستقيم.
وذكر أبو حيان أنه لما كان القلب محل المعرفة والسمع والبصر معينان على تحصيل المعارف ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها مما يلقيه الرسول صلى الله عليه وسلم شيء ولم يقولوا على قلوبنا أكنة كما قالوا: وفي آذاننا وقر ليكون الكلام على نمط واحد في جعل القلوب والآذان مستقر الأكنة والوقر وإن كان أحدهما استقرار استعلاء والثاني استقرار احتواء إذ لا فرق في المعنى بين قلوبنا في أكنة وعلى قلوبنا أكنة والدليل عليه قوله تعالى: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة) * أن يفقهوه ولو قيل إنا جعلنا قلوبهم في أكنة لم يختلف المعنى فالمطابقة حاصلة من حيث المعنى والمطابيع من العرب لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني، واختصاص كل من العبارتين بموضعه للتفنن على أنه لما كان منسوبا إلى الله تعالى في سورة بني إسرائيل والكهف كان معنى الاستعلاء والقهر أنسب، وههنا لما كان حكاية عن مقالهم كان معنى الاحتواء أقرب، كذا حققه بعض الأجلة ودغدغ فيه، وتفسير الأكنة بالأغطية هو الذي عليه جمهور المفسرين فهي جمع كنان كغطاء لفظا ومعنى: وقيل: هي ما يجعل فيها السهام. أخرج عبد بن حميد. وابن المنذر عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى: * (وقالوا قلوبنا في أكنة) * قالوا كالجعبة للنبل * (فاعمل) * على دينك وقيل في إبطال أمرنا * (إننا عاملون) * على ديننا وقيل: في إبطال أمرك والكلام على الأول متاركة وتقنيط عن اتباعه عليه الصلاة والسلام، ومقصودهم أننا عاملون، والأول: توطئة له، وحاصل المعنى أنا لا نترك ديننا بل نثبت عليه
96

كما نثبت على دينك، وعلى الثاني: هو مبارزة بالخلاف والجدال، وقائل ما ذكر أبو جهل ومعه جماعة من قريش.
ففي خبر أخرجه أبو سهل السري من طريق عبد القدوس عن نافع بن الأزرق عن ابن عمر عن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية أقبلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ما يمنعكم من الإسلام فتسودوا العرب؟ فقالوا: يا محمد ما نفقه ما تقول ولا نسمعه وان على قلوبنا لغلفا وأخذ أبو جهل ثوابا فمده فيما بينه وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب، وفيه فلما كان من الغد أقبل منهم سبعون رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد اعرض علينا الإسلام فلما عرض عليهم الإسلام أسلموا عن آخرهم فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: الحمد الله بالأمس تزعمون أن على قلوبكم غلفا وقلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه وفي آذانكم وقرأ وأصبحتم اليوم مسلمين فقالوا: يا رسول الله كذبنا والله بالأمس لو كذلك ما اهتدينا أبدا ولكن الله تعالى الصادق والعباد الكاذبون عليه وهو الغني ونحن الفقراء إليه.
* (قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إل‍اهكم إل‍اه واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين) *.
* (قل آنما أنا بشر مثلكم) * لست ملكا ولا جنيا لا يمكنكم التلقي منه، وهو رد لقولهم: بيننا وبينك حجاب * (يوحى إلي أنما اله‍اكم إلاه واحد) * أي ولا أدعوكم إلى ما عنه العقول وإنما أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه دلائل العقل وشهدت له شواهد السمع، وهذا جواب عن قولهم: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر * (فاستقيموا إليه) * فاستووا إليه تعالى بالتوحيد واخلاص العبادة ولا تتمسكوا بعرا الشرك وتقولوا لمن يدعوكم إلى التوحيد: قلوبنا في أكنة الخ * (واستغفروه) * مما سلف منكم من القول والعمل وهذا وجه لا يخلو عن حسن في ربط الأمر بما قلبه، وفي إرشاد العقل السليم أي لست من جنس مغاير لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب وتباين مصحح لتباين الأعمال والاديان كما ينبىء عنه قولكم: * (فاعلم إننا عاملون) * بل إنما أن بشر مثلكم مأمور بما آمركم به حيث أخبرنا جميعا بالتوحيد بخطاب جامع بيني وبينكم، فإن الخطاب في * (الهكم) * محكى منتظم للكل لا أنه خطاب منه عليه الصلاة والسلام للكفرة كما في مثلكم وهو مبني على اختيار الوجه الأول في * (فاعلم إننا عاملون) * ولا بأس به من هذه الجهة نعم فيه قصور من جهة أخرى، وقال صاحب الفرائد: ليس هذا جوابا لقولهم إذ لا يقتضي أن يكون له جواب، وحاصله لا تتركهم وما يدينون لقولهم ذلك المقصود منه أن تتركهم، سلمنا أنه جواب كلن المراد منه أني بشر فلا أقدر أن أخرج قلوبكم من الأكنة وأرفع الحجاب من البين والوقر من الآذان ولكني أوحى إلي وأمرت بتبليغ * (انما الهكم إله واحد) * وللإمام كلام قريب مما ذكر في حيز التسليم، وكلا الكلامين غير واف بجزالة النظم الكريم، وجعله الزمخشري جوابا من أن المشركين طالما يتمسكون في رد النبوة بأن مدعيها بشر ويجب أن يكون ملكا ولا يجوز أن يكون بشرا ولذا لا يصغون إلى قول الرسول ولا يتفكرون فيه فقوله عليه الصلاة والسلام: إني لست بملك وإنما أنا بشر من باب القلب عليهم لا القول بالموجب ولا من الأسلوب الحكيم في شيء كما قيل كأنه صلى الله عليه وسلم قال: ما تمسكتم به في رد نبوتي من أني بشر هو الذي يصحح نبوتي إذ لا يحسن في الحكمة أن يرسل إليكم الملك فهذا يوجب قبولكم لا الرد والغلو في الأعراض.
وقوله: * (يوحي إلي أنما الهكم) * تمهيد للمقصود من البعثة بعد
97

إثبات النبوة أولا مفصلا بقوله تعالى: * (حم) * الآيات ومجملا ثانيا بقوله: * (يوحى إلي) * ثم قيل: * (أنما الهكم) * بيانا للمقصود فقوله * (يوحى) * إلى مسوق للتمهيد، وفيه رمز إلى إثبات النبوة، وهذا المعنى على القول بأن المراد من * (فاعمل) * الخ فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك ظاهر، وأما على القول الأول فوجهه أن الدين هو جملة ما يلتزمه المبعوث إليه من طاعة الباعث تعالى بواسطة تبليغ المبعوث فهو مسبب عن نبوته المسببة عن دليلها فأظهروا بذلك أنهم منقادون لما قرر لديهم آباؤهم من منافاة النبوة للبشرية وأنه دينهم فقيل لهم ما قيل، وهو على هذا الوجه أكثر طباقا وأبلغ، وهذا حسن دقيق وما ذكر أولا أسرع تبادرا، وفي الكشف أن * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) * (الكهف: 110) في مقابلة إنكارهم الاعجاز والنبوة وقوله: * (فاستقيموا) * يقابل عدم القبول وفيه رمز إلى شيء مما سمعت فتأمل، وقرأ ابن وثاب. والأعمش * (قال إنما) * فعلا ماضيا، وقرأ النخعي. والأعمش * (يوحى) * بكسر الحاء على أنه مبني للفاعل أي يوحي الله إلى أنما الهكم إله واحد.
* (وويل للمشركين) * من شركهم بربهم عز وجل.
* (الذين لا يؤتون الزكواة وهم بالاخرة هم ك‍افرون) *.
* (الذين لا يؤتون الزكواة) * لبخلهم وعدم اشفاقهم على الخلق وذلك من أعظم الرذائل * (وهم بالآخرة هم ك‍افرون) * مبتدأ وخبر - وهم - الثاني ضمير فصل و * (بالآخرة) * متعلق بكافرون، والتقديم للاهتمام ورعاية الفاصلة، والجملة حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في الدنيا وإنكارهم للآخرة، وحمل الزكاة على معناها الشرعي مما قاله ابن السائب، وروي عن قتادة. والحسن. والضحاك، ومقاتل، وقيل: الزكاة بالمعنى اللغوى أي لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإيمان والطاعة.
وعن مجاهد. والربيع لا يزكون أعمالهم، وأخرج ابن جرير. وجماعة عن ابن عباس أنه قال: في ذلك أي لا يقولون لا إله إلا الله وكذا الحكيم الترمذي. وغيره عن عكرمة فالمعنى حينئذ لا يطهرون أنفسهم من الشرك، واختار ذلك الطيبي قال: والمعنى عليه فاستقيموا إليه التوحيد واخلاص العبادة له تعالى وتوبوا إليه سبحانه مما سبق لكم من الشرك وويل لكم إن لم تفعلوا ذلك كله فوضع موضعه منع إيتاء الزكاء ليؤذن بأن الاستقامة على التوحيد واخلاص العمل لله تعالى والتبري عن الشرك هو تزكية النفس، وهو أوفق لتأليف النظم، وما ذهب إليه حبر الأمة إلا لمراعاة النظم [بم وجعل قوله تعالى:
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات لهم أجر غير ممنون) *.
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الص‍الحات لهم أجر غير ممنون) * أي غير مقطوع مذكورا على جهة الاستطراد تعريضا بالمشركين وان نصيبهم مقطوع حيث بم يزكوا أنفسهم كما زكوا، واستدل على الاستطراد بالآية بعد، وفي الكشف القول الأول أظهر والمشركون باق على عمومه لا من باب إقامة الظاهر مقام المضمر كهذا القول وأن الجملة معترضة كالتعليل لما أمرهم به وكذلك * (إن الذين آمنوا) * الآية لأنه بمنزلة وويل للمشركين وطوبى للمؤمنين، وفيهما من التحذير والترغيب ما يؤكد أن الأمر بالإيمان والاستقامة تأكيدا لا يخفى حاله على ذي لب، وكذلك الزكاة فيه على الظاهر، وخص من بين أوصاف الكفرة منعها لما أنها معيار على الإيمان المستكن في القلب كيف، وقد قيل: المال شقيق الروح بل قال بعض الأدباء: وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ * به فأجبت المال خير من الروح
أرى حفظه يقضي بتحسين حالتي * وتضييعه يفضي لتسآل مقبوح
والصرف عن الحقيقة الشرعية الشائعة من غير موجب لا يجوز كيف ومعنى الايتاء لا يقر قراره، نعم لو كان بدله يأتون كما في قوله تعالى: * (ولا يأتوت الصلاة إلا وهم كسالى) * لحسن لا يقال: إن الزكاة فرضت بالمدينة والسورة مكية لأنا نقول: إطلاق الاسم على طائفة مخرجة من المال على وجه من القربة مخصوص كان شائعا قبل فرضيتها بدليل شعر أمية بن أبي الصلت الفاعلون للزكوات، على أن هذا الحق على هذا الوجه المعروف فرض بالمدينة،
98

وقد كان في مكة فرض شيء من المال يخرج إلى المستحق لا على هذا الوجه وكان يسمى زكاة أيضا ثم نسخ انتهى.
ومنه يعلم سقوط ما قاله الطيبي. بقي مخالفة الحبر وهي لا تتحقق إلا إذا تحقق الرواية عنه وبعده الأمر أيضا سهل، ولعله رضي الله تعالى عنه كان يقرأ لا يأتون من الاتيان إذ القراءة المشهورة تأبى ذلك إلا بتأويل بعيد، والعجب نسبة ما ذكر عن الحبر في البحر إلى الجمهور أيضا، وحمل الآية على ذلك مخلص بعض ممن لا يقول بتكليف الكفار بالفروع لكن لا يخفى حال الحمل وهي على المعنى المتبادر دليل عليه ومن لا يقول به قال: هم مكلفون باعتقاد حقيتها دون إيقاعها والتكليف به بعد الإيمان فمعنى الآية لا يؤتون الزكاة بعد الإيمان، وقيل: المعنى لا يقرون بفرضيتها، والقول بتكليف المجنون أقرب من هذا التأويل، وقيل كلمة * (ويل) * تدل على الذم لا التكليف وهو مذموم عقلا، وفيه بحث لا يخفى؛ هذا وقيل: في * (ممنون) * لا يمن به عليهم من المن بمعنى تعداد النعم، وأصل معناه الثقل فأطلق على ذلك لثقله على المممنون عليه، وعن ابن عباس تفسيرهبالمنقوص، وأنشدوا لذي الأصبع العدواني: أني لعمرك ما بأبي بذي غلق * عن الصديق ولا زادي بممنون
والآية على ما روي عن السدى نزلت في المرضى والهرمي إذا عجزوا عن كمال الطاعات كتب لهم من الأجر في المرض والهرم مثل الذي كان يكتب لهم وهم أصحاء وشبان ولا تنقص أجورهم وذلك من عظيم كرم الله تعالى ورحمته عز وجل:
* (قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الارض فى يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب الع‍المين) *.
* (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) * إلى آخر الآيات والكلام فيها كثير ومنه ما ليس بالمشهور ولنبدى بما هو المشهور وبعد التمام نذكر الآخر فنقول: هذا إنكار وتشنيع لكفرهم، وان واللام إما لتأكيد الإنكار وتقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة لا لانكار التأكيد وأما للإشعار بأن كفرهم من البعد بحيث ينكر العقلاء وقوعه فيحتاج إلى التأكيد، وعلق سبحانه كفرهم بالموصول لتفخيم شأنه تعالى واستعظام كفرهم به عز وجل، والظاهر أن المراد بالأرض الجسم المعروف، وقيل: لعل المراد منها ما في جهة السفل من الإجرام الكثيفة واللطيفة من التراب والماء والهواء تجوزا باستعمالها في لازم المعنى على ما قيل بقرينة المقابلة وحملت على ذلك لئلا يخلو الكلام عن التعرض لمدة خلق ما عدا التراب، ومن خلقها في يومين أنه سبحانه خلق لها أصلا مشتركا ثم خلق لها ثورا بها تنوعت إلى أنواع، والويم في المشهور عبارة عن زمان كون الشمس فوق الأفق واريد منه ههنا الوقت مطلقا لأنه لا يتصور ذلك قبل خلق السماء والكواكب والأرض نفسها ثم إن ذلك الوقت يحتمل أن يكون بمقدار اليوم المعروف ويحتمل أن يكون أقل منه أو أكثر والأقل أنسب بالمقام، وأيا ما كان فالظاهر أن اليومين ظرفان لخلق الأرض مطلقا من غيرتوزيع.
وقال بعض الأجلة: إنه تعالى خلق أصلها ومادها في يوم وصورها وطبقاتها في آخر، وقال في إرشاد العقل السليم المراد بخلق الأرض تقدير وجودها أي حكم بأنها ستوجد في يومين مثله في قوله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * والمراد بكفرهم به تعالى الحادهم في ذاته سبحانه وصفاته عز وجل وخروجهم عن الحق اللازم له جل شأنه على عباده من توحيهده واعتقاد ما يليق بذاته وصفاته جل جلاله فلا ينزهونه تعالى عن صفات الأجسام ولا
يثبتون له القدرة التامة والنعوت واللائقة به سبحانه وتعالى ولا يعترفون بإرساله تعالى الرسل وبعثه سبحانه الأموات حتى كأنهم يزعمون انه سبحانه خلق العباد عبثا وتركهم سدى، وقوله تعالى: * (وتعجعلون له أندادا) * عطف على تكفرون داخل معه في حكم الإنكار والتوبيخ،
99

وجعله حالا من الضمير * (خلق) * لا يخفى حاله، وجمع الأنداد باعتبار ما هو الواقع لا بأن يكون مدار الإنكار هو التعدد أي وتجعلون له أندادا واكفاء من الملائكة والجن وغيرهم والحال أنه لا يمكن أن يكون له سبحانه ند واحد * (ذالك) * إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في العظمة، وافراد الكاف لما أن المراد ليس تعيين المخاطبين، وهو مبتدأ خبره ما بعده أي ذلك العظيم الشأن الذي فعل ما ذكر في مدة يسيرة * (رب الع‍المين) * أي خالق جميع الموجودات ومربيها دون الأرض خاصة فكيف يتصور أن يكون شيء من مخلوقاته ندا له عز وجل [بم وقوله تعالى:
* (وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيهآ أقواتها فىأربعة أيام سوآء للسآئلين) *.
* (وجعل فيها رواسي) * على ما اختاره غير واحد عطف على * (خلق الأرض) * داخل في حكم الصلة، ولا ضير في الفصل بينهما بالجملتين المذكورتين لأن الأولى متحدة بقوله تعالى: * (تكفرون) * بمنزلة إعادتها والثانية معارضة مؤكدة لمضمون الكلام فالفصل بهما كلا فصل، وفيه بلاغة من حيث المعنى لدلالته على أن المعطوف عليه أي * (خلق الأرض) * كاف في كونه تعالى رب العالمين وأن لا يجعل له ند فكيف إذا انضمت إليه هذه المعطوفات.
وتعقب بأن الاتحاد لا يخرجه عن كونه فاصلا مشوشا للذهن مورثا للتعقيد فالحق والأقرب أن تجعل الواو اعتراضية وكل من الجملتين معترض ليندفع بالاعتراض الاعتراض أو يجعل ابتداء كلام بناء على أنه يصدر بالواو يقال: هو معطوف على مقدر كخلق، واختار هذا الأخير صاحب الكشف فقال: أوجه ما ذكر فيه أنه عطف على مقدر بعد * (رب العالمين) * أي خلقها وجعل فيها رواسي فكأنه ساق قوله تعالى: * (خلق الأرض في يومين) * أولا ردا عليهم في كفرهم ثم ذكره ثانيا تتميما للقصة وتأكيدا للإنكار، وليس سبيل قوله سبحانه: * (ذلك رب العاليمن) * سبيل الاعتراض حتى تجعل الجملة عطفا على الصلة ويعتذر عن تخلل * (تجعلون) * عطفا على * (تكفرون) * باتحاده بما قبله على أسلوب * (وصد سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام) * وذلك لأنه مقصود لذاته في هذا المساق وهو ركن للإنكار مثل قوله تعالى: * (الذي خلق الأرض) * وأكد على ما لا يخفى على ذي بصيرة.
والرواسي الجبال من رسا إذا ثبت، والمراد بجعلها إبداعها بالفعل، وفي الإرشاد المراد تقدير الجعل لا الجعل بالفعل، وقوله تعالى: * (من فوقها) * متعلق بجعل أو بمحذوف صفة لرواسي أي كائنة من فوقها والضمير للأرض وفي ذلك استخدام على ما قيل في المراد منها لأن الجبال فوق الأرض المعروفة لا فوق جميع الأجسام السفلية والبسائط العنصرية، وفائدة * (من فوقها) * الإرشاد إلى أنها جعلت مرتفعة عليها لا تحتها كالأساطين ولا مغروزة فيها كالمسامير لتكون منافعها معرضة لأهلها ويظهر للنظار ما فيها من مراصدالاعتبار ومطارح الأفكار؛ ولعمري أن في ارتفاعها من الحكم التكوينية ما تدهش منه العقول، والآية لا تأبى أن يكون في المغمور من الأرض في الماء جبالا كما لا يخفى والله تعالى أعلم.
* (وبارك فيها) * أي كثر خيرها، وفي الإرشاد قدر سبحانه أن يكثر خيرها بأن يكثر فيها أنواع النباتات وأنواع الحيوانات التي من جملتها الإنسان * (وعقدر فيها أقواتها) * أي بين كميتها وأقدارها، وقال في الإرشاد: أي حكم بالفعل بأن يوجد فيما سيأتي لأهلها من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة والكلام على تقدير مضاف، وقيل: لا يحتاج إلى ذلك والإضافة لأدنى ملابسة، وإليه يشير كلام
100

السدى حيث قال: أضاف الأقوات إليها من حيث هي فيها وعنها برزت، وفسر مجاهد الأقوات بالمطر والمياه.
وفي رواية أخرى عنه وإليه ذهب عكرمة. والضحاك أنها ما خص به كل إقليم من الملابس والمطاعم والنباتات ليكون الناس محتاجين بعضهم لبعض وهو مقتض لعمارة الأرض وانتظام أمور العالم، ويؤيد هذا قراءة بعضهم * (وقسم فيها أقواتها) * * (في أربعة أيام) * متعلق بحصول الأمور المذكورة لا بتقديرها على ما في إرشاد العقل السليم، والكلام على تقدير مضاف أي قدر حصولها في تتمة أربعة أيام؛ وكان الزجاج يعلقه - بقدر - كما هو رأي الإمام أبي حنيفة في القيد إذا وقع متعاطفات نحو أكرمت زيدا وضربت عمرا ورأيت خالدا في الدار، والشافعي يقول: المتعقب للجمل يعود إليها جميعا لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات فيكون القيد هنا عائدا إلى جعل الرواسي وما بعده وهو الذي يتبادر إلى فهمي ولا بد من تقدير المضاف الذي سمعت وقد صرح الزجاج بتقديره ولم يقدره الزمخشري وجعل الجار متعلقا بمحذوف وقع خبرا لمبتدأ محذوف أي كل ذلك من خلق الأرض وما بعده كائن في أربعة أيام على أنه فذلكة أي كلام منقطع أتى به لجمل ما ذكر مفصلا مأخوذة من فذلكة الحساب وقولهم: فذلك كذا بعد استقرار الجمع فما نحن فيه الحق فيه أيضا جملة من العدد بجملة أخرى وجعله كذلك لا يمنع عطف * (جعل فيها رواسي) * على مقدر لأن الربط المعنوي كاف.
والقول بأن الفذلكة تقتضي التصريح بذكر الجملتين مثل أن يقال: سرت من البصرة إلى واسط في يومين ومن واسط إلى الكوفة في يومين فذلك أربعة أيام وههنا لم ينص إلا على أحد المبلغين غير سديد لأن العلم بالمبلغين في تحقيق الفذلكة كاف على أن المراد أنه جار مجراها وإنما لم يجز الحمل على أن جعل الرواسي وما ذكر عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيام لأنه يلزم أن يكون خلق الأرض وما فيها في ستة أيام وقد ذكر بعده أن خلق السموات في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام.
وقد تكرر في كتاب الله تعالى أن خلقهما أعني السموات والأرض في ستة أيام وقيدت الأيام الأربعة بقوله تعالى: * (سواء) * فإنه مصدر مؤكد لمضمر هو صفة لأيام أي استوت سواء أي استواء كما يدل عليه قراءة زيد بن علي، والحسن. وابن أبي إسحق. وعمرو بن عبيد. وعيسى. ويعقوب * (سواء) * بالجر فإنه صريح في الوصفية وبذلك يضعف القول بكونه حالا من الضمير في * (أقواتها) * مع قلة الحال من المضاف إليه في غير الصور الثلاثة ولزوم تخالف القراءتين في المعنى.
ويعلم من ذلك أنه على قراءة أبي جعفر بالرفع يجعل خبرا لمبتدأ محذوف أي هي سواء وتجعل الجملة صفة لأيام أيضا لا حالا من الضمير لدفع التجوز فإنه شائع في مثل ذلك مطرد في عرفي العرب والعجم فتراهم يقولون: فعلته في يومين ويريدون في يوم ونصف مثلا وسرت أربعة أيام ويريدون ثلاثة ونصفا مثلا، ومنه قوله تعالى: * (الحج أشهر معلومات) * (البقرة: 197) فإن المراد بالأشهر فيه شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة النحر وذلك لأن الزائد جعل فردا مجازا.
ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل فالمعنى ههنا في أربعة أيام لا نقصان فيها ولا زيادة وكأنه لذلك أوثر ما في التنزيل على أن يقال: وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كما قيل
101

أولا * (خلق الأرض في يومين) * وحاصله أنه لو قيل ذلك لكان يجوز أن يراد باليومين الأولين والآخيرين أكثرهما وإنما لم يقل خلق الأرض في يومين كاملين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كاملين أو خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين تلك أربعة سواء لأن ما أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقا لما عليه التنزيل من مغاصات القرائح ومصاك الركب ليتميز الفاضل من الناقص والمتقدم من الناكص وترتفع الدرجات وتتضاعف المثوبات.
وقال بعض الأجلة: إن في النظم الجليل دلالة أي مع الاختصار على أن اليومين الأخيرين متصلان باليومين الأولين لتبادره من جعلهما جملة واحدة واتصالهما في الذكر، وقوله تعالى: * (للسائلين) * متعلق بمحذوف وقع خبرا لبمتدأ محذوف أي هذا الحصر في أربعة كائن للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، ولا ضير في توالي حذف مبتدأين بناء على ما آثره الزمخشري في الجار والمجرور قبل، وقيل هو متعلق - بقدر - السابق أي وقدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين، وقيل: متعلق بمقدر هو حال من الأقوات، والكل لا يستقيم إلا على ما آثره الزجاج دون ما آثره الزمخشري لأن الفذلكة كما يعلم مما سبق لا تكون إلا بعد تمام الجملتين فلا يجوز أن تتوسط بين الجلمة الثانية وبعض متعلقاتها وقيل متعلق بسواء على أنه حال من الضمير والمعنى مستوية مهيأة للمحتاجين أو به على قراءة الرفع وجعله خبر مبتدأ محذوف أي هو أي أمر هذه المخلوقات ونفعها مستو مهيأ للمحتاجين إليه من البشر وهو كما ترى.
* (ثم استوى إلى السمآء وهى دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين) *.
* (ثم استوى إلى السماء) * أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها من قولهم: استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه لا يلوى على غيره.
وذكر الراغب أن الاستواء متى عدى بعلى فبمعنى الاستيلاء كقوله تعالى: * (الرحمن على العرش استوى) * (طه: 5) وإذا عدى بإلى فبمعنى الانتهاء إلى الشيء إما بالذات أو بالتدبير، وعلى الثاني قوله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء) * الآية، وكلام السلف في الاستواء مشهور.
وقد ذكرنا فيما سلف طرفا منه ويشعر ظاهر كلام البعض أن في الكلام مضافا محذوفا أي ثم استوى إلى خلق السماء * (وهي دخان) * أمر ظلماني ولعله أريد به مادتها التي منها تركبت وأنا لا أقول بالجواهر الفردة لقوة الأدلة على نفيها ولا يلزم من ذلك محذور أصلا كما لا يخفى على الذكي المنصف، وقيل: إن عرشه تعالى كان قبل خلق السموات والأرض على الماء فاحدث الله تعالى في الماء سخونة فارتفع زبد ودخان فاما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله تعالى فيه اليبوسة وأحدث سبحانه منه الأرض وأما الدحان فارتفع وعلا فخلق الله تعالى منه السموات.
وقيل: كان هناك ياقوتة حمراء فنظر سبحانه إليها بعين الجلال فذابت وصارت ماء فأزبد وارتفع منه دخان فكان ما كان، وأيا ما كان فليس الدخان كائنا من النار التي هي إحدى العناصر لأنها من توابع الأرض ولم تكن موجودة إذ ذاك على قول كما ستعرف إن شاء الله تعالى، وعلى القول بالوجود لم يذهب أحد إلى تكون ذلك من تلك النار والحق الذي ينبغي أن لا يلتفت إلى ما سواه أن كرة الناء التي يزعمها الفلاسفة المتقدمون ووافقهم كثير من الناس عليها ليست بموجودة ولا توقف لحدوث الشهب على وجودها كما يظهر لذي ذهن ثاقب.
102

* (فقال لها وللأرض ائتيا) * بما خلقت فيكما من المنافع فليس المعنى على اتيان ذاتهما وإيجادهما بل اتيان ما فيهما مما ذكر بمعنى إظهاره والأمر للتسخير قيل ولا بد على هذا أن يكون المترتب بعد جعل السموات سبعا أو مضمون مجموع الجمل المذكورة بعد الفاء وإلا فالأمر بالاتيان بهذا المعنى مترتب على خلق الأرض والسماء.
وقال بعض: الكلام على التقديم والتأخير والأصل ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقضاهن سبع سموات الخ فقال لها وللأرض ائتيا الخ وهو أبعد عن القيل والقال إلا أنه خلاف الظاهر أو كونا واحدثا على وجه معين وفي وقت مقدر لكل منكما فالمراد اتيان ذاتهما وإيجادهما فالأمر للتكوين على أن خلق وجعل وبارك وقدر بالمعنى الذي حكيناه عن ارشاد العقل السليم ويكون هذا شروعا في بيان كيفية التكوين أثر بيان كيفية التقدير، ولعل تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين وترتيب مبادىء معايشهم قبل خلقهم ما يحملهم على الإيمان ويزجرهم عن الكفر والطغيان، وخص الاستواء بالسماء مع أن الخطاب المترتب عليه متوجه إليهما معا اكتفاء بذكر تقدير الأرض وتقدير ما فيها كأنه قيل: فقيل لها وللأرض التي قدر وجودها ووجود ما فيها كونا واحدثا وهذا الوجه هو الذي قدمه صاحب الإرشاد وذكره غيره احتمالا وجعل الأمر عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا بطريق التمثيل من غير أن يكون هناك آمر ومأمور كما قيل في قوله تعالى: * (كن) * وقوله تعالى: * (طوعا أو كرها) * تمثيلا لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما واستحالة امتناعهما من ذكل لا إثبات الطوع والكره لهما، وهما مصدران وقعا موقع الحال أي طائعتين أو كارهتين، وقوله تعالى: * (قالتا أتينا طائعين) * أي منقادين تمثيلا لكمال تأثرهما عن القدرة الربانية وحصولهما كما أمرا به وتصويرا لكون وجودهما كما هما عليه جاريا على مقتضى الحكمة المبالغة فإن الطوع منبىء عن ذلك والكره موهم لخلافه، وقيل: * (طائعين) * بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء باعتبار كونهما في معرض الخطاب والجواب ولا وجه للتأنيث عند اخبارهم عن أنفسهم لكون التأنيث بحسب اللفظ فقط [بم وقوله تعالى:
* (فقضاهن سبع سم‍اوات فى يومين وأوحى فى كل سمآء أمرها وزينا السمآء الدنيا بمص‍ابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) *.
* (فقضاهن سبع سموات في يومين) * تفسيرا وتفصيلا لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر وجوابه لا أنه فعل مترتب على تكوينهما أي خلقهن خلقا ابداعيا وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة في وقتين وضمير * (هن) * اما للسماء على المعنى لأنه بمعنى السموات ولذا قيل: هو اسم جمع - فسبع - حال من الضمير وإما مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز فهو له وان تأخر لفظا ورتبة لجوازه في التمييز نحو ربه رجلا وهو وجه عربي.
وقال أبو حيان: انتصب * (سبع) * على الحال وهو حال مقدرة، وقال بعضهم: بدل من الضمير، وقيل: مفعول به والتقدير قضى منهن سبع سموات، وقال الحوفي: على أنه مفعول ثان على تضمين القضاء معنى التصيير ولم يذكر مقدار زمن خلق الأرض وخلق ما فيها اكتفاء بذكره في بيان تقديرهما، وقوله تعالى: * (وأوحى في كل سماء أمرها) * عطفا على * (قضاهن) * أي خلق في كل منها ما استعدت له واقتضت الحكمة أن يكون فيها من الملائكة والنيرات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى كما يقتضيه كلام السدى. وقتادة فالوحي عبارة عن التكوين كالأمر مقيد بما قيد به المعطوف عليه من الوقت أو أوحى إلى أهل كل منها أو أمره وكلفهم
103

ما يليق بهم من التكاليف كما قيل: فالوحي بمعناء المشهور من بين معانيه ومطلق عن القيد المذكور أو مقيد به فيما أرى، واحتمال التقييد والاطلاق جار في قوله تعالى: * (وزينا السماء الدنيا بمصابيح) * أي من الكواكب وهي فيها وان تفاوتت في الارتفاع والانخفاض على ما يقتضيه الظاهر أو بعضها فيها وبعضها فيما فوقها لكنها لكونها كلها ترى متلألئة عليها صح كوم تزيينها بها، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية، وأما قوله تعالى: * (وحفظا) * فهو مفعول مطلق لفعل مقدر معطوف على قوله تعالى: * (زينا) * أي وحفظناها حفظا، والضمير للسماء وحفظها اما من الآفات أو من الشياطين المسترقة للسمع وتقدم الكلام في ذلك وقيل الضمير للمصابيح وهو خلاف الظاهر، وجوز كونه مفعولا لأجله على المعنى أي معطوفا على مفعول له يتضمنه الكلام السابق أي زينة وحفظا، ولا يخفى أنه تلكف بعيد لا ينبغي القول به مع ظهور الأول وسهولته كما أشار في البحر.
وجعل قوله تعالى: * (ذالك) * إشارة إلى جميع الذي ذكر بتفاصيله أي ذلك المذكور * (تقدير العزيز العليم) * أي البالغ في القدرة والبالغ في العلم، ثم قال صاحب الإرشاد بعد ما سمعت مما حكى عنه: فعلى هذا لا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء وإنما الترتيب بين التقدير أي تقدير إيجاد الأرض وما فيها وإيجاد السماء وأما على تقدير كون الخلق وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظارة فهي تدل على تقدم خلق الأرض وما فيها وعليه اطباق أكثر أهل التفسير، ولا يخفى عليك ان حمل تلك الأفعال على ما حلمها عليه خلاف الظاهر كما هو مقربة، وعدم التعرض لخلق الأرض وما فيها بالفعل كما تعرض لخلق السموات كذلك لا يلائم دعوى الاعتناء التي أشار إليها في بيان وجه تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها على أن خلق ما فيها بالفعل غير ظاهر من قوله تعالى: * (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) * (فصلت: 11) لا سيما وقد ذكرت الأرض قبل مستقلة وذكر ما فيها مستقلا فلا يتبادر من الأرض هنا إلا تلك الأرض المستقلة لا هي مع ما فيها، وأمر تقدم خلق الأرض وتأخره سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه. وقيل: إن اتيان السماء حدوثها واتيان الأرض أن تصير مدحوة وفيه جمع بين معنيين مجازيين حيث شبه البروز من العدم وبسط الأرض وتمهيدها بالاتيان من مكان آخر وفي صحة الجمع بينهما كلام على أن في كون الدحو مؤخرا عن جعل الرواسي كلاما أيضا ستعرفه إن شاء الله تعالى، وقيل: المراد لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما وأيد بقراءة ابن عباس. وابن جبير. ومجاهد * (آتيا. وقالتا اتينا) * على أن ذلك من المواتات بمعنى الموافقة، قال الجوهري: تقول آتيته على ذلك الأمر مواتاة إذا وافقته وطاوعته لأن المتوافقين يأتي كل منهما صاحبه وجعل ذلك من المجاز المرسل وعلاقته اللزوم، وقال ابن جنى: هي المسارعة وهو حسن أيضا ولم يجعله أكثر الأجلة من الايتاء لأنه غير لائح وجعله ابن عطية منه وقدر المفعول أي أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما وما تقدم أحسن وما أسلفناه في أول الأوجه من الكلام يأتي نحوه هنا كما لا يخفى.
واختلف الناس في أمر التقدم والتأخر في خلق كل من السموات وما فيها والأرض وما فيها وذلك للآيات والأحاديث التي ظاهرها التعارض فذهب بعض إلى تقدم خلق الأرض لظاهر هذه الآية حيث ذكر فيها أولا خلق الأرض وجعل الرواسي فيها وتقدير الأقوات ثم قال سبحانه: * (ثم استوى إلى السماء) * (البقرة: 29) الخ وأبى أن يكون الأمر بالاتيان للأرض أمر تكوين، ولظاهر قوله تعالى في آية البقرة: * (خلق لك ما في الأرض جميعا ثم استوى
104

إلى السماء فسواهن سبع) * (البقرة: 29) وأول آية النازعات أعني قوله تعالى: * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم ولأنعامكم) * (النازعات: 27 - 33) لما أن ظاهره يدل على تأخر خلق الأرض وما فيها من الماء والمرعى والجبال لأن ذلك إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية، والأرض منصوب بمضمر على شريطة التفسير أي ودحا الأرض بعد رفع السماء وتسويتها دحاها الخ بأن الأرض منصوب بمضمر نحو تذكر وتدبر أو اذكر الأرض بعد ذلك لا بمضمر على شريطة التفسير أو به وبعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيها على أنه قاصر في الأول لكنه تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم، وكأن بعد ذلك بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة والتعظيم؛ وقد تستعمل ثم أيضا بهذا المعنى وكذا الفاء، وبعضهم يذهب في الجواب إلى ما قاله ابن عباس. / جسم]
فقد روى الحاكم. والبيهقي بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. فقال: رأيت أشياء تختلف علي في القرآن قال: هات ما اختلف عليك من ذلك فقال: اسمع الله تعالى يقول: * (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض - حتى بلغ - طائعين) * (فصلت: 19 - 11) فبدأ بخلق الأرض
في هذه الآية قبل خلق السماء ثم قال سبحانه في الآية الأخرى: * (أم السماء بناها - ثم قال - والأرض بعد ذلك دحاها) * (النازعات: 27 - 30) فبدأ جل شأنه بخلق السماء قبل خلق الأرض. فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أما خلق الأرض في يومين فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخانا فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض، وأما قوله تعالى: * (والأرض بعد ذلك دحاها) * يقول جعل فيها جبلا وجعل فيها نهرا وجعل فيها شجرا وجعل فيها بحورا انتهى، قال الخفاجي: يعني أن قوله تعالى: * (أخرج منها ماءها) * بدل أو عطف بيان لدحاها بمعنى بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها في هذه الآية ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر خلق ما فيها وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعدية كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير وقيده المذكور كما لو قلت: بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعت الثاني وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر عنه فجعل نفسه متأخرا. فإن قلت: كيف هذا مع ما رواه ابن جرير. وغيره وصححوه عن ابن عباس أيضا أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال عليه الصلاة والسلام: " خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والإثنين وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة فقال تعالى: * (أئنكم لتفكرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) * (فصلت: 9، 10) وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة " فإنه يخالف الأول لاقتضائه خلق ما في الأرض من الأشجار والأنهار ونحوها قبل خلق السماء قلت: الظاهر حمله على أنه خلق فيما ذكر مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور العمران والخراب قبل خلق السماء فعطف عليه قرينة لذلك فلا تعارض بين الحديثين كما أنه ليس بين الآيات اختلاف انتهى كلام الخفاجي، ولا يخفى أن قول ابن عباس
105

السابق نص في أن جعل الجبال في الأرض بعد خلق السماء وهو ظاهر آية النازعات إذ كان بعد ذلك معتبرا في قوله تعالى: * (والجبال أرساها) * (النازعات: 32) وآية حم السجدة ظاهرة في أن جعل الجبال قبل خلق السموات، ثم إن رواية ابن جرير المذكورة عنه مخالفة لخبر مسلم عن أبي هريرة قال: " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل " واستدل في " شرح المهذب " بهذا الخبر على أن السبت أول أيام الأسبوع دون الأحد ونقله عن أصحابه الشافعية وصححه الأسنوي وابن عساكر، وقال العلامة ابن حجر: هو الذي عليه الأكثرون وهو مذهبنا يعني الشافعية كما في الروضة وأصلها بل قال السهيلي في روضه لم يقل بأن أوله الأحد إلا ابن جرير، وجرى النووي في موضع على ما يقتضي أن أوله الأحد فقال: في يوم الإثنين سمي به لأنه ثاني الأيام. وأجيب بأنه جرى في توجيه التسمية المكتفى فيه بأدنى مناسبة على القول الضعيف.
وانتصر القفال من الشافعية لكون أوله الأحد بأن الخبر المذكور تفرد به مسلم وقد تكلم عليه الحفاظ. على ابن المديني. والبخاري. وغيرهما وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه منه ولكن اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعا. وأجيب بأن من حفظ الرفع حجة على من لم يحفظه والثقة لا يرد حديثه بمجرد الظن ولأجل ذلك أعرض مسلم عما قاله أولئك واعتمد الرفع وخرج طريقه في " صحيحه " فوجب قبولها. وذكر أحمد بن المقري المالكي أن الإمام أحمد رواه أيضا في مسنده عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وقال: " خلق الله تعالى الأرض يوم السبت " الحديث، وفي " الدر المنثور " عدة أخبار عن ابن عباس ناطقة بأن مبدأ خلق الأرض كان يوم الأحد، وفيه أيضا أخرج ابن جرير عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: " جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله تعالى من الخلق في هذه الأيام الستة فقال: خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والإثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء وخلق السموات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة وخلق في أول ساعة الآجال وفي الثانية الآفة وفي الثالثة آدم قالوا: صدقت أن تممت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله تعالى وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون ".
واليهود قاطبة على أن أول الأسبوع يوم الأحد احتجاجا بما يسمونه التوراة وظاهره الاشتقاق يقتضي ذلك.
ومن ذهب إلى أن الأول السبت قال: لا حجة في ذلك لأن التسمية لم تثبت بأمر من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم فلعل اليهود وضعوا أسماء الأسبوع على ما يعتقدون فأخذتها العرب عنهم ولم يرد في القرآن إلا الجمعة والسبت وليسا من أسماء العدد على أن هذه التسمية لو ثبتت عن العرب لم يكن فيها دليل لأن العرب تسمى خامس الورد ربعا وتاسعه عشرا وهذا هو الذي أخذ منه ابن عباس قوله الذي كاد ينفرد به أن يوم عاشوراء هو يوم تاسع المحرم وتاسوعاء هو يوم ثامنه، ولا يخفى أن الجواب الأول خارج عن الانصاف فلأيام الأسبوع عند العرب أسماء أخر فيها ما يدل على ذلك أيضا، وهي أول وأهون وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار، ولا يسوغ لمنصف أن يظن أن العرب تبعوا في ذلك اليهود وجاء الإسلام وأقرهم على ذلك، وليت شعري إذا كانت تلك الأسماء وقعت متابعة لليهود فما الأسماء الصحيحة التي وضعها واضع
106

لغة العرب غير تابع فيها لليهود، والجواب الثاني خلاف الظاهر جدا.
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها واختاره الإمام ونسبه بعضهم إلى المحققين من المفسرين وأولوا الآية بأن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد بل هو عبارة عن التقدير، والمراد به في حقه تعالى حكمه تعالى أن سيوجد وقضاؤه عز وجل بذلك مثله في قوله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * (آل عمران: 59) ولا بد على هذا من تأويل * (جعل) * و * (بارك) * (فصلت: 10) بنحو ما سمعت عن الإرشاد، وجوز أن يبقى خلق وكذا ما بعده على ما يتبادر منه ويكون الكلام على إرادة الإرادة كما في قوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة) * (
المائدة: 6) أي بالذي أراد خلق الأرض في يومين وأراد أن يجعل فيها رواسي وقالوا: إن ثم للتفاوت في الرتبة المنزلة منزلة التراخي الزماني كما في قوله تعالى: * (ثم كان من الذين آمنوا) * (البلد: 17) فإن اسم كان ضمير يرجع إلى فاعل * (فلا اقتحم) * وهو الإنسان الكافر وقوله سبحانه: * (فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة) * (البلد: 13 - 16) تفسير للعقبة، والترتيب الظاهري يوجب تقديم الايمان عليه لكن ثم هنا للتراخي في الرتبة مجازا، وفي " الكشف " أن ما نقله الواحدي لا إشكال فيه ويتعين * (ثم) * في هذه السورة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما جاء من أن الابتداء من يوم الأحد كان، وخلق السموات وما فيها من يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة ثم خلق آدم عليه السلام، وفي " البحر " الذي نقوله: إن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني وأن * (ثم) * لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان والمهلة كأنه قال سبحانه بالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء فلا تعرض في الآية لترتيب الوقوع الترتيب الزماني، ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض استؤنف الاخبار فيه بثم فهي لترتيب الاخبار كما في قوله تعالى: * (ثم كان من الذين آمنوا) * بعد قوله سبحانه: * (فلا أقتحم العقبة) * (البلد: 11) وقوله تعالى: * (ثم آتينا موسى الكتاب) * (الأنعام: 154) بعد قوله عز وجل: * (قل تعالوا اتل) * (الأنعام: 151) ويكون قوله جل شأن * (فقال لها وللأرض) * بعد أخبار تعالى بما أخبر به تصويرا لخلقهما على وفق إرادته تعالى كقولك أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت له إنك عالم صالح فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له فكذلك أخبر سبحانه بأنه خلق كيت وكيت فأوجد ذلك إيجادا لم يتخلف عن أرادته انتهى، وظاهر ما ذكره في قوله تعالى: * (فقال لها) * الخ أن القول بعد الإيجاد، وقال بعض الأجلة يجوز أن يكون ذلك للتمثيل أو التخييل للدلالة على أن السماء والأرض محلا قدرته تعالى يتصرف فيهما كيف يشاء إيجادا وإكمالا ذاتا وصفة ويكون تمهيدا لقوله سبحانه: * (فقضاهن) * أي لما كان الخلق بهذه السهولة قضى السموات واحكم خلقها في يومين فيصح هذا القول قبل كونهما وبعده، وفي أثنائه إذ ليس الغرض دلالة على وقوع.
وذكر في نكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الذكر ههنا وفي سورة البقرة على خلق السموات والعكس في سورة النازعات أنها يجوز أن يكون أن المقام في الأوليين مقام الامتنان وتعداد النعم فمقتضاه تقديم ما هو أقرب النعم إلى المخاطبين والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها، وروى عن الحسن أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض، وذلك قوله تعالى: * (كانتا رتقاء ففتقناهما الآية) *.
وجعله بعضهم دليلا على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء، وفي " الإرشاد " أنه ليس نصا في ذلك فإن بسط
107

الأرض معطوف على إصعاد الدخان وخلق السماء بالواو فلا دلالة في ذلك على الترتيب قطعا، وفي " الكشف " أنه يدل على أن كون السماء دخانا سابق على دحو الأرض وتسويتها بل ظاهر قوله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) * (فصلت: 11) يدل على ذلك، وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال وذويها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات واختار بعضهم أن خلق المادة البعيدة للسماء والأرض كان في زمان واحد وهي الجوهرة النورية أو غيرها وكذا فصل مادة كل عن الأخرى وتمييزها عنها أعني الفتق وإخراج الأجزاء اللطيفة وهي المادة القريبة للسموات وإبقاء الكثيفة وهي المادة القريبة للأرض فإن فصل اللطيف عن الكثيف يستلزم فصل الكثيف عنه وبالعكس، وأما خلق كل على الهيئة التي يشاهد بها فليس في زمان واحد بل خلق السموات سابق في الزمان على خلق الأرض، ولا ينبغي لأحد أن يرتاب في تأخر خلق الأرض بجميع ما فيها عن خلق السموات كذلك، ومتى ساغ حمل * (ثم) * للترتيب في الاخبار هان أمر ما يظن من التعارض في الآيات والاخبار هذا والله تعالى أعلم. ولبعض المتأخرين في الآية كلام غريب دفع به ما يظن من المنافاة بين الآيات الدالة على أن خلق السموات
108

والأرض وما بينهما في ستة أيام كقوله تعالى: * (الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش) * (السجدة: 4) وقوله سبحانه: * (ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) * (ق: 38) وهذه الآية التي يخيل منها أن خلق ذلك في ثمانية أيام وهو أن للشيء حكما من حيث ذاته ونفسه حكما من حيث صفاته وإضافاته ونسبه وروابطه واقتضاءاته ومتمماته وسائر ما يضاف إليه ولكل من ذلك أجل معدود وحد محدود يظهره سبحانه في ذلك بالأزمان الخاصة به والأوقات المؤجلة له وهي متفاوتة مختلفة، والله تعالى خلق السموات والأرض ومابينهما في حد ذاتها في ستة أيام، وذلك عند نشئها في ذاتها من خلقه سبحانه إياها من البحر الحاصل من ذوبان الياقوتة الحمراء لما نظر إليها جل شأنه بنظر الهيبة فتموج إلى أن حصل منه الزبد وثار الدخان فخلق السماء من الدخان والأرض من الزبد والنجوم من الشعلات المستجنة في زبد البحر والنار والهواء والماء من جسم أكثف من الدخان وألطف من الزبد، والسماء حقيقة وحدانية في ذاتها ولها صلاحية التعدد والكثرة على حسب بدو شأنها في علم الغيب فتعينها بالسبعة على الجهة الخاصة ووقوع كل سماء في محلها الخاص مترتبا عليها حكم خاص يحتاج إلى جعل غير جعلها في نفسها وهو المسمى بالقدر وتعيين الحدود التي هي الهندسة الإيجادية، وهذا لجعل متفرع على الخلق ونحوه غير نحوه قطعا كما يشعر به قوله تعالى: * (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) * (الفرقان: 2) وقد يسمى بالتسوية وبالقضاء أيضا كما في قوله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات) * (البقرة: 29) وقوله تعالى هنا: * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان - إلى قوله سبحانه - فقضاهن سبع سموات) * (فصلت: 11، 12) وأما تقدير أقوات الأرض وإعطاء البركة وتوليد المتولدات فلها أيام معدودات وحدود محدودات لا تدخل في أيام خلق السموات والأرض لأنها لإيجاد أنفسها، فالأيام الأربعة المذكورة في الآية إنما هي لجعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة وليست من لك الستة وكذلك اليومان اللذان لتسوية السماء وقضائها سبع سموات
خارجان عنها فليس في الآية التي الكلام فيها سوى أن خلق الأرض كان في يومين وأما خلق السموات وما بينها وبين الأرض فلم يذكر في الآية مدة له وإنما ذكر مدة قضاء السموات وهو غير خلقها ومدة جعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة وذلك غير خلق الأرض وما بينها وبين السماء فلا تنافي بينها وبين الآيات الدالة على أن خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا يعكر على ذلك ما روى عن الصادق أن الله سبحانه خلق في يوم الأحد والإثنين الأرضين وخلق أقواتها في يوم الثلاثاء وخلق السموات في يوم الأربعاء ويوم الخميس وخلق أقواتها يوم الجمعة وذلك قول الله سبحانه: * (خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام) * (الفرقان: 59) لأنه بعد تسليم صحته المذكور فيه أن الأقوات قد خلقت في يومين لا أنها قدرت وبين الخلق والتقدير بون بعيد؛ فخلق الأقوات عبارة عن إيجاد ذاتياتها وموادها وعللها وأسبابها فإذا وجدت قدرت وفصلت على الأطوار المعلومة فلا إشكال.
والعجب ممن استشكل هذا المقام كيف لم ينظر في مدلولات الألفاظ الإلهية بحسب القواعد القرآنية واللغوية فاحتاج في حله إلى تكلفات أمور خفية وارتكاب توجيهات غير مرضية، ثم إن هذا البعض ذكر لليوم ما يزيد على ستين إطلاقا منها المرتبة ونقل هذا عن شيخه ورأيته في بعض الكتب لغيره، وجواز إرادته في الآية وكذا جوز إرادة غيره من الإطلاقات، وذكر سركون خلق السموات والأرض في ستة أيام وأطال الكلام في هذا المقام، وكان ذلك ضمن رسالة ألفها حين طلبت منه جوابا عما يظن من المنافاة غير ما ذكروه من الجواب عن ذلك، ومن وقف على تلك الرسالة منها قعقعة بلا سلاح وأحس بطيران في جو ما يزعمه تحقيقا بلا جناح فكم فيها من قول لا سند له ومدعى لم يورد دليله، فعليك بالتأمل التام فيما ذكره المفسرون وما ذكره هذا الرجل من الكلام ولا تك للانصاف مجانبا وللتعصب مصاحبا والله تعالى الموفق.
وما تقدم من حمل قوله تعالى: * (قالتا أتينا طائعين) * على التمثيل هو ما ذهب إليه جماعة من المفسرين، وقالت طائفة: إنهما نطقتا نطقا حقيقيا وجعل الله تعالى لهما حياة وإدراكا، قال ابن عطية: وهذا أحسن لأنه لا شيء يدفعه وإن العبرة فيه أتم والقدرة فيه أظهر، ولا يخفى أن المعنى الأول أبلغ، ومن ذهب إلى أن للجمادات إدراكا لائقا بها قال بظاهر الآية ولعلها إحدى أدلته على ذلك. وذكر بعضهم في قوله سبحانه: * (وأوحى في كل سماء أمرها) * أنه سبحانه خص كل سماء بما ميزها عن السماء الأخرى من الذاتيات وجعل ذلك وجها في جمع السموات وإفراد الأرض. وقرأ الأعمش * (أو كرها) * بضم الكاف، قال أبو حيان: والأصح أنها لغة في الإكراه على الشيء، والأكثر على أن الكره بالضم معناه المشقة.
* (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم ص‍اعقة مثل ص‍اعقة عاد وثمود) *.
* (فإن أعرضوا) * متصل بقوله تعالى: * (قل أئنكم) * الخ أي فإن أعرضوا عن التدبر فيما ذكر من عظائم الأمور الداعية إلى الايمان أو عن الايمان بعد هذا البيان * (فقل) * لهم: * (أنذرتكم) * أي أنذركم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذر * (صاعقة مثل صاعقه عاد وثمود) * أي عذابا مثل عذابهم قاله قتادة، وهو ظاهر على القول بأن الصاعقة تأتي في اللغة بمعنى العذاب، ومنع ذلك بعضهم وجعل ما ذكر مجازا، والمراد عذابا شديد الوقع كأنه صاعقة مثل صاعقتهم، وأيا ما كان فالمراد أعلمتكم حلول صاعقة.
وقرأ ابن الزبير. والسلمي. وابن محيصن * (صعقة مثل صعقة) * بغير ألف فيهما وسكون العين وهي المرة من الصعق أو الصعق ويقال: صعقته الصاعقة صعقا فصعق صعقا بالفتح أي هلك بالصاعقة المصيبة له.
* (إذ جآءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شآء ربنا لانزل مل‍ائكة فإنا بمآ أرسلتم به ك‍افرون) *.
* (إذ جاءتهم الرسل) * أي جاءت عادا وثمود ففيه إطلاق الجمع على الإثنين وهو شائع وكذا * (الرسل) *
109

وقيل: يحتمل أن يراد ما يعم رسول الرسول، وجوز في الأول أن يكون باعتبار أفراد القبيلتين، وذكروا في * (إذ) * أوجها من الإعراب. الأول: أنه ظرف لأنذرتكم. الثاني: أنه صفة لصاعقة الأولى، وأورد عليهما لزوم كون إنذاره عليه الصلاة والسلام والصاعقة التي أنذر بها واقعين في وقت مجيء الرسل عادا وثمود وليس كذلك. الثالث: أنه صفة لصاعقة الثانية، وتعقب بأنه يلزم عليه حذف الموصول مع بعض صلته وهو غير جائز عند البصريين أو وصف المعرفة بالنكرة. الرابع: واختاره أبو حيان أن معمول لصاعقة عاد وثمود بناء على أن المراد بها العذاب وإلا فهي بالمعنى المعروف جثة لا يتعلق بها الظرف وفيه شيء لا يخفى. الخامس: واختاره غير واحد أنه حال منها لأنها معرفة بالإضافة، وبعضهم يجوز كونه حالا من الأولى أيضا لتخصصها بالوصف بالمتخصص بالإضافة فتكون الأوجه ستة، وقوله تعالى: * (من بيحن أيديهم ومن خلفهم) * متعلق بجاءتهم، والضمير المضاف إليه لعاد وثمود، والجهتان كناية عن جميع الجهات على ما عرف في مثله أي أتتهم الرسل من جمع جهاتهم، والمراد بإتيانهم من جميع الجهات بذل الوسع في دعوتهم على طريق الكناية ويجوز أن يراد بما بين أيديهم الزمن الماضي وبما خلفهم المستقبل وبالعكس واستعير فيه ظرف المكان للزمان والمراد جاؤهم بالإنذار عما جرى على أمثالهم الكفرة في الماضي وبالتحذير عما سيحيق بهم في الآخرة.
وروى هذا عن الحسن، وجوز كون الضمير المضاف إليه للرسل والمراد جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم ودعوتهم إلى الحق منزلة مجيء أنفسهم فإن هودا. وصالحا كانا داعيين لهم إلى الايمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم وممن يجيء من خلفهم فكأن الرسل قد جاؤهم وخاطبوهم بقوله تعالى: * (ألا تعبدوا إلا الله) * وروى هذا الوجه عن ابن عباس. والضحاك، وإليه ذهب الفراء. ونص بعض الأجلة على أن * (من بين أيديهم) * عليه حال من الرسل لا متعلق بجاءتهم، وجمع الرسل عليه ظاهر، وقيل: يحتمل أن يكون كون الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم كناية عن الكثرة كقوله تعالى: * (يأتيها رزقها رغدا من كل مكان) * (النحل: 112) وقال الطبري: الضمير في قوله تعالى: * (من بين أيديهم) * لعاد. وثمود وفي قوله تعالى: * (ومن خلفهم) * للرسل وتعقبه في " البحر " بأن فيه خروجا عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى إذ يصير التقدير جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل أي من خلف أنفسهم
، وهذا معنى لا يتعقل إلا أن كان الضمير عائدا في * (من خلفهم) * على الرسل لفظا وهو عائد على رسل آخرين معنى فكأنه قيل: جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين فيكون كقولهم: عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر، وبعده لا يخفى.
وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما ولوقوفهم على بلادهم في اليمن والحجر، و * (أن) * يصح أن تكون مفسرة لمجيء الرسل لأنه بالوحي وبالشرائع فيتضمن معنى القول و * (لا) * ناهية وأن تكون مصدرية ولا ناهية أيضا، والمصدرية قد توصل بالنهي كما توصل بالأمر على كلام فيه، وجعل الحوفي * (لا) * نافية و * (أن) * ناصبة للفعل، وقيل: إنها المخففة من الثقيلة ومعها ضمير شأن محذوف، وأورد عليها أنها إنما تقع بعد أفعال اليقين وإن خبر باب أن لا يكون طلبا إلا بتأويل، وقد يدفع بأنه بتقدير القول وإن مجيء الرسل كالوحي معنى فيكون مثله في وقوع أن بعده لتضمنه ما يفيد اليقين كما أشار إليه الرضى وغيره، ولا يخفى ما فيه من التكلف المستغني عنه؛ وعلى احتمال كونا مصدرية وكونها مخففة يكون الكلام بتقدير حرف
110

الجر أي بأن لا تعبدوا إلا الله * (قالوا لو شاء ربنا) * مفعول المشيئة محذوف وقدره الزمخشري إرسال الرسل أي لو شاء ربنا إرسال الرسل * (لأنزل ملائكة) * أي لأرسلهم لكن لما كان إرسالهم بطريق الإنذار قيل: لأنزل، قيل: ولم يقدر إنزال الملائكة بناء على أن الشائع تقدير مفعول المشيئة بعد لو الشرطية من مضمون الشرط لأنه عار عن إفادة ما أرادوه من نفي إرساله تعالى البشر والشائع غير مطرد، وقال أبو حيان. إنما التقدير لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم، وهذا أبلغ في الامتناع من أرسال البشر إذ علقوا ذلك بإنزال الملائكة وهو سبحانه لم يشأ ذلك فكيف يشاؤه في البشر وهو وجه حسن.
* (فإنا بما أرسلتم به) * أي بالذي أرسلتم به على زعمكم، وفيه ضرب تهكم بهم * (ك‍افرون) * لما أنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا، والفاء فاء النتجية السببية فيكون في الكلام إيماء إلى قياس استثنائي أي لكنه لم ينزل، ويجوز أن تكون تعليلية لشرطيتهم أي إنما قلنا ذلك لأنا منكرون لما أرسلتم به كما ننكر رسالتكم، و * (ما) * كما أشرنا إليه موصولة، وكونها مصدرية وضمير * (به) * لقولهم: * (ألا تبعدوا إلا الله) * خلاف الظاهر، أخرج البيهقي في " الدلائل ". وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل والملأ من قريش قد التبس علينا أمر محمد صلى الله عليه وسلم فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي إن كان كذلك فأتاه فقال له يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب؟ فلم يجبه قال: فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم فلما فرغ قال عليه الصلاة والسلام: " بسم الله الرحمن الرحيم * (حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا) * - فقرأ حتى بلغ - فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود - فأمسك عتبة علي فيه عليه الصلاة والسلام فأنشده الرحم أن يكف عنه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قال أبو جهل: يا معشر قريش ما أرى عقبة إلا قد صبا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته انتقلوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كنت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد صلى الله عليه وسلم فغضب وأقسم بالله تعالى لا يكلم محمدا عليه الصلاة والسلام أبدا وقال: لقد علمتم أني أكثر قريش مالا ولكني أتيته فقص عليهم القصة فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة قرأ بسم الله الرحمن الرحيم * (حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا) * حتى أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه وناشدته الرحم فكف وقد علمتم أن محمدا صلى الله عليه وسلم إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب ".
* (فأما عاد فاستكبروا فى الارض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بااي‍اتنا يجحدون) *.
* (فأما عاد فاستكبروا في الأرض) * شروع في تفصيل ما لكل واحدة من الطائفتين من الجناية والعذاب، ولتفرع التفصيل على الإجمال قرن بفاء السببية، وبدىء بقصة عاد لأنها أقدم زمانا أي فأما عاد فتعظموا في الأرض التي لا ينبغي التعظيم فيها على أهلها * (بغير الحق) * أي بغير استحقاق للتعظم.
111

وقيل: تعظموا عن امتثال أمر الله عز وجل وقبول ما جائتهم به الرسل * (وقالوا) * اغترارا بقوتهم: * (من أشد منا قوة) * أي لا أشد منا قوة فالاستفهام إنكاري، وهذا بيان لاستحقاقهم العظمة وجواب الرسل عما خوفوهم به من العذاب، وكانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم وقد بلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل ويرفعها بيده * (أو لم يروا) * أي أغفلوا ولم ينظروا أو ولم يعلموا علما جليا شبيها بالمشاهدة والعيان * (أن الله خلقهم هو أشد منهم قوة) * قدرة فإنه تعالى قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى قوى على ما لا يقدر عليه غيره عز وجل مفيض للقوة والقدر على كل قوي وقادر، وفي هذا إيماء إلى أن ما خوفهم به الرسل ليس من عند أنفسهم بناء على قوة منهم وإنما هو من الله تعالى خالق القوى والقدر وهم يعلمون أنه عز وجل أشد قوة منهم، وتفسير القوة بالقدرة لأنه أحد معانيها كما يشير إليه كلام الراغب.
وزعم بعضهم أن القوة عرض ينزه الله تعالى عنه لكنها مستلزمة للقدرة فلذا عبر عنها بها مشاكلة.
وأورد في حيز الصلة * (خلقهم) * دون خلق السموات والأرض لادعائهم الشدة في القوة، وفيه ضرب من التهكم بهم * (وكانوا بآياتنا يجحدون) * أي ينكرونها وهم يعرفون حقيتها وهو عطف على * (فاستكبروا) * أو * (قالوا) * فجملة * (أو لم يروا) * الخ مع ما عطف هو عليه اعتراض، وجوز أن يكون هو وحده اعتراضا والواو اعتراضية لا عاطفة.
* (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا فىأيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ولعذاب الاخرة أخزى وهم لا ينصرون) *.
* (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا) * قال مجاهد: شديدة السموم فهو من الصر بفتح الصاد بمعنى الحر، وقال ابن عباس. والضحاك وقتادة. والسدي: باردة تهلك بشدة بردها من الصر بكسر الصاد وهو البرد الذي يصر أي يجمع ظاهر جلد الإنسان ويقبضه؛ والأول أنسب لديار العرب، وقال السدي أيضا. وأبو عبيدة. وابن قتيبة. والطبري. وجماعة: مصوتة من صريصر إذا صوت، وقال ابن السكيت: صرصر يجوز أن يكون من الصرة وهي الصبيحة ومنه * (فأقبلت امرأته في صرة) * (الذاريات: 29) وفي الحديث أنه تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا عليهم قدر حلقة الخاتم ولو فتحوا قدر منخر الثور لهلكت الدنيا، وروى أنها كانت تحمل العير بأوقارها فترميهم في البحر * (في أيام نحسات) * جمع نحسة بكسر الحاء صفة مشبهة من نحس نحسا كعلم علما نقيض سعد سعدا.
وقرأ الحرميان. وأبو عمرو. والنخعي. وعيسى والأعرج * (نحسات) * بسكون الحاء فاحتمل أن يكون مصدرا وصف به مبالغة، واحتمل أن يكون صفة مخففا من فعل كصعب. وفي " البحر " تتبعت ما ذكره التصريفيون مما جاء صفة من فعل اللازم فلم يذكروا فيه فعلا بسكون العين وإنما ذكروا فعلا بالكسر كفرح وأفعل كأحور وفعلان كشبعان وفاعلا كسالم، وهو صفة * (أيام) * وجمع بالألف والتاء لأنه صفة لما لا يعقل، والمراد بها مشائيم عليهم لما أنهم عذبوا فيها، فاليوم الواحد يوصف بالنحس والسعد بالنسبة إلى شخصية فيقال له سعد بالنسبة إلى من ينعم فيه، ويقال له نحس بالنسبة إلى من يعذب، وليس هذا مما يزعمه الناس من خصوصيات الأوقات، لكن ذكر الكرماني في مناسكه عن ابن عباس أنه قال: الأيام كلها لله تعالى لكنه سبحانه خلق بعضها نحوسا وبعضها سعودا، وتفسير * (نحسات) * بمشائيم مروى عن مجاهد. وقتادة. والسدي. وقال الضحاك: أي شديدة البرد حتى كأن البرد عذاب لهم، وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد:
112

كأن سلافه مزجت بنحس
وقيل: نحسات ذوات غبار، وإليه ذهب الجبائي ومنه قول الراجز: قد اغتدى قبل طلوع الشمس * للصيد في يوم قليل النحس
يريد قليل الغبار، وكانت هذه الأيام من آخر شباط وتسمى أيام العجوز، وكانت فيما روي عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء، وروى ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء، وقال السدي: أولها غداة يوم الأحد، وقال الربيع بن أنس: يوم الجمعة * (لنذيقهم عذابالخزي في الحيواة الدنيا) * أضيف العذاب إلى الخزي وهو الذل على قصد وصفه به لقوله تعالى: * (ولعذاب الآخرة أخزى) * وهو في الأرض صفة المعذب وإنما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة، فإنه يدل على أن ذل الكافر زاد حتى اتصف به عذابه كما قرر في قولهم: شعر شاعر، وهذا في مقابلة استكبارهم وتعظمهم. وقرىء * (لتذيقهم) * بالتاء على أن الفاعل ضمير الريح أو الأيام النحسات * (وهم لا ينصرون) * بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه.
* (وأما ثمود فهدين‍اهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم ص‍اعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون) *.
* (وأما ثمود فهديناهم) * قال ابن عباس. وقتادة. والسدي: أي بينا لهم، وأرادوا بذلك على ما قيل بيان طريقي الضلالة والرشد كما في قوله تعالى: * (وهديناه النجدين) * وهو أنسب بقوله تعالى: * (فاستحبوا العمى على الهدى) * أي فاختاروا الضلالة على الهدى فالظاهر في أنه بين لهم الطريقان فاختاروا أحدهما، وصرح ابن زيد بذلك فقد حكي عنه أنه قال: أي اعلمناهم الهدى من الضلال، وفسر غير واحد الهداية هنا بالدلالة أي فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرسل فاختاروا الضلال ولم يفسروها بالدلالة الموصلة لإباء ظاهر * (فاستحبوا) * الخ عنه.
واستدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان باختيار العبد على الاستقلال بناء على أن قوله تعالى: * (هديناهم) * دل على نصب الأدلة وإزاحة العلة، وقوله تعالى: * (استحبوا العمى) * الخ دل على أنهم بأنفسهم آثروا العمى.
والجواب كما في " الكشف " أن في لفظ الاستحباب ما يشعر بأن قدرة الله تعالى هي المؤثرة وأن لقدرة العبد مدخلا ما فإن المحبة ليست اختيارية بالاتفاق وإيثار العمى حبا وهو الاستحباب من الاختيارية، فانظر إلى هذه الدقيقة تر العجب العجاب، وإلى نحوه أشار الإمام الداعي إلى الله تعالى قدس سره، ومعنى كون المحبة ليست اختيارية أنها بعد حصول ما تتوقف عليه من أمور اختيارية تكون بجذب الطبيعة من غير اختيار للشخص في ميل قلبه وارتباط هواه بمن يحبه، فهي نفسها غير اختيارية لكنها باعتبار مقدماتها اختيارية، ولذلك كلفنا بمحبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي طوق الحمامة لابن سعيد أن المحبة ميل روحاني طبيعي، وإليه يشير قوله عز وجل: * (وجعل منها زوجها ليسكن إليها) * (الأعراف: 189) أي يميل فجعل علة ميلها كونها منها، وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: * (الأرواح جنود مجندة) * وتكون المحبة لأمور أخر كالحسن والإحسان والكمال، ولها آثار يطلق عليها محبة كالطاعة والتعظيم، وهذه هي التي يكلف بها لأنها اختيارية فاعرفه. وقرأ ابن وثاب. والأعمش. وبكر بن حبيب * (وأما ثمود) * بالرفع مصروفا.
وقد قرأ الأعمش. وابن وثاب بصرفه في جميع القرآن إلا في قوله تعالى: * (وآتينا ثمود الناقة) * (الإسراء: 59) لأنه في المصحف بغير ألف. وقرأ ابن أبي إسحاق. وابن هرمز بخلاف عنه. والمفضل، قال ابن عطية: والأعمش
113

وعاصم. وروي عن ابن عباس * (ثمودا) * بالنصب والتنوين، وروى المفضل عن عاصم الوجهين والمنع عن الصرف للعلمية والتأنيث على إرادة القبيلة، ومن صرفه جعله اسم رجل، والنصب على جعله من باب الإضمار على شريطة التفسير، ويقدر الفعل الناصب بعده لأن أما لا يليها في الغالب إلا اسم. وقرىء بضم الثاء على أنه جمع ثمد وهو قلة الماء فكأنهم سموا بذلك لأنهم كانوا يسكنون في الرمال بين حضرموت وصنعاء وكانوا قليلي الماء * (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون) * أي الذي وهو صفة للعذاب أو بدل منه، ووصفه به مصدرا للمبالغة وكذا إضافة صاعقة إلى العذاب فيفيد ذلك أن عذابهم عين الهون وأن له صاعقة، والمراد بالصاعقة النار الخارجة من السحاب كما هو المعروف، وسبب حدوثها العادي مشهور في كتب الفلسفة القديمة وقد تكلم في ذلك أهل الفلسفة الجديدة المتداولة اليوم في بلاد الروم وما
قرب منها فقالوا في كيفية انفجار الصاعقة: من المعلوم أن انطلاق الكهربائية التي في السحاب وهي قوة مخصوصة في الأجسام نحو قوة الكهرباء التي بها تجذب التبنة ونحوها إليها إنما يحصل باتحاد كهربائية الأجسام مع بعضها فإذا قرب السحاب من الأجسام الأرضية طلبت الكهربائية السحابية أن تتحد بالكهربائية الأرضية فتتبجس بينهما شرارة كهربائية فتصعق الأجسام الأرضية، وتتفاوت قوة الصاعقة باختلاف الاستحالة البخارية فليست في جميع البلاد والفصول واحدة، وأوضحوا ذلك بكلام طويل من أراده فليرجع إليه في كتبهم، وقيل: المراد بالصاعقة هنا الصيحة كما ورد في آيات أخر، ولا مانع من الجمع بينهما.
وقرأ ابن مقسم * (الهوان) * بفتح الهاء وألف بعد الواو * (بما كانوا يكسبون) * من اختيار الضلالة على الهدى، وهذا تصريح بما تشعر به الفاء.
* (ونجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون) *.
* (ونجينا) * من تلك الصاعقة * (الذين ءامنوا وكانوا يتقون) * بسبب إيمانهم واستمرارهم على التقوى، والمراد بها تقوى الله عز وجل، وقيل: تقوى الصاعقة والمتقى عذاب الله تعالى متق لله سبحانه وليس بذاك.
* (ويوم يحشر أعدآء الله إلى النار فهم يوزعون) *.
* (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار) * شروع في بيان عقوباتهم الآجلة بعد ذكر عقوباتهم العاجلة، والتعبير عنهم بأعداء الله تعالى لذمهم والإيذان بعلة ما يحيق بهم من ألوان العذاب وقيل: المراد بهم الكفار من الأولين والآخرين.
وتعقب بأن قوله تعالى الآتي: * (في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس) * (فصلت: 25) كالصريح في إرادة الكفرة المعهودين، والمراد من قوله تعالى: * (إلى النار) * قيل: إلى موقف الحساب، والتعبير عنه بالنار للإيذان بأن النار عاقبة حشرهم وأنهم على شرف دخولها، ولا مانع من إبقائه على ظاهره والقول بتعدد الشهادة فتشهد عليهم جوارحهم في الموقف مرة وعلى شفير جهنم أخرى، و * (يوم) * إما منصوب باذكر مقدر معطوف على قوله تعالى: * (فقل أنذرتكم صاعقة) * (فصلت: 13) أو ظرف لمضمر مؤخر قد حذف إيهاما لقصور العبارة عن تفصيله، وقيل: ظرف لما يدل عليه قوله تعالى: * (فهم يوزعون) * أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا وهو كناية عن كثرتهم، وقيل: يساقون ويدفعون إلى النار، والفاء تفصيلية. وقرأ زيد بن علي. ونافع. والأعرج. وأهل المدينة * (نحشر) * بالنون * (أعداء) * بالنصب وكسر الأعرج الشين. وقرىء * (يحشر) * على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب * (أعداء الله) * وقوله تعالى:
* (حتى إذا ما جآءوها شهد عليهم سمعهم وأبص‍ارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) *.
* (حتى إذا جاءوها) * أي النار جميعا غاية ليحشر أو ليوزعون أي
114

حتى إذا حضروها، و * (ما) * مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور لأنها تؤكد ما زيدت بعده فهي تؤكد معنى إذا، و * (إذا) * دالة على اتصال الجواب بالشرط لوقوعهما في زمان واحد، وهذا مما لا تعلق له بالنحو حتى يضر فيه أن النحاة لم يذكروه كما شنع به أبو حيان وأكد لأنهم ينكرونه، وفي الكلام حذف والتقدير حتى إذا ما جاؤها وسؤلوا عما أجرموا فأنكروا.
* (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) * واكتفى عن المحذوف بذكر الشهادة لاستلزامها إياه، ولا يأبى التقدير تأكيد الاتصال إذ يكفي للاتصال وقوع ذلك في مجلس واحد، والظاهر أن الجلود هي المعروفة، وقيل: هي الجوارح كني بها عنها، وقيل: كني بها عن الفروج، قيل: وعليه أكثر المفسرين منهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وفي " الإرشاد " أنه الأنسب بتخصيص السؤال في قوله تعالى:
* (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون) *.
* (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا) * فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقبحا واجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطهما وفيه نظر ولعل إرادة فالظاهر أولى، ولعل تخصيص السؤال بالجلود لأنها بمرأى منهم بخلاف السمع والبصر أو لأنها هي مدركة العذاب بالقوة المودعة فيها كما يشعر به قوله تعالى: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) * (النساء: 56) قاله الجلبي، ثم نقل عن العلامة الثاني في ذلك أن الشهادة من الجلود أعجب وأبعد إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر، وتعقبه بقوله: فيه نظر فإن الجلد محل القوة اللامسة التي هي أهم الحواس للحيوان كما أن السمع والبصر محل السامعة والباصرة والذي ينطق الأعيان دون الأعراض ثم إن اللامسة تشتمل على الذائقة التي هي الأهم بعد اللامسة، ثم قال: ويلوح مما قررناه وجه آخر للتخصيص فإن الأهمية للإنسان والاشتمال على أهم من غيرها يصلح أن يكون مخصصا، فانقلاب ما يرجون منه أكمل النفع أعجب ومثله أحق بالتوبيخ من غيره. واعترض عليه بأن رده على العلامة لم يصادف محزه إذ ليس المراد مما ذكره من أنها ليس من شأنها الإدراك إلا إدراك أنواع المعاصي التي يشهد عليها كالكفر والكذب والقتل والزنا مثلا وإدراك مثلها منحصر في السمع والبصر. وأنت تعلم بعد طي كشح البحث في هذا الجواب أن ما ذكره العلامة لا يناسب ظاهر السؤال أعني * (لم شهدتم علينا) * وأولى ما قيل من أوجه التخصيص: أن المدافعة عن الجلود أزيد من المدافعة عن السمع والبصر فإن جلد الإنسان الواحد لو جزىء لزاد على ألف سمع وبصر وهو يدافع عن كل جزء ويحذر أن يصيبه ما يشينه فكانت الشهادة من الجلود عليهم أعجب وأبعد عن الوقوع.
وفي الحديث - إن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى ثم تنطق الجوارح فيقول: تبا لك فعنك كنت أدافع، ووجه إفراد السمع قد مر أول التفسير، ووجه الاقتصار على السمع والبصر والجلد أشار إليه أبو حيان قال: لما كانت الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس وكان الذوق مندرجا في اللمس إذ بمماسة جلد اللسان
الرطب للمذوق يحصل إدراك طعم المذوق وكان حس الشم ليس فيه تكليف لا أمر ولا نهي وهو ضعيف اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس، وللبحث فيه مجال. وكأني بك تختار أن المراد بالجلود ما سوى السمع والأبصار وأن ذكر السمع لما أنه وسيلة إدراك أكثر الآيات التنزيلية وذكر الأبصار لما أنها وسيلة إدراك أكثر الآيات التكوينية.
115

وقد أشير إلى كل في قوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم) * على وجه، وأن شهادتهما فيما يتعلق بالكفر، فيشهد السمع عليهم أنهم كذبوا بالآيات التنزيلية التي جاء بها الرسل وسمعوها منهم، والأبصار أنهم لم يعبئوا بالآيات التكوينية التي أبصروها وكفروا بما تدل عليه، ولعل شهادة الجلود فيما يتعلق بما سوى الكفر من المعاصي التي نهى عنها الرسل عليهم السلام كالزنا مثلا، وجوز أن تكون شهادة السمع بإدراك الآيات التنزيلية والأبصار بإدراك الآيات التكوينية والجلود بالكفر بما يقتضيه كل وبالمعاصي الأخر، ولا بعد في شمول * (ما كانوا يعملون) * لإدراك الآيات والإحساس بها بقسميها فتدبر.
ولعل قوله تعالى: * (لم شهدتم) * سؤال عن العلة الموجبة، وصيغة جمع العقلاء في * (شهدتم) * وما بعد مع أن المراد منه ليس من ذوي العقول لوقوع ذلك في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء. وقرأ زيد بن علي * (لم شهدتن) * بضمير المؤنثات * (قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) * أي أنطقنا الله تعالى وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح وما كتمنا، وحيث كان معنى السؤال لأي علة موجبة شهدتم؟ صلح ما ذكر جوابا له، وقيل: لا قصد هنا للسؤال أصلا وإنما القصد إلى التعجب ابتداء لأن التعجب يكون فيما لا يعلم سببه وعلته فالسؤال عن العلة المستلزم لعدم معرفتها جعل مجازا أو كناية عن التعجب، فقد قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب فكأنه قيل: ليس نطقنا بعجب من قدرة الله تعالى الذي أنطق كل شيء؛ وأيا ما كان فالنطق على معناه الحقيقي كما هو الظاهر وكذا الشهادة، ولا يقال: الشاهد أنفسهم والسمع والأبصار والجلود آلات كاللسان فما معنى * (شهدتم علينا) * لأنه يقال: ليس المراد هذا النوع من النطق الذي يسند حقيقة إلى جملة الشخص ويكون غيره آلة بلا قدرة وإرادة له في نفسه حتى لو أسند إليه كان مجازا كإسناد الكتابة إلى القلم بل هو نطق يسند إلى العضو حقيقة فيكون نفسه ناطقا بقدرة وإرادة خلقهما الله تعالى فيه كما ينطق الشخص بالآلة، وكيف لا وأنفسهم كارهة لذلك منكرة له، وقيل: الناطق هم بتلك الأعضاء إلا أنهم لا يقدرون على دفع كونها آلات ولذا نسبت الشهادة عليهم إليها وليس بشيء، وجوز بعضهم أن يكون النطق مجازا عن الدلالة فالمراد بالشهادة ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت ملتبسة به في الدنيا بتغيير أشكالها ونحوه مما يلهم الله تعالى من رآه أنها تلبست به في الدنيا لارتفاع الغطاء في الآخرة، وهو خلاف ظاهر الآيات والأحاديث ولا داعي إليه، وعلى الظاهر لا بد من تخصيص * (كل شيء) * بكل حي نطق إذ ليس كل شيء ولا كل حي ينطق بالنطق الحقيقي ومثل هذا التخصيص شائع، ومنه ما قيل في * (والله على كل شيء قدير) * (البقرة: 284) و * (تدمر كل شيء) * (الأحقاف: 25)، وجوز أن يكون النطق في * (أنطقنا) * بمعناه الحقيقي ويحمل النطق في * (انطق كل شيء) * على الدلالة فيبقى العام على عمومه ولا يحتاج إلى التخصيص المذكور ويكون التعبير بالنطق للمشاكلة وهو خلاف الظاهر، والموصول المشعر بالعلية يأباه إباء ظاهرا، وقوله تعالى: * (وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون) * يحتمل أن يكون من تمام كلام الجلود ومقول القول ويحتمل أن يكون مستأنفا من كلامه عز وجل والأول أظهر، والمراد على كل حال تقرير ما قبله بأن القادر على الخلق أول مرة قادر على الإنطاق، وصيغة المضارع إذا كان الخطاب يوم القيامة مع أن الرجع فيه متحقق لا مستقبل لما أن المراد بالرجع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل ما يعمه وما يترتب عليه من العذاب الخالد المترقب عند التخاطب على تغليب المتوقع على الواقع، وجوز أن تكون لاستحضار الصورة مع ما في ذلك من مراعاة الفواصل [بم وقوله تعالى:
* (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبص‍اركم ولا جلودكم ول‍اكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون) *.
116

* (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) * حكاية لما سيقال لهم يومئذ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع تقريرا لجواب الجلود، واستظهر أبو حيان أنه من كلام الجوارح و * (أن يشهد) * مفعول له بتقدير مضاف أي ما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أو كراهة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك أي ليس استتاركم للخوف مما ذكر أو لكراهته * (ول‍اكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون) * أي ولكن لأجل ظنكم أن الله تعالى لا يعلم كثيرا مما تعملون وهو ما عملتم خفية فلا يظهره سبحانه يوم القيامة وينطق الجوارح به فلذا سعيتم في الاستتار عن الخلق دون الخالق عز وجل أو هو بتقدير حرف جر متعلق بتستترون فقيل: هو الباء والمستتر عنه الجوارح، والمعنى ما استترتم عنها بملابسة أن تشهد عليكم أي تتحمل الشهادة إذ ما ظننتم أنها تشهد عليكم بل ظننتم أن الله سبحانه لا يعلم فلذا لم يكن استتاركم بهذا السبب، وقيل: هو عن والمعنى لم يمكنكم الاستتار عن الجوارح لئلا تتحمل الشهادة عليكم حين ترتكبون ما ترتكبون لكن ظننتم ما ظننتم.
وقيل: * (أن تشهد) * مفعول له والمستتر عنه الجوارح أي ما تستترون عن جوارحكم مخافة أن تشهد عليكم لكن ظننتم الخ، وقيل: إن * (تستترون) * ضمن معنى الظن فعدى تعديته أي ما كنتم تستترون ظانين شهادة الجوارح عليكم، ويؤيده قول قتادة: أي ما كنتم تظنون أن تشهد عليكم الخ، والحق أن هذا بيان لحاصل المعنى.
أخرج أحمد. والبخاري. ومسلم. والترمذي. والنسائي. وجماعة عن ابن مسعود قال: كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وثقفيان أو ثقفي وقرشيان كثير لحم بطونهم قليل عفة قلوبهم فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهم: أترون الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا يسمعه وإذا لم نرفع لم يسمع فقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمعه كله قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: * (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم - إلى قوله سبحانه - من الخاسرين) * فالحكم المحكي حينئذ يكون خاصا بمن كان على ذلك الاعتقاد من الكفر لكنه قيل في الفكرة. وفي " الإرشاد " لعل الأنسب أن يراد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي وما يجري مجراه من الأعمال المنبئة عنه كما في قوله تعالى: * (يحسب أن ماله أخلده) * ليعم ما حكى من الحال جميع أصناف
الكفرة فتدبر. وفي الآية تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن لا يمر عليه حال إلا بملاحظة أن عليه رقيبا كما قال أبو نواس: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل * خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة * ولا أن ما يخفى عليه يغيب
* (وذلكم ظنكم الذى ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخ‍اسرين) *.
* (وذلكم) * إشارة إلى ظنهم المذكور في ضمن قوله سبحانه: * (ظننتم) * وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية بعد منزلته في الشر والسوء، وهو مبتدأ وقوله تعالى: * (ظنكم الذي ظننتم بربكم) * بدل منه، وقوله سبحانه: * (أردياكم) * أي أهلككم خبره، وجوز أن يكون * (ظنكم) * خبرا و * (أرداكم) * خبرا بعد خبر. ورده أبو حيان بأن * (ذلكم) * إشارة إلى ظنهم السابق فيصير التقدير وظنكم بربكم أنه لا يعلم ظنكم بربكم فما استفيد من الخبر هو ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز كقولهم: سيد الجارية مالكها وقد منعه النحاة. وأجيب بأنه لا يلزم ما ذكر لجواز جعل الإشارة إلى الأمر العظيم في القباحة فيختلف المفهوم باختلاف العنوان ويصح
117

الحمل كما في هذا زيد، ولو سلم فالاتحاد مثله في قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري مما يدل على الكمال في الحسن كما في هذا المثال أو في القبح كما في الجملة المذكورة، وقيل: المراد منه التعجب والتهكم، وقد يراد من الخبر غير فائدة الخبر ولازمها. واختار بعضهم في الجواب ما أشار إليه ابن هشام في شرح - بانت سعاد - وبسط الكلام فيه من أن الفائدة كما تحصل من الخبر تحصل من صفته وقيده كالحال، وجوز في جملة * (أرداكم) * أن تكون حالا بتقدير قد أو بدونه، والموصول في جميع الأوجه صفة * (ظنكم) * وقيل: الثلاثة أخبار فلا تغفل * (فأصبحتم) * بسبب ذلك الظن السوء الذي أهلككم * (من الخاسرين) * إذ صار ما أعطوا من الجوارح لنيل السعادة في الدنيا والآخرة لأن بها تعيشهم في الدنيا وإدراكهم ما يهتدون به إلى اليقين ومعرفة رب العالمين الموصل للسعادة الأخروية سببا للشقاء في الدارين حيث أداهم إلى كفران نعم الرازق والكفر بالخالق والانهماك في الغفلات وارتكاب المعاصي واتباع الشهوات.
* (فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين) *.
* (فإن يصبروا فالنار مثوى لهم) * أي محل ثواء وإقامة أبدية لهم بحيث لا براح لهم منها، وترتيب الجزاء على الشرط لأن التقدير إن يصبروا والظن أن الصبر ينفعهم لأنه مفتاح الفرج لا ينفعهم صبرهم إذا لم يصادف محله فإن النار محلهم لا محالة، وقيل: في الكلام حذف والتقدير أو لا يصبروا كقوله تعالى: * (اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم) * (الطور: 16) وقيل: المراد فإن يصبروا على ترك دينك واتباع هواهم فالنار مثوى لهم وليس بذاك، والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم أن يعرض عنهم ويحكي سوء حالهم للغير أو للإشعار بإبعادهم عن حيز الخطاب وإلقائهم في غيابة دركات النار * (وإن يستعتبوا) * أي يسألوا العتبى وهي الرجوع إلى ما يحبونه جزعا مما هم فيه * (فما هم من المعتبين) * أي المجابين إليها.
وقال الضحاك: المراد إن يعتذروا فما هم من المعذورين: وقرأ الحسن. وعمرو بن عبيد. وموسى الأسواري * (وإن يستعتبوا) * مبنيا للمفعول * (فما هم من المعتبين) * اسم فاعل أي إن طلب منهم أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون ولا يكون ذلك لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال كما قال صلى الله عليه وسلم: " ليس بعد الموت مستعتب " ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى قوله عز وجل: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * (.
* (وقيضنا لهم قرنآء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول فىأمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خ‍اسرين) *.
* (وقيضنا لهم) * أي قدرنا، وفي " البحر " أي سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا وقيل: سلطنا ووكلنا عليهم * (قرناء) * جمع قرين أي أخدانا وأصحابا من غواة الجن، وقيل: منهم ومن الإنس يستولون عليهم استيلاء القيض وهو القشر على البيض، وقيل: أصل القيض البدل ومنه المقايضة للمعاوضة فتقييض القرين للشخص إما لاستيلائه عليه أو لأخذه بدلا عن غيره من قرنائه * (فزينوا لهم) * حسنوا وقرروا في أنفسهم * (ما بين أيديهم) * قال ابن عباس: من أمر الآخرة حيث ألقوا إليهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث * (وما خلفهم) * من أمر الدنيا من الضلالة والكفر واتباع الشهوات، وقال الحسن: ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة، وقال الكلبي: ما بين أيديهم أعمالهم التي يشاهدونها وما خلفهم ما هم عاملوه في المستقبل ولكل وجهة. ولعل الأحسن ما حكي عن الحسن * (وحق عليهم القول) * أي ثبت وتقرر عليهم كلمة العذاب وتحقق موجبها ومصداقها وهي قوله تعالى لإبليس: * (فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * (ص: 84، 85).
* (في أمم) * حال من الضمير المجرور أي كائنين في جملة أمم، وقيل: * (في) * بمعنى مع ويحتمل المعنيين قوله:
118

إن تك عن أحسن الصنيعة مأ * فوكا ففي آخرين قد أفكوا
وفي " البحر " لا حاجة للتضمين مع صحة معنى في، وتنكير * (أمم) * للتكثير أي في أمم كثيرة * (قد خلت) * أي مضت * (من قبلهم من الجن والانس) * على الكفر والعصيان كدأب هؤلاء * (إنهم كانوا خاسرين) * تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير لهم وللأمم، وجوز كونه لهم بقرينة السياق.
* (وقال الذين كفروا لا تسمعوا له‍اذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون) *.
* (وقال الذين كفروا) * من رؤساء المشركين لأعقابهم أو قال بعضهم لبعض: * (لا تسمعوا لهذا القرءان) * أي لا تنصتوا له.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون: لا تسمعوا
لهذا القرآن * (والغوا فيه) * وأتوا باللغو عند قراءته ليتشوش على القارىء، والمراد باللغو ما لا أصل له وما لا معنى له، وكان المشركون عند قراءته عليه الصلاة والسلام يأتون بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأراجيز، وقال أبو العالية: أي قعوا فيه وعيبوه، وفي كتاب ابن خالويه قرأ عبد الله بن بكر السهمي. وقتادة. وأبو حيوة. وأبو السمال. والزعفراني. وابن أبي إسحاق. وعيسى بخلاف عنهما * (والغوا) * بضم الغين مضارع لغا بفتحها وهما لغتان يقال لغى يلغي كرضى يرضي ولغا يلغو كعدا يعدو إذا هذى، وقال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون الفتح من لغى بالشيء يلغي به إذا رمى به فيكون * (فيه) * بمعنى به أي ارموا به وانبذوه * (لعلكم تغلبون) * أي تغلبونه على قراءته أو تطمون أمره وتميتون ذكره.
* (فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذى كانوا يعملون) *.
* (فلنذيقن الذين كفروا) * أي فوالله لنذيقن هؤلاء القائلين، والإظهار في مقام الإضمار للإشعار بالعلية أو جميع الكفار وهم يدخلون فيه دخولا أوليا.
* (عذابا شديدا) * لا يقادر قدره * (ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون) * أي جزاء سيآت أعمالهم التي هي في أنفسها أسوأ - فأفعل - للزيادة المطلقة، وقيل: إنه سبحانه لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم كإغاثة الملهوفين وصلة الأرحام وقرى الأضياف لأنها محبطة بالكفر، والعذاب إما في الدارين أو في إحداهما، وعن ابن عباس عذابا شديدا يوم بدر وأسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة.
* (ذلك جزآء أعدآء الله النار لهم فيها دار الخلد جزآء بما كانوا بااي‍اتنا يجحدون) *.
* (ذلاك) * إشارة إلى ما ذكر من الجزاء وهو مبتدأ وقوله تعالى: * (جزاء أعداء الله) * خبره أي ما ذكر من الجزاء جزاء معد لأعدائه تعالى، وقوله سبحانه: * (النار) * عطف بيان لجزاء أو بدل أو خبر لمبتدأ محذوف.
وجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك و * (جزاء) * مبتدأ و * (النار) * خبره، والإشارة حينئذ إلى مضمون الجملة السابقة، وقوله تعالى: * (لهم فيها دار الخلد) * جملة مستقلة مقررة لما قبلها، وجوز أن يكون * (النار) * مبتدأ وهذه الجملة خبره أي هي بعينها دار إقامتهم على أن في للتجريد كما قيل: في قوله تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * (الأحزاب: 21) وقول الشاعر: وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل
وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة فيها، وجوز أن يقال: المقصود ذكر الصفة والدار إنما ذكرت توطئة فكأنه قيل: لهم فيها الخلود، وقيل: الكلام على ظاهره والظرفية حقيقية، والمراد أن لهم في النار المشتملة على الدركات دار مخصوصة هم فيها خالدون والأول أبلغ.
119

* (جزاء بما كانوا بأياتنا يجحدون) * منصوب بفعل مقدر أي يجزون جزاء أو بالمصدر السابق فإن المصدر ينتصب بمثله كما في قوله تعالى: * (فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) * (الإسراء: 63) والباء الأولى متعلقة بجزاء والثانية بيجحدون قدمت عليه لقصد الحصر الإضافي مع ما فيه من مراعاة الفواصل أي بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا الحقة دون الأمور التي ينبغي جحودها، وجعل بعضهم الجحود مجازا عن اللغو المسبب عنه أي جزاء بما كانوا بآياتنا يلغون.
* (وقال الذين كفروا ربنآ أرنا اللذين أضل‍انا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الاسفلين) *.
* (وقال الذين كفروا) * وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب.
* (ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس) * يعنون فريقي شياطين النوعين المقيضين لهم الحاملين لهم على الكفر والمعاصي بالتسويل والتزيين، وعن علي كرم الله وجهه. وقتادة أنهما إبليس. وقابيل فإنهما سببا الكفر والقتل بغير حق. وتعقب بأنه لا يصح عن علي كرم الله تعالى وجهه فإن قابيل مؤمن عاص، والظاهر أن الكفار إنما طلبوا إراءة المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود وكونهم رئيس الكفرة ورئيس أهل الكبائر خلاف الظاهر، وقرأ ابن كثير. وابن عامر. ويعقوب. وأبو بكر * (أرنا) * بالتخفيف كفخذ بالسكون في فخذ، وفي " الكشاف " * (أرنا) * بالكسر للاستبصار وبالسكون للاستعطاء ونقله عن الخليل، فمعنى القراءة عليه أعطنا اللذين أضلانا * (نجعلهما تحت أقدامنا) * ندوسهما بها انتقاما منهما، وقيل: نجعلهما في الدرك الأسفل من النار ليشتد عذابهما فالمراد نجعلهما في الجهة التي تحت أقدامنا، وقرىء في السبعة * (اللذين) * بتشديد النون وهي حجة على البصريين الذين لا يجوزون التشديد فيها في حال كونها بالياء وكذا في اللتين وهذين وهاتين * (ليكونا من الأسفلين) * ذلا ومهانة أو مكانا.
* (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استق‍اموا تتنزل عليهم المل‍ائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون) *.
* (إن الذين قالوا ربنا الله) * شروع في بيان حسن أحوال المؤمنين في الدنيا والآخرة بعد بيان سوء حال الكفرة فيهما أي قالوه اعترافا بربوبيته تعالى وإقرارا بوحدانيته كما يشعر به الحصر الذي يفيده تعريف الطرفين كما في صديقي زيد * (ثم استقاموا) * ثم ثبتوا على الإقرار ولم يرجعوا إلى الشرك، فقد روي عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه تلا الآية وهي قد نزلت على ما روي عن ابن عباس ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا قال: قد حملتم الأمر على أشده قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضي الله تعالى عنه استقاموا لله تعالى بطاعته لم يروغوا روغان الثعالب، وعن عثمان رضي الله تعالى عنه اخلصوا العمل، وعن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه أدوا الفرائض، وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا، وقال الفضيل: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية، وقال الربيع: اعرضوا عما سوى الله تعالى، وفي " الكشاف " أي ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته وأراد أن من قال: ربي الله تعالى فقد اعترف أنه عز وجل مالكه ومدبر أمره ومربيه وأنه عبد مربوب بين يدي مولاه فالثبات على مقتضاه أن لا تزل قدمه عن طريق العبودية قلبا وقالبا ولا يتخطاه وفيه يندرج كل العبادات والاعتقادات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمن طلب أمرا يعتصم به: " قل ربي الله تعالى ثم استقم " وذكر أن ما ورد عن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم جزئيات لهذا المعنى ذكر كل
منها على سبيل التمثيل ولا يخفى أن كلام الصديق رضي الله تعالى عنه يبعد كون ما ذكره على سبيل التمثيل، ولعل * (ثم) * على هذا للتراخي الرتبي فإن الاستقامة عليه أعظم وأصعب من الإقرار وكذا يقال على أغلب التفاسير السابقة، وجوز أن تكون للتراخي الزماني لأنها تحصل بعد مدة من وقت الإقرار، وجعلت
120

على تفسير الاستقامة بأداء الفرائض أو بالعمل للتراخي الرتبي أيضا بناء على أن الإقرار مبدأ الاستقامة على ذلك ومنشؤها، وهذا على عكس التراخي الرتبي الذي سمعته أولا لأن المعطوف عليه فيه أعلى مرتبة من المعطوف إذ هو العمدة والأساس، وعلى ما تقدم المعطوف أعلى مرتبة من المعطوف عليه كما لا يخفى * (تنزل عليهم) * من الله ربهم عز وجل * (الملائكة) * قال مجاهد. والسدي: عند الموت، وقال مقاتل: عند البعث، وعن زيد بن أسلم عند الموت وفي القبر وعند البعث، وقيل: تتنزل عليهم يمدونهم فيما يعن ويطرأ لهم من الأمور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام كما أن الكفرة يغويهم ما قيض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح، قيل: وهذا هو الأظهر لما فيه من الإطلاق والعموم الشامل لتنزلهم في المواطن الثلاثة السابقة وغيرها، وقد قدمنا لك أن جميعا من الناس يقولون: بتنزل الملائكة على المتقين في كثير من الأحيايين وأنهم يأخذون منهم ما يأخذون فتذكر. * (ألا تخافوا) * ما تقدمون عليه فإن الخوف غم يلحق لتوقع المكروه * (ولا تحزنوا) * على ما خلفتم فإنه غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار وروى هذا عن مجاهد، وقال عطاء بن أبي رباح: لا تخافوا رد حسناتكم فإنها مقبولة ولا تحزنوا على ذنوبكم فإنها مغفورة، وقيل: المراد نهيهم عن الغموم على الإطلاق.
والمعنى أن الله تعالى كتب لكم الأمس من كل غم فلم تذوقوه أبدا. و * (أن) * إما مصدرية و * (لا) * ناهية أو نافية وسقوط النون للنصب والخبر في موضع الإنشاء مبالغة، وإما مخففة من الثقيلة و * (تتنزل) * مضمن معنى العلم ولا ناهية وأن في الوجهين مقدرة بالباء أي بأن لا تخافوا أو بأنه لا تخافوا والهاء ضمير الشأن. وإما مفسرة و * (تتنزل) * مضمن معنى القول ولا ناهية أيضا.
وفي قراءة عبد الله * (لا تخافوا) * بدون * (أن) * أي يقولون لا تخافوا على أنه حال من الملائكة أو استئناف.
* (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) * أي التي كنتم توعدونها في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام، هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة [بم وقوله تعالى:
* (نحن أوليآؤكم فى الحيواة الدنيا وفى الاخرة ولكم فيها ما تشتهىأنفسكم ولكم فيها ما تدعون) *.
* (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا) * إلى آخره من بشاراتهم في الدنيا أي أعوانكم في أموركم نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم، ولعل ذلك عبارة عما يخطر ببال المؤمنين المسترين على الطاعات من أن ذلك بتوفيق الله تعالى وتأييده لهم بواسطة الملائكة عليهم السلام، ويجوز على قول بعض الناس أن تقول الملائكة لبعض المتقين شفاها في غير تلك المواطن: * (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا) * * (وفي الآخرة) * نمدكم بالشفاعة ونتلقاكم بالكرامة حين يقع بين الكفرة وقرنائهم ما يقع من الدعاوي والخصام.
وذهب بعض المفسرين على أن هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة أيضا على معنى كنا نحن أولياءكم في الدنيا ونحن أولياؤكم في الآخرة، وقيل: هذا من كلام الله تعالى دون الملائكة أي نحن أولياؤكم بالهداية والكفاية في الدنيا والآخرة * (ولكم فيها) * أي في الآخرة * (ما تشتهي أنفسكم) * من فنون الملاذ * (ولكم فيها ما تدعون) * ما تتمنون وهو افتعال من الدعاء بمعنى الطلب أي تدعون لأنفسكم وهو عند بعض أعم من الأول لأنه قد يقع الطلب في أمور معنوية وفضائل عقلية روحانية، وقيل: بينهما عموم وخصوص
121

من وجه إذ قد يشتهي المرء ما لا يطلبه كالمريض يشتهي ما يضره ولا يريده، وكون التمني أعم من الإرادة غير مسلم، نعم قيل: إذا أريد بالمتمني ما يصح تمنيه لا ما يتمنى بالفعل فذاك.
وقال ابن عيسى المراد ما تدعون أنه لكم فهو لكم يحكم ربكم * (ولكم) * في الموضعين خبر و * (ما) * مبتدأ و * (فيها) * حال من ضميره في الخبر وعدم الاكتفاء بعطف * (ما تدعون) * على * (ما تشتهي) * للإيذان باستقلال كل منهما.
* (نزلا من غفور رحيم) *.
* (نزلا) * قال الحسن: منا وقال بعضهم: ثوابا، وتنوينه للتعظيم وكذا وصفه بقوله تعالى: * (من غفور رحيم) * والمشهور أن النزل ما يهيأ للنزيل أي الضيف ليأكله حين نزوله وتحسن إرادته هنا على التشبيه لما في ذلك من الإشارة إلى عظم ما بعد من الكرامة، وانتصابه على الحال من الضمير في الظرف الراجع إلى * (ما تدعون) * لا من الضمير المحذوف الراجع إلى * (ما) * لفساد المعنى لأن التمني والإدعاء ليس في حال كونه نزلا بل ثبت لهم ذلك المدعي واستقر حال كونه نزلا، وجعله حالا من المبتدأ نفسه لا يخفى حاله على ذي تمييز.
وقال ابن عطية: * (نزلا) * نصب على المصدر، والمحفوظ أن مصدر نزل نزول لا نزل، وجعله بعضهم مصدرا لأنزل، وقيل: هو جمع نازل كشارف وشرف فينتصب على الحال أيضا أي نازلين، وذو الحال على ما قال أبو حيان: الضمير المرفوع في * (تدعون) * ولا يحسن تعلق * (من غفور) * به على هذا القول فقيل: هو في موضع الحال من الضمير في الظرف فلا تغفل.
وقرأ أبو حيوة * (نزلا) * بإسكان الزاي.
* (ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى الله وعمل ص‍الحا وقال إننى من المسلمين) *.
* (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) * أي إلى توحيده تعالى وطاعته والظاهر العموم في كل داع إلى تعالى، وإلى ذلك ذهب الحسن. ومقاتل. وجماعة، وقيل:
بالخصوص فقال ابن عباس: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه أيضا هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقالت عائشة. وقيس بن أبي حازم. وعكرمة. ومجاهد: نزلت في المؤذنين، وينبغي أن يتأول قولهم على أنهم داخلون في الآية وإلا فالسورة بكمالها مكية بلا خلاف ولم يكن الأذان بمكة إنما شرع بالمدينة، والتزام القول بتأخر حكمها عن نزولها كما ترى، والظاهر أن المراد الدعاء باللسان، قيل: به وباليد كأن يدعو إلى الإسلام ويجاهد، وقال زيد بن علي: دعا إلى الله بالسيف، ولعل هذا والله تعالى أعلم هو الذي حمله على الخروج بالسيف على بعض الظلمة من ملوك بني أمية، وكان زيد هذا رضي الله تعالى عنه عالما بكتاب الله تعالى وله تفسير ألقاه على بعض النقلة عنه وهو في حبس هشام بن عبد الملك وفيه من العلم والاستشهاد بكلام العرب حظ وافر.
ويقال: إنه كان إذا تناظر هو وأخوه محمد الباقر اجتمع الناس بالمحابر يكتبون ما يصدر عنهما من العلم رحمهما الله تعالى ورضي عنهما، والاستفهام في معنى النفي أي لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله * (وعمل صالحا) * أي عملا صالحا أي عمل صالح كان.
وقال أبو أمامة: صلى بين الأذان والإقامة، ولا يخفى ما فيه، وقال عكرمة: صلى وصام، وقال الكلبي: أدى العرائض والحق العموم * (وقال إنني من المسلمين) * أي تلفظ بذلك ابتهاجا بأنه منهم وتفاخرا به مع قصد الثواب إذ هو لا ينافيه أو جعل واتخذ الإسلام دينا له من قولهم: هذا قول فلان أي مذهبه ومعتقده، وبعضهم يرجع الوجهين إلى وجه واحد، والمعنى على القول بكون الآية خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم
122

اختار النسبة إلى الإسلام دون عز الدنيا وشرفها وهو قولهم رد لا تسمعوا لهذا القرآن وتعجيب منه، وقرأ ابن أبي عبلة. وإبراهيم بن نوح عن قتيبة المبال * (وقال إني) * بنون مشددة دون نون الوقاية.
واستدل أبو بكر بن العربي بالآية على عدم اشتراط الاستثناء في قول القائل: أنا مسلم أو أنا مؤمن. وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يكون عاملا عملا صالحا ليكون الناس إلى قبول دعائه أقرب وإليه أسكن.
* (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم) *.
* (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) * جملة مستأنفة سيقت لبيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد والرب عز وجل ترغيبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر على أذية المشركين ومقابلة إساءتهم بالإحسان، والحكم عام أي لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة في الآثار والأحكام، و * (لا) * الثانية مزيدة لتأكيد النفي مثلها في قوله تعالى: * (ولا الظل ولا الحرور) * لأن استوى لا يكتفي بمفرد وقوله تعالى: * (ادفع بالتي هي أحسن) * استئناف مبين لحسن عاقبة الحسنة أي ادفع السيئة حيث اعترضتك من بعض أعاديك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات كالإحسان إلى من أساء فإنه أحسن من مجرد العفو فأحسن على ظاهره والمفضل عليه عام ولذا حذف كما في الله تعالى أكبر، وإخراجه مخرج الجواب عن سؤال من قال: كيف أصنع؟ للمبالغة والإشارة إلى أنه مهم ينبغي الاعتناء به والسؤال عنه، وللمبالغة أيضا وضع * (أحسن) * موضع الحسنة لأن من دفع بالأحسن هان عليه الدفع بما دونه، ومما ذكرنا يعلم أن ليس المراد بالحسنة والسيئة أمرين معينين. وعن علي كرم الله تعالى وجهه الحسنة حب الرسول وآله عليهم الصلاة والسلام والسيئة بغضهم، وعن ابن عباس الحسنة لا إله إلا الله والسيئة الشرك، وقال الكلبي: الدعوتان إليهما، وقال الضحاك: الحلم والفحش، وقيل: الصبر، وقيل: المدارة والغلظة، وقيل غير ذلك، ولا يخفى أن بعض المروي يكاد لا تصح إرادته هنا فلعله لم يثبت عمن روى عنه، وجوز أن يكون المراد بيان تفاوت الحسنات والسيئات في أنفسهما بمعنى أن الحسنات تتفاوت إلى حسن وأحسن والسيئات كذلك فتعريف الحسنة والسيئة للجنس و * (لا) * الثانية ليست مزيدة وأفعل على ظاهره، والكلام في * (ادفع) * الخ على معنى الفاء أي إذا كان كل من الجنسين متفاوت الافراد في نفسه فادفع بأحسن الحسنتين السيء والأسوأ، وترك الفاء للاستئناف الذي ذكرنا وهو أقوى الوصلين ولعل الأول أقرب * (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) * بيان لنتيجة الدفع المأمور به أي فإذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق. قال ابن عطية: دخلت * (كأن) * المفيدة للتشبية لأن العدو لا يعدو وليا حميما بالدفع بالتي هي أحسن وإنما يحسن ظاهره فيشبه بذلك الولي الحميم؛ ولعل ذلك من باب الاكتفاء بأقل اللازم وهذا بالنظر إلى الغالب وإلا فقد تزول العداوة بالكلية بذلك كما قيل. إن العداوة تستحيل مودة * بتدارك الهفوات بالحسنات
و * (الذي بينك وبينه عداوة) * أبلغ من عدوك ولذا اختير عليه مع اختصاره، والآية قيل: نزلت في أبي سفيان ابن حرب كان عدوا مبينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصار عند أهل السنة وليا مصافيا وكأن ما عنده انتقل إلى ولد ولده يزيد عليه من الله عز وجل ما يستحق.
* (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاهآ إلا ذو حظ عظيم) *.
* (وما يلقياها) * أي ما يلقى ويؤتي هذه
123

الفعلة والخصلة الشريفة التي هي الدفع بالتي هي أحسن فالضمير راجع لما يفهم من السياق، وجوز رجوعه للتي هي أحسن، وحكى مكي أن الضمير لشهادة أن لا إله إلا الله فكأنه أرجع للتي هي أحسن وفسرت بالشهادة المذكورة ومع هذا هو كما ترى، وقيل: الضمير للجنة وليس بشيء.
وقرأ طلحة. وابن كثير في رواية * (وما يلاقاها) * من الملاقاة * (إلا الذين صبروا) * أي الذين فيهم طبيعة الصبر وشأنهم ذلك * (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) * ذو نصيب عظيم من خصال الخير وكمال النفس كما روى عن ابن عباس، وقال قتادة: ذو حظ عظيم من الثواب، وقيل: الحظ العظيم الجنة، وعليهما فهو وعد وعلى الأول هو مدح، وكرر * (وما يلقاها) * تأكيدا لمدح تلك الفعلة الجملة الجليلة ولأوحد أهل عصره الذي بخل الزمان أن يأتي بمثله صالح أفندي كاتب ديوان الإنشاء في
الحدباء في هذه الآية عبارة مختصرة التزم الدقة فيها رحمة الله تعالى عليه وهي قوله تعالى: * (وما يلقاها إلا الذين صبروا) * الآية يمكن أن يؤخذ من الأول ما هو من أول الأول لا الثاني للاتفاق فيتحقق الاشرف بعد إعطاء المقام حقه فيتحقق الحابس أنه مجدود فيقف عند الحد المحدود انتهت.
وأراد والله تعالى أعلم أنه يمكن أن يؤخذ من الأول أي قوله تعالى: * (وما يلقاها إلا الذين صبروا) * (فصلت: 35) ومن الثاني وهو قوله سبحانه: * (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) * ما أي شكل هو من أول ضروب الشكل الأول الأربعة وهو قياس منه مركب من موجبتين كليتين ينتج موجبة كلية بأن يقال: كل صابر هو الذي يلقاها وكل من يلقاها فهو ذو حظ عظيم ينتج كل صابر هو ذو حظ عظيم، ولا يمكن أن يؤخذ قياس من الشكل الثاني للاتفاق في الكيف وشرط الشكل الثاني اختلاف المقدمتين فهي كما هو مقرر في محله فيتحقق بعد الأخذ وتركيب المقدمتين الأمر الأشرف أي النتيجة التي هي موجبة كلية وهي أشرف المحصورات الأربع لاشتمالها على الإيجاب الأشرف من السلب والكلية الأشرف من الجزئية بعد إعطاء المقام حقه من جعل الموصول للاستغراق كما أشير إليه ليفيد الكلية فعند ذلك يتحقق ويعلم الحابس أي الصابر أنه مجدود أي ذو جد وحظ فيقف عند الحد المحدود ولا يتجاوز من الصبر إلى غيره.
* (وإما ينزغنك من الشيط‍ان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) *.
* (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) * النزغ النخس وهو المس بطرف قضيب أو أصبع بعنف مؤلم استعير هنا للوسوسة الباعثة على الشر وجعل نازغا للمبالغة على طريقة جد جد - فمن - على هذا ابتدائية، ويجوز أن يراد به نازغ على أن المصدر بمعنى اسم الفاعل وصفا للشيطان - فمن - بيانية والجار والمجرور في موضع الحال أو هي ابتدائية أيضا لكن على سبيل التجريد، وجوز أن يكون المراد بالنازغ وسوسة الشيطان و * (إن) * شرطية و * (ما) * مزيدة أي وإن ينزغنك ويصرفنك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن * (فاستعذ بالله) * من شره ولا تعطه * (إنه) * عز وجل * (هو السميع) * فيسمع سبحانه استعاذتك * (العليم) * فيعلم جل شأنه نيتك وصلاحك، وقيل: السمع لقول من أذاك العليم بفعله فينتقم منه مغنيا عن انتقامك، وقيل: العليم بنزغ الشيطان، وفي جعل ترك الدفع من آثار نزغات الشيطان مزيد تحذير وتنفير عنه، ولعل الخطاب من باب إياك أعني واسمعي يا جاره.
وجوز أن يراد بالشيطان ما يعم شيطان الإنس فإن منهم من يصرف عن الدفع بالتي هي أحسن ويقول:
124

إنه عدوك لذي فعل بك كيت وكيت فانتهز الفرصة فيه وخذ ثأرك منه لتعظم في عينه وأعين الناس ولا يظن فيك العجز وقلة الهمة وعدم المبالاة إلى غير ذلك من الكلمات التي ربما لا تخطر أبدا ببال شيطان الجن نعوذ بالله تعالى السميع العليم من كل شيطان، وفسر عبد الرحمن بن زيد النزغ بالغضب واستدل بالآية على استحباب الاستعاذة عنده.
وقد روى الحاكم عن سليمان بن صدر قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد غضب أحدهما فقال النبي عليه الصلاة والسلام: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال الرجل: أمجنونا تراني؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ".
ولعل الغضب من آثار الوسوسة.
* (ومن ءاي‍اته اليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) *.
* (ومن آياته) * الدالة على شؤنه الجليلة جل شأنه: * (الليل والنهار) * في حدوثهما وتعاقبهما وإيلاج كل منهما في الآخر * (والشمس والقمر) * في استنارتهما واختلافهما في قوة النور والعظم والآثار والحركات مثلا، وقدم ذكر الليل قيل: تنبيها على تقدمه مع كون الظلمة عدما، وناسب ذكر الشمس بعد النهار لأنها آيته وسبب تنويره ولأنها أصل لنور القمر بناء على ما قالوا من أنه مستفاد من ضياء الشمس، وأما ضياؤها فالمشهور أنه غير طارىء عليها من جرم آخر، وقيل: هو من العرش، والفلاسفة اليوم يظنون أنه من جرم آخر وادعوا أنهم يرون في طرف من جرم الشمس ظلمة قليلة * (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) * لأنها من جملة مخلوقاته سبحانه وتعالى المسخرة على وفق إرادته تعالى مثلكم * (واسجدوا لله الذي خلقهن) * الضمير قيل للأربعة المذكورة والمقصود تعليق الفعل بالشمس والقمر لكن نظم معهما الليل والنهار إشعارا بأنهما منم عداد ما لا يعلم ولا يختار ضرورة أن الليل والنهار كذلك ولو ثنى الضمير لم يكن فيه أشعار بذلك.
وحكم جماعة ما لا يعقل - على ما قال الزمخشري - حكم الأنثى فيقال: الأقلام بريتها وبريتهن فلا يتوهم أن الضمير لما كان لليل والنهار والشمس والقمر كان المناسب تغليب الذكور، والجواب بأنه لما كن من الآيات عدت كالأناث تكلف عنه غني بالقاعدة المذكورة. نعم قال أبوحيان: ينبغي أن يفرق بين جمع القلة من ذلك وجمع الكثرة فإن الأفصح في الأول أن يكون بضمير الواحدة تقول الأجذاع انكسرت على الأفصح والأفصح في الثاني أن يكون بضمير الأناث تقول الجذوع انكسرن وما في الآية ليس بجمع قلة بلفظ واحد لكنه منزل منزلة المعبر عنه به، وقيل: الضمير للشمس والقمر والأثنان جمع وجمع ما لا يعقل يؤنث، ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام والليالي ساغ أن يعود الضمير إليهما جمعا، وقيل: الضمير للآيات المتقدم ذكرها في قوله تعالى: * (ومن آياته) * * (إن كنتم إيصاه تعبدون) * فإن السجود أقصى مراتب العبادة فلا بد من تخصيصه به عز وجل، وكان علي كرم الله تعالى وجهه. وابن مسعود يسجدان عند * (تعبدون) * ونسب القول بأنه موضع السجدة للشافعي، وسجد عند * (لا يسأمون) * ابن عباس. وابن عمر. وأبو وائل. وبكر بن عبد الله، وكذلك روى عن ابن وهب. ومسروق. والسلمي. والنخعي. وأبي صالح. وابن وثاب. والحسن. وابن سيرين. وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم، ونقله في التحرير عن الشافعي رضي الله تعالى عنه. وفي " الكشف " أصح
125

الوجهين عند أصحابنا - يعني الشافعية - أن موضع السجدة * (لا يسأمون) * كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة، ووجهه أنها تمام المعنى على أسلوب اسجد فإن الاستكبار عنه مذموم، وعلله بعضهم بالاحتياط لأنها إن كانت عند * (تعبدون) * جاز التأخير لقصر الفصل، وإن كانت عند * (يسأمون) * لم يجز تعجيلها.
* (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يس‍امون) *.
* (فإن استكبروا) * تعاظموا عن اجتناب ما نهوا عنه من السجود لتلك المخلوقات وامتثال ما أمروا به من السجود لخالقهن فلا يعبأ بهم أو فلا يخل ذلك بعظمة ربك * (فالذين عند ربك) * أي في حضرة قدسه عز وجل من الملائكة عليهم السلام الذين هم خير منهم * (يسبحون له بالليل والنهار) * أي دائما وإن لم يكن عندهم ليل ونهار * (وهم لا يسئمون) * لا يملكون ذلك، وجواب الشرط في الحقيقة ما أشرنا إليه أو نحوه وما ذكر قائم مقامه، ويجوز أن يكون الكلام على معنى الاخبار كما قيل في نحو إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس إنه على معنى فأخبرك إني قد أكرمتك أمس.
وقرىء * (لا يسأمون) * بكسر الياء، والظاهر أن الآية في أناس من الكفرة كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله تعالى فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله تعالى خالصا. واستدل الشيخ أبو إسحق في المهذب بالآية على صلاتي الكسوف والخسوف قال: لأنه لا صلاة تتعلق بالشمس والقمر غيرهما وأخذ من ذلك تفضيلهما على صلاة الاستسقاء لكونهما في القرآن بخلافها.
* (ومن ءاي‍اته أنك ترى الارض خ‍اشعة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت إن الذىأحي‍اها لمحى الموتى إنه على كل شىء قدير) *.
* (ومن ءاياته أنك ترى) * يا من تصح منه الرؤية:
* (الأرض خاشعة) * يابسة متطامنة مستعار من الخشوع بمعنى التذلل * (فإذا أنزلنا عليها الماء) * أي المطر * (اهتزت وربت) * أي تحركت بالنبات وانتفخت لأن النبت إذا دنا أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ثم تصدعت عن النبات، ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية شبه حال جدوبة الأرض وخلوها عن النبات ثم إحياء الله تعالى إياها بالمطر وانقلابها من الجدوبة إلى الخصب وإنبات كل زوج بهيج بحال شخص كئيب كاسف البال رث الهيئة لا يؤبه به ثم إذا أصابه شيء من متاع الدنيا وزينتها تكلف بأنواع الزينة والزخارف فيختال في مشيه زهوا فيهتز بالإعطاف خيلاء وكبرا فحذف المشبه واستعمل الخشوع والاهتزاز دلالة على مكانه ورجح اعتبار التمثيل. وقرىء * (ربأت) * أي زادت، وقال الزجاج: معنى ربت عظمت وربأت بالهمز ارتفعت ومنه الربيئة وهي طليعة على الموضع المرتفع * (إن الذي أحياها) * بما ذكر بعد موتها * (لمحي الموتى) * بالبعث * (أنه على كل شيء) * من الأشياء التي من جملتها الإحياء * (قدير) * مبالغة في القدرة.
* (إن الذين يلحدون فىءاي‍اتنا لا يخفون علينآ أفمن يلقى فى النار خير أم من يأتىءامنا يوم القي‍امة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير) *.
* (إن الذين يلحدون في ءاي‍اتنا) * ينحرفون في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة فيحملونها على المحامل الباطلة، وهو مراد ابن عباس بقوله: يضعون الكلام في غير موضعه، وأصله من ألحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق ويقال لحد. وقرىء * (يلحدون ويلحدون) * باللغتين، وقال قتادة: هنا الإلحاد التكذيب، وقا لمجاهد: المكاء والصفير واللغو فالمعنى يميلون عما ينبغي ويليق في شأن آياتنا فيكذبون القرآن أو فيلغون ويصفرون عند قراته، وجوز أن يراد بالآيات ما يشمل جميع الكتب المنزلة وبالإلحاد ما يشمل تغيير اللفظ وتبديله لكن ذلك بالنسبة إلى غير القرآن لأنه لم يقع فيه كما وقع في غيره من الكتب على ما هو الشائع.
وعن أبي مالك تفسير الآيات بالأدلة فالإلحاد في شأنها الطعن في دلالتها والإعراض عنها، وهذا أوفق بقوله تعالى:
126

* (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر) * (فصلت: 37) * (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة) * (فصلت: 39) الخ، وما تقدم أوفق بقوله سبحانه: * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) * وبما بعد، والآية على تفسير مجاهد أوفق وأوفق.
والمراد بقوله تعالى: * (لا يخفون علينا) * مجازاتهم على الإلحاد فالآية وعيد لهم وتهديد، وقوله تعالى: * (أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي ءامنا يوم القيامة) * تنبيه على كيفية الجزاء، وكان الظاهر أن يقابل الإلقاء في النار بدخول الجنة لكنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل اعتناء بشأن المؤمنين لأن الأمن من العذاب أعم وأهم ولذا عبر في الأول بالإلقاء الدال على القسر والقهر وفيه بالإتيان الدال على أنه بالاختيار والرضا مع الامن ودخول الجنة لا ينفي أن يبدل حالهم من بعد خوفهم أمنا، وجوز أن تكون الآية من الاحتبارك بتقدير من يأتي خائفا ويلقى في النار ومن يأتي آمنا ويدخل الجنة فحذف من الأول مقابل الثاني ومن الثاني مقابل الأول وفيه بعد. والآية كما قال ابن بحر عامة في كل كافر ومؤمن.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس * (أفمن يلقى في النار) * أبو جهل * (أم من يأتي آمنا) * أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأخرج عبد الرزاق. وغيره عن بشير بن تميم من يلقى في النار أبو جهل ومن يأتي آمنا عمار. والآية نزلت فيهما، وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل وعثمان بن عفان، وقيل: فيه وفي عمر، وقيل: فيه وفي حمزة، وقال الكلبي: فيه وفي الرسول صلى الله عليه وسلم * (اعملوا ما شئتم) * تهديد شديد للكفرة الملحدين الذين يلقون في النار وليس المقصود حقيقة الأمر * (إنه بما تعلمون بصير) * فيجازيكم بحسب أعمالكم.
* (إن الذين كفروا بالذكر لما جآءهم وإنه لكت‍ابعزيز) *.
* (إن الذين كفروا بالذكر) * وهو القرآن * (لما جاءهم) * من غير أن يمضي عليهم زمان يتأملون فيه ويتفكرون * (وإنه لكتاب عزيز) * لا يوجد نظيره أو منيع لا تتأتى معارضته، وأصل العز حالة مانعة للإنسان عن أن يغلب، وإطلاقه على عدم النظير مجاز مشهور وكذا كونه منيعا، وقيل: غالب للكتب لنسخه إياها. وعن ابن عباس أي كريم على الله تعالى؛ والجملة حالية مفيدة لغاية شناعة الكفر به، وقوله تعالى:
* (لا يأتيه الب‍اطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) *.
* (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) * صفة أخرى لكتاب، وما بين يديه وما خلفه كناية عن جميع الجهات كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله أي لا
يتطرق إليه الباطل من جميع جهاته، وفيه تمثيل لتشبيهه بشخص حمى من جميع جهاته فلا يمكن أعداءه الوصول إليه لأنه في حصن حصين من حماية الحق المبين، وجوز أن يكون المعنى لا يأتيه الباطل من جهة ما أخبر به من الأخبار الماضية والأمور الآتية.
وقيل: الباطل بمعنى المبطل كوارس بمعنى مورس أو هو مصدر كالعافية بمعنى مبطل أيضا؛ وقوله تعالى: * (تنزيل من حكيم حميد) * أي محمود على ما أسدي من النعم التي منها تنزيل الكتاب، وحمده سبحانه: بلسان الحال متحقق من كل منعم عليه وبلسان القال متحقق ممن وفق لذلك خبر مبتدأ محذوف أو صفة أخرى لكتاب مفيدة لفخامته الإضافية كما أن الصفتين السابقتين مفيدتان لفخامته الذاتية.
وقوله تعالى: * (لا يأتيه) * الخ اعتراض عند من لا يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح كل ذلك لتأكيد بطلان الكفر بالقرآن، واختلفوا في خبر * (إن) * أمذكور هو أو محذوف
127

فقيل: مذكور وهو قوله تعالى: * (أولئك ينادون من مكان بعيد) * (فصلت: 44) وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال: لم أجد لها نفاذا فقال له أبو عمرو: إنه منك لقريب * (أولئك ينادون من مكان بعيد) * وذهب إليه الحوفي وهو في مكان بعيد، وذهب أبو حيان إلى أنه قوله تعالى: * (لا يأتيه الباطل) * بحذف العائد أي الكافرون وحاله أنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل منهم أي متى راموا أبطالا له لم يصلوا إليه أو يجعل أل في الباطل عوضا من الضمير به على قول الكوفيين أي لا يأتيه باطلهم أو قوله سبحانه: * (ما يقال لك) * الخ والعائد أيضا محذوف أي ما يقال لك في شأنهم أو فيهم إلا ما قد قيل للرسل من قبلك أي أوحى إليك في شأن هؤلاء المكذبين لك ولما جئت به مثل ما أوحي إلى من قبلك من الرسل وهو أنهم عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الدائم ثم قال: وغاية ما في هذين التوجيهين حذف الضمير العائد وهو موجود نحو السمن منوان بدرهم والبركر بدرهم أي منه.
ونقل عن بعض نحاة الكوفة أن الخبر في قوله تعالى: * (وإنه لكتاب عزيز) * وتعقبه بأنه لا يتعقل، وقيل: هو محذوف وخبر * (إن) * يحذف لفهم المعنى، وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو: معناه في التفسير أن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به وأنه لكتاب عزيز فقال عيسى: أجدت يا أبا عثمان.
وقال قوم: تقديره معاندون أو هالكون، وقال الكسائي؛ قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل وهو قوله تعالى: * (أفمن يلقى) * وكأنه يريد أنه محذوف دل عليه ما قبله فيمكن أن يقدر يخلدون في النار، ويقدر الخبر على ما استحسنه ابن عطية بعد * (حميد) * وفي الكشاف أن قوله تعالى: * (أن الذين كفروا بالذكر) * بدل من قوله تعالى: * (أن الذين يلحدون في آياتنا) * قال في " البحر ": ولم يتعرض بصريح الكلام إلى خبر * (إن) * أمذكور هو أو محذوف لكنه قد يدعى أنه أشار إلى ذلك فإن المحكوم به على المبدل منه هو المحكوم به على البدل فيكون التقديران الذين يلحدون في آياتنا أن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم لا يخفون علينا. وفي " الكشف " فائدة هذا الإبدال التنبيه على أنه ما يحملهم على الإلحاد إلا مجرد الكفر، وفيه إمداد التحذير من وجوه ما ذكر من التنبيه؛ ووضع الذكر موضع الضمير الراجع إلى الآيات زيادة تحسير لهم، وما في * (لما) * من معنى مفاجأتهم بالكفر أول ما جاء، وما فيه من التعظيم لشأن الآيات والتمهيد للحديث عن كمال الكتاب الدال على سوء مغبة الملحد فيه، ثم الأشبه أن يحمل كلام الكشاف على أن الخبر محذوف لدلالة السابق عليه ولزيادة التهويل لذهاب الوهم كل مذهب وتكون الجملة بدلا عن الجملة لأن البدل بتكرير العالم إنما جوز في المجرور لشدة الاتصال انتهى فتأمل والله تعالى الموفق.
* (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم) *.
* (ما يقال لك) * إلى آخره تسلية له صلى الله عليه وسلم عما يصيبه من أذية الكفار من طعنهم في كتابه وغير ذلك فالقائل الكفار أي ما يقول كفار قومك في شأنك وشأن ما أنزل إليك من القرآن * (إلا ما قد قيل) * أي مثل ما قد قال الكفرة السابقون * (للرسل من قبلك) * من الكلام المؤذي المتضمن للطعن فيما أنزل إليهم، وهذا نظير قوله تعالى: * (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون) * (الذاريات: 52). وقوله تعالى: * (إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم) * قيل: تعليل لما يستفاد من السياق من الأمر بالصبر كأنه قيل: ما يقال لك إلا نحو ما قيل لأمثالك من الرسل فاصبر كما صبروا إن ربك لذو مغفرة عظيمة
128

لأوليائه وذو عقاب أليم لأعدائهم فينصر أولياءه وينتقم من أعدائهم، أو جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ثم ماذا؟ فقيل: إن ربك لذو مغفرة لأوليائه وذو عقاب أليم لأعدائهم وقد نصر لذلك من قبلك من الرسل عليهم السلام وانتقم من أعدائهم وسيفعل ذلك بك وبأعدائك أيضا، وجوز أن يكون القائل هو الله تعالى والمعنى على ما سمعت عن أبي حيان وقد جعل هذه الجملة خبر * (إن) * أي ما يوحي الله تعالى إليك في شأن الكفار المؤذين لك إلا مثل ما أوحى للرسل من قبلك في شأن الكفار المؤذين لهم من أن عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الأليم فاصبر إن ربك الخ، وقد يجعل * (إن ربك) * الخ باعتبار مضمونه تفسيرا للمقول فحاصل المعنى ما أوحى إليك وإلى الرسل إلا وعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعقوبة دون العكس الذي يزعمه الكفرة بلسان حالهم فاصبر فسينجز الله تعالى وعده، وقيل: المقول هو الشرائع أي ما يوحي إليك إلا مثل ما أوحي إلى الرسل من الشرائع دون أمور الدنيا وقد جرت عادة الكفار بتكذيب ذلك فما عليك إذا كذب كفار قومك واصبر على ذلك، وجعل * (إن ربك) * الخ تعليلا لما يستفاد من السياق أيضا، وجعله بعضهم تفسيرا لذلك المقول أعني الشرائع لأنها الأوامر والنواهي الإلهية وهي مجملة فيه، وفيه من البعد ما فيه، وإلى نحو ما ذكرناه أولا ذهب قتادة.
أخرح ابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: * (ما يقال لك) * من التكذيب * (إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) * فكما كذبوا كذبت وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر على أذى قومك لك، واختيار * (أليم) * على شديد مع أنه أنسب بالفواصل للإيماء إلى أن نظم القرآن ليس كالأسجاع والخطب وأن حسنه ذاتي والنظر فيه إلى
المعاني دون الألفاظ، ويحسن وصف العقاب به هنا كون العقاب جزاء التكذيب المؤلم.
* (ولو جعلن‍اه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءاي‍اته ءاعجمى وعربى قل هو للذين ءامنوا هدى وشفآء والذين لا يؤمنون فىءاذانهم وقر وهو عليهم عمى أول‍ائك ينادون من مكان بعيد) *.
* (ولو جعلناه قرءانا أعجميا) * جواب لقولهم: هلا أنزل القرآن بلغة العجم، والضمير للذكر * (لقالوا لولا فصلت ءاياته) * أي بينت لنا وأوضحت بلسان نفقهه، وقوله تعالى: * (ءاعجمي وعربي) * بهمزتين الأولى للاستفهام والثانية همزة أعجمي والجمهور يقرؤون بهمزة استفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي إنكار مقرر للتحضيض أي أكلام أعجمي ورسول أو مرسل إليه عربي، وحاصله أنه لو نزل كما يريدون لأنكروا أيضا وقالوا مالك وللعجمة أو مالنا وللعجمة، والأعجمي أصله أعجم بلا ياء ومعناه من لا يفهم كلامه للكنته أو لغرابة لغته وزيدت الياء للمبالغة كما في أحمري ودواري وأطلق على كلامه مجازا لكنه اشتهر حتى التحق بالحقيقة، وزعم صاحب اللوامح أن الياء فيه بمنزلة ياء كرسي وهو وهم، وقيل: * (عربي) * على احتمال أن يكون المراد ومرسل إليه عربي مع أن المرسل إليهم جمع فحقه أن يقال: عربية أو عربيون لأن المراد بيان التنافي والتنافر بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب به واحدا أو جمعا، ومن حق البليغ أن يجرد الكلام للدلالة على ما ساقه له ولا يأتي بزائد عليه إلا ما يشد من عضده فإذا رأى لباسا طويلا على امرأة قصيرة قال: اللباس طويل واللابس قصير دون واللابسة قصيرة لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته فلو قال لخيل إن لذلك مدخلا فيما سيق له الكلام، وهذا أصل من الأصول يجب أن يكون على ذكر، ويبنى عليه الحذف والإثبات والتقييد والإطلاق إلى غير ذلك في كلام الله تعالى وكل كلام بليغ. وقرأ عمرو بن ميمون * (أعجمي) * بهمزة استفهام بفتح العين أي أكلام منسوب إلى العجم وهم من عدا العرب وقد يخص بأهل فارس ولغتهم العجمية أيضا فبين الأعجمي والعجمي عموم
129

وخصوص من وجه، والظاهر أن المراد بالعربي مقابل الأعجمي في القراءة المشهورة ومقابله العجمي في القراءة الأخرى.
وقرأ الحسن. وأبو الأسود. والجحدري. وسلام. والضحاك. وابن عباس. وابن عامر بخلاف عنهما * (أعجمي) * بلا استفهام وبسكون العين على أن الكلام إخبار بأن القرآن أعجمي والمتكلم به أو المخاطب عربي.
وجوز أن يكون المراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا لإفهام العرب وروي هذا عن ابن جبير فالكلام بتقدير مبتدأ هو بعض أي بعضها أعجمي وبعضها عربي، والمقصود به من الجملة الشرطية إبطال مقترحهم وهو كونه بلغة العجم باستلزامه المحذور وهو فوات الغرض منه إذ لا معنى لإنزاله أعجميا على من لا يفهمه أو الدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت فإذا وجدت الأعجمية طلبوا أمرا آخر وهكذا.
* (قل) * ردا عليهم * (هو للذين ءامنوا هدى) * يهدي إلى الحق * (وشفاء) * لما في الصدور من شك وشبهة * (والذين لا يؤمنون) * مبتدأ خبره * (في ءاذانهم وعقر) * على أن * (في آذانهم) * و * (وقر) * فاعل الظرف، أي مستقر في آذانهم وقر أي صمم منه فلا يسمعونه، وقيل: خبر الموصول * (في ءاذانهم) * و * (وقر) * فاعل الظرف، وقيل: * (وقر) * خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أي القرآن و * (في أذانهم) * متعلق بمحذوف وقع حالا من * (وقر) *.
ورجح بأنه أوفق بقوله تعالى: * (وهو عليهم عمى) * ومن جوز العطف على معمولي عاملين عطف الموصول على الموصول الأول و * (وقر) * على * (هدى) * على معنى هو للذين آمنوا هدى وللذين لا يؤمنون وقر، وقوله تعالى: * (في ءاذانهم) * ذكر بيانا لمحل الوقر أو حال من الضمير في الظرف الراجع إلى * (وقر) * والأول أبلغ؛ ويرد عليه بعد الإغماض عما في جواز العطف المذكور من الخلاف أن فيه تنافرا بجعل القرآن نفس الوقر لا سيما وقد ذكر محله وليس كجعله نفس العمى لأنه يقابل جعله نفس الهدى فروعي الطباق ولذا لم يبين محله، وأما الوقر إذا جعل نفس الكتاب فهو كالدخيل ولم يطابق ما ورد في سائر المواضع من التنزيل، وهذا يرد على الوجه الذي قبله أيضا، وجوز ابن الحاجب في الأمالي أن يكون * (وهو عليهم عمى) * مرتبطا بقوله سبحانه: * (هو للذين آمنوا هدى وشفاء) * والتقدير هو للذين آمنوا هدى وعلى الذين لا يؤمنون عمى، وقوله تعالى: * (والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر) * جملة معترضة على الدعاء، وتعقب بأن هذا وإن جاز من جهة الإعراب لكنه من جهة المعاني مردود لفك النظم، وزعم بعضهم أن ضمير * (هو) * عائد على الوقر وهو من العمى كما ترى.
وأولى الأوجه ما تقدم وجىء بعلى في * (عليهم عمى) * للدلالة على استيلاء العمى عليهم، ولم يذكر حال القلب لما علم من التعريض في قوله سبحانه: * (للذين آمنوا هدى وشفاء) * بأنه لغيرهم مرض فظيع * (أول‍ائك) * إشارة إلى الموصول الثاني باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر مع ما فيه من كمال المناسبة للنداء من مكان بعيد أي أولئك البعداء الموصوفون بما ذكر من التصام عن الحق الذي يسمعونه والتعامي عن الآيات التي يشاهدونها * (ينادون من مكان بعيد) * تمثيل لهم في عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا له بمن ينادي من مسافة نائية فهو يسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه أو لا يسمع ولا يفهم، فقد حكى أهل اللغة أنه يقال للذي لا يفهم: أنت تنادي من بعيد، وإرادة هذا المعنى مروية عن علي كرم الله تعالى
130

وجهه. ومجاهد، وعن الضحاك أن الكلام على حقيقته وأنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم وتحل المصائب بهم، وحاصل الرد أنه هاد للمؤمنين شاف لما في صدورهم كاف في دفع الشبه فلذا ورد بلسانهم معجزا بينا في نفسه مبينا لغيره والذين لا يؤمنون بمعزل عن الانتفاع به على أي حال جاءهم، وقرأ ابن عمر. وابن عباس. وابن الزبير. ومعاوية. وعمرو بن العاص. وابن هرمز * (عم) * بكسر الميم وتنوينه، وقال يعقوب القاري. وأبو حاتم: لا ندري نونوا أم فتحوا الياء على أنه فعل ماض، وبغير تنوين رواها عمرو بن دينار. وسليمان بن قتيبة عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما.
* (ولقد ءاتينا موسى الكت‍ابف اختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم لفى شك منه مريب) *.
* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختلف فيه) * كلام مستأنف مسوق لبيان أن الاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم غير مختص بقومك على منهاج قوله تعالى: * (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) * (فصلت: 43) على ما سمعت أولا أي وبالله لقد آتينا موسى التوراة فاختلف فيها فمن مصدق لها ومكذب وهكذا حال قومك في شأن ما آتيناك من القرآن فمن مؤمن به وكافر * (ولولا كلمة سبقت من ربك) * في حق أمتك المكذبة وهي العدة بتأخير عذابهم وفصل ما بينهم وبين المؤمنين من الخصومة إلى يوم القيامة بنحو قوله تعالى: * (بل الساعة موعدهم) * وقوله سبحانه: * (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) * (النحل: 61) * (لقضي بينهم) * باستئصال المكذبين كما فعل بمكذبي الأمم السالفة * (وإنهم) * أي كفار قومك * (لفي شك منه) * أي من القرآن * (مريب) * موجب للقلق والاضطراب، وقيل: الضمير الثاني للتوراة والأول لليهود بقرينة السياق لأنهم الذين اختلفوا في كتاب موسى عليه السلام وليس بشيء.
* (من عمل ص‍الحا فلنفسه ومن أسآء فعليها وما ربك بظل‍ام للعبيد) *.
* (من عمل صالحا) * بأن آمن بالكتب وعمل بموجبها * (فلنفسه) * أي فلنفسه يعمله أو فلنفسه نفعه لا لغيره، و * (من) * يصح فيها الشرطية والموصولية وكذا في قوله تعالى: * (ومن أساء فعليها) * ضره لا على الغير * (وما ربك بظلام للعبيد) * اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مبني على تنزيل ترك إثابة المحسن بعمله أو إثابة الغير بعمله وتنزيل التعذيب بغير إساءة أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه تعالى ولم يحتج بعضهم إلى التنزيل، وقد مر الكلام في ذلك وفي توجيه النفي والمبالغة فتذكر.
131