الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ١٦
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا) *
* (قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا) * زيادة * (لك) * لزيادة المكافحة على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير حتى زاد في النكير في المرة الثانية.
* (قال إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى عذرا) *
* (قال) * أي موسى عليه السلام * (إن سألتك عن شيء) * تفعله من الأعاجيب * (بعدها) * أي بعد هذه المرة أو بعد هذه المسألة * (فلا تصاحبني) * وقرأ عيسى. ويعقوب * (فلا تصحبني) * بفتح التاء من صحبه أي فلا تكن صاحبي، وعن عيسى أيضا * (فلا تصحبني) * بضم التاء وكسر الحاء من أصحبه ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني إياك ولا تجعلني صاحبك؛ وقدر بعضهم المفعول الثاني علمك وليس بذاك.
وقرأ الأعرح * (فلا تصحبني) * بفتح التاء والباء وشد النون، والمراد المبالغة في النهي أي فلا تكن صاحبي البتة، وهذا يؤيد كون المراد من النهي فيما لا تأكيد فيه التحريم، والمراد به الحزم بالترك والمفارقة لا الترخيص على معنى إن سألتك بعد فأنت مرخص في ترك صحبتي * (قد بلغت من لدني عذرا) * أي وجدت عذرا من قبلي، وقال النووي: معناه قد بلغت إلى الغاية التي تعذر بسببها في فرافي حيث خالفتك مرة بعد مرة.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأي العجب لكن أخذته من صاحبه ذمامة فقال ذلك، وقرأ نافع. وعاصم * (من لدني) * بتخفيف النون وهي حجة على س في منعه ذلك، والأكثرون على أنه حذف نون الوقاية وأبقى النون الأصلية المكسورة على ما هو القياس في الأسماء المضافة من أنها لا تلحقها نون الوقاية كوطني ومقامي، وقيل: إنه يحتمل أن يكون المذكور نون الوقاية والمضاف إنما هو - لد - بلا نون لغة في لدن فلا حذف أصلا؛ وتعقب بأن نون الوقاية إنما هي في المبنى على السكون لتقيه الكسر و - لد - بلا نون مضموم. ورد بأنه لا مانع من أن يقال: إنها وقته من زوال الضم؛ وأشم شعبة الضم في الدال وروي عن عاصم أنه سكنها، وقال مجاهد: سوء غلط، ولعله أراد رواية وإلا فقد ذكروا أن لد بالفتح والسكون لغة في لدن، وقرأ عيسى * (عذرا) * بضم الذال ورويت عن أبي عمرو. وعن أبي * (عذري) * بالإضافة إلى ياء المتكلم.
* (فانطلقا حتى إذآ أتيآ أهل قرية استطعمآ أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا) *
* (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية) * الجمهور على أنها إنطاكية وحكاه الثعلبي عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق قتادة عنه أنها برقة وهي كما في " القاموس " اسم لمواضع، وفي " المواهب " أنها قرية بأرض الروم والله تعالى أعلم، وأخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن السدي أنها باجروان وهي أيضا اسم لمتعدد إلا أنه ذكر بعضهم أن المراد بها قرية بنواحي أرمينية، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين أنها الأبلة بهمزة وباء موحدة ولا مشددة، وقيل: قرية على ساحل البحر يقال لها ناصرة وإليها تنسب النصارى قال في مجمع البيان وهو المروى عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، وقيل: قرية في الجزيرة الخضراء من أرض
2

الأندلس، قال ابن حجر: والخلاف هنا كالخلاف في " مجمع البحرين " ولا يوثق بشيء منه، وفي الحديث أتيا أهل قرية لئاما * (استطعما أهلها) * في محل الجر على أنه صفة لقرية، وجواب إذا * (قال) * الآتي إن شاء الله تعالى وسلك بذلك نحو ما سلك في القصة الثانية من جعل الاعتراض عمدة الكلام للنكتة التي ذكرها هناك شيخ الإسلام، وذهب أبو البقاء. وغيره إلى أنه هو الجواب والآتي مستأنف نظير ما في القصة الأولى، والوصفية مختار المحققين كما ستعلمه إن شاء الله تعالى. وههنا سؤال مشهور وقد نظمه الصلاح الصفدي ورفعه إلى الإمام تقي الدين السبكي فقال: أسيدنا قاضي القضاة ومن إذا $ بدا وجهه استحيى له القمران
ومن كفه يوم المندى ويراعه * على طرسه بحران يلتقيان
ومن إن دجت في المشكلات مسائل * جلاها بفكر دائم اللمعان
رأيت كتاب الله أعظم معجز * لأفضل من يهدي به الثقلان
ومن جملة الإعجاز كون اختصاره * بإيجاز ألفاظ وبسط معاني
ولكنني في الكهف أبصرت آية * بها الفكر في طول الزمان عناني
وما هي إلا استطعما أهلها فقد * نرى استطعماهم مثله ببيان
فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر * مكان ضمير إن ذاك لشان
فارشد على عادات فضلك حيرتي * فما لي إلى هذا الكلام يدان
فأجاب السبكي بأن جملة * (استطعما) * محتملة لأن تكون في محل جر صفة لقرية وأن تكون في محل نصب صفة لأهل وأن تكون جواب إذا ولا احتمال لغير ذلك، ومن تأمل علم أن الأول متعين معنى وأن الثاني والثالث وأن احتملتهما الآية بعيدان عن مغزاها، أما الثالث فلأنه يلزم عليه كون المقصود الإخبار بالاستطعام عند الإتيان وأن ذلك تمام معنى الكلام، ويلزمه أن يكون معظم قصدهما أو هو طلب الطعام مع أن القصد هو ما أراد ربك مما قص بعد وإظهار الأمر العجيب لموسى عليه السلام، وأما الثاني فلأنه يلزم عليه أن تكون العناية بشرح حال الأهل من حيث هم هم ولا يكون للقرية أثر في ذلك ونحن نجد بقية الكلام مشيرا إليها نفسها فيتعين الأول ويجب فيه * (استطعما أهلها) * ولا يجوز استطعماهم أصلا لخلو الجملة عن ضمير الموصوف.
وعلى هذا يفهم من مجموع الآيات أن الخضر عليه السلام فعل ما فعل في قرية مذموم أهلها وقد تقدم منهم سوء صنيع من الإباء عن حق الضيف مع طلبه وللبقاع تأثير في الطباع ولم يهم فيها مع أنها حرية بالإفساد والإضاعة بل باشر الإصلاح لمجرد الطاعة ولم يعبأ عليه السلام بفعل أهلها اللئام، ويضاف إلى ذلك من الفوائد أن الأهل الثاني يحتمل أن يكون هم الأولون أو غيرهم أو منهم ومن غيرهم، والغالب أن من أتى قرية لا يجد جملة أهلها دفعة بل يقع بصره أولا على البعض ثم قد يستقريهم فلعل هذين العبدين الصالحين لما أتيا قدر الله تعالى لهما استقراء الجميع على التدريج ليتبين به كمال رحمته سبحانه وعدم مؤاخذته تعالى بسوء صنيع بعض عباده، ولو قيل استطعماهم تعين إرادة الأولين فأتى بالظاهر إشعارا بتأكيد العموم فيه وأنهما لم يتركا أحدا من أهلها حتى استطعماه وأبي ومع ذلك قوبلوا بأحسن الجزاء، فانظر إلى هذه الأسرار كيف احتجبت عن
3

كثير من المفسرين تحت الأستار حتى أن بعضهم لم يتعرض لشيء، وبعضهم ادعى أن ذلك تأكيد، وآخر زعم ما لا يعول عليه حتى سمعت عن شخص أنه قال: إن العدول عن استطعماهم لأن اجتماع الضميرين في كلمة واحدة مستثقل وهو قول يحكي ليردفان القرآن والكلام الفصيح مملوء من ذلك ومنه ما يأتي في الآية، ومن تمام الكلام فيما ذكر أن استطعما إن جعل جوابا فهو متأخر عن الإتيان وإذا جعل صفة احتمل أن يكون الإتيان قد اتفق قبل هذه المرة وذكر تعريفا وتنبيها على أنه لم يحملهما على عدم الإتيان لقصد الخير فهذا ما فتح الله تعالى علي والشعر يضيق عن الجواب وقد قلت: لأسرار آيات الكتاب معاني * تدق فلا تبدو لكل معاني
وفيها لمرتاض لبيب عجائب * سنا برقها يعنو له القمران
إذا بارق منها لقلبي قد بدا * هممت قرير العين بالطيران
سرورا وإبهاجا وصولا على العلا * كأني علا فوق السماك مكاني
فما الملك والاكران ما البيض ما القنا * وعندي وجوه أسفرت بتهاني
وهاتيك منها قد أبحتك سرها * فشكرا لمن أولاك حسن بياني
أرى استطعما وصفا على قرية جرى * وليس لها والنحو كالميزان
صناعته تقضي بأن استتار ما * يعود عليه ليس في الإمكان
وليس جوابا لا ولاصف أهلها * فلا وجه للإضمار والكتمان
وهذي ثلاث ما سواها بممكن * تعين منها واحد فسباني
ورضت بها فكري إلى أن تمحضت * به زبدة الأحقاب منذ زمان
وإن حياتي في تموج أبحر * من العلم في قلبي يمد لساني
إلى آخر ما تحمس به، وفيه من المناقشة ما فيه. وقد اعترض بعضهم بأنه على تقدير كون الجملة صفة للقرية يمكن أن يؤتي بتركيب أخصر مما ذكر بأن يقال: فلما أتيا قرية استطعما أهلها فما الداعي إلى ذكر الأهل أولا على هذا التقدير، وأجيب بأنه جىء بالأهل للإشارة إلى أنهم قصدوا بالإتيان في قريتهم وسألوا فمنعوا ولا شك أن هذا أبلغ في اللؤم وأبعد عن صدور جميل في حق أحد منهم فيكون صدور ما صدر من الخضر عليه السلام غريبا جدا، لا يقال: ليكن التركيب كذلك وليكن على الإرادة الأهل تقديرا أو تجوزا كما في قوله تعالى: * (واسئل القرية) * (يوسف: 82) لأنا نقول: إن الإتيان ينسب للمكان كأتيت عرفات ولمن فيه كأتيت أهل بغداد فلو لم يذكر كان فيه تفويتا للمقصود، وليس ذلك نظير ما ذكر من الآية لامتناع سؤال نفس القرية عادة، واختار الشيخ عز الدين على الموصلي في جواب الصفدي أن تكرار الأهل والعدول عن استطعماهم إلى * (استطعما أهلها) * للتحقير وهو أحد نكات إقامة الظاهر مقام الضمير وبسط الكلام في ذلك نثيرا؛ وقال نظما: سألت لماذا استطعما أهلها أتى * عن استطعماهم إن ذاك لشان
وفيه اختصار ليس ثم ولم تقف * على سبب الرجحان منذ زمان
فهاك جوابا رافعا لنقابه * يصير به المعنى كرأي عيان
4

إذا ما استوى الحالان في الحكم * رجح الضمير وأما حين يختلفان
بأن كان في التصريح إظهار حكمة * كرفعة شأن أو حقارة جاني
كمثل أمير المؤمنين يقول ذا * وما نحن فيه صرحوا بأمان
وهذا على الإيجاز والبسط جاء في * جوابي منثورا بحسن بيان
وذكر في النثر وجها آخر للعدول وهو ما نقله السبكي ورده، وقد ذكره أيضا النيسابوري وهو لعمري كما قال السبكي، ويؤول إلى ما ذكر من أن الإظهار للتحقير قول بعض المحققين: إنه للتأكيد المقصود منه زيادة التشنيع وهو وجه وجيه عند كل نبيه، ومن ذلك قوله تعالى: * (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا) * (البقرة: 59) الآية ومثله كثير في القصيح، وقال بعضهم: إن الأهلين متغايران فلذا جىء بهما معا، وقولهم: إذا أعيد المذكور أولا معرفة كان الثاني عين الأول غير مطرد وذلك لأن المراد بالأهل الأول البعض إذ في ابتداء دخول القرية لا يتأتى عادة إتيان جميع أهلها لا سيما على ما روي من أن دخولهما كان قبل غروب الشمس وبالأهل الثاني الجميع لما ورد أنهما عليهما السلام كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم فلو جىء بالضمير لفهم أنهما استطعما البعض،
وعكس بعضهم الأمر فقال: المراد بالأهل الأول الجميع ومعنى إتيانهم الوصول إليهم والحلول فيما بينهم؛ وهو نظير إتيان البلد وهو ظاهر في الوصول إلى بعض منه والحلول فيه وبالأهل الثاني البعض إذ سؤال فرد فرد من كبار أهل القرية وصغارهم وذكورهم وإناثهم وأغنيائهم وفقرائهم مستبعد جدا والخبر لا يدل عليه ولعله ظاهر في أنهما استطعما الرجال، وقد روي عن أبي هريرة والله تعالى أعلم بصحة الخبر أنه قال: أطعتهما امرأة من بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعيا لنسائهم ولعنا رجالهم فلذا جىء بالظاهر دون الضمير، ونقل مثله عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة. وأورد عليهما أن فيهما مخالفة لما هو الغالب في إعادة الأول معرفة، وعلى الثاني أنه ليس في المغايرة المذكورة فيه فائدة يعتد بها، ولا يورد هذا على الأول لأن فائدة المغايرة المذكورة فيه زيادة التشنيع على أهل القرية كما لا يخفى.
واختار بعضهم على القول بالتأكيد أن المراد بالأهل في الموضعين الذين يتوقع من ظاهر حالهم حصول الغرض منهم ويحصل اليأس من غيرهم باليأس منهم من المقيمين المتوطنين في القرية، ومن لم يحكم العادة يقول: إنهما عليهما السلام أتوا الجميع وسألوهم لما أنهما على ما قيل قد مستهما الحاجة * (فأبوا أن يضيفوهما) * بالتشديد وقرأ ابن الزبير. والحسن. وأبو رجاء. وأبو رزين. وأبو محيصن. وعاصم في رواية المفضل. وأبان بالتخفيف من الإضافة يقال ضافه إذا كان له ضيفا وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفا، وحقيقة ضاف مال من ضاف السهم عن الهدف يضيف ويقال أضافت الشمس للغروب وتضيفت إذا مالت، ونظيره زاره من الازورار، ولا يخفى ما في التعبير بالإباء من الإشارة إلى مزيد لؤم القوم لأنه كما قال الراغب شدة الامتناع، ولهذا لم يقل: فلم يضيفوهما مع أنه أخصر فإنه دون ما في " النظم الجليل " في الدلالة على ذمهم، ولعل ذلك الاستطعام كان طلبا للطعام على وجه الضيافة بأن يكونا قد قالا: إنا غريبان فضيفونا أو نحو ذلك كما يشير إليه التعبير بقوله تعالى: * (فأبوا أن يضيفوهما) * دون فأبوا أن يطعموهما مع اقتضاء ظاهر * (استطعما أهلها) * إياه، وإنما عبر باستطعما دون استضافا للإشارة إلى أن جل قصدهما الطعام دون الميل بهما إلى منزل وإيوائهما إلى محل. وذكر بعضهم أن في * (أبوا أن يضيفوهما) * من التشنيع ما ليس في
5

أبوا أن يطعموهما لأن الكريم قد يرد السائل المستطعم ولا يعاب كما إذا رد غريبا استضافه بل لا يكاد يرد الضيف إلا لئيم، ومن أعظم هجاء العرب فلان يطرد الضيف، وعن قتادة شر القرى التي لا يضاف فيها الضيف ولا يعرف لابن السبيل حقه.
وقال زين الدين الموصلي إنما خص سبحانه الاستطعام بموسى والخضر عليهما السلام والضيافة بالأهل لأن الاستطعام وظيفة السائل والضيافة وظيفة المسؤول لأن العرف يقضي بذلك فيدعو المقيم القادم إلى منزله يسأله ويحمله إليه انتهى، وهو كما ترى. ومما يضحك منه العقلاء ما نقله النيسابوري وغيره أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل من ذهب فقالوا: يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء من * (أبوا) * تاء فأبى عليه الصلاة والسلام، وبعضهم يحكي وقوع هذه القصة في زمن علي كرم الله تعالى وجهه ولا أصل لشيء من ذلك، وعلى فرض الصحة يعلم منه قلة عقول أهل القرية في الإسلام كما علم لؤمهم من القرآن والسنة من قبل * (فوجدا) * عطف كما قال السبكي على * (أتيا) * * (فيها جدارا) * روى أنهما التجآ إليه حيث لم يجدا مأوى وكانت ليلتهما ليلة باردة وكان على شارع الطريق * (يريد أن ينقض) * أي يسقط وماضيه انقض على وزن انفعل نحو انجر والنون زائدة لأنه من قضضته بمعنى كسرته لكن لما كان المنكسر يتساقط قيل الانقضاض السقوط، والمشهور أنه السقوط بسرعة كانقضاض الكوكب والطير، قال صاحب اللوامح: هو من القضة وهي الحصى الصغار، ومنه طعام قضض إذا كان فيه حصى فعلى هذا المعنى يريد أن يتفتت فيصير حصى انتهى.
وذكر أبو علي في الإيضاح أن وزنه افعل من النقض كأحمر، وقال السهيلي في " الروض " هو غلط وتحقيق ذلك في محله. والنون على هذا أصلية، والمراد من إرادة السقوط قربه من ذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة تسبب إرادة السقوط لقربه أو على سبيل الاستعارة بأن يشبه قرب السقوط بالإرادة لما فيهما من الميل، ويجوز أن يعتبر في الكلام استعارة مكنية وتخييلية، وقد كثر في كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم ومن ذلك قوله: يريد الرمح صدر أبي براء * ويعدل عن دماء بني عقيل
وقول حسان رضي الله تعالى عنه: إن دهرا يلف شملي بجمل * لزمان يهم بالإحسان
وقول الآخر: أبت الروادف والثدي لقمصها * مس البطون وإن تمس ظهورا
وقول أبي نواس: فاستنطق العود قد طال السكوت به * لا ينطق اللهو حتى ينطق العود
إلى ما لا يحصى كثرة حتى قيل: إن من له أدنى اطلاع على كلام العرب لا يحتاج إلى شاهد على هذا المطلب.
ونقل بعض أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني أنه ينكر وقوع المجاز في القرآن فيؤول الآية بأن الضمير في يريد للخضر أو لموسى عليهما السلام، وجوز أن يكون الفاعل الجدار وأن الله تعالى خلق فيه حياة وإرادة والكل تكلف وتعسف تغسل به بلاغة الكلام.
وقال أبو حيان: لعل النقل لا يصح عن الرجل وكيف يقول ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدي في النظم والنثر، وقرأ أبي * (ينقض) * بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنيا للمفعول، وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش
6

* (يريد لينقض) * كذلك إلا أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وعكرمة. وخليد بن سعد. ويحيى بن يعمر * (ينقاص) * بالصاد المهملة مع الألف ووزنه ينفعل اللازم من قصته فانقاص إذا كسرته فانكسر، وقال ابن خالويه: تقول العرب: انقاصت السن إذا انشقت طولا، قال ذو الرمة يصف ثور وحش: يغشى الكناس بروقيه ويهدمه * من هائل الرمل منقاص ومنكثب
وفي " الصحاح " قيص السن سقوطها من أصلها وأنشد قول أبي ذؤيب:
فراق كقيص السن فالصبر أنه * لكل أناس عثرة وحبور
وقال الأموي: انقاصت البر انهارت، وقال الأصمعي: المناقص المنقعر والمنقاض بالضاد المعجمة المنشق طولا، وقال أبو عمرو: هما بمعنى واحد. وقرأ الزهري * (ينقاض) * بألف وضاد معجمة، والمشهور تفسيره بينهدم.
وذكر أبو علي أن المشهور عن الزهري أنه ينقاص بالمهملة * (فأقامه) * مسحه بيده فقام كما روي عن ابن عباس. وابن جبير، وقال القرطبي. إنه هو الصحيح وهو أشبه بأحوال الأنبياء عليهم السلام؛ واعترض بأنه غير ملائم لما بعد إذ لا يستحق بمثله الأجر، ورد بأن عدم استحقاق الأجر مع حصول الغرض غير مسلم ولا يضره سهولته على الفاعل، وقيل: أقامه بعمود عمده به، وقال مقاتل: سواه بالشيد، وقيل هدمه وقعد يبنيه.
وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ * (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه) * وكان طول هذا الجدار إلى السماء على ما نقل النووي عن وهب بن منبه مائة ذراع، ونقل السفيري عن الثعلبي أنه كان سمكه مائتي ذراع بذراع تلك القرية وكان طوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع وكان عرضه خمسين ذراعا وكان الناس يمرون تحته على خوف منه * (قال) * موسى عليه السلام * (لو شئت لتخذت عليه أجرا) * تحريضا للخضر عليه السلام وحثا على أخذ الجعل والأجرة على فعله ليحصل لهما بذلك الانتعاش والتقوى بالمعاش فهو سؤال له لم لم يأخذ الأجرة واعتراض على ترك الأخذ فالمراد لازم فائدة الخبر إذ لا فائدة في الإخبار بفعله، وقيل: لم يقل ذلك حثا وإنما قاله تعريضا بأن فعله ذلك فضول وتبرع بما لم يطلب منه من غير فائدة ولا استحقاق لمن فعل له مع كمال الاحتياج إلى خلافه، وكان الكليم عليه السلام لما رأى الحرمان ومساس الحاجة والاشتغال بما لا يعني لم يتمالك الصبر فاعترض، واتخذ افتعل فالتاء الأولى أصلية والثانية تاء الافتعال أدغمت فيها الأولى ومادته تخذ لا أخذ وإن كان بمعناه لأن فاء الكلمة لا تبدل إذا كانت همزة أو ياء مبدلة منها، ولذا قيل إن ايتزر خطأ أو شاذ وهذا شائع في فصيح الكلام، وأيضا إبدالها في الافتعال لو سلم لم يكن لقولهم تخذ وجه وهذا مذهب البصريين، وقال غيرهم: إنه الاتخاذ افتعال من الأخذ ولا يسلم ما تقدم، ويقول: المدة العارضة تبدل تاء أيضا، ولكثرة استعماله هنا أجروه مجرى الأصلي وقالوا تخذ ثلاثيا جريا عليه وهذا كما قالوا: تقى من اتقى.
وقرأ عبد الله. والحسن. وقتادة. وأبو بحرية. وابن محيصن. وحميد. واليزيدي. ويعقوب. وأبو حاتم. وابن كثير. وأبو عمرو * (لتخذت) * بتاء مفتوحة وخاء مكسورة أي لأخذت، وأظهر ابن كثير. ويعقوب. وحفص الذال وأدغمها باقي السبعة.
* (قال ه‍اذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) *
* (قال) * الخضر عليه السلام * (هذا فراق بيني وبينك) * على إضافة
7

المصدر إلى الظرف اتساعا، وأين الحاجب يجعل الإضافة في مثله على معنى في وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر.
وقرأ ابن أبي عبلة * (فراق بيني) * بالتنوين ونصب بين على الظرفية، وأعيد بين وإن كان لا يضاف إلا لمتعدد لأنه لا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، قال أبو حيان: والعدول عن بيننا لمعنى التأكيد والإشارة إلى الفراق المدلول عليه بقوله قبل: * (لا تصاحبني) * (الكهف: 76) والحمل مفيد لأن المخبر عنه الفراق باعتبار كونه في الذهن والخبر الفراق باعتبار أنه في الخارج كما قيل أو إلى الوقت الحاضر أي هذا الوقت وقت فراقنا أو إلى الاعتراض الثالث أي هذا الاعتراض سبب فراقنا حسبما طلبت، فوجه تخصيص الفراق بالثالث ظاهر.
وقال العلامة الأول: إنما كان هذا سبب الفراق دون الأولين لأن ظاهرهما منكر فكان معذورا بخلاف هذا فإنه لا ينكر الإحسان للمسىء بل يحمد. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في وجهه أن قول موسى عليه السلام في السفينة والغلام كان لله تعالى، وفي هذا لنفسه لطلب الدنيا فكان سبب الفراق، وحكى القشيري نحوه عن بعضهم. ورد ذلك في " الكشف " بأنه لا يليق بجلالتهما ولعل الخبر عن الحبر غير صحيح، ونقل في " البحر " عن أرباب المعاني أن هذه الأمور التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى عليه السلام وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم؟ ولما أنكر قتل الغلام قيل له أين إنكارك هذا ووكز القبطي والقضاء عليه؟ ولما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنتي شعيب عليه السلام بدون أجرة؟ ورأيت أنا في بعض الكتب أن الخضر عليه السلام قال: يا موسى اعترضت علي بخرق السفينة وأنت ألقيت ألواح التوراة فتكسرت واعترضت علي بقتل الغلام وأنت وكزت القبطي فقضى عليه واعترضت علي بإقامة الجدار بلا أجر وأنت سقيت لبنتي شعيب أغنامهما بلا أجر فمن فعل نحو ما فعلت لن يعترض علي، والظاهر أن شيئا من ذلك لا يصح والفرق ظاهر بين ما صدر من موسى عليه السلام وما صدر من الخضر وهو أجل من أن يحتج على صاحب التوراة بمثل ذلك كما لا يخفى.
وأخرج ابن أبي الدنيا. والبيهقي في شعب الإيمان. وابن عساكر عن أبي عبد الله وأظنه الملطي قال لما أراد الخضر أن يفارق موسى قال له: أوصني قال: كن نفاعا ولا تكن ضرارا كن بشاشيا ولا تكن غضبانا ارجع عن اللجاجة ولا تمش من غير حاجة ولا تعير امرأ بخطيئته وابك على خطيئتك يا ابن عمران. وأخرج ابن أبي حاتم. وابن عساكر عن يوسف بن أسباط قال بلغني: أن الخضر قال لموسى لما أراد أن يفارقه: يا موسى تعلم العلم لتعمل به ولا تعلمه لتحدث به، وبلغني أن موسى قال للخضر: ادع لي فقال الخضر: يسر الله تعالى عليك طاعته والله تعالى أعلم بصحة ذلك أيضا.
* (سأنبئك) * وقرأ ابن أبي وثاب * (سانبيك) * بإخلاص الياء من غير همز، والسين للتأكيد لعدم تراخي الإنباء أي أخبرك البتة * (بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) * والظاهر أن هذا لم يكن عن طلب من موسى عليه السلام، وقيل: إنه لما عزم الخضر على فراقه أخذ بثيابه وقال: لا أفارقك حتى تخبرني بما أباح لك فعل ما
فعلت ودعاك إليه فقال: * (سانبئك) * والتأويل رد الشيء إلى مآله، والمراد به هنا المآل والعاقبة إذ هو المنبأ به دون التأويل بالمعنى المذكور، وما عبارة عن الأفعال الصادرة من الخضر عليه السلام وهي خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، ومآلها خلاص السفينة من اليد الغاصبة وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز
8

بالبدل الأحسن واستخراج اليتيمين للكنز، وفي جعل الموصول عدم استطاعة موسى عليه السلام للصبر دون أن يقال بتأويل ما فعلت أو بتأويل ما رأيت ونحوهما نوع تعريض به عليه السلام وعتاب، ويجوز أن يقال: إن ذلك لاستشارة مزيد توجهه وإقباله لتلقي ما يلقى إليه، و * (صبرا) * مفعول تستطع وعليه متعلق به وقدم رعاية للفاصلة.
* (أما السفينة فكانت لمس‍اكين يعملون فى البحر فأردت أن أعيبها وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) *
* (أما السفينة) * التي خرقها * (فكانت لمساكين) * لضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظلمة جمع مسكين بكسر الميم وفتحها ويجمع على مساكين ومسكينون وهو الضعيف العاجز، ويشمل هذا ما إذا كان العجز لأمر في النفس أو البدن ومن هنا قيل سموا مساكين لزمانتهم وقد كانوا عشرة خمسة منهم زمني وإطلاق مساكين عليهم على هذا من باب التغليب، وهذا المعنى للمسكين غير ما اختلف الفقهاء في الفرق بينه وبين الفقير وعليه لا تكون الآية حجة لمن يقول: إن المسكين من يملك شيئا ولا يكفيه لأن هذا المعنى مقطوع فيه النظر عن المال وعدمه.
وقد يفسر بالمحتاج وحينئذ تكون الآية ظاهرة فيما يدعيه القائل المذكور، وادعى من يقول: إن المسكين من لا شيء له أصلا وهو الفقير عند الأول أن السفينة لم تكن ملكا لهم بل كانوا أجراء فيها، وقيل: كانت معهم عارية واللام للاختصاص لا للملك ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر ولا يقبل بلا دليل، وقيل: إنهم نزلوا منزلة من لا شيء له أصلا وأطلق عليهم المساكين ترحما. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه * (لمساكين) * بتشديد السين جمع تصحيح لمساك فقيل: المعنى لملاحين، وقيل: المساك من يمسك رجل السفينة وكانوا يتناوبون ذلك، وقيل: المساكون دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك ولعل إرادة الملاحين أظهر * (يعملون في البحر) * أي يعملون بها فيه ويتعيشون بما يحصل لهم، وإسناد العمل إلى الكل على القول بأن منهم زمني على التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكلين * (فأردت أن أعيبها) * أي اجعلها ذات عيب بالخرق ولم أرد إغراق من بها كما مسبت ولإرادة هذا المعنى جيء بالإرادة ولم يقل فأعبتها. وهذا ظاهر في أن اللام في الاعتراض للتعليل ويحتاج حملها على العاقبة إلى ارتكاب خلاف الظاهر هنا كما لا يخفى على المتأمل * (وكان وراءهم ملك) * أي أمامهم وبذلك قرأ ابن عباس. وابن جبير. وهو قول قتادة. وأبي عبيد. وابن السكيت. والزجاج، وعلى ذلك جاء قول لبيد: أليس ورائي إن تراخت منيتي * لزوم العصا تحني عليها الأصابع
وقول سوار بن المضرب السعدي: أيرجو بنو مروان سمعى وطاعتي * وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقول الآخر: أليس ورائي أن أدب على العصا * فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي
وفي القرآن كثير أيضا، ولا خلاف عند أهل اللغة في مجيء وراء بمعنى أمام وإنما الخلاف في غير ذلك، وأكثرهم على أنه معنى حقيقي يصح إرادته منها في أي موضع كان وقالوا: هي من الأضداد، وظاهر كلام البعض أن لها معنى واحدا يشمل الضدين فقال ابن الكمال نقلا عن الزمخشري: إنها اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام، وقال البيضاوي ما حاصله: إنه في الأصل مصدر ورا يرئى كقضا يقضي وإذا أضيف إلى
9

الفاعل يراد به المفعول أعني المستور وهو ما كان خلفا وإذا أضيف إلى المفعول يراد به الفاعل أعني الساتر وهو ما كان قداما. ورد عليه بقوله تعالى: * (ارجعوا وراءكم) * فإن وراء أضيفت فيه إلى المفعول والمراد بها الخلف.
وقال الفراء: لا يجوز أن يقال للرجل بين يديه هو وراءك وكذا في سائر الأجسام وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام؛ وقال أبو علي: إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر، وقيل: أي خلفهم كما هو المشهور في معنى وراء. واعترض بأنه إذا كان خلفهم فقد سلموا منه. وأجيب بأن المراد أنه خلفهم مدرك لهم ومار بهم أو بان رجوعهم عليه واسمه على ما يزعمون هدد بن بدد وكان كافرا، وقيل. جلندي بن كركر ملك غسان، وقيل. مفواد بن الجلند بن سعيد الأزدي وكان بجزيرة الأندلس * (يأخذ كل سفينة) * أي صالحة وقد قرأ كذلك أبي بن كعب، ولو أبقى العموم على ظاهره لم يكن للتعييب فائدة * (غصبا) * من أصحابها، وانصابه على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ، والظاهر أنه كان يغصب السفن من أصحابها ثم لا يردها عليهم، وقيل. كان يسخرها ثم يردها، والفاء في * (فأردت) * للتفريع فيفيد أن سبب إرادة التعييب كونها لقوم مساكين عجزة لكن لما كانت مناسبة هذا السبب هذا السبب للمسبب خفية بين ذلك بذكر عادة الملك في غصب السفن، وما آل المعنى أما السفينة فكانت لقوم مساكين عجزة يكتسبون بها فأردت بما فعلت أعانتهم على ما يخافونه ويعجزون عن دفعه من غصب ملك وراءهم عادته غصب السفن الصالحة، وذكر بعضهم أن السبب مجموع الأمرين المسكنة والغصب إلا أنه وسط التفريع بين الأمرين وكان الظاهر تأخيره عنهما للغاية به من حيث أن ذلك الفعل كان هو المنكر المحتاج إلى بيان تأويله وللإيذان بأن الأقوى في السببية هو الأمر الأول ولذلك لم يبال بتخليص سفن سائر الناس مع تحقق الجزء الأخير من السبب ولان في تأخيره فصلا بين السفينة وضميرها مع توهم رجوعه إلى الأقرب فليفهم، وظاهر الآية أن موسى عليه السلام ما علم تأويل هذا الفعل قبل. ويشكل عليه ما جاء عن الربيع أن الخضر عليه السلام بعد أن خرق السفينة وسلمت من الملك الظالم أقبل على أصحابها فقال: إنما أردت الذي هوخير لكم فحمدوا رأيه وأصلحها لهم كما كانت فإنه ظاهر في أنه عليه السلام أوقفهم على حقيقة الأمر، والظاهر أن موسى عليه السلام كان حاضرا يسمع ذلك، وقد يقال: إن هذا الخبر لا يعول عليه واحتمال صحته مع عدم سماع موسى عليه السلام مما لا يلتفت إليه.
* (وأما الغل‍ام فكان أبواه مؤمنين فخشينآ أن يرهقهما طغي‍انا وكفرا) *
* (وأما الغلام) * الذي قتله * (فكان أبواه) * أي أبوه وأمه ففيه تغليب. واسم الأب على ما في الاتقان كازير والأم سهوا، وفي مصحف أبي وقراءة ابن عباس * (وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه * (مؤمنين) * والمعنى على ذلك في قراءة السبعة إلا أنه ترك التصريح بكفره إشعارا بعدم الحاجة إلى الذكر لظهوره. واستدل بتلك القراءة من قال: إن الغلام كان بالغا لأن الصغير لا يوصف بكفر وإيمان حقيقيين. وأجاب النووي عن ذلك بوجهين، الأول: أن القراءة شاذة لا حجة فيها، الثاني: أنه سماع بما يؤل إليه لو عاش. وفي صحيح مسلم: أن الغلام طبع يوم طبع كافرا وأول بنحو هذا وكذا ما مر من خبر صاحب العرس والعرائس لكن في صحته توقف عندي لأنه ربما يقتضي بظاهره علم موسى عليه السلام بتأويل القتل قبل الفراق، وعلى ما سمعت من التأويل لا يرد شيء مما ذكر على القول المنصور في الأطفال وهو أنهم مطلقا في
10

الجنة على أنه قيل الكلام في غير من أخبر الصادق بأنه كافر، وقرأ أبو سعيد الخدري. والجحدري * (فكان أبواه مؤمنان) * وخرجه الزمخشري. وابن عطية. وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن، والجملة في موضع الخبر لهما، وأجاز أبو الفضل أن يكون * (مؤمنان) * على لغة بني الحرث بن كعب فيكون منصوبا، وأجاز أيضا أن يكون في كان ضمير * (الغلام) * والجملة في موضع الخبر.
* (فخشينا أن يرهقهما) * فخفنا خوفا شديدا أن يغشى الوالدين المؤمنين لو بقي حيا * (طغيانا) * مجاوزة للحدود الإلهية * (وكفرا) * بالله تعالى وذلك بأن يحملهما حبه على متابعته كما روى عن ابن جبير، ولعل عطف الكفر على الطغيان لتفظيع أمره، ولعل ذكر الطغيان مع أن ظاهر السياق الاقتصار على الكفر ليتأتى هذا التفظيع أو ليكون المعنى فخشينا أن يدنس إيمانهم أولا ويزيله آخرا، ويلتزم هذا القول بأن ذلك أشنع وأقبح من إزالته بدون سابقية تدنيس؛ وفسر بعد شراح البخاري الخشية بالعلم فقال: أي علمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعا أبويه إلى الكفر فيجيبانه ويدخلان معه في دينه لفرط حبهما إياه، وقيل: المعنى خشينا أن يغشيهما طغيانا عليهما وكفرا لنعمتهما عليه من تربيتهما إياه وكونهما سببا لوجوده بسبب عقوقه وسوء صنيعه فيلحقهما شر وبلاء، وقيل: المعنى خشينا أن يغشيهما ويقربن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، وفي بعض الآثار أن الغلام كان يفسد وفي رواية يقطع الطريق ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه. واستدل بذلك من قال: إنه كان بالغا، والذاهب إلى صغره يقول إن ذلك لا يصح ولعل الحق معه، والظاهر أن هذا من كلام الخضر عليه السلام أجاب به موسى عليه السلام من جهته، وجوز الزمخشري أن يكون ذلك حكاية لقول الله عز وجل والمراد فكر هنا بجعل الخية مجازا مرسلا عن لازمها وهو الكراهة على ما قيل، قال في " الكشف ": وذلك لاتحاد مقام المخاطبة كان سؤال موسى عليه السلام منه تعالى والخضر عليه السلام بإذن الله تعالى يجيب عنه وفي ذلك لطف ولكن الظاهر هو الأول انتهى، وقيل: هو على هذا الاحتمال بتقدير فقال الله: خشينا والفاء من الحكاية وهو أيضا بعيد ولا يكاد يلائم هذا الاحتمال الآية بعد إلا أن يجعل التعبير بالظاهر فيها التفاتا، وفي مصحف عبد الله وقراءة أبي فخاف ربك والتأويل ما سمعت.
وقال ابن عطية: إن الخوف والخشية كالترجي بلعل ونحوها الواقع في كلامه تعالى مصروف إلى المخاطبين وإلا فالله جل جلاله منزه عن كل ذلك.
* (فأردنآ أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكواة وأقرب رحما) *
* (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه) * بأن يرزقهمابدله ولدا خيرا منه * (زكواة) * قال ابن عباس: أي دينا وهو تفسير باللازم؛ والكثير قالوا: أي طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة، وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى من الدلالة على إرادة وصول الخير إليهما * (وأقرب رحما) * أي رحمة، قال رؤبة بن العجاج: يا منزل الرحم على إدريسا * ومنزل اللعن على إبليسا
وهما مصدران كالكثر والكثرة، والمراد أقرب رحمة عليهما وبرا بهما واستظهر ذلك أبو حيان، ولعل وجهه كثرة استعمال المصدر مبنيا للفاعل مع ما في ذلك هنا من موافقة المصدر قبله، وأخرج ابن أبي شيبة. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن عطية أن المعنى هما به أرحم منهما بالغلام، ولعل المراد على هذا أنه أحب
11

إليهما من ذلك الغلام إما لزيادة حسن خلقه أو خلقه أو الاثنين معا، وهذا المعنى أقرب للتأسيس من المعنى الأول على تفسير المعطوف عليه بما سمعت إلا أنه يؤيد ذلك التفسير ما أخرجه ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهما أبدلا جارية ولدت نبيا، وقال الثعلبي: إنها أدركت يونس بن متى فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبيا هدى الله تعالى على يده أمة من الأمم، وفي رواية ابن المنذر عن يوسف بن عمر أنها ولدت نبيين، وفي رواية أخرى عن ابن عباس. وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهما أنها ولدت سبعين نبيا، واستبعد هذا ابن عطية وقال: لا يعرف كثرة الأنبياء عليهم السلام إلا في بني إسرائيل ولم تكن هذه المرأة منهم وفيه نظر ظاهر، ووجه التأييد أن الجارية بحسب العادة تحب أبويها وترحمهما وتعطف عليهما وتبر بهما أكثر من الغلام قيل: أبدلهما غلاما مؤمنا مثلهما، وانتصاب المصدرين على التمييز والعامل ما قبل كل من أفعل التفضيل، ولا يخفي ما في الإبهام أولا ثم البيان ثانيا من اللطف ولذا لم يقل: فأردنا أن يبدلهما ربهما أزكى منه وأرحم على أن في خير زكاة من المدح ما ليس في أزكى كما يظهر بالتأمل الصادق.
وذكر أبو حيان أن أفعل ليس للتفضيل هنا لأنه لا زكاة في ذلك الغلام ولا رحمة. وتعقب بأنه كان زكيا طاهرا من الذنوب بالفعل إن كان صغيرا وبحسب الظاهر إن كان بالغا فلذا قال موسى عليه السلام * (نفسا زكية) * (الكهف: 74) وهذا في مقابلته فخير من زكاة من هو زكي في الحال والمآل بحسب الظاهر والباطن ولو سلم فالاشتراك التقديري يكفي في صحة التفضيل وأن قوله: ولا رحمة قول بلا دليل انتهى.
وقال الخفاجي: إن الجواب الصحيح هنا أن يكتفي بالاشتراك التقديري لأن الخضر عليه السلام كان عالما بالباطن فهو يعلم أنه لا زكاة فيه ولا رحمة فقوله: إنه لا دليل
عليه لا وجه له، وأنت تعلم أن الرحمة على التفسير الثاني مما لا يصح نفيها لأنها مدار الخشية فافهم، والظاهر أن الفاء للتفريع فيفيد سببية الخشية للإرادة المذكورة ويفهم من تفريع القتل، ولم يفرعه نفسه مع أنه المقصود تأويله اعتمادا على ظهور انفهامه من هذه الجملة على ألطف وجه، وفيها إشارة إلى رد ما يلوح به كلام موسى عليه السلام من أن قتله ظلم وفساد في الأرض.
وقرأ نافع. وأبو عمرو. وأبو جعفر. وشيبة. وحميد. والأعمش. وابن جرير * (يبدلهما) * بالتشديد.
وقرأ ابن عامر. وأبو جعفر في رواية. ويعقوب. وأبو حاتم * (رحما) * بضم الحاء، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما * (رحما) * بفتح الراء وكسر الحاء.
* (وأما الجدار فكان لغل‍امين يتيمين فى المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما ص‍الحا فأراد ربك أن يبلغآ أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) *
* (وأما الجدار) * المعهود * (فكان لغلامين) * قيل: إنهما أصرم وصريم * (يتيمين) * صغيرين مات أبوهما وهذا هو الظاهر لأن يتم بني آدم بموت الأب، وفي الحديث " لا يتم بعد بلوغ "، وقال ابن عطية: يحتمل أنهما كانا بالغين والتعبير عنهما بما ذكر باعتبار ما كان على معنى الشفقة عليهما ولا يخفى أنه بعيد جدا * (في المدينة) * هي القرية المنذكورة فيما سبق، ولعل التعبير عنها بالمدينة هنا لإظهار نوع اعتداد بها باعتداد ما فيها من اليتيمين وما هو من أهلها وهو أبوهما الصالح. ولما كان سوق الكلام السابق على غير هذا المساق عبر بالقرية فيه * (وكان تحته كنز لهما) * مال مدفون من ذهب وفضة كما أخرجه البخاري في تاريخه. والترمذي. والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء وبذلك قال عكرمة. وقتادة وهو في الأصل مصدر ثم أريد به اسم المفعول.
12

قال الراغب: الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه وأصله من كنزت التمر في الوعاء، واستشكل تفسير الكنز بما ذكر بأن الظاهر أن الكانز له أبوهما لاقتضاء * (لهما) * له إذا لا يكون لهما إلا إذا كان إرثا أو كانا قد استخرجاه والثاني منتف فتعين الأول وقد وصف بالصلاح، ويعارض ذلك ما جاء في ذم الكانز. وأجيب بأن المذموم ما لم تؤد منه الحقوق بل لا يقال لما أديبت منه كنز شرعا كما يدل عليه عند القائلين بالمفهوم حديث كل مال لا تؤدي زكاته فهو كنز فإن النبي صلى الله عليه وسلم بصدد بيان الأحكام الشرعية لا المفاهيم اللغوية لأنها معلومة للمخاطبين ولا يعتبر في مفهومه اللغوي المراد هنا شيء من الإخراج وعدمه، والوصف بالصلاح قرينة على أنه لم يكن من الكنز المذموم، ومن قال: إن الكنز حرام مطلقا ادعى أنه لم يكن كذلك في شرع من قبلنا، واحتج عليه بما أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء في هذه الآية قال: أحلت لهم الكنوز وحرمت عليهم الغنائم وأحلت لنا الغنائم وحرمت علينا الكنوز.
وأخرج عبد الرزاق. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن قتادة نحو ذلك وفيه فلا يعجبن الرجل فيقول ما شأن الكنز حل لمن قبلنا وحرم علينا فإن الله تعالى يحل من أمره ما يشاء ويحرم ما يشاء وهي السنن والفرائض تحل لأمة وتحرم على أخرى، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال: ما كان ذهبا ولا فضة ولكن كان صحب علم وروى ذلك أيضا عن ابن جبير، وأخرج ابن مردويه من حديث علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا والبزار عن أبي ذر كذلك، والخرائطي عن ابن عباس موقوفا أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنه مكتوب في أحد شقيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبت الخ؛ في الشق الآخر أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه وجمع بعضهم بأن المراد بالكنز ما يشمل جميع ذلك بناء على أنه المال المدفون مطلقا، وكل من المذكورات مال كان مدفونا إلا أنه اقتصر في كل من الروايات على واحد منها وفيه أنه على بعده يأباه ظاهر قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما كان ذهبا ولا فضة * (وكان أبوهما صالحا) * الظاهر أنه الأب الأقرب الذي ولدهما، وذكر أن اسمه كاشح وأن اسم أمهما دهنا، وقيل: كان الأب العاشر، وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه كان الأب السابع. وأيا كان ففي الآية دلالة على أن صلاح الآباء يفيد العناية بالأبناء، وأخرج ابن أبي شيبة. وأحمد في الزهد. وابن أبي حاتم عن خيثمة قال: قال عيسى عليه السلام طوبى لذرية المؤمن ثم طوبى لهم كيف يحفظون من بعده وتلا خيثمة هذه الآية.
وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر عن وهب قال: إن الله تعالى ليحفظ بالعبد الصالح القبيل من الناس، وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال لبعض الخورج في كلام جرى بينهما بم حفظ الله تعالى مال الغلامين؟ قال: بصلاح أبيهما قال فأبى وجدي خير منه فقال الخارجي أنبأنا الله تعالى: إنكم قوم خصمون، وذكر من صلاح هذا الرجل إن الناس كانوا يضعون عنده الودائع فيردها إليهم كما وضعوها، ويروى أنه كان سياحا * (فأراد ربك) * مالكك ومدبر أمورك، ففي إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه السلام دون
13

ضميرهما تنبيه له على تحتم كمال الانقياد والاستسلام لإرادته سبحانه ووجوب الاحتراز عن المناقشة فيما وقع بحسبهما التي يشم منها طلب ما يحصل به تربية البدن وتدبيره * (أن يبلغا أشدهما) * قيل أي الحلم وكمال الرأي، وفي " الصحاح " القوة وهو ما بين ثماني عشر إلى ثلاثين وهو واحد جاء على بناء الجمع مثل آنك ولا نظير لهما، ويقال: هو جمع لا واحد له من لفظه مثل آسال وأبابيل وعباديد ومذاكير، وكان سيبويه يقول: واحده شده وهو حسن في المعنى لأنه يقال بلغ الغلام شدته ولكن لا يجمع فعلة على أفعل، وأما أنعم فإنما هو جمع نعم من قولهم يوم بؤس ويوم نعم، وأما قول من قال: واحده شد مثل كلب وأكلب أو شد مثل ذئب وأذؤب فإنما هو قياس كما يقولون في واحد الأبابيل أبول قياسا على عجول وليس هو شيء يسمع من العرب.
* (ويستخرجا كنزهما) * من تحت الجدار ولولا أني أقمته لانقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظه والانتفاع به وذكروا أن اليتيمين كانا غير عالمين بالكنز ولهما وصي يعلم به لكنه كان غائبا والجدار قد شارف فلو سقط لضاع فلذا أقامه * (رحمة من ربك) * مفعول له لأراد وأقيم الظاهر مقام الضمير، وليس مفعولا له ليستخرجا لاختلاف الفاعل، وبعضهم أجاز ذلك لعدم اشتراطه الاتحاد أو جعل المصدر من المبني للمفعول وأجاز أن يكون النصب على الحال وو من ضمير * (يستخرجا) * بتأويل مرحومين، والزمخشري النصب على أنه مفعول مطلق لأراد فإن إرادة ذلك رحمة منه تعالى.
واعترض بأنه إذا كان أراد ربك بمعنى رحم كانت الرحمة من الرب لا محالة فأي فائدة في ذكر قوله تعالى * (من ربك) * وكذا إذا كان مفعولا له؛ وقيل: في الكلام حذف والتقدير فعلت ما فعلت رحمة من ربك فهو حينئذ مفعول له بتقدير إرادة أو رجاء رحمة ربك أو منصوب بنزع الخافض والرحمة بمعنى الوحي أي برحمة ربك ووحيه فيكون قوله * (وما فعلته عن أمري) * أي عن رأيي واجتهادي تأكيدا لذلك * (ذالك) * إشارة إلى ما ذكر من العواقب المنظومة في سلك البيان، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجته في الفخامة * (تأويل ما لم تسطع) * أي تستطيع وهو مضارع اسطاع بهمز الوصل وأصله استطاع على وزن استفعل ثم حذف تاء الافتعال تخفيفا وبقيت الطاء التي هي أصل. وزعم بعضهم أن السيرن عوض قلب الواو ألفا والأصل أطاع ولا حاجة تدعو إلى أن المحذوف هي الطاء التي هي فاء الفعل ثم دعوى أنهم أبدلوا من تاء الاتعال طاء لوقوعها بعد السين ويقال تستيع بإبدال الطاء تاء وتستيع بحذف تاء الافتعال فاللغات أربع كما قال ابن السكيت، وما ألطف حذف أحد المتقاربين وبقاء الآخر في آخر هذا الكلام الذي وقع عنده ذهاب الخضر عن موسى عليهما السلام.
وقال بعض المحققين: إنما خص هذا بالتخفيف لأنه لما تكرر في القصة ناسب تخفيف الأخير، وتعقب بأن ذلك مكرر أيضا وذاك أخف منه فلم لم يؤت به، وفيه أن الفرق ظاهر بين هذا وذلك، وقيل: إنما خص بالتخفيف للإشارة إلى أنه خف على موسى عليه السلام ما لقيه ببيان سببه، وتعقب بأنه يبعده أنه في الحكاية لا المحكي وأنت تعلم هذا وكذا ما ذكرناه زهرة لا تتحمل الفرك والتأويل بالمعنى السابق الذي ذكر أنه المراد أي ذلك مآل وعاقبة الذي لم تستطع * (عليه صبرا) * من الأمور التي رأيت فيكون انجاز اللتنبئة الموعودة، وجوز أن تكون الإشارة إلى البيان نفسه فيكون التأويل بمعناه المشهور، وعلى كل حال فهو فذلكة لما تقدم، وفي جعل
14

الصلة غير ما مر تكرير للتنكير وتشديد للعتاب، قيل: ولعل إسناد الإرادة أولا: إلى ضمير المتكلم وحده أنه الفاعل المباشر للتعييب، وثانيا: إلى ضمير المتكلم ومعه غيره لأن إهلاك الغلام بمباشرته وفعله وتبديل غيره موقوف عليه وهو محض فعل الله تعالى وقدرته فضمير - نا - مشترك بين الله تعالى والخضر عليه السلام. وثالثا: إلى الله تعالى وحده لأنه لا مدخل له عليه السلام في بلوغ الغلامين واعترض توجيه ضمير الجمع بأن الاجتماع المخلوق مع الله تعالى في ضمير واحد لا سيما ضمير المتكلم فيه من ترك الأدب ما فيه. ويدل على ذلك ما جاء من أن ثابت بن قيس بن شماس كان يخطب في مجلسه صلى الله عليه وسلم إذا وردت وفود العرب فاتفق أن قدم وفد تميم فقام خطيبهم وذكر مفاخرهم ومآثرهم فلما أتم خطبته قام ثابت وخطب خطبة قال فيها من يطع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بئس خطيب القوم أنت. وصرح الخطابي أنه عليه الصلاة والسلام كره منه ما فيه من التسوية. وأجيب بأنه قد وقع نحو ذلك في الآيات والأحاديث، فمن ذلك قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي * (فإن الظاهر) * أن ضمير * (يصلون على) * راجع إلى الله تعالى وإلى الملائكة. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الايمان: " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " ولعل ما كرهه صلى الله عليه وسلم من ثابت أنه وقف على قوله بعضهما: لا التسوية في الضمير. وظاهر هذا أنه لاكراهة مطلقا في هذه التسوية وهو أحد الأقوال في في المسألة. وثانيها: ما ذهب إليا الخطابي أنها تكره تنزيها. وثالثها: ما يفهمه كلام الغزالي أنها تكره تحريما. وعلى القول بالكراهة التنزيهية استظهر بعضهم أنها غير مطردة فقد تكره في مقام دون مقام وبنى الجواب عما نحن فيه على ذلك فقال: لما كان المقام الذي قام فيه ثابت مقام خطابة وإطناب وهو بحضرة قوم مشركين والإسلام غض طري كره صلى الله عليه وسلم التسوية منه فيه وأما مثل هذا المقام الذي القائل فيه والمخاطب من عرفت وقصد فيه نكتة وهو عدم استقلاله فلا كراهة للتسوية فيه. وخص بعض الكراهة بغير النبي صلى الله عليه وسلم وحينئذ يقوى الجواب عما ذكر لأنه إذا جازت للنبي صلى الله عليه وسلم فهو في كلام الله تعالى وما حكاه سبحانه بالطريق الأولى. وخلاصة ما قرر في المسألة أن الحق أنه لا كراهة في ذلك في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كما أشير إليه في " شروح البخاري " وأما في حق البشر فلعل المختار أنه مكروه تنزيها في مقام دون مقام، هذا وأنا لا أقول باشتراك هذا الضمير بين الله تعالى والخضر عليه السلام لا لأن فيه ترك الأدب بل لأن الظاهر أنه كضمير * (خشينا) * والظاهر في ذاك عدم الاشتراك لأنه محوج لارتكاب المجاز على أن النكتة التي ذكروها في اختيار التشريك في ضمير أردنا لا تظهر في اختياره في ضمير * (فخشينا) * لأنه لم يتضمن الكلام الأول فعلين على نحو ما تضمنهما الكلام الثاني فتدبر، وقيل في وجه تغاير الأسلوب: أن الأول شر فلا يليق إسناده إليه سبحانه وأن كان هو الفاعل جل وعلا، والثالث: خير فأفرد إسناده إلى الله عز وجل. والثاني: ممتزج خبره وهو تبديله بخير منه وشره وهو القتل فأسند إلى الله تعالى وإلى نفسه نظرا لهما. وفيه أن هذا الإسناد في * (فخشينا) * أيضا وأين امتزاج الخير والشر فيه، وجعل النكتة في التعبير ينافيه مجرد الموافقة لتاليه ليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: الظاهر أنه أسند الإرادة في الأولين إلى نفسه لكنه تفنن في التعبير فعبر عنها بضمير المتكلم مع الغير بعد ما عبر بضمير المتكلم الواحد لأن مرتبة الانضمام مؤخرة عن مرتبة الانفراد مع أن فيه تنبيها على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية بخلاف التعييب. وأسند فعل الإبدال إلى الله
15

تعالى إشارة إلى استقلاله سبحان بالفعل وأن الحاصل للعبد مجرد مقارنة إرادة الفعل دون تأثير فيه كما هو المذهب الحق انتهى، وأنت تعلم أن الأبدال نفسه مما ليس لإرادة العبد مقارنة له أصلا وإنما لها مقارنة للقتل الموقوف هو عليه على أن في هذا التوجيه بعدما فيه. وفي الانتصاف لعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى لأن المراد ثم عيب فتأدب عليه السلام بأن نسب الإعابة إلى نفسه. وأما إسناد الثاني إلى - نا - فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك أمرنا بكذا ودبرنا
كذا وإما يعنون أمر الملك العظيم. ودبر ويدل على ذلك قوله في الثالث * (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما) * (الكهف: 82) وهو كما ترى، وقيل: اختلاف الأسلوب لاختلاف حال العارف بالله سبحانه فإنه في ابتداء أمره يرى نفسه مؤثرة فلذا أسند الإرادة أولا إلى نفسه ثم يتنبه إلى أنه لا يستقل بالفعل بدون الله تعالى فلذا أسند إلى ذلك الضمير ثم يرى أنه لا دخل له وأن المؤثر والمريد إنما هو الله تعالى فلذا أسنده إليه سبحانه فقط وهذا مقام الفناء ومقام كان الله ولا شيء معه وهو الآن كما كان، وتعقب بأنه إن أريد أن هذه الأحوال مرت على الخضر عليه السلام واتصف بكل منها أثناء المحاورة فهو باطل وكيف يليق أن يكون إذ ذاك ممن يتصف بالمرتبة الثانية فضلا عن المرتبة الأولى وهو الذي قد أوتي من قبل العلم اللدني. وإن أريد أن عبر تعبير من اتصف بكل مرتبة من تلك المراتب وإن كان هو عليه السلام في أعلاها فإن كان ذلك تعليما لموسى عليه السلام فموسى عليه السلام أجل من أن يعلمه الخضر عليه السلام مسألة خلق الأعمال. وإن كان تعليما لغيره عليه السلام فليس المقام ذلك المقام على تقدير أن يكون هناك غير يسمع منه هذا الكلام وإن أريد أنه عبر في المواضع الثلاثة بأسلوب مخصوص من هاتيك الأساليب إلا أنه سبحانه عبر في كل موضع بأسلوب فتعددت الأساليب في حكايته تعالى القصة لنا تعليما وإشارة إلى هاتيك المراتب وإن لم يكن كلام الخضر عليه السلام كذلك فالله تعالى أجل وأعظم من أن ينقل عن أحد كلاما لم يقله أو لم يقل ما بمعناه فالقول بذلك نوع افتراء عليه سبحانه. والذي يخطر ببال العبد الفقير أنه روعي في الجواب حال الاعتراض وما تضمنه وأشار إليه فلما كان الاعتراض الأول بناء على أن لام * (لتغرق) * للتعليل متضمنا إسناد إرادة الإغراق إلى الخضر عليه السلام وكان الإنكار فيه دون الإنكار فيما يليه بناء على ما اختاره المحققون من أن * (نكرا) * أبلغ من * (أمرا) * ناسب أن يشرح بإسناد إرادة التعييب إلى نفسه المشير إلى نفي إرادة الإغراق عنها التي يشير كلام موسى عليه السلام إليها وأن لا يأتي بما يدل على التعظيم أو ضم أحد معه في الإرادة لعدم تعظيم أمر الانكار المحوج لأن يقابل بما يدل على تعظيم إرادة خلاف ما حسبه عليه السلام وأنكره.
ولما كان الاعتراض الثاني في غاية المبالغة والإنكار هناك في نهاية الإنكار ناسب إن يشير إلى أن ما اعترض عليه وبولغ في إنكاره قد أريد به أمر عظيم ولو لم يقع لم يؤمن من وقوع خطب جسيم فلذا أسند الخشية والإرادة إلى ضمير المعظم نفسه أو المتكلم ومعه غيره فإن في إسناد الإرادة إلى ذلك تعظيما لأمرها وفي تعظيمه تعظيم أمر المراد وكذا في إسناد الخشية إلى ذلك تعظيم أمرها، وفي تعظيمه تعظيم أمر المخشي. وربما يقال بناء على إرادة الضم منا: إن في ذلك الإسناد إشارة إلى أن ما يخشى وما يراد قد بلغ من العظم إلى أن يشارك موسى عليه السلام في الخشية منه، وفي إرادته الخضر لا أن يستقل بإنكار
16

ما هو من مبادي ذلك المراد وبه ينقطع عن الأصلين عرق الفساد، ولما كان الاعتراض الثالث هينا جدا حيث كان بلفظ لا تصلب فيه ولا ازعاج في ظاهره وخافيه ومع هذا لم يكن على نفس الفعل بل على عدم أخذ الأجرة عليه لستعان بها على آقامة جدار البدن وإزالة ما أصابه من الوهن فناسب أن يلين في جوابه المقام ولا ينسب لنفسه استقلالا أو مشاركة شيئا ما من الأفعال فلذا أسند الإرادة إلى الرب سبحانه وتعالى ولم يكتف بذلك حتى أضافه إلى ضميره عليه السلام، ولا ينافي ذلك تركير النكير والعتاب لأنه متعلق بمجموع ما كان أولا من ذلك الجناب، هذا والله تعالى أعلم بحقيقة أسرار الكتاب وهو سبحانه الموفق للصواب، واستدل بقوله: * (وما فعلته عن أمري) * القائلون بنبوته عليه السلام وهو ظاهر في ذلك واحتمال أن يكون هناك نبي أمره بذلك عن وحي كما زعمه القائلون بولايته احتمال بعيد على أنه ليس في وصفه بقوله تعالى: * (آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما) * (الكهف: 65) على هذا كثير فائدة بل قد يقال: أي فائدة في هذا العلم اللدني إذا احتاج في إظهار العجائب لموسى عليه السلام إلى توسيط نبي مثله، وقال بعضهم: كان ذلك عن إلهام ويلزمه القول بأن الإلهام كان حجة في بعض الشرائع وأن الخضر من المكلفين بتلك الشريعة وإلا فالظاهر أن حجيته ليست في شريعة موسى عليه السلام وكذا هو ليس بحجة في شريعتنا على الصحيح، ومن شذ وقال بحجيته اشترط لذلك أن لا يعارضه نص شرعي فلو أطلع الله تعالى بالإلهام بعض عباده على نحو ما اطلع عليه الخضر عليه السلام من حال الغلام لم يحل له قتله، وما أخرجه الإمام أحمد عن عطاء أنه قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان فكتب إليه إن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم إنما قصد به ابن عباس كما قال السبكي المحاجة والإحالة على ما لم يكن قطعا لطمعه في الاحتجاج بقصة الخضر وليس مقصوده رضي الله تعالى عنه أنه إن حصل ذلك يجوز القتل فما قاله اليافعي في روضه من أنه لو أذن الله تعالى لبعض عباده أن يلبس ثوب حرير مثلا وعلم الإذن يقينا فلبسه لم يكن منتهكا للشرع وحصول اليقين له من حيث حصوله للخضر بقتله للغلام إذ هو ولي لا نبي على الصحيح انتهى عثرة يكاد أن لا يقال لصاحبها لعا لأن مظنة حصول اليقين اليوم الإلهام وهو ليس بحجة عند الأئمة ومن شذ اشترط ما اشترط، وحصوله بخبر عيسى عليه السلام إذا نزل متعذر لأنه عليه السلام ينزل بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ومن شريعته تحريم لبس الحرير على الرجال ألا للتداوي وما ذكره من نفي نبوة الخضر لا يعول عليه ولا يلتفت إليه، وممن صرح بأن الإلهام ليس بحجة من الصوفية الإمام الشعراني وقال: قد زل في هذا الباب خلق كثير فضلوا وأضلوا، ولنا في ذلك مؤلف سميته حد الحسام في عنق من أطلق إيجاب العمل بالإلهام وهو مجلد لطيف انتهى، وقال أيضا في كتابه المسمى بالجواهر والدرر: قد رأيت من كلام الشيخ محي الدين قدس سره ما نصه اعلم أنا لا نعني بملك الإلهام حيث أطلقناه إلا الدقائق الممتدة من الأرواح الملكية لا نفس الملائكة فإن الملك لا ينزل بوحي على غير قلب نبي أصلا ولا يأمر بأمر الهي جملة واحدة فإن الشريعة قد استقرت وتبين الفرض والواجب وغيرهما فانقطع الأمر الإلهي بانقطاع النبوة والرسالة وما بقي أحد يأمره الله تعالى بأمر يكون شرعا مستقلا يتعبد به أبدا لأنه ان أمره بفرض كان الشارع قد أمر به وان أمره بمباح فلا يخلو إما أن يكون ذلك المباح المأمور به صار واجبا أو مندوبا في حقه فهذا عين نسخ الشرع الذي هو عليه حيث صير المباح الشرعي واجبا أو مندوبا وإن أبقاه مباحا كما كان
17

فأي فائدة للأمر الذي جاء به ملك الإلهام لهذا المدعي فإن قال: لم يجئني ملك الإلهام بذلك وإنما أمرني الله تعالى بلا واسطة قلنا: لا يصدق في مثل ذلك وهو تلبيس من النفس، فإن ادعى أن الله سبحانه كلمه كما كلم موسى عليه السلام فلا قائل به، ثم إنه تعالى لو كلمه ما كان يلقي إليه في كلامه إلا علوما وأخبارا لا أحكاما وشرعا ولا
يأمره أصلا انتهى.
وقد صرح الإمام الرباني مجدد الألف الثاني قدس سره العزيز في المكتوبات في مواضع عديدة بأن الإلهام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ويعلم من ذلك أنه لا مخالفة بين الشريعة والحقيقة والظاهر والباطن وكلامه قدس سره في المكتوبات طافح بذلك، ففي المكتوب الثالث والأربعين من الجلد الأول أن قوما مالوا إلى الإلحاد والزندقة يتخيلون أن المقصود الأصلي وراء الشريعة حاشا وكلا ثم حاشا وكلا نعوذ بالله سبحانه من هذا الاعتقاد السوء فكل من الطريقة والشريعة عين الآخر لا مخالفة بينهما بقدر رأس الشعيرة وكل ما خالف الشريعة مردود وكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة، وقال في أثناء المكتوب الحادي والأربعين من الجلد الأول أيضا في مبحث الشريعة والطريقة والحقيقة: مثلا عدم نطق اللسان بالكذب شريعة ونفي خاطر الكذب عن القلب إن كان بالتكلف والتعمل فهو طريقة وان تيسير بلا تكلف فهو حقيقة ففي الجملة الباطن الذي هو الطريقة والحقيقة مكمل الظاهر الذي هو الشريعة فالسالكون سبيل الطريقة والحقيقة ان ظهر منهم في أثناء الطريق أمور ظاهرها مخالف للشريعة ومناف لها فهو من سكر الوقت وغلبة الحال فإذا تجاوزوا ذلك المقام ورجعوا إلى الصحو ارتفعت تلك المنافاة بالكلية وصارت تلك العلوم المضادة بتمامها هباء منثورا.
وقال نفعنا الله تعالى بعلومه في أثناء المكتوب السادس والثلاثين من الجلد الأول أيضا: للشريعة ثلاثة أجزاء علم وعمل وإخلاص فما لم تتحقق هذه الأجزاء لم تتحقق الشريعة وإذا تحققت الشريعة حصل رضا الحق سبحانه وتعالى وهو فوق جميع السعادات الدنيوية والأخروية ورضوان من الله أكبر فالشريعة متكفلة بجميع السعادات ولم يبق مطلب وراء الشريعة فالطريقة والحقيقة اللتان امتاز بهما الصوفية كلتاهما خادمتان للشريعة في تكميل الجزء الثالث الذي هو الاخلاص فالمقصود منهما تكميل الشريعة لا أمر آخر وراء ذلك إلى آخر ما قال، وقال عليه الرحمة في أثناء المكتوب التاسع والعشرين من الجلد المذكور بعد تحقيق كثير: فتقرر أن طريق الوصول إلى درجات القرب الإلهي جل شأنه سواء كان قرب النبوة أو قرب الولاية منحصر في طريق الشريعة التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار مأمورا بها في آية * (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) * (يوسف: 108) وآية * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) * (آل عمران: 31) تدل على ذلك أيضا وكل طريق سوى هذا الطريق ضلال ومنحرف عن المطلوب الحقيقي وكل طريقة ردتها الشريعة فهي زندقة، وشاهد ذلك آية * (وأن هذا صراطي مستقيما) * (الأنعام: 153) وآية * (فماذا بعد الحق إلا الضلال) * (يونس: 32) وآية * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا) * (آل عمران: 85) وحديث " خط لنا النبي صلى الله عليه وسلم " الخبر، وحديث " كل بدعة ضلالة " وأحاديث أخر إلى آخر ما قال عليه رحمة الملك المتعال، وقال قدس سره في معارف الصوفية: اعلم أن معارف الصوفية وعلومهم في نهاية سيرهم وسلوكهم إنما هي علوم الشريعة لا أنها علوم أخر غير علوم الشريعة، نعم يظهر في أثناء الطريق علوم ومعارف كثيرة ولكن لا بد من العبور عنها، ففي نهاية النهايات علومهم علوم العلماء وهي علوم الشريعة والفرق
18

بينهم وبين العلماء أن تلك العلوم بالنسبة إلى العلماء نظرية واستدلالية وبالنسبة إليهم تصير كشفية وضرورية.
وقال أيضا: أعلم أن الشريعة والحقيقة متحدان في الحقيقة ولا فرق بينهما إلا بالإجمال والتفصيل وبالاستدلال والكشف بالغيب والشهادة وبالتعمل وعدم التعمل واللشريعة من ذلك الأول وللحقيقة الثاني وعلامة الوصول إلى حقيقة حق اليقين مطابقة علومه ومعارفه لعلوم الشريعة ومعارفها وما دامت المخالفة موجودة ولو أدنى شعرة فذلك دليل على عدم الوصول، وما وقع في عبارة بعض المشايخ من أن الشريعة قشر والحقيقة لب فهو وإن كان مشعرا بعدم استقامة قائله ولكن يمكن أن يكون مراده أن المجمل بالنسبة إلى المفصل حكمه حكم القشر بالنسبة إلى اللب وإن الاستدلال بالنسبة إلى الكشف كذلك، والأكابر المستقيمة أحوالهم لا يجوزون الاتيان بمثل هذه العبارات الموهمة إلى غير ذلك من عباراته الشريفة التي لا تكاد تحصى.
وقال سيدي القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره: جميع الأولياء لا يستمدون إلا من كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلمولا يعملون إلا بظاهرهما، وقال سيد الطائفة الجنيد قدس سره: الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام. وقال أيضا: من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدي به في هذا العلم لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة، وقال السرى السقطي: التصوف اسم لثلاثة معان وهو لا يطفىء نور معرفته نور ورعه ولا يتكلم بسر باطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكاتب ولا تحمله الكرامات على هتك محارم الله، وقال أيضا قدس سره: من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط.
وقال أبو الحسين النوري: من رأيته يدعي مع الله تعالى حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربه ومن رأيته يدعي حالة لا يشهد لها حفظ ظاهر فاتهمه على دينه، وقال أبو سعيد الخراز: كل فيض باطن يخالفه ظاهر فهو باطل.
وقال أبو العباس أحمد الدينوري: لسان الظاهر لا يغير حكم الباطن، وفي التحفة لابن حجر قال الغزالي: من زعم أن له مع الله تعالى حالا أسقط عنه نحو الصلاة أو تحريم شرب الخمر وجب قتله وإن كان في الحكم بخلوده في النار نظر وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر لأن ضرره أكثر انتهى، ولا نظر في خلوده لأنه مرتد لاستحلاله ما علمت حرمته أو نفيه وجوب ما علم وجوبه ضرورة فيهما، ومن ثم جزم في الأنوار بخلوده انتهى.
وقال في الاحياء: من قال إن الباطن يخالف الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان إلى غير ذلك، وفي رسالة القشيري طرف منه، والذي ينبغي أن يعلم أن كلام العارفين المحققين وإن دل على أنه لا مخالفة بين الشريعة والطريقة والحقيقة في الحقيقة لكنه يدل أيضا على أن في الحقيقة كشوفا وعلوما غيبية ولذا تراهم يقولون: علم الحقيقة هو العلم اللدني. وعلم المكاشفة. وعلم الموهبة. وعلم الأسرار. والعلم المكنون. وعلم الوراثة إلا أن هذا لا يدل على المخالفة فإن الكشوف والعلوم الغيبية ثمرة الإخلاص الذي هو الجزء الثالث من أجزاء الشريعة فهي بالحقيقة مترتبة على الشريعة ونتيجة لها ومع هذا لا تغير تلك الكشوف والعلوم الغيبية حكما شرعيا ولا تقيد مطلقا ولا تطلق مقيدا خلافا لما توهمه ساجقلي زاده حيث قال في شرح عبارة الإحياءالسابقة آنفا: يريد الغزالي من الباطن ما ينكشف لعلماء الباطن من حل بعض
الأشياء لهم مع أن الشارع حرمه على عباده مطلقا فيجب أن يقال: إنما انكشف حله لهم لما انكشف لهم من سبب خفي يحلله لهم وتحريم الشارع تعالى ذلك على عباده مقيد بانتفاء انكشاف السبب المحلل لهم فمن انكشف له ذلك السبب حل له ومن لا فلا لكن الشارع سبحانه حرمه على عاده على الإطلاق وترك ذلك القيد لندرة وقوعه إذ من ينكشف
19

له قليل جدا مثاله انكشاف محلل خرق السفينة وقتل الغلام للخضر عليه السلام فحل له بذلك الانكشاف الخرق والقتل وحلهما له مخالف لاطلاق نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الضرر وعن قتل الصبي لكنهما مقيدان فالأول مقيد بما إذا لم يعلم هناك غاصب مثلا والثاني بما إذا لم يعلم أن الصبي سيصير ضالا مضلا لكن الشارع ترك القيدين لندرة وقوعهما واعتمادا على فهم الراسخين في العلم إياهما إلى آخر ما قال فإن النصوص السابقة تنادي بخلافه كما سمعت، ثم إن تلك الغيوب والمكاشفات بل سائر ما يحصل للصوفية من التجليات ليست من المقاصد بالذات ولا يقف عندها الكامل ولا يلتفت إليها، وقد ذكر الإمام الرباني قدس سره في المكتوب السادس والثلاثين المتقدم نقل بعضه أنها تربى بها أطفال الطريق وأنه ينبغي مجاوزتها والوصول إلى مقام الرضا الذي هو نهاية مقامات السلوك والجذبة وهو عزيز لا يصل إليه إلا واحد من ألوف، ثم قال: إن الذين هم قليلو النظر يعدون الأحوال والمواجيد من المقامات والمشاهدات والتجليات من المطالب فلا جرم بقوا في قيد الوهم والخيال وصاروا محرومين من كمالات الشريعة * (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبى إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) * انتهى، ويعلم منه أن الكاملين في الشريعة يعبرون على ذلك ولا يلتفتون إليه ولا يعدونه مقصدا وجل مقصدهم تحصيل مقام الرضا، وعلى هذا يخرج بيت المنثوي حيث يقول:
زان طرف كه عشق من افزوددرد * بو حنيفة شافعي درسي نكرد
وقد يحجب الكامل عن جميع ذلك ويلحق من هذه الحيثية بعوام الناس، ويعلم مما ذكر أن موسى عليه السلام أكمل من الخضر وأعلمية الخضر عليه السلام بعلم الحقيقة كانت بالنسبة إلى الحالة الحاضرة فإن موسى عليه السلام عبر على ذلك ولم يقف عنده لأنه في مقام التشريع، ولعل طلبه التعليم كان بالأمر ابتلاء له بسبب تلك الفلتة، وقد ذكروا أن الكامل كلما كان صعوده أعلا كان هبوطه أنزل وكلما كان هبوطه أنزل كان في الإرشاد أكمل في الإفاضة أتم لمزيد المناسبة حينئذ بين المرشد والمسترشد، ولهذا قالوا فيما يحكى: إن الحسن البصري وقف على شط نهر ينتظر سفينة فجاء حبيب العجمي فقال له: ما تنتظر؟ فقال: سفينة فقال: أي حاجة إلى السفينة أمالك يقين؟ فقال الحسن: أمالك علم؟ ثم عبر حبيب على الماء بلا سفينة ووقف الحسن أن الفضل للحسن فإنه كان جامعا بين علم اليقين وعين اليقين وعرف الأشياء كما هي وفي نفس الأمر جعلت القدرة مستورة خلف الحكمة والحكمة في الأسباب وحبيب صاحب سكر لم ير الأسباب فعومل برفعها، ومن هنا يظهر سر قلة الخوارق في الصحابة مع قول الإمام الربناي: إن نهاية أويس سيد التابعين بداية وحشى قاتل حمزة يوم أسلم فما الظن بغير أويس مع غير وحشي، وأنا أقول: إن الكامل وإن كان من علمت إلا أن فوقه الأكمل وهو من لم يزل صاعدا في تزوله ونازلا في صعوده وليس ذلك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولولا ذلك ما أمد العالم العلوي والسفلي، وهذا مرجع الحقيقة والشريعة له عليه الصلاة والسلام على الوجه الأتم كما أشرنا إليه سابقا والحمد لله تعالى على أن جعلنا من أمته وذريته، ولا يعكر على ما ذكرنا ما قاله الإمام الغزالي في الإحياء وهو أن علم الآخرة قسمان علم مكاشفة وعلم معاملة أما علم المكاشفة فهو علم الباطن وهو غاية العلوم وهو علم الصديقين والمقربين وهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من الصفات المذمومة وينكشف بذلك ما كان يسمع من قبل أسمائها ويتوهم لها معان مجملة غير متضحة فتتضح
20

إذ ذاك حتى تحصل المعرفة بذات الله تعالى وبصفاته التامات وبأفعاله وبحكمته في خلق الدنيا والآخرة انتهى.
لأن المراد أن ذلك من علم الباطن الذي هو علم الحقيقة وهذا البعض لا يمكن أن يخلو منه نبي كيف ورتبة الديقين دون رتبة الأنبياء عليهم السلام كما قرروه في آية * (أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) * ومما ذكرنا من عدم المخالفة بين الشريعة والحقيقة يعلم ما في كلام البلقيني في دفع ما استشكله من قول الخضر لموسى عليهما السلام: " إني على علم " الحديث السابق حيث زعم أنه يدل بظاهره على امتناع تعليم العلمين معا مع أنه لا يمتنع. وأجاب بأن علم الكشوف والحقائق ينافي علم الظاهر فلا ينبغي للعالم الحاكم بالظاهر أن يعلم الحقائق للتنافي وكذا لا ينبغي للعالم بالحقيقة أن يعلم العلم الظاهر الذي ليس مكلفا به وينافي ما عنده من الحقيقة، ولعمري لقد أخطأ فيما قال وبالحق تعرف الرجال وكأنه لم يعتمد عليه فأردفه بجواب آخر هو خلاف الظاهر.
وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى شيء من ذلك والاستشكال من ضعف النظر، ثم إن قصة الخضر عليه السلام لا تصلح حجة لمن يزعم المخالفة بين العلمين فإن أعظم ما يشكل فيها قتل الغلام لكونه طبع كافرا وخشي من بقائه حيا ارتداد أبويه وذلك أيضا شريعة لكنه مخصوصة به عليه السلام لأنه كما قال العلامة السبكي: أوحى إليه أن يعمل بالباطن وخلاف الظاهر الموافق للحكمة فلا إشكال فيه وإن علم من شريعتنا أنه لا يجوز لأحد كائنا من كان قتل صغير لا سيما بين أبوين مؤمنين وكيف يجوز قتله بسبب لم يحصل والمولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي واتفاق الشرائع في الأحكام مما لم يذهب إليه أحد من الأنام فضلا عن العلماء الأعلام وهذا ظاهر على القول بنبوته، وأما على القول بولايته فيقال: إن عمل الولي بالالهام كان إذ ذاك شرعا أو كما قيل إنه أمر بذلك على يد نبي غير موسى عليه السلام، وإما إقامة الجدار بلا أجر فلا إشكال فيها لأنها إحسان وغاية ما يتخيل أنه للمسيء فليكن كذلك ولا ضير فإنه من مكارم الأخلاق، وأما خرق السفينة لتسلم من غصب الظالم فقد قالوا: إنه مما لا بأس به حتى قال العز بن عبد السلام. إنه إذا كان تحت يد الإنسان مال يتيم أو سفيه أو مجنون وخاف عليه أن يأخذه ظالم يجب عليه تعييبه لأجل حفظه وكان القول قول من عيب مال اليتيم ونحوه إذا نازعه اليتيم ونحوه بعد الرشد ونحوه في أنه فعله لحفظه على الأوجه كما قاله القاضي زكريا في شرح الروض قبيل باب الوديعة.
ونظير ذلك ما لو كان تحت يده مال يتيم مثلا وعلم أنه لو لم يبذل منه شيئا لقاض سوء لا نتزعه منه وسلم لبعض الخونة وأدى ذلك إلى ذهابه فإنه يجب عليه أن يدفع إليه
شيئا ويتحرى في أقل ما يمكن ارضاؤه به ويكون القول قوله أيضا، وقال بعضهم: قصارى ما تدل عليه القصة ثبوت العلم الباطن وهو مسلم لكن إطلاق الباطن عليه إضافي كما تقدم، وكان في قوله صلى الله عليه وسلم: " إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا العلماء بالله تعالى فإذا قالوه لا ينكره إلا أهل الغرة بالله تعالى " إشارة إلى ذلك، والمراد بأهل الغرة علماء الظاهر الذين لم يؤتوا ذلك، وبعض مثبتيه يستدلون بقول أبي هريرة: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين من العلم فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم، واستدل به أيضا على المخالفة بين العلمين.
وأنت تعلم أنه يحتمل أن يكون أراد بالآخر الذي لو بثه لقتل علم الفتن وما وقع من بني أمية وذم النبي صلى الله عليه وسلم لاناس معينين منهم ولا شك أن بث ذلك في تلك الأعصار يجر إلى القتل، وعلى تسليم أنه أراد به العلم الباطن المسمى بعلم الحقيقة لا نسلم أن قطع البلعوم منه على بثه لمخالفته للعلم الظاهر في نفس الأمر بل لتوهم
21

من بيده الحل والعقد والأمر والنهي من أمراء ذلك الزمان المخالفة فافهم، واستدل العلماء بما في القصة حسبما ذكره شراح الحديث وغيرهم على استحباب الرحلة للعلم وفضل طلبه واستحباب استعمال الأدب مع العالم واحترام المشايخ وترك الاعتراض عليهم وتأويل ما لا يفهم ظاهره من أفعالهم وحركاتهم وأقوالهم والوفاء بعهودهم والاعتذار عند مخالفتهم وعلى جواز اتخاذ الخادم في السفر وحمل الزاد فيه وإنه لا ينافي التوكل ونسبة النسيان ونحوه من الأمور المكروهة إلى الشيطان مجازا وتأدبا عن نسبتها إلى الله تعالى واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه مما لا يحتمله طبعه وتقديم المشيئة في الأمر واشتراط المتبوع على التابع وعلى أن النسيان غير مؤاخذ به وإن للثلاث اعتبارا في التكرار ونحوه وعلى جواز ركوب السفينة وفيه الحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه لإنكار موسى عليه السلام وعلى جواز أن يطلب الإنسان الطعام عند احتياجه إليه وعلى أن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام وجواز أخذ الأجر على الأعمال وإن المسكين لا يخرج عن المسكنة بملك آلة يكتسب بها أو بشيء لا يكفيه وإن الغصب حرام وانه يجوز دفن المال في الأرض وفيه إثبات كرامات الأولياء على قول من يقول: الخضر ولي إلى غير ذلك مما يظهر للمتتبع أو للمتأمل، وبالجملة قد تضمنت هذه القصة فوائد كثيرة ومطالب عالية خطيرة فامعن النظر في ذاك والله سبحانه يتولى هداك.
ومن باب الإشارة في الآيات: على ما ذكره بعض أهل الإشارة * (فوجدا عبدا من عبادنا) * فيه إشارة إلى أن الله تعالى خواص أضافهم سبحانه إليه وقطعهم عن غيره وأخص خواصه عز وجل من أضافه إلى الإسم الجليل وهو اسم الذات الجامع لجميع الصفات أو إلى ضمير الغيبة الراجع إليه تعالى وليس ذاك إلا حبيبه الأكرم صلى الله عليه وسلم * (أتيناه رحمة من عندنا) * وهي مرتبة القرب منه عز وجل * (وعلمناه من لدنا علما) * (الكهف: 65) وهو العلم الخاص الذي لا يعلم إلا من جهته تعالى، وقال ذو النون: العلم اللدني هو الذي يحكم على الخلق بمواقع التفويق والخذلان.
وقال الجنيد قدس سره: هو الاطلاع على الأسرار من غير ظن فيه ولا خلاف واقع لكنه مكاشفات الأنوار عن مكنون المغيبات ويحصل للعبد إذا حفظ جوارحه عن جميع المخالفات وأفني حركاته عن كل الإرادات وكان سبحا بين يدي الحق بلا تمني ولا مراد، وقيل: هو علم يعرف به الحق سبحانه أولياءه ما فيه صلاح عباده. وقال بعضهم: هو علم غيبي يتعلق بعالم الأفعال وأخص منه الوقوف على بعض سر القدر قبل وقوع واقعته وأخص من ذلك علم الأسماء والنعوت الخاصة وأخص منه علم الذات.
وذكر بعض العارفين أن من العلوم ما لا يعلمه إلا النبي، واستدل له بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج كما ذكره القسطلاني في مواهبه وغيره " وسألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني علوما شتى فعلم أخذ على كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيري وعلم خيرني فيه وعلمني القرآن فكان جبريل عليه السلام يذكرني به وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي " انتهى، والله تعالى علم استأثر به عز وجل لم يطلع عليه أحدا من خلقه * (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا) * (الكهف: 66) قاله عن ابتلاء إلهي كما قدمنا، وقال فارس كما في أسرار القرآن: إن موسى عليه السلام كان أعلم من الخضر فيما أخذ عن الله تعالى والخضر كان أعلم من موسى فيما وقع إلى موسى عليه السلام، وقال أيضا: إن موسى كان باقيا بالحق والخضر كان فانيا بالحق * (قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على
22

ما لم تحط به خبرا) * (الكهف: 67، 68) قيل: علم الخضر أن موسى عليه السلام أكرم الخلق على الله تعالى في زمانه وأنه ذو وحدة عظيمة ففزع من صحبته لئلا يقع منه معه ما لا يليق بشأنه.
وقال بعضهم: آيسة من نفسه لئلا يشغله صحبته عن صحبة الحق قال: * (ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا) * (الكهف: 69) قال بعضهم: لو قال كما قال الذبيح عليه السلام: * (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) * (الصافات: 102) لوفق للصبر كما وفق الذبيح، والفرق أن كلام الذبيح أظهر في الالتجاء وكسر النفس حيث علق بمشيئة الله تعالى وجد انه واحدا من جماعة متصفين بالصبر ولا كذلك كلام موسى عليه السلام * (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها) * سلكا طريق السؤال الذي يتعلق بذل النفس في الطريقة وهو لا ينافي التوكل وكذا الكسب * (قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا) * (الكهف: 77) كأنه عليه السلام أراد دفع ما أحوجهما إلى السؤال من أولئك اللئام وفيه نظر إلى الأسباب وهو من أحوال الكاملين كما مر في حكاية الحسن البصري وحبيب، ففي هذا إشارة إلى أنه أكمل من الخضر عليهما السلام * (قال هذا فراق بيني وبينك) * (الكهف: 78) أي حسبما أردت، وقال النصرابادي: لما علم الخضر بلوغ موسى إلى منتهى التأديب وقصور علمه عن علمه قال ذلك لئلا يسأله موسى بعد عن علم أو حال فيفتضح.
وقيل: خاف أن يسأله عن أسرار العلوم الربانية الصفاتية الذاتية فيعجز عن جوابه فقال ما قال * (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين مخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا) * (الكهف: 80) قيل: كان حسن الوجه جدا وكان محبوبا في الغاية لوالديه فخشى فتنتهما به، والآية من المشكل ظاهرا لأنه إن كان قد قدر الله تعالى علهما الكفر فلا
ينفعهما قتل الولد وإن لم يكن قدر سبحانه ذلك فلا يضرهما بقاؤه، وأجيب بأن المقدر بقاؤهما على الإيمان إن قتل وقتله ليبقيا على ذلك.
وقيل: إن المقدر قد يغير ولا يلزم من ذلك سوى التغير في تعلق صفتاه تعالى لا في الصفة نفسها ليلزم التغير فيه عز وجل، وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى: * (بمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) * (الرعد: 39).
واستشكل أيضا بأن المحذور يزول بتوفيقه للإيمان فما الحاجة إلى القتل، وأجيب بأن الظاهر أنه غير مستعد لذلك فهو مناف للحكمة وكأن الخضر عليه السلام رأى فيما قال نوع مناقشة فتخلص من ذلك بقوله: * (وما فعلته عن أمري) * أي بل فعلته بأمر الله عز وجل ولا يسأل سبحانه عما أمر وفعل ولعل قوله لموسى عليه السلام ما قال حين نقر العصفور في البحر سد لباب المناقشة فيما أمر الله تعالى شأنه، ولعل علم مثل هذه المسائل من العلم الذي استأثر الله سبحانه به * (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) * (البقرة: 552) وأول بعضهم مجمع البحرين بمجمع ولاية الشيخ وولاية المريد والصخرة بالنفس والحوت بالقلب المملح بملح حب الدنيا وزينتها والسفينة بالشريعة وخرقها بهدم الناموس في الظاهر مع الصلاح في الباطن وإغراق أهلها بإيقاعهم في بحار الضلال والغلام بالنفس الأمارة وقتله بذبحه بسيف الرياضة والقرية بالجسد وأهلها بالقوى الإنسانية من الحواس واستطعامهم بطلب أفاعيلها التي تختص بها وإباء الضيافة بمنعها إعطاء خواصها كما ينبغي لكلالها وضعفها والجدار بالتعلق الحائل بين النفس الناطقة وعالم المجردات وإرادة الانقضاض بمشارفة قطع العلائق وإقامته بتقوية البدن والرفق بالقوى والحواس ومشيئة اتخاذ الأجر بمشيئة الصبر على شدة الرياضة لنيل الكشوف وإفاضة الأنوار والمساكين بالعوام والبحر الذي يعملون فيه ببحر الدنيا والملك بالشيطان والسفن التي يعضبها العبادات الخالية عن الإنكسار والذل والخشوع والأبوين المؤمنين بالقلب والروح والبدل الخير بالنفس المطمئنة والملهمة والكنز
23

بالكمالات النظرية والعلمية والأب الصالح بالعقل المفارق الذي كمالاته بالفعل وبلوع الأشد بوصولهما بتربية الشيخ وإرشاده إلى المرتبة الكاملة وهذا ما اختاره النيسابوري، واختار غيره تأويلا آخر هو ادهى منه. هذا والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
* (ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا) *
* (ويسألونك عن ذي القرنين) * كان السؤال على وجه الامتحان والسائلون في المشهور قريش بتلقين اليهود، وقيل: اليهود أنفسهم وروى ذلك عن السدي، وأكثر الآثار تدل على أن الآية نزلت بعد سؤالهم فالتغبير بصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة الماضية لما أن في سؤالهم على ذلك الوجه مع مشاهدتهم من أمره صلى الله عليه وسلم ما شاهدوا نوع غرابة، وقيل: للدلالة على استمرارهم على السؤال إلى ورود الجواب، وبعض الآثار يدل على أن الآية نزلت قبل، فعن عقبة بن عامر قال: إن نفرا من أهل الكتاب جاؤوا بالصحف أو الكتب فقالوا لي: استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لندخل عليه فانصرفت إليه عليه الصلاة والسلام فاختبرته بمكانهم فقال صلى الله عليه وسلم: ما لي ولهم يسألونني عما لا أعلم إنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علمني ربي ثم قال: ائتني بوضوء أتوضأ به فاتيته فتوضأ ثم قام إلى مسجد في بيته فركع ركعتين فانصرف حتى بدا السرور في وجهه ثم قال: اذهب فادخلهم ومن وجدت بالباب من أصحابي فادخلتهم فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن شئتم اخبرتكم بما سألتموني عنه وإن شئتم غير ذلك فافعلوا، والجمهور على الأول ولم تثبت صحة هذا الخبر.
واختلف في ذي القرنين فقيل: هو ملك أهبطه الله تعالى إلى الأرض وآتاه من كل شيء سببا وروي ذلك عن جبير بن نفير، واستدل على ذلك بما أخرجه ابن عبد الحكم. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن الأنباري في كتاب الأضداد. وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا ينادي بمنى ياذا القرنين فقال له همر: ها أنتم قد سميتم بأسماء الأنبياء فما لكم وأسماء الملائكة، وهذا قول غريب بل لا يكاد يصح، والخبر على فرض صحته ليس نصا في ذلك إذ يحتمل ولو على بعد أن يكون المراد أن هذا الاسم من أسماء الملائكة عليهم السلام فلا تسموا به أنتم وأن تسمى به بعض من قبلكم من الناس.
وقيل: هو عبد صالح ملكه الله تعالى الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة ولا نعرف من هو وذكر في تسميته بذي القرنين وجوه، الأول أنه دعا إلى طاعة الله تعالى فضرب على قرنه الأيمن فمات ثم بعثه الله تعالى فدعا فضرب على قرنه الأيسر فمات ثم بعثه الله تعالى فسمي ذا القرنين وملك ما ملك وروي هذا عن علي كرم الله تعالى وجهه، والثاني أنه انقرض في وقته قرنان من الناس، الثالث أنه كانت صفحتا رأسه من نحاس وروي ذلك عن وهب بن منبه، الرابع أنه كان في رأسه قرنان كالظلفين وهو أول من لبس العمامة ليسترهما وروي ذلك عن عبيد بن يعلى، الخامس أنه كان لتاجه قرنان، السادس أنه طاف قرنى الدنيا أي شرقها وغربها وروي ذلك مرفوعا، السابع أنه كان له غديرتان وروي ذلك عن قتادة. ويونس بن عبيد، الثامن أنه سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النرو من أمامه وتمتد الظلمة من ورائه، التاسع أنه دخل النور والظلمة، العاشر أنه رأى في منامه كأنه صعد إلى الشمس وأخذ بقرنيها.
الحادي عشر أنه يجوز أن يكون قد لقب بذلك لشجاعته كأنه ينطح أقرانه كما لقب أزدشير بعمن بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد، ولا يخفي أنه يبعد عدم معرفة رجل مكن له ما مكن في الأرض وبلغ من الشهرة ما بلغ في طولها والعرض، وأما الوجوع المذكورة في وجه تسميته ففيها ما لا يكاد يصح ولعله غير خفي عليك
24

وقيل: هو فريدون بن اثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية وكان ملكا عادلا مطيعا لله تعالى.
وفي كتاب صور الأقاليم لأبي زيد البلخي أنه كان مؤيدا بالوحي. وفي عامة التواريخ أنه ملك الأرض وقسمها بين بنيه الثلاثة ايرج. وسلم. وتور فأعطى ايرج العراق. والهند. والحجاز. وجعله صاحب التاج، وأعطى سلم الروم وديار مصر والمغرب، وأعطى تور الصين والترك والمشرق، ووضع لكل قانونا تحكم به وسميت القوانين الثلاثة سياسة فهي معربة سي ايسا أي ثلاثة قوانين، ووجه تسميته ذا القرنين أنه ملك طرفي الدنيا أو طول أيام سلطنته فإنها كانت على ما في روضة الصفا خمسمائة سنة أو عظم شجاعته وقهره الملوك. ورد بأنه قد أجمع أهل التاريخ على أنه لم يسافر لا شرقا ولا غربا وإنما دوخ له البلاد كاوه الأصفهاني الحداد الذي مزق
الله تعالى على يده ملك الضحاك وبقي رئيس العساكر إلى أن مات، ويلزم على هذا القول أيضا أن يكون الخضر عليه السلام على مقدمته بناء على ما اشتهر أنه عليه السلام كان على مقدمة ذي القرنين ولم يذكر ذلك أحد من المؤرخين. وأجيب بأن من يقول: إنه الإسكندر يثبت جميع ما ثبت للإسكندر في الآيات والأخبار ولا يبالي بعدم ذكر المؤرخين لذلك وهو كما ترى، وقيل: هو اسكندر اليوناني ابن فيلقوس، وقيل: قلفيص، وقيل: قليص.
وقال ابن كثير: هو ابن فيليس. بن مصريم. بن هرمس. بن مطيون. بن رومي. بن ليطي. بن يونان. بن يافث. بن نونه. بن شرخون. بن تونط. بن يوفيل. بن رومي. بن الأصغر. بن العزير. بن إسحاق. بن إبراهيم الخليل عليه السلام وكان سرير ملكه مقدونيا وهي بلدة من بلاد الروم غربي دار السلطنة السنية قسطنطينية المحمية بينهما من المسافة قدر خمسة عشر يوما أو نحو ذلك عند مدينة شيروز، وقول ابن زيدون: إنها مصروهم، وهو الذي غلب دارا الأصغر واستولى على ملك الفرس وكان مولده في السنة الثالثة عشر من ملك دارا الأكبر. وزعم بعضهم أنه أبوه وذلك أنه تزوج بنت فيلقوس فلما قربها وجد منها رائحة منكرة فأرسلها إلى أبيها وقد حملت بالإسكندر فلما وضعته بقي في كفالة أبيها فنسب إليه، وقيل: إن دارا الأكبر تزوج بنت ملك الزنج هلابي فاستخبث ريحها فأمر أن يحتال لذلك فكانت تغتسل بماء السند روس فأذهب كثيرا من ذفرها ثم عافها وردها إلى أهلها فولدت الإسكندر وكان يسمى الإسكندروس. ويدل على أنه ولده أنه لما أدرك دارا الأصغر بن دارا الأكبر وبه رمق وضع رأسه في حجره وقال له: يا أخي أخبرني عمن فعل هذا بك لأنتقم منه وهو زعم باطل. وقوله: يا أخي من باب الإكرام ومخاطبة الأمثال. وإنما سمي ذا القرنين لملكه طرفي الأرض أو لشجاعته. واستدل لهذا القول بأن القرآن دل على أن الرجل بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وأقصى المشرق وجهة الشمال وذلك تمام المعمول من الأرض ومثل هذا الملك يجب أن يبقى ذكره مخلدا. والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا هذا الإسكندر. وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم والمغرب وقهرهم وانتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العراقيون والقبط والبربر واستولى على دارا وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات بها، وقيل: مات برومية المدائن ووضعوه في تابوت من ذهب وحملوه إلى الإسكندرية وعاش اثنين وثلاثين سنة ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة. وقيل:
25

عاش ستا وثلاثين ومدة ملكه ست عشرة سنة، وقيل: غير ذلك، فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك أكثر المعمورة وثبت بالتواريخ أن الذي هذا شأنه هو الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر كذا ذكره الإمام ثم قال: وهذا القول هو الأظهر للدليل المذكور إلا أن فيه إشكالا قويا وهو أنه كان تلميذ أرسطو الحكيم المقيم بمدينة أنينة أسلمه إليه أبوه فأقام عنده خمس سنين وتعلم منه الفلسفة وبرع فيها وكان على مذهبه فتعظيم الله تعالى إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطو حق وذلك مما لا سبيل إليه. وأجيب بأنا لا نسلم أنه كان على مذهبه في جميع ما ذهب إليه والتلمذة على شخص لا توجب الموافقة في جميع مقالات ذلك الشخص ألا ترى كثرة مخالفة الإمامين لشيخهما الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيحتمل أن يكون مخالفا له فيما يوجب الكفر، وفي ذبحه في مذبح بيت المقدس دليل على أنه لم يكن يرى جميع ما يراه الحكماء، ولا يخفى أنه احتمال بعيد، والمشهور أنه كان قائلا بما يقوله الحكماء والذبح المذكور غير متحقق والاستدلال به ضعيف، وقيل: إن قوله بذلك وتمذهبه بمذهب أرسطو لا يوجب كفره إذ ذاك فإنه كان مقرا بالصانع تعالى شأنه معظما له غير عابد سواه من صنم أو غيره كما يدل عليه ما نقله الشهرستاني أن الحكماء تشاوروا في أن يسجدوا له إجلالا وتعظيما فقال: لا يجوز السجود لغير بادىء الكل ولم يكن مبعوثا إليه رسول فإنه كان قبل مبعث عيسى عليه السلام بنحو ثلثمائة سنة وكان الأنبياء عليهم السلام إذ ذاك من بني إسرائيل ومبعوثين إليهم ولم يكن هو منهم فكان حكمه حكم أهل الفترة. وتعقب بأنه على تسليم ذلك لا يحسم مادة الإشكال لأن الله تعالى لا يكاد يعظم من حكمه حكم أهل الفترة مثل هذا التعظيم الذي دلت عليه الآيات والأخبار، وأيضا الثالث في التواريخ أن الإسكندر المذكور كان أرسطو بمنزلة الوزير عنده وكان يستشيره في المهمات ويعمل برأيه ولم يذكر فيها أنه اجتمع مع الخضر عليه السلام فضلا عن اتخاذه إياه وزيرا كما هو المشهور في ذي القرنين.
واعترض أيضا بأن اسكندر المذكور لم يتحقق له سفر نحو المغرب في كتب التواريخ المعتبرة وقد نبه على ذلك كاتب جلبي عليه الرحمة، وقيل: هو الإسكندر الرومي وهو متقدم على اليوناني بكثير ويقال له: ذو القرنين الأكبر، واسمه قيل: مرزبان بن مردبة من ولد يافث بن نوح عليه السلام وكان أسود، وقيل: اسمه عبد الله بن الضحاك، وقيل: مصعب بن عبد الله بن قينان بن منصور بن عبد الله بن الأزد بن عون بن زيد بن كهلان بن سبا بن يعرب بن قحطان، وجعل بعضهم هذا الخلاف في اسم ذي القرنين اليوناني بعد أن نقل القول بأن اسمه الإسكندر بن فيلقوس، وذكر في اسم الرومي ونسبه ما نقل اسبقا عن ابن كثير.
وذهب بعض المحققين إلى أن الإسكندر اليوناني والإسكندر الرومي كلاهما يطلقان على غالب دارا الأصغر والتاريخ المشهور بالتاريخ الرومي ويسمى أيضا السرياني والعجمي ينسب إليه في المشهور وأوله شروق يوم الاثنين من أول سنة من سني ولايته عند ابن البناء ومن أول السنة السابعة وهي سنة خروجه لتملك البلاد كما في زيج الصوفي أو من أول السنة التي مات فيها كما في المبادىء والغايات، وبعض المحققين ينسبه إلى سولونس بن الطبوخوس الذي أمر ببناء انطاكية وهو الذي صححه ابن أبي الشكر، وتوقف بعضهم كالغ بك عن نسبته إلى أحدهما لتعارض الأدلة، ونفى بعضهم أن يكون في الزمن المتقدم بين الملوك اسكندران.
26

وزعم أنه ليس هناك إلا الإسكندر الذي غلب دارا واستولى على ملك فارس وقال: إن ذا القرنين المذكور في القرآن العظيم يحتمل أن يكون هو ويحتمل أن يكون غيره، والذي عليه الكثير أن المسمى بالإسكندر بين الملوك السالفة اثنان بينهما نحو ألفي سنة وأن أولهما هو المراد بذي القرنين ويسميه بعضهم الرومي وبعضهم اليوناني وهو الذي عمر دهرا طويلا فقيل: عمر ألفا وستمائة سنة، وقيل: ألفي سنة، وقيل: ثلاثة آلاف سنة ولا يصح في ذلك شيء، وذكر أبو الريحان البيروتي المنجم في كتابه المسمى بالآثار الباقية عن القرون الخالية أن ذا القرنين هو أبو كرب سمي بن عمير بن أفريقيس الحميري وهو الذي افتخر به تبع اليماني حيث قال: قد كان ذو القرنين
جدي مسلما * ملكا علا في الأرض غير مفند
بلغ المغارب والمشارق يبتغي * أسباب ملك من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها * في عين ذي خلب وثأط حرمد
ثم قال: ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأدواء كانوا من اليمن كذي المنار وذي نواس وذي رعين وذي يزن وذي جدن، واختار هذا القول كاتب جلبي وذكر أنه كان في عصر إبراهيم عليه السلام وأنه اجتمع معه في مكة المكرمة وتعانقا وأن شهرة بلوغ ملك الإسكندر اليوناني تلميذ أرسطو الغاية القصوى في كتب التواريخ كما ذكر الإمام دون هذا إنما هي لقرب زمان اليوناني بالنسبة إليه فإن بينهما نحو ألفي سنة وتواريخ هاتيك الأعصار قد أصابها إعصار ولم يبق ما يعول عليه ويرجع في حل المشكلات إليه، وربما يقال: إن عدم شهرة من ذكر تقوى كونه المسؤول عنه إذ غرض اليهود من السؤال الامتحان وذلك إنما يحسن فيما خفي أمره ولم يشهر إذ الشهرة لا سيما إذا كانت تامة مظنة العلم وإلى كون ذي القرنين في زمان إبراهيم عليه السلام ذهب غير واحد، وقد ذكر الأزرقي أنه أسلم على يده عليه السلام وطاف معه بالكعبة وكان ثالثهما إسماعيل عليه السلام، وروي أنه حج ماشيا فلما سمع إبراهيم عليه السلام بقدومه تلقاه ودعا له وأوصاه بوصايا، وقيل: أتى بفرس ليركب فقال: لا أركب في بلد فيه الخليل فعند ذلك سخر له السحاب ومد له في الأسباب وبشره إبراهيم عليه السلام بذلك فكانت السحابة تحمله وعساكره وجميع آلهتهم إذا أرادوا غزو قوم وهؤلاء لم يصرحوا بأن ذا القرنين هذا هو الحميري الذي ذكر لكن مقتضى كلام كاتب جلبي إنه هو.
وذكر أنه يمكن أن يكون اسكندر لقبا لمن ذكر معربا عن الكسندر ومعناه في اللغة اليونانية آدمي جيد، وربما يقال: إن من قال: اسم الإسكندر مصعب بن عبد الله بن قينان بن منصور إلى آخر النسب السابق المنتهى إلى قحطان عنى هذا الرجل الحميري لا الرومي ولا اليوناني لكن وهم الناقل لأنه لم يقل أحد بأن الروم من أبناء قحطان وكذا اليونان، نعم ذكر يعقوب بن إسحاق الكندي أن يونان أخو قحطان. ورد عليه أبو العباس الناشىء في قصيدته حيث قال: أبا يوسف إني نظرت فلم أجد * على الفحص رأيا صح منك ولا عقدا
وصرت حكيما عند قوم إذا امرؤ * بلاهم جميعا لم يجد عندهم عهدا
أتقرن الحادا بدين محمد * لقد جئت شيئا يا أخا كندة إذا
وتخلط يونانا بقحطان ضلة * لعمري لقد باعدت بينهما جدا
27

والمذكور في كتب التواريخ أن ملوك اليمن إلى أن غلبت الحبشة عليها من أبناء قحطان. وأورد على هذا القول في ذي القرنين أنه لم يوجد في كتب التواريخ المعتبرة سمي ابن عمير بن افريقيس في عداد ملوك اليمن والمذكور إنما هو شمر بصيغة فعل الماضي من التشمير بن افريقيس ولم يذكروا بينه وبين افريقيس عميرا وقد ذكر بعضهم فيه أنه ذو القرنين وقالوا: إنه يقال له شمرير عش لارتعاش كان فيه فلعل سمي محرف عن شمر وابن عمير محرف من يرعش، وقد ذكروا في أبيه افريقيس أنه غزا نحو المغرب في أرض البربر حتى أتى طنجة ونقل البربر من أرض فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم اليوم وأنه هو الذي بنى أفريقية وبه سميت وكان ملكه مائة وأربعا وستين سنة، وفيه أنه خرج نحو العراق وتوجه نحو الصين وأنه قلع المدينة التي تسمى اليوم سمرقند وقالوا: إنها معرب شمركند وإلى ذلك يشير دعبل الخزاعي بقوله يفتخر بملوك اليمن: هموا كتبوا الكتاب بباب مرو * وباب الشاش كانوا الكاتبينا
وهم سموا بشمر سمرقندا * وهم غرسوا هناك النابتينا
وأنه إنما لقب بذي القرنين لذؤابتين كانتا له وكان ملكه على ما قال ابن قتيبة مائة وسبعا وثلاثين سنة وعلى ما قال المسعودي ثلاثا وخمسين سنة وعلى ما قال غيرهما سبعا وثمانين سنة، ثم إن هذا لم يكن بأبي كرب وإنما الكنى به على ما رأيناه في بعض التواريخ أسعد بن كليكرب ويقال له تبع الأوسط ويذكر أنه آمن بنبينا صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه وفي ذلك يقول: شهدت على أحمد أنه * رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره * لكنت وزيرا له وابن عم
وذكروا أنه كان شديد الوطأة كثير الغزو فلمه قومه فأغروا ابنه حسان على قتله فقتله، ولا يخفى أن كلا هذين الشخصين لا يصح أن يكون المراد بذي القرنين الذي ذكر أنه لقي إبراهيم عليه السلام أما الأول فلأنهم ذكروا أنه ملك بعد ياسر ينعم ابن عمرو وملك ياسر بعد بلقيس زوجة سليمان عليه السلام وكان عمها فكيف يتصور أن يكون هذا ذاك مع بعد زمان ما بين إبراهيم وسليمان عليهما السلام. وأما الثاني فلأنه بعد هذا بكثير مع أنه لم يطلق عليه أحد ذا القرنين ولا نسب إليه غزوا في مشارق الأرض ومغاربها ورأيت في بعض الكتب أن في زمن منو جهر بن ايرج بن افريدون بعث موسى عليه السلام وكان ملك اليمن في زمانه شمر أبا الملوك وكان في طاعته انتهى، وعليه أيضا لا يمكن أن يكون شمر هذا هوذا القرنين السابق وهو ظاهر وإذا أسقطت جميع هذه الأقوال عن الاعتبار بناء على ما قيل إن أخبار ملوك اليمن مضطربة لا يكاد يوقف على روايتين متفقتين فيها واعتبرت القول بأنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام ملك منهم هو ذو القرنين بناء على حسن الظن بقائل ذلك أشكل الأمر من وجه آخر وهو أن كتب التواريخ قاطبة ناطقة بأن فريدون كان في زمان إبراهيم عليه السلام وأنه قسم المعمورة بين بنيه الثلاثة حسبما تقدم فكيف يتسنى مع هذا القول بأن ذا القرنين رجل من ملوك اليمن كان في ذلك الزمان أيضا، ويجىء نحو هذا الإشكال إذا قلنا إن ذا القرنين هو أحد الإسكندرين اليوناني والرومي وقلنا بأنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام أيضا، والحاصل أن القول بأن فريدون كان في ذلك الزمان وكان مالكا المعمورة كما في عامة تواريخ الفرس يمنع القول بأن ذا القرنين في ذلك الزمان غيره بل القول بوجود أحد الثلاثة من فريدون وذي القرنين التبعي وأحد الإسكندرين
28

في ذلك الزمان وملكه المعمورة يمنع من القول بوجود غيره منهم في ذلك الزمان وملكه المعمورة أيضا، واستشكل كون ذي القرنين أيا كان من هؤلاء الثلاثة في زمان إبراهيم عليه السلام بأن نمرود كان في زمانه أيضا، وقد جاء ملك الدنيا مؤمنان وكافران أما المؤمنان فسليمان عليه السلام وذو القرنين وأما الكافران فنمرود وبختنصر ولا مخلص من ذلك على تقدير صحة الخبر إلا بأن يقال كان زمان إبراهيم عليه السلام ممتدا ووقع ملكهما الدنيا متعاقبا وهو كما ترى.
ورأيت في بعض الكتب القول بأن ذا القرنين ملك بعد نمرود وينحل به الإشكال. وقال بعضهم: الذي تقتضيه كتب التواريخ عدم صحة الخبر أو تأويله إذ ليس في شيء منها عموم ملك سليمان عليه السلام أو ملك نمرود أو بختنصر والظاهر عدم الصحة. واستشكل أيضا كونه في ذلك الزمان بأنه لم يذكر في التوراة كما يدعيه اليهود اليوم كافة ويبعد ذلك غاية البعد على تقدير وجوده فالظاهر من عدم ذكره عدم كونه موجودا. وأجيب بأنا لا نسلم عدم ذكره، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد إنك إنما تذكر إبراهيم. وموسى. وعيسى والنبيين لأنك سمعت ذكرهم منا فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله تعالى في التوراة إلا في مكان واحد قال: ومن هو؟ قالوا: ذو القرنين الخبر بل الظاهر من سؤالهم أن له ذكرا في كتابهم وإنكارهم اليوم ذلك لا يلتفت إليه على أن ما ذكر في الاستشكال مجرد استبعاد ولا يخفى أنه ليس مانعا قويا، هذا وبالجملة لا يكاد يسلم في أمر ذي القرنين شيء من الأقوال عن قيل وقال، وكأني بك بعد الاطلاع على الأقوال وما لها وما عليها تختار أنه الإسكندر بن فليقوس غالب دارا وتدعى أنه يقال له اليوناني كما يقال له الرومي وأنه كان مؤمنا بالله تعالى لم يرتكب مكفرا من عقد أو قول أو فعل وتقول إن تلمذته على أرسطو لا تمنع من ذلك: فموسى الذي رباه جبريل كافر * وموسى الذي رباه فرعون مرسل
وقد تتلمذ الأشعري على المعتزلة ورئيس المعتزلة على الحسن، وقد خالف أرسطو أفلاطون في أكثر المسائل وكان تلميذه، والقول بأن أرسطو كان بمنزلة الوزير عنده وكان يستشيره في المهمات ويعمل برأيه لا يدل على اتباعه له في سائر اعتقاداته فإن ذلك على تقدير ثبوته إنما هو في الأمور الملكية لا المسائل الاعتقادية على أن الملأ صدر الدين الشيرازي ذكر أن أرسطو كان حكيما عابدا موحدا قائلا بحدوث العالم ودثوره المشار إليه بقوله تعالى: * (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) * وما شاع عنه في أمر العالم توهم ناشىء من عدم فهم كلامه ومثله في ذلك سائر أساطين الحكماء ولا نسلم عدم سفره نحو المغرب ولا ثبوت أن الخضر كان وزير ذي القرنين، وإن اشتهر ليقدح عدم كونه وزيرا عنده في كونه ذا القرنين وقيل: إنه كان وزيرا عند ملك يقال له ذو القرنين أيضا لكنه غير هذا ووقع الاشتباه في ذلك، وقيل: يمكن أن يكون عليه السلام في جملة الحكماء الذين معه وكان كالوزير عنده لا يقدح في ذلك استشارة غيره في بعض الأمور وكان مشتهرا إذ ذاك بالحكمة دون النبوة. وفي الأعصار القديمة كانوا يسمون النبي حكيما ولعله كان مشتهرا أيضا باسم آخر وعدم تعرض المؤرخين لشيء من ذلك لا يدل على العدم، وقيل لا نسلم عدم التعرض بل قولهم إن الخضر كان وزير ذي القرنين قول بأنه كان وزير الإسكندر المذكور عند القائل بأنه ذو القرنين ولا يمنع من ذلك كون الخضر على الأصح نبيا والإسكندر ليس كذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا عن الجمهور لأن المراد من وزارته له تدبير أموره ونصرته ولا ضرر في نصرة نبي وتدبيره أمور ملك صالح غير نبي وهو واقع في بني إسرائيل؛ وإن لم تختر ما ذكر فإن اخترت أنه من ملوك اليمن أو اسكندر
29

آخر يلزمك إما القول بأنه لم يكن في زمن إبراهيم عليه السلام وإما القول بأنه كان في زمنه بعد نمرود أو معه إلا أنه تحت إمرته ولم يكن فريدون إذ ذاك ويلزمك طي الكشح عن كتب التواريخ كما يلزمك على أتم وجه لو اخترت أنه فريدون.
والأقرب عندي لإلزام أهل الملل والنحل الضالين الذين يشق عليهم نبذ كتب التواريخ وعدم الالتفات إلى ما فيها بالكلية مع كثرتها وانتشارها في مشارق الأرض ومغاربها وتباين أديان مؤلفيها واختلاف أعصارهم اختيار أنه الاسكندر بن فيلقوس غالب دارا: وما علي إذ ما قلت معتقدي * دع الجهول يظن الجهل عدوانا
واليهود قاطبة على هذا لكنهم لعنهم الله تعالى وقعوا في الإسكندر ونسبوه أقبح نسبة مع أنهم يذكرون أنه أمرمهم حين جاء إلى بيت المقدس وعظم أحبارهم والله تعالى أعلم، ثم إن السؤال ليس عن ذات ذي القرنين بل عن شأنه فكأنه قيل ويسألونك عن شأن ذي القرنين * (قل) * لهم في الجواب * (سأتلوا عليكم منه ذكرا) * الخطاب للسائلين والهاء لذي القرنين ومن تبعيضية، والمراد من أنبائه وقصصه، والجار والمجرور صفة ذكرا قدم عليه فصار حالا، والمراد بالتلاوة الذكر وعبر عنه بذلك لكونه حكاية عن جهة الله عز وجل أي سأذكر لكم نبأ مذكورا من أنبائه، ويجوز أن يكون الضمير له تعالى ومن ابتدائية ولا حذف والتلاوة على ظاهر أي سأتلو عليكم من جهته سبحانه وتعالى في شأنه ذكرا أي قرآنا، والسين للتأكيد والدلالة على التحقق المناسب لتقدم تأييده صلى الله عليه وسلم وتصديقه بإنجاز وعده أي لا أترك التلاوة البتة كما في قوله: سأشكر عمرا إن تراخت منيتي * أيادي لم تمنن وإن هي جلت
لا للدلالة على أن التلاوة ستقع فيما يستقبل كما قيل لأن هذه الآية ما نزلت بانفرادها قبل الوحي بتمام القصة بل موصولة بما بعدها ريثما سألوه عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى:
* (إنا مكنا له فى الارض وآتين‍اه من كل شىء سببا) *
* (إنا مكنا له في الأرض) * شروع في تلاوة الذكر المعهود حسبما هو الموعود، والتمكين ههنا الأقدار وتمهيد الأسباب يقال مكنه ومكن له كنصحته ونصحت له وشكرته وشكرت له؛ وفرق بينهما بأن معنى الأول جعله قادرا ومعنى الثاني جعل له قدرة وقوة ولتلازمهما في الوجود وتقاربهما في المعنى يستعمل كل منهما في محل الآخر وهكذا إذا كان التمكين مأخوذا من المكان بناء على توهم ميمه أصلية؛ والمعنى أنا جعلنا له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار، وقيل: تمكينه في الأرض من حيث أنه سخر له السحاب ومد له في الأسباب وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء وفي ذلك أثر ولا أراه يصح، وقيل: تمكينه بالنبوة وإجراء المعجزات، وروي القول بنبوته أبو الشيخ في العظمة عن أبي الورقاء عن علي كرم الله تعالى وجهه وإلى ذلك ذهب مقاتل
ووافقه الضحاك. ويعارضه ما أخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن الأنباري في المصاحف. وابن أبي عاصم في السنة. وابن مردويه من طريق أبي الفضل أن ابن الكواء سأل عليا كرم الله تعالى وجهه عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا؟ قال: لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا صالحا أحب الله تعالى فأحبه ونصح الله تعالى فنصحه، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابو زيد أنه قال: ذو القرنين بلغ السدين وكان نذيرا ولم أسمع بحق أنه كان نبيا، وإلى أنه ليس بنبي ذهب الجمهور وتوقف بعضهم لما أخرجه
30

عبد الرزاق. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن مردويه. والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري أتبع كان لعينا أم لا وما أدري أذو القرنين كان نبيا أم لا وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا " وأنت تعلم أن هذا النفي لم يكن ليستمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيمكن أن يكون درى عليه الصلاة والسلام فيما بعد أنه لم يكن نبيا كما يدل عليه ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه فإنه لم يكن يقول ذلك إلا عن سماع، ويشهد لذلك ما أخرجه ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال: سئل علي كرم الله تعالى وجهه عن ذي القرنين أنبي هو؟ فقال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول هو عبد ناصح الله تعالى فنصحه * (وءاتيناه من كل شيء) * أراده من مهمات ملكه ومقاصده المعلقة بسلطانه * (سببا) * أي طريقا يوصله إليه وهو كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة لا العلم فقط وإن وقع الاقتصار عليه في بعض الآثار، ومن بيانية والمبين سببا وفي الكلام مضاف مقدر أي من أسباب كل شيء، والمراد بذلك الأسباب العادية، والقول بأنه يلزم على التقدير المذكور أن يكون لكل شيء أسباب لا سبب وسببان ليس بشيء، وجوز أن يكون من تعليلية فلا تقدير واختاره بعضهم فتأمل، واستدل بعض من قال بنبوته بالآية على ذلك وليس بشيء كما لا يخفى.
* (فأتبع سببا) *
* (فأتبع) * بالقطع والفاء فصيحة والتقدير فأراد بلوغ المغرب فاتبع * (سببا) * يوصله إليه، ولعل قصد بلوغ المغرب ابتداء لأنه أقرب إليه؛ وقيل: لمراعاة الحركة الشمسية وليس ذلك لكون جهة المغرب أفضل من جهة المشرق كما زعمه بعض المغاربة فإنه كما قال الجلال السيوطي لأقطع بتفضيل إحدى الجهتين على الأخرى لتعارض الأدلة.
وقرأ نافع. وابن كثير * (فاتبع) * بهمزة الوصل وتشديد التاء وكذا فيما يأتي واستظهر بعضهم أنهما بمعنى ويتعديان لمفعول واحد، وقيل: إن أتبع بالقطع يتعدى لاثنين والتقدير هنا فاتبع سببا سببا آخر أو فاتبع أمره سببا كقوله تعالى: * (وأتبعناهم في هذا الدنيا لعنة) * (القصص: 42)، وقال أبو عبيد اتبع بالوصل في السير وأتبع بالقطع معناه اللحاق كقوله تعالى: * (فاتبعه شهاب ثاقب) * وقال يونس: * (اتبع) * بالقطع للمجد المسرع الحثيث الطلب واتبع بالوصل إنما يتضمن مجرد الانتقال والاقتفاء.
* (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا ياذا القرنين إمآ أن تعذب وإمآ أن تتخذ فيهم حسنا) *
* (حتى إذا بلغ مغرب الشمس) * أي منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته ووقف كما هو الظاهر على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له أوقيانوس وفيه الجزائر المسماة بالخالدات التي هب مبدأ الأطوال على أحد الأقوال * (وجدها) * أي الشمس * (تغرب في عين حمئة) * أي ذات حمأة وهي الطين الأسود من حمئت البئر تحمأ حمأ إذا كثرت حمأتها.
وقرأ عبد الله. وطلحة بن عبيد الله. وعمرو بن العاص. وابنه عبد الله. وابن عمر. ومعاوية. والحسن. وزيد بن علي. وابن عامر. وحمزة. والكسائي * (حامية) * بالياء أي حارة، وأنكر هذه القراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أول ما سمعها، فقد أخرج عبد الرزاق. وسعيد بن منصور. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاضر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية قرأ * (في عين حامية) * فقال له: ما نقرؤها إلا * (حمئة) * فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرأها؟ فقال: كما قرأتها فقلت: في بيتي نزل القرآن فأرسل إلى كعب فقال له: أين تجد الشمس تغرب في التوراة فقال كعب: سل أهل العزيمة فإنهم أعلم بها وأما أنا فإني لم أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين وأشار بيده إلى المغرب، قال ابن أبي حاضر: لو أني
31

عندكما أيدتك بكلام تزاد به بصيرة في * (حمئة) *، قال ابن عباس: وما هو؟ قلت: قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم واتباعه إياه قد كان ذو القرنين إلى آخر الأبيات الثلاثة السابقة ومحل الشاهد قوله:
فرأى مغيب الشمس عند غروبها * في عين ذي خلب وثأط حرمد
فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قال: ابن أبي حاضر الطين بكلامهم فقال: فما الثأط؟ قال: الحمأة فقال: فما الحرمد؟ قال: الأسود فدعا ابن عباس غلاما فقال: أكتب ما يقول هذا الرجل ولا يخفى أنه ليس بين القراءتين منافاة قطعية لجواز كون العين جامعة بين الوصفين بأن تكون ذات طين أسود وماؤها حار ولجواز كون القراءة بالياء أصلها من المهموز قلبت همزته ياء لإنكسار ما قبلها وإن كان ذلك إنما يطرد إذا كانت الهمزة ساكنة كذا قيل. وتعقب بأنه يأباه ما جرى بين ابن عباس. ومعاوية.
وأجيب بأنه إذا سلم صحته فمبناه السماع والتحكيم لترجيح إحدى القراءتين، وظاهر ما سمعت ترجيح قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكأن رجوع معاوية لقراءة ابن عباس على ما ذكره القرطبي كان لذلك. نعم ما أخرجه ابن أبي شيبة. وعبد بن حميد. وابن المنذر. وابن مردويه. والحاكم. وصححه عن أبي ذر قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حمار فرأى الشمس حين غربت فقال: أتدري حيث تغرب؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تغرب في عين حامية غير مهموزة يوافق قراءة معاوية ويدل على أن * (في عين) * متعلق بتغرب كما هو الظاهر، وقول بعض المتعسفين بأنه متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل *
(وجدها) * مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وكأن الذي دعاه إلى القول بذلك لزوم إشكال على الظاهر فإن جرم الشمس أكبر من جسم الأرض بأضعاف مضاعفة فكيف يمكن دخولها في عين ماء في الأرض، وهو مدفوع بأن المراد وجدها في نظر العين كذلك إذ لم ير هناك إلا الماء لا أنها كذلك حقيقة وهذا كما أن راكب البحر يراها كأنها تطلع من البحر وتغيب فيه إذا لم ير الشط والذي في أرض ملساء واسعة يراها أيضا كأنها تطلع من الأرض وتغيب فيها، ولا يرد على هذا أنه عبر بوجد والوجدان يدل على الوجود لما أن وجد يكون بمعنى رأى كما ذكره الراغب فليكن هنا بهذا المعنى، ثم المراد بالعين الحمئة إما عين في البحر أو البحر نفسه، وتسميته عينا مما لا بأس به خصوصا وهو بالنسبة لعظمة الله تعالى كقطرة وإن عظم عندنا.
وزعم بعض البغداديين أن * (في) * بمعنى عند أي تغرب عند عين، ومن الناس من زعم أن الآية على ظاهرها ولا يعجز الله تعالى شيء ونحن نقر بعظم قدرة الله عز وجل ولا نلتفت إلى هذا القول، ومثله ما نقله الطرطوشي من أنها يبلعها حوت بل هذا كلام لا يقبله إلا الصبيان ونحوهم فإنها قد تبقى طالعة في بعض الآفاق ستة أشهر وغاربة كذلك كما في أفق عرض تسعين وقد تغيب مقدار ساعة ويظهر نورها من قبل المشرق في بعض العروض كما في بلغار في بعض أيام السنة فالشمس على ما هو الحق لم تزل سائرة طالعة على قوم غاربة على آخرين بحسب آفاقهم بل قال إمام الحرمين: لا خلاف في ذلك، ويدل على ما ذكر ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال: الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها فإذا غربت جرت الليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من شرقها وكذلك القمر، وكذا ما أخرجه ابن عساكر عن الزهري أن خزيمة بن حكيم السلمي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سخونة الماء في الشتاء وبرده في الصيف فقال: إن الشمس إذا سقطت تحت الأرض سارت حتى تطلع من مكانها فإذا طال الليل كثر لبثها في الأرض فيسخن
32

الماء لذلك فإذا كان الصيف مرت مسرعة لا تلبث تحت الأرض لقص الليل فثبت الماء على حاله باردا، ولا يخفى أن هذا السير تحت الأرض تختلف فيه الشمس من حيث المسامتة بحسب الآفاق والأوقات فتسامت الأقدام تارة ولا تسامتها أخرى فما أخرجه أبو الشيخ عن الحسن قال: إذا غربت الشمس دارت في فلك السماء مما يلي دبر القبلة حتى ترجع إلى المشرق الذي تطلع منه وتجري منه في السماء من شرقها إلى غربها ثم ترجع إلى الأفق مما يلي دبر القبلة إلى شرقها كذلك هي مسخرة في فلكها وكذلك القمر لا يكاد يصح. ويشكل على ما ذكر ما أخرجه البخاري عن أبي ذر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال: يا أبا ذر أتذري أين تغرب الشمس؟ قلت الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى: * (والشمس تجري لمستقر لها) * (يس: 38).
وأجيب بأن المراد أنها تذهب تحت الأرض حتى تصل إلى غاية الانحطاط وهي عند وصولها دائرة نصف النهار في سمت القدم بالنسبة إلى أفق القوم الذين غربت عنهم وذلك الوصول أشبه شيء بالسجود بل لا مانع أن تسجد هناك سجودا حقيقيا لائقا بها فالمراد من تحت العرش مكانا مخصوصا مسامتا لبعض أجزاء العرش وإلا فهي في كل وقت تحت العرش وفي جوفه، وهذا مبني على أنه جسم كري محيط بسائر الأفلاك والفلكيات وبه تحدد الجهات وهذا قول الفلاسفة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة طه ما يتعلق بذلك، وعلى ما ذكر فالمراد بمستقرها محل انتهاء انحطاطها فهي تجري عند كل قوم لذلك المخل تم تشرع في الارتفاع، وقال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش إنها تستق تحته استقرارا لا نحيط به نحن وليس في سجودها كل ليلة تحت العرش ما يعيق عن دورانها في سيرها انتهى، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك في سورة يس، وبالجملة لا يلزم على هذا التأويل خروج الشمس عن فكلها الممثل بل ولا عن خارج المركز وإن اختلف قربها وبعدها من العرش بالنسبة إلى حركتها في ذلك الخارج.
نعم ورد في بعض الآثار ما يدل على خروجها عن حيزها، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشمس إذا غربت رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع ثم ينطلق بها ما بين السماء السابعة وبين أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة فتنحدر حيال المشرق من سماء إلى سماء فإذا وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الصبح فإذا وصلت إلى هذا الوجه من السماء فذلك حين تطلع الشمس وهو وإن لم تأباه قواعدنا من شمول قدرة الله تعالى سائر الممكنات وعدم امتناع الخرق والالتئام على الفلك مطلقا إلا أنه لا يتسنى مع تحقق غروبها عند قوم وطولعها عند آخرين وبقائها طالعة نحو ستة أشهر في بعض العروض إلى غير ذلك مما لا يخفى فلعل الخبر غير صحيح.
وقد نص الجلال السيوطي على أن أبا الشيخ رواه بسند واه ثم إن الظاهر على رواية البخاري ورواية ابن أبي شيبة ومن معه أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه سئل مرتين إلا أنه رد العلم في الثانية إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم طلبا لزيادة الفائدة ومبالغة في الأدب مع الرسول عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم.
* (ووجد عندها) * أي عند تلك العين على ساحل البحر * (قوما) * لباسهم على ما قيل: جلود السباع وطعامهم ما لفظه البحر، قال وهب بن منبه: هم قوم يقال لهم: ناسك لا يحصيهم كثرة إلا الله تعالى.
وقال أبو زيد السهيلي: هم قوم من نسل ثمود كانوا يسكنون جابرسا وهي مدينة عظيمة لها اثنا عشر بابا
33

ويقال لها بالسريانية: جرجيسا، وروى نحو ذلك عن ابن جريج، وزعم ابن السائب أنه كان فيهم مؤمنون وكافرون، والذي عليه الجمهور أنهم كانوا كفارا فخيره الله تعالى بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوهم إلى الايمان وذلك قوله تعالى: * (قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب) * بالفتل من أول الأمر * (وإمعا أن تتخذ فيهم حسنا) * أي أمرا ذا حسن على حذف المضاف أو على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة وذلك بالدعوة إلى الحق والإرشاد إلى ما فيه الفوز بالدرجات؛ ومحل إن مع صلته إما الرفع على الابتداء أو على الخبر وإما النصب على المفعولية أما تعذيبك واقع أو اما أمرك تعذيبك أو اما تفعل أو توقع تعذيبك وهكذا الحال في الاتخاذ، وقدم التعذيب لأنه
الذي يستحقونه في الحال لكفرهم، وفي التعبير - بإما أن تتخذ فيهم حسنا - دون إما أن تدعوهم مثلا إيماء إلى ترجيح الشق الثاني، واستدل بالآية من قال بنبوته، والقول عند بعضهم بواسطة ملك وعند آخرين كفاحا ومن لم يقل بنبوته قال: كان الخطاب بواسطة نبي في ذلك العصر أو كان ذلك إلهاما لا وحيا بعد أن كان ذلك التخيير موافقا لشريعة ذلك النبي. وتعقب هذا بأن مثل هذا التخييل المتضمن لإزهاق النفوس لا يجوز أن يكون بالإلهام دون الاعلام وإن وافق شريعة، ونقض ذلك بقصة إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه بالرؤية وهي دون الإلهام، وفيه أن رؤية الأنبياء عليهم السلام وإلهاماتهم وحي كما بين في محله، والكلام هنا على تقدير عدم النبوة وهو ظاهر.
وقال علي بن عيسى: المعنى قلنا يا محمد قالوا أي جنده الذين كانوا معه يا ذا القرنين فحذف القول اعتمادا على ظهور أنه ليس بنبي وهو من التكلف بمكان، وقريب منه دعوى أن القائل العلماء الذين معه قالوه عن اجتهاد ومشاورة له بذلك ونسبه الله تعالى إليه مجازا، والحق أن الآية ظاهرة الدلالة في نبوته ولعلها أظهر في ذلك من دلالة قوله تعالى: * (وما فعلته عن أمرى) * على نبوة الخضر عليه السلام، وكأن الداعي إلى صرفها عن الظاهر الأخبار الدالة على خلافها، ولعل الأول في تأويلها أن يقال: كان القول بواسطة نبي.
* (قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا) *
* (قال) * ذو القرنين لذلك النبي أو لمن عنده من خواصه بعد أن تلقى أمره تعلى مختارا للشق الأخير من شقي التخيير حسبما أرشد إليه * (أما من ظلم) * نفسه ولم يقبل دعوتي وأصر على ما كان عليه من الظلم العظيم الذي هو الشرك * (فسوف نعذبه) * بالقتل، والظاهر أنه كان بالسيف، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كان عذابه أن يجعلهم في بقر من صفر ثم يوقد تحتهم النار حتى يتقطعوا فيها وهو بعيد عن الصحة، وأتى بنون العظمة على عادة الملوك، وإسناد التعذيب إليه لأنه السبب الآمر، ودعوى صدور ذلك منه بالذات في غاية البعد، وقيل: أراد من الضمير الله تعالى ونفسه والإسناد باعتبار الخلق والكسب وهو أيضا بعيد مع ما فيه من تشريك الله تعالى مع غيره في الضمير وفيه من الخلاف ما علمت * (ثم يرد إلى ربه) * في الآخرة * (فيعذبه) * فيها * (عذابا نكرا) * أي منكرا فظيعا وهو العذاب في نار جهنم، ونصب * (عذابا) * على أنه مصدر يعذبه، وقيل: تنازع فيه هو ونعذبه والمراد بالعذاب النكر نظرا إلى الأول ما روى عن السدي وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى. وفي قولو: * (إلى ربه) * دون إليك دلالة على أن الخطاب السابق لم يكن بطريق الوحي إليه وإن مقاولته كانت مع النبي أو مع خواصه.
* (وأما من آمن وعمل ص‍الحا فله جزآء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا) *
* (وأما من ءامن) * بموجب دعوتي * (وعمل) * عملا * (صالحا) * حسبما يقتضيه الايمان * (فله) * في الدارين * (جزاء الحسنى) * أي فله المثوبة الحسنى أو الفعلة الحسنى أو
34

الجنة جزاء على أن جزاء مصدر مؤكد لمضمون الجملة قدم على المبتدا اعتناء به أو منصوب بمضمر أي يجزى بها جزاء، والجملة حالية أو معترضة بين المبتدا والخبر المتقدم عليه أو هو حال أي مجزيا بها. وتعقب ذلك أبو الحسن بأنه لا تكاد العرب تتكلم بالحال مقدما إلا في الشعر، وقال الفراء: هو نصب على التمييز.
وقرأ ابن عباس. ومسروق * (جزاء) * منصوبا غير منون، وخرج ذلك المهدوي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، وخرجه غيره على أنه حذف للإضافة والمبتدأ محذوف لدلالة المعنى عليه أي فله الجزاء جزاء الحسنى.
وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق بالرفع والتنوين على أنه للمبتدا و * (الحسنى) * بدله الخبر الجار والمجرور.
وقرأ غير واحد من السبعة بالرفع بلا تنوين، وخرج على أنه مبتدأ مضاف قال أبو علي: والمراد على الإضافة جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها أو المراد بالحسنى الجنة والإضافة كما في دار الآخرة.
* (وسنقول له من أمرنا) * أي مما نأمر به * (يسرا به) * * (يسرا) * أي سهلا ميسرا غير شاق، وتقديره ذا يسر وأطلق عليه المصر مبالغة، وقرأ أبو جعفر * (يسرا) * بضمتين حيث وقع هذا، وقال الطبري: المراد من اتخاذ الحسن الأسر فيكون قد خير بين القتل والأسر، والمعنى إما أن تعذب بالقتل وإما أن تحسن إليهم بإبقاء الروح والأسر، وما حكى من الجواب على هذا الوجه قيل من الأسلوب الحكيم لأن الظاهر أنه تعالى خيره في قتلهم وأسرهم وهم كفار فقال أما الكافر فيراعى فيه قوة الإسلام وأما المؤمن فلا يتعرض له إلا بما يجب.
وفي " الكشف " أنه روعي فيه على الوجهين نكتة بتقديم ما من الله تعالى في جانب الرحمة دلالة على أن ما منه تابع وتتميم وما منه في جانب العذاب رعاية لترتيب الوجود مع الترقي ليكون أغيظ، وكأنه حمل * (فله) * الخ على معنى فله من الله تعالى الخ وهو الظاهر، وجوز حمل * (إما أن تعذب وإما أن تتخذ) * على التوزيع دون التخيير، والمعنى على ما قيل: ليكن شأنك معهم إما التعذيب وإما الإحسان فالأول لمن بقي على حاله والثاني لمن تاب فتأمل.
* (ثم أتبع سببا) *
* (ثم أتبع سببا) * أي طريقا راجعا من مغرب الشمس موصلا إلى مشرقها * (حتى إذا بلغ مطلع الشمس) * يعني الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولا من معمورة الأرض أي غاية الأرض المعمورة من جهة المشرق.
وقرأ الحسن. وعيسى. وابن محيصن * (مطلع) * بفتح اللام ورويت عن ابن كثير وأهل مكة وهو عند المحققين مصدر ميمي والكلام على تقدير مضاف أي مكان طلوع الشمس والمراد مكانا تطلع عليه، وقال الجوهري إنه مكان كمكسور اللام فالقراءتان متفقتان من غير تقدير مضاف، وقد صرح بعض أئمة التصريف أن المطلع
جاء في المكان والزمان فتحا وكسرا، وما آثره المحققون مبني على أنه لم يرد في كلام الفصحاء بالفتح إلا مصدرا ولا حاجة إلى تخريج القرآن على الشاذ لأنه قد يخل بالفصاحة، وقال أبو حيان: إن الكسر سماع في أحرف معدودة وهو مخالف للقياس فإنه يقتضي أن يكون مضارعه تطلع بكسر اللام، وكان الكسائي يقول: هذه لغة ماتت في كثير من لغات العرب يعني ذهب من يقول من العرب تطلع بكسر اللام وبقي مطلع بكسرها فياسم الزمان والمكان على ذلك القياس انتهى فافهم، ثم أن الظاهر من حال ذي القرنين وكونه قد أوتي من كل شيء سببا أنه بلغ مطلع الشمس في مدة قليلة، وقيل: بلغه في اثنتي عشرة سنة وهو خلاف الظاهر إلا أن يكون أقام في أثناء سيره فإن طول المعمورة يقطعه بأقل من هذه المدة بكثير السائر على الاستقامة كما لا يخفى
35

على العارف بالمساحة. * (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا) * أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظيمة عن ابن جريج قال: حدثت عن الحسن عن سمرة بن جندب قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية لم نجعل لها من دونها سترا بناء لم يبن فيها بناء قط كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابا لهم حتى تزول الشمس، وأخرج جماعة عن الحسن وذكر أنه حديث سمرة أن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه فإذا غابت خرجوا يتراعون كما تراعى البهائم، وقيل: المرا لا شيء لهم يسترهم من اللباس والبناء، وهم على ما قيل قوم من الزنج، وقيل: من الهنود، وعن مجاهد من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من أهل الأرض، عن وبعضهم خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقالوا بينك: وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش إحدى أذنيه ويلبس الأخرى ومعه صاحب يعرف لسانهم فقالوا له: جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغشى علي ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فادخلونا سربا لهم فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون الشمس ويطرحونه في الشمس فينضج لهم انتهى.
وأنت تعلم أن مثل هذه الحكايات لا ينبغي أن يلتفت إليها ويعود عليها وما هي إلا أخبار عن هيان ابن بيان يحكيها العجائز وأمثالهن لصغار الصبيان، وعن وهب بن منبه أنه يقال لهؤلاء القوم منسك، وظاهر الآية لوقوع النكرة فيها في سياق النفي يقتضي أنهم ليس لهم ما يسترهم أصلا وذلك ينافي أن يكون لهم سرب ونحوه، وأجيب بأن ألفاظ العموم لا تتناول الصور النادرة فالمراد نفي الساتر المتعارف والسرب ونحوه ليس منه، وأنت تعلم أن عدم التناول أحد قولين في المسألة، وقال ابن عطية: الظاهر أن نفي جعل ساتر لهم من الشمس عبارة عن قربها إليهم وتأثيرها بقدرة الله تعالى فيهم ونيلها منهم ولو كانت لهم أسراب لكان لهم ستر كثيف انتهى، وحينئذ فالنكرة على عمومها، وأنا أختار ذلك إلى أن تثبت صحة أحد الأخبار السابقة.
* (كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا) *
* (كذلك) * خبر مبتدأ محذوف أي أمر ذي القرنين ذلك، والمشار إليه ما وصف به قبل من بلوغ المعرب والمشرق وما فعله، وفائدة ذلك تعظيمه وتعظيم أمره أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير والاختيار، ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف لوجد أي وجدها تطلع وجدانا كوجدانها تغرب في عين حمئة أو صفة مصدر محذوف لنجعل أي لم نجعل لهم سترا جعلا كائنا كالجعل الذي لكم فيما تفضلنا به عليكم من الألبسة الفاخرة والأبنية العالية، وفيه أنه لا يتبادر إلى الفهم أو صفة * (سترا) * والمعنى عليه كسابقه، وفيه ما فيه أو صفة * (قوم) * أي على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليه الشمس في الكفر والحكم أو معمول بلغ أي * (بلغ) * مغربها كما بلغ مطلعها.
* (وقد أحطنا بما لديه) * من الجنود والآلات وأسباب الملك * (خبرا) * علما تعلق بظواهره وخفاياه ويفيد هذا على الأول زيادة تعظيم الأمر وأنه وراء ما وصف بكثير مما لا يحيط به الأعلم اللطيف الخبير، وهو على الأخير ويل لما قاسى في السير إلى أن بلغ فيكون المعنى وقد أحطنا بما لاقاه وحصل له في أثناء سيره خبرا أو تعظيم للسبب الموصل إليه في قوله تعالى فأتبع سببا حتى إذا بلغ أي أحطنا بما لديه من الأسباب الموصلة إلى هذا الموضع الشاسع مما لم نؤت غيره وهذا كما في " الكشف " أظهر من التهويل، وعلى الثاني تتميم يفيد حسن اختياره أي أحطنا بما لديه من حسن التلقي وجودة العمل خبرا، وعلى الثالث لبيان أنه كذلك في رأي العين وحقيقته لا يحيط بعلمها
36

غير الله تعالى، وعلى الرابع والخامس تذييل للقصة أو بالقصتين فلا يأباهما كما توهم، وعلى السادس تتميم يؤكد أنه سن بهم سنته فيمن وجدهم في مغرب الشمس.
* (ثم أتبع سببا) *
* (ثم أتبع سببا) * طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا من مطلع الشمس إلى الشمال.
* (حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا) *
* (حتى إذا بلغ بين السدين) * أي الجبلين، قال في " القاموس ": السد الجبل والحاجز؛ وإطلاق السد عليه لأنه سد فجا من الأرض، وقيل: إطلاق ذلك عليه هنا لعلاقة المجاورة وليس بذاك، وقرأ نافع. وابن عامر. وحمزة. والكسائي. وأبو بكر. ويعقوب بضم السين، والمعنى على ما قال الكسائي واحد، وقال الخليل. وس: السد بالضم الاسم وبالفتح المصدر، وقال ابن أبي إسحق: الأول ما رأيته عيناك والثاني ما لا تريانه، وقال عكرمة. وأبو عمرو بن العلاء. وأبو عبيدة؛ الأول ما كان من خلق الله تعالى لا دخل لصنع البشر فيه والثاني ما كان لصنع البشر دخل فيه، ووجه دلالة المضموم على ذلك أنه بمعنى مفعول ولكونه لم يذكر فاعله فيه دلالة على تعين وعدم ذهاب الوهم إلى غيره فيقتضي أنه هو الله تعالى، وأما دلالة المفتوح على أنه من عمل العباد فللاعتبار بدلاله الحدوث وتصوير أنه ها هو ذا يفعله فليشاهد، وهذا يناسب ما فيه مدخل العباد على أنه يكفي فيه فوات ذلك التفخيم، وأنت تعلم أن القراءة بهما ظاهرة في توافقهما وعدم ذكر الفاعل والحدوث أمران
مشتركان، وعكس بعضهم فقال: المفتوح ما كان من خلقه تعالى إذ المصدر لم يذكر فاعله والمضموم ما كان بعمل العباد لأنه بمعنى مفعول والمتبادر منه ما فعله العباد وضعفه ظاهر، وانتصاب * (بين) * على المفعولية لأنه مبلوغ وهو من الروف المتصفة ما لم يركب مع آخر مثله، وقيل: إنه ظرف والمفعول به محذوف وهو ما أراده أو نحوه، وهذا السدان فيه يقرب من عرض تسعين من جهة الشمال وهو المراد بآخر الجربياء في كتاب حزقيال عليه السلام، وقد ذكر بعض أحبار اليهود أن يأجود ومأجوج في منتهى الشمال حيث لا يستطيع أحد غيرهم السكنى فيه وهم في زاوية من ذلك لكنهم لم يتحقق عندهم أنهم فيما يلي المشرق من الشمال أو فيما يلي المغرب منه، وهذا موافق لما ذكرناه في موضع السدين وهو الذي مال إليه كاتب جلبي، وقيل: هما جبلا أرمينية وأذربيجان ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإليه يميل صنيع البيضاوي.
وتعقب بأنه توهم ولعل النسبة إلى الحبر غير صحيحة، وكان من يزعم ذلك يزعم أن سد ذي القرنين هو السد المشهور في باب الأبواب وهو مع استلزامه أن يكون يأجوج ومأجوج الخزر والترك خلاف ما عليه المؤرخون فإن باني ذلك السد عندهم كسرى أنو شروان، وقيل: اسفنديار وهو أيضا لم يبق إلى الآن بل خرب من قبل هذا بكثير، وزعم أن السد ويأجوج ومأجوج هناك وأن الكل قد تلطف بحيث لا يرى كما يراه عصرينا رئيس الطائفة المسماة بالكشفية السيد كاظم الرشتي ضرب من الهذيان وإحدى علامات الخذلان. وقال ابن سعيد: إن ذلك الموضع حيث الطول مائة وثلاثة وستون درجة والعرض أربعون درجة، وفيه أن في هذا الطول والعرض بلاد الخنا والجين وليس هناك يأجوج ومأجوج، نعم هناك سد عظيم يقرب من مائتينوخمسين ساعة طولا لكنه ليس بين السدين ولا بانيه ذو القرنين ولا يكاد يصدق عليه ما جاء في وصف سده، ويمنع من القول بذلك أيضا ما لا يخفى، وقيل: هما بموضع من الأرض لا نعلمه وكم فيها من أرض مجهولة ولعله قد حال بيننا وبين ذلك الموضع مياه عظيمة، ودعوى استقراء سائر البراري والبحاري غير مسلمة، ويجوز العقل أن يكون في البحر أرض نحو أمريقا لم يظفر بها إلى الآن وعدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود
37

وبعد إخبار الصادق بوجود هذين السدين وما يتبعهما يلزمنا الايمان بذلك كسائر ما أخبر به من الممكنات والالتفات إلى كلام المنكرين ناشيء من قلة الدين * (وجد من دونهما) * أي السدي * (قوما) * أمة من الناس قيل هم الترك، وزعم بعضهم أن القوم كانوا من الجان وهو زعم باطل لا بعيد كما قال أبو حيان.
* (لا يكادون يفقهون قولا) * من أقوال اتباع ذي القرنين أو من أقوال من عداهم لغرابة لغتهم وبعدها عن لغات غيرهم وعدم مناسبتها لها مع قلة فطنتهم إذ لو تقاربت فهموها ولو كثرت فطنتهم فهموا ما يراد من القول بالقرائن فتعلموه، والظاهر إبقاء القول على معناه المتبادر.
وزعم بعضهم أن الزمخشري جعله مجازا عن الفهم مطلقا أو عما من شأنه أن يقال ليشمل الإشارة ونحوها حيث قال: أي لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها، وفيه نظر، والظاهر أنه فهم من نفي يكاد إثبات الفهم لهم لكن يعسر وهو بناء على قول بعضهم: إن نفيها إثبات وإثباتها نفي وليس بالمختار.
وقرأ الأعمش. وابن أبي ليلى. وخلف. وابن عيسى الأصبهاني. وحمزة. والكسائي * (يفقهون) * من الأفعال أي لا يكادون يفهمون الناس لتلعثمهم وعدم تبيينهم الحروف.
* (قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الارض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) *
* (قالوا) * أي بواسطة مترجمهم فإسناد القول إليهم مجاز، ولعل هذا المترجم كان من قوم بقرب بلادهم، ويؤيد ذلك ما وقع في مصحف ابن مسعود قال: الذين من دونهم أو بالذات على أن يكون فهم ذي القرنين كلامهم وإفهامه إياهم من جملة من أتاه الله تعالى من الأسباب، وقال بعضهم: لا يبعد أن يقال القائلون قوم غير الذين لا يفهمون قولا ولم يقولوا ذلك على طريق الترجمة لهم وأيد بما في مصحف ابن مسعود. وأيا ما كان فلا منافاة بين * (لا يكادون يفقهون قولا) *.
وقالوا: * (يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج) * قبيلتان من ولد يافث بن نوح عليه السلام وبه جزم وهب بن منبه وغيره واعتمده كثير من المتأخرين. وقال الكسائي في العرائس: إن يافث سار إلى المشرق فولد له هناك خمسة أولاد جومر. وبنرش. وأشار. واسقويل ومياشح فمن جومر جميع الصقالبة والروم وأجناسهم ومن مياشح جميع أصناف العجم ومن أشار يأجوج ومأجوج وأجناسهم ومن اسقويل جميع الترك ومن بنرش الفقجق واليونان. وقيل: كلاهما من الترك وروى ذلك عن الضحاك، وفي كلام بعضهم أن الترك منهم لما أخرجه ابن جرير. وابن مردويه من طريق السدي من أثر قوي الترك سرية من سرايا يأجوج ومأجوج خرجت فجاء ذو القرنين فبنى السد فبقوا خارجين عنه، وفي رواية عبد الرزاق عن قتادة أن يأجوج ومأجوج ثنتان وعشرون قبيلة بني ذو القرنين السد على إحدى وعشرين وكانت واحدة منهم خارجة للغزو فبقيت خارجة وسميت الترك لذلك " وقيل: يأجوج من الترك ومأجوج من الديلم، وقيل من الجيل، وعن كعب الأحبار أن يأجوج ومأجوج من ولد آدم عليه السلام من غير حواء وذلك أنه عليه السلام نام فاحتلم فامتزجت نطفته في التراب فخلق منها يأجوج ومأجوج، ونقل النووي في تفاواه القول بأنهم أولاد آدم عليه السلام من غير حواء عن جماهير العلماء.
وتعقب دعوى الاحتلام بأن الأنبياء عليهم السلام لا يحتلمون، وأجيب بأن المنفي الاحتلام بمن لا تحل لهم فيجوز أن يحتلموا بنسائهم فلعل احتلام آدم عليه السلام من القسم الجائز، ويحتمل أيضا أن يكون منه
38

عليه السلام إنزال من غير أن يرى نفسه أنه يجامع كما يقع كثيرا لأبنائه، واعترض أيضا بأنه يلزم على هذا أنهم كانوا قبل الطوفان ولم يهلكوا به، وأجيب بأن عموم الطوفان غير مجمع عليه فلعل القائل بذلك ممن لا يقول بعمومه وأنا أرى هذا القول حديث خرافة، وقال الحافظ ابن حجر: لم يرد ذلك عن أحد من السلف إلا عن كعب الأحبار، ويرده الحديث المرفوع أنهم من ذرية نوح عليه السلام ونوح من ذرية حواء قطعا. وكأنه عنى بالحديث غير ما روى عن أبي هريرة مرفوعا ولد لنوح. سام
وحام ويافث فولد لسام العرب وفارس والروم وولد لحام القبط والبربر والسودان وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة فإنه صرح بأنه ضعيف، وفي التوراة في السفر الأول في الفصل العاشر والتصريح بأن يأجوج من أبناء يافث. وزعم بعض اليهود أن مأجوج اسم للأرض التي كان يسكنها يأجوج وليس اسما لقبيلة وهو باطل بالنص، والظاهر أنهما اسمان أعجميان فمنع صرفهما للعلمية والعجمة؛ وقيل عربيان من أج الظليم إذا أسرع وأصلهما لهمزة كما قرأ عاصم. والأعمش. ويعقوب في رواية وهي لغة بني أسد ووزنهما مفعول، وبناء مفعول من ذلك مع أنه لازم لتعديه بحرف الجر.
وقيل: إن كان ما ذكر منقولا فللتعدي وإن كان مرتجلا فظاهر، وقال الأخفش: إن جعلنا ألفهما أصلية فيأجوج يفعول ومأجوج مفعول كأنه من أجيج النار، ومن لم يهمزهما جعلها زائدة فيأجوج من يججت ومأجوج من مججت، وقال قطرب: في غير الهمز مأجوج فاعول من المج ويأجوج فاعول من اليج، وقال أبو الحسن علي بن عبد الصمد السخاوي؛ الظاهر أنه عربي وأصله الهمز وتركه على التخفيف. وهو إما من الأجة وهو الاختلاف كما قال تعالى: * (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) * (الكهف: 99) أو من الأج وهو سرعة العدو قال تعالى: * (وهم من كل حدب ينسلون) * (الأنبياء: 96) أو من الأجه وهي شدة الحر أو من أج الماء ياج أجوجا إذا كان ملحقا مرا انتهى. وعلة منع الصرف على القول بعربيتهما العلمية والتأنيث باعتبار القبيلة.
وقرأ العجاج. ورؤية ابنه * (آجوج) * بهمزة بدل الياء. وربما يقال جوج بلا همزة ولا ياء في غير القررن وجاء بهذا اللفظ في كتاب حزقيال عليه السلام * (مفسدون في الأرض) * أي في أرضنا بالقتل والتخريب وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، وقيل بأخذ الأقوات وأكلها. روى أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئا أؤخضر إلا أكلوه ولا باسا إلا احتلوه، وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن بيب الأوصافي أنه قال: كان فسادهم أنهم يأكلون الناس، واستدل بإسناد مفسدون إلى يأجوج ومأجوج على أن أقل الجمع إثنان وليس بشيء أصلا * (فهل نجعل لك خرجا) * أي جعلا من أموالن. والفاء لتفريع العرض على إفسادهم في الأرض. وقرأ الحسن. والأعمش. وطلحة. وخلف. وابن سعدان. وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي. وحمزة. والكسائي (خراجا) بألف بعد الراء وكلاهما بمعنى واحد كالنول والنوال. وقيل: الخرج المصدر أطلق على الخراج والخراج الاسم لما يخرج. وقال ابن الاعرابي: الخرج على الرؤس يقال: أد خراج أرضك وقال ثعلب: الخرج اخص من الخراج. وقيل الخرج المال يخرج مرة والخراج الخرج المتكرر وقيل الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك إداؤه * (على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) * حاجزا يمنعهم من الوصول إلينا. وقرأ نافع. وابن عامر. وأبو بكر سدا بضم السين.
* (قال ما مكنى فيه ربى خير فأعينونى بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما) *
* (قال ما مكني) * بالإدغام، وقرأ ابن كثير. وحميد بالفك أي الذي مكنني * (فيه ربي) * وجعلني فيه
39

سبحانه مكينا قادرا من الملك والمال وسائر الأسباب * (خير) * أي مما تريدون أن تبذلوه إلى من الخرج فلا حاجة بي إليه * (فأعينوني بقوة) * أي بما يتقوى به على المقصود من الآلات كزبر الحديد أو من الناس أو الأعم منهما، والفاء لتفريع الأمر بالإعانة على خيرية ما مكن الله تعالى فيه من مالهم أو على عدم قبول خرجهم * (أجعل) * جواب الأمر * (بينكم وبينهم) * تقديم إضافة الظرف إلى ضمير المخاطبين على إضافته إلى ضمير يأجوج ومأجوج لإظهار كمال العناية بمصالحهم كما راعوه في قولهم * (بيننا وبينهم) * * (ردما) * أي حاجزا حصينا وحجابا متينا وهو أكبر من السد وأوثق يقال: ثوب مردم أي فيه رقاع فوق رقاع، ويقال: سحاب مردم أي متكاثف بعضه فوق بعض، وذكر أن أصل معناه سد الثلمة بالحجارة ونحوها، وقيل: سد الخلل مطلقا، ومنه قول عنترة: هل غادر الشعراء من متردم
ثم أطلق على ما ذكر، وقيل: هو والسد بمعنى، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هو كاشد الحجاب وعليه يكون قد وعدهم بالإسعاف بمرامهم فوق ما يرجونه وهو اللائق بشأن الملوك.
* (ءاتونى زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتونىأفرغ عليه قطرا) *
* (ءاتوني زبر الحديد) * جمع زبرة كغرف في غرفة وهي القطعة العظيمة، وأصل الزبر الاجتماع ومنه زبرت الكتاب جمعت حروفه وزبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر، وأخرج الطشتس عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق ساله عن * (زبر الحديد) * فقال: قطعة وأنشد قول كعب بن مالك: تلظى عليهم حين شد حميها * بزبر الحديد والحجارة شاجر
وطلب إيتاء الزبر لا ينافي أنه لم يقبل منهم شيئا لأن المراد من الايتاء المأمور به الايتاء بالثمن أو مجرد لمناولة والايطال وإن كان ما آتوه له لا إعطاء ما هو لهم فهو معونة مطلوبة، وعلى تسليم كون الايتاء بمعنى الإعطاء لا المناولة يقال: إن إعطاء الآلة للعمل لا يلزمه تملكها ولو تملكها لا يعد ذلك جعلا فإنه إعطاء المال لا إعطاء مثل هذا، ويبنىء عن أن المراد ليس الإعطاء قراءة أبي بكر عن عاصم * (ردما ائتوني) * بكسر التنوين ووصل الهمزة من أتاه بكذا إذ جاء به له وعلى هذه القراءة نصب * (زبرا) * بنزع الخافض أي جيئوني بزبر الحديد وتخصيص زبر الحديد بالذكر دون الصخور والحطب ونحوهما لما أن الحاجة إليها أمس إذ هي الركن القوي في السد ووجودها أعز.
وقرأ الحسن * (زبر) * بضم الباء كالزاي * (حتى إذا ساوى بين الصدفين) * في الكلام حذف أي فأتوه إياها فأخذ يبني شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويا لهما في العلو فبين مفعول ساوى وفاعله ضمير ذي القرنين، وقيل: الفاعل ضمير السد المفهوم من الكلام أي فاتوه إياها فأخذ يسد بها حتى إذا ساوى السد الفضاء الذي بين الصدفين ويفهم من ذلك مساواة السد في العلو للجبلين، والصدف كما أشرنا إليه جانب الجبل وأصله على ماقيل: الميل، ونقل في " الكشف " أنه لا يقال للمنفرد صدف حتى يصادفه الآخر ثم قال: فهو من الأسماء المتضايفة كالزوج وأمثاله، وقال أبو عبيدة: هو كل بناء عظيم مرتفع ولا يخفى أنه ليس بالمراد هنا.
وزعم بعضهم أن المراد به هنا الجبل وهو خلاف ما عليه الجمهور، وقرأ قتادة سوى من التسوية.
وقرأ ابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم * (سووى) * بالبناء للمجهول، وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو. وابن عامر. والزهري. ومجاهد. والحسن * (الصدفين) * بضم الصاد والدار وهي لغة حمير كما أن فتحهما في قراءة
40

الأكثرين لغة تميم، وقرأ أبو بكر. وابن محيصن. وأبو رجاء. وأبو عبد الرحمن * (الصدفين) * بضم فسكون. وقرأ ابن جندب بفتح فسكون، وروي ذلك عن قتادة، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ بضم ففتح وهي قراءة أبان عن عاصم، وقرأ الماجشون بفتح فضم.
* (قال) * للعملة * (انفخوا) * أي بالكيران في زبر الحديد الموضوعة بين الصدفين ففعلوا * (حتى إذا جعله) * أي جعل المنفوخ فيه * (نارا) * أي كالنار في الحرارة والهيئة فهو من التشبيه البليغ، وإسناد الجعل المذكور إلى ذي القرنين مع أنه فعل الفعلة للتنبيه على أنه العمدة في ذلك وهم بمنزلة الآلة * (قال) * الذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها، وقيل لأولئك النافخين قال لهم بعد أن نفخوا في ذلك حتى صار كالنار وتم ما أراده منهم أولا * (ءاتوني) * من الذين يتولون أمر النحاس * (أفرغ عليه قطرا) * أي آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وبه تمسك البصريون على أن إعمال الثاني في باب التنازع أولى إذ لو كان * (قطرا) * مفعول * (آتوني) * لأضمر مفعول * (أفرغ) * وحذفه وإن جاز لكونه فضلة إلا أنه يوقع في لبس.
والقطر كما أشرنا إليه النحاس المذاب وهو قول الأكثرين، وقيل: الرصاص المذاب، وقيل: الحديد المذاب وليس بذاك، وقرأ الأعمش. وطلحة. وحمزة. وأبو بكر بخلاف عنه * (ائتوني) * بهمزة الوصل أي جيئوني كأنه يستدعيهم للإغاثة باليد عند الإفراغ، وإسناد الإفراغ إلى نفسه للسر الذي وقفت عليه آنفا، وكذا الكلام في قوله اجعل وقوله: * (ساوى) * على أحد القولين.
* (فما اسط‍اعوا أن يظهروه وما استط‍اعوا له نقبا) *
* (فما اسطاعوا) * بحذف تاء الافتعال تخفيفا وحذرا عن تلاقي المتقاربين في المخرج وهما الطاء والتاء.
وقرأ حمزة. وطلحة بإدغام التاء في الطاء وفيه جمع بين الساكنين على غير حدة ولم يجوزه أبو علي وجوزه جماعة، وقرأ الأعشى عن أبي بكر * (فما اصطاعوا) * بقلب السين صادا لمجاورة الطاء، وقرأ الأعمش * (فما استطاعوا) * بالتاء من غير حذف والفاء فصيحة أي ففعلوا ما أمروا به من إيتاء القطر أو الإتيان فأفرغ عليه فاختلط والتصق بعضه ببعض فصار جبلا صلدا فجاء يأجوج ومأجوج وقصدوا أن يعلوه وينقبوه فما اسطاعوا * (أن يظهروه) * أي يعلوه ويرقوا فيه لارتفاعه وملاسته، قيل: كان ارتفاعه مائتي ذراع، وقيل: ألف وثمانمائة ذراع * (وما استطاعوا له نقبا) * لصلابته وثخانته. قبل: وكان عرضه خمسين ذراعا وكان أساسه قد بلغ الماء وقد جعل فيه الصخر والنحاس المذاب وكانت زبر الحديد للبناء فوق الأرض، ولا يخفى أن إفراغ القطر عليها بعد أن أثرت فيها حرارة النار حتى صارت كالنار مع ما ذكروا من أن امتداد السد في الأرض مائة فرسخ لا يتم إلا بأمر إلهي خارج عن العادة كصرف تأثير حرارة النار العظيمة عن أبدان المباشرين للأعمال وإلا فمثل تلك الحرارة عادة مما لا يقدر حيوان على أن يحوم حولها ومثل ذلك النفخ في هاتيك الزبر العظيمة الكثيرة حتى تكون نارا، ويجوز أن يكون كل من الأمرين بواسطة آلات غريبة أو أعمال أوتيها هو أو أحد ممن معه لا يكاد أحد يعرفها اليوم، وللحكماء المتقدمين بل والمتأخرين أعمال عجيبة يتوصلون
41

إليها بآلات غريبة تكاد تخرج عن طور العقل وهذا مما لا شبهة فيه فليكن ما وقع لذي القرنين من ذلك القبيل، وقيل: كان بناؤه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض بكلاليب من حديد ونحاس مذاب في تجاويفها بحيث لم يبق هناك فجوة أصلا.
وأخرج ابن جرير. وابن مردويه عن أبي بكرة الشفي أن رجلا قال: يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: انعته لي قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء قال: قد رأيته، والظاهر أن الرؤية بصرية لا منامية وهو أمر غريب إن صح الخبر، وأما ما ذكره بعضهم من أن الواثق بالله العباسي أرسل سلاما الترجمان للكشف عن هذا السد فذهب جهة الشمال في قصة تطول حتى رآه ثم عاد، وذكر له من أمره ما ذكر فثقات المؤرخين على تضعيفه، وعندي أنه كذب لما فيه مما تأبى عنه الآية كما لا يخفى على الواقف عليه تفصيلا.
ولا يخفى لطف الإتيان بالتاء في استطاعوا هنا.
* (قال ه‍اذا رحمة من ربى فإذا جآء وعد ربى جعله دكآء وكان وعد ربى حقا) *
* (قال) * أي ذو القرنين لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم * (ه‍اذا) * إشارة إلى السد، وقيل: إلى تمكنه من بنائه والفضل للمتقدم ليتحد مرجع الضمير المتأخر أي هذا الذي ظهر على يدي وحصل بمباشرتي من السد الذي شأنه ما ذكر من المتانة وصعوبة المنال * (رحمة) * أي أثر رحمة عظيمة وعبر عنه بها للمبالغة * (من ربي) * على كافة العباد لا سيما على مجاوريه وكون السد رحمة على العباد ظاهر وإذا جعلت الإشارة إلى التمكن فكونه رحمة عليهم باعتبار أنه سبب لذلك، وربما يرجح المتقدم أيضا باحتياج المتأخر إلى هذا التأويل وإن كان الأمر فيه سهلا، وفي الإخبار عنه بما ذكر إيذان على ما قيل بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق عادة بل هو إحسان إلهي محض وإن ظهر بالمباشرة، وفي التعرض لوصف الربوبية تربية معنى الرحمة، وقرأ ابن أبي عبلة * (هذه رحمة) * بتأنيث اسم الإشارة وخرج على أنه رعاية للخبر أو جعل المشار إليه القدرة والقوة على ذلك * (فإذا جاء وعد ربي) * أي وقت وعده تعالى فالكلام على حذف مضاف والإسناد إلى الوعد مجاز وهو لوقته حقيقة، ويجوز أن يكون الوعد بمعنى الموعود وهو وقته أو وقوعه فلا حذف ولا مجاز في الإسناد بل هناك مجاز في الطرف، والمراد من وقت ذلك يوم القيامة، وقيل: وقت خروج يأجوج ومأجوج، وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم والمراد بمجيئه ما ينتظم مجيئه ومجىء مباديه من خروجهم وخروج
الدجال ونزول عيسى عليه السلام ونحو ذلك لا دنو وقوعه فقط كما قال الزمخشري وغيره فإن بعض الأمور التي ستحكي تقع بعد مجيئه حتما * (جعله) * أي السد المشار إليه مع متانته ورصانته * (دكاء) * بألف التأنيث الممدودة والموصوف مؤنث مقدر أي أرضا مستوية، وقال بعضهم: الكلام على تقدير مضاف أي مثل دكاء وهي ناقة لا سنام لها ولا بد من التقدير لأن السد مذكر لا يوصف بمؤنث، وقرأ غير الكوفيين دكا على أنه مصدر دككته وهو بمعنى المفعول أي مدكوكا مسوى بالأرض أو على ظاهره والوصف به للمبالغة، والنصب على أنه مفعول ثان لجعل وهي بمعنى صير، وزعم ابن عطية أنها بمعنى خلق وليس بشيء.
وهذا الجعل وقت مجىء الوعد بمجىء بعض مباديه وفيه بيان لعظم قدرته تعالى شأنه بعد بيان سعة رحمته عز وجل وكان علمه بهذا الجعل على ما قيل من توابع علمه بمجىء الساعة إذ من مباديها دك الجبال الشامخة الراسخة ضرورة أنه لا يتم بدونها واستفادته العلم بمجيئها ممن كان في عصره من الأنبياء عليهم السلام، ويجوز أن يكون
42

العلم بجميع ذلك بالسماع من النبي وكذا العلم بمجىء وقت خروجهم على تقدير أن يكون ذلك مرادا من الوعد يجوز أن يكون عن اجتهاد ويجوز أن يكون عن سماع.
وفي كتاب حزقيال عليه السلام الإخبار بمجيئهم في آخر الزمان من آخر الجربياء في أمم كثيرة لا يحصيهم إلا الله تعالى وإفسادهم في الأرض وقصدهم بيت المقدس وهلاكهم عن آخرهم في بريته بأنواع من العذاب وهو عليه السلام قبل اسكندر غالب دارا فإذا كان هو ذا القرنين فيمكن أن يكون وقف على ذلك فأفاده علما بما ذكر والله تعالى أعلم، ثم أن في الكلام حذفا أي وهو يستمر إلى آخر الزمان فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء * (وكان وعد ربي) * أي وعده سبحانه المعهود أو كل ما وعد عز وجل به فيدخل فيه ذلك دخولا أوليا * (حقا) * ثابتا لا محالة واقعا البتة وهذه الجملة تذييل من ذي القرنين لما ذكره من الجملة الشرطية وتأكيد لمضمونها وهو آخر ما حكى عن قصته، وقوله عز وجل:
* (وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض ونفخ فى الصور فجمعن‍اهم جمعا) *
* (وتركنا بعضهم) * كلام مسوق من جنابه سبحانه وتعالى وضمير الجمع المجرور عند بعض المحققين للخلائق، والترك بمعنى الجعل وهو من الأضداد، والعطف على قوله تعالى: * (جعله دكا) * وفيه تحقيق لمضمونه، ولا يضر في ذلك كونه محكيا عن ذي القرنين أي جعلنا بعض الخلائق * (يومئذ) * أي يوم إذ جاء الوعد بمجىء بعض مباديه * (يموج في بعض) * آخر منهم، والموج مجاز عن الاضطراب أي يضطربون اضطراب البحر يختلط إنسهم وجنهم من شدة الهول وروي هذا عن ابن عباس، ولعل ذلك لعظائم تقع قبل النفخة الأولى، وقيل: الضمير للناس والمراد وجعلنا بعض الناس يوم إذ جاء الوعد بخروج يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر لفزعهم منهم وفرارهم وفيه بعد؛ وقيل: الضمير للناس أيضا، والمراد وجعلنا بعض الناس يوم إذ تم السد يموج في بعضهم للنظر إليه والتعجيب منه ولا يخفى أن هذا يتعجب منه. وقال أبو حيان: الأظهر كون الضمير ليأجوج ومأجوج أي وتركنا بعض يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر منهم حين يخرجون من السد مزدحمين في البلاد وذلك بعد نزول عيسى عليه السلام، ففي " صحيح مسلم " من حديث النواس بن سمعان بعد ذكر الدجال وهلاكه بباب لد على يده عليه السلام ثم يأتي عيسى عليه السلام قوما قد عصمهم الله تعالى من الدجال فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينماهم كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم ويضمون إليهم مواشيهم فيشربون مياه الأرض حتى أن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يبسا حتى أن من يمر من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول قد كان ههنا ماء مرة ويحصر عيسى نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور ورأس الحمار لأحدهم خيرا من مائة دينار؛ وفي رواية مسلم وغيره فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض هلم نقتل من في السماء فيرمون نشابهم إلى السماء فيردها الله تعالى عليهم مخضوبة دما للبلاء والفتنة فيرغب نبي الله وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى، وفي رواية داود كالنغف في أعناقهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة لا يسمع لهم حس فيقول المسلمون: ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو فيتجرد رجل منهم محتسبا نفسه قد وطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى
43

بعضهم على بعض فينادي يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم فيخرجون من مداينهم وحصونهم فيسرحون مواشيهم فما يكون لها مرعى إلا لحومهم فتشكر أحسن ما شكرت عن شيء ويهبط نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون فيها موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيستغيثون بالله تعالى فيبعث الله سبحانه ريحا يمانية غبراء فتصير على الناس غما ودخانا ويقع عليهم الزكمة ويكشف ما بهم بعد ثلاثة أيام وقد قذفت الأرض جيفهم في البحر، وفي رواية فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى، وفي رواية فترميهم في البحر - وفي أخرى في النار ولا منافاة كما يظهر بأدنى تأمل - ثم يرسل الله عز وجل مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ويوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين، ولعل الله تعالى يحفظ ذلك في الأودية ومواضع السيول زيادة في سرور المسلمين أو يحفظها حيث هلكوا ولا يلقيها معهم حيث شاء ولا يعجز الله تعالى شيء، والحديث يدل على كثرتهم جدا، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا أن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم من صلبه ألفا من الذرية. وحمله بعضهم على طول العمر.
وفي " البحر " أنه قد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شيء. وأعجب ما روي في ذلك قول مكحول الأرض مسيرة مائة عام ثمانون منها يأجوج ومأجوج وهي أمتان كل أمة أربعمائة ألف أمة لا تشبه أمة الأخرى وهو قول باطل، ومثله ما روي عن أبي الشيخ عن أبي أمامة الدنيا سبعة أقاليم فليأجوج ومأجوح ستة وللباقي
إقليم واحد وهو كلام من لا يعرف الأرض ولا الأقاليم: نعم أخرج عبد الرزاق. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والحاكم وصححه من طريق البكالي عن ابن عمر أن الله تعالى جزأ الإنس عشرة أجزاء فتسعة منهم يأجوج ومأجوج وجزء سائر الناس إلا أني لم أقف على تصحيحه لغير الحاكم وحكم تصحيحه مشهور ويعلم مما تقدم ومما سيأتي إن شاء الله تعالى بطلان ما يزعمه بعض الناس من أنهم التاتار الذين أكثروا الفساد في البلاد وقتلوا الأخبار والأشرار. ولعمري أن ذلك الزعم من الضلالة بمكان وإن كان بين يأجوج ومأجوج وأولئك الكفرة مشابهة تامة لا تخفى على الواقفين على أخبار ما يكون وما كان إبطال ما يزعمه بعض الناس من أنهم التاتار * (ونفخ في الصور) * الظاهر أن المراد النفخة الثانية لأنه المناسب لما بعد. ولعل عدم التعرض لذكر النفخة الأولى لأنها داهية عامة ليس فيها حالة مختصة بالكفار، وقيل: لئلا يقع الفصل بين ما يقع في النشأة الأولى من الأحوال والأهوال وبين ما يقع منها في النشأة الآخرة.
والصور قرن جاء في الآثار من وصفه ما يدهش العقول. وقد صح عن أبي سعيد الخدري أنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنا جبينه وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ ".
وزعم أبو عبيدة أنه جمع صورة وأيد بقراءة الحسن * (الصور) * بفتح الواو فيكون لسورة وسور ورد ذلك أظهر من أن يخفى، ولذلك قال أبو الهيثم على ما نقل عنه الإمام القرطبي: من أنكر أن يكون الصور قرنا
44

فهو كمن أنكر العرش والصراط والميزان وطلب لها تأويلات. وذكر أن الأمم مجمعة على أن النافخ فيه إسرافيل عليه السلام * (فجمعناهم) * أي الحلائق بعد ما تفرقت أوصالهم وتمزقت أجسادهم في صعيد واحد للحساب والجزاء * (جمعا) * أي جمعا عجيبا لا يكتنه كنهه.
* (وعرضنا جهنم يومئذ للك‍افرين عرضا) *
* (وعرضنا جهنم) * اظهرناها وأبرزناها * (يومئذ) * أي يوم إذ جمعنا الخلائق كافة * (للكافرين) * منهم حيث جعلناها بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا * (عرضا) * أي عرضا فظيعا هائلا لا يقادر قدره. وتخصيص العرض بهم مع أنها بمرأى من أهل الجمع قاطبة لأن ذلك لأجلهم خاصة.
* (الذين كانت أعينهم فى غطآء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا) *
* (الذين كانت أعينهم) * وهم في الدنيا * (في غطاء) * كثيف وغشاوة غليظة محاطة بذلك من جميع الجوانب * (عن ذكرى) * عن الآيات المؤدية لأولي الأبصار المتدبرين فيها إلى ذكرى بالتوحيد والتمجيد. فالذكر مجاز عن الآيات المذكورة من باب إطلاق المسبب وإرادة السبب. وفيه أن من لم ينظر نظرا يؤدي به إلى ذكر التعظيم كأنه لا نظر له البتة وهذا فائدة التجوز.
وقيل: الكلام على حذف مضاف أي عن آيات ذكري وليس بذاك، ويجوز أن يكون المراد بالأعين البصائر القلبية. والمعنى كانت بصائرهم في غطاء عن أن يذكروني على وجه يليق بشأني أو عن ذكري الذي أنزلته على الأنبياء عليهم السلام، ويجوز أن يخص بالقرآن الكريم * (وكانوا) * مع ذلك * (لا يستطيعون سمعا) * نفى لسماعهم على أتم وجه ولذا عدل عن وكانوا صما الا خصر إليه. والمراد أنهم مع ذلك كفاقدي حاسة السمع بالكلية وهو مبالغة في تصوير إعراضهم عن سماع ما يرشدهم إلى ما ينفعهم بعد تصوير تعاميهم عن الآيات المشاهدة بالإبصار فلا حاجة إلى تقدير لذكري المراد منه القرآن أو مطلق الشرائع الإلهية فإنه بعد تخصيص الذكر المذكور في النظم الكريم أولا بالآيات المشاهدة لا يصير قرينة على هذا الحذف. قال ابن هشام في " المغني ": إن الدليل اللفظي لا بد من مطابقته للمحذوف معنى فلا يصح زيد ضارب وعمرو أي ضارب على أن الأول بمعناه المعروف والثاني بمعنى مسافر. وتقدير ذلك وإرادة معنى الآيات منه مجازا بعد المجاز أظهر، وقال بعض المحققين: إن تقدير ذلك إنما هو بقرينة قوله تعالى سمعا وأن الكافرين هذا حالهم لا بقرينة ذكر الذكر قبل ليجىء كلام ابن هشام، ولا يخفى أنه لا كلام في تقدير الذكر بمعنى القرآن أو الشرائع الإلهية إذا أريد من الذكر المذكور ذلك. والموصول نعت الكافرين أو بدل منه أو بيان جىء به لذمهم بما في حيز الصلة وللإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم.
* (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادى من دونىأوليآء إنآ أعتدنا جهنم للك‍افرين نزلا) *
* (أفحسب الذين كفروا) * أي كفروا بي كما يعرب عنه قوله تعالى: * (عبادي) * والحسبان بمعنى الظن، وقد قرأ عبد الله * (أفظن) * والهمزة للإنكار والتوبيخ على معنى إنكار الواقع واستقباحه. والفاء للعطف على مقدر يفصح عنه الصلة على توجيه الإنكار والتوبيخ وإلى المعطوفين جميعا على ما اختاره شيخ الإسلام. والمعنى أكفروا بي مع جلالة شأني فحسبوا * (أن يتخذوا عبادي) * من الملائكة وعيسى ونحوهم عليهم السلام من المقربين كما تشعر به الإضافة إن الأكثر أن تكون في مثل هذا اللفظ لتشريف المضاف. واقتصر قتادة في المراد من ذلك على الملائكة؛ والظاهر إرادة ما يعمهم وغيرهم ممن ذكرنا واختاره أبو حيان
45

وغيره، وروي عن ابن عباس أن المراد منه الشياطين وفيه بعد ولعل الرواية لا تصح. وعن مقاتل أن المراد الأصنام وهو كما ترى، وجوز بعض المحققين أن يراد ما يعم المذكورين والأصنام وسائر المعبودات الباطلة من الكواكب وغيرها تغليبا. ولعل المقام يقتضي أن لا تكون الإضافة فيه للتشريف أي أفظنوا أن يتخذوا عبادي الذي هم تحت ملكي وسلطاني * (من دوني) * أي مجاوزين لي * (أولياء) * أي معبودين أو أنصارا لهم من بأسي. وما في حيز صلة أن قيل ساد مسد مفعولي حسب أي أفحسبوا أنهم يتخذونهم أولياء. وكان مصب الإنكار أنهم يتخذونهم كذلك إلا أنه أقحم الحسبان للمبالغة، وقيل: المراد ما ذكر على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شيء لما أنه إنما يكون من الجانبين والمتخذون بمعزل عن ولايتهم لقولهم سبحانك أنت ولينا من دونهم، وقيل: أن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول أول لحسب والمفعول الثاني محذوف أي أفحسبوا اتخاذهم نافعهم أو سببا لرفع العذاب عنهم أو نحو ذلك. وهو مبني على تجويز حذف أحد المفعولين في باب علم وهو مذهب بعض
النحاة، وتعقب بأن فيه تسليما لنفس الاتخاذ واعتدادا به في الجملة والأولى ما خلا عن ذلك.
هذا وفي " الكشف " أن التحقيق أن قوله تعالى: * (فحسب) * معطوف على كانت وكانوا دلالة على أن الحسبان ناشىء عن التعامي والتصام وأدخل عليه همزة الإنكار ذما على ذم وقطعا له عن المعطوف عليهما لفظا لا معنى للإيذان بالاستقلال المؤكد للذم كأنه قيل لا يزيلون ما بهم من مرضى الغشاوة والصمم ويزيدون عليهما الحسبان المترتب عليهما. وقوله تعالى: * (الذين كفروا) * من وضع الظاهر مقام المضمر زيادة للذم انتهى. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما ذكر إلى قوله كأنه قيل الخ أنه يأبى ذلك ترك الإضمار والتعرض لوصف آخر غير التعامي والتصام على أنهما أخرجا مخرج الأحوال الجبلية لهم ولم يذكرا من حيث أنهما من أفعالهم الاختيارية الحادثة كحسبانهم ليحسن تفريعه عليهما. وأيضا فإنه دين قديم لهم لا يمكن جعله ناشئا عن تصامهم عن كلام الله عز وجل. وتخصيص الإنكار بحسبانهم المتأخر عن ذلك تعسف لا يخفى انتهى، ولا يخلو عن بحث فتأمل.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وزيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم. والشافعي عليه الرحمة. ويحيى بن يعمر. ومجاهد. وعكرمة. وقتادة. ونعيم بن ميسرة. والضحاك. وابن أبي ليلى. وابن محيصن. وأبو حيوة. ومسعود بن صالح. وابن كثير. ويعقوب بخلاف عنهما * (أفحسب) * بإسكان السين وضم الباء مضافا إلى الذين وخرج ذلك على أن حسب مبتدأ وهو بمعنى محسب أي كافي * (وأن يتخذوا) * خبره أي أفكافيهم اتخاذهم عبادي من دوني أولياء. وفيه دلالة على غاية الذم لأنه جعل ذلك مجموع عدتهم يوم الحساب وما يكتفون به عن سائر العقائد والفضائل التي لا بد منها للفائز في ذلك اليوم. وجعل الزمخشري المصدر المتحصل من أن والفعل فاعلا لحسب لأنه اعتمد على الهمزة واسم الفاعل إذا اعتمد ساوى الفعل في العمل، واعترض عليه أبو حيان بأن حسب مؤول باسم الفاعل وما ذكر مخصوص بالوصف الصريح. ثم أشار إلى جوابه بأن سيبويه أجاز في مررت برجل خير منه أبوه وبرجل سواء عليه الخير والشر وبرجل أب له صاحبه وبرجل إنما رجل هو وبرجل حسبك من رجل الرفع بالصفات المؤولة، وذكر أنهم أجازوا في مررت برجل أبي عشرة أبوه ارتفاع أبوه بأبي عشرة لأنه في معنى والد عشرة وحينئذ فلا كلام فيما ذكر الزمخشري * (إنا أعتدنا جهنم) * أي هيأناها وهو ظاهر في أنها مخلوقة اليوم * (للك‍افرين) * المعهودين عدل عن ازضمار ذما لهم وإشعارا بأن ذلك الاعتداد
46

بسبب كفرهم المتضمن لحسبانهم الباطل * (نزلا) * أي شيئا يتمتعون به عند ورودهم وهو ما يقام به للنزيل أي الضيف مما حضر من الطعام واختار هذا جماعة من المفسرين. وفي ذلك على ما قيل تخطئة لهم في حسبانهم وتهكم به حيث كان اتخاذهم إياهم أولياء من قبيل اعتاد العتاد وإعداد الزاد ليوم المعاد فكأنه قيل أنا أعتدنا لهم مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذخر جهنم عدة، وفي إيراد النزل إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هي أنموذج له، ولا يأبى ذلك قوله تعالى: * (جزاؤهم جهنم) * (الكهف: 106) لأن المراد هناك أنها جزاؤهم بما فيها فافهم، وقال الزجاج: النزل موضع النزول، وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل: هو جمع نازل ونصبه على الحال.
وقرأ أبو حيوة. وأبو عمرو بخلاف عنه * (نزلا) * بسكون الزاي.
* (قل هل ننبئكم بالاخسرين أعم‍الا) *
* (قل) * يا محمد * (هل ننبئكم) * خطاب للكفرة. وإذا حمل الاستفهام على الاستئذان كان فيه من التهكم ما فيه، والجمع في صيغة المتكلم قيل لتعيينه من أول الأمر وللإيذان بمعلومية النبأ للمؤمنين أيضا * (بالأخسرين أعمالا) * نصب على التمييز، وجمع مع أن الأصل في التمييز الإفراد والمصدر شامل للقليل والكثير كما ذكر ذلك النحاة للإيذان بتنوع أعمالهم وقصد شمول الخسران لجميعها، وقيل: جمع لأن ما ذكره النحاة إنما هو إذا كان المصدر باقيا على مصدريته أما إذا كان مؤولا باسم فاعل فإنه يعامل معاملته وهنا عمل بمعنى عامل فجمع على أعمال والمراد عاملين والصفة تقع تمييزا نحو لله تعالى دره فارسا، وزعم بعضهم أن أعمالا جمع عامل، وتعقب بأن جمع فاعل على أفعال نادر وقد أنكره بعض النحاة في غير ألفاظ مخصوصة كأشهاد جمع شاهد، وقيل: جمع عمل ككتف بمعنى ذو عمل كما في " القاموس " وهو كما ترى، وزعم بعض المتأخرين أنه إذا اعتبر أعمالا بمعنى عاملين كان الأخسرين بمعنى الخاسرين لأن التمييز إذا كان صفة كان عبارة عن المنتصب عنه متحدا معه بالذات محمولا عليه بالمواطأة حتى أن النحاة صرحوا بأنه تجعل الحال أيضا وهو خبر عن ذي الحال معنى ومن البين أن أفعل التفضيل يمتنع أن يتحد مع اسم الفاعل لمكان الزيادة فحيث وقع اسم الفاعل تمييزا وانتصب بأفعل وجب أن يكون بمعنى فاعل ليتحدا، وتعقبه بعضهم بأن أفعل لا يكون مع اللام مجردا عن معنى التفضيل كما أنه لا يكون مجردا عنه مع الإضافة وإنما يكون ذلك إذا كان مع من كما صرح به ابن مالك في التسهيل وذكره الرضي، ولا يخفى عليك ما في جميع ذلك من النظر، والحق أن الجمعية ليست إلا لما ذكر أولا، نعم ذكر أبو البقاء أنه جمع لكونه منصوبا على أسماء الفاعلين وأول ذلك بأنه أراد باسم الفاعل المعنى اللغوي وأراد أنه جمع ليفيد التوزيع على أنه لا يخلو عن شيء، ثم أن هذا على ما في إرشاد العقل السليم بيان لحال الكفرة باعتبار ما صدر عنهم من الأعمال الحسنة في أنفسها وفي حسبانهم أيضا حيث كانوا معجبين بها واثقين بنيل ثوابها ومشاهدة آثارها غب بيان أحوالهم باعتبار أعمالهم السيئة في أنفسها مع كونها حسنة في حسبانهم.
* (الذين ضل سعيهم فى الحيواة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) *
* (الذين ضل) * أي ضاع وبطل بالكلية عند الله عز وجل * (سعيهم) * في إقامة تلك الأعمال * (في الحياة الدنيا) * متعلق بسعي لا بضل لأن بطلان سعيهم غير مختص بالدنيا.
قيل: المراد بهم أهل الكتابين وروي ذلك عن ابن عباس. وسعد بن أبي وقاص. ومجاهد ويدخل في الأعمال حينئذ ما عملوه من الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات،
وقيل: الرهبان الذين يحبسون أنفسهم في الصوامع ويحملونها على الرياضات الشاقة، وقيل الصابئة، وسأل ابن الكواء عليا كرم الله تعالى وجهه عنهم
47

فقال: منهم أهل حروراء يعني الخوارج، واستشكل بأن قوله تعالى: * (أولئك الذين كفروا) * (الكهف: 105) الخ يأباه لأنهم لا ينكرون البعث وهم غير كفرة، وأجيب بأن من اتصالية فلا يلزم أن يكونوا متصلين بهم من كل الوجوه بل يكفي كونهم على الضلال مع أنه يجوز أن يكون كرم الله تعالى وجهه معتقدا لكفرهم، واستحسن أنه تعريض بهم على سبيل التغليظ لا تفسير للآية، والمذكور في " مجمع البيان " أن العياشي روى بسنده أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه عن أهل هذه الآية فقال: أولئك أهل الكتاب كفروا بربهم وابتدعوا في دينهم فحبطت أعمالهم وما أهل النهر منهم ببعيد، وهذا يؤيد الجواب الأول، وأخبر أن المراد ما يعم سائر الكفرة، ومحل الموصول الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأنه جواب للسؤال كأنه قيل من هم؟ فقيل الذين الخ، وجوز أن يكون في محل جر عطف بيان على * (الأخسرين) *، وجوز أن يكون نعتا أو بدلا وأن يكون منصوبا على الذم على أن الجواب ما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: * (أولئك الذين) * الخ.
وتعقب بأنه يأبى ذلك أن صدره ليس منبئا عن خسران الأعمال وضلال السعي كما يستدعيه مقام الجواب والتفريع الأول وإن دل على هبوطها لكنه ساكت عن إنباء بما هو العمدة في تحقيق معنى الخسران من الوثوق بترتب الربح واعتقاد النفع فيما صنعوا على أن التفريغ الثاني مما يقطع ذلك الاحتمال رأسا إذ لا مجال لإدراجه تحت الأمر بقضية نون العظمة والجواب عن ذلك لا يتم إلا بتكلف فتأمل * (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) * الإحسان الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق وهو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي أي يعتقدون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائق لإعجابهم بأعمالهم التي سعوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها، والجملة حال من فاعل * (ضل) * أي ضل سعيهم المذكور والحال أنهم يحسنون في ذلك وينتفعون بآثاره أو من المضاف إليه في * (سعيهم) * لكونه في محل الرفع أي بطل سعيهم والحال أنهم الخ، والفرق بين الوجهين أن المقارن لحال حسبانهم المذكور في الأول ضلال سعيهم، وفي الثاني نفس سعيهم قيل، والأول أدخل في بيان خطئهم، ولا يخفى ما بين يحسبون ويحسنون من تجنيس التصحيف ومثل ذلك قول البحتري: ولم يكن المغتر بالله إذ سرى * ليعجز والمعتز بالله طالبه
* (أول‍ائك الذين كفروا بااي‍ات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القي‍امة وزنا) *
* (أول‍ائك) * كلام مستأنف من جنابه تعالى مسوق لتكميل تعريف الأخسرين وتبيين خسرانهم وضلال سعيهم وتعيينهم بحيث ينطبق التعريف على المخاطبين غير داخل تحت الأمر كما قيل أي أولئك المنعوتون بما ذكر من ضلال السعي والحسبان المذكور * (الذين كفروا بأيات ربهم) * بدلائله سبحانه الداعية إلى التوحيد الشاملة للسمعية والعقلية، وقيل: بالقرآن والأول أولى، والتعرض لعنوان الربوبية لزيادة تقبيح حالهم في الكفر المذكور * (ولقائه) * هو حقيقة في مقابلة الشيء ومصادفته وليس بمراد، والأكثرون على أنه كناية عن البعث والحشر وما يتبع ذلك من أمور الآخرة أي لم يؤمنوا بذلك على ما هو عليه، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي لقاء عذابه تعالى وليس بذلك * (فحبطت) * بكسر الباء، وقرأ ابن عباس. وأبو السمال بفتحها، والفاء للتفريغ أي فحبطت لذلك * (أعمالهم) * المعهودة حبوطا كليا * (فلا نقيم لهم) * أي لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمال * (يوم القيامة وزنا) * أي فنزدري بهم ونحتقرهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا لأن مدار الاعتبار
48

والاعتناء الأعمال الصالحة وقد حبطت بالمرة وحيث كان هذا الازدراء والاحتقار من عواقب حبوط الأعمال عطف عليه بطريق التفريع وأما ما هو من أجزية الكفر فسيجىء إن شاء الله تعالى بعد ذلك، وزعم بعضهم أن حقه على هذا أن يعطف بالواو عطف أحد المتفرعين على الآخر لأن منشأ ازدرائهم الكفر لا الحبوط وبه اعترض على ذلك وهو ناشىء من فرط الذهول كما لا يخفى أو لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانا لأنها قد حبطت وصارت هباء منثورا. ونفى هذا بعد الإخبار بحبوطها من قبيل التأكيد بخلاف النفي على المعنى الأول ولذلك رجح عليه وليس من الاعتزال في شيء، وقرأ مجاهد. وعبيد بن عمير * (فلا يقيم) * بالياء لتقدم قوله تعالى * (بآيات ربهم) * وعن عبيد أيضا * (فلا يقيم) * بفتح ياء المضارعة كأنه جعل قام متعديا، وعن مجاهد. وابن محيصن ويعقوب بخلاف عنهم * (فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن) * على أن يقوم مضارع قام اللام و * (وزن) * فاعله.
* (ذلك جزآؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا ءاي‍اتى ورسلى هزوا) *
* (ذلك) * بيان لمآل كفرهم وسائر معاصيهم اثر بيان أعمالهم المحبطة بذلك وهو خبر مبتدأ مذحوف أي الأمر والشأن ذلك. وقوله عز وجل: * (جزاؤهم جهنم) * جملة مفسرة له فلا محل لها من الإعراب، وجوز أن يكون * (ذلك) * مبتدأ و * (جزاؤهم) * بدل منه بدل اشتمال أو بدل كل من كل إن كانت الإشارة إلى الجزاء الذي في الذهن و * (جهنم) * خبره. والتذكير وإن كان الخبر مؤنثا لأن المسار إليه الجزاء ولأن الخبر في الحقيقة للبدل. وأن يكون * (ذلك) * مبتدأ و * (جزاؤهم) * خبره و * (جهنم) * عطف بيان للخبر والإرشارة إلى جهنم الحاضرة في الذهن، وأن يكون مبتدأ و * (جزاؤهم جهنم) * مبتدأ وخبر خبره له والعائد محذوف والإشارة إلى كفرهم وأعمالهم والتذكير باعتبار ما ذكر أي ذلك جزاؤهم به جهنم، وتعقب بأن العائد المجرور إنكا يكثر حذفه في مثل ذلك إذا جر بحرف بتبعيض أو ظرفية أو جر عائد قبله بمثل ما جر به كقوله: فالذي تدعي به أنت مفلح
أي به. وجوز أبو البقاء أن يكون " ذلك " مبتدأ و * (جزاؤهم) * بدل أو عطف بيان و * (جهنم) * بدل من جزاء أو خبر مبتدأ و * (جزاؤهم) * بدل أو عطف بيان و * (جهنم) * بدل من جزاء أو خبر مبتدأ محذوف أي هو جهنم. وقوله تعالى: * (بما كفروا) * خبر * (ذلك) * وقال بعد أن ذكر من جوه الإعراب ما ذكر: إنه لا يجوز أن يتعلق الجار بجزاؤهم للفصل بينهما بجهنم، وقيل: الظاهر تعلقه به ولا يضر الفصل في مثل ذلك. وهو تصريح بأن ما ذكر جزاء لكفرهم المتضمن لسائر القبائح التي أنبأ عنها قوله تعالى المعطوف على كفروا * (واتخذوا آياتي ورسلي هزوا) * أي مهزوأ بهما فإنهم لم يقنعوا بمجرد الكفر بالآيات والرسل
عليهم السلام بل ارتكبوا مثل تلك العظيمة أيضا.
وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر، والمراد من الآيات قيل المعجزات الظاهرة على أيدي الرسل عليهم السلام والصحف الإلهية المنزلة عليهم عليهم الصلاة والسلام.
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الص‍الحات كانت لهم جن‍ات الفردوس نزلا) *
* (إن الذين ءامنوا) * بيان بطريق الوعد لمآل الذين اتصفوا باضداد ما اتصف به الكفرة اثر بيان ما لهم بطريق الوعيد أي إن الذين آمنوا بآيات ربهم ولقائه سبحانه: * (وعملوا الصالح‍ات) * من الأعمال * (كانت لهم) * فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده فالمضي باعتبار ما ذكر. وفيه على ما قال شيخ الإسلام إيماء إلى أن أثر الرحمة يصل إليهم بمقتضى الرأفة الأزلية بخلاف ما مر من جعل جهنم للكافرين نزلا فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارهم، وقيل: يجوز أن يكون ما وعدوا به لتحققه نزل منزلة الماضي فجيء بكان اشارة إلى ذلك. ولم يقل اعتدنا لهم كما قيل فيما مر للإشارة إلى أن أمر الجنات لا يكاد يتم بل لا يزال ما فيها يزداد فإن اعتاد الشيء وتهيئته يقتضي تمامية
49

أمره وكماله. وقد جاء في الآثار أنه يغرس للمؤمن بكل تسبيحة يسبحها شجرة في الجنة، وقيل: التعبير بما ذكر أظهر في تحقق الأمر من التعبير بالاعتاد ألا ترى أنه قد تهيأ دار لشخص ولا يسكنها ولا يخلو عن لطف فافهم.
* (جنات الفردوس) * أخرج ابن المنذر. وإن أبي حاتم عن مجاهد أن الفردوس هو البستان بالرومية، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى أنه الكرم بالنبطية وأصله فرداسا، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن عبد الله بن الحرث أن ابن عباس سأل كعبا عن الفردوس فقال: جنة الأعناب بالسريانية، وقال عكرمة: هي الجنة بالحبشية، وقال القفال: هي الجنة الملتفة بالأشجار، وحكى الزجاج أنها الأودية التي تنبت ضروبا من النبات، وقال المبرد: هي فيما سمعت من العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب. ونص الفراء على أنه عربي أيضا ومعناه البستان الذي فيه كرم وهو مما يذكر ويؤنث، وزعم بعضهم أنها لم تسمع في كلام العرب إلا في قول حسان: وإن ثواب الله كل موحد * جنان من الفردوس فيها يخلد
وهو لا يصح فقد قال أمية بن أبي الصلت: كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة * فيها الفراديس ثم الفوم والبصل
وجاء في شعر جرير في أبيات يمدح بها خالد بن عبد الله القسرى حيث قال: وانا لنرجو أن نرافق رفقة * يكونون في الفردوس أول وارد
ومما سمعه أهل مكة قبل إسلام سعد قول هاتف: أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا * على الله في الفردوس منية عارف
والحق أن ذكرها في شعر الإسلاميين كثير وفي شعر الجاهليين قليل، وأخرج البخاري. ومسلم. وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنها تفجر أنهار الجنة " وعن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين ما بين السماء والأرض والفردوس أعلى الجنة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس، وروى عن كعب أنه ليس في الجنة أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وصح أن أهل الفردوس ليسمعون اطيط العرش.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري مرفوعا الفردوس مقصورة الرحمن وكل ذلك لا ينافي كون الفردوس في اللغة البستان كما توهم إذ لا مانع من أن يكون أعلى الجنة بستانا لكنه لكونه في غاية السعة أطلق على كل قطعة منه جنة فقيل جنات الفردوس كذا قيل. واستشكل بأن الآية حينئذ تفيد أن كل المؤمنين في الفردوس المشتمل على جنات وهذا لا يصح على القول بأن الفردوس أعلى الدرجات إذ لا شبهة في تفاوت مراتبهم. وكون المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات طائفة مخصوصة من مطلق المؤمنين مع كونه في مقابلة الكافرين ليس بشيء. وقال أبو حيان: الظاهر أن معنى جنات الفردوس بساتين حول الفردوس ولذا أضيفت الجنات إلى الفردوس. وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل لما أن الآية حينئذ تفيد أن جميع المؤمنين في جنات حول الفردوس ومن المعلوم أن منهم من هو في الفردوس. وقيل: الأمر كما ذكر أبو حيان
50

إلا أنه يلتزم الاستخدام في الآية بأن يراد مطلق الجنات فيما بعد، وفيه مع كونه خلاف الظاهر ما لا يخفي.
وقيل المراد من جنات الفردوس جميع الجنات والإضافة إلى الفردوس التي هي أعلاها باعتبار استمالها عليها ويكفي في الإضافة هذه الملابسة، ولعلك تختار أن الفردوس في الآثار بمعنى وفي الآية بمعنى آخر وتختار من معانيه ما تكلف في الإضافة فيه كالشجر الملتف ونحوه، وظاهر بيت حسان وبيت أمية شاهد على أن للفردوس معنى غير ما جاء في الآثار فليتدبر. واعلم أنه استشكل أيضا ما جاء من أمر السائل بسؤال الفردوس لنفسه مع كونه أعلى الجنة بخبر أحمد عن أبي هريرة مرفوعا " إذا صليتم علي فاسألوا الله تعالى لي الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو " واجيب بأنه لا مانع من انقسام الدرجة الواحدة إلى درجات بعضها أعلى من بعض وتكون الوسيلة عبارة عن أعلى درجات الفردوس التي هي أعلى درجات الجنان، ونظير ذلك ما قيل في حد الإعجاز فتذكر، وقيل المراد من الدرجة في حديث الوسيلة درجة المكانة لا الماكن بخلافها فيما تقدم فلا اشكال، والجار والمجرور متعلق بمحذوف على أنه حال من قوله تعالى: * (نزلا) * أو على أنه بيان كما في سعيا لك وخبر كان في الوجهين * (نزلا) * أو على أنه الخبر و * (نزلا) * حال من * (جنات) * فإن جعل بمعنى ما يهيأ للنازل فالمعنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس نزلا أو جعلت نفس الجنات نزلا مبالغة في الإكرام وفيه إيذان بأنها عندما أعد الله تعالى لهم على لسان النبوة من قوله تعالى: * (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) * بنزلة النزل بالنسبة إلى الضيافة، وإن جعلت بمعنى المنزل فالمعنى ظاهر
* (خالدين فيها) * نصب على الحالية وهي مقدرة عند البعض وحقق أنها حال مقارنة والمعتبر في المقارنة زمان الحكم وهو كونهم في الجنة وهم بعد حصولهم فيها مقارنون له إذ لا آخر له فتأمل ولا تغفل.
* (خ‍الدين فيها لا يبغون عنها حولا) *
* (لا يبغون عنها حولا) * هو - كما قال ابن عيسى وغيره - مصدر كالعوج والصغر والعود في قوله: عادني حبها عودا
أي لا يطلبون عنها تحولا إذ لا يتصور أن يكون شيء أعز عندهم وأرفع منها حتى تنازعهم إليه أنفسهم وتطمح عنه أبصارهم وان تفاوتت درجاتهم، والحاصل أن المراد من عدم طلب التحول عنها كونها أطيب المنازل وأعلاها، وقال ابن عطية: كأنه اسم جمع وكأن واحده حوالة ولا يخفى بعده، وقال الزجاج عن قوم: هو بمعنى الحيلة في التنقل وهو ضعيف متكلف، وجوز أن يراد نفي التحول والانتقال على أن يكون تأكيدا للخلود لأن عدم طلب الانتقال مستلزم للخلود فيؤكده أو لأن الكلام على حد. ولا ترى الضب بها ينجحر
أي لا يتحولون عنها فيبغوه، وقيل في وجه التأكيد: انهم إذا لم يريدوا الانتقاللا ينتقلون لعدم الإكراه فيها وعدم إرادة النقلة عنها فلم يبق إلا الخلود إذ لا واسطة بينهما كما قيل، والجملة حال من صاحب خالدين أو من ضميره فيه فتكو حالا متداخلة، وفيها إيذان بأن الخلود لا يورثهم مللا.
* (قل لو كان البحر مدادا لكلم‍ات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلم‍ات ربى ولو جئنا بمثله مددا) *
* (قل لو كان البحر) * أي جنس البحر * (مدادا) * هو في الأصل اسم لكل ما يمد به الشيء واختص في العرف لما تمد به الدواة من الحبر * (لكلمات ربي) * أي معدا لكتابة كلماته تعالى، والمراد بها كما روي عن قتادة معلوماته سبحانه وحكمته عز وجل * (لنفد البحر) * مع كثرته ولم يبق منه شيء لتناهبة * (قبل أن تنفد كلمات ربي) * لعدم تناهيها * (ولو جئنا بمثله مددا) * عونا وزيادة لأن مجموع
51

المتناهيين متناه بل جميع ما يدخل في الوجود على التعاقب أو الاجتماع متناه ببرهان التطبيق وغيره من البراهين، وهذا كلام من جهته تعالى شأنه غير داخل في الكلام الملقن جيء به لتحقيق مضمونه وتصديق مدلوله على أتم وجه، والواو لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفة المقابلة لها المحذوفة لدلالة المذكور عليها دلالة واضحة أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته تعالى لو لم نجيء بمثله مددا ولو جئنا بمثله مددا، والكلام في جواب * (لو) * مشهور وليس قوله تعالى: * (قبل أن تنفد) * للدلالة على أن ثم نفادا في الجملة محققا أو مقدرا لأن المراد منه لنفد البحر وهو باقية إلا أنه عدل إلى المنزل لفائدة المزاوجة وإن ما لا ينفد عند العقول العامية ينفد دون نفادها وكلما فرضت من المد فكذلك والمثل للجنس شائع على أمثال كثيرة تفرض كل منها مددا، وهذا كما في الكشف أبلغ من وجه من قوله تعالى: * (والبحر يمده من بعده سبعة أبحر) *.
وذلك أبلغ من وجه آخر وهو ما في تخصيص هذا العدد من النكتة ولم يرد تخصيص العدة ثم فيه زيادة تصوير لما استقر في عقائد العامة من أنها سبعة حتى إذا بالغوا فيما يتعذر الوصول إليه قالوا هو خلف سبعة أبحر، وفي إضافة الكلمات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم في الموضعين من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى، وإظهار البحر والكلمات في موضع الإضمار لزياد، ة التقرير، ونصب * (مددا) * على التمييز كما في قوله: فإن الهوى يكفيكه مثله صبرا
وجوز أبو الفضل الرازي نصبه على المصدر على معنى ولو أمددنا بمثله إمدادا وناب المدد عن الإمداد على حد ما قيل في قوله تعالى: * (والله أنبتكم من الأرض نباتا) * (نوح: 17) وفيه تكلف.
وقرأ حمزة. والكسائي. وعمرو بن عبيد. والأعمش. وطلحة. وابن أبي ليلى. * (قبل أن ينفد) * بالياء آخر الحروف، وقرأ السلمي * (أن تنفد) * بالتشديد على تفعل على المضي وجاء كذلك عن عاصم. وأبي عمرو. فهو مطاوع نفد مشددا نحو كسرته فتكسر.
وقرأ الأعرج * (بمثله مددا) * بكسر الميم على أنه جمع مدة وهو ما يستمده الكاتب فيكتب به، وقرأ ابن مسعود. وابن عباس. ومجاهد. والأعمش. بخلاف. والتيمي. وابن محيصن. وحميد. والحسن في رواية. وأبو عمرو كذلك. وحفص كذلك أيضا * (مدادا) * بألف بين الدالين وكسر الميم. وسبب النزول أن حي بن أخطب كما رواه الترمذي عن ابن عباس قال: في كتابكم * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * (البقرة: 269) ثم تقرؤون * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * ومراده الاعتراض بأنه وقع كتابكم تناقض بناء على أن الحكمة هي العلم وأن الخير الكثير هو عين الحكمة لا آثارها وما يترتب عليها لأن الشيء الواحد لا يكون قليلا وكثيرا في حالة واحدة فالآية جواب عن ذلك بالإرشاد إلى أن القلة والكثرة من الأمور الإضافية فيجوز أن يكون الشيء كثيرا في نفسه وهو قليل بالنسبة إلى شيء آخر فإن البحر مع عظمته وكثرته خصوصا إذا ضم إليه أمثاله قليل بالنسبة إلى كلماته عز وجل، وقيل سبب ذلك أن اليهود قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ومبعوث إليه وانك أعطيت من العلم ما يحتاجه الناس، وقد سئلت عن الروح فلم تجب فيه؟ ومرادهم الاعتراض بالتناقض بين دعواه عليه الصلاة والسلام وحاله في زعمهم بناء على أن العلم بحقيقة الروح مما يحتاجه الناس وأنه صلى الله عليه وسلملم يفده عبارة ولا إشارة والجواب عن هذا منع كون العلم بحقيقة الروح مما يحتاجه الناس في أمر دينهم المبعوث له الأنبياء عليهم السلام والقائل " أنتم أعلم بأمور دنياكم " لا يدعي علم ما يحتاجه الناس مطلقا، وأنت تعلم أن الآية لا تكون جوابا عما ذكر على تقدير صحة كون ذلك سبب
52

النزول إلا بضم الآية الآتية إليها ومع هذا يحتاج ذلك إلى نوع تكلف.
* (قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إل‍اهكم إل‍اه واحد فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا ص‍الحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *
* (قل) * بعد أن بينت شأن كلماته عز شأنه * (إنما أنا بشر مثلكم) * لا أدعي الإحاطة بكلماته جل وعلا * (يوحى إلي) * من تلك الكلمات * (أنما إل‍اهكم إل‍اه واحد) * وإنما تميزت عنكم بذلك، وأن المفتوحة وأن كفت بما في تأويل المصدر القائم مقام فاعل * (يوحي) * والاقتصار على ما ذكر لأنه ملاك الأمر، والقصر في الموضعين بناء على القول بإفادة إنما بالكسر وإنما بالفتح الحصر من قصر الموصوف على الصفة قصر قلب والمقصور عليه في الأول * (أنا) * والمقصور البشرية مثل المخاطبين، وهو على ما قيل مبني على تنزيلهم لاقتراحهم عليه عليه الصلاة والسلام ما لا يكون من بشر مثلهم منزلة من يعتقد خلافه أو على تنزيلهم منزلة من ذكر لزعمهم أن الرسالة التي يدعيها صلى الله عليه وسلم مبرهنة بالبراهين الساطعة تنافي ذلك، وقيل إن المقصود بأن يقصر عليه الإيحاء إليه صلى الله عليه وسلم على معنى أنه صلى الله عليه وسلم مقصور على إيحاء ذلك إليه لا يتجاوزه إلى عدم الإيحاء كما يزعمون، والمقصور الثاني * (إلهكم) * أي معبودكم الحق والمقصور عليه الوحدانية المعبر عنها باله واحد أي لا يتجاوز معبودكم بالحق تلك الصفة التي هي الوحدانية أي الوحدة في الألوهية إلى صفة أخرى كالتعدد فيها الذي تعتقدونه أيها المشركون.
وعزم بعضهم أن القصر في الثاني من قصر الصفة على الموصوف قصر أفراد وان المقصور الألوهية مصدر الهكم والمقصور عليه هو الله تعالى المعبر عنه باله واحد ولا يخفى ما فيه من التكلف والعدول عما هو الأليق.
ومما يوضح ما ذكرنا أنه لو قيل إنما الهكم واحد لم يكن إلا من قصر الموصوف على الصفة فزيادة إله للتوطئة للوصف بواحد والإشارة إلى أن المراد الوحدة في الألوهية ر تغير ذلك. وأما جعله من قصر الصفة على الموصوف قصر أفراد على أن الله تعالى هو المقصور عليه والوحدانية هي المقصور فباطل قطعا لأن قصر الصفة على الموصوف كذلك إنما يخاطب به من يعتقد اشتراك الصفة بين موصوفين كما تقرر في محله وهذا الاعتقاد لا يتصور هنا من عاقل لبداهة استحالة اشتراك موصوفين في الوحدانية أي الوحدة في الألوهية وما يوهم إرادة هذا القصر من كلام الزمخشري في نظير هذه الآية مؤول كما لا يخفى على المنصف، وجوز أن يكون من قصر التعيين وليس بذاك فتأمل جميع ذلك والله تعالى يتولى هداك * (فمن كان يرجوا لقاء ربه) * الرجاء طمع حصول ما فيه مسرة في المستقبل ويستعمل بمعنى الخوف وأنشدوا. إذا لسعته النحل لم يرج لسعها * وحالفها في بيت نوب عوامل
ولقاء الرب سبحانه هنا قيل مثل للوصول إلى العاقبة من تلقى ملك الموت والبعث والحساب والجزاء مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهده طويل وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر فاما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من أفغاله أو بضد ذلك لما سخطه منها فالمعني على هذا، وحمل الرجاء على المعنى الأول من كان يأمل تلك الحال وأن يلقى فيها الكرامة من ربه تعالى والبشرى * (فليعمل) * لتحصيل ذلك والفوز به * (عملا صالحا) * وقيل هو كناية عن البعث وما يتبعه والكلام على حذف مضاف أي من كان يؤمل حسن البعث فليعمل الخ، وقيل لا حذف، والمراد من توقع البعث فليعمل صالحا أي أن ذلك العمل مطلوب ممن يتوقع البعث فكيف من يتحققه، وقيل: اللقاء على حقيقته والكلام على حذف مضاف
53

أيضا أي من كان يؤمل لقاء ثواب ربه فليعمل الخ، وقيل المراد منه رؤيته سبحانه أي من كان يؤمل رؤيته تعالى يوم القيامة وهو راض عنه فليعمل الخ، وجوز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف على معنى من خاف سوء لقاء ربه أو خاف لقاء جزائه تعالى فليعمل الخ، وتفسير الرجال بالطمع أولى، وكذا كون المرجو الكرامة والبشرى، وعلى هذا فادخال الماضي على المستقبل للدلالة على أن اللائق بحال العبد الاستمرار والاستدامة على رجاء الكرامة من ربه فكأنه قيل فمن استمر علم رجاء كرامته تعالى فليعمل عملا صالحا في نفسه لائقا بذلك المرجو كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات * (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * إشراكا جليا كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ولا إشراكا خفيا كما يفعله أهل الرياء ومن يطلب بعمله دنيا، واقتصر ابن جبير على تفسير الشرك بالرياء وروي نحوه عن الحسن، وصح في الحديث تسميته بالشرك الأصغر، ويؤيد إرادة ذلك تقديم الأمر بالعمل الصالح على هذا النهي فإن وجه جينئذ ظاهر إذ يكون الكلام في قوة قولك من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا في نفسه ولا يراء بعمله أحدا فيفسده. وكذا ما روي من أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه سرني فقال لي: إن الله تعالى لا يقبل ما شورك فيه فنزلت الآية تصديقا له صلى الله عليه وسلم، نعم لا يأبى ذلك أرادة العموم كما لا يخفى، وقد تظافرت الأخبار أن كل عمل عمل لغرض دنيوي لا يقبل، فقد أخرج أحمد. ومسلم. وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تعالى أنه قال: " أنا خير الشركاء فمن عمل عملا أشرك فيه غيره فانا بريء منه وهو للذي أشرك ".
وأخرج البزار. والبيهقي عن أنس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة في صحف مختمة فيقول الله تعالى ألفوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة يا رب والله ما رأينا منه إلا خيرا فيقول سبحانه إن عمله كان لغير وجهي ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي "، وأخرج أحمد. والنسائي. وابن حبان. والطبراني. والحاكم وصححه عن يحيى بن الوليد بن بعادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من غزا وهو لا ينوي في غزاته إلا عقالا فله ما نوى "، وأخرج أبو داود. والنسائي. والطبراني. بسند جيد عن أبي إمامة قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له فاعادها ثلاث مرار يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: لا شيء له ثم قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه " إلى غير ذلك من الأخبار.
واستشكل كون السرور بالعمل إشراكا فيه محبطا له مع أن الاتيان به ابتداء كان بإخلاص النية كما يدل عليه إني أعمل العمل لله تعالى.
وأجيب بما أشار إليه في الإحياء من أن العمل لا يخلو إذا عمل من أن ينعقد من أوله إلى آخره على الإخلاص من غير شائبة رياء وهو الذهب المصفى أو ينعقد من أوله إلى آخره على الرياء وهو عمل محبط لا نفع فيه أو ينعقد من أول أمره على الإخلاص ثم يطرأ عليه الرياء وحينئذ لا يخلو طروه عليه من أن يكون بعد تمامه أو قبله والأول غير محبط لا سيما إذا لم يتكلف إظهاره إلا أنه إذا ظهرت رغبة وسرور تام بظهوره يخشى عليه لكن الظاهر أنه مثاب عليه والثاني وهو المراد هنا فإن كان باعثا له على العمل ومؤثرا فيه فسد ما قارنه وأحيطه ثم سرى إلى ما قبله.
54

وأخرج ابن منده. وأبو نعيم في الصحابة. وغيرهما من طريق السدى الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس وفيه نزل قوله تعالى: * (فمن كان يرجوا) * الآية ولا شك أن العمل الذي يقارن ذلك محبط. وذكر بعضهم قد يثاب الرجل على الإعجاب إذا اطلع على عمله، فقد روى الترمذي. وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: " أن رجلا قال: يا رسول الله إني أعمل العمل فيطلع عليه فيعجبني فقال عليه الصلاة والسلام لك أجران أجر السر وأجر العلانية " وهذا محمول على ما إذا كان ظهور عمله لأحد باعثاله على عمل مثله والاقتداء به فيه ونحو ذلك ولم يكن إعجابه بعمله ولا بظهوره بل بما يترتب عليه من الخير ومثله دفع سوء الظن ولذا قيل ينبغي لمن يقتدي به أن يظهر أعماله الحسنة. والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم حال كل من هذا الرجل وجندب بن زهير فأجاب كلا على حسب حاله، وما ألطف جوابه عليه الصلاة والسلام لجندب كما لا يخفى على الفطن.
وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن مردويه. والبيهقي في شعب الأيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أنزلت الآية في المشركين الذين عبدوا مع الله تعالى إلها غيره وليست في المؤمنين وهو ظاهر في أنه حمل الشرك على الجلي، وأنت تعلم أنه لا يظهر حينئذ وجه تقديم الأمر بالعمل الصالح على النهي عن الشضرك المذكور إلا بتكلف فلعل العموم أولى وإن كان الشرك أكثر شيوعا في الشرك الجلي.
ويدخل في العموم قراءة القرآن للموتى بالأجرة فلا ثواب فيها للميت ولا للقارىء أصلا وقد عمت البلوي بذلك والناس عنه غافلون وإذا نبهوا لا يتنبهون فانا لله تعالى وإنا إليه راجعون؛ وقد بالغ في العموم من جعل الاستعانة في الطاعات كالوضوء شركا منهيا عنه فقد قال الراغب في المحاضرات: إن علي بن موسى الرضا رضي الله تعالى عنهما كان عند المأمون فلما حضر وقت الصلاة رأى الخدم يأتونه بالماء والطست فقال الرضا رضى الله تعالى عنه: لو توليت هذا بنفسك فإن الله تعالى يقول: * (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * ولعل المراد بالنهي هذا مطلق طلب الترك ليعم الحرام والكروه، والظاهر أن الفاء للتفريع على قصر الوحدانية عليه تعالى، ووجه ذلك على أن كون الإله الحق واحدا يقتضي أن يكون في غاية العظمة والكمال واقتضاء ذلك عمل الطامع في كرامته عملا صالحا وعدم الإشراك بعبادته مما لا شبهة فيه كذا قيل، وقيل الأمر بالعمل الصالح فتفرع على كونه تعالى الها والنهي عن الشرك متفرع على كون الاله واحدا، وجعل هذا وجها لتقديم الأمر على النهي على ما روي عن ابن عباس وهو كما ترى، وقيل: التفريع على مجموع ما تقدم فليفهم، ووضع الظاهر موضع الضمير في الموضعين مع التعرض لعنوان الربوبية لزيادة التقرير وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي ووجوب الامتثال فعلا وتركا.
وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي * (ولا تشرك) * بالتاء الفوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ويكون قوله تعالى: * (بربه) * التفاتا أيضا من الخطاب إلى الغيبة، هذا وعن معاوية بن أبي سفيان أن هذه الآية * (فمن كان يرجوا) * الخ آخر آية نزلت وفيه كلام والحق خلافه والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات: قيل ذو القرنين إشارة إلى القلب، وقيل: إلى الشيخ الكامل ويأجوج وما جوج إشارة إلى الدواعي والهواجس الوهمية والوساوس والنوازع الخيالية، وقيل: إشارة إلى القوى
55

والطبائع والأرض إشارة إلى البدن وهكذا فعلوا في باقي ألفاظ القصة وراموا التطبيق بين ما في الآفاق وما في الأنفس ولعمري لقد تكلفوا غاية التكلف ولم يأتوا بما يشرح الخاطر ويسر الناظر، ولعل الأولى أن يقال: الإشارة في القصة إلى إرشاد الملوك لاستكشاف أحوال رعاياهم وتأديب مسيئهم والإحسان إلى محسنهم وإعانة ضعفائهم ودفع الضرر عنهم وعدم الطمع بما في أيديهم وإن سمحب به أنفسهم لمصلحتهم. وقد يقال: فيها إشارة إلى اعتبار الأسباب.
وقال الأشاعرة: الأسباب في الحقيقة ملغاة وعلى هذا قول شيخهم يجوز لأعمى الصين أن يرى بقعة أندلس ومذهب السلف أنها معتبرة وإن لم يتوقف عليها فعل الله تعالى عقلا وتحقيق هذا المطلب في محله، وقوله تعالى: * (الذين ضل يعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) * (الكهف: 104) إشارة إلى المرائين على ما في أسرار القرآن ومنهم الذين يجلسون في الخانقاه لأجل نظر الخلق وصرف وجوه الناس إليهم واصطياد أهل الدنيا بشباك حيلهم وذكر من خسرانهم في الدنيا افتضاحهم فيها وإظهار الله تعالى حقيقة حالهم للناس. ومهما تكن عند امرىء من خليقة * وإن خالها تخفي على الناس تعلم
وأما خسرانهم في الآخرة فالطرد عن الحضرة والعذاب الأليم. وقوله تعالى: * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما الهكم إله واحد) * (فصلت: 6) إشارة إلى جهة مشاركته صلى الله عليه وسلم للناس وجهة امتيازه ولولا تلك المشاركة ما حصلت الإفاضة ولولا ذلك الامتياز ما حصلت الاستفاضة. وقد أشار مولانا جلال الدين القونوي قدس سره إلى ذلك بقوله: كفت بيغمبركه أصحابي نجوم
ره روانرا شمع وشيطان رارجوم
هركسي راكر نظر بواداي زدور * كو كرفتي زافتاب جرح نور
كي ستاره حاجتي جوادي ذليل * كي بدى برنوز خورشيدا ودليل
ماه ميكويدبابر وخاك في * من بشر من مثلكم يوحى إلى
جون شماتاريك بودم درنهاد * وحى خورشيددم جنين نورى بداد
ظلمتي دارم به نسبت باشموس * نور دارم بهر ظلمات نفوس
زان ضعيفم تاتوبابي أورى * كه ني مردى افتاب انوري
هذا ونسأل الله تعالى بحرمة نبيه المكرم المعظم صلى الله عليه وسلم أن يوفقنا لما يرضيه ويوفقنا على أسرار كتابه الكريم ومعانيه.
سورة مريم
المشهور تسميتها بذلك ورويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الطبراني. وأبو نعيم. والديلمي من طريق أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده قال: أتيت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقلت: ولدت لي الليلة جارية فقال: والليلة أنزلت على سورة مريم، وجاء فيما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تسميتها بسورة * (كهيعص) * وهي مكية كما روي عن عائشة. وابن عباس. وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، وقال مقاتل: هي كذلك إلا آية السجدة فإنها مدنية نزلت بعد مهاجرة
56

المؤمنين إلى الحبشة، وفي الاتقان استثناء قوله تعالى: * (وإن منكم إلا واردها) * (مريم: 71) أيضا، وهي عند العراقيين. والشاميين ثمان وتسعون آية وعند المكيين تسع وتسعون وللمدنيين قولان، ووجه مناسبتها لسورة الكهف اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من الأعاجيب كقصة ولادة يحيى. وقصة ولادة عيسى عليهما السلام ولهذا ذكرت بعدها، وقيل إن أصحاب الكهف يبعثون قبل الساعة ويحجون مع عيسى عليه السلام حين ينزل ففي ذكر هذه السورة بعد تلك مع ذلك إن ثبت ما لا يخفى من المناسبة، ويقوى ذلك ما قيل أنهم من قومه عليه السلام وقيل غير ذلك.
* (كهيعص) *
* (بسم الله الرحم‍ان الرحيم كهيعص) * أخرج ابن مردويه عن الكلبي أنه سئل عن ذلك فحدث عن أبي صالح عن أم هانىء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كاف هاد عالم صادق، واختلفت الروايات عن ابن عباس، ففي رواية أنه قال: كبير هاد أمين عزيز صادق، وفي أخرى أنه قال: هو قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسماء الله تعالى، وفي أخرى أنه كان يقول: كهيعص وحم ويس وأشباه هذا هو اسم الله تعالى الأعظم، ويستأنس له بما أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي. وابن ماجه وابن جرير عن فاطمة بنت علي قالت: كان علي كرم الله تعالى وجهه: يقول ياكهيعص اغفر لي، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة أنهم قالوا كهيعص هو الهجاء المقطع الكاف من الملك والهاء من الله والياء والعين من العزيز والصاد من المصور. وأخرج أيضا عن محمد بن كعب نحو ذلك إلا أنه لم يذكر الياء، وقال الصاد من الصمد.
وأخرج أيضا عن الربيع بن أنس أنه قال في ذلك: يا من يجير ولا يجار عليه، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة أنه اسم من أسماء القرآن، وقيل: إنه اسم للسورة وعليه جماعة، وقيل حروف مسرودة على نمط التعديد ونسب إلى جمع من أهل التحقيق، وفوض البعض علم حقيقة ذلك إلى حضرة علام الغيوب.
وقد تقدم تمام الكلام في ذلك وأمثاله في أول سورة البقرة فتذكر، وقرأ الجمهور كاف بإسكان الفاء، وروى عن الحسن ضمها وأمال نافع هاويا بين اللفظين وأظهر دال صادر ولم يدغمها في الذال بعد وعليه الأكثرون.
وقرأ الحسن بضم الهاء وعنه أيضا ضم الياء وكسر الهاء، وعن عاصم ضم الياء وعنده أيضا كسرهما، وعن حمزة فتح الهاء وكسر الياء، قال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن المقري الرازي في كتاب " اللوامح ": إن الضم في هذه الأحرف ليس على حقيقته وإلا لوجب قلب ما بعدهن من الالفات واوات بل المراد أن ينحي هذه الالفات نحو الواو على لغة أهل الحجاز وهي التي تسمى ألف التفخيم ضد الأمارة، وهذه الترجمة كما ترجموا عن الفتحة الممالة المقربة من الكسر بالكسر لتقريب الألف بعدها من الياء انتهى، ووجه الأمالة والتفخيم أن هذه الألفات لما لم يكن لها أصل حملوها على المنقلبة عن الواو تارة، وعن الياء أخرى فجوز الأمران دفعا للتحكم.
وقرأ أبو جعفر بتقطيع هذه الحروف وتخليص بعضها من بعض واقتضى ذلك إسكان آخرهن، والتقاء الساكنين مغتفر في باب الوقف، وأدغم أبو عمرو دال صادر في الذال بعد. وقرأ حفص عن عاصم. وفرقة بإظهار النون من غير، والجمهور على إخفائها. واختلف في إعرابه فقيل على القول بأن كل حرف من اسم
57

من أسمائه تعالى لا محل لشيء من ذلك ولا للمجموع من الأعراب، وقيل: إن كل حرف على نية الاتمام خبر لمبتدأ محذوف أي هو كاف هو هاد وهكذا أو الأول على نية الاتمام كذلك والبواقي خبر بعد خبر. وعلي ما روى عن الربعي قيل: هو منادي وهو اسم من أسمائه تعالى معناه الذي يجير ولا يجار عليه. وقيل لا محل له من الأعراب أيضا وهو كلمة تقال في موضع نداء الله تعالى بذلك العنوان مثل ما يقال مهيم في مقام الاستفسار عن الحال وهو كما ترى، وعلى القول بأنه حروف مسرودة على نمط التعديد قالوا: لا محل له من الإعراب؛ وقوله تعالى:
* (ذكر رحمت ربك عبده زكريآ) *
* (ذكر رحمت ربك) * على هذه الأقوال خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلو * (ذكر) * الخ ويقال على الأخير المؤلف من جنس هذه الحروف المبسوطة مرادا به السورة * (ذكر) * الخ. وقيل مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليك * (ذكر) * الخ، وعلى القول بأنه اسم للسورة قيل محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي
هذا كهيعص أي مسمى به. وإنما صحت الإشارة إليه مع عدم جريان ذكره لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر صار في حكم الحاضر المشاهد كما قيل في قولهم هذا ما اشترى فلان.
وفي * (ذكر) * وجهان كونه خبرا لمبتدأ محذوف وكونه مبتدأ خبره محذوف. وقيل محله الرفع على أنه مبتدأ و * (ذكر) * الخ خبره أي الممى به ذكر الخ فإن ذكر ذلك لما كان مطلع السورة الكريمة ومعظم ما انطوت هي عليه جعلت كأنها نفس ذكره أو الإسناد باعتبار الاشتمال أو هو بتقدير مضاف أي ذو ذكر الخ أو بتأويل مذكور فيه رحمة ربك، وعلى القول بأنه اسم للقرآن قيل المراد بالقرآن ما يصدق على البعض ويراد به السورة والإعراب هو الاعراب وحينئذ لا تقابل بين القولين. وقيل المراد ما هو الظاهر وهو مبتدأ خبره * (ذكر) * الخ والإسناد باعتبار الاشتمال أو التقدير أو التأويل؛ وقوله تعالى: * (عبده) * مفعول لرحمة ربك على أنها مفعول لما أضيف إليه وهي مصدر مضاف لفاعله موضوع هكذا بالتاء لا أنها للوحدة حتى تمنع من العمل لأن صيغة الوحدة ليست الصيغة التي اشتق منها الفعل ولا الفعل دال على الوحدة فلا يعمل المصدر لذلك عمل الفعل إلا شذوذا كما نص عليه النحاة. وقيل مفعول للذكر على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع. ومعنى ذكر الرحمة بلوغها وإصابتها كما يقال ذكرني معروفك أي بلغني. وقوله عز وجل: * (زكريا) * بدل منه بدل كل من كل أو عطف بيان له أو نصب بإضمار أعني. وقوله تعالى شأنه:
* (إذ نادى ربه ندآء خفيا) *
* (إذ نادى ربه) * ظرف لرحمة ربك وقيل لذكر على أنه مضاف لفاعله لا على الوجه الأول لفساد المعنى وقيل: هو بدل اشتمال من * (زكريا) * كما قوله تعالى: * (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) * (مريم: 16).
وقرأ الحسن. وابن يعمر كما حكاه أبو الفتح * (ذكر) * فعلا ماضيا مشددا و * (رحمة) * بالنصب على أنه كما في البحر مفعول ثان لذكر والمفعول الأول محذوف و * (عبده) * مفعول لرحمة وفاعل * (ذكر) * ضمير القرآن المعلوم من السياق أي ذكر القرآن الناس أن رحم سبحانه عبده، ويجوز أن يكون الفاعل ضميره عز وجل أي ذكر الله تعالى الناس ذلك، وجوز أن يكون * (رحمة ربك) * مفعولا ثانيا والمفعول الأول هو * (عبده) * والفاعل ضميره سبحانه أي ذكر الله تعالى عبده رحمته أي جعل العبد يذكر رحمته. وإعراب * (زكريا) * كما مر، وجوز أن
58

يكون مفعولا لرحمة والمراد بعده الجنس كأنه قيل ذكر عباده رحمته زكريا وهو كما ترى، ويجوز على هذا أن يكون الفاعل ضمير القرآن، وقيل يجوز أن يكون الفاعل ضميره تعالى والرحمة مفعولا أولا و * (عبده) * مفعولا ثانيا ويرتكب المجاز أي جعل الله تعالى الرحمة ذاكرة عبده، وقيل: * (رحمة) * نصب بنزع الخافض أي ذكر برحمة، وذكر الداني عن أبي يعمر أنه قرأ * (ذكر) * على الأمر والتشديد و * (رحمة) * بالنصب أي ذكر الناس رحمة أو برحة ربك عبده زكريا.
وقرأ الكلبي * (ذكر) * فعلا ماضيا خفيا و * (رحمة ربك) * بالنصب على المفعولية لذكر و * (عبده) * بالرفع على الفاعلية له. وزكريا عليه السلام من ولد سليمان بن داود عليهما السلام، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه آخر أنبياء بني إسرائيل وهو ابن آزر بن مسلم من طرية يعقوب، وأخرج إسحق بن بشر. وابن عساكر عن ابن عباس أنه ابن دان وكان من أبناء الأنبياء الذين يكتبون الوحي في بيت المقدس، وأخرج أحمد. وأبو يعلى. والحاكم وصححه. وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا أنه عليه السلام كان نجارا.
وجاء في اسمه خمس لغات. أولها: المد. وثانيها: القصر وقرىء بهما في السبع. وثالثها: زكرى بتشديد الياء. ورابعها: زكرى بتخفيفها. وخامسها: زكر كقلم وهو اسم أعجمي، والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره وقد يقال لمجرد الصوت بل لكل ما يدل على شيء وإن لم يكن صوتا على ما حققه الراغب، والمراد هنا إذ دعا ربه * (نداء) * أي دعاء * (خفيا) * مستورا عن الناس لم يسمعه أحد منهم حيث لم يكونوا حاضرين. وكان ذلك على ما قيل في جوف الليل، وإنما أخفى دعاء عليه السلام لأنه أدخل في الإخلاص وأبعد عن الرياء وأقرب إلى الخلاص عن لائمة الناس على طلب الولد لتوقفه على مبادي لا يليق به تعاطيها في أوان الكبر والشيخوخة وعن غائلة مواليه، وعلى ما ذكرنا لا منافاة بين النداء وكونه خفيا بل لا منافاة بينهما أيضا إذا فسر النداء برفع الصوت لأن الخفاء غير الخفوت ومن رفع صوته في مكان ليس بمرأى ولا مسمع من الناس فقد أخفاه، وقيل: هو مجاز عن عدم الرايء أي الإخلاص ولم ينافه النداء بمعنى رفع الصوت لهذا.
وفي " الكشف " أن الأشبه أنه كناية مع إرادة الحقيقة لأن الخفاء في نفسه مطلوب أيضا لكن المقصود بالذات الإخلاص، وقيل مستورا عن الناس بالمخافة، ولا منافاة بناء على ارتكاب المجاز أو بناء على أن النداء لا يلزمه رفع الصوت ولذا قيل: يا من ينادي بالضمير فيسمع
وكان نداؤه عليه السلام كذلك لما مر آنفا أو لضعف صوته بسبب كبره كما قيل الشيخ صوته خفات وسمعه تارات، قيل: كان سنه حينئذ ستين سنة، وقيل خمسا وستين، وقيل سبعين، وقيل خمسا وسبعين، وقيل ثمانين، وقيل خمسا وثمانين، وقيل اثنتين وتسعين، وقيل تسعا وتسعين، وقيل مائة وعشرين وهو أوفق بالتعليل المذكور.
وزعم بعضهم أنه أشير إلى كون النداء خفيا ليس فيه رفع بحذف حرفه في قوله تعالى:
* (قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعآئك رب شقيا) *
* (قال رب) * والجملة تفسير للنداء وبيان لكيفيته فلا محل لها من الإعراب * (إني وهن العظم مني) * أي ضعف، وإسناد ذلك إلى العظم لما أنه عماد البدن ودعام الجسد فإذا أصابه الضعف والرخاوة تداعى ما وراءه وتساقطت قوته؛ ففي الكلام كناية مبنية على تشبيه مضمر في النفس أو لأنه أشد أجزاء صلابة وقواما وأقلها تأثرا من العلل فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، ففي الكلام كناية بلا تشبيه، وأفرد - على ما قاله العلامة الزمخشري وارتضاه
59

كثير من المحققين - لأن المفرد هو الدال على معنى الجنسية والقصد إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ولو جمع لكان القصد إلى معنى آخر وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها حتى كأنه وقع من سامع شك في الشمول والإحاطة لأن القيد في الكلام ناظر إلى نفي ما يقابله وهذا غير مناسب للمقام، وقال السكاكي: إنه ترك جمع * (العظم) * إلى الإفراد لطلب شمول الوهن العظام فردا فردا ولو جمع لم يتعين ذلك لصحة وهنت العظام عند حصول الون لبعض منها دون كل فرد وهو مسلك آخر مرجوح عند الكثير وتحقيق ذلك في موضعه، وعن قتادة أنه عليه السلام اشتكى سقوط الأضراس ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى خبر يدل عليه فإن انفهامه من الآية مما لا يكاد يسلم، و * (مني) * متعلق بمحذوف هو حال من العظم، ولو يقل - عظمي - مع أنه أخصر لما في ذلك من التفصيل بعد الإجمال ولأنه أصرح في الدلالة على الجنسية المقصودة هنا، وتأكيد الجملة لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمونها.
وقرأ الأعمش * (وهن) * بكسر الهاء، وقرىء بضمها أيضا * (واشتعل الرأس شيبا) * شبه الشيب في البياض والإنارة بشواظ النار وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ففي الكلام استعارتان تصريحية تبعية في * (اشتعل) * ومكنية في الشيب، وانفكاكها عن التخييلية مما عليه المحققون من أهل المعاني على أنه يمكن على بعد القول بوجود التخييلية هنا أيضا. وتكلف بعضهم لزعمه عدم جواز الانفكاك وعدم ظهور وجود التخييلية إخراج ما في الآية مخرج الاستعارة التمثيلية وليس بذاك، وأسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وأخرج مخرج التمييز للمبالغة وإفادة الشمول فإن إسناد معنى إلى ظرف ما اتصف به زمانيا أو مكانيا يفيد عموم معناه لكل ما فيه في عرف التخاطب فقولك: اشتعل بيته نارا يفيد احتراق جميع ما فيه دون اشتعل نار بيته.
وزعم بعضهم أن * (شيبا) * نصب على المصدرية لأن معنى * (اشتعل الرأس) * شاب، وقيل هو حال أي شائبا وكلا القولين لا يرتضيهما كامل كما لا يخفى، واكتفى باللام عن الإضافة لأن تعريف العهد المقصود هنا يفيد ما تفيده، ولما كان تعريف * (العظم) * السابق للجنس كما علمت لم يكتف به وزاد قوله * (مني) * وبالجملة ما أفصح هذه الجملة وأبلغها، ومنها أخذ ابن دريد قوله: واشتعل المبيض في مسوده * مثل اشتعال النار في جزل الغضاء
وعن أبي عمرو أنه أدغم السين في الشين * (ولم أكن بدعائك رب شقيا) * أي لم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل بل كلما دعوتك استجبت لي، والجملة معطوفة على ما قبلها، وقيل حال من ياء المتكلم إذ المعنى واشتعل رأسي وهو غرب، وهذا توسل منه عليه السلام بما سلف منه تعالى من الاستجابة عند كل دعوة إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة من كبر السن وضعف الحال فإنه تعالى بعد ما عود عبده الإجابة دهرا طويلا لا يكاد يخيبه أبدا لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره، وفي هذا التوصل من الإشارة إلى عظم كرم الله عز وجل ما فيه.
وقد حكى أن حاتما الطائي، وقيل معنى بن زائدة أتاه محتاج فسأله وقال: أنا الذي أحسنت إليه وقت كذا فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته، وقيل المعنى ولم أكن بدعائك أياي إلى الطاعة شقيا بل
60

كنت ممن أطاعك وعبدك مخلصا فالكاف على هذا فاعل والأول أظهر وأولى وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لا سيما توسيطهبين كان وخبرها لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع.
وقد جاء في بعض الآثار أن البعد إذا قال في دعائه: يا رب قال الله تعلى له: لبيك عبدي. وروى أن موسى عليه السلام قال يوما في دعائه: يا رب فقال الله سبحانه وتعالى له: لبيك يا موسى فقال موسى: أهذا لي خاصة فقال الله تبارك وتعالى: لا ولكن لكل من يدعوني بالربوبية وقيل: إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاته عز وجل:
* (وإني خفت الموالى من ورآئى وكانت امرأتى عاقرا فهب لى من لدنك وليا) *
* (وإني خفت الموالي) * هم عصبة الرجل على ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ومجاهد، وعن الأصم أنهم بنو العم وهم الذين يلونه في النسب. وقيل: من يلي أمره من ذوي قرابته مطلقا، وكانوا على سائر الأقوال شرار بني إسرائيل فخاف عليه السلام أن لا يحسنوا خلافته في أمته، والجملة عطف على قوله: * (إني وهن العظم مني) * مترتب مضمونها على مضمونه فإن ضعف القوى وكبر السن من مبادي خوفه عليه السلام من يلي أمره بعد موته حسبما يدل عليه قوله * (من وراءى) * فإن المراد منه بإجماع من علمنا من المفسرين من بعد موتي، والجار والمجرور متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أي خفت فعل الموالي من ورائي أو جور المولى؛ وقد قرىء كما في إرشاد العقل السليم كذلك، وجوز تعلقه بالموالي ويكفي في ذلك وجود معنى الفعل فيه في الجملة، فقد قالوا: يكفي في تعلق الظرف رائحة الفعل ولا يشترط فيه أن يكون دالا على الحدوث كاسم الفاعل والمفعول حتى يتكلف له ويقال: إن اللام في الموالي على هذا موصول والظرف متعلق بصلته وإن مولى مخفف مولى كما قيل في معنى أنه مخفف معنى فإنه تعسف لا حاجة إليه، نعم قالوا في حاصل المعنى على هذا: خفت الذين يلون الأمر من ورائي، ولم يجوز الزمخشري تعلقه بخفت لفساد المعنى، وبين ذلك في " الكشف: بأن الجار ليس صلة الفعل لتعديه إلى المحذور بلا واسطة فتعين أن يكون للظرفية على نحو خفت الأسد قبلك أو من قبلك وحينئذ يلزم أن يكون الخوف ثابتا بعد موته وفساده ظاهر. وبعضهم رأى جواز التعلق بناء على أن كون المفعول في ظرف مصحح لتعلق ذلك الظرف بفعله كقولك: رميت الصيد في الحرم إذا كان الصيد فيه دون رميك والظاهر عدم الجواز فافهم، وقال ابن جني: هو حال مقدرة من * (الموالي) * وعن ابن كثير أنه قرأ * (ومن وراي) * بالقصر وفتح الياء كمعصاء.
وقرأ الزهري * (الموالي) * بسكون الياء. وقرأ عثمان بن عفان. وابن عباس. وزيد بن ثابت. وعلي بن الحسين. وولداه محمد. وزيد. وسعيد بن العاص. وابن جبير. وأبو يعمر. وشبيل بن عزرة. والوليد بن مسلم لابن عامر * (خفت) * بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر تاء التأنيث * (الموالي) * بسكون الياء على أن * (
خفت) * من الخفة ضد الثقل ومعنى * (من ورائي) * كما تقدم: والمراد وإني قل الموالي وعجزوا عن القيام بأمور الدين من بعدي أو من الخفوف بمعنى السير السريع ومعنى * (من ورائي) * من قدامي وقبلي، والمراد وإني مات القادرون على إقامة مراسم الملة ومصالح الأمة وذهبوا قدامي ولم يبق منهم من به تقو واعتضاد فيكون محتاجا إلى العقب لعجز مواليه عن القيام بعده بما هو قائم به أو لأنهم ماتوا قبله فبقي محتاجا إلى
61

يعتضد به، وتعلق الجار والمجرور على الوجه الثاني بالفعل ظاهر، وأما على الوجه الأول فإن لوحظ أن عجزهم وقلتهم سيقع بعده لا أنه واقع وقت دعائه صح تعلقه بالفعل أيضا وإن لم يكن كذلك تعلق بغير ذلك.
* (وكانت امرأتي عاقرا) * أي لا تلد من حين شبابها إلى شيبها، فالعقر بالفتح والضم والعقم، ويقال عاقر للذكر والأنثى * (فهب لي من لدنك) * كلا الجارين متعلق بهب واللام صلة له ومن لابتداء الغاية مجازا، وتقديم الأول لكون مدلوله أهم عنده، وجوز تعلق الثاني بمحذوف وقع حالا من المفعول الآتي. وتقدم الكلام في لدن، والمراد أعطني من محض فضلك الواسع وقدرتك الباهرة بطريق الاختراع لا بواسطة الأسباب العادية، وقيل المراد أعطني من فضلك كيف شئت * (وليا) * أي ولدا من صلبي وهو الظاهر. ويؤيده قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عنه عليه السلام * (قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) * (آل عمران: 38) وقيل إنه عليه السلام طلب من يقوم مقامه ويرثه ولدا كان أو غيره، وقيل: إنه عليه السلام أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه ويقوم مقامه من سائر الناس وكلا القولين لا يعول عليه. وزعم الزمخشري أن * (من لدنك) * تأكيد لكونه وليا مرضيا ولا يخفى ما فيه. وتأخير المفعول عن الجارين لإظهار كمال الاعتناء بكون الهبة له على ذلك الوجه البديع مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما بعده من الوصف فتأخيرها عن الكل وتوسيطهما بين الموصوف والصفة مما لا يليق بجزالة النظم الكريم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ما ذكره عليه السلام من كبر السن وضعف القوى وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عليه السلام عن حصول الولد بتوسط الأسباب العادية واستيهابه على الوجه الخارق للعادة.
وقيل لأن ذلك موجب لانقطاع رجائه عن حصول الولد منها وهي في تلك الحال واستيهابه على الوجه الذي يشاؤه الله تعالى، وهو مبني على القول الثاني في المراد من * (هب لي من لدنك وليا) * والأول أولى.
ولا يقدح فيما ذكر أن يكون هناك داع آخر إلى الإقبال على الدعاء من مشاهدته عليه السلام للخوارق الظاهرة في حق مريم كما يعرب عنه قوله تعالى: * (هنالك دعا زكريا ربه) * (آل عمران: 38) الآية. وعدم ذكره ههنا للتعويل على ما ذكر هنالك كما أن عدم ذكر مقدمة الدعاء هنالك للاكتفاء بذكرها ههنا، والاكتفاء بما ذكر في موطن عما ترك في موطن آخر من السنن التنزيلية [بم وقوله:
* (يرثنى ويرث من ءال يعقوب واجعله رب رضيا) *
* (يرثني ويرث من ءال يعقوب) * صفة لوليا كما هو المتبادر من الجمل الواقعة بعد النكرات، ويقال: ورثه وورث منه لغتان كما قيل، وقيل من للتبعيض لا للتعدية، وآل الرجل خاصته الذين يؤل إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، ويعقوب على ما روى عن السدي هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم فإن زكريا من ولد هرون وهو من ولدي لاوي بن يعقوب وكان متزوجا باخت مريم بنت عمران وهي من ولد سليمان بن داود عليهما السلام وهو من ولد يهوذ بن يعقوب أيضا. وقال الكلبي: ومقاتل: هو يعقوب بن ماثان وأخوه عمران بن ماثان أبو مريم. وقيل: هو أخو زكريا عليه السلام والمراد من الوراثة في الموضعين العلم على ما قيل.
وقال الكلبي: كان بنو ماثان رؤس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا عليه السلام رئيس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده الحبورة ويرث من بني ماثان ملكهم فتكون الوراثة مختلفة في المضعين وأيد ذلك بعدم اختيار العطف على الضمير المنصوب والاكتفاء بيرث الأول، وقيل الوراثة الأولى وراثة التبوة والثانية وراثة الملك فتكون
62

مختلفة أيضا إلى أن قوله: * (واجعله رب رضيا) * أي مرضيا عندك قولا وفعلا، وقيل راضيا والأول أنسب يكون على هذا تأكيدا لأن النبي شأنه أن يكون كذبك، وعلى ما قلنا يكون دعاء بتوفيقه للعمل كما أن الأول متضمن للدعاء بتوفيقه للعلم فكأنه طلب أن يكون ولده عالما عاملا، وقيل: المراد اجعله مرضيا بين عبادك أي متبعا فلا يكون هناك تأكيد مطلقا، وتوسيط * (رب) * بين مفعولي الجعل على سائر الأوجه للمبالغة في الاعتناء بشأن ما يستدعيه.
واختار السكاكي أن الجملتين مستأنفتان استئنافا بيانيا لأنه يرد أنه يلزم على الوصفية أن لا يكون قد وهب لزكريا عليه السلام من وصف لهلاك يحيى عليه السلام قبل هلاكه لقتل يحيى عليه السلام قبل قتله. وتعقب ذلك في " الكشف " بأنه مدفوع بأن الروايات متعارضة والأكثر على هلاك زكريا قبله عليهما السلام، ثم قال: وأما الجواب بأنه لا غضاضة في أن يستجاب للنبي بعض ما سأل دون بعض ألا ترى إلى دعوى نبينا صلى الله عليه وسلم في حق أمته حيث قال عليه الصلاة والسلام: " وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها " وإلى دعوة إبراهيم عليه السلام في حق أبيه فإنما يتم لو كان المحذور ذلك وإنما المحذور لزوم الخلف في خبره تعالى فقد قال سبحانه وتعالى في الأنبياء: * (فاستجبنا له) * وهو يدل على أنه عليه السلام أعطى ما سأل من غير تفرقة بين بعض وبعض وكذلك سياق الآيات الأخر. ولك أن تستدل بظاهر هذه الآية على ضعف رواية من زعم أن يحيى هلك قبل أبيه عليهما السلام، وأما الايراد بأن ما اختير من الحمل على الاستئناف لا يدفع المحذور لأنه وصل معنوي فليس بشيء لأن الوصل ثابت ولكنه غير داخل في المسؤول لأنه بيان العلة الباعثة على السؤال ولا يلزم أن يكون علة السؤال مسؤلة انتهى.
وأجاب بعضهم بأنه حيث كان المراد من الوراثة هنا وراثة العلم لا يضر هلاكه قبل أبيه عليهما السلام لحصول الغرض وهو أخذ ذلك وإفاضته على الغير بحيث تبقى آثاره بعد زكريا عليه السلام زمانا طويلا ولا يخفى أن المعروف بقاء ذات الوارث بعد الموروث عنه.
وقرأ أبو عمرو. والكسائي. والزهري. والأعمش. وطلحة. واليزيدي. وابن عيسى الأصفهاني. وابن محيصن. وقتادة بجزم الفعلين على أنهما جواب الدعاء؛
والمعنى أن تهب لي ذلك يرثني الخ، والمراد أنه كذلك في ظني ورجائي، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهم والحسن. وابن يعمر. والجحدري. وأبو حرب بن أبي الأسود. وأبو نهيك * (يرثني) * بالرفع * (وأرث) * فعلا مضارعا من ورث وخرج ذلك على أن المعنى يرثني العلم وأرث أنا به الملك من آل يعقوب وذلك بجعل وراثة الولي الملك وراثة لزكريا عليه السلام لأن رفعة الولد رفعة للوالد والواو لمطلق الجمع، وقال بعضهم: والواو للحال والجملة حال من أحد الضميرين، وقال " صاحب اللوامح ": فيه تقديم ومعناه فهب لي وليا من آل يعقوب يرثني النبوة إن مت قبله وأرثه ماله إن مات قبلي وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبا، ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه. وجماعة أنهم قرأوا * (يرثني وأرث) * برفع وأرث بزنة فاعل على أنه فاعل يرثني على طريقة التجريد كما قال أبو الفتح. وغيره أي يرثني ولي من ذلك الولي أو به فقد جرد من الولي وليا كما تقول رأيت مه به أسدا، وعن الجحدري أنه قرأ * (وأرث) * بإمالة الواو، وقرأ مجاهد * (أو يرث) * تصغير وارث وأصله وويرث
63

بواوين الأولى فاء الكلمة الأصلية والثانية بدل ألف فاعل لأنها تقلب واوا في التصغير كضويرب ولما وقعت الواو مضمومة قبل أخرى في أوله قلبت همزة كما تقرر في التصريف ونقل عنه أنه قال التصغير لصغيره فإنه عليه السلام تورث عنهم أموالهم لأن الوراثة حقيقية في وراثة المال ولا داعي إلى الصرف عن الحقيقة، وقد ذكر الجلال السيوطي في " الذر المنثور " عن ابن عباس. ومجاهد وعكرمة. وأبي صالح أنهم قالوا في الآية: يرثني مالي وأخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد. وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم قال في الآية: يرحم الله تعالى أخي زكريا ما كان عليه من ورثة وفي رواية ما كان عليه ممن يرث ماله، وقال بعضهم: إن الوراثة ظاهرة في ذلك ولا يجوز ههنا حملها على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله: * (واجعله رب رضيا) * ولا على وراثة العلم لأنه كسبي والموروث حاصل بلا كسب. ومذهب أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام لا يرثون مالا ولا يورثون لماصح عندهم من الأخبار.
وقد جاء ذلك أيضا من طريق الشيعة فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البختري عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر، وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة، والوراثة في الآية محمولة على ما سمعت ولا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال بل هي حقيقة فيما يعم وراثة العلم والمنصب والمال وإنما صارت لغلبة الاستعمال في عرف الفقهاء مختصة بالمال كالمنقولات العرفية ولو سلمنا أنها مجاز في ذلك فهو مجاز متعارف مشهور خصوصا في استعمال القرآن المجيد بحيث يساوي الحقيقة، ومن ذلك قوله تعالى: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) * (فاطر: 32) وقوله تعالى: * (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب) * (الأعراف: 169) وقوله تعالى: * (إن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم) * (الشورى: 14) وقوله تعالى: * (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) * (الأعراف: 128) * () * ولله ميراث السموات والأرض) * (آل عمران: 180) قولهم لا داعي إلى الصرف عن الحقيقة قلنا: الداعي متحقق وهي صيانة قول المعصوم عن الكذب ودون تأويله خرط القتاد، والآثار الدالة على أنهم يورثون المال لا يعول عليها عند النقاد، وزعم البعض أنه لا يجوز حمل الوراثة هنا على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله: * (واجعله رب رضيا) * (مريم: 6) قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه. وزعم أن كسبية الشيء تمنع من كونه موروثا ليس بشيء فقد تعلقت الوراثة بما ليس بكسبي فيكلام الصادق، ومن ذلك أيضا ما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: إن سليمان ورث داود وإن محمدا صلى الله عليه وسلم ورث سليمان عليه السلام فإن وراثة النبي صلى الله عليه وسلم سليمان عليه السلام لا يتصور أن تكون وراثة غير العلم والنبوة ونحوهما، ومما يؤيد حمل الوراثة هنا على وراثة العلم ونحوه دون المال أنه ليس في الأنظار العالية والهمم العلياء للنفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم المتغير الفاني واتصلت بالعالم الباقي ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة لا سيما جناب زكريا عليه السلام فإنه كان مشهورا بكمال الانقطاع والتجرد فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال والمتاع الذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أو يظهر من أجله الكلف والحزن والخوف ويستدعي من حضرة الحق سبحانه وتعالى ذلك النحو من الاستدعاء وهو يدل على كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا، وقالت الشيعة: إنه عليه السلام خاف أن يصرف بنو عمه ماله بعد موته فيما لا ينبغي
64

فطلب لو الوارث المرضي لذلك، وفيه أن ذلك مما لا يخاف منه إذ الرجل إذا مات وانتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال ذلك الآخر فصرفه على ذمته صوابا أو خطأ ولا مؤاخذة على الميت من ذلك الصرف بل لا عتاب أيضا مع أن دفع هذا الخوف كان ميسرا له عليه السلام بأن يصرفه قبل موته ويتصدق به كله في سبيل الله تعالى ويترك بني عمه الأشرار خائبين لسوء أحوالهم وقبح أفعالهم. وللأنبياء عليهم السلام عند الشيعة خبر بزمن موتهم وتخيير فيه فما كان له خوف موت الفجأة أيضا فليس قصده عليه السلام من مسألة الولد سوى إجراء أحكام الله تعالى وترويج الشريعة وبقاء النبوة في أولاده فإن ذلك موجب لتضاعف الأجر إلى حيث شاء الله تعالى من الدهر، ومن أنصف لم يتوقف في قبول ذلك والله تعالى الهادي لأقوم المسالك.
* (يازكريآ إنا نبشرك بغل‍ام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) *
* (يا زكريا) * على إرادة القول أي قيل له أو قال الله تعالى يا زكريا * (إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى) * لكن لا بأن يخاطبه سبحانه وتعالى بذلك بالذات بل بواسطة الملك كما يدل عليه آية أخرى على أن يحكي عليه السلام العبارة عنه عز وجل على نهج قوله تعالى: * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) * (الزمر: 53) الآية وهذا جواب لندائه عليه السلام ووعد بإجابة دعائه كما يفهمه التعبير بالبشارة دون الإعطاء أو نحوه وما في الوعد من التراخي لا ينافي التعقيب في قوله تعالى: * (فاستجبنا له) * (الأنبياء: 76) الآية لأنه تعقيب عرفي كما في تزوج فولد له ولأن المراد بالاستجابة الوعد أيضا لأن وعد الكريم نقد، والمشهور أن هذا القول كان إثر الدعاء ولم يكن بين البشارة والولادة إلا أشهر، وقيل: إنه رزق الولد بعد أربعين سنة من دعائه، وقيل: بعد ستين. والغلام الولد الذكر، وقد يقال للأنثى: غلامة
كما قال: تهان لها الغلامة والغلام
وفي تعيين اسمه عليه السلام تأكيد للوعد وتشريف له عليه السلام، وفي تخصيصه به حسبما يعرب عنه قوله تعالى: * (لم نجعل له من قبل سميا) * أي شريكا له في الاسم حيث لم يسم أحد قبله بيحيى على ما روي عن ابن عباس. وقتادة. والسدي. وابن أسلم مزيد تشريف وتفخيم له عليه السلام، وهذا كما قال الزمخشري شاهد على أن الأسماء النادرة التي لا يكاد الناس يستعملونها جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنحي في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز حتى قال القائل في مدح قوم: شنع الأسامي مسبلي أزر * حمر تمس الأرض بالهدب
وقيل للصلت بن عطاء: كيف تقدمت عند البرامكة وعندهم من هو آدب منك؟ فقال: كنت غريب الدار غريب الاسم خفيف الجرم شحيحا بالإشلاء فذكر مما قدمه كونه غريب الاسم؛ وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر. وغيرهما عن مجاهد أن * (سميا) * بمعنى شبيها. وروي عن عطاء. وابن جبير مثله أي لم نجعل له شبيها حيث أنه لم يعص ولم يهم بمعصية، فقد أخرج أحمد. والحكيم. والترمذي في " نوادر الأصول ". والحاكم. وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أوهم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام لم يهم بخطيئة ولم يعملها " والأخبار في ذلك متظافرة، وقيل: لم يكن له شبيه لذلك ولأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر.
وقيل لأنه كان كما وصف الله تعالى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين فيكون هذا إجمالا لذلك وإنما قيل للشبيه سمي لأن المتشابهين يتشاركان في الاسم. ومن هذا الإطلاق قوله تعالى: * (هل تعلم له
65

سميا) * (مريم: 65) لأنه الذي يقتضيه التفريع، والأظهر أنه اسم أعجمي لأنه لم تكن عادتهم التسمية بالألفاظ العربية فيكون منعه الصرف على القول المشهور في مثله للعلمية والعجمة، وقيل إنه عربي ولتلك العادة مدخل في غرابته وعلى هذا فهو منقول من الفعل كيعمر ويعيش وقد سموا بيموت وهو يموت بن المزرع بن أخت الجاحظ ووجه تسميته بذلك على القول بعربيته قيل الإشارة بأنه يعمر، وهذا في معنى التفاؤل بطول حياته، وكان في ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام يرث حسبما سأل زكريا عليه السلام، وقيل: سمي بذلك لأنه حي به رحم أمه. وقيل لأنه حي بين شيخ فان وعجوز عاقر، وقيل لأنه يحيا بالحكمة والعفة، وقيل لأنه يحيا بإرشاد الخلق وهدايتهم، وقيل لأنه يستشهد والشهداء أحياء، وقيل غير ذلك، ثم لا يخفى أنه على العربية والعجمة يختلف الوزن والتصغير كما بين في محله.
* (قال رب أنى يكون لى غل‍ام وكانت امرأتى عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا) *
* (قال) * استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا قال عليه السلام حينئذ؟ فقيل قال: * (رب) * ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابه تعالى إليه بواسطة الملك للمبالغة في التضرع والمناجاة والجد في التبتل إليه عز وجل، وقيل لذلك والاحتراز عما عسى يوهم خطابه للملك من توهم أن علمه تعالى بما يصدر عنه متوقف على توسطه كما أن علم البشر بما يصدر عنه تعالى متوقف على ذلك في عامة الأوقات؛ ولا يخفى أن الاقتصار على الأول أولى * (أنى يكون لي غلام) * كلمة * (أنى) * بمعنى كيف أو من أين، وكان إما تامة وأنى واللام متعلقان بها، وتقديم الجار على الفاعل لما مر غير مرة أي كيف أو من أين يحدث لي غلام، ويجوز أن يتعلق اللام بمحذوف وقع حالا من * (غلام) * أي أنى يحدث كائنا لي غلام أو ناقصة واسمها ظاهر وخبرها إما أنى و * (لي) * متعلق بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى نصب على الظرفية، وقوله تعالى: * (وكانت امرأتي عاقرا) * حال من ضمير المتكلم بتقدير قد وكذا قوله تعالى: * (وقد بلغت من الكبر عتيا) * حال منه مؤكدة للاستبعاد إثر تأكيد، ومن للابتداء العلي، والعتي من عتى يعتو اليبس والقحول في المفاصل والعظام.
وقال الراغب: هو حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداواتها، وقيل إلى رياضتها وهي الحالة المشار إليها بقول الشاعر: ومن العناء رياضة الهرم
وأصله عتوو كقعود فاستثقل توالي الضمتين والواوين فكسرت التاء فانقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم انقلبت الثانية أيضا لاجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون وكسرت العين اتباعا لما بعدها أي كانت امرأتي عاقرا لم تلد في شبابها وشبابي فكيف وهي الآن عجوز وقد بلغت أنا من أجل كبر السن يبسا وقحولا أو حالة لا سبيل إلى إصلاحها وقد تقدم لك الأقوال في مقدار عمره عليه السلام إذ ذاك. وأما عمر امرأته فقد قيل إنه كان ثماني وتسعين.
وجوز أن تكون * (من) * للتبعيض أي بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا، وجعلها بعضهم بيانية تجريدية وفيه بحث والجار والمجرور إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا من * (عتيا) * وهو نصب على المفعولية وأصل المعنى متحد مع قوله تعالى في آل عمران حكاية عنه بلغني الكبر والتفاوت في المسند إليه لا يضر فإن ما بلغك من المعاني فقد بلغته نعم بين الكلامين اختلاف من حيثية أخرى لا تخفى فيحتاج اختيار كل منهما في مقام إلى نكتة فتدبر ذاك، وكذا وجه البداءة ههنا بذكر حال امرأته عليه السلام على عكس ما في تلك السورة.
66

وفي إرشاد العقل السليم لعل ذلك لما أنه قد ذكر حاله في تضاعيف دعائه وإنما المذكور ههنا بلوغه أقصى مراتب الكبر تتمة لما ذكر قبل وأما هنا لك فلم يسبق في الدعاء ذكر حاله فلذلك قدمه على ذكر حال امرأته لما أن المسارعة إلى بيان قصور شأنه أنسب اه‍.
وقال بعضهم: يحتمل تكرر الدعاء والمحاورة واختلاف الأسلوب للتفنن مع تضمن كل ما لم يتضمنه الآخر فتأمل والله تعالى الموفق، والظاهر أنه عليه السلام كان يعرف من نفسه أنه لم يكن عاقرا، ولذلك ذكر الكبر ولم يذكر العقر وإنما قال عليه السلام ما ذكر مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عمران استعظاما لقدرة الله تعالى واعتدادا بنعمته تعالى عليه في ذلك بإظهار أنه من محض فضل الله تعالى ولطفه مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة ولم يكن ذلك استبعادا كذا قيل.
وقيل: هو استبعاد لكنه ليس راجعا إلى المتكلم بل هو بالنسبة إلى المبطلين، وإنما طلب عليه السلام ما يزيل شوكة استبعادهم ويجلب ارتداعهم من سيء عادتهم، وذلك مما لا بأس به من النبي خلافا لابن المنير، نعم أورد على ذلك أن الدعاء كان خفيا عن المبطلين.
وأجيب بأنه يحتمل أنه جهر به بعد ذلك إظهارا لنعمة الله تعالى عليه وطلبا لما ذكر فتذكر، وقيل: هو استبعاد راجع إلى المتكلم حيث كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة، وكان قد نسي عليه السلام دعاءه وهو بعيد جدا.
وقال في " الانتصاف ": الظاهر والله تعالى أعلم أن زكريا عليه السلام طلب ولدا على الجملة وليس في الآية ما يدل أنه يوجد منه وهو هرم ولا إنه من زوجته وهي عاقر ولا أنه يعاد عليهما قوتهما وشبابهما كما فعل بغيرهما أو يكون الولد من غير زوجته العاقر فاستبعد الولد منهما وهما بحالهما فاستخبر أيكون وهما كذلك فقيل له كذلك أي يكون الولد وأنتما كذلك. وتعقب بأن قوله: * (فهب لي من لدنك) * ظاهر في أنه طلب الولد وهما على حالة يستحيل عادة منهما الولد.
والظاهر عندي كونه استبعادا من حيث العادة أو هو بالنسبة إلى المبطلين وهو كما في " الكشف " أولى. وقرأ أكثر السبعة * (عتيا) * بضم العين. وقرأ ابن مسعود بفتحها وكذا بفتح صاد * (صليا) *، وأصل ذلك كما قال ابن جني ردا على قول ابن مجاهد لا أعرف لهما في العربية أصلا ما جاء من المصادر على فعيل نحو الحويل والزويل. وعن ابن مسعود أيضا. ومجاهد أنهما قرآ * (عسيا) * بضم العين وبالسين مكسورة. وحكى ذلك الداني عن ابن عباس. والزمخشري عن أبي، ومجاهد وهو من عسا العود يعسو إذا يبس.
* (قال كذالك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) *
* (قال كذلك قال ربك هو علي هين) * قرأ الحسن * (وهو على هين) * بالواو، وعنه أنه كسر ياء المتكلم كما في قول النابغة: علي لعمرو نعمة بعد نعمة * لوالده ليست بذات عقارب
ونحو ذلك قراءة حمزة * (وما أنتم بمصرخي) * بكسر الياء، والكاف إما رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وضمير * (قال) * للرب عز وجل لا للملك المبشر لئلا يفك النظم، وذلك إشارة إلى قول زكريا عليه السلام، والخطاب في * (قال ربك) * له عليه السلام لا لنبينا صلى الله عليه وسلم بدليل السابق واللاحق، وجملة * (هو علي حين) * مفعول * (قال) * الثاني وجملة الأمر كذلك مع جملة * (قال ربك) * الخ مفعول * (قال) * الأول وإن لم يتخلل بين الجملتين عاطف كما في قوله تعالى: * (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم) * (هود: 41) وقوله سبحانه وتعالى: * (قالوا أئذا
67

متنا وكنا ترابا وعظاما أئتا * لمبعوثون لقد وعدنا) * (المؤمنون: 82، 83) الآية وكم وكم، وجىء بالجملة الأولى تصديقا منه تعالى لزكريا عليه السلام وبالثانية جوابا لما عسى يتوهم من أنه إذا كان ذلك في الاستبعاد بتلك المنزلة وقد صدقت فيه فإنى يتسنى فهي في نفسها استئنافية لذلك، ولا يحسن تخلل العاطف في مثل هاتين الجملتين إذا كان المحكي عنه قد تكلم بهما معا من غير عاطف ليدل على الصورة الأولى للقول بعينها، وكذلك لا يحسن إضمار قول آخر لأنه يكون استئنافا جوابا للمحكي له فلا يدل على أنه الاستئناف أيضا في الأول إلا بمنفصل أما لو تكلم بهما في زمانين أو بدون ذلك الترتيب فالظاهر العطف أو الاستئناف بإضمار القول.
ثم لو كان الاقتصار في جواب زكريا عليه السلام على * (هو على هين) * من دون إقحام * (قال ربك) * لكان مستقيما لكن إنما عدل إليه للدلالة على تحقيق الوعد وإزالة الاستبعاد بالكلية على منوال ما إذا وعد ملك بعض خواصه ما لا يجد نفسه تستأهل ذلك فأخذ يتعجب مستبعدا أن يكون من الملك بتلك المنزلة فحاول أن يحقق مراده ويزيل استبعاده فأما أن يقول لا تستبعد أنه أهون شيء علي على الكلام الظاهر وإما أن يقول لا تستبعد قد قلت إنه أهون شيء على إشارة منه إلى أنه وعد سبق القول به وتحتم وإنه من جلالة القدر بحيث لا يرى في إنجازه لباغيه كائنا من كان وقعا فكيف لمن استحق منه لصدق قدمه في عبوديته إجلالا ورفعا، وهذا قول بلسان الإشارة يصدق وإن لم يكن قد سيق منه نطق به لأن المقصود أن علو المكانة وسعة القدرة وكمال الجود يقضي بذلك قيل: أولا أولا ثم إذا أراد ترشيح هذا المعنى عدل عن الحكاية قائلا: قد قال من أنت غرس نعمائه أنه أهون شيء على ثم إذا حكى الملك القصة مع بعض خلصائه كان له أن يقول: قلت لعبدي فلان كيت وكيت قال: إني وليت قلت قال من أنت الخ وأن يقول بدله قال سيد فلان له ويسرد الحديث فهذا وزان الآية فيما جرى لزكريا عليه السلام وحكى لنبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل والسلام، وقد لاح من هذا التقرير أن فوات نكتة الإقحام مانع من أن يجعل المرفوع من صلة * (قال) * الثاني والمجموع صله الأول، والظاهر في توجيه قراءة الحسن على هذا أن جملة * (هو على هين) * عطف على محذوف من نحو أفعل وأنا فاعل، ويجوز أن يقال وربما أشعر كلام الزمخشري بإيثاره أنه عطف على الجملة السابقة نظرا إلى الأصل لما مر من أن * (قال) * مقحم لنكتة فكأنه قيل الأمر كذلك وهو على ذلك يهون علي، وأما نصب بقال الثاني وهي الكاف التي تستعمل مقحمة في الأمر العجيب الغريب لتثبيته وذلك إشارة إلى مبهم يفسر ما بعده أعني * (هو على هين) * وضمير " قال " للرب كما تقدم والخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم أيضا أي قال رب زكريا له قال ربك مثل ذلك القول العجيب الغريب هو على هين علي أن * (قال) * الثاني مع ما في صلته مقول القول الأول وإقحام القول الثاني لما سلف ولا ينصب الكاف بقال الأول وإلا لكان * (قال) * ثانيا تأكيدا لفظيا لئلا يقع الفصل بين المفسر والمفسر بأجنبي وهو ممتنع إذ لا ينتظم أن يقال: قال رب زكريا قال ربك ويكون الخطاب لزكريا عليه السلام والمخاطب غيره كيف وهذا النوع من الكلام يقع فيه التشبيه مقدما لا سيما في التنزيل الجليل من نحو * (وكذلك جعلناكم أمة) * (البقرة: 143) كذلك الله يفعل ما يشاء إلى غير ذلك، وهذا الوجه لا يتمشى في قراءة الحسن لأن المفسر لا يدخله الواو ولا يجوز حذفه حتى يجعل عطفا عليه لأن الحذف والتفسير متنافيان، وجوز على احتمال النصب أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من وعد الله تعالى إياه عليه السلام بقوله: * (إنا نبشرك) * الخ أي قال ربه سبحانه له قال ربك مثل ذلك أي مثل ذلك القولب العجيب الذي وعدته وعرفته وهو * (إنا نبشرك) * الخ، وأداة التشبيه
68

مقحمة كما مر فيكون المعنى وعد ذلك وحققه وفرغ منه فكن فارغ البال من تحصيله على أوثق بال ثم قال: هو على هين أي قال ربك هو على هين فيضمر القول ليتطابقا في البلاغة، ولأن قوله مثل ذلك مفرد فلا يحسن أن تقرن الجملة به وينسحب عليه ذلك القول بعينه بل إنما يضمر مثله استئنافا إيفاءا بحق التناسب. وإن شئت لم تنوه ليكون محكيا منتظما في سلك * (قال ربك) * منسحبا عليه القول الأول أي قال رب زكريا له هو على هين لأن الله تعالى هو المخاطب لزكريا عليه السلام أفلا منع من جعله مقول القول الأول من غير إضمار لأن القولين - أعني قال ربك مثل ذلك هو على هين - صادران معا محكيان على حالهما. ولو قدر أن المخاطب غيره تعالى أعني الملك تعين إضمار القول لامتناع أن يكون هو على هين من مقوله فلا ينسحب عليه الأول. وأما على قراءة الحسن فإن جعل عطفا على * (قال ربك) * لم يحتج إلى إضمار لصحة الانسحاب وإن أريد تأكيده أيضا قدر القول لئلا تفوت البلاغة ويكون التناسب حاصلا، وجعله عطفا ما بعد * (قال) * الثاني من دون التقدير يفوت به رعاية التناسب لفظا فإن ما بعده مفرد والملاءمة معنى لما عرفت أن لا قول على الحقيقة. والمعنى قال ربه قد حقق الموعود وفرغ عنه فلا بد من تقديره على * (هو على هين) * ليفيد تحقيقه أيضا. ولو قدر أن المخاطب غيره تعالى تعين الإضمار لعدم الانسحاب دونه فافهم، وهذا ما حققه صاحب الكشف وقرر به عبارة الكشاف بأدنى اختصار، ثم ذكر أن خلاصة ما وجده من قول الأفاضل أن التقدير على احتمال أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من الوعد قال رب زكريا له قال ربك قولا مثل قوله سبحانه وتعالى السابق عدة في الغرابة والعجب فاتجه له عليه السلام أن يسأل ماذا قلت يا رب وهو مثله فيقول: هو على هين أي قلت أو قال ربك. والأصل على هذا التقدير قلت قولا مثل الوعد في الغرابة فعدل إلى الالتفات أو التجريد أيا شئت تسميه لفائدته المعلومة. وليس في الإتيان بأصل القول خروج عن مقتضى الظاهر إذ لا بد منه لينتظم الكلام وذلك لأن المعنى على هذا التقدير ولا تعجب من ذلك القول وانظر إلى مثله واعجب فقد قلناه. وكذلك يتجه لنبينا صلى الله عليه وسلم السؤال فيجاب بأنه قال له ربه هو على هين وصحة وقوعه جوابا عن سؤال نبينا عليه الصلاة والسلام وهو الأظهر على هذا الوجه لأن الكلام معه، وإذ قد صح أن يجعل جوابا له جاز إضمار القول لأنه جواب له صلى الله عليه وسلم بما يدل على أنه خوطب به زكريا عليه السلام أيضا وجاز أن لا يضمر لأن المخاطب لهما واحد والخطاب مع نبينا صلى الله عليه وسلم وعلم من ضرورة المماثلة أنه قيل لزكريا أيضا هذه المقالة ولو كان الحاكي والقائل الأول مختلفين في هذه الصورة لم يكن بد من إضماره لأنه إذا قال عمرو لبكر ماذا قال زيد لخالد مما يماثل مقالته السابقة له؟ فيقول: إنك محبب مرضي وجب أن يكون التقدير قال زيد لخالد هذه المقالة لا محالة، ولا بعد في تنزيل كلام الزمخشري عليه، وهذا ما لوح إليه صاحب التقريب وآثره الإمام الطيبي وفيه فوات النكتة المذكورة في * (قال ربك) * ثم إنه إن لم يكن سبق القول كان كذبا من حيث الظاهر إذ ليس من القول بلسان الإشارة إلى أن يؤول بأنه مستقبل معنى، هذا والكلام مسوق لما يزيل الاستبعاد ويحقق الموعود المرتاد وفي ذلك التقدير خروج عنه إلى معنى آخر ربما يستلزم هذا المعنى تبعا وما سيق له الكلام ينبغي أن يجعل الأصل انتهى.
وهو كلام تحقيق وتدقيق لا يرشد إليه إلا توفيق، وفي الآية وجه آخر هو ما أشار إليه صاحب الانتصاف، و * (هين) * فيعل من من هان الشيء يهون إذا لم يصعب، والمراد أني كامل القدرة على ذلك إذا أردته كان.
69

* (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) * تقرير لما قبل، والشيء هنا بمعنى الموجود أي ولم تك موجودا بل كنت معدوما، والظاهر أن هذا إشارة إلى خلقه بطريق التوالد والانتقال في الأطوار كما يخلق سائر أفراد الإنسان، وقال بعض المحققين: المراد به ابتداء خلق البشر، إذ هو الواقع إثر العدم المحض لا ما كان بعد ذلك بطريق التوالد المعتاد فكأنه قيل: وقد خلقتك من قبل في تضاعيف خلق آدم ولم تك إذ ذاك شيئا أصلا بل كنت عدما بحتا، وإنما لم يقل: وقد خلقت أباك أو آدم من قبل ولم يك شيئا مع كفايته في إزالة الاستبعاد بقياس حال ما بشر به على حاله عليه السلام لتأكيد الاحتجاج وتوضيح منهاج القياس من حيث نبه على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه عليه السلام من العدم لأنه عليه السلام أبدع أنموذجا منطويا على سائر احاد الجنس فكان إبداعه على ذلك الوجه إبداعا لكل أحد من فروعه كذلك، ولما كان خلقه عليه السلام على هذا النمط الساري إلى جميع ذريته أبدع من أن يكون مقصورا على نفسه كما هو المفهوم من نسبه الخلق المذكور إليه وأدل على عظم قدرته تعالى وكمال علمه وحكمته وكان عدم زكريا حينئذ أظهر عنه وكان حاله أولى بأن يكون معيارا لحال ما بشر به نسب الخلق المذكور إليه كما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين في قوله تعالى: * (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) * (الأعراف: 11) توفية لمقام الامتنان حقه انتهى، ولا يخلو عن تكلف، وجوز أن يكون الشيء بمعنى المعتد به وهو مجاز شائع، ومنه قول المتنبي: وضاقت الأرض حتى كان هاربهم * إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
وقولهم: عجبت من لا شيء وليس بشيء إذ يأباه المقام ويرده نظم الكلام. وقرأ الأعمش. وطلحة. وابن وثاب. وحمزة. والكسائي * (خلقناك) *.
* (قال رب اجعل لى ءاية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثل‍اث ليال سويا) *
* (قال رب اجعل لي ءاية) * أي علامة تدلني على تحقق المسؤول ووقوع الخبر، وكان هذا السؤال كما قال الزجاج لتعريف وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه وهو أمر خفي لا يوقف عليه لا سيما إذا كانت زوجته ممن انقطع حيضها لكبرها وأراد أن يطلعه الله تعالى ليتلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر من حيث حدوثها ولا يؤخره إلى أن تظهر ظهورا معتادا، وقيل: طلب ذلك ليزداد يقينا وطمأنينة كما طلب إبراهيم عليه السلام كيفية إحياء الموتى لذلك والأول أولى، وبالجملة لم يطلبه لتوقف منه في صدق الوعد ولا لتوهم أن ذلك من عند غير الله تعالى، ورواية هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تصح لعصمة الأنبياء عليهم السلام عن مثل ذلك. وذكر أن هذا السؤال ينبغي أن يكون بعدما مضى بعد البشارة برهة من الزمان لما روي أن يحيى كان أكبر من عيسى عليهما السلام بستة أشهر أو بثلاث سنين ولا ريب في أن دعاءه عليه السلام كان في صغر مريم لقوله تعالى: * (هنالك دعا زكريا ربه) * وهي إنما ولدت عيسى عليه السلام وهي بنت عشر سنين أو بنت ثلاث عشرة سنة، والجعل إبداعي واللام متعلقة به، والتقديم على * (آية) * الذي هو المفعول لما تقدم مرارا أو بمحذوف وقع حالا من * (ءاية) * وقيل: بمعنى التصيير
المستدعي لمفعولين أولهما * (ءاية) * وثانيهما الظرف وتقديمه لأنه لا مسوغ لكون * (ءاية) * مبتدأ عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديم الظرف فلا يتغير حالهما بعد ورود الناسخ.
* (قال ءايتك ألا تكلم الناس) * أن لا تقدر على تكليمهم بكلامهم المعروف في محاوراتهم.
70

روي عن أبي زيد أنه لما حملت زوجته عليه السلام أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا وهو مع ذلك يقرأ التوراة فإذا أراد مناداة أحد لم يطقها * (ثلاث ليال) * مع أيامهن للتصريح بالأيام في سورة آل عمران والقصة واحدة، والعرب تتجوز أو تكتفي بأحدهما عن الآخر كما ذكره السيرافي، والنكتة في الاكتفاء بالليالي هنا وبالأيام ثمة على ما قيل أن هذه السورة مكية سابقة النزول وتلك مدنية والليالي عندهم سابقة على الأيام لأن شهورهم وسنيهم قمرية إنما تعرف بالأهلة ولذلك اعتبروها في التاريخ كما ذكره النحاة فأعطى السابق للسابق، والليال جمع ليل على غير قياس كأهل وأهال أو جمع ليلاة ويجمع أيضا على ليايل.
* (سويا) * حال من فاعل * (تكلم) * مفيد لكون انتفاء التكلم بطريق الإعجاز وخرق العادة لا لاعتقال اللسان بمرض أي يتعذر عليك تكليمهم، ولا تطيقه حال كونك سوي الخلق سليم الجوارح ما بك شائبة بكم ولا خرص وهذا ما عليه الجمهور، وعن ابن عباس أن * (سويا) * عائد على الليالي أي كاملات مستويات فيكون صفة لثلاث. وقرأ ابن أبي عبلة. وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (أن لا تكلم) * بالرفع على أن المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن أي أنه لا تكلم.
* (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) *
* (فخرج على قومه من المحراب) * أي من المصلى كما روي عن ابن زيد أو من الغرفة كما قيل، وأصل المحراب كما قال الطبرسي: مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله، ويسمى محل العبادة محرابا لما أن العابد كالمحارب للشيطان فيه، وإطلاق المحراب على المعروف اليوم في المساجد لذلك وهو محدث لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ألف الجلال السيوطي في ذلك رسالة صغيرة سماها إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب. روي أن قومه كانوا من وراء المحراب ينتظرون أن يفتح لهم الباب فيدخلوه ويصلوا فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم متغيرا لونه فأنكروه وقالوا: مالك؟ * (فأوحى إليهم) * أي أومأ إليهم وأشار كما روي عن قتادة. وابن منبه. والكلبي. والقرطبي وهو إحدى الروايتين عن مجاهد، ويشهد له قوله تعالى: * (إلا رمزا) * وروي عن ابن عباس كتب لهم على الأرض.
* (أن سبحوا بكرة وعشيا) * وهو الرواية الأخرى عن مجاهد لكن بلفظ على التراب بدل على الأرض وقال عكرمة: كتب علي ورقة. وجاء إطلاق الوحي على الكتابة في كلام العرب ومنه قول عنترة: كوحي صحائف من عهد كسرى * فأهداها لأعجم طمطمى
وقول ذي الرمة: سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها * بقية وحي في بطون الصحائف
و * (أن) * إما مفسرة أو مصدرية فتقدر قبلها الباء الجارة. والمراد بالتسبيح الصلاة مجازا بعلاقة الاشتمال وهو المروى عن ابن عباس. وقتادة. وجماعة. و * (بكرة وعشيا) * ظرفا زمان له. والمراد بذلك كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية صلاة الفجر وصلاة العصر، وقال بعض: التسبيح على ظاهره وهو التنزيه أي نزهوا ربكم طرفي النهار، ولعله عليه السلام كان مأمورا بأن يسبح شكرا ويأمر قومه.
وقال صاحب التحرير والتحبير: عندي في هذا معنى لطيف وهو أنه إنما خص التسبيح بالذكر لأن العادة جارية أن كل من رأى أمرا عجب منه أو رأى فيه بديع صنعة أو غريب حكمة يقول: سبحان الله تعالى سبحان الخالق جل جلاله فلما رأى حصول الولد من شيخ وعاقر عجب من ذلك فسبح وأمر بالتسبيح اه‍.
71

فأمرهم بالتسبيح إشارة إلى حصول أمر عجيب، وقيل: إنه عليه السلام كان قد أخبر قومه بما بشر به قبل جعل العلامة فلما تعذر عليه الكلام أشار إليهم بحصول ما بشر به من الأمر العجيب فسروا بذلك.
وقرأ طلحة * (أن سبحوه) * بهاء الضمير عائدة إلى الله تعالى، وروى ابن غزوان عن طلحة * (أن سبحن) * بنون مشددة.
* (يايحيى خذ الكت‍اببقوة وآتيناه الحكم صبيا) *
* (يا يحيى) * على تقدير القول وكلام آخر حذف مسارعة إلى الأنباء بإنجاز الوعد الكريم أي فلما ولد وبلغ سنا يؤمر مثله فيه قلنا يا يحيى * (خذ الكتاب) * أي التوراة، وادعى ابن عطية الإجماع على ذلك بناء على أن ال للعهد ولا معهود إذ ذاك سواها فإن الإنجيل لم يكن موجودا حينئذ وليس كما قال بل قيل: له عليه السلام كتاب خص به كما خص كثير من الأنبياء عليهم السلام بمثل ذلك، وقيل: المراد بالكتاب صحف إبراهيم عليه السلام، وقيل: المراد الجنس أي كتب الله تعالى: * (بقوة) * بجد واستظهار وعمل بما فيه، وقائل ذلك هو الله تعالى على لسان الملك كما هو الغالب في القول للأنبياء عليه السلام، وأبعد التبريزي فقدر قال له أبوه حين ترعرع ونشأ: يا يحيى الخ، ويزيده بعدا قوله تعالى: * (وءاتيناه الحكم صبيا) *.
أخرج أبو نعيم. وابن مردويه. والديلمي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك: أعطى الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين، وجاء في رواية أخرى عنه مرفوعا أيضا قال الغلمان ليحسى بن زكريا عليهما السلام: اذهب بنا نلعب فقال: أللعب خلقنا، اذهبوا نصلي فهو قوله تعالى: * (وءاتيناه الحكم صبيا) * والظاهر أن الحكم على هذا بمعنى الحكمة، وقيل: هي بمعنى العقل، وقيل معرفة آداب الخدمة، وقيل الفراسة الصادقة وقيل النبوة وعليه كثير قالوا: أوتيها وهو ابن سبع سنين أو ابن ثلاث أو ابن سنتين ولم ينبأ أكثر الأنبياء عليهم السلام قبل الأربعين، والجملة عطف على قلنا المقدر.
* (وحنانا من لدنا وزكواة وكان تقيا) *
* (وحنانا من لدنا) * عطف على * (الحكم) * وتنوينه للتفخيم وهو في الأصل من حن إذا ارتاح واشتاق ثم استعمل في الرحمة والعطف، ومنه الحنان لله تعالى خلافا لمن منع إطلاقه عليه عز وجل، وإلى تفسيره بالرحمة هنا ذهب الحسن. وقتادة. والضحاك. وعكرمة. والفراء. وأبو عبيدة وهو رواية عن ابن عباس، ويروى أنه أنشد في ذلك لابن الأرزق قول طرفة. أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا * حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وأنشد سيبويه قول المنذر بن درهم الكلبي: وأحدث عهد من أمينة نظرة * على جانب العلياء إذ أنا واقف
تقول حنان ما أتى بك ههنا * أذو نسب أم أنت بالحي عارف
والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي وآتيناه رحمة عظيمة عليه كائنة من جنابنا وهذا أبلغ من ورحمناه وروي هذا التفسير عن مجاهد، وقيل: المراد وآتيناه رحمة في قلبه وشفقة على أبويه وغيرهما، وفائدة الوصف على هذا الإشارة إلى أن ذلك كان مرضيا لله عز وجل فإن من الرحمة والشفقة ما هو غير مقبول كالذي يؤدي إلى ترك شيء من حقوق الله سبحانه كالحدود مثلا أو الإشارة إلى أن تلك الرحمة زائدة على ما في جبلة غيره عليه السلام لأن ما يهبه العظيم عظيم. وأورد على هذا أن الإفراط مذموم كالتفريط وخير الأمور أوسطها. ورد بأن مقام المدح يقتضي ذلك. ورب
72

إفراط يحمد من شخص ويذم من آخر فإن السلطان يهب الألوف ولو وهبها غيره كان إسرافا مذموما.
وعن ابن زيد أن الحنان هنا المحبة وهو رواية عن عكرمة أي وآتيناه محبة من لدنا، والمراد على ما قيل جعلناه محببا عند الناس فكل من رآه أحبه نظير قوله تعالى: * (وألقيت عليك محبة مني) * (طه: 39) وجوز بعضهم أن يكون المعنى نحو ما تقدم على القول السابق، وقيل: هو منصوب على المصدرية فيكون من باب * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا) * (فصلت: 12).
وجوز أن يجعل مفعولا لأجله وأن يجعل عطفا على * (صبيا) * وذلك ظاهر على تقدير أن يكون المعنى رحمة لأبويه وغيرهما، وعلى تقدير أن يكون وحنانا من الله تعالى عليه لا يجىء الحال وباقي الأوجه بحاله، ولا يخفى على المتأمل الحال على ما روى عن ابن زيد * (وزكاة) * أي بركة كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وهو عطف على المفعول، ومعنى إيتائه البركة على ما قيل جعله مباركا نفاعا معلما للخير. وقيل: الزكاة الصدقة والمراد ما يتصدق به، والعطف على حاله أي آتيناه ما يتصدق به على الناس وهو كما ترى.
وقيل: هي بمعنى الصدقة والعطف على الحال والمراد آتيناه الحكم حال كونه متصدقا به على أبويه وروى هذا عن الكلبي. وابن السائب، وجوز عليه العطف على * (حنانا) * بتقدير العلية، وقيل: العطف على المفعول، ومعنى إيتائه الصدقة عليهما كونه عليه السلام صدقة عليهما، وعن الزجاج هي الطهارة من الذنوب ولا يضر في مقام المدح الاتيان بألفاظ ربما يستغني ببعضها عن بعض * (وكان تقيا) * مطيعا متجنبا عن المعاصي وقد جاء في غير ما حديث أنه عليه السلام ما عمل معصية ولا هم بها.
وأخرج مالك. وأحمد في الزهد، وابن المبارك. وأبو نعيم عن مجاهد قال: كان طعام يحيى بن زكريا عليهما السلام العشب وإنه كان ليبكي من خشية الله تعالى حتى لو كان القار على عينه لخرقه وقد كانت الدموع اتخذت مجرى في وجهه.
* (وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا) *
* (وبرا بوالديه) * كثير البر بهما والإحسان إليهما؛ والظاهر أنه عطف على خبر كان وقيل هو من باب. علفتها تبنا وماء باردا
والمراد وجعلناه برا وهو يناسب نظيره حكاية عن عيسى عليه السلام، وقرأ الحسن. وأبو جعفر في رواية. وابن نهيك. وأبو مجلز * (وبرا) * في الموضعين بكسر الباء أي وذا بر * (ولم يكن جبارا) * متكبرا متعاليا عن قبول الحق والإذعان له أو متطاولا على الخلق؛ وقيل: الجبار هو الذي لا يرى لأحد عليه حقا، وعن ابن عباس أنه الذي يقتل ويضرب على الغضب.
وقال الراغب: هو في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها.
* (عصيا) * مخالفا أمر مولاه عز وجل، وقيل: عاقا لأبويه وهو فعول وقيل: فعيل، والمراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة.
* (وسل‍ام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) *
* (وسلام عليه) * قال الطبري: أمان من الله تعالى عليه * (يوم ولد) * من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم * (ويوم يموت) * من وحشة فراق الدنيا وهو المطلع وعذاب القبر، وفيه دليل على أنه يقال للمقتول ميت بناء على أنه عليه السلام قتل لبغي من بغايا بني إسرائيل * (ويوم يبعث حيا) * من هول القيامة وعذاب النار. وجيء بالحال للتأكيد، وقيل للإشارة إلى أن البعث جسماني لا روحاني، وقيل للتنبيه
73

على أنه عليه السلام من الشهداء.
وقال ابن عطية: الأظهر أن المراد بالسلام التحية المتعارفة والتشريف بها لكونها من الله تعالى في الماطن التي فيها العبد في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله عز وجل، وجاء في خبر رواه أحمد في الزهد وغيره عن الحسن أن عيسى. ويحيى عليهما السلام التقيا وهما ابنا الخالة فقال يحيى لعيسى: ادع الله تعالى لي فأنت خير مني فقال له عيسى: بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله تعالى عليك وإنما سلمت على نفسي.
وهذه الجملة - كما قال الطيبي - عطف من حيث المعنى على * (آتيناه الحكم) * (مريم: 12) كأنه قيل وآتيناه الحكم صبيا وكذا وكذا وسلمناه أو سلمنا عليه في تلك
المواطن فعدل إلى الجملة الاسمية لإرادة الدوام والثبوت وهي كالخاتمة للكلام السابق. ومن ثم شرع في قصة أخرى وذلك قوله تعالى:
* (واذكر فى الكت‍ابمريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) *
* (واذكر في الكتاب) * الخ فهو كلام مستأنف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأمر عليه الصلاة والسلام بذكر قصة مريم إثر قصة زكريا عليه السلام لما بينهما من كمال الاشتباك والمناسبة. والمراد بالكتاب عند بعض المحققين السورة الكريمة لا القرآن كما عليه الكثير إذ هي التي صدرت بقصة زكريا عليه السلام المستتبعة لقصتها وقصص الأنبياء عليهم السلام المذكورين فيها أي واذكر للناس فيها * (مريم) * أي نبأها فإن الذكر لا يتعلق بالاعيان.
وقوله تعالى: * (إذ انتبذت) * ظرف لذلك المضاف لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبئها عند انتباذها فقط بل كل ماعطف عليه وحكى بعده بطريق الاستئناف داخل في حيز الظرف متمم للبناء وجعله أبو حيان ظرفا لفعل محذوف أي واذكر مريم وما جرى لها إذ انتبذت وما ذكرناه أولى. وقيل: هو ظرف لمحذوف وقع حالا من ذلك المضاف، وقيل: بدل اشتمال من مريم لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه تفخيم لقصتها العجيبة.
وتعقبه أبو البقاء بأن الزمان إذا لم يقع حالا من الجثة ولا خبرا عنها ولا صفة لها لم يكن بدلا منها. ورد بأنه لا يلزم من عدم صحة ما ذكر عدم صحة البدلية ألا ترى سلب زيد ثوبه كيف صح فيه البدلية مع عدم صحة ما ذكر في البدل وكون ذلك حال الزمان فقذ غير بين ولا مبين. وقيل: بدل كل من كل على أن المراد بمريم قصتها وبالظرف الواقع فيه وفيه بعد. وقيل: * (إذا) * بمعنى أن المصدرية كما في قوله لا أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني أي لعدم إكرامك لي. وهذا قول ضعيف للنحاة. والظاهر أنها ظرفية أو تعليلية إن قلنا به ويتعين على ذلك بدل الاشتمال. والانتباذ الاعتزال والانفراد.
وقال الراغب يقال: انتبذ فلان اعتزل اعتزال من تقل مبالاته بنفسه فيما بين الناس. والنبذ: إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به.
وقوله تعالى: * (من أهلها) * متعلق بانتبذت، وقوله سبحانه: * (مكانا شرقيا) * قيل نصب على الظرف، وقيل مفعول به لانتبذت باعتبار ما في ضمنه من معنى الاتيان المترتب وجودا واعتبارا على أصل معناه العامل في الجار والمجرور وهو السر في تأخيره عنه. واختاره بعض المحققين أي اعتزلت وانفردت من أهلها وأتت مكانا شرقيا من بيت المقدس أو من دارها لتتخلى هناك للعبادة، وقيل قعدت في مشرفة لتغتسل من الحيض محتجبة بحائط أو بجبل على ما روي عن ابن عباس أبو بثوب على ما قيل وذلك قوله تعالى:
* (فا اتخذت من دونهم حجابا فأرسلنآ إليهآ روحنا فتمثل لها بشرا سويا) *
* (فاتخذت من دونهم حجابا) *
74

وكونه شرقيا كان أمرا اتفاقيا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه وما صرفهم عنه إلا قيل ربك * (فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا) * فلذلك صلوا قبل مطلع الشمس، وفي رواية إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة لأن مريم انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، وقد قدمنا عن بعض أنهم كانوا في زمن عيسى عليه السلام يستقبلون بيت المقدس وإنهم ما استقبلوا الشرق إلا بعد رفعه عليه السلام زاعمين أنه ظهر لبعض كبارهم فأمره بذلك، وجوز أن يكون اختاره الله تعالى لها مطلع الأنوار. وقد علم سبحانه أنه حان ظهور النور العيسوي منها فناسب أن يكون ظهور النور المعنوي في جهة ظهور النور الحسي وهو كما ترى، وروى أنه كان موضعها في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك عليه السلام في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر، وذلك قوله عز وجل: * (فارسلنا إليها روحنا) * أي جبرائيل عليه السلام كما قاله الأكثر، وعبر عنه بذلك لأن الدين يحيا به وبوحيه فهو مجاز. والإضافة للتشريف كبيت الله تعالى.
وجوز أن يكون ذلك كما تقول لحبيبك أنت روحي محبة له وتقريبا فهو مجاز أيضا إلا أنه مخالف للأول في الوجه والتشريف عليه في جعله روحا. وقال أبو مسلم: المراد من الروح عيسى عليه السلام لقوله تعالى: * (وروح منه) * وضمير تمثل الآتي للملك وليس بشيء. وقرأ أبو حيوة. وسهل * (روحنا) * بفتح الراء، والمراد به جبريل عليه السلام أيضا لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله تعالى الذي هو عدة المقربين في قوله تعالى * (فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان) * (الواقعة: 88، 89) أو لأنه عليه السلام من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربا أو ذا روحنا.
وذكر النقاش أنه قرىء * (روحنا) * بتشديد النون اسم ملك من الملائكة عليهم السلام * (فتمثل لها) * مشتق من المثال وأصله أن يتكلف أن يكون مثال الشيء، والمراد فتصور لها * (بشرا سويا) * سوى الخلق كامل البنية لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئا، وقيل تمثل في صورة قريب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وذلك لتستأنس بكلامه وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع مفاوضته، وما قيل من أن ذلك لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها فمع مافيه من الهجنة التي ينبغي أن تنزه مريم عنها يكذبه قوله تعالى:
* (قالت إنىأعوذ بالرحم‍ان منك إن كنت تقيا) *
* (قالت إني أعوذ بالرحما - ن منك) * فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها شائبة ميل ما إليه فضلا عن الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة، نعم كان تمثله على ذلك الحسن الفائق والجمال الرائق لأن عادة الملك إذا تمثل أن يتمثل بصورة بشر جميل كما كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية رضي الله تعالى عنه أولا بتلائها وسبر عفتها ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه وإرادة القائل أنه وقع كذلك لكيون مظنة لماذكر فيظهر خلافه فيكون أقوى في
نزاهتها بعيد جدا عن كلامه.
وقال بعض المتأخرين: إن استعاذتها بالله تعالى تنبىء عن تهييج شهوتها وميلانها إليه ميلا طبيعيا على ما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام * (وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن) * (يوسف: 33) فقد قيل: المراد بالصبوة
75

فيه الميل بمقتضى الطبيعة وحكم القوة الشهوية ثم أنه لا ينافي عفتها بل يحققها لكونه طبيعيا اضطراريا غير داخل تحت التكلف كما قيل في قوله تعالى: * (وهما بها) * ومع هذا قد استعاذ يوسف عليه السلام بماحكى الله تعالى عنه من قوله تعالى: * (قال معاذ الله إنه ربى أحسن مثواي) * فدعوى أن الاستعاذة تكذب التهييج والميل الطبيعي كذب والقول بأنه يأبى ذلك مقام بيان آثار القدرة الخارقة للعادة ليس بشيء لأن خلق الإنسان من ماء واحد آثار القدرة الخارقة للعادة أيضا.
والأسباب في هذا المقام ليست بمرفوضة بالكلية كما يرشد إلى ذلك قصة يحيى عليه السلام. على أنه قد يدعى أن خلق شيء لا من شيء أصلا محال فلا يكون من مراتب القدرة ومادة الجعل الإبداعي الأعيان الثابتة وهي قديمة اه‍، ولا يخلو عن بحث، وما ذكرناه في التعليل أسلم من القال والقيل فتدبر، ونصب * (بشرا) * على الحالية المقدرة أو التميزي، وقيل على المفعولية بتضمين تمثل معنى اتخذ، واستشكل أمر هذا التمثل بأن جبريل عليه السلام شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في مقدار جثة الإنسان يلزم أن لا يبقى جبريل أن تساقطت الأجزاء الزائدة على جثة الإنسان وأن تتداخل الأجزاء إن لم يذهب شيء وهو محال. وأيضا لو جاز التمثل ارتفع الوثوق وامتنع القطع بأن هذا الشخص الذي يرى الآن هو زيد الذي رئى أمس لاحتمال التمثل، وأيضا لو جاز التمثل بصورة الإنسان فلم لا يجوز تمثله بصورة أخرى غير صورة الإنسان، ومن ذلك البعوض ونحوه، ومعلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل، وأيضا لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل المتمثل به. وأجيب عن الأول بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل عليه السلام أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة فبالأجزاء الأصلية يكون متمكنا من التمثل بشرا هذا عند القائلين بأنه جسم، وأما عند القائلين بأنه روحاني فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغري. وعن الثاني بأنه مشترك الإلزام بين الكل فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك أيضا إذ يجوز أن يخلق سبحانه مثل زيد مثلا ومع هذا الجواز يرتفع الوثوق ويمتنع القطع على طرز ما تقدم. وكذا من لم يعترف، وأسند الحوادث إلى الاتصالات والتشكلات للفلكية يلزمه ذلك لجواز حدوث اتصال يقتضي حدوث مثل ذلك وحينئذ يمتنع القطع أيضا، ولعله لما كان مثل ذلك نادرا لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشك في أن زيدا الذي نشاهده الآن هو الذي شاهدناه بالأمس.
وأجيب عن الثالث بأن أصل التجويز قائم في العقل وإنما عرف فساده بدلائل السمع. وهو الجواب عن الرابع كذا قال الإمام الرازي وعندي أن مسألة التمثل على القول بالجسمية مما ينبغي تفويض الأمر فيها إلى علام الغليوب ولا سبيل للعقل إلى الجزم فيها بشيء تنشرح له القلوب. وإنما ذكرته تعالى بعنوان الرحمانية تذكيرا لمن رأته بالرحمة ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه أو مبالغة للعياذة به تعالى واستجلابا لآثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها. وما قيل من أن ذلك تذكير لمن رأت بالجزاء لينزجر فإنه يقال يا رحمن الآخرة ليس بشيء لأنه ورد رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما * (إن كنت تقيا) * شرط جوابه محذوف ثقة بدلالة السياق عليه أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله تعالى وتخشاه وتحتفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك كذا قدره الزمخشري.
76

وفي " الكشف " أنه أشار إلى أن وجه هذا الشرط مع أن الاستعاذة بالرحمن إن لم يكن تقيأ أولى أن أثر الاستجارة بالله تعالى أعني مكافته وأمنها منه إنما يتم ويظهر بالنسبة إلى المتقى، وفيه دلالة على أن التقوى مما تقتضي للمستعيذ بالله تعالى حق الذمام والمحافظة وعلى عظم مكان التقوى حيث جعلت شرطا للاستعاذة لا تتم دونها وقال: إن كان يرجى إظهارا لمعنى أن وإنها إنما أوثرت دلالة على أن رجاء التقوى كان فضلا عن العلم بها.
والحاصل أن التقوى لم تجعل شرط الاشتعاذة بل شرط مكافته وأمنها منه وكنت عن ذلك بالاستعاذة بالله تعالى حثا له على المكافة بألطف وجه وأبلغه وإن من تعرض للمستعيذ به فقد تعرض لعظيم سخطه انتهى.
وقدر الزجاج إن كنت تقيا فتتعظ بتعويذي، والأولى عليه تتعظ بإسقاط الفاء لأن المضارع الواقع جوابا لا يقترن بالفاء فيحتاج إلى جعله مرفوعا بتقدير مبتدأ، وقدر بعضهم فاذهب عني وبعضهم فلا تتعرض بي وقيل إنها أرادت إن كنت تقيا متورعا فإني أعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك وكأنه أراد أنها استعاذت بهذا الشرط ليعلم استعاذتها بما يقابله من باب أولى، وقال الشهاب: الظاهر أن إن على هذا القول وصلية وفي مجيئها بدون الواو كلام، وذكر أن الجملة على هذا حالية والمقصود بها الالتجاء إلى الله تعالى من شره لا حثه على الانزجار وقيل نافية، والجملة استئناف في موضع التعليل أي ما كنت تقيا متورعا بحضورك عندي وانفرادك بي وهو خلاف الظاهر، وأيا كان فالتقى وصف من التقوى، وقول من قال: إنه اسم رجل صالح أو طالح ليس بسديد.
* (قال إنمآ أنا رسول ربك لاهب لك غل‍اما زكيا) *
* (قال إنما أنا رسول ربك) * المالك لأمرك والناظر في مصلحتك الذي استعذت به ولست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر. روى عن ابن عباس أنها لما قالت: إني أعوذ * (الخ) * تبسم جبريل عليه السلام وقال: * (إنما أنا رسول ربك) * * (لأهب لك غلاما) * أي لأكون سببا في هبته بالنفخ في الدرع، ويجوز أن يكون حكاية لقوله تعالى بتقدير القول أي ربك الذي قال أرسلت هذا الملك لأهب لك، ويؤيده قراءة شيبة. وأبي الحسن. وأبي بحرية. والزهري. وابن مناذر. ويعقوب. واليزيدي. وأبي عمرو. ونافع في رواية ليهب بالياء فإن فاعله ضمير الرب تعالى. وما قيل: من أصل * (ليهب) * لأهب فقلبت الهمزة ياء لانكسار ما قبلها تعسف من غير داع له.
وفي بعض المصاحب: أمرني أن أهل لك غلاما * (زكيا) * طاهرا من الذنوب، وقيل: نبيا. وقيل: ناميا على الخير أي مترقيا من سن إلى سن على الخير والصلاح فالزكا شامل للزيادة المعنوية والحسية. واستدل بعضهم برسالة الملك إليها على نبوتها.
وأجيب: بأن الرسالة لمثل ذلك لا تستدعي النبوة.
* (قالت أنى يكون لى غل‍ام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا) *
* (قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر) * أي والحال أنه لم يباشرني بالحلال رجل وإنما قيل بشر مبالغة في تنزهها من مبادىء الولادة * (ولم أك بغيا) * أي ولم أكن زانية، والجملة عطف على لم يمسسني داخل معه في حكم الحالية مفصح عن كون المساس عبارة عن المباشرة بالحلال وهو كناية عن ذلك كما في قوله تعالى: * (من قبل أن تمسوهن) * (البقرة: 237) * (أو لامستم النساء) * (النساء: 43) ونحوه كما قيل
77

دخلتم بهن وبنى عليها.
وأما الزنا فليس بقمن أن يكنى عنه لأن مقامه أما تطهير اللسان فلا كناية ولا تصريح وإما التقريع فحينئذ يستحق الزيادة على التصريح والألفاظ التي يظن أنها كناية فيه قد شاعت حتى صارت حقيقة صرحية فيه ومنها ما في الظن الكريم، ولا يرد على ذلك ما في سورة آل عمران من قولها * (ولم يمسسني بشر) * مقتصرة عليه فإن غاية ما قيل فيه إنه كناية عن النكاح والزنا على سبيل التغليب، ولم يجعل كناية عن الزنا وحده، ولقائل أن يقول: أنه ثم كناية عن النكاح فقد كما هنا واستوعبت الأقسام ههنا لأنه مقام البسط واقتصرت على نفي النكاح ثم لعدم التهمة ولعلمها أنهم ملائكة ينادون لا يتخيلون فيها التهمة بخلاف هذه الحالة فإن جبريل عليه السلام كان قد أتاها في صورة شاب أمرد، ولهذا تعوذت منه ولم يكن قد سكن روعها بالكلية إلى أن قال: * (إنما أنا رسول ربك) * (مريم: 19) على أنه قيل: إن ما في آل عمران من الاكتفاء وترك الاكتفاء في هذه لأنه تقدم نزولها فهي محل التفصيل بخلاف تلك لسبق العلم، وقيل: المساس هنا كناية عن الأمرين على سبيل التغليب كما في تلك السورة * (ولم أك بغيا) * تخصيص بعد التعميم لزيادة الاعتناء بتنزيه ساحتها عن الفحشاء، ولذا آثرت كان في النفي الثاني فإن في ذلك إيذانا بأن انتفاء الفجور لازم لها.
وكأنها عليها السلام من فرط تعجبها وغاية استبعادها لم تلتفت إلى الوصف في قول الملك عليه السلام " لأهب لك غلاما زكيا " النافي كل ريبة وتهمة ونبذته وراء ظهرها وأتت بالموصوف وحده وأخذت في تقرير نفيه على أبلغ وجه أي ما أبعد وجود هذا الموصوف مع هذه الموانع بله الوصف، وهذا قريب من الأسلوب الحكيم. وبغى فعول عند المبرد وأصله بغوى فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسرت الغين اتباعا ولذا لم تلحقه هاء التأنيث لأن فعولا يستوي فيه المذكور والمؤنث وإن كان بمعنى فاعل كصبور، واعترضه ابن جني في كتاب التمام بأنه لو كان فعولا قيل بغو كما قيل نهو عن المنكر ورد بأنه لا يقال على الشاذ وقد نصوا على شذوذ نهو لمخالفته قاعدة اجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون واختار أنه فعيل وهو على ما قال أبو البقاء بمعنى فاعل، وكان القياس أن تلحقه هاء التأنيث لأنه حينئذ ليس مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كفعول، ووجه عدم اللحوق بأن للمبالغة التي فيه حمل على فعول فلم تلحقه الهاء، وقال بعضهم: هو من باب النسب كطالق ومثله يستوي فيه المذكر والمؤنث، وقيل ترك تأنيثه لاختصاصه في الاستعمال بالمؤنث ويقال للرجل باغ وقيل فعيل بمنى مفعول كعين كحيل وعلى هذا معنى بغى يبغيها الرجال للفجور بها، وعلى القول بأنه بمعنى فاعل فاجرة تبغي الرجال، وأيا ما كان فهو للشيوع في الزانية صار حقيقة صريحة فيه فلا يرد أن اعتبار المبالغة فيه لا يناسب المقام لأن نفي الأبلغ لا يستلزم نفي أصل الفعل، ولا يحتاج إلى الجواب بالتزام أن ذلك من باب النسب أو بأن المراد نفي القيد والمقيد معا أو المبالغة في النفي لا نفي المبالغة.
* (قال كذالك قال ربك هو على هين ولنجعله ءاية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا) *
* (قال كذالك قال ربك هو علي هين) * اطلقوا الكلام في أنه نظير ما تقدم في قصة زكريا عليه السلام. وفي " الكشف " أنه لا يجري فيه تمام الأوجه التي ذكرها الزمخشري هناك لأن * (قال) * أولا فيه ضمير الرسول إليها فكذلك إن علق بالثاني يكون المعنى قال الرسول قال ربك كذلك ثم فسره بقوله: * (هو على هين) * أو المعنى مثل ذلك القول العجيب الذي سمعته ووعدتك قال ربك على إقحام الكاف ثم استأنف
78

هو على هين ولا بد من إضمار القول لأن المخاطب لها جبريل عليه السلام وقوله: * (هو على هين) * كلام الحق تعالى شأنه حكاه لها. وإن علق بالأول يكون المعنى الأمر كذلك تصديقا لها أو كما وعدت تحقيقا له ثم استأنف قال ربك هو على هين لإزالة الاستبعاد أو لتقرير التحقيق ولاي بعد أن يجعل * (قال ربك) * على هذا تفسيرا وكذلك مبهما انتهى. ولا أرى ما نقل عن ابن المنير هناك وجها هنا * (ولنجعله) * تعليل لمعلل محذوف أي لنجعل وهب الغلام * (آية) * وبرهانا * (للناس) * جميعهم أو المؤمنين على ما روى عن ابن عباس يستدلون به على كمال قدرتنا * (ورحمة) * عظيمة كائنة * (منا) * عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده فعلنا ذلك.
وجوز أن يكون معطوفا على علة أخرى مضمرة أي لنبين به عظم قدرتنا ولنجعله آية الخ. قال في " الكشف ": إن مثل هذا يطرد فيه الوجهان ويرجح كل واحد بحسب المقام وحذف المعلل هنا أرجح إذ لو فرض علة أخرى لم يكن بد من معلل محذوف أيضا فليس قبل ما يصلح فهو تطويل للمسافة. وهذه الجملة - أعني العلة مع معللها - معطوفة على قوله * (هو علي هين) * وفي إيثار الأولى اسمية دالة على لزوم الهون مزيلة للاستبعاد والثانية فعلية دالة على أنه تعالى أنشأه لكونه آية ورحمة خاصة لا لأمر آهر ينافيه مرادا بها التجدد لتجدد الوجود لينتقل من الاستبعاد إلى الاستحماد ما لا يخفى من الفخامة انتهى.
ولا يرد أنه إذا قدر علة نحو لنبين جاز أن يكون ذلك متعلقا بما يدل عليه * (هو على هين) * من غير حذف شيء فلا يصح قوله لم يكن بد من معلل محذوف لظهور ما
فيه. وما ذكره من العطف خالف فيه بعضهم فجعل الواو على الأول اعتراضية. ومن الناس من قال: إن * (لنجعله) * على قراءة * (ليهب) * عطف عليه على طريقة الالتفات من الغيبة إلى التكلم. وجوز أيضا العطف على * (لأهب) * على قراءة أكثر السبعة. ولا يخفى بعد هذا العطف على القراءتين * (وكان) * ذلك * (أمرا مقضيا) * محكما قد تعلق به قضاؤنا الأزلي أو قدر وسطر في اللوح لا بد لك منه أو كان أمرا حقيقا بمقتضى الحكمة والتفضل أن يفعل لتضمنه حكما بالغة. وهذه الجملة تذييل إما لمجموع الكلام أو للأخير.
* (فحملته فانتبذت به مكانا قصيا) *
* (فحملته) * الفاء فصيحة أي فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيبها فدخلت النفخة في جوفها فحملته. وروى هذا عن ابن عباس. وقيل: لم يدن عليه السلام بل نفخ عن بعد فوصل الريح إليها فحملت. وقيل: إن النفخة كانت في كمها وروى ذلك عن ابن جريج. وقيل كانت في ذيلها. وقيل كانت في فمها.
واختلفوا في سنها إذ ذاك فقيل ثلاث عشرة سنة، وعن وهب ومجاهد خمس عشرة سنة، وقيل: أربع عشرة سنة، وقيل: اثنتا عشرة سنة، وقيل؛ عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل، وحكى محمد بن الهيصم رئيس الهيصمية من الكرامية إنها لم تكن حاضت بعد، وقيل: إنها عليها السلام لم تكن تحيض أصلا بل كانت مطهرة من الحيض. وكذا اختلفوا في مدة حملها ففي رواية عن ابن عباس أنها تسعة أشهر كما في سائر النساء وهو المروى عن الباقر رضي الله تعالى عنه لأنها لو كانت مخالفة لهن في هذه العادة لناسب ذكرها في أثناء هذه القصة الغريبة. وفي رواية أخرى عنه أنها كانت ساعة واحدة كما حملته نبذته. واستدل لذلك بالتعقيب الآتي وبأنه سبحانه قال في وصفه: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * (آل عمران: 59) فإنه ظاهر في أنه عز وجل قال له كن فيكون فلا يتصور فيه مدة الحمل. وعن عطاء. وأبي العالية. والضحاك أنها
79

كانت سبعة أشهر، وقيل. كانت ستة أشهر، وقيل: حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، والمشهور أنها كانت ثمانية أشهر، قيل: ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره عليه السلام.
ونقل النيسابوري عن أهل التنجيم أن ذلك لأن الحمل يعود إلى تربية القمر فتستولى عليه البرودة والرطوبة وهو ظاهر في أن مر بي الحمل في أول الشهور منسوب إلى زحل والثاني إلى المشتري وهكذا إلى السابع وهو منسوب إلى القمر ثم ترجع النسبة إلى زحل ثم إلى المشتري: وفيها أيضا أن جهال المنجمين يقولون إن النطفة في الشهر الأول تقبل البرودة من زحل فتجمد، وفي الثاني تقبل القوة النامية من المشتري فتأخذ في النمو، وفي الثالث تقبل القوة الغضبية من المريخ. وفي الرابع قوة الحياة من الشمس. وفي الخامس قوة الشهوة من الزهرة. وفي السادس قوة النطق من عطارد. وفي السابع قوة الحركة من القمر فتتم خلقة الجنين فإن ولد في ذلك الوقت عاش وإلا فإن ولد في الثامن لم يعش لقبوله قوة الموت من زحل وإن ولد في التاسع عاش لأنه قبل قوة المشتري. ومثل تلك الكلمات خرافات وكل امرأة تعرف أن النطفة إذا مضت عليها ثلاثة أشهر تتحرك.
وقد ذكر حكماء الطبيعة أن أقل مدة الولادة ستة أشهر ومدة الحركة ثلث مدة الولادة فيكون أقلها شهرين ومن امتحن الاسقاط يعلم أن الخلقة تتم في أقل من خمسين يوما انتهى.
وكلام المتشرعين لا يخفى عليك في هذا الباب.
وقد يعيش المولود لثمان إلا أنه قليل فليس ذلك من خواصه عليه السلام إن صح. ولم يصح عندي شيء من هذه الأقوال المضطربة المتناقضة بيد أني أميل إلى أولها والاستدلال للثاني ممال سمعت لا يخلو عن نظر.
* (فانتبذت به) * أي فاعتزلت وهو في بطنها فالباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قوله تعالى: * (تنبت بالدهن) * وقول المتنبي يصف الخيول: فمرت غير نافرة عليهم * تدوس بنا الجماجم والرؤسا
والجار والمجرور ظرف مستقر وقع حالا من ضميرها المستتر أي فانتبذت ملتبسة به * (مكانا قصيا) * بعيدا من أهلها وراء الجبل، وأخرج عبد الله بن أمد في " زوائد الزهد " عن نوف أن جبريل عليه السلام نفخ في جيبها فحملت حتى إذا أثقلت وجعت مايجع النساء وكانت في بيت النبوة فاستحيت وهربت حياء من قومها فأخذت نحو المشرق وخرج قومها في طلبها فجعلوا يسألون رأيتم فتاة كذا وكذا فلا يخبرهم أحد كان من أخبر الله تعالى به.
وروى الثعلبي في " العرائس " عن وهب قال: إن مريم لما حملت كان معها ابن عمر لها يسمى يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون وكانا معا يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم أن أحدا من أهل زمانهما أشد اجتهادا وعبادة منهما وأول من علم أمرها يوسف فتحير في ذلك لعلمه بكمال صلاحها وعفتها وأنه لم تغب عنه ساعة فقال لها: قد وقع في نفسي شيء من أمرك لم أستطع كتمانه وقد رأيت الكلام فيه أشفى لصدري فقالت قل قولا جميلا فقال: يا مريم اخبريني هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر: فقالت؟ نعم ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعدما خلق كل واحد منهما على حدة أتقول: إن الله سبحانه لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى يستعين بالماء: قال؟ لا أقول هذا ولكني أقول إن الله تعالى يقدر على
80

ما يشاء بقول كن فيكون فقالت: ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زال ما يجده وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب فلما دنا نفاسها أوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له
فلما بلغت تلك البلاد أدركها النفاس فكان ما قص سبحانه، وقيل: انتبذت أقصى الدار وهو الأنسب بقصر مدة الحمل.
* (فأجآءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتنى مت قبل ه‍اذا وكنت نسيا منسيا) *
* (فأجاءها المخاض) * أي الجأها كما قال الزمخشري وجماعة، وفي " الصحاح " أجأته إلى كذا بمعنى الجأته واضطررته إليه قال زهير بن أبي سلمى: وجار سار معتمدا عليكم * أجاءته المخافة والرجاء
قال الفراء: أصله من جئت وقد جعلته العرب الجاء، وفي المثل شر ما يجيئك إلى مخة عرقوب انتهى، واختار أبو حيان أن المعنى جاء بها واعترض على الزمخشري وأطال الكلام بما لا يفخى رده و * (المخاض) * بفتح الميم كما في قراءة الأكثرين وبكسرها كما في رواية عن ابن كثير مصدر مخضت المرأة بفتح الخاء وكسرها إذا أخذها الطلق وتحرك الولد في بطنها للخروج، وقرأ الأعمش. وطلحة * (فاجاءها) * بامالة فتحة الجيم، وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم * (فاجأها) * من المفاجأة وروي ذلك عن مجاهد ونقله ابن عطية عن شبيل بن عزرة أيضا، وقال صاحب اللوامح: إن قراءته تحتمل أن تكون الهمزة فيها قد قلبت ألفا ويحتمل أن تكون بين بين غير مقلوبة.
* (إلى جذع النخلة) * لتستند إليه عند الولادة كما روي عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة. والسدي أو لذلك ولتستر به كما قيل، والجذع ما بين العرق ومتشعب الأغصان من الشجرة، وقد يقال للغصن أيضا: جذع، والنخلة معروفة. والتعريف إما للجنس فالمراد واحدة من النخل لا على التعيين أو للعهد فالمراد نخلة معينة ويكفي لتعينها تعينها في نفسها وإن لم يعلمها المخاطب بالقرآن عليه الصلاة والسلام كما إذا قلت أكل السلطان ما أتي به الطباح أي طباخه فإنه المعهود، وقد يقال: إنها معينة له صلى الله عليه وسلم بأن يكون الله تعالى أراها له عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج، وزعم بعضهم أنها موجودة إلى اليوم، والظاهر أنها كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها وهو الذي تدل عليه الآثار، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها عليها السلام لما اشتد عليها الطلق نظرت إلى أكمة فصعدت مسرعة فإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس عليها سعف.
وقيل: إن الله تعالى خلقها له يومئذ وليس بذاك؛ وكان الوقت شتاء، ولعل الله تعالى أرشدها إليها ليريها فيما هو أشبه الأشجار بالإنسان من آياته ما يسكن روعتها كاثمارها بدون رأس وفي وقت الشتاء الذي لم يعهد ذلك فيه ومن غير لقاح كما هو المعتاد، وفي ذلك إشارة أيضا إلى أن أصلها ثابت وفرعها في السماء، وإلى أن ولدها نافع كالثمرة الحلواء وانه عليه السلام سيحيي الأموات كما أحي الله تعالى بسببه الموات مع ما في ذلك من اللطف بجعل ثمرتها خرسة لها، والجار والمجرور متعلق بإجاءها، وعلى القراءة الأخرى متعلق بمحذوف وقع حالا أي مستندة إلى جذع النخلة * (قالت يا ليتني مت) * بكسر الميم من مات يمات كخاف يخاف أو من مات يميت كجاء يجيء.
81

وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر. ويعقوب بضمها من مات يموت كقال يقول.
* (قبل ه‍اذا) * الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت أو قبل هذا الأمر. وإنما قالته عليها السلام مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل عليه السلام من الوعد الكريم استحياء من الناس وخوفا من لائمتهم أو حذرا من وقوع الناس في المعصية بما يتكلمون فيها. وروي أنها سمعت نداء أخرج با من يعبد من دون الله تعالى فحزنت لذلك وتمنت الموت، وتمنى الموت لنحو ذلك مملا لا كراهة فيه. نعم يكره تمنيه لضرر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا. ففي صحيح مسلم. وغيره قال صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم احيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي " ومن ظن أن تمنيها عليها السلام ذلك كان لشدة الوجه فقد أساء الظن والعياذ بالله تعالى.
* (وكنت نسيا) * أي شيئا تافها شأنه أن ينسى ولا يعتد به أصلا كخرقة الطمث.
قرأ الأكثرون * (نسيا) * بالكسر. قال الفراء: هما لغتان في ذلك كالوتر والوتر والفتح أحب إلي.
وقال الفارسي: الكسر أعلى اللغتين، وقال ابن الأنباري: هو بالكسر اسم لما ينسى كالنقض اسم لما ينقض وبالفتح مصدر نائب عن الاسم، وقرأ محمد بن كعب القرظي * (نسئا) * بكسر النون والهمزة مكان الياء وهي قراءة نوف الأعرابي، وقرأ بكر بن حبيب السهمي. ومحمد بن كعب أيضا في رواية * (نسأ) * بفتح النون والهمزة على أن ذلك من نسأت اللبن إذا صببت عليه ماء فاستهلك اللبن فيه لقلته فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن الذيلا يرى ولا يتميز من الماء، ونقل ابن عطية عن بلكر بن حبيب أنه قرأ * (نسا) * بفتح النون والسين من غير همز كعصى * (منسيا) * لا يخطر ببال أحد من الناس. ووصف النسى بذلك لما أنه حقيقة عرفية فيما يقل الاعتداد به وإن لم ينس، وقرأ الأعمش. وأبو حعفر في رواية بكسر الميم اتباعا لحركة السين كما قالوا: منتن باتباع حركة الميم لحركة التاء.
* (فناداها من تحتهآ ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا) *
* (فناداها) * أي جبريل عليه السلام كما روي عن ابن عباس. ونوف.
وقرأ علقمة فخاطبها. قال أبو حيان: وينبغى أن تكون تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف، وقرأ الحبر * (فناداها ملك) * * (من تحتها) * وينبغي أن يكون المراد به جبريل عليه السلام ليوافق ما روي عنه أولا. ومعنى دمن تحتها) * من مكان أسفل منها وكان واقفا تحت الأكمة التي صعدتها مسرعة كما سمعت آنفا، ونقل في البحر عن الحسن أنه قال: ناداها جبريل عليه السلام وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وأقسم على ذلك. ولعله إنما كان موقفه عليه السلام هناك إجلالا لها وتحاشيا من حضوره بين يديها في تلك الحال. والقول بأنه عليه السلام كان تحتها يقبل الولد مما لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة ما لا يليق بشأن أمين وحي
الملك المتعال، وقيل: ضمير * (تحتها) * للنخلة، واستظهر أبو حيان كون المنادي عيسى عليه السلام والضمير لمريم والفاء فصيحة أي فولدت غلاما فانطقه الله تعالى حين الولادة فناداها المولود من تحتها.
وروي ذلك عن مجاهد. ووجهب. وابن جبير. وابن جرير. وابن زيد. والجبائي. ونقله الطبرسي عن الحسن أيضا، وقرأ الابنان والأبوان. وعاصم. والجحدري. وابن عباس والحسن في رواية عنهما * (من) * بفتح الميم بمعنى الذي فاعل نادى و * (تحتها) * ظرف منصوب صلة لمن والمراد به إما عيسى أو جبريل عليهما الصلاة
82

والسلام * (ألا تحزني) * أي أي لا تحزني على أن أن مفسرة أو بأن لا تحزني على أنها مصدرية قد حذف عنها الجار * (قد جعل ربك تحتك) * بمكان أسغل منك، وقيل: تحت أمرك إن أمرت بالجري جري وإن أمرت بالإمساك أمسك وهو خلاف الظاهر * (سريا) * أي جدولا كما أخرجه الحاكم في مستدركه عن البراء وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين وذكره البخاري تعليقا موقوفا عليه وأسنده عبد الرزاق. وابن جرير. وابن مردويه في تفاسيرهم عنه موقوفا عليه أيضا ولم يصح الرفع كما أوضحه الجلال السيوطي. وعلى ذلك جاء قول لبيد يصف عيرا وأتانا: فتوسطا عرض السرى فصدعا * مسجورة متجاوزا قلامها
وأنشد ابن عباس قول الشاعر: سهل الخليقة ماجد ذو نائل * مثل السرى تمده الأنهار
وكان ذلك على ما روي عن ابن عباس جدولا من الأردن أجراه الله تعالى منه لما أصابها العطش. وروي أن جبريل عليه السلام ضرب برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى جدولا، وقيل: فعل ذلك عيسى عليه السلام وهو المروى عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، وقيل: كان ذلك موجودا من قبل إلا أن الله تعالى نبهها عليه. وما تقدم هو الموافق لمقام بيان ظهور الخوارق والمتبادر من النظم الكريم. وسمى الجدول سريا لأن الماء يسري فيه فلامه على هذا المعنى ياء، وعن الحسن. وابن زيد. والجبائي أن المراد بالسرى عيسى عليه السلام وهو من السرو بمعنى الرفعة كما قال الراغب أي جعل ربك تحتك غلاما رفيع الشأن سامي القدر، وفي الصحاح هو سخاء في مروءة وإرادة الرفعة أرفع قدرا ولامه على هذا المعنى واو. والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي عنه. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية.
* (وهزىإليك بجذع النخلة تس‍اقط عليك رطبا جنيا) *
* (وهزي إليك) * أي إلى جهتك. والهز تحريك يمينا وشمالا سواء كان بعنف أولا أو تحريك بجذب ودفع وهو مضمن معنى الميل فلذا عدى بالي أوأنه مجاز عنه أو اعتبر في تعديته ذلك لأنه جزء معناه كذا قيل.
ومنع أبو حيان تعلقه بهزي وعلل ذلك بأنه قد تقرر في النحوان الفعل لا يعدي إلى الضمير المتصل وقد رفع الضمير المتصل وليس من باب ظن ولا فقد ولا عدم وهما لمدلول واحد فلا يقال: ضربتك وزيد ضربه على معنى ضربت نفسك وضرب نفسه. والضمير المجرور عندهم كالضمير المنصوب فلا يقال: نظرت إليه وزيد نظر على معنى نظرت إلى نفسك ونظر إلى نفسه. ومن هنا جعلوا على في قوله: هون عليك فإن الأمور * بكف الإله مقاديرها
اسما كما في قوله: غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها
وجعل الجار والمجهرور هنا متعلقا بمحذوف أي أعني إليك كما قالوا في سقيا لك ونحوه مما جيء به للتبيين. وأنت تعلم أنهم قالوا بمجيء إلى للتبيين لكن قال ابن مالك. وكذا صاحب القاموس: إنها المبينة لغاعلية مجرورها بعدما يفيد حبا أو يغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل وما هنا ليس كذلك. وقال في الاتقان: حكى ابن عصفور في شرح أبيات الإيضاح عن ابن الأنباري أن إلى
83

تستعمل اسما فيقال: انصرفت من إليك كما يقال غدوت من عليه وخرج عليه من القرآن * (وعزي إليك) * وبه يندفع إشكال أبي حيان فيه انتهى.
وكان عليه أن يبين ما معناها على القول بالإسمية، ولعلها حينئذ بمعنى عند فقد صرح بمجيئها بهذا المعنى في القاموس وأنشد: أم لا سبيل إلى الشباب وذكره * أشهى إلى من الرحيق السلسل
لكن لا يحلو هذا المعنى في الآية، ومثله ما قيل إنها في ذلك اسم فعل، ثم أن حكاية استعمالها اسما إذا صحت تقدح في قول أبي حيان: لا يمكن أن يدعي أن إلى تكون اسما لا جماع النحاة على حرفيتها. ولعله أراد اجماع من يعتد به منهم في نظره. والذي أميل إليه في دفع الاشكال أن الفعل مضمن معنى الميل والجار والمجرور متعلق به لا بالفعل الرافع للضمير وهو مغزى بعيد لا ينبغي أن يسارع إليه بالاعتراض على أن في القلب من عدم صحة نحو هذا التركيب للقاعدة المذكورة شيئا لكثرة مجيء ذلك في كلامهم. ومنه قوله تعالى: * (أمسك عليك زوجك) * والبيت المار آنفا. وقول الشاعر: دع عنك نهبا صيح في حجراته * ولكن حديثا ما حديث الرواعل
وقولهم: اذهب إليك وسر عنك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع. وتأويل جميع ما جاء لا يخلو عن تكلف فتأمل وأنصف، ثم الفعل هنا منزل منزلة اللازم كما في قول ذي الرمة: فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها * إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلى
فلذا عدى بالباء أي افعلي الهز * (بجذع النخلة) * فالباء للآلة كام في كتبت بالقلم. وقيل هو متعد والمفعول محذوف والكلام على تقدير مضاف أي هزي الثمرة بهز جذع النخلة ولا يخفى ما فيه من التكلف وأن هز الثمرة لايخلو من ركاكة، وعن المبرد أن مفعوله * (رطبا) * الآتي والكلام من باب التنازع. وتعقب بأن الهز على الرطب لا يقع إلا تبعا فجعله أصلا وجعل الأصل تبعا حيث أدخل عليه الباء للاستعانة غير ملائم مع ما فيه من الفصل بجواب الأمر بينه وبين مفعوله ويكون فيه أعمال الأول وهو ضعيف لا سيما في هذا المقام.
وما ذكر من التعكيس وارد على ما فيه التكلف وهو ظاهر، وما قيل من أن الهز وان وقع بالأصالة على الجذع لكن المقصود منه الثمرة فلهذه النكتة المناسبة جعلت أصلا لأن هز الثمرة ثمرة الهز لا يدفع الركاكة التي ذكرناها مع أن المفيد لذلك ما يذكر في جواب الأمر. وجعل بعضهم * (بجذع النخلة) * في موضع الحال على تقدير جعل المفعول * (رطبا) * أو الثمرة أي كائنة أو كائنا بجذع النخلة وفيه ثمرة ما لا تسمن ولا تغنى، وقيل الباء مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (البقرة: 195) وقول الشاعر: هن الحرائر لا ربات أخمرة * سود المحاجر لا يقرأن بالسور
والوجه الصحيح الملائم لما عليه التنزيل من غرابة النظم كما في الكشف هو الأول، وقول الفراء: إنه يقال هزه وهز به إن أراد أنهما بمعنى كما هو الظاهر لا يلتفت إليه كما نص عليه بعض من يعول عليه * (تساقط) * من ساقطت بمعنى أسقطت، والضمير المؤنث للنخلة ورجوع الضمير للمضاف إليه شائع، ومن أنكره فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وجوز أبو حيان أن يكون الضمير للجذع لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله تعالى: * (تلتقطه
84

بعض السيارة) * (يوسف: 10) في قراءة من قرأ بالتاء الفوقية، وقول الشاعر: كما شرقت صدر القناة من الدم
وتعب بأنه خلاف الظاهر وإن صح. وقرأ مسروق. وأبو حيوة في رواية * (تسقط) * بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف. وفي رواية أخرى عن أبي حيوة أنه قرأ كذلك إلا أنه بالياء من تحت. وقوله تعالى: * (عليك رطبا) * في جميع ذلك نصب على المفعولية وهو نضيج البسر واحدته بهاء وجمع شاذا على أرطاب كربه وأرباع، وعن أبي حيوة أيضا أنه قرأ * (تسقط) * بالتاء من فوق مفتوحة وضم القاف، وعنه أيضا كذلك إلا أنه بالياء من تحت فنصب * (رطبا) * على التمييز، وروي عنه أنه رفعه في القراءة الأخيرة على الفاعلية.
وقرأ أبو السمال * (تتساقط) * بتاءين. وقرأ البراء بن عازب * (يساقط) * بالياء من تحت مضارع أساقط. وقرأ الجمهور * (تساقط) * بفتح التاء من فوق وشد السين بعدها ألف وفتح القاف، والنصب على هذه الثلاثة على التمييز أيضا.
وجوز في بعض القراآت أن يكون على الحالية الموطئة وإذا أضمر ضمير مذكر على إحدى القراآت فهو للجذع، وإذا أضمر ضمير مؤنث فهو للنخلة أوله على ما سمعت * (جنيا) * أي مجنيا ففعيل بمعنى مفعول أي صالحا للاجتناء. وفي القاموس ثم جنى جنى من ساعته. وعليه قيل المعنى رطبا يقول من يراه هو جني وهو صفة مدح فإن ما يجنى أحسن مما يسقط بالهز وما قرب عهده أحسن مما بعد عهده، وقيل فعيل بمعنى فاعل أي رطبا طريا، وكان المراد على ما قيل إنه تم نضجه.
وقرأ طلحة بن سليمان * (جنيا) * بكسر الجيم للاتباع. ووجه التذكير ظاهر. وعن ابن السيد أنه قال في شرح أدب الكاتب. كان يجب أن يقال جنية إلا أنه أخرج بعض الكلام على التذكير وبعضه على التأنيث، وفيه نظر. روي عن ابن عباس أنه لم يكن للنخلة إلا الجذع ولم يكن لها رأس فلما هزته إذ السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف ثم أخضر فصار بلحا ثم أحمر فصار زهوا ثم رطبا كل ذلك في طرفة عين فجعل الرطب يقع بين يديها وكان برنيا، وقيل عجوة وهو المروى عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه.
والظاهر أنها لم تحمل سوى الرطب، وقيل كان معه موز، وروي ذلك عن أبي روق. وإنما اقتصر عليه لغاية نفعه للنفساء، فعن الباقر رضي الله تعالى عنه لم تستشف النفساء بمثل الرطب إن الله أطعمه مريم في نفاسها وقالوا: ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل، وقيل: المرأة إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب، وذكر أن التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك وفي أمرها بالهز إشارة إلى أن السعي في تحصيل الرزق في الجملة مطلوب وهو لا ينافي التوكل وما أحسن ما قيل:
ألم تر أن الله أوحى لمريم * وهزى إليك الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أحنى الجذع من غير هزه * إليها ولكن كل شيء له سبب
* (فكلى واشربى وقرى عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولى إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) *
* (فكلي) * من ذلك الرطب * (واشربي) * من ذلك السرى. وقيل: من عصير الرطب وكان في غاية الطراوة فلا يتم الاستدلال بذكر الشرب على تعين تفسير السرى بالجدول وما ألطف ما أرشد إليه النظم الكريم من إحضار الماء أولا والطعام ثانيا ثم الأكل ثالثا والشرب ربابعا فإن الاهتمام بالماء أشد من الاهتمام بالأكل لا سيما ممن يريد أن يأكل ما يحوج إلى الماء كالأشياء الحلوة الحارة، والعادة قاضية بأن الأكل بعد الشرب ولذا قدم
85

الأكل على الشرب حيث وقع، وقيل: قدم الماء لأنه أصل في النفع ونفعه عام للتنظيف ونحوه، وقد كان جاريا وهو أظهر في إزالة الحزن وأخر الشرب للعادة. وقيل قدم الأكل ليجاور ما يشاكله وهو الرطب.
والأمر قيل يحتمل الوجوب والندب. وذلك باعتبار حالها، وقيل هو للإباحة * (وقري عينا) * وطيبي نفسا وارفضي عنها ما أحزنك. وقرىء بكسر القاف وهي لغة نجدوهم يفتحون عين الماضي ويكسرون عين المضارع وغيرهم يكسرهما وذلك من القر بمعنى السكون فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره ويشهد له قوله تعالى: * (تدور أعينهم) * من الحزن أو بمعنى البرد فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. ويشهد له قولهم قرة العين وسخنتها للمحبوب والمكروه. وتسليتها عليها السلام بما تضمنته الآية من إجراء الماء وإخراج الرطب من حيث أنهما أمران خارقان للعادة فكأنه قيل لا تحزني فإن الله تعالى قدير ينزه ساحتك عما يختلج في صدور المتقيدين بالأحكام العادية بأن يرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك بما أظهر لهم من البسائط العنصرية والمركبات النباتية ما يخرق
العادات التكوينية، وفرع على التسلية الأمر بالأكل والشرب لأن الحزين قد لا يتفرغ لمثل ذلك وأكد ذلك بالأمر الأخير. ومن فسر السرى برفيع الشأن سامي القدر جعل التسلية بإخراج الرطب كما سمعت وبالسرى من حيث أن رفعة الشأن مما يتبعها تنزيه ساحتها فكأنه قيل لا تحزني فإن الله سبحانه قد أظهر لك ما ينزه ساحتك قالا وحالا.
وقد يؤيد هذا في الجملة بما روي عن ابن زيد قال: قال عيسى عليه السلام لها لا تحزني فقالت: كيف لا أحزن وأنت معى ولست ذات زوج ولا مملوكة فأي شيء عذري عند الناس ليتني مت قبل هذا فقال لها عليه السلام: أنا أكفيك الكلام * (فأما ترين من البشر أحدا) * أي آدميا كائنا من كان. وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه ابن الرومي * (ترئن) * بالإبدال من الياء همزة. وزعم ابن خالويه أن هذا لحن عند أكثر النحويين.
وقال الزمخشري: إنه من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الابدال. وقرأ طلحة. وأبو جعفر. وشيبة * (ترين) * بسكون الياء وفتح النون خفيفة. قال ابن جنى: هي شاذة وكان القياس حذف النون للجازم كما في قول الأفوه الأودي: أما ترى رأسي أزري به * مأس زمان ذي انتكاس مؤوس
* (فقولى) * له إن استنطقك * (إني نذرت للرحم‍ان صوما) * وقرأ زيد بن على رضي الله تعالى عنه * (صياما) * والمعنى واحد أي صمتا كما في مصحف عبد الله. وقرأ به أنس بن مالك. فالمراد بالصوم الإمساك وإطلاقه على ما ذكر باعتبار أنه بعض أفراده كإطلاق الإنسان على زيد وهو حقيقة. وقيل اطلاقه عليه مجاز والقرينة التفريع الآتي وهو ظاهر على ذلك. وقال بعضهم: المراد به الصوم عن المفطرات المعلومة وعن الكلام وكانوا لا يتكلمون في صيامهم وكان قربة في دينهم فيصح نذره. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فهو منسوخ في شرعنا كما ذكره الجصاص في كتاب الأحكام. وروي عن أبكي بكر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم فقال: إن الإسلام هدم هذا فتكلمي.
وفي شرح البخاري لابن حجر عن ابن قدامة أنه ليس من شريعة الإسلام. وظاهر الأخبار تحريمه فإن نذره لا يلزمه الوفاء به ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنفية لما فيه من التضييق وليس في شرعنا وإن كان
86

قربة في شرع من قبلنا. فتردد القفال في الجواز وعدمه ناشىء من قلة الإطلاع، وفي بعض الآثار ما يدل ظاهره على أن نذر الصمت كان من مريم عليها السلام خاصة. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن حارثة بن مضرب قال: كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا فقال القوم. ما لصاحبك لم يسلم؟ قال: إنه نذر صوما لا يكلم اليوم انسيا فقال له ابن مسعود: بئس ما قلت إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت وكانوا ينكرون أن يكون وله من غير زوج إلا زنا فكلم وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر فإنه خير لك. والظاهر على المعنى الأخير للصوم أنه باعتبار الصمت فيه فرع قوله تعالى: * (فلن أكلم اليوم انسيا) * أي بعد أن أخبرتكم بنذري فتكون قد نذرت إن لا تلكم انسيا بغير هذا الأخبار فلا يكون مبطلا له لأنه ليس بمندور ويحتمل أن هذا تفسير للنذر بذكر صيغته. وقالت فرقة: امرت أن تخبر بنذرها بالإشارة قيل: وهو الأظهر. قال الفراء: العرب تسمى كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأن طريق وصل ما لم يأكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. ويفهم من قوله تعالى: * (انسيا) * دون أحدا أن المراد فلن أكلم اليوم انسيا وإنما أكلم الملك وأناجي ربي. وإنما أمرت عليها السلام بذلك على ما قاله غير واحد لكراهة مجادلة السفهاء والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن.
* (فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا) *
* (فأتت به قومها تحمله) * أي جاءتهم مع ولدها حاملة إياه على أن الباء للمصاحبة ولو جعلت للتعدية صح أيضا. والجملة في موضع الحال من ضمير مريم أو من ضمير ولدها. وكان هذا المجيء على ما أخرج سعيد بن منصور. وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوما حين طهرت من نفاسها قيل: إنها حنت إلى الوطن وعلمت أن ستكفي أمرها فأتت به فلما دخلت عليهم تباكوا، وقيل: هموا يرجمها حتى تلكم عيسى عليه السلام. وجاء في رواية عن الحبر أنها لما انتبذت من أهلها وراء الجبل فقدوها من محرابها فسألوا يوسف عنها فقال: لا علم لي بها وإن مفتاح باب محرابها عند زكريا فطلبوا زكريا وفتحوا الباب فلم بجدوها فاتهموه فاخذوه ووبخوه فقال رجل: إني رأيتها في موضع كذا فخرجوا في طلبها فسمعوا صوت عقعق في رأس الجذع الذي هي من تحته فانطلقوا إليه فلما رأتهم قد أقبلوا إليها احتملت الولد إليهم حتى تلقتهم به ثم كان ما كان. فظاهر الآية والاخبار أنها جاءتهم به من غير طلب منهم، وقيل: أرسلوا إليها لتحضري إلينا بولدك وكان الشيطان قد أخبرهم بولادتها فحضرت إليهم به فلما رأوهما * (قالوا يا مريم لقد جئت) * فعلت * (شيئا فريا) * قال قتادة: عظيما، وقيل: عجيبا. وأصله من فرى الجلد قطعه على وجه الإصلاح أو الإفساد، وقيل: من أفراه كذلك. واختير الأول لأن فعيلا إنما يصاغ قياسا من الثلاثي. وعدم التفرقة بينه وبين المزيد في المعنى هو الذي ذهب إليه صاحب القاموس.
وفي الصحاح عن الكسائي أن الفرى القطع على وجه الإصلاح والإفراء على وجه الإفساد. وعن الراغب مثل ذلك. وقيل الإفراء عام. وإيا ما كان فقد استعير الفرى لما ذكر في تفسيره. وفي البحر أنه يستعمل في العظيم من الأمر شرا أو خيرا قولا أو فعلا، ومنه في وصف عمر رضي الله تعالى عنه فلم أر عبقريا يفري فريه، وفي المثل جاء يفري الفرى. ونصب * (شيئا) * على أنه مفعول به. وقيل على أنه مفعول مطلق أي لقد جئت مجيئا عجيبا، وعبر عنه بالشيء تحقيقا للاستغراب.
87

وقرأ أبو حيوة فيما نقل ابن عطية * (فريا) * بسكون الراء وفيما نقل ابن خالويه * (فرأ) * بالهمزة.
* (ياأخت ه‍ارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) *
* (يا أخت هارون) * استئناف لتجديد التعيير وتأكيد التوبيخ. وليس المراد بهرون أخا موسى بن عمران عليهما السلام لما أخرج أحمد. ومسلم. والترمذي. والنسائي. والطبراني. وابن حبان. وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرأون * (يا أخت هارون) * وموسى قبل عيسى بكذا وكذا قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم " بل هو على ما روي عن الكلبي أخ لها من أبيها. وأخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد عن قتادة قال: هو رجل صالح في بني إسرائيل. وروي عنه أنه قال ذكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا من بني إسرائيل كلهم يسمى هارون. والأخت على هذا بمعنى المشابهة وشبهو هابه تهكما أو لما رأوا قبل من صلاحها، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه رجل طالح فشبهوها به شتما لها. وقيل: المراد له هارون أخو موسى عليهما السلام، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم أيضا عن السدى. وعلي بن أبي طلحة. وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة فوصفها بالأخوة لكونها وصف أصلها. وجوز أن يكون هارون مطلقا على نسله كهاشم. وتميم، والمراد بالأخت أنها واحدة منهم كما يقال أخا العرب وهو المروى عن السدى.
* (ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) * تقرير لكون ما جاءت به فريا أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش. وفيه دليل على أن الفروع غالبا تكون زاكية إذا زكت الأصول وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك. وقرأ عمر بن بجاء التيمي الشاعر الذي كان يهاجي جريرا * (ما كان أباك أمرؤ سوء) * بجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة. وحسن ذلك قليلا وجود مسوغ الابتداء فيها وهو الإضافة.
* (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا) *
* (فأشارت إليه) * أي إلى عيسى عليه السلام أن كلموه. قال شيخ الإسلام: والظاهر أنها بينت حينئذ نذرها وأنها بمعزل من محاورة الإنس حسبما أمرت ففيه دلالة على أن المأمور به بيان نذرها بالإشارة لا بالعبارة والجمع بينهما مما لا عهد به * (قالوا) * منكرين لجوابها، وفي بعض الآثار أنها لما أشارت إليه أن كلموه قالوا: استخفافها بنا أشد من زناها حاشاها ثم قالوا: * (كيف نكلم من كان في المهد صبيا) * قال قتادة: المهد حجر أمه، وقال عكرمة: المرباة أي المرجحة، وقيل: سريره. وقيل: المكان الذي يستقر عليه. واستشكلت الآية بأن كل من يكلمه الناس كان في المهد صبيا قبل زمان تكليمه فلا يكون محلا للتعجب والإنكار.
وأجاب الزمخشري عن ذلك بوجهين، الأول أن كان الإيقاع مضمون لجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة والدال عليه أن الكلام مسوق للتعجب فيكون المعنى كيف نكايم من كان بالأمس وقريبا منه من هذا الوقت في المهد وغرضهم من ذلك استمرار حال الصبي به لم يبرح بعد عنه ولو قيل: من هو في المهد لم يكن في تلك الوكادة من حيث السابق كالشاهد على ذلك، ومن على هذا موصولة يراد بها عيسى عليه السلام. الثاني أن يكون * (نكلم) * حكاية حال ماضية ومن موصوفة، والمعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي ما كلمناهم إلى الأن حتى نكلم هذا، وفي العدول عن الماضي إلى الحال إفادة التصوير والاستمرار. وهذا كما في الكشف وجه حسن ملائم.
88

وقال أبو عبيدة: كان زائدة لمجرد التأكيد من غير دلالة على الزمان و * (صبيا) * حال مؤكدة والعامل فيها الاستقرار، فقول ابن الأنباري. إن كان نصبت هنا الخبر والزائدة لا تنصبه ليس بشيء، والمعنى كيف نكلم من هو في المهد الآن حال كونه صبيا، وعلى قول من قال: إن كان الزائدة لا تدل على حدث لكنها تدل على زمان ماض مقيد به ما زيدت فيه كالسيرافي لا يندفع الإشكال بالقول بزيادتها.
وقال الزجاج: الأجود أن تكون من شرطية لا موصولة ولا موصوفة أي من كان في المهد فكيف نكلمه وهذا كما يقال كيف أعظم من لا يعمل بموعظتي والماضي بمعنى المستقبل في باب الجزاء فلا إشكال في ذلك، ولا يخفى بعده.
* (قال إنى عبد الله ءاتانى الكت‍ابوجعلنى نبيا) *
* (قال) * استئناف مبني على سؤال نشأ من سياق النظم الكريم كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال عيسى عليه السلام * (إني عبد الله) * روى أنه عليه السلام كان يرضع فلما سمع ما قالوا ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته فقال ما قال، وقيل إن زكريا عليه السلام أقبل عليه يستنطقه فقال ذلك وذكر عبوديته لله تعالى أولا لأن الاعتراف بذلك على ما قيل أول مقامات السالكين. وفيه رد على من يزعم ربوبيته، وفي جميع ما قال تنبيه على براءة أمه لدلالته على الاصطفاء والله سبحانه أجل من أن يصطفي ولد الزنا وذلك من المسلمات عندهم، وفيه من إجلال أمه عليهما السلام ما ليس في التصريح، وقيل لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بما ذكر إلا مبرأة مصطفاة.
واختلف في أنه بعد أن تكلم بما ذكر هل بقي يتكلم كعادة الرجال أو لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان وعده عليه السلام في عداد الذين تكلموا في المهد ثم لم يتكلموا إلى وقت العادة ظاهر في الثاني * (ءاتاني الكتاب) * الظاهر أنه الإنجيل. وقيل التوراة. وقيل مجموعهما * (وجعلني نبيا) *.
* (وجعلنى مباركا أين ما كنت وأوصانى بالصلواة والزكواة ما دمت حيا) *
* (وجعلني) * مع ذلك * (مباركا) * قال مجاهد نفاعا ومن نفعه إبراء الأكمه والأبرص. وقال سفيان: معلم الخير آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. وعن الضحاك قاضيا للحوائج، والأول أولى لعمومه، والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما في القضاء المحتوم أو بجعل ما في شرف الوقوع لا محالة كالذي وقع. وقيل أكمله الله تعالى عقلا واستنبأه طفلا وروي ذلك عن الحسن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس أن عيسى عليه السلام درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه وذلك قوله: * (آتاني الكتاب) * * (أين ما كنت) * أي حيثما كنت. وفي "
البحر " أن هذا شرط وجزاؤه محذوف تقديره جعلني مباركا وحذف لدلالة ما تقدم عليه، ولا يجوز أن يكون معمولا لجعلني السابق لأن - أين - لا تكون إلا استفهاما أو شرطا والأول لا يجوز هنا فتعين الثاني واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله وإنما هو معمول للفعل الذي يليه.
* (وأوصاني بالصلاة والزكاة) * أي أمرني بهما أمرا مؤكدا. والظاهر أن المراد بهما ما شرع في البدن والمال على وجه مخصوص. وقيل المراد بالزكاة زكاة الفطر. وقيل المراد بالصلاة الدعاء وبالزكاة تطهير النفس عن الرذائل، ويتعين هذا في الزكاة على ما نقل عن ابن عطاء الله وإن كان منظورا فيه من أنه لا زكاة على الأنبياء عليهم السلام لأن الله تعالى نزههم عن الدنيا فما في أيديهم لله تعالى ولذا لا يورثون أو لأن الزكاة
89

تطهير وكسبهم طاهر. وقيل لا يتعين لأن ذلك أمر له بإيجاب الزكاة على أمته وهو خلاف الظاهر، وإذا قيل يحمل للزكاة على الظاهر فالظاهر أن المراد * (أوصاني) * بأداء زكاة المال أن ملكته فلا مانع من أن يشمل التوقيت بقوله سبحانه: * (ما دمت حيا) * مدة كونه عليه السلام في السماء، ويلتزم القول بوجوب الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام هناك كذا قيل.
وأنت تعلم أن الظاهر المتبادر من المدة المذكورة مدة كونه عليه الصلاة والسلام حيا في الدنيا على ما هو المتعارف وذلك لا يشمل مدة كونه عليه السلام في السماء، ونقل ابن عطية أن أهل المدينة. وابن كثير. وأبا عمرو قرأوا * (دمت) * بكسر الدال ولم نجد ذلك لغيره نعم قيل إن ذلك لغة.
* (وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جبارا شقيا) *
* (وبرا بوالدتي) * عطف على * (مباركا) * على ما قال الحوفي وأبو البقاء، وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا للفصل بالجملة ومتعلقها اختار إضمار فعل أي وجعلني بارا بها، قيل هذا كالصريح في أنه عليه السلام لا والد له فهو أظهر الجمل في الإشارة إلى براءتها عليها السلام. وقرىء * (برا) * بكسر الباء ووجه نصبه نحو ما مر في القراءة المتواترة، وجعل ذاته عليه السلام برا من باب فإنما هي إقبال وإدبار، وجوز أن يكون النصب بفعل في معنى * (أوصاني) * أي وألزمني أو وكلفني برا فهو من باب: علفتها تبنا وماء باردا
وأقرب منه على ما في " الكشف " لأنه مثل زيدا مررت به في التناسب وإن لم يكن من بابه. وجوز أن يكون معطوفا على محل * (بالصلاة) * كما قيل في قراءة * (أرجلكم) * بالنصب، وقيل إن أوصى قد يتعدى للمفعول الثاني بنفسه كما وقع في " البخاري " أوصيناك دينا واحدا، والظاهر أن الفعل في مثل ذلك مضمن معنى ما يتعدى بنفسه، وحكى الزهراوي. وأبو البقاء أنه قرىء * (وبر) * بكسر الباء والراء وهو معطوف على الصلاة والزكاة قولا واحدا، والتنكير للتفخيم * (ولم يجعلني جبارا شقيا) * أي لم يقض على سبحانه بذلك في علمه الأزلي، وقد كان عليه السلام في غاية التواضع يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب ولم يتخذ مسكنا، وكان عليه السلام يقول: سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي.
* (والسل‍ام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) *
* (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) * تقدم الكلام في وجه تخصيص هذه المواطن بالذكر فتذكر فما في العهد من قدم. والأظهر بل الصحيح أن التعريف للجنس جىء به تعريضا باللعنة على متهمي مريم وأعدائها عليها السلام من اليهود فإنه إذا قال جنس السلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم، ونظيره قوله تعالى: * (والسلام على من اتبع الهدى) * يعني أن العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنة لنحو هذا من التعريض. والقول بأنه لتعريف العهد خلاف الظاهر بل غير صحيح لا لأن المعهود سلام يحيى عليه الصلاة والسلام وعينه لا يكون سلاما لعيسى عليه الصلاة والسلام لجواز أن يكون من قبيل * (هذا الذي رزقنا من قبل) * بل لأن هذا الكلام منقطع عن ذلك وجودا وسردا فيكون معهودا غير سابق لفظا ومعنى على أن المقام يقتضي التعريض ويفوت على ذلك التقدير لأن التقابل إنما ينشأ من اختصاص جميع السلام به عليه كذا في " الكشف " والاكتفاء في العهد به لتصحيحه بذكره في الحكاية لا يخفى حاله
90

وسلام يحيى عليه السلام قيل لكونه من قول الله تعالى أرجح من هذا السلام لكونه من قول عيسى عليه السلام، وقيل هذا أرجح لما فيه من إقامة الله تعالى إياه في ذلك مقام نفسه مع إفادة اختصاص جميع السلام به عليه السلام فتأمل.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (يوم ولدت) * بتاء التأنيث وإسناد الفعل إلى والدته.
* (ذالك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون) *
* (ذلاك) * إشارة إلى من فصلت نعوته الجليلة. وفيه إشارة إلى علو رتبته وبعد منزلته وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره ونزوله منزلة المحسوس المشاهد. وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: * (عيسى) * وقوله سبحانه: * (ابن مريم) * صفة عيسى أو خبر بعد خبر أو بدل أو عطف بيان والأكثرون على الصفة. والمراد ذلك هو عيسى ابن مريم لا ما يصفه النصارى وهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني حيث جعل موصوفا بأضداد ما يصفونه كالعبودية لخالقه سبحانه المضادة لكونه عليه السلام إلها وابنا لله عز وجل فالحصر مستفاد من فحوى الكلام، وقيل: هو مستفاد من تعريف الطرفين بناء على ما ذكره الكرماني من أن تعريفهما مطلقا يفيد الحصر، وهو على ما فيه مخالف لما ذكره أهل المعاني من أن ذلك مخصوص بتعريف المسند باللام أو بإضافته إلى ما هي فيه كتلك آيات الكتاب على ما في بعض شروح الكشاف. وقيل استفادته من التعريف على ما ذكروه أيضا بناء على أن عيسى مؤول بالمعرف باللام أي المسمى بعيسى وهو كما ترى فعليك بالأول.
* (قول الحق) * نصب على المدح. والمراد بالحق الله تعالى وبالقول كلمته تعالى، وأطلقت عليه عليه السلام بمعنى أنه خلق بقول كن من غير أب. وقيل: نصب على الحال من عيسى، والمراد بالحق والقول ما سمعت.
وقيل: نصب على المصدر أي أقول قول الحق. وقيل: هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة منصوب بأحق محذوفا وجوبا. وقال شيخ الإسلام: هو مصدر مؤكد لقال إني عبد الله الخ وقوله سبحانه: * (ذلك عيسى ابن مريم) * اعتراض مقرر لمضمون ما قبله وفيه بعد. و * (الحق) * في الأقوال الثلاثة بمعنى الصدق. والإضافة عند جمع بيانية وعند أبي حيان من إضافة الموصوف إلى الصفة.
وقرأ الجمهور * (قول) * بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه، والضمير المقدر للكلام السابق أو لتمام القصة. وقيل: صفة لعيسى أو بدل من أو خبر بعد خبر لذلك أهو الخبر وعيسى بدل أو عطف بيان. والمراد في جميع ذلك كلمة الله تعالى. وقرأ ابن مسعود * (قال الحق) *. وقال الله برفع * (قال) * فيهما.
وعن الحسن * (قول الحق) * بضم القاف واللام. والقول والقال والقول بمعنى واحد كالرهب والرهب والرهب. ونص أبو حيان على أنها مصادر. وعن ابن السكيت القال وكذا القيل اسم لا مصدر. وقرأ طلحة. والأعمش في رواية * (قال الحق) * برفع لام * (قال) * على أنه فعل ماض ورفع * (الحق) * على الفاعلية، وجعل * (ذلك عيسى ابن مريم) * على هذا مقول القول أي قال الله تعالى ذلك الموصوف بما ذكر عيسى ابن مريم * (الذي فيه يمترون) * أي يشكون أو يتنازعون فيقول اليهود: هو ساحر وحاشاه ويقول النصارى: ابن الله سبحان الله عما يقولون.
والموصول صفة القول أو الحق أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي الخ وذلك بحسب اختلاف التفسير والقراءة. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والسلمي. وداود بن أبي هند. ونافع في رواية. والكسائي
91

كذلك * (تمترون) * بتاء الخطاب.
* (ما كان لله أن يتخذ من ولد سبح‍انه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *
* (ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه) * أي ما صح وما تستقام له جل شأنه اتخاذ ذلك وهو تكذيب للنصارى وتنزيه له عز وجل عما افتروه عليه تبارك وتعالى وقوله جل وعلا: * (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * تبكيت له ببيان أن شأنه تعالى شأنه إذا قضى أمرا من الأمور أن يوجد بأسرع وقت فمن يكون هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد وهو من أمارات الاحتياج والنقص. وقرأ ابن عامر * (فيكون) * بالنصب على الجواب. [بم وقوله تعالى:
* (وإن الله ربى وربكم فاعبدوه ه‍اذا صراط مستقيم) *
* (وإن الله ربي وربكم فاعبدوه) * عطف على ما قال الواحدي على قوله * (إني عبد الله) * فهو من تمام قول عيسى عليه السلام تقريرا لمعنى العبودية والآيتان معترضتان، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقرأ أبي بغير واو.
والظاهر أنه على هذا بتقدير القول خطابا لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أي قل يا محمد إن الله الخ. وقرأ الحرميان. وأبو عمرو * (وأن) * بالواو وفتح الهمزة. وخرجه الزمخشري على حذف حرف الجر وتعلقه باعبدوه أي ولأنه تعالى ربي وربكم فاعبدوه وهو كقوله تعالى: * (وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) * (الجن: 18) وهو قول الخليل وسيبويه.
وأجاز الفراء أن يكون أن وما بعدها في تأويل مصدر عطفا على * (الزكاة) * أي وأوصاني بالصلاة والزكاة وبأن الله ربي وربكم الخ. وأجاز الكسائي أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن الله ربي وربكم.
وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه عطف على * (أمرا) * من قوله تعالى: * (إذا قضى أمرا) * أي إذ قضى أمرا وقضى أن الله ربي وربكم وهو تخبيط في الإعراب فلعله لا يصح عن أبي عمرو فإنه من الجلالة في علم النحو بمكان، وقيل: إنه عطف على الكتاب وأكثر الأقوال كما ترى. وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه أيضا * (وبأن) * بالواو وباء الجر وخرجه بعضهم بالعطف على الصلاة أو الزكاة وبعضهم بأنه متعلق باعبدوه أي بسبب ذلك فاعبدوه، والخطاب إما لمعاصري عيسى عليه السلام وإما لمعاصري نبينا صلى الله عليه وسلم * (ه‍اذا) * أي ما ذكر من التوحيد * (صراط مستقيم) * لا يضل سالكه [بم وقوله تعالى:
* (فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) *
* (فاختلف الأحزاب من بينهم) * لترتيب ما بعدها على ما قبلها تنبيها على سوء صنيعهم بجعلهم ما يوجب الاتفاق منشأ للاختلاف فإن ما حكى من مقالات عيسى عليه السلام مع كونها نصوصا قاطعة في كونه عبد الله تعالى ورسوله قد اختلف اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط فالمراد بالأحزاب اليهود والنصارى وهو المروى عن الكلبي، ومعنى * (من بينهم) * أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين، و * (بين) * ظرف استعمل اسما بدخول من عليه.
ونقل في " البحر " القول بزيادة من. وحكى أيضا القول بأن البين هنا بمعنى البعد أي اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق فتكون سببية ولا يخفى بعده، وقيل: المراد بالأحزاب فرق النصارى فإنهم اختلفوا بعد رفعه عليه السلام فيه فقال: نسطور هو ابن الله تعالى عن ذلك أظهره ثم رفعه، وقال يعقوب: هو الله تعالى هبط ثم صعد وقال ملكا: هو عبد الله تعالى ونبيه، وفي الملل والنحل أن الملكانية قالوا: إن الكلمة يعني أقنوم العلم اتحدت بالمسيح عليه السلام وتدرعت بناسوته.
وقالوا أيضا: إن المسيح عليه السلام ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم وقد ولدت مريم إلها قديما أزليا
92

والقتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا، وقد قدمنا من أمر النصارى ما فيه كفاية فليتذكر، وقيل المراد بهم المسلمون واليهود والنصارى.
وعن الحسن أنهم الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما قص عليهم قصة عيسى عليه السلام اختلفوا فيه من بين الناس، قيل: إنهم مطلق الكفار فيشمل
اليهود والنصارى والمشركين الذين كانوا في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم وغيرهم؛ ورجحه الإمام بأنه لا مخصص فيه، ورجح القول بأنهم أهل الكتاب بأن ذكر الاختلاف عقيب قصة عيسى عليه السلام يقتضي ذلك، ويؤيده قوله تعالى: * (فويل للذين كفروا) * فالمراد بهم الأحزاب المختلفون، وعبر عنهم بذلك إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم، وإذا قيل بدخول المسلمين أو الملكانية وقيل: إنهم قالوا بأنه عليه السلام عبد الله ونبيه. في الأحزاب، فالمراد من الذين كفروا بعض الأحزاب أي فويل للذين كفروا منهم * (من مشهد يوم عظيم) * أي من مشهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء وهو يوم القيامة أو من وقت شهوده أو مكان الشهود فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد الملائكة والأنبياء عليهم السلام عليهم وألسنتهم وسائر جوارحهم بالكفر والفسوق أو من وقت الشهادة أو من مكانها.
وقيل: هو ما شهدوا به في حق عيسى عليه السلام وأمه وعظمه لعظم ما فيه أيضا كقوله تعالى: * (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) * (الكهف: 5). وقيل هو يوم قتل المؤمنين حين اختلف الأحزاب وهو كما ترى. والحق أن المراد بذلك اليوم يوم القيامة.
* (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ل‍اكن الظ‍المون اليوم فى ضل‍ال مبين) *
* (أسمع بهم وأبصر) * تعجيب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ. ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم * (يوم يأتوننا) * للحساب والجزاء أي يوم القيامة جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صما وعميا.
وروي ذلك عن الحسن. وقتادة. وقال علي بن عيسى: هو وعيد وتهديد أي سوف يسمعون ما يخلع قلوبهم ويبصرون ما يسود وجوههم. وعن أبي العالية أنه أمر حقيقة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه. والجار والمجرور على الأولين في موضع الرفع على القول المشهور. وعلى الأخير في محل نصب لأن * (أسمع) * أمر حقيقي وفاعله مستتر وجوبا. وقيل: في التعجب أيضا إنه كذلك. والفاعل ضمير المصدر * (ل‍اكن الظالمون اليوم) * أي في الدنيا * (في ضلال مبين) * لا يدرك غايته حيث اغفلوا الاستماع والنظر بالكلية. ووضع * (الظالمين) * موضع الضمير للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم.
والاستدراك على ما نقل عن أبي العالية يتعلق بقوله تعالى: * (فويل للذين كفروا) *.
* (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الامر وهم فى غفلة وهم لا يؤمنون) *
* (وأنذرهم) * أي الظالمين على ما هو الظاهر. وقال أبو حيان: الضمير لجميع الناس أي خوفهم * (يوم الحسرة) * يوم يتحسر الظالمون على ما فرطوا في جنب الله تعالى. وقيل: الناس قاطبة، وتحسر المحسنين على قلة إحسانهم * (إذ قضي الأمر) * أي فرغ من الحساب وذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وذبح الموت ونودي كل من الفريقين بالخلود.
وعن السدي. وابن جريج الاقتصار على ذبح الموت، وكان ذلك لما روى الشيخان. والترمذي.
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد
93

رأوه ثم ينادي مناد يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم: هذا الموت وكلهم قد رأوه فيذبح بين الجنة والنار ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ وأنذرهم " الآية.
وفي رواية عن ابن مسعود أن يوم الحسرة حين يرى الكفار مقاعدهم من الجنة لو كانوا مؤمنين، وقيل: حين يقال لهم وهم في النار * (اخسؤا فيها ولا تكلمون) * (المؤمنون: 108) وقيل: حين يقال * (امتازوا اليوم أيها المجرمون) * (يس: 59).
وقال الضحاك: ذلك إذا برزت جهنم ورمت بالشرر، وقيل: المراد بذلك يوم القيامة مطلقا، وروي ذلك عن ابن زيد وفيه حسرات في مواطن عديدة، ومن هنا قيل: المراد بالحسرة جنسها فيشمل ذلك حسرتهم فيما ذكر وحسرتهم عند أخذ الكتب بالشمائل وغير ذلك والمراد بقضاء الأمر الفراغ من أمر الدنيا بالكلية ويعتبر وقت ذلك ممتدا، وقيل: المراد بيوم الحسرة يوم القيامة كما روي عن ابن زيد إلا أن المراد بقضاء الأمر الفراغ مما يوجب الحسرة، وجوز ابن عطية أن يراد بيوم الحسرة ما يعم يوم الموت.
وأنت تعلم أن ظاهر الحديث السابق وكذا غيره كما لا يخفى على المتتبع قاض بأن يوم الحسرة يوم يذبح الموت وينادي بالخلود. ولعل التخصيص لما أن الحسرة يومئذ أعظم الحسرات لأنه هناك تنقطع الآمال وينسد باب الخلاص من الأهوال. ومن غريب ما قيل: إن المراد بقضاء الأمر سد باب التوبة حين تطلع الشمس من مغربها وليس بشيء، و * (إذ) * على سائر الأقوال بدل من * (يوم) * أو متعلق بالحسرة والمصدر المعرف يعمل بالمفعول الصريح عند بعضهم فكيف بالظرف، وقوله تعالى: * (وهم في غفلة وهم لا يؤمنون) * قال الزمخشري: متعلق بقوله تعالى شأنه: * (في ضلال مبين) * عن الحسن، ووجه ذلك بأن الجملتين في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أي مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين، واستظهر في الكشف العطف على قوله تعالى: * (الظالمون في ضلال مبين) * (مريم: 38) أي هم في ضلال وهم في غفلة؛ وعلى الوجهين تكون جملة * (أنذرهم) * معترضة والواو اعتراضية، ووجه الاعتراض أن الإنذار مؤكد ما هم فيه من الغفلة والضلال، وجوز أن يكون ذلك متعلقا بأنذرهم على أنه حال من المفعول أي أنذرهم غافلين غير مؤمنين. وتعقب بأنه لا يلائم قوله تعالى: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (النازعات: 45) وقال في " الكشف ": أنه غير وارد لأن ذلك بالنسبة إلى النفع وهذا بالنسبة إلى تنبيه الغافل لبيان أن النفع في الآخرة وهذه
وظيفة الأنبياء عليهم السلام عن آخرهم، ثم لو سلم لا مناقضة كما في قوله تعالى: * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * (الذاريات: 55) كيف وقد تكرر هذا المعنى في القرآن إلى قوله تعالى: * (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون) * (يس: 6) وأما إن قوله سبحانه: * (وهم لا يؤمنون) * نفي مؤكد يشتمل على الماضية والآتية فلا يسلم لو جعل حالا ولو سلم فقد علم جوابه مما سبق وما على الرسول إلا البلاغ.
نعم لا نمنع أن الوجه الأول أرجح وأشد طباقا للمقام، وحاصل المعنى على الأخير أنذرهم لأنهم في حالة يحتاجون فيها للإنذار.
* (إنا نحن نرث الارض ومن عليها وإلينا يرجعون) *
* (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها) * لا يبقى لأحد غيره تعالى ملك ولا ملك فيكون كل ذلك له تعالى استقلالا ظاهرا وباطنا دون ما سواه وينتقل إليه سبحانه انتقال الموروث من المورث إلى الوارث، وهذا كقوله تعالى: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * (غافر: 16) أو نتوفى الأرض ومن عليها
94

بالإفناء والإهلاك توفي الوارث لإرثه واستيفائه إياه * (وإلينا يرجعون) * أي يردون إلى الجزاء لا إلى غيرنا استقلالا أو اشتراكا. وقرأ الأعرج * (ترجعون) * بالتاء الفوقية. وقرأ السلمي. وابن أبي إسحاق. وعيسى بالياء التحتية مبنيا للفاعل، وحكى عنهم الداني أنهم قرؤا بالتاء الفوقية والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (كهيعص) * (مريم: 1) هو وأمثاله على الصحيح سر من أسرار الله تعالى، وقيل في وجه افتتاح هذه السورة به: إن الكاف إشارة إلى الكافي الذي اقتضاه حال ضعف زكريا عليه السلام وشيخوخته وعجزه، والهاء إشارة إلى الهادي الذي اقتضاه عنايته سبحانه به وإراءة مطلوبه له، والياء إشارة إلى الواقي الذي اقتضاه حال خوفه من الموالي، والعين إشارة إلى العالم الذي اقتضاه إظهاره لعدم الأسباب، والصاد إشارة إلى الصادق الذي اقتضاه الوعد، والإشارة في القصتين إجمالا إلى أن الله تعالى شأنه يهب بسؤال وغير سؤال. وطبق بعض أهل التأويل ما فيهما على ما في الأنفس فتكلفوا وتعسفوا. وفي نذر الصوم والمراد به الصمت إشارة إلى ترك الانتصار للنفس فكأنه قيل لها عليها السلام: اسكتي ولا تنتصري فإن في كلامك وانتصارك لنفسك مشقة عليك وفي سكوتك أظهار ما لنا فيك من القدرة فلزمت الصمت فلما علم الله سبحانه صدق انقطاعها إليه أنطق جل وعلا عيسى عليه السلام ببراءتها، وذكر أنه عليه السلام طوى كل وصف جميل في مطاوي قوله: * (إني عبد الله) * وذلك لما قلوا من أنه لا يدعى أحد بعبد الله إلا إذا صار مظهرا لجميع الصفات الإلهية المشير إليها الاسم الجليل، وجعل على هذا قوله: * (آتاني الكتاب) * (مريم: 30) الخ كالتعليل لهذه الدعوى. وذكروا أن العبد مضافا إلى ضميره تعالى أبلغ مدحا مما ذكر وأن صاحب ذلك المقام هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وكأن مرادهم أن العبد مضافا إلى ضميره سبحانه كذلك إذا لم يقرن بعلم كعبده زكريا وإلا فدعوى الاختصاص لا تتم فليتدبر.
وذكر ابن عطاء في قوله تعالى: * (ولم يجعلني جبارا شقيا) * (مريم: 32) إن الجبار الذي لا ينصح والشقي الذي لا ينتصح نعوذ بالله سبحانه من أن يجعلنا كذلك.
* (واذكر فى الكت‍ابإبراهيم إنه كان صديقا نبيا) *
* (واذكر) * عطف على * (أنذرهم) * عند أبي السعود، وقيل: على اذكر السابق، ولعله الظاهر * (في الكتاب) * أي هذه السورة أو في القرآن * (إبراهيم) * أي اتل على الناس قصته كقوله تعالى: * (واتل عليهم نبأ إبراهيم) * وإلا فذاكر ذلك في الكتاب هو الله تعالى كما في " الكشاف ":، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام لكونه الناطق عنه تعالى ومبلغ أوامره ونواهيه وأعظم مظاهره سبحانه ومجاليه كأنه الذاكر في الكتاب ما ذكره ربه جل وعلا ومناسبة هذه الآية لما قبلها اشتمالها على تضليل من نسب الألوهية إلى الجماد اشتمال ما قبلها على ما أشار إلى تضليل من نسبها إلى الحي والفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن الفريق الثاني أضل.
ويقال على القول الأول في العطف: إن المراد أنذرهم ذلك واذكر لهم قصة إبراهيم عليه السلام فإنهم ينتمون إليه صلى الله عليه وسلم فعساهم باستماع قصته يقلعون عما هم فيه من القبائح * (إنه كان صديقا) * أي ملازم الصدق لم يذكب قط * (نبي) * استنبأه الله تعالى وهو خبر آخر لكان مقيد للأول مخصص له أي كان جامعا بين الوصفين.
ولعل هذا الترتيب للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيص الصديقية بالنبوة فإن كل نبي صديق، وقيل: الصديق من صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله، وفي " الكشاف " الصديق من أبنية المبالغة والمراد فرط
95

صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي كان مصدقا بجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبيا في نفسه كقوله تعالى: * (بل جاء بالحق وصدق المرسلين) * (الصافات: 37) أو كان بليغا في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ومصدق الله تعالى بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك انتهى.
وفيه إشارة إلى أن المبالغة تحتمل أن تكون باعتبار الكم وأن تكون باعتبار الكيف ولك أن تريد الأمرين لكون المقام مقام المدح والمبالغة، وقد ألم بذلك الراغب، وأما أن التكثير باعتبار المفعول كما في قطعت الحبال فقد عده في " الكشف " من الأغلاط فتأمل، واستظهر أنه من الصدق لا من التصديق، وأيد بأنه قرىء * (أنه كان صادقا) * وبأنه قلما يوجد فعيل من مفعل والكثير من فاعل، وفسر بعضهم النبي هنا برفيع القدر عند الله تعالى وعند الناس.
والجملة استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره وهي على ما قيل اعتراض بين المبدل منه وهو إبراهيم والبدل وهو إذ في قوله تعالى:
* (إذ قال لابيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا) *
* (إذ قال) * وتعقبه صاحب الفرائد بأن الاعتراض بين البدل والمبدل منه بدون الواو بعيد عن الطبع، وفيه منع ظاهر، وفي " البحر " أن بدلية إذ من إبراهيم تقتضي
تصرفها والأصح أنها لا تتصرف وفيه بحث، وقيل: إذ ظرف لكان وهو مبني على إن كان الناقصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلافية، وقيل: ظرف لنبينا أي منبىء في وقت قوله: * (لأبيه) * وتعقب بأنه يقتضي أن الاستنباء كان في ذلك الوقت، وقيل: ظرف لصديقا، وفي " البحر " لا يجوز ذلك لأنه قد نعت الأعلى رأى الكوفيين، وفيه أن * (نبيا) * خبر كما ذكرنا لا نعت، نعم تقييد الصديقية بذلك الوقت لا يخلو عن شيء.
وقيل ظرف لصديقا نبيا وظاهره أنه معمول لهما معا، وفيه أن توارد عاملين على معمول واحد غير جائز على الصحيح، والقول بأنهما جعلا بتأويل اسم واحد كتأويل حلو حامض بمز أي جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء عليهم السلام حين خاطب أباه لا يخفى ما فيه، والذي يقتضيه السياق ويشهد به الذوق البدلية وهو بدل اشتمال، وتعليق الذكر بالأوقات مع أن المقصود تذكير ما وقع فيها من الحوادث قد مر سره مرارا فتذكر.
* (يا أبت) * أي يا أبي فإن التاء عوض من ياء الإضافة ولذلك لا يجمع بينهما إلا شذوذا كقوله: يا أبتي أرقني القذان، والجمع في يا أبتا قيل بين عوضين وهو جائز كجمع صاحب الجبيرة بين المسح والتيمم وهما عوضان عن الغسل وقيل المجموع فيه عوض، وقيل: الألف للإشباع وأنت تعلم حال العلل النحوية.
وقرأ ابن عامر. والأعرج. وأبو جعفر * (يا أبت) * بفتح التاء، وزعم هارون أن ذلك لحن والحق خلافه وفي مصحف عبد الله * (واأبت) * بوا بدل ياء والنداء بها في غير الندبة قليل، وناداه عليه السلام بذلك استعطافا له.
وأخرج أبو نعيم. والديلمي عن أنس مرفوعا حق الوالد على ولده أن لا يسميه إلا بماسمى إبراهيم عليه السلام به أباه يا أبت ولا يسميه باسمه، وهذا ظاهر في أنه كان أباه حقيقة، وصحح جمع أنه كان عمه وإطلاق الأب عليه مجاز * (لم تعبد ما لا يسمع) * ثناءك عليك عند عبادتك له وجؤارك إليه * (ولا يبصر) * خضوعك وخشوعك بين يديه أولا يسمع ولا يبصر شيئا من المسموعات والمبصرات فيدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا، وما موصولة وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة * (ولا يغنى) * أي لا يقدر على أن يغني * (عنك شيئا) *
96

من الأشياء أو شيئا من الاغناء فهو نصب على المفعولية أو المصدرية. ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق ليس له من هاج لئلا يركب متن المكابرة والعناف ولا ينكب بالكلية عن سبيل الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والانعام العام الخالق الرازق المحيء المميت المثيب المعاقب ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل لداعية صحيحة وغرض صحيح والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا قادرا على النفع والضر لكن كان ممكنا لاستنكف ذو العقل السليم عن عبادته وإن كان أشرف الخلائق لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبية فما ظنك بجماد مصنوع ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر.
ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق المبين لما أنه لم يكن محظوظا من العلم الإلهي مستقلا بالنظر السوي مصدرا لدعوته بما مر من الاستعطاف حيث قال:
* (ياأبت إنى قد جآءنى من العلم ما لم يأتك فاتبعنىأهدك صراطا سويا) *
* (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك) * ولم يسم أباه بالجهل المفرط وإن كان في أقصاه ولا نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه في صورة رقيق له يكون أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال: * (فاتبعني أهدك صراطا سويا) * أي مستقيما موصلا إلى أسنى المطالب منحيا عن الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب. وقوله: * (جاءني) * ظاهر في أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبىء عليه السلام، والذي جاءه قيل العلم بما يجب لله تعالى وما يمتنع في حقه وما يجوز على أتم وجه وأكمله. وقيل: العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها. وقيل: العلم بما يعم ذلك ثم ثبطه عما هو عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان لما أنه الآمر به فقال:
* (ياأبت لا تعبد الشيط‍ان إن الشيط‍ان كان للرحم‍ان عصيا) *
* (يا أبت لا تعبد الشيطان) * فإن عبادتك الأصنام عبادة له إذ هو الذي يسولها لك ويغريك عليها.
وقوله: * (إن الشيطان كان للرحم‍ان عصيا) * تعليل لموجب النهي وتأكيد له ببيان أنه مستعص على من شملتك رحمته وعمتك نعمته. ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص وكل من هو عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه، وللإشارة إلى هذا المعنى جيء بالرحمن. وفيه أيضا إشارة إلى كمال شناعة عصيانه. وفي الاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته لأنه ملاكها أو لأنه نتيجة معاداته لآدم عليه السلام فتذكيره داع لأبيه عن الاحتراز عن موالاته وطاعته، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير. [بم وقوله:
* (ياأبت إنىأخاف أن يمسك عذاب من الرحم‍ان فتكون للشيط‍ان وليا) *
* (يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحم‍ان) * تحذي من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام والخوف كما قال الراغب توقع المكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة فهو غير مقطوع فيه بما يخاف. ومن هنا قيل: إن في اختياره مجاملة. وحمله الفراء. والطبري على العلم وليس بذاك. وتنوين * (عذاب) * على ما اختاره السعد في المطول يحتمل التعظيم والتقليل أي عذاب هائل أو أدنى شيء منه وقال لا دلالة للفظ المس وإضافة العذاب إلى الرحمن على ترجيح الثاني كما ذكره بعضهم لقوله تعالى: * (لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم) * (النور: 14) ولأن العقوبة من الكريم الحليم أشد اه‍.
97

واختار أبو السعود أنه للتعظيم، وقال: كلمة من متعلقة بمضمر وقع صفة للعذاب مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذتية بالفخامة الإضافية، وإظهار الرحمن للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب كما في قوله عز وجل: * (ما غرك بربك الكريم) * (الانفطار: 6) انتهى، وفي " الكشف " أن الحمل على التفخيم * (
في عذاب) * كما جوزه صاحب المفتاح مما يأباه المقام أي لأنه مقام إظهار مزيد الشفقة ومراعاة الأدب وحسن المعاملة وإنما قال * (من الرحمن) * لقوله أولا * (كان للرحمن عصيا) * (مريم: 44) وللدلالة على أنه ليس على وجه الانتقام بل ذلك أضيا رحمة من الله تعالى على عباده وتنبيه على سبق الرحمة الغضب وإن الرحمانية لا تنافي العذاب بل الرحيمية على ما عليه الصوفية فقد قال المحقق القونوي في تفسير الفاتحة. الرحيم كما بينا لأهل اليمين والجمال والرحمن الجامع بين اللطف والقهر لأهل القضية الأخرى والجلال إلى آخر ما قال، وأيد الحمل على التفخيم بقوله: * (فتكون للشيطان وليا) * أي قرينا تليه ويليك في العذاب فإن الولاية للشيطان بهذا المعنى إنما تترتب على مس العذاب العظيم. وأجيب عن كون المقام مقام إظهار مزيد الشفقة وهو يأبى ذلك بأن القسوة أحيانا من الشفقة أيضا كما قيل: فقسا ليزدجروا ومن يك حازما * فليقس أحيانا على من يرحم
وقد تقدم هذا مع أبيات أخر بهذا المعنى، ويكفى في مراعاة الأدب والمجاملة عدم الجزم باللحوق. والمس وإن كان مشعرا بالقلة عند الجلة لكن قالوا: إن الكثرة والعظمة باعتبار ما يلزمه ويتبعه لا بالنظر إليه في نفسه فإنه غير مقصود بالذات وإنما هو كالذوب مقدمة للمقصود فيصح وصفه بكل من الأمرين باعتبارين. وكأني بك تختار التفخيم لأنه أنسب بالتخويف وتدعى أنه ههنا من معدن الشفقة فتدبر وجوز أن يكون * (فتكون) * الخ مترتبا على مس العذاب القليل والولي من الموالاة وهي المتابعة والمصادقة. والمراد تفريع الثبات على حكم تلك الموالاة وبقاء آثارها من سخط الله تعالى وغضبه، ولا مانع من أن يتفرع من قليل أمر عظيم. ثم الظاهر أن المراد بالعذاب عذاب الآخرة وتأوله بعضهم بعذاب الدنيا وأراد به الخذلان أو شيئا آخر مما أصاب الكفرة في الدنيا من أنواع البلاء وليس بذاك، وزعم بعضهم أن في الكلام تقديما وتأخيرا والأصل إني أخاف أن تكون وليا للشطان أي تابعا له في الدنيا فيمسك عذاب من الرحمن أي في العقبى وكأنه أشكل عليه أمر التفريع فاضطر لما ذكر وقد أغناك الله تعالى عن ذلك بما ذكرنا.
* (قال أراغب أنت عن آلهتى ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا) *
* (قال) * استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فماذا قال أبوه عندما سمع منه عليه السلام هذه النصائح الواجبة القبول فقيل؟ قال مصرا على عناده مقابلا الاستعطاف واللطف بالفظاظة والغلظة: * (أراغب أنت عن ءالهتي يا إبراهيم) * اختار الزمخشري كون * (راغب) * خبرا مقدما * (وأنت) * مبتدأ وفيه توجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجيب. وذهب أبو البقاء وابن مالك وغيرهما إلى أن * (أنت) * فاعل الصفة لتقدم الاستفهام وهو مغن عن الخبر وذلك لئلا يلزم الفصل بين * (أراغب) * ومعموله وهو * (عن آلهتي) * بأجنبي هو المبتدأ وأجيب بأن * (عن) * متعلق بمقدر بعد أنت يدل عليه أراغب.
وقال " صاحب الكشف ": المبتدأ ليس أجنبيا من كل وجه لا سيما والمفصول ظرف والمقدم في نية التأخير والبليغ يلتفت لفت المعنى بعد أن كان لما يرتكبه وجه مساغ في العربية وإن كان مرجوحا. ولعل سلوك هذا الأسلوب قريب من ترجيح الاستحسان لقوة أثره على القيا، ولا خفاء أن زيادة الإنكار إنما نشأ من تقديم الخبر كأنه قبل أراغب أنت عنها لا طالب لها راغب فيها منبها له على الخطأ في صدوفه ذلك ولو قيل: أترغب لم يكن
98

من هذا الباب في شيء انتهى، ورجح أبو حيان إعراب أبي البقاء ومن معه بعدم لزوم الفل فيه وبسلامة الكلام عليه عن خلاف الأصل في التقديم والتأخير، وتوقف البدر الدماميني في جواز ابتدائية المؤخر في مثل هذا التركيب وإن خلا عن فصل أو محذور آخر كما في أطالع الشمس وذلك نحو أقائم زيد للزوم التباس المبتدا بالفاعل كما في ضرب زيد فإنه لا يجوز فيه ابتدائية زيد. وأجاب الشمني بأن زيدا في الأول يحتمل أمرين كل منهما بخلاف الأصل وذلك إجمال لا لبس بخلافه في الثاني فتأمل * (لئن لم تنته لأرجمنك) * تهديد وتحذير عما كان عليه من العظة والتذكير أي والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتني إليه لأرجمنك بالحجارة على ما روى عن الحسن، وقيل: باللسان والمراد لأشتمنك وروى ذلك عن ابن عباس. وعن السدي. والضحاك. وابن جريج، وقدر بعضهم متعلق النهي الرغبة عن الآلهة أي لئن لم تنته عن الرغبة عن آلهتي لأرحمنك وليس بذاك * (واهجرني) * عطف على محذوف يدل عليه التهديد أي فاحذرني وارتكني وإليك ذهب الزمخشري.
ولعل الداعي لذلك وعدم اعتبار العطف على المذكور أنه لا يصح أو لا يحسن التخالف بين المتعاطفين إنشائية وإخبارية، وجواب القسم غير الاستعطافي لا يكون إنشاء وليست الفاء في فاحذرني عاطفة حتى يعود المجذور. ومن الناس من عطف على الجملة السابقة بناء على تجويز سيبويه العطف مع التخالف في الاخبار والإنشاء والتقدير أوقع في النفس * (مليا) * أي دهرا طويلا عن الحسن. ومجاهد. وجماعة، وقال السدي: أبدا وكأنه المراد، وأصله على ما قيل من الإملاء أي الإمداد وكذا الملاوة بتثليث الميم وهي بمعناه ومن ذلك الملوان الليل والنهار ونصبه على الظرفية كما في قول مهلهل: فتصدعت صم الجبال لموته * وبكت عليه المرملات مليا
وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه فسره بطولا ولم يذكر الموصوف فقيل هو نصب على المصدرية أي هجرا مليا، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المعنى سالما سويا والمراد قادرا على الهجر مطيقا له وهو حينئذ حال من فاعل * (اهجرني) * أي اهجرني مليا بالهجران والذهاب عني قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح، وكأنه على هذا من تملي بكذا تمتع به ملاوة من الدهر.
* (قال سل‍ام عليك سأستغفر لك ربيإنه كان بى حفيا) *
* (قال) * استئناف كما سلف * (سلام عليك) * توديع ومتاركة على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة فإن ترك الإساءة للمسيء إحسان أي لا أصيبك بمكروه بعد ولا أشافهك بما يؤذيك، وهو نظير ما في قوله تعالى: * (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) * (القصص: 55) في قوله، وقيل: هو تحية مفارق، وجوز قائل هذا تحية الكافر وأن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلا بقوله تعالى: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم) * (الممتحنة: 8)
الآية، وقوله سبحانه: * (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم) * (الممتحنة: 4) الآية، وما استدل به متأول وهو محجوج بما ثبت في " صحيح مسلم ": " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام " وقرىء * (سلاما) * بالنصب على المصدرية والرفع على الابتداء * (سأستغفر لك ربي) * أي استدعيه سبحانه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديك إلى الايمان كما يلوح به تعليل قوله: * (واغفر لأبي) * بقوله: * (إنه كان من الضالين) * (الشعراء: 86) كذا قيل فيكون استغفاره في قوة قوله: ربي اهده إلى الايمان وأخرجه من الضلال.
99

والاستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبين تحتم أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه كما أنه لا رب في عدم جوازه عند تبين ذلك لما فيه من طلب المحال فإن ما أخبر الله تعالى بعدم وقوعه محال وقوعه ولهذا تبين له عليه السلام بالوحي على أحد القولين المذكورين في سورة التوبة أنه لا يؤمن تركه أشد الترك فالوعد والإنجاز كانا قبل التبين وبذلك فارق استغفاره عليه السلام لأبيه استغفار المؤمنين لأولي قرابتهم من المشركين لأنه كان بعد التبين ولذا لم يؤذنوا بالتأسي به عليه السلام في الاستغفار، قال العلامة الطيبي: إنه تعالى بين للمؤمنين إن أولئك أعداء الله تعالى بقوله سبحانه: * (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) * (الممتحنة: 1) وأن لا مجال لإظهار المودة بوجه ما ثم بالغ جل شأنه في تفصيل عداوتهم بقوله عز وجل: * (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون) * (الممتحنة: 2) ثم حرضهم تعالى على قطيعة الأرحام بقوله سبحانه * (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة) * ثم سلاهم عز وجل بالتأسي في القطيعة بإبراهيم عليه السلام وقومه بقوله تبارك وتعالى: * (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم) * إلى قوله تعالى شأنه: * (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) * (الممتحنة: 4) فاستثنى من المذكور ما لم يحتمله المقام كما احتمله ذلك المقام للنص القاطع يعني لكم التأسي بإبراهيم عليه السلام مع هؤلاء الكفار في القطيعة والهجران لا غير فلا تجاملوهم ولاتبدوا لهم الرأفة والرحمة كما أبدى إبراهيم عليه السلام لأبيه في قوله سأستغفر لك لأنه لم يتبين له حينئذ أنه لا يؤمن كما بدا لكم كفر هؤلاء وعداوتهم انتهى.
واعترض بأن ما ذكر ظاهر في أن الاستغفار الذي وقع من المؤمنين لأولى قرابتهم فنهوا عنه لأنه كان بعد التبين كان كاستغفار إبراهيم عليه السلام بمعنى طلب التوفيق للتوبة والهداية للايمان، والذي اعتمده كثير من العلماء أن قوله تعالى: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * (التوبة: 113) الآية نزل في استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب بعد موته وذلك الاستغفار مما لا يكون بمعنى طلب الهداية أصلا وكيف تعقل الهداية بعد الموت بل لو فرض استغفاره عليه الصلاة والسلام له كان قبل الموت لا يتصور أيضا أن يكون بهذا المعنى لأن الآية تقتضي أنه كان بعد تبين أنه من أصحاب الجحيم، وإذا فسر بتحتم الموت على الكفر كان ذلك دعاء بالهداية إلى الايمان مع العلم بتحتم الموت على الكفر ومحاليته إذا كانت معلومة لنا بما مر فهي أظهر شيء عنده صلى الله عليه وسلم بل وعند المقتبسين من مشكاته عليه الصلاة والسلام، وهو اعتراض قوي بحسب الظاهر وعليه يجب أن يكون استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه بذلك المعنى في حياته لعدم تصور ذلك بعد الموت وهو ظاهر.
وقد قال الزمخشري في جواب السؤال بأنه كيف جاز له عليه السلام أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك؟ قالوا: أراد اشتراط التوبة عن الكفر وقالوا إنما استغفر له بقوله: * (واغفر لأبي) * (الشعراء: 86) لأنه وعده أن يؤمن، واستشهدوا بقوله تعالى: * (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) * ثم قال: ولقائل أن يقول: الذي منع من الاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع ويدل على صحته أنه استثنى قول إبراهيم عليه السلام * (لأستغفرن) * لك في آية * (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم) * (الممتحنة: 4) الخ عما وجبت فيه الاسوة ولو كان بشرط الايمان والتوبة لما صح الاستثناء، وأما كون الوعد من أبيه فيخالف الظاهر الذي يشهد له قراءة الحسن وغيره * (وعدها أباه) * بالباء الموحدة، قال في " الكشف ":
100

واعترض الإمام حديث الاستثناء بأن الآية دلت على المنع من التأسي لا أن ذلك كان معصية فجاز أن يكون من خواصه ككثير من المباحات التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم وليس بشيء لأن الزمخشري لم يذهب إلى أن ما ارتكبه إبراهيم عليه السلام كان منكرا بل إنما هو منكر علينا لورود السمع.
واعترض " صاحب التقريب " بأن نفي اللازم ممنوع فإن الاستثناء عما وجبت فيه الأسوة دل على أنه غير واجب لا على أنه غير جائز فكان ينبغي عما جازت في الأسوة بدل عما وجبت الخ والآية لا دلالة فيها على الوجوب. والجواب أن جعله مستنكرا ومستثنى يدل على أنه منكر لا الاستثناء عما وجبت فيه فقط وإنما أتى الاستنكار لأنه مستثنى عن الأسوة الحسنة فلو اؤتسى به فيه لكان أسوة قبيحة، وأما الدلالة على الوجوب فبينة من قوله تعالى آخرا: * (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) * (الممتحنة: 6) كما تقرر في " الأصول ".
والحاصل أن فعل إبراهيم عليه السلام يدل على أنه ليس منكرا في نفسه وقوله تعالى: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا) * (التوبة: 13) الخ يدل على أنه الآن منكر سمعا وأنه كان مستنكرا في زمن إبراهيم عليه السلام أيضا بعدما كان غير منكر ولذا تبرأ منه وهو ظاهر إلا أن الزمخشري جعل مدرك الجواز قبل النهي العقل وهي مسألة خلافية وكم قائل أنه السمع لدخوله تحت بر الوالدين والشفقة على أمة الدعوة بل قيل: إن الأول مذهب المعتزلة وهذا مذهب أهل السنة انتهى مع تغيير يسير.
واعترض القول بأنه استنكر في زمن إبراهيم عليه السلام بعدما كان غير منكر بأنه لو كان كذلك لم يفعله نبينا صلى الله عليه وسلم وقد جاء أنه عليه الصلاة والسلام فعله لعمه أبي طالب. وأجيب بجواز أنه لم يبلغه إذ فعل عليه الصلاة والسلام، والتحقيق في هذه المسألة أن الاستغفار للكافر الحي المجهول العاقبة بمعنى طلب هدايته للايمان مما لا محذور فيه عقلا ونقلا وطلب ذلك للكافر المعلوم أنه قد طبع على قلبه وأخبر الله تعالى أنه لا يؤمن وعلم أن لا تعليق في أمره أصلا مما لا مساغ له عقلا
ونقلا، ومثله طلب المغفرة للكافر مع بقائه على الكفر على ما ذكره بعض المحققين، وكان ذلك على ما قيل لما فيه من إلغاء أمر الكفر الذي لا شيء يعدله من المعاصي وصيرورة التكليف بالايمان الذي لا شيء يعدله من الطاعات عبثا مع ما في ذلك مما لا يليق بعظمة الله عز وجل، ويكاد يلحق بذلك فيما ذكر طلب المغفرة لسائر العصاة مع البقاء على المعصية إلا أن يفرق بين الكفر وسائر المعاصي، وأما طلب المغفرة للكافر بعد موته على الكفر فلا تأباه قضية العقل وإنما يمنعه السمع وفرق بينه وبين طلبها للكافر مع بقائه على الكفر بعدم جريان التعليل السابق فيه ويحتاج ذلك إلى تأمل. واستدل على جواز ذلك عقلا بقوله صلى الله عليه وسلم لعمه: " لا أزال أستغفر لك ما لم أنه " فنزل قوله تعالى: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * (التوبة: 113) الآية، وحمل قوله تعالى: * (من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) * (التوبة: 113) على معنى من بعدما ظهر لهم أنهم ماتوا كفارا والتزم القول بنزول قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * بعد ذلك وإلا فلا يتسنى استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه بعد العلم بموته كافرا وتقدم السماع بأن الله تعالى لا يغفر الكفر، وقيل لا حاجة إلى التزام ذلك لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام ولوفور شفقته وشدة رأفته قد حمل الآية على أنه تعالى لا يغفر الشرك إذا لم يشفع فيه أو الشرك الذي تواطأ فيه القلب وسائر الجوارح وعلم من عمه أنه لم يكن شركه كذلك فطلب المغفرة حتى نهى صلى الله عليه وسلم، وقيل غير ذلك فتأمل، فالمقام
101

محتاج بعد إلى كلام والله تعالى الموفق.
* (إنه كان بي حفيا) * بليغا في البر والإكرام يقال حفي به إذا اعتنى بإكرامه. والجملة تعليل لمضمون ما قبلها، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل مع الاهتمام.
* (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربى عسىألا أكون بدعآء ربى شقيا) *
* (وأعتزلكم) * الظاهر أنه عطف على * (سأستغفر) * والمراد أتباعد عنك وعن قومك * (وما تدعون من دون الله) * بالمهاجرة بديني حيث لم تؤثر فيكم نصائحي.
يروى أنه عليه السلام هاجر إلى الشام، وقيل إلى حران وهو قريب من ذلك وكانوا بأرض كوثا. وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر، وجوز حمل الاعتزال على الاعتزال بالقلب والاعتقاد وهو خلاف الظاهر المأثور * (وأدعوا ربي) * أي أعبده سبحانه وحده كما يفهم من اجتناب غيره تعالى من المعبودات وللتغاير بين العبادتين غوير بين العبارتين، وذكر بعضهم أنه عبر بالعبادة أولا لأن ذلك أوفق بقول أبيه * (أراغب أنت عن آلهتي) * (مريم: 46) مع قوله فيما سبق: * (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع) * الخ، وعبر ثانيا بالدعاء لأنه أظهر في الاقبال المقابل للاعتزال.
وجوز أن يراد بذلك الدعاء مطلقا أو ما حكاه سبحانه في سورة الشعراء وهو قوله: * (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) * (الشعراء: 83) وقيل لا يبعد أن يراد استدعاء الولد أيضا بقوله: * (رب هب لي من الصالحين) * حسبما يساعده السياق والسباق * (عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا) * خائبا ضائع السعي. وفيه تعريض بشقاوتهم في عبادة آلهتهم. وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع ومراعاة حسن الأدب والتنبيه على حقيقة الحق من أن الإثابة والإجابة بطريق التفضل منه عز وجل لا بطريق الوجوب وأن العبرة بالخاتمة وذلك الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى.
* (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسح‍اق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا) *
* (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله) * بالمهاجرة إلى ما تقدم * (وهبنا له إسح‍اق ويعقوب) * بدل من فارقهم من أبيه وقومه الكفرة لكن لا عقيب المهاجرة. والمشهور أن أول ما وهب له عليه السلام من الأولاد إسماعيل عليه السلام لقوله تعالى: * (فبشرناه بغلام حليم) * (الصافات: 101) بقوله: * (رب هب لي من الصالحين) * (الصافات: 100) وكان من هاجر فغارت سارة فحملت بإسحق عليه السلام فلما كبر ولد له يعقوب عليه السلام.
ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله ههنا لبيان كمال عظم النعم التي أعطاها الله تعالى إياه بمقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقرباء فإنهما شجرتا الأنبياء ولهما أولاد وأحفاد أو لو شأن خطير وذوو عدد كثير مع أنه سبحانه أراد أن يذكر إسماعيل عليه السلام بفضله على الانفراد. وروى أنه عليه السلام لما قصد الشام أتى أولا حران وتزوج سارة وولدت له إسحق وولد لاسحق يعقوب. والأول هو الأقرب الأظهر * (وكلا) * أي كل واحد من إسحق ويعقوب أو منهما ومن إبراهيم عليه السلام وهو مفعول أول لقوله تعالى: * (جعلنا نبيا) * قدم عليه للتخصيص لكن لا بالنسبة إلى من عداهم بل بالنسبة إلى بعضهم أي كل واحد منهم * (جعلنا نبيا) * لا بعضهم دون بعض، ولا يظهر في هذا الترتيب على الوجه الثاني في * (كلا) * كون إبراهيم عليه السلام نبيا قبل الاعتزال.
* (ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا) *
* (ووهبنا لهم من رحمتنا) * قال الحسن: النبوة.
102

ولعل ذكر ذلك بعد ذكر جعلهم أنبياء للإيذان بأن النبوة من باب الحرمة التي يختص بها من يشاء. وقال الكلبي: هي المالي والولد. وقيل: هو الكتاب والأظهر أنه عامة لكل خير ديني ودنيوي أوتوه مما لم يؤت أحد من العالمين * (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) * تفتخر بهم الناس ويثنون عليهم استجابة لدعوته عليه السلام بقوله: * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * وزيادة على ذلك. والمراد باللسان ما يوجد به من الكلام فهو مجاز بعلاقة السببية كاليد في العطية ولسان العرب لغتهم. ويطلق على الرسالة الرائعة كما في قول أعشى باهلة: إني أتتني لسان لا أسر بها
ومنه قول الآخر: ندمت على لسان كان مني
وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يثنون عليهم وإن محامدهم لا تخفى كأنها نار على علم على تباعد الاعصار وتبدل الدول وتغير الملل والنحل
، وخص بعضهم لسان الصدق بما يتلى في التشهد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم والعموم أولى.
* (واذكر فى الكت‍ابموسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا) *
* (واذكر في الكتاب موسى) * قيل قدم ذكره على إسمعيل عليهما السلام لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب عليه السلام. وقيل: تعجيل لاستجلال أهل الكتاب بعدما فيه استجلاب العرب.
* (إنه كان مخلصا) * موحدا أخلص عبادته عن الشرك والرياء أو أسلم وجهه لله عز وجل وأخلص عن سواه.
وقرأ الكوفيون. وأبو رزين. ويحيى. وقتادة * (مخلصا) * بفتح اللام على أن الله تعالى أخلصه * (وكان رسولا) * مرسلا من جهة الله تعالى إلى الخلق بتبليغ ما يشاء من الأحكام * (نبيا) * رفع القدر على كثير الرسل عليهم السلام أو على سائر الناس الذين أرسل إليهم فالنبي من النبوة بمعنى الرفعة. ويجوز أن يكون من النبأ وأصله نبىء أي المنبىء عن الله تعالى بالتوحيد والشرائع ورجح الأول بأنه أبلغ قيل ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " لست بنبيء الله تعالى بالهمزة ولكن نبي الله تعالى " لمن خاطبه بالهمز وأراد أن يغض منه. والذي ذكره الجوهري أن القائل أراد أنه عليه الصلاة والسلام أخرجه قومه من نبأ فأجابه صلى الله عليه وسلم بما يدفع ذلك الاحتمال. ووجه الاتيان بالنبي بعد الرسول على الأول ظاهر ووجه ذلك على الثاني موافقة الواقع بناء على أن المراد أرسله الله تعالى إلى الخلق فأتبأهم عنه سبحانه.
واختار بعضهم أن المراد من كلا اللفظين معناهما اللغوي وأن ذكر النبي بعد الرسول لما أنه ليس كل مرسل نبيا لأنه قد يرسل بعطية أو مكتوب أو نحوهما.
* (ون‍ادين‍اه من جانب الطور الايمن وقربناه نجيا) *
* (وناديناه من جانب الطور الأيمن) * الطور جبل بين مصر ومدين والأيمن صفة لجانب لقوله تعالى في آية أخرى: * (جانب الطور الأيمن) * بالنصب أي ناديناه من ناحيته اليمنى من اليمين المقابل لليسار. والمراد به يمين موسى عليه السلام أي الناحية التي تلي يمينه إذ الجبل نفسه لا ميمنة له ولا ميسرة. ويجوز أن يكون الأيمن من اليمن وهو البركة وهو صفة لجانب أيضا أي من جانبه الميمون المبارك.
وجوز على هذا أن يكون صفة للطور والأولى أولى، والمراد من ندائه من ذلك ظهور كلامه تعالى من تلك الجهة، والظاهر أنه عليه السلام إنما سمع الكلام اللفظي، وقال بعض: إن الذي سمعه كان بلا حرف ولا
103

صوت وأنه عليه السلام سمعه بجميع أعضائه من جميع الجهات وبذلك يتيقن أن المنادي هو الله تعالى، ومن هنا قيل: إن المراد ناديناه مقبلا من جانب الطور المبارك وهو طور ما وراء طور العقل، وفي الاخبار ما ينادي على خلافه * (وقربناه نجيا) * تقريب تشريف مثل حاله عليه السلام بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ورفع الوسائط بينه وبينه، * (ونجيا) * فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس ونديم بمعنى منادم من المناجاة المسارة بالكلام ونصبه على الحالية من أحد ضميري موسى عليه السلام في ناديناه وقربناه أي ناديناه أو قربناه حال كونه مناجيا، وقال غير واحد، مرتفعا على أنه من النجو وهو الارتفاع.
فقد أخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن جبرائيل عليه السلام أردفه حتى سمع صرير القلم والتوراة تكتب له أي كتابة ثانية وإلا ففي الحديث الصحيح الوارد في شأن محاجة آدم وموسى عليهما السلام أنها كتبت قبل خلق آدم عليه السلام بأربعين سنة، وخبر رفعه عليه السلام إلى السماء حتى سمع صرير القلم رواه غير واحد وصححه الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى ذلك لا يكون المعراج مطلقا مختصا بنبينا صلى الله عليه وسلم بل المعراج الأكمل، وقيل معنى * (نجيا) * بصدقه وروى ذلك عن قتادة ولا يخفى بعده.
* (ووهبنا له من رحمتنآ أخاه ه‍ارون نبيا) *
* (ووهبنا له من رحمتنا) * أي من أجل رحمتنا له * (أخاه) * أي معاضدة أخيه وموازرته إجابة لدعوته بقوله واجعل لي وزيرا من أهلي هرون أخي) * لا نفسه عليه السلام لأنه كان أكبر من موسى عليه السلام سنا فوجوده سابق على وجوده وهو مفعول * (وهبنا) * وقوله تعالى: * (ه‍ارون) * عطف بيان له، وقوله سبحانه * (نبيا) * حال منه، ويجوز أن تكون من للتبعيض قيل وحينئذ يكون * (أخاه) * بدل بعض من كل أو كل من كل أو اشتمال من من، وتعقب بأنها إن كانت اسما مرادفة لبعض فهو خلاف الظاهر وإن كانت حرفا فإبدال الاسم من الحرم مما لم يوجد في كلامهم، وقيل: التقدير وهبنا له شيئا من رحمتنا فأخاه بدل من شيئا المقدر وأنت تعلم أن الظاهر هو كونه مفعولا
* (واذكر فى الكت‍ابإسم‍اعيل إنه كان ص‍ادق الوعد وكان رسولا نبيا) *.
* (واذكر في الكتاب إسماعيل) * الظاهر أنه ابن إبراهيم عليهما السلام كما ذهب إليه الجمهور وهو الحق، وفصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه عليهم السلام لإبراز كمال الاعتناء بأمره بإيراده مستقلا، وقيل: إنه إسماعيل بن حزقيل بعثه الله تعالى إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه سبحانه وفوض أمرهم إليه عز وجل في العفو والعقوبة وروى ذلك الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وغالب الظن أنه لا يصح عنه * (إنه كان صادق الوعد) * تعليل لموجب الأمر، وإيراده عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرته بذلك.
وقد جاء في بعض الاخبار أنه وعد رجلا أن يقيم له بمكان فغاب عنه حولا فلما جاءه قال له: ما برحت من مكانك فقال: لا والله ما كنت لأخلف موعدي، وقيل: غاب عنه اثني عشر يوما، وعن مقاتل ثلاثة أيام، وعن سهل بن سعد يوما وليلة والأول أشهر ورواه الإمامية أيضا عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه‍؛ وإذا كان هو الذبيح فناهيك في صدقه أنه وعد أباه الصبر على الذبح بقوله: * (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) * فوفى.
وقال بعض الأذكياء طال بقاؤه: لا يبعد أن يكون ذلك إشارة إلى هذا الوعد والصدق فيه من أعظم ما يتصور.
* (وكان رسولا نبيا) * الكلام فيه كالكلام في السابق بيد أنهم قالوا هنا: إن فيه دلالة على أن الرسول لا يجب
104

أن يكون صاحب شريعة مستقلة فإن أولاد إبراهيم عليهم السلام كانوا على شريعته وقد اشتهر خلافه بل اشترط بعضهم فيه أن يكون صاحب كتاب أيضا والحق أنه ليس بلازم، وقيل: إن المراد بكونه صاحب شريعة أن يكون له شريعة بالنسبة إلى المبعوث إليهم وإسماعيل عليه السلام كذلك لأنه بعث إلى جرهم بشريعة أبيه ولم يبعث إبراهيم عليه السلام إليهم ولا يخفى ما فيه.
* (وكان يأمر أهله بالصلواة والزكواة وكان عند ربه مرضيا) *
* (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) * اشتغالا بالأهم وهو أن يبدأ الرجل بعد تكميل نفسه بتكميل من هو أقرب الناس إليه قال الله تعالى: * (وأنذر عشيرتك الأقربين. وأمر أهلك بالصلاة قوا أنفسكم وأهليكم نارا) *. أو قصدا إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوة يؤتسى بهم.
وقال الحسن: المراد بأهله أمته لكون النبي بمنزلة الأب لأمته، ويؤيد ذلك أن في مصحف عبد الله وكان يأمر قومه والمراد بالصلاة والزكاة قيل معناهما المشهور، وقيل: المراد بالزكاة مطلق الصدقة، وحكى أنه عليه السلام كان يأمر أهله بالصلاة ليلا والصدقة نهارا، وقيل المراد بها تزكية النفس وتطهيرها * (وكان عند ربه مرضيا) * لاستقامة أقواله وأفعاله وهو اسم مفعول وأصله مرضوو فأعل بقلب واوه ياء لأنها طرف بعد واو ساكنة فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وقلبت الضمة كسرة.
وقرأ ابن أبي عبلة * (مرضوا) * من غير إعلال، وعن العرب أنهم قالوا: أرض مسنية ومسنوة وهي التي تسقى بالسواني.
* (واذكر فى الكت‍ابإدريس إنه كان صديقا نبيا) *
* (واذكر في الكتاب إدريس) * هو نبي قبل نوح وبينهما على ما في زالمستدرك " عن ابن عباس ألف سنة وهو أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث ابن آدم عليه السلام، وعن وهب بن منبه أنه جد نوح عليه السلام، والمشهور أنه جد أبيه فإنه ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو أول من نظر في النجوم والجساب وجعل الله تعالى ذلك من معجزاته على ما في " البحر " وأول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط وكان خياطا وكانوا قبل يلبسون الجلود وأول مرسل بعد آدم، وقد أنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل، وعن ابن مسعود أنه الياس بعث إلى قومه أن يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا ما شاؤا فأبوا وأهلكوا والمعول عليه الأول وإن روى القول بأنه الياس بن أبي حاتم بسند حسن عن ابن مسعود، وهذا اللفظ سرياني عند الأكثرين وليس مشتقا من الدرس لأن الاشتقاق من غير العربي مما لم يقل به أحد وكونه عربيا مشتقا من ذلك يرده منع صرفه، نعم لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريبا من ذلك فلقب به لكثرة دراسته * (إنه كان صديقا نبيا) * هو كما تقدم.
* (ورفعناه مكانا عليا) *
* (ورفعناه مكانا عليا) * هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى كما روي عن الحسن وإليه ذهب الجبائي. وأبو مسلم، وعن أنس. وأبي سعيد الخدري. وكعب. ومجاهد السماء الرابعة، وعن ابن عباس. والضحاك السماء السادسة وفي رواية أخرى عن الحسن الجنة لا شيء أعلا من الجنة، وعن النابغة الجعدي أنه لما أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر الذي آخره. بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا * وإنا لنرجوا فوق ذلك مظهرا
105

قال عليه الصلاة والسلام له: إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟ قال إلى الجنة يا رسول الله قال: أجل إن شاء الله تعالى.
وعن قتادة أنه عليه السلام يعبد الله تعالى مع الملائكة عليهم السلام في السماء السابعة ويرتع تارة في الجنة حيث شاء، وأكثر القائلين برفعه حسا قائلون بأنه حيث حيث رفع، وعن مقاتل أنه ميت في السماء وهو قول شاذ. وسبب رفعه على ما روي عن كعب وغيره أنه مر ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال: يا رب إني مشيت يوما في الشمس فأصابني منها ما أصابني فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف فقال: يا رب خلقتني لحمل الشمس فماذا الذي قضيت فيه قال: إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته قال: يا رب فاجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه خلة فأذن له حتى أتى إدريس ثم إنه طلب منه رفعه إلى السماء فأذن الله تعالى له بذلك فرفعه، وأخرج ابن المنذر عن عمر مولى عفرة يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن إدريس كان نبيا تقيا زكيا وكان يقسم دهره على نصفين ثلاثة أيام يعلم الناس الخير وأربعة أيام يسيح في الأرض ويعبد الله تعالى مجتهدا وكان يصعد من عمله وحده إلى السماء من الخير مثل ما يصعد من جميع أعمال بني آدم وأن ملك الموت أحبه في الله تعالى فأتاه حين خرج للسياحة فقال له: يا نبي الله إني أريد أن تأذن لي في صحبتك فقال له إدريس وهو لا يعرفه: إنك لن تقوى على صحبتي قال: بلى أني أرجو أن يقويني الله تعالى على ذلك فخرج معه يومه ذلك حتى إذا كان من آخر النهار مرا براعي غنم فقال ملك الموت: يا نبي الله إنا لا ندري حيث نمسي فلو أخذنا جفرة من هذه الغنم فافطرنا عليها فقال له: لا تعد إلى مثل هذا أتدعوني إلى أخذ ما ليس لنا من حيث نمسي يأتينا الله تعالى برزق فلما أمسى أتاه الله تعالى بالرزق الذي كان يأتيه فقال لملك الموت تقدم فكل فقال: لا والذي أكرمك بالنبوة ما اشتهى فأكل وحده وقاما جميعا إلى الصلاة ففتر إدريس ونعس ولم يفتر الملك ولم ينعس فعجب منه وصغرت عنده عبادته مما رأى ثم أصبحا فساحا فلما كان آخر النهار مرا بحديقة عنب فقال له مثل ما قال أولا فلما أمسيا أتاه الله تعالى بالرزق فدعاه إلى الأكل فلم يأكل وقاما إلى الصلاة وكان من أمرهما ما كان أولا فقال له إدريس: لا والذي نفسي بيده ما أنت من بني آدم فقال: أجل لست منهم وذكر له أنه ملك الموت فقال: أمرت في بأمر فقال: لو أمرت فيك
بأمر ما ناظرتك ولكني أحبك في الله تعالى وصحبتك له فقال له: إنك معي هذه المدة لم تقبض روح أحد من الخلق قال: بلى إني معك وإني أقبض نفس من أمرت بقبض نفسه في مشارق الأرض ومغاربها وما الدنيا كلها عندي إلا كمائدة بين يدي الرجل يتناول منها ما شاء فقال له: يا ملك الموت أسألك بالذي أحببتني له وفيه إلا قضيت لي حاجة أسألكها فقال: سلني يا نبي الله فقال: أحب أن تذيقني الموت ثم ترد على روحي فقال: ما أقدر إلا أن أستأذن فاستأذن ربه تعالى فأذن له فقبض روحه ثم ردها الله تعالى إليه فقال له ملك الموت: يا نبي الله كيف وجدت الموت؟ قال: أعظم مما كنت أحدث وأسمع ثم سأله رؤية النار فانطلق إلى أحد أبواب جهنم فنادى بعض خزنتها فلما علموا أنه ملك الموت ارتعدت فرائصهم وقالوا: أمرت فينا بأمر فقال لو أمرت فيكم بأمر ما ناظرتكم ولكن نبي الله تعالى إدريس سألني أن تروه لمحة من النار ففتحوا له قدر ثقب المخيط فأصابه ما صعق منه فقال ملك الموت: اغلقوا فغلقوا وجعل يمسح وجه إدريس ويقول: يا نبي الله تعالى ما كنت أحب أن يكون هذا حظك من صحبتي فلما أفاق سأله كيف رأيت؟ قال: أعظم مما كنت أحدث وأسمع ثم سأله أن يريه لمحة من الجنة ففعل نظير ما فعل قبل
106

فلما فتحوا له أصابه من بردها وطيبها وريحانها ما أخذ بقلبه فقال: يا ملك الموت إني أحب أن أدخل الجنة فآكل أكلة من ثمارها وأشرب شربة من مائها فلعل ذلك أن يكون أشد لطلبتي ورغبتي فدخل وأكل وشرب فقال له ملك الموت: أخرج يا نبي الله تعالى قد أصبت حاجتك حتى يردك الله عز وجل مع الأنبياء عليهم السلام يوم القيامة فاحتضن بساق شجرة من أشجارها وقال: ما أنا بخارج وإن شئت أن أخاصمك خاصمتك فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت قاضه الخصومة فقال له: ما الذي تخاصمني به يا نبي الله تعالى فقال إدريس: قال الله تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت) * (آل عمران: 185) وقد ذقته وقال سبحانه: * (وإن منكم إلا واردها) * (مريم: 71) وقد وردتها وقال جل وعلا لأهل الجنة * (وما هم منها بمخرجين) * (الحجر: 48) أفأخرج من شيء ساقه الله عز وجل إلي فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت خصمك عبدي إدريس وعزتي وجلالي إن في سابق علمي أن يكون كذلك فدعه فقد احتج عليك بحجة قوية " الحديث والله تعالى أعلم بصحته وكذا بصحة ما قبله من خبر كعب، وهذا الرفع لاقتضائه علو الشأن ورفعة القدر كان فيه من المدح ما فيه وإلا فمجرد الرفع إلى مكان عال حسا ليس بشيء. فالنار يعلوها الدخان وربما * يعلو الغبار عمائم الفرسان
وادعى بعضهم أن الأقرب أن العلو حسي لأن الرفعة المقترنة بالمكان لا تكون معنوية؛ وتعقب بأن فيه نظرا لأنه ورد مثله بل ما هو أظهر منه كقوله: وكن في مكان إذا ما سقطت * تقوم ورجلك في عافية فتأمل
* (أول‍ائك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية ءادم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسراءيل وممن هدينا واجتبينآ إذا تتلى عليهم ءاي‍ات الرحم‍ان خروا سجدا وبكيا) *
* (أول‍ائك) * إشارة إلى المذكورين في السورة الكريمة، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى: * (الذين أنعم الله عليهم) * أي بفنون النعم الدينية الدنيوية حسبما أشير إليه مجملا خبره على ما استظهره في البحر، والحصر عند القائل به إضافي بالنسبة إلى غير الأنبياء الباقين عليهم الصلاة والسلام لأنهم معروفون بكونهم منعما عليهم فينزل الانعام على غيرهم منزلة العدم، وقيل: يقدر مضاف أي بعض الذين أنعم الله عليهم وقوله تعالى: * (من النبيين) * بيان للموصول، وقيل: من تبعيضية بناء على أن المراد أولئك المذكورون الذين أنعم الله تعالى عليهم بالنعم المعهودة المذكورة هنا فيكون الموضوع والمحمول مخصوصا بمن سمعت وهم بعض النبيين وعموم المفهوم المراد من المحمول في نفسه ومن حيث هو في الذهن لا ينافي أن يقصد به أمر خاص في الخارج كما لا يخفى؛ واختير حمل التعريف في الخبر عن الجنس للمبالغة كما في قوله تعالى: * (ذلك الكتاب) * (البقرة: 2)، والمحذور مندفع بما ذكرنا و * (من) * في قوله سبحانه: * (من ذرية ءادم) * قيل بيانية والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور السابق والمجرور بدل من المجرور بإعادة الجار وهو بدل بعض من كل بناء على أن المراد ذريته الأنبياء وهي غير شاملة لآدم عليه السلام ولا يخفى بعده، وقيل: هي تبعيضية لأن المنعم عليه أخص من الذرية من وجه لشمولها بناء على الظاهر المتبادر منها غير من أنعم عليه دونه ولا يضر في ذلك كونها أعم منها من وجه لشموله آدم والملك. ومؤمني الجن دونها * (وممن حملنا مع نوح) * أي ومن ذرية من حملناهم معه عليه السلام خصوصا وهم من عدا إدريس عليه السلام لما سمعت من أنه قبل نوح. وإبراهيم عليه السلام كان بالإجماع من ذرية سام بن نوح عليهما السلام * (ومن ذرية إبراهيم) * وهم الباقون.
107

* (وإسرائيل) * عطف على * (إبراهيم) * أي ومن ذرية إسرائيل أي يعقوب عليه السلام وكان منهم موسى وهارون وزكريا. ويحيى. وعيسى. عليهم السلام، وفي الآية دليل على أن أولاد البنات من الذرية لدخول عيسى عليه السلام ولا أب له، وجعل إطلاق الذرية عليه بطريق التغليب خلاف الظاهر * (وممن هدينا واجتبينا) * عطف على قوله تعالى: * (من ذرية آدم) * ومن للتبعيض أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق واخترناهم للنبوة والكرامة.
وجوز أن يكون عطفا على قوله سبحانه: * (من النبيين) *. ومن للبيان وأورد عليه أن ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال: المراد ممن جمعنا له بين النبوة والهداية والاجتباء للكرامة وهو خلاف الظاهر، وقوله تعالى: * (إذا تتلى عليهن ءايات الرحم‍ان خروا سجدا وبكيا) * استئناف مساق لبيان خشيتهم من الله تعالى وإخباتهم له سبحانه مع ما لهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله عز سلطانه.
وقيل: خبر بعد خبر لاسم ازشارة، وقيل: إن الكلام انقطع عند قوله تعالى: * (وإسرائيل) *، وقوله سبحانه: * (وممن هدينا) * خبر مبتدأ محذوف وهذه الجملة صفة لذلك المحذوف أي وممن هدينا واجتبينا قوم إذا تتلى عليهم الخ، ونقل ذلك عن أبي مسلم، وروى بعض الإمامية عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنه قال: نحن عنينا بهؤلاء القوم، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا وحال روايات الإمامية لا يخفى على أرباب التمييز، وظاهر صنيع بعض المحققين اختيار أن يكون
الموصول صفة لاسم الإشارة على ما هو الشائع فيما بعد اسم الإشارة وهذه الجملة هي الخبر لأن ذلك امدح لهم، ووجه ذلك ظاهر عند من يعرف حكم الأوصاف والأخبار، وسجدا جمع ساجد وكذا بكيا جمع باك كشاهد وشهود وأصله بكوى اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وحركت الكاف بالكسر لمناسبة الياء وجمعه المقيس بكاة كرام ورماة إلا أنه لم يسمع على ما في " البحر " وهو مخالف لما في " القاموس " وغيره، وجوز بعضهم أن يكون مصدر بكى كجلوسا مصدر جلس وهو خلاف الظاهر، نعم ربما يقتضيه ما أخرجه ابن أبي الدنيا في البكاء. وابن جرير. وابن أبي حاتم. والبيهقي في الشعب عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قرأ سورة مريم فسجد ثم قال: هذا السجود فأين البكى، وزعم ابن عطية أن ذلك متعين في قراءة عبد الله. ويحيى. والأعمش. وحمزة. والكسائي * (بكيا) * بكسر أوله وليس كما زعم لأن ذلك اتباع، وظاهر أنه لا يعين المصدرية. ونصب الاسمين على الحالية من ضمير * (خروا) * أي ساجدين وباكين والأول حال مقدرة كما قال الزجاج، والظاهر أن المراد من السجود معناه الشرعي والمراد من الآيات ما تضمنته الكتب السماوية سواء كان مشتملا على ذكر السجود أم لا وسواء كان متضمنا لذكر العذاب المنزل بالكفار أم لا، ومن هنا استدل بالآية على استحباب السجود والبكاء عند تلاوة القرآن.
وقد أخرج ابن ماجه. وإسحاق بن راهويه. والبزار في مسنديهما من حديث سعيد بن أبي وقاص مرفوعا أتلوا القرآن وأبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، وقيل: المراد من السجود سجود التلاوة حسبما تعبدنا به عند سماع بعض الآيات القرآنية فالمراد بآيات الرحمن آيات مخصوصة متضمنة لذكر السجود، وقيل: المراد منه الصلاة وهو قول ساقط جدا، وقيل: المراد منه الخشوع والخضوع، والمراد من الآيات ما تضمن العذاب المنزل بالكفار وهذا قريب من سابقه، ونقل الجلال السيوطي عن الرازي أنه استدل بالآية على وجوب سجود التلاوة وهو كما قال الكيا: بعيد، وذكروا أنه ينبغي أن يدعو الساجد في سجدته بما يليق بآياتها فههنا يقول: اللهم
108

اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك، وفي آية الإسراء اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك، وفي آية تنزيل السجدة اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك ورحمتك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك.
وقرأ عبد الله. وأبو جعفر. وشيبة. وشبل بن عباد. وأبو حيوة. وعبد الله بن أحمد العجلي عن حمزة. وقتيبة في رواية. وورش في رواية النحاس. وابن ذكوان في رواية التغلبي * (يتلى) * بالياء التحتية لأن التأنيث غير حقيقي ولوجود القاصل.
* (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلواة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) *
* (فخلف من بعدهم خلف) * أي جاء بعدهم عقب سوء فإن المشهور في الخلف ساكن اللام ذلك والمشهور في مفتوح اللام ضده، وقال أبو حاتم: الخلف بالسكون الأولاد الجمع والواحد فيه سواء وبالفتح البدل ولدا كان أو غيره، وقال النضر بن شميل: الخلف بالتحريك والإسكان القرن السوء أما الصالح فالتحريك لا غير، وقال ابن جرير: أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها وقد يعكس، وعلى استعمال المفتوح في الذم جاء قول لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم * وبقيت في خلف كجلد الأجرب
* (أضاعوا الصلاة) * وقرأ عبد الله. والحسن. وأبو رزين العقيلي. والضحاك. وابن مقسم * (الصلوات) * بالجمع وهو ظاهر، ولعل الأفراد للاتفاق في النوع، وإضاعتها على ما روي عن ابن مسعود. والنخعي. والقاسم بن مخيمرة. ومجاهد. وإبراهيم. وعمر بن عبد العزيز تأخيرها عن وقتها، وروى ذلك الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، واختار الزجاج أن إضاعتها الاختلال بشروطها من الوقت وغيره، وقيل: إقامتها في غير جماعة، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أن إضاعتها تركها، وقيل: عدم اعتقاد وجوبها، وعلى هذا الآية في الكفار وعلى ما قبله لا قطع، واستظهر أنها عليه في قوم مسلمين بناء على أن الكفار غير مكلفين بالفروع إلا أن يقال: المراد أن من شأنهم ذلك فتدبر، وعلى ما قبلهما في قوم مسلمين قولا واحدا.
والمشهور عن ابن عباس. ومقاتل أنها في اليهود، وعن السدي أنها فيهم وفي النصارى، واختير كونها في الكفرة مطلقا لما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا وعليه بني حسن موقع حكاية قول جبريل عليه السلام الآتي، وكونها في قوم مسلمين من هذه الأمة مروى عن مجاهد. وقتادة. وعطاء. وغيرهم قالوا: إنهم يأتون عند ذهاب الصالحين يتبادرون بالزنا ينزو بعضهم على بعض في الأزقة كالأنعام لا يستحيون من الناس ولا يخافون من الله تعالى: * (واتبعوا الشهوات) * وانهمكوا في المعاصي المختلفة الأنواع، وفي " البحر " * (الشهوات) * عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة وعن ذكر الله تعالى، وعد بعضهم من ذلك نكاح الأخت من الأب وهو على القول بأن الآية فيما يعم اليهود لأن من مذهبهم فيما قيل ذلك وليس بحق. والذي صح عنهم أنهم يجوزون نكاح بنت الأخ وبنت الأخت ونحوهما، وعن علي كرم الله تعالى وجهه من بني المشيد وركب المنظور ولبس المشهور * (فسوف يلقون غيا) * أخرج ابن جرير. والطبراني. وغيرهما من حديث أبي أمامة مرفوعا أنه نهر في أسفل جهنم يسيل فيه صديد أهل النار وفيه لو أن صخرة زنة عشر عشراوات قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفا ثم تنتهي إلى غي وأثام، ويعلم منه سر التعبير بسوف يلقون.
109

وأخرج جماعة من طرق عن ابن مسعود أنه قال: الغي نهر أو واد في جهنم من قيح بعيد القعر خبيث الطعم يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات، وحكى الكرماني أنه آبار في جهنم يسيل إليها الصديد والقيح.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن الغي السوء، ومن ذلك قول مرقش الأصغر: فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وعن ابن زيد أنه الضلال وهو المعنى المشهور، وعليه قيل المراد جزاء غي. وروي ذلك عن الضحاك واختاره الزجاج، وقيل: المراد غيا عن طريق الجنة. وقرىء فيما حكى الأخفش * (يلقون) * بضم الياء وفتح اللام وشد القاف.
* (إلا من تاب وءامن وعمل ص‍الحا فأول‍ائك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا) *
* (إلا من تاب وءامن وعمل صالحا) * استثناء منقطع عند الزجاج. وقال في " البحر ": ظاهره الاتصال، وأيد بذكر الإيمان كون الآية في الكفرة أو عامة لهم ولغيرهم لأن من آمن لا يقال إلا لمن كان كافرا إلا بحسب التغليظ، وحمل الإيمان على الكامل خلاف الظاهر، وكذا كون المراد إلا من جمع التوبة والإيمان، وقيل: المراد من الإيمان الصلاة كما في قوله تعالى: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * ويكون ذكره في مقابلة إضاعة الصلاة وذكر العمل الصالح في مقابلة اتباع الشهوات * (فأول‍ائك) * المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح * (يدخلون الجنة) * بموجب الوعد المحتوم، ولا يخفى ما في ترك التسويف مع ذكر أولئك من اللطف.
وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو. وأبو بكر. ويعقوب * (يدخلون) * بالبناء للمفعول من أدخل. وقرأ ابن غزوان عن طلحة " سيدخلون " بسين الاستقبال مبنيا للفاعل * (ولا يظلمون شيئا) * أي لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئا أو لا ينقصون شيئا من النقص، وفيه تنبيه على أن فعلهم السابق لا يضرهم ولا ينقص أجورهم. واستدل المعتزلة بالآية على أن العمل شرط دخول الجنة. وأجيب بأن المراد * (يدخلون الجنة) * بلا تسويف بقرينة المقابلة وذلك بتنزيل الزمان السابق على الدخول لحفظهم فيه عما ينال غيرهم منزلة العدم فيكون العمل شرطا لهذا الدخول لا للدخول مطلقا، وأيضا يجوز أن يكون شرطا لدخول جنة عدن لا مطلق الجنة، وقيل هو شرط لعدم نقص شيء من ثواب الأعمال وهو كما ترى، وقيل غير ذلك. واعترض بعضهم على القول بالشرطية بأنه يلزم أن لا يكون من تاب وآمن ولم يتمكن من العمل الصالح يدخل الجنة. وأجيب بأن ذلك من الصور النادرة والأحكام إنما تناط بالأعم الأغلب فتأمل.
* (جن‍ات عدن التى وعد الرحم‍ان عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا) *
* (جنات عدن) * بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها اشتمال الكل على الجزء بناء على ما قيل: إن * (جنات عدن) * علم لإحدى الجنات الثمان كعلمية - بنات أوبر -. وقيل: إن العلم هو جنة عدن إلا أنه أقيم الجزء الثاني بعد حذف الأول مقام المجموع كما في شهر رمضان فكان الأصل جنات جنة عدن. والذي حسن هذه الإقامة أن المعتبر علميته في المنقول الإضافي هو الجزء الثاني حتى كأنه نقل وحده كما قرر في موضعه من كتب النحو المفصلة. وفي " الكشف " إذا كانت التسمية بالمضاف والمضاف إليه جعلوا المضاف إليه في نحوه مقدر العلمية لأن المعهود في كلامهم في هذا الباب الإضافة إلى الأعلام والكنى فإذا أضافوا إلى غيرها أجروه مجراها كأبي تراب ألا ترى أنهم لا يجوزون إدخال اللام في ابن داية وأبي ترابي ويوجبونه في نحو امرىء
110

القيس وماء السماء كل ذلك نظرا إلى أنه لا يغير من حاله كالعلم إلى آخر ما فيه.
ويدل على ذلك أيضا منعه من الصرف في - بنات أوبر. وأبي قترة. وابن داية - إلى غير ذلك فجنات عدن على القولين معرفة أما على الأول فللعلمية، وأما على الثاني فللإضافة المذكورة وإن لم يكن عدن في الأصل علما ولا معرفة بل هو مصدر عدن بالمكان يعدن ويعدن أقام به. واعتبار كون عدن قبل التركيب علما لإحدى الجنات يستدعي أن تكون الإضافة في * (جنة عدن) * من إضافة الأعم مطلقا إلى الأخص بناء على أن المتبادر من الجنة المكان المعروف لا الأشجار ونحوها وهي لا تحسن مطلقا بل منها حسن كشجر الأراك ومدينة بغداد ومنها قبيح كإنسان زيد ولا فارق بينهما إلا الذوق وهو غير مضبوط.
وجوز أن يكون " عدن " علما للعدن بمعنى الإقامة كسحر علم للسحر وأمس للأمس وتعريف " جنات " عليه ظاهر أيضا، وإنما قالوا ما قالوا تصحيحا للبدلية لأنه لو لم يعتبر التعريف لزم إبدال النكرة من المعرفة وهو على رأي القائل لا يجوز إلا إذا كانت النكرة موصوفة وللوصفية بقوله تعالى: * (التي وعد الرحم‍ان عباده) * وجوز أبو حيان اعتبار * (جنات عدن) * نكرة على معنى جنات إقامة واستقرار وقال: إن دعوى إن عدنا علم لمعنى العدن يحتاج إلى توقيف وسماع من العرب مع ما في ذلك مما يوهم اقتضاء البناء. وكذا دعوى العلمية الشخصية فيه. وعدم جواز إبدال النكرة من المعرفة إلا موصوفة شيء قاله البغداديون وهم محجوجون بالسماع. ومذهب البصريين جواز الإبدال وإن لم تكن النكرة موصوفة " 1 " وقال أبو علي: يجوز ذلك إذا كان في إبدال النكرة فائدة لا تستفاد من المبدل منه مع أنه لا تتعين البدلية لجواز النصب على المدح، وكذا لا يتعين كون الموصول صفة لجواز الإبدال اه‍ بأدنى زيادة.
وتعقب إبدال الموصول بأنه في حكم المشتق. وقد نصوا على أن إبدال المشتق ضعيف. ولعل أبا حيان لا يسلم ذلك. ثم إنه جوز كون * (جنات عدن) * بدل كل. وكذا جوز كونه عطف بيان. وجملة * (لا يظلمون) * على وجهي البدلية. والعطف اعتراض أو حال. وقرأ الحسن. وأبو حيوة. وعيسى بن عمر. والأعمش. وأحمد بن موسى عن أبي عمرو * (جنات عدن) * بالرفع، وخرجه أبو حيان على أنه خبر مبتدأ محذوف أي تلك جنات، وغيره على أنها مبتدأ والخبر الموصول. وقرأ الحسن بن حي. وعلي بن صالح * (جنات عدن) * بالنصب والإفراد ورويت عن الأعمش وهي كذلك في مصحف عبد الله.
وقرأ اليماني. والحسن في رواية. وإسحاق الأزرق عن حمزة * (جنة عدن) * بالرفع والإفراد والعائد إلى الموصول محذوف أي وعدها الرحمن، والتعرض لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدها وإنجازه لكما سعة رحمته سبحانه وتعالى، والباء في قوله عز وجل: * (بالغيب) * للملابسة وهي متعلقة بمضمر هو حال من العائد أو * (من عباده) * أي وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب أي غائبة عنهم غير حاضرة أو غائبين عنها لا يرونها أو للسببية وهي متعلقة بوعد أي وعدها إياهم بسبب تصديق الغيب الإيمان به، وقيل: هي صلة * (عباده) * على معنى الذين يعبدونه سبحانه بالغيب أي في السر وهو كما ترى * (إنه) * أي الرحمن، وجوز كون الضمير
111

للشأن * (كان وعده) * أي موعوده سبحانه وهو الجنات كما روي عن ابن جريج أو موعوده كائنا ما كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا كما قيل، وجوز إبقاء الوعد على مصدريته وإطلاقه على ما ذكر للمبالغة.
والتعبير بكان للإيذان بتحقق الوقوع أي كان ذلك * (مأتيا) * أي يأتيه من وعد له لا محالة، وقيل: * (مأتيا) * مفعول بمعنى فاعل أي آتيا، وقيل: هو مفعول من
أتى إليه إحسانا أي فعل به ما يعد إحسانا وجميلا والوعد على ظاهره. ومعنى كونه مفعولا كونه منجزا لأن فعل الوعد بعد صدوره وإيجاده إنما هو تنجيزه أي إنه كان وعده عباده منجزا.
* (لا يسمعون فيها لغوا إلا سل‍اما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) *
* (لا يسمعون فيها لغوا) * فضول كلام لا طائل تحته بل هو جار مجرى اللغاء وهو صوت العصافير ونحوها من الطير. والكلام كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها، وفيه تنبيه على أن اللغو مما ينبغي أن يجتنب عنه في هذه الدار ما أمكن، وعن مجاهد تفسير اللغو بالكلام المشتمل على السب، والمراد لا يتسابون والتعميم أولى * (إلا سلاما) * استثناء منقطع، والسلام إما بمعناه المعروف أي لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم السلام عليهم أو تسليم بعضهم على بعض أو بمعنى الكلام السالم من العيب والنقص أي لكن يسمعون كلاما سالما من العيب والنقص، وجوز أن يكون متصلا وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم كما في قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب
وهو يفيد نفي سماع اللغو بالطريق البرهاني الأقوى. والاتصال على هذا على طريق الفرض والتقدير ولولا ذلك لم يقع موقعه من الحسن والمبالغة، وقيل: اتصال الاستثناء على أن معنى السلام الدعاء بالسلامة من الآفات وحيث أن أهل الجنة أغنياء عن ذلك إذ لا آفة فيها كان السلام لغوا بحسب الظاهر وإن لم يكن كذلك نظرا للمقصود منه وهو الإكرام وأظهار التحابب، ولذا كان لائقا بأهل الجنة.
* (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * وارد على عادة المتنعمين في هذه الدار، أخرج ابن المنذر عن يحيى بن كثير قال: كانت العرب في زمانها إنما لها أكلة واحدة فمن أصاب أكلتين سمي فلان الناعم فأنزل الله تعالى هذا يرغب عباده فيما عنده، وروي نحو ذلك عن الحسن، وقيل: المراد دوام رزقهم ودروره وإلا فليس في الجنة بكرة ولا عشي لكن جاء في بعض الآثار أن أهل الجنة يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب، وأخرج الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " من طريق أبان عن الحسن. وأبي قلابة قالا: " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال: وما هيجك على هذا؟ قال: سمعت الله تعالى يذكر في الكتاب * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * فقلت: الليلة من البكرة والعشي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هناك ليل وإنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة عليهم السلام ".
* (تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا) *
* (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) * استئناف جىء به لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها فاسم الإشارة مبتدأ * (والجنة) * خبر له والموصول صفة لها والجملة بعده صلته والعائد محذوف أي نورثها، وبذلك
112

قرأ الأعمش. وقرأ الحسن. والأعرج. وقتادة. ورويس. وحميد. وابن أبي عبلة. وأبو حيوة. ومحبوب عن أبي عمرو * (نورث) * بفتح الواو وتشديد الراء والمراد نبقيها على من كان تقيا من ثمرة تقواه ونمتعه بها كما نبقى على الوارث مال مورثه ونمتعه به فالايراث مستعار للإبقاء، وإيثاره على سائر ما يدل على ذلك كالبيع والهبة لأنه أتم أنواع التمليك من حيث أنه لا يعقب بفسح ولا استرجاع ولا إبطال، وقيل: يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: ليس من أحد الأوله في الجنة منزل وأزواج فإذا كان يوم القيامة ورث الله تعالى المؤمن كذا وكذا منزلا من منازل الكفار وذلك قوله تعالى: * (تلك الجنة التي نورث) * الآية، ولا يخفى أن هذا إن صح فيه أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس وإلا فقد قيل عليه: إنه ضعيف لأنه يدل على أن بعض الجنة موروث والنظم الجليل يدل على أنها كلها كذلك ولأن الايراث ينبىء عن ملك سابق لا على فرضه مع أنه لا داعي للفرض هنا لكن تعقب بأنه يكفي في الإيراث كون الموروث كان موجودا لكن بشرط التقوى بناء على ما ذهب إليه بعضهم في قولع تعالى: * (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده) * (مريم: 61) حيث قال: المراد من العباد ما يعم المؤمن التقي وغيره ووعد غير المؤمن اتقي مشروط بالإيمان والتوقى، نعم اختار الأكثرون أن المراد من العباد هناك المتقون والمراد منهم هنا الأعم، والمراد من التقي من آمن وعمل صالحا على ما قيل، ولا دلالة في الآية على أن غيره لا يدخل الجنة مطلقا، وأخرج ابن أبي حاتم عن داود بن أبي هند أنه الموحد فتذكر ولا تغفل.
* (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذالك وما كان ربك نسيا) *
* (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * حكاية قول جبرائيل صلوات الله تعالى وسلامه عليه، فقد روي أنه احتبس عنه صلى الله عليه وسلم أياما حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فلم يدر عليه الصلاة والسلام كيف يجيب حتى حزن واشتد عليه ذلك وقال المشركون: إن ربه ودعه وقلاه فلما نزل قال له عليه الصلاة والسلام: يا جبريل احتبست عني حتى ساء ظني واشتقت إليك فقال: إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست وأنزل الله تعالى هذه الآية وسورة الضحى قاله غير واحد، فهو من عطف القصة على القصة على ما قاله الخفاجي. وفي الكشف وجه وقوع ذلك هذا الموقع أنه تعالى لما فرغ من أقاصيص الأنبياء عليهم السلام تثبيتا له صلى الله عليه وسلم وذنب بما أحدث بعدهم الخلوف واستثنى الإخلاف وذكر جزاء الفريقين عقب بحكاية نزول جبريل عليه السلام وما رماه المشركون به من توديع ربه سبحانه إياه زيادة في التسلية وإن الأمر ليس على ما زعم هؤلاء الخلوف وأدمج فيه مناسبته لحديث التقوى بما دل على أنهم مأمورون في حركة وسكون منقادون مفوضون لطفا له ولأمته صلى الله عليه وسلم ولهذا صرح بعده بقوله تعالى: * (فاعبده واصطبر لعبادته) * (مريم: 65) وفيه انك لا ينبغي
أن تكثرت بمقالة المخالفين إلى أن تلقى ربك سعيدا، وعطف عليه مقالة الكفار بيانا لتباين ما بين المقالتين ومعا عليه الملك المعصوم وازنسان الجاهل الظلوم فهو استطراد شبيه بالاعتراض حسن الموقع انتهى، ولا يأبى ما تقدم في سبب النزول ما أخرجه أحمد. والبخاري. والترمذي. والنسائي. وجماعة في سببه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام:
113

ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * (مريم: 64) لجواز أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك في أثناء محاورته السابقة أيضا واقتصر في كل رواية على شيء مما وقع في المحاورة، وقيل: يجوز أن يكون النزول متكررا نعم ما ذكر في التوجيه إنما يحسن على بعض الروايات السابقة في المراد بالخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.
وقال بعضهم: إن التقدير هذا، وقال جبريل: وما نتنزل الخ وبه يظهر حسن العطف ووجهه انتهى وتعقب بأنه لا محصل له. وحكى النقاش عن قوم أن الآية متصلة بقول جبريل عليه السلام أولا * (إنما أن رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا) * وهو قول نازل عن درجة القبول جدا، والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل يقال نزلته فتنزل، وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا كما يطلق نزل بمعنى أنزل، وعلى ذلك قوله: نلست لإنسى ولكن لملأك * تنزل من جو السماء يصوب
إذ لا أثر للتدرج في مقصود الشاعر، والمعنى ما نتنزل وقتا غب وقت إلا بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمته سبحانه، وقرأ الأعرج دوما يتنزل) * بالياء والضمير للوحي بقرينة الحال، وسبب النزول والكلام لجبريل عليه السلام، وقيل: إن الضمير له عليه السلام والكلام له عز وجل أخبر سبحانه أنه لا يتنزل جبريل إلا بأمره تعالى قائلا: * (له ما بين أيدينا) * ما قدامنا من الزمان المستقبل * (وما خلفنا) * من الزمان الماضي * (وما بين ذالك) * المذكور من الزمان الحال فلا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره سبحانه ومشيئته عز وجل، وقال ابن جريج: ما بين الأيدي هو ما مر من الزمان قبل الإيجاد وما خلف هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة وما بين ذلك هو مذة الحياة، وقال أبو العالية: ما بين الأيدي الدنيا بأسرها إلى النفخة الأولى وما خلف ذلك الآخرة من وقت البعث وما بين ذلك ما بين النفختين وهو أربعون سنة، وفي كتاب التحرير والتحبير ما بين الأيدي الآخرة وما خلف الدنيا ورواه العوفي عن ابن عباس وبه قال ابن جبير. وقتادة ومقاتل. وسفيان، وقال الأخفش: ما بين الأيدي هو ما قبل الخلق وما خلف هو ما بعد الفناء وما بين ذلك ما بين الدنيا والآخرة فلما آت على هذه الأقوال من الزمان.
وقال صاحب الفنيان: ما بين أيدينا السماء وما خلفنا الأرض وما بين ذلك ما بين الأرض والسماء، وقيل: ما بين الأيدي الأرض وما خلف السماء وقيل: ما بين الأيدي المكان الذي ينتقلون إليه وما خلف المكان الذي ينتقلون منه وما بين ذلك المكان الذي هم فيه فالما آت من الأمكنة، واختار بعضهم تفسيرها بما يعم الزمان والمكان، والمراد أنه تعالى المالك لكل ذلك فلا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بإذنه عز وجل.
وقال البغوي: المراد له علم ما بين أيدينا الخ أي فلا نقدم على ما لم يكن موافق حكمته سبحانه وتعالى:
واختار بعضهم التعميم أي له سبحانه ذلك ملكا وعلما * (وما كان ربك نسيا) * أي تاركا أنبياءه عليهم السلام ويدخل صلى الله عليه وسلم في ذلك دخولا أوليا أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ولم يكن عن ترك الله تعالى لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة بالغة، وقيل: النسيان على ظاهره يعني أنه سبحانه لاحاطة علمه وملكه لا يطرأ عليه الغفلة والنسيان حتى يغفل عنك وعن الإيحاء إليك وإنما كان تأخير الإيحاء لحكمة علمها جلشأنه، واختير الأول لأن هذا المعنى لا يجوز عليه سبحانه فلا حاجة إلى نفيه عنه عز وجل مع
114

أن الأول هو الأوفق لسبب النزول.
ورجح الثاني بأنه أوفق بصيغة المبالغة فإنها باعتبار كثرة من فرض التعلق به وهي أتم على الثاني مع ما في ذلك من إبقاء اللفظ على حقيقته، وكثيرا ما جاء في القرآن نفي ما لا يجوز عليه سبحانه وتعالى وفيه نظر، نعم لا شبهة في أن المتبادر الثاني وأمر الأوفقية لسبب النزول سهل، وفي إعادة اسم الرب المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من تشريفه صلى الله عليه وسلموالاشعار بعلة الحكم ما لا يخفى، وقال أبو مسلم. وابن بحر: أول الآية إلى * (وما بين ذلك) * من كلام المتقين حين يدخلون الجنة والتنزل فيه من النزول في المكان، والمعنى وما نحل الجنة ونتخذها منازل إلا بأمر ربك تعالى ولطفه وهو سبحانه مالك الأمور كلها سالفها ومترقبها وحاضرها فما وجدنا وما نجده من لطفه وفضله، وقوله سبحانه: * (وما كان ربك نسيا) * تقرير من جهته تعالى لقولم أي وما كان سبحانه تاركا لثواب العاملين أو ما كان ناسيا لأعمالهم والثواب عليها حسبما وعد جل وعلا، وفيه أن حمل التنزل على ما ذكر خلاف الظاهر. وأيضا مقتضاه بأمر ربنا لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم كما في الوجه الأول غير ظاهر إلا أن يكون حكاه الله تعالى على المعنى لأن ربهم وربه واحد ولو حكى على لفظهم لقيل ربنا، وإنما حكى كذلك ليجعل تمهيدا لما بعده، وكون ذلك خطاب جماعة المتقين لواحد منهم بعيد وكذا " وما كان ربك نسيا " إذ لم يقل ربهم. وأيضا لا يوافق ذلك سبب النزول بوجه، وكأن القائل إنما اختاره ليناسب الكلام ما قبله ويظهر عطفه عليه. وقد تحقق أنا في غنى عن ارتكابه لهذا الغرض. [بم وقوله تعالى:
* (رب السم‍اوات والارض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا) *
* (رب السم‍اوات والأرض وما بينهما) * بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحة عظمته وجلاله الغفلة والنسيان أو ترك وقلاء من اختاره واصطفاه لتبليغ رسالته، و " رب " خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات الخ أو بدل من * (ربك) * في قوله تعالى: * (وما كان ربك نسيا) * والفاء في قوله سبحانه * (فاعبده واصطبر لعبادته) * لترتيب ما بعدها من موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما، وقيل: من كونه تعالى غير تارك له عليه الصلاة والسلام أو غير ناس لأعمال العاملين، والمعنى فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية
الالة فاعبده الخ فإن إيجاب معرفته سبحانه كذلك لعبادته مما لا ريب فيه أو حين عرفت أنه عز وجل لا ينساك أو لا ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها ولا تحزن بابطاء الوحي وكلام الكفرة فإنه سبحانه يراقبك ويراعيك ويلطف بك في الدنيا والآخرة.
وجوز أبو البقاء أن يكون * (رب السموات) * مبتدأ والخبر * (فاعبده) * والفاء زائدة على رأي الأخفش وهو كما رتى.
وجوز الزمخشري أن يكون قوله تعالى: * (وما كان ربك نسيا) * (مريم: 64) من تتمة كلام المتقين على تقدير أن يكون * (رب) * خبر مبتدأ محذوف ولم يجوز ذلك على تقدير الابدال لأنه لا يظهر حينئذ ترتب قوله سبحانه: * (فاعبده) * الخ عليه لأنه من كلام الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا بلا شك، وجعله جواب شرط محذوف على تقدير ولما عرفت أحوال أهل الجنة وأقوالهم فأقبل على العمل لا يلائم - كما في الكشف - فصاحة التنزيل للعدول عن السبب الظاهر إلى الخفي، وتعدية الاصطبار باللام مع أن المعروف تعديته بعلى كما في قوله تعالى: * (واصطبر) * عليها لتضمنه
115

معنى الثبات للعبادة فيما تورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمبارز: اصطبر لقرنك أي أثبت له فيما يورد عليك من شداته، وفيه إشارة إلى ما يكابد من المجاهدة وأن المستقيم من ثبت لذلك ولم يتزلزل وشمة من معنى رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
* (هل تعلم له سميا) * أي مثلا كما جاء في رواية جماعة عن ابن عباس. ومجاهد. وابن جبير. وقتادة وأصله الشريك في الاسم، وإطلاقه على ذلك لأن الشركة في الاسم تقتضي المماثلة، وقال ابن عطية: السمى على هذا بمعنى المسامى والمضاهي، وأبقاه بعضهم على الأصل، واستظهر أن يراد ههنا الشريك في اسم خاص قد عبر عنه تعالى بذلك وهو رب السموات والأرض، وقيل: المراد هو الشريك في الاسم الجليل فإن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلا، وقيل: المراد هو الشريك فيما يختص به تعالى كالاسم الجليل والرحمن، ونقل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا؛ وقيل: هو الشريك في اسم الاله، والمراد بالتسمية التسمية على الحق وأما التسمية على الباطل فهي كلا تسمية، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك قال: السمى الولد وأنشد له قول الشاعر: أما السمى فأنت منه مكثر * والمال مال يغتدي ويروح
وروي ذلك أيضا عن الضحاك، وأيا ما كان فالمراد بإنكار العلم ونفيه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجه وآكده، والجملة تقرير لوجوب عبادته عز وجل وإن اختلف الاعتبار حسب اختلاف الأقوال فتدبر.
وقرأ الاخوان. وهشام. وعلي بن نصر. وهارون كلاهما عن أبي عمرو. والحسن. والأعمش والأعمش وعيسى. وابن محيصن * (هتعلم) * بادغام اللام في التاء وهو على ما قال أبو عبيدة لغة كالإظهار وأنشدوا لذلك قول مزاحم العقيلي: فذرذا ولكن هتعين متيما * على ضوء برق آخر الليل ناصب
* (ويقول الإنس‍ان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا) *
* (ويقول الانسان إذا ما مت لسوف أخرج حيا) * أخرج ابن النذر عن ابن جريج أنها نزلت في العاصي بن وائل، عطاء عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل: في أبي جهل، وعن الكلبي في أبي بن خلف أخذ عظاما باليا فجعل يفته بيده ويذريه في الريح ويقول: زعم فلان أنا نبعث بعد أن نموت ونكون مثل هذا إن هذا شيء لا يكون أبدا فأل في * (الإنسان) * على ما قيل للعهد والمراد به أحد هؤلاء الأشحاص، وقيل: المراد بالإنسان جماعة معينون وهم الكفرة المنكرون للبعث.
وقال غير واحد: يجوز أن تكون أل للجنس ويكون هناك مجاز في الطرف بأن يطلق جنى الإنسان ويراد بعض أفراده كما يطلق الكل على بعض أجزائه أو يكون هناك مجاز في الإسناد بأن يسند إلى الكل ما صدر عن البعض كما يقال: بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد منهم، ومن ذلك قوله: فسيف بني عبس وقد ضربوا * نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
واعترض هذا بأنه يشترط لصحة ذلك الإسناد رضا الباقين بالفعل أو مساعدتهم عليه حتى يعد كأنه صدر منهم، ولا شك أن بقية أفراد الإنسان من المؤمنين لم يرضوا بهذا القول. وأجاب بعض مشترطي ذلك للصحة بأن الإنكار مركوز في طبائع الكل قبل النظر في الدليل فالرضا حاصل بالنظر إلى الطبع والجبلة.
وقال الخفاجي: الحق عدم اشتراط ذلك لصحته وإنما يشترط لحسنه نكتة يقتضيها مقام الكلام
116

حتى يعد الفعل كأنه صدر عن الجميع فقد تكون الرضا وقد تكون المظاهرة وقد تكون عدم الغوث والمدد ولذا أوجب الشرع القسامة والدية وقد تكون غير ذلك، وكأن النكتة هنا انه لما وقع بينهم إعلان قول لا ينبغي أن يقال مثله وإذا قيل لا ينبغي أن يترك قائله بدون منه أوقتل جعل ذلك بمنزلة الرضا حثا لهم على إنكاره قولا أو فعلا انتهى.
وقيل: لعل الحق أن الإسناد إلى الكل هنا للإشارة إلى قلة المؤمنين بالبعث على الوجه الذي أخبر به الصادق وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين فتأمل، وعبر بالمضارع إما استحضار للصورة الماضية لنوع غرابة، وإما لإفادة الاستمرار التجددي فإن هذا القول لا يزال يتجدد حتى ينفخ في الصور، والهمزة للإنكار وإذا ظرف متعلق بفعل محذوف دل عليه * (أخرج) * ولم يجوزوا تعلقه بالمذكور لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبله، وعد ابن عطية توسط سوف مانعا من العمل أيضا، ورد عليه بقوله: فلما رأته آمنا هان وجدها * وقالت أبونا هكذا سوف يفعل
وغير ذلك مما سمع، ونقل عن الرضى أنه جعل إذا هنا شرطية وجعل عاملها الجزاء وقال: إن كلمة الشرط تدل على لزوم الجزاء للشرط، ولتحصيل هذا الغرض عمل في إذا جزاؤه مع كونه بعد حرف لا يعمل ما بعده فيما قبله كالفاء في * (فسبح) * وإن في قولك: إذا جئتني فإني مكرم ولام الابتداء في قوله تعالى: * (أئذا ما
مت لسوف أخرج حيا) *، ومختار الأكثرين أن إذا هنا طرفية، وما ذكره الرضى ليس بمتفق عليه، وتحقيق ذلك في كتب العربية، وفي الكلام معطوف محذوف لقيام القرينة عليه أي ائذا ما مت وصرت رميما لسوف الخ.
واللام هنا لمجرد التوكيد، ولذا ساغ اقترانها بحرف الاستقبال، وهذا على القول بأنه إذا دخلت المضارع خلصته للحال، وأما على القول بأنها لا تخلصه فلا حاجة إلى دعوى تجريدها للتوكيد لكن الأول هو المشهور وما في * (إذا ما) * للتوكيد أيضا. والمراد من الإخراج الإخراج من الأرض أو من حال الفناء والخروج على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز عن الانتقال من حال إلى أخرى، وإيلاء الظرف همزة الإنكار دون الإخراج لأن ذلك الإخراج ليس بمنكر مطلقا وإنما المنكر كونه وقت اجتماع الأمرين فقدم الظرف لأنه محل الإنكار، والأصل في المنكر أن يلي الهمزة، ويجوز أن يكون المراد إنكار وقت ذلك بعينه أي إنكار مجيء وقت فيه حياة بعد الموت يعني أن هذا الوقت لا يكون موجودا وهو أبلغ من إنكار الحياة بعد الموت لما أنه يفيد إنكاره بطريق برهاني، وبعضهم لم يقدر معطوفا واعتبر زمان الموت ممتدا لا أول زهوق الروح كما هو المتبادر، وقيل: لا حاجة إلى جميع ذلك لأنهم إذا أحالوه في حالة الموت علم احالته إذا كانوا رفاتا بالطريق الأولى، وأيا ما كان فلا اشكال في الآية.
وقرأ جماعة منهم ابن ذكوان بخلاف عنه * (إذا) * بدون همزة الاستفهام وهي مقدرة معه لدلالة المعنى على ذلك، وقيل: لا تقدير والمراد الأخبار على سبيل الهزء والسخرية بمن يقول ذلك. وقرأ طلحة بن مصرف * (سأخرج) * بسين الاستقبال وبغير لام، وعلى ذلك تكون إذا متعلقة بالفعل المذكور على الصحيح، وفي رواية أخرى عنه * (لسأخرج) * بالسين واللام. وقرأ الحسن. وأبو حيوة * (أخرج) * مبنيا للفاعل.
* (أولا يذكر إلإنس‍ان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) *
* (أو لا يذكر الانسان) * من الذكر الذي يراد به التفكر، والأظهار في موضع الاضمار لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعي التفكر
117

فيما جرى عليه من شؤون التكوين المانعة عن القول المذكور وهو السر في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان على ما قيل. والهمزة للإنكار التوبيخي وهي على أحد المذهبين المشهورين في مثل هذا التركيب داخلة على محذوف معطوف عليه ما بعد والتقدير ههنا أيقول ذلك ولا يذكر * (أنا خلقناه من قبل) * أي من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه، وقيل: أي من قبل بعثه * (ولم يك شيئا) * أي والحال أنه لم يكن حينئذ موجودا فحيث خلقناه وهو في تلك الحالة المنافية للخلق بالكلية مع كونه أبعد من الوقوع فلأن نبعثه بإعادة ما عدم منه وقد كان متصفا بالوجود في وقت على ما اختاره بعض أهل السنة أو بجمع المواد المتفرقة وإيجاد مثل ما كان فيها من الاعراض على ما اختاره بعض آخر منهم أيضا أولى وأظهر فما له لا يذكره فيقه فيما يقع فيه من النكير، وقيل: إن العطف على يقول المذكور سابقا. والهمزة لإنكار الجمع لدخولها على الواو المفيدة له، ولا يخل ذلك بصدارتها لأنها بالنسبة إلى جملتها فكأنه قيل، أيجمع بين القول المذكور وعدم الذكر: ومحصله أيقول ذلك ولا يذكر أنا خلقناه الخ.
وقرأ غير واحد من السبعة * (يذكر) * بفتح الذال والكاف وتشديدهما، وأصله يتذكر فادغم التاء في الذال وبذلك قرى أبي.
* (فوربك لنحشرنهم والشي‍اطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) *
* (فوربك) * اقسامه باسمه عزت أسماؤه مضافا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتحقيق الأمر بالإشعار بعلته وتفخيم شأنه عليه الصلاة والسلام ورفع منزلته * (لنحشرنهم) * أي لنجمعن القائلين ما تقدم بالسوق إلى المحشر بعد ما أخرجناهم أحياء، وفي القسم على ذلك دون البعث إثبات له على أبلغ وجه وآكده كأنه أمر واضح غني عن التصريح به بعد بيان إمكانه بما تقدم من الحجة البالغة وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال، وكون الضمير للكفرة القائلين هو الظاهر نظرا إلى السياق وإليه ذهب ابن عطية. وجماعة. ولا ينافي ذلك إرادة الواحد من الإنسان كما لا يخفى.
واستظهر أبو حيان أنه للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم * (والشياطين) * معطوف على الضمير المنصوب أو مفعول معه. روي أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين كانوا يغوونهم كل منهم مع شيطانه في سلسلة، ووجه ذلك على تقدير عود الضمير للناس أنهم لما حشروا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا معهم جميعا على طرز ما قيل في نسبة القول إلى الجنس، وقيل: يحسر كل واحد من الناس مؤمنهم وكافرهم مع قرينه من الشياطين ولا يختص الكافر بذلك. وقد يستأنس له بما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا " ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن قالوا: وإياك يا رسول الله قال: وإياي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فاسلم فلا يأمرني إلا بخير " * (ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) * باركين على الركب، وأصله جثوو بواوين فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين فكسرت الثاء للتخفيف فانقلبت الواو الأول ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فاجتمعت واو وياء وسبقت احداهما بالسكون فقلبت الواو ياء فادغمت الياء في الياء وكسرت الجيم اتباعا لما بعدها.
وقرأ غير واحد من السبعة بضمها وهو جمع جاث في القراءتين، وجوز الراغب كونه مصدرا نظير ما قيل في بكى وقد مر، ولعل إحضار الكفرة بهذه الحال إهانة لهم أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من الشدة.
118

وقال بعضهم: إن المحاسبة تكون حول جهنم فيجثون لمخاصمة بعضهم بعضا ثم يتبرأ بعضهم من بعض، وقال السدى: يجثون لضيق المكان بهم فالحال على القولين مقدرة بخلافه على ما تقدم. وقيل: إنها عليه مقدرة أيضا لأن المراد الجثى حول جهنم، ومن جعل الضمير للكفرة وغيرهم قال: إنه يحضر السعداء والأشقياء حول جهنم ليرى السعداء ما نجاهم الله تعالى منه فيزدادوا غبطة وسرورا وينال الأشقياء ما ادخروا لمعادهم ويزدادوا غيظا من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتهم
بهم ويجثون كلهم ئم لما يدهمهم من هول المطلق أو لضيق المكان أو لأن ذلك من توابع التواقف للحساب والتقاول قبل الوصول إلى الثواب والعقاب، وقيل: إنهم يجثون على ركبهم إظهارا للذل في ذلك الموطن العظيم، ويدل على جثى جميع أهل الموقف ظاهر قوله تعالى: * (وترى كل أمة جاثية) * لكن سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما هو ظاهر في عدم جثى الجميع من الأخبار والله تعالى أعلم، والحال قيل: مقدرة، وقيل: غيره مقدرة إلا أنه أسند ما للبعض إلى الكل، وجعلها مقدرة بالنسبة إلى السعداء وغير مقدرة بالنسبة إلى الأشقياء لا يصح، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر * (جثيا) * بجماعات على أنه جمع جثوة وهو المجموع من التراب والحجارة أي لنحضرنهم جماعات.
* (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحم‍ان عتيا) *
* (ثم لننزعن من كل شيعة) * أي جماعة تشايعت وتعاونت على الباطل أو شاعت وتبعت الباطل على ما يقتضيه كون الآية في الكفرة أو جماعة شاعت دينا مطلقا على ما يقتضيه كونها في المؤمنين وغيرهم * (أيهم أشد على الرحمان عتيا) * أي نبوا عن الطاعة وعصيانا، وعن ابن عباس جراءة، وعن مجاهد كفرا، وقيل: افتراء بلغة تميم، والجمهور على التفسير الأول، وهو على سائر التفاسير مصدر وفيه القراءتان السابقتان في جثيا.
وزعم بعضهم أنه فيهما جمع جاث وهو خلاف الظاهر هنا، والنزع الاخراج كما في قوله تعالى: * (ونزع يده) * والمراد استمرار ذلك أي إنا نخرج ونفرز من كل جماعة من جماعات الكفر أعصاهم فأعصاهم إلى أن يحاط بهم فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم وذلك قوله تعالى:
* (ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) *
* (ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) * فالمراد بالذين هم أولى المنتزعون باعتبار الترتيب، وقد يراد بهم أولئك باعتبار المجموع فكأنه قيل: ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء وهم أولى بالصلى من بين سائر الصالين ودركاتهم أسفل وعذابهم أشد ففي الكلام إقامة المظهر مقام المضمر، وفسر بعضهم النزع بالرمي من نزعت السهم عن القوس أي رميته فالمعنى لنرمين فيها الأعصى فالأعصى من كل طائفة من تلك الطوائف ثم لنحن أعلم بتصليتهم؛ وحمل الآية على البدء بالأشد فالأشد مروى عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وجوز أن يراد باشدهم عتيا رؤساء الثيع وأئمتهم لتضاعف جرمهم بكونهم ضلالا مضلين قال الله تعالى: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) * (النحل: 88) * (وليحملن أثقالهم واثقالا مع أثقالهم) * (العنكبوت: 13).
وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن قتادة وعليه لا يجب الاستمرار والإحاطة. وأورد على القول بالعموم أن قوله تعالى: * (أشد. عتيا) * يقتضي اشتراك الكل في العتى بل في أشديته وهو لا يناسب المؤمنين، وأجيب عنه بأن ذلك من نسبة ما للبعض إلى الكل والتفضيل على طائفة لا يقتضي مشاركة كل فرد فرد فإذا قلت: هو أشجع العرب لا يلزمه وجود الشجاعة في جميع أفرادهم، وعلى هذا يكون في الآية إيماء إلى التجاوز عن كثير حيث خص العذاب بالأشد معصية، و * (أيهم) * مفعول * (ننزعن) * وهو اسم موصول بمعنى الذي مبني على الضم محله
119

النصب و * (أشد) * خبر مبتدأ محذوف أي هو أشد والجملة صلة والعائد المبتدأ * (وعلى الرحمن) * متعلق بأشد * (وعتيا) * تمييز محول عن المبتدأ، ومن زعم أنه جمع جعله حالا، وجوز في الجار أن يكون للبيان فهو متعلق بمحذوف كما في سقيالك، ويجوز بعتيا، أما إن كان وصفا فبالاتفاق، وأما إذا كان مصدرا فعند القائل بجواز تقدم معمول المصدر لا سيما إذا كان ظرفا، وكذا الكلام في * (بها) * من قوله تعالى: * (هم أولى بها صليا) * فإنه جوز أن يكون الجار للبيان وأن يكون متعلقا بأولى وأن يكون متعلقا بصليا، وقد قرىء بالضم والكسر، وجوز فيه المصدرية والوصفية، وهو على الوصفية حال وعلى المصدرية تمييز على طرز ما قيل في * (عتيا) * إلا أنه جوز فيه أن يكون تمييزا عن النسبة بين * (أولى) * والمجرور وقد أشير إلى ذلك فيما مر.
والصلى من صلى النار كرضى وبها قاسى حرها، وقال الراغب: يقال صلى بالنار وبكذا أي بلى به، وعن الكلبي أنه فسر الصلى بالدخول، وعن ابن جريج أنه فسره بالخلود، وليس كل من المعنيين بحقيقي له كما لا يخفى، ثم ما ذكر من بناء - أي - هنا هو مذهب سيبويه، وكان حقها أن تبنى في كل موضع كسائر الموصولات لشبهها الحرف بافتقارها لما بعدها من الصلة لكنها لما لزمت الإضافة إلى المفرد لفظا أو تقديرا وهي من خواص الأسماء بعد الشبه فرجعت إلى الأصل في الأسماء وهو الأعراب ولأنها إذا أضيفت إلى نكرة كانت بمعنى كل وإذا أضيفت إلى معرفة كانت بمعنى بعض فحملت في الإعراب على ما هي بمعناه وعادت هنا عنده إلى ما هو حق الموصول وهو البناء لأنه لما حذف صدر صلتها إزداد نقصها المعنوي وهو الإبهام والافتقار للصلة بنقص الصلة التي هي كجزئها فقويت مشابهتها للحرف، ولم يرتض كثير من العلماء ما ذهب إليه.
قال أبو عمرو الجرمي: خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحدا يقول: لأضربن أيهم قائم بالضم، وقال أبو جعفر: النحاس ما علمت أحدا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذه المسألة.
وقال الزجاج: ما تبين أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما فإنه يقول باعراب أي إذا أفردت عن الإضافة فكيف يبنيها إذا أضيفت. وقد تكلف شيخنا علاء الدين أعلا الله تعالى مقامه في عليين للذب عن سيبويه في ذلك بما لا يفي بمؤنة نقله، وقد ذكرنا بعضا منه في حواشينا على شرح القطر للمصنف.
نعم يؤيد ما ذهب إليه سيبويه من المفعولية قراءة طلحة بن مصرف. ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء. وزائدة عن الأعمش * (أيهم) * بالنصب لكنها ترد ما نقل عنه من تحتم البناء إذا أضيفت وحذف صدر صلتها، وينبغي إذا كان واقفا على هذه القراءة أن يقول بجواز الأمرين فيها حينئذ، وقال الخليل: مفعول * (ننزعن) *
موصول محذوف وأي هنا استفهامية مبتدأ وأشد خبره والجملة محكية بقول وقع صلة للموصول المحذوف أي لننزعن الذين يقال فيهم: أيهم أشد، وتعقب بأنه لا معنى لجعل * (النزع) * لمن يسأل عنه بهذا الاستفهام، وأجيب بأن ذلك مجاز عن تقارب أحوالهم وتشابهها في العتو حتى يستحق أن يسأل عنها أو المراد الذين يجاب بهم عن هذا السؤال، وحاصله لننزعن الأشد عتيا وهو مع تكلفه فيه حذف الموصول مع بعض الصلة وهو تكلف على تكلف ومثله لا ينقاس، نعم مثله في الحذف على ماقيل قول الشاعر: ولقد أبيت من الفتاة بمنزل * فأبيت لا حرج ولا محروم
وذهب الكسائي. والفراء إلى ما قاله الخليل إلا أنهما جعلا الجملة في حل نصب بننزعن، والمراد لننزعن من يقع في جواب هذا السؤال، والفعل معلق بالاستفهام، وساغ تعليقه عندهما لأن المعنى لننادين وهما
120

يريان تعليق النداء وإن لم يكن من أفعال القلوب وإلى ذلك ذهب المهدوي، وقيل: لما كان النزع متضمنا معنى الإفراز والتمييز وهو مما يلزمه العلم عومل معاملة العلم فساغ تعليقه. ويونس لا يرى التعليق مختصا بصنف من الأفعال بل سائر أصناف سواء في صحة التعليق عنده، وقيل: الجملة الاستفهامية استئنافية والفعل واقع على * (كل شيعة) * على زيادة من في الاثبات كما يراه الأخفش أو على معنى لننزعن بعض كل شيعة بجعل * (من) * مفعولا لتأويلها باسم، ثم إذا كان الاستئناف بيانيا واقعا في جواب من المنزوعون؟ احتيج إلى التأويل كأن يقال: المراد الذين يقعون في جواب أيهم أشد أو نحو ذلك، وإذا كانت أي على تقدير الاستئناف ووقوع الفعل على ما ذكر موصولة لم يحتج إلى التأويل إلى أن في القول بالاستئناف عدولا عن الظاهر من كون الكلام جملة واحدة إلى خلاف الظاهر من كونه جملتين.
ونقل بعضهم عن المبرد أن * (أيهم) * فاعل * (شيعة) * لأن معناه يشيع، والتقدير لننزعن من كل فريق يشيع أيهم هو أشد، وأي على هذا على ما قال أبو البقاء. ونقل عن الرضي بمعنى الذي، وفي " البحر " قال المبرد: أيهم متعلق بشيعة فلذلك ارتفع، والمعنى من الذي تشايعوا أيهم أشد كأنهم يتبادرون إلى هذا. ويلزمه أن يقدر مفعولا لننزعن محذوفا، وقدر أيضا في هذا المذهب من الذين تشايعوا أيهم أشد على معنى من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد، قال النحاس: وهذا قول حسن انتهى، وهو خلاف ما نقل أولا، ولعمري أن ما نسب إلى المبرد أولا وأخيرا أبرد من يخ، وقيل: إن الجملة استفهامية وقعت صفة لشيعة على معنى لننزعن من كل شيعة مقول فيهم أيهم أشد أي من كل شيعة متقاربي الأحوال، ومن مزيدة والنزع الرمي، وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول في أيهم معنى الشرط تقول: ضربت القوم أيهم غضب، والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا قال أبو حيان: فعلى هذا يكون التقدير هنا إن اشتد عتوهم أو لم يشتد انتهى وهو كما ترى، والوجه الذي ينساق إليه الذهن ويساعده اللفظ والمعنى هو ما ذهب إليه سيبويه ومدار ما ذهب إليه في أي من الأعراب والبناء هو السماع في الحقيقة، وتعليلات النحويين على ما فيها إنما هي بعد الوقوع، وعدم سماع غيره لا يقدح في سماعه فتدبر.
* (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) *
* (وإن منكم) * التفات إلى خطاب الإنسان سواء أريد منه العموم أو خصوص الكفرة لإظهار مزيد الاعتناء بمضمون الكلام. وقيل: هو خطاب للناس وابتداء كلام منه عز وجل بعدما أتم الغرض من الأول فلا التفات أصلا. ولعله الأسبق إلى الذهن لكن قيل يؤيد الأول قراءة ابن عباس. وعكرمة. وجماعة * (وإن منهم) * أي وما منكم أحد * (إلا واردها) * أي داخلها كما ذهب إلى ذلك جمع كثير من سلف المفسرين وأهل السنة، وعلى ذلك قول تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) * (الأنبياء: 98). وقوله تعالى في فرعون: * (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود) * (هود: 98).
واحتج ابن عباس بما ذكر على ابن الأزرق حين أنكر عليه تفسير الورود بالدخور وهو جحار على تقدير عموم الخطاب أيضا فيدخلها المؤمن إلا أنها لا تضره على ما قيل، فقد أخرج أحمد. والحكيم الترمذي. وابن المنذر. والحاكم وصححه. وجماعة عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن. وقال آخر: يدخلونها جميعا ثم ينجى الله تعالى الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى
121

عنه فذكرت له فقال: وأهوى بإصبعيه إلى أذنيه صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يبق بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه السلام حتى أن للنار ضجيجا من بردهم ثم ينجى الله تعالى الذين اتقوا، وقد ذكر الإمام الرازي لهذا الدخول عدة فوائد في " تفسيره " فليراجع.
وأخرج عبد بن حميد. وابن الأنباري. والبيهقي عن الحسن الورود المرور عليها من عير دخول، وروى ذلك أيضا عن قتادة وذلك بالمرور على الصراط الموضوع على متنها على ما رواه جماعة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ويمر المؤمن ولا يشعر بها بناء على ما أخرج ابن أبي شيبة. وعبد بن حميد. والحكيم. وغيرهم عن خالد بن معدان قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ربنا ألم تعدنا أن نرد النار قال: بلى ولكنكم مررتم عليها وهي خامدة، ولا ينافي هذا ما أخرجه الترمذي. والطبراني. وغيرهما عن يعلى ابن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تقول النار للمؤمن: يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي لجواز أن لا يكون متذكراهذا القول عند السؤال أو لم يكن سمعه لاشتغاله، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال في الآية: ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها وورود المشركين أن لا يدخلوها، ولا بد على هذا من ارتكاب عموم المجاز عند من لا يرى جواز استعمال اللفظ في معنيين، وعن مجاهد أن ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: " الحمى من فيح جهنم " ولا يخى خفاء الاستدلال به على المطلوب.
واستدل بعضهم على ذلك بما أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلا من أصحابه وعكا وأنه معه فقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله تعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة وفيه خفاء أيضا "؛ والحق أنه لا دلالة فيه على عدم ورود المؤمن
المحموم في الدنيا النار في الآخرة، وقصارى ما يدل عليه أنه يحفظ من ألم النار يوم القيامة، وأخرج عبد بن حميد عن عبيد بن عمير أن الورود الحضور والقرب كما في قوله تعالى: * (ولما ورد ماء مدين) * واختار بعضهم أن المراد حضورهم جاثين حواليها، واستدل عليه بما ستعلمه إن شاء الله تعالى، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى: * (أولئك عنها مبعدون) * لأن المراد مبعدون عن عذابها، وقيل: المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريبا منها * (كان) * أي ورودهم إياها * (على ربك حتما) * أمرا واجبا كما روى عن ابن عباس، والمراد بمنزلة الواجب في تحتم الوقوع إذ لا يجب على الله تعالى شيء عند أهل السنة * (مقضيا) * قضى بوقوعه البتة.
وأخرج الخطيب عن عكرمة أن معنى كان حتما مقضيا كان قسما واجبا، وروى ذلك أيضا عن ابن مسعود. والحسن. وقتادة، قيل: والمراد منه إنشاء القسم، وقيل: قد يقال: إن * (على ربك) * المقصود منه اليمين كما تقول: لله تعالى على كذا إذ لا معنى له إلا تأكد اللزوم والقسم لا يذكر إلا لمثله، وعلى ورد في كلامهم كثيرا للقسم كقوله:
على إذا ما جئت ليلى أزورها * زيارة بيت الله رجلان حافيا
فإن صيعة النذر قد يراد بها اليمين كما صرحوا به، ويجوز أن يكون المراد بهذه الجملة القسم كقولهم: عزمت عليك إلا فعلت كذا انتهى، ويعلم مما ذكر المراد من القسم فيما أخرجه البخاري. ومسلم. والترمذي. والنسائي. وابن ماجه. وغيرهم عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يموت لمسلم ثلاثة من
122

الولد فيلج النار إلا تحلة القسم.
وقال أبو عبيدة. وابن عطية وتبعهما غير واحد: إن القسم في الخبر إشارة إلى القسم في المبتدأ أعني * (وإن منكم إلا واردها) *، وصرح بعضهم أن الواو فيه للقسم، وتعقب ذلك أبو حيان بأنه لا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو قسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار وهو لا يجوز إلا أن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما في قوله: والله ما ليلى ينام صاحبه
وقال أيضا: نص النحويون على أنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو بأن وأين ذلك في الآية، وجعل ابن هشام تحلة القسم كناية عن القلة وقد شاع في ذلك، ومنه قوله كعب: تخذي على يسرات وهي لاحقة * ذوابل مسهن الأرض تحليل
فإن المعنى مسهن الأرض قليل كما يحلف الإنسان على شيء ليفعلنه فيفعل منه اليسير ليتحلل به من قسمه ثم قال: إن فيما قاله جماعة من المفسرين من أن القسم على الأصل وهو إشارة إلى قوله تعالى: * (وإن منكم إلا واردها) * الخ نظرا لأن الجملة لا قسم فيها إلا إن عطفت على الجمل التي أجيب بها القسم من قوله تعالى: * (فوربك لنحشرنهم) * إلى رخرها وفيه بعد انتهى. والخفاجي جوزا الحالية والعطف، وقال: حديث البعد غير مسموع لعدم تخلل الفاصل وهو كما ترى، ولعل الأسلم من القيل والقال جعل ذلك مجازا عن القلة وهو مجاز مشهور فيما ذكر، ولايعكر على هذا ما أخرجه أحمد. والبخاري في تاريخه. والطبراني. وغيرهم عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله تعالى متطوعا لا يأخذه سلطان لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله تعالى يقول: * (وإن منكم إلا واردها) * ".
فإن التعليل صحيح مع إرادة القلة من ذلك أيضا فكأنه قيل: لم ير النار إلا قليلا لأن الله تعالى أخبر بورود كل أحد إياها ولا بد من وقوع ما أخبر به ولولا ذلك لجاز أن لا يراها أصلا.
* (ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظ‍المين فيها جثيا) *
* (ثم ننجي الذين اتقوا) * بالإخراج منها على ما ذهب إليه الجمع الكثير * (ونذر الظالمين فيها جثيا) * على ركبهم كما روى عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة. وابن زيد، وهذه الآية ظاهرة عندي في أن المراد بالورود الدخول وهو الأمر المشترك.
وقال بعضهم: إنها دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وذلك لأن ننجي. * (ونذر) * تفصيل للجنس فكأنه قيل ننجي هؤلاء ونترك هؤلاء على حالهم الذي احضروا فيه جاثين، ولا بد على هذا من أن يكون التقدير في حواليها، وأنت تعلم أن الظاهر عدم التقدير والجثو لا يوجب ذلك، وخولف بين قوله تعالى: * (اتقوا) * وقوله سبحانه: * (الظالمين) * ليؤذن بترجيح جانب الرحمة وأن التوحيد هو المنجي والإشراك هو المردى فكأنه قيل: ثم ننجي من وجد منه تقوى ما وهو الاحتراز من الشرك ونهلك من اتصف بالظلم أي بالشرك وثبت عليه، وفي إيقاع * (نذر) * مقابلا لننجي إشعار بتلك اللطيفة أيضا، قال الراغب: يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة اعتداده به. ومن ذلك قيل لقطعة اللحم التي لا يعتد بها وذر، وجيء بثم للإيذان بالتفاوت بين فعل الخلق وهو ورودهم النار وفعل الحق سبحانه وهو النجاة والدمار زمانا ورتبة قاله العلامة الطيبي طيب
123

الله تعالى ثراه، والذي تقتضيه الآثار الواردة في عصاة المؤمنين أن يقال: إن التنجية المذكورة ليست دفعية بل تحصل أولا فأولا على حسب قوة التقوى وضعفها حتى يخرج من النار من في قلبه وزن ذرة من خير وذلك بعد العذاب حسب معصيته وما ظاهره من الأخبار كخبر جابر السابق إن المؤمن لا تضره النار مؤول بحمل المؤمن على المؤمن الكامل لكثرة الأخبار الدالة على أن بعض المؤمنين يعذبون.
ومن ذلك ما أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله تعالى عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمما ثم
تدركهم الرحمة فيخرجون فيطرحون على أبواب الجنة فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغناء في حميل السيل " ومن هنا حظر بعض العلماء أن يقال في الدعاء: اللهم اغفر لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم جميع ذنوبهم أو اللهم لا تعذب أحدا من أملا محمد صلى الله عليه وسلم هذا، وقال بعضهم: إن المراد من التنجية على تقدير أن الخطاب خاص بالكفرة أن يساق الذين اتقوا إلى الجنة بعد أن كانوا على شفير النا، ر وجيء بثم لبيان التفاوت بين ورود الكافرين النار وسوق المذكورين إلى الجنة وأن الأول للإهانة والآخر للكرامة، وأنت تعلم أن الذين يذبه بهم إلى الجنة من الذين اتقوا من غير دخول في النار أصلا ليسوا إلا الخواص. والمعتزلة خصوا الذين اتقوا بغير أصحاب الكبائر وأدخلوهم في الظالمين واستدلوا بالآية على خلودهم في النار وكانوا ظالمين.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وابن مسعود. وأبي رضي الله تعالى عنهم. والجحدري. ومعاوية بن قرة. ويعقوب * (ثم) * بفتح الثاء أي هناك. وابن أبي ليلى * (ثمه) * بالفتح مع هاء السكت وهو ظرف متعلق بما بعده. وقرأ يحيى. والأعمش. والكسائي. وابن محصين. ويعقوب * (ننجي) * بتخفيف الجيم. وقرىء * (ينجي) * وينجي بالتشديد والتخفيف مع البناء للمفعول، وقرأت فرقة * (نجى) * بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه * (ننحى) * بحاء مهملة، وهذه القراءة تؤيد بظاهرها تفسير الورود بالقرب والحضور.
* (وإذا تتلى عليهم ءاي‍اتنا بين‍ات قال الذين كفروا للذين ءامنوا أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) *
* (وإذا تتلى عليهم) * الآية إلى آخرها حكاية لما قالوا عند سماع الآيات الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم أي وإذا تتلى على المشركين * (ءاياتنا) * التي من جملتها الآيات السابقة * (بينات) * أي ظاهرات الإعجاز تحدي بها فلم يقدر على معارضتها أو مر تلات الألفاظ ملخصات المعنى مبينات المقاصد إما محكمات أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا، والوجه كما في " الكشاف " أن يكون * (بينات) * حالا مؤكدة لمضمون الجملة وإن لم يكن عقدها من اسمين لأن المعنى عليه.
وقرأ أبو حيوة. والأعرج. وابن محيصن * (وإذا يتلى) * بالياء التحية لأن المفروع مجازي التأنيث مع وجود الفاصل * (قال الذين كفروا) * أي قالوا. ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يتلى عليهم رادين له أو قال الذين مردوا منهم على الكفر وأصروا على العتو والعناد وهم النضر بن الحرث وأتباعه الفجرة فإن الآية نزلت فيهم. واللام في قوله تعالى: * (للذين ءامنوا) * للتبليغ كما في قلت له كذا إذا خاطبته به، وقيل لام الأجل أي قالوا لأجلهم وفي حقهم، ورجح الأول بأن قولهم ليس في
124

حق المؤمنين فقط كما ينطق به قوله تعالى: * (أي الفريقين) * أي المؤمنين والكافرين كأنهم قالوا: أينا * (خير) * نحن أو أنتم * (مقاما) * أي مكانا ومنزلا، وأصله موضع القيام ثم استعمل لمطلق المكان. وقرأ ابن كثير. وابن محيصن. وحميد. والجعفي. وأبو حاتم عن أبي عمرو * (مقاما) * بضم الميم وأصله موضع الإقامة، والمراد به أيضا المنزلة والمكان فتتوافق القراءتان.
وجوز في البحر احتمال المفتوح والمضمون للمصدرية على أن الأصل مصدر قام يقوم، والثاني مصدر أقام يقيم، ورأيت في بعض المجموعات كلاما ينسب لأبي السعود عليه الرحمة في الفرق بين المقام بالفتح والمقام بالضم وقد سأله بعضهم عن ذلك بقوله: يا وحيد الدهر يا شيخ الأنام * نبتغي فرق المقام والمقام
وهو أن الأول يعني المفتوح الميم موضع قيام الشيء أعم من أن يكون قيامه فيه بنفسه أو بإقامة غيره ومن أن يكون ذلك بطريق المكث فيه أو بدونه، والثاني موضع إقامة الغير إياه أو موضع قيامه بنفسه قياما ممتدا، فإن كان الفعل الناصب ثلاثيا فمقتضى المقام هو الأول، وكذا إن كان رباعيا ولم يقصد بيان كون المقام موضع قيام المضاف إليه بإقامة غيره أو موضع قيامه الممتد، وأما إذا قصد ذلك فمقتضاه الثاني كما إذا قلت: أقيمت تاء القسم مقام الواو تنبيها على أنها خلف عن الباء التي هي الأصل من أحرم القسم.
ومقامات الكلمات كلها وإن كانت منوطة بوضع الواضع لكن مقامها المنوط بأصل الوضع لكونه مقاما أصليا لها قد نزل منزلة موضع قيامها بأنفسها وجعل مقامها المنوط بالاستعمال الطارىء جاريا مجرى المقام الاضطراري لذوات الاختيار، هذا إذا كان المقام ظرفا أو إذا كان مصدرا ميميا والفعل الناصب رباعي فحقه ضم الميم انتهى المراد منه.
وأنت تعلم أنه في هذا المقام ليس منصوبا على الظرفية ولا على المصدرية بل منصوب على التمييز وهو محول عن المبتدأ على ما قيل: أي الفريقين مقامه خير * (وأحسن نديا) * أي مجلسا ومجتمعا، وفي " البحر " هو المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة. وقيل: مجلس أهل الندى أي الكرم. وكذا النادي يروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنونها ويتطيبون ويلبسون مفاخر الملابس ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين الذين لا يقدرون على ذلك إذا تليت عليهم الآيات، قال الإمام: ومرادهم من ذلك معارضة المؤمنين كأنهم قالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل كان حالكم في ألدنيا أحسن وأطيب من حالنا لأن الحكيم لا يليق به أن يوق أولياءه المخلصين في العذاب والذل وأعءاه المعرضين عن خدمته في العز والراحة لكن الكفار كانوا في النعمة والراحة والمؤمنين كانوا بعكس ذلك فعلم أن الحق ليس مع المؤمنين، وهذا مع ظهور أنه قياس عقيم ناشيء من رأسي سقيم نقضه الله تعالى وأبطله بقوله سبحانه:
* (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا) *
* (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا) *.
وحاصلة أن كثرا ممن كان أعظم نعمة منكم في الدنيا كعاد وثمود. واضرابهم من الأمم العاتية قد أهلكهم الله تعالى فلو دل حصول نعمة الدنيا للإنسان على كونه مكرما
عند الله تعالى وجب أن لا يهلك أحدا من المتنعمين في الدنيا، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى كأنه قيل فلينظر هؤلاء أيضا مثل ذلك، و * (كم) * خبرية للتكثير مفعول
125

* (أهلكنا) *، وقدمت لصدارتها، وقيل: استفهامية والأول هو الظاهر و * (من قرن) * بيان لإبهامها. والقرن أهل كل عصر، وقد اختلف في مدته وهو من قرن الدابة سمي به لنقدمه، ومنه قرن الشمس لأول ما يطلع منها. و * (هم أحسن) * في حيز النصب على ما ذهب إليه الزمخشري وتبعه أبو البقاء صفة لكم ورده أبو حيان بأنه قد صرح الأصحاب بأن كم سواء كان خبرية أو استفهامية لا توصف ولا يوصف بها، وجعله صفة * (قرن) * وضمير الجمع لاشتمال القرن على أفراد كثيرة ولو أفرد الضمير لكان عربيا أيضا. ولا يرد عليه كما قال الخفاجي: كمن من رجل قام وكم من قرية هلكت بناء على أن الجار والمجرور يتعين تعلقه بمحذوف هو صفة لكم كما ادعى بعضهم أن الرضى أشار إليه لأنه يجوز في الجار والمجرور أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف والجملة مفسرة لا محل لها من الإعراب فما ادعى غير مسلم عنده، و * (أثاثا) * تمييز وهو متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها واحدها أثاثة، وقيل: لا واحد لها وقيل: الأثاث ماجد من المتاع والخرثي ما قدم وبلى، وأنشد الحسن بن علي الطوسي: تقادم العهد من أم الوليد بنا * دهرا وصار أثاث البيت خريثا
والرئى المنظر كما قال ابن عباس. وغيره، وهو فعل بمعنى مفعول من الرؤية كالطحن والسقي. وقرأ الزهري. وأبو جعفر. وشيبة. وطلحة في رواية الهمداني. وأيوب. وابن سعدان. وابن ذكوان. وقالون * (ريا) * بتشديد الياء من غير همز فاحتمل أن يكون من ذلك على قلب الهمزة ياء وإدغامها. واحتمل أن يكون من الري ضد العطش والمراد به النضارة والحسن. وقرأ أبو بكر في رواية الأعمش * (ريئا) * بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب ووزنه فلعا، وقرىء * (رياء) * بيداء بعدها ألف بعدها همزة حكاها اليزيدي. ومعناها كما في " الدر المصون " مراءاة بعضهم بعضا.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما * (ريا) * بحذف الهمزة والقصر فتجاسر بعض الناس وقال: هي لحز، وليس كذلك بل خرجت على وجهين أحدهما أن يكون الأصل * (ريا) * بتشديد الياء فخفف بحذف إحدى الياءين وهي الثانية لأنها التي حصل بها الثقل ولأن الآخر محل التغيير وذلك كما حذفت في لا سيما. والثاني أن يكون الأصل * (ريئا) * بياء ساكنة بعدها همزة فنقلت حركة الهمزة إلى الياء ثم حذفت على القاعدة المعروفة.
وقرأ ابن عباس أيضا. وابن جبير. ويزيد البربري. والأعصم المكي * (زيا) * بالزاي وتشديد الياء وهو المحاسن المجموعة يقال: زواه زيا بالفتح أي جمعه، ويراد منه الأثاث أيضا كما ذكره المبرد في قول الثقفي: أشاقتك الظعائن يوم بانوا * بذي الزي الجميل من الأثاث
والظاهر في الآية المعنى الأولى.
* (قل من كان فى الضل‍الة فليمدد له الرحم‍ان مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا) *
* (قل من كان في الضلالة) * الخ أمر منه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لهم من الحظوظ الدنيوية على المؤمنين ببيان مآل أمر الفريقين إما على وجه كلي متناول لهم ولغيرهم من المنهمكين في اللذة الفانية المبتهجين بها على أن من على عممها، وإما على وجه خاص بهم على أنها عبارة عنهم. ووصفهم بالتمكن في الضلالة لذمهم والاشعار بعلة الحكم أي من كان مستقرا في الضلالة مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور * (فليمدد له الرحم‍ان مدا) * أي يمد سبحانه له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال والتمكن من التصرفات فالطلب في معنى الخبر، واختير للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة لقطع المعاذير كما ينبىء عنه قوله تعالى: * (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) * (فاطر: 37) فيكون حاصل
126

المعنى من كان في الضلالة فلا عذر له فقد أمهله الرحمن ومد له مدا، وجوز أن يكون ذلك للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى: * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) * (آل عمران: 178) وحاصل المعنى من كان في الضلالة فعاده الله تعالى أن يمد له ويستدرجه ليزداد إثما، وقيل: المراد الدعاء بالمد إظهارا لعدم بقاء عذر بعد هذا البيان الواضح فهو على أسلوب * (ربنا ليضلوا عن سبيلك) * (يونس: 88) إن حمل على الدعاء، قال في " الكشف ": الوجه الأول أوفق بهذا المقام، والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المدمن أحكامها * (حتى إذا رأوا ما يوعدون) * إلى آخرها غاية للمد وجمع الضمير في الفعلين باعتبار معنى من كما أن الأفراد في الضميرين الأولين باعتبار لفظها، وما اسم موصول والجملة بعده صلة والعائد محذوف أي الذي يوعدونه، واعتبار ما مصدرية خلاف الظاهر.
وقوله تعالى: * (إما العذاب وإما الساعة) * بدل من * (ما) * وتفصيل للموعود على طريقة منع الخلو، والمراد بالعذاب الدنيوي بغلبة المؤمنين واستيلائهم عليهم، والمراد بالساعة قيل: يوم القيامة وهو الظاهر.
وقيل: ما يشمل حين الموت ومعاينة العذاب ومن مات فقد قامت قيامته وذلك لتتصل الغاية بالمغيا فإن المد لا يتصل بيوم القيامة، وأجيب بأن أمر الفاصل سهل لأن أمور هذه الدنيا لزوالها وتقضيها لا تعد فاصلة كما قيل: ذلك في قوله تعالى: * (أغرقوا فادخلوا نارا) * (نوح: 25) وقوله تعالى: * (فسيعلمون) * جواب الشرط وهما في الحقيقة الغاية إن قلنا: إن المجموع هو الكلام أو مفهومه فقط إن قلنا: إنه هو الكلام والشرط قيد له، و * (حتى) * عند ابن مالك جارة وهي لمجرد الغاية لا جارة ولا عاطفة عند الجمهور وهكذا هي كلما دخلت على إذا الشرطية وهي منصوبة بالشرط أو الجزاء على الخلاف المشهور، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والمراد حتى إذا عاينوا ما يوعدون من العذاب الدنيوي أو الأخروي فقط فسيعلمون حينئذ * (من هو شر مكانا) * من الفريقين بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يقدرونه فيعلمون أنهم شر مكانا لا خير مقاما، وفي التعبير بالمكان هنا دون المقام المقبر به هناك مبالغة في إظهار سوء حالهم * (وأضعف جندا) * أي فئة وأنصارا لا أحسن نديا، ووجه التقابل أن حسن الندى باجتماع وجوه القوم وأعيانهم وظهور شوكتهم واستظهارهم.
وقيل: إن المراد من الندى هناك من فيه كما يقال المجلس العالي للتعظيم وليس المراد أن له ثمة جندا ضعيفا كلا * (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا) * (الكهف: 43) وإنما ذكر ذلك ردا لما كانوا يزعمونه من أن لهم أعوانا من شركائهم، والظاهر أن من موصولة وهي في محل نب مفعول * (يعلمون) * وتعدى إلى واحد لأن العلم بمعنى المعرفة، وجملة * (هو شر) * صلة الموصول. وجوز أبو حيان كونها استفهامية والعلم على بابه والجملة في موضع نصب سادة مسد المفعولين وهو عند أبي البقاء فصل لا مبتدأ.
وجوز الزمخشري وظاهر صنيعه اختياره أن يكون ما تقدم غاية لقول الكفرة أي الفريقين * (خير) * الخ.
وقوله تعالى: * (كم أهلكنا) * الخ * (وقل من كان) * الخ جملتان معترضتان للإنكار عليهم أي لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عن أما العذاب في الدنيا بأيدي المؤمنين وإما يوم القيامة وما ينالهم فيهم من الخزي والنكال فحينئذ يعلمون أن الأمر على عكس ما قدروه وتعقبه في البحر بأنه في غاية البعد لطول الفصل بين الغاية والمغيا مع أن الفصل بجملتي اعتراض فيه
127

خلاف أبي علي فإنه لا يجيزه، وأنت تعلم أيضا بعد إصلاح أمر انقطاع القول حين الموت وعدم امتداده إلى يوم القيامة أن اعتبار استمرار القول وتكرره لا يتم بدون اعتبار استمرار التلاوة لوقوع القول في حيز جواب إذا وهو كما ترى.
* (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والبقي‍ات الص‍الح‍ات خير عند ربك ثوابا وخير مردا) *
* (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) * كلام مستأنف سيق لبيان حال المهتدين إثر بيان حال الضالين كما اختاره أبو السعود، واختار الزمخشري وتبعه أبو البقاء أنه عطف على موضع * (فليمدد) * الخ ولم يجوزه أبو حيان سواء كان * (فليمدد) * دعاء أو خبرا في صورة الطلب لأنه في موضع الخبر إن كانت من موصولة، وفي موضع الجزاء أن كانت شرطية وموضع المعطوف موضع المعطوف عليه والجملة التي جعلت معطوفة خالية من ضمير يربط الخبر بالمبتدأ والجواب بالشرط، وقيل عليه أيضا: إن العطف غير مناسب من جهة المعنى كما أنه غير مناسب من جهة الإعراب إذ لا يتجه أن يقال: من كان في الضلالة يزيد الله الذي اهتدوا هدى. وأجيب عن هذا بأن المعنى من كان في الضلالة زيد في ضلالته وزيد في هداية أعدائه لأنه مما يغيظه وعما سبق بأن من شرطية لا موصولة. واشتراط ضمير يعود من الجزاء على اسم الشرط غير الظرف ممنوع وهو غير متفق عليه عند النحاة كما في " الدر المصون " مع أنه مقدر كما سمعت ولا يخفى أن هذا العطف لا يخلو عن تكلف، واختار البيضاوي أنه عطف على مجموع قوله تعالى: * (من كان في الضلالة فليمدد) * الخ ليتم التقابل فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يجيبهم عن قولهم للمؤمنين أي الفريقين الخ فليأت بذكر القسمين أصالة. قال الطيبي: فكأنه قيل: من كان في الضلالة من الفريقين فليمهله الله تعالى وينفس في مدة حياته ليزيد في الغي ويجمع الله تعالى له عذاب الدارين ومن كان في الهداية منهما يزيد الله تعالى هدايته فيجمع سبحانه له خير الدارين. وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم وفيه معنى قول حسان: أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخير كما فداء
في الدعاء والاحتراز عن المواجهة، وفي " الكشف " أن هذا أولى مما اختاره الزمخشري * (والباقيات الصالحات) * قد تقدمت الأقوال المأثورة في تفسيرها، واختير أنها الطاعات التي تبقى فوائدها وتدوم عوائدها لعموم وكلها * (خير عند ربك ثوابا) * بمعناه المتعارف، وقيل: عائدة مما متع به الكفرة من النعم المخدجة الفنية التي يفتخرون بها * (وخير) * من ذلك أيضا * (مردا) * أي مرجعا وعاقبة لأن عاقبتها المسرة الأبدية والنعيم المقيم وعاقبة ذلك الحسرة السرمدية والعذاب الأليم. وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من اللطف والتشريف ما لا يخفى. وتكرير الخير لمزيد الاعتناء ببيان الخيرية وتأكيد لها. وفي الآية على ما ذكره الزمخشري ضرب من التهجم بالكفرة حيث أشارت إلى تسمية جزائهم ثوابا. والمفاضلة على ما قال على طريقة - الصيف أحر من الشتاء - أي أبلغ في حره من الشتاء في برده وليست على التهمكم لأنك لو قلت: النار خير من الزمهرير أو بالعكس تهكما كان التهكم على بابه في المفضل والمفضل عليه وذلك مما لا يتمش فيما نحن فيه. وحاصل ما أراده أن المراد ثواب هؤلاء أبلغ من ثواب أولئك أي عقابهم. وقول " صاحب التقريب " فيه: إنه غير معلوم جوابه كيف لا وقد سبقت الرحمة الغضب وفي الجنة من الضعف والافضال
128

ما لا يقادر قدره والنار من عدله تعالى، وقوله: إنه غير مناسب لمقام التهديد مع ما فيه من المنع يرد عليه أن الكلام مبني على التقابل وأنه على المشاكلة في قولهم: * (أي الفريقين خير مقاما) * (مريم: 73) وأحسن نديا فوعد هؤلاء ليس لمجرد تهديد أولئك بل مقصود لذاته قاله في " الكشف ".
وقال صاحب الفرائد: ما قاله الزمخشري بعيد عن الطبع والاستعمال وليس في كلامهم ما يشهد له، ويمكن أن يقال: المراد ثواب الأعمال الصالحة في الآخرة خير من ثوابهم في الدنيا وهو ما حصل لهم منها من الخير بزعمهم ومما أوتوا من المال والجاه والمنافع الحاصلة منهما اه‍، ورد إنكاره له بأن الزجاج ذكره في قوله تعالى: * (أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون) * (الفرقان: 15) وأن له نظائر. والبعد عن الطبع في حيز المنع.
وقال بعض المحققين: إن أفعل في الآية للدلالة على الاتصاف بالحدث وعلى الزيادة المطلقة كما قيل في يوسف عليه السلام أحسن إخوته وهي إحدى حالاته الأربع التي ذكرها بعض علماء العربية، فالمعنى أن ثوابهم ومردهم متصف بالزيادة في الخيرية على المتصف بها بقطع النظر عن هؤلاء المفتخرين بدنياهم فلا يلزم مشاركتهم في الخيرية فتأمل. والجملة على ما ذهب إليه أبو السعود على تقديري الاستئناف والعطف فيما قبلها مستأنفة واردة من جهته تعالى لبيان فضل أعمال المهتدين غير داخلة في حيز الكلام الملقن لقوله سبحانه: * (عند ربك) *، وقال العلامة الطيبي: الذي يقتضيه النظم الكريم أن هذه الجملة تتميم لمعنى قوله سبحانه: * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) * (مريم: 76) ومشتملة على تسلية قلوب المؤمنين مما عسى أن يختلج فيها من مفاخرة الكفرة شيء كما أن قوله تعالى: * (حتى إذا رأوا - إلى -
جندا) * (مريم: 75) تتميم لوعيدهم، وكلاهما من تتمة الأمر بالجواب عن قولهم: * (أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) *، وجعل التعبير بخير واردا على طريق المشاكلة. وما ذكره من كون ذلك من تتمة الجواب هو المنساق إلى الذهن إلا أن ظاهر الخطاب يأباه وقد يتكلف له، ولعلنا قد أسلفنا في هذه السورة ما ينفعك في أمره فتذكر.
* (أفرأيت الذى كفر بااي‍اتنا وقال لاوتين مالا وولدا) *
* (أفرأيت الذي كفر بآياتنا) * أي بآياتنا التي من جملتها آيات البعث. أخرج البخاري. ومسلم. والترمذي. والطبراني. وابن حبان. وغيرهم عن خباب بن الأرت قال: كنت رجلا قينا وكان لي على العاصي بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك فأنزل الله تعالى: * (أفرأيت) * الخ.
وفي رواية أن خبابا قال له لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حيا ولا ميتا ولا إذا بعثت فقال العاصي: فإذا بعثت جئتني الخ، وفي رواية أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوه يتقاضون دينا لهم عليه فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا ومن كل الثمرات؟ قالوا: بلى قال: موعدكم الآخرة والله لأوتين مالا وولدا ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به فنزلت، وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، وقد كانت له أقوال تشبه ذلك، وقال أبو مسلم: هي عامة في كل من له هذه الصفة، والأول هو الثابت في كتب الصحيح، والهمزة للتعجيب من حال ذلك الكافر والإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يجب أن ترى ويقضي منها العجب، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنظرت فرآيت الذي كفر بآياتنا الباهرة التي حقها أن يؤمن بها كل من وقف عليها * (وقال) *
129

مستهزأ بها مصدرا كلامه باليمين الفاجرة والله * (لأوتين) * في الآخرة واردة في الدنيا كما حكاه الطبرسي عن بعضهم تأباه الأخبار الصحيحة إلا أن يحمل الإيتاء على ما قيل على الإيتاء المستمر إلى الآخرة أي لأوتين إيتاء مستمرا * (مالا وولدا) * والمراد انظر إليه فتعجب من حالته البديعة وجرأته الشنيعة، وقيل: إن الرؤية مجاز عن الإخبار من إطلاق السبب وإرادة المسبب، والاستفهام مجاز عن الأمر به لأن المقصود من نحو قولك: ما فعلت أخبرني فهو إنشاء تجوز به عن إنشاء آخر والفاء على أصلها.
والمعنى أخبر بقصة هذا الكافر عقيب حديث أولئك الذين قالوا: * (أي الفريقين خير مقاما) * (مريم: 73) الآية، وقيل: عقيب حديث من قال: * (أئذا ما مت) * الخ، وما قدمنا في معنى الآية هو الأظهر واختاره العلامة أبو السعود.
وتعقب الثاني بقوله: أنت خبير بأن المشهور استعمال * (أرأيت) * في معنى أخبرني بطريق الاستفهام جاريا على أصله أو مخرجا إلى ما يناسبه من المعاني لا بطريق الأمر بالإخبار لغيره وإرادة أخبرني هنا مما لا يكاد يصح كما لا يخفى.
وقيل: المراد لأوتين في الدنيا ويأباه سبب النزول، قال العلامة: إلا أن يحمل على الإيتاء المستمر إلى الآخرة فحينئذ ينطبق على ذلك. وقرأ حمزة. والكسائي. والأعمش. وطلحة. وابن أبي ليلى. وابن عيسى الأصبهاني * (ولدا) * بضم الواو وسكون اللام فقيل: هو جمع ولد كأسد وأسد وأنشدوا له قوله: ولقد رأيت معاشرا * قد ثمروا مالا وولدا
وقيل هو لغة في ولد كالعرب والعرب، وأنشدوا له قوله: فليت فلانا كان في بطن أمه * وليت فلانا كان ولد حمار
والحق أنه ورد في كلام العرب مفردا وجمعا وكلاهما صحيح هنا. وقرأ عبد الله. ويحيى بن يعمر * (ولدا) * بكسر الواو وسكون اللام وهو بمعنى ذلك، وقوله تعالى:
* (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحم‍ان عهدا) *
* (أطلع الغيب) * رد لكلمته الشنعاء وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إليه بالتعجيب منها، فالجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وقيل: إنها في محل نصب واقعة موقع مفعول ثان لأرأيت على أنه بمعنى أخبرني وهو كما ترى، والهمزة للاستفهام، والأصل أأطلع فحذفت همزة الوصل تخفيفا، وقرىء * (أطلع) * بكسر الهمزة وحذف همزة الاستفهام لدلالة أم عليها كما في قوله: بسبع رمين الجمر أم بثمان
والفعل متعد بنفسه وقد يتعدى بعلى وليس بلازم حتى تكون الآية من الحذف والإيصال، والمراد من الطلوع الظهور على وجه العلو والتملك ولذا اختير على التعبير بالعلم ونحوه أي أقد بلغ من عظمة الشأن إلى أن ارتقى علم الغيب الذي استأثر به العليم الخبير جل جلاله حتى ادعى علم أن يؤتى في الآخرة مالا وولد وأقسم عليه، وعن ابن عباس أن المعنى أنظر في اللوح المحفوظ * (أم اتخذ عند الرحم‍ان عهدا) * قال لا إله إلا الله يرجو بها ذلك، وعن قتادة العهد العمل الصالح الذي وعد الله تعالى عليه الثواب، فالمعنى أعلم الغيب أم عمل عملا يرجو ذلك في مقابلته. وقال بعضهم: العهد على ظاهره. والمعنى أعلم الغيب أم أعطاه الله تعالى عهدا وموثقا وقال له: إن ذلك كائن لا محالة.
ونقل هذا عن الكلبي، وهذه مجاراة مع اللعين بحسب منطوق مقاله كما أن كلامه كذلك، والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بعلية الرحمة لإيتاء ما يدعيه.
* (كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا) *
* (كلا) * ردع وزجر عن التفوه بتلك العظيمة، وفي ذلك تنبيه
130

على خطئه. وهذا مذهب الخليل. وسيبويه. والأخفش. والمبرد. وعامة البصريين في هذا الحرف وفيه مذاهب لعلنا نشير إليها إن شاء الله تعالى، وهذا أول موضع
وقع فيه من القرآن، وقد تكرر في النصف الأخير فوقع في ثلاثة وثلاثين موضعا ولم يجوز أبو العباس الوقف عليه في موضع.
وقال الفراء: هو على أربعة أقسام، أحدها: ما يحسن الوقف عليه ويحسن الابتداء به. والثاني: ما يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء به، والثالث: ما يحسن الابتداء به ولا يحسن الوقف عليه، والرابع: ما لا يحسن فيه شيء من الأمرين، أما القسم الأول ففي عشرة مواضع ما نحن فيه وقوله تعالى: * (ليكونوا لهم عزا * كلا) * (مريم: 81، 82) وقوله سبحانه: * (لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا) * (المؤمنون: 100) وقوله عز وجل: * (الذين ألحقتم به شركاء كلا) * (سبأ: 27) وقوله تبارك وتعالى: * (أن يدخل جنة نعيم * كلا) * (المعارج: 38، 36) وقوله جل وعلا: * (أن أزيد * كلا) * (المدثر: 15، 16) وقوله عز اسمه: * (صحفا منشرة * كلا) * (المدثر: 52، 53) وقوله سبحانه وتعالى: * (ربي أهانن * كلا) * (الفجر: 16، 17) وقوله تبارك اسمه: * (أن ماله أخلده * كلا) * (الهمزة: 3، 4) وقوله تعالى شأنه: * (ثم ننجيه * كلا) * (المعارج: 14، 15) فمن جعله في هذه المواضع ردا لما قبله وقف عليه ومن جعله بمعنى ألا التي للتنبيه أو بمعنى حقا ابتدأ به وهو يحتمل ذلك فيها، وأما القسم الثاني ففي موضعين قوله جل جلاله حكاية * (فأخاف أن يقتلون * قال كلا) * (الشعراء: 14، 15) وقوله عز شأنه: * (إنا لمدركون * قال كلا) * (الشعراء: 61، 62) وأما الثالث ففي تسعة عشر موضعا قوله تعالى شأنه: * (كلا إنها تذكرة) * (المدثر: 54) * (كلا والقمر) * (المدثر: 32) * (كلا بل تكذبون بالدين) * (الانفطار: 9) * (كلا إذا بلغت التراقي) * (القيامة: 26) * (كلا لا وزر) * (القيامة: 11) * (كل بل تحبون العاجلة) * (القيامة: 20) * (كلا سيعلمون) * (النبأ: 4) * (كلا لما يقض ما أمره) * (عبس: 23) * (كلا بل ران على قلوبهم) * (المطففين: 14) * (كلا بل لا تكرمون اليتيم) * (الفجر: 17) * (كلا إن كتاب الفجار) * (المطففين: 7) * (كلا إن كتاب الأبرار) * (المطففين: 18) * (كلا إنهم عن ربهم) * (المطففين: 15) * (كلا إذا دكت الأرض) * (الفجر: 21) * (كلا إن الإنسان ليطغى) * (العلق: 6) * (كلا لئن لم ينته) * (العلق: 15) * (كلا لا تطعه) * (العلق: 19) * (كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون) * (التكاثر: 4، 5) لأنه ليس للرد في ذلك، وأما القسم الرابع ففي موضعين * (ثم كلا سوف تعلمون) * (التكاثر: 4) * (ثم كلا سيعلمون) * (النبأ: 5) فإنه لا حسن الوقف على ثم لأنه حرف عطف ولا على كلا لأن الفائدة فيما بعد، وقال بعضهم: إنه يحسن الوقف على كلا في جميع القرآن لأنه بمعنى انته إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى: * (كلا والقمر) * لأن موصول باليمين بمنزلة قولك أي وربي * (سنكتب ما يقول) * أي سنظهر إنا كتبنا قوله كقوله: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة * ولم تجدي من أن تقري به بدا
أي إذا انتسبنا علمت وتبين أني لست بابن لئيمة أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة الجاني وحفظها عليه فإن نفس كتبة ذلك لا تكاد تتأخر عن القول لقوله تعالى: * (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) * (ق: 18) وقوله سبحانه جل وعلا: * (ورسلنا لديهم يكتبون) * (الزخرف: 80) فمبنى الأول تنزيل إظهار الشيء الخفي منزلة إحداث الأمر المعدوم بجامع أن كلا منهما إخراج من الكمون إلى البروز فيكون استعارة تبعية مبنية على تشبيه إظهار الكتابة على رؤوس الأشهاد بإحداثها ومدار الثاني تسمية الشيء باسم سببه فإن كتبة جريمة المجرم سبب لعقوبته قطعا قاله أبو السعود، وقيل: إن الكتابة في المعنى الثاني استعارة للوعيد بالانتقام وفيه خفاء، وقال بعضهم: لا مجاز في الآية بيد أن السين للتأكيد، والمراد نكتب في الحال ورد بأن السين إذا أكدت فإنما تؤكد الوعد أو الوعيد وتفيع أنه كائن لا محالة في المستقبل. وأما إنها تؤكد ما يراد به الحال فلا كذا قيل: فليراجع.
وقرأ الأعمش * (سيكتب) * بالياء التحتية والبناء للمفعول والبناء للمفعول وذكرت عن عاصم * (ونمد له من العذاب مدا) * مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد أي نطول له من العذاب ما يستحقه أو نزيد عذابه ونضاعفه
131

له من المدد يقال: مده وأمده بمعنى، وتدل عليه قراءة علي كرم الله تعالى وجهه * (ونمد) * بالضم وهو بهذا المعنى يجوز أن يستعمل باللام وبدونها ومعناه على الأول نفعل المدله وهو أبلغ من نمده وأكد بالمصدر إيذانا بفرط غضب الله تعالى عليه لكفره وافترائه على الله سبحانه واستهزائه بآياته العظام نعوذ بالله عز وجل مما يستوجب الغضب.
* (ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) *
* (ونرثه ما يقول) * أي نسلب ذلك ونأخذه بموته أخذ الوارث ما يرثه، والمراد بما يقول مسماه ومصداقه وهو ما أوتيه في الدنيا من المال والولد يقول الرجل: أنا أملك كذا فتقول: ولي فوق ما تقول، والمعنى على المضي وكذا في يقول السابق، وفيه إيذان بأنه ليس لما قال مصداق موجود سوى ما ذكر، وما إما بدل من الضمير بدل اشتمال وإما مفعول به أي نرث منه ما آتيناه في الدنيا * (ويأتينا) * يوم القيامة * (فردا) * لا يصحبه مال ولا ولد كان له فضلا أي يؤتى ثمة زائدا، وفي حرف ابن مسعود * (ونرثه ما عنده ويأتينا فردا لا مال له ولا ولد) * وهو ظاهر في المعنى المذكور، وقيل: المعنى نحرمه ما زعم أنه يناله في الآخرة من المال والولد ونعطيه لغيره من المستحقين، وروي هذا عن أبي سهل، وتفسير الإرث بذلك تفسير باللازم و * (ما يقول) * مراد منه مسماه أيضا والولد الذي يعطى للغير ينبغي أن يكون ولد ذلك الغير الذي كان له في الدنيا وإعطاؤه إياه بأن يجمع بينه وبينه حسبما يشتهيه وهذا مبني على أنه لا توالد في الجنة.
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال جمع: منهم مجاهد. وطاوس. وإبراهيم النخعي: بعدم التوالد احتجاجا بما في حديث لفيط رضي الله تعالى عنه الطويل الذي عليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادي على صحته، وقال فيه أبو عبد الله بن منده لا ينكره إلا جاحد أو جاهل، وقد خرجه جماعة من أئمة السنة من قوله: قلت يا رسول الله أولنا فيها أزواج أو منهن مصلحات؟ قال صلى الله عليه وسلم: " المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا تتوالد "، وبما روي عن
أبي ذر العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد " وقالت فرقة بالتوالد احتجاجا بما أخرجه الترمذي في جامعه عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي " وقال حسن غريب، وبما أخرجه أبو نعيم عن أبي سعيد أيضا قيل يا رسول الله أيولد لأهل الجنة فإن الولد من تمام السرور؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " نعم والذي نفسي بيده وما هو إلا كقدر ما يتمنى أحدكم فيكون حمله ورضاعه وشبابه " وأجابت عما تقدم بأن المراد نفى أن يكون توالد أو ولد على الوجه المعهود في الدنيا. وتعقب ذلك بأن الحديث الأخير ضعيف كما قال البيهقي.
والحديث الأول قال فيه السفاريني: أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي. وقد اضطرب لفظه فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة إن الرجل من أهل الجنة ليولد له وإذا قلنا بأن له على الرواية السابقة سندا حسنا كما أشار إليه الترمذي فلقائل أن يقول: إن فيه تعليقا بالشرط وجاز أن لا يقع، وإذا وإن كانت ظاهرة في المحقق لكنها قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم. وأما الجواب عن الحديثين السابقين بما مر فأوهن من بيت العنكبوت كما لا يخفى، وبالجملة المرجح عند الأكثرين عدم التوالد ورجح ذلك السفاريني بعشرة أوجه لكن للبحث في أكثرها
132

مجال والله تعالى أعلم. وقيل: المراد بما يقول نفس القول المذكور لا مسماه، والمعنى إنما يقول هذا القول ما دام حيا فإذا فبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضا له مفرد عنه.
وتعقب بأن هذا مبني على صدور القول المذكور عنه بطريق الاعتقاد وأنه مستمر على التفوه به راج لوقوع مضمونه ولا ريب في أن ذلك مستحيل ممن كفر بالبعث وإنما قال ما قال بطريق الاستهزاء.
وأجيب بأنا لا نسلم البناء على ذلك لجواز أن يكون المراد إنما يقول ذلك ويستهزىء ما دام حيا فإذا قبضناه حلنا بينه وبين الاستهزاء بما ينكشف له ويحل به أو يقال: إن مبنى ما ذكر على المجاراة مع اللعين كما تقدم.
ژقيل: المعنى نحفظ قوله لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به ويأتينا على فقره ومسكنته فردا من المال والولد لم نوله سؤله ولم نؤته متمناه فيجتمع عليه أمران أمران تبعة قوله ووباله وفقد المطموع فيه، وإلى تفسير الإرث بالحفظ ذهب النحاس وجعل من ذلك * (العلماء ورثة الأنبياء) * أي حفظة ما قالوه، وأنت خبير بأن حفظ قوله قد علم من قوله تعالى: * (سنكتب ما يقول) *.
وفي " الكشاف " يحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله تعالى مالا وولدا في الدنيا وبلغت به أشعبيته أن تألى على ذلك فقال سبحانه هب أنا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة ويأتينا غدا فردا بلا مال ولا ولد كقوله تعالى: * (لقد جئتمونا فرادى) * فما يجدي عليه تمنيه وتأليه انتهى، ولا يخفى أنه احتمال بعيد جدا في نفسه ومن جهة سبب النزول، والتكلف لتطبيقه عليه لا يقر به كما لا يخفى و * (فردا) * حال على جميع الأقوال لكن قيل. إنه حال مقدرة حيث أريد حرمانه عن المال والولد وإعطاء ذلك لمستحقه لأن الانفراد عليه يقتضي التفاوت بين الضال والمهتدي وهو إنما يكون بعد الموقف بخلاف ما إذا أريد غير ذلك مما تضمنته الأقوال لعدم اقتضائه التفاوت بينهما وكفاية فردية الموقف في الصحة وإن كانت مشتركة.
وزعم بعضهم أن الحال مقدرة على سائر الأقوال لأن المراد دوام الانفراد عن المال والولد أو عن القول المذكور والدوام غير محقق عند الإتيان بل مقدر كما في قوله تعالى: * (ادخلوها خالدين) * (الزمر: 73) ولا يخفى ما فيه.
* (واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا) *
* (واتخذوا من دون الله ءالهة) * حكاية لجناية عامة للكل مستتبعة لضد ما يرجون ترتبه عليها إثر حكاية مقالة الكافر المعهود واستتباعها لنقيض مضمونها أي اتخذ الكفرة الظالمون الأصنام أو ما يعمهم وسائر المعبودات الباطلة آلهة متجاوزين الله تعالى: * (ليكونوا لهم عزا) * أي ليتعززوا بهم بأن يكونوا لهم وصلة إليه عز وجل وشفعاء عنده.
* (كلا سيكفرون بعب‍ادتهم ويكونون عليهم ضدا) *
* (كلا) * ردع لهم وزجر عن ذلك، وفيه إنكار لوقوع ما علقوا به أطماعهم الفارغة * (سيكفرون بعبادتهم) * أي ستجحد الآلهة عبادة أولئك الكفرة إياها وينطق الله تعالى من لم يكن ناطقا منها فتقول جميعا ما عبدتمونا كما قال سبحانه: * (وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) * (النحل: 86) أو ستنكر الكفرة حين يشاهدون عاقبة سوء كفرهم عبادتهم إياها كما قال سبحانه: * (لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) *.
ومعنى قوله تعالى: * (ويكونون عليهم ضدا) * على الأول على ما قيل تكون الآلهة التي كانوا يرجون أن تكون لهم عزا ضدا للعز أي ذلا وهوانا أو أعوانا عليهم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو
133

أظهر من التفسير السابق، وكونهم أعوانا عليهم لأنهم يلعنونهم، وقيل: لأن عبادتهم كانت سببا للعذاب.
وتعقب بأن هذا لم يحدث يوم القيامة وظاهر الآية الحدوث ذلك اليوم والأمر فيه هين، وقيل: لأنهم يكونون آلة لعذابهم حيث يجعلون وقود النار وحصب جهنم وهذا لا يتسنى إلا على تقدير أن يراد بالآلهة الأصنام، وإطلاق الضد على العون لما أن عون الرجل يضاد عدوه وينافيه بإعانته له عليه، وعلى الثاني يكون الكفرة على الآلهة
أي أعداء لها من قولهم: الناس عليكم أي أعداؤكم، ومنه اللهم كن لنا ولا تكن علينا ضدا أي منافين ما كانوا عليه كافرين بها بعدما كانوا يعبدونها فعليهم على ما قيل خبر يكون، * (وضدا) * حال مؤكدة والعداوة مرادة مما قبله، وقيل: إنها مرادة منه وهو الخبر و * (عليهم) * في موضع الحال، وقد فسره بأعداء الضحاك وهو على ما نقل عن الأخفش كالعدو يستعمل مفردا وجمعا.
وبذلك قال صاحب القاموس وجعل ما هنا جمعا، وأنكر بعضهم كونه مما يطلق على الواحد والجمع، وقال: هو للواحد فقط وإنما وحد هنا لوحدة المعنى الذي يدور عليه مضادتهم فإنهم بذلك كالشيء الواحد كما في قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي وهم يد على من سواهم، وقال صاحب الفرائد: إنما وحد لأنه ذكر في مقابلة قوله تعالى: * (عزا) * وهو مصدر يصلح لأن يكون جمعا فهذا وإن لم يكن مصدرا لكن يصلح لأن يكون جمعا نظرا إلى ما يراد منه وهو الذل، وهذا إذا تم فإنما يتم على المعنى الأول، وقد صرح في " البحر " أنه على ذلك مصدر يوصف به الجمع كما يوصف به الواحد فليراجع. وقرأ أبو نهيك هنا وفيما تقدم * (كلا) * بفتح الكاف والتنوين فقيل إنها الحرف الذي للردع إلا أنه نوى الوقف عليها فصار ألفها كألف الإطلاق ثم أبدلت تنوينا، ويجوز أن لا يكون نوى الوقف بل أجريت الألف مجرى ألف الإطلاق لما أن ألف المبنى لم يكن لها أصل ولم يجز أن تقع رويا ويسمى هذا تنوين الغالي وهو يلحق الحروف وغيرها ويجامع الألف واللام كقولك: أقلي اللوم عاذل والعتابن * وقولي إن أصبت لقد أصابن
وليس هذا مثل * (قواريرا) * كما لا يخفى خلافا لمن زعمه. وفي محتسب ابن جني أن * (كلا) * مصدر من كل السيف إذا نبا وهو منصوب بفعل مضمر من لفظه، والتقدير هنا كل هذا الرأي والاعتقاد كلا، والمراد ضعف ضعفا، وقيل: هو مفعول به بتقدير حملوا * (كلا) * ويقال نظير ذلك فيما تقدم، وقال ابن عطية: هو نعت لآلهة، والمراد به الثقيل الذي لا خير فيه والإفراد لأنه بزنة المصدر وهو كما ترى، والأوفق بالمعنى ما تقدم وإن قيل فيه تعسف لفظي وإنه يلزم عليه إثبات التنوين خطا كما في أمثال ذلك.
وحكى أبو عمرو الداني عن أبي نهيك أنه قرأ * (كلا) * بضم الكاف والتنوين وهي على هذا منصوبة بفعل محذوف دل عليه * (سيكفرون) * على أنه من باب الاشتغال نحو زيدا مررت به أي يجحدون كلا أي عبادة كل من الآلهة ففيه مضاف مقدر وقد لا يقدر. وذكر الطبري عنه أنه قرأ * (كل) * بضم الكاف والرفع وهو على هذا مبتدأ. والجملة بعده خبره.
* (ألم تر أنآ أرسلنا الشي‍اطين على الك‍افرين تؤزهم أزا) *
* (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) * قيضناهم وجعلناهم قرناء لهم مسلطين عليهم أو سلطناهم عليهم ومكناهم من إضلالهم * (تؤزهم أزا) * تغريهم وتهيجهم على المعاصي تهييجا شديدا بأنواع التسويلات والوساوس فإن الأز والهز والاستفزاز أخوات معناها شدة الإزعاج، وجملة * (تؤزهم) * إما حال مقدرة من الشياطين أو استئناف وقع جوابا عما نشأ من صدر الكلام كأنه قيل: ماذا تفعل الشياطين بهم؟ فقيل تؤزهم الخ. والمراد من الآية تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم مما تضمنته الآيات السابقة الكريمة
134

من قوله سبحانه: * (ويقول الإنسان أئذا ما مت) * إلى هنا وحكته عن هؤلاء الكفرة الغواة والمردة العتاة من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل والتمادي في الغي والانهماك في الضلال والإفراط في العناد والتصميم على الكفر من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم والإجماع على مدافعة الحق بعد إيضاحه وانتفاء الشرك عنه بالكلية وتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم لا لأن هناك قصورا في التبليغ أو مسوغا في الجملة، وفيها تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي تذييل لتلك الآيات لما ذكر. وليس المراد منها تعجيبه عليه الصلاة والسلام من إرسال الشياطين عليهم كما يوهمه تعليق الرؤية به بل مما ذكر من أحوالهم من حيث كونها من آثار إغواء الشياطين كما ينبىء عن ذلك قوله سبحانه: * (تؤزهم أزا) *.
* (فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا) *
* (فلا تعجل عليهم) * بأن يهلكوا حسبما تقتضيه جناياتهم ويبيد عن آخرهم وتطهر الأرض من خباثاتهم، والفاء للإشعار بكون ما قبلها مظنة الوقوع المنهي عنه محوجة إلى النهي كما في قوله تعالى: * (إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة) *.
وقوله تعالى: * (إنما نعد لهم عدا) * تعليل لموجب النهي ببيان اقتراب هلاكهم فإنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس نعدها عدا أي قليلة كما قيل في قوله تعالى: * (دراهم معدودة) * (يوسف: 20) ولا ينافي هذا ما مر من أنه يمد لمن كان في الضلالة أي يطول لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم وهو قليل باعتبار عاقبته وعند الله عز وجل، وقيل: إن التعليل بما ذكر دل أن أنفاسهم وأيامهم تنته بانتهاء العد ولا شك أنها على كثرتها يستوفي إحصاؤها في ساعة فعبر بهذا المعنى عن القليل فكأنه قيل: ليس بينك وبين هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لوعدت، وهذا ليس مبنيا على أن كل ما يعد فهو قليل انتهى، والأول هو الظاهر وهذا أبعد مغزى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك آخر العدد فراق أهلك آخر العدد دخول قبرك، وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد ولله تعالى در من قال: إن الحبيب من الأحباب مختلس * لا يمنع الموت بواب ولا حرس
وكيف يفرح بالدنيا ولذتها * فتى يعد عليه اللفظ والنفس
وقيل: المراد إنما نعد أعمالهم لنجازيهم عليها.
* (يوم نحشر المتقين إلى الرحم‍ان وفدا) *
* (يوم نحشر المتقين إلى الرحم‍ان وقدا) * أي ركبانا كما أخرجه جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة. وابن أبي حاتم. وابن مردويه من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهة قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقلت: يا رسول الله هل الوفد إلا الركب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مثل مد البصر وينتهون إلى باب الجنة " الحديث، وهذه النوقف من الجنة كما صرح به في حديث أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد. وغيره موقوفا على علي كرم الله تعالى وجهه، وروي عن عمرو بن قيس أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة هي في غاية الحسن، ويروى أنه يركب كل منهم ما أحب من إبل أو خيل أو سفن تجىء عائمة بهم، وأصل الوفد جمع وافد كالوفود والأوفاد والوفد من وفد إليه وعليه يفد وفدا ووفودا ووفادة وإفادة قدم وورد.
135

وفي النهاية الوفد هم القوم يجتمعون ويردون البلاد واحدهم وافد وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة واسترفاد وانتجاع وغير ذلك، وقال الراغب: الوفد والوفود هم الذين يقدمون على الملوك مستنجزين الحوائج، ومنه الوفد من الإبل وهو السابق لعيرها، وهذا المعنى الذي ذكره هو المشهور، ومن هنا قيل: إن لفظة الوفد مشعرة بالإكرام والتجيل حيث آذنت بتشبيه حالة المتقين بحالة وفود الملوك وليس المراد حقيقة الوفادة من سائر الحيثيات لأنها تتضمن الانصارف من الموفود عليه والمتقون مقيمون أبدا في ثواب ربهم عز وجل. والكلام على تقدير مضاف أي إلى كرامة الرحمن أو ثوابه وهو الجنة أو إلى دار كرامته أو نحو ذلك، وقيل: الحشر إلى الرحمن كناية عن ذلك فلا تقدير، وكان الظاهر الضمير بأن يقال يوم نحشر المتقين إلينا إلا أنه اختير الرحمن إيذانا بأنهم يجمعون من أماكن متفرقة وأقطار شاسعة إلى من يرحمهم. قال القاضي: ولاختيار الرحمن في هذه السورة شأن، ولعله أن مساق الكلام فيها لتعداد النعم الجسام وشرح حال الشاكرين لها والكافرين بها فكأنه قيل: هنا يوم نحشر المتقين إلى ربهم الذي غمرهم من قبل برحمته وشملهم برأفته وحاصله يوم نحشرهم إلى من عودهم الرحمة وفي ذلك من عظيم البشارة ما فيه، وقد قابل سبحانه ذلك بقوله جل وعلا:
* (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) *
* (ونسوق المجرمين) * كما تساق البهائم * (إلى جهنم وردا) * أي عطاشا كما روي عن ابن عباس. وأبي هريرة. والحسن. وقتادة. ومجاهد، وأصله مصدر ورد أي سار إلى الماء، قال الراجز: ردي ردي ورد قطاة صما * كدرية أعجبها بردا لما
وإطلاقه على العطاش مجاز لعلاقة اللزوم لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش، وجوز أن يكون المراد من الورد الدواب التي ترد الماء والكلام على التشبيه أي نسوقهم كالدواب التي ترد الماء، وفي " الكشف " في لفظ الورد تهكم واستخفاف عظيم لا سيما وقد جعل المورد جهنم أعاذنا الله تعالى منها برحمته فلينظر ما بين الجملتين من الفرق العظيم. وقرأ الحسن. والجحدري * (يحشر المتقون ويساق المجرمون) * ببناء الفعلين للمفعول. واستدل بالآية على أن أهوال القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون مكرمين فكيف ينالهم بعد ذلك شدة؛ وفي " البحر " الظاهر أن حشر المتقين إلى الرحمنوفدا بعد انقضاء الحساب وامتياز الفريقين وحكاه ابن الجوزي عن أبي سليمان الدمشقي وذكر ذلك النيسابوري احتمالا بحثا في الاستدلال السابق.
وأنت تعلم أن ذلك لا يتأتى على ما سمعت في الخبر المروى عن علي كرم الله تعالى وجهه فإنه صريح في أنهم يركبون عند خروجهم من القبور وينتهون إلى باب الجنة وهو ظاهر في أنهم لا يحاسبون.
وقال بعضهم: إن المراد بالمتقين الموصوفون بالتقوى الكاملة ولا يبعد أن يدخلوا الجنة بلا حساب فقد صحت الأخبار بدخول طائفة من هذه الأمة الجنة كذلك، ففي " الصحيحين " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: " عرضت على الأمم يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي ليس معه أحد والنبي معه الرهط فرأيت سوادا كثيرا فرجوت أن يكون أمتي فقيل: هذا موسى وقومه ثم قيل: انظر فرأيت سوادا كثيرا فقيل: هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب فتفرق الناس ولم يبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكر أصحابه فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك ولكن قد آمنا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هؤلاء أبناؤنا
136

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " والحديث.
وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعين ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي " وأخرج الإمام أحمد. والبزار. والطبراني عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: هلا استزدته؟ قال قد استزدته فأعطاني هكذا وفرج بين يديه وبسط باعيه وحثى " قال هشام: هذا من الله عز وجل لا يدري ما عدده؛ وأخرج الطبراني. والبيهقي عن عمرو بن حزم الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: " احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا لا يخرج إلا إلى صلاة مكتوبة ثم يرجع فلما كان اليوم الرابع خرج إلينا صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله احتبست عنا حتى ظننا أنه حدث حدث قال: لم يحدث الأخير إن ربي وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفا لا حساب وإني سألت ربي في هذه الثلاث أيام المزيد فوجدت ربي ماجدا كريما فأعطاني مع كل واحد سبعين ألفا " الخبر إلى غير ذلك من الأخبار وفي بعضها ذكر من يدخل الجنة بغير حساب بوصفه كالحامدين الله تعالى شأنه في السراء والضراء وكالذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع وكالذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى وكالذي يموت في طريق مكة ذاهبا أو راجعا وكطالب العلم والمرأة المطيعة لزوجها والولد البار بوالديه وكالرحيم الصبور وغير ذلك، ووجه الجمع بين
الأخبار ظاهر ويلزم. على تخصيص المتقين بالموصوفين بالتقوى الكاملة دخول عصاة المؤمنين في المجرمين أو عدم احتمال الآية على بيان حالهم، واستدل بعضهم بالآية على ما روى من الخبر على عدم إحضار المتقين جثيا حول جهنم فما يدل على العموم مخصص بمثل ذلك فتأمل والله تعالى الموفق، ونصب * (يوم) * على الظرفية بفعل محذوف مؤخر أي يوم نحر ونسوق نفعل بالفريقين من الأفعال ما لا يحيط ببيانه نطاق المقال، وقيل: على المفعولية بمحذوف مقدم خوطب به سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أي اذكر لهم بطريق الترغيب والترهيب يوم نحشر الخ، وقيل: على الظرفية بنعد باعتبار معنى المجازاة، وقيل: بقوله سبحانه وتعالى: * (سيكفرون بعبادتهم) * (مريم: 82).
وقيل بقوله جل وعلا * (يكونون عليهم ضدا) *، وقيل: بقوله تعالى شأنه:
* (لا يملكون الشف‍اعة إلا من اتخذ عند الرحم‍ان عهدا) *
* (لا يملكون الشفاعة) * والذي يقتضيه مقام التهويل وتستدعيه جزالة التنزيل أن ينتصب بأحد الوجهين الأولين ويكون هذا استئنافا مبينا لبعض ما في ذلك اليوم من الأمور الدالة على هوله، وضمير الجمع لما يعم المتقين والمجرمين أي العباد مطلقا وقيل: للمتقين، وقيل: للمجرمين من أهل الايمان وأهل الكفر * (والشفاعة) *، على الأولين مصدر المبنى للفاعل وعلى الثالث ينبغي أن يكون مصدر المبني للمفعول.
وقوله تعالى: * (إلا من اتخذ عند الرحم‍ان عهدا) * استثناء متصل من الضمير على الأول ومحل المستثنى إما الرفع على البدل أو النصب على أصل الاستثناء، والمعنى لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من اتصف منهم بما يستأهل معه أن يشفع وهو المراد بالعهد، وفسره ابن عباس بشهادة أن لا إله إلا الله والتبري من الحول والقوة عدم رجاء أحد إلا الله تعالى، وأخرج ابن أبي شيبة. وابن أبي حاتم. والطبراني. وابن مردويه.
137

والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه قرأ الآية وقال: إن الله تعالى يقول يوم القيامة: " من كان له عني عهد فليقم فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعله لي عهدا عندك تؤديه إلى يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد "، وأخرج ابن أبي شيبة عن مقاتل أنه قال: العهد الصلاح، وروى نحوه عن السدي. وابن جريج، وقال الليث: هو حفظ كتاب الله تعالى، وتسمية ما ذكر عهدا على سبيل التشبيه، وقيل: المراد بالعهد الأمر والإذن من قولهم: عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يملك العباد أن يشفعوا إلا من أذن الله عز وجل له بالشفاعة وأمره بها فإنه يملك ذلك، ولا يأبى * (عند) * الاتخاذ أصلا فإنه كما يقال: أخذت الإذن في كذا يقال: اتخذته، نعم في قوله تعالى: * (عند الرحمن) * نوع إباء عنه مع أن الجمهور على الأول، والمراد بالشفاعة على القولين ما يعم الشفاعة في دخول الجنة والشفاعة في غيره ونازع في ذلك المعتزلة فلم يجوزوا الشفاعة في دخول الجنة والاخبار تكذبهم، فعن أبي سعيد الخدري قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل من أمتي ليشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنة بشفاعته وإن الرجل ليشفع للرجل وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته، وجوز ابن عطية أن يراد بالشفاعة الشفاعة العامة في فصل القضاء وبمن اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم وبالعهد الوهد بذلك في قوله سبحانه وتعالى: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * (الإسراء: 79) وهو خلاف الظاهر جدا، وعلى الوجه الثاني في ضمير الجمع الاستثناء من الشفاعة بتقدير مضاف وهو متصل أيضا. وفي المستثنى الوجهان السابقان أي لا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ عند الرحمن عهدا، والمراد به الايمان، وإضافة المصدر إلى المفعول. وقيل: المستثنى منه محذوف على هذا الوجه أي لا يملك المتقون الشفاعة لأحد إلا من اتخذ الخ أي إلا لمن اتصف بالايمان. وجوز أن يكون الاسثناء من الشفاعة بتقدير المضاف على الوجه الأول في الضمير أيضا، وأن يكون المصدر مضافا لفاعله أو مضافا لمفعوله. وجوز عليه أيضا أن يكون المستثنى منه محذوفا كما سمعت، وعلى الوجه الثالث الاستثناء من الضمير وهو متصل أيضا، وفي المستثنى الوجهان أي لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان مؤمنا فإنه يملك أن يشفع له. وقيل: الاستثناء على تقدير رجوع الضمير إلى المجرمين منقطع لأن المراد بهم الكفار، وحمل ذلك على العصاة والكفار بعيد كما قال أبو حيان، والمستثنى حينئذ لازم النصف عند الحجازيين جائز نصبه وإبداله عند تميم.
وجوز الزمخشري أن تكون الواو في * (لا يملكون) * علامة الجمع كالتي في - أكلوني البراغيث - والفاعل * (من اتخذ) * لأنه في معنى الجمع. وتعقبه أبو حيان بقوله: لا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميرا، وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنها لغة ضعيفة، وأيضا فالواو والألف والنون التي تكون علامات لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلا إلا بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف إما أن يأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أومثنى فيحتاج في إثباته إلى نقل، وإمما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب فيمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال ذلك إلا بسماع انتهى. وتعقبه أيضا ابن المنير بأن فيه تعسفا لأنه إذا جعل الواو علامة لمن ثم أعاد على لفظها بالإفراد ضمير * (اتخذ) * كان ذلك إجمالا بعد إيضاح وهو تعكيس في طريق البلاغة التي
138

هي الإيضاح بعد الاجمال والواو على إعرابه وإن لم تكن عائدة على من إلا أنها كاشفة لمعناها كشف الضمير العائد لها ثم قال: فتنبه لهذا النقد فإنه أروج من النقد. وفي عنق الحسناء يستحسن العقد
انتهى، ومنه يعلم القول بجواز رجوع الضمير لها أولا باعتبار معناها وثانيا باعتبار لفظها لا يخلو عن كدر.
* (وقالوا اتخذ الرحم‍ان ولدا) *
* (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا) * حكاية لجناية القائلين عزيز ابن الله. وعيسى ابن الله. والملائكة بنات الله من اليهود والنصارى والعرب تعالى شأنه عما يقولون علوا
كبيرا إثر حكاية جناية من عبد ما عبد من دونه عز وجل بطريق عطف القصة على القصة فالضمير راجع لمن علمت وإن لم يذكر صريحا لظهور الأمر.
وقيل: راجع للمجرمين. وقيل: للكافرين. وقيل: للكافرين. وقيل: للضالمين. وقيل: للعباد المدلول عله بذكر الفريقين المتقين والمجرمين. وفيه إسناد ما للبعض إلى الكل مع أنهم لم يرضوه وقد تقدم البحث فيه. [بم وقوله تعالى:
* (لقد جئتم شيئا إدا) *
* (لقد جئتم شيئا إدا) * رد لمقالتهم الباطلة وتهويل لأمرها بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب المنبىء عن كمال السخط وشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح وتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجهل والجرأة، وقيل: لا التفات والكلام بتقدير قل لهم لقد جئتم الخ، والإد بكسر الهمزة كما في قراءة الجمهور وبفتحها كما قرأ السلمي العجب كما قال ابن خالويه. وقيل: العظيم المنكر والإدة لشدة وأدنى الأمر وآدنى اثقلني وعظم على. وقال الراغب: الاد المنكر فيه جلبة من قولهم: ادت الناقة تئد أي رجعت حنينها ترجيعا شديدا. وقيل: الاد بالفتح مصدر وبالكسر اسم أي فعلتم أمرا عجيبا أو منكرا شديدا لا يقادر قدره فإن جاء وأتى يستعملان بمعنى فعل فيتعديان تعديته. وقال الطبرسي: هو من باب الحذف والإيصال أي جئتم بشيء إد.
* (تكاد السم‍اوات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا) *
* (تكاد السم‍اوات يتفطرن منه) * في موضع الفة لادا أو استئناف لبيان عظم شأنه في الشدة والهول، والتفطر على ما ذكره الكثي التشقق مطلقا، وعلى ما يدل عليه كلام الراغب التشقق طولا حيث فسر الفطر وهو منه بالشق كذلك، وموارد الاستعمال تقتضي عدم التقييد بما ذكر. نعم قيل: إنها تقتضي أن يكون الفطر من عوارض الجسم الصلب فإنه يقال: إنا مفطور ولا يقال: ثوب مفطور بل مشقوق، وهو عندي في أعراف الرد والقبول وعليه يكون في نسبة التفطر إلى السموات والانشقاق إلى الأرض في قوله تعالى: * (وتنشق الأرض) * إشارة إلى أن السماء أصلب من الأرض، والتكثير الذي تدل عليه صيغة التفعل قيل في الفعل لأنه الأوفق بالمقام، وقيل: في متعلقه ورجح بأنه قد قرأ أبو عمرو. وابن عامر. وحمزة وأبو بكر عن عاصم. ويعقوب. وأبو بحرية. والزهري. وطلحة. وحميد. واليزيدي. وأبو عبيد * (ينفطرن) * مضارع انفطر وتوافق القراءتين يقتضي ذلك، وبأنه قد اختير الانفعال في تنشق الأرض حيث لا كثرة في المفعول ولذا أول * (ومن الأرض مثلهن) * (الطلاق: 12) بالأقاليم ونحوه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ووجهه بعضهم اختلاف الصيغة على القول بأن التكثير في الفعل بأن السموات لكونها مقدسة لم يعص الله تعالى فيها أصلا نوعا ما من العصيان لم يكن لها ألف ما بالمعصية ولا كاذلك الأرض فهي تتأثر من عظم المعصية ما لا تتأثر الأرض.
وقرأ ابن مسعود * (يتصدعن) * قال في " البحر ": وينبغي أن يجعل ذلك تفسيرا لا قراءة لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ولرواية الثقات عنه أنه قرأ كالجمهور انتهى. ولا يخفى عليك أن في ذلك كيفما كان تأييدا لمن ادعى
139

أن الفطر من عوارض الجسم الصلب بناء على ما في " القاموس " من أن الصدع شق في شيء صلب.
وقرأ نافع. والكسائي. وأبوحيوة. والأعمش * (يكاد) * بالياء من تحت * (وتخر الجبال) * تسقط وتنهد * (هدا) * نصب على أنه مفعول طملق لتخر لأنه بمعنى تنهد كما أشرنا إلينا وإليه ذهب ابن النحاس. وجوز أن يكون مفعولا لا مطلقا لتنهد مقدرا. والجملة في موضع الحال، وقيل: هو مصدر بمعنى المفعول منصوب على الحال من هد المعتدى أي مهدودة. وجوز أن يكون مفعولا له أي لأنها تنهد على أنه م هد اللازم بمعنى انهدم ومجيئه لازما مما صرح به أبو حيان وهو إمام اللغة. والنحو فلا عبرة ممن أنكره، وحينئذ يكون الهد من فعل الجبال فيتحد فاعل المصدر والفعل المعلل به، وقيل: إنه ليس من فعلها لكنها إذا هدها أحد يحصل لها الهد فصح أن يكون مفعولا له، وفي الكلام تقرير لكون ذلك إدا والكيدودة فيه على ظاهرها من مقاربة اليء. وفسرها الأخفش هنا. وفي قوله تعالى: * (أكاد أخفيها) * (طه: 15) بالإرادة وأنشد شاهدا على ذلك قول الشاعر: كادت وكدت وتلك خير إرادة * لو عاد من زمن الصبابة ما مضى
ولا حجة له فيه، والمعنى إن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها بحيث لو تصور بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام وتفرقت أجزاؤها من شدتها أو أن حق تلك الكلمة لو فهمتها تلك الجمادات العظام أن تتفطر وتنشق وتخر من فظاعتها، وقيل: المعنى كادت القيامة أن تقوم فإن هذه الأشياء تكون حقيقة يوم القيامة، وقيل: الكلام كناية عن غضب الله تعالى على قائل تلك الكلمة وأنه لولا حلمه سبحانه وتعالى لوقع ذلك وهلك القائل وغيره أي كدت أفعل ذلك غضبا لولا حلمي.
وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن الشكر فزعت منه السموات والأرض والجبال وجيمع الخلائق إلا الثقلين وكدن أن يزلن منه تعظيما لله تعالى وفيه إثبات فهم لتلك الأجرام والأجسام لائق بهن. وقد تقدم ما يتعلق بذلك. وفي " الدر المنثور " في الكلام على هذه الآية، أخرج أحمد في الزهد. وابن المبارك. وسعيد بن منصور. وابن أبي شيبة. وأبو الشيخ في العظمة وابن أبي حاتم. والطبراني. والبيهقي في شعب الايمان من طريق عون عن ابن مسعود قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه يا فلان هل مر بك اليوم أحد ذاكر لله تعالى فإذا قال: نعم استبشر قال عون: أفلا يسمعن الزور إذا قيل ولا يسمعن الخير هن للخير أسمع وقرأ * (وقالوا) * الآيات اه‍ وهو ظاهر في الفهم.
وقال ابن المنير: يظهر لي في الآية معنى لم أره لغيري وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد استعار لدلالة هذه الأجرام على وجوده عز وجل موصوفا بصفات الكمال الواجبة له سبحانه أن جعلها مسبحة بحمده قال تعالى: * (تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسراء: 44) ومما دلت عليه السموات والأرض والجبال بل وكل ذرة من ذراتها أن الله تعالى مقدس عن نسبة الولد إليه: وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد
فالمعتقد نسبة الولد إليه عز وجل قد عطل دلالة هذه الموجودات على تنزيه الله تعالى وتقديسه فاستعير لإبطال ما فيها من روح الدلالة التي خلقت لأجلها إبطال صورها
بالهد والانفطار والانشقاق اه‍.
140

واعترض عليه بأن الموجودات إنما تدل على خالق قادر عالم حكيم لدلالة الأثر على المؤثر والقدرة على المقدور واتقان العمل يدل على العمل والحكمة وأما دلالتها على الوحدانية فلا وجه له ولا يثبت مثله بالشعر. ورد بأنها لو لم تدل جاء حديث التمانع كما حققه المولى الخيالي في " حواشيه " على شرح عقائد النسفي للعلامة الثاني.
وقال بعضهم: إنها تدل على عظم شأنه تعالى وأنه لا يشابهه ولا يدانيه شيء فلزم أن لا يكون له شريك ولا ولد لأنه لو كان كذلك لكان نظيرا عز وجل. ولذا عبر عن هذه الدلالة بالتسبيح والتنزيه.
ولعل ما أشرنا إليه أولى وأدق، وليس مراد من نسب الولد إليه عز وجل إلا الشرك فتأمل، والجمهور على أن الكلام لبيان بشاعة تلك الكلمة على معنى أنها لو فهمتها الجمادات لاستعظمتها وتفتت من بشاعتها. ونحو هذا مهيع للعرب، قال الشاعر:
لما أتى خبر الزبير تواضعت * سور المدين والجبال الخشع
وقال الآخر: فاصبح بطن مكة مقشعرا * كان الأرض ليس بها هشام
وقال الآخر: ألم تر صدعا في السماء مبينا * على ابن لبيني الحرث بن هشام
إلى غير ذلك ذلك وهو نوع من المبالغة ويقبل إذا اقترن بنحو كاد كما في الآية الكريمة، وقد بين ذلك في محله.
* (أن دعوا للرحم‍ان ولدا) *
* (أن دعوا للرحمان ولدا) * بتقدير اللام التعليلية. ومحله بعد الحذف نصب عند سيبويه وجر عند الخليل والكسائي، وهو علة للعلية التي تضمنها * (منه) * لكن باعتبار ما تدل عليه الحال أعني قوله تعالى:
* (وما ينبغى للرحم‍ان أن يتخذ ولدا) *
* (وما ينبغي للرحم‍ان إن يتخذ ولدا) * وقيل: علة لتكاد الخ، واعترض بأن كون * (يكاد) * الخ معللا بذلك قد علم من * (منه) * فيلزم التكرار. وأجيب بما لا يخلو عن نظر. وقيل: علة لهذا وهو علة للخرور، وقيل ليس هناك لام مقدرة بل أن وما بعدها في تأويل مصدر مجرور بالإبدال من الهاء من منه كما في قوله: على حالة لو أن في القوم حاتما * على جوده لضن بالماء حاتم
بجر حاتم بالإبدال من الهاء في وجوده، واستبعده أبو حيان للفصل بجملتين بين البدل والمبدل منه، وقيل: المصدر مرفوع على أنه خبر محذوف أي الموجب لذلك دعاؤهم للرحمن ولدا وفيه بحث. وقيل: هو مرفوع على أنه فاعل هدا ويعتبر مصدرا مبنيا للفاعل أي هدها دعاؤهم للرحمن ولدا. وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا لأن الظاهر كون هذا المصدر تأكيديا والمصدر التأكيدي لا يعمل ولو فرض غير تاكيدي لم يعمل بقياس إلا إذا إذا كان أمرا كضربا زيدا أو بعد استفهام كاضربا زيدا وما هنا ليس أحد الأمرين وما جاء عاملا وليس أحدهما كقوله: وقوفا بها صحبي على مطيهم
نادر. والتزام كون ما هنا من النادر لا يدفع البعد. ولعل ما ذكرناه أدق الأوجه وأولاها فتدبر والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. و * (دعوا) * عند الأكثرين بمعنى سموا. والدعاء بمعنى التسمية يتعدى لمفعولين بنفسه كما في قوله: دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن * أخاها ولم أرضع لها بلبان
وقد يتعدى للثاني بالباء فيقال دعوت ولدي بزيد واقتصر هنا على الثاني وحذف الأول دلالة على العموم والإحاطة لكل ما دعى له عز وجل ولدا من عيسى. وعزير عليهما السلام. وغيرهما. وجوز أن يكون من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله صلى الله عليه وسلم: " من ادعى إلى غير مواليه " وقول الشاعر:
141

أنا بني نهشل لا ندعى لاب * عنه ولا هو بالابناء يشرينا
فيتعدى لواحد، والجار والمجرور جوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من * (ولدا) * وأن يكون متعلقا بما عنده، وجملة * (ما ينبغي) * حال من فاعل * (دعوا) *، وقيل: من فاعل * (قالوا) *، * (وينبغي) * مضارع انبغى مطاوع بغي بمعنى طلب وقد سمع ماضيه فهو فعل متصرف في الجملة، وعده ابن مالك في التسهيل من الأفعال التي لا تتصرف وغلطه في ذلك أبو حيان، ويمكن أن يقال: مراده أنه لا يتصرف تاما، * (وأن يتخذ) * في تأويل مصدر فاعله، والمراد لا يليق به سبحانه اتخاذ الولد ولا يتطلب له عز وجل لاستحالة ذلك في نفسه لاقتضائه الجزئية أو المجانسة واستحالة كل ظاهرة، ووضع الرحمن موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم بالتنبيه على أن كل ما سواه تعالى إما نعمة أو منعم عليه وأين ذلك ممن هو مبدأ النعم وموالي أصولها وفروعها.
وقد أشير إلى ذلك بقوله سبحانه:
* (إن كل من فى السم‍اوات والارض إلا آتى الرحم‍ان عبدا) *
* (إن كل من في السموات والأرض) * أي ما منهم أحد من الملائكة والثقلين * (إلا ءاتى الرحم‍ان عبدا) * أي إلا وهو مملوك له تعالى يأوي إليه عز وجل بالعبودية والانقياد لقضائه وقدره سبحانه وتعالى فالاتيان معنوي، وقيل: هو حسي، والمراد إلا ءاتى محل حكمه وهو أرض المحشر منقادا لا يدعى لنفسه شيئا مما نسبوه إليه وليس بذاك كما لا يخفى، و * (من) * موصولة بمعنى الذي و * (كل) * تدخل عليه لأنه يراد منه الجنس كما قيل في قوله تعالى * (والذي جاء بالصدق) * وقوله: وكل الذي حملتني أتحمل
وقيل: موصوفة لأنها وقعت بعد * (كل) * نكرة وقوعها بعد رب في قوله: رب من أنضجت غيظا صدره * قد تمنى لي موتا لم يطع
ورجح في البحر الأول بأن مجيئها موصوفة بالنسبة إلى مجيئها موصولة قليل: وقرأ عبد الله. وابن الزبير وأبو حيوة. وطلحة. وأبو بحرية. وابن أبي عبلة. ويعقوب * (ءات) * بالتنوين * (الرحمن) * بالنصب على الأصل.
ونصب * (عبدا) * في القراءتين على الحال. واستدل بالآية على أن الوالد لا يملك ولده وأنه يعتق عليه إذا ملكه.
* (لقد أحص‍اهم وعدهم عدا) *
* (لقد أحص‍ايهم) * حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يكاد يخرج أحد منهم من حيطة علمه وقبضة قدرته جل جلاله.
* (وعدهم عدا) * أي عد أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم فإن كل شيء عنده تعالى بمقدار.
* (وكلهم ءاتيه يوم القي‍امة فردا) *
* (وكلهم ءاتيه يوم القي‍امة فردا) * أي منفردا من الأتباع والأنصار منقطعا إليه تعالى غاية الانقطاع محتاجا إلى إعانته ورحمته عز وجل فكيف يجانسه ويناسبه ليتخذه ولدا وليشرك به سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وقيل: أي كل واحد من أهل السموات والأرض العابدين والمعبودين آتيه عز وجل منفردا عن الآخر فينفرد العابدون عن الآلهة التي زعموا أنها أنصار أو شفعاء والمعبودون عن الأتباع الذين عبدوهم وذلك يقتضي عدم النفع وينتفي بذلك المجانسة لمن بيده ملكوت كل شيء تبارك وتعالى، وفي * (ءاتيه) * من الدلالة على إتيانهم كذلك البتة ما ليس في يأتيه فلذا اختير عليه وهو خبر * (كلهم) * وكل إذا أضيف إلى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم أو كل الناس فالمنقول أنه يجوز عود الضمير عليه مفردا مراعاة للفظه فيقال كلكم ذاهب، ويجوز عوده عليه جمعا مراعاة لمعناه فيقال: كلكم ذاهبون.
وحكى إبراهيم بن أصبغ في كتاب رؤس المسائل الاتفاق على جواز الأمرين، وقال أبو زيد السهيلي: إن كلا إذا ابتدىء به وكان مضافا لفظا أي إلى معرفة لم يحسن إلا أفراد الخبر حملا على المعنى لأن معنى كلكم
142

ذاهب مثلا كل واحد منكم ذاهب وليس ذلك مراعاة للفظ وإلا لجاز القوم ذاهب لأن كلا من كل والقوم اسم جمع مفرد اللفظ اه‍ وفي البحر يحتاج في إثبات كلكم ذاهبون بالجمع إلى نقل عن العرب. والزمخشري في تفسير هذه الآية استعمل الجمع وحسن الظن فيه أنه وجد ذلك في كلامهم، وإذا حذف المضاف إليه المعرفة فالمسموع من العرب الوجهان ولا كلام في ذلك.
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الص‍الحات سيجعل لهم الرحم‍ان ودا) *
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحم‍ان ودا) * أي مودة في القلوب لايمانهم وعملهم الصالح، والمشهور أن ذلك الجعل في الدنيا. فقد أخرج البخاري. ومسلم. والترمذي. وعبد بن حميد. وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أحب الله تعالى عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في الأرض فذلك قول الله تعالى: * (إن الذين آمنوا) * الآية " والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن الموعود من آثارها، والسين لأن السورة مكية وكانوا ممقوتين حينئذ بين الكفرة فوعدهم سبحانه ذلك، ثم نجزه حين كثر الإسلام وقوى بعد الهجرة، وذكر أن الآية نزلت في المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وعد سبحانه أن يجعل لهم محبة في قلب النجاشي.
وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحاب بمكة منهم شيبة بن ربيعة. وعقبه بن ربيعة. وأمية بن خلف فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعلى هذا تكون الآية مدنية، وأخرج ابن مردويه. والديلمي عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه: قل اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في صدور المؤمنين ودا فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وكان محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه يقول: لا تجد مؤمنا إلا وهو يحب عليا كرم الله تعالى وجهه وأهل بيته.
وروى الإمامية خبر نزولها في علي كرم الله تعالى وجهه عن ابن عباس. والباقر. وأيدوا ذلك بما صح عندهم أنه كرم الله تعالى وجهه قال: لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ولو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني ما أحبني وذلك أنه قضى فانقضي على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق " والمراد المحبة الشرعية التي لا غلو فيه، وزعم بعض النصارى حبه كرم الله تعالى وجهه، فقد أنشد الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي لابن إسحق النصراني الرسغني: عدي وتيم لا أحاول ذكرهم * بسوء ولكني محب لهاشم
وما تعتريني في علي ورهطه * إذا ذكروا في الله لومة لائم
يقولون ما بال النصارى تحبهم * وأهل النهي من أعرب وأعاجم
فقلت لهم إني لأحسب حبهم * سرى في قلوب الخلق حتى البهائم
وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ثبت كذبك، وأظن أن نسبة هذه الأبيات للنصراني لا أصل لها وهي من أبيات الشيعة بيت الكذب، وكم لهم مثل هذه المكايد كما بين في التحفة الإثني عشرية، والظاهر أن الآية على هذا مدنية أيضا. ثم العبرة على سائر الروايات في سبب النزول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وذهب الجبائي إلى أن ذلك في الآخرة فقيل في الجنة إذ يكونون إخوانا على سرر متقابلين، وقيل:
143

حين تعرض حسناتهم على رؤس الأشهاد وأمر السين على ذلك ظاهر. ولعل أفراد هذا الوعد من بين ما سيولون يوم القيامة من الكرامات السنية لما أن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تباغض وتضاد وتقاطع وتلاعن، وذكر في وجه الربط أنه لما فصلت قبائح أحوال الكفرة عقب ذلك بذكر محاسن أحوال المؤمنين، وقد يقال فيه بناء على أن ذلك
في الآخرة: إنه جل شأنه لما أخبر بإتيان كل من أهل السموات والأرض إليه سبحانه يوم القيامة فردا آنس المؤمنين بأنه جل وعلا يجعل لهم ذلك اليوم ودا، وفسره ابن عطية على هذا الوجه بمحبته تعالى إياهم وأراد منها إكرامه تعالى إياهم ومغفرته سبحانه وتعالى ذنوبهم، وجوز أن يكون الوعد يجعل الود في الدنيا والآخرة ولا أراه بعيدا عن الصواب. ولا يأبى هذا ولا ما قبله التعرض لعنوان الرحمانية لجواز أن يدعى العموم فقد جاء يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
وقرأ أبو الحرث الحنفي * (ودا) * بفتح الواو وقرأ جناح بن حبيش * (ودا) * بكسرها وكل ذلك لغة فيه وكذا في الوداد.
* (فإنما يسرن‍اه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) *
* (فإنما يسرناه) * أي القرآن بأن أنزلناه * (بلسانك) * أي بلغتك وهو في ذلك مجاز مشهور والباء بمعنى على أو على أصله وهو الإلصاق لتضمين * (يسرنا) * معنى أنزلنا أي يسرناه منزلين له بلغتك، والفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل: بعد إيحاء هذه السورة الكريمة بلغ هذا المنزل وأبر به وأنذر فإنما يسرناه بلسانك العرب المبين * (لتبشر به المتقين) * المتصفين بالتقوى لامتثال ما فيه من الأمر والنهي أو الصائرين إليها على أنه من مجاز الأول * (وتنذر به قوما لدا) * لا يؤمنون به لجاجا وعنادا، واللد جمع الألد وهو كما قال الراغب: الخصم الشديد التأبي، وأصله الشديد اللديد أي صفحة العنق وذلك إذا لم يمكن صرفه عما يريده.
وعن قتادة اللذ ذو الجدل بالباطل الآخذون في كل لديد أي جانب بالمراء، وعن ابن عباس تفسير اللديا بالظلمة، وعن مجاهد تفسيره بالفجار، وعن الحسن تفسيره بالصم، وعن أبي صالح تفسيره بالعوج وكل ذلك تفسير باللازم؛ والمراد بهم أهل مكة كما روى عن قتادة.
* (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) *
* (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) * وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ضمن وعيد هؤلاء القوم بالإهلاك وحث له عليه الصلاة والسلام على الإنذار أي قرنا كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المعاندي * (هل تحس منهم من أحد) * استئناف مقرر لمضمون ما قبله، والاستفهام في معنى النفي أي ما تشعر بأحد منهم.
وقرأ أبو حيولا. وأبو حرية. وابن أبي عبلة. وأبو جعفر المدني * (تحس) * بفتح التاء وضم الحاء * (أو تسمع لهم ركزا) * أي صوتا خفيا وأصل التركيب هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز للمال المدفون، وخص بعضهم الركز بالصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم، والأكثرون على الأول، وخص الصوت الخفي لأنه الأصل الأكثر ولأن الأثر الخفي إذا زال فزوال غيره بطريق الأولى.
والمعنى أهلكناهم بالكلية واستأصلناهم بحيث لا ترى منهم أحدا ولا تسمع منهم صوتا خفيا فضلا عن غيره، وقيل: المعنى أهلكناهم بالكلية بحيث لا ترى منهم أحدا ولا تسمع من يخبر عنهم ويذكرهم بصوت خفي، والحاصل أهلكناهم فلا عين ولا خبر، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب.
144

وقرأ حنظلة " تسمع " مضارع اسمعت مبنيا للمفعول والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا) * (مريم: 41) أمر للحبيب أن يذكر الخليل وما من الله تعالى به عليه من أحكام الخلة ليستشير المستعدين إلى التحلي بما أمكن لهم منها. والصديق على ما قال ابن عطاء القائم مع ربه سبحانه على حد الصدق في جميع الأوقات لا يعارضه في صدقه معارض بحال، وقال أبو سعيد الخزاز: الصديق الآخذ بأتم الحظوظ من كل مقام سنى حتى يقرب من درجات الأنبياء عليهم السلام، وقال بعضهم: من تواترت أنوار المشاهدة واليقين عليه وأحاطت به أنوار العصمة.
وقال القاضي: هو الذي صعدت نفسه تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات وأخرى بمعارج التصفية والرياضة إلى أوج العرفان حتى اطلع على الأشياء وأخبر عنها على ما هي عليه، ومقام الصديقية قيل: تحت مقام النبوة ليس بينهما مقام. وعن الشيخ الأكبر قدس سره إثبات مقام بينهما وذكر أنه حصل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه. والمشهور بهذا الوصف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وليس ذلك مختصا به، فقد أخرج أبو نعيم في المعرفة. وابن عساكر. وابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه أبي ليلى الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الصديقون ثلاثة، حبيب النجار مؤمن آل يس الذي قال: * (يا قوم اتبعوا المرسلين) *، وحز قيل مؤمن آل فرعون الذي قال: * (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) * وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه وهو أفضلهم * (إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا) * (مريم: 42) الخ فيه من لطف الدعوة إلى اتباع الحق والإرشاد إليه ما لا يخفى. وهذا مطلوب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا سيما إذا كان ذلك مع الأقارب ونحوهم قال: " سلام عليك " هذا سلام الأعراض عن الأغيار وتلطف الأبرار مع الجهال، قال أبو بكر بن طاهر: أنه لما بدا من آزر في خطابه عليه السلام ما لا يبدو إلا من جاهل جعل جوابه السلام لأن الله تعالى قال: * (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) * (الفرقان: 63) * (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) * (مريم: 48) أي أهاجر عنكم بديني، ويفهم. منه استحباب هجر الاشرار.
وعن أبي تراب النخشبي صحبة الإشرار تورث سوء الظن بالاخبار، وقد تضافرت الأدلة السمعية والتجربة على أن مصاحبتهم تورث القسوة وتثبط عن الخير * (وأدعوا ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا) * فيه من الدلالة على مزيد أدبه عليه السلام مع ربه عز وجل ما فيه، ومقام الخلة يقتضي ذلك فإن من لا أدب له لا يصلح أن يتخذ خليلا * (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب) * كأن ذلك كان عوضا عمن اعتزل من أبيه وقومه لئلا يضيق صدره كما قيل: ولما اعتزل نبينا صلى الله عليه وسلم الكون أجمع ما زاغ البصر وما طغى عوض عليه الصلاة والسلام بأن قال له سبحانه: * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) * (الفتح: 10).
" واذكر " أيها الحبيب " في الكتاب موسى " الكليم " إنه كان مخلصا " لله تعالى في سائر شؤونه، قال الترمذي: المخلص على الحقيقة من يكون مثل موسى عليه السلام ذهب إلى الخضر على السلام ليتأدب به فلم يسامحه في شيء ظهر له منه * (وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا) * (مريم: 52) قالوا النداء بداية والنجوى نهاية، النداء مقام الشوق والنجوى مقام كشف السر * (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) * قيل: علم الله تعالى ثقل الأسرار على
145

موسى عليه السلام فاختار له هرون مستودعا لها فهورون عليه السلام مستودع سر موسى عليه السلام، * (واذكر في الكتاب اسماعيل إنه كان صادق الوعد) * (مريم: 54) بالصبر على بذل نفسه أو بما وعد به استعداده من كمال التقوى لربه جل وعلا والتحلي بما يرضيه سبحانه من الأخلاق * (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا * ورفعناه مكانا عليا) * (مريم: 56، 57) وهو نوع من القرب من الله تعالى به عليه عليه السلام. وقيل: السماء الرابعة والتفضل عليه بذلك لما فيه من كشف بعض أسرار الملكوت أولئك الذين أنعم الله عليهم بما لا يحيط نطاق الحصر به من النعم الجليلة * (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا) * مما كشف لهم من آياته تعالى، وقد ذكر أن القرآن أعظم مجلى لله عز وجل * (وبكيا) * (مريم: 58) من مزيد فرحهم بما وجدوه أو من خوف عدم استمرار ما حصل لهم من التجلي: ونبكي إن نأوا شوقا إليهم * ونبكي إن دنوا خوف الفراق
* (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * (مريم: 62) قيل: الرزق ههنا مشاهدة الحق سبحانه ورؤيته عز وجل وهذا لعموم أهل الجنة وأما المحبوبون والمشتاقون فلا تنقطع عنهم المشاهدة لمحة ولو حجبوا لماتوا من ألم الحجاب * (رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا) * (مريم: 65) مثلا يلتفت إليه ويطلب منه شيء، وقال الحسين بن الفضل: هل يستحق أحد أن يسمى باسم من أسمائه تعالى على الحقيقة * (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) * (مريم: 71) وذلك لتظهر عظمة قهره جل جلاله وآثار سطوته لجميع خلقه عز وجل ثم ننجى الذين اتقوا جزاء تقواهم ونذر الظالمين فيها جيثا " جزاء ظلمهم، وهذه الآية كم أجرت من عيون العيون العيون.
فعن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه أنه كان يبكي ويقول: قد علمت أني وارد النار ولا أدري كيف الصدر الصدر بعد الورود، وعن الحسن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يقول الرجل لصاحبه: هل أتاك أنك وارد؟ فيقول: نعم فيقول: هل أتاك أنك خارج؟ فيقول لا فيقول: ففيم الضحك إذن؟ * (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) * (مريم: 75) لما افتخروا بحظوظ الدنيا التي لا يفتخر بها إلا ذوو الهمم الدنية رد الله تعالى عليهم بأن ذلك استدراج ليس بإكرام والإشارة فيه أن كل ما يشغل عن الله تعالى والتوجه إليه عز وجل فهو شر لطاحبه " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " ركبانا على نجائب النور، وقال ابن عطاء: بلغني عن الصادق رضي الله عنه أنه قال: ركبانا على متون المعرفة * (إن كل من في السموات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبدا) * (مريم: 93) فقيرا ذليلا منقادا مسلوب الأنانية بالكلية * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) * (مريم: 96) في القلوب المفطورة على حب الله تعالى وذلك أثر محبته سبحانه لهم، وفي الحديث " لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به " الخ، ولا يشكل على هذا أنا نرى كثيرا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ممقوتين لأن الذين يقتنونهم قد فطرت قلوبهم على الشر وإن لم يشعروا بذلك، ومن هنا يعلم أن بغض الصالحين علامة خبث الباطل * (ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا) * (الحشر: 10) وقيل: معنى * (سيجعل لهم الرحمن ودا) * (مريم: 96) سيجعل لهم لذة وحلاوة في الطاعة، والأخبار تؤيد ما تقدم والله تعالى أعلم وله الحمد على اتمام تفسير سورة مريم ونسأله جل شأنه التوفيق لاتمام تفسير سائر سور كتابه المعظم بحرمة نبيه صلى الله عليه وسلم.
146

سورة طه
وتسمى أيضا سورة الكليم كما ذكر السخاوي في جمال القراء وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مكية. واستثنى بعضهم منها قوله تعالى: * (واصبر على ما يقولون) * (المزمل: 10).
وقال الجلال السيوطي: ينبغي أن يستثنى آية أخرى، فقد أخرج البزار. وأبو يعلى عن أبي رافع قال: أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيفا فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقا إلى هلال رجب فقال: لا إلا برهن فأتيت النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرته فقال: أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية * (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) * (الحجر: 88) الآية انتهى.
ولعل ما روي عن الحبرين على القول باستثناء ما ذكر باعتبار الأكثر منها. وآياتها كما قال الداني مائة وأربعون آية شامي وخمس وثلاثون كوفي وأربع حجازي وآيتان بصرى. ووجه الترتيب على ما ذكره الجلال أنه سبحانه لما ذكر في سورة مريم قصص عدة من الأنبياء عليهم السلام وبعضها مبسوط كقصة زكريا.
ويحيى. وعيسى عليهم السلام وبعضها بين البسط والإيجاز كقصة إبراهيم عليه السلام وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه السلام وأشار إلى بقية النبيين عليهم السلام إجمالا ذكر جل وعلا في هذه السورة شرح قصة موسى عليه السلام التي أجملها تعالى هناك فاستوعبها سبحانه غاية الاستيعاب وبسطها تبارك وتعالى أبلغ بسط ثم أشار عز شأنه إلى تفصيل قصة آدم عليه السلام الذي وقع في مريم مجرد ذكر اسمه ثم أورد جل جلاله في سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر قصته في مريم كنوح. ولوط. وداود. وسليمان. وأيوب. واليسع وذي الكفل. وذي النون عليهم السلام وأشير فيها إلى قصة من ذكرت قصته إشارة وجيزة كموسى. وهارون. وإسماعيل. وذكرت تلو مريم لتكون السورتان كالمتقابلتين وبسطت فيها قصة إبراهيم عليه السلام البسط التام فيما يتعلق به مع قومه ولم يذكر حاله مع أبيه إلا إشارة كما أنه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة ومع أبيه مبسوطا، وينضمن إلى ما ذكر اشتراك هذه السورة وسورة مريم في الافتتاح بالحروف المقطعة، وقد روي عن ابن
عباس. وجابر بن زيد رضي الله عنهم أن طه نزلت بعد سورة مريم. ووجه ربط أول هذه بآخر تلك أنه سبحانه ذكر هناك تيسير القرآن بلسان الرسول عليه الصلاة والسلام معللا بتبشير المتقين وانذار المعاندين وذكر تعالى هنا ما فيه نوع من تأكيد ذلك. وجاءت آثار تدل على مزيد فضلها.
أخرج الدارمي. وابن خزيمة في التوحيد. والطبراني في الأوسط. والبيهقي في الشعب. وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تبارك وتعالى قرأ * (طه) * و * (يس) * قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت: طوبى لأمة ينزل عليها هذا وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسنة تتكلم بهذا "؛ وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا نحوه، وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل قرآن يوضع عن أهل الجنة فلا يقرؤون منه شيئا إلا سورة " طه " و " يس " فإنهم يقرؤون بهما في الجنة " إلى غير ذلك من الآثار.
* (طه) *.
* (بسم الله الرحم‍ان الرحيم طه) * فخمها على الأصل ابن كثير. وابن عامر. وحفص. ويعقوب وهو إحدى
147

الروايتين عن قالون. وورش. والرواية الأخرى انهما فخما الطاء وأمالا الهاء وهو المروى عن أبي عمرو. وأمال الحرفين حمزة. والكسائي. وأبو بكر؛ ولعل إمالة الطاء مع أنها من حروف الاستعلاء والاستعلاء يمنع الأمالة لأنها تسفل لقصد التجانس وهي من الفواتح التي تصدر بها السور الكريمة على إحدى الروايتين عن مجاهد بل قيل: هي كذلك عند جمهور المتقنين، وقال السدى: المعنى يا فلان، وعن ابن عباس في رواية جماعة عنه. والحسن. وابن جبير. وعطاء. وعكرمة وهي الرواية الأخرى عن مجاهد أن المعنى يا رجل، واختلفوا فقيل: هو كذلك بالنبطية. وقيل: بالحبشية، وقيل: بالعبرانية، وقيل بالسريانية.
وقيل: بلغة عكل، وقيل: بلغة عك. وروي ذلك عن الكلبي قال: لو قلت في عك: يا رجل لم يجب حتى تقول: - طاها - وأنشد الطبري في ذلك قول متمم بن نويرة: دعوت بطاها في القتال فلم يجب * فخفت عليه أن يكون موائلا
وقول الآخر: إن السفاهة طاها من خلائقكم * لا بارك الله في القوم الملاعين
وقال ابن الأنباري: إن لغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا لأن الله تعالى لم يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بلسان غير لسان قريش، ولا يخفى أن مسئلة وقوع شيء بغير لغة قريش من لغات العرب في القرآن خلافية، وقد بسط الكلام عليها في الإتقان، والحق الوقوع وتخرص الزمخشري على عك فقال: لعل عكا تصرفوا في يا هذا كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء فقالوا: في ياطا واختصروا هذا واقتصروا على ها. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرارها التي للتنبيه ولم يقل ذلك نحوى. وذكر في البيت الأخير أنه إن صح فطه فيه قسم بالحروف المقطعة أو اسم السورة على أنه شعر إسلامي كقوله: * (حم لا ينصرون) *.
وتعقب بأنه احتمال بعيد وهو كذلك في المثال وقد رواه النسائي مرفوعا. ولفظ الخبر إذا لقيكم العدو فليكن شعاركم حم لا ينصرون وليس في سياقه دليل على ذلك، ويحتمل أن يكون لا ينصرون مستأنفا والشعار التلفظ بحم فقط كأنه قيل: ماذا يكون إذا كان شعارنا ذلك فقيل: لا ينصرون، وأخرج ابن المنذر. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه سبحانه، وعن أبي جعفر أنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.
وقرأت فرقة منهم أبو حنيفة. والحسن. وعكرمة. وورش * (طه) * بفتح الطاء وسكون الهاء كبل فقيل: معناه يا رجل أيضا، وقيل: أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يطأ الأرض بقدميه فإنه عليه الصلاة والسلام كما روي عن الربيع بن أنس كان إذا صلى قام على رجل واحدة فأنزل الله تعالى * (طه) * الخ، وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم: * (يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا) * (المزمل: 1، 2) قام الليل كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع رجلا ويضع رجلا فهبط عليه جبريل عليه السلام فقال: * (طه) * الآية والأصل طأ فقلبت الهمزة هاء كما قالوا في إياك وارقت ولانك هياك وهرقت ولهنك أو قلبت الهمزة في فعله الماضي والمضارع ألفا كما في قول الفرزدق: راحت بمسلمة البغال عشية * فارعى فزارة لا هناك المرتع
وكما قالوا في سأل سال وحذفت في الأمر لكونه معتل الآخر وضم إليه هاء السكت وهو في مثل ذلك لازم خطا ووقفا، وقد يجري الوصل مجرى الوقف فتثبت لفظا فيه، وجوز بعضهم أن يكون أصل * (طه) *
148

في القراءة المشهورة طاها على أن طا أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يطا الأرض بقدميه وها ضمير مؤنث في موضع المفعول به عائد على الأرض وإن لم يسبق لها ذكر، واعترض بأنه لو كان كذلك لم تسقط منه الألفان ورسم المصحف وإن كان لا ينقاس لكن الأصل فيه موافقته للقياس فلا يعدل عنه لغير داع وليست هذه الألف في اسم ولا وسطا كما في الحرث ونحوه لتحذف لا سيما وفي حذفها لبس فلا يجوز كما فصل في باب الخط من التسهيل.
واعترض بهذا أيضا على تفسيره بيا رجل ونحوه، وقيل: نوجيه ذلك على هذا الأصل ويعلم منه توجيه آخر لقراءة أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ومن معهم أن يقال: اكتفى من طأبطاء متحركة ومن ها الضمير بهاء ثم عبر عنهما باسميهما فها ليست ضميرا بل هي كالقاف في قوله: قلت لها قفي فقالت قاف
واعترض أيضا بأنه كان ينبغي على هذا أن لا تكتب صورة المسمى بل صورة الاسم. وأجيب بأن كتابة الأسماء بصور المسميات أمر مخصوص بحروف التهجي. وتعقب بأن ما ذكر لا يقطع مادة الإيراد إذ لو كان كذلك لا نفصل الحرفان في الخط بأن يكتبان هكذا ط ه‍. فإن قيل: إن خط المصحف لا ينقاس قيل عليه ما قيل، والحق أن دعوى أن خط المصحف لا ينقاس قوية جدا وما قيل عليها لا يعول عليه، وما صح عن السلف يقبل ولا يقدح فيه عدم موافقة القياس، وإن كانت الموافقة هي الأصل.
وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه. والربيع بن أنس أنهما فسرا * (طه) * بطأ الأرض بقدميك يا محمد ولم أقف على طعن في الرواية والله تعالى أعلم.
واختلف في إعرابه حسب الاختلاف في المراد منه فهو على ما نقل عن الجمهور من أن المراد منه طائفة من حروف المعجم مسرودة على نمط التعديد افتتحت بها السورة لا محل له من الاعراب، وكذا ما بعده من قوله تعالى:
* (مآ أنزلنا عليك القرءان لتشقى) *
* (ما أنزلنا عليك القرءان لتشق‍اى) * فإنه استئناف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب فإن الشقاء شائع في ذلك المعنى، ومنه المثل أشقى من رائض مهر، وقول الشاعر: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله * وأخو الجهالة في الشقاء ينعم
أي ما أنزلناه عليك لتتعب بالمبالغة في مكابدة الشدائد في مقاولة العتاة ومحاورة الطغاة وفرط التأسف على كفرهم به والتحسر على أن يؤمنوا به كقوله تعالى شأنه * (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) * (الكهف: 6) الآية بل لتبلغ وتذكر وقد فعلت فلا عليك ان لم يؤمنوا بعد ذلك أو لصرفه عليه الصلاة والسلام عما كان عليه من المبالغة في المجاهدة في العبادة كما سمعت فيما أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أي ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك وحملها على الرياضات الشاقة والشدائد الفادحة وما بعث إلا بالحنفية السمحة، وقال مقاتل: إن أبا جهل. والنضر بن الحرث. والمطعم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأوا كثرة عبادته: إنك لتشقي بترك ديننا وإن القرءان أنزل عليك لتشقي به فرد الله تعالى عليهم ذلك بأنا ما أنزلناه عيك لما قالوا: والشقاء في كلامهم يحتمل أن يكون بمعناه الحقيقي وهو ضد السعادة والتعبير به في كلامه تعالى من باب المشاكلة وإن أريد منه القرآن بتأويل بالمتحدي به جنس هذه الحروف.
فجوز فيه أن يكون محله الرفع على الابتداء والجملة بعده خبره، وقد أقيم فيها الظاهر أعني القرآن مقام
149

الضمير الرابط لنكتة وهو أن القرآن رحمة يرتاح لها فكيف ينزل للشقاء، وقيل: الخبر محذوف، وقيل: هو خبر لمبتدأ محذوف. والجملة على القولين مستأنفة. وجوز أن يكون محله النصب على إضمار اتل. وقيل: على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب بفعله مضمرا نحو قوله: إن على الله أن تبايعا
وجوز أن يكون محله الجر بتقدير حرف القسم نظير قوله من وجه، أشارت كليب بالأكف الأصابع، والجملة بعده على تقدير إرادة القسم جواب القسم. وجوز هذه الاحتمالات على تقدير أن يكون المراد منه السورة.
وأمر ربط الجملة على تقدير ابتدائيته وخبريتها ان كان القرآن خاصا بهذه السورة باعتبار كون تعريفه عهديا حضوريا ظاهر. وإن كان عاما فالربط به لشموله للمبتدأ كما قيل في نحو زيد نعم الرجل.
ومنع بعضهم إرادة السورة مطلقا لا تفاق المصاحف على ذكر سورة في العنوان مضافة إلى طه وحينئذ يكون التركيب كإنسان زيد وقد حكموا بقبحه وفيه بحث لا يكاد يخفى حتى على بهيمة الأنعام، وبعضهم إرادة ذلك على تقدير الأخبار بالجملة بعد قال: لأن نفى كون إنزال القررن للشقاء يستدعي وقوع الشقاء مترتبا على إنزاله قطعا إما بحسب الحقيقة كما إذا أريد به التعب أو بحسب زعم الكفرة كما لو أريد به ضد السعادة، ولا ريب في أن ذلك إنما يتصور في إزال ما أنزل من قبل وأما انزال السورة الكريمة فليس مما يمكن ترتب الشقاء السابق عليه حتى يتصدى لنفيه عنه أما باعتبار اتحاد القرآن بالسورة فظاهر، وأما باعتبار الاندراج فلأن مآله أن له يقال: هذه السورة ما أنزلنا القرآن المشتمل عليها لتشقى، ولا يخفى أن جعلها مخبرا عنها مع أنه لا دخل لإنزالها في الشقاء السابق أصلا مما لا يليق بشأن التنزيل اه‍ ولا يخلو عن حسن، وعلى ما روي عن أبي جعفر من أنه من أسمائه صلى الله عليه وسلم يكون منادي وحكمه مشهور، والجملة جواب النداء، ومحله على ما أخرج ابن المنذر. وابن مردويه عن الحبر من أنه قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه تباركت أسماؤه النصب أو الجر على ما سمعت آنفا.
وعلى ما روي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه. والربيع يكون جملة فعلية وقد مر لك تفصيل ذلك، والجملة بعده مستأنفة استئنافا نحويا أو بيانيا كأنه قيل لم اطؤها؟ فقيل: * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) * وقرأ طلحة * (ما نزل عليك القرآن) * بتشديد الفعل وبنائه للمفعول وإسناده إلى القرآن.
* (إلا تذكرة لمن يخشى) *
* (إلا تذكرة) * نصب على الإستثناء المنقطع أي ما أنزلناه لشقائق لكن تذكيرا * (لمن يخشى) * أي لمن شأنه أن يخشى الله تعالى ويتأثر بالإنذار لرقة قليه ولين عريكته أو لمن علم الله تعالى أنه يخشى بالتخويف، والجار والمجرور متعلق بتذكرة أو بمحذوف صفة لها، وخص الخاشي بالذكر مع أن القرآن تذكرة للناس كلهم لتنزيل غيره منزلة العدم فإنه المنتفع به.
وجوز الزمخشري كون " تذكرة " مفعولا له لأنزلنا، وانتصب لاستجماع الشرائط بخلاف المفعول الأول لعدم اتحاد الفاعل فيه، والمشهور عن الجمهور اشتراطه للنصب فلذا جر، ويجوز تعدد العلة بدون عطف وإبدال إذا اختلفت جهة العمل كما هنا لظهور أن الثاني مفعول صريح والأول جار ومجرور، وكذا إذا اتحدت وكانت إحدى العلتين علة للفعل والأخرى علة له بعد تعليله نحو أكرمته لكونه غريبا لرجاء الثواب أو كانت العلة الثانية علة للعلة الأولى نحو لا يعذب الله تعالى التائب لمغفرته له لإسلامه فما قيل عليه من أنه لا يجوز
150

تعدد العلة بدون اتباع غير مسلم.
وفي الكشف أن المعنى على هذا الوجه ما أنزلناه عليك لتحتمل مشاقه ومتاعبه إلا ليكون تذكرة، وحاصله أنه نظير ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا، ويرجع المعنى إلى ما أدبتك بالضرب إلا للإشفاق كذلك المعنى هنا ما أشقيناك بإنزال القرآن إلا للتذكرة، وحاصله حسبك ما حملته من متاعب التبليغ ولا تنهك بدنك ففي ذلك بلاغ ا ه‍.
واعترض القول بجعله نظير ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا بأنه يجب في ذلك أن يكون بين العلتين ملابسة بالسببية والمسببية حتما كما في المثال المذكور، وفي قولك: ما شافهته بالسوء ليتأذى إلا زجرا لغيره فإن التأديب في الأول مسبب عن الاشفاق والتأذي في الثاني سبب لزجر الغير وما بين الشقاء والتذكرة تناف ظاهر، ولا يجدي أن يراد به التعب في الجملة المجامع للتذكرة لظهور أن لا ملابسة بينهما بما ذكر من السببية والمسببية وإنما يتصور ذلك أن لو قيل مكان * (إلا تذكرة) * إلا تكثيرا لثوابك فإن الأجر بقدر التعب كما في الحديث انتهى.
ولعل قائل ذلك يمنع وجوب أن يكون بين العلتين الملابسة المذكورة أو يدعي تحققها بينهما في الآية بناء على أن التذكرة أي التذكير سبب للتعب كما يشعر بذلك قول المدقق في الحاصل الأخير حسبك ما حملته من متاعب التبليغ الخ، وقد خفى المراد من الآية على هذا الوجه علي ابن المنير فقال: إن فيه بعدا لأنه حينئذ يكون الشقاء سبب النزول وإن لم تكن اللام سببية وكانت للصيرورة مثلا لم يكن فيه ما جرت عادة الله تعالى به مع نبيه صلى الله عليه وسلم من نهيه عن الشقاء والحزن على الكفرة وضيق الصدر بهم وكان مضمون الآية منافيا لقوله تعالى: * (فلا يكن في صدرك حرج) * (الأعراف: 2) * (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) * (الكهف: 6) ا ه‍، وأنت تعلم بعد الوقوف على المراد أن لا منافاة. نعم بعد هذا الوجه وكون الآية نظير ما ضربتك للتأديب إلا اشفاقا مما يشهد به الذوق، ويجوز أن تكون حالا من الكاف أو " القرآن " والاستثناء مفرغ، والمصدر مؤول بالصفة أو قصد به المبالغة.
وجوز الحوفي كونها بدلا من " القرآن ". والزجاج كونها بدلا من محل * (لتشقي) * لأن الاستثناء من غير الموجب يجوز فيه الإبدال. وتعقب بأن ذلك إذا كان متصلا بأن كان المستثنى من جنس المستثنى منه والبدلية حينئذ البدلية البعضية في المشهور، وقيل: بدلية الكل من الكل، ولا يخفى عدم تحقق ذلك بين التذكرة والشقاء. والقول ببداية الاشتمال في مثل ذلك لتصحيح البدلية هنا بناء على أن التذكرة تشتمل على التعب مما لم يقله أحد من النحاة. واعتبارها لهذا الاشتمال من جنس الشقاء فكأنها متحدة معه لا يجعل الاستثناء متصلا كما قيل، وقد سمعت اشتراطه، وبالجملة هذا الوجه ليس بالوجيه وقد أنكره أبو علي على الزجاج.
وجوز أن يكون مفعولا له لأنزلنا و * (لتشقي) * ظرف مستقر في موضع الصفة للقرآن أي ما أنزلنا القرآن الكائن أو المنزل لتعبك إلا تذكرة، وفيه تقدير المتعلق مقرونا باللام وحذف الموصول مع بعض صلته وقد أباه بعض النحاة، وكون أل حرف تعريف خلاف الظاهر، وقيل: هي نصب على المصدرية لمحذوف أي لكن ذكرناه به تذكرة، وقوله تعالى:
* (تنزيلا ممن خلق الارض والسم‍اوات العلى) *
* (تنزيلا) * كذلك أي نزل تنزيلا، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها. وقيل: لما تفيده الجملة الاستثنائية فإنها متضمنة لأن يقال: إنا أنزلناه للتذكرة والأول أنسب لما بعده من الالتفات. وقيل: منصوب على المدح والاختصاص. وقيل: بيخشى على المفعولية. واستبعدهما أبو حيان وعد
151

الثاني في غاية البعد لأن " يخشى " رأس آية فلا يناسب أن يكون " تنزيلا " مفعوله. وتعقب أيضا بأن تعليق الخشية والخوف ونظائرهما بمطلق التنزيل غير معهود. نعم قد تعلق ذلك ببعض أجزائه المشتملة على الوعيد ونحوه كما في قوله تعالى: * (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم) *.
وأنت تعلم أن المعنى على هذا الوجه إلا تذكرة لمن يخشى المنزل من قادر قاهر وهو مما لا خلل فيه، وأمر عدم المعهودية سهل. وقيل: هو بدل من " تذكرة " بناء على أنها حال من الكاف أو " القرآن " كما نقل سابقا وهو بدل اشتمال. وتعقبه أبو حيان بأن جعل المصدر حالا لا ينقاس، ومع هذا فيه دغدغة لا تخفى، ولم يتجوز البدلية منها على تقدير أن تكون مفعولا له لأنزلنا لفظا أو معنى لأن البدل هو المقصود فيصير المعنى أنزلناه لأجل التنزيل وفي ذلك تعليل الشيء بنفسه ان كان الإنزال والتنزيل بمعنى بحسب الوضع أو بنوعه إن كان الإنزال عاما والتنزيل مخصوصا بالتدريجي وكلاهما لا يجوز.
وقرأ ابن عبلة " تنزيل " بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو تنزيل * (ممن خلق الأرض والسم‍اوات العلى) * متعلق بتنزيل. وجوز أن يكون متعلقا بمضمر هو صفة له مؤكدة لما في تنكيره من الفخامة الذاتية بالفخامة الاضافية. ونسبة التنزيل إلى الموصول بطريق الالتفات إلى الغيبة بعد نسبة الإنزال إلى نون العظمة لبيان فخامته تعالى شأنه بحسب الأفعال والصفات أثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام ثم التفسير لزيادة تحقيق تقرير.
واحتمال كون " أنزلنا " الخ حكاية لكلام جبرائيل والملائكة النازلين معه عليهم السلام بعيد غاية البعد.
وتخصيص خلق الأرض والسموات بالذكر مع أن المراد خلقهما بجيمع ما يتعلق بهما كما يؤذن به قوله تعالى: * (له ما في السموات وما في الأرض) * (البقرة: 552) الآية لاصالتهما واستتباعها لما عداهما، وقيل: المراد بهما ما في جهة السفل وما في جهة العلو، وتقديم خلق الأرض قيل لأنه مقدم في الوجود على خلق السموات السبع كما هو ظاهر آية حم السجدة * (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) * (فصلت: 9) الآية. وكذا ظاهر آية البقرة * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن) * (البقرة: 29) الآية.
ونقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السموات مقدم، واختاره كثير من المحققين لتقديم السموات على الألاض في معظم الآيات التي ذكرا فيها واقتضاء الحكمة تقديم خلق الإشراف والسماء أشرف من الأرض ذاتا وصفة مع ظاهر ءاية النازعات * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها) * (النازعات: 27) الآية، واختار بعض المحققين أن خلق السموات بمعنى إيجادها بمادتها قبل خلق الأرض وخلقها بمعنى إظهارها بآثارها بعد خلق الأرض وبذلك يجمع بين الآيات التي يتوهم تعارضها، وتقديم السموات في الذكر على الأرض تارة والعكس أخرى بحسب اقتضاء المقام وهو أقرب إلى التحقيق، وعليه وعلى ما قبله فتقديم خلق الأرض هنا قيل لأنه أوفق بالتنزيل الذي هو من أحكام رحمته تعالى كما ينبىء عنه ما بعد وقوله تعالى: * (الرحمن * علم القرآن) * (الرحمن: 1، 2) ويرمز إليه ما قبل فإن الأنعام على الناس بخلق الأرض
أظهر وأتم وهي أقرب إلى الحس. وقيل: لأنه أوفق بمفتتح السورة بناء على جعل " طه " جملة فعلية أي طأ الأرض بقدميك أو لقوله تعالى: * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) * (طه: 2) بناء على أنه جملة مستأنفة لصرفه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من رفع إحدى رجليه عن الأرض في الصلاة كما جاء في سبب النزول، ووصف السموات بالعلى وهو جمع العليا كالكبرى تأنيث الأعلى لتأكيد الفخامة مع ما فيه
152

من مراعاة الفواصل وكل ذلك إلى قوله تعالى: * (له الأسماء الحسنى) * (الإسراء: 110) مسوق لتعظيم شأن المنزل عز وجل المستتبع لتعظيم المنزل الداعي إلى استنزال المتمردين عن رتبة العلو والطغيان واستمالتهم إلى التذكر والإيمان.
* (الرحم‍ان على العرش استوى) *
* (الرحم‍ان) * رفع على المدح أي هو الرحمن.
وجوز ابن عطية أن يكون بدلا من الضمير المستتر في * (خلق) * وتعقبه أبو حيان فقال: أرى أن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه ولا يحل ههنا لئلا يلزم خلو الصلة من العائد اه‍، ومنع بعضهم لزوم اطراد الحلول ثم قال: على تسليمه يجوز إقامة الظاهر مقام الضمير العائد كما في قوله: وأنت الذي في رحمة الله أطمع
نعم اعتبار البدلية خلاف الظاهر، وجوز أن يكون مبتدأ واللام للعهد والإشارة إلى الموصول وخبره قوله تعالى: * (على العرش استوى) * ويقدر هو ويجعل خبرا عنه على احتمال البدلية، وعلى الاحتمال الأول يجعل خبرا بعد خبر لما قدر أولا على ما في " البحر " وغيره، وروى جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ * (الرحمن) * بالجر، وخرجه الزمخشري على أنه صفة لمن. وتعقبه أبو حيان بأن مذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها كمن وما لا يجوز نعتها إلا الذي والتي فيجوز نعتهما فعندهم لا يجوز هذا التخريج فالأحس أن يكون * (الرحمن) * بدلا من * (من) * وقد جرى في القرآن مجرى العلم في وقوعه بعد العوامل، وقيل: إن * (من) * يحتمل أن تكون نكرة موصوفة وجملة * (خلق) * صفتها و * (الرحمن) * صفة بعد صفة وليس ذاك من وصف الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها غاية ما في الباب أن فيه تقديم الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد وهو جائز اه‍ وهو كما ترى.
وجملة * (على العرش استوى) * على هذه القراءة خبر هو مقدرا، والجار والمجرور على كل الاحتمالات متعلق باستوى قدم عليه لمراعاة الفواصل، و * (العرش) * في اللغة سرير الملك وفي الشرع سرير ذو قوائم له حملة من الملائكة عليهم السلام فوق السموات مثل القبة، ويدل على أن له قوائم ما أخرجاه في " الصحيحين " عن أبي سعيد قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه فقال: يا محمد رجل من أصحابك قد لطم وجهي فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ادعوه فقال: لم لطمت وجهه؟ فقال: يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول: والذي اصطفى موسى على البشر فقلت: يا خبيث وعلى محمد صلى الله عليه وسلم فأخذتني غضبة فلطمته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون وأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى عليه السلام آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور، وعلى أن له حملة من الملائكة عليهم السلام قوله تعالى: * (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به) * (غافر: 7).
وما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش أن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة " وعلى أنه فوق السموات مثل القبة ما رواه أبو داود أيضا عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس ونهكت الأموال أو هلكت فاستسق لنا فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك
153

في وجوه أصحابه ثم قال: ويحك أنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه شأن الله تعالى أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن الله تعالى فوق عرشه وعرشه فوق سمواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب " ومن شعر أمية بن أبي الصلت: مجدوا الله فهو للمجد أهل * ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء العالي الذي بهر النا * س وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا لا يناله طرف الع‍ * - ين ترى حوله الملائك صورا
وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أنه مستدير من جميع الجوانب محيط بالعالم من كل جهة وهو محدد الجهات وربما سموه الفلك الأطلس والفلك التاسع. وتعقبه بعض شراح عقيدة الطحاوي بأنه ليس بصحيح لما ثبت في الشرع من أن له قوائم تحمله الملائكة عليهم السلام، وأيضا أخرجا في " الصحيحين " عن جابر أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ " والفلك التاسع عندهم متحرك دائما بحركة متشابهة، ومن تأول ذلك على أن المراد باهتزازه استبشار حملة العرش وفرحهم فلا بد له من دليل على أن سياق الحديث ولفظه كما نقل عن أبي الحسن الطبري. وغيره بعيد عن ذلك الاحتمال، وأيضا جاء في " صحيح مسلم " من حديث جويرية بنت الحرث ما يدل على أن له زنة هي أثقل الأوزان والفلك عندهم لا ثقيل ولا خفيف، وأيضا العرب لا تفهم منه الفلك والقرآن إنما نزل بما يفهمون.
وقصارى ما يدل عليه خبر أبي داود عن جبير بن مطعم التقبيب وهو لا يستلزم الاستدارة من جميع الجوانب كما في الفلك ولا بد لها من دليل منفصل. ثم إن القوم إلى
الآن بل إلى أن ينفخ في الصور لا دليل لهم على حصر الأفلاك في تسعة ولا على أن التاسع أطلس لا كوكب فيه وهو غير الكرسي على الصحيح فقد قال ابن جرير: قال أبو ذر رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض ".
وروى ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش. والحاكم في مستدركه وقال: إنه على شرط الشيخين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى، وقد روي مرفوعا والصواب وقفه على الحبر، وقيل: العرش كناية عن الملك والسلطان. وتعقبه ذلك البعض بأنه تحريف لكلام الله تعالى وكيف يصنع قائل ذلك بقوله تعالى: * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * (الحاقة: 17) أيقول ويحمل ملكه تعالى يومئذ ثمانية، وقوله عليه الصلاة والسلام: " فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش " أيقول آخذ بقائمة من قوائم الملك وكلا القولين لا يقولهما من له أدنى ذوق، وكذا يقال: أيقول في " اهتز عرش الرحمن " الحديث اهتز ملك الرحمن وسلطان، وفيما رواه البخاري. وغيره عن أبي هريرة مرفوعا لما قضى الله تعالى الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي فهو عنده سبحانه وتعالى فوق الملك والسلطان؛ وهذا كذينك القولين، والاستواء على الشيء جاء بمعنى الارتفاع والعلو عليه وبمعنى الاستقرار كما في قوله تعالى: * (واستوت على الجودى) * (هود: 4 ط) * (ولتستووا على ظهوره) * (الزخرف: 13) وحيث كان ظاهر ذلك مستحيلا عليه
154

تعالى قيل: الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء كما في قوله:
قد استوى بشر على العراق
وتعقب بأن الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز، وذلك محال في حقه تعالى، وأيضا إنما يقال: استولى فلان على كذا إذا كان له منازع ينازعه وهو في حقه تعالى محال أيضا، وأيضا إنما يقال ذلك إذا كان المستولى عليه موجودا قبل والعرش إنما حدث بتخليقه تعالى وتكوينه سبحانه، وأيضا الاستيلاء واحد بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة.
وأجاب الإمام الرازي بأنه إذا فسر الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية، ولا يخفى حال هذا الجواب على المنصف، وقال الزمخشري: لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون ملك وإن لم يقعد على العرش البتة وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة بمعنى أنه جواد أو بخيل ولا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم: جواد ومنه قوله تعالى: * (وقالت اليهود يد الله) * (المائدة: 64) الآية عنوا الوصف بالبخل ورد عليهم بأنه جل جلاله جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط انتهى، وتعقبه الإمام قائلا: إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم يقولون أيضا: المراد من قوله تعالى: * (اخلع نعليك) * (طه: 12) الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور نعل، وقوله تعالى: * (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) * (الأنبياء: 69) المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام عن يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة. وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه، وليست من لم يعرف شيئا لم يخص فيه انتهى، ولا يخفى عليك أنه لا يلزم من فتح الباب في هذه الآية انفتاح تأويلات الباطنية فيما ذكر من الآيات إذ لا داعي لها هناك والداعي للتأويل بما ذكره الزمخشري قوي عنده، ولعله الفرار من لزوم المحال مع رعاية جزالة المعنى فإن ما اختاره أجزل من معنى الاستيلاء سواء كان معنى حقيقيا للاستواء كما هو ظاهر كلام الصحاح والقاموس وغيرهما أو مجازيا كما هو ظاهر جعلهم الحمل عليه تأويلا. واستدل الإمام على بطلان إرادة المعنى الظاهر بوجوه. الأول: أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولما خلق الخلق لم يحتج إلى ما كان غنيا عنه. الثاني: أن المستقر على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الجزء الحاصل منه في يساره فيكون سبحانه وتعالى في نفسه مؤلفا وهو محال في حقه تعالى للزوم الحدوث. الثالث: أن المستقر على العرش أما أن يكون متمكنا من الانتقال والحركة ويلزم حينئذ أن يكون سبحانه وتعالى محل الحركة والسكون وهو قول بالحدوث أو لا يكون متمكنا من ذلك فيكون جل وعلا كالزمن بل أسوأ حالا منه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. الرابع: أنه إن قيل بتخصيصه سبحانه وتعالى بهذا المكان وهو العرش احتيج إلى مخصص وهو افتقار ينزه الله تعالى عنه، وإن قيل بأنه عز وجل يحصل بكل مكان لزم مالا يقوله عاقل. الخامس: أن قوله تعالى: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) عام في نفي المماثلة فلو كان جالسا لحصل من يماثله في الجلوس فحينئذ تبطل الآية. السادس: أنه تعالى لو كان مستقرا على العرش لكان محمولا
155

للملائكة لقوله تعالى: * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * (الحاقة: 17) وحامل حامل الشيء حامل لذلك الشيء وكيف يحمل المخلوق خالقه. السابع: أنه لو كان المستقر في المكان إلها ينسد باب القدح في الهية الشمس والقمر. الثامن: أن العالم كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى قوم هي تحت بالنسبة إلى آخرين وبالعكس فيلزم من إثبات جهة الفوق للمعبود سبحانه إثبات الجهة المقابلة لها أيضا بالنسبة إلى بعض، وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال: المعبود تحت.
التاسع: أن الأمة أجمع على أن قوله تعالى: * (قل هو الله أحد) * (الصمد: 1) من المحكمات وعلى فرض الاستقرار على العرش يلزم التركيب والانقسام فلا يكون سبحانه وتعالى أحدا في الحقيقة فيبطل ذلك المحكم.
العاشر: أن الخليل عليه السلام قال: * (لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76) فلو كان تعالى مستقرا على العرش لكان جسما آفلا أبدا فيندرج تحت عموم هذا القول انتهى. ثم أنه عفا الله تعالى عنه ضعف القول بأنا نقطع بأنه ليس مراد الله تعالى ما يشعر به الظاهر بل مراده سبحانه شيء آخر ولكن لا نعين ذلك المراد خوفا من الخطا بأنه عز وجل لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا نريد باللفظ إلا موضوعه في لسانهم وإذا كان لا معنى للاستواء في لسانهم إلا الاستقرار والاستيلاء وقد تعذر حمله
على الاستقرار فوجب حمله على الاستيلاء وإلا لزم تعطيل اللفظ وأنه غير جائز. وإلى نحو هذا ذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام فقال في بعض فتاويه: طريقة التأويل بشرطه وهو قرب التأويل أقرب إلى الحق لأن الله تعالى إنما خاطب العرب بما يعرفونه وقد نصب الأدلة على مراده من آيات كتابه لأنه سبحانه قال: * (ثم إن علينا بيانه) * (القيامة: 19) * (ولتبين للناس ما نزل إليهم) * (النحل: 44) وهذا عام في جميع آيات القرآن فمن وقف على الدليل أفهمه الله تعالى مراده من كتابه وهو أكمل ممن لم يقف على ذلك إذ لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وفيه توسط في المسألة.
وقد توسط ابن الهمام في المسايرة وقد بلغ رتبة الاجتهاد كما قال عصرينا ابن عابدين الشامي في " رد المحتار " حاشية " الدر المختار " توسطا أخص من هذا التوسط فذكر ما حاصله وجوب الإيمان بأنه تعالى استوى على العرش نفي التشبيه وأما كون المراد استولى فأمر جائز الإرادة لا واجبها إذ لا دليل عليه وإذا خيف على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا بالاتصال ونحوه من لوازم الجسمية فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء فإنه قد ثبت إطلاقه عليه لغة في قوله:
فلما علونا واستوينا عليهم * جعلناهم مرعى لنسر وطائر
وقوله قد استوى بشر البيت المشهور. وعلى نحو ما ذكر كل ما ورد مما ظاهره الجسمية في الشاهد كالاصبع والقدم واليد. ومخلص ذلك التوسط في القريب بين أن تدعو الحاجة إليه لخلل في فهم العوام وبين أن لا تدعو لذلك. ونقل أحمد زروق عن أبي حامد أنه قال: لا خلاف في وجوب التأويل عند تعين شبهة لا ترتفع إلا به. وأنت تعلم أن طريقة كثير من العلماء الأعلام وأساطين الإسلام الإمساك عن التأويل مطلقا مع نفي التشبيه والتجسيم منهم الإمام أبو حنيفة. والإمام مالك. والإمام أحمد. والإمام الشافعي. ومحمد بن الحسن. وسعد بن معاذ المروزي. وعبد الله بن المبارك. وأبو معاذ خالد بن سليمان صاحب سفيان الثوري. وإسحاق بن راهويه. ومحمد بن إسماعيل البخاري. والترمذي. وأبو داود السجستاني.
ونقل القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد في كتاب الاعتقاد عن أبي يوسف عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي لأحد أن ينطق في الله تعالى بشيء من ذاته ولكن يصفه بما وصف سبحانه به نفسه ولا يقول فيه
156

برأيه شيئا تبارك الله تعالى رب العالمين.
وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول لله تعالى أسماء وصفات لا يسع أحد ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر فنثبت هذه الصفات وننفي عنها التشبيه كما نفى سبحانه عن نفسه فقال: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11)، وذكر الحافظ ابن حجر في " فتح البخاري " أنه قد اتفق على ذلك أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وكلام إمام الحرمين في الإرشاد يميل إلى طريقة التأويل وكلامه في الرسالة النظامية مصرح باختياره طريقة التفويض حيث قال فيها: والذي نرتضيه رأيا وندين به عقدا اتباع سلف الأمة فالأولى الأتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعاني المتشابهات مع أنهم كانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها فلو كان تأويل هذه الظواهر مسنونا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق الاهتمام بفروع الشريعة وقد اختاره أيضا الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في اختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين، وفي كتابه الإبانة في أصول الديانة وهو آخر مصنفاته فيما، قيل: وقال البيضاوي في " الطوالع ": والأولى اتباع السلف في الإيمان بهذه الأشياء - يعني المتشابهات - ورد العلم إلى الله تعالى بعد نفي ما يقتضي التشبيه والتجسيم عنه تعالى انتهى.
وعلى ذلك جرى محققو الصوفية فقد نقل عن جمع منهم أنهم قالوا: إن الناس ما احتاجوا إلى تأويل الصفات إلا من ذهولهم عن اعتقاد أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق وإذا كانت مخالفة فلا يصح في آيات الصفات قط تشبيه إذ التشبيه لا يكون إلا مع موافقة حقيقته تعالى لحقائق خلقه وذلك محال.
وعن الشعراني أن من احتاج إلى التأويل فقد جهل أولا وآخرا أما أولا فبتعقله صفة التشبيه في جانب الحق وذلك محال، وأما آخرا فلتأويله ما أنزل الله تعالى على وجه لعله لا يكون مراد الحق سبحانه وتعالى.
وفي " الدرر المنثورة " له أن المؤول انتقل عن شرح الاستواء الجثماني على العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه بالأمر السلطاني الحادث وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث ما إلى التشبيه بمحدث آخر فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى: * (ليس كمثله شيء) * ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلي في الاستواء بقول الشاعر:
قد استوى البيت، وأين استواء بشر على العراق من استواء الحق سبحانه وتعالى على العرش فالصواب أن يلزم العبد الأدب مع مولاه ويكل معنى كلامه إليه عز وجل.
ونقل الشيخ إبراهيم الكوراني في تنبيه العقول عن الشيخ الأكبر قدس سره أنه قال في الفتوحات أثناء كلام طويل عجب فيه من الأشاعرة والمجسمة: الاستواء حقيقة معقولة معنوية تنسب إلى كل ذات بحسب ما تعطيه حقيقة تلك الذات ولا حاجة لنا إلى التكلف في صرف الاستواء عن ظاهره، والفقير قد رأى في الفتوحات ضمن كلام طويل أيضا في الباب الثالث منها ما نصه ما ضل من ضل من المشبهة إلا بالتأويل وحمل ما وردت به الآيات والأخبار على ما يسبق منها إلى الفهم من غير نظر فيما يجب لله تعالى من التنزيه فقادهم ذلك إلى الجهل المحض والكفر الصراح ولو طلبوا السلامة وتركوا الأخبار والآيات على ما جاءت من غير عدول منهم فيها إلى شيء البتة ويكلون علم ذلك إلى الله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ويقولون:
157

لا ندري كان يكفيهم قول الله سبحانه وتعالى: * (ليس كمثله شيء) * ثم ذكر بعد في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: الذي رواه مسلم: إن قلوب بني آدم كلها
بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف شاء التخيير بين التفويض لكن بشرط نفي الجارحة ولا بد وتبيين ما في ذلك اللفظ من وجوه التنزيه، وذكر أن هذا واجب على العالم عند تعينه في الرد على بدعي مجسم مشبه، وقال أيضا فيما رواه عنه تلميذه المحقق إسماعيل بن سودكين في " شرح التجليات ": ولا يجوز للعبد أن يتأول ما جاء من أخبار السمع لكونها لا تطابق دليله العقلي كأخبار النزول وغيره لأنه لو خرج الخطاب عما وضع له لما كان به فائدة وقد علمنا أنه عليه الصلاة والسلام أرسل ليبين للناس ما أنزل إليهم ثم رأيناه صلى الله عليه وسلم مع فصاحته وسعة علمه وكشفه لم يقل لنا أنه تنزل رحمته تعالى ومن قال تنزل رحمته فقد حمل الخطاب على الأدلة العقلية والحق ذاته مجهولة فلا يصح الحكم عليه بوصف مقيد معين، والعرب تفهم نسبة النزول مطلقا فلا تقيده بحكم دون حكم، وحيث تقرر عندها أنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء يحصل لها المعنى مطلقا منزها وربما يقال لك هذا يحيله العقل فقل الشأن هذا إذا صح أن يكون الحق من مدركات العقول فإنه حينئذ تمضي عليه سبحانه وتعالى أحكامها انتهى، وقال تلميذه الشيخ صدر الدين القونوي في مفتاح الغيب بعد بسط كلام في قاعدة جليلة الشأن حاصلها أن التغاير بين الذوات يستدعي التغاير في نسبة الأوصاف إليها ما نصه: وهذه قاعدة من عرفها أو كشف له عن سرها عرف سر الآيات والأخبار التي توهم التشبيه عند أهل العقول الضعيفة واطلع على المراد منها فيسلم من ورطتي التأويل والتشبيه وعاين الأمر كما ذكر مع كمال التنزيه انتهى، وخلاصة الكلام في هذا المقام أنه قد ورد في الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة ألفاظ توهم التشبيه والتجسيم وما لا يليق بالله تعالى الجليل العظيم فتشبث المجسمة والمشبهة بما توهمه فضلوا وأضلوا ونكبوا عن سواء السبيل وعدلوا وذهب جمع إلى أنهم هالكون وبربهم كافرون، وذهب آخرون إلى أنهم مبتدعون وفصل بعض فقال: هم كفرة إن قالوا: هو سبحانه وتعالى جسم كسائر الأجسام ومبتدعة إن قالوا: جسم لا كالأجسام وعصم الله تعالى أهل الحق مما ذهبوا إليه وعولوا في عقائدهم عليه فأثبتت طائفة منهم ما ورد كما ورد مع كمال التنزيه المبرأ عن التجسيم والتشبيه فحقيقة الاستواء مثلا المنسوب إليه تعالى شأنه لا يلزمها ما يلزم في الشاهد فهو جل وعلا مستو على العرش مع غناه سبحانه وتعالى عنه وحمله بقدرته للعرش وحملته وعدم مماسة له أو انفصال مسافى بينه تعالى وبينه ومتى صح للمتكلمين أن يقولوا: إنه تعالى ليس عين العالم ولا داخلا فيه ولا خارجا عنه مع أن البداهة تكاد تقضي ببطلان ذلك بين شيء وشيء صح لهؤلاء الطائفة أن يقولوا ذلك في استوائه تعالى الثابت بالكتاب والسنة. فالله سبحانه وصفاته وراء طور العقل فلا يقبل حكمه إلا فيما كان في طور الفكر فإن القوة المفكرة شأنها التصرف فيما في الخيال والحافظة من صور المحسوسات والمعاني الجزئية ومن ترتيبها على القانون يحصل للعقل علم آخر بينه وبين هذه الأشياء مناسبة وحيث لا مناسبة بين ذات الحق جل وعلا وبين شيء لا يستنتج من المقدمات التي يرتبها العقل معرفة الحقيقة فاكف الكيف مشلولة وأعناق التطاول إلى معرفة الحقيقة مغلولة وأقدام السعي إلى التشبيه مكبلة وأعين الأبصار والبصائر عن الإدراك والإحاطة مسملة:
مرام شط مرمى العقل فيه * ودون مداه بيد لا تبيد
وقد أخرج اللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن عن أمه عن أم سلمة أنها قالت: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود به كفر، ومن طريق ربيعة بن عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى على العرش فقال: الاستواء غير
158

مجهول والكيف غير معقول وعلى الله تعالى إرساله وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم، ومتى قالوا بنفي اللوازم بالكلية اندفع عنهم ما تقدم من الاعتراضات وحفظوا عن سائر الآفات وهذه الطائفة قيل هم السلف الصالح، وقيل: إن السلف بعد نفي ما يتوهم من التشبيه يقولون: لا ندري ما معنى ذلك والله تعالى أعلم بمراده. واعترض بأن الآيات والأخبار المشتملة على نحو ذلك كثيرة جدا ويبعد غاية البعد أن يخاطب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم العباد فيما يرجع إلى الاعتقاد بما لا يدري معناه، وأيضا قد ورد في الأخبار ما يدل على فهم المخاطب المعنى من مثل ذلك، فقد أخرج أبو نعيم عن الطبراني قال: حدثنا عياش بن تميم حدثنا يحيى بن أيوب المقابري حدثنا سلم بن سالم حدثنا خارجة بن مصعب عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تعالى يضحك من يأس عباده وقنوطهم وقرب الرحمة منهم فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أو يضحك ربنا؟ قال: نعم والذي نفسي بيده إنه ليضحك قلت: فلا يعد منا خيرا إذا ضحك فإنها رضي الله تعالى عنها لو لم تفهم من ضحكه تعالى معنى لم تقل ما قالت.
وقد صح عن بعض السلف أنهم فسروا، ففي " صحيح البخاري " قال مجاهد: استوى على العرش علا على العرش وقال أبو العالية: استوى على العرش ارتفع، وقيل: إن السلف قسمان قسم منهم بعد أن نفوا التشبيه عينوا المعنى الظاهر المعري عن اللوازم وقسم رأوا صحة تعيين ذلك وصحة تعيين معنى آخر لا يستحيل عليه تعالى كما فعل بعض الخلف فراعوا الأدب واحتاطوا في صفات الرب فقالوا: لا ندري ما معنى ذلك أي المعنى المراد له عز وجل والله تعالى أعلم بمراده. وذهبت طائفة من المنزهين عن التشبيه والتجسيم إلى أنه ليس المراد الظواهر مع نفي اللوازم بل المراد معنى معين هو كذا وكثيرا ما يكون ذلك معنى مجازيا وقد يكون معنى حقيقيا للفظ وهؤلاء جماعة من الخلق وقد يتفق لهم تفويض المراد إليه جل وعلا أيضا وذلك إذا تعددت المعاني المجازية أو الحقيقة التي لا يتوهم منها محذور ولم يقم عندهم قرينة ترجح واحدا منها فيقولون: يحتمل اللفظ كذا وكذا والله تعالى أعلم بمراده من ذلك. ومذهب الصوفية على ما ذكره الشيخ إبراهيم الكوراني وغيره إجراء المتشابهات على طواهرها مع نفي اللوازم والتنزيه بليس كمثله شيء كمذهب السلف الأول وقولهم بالتجلي في المظاهر على هذا النحو، وكلام الشيخ الأكبر قدس سره في هذا المقام مضطرب كما يشهد بذلك ما سمعت نقله عنه أولا مع ما ذكره في الفصل الثاني من الباب الثاني من الفتوحات فإنه قال في عد الطوائف المنزهة: وطائفة من المنزهة أيضا وهي العالية وهم أصحابنا فرغوا قلوبهم من الفكر والنظر وأخلوها وقالوا: حصل في نفوسنا من تعظيم الله تعالى الحق جل جلاله بحيث لا نقدر أن نصل إلى معرفة ما جاءنا من عنده بدقيق فكر ونظر فاشبهوا في هذا العقد المحدثين السالمة عقائدهم حيث لم ينظروا ولم يؤولوا بل قالوا: ما فهمنا فقال أصحابنا بقولهم ثم انتقلوا عن مرتبة هؤلاء بأن قالوا: لنا أن نسلك طريقة أخرى في فهم هذه الكلمات وذلك بأن نفرغ قلوبنا من النظر الفكري ونجلس مع الحق تعالى بالذكر على بساط الأدب والمراقبة
والحضور والتهىء لقبول ما يرد منه تعالى حتى يكون الحق سبحانه وتعالى متولي تعليمنا بالكشف والتحقق
159

لما سمعوه تعالى يقول: * (واتقوا الله ويعلمكم الله) * (البقرة: 282) * (وإن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) * (الأنفال: 29). * (وقل ربي زدني علما) * (طه: 114). * (وعلمناه من لدنا علما) * (الكهف: 65) فعندما توجهت قلوبهم وهممهم إلى الله عز وجل ولجأت إليه سبحانه وتعالى وألقت عنها ما استمسك به الغير من دعوى البحث والنظر ونتائج العقول كانت عقولهم سليمة وقلوبهم مطهرة فارغة فعند ما كان منهم هذا الاستعداد تجلى لهم الحق عيانا معلما فاطلعتهم تلك المشاهدة على معاني تلك الكلمات دفعة واحدة فعرفوا المعنى التنزيهي الذي سيقت له. ويختلف ذلك بحسب اختلاف مقامات إيرادها وهذا حال طائفة منا وحال طائفة أخرى منا أيضا ليس لهم هذا التجلي لكن لهم الإلقاء والإلهام واللقاء والكتاب وهم معصومون فيما يلقى إليهم بعلامات عندهم لا يعرفها سواهم فيخبرون بما خوطبوا به وبما ألهموا وما ألقى إليهم أو كتب اه‍ المراد منه.
ولعل من يقول بإجراء المتشابهات على ظواهرها مع نفي اللوازم كمذهب السلف الأول من الصوفية طائفة لم يحصل لهم ما حصل لهاتين الطائفتين والفضل بيد الله تعالى يؤتيه من يشاءچ هذا بقي هل يسمى ما عليه السلام تأويلا أم لا المشهور عدم تسمية ما عليه المفوضة منهم تأويلا وسماه بعضهم تأويلا كالذي عليه الخلق، قال اللقاني: أجمع الخلف ويعبر عنهم بالمؤولة والسلف ويعبر عنهم بالمفوضة على تنزيهه تعالى عن المعنى المحال الذي دل عليه الظاهر وعلى تأويله وإخراجه عن ظاهره المحال وعلى الإيمان به بأنه من عند الله تعالى جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما اختلفوا في تعيين محمل له معنى صحيح وعدم تعيينه بنا. على أن الوقف على قوله تعالى: * (والراسخون في العلم) * أو على قوله سبحانه: * (إلا الله) * ويقال لتأويل السلف إجمالي ولتأويل الخلف تفصيلي انتهى ملخصا.
وكان شيخنا العلامة علاء الدين يقول: ما عليه المفوضة تأويل واحد وما عليه المؤولة تأويلان، ولعله راجع إلى ما سمعت، وأما ما عليه القائلون بالظواهر مع نفي اللوازم فقد قيل: إن فيه تأويلا أيضا لما فيه من نفي اللوازم وظاهر الألفاظ أنفسها تقتضيها ففيه إخراج اللفظ عما يقتضيه الظاهر، وإخراج اللفظ عن ذلك لدليل ولو مرجوحا تأويل. ومعنى كونهم قائلين بالظواهر أنهم قائلون بها في الجملة، وقيل: لا تأويل فيهم لأنهم يعتبرون اللفظ من حيث نسبته إليه عز شأنه وهو من هذه الحيثية لا يقتضي اللوازم فليس هناك إخراج اللفظ عما يقتضيه الظاهر، ألا ترى أن أهل السنة والجماعة أجمعوا على رؤية الله تعالى في الآخرة مع نفي لوازم الرؤية في الشاهد من المقابلة والمسافة المخصوصة وغيرهما مع أنه لم يقل أحد منهم: إن ذلك من التأويل في شيء، وقال بعض الفضلاء: كل من فسر فقد أول وكل من لم يفسر لم يؤول لأن التأويل هو التفسير فمن عدا المفوضة مؤولة وهو الذي يقتضيه ظاهر قوله تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) * (آل عمران: 7) بناء على أن الوقف على * (إلا الله) * ولا يخفى أن القول بأن القائلين بالظواهر مع نفي اللوازم من المؤولة الغير الداخلين في الراسخين في العلم بناء على الوقف المذكور لا يتسنى مع القول بأنهم من السلف الذين هم هم وقد يقال: إنهم داخلون في الراسخين والتأويل بمعنى آخر يظهر بالتتبع والتأمل، وقد تقدم الكلام في المراد بالمتشابهات وذكرنا ما يفهم منه الاختلاف في معنى التأويل وأنا أميل إلى التأويل وعدم القول بالظواهر مع نفي اللوازم في بعض ما ينسب إلى الله تعالى مثل قوله سبحانه: * (سنفرغ لكم أيها الثقلان) * (الرحمان: 31) وقوله عز وجل: * (يا حسرة على العباد) * (يس: 30) كما في بعض القراآت وكذا قوله صلى الله عليه وسلم إن صح: " الحجر الأسود يمين الله في أرضه فمن قبله أو صافحه فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه " فاجعل الكلام فيه خارجا مخرج التشبيه لظهور القرينة، ولا أقول: الحجر الأسود من صفاته تعالى كما قال السلف
160

في اليمين وأرى من يقول بالظواهر ونفي اللوازم في الجميع بينه وبين القول بوحدة الوجود على الوجه الذي قاله محققو الصوفية مثل ما بيه سواد العين وبياضها، وأميل أيضا إلى القول بتقبيب العرش لصحة الحديث في ذلك، والأقرب إلى الدليل العقلي القول بكريته ومن قال بذلك أجاب عن الأخبار السابقة بما لا يخفى على الفطن.
وقال الشيخ الأكبر محيى الدين قدس سره في الباب الحادي والسبعين والثلثمائة من الفتوحات: إنه ذوار كان أربعة ووجوه أربعة هي قوائمه الأصلية وبين كل قائمتين قوائم وعددها معلوم عندنا ولا أبينها إلى آخر ما قال، ويفهم كلامه أن قوائمه ليست بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن، وصرح بأنه أحد حملته وأنه أنزل عند أفضل القوائم وهي خزانة الحرمة، وذكر أن العمى محيط به وأن صورة العالم بجملته صورة دائرة فلكية، وأطال الكلام في هذا الباب وأتى فيه بالعجب العجاب، وليس له في أكثر ما ذكره فيه مستند نعلمه من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه ما لا يجوز أنا أن نقول بظاهره، والظاهر أن العرش واحد، وقال من قال من الصوفية بتعدده، ولا يخفى ما في نسبة الاستواء إليه تعالى بعنوان الرحمانية مما يزيد قوة الرجاء به جل وعلا وسبحان من وسعت رحمته كل شيء. [بم وجعل فاعل الاستواء ما في قوله تعالى:
* (له ما في السم‍اوات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى) *
* (له ما في السم‍اوات وما في الأرض) * و * (له) * به على ما يقتضيه ما روى عن ابن عباس من أن الوقف على * (العرش) * ويكون المعنى استقام له تعالى كل ذلك وهو على مراده تعالى بتسويته عز وجل إياه كقوله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات) * (البقرة: 29) أو استوى كل شيء بالنسبة إليه تعالى فلا شيء أقرب إليه سبحانه من شيء كما يشير إليه " لا تفضلوني على ابن متي " مما لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا، والرواية عن ابن عباس غير صحيحة، ولعل الذي دعا القائل به إليه الفرار من نسبة الاستواء إليه جل جلاله، ويا ليت شعري ماذا يصنع بقوله تعالى: * (الرحمن على العرش استوى) * وهو بظاهره الذي يظن مخالفته لما يقتضيه عقله مثله * (الرحمن على العرش استوى) * بل * (له) * خبر مقدم و * (ما في السماوات) * مبتدأ مؤخرا أي له عز وجل وحده دون غير لا شركة ولا استقلالا من حيث الملك والتصرف والإحياء والإماتة والإيجاد والإعدام جميع ما في السموات والأرض سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلو فيهما * (وما
بينهما) * من الموجودات الكائنة في الجو دائما كالهواء والسحاب وخلق لا نعلمهم هو سبحانه يعلمهم أو أكثريا كالطير الذي نراه * (وما تحت الثرى) * أي ما تحت الأرض السابعة على ما روى عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب، وأخرج عن السدي أنه الصخرة التي تحت الأرض السابعة وهي صخرة خضراء، وأخرج أبو يعلى عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما تحت الأرض؟ قال: الماء قيل: فما تحت الماء؟ قال: ظلمة قيل: فما تحت الظلمة؟ قال: الهواء قيل: فما تحت الهواء؟ قال: الثرى قيل: فما تحت الثرى؟ قال: انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق.
وأخرج ابن مردويه عنه نحوه من حديث طويل، وقال غير واحد. الثرى التراب الندى أو الذي إذا بل لم يصر طينا كالثريا ممدودة، ويقال: في تثنيته ثريان وثروان وفي جمعه أثراء؛ ويقال: ثريت الأرض كرضى تثرى ثرى فهي ثرية كغنية وثرياء إذا نديت ولانت بعد الجدوبة واليبس وأثرت كثر ثراؤها وثرى التربة تثرية
161

بلها والمكان رشه وفلانا ألزم يده الثرى، وفسر بمطلق التراب أي وله تعالى ما واراه التراب وذكره مع دخوله تحت ما في الأرض لزيادة التقرير، وإذا كان ما في الأرض ما هو عليها فالأمر ظاهر، وما تقدم من الإشارة إلى أن المراد له تعالى كل ذلك ملكا وتصرفا هو الظاهر.
وقيل: المعنى له علم ذلك أي إن علمه تعالى محيط بجميع ذلك، والأول هو الظاهر وعليه يكون قوله تعالى:
* (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) *
* (وإن تجهر بالقول) * الخ بيان لإحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء إثر بيان شمول قدرته تعالى لجميع الكائنات، والخطاب على ما قاله في " البحر ": للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته عليه الصلاة والسلام، وجوز أن يكون عاما أي وإن ترفع صوتك أيها الإنسان بالقول * (فإنه يعلم السر) * أي ما أسررته إلى غيرك ولم ترفع صوتك به * (وأخفى) * أي وشيئا أخفى منه وهو ما أخطرته ببالك من غير أن تتفوه به أصلا، وروى ذلك عن الحسن. وعكرمة أو ما أسررته في نفسك وما ستسره فيها وروى ذلك عن سعيد بن جبير. وروى عن السيدين الباقر. والصادق السر ما أخفيته في نفسك والأخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته.
وقيل: * (أخفى) * فعل ماض عطف على * (يعلم) * يعني أنه تعالى يعلم أسرار العباد وأخفى ما يعلمه سبحانه، عنهم وهو كقوله تعالى: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) * (طه: 110)، وروى ذلك أبو الشيخ في " العظمة " عن زيد بنأسلم وهو خلاف الظاهر جدا؛ فالمعول عليه أنه أفعل تفضيل والتنكير للمبالغة في الخفاء، والمتبادر من القول ما يمل ذكر الله تعالى وغيره وإليه ذهب بعضهم، وخصه جماعة بذكره سبحانه ودعائه على أن التعريف للعهد لأن استواء الجهر والسر عنده سبحانه المدلول عليه في الكلام يقتضي أن الجهر المذكور في خطابه عز وجل، وعلى القولين قوله تعالى: * (فإنه الخ) * قائم مقام جواب الشرط وليس الجواب في الحقيقة لأن علمه تعالى السر وأخفى ثابت قبل الجهل بالقول وبعده وبدونه.
والأصل عند البعض وإن يجهر بالقول فاعلم أن الله تعالى يعلمه فإنه يعلم السر وأخفى فضلا عنه. وعند الجماعة وإن تجهر فاعلم أن الله سبحانه غني عن جهرك فإنه الخ، وهذا على ما قيل إرشاد للعباد إلى التحري والاحتياط حين الجهر فإن من علم أن الله تعالى يعلم جهره لم يجهر بسوء، وخص الجهر بذلك لأن أكثر المحاورات ومخاطبات الناس به، وقيل: إرشاد للعباد إلى أن الجهر بذكر الله تعالى ودعائه ليس لإسماعه سبحانه بل لغرض آخر من تصوير النفس بالذكر وتثنيته فيها ومنعها من الاشتغال بغيره وقطع الوسوسة وغير ذلك، وقيل: نهى عن الجهر بالذكر والدعاء كقوله تعالى: * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول) * (الأعراف: 205). وأنت تعلم أن القول بأن الجهر بالذكار والدعاء منهي لا ينبغي أن يكون على إطلاقه.
والذي نص عليه الإمام النووي في " فتاويه " أن الجهر بالذكر حيث لا محذور شرعيا مشروع مندوب إليه بل هو أفضل من الإخفاء في مذهب الإمام الشافعي وو ظاهر مذهب الإمام أحمد وإحدى الروايتين عن الإمام مالك بنقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري وهو قول لقاضيخان في " فتاويه " في ترجمة مسائل كيفية القراءة وقوله في باب غسل الميت: ويكره رفع الصوت بالذكر، فالظاهر أنه لمن يمشي مع الجنازة كما هو مذهب الشافعية لا مطلقا كما تفهمه عبارة البحر الرائق وغيره وهو قول الإمامين في تكبير عيد الفطر كالأضحى، ورواية عن الإمام أبي حنيفة نفسه رضي الله تعالى عنه بل في مسنده ما ظاهره استحباب الجهر بالذكر مطلقا، نعم قال
162

ابن نجيم في " البحر " نقلا عن المحقق ابن الهمام في " فتح القدير " ما نصه قال أبو حنيفة: رفع الصوت بالذكر بدعة مخالفة للأمر من قوله تعالى: * (واذكر ربك في نفسك) * الآية فيقتصر على مورد الشرع، وقد ورد به في الأضحى وهو قوله سبحانه: * (واذكروا الله في أيام معدودات) * (البقرة: 203).
وأجاب السيوطي في نتيجة الذكر عن الاستدلال بالآية السابقة بثلاثة أوجه، الأول: أنها مكية ولما هاجر صلى الله عليه وسلم سقط ذلك، الثاني: أن جماعة من المفسرين منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وابن جرير حملوا الآية على الذكر حال قراءة القرآن وأنه أمر له عليه الصلاة والسلام بالذكر على هذه الصفة تعظيما للقرآن وأنه أمر له عليه الصلاة والسلام بالذكر على هذه الصفة تعظيما للقرآن أن ترفع عنده الأصوات، ويقويه اتصالها بقوله تعالى: * (وإذا قرىء القرآن) * (الأعراف: 204) الآية، الثالث: ما ذكره بعض الصوفية أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم الكامل المكمل وأما غيره عليه الصلاة والسلام ممن هو محل الوساوس فمأمور بالجهر لأنه أشد تأثيرا في دفعها وفيه ما فيه.
واختار بعض المحققين أن المراد دون الجهر البالغ أو الزائد على قدر الحاجة فيكون الجهر المعتدل، والجهر بقدر الحاجة داخلا في المأمور به، فقد صح ما يزيد على عشرين حديثا في أنه صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يجهر بالذكر. وصح عن أبي الزبير أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى * (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله ولا نعيد إلا إياه له النعم وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) * وهو محمول على اقتضاء حاجة التعليم ونحوه لذلك، وما في " الصحيحين " من
حديث أبي موسى الأشعري قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنه معكم إنه سميع قريب " محمول على أن النهي المستفاد التزاما من أمر اربعوا الذي بمعنى ارفقوا ولا تجهدوا أنفسكم مراد به النهي عن المبالغة في رفع الصوت، وبتقسيم الجهر واختلاف أقسامه في الحكم يجمع بين الروايتين المختلفتين عن الإمام أبي حنيفة، وما ذكر في الواقعات عن ابن مسعود من أنه رأى قوما يهللون برفع الصوت في المسجد فقال: ما أراكمم إلا مبتدعين حتى أخرجهم من المسجد لا يصح عند الحفاظ من الأئمة المحدثين، وعلى فرض صحته هو معارض بما يدل عليه ثبوت الجهر منه رضي الله تعالى عنه مما رواه غير واحد من الحفاظ أو محمول على الجهر البالغ، وخبر خير الذكر الخفي وخير الرزق أو العيش ما يكفي صحيح.
وعزاه الإمام السيوطي إلى الإمام أحمد. وابن حبان. والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص، وعزاه أبو الفتح في سلاح المؤمن إلى أبي عوانة في مسنده الصحيح أيضا، وهو محمول على من كان في موضع يخاف فيه الرياء أو الإعجاب أو نحوهما، وقد صح أيضا أنه عليه الصلاة والسلام جهر بالدعاء وبالمواعظ لكن قال غير واحد من الأجلة: إن إخفاء الدعاء أفضل. وحد الجهر على ما ذكره ابن حجر الهيتمي في المنهج القويم أن يكون بحيث يسمع غيره والإسرار بحيث يسمع نفسه. وعند الحنفية في رواية أدنى الجهر إسماع نفسه وأدنى المخافتة تصحيح الحروف وهو قول الكرخي.
وفي كتاب الإمام محمد إشارة إليه، والأصح كما في المحيط قول الشيخين الهندواني والفضلي وهو الذي عليه الأكثر أن أدنى الجهر إسماع غيره وأدنى المخافتة إسماع نفسه. ومن هنا قال في " فتح القدير ": إن تصحيح
163

الحروف بلا صوت إيماءا إلى الحروف بعضلات المخارج لا حروف إذ الحروف كيفية تعرض للصوت فإذا انتفى الصوت المعروف انتفى الحرف العارض وحيث لا حرف فلا كلام بمعنى المتكلم به فلا قراءة بمعنى التكلم الذي هو فعل اللسان فلا مخافتة عند انتفاء الصوت كما لا جهر انتهى محررا، وقد ألف الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة في تحقيق هذه المسألة رسالتين جليلتين سمي أولاهما: - نشر الزهر في الذكر بالجهر - وثانيتهما: باتحاف المنيب الأواه بفضل الجهر بذكر الله - رد فيها على بعض أهل القرن التاسع من علماء الحنفية من أعيان دولة ميرزا أبلغ بيك بن شاه دخ الكوركاني حيث أطلق القول بكون الجهر بالذكر بدعة محرمة وألف في ذلك رسالة، ولعله يأتي إن شاء الله تعالى زيادة بسط لتحقيق هذه المسألة والله تعالى الموفق.
وقوله سبحانه:
* (الله لاإل‍اه إلا هو له الاسمآء الحسنى) *
* (الله) * خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف مسوق لبيان أن ما ذكر من صفات الكمال موصوفها ذلك المعبود الحق أي ذلك المنعوت بما ذكر من النعوت الجليلة الله عز وجل، وقوله تعالى:
* (لا إل‍اه إلا هو) * تحقيق للحق وتصريح بما تضمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه فإن ما أسند إليه عز شأنه من خلق جميع الموجودات والعلو اللائق بشأنه على جميع المخلوقات والرحمانية والمالكية للعلويات والسلفيات والعلم الشامل مما يقتضيه اقتضاء بينا، وقوله تبارك اسمه * (له الأسماء الحسنى) * بيان لكون ما ذكر من الخالقية وغيرها أسماءه تعالى وصفاته من غير تعدد في ذاته تعالى وجاء الاسم بمعنى الفة ومنه قوله تعالى: * (وجعلوا لله شركاء قل سموهم) * والحسنى تأنيث الأحسن وصفة المؤنثة المفردة تجرى على جمع التكسير وحسن ذلك كونها وقعت فاصلة، وقيل: تضمنها الإشارة إلى عدم التعدد حقيقة بناء على عدم زيادة صفاته تعالى على ذاته واتحادهما معها وفضل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في غاية الظهور، وجوز أبو حيان كون الاسم الجليل مبتدأ وجملة * (لا إله إلا هو) * خبره وجملة * (له الأسماء الحسنى) * خبر بعد خبر، وظاهر صنيعه يقتضي اختيار لأنه المتبادر للذهن، ولا يخفى على المتأمل أولية ما تقدم، وقوله تعالى: * (وهل أتاك حديث موسى) * مسوق لتقرير أمر التوحيد الذي انتهى إليه مساق الحديث وبيان أنه أمر مستمر فيما بين الأنبياء عليهم السلام كابرا عن كابر وقد خوطب به موسى عليه السلام حيث قيل له * (إنني أنا الله لا إله إلا أنا) * (طه: 14) وبه ختم عليه السلام مقاله حيث قال: * (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو) * (طه: 98) وقيل: مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) * (طه: 2) بناء على ما نقل عن مقاتل في سبب النزول إلا أن الأول تسلية له عليه الصلاة والسلام برد ما قاله قومه وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم برد ما قاله قومه وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم بأن إخوانه من الأنبياء عليهم السلام قد عراهم من أممهم ما عراهم وكانت العاقبة لهم وذكر مبدأ نبوة موسى عليه السلام نظير ما ذكر إنزال القرآن عليه عليه الصلاة والسلام.
وقيل: مسوق لترغبب النبي صلى الله عليه وسلم في الائتساء بموسى عليه السلام في تحمل أعباء النبوة والصبر على مقاساة الخطوب في تبليغ أحكام الرسالة بعد ما خاطبه سبحانه بأنه كلفه التبليغ الشاق بناء على أن معنى قوله تعالى: * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى) * إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة وما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة فالواو كما قاله غير واحد لعطف القصة على القصة ولا نظر في ذلك إلى تناسبهما خبرا وطلبا بل يشترط التناسب فيما سيقتاله مع أن المعطوف ههنا قد يؤول بالخبر.
164

ولا يخفى أن ما تقدم جار على سائر الأوجه والأقوال في الآية السابقة، وسبب نزولها ولا يأباه شيء من ذلك، والاستفهام تقريري، وقيل: هل بمعنى قد؛ وقيل: الاستفهام إنكاري ومعناه النفي أي ما أخبرناك قبل هذه السورة بقصة موسى عليه السلام ونحن الآن مخبروك بها والمعول عليه الأول، والحديث الخبر ويصدق على القليل والكثير ويجمع على أحاديث على غير قياس.
قال الفراء: نرى أن واحد الأحاديث أحدوثة ثم جعلوه جمعا للحديث، وقال الراغب: الحديث كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه ويكون مصدرا بمعنى التكلم. وحمله بعضهم على هذا هنا بقرية * (فقال) * الخ، وعلق به قوله تعالى:
* (إذ رأى نارا فقال لاهله امكثوا إنىءانست نارا لعلىآتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) *
* (إذ رءا نارا) * ولم يجوز تعلقه على تقدير كونه اسما للكلام والخبر لأنه حينئذ الجوامد لا يعمل، والأظهر أنه اسم لما ذكر لأنه هو المعروف مع أن وصف القصة بالاتيان أولى من وصف التحدث والتكلم به وأمر التعلق سهل فإن الظرف يكفي لتعلقه رائحة الفعل، ولذا نقل عن بعضهم أن القصة والحديث والخبر والنبأ يجوز أعمالها في الظروف خاصة وإن لم يرد بها المعنى المصدري لتضمن معناها الحصول والكون.
وجوز أن يكون ظرفا لمضمر مؤخر أي حين رأى نارا كان كيت وكيت، وأن يكون مفعولا لمضمر متقدم أي فاذكر وقت رؤيته نارا. وروى أن موسى عليه السلام استأذن شعيبا عليه السلام في الخروج من مدين إلى مصر لزيارة أمه وأخيه وقد طالت مدة جنايته بمصر ورجا خفاء أمره فأذن له وكان عليه السلام رجلا غيورا فخرج بأهله ولم يصحب رفقة لئلا ترى امرأته وكانت على أتان وعلى ظاهرها جوالق فيها أثاث البيت ومعه غنم له وأخذ عليه السلام على غير الطريق مخافة من ملوك الشام فلما وافى وادي طوى وهو بالجانب الغربي من الطور ولد له ابن في ليلة مظلمة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصله زنده فبينما هو كذلك إذ رأى نارا على يسار الطريق من جانب الطور * (فقال لأهله امكثوا) * أي أقيموا مكانكم أمرهم عليه السلام بذلك لئلا يتبعوه فيما عزم عليه من الذهاب إلى النار كما هو المعتاد لا لئلا ينتقلوا إلى موضع آخر فإنه مما لا يخطر بالبال، والخطاب قيل: للمرأة والولد والخادم، وقيل: للمرأة وحدها والجمع إما لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم كما في قوله من قال: وإن شئت حرمت النساء سواكم
وقرأ الأعمش. وطلحة. وحمزة. ونافع في رواية * (لأهله امكثوا) * بضم الهاء * (إني ءانست نارا) * أي أبصرتها إبصارا بينا لا شبهة فيه، ومن ذلك إنسان العين والإنس خلاف الجن، وقيل: الإيناس خاص بإبصار ما يؤنس به، وقيل: هو بمعنى الوجدان، قال الحارث بن حلزة: آنست نبأة وقد راعها القن‍ * - اص يوما وقد دنا الإمساء
والجملة تعليل للأمر والمأمور به ولما كان الإيناس مقطوعا متيقنا حققه لهم بكلمة إن ليوطن أنفسهم وإن لم يكن ثمت تردد أو إنكار * (لعلي ءاتيكم منها) * أي أجيئكم من النار * (بقبس) * بشعلة مقتبسة تكون على رأس عود ونحوه ففعل بمعنى مفعول وهو المراد بالشهاب القبس وبالجذوة في موضع آخر
165

وتفسيره بالجمرة ليس بشيء، وهذا الجار والمجرور متعلق بآتيكم، وأما منها فيحتمل أن يكون متعلقا به وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من * (قبس) * على ما قاله أبو البقاء * (أو أجد على النار هدى) * هاديا يدلني على الطريق على أنه مصدر سمي به الفاعل مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذا هداية أو على أنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدي، وعن الزجاج أن المراد هاديا يدلني على الماء فإنه عليه السلام قد ضل عن الماء، وعن مجاهد. وقتادة أن المراد هاديا يهديني إلى أبواب الدين فإن أفكار الأبرار مغمورة بالهمم الدينية في عامة أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل وهو بعيد فإن مساق النظم الكريم تسلية أهله مع أنه قد نص في سورة القصص على ما يقتضي ما تقدم حيث قال: * (لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة) * (القصص: 29) الآية، والمشهور كتابة هذه الكلمة بالياء.
وقال أبو البقاء: الجيد أن تكتب بالألف ولا تمال لأن الألف بدل التنوين في القول المحقق، وقد أمالها قوم وفيه ثلاثة أوجه، الأول: أن يكون شبه ألف التنوين بلام الكلمة إذا اللفظ بهما في المقصور واحد، الثاني: أن يكون لام الكلمة ولم يبدل من التنوين شيء في النصب، والثالث: أن يكون على رأي من وقف في الأحوال الثلاثة من غير إبدال انتهى، وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع وعلي على بابها من الاستعلاء والاستعلاء على الناء مجاز مشهور صار حقيقة عرفية في الاستعلاء على مكان قريب ملاصق لها كما قال سيبويه في مررت بزيد: إنه لصوق بمكان يقرب منه، وقال غير واحد: إن الجار والمجرور في موضع الحال من * (هدي) * وكان في موضع الفة له فقدم والتقدير أو أجد هاديا أو ذا هدى مشرفا على النار، والمراد مصطليا بها وعادة المصطلي الدنو من النار والإشراف عليها.
وعن ابن الانباري أن علي ههنا بمعنى عند أو بمعنى مع أو بمعنى الباء ولا حاجة إلى ذلك وكان الظاهر عليها إلا أنه جيء بالظاهر تصريحا بما هو كالعلة لوجدان الهدي إذ النار لا تخلو من أناس عندها، وصدرت الجملة بكلمة الترجي لما أن الاتيان وماعطف عليه ليسا محققي الوقوع بل هما مترقبان متوقعان. وهي على ما في إرشاد العقل السليم إما علة لفعل قد حذف ثقة بما يدل عليه من الأمر بالمكث والإخبار بإيناس النار وتفاديا عن التصريح بما يوحشهم، وإما حال من فاعله أي فاذهب إليها لآتيكم أو كي آتيكم أو راجيا أن آتيكم منها بقبس الآية، وقيل: هي صفة لنارا، ومتى جاز جعل جملة الترجي صلة كما في قوله: وإني لراج نظرة قبل التي * لعلي وإن شطت نواها أزورها
فليجز جعلها صفة فإن الصلة والصفة متقاربان ولا يخفى ما فيه
* (فلمآ أتاها نودى ياموسى) *
* (فلما أتاها) * أي النار التي آنسها وكانت كما في بعض الروايات عن ابن عباس في شجرة عناب خضراء يانعة، وقال عبد الله بن مسعود: كانت في سمرة، وقيل: في شجرة عوسج. وأخرج الإمام أحمد في الزهد. وعبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: لما رأى موسى عليه السلام النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبا فإذا هو بنار عظيمة تفور من ورق شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق لا تزداد النار فيما يرى إلا عظما وتضرما ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسنا فوقف ينظر لا يدري علام يضع أمرها إلا أنه قد ظن أنها شجرة تحترق وأوقد إليها بوقد فنالها فاحترقت وأنه إنما يمنع النار شدة خضرتها
وكثرة مائها وكثافة ورقها وعظم جذعها فوضع أمرها على هذا فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء فيقتبسه فلما طال عليه ذلك أهوى إليها بضغث
166

في يده وهو يريد أن يقتبس من لهبها فلما فعل ذلك مالت نحوه كأنها تريده فاستأخر عنها وهاب ثم عاد فطاف بها ولم تزل تطمعه ويطمع بها ثم لم يكن شيء باوشك من خمودها فاشتد عند ذلك عجبه وفكر في أمرها فقال: هي نار ممتنعة لا يقتبس منها ولكنها تتضرم في جوف شجرة فلا تحرقها ثم خمودها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين فلما رأى ذلك قال إن لهذه لشأنا ثم وضع أمرها على أنها مأمورة أو مصنوعة لا يدري من أمرها ولا بم أمرت ولا من صنعها ولا لم صنعت فوقف متحيرا لا يدري أيرجع أم يقيم فبينما هو على ذلك إذ رمى بطرفة هو فرعها فإذا أشد ما كان خضرة ساطعة في السماء ينظر إليها تغشى الظلام ثم لم تزل الخضرة تنور وتصفر وتبيض حتى صارت نورا ساطعا عمودا بين السماء والأرض عليه مثل شعاع الشمس تكل دونه الأبصار كلما نظر إليه يكاد يخطف بصره فعند ذلك اشتد خوفه وحزنه فرد يده على عينيه ولصق بالأرض وسمع حينئذ شيئا لم يسمع السامعون بمثله عظما فلما بلغ موسى عليه السلام الكرب واشتد عليه الهول كان ما قص الله تعالى. وروى أنه عليه السلام كان كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبرا تبعته فأيقن أن هذا أمر من أمور الله تعالى الخارقة للعادة ووقف متحيرا وسمع من السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة وكان ما كان.
وقالوا: النار أربعة أصناف صنف يأكل ولا يشرب وهي نار الدنيا، وصنف يشرب ولا يأكل وهي نار الشجر الأخضر، وصنف يأكل ويشرب وهي نار جهنم، وصنف لا يأكل ولا يشرب وهي نار موسى عليه السلام. وقالوا أيضا هي أربعة أنواع. نوع له نور وإحراق وهي نار الدنيا، ونوع لا نور له ولا إحراق وهي نار الأشجار ونوع له إحراق بلا نور وهي نار جهنم. ونوع له نور بلا إحراق وهي نار موسى عليه السلام بل قال بعضهم: إنها لم تكن نارا بل هي نور من نور الرب تبارك وتعالى. وروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذكر ذلك بلفظ النار بناء على حسبان موسى عليه السلام وليس في إخباره عليه السلام حسب حسبانه محذور كما توهم واستظهر ذلك أبو حيان وإليه ذهب الماوردي.
وقال سعيد بن جبير. هي النار بعينها وهي إحدى حجب الله عز وجل واستدل له بما روى عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " ذكر ذلك البغوي وذكر في تفسير الخازن أن الحديث أخرجه مسلم وظاهر الآية يدل على أنه عليه السلام حين أتاها * (نودي) * من غير ريث وبذلك رد بعض المعتزلة الأخبار السابقة الدالة على تخلل زمان بين المجيء والنداء، وأنت تعلم أن تخلل مثل ذلك الزمان مما لا يضر في مثله ما ذكر، وزعم أيضا امتناع تحقق ظهور الخارق عند مجيئه النار قبل أن ينبأ إلا أن يكون ذلك معجزة لغيره من الأنبياء عليهم السلام، وعندنا أن ذلك من الإرهاص الذي ينكره المعتزلة، والظاهر أن القائم مقام فاعل * (نودي) * ضمير موسى عليه السلام، وقيل: ضمير المصدر أي نودي النداء، وقيل: هو قوله تعالى: * (يا موسى) * الخ وكأن ذلك على اعتبار تضمين النداء معنى القول وإرادة هذا اللفظ من الجملة وإلا فقد قيل: إن الجملة لا تكون فاعلا ولا قائما مقامه في مثل هذا التركيب إلا بنحو هذا الضرب من التأويل.
وفي " البحر " مذهب الكوفيين معاملة النداء معاملة القول ومذهب البصريين إضمار القول في مثل هذه الآية أي نودي فقيل: * (يا موسى) *.
* (إنىأنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) *
* (إني أنا ربك) * ولذلك كسرت همزة إن في قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير.
167

وأبو عمرو بفتحها على تقدير حرف الجر أي بأني، والجار والمجرور على ما قال أبو البقاء. وغيره متعلق بنودي والنداء قد يوصل بحرف الجر أنشد أبو علي: ناديت باسم ربيعة بن مكرم * إن المنوه باسمه الموثوق
ولا يخفى على ذي ذوق سليم حال التركيب على هذا التخريج وإنه أنما يحلو لو لم يكن المنادي فاصلا.
وقيل: على تقدير حرف التعليل وتعلقه بفعل الأمر بعد وهو كما ترى. واختير أن الكلام على تقدير العلم أي أعلم أني الخ، وتكرير ضمير المتكلم لتأكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة، واستظهر أن علمه عليه السلام بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقا منه تعالى فيه، وقيل: بالاستدلال بما شاهد قبل النداء من الخارق، وقيل: بما حصل له من ذلك بعد النداء، فقد روى أنه عليه السلام لما نودي يا موس قال عليه السلام: من المتكلم؟ فقال: أنا ربك فوسوس إليه إبليس اللعين لعلك تسمع كلام شيطان فقال عليه السلام: أنا عرفت أنه كلام الله تعالى بأني أسمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء، والخارق فيه أمران سماعه من جميع الجهات وكون ذلك بجميع الأعضاء التي من شأنها السماع والتي لم يكن من شأنها، وقيل: الخارق فيه أمر واحد وهو السماع بجميع الأعضاء، وهو المراد بالسماع من جميع الجهات، وأيا ما كان فلا يخفى صحة الاستدلال بذلك على المطلوب إلا أن في صحة الخبر خفاء ولم أر له سندا يعول عليه، وحضور الشيطان ووسوسته لموسى عليه السلام في ذلك الوادي المقدس والحضرة الجليلة في غاية البعد. والمعتزلة أوجبوا أن يكون العلم بالاستدلال بالخارق ولم يجوزوا أن يكون بالضرورة قالوا لأنه لو حصل العلم الضروري بكون هذا النداء كلام الله تعالى لحصل العلم الضروري بوجود الصانع القادر العالم لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات تكون معلومة بالاستدلال ولو كان وجود الصانع تعالى معلوما بالضرورة لخرج موسى عليه السلام عن كونه مكلفا لأن حصول العلم الضروري ينافي التكليف وبالاتفاق أنه عليه السلام لم يخرج عن التكليف فعلمنا أن الله تعالى عرفه ذلك بالخارق وفي تعيينه اختلاف.
وقال بعضهم: لا حاجة بنا إلى أن نعرف ذلك الخارق ما هو، وأخرج أحمد. وغيره عن وهب أنه عليه السلام لما اشتد عليه الهول نودي من الشجرة فقيل: يا موسى فأجاب سريعا وما يدري من دعاه وما كان سرعة إجابته إلا استئناسا بالإنس فقال: لبيك مرارا إني لأسمع صوتك وأحس حسك ولا أرى مكانك فأين أنت: قال: أنا فوقك
ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك من نفسك فلما سمع هذا موسى عليه السلام علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه تعالى فايقن به فقال: كذلك أنت يا إلهي فكلامك أسمع أم رسولك؟ قال: بل أنا الذي أكلمك، ولا يخفى تخريج هذا الأثر على مذهب السلف ومذهب الصوفية وأنه لا يحصل الإيقان بمجرد سماع ما لا ينبغي أن يكون إلا لله تعالى من الصفات إذا فتح باب الوسوسة، ثم إن هذا الأثر ظاهر في أن موسى عليه السلام سمع الكلام اللفظي منه تعالى بلا واسطة ولذا اختص عليه السلام باسم الكليم وهو مذهب جماعة من أهل السنة وذلك الكلام قديم عندهم. وأجابوا عن استلزام الحدوث لأنه لا يوجد بعضه إلا بتقضي بعض آخر بأنه إنما يلزم من التلفظ بآلة وجارحة وهي اللسان أما إذا كان بدونها فيوجد دفعة واحدة كما ياهد في الحروف المرسومة بطبع الخاتم دون القلم ويلزمهم أن يؤولوا قوله تعالى: * (فلما أتاها نودي) * (طه: 11) الخ بأن يقولوا: المراد فلما أتاها أسمع أتاها أسمع النداء أو نحو ذلك وإلا فمجيء النار حادث والمرتب على الحادث حادث،
168

ولذا زعم أهل ما وراء النهر من أهل السنة القائلين بقدم الكلام أن هذا الكلام الذي سمعه موسى عليه السلام حادث وهو صوت خلقه الله تعالى في الشجرة، وأهل البدعة أجمعوا على أن الكلام اللفظي حادث بيد أن منهم من جوز قيام الحوادث به تعالى شأنه ومنهم من لم يجوز، وزعم أن الذي سمعه موسى عليه السلام خلقه الله عز وجل في جسم من الأجسام كالشجرة أو غيرها.
وقال الأشعري: إن الله تعالى أسمع موسى عليه السلام كلامه النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت ولا سبيل للعقل إلى معرفة ذلك، وقد حققه بعضهم بأنه عليه السلام تلقى ذلك الكلام تلقيا روحانيا كما تتلقى الملائكة عليهم السلام كلامه تعالى لا من جارحة ثم أفاضته الروح بواسطة قوة العقل على القوى النفسية ورسمته في الحس المشترك بصور ألفاظ مخصوصة فصار لقوة تصوره كأنه يسمعه من الخارج وهذا كما يرى النائم أنه يكلم ويتكلم، ووجه وقوف الشيطان المار في الخبر الذي سمعت ما فيه على هذا بأنه يحتمل أن يكون كذلك، ويحتمل أن يكون بالتفرس من كون هيئته عليه السلام على هيئة المصغي المتأمل لما يسمعه وهو كما ترى، وقد تقدم لك في المقدمات ما عسى ينفعك مراجعته هنا فراجعه وتأمل، واعلم أن شأن الله تعالى شأنه كله غريب وسبحان الله العزيز الحكيم * (فاخلع نعليك) * أزلهما من رجليك والنعل معروفة وهي مؤنثة يقال في تصغيرها نعيلة ويقال فيها نعل: بفتح العين أنشد الفراء: له نعل لا يطبي الكلب ريحها * وإن وضعت بين المجالس شمت
وأمر صلى الله عليه وسلم بذلك لما أنهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ كما روي عن الصادق رضي الله تعالى عنه. وعكرمة. وقتادة. والسدي. ومقاتل. والضحاك. والكلبي، وروى كونهما من جلد حمار في حديث غريب. فقد أخرج الترمذي بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان على موسى عليه السلام يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف أي قلنسوة صغيرة وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار "، وعن الحسن. ومجاهد. وسعيد بن جبير. وابن جريج أنهما كانتا من جلد بقرة ذكيت ولكن أمر عليه السلام بخلعهما ليباشر بقدميه الأرض فتصيبه بركة الوادي المقدس.
وقال الأصم: لأن الحفوة أدخل في التواضع. وحسن الأدب ولذلك كان السلف الصالحون يطوفون بالكعبة حافين، ولا يخفى أن هذا ممنوع عند القائل بأفضلية الصلاة بالنعال كما جاء في بعض الآثار، ولعل الأصم لم يسمع ذلك أو يجيب عنه.
وقال أبو مسلم: لأنه تعالى أمنه من الخوف وأوقفه بالموضع الطاهر وهو عليه السلام إنما لبسهما اتقاء من الانجاس وخوفا من الحشرات، وقيل: المعنى فرغ قلبك من الأهل والمال. من الدنيا والآخرة.
ووجه ذلك أن يراد بالنعل كل ما يرتفق به، وغلب على ما ذكر تحقيرا، ولذا أطلق على الزوجة نعل كما في كتب اللغة، ولا يخفى عليك أنه بعيد وإن وجه بما ذكر وهو أليق بباب الإشارة، والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها فإن ربوبيته تعالى له عليه السلام من موجبات الأمر ودواعيه، وقوله تعالى: * (إنك بالواد المقدس) * تعليل لموجب الخلع المأمور به وبيان لسبب ورود الأمر بذلك من شرف البقعة وقدسها. روي أنه عليه السلام
169

حين أمر خلعهما وألقاهما وراء الوادي * (طوى) * بضم الطاء غير منون.
وقرأ الكوفيون. وابن عامر بضمها منونا. وقرأ الحسن. والأعمش. وأبو حيوة. وابن أبي إسحاق. وأبو السمال. وابن محيصن بكسرها منونا. وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون؛ وهو علم لذلك الوادي فيكون بدلا أو عطف بيان، ومن نونه فعلى تأويل المكان ومن لم ينونه فعلى تأويل البقعة فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، وقيل: * (طوى) * المضموم الطاء الغير المنون ممنوع من الصرف للعلمية والعدل كزفر وقثم، وقيل: للعلمية والعجمة؛ وقال قطرب: يقال طوى من الليل أي ساعة أي قدس لك ساعة من الليل وهي ساعة أن نودي فيكون معملا للمقدس، وفي " العجائب " للكرماني قيل: هو معرب معناه ليلا وكأنه أراد قول قطرب، وقيل: هو رجل بالعبرانية وكأنه على هذا منادي، وقال الحسن: طوى بكسر الطاء والتنوين مصدر كثنى لفظا ومعنى، وهو عنده معمول للمقدس أيضا أي قدس مرة بعد أخرى، وجوز أن يكون معمولا لنودي أي نودي نداءين، وقال ابن السيد: إنه ما يطوى من جلد الحية ويقال: فعل الشيء طوى أي مرتين فيكون موضوعا موضع المصدر، وأنشد الطبرسي لعدي بن زيد: أعاذل إن اللوم في غير كنهه * على طوى من غيك المتردد
وذكر الراغب أنه إذا كان بمعنى مرتين يفتح أوله ويكسر، ولا يخفى عليك أن الأظهر كونه اسما للوادي في جميع القراءات.
* (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى) *
* (وأنا اخترتك) * أي اصطفيتك من الناس أو من قومك للنبوة والرسالة. وقرأ السلمي. وابن هرمز. والأعمش في رواية * (وإنا) * بكسر الهمزة وتشديد النون مع ألف بعدها * (اخترناك) * بالنون والألف، وكذا قرأ طلحة. وابن أبي ليلى. وحمزة. وخلف. والأعمش في رواية أخرى إلا أنهم فتحوا همزة إن، وذلك بتقدير أعلم أي وأعلم أنا اخترناك، وهو على ما قيل عطف على * (اخلع) *، ويجوز عند من قرأ * (أني أنا ربك) * بالفتح أن يكون العطف عليه سواء كان متعلقا بنودي
كما قيل أو معمولا لا علم مقدرا كما أختير.
وجوز أبو البقاء أن يكون بتقدير اللام وهو متعلق بما بعده أي لأنا اخترناك * (فاستمع) * وهو كما ترى، والفاء في قوله تعالى: * (فاستمع) * لترتيب الأمر والمأمور به على ما قبلها فإن اختياره عليه السلام لما ذكر من موجبات الاستماع والأمر به، واللام في قوله سبحانه: * (لما يوحى) * متعلقة باستمع، وجوز أن تكون متعلقة باخترناك، ورده أبو حيان بأنه يكون حينئذ من باب الأعمال ويجب أو يختار حينئذ إعادة الضمير مع الثاني بأن يقال: فاستمع له لما يوحى.
وأجيب بأن المراد جواز تعلقها بكل من الفعلين على البدل لا على أنه من الأعمال. واعترض على هذا بأن قوله تعالى:
* (إننىأنا الله لاإل‍اه إلاأنا فاعبدنى وأقم الصلواة لذكرى) *
* (إنني أنا الله لا إل‍اه إلا أنا) * بدل من * (ما يوحى) * ولا ريب في أن اختياره عليه السلام ليس لهذا فقط والتعلق باخترناك كيفما كان يقتضيه. وأجيب بأنه من باب التنصيص على ما هو الأهم والأصل الأصيل، وقيل: هي سيف خطيب فلا متعلق لها كما * (في ردف) * لكم وما موصولة.
وجوز أن تكون مصدرية أي فاستمع للذي يوحى إليك أو للوحي، وفي أمره عليه السلام بالاستماع إشارة إلى عظم ذلك وأنه يقتضي التأهب له، قال أبو الفضل الجوهري: لما قيل لموسى عليه السلام استمع
170

لما يوحى وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره وأصغى بشراشره. وقال وهب: أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر والإصغاء بالسمع وحضور العقل والعزم على العمل وذلك هو الاستماع لما يحب الله تعالى، وحذف الفاعل في * (يوحى) * للعلم به ويحسنه كونه فاصلة فإنه لو كان مبنيا للفاعل لم يكن فاصلة، والفاء في قوله تعالى: * (فاعبدني) * لترتيب المأمور به على ما قبلها فإن اختصاص الألوهية به تعالى شأنه من موجبات تخصيص العبادة به عز وجل، والمراد بها غاية التذلل والانقياد له تعالى في جميع ما يكلفه به، وقيل: المراد بها هنا التوحيد كما في قوله سبحانه: * (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) والأول أولى * (وأقم الصل‍اوة) * خصت الصلاة بالذكر وافردت بالأمر مع اندراجها في الأمر بالعبادة لفضلها وإنافتها على سائر العبادات بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره، وقد سماها الله تعالى إيمانا في قوله سبحانه: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * (البقرة: 143).
واختلف العلماء في كفر تاركها كسلا كما فصل في محله، وقوله تعالى: * (لذكرى) * الظاهر أنه متعلق بأقم أي أقم الصلاة لتذكرني فيها لاشتمالها على الاذكار، وروي ذلك عن مجاهد، وقريب منه ما قيل أي لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به، وفرق بينهما بأن المراد بالإقامة على الأول تعديل الأركان، وعلى الثاني الإدامة وجعلت الصلاة في الأول مكانا للذكر ومقره وعلته، وعلى الثاني جعلت إقامة الصلاة أي إدامتها علة لإدامة الذكر كأنه قيل أدم الصلاة لتستعين بها على استغراق فكرك وهمك في الذكر كقوله تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * (البقرة: 45).
وجوز أن يكون متعلقا باعبدني أو بأقم على أنه من باب الأعمال أي لتكون ذاكرا لي بالعبادة وإقامة الصلاة، وإذا عمم الذكر ليتناول القلبي والقالبي جاز اعتبار باب الأعمال في الأول أيضا وهو خلاف الظاهر.
وقيل: المراد * (أقم الصلاة لذكري) * خاصة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري أو لإخلاص ذكرى وابتغاء وجهي ولا تقصد بها غرضا آخر كقوله تعالى: * (فصل لربك) * (الكوثر: 2) أو لأن أذكرك بالثناء أي لأثنى عليك وأثيبك بها أو لذكري إياها في الكتب الإلهية وأمري بها أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلوات فاللام وقتية بمعنى عند مثلها في قوله تعالى: * (يا ليتني قدمت لحياتي) * (الفجر: 24) وقولك: كان ذلك لخمس ليال خلون، ومن الناس من حمل الذكر على ذكر الصلاة بعد نسيانها، وروي ذلك عن أبي جعفر، واللام حينئذ وقتية أو تعليلية، والمراد أقم الصلاة عند تذكرها أو لأجل تذكرها والكلام على تقدير مضاف والأصل لذكر صلاتي أو يقال: إن ذكر الصلاة سبب لذكر الله تعالى فأطلق المسبب على السبب أو أنه وقع ضمير الله تعالى موقع ضمير الصلاة لشرفها أو أن المراد للذكر الحاصل مني فأضيف الذكر إلى الله عز وجل لهذه الملابسة، والذي حمل القائل على هذا الحمل أنه ثبت في " الصحيح " من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الصبح فلما قضاها قال: من نسي صلاة فليقضها إذا ذكرها فإن الله تعالى قال: * (أقم الصلاة لذكري) * فظن هذا القائل أنه لو لم يحمل هذا الحمل لم يصح التعليل وهو من بعض الظن فإن التعليل كما في " الكشف " صحيح والذكر على ما فسر في الوجه الأول وأراد عليه الصلاة والسلام أنه إذا ذكر الصلاة انتقل من ذكرها إلى ذكر ما شرعت له وهو ذكر الله تعالى فيحمله على إقامتها، وقال بعض المحققين: إنه لما جعل المقصود الأصلي من الصلاة ذكر الله تعالى وهو حاصل مطلوب في كل وقت فإذا فاته الوقت المحدود له ينبغي المبادرة إليه ما أمكنه فهو من ءشارة النص لا من منطوقه حتى يحتاج إلى التمحل فافهم.
171

وإضافة * (ذكر) * إلى الضمير تحتمل أن تكون من إضافة المصدر إلى مفعوله وأن تكون من إضافة المصدر إلى فاعله حسب اختلاف التفسير.
وقرأ السلمي. والنخعي. وأبو رجاء * (للذكرى) * بلام التعريف وألف التأنيث، وقرأت فرقة * (لذكري) * بألف التأنيث بغير لام التعريف، وأخرى * (للذكر) * بالتعريف والتذكير وقوله تعالى:
* (إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) *
* (إن الساعة ءاتية) * تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة أي كائنة لا محالة، وإنما عبر عن ذلك بالإتيان تحقيقا لحصولها بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين * (أكاد أخفيها) * أقرب أن أخفي الساعة ولا أظهرها بأن أقول إنها آتية ولولا أن في الإخبار بذلك من اللطف وقطع الأعذار لما فعلت، وحاصله أكاد أبالغ
في إخفائها فلا أجمل كما لم أفصل، والمقاربة هنا مجاز كما نص عليه أبو حيان أو أريد إخفاء وقتها المعين وعدم إظهاره وإلى ذلك ذهب الأخفش. وابن الأنباري. وأبو مسلم، ومن مجىء كاد بمعنى أراد كما قال ابن جني في المحتسب قوله: كادت وكدت وتلك خير إرادة * لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
وروي عن ابن عباس. وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهما أن المعنى أكاد أخفيها من نفسي، ويؤيده أن في مصحف أبي كذلك، وروى ابن خالويه عنه ذلك بزيادة فكيف أظهركم عليها، وفي بعض القراآت بزيادة فكيف أظهرها لكم، وفي مصحف عبد الله بزيادة فكيف يعلمها مخلوق وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا أراد المبالغة في كتمان الشيء قال: كدت أخفيه من نفسي ومن ذلك قوله: أيام تصحبني هند وأخبرها * ما كدت أكتمه عني من الخبر
ونحو هذا من المبالغة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم تحت ظله " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " ويجعل ذلك من باب المبالغة يندفع ما قيل إن إخفاء ذلك من نفسه سبحانه محال فلا يناسب دخول كاد عليه، ولا حاجة لما قيل: إن معنى من نفسي من تلقائي ومن عندي، والقرينة على هذا المحذوف إثباته في المصاحف، وكونه قرينة خارجية لا يضر إذ لا يلزم في القرينة وجودها في الكلام. وقيل: الدليل عليه أنه لا بد لأخفيها من متعلق وهو من يخفى منه. ولا يجوز أن يكون من الخلق لأنه تعالى أخفاها عنهم لقوله سبحانه: * (إن الله عنده علم الساعة) * (لقمان: 34) فيتعين ما ذكر. وفيه أن عدم صحة تقدير من الخلق ممنوع لجواز إرادة إخفاء تفصيلها وتعيينها مع أنه يجوز أن لا يقدر له متعلق، والمعنى أوجد إخفاءها ولا أقول: إنها آتية.
وقال أبو علي: المعنى أكاد أظهرها بإيقاعها على أن أخفيها من ألفاظ السلب بمعنى أزيل خفاءها أي ساترها وهو في الأصل ما يلف به القربة ونحوها من كساء وما يجري مجراه. ومن ذلك قول امرىء القيس: فإن تدفنوا الداء لا نخفه * وإن توقدوا الحرب لا نقعد
ويؤيده قراءة أبي الدرداء. وابن جبير. والحسن. ومجاهد. وحميد. ورويت عن ابن كثير. وعاصم * (أخفيها) * بفتح الهمزة فإن خفاه بمعنى أظهره لا غير في المشهور، وقال أبو عبيدة كما حكاه أبو الخطاب أحد رؤساء اللغة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد. ومتعلق الإخفاء على الوجه السابق في تفسير قراءة الجمهور والإظهار ليس شيئا واحدا حتى تتعارض القراءتان. وقالت فرقة: خبر كاد محذوف أكاد آتي بها كما حذف في قول صابىء البرجمي:
172

هممت ولم أفعل وكدت وليتني * تركت على عثمان تبكي حلائله
أي وكدت أفعل وتم الكلام ثم استأنف الأخبار بأنه تعالى يخفيها، واختار النحاس وقالت فرقة أخرى: * (أكاد) * زائدة لا دخول لها في المعنى بل المراد الإخبار بأن الساعة آتية وإن الله تعالى يخفي وقت إتيانها. وروي هذا المعنى عن ابن جبير. واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى: * (لم يكد يراها) *. ويقول زيد الخيل: سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه * فما أن يكاد قرنه يتنفس
ولا حجة في ذلك كما لا يخفى * (لتجزى كل نفس بما تسعى) * متعلق بآتية كما قال صاحب اللوامح وغيره وما بينهما اعتراض لا صفة حتى يلزم إعمال اسم الفاعل الموصوف وهو لا يجوز على رأي البصريين أو بأخفيها على أن المراد أظهرها لا على أن المراد أسترها لأنه لا وجه لقولك: أسترها لأجل الجزاء، وبعضهم جوز ذلك، ووجهه بأن تعمية وقتها لتنتظر ساعة. فساعة فيحترز عن المعصية ويجتهد في الطاعة. وتعقب بأنه تكلف ظاهر مع أنه لا صحة له إلا بتقدير لينتظر الجزاء أو لتخاف وتخشى، وما مصدرية أي لتجزى بسعيها وعلمها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وهذا التعميم هو الظاهر، وقيل: لتجزى بسعيها في تحصيل ما ذكر من الأمور المأمور بها، وتخصيصه في معرض الغاية لإتيانها مع أنه لجزاء كل نفس بما صدر عنها سواء كان سعيا فيما ذكر أو تقاعدا عنه بالمرة أو سعيا في تحصيل ما يضاده للإيذان بأن المراد بالذات من إتيانها هو الإثابة بالعبادة، وأما العقاب بتركها فمن مقتضيات سوء اختيار العصاة وبأن المأمور به في قوة الوجوب والساعة في شدة الهول والفظاعة بحيث يوجبان على كل نفس أن تسعى في الامتثال بالأمر وتجد في تحصيل ما ينجيها من الطاعات وتحترز عن اقتراف ما يرديها من المعاصي انتهى.
ولا يخفى ما فيه، وقيل: ما موصولة أي بالذي تسعى فيه، وفيه حذف العائد المجرور بالحرف مع فقد شرطه.
وأجيب بأنه يجوز أن يكون القائل لا يشترط، وقيل: يقدر منصوبا على التوسع.
* (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) *
* (فلا يصدنك) * خطاب لموسى عليه السلام، وزعم بعضهم أنه لنبينا صلى الله عليه وسلم لفظا ولأمته معنى وهو في غاية البعد * (عنها) * أي الساعة، والمراد عن ذكرها ومراقبتها، وقيل: عن الإيمان بإتيانها ورجح الأول بأنه الأليق بشأن موسى عليه السلام وإن كان النهي بطريق التهييج والإلهاب ورجوع ضمير * (عنها) * إلى الساعة هو الظاهر وكذا رجوع ضمير * (بها) * في قوله تعالى: * (من لا يؤمن بها) * وقيل: الضميران راجعان إلى كلمة * (لا إله إلا أنا) * (طه؛ 14) وقيل: الأول راجع إلى العبادة والثاني راجع إلى الساعة، وقيل: هما راجعان إلى الخصال المذكورة، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ولأن في المؤخر نوع طول ربما يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم، والنهي وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكافر عن صد موسى عليه السلام عن الساعة لكنه في الحقيقة نهي له عليه السلام عن الانصداد عنها على أبلغ وجه وآكده فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهى عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية عن أصلها كما في قوله تعالى: * (لا يجرمنكم) * (المائدة: 2) الخ فإن صد الكافر حيث كان سببا لانصداده عليه السلام كان النهي عنه نهيا بأصله وموجبه وإبطالا له بالكلية، ويجوز أن يكون نهيا عن السبب على أن يراد نهيه عليه
173

السلام عن إظهار لين الجانب للكفرة فإن ذلك سبب لصدهم إياه عليه السلام كما في قوله: - لا أرينك ههنا - فإن المراد به نهي المخاطب عن الحضور لديه الموجب لرؤيته فكأنه قيل: كن شديد الشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالساعة وينكر البعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه، وفيه حث على الصلابة في
الدين وعدم اللين المطمع لمن كفر * (واتبع هواه) * أي ما تهواه نفسه من اللذات الحسية الفانية فصده عن الإيمان * (فتردى) * أي فتهلك فإن الإغفال عن الساعة وعن تحصيل ما ينجي عن أحوالها مستتبع للهلاك لا محالة.
وذكر العلامة الطيبي أنه يمكن أن يحمل * (من لا يؤمن) * على المعرض عن عبادة الله تعالى المتهالك في الدنيا المنغمس في لذاتها وشهواتها بدليل * (واتبع) * الخ ويحمل نهي الصد على نهي النظر إلى متمتعاته من زهرة الحياة الدنيا ليكون على وزان قوله تعالى: * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم * لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا) * (الحجر: 87، 88) الخ، ويحمل متابعة الهوى على الميل إلى الإخلاد إلى الأرض كقوله تعالى: * (ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) * (الأعراف: 176) يعني تفرغ لعبادتي ولا تلتفت إلى ما الكفرة فيه فإنه مهلك فإن ما أوليناك واخترناه لك هو المقصد الأسنى وفي هذا حث عظيم على الاشتغال بالعبادة وزجر بليغ عن الركون إلى الدنيا ونعيمها، ولا يخلو عن حسن وإن كان خلاف الظاهر. و * (تردى) * يحتمل أن يكون منصوبا في جواب النهي وأن يكون مرفوعا والجملة خبر مبتدأ محذوف أي فأنت تردى بسبب ذلك. وقرأ يحيى * (فتردى) * بكسر التاء.
* (وما تلك بيمينك ياموسى) *
* (وما تلك بيمينك يا موسى) * شروع في حكاية ما كلفه عليه السلام من الأمور المتعلق بالخلق إثر حكاية ما أمر به من الشؤون الخاصة بنفسه. فما استفهامية في محل الرفع بالابتداء و * (تلك) * خبره أو بالعكس وهو أدخل بحسب المعنى وأوفق بالجواب و * (بيمينك) * متعلق بمضمر وقع حالا من * (تلك) * أي وما تلك قارة أو مأخوذة بيمينك والعامل فيه ما فيه من معنى الإشارة كما في قوله عز وجل حكاية * (وهذا بعلي شيخا) * (هود: 72) وتسميه النحاة عاملا معنويا.
وقال ابن عطية: تلك اسم موصول و * (بيمينك) * متعلق بمحذوف صلته أي وما التي استقرت بيمينك. وهو على مذهب الكوفيين الذين يقولون إن كل اسم إشارة يجوز أن يكون اسما موصولا. ومذهب البصريين عدم جواز ذلك إلا في ذا بشرطه. والاستفهام تقريري وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى بيان المراد منه.
* (قال هى عصاى أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمى ولى فيها مأرب أخرى) *
* (قال هي عصاي) * نسبها عليه السلام إلى نفسه تحقيقا لوجه كونها بيمينه وتمهيدا لما يعقبه من الأفاعيل المنسوبة إليه عليه السلام. واسمها على ما روي عن مقاتل نبعة. وكان عليه السلام قد أخذها من بيت عصى الأنبياء عليهم السلام التي كانت عند شعيب حين استأجره للرعي هبط بها آدم عليه السلام من الجنة وكانت فيما يقال من آسها. وقال وهب: كانت من العوسج وطولها عشرة أذرع على مقدار قامته عليه السلام. وقيل: اثنتا عشرة ذراعا بذراع موسى عليه السلام. وذكر المسند إليه وإن كان هو الأصل لرغبته عليه السلام في المناجاة ومزيد لذاذته بذلك. وقرأ ابن أبي إسحاق. والجحدري * (عصي) * بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم على لغة هذيل فإنهم يقلبون الألف التي قبل ياء المتكلم ياء للمجانسة كما يكسر ما قبلها في " الصحيح ". قال شاعرهم: سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم * فتخرموا ولكل جنب مصرع
وقرأ الحسن * (عصاي) * بكسر الياء وهي مروية عن أبي ابن إسحاق أيضا. وأبي عمرو، وهذه الكسرة
174

لالتقاء الساكنين كما في " البحر ". وعن ابن أبي إسحاق * (عصاي) * بسكون الياء كأنه اعتبر الوقف ولم يبال بالتقاء الساكنين، والعصا من المؤنثات السماعية ولا تلحقها التاء، وأول لحن سمع بالعراق كما قال الفراء: هذه عصاتي وتجمع على عصي بكسر أوله وضمه وأعص وأعصاء * (أتوكؤا عليها) * أي أتحامل عليها في المشي والوقوف على رأس القطيع ونحو ذلك * (وأهش بها) * أي أخبط بها ورق الشجر وأضربه ليسقط * (على غنمي) * فتأكله. وقرأ النخعي كما ذكر أبو الفضل الرازي. وابن عطية * (أهش) * بكسر الهاء ومعناه كمعنى مضموم الهاء، والمفعول على القراءتين محذوف كما أشرنا إليه.
وقال أبو الفضل: يحتمل أن يكون ذلك من هش يهش هشاشة إذ مال أي أميل بها على غنمي بما يصلحها من السوق وإسقاط الورق لتأكله ونحوهما، ويقال: هش الورق والكلأ والنبات إذا جف ولأن انتهى. وعلى هذا لا حذف.
وقرأ الحسن. وعكرمة * (أهس) * بضم الهاء والسين المهملة من الهس وهو زجر الغنم، وتعديته بعلى لتضمين معنى الانحاء يقال: أنحى عليه بالعصا إذا رفعها عليه موهما للضرب أي أزجرها منحيا عليها. وفي كتاب السين والشين لصاحب القاموس يقال: هس الشيء وهشه إذا فته وكسره فهما بمعنى. ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ * (أهش) * من أهش رباعيا.
وذكر صاحب اللوامح عن عكرمة. ومجاهد * (أهش) * بضم الهاء وتخفيف الشين المعجمة ثم قال لا أعرف وجهه إلا أن يكون بمعنى أهش بالتضعيف لكن فر منه لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي فيكون كتخفيف ظلت ونحوه اه‍ وهو في غاية البعد. وقرأت جماعة * (غنمي) * بسكون النون. وأخرى * (على غنمي) * على أن * (على) * جار ومجرور و * (غنمي) * مفعول صريح للفعل السابق، ولم أقف على ذكر كيفية قراءة هذه الجماعة ذلك الفعل وهو على قراءة الجمهور مما لا يظهر تعديه للغنم، وكذا على قراءة غيرهم إلا بنوع تكلف، والغنم الشاه وهو اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكر والإناث وعليهما جميعا ولا واحد له من لفظه وإنما واحده شاة وإذا صغرته قلت غنيمة بالهاء ويجمع على أغنام. وغنوم. وأغانم، وقالوا: غنمان في التثنية على إرادة قطعتين وقدم عليه السلام بيان مصلحة نفسه في قوله: أتوكأ عليها وثنى بمصلحة رعيته في قوله: * (وأهش بها على غنمي) * ولعل ذلك لأنه عليه السلام بعد أن ناداه ربه سبحانه وتحقق أنه جل وعلا هو المنادي قال سبحانه له: ادن مني فجمع يديه في العصا ثم تحامل حتى استقل قائما فرعدت فرائصه حتى اختلفت واضطربت رجلاه وانقطع لسانه وانكسر قلبه ولم يبق منه عظم يحمل آخر فهو بمنزلة الميت إلا أن روح الحياة تجري فيه ثم زحف وهو مرعوب حتى وقف قريبا من الشجرة التي نودي منها فقال له الرب تبارك وتعالى ما تلك بيمينك يا موسى؟ فقال ما قص عز وجل، وقيل: لعل تقديم التوكؤ عليها لأنه الأوفق للسؤال بما تلك بيمينك، ثم إنه عليه السلام أجمل أوصافها في قوله
: * (ولى فيها مآرب أخرى) * أي حاجات أخر ومفرده مأربة مثلثة الراء. وعومل في الوصف معاملة مفرده فلم يقل أخر وذلك جائز في غير الفواصل وفيها كما هنا أجوز وأحسن.
175

ونقل الأهوازي في كتاب الإقناع عن الزهري. وشيبة أنهما قرأا * (مارب) * بغير همز وكأنه يعني بغير همز محقق، ومحصله أنهما سهلا الهمزة بين بين، وقد روى الإمام أحمد. وغيره عن وهب في تعيين هذه المآب أنه كان لها شعبتان ومحجن تحتهما فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين وكان إذا شاء عليه السلام ألقاها على عاتقه فعلق بها قوسه وكنانته ومخلاته وثوبه وزادا إن كان معه وكان إذا رتع في البرية حيث لا ظل له ركزها ثم عرض بالزندين الزند الأعلى والزند السفلى على شعبتيها وألقى فوقها كساءه فاستظل بها ما كان مرتعا، وكان إذا ورد ماء يقصر عنه رشاؤه وصل بها، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه.
وذكر بعضهم أنه كان عليه السلام يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا وتكونان شمعتين في الليل وإذا ظهر عدو حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء وإذا رفعها نضب وكانت تقيه الهوام وكانت تحدثه وتؤنسه؛ ونقل الطبرسي كثيرا مما ذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
والظاهر أن ذلك مما كان فيها بعد، وتكلف بعضهم للقول بأنه مما كان قبل. ويحتمل إن صح خبر في ذلك ولا أراه يصح فيه شيء، وكأن المراد من سؤاله تعالى إياه عليه السلام أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه تعالى عقب ذلك الآية العظيمة كأنه جل وعلا يقول: أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها فما طالبة للوصف أو يقدر المنفعة بعدها. واختيار ما يدل على البعد في اسم الإشارة للإشارة إلى التعظيم وكذا في النداء إيماء إليه والتعداد في الجواب لأجله؛ و * (مآرب أخرى) * تتميم للاستعظام بأنها أكثر من أن تحصى، وذكر العصا في الجواب ليجري عليها النعوت المادحة وفيه من تعظيم شأنها ما ليس في ترك ذكرها، ويندفع بهذا ما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه استدراك * (هي عصاي) * إذ لا دخل له في تعداد المنافع.
ويجوز أن يكون المراد إظهاره عليه السلام حقارتها ليريه عز وجل عظيم ما يخترعه في الخشبة اليابسة مما يدل على باهر قدرته سبحانه كما هو شأن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئا عظيما فإنه يعرضه على الحاضرين ويقول: ما هذا؟ فيقولون هو الشيء الفلاني ويصفونه بما يبعد عما يريد إظهاره منه ثم يظهر ذلك فما طالبة للجنس و * (تلك) * للتحقير والتعداد في الجواب لأجله * (ومآرب أخرى) * تتميم لذلك أيضا بأن المسكوت عنه من جنس المنطوق فكأنه عليه السلام قال: هي خشبة يابسة لا تنفع إلا منافع سائر الخشبات ولذلك ذكر عليه السلام العصا وأجرى عليها ما أجرى، وقيل: إنه عليه السلام لما رأى من آيات ربه ما رأى غلبت عليه الدهشة والهيبة فسأله سبحانه وتكلم معه إزالة لتلك الهيبة والدهشة فما طالبة إما للوصف أو للجنس وتكرير النداء لزيادة التأنيس، ولعل اختيار ما يدل على البعد في اسم الإشارة لتنزيل العصا منزلة البعيد لغفلته عليه السلام عنها بما غلب عليه من ذلك، والإجمال في قوله: * (ولي فيها مآرب أخرى) * يحتمل أن يكون رجاء أن يسأله سبحانه عن تلك المآرب فيسمع كلامه عز وجل مرة أخرى. وتطول المكاملة وتزداد اللذاذة التي لأجلها أطنب أولا، وما ألذ مكالمة المحبوب، ومن هنا قيل: وأملي حديثا يستطاب فليتني * أطلت ذنوبا كي يطول عتابه
176

ويحتمل أن يكون لعود غلبة الدهشة إليه عليه السلام، وزعم بعضهم أنه تعالى سأله عليه السلام ليقرره على أنها خشبة حتى إذا قلبها حية لا يخافها وليس بشيء، وعلى جميع هذه الأقوال السؤال واحد والجواب واحد كما هو الظاهر، وقيل: * (أتوكؤا عليها) * الخ جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال: * (هي عصاي) * قال له تعالى: * (فما تصنع بها؟ فقال: * (أتوكؤا عليها) * الخ، وقيل: إنه تعالى سأله عن شيئين عن العصا بقوله سبحانه * (وما تلك) * وعما يملكه منها بقوله عز وجل: * (بيمينك) * فأجاب عليه السلام عن الأول بقوله: * (هي عصاي) * وعن الثاني بقوله: * (أتوكؤا عليها) * الخ، ولا يخفى أن كلا القولين لا ينبغي أن يتوكأ عليهما لا سيما الأخير.
هذا واستدل بالآية على استحباب التوكؤ على العصا وان لم يكن الشخص بحيث تكون وترا لقوسه وعلى استحباب الاقتصاد في المرعى بالهش وهو ضرب الشجر ليسقط الورق دون الاستئصال ليخلف فينتفع به الغير.
وقد ذكر الإمام فيها فوائد سنذكر بعضها في باب الإشارة لأن ذلك أوفق به.
* (قال ألقها ياموسى) *
* (قال) * استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل: فماذا قال الله عز وجل فقيل؟ قال: * (ألقها يا موسى) * لترى من شأنه ما ترى، والإلقاء الطرح على الأرض، ومنه قوله: فألقت عصاها واستقرت بها النوى * كما قر عينا بالأياب المسافر
وتكرير النداء لمزيد التنبيه والاهتمام بشأن العصا، وكون قائل هذا هو الله تعالى هو الظاهر، وزعم بعضهم أنه لا يجوز أن يكون القائل الملك بأمر الله تعالى وقد أبعد غاية البعد.
* (فألق‍اها فإذا هى حية تسعى) *
* (فألقي‍اها) * ريثما قيل له ألقها * (فإذا هي حية تسعى) * تمشي وتنتقل بسرعة، والحية اسم جنس ينطلق على الصغير والكبير والأنثى والذكر، وقد انقلبت حين ألقاها عليه السلام ثعبانا وهو العظيم من الحيات كما يفصح عنه قوله تعالى: * (فإذا هي ثعبان مبين) * (الأعراف: 107) وتشبيهها بالجان وهو الدقيق منها في قوله
سبحانه: * (فلما رآها تهتز كأنها جان) * (النمل: 10) من حيث الجلادة وسرعة الحركة لا من حيث صغر الجثة فلا منافاة، وقيل: إنها انقلبت حين ألقاها عليه السلام حية صفراء في غلظ العصا ثم انتفخت وغلظت فلذلك شبهت بالجان تارة وسميت ثعبانا أخرى، وعبر عنها بالاسم العام للحالين، والأول هو الأليق بالمقام مع ظهور اقتضاء الآية التي ذكرناها له وبعدها عن التأويل. وقد روي الإمام أحمد. وغيره عن وهب أنه عليه السلام حانت منه نظرة بعد أن ألقاها فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون يرى يلتمس كأنه يبتغي شيئا يريد أخذه يمر بالضخرة مثل الخلفة من الإبل فيلتقمها ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها عيناه توقدان نارا وقد عاد المحجن عرفا فيه شعر مثل النيازك وعاد الشعبتان فما مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف.
وفي بعض الآثار أن بين لحييه أربعين ذراعا فلما عاين ذلك موسى عليه السلام ولي مدبرا ولم يعقب فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية ثم ذكر ربه سبحانه فوقف استحياء منه عز وجل ثم نودي يا موسى إلى ارجع حيث كنت فرجع وهو شديد الخوف فأمره سبحانه وتعالى بأخذها وهو ما قص الله تعالى بقوله عز قائلا:
* (قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى) *
* (قال) * أي الله عز وجل، والجملة استئناف كما سبق * (خذها) * أي الحية وكانت على ما روي عن ابن عباس ذكرا، وعن وهب أنه تعالى قال له: خذها بيمينك * (ولا تخف) * منها، ولعل ذلك الخوف
177

مما اقتضته الطبيعة البشرية فإن البشر بمقتضى طبعه يخاف عند مشاهدة مثل ذلك وهو لا ينافي جلالة القدر.
وقيل: إنما خاف عليه السلام لأنه رأى أمرا هائلا صدر من الله عز وجل بلا واسطة ولم يقف على حقيقة أمره وليس ذلك كنار إبراهيم عليه السلام لأنها صدرت على يد عدو الله تعالى وكانت حقيقة أمرها كنار على علم فلذلك لم يخف عليه السلام منها كما خاف موسى عليه السلام من الحية، وقيل: إنما خاف لأنه عرف ما لقي من ذلك حيث كان له مدخل في خروج أبيه من الجنة، وإنما عطف النهي على الأمر للاشعار بأن عدم المنهى عنه مقصود لذاته لا لتحقيق المأمور به فقط، وقوله تعالى: * (سنعيدها) * أي بعد الأخذ * (سيرتها) * أي حالتها * (الأولى) * التي هي العصوية استئناف مسوق لتعليل الامتثال بالأمر والنهي فإن إعادتها إلى ما كانت عليه من موجبات أخذها وعدم الخوف منها، ودعوى أن فيه مع ذلك عدة كريمة بإظهار معجزة أخرى على يده عليه السلام وإيذانا بكونها مسخرة له عليه السلام ليكون على طمأنينة من أمره ولا تعتريه شائبة تزلزل عند محاجة فرعون لا تخلو عن خفاء، وذكر بعضهم أن حكمة انقلابها حية وأمره بأخذها ونهيه عن الخوف تأنيسه فيما يعلم سبحانه أنه سيقع منه مع فرعون، ولعل هذا مأخذ تلك الدعوى.
قيل: بلغ عليه السلام عند هذا الخطاب من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحييها، وفي رواية الإمام أحمد. وغيره عن وهب أنه لما أمره الله تعالى بأخذها أدنى طرف المدرعة على يده وكانت عليه مدرعة من صوف قد خلها بخلال من عيدان فقال له مالك: أرأيت يا موسى لو أذن الله تعالى بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال: لا ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الاضراس والانياب ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها فيه إذا توكأ بين الشعبيتين، والرواية الأولى أوفق بمنصبه الجليل عليه السلام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السلام نودي المرة الأولى يا موسى خذها فلم يأخذها ثم نودي الثانية * (خذها ولا تخف) * فلم يأخذها ثم نودي الثالثة * (إنك من الآمنين) * فأخذها، وذكر مكي في تفسيره أنه قيل له في المرة الثالثة: * (سنعيدها سيرتها الأولى) *، ولا يخفى أن ما ذكر بعيد عن منصب النبوة فلعل الخبر غير صحيح.
والسيرة فعلة من السير تقال للهيئة والحالة الواقعة فيه ثم جردت لمطلق الهيئة والحالة التي يكون عليها الشيء، ومن ذلك استعمالها في المذهب والطريقة في قولهم: سيرة السلف وقول الشاعر: فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها * فأول راض سيرة من يسيرها
واختلف في توجيه نصبها في الآية فقيل: إنها منصوبة بنزع الخافض والأصل إلى سيرتها أو لسيرتها وهو كثير وإن قالوا: إنه ليس بمقيس، وهذا ظاهر قول الحوفي: إنها مفعول ثان لسنعيدها على حذف الجار نحو * (واختار موسى قومه) * (الأعراف: 551) وإليه ذهب ابن مالك وارتضاه ابن هشام، وجوز الزمخشري أن يكون أعاد منقولا من عاده بمعنى عاد إليه، ومنه قول زهير: فصرم حبلها إذ صرمته
وعادك أن تلاقيها عداء فيتعدى إلى مفعولين، والظاهر أنه غير التوجيه الأول لاعتبار النقل فيه والخافض يحذف من أعاد من غير نظر إلى ثلاثيه؛ وتعدى عاد بنفسه مما صح به النقل، فقد نقل الطيبي عن الأصمعي أن عادك في البيت متعد بمعنى صرفك، وكذا نقل الفاضل اليمنى. وفي المغرب العود الصيرورة ابتداء وثانيا ويتعدى بنفسه وبإلى وعلى وفي واللام.
178

وفي مشارق اللغة للقاضي عياض مثله، ونقل عن الحديث " أعدت فتانا يا معاذ؟ ". وقال أبو البقاء: هي بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال، وجوز أن يكون النصب على الظرفية أي سنعيدها في طريقتها الأولى.
وتعقبه أبو حيان قائلا: إن سيرتها وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلا بوساطة في ولا يجوز الحذف إلا في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب، وحاصله أن شرط الانتصاب على الظرفية هنا وهو الإبهام مفقود، وفي شرح التسهيل عن نحاة المغرب أنهم قسموا المبهم إلى أقسام منها المشتق من الفعل كالمذهب والمصدر الموضوع موضع الظرف نحو قصدك ولم يفرقوا بين المختوم بالتاء وغيره فالنصب على الظرفية فيما ذكر غير شاذ ولا ضرورة، وجوز الزمخشري واستحسنه أن يكون * (سنعيدها) * مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية فسنعيدها بعد الذهاب كما
أنشأناها أولا، و * (سيرتها) * منصوبا على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر أي تسير سيرتها الأولى أي سنعيدها سائرة سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها وتهش بها على غنمك ولك فيها المآرب التي عرفتها انتهى.
والظاهر أنه جعل الجملة من الفعل المقدر وفاعله حالا، ويجوز أن يكون استئنافا، ولا يخفى عليك أن ما ذكره وإن حس معنى إلا أنه خلاف المتبادر، هذا والآية ظاهرة في جواز انقلاب الشيء عن حقيقته كانقلاب النحاس إلى الذهب وبه قال جمع، ولا مانع في القدرة من توجه الأمر التكويني إلى ذلك وتخصيص الإرادة له، وقيل: لا يجوز لأن قلب الحقائق محال والقدرة لا تتعلق به والحق الأول بمعنى أنه تعالى يخلق بدل النحاس مثلا ذهبا على ما هو رأي بعض المحققين أو بأن يسلب عن أجزاء النجاس الوصف الذي صار به نحاسا ويخلق فيه الوصف الذي يصير به ذهبا على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات، والمحال إنما هو انقلابه ذهبا مع كونه نحاسا لامتناع كون الشيء في الزمن الواحد نحاسا وذهبا، وانقلاب العصا حية كان بأحد هذين الاعتبارين والله تعالى أعلم بأيهما كان، والذي أميل إليه الثاني فإن في كون خلق البدل انقلابا خفاء كما لا يخفى. [بم وقوله تعالى:
* (واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضآء من غير سوء ءاية أخرى) *
* (واضمم يدك إلى جناحك) * أمر له عليه السلام بعد ما أخذ الحية وانقلبت عصاكما كانت؛ والضم الجمع، والجناح كما في القاموس اليد والعضد والابط والجانب ونفس الشيء ويجمع على أجنحة وأجنح، وفي البحر الجناح حقيقة في جناح الطائر والملك ثم توسع فيه فاطلق على اليد والعضد وجنب الرجل.
وقيل: لمجنبتي العسكر جناحان على سبيل الاستعارة وسمي جناح الطائر بذلك لأنه يجنحه أي يميله عند الطيران، والمراد ادخل يدك اليمنى من طوق مدرعتك واجعلها تحت إبط اليسرى أو تحت عضدها عند الابط أو تحتها عنده فلا منافاة بين ما هنا، وقوله تعالى: * (أدخل يدك في جيبك) * (النمل: 12).
* (تخرج بيضاء من غير سوء) * جعله بعضهم مجزوما في جواب الأمر المذكور على اعتبار معنى الادخال فيه، وقال أبو حيان: وغيره إنه مجزوم في جواب أمر مقدر وأصل الكلام اضمم يدك تنضم وأخرجها تخرج فحذف ما حذف من الأول. والثاني وأبقى ما يدل عليه فهو إيجاز يسمى بالاحتباك، ونصب * (بيضاء) * على الحال من الضمير في * (تخرج) * والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو حال من الضمير في * (بيضاء) * أو صفة لبيضاء كما قال الحوفي أو متعلق به كما قال
179

أبو حيان كأنه قيل: أبيضت من غبر سوء أو متعلق بتخرج كما جوزه غير واحد. والسوء الرداءة والقبح في كل شيء، وكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة لما أن الطباع تنفر عنه والأسماع تمجه. وهو أبغض شيء عند العرب ولهذا كنوا عن جذيمة صاحب الزباء وكان أبرص بالأبرش والوضاح. وفائدة التعرض لنفي ذلك الاحتراس فإنه لو اقتصر على قوله تعالى: * (تخرج بيضاء) * لأوهم ولو على بعد أن ذلك من برص، ويجوز أن يكون الاحتراس عن توهم عيب الخروج عن الخلقة الأصلية على أن المعنى تخرج بيضاء من غير عيب وقبح في ذلك الخروج أو عن توهم عيب مطلقا. يروي أنها خرجت بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يغشى البصر وكان عليه السلام آدم اللون * (ءاية أخرى) * أي معجزة أخرى غير العصا. وانتصابها على الحالية من ضمير * (تخرج) * والصحيح جواز تعدد الحال لذي حال واحدا ومن ضمير * (بيضاء) * أو من الضمير في الجار والمجرور على ما قيل أو على البدلية من * (بيضاء) * ويرجع إلى الحالية من ضمير * (تخرج) *، ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مضمر أي خذ آية وحذف لدلالة الكلام. وظاهر كلام الزمخشري جواز تقدير دونك عاملا وهو مبني على ما هو ظاهر كلام سيبويه من جواز عمل اسم الفعل محذوفا ومنعه أبو حيان لأنه نائب عن الفعل ولا يحذف النائب والمنوب عنه، ونقض بيا الندائية فإنها تحذف مع أنها نائبة عن أدعوا، وقيل: إنها مفعول ثان لفعل محذوف مع مفعوله الأولى أي جعلناها أو آتيناك أية أخرى، وجعل هذا القائل قوله تعالى:
* (لنريك من ءاي‍اتنا الكبرى) *
* (لنريك من آياتنا الكبرى) * متعلقا بذلك المحذوف. ومن قدر خذ ونحوه جوز تعلقه به، وجوز الحوفي تعلقه باضمم، وتعلقه بتخرج وأبو البقاء تعلقه بما دل عليه * (آية) * أي دللنا بها لتريك. ومنع تعلقه بها لأنها قد وصفت. وبعضهم تعلقه بالق، واختار بعض المحققين أنه متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل: فعلنا ما فعلنا لنريك بعض آياتنا الكبرى على أن * (الكبرى) * صفة لآياتنا على حد * (مآرب أخرى) * و * (من آياتنا) * في موضع المفعول الثاني ومن فيه للتبعيض أو لنريك بذلك الكبرى من آياتنا على أن * (الكبرى) * هو المفعول الثاني لنريك * (ومن آياتنا) * متعلق بمحذوف حال منه ومن فيه للابتداء أو للتبعيض. وتقديم الحال مع أن صاحبه معرفة لرعاية الفواصل. وجوز كلا الاعرابين في * (من آياتنا الكبرى) * الحوفي. وابن عطية. وأبو البقاء. وغيرهم.
واختار في البحر الاعراب الأول ورجحه بأن فيه دلالة على أن آياته تعالى كلها كبرى بخلاف الاعراب الثاني وبأنه على الثاني لا تكون * (الكبرى) * صفة العصا واليد معا وإلا لقيل: الكبريين. ولا يمكن أن يخص أحدهما لأن في كل منهما معنى التفضيل، ويبعد ما قال الحسن وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه ليس في اليد إلا تغيير اللون وأما العصا ففيها تغيير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة مع عودها عصا بعد ذلك فكانت أعظم في الإعجاز من اليد، وجوز أن تكون * (الكبرى) * صفة لهما معا ولا تحاد المقصود جعلتا آية واحدة وأفردت الصفة لذلك. وأن تكون صفة لليد والعصا غنية عن الوصف بها لظهور كونها كبرى.
وأنت تعلم أن هذا كله خلاف الظاهر. وكذا ما قيل: من أن من على الاعراب الثاني للبيان بأن يكون المراد لنريك الآيات الكبرى من آياتنا ليصح الحمل الذي يقتضيه البيان ولا يترجح بذلك الإعراب الثاني على الأول ولا يساويه أصلا. ولا يخفى عليك أن كل احتمال من احتمالات متعلق اللام خلا من الدلالة على وصف آية
180

العصا بالكبر لا ينبغي أن يعول عليه. ويعتذر بأن عدم الوصف للظهور مع ظهور الاحتمال الذي لا يحتاج معه إلا الاعتذار عن ذلك المقال فتأمل والله تعالى العاصم من
الزلل.
* (اذهب إلى فرعون إنه طغى) *
* (إذهب إلى فرعون) * تخلص إلى ما هو المقصد من تمهيد المقدمات السالفة فصل عما قبله من الأوامر إيذانا بإصالته أي اذهب إليه بما رأيته من آياتنا الكبرى وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي.
وقوله تعالى: * (إنه طغى) * تعليل للأمر أو لوجوب المأمور به أي جاوز الحد في التكبر والعتو والتجبر حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية، قال وهب بن منبه: إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: ادن فلم يزل يدنيه حتى شد ظهره بجذع الشجرة فاستقر وذهبت عنه الرعدة وجمع يده في العصا وخضه برأسه وعنقه ثم قال له بعد أن عرفه نعمته تعالى عليه: انطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإن معك أيدي ونصرى وإني قد ألبستك جنة من سلطاني تستكمل بها القوة في أمري فأنت جند عظيم من جنودي بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتى وأمن مكرى وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وعبد من دوني وزعم أنه لا يعرفني وإني لأقسم بعزتي لولا العذر والحجة اللذان وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار فإن أمرت السماء حصبته وإن أمرت الأرض ابتلعته وإن أمرت البحار غرقته وإن أمرت الجبال دمرته ولكنه هان علي وسقط من عيني ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحق لي إني أنا الغني لا غنى غيري فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وتوحيدي واخلاص اسمى وذكره بايامى وحذره نقمتي وباسى وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبه وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغب والعقوبة ولا يرو عنك ما ألبسته من لباس الدنيا فإن ناصيته بيدي ليس يطرف ولا ينطق ولا يتنفس إلا بإذني وقل له: أجب ربك فإنه واسع المغفرة وانه قد أمهلك أربعمائة سنة في كلها أنت مبارزه بالمحاربة تتشبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله وهو يمطر عليك السماء وينبت لك الأرض لم تسقم. ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب ولو شاء أن يفعل ذلك بك فعل ولكنه ذو أناة وحلم عظيم في كلام طويل.
وفي بعض الروايات أن الله تعالى لما أمره عليه السلام بالذهاب إلى فرعون سكت سبعة أيام، وقيل: أكثر فجاءه ملك فقال: أنفذ ما أمرك ربك، وفي القلب من صحة ذلك شيء.
* (قال رب اشرح لى صدرى) *
* (قال) * استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال موسى عليه السلام حين قيل له ما قيل؟ فأجيب بأنه قال: * (رب اشرح لي صدري.
* (قال رب اشرح لى صدرى) *
* (ويسر لي أمري) * الظاهر أنه متعلق بقوله تعالى * (اذهب إلى فرعون) * (طه: 24) الخ، وذلك انه عليه السلام علم من الأمر بالذهاب إليه والتعليل بالعلة المذكورة أنه كلف أمرا عظيما وخطبا جسيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جاش رابط وصدر فسيح فاستوهب ربه تعالى أن يشرح صدره ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى أن يرد عليه في طريق التبليغ والدعوة إلى مر الحق من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات وأن يسهل عليه مع ذلك أمره الذي هو أجل الأمور وأعظمها وأصعب الخطوب وأهو لها بتوفيق الأسباب ورفع الموانع، فالمراد من شرح الصدر جعله بحيث لا يضجر ولا يقلق مما يقتضي بحسب البشرية الضجر والقلق من
181

الشدائد، وفي طلب ذلك إظهار لكمال الافتقار إليه عز وجل واعراض عن الأنانية بالكلية:
ويحسن إظهار التجلد للعدا * ويقبح إلا العجز عند الأحبة
وذكر الراغب أن أصل الشرح البسط ونحوه، وشرح الصدر بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله تعالى وروح منه عز وجل ولهم فيه عبارات أخر لعل بعضها سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة. وقال بعضهم: إن هذا القول معلق بما خاطبه الله تعالى به من لدن قوله سبحانه: * (إني أنا ربك فاخلع نعليك) * (طه: 12) إلى هذا المقام فيكون قد طلب عليه السلام شرح الصدر ليقف على دقائق المعرفة وأسرار الوحي ويقوم بمراسم الخدمة والعبادة على أتم وجه ولا يضجر من شدائد التبليغ. وقيل: إنه عليه السلام لما نصب لذلك المنصب العغظيم وخوطب بما خوطب في ذلك المقام احتاج إلى تكاليف شاقة من تلقي الوحي والمواظبة على خدمة الخالق سبحانه وتعالى وإصلاح العالم السفلى فكأنه كلف بتدبير العالمين والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر فسأل شرح الصدر حتى يفيض عليه من القوة ما يكون وافيا بضبط تدبير العالمين، وقد يقال: إن الأمر بالذهاب إلى فرعون قد انطوى فيه الإشارة إلى منصب الرسالة المستتبع تكاليف لائقة به منها ما هو راجع إلى الحق؛ ومنها ما هو منوط بالخلق، وقد استشعر موسى عليه السلام كل ذلك فبسط كف الضراعة لطلب ما يعينه على أداء ذلك على أكمل وجه فلا يتوقف تعميم شرح الصدر على تعلقه بأول الكلام كما لا يخفى، ثم إن الصدر عند علماء الرسوم يراد منه القلب لأنه المدرك أو مما به الإدراك والعلاقة ظاهرة. ولعلماء القلوب كلام في ذلك سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة مع بعض ما أطنب به الإمام في تفسير هذه الآية، وفي ذكر كلمة * (لي) * مع انتظام الكلام بدونها تأكيد لطلب الشرح والتيسير بإبهام المشروح والميسر أولا وتفسيرهما ثانيا فإنه لماقال * (اشرح لي) * علم أن ثم مشروحا يختص به حتى لو اكتفى لتم فإذا قيل * (صدري) * أفاد التفسير والتفصيل أما لو قيل * (اشرح) * واكتفى به فلا وكذا الكلام في * (يسر لي) *. وقيل: ذكر * (لي) * لزيادة الربط كما في قوله تعالى: * (اقترب للناس حسابهم) *. وتعقب بأنه لا منافاة وهو الذي أفاد هذا المعنى وفي الانتصاف أن فائدة ذكرها الدلالة على أن منفعة شرح الصدر راجعة إليه فإنه تعالى لا يبالي بوجوده وعدمه وقس عليه * (يسر لي أمري) *.
* (واحلل عقدة من لسانى) *
* (واحلل عقدة من لساني) * روى أنه كان في لسانه عليه السلام رتة من جمرة أدخلها فاه في صغره.
وذلك ان فرعون حمله ذات يوم فأخذ خصلة من لحيته لما كان فيها من الجواهر. وقيل: لطمه. وقيل: ضربه ضربه بقضيب في يده على رأسه فتطير فدعا بالسياف فقالت آسية بنت مزاحم امرأته وكانت تحب موسى عليه السلام: إنما هو صبي لا يفرق بين الياقوت والجمر فاحضرا وأراد أن يمد يده إلى الياقوت فحول جبريل عليه السلام يده إلى الجمرة فأخذها فوضعها في فيه فاحترق لسانه.
وفي هذا دليل على فساد قول القائلين بأن النار تحرق بالطبيعة من غير مدخلية لاذن الله تعالى في ذلك إن لو كان الأمر كما زعموا لأحرقت يده. وذكر في حكمة إذن الله تعالى لها بإحراق لسانه دون يده ان يده صارت آلة لما ظاهره الإهانة لفرعون. ولعل تبييضها كان لهذا أيضا وإن لسانه كان آلة لضد ذلك بناء على ما روي أنه عليه السلام دعاه بما يدعو به الأطفال الصغار آبائهم. وقيل: احترقت يده عليه السلام أيضا فاجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ. ولعل ذلك لئلا يدخلها عليه السلام مع فرعون في قصة واحدة فتفقد
182

بينهما حرمة المؤاكلة فلما دعاه قال: إلى أي رب تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدى وقد عجزت عنه. وكان الظاهر على هذا أن يطرح عليه السلام النار من يده ولا يوصلها إلى فيه. ولعله لم يحس بالألم إلا بعد أن أوصلها فاه أو أحس لكنه لم يفرق بين القائها في الأرض والقائها في فمه وكل ذلك بتقدير الله تعالى ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وقيل: كانت العقدة في لسانه عليه السلام خلقة. وقيل: إنها حدثت بعد المناجاة وفيه بعد.
واختلف في زوالها بكمالها فمن قال به كالحسن تمسك بقوله تعالى: * (قد أوتيت سؤالك يا موسى) * (طه: 36) من لم يقل به كالجبائي احتج بقوله تعالى: * (هو أفصح مني) * (القصص: 34) وقوله سبحانه * (ولا يكاد يبين) * (الزخرف: 52).
وبما روي أنه كان في لسان الحسين رضي الله عنه رتة وحبسة فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: إنه ورثها من عمه موسى عليه السلام. وأجاب عن الأول بأنه عليه السلام لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية بل عقدة تمنع الافهام ولذلك نكرها ووصفها بقوله: دمن لساني) * ولم يضفها مع أنه أخصر ولا يصلح ذلك للوصفية إلا بتقدير مضاف وجعل * (من) * تبعيضية أي عقدة كائنة من عقد لساني فإن العقدة للسان لا منه. وجعل قوله تعالى: * (يفقهوا قولي) * جواب الطلب وغرضا من الدعاء فبحلها في الجملة يتحقق إيتاء سؤاله عليه السلام. واعترض على ذلك بأن قوله تعالى: * (هو أفصح مني) * قال عليه السلام قبل استدعاء الحل على أنه شاهد على عدم بقاء اللكنة لأن فيه دلالة على أن موسى عليه السلام كان فصيحا غايته إن فصاحة أخيه أكثر وبقية اللكنة تنافي الفصاحة اللغوية المرادة هنا بدلالة قوله لسانا. ويشهد لهذه المنافاة ما قاله ابن هلال في كتاب الصناعتين: الفصاحة تمام آلة البيان ولذا يقال: لله تعالى فصيح وإن قيل لكلامه سبحانه فصيح ولذلك لا يسمى الالثغ والتمتام فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف وبأن قوله تعالى: * (ولا يكاد يبين) * (الزخرف: 52) معناه لا يأتي ببيان وحجة، وقد قال ذلك اللعين تمويها ليصرف الوجوه عنه عليه السلام، ولو كان المراد نفي البيان وافهام الكلام لاعتقال اللسان لدل على عدم زوال العقدة أصلا ولم يقل به أحد، وبانا لا نسلم صحة الخبر، وبأن تنكير * (عقدة) * يجوز أن يكون لقتلها في نفسها. ومن يجوز تعلقها باحلل كما ذهب إليه الحوفي واستظهره أبو حيان فإن المحلول إذا كان متعلقا بشيء ومتصلا به فكما يتعلق الحل به يتعلق بذلك الشيء أيضا باعتبار إزالته عنه أو ابتداء حصوله منه، وعلى تقدير تعلقها بمحذوف وقع صفة لعقدة لا نسلم وجوب تقدير مضاف وجعل من تبعيضية، ولا مانع من أن تكون بمعنى في ولا تقدير أي عقدة في لساني بل قيل: ولا مانع أيضا من جعلها ابتدائية مع عدم التقدير وأي فساد في قولنا: عقدة ناشئة من لساني. والحاصل أن ما استدل به على بقاء عقدة ما في لسانه عليه السلام وعدم زوالها بالكلية غير تام لكن قال بعضهم: إن الظواهر تقتضي ذلك وهي تكفي في مثل هذه المطالب وثقل ما في اللسان لا يخفف قدر الإنسان. وقد ذكر أن في لسان المهدي المنتظر رضي الله عنه حبسة وربما يتعذر عليه السلام حتى يضرب بيده اليمني فخذ رجله اليسرى وقد بلغك ما ورد في فضله. وقال بعضهم: لا تقاوم فصاحة الذات اعراب الكلمات. وأنشد قول القائل: سر الفصاحة كامن في المعدن * لخصائص الأرواح لا للالسن
وقول الآخر: لسان فصيح معرب في كلامه * فياليته في موقف الحشر يسلم
وما ينفع الأعراب ان لم يكن تقى * وما ضر ذا تقوى لسان معجم
183

نعم ما يخل بأمر التبليغ من رتة تؤدي إلى عدم فهم الوحي معها ونفرة السامع عن سماع ذلك مما يجل عنه الأنبياء عليهم السلام فهم كلهم فصحاء اللسان لا يفوت سامعهم شيء من كلامهم ولا ينفر عن سماعة وان تفاوتوا في مرات تلك الفصاحة وكأنه عليه السلام إنما لم يطلب أعلا مراتب فصاحة اللسان وطلاقته عند الجبائي ومن وافقه لأنه لم ير في ذلك كثير فضل، وغاية ما قيل فيه إنه زينة من زينة الدنيا وبهاء من بهائها والفضل الكثير في فصاحة البيان بالمعنى المشهور في عرف أهل المعاني والبيان وما ورد مما يدل على ذم ذلك فليس على إطلاقه كما بين في شروح الأحاديث. ثم إن المشهور تفسير اللسان بالآلة الجارحة نفسها وفسره بعضهم بالقوة النطقية القائمة بالجارحة. والفقه العلم بالشيء والفهم كما في القاموس وغيره، وقال الراغب: هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم.
والظاهر هنا الفهم أي احلل عقدة من لساني يفهموا قولي
* (يفقهوا قولي * واجعل لى وزيرا من أهلى * ه‍ارون أخى) *
* (واجعل لي وزيرا من أهلي * ه‍ارون أخى) * أي معاونا في تحمل أعباء ما كلفته على أن اشتقاقه من الوزر بكسر فسكون بمعنى الحمل الثقيل فهو في الأصل صفة
من ذلك ومعناه صاحب وزر أي حامل حمل ثقيل، وسمي القائم بأمر الملك بذلك لأنه يحمل عنه وزر الأمور وثقلها أو ملجأ اعتصم برأيه على أن اشتقاقه من الوزر بفاحتين وأصله الجبل يتحصن به ثم استعمل بمعنى الملجأ مطلقا كما في قوله: شر السباع الضوارى دونه وزر * والناس شرهم ما دونه وزر
كم معشر سلموا لم يأذهم سبع * وما ترى بشرا لم يؤذه بشر
وسمي وزير الملك بذلك لأن الملك يعتصم برأيه ويلتجىء إليه في أمره فهو فعيل بمعنى مفعول على الحذف والإيصال أي ملجوء إليه أو هو للنسب، وقيل: أصله أزير من الأزر بمعنى القوة ففعيل بمعنى مفاعل كالعشير والجليس قلبت همزته واوا كقلبها في موازر وقلبت فيه لانضمام ما قبلها ووزير بمعناه فحمل عليه وحمل النظير على النظير كثير في كلامهم إلا أنه سمع مؤازر من غير إبدال ولم يسمع أزير بدونه على أنه مع وجود الاشتقاق الواضح وهو ما تقدم لا حاجة إلى هذا الاشتقاق وادعاء القلب. ونصبه على أنه مفعول ثان * (لا جعل) * قدم على الأول الذي هو قوله تعالى: * (هارون) * اعتناء بشأن الوزارة لأنها المطلوبة و * (لي) * صلة للجعل أو متعلق بمحذوف وقع حالا من وزيرا وهو صفة له في الأصل و * (من أهلي) * إما صفة لوزيرا أو صلة لا جعل، وقيل: مفعولاه * (لي وزيرا) * و * (من أهلي) * على ما مر من الوجهين و * (هارون) * عطف بيان للوزير بناء على ما ذهب إليه الزمخشري والرضى من أنه لا يشترط التوافق في التعريف والتنكير، وقيل: هو بدل من وزيرا. وتعقب بأنه يكون حينئذ هو المقصود بالنسبة مع أن وزارته هي المقصودة بالقصد الأول هنا.
وجوز كونه منصوبا بفعل مقدر في جواب من اجعل؟ أي اعجل هارون، وقيل: مفعولاه * (وزيرا من أهلي) * و * (لي) * تيبين كما في سقيا له.
واعترض بأن شرط المفعولين في باب النواسخ صحة انعقاد الجملة الاسمية منهما ولو ابتدأت بوزيرا وأخبرت عنه بمن أهلى لم يصح إذ لا مسوغ للابتداء به، وأجيب بأن مراد القائل: إن " من أهلي " هو المفعول الأول لتأويله ببعض أهلي كأنه قيل اجعل بعض أهلي وزيرا فقدم للاهتمام به وسداد المعنى يقتضيه ولا يخفى
184

بعده، ومن ذلك قيل الأحسن أن يقال: إن الجملة دعائية والنكرة يبتدأ بها فيها كما صرح به النحاة فكذا بعد دخول الناسخ وهو كما ترى، وقيل: المسوغ للإبتداء بالنكرة هنا عطف المعرفة وهو * (هرون) * عليها عطف بيان وهو غريب، وجوز في * (هرون) * أيضا على هذا القول كونه مفعولا لفعل مقدر وكونه بدلا وقد سمعت ما فيه. والظاهر أنه يجوز في * (لي) * عليه أيضا أن يكون صلة للعجل كما يجوز فيه على بعض الأوجه السابقة أن يكون تبيينا. ولم يظهر لي وجه عدم ذكر هذا الاحتمال ولا وجه عدم ذكر احتمال كونه صلة للجعل هنا. ويفهم من كلام البعض جواز كل من الاحتمالين هنا وهناك. وكذا يجوز أيضا أن يكون حالا من * (وزيرا) * ولعل ذلك مما يسهل أمر الانعقاد على ما قيل وفيه ما فيه، و * (أخى) * على الوجوه عطف بيان للوزير ولا ضير في تعدده لشيء واحد أو لهرون. ولا يشترط فيه كون الثاني أشهر كما توهم لأن الإيضاح حاصل من المجموعكما حقق في المطول وحواشيه. ولا حاجة إلى دعوى أن المضاف إلى الضمير أعرف من العلم لما فيها من الخلاف. وكذا إلى ما في " الكشف " من أن * (أخى) * في هذا المقام أشهر من اسمه العلم لأن موسى عليه السلام هو العلم المعروف والمخاطب الموصوف بالمناجاة والكرامة والمتعرف به هو المعرفة في الحقيقة ثمن إن البيان ليس بالنسبة إليه سبحانه لأنه جل شأنه لا تخفى عليه خافية وإنما إتيان موسى عليه السلام به على نمط ما تقدم من قوله * (هي عصاي) * الخ. وجوز أن يكون * (أخى) * مبتدأ خبره.
* (اشدد به أزرى) *
* (أشدد به أزري) *.
* (وأشركه فىأمرى) *
* (وأشركه في أمري) * وتعقبه أبو حيان بأنه خلاف الظاهر فلا يصار إليه لغير حاجة. والكلام في الاخبار بالجملة الإنشائية مشهور. والجملة على هذا استئنافية. والأزر القوة. وقيدها الراغب بالشديدة. وقال الخليل. وأبو عبيدة: هو الظهر روى ذلك عن ابن عطية، والمراد أحكم به قوتي وأجعله شريكي في أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي.
وفصل الدعاء الأول عن الدعاء السابق لكمال الاتصال بينهما فإن شد الأزر عبارة عن جعله وزيرا وأما الإشراك في الأمر فحيث كان من أحكام الوزارة توسط بينهما العاطف كذا قيل لكن في مصحف ابن مسعود * (واشدد) * بالعطف على الدعاء السابق وعن أبي * (أشركه في أمري واشدد به أزري) * فتأمل.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما الحسن. وابن عامر * (أشدد) * بفتح الهمزة * (وأشركه) * بضمها على أنهما فعلان مضارعان مجزومان في جواب الدعاء أعني قوله: * (اجعل) *، وقال " صاحب اللوامح ": عن الحسن أنه قرأ * (أشدد به) * مضارع شدد للتكثير والتكرير. وليس المراد بالأمر على القراءة السابقة الرسالة لأن ذلك ليس في يد موسى عليه السلام بل أمر الإرشاد والدعوة إلى الحق، وكان هرون كما أخرج الحاكم عن وهب أطول من موسى عليهما السلام وأكثر لحما وأبيض جسما وأعظم ألواحا وأكبر سنا، قيل: كان أكبر منه بأربع سنين، وقيل: بثلاث سنين. وتوفي قبله بثلاث أيضا. وكان عليه السلام ذا تؤدة وحلم عظيم.
* (كى نسبحك كثيرا) *
* (كي نسبحك كثيرا) *.
* (ونذكرك كثيرا) *
* (ونذكرك كثيرا) * غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة فإن فعل كل واحد منهما من التسبيح والذكر مع كونه مكثرا لفعل الآخر ومضاعفا له بسبب انضمامه إليه مكثر له في
نفسه أيضا بسبب تقويته وتأييده إذ ليس المراد بالتسبيح والذكر ما يكون منهما بالقلب أو في الخلوات حتى لا يتفاوت حاله عند التعدد والانفراد بل ما يكون منهما في تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة العتاة إلى الحق وذلك مما
185

لا ريب في اختلاف حالة في حالتي التعدد والانفراد فإن كلا منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق ما لا يكاد يصدر عنه مثله حال الانفراد، و * (كثيرا) * في الموضعين نعت لمصدر محذوف أو زمان محذوف أي ننزهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التي من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية ويقبله منه فئته الباغية من الشركة في الألوهية ونصفك بما يليق بك من صفات الكمال ونعوت الجمال والجلال تنزيها كثيرا ووصفا كثيرا أو زمانا كثيرا من جملته زمان دعوة فرعون وأوان المحاجة معه كذا في إرشاد العقل السليم.
وجوز أبو حيان كونه منصوبا على الحال أي نسبحك التسبيح في حال كثرته، وكذا يقال في الأخير وليس بذاك، وتقديم التسبيح على الذكر من باب تقديم التخلية على التحلية، وقيل: لأن التشبيح تنزيه عما يليق ومحله القلب والذكر ثناء بما يليق ومحله اللسان والقلب مقدم على اللسان، وقيل: إن المعنى كي نصلي لك كثيرا ونحمدك ونثني عليك كثيا بما أوليتنا من نعمك ومننت به علينا من تحمل رسالتك، ولا يخفى أنه لا يساعده المقام.
* (إنك كنت بنا بصيرا) *
* (إنك كنت بنا بصيرا) * عالما بأحوالنا وبأن ما دعوتك به مما يصلحنا ويفيدنا في تحقيق ما كلفته من إقامة مراسم الرسالة وبأن هرون نعم الردء في أداء ما أمرت به، والباء متعلقة ببصيرا قدمت عليه لمراعاة الفواصل، والجملة في موضع التعليل للمعلل الأول بعد اعتبار تعليله بالعلة الأولى، وروى عبد بن حميد عن الأعمش أنه سكن كاف الضمير في المواضع الثلاثة، وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بمثل هذا الدعاء إلا أنه أقام عليا كرم الله تعالى وجهه مقام هرون عليه السلام، فقد أخرج ابن مردويه. والخطيب. وابن عساكر عن أسماء بن عميس قالت: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزاء ثبير وهو يقول أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم إني أسألك مما أسألك أخي موسى أن تشرح لي صدري وأن تيسر لي أمرى وأن تحل عقدة من لساني يفقه قولي واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا "، ولا يخفى أنه يتعين هنا حمل الأمر على الإرشاد والدعوة إلى الحق ولا يجوز حمله على النبوة، ولا يصح الاستدلال بذلك على خلافة علي كرم الله تعالى وجهه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل.
ومثله فيما ذكر ما صح من قوله عليه الصلاة والسلام له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته: * (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " كما بين في التحفة الإثني عشرية، نعم في ذلك من الدلالة على مزيد فضل علي كرم الله تعالى وجهه ما لا يخفى، وينبغي أيضا أن يتأول طلبه صلى الله عليه وسلم حل العقدة بنحو استمرار ذلك لما أنه عليه الصلاة والسلام كان أفصح الناس لسانا.
* (قال قد أوتيت سؤلك ياموسى) *
* (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) * أي قد أعطيت سؤلك ففعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول، والإيتاء عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوقوع تلك المطالب وحصولها له عليه السلام البتة وتقديهر تعالى إياها حتما فكلها حاصلة له عليه السلام وإن كان وقوع بعضها بالفعل مرتبا بعد كتيسير الأمر وشد الأزر وباعتباره قيل: * (سنشد عضدك بأخيك) * (القصص: 35) وظاهر بعض الآثار يقتضي أن شركة هرون عليه السلام في النبوة أي استنبائه كموسى عليه السلام وقعت في ذلك المقام وإن لم يكن عليه السلام فيه مع أخيه، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في قوله: * (واشركه في أمري) * (طه: 32) نبىء هرون ساعتئذ حين نبىء موسى عليهما السلام، ونداؤه عليه السلام تشريف له بالخطاب إثر تشريف.
186

* (ولقد مننا عليك مرة أخرى) *
* (ولقد مننا عليك) * استئناف مسوق لتقرير ما قبله وزيادة توطين لنفس موسى عليه السلام بالقبول ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليك بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء وطلب منه فلأن ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع أولى وأحرى. وتصديره بالقسم لكمال الاعتناء بذلك أي وبالله لقد أنعمنا * (مرة أخرى) * أي في وقت غير هذا الوقت على أن أخرى تأنيث آخر بمعنى مغايرة. و * (مرة) * ظرف زمان والمراد به الوقت الممتد الذي وقع فيه ما سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في المنن العظيمة الكثيرة. وهو في الأصل اسم لمرور الواحد ثم أطلق على كل فعلة واحدة متعدية كانت أو لازمة ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد ماله أفراد متجددة فصار علما في ذلك حتى جعل معيارا لما في معناه من سائر الأشياء فقيل هذا بناء المرة ويقرب منه الكرة والتارة والدفعة. وقال أبو حيان: المراد منه غير هذه المنة وليست * (أخرى) * تأنيث آخر بكسر الخاء لتكون مقابلة للأولى. وتوهم ذلك بعضهم فقال: سماها سبحانه أخرى وهي أولى لأنها أخرى في الذكر.
* (إذ أوحينآ إلى أمك ما يوحى) *
* (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) * ظرف لمننا سواء كان بدلا من مرة أم لا، وقيل: تعليل وهو خلاف الظاهر، والمراد بالإيحاء عند الجمهور ما كان بالهام كما في قوله تعالى: * (وأوحى ربك إلى النحل) * (النحل: 68) وتعقب بأنه بعيد لأنه قال تعالى في سورة القصص: * (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) * (القصص: 7) ومثله لا يعلم بالإلهام وليس بشيء لأنها قد تكون شاهدت منه عليه السلام ما يدل على نبوته وأنه تعالى لا يضيعه، والهام الأنفس القدسية مثل ذلك لا بعد فيه فإنه نوع من " الكشف " ألا ترى قول عبد المطلب وقد سمى نبينا صلى الله عليه وسلم محمدا فقيل له: لم سميت ولدك محمدا وليس في أسماء آبائك؟: إنه سيحمد، وفي رواية رجوت أن يحمد في السماء والأرض مع أن كون ذلك داخلا في الملهم ليس بلازم.
واستظهر أبو حيان أنه كان ببعث ملك إليها لا على جهة النبوة كما بعث إلى مريم وهو مبني على أن الملك يبعث إلى غير الأنبياء عليهم السلام وهو الصحيح لكن قيل: عليه أنه حينئذ ينتقض تعريف النبي بأنه من أوحى إليه، ولو قيل: من أوحي إليه على وجه النبوة دار التعريف وأجيب بأنه لا يتعين ذلك. ولو قيل: من أوحى إليه بأحكام شرعية لكنه لم يؤمر بتبليغها لم يلزم محذور. وقال الجبائي: إنه كان بالإراءة منا ما. وقيل: كان على لسان نبي في وقتها كما في قوله تعالى: * (وإذ أوحيت إلى الحواريين) * (المائدة: 111) وتعقب بأنه خلاف الظاهر فإنه لم ينقل إنه كان نبي في مصر زمن فرعون قبل موسى عليه السلام.
وأجيب بأن ذلك لا يتوقف على كون النبي في مصر، وقد كان شعيب عليه السلام نبيا في زمن فرعون في مدين فيمكن أن يكون أخبرها بذلك على أن كثرة أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام مما شاع وذاع، والحق أن إنكار كون ذلك خلاف الظاهر مكابرة. واختلف في اسم أمه عليه السلام مما شاع وذاع، والحق أن إنكار كون ذلك خلاف الظاهرة مكابرة. واختلف في اسم أمه عليه السلام والمشهور أنه يوحانذ، وفي الاتقان هي محيانة بنت يصهر بن لاوى، وقيل: بارخا، وقيل: بازخت وما اشتهر من خاصية فتح الاقفال به بعد رياضة مخصوصة له مما لم نجد فيه أثرا ولعله حديث خرافة، والمراد بما يوحى ما قصه الله تعالى فيما بعد من الأمر بقذفه في التابوت. وقدفه في " البحر " أبهم أولا تهويلا له وتفخيما لشأنه، ثم فسر ليكون أقر عند النفس، وقيل: معناه ما ينيغي أن يوحى ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الاهتمام به كما يقال هذا مما يكتب، وقيل: ما لا يعلم إلا بالوحي، والأول أوفق بكل من المعاني السابقة المرادة بالإيحاء إلا أنه قيل: عليه إنه لو كان المراد
187

منه التفخيم والتهويل لقيل إذ أوحينا إلى أمك ما أوحينا كما قال سبحانه * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) *، وقال تعالى: * (فغشيهم من اليم ما غشيهم) * (طه: 78) فإن تم هذا فما قيل في معناه ثانيا أولى فتدبر. وأن قوله تعالى:
* (أن اقذفيه فى التابوت فاقذفيه فى اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لى وعدو له وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عينى) *
* (أن اقذفيه في التابوت) * مفسرة لأن الوحي من باب القول أو مصدرية حذف عنها الباء بأن اقذفيه، وقال ابن عطية: * (أن) * وما بعدها في تأويل مصدر بدل من ما، وتقديم الكلام في وصل أن المصدرية بفعل الأمر، والمراد بالقذف هنها الوضع، وأما في قوله تعالى: * (فاقذفيه في اليم) * فالمراد به الإلقاء والطرح، ويجوز أن يكون المراد به الوضع في الموضعين، و * (اليم) * البحر لا يكسر ولا يجمع جمع سلامة، وفي " البحر " هو اسم للبحر العذب، وقيل: اسم للنيل خاصة وليس بصحيح، وهذا التفصيل هنا هو المراد بقوله تعالى: * (فإذا خفت عليه فالقيه في اليم) * (القصص: 7) لا القذف بلا تابوت * (فليلقه اليم بالساحل) * أي بشاطئه وهو الجانب الخالي عن الماء مأخوذ من سحل الحديد أي برده وقشره وهو فاعل بمعنى مفعول لأن الماء يسحله أي يقسره أو هو للنبس أي ذو سحل يعود الأمر إلى مسحود، وقيل: هو على ظاهره على معنى أنه يسحل الماء أي يفرقه ويضيعه؛ وقيل: هو من السحيل وهو النهيق لأنه يسمع منه صوت، والمراد به هنا ما يقابل الوسط وهو ما يلي الساحل من البحر حيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون.
وقيل: المراد بالساحل الجانب والطرف مطلقا والمراد من الأمر الخبر واختير للمبالغة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " قوموا فلأصول لكم " ولإخراج ذلك مخرج الأمر حسن الجواب فيما بعد، وقال غير واحد: إنه لما كان إلقاء البحر إياه بالساحل أمرا واجب الوقوع لتعلق الإرادة الربانية به جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمر بذلك، وأخرج الجوا بمخرج الأمر ففي اليم استعارة بالكناية وإثبات الأمر تخييل، وقيل: إن في قوله تعالى: * (فليلقه) * استعارة تصريحية تبعية والضمائر كلها لموسى عليه السلام إذ هو المحدث عنه والمقذوف في البحر والملقى بالساحل وإن كان هو التابوت أصالة لكن لما كان المقصود بالذات ما فيه جعل التابوت تبعا له في ذلك، وقيل: الضمير الأول لموسى عليه السلام والضميران الأخيران للتابوت، ومتى كان الضمير صالحا لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحا كما نص عليه النحويون، وبهذا رد على أبي محمد بن في دعواه عود الضمير في قوله تعالى: * (فإنه رجس) * على لحم لأنه المحدث عنه لا على خنزير فيحل شحمه وغضروفه وعظمه وجلده عنده لذلك، والحق أن عدم التفكيك فيما نحن فيه أولى، وما ذكره النحويون ليس على إطلاقه كما لا يخفى * (يأخذه عدو لي وعدو له) * جواب للأمر بالإلقاء وتكرير العدو للمبالغة من حيث أنه يدل على أن عداوته كثيرة لا واحدة، وقيل: إن الأول للواقع والثاني للمتوقع وليس من التكرير للمبالغة في شيء لأن ذلك فرع جواز أن يقال: عدو لي وله وهو لا يجوز إلا عند القائلين بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وأجيب بأن ذلك جائز وليس فيه الجمع المذكور فإن فرعون وقت الأخذ متصف بالعداوة لله تعالى وله في الواقع أما اتصافه بعداوة الله تعالى فظاهر؛ وأما اتصافه بعداوة موسى فمن حيث أنه يبغض كل مولود في تلك السنة، ولو قلنا بعدم الاتصاف بعداوة موسى عليه السلام إذ ذاك يجوز أن يقال ذلك أيضا ويعتبر عموم المجاز وهو المخلص عن الجمع بين الحقيقة والمجاز فيما يدعى فيه ذلك.
188

وقال الخفاجي: إنه لا يلزم الجمع لأن * (عدو) * صفة مشبهة دالة على الثبوت الشامل للواقع والمتوقع. ولا يخفى أن هذا قول بأن الثبوت في الصة المشبهة بمعنى الدوام، وقد قال هو في الكلام على تفسير قوله تعالى: * (ولا تمش في الأرض مرحا) * (الإسراء: 37): إن معنى دلالتها على الثبوت أنها لا تدل على تجدد وحدوث لا أنها تدل على الدوام كما ذكر النحاة، فما يقال: إن * (مرحا) * صفة مشبهة تدل على الثبوت ونفيه لا يقتضي نفي أصله مغالطة نشأت من عدم فهم معنى الثبوت فيها انتهى، على أن كلامه هنا بعد الاغماض عن منافاته لما ذكره قبل لا يخلو عن شيء.
ومما ذكره فيما تقدم من تفسير معنى الثبوت يعلم أن الاستدلال بهذه الآية على أن فرعون لم يقبل إيمانه ومات كافرا كما هو الحق ليس بصحيح وكم له من دليل صحيح. والظاهر أنه تعالى أبهم لها هذا العدو ولم يعلمها باسمه وإلا لما قالت لأخته * (قصيه) *.
* (وألقيت عليك محبة مني) * كلمة * (من) * متعلقة بمحذوف وقع صفة لمحنوف مؤكدة لما في تنكيرها من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي محبة عظيمة كائنة
مني قد زرعتها في القلوب فكل من رآك أحبك بحيث لا يصبر عنك، قال مقاتل: كان في عينيه ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه، وقال ابن عطية: جعلت عليه مسحة جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه، روى أن أمه عليه السلام أوحي إليها ما أوحى جعلته في تابوت من خشب، وقيل: من بردى عمله مؤمن آل فرعون وسدت خروقه وفرشت فيه نطعا، وقيل: قطنا محلوجا وسدت فمه وجصصته وقيرته والقتة في اليم فبينما فرعون في موضع يشرف على النيل وامرأته معه إذ رأى التابوت عند الساحل فأمر به ففتح فإذا صبى أصبح الناس وجها فأحبه هو امرأته حبا شديدا.
وقيل: إن التابوت جاء في الماء إلى المشرعة التي كانت جواري امرأة فرعون يستقين منها الماء فأخذن التابوت وجئن به إليها وهن يحسبن أن فيه مالا فلما فتحته رأته عليه السلام فأحبته وأعلمت فرعون طلبت منه أن يتخذه ولدا، وقال: قرة عين لي ولك لا تقتلوه، فقال لها: يكون لك وأما وأنا فلا حاجة لي فيه. ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه النسائي وجماعة عن ابن عباس: " والذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون قرة عين له كما قالت امرأته لهداه الله تعالى به كما هدى به امرأته ولكن الله عز وجل حرمه ذلك "، وقيل: إن فرعون كان جالسا على رأس بركة له في بستان ومعه امرأته فرأى التابوت وقد دفعه الماء إلى البركة من نهر يشرع من اليمن فأمر بإخراجه فأخرج ففتح فإذا صبي أجمل الناس وجها فأحبه حتى لا يكاد يصبر عنه، وروى أنه كان بحضرته حين رأى التابوت أربعمائة غلام وجار فحين أشار بأخذه وعد من يسبق إلى ذلك بالاعتاق فتسابقوا جمعيا ولم يظفر بأخذه إلا واحد منهم فأعتق الكل، وفي هذا ما يطمع المقصر في العمل من المؤمنين برحمة الله تعالى فإنه سبحانه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وقيل: كلمة من متعلقة بألقيت فالمحبة الملقاة بحسب الذوق هي محبة الله تعالى له أي أحببتك ومن أحبه الله تعالى أحبته القلوب لا محالة، واعترض القاضي على هذا بأن في الصغر لا يوسف الشخص بمحبة الله تعالى إياه فإنها ترجع إلى إيصال الثواب وهو إنما يكون للمكلف. ورد بأن محبة الله تعالى عند المؤولين عبارة عن إرادة الخير والنفع وهو أعم من أن يكون جزاء على عمل أو لا يكون والرد عند من لا يؤول أظهر، وجوز بعضهم إرادة المعنى الثاني على القول الأول في التعلق وإرادة المعنى الأول على القول الثاني فيه، وزعم أن وجه التخصيص غير ظاهر وهو لا يخفى
189

على ذي ذهن مستقيم وذوق سليم.
وقوله تعالى: * (ولتصنع على عيني) * متعلق بالقيت على أنه عطف على علة مضمرة أي ليتعطف عليك ولتصنع أو متعلق بفعل مضمر مؤخر أي ولتصنع الخ فعلت ذلك أي إلقاء المحبة عليك، وزعم أنه متعلق بألقيت على أن الواو مقحمة ليس بشيء وعلى عيني أي بمراي مني متعلق بمحذوف وقع حالا من المستتر في * (تصنع) * وهو استعارة تمثيلية للحفظ والصون فإن المصون يجعل بمرأى والصنع الإحسان، قال النحاس: يقال صنعت الفرس إذا أحسنت إليه. والمعنى وليفعل بك الصنيعة والإحسان وتربى بالحنو والشفقة وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به. ويجعل ذلك تمثيلا يندفع ما قاله الواحدي من أن تفسير * (على عيني) * بما تقدم صحيح ولكن لا يكون في ذلك تخصيص لموسى عليه السلام فإن جميع الأشياء بمرأى من الله تعالى على أنه قد يقال: هذا الاختصاص للتشريف كاختصاص عيسى عليه السلام بكلمة الله تعالى والكعبة ببيت الله تعالى مع أن الكل موجود بكن وكل البيوت بيت الله سبحانه، وقال قتادة: المعنى لتغدى على محبتي وإرادتي وهو اختيار أبي عبيدة. وابن الانباري وزعم الواحدي أنه الصحيح. وقرأ الحسن. وأبو نهيك " ولتصنع " بفتح التاء، قال ثعلب: المعنى لتكون حركتك وتصرفك على عين مني لئلا تخالف أمرى.
وقرأ أبو جعفر في رواية * (ولتصنع) * بكسر اللام وجزم الفعل بها لأنها لام الأمر وأمر المخاطب باللام شاذ لكن لما كان الفعل مبنيا للمفعول هنا وكان أصله مسندا للغائب ولا كلام في أمره باللام استصحب ذلك بعد نقله إلى المفعول للاختصار، والظاهر أن العطف على قوله تعالى: * (وألقيت عليك محبة مني) * إلا أن فيه عطف الإنشاء على الخبر وفيه كلام مشهور لكن قيل هنا: إنه هون أمره كون الأمر في معنى الخبر.
وقال " صاحب اللوامح ": إن العطف على قوله تعالى: * (فليلقه) * فلا عطف فيه للإنشاء على الخبر.
وقرأ شيبة. وأبو جعفر في رواية أخرى كذلك إلا أنه سكن اللام وهي لام الأمر أيضا وبقية الكلام نحو ما مر.
ويحتمل أن تكون لام كي سكنت تخفيفا ولم يظهر فتح العين للإدغام، قال الخفاجي: وهذا حسن جدا.
* (إذ تمشىأختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعن‍اك إلى أمك كى تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجين‍اك من الغم وفتن‍اك فتونا فلبثت سنين فىأهل مدين ثم جئت على قدر ياموسى) *
* (إذ تمشى اختك) * ظرف لتصنع كما قال الحوفي وغيره على أن المراد به وقت وقع فيه مشي الأخت وما ترتب عليه من القول والرجع إلى أمها وتربيتها له بالحنو وهو المصداق لقوله تعالى: * (ولتصنع على عيني) * إذ لا شفقة أعظم من شفقة الأم وصنيعها على موجب مراعاته تعالى. وجوز أن يكون ظرفا لألقيت وأن يكون بدلا من * (إذ أوحينا) * على أن المراد بها وقت متسع فيتحد الظرفان وتصح البدلية ولا يكون من إبدال أحد المتغايرين الذي لا يقع في فصيح الكلام.
ورجح هذا " صاحب الكشف " فقال: هو الأوفق لمقام الامتنان لما فيه من تعداد المنة على وجه أبلغ ولما في تخصيص الإلقاء أو التربية بزمان مشى الأخت من العدول إلى الظاهر فقبله كان عليه السلام محبوبا محفوظا، ثم أولى الوجهين جعله ظرفا * (لتصنع) * وأما النصب بإضمار اذكر فضعيف اه‍. وأنت تعلم أن الظاهر كونه ظرفا لتصنع والتقييد بعلى عيني يسقط التربية قبل في غير حجر الأم عن العين.
واعترض أبو حيان وجه البدلية بأن كلا من الظرفين ضيق ليس بمتسع بتخصيصه بما أضيف إليه وليس ذلك كالسنة في الامتداد وفيه تأمل، واسم أخته عليه السلام مريم، وقيل: كلثوم وصيغة المضارع لحكاية
190

الحال الماضية، وكذا يقال في قوله تعالى: * (فتقول هل أدلكم على من يكفله) * أي يضمه إلى نفسه ويربيه.
* (فرجعناك إلى أمك) * الفاء فصيحة أي فقالوا: دلينا على ذلك فجاءت بأمك فرجعناك إليها * (كي تقر عينها) * بلقائك. وقرىء * (تقر) * بكسر القاف. وقرأ جناح بن حبيش * (تقر) * بالبناء للمفعول * (ولا تحزن) * أي لا يطرأ عليها الحزن بفراقك بعد ذلك وإلا فزوال الحزن مقدم على السرور المعبر عنه بقرة العين فإن التخلية مقدمة على التحلية. وقيل: الضمير المستتر في * (تخزن) * لموسى عليه السلام أي ولا تحزن أنت بفقد إشفاقها، وهذا وإن لم يأبه النظم الكريم إلا أن حزن الطفل غير ظاهر، وما في سورة القصص يقتضي الأول والقرآن يفسر بعضه بعضا.
أخرج جماعة من خبر طويل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آسية حين أخرجت موسى عليه السلام من التابوت واستوهبته من فرعون فوهبه لها أرسلت إلى من حولها من كل امرأة لها لبن لتختار لها ظئرا فلم يقبل قدي واحدة منهن حتى أشفقت أن يمتنع من اللبن فيموت فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق مجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا يأخذ ثديها فلم يفعل وأصبحت أمه وآلهة فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا أحي ابني أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت الذي كان وعدها الله تعالى فبصرت به عن جنب فقالت من الفرح: أنا أدلكم على أهل بيت يكلفونه لكم وهم له ناصحون فأخذوها فقالوا: وما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه؟ وشكوا في ذلك فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه لرغبتهم في رضا الملك والتقرب إليه فتركوها وسألوها الدلالة فانطلقت إلى أمه فأخبرتها الخبر فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا وانطلق البشرى إلى امرأة فرعون يبشرونها إنا قد وجدنا لابنك ظئرا فأرسلت إليها فأتيت بها وبه فلما رأيت ما يصنع بها قالت لها: امكثي عندي ارضعي ابني هذا فإني لم أحب حبه شيئا قط قالت: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فاذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا فعلت وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي فذكرت أم موسى ما كان الله عز وجل وعدها فتعاسرت على امرأة فرعون لذلك وأيقنت أن الله عز وجل منجز وعده فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها فانبته الله تعالى نباتا حسنا وحفظه لما قد قضى فيه فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأمه: أريني ابني فوعدتها يوما تزورها به فيه فقالت لخزانها وقهارمتها: لا يبق منكم أحد إلا استقبل ابني بهدية وكرامة أرى ذلك فيه وأنا باعثة أمينا يحصى ما صنع كل إنسان منكم فلم تزل الهدايا والنحل والكرامة تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل عليها فلما دخل أكرمته ونحلته وفرحت به ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ثم انطلقت به إلى فرعون لينحله وليكرمه فكان ما تقدم من جذب لحيته، ومن هذا الخبر يعلم أن المراد إذ تمشي أختك في الطريق لطلبك وتحقيق أمرك فتقول: لمن أنت بأيديهم يطلبون لك ظئرا ترضعك هل أدلكم الخ.
وفي رواية أنه لما أخذ من التابوت فشا الخبر بأن آل فرعون وجدوا غلاما في النيل لا يرتضع ثدي امرأة واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت أخته لتعرف خبره فجاءتهم متنكرة فقالت ما قالت وقالوا ما قالوا، فالمراد على هذا إذ تمشي أختك إلى بيت فرعون فتقول لفرعون وآسية أو لآسية * (هل أدلكم) * الخ.
191

* (وقتلت نفسا) * هي نفس القبطي واسمه قانون الذي استغاثه عليه الإسرائيلي واسمه موسى بن ظفر وهو السامري، وكان سنه عليه السلام حين قتل على ما في " البحر " اثنتي عشرة سنة، وفي الخبر عن الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السلام حين قتل القبطي كان من الرجال وكان قتله إياه بالوكز كما يدل عليه قوله تعالى: * (فوكزه موسى فقضى عليه) * (القصص: 15) وكان المراد وقتلت نفسا فأصابك غم * (فنجيناك من الغم) * وهو الغم الناشيء من القتل وقد حصل له من وجهين خوف عقاب الله تعالى حيث لم يقع القتل بأمره سبحانه وخوف اقتصاص فرعون وقد نجاه الله تعالى من ذلك بالمغفرة حين قال: * (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) * (القصص: 16) وبالمهاجرة إلى مدين، وقيل: هو غم التابوت، وقيل: غم البحر وكلا القولين ليس بشيء، والغم في الأصل ستر الشيء ومنه الغمام لستره ضوء الشمس، ويقال: لما يغم القلب بسبب خوف أو فوات مقصود، وفرق بينه وبين الهم بأنه من أمر ماض والهم من أمر مستقبل، وظاهر كلام كثير عدم الفرق وشمول كل لما يكون من أمر ماض وأمر مستقبل * (وفتناك فتونا) * أي ابتليناك ابتلاء على أن * (فتونا) * مصدر على فعول في المتعدي كالثبور والشكور والكفور، والأكثر في هذا الوزن أن يكون مصدر اللازم أو فتونا من الابتلاء على أنه جمع فتن كالظنون جمع ظن أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بالتاء لأنها في حكم الانفصال كما قالوا في حجوز جمع حجزة وبدور جمع بدرة، ونظم الابتلاء في سلك المنن قيل: باعتبار أن المراد ابتليناك واختبرناك بإيقاعك في المحسن وتلخيصك منها، وقيل: إن المعنى أوقعناك في المحنة وهو ما يشق على الإنسان، ونظم ذلك في ذلك السلك باعتبار أنه موجب للثواب فيكون من قبيل النعم وليس بشيء، وقيل: إن * (فتناك) * بمعنى خلصناك من قولهم: فتنت الذهب بالنار إذا خلصته بها من الغش ولا يخفى حسنه، والمراد سواء اعتبر الفتون مصدرا أو جمعا خلصناك مرة بعد أخرى وهو ظاهر على اعتبار الجمعية، وأما على اعتبار المصدرية فلاقتضاء السياق ذلك، وهذا إجمال ما ناله عليه السلام في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الآلاف والمشي راجلا وفقد الزاد.
وقد روى جماعة أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس عن الفتون فقال له: استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها خبرا طويلا فلما أصبح غدا عليه فأخذ ابن عباس يذكر ذلك فذكر قصة فرعون وقتله أولاد بني إسرائيل ثم قصة إلقاء موسى عليه الصلاة والسلام في اليم والتقاط آل فرعون إياه وامتناعه من الارتضاع من الأجانب وإرجاعه إلى أمه ثم قصة أخذه بلحية فرعون وغضب فرعون من ذلك وإرادته قتله ووضع الجمرة والجوهرة بين يديه وأخذه الجمرة، ثم قصة قتله القبطي ثم هربه إلى مدين وصيرورته أجيرا لشعيب عليه السلام ثم عوده إلى مصر وإخطاء الطريق في الليلة المظلمة وتفرق غنمه فيها وكان رضي الله تعالى عنه عند تمام كل واحدة يقول هذه من الفتون يا ابن جبير، ولكن قيل: الذي يقتضيه النظم الكريم أن لا يعد إجارة نفسه وما بعدها من تلك الفتون ضرورة أن المراد بها ما وقع قبل وصوله عليه السلام إلى مدين بقضية الفاء في قوله تعالى: * (فلبثت سنين في أهل مدين) * إذ لا ريب في أن الإجارة المذكورة وما بعدها مما وقع بعد الوصول إليهم وقد أشير بذكر لبثه عليه السلام فيهم دون وصوله إليهم إلى جميع ما قاساه عليه السلام
192

من فنون الفتون في تضاعيف مدة اللبث وهي فيما قيل عشر سنين، وقال وهب: ثمان وعشرون سنة أقام في عشر منها يرعى غنم شعيب عليه السلام مهرا لابنته وفي ثماني عشرة مع زوجته وولد له فيها وهو الأوفق بكونه عليه السلام نبىء على رأس الأربعين إذا قلنا بأن سنه عليه السلام حين خرج إلى مدين اثنتا عشرة سنة، ومدين بلدة شعيب عليه السلام على ثمان مراحل من مصر.
* (ثم جئت) * أي إلى المكان الذي ناديتك فيه، وفي كلمة التراخي إيذان بأن مجيئه عليه السلام كان بعد اللتيا والتي من ضلال الطريق وتفرق الغنم في الليلة المطلمة الشاتية وغير ذلك * (على قدر) * أي تقدير والمراد به المقدر أي جئت على وفق الوقت الذي قدرته وعينته لتكليمك واستنبائك بلا تقدم ولا تأخر عنه، وقيل: هو بمعنى المقدار أي جئت على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السلام وهو رأس أربعين سنة.
وضعف بأن المعروف في هذا المعنى القدر بالسكون لا التحريك، وقيل: المراد على موعد وعدناكه وروي ذلك عن مجاهد وهو يقتضي تقدم الوعد على لسان بعض الأنبياء عليهم السلام وهو كما ترى، وقوله تعالى: * (يا موسى) * تشريف له عليه السلام وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولا، وقوله سبحانه:
* (واصطنعتك لنفسى) *
* (واصطنعتك لنفسي) * تذكير لقوله تعالى: * (وأنا اخترتك) * (طه: 13) وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيدا بأخيه حسبما استدعاه بعد تذكير المنن السابقة تأكيدا لوثوقه عليه السلام بحصول نظائرها اللاحقة، ونظم ذلك الإمام في سلك المنن المحكية وظاهر توسيط النداء يؤيد ما تقدم، والاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الصنيعة وهي الإحسان فمعنى اصطنعه جعله محل صنيعته وإحسانه، وقال القفال: يقال اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان وخريجه، ومعنى * (لنفسي) * ما روي عن ابن عباس لوحيي ورسالتي، وقيل: لمحبتي، وعبر عنها بالنفس لأنها أخص شيء بها، وقال الزجاج: المراد اخترتك لإقامة حجتي وجعلتك بيني وبين خلقي حتى صرت في التبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتجبت عليهم، وقال غير واحد من المحققين: هذا تمثيل لما خوله عز وجل من جعله نبيا مكرما كليما منعما عليه بجلائل النعم بتقريب الملك من يراه أهلا لأن يقرب فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويجعله من خواص نفسه وندمائه، ولا يخفى حسن هذه الاستعارة وهي أوفق بكلامه تعالى وقوله تعالى: * (لنفسي) * عليها ظاهر.
وحاصل المعنى جعلتك من خواصي واصطفيتك برسالتي وبكلامي، وفي العدول عن نون العظمة الواقعة في قوله سبحانه: * (وفتناك) * ونظيريه السابقين تمهيد لإفراد النفس اللائق بالمقام فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص، وقوله تعالى:
* (اذهب أنت وأخوك بااي‍اتى ولا تنيا فى ذكرى) *
* (إذهب أنت وأخوك بآياتي) * استئناف مسوق لبيان ما هو المقصود بالاصطناع، * (وأخوك) * فاعل بفعل مضمر أي وليذهب أخوك حسبما استدعيت، وقيل: معطوف على الضمير المستتر المؤكد بالضمير البارز، ورب شيء يصح تبعا ولا يصح استقلالا. والآيات المعجزات، والمراد بها في قول اليد والعصا وحل العقدة، وعن ابن عباس الآيات التسع، وقيل: الأولان فقط وإطلاق الجمع على الاثنين شائع؛ ويؤيد ذلك أن فرعون لما قال له عليه السلام: فأت بآية ألقى
193

العصا ونزع اليد، وقال: * (فذانك برهانان) * وقال بعضهم: إنهما وإن كانتا اثنتين لكن في كل منهما آيات شتى كما في قوله تعالى: * (آيات بينات مقام إبراهيم) * (آل عمران: 97) فإن انقلاب العصا حيوانا آية. وكونها ثعبانا عظيما لا يقادر قدره آية أخرى. وسرعة حركته مع عظم جرمه آية أخرى. وكونه مع ذلك مسخرا له عليه السلام بحيث يده في فمه فلا يضره آية أخرى ثم انقلابها عصا كما كانت آية أخرى وكذلك اليد البيضاء فإن بياضها في نفسه آية وشعاعها آية ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى. وقيل: المراد بها ما أعطى عليه السلام من معجزة ووحي، والذي يميل إليه القلب أنها العصا واليد لما سمعت من المؤيد مع ما تقدم من أنه تعالى بعد ما أمره بإلقاء العصا وأخذها بعد انقلابها حية قال سبحانه: * (واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء) * (القصص: 32) آية أخرى ثم قال سبحانه: * (إذهب إلى فرعون إنه طغى) * (طه: 43) من غير تنصيص على غير تلك الآيتين ولا تعرض لوصف حل العقدة ولا غيره بكونه آية، ثم إن الباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابهما إلى فرعون ملتبسين بالآيات متمسكين بها في إجراء أحكام الرسالة وإكمال الدعوة لا مجرد إذهابها وإيصالها إليه وهذا ظاهر في تحقق الآيات إذ ذاك وأكثر التسع لم يتحقق بعد.
* (ولا تنيا) * من الونى بمعنى الفتور وهو فعل لازم وإذا عدى عدي بفي وبعن، وزعم بعض البغداديين أنه فعل ناقص من أخوات زال وبمعناهما واختاره ابن مالك، وفي " الصحاح " فلان لا يني يفعل كذا أي لا يزال يفعل كذا وكذا هذا المعنى مأخوذ من نفي الفتور، وقرأ ابن وثاب * (ولا تنيا) * بكسر التاء اتباعا لحركة النون. وفي مصحف عبد الله * (لا تهنا) * وحاصله أيضا لا تفترا * (في ذكرى) * بما يليق بي من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة عند تبليغ رسالتي والدعاء إلى عبادتي، وقيل: المعنى لا تنيا في تبليغ رسالتي فإن الذكر يقع مجازا على جميع العبادات وهو من أجلها وأعظمها. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: لا تنسياني حيثما تقلبتما واستمدا به العون والتأييد واعلما أن أمرا من الأمور لا يتأتى ولا يتسنى إلا بذكري.
وجمع هارون مع موسى عليه السلام في صيغة نهي الحاضر بناء على القول بغيبته إذ ذاك للتغليب ولا بعد في ذلك كما لا يخفى، وكذا جمعه في صيغة أمر الحاضر بناء على ذلك أيضا في قوله تعالى:
* (اذهبآ إلى فرعون إنه طغى) *
* (إذهبا إلى فرعون إنه طغى) * وروي أنه أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى عليهما السلام، وقيل: ألهم ذلك، وقيل: سمع بإقباله فتلقاه، ويحتمل أنه ذهب إلى الطور واجتمعا هناك فخوطبا معا، ويحتمل أن هذا الأمر بعد إقبال موسى عليه السلام من الطور إلى مصر واجتماعه بهارون عليه السلام مقبلا إليه من مصر، وفرق بعضهم بين هذا، وقوله تعالى: * (اذهب أنت وأخوك) * بأنه لم يبين هناك من يذهب إليه وبين هنا، وبعض آخر بأنه أمرا هنا بالذهاب إلى فرعون وكان الأمر هناك بالذهاب إلى عموم أهل الدعوة، وبعض آخر بأنه لم يخاطب هارون هناك وخوطب هنا، وبعض آخر بأن الأمر هناك بذهاب كل منهما على الانفراد نصا أو احتمالا والأمر هنا بالذهاب على الاجتماع نصا، ولا يخفى ما في بعض هذه الفروق من النظر، والفرق ظاهر بين هذا الأمر والأمر في قوله تعالى أولا خطابا لموسى عليه السلام * (إذهب إلى فرعون إنه طغى) *.
* (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) *
* (فقولا له قولا لينا) * قرأ أبو معاذ * (لينا) * بالتخفيف، والفاء لترتيب ما بعدها على طغيانه فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة ويلين قسوة
194

الطغاة، ويعلم من ذلك أن الأمر بإلانة القول ليس لحق التربية كما قيل، والمعنى كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا تعنفاه في قولكما وارفقا به في الدعاء ويتحقق ذلك بعبارات شتى منها ما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا وهو * (إنا رسولا ربك) * (طه: 47) الخ ومنها ما في النازعات وهو * (هل لك إلى أن تزكى * واهديك إلى ربك فتخشى) * (النازعات: 18، 19) وهذا ظاهر غاية الظهور في الرفق في الدعاء فإنه في صورة العرض والمشورة، وقيل: كنياه، واستدل به على جواز تكنية الكافر، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا. وسفيان الثوري، وله كنى أربع أبو الوليد. وأبو مصعب. وأبو العباس. وأبو مرة، وقيل: عداه شبابا لا يهرم بعده وملكا لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته، وعن الحسن قولا له: إن لك ربا وإن لك معادا وإن بين يديك جنة ونارا فآمن بالله تعالى يدخلك الجنة ويقك عذاب النار، وقيل: أمرهما سبحانه بأنه يقدما له الوعد على الوعيد من غير تعيين قول كما قيل: أقدم بالوعد قبل الوعيد * لينهى القبائل جهالها
وروي عن عكرمة أن القول اللين لا إله إلا الله ولينه خفته على اللسان، وهذا أبعد الأقوال وأقربها الأول، وكان الفضل بن عيسى الرقاشي إذا تلا هذه الآية قال: يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه؛ وقرأت عند يحيى بن معاذ فبكى وقال: إلهي هذا رفقك بمن يقول أنا الإله فكيف رفقك بمن يقول أنت الله؟ وفيها دليل على استحباب إلانة القول للظالم عند وعظه * (لعله يتذكر) * ويتأمل فيبدل النصفة من نفسه والإذعان للحق فيدعوه ذلك إلى الإيمان * (أو يخشى) * أن يكون الأمر كما تصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة وذلك يدعوه إلى الإيمان أيضا إلا أن الأول للراسخين ولذا قدم، وقيل: يتذكر حاله حين احتبس النيل فسار إلى شاطئه وأبعد وخر لله تعالى ساجدا راغبا أن لا يخجله ثم ركب فأخذ النيل يتبع حافر فرسه فيستدل بذلك على عظيم حلم الله تعالى وكرمه أو يخشى ويحذر من بطش الله تعالى وعذابه سبحانه، والمعول على ما تقدم.
ولعل للترجي وهو راجع للمخاطبين، والجملة في محل النصب حال من ضميرهما في * (قولا) * أي فقولا له قولا لينا راجيين أن يتذكر أو يخشى، وكلمة أو لمنع الخلو.
وحاصل الكلام باشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه فهو يجتهد بطوعه ويحتشد بأقصى وسعه، وقيل: حال من ضميرهما في * (اذهبا) * والأول أولى، وقيل: لعل هنا للاستفهام أي هل يتذكر أو يخشى. وأخرج ذلك ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قيل: وهو القول اللين، وأخرج ذلك مخرج قولك: قل لزيد هل يقوم.
وقال الفراء: هي هنا بمعنى كي التعليلية وهي أحد معانيها كما ذهب إليه جماعة منهم الأخفش. والكسائي بل حكى البغوي عن الواقدي أن جميع ما في القرآن من لعل فإنها للتعليل إلا قوله تعالى: * (لعلكم تخلدون) * فإنها للتشبيه كما في " صحيح البخاري ". وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قال: لعل في القرآن بمعنى كي غير آية في الشعراء * (لعلكم تخلدون) * فإن المعنى كأنكم تخلدون، وأخرج عن قتادة أنه قال: قرىء كذلك، ولا يخفى أن كونها للتشبيه غريب لم يذكره النحاة، وحملها على الاستفهام هنا بعيد، ولعل التعليل أسبق إلى كثير من الأذهان من الترجي لكن الصحيح كما في " البحر " أنها للترجي وهو المشهور من معانيها، وقيل: إن
195

الترجي مجاز عن مطلق الطلب وهو راجع إليه عز وجل، والذي لا يصح منه سبحانه هو الترجي حقيقة، والمحققون على الأول، والفائدة في إرسالهما عليهما السلام إليه مع العلم بأنه لا يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة.
وزعم الإمام أنه لا يعلم سر الإرسال إليه مع علمه تعالى بامتناع حصول الإيمان منه إلا الله عز وجل ولا سبيل في أمثال هذا المقام لغير التسليم وترك الاعتراض.
واستدل بعض المتبعين لمن قال بنجاة فرعون بهذه الآية فقال: إن لعل كذا من الله تعالى واجب الوقوع فتدل الآية على أن أحد الأمرين التذكر والخشية واقع وهو مدار النجاة، وقد تقدم لك ما يعلم منه فساد هذا الاستدلال، ولا حاجة بنا إلى ما قيل من أنه تذكر وخشي لكن حيث لم ينفعه ذلك وهو حين الغرق بل لا يصح حمل التذكر والخشية هنا على ما يشمل التذكر والخشية اللذين زعم القائل حصولهما لفرعون فتذكر.
* (قالا ربنآ إننا نخاف أن يفرط علينآ أو أن يطغى) *
* (قالا) * استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قالا حين أمرا بما أمرا؟ فقيل: * (قالا) * الخ، وأسند القول إليهما مع أن القائل هو موسى عليه السلام على القول بغيبة
هارون عليه السلام للتغليب كما مر.
ويجوز أن يكون هارون عليه السلام قد قال ذلك بعد اجتماعه مع موسى عليه السلام فحكى قوله مع قول موسى عند نزول الآية كما في قوله تعالى: * (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) * فإن هذا الخطاب قد حكى لنا بصيغة الجمع مع أن كلا من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد، وجوز كونهما مجتمعين عند الطور وقالا جميعا * (ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا) * أي أن يعجل علينا بالعقوبة ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة من فرط إذا تقدم، ومنه الفارط المتقدم للمورد والمنزل، وفرس فارط يسبق الخيل، وفاعل * (يفرط) * على هذا فرعون، وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون التقدير أن يفرط علينا منه قول فاضمر القول كما تقول فرط مني قول وهو خلاف الظاهر.
وقرأ يحيى. وأبو نوفل. وابن محيصن في رواية * (يفرط) * بضم الياء وفتح الراء من أفرطته إذا حملته على العجلة أي نخاف أن يحمله حامل من الاستكبار أو الخوف على الملك أو غيرهما على المعاجلة بالعقاب. وقرأت فرقة.
والزعفراني عن ابن محيصن * (يفرط) * بضم الياء وكسر الراء من الإفراط في الأذية. واستشكل هذا القول مع قوله تعالى: * (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما) * (القصص: 35) فإنه مذكور قبل قولهما هذا بدلالة * (سنشد) * وقد دل على أنهما محفوظان من عقوبته وأذاه فكيف يخافان من ذلك. وأجيب: بأنه لا يتعين أن يكون المعنى لا يصلون بالعقوبة لجواز أن يراد لا يصلون إلى إلزامكما بالحجة مع أن التقدم غير معلوم ولو قدم في الحكاية لا سيما والواو لا تدل على ترتيب، والتفسير المذكور مأثور عن كثير من السلف منهم ابن عباس. ومجاهد وهو الذي يقتضيه الظاهر، وزعم الإمام أنهما قد أمنا وقوع ما يقطعهما عن الأداء بالدليل العقلي إلا أنهما طلبا بما ذكر ما يزيد في ثبات قلوبهما بأن ينضاف الدليل النقلي إلى الدليل العقلي وذلك نظير ما وقع لإبراهيم عليه السلام من قوله: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) * (البقرة: 260) ولا يخفى أن في دعوى علمهما بالدليل العقلي عدم وقوع ما يقطعهما عن الأداء جثا. واستشكل أيضا حصول الخوف لموسى عليه السلام بأنه يمنع عن حصول شرح الصدر له الدال على تحققه قوله تعالى بعد سؤاله إياه * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) * (طه: 36). وأجاب الإمام بأن شرح الصدر عبارة عن قوته على ضبط تلك الأوامر والنواهي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق
196

إليها السهو والتحريف وذلك شيء آخر غير زوال الخوف. وأنت تعلم أن كثيرا من المفسرين ذهبوا إلى أن شرح الصدر هنا عبارة عن توسيعه وهو عبارة عن عدم الضجر والقلق القلبي مما يرد من المشاق في طريق التبليغ وتلقي ذلك بحميل الصبر وحسن الثبات.
وأجيب على هذا بأنه لا منافاة بين الخوف من شيء والصبر عليه وعدم الضجر منه إذا وقع ألا ترى كثيرا من الكاملين يخافون من البلاء ويسألون الله تعالى الحفظ منه وإذا نزل بهم استقبلوه بصدر واسع وصبروا عليه ولم يضجروا منه. وقيل: إنهما عليهما السلام لم يخافا من العقوبة إلا لقطعها الأداء المرجو به الهداية فخوفهما في الحقيقة ليس إلا من القطع وعدم إتمام التبليغ ولم يسأل موسى عليه السلام شرح الصدر لتحمل ذلك. واستشكل بأن موسى عليه السلام كان قد سأل وأوتي تيسير أمره بتوفيق الأسباب ورفع الموانع فكيف يخاف قطع الأداء بالعقوبة. وأجيب: بأن هذا تنصيص على طلب رفع المانع الخاص بعد طلب رفع المانع العام وطلب للتنصيص على رفعه لمزيد الاهتمام بذلك. وقيل: إن في الآية تغليبا منه لأخيه هارون على نفسه عليهما السلام ولم يتقدم ما يدل على أمنه عليه فتأمل، واستشكل أيضا عدم الذهاب والتعلل بالخوف مع تكرر الأمر بأنه يدل على المعصية وهي غير جائزة على الأنبياء عليهم السلام على الصحيح.
وأجاب الإمام بأن الدلالة مسلمة لو دل الأمر على الفور وليس فليس، ثم قال: وهذا من أقوى الدلائل على أن الأمر لا يقتضي الفور إذا ضممت إليه ما يدل على أن المعصية غير جائزة على الأنبياء عليهم السلام، و * (أو) * في قوله تعالى: * (أو أن يطغى) * لمنع الخلو، والمراد أو أن يزداد طغيانا إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لكمال جراءته وقساوته وإطلاقه من حسن الأدب، وفيه استنزال لرحمته تعالى وإظهار كلمة أن مع سداد المعنى بدونه لإظهار كمال الاعتناء بالأمر وازشعار بتحقق الخوف من كل من المعاطفين.
* (قال لا تخافآ إننى معكمآ أسمع وأرى) *
* (قال) * استئناف كما مر، ولعل إسناد الفعل إلى ضمير الغيبة كما قيل للإشعار بانتقال الكلام من مساق إلى مساق آخر فإن ما قبله من الأفعال الواردة على صيغة التكلم حكاية لموسى عليه السلام بخلاف ما سيأتي إن شاء الله تعالى: * (قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى) * (طه: 68) فإن ما قبله أيضا وارد بطريق الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل: فما ذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه سبحانه؟ فقيل: قال أي لهما * (لا تخافا) * مما ذكرتما.
وقوله تعالى: * (إنني معكما) * تعليل لموجب النهي ومزيد تسلية لهما، والمراد بمعيته سبحانه كمال الحفظ والنصرة كما يقال: الله تعالى معك على سبيل الدعاء وأكد ذلك بقوله تعالى: * (أسمع وأرى) * وهو بتقدير المفعول أي ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فافعل في كل حال ما يليق بها من دفع شر وجلب خير.
وقال القفال: يحتمل أن يكون هذا في مقابلة القول السابق ويكونان قد عنيا أننا نخاف أن يفرط علينا بأن لا يسمع منا أو أن يطغى بأن يقتلنا فأجابهم سبحانه بقوله: * (إنني معكما أسمع) * أي كلامكما فاسخره للاستماه * (وأرى) * أفعاله فلا أتركه يفعل بكما ما تكرهانه فقدر المفعول أيضا لكنه كما ترى، وقال الزمخشري: جائز أن لا يقدر شيء، وكأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر سامع مبصر وإذا كان الحافظ والناصر كذلك تم الحفظ، وهو يدل على أنه لا نظر إلى المفعول وقد نزل الفعل المتعدي منزلة اللازم لأنه أريد تتميم ما يستقل به الحفظ
197

والنصرة وليس من باب قول المتنبي: شجو حساده وغيظ عداه * أن يرى مبصر ويسمع واع
على ما زعم الطيبي، واستدل بالآية على أن السمع والبصر صفتان زائدتان على العلم بناء على أن قوله تعالى: * (إنني معكما) * دال على العلم ولو دل * (اسمع وأرى) * عليه أيضا لزم التكرار وهو خلاف الأصل.
* (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بنىإسراءيل ولا تعذبهم قد جئن‍اك بااية من ربك والسل‍ام على من اتبع الهدى) *
* (فأتياه) * أمر بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعدما أمرا بالذهاب إليه فلا تكرار وهو عطف على * (لا تخافا) * باعتبار تعليله بما بعده * (فقولا إنا رسولا ربك) * أمرا بذلك تحقيقا للحق من أول الأمر ليعرف الطاغية شأنهما ويبني جوابه عليه، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره من اللطف ما لا يخفى وإن رأى اللعين أن في ذلك تحقيرا له حيث أنه يدعى الربوبية لنفسه ولا يعد ذلك من الإغلاظ في القول، وكذا قوله تعالى: * (فأرسل معنا بني إسرائيل) * إلى آخره خلافا للإمام، والفاء في * (فأرسل) * لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونهما عليهما السلام رسولي ربه تعالى مما يوجب إرسالهم معهما والمراد بالإرسال إطلاقهم من الأسر وإخراجهم من تحت يده العادية لا تكليفهم أن يذهبوا معهما إلى الشام كما ينبىء عنه قوله سبحانه: * (ولا تعذبهم) * أي بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب فإنهم كانوا تحت ملكة القبط يستخدمونهم في الأعمال الشاقة كالحفر والبناء ونقل الأحجار وكانوا يقتلون أبناءهم عاما دون عام ويستخدمون نساءهم ولعلهما إنما بدأا بطلب إرسال بني إسرائيل دون دعوة الطاغية وقومه إلى الإيمان للتدريج في الدعوة فإن إطلاق الأسرى دون تبديل الاعتقاد، وقيل: لأن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان، وهذا بعد تسليمه مبني على أن بني إسرائيل كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام في الباطن أو كانوا مؤمنين بغيره من الأنبياء عليهم السلام ولا بد لذلك من دليل، وقيل: إنما بدأا بطلب إرسالهم لما فيه من إزالة المانع عن دعوتهم واتباعهم وهي أهم من دعوة القبط.
وتعقب بأن السياق هنا لدعوة فرعون ودفع طغيانه فهي الأهم دون دعوة بني إسرائيل، وقيل: إنه أول ما طلبا منه الإيمان كما ينبىء عن ذلك آية النازعات إلا أنه لم يصرح به هنا اكتفاء بما هناك كما أنه لم يصرح هناك بهذا الطلب اكتفاء بما هنا، وقوله تعالى: * (قد جئناك بآية من ربك) * استئناف بياني وفيه تقرير لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة وتعليل لوجوب الإرسال فإن مجيئهما بآية من جهته تعالى مما يحقق رسالتهما ويقررها ويوجب الامتثال بأمرهما، وإظهار اسم الرب في موضع الإضمار مع الإضافة إلى ضمير المخاطب لتأكيد ما ذكر من التقرير والتعليل، وجىء بقد للتحقيق والتأكيد أيضا، وتكلف لإفادتها التوقع وتوحيد الآية مع تعددها لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها لا بيان تعدد الحجة فكأنه قيل: قد جئناك بما يثبت مدعانا، وقيل: المراد بالآية اليد، وقيل: العصا والقولان كما ترى.
* (والسلام على من اتبع الهدى) * أي السلامة من العذاب في الدارين لمن اتبع ذلك بتصديق آيات الله تعالى الهادية إلى الحق، فالسلام مصدر بمعنى السلامة كالرضاع والرضاعة، وعلى بمعنى اللام كما ورد عكسه في قوله تعالى: * (لهم اللعنة) * وحروف الجر كثيرا ما تتقارض، وقد حسن ذلك هنا المشاكلة حيث جىء بعلى في قوله تعالى:
* (إنا قد أوحى إلينآ أن العذاب على من كذب وتولى) *
* (إنا قد أوحي إلينا) * من جهة ربنا * (أن العذاب) * الدنيوي والأخروي * (على من كذب) * بآياته
198

عز وجل * (وتولى) * أي أعرض عن قبولها، وقال الزمخشري: أي وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين. وتحقيقه على ما قيل أنه جعل السلام تحية خزنة الجنة للمهتدين المتضمنة لوعدهم بالجنة. وفيه تعريض لغيرهم بتوبيخ خزنة النار المتضمن لوعيدهم بعذابها لأن المقام للترغيب فيما هو حسن العاقبة وهو تصديق الرسل عليهم السلام والتنفير عن خلافه فلو جعل السلام بمعنى السلامة لم يفد أن ذلك في العاقبة. فما قيل: إنه لا إشعار في اللفظ بهذا التخصيص غير مسلم، والقول بأنه ليس بتحية حيث لم يكن في ابتداء اللقاء يرده أنه لم يجعل تحية الأخوين عليهما السلام بل تحية الملائكة عليهم السلام، وأنت تعلم أن هذا التفسير خلاف الظاهر جدا وإنكار ذلك مكابرة.
وفي " البحر " هو تفسير غريب وأنه إذا أريد من العذاب العذاب في الدارين، ومن السلام السلامة من ذلك العذاب حصل الترغيب في التصديق والتنفير عن خلافه على أتم وجه، وقال أبو حيان: الظاهر أن قوله تعالى: * (والسلام) * الخ فصل للكلام والسلام فيه بمعنى التحية، وجاء ذلك على ما هو العادة من التسليم عند الفراغ من القول إلا أنهما عليهما السلام رغبا بذلك عن فرعون وخصابه متبعي الهدى ترغيبا له بالانتظام في سلكهم، واستدل به على منع السلام على الكفار وإذا احتيج إليه في خطاب أو كتاب جىء بهذه الصيغة.
وفي " الصحيحين " " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى "، وأخرج عبد الرزاق في " المصنف ". والبيهقي في " الشعب " عن قتادة قال: التسليم على أهل الكتاب إذا دخلت عليهم بيوتهم أن تقول: السلام على من اتبع الهدى، ولا يخفى أن الاستظهار المذكور غير بعيد لو كان كلامهما عليهما السلام قد انقطع بهذا السلام لكنه لم ينقطع به بل قالا بعده * (إنا قد أوحي إلينا) * الخ، وكأن هذه الجملة على جميع التفاسير استئناف للتعليل، وقد يستدل به على صحة القول بالمفهوم فتأمل، والظاهر أن كلتا الجملتين من جملة المقول الملقن. وزعم بعضهم أن المقول الملقن قد تم عند قوله تعالى: * (قد جئناك بآية من ربك) * (طه: 47) وما بعد كلام من قبلهما عليهما السلام أتيا به للوعد والوعيد. واستدل المرجئة بقوله سبحانه: * (إنا قد أوحى) * (طه: 48) الخ على أن غير الكفرة لا يعذبون أصلا. وأجيب بأنه إنما يتم إذا كان تعريف العذاب للجنس أو الاستغراق، أما إذا كان للعهد أي العذاب الناشىء عن شدة الغضب أو الدائم مثلا فلا، وكذا إذا أريد الجنس أو الاستغراق الادعائي مبالغة وجعل العذاب المتناهي الذي يعقبه السلامة الغير المتناهية كلا عذاب لم يلزم أن لا يعذب المؤمن المقصر في العمل أصلا.
* (قال فمن ربكما ياموسى) *
* (قال) * أي فرعون بعد ما أتياه وبلغاه ما أمرا به، وإنما طوى ذكر ذلك للإيجاز والإشعار بأنهما كما أمرا بذلك سارعا إلى الامتثال به من غير ريث وبان ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به، وجاء عن ابن عباس أنهما لما أمرا بإتيانه وقول ما ذكر له جاءا جميعا إلى بابه فأقاما حينا لا يؤذن لهما ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فدخلا وكان ما قص الله تعالى.
وأخرج أحمد. وغيره عن وهب بن منبه أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بما أمر أقبل إلى فرعون في مدينة قد جعل حولها الأسد في غيضة قد غرسها والأسد فيها مع ساستها إذا أشلتها على أحد أكل وللمدينة أربعة أبواب في الغيضة فأقبل موسى عليه السلام من الطريق الأعظم الذي يراه فرعون فلما رأته الأسد
199

صاحت صياح الثعالب فأنكر ذلك الساسة وفرقوا من فرعون فأقبل حتى انتهى إلى الباب فقرعه بعصاه وعليه جبة صوف وسراويل فلما رآه البواب عجب من جرأته فتركه ولم يأذن له فقال: هل تدري باب من أنت تضرب إنما أنت تضرب باب سيدك؟ قال: أنت وأنا وفرعون عبيد لربي فأنا ناصره فأخبر البواب الذي يليه من البوابين حتى بلغ ذلك أدناهم ودونه سبعون حاجبا كل حاجب منهم تحت يده من الجنود ما شاء الله تعالى حتى خلص الخبر إلى فرعون فقال: ادخلوه علي فلما أتاه قال له فرعون: أعرفك؟ قال: نعم قال: ألم نربك فينا وليدا فرد إليه موسى عليه السلام الذي رد قال فرعون. خذوه فبادر عليه السلام فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فحملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت فقال: يا موسى اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر فيه قال موسى: لم أومر بذلك إنما أمرت بمناجزتك وإن أنت لم تخرج إلي دخلت عليك فأوحى الله تعالى إليه أن اجعل بينك وبينه أجلا وقل له أنت اجعل ذلك فقال فرعون: أجعله إلى أربعين يوما ففعل وكان لا يأتي الخلاء إلا في كل أربعين يوما مرة فاختلف ذلك اليوم أربعين مرة وخرج موسى عليه السلام من المدينة فلما مر بالأسد خضعت له بأذنابها وسارت معه تشيعه ولا تهيجه ولا أحدا من بني إسرائيل، والظاهر أن هارون كان معه حين الإتيان، ولعله إنما لم يذكر في هذا الخبر اكتفاء بموسى عليه السلام، وقيل: إنهما حين عرضا عليهما السلام على فرعون ما عرضا شاور آسية فقالت: ما ينبغي لأحد أن يرد ما دعيا إليه فشاور هامان وكان لا يبت أمرا دون رأيه فقال له: كنت أعتقد أنك ذو عقل تكون مالكا فتصير مملوكا وربا فتصير مربوبا فامتنع من قبول ما عرض عليه موسى عليه السلام، وظاهر هذا أن المشاورة قبل المقاولة، ويحتمل أنها بعدها والأولى في أمثال هذه القصص الاكتفاء بما في المنزل وعدم الالتفات إلى غيره إلا أن يوثق بصحته أولا يكون في المنزل ما يعكر عليه كالخبر السابق فإن كون فرعون جعل الأجل يعكر عليه ما سيأتي إن شاء الله تعالى من قول موسى عليه السلام حين طلب منه فرعون أن يجعل موعدا موعدكم يوم الزينة، والظاهر عدم تعدد الحادثة والجملة استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال حين أتياه وقالا له ما قالا؟ فقيل: قال * (فمن ربكما يا موسى) * لم يضف الرب إلى نفسه ولو بطريق حكاية ما في قوله تعالى: * (إنا رسولا ربك) * (طه: 47) وقوله سبحانه: * (قد جئناك بآية من ربك) * (طه: 47) لغاية عتوه ونهاية طغيانه بل أضافه إليهما لما أن المرسل لا بد أن يكون ربا للرسول، وقيل: لأنهما قد صرحا بربوبيته تعالى للكل بأن قالا: إنا رسول رب العالمين كما وقع في سورة الشعراء والاقتصار ههنا على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصود، والفاء لترتيب السؤال على ما سبق من كونهما رسولي ربهما أي إذا كنتما رسولي ربكما الذي أرسلكما فأخبرا من ربكما الذي أرسلكما، وتخصيص النداء بموسى عليه السلام مع توجيه الخطاب إليهما لما ظهر له من أنه الأصل في الرسالة وهارون وزيره، ويحتمل أن يكون للتعريض بأنه ربه كما قال: ألم نريك فينا وليدا، قيل: وهذا أوفق بتلبيسه على الأسلوب الأحمق، وقيل: لأنه قد عرف أن له عليه السلام رتة فأراد أن يسكته. وهو مبني على ما عليه كثير من المفسرين من بقاء رتة في لسانه عليه السلام في الجملة وقد تقدم الكلام في ذلك.
* (قال ربنا الذىأعطى كل شىء خلقه ثم هدى) *
* (قال) * أي موسى عليه السلام واستبد بالجواب من حيث أنه خص بالسؤال * (ربنا) * مبتدأ
200

وقوله تعالى: * (الذي أعطى كل شيء خلقه) * خبره، وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا والموصول صفته، والظاهر أنه عليه السلام أراد بضمير المتكلم نفسه وأخاه عليهما السلام.
وقال بعض المحققين: أراد جميع المخلوقات تحقيقا للحق وردا على اللعين كما يفصح عنه ما في حيز الصلة و * (كل شيء) * مفعول أول لأعطى و * (خلقه) * مفعوله الثاني وهو مصدر بمعنى اسم المفعول والضمير المجرور لشيء والعموم المستفاد من * (كل) * يعتبر بعد إرجاعه إليه لئلا يرد الاعتراض المشهور في مثل هذا التركيب، والظاهر أنه عموم الأفراد أي أعطى كل شيء من الأشياء الأمر الذي طلبه بلسان استعداده من الصورة والشكل والمنفعة والمضرة وغير ذلك أو الأمر اللائق بما نيط به من الخواص والمنافع المطابق له كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الأبصار والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه، وقيل: الخلق باق على مصدريته بمعنى الايجاد أي أعطى كل شيء الايجاد الذي استعد له أو اللائق به بمعنى أنه تعالى أوجد كل شيء حسب استعداده أو على الوجه اللائق به وهو كما ترى.
وحمل بعضهم العموم على عموم الأنواع دون عموم الأفراد، وقيل: إن ذلك لئلا يلزم الخلف ويرد النقض بأن بعض الأفراد لم يكمل لعارض يعرض له، والحق أن الله تعالى راعى الحكمة فيما خلق وأمر تفضلا ورحمة لا وجوبا وهذا مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة كما نقل " صاحب المواقف " و " عيون الجواهر " فكل شيء كامل في مرتبته حسن في حد ذاته فقد قال تعالى العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء * (خلقه) * وجعل العموم في هذا عموم الأنواع مما لا يكاد يقول به أحد، وقال سبحانه: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * (الملك: 3) أي من حيث إضافته إلى الرحمن وخلقه إياه على طبق الحكمة بمقتضى الجودة والرحمة، والتفاوت
بين الأشياء إنما هو إذا أضيف بعضها إلى بعض فالعدول عما هو الظاهر من عموم الأفراد إلى عموم الأنواع لما ذكر ناشيء من قلة التحقيق، وقيل: إن سبب العدول كون * (أعطى) * حقيقة في الماضي فلوحمل كل شيء على عموم الأفراد يلزم أن يكون جميعه قد وجد وأعطى مع أن منها بل أكثرها لم يوجد ولم يعط بعد بخلاف ما إذا حمل على عموم الأنواع فإنه لا محذور فيه إذ الأنواع جميعها قد وجد ولا يتجدد بعد ذلك نوع وإن كان ذلك ممكنا وفيه بحث ظاهر فليفهم.
وروى عن ابن عباس. وابن جبير. والسدي أن المعنى أعطى كل حيوان ذكر نظيره في الخلق والصورة أنثى وكأنهم جعلوا كلا للتكثير وإلا فالعموم مطلقا باطل كما لا يخفى، وعندي أن هذا المعنى من فروع المعنى السابق الذي ذكرناه، ولعل مراد من قاله التمثيل وإلا فهو بعيد جدا ولا يكاد يقوله من نسب إليه.
وقيل: * (خلقه) * هو المفعول الأول والمصدر بمعنى اسم المفعول أيضا، والضمير المجرور للموصول و * (كل شيء) * هو المفعول الثاني والمعنى أعطى مخلوقاته سبحانه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، وقدم المفعول الثاني للاهتمام به من حيث أن المقصود الامتنان به ونسب هذا القول إلى الجبائي، والأول أظهر لفظا ومعنى.
وقرأ عبد الله. وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبو نهيك. وابن أبي إسحق. والأعمش. والحسن. ونصري عن الكسائي. وابن نوح عن قتيبة وسلام * (خلقه) * على صيغة الماضي المعلوم
201

على أن الجملة صفة للمضاف إليه أو المضاف على شذوذ، وحذف المفعول الثاني اختصارا لدلالة قرينة الحال عليه أي أعطى كل شيء خلقه تعالى ما يصلحه أو ما يحتاج إليه وجعل ذلك الزمخشري من باب يعطي ويمنع أي كل شيء خلقه سبحانه لم يخله من عطائه وإنعامه، ورجحه في " الكشف " بأنه أبلغ وأظهر، وقيل: الأول أحسن صناعة وموافقة للمقام وهو عندي أوفق بالمعنى الأولى للقراءة الأولى وفيما ذكره في " الكشف " تردد.
* (ثم هدى) * أي أرشد ودل سبحانه بذلك على وجوده وجوده فإن من نظر في هذه المحدثات وما تضمنته من دقائق الحكمة علم أن لها صانعا واجب الوجود عظيم العطاء والجود، ومحصل الآية ربنا الذي خلق كل شيء حسب استعداده أو على الوجه اللائق به وجعله دليلا عليه جل جلاله، وهذا الجعل وإن كان متأخرا بالذات عن الخلق وليس بينهما تراخ في الزمان أصلا لكنه جيء بكلمة ثم للتراخي بحسب الرتبة كما لا يخفى وجهه على المتأمل، وفي إرشاد العقل السليم * (ثم هدى) * إلى طريق الانتفاع والارتفاق بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله إما اختيارا كما في الحيوانات أو طبعا كما في الجمادات والقوى الطبيعية النباتية والحيوانية.
ولما كان الخلق هو تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام متقدما على الهداية التي هي عبارة عن إبداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجساد وسط بينهما كلمة التراخي انتهى، ولا يخفى عليك أن الخلق لغة أعم مما ذكره وأن القوى المحركة والمدركة داخلة في عموم * (كل شيء) * سواء كان عموم الأفراد أو عموم الأنواع وأنه لا بد من ارتكاب نوع من المجاز في * (هدى) * على تفسيره، وقيل: على التفسير المروي عن ابن عباس ومن معه ثم هداه إلى الاجتماع بألفه والمناكحة، وقيل غير ذلك، ولله تعالى در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الانصاف وكان طالبا للحق، ومن هنا قيل: كان من الظاهر أن يقول عليه السلام: ربنا رب العالمين لكن سلك طريق الإرشاد والأسلوب الحكميم وأشار إلى حدوث الموجودات بأسرها واحتياجها إليه سبحانه واختلاف مراتبها وأنه تعالى هو القادر الحكيم الغني المنعم على الإطلاق.
واستدل بالآية على أن فرعون كان عارفا بالله تعالى إلا أنه كان معاندا لأن جملة الصلة لا بد أن تكون معلومة ومتى كانت هذه الجملة معلومة له كان عارفا به سبحانه، وهذا مذهب البعض فيه عليه اللعنة، واستدلوا له أيضا بقوله تعالى: * (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض) * (الإسراء: 102) وقوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) * (النمل: 14) وقوله تعالى في سورة (القصص: 39): * (وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون) * فإنه ليس فيه إلا إنكار المعاد دون المبدأ وقوله تعالى في (الشعراء: 23) * (وما رب العالمين) * إلى قوله سبحانه * (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) * فإنه عنى به أني أطلب منه شرح الماهية وهو يشرح الوجود فدل على أنه معترف بأصل الوجود وبأن ملكه لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ألا ترى أن موسى عليه السلام لما هرب إلى مدين قال له شعيب: * (لا تخف نجوت من القوم الظالمين) * (القصص: 25) فكيف يعتقد أنه إله العالم وبأنه كان عاقلا ضرورة أنه كان مكلفا وكل عاقل يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم، ومن كان كذلك افتقر إلى مدبر فيكون قائلا بالمدبر وبأنه سأل ههنا بمن طالبا للكيفية، وفي الشعراء بما طالبا للماهية.
والظاهر أن السؤال بمن سابق فكأن موسى عليه السلام لما أقام الدلالة على الوجود ترك المنازعة معه
202

في هذا المقام لعلمه بظهوره وشرع في مقام أصعب لأن العلم بماهيته تعالى غير حاصلة للبشر. ولا يخفى ما في هذه الأدلة من القيل والقال، ومن الناس من قال: إنه كان جاهلا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما واختلفوا في كيفية جهله فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للصانع أصلا ولعله كان يقول بعدم احتياج الممكن في وجوده إلى مؤثر وإن وجود العالم اتفاقي كما نقل عن ديمقراطيس وأتباعه، ويحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة، ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب. ويحتمل أنه كان من عبدة الأصنام، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال باطعة غيره، واستدل بشروعه في المناظرة وطلب الحجة دون السفاهة والشغب مع كونه جبارا شديد البطش على الشغب والسفاخة مع من يدعو إلى الحق في غاية القبح فلا ينبغي لمن يدعي الإسلام والعلم أن يرتضي لنفسه ما لم يرتضه فرعون لنفسه. وباشتغال موسى عليه السلام بإقامة الدليل على المطلوب على فساد التقليد في أمثال هذا المطلب وفساد قول القائل: إن معرفة الله تعالى تستفاد من قول الرسول، وبحكاية كلام فرعون وجواب موسى عليه السلام على أنه يجوز حكاية كلام المبطل مقرونا بالجواب لئلا يبقى الشك، وعلى أن المحق يجب عليه استماع شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها.
* (قال فما بال القرون الاولى) *
* (قال فما بال القرون الأولى) * لما شاهد اللعين ما نظمه عليه السلام في سلك الجواب من البرهان النير على الطراز الرائع خاف أن يظهر للناس حقية مقالاته عليه السلام وبطلان خرافات نفسه ظهورا بينا أراد أن يصرفه عليه السلام عن سننه إلى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها في نفس الأمر بالرسالة من الحكايات موهما أن لها تعلقا بذلك ويشغله عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوع غفلة فيتسلق بذلك إلى أن يدعي بين يدي قومه نوع معرفة، فقال * (فما بال) * الخ. وأصل البال الفكر يقال: خطر ببالي كذا ثم أطلق على الحال التي يعتني بها وهو المراد، ولا يثني ولا يجمع إلا شذوذا في قولهم بالآت. وكأن الفاء لتفريع ما بعدها على دعوى الرسالة أي إذا كنت رسولا فأخبرني ما حال القرون الماضية والأمم الخالية، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة.
* (قال علمها عند ربى فى كت‍ابلا يضل ربى ولا ينسى) *
* (قال) * موسى عليه السلام * (علمها عند ربي) * أي إن ذلك من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى وإنما إنا عبد لا أعلم منها إلا ما علمنيه من الأمور المتعلقة بالرسالة والعلم بأحوال القرون وما جرى عليهم على التفصيل مما لا ملابسة فيه بمنصب الرسالة كما زعمت. وقيل: إنما سأله عن ذلك ليختبر أنه نبي أو هو من جملة القصاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة، وقال النقاش: إن اللعين لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون * (يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب) * (غافر: 30) الآية سأل عن ذلك فرد عليه السلام علمه إلى الله تعالى لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة فإنه كان نزولها بعد هلاك فرعون.
وقال بعضهم: إن السؤال مبني على قوله عليه السلام * (والسلام على من اتبع الهدى) * (طه: 47) الخ أي فما حال القرون السالفة بعد موتهم من السعادة والشقاوة والمراد بيان ذلك تفصيلا كأنه قيل: إذا كان الأمر كما ذكرت ففصل لنا حال من مضى من السعادة والشقاوة ولذا رد عليه السلام العلم إلى الله عز وجل فاندفع ما قيل: إنه لو كان المسؤول عند ما ذكر من السعادة والشقاوة لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلم ومن
203

تولى فقد عذب حسبما نطق به قوله تعالى: * (والسلام) * الخ، وقيل: إنه متعلق بقوله سبحانه: * (إنا قد أوحى إلينا) * (طه: 48) الخ أي إذا كان الأمر كذلك فما بال القرون الأولى كذبوا ثم ما عذبوا، وقيل: هو متعلق به والسؤال عن البعث والضمير في * (علمها) * للقيامة وكلا القولين كما ترى؛ وعود الضمير على القيامة أدهى من أمر التعلق وأمر.
وقيل: إنه متعلق بجواب موسى عليه السلام اعتراضا على ما تضمنه من علمه تعالى بتفاصيل الأشياء وجزئياتها المستتبع إحاطة قدرته جل وعلا بالأشياء كلها كأنه قيل؛ إذا كان علم الله تعالى كما أشرت فما تقول في القرون الخالية مع كثرتهم وتمادى مدتهم وتباعد أطرافهم كيف إحاطة علمه تعالى بهم وبأجزائهم وأحوالهم فأجاب بأن علمه تعالى محيط بذلك كله إلى رخر ما قص الله تعالى، وتخصيص القرون الأولى على هذا بالذكر مع أولوية التعميم قيل لعلم فرعون ببعضها وبذلك يتمكن من معرفة صدق موسى عليه السلام: إن بين أحوالها، وقيل: إنه لالزام موسى عليه السلام وتبكيته عند قومه في أسرع وقت لزعمه أنه لو عمم ربما اشتغل موسى عليه السلام بتفصيل علمه تعالى بالموجودات المحسوسة الظاهرة فتطول المدة ولا يتمشى ما أراده، وأيا كان يسقط ما قيل: إنه يأبى هذا الوجه تخصيص القرون الأولى من بين الكائنات فإنه لو أخذها بجملتها كان أظهر وأقوى في تمشي ما أراد، نعم بعد هذا الوجه مما لا ينبغي أن ينكر، وقيل: إنه اعتراض عليه بوجه آخر كأنه قيل: إذا كان ما ذكرت من دليل إثبات المبدأ في هذه الغاية من الظهور فما بال القرون الأولى نسوه سبحانه ولم يؤمنوا به تعالى فلو كانت الدلالة واضحة وجب عليهم أن لا يكونوا غافلين عنها ومرله على ما قال الإمام معارضة الحجة بالتقليد، وقريب منه ما يقال إنه متعلق بقوله: * (ثم هدى) * على التفسير الأول كأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك فما بال القرون الأولى لم يستدلوا بذلك فلم يؤمنوا. وحاصل الجواب على القولين أن ذلك من سر القدر وعلمه عند ربي جل شأنه * (في كتاب) * الظاهر أنه خبر ثان لعلمها والخبر الأول * (عند ربي) *.
وجوز أن يكونا خبرا واحدا مثل هذا حلو حامض وأن يكون الخبر * (عند ربي) *. و * (في كتاب) * في موضع الحال من الضمير المستتر في الظرف أو هو معمول له. وأن يكون الخبر في كتاب * (وعند ربي) * في موضع الحال من الضمير المستتر فيه والعامل والظرف وهو يعمل متأخرا على رأي الأخفش، وقيل: يكون حالا من المضاف إليه في * (علمها) *، وقيل: يكون ظرفا للظرف الثاني، وقيل: هو ظرف للعلم ذكر جميع ذلك أبو البقاء ثم قال: ولا يجوز أن يكون * (في كتاب) * متعلقا بعلمها و * (عند ربي) * الخبر لأن المصدر لا يعمل فيما بعد خبره.
وأنت تعلم أن أول الأوجه هو الأوجه وكأنه عنى عليه السلام بالكتاب اللوح المحفوظ أي علمها مثبت في اللوح المحفوظ بتفاصيله وهذا من باب المجاز إذ المثبت حقيقة إنما هو النقوش الدالة على الألفاظ المتضمنة شرح أحوالهم المعلومة له تعالى، وجوز أن يكون المراد بالكتاب الدفتر كما هو المعروف في اللغة ويكون ذلك تمثيلا لتمكنه وتقرره في علمه عز وجل بما استحفظه العالم وقيده بكتبته في جريده ولعله أولى، ويلوح إليه قوله تعالى: * (لا يضل ربي ولا ينسى) * فإن عدم الضلال والنسيان أوفق باتقان العلم، والظاهر أن فيه على الوجهين دفع توهم الاحتياج لأن الإثبات في الكتاب إنما يفعله من يفعله لخوف النسيان والله تعالى منزه عن ذلك، والإثبات في اللوح المحفوظ لحكم ومصالح يعلم بعضها العالمون، وقيل: إن هذه الجملة على الأول تكميل لدفع ما يتوهم من أن الإثبات في اللوح للاحتياج لاحتمال خطأ أو نسيان تعالى الله سبحانه عنه، وعلى
204

الثاني تذييل لتأكيد الجملة السابقة، والمعنى لا يخطىء ربي ابتداء بأن لا يدخل شيء من الأشياء في واسع علمه فلا يكون علمه سبحانه محيطا بالأشياء ولا يذهب عليه شيء بقاء أن يخرج عن دائرة علمه جل شأنه بعد أن دخل بل هو عز وجل محيط بكل شيء علما أزلا وأبدا وتفير الجملتين بما ذكر مما ذهب إليه القفال ووافقه بعض
المحققين ولا يخفى حسنه.
وأخرج ابن المنذر. وجماعة عن مجاهد أنهما بمعنى واحد وليس بذاك، والفعلان قيل: منزلان منزلة اللازم، وقيل: هما باقيان على تعديهما والمفعول محذوف أي لا يضل شيئا من الأشياء ولا ينساه، وقيل: شيئا من أحوال القرون الأولى، وعن الحسن لا يضل وقت البعث ولا ينساه وكأنه جعل السئال عن البعث وخصص لأجله المفعول وقد علمت حاله. وعن ابن عباس أن المعنى لا يترك من كفر به حتى ينتق منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه وكأنه رضي الله تعالى عنه جعل السؤال عن حالهم من حيث السعادة والشقاوة والجواب عن ذلك على سبيل الإجمال فتدبر ولا تغفل. وزعم بعضهم أن الجملة في موضع الصفة لكتاب والعائد إليه محذوف أي لا يضله ربي ولا ينساه، وقيل: العائد ضمير مستتر في الفعل و * (ربي) * نصب على المفعول أي لا يضل الكتاب ربي أي عنه. وفي * (ينسى) * ضمير عائد إليه أيضا أي ولا ينسى الكتاب شيئا أي لا يدعه على حد * (لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها) * (الكهف: 49).
والعجب كل العجب من العدول عن الظاهر إلى مثل هذه الأقوال، وإظهار * (ربي) * في موقع الإضمار للتلذذ بذكره تعالى ولزيادة التقرير والإشعار بعلية الحكم فإن الربوبية مما تقتضي عدم الضلال والنسيان حتما.
وقرأ الحسن. وقتادة. والجحدري. وحماد بن سلمة. وابن محيصن. وعيسى الثقفي * (لا يضل) * بضم الياء من أضل وأضللت الشيء وضللته قيل بمعنى.
وفي " الصحاح " عن ابن السكيت يقال: أضللت بعيري إذا ذهب منك وضللت المسجد والزاد إذا لم تعرف موضعهما وكذلك كل شيء مقيم لا يهتدي إليه، وحكى نحوه عن افراء. وابن عيسى، وذكر أبو البقاء في توجيه هذه القراءة وجهين جعل * (ربي) * منصوبا على المفعولية، والمعنى لا يضل أحد ربي عن علمه وجعله فاعلا والمعنى لا يجد ربي الكتاب ضالا أي ضائعا، وقرأ السلمي * (لا يضل ربي ولا ينسى) * ببناء الفعلين لما لم يسم فاعله.
* (الذى جعل لكم الارض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السمآء مآء فأخرجنا به أزواجا من نب‍ات شتى) *
* (الذي جعل لكم الأرض مهدا) * الخ يحتمل أن يكون ابتداء كلام منه عز وجل وكلام موسى عليه السلام قد تم عند قوله تعالى: * (ولا ينسى) * فيكون الموصول خبر مبتدأ محذوف والجملة على ماقيل: مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه سبحانه لما حكى كلام موسى عليه السلام إلى قوله: * (لا يضل ربي ولا ينسى) * (طه: 52) سئل ما أراد موسى بقوله: * (ربي) * فقال سبحانه: * (هو الذي جعل) * (يونس: 5) الخ، واختار هذا الإمام بل قال: يجب الجزم به؛ ويحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السلام على أن يكون قد سمعه من الله عز وجل فأدرجه بعينه في كلامه ولذا قال * (لكم) * دون لنا وهو من قبيل الاقتباس فيكون الموصول إما مرفوع المحل على أنه صفة لربي أو خبر مبتدأ محذوف كما في الاحتمال السابق وإما منصوب على المدح، واختار هذا الزمخشري، وعلى الاحتمالين يكون في قوله تعالى: * (فأخرجنا) * التفات بلا اشتباه أو على أن موسى عليه السلام قال ذلك من عنده غير سامع له من الله عز وجل، وقال: فاخرج به بإسناد أخرج إلى ضمير الغبة إلا أن الله تعالى لما حكاه أسنده إلى ضمير
205

المتكلم لأن الحاكي هو المكي عنه فمرجع الضميرين واحد، وظاهر كلام ابن المنير اختيار هذا حيث قال بعد تقريره: وهذا وجه حسن رقيق الحاشية وهو أقرب الوجوه إلى الالتفات.
وأنكر بعضم أن يكون فيه التفات أو على أنه عليه السلام قاله من عنده بهذا اللفظ غير مغير عند الحكاية، وقوله: * (أخرجنا) * من باب قول خواص الملك أمرنا وعمرنا وفعلنا وإنما يريدون الملك أو هو مسند إلى ضمير الجماعة بإرادة أخرجنا نحن معاشر العباد بذلك الماء بالحراثة أزواجا من نبات شتى على ما قيل، وليس في * (أخرجنا) * على هذا وما قبله التفات. ويحتمل أن يكون ذلك كلام موسى عليه السلام إلى قوله تعالى: * (ماء) * وما بعده كلام الله عز وجل أوصله سبحانه بكلام موسى عليه السلام حين الحكاية لنبينا صلى الله عليه وسلم، والأولى عندي الاحتمال الأول بل يكاد يكون كالمتعين ثم الاحتمال الثاني ثم الاحتمال الثالث وسائر الاحتمالات ليس بشيء ووجه ذلك لا يكاد يخفي. وسيأتي إن شاء الله تعالى في الزخرف نحو هذه الآية، والمهد في الأصل مصدر ثم جعل اسم جنس لما يمهد للصبي. ونصبه على أنه مفعول ثان لجعل إن كان بمعنى صير أو حال إن كان بمعنى خلق، والمراد جعلها لكم كالمهد، ويجوز أن يكون باقيا على مصدريته غير منقول لما ذكر، والمراد جعلها ذات مهد أو ممهدة أو نفس المهد مبالغة، وجوز أن يكون منصوبا بفعل مقدر منلفظه أي مهدها مهدا بمعنى بسطها ووطأها، والجملة حال من الفاعل أو المفعول، وقرأ كثير * (مهادا) * وهو على ما قال المفضل. كالمهد في المصدرية والنقل.
وقال أبو عبيد: المهاد اسم والمهد مصدر، وقال بعضهم: وقال بعضهم: هو جمع مهد ككعب وكعاب، والمشهور في جمعه مهود، والمعنى على الجمع جعل كل موضع منها مهدا لكل واحد منكم * (وسلك لكم فيها سبلا) * أي حصل لكم طرقا ووسطها بين الجبال والأودية تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مآربكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها، وللدلالة على أن الانتفاع مخصوص بالإنسان كرر * (لكم) * وذكره أولا لبيان أن المقصود بالذات من ذلك الإنسان * (وأنزل من السماء) * من جهتها أو منها نفسها على ما في بعض الآثار * (ماء) * هو المطر * (فاخرجنا به) * أي بذلك الماء وواسطته حيث أن الله تعالى أودع فيه ما أودع كما ذهب إلى ذلك الماتريدية وغيرهم من السلف الصالح لكنه لا يؤثر إلا بأذن الله تعالى كسائر الأسباب فلا ينافي كونه عز وجل هو المؤثر الحقيقي، وإنما فعل ذلك سبحانه مع قدرته تعالى الكاملة على إيجاد ما شاء بلا توسيط شيء كما أوجد بعض الأشياء كذلك مراعاة للحكمة.
وقيل: * (به) * أي عنده وإليه ذهب الإشاعرة فالماء كالنار عندهم في أنه فيه قوة الري مثلا والنار كالماء في أنها ليس فيها قوة الإحراق وإنما الفرق بينهما في أن الله تعالى قد جرت عادته أن يخلق الري عند شرب الماء والإحراق عند مسيس النار دون العكس. وزعموا أن من قال: إن في شيء من الأسباب قوة تأثير أودعها الله تعالى
فيه فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الايمان وهو لعمري من المجازفة بمكان.
والظاهر أن يقال: فأخرج إلا أنه التفت إلى التكلف للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة بواسطة أنه لا يسند إلى العظيم إلا أمر عظيم والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن ينقاد لأمره ويذعن لمشيئته الأشياء المختلفة فإن مثل هذا التعبير يعبر به الملوك والعظماء النافذ أمرهم. ويقوي
206

هذا الماضي الدال على التحقيق كالفاء الدالة على السرعة فإنها للتعقيب على ما نص عليه بعض المحققين وجعل الإنزال والإخراج عبارتين عن إرادة النزول والخروج معللا باستحالة مزاولة العمل في شأنه تعالى شأنه.
واعترض عليه بما فيه بحث ولا يضر في ذلك كونه تعقيبا عرفيا ولم تجعل للسببية لأنها معلومة من الباء.
وقال الخفاجي: لك أن تقول إن الفاء لسببية الإرادة عن الإنزال والباء لسببية النبات عن الماء فلا تكرار كما في قوله تعالى: * (لنحيى به) * ولعل هذا أقرب انتهى.
وأنت تعلم أن التعقيب أظهر وأبلغ. وقد ورد على هذا النمط من الالتفات للنكتة المذكورة قوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها) * (فاطر: 27) وقوله تعالى: * (أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة) * (النمل: 60) وقوله سبحانه: * (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء) * (الأنعام: 99) * (أزواجا) * أي أصنافا أطلق عليها ذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض.
* (من نبات) * بيان وصفة لأزواجا. وكذا قوله تعالى: * (شتى) * أي متفرقة جمع شتيت كمريض ومرض وألفه للتأنيث، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لنبات لما أنه في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم.
وقالوا: من نعمته عز وعلا أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الانعام وقد جعل الله تعالى علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله. وقوله تعالى:
* (كلوا وارعوا أنع‍امكم إن فى ذالك لأي‍ات لاولى النهى) *
* (كلوا وارعوا أنعامكم) * معمول قول محذوف وقع حالا من ضمير * (فأخرجنا) * أي أخرجنا أصناف النبات قائلين * (كلوا) * الخ أي معديها لانتفاعكم بالذات وبالواسطة آذنين في ذلك، وجوز أن يكون القول حالا من المفعول أي أخرجنا أزواجا مختلفة مقولا فيها ذلك. والأول أنسب وأولى. ورعى كما قال الزجاج يستعمل لازما ومتعديا، يقال: رعت الدابة رعيا ورعاها صاحبها رعاية إذا إسامها وسرحها وأراحها * (إن في ذالك) * إشارة إلى ما ذكر من شؤنه تعالى. وأفعاله وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الكمال، وقيل: لعدم ذكر المشار إليه بلفظه. والتنكير في قوله سبحانه * (لآيات) * للتفخيم كما وكيفما أي لآيات كثيرة جليلة واضحة الدلالة على شؤون الله تعالى في ذاته وصفاته * (لأولى النهى) * جمع نهية بضم النون سمى بها العقل نهيه عن اتباع الباطل وارتكاب القبيح كما سمى بالعقل. والحجر لعقله وحجره عن ذلك. ويجيء النهي مفردا بمعنى العقل كما في " القاموس " وهو ظاهر ما روى عن ابن عباس هنا فإنه قال: أي لذوي العقل، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: لذوي التقى. ولعله تفسير باللازم.
وأجاز أبو علي أن يكون مصدرا كالهدي والأكثرون على الجمع أي لذوي العقول الناهية عن الأباطيل وتخصيص كونها آيات بهم لأن أوجه دلالتها على شؤنه تعالى لا يعلمها إلا العقلاء ولذا جعل نفعها عائدا إليهم في الحقيقة فقال سبحانه: * (كلوا وارعوا) * دون كلوا أنتم والأنعام.
* (منها خلقن‍اكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) *
* (منها) * أي من الأرض.
* (خلقناكم) * أي في ضمن خلق أبيكم آدم عليه السلام منها فإن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذا لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه عليه السلام بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فكان خلقه عليه السلام منها خلقا للكل منها، وقيل:
207

المعنى خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض بوسائط.
وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه الشخص فيذره على النطفة فيخلق من التراب والنطفة * (وفيها نعيدكم) * بالإماتة وتفريق الأجزاء، وهذا وكذا ما بعد مبني على الغالب بناء على أن من الناس من لا يبلي جسده كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار المديد فيها * (ومنها يخرجكم تارة أخرى) * بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الهيئة السابقة ورد الأرواح من مقرها إليها، وكون هذا الإخراج تارة أخرى باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها وإن لم يكن على نهج التارة الثانية أو التارة في الأصل اسم للتور الواحد وهو الجريان، ثم أطلق على كل فعلة واحد من الفعلات المتجددة كما مر في المرة، وما ألطف ذكر قوله تعالى: * (منها خلقناكم) * الخ بعد ذكر النبات وإخراجه من الأرض فقد تضمن كل إخراج أجسام لطيفة من الترباء الكثيفة وخروج الأموات أشبه شيء بخروج النبات هذا.
من باب الإشارة في الآيات: * (طه) * (طه: 1) يا ظاهرا بنا هاديا إلينا أو يا طائف كعبة الأحدية في حرم الهوية وهادي الأنفس الزكية إلى المقامات العلية، وقيل: إن ط لكونه بحساب الجمل تسعة وإذا جمع ما انطوت عليه من الاعداد - أعني الواحد والإثنين والثلاثة - وهكذا إلى التسعة بلغ خمسة وأربعين إشارة إلى آدم لأن أعداد حروفه كذلك، وه‍ لكونها بحساب الجمل خمسة وما انطوت عليه من الأعداد يبلغ خمسة عشر إشارة إلى حوا بلا همز، والإشارة بمجموع الأمرين إلى أنه صلى الله عليه وسلم أبو الخليقة وأمها فكأنه قيل: يا من تكونت منه الخليقة، وقد أشار إلى ذلك العارف بن الفارض قدس سره بقوله على لسان الحقيقة المحمدية: وإني وإن كنت ابن آدم صورة * فلي منه معنى شاهد بابوتي
وقال في ذلك الشيخ عبد الغني النابلسي عليه الرحمة: طه النبي تكونت من نوره كل البرية ثم لو ترك القطا
وقيل: * (طه) * في الحساب أربعة عشر وهو إشارة إلى مرتبة البدرية فكأنه قيل: يا بدر سماء عالم الإمكان * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى) * (طه: 2، 3) أي إلا لتذكر من يخشى أيام الوصال التي كانت قبل تعلق الأرواح بالأبدان وتخبرهم بأنها يحصل نحوها لهم لتطيب أنفسهم وترتاح أرواحهم أو لتذكرهم إياها ليشتاقوا إليها وتجري دموعهم عليها ويجتهدوا في تحصيل ما يكون سببا لعودها ولله تعالى در من قال: سقى الله أياما لنا ولياليا * مضت فجرت من ذكرهن دموع
فيا هل لها يوما من الدهر أوبة * وهل لي إلى أرض الحبيب رجوع
208

وقيل: من يخشى هم العلماء لقوله تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28). ولما كان العلم مظنة العجب والفخر ونحوهما ناسب أن يذكر صاحبه عظمة الله عز وجل ليكون ذلك سورا له مانعا من تطرق شيء مما ذكر " الرحمن على العرش استوى " العرش جسم عظيم خلقه الله تعالى كما قيل من نور شعشعاني وجعله موضع نور العقل البسيط الذي هو مشرق أنوار القدم وشرفه بنسبة الاستواء الذي لا يكتنه، وقيل: خلق من أنوار أربعة مختلفة الألوان وهي أنوار سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولذا قيل له الأطلس، وإلى هذا ذهبت الطائفة الحادثة في زماننا المسماة بالكشفية.
وذكر بعض الصوفية أن العرش إشارة إلى قلب المؤمن الذي نسبة العرش المشهور إليه كنسبة الخردلة إلى الفلاة بل كنسبة القطرة إلى البحر المحيط وهو محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه، وفي إحياء العلوم لحجة الإسلام الغزالي قال الله تعالى: " لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع " أي الساكن المطمئن، وفي الرشدة لصدر الدين القونوي قدس سره بلفظ " ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقى التقى الوادع " وليس هذا القلب عبارة عن البضعة الصنوبرية فإنها عند كل عاقل أحقر من حيث الصورة أن تكون محل سره جل وعلا فضلا عن أن تسعة سبحانه وتكون مطموح نظره الأعلى ومستواه عز شأنه وهي وأن سميت قلبا فإنما تلك التسمية على سبيل المجاز، وتسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول بل القلب الإنساني عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشؤون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكوفية الرومانية منها والطبيعية وتلك الحقيقة تنشىء من بين الهيئة الاجتماعية الواقعة بين الصفات والحقائق الإلهية والكونية وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الارتياض والتزكية، والقلب الصنوبري منزل تدلي الصورة الظاهرة من بين ما ذكرنا التي هي صورة الحقيقة القلبية، ومعنى وسع ذلك للحق جل وعلا على ما في مسلك الوسط الداني كونه مظهرا جامعا للأسماء والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق سبحانه من الحلول والاتحاد والتجزئة وقيام القديم بالحادث ونحو ذلك من الأمور المستحيلة عليه تعالى شأنه، هذا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا الخبر وإن استفاض عند الصوفية قدست أسرارهم إلا أنه قد تعقبه المحدثون، فقال العراقي: لم أر له أصلا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هو مذكور في الإسرائيليات وليس له إسناد معروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه أشار بما في الإسرائيليات إلى ما أخرجه الإمام أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال: إن الله تعالى فتح السموات لحزقيل حتى نظر إلى العرش فقال حزقيل: سبحانك ما أعظمك يا رب فقال الله تعالى: إن السموات والأرض ضعفن من أن يسعنني ووسعني قلب عبدي المؤمن الوادع اللين.
نعم لذلك ما يشهد له فقد قال العلامة الشمس ابن القيم في شفاء العليل ما نصه، وفي المسند وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: " القلوب آنية الله تعالى في أرضه فاحبها إليه أصلبها وأرقها وأصفاها " انتهى.
وروى الطبراني من حديث أبي عنبسة الخولاني رفعه " إن لله تعالى آنية من الأرض وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين وأحبها إليه ألينا وأرقها " وهذا الحديث وإن كان في سنده بقية بن الوليد وهو مدلس إلا
209

أنه صرح فيه بالتحديث؛ ويعلم من مجموع الحديثين أربع صفات للقلب الأحب إليه تعالى اللين وهو لقبول الحق والصلابة وهي لحفظه فالمراد بها صفة تجامع اللين والصفاء والرقة وهما لرؤيته، واستواؤه تعالى على العرش بصفة الرحمانية دون الرحيمية للإشارة إلى أن لكل أحد نصيبا من واسع رحمته جل وعلا * (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) * (طه: 7) قيل: السر أمر كامن في القلب كمون النار في السجر الرطب حتى تثيره الإرادة لا يطلع عليه الملك ولا الشيطان ولا تحس به النفس ولا يشعر به العقل وإلا خفي ما في باطن ذلك.
وعند بعض الصوفية السر لطيفة بين القلب والروح وهو معدن الأسرار الروحانية والخفي لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية وهو مهبط الأنوار الربانية وتفصيل ذلك في محله. وقد استدل بعض الناس بهذه الآية على عدم مشروعية الجهر بالذكر والحق أنه مشروع بشرطه، واختلفوا في أنه هل هو أفضل من الذكر الخفي أو الذكر الخفي أفضل منه والحق فيما لم يرد نص على طلب الجهر فيه وما لم يرد نص على طلب الإخفاء فيه أنه يختلف الأفضل فيه باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان فيكون الجهر أفضل من الإخفاء تارة والإخفاء أفضل أخرى * (وهل أتاك حديث موسى * إذ رأى نارا) * (طه: 9، 10) قال الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة في تنبيه العقول: إن تلك النار كانت مجلى الله عز وجل وتجليه سبحانه فيها مراعاة للحكمة من حيث أنها كانت مطلوب موسى عليه السلام، واحتج على ذلك بحديث رواه عن ابن عباس رضي الله عنه وسنذكره إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: * (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها) * (النمل: 8) الآية " فاخلع نعليك " أترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة وسر مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى ولا تلتفت إلى ما سواه سبحانه: " إنك بالوادي المقدس طوى " وهو وادي قدس جلال الله تعالى وتنزع عزته عز وجل، وقيل: النعلان إشارة إلى المقدمتين اللتين يتركب منهما الدليل لأنهما يتوصل بهما العقل إلى المقصود كالنعلين يلبسهما الانسان
فيتوصل بالمشي بهما إلى مقصوده كأنه قيل: لا تلتفت إلى المقدمتين ودع الاستدلال فإنك في وادي معرفة الله تعالى المفعم بآثار ألوهيته سبحانه * (فاعبدني) * قدم هذا الأمر للإشارة إلى عظم شرف العبودية، وثنى بقوله سبحانه * (وأقم الصلاة لذكرى) * (طه: 14) لأن الصلاة من أعلام العبودية ومعارج الحضرة القدسية.
* (وما تلك بيمينك يا موسى) * ايناس منه تعالى له عليه السلام فإنه عليه السلام دهش لما تكلم سبحانه معه بما يتعلق بالألوهية فسأله عن شيء بيده ولا يكاد يغلط فيه ليتكلم ويجيب فتزول دهشته، قيل وكذلك يعامل المؤمن بعد موته وذلك أنه إذا مات وصل إلى حضرة ذي الجلال فيعتريه ما يعتريه فيسأه عن الإيمان الذي كان بيده في الدنيا ولا يكاد يغلط فيه فإذا ذكره زال عنه ما اعتراه، وقيل: إن الله تعالى لما عرفه كمال الألوهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها ما هو أعظم نفعا مما ذكره تنبيها على أن العقول قاصرة عن معرفة صفات الشيء الحاضر فلولا التوفيق كيف يمكنه الوصول إلى معرفة أجل الأشياء وأعظمها * (فالقاها فإذا هي حية تسعى) * (طه: 20) فيه إشارة إلى ظهور أثر الجلال ولذلك خاف موسى عليه السلام فقال سبحانه: " خذها ولا تخف " فهذا الخوف من كمال المعرفة لأنه لم يأمن مكر الله تعالى ولو سبق منه سبحانه الايناس، وفي بعض الآثار " يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط ".
وقيل: كان خوفه من فوات المنافع المعدودة ولذا علل النهي بقوله تعالى: * (سنعيدها سيرتها
210

الأولى) * (طه: 21) وهذا جهل بمقام موسى عليه السلام. وكذا ما قيل: إنه لما رأى الأمر الهائل فر حيث لم يبلغ مقام * (ففروا إلى الله) * (الذاريات: 50) ولو بلغه لم يفر. وما قيل: أيضا لعله لما حصل له مقام المكالمة بقي في قلبه عجب فأراه الله تعالى أنه بعد في النقص الإمكاني ولم يفارق عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من عند الله تعالى وحده. * (واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء) * (طه: 22) أراد سبحانه أن يريه أية نفسية بعد أن أراه عليه السلام آية آفاقية كما قال سبحانه: * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * (فصلت: 53) وهذا من نهاية عنايته جل جلاله: وقد ذكروا في هذه القصة نكات وإشارات. منها أنه سبحانه لما أشار إلى العصا واليمين بقوله تعالى: * (وما تلك بيمينك) * (طه: 17) حصل في كل منهما برهان باهر ومعجز قاهر فصار أحدهما وهو الجماد حيوانا والآخر وهو الكثيف نورانيا لطيفا. ثم أنه تعالى ينظر في كل يوم ثلثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب أن ينقلب قلبه الجامد المظلم حيا مستنيرا، ومنها أن العصا قد استعدت بيمين يمين موسى عليه السلام للحياة وصارت حية فيكق لا يستعد قلب المؤمن الذي هو بين أصبعين من أصابع الرحمن للحياة ويصير حيا. ومنها إن العصا بإشارة واحدة صارت بحيث ابتلعت سحر السحرة فقلب المؤمن أولى أن يصير بمدد نظر الرب في كل يوم مرات بحيث يبتلع سحر النفس الامارة بالسوء، ومنها أن قوله تعالى أولا: * (أخلع نعليك) * (طه: 12) إشارة إلى التخلية وتطهير لوح الضمير من الاغيار وما بعده إشارات إلى التحلية وتحصيل ما ينبغي تحصيله. وأشار سبحانه إلى علم المبتدأ بقوله تعالى: * (إنني أنا الله) * وإلى علم الوسط بقوله عز وجل * (فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى) * (طه: 14) وفيه إشارة إلى الأعمال الجسمانية والروحانية وإلى علم المعاد بقوله سبحانه * (إن الساعة آتية) * ومنها أنه تعالى افتتح الخطاب بقوله عز قائلا: * (وأنا اختترتك) * وهو غاية اللطف وختم الكلام بقوله جل وعلا: * (فلا يصدنك عنها - إلى - فتردى) * (طه: 16) وهو قهر تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه وأن العبد لا بد أن يكون سلوكه على قدمي الرجاء والخوف، ومنها أن موسى عليه السلام كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب فأمر بترك ما فيهما تنبيها على أن السالك ما دام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلا بنفسه وطالبا لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان وفيه أن موسى عليه السلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن لو الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه وحضرته جل جلاله. واستشكلت هذه الآية من حيث أنها تدل على أن الله تعالى خاطب موسى عليه السلام بلا واسطة وقد خاطب نبينا صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام فيلزم مزيه الكليم على الحبيب عليهما الصلاة والسلام. والجواب أنه تعالى شأنه قد خاطب نبينا صلى الله عليه وسلم أيضا بلا واسطة ليلة المعراج غاية ما في البال أنه تعالى خاطب موسى عليه السلام في مبدأ رسالته بلا واسطة وخاطب حبيبه عليه الصلاة والسلام في مبدأ رسالته بواسطة ولا يثبت بمجرد ذلك المزية على أن خطابه لحبيبه الأكرم صلى الله عليه وسلم بلا واسطة كان مع كشف الحجاب ورؤيته عليه الصلاة والسلام إياه على وجه لم يحصل لموسى عليه السلام وبذلك يجبر ما يتوهم في تأخير الخطاب بلا واسطة عن مبدى الرسالة. وانظر إلى الفرق بين قوله تعالى: عن نبينا صلى الله عليه وسلم: * (ما زاغ البصر وما طغى) * (النجم: 17) وقوله عن موسى عليه السلام: " قال هي عصاي " الخ ترى الفرق واضحا بين الحبيب والكليم مع أن لكل رتبة التكريم صلى الله عليه وسلم.
وذكر بعضهم أن في الآيات ما يشعر بالفرق بينهما أيضا عليهما الصلاة والسلام من وجه آخر وذلك
211

أن موسى عليه السلام كان يتوكأ على العصا والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتكل على فضل الله تعالى ورحمته قائلا مع أمته وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولذا ورد في حقه * (حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * (الأنفال: 64) على معنى وحسب من اتبعك. وأيضا إنه عليه السلام بدأ بمصالح نفسه في قوله: * (أتوكأ عليها) * ثم مصالح رعيته بقوله: * (وأهش بها على غنمي) * (طه: 18) والنبي صلى الله عليه وسلم لم يشتغل إلا باصلاح أمر أمته اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون، فلا جرم يقول موسى عليه السلام يوم القيامة. نفسي نفسي والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أمتي أمتي " انتهى، وهو مأخوذ من كلام الإمام بل لا فرق إلا بيسير جدا. ولعمري أنه لا ينبغي أن يقتدي به في مثل هذا الكلام كما لا يخفى على ذوي الأفهام. وإنما نقلته لأنبه على عدم الاغترار به نعود بالله تعالى من الخذلان * (رب اشرح لي صدري) * (طه: 25) لم يذكر عليه السلام بم يشرح صدره وفيه احتمالات.
قال بعض الناس: إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور. الأول ذاته جل شأنه * (الله نور السموات والأرض) * (النور: 35) الثاني الرسول صلى الله عليه وسلم: * (قد جاءكم من الله نور وكتاب) * (المائدة: 15)، الثالث الكتاب * (اتبعوا النور الذي أنزل معه) * (الأعراف: 157)، الرابع الإيمان: * (يريدون
أن يطفئوا نور الله) * (التوبة: 32) الخامس عدل الله تعالى: * (وأشرقت الأرض بنور ربها) * (الزمر: 69) السادس القمر * (وجعل القمر نورا) * (النوح: 16) السابع النهار * (وجعل الظلمات والنور) * (الأنعام: 1).
الثامن البينات * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) *. التاسع الأنبياء عليهم السلام " نور على نور "؛ العاشر المعرفة " مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " (النور: 35) فكان موسى عليه السلام قال أولا * (رب اشرح لي صدري) * (طه: 25) بمعرفة أنوار جلال كبريائك، وثانيا * (رب اشرح لي صدري) * بالتخلق بأخرق رسلك وأنبيائك، وثالثا * (رب اشرح لي صدري) * باتباع وحبيك وامتثال أمرك ونهيك، ورابعا * (رب اشرح لي صدري) * بنور الإيمان والايقان بالهيتك، وخامسا * (رب اشرح لي صدري) * بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك.
وسادسا * (رب اشرح لي صدري) * بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه السلام، وسابعا * (رب اشرح لي صدري) * من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل قهرك، وثامنا " رب اشرح لي صدري " بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمواتك، وتاسعا * (رب اشرح لي صدري) * في أن أكون خلف صدق للأنبياء المتقدمين ومشابها لهم في الانقياد لحكم رب العالمين، وعاشرا * (رب اشرح لي صدري) * بأن يجعل سراح الإيمان كالمشكاة التي فيها المصباح انتهى.
ولا يخفى ما بين أكثر ما ذكر من التلازم واغناء بعضه عن بعض، وقال أيضا: إن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير كالسراج، ولا يخفى أن مستوقد السراج مجتاح إلى سبعة أشياء زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن، فالزند زند المجاهدة * (والذين جاهدوا وافينا) * (العنكبوت: 69) والحجر حجر التضرع * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية (الأعراف: 55) والحراق منع الهوى ونهى النفس عن الهوى والكبريت الإنابة * (وأنيبوا إلى ربكم) * (الزمر: 54) والمسرحة الصبر * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * (البقرة: 45) والفتيلة الشكر و * (لئن شكرتم لأزيدنكم) * (إبراهيم 7) والدهن الرضا * (واصبر لحكم ربك) * (الطور: 48) أي ارض بقضائه، ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن تطلب المقصود من حضرة ربك جل وعلا قائلا: * (رب اشرح لي صدري) * فهنالك تسمع * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) * (طه: 36) ثم إن هذا النور الروحاني أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه، الأول أن الشمس يحجبها الغيم وشمس المعرفة لا تحجبها السموات السبح " إليه يصعد الكلم الطيب ". الثاني الشمس تغيب
212

ليلا وشمس المعرفة لا تغيب ليلا: * (إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قليلا) * (المزمل: 6) والمستغفرين بالأسحار سبحان الذي أسري بعبده ليلا ". الليل للعاشقين ستر * يا ليت أوقاته تدوم
الثالث الشمس تفنى * (إذا الشمس كورت) * والمعرفة لا تفنى. أصلها ثابت وفرعها في السماء * (سلام قولا من رب رحيم) *، الرابع الشمس إذا قابلها القمر انكسفت، وشمس المعرفة وهي * (أشهد أن لا إله إلا الله) * إذا لم تقرن بقمر النبوة وهي أشهد أن محمدا رسول الله لم يصل النور إلى عالم الجوارح، الخامس الشمس تسود الوجوه والمعرفة تبيض الوجوه * (يوم تبيض وجوه) *، السادس الشمس تصدع والمعرفة تصعد.
السابع الشمس تحرق والمعرفة تمنع من الاحراف * (جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي) * الثامن الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفتعتها في الدارين * (فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * التاسع الشمس فوقانية الصورة تحتانية المعنى والمعارف الإلهية بالعكس، العاشر الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي، الحادس عشر الشمس ترعف أحوال الخلق والمعرفة توصل القلب إلى الخالق، ولما كان شرح الصدر الذي هو أول مراتب الروحانيات أشرف من أعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى عليه السلام بطلبه قائلا * (رب اشرح لي صدري * (وعلامة شرح الصدر ودخول النور الإلهي فيه التجافي عن دار الغرور والرغبة في دار الخلود وشبهوا الصدر بقلعة وجعلوا الأول كالخندق لها والثاني كالسور فمتى كان الخندق عظيما والسور محكما عجز عسكر الشيطان من الهوى والكبر والعجب والبخل وسوء الظن بالله تعالى وسائر الخصال الذميمة ومتى لم يكونا كذلك دخل العسكر وحينئذ ينحصر الملك في قصر القلب ويضيق الأمر عليه.
وفرقوا بين الصدر والقلب والفؤاد واللب بأن الصدر مقر الإسلام * (أفمن شرح الله صدره للإسلام) * (الزمر: 22) والقلب مقر الإيمان * (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) * (الحجرات: 7) * (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) * (المجادلة: 22) والفؤاد مقر المشاهدة * (ما كذب الفؤاد ما رأى) * (النجم: 11) واللب مقام التوحيد * (إنما يتذكر أولوا الألباب) * (الرعد: 19) أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي وبقوا بلب الوجود الحقيقي؛ وإنما سأل موسى عليه السلام شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس وأيضا شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والحر تكفيه الإشارة، فإذا علم المولى سبحانه أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة. وأيضا أنه عليه السلام راعي الأدب في الطلب فاقتصر على طلب الأدنى فلا جرم أعطى المقصود فقيل: * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) * (طه: 6) ولما اجترأ في طلب الرؤية، قيل له: * (لن تراني) *، ولا يخفى ما بين قول موسى عليه السلام لربه عز وجل * (رب اشرح لي صدري) * (طه: 25) وقول الرب لحبيبه صلى الله عليه وسلم * (ألم نشرح لك صدرك) * (الشرح: 1) ويعلم منه أن الكليم عليه السلام مريد والحبيب صلى الله عليه وسلم مراد والفرق مثل الصبح ظاهر.
ويزيد الفرق ظهورا أن موسى عليه السلام في الحضرة الإلهية طلب لنفسه ونبينا صلى الله عليه وسلم حين قيل له هناك السلام عليك أيها النبي قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقد أطال الإمام الكلام في هذه الآية بما هو من هذا النمط فارجع إليه إن أردته * (واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي) * (طه: 27، 28) كأنه عليه السلام طلب قدرة التعبير عن الحقائق الإلهية بعبارة واضحة فإن المطلب وعر لا يكاد توجد له عبارة تسهله حتى يأمن سامعه عن العثار. ولذا ترى كثيرا من
الناس ضلوا بعبارات بعض الأكابر من الصوفية
213

في " شرح الأسرار الألهية " وقيل: إنه عليه السلام سأل حل عقدة الحياء فإأنه استحيا أن يخاطب عدو الله تعالى بلسان به خاطب الحق جل وعلا. ولعله أراد من القول المضاف القول الذي به ارشاد للعباد فإن همة العارفين لا تطلب النطق والمكالمة مع الناس فيما لا يحصل به ارشاد لهم نعم النطق من حيث هو فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال سبحانه: * (الرحمن * علم القرءان * خلق الإنسان * علمه البيان) * (الرحمن: 1 - 4) من غير توسيط عاطف. وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة، وقال رضي الله عنه: المرء مخبوء تحت طي لسانه لا طيلسانه، وقال رضي الله تعالى عنه: المرء باصغريه قلبه ولسانه، وقال زهير: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده * فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
ومن الناس من مدح الصمت لأنه أسلم. يموت الفتى من عثرة بلسانه * وليس يموت المرء من عثرة الرجل
وفي نوابغ الكلم ق فاك لا يقرع قفاك، والإنصاف أن الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والمنطق في نفسه فضيلة لكن قد يصير رذيلة لأسباب عرضية، فالحق ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: " رحم الله تعالى امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم ". وذكر في وجه عدم طلبه عليه السلام الفصاحة الكاملة أنها نصيب الحبيب عليه الصلاة والسلام، فقد كان صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد فما كان له أن يطلب ما كان له * (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزرى وأشركه في أمري) * فيه إشارة إلى فضيلة التعاون في الدين فإنه من أخلاق المرسلين عليهم صلوات الله تعالى وسلامه أجمعين، والوزارة المتعارفة بين الناس ممدوحة إن زرع الوزير في أرضها ما لا يندم عليه وقت حصاده بين يدي ملك الملوك، وفيه إشارة أيضا إلى فضيلة التوسط بالخير للمستحقين لا سيما إذا كانوا من ذوي القرابة. ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وفي تقديم موسى عليه السلام مع أنه أصغر سنا على هارون عليه السلام مع أنه الأكبر دليل على أن الفضل غير تابع للسن فالله تعالى يختص بفضله من يشاء * (إنك كنت بنا بصيرا) * (طه: 35) في ختم الأدعية بذلك من حسن الأدب مع الله تعالى ما لا يخفى، وهو من أحسن الوسائل عند الله عز وجل. ومن آثار ذلك استجابة الدعاء * (ولقد مننا عليك مرة أخرى) * (طه: 37) تذكير له عليه السلام بما يزيد إيقائه، وفيه إشارة إلى أنه تعالى لا يريد بعد القبول ولا يحرم بعد الإحسان، ومن هنا قيل: إذا دخل الإيمان القلب أمن السلب وما رجع من رجع إلا من الطريق دواصطنعتك لنفسي) * (طه: 41) أفردتك لي بالتجريد فلا يشغلك عني شيء فلبثت سنين في أهل مدين أشير بذلك إلى خدمته لشعيب عليه السلام وذلك تربية منه تعالى له بصحبة المرسلين ليكون متخلقا بأخلاقهم متحليا بآدابهم صالحا للحضرة. ولصحبة الأخيار نفع عظيم عند الصوفية وبعكس ذلك صحبة الأشرار * (ثم جئت على قدر يا موسى) * (طه: 40) وذلك زمان كمال الاستعداد ووقت بعثة الأنبياء عليهم السلام وهو زمن بلوغهم أربعين سنة، ومن بلغ الأربعين ولم يغلب خيره على شره فلينح على نفسه وليتجهز إلى النار * (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) * (طه: 43) جاوز الحد في المعصية حتى ادعى الربوبية وذلك أثر سكر القهر الذي هو وصف النفس الأمارة ويقابله سكر اللطف وهو وصف الروح ومنه ينشأ الشطح ودعوى الأنانية قالوا: وصاحبه معذور
214

وإلا لم يكن فرق بين الحلاج مثلا وفرعون. وأهل الغيره بالله تعالى يقولون: لا فرق * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44) فيه إشارة إلى تعليم كيفية الإرشاد، وقال النهر جوري: إن الأمر بذلك لأنه أحسن إلى موسى عليه السلام في ابتداء الأمر ولم يكافئه * (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) * (طه: 55) إشارة إلى الهياكل وأقفاص بلابل الأرواح وإلا فالأرواح أنفسها من عالم الملكوت، وقد أشرقت على هذه الأشباح * (وأشرقت الأرض بنور ربها) * (الزمر: 69) والله تعالى أعلم.
وقد تأول بعض أهل التأويل هذه القصة والآيات على ما في الأنفس وهو مشرب قد تركناه إلا قليلا. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
* (ولقد أرين‍اه ءاي‍اتنا كلها فكذب وأبى) *
* (ولقد أريناه) * حكاية أخرى إجمالية لما جري بين موسى عليه السلام وفرعون عليه اللعنة. وتصديرها بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها. والاراءة من الرؤية البصرية المتعدية إلى مفعول واحد وقد تعدت إلى ثان بالهمزة أو من الرؤية القلبية بمعنى المعرفة وهي أيضا متعدية إلى مفعول واحد بنفسها وإلى آخر بالهمزة، ولا يجوز أن تكون من الرؤية بمعنى العلم المتعدي إلى اثنين بنفسه وإلى ثالث بالهمزة لما يلزمه من حذف المفعول الثالث من الأعلام وهو غير جائز.
وإسناد الاراءة إلى ضمير العظمة نظرا إلى الحقيقة لا إلى موسى عليه السلام نظرا إلى الظاهر لتهويل أمر الآيات وتفخيم شأنها وإظهار كمال شناعة اللعين وتماديه في الطغيان. وهذا الإسناد يقوي كون ما تقدم من قوله تعالى: * (الذي) * الخ من كلامه عز وجل أي بالله لقد بصرنا فرعون أو عرفناه * (ءاياتنا) * حين قال لموسى عليه السلام: إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين. وصيغة الجمع مع كونهما اثنتين إما لأن إطلاق الجمع على الاثنين شائع على ما قيل أو باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون وقد ظهر عند فرعون أمور أخر كل منها داهية دهياء. فإنه روي أنه عليه السلام لما ألقاها انقلبت ثعبانا أشعر فاغرافاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر فتوجه نحو فرعون فهرب وأحدث فانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك إلا أخذته فأخذه فعاد عصا. وقد تقدم نحوه عن وهب بن منبه، وروي أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت ويقول فرعون: أنشدك الخ ونزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين بياضا نورانيا خارجا عن حدود العادات قد غلب شعاعه شعاع الشمس يجتمع عليه النظارة تعجبا من أمره
ففي تضاعيف كل من الآيتين آيات جمة لكنها لما كانت غير مذكورة صريحا أكدت بقوله تعالى: * (كلها) * كأنه قيل: أريناه آياتنا بجميع مستتبعاتها وتفاصيلها قصدا إلى بيان أنه لم يبق في ذلك عذر ما. والإضافة على ما قرر للعهد. وأدرج بعضهم فيها حل العقدة كما أدرجه فيها في قوله تعالى: * (اذهب أنت وأخوك بآياتي) * وقيل: المراد بها آيات موسى عليه السلام التسح كما روي عن ابن عباس فيما تقدم والإضافة للعهد أيضا. وفيه أن أكثرها إنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة. ولا ريب في أن أمر السحرة مترقب بعد، وعد بعضهم منها ما جعل لآهلاكهم لا لإرشادهم إلى الإيمان من فلق البحر وما ظهر من بعد مهلكه من الآيات الظاهرة
215

لبني اسرائيل من نتق الجبل والحجر الذي انفجرت منه العيون. وعد آخرون منها الآيات الظاهرة على أيدي الأنبياء عليه السلام وحملوا الإضافة على استغراق الأفراد. وبنى الفريقان ذلك على أنه عليه السلام قد حكى جميع ما ذكر لفرعون وتلك الحكاية في حكم الإظهار والإراءة لاستحالة الكذب عليه عليه السلام. ولا يخفى أن حكايته عليه السلام تلك الآيات مما لم يجر لها ذكر ههنا مع أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى من حمل ما أظهره عليه السلام على السحر والتصدي للمعارضة بالمثل مما يبعد ذلك جدا. وأبعد من ذلك كله ادراج ما فصله عليه السلام من أفعاله تعالى الدالة على اختصاصه سبحانه بالربوبية وأحكامها في الآيات، وقيل: الإضافة لاستغراق الأنواع و * (كل) * تأكيد له أي أريناه أنواع آياتنا كلها، والمراد بالآيات المعجزات وأنواعها وهي كما قال السخاوي: ترجع إلى إيجاد معدوم أو اعدام موجود أو تغييره مع بقائه وقد أرى اللعين جميع ذلك في العصا واليد وفي الانحصار نظر ومع الاغماض عنه لا يخلو ذلك عن بعد، وزعمت الكشفية أن المراد من الآيات علي كرم الله تعالى وجهه أظهره الله تعالى لفرعون راكبا على فرس وذكروا من صفتها ما ذكروا. والجمع كما في قوله تعالى: * (آيات بينات مقام إبراهيم) * وظهور بطلانه يغني عن التعرض لرده.
والفاء في قوله تعالى: * (فكذب) * للتعقيب والمفعول محذوف أي فكذب الآيات أو موسى عليه السلام من غير تردد وتأخير * (وأبى) * أي قبول الآيات أو الحق أو الإيمان والطاعة أي امتنع عن ذلك غاية الامتناع وكان تكذيبه وإيائه عند الأكثرين جحودا واستكبارا وهو اوفق بالذم. ومن فسر أرينا بعرفنا وقدر مضافا أي صحة آياتنا وقال: إن التعريف يوجب حصول المعرفة قال بذلك لا محالة. [بم وقوله تعالى:
* (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى) *
* (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى) * استئناف مبين لكيفية تكذيبه وإبائه. والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه، وزعم أنه أمر محال والمجيء إما على حقيقته أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له أي أجيتنا من مكانك الذي كنت فيه بعد ما غبت عنا أو أقبلت علينا لتخرجنا من مصر بما أظهرته من السحر وهذا مما لا يصدر عن عاقل لكونه من باب محاولة المحال، وإنما قال ذلك ليحمل قومه على غاية المقت لموسى عليه السلام بإبراز أن مراده ليس مجرد إنجاء بني إسرائيل من أيديهم بل إخراج القبط من وطنهم وحيازة أموالهم وأملاكهم بالكلية حتى لا يتوجه إلى اتباعه أحد ويبالغوا في المدافعة والمخاصمة إذ الإخراج من الوطن أخو القتل كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم) * (النساء: 66) وسمى ما أظهره الله تعالى من المعجزة الباهرة سحرا لتجسيرهم على المقابلة. ثم ادعى أنه يعارضه بمثله فقال:
* (فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى) *
* (فلنئتينك بسحر مثله) * والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام واقعة في جواب قسم محذوف كأنه قيل: إذا كان كذلك فوالله لناتينك بسحر مثل سحرك * (فاجعل بيننا وبينك موعدا) * أي وعدا على أنه مصدر ميمي وليس باسم زمان ولا مكان لأن الظاهر أن قوله تعالى: * (لا نخلفه) * صفة له والضمير المنصوب عائد إليه. ومتى كان زمانا أو مكانا لزم تعلق الاخلاف بالزمان أو المكان وهو إنما يتعلق بالوعد يقال: أخلف وعده لا زمان وعده ولا مكانه أي لا نخلف ذلك الوعد * (نحن ولا أنت) * وإنما فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى عليه السلام للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيق الحال وإظهار الجلادة
216

وإراءة أنه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة وترتيب آلات المغالبة طال الأمد أم قصر كما أن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه السلام وتوسيط كلمة النفي بينهما للإيذان بمسارعته إلى عدم الإخلاف وإن عدم إخلافه لا يوجب عدم إخلافه عليه السلام ولذلك أكد النفي بتكرير حرفه.
وقرأ أبو جعفر. وشيبة * (لا نخلفه) * بالجزم على أنه جواب للأمر أي إن جعلت ذلك لا نخلفه * (مكانا سوى) * أي منصفا بيننا وبينك كما روي عن مجاهد. وقتادة أي محلا واقعا على نصف المسافة بيننا سواء بسواء، وهذا معنى قول أبي علي قربه. منكم كقربه منا، وعلى ذلك قول الشاعر. وإن أبانا كان حل بأهله * سوى بين قيس قيس غيلان والفزر
أو محل نصف أي عدل كما روي عن السدي لأن المكان إذا لم يترجح قربه من جانب على آخر كان معدلا بين الجانبين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: أي مكانا مستويا من الأرض لا وعر فيه ولا جبل ولا أكمة ولا مطمئن بحيث يستر الحاضرين فيه بعضهم عن بعض ومراده مكانا يتبين الواقفون فيه ولا يكون فيه ما يستر أحدا منهم ليرى كل ما يصدر منك ومن السحرة. وفيه من إظهار الجلادة وقوة الوثوق بالغلبة ما فيه، وهذا المعنى عندي حسن جدا وإليه ذهب جماعة، وقيل: المعنى مكانا تستوي حالنا فيه وتكون المنازل فيه واحدة لا تعتبر فيه رياسة ولا تؤدي سياسة بل يتحد هناك الرئيس والمرؤوس والسائس والمسوس ولا يخلو عن حسن، وربما يرجع إلى معنى منصفا أي محل نصف وعدل.
وقيل: * (سوى) * بمعنى غير والمراد مكانا غير هذا المكان وليس بشيء لأن سوى بهذا المعنى لا تستعمل إلا مضافة لفظا ولا تقطع عن الإضافة، وانتصاب * (
مكانا) * على أنه مفعول به لفعل مقدر يدل عليه * (موعدا) * أي عد مكانا لا لموعدا لأنه كما قال ابن الحاجب: مصدر قد وصف والمنصوب بالمصدر من تتمته ولا يوصف الشيء إلا بعد تمامه فكان كوصف الموصول قبل تمام صلته وهو غير سائغ.
وعن بعض النحاة أنه يجوز وصف المصدر قبل العمل مطلقا وهو ضعيف، وقال ابن عطية: يجوز وصفه قبل العمل إذا كان المعمول ظرفا لتوسعهم فيه ما لم يتوسعوا في غيره، ومن هنا جوز بعضهم أن يكون * (مكانا) * منصوبا على الظرفية بموعدا. ورد بأن شرط النصب على الظرفية مفقود فيه، فقد قال الرضي: يشترط في نصب * (مكانا) * على الظرفية أن يكون في عامله معنى الاستقرار في الظرف كقمت وقعدت وتحركت مكانك فلا يجوز نحو كتبت الكتابة مكانك وقتلته وشتمته مكانك، وتعقب بأن ما ذكره الرضي غير مسلم إذ لا مانع من قولك لمن أراد التقرب منك ليكلمك: تكلم مكانك، نعم لا يطرد حسن ذلك في كل مكان، ويجوز أن يكون ظرفا لقوله تعالى: * (لا نخلفه) * على أنه مضمن معنى المجىء أو الإتيان، وجوز أن يكون ظرفا لمحذوف وقع حالا من فاعل * (نخلفه) * ويقدر كونا خاصا لظهور القرينة أي آتين أو جائين مكانا.
وقرأ أبو جعفر. ونافع. وابن كثير. وأبو عمرو * (سوى) * بكسر السين والتنوين وصلا، وقرأ باقي السبعة بالضم والتنوين كذلك، ووقف أبو بكر. وحمزة. والكسائي بالإمالة. وورش. وأبو عمرو بين بين.
وقرأ الحسن في رواية كباقي السبعة إلا أنه لم ينون وقفا ووصلا، وقرأ عيسى كالأولين إلا أنه لم ينون
217

وقفا ووصلا أيضا، ووجه عدم التنوين في الوصل إجراؤه مجرى الوقف في حذف التنوين والضم والكسر كما قال محيي السنة. وغيره لغتان في سوى مثل عدي وعدي.
وذكر بعض أهل اللغة أن فعلا بكسر الفاء مختص بالأسماء الجامدة كعنب ولم يأت منه في الصفة إلا عدا جمع عدو، وزاد الزمخشري سوى. وغيره روي بمعنى مرو، وقال الأخفش: سوى مقصور إن كسرت سينه أو ضممت وممدود إن فتحت ففيه ثلاث لغات ويكون فيها جميعا بمعنى غير وبمعنى عدل ووسط بين الفريقين، وأعلى اللغات على ما قال النحاس سوى بالكسر.
* (قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) *
* (قال) * أي موسى عليه السلام، قال في " البحر ": وأبعد من قال إن القائل فرعون ولعمري أنه لا ينبغي أن يلتفت إليه، وكأن الذي اضطر قائله الخبر السابق عن وهب بن منبه فليتذكر * (موعدكم يوم الزينة) * هو يوم عيد كان لهم في كل عام يتزينون فيه ويزينون أسواقهم كما روي عن مجاهد. وقتادة، وقيل: يوم النيروز وكان رأس سنتهم.
وأخرج سعيد بن منصور. وعبد بن حميد. وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يوم عاشوراء وبذلك فسر في قوله صلى الله عليه وسلم: " من صام يوم الزينة أدرك ما فاته من صيام تلك السنة ومن تصدق يومئذ بصدقة أدرك ما فاته من صدقة تلك السنة "، وقيل: يوم كسر الخليج، وفي " البحر " أنه باق إلى اليوم، وقيل: يوم سوق لهم، وقيل: يوم السبت وكان يوم راحة ودعة فيما بينهم كما هو اليوم كذلك بين اليهود، وظاهر صنيع أبي حيان اختيار أنه يوم عيد صادف يوم عاشوراء، وكان يوم سبت.
والظاهر أن الموعد ههنا اسم زمان للإخبار عنه بيوم الزينة أي زمان وعدكم اليوم المشتهر فيما بينكم، وإنما لم يصرح عليه السلام بالوعد بل صرح بزمانه مع أنه أول ما طلبه اللعين منه عليه السلام للإشارة إلى أنه عليه السلام أرغب منه فيه لما يترتب عليه من قطع الشبهة وإقامة الحجة حتى كأنه وقع منه عليه السلام قبل طلبه إياه فلا ينبغي له طلبه، وفيه إيذان بكمال وثوقه من أمره، ولذا خص عليه السلام من بين الأزمنة يوم الزينة الذي هو يوم مشهود وللاجتماع معدود، ولم يذكر عليه السلام المكان الذي ذكره اللعين لأنه بناء على المعنى الأول والثالث فيه إنما ذكره اللعين إيهاما للتفضل عليه عليه السلام يريد بذلك إظهار الجلادة فاعرض عليه السلام عن ذكره مكتفيا بذكر الزمان المخصوص للإشارة إلى استغنائه عن ذلك وأن كل الأمكنة بعد حصول الاجتماع بالنسبة إليه سواء. وأما على المعنى الثاني فيحتمل أنه عليه السلام اكتفى عن ذلك بما يستدعيه يوم الزينة فإن من عادة الناس في الأعياد في كل وقت وكل بلد الخروج إلى الأمكنة المستوية والاجتماع في الأرض السهلة التي لا يمنع فيها شيء عن رؤية بعضهم بعضا، وبالجملة قد أخرج عليه الصلاة والتسليم جوابه على الأسلوب الحكيم، ولله تعالى در الكليم ودره النظيم، وقيل: الموعد ههنا مصدر أيضا ويقدر مضاف لصحة الأخبار أي وعدكم وعد يوم الزينة، ويكتفي عن ذكر المكان بدلالة يوم الزينة عليه، وقيل: الموعد في السؤال اسم مكان وجعله مخلفا على التوسع كما في قوله: ويوما شهدنا أو الضمير في * (لا نخلفه) * للوعد الذي تضمنه اسم المكان على حد * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) * (المائدة: 8) أو للموعد بمعنى الوعد على طريق الاستخدام، والجملة في الاحتمالين معترضة.
ولا يجوز أن تكون صفة إذ لا بد في جملة الصفة من ضمير يعود على الموصوف بعينه، والقول بحذفه ليس بشيء
218

* (ومكانا) * على ما قال أبو علي مفعول ثان لأجعل، وقيل: بدل أو عطف بيان، والموعد في الجواب اسم زمان ومطابقة الجواب من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس يومئذ فيه أو هو اسم مكان أيضا ومعناه مكان وقوع الموعود به لا مكان لفظ الوعد كما توهم ويقدر مضاف لصحة الإخبار أي مكان يوم الزينة والمطابقة ظاهرة، وقيل: الموعد في الأول مصدر إلا أنه حذف منه المضاف أعني مكان وأقيم هو مقامه ويجعل * (مكانا) * تابعا للمقدر أو مفعولا ثانيا؛ وفي الثاني إما اسم زمان ومعناه زمان وقوع الموعود به لا لفظ الوعد كما يرشد إليه قوله: قالوا الفراق فقلت موعده غد
والمطابقة معنوية وإما اسم مكان، ويقدر مضاف في الخبر والمطابقة ظاهرة كما سمعت، وإما مصدر أيضا ويقدر مضافان أحدهما في جانب المبتدأ والآخر في جانب الخبر أي مكان وعدكم مكان يوم الزينة وأمر المطابقة لا يخفى، وقيل: يقدر في الأول مضافان أي مكان إنجاز وعدكم أو مضاف واحد لكن تصير الإضافة لأدنى ملابسة، والأظهر تأويل المصدر بالمفعول وتقدير مضاف في الثاني أي موعودكم مكان يوم الزينة وهو مبني على توهم باطل أشرنا إليه، وقيل: هو في الأول والثاني اسم زمان و * (لا نخلفه) * من باب الحذف والإيصال والأصل لا نخلف فيه و * (مكانا) * ظرف لا جعل وإلى هذا أشار في " الكشف " فقال: لعل الأقرب مأخذا أن يجعل المكان مخلفا على الاتساع والطباق من حيث المعنى أو المعنى اجعل بيننا وبينك في مكان سوى منصف زمان وعد لا نخلف فيه فالمطابقة حاصلة لفظا ومعنى و * (مكانا) * ظرف لغو انتهى.
واعترض بما لا يخفى رده على من أحاط خبرا بأطراف كلامنا. وأنت تعلم أن الاحتمالات في هذه الآية كثيرة جدا والأولى منها ما هو أوفق بجزالة التنزيل مع قلة الحذف والخلو عن نزع الخف قبل الوصول إلى الماء فتأمل.
وقرأ الحسن. والأعمش. وعاصم في رواية. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة. وقتادة. والجحدري، وهبيرة. والزعفراني * (يوم الزينة) * بنصب * (يوم) * وهو ظاهر في أن المراد بالموعد المصدر لأن المكان والزمان لا يقعان في زمان بخلاف الحدث، أما الأول فلأنه لا فائدة فيه لحصوله في جميع الأزمنة؛ وأما الثاني فلأن الزمان لا يكون ظرفا للزمان ظرفية حقيقية لأنه يلزم حلول الشيء في نفسه، وأما مثل ضحى اليوم في اليوم فهو من ظرفية الكل لأجزائه وهي ظرفية مجازية وما نحن فيه ليس من هذا القبيل كذا قيل وفيه منع ظاهر.
وقيل: إنه يستدل بظاهر ذلك على كون الموعد أولا مصدرا أيضا لأن الثاني عين الأول لإعادة النكرة معرفة، وفي " الكشف " لعل الأقرب مأخذا على هذه القراءة أن يجعل الأول زمانا، والثاني مصدرا أي وعدكم كائن يوم الزينة.
والجواب مطابق معنى دون تكلف إذ لا فرق بين زمان الوعد يوم كذا رفعا وبين الوعد يوم كذا نصبا في الحاصل بل هو من الأسلوب الحكيم لاشتماله على زيادة، وقوله تعالى: * (وأن يحشر الناس ضحى) * عطف على الزينة، وقيل: على يوم، والأول أظهر لعدم احتياجه إلى التأويل، وانتصب * (ضحى) * على الظرف وهو ارتفاع النهار ويؤنث ويذكر، والضحاء بفتح الضاد ممدود مذكر، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى.
وجوز على القراءة بنصب * (يوم) * أن يكون * (موعدكم) * مبتدأ بتقدير وقت مضاف إليه على أنه من باب أتيتك خفوق النجم، والظرف متعلق به و * (ضحى) * خبره على نية التعريف فيه لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه
219

ولو لم يعرف لم يكن مطابقا لمطلبهم حيث سألوه عليه السلام موعدا معينا لا يخلف وعده، وقيل: يجوز أن يكون الموعد زمانا و * (ضحى) * خبره و * (يوم الزينة) * حالا مقدما وحينئذ يستغني عن تعريف ضحى وليس بشيء ثم إن هذا التعريف بمعنى التعيين معنى لا على معنى جعل * (ضحى) * أحد المعارف الاصطلاحية كما قد يتوهم.
وقال الطيبي: قال ابن جني: يجوز أن يكون * (أن يحشر) * عطفا على الموعد كأنه قيل: إنجاز موعدكم وحشر الناس ضحى في يوم الزينة. وكأنه جعل الموعد عبارة عما يتجدد في ذلك اليوم من الثواب والعقاب وغيرهما سوى الحشر ثم عطف الحشر عليه عطف الخاص على العام اه‍ وهو كما ترى.
وقرأ ابن مسعود. والجحدري. وأبو عمران الجوني. وأبو نهيك. وعمرو بن قائد * (تحشر الناس) * بتاء الخطاب ونصب * (الناس) * والمخاطب بذلك فرعون. وروي عنهم أنهم قرأوا بياء الغيبة ونصب * (الناس) * والضمير في * (يحشر) * على هذه القراءة إما لفرعون وجىء به غائبا على سنن الكلام مع الملوك، وإما لليوم والإسناد مجازي كما في صام نهاره، وقال صاحب اللوامح: الفاعل محذوف للعلم به أي وأن يحشر الحاشر الناس.
وأنت تعلم أن حذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين، نعم قيل في مثله: إن الفاعل ضمير يرجع إلى اسم الفاعل المفهوم من الفعل.
* (فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى) *
* (فتولى فرعون) * أي انصرف عن المجلس، وقيل: تولى الأمر بنفسه وليس بذاك. وقيل: أعرض عن قبول الحق وليس بشيء * (فجمع كيده) * أي ما يكاد به من السحرة وأدواتهم أو ذوي كيده * (ثم أتى) * أي الموعد ومعه ما جمعه. وفي كلمة التراخي إيماء إلى أنه لم يسارع إليه بل أتاه بعد بطء وتلعثم، ولم يذكر سبحانه إتيان موسى عليه السلام بل قال جل وعلا:
* (قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى) *
* (قال لهم موسى) * للإيذان بأنه أمر محقق غني عن التصريح به، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا صنع موسى عليه السلام عند إتيان فرعون بمن جمعه من السحرة. فقيل: قال لهم بطريق النصيحة * (ويلكم لا تفتروا على الله كذبا) * بأن تدعوا آياته التي ستظهر على يدي سحرا كما فعل فرعون * (فيسحتكم) * أي يستأصلكم بسبب ذلك.
* (بعذاب) * هائل لا يقادر قدره. وقرأ جماعة من السبعة. وابن عباس * (فيسحتكم) * بفتح الياء والحاء من الثلاثي على لغة أهل الحجاز والإسحات لغة نجد وتميم، وأصل ذلك استقصاء الحلق للشعر ثم استعمل في الإهلاك والاستئصال مطلقا * (وقد خاب من افترى) * أي على الله تعالى كائنا من كان بأي وجه كان فيدخل فيه الافتراء المنهي عنه دخولا أوليا أو قد خاب فرعون المفترى فلا تكونوا مثله في الخيبة وعدم نجح الطلبة، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها.
* (فتن‍ازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى) *
* (فتنازعوا) * أي السحرة حين سمعوا كلامه عليه السلام كأن ذلك غاظهم فتنازعوا * (أمرهم) * الذي أريد منهم من مغالبته عليه السلام وتشاوروا وتناظروا * (بينهم) * في كيفية المعارضة وتجاذبوا أهداب القول في ذلك * (وأسروا النجوى) * بالغوا في إخفاء كلامهم عن موسى وأخيه عليهما السلام لئلا يقفا عليه فيدافعاه، وكان نجواهم على ما قاله جماعة منهم الجبائي. وأبو مسلم ما نطق به قوله تعالى:
* (قالوا إن ه‍اذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) *
* (قالوا) * أي بطريق التناجي والإسرار * (إن هذان لساحران) * الخ فإنه تفسير لذلك ونتيجة التنازع وخلاصة ما استقرت
220

عليه آراؤهم بعد التناظر والتشاور.
وقيل: كان نجواهم أن قالوا حين سمعوا مقالة موسى عليه السلام ما هذا بقول ساحر، وروي ذلك عن محمد بن إسحاق. وقيل: كان ذلك أن قالوا: إن غلبنا موسى اتبعناه، ونقل ذلك عن الفراء. والزجاج.
وقيل: كان ذلك أن قالوا: إن كان هذا ساحرا فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر، وروي ذلك عن قتادة، وعلى هذه الأقوال يكون المراد من * (أمرهم) * أمر موسى عليه السلام وإضافته إليهم لأدنى ملابسة لوقوعه فيما بينهم واهتمامهم به ويكون إسرارهم من فرعون وملئه، ويحمل قولهم: * (إن هذان لساحران) * الخ على أنهم اختلفوا فيما بينهم من الأقاويل المذكورة ثم استقرت آراؤهم على ذلك وأبوا إلا المناصبة للمعارضة وهو كلام مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا قالوا للناس بعد تمام التنازع فقبل: * (قالوا إن هذان) * الخ.
وجعل الضمير في * (قالوا) *: لفرعون وملئه على أنهم قالوا ذلك للسحرة ردا لهم عن الاختلاف وأمرا بالإجماع والإزماع وإظهار الجلادة مخمل بجزالة النظم الكريم كما يشهد به الذوق السليم، نعم لو جعل ضمير * (تنازعوا) * والضمائر الذي بعده لهم كما ذهب إليه أكثر المفسرين أيضا لم يكن فيه ذلك الإخلال وإن مخففة من إن وقد أهملت عن العمل واللام فارقة.
وقرأ ابن كثير بتشديد نون * (هذان) * وهو على خلاف القياس للفرق بين الأسماء المتمكنة وغيرها.
وقال الكوفيون: إن نافية واللام واللام بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساخران. ويؤيده أنه قرىء كذلك. وفي رواية عن أبي أنه قرأ * (إن هذان إلا ساحران) *. وقرىء * (إن ذان) * بدون هاء التنبيه * (إلا ساحران) *. وعزاها ابن خالويه إلى عبد الله. وبعضهم إلى أبي وهي تؤيد ذلك أيضا. وقرىء * (إن ذان لساحران) * بإسقاط هاء التنبيه فقط.
وقرأ أبو جعفر. والحسن. وشيبة. والأعمش. وطلحة. وحميد. وأيوب. وخلف في اختياره. وأبو عبيد. وأبو حاتم. وابن عيسى الأصبهاني. وابن جرير: وابن جبير الأنطاكي. والأخوان. والصاحبان من السبعة * (إن) * بتشديد النون * (هذان) * بألف ونون خفيفة، واستشكلت هذه القراءة حتى قيل: إنها لحن وخطأ بناء على ما أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن لحن القرآن عن قوله تعالى: * (إن هذان لساحران) *. وعن قوله تعالى: * (والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة) * وعن قوله تعالى: * (والذين هادوا والصابئون) * فقالت: يا ابن أخي هذا عمل الكتاب أخطؤا في الكتاب، وإسناده صحيح على شرط الشيخين كما قال الجلال السيوطي. وهذا مشكل جدا إذ كيف يظن بالصحابة أولا أنهم يلحنون في الكلام فضلا عن القرآن وهم الفصحاء اللد، ثم كيف يظن بهم ثانيا الغلط في القرآن الذي تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم كما أنزل ولم يألوا جهدا في حفظه وضبطه وإتقانه، ثم كيف يظهر بهم ثالثا اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته، ثم كيف يظن بهم رابعا عدم تنبههم ورجوعهم عنه، ثم كيف يظن خامسا الاستمرار على الخطأ وهو مروى بالتواتر خلفا عن سلف ولو ساغ مثل ذلك لارتفع الوثوق بالقرآن.
وقد خرجت هذه القراءة على وجوه، الأول أن * (إن) * بمعنى نعم وإلى ذلك ذهب جماعة منهم المبرد والأخفش الصغير وأنشدوا قوله:
221

بكر العواذل في الصبو * ح يلمنني وألومهنه
ويقلن شيب قد علا * ك وقد كبرت فقلت إنه
والجيد الاستدلال بقول ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما لمن قال له: لعن الله ناقة حملتني إليك إن وراكبها إذ قد قيل: في البيت إنا لا نسلم أن إن فيه بمعنى نعم والهاء للسكت بل هي الناصبة والهاء ضمير منصوب بها والخبر محذوف أي إنه كذلك ولا يصح أن يقال: إنها في الخبر كذلك وحذف الجزءان لأن حذف الجزأين جميعا لا يجوز. وضعف هذا الوجه بأن كونها بمعنى نعم لم يثبت، أو هو نادر. وعلى تقدير الثبوت من غير ندرة ليس قبلها ما يقتضي جوابا حتى تقع نعم في جوابه. والقول بأنه يفهم من صدر الكلام أن منهم من قال: هما ساحران فصدق وقيل: نعم بعيد. ومثله القول بأن ذلك تصديق لما يفهم من قول فرعون: * (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى) * وأيضا إن لام الابتداء لا تدخل على خبر المبتدأ.
وأجيب عن هذا بأن اللام زائدة وليست للابتداء كما في قوله: أم الحليس لعجوز شهربه * ترضى من اللحم بعظم الرقبة
أو بأنها داخلة على مبتدأ محذوف أي لهما ساحران، كما اختاره الزجاج وقال: عرضته على عالمنا وشيخنا وأستاذنا محمد بن زيد يعني المبرد. والقاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد فقبلاه، وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا أو بأنها دخلت بعد إن هذه لشبهها بأن المؤكدة لفظا كما زيدت أن بعد ما المصدرية لمشابهتها للنافية في قوله:
ورج الفتى للخير ما إن رأيته * على السن خيرا لا يزال يزيد
ورد الأول: بأن زيادتها في الخبر خاصة بالشعر وما هنا محل النزاع فلا يصح الاحتجاج به كما توهم النيسابوري. وزيف الثاني أبو علي في الإغفال بما خلاصته أن التأكيد فيما خيف لبسه فإذا بلغ به الشهرة الحذف استغنى لذلك عن التأكيد، ولو كان ما ذكر وجها لم يحمل نحو لعجوز شهربة على الضرورة ولا تقاس على أن حيث حذف معها الخبر في: إن محلا وإن مرتحلا
وإن اجتمعا في التأكيد لأنها مشبهة بلا وحمل النقيض على النقيض شائع، وابن جني بأن الحذف من باب الإيجاز والتأكيد من باب الأطناب والجمع بينهما محال للتنافي.
وأجيب: بأن الحذف لقيام القرينة والاستغناء غير مسلم والتأكيد لمضمون الجملة لا للمحذوف والحمل في البيت ممكن أيضا واقتصارهم فيه على الضرورة ذهول وكم ترك الأول للآخر واجتماع ألا يجازوا الأطناب مع اختلاف الوجه غير محال. وأصدق شاهد على دخول اللام في مثل هذا الكلام ما رواه الترمذي. وأحمد. وابن ماجه * (أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ) * نعم لا نزاع في شذوذ هذا الحذف استعمالا وقياسا.
الثاني: أن إن من الحروف الناصبة واسمها ضمير الشأن وما بعد مبتدأ وخبر والجملة خبرها، وإلى ذلك ذهب قدماء النحاة. وضعف بأن ضمير الشان موضوع لتقوية الكلام وما كان كذلك لا يناسبه الحذف والمسموع من حذفه كما في قوله: إن من لام في بني بنت حسا * ن ألمه وأعصه في الخطوب
وقوله: إن من يدخل الكنيسة يوما * يلق فيها جآذرا وظباء
222

ضرورة أو شاذ إلا في باب إن المفتوحة إذا خففت فاستسهلوه لوروده في كلام بني على التخفيف فحذف تبعا لحذف النون ولأنه لو ذكر لوجب التشديد إذ الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها، ثم يرد بحث دخول اللام في الخبر، وإن التزم تقدير مبتدأ داخلة هي عليه فقد سمعت ما فيه من الجرح والتعديل، الثالث: أنها الناصبة وهاء ضمير القصة اسمها وجلمة * (ذان لساحران) * خبرها، وضعف بأنه يقتضي وصل ها بإن من إثبات الألف وفصل ها من * (ذان) * في الرسم وما في المصحف ليس كذلك، ومع ذلك يرد بحث دخول اللام.
الرابع: أن إن ملغاة وإن كانت مشددة حملا لها على المخففة وذلك كما أعملت المخففة حملا لها عليها في قوله تعالى: * (وإن كلا لما ليوفينهم) * (هود: 111) أو حطا لرتبتها عن الفعل لأن عملها ليس بالأصالة بل بالشبه له وما بعدها مبتدأ وخبر وإلى ذلك ذهب علي بن عيسى. وفيه أن هذا الإلغاء لم ير في غير هذا الموضع وهو محل النزاع وبحث اللام فيه بحالة. الخامس: وهو أجود الوجوه وأوجهها. واختاره أبو حيان. وابن مالك. والأخفش. وأبو علي الفارسي. وجماعة أنها الناصبة. واسم الإشارة اسمها: واللام لام الابتداء و * (ساحران) * خبرها؛ ومجىء اسم الإشارة بالألف مع أنه منصوب جار على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائما قال شاعرهم: واها لريا ثم واها واها * يا ليت عيناها لنا وفاها
وموضع الخلخال من رجلاها * بثمن نرضى به أباها
وقال الآخر: وأطرق إطراق الشجاع ولو يرى * مساغا لنا باه الشجاع لصمما
وقالوا: ضربته بين أذناه ومن يشتري الخفان وهي لغة الكنانة حكى ذلك أبو الخطاب ولبني الحرث بن كعب. وخثعم. وزبيد. وأهل تلك الناحية حكى ذلك الكسائي. ولبني العنبر. وبني الهيجم. ومراد وعذرة. وقال أبو زيد: سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفا، وابن الحاجب يقول: إن * (هذان) * مبني لدلالته على معنى الإشارة. وإن قول الأكثرين هذين جرا ونصبا ليس إعرابا أيضا.
قال ابن هشام: وعلى هذا فقراءة هذان أقيس إذ الأصل في المبنى أن لا تختلف صيغته مع أن فيها مناسبة لألف * (ساحران) * اه‍. وأما الخبر السابق عن عائشة فقد أجاب عنه ابن أشته وتبعه ابن جبارة في شرح الرائية بأن قولها: اخطؤا على معنى أخطؤا في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز فإن ما لا يجوز من كل شيء مردود بالإجماع وإن طالت مدة وقوعه وبنحو هذا يجاب عن أخبار رويت عنها أيضا.
وعن ابن عباس في هذا الباب تشكل ظواهرها. ثم أخرج عن إبراهيم النخعي أنه قال: إن هذان لساحران وإن هذين لساحران سواء لعلهم كتبوا الألف مكان الياء يعني أنه من إبدال حرف في الكتابة بحرف كما وقع في صلاة وزكاة وحياة. ويرد على هذا أنه إنما يحسن لو كانت القراءة بالياء في ذلك. ثم أنت تعلم أن الجواب المذكور لا يحسم مادة الإشكال لبقاء تسمية عروة ذلك في السؤال لحنا اللهم إلا أن يقال: أراد باللحن اللغة كما قال ذلك ابن اشته في قول ابن جبير المروي عنه بطرق في * (والمقيمين الصلاة) * هو لحن من الكاتب أو يقال: أراد به اللحن بحسب بادىء الرأي: وابن الأنباري جنح إلى تضعيف الروايات في
223

هذا الباب ومعارضتها بروايات أخر عن ابن عباس. وغيره تدل على ثبوت الأحرف التي قيل فيها ما قيل في القراءة. ولعل الخبر السابق الذي ذكر أنه صحيح الإسناد على شرط الشيخين داخل في ذلك لكن قال الجلال السيوطي: إن الجواب الأول الذي ذكره ابن اشته أولى وأقعد. وقال العلاء فيما أخرجه ابن الأنباري وغيره عن عكرمة قال: لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفا من اللحن فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال: ستقرؤها بألسنتها لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف إن ذلك لا يصح عن عثمان فإن إسناده ضعيف مضطرب منقطع.
والذي أجنح أنا إليه والعاصم هو الله تعالى تضعيف جميع ما ورد مما فيه طعن بالمتواتر ولم يقبل تأويلا ينشرح له الصدر ويقبله الذوق وإن صححه من صححه. والطعن في الرواة أهون بكثير من الطعن بالأئمة الذين تلقوا القرآن العظيم الذي وصل إلينا بالتواتر من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يألوا جهدا في إتقانه وحفظه.
وقد ذكر أهل المصطلح أن مما يدرك به وضع الخبر ما يؤخذ من حال المروى كان يكون مناقضا لنص القرآن أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي أو صريح العقل
حيث لا يقبل شيء من ذلك التأويل أو لم يحتمل سقوط شيء منه يزول به المحذور فلو قال قائل بوضع بعض هاتيك الأخبار لم يبعد والله تعالى أعلم.
وقرأ أبو عمرو * (إن هذين) * بتشديد نون * (إن) * وبالياء في * (هذين) *. وروي ذلك عن عائشة. والحسن. والأعمش. والنخعي. والجحدري. وابن جبير. وابن عبيد. وإعراب ذلك واضح إذ جاء على المهيع المعروف في مثله لكن في " الدر المصون " قد استشكلت هذه القراءة بأنها مخالفة لرسم الإمام فإن اسم الإشارة فيه بدون ألف وياء فإثبات الياء زيادة عليه. ولذا قال الزجاج: أنا لا أجيزها وليس بشيء لأنه مشترك الإلزام ولو سلم فكم في القراءات ما خالف رسمه القياس مع أن حذف الألف ليس على القياس أيضا.
* (يريدان أن يخرجاكم من أرضكم) * أي أرض مصر بالاستيلاء عليها * (بسحرهما) * الذي أظهراه من قبل، ونسبة ذلك لهارون لما أنهم رأوه مع موسى عليهما السلام سالكا طريقته. وهذه الجملة صفة أو خبر بعد خبر.
* (ويذهبا بطريقتكم المثلى) * أي بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب وأمثلها بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما يريدون به ما كان عليه قوم فرعون لا طريقة السحر فإنهم ما كانوا يعتقدونه دينا. وقيل: أرادوا أهل طريقتكم فالكلام على تقدير مضاف. والمراد بهم بنو إسرائيل لقول موسى عليه السلام: * (أرسل معنا بني إسرائيل) * وكانوا أرباب علم فيما بينهم.
وأخرج ذلك ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وتعقب بأن إخراجهم من أرضهم إنما يكون بالاستيلاء عليها تمكنا وتصرفا فكيف يتصور حينئذ نقل بني إسرائيل إلى الشام. وحمل الإخراج على إخراج بني إسرائيل منها مع بقاء قوم فرعون على حالهم مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله، على أن هذه المقالة منهم للإغراء بالمبالغة في المغالبة والاهتمام بالمناصبة فلا بد أن يكون الإنذار والتحذير بأشد المكاره وأشقها عليهم، ولا ريب في أن إخراج بني إسرائيل من بينهم والذهاب بهم إلى الشام وهم آمنون في ديارهم ليس فيه كثير محذور وهو كلام يلوح عليه مخايل القبول فلعل الخبر عن الحبر لا يصح.
وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم أيضا عن مجاهد أن الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم. وحكى فلان
224

طريقة قومه أي سيدهم، وكأن إطلاق ذلك على الوجوه مجاز لاتباعهم كما يتبع الطريق. وأخرجا عن علي كرم الله تعالى وجهه أن إطلاق ذلك عليهم بالسريانية، وكأنهم أرادوا بهؤلاء الوجوه الوجوه من قوم فرعون أرباب المناصب وأصحاب التصرف والمراتب فيكونوا قد حذروهم بالإخراج من أوطانهم وفصل ذوي المناصب منهم عن مناصبهم وفي ذلك غاية الذل والهوان ونهاية حوادث الزمان، فما قيل: إن تخصيص الإذهاب بهم مما لا مزية فيه ليس بشيء، وقيل: إنهم أرادوا بهم بني إسرائيل أيضا لأنهم كانوا أكثر منهم نشبا وأشرف نسبا وفيه ما مر آنفا، واعترض أيضا بأنه ينافيه استعبادهم واستخدامهم وقتل أولادهم وسومهم العذاب.
وأجيب بالمنع فكم من متبوع مقهور وشريف بأيدي الأنذال مأسور وهو كما ترى.
* (فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى) *
* (فأجمعوا كيدكم) * تصريح بالمطلوب إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين يريدان بكم ما يريدان فازمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه بحيث لا يتخلف عنه منكم أحد وارموا عن قوس واحدة.
وقرأ الزهري. وابن محيصن. وأبو عمرو. ويعقوب في رواية. وأبو حاتم * (فأجمعوا) * بوصل الهمزة وفتح الميم من الجمع. ويعضده قوله تعالى: * (فجمع كيده) * وفي الفرق بين جمع وأجمع كلام للعلماء. قال ابن هشام: إن أجمع يتعلق بالمعاني فقط وجمع مشترك بين المعاني والذوات. وفي عمدة الحفاظ حكاية القول بأن أجمع أكثر ما يقال في المعاني وجمع في الأعيان فيقال: أجمعت أمري وجمعت قومي وقد يقال بالعكس.
وفي المحكم أنه يقال: جمع الشيء عن تفرقة يجمعه جمعا وأجمعه فلم يفرق بينهما، وقال الفراء: إذا أردت جمع المتفرق قلت: جمعت القوم فهم مجموعون وإذا أردت جمع المال قلت جمعت بالتشديد ويجوز تخفيفه والإجماع الأحكام والعزيمة على الشيء ويتعدى بنفسه وبعلى تقول: أجمعت الخروج وأجمعت على الخروج، وقال الأصمعي: يقال جمعت الشيء إذا جئت به من هنا ومن هنا وأجمعته إذا صيرته جميعا، وقال أبو الهيثم: أجمع أمره أي جعله جميعا وعزم عليه بعد ما كان متفرقا وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا والجمع أن يجمع شيئا إلى شيء، وقال الفراء: في هذه الآية على القراءة الأولى أي لا تدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به * (ثم ائتوا صفا) * أي مصطفين أمروا بذلك لأن أهيب في صدور الرائين وأدخل في استجلاب الرهبة من المشاهدين. قيل: كانوا سبعين ألفا مع كل منهم حبل وعصا وأقبلوا عليه عليه السلام إقبالة واحدة، وقيل: كانوا اثنين وسبعين ساحرا اثنان من القبط والباقي من بني إسرائيل، وقيل: تسعمائة ثلاثمائة من الفرس وثلاثمائة من الروم وثلاثمائة من الإسكندرية، وقيل: خمسة عشر ألفا، وقيل بضعة وثلاثين ألفا، ولا يخفى حال الإخبار في ذلك والقلب لا يميل إلى المبالغة والله تعالى أعلم، ولعل الموعد كان مكانا متسعا خاطبهم موسى عليه السلام بما ذكر في قطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم في قطر آخر منه ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الحال المذكورة، وقد فسر أبو عبيدة الصف بالمكان الذي يجتمعون فيه لعيدهم وصلواتهم وفيه بعد، وكأنه علم لموضع معين من مكان يوم الزينة، وعلى هذا التفسير يكون * (صفا) * مفعولا به.
وقرأ شبل بن عباد. وابن كثير في رواية شبل عنه * (ثم ايتوا) * بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء. قال أبو علي: وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ثم، وقال صاحب اللوامح: إن ذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحة في
225

قراءة العامة كذلك * (وقد أفلح اليوم من استعلى) * اعتراض تذييلي من قبلهم مؤكد لما قبله من الأمرين أي قد فاز بالمطلوب من غلب. فاستفعل بمعنى فعل كما في "
الصحاح " أو من طلب العلو والغلب وسعى سعيه على ما في " البحر ". فاستفعل على بابه، ولعله أبلغ في التحريض حيث جعلوا الفوز لمن طلب الغلب فضلا عمن غلب بالفعل وأرادوا بالمطلوب ما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب حسبما نطق به قوله تعالى: * (وإنكم لمن المقربين) * (الأعراف: 114) وبمن استعلى أنفسهم جميعا على طريقة قولهم بعزة فرعون إنا * (لنحن الغالبون) * أو من استعلى منهم حثا على بذل المجهود في المغالبة.
وقال الراغب: الاستعلاء قد يكون لطلب العلو المذوم وقد يكون لغيره وهو ههنا يحتملهما فلهذا جاز أن يكون هذا الكلام محكيا عن هؤلاء القائلين للتحريض على إجماعهم واهتمامهم وأن يكون من كلام الله عز وجل فالمستعلى موسى. وهارون عليهما السلام ولا تحريض فيه.
وأنت تعلم أن الظاهر هو الأول.
* (قالوا ياموسى إمآ أن تلقى وإمآ أن نكون أول من ألقى) *
* (قالوا) * استئناف بياني كأنه قيل: فماذا فعلوا بعد ما قالوا ذلك؟ فقيل قالوا: * (يا موسى) * وإنما لم يتعرض لإجماعهم وإتيانهم مصطفين إشعارا بظهور أمرهما وغنائهما عن البيان * (إما أن تلقى) * أي ما تلقيه أولا على أن المفعول محذوف لظهوره أو تفعل الإلقاء أولا على أن الفعل منزل منزلة اللازم * (وإما أن نكون أول من ألقى) * ما يلقيه أو أول من يفعل الإلقاء خيروه عليه السلام وقدموه على أنفسهم إظهارا للثقة بأمرهم، وقيل: مراعاة للأدب معه عليه السلام. وأن مع ما في حيزها منصوب بفعل مضمر أي إما تختار القاءك أو تختار كوننا أول من ألقى أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر إما القاؤك أو كوننا أول من القى. واختار أبو حيان كونه مبتدأ محذوف الخبر أي القاؤك أول بقرينة * (أو نكون أول من ألقى) * وبه تتم المقابلة لكنها معنوية.
* (قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) *
* (قال) * استئناف كما مر كأنه قيل: فماذا قال عليه السلام؟ فقيل قال: * (بل ألقوا) * أنتم أولا إظهارا لعدم المبالاة بسحرهم وإسعافا لما أوهموا من الميل إلى البدء في شقهم حيث غيروا النظم إلى وجه أبلغ إذ كان الظاهر أن يقولوا: وإما أن نلقى وليبرزوا ما معهم ويستفرغوا جهدهم ويستنفذوا قصارى وسعهم ثم يظهر الله تعالى شأنه سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه.
قيل وفي ذلك أيضا مقابلة أدب بأدب، واستشكل بعضهم هذا الأمر ظنا منه أنه يستلزم تجويز السحر فحمله دفعا لذلك على الوعيد على السحر كما يقال للعبد العاصي: إفعل ما أردت، وقال أبو حيان: هو مقرون بشرط مقدر أي ألقوا إن كنتم محقين. وفيه أنه عليه السلام يعلم عدم إحقاقهم فلا يجدي التقدير يريدون ملاحظة غيره.
وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى ذلك ولا إشكال فإن هذا كالأمر بذكر الشبهة لتنكشف. والقول بأن تقديم سماع الشبهة على الحجة غير جائز لجواز أن لا يتفرغ لإدراك الحجة بعد ذلك فتبقى مما لا يلتفت إليه.
* (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) * الفاء فصيحة معربة عن مسارعتهم إلى الإلقاء كما في قوله تعالى: * (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفلق) * (البقرة: 60) أي فالقوا فإذا حبالهم الخ. وهي في الحقيقة عاطفة لجملة المفاجأة على الجملة المحذوفة. وإذا فجائية وهي عند الكوفيين حرف وهو مذهب مرجوح عند أبي حيان وظرف زمان عند الرياشي وهو كذلك عنده أيضا وظرف مكان عند المبرد وهو ظاهر كلام سيبويه ومختار
226

أبي حيان والعامل فيها هنا * (ألقوا) * عند أبي البقاء. ورد بأن الفاء تمنع من العمل، وفي " البحر " إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو * (حبالهم وعصيهم) * إن لم يجعلها هي في موضع الخبر بل جعلنا الخبر جملة * (يخيل) * وإذا جعلناها في موضع الخبر وجعلنا الجملة في موضع الحال فالأمر واضح. وهذا نظير خرجت فإذا الأسد رابض ورابضا. ولصحة وقوعها خبرا يكتفي بها وبالمرفوع بعدها كلاما فيقال: خرجت فإذا الأسد. ونص الأخفش في الأوسط على أنها قد يليها جملة فعلية مصحوبة بقد فيقال: خرجت فإذا قد ضرب زيد عمرا، وفي " الكشاف " التحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة، والجملة ابتدائية لا غير فتقدير الآية ففاجأ موسى وقت تخيل سعى حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل، والمعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي انتهى، وفيه من المخالفة لما قدمنا ما فيه لكن أمر العطف عليه أوفق كما لا يخفى، وعنى بقوله: هذا تمثيل أنه تصوير للإعراب وأن إذا وقتية أوقع عليها فعل المفاجأة توسعا لأنها سدت مسد الفعل والمفعول ولأن مفاجأة الوقت يتضمن مفاجأة ما فيه بوجه أبلغ، وما قيل: إنه أراد الاستعارة التمثيلية فيحتاج إلى تكلف لتحصيلها. وضمير * (إليه) * الظاهر أنه لموسى عليه السلام بل هو كالمتعين، وقيل: لفرعون وليس بشيء، وأن وما في حيزها نائب فاعل * (يخيل) * أي يخيل إليه بسبب سحرهم سعيها وكأن ذلك من باب السيمياء وهي علم يقتدر به على إراء الصورة الذهنية لكن يشترط غالبا أن يكون لها مادة في الخارج في الجملة ويكون ذلك على ما ذكره الشيخ محمد عمر البغدادي في حاشيته على رسالة الشيخ عبد الغني النابلسي في وحدة الوجود بواسطة أسماء وغيرها.
وذكر العلامة البيضاوي في بعض رسائله أن علم السيمياء حاصله إحداث مثالات خيالية لا وجود لها في الحس ويطلق على إيجاد تلك المثالات بصورها في الحس وتكون صورا في جوهر الهواء وهي سريعة الزوال بسبب سرعة تغير جوهره ولفظ سيمياء معرب شيم يه ومعناه اسم الله تعالى انتهى. وما ذكره من سرعة الزوال لا يسلم كليا وهو عندي بعض من علم السحر. وعرفه البيضاوي بأنه علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفية ثم قال: والسحر منه حقيقي. ومنه غير حقيقي؛ ويقال له: الأخذ بالعيون وسحرة فرعون أتوا بمجموع الأمرين انتهى، والمشهور أن هؤلاء السحرة جعلوا في الحبال والعصي زئبقا فلما أصابتها حرارة الشمس اضطربت واهتزت فخيل إليه عليه السلام أنها تتحرك وتمشي كشيء فيه حياة.
ويروى أنه عليه السلام رآها كأنها حيات وقد أخذت ميلا في ميل؛ وقيل: حفروا الأرض وجعلوا فيها نارا ووضعوا فوقها تلك الحبال والعصي فلما أصابتها حرارة النار تحركت ومشت. وفي القلب من صحة كلا القولين شيء.
والظاهر أن التخيل من موسى عليه السلام قد حصل حقيقة بواسطة سحرهم، وروي ذلك عن وهب.
وقيل: لم يحصل. والمراد من الآية أنه عليه السلام شاهد شيئا لولا علمه بأنه لا حقيقة له لظن فيها أنها تسعى فيكون تمثيلا وهو خلاف الظاهر جدا، وقرأ الحسن وعيسى * (عصيهم) * بضم العين وإسكان الصاد وتخفيف الياء مع الرفع وهو جمع كما في القراءة المشهور وقرأ الزهري. والحسن. وعيسى. وأبو حيوة. وقتادة. والجحدري. وروح. وابن ذكوان. وغيرهم * (تخيل) * بالتاء الفوقانية مبنيا للمفعول وفيه ضمير الحبال والعصي. و * (أنها تسعى) * بدل اشتمال من ذلك الضمير ولا يضر الإبدال منه في كونه رابطا لكونه ليس ساقطا من كل الوجوه.
وقرأ أبو السمال * (تخيل) * بفتح التاء أي تتخيل وفيه أيضا ضمير ما ذكر و * (أنها تسعى) * بدل منه أيضا، وقال ابن عطية:
227

هو مفعول من أجله، وقال أبو القاسم بن حبارة الهذلي الأندلسي في كتاب الكامل: عن أبي السمال أنه قرىء * (تخيل) * بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء والضمير فيه فاعل و * (أنها تسعى) * نصب على المفعول به. ونسب ابن عطية هذه القراءة إلى الحسن. وعيسى الثقفي ومن بني * (تخيل) * للمفعول فالمخيل لهم ذلك هو الله تعالى للمحنة والابتلاء.
وروي الحسن بن يمن عن أبي حيوة * (نخيل) * بالنون وكسر الياء فالفاعل ضميره تعالى و * (أنها تسعى) * مفعول به.
* (فأوجس فى نفسه خيفة موسى) *
* (فأوجس في نفسه خيفة موسى) * الإيجاس الإخفاء. والخيفة الخوف وأصله خوفة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون خوفة بفتح الخاء قلبت الواو ياء ثم كسرت الخاء للتناسب والأول أولى. والتنوين للتحقير أي أخفى فيها بعض خوف من مفاجأة ذلك بمقتضى طبع الجبلة البشرية عند رؤية الأمر المهول وهو قول الحسن، وقال مقاتل: خاف عليه السلام من أن يعرض للناس ويختلج في خواطرهم شك وشبهة في معجزة العصا لما رأوا من عصيهم. وإضمار خوفه عليه السلام من ذلك لئلا تقوى نفوسهم إذا ظهر لهم فيؤدي إلى عدم اتباعهم، وقيل: التنوين للتعظيم أي أخفى فيها خوفا عظيما، وقال بعضهم: إن الصيغة لكونها فعلة وهي دالة على الهيئة والحالة اللازمة تشعر بذلك ولذا اختيرت على الخوف في قوله تعالى: * (ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) * ولا يأباه الإيجاس، وقيل: يأباه والأول هو الأنسب بحال موسى عليه السلام إن كان خوفه مما قاله الحسن والثاني هو الأنسب بحاله عليه السلام إن كان خوفه مما قاله مقاتل، وقيل: إنه أنسب أيضا بوصف السحر بالعظم في قوله تعالى: * (وجاؤا بسحر عظيم) * وأيد بعضهم كون التنوين لذلك بإظهار موسى وعدم إضماره فتأمل، وقيل: إنه عليه السلام سمع لما قالوا إما أن تلقى الخ القوا يا أولياء الله تعالى فخاف لذلك حيث يعلم أن أولياء الله تعالى لا يغلبون ولا يكاد يصح والنظم الكريم يأباه. وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل.
* (قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى) *
* (قلنا لا تخف) * أي لا تستمر على خوفك مما توهمت وادفع عن نفسك ما اعتراك فالنهي على حقيقته، وقيل: حرج عن ذلك للتشجيع وتقوية القلب * (إنك أنت الأعلى) * تعليل لما يوجبه النهي من الانتهاء عن الخوف وتقرير لغلبته على أبلغ وجه وآكده كما يعرب عن ذلك الاستئناف البياني وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو المنبىء عن الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل كما قاله غير واحد. والذي أميل إليه أن الصيغة المذكورة لمجرد الزيادة فإن كونها للمشاركة والزيادة يقتضي أن يكون للسحرة علو وغلبة ظاهرة أيضا مع أنه ليس كذلك وإثبات ذلك لهم بالنسبة إلى العامة كما قيل ليس بشيء إذ لا مغالبة بينهم وبينهم.
* (وألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الس‍احر حيث أتى) *
* (وألق ما في يمينك) * أي عصاك كما وقع في سورة الأعراف.
وكأن التعبير عنها بذلك لتذكيره ما وقع وشاهده عليه السلام منها يوم قال سبحانه له: * (وما تلك بيمينك يا موسى) *، وقال بعض المحققين: إنما أوثر الإبهام تهويلا لأمرها وتفخيما لشأنها وإيذانا بأنها ليست من جنس العصي المعهودة المستتبعة للآثار المعتادة بل خارجة عن حدود سائر أفراد الجنس مبهمة لكنها مستتبعة لآثار غريبة. وعدم مراعاة هذه النكتة عند حكاية الأمر في مواضع أخر لا يستدعي عدم مراعاتها عند وقوع المحكي انتهى. وحاصله أن الإبهام للتفخيم كأن العصا لفخامة شأنها لا يحيط بها نطاق العلم نحو * (فغشيهم من اليم ما غشيهم) * ووقع حكاية الأمر في مواضع أخر بالمعنى والواقع نفسه ما تضمن هذه النكتة وإن لم يكن بلفظ
228

عربي وإنما لم يعتبر العكس لأن المتضمن أوفق بمقام النهي عن الخوف وتشجيعه عليه السلام.
وقال أبو حيان: عبر بذلك دون عصاك لما في اليمين من معنى اليمن والبركة، وفيه أن الخطاب لم يكن بلفظ عربي، وقيل: الإبهام للتحقير بأن يراد لا تبالي بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الذي في يدك فإنه بقدرة الله تعالى يلقفها مع وحدته وكثرتها وصغره وعظمها. وتعقب بأنه يأباه ظهور حالها فيما مر مرتين على أن ذلك المعنى إنما يليق بما لو فعلت العصا ما فعلت وهي على الهيئة الأصلية وقد كان منها ما كان، وما يحتمل أن أن تكون موصوفة ويحتمل أن تكون موصولة على كل من الوجهين، وقيل: الأنسب على الأول الأول وعلى الثاني الثاني، وقوله تعالى: * (تلقف ما صنعوا) * بالجزم جواب الأمر من لقفه ناله بالحذق باليد أو بالفم، والمراد هنا الثاني والتأنيث بكون ما عبارة عن العصا أي تبتلع ما صنعوه من الحبال والعصي التي خيل إليك سعيها، والتعبير عنها بما صنعوا للتحقير والإيذان بالتمويه
والتزوير. وقرأ الأكثرون * (تلقف) * بفتح اللام وتشديد القاف وإسقاط إحدى التاءين من * (تتلقف) *.
وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه رفع الفعل على أن الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا أو حال مقدرة من فاعل ألق بناء على تسببه أو من مفعوله أي متلقفا أو متلقفة؛ وجملة الأمر معطوفة على النهي متممة بما في حيزها لتعليل موجبه ببيان كيفية علوه وغلبه عليه السلام فإن ابتلاع عصاه عليه السلام لأباطيلهم التي منها أوجس في نفسه خيفة يقلع مادة الخوف بالكلية. وزعم بعضهم إن هذا صريح في أن خوفه عليه السلام لم يكن من مخالجة الشك للناس في معجزة العصا وإلا لعلل بما يزيله من الوعد بما يوجب إيمانهم وفيه تأمل.
وقوله تعالى: * (إنما صنعوا) * الخ تعليل لقوله تعالى: * (تلقف ما صنعوا) * وما إما موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي إن الذي صنعوه أو إن شيئا صنعوه أو إن صنعهم * (كيد ساحر) * بالرفع على أنه خبر إن أي كيد جنس الساحر، وتنكيره للتوسل به إلى ما يقتضيه المقام من تنكير المضاف ولو عرف لكان المضاف إليه معرفة وليس مرادا. واعترض بأنه يجوز أن يكون تعريفه الإضافي حينئذ للجنس وهو كالنكرة معنى وإنما الفرق بينهما حضوره في الذهن. وأجيب بأنه لا حاجة إلى تعيين جنسه فإنه مما علم من قوله تعالى: * (يخيل) * الخ وإنما الغرض بعد تعيينه أن يذكر أنه أمر مموه لا حقيقة له وهذا مما يعرف بالذوق، وقيل: نكر ليتوسل به إلى تحقير المضاف. وتعقب بأنه بعد تسليم إفادة ذلك تحقير المضاف لا يناسب المقام ولأنه يفيد انقسام السحر إلى حقير وعظيم وليس بمقصود. وأيضا ينافي ذلك قوله تعالى في آية أخرى: * (وجاؤا بسحر عظيم) * (الأعراف: 116) إلا أن يقال عظمه من وجه لا ينافي حقارته في نفسه وهو المراد من تحقيره. وقيل: إنما نكر لئلا يذهب الذهن إلى أن المراد ساحر معروف فتدبر.
وقرأ مجاهد. وحميد. وزيد بن علي عليهم الرحمة * (كيد) * بالنصب على أنه مفعول * (صنعوا) * وما كافة.
وقرأ حمزة. والكسائي. وأبو بحرية. والأعمش. وطلحة. وابن أبي ليلى. وخلف في اختياره. وابن عيسى الأصبهاني. وابن جبير الأنطاكي. وابن جرير * (سحر) * بكسر السين وإسكان الحاء على معنى ذي سحر أو على تسمية الساحر سحرا مبالغة كأنه لتوغله في السحر صار نفس السحر. وقيل: على أن الإضافة لبيان أن الكيد من جنس السحر. وهذه الإضافة من إضافة العام إلى الخاص. وهي على معنى اللام عند شارح الهادي
229

وعلى معنى من على ما يفهم من ظاهر كلام الشريف في أول شرح المفتاح وتسمى إضافة بيانية. ويحمل فيما وجدت فيه المضاف إليه على المضاف. ولا يشترط أن يكون بين المتضايفين عموم وخصوص من وجه وبعضهم شرط ذلك.
وقوله تعالى شأنه: * (ولا يفلح الساحر) * أي هذا الجنس * (حيث أتى) * حيث كان وأين أقبل فحيث ظرف مكان أريد به التعميم من تمام التعليل. ولم يتعرض لشأن العصا وكونه معجزة إلهية مع ما في ذلك من تقوية التعليل للإيذان بظهور أمرها. وأخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذتم الساحر فاقتلوه ثم قرأ: * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) * قال: لا يؤمن حيث وجد " وقرأت فرقة * (أين أتى) * والفاء في قوله تعالى:
* (فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب ه‍ارون وموسى) *
* (فألقي السحرة سجدا) * فضيحة معربة عن جمل غنية عن التصريح أي فزال الخوف وألقى ما في يمينه وصارت حية وتلقفت حبالهم وعصيهم وعلموا أن ذلك معجز فألقى السحرة على وجوههم سجدا لله تعالى تائبين مؤمنين به عز وجل وبرسالة موسى عليه السلام.
روي أن رئيسهم قال: كنا نغلب الناس وكانت الآلات تبقى علينا فلو كان هذا سحرا فأين ما ألقينا فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع القدير العليم وبظهور ذلك على يد موسى عليه السلام على صحة رسالته. وكأن هاتيك الحبال والعصي صارت هباء منبثا وانعدامها بالكلية ممكن عندنا، وفي التعبير بألقى دون فسجد إشارة إلى أنهم شاهدوا ما أزعجهم فلم يتمالكوا حتى وقعوا على وجوههم ساجدين، وفيه إيقاظ السامع لإلطاف الله تعالى في نقله من شاء من عباده من غاية الكفر والعناد إلى نهاية الإيمان والسداد مع ما فيه من المشاكلة والتناسب، والمراد أنهم أسرعوا إلى السجود، قيل: إنهم لم يرفعوا رؤوسهم من السجود حتى رأوا الجنة والنار والثواب والعقاب.
وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن عكرمة أنهم لما خروا سجدا أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم في الجنة. واستبعد ذلك القاضي بأنه كالإلجاء إلى الإيمان وأنه ينافي التكليف. وأجيب بأنه حيث كان الإيمان مقدما على هذا الكشف فلا منافاة ولا الجاء، وفي إرشاد العقل السليم أنه لا ينافيه قولهم: * (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا) * (طه: 73) الخ لأن كون تلك المنازل منازلهم باعتبار صدور هذا القول عنهم.
* (قالوا) * استئناف كما مر غير مرة * (ءامنا برب ه‍ارون وموسى) * تأخير موسى عليه السلام عند حكاية كلامهم المذكورة في سورة الأعراف المقدم فيه موسى عليه السلام لأنه أشرف من هارون والدعوة والرسالة إنما هي له أولا وبالذات وظهور المعجزة على يده عليه السلام لرعاية الفواصل، وجوز أن يكون كلامهم بهذا الترتيب وقدموا هارون عليه السلام لأنه أكبر سنا، وقول السيد في " شرح المفتاح ": إن موسى أكبر من هارون عليهما السلام سهو. وأما للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون وقومه حيث كان فرعون ربى موسى عليه السلام فلو قدموا موسى لربما توهم اللعين وقومه من أول الأمر أن مرادهم فرعون وتقديمه في سورة الأعراف تقديم في الحكاية لتلك النكتة.
وجوز أبو حيان أن يكون ما هنا قول طائفة منهم وما هناك قول أخرى وراعى كل نكتة فيما فعل لكنه لما اشترك القول في المعنى صح نسبة كل منهما إلى الجميع.
واختيار هذا القول هنا لأنه أوفق بآيات هذه السورة.
230

* (قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم فى جذوع النخل ولتعلمن أينآ أشد عذابا وأبقى) *
* (قال) * أي فرعون للسحرة * (ءامنتم له) * أي لموسى كما هو الظاهر. والإيمان في الأصل متعد بنفسه ثم شاع تعديه بالباء لما فيه من التصديق حتى صار حقيقة. وإنما عدى هنا باللام لتضمينه معنى الانقياد وهو يعدي بها يقال. انقاد له لا الاتباع كما قيل: لأنه متعد بنفسه يقال: اتبعه ولا يقال: اتبع له، وفي " البحر " إن آمن يوصل بالباء إذا كان متعلقه الله عز اسمه وباللام إن كان متعلقه غيره تعالى في الأكثر نحو * (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) *. فما آمن لموسى الخ. * (لن نؤمن لك) * (البقرة: 55) * (وما أنت بمؤمن لنا) * (يوسف: 17) * (فاء من له لوط) * (العنكبوت: 26)، وجوز أن تكون اللام تعليلية والتقدير آمنتم بالله تعالى لأجل موسى وما شاهدتم منه، واختاره بعضهم ولا تفكيك فيه كما توهم، وقيل: يحتمل أن يكون ضمير * (له) * للرب عز وجل، وفي الآية حينئذ تفكيك ظاهر.
وقرأ الأكثر * (أآمنتم) * على الاستفهام التوبيخي. والتوبيخ هو المراد من الجملة على القراءة الأولى أيضا لا فائدة الخبر أو لازمها * (قبل أن ءاذن لكم) * أي من غير إذني لكم في الإيمان كما في قوله تعالى: * (لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) * لا أن إذنه لهم في ذلك واقع بعد أو متوقع، وفرق الطبرسي بين الإذن والأمر بأن الأمر يدل على إرادة الآمر الفعل المأمور به وليس في الإذن ذلك * (إنه) * يعني موسى عليه السلام * (لكبيركم) * لعظيمكم في فنكم وأعلمكم به وأستاذكم * (الذي علمكم السحر) * كأن اللعين وبخهم أولا على إيمانهم له عليه السلام من غير إذنه لهم ليرى قومه أن إيمانهم غير معتد به حيث كان بغير إذنه. ثم استشعر أن يقولوا: أي حاجة إلى الإذن بعد أن صنعنا ما صنعنا وصدر منه عليه السلام ما صدر فأجاب عن ذلك بقوله: * (إنه) * الخ أي ذلك غير معتد به أيضا لأنه أستاذكم في السحر فتواطأتم معه على ما وقع أو علمكم شيئا دون شيء فلذلك غلبكم فالجملة تعليل لمحذوف، وقيل: هي تعليل للمذكور قبل. وبالجملة قال ذلك لما اعتراه من الخوف من اقتداء الناس بالسحرة في الإيمان لموسى عليه السلام ثم أقبل عليهم بالوعيد المؤكد حيث قال: * (فلأقطعن) * أي إذا كان الأمر كذلك فاقسم لأقطعن * (أيديكم وأرجلكم من خلاف) * أي اليد اليمنى والرجل اليسرى وعليه عامة المفسرين وهو تخصيص من خارج وإلا فيحتمل أن يراد غير ذلك. و * (من) * ابتدائية.
وقال الطبرسي: بمعنى عن أو على وليس بشيء. والمراد من الخلاف الجانب المخالف أو الجهة المخالفة. والجار والمجرور حسبما يظهر متعلق باقطعن، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة مصدر محذوف أي تقطيعه مبتدأ من جانب مخالف أو من جهة مخالفة وابتداء التقطيع من ذلك ظاهر، ويجوز أن يبقى الخلاف على حقيقته أعني المخالفة وجعله مبتدأ على التجوز فإنه عارض ما هو مبدأ حقيقة، وجعل بعضهم الجار والمجرور في حيز النصب على الحالية، والمراد لأقطعنها مختلفات فتأمل، وتعيين هذه الكيفية قيل للإيذان بتحقيق الأمر وإيقاعه لا محالة بتعيين كيفيته المعهودة في باب السياسة. ولعل اختيارها فيها دون القطع من وفاق لأن فيه إهلاكا وتفويتا للمنفعة، وزعم بعضهم أنها أفظع * (ولأصلبنكم في جذوع النخل) * أي عليها. وإيثار كلمة في للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا تشبيها لاستمرارهم عليها باستقرار الظرف في المظروف المشتمل عليه. وعلى ذلك قوله: وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة * فلا عطست شيبان إلا باجدعا
231

وفيه استعارة تبعية. والكلام في ذلك شهير. وقيل: لا استعارة أصلا لأن فرعون نقر جذوع النخل وصلبهم في داخلها ليموتوا جوعا وعطشا ولا يكاد يصح بل في أصل الصلب كلام. فقال بعضهم: إنه أنفذ فيهم وعيده وصلبهم وهو أول من صلب. ولا ينافيه قوله تعالى: * (أنتما ومن اتبعكما الغالبون) * لأن المراد الغلبة بالحجة. وقال الإمام: لم يثبت ذلك في الأخبار. وأنت تعلم أن الظاهر السلامة. وصيغة التفعيل في الفعلين للتكثير. وقرىء بالتخفيف فيهما.
* (ولتعملن أينا أشد عذابا وأبقى) * يريد من - نا - نفسه وموسى عليه السلام بقرينة تقدم ذكره في قوله تعالى: * (ءامنتم له) * بناء على الظاهر فيه. واختار ذلك الطبري. وجماعة. وهذا إما لقصد توضيع موسى عليه السلام والهزء به لأنه عليه السلام لم يكن من التعذيب في شيء، وإما لأن إيمانهم لم يكن بزعمه عن مشاهدة المعجزة ومعاينة البرهان بل كان عن خوف من قبله عليه السلام حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم فخافوا على أنفسهم أيضا، واختار أبو حيان أن المراد من الغير الذي أشار إليه الضمير رب موسى عز وجل الذي آمنوا به بقولهم: * (آمنا برب هارون موسى) *. * (ولتعلمن) * هنا معلق و * (أبنا أشد) * جملة استفهامية من مبتدأ وخبر في موضع نصب سادة مسد مفعوليه إن كان العلم على بابه أو في موضع مفعول واحد له إن كان بمعنى المعرفة. ويجوز على هذا الوجه أن يكون * (أينا) * مفعولا وهو مبني على رأي سيبويه و * (أشد) * خبر مبتدأ محذوف أي هو أشد. والجملة صلة أي والعائد الصدر، و * (عذابا) * تمييز. وقد استغنى بذكره مع * (أشد) * عن ذكره مع * (أبقى) * وهو مراد أيضا. واشتقاق أبقى من البقاء بمعنى الدوام. وقيل: لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون من البقاء بمعنى العطاء فإن اللعين كان يعطي لمن يرضاه العطايا فيكون للآية شبه بقول نمروذ * (أنا أحي وأميت) * وهو في غاية البعد عند من له ذوق سليم. ثم لا يخفى أن اللعين في غاية الوقاحة ونهاية الجلادة حيث أوعد وهدد وأبرق وأرعد مع قرب عهده بما شاهد من انقلاب العصا حية وما لها من الآثار الهائلة حتى أنها قصدت ابتلاع قبته فاستغاث بموسى عليه السلام ولا يبعد نحو ذلك من فاجر طاغ مثله.
* (قالوا لن نؤثرك على ما جآءنا من البين‍ات والذى فطرنا فاقض مآ أنت قاض إنما تقضى ه‍اذه الحيواة الدنيآ) *
* (قالوا) * غير مكترثين بوعيده * (لن نؤثرك) * لن نختارك بالإيمان والانقياد * (على ما جاءنا) * من الله تعالى على يد موسى عليه السلام * (من البينات) * من المعجزات الظاهرة التي اشتملت عليها العصا. وإنما جعلوا المجىء إليهم وإن عم لأنهم المنتفعون بذلك والعارفون به على أتم وجه من غير تقليد. وما موصولة وما بعدها صلتها والعائد الضمير المستتر في جاء. وقيل العائد محذوف وضمير * (جاءنا) * لموسى عليه السلام أي على الذي جاءنا به موسى عليه السلام وفيه بعد. وإن كان صنيع بعضهم اختياره مع أن في صحة حذف مثل هذا المجرور كلاما.
* (والذي فطرنا) * أي أبدعنا وأوجدنا وسائر العلويات والسفليات. وهو عطف على * (ما جاءنا) * وتأخيره لأن ما في ضمنه آية عقلية نظرية وما شاهدوه آية حسية ظاهرة. وإبراده تعالى بعنوان الفاطرية لهم للإشعار بعلة الحكم فإن إبداعه تعالى لهم. وكون فرعون من جملة مبدعاته سبحانه مما يوجب عدم إيثارهم إياه عليه عز وجل. وفيه تكذيب للعين في دعواه الربوبية. وقيل: الواو للقسم وجوابه محذوف لدلالة المذكور عليه أي وحق الذي فطرنا لن نؤثرك الخ. ولا مساغ لكون المذكور جوابا عند من يجوز تقديم
232

الجواب أيضا لما أن القسم لإيجاب كما قال أبو حيان: بلن إلا في شاذ من الشعر. وقولهم: هذا جواب لتوبيخ اللعين بقوله: آمنتم الخ. وقوله تعالى: * (فاقض ما أنت قاض) * جواب عن تهديده بقوله: لأقطعن الخ أي فاصنع ما أنت بصدد صنعه أو فاحكم بما أنت بصدد الحكم به فالقضاء إما بمعنى الإيجاد الإبداعي كما في قوله تعالى: * (فقضاهن سبع سموات) * (فصلت: 12) وأما بمعناه المعروف. وعلى الوجهين ليس المراد من الأمر حقيقته، وما موصولة والعائد محذوف. وجوز أبو البقاء كونها مصدري وهو مبني على ما ذهب إليه بعض النحاة من جواز وصل المصدرية بالجملة الاسمية ومنع ذلك بعضهم، وقوله تعالى * (إنما تقضى ه‍اذه الحيواة الدنيا) * مع ما بعده تعليل لعدم المبالاة المستفاد مما سبق من الأمر بالقضاء، وما كافة و * (هذه الحياة) * منصوب محلا على الظرفية لتقضي والقضاء على ما مر ومفعوله محذوف أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياة الدنيا فحسب وما لنا من رغبة في عذبها ولا رهبة من عذابها، وجوز أن تكون ما مصدرية فهي وما في حيزها في تأويل مدر اسم أن وخبرها * (هذه الحياة) * أي أن قضاءك كائن في هذه الحياة، وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم فلا حذف.
وقرأ ابن حيوة. وابن أبي عبلة * (إنما تقضي) * بالبناء للمفعول * (هذه الحياة) * بالرفع على أنه اتسع في الظرف فجعل مفعولا به ثم بنى الفعل له نحو صيم يوم الخميس.
* (إنآ آمنا بربنا ليغفر لنا خط‍اي‍انا ومآ أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى) *
إنا ءامنا بربنا ليغفر لنا خطايانا) * التي اقترفناه من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذنا بهذا في الدار الآخرة لا ليمتعنا بتلك الحياة الفانية حتى نتأثر بما أوعدتنا به.
وقوله تعالى: * (وما أكرهتنا عليه من السحر) * عطف على * (خطايانا) * أي ويغفر لنا السحر الذي عملناه في معارضة موسى عليه السلام بإكراهك وحشرك إيانا من المدائن القاصية خصوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم إظهارا لغاية نفرتهم عنه ورغبتهم في مغفرته، وذكر الإكراه للإيذان بأنه مما يجب أن يفرد بالاستفغار مع صدوره عنهم بالإكراه، وفيه نوع اعتذار لاستجلاب المغفرة، وقيل: إن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط والباقي من بني إسرائيل وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أخذ فرعون أربعين غلاما من بني إسرائيل فأمر أن يتعلمو السحر وقال: علموهم تعليما لا يغلبهم أحد من أهل الأرض وهم من الذين آمنوا بموسى عليه السلام وهو الذين قالوا: * (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر) * (طه: 73)، وقال الحسن: كان يأخذ ولدار الناس ويجبرهم على تعلم السحر، وقيل: إنه أكرههم على المهعارضة حيث روى أنهم قالوا له: أرنا موسى نائم ففعل بوجوده تحرسه عصاه فقالوا: ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضو ولا ينافي ذلك قولهم: * (بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون) * (الشعراء: 44) لاكما أن قولهم: * (إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين) * (الأعراف: 113) قبله كما قيل: وزعم أبو عبيد أن مجرد أمر السلطان شخصا إكراه وإن لم يتوعده وإلى ذلك ذهب ساداتنا الحنفية كما في عامة كتبهم لما في مخالفة أمره من توقع المكروه لا سيما إذا كان السلطان جبارا طاغيا * (والله خير) * في حد ذاته تعالى * (وأبقى) * أي وأدوم جزاء ثوابا كان أو عقابا أو خير ثوابا
233

وأبقى عذابا، وقوله تعالى:
* (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) *
* (إنه) * إلى آخر الشرطيتين تعليل من جهتهم لكونه تعالى شأنه خير وأبقى وتحقيق له وإبطال لما ادعاه اللعين، وتصديرهما بضمير الشأن للتنبيه على فخامة مضمونهما ولزيادة تقرير له أي إن الشيطان الخطير هذا أي قوله تعالى: * (من يأت ربه مجرما) * بأن مات على الكفر والمعاصي.
* (فاإن له جهنم لا يموت فيها) * فينتهي عذابه وهذا تحقيق لكون عذابه تعالى أبقى * (ولا يحيى) * حياة ينفتع بها.
* (ومن يأته مؤمنا قد عمل الص‍الح‍ات فأول‍ائك لهم الدرج‍ات العلى) *
* (ومن يأته مؤمنا) * به عز وجل وبما جاء من عنده من المعجزات التي من جملتها ما شاهدنا * (قد عمل الصالحات) * من الأعمال * (فأولئك) * إشارة إلى * (من) * والجمع باعتبار معناها كما أن الأفراد فيما تقدم باعتبار لفظها، وما فيها من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم أي فأولئك المؤمنون العاملون للأعمال الصالحات * (لهم) * بسبب إيمانهم وعملهم ذلك * (الدرجات العلى) * أي المنازل الرفيعة * (جنات عدن) * بدل من الدرجات العلى أو بيان وقد تقدم في عدن.
* (جن‍ات عدن تجرى من تحتها الأنه‍ار خ‍الدين فيها وذالك جزآء من تزكى) *
* (تجري من تحتها الأنهار) * حال من الجنات، وقوله تعالى: * (خالدين فيها) * تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى وهو حال من الضمير في لهم، والعالم فيه معنى الاستقرار في الظرف أو ما في * (أولئك) * من معنى أشير والحال مقدرة ولا يجوز أن يكون * (جنات) * خبر مبتدأ محذوف أي هي جنات لخلو الكلام حينئذ عن عامل في الحال ما ذكره أبو البقاء * (وذالك) * إشارة إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذكر ومعنى البعد لما أشير إليه من قرب من التفخيم * (جزاء من تزكى) * أي
تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر فيمن الايمان والأعمال الصالحة.
وهذا تصريح بما أفادته الشرطية، وتقديم ذكر حال المجرم للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه عز وجل ودوامه ردا على ما ادعاه فرعون بقوله: * (أينا أشد عذابا وأبقى) * (طه: 71)، وقال بعضهم: إن الشرطيتين إلى هنا ابتداء كلام منه جل وعلا تنبيها على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة والأول أولى خلافا لما حسبه النيسابوري. هذا واستدل المعتزلة بالشرطية الأولى على القطع بعذاب مرتكب الكبيرة قالوا: مرتكب الكبيرة مجرم لأن أصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة ثم استعير لاكتساب المكروه وكل مجرم فإن له جهنم للآية فإن من الشرطية فيها عامة بدليل صحة الاستثناء فينتج مرتكب الكبيرة إن له جهنم وهو دال على القطع بالوعيد.
وأجاب أهل السنة بأنا لا نسلم الصغرى لجواز أن يراد بالمجرم الكافر فكثيرا ما جاء في القرآن بذلك المعنى كقوله تعالى: * (تيساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر) * (المدثر: 40 - 42) إلى قوله سبحانه: * (وكنا نكذب بيوم الدين) * (المدثر: 46) وقوله تعالى: * (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) * إلى آخر السورة، وعلى تقدير تسليم هذه المقدمة لا نسلم الكبرى على إطلاقها وإنما هي كلية بشرط عدم العفو مع أنا لا نسلم أن من الشرطية قطعية في العموم كما قال الإمام وحينئذ لا يحصل القطع بالوعيد مطلقا، وعلى تقدير تسليم المقدمتين يقال يعارض ذلك الدليل عموم الوعد في قوله تعالى ومن يأته مؤمنا الخ ويجعل الكلام فيمن آمن وعمل الصالحات وارتكب الكبيرة
234

وهو داخل في عموم * (من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات) * (طه: 75) ولا يخرجه عن العموم ارتكابه الكبيرة ومتى كانت له الجنة فهي لمن آمن وارتكب الكبيرة ولم يعمل الأعمال الصالحة أيضا إذ لا قائل بالفرق، فإذا قالوا: مرتكب الكبيرة لا يقال له مؤمن كما لا يقال كافر لإثباتهم المنزلة بين المنزلتين فلا يدخل ذلك في العموم أبطلنا ذلك وبرهنا على حصر المكلف في المؤمن والكافر ونفى المنزلة بين الايمان والكفر بما هو مذكور في محله.
وعلى تقدير تسليم أن * (من يأته مؤمنا) * (طه: 75) الخ لا يعم مرتكب الكبيرة يقال: إن قوله تعالى: * (فأولئك) * لهم الدرجات العلى يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأنه تعالى جعل الدرجات العلى وجنات عدن لمن أتى بالايمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات الغير العالية والجنات لا بد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الايمان.
ولقد أخرج أبو داود. وابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء وإن أبا بكر. وعمر منهم. وأنعما "، واستدل على شمول * (من يأته مؤمنا) * صاحب الكبيرة بقوله تعالى: * (وذلك جزاء من تزكى) * بناء على ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بمن تزكى من قال لا إله إلا الله كأنه أراد من تطهر عن دنس الكفر والله تعالى أعلم.
ثم إن العاصي إذا دخل جهنم لا يكون حاله كحال المجرم الكافر إذا دخلها بل قيل: إنه يموت احتجاجا بما أخرج مسلم. وأحمد. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية أنه * (من يأت) * الخ فقال عليه الصلاة والسلام: أما أهلها - يعني جهنم - الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة ثم يقوم الشفعاء فيشفعون فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما تنبت القثاء بحميل السيل " وحمل ذلك القائل تميتهم فيه على الحقيقة وجعل المصدر تأكيدا لدفع توهم المجاز كما قيل في قوله تعالى: * (وكلم الله موسى تكليما) *، وذكر أن فائدة بقائهم في النار بعد إماتتهم إلى حيث شاء الله تعالى حرمانهم من الجنة تلك المدة وذلك منضم إلى عذابهم بإحراق النار إياهم.
وقال بعضهم: إن تميتهم مجاز والمراد أنها تجعل حالهم قريبة من حال الموتى بأن لا يكون لهم شعور تام بالعذاب، ولا يسلم أن ذكر المصدر ينافي في التجوز فيجوز أن يقال قتلت زيدا بالعصا قتلا والمراد ضربته ضربا شديدا ولا يصح أن يقال: المصدر لبيان النوع أي تميتهم نوعا من الإماتة لأن الإماتة لا أنواع لها بل هي نوع واحد وهو إزهاق الروح ولهذا قلي: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره * تعددت الأسباب والموت واحد
واستدل المجسمة بقوله سبحانه * (إنه من يأت ربه على ثبوت مكان له تعالى شأنه) *، وأجيب بأن المراد من إتيانه تعالى إتيان موضع وعده عز وجل أو نحو ذلك.
* (ولقد أوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادى فاضرب لهم طريقا فى البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى) *
* (ولقد أوحينا إلى موسى) * حكاية إجمالية لما انتهى إليه فرعون وقومه وقد طوى في البين ذكر ما جرى عليهم بعد أن غلبت السحرة من الآيات المفصلة الظاهرة على يد موسى عليه السلام في نحو من عشرين سنة حسبما فصل في سورة الأعراف، وكان فرعن كلما جاءت آية وعد أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف العذاب حتى إذا انكشف نكث فلما كملت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام * (أن أسر بعبادي) * وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها.
وأن إما مفسرة لما في الوحي من معنى القول، وإما مصدرية حذف عنها الجار، والتعبير عن بني إسرائيل
235

بعنوان العبودية لله تعالى لإظهار الرحمة والاعتناء بأمرهم والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون بهم حيث استعبدهم وهم عباده عز وجل وفعل بهم من فنون الظلم ولم يراقب فيهم مولاهم الحقيقي جل جلاله، والظاهر أن الإيحاء بما ذكر وكذا ما بعده كان بمصر أي وبالله تعالى لقد أوحينا إليه عليه السلام أن سر بعبادي الذي أرسلتك لانقاذهم من ملكة فرعون من مصر ليلا * (فاضرب لهم) * بعصاك * (طريقا في البحر) * مفعول به لأضرب على الاتساع وهو مجاز عقلي والأصل اضرب البحر ليصير لهم طريقا * (يبسا) * أي يابسا وبذلك قرأ أبو حيوة على أنه مصدر جعل وصفا لطريقا مبالغة وهو يستوي فيه الواحد المذكر وغيره.
وقرأ الحسن * (يبسا) * بسكون الباء وهو إما مخفف منه بحذف الحركة فيكون مصدرا أيضا أو صفة مشبهة كعصب أو جمع يابس كصحب وصاحب. ووصف الواحد به للمبالغة وذلك أنه جعل الطريق لفرط يبسها كأشياء يابسة كما قيل في قول القطامي: كأن قتود رحلى حين ضمت * حوالب غرزا ومعي جياعا
أنه جعل المعي لفرط جوعه كجماعة جياع أو قدر كل جزء من أجزاء الطريق طريقا يابسا كما قيل في * (نطفة أمشاج) * وثوب أخلاق أو حيث أريد بالطريق الجنس وكان متعددا حسب تعدد الأسباط لا طريق واحدة على الصحيح جاء وصفه جمعا، وقيل: يحتمل أن يكون اسم جمع، والظاهر أنه لا فرق هنا بين اليبس بالتحريك واليبس بالتسكين معنى لأن الأصل توافق القراءتين، وإن كانت إحداهما شاذة، وفي " القاموس " اليبس بالإسكان ما كان أصله رطبا فجف وما أصله اليبوسة ولم يعهد رطبا يبس بالتحريك، وأما طريق موسى عليه السلام في " البحر " فإنه لم يعهد طريقا لا رطبا ولا يابسا إنما أظهره الله تعالى لهم حينئذ مخلوقا على ذلك اه‍.
وهذا مخالف لما ذكره الراغب من أن اليبس بالتحريك ما كان فيه رطوبة فذهبت، والمكان إذا كان فيه ماء فذهب، وروى أن موسى عليه السلام لما ضرب البحر وإنفاق حتى صارت فيه طرق بعث الله تعالى ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست. وذهب غير واحد أن الضرب بمعنى الجعل من قولهم: ضرب له في ماله سهما وضرب عليهم الخراج أو بمعنى الاتخاذ فينصب مفعولين أولهما * (طريقا) * وثانيهما * (لهم) *.
واختار أبو حيان بقاءه على المعنى المشهور وهو أوفق بقوله تعالى: * (أن اضرب بعصاك البحر) *، وزعم أبو البقاء أن * (طريقا) * على هذا الوجه مفعول فيه، وقال: التقدير * (فاضرب لهم) * موضع طريق * (لا تخاف دركا) * في موضع الحال من ضمير * (فاضرب) * أو الصفة الأخرى لطريقا والعائد محذوف أي فيها أو هو استئناف كما قال أبو البقاء وقدمه على سائر الاحتمالات. وقرأ الأعمش. وحمزة. وابن أبي ليلى * (لا تخف) * بالجزم على جواب الأمر أعني * (أسر) *، ويحتمل أنه نهي مستأنف كما ذكره الزجاج. وقرأ أبو حيوة. وطلحة. والأعمش * (دركا) * بسكون الراء وهو اسم من الإدراك أي اللحوق كالدرك بالتحريك، وقال الراغب: الدرك بالتحريك في الآية ما يلحق الإنسان من تبعة أي لا تخاف تبعة، والجمهور على الأول أي لا تخاف أن يدرككم فرعون وجنوده من خلفكم * (ولا تخشى) * أن يغرقكم البحر من قدامكم وهو عطف على * (لا تخاف) *، وذلك ظاهر على الاحتمالات الثلاثة في قراءة الرفع؛ وأما على قراءة الجزم فقيل هو استئناف أي وأنت لا تخشى، وقيل:
236

عطف على المجزوم والألف جيء بها للإطلاق مراعاة لأواخر الآي كما في قوله تعالى: * (فأضلونا السبيلا. وتظنون بالله الظنونا) * أو هو مجزوم بحذف الحركة المقدرة كما في قوله:
إذا العجوز غضبت فطلق * ولا ترضاها ولا تملق
وهذا لغة قليلة عند قوم وضرورة عند آخرين فلا يجوز تخرجي التنزيل الجليل الشأن عليه أو لا يليق مع وجود مثل الاحتمالين السابقين أو الأول منهما. والخشية أعظم الخوف وكأنه إنما اختيرت هنا لأن الغرق أعظم من إدراك فرعون وجنوده لما أن ذاك مظنة السلامة، ولا ينافي ذلك أنهم إنما ذكروا أولا ما يدل على خوفهم منه حيث قالوا: * (إنا لمدركون) * ولذا سورع في إزاحته بتقديم نفيه كما يظهر بالتأمل.
* (فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) *
* (فأتبعهم فرعون بجنوده) * أي تبعهم ومعه جنوده على أن أتبع بمعنى تبع وهو متعد إلى واحد والباء للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال، ويؤيد ذلك أنه قرأ الحسن. وأبو عمرو في رواية فاتبعهم بتشديد التاء، وقرىء أيضا * (فأتبعهم فرعون وجنوده) *، وقيل: أتبع متعد إلى اثنين هنا كما في قوله تعالى: * (واتبعناهم ذريتهم) * (الطور: 21) والثاني مقدر أي فأتبعهم رؤساء دولته أو عقابه، وقيل: نفسه والجار والمجرور في موضع الحال أيضا، وعن الأزهري أن المفعول الثاني جنوده والباء سيف خطيب أي أتبعهم فرعون جنوده وساقهم خلفهم فكان معهم يحثهم على اللحوق بهم، وجوز أن يكون المفعول الثاني جنوده والباء للتعدية فيكون قد تعدى الفعل إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بالحرف، وأيا ما كان فالفاء فصيحة معربة عن مضمر قد طوى ذكره ثقة بغاية ظهوره وإيذانا بكمال مسارعة موسى عليه السلام إلى الامتثال بالأمر أي ففعل ما أمر به من الإسراءبعبادي وضرب الطريق لهم فاتبعهم فرعون بجنوده.
وزعم بعضهم أن الإيحاء بالضرب كان بعد أن أتبعهم فرعون وترائى الجمعان. والظاهر الأول، روى أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل يريد القلزم وكانوا قد استعاروا من قوم فرعون الحلى والدواب لعيد يخرجون إليه وكانوا ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيفا ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين، وفي رواية أنهن خرجوا وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا وأخرجوا معهم جسد يوسف عليه السلام لأنه كان عهد إليهم ذلك ودلتهم عجوز على موضعه فقال لها موسى عليه السلام: احتكمي فقالت: أكون معك في الجحنة فاتصل الخبر بفرعون فجمع جنوده وخرج بهم وكان في خيله سبعون ألف أدهم وكانت مقدمته فيما يحكي سبعمائة ألف فارس، وقيل: ألف ألف وخمسمائة ألف فقص أثرهم حتى ترائى الجمعان فعظم فزع بني إسرائيل فضرب عليه السلام بعصاه البحر فانفق اثني عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم فدخلوا ووصل فرعون وجنوده إلى المدخل فرأوا البحر منفلقا فاستعظموا الأمر فقال فرعون لهم: إنما انفلق من هيبتي فدخل على فرس حصان وبين يديه جبريل عليه السلام على فرس حجر وصاحت الملائكة عليهم اللاسم وكانوا ثلاثة وثلاثين ملكا أن ادخلوا فدخلوا حتى إذا استكملوا دخولا خرج موسى عليه السلام بمن معه من الأسباط سالمين ولم يخرج أحد من فرعون وجنوده * (فغشيهم من اليم ما غشيهم) * أي علاهم منه وغمرهم ما غمرهم من الأمر الهائل الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه.
237

وقيل: غشيهم ما سمعت قصته وليس بذاك فإن مدار التهويل والتفخيم خروجه عن حدود الفهم والوصف لا سماع القصة، والظاهر أن ضميري الجمع لفرعون وجنوده، وقيل: لجنوده فقط للقرب ولأنه ألقى بالساحل ولم يتغط بالبحر كما أشير إليه بقوله تعالى: * (فاليوم ننجيك ببدنك) * (يونس: 92) وفيه أن الإنجاء بعدما غشيه ما غشى جنوده وشك بنو إسرائيل في هلاكه والقرب ليس بداع قوي، وقيل: الضمير الأول لفرعون وجنوده والثاني لموسى عليه السلام وقومه وفي الكلام حذف أي فنجا موسى عليه السلام وقومه وغرق فرعون وجنوده انتهى وليس بشيء كما لا يخفى. وقرأت فرقة منهم الأعمش * (فغشاهم من اليم ما غشاهم) * أي غطاهم ماغطاهم
فالفعل * (ما) * أيضا وترك المفعول زيادة في الإبهام، وقيل: المفعول * (من اليم) * أي بعض اليم، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى شأنه وما مفعول؛ وقيل: هو ضمير فرعون والإسناد مجازي لأنه الذي ورطهم للهلكة، ويبعده الإظهار في قوله تعالى:
* (وأضل فرعون قومه وما هدى) *
* (وأضل فرعون قومه) * أي سلك بهم مسلكا أداهم إلى الخسران في الدين والدنيا معا حيث أغرقوا فأدخلوا نارا * (وما هدى) * أي وما أرشدهم إلى طريق موصل إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية والمراد بذلك التهكم به كما ذكر غير واحد، واعترض بأن التهكم أن يؤتي بما قصد به ضده استعارة ونحوها نحو إنك لأنت الحليم الرشيد إذا كان الغرض الوصف بضد هذين الوصفين، وكونه لم يهد أخبار عما هو كذلك في الواقع.
وأجيب بأن الآمر كذلك ولكن العرف في مثل ما هدى زيد عمرا ثبوت كون زيد عالما بطريق الهداية مهتديا في نفسه ولكنه لم يهد عمرا وفرعون أضل الضالين في نفسه فكيف يتوهم أنه يهدي غيره، ويحقق ذلك أن الجملة الأولى كافية في الاخبار عن عدم هدايته إياهم بل مع زيادة إضلاله إياهم فإن من لا يهدي قد لا يضل وإذا تحقق إغناؤها في الاخبار على أتم وجه تعين كون الثانية بمعنى سواه وهو التهكم، وقال العلامة الطيبي: توضيح معنى التهكم أن قوله تعالى: * (وما هدى) * من باب التلميح وهو إشارة إلى إدعاء اللعين إرشاد القوم في قوله: * (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) * فهو كم ادعى دعوى وبالغ فيها فإذا حان وقتها ولم يأت بها قيل له لم تأت بما ادعيت تهكما واستهزاء انتهى، ويعلم مما ذكر المغايرة بين الجملتين وأنه لا تكرير، وقيل: المراد وما هداهم في وقت ما ويحصل بذلك المغايرة لأنه لا دلالة في الجملة الأولى على هذا العموم والأول أولى، وقيل: هدى بمعنى اهتدى أي أضلهم وما اهتدى في نفسه وفيه بعد، وحمل بعضهم الإضلال والهداية على ما يختص بالديني منهما، ويأباه مقام بيان سوقه بجنوده إلى مساق الهلاك الدنيوي. وجعلهما عبارة عن الإضلال في البحر والإنجاء منه مما لا يقبله الطبع المستقيم.
واحتج القاضي بالآية على أنه تعالى ليس خالقا للكفر لأنه تعالى شأنه قد ذم فيها فرعون بإضلاله ومن ذم أحدا بشيء يذم إذا فعله. وأجيب بمنع إطراد ذلك.
* (يابنى إسراءيل قد أنجين‍اكم من عدوكم وواعدن‍اكم جانب الطور الايمن ونزلنا عليكم المن والسلوى) *
* (يا بني إسرائيل) * حكاية لما خاطبهم تعالى به بعد إغراق عدوهم وإنجائهم منه لكن لا عقيب ذلك بل بعدما أفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية ما أفاض.
وقيل: إنشاء خطاب اللذين كانوا منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على معنى أنه تعالى قدمن عليهم بما فعل بآبائهم أصالة وبهم تبعا، وتعقب بأنه يرده قوله تعالى: * (وما أعجلك) * الخ ضرورة استحالة حمله على الإنشاء وكذا السباق فالوجه هو الحكاية بتقدير قلنا عطفا على * (أوحينا) * أي وقلنا يا بني إسرائيل * (قد أنجيناكم من عدوكم) * فرعون وقومه حيث كانوا يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم.
238

وقرأ حميد * (نجيناكم) * بتشديد الجيم من غير همزة قبلها وبنون العظمة. وقرأ حمزة. والكسائي. والأعمش. وطلحة * (أنجيتكم) * بتاء الضمير * (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) * بالنصب على أنه صفة المضاف. وقرىء بالجر وخرجه الزمخشري على الجوار نحو - هذا جحرضب خرب -. وتعقبه أبوحيان بأن الجر المذكور من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن لا تخرج القراءة عليه وقال: الصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن، وإما لكونه عن يمين من يستقبل الجبل اه‍.
والحق أن القلة لم تصل إلى جد منع تخريج القراءة لا سيما إذا كانت شاذة على ذلك وتوافق القراءتين يقتضيه، قوله: وإما لكونه الخ غير صحيح على تقدير أن يكون الطور هو الجبل ولو قال: وإما لكونه عن يمين من انطلق من مصر إلى الشام لكان صحيحا، ونصب * (جانب) * على الظرفية بناء على ما نقل الخفاجي عن الراغب. وابن مالك في " شرح التسهيل " من أنه سمع نصب جنب وما بمعناه على الظرفية. ومنع بعضهم ذلك لأنه محدود وجعله منصوبا على أنه مفعول - واعدنا - على الاتساع أو بتقدير مضاف أي إتيان جانب الخ. وإلى هذا ذهب أبو البقاء. وإذا كان ظرفا فالمفعول مقدرا أي وواعدناكم بواسطة نبيكم في ذلك الجانب إتيان موسى عليه السلام للمناجاة وإنزال التوراة عليه، ونسبة المواعدة إليهم مع كونها لموسى عليه السلام نظرا إلى ملابستها إياهم وسراية منفعتها إليهم فكأنهم كلهم مواعدون فالمجاز في التسبة. وفي ذلك إيفاء مقام الامتنان حقه ما فيه.
وقرأ حمزة والمذكورون معه آنفا * (وواعدتكم) * بتاء الضمير أيضا. وقرىء * (ووعدناكم) * من الوعد.
* (ونزلنا عليكم المن والسلوى) * الترنجبين والسماني حيث كان ينزل عليهم المن وهم في التيه مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع ويبعث الجنوب عليهم السماني فيأخذ الواحد منهم ما يكفيه.
* (كلوا من طيب‍ات ما رزقن‍اكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى * وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل ص‍الحا ثم اهتدى) *
* (كلوا من طيبات ما رزقناكم) * أي من لذائذه أو حلالاته على أن المراد بالطيب ما يستطيبه الطبع أو الشرع.
وجوز أن يراد بالطيبات ما جمعت وصفي اللذة والحل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان إباحة ما ذكرهم وإتماما للنعمة عليهم، وقرأ من ذكر آنفا * (رزقتكم) * وقدم سبحانه نعمة الانجاء من العدو لأنها من باب درء المضار وهو أهم من جلب المنافع ومن ذاق مرارة كيد الأعداء خذلهم الله تعالى ثم أنجاه الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم علم قدر هذه النعمة، نسأل الله تعالى أن يتم نعمه علينا وأن لا يجعل لعدو سبيلا إلينا، وثنى جلا وعلا بالنعمة الدينية لأنها الأنف في وجه المنافع، وأخر عز وجل النعمة الدنيوية لكونها دون ذلك فتبا لمن يبيع الدين بالدنيا * (ولا تطغوا فيه) * أي فميا رزقناكم بالإخلال بشكره وتعدى حدود الله تعالى فيه بالسرف والبطر والاستعانة به على معاصي الله تعالى ومنع الحقوق الواجبة فيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي لا يظلم بعضكم بعضا فيأخذه من صاحبه بغير حق، وقيل: أي لا تدخروا.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (ولا تطغوا) * بضم الغين * (فيحل عليكم غضبي) * جواب للنهي أي فيلزمكم غضبي ويجب لكم من حل الدين يحل بكسر الحاء إذا وجب إداؤه وأصله من الحلو وهو في الأجسام ثم استعير لغيرها وشاع حتى صارت حقيقة فيه * (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) * أي هلك
239

وأصله الوقوع من علو كالجبل ثم استعمل في الهلاك للزومه له، وقيل: أي وقع في الهاوية وإليه ذهب الزجاج.
وفي بعض الآثار أن في جهنم قصرا يرمي الكافر من أعلاه فيهوى في جهنم أربعين خريفا قبل أن يبلغ الصلصال فذلك قوله تعالى: * (فقد هوى) * فيكون بمعناه الأصلي إذا أريد به فرد مخصوص منه لا بخصوصه.
وقرأ الكسائي * (فيحل) * بضم الحاء * (ومن يحلل) * بضم اللام الأولى وهي قراءة قتادة. وأبي حيوة والأعمش. وطلحة. ووافق ابن عبتبة في * (يحلل) * فضم، وفي الاقناع لأبي على الأهوازي قرأ ابن غزوان عن طلحة * (لا يحلن عليكم) * بنون مشددة وفتح اللام وكسر الحاء وهو من باب لا أرينك هنا، وفي " كتاب اللوامح " قرأ قتادة. وعبد الله بن مسلم بن يسار. وابن وثاب. والأعمش * (فيحل) * بضم الياء وكسر الحاء من الاحلال ففاعله ضمير الطغيان و * (غضبي) * مفعوله، وجوز أن يكون هو الفاعل والمفعول محذوف أي العذاب أو نحوه، ومعنى يحل مضموم الحاء ينزل من حل بالبلد إذا نزل كما في " الكشاف ". وفي المصباح حل العذاب يحل ويحل هذه وحدها بالكسر والضم والباقي بالكسر فقط، والغضب في البشر ثوران دم القلب عند إرادة الانتقام، وفي الحديث * (اتقوا الغضب فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه) * وإذا وصف الله تعالى به لم يرد هذا المعنى قطعا وأريد معنى لاثق بشأنه عز شأنه، وقد يراد به الانتقام والعقوبة أو إرادتهما نعوذ بالله تعالى من ذلك، ووصف ذلك بالحلول حقيقة على بعض الاحتمالات ومجاز على بعض آخر، وفي الانتصاف أن وصفه بالحلو لا يتأتى على تقدير أن يراد به إرادة العقوبة ويكون ذلك بمنزلة قوله صلى الله عليه وسلم: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا " على التأويل المعروف أوعبر عن حلول أثر الإرادة بحلولها تعبيرا عن الأثر بالمؤثر كما يقول الناظر إلى عجيب من مخلوقات الله تعالى: انظر إلى قدرة الله تعالى يعني أثر القدرة لا نفسها * (وإني لغفار) * كثير المغفرة * (لمن تاب) * من الشرك على ما روى عن ابن عباس، وقيل: منه ومن المعاصي التي من جملتها الطغيان فيما رزق * (وآمن) * بما يجب الايمان به. واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما يروى عنه على ذكر الايمان بالله تعالى ولعله من باب الاقتصادر على الأشرف وإلا فالأفيد إرادة العموم مع ذكر التوبة من الشرك * (وعمل صالحا) * أي عملا مستقيما عند الشرع وهو بحسب الظاهر شامل للفرض والنسة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير ذلك بإداء الفرائض * (ثم اهتدى) * أي لزم الهدى واستقام عليه إلى الموافاة وهو مروي عن الحبر.
والهدي يحتمل أن يراد به الايمان، وقد صرح بحانه بمدح المستقيمين على ذلك في قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا) * (فصلت: 30).
وقال الزمخشري: الاهتداء هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والايمان والعمل الصالح وأيا ما كان فكلمة ثم إما للتراخي باعتبار الانتهاء لبعده عن أول الانتهاء أو للدلالة على بعد ما بين المرتبتين فإن المداومة أعلى وأعظم من الشروع كما قيل: لكل إلى شاو العلى وثبات * ولكن قليل في الرجال ثبات
240

وقيل: المراد ثم عمل بالسنة، وأخرج سعيد بن منصور عن الحبر أن المراد من اهتدى علم أن لعمله ثوابا يجزي عليه، وروي عنه غير ذلك، وقيل: المراد طهر قلبه من الأخلاق الذميمة. كالعجب والحسد. والكبر وغيرها، وقال ابن عطية: الذي يقوى في معنى * (ثم اهتدى) * أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن تخالف الحق في شيء من الأشياء فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل انتهى، ولا يخفى عليك أن هذا يرجع إلى قولنا ثم استقام على الإيمان بما يجب الإيمان به على الوجه الصحيح، وروى الإمامية من عدة طرق عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ثم اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت فوالله لو أن رجلا عبد الله تعالى عمره بين الركن والمقام ثم مات ولا يجىء بولايتنا لأكبه الله تعالى في النار على وجهه.
وأنت تعلم أن ولايتهم وحبهم رضي الله عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الاهتداء في الآية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام مما يستدعي القول بأنه عز وجل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت وأوجب عليهم ولايتهم إذا ذاك ولم يثبت ذلك في " صحيح الأخبار ".
نعم روى الإمامية من خبر جارود بن المنذر العبدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له " يا جارود ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله عز وجل إلى أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا علام بعثوا قلت: علام بعثوا؟ قال: على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما ثم عرفني الله تعالى بهم باسمائهم ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أسماءهم واحدا بعد واحد إلى المهدي وهو خبر طويل يتفجر الكذب منه. ولهم أخبار في هذا المطلب كلها من هذا القبيل فلا فائدة في ذكرها إلا التطويل. والآية تدل على تحقق المغفرة لمن اتصف بمجموع الصفات المذكورة. وقصارى ما يفهم منها عند القائلين بالمفهوم عدم تحقيقها لمن لم يتصف بالمجموع وعدم التحقق اعم من تحقق العدم فالآية بمعزل عن أن تكون دليلا للمعتزلي على تحقق عدم المغفرة لمرتك الكبيرة إذا مات من غير توبة فافهم واحتج بها من قال تجب التوبة عن الكفر أولا ثم الإتيان بالإيمان ثانيا لأنه قدم فيها التوبة على الإيمان، واحتج بها أيضا من قال بعدم دخول العمل الصالح في الإيمان للعطف المقتضى للمغايرة.
* (ومآ أعجلك عن قومك ياموسى) *
* (وما أعجلك عن قومك يا موسى) *.
حكاية لما جرى بينه تعالى وبين موسى عليه السلام من الكلام عند ابتداء موافاته الميقات بموجب المواعدة المذكورة سابقا أي وقلنا له أي شيء عجل بك عن قومك فتقدمت عليهم. والمراد بهم هنا عند كثير ومنهم الزمخشري النقباء السبعون. والمراد بالتعجيل تقدمه عليهم لا الإتيان قبل تمام الميعاد المضروب خلافا لبعضهم والاستفهام
للإنكار ويتضمن كما في الكشف إنكار السبب الحامل لوجود مانع في البين وهو إيهام اغفال القوم وعدم الاعتداد بهم مع كونه عليه السلام مأمورا باستصحابهم واحضارهم معه وإنكار أصل الفعل لأن العجلة نقيصة في نفسها فكيف من أولي العزم اللائق بهم مزيد الحزم، وقوله تعالى:
* (قال هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى) *
* (قال هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى) * متضمن لبيان اعتذاره عليه السلام، وحاصله عرض الخطأ في الاجتهاد كأنه عليه السلام قال: إنهم لم يبعدوا عني وإن تقدمي عليهم بخطا يسيرة وظني أن مثل ذلك لا ينكر وقد حملني عليه استدامة رضاك أو حصول زيادته وظني أن مثل هذا الحامل يصلح للحمل على مثل ما ذكر ولم يخطر أن هناك مانعا لينكر على. ونحو هذا الإسراع المزيل للخشوع إلى إدراك الإمام في الركوع
241

طلبا لأن يكون أداء هذا الركن مع الجماعة التي فيها رضا الرب تعالى فإنهم قالوا: إن ذلك غير مشروع، وقدم عليه السلام الاعتذار عن إنكار أصل الفعل لأنه أهم، وقال بعضهم: إن الاستفهام سؤال عن سبب العجلة يتضمن إنكارها لأنها في نفسها نقيصة انضم إليها الاغفال وإيهام التعظيم فأجاب عليه السلام عن السبب بأنه استدامة الرضا أو حصول زيادته وعن الإنكار بما محصله انهم لم يبعدوا عني وظننت أن التقدم اليسير لكونه معتادا بين الناس لا ينكر ولا يعد نقيصة وعلل تقديم هذا الجواب بما مر. واعترض بأن مساق كلامه بظاهره يدل على أن السؤال عن السبب على حقيقته وأنت خبير بأن حقيقة الاستفهام محال على الله تعالى فلا وجه لبناء الكلام عليه، وأجيب بأن السؤال من علام الغيوم محال إن كان لاستدعاء المعرفة أما إذا كان لتعريف غيره أو لتبكيته أو تنبيهه فليس محالا، وتعقب بأنه لا يحسن هنا أن يكون السؤال لأحد المذكورات والمتبادر أن يكون للإنكار، وفي الانتصاف أن المراد من سؤال موسى عليه السلام عن سبب العجلة وهو سبحانه أعلم أن يعلمه أدب السفر وهو أنه ينبغي تأخر رئيس القوم عنهم ليكون بصره بهم ومهيمنا عليهم وهذا المعنى لا يصحل مع التقدم ألا ترى كيف علم الله تعالى هذا الأدب لوطا فقال سبحانه * (واتبع أدبارهم) * فأمره عز وجل أن يكون آخرهم وموسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضا الله تعالى ومسارعة إلى الميعاد وذلك شأن الموعود بما يسره يود لو ركب أجنحة الطير ولا أسر من مواعد الله تعالى له عليه الصلاة والسلام انتهى.
وأنت تعلم أن السؤال عن السبب ما لم يكن المراد منه انكار المسبب لا يتسنى هذا التعليم، وقال بعضهم: الذي يلوح بالبال أن يكون المعنى أي شيء أعجلك منفردا عن قومك، والإنكار بالذات للإنفراد عنهم فهو منصب على القيد كما عرف في أمثاله، وإنكار العجلة ليس إلا لكونها وسيلة فاعتذر موسى عليه السلام عنه بأني أخطأت في الاجتهاد وحسبت أن القدر اليسير من التقدم لا يخل بالمعية ولا يعد انفرادا ولا يقدح بالاستصحاب والحامل عليه طلب استدامة مرضاتك بالمبادرة إلى امتثال أمرك فالجواب هو قوله: * (هم أولاء على أثرى) *، وقوله: * (وعجلت إليك رب لترضى) * كالتتميم له اه‍ وهو عندي لا يخلو عن حسن.
وقيل: إن السؤال عن السبب والجواب إنما هو قوله: * (وعجلت) * الخ وما قبله تمهيد له وفيه نظر، وعلى هذا وما قبله لم يكن جواب موسى عليه السلام عن أمرين ليجيء سؤال الترتيب فيجاب بما مر أو بما ذكره الزمخشري من أنه عليه السلام حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله عز وجل فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام لكن قال في البحر: إن في هذا الجواب إساءة الأدب مع الأنبياء عليهم السلام، وذلك شأن الزمخشري معهم صلى الله عليه وسلم عليهم، والمراد من * (إليك) * إلى مكان وعدك فلا يصلح دليلا للمجسمة على إثبات مكان له عز وجل. ونداؤه تعالى بعنوان الربوبية لمزيد الضراعة والابتهال رغبة في قبول العذر و * (أولاء) * اسم إشارة كما هو المشهور مرفوع المحل على الخبرية - لهم - و * (على أثرى) * خبر بعد خبر أو حال كما قال أبو حيان؛ وجوز الطبرسي كون * (أولاء) * بدل من * (هم) * و * (على أثرى) * هو الخبر، وقال أبو البقاء: * (أولاء) * اسم موصول و * (على أثرى) * صلته وهو مذهب كوفي.
وقرأ الحسن. وابن معاذ عن أبيه " أولاي " بياء مكسورة. وابن وثاب. وعيسى في رواية * (أولى) * بالقصر، وقرأت فرقة " أولاي " بياء مفتوحة. وقرأ عيسى. ويعقوب. وعبد الوارث عن أبي عمرو. وزيد بن علي
242

رضي الله تعالى عنهما " على إثرى " بكسر الهمزة وسكون الثاء، وحكى الكسائي " أثرى " بضم الهمزة وسكون الثاء وتورى عن عيسى، وفي الكشاف إن " الأثر " بفتحتين أفصح من " الأثر " بكسر فسكون، وأما الأثر فمسموع في فرند السيف مدون في الأصوال يقال؛ أثر السيف وأثره وهو بمعنى الأثر غريب.
* (قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامرى) *
* (قال) * استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية اعتذاره عليه السلام وهو السر في وروده على صيغة الغائب لا أنه التفات من التكلم إلى الغيبة لما أن المقدر فيما سبق على صيغة التكلم كأنه قيل من جهة السامعين: فماذا قال له ربه تعالى حينذئذ؟ فقيل: قال سبحانه * (فانا قد فتنا قومك) * أي اختبرناهم بما فعل السامري أو أوقعناهم في فتنة أي ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف * (من بعدك) * من بعد فراقك لهم وذهابك من بينهم * (وأضلهم السامري) * حيث أخرج لهم عجلا جسدا له خوار ودعاهم إلى عبادته. وقيل: قال لهم بعد أن غاب موسى عليه السلام عنهم عشرين ليلة: إنه قد كملت الأربعون فجعل العشرين مع أيامها أربعين ليلة. وليس من موسى عين ولا أثر وليس اخلافه ميعادكم إلا لما معكم من حلى القوم وهو حرام عليكم فجمعوه وكان من أمر العجل ما كان. والمراد بقومك هنا الذين خلفهم مع هارون عليه السلام، وكانوا على ما قيل ستمائة ألف ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فالمراد بهم غير المراد بقومك فيما تقدم، ولذا لم يؤت بضميرهم، وقيل: المراد بالقوم في الموضعين المتخلفتين لتعين إرادتهم هنا، والمعرفة المعادة عين الأولى. ومعنى " هم أولاء على أثرى " هم بالقرب مني ينتظرونني.
وتعقبه في الكشف بأنه غبر ملائم للفظ الأثر ولا هو مطابق لتمهيد عذر العجلة ومن أين لصاحب هذا التأويل النقل بأنهم كانوا على القرب من الطور وحديث المعرفة
المعادة إنما هو إذا لم يقم دليل التغاير وقد قام. على أن لنا أن تقول: هي عين الأولى لأن المراد بالقوم الجنس في الموضعين لكن المقصود منه أولا النقباء وثانيا المتخلفون ومثله كثير في القرآن انتهى. وما ذكره من نفي النقل الدال على القرب فيه مقال، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا من الأخبار ما يدل بظاهره على القرب إلا أنا لم نقف على تحصيحه أو تضعيفه.
وما ذكر من تفسير * (هم أولاء على أثرى) * على إرادة المتخلفين في الأول أيضا نقله الطبرسي عن الحسن، ونقل عنه أيضا تفسيره بأنهم على ديني ومنهاجي والأمر عليه أهون. والفاء لتعليل ما يفهمه الكلام السابق كأنه قيل: لا ينبغي عجلتك عن قومك وتقدمك عليهم وإهمال أمرهم لوجه من الوجوه فانهم لحداثة عهدهم باتباعك ومزيد بلاهتهم وحماقتهم بمكان يحيق فيه مكر الشيطان ويتمكن من إضلالهم فإن القوم الذين خلفتهم مع أخيك قد فتنوا وأضلهم السامري بخروجك من بينهم فكيف تأمن على هؤلاء الذي أغفلتهم وأهملت أمرهم.
وفي إرشاد العقل السليم إنها لترتيب الأخبار بما ذكر من الابتلاء على أخبار موسى عليه السلام بعجلته لكن لا لأن الأخبار بها سبب موجب للأخبار به بل لما بينهما من المناسبة المصححة للانتقال من أحدهما إلى الآخر من حيث أن مدار الابتلاء المذكور عجلة القوم وليس بذاك. وأما قول الخفاجي: إنها للتعقيب من غير تعليل أي أقول لك عقب ما ذكر إنا قد فتنا إلى آخره ففيه سهو ظاهر لأن هذا المعنى إنما يتسنى لو كانت الفاء داخلة على القول لكنها داخلة على ما بعده وظاهر الآية يدل على أن الفتن وإضلال السامري إياهم قد تحققا ووقعا قبل الاخبار بهما إذ صيغة الماضي ظاهرة في ذلك، والظاهر أيضا على ما قررنا أن الأخبار كان عند مجيئه عليه
243

السلام للطور لم يتقدمه إلا العتاب والأعتذار. وفي الآثار ما يدل على أن وقوع ما ذكرنا كان بعد عشرين ليلة من ذهابه عليه السلام لجناب الطور، وقيل: بعد ست وثلاثين يوما وحينئذ يكون التعبير عن ذلك بصيغة الماضي لاعتبار تحققه في علم الله تعالى ومشيئته أو لأنه قريب الوقوع مترقبه أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه السلام وتصدى لترتيب مباديها وتمهيد مبانيها فنزل مباشرة الأسباب منزلة الوقوع. والسامري عند الأكثر كما قال الزجاج: كان عظيما من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة وهم إلى هذه الغاية في الشام يعرفون بالسامريين، وقيل: هو ابن خالة موسى عليه السلام، وقيل: ابن عمه، وقيل: كان علجا من كرمان، وقيل: كان من أهل باجرما قرية قريبة من مصر أو قرية من قرى موصل، وقيل: كان من القبط وخرج مع موسى عليه السلام مظهرا الإيمان وكان جاره.
وقيل: كان من عباد البقر وقع في مصر فدخل في بني إسرائيل بظاهره وفي قلبه عبادة البقر. واسمه قيل موسى بن ظفر، وقيل: منجا، والأول أشهر، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه فكان جبريل عليه السلام يأتيه فيغدوه باصابعه في واحدة لبنا وفي الأخرى عسلا، وفي الأخرى سمنا ولم يزل يغذوه حتى نشأ وعلى ذلك قوله من قال: إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت * عقول مربيه وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر * وموسى الذي رباه فرعون مرسل
وبالجملة كان عند الجمهور منافقا يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وقرأ معاذ * (أضلهم) * على أنه أفعل تفضيل أي أشدهم ضلالا لأنه ضال ومضل.
* (فرجع موسى إلى قومه غضب‍ان أسفا قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى) *
* (فرجع موسى إلى قومه) * عند رجوعه المعهود أي بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأخذ التوراة لا عقيب الأخبار المذكور فسببية ما قبل الفاء لما بعدها إنما هي باعتبار قيد الرجوع المستفاد من قوله تعالى: * (غصبان أسفا) * لا باعتبار نفسه وإن كانت داخلة عليه حقيقة فإن كون الجروع بعد تمام الأربعين أمر مقرر مشهور لا يذهب الوهم إلى كونه عند الأخبار المذكور كما إذا قلت: شايعت الحجاج ودعوت لهم بالسلامة فرجعوا سالمين فإن أحدا لا يرتاب في أن المراد رجوعهم المعتاد لا رجوعهم أثر الدعاء وإن سببية الدعاء باعتبار وصف السلامة لا باعتبار نفسه الرجوع كذا في ارشاد العقل السليم وهو مما لا ينتطح فيه كبشان. والأسف الحزين كما روي عن ابن عباس وكأن حزنه عليه السلاممن حيث أن ما وقع فيه قومه مما يترتب عليه العقوبة ولا يد له بدفعها.
وقال غير واحد: هو شديد الغضب، وقال الجبائي متلهفا على ما فاته متحيرا في أمر قومه يخشى أن لا يمكنه تداركه وهذا معنى للأسف غير مشهور * (قال) * استئناف بياني كأنه قيل: فماذا فعل بهم لما رجع إليهم؟ فقيل قال: * (يا قوم ألم يعدكم ربكم) * الهمزة لإنكار عدم الوعد ونفيه وتقرير وجوده على أبلغ وجه وآكده أي وعدكم * (وعدا حسنا) * لا سبيل لكم إلى إنكاره. والمراد بذلك إعطاء التوراة التي فيها هدى ونور، وقيل: هو ما وعدهم سبحانه من الوصول إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن وغير ذلك مما وعد الله تعالى أهل طاعته.
244

وعن الحسن أن الوعد الحسن الجنة التي وعدها من تمسك بدينه، وقيل: هو أن يسمعهم جل وعلا كلامه عز شأنه ولعل الأول أولى، ونصب * (وعدا) * يحتمل أن يكون على أنه مفعول ثان وهو بمعنى الموعود ويحتمل أن يكون على المصدرية والمفعول الثاني محذوف، والفاء في قوله تعالى: * (أفطال عليكم العهدذ للعطف على مقدر والهمزة لإنكار المعطوف ونفيه فقط، وجوز أن تكون الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها والعطف على لم * (يعدكم) * لأنه بمعنى قد وعدكم، واختار جمع الأول وأل في العهد له، والمراد زمان الإنجاز، وقيل: زمان المفارقة أي أوعدكم سبحانه ذلك فطال زمان الإنجاز أو زمان المفارقة للإتيان به * (أم أردتم أن يحل) * أي يجب * (عليكم غضب) * شديد لا يقادر قدره كائن * (من ربكم) * أي من مالك أمركم على الإطلاق. والمراد من إرادة ذلك فعل ما يكون مقتضيا له.
والفاء في قوله تعالى: * (فأخلفتم موعدي) * لترتيب ما بعدها على كل من الشقين، والموعد مصدر مضاف إلى مفعوله للقصد إلى زيادة تقبيح حالهم فإن اخلافهم الموعد الجاري فيما بينهم وبينه عليه السلام من حيث إضافته إليه عليه السلام أشنع منه من حيث إضافته إليهم، والمعنى أفطال عليكم الزمان فنسيتم بسبب ذلك فاخلفتم
وعدكم إياي بالثبات على ديني إلى أن أرجع من الميقات نسيانا أو تعمدتم فعل ما يكون سببا لحلول غضب ربكم عليكم فاخلفتم وعدكم إياي بذلك عمدا، وحاصله أنسيتم فاخلفتم أو تعمدتم فاخلفتهم، ومنه يعلم التقابل بين الشقين.
وجوز المفضل أن يكون الموعد مصدرا مضافا إلى الفاعل واخلافه بمعنى وجدان الخلف فيه يقال: أخلف وعد زيد بمعنى وجد الخلف فيه، ونظيره أحمدت زيدا أي فوجدتم الخلف في موعدي إياكم بعد الأربعين، وفيه أنه لا يساعده السياق ولا السباق أصلا، وقيل. المصدر مضاف إلى المفعول إلا أن المراد منه وعدهم إياه عليه السلام باللحاق به والمجيء للطور على أثره وفيه ما فيه، واستدلت المعتزلة بالآية على أن الله عز وجل ليس خالقا للكفر وإلا لما قال سبحانه: * (وأضلهم السامري) * ولما كان لغضب موسى عليه السلام واسفه وجه ولا يخفى ما فيه.
* (قالوا مآ أخلفنا موعدك بملكنا ول‍اكنا حملنآ أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامرى) *
* (قالوا ما أخلفنا موعدك) * أي وعدنا إياك الثبات على دينك، وإيثار على أن يقال موعدنا على إضافة المصدر إلى فاعله لما مر آنفا.
* (بملكنا) * بأن ملكنا أمرنا يعنون إنا ولو خلينا وأنفسنا ولم يسول لنا السامري ما سوله مع مساعدة بعض الأحوال لما أخلفناه. وقرأ بعض السبعة * (بملكنا) * الميم. وقرأ الاخوان. والحسن. والأعمش وطلحة. وابن أبي ليلى. وقعنب بضمها. وقرأ عمر رضي الله عنه * (بملكنا) * بفتح الميم واللام قال في البحر: أي بسلطاننا، واستظهر أن الملك بالضم والفتح والكسر بمعنى. وفرق أبو علي فقال: معنى المضمون أنه لم يكن لما ملك فنخلف موعدك بسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري، والكلام على حد قوله تعالى: * (لا يسألون الناس الحافا) * (البقرة: 273). لا تشتكي سقطة منها وقد رقصت * بها المفاوز حتى ظهرها حدب
ومفتوح الميم مصدر ملك، والمعنى ما فعلنا ذلك بأن ملكنا الصواب ووفقنا له بل غلبتنا انفسنا ومكسور
245

الميم كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان، والمعنى عليه كالمعنى على المفتوح الميم، والمصدر في هذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي بملكنا الصواب * (ول‍اكنا حملنا أوزارا من زينة القوم) * استدراك عما سبق واعتذار عما فعلوا ببيان منشأ الخطأ، والمراد بالقوم القبط والأوزار الأحمال وتسمى بها الآثام. وعنوا بذلك ما استعاروه من القبط من الحلى برسم التزين في عيد لهم قبيل الخروج من مصر كما أسلفنا. وقيل: استعاروه باسم العرس. وقيل: هو ما ألقاه البحر على الساحل مما كان على الذين غرقوا، ولعلهم أطلقوا على ذلك الأوزار مرادا بها الآثام من حيث أن الحلى سبب لها غالبا لما أنه يلبس في الأكثر للفخر والخيلاء والترفع على الفقراء، وقيل: من حيث أنهم أثموا بسببه وعبدوا العجل المصوغ منه، وقيل من حيث أن ذلك الحلى صار بعد هلاك أصحابه في حكم الغنيمة ولم يكن مثل هذه الغنيمة حلالا لهم بل ظاهر الأحاديث الصحيحة أن الغنائم سواء كانت من المنقولات أم لا لم تحل لأحد قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، والرواية السابقة في كيفية الاضلال توافق هذا التوجيه إلا أنه يشكل على ذلك ما روي من أن موسى عليه السلام هو الذي أمرهم بالاستعارة حتى قيل: إن فاعل التحميل في قولهم * (حملنا) * هو موسى عليه السلام حيث الزمهم ذلك بأمرهم بالاستعارة وقد أبقاه في أيديهم بعد هلاك أصحابه وأقرهم على استعماله فإذا لم يكن حلالا فكيف يقرهم، وكذا يقال على القول بأن المراد به ما ألقاه البحر على الساحل، واحتمال أن موسى عليه السلام نهى عن ذلك وظن الامتثال ولم يطلع على عدمه لإخفاء الحال عنه عليه السلام مما لا يكاد يلتفت إلى مثله أصلا لا سيما على رواية أنهم أمروا باستعارة دواب من القوم أيضا فاستعاروها وخرجوا بها.
وقد يقال: إن أموال القبط مطلقا بعد هلاكهم كانت حلالا عليهم كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى: * (فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بني اسرائيل) * (الشعراء: 57 - 59) وقد أضاف سبحانه الحلى إليهم في قوله تعالى: * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا) * (الأعراف: 148) وذلك يقتضي بظاهره أن الحلى ملك لهم ويدعي اختصاص الحل فيما كان الرد فيه متعذرا لهلاك صاحبه ومن يقوم مقامه، ولا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي لجواز أن يكون المراد به أحلت لي الغنائم على أي وجه كانت ولم تحل كذلك لأحد قبلي ويكون تسميتهم ذلك أوزارا إما لما تقدم من الوجه الأول والثاني وإما لظنهم الحرمة لجهلهم في أنفسهم أو لالقاء السامري الشبهة عليهم، وقيل: إن موسى عليه السلام أمره الله تعالى أن يأمرهم بالاستعارة فأمرهم وأبقى ما استعاروه بأيديهم بعد هلاك أصحابه بحكم ذلك الأمر منتظرا ما يأمر الله تعالى به بعد. وقد جاء في بعض الأخبار ما يدل على أن الله سبحانه بين حكمه على لسان هارون عليه السلام بعد ذهاب موسى عليه السلام للميقات كما سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك. والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلقا بحملنا وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لأوزارا، ولا يتعين ذلك بناء على قولهم: إن الجمل والظروف بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال لأن ليس على إطلاقه.
وقرأ الأخوان. وأبو عمرو. وابن محيصن * (حملنا) * بفتح الحاء والميم. وأبو رجاء * (حملنا) * بضم الحاء وكسر الميم من غير تشديد * (فقذفناها) * أي طرحناها في النار كما تدل عليه الأخبار، وقيل: أي ألقيناها
246

على أنفسنا وأولادنا وليس بشيء أصلا * (فكذلك) * أي فمثل ذلك * (ألقى السامري) * أي ما كان معه منها قيل كأنه أراهم أنه أيضا يلقى ما كان معه من الحلى فقالوا ما قالوا على زعمهم وإنما كان الذي ألقاه التربة التي أخذها من أثر الرسول كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقيل: إنه ألقى ما معه من الحلى والقي مع ذلك ما أخذه من أثر الرسول كأنهم لم يريدوا إلا أنه ألقى ما معه من الحلى، وقيل: أرادوا القي التربة، وأيده بعضهم بتغيير الأسلوب إذ لم يعبر بالقذف المتبادر منه أن ما رماه جرم مجتمع وفيه نظر، وقد يقال: المعنى فمثل ذلك الذي ذكرناه لك ألقى السامري إلينا وقرره علينا وفيه بعد وإن ذرك أنه قال لهم: إنما تأخر موسى عليه السلام عنكم
لما معكم من حلى القوم وهو حرام عليكم فالرأى أن نحفر حفيرة ونسجر فيها نارا ونقذف فيها ما معنا منه ففعلوا وكان صنع في الحفيرة قالب عجل، وقد أخرج ابن اسحق. وابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما فصل موسى عليه السلام إلى ربه سبحانه قال لهم هارون عليه السلام: إنكم قد حملتم أوزارا من زينة القوم إلى فرعون وأمتعة وحليا فتطهروا منها فإنها رجس وأوقد لهم نارا فقال لهم: اقذفوا ما معكم من ذلك فيها فجعلوا يأتون بما معهم فيقذفونه فيها فجاء السامري ومعهم تراب من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام وأقبل إلى النار فقال لهارون عليه السلام: يا نبي الله أألقي ما في يدي؟ فقال: نعم ولا يظن هارون عليه السلام إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الحلى والأمتعة فقذفه فيها فقال: كن عجلا جسدا له خوار فكان للبلاء والفتنة.
وأخرج عبد بن حميد. وابن أبي حاتم عنه أيضا أن بني إسرائيل استعاروا حليا من القبط فخرجوا به معهم فقال لهم هارون بعد أن ذهب موسى عليهما السلام: اجمعوا هذا الحلى حتى يجيء موسى فيقضي فيه ما يقضي فجمع ثم أذيب فألقى السامري عليه القبضة.
* (فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا ه‍اذآ إل‍اهكم وإل‍اه موسى فنسى) *
* (فأخرج) * أي السامري * (لهم) * للقائلين المذكورين * (عجلا) * من تلك الأوزار التي قذفوها، وتأخيره مع كونه مفعولا صريحا عن الجار والمجرور لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه يتجاوب النظم الكريم فإن قوله: * (جسدا) * أي جثة ذا لحم ودم أو جسدا من ذهب لا روح فيه بدل منه، وقيل: هو نعت له على أن معناه أحمر كالمجسد، وكذا قوله تعالى: * (له خوار) * نعت له، والخوار صوت العجل، وهذا الصوت إما لأنه نفخ فيه الروح بناء على ما أخرجه ابن مردويه عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى لما وعد موسى عليه السلام أن يكلمه خرج للوقت الذي وعده فبينما هو يناجي ربه إذ سمع خلفه صوتا فقال: إلهي إني أسمع خلفي صوتا قال: لعل قومك ضلوا قال: إلهي من أضلهم؟ قال: أضلهم السامري قال: فيم أضلهم؟ قال: صاغ لهم عجلا جسدا له خوار قال: إلهي هذا السامري صاغ لهم العجل فمن فيه الروح حتي صار له خوار؟ قال: أنا يا موسى قال: فوعزتك ما أضل قومي أحد غيرك قال: صدقت يا حكيم الحكماء لا ينبغي لحكيم أن يكون أحكم منك ".
وجاء في رواية أخرى عن راشد بن سعد أنه سبحانه قال له: يا موسى إن قومك قد افتتنوا من بعدك قال: يا رب كيف يفتتنون وقد نجيتهم من فرعون ونجيتهم من البحر وأنعمت عليهم وفعلت بهم قال: يا موى إنهم اتخذوا من بعدك عجلا له خوار قال: يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا قال: فأنت يا رب أضللتهم قال:
247

يا موسى يا رأس النبيين ويا أبا الحكماء إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم، وإما لأنه تدخل فيه الريح فيصوت بناء على ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: كان بني إسرائيل تأثموا من حلى آل فرعون الذي معهم فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعهو ألقى السامري القبض وقال: كن عجلا جسدا له خوار فصار كذلك وكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه فيسمع له صوت * (فقالوا) * أي السامري ومن افتتن به أول ما رآه، وقيل: الضمير للسامري، وجيء به ضمير جمع تعظيما لجرمه، وفيه بعد.
* (ه‍اذا إل‍اهكم وإلاه موسى فنسى) * أي فغفل عنه موسى وذهب يطلبه في الطور، فضمير نسى لموسى عليه السلام كما روي عن ابن عباس. وقتادة. والفاء فصيحة أي فاعبدوه والزموا عبادته فقد نسي موسى عليه السلام، وعن ابن عباس أيضا. ومكحول أن الضمير للسامري والنسيان مجاز عن الترك والفاء فصيحة أيضا أي فأظهر السامري النفاق فترك ما كان فيه من أسرار الكفر، والأخبار بذلك على هذا منه تعالى وليس داخلا في حيز القول بخلافه على الوجه الأول. وصنيع بعض المحققين يشعر باختيار الأول، ولا يخفى ما في الاتيان باسم الإشارة والمشار إليه بمرأى منهم وتكريرا له، وتخصيص موسى عليه السلام بالذكر وإتيان الفاء من المبالغة في الضلال؛ والاخبار بالاخراج وما بعده حكاية نتيجة فتنة السامري فعلا وقولا من جهته سبحانه قصدا إلى زيادة تقريرها ثم الإنكار عليها لا من جهة القائلين وإلا لقيل فاخرج لنا، والحمل على أن عدولهم إلى ضمير الغيبة لبيان أن الاخراج والقول المذكورين للكل لا للعبدة فقط خلاف الظاهر مع أنه مخل باعتذارهم فإن مخالفة بعضهم للسامري وعدم افتتانهم بتسويله مع كون الإخراج والخطاب لهم مما يهون مخالفته للمعتذرين فافتتانهم بعد أعظم جناية وأكثر سناعة، وأما ما قيل من أن المعتذرين هم الذين لم يعبدوا العجل وأن نسبة الاخلاف إلى أنفسهم وهم برآء منه من قيل قولهم بنو فلان قتلوا فلانا مع أن القاتل واحد منهم كانوا قالوا: ما وجدنا الاخلاف فيما بيننا بأمر كنا نملكه بل تمكنت الشبهة في قلوب العبدة حيث فعل بهم السامري ما فعل فاخرج لهم ما أخرج وقال ما قال فلم نقدر على صرفهم عن ذلك ولم نفارقهم مخافة ازدياد الفتنة فقد قال شيخ الإسلام: إن سياق النظم الكريم وسباقه يقضيان بفساده، وذهب أبو مسلم إلى أن كلام المعتذرين ثم عند قولهم فقذفناها وما بعده من قوله تعالى: * (فكذلك ألقى السامري) * إلى آخره أخبار من جهته سبحانه أن السامري فعل كام فعلوا فأخرج لهم الخ وهو خلاف الظاهر.
هذا وقرأ الأعمش * (فنسى) * بسكون الياء، وقوله تعالى:
* (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) *
* (أفلا يرون) * إلى آخره إنكار وتقبيح من جهته تعالى الضالين والمضلين جميعا وتسفيه لهم فيما أقدموا عليه من المنكر الذي لا يشتبه بطلانه واستحالته على أحد وهو اتخاذ ذلك العجل الها، ولعمري لو لم يكونوا في البلادة كالبقر لما عبدوه، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا يتفكرون فلا يعلمون * (ألا يرجع إليهم قولا) * أي إنه لا يرجع اليهم كلاما ولا يرد عليهم جوابا بل يخور كسائر العجاجيل فمن هذا شأنه كيف يتوهم أنه اله.
وقرأ الإمام الشافعي. وأبو حيوة. وأبان. وابن صبيح. والزعفراني * (يرجع) * بالنصب على أن أن هي الناصبة لا المخففة من الثقيلة، والرؤية حينئذ بمعنى الأبصار لا العلم بناء على ما ذكره الرضي. وجماعة من أن
248

الناصبة لا تقع بعد إفعال القلوب مما يدل على يقين أو ظن غالب لأنها لكونها للاستقبال تدخل على ما ليس بثابت مستقر فلا يناسب وقوعها بعدما يدل على يقين ونحوه، والعطف أيضا كما سبق أي ألا ينظرون فلا يبصرون عدم رجعه إليهم قولا من الأقوال، وتعليق الإبصار بما ذكر مع كونه أمرا عدميا للتنبيه على كمال ظهوره المستدعي لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم، وقيل: إن الناصبة لا تقع بعد رأي البصرية أيضا لأنها تفيد العلم بواسطة إحساس البصر كما في إيضاح المفصل. وأجاز الفراء. وابن الأنباري وقوعها بعد إفعال العلم فضلا عن أفعال البصر، وقوله تعالى: * (ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) * عطف على * (لا يرجع) * داخل معه في حيز الرؤية أي فلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضرا ويجلب لهم نفعا أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه أو ينفعهم إن عبدوه. [بم وقوله تعالى:
* (ولقد قال لهم ه‍ارون من قبل ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحم‍ان فاتبعونى وأطيعوا أمرى) *
* (ولقد قال لهم ه‍ارون من قبل) * مع ما بعد جملة قسمية مؤكدة لما سبق من الإنكار والتشنيع ببيان عتوهم واستعصائهم على الرسول إثر بيان مكابرتهم لقضية العقول أي وبالله لقد نصح لهم هارون ونبههم على كنه الأمر من قبل رجوع موسى عليه السلام إليهم وخطابه إياهم بما ذكر من المقالات، وإلى اعتبار المضاف إليه قبل ما ذكر ذهب الواحدي، وقيل: من قبل قول السامري هذا إلهكم وإله موسى كأنه عليه السلام أول ما أبصره حين طلع من الحفيرة تفرس فيهم الافتتان فسارع إلى تحذيرهم، واختاره صاحب الكشف تبعا لشيخه وقال: هو أبلغ وأدل على توبيخهم بالإعراض عن دليل العقل والسمع في * (أفلا يرون. ولقد قال) * واختار بعضهم الأول وادعى أن الجواب يؤيده، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك.
وجوز العلامة الطيبي في هذه الجملة وجهين كونها معطوفة على قوله تعالى: * (أفلا يرون) * وقال: إن في إيثار المضارع فيه دلالة على استحضار تلك الحالة الفظيعة في ذهن السامع واستدعاء الإنكار عليهم، وكونها في موضع الحال من فاعل * (يرون) * مقررة لجهة الإنكار أي أفلا يرون والحال أن هارون نبههم قبل ذلك على كنه الأمر، وقال لهم: * (يا قوم إنما فتنتم به) * أي أوقعتم في الفتنة بالعجل أو أضللتم على توجيه القصر المستفاد من كلمة * (إنما) * في أغلب استعمالاتها إلى نفس الفعل بالقياس إلى مقابله الذي يدعيه القوم لا إلى قيده المذكور بالقياس إلى قيد آخر على معنى إنما فعل بكم الفتنة لا الإرشاد إلى الحق لا على معنى إنما فتنتم بالعجل لا بغيره، وقوله تعالى: * (وإن ربكم الرحمان) * بكسر همة * (إن) * عطفا على * (إنما) * الخ إرشاد لهم إلى الحق أثر زجرهم عن الباطل. والتعرض لعنوان الربوبية والرحمة للاعتناء باستمالتهم إلى الحق. وفي ذلك تذكير لتخليصهم من فرعون زمان لم يوجد العجل. وكذا على ما قيل تنبيه على أنهم متى تابوا قبلهم. وتعريف الطرفين لإفادة الحصر أي وإن ربكم المستحق للعبادة هو الرحمن لا غير.
وقرأ الحسن. وعيسى. وأبو عمرو في رواية * (وأن ربكم) * بفتح الهمزة، وخرج على أن المصدر المنسبك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن ربكم الرحمن، والجملة معطوفة على ما مر، وقال أبو حاتم: التقدير ولأن ربكم الخ وجعل الجار والمجرور متعلقا باتبعوني. وقرأ فرقة * (أنما. وأن ربكم) * بفتح الهمزتين، وخرج على لغة سليم
249

حيث يفتحون همزة إن بعد القول مطلقا. والفاء في قوله تعالى: * (فاتبعوني وأطيعوا أمري) * لترتيب ما بعدها على ما قبلها من مضمون الجملتين أي إذا كان الأمر كذلك فاتبعوني وأطيعوا أمري في الثبات على الدين.
وقال ابن عطية: أي فاتبعوني إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه، وفيه أنه عليه السلام لم يكن بصدد الذهاب إلى الطور ولم يكن مأمورا به وما واعد الله سبحانه أولئك المفتونين بذهابهم أنفسهم إليه، وقيل: - ولا يخلو عن حسن - أي فاتبعوني في الثبات على الحق وأطيعوا أمري هذا وأعرضوا عن التعرض لعبادة ما عرفتم أمره أو كفوا أنفسكم عن اعتقاد الوهيته وعبادته.
* (قالوا لن نبرح عليه ع‍اكفين حتى يرجع إلينا موسى) *
* (قالوا) * في جواب هارون عليه السلام * (لن نبرح عليه) * أي لا نزال على عبادة العجل * (عاكفين) * مقيمين * (حتى يرجع إلينا موسى) * الظاهر من حالهم أنهم لم يجعلوا رجوعه عليه السلام غاية للعكوف على عبادة العجل على طريق الوعد بتركها لا محالة عند رجوعه بل ليروا ماذا يكون منه عليه السلام وماذا يقول فيه، وقيل: إنهم علق في أذهانهم قول السامري: * (هذا إلهكم وإله موسى فنسي) * فغيوا برجوعه بطريق التعلل والتسويف وأضمروا أنه إذا رجع عليه السلام يوافقهم على عبادته وحاشاه، وهذا مبني على أن المحاورة بينهم وبين هارون عليه السلام وقعت بعد قول السامري المذكور فيكون * (من قبل) * على معنى من قبل رجوع موسى، وذكر أن هذا الجواب يؤيده هذا المعنى لأن قولهم: * (لن نبرح) * الخ يدل على عكوفهم حال قوله عليه السلام وهم لم يعكفوا على عبادته قبل قول السامري وإنما عكفوا بعده.
وقال الطيبي: إن جوابهم هذا من باب الأسلوب الأحمق نقيض الأسلوب الحكيم لأنهم قالوه عن قلة مبالاة بالأدلة الظاهرة كما قال نمروذ في جواب الخليل عليه السلام: * (أنا أحيي وأميت) * (البقرة: 258) فتأمل، واستدل أبو حيان بهذا التغيي على أن - لن - لا تفيد التأبيد لأن التغي لا يكون إلا حيث يكون الشيء محتملا فيزال الاحتمال به.
وأنت تعلم أن القائل بإفادتها ذلك لا يدعي أنها تفيده في كل الموارد وهو ظاهر، وفي بعض الأخبار أنهم لما قالوا ذلك اعتزلهم هارون عليه السلام في اثني عشر ألفا وهم الذي لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى عليه السلام وسمع الصياح وكانوا يسجدون إذا خار العجل فلا يرفعون حتى يخور ثانية، وفي رواية كانوا يرقصون عند خواره قال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة حتى إذا وصل قال لقومه ما قال وسمع منهم ما قالوا.
وقوله تعالى:
* (قال ياه‍ارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا) *
* (قال) * استئناف نشأ من حكاية جوابهم السابق أعني قوله تعالى: * (ما أخلفنا موعدك) * الخ كأنه قيل: فماذا قال موسى لهارون عليهما السلام حين سمع جوابهم وهل رضي بسكوته بعد ما شاهد منهم ما شاهد؟ فقيل: قال له وهو مغتاظ قد أخذ بلحيته ورأسه * (يا ه‍ارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا) * بعبادة العجل ولم يلتفتوا إلى دليل بطلانها.
* (ألا تتبعن أفعصيت أمرى) *
* (ألا تتبعن) * أي تتبعني على أن * (لا) * سيف خطيب كما في قوله تعالى: * (ما منعك ألا تسجد) * (الأعراف: 12) وهو مفعول ثاني لمنع وإذ متعلق بمنع، وقيل: بتتبعني، ورد بأن ما بعد - أن - لا يعمل فيما قبلها، وأجيب بأن الظرف يتوسع فيه ما لم يتوسع في غيره وبأن الفعل السابق لما طلبه على أنه مفعول ثان له كان مقدما حكما وهو كما ترى أي أي شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من أن تتبعني وتسير بسيري في الغضب لله تعالى والمقاتلة مع من كفر به وروي ذلك عن مقاتل، وقيل: في الإصلاح والتسديد ولا يساعده ظاهر الاعتذار، واستظهر أبو حيان أن يكون المعنى ما منعك من أن تلحقني إلى جبل الطور بمن آمن من بني إسرائيل، وروي ذلك عن ابن عباس
250

رضي الله تعالى عنهما وكان موسى عليه السلام رأى أن مفارقة هارون لهم وخروجه من بينهم بعد تلك النصائح القولية ازجر لهم من الاقتصار على النصائح لما أن ذلك أدل على الغضب وأشد في الإنكار لا سيما وقد كان عليه السلام رئيسا عليهم محبوبا لديهم وموسى يعلم ذلك ومفارقة الرئيس المحبوب كراهة لأمر تشق جدا على النفوس وتستدعي ترك ذلك الأمر المكروه له الذي يوجب مفارقته وهذا ظاهر لا غبار عليه عند من أنصف.
فالقول بأن نصائح هارون عليه السلام حيث لم تزجرهم عما كانوا عليه فلأن لا تزرجهم مفارقته إياهم عنه أولى على ما فيه لا يرد على ما ذكرنا؛ ولا حاجة إلى الاعتذار بأنهم إذا علموا أنه يحلقه ويخبره عليهما السلام بالقصة يخافون رجوع موسى عليه السلام فينزجرون عن ذلك ليقال: إنه بمعزل عن القبول كيف لا وهم قد صرحوا بأنهم عاكفون عليه إلى حين رجوعه عليه السلام، وقال علي بن عيسى: إن * (لا) * ليست مزيدة، والمعنى ما حملك على عدم الاتباع فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله * (أفعصيت أمري) * بسياستهم حسب ما ينبغي فإن قوله عليه السلام: * (اخلفني في قومي) * بدون ضم قوله: * (وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) * (الأعراف: 142) متضمن للأمر بذلك حتما فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يابشره المستخلف لو كان حاضرا وموسى عليه السلام لو كان حاضرا لساسهم على أبلغ وجه، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألم تتبعني أو أخالفتني فعصيت أمري.
* (قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنىإسرءيل ولم ترقب قولى) *
* (قال يا بنؤم) * خص الأم بالإضافة استعطافا وترقيقا لقلبه لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه فإن الجمهور على أنهما كانا شقيقين.
وقرأ حمزة. والكسائي * (يابن أم) * بكسر الميم * (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) * أي بشعر رأسي فإن الأخذ أنسب به، وزعم بعضهم أن قوله: * (بلحيتي) * على معنى بشعر لحيتي أيضا لأن أصل وضع اللحية للعضو النابت عليه الشعر ولا يناسبه الأخذ كثير مناسبة، وأنت تعلم أن المشهور استعمال اللحية في الشعر النابت على العضو المخصوص، وظاهر الآيات والأخبار أنه عليه السلام أخذ بذلك. روي أنه أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله وكان عليه السلام حديدا متصلبا غضوبا لله تعالى وقد شاهد ما شاهد وغلب على ظنه تقصير في هارون عليه السلام يستحق به وإن لم يخرجه عن دائرة العصمة الثابتة للأنبياء عليهم السلام التأديب ففعل به ما فعل وباشر ذلك بنفسه ولا محذور فيه أصلا ولا مخالفة للشرع فلا يرد ما توهمه الإمام فقال: لا يخلو الغضب من أن يزيل عقله أولا والأول لا يعتقده مسلم والثاني لا يزيل السؤال بلزوم عدم العصمة وأجاب بما لا طائل تحته. وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي * (بلحيتي) * بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز * (إني خشيت) * الخ استئناف لتعليل موجب النهي بتحقيق أنه غير عاص أمره ولا مقصر في المصلحة أي خشيت لو قاتلت بعضهم ببعض وتفانوا وتفرقوا أو خشيت لو لحقتك بمن آمن * (أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) * برأيك مع كونهم أبناء واحد كما ينبىء عن ذلك ذكرهم بهذا العنوان دون القوم ونحوه، واستلزام المقاتلة التفريق ظاهر، وكذا اللحوق بموسى عليه السلام مع من آمن وربما يجر ذلك إلى المقاتلة. وقيل: أراد عليه السلام بالتفريق على التفسير الأول ما يستتبعه القتال من التفريق الذي لا يرجى الاجتماع.
* (ولم ترقب) * أي ولم تراع * (قولي) * والجملة عطف على * (فرقت) * أي خشيت أن تقول مجموع الجملتين
251

وتنسب إلى تفريق بني إسرائيل وعدم مراعاة قولك لي ووصيتك إياي، وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من ضمير * (فرقت) * أي خشيت أن تقول فرقت بينهم غير مراع قولي أي خشيت أن تقول مجموع هذا الكلام، وأراد بقول موسى المضاف إلى الياء قوله عليه السلام: * (اخلفني في قومي وأصلح) * (الأعراف: 142) الخ، وحاصل اعتذاره عليه السلام إني رأيت الإصلاح في حفظ الدهماء والمداراة معهم وزجرهم على وجه لا يختل به أمر انتظامهم واجتماعهم ولا يكون سببا للومك إياي إلى أن ترجع إليهم فتكون أنت المتدارك للأمر حسبما تراه لا سيما والقوم قد استضعفوني وقربوا من أن يقتلوني كما أفصح عليه السلام بهذا في آية أخرى.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج ما يدل على أن المراد من القول المضاف قول هارون عليه السلام، وجملة * (لم ترقب) * في موضع الحال من ضمير * (تقول) * أي خشيت أن تقول ذلك غير منتظر قولي وبيان حقيقة الحال فتأمل.
وقرى أبو جعفر * (ولم ترقب) * بضم التاء وكسر القاف مضارع أرقب.
* (قال فما خطبك ياس‍امري) *
* (قال) * استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكاية ما سلف من اعتذار القوم بإسناد الفساد إلى السامري واعتذار هارون عليه السلام كأنه قيل: فماذا صنع موسى عليه السلام بعد سماع ما حكى من الاعتذارين واستقرار أصل الفتنة على السامري؟ فقيل قال موبخا له إذا كان الأمر هذا * (فما خطبك يا سامري) * أي ما شأنك والأمر العظيم الصادر عنك؛ وما سؤال عن السبب الباعث لذلك، وتفسير الخطب بذلك هو المشهور، وفي " الصحاح " الخطب سبب الأمر.
وقال بعض الثقات: هو في الأصل مصدر خطب الأمر إذا طلبه فإذا قيل لمن يفعل شيئا: ما خطبك؟ فمعناه ما طلبك له وشاع في الشأن والأمر العظيم لأنه يطلب ويرغب فيه، واختير في الآية تفسيره بالأصل ليكون الكلام عليه أبلغ حيث لم يسأله عليه السلام عما صدر منه ولا عن سببه بل عن سبب طلبه، وجعل الراغب الأصل لهذا الشائع الخطب بمعنى التخاطب أي المراجعة في الكلام، وأطلق عليه لأن الأمر العظيم يكثر فيه التخاطب، وجعل في الأساس الخطب بمعنى الطلب مجازا فقال: ومن المجاز فلان يخطب عمل كذا يطلبه وما خطبك ما شأنك الذي تخطبه، وفرق ابن عطية بين الخطب والشأن بأن الخطب يقتضي انتهارا ويستعمل في المكاره دون الشأن ثم قال فكأنه قيل ما نحسك وما شؤمك وما هذا الخطب الذي جاء منك انتهى.
وليس ذلك بمطرد فقد قال إبراهيم عليه السلام للملائكة عليهم السلام: * (فما خطبكم أيها المرسلون) * (الحجر: 57) ولا يتأتى فيه ما ذكر.
وزعم بعض من جعل اشتقاقه من الخطاب أن المعنى ما حملك على أن خاطبت بني إسرائيل بما خاطبت.
وفعلت معهم ما فعلت وليس بشيء، وخطابه عليه السلام إياه بذلك ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه ويفعل به وبما أخرجه ما يكون نكالا للمفتونين ولمن خلفهم من الأمم.
* (قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذالك سولت لى نفسى) *
* (قال) * أي السامري مجيبا له عليه السلام * (بصرت بما لم يبصروا به) * بضم الصاد فيهما أي علمت ما لم يعلمه القوم وفطنت لما لم يفطنوا له، قال الزجاج يقال: بصر بالشيء إذا علمه وأبصر إذا نظر، وقيل: بصره وأبصره بمعنى واحد؛ وقال الراغب: البصر يقال: للجارحة الناظرة وللقوة التي فيها ويقال: لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر ويقال من الأول أبصرت. ومن الثاني أبصرته وبصرت به. وقلما يقال: بصرت في الحاسة إذا لم يضامه رؤية القلب اه‍.
252

وقرأ الأعمش. وأبو السمال * (بصرت) * بكسر الصاد * (بما لم يبصروا) * بفتح الصاد. وقرأ عمرو بن عبيد * (بصرت) * بضم الباء وكسر الصاد * (بما لم تبصروا) * بضم التاء المثناة من فوق وفتح الصاد على البناء للمفعول.
وقرأ الكسائي. وحمزة وأبو بحرية. والأعمش. وطلحة. وابن أبي ليلى. وابن مناذر. وابن سعدان. وقعنب * (بما لم تبصروا) * بالتاء الفوقانية المفتوحة وبضم الصاد. والخطاب لموسى عليه السلام وقومه. وقيل: له عليه السلام وحده وضمير الجمع للتعظيم كما قيل في قوله تعالى: * (رب ارجعون) * وهذا منقول عن قدماء النحاة وقد صرح به الثعالبي في سر العربية، فما ذكره الرضي من أن التعظيم إنما يكون في ضمير المتكلم مع الغير كفعلنا غير مرتضى وإن تبعه كثير. وادعى بعضهم أن الأنسب بما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله: * (وكذلك سولت لي نفسي) * تفسير بصر برأي لا سيما على القراءة بالخطاب فإن ادعاء علم ما لم يعلمه موسى عليه السلام جراءة عظيمة لا تليق بشأنه ولا بمقامه بخلاف ادعاء رؤية ما لم يره عليه السلام فإنه مما يقع بحسب ما يتفق. وقد كان فيما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رأى جبريل عليه السلام يوم فلق البحر على فرس فعرفه لما أنه كان يغذوه صغيرا حين خافت عليه أمه فألقته في غار فأخذ قبضة من تحت حافر الفرس وألقى في روعه أنه لا يلقيها على شيء فيقول: كن كذا إلا كان.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه رآه عليه السلام راكبا على فرس حين جاء ليذهب بموسى عليهما السلام إلى الميقات ولم يره أحد غيره من قوم موسى عليه السلام فأخذ من موطىء فرسه قبضة من التراب. وفي بعض الآثار أنه رآه كلما رفع الفرس يديه أو رجليه على التراب اليبس يخرج النبات فعرف أن له شأنا فأخذ من موطئه حفنة، وذلك قوله تعالى: * (فقبضت قبضة من أثر الرسول) * أي من أثر فرس الرسول. وكذا قرأ عبد الله، فالكلام على حذف مضاف كما عليه أكثر المفسرين. وأثر الفرس التراب الذي تحت حافره. وقيل: لا حاجة إلى تقدير مضاف لأن أثر فرسه أثره عليه السلام.
ولعل ذكر جبريل عليه السلام بعنوان الرسالة لأنه لم يعرفه إلا بهذا العنوان أو للإشعار بوقوفه على ما لم يقف عليه القوم من الأسرار الإلهية تأكيدا لما صدر به مقالته والتنبيه كما قيل على وقت أخذ ما أخذ.
والقبضة المرة من القبض أطلقت على المقبوض مرة، وبذلك يرد على القائلين بأن المصدر الواقع كذلك لا يؤنث بالتاء فيقولون: هذه حلة نسيج اليمن ولا يقولون: نسيجة اليمن. والجواب بأن الممنوع إنما هو التاء الدالة على التحديد لا على مجرد التأنيث كما هنا والمناسب على هذا أن لا تعتبره المرة كما لا يخفى.
وقرأ عبد الله. وأبي. وابن الزبير. والحسن. وحميد * (قبصت) * قبصة بالصاد فيهما؛ وفرقوا بين القبض بالضاد المعجمة والقبص بالصاد بأن الأول الأخذ بجميع الكف والثاني الأخذ بأطراف الأصابع ونحوهما الخضم بالخاء للأكل بجميع الفم والقضم بالقاف للأكل بأطراف الأسنان. وذكر أن ذلك مما غير لفظه لمناسبة معناه فإن الضاد المعجمة للثقل واستطالة مخرجها جعلت فيما يدل على الأكثر والصاد لضيق محلها وخفائه جعلت فيما يدل على القليل.
وقرأ الحسن بخلاف عنه. وقتادة. ونصر بن عاصم بضم القاف والصاد المهملة وهو اسم للمقبوض كالمضغة اسم للممضوغ * (فنبذتها) * أي ألقيتها في الحلي المذاب. وقيل: في جوف العجل فكان ما كان.
253

* (وكذلك سولت لي نفسي) * أي زينته وحسنته إلى والإشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعد. وذلك على حد قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143) وحاصل جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء لا لشيء آخر من البرهان العقلي أو النقلي أو من الإلهام الإلهي. هذا ثم ما ذكر من تفسير الآية هو المأثور عن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم وتبعهم جل أجلة المفسرين، وقال أبو مسلم الأصبهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكروه. وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وأثره سنته ورسمه الذي أمر به ودرج عليه فقد يقول الرجل: فلأن يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، وتقرير الآية على ذلك أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم بالعجل قال: بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت أن الذي عليه القوم ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أي شيئا من دينك فنبذتها أي طرحتها ولم أتمسك بها. وتعبيره عن موسى عليه السلام بلفظ الغائب على نحو قول من يخاطب الأمير ما قول الأمير في كذا. ويكون إطلاق الرسول منه عليه عليه السلام نوعا من التهكم حيث كان كافرا مكذبا به على حد قوله تعالى حكاية عن الكفرة: * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) * (الحجر: 6) انتهى، وانتصر له بعضهم بأنه أقرب إلى التحقيق. ويبعد قول المفسرين أن جبريل عليه السلام ليس معهودا باسم الرسول ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر وأن ما قالوه لا بد له من تقدير المضاف والتقدير خلاف الأصل وأن اختصاص السامري برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين سائر الناس بعيد جدا. وأيضا كيف عرف أن أثر حافر فرسه يؤثر هذا الأمر الغريب العجيب من حياة الجماد وصيرورته لحما ودما على أنه لو كان كذلك لكان الأثر نفسه أولى بالحياة. وأيضا متى اطلع كافر على تراب هذا شأنه فلقائل أن يقول لعل موسى عليه السلام اطلع شيء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات فيكون ذلك فيما أتى به المرسلون عليهم السلام من الخوارق، وأيضا يبعد الكفر والإقدام على الإضلال بعد أن عرف نبوة موسى عليه السلام بمجىء هذا الرسول الكريم إليه انتهى.
وأجيب بأنه قد عهد في القرآن العظيم إطلاق الرسول على جبريل عليه السلام فقد قال سبحانه: * (إنه لقول رسول كريم) * (الحاقه: 40) وعدم جريان ذكر له فيما تقدم لا يمنع من أن يكون معهودا، ويجوز أن يكون إطلاق الرسول عليه عليه السلام شائعا في بني إسرائيل لا سيما إن قلنا بصحة ما روي أنه عليه السلام كان يغذي من يلقى من أطفالهم في الغار في زمان قتل فرعون لهم، وبأن تقدير المضاف في الكلام أكثر من أن يحصى وقد عهد ذلك في كتاب الله تعالى غير مرة، وبأن رؤيته جبريل عليه السلام دون الناس كان ابتلاء منه تعالى ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وبأن معرفته تأثير ذلك الأثر ما ذكر كانت لما ألقى في روعه أنه لا يلقيه على شيء فيقول كن كذا إلا كان كما في خبر ابن عباس أو كانت لما شاهد من خروج النبات بالوطء كما في بعض الآثار. ويحتمل أن يكون سمع ذلك من موسى عليه السلام، وبأن ما ذكر من أولوية الأثر نفسه بالحياة غير مسلم ألا ترى أن الإكسير يجعل ما يلقى هو عليه ذهبا ولا يكون هو بنفسه ذهبا. وبأن المعجزة مقرونة بدعوى الرسالة من الله تعالى والتحدي وقد قالوا: متى ادعى أحد الرسالة وأظهر الخارق وكان لسبب خفي يجهله المرسل إليهم قيض الله تعالى ولا بد من يبين حقيقة
254

ذلك بإظهار مثله غير مقرون بالدعوى أو نحو ذلك أو جعل المدعي بحيث لا يقدم على فعل ذلك الخارق بذلك السبب بأن يسلب قوة التأثير أو نحو ذلك لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وتكون له عز وجل الحجة البالغة، وجوزوا ظهور الخارق لا عن سبب أو عن سبب خفي على يد مدعي الألوهية لأن كذبه ظاهر عقلا ونقلا. ولا تتوقف إقامة الحجة على تكذيبه بنحو ما تقدم. وبان ما ذكر من بعد الكفر والإضلال من السامري بعد أن عرف نبوة موسى عليه السلام في غاية السقوط فقد قال تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * (النمل: 14) وليس كفر السامري بأبعد من كفر فرعون وقد رأى ما رأى. ويرد على ما ذكره أبو مسلم مع مخالفته للمأثور عن خير القرون مما لا يقال مثله من قبل الرأي فله حكم المرفوع أن التعبير عن موسى عليه السلام بلفظ الغائب بعيد. وإرادة وقد كنت قبضت قبضة الخ من النظم الكريم أبعد. وأن نبذ ما عرف أنه ليس بحق لا يعد من تسويل النفس في شيء فلا يناسب ختم جوابه بذلك. فزعم أن ما ذكره أقرب إلى التحقيق باطل عند أرباب التدقيق.
وزعمت اليهود أن ما ألقاه السامري كان قطعة من الحلي منقوشا عليها بعض الطلسمات وكان يعقوب عليه السلام قد علقها في عنق يوسف عليه السلام إذ كان صغيرا كما يعلق الناس اليوم في أعناق أطفالهم التمائم وربما تكون من الذهب والفضة منقوشا عليها شيء من الآيات أو الأسماء أو الطلسمات وقد ظفر بها من حيث ظفر فنبذها مع حلي بني إسرائيل فكان ما كان لخاصية ما نقش عليها فيكون على هذا قد أراد بالرسول رسول بني إسرائيل في مصر من قبل وهو يوسف عليه السلام. ولم يجىء عندنا خبر صحيح ولا ضعيف بل ولا موضوع فيما زعموا. نعم جاء عندنا أن يعقوب كان قد جعل القميص المتوارث في تعويذ وعلقه في عنق يوسف عليه السلام.
وفسر بعضهم بذلك قوله تعالى: * (اذهبوا بقميصي هذا) * (يوسف: 93) الخ. وما أغفل أولئك البهت عن زعم أن الأثر هو ذلك القميص فإنه قد عهد منه ما تقدم في أحسن القصص في قوله تعالى: * (اذهبوا بقميصي هذا فالقوه على وجه أبي يأت بصيرا) * فبين معافاة المبتلي وحياة الجماد مناسبة كلية فهذا الكذب لو ارتكبوه لربما كان أروج قبولا عند أمثال الأصبهاني الذين ينبذون ما روي عن الصحابة مما لا يقال مثله بالرأي وراء ظهورهم نعوذ بالله تعالى من الضلال.
* (قال فاذهب فإن لك فى الحيواة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إل‍اهك الذى ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه فى اليم نسفا) *
* (قال) * استئناف كما مر غير مرة أي قال موسى عليه السلام إذا كان الأمر كما ذكرت * (فاذهب) * أي من بين الناس، وقوله تعالى: * (فإن لك في الحيواة) * إلى آخره تعليل لموجب الأمر. و * (في) * متعلقة بالاستقرار العامل في * (لك) * أي ثابت لك في الحياة أو بمحذوف وقع حالا من الكاف، والعامل معنى الاستقرار المذكور أيضا لاعتماده على ما هو مبتدأ معنى أعني قوله تعالى: * (أن تقول لا مساس) * ولم يجوز تعلقه بتقول لمكان أن؛ وقد تقدم آنفا عذر من يعلق الظرف المتقدم بما بعدها. ولا يظهر ما يشفي الخاطر في وجه تعليق العلامة أبي السعود - إذ - في قوله تعالى: * (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * أن لا تتبعني) * (
طه: 92، 93) فيما بعد أن وعدم تجويز تعليق * (في الحياة) * فيما بعدها أي إن لك مدة حياتك أن تفارق الناس مفارقة كلية لكن لا بحسب الاختيار بموجب التكليف بل بحسب الاضطرار الملجىء إليها، وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام لا يكاد يمس أحدا أو يمسه أحد كائنا من كان الاحم من ساعته حمى شديدة فتحامى الناس وتحاموه وكان يصيح بأقصى صوته لا مساس وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومؤاكلته ومبايعته وغير ذلك مما يعتاد جريانه فيما بين الناس من المعاملات
255

وصار بين الناس أوحش من القاتل اللاجىء إلى الحرم ومن الوحشي النافر في البيداء، وذكر أنه لزم البرية وهجر البرية، وذكر الطبرسي عن ابن عباس أن المراد أن لك ولولدك أن تقول الخ، وخص عرو الحمى بما إذا كان الماس أجنبيا، وذكر أن بقايا ولده باق فيهم تلك الحال إلى اليوم، وقيل: ابتلى بالوسواس حين قال له موسى عليه السلام ذلك، وعليه حمل قول الشاعر:
فأصبح ذلك كالسامري * إذ قال موسى له لا مساسا
وأنكر الجبائي ما تقدم من حديث عرو الحمى عند المس وقال: إنه خاف وهرب وجعل يهيم في البرية لا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار لبعده عن الناس كالقائل لا مساس وصحح الأول، والمساس مصدر ماس كقتال مصدر قاتل وهو منفي بلا التي لنفي الجنس وأريد بالنفي النهي أي لا تمسين ولا أمسك. وقرأ الحسن. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة. وقعنب * (لا مساس) * بفتح الميم وكسر السين آخره وهو بوزن فجار، ونحوه قولهم في الظباء إن وردت الماء فلا عباب وإن فقدته فلا أباب. وهي كما قال الزمخشري. وابن عطية أعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب أي الطلب، ومن هذا قول الشاعر: تميم كرهط السامري وقوله * ألا لا يريد السامري مساس
و * (لا) * على هذا ليست النافية للجنس لأنها مختصة بالنكرات وهذا معرفة من أعلام الأجناس ولا داخلة معنى عليه فإن المعنى لا يكون أو لا يكن منك مس لنا. وهذا أولى من أن يكون المعنى لا أقول مساس.
وظاهر كلام ابن جني أنه اسم فعل كنزال. والمراد نفي الفعل أي لا أمسك والسر في عقوبته على جنايته بما ذكر على ما قيل: إنه ضد ما قصده من إظهار ذلك ليجتمع عليه الناس ويعززوه فكان سببا لبعدهم عنه وتحقيره وصار لديهم أبغض من الطلياء وأهون من معبأة.
وقيل: لعل السر في ذلك ما بينهما من مناسبة التضاد فإنه لما أنشأ الفتنة بما كانت ملابسته سببا لحياة الموات عوقب بما يضاده حيث جعلت ملابسته سببا للحمى التي هي من أسباب موت الأحياء، وقيل: عوقب بذلك ليكون الجزاء من جنس العمل حيث نبذ فنبذ فإن ذلك التحامي أشبه شيء بالنبذ وكانت هذه العقوبة على ما في البحر: باجتهاد من موسى عليه السلام، وحكى فيه القول بأنه أراد قتله فمنعه الله تعالى عن ذلك لأنه كان سخيا، وروي ذلك عن الصادق رضي الله تعالى عنه، وعن بعض الشيوخ أنه قد وقع ما يقرب من ذلك في شرعنا في قضية الثلاثة الذين خلفوا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله تعالى عليهم. ومذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في القتال اللاجىء إلى الحرم نحو ذلك ليضطر إلى الخروج فيقتل في الحل * (وإن لك موعدا) * أي في الآخرة * (لن تخلفه) * أي لن يخلفك الله تعالى ذلك الوعد بل ينجزه لك البتة بعد ما عاقبك في الدنيا.
وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو. والأعمش بضم التاء وكسر اللام على البناء للفاعل على أنه من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا كأجبنته إذا وجدته جبانا. وعلى ذلك قول الأعشى: أثوى وقصر ليله ليزودا * فمضى وأخلف من قتيلة موعدا
وجوز أن يكون التقدير لن تخلف الواعد إياه فحذف المفعول الأول وذكر الثاني لأنه المقصود. والمعنى
256

لن تقدر أن تجعل الواعد مخلفا لوعده بل سيفعله، ونقل ابن خالويه عن ابن خالويه عن ابن نهيك أنه قرأ * (لن تخلفه) * بفتح التاء المثناة من فوق وضم اللام، وفي اللوامح أنه قرىء * (لن يخلفه) * بفتح الياء المثناة من تحت وضم اللام وهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده، قيل: المعنى على الرواية الأولى وإن لك موعدا لا بد أن تصادفه، وعلى الرواية الثانية وإن لك موعدا لا يدفع قول لا مساس فافهم.
وقرأ ابن مسعود. والحسن بخلاف عنه * (لن نخلفه) * بالنون المفتوحة وكسر اللام على أن ذلك حكاية قول الله عز وجل، وقال ابن جني: أي لن نصادفه خلفا فيكون من كلام موسى عليه السلام لا على سبيل الحكاية وهو ظاهر لو كانت النون مضمومة * (وانظر إلى إل‍اهك) * أي معبودك * (الذي ظلت) * أي ظللت كما قرأ بذلك أبي. والأعمش فحذفت اللام الأولى تخفيفا، ونقل أبو حيان عن سيبويه أن هذا الحذف من شذوذ القياس ولا يكون ذلك إلا إذا سكن آخر الفعل، وعن بعض معاصريه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث سكن آخر الفعل، وقال بعضهم: إنه مقيس في المضاعف إذا كانت عينه مكسورة أو مضمومة.
وقرأ ابن مسعود. وقتادة. والأعمش بخلاف عنه. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة. وابن يعمر بخلاف عنه أيضا * (ظلت) * بكسر الظاء على أنه نقل حركة اللام إليها بعد حذف حركتها، وعن ابن يعمر أنه ضم الظاء وكأنه مبني على مجيء الفعل في بعض اللغات على فعل بضم العين وحينئذ يقال بالنقل كما في الكسر * (عليه) * أي على عبادته * (عاكفا) * أي مقيما، وخاطبه عليه السلام دون سائر العاكفين على عبادته القائلين: * (لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) * (طه: 91) لأنه رأس الضلال ورئيس أولئك الجهال * (لنحرقنه) * جواب قسم محذوف أي بالله تعالى لنحرقنه بالنار كما أخرج ذلك ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس، ويؤيده قراءة الحسن. وقتادة وأبي جعفر في رواية. وأبي رجاء. والكلبي * (لنحرقنه) * مخففا من أحرق رباعيا فإن الإحراق شائع فيما يكون بالنار وهذا ظاهر في أنه صار ذا لحم ودم.
وكذا ما في مصحف أبي. وعبد الله * (لنذبحنه ثم لنحرقنه) *. وجوز أبو علي أن يكون نحرق مبالغة في حرق الحديد حرقا بفتح الراء إذا برده بالمبرد. ويؤيده قراءة على كرم الله تعالى وجهه. وحميد. وعمرو بن فايد. وأبي جعفر في رواية. وكذا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما * (لنحرقنه) * بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء فإن حرق يحرق بالضم مختص بهذا المعنى كما قيل، وهذا ظاهر في أنه لم يصر ذا لحم ودم بل كان باقيا على الجمادية.
وزعم بعضهم أنه لا بعد على تقدير كونه حيا في تحريقه بالمبرد إذ يجوز خلق الحياة في الذهب مع بقائه على الذهبية عند أهل الحق، وقال بعض القائلين بأنه صار حيوانا ذا لحم ودم: إن التحريق بالمبرد كان للعظام وهو كما ترى، وقال النسفي: تفريقه بالمبرد طريق تحريقه بالنار فإنه لا يفرق الذهب إلا بهذا الطريق. وجوز على هذا أن يقال: إن موسى عليه السلام حرقه بالمبرد ثم أحرقه بالنار. وتعقب بأن النار تذيبه وتجمعه ولا تحرقه وتجعله رمادا فلعل ذلك كان بالحيل إلا كسيرية أو نحو ذلك * (ثم لننسفنه) * أي
257

لنذرينه. وقرأت فرقة منهم عيسى بضم السين. وقرأ ابن مقسم * (لننسفنه) * بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين * (في اليم) * أي في البحر كما أخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
وأخرج عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه فسره بالنهر، وقوله تعالى: * (نسفا) * مصدر مؤكد أي لنفعلن به ذلك بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر ولا يصادف منه شيء فيؤخذ، ولقد فعل عليه السلام ما أقسم عليه كله كما يشهد به الأمر بالنظر، وإنما لم يصرح به تنبيها على كمال ظهوره واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين، وفي ذلك زيادة عقوبة للسامري وإظهار لغباوة المفتتنين، وقال في البحر بيانا لسر هذا الفعل: يظهر أنه لما كان قد أخذ السامري القبضة من أثر فرس جبريل عليه السلام وهو داخل البحر ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه من الحلى الذي كان أصله للقبط وألقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيها على أن ما كان به قيام آل إلى العدم وألقى في محل ما قامت به الحياة وأن أموال القبط قذفها الله تعالى في البحر لا ينتفع بها كما قذف سبحانه أشخاص مالكيها وغرقهم فيه ولا يخفى ما فيه.
* (إنمآ إل‍اهكم الله الذى لاإل‍اه إلا هو وسع كل شىء علما) *
* (إنما إلهكم الله) * استئناف مسوق لتحقيق الحق إثر إبطال الباطل بتلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكل أي إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله عز وجل * (الذي لا إل‍اه إلا هو) * وحده من غير أن يشاركه شيء من الأشياء بوجه من الوجوه التي من جملتها أحكام الألوهية. وقرأ طلحة * (الله لاإله إلا هو الرحمن الرحيم رب العرش) * * (وسع كل شيء علما) * أي وسع علمه كل ما من شأنه أن يعلم فالشيء هنا شامل للموجود المعدوم وانتصب * (علما) * على التمييز المحول عن الفاعل، والجملة بدل من الصلة كأنه قيل: إنما إلهكم الذي وسع كل شيء علما لا غيره كائنا ما كان فيدخل فيه العجل الذي هو مثل في الغباوة دخولا أوليا.
وقرأ مجاهد. وقتادة * (وسع) * بفتح السين مشددة فيكون انتصاب * (علما) * على أنه مفعول ثان، ولما كان في القراءة الأولى فاعلا معنى صح نقله بالتعدية إلى المفعولية كما تقول في خاف زيد عمرا: خوفت زيدا عمرا أي جعلت زيدا يخاف عمرا فيكون المعنى هنا على هذا جعل علمه يسع كل شيء، لكن أنت تعلم أن الكلام ليس على ظاهره لأن علمه سبحانه غير مجعول ولا ينبغي أن يتوهم أن اقتضاء الذات له على تقدير الزيادة جعلا وبهذا تم حديث موسى عليه السلام، وقوله تعالى:
* (كذالك نقص عليك من أنبآء ما قد سبق وقد آتين‍اك من لدنا ذكرا) *
* (كذالك نقص عليك) * كلام مستأنف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الوعد الجميل بتنزيل أمثال ما مر من أنباء الأمم السالفة والجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدر أو الكاف في محل نصب صفة لذلك المصدر أي نقص عليك * (من أنباء ما قد سبق) * من الحوادث الماضية الجارية على الأمم الخالية قصا كائنا كذلك القص المار أو قصا مثل ذلك، والتقديم للقصر المفيد لزيادة التعيين أي كذلك لا ناقصا عنه، و * (من أنباء) * إما متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول أي نقص عليك نبأ أو بعضا كائنا من أنباء.
وجوز أن يكون في حيز النصب على أنه مفعول * (نقص) * باعتبار مضمونه أي نقص بعض أنباء، وتأخيره عن * (عليك) * لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، ويجوز أن يكون * (كذلك نقص) * مثل قوله تعالى: * (كذلك جعلناكم أمة وسطا) * على أن الإشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعد، وقد مر تحقيق ذلك.
258

وفائدة هذا القص توفير علمه عليه الصلاة والسلام وتكثير معجزاته وتسليته وتذكرة المستبصرين من أمته صلى الله عليه وسلم * (وقد ءاتيناك من لدنا ذكرا) * كتابا منطويا على هذه الأقاصيص والأخبار حقيقا بالتذكر والتفكر فيه والاعتبار، و * (من) * متعلق بآتيناك، وتنكير ذكرا للتفخيم، وتأخيره عن الجار والمجرور لما أن مرجع الإفادة في الجملة كون المؤتى من لدنه تعالى ذكرا عظيما وقرآنا كريما جمعا لكل كمال لا كون ذلك الذكر مؤتى من لدنه عز وجل مع ما فيه من نوع طول بما بعده من الصفة.
وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال من * (ذكرا) * وليس بذاك، وتفسير الذكر بالقرآن هو الذي ذهب إليه الجمهور؛ وروى عن ابن زيد، وقال مقاتل: أي بيانا ومآله ومآله ما ذكر، وقال أبو سهل: أي شرفا وذكرا في الناس، ولا يلائمه قوله تعالى:
* (من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القي‍امة وزرا) *
* (من أعرض عنه) * إذ الظاهر أن ضمير * (عنه) * للذكر، والجملة في موضع الصفة له، ولا يحسن وصف الشرف أو الذكر في الناس بذلك، وقيل: الضمير لله تعالى على سبيل الالتفات وهو خلاف الظاهر جدا، و * (من) * إما شرطية أو موصولة أي من أعرض عن الذكر العظيم الشأن المستتبع لسعادة الدارين ولم يؤمن
به * (فإنه) * أي المعرض عنه * (يحمل يوم القي‍امة وزرا) * أي عقوبة ثقيلة على إعراضه وسائر ذنوبه.
والوزر في الأصل يطلق على معنيين الحمل الثقيل والإثم، وإطلاقه على العقوبة نظرا إلى المعنى الأول على سبيل الاستعارة المصرحة حيث شبهت العقوبة بالحمل الثقيل. ثم استعير لها بقرينة ذكر يوم القيامة، ونظرا إلى المعنى الثاني على سبيل المجاز المرسل من حيث أن العقوبة جزاء الاثم فهي لازمة له أو مسببة، والأول هو الأنسب بقوله تعالى: فيما بعد * (وساء) * الخ لأنه ترشيح له، ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى * (وليحملن أثقالهم) * (العنكبوت: 13) وتفسير الوزر بالإثم وحمل الكلام على حذف المضاف أي عقوبة أو جزاء إثم ليس بذاك. وقرأت فرقة منهم داود بن رفيع * (يحمل) * مشدد الميم مبنيا للمفعول لأنه يكلف ذلك لا أنه يحمله طوعا ويكون * (وزرا) * على هذا مفعولا ثانيا.
* (خ‍الدين فيه وسآء لهم يوم القي‍امة حملا) *
* (خالدين فيه) * أي في الوزر المراد منه العقوبة.
وجوز أن يكون الضمير لمصدر * (يحمل) * ونصب * (خالدين) * على الحال من المستكن في * (يحمل) * والجمع بالنظر إلى معنى * (من) * لما أن الخلود في النار مما يتحقق حال اجتماع أهلها كما أن الأفراد فيما سبق من الضمائر الثلاثة بالنظر إلى لفظها * (وساء لهم يوم القي‍امة حملا) * إنشاء للذم على أن ساء فعل ذم بمعنى بئس وهو أحد معنييه المشهورين، وفاعله على هذا هنا مستتر يعود على * (حملا) * الواقع تمييز الأعلى وزرا لأن فاعل بئس لا يكون إلا ضميرا مبهما يفسره التمييز العائد هو إليه وإن تأخر لأنه من خصائص هذا الباب والمخصوص بالذم محذوف والتقدير ساء حملهم حملا وزرهم، ولام * (لهم) * للبيان كما في سقيا له * (وهيت لك) * وهي متعلقة بمحذوف كأنه قيل: لمن يقال هذا؟ فقيل: هو يقال لهم وفي شأنهم، وإعادة * (يوم القيامة) * لزيادة التقرير وتهويل الأمر، وجوز أن يكون * (ساء) * بمعنى أحزن وهو المعنى الآخر من المعنيين؛ والتقدير على ما قيل وأحزنهم الوزر حال كونه حملا لهم.
وتعقبه في " الكشف " بأنه أي فائدة فيه والوزر أدل على الثقل من قيده ثم التقييد بلهم مع الاستغناء عنه وتقديمه الذي لا يطابق المقام وحذف المفعول وبعد هذا كله لا يلائم ما سبق له الكلام ولا مبالغة في الوعيد
259

بذلك بعدما تقدم ثم قال: وكذلك ما قاله العلامة الطيبي من أن المعنى وأحزنهم حمل الوزر على أن * (حملا) * تمييز واللام في * (لهم) * للبيان لما ذكر من فوان فخامة المعنى، وأن البيان إن كان لاختصاص الحمل بهم ففيه غنية، وإن كان لمحل الأحزان فلا كذلك طريق بيانية، وإن كان على أن هذا الوعيد لهم فليس موقعه قبل يوم القيامة وأن المناسب حينئذ وزرا ساء لهم حملا على الوصف لا هكذا معترضا مؤكدا انتهى. ولا مجال لتوجيه الاتيان باللام إلى اعتبار التضمين لعدم تحقق فعل مما يلائم الفعل المذكور مناسبا لها لأنها ظاهرة في الاختصاص النافع والفعل في الحدث الضار، والقول بازديادها كما في * (ردف لكم) * أو الحمل على التهكم تمحل لتصحيح اللفظ من غير داع إليه ويبقى معه أمر فخامة المعنى، والحاصل أن ما ذكر لا يساعده اللفظ ولا المعنى، وجوز أن يكون * (ساء) * بمعنى قبح فقد ذكر استعماله بهذا المعنى وإن كان في كونه معنى حقيقيا نظر، و * (حملا) * تمييزا و * (لهم) * حالا و * (يوم القيامة) * متعلقا بالظرف أي قبح ذلك الوزر من جهة كونه حملا لهم في يوم القيامة وفيه ما فيه.
* (يوم ينفخ فى الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) *
* (يوم ينفخ في الصور) * منصوب بإضمار اذكر، وجوز أن يكون ظرف المضمر حذف للإيذان بضيق العبارة عن حصره وبيانه أو بدلا من * (يوم القيامة) * أو بيانا له أو ظرفا ليتخافتون، وقرأ أبو عمرو. وابن محيصن. وحميد * (ننفخ) * بنون العظمة على إسناد الفعل إلى الآمر به وهو الله سبحانه تعظيما للنفخ لأن ما يصدر من العظم عظيم أو للنافخ يجعل فعله بمنزلة فعله تعالى وهو إنما يقال لمن له مزيد اختصاص وقرب مرتبة، وقيل: إنه يجوز أن يكون لليوم الواقع هو فيه. وقرىء * (ينفخ) * بالياء المفتوحة على أن ضميره لله عز وجل أو لإسرافيل عليه السلام وإن لم يجر ذكره لشهرته؛ وقرأ الحسن. وابن عياض في جماعة * (في الصور) * بضم الصاد وفتح الواو جمع صورة كغرفة وغرف، والمراد به الجسم المصور. وأورد أن النفخ يتكرر لقوله تعالى: * (ثم نفخ فيه أخرى) * والنفخ في الصورة إحياء والإحياء غي متكرر بعد الموت وما في القبر ليس بمراد من النفخة الأولى بالاتفاق.
وأجيب بأنه لا نسلم أن كل نفخ إحياء، وبعضهم فسر الصور على القراءة المشهورة بذلك أيضا، والحق تفسيره بالقرن الذي ينفخ فيه * (ونحشر المجرمين يومئذ) * أي يوم إذ ينفخ في الصور، وذكر ذلك صريحا مع تعين أن الحشر لا يكون إلا يومئذ للتهويل، وقرأ الحسن * (يحشر) * بالياء والبناء للمفعول و * (المجرمون) * بالرفع على النيابة عن الفاعل، وقرىء أيضا * (يحشر) * بالياء والبناء للفاعل وهو ضميره عز وجل أي ويحشر الله تعالى المجرمين * (زرقا) * حال كونهم زرق الأبدان وذلك غاية في التشويه ولا تزرق الأبدان إلا من مكابدة الشدائد وجفوف رطوبتها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما زرق العيون فهو وصف للشيء بصفة جزئه كما يقال غلام أكحل وأحول والكحل والحول من صفات العين، ولعله مجاز مشهور، وجوز أن يكون حقيقة كرجل أعمى وإنما جعلوا كذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب فإن الروم الذين كانوا أشد أعدائهم عداوة زرق، ولذلك قالوا في وصف العدو أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين، وقال الشاعر: وما كنت أخشى أن تكون وفاته * بكفي سبنتي أزرق العين مطرق
وكانوا يهجون بالزرقة كما في قوله:
لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر * الأكل ضبي من اللؤم أزرق
وسئل ابن عباس عن الجمع بين * (زرقا) * على ما روى عنه وعميا في آية أخرى فقال: ليوم القيامة حالات
260

فحالة يكونون فيها عميا وحالة يكونون فيها زرقا. وعن افراء المراد من * (زرقا) * عميا لأن العين إذا ذهب نورها أزرق ناظرها، ووجه الجمع عليه ظاهر، وعن الإهري المراد عطاشا لأن العطش الشديد يغير سواد العين فيجعله كالأزرق، وقيل: يجعله أبيض، وجاء الأزرق بمعنى الأبيض ومنه سنان أزرق، وقوله: فلما وردنا الماء زرقا جمامه
ويلائم تفسيره بعطاشا قوله تعالى على ما سمعت * (نسوق المجرمين إلى جهنم وردا) * (مريم: 86).
* (يتخ‍افتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا) *
* (يتخافتون بينهم) * أي يخفضون أصواتهم ويخفونها لشدة هول المطلع، والجملة استئناف لبيان ما يأتون وما يذرون حينئذ أو حال أخرى من * (المجرمين) *، وقوله تعالى: * (إن لبثتم) * بتقدير قول وقع حالا من ضمير * (يتخافتون) * أي قائلين ما لبثتم في القبور * (إلا عشرا) * أي عشر ليال أو عشرة أيام، ولعله أوفق بقول الأمثل.
والمذكر إذا حذف وأبقى عدده قد لا يؤتى بالتاء حكى الكسائي صمنا من الشهر خمسا، ومنه ما جاء في الحديث * (ثم أتبعه بست من شوال) * فإن المراد ستة أيام، وحسن الحذف هنا كون ذلك فاصلة، ومرادهم من هذا القول استقصار المدة وسرعة انقضائها والتنديم على ما كانوا يزعمون حيث تبين الأمر على خلاف ما كانوا عليه من إنكار البعث وعده من قبيل المحالات كأنهم قالوا: قد بعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة وقد كنتم تزعمون أنكم لن تقوموا منه أبدا، وعن قتادة أنهم عنوا لبثهم في الدنيا وقالوا ذلك استقصارا لمدة لبثهم فيها لزوالها ولاستطالتهم مدة الآخرة أو لتأسفهم عليها لما عاينوا الشدائد وأيقنوا أنهم استحقوها على إضاعة الأيام في قضاء الأوطار واتباع الشهوات، وتعقب بأنهم في شغل شاغل عن تذكر ذلك فالأوفق بحالهم ما تقدم، وبأن قوله تعالى: * (لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) * (الروم: 56) صريح في أنه اللبث في القبور وفيه بحث.
وفي " مجمع البيان " عن ابن عباس. وقتادة أنهم عنوا لبثهم بين النفختين يلبثون أربعين سنة مرفوعا عنهم العذاب * (نحن أعلم بما يقولون) * أي بالذي يقولونه وهو مدة لبثهم.
* (نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما) *
* (إذ يقول أمثلهم طريقة) * أي أعدلهم رأيا وأرجحهم عقلا و * (إذ) * ظرف يقولون * (إن لبثتم إلا يوما) * واحدا وإليه ينتهي العدد في القلة.
وقيل: المراد باليوم مطلق الوقت وتنكيره للتقليل والتحقير فالمراد إلا زمنا قليلا، وظاهر المقابلة بالعشر يبعهد، ونسبة هذا القول إلى * (أمثلهم) * استرجاح منه تعالى له لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق بل لكونه أعظم في التنديم أو لكونه أدل على شدة الهول وهذا يدل على كون قائله أعلم بفظاعة الأمر وشدة العذاب.
* (ويس‍الونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا) *
* (ويسألونك عن الجبال) * السائلون منكرو البعث من قريش على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قالوا على سبيل الاستهزاء كيف يفعل ربك بالجبال يوم القيامة، وقيل: جماعة من ثقيل، وقيل: أناس من المؤمنين * (فقل ينسفها ربي نسفا) * يجعلها سبحانه كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها، والفاء للمسارعة إلى إزالة ما في ذهن السائل من بقاء الجبال بناء على ظن أن ذلك من توابع عدم الحشر ألا ترى أن منكري الحشر يقولون بعدم تبدل هذا النظام المشاهد في الأرض والسموات أو للمسارعة إلى تحقيق الحق حفظا من أن يتوهم ما يقضي بفساد الاعتقاد.
وهذا مبني على أن السائل من المؤمنين والأول على أنه من منكري البعث، ومن هنا قال الإمام: إن مقصود السائلين الطعن في الحشر والنشر فلا جرم أمر صلى الله عليه وسلم بالجواب مقرونا بحرف التعقيب لأن تأخير البيان في
261

هذه المسألة الأصولية غير جائز وأما تأخيره في المائل الفروعية فجائز ولذا لم يؤت بالفاء في الأمر بالجواب في قوله تعالى: * (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير) * (البقرة: 219) الآية، وقوله تعالى: * (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) * (البقرة: 219) وقوله تعالى: * (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) * (الأنفال: 1) وقوله سبحانه: * (يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير) * (البقرة: 220) إلى غير ذلك، وقال في موضع آخر: إن السؤال المذكور إما عن قدم الجبال أو عن وجوب بقائها وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين فلا جرم أمر صلى الله عليه وسلم أن يجيبه بالفاء المفيدة للتعقيب كأنه سبحانه قال: يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال من غير تأخير لأن القول بقدمها أو وجوب بقائها كفر، ودلالة الجواب على نفي ذلك من جهة أن النسف ممكن لأنه ممكن في كل جزء من أجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكنا في حق كل الجبل فليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف انتهى.
واعترض بأن عدم جواز التغير والنسف إنما يسلم في حق القديم بالذات ولم يذهب أحد من السائلين إلى كون الجبال قديمة كذلك، وأما القديم بالزمان فلا يمتنع عليه لذاته ذلك بل إذا امتنع فإنما يمتنع لأمر آخر على أن في كون الجبال قديمة بالزمان عند السائلين وكذا غيرهم من الفلاسفة نظرا بل الظاهر أن الفلاسفة قائلون بحدوثها الزماني وإن لم يعلموا مبدأ معينا لحدوثها فتأمل، ثم إنه ذكر رحمه الله تعالى أن السؤال والجوال قد ذكرا في عدة مواضع من كتاب الله تعالى منها فروعية ومنها أصولية والأصولية في أربعة مواضع في هذه الآية وقوله تعالى: * (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) * (البقرة: 189) وقوله سبحانه: * (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * (الإسراء: 85) وقوله عز وجل: * (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) * (النازعات: 42) ولا يخفى أن عد جميع ما ذكر من
الأصولية غير ظاهر، وعلى تقدير ظهور ذلك في الجمع يرد السؤال عن سر اقتران الأمر بالجواب بالفاء في بعضها دون بعض.
وكون ما اقترن بالفاء هو الأهم في حيز المنع فإن الأمر بالجواب عن السؤال عن الروح إن كان عن القدم ونحوه فمهم كالأمر بالجواب فيما نحن فيه بل لعله أهم منه لتحقق القائل بالقدم الزماني للروح بناء على أنها النفس الناطقة كأفلاطون وأتباعه، وقد يقال: لما كان الجواب هنا لدفع السؤال عن الكلام السابق أعني قوله تعالى: * (يتخافتون بينهم) * (طه: 103) كأنه قيل كيف يصح تخافت المجرمين المقتضى لاجتماعهم والجبال في البين مانعة عن ذلك فمتى قلتم بصحته فبينوا لنا كيف يفعل الله تعالى بها؟ فأجيب بأن الجبال تنسف في ذلك الوقت فلا يبقى مانع عن الاجتماع والتخافت، وقرن الأمر بالفاء للمسارعة إلى الذب عن الدعوة السابقة، والآية التي لم يقرن الأمر فيها بالفاء لم تسق هذا المساق كما لا يخفى على أرباب الأذواق، وقال النسفي. وغيره الفاء في جواب شرط مقدر أي إذا سألوك عن الجبال فقل، وهو مبني على أنه لم يقع السؤال عن ذلك كما وقع في قصة الروح وغيهرا فلذا لم يؤت بالفاء ثمة وأتى به هنا فيسألونك متمحض للاستقبال، واستبعد ذلك أبو حيان، وما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن قريشا قالوا: يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة فنزلت * (ويسألونك عن الجبال) * (طه: 105) الآية يدل على خلافه، وقال الخفاجي: الظاهر أنه إنما قرن بها هنا ولم يقرن بها ثمة للإشارة إلى أن الجواب معلوم له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك فأمر عليه الصلاة والسلام بالمبادرة إليه بخلاف ذلك انتهى.
وأنت تعلم أن القول بأن الجواب عن سؤال الروح، وعن سؤال المحيض ونحو ذلك لم يكن معلوما له صلى الله عليه وسلم قبل لم يتجاسر علمه أحد من عوام الناس فضلا عن خواصهم فما ذكره مما لا ينبغي أن يلتفت إليه.
262

ومما يضحك الثكلى أن بعض المعاصرين سمع السؤال عن سر اقتران الأمر هنا بالفاء وعدم اقترانه بها في الآيات الأخر فقال: ما أجهل هذا السائل بما يجوز وما لا يجوز من المسائل أما سمع قوله تعالى: * (لا يسأل عما يفعل) * (الأنبياء: 23) أما درى أن معناه نهي من يريد السؤال عن أن يسأل. وأدل من هذا على جهل الرجل أنه دون ما قال وملم يبال بما قيل ويقال، ونقلي لذلك من باب التحميض وتذكير من سلم من مثل هذا الداء بما من الله تعالى عليه من الفضل الطويل العريض، وأمر الفاء في قوله تعالى:
* (فيذرها قاعا صفصفا) *
* (فيذرها) * ظاهر جدا، والضمير إما للجبال باعتبار أجزائها السافلة الباقية بعد النسف وهي مقارها ومراكزها أي فنذر ما انبسط منها وساوى سطحه سطوح سائر أجزاء الأرض بعد نسف ما نتأ منها ونشز وأما للأرض المدلول عليها بقرينة الحال لأنها الباقية بعد نسف الجبال. وعلى التقديرين يذر سبحانه الكل * (قاعا صفصفا) * لأن الجبال إذا سويت وجعل سطحها مساويا لسطوح أجزاء الأرض فقد جعل الكل سطحا واحدا والقاع قيل: السهل، وقال الجوهري: المستوى من الأرض. ومنه قول ضرار بن الخطاب: لتكونن بالبطاح قريش * فقعة القاع في أكف الأماء
وقال ابن الأعرابي: الأرض الملساء لا نبات فيها ولا بناء. وحكى مكي أنه المكان المنكشف، وقيل: المستوى الصلب من الأرض، وقيل: مستنقع الماء وليس بمراد وجمعه أقوع وأقواع وقيعان. والصفصف الأرض المستوية الملساء كان أجزاءه صف واحد من كل جهة، وقيل: الأرض التي لا نبات فيها، وعن ابن عباس. ومجاهد جعل القاع والصفصف بمعنى واحد وهو المستوى الذي لا نبات فيه. وانتصاب * (قاعا) * على الحالية من الضمير المنصوب وهو مفعول ثان ليذر على تضمين معنى التصيير. و * (صفصفا) * إما حال ثانية أو بدل من المفعول الثاني [بم وقوله تعالى:
* (لا ترى فيها عوجا ولاأمتا) *
* (لا ترى فيها) * أي في مقار الجبال أو في الأرض على ما فصل * (عوجا ولا أمتا) * استئناف مبين كيفية ما سبق من القاع الصفصف أو حال أخرى أو صفة لقاع والرؤية بصرية والخطاب لكل من يتأتى منه. وعلقت بالعوج وهو بكسر العين ما لا يدرك بفتحها بل بالبصيرة لأن المراد به ما خفى من الاعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المساحة الهندسية المدركة بالعقل فألحق بما هو عقلي صرف فأطلق عليه ذلك لذلك وهذا بخلاف العوج بفتح العين فإنه ما يدرك بفتحها كعوج الحائط والعود وبهذا فرق بينهما في الجمهرة وغيرها.
واختار المرزوقي في " شرح الفصيح " أنه لا فرق بينهما، وقال أبو عمرو: يقال لعدم الاستقامة المعنوية والحسية عوج بالكسر، وأما العوج بالفتح فمصدر عوج، وصح الواو فيه لأنه منقوص من اعوج. ولما صح في الفعل صح في المصدر أيضا، والأمت التنو، والتنكير فيهما للتقليل. وعن ابن عباس عوجا ميلا ولا أمتا أثرا مثل الشراك. وفي رواية أخرى عنه عوجا واديا ولا أمتار أبية. وعن قتادة عوجا صدعا ولا أمتا أكمة، وقيل: الأمت الشقوق في الأرض. وقال الزجاج: هو أن يغلظ مكان ويدق مكان، وقيل: الأمت في الآية العوج في السماء تجاه الهواء والعوج في الأرض مختص بالعرض. وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة.
263

وقوله تعالى:

* (يومئذ يتبعون الداعى لا عوج له وخشعت الأصوات للرحم‍ان فلا تسمع إلا همسا) *
* (يومئذ) * أي يوم إذا تنسف الجبال على إضافة يوم إلى وقت النسف من إضافة العام إلى الخاص فلا يلزم أن يكون للزمان ظرف وإن كان لا مانع عنه عند من عرفه
بمتجدد يقدر به متجدد آخر. وقيل: هو من إضافة المسمى إلى الاسم كما قيل في شهر رمضان، وهو ظرف لقوله تعالى: * (يتبعون الداعي) * وقيل: بدل من يوم القيامة. فالعامل فيه هو العامل فيه، وفيه الفصل الكثير وفوات ارتباط يتبعون بما قبله. وعليه فقوله تعالى: * (ويسألونك) * الخ استطراد معترض وما بعده استئناف وضمير * (يتبعون) * للناس. والمراد بالداعي داعي الله عز وجل إلى المحشر وهو إسرافيل عليه السلام يضع الصور في فيه ويدعون الناس عند النفخة الثانية قائما على صخرة بيت المقدس ويقول: أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى العرض إلى الرحمن فيقبلون من كل صوت إلى صوته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: يحشر الله تعالى الناس يوم القيامة في ظلمة تطوى السماء وتتناثر النجوم ويذهب الشمس والقمر وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه فذلك قوله تعالى: * (يومئذ يتبعون الداعي) * الخ، وقال علي بن عيسى: " الداعي " هنا الرسول الذي كان يدعوهم إلى الله عز وجل والأول أصح.
* (لا عوج له) * أي للداعي على معنى لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه، وهذا كما يقال: لا عصيان له أي لا يعصى ولا ظلم له أي لا يظلم، وأصله أن اختصاص الفعل بمتعلقه ثابت كما هو بالفاعل، وقيل: أي لا عوج لدعائه فلا يميل إلى ناس دون ناس بل يسمع جميعهم وحكى ذلك عن أبي مسلم.
وقيل: هو على القلب أي لا عوج لهم عنه بل يأتون مقبلين إليه متبعين لصوته من غير انحراف وحكى ذلك عن الجبائي وليس بشيء، والجملة في موضع الحال من الداعي أو مستأنفة كما قال أبو البقاء، وقيل: ضمير * (له) * للمصدر، والجملة في موضع الصفة له أي اتباعا لا عوج له أي مستقيما، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى لا شك فيه ولا يخالف وجوده خبره * (وخشعت الأصوات للرحم‍ان) * أي خفيت لمهابته تعالى وشدة هول المطلع، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: سكنت والخشوع مجاز في ذلك، وقيل: لا مجاز والكلام على حذف مضاف أي أصحاب الأصوات وليس بذاك * (فلا تسمع) * خطاب لكل من يصح منه السمع * (إلا همسا) * أي صوتا خفيا خافتا كما قال أبو عبيدة. وعن مجاهد هو الكلام الخفي، ويؤيده قراءة أبي * (فلا ينطقون إلا همسا) * وعن ابن عباس هو تحريك الشفاه بغير نطق، واستبعد بأن ذلك مما يرى لا مما يسمع، وفي رواية أخرى عنه أنه خفق الأقدام وروى ذلك عن عكرمة. وابن جبير. والحسن، واختاره الفراء. والزجاج.
ومنه قول الشاعر: وهن يمشين بنا هميسا
وذكر أنه يقال للأسد الهموس لخفاء وطئه فالمعنى سكنت أصواتهم وانقطعت كلماتهم فلم يسمع منهم إلا خفق أقدامهم ونقلها إلى المحشر.
* (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحم‍ان ورضى له قولا) *
* (يومئذ) * أي يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة وهو ظرف لقوله تعالى: * (لا تنفع الشفاعة) * وجوز أن يكون بدلا من يوم القيامة أو من * (يومئذ يتبعون) * (طه: 108) والمراد لا تنفع الشفاعة من الشفعاء أحدا * (إلا من أذن) * في الشفاعة.
* (له الرحمن) * فالاستثناء من أعم المفاعيل و * (من) * مفعول * (تنفع) * وهي عبارة عن المشفوع له و * (له) * متعلق
264

بمقدر متعلق بإذن، وفي " البحر " أن اللام للتعليل وكذا في قوله تعالى: * (ورضي له قولا) * أي ورضي لأجله قول الشافع وفي شأنه أو رضي قول الشافع لأجله وفي شأنه فالمراد بالقول على التقديرين قول الشافع، وجوز فيه أيضا أن لا يكون للتعليل، والمعنى ورضي قولا كائنا له فالمراد بالقول قول المشفوع وهو على ما روي عن ابن عباس لا إله إلا الله، وحاصل المعنى عليه لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من أذن الرحمن في أن يشفع له وكان مؤمنا، والمراد على كل تقدير أنه لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من ذكر وأما من عداه فلا تكاد تنفعه وإن فرض صدورها عن الشفعاء المتصدين للشفاعة للناس كقوله تعالى: * (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) * (المدثر: 48).
وجوز في " البحر " والدر المصون " أن لا يقدر مفعول لتنفع تنزيلا له منزلة اللازم والاستثناء من شفاعة ومن في محل رفع على البدلية منها بتقدير مضاف أو في محل نصب على الاستثناء بتقديره أيضا أي إلا شفاعة من أذن الخ، ومن عبارة عن الشافع والاستثناء متصل ويجوز أن يكون منقطعا إذا لم يقدر شيء ومحل * (من) * حينئذ نصب على لغة الحجاز ورفع على لغة تميم، واعترض كون الاستثناء من الشفاعة على تقدير المضاف بأن حكم الشفاعة ممن لم يؤذن له أن يملكها ولا تصدر عنه أصلا ومعنى * (لا يقبل منها شفاعة) * لا يؤذن لها فيها لا أنها لا تقبل بعد وقوعها فالإخبار عنها بمجرد عدم نفعها للمشفوع له ربما يوهم إمكان صدورها حين لم يأذن له مع إخلاله بمقتضى مقام تهويل اليوم.
* (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) *
* (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) * الظاهر أن ضمير الجمع عائد على الخلق المحشورين وهم متبعو الداعي، وقيل: على الناس لا بقيد الحشر والاتباع، وقيل: على الملائكة عليهم السلام وهو خلاف الظاهر جدا، والمراد من الموصولين على ما قيل ما تقدمهم من الأحوال وما بعدهم مما يستقبلونه أو بالعكس أو أمور الدنيا وأمور الآخرة أو بالعكس أو ما يدركونه وما لا يدر كونه وقد مر الكلام في ذلك.
* (ولا يحيطون به علما) * أي لا يحيط علمهم بمعلوماته تعالى فعلما تمييز محول عن الفاعل وضمير * (به) * لله تعالى والكلام على تقدير مضاف. وقيل: المراد لا يحيط علمهم بذاته سبحانه أي من حيث اتصافه بصفات الكمال التي من جملتها العلم الشامل. ويقتضي صحة أن يقال: علمت الله تعالى إذ المنفى العلم على طريق الإحاطة.
وقال الجبائي: الضمير لمجموع الموصولين فإنهم لا يعلمون جميع ما ذكر ولا تفصيل ما علموا منه، وجوز أن يكون لأحد الموصولين لا على التعيين.
* (وعنت الوجوه للحى القيوم وقد خاب من حمل ظلما) *
* (وعنت الوجوه للحي القيوم) * أي ذلت وخضعت خضوع العناة أي الأسارى، والمراد بالوجوه إما الذوات وإما الأعضاء المعلومة وتخصيصها بالذكر لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة وآثار الذل أول ما تظهر فيها، وأل فيها للعهد أو عوض عن المضاف إليه أي وجوه المجرمين فتكون الآية نظير قوله تعالى: * (سيئت وجوه الذين كفروا) * (الملك: 27) واختار ذلك الزمخشري وجعل قوله تعالى: * (وقد خاب من حمل ظلما) * اعتراضا ووضع الموصول موضع ضميرهم ليكون أبلغ، وقيل: الوجوه الإشراف أي عظماء الكفرة لأن المقام مقام الهيبة ولصوق الذلة بهم أولى والظلم الشرك وجملة * (وقد خاب) * الخ حال والرابط الواو لا معترضة لأنها
265

في مقابلة وهو مؤمن فيما بعد انتهى. قال صاحب الكشف: الظاهر مع الزمخشري والتقابل المعنوي كاف فإن الاعتراض لا يتقاعد عن الحال انتهى.
وأنت تعلم أن تفسير الظلم بالشرك مما لا يختص بتفسير الوجوه بالإشراف وجعل الجملة حالا بل يكون على الوجه الأول أيضا بناء على أن المراد بالمجرمين الكفار، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال في قوله تعالى: * (وقد خاب) * الخ خسر من أشرك بالله تعالى ولم يتب، وقال غير واحد: الظاهر أن أل للاستغراق أي خضعت واستسلمت جميع الوجوه. وقوله تعالى: * (وقد خاب) * الخ يحتمل الاستئناف والحالية، والمراد بالموصول إما المشركون وإما ما يعمهم وغيرهم من العصاة وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم فخيبة المشرك دائمة وخيبة المؤمن العاصي مقيدة بوقت العقوبة إن عوقب. وقد تقدم لك معنى - الحي القيوم - في آية الكرسي. والظاهر أن قوله تعالى:
* (ومن يعمل من الص‍الح‍ات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) *
* (ومن يعمل من الصالحات) * قسيم لقوله سبحانه: * (وعنت الوجوه) * (طه: 111) إلى آخر ما تقدم ولقوله عز وجل: * (وقد خاب من حمل ظلما) * على هذا كما صرح به ابن عطية. وغيره أي ومن يعمل بعض الصالحات أو بعضا من الصالحات * (وهو مؤمن) * أي بما يجب الإيمان به. والجملة في موضع الحال والتقييد بذلك لأن الإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات * (فلا يخاف ظلما) * أي منع ثواب مستحق بموجب الوعد * (ولا هضما) * ولا منع بعض منه تقول العرب هضمت حقي أي نقصت منه ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما وهضم الطعام تلاشى في المعدة. روي عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة أن المعنى فلا يخاف أن يظلم فيزاد في سيآته ولا أن يهضم فينقص من حسناته. والأول مروى عن ابن زيد، وقيل الكلام على حذف مضاف أي فلا يخاف جزاء ظلم وهضم إذ لم يصدر عنه ظلم، ولا هضم حق أحد حتى يخاف ذلك أو أنه أريد من الظلم والهضم جزاؤهما مجازا، ولعل المراد على ما قيل نفي الخوف عنه من ذلك من حيث إيمانه وعمله بعض الصالحات ويتضمن ذلك نفى أن يكون العمل الصالح مع الإيمان ظلما أو هضما.
وقيل: المراد أن من يعمل ذلك وهو مؤمن هذا شأنه لصون الله تعالى إياه عن الظلم أو الهضم ولأنه لا يعتد بالعمل الصالح معه. فلا يرد ما قيل أنه لا يلزم من الإيمان وبعض العمل أن لا يظلم غيره ويهضم حقه ولا يخفى عليك أن القول بحذف المضاف والتجوز في هذه الآية في غاية البعد وما قيل من الاعتراض قوي وما أجيب به كما ترى. ثم إن ظاهر كلام الجوهري أنه لا فرق بين الظلم والهضم، وظاهر الآية قاض بالفرق وكذا قول المتوكل الليثي: إن الأذلة واللئام لمعشر * مولاهم المتهضم المظلوم
وممن صرح به الماوردي حيث قال الفرق بينهما أن الظلم منع الحق كله والهضم منع بعضه. وقرأ ابن كثير. وابن محيصن. وحميد * (فلا يخف) * على النهي. قال الطيبي قراءة الجمهور توافق قوله تعالى: * (وقد خاب) * الخ من حيث الأخبار وأبلغ من القراءة الأخرى من حيث الاستمرار والأخرى أبلغ من حيث أنها لا تقبل التردد في الإخبار.
* (وكذالك أنزلن‍اه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) *
* (وكذالك) * عطف على * (كذلك نقص) * والإشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد المنبئة عما سيقع من أحوال القيامة وأهوالها أي مثل ذلك الإنزال * (أنزلناه) * أي القرآن كله وهو تشبيه
266

لإنزال الكل بإنزال الجزء والمراد أنه على نمط واحد، وإضماره من غير سبق ذكره للإيذان بنباهة شأنه وكونه مركوزا في العقول حاضرا في الأذهان * (قرءانا عربيا) * ليفهمه العرب ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجا عن طوق الآدميين نازلا من رب العالمين * (وصرفنا فيه من الوعيد) * أي كرر نافيه بعض الوعيد أو بعضا من الوعيد، والجملة عطف على جملة * (أنزلناه) * وجعلها حالا قيد للإنزال خلاف الظاهر جدا.
* (لعلهم يتقون) * المفعول محذوف وتقدم الكلام في لعل، والمراد لعلهم يتقون الكفر والمعاصي بالفعل * (أو يحدث لهم ذكرا) * أي عظة واعتبارا مؤديا في الآخرة إلى الاتقاء، وكأنه لما كانت التقوى هي المطلوبة بالذات منهم أسند فعلها إليهم ولما لم يكن الذكر كذلك غير الأسلوب إلى ما سمعت كذا قيل، وقيل: المراد بالتقوى ملكتها، وأسندت إليهم لأنها ملكة نفسانية تناسب الإسناد لمن قامت به، وبالذكر العظة الحاصلة من استماع القرآن المثبطة عن المعاصي، ولما كانت أمرا يتجدد بسبب استماعه ناسب الإسناد إليه، ووصفه بالحدوث المناسب لتجدد الألفاظ المسموعة، ولا يخفى بعد تفسير التقوى بملكتها على أن في القلب من التعليل شيئا.
وفي " البحر " أسند ترجي التقوى إليهم لأن التقوى عبارة عن انتفاء فعل القبيح وذلك استمرار على العدم الأصلي، وأسند ترجي أحداث الذكر للقرآن لأن ذلك أمر حدث بعد أن لم يكن انتهى، وهو مأخوذ من كلام الإمام وفي قوله: لأن التقوى إلى آخره على إطلاقه منع ظاهر، وفسر بعضهم التقوى بترك المعاصي والذكر بفعل الطاعات
فإنه يطلق عليه مجاز لما بينهما من السببية والمسببية فكلمة أو على ما قيل للتنويع، وفي الكلام إشارة إلى أن مدار الأمر التخلية والتحلية. والإمام ذكر في الآية وجهين، الأول: أن المعنى إنما أنزلنا القرآن ليصيروا محترزين عن فعل ما لا ينبغي أو يحدث لهم ذكرا يدعوهم إلى فعل ما ينبغي فالكلام مشير أيضا إلى التخلية والتحلية إلا أنه ليس فيه ارتكاب المجار، والثاني: أن المعنى أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يحدث لهم ذكرا وشرفا وصيتا حسنا، ولا يخفى أن هذا ليس بشيء، وقال الطيبي: إن المعنى وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا أي فصيحا ناطقا بالحق ساطعا بيناته لعلهم يحدث لهم التأمل والتفكر في آياته وبيناته الوافية الشافية فيذعنون ويطيعون وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون العذاب، ففي الآية لف من غير ترتيب وهي على وزان قوله تعالى: * (لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44) وعندي كون الآية متضمنة للتخلية والتحلية لا يخلو عن حسن فتأمل.
وقرأ الحسن * (أو يحدث) * بسكون الثاء، وقرأ عبد الله. ومجاهد. وأبو حيوة. والحسن في رواية. والجحدري. وسلام * (أو نحدث) * بالنون وسكون الثاء وذلك حمل وصل على وقف أو تسكين حرف الإعراب استثقالا لحركته كما قال ابن جني نحو قول امرىء القيس: اليوم أشرب غير مستحقب * إثما من الله ولا وأغلى
وقول جرير: سيروا بني العم فالأهواز منزلكم * ونهر تيري ولا يعرفكم العرب
* (فتع‍الى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدنى علما) *
* (فتعالى الله) * استعظام له تعالى ولما صرف في القرآن من الوعد والوعيد والأوامر والنواهي وغير ذلك وتنزيه لذاته المتعالية أن لا يكون إنزال قرآنه الكريم منتهيا إلى غاية الكمالية من تسببه لترك من أنزل عليهم المعاصي، ولفعلهم الطاعات وفيه تعجيب واستدعاء للإقبال عليه وعلى تعظيمه، وفي وصفه تعالى بقوله
267

سبحانه * (الملك) * أي المتصرف بالأمر والنهي الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده ما يدل على أن قوارع القرآن سياسات إلهية يتضمن صلاح الدارين لا يحيد عنها إلا مخذول هالك، وقوله تعالى: * (الحق) * صفة بعد صفة لله تعالى أي الثابت في ذاته وصفاته عز وجل، وفسره الراغب بموجد الشيء على ما تقتضيه الحكمة.
وجوز غير واحد كونه صفة للملك ومعناه خلاف الباطل أي الحق في ملكيته يستحقها سبحانه لذاته، وفيه إيماء إلى أن القرآن وما تضمنه من الوعد والوعيد حق كله لا يحوم حول حماه الباطل بوجه وأن المحق من أقبل عليه بشراشره وأن المبطل من أعرض عن تدبر زواجره، وفيه تمهيد لوصل النهي عن العجلة به في قوله سبحانه: * (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك) * أي يتم * (وحيه) * أي تبليغ جبريل عليه السلام إياه فإن من حق الإقبال ذلك وكذلك من حق تعظيمه.
وذكر الطيبي أن هذه الجملة عطف على قوله تعالى: * (فتعالى الله الملك الحق) * لما فيه من إنشاء التعجب فكأنه قيل حيث نبهت على عظمة جلالة المنزل وأرشدت إلى فخامة المنزل فعظم جنابه الملك الحق المتصرف في الملك والملكوت، وأقبل بكلك على تحفظ كتابه وتحقق مبانيه ولا تعجل به، وكان صلى الله عليه وسلم إذا ألقى عليه جبريل عليه السلام القرآن يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة خوفا أن يصعد عليه السلام ولم يحفظه صلى الله عليه وسلم فنهى عليه الصلاة والسلام عن ذلك إذ ربما يشغل التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها، ونزل عليه أيضا: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به) * (القيامة: 16) الآية، وأمر صلى الله عليه وسلم باستفاضة العلم واستزادته منه سبحانه فقيل: * (وقل) * أي في نفسك * (رب زدني علما) * أي سل الله عز وجل بدل الاستعجال زيادة العلم مطلقا أو في القرآن فإن تحت كل كلمة بل كل حرف منه أسرارا ورموزا وعلوما جمة وذلك هو الأنفع لك، وقيل: وجملة * (ولا تعجل) * مستأنفة ذكرت بعد الإنزال على سبيل الاستطراد، وقيل: إن ذلك نهي عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتي بيانه وليس بذاك، فإن تبليغ المجمل وتلاوته قبل البيان مما لا ريب في صحته ومشروعيته.
ومثله ما قيل: إنه نهى عن الأمر بكتابته قبل أن تفسر له المعاني وتتقرر عنده عليه الصلاة والسلام بل هو دونه بكثير، وقيل: إنه نهى عن الحكم بما من شأنه أن ينزل فيه قرآن بناء على ما أخرج جماعة عن الحسن أن امرأة شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن زوجها لطمها فقال لها: بينكما القصاص فنزلت هذه الآية فوقف صلى الله عليه وسلم حتى نزل: * (الرجال قوامون على النساء) * (النساء: 34)، وقال الماوردي: إنه نهى عن العجلة بطلب نزوله. وذلك أن أهل مكة وأسقف نجران قالوا: يا محمد أخبرنا عن كذا وقد ضربنا لك أجلا ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة بين اليهود وزعموا أنه عليه الصلاة والسلام قد غلب فشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم واستعجل الوحي فنزلت: * (ولا تعجل) * الخ وفي كلا القولين ما لا يخفى.
وقرأ عبد الله. والجحدري. والحسن. وأبو حيوة. وسلام. ويعقوب. والزعفراني. وابن مقسم * (نقضي) * بنون العظمة مفتوح الياء * (وحيه) * بالنصب. وقرأ الأعمش كذلك إلا أنه سكن الياء من * (نقضي) *، قال صاحب اللوامح: وذلك على لغة من لا يرى فتح الياء بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفا، واستدل بالآية على فضل العلم حيث أمر صلى الله عليه وسلم بطلب زيادته، وذكر بعضهم أنه ما أمر عليه الصلاة والسلام بطلب الزيادة
268

في شيء إلا العلم.
وأخرج الترمذي: وابن ماجه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علما والحمد لله على كل حال ".
وأخرج سعيد بن منصور. وعبد بن حميد عن ابن مسعود أنه كان يدعو * (اللهم زدني إيمانا وفقها ويقينا وعلما) * وما هذا إلا لزيادة فضل العلم وفضله أظهر من أن يذكر، نسأل الله تعالى أن يرزقنا الزيادة فيه ويوفقنا للعمل بما يقتضيه.
* (ولقد عهدنآ إلى ءادم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) *
* (ولقد عهدنا إلى ءادم) * كأنه لما مدح سبحانه القرآن، وحرض على استعمال التؤدة والرفق في أخذه وعهد على العزيمة بأمره وترك النسيان فيه ضرب حديث آدم مثلا للنسيان وترك العزيمة.
وذكر ابن عطية أن في ذلك مزيد تحذير للنبي صلى الله عليه وسلم عن العجلة وعدم التؤدة لئلا يقع فيما لا ينبغي كما وقع آدم عليه السلام، فالكلام متعلق بقوله تعالى: * (ولا تعجل بالقرآن) * الخ، وقال الزمخشري: هو عطف على * (صرفنا) * عطف القصة على القصة، والتخالف فيه إنشاء وخبرية لا يضر مع أن المقصود بالعطف جواب القسم. وحاصل المعنى عليه صرفنا الوعيد وكررناه لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا لكنهم لم يلتفتوا لذلك ونسوه كما لم يلتفت أبوهم إلى الوعيد ونسي العهد إليه. والفائدة في ذلك الإشارة إلى أن مخالفتهم شنشنة أخزمية وأن أساس أمرهم ذلك وعرقهم راسخ فيه، وحكى نحو هذا عن الطبري. وتعقبه ابن عطية بأنه ضعيف لما فيه من الغضاضة من مقام آدم عليه السلام حيث جعلت قصته مثلا للجاحدين لآيات الله تعالى وهو عليه السلام إنما وقع منه ما وقع بتأويل انتهى، والإنصاف يقضي بحسنه فلا تلتفت إلى ما قيل: إن فيه نظرا، وقال أبو مسلم: إنه عطف على قوله تعالى: * (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) * (طه: 99) وليس بذاك، نعم فيه مع ما تقدم إنجاز الموعود في تلك الآية، واستظهر ابن عطية فيه أحد أمرين التعلق بلا تعجل وكونه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله، وهذا الأخير وإن قدمه في كلامه ناشىء من ضيق العطن كما لا يخفى، والعهد الوصية يقال عهد إليه الملك ووغر إليه وعزم عليه وتقدم إليه إذا أمره ووصاه، والمعهود محذوف يدل عليه ما بعده، واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وأقسم بالله لقد أمرناه ووصيناه * (من قبل) * أي من قبل هذا الزمان، وقيل: أي من قبل وجود هؤلاء المخالفين.
وعن الحسن أي من قبل إنزال القرآن، وقيل: أي من قبل أن يأكل من الشجرة * (فنسي) * العهد ولم يهتم به ولم يشتغل بحفظه حتى غفل عنه، والعتاب جاء من ترك الاهتمام، ومثله عليه السلام يعاتب على مثل ذلك، وعن ابن عباس والحسن أن المراد فترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها فالنسيان مجاز عن الترك والفاء للتعقيب وهو عرفي، وقيل: فصيحة أي لم يهتم به فنسي والمفعول محذوف وهو ما أشرنا إليه، وقيل: المنسي الوعيد بخروج الجنة إن أكل، وقيل قوله تعالى: * (إن هذا عدو لك ولزوجك) * (طه: 117) وقيل: الاستدلال على أن النهي عن الجنس دون الشخص، والظاهر ما أشرنا إليه.
وقرأ اليماني. والأعمش * (فنسي) * بضم النون وتشديد السين أي نساه الشيطان * (ولم نجد له عزما) * تصميم رأي وثبات قدم في الأمور، وهذا جار على القولين في النسيان، نعم قيل: إنه أنسب بالثاني وأوفق بسياق الآية على ما ذكرنا أولا. وروى جماعة عن ابن عباس وقتادة أن المعنى لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة، وعن
269

ابن زيد وجماعة أن المعنى لم نجد له عزما على الذنب فإنه عليه السلام أخطأ ولم يتعمد وهو قول من قال: إن النسيان على حقيقته؛ وجاء عن ابن عباس ما يقتضيه، فقد أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عنه قال: قال لي عمر رضي الله تعالى عنه إن صاحبكم هذا - يعني علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه - إن ولى زهد ولكني أخشى عجب نفسه أن يذهب به قلت: يا أمير المؤمنين إن صاحبنا من قد علمت والله ما نقول: إنه غير ولا بدل ولا أسخط رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام صحبته فقال ولا في بنت أبي جهل وهو يريد أن يخطبها على فاطمة قلت: قال الله تعالى في معصية آدم عليه السلام * (ولم نجد له عزما) * فصاحبنا لم يعزم على إسخاط رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الخواطر التي لا يقدر أحد دفعها عن نفسه وربما كانت من الفقيه في دين الله تعالى العالم بأمر الله سبحانه فإذا نبه عليها رجع وأناب فقال: يا ابن عباس من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا، لكن لا يخفى عليك أن هذا التفسير غير متبادر ولا كثير المناسبة للمقام. وحاصل لم نجد الخ عليه أنه نسي فيتكرر مع ما قبله.
ثم إن * (لم نجد) * إن كان من الوجود العلمي، - فله عزما - مفعولاه قدم الثاني على الأول لكونه ظرفا وإن كان من الوجود المقابل للعدم كما اختاره بعضهم - فله - متعلق به قدم على مفعوله لما مر غير مرة أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر، والمعنى على هذا ولم نصادف له عزما.
* (وإذ قلنا للمل‍ائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى) *
* (وإذ قلنا للمل‍ائكة اسجدوا لآدم) * شروع في بيان المعهود وكيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه، * (وإذ) * منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم أي واذكر وقت قولنا للملائكة الخ. قيل: وهو معطوف على مقدر أي اذكر هذا واذكر إذ قلنا أو من عطف القصة على القصة. وأيا ما كان فالمراد اذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه حتى يتبين لك نسيانه وفقدان عزمه.
* (فسجدوا إلا إبليس) * قد مر الكلام فيه مرارا * (أبي) * جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ عن الإخبار بعدم سجوده كأنه قيل: فما باله لم يسجد؟ فقل: * (أبى) * والإباء الامتناع أو شدته ومفعوله إما محذوف أي أبى السجود كما في قوله تعالى: * (أبى أن يكون مع الساجدين) * أو غير منوي رأسا بتنزيله منزلة اللازم أي فعل الإباء وأظهره.
* (فقلنا يا - اادم إن ه‍اذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) *
* (فقلنا) * عقيب ذلك اعتناء بنصح آدم عليه السلام * (يا ءادم إن ه‍اذا) * الذي رأيت منه ما رأيت * (عدو لك ولزوجك) * أعيد اللام لأنه لا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار عند الجمهور. وقيل: أعيد للدلالة على أن عداوة اللعين للزوجة أصالة لا تبعا. وهو على القول بعدم لزوم إعادة الجار في مثله كما ذهب إليه ابن مالك ظاهر. وإما على القول باللزوم فقد قيل في توجيهه. إن كون الشيء لازما بحسب القاعدة النحوية لا ينافي قصد إفادة ما يقتضيه المقام.
وقد صرح السيد السند في " شرح المفتاح " في توجيه جعل صاحب المفتاح تنكير التمييز في قوله تعالى: * (واشتعل الرأس شيبا) * (مريم: 4) لإفادة المبالغة بما
يرشد إلى ذلك، ولا يخفى ما في التعبير بزوجك دون حواء من مزيد التنفير والتحذير منه، واختلف في سبب العداوة فقيل مجرد الحسد وهو لعنه الله تعالى ولعن أتباعه أول من حسد، وقيل: كونه شيخا جاهلا وكون آدم عليه السلام شابا عالما، والشيخ الجاهل يكون أبدا عدوا للشاب العالم بل الجاهل مطلقا عدو للعالم كذلك كما قيل: والجاهلون لأهل العلم أعداء
وقيل: تنافي الأصلين فإن
270

اللعين خلق من نار وآدم عليه السلام خلق من طين وحواء خلقت منه، وقد ذكر جميع ذلك الإمام الرازي.
* (فلا يخرجنكما) * أي فلا يكونن سببا لإخراجكما * (من الجنة) * وهذا كناية عن نهيهما عن أن يكونا بحيث يتسبب الشيطان في إخراجهما منها نحو قوله تعالى: * (فلا يكن في صدرك حرج) * والفاء لترتيب موجب النهي على عداوته لهما أو على الإخبار بها * (فتشقى) * أي فتتعب بمتاعب الدنيا وهي لا تكاد تحصى ولا يسلم منها أحد وإسناد ذلك إليه عليه السلام خاصة بعد تعليق الإخراج الموجب له بهما معا لأصالته في الأمور واستلزام تعبه لتعبها مع ما في ذلك من مراعاة الفواصل على أتم وجه، وقيل: المراد بالشقاء التعب في تحصيل مبادىء المعاش وهو من وظائف الرجال، وأيد هذا بما أخرجه عبد بن حميد. وابن عساكر. وجماعة عن سعيد بن جبير قال: " إن آدم عليه السلام لما أهبط من الجنة استقبله ثور أبلق فقيل له: اعمل عليه فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: هذا ما وعدني ربي * (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * (طه: 117) ثم نادى حواء حواء أنت عملت بي هذا فليس من ولد آدم أحد يعمل على ثور إلا قال: حو دخلت عليهم من قبل آدم عليه السلام، وكذا أيد بالآية بعد وفيه تأمل، ولعل القول بالعموم أولى، و * (تشقى) * يحتمل أن يكون منصوبا بإضمار أن في جواب النهي، ويحتمل أن يكون مرفوعا على الاستئناف بتقدير فأنت تشقى، واستبعد هذا بأنه ليس المراد الإخبار عنه بالشقاء بل المراد أن وقع الإخراج حصل ذلك.
* (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) *
* (وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) *
* (وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) * أي ولا تصيبك الشمس يقال: ضحا كسعى وضحى كرضي ضحوا وضحيا إذا أصابته الشمس، ويقال ضحا ضحوا وضحوا وضحيا إذا برز لها، وأنشدوا قول عمرو بن أبي ربيعة: رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت * فيضحي وأما بالعشي فيحضر
وفسر بعضهم ما في الآية بذلك والتفسير الأول مروى عن عكرمة، وأيا ما كان فالمراد نفى أن يكون بلا كن، والجملة تعليل لما يوجبه النهي فإن اجتماع أسباب الراحة فيها مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادىء البقاء فيها والجد في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها، والعدول عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعما بفنون النعم من المآكل والمشارب وتمتعا بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها ما لا يخفى إلى ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعرى والضحو لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره سبحانه عنها ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها، ومعنى * (أن لا تجوع) * الخ أن لا يصيبه شيء من الأمور الأربعة أصلا فإن الشبع والري والكسوة والكن قد تحصل بعد عروض أضدادها وليس الأمر فيها كذلك بل كلما وقع فيها شهوة وميل إلى شيء من الأمور المذكورة تمتع به من غير أن يصل إلى حد الضرورة على أن الترغيب قد حصل بما سوغ له من التمتع بجميع ما فيها سوى الشجرة حسبما ينطق به قوله تعالى: * (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما) * (البقرة: 35) وقد طوى ذكره ههنا اكتفاء بذلك واقتصر على ما ذكر من الترغيب المتضمن للترهيب، وقال بعضهم: إن الاقتصار على ما ذكر لما وقع في سؤال آدم عليه السلام فإنه روي أنه لما أمره سبحانه يسكنى الجنة قال إلهي ألي فيها ما آكل ألي فيها ما ألبس ألي فيها ما أشرب ألي فيها ما استظل به فأجيب بما ذكر، وفي القلب من صحة الرواية شيء.
271

ووجه إفراده عليه السلام بما ذكر ما مر آنفا، وقيل: كونه السائل وكان الظاهر عدم الفصل بين الجوع والظمأ والعري والضحو للتجانس والتقارب إلا أنه عدل عن المناسبة المكشوفة إلى مناسبة أتم منها وهي أن الجوع خلو الباطن والعري خلو الظاهر فكأنه قيل لا يخلو باطنك وظاهرك عما يهمهما، وجمع بين الظمأ المورث حرارة الباطن والبروز للشمس وهو الضحو المورث حرارة الظاهر فكأنه قيل: لا يؤلمك حرارة الباطن والظاهر وذلك الوصل الخفي وهو سر بديع من أسرار البلاغة، وفي " الكشف " إنما عدل إلى المنزل تنبيها على أن الشبع والكسوة أصلان وأن الأخيرين متممان على الترتيب فالامتنان على هذا الوجه أظهر، ولهذا فرق بين الفرينتين فقيل أولا * (إن ذلك) * وثانيا * (إنك) *، وقد ذكر هذا العلامة الطيبي أيضا ثم قال: وفي تنسيق المذكورات الأربعة مرتبة هكذا مقدما ما هو الأهم فالأهم ثم في جعلها تفصيلا لمضمون قوله تعالى: * (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * (طه: 117) وتكرير لفظة فيها وإخراجها في صيغة النفي مكررة الأداة الإيماء إلى التعريض بأحوال الدنيا وأن لا بد من مقاساتها * (فيها) * لأنها خلقت لذلك وأن الجنة ما خلقت إلا للتنعم ولا يتصور فيها غيره.
وفي الانتصاف أن في الآية سريعا بديعا من البلاغة يسمى قطع النظير عن النظير، والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم ولو قرن كل بشكله لتوهم المقرونان نعمة واحدة، وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا فقال الكندي الأول: كأني لم أركب جوادا للذة * ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل * لخيلي كرى كرة بعد إجفال
فقطع ركوب الجواد عن قوله لخيله: كرى كرة وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكأس مع التناسب وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها، وتبعه الكندي الآخر فقال: وقفت وما في الموت شك لواقف * كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة * ووجهك ضحاك وثغرك باسم
وقد اعترض عليه سيف الدولة إذ قطع الشيء عن نظيره فقال له: إن كنت أخطأت بذلك فقد أخطأ امرؤ القيس بقوله وأنشد البيتين السابقين، وفي الآية سر لذلك أيضا زائد على ما ذكر وهو قصد تناسب الفواصل اه‍.
وقد يقال في بيتي الأول: إنه جمع بين ركوب الخيل للذة والنزهة وتبطن الكاعب للذة الحاصلة فيهما وجمع بين سبء الزق وقوله لخيله: كرى لما فيهما من الشجاعة، ثم ما ذكر من قصد تناسب الفواصل في الآية ظاهر في أنه لو عدل عن هذا الترتيب لم يحصل ذلك وهو غير مسلم.
وقرأ شيبة. ونافع. وحفص. وابن سعدان * (إنك) * بكسر الهمزة. وقرأ الجمهور بفتحها على أن العطف على أن لا تجوع وهو في تأويل مصدر اسم لأن وصحة وقوع ما صدر بأن المفتوحة إسما لأن المكسورة المشاركة لها في إفادة التحقيق مع امتناع وقوعها خبرا لها لما أن المحذور وهو اجتماع حر في التحقيق في مادة واحدة غير موجود فيما نحن فيه لاختلاف مناط التحقيق فيما في حيزها بخلاف ما لو وقعت خبرا فإن اتحاد المناط حينئذ مما لا ريب فيه، وبيانه على ما في إرشاد العقل السليم أن كل واحدة من الأداتين موضوعة لتحقيق
272

مضمون الجملة الخبرية المنعقدة من اسمها وخبرها ولا يخفي أن مرجع خبريتها ما فيها من الحكم وإن مناطه الخبر لا الاسم فمدلول كل منهما تحقيق ثبوت خبرها لاسمها لا ثبوت اسمها في نفسه فاللازم من وقوع الجملة المصدرة بالمفتوحة اسما للمكسورة تحقيق ثبوت خبرها لتلك الجملة المؤولة بالمصدر، وأما تحقيق ثبوتها في نفسها فهو مدلول المفتوحة فلا يلزم اجتماع حر في التحقيق في مادة واحدة قطعا، وإنما لم يجز أن يقال: ان أن زيدا قائم حق مع اختلاف المناط بل شرطوا الفصل بالخبر كقولنا: إن عندي أن زيدا قائم حق للتجافي عن صورة الاجتماع، والواو العاطفة وإن كانت نائبة عن المكسورة التي يمتنع دخولها على المفتوحة بلا فصل وقائمة مقامها في إفضاء معناها وإجراء أحكامها على مدخولها لكنها حيث لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق لم يلزم من دخولها اجتماع حر في التحقيق أصلا. فالمعنى إن لك عدم الجوع وعدم العرى وعدم الظمأ خلا أنه لم يقتصر على بيان أن الثابت له عدم الظمأ والضحو مطلقا كما فعل مثله في المعطوف عليه بل قصد بيان أن الثابت له تحقيق عدمهما فوضع موضع الحرف المصدري المحض أن المفيدة له كأنه قيل: إن لك فيها عدم ظمئك على التحقيق انتهى.
ويحتاج عليه إلى بيان النكتة في عدم الاقتصار على بيان أن الثابت له عدم الظمأ مطلقا كما فعل مثله في المعطوف عليه فتأمل ولا تغفل.
وقيل: إن الواو وإن كانت نائبة عن إن هنا إلا أنه يلاحظ بعدها * (لك) * الموجود بعد أن التي نابت عنها فيكون هناك فاصل ولا يمتنع الدخول معه وهو كما ترى، ولا يخفى عليك أن العطف على قراءة الكسر على أن الأولى مع معموليها لا على اسمها ولا كلام في ذلك.
* (فوسوس إليه الشيط‍ان قال يا - اادم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) *
* (فوسوس إليه الشيطان) * أنهى الوسوسة إليه، وهي كما قال الراغب: الخطرة الرديئة؛ وأصلها من الوسواس وهو صوت الحلى والهمس الخفي، وقال الليث: الوسوسة حديث النفس والفعل وسوس بالبناء للفاعل، ويقال: رجل موسوس بالكسر والفتح لحن.
وذكر غير واحد أن وسوس فعل لازم مأخوذ من الوسوسة وهي حكاية صوت كولولة الثكلى ووعوعة الذئب ووقوقة الدجاجة وإذا عدى بإلى ضمن معنى الإنهاء وإذا جيء باللام بعده نحو وسوس له فهي للبيان كما في * (هيت لك) * وقال الزمخشري: للأجل أي وسوس لأجله، وكذا إذا كانت بعد نظائر هذا الفعل نحو قوله: اجرس لها يا ابن أبي كباش * فما لها الليلة من انفاش
وذكر في الأساس وسوس إليه في قسم الحقيقة، وظاهره عدم اعتبار التضمين والكثير على اتعتاره.
* (قال) * إما بدل من * (وسوس) * أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل: فما قال له في وسوسته: فقيل: قال * (يا ءادم هل أدلك على شجرة الخلد) * ناداه باسمه ليكون أقبل عليه وأمكن للاستماع ثم عرض عليه ما عرض على سبيل الاستفهام الذي يشعر بالنصح، ومعنى شجرة الخلد شجرة من أكل منها خلد ولم يمت أصلا سواء كان على حاله أو بأن يكون ملكا لقوله تعالى: * (إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) * (الأعراف: 20).
وفي البحر أن ما حكى هنا مقدم على ما حكى في الأعراف من قوله تعالى: * (ما نها كما ربكما عن هذه الشجرة) * (الأعراف: 20) الخ كما اللعين لما رأى منه عليه السلام نوع إصغاء إلى ما عرض عليه انتقل إلى الأخبار والحصر انتهى، والحق
273

أنه لا جزم بما ذكر * (وملك لا يبلى) * أي لا يفنى أولا يصير باليا خلقا قيل: إن هذا من لوازم الخلود فذكره للتأكيد وزيادة الترغيب.
* (فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى ءادم ربه فغوى) *
* (فأكلا) * أي هو وزوجته * (منها) * أي من الشجرة التي سماها اللعين شجرة الخلد * (فبدت لهما سوءاتهما) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: عريا عن النور الذي كان الله تعالى ألبسهما حتى بدت فروجهما، وفي رواية أخرى عنه أنه كان لباسهما الظفر أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع والله تعالى أعلم بصحة ذلك، ثم إن ما ذكر يحتمل أن يكون عقوبة للأكل ويحتمل أن يكون مرتبا عليه لمصلحة أخرى * (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) * قد مر تفسيره.
* (وعصى ءادم ربه) * بما ذكر من أكل الشجرة * (فغوى) * ضل عن مطلوبه الذي هو الخلود أو عن المطلوب منه وهو ترك الأكل من الشجرة أو عن الرشد حيث اغتر بقول العدو، وقيل: غوى أي فسد عليه عيشه. ومنه يقال: الغواء لسوء الرضاع. وقرىء * (فغوى) * بفتح الغين وكسر الواو وفتح الياء أي فبشم من كثرة الأكل من غوى الفصيل إذا اتخم من اللبن وبه فسرت القراءة الأخرى، وتعقب ذلك الزمخشري: فقال وهذا وان صح على لغة من يقلب الياء المكسوء ما قبلها ألفا
فيقول في فنى وبقى فنا وبقا بالألف وهم بنو طيء تفسير خبيث، وظاهر الآية يدل على أن ما وقع من الكبائر وهو المفهوم من كلام الإمام فإن كان صدوره بعد البعثة تعمدا من غير نسيان ولا تأويل أشكل على ما اتفق عليه المحققون والأئمة المتقنون من وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام بعد البعثة عن صدور مثل ذلك منهم على ذلك الوجه، ولا يكاد يقول بذلك إلا الأزارقة من الخوارج فإنهم عليهم ما يستحقون جوزوا الكفر عليهم وحاشاهم فما دونه أولى بالتجويز، وإن كان صدوره قبل البعثة كام قال به جمع وقال الإمام: إنه مذهبنا فإن كان تعمدا أشكل على قول أكثر المعتزلة والشيعة بعصمتهم عليهم السلام عن صدور مثل ذلك تعمدا قبل البعثة أيضا.
نعم لا اشكال فيه على ما قاله القاضي أبو بكر من أنه لا يمتنع عقلا ولا سمعا أن يصدر من النبي عليه السلام قبل نبوته معصية مطلقا بل لا يمتنع عقلا إرسال من أسلم بعد كفره، ووافقه على ذلك كما قال الآمدي في أباكر الأفكار أكثر الأصحاب وكثير من المعتزلة وإن كان سهوا كما يدل عليه قوله تعالى: * (فنسى ولم نجد له عزما) * (طه: 115) بناء على أحد القولين فيه اشكل على ما نقل عن الشيعة من منع صدور الكبيرة سهوا قبل البعثة أيضا، ولا إشكال فيه على ما سمعت عن القاضي أبي بكر، وإن كان بعد البعثة سهوا أشكل أيضا عند بعض دون بعض، فقد قال عضد الملة في المواقف ان الأكثرين جوزوا صدور الكبيرة يعني ما عدا الكفر والكذب فيما دلت المعجزة على صدقهم عليهم السلام فيه سهوا وعلى سبيل الخطأ منهم، وقال العلامة الشريف المختار: خلافه، وذهب كثير إلى أن ما وقع صغيرة والأمر عليه هين فإن الصغائر الغير المشعرة بالخسة يجوز على ما ذكره العلامة الثاني في شرح العقائد صدورها منهم عليهم السلام عمدا بعد البعثة عند الجمهور خلافا للجبائي وأتباعه ويجوز صدورها سهوا بالاتفاق لكن المحققون اشترطوا أن ينبهوا على ذلك فينتهوا عنه.
نعم ذكر في " شرح المقاصد " عصمتهم عن صدور ذلك عمدا. والأحوط نظرا إلى مقام عليهم السلام أن يقال: إن صدور ما ذكر منه كان قبل النبوة وكان سهوا أو عن تأويل إلا أنه عظم الأمر عليه وعظم لديه
274

نظرا إلى علو شأنه ومزيد فضل الله تعالى عليه، وإحسانه وقد شاع حسنات الأبرار سيآت المقربين، ومما يدل على استعظام ذلك منه لعلو شأنه عليه السلام ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي عبد الله المغربي قال: تفكر إبراهيم في شأن آدم عليهما السلام فقال: يا رب خلقته بيدك ونفخت فيه من روحك وأسجدت له ملائكتك ثم بذنب واحد ملأت أفواه الناس من ذكر معصيته فأوحى الله تعالى إليه يا إبراهيم أما علمت أن مخالفة الحبيب على الحبيب شديدة. وذكر بعضهم أن في استعظام ذلك منه عليه الملام زجرا بليغا لأولاده عن أمثاله، وعلى العلات لا ينبغي لأحد أن ينسب إليه العصيان اليوم وأن يخبر بذلك إلا أن يكون تاليا لما تضمن ذلك أو راويا له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما أن يكون مبتدئا من قبل نفسه فلا، وقد صرح القاضي أبو بكر بن العربي بعدم جواز نسبة العصيان للآباء الأدنين إلينا المماثلين لنا فكيف يجوز نسبته للأنبياء الاقدام والنبي المقدم الأكرم، وارتضى ذلك القرطبي وادعى أن ابتداء الأخبار بشيء من صفات الله تعالى المتشابهة كاليد والأصبع والنزول أولى بالمنع وعدم الجواز، ثم إن ما وقع كان في الحقيقة بمحض قضاء الله تعالى وقدره، وإلا فقد روي عن أبي إمامة الباهلي. والحسن أن عقله عليه السلام مثل عقل جميع ولده وعداوة إبليس عليه اللعنة له عليه السلام في غاية الظهور، وفي ذلك دليل على أنه لا ينفع عقل ولا يغني شيء في جنب تقدير الله تعالى وقضائه * (ثم اجتب‍اه ربه) * أي اصطفاه سبحانه وقربه إليه بالحمل على التوبة والتوفيق لها من اجتبى الشيء جباه لنفسه أي جمعه كقولك: اجتمعته أو من جبى إلى كذا فاجتبيته مثل جليت على العروس فاجتليتها، وأصل معنى الكلمة الجمع فالمجتبى كأنه في الأصل من جمعت فيه المحاسن حتى اختاره غيره وقربه، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام مزيد تشريف له عليه السلام * (فتاب عليه) * أي رجع عليه بالرحمة وقبل توبته حين تاب وذلك حين قال هو وزوجته: * (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) * (الأعراف: 23) * (وهدى) * أي إلى الثبات على التوبة والتمسك بما يرضى المولى سبحانه وتعالى، وقيل إلى كيفية التوبة بتعليم الكلمات والواو لمطلق الجمع فلا يضر كون ذلك قبل التوبة عليه، وقيل: إلى النبوة والقيام بما تقتقضيه، وقدم أبو حيان هذا على سائر الاحتمالات التي ذكرها، والنيسابوري فسر الاجتباء بالاختيار للرسالة وجعل الآية دليلا على أن ما جري كان قبل البعثة ولم يصرح سبحانه بنسبة العصيان والغواية إلى حواء بأن يسندهما إلى ضمير التثنية الذي هو عبارة عنها، وعن آدم عليه السلام كما أسند الأكل وما بعده إلى ذلك إعراضا عن مزيد النعي على الحرم وأن الأهم نظرا إلى مساق القصة التصريح بما أسند إلى آدم عليه السلام ويتضمن ذلك رعاية الفواصل وحيث لم يصرح جل وعلا بعصيانها لم يتعرض لتوفيقها للتوبة وقبولها منها، وقال بعضهم: إنه تعالى اكتفى بذكر شأن آدم عليه السلام لما أن حواء تبع له في الحكم ولذا طوى ذكر النساء في أكثر مواقع الكتاب والسنة.
* (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى) *
* (قال) * استئناف مبني على سؤال نشأ من الأخبار بأنه تعالى عامله بما عامله كأنه قيل: فماذا أمره بعد ذلك؟ فقيل: قال له ولزوجته * (اهبطا منها جميعا) * أي انزلا من الجنة إلى الأرض مجتمعين، وقيل: الخطاب له عليه السلام ولابليس عليه اللعنة فإنه دخل الجنة بعد ما قيل له: * (اخرج منها فإنك رجيم) * (ص: 77) للوسوسة، وخطابهما
275

على الأول بقوله تعالى: * (بعضكم لبعض عدو) * لما أنهما أصل الذرية ومنشأ الأولاد فالتعادي في الحقيقة بين أولادهما. وهذا على عكس مخاطبة اليهود ونسبة ما فعل ءاباؤهم اليهم. والجملة في موضع الحال أي متعادين في أمر المعاش وشهوات الأنفس. وعلى الثاني ظاهر لظهور العداوة بين آدم عليه السلام وابليس عليه اللعنة وكذا بين ذرية آدم عليه السلام وذرية اللعين. ومن هنا قيل: الضمير لآدم وذريته وإبليس وذريته.
وعزم بعضهم أنه لآدم وإبليس والحية والمغول عليه الأول ويؤيد ذلك قوله تعالى: * (فاما يأتينكم مني هدى) * الخ أي بنبي أرسله اليكم وكتاب أنزله عليكم * (فمن اتبع هداي) * وضع الظاهر موضع المضمر مع الإضافة إلى ضميره تعالى لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه.
وأخرج الطبراني. وغيره عن أبي الطفيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ * (فمن اتبع هدى) * * (فلا يضل) * في الدنيا * (ولا يشاقى) * في الآخرة، وفسر بعضهم الهدى بالقرآن لما أخرج ابن أبي شيبة. وعبد بن حميد. وابن أبي حاتم. والحاكم وصححه. والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة ثم قرأ الآية، وأخرج جماعة عنه مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ " من اتبع كتاب الله هداه الله تعالى من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة "، ورجح على العموم بقيام القرينة عليه وهو قوله تعالى:
* (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القي‍امة أعمى) *
* (ومن أعرض عن ذكرى) * بناء على تفسير الذكر بالقرآن، وكذا قوله تعالى بعد و * (كذلك أتتك ءاياتنا فنسيتها) * (طه: 126) ولمختار العموم أن يقول: الذكر يقع على القرآن وعلى سائر الكتب الإلهية، وكذا الآيات تكون بمعنى الأدلة مطلقا، وقد فسر الذكر أيضا هنا بالهدى لأنه سبب ذكره تعالى وعبادته سبحانه، فأطلق المسبب وأريد سببه لوقوعه في المقابلة، وما في الخبر من باب التنصيص على حكم أشرف الإفراد المدلول عليه بالعموم اعتناء بشأنه. ثم إن تقييد * (لا يضل بقولنا في الدنيا * (ولا يشقى) * بقولنا في الآخرة هو الذي يقتضيه الخبر.
وجوز بعضهم العكس أي فلا يضل طريق الجنة في الآخرة ولا يتعب في أمر المعيشة في الدنيا، وجعل الأول في مقابلة * (ونحشره يوم القيامة أعمى) * والثاني في مقابلة * (فإن له معيشة ضنكا) * ثم قال: وتقديم حال الآخرة على حال الدنيا في المهتدين لأن مطمح نظرهم أمر ءاخرتهم بخلاف خلافهم فإن نظرهم مقصور على دنياهم، ولا يخفى أن الذي نطقت به الآثار هو الأول، وذكر بعضهم أنه المتبادر، نعم ما ذكر لا يخلو عن حسن وإن قيل: فيه تكلف، وجوز الإمام كون الأمرين في الآخرة وكونهما فبي الدنيا، وذكر أن المراد على الأخير لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين لا مطلقا فإن لحق المنعم بالهدى شقاء في الدنيا فبسبب آخر وذلك لا يضر اه‍، والمعول عليه ما سمعت، والمراد من الاعراض عن الذكر عدم الاتباع فكأنه قيل: ومن لم يتبع * (فان له معيشة ضنكا) * أي ضيقة شديدة وهو مصدر ضنك وكذا ضناكة؛ ولذا يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، وقد وصف به هنا المؤنث باعتبار الأصل. وقرأ الحسن * (ضنكي) * بألف التأنيث كسكرى وبالإمالة. وهذا التأنيث باعتبار تأويله بالوصف. وعن ابن عباس تفسيره بالشديد من كل وجه، وأنشد قول الشاعر:
276

والخيل قد لحقت بنا في مأزق * ضنك نواحيه شديد المقدم
والمتبادر أن تلك المعيشة له في الدنيا. وروي ذلك عن عطاء. وابن جبير، ووجه ضيق معيشة الكافر المعرض في الدنيا أنه شديد الحرص على الدنيا متهالك على ازديادها خائف من انتقاصخا غالب عليه الشح بها حيث لا غرض له سواها بخلاف المؤمن الطالب للآخرة، وقيل: الضنك مجاز عما لا خير فيه، ووصف معيشة الكافر بذلك لأنها وبال عليه وزيادة في عذابه يوم القيامة كما دلت عليه الآيات، وهو مأخوذ مما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: يقول كل مال أعطيته عبدا من عبادي قل أو كثر لا يتقيني فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة، وقيل: المراد من كونها ضنكا إنها سبب للضنك يوم القيامة فيكون وصفها بالضنك للمبالغة كأنها نفس الضنك كما يقال في السلطان: الموت بين شفتيه يريدون بالموت ما يكون سببا للموت كالأمر بالقتل ونحوه، وعن عكرمة. ومالك بن دينار ما يشعر بذلك، وقال بعضهم: إن تلك المعيشة له في القبر بأن يعذب فيه. وقد روى ذلك جماعة عن ابن مسعود. وأبي سعيد الخدري. وأبي صالح. والربيع. والسدى. ومجاهد. وفي البحر عن ابن عباس أن الآية نزلت في الأسود بن عبد الأسد المخزومي، والمراد ضغطة القبر حتى تختلف فيه أضلاعه. وروي ذلك مرفوعا أيضا.
فقد أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت. والحكيم الترمذي. وأبو يعلى. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن حبان. وابن مردويه عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن في قبره في روضة خضراء ويرحب له قبره سبعين ذراعا ويضيء حتى يكون كالقمر ليلة البدر هل تدرون فيم أنزلت * (فإن له معيشة ضنكا) * قالوا: الله ورسوله اعلم قال: عذاب الكافر في قبره يسلط عليه تسع وتسعون تنينا هل تدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية لكل حية سبعة رؤوس يخدشونه ويلسعونه وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون ".
وأخرج عبد الرزاق. وسعيد بن منصور. ومسدد في مسنده. وعبد بن حميد. والحاكم. وصححه. والبيهقي في كتاب عذاب القبر وجماعة عن أبي سعيد قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: * (معيشة ضنكا) * عذاب القبر " ولفظ عبد الرزاق يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ولفظ ابن أبي حاتم ضمة القبر إلى غير ذلك ومن قال: الدنيا ما قبل القيامة الكبرى قال ما يكون بعد الموت واقع في الدنيا كالذي يكون قبل الموت.
وقال بعضهم: إنها تكون يوم القيامة في جهنم. وأخرج ذلك ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن الحسن، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: المعيشة الضنك في النار شوك وزقوم وغسلين وضريع وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة وما المعيشة والحياة إلا في الآخرة، ولعل الأخبار السابقة لم تبلغ هذا القائل أو لم تصح عنده، وأنت تعلم أنها إذا صحت فلا مساغ للعدول عما دلت عليه وإن لم تصح كان الأولى القول بأنها في الدنيا لا في الآخرة لظاهر ذكر قوله تعالى: * (ونحشره) * الخ بعد الأخبار بأن له معيشة ضنكا) * وقرأت فرقة منهم أبان بن تغلب * (ونحشره) * بإسكان الراء وخرج على أنه تخفيف أو جزم بالعطف على محل * (فإن له) * الخ لأنه جواب الشرط كأنه قيل. ومن أعرض عن ذكر تكن له معيشة ضنك ونحشره الخ. ونقل ابن خالويه عن أبان أنه قرأ * (ونحشره) * بسكون الهاء عى إجراء الوصل مجرى الوقف. وفي البحر الأحسن تخريج ذلك على لغة بني كلاب. وعقيل فإنهم يسكنون مثل هذه الهاء، وقد قرىء * (لربه لكنود) * بإسكان الهاء، وقرأت
277

فرقة * (ويحشره) * بالياء * (يوم القيامة أعمى) * الظاهر أن المراد فاقد البصر كما في قوله تعالى: * (نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) * (الإسراء: 97).
* (قال رب لم حشرتنىأعمى وقد كنت بصيرا) *
* (قال) * استئناف كما مر * (رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا) * أي في الدنيا كما هو الظاهر، ولعل هذا باعتبار أكثر أفراد من أعرض لأن من أفراده من كان أكمه في الدنيا. والظاهر أن هذا سؤال عن السبب الذي استحق به الحسر أعمى لأنه جهل أو ظن أن لا ذنب له يستحق به ذلك.
* (قال كذالك أتتك آي‍اتنا فنسيتها وكذالك اليوم تنسى) *
* (قال) * الله تعالى في جوابه * (كذلك أتتك ءاياتنا) * الكاف مقحمة كما في مثلك لا يبخل وذلك إشارة إلى مصدر أتتك أي مثل ذلك الاتيان البديع أتتك الآيات الواضحة النيرة. وعند الزمخشري لا إقحام وذلك إشارة إلى حشره أعمى أي مثل ذلك الفعل فعلت أنت. وقوله تعالى: * (أتتك) * الخ جواب سأال مقدر كأنه قيل: يا رب ما فعلت أنا؟ فقيل: أتتك آياتنا * (فنسيتها) * أي تركتها ترك المنى الذي لا يذكر أصلا، والمراد فعميت عنها إلا أنه وضع المسبب موضع السبب لأن من عمي عن شيء نسيه وتركه. والإشارة في قوله تعالى: * (وكذالك) * إلى النسيان المفهوم من نسيتها والكاف على ظاهرها أي مثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا * (اليوم تنسى) * أي تترك في العمى جزاء وفاقا، وقيل: الكاف بمعنى اللام الأجلية كما قيل في قوله تعالى: * (واذكروه كما هداكم) * (البقرة: 198) أي ولأجل ذلك النسيان الصادر منك تنسى. وهذا الترك يبقى إلى ما شاء الله تعالى ثم يزال العمى عنه فيرى أهوال القيامة ويشاهد النار كما قال سبحانه: * (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها) الآية ويكون ذلك له عذابا فوق العذاب وكذا البكم والصمم يزيلهما الله تعالى عنهم كما يدل عليه قوله تعالى: * (اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) * (مريم: 38).
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن الكافر يحشر أولا بصيرا ثم يعمى فيكون الأخبار بأنه قد كان بصيرا إخبارا عما كان عليه في أول حشره، والظاهر أن ذلك العمى يزول أيضا، وعن عكرمة أنه لا يرى شيئا إلا النار، ولعل ذلك أيضا في بعض أجزاء ذلك اليوم وإلا فكيف يقرأ كتابه، وروي عن مجاهد. ومقاتل. والضحاك. وأبي صالح وهي رواية عن ابن عباس أيضا أن المعنى نحشره يوم القيامة أعمى عن الحجة أي لا حجة له يهتدي بها. وهو مراد من قال: أعمى القلب والبصيرة، واختار ذلك إبراهيم ابن عرفة وقال كلما ذكر الله سبحانه في كتابه العمى فذمه فإنما يراد به عمى القلب قال سبحانه وتعالى: * (فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الدور) * (الحج: 46) وعلى هذا فالمراد بقوله: * (وقد كنت بصيرا) * (طه: 125) وقد كنت عالما بحجتي بصيرا بها أحاج عن نفسي في الدنيا. ومنه يعلم اندفاع ما قاله ابن عطية في رد من حمل العمى على عمى البصيرة من أنه لو كان كذلك لم يحس الكافر به لأنه كان في الدنيا أعمى البصيرة ومات وهو كذلك.
وحاصل الجواب عليه إني حشرتك أعمى القلب لا تهتدي إلى ما ينجيك من الحجة لأنك تركت في الدنيا آياتي وحججي وكما تركت ذلك تترك على هذا العمى أبدا، وقيل: المراد بأعمى متحيرا لا يدري ما يصنع من الحيل في دفع العذاب كالأعمى الذي يتحير في دفع ما لا يراه. وليس في الآية دليل كما يتوهم على عد نسيان القرآن أو آية منه كبيرة كما ذهب إليه الإمام الرافعي ويشعر كلام الإمام النووي في الروضة باختياره لأن المراد بنسيان الآيات بعد القول بشمولها آيات القرآن تركها وعدم الإيمان بها. ومن عد نسيان شيء من القرآن كبيرة أراد
278

بالنسيان معناه الحقيقي نعم تجوز أبو شامة شيخ النووي فحمل النسيان في الأحاديث الواردة في ذم نسيان شيء من القرآن على ترك العمل به. وتحقيق هذه المسألة وأن كون النسيان بالمعنى الأول كبيرة عند من قال به مشروط كما قال الجلال البلقيني والزركشي وغيرهما بما إذا كان عن تكاسل وتهاون يطلب من محله وكذا تحقيق حال الأحاديث الواردة في ذلك.
وقرأ حمزة. والكسائي. وخلف * (أعمى) * بالإمالة في الموضعين لأنه من ذوات الياء. وأمال أبو عمرو في الأول فقط لكونه جديرا بالتغيير لكونه رأس الآية وحل الوقف.
* (وكذالك نجزى من أسرف ولم يؤمن بااي‍ات ربه ولعذاب الاخرة أشد وأبقى) *
* (وكذالك) * أي ومثل ذلك الجزاء الموافق للجنابة * (نجزي من أسرف) * بالانهماك في الشهوات * (ولم يؤمن بآيات ربه) * بل كذبها وأعرض عنها، والمراد تشبيه الجازء العام بالجزاء الخاص * (ولعذاب الآخرة) * على الاطلاق أو عذاب النار * (أشد من عذاب الأولى * (وأبقى) * أي أكثر بقاء منه أو أشد وأبقى من ذلك ومن عذاب القبر أو منهما ومن الحشر على العمي.
* (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مس‍اكنهم إن فى ذلك لأي‍ات لاولى النهى) *
* (أفلم يهد لهم) * كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من قوله تعالى: * (وكذلك نجزي) * الآية والهمزة للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام. واستعمال الهداية باللام إما لتنزيلها منزلة اللازم فلا حاجة إلى المفعول أو لأنها بمعنى التبيين والمفعول الثاني محذوف. وأيا ما كان فالفاعل ضميره تعالى وضمير * (لهم) * للمشركين المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى أغفلوا فلم يفعل الله تعالى لهم الهداية أو فلم يبين عز وجل لهم العبر.
وقوله تعالى: * (كم أهلكنا قبلهم من القرون) * إما بيان بطريق الالتفات لتلك الهداية أو كالتفسير للمعفول المحذوف، وقيل: فاعل * (يهد) * ضميره صلى الله عليه وسلم، وقيل: ضمير الاهلاك المفهوم من قوله تعالى: * (كم أهلكنا) * والجملة مفسره له، وقيل: الفاعل محذوف أي النظر والاعتبار ونسب ذلك إلى المبرد، وففيه حذف الفاعل وهو لا يجوز عند البصريين، وقال الزمخشري: الفاعل جملة * (كم أهلكنا) * الخ ووقوع الجلمة فاعلا مذهب كوفي، والجمهور على خلافه لكن
رجح ذلك هنا بأن التعليل فيما بعد يقتضيه. ورجح كون الفاعل ضميره تعالى شأنه بأنه قد قرأ فرقة منهم ابن عباس. والسلمي * (أفلم نهد) * بالنون. واختار بعضهم عليه كون الفعل منزلا منزلة اللازم وجملة * (كم أهلكنا) * بيانا لتلك الهداية، وبعض آخر كونه متعديا والمفعول مضمون الجملة أي أفلم يبين الله تعالى لهم مضمون هذا الكلام، وقيل: الجملة سادة مسد المفعول والفعل معلق عنها، وتعقب بأن * (كم) * هنا خبرية وهي لا تعلق عن العمل وإنما التي تعلق عنه كم الاستفهامية على ما نص عليه أبو حيان في البحر لكن أنت تعلم أنه إذا كان مدار التعليق الصدارة كما هو الظاهر فقد صرح ابن هشام بأن لكل من كم الاستفهامية وكم الخبرية ما ذكر ورد في المغنى قول ابن عصفور: * (أن كم) * في الآية فاعل يهد بأن لها الصدر ثم قال: وقوله إن ذلك جاء على لغة رديئة حكاها الأخفش عن بعضهم أنه يقول ملكت كم عبيد فيخرجها عن الصدرية خطأ عظيم إذ خرج كلام الله تعالى شأنه على هذه اللغة انتهى. وهو ظاهر في أنه قائل بأن كم هنا خبرية ولها الصدر. نعم نقل الحوفي عن بعضهم أنه رد القائل بالفاعلية بأنها استفهامية لا يعمل ما قبلها فيها والظاهر خبريتها وهي مفعول مقدم لأهلكنا و * (من القرون) * متعلق بمحذوف وقع صفة لمميزها أي كن قرن كائن من القرون * (يمشون في مساكنهم) * حال
279

من * (القرون) * أو من مفعول * (أهلكنا) * أي أهلكناهم وهم في حال أمن وتقلب في ديارهم. واختار في البحر كونه حالا من الضمير في * (لهم) * مؤكدا للإنكار والعامل في " يهد " أي أفلم يهد للمشركين حال كونهم ماشين في مساكن من أهلكنا من القرون السالفة من أصحاب الحجر. وثمود. وقوم لوط مشاهدين لآثار هلاكهم إذا سافروا إلى الشام وغيره، وتوهم بعضهم أن الجملة في موضع الصفة للقرون وليس كذلك، وقرأ ابن السميقع " يمشون " بالتشديد والبناء للمفعول أي يمكنون في المشي * (إن في ذالك) * تعليل للإنكار وتقرير للهداية مع عدم اهتدائهم. * (وذلك) * اشارة إلى مضمون قوله تعالى: * (كم أهلكنا) * الخ، وما فيه من معنى البعد للاشعار ببعد منزلته وعلو شأنه في بابه.
* (لآيات) * كثيرة عظيمة ظاهرات الدالالة على الحق، وجوز أن تكون كلمة في تجريدية كما فيل في قوله عز وجل: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * * (لأولى النهى) * أي لذوي العقول الناهية عن القبائح التي من أقبحها ما يتعاطاه هؤلاء المنكر عليهم من الكفر بآيات الله تعالى والتعامي عنها وغير ذلك من فنون المعاصي.
* (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى) *
* (ولولا كلمة سبقت من ربك) * كلام مستأنف سيق لبيان حكمة عدم وقوع ما يشعر به قوله تعالى: * (أفلم يهد لهم) * الآية من أن يصيبهم مثل ما أصاب القرون المهلكة والكلمة السابقة هي العدة بتأخير عذاب الاستئصال عن هذه الامة إما إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم كما يشعر به التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * (الأنفال: 33) أو لأن من نسلهم من يؤمن أو لحكمة أخرى الله تعالى أعلم بها أي لولا الكلمة السابقة والعدة بتأخير العذاب * (لكان) * أي عقاب جناياتهم * (لزاما) * أي لازما لهؤلاء الكفرة بحيث لا يتأخر عن جناياتهم ساعة لزوم ما نزل باضرابهم من القرون السالفة، واللزام إما مصدر لازم كالخصام وصف به للمبالغة أو اسم آلة كحزام وركاب والوصف به للمبالغة أيضا كلزاز خصم بمعنى ملح على خصمه.
وجوز أبو البقاء كونه جمع لازم كقيام جمع قائم وهو خلاف الظاهر * (وأجل مسمى) * عطف على * (كلمة) * كما أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة. والسدى أي لولا العدة بتأخير عذابهم والأجل المسمى لأعمارهم لما تأخر عذابهم أصلا، وفصله عما عطف عليه للمسارعة إلى بيان جواب لولا، والاشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآي الكريم، وقيل: أي ولولا أجل مسمى لعذابهم وهو يوم القيامة.
وتعقب بأنه يتحد حينئذ بالكلمة السابقة فلا يصح إدراج استقلال كل منهما بالنفي في عداد نكت الفصل. وأجيب بأنه لا يلزم من تأخير العذاب عن الدينا أن يكون له وقت لا يتأخر عنه ولا يتخلف فلا مانع من الاستقلال. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أن الأجل المسمى هي الكلمة التي سبقت، وقيل: الأجل المسمى للعذاب هو يوم بدر. وتعقب بأنه ينافي كون الكلمة هي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة. وأجيب بأن المراد من ذلك العذاب هو عذاب الاستئصال ولم يقع يوم بدر وجوز الزمخشري كون العطف على المستكن في كان العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق تنزيلا للفصل بالخبر منزلة التأكيد أي لكان الأخذ العاجل والأجل المسمى لازمين لهم كدأب عاد. وثمود. وأضرابهم، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل، وأنت تعلم أن هذا لا يتسنى إذا كان * (لزما) * اسم ءالة للزوم التثنية حينئذ
* (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن ءانآء اليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى) *.
* (فاصبر على ما يقولون) * أي إذا كان الأمر على ما ذكر من أن
280

تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهال وأنه لازم لهم البتة * (فاصبر على ما يقولون) * من كلمات الكفر فإن علمه صلى الله عليه وسلم بأنهم معذبون لا محالة مما يليه ويحمله على الصبر، والمراد به عدم الاضطراب لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة * (وسبح) * ملتبسا * (بحمد ربك) * أي صل وأنت حامد لربك عز وجل الذي يبلغك إلى كمالك على هدايته وتوفيقه سبحانه * (قبل طلوع الشمس) * أي صلاة الفجر * (وقبل غروبها) * أي صلاة المغرب، والظاهر أن الظرف متعلق بسبح.
وقد أخرج " تفسير التسبيح " في هذين الوقتين بما ذكر الطبراني. وابن عساكر. وابن مردويه عن جرير مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج الحاكم عن فضالة بن وهب الليثي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: " حافظ على العصرين قلت: وما العصران؟ قال: صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها "، وقيل:
المراد بالتسبيح قبل غروبا صلاتا الظهر والعصر لأن وقت كل منهما قبل غروبها وبعد زوالها وجمعهما لمناسبة قوله تعالى: * (قبل طلوع الشمس) *، وأنت تعلم أن قبل الغروب وإن كان باعتبار معناه اللغوي صادقا على وقت الظهر ووقت العصر إلا أن الاستعمال الشائع فيه وقت العصر، وقوله تعالى: * (ومن ءاناء الليل) * أي من ساعاته جمع إني وأنو بالياء والواو وكسر الهمزة وإنا بالكسر والقصر و * (ءاناء) * بالفتح والمد ولم يشتهر اشتهار الثلاثة الأول، وذكره من يوثق به من المفسرين، وقال الراغب في مفرداته: قال الله تعالى: * (غير ناظرين اناه) * أي وقته، والاناه إذا كسر أوله قصر وإذا فتح مد نحو قول الحطيئة: وآنيت العشاء إلى سهيل * أو الشعري فطار بي الاناء
ثم قال: ويقال ءانيت الشيء إيناء أي أخرته عن أوانه ويانيت تأخرت اه‍، وفي " المصباح " آنيته بالفتح والمد أخرته، والاسم إناء بوزن سلام قيل منصوب على الظرفية بمضمر، وقوله بحانه * (فسبح) * عطف عليه أي قم بعض آناء الليل فسبح وهو كما ترى، وقيل: منصوب بسبح على نسق * (وإياي فارهبون) *، والفاء على الأول عاطفة وعلى الثاني مفسرة، وقيل: إنه معمول * (فسبح) *، والفاء زائدة فائدتها الدلالة على لزوم ما بعدها لما قبلها.
وذكر الخفاجي أنه معمول لما ذكر من غير حاجة لدعوى زيادة الفاء لأنها لا تمنع عمل ما بعدها فيما قبلها كما صرح به النحاة، والمراد من التسبيح في بعض آناء الليل صلاة المغرب وصلاة العشاء وللاعتناء بشأنهما لم يكتف في الأمر بفعلهما بالفعل السابق بأن يعطف * (من ءاناء الليل) * على أحد الظرفين السابقين من غير ذكر فسبح وللاهتمام بشأن ءاناء الليل وأمنيازها على سائر الأوقات بأمور خاصية وعامية قدم ذكرها على الأمر ولم يسلك بها مسلك ما تقدم.
وقوله تعالى: * (وأطراف النهار) * عطف على محل قوله سبحانه: * (من ءاناء الليل) * وقيل: على قوله عز وجل * (قبل طلوع) * والمراد من التبيح أطراف النهار على ما أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما عن قتادة صلاة الظهر واختاره الجبائي، ووجه إطلاق الطرف على وقتها بأنه نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الأخير منه، وجمعه باعتبار النصفين أو لأن تعريف النهار للجنس الشامل لكل نهار فيكون الجمع باعتبار تعدد النهار وأن لكل طرفا كذا قيل. وأورد على ذلك أن البداية والنهاية فيه ليست على وتيرة واحدة
281

لأن كون ذلك نهاية باعتبار أن النصف الأول انتهى عنده وهو خارج عنه وبداية باعتبار أن النصف الثاني ابتدأ منه وهو داخل فيه، ولا شك في بعض كون الجمع بمثل هذا الاعتبار على أنه لا بد مع ذلك من القول بأن أقل الجمع اثنان، وأيضا أن إطلاق الطرف على طرف أحد نصفيه تكلف فإنه ليس طرفا له بل لنصفه.
وقيل: هذا تكرير لصلاتي الصبح والمغرب إيذانا باختصاصهما بمزيد مزية، والمراد بالنهار ما بين طلوع الشمس وغروبها وبالطرف ما يلاصق أول الشيء وآخره، والاتيان بلفظ الجمع مع أن المراد إثنان لا من اللبس إذ النهار ليس له إلا طرفان، ونظيره قول العجاج: ومهمهين فدفدين مرتين * ظهراهما مثل ظهور الترسين
والمرجح المشاكلة لآناء الليل، واختار هذا من أدخل الظهر فيما قبل الغروب، وفيه أن الطرف حقيقة فيما ينتهي به الشيء وهو منه ويطلق على أوله وآخره وإطلاقه على الملاصق المذكور ليس بحقيقة، وأجيب بأنه سائغ شائع وإن لم يكن حقيقة؛ وجوز أن يكون تكريرا لصلاتي الصبح والعصر ويراد بالنهار ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس وبالطرف الأول، والآخر بحسب العرف وإذا أريد بالنهار ما بين طلوع الشمس وغروبها يبعد هذا التجويز إذ لا يكون الطرفان حينئذ على وتيرة واحدة، وقيل: هو أمر بالتطوع في الساعات الأخيرة للنهار وفيه صرف الأمر عن ظاهره مع أن في كون الساعات الأخيرة للنهار زمن تطوع باللاصة كلاما لا يخفى على الفقيه.
وقال أبو حيان: الظاهر أن قوله تعالى: * (وسبح بحمد ربك) * (طه: 103) أمر بالتسبيح مقرونا بالحمد وحينئذ إما أن يراد اللفظ أي قل - سبحانه الله والحمد لله - أو يراد المعنى أي نزهه سبحانه عن السوء وأثن عليه بالجميل.
وفي خبر ذكره ابن عطية " من سبح عند غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه " وقال أبو مسلم: لا يبعد حمل ذلك على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات وعلى ذلك حمله أيضا العز بن عبد السلام وجعل الباء في قوله سبحانه: * (بحمد ربك) * للآلة، وقال: إن ذلك لتعيين سلب صفات النقص لأن من سلب شيئا فقد أثبت ضده وأشداد صفات النقص صفات الكمال فمن نزهه سبحانه فقد أثبت صفات الكمال، وجوز في إضافة الحمد إلى الرب أن تكون من إضافة المصدر إلى الفاعل أو من إضافة المصدر إلى المفعول أو من إضافة الاختصاص بأن يكون الحمد بمعنى المحامد؛ ثم استحسن الأول لأن الحمد الحق الكامل حمد الله تعالى نفسه، والمتبادر جعل الباء للملابسة والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول.
واختار الإمام حمل التسبيح على التنزيه من الشرك، وقال: إنه أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره لأنه سبحانه صبره أولا على ما يقولون من التكذيب وإظهار الكفر والشرك والذي يليق بذلك أن يؤمر بتنزيهه تعالى عن قولهم: حتى يكون مظهرا لذلك وداعيا إليه. واعترض بأنه لا وجه حينئذ لتخصيص هذه الأوقات بالذكر، وأجيب بأن المراد بذكرها الدلالة على الدوام كما في قوله تعالى: * (بالغداة والعشي) * (الأنعام: 52) مع أن لبعض الأوقات مزية لأمر لا يعلمه إلا الله تعالى. ورد بأنه يأباه من التبعيضية في قوله سبحانه * (من آناء الليل) * على أن هذه الدلالة يكفيها أن يقال: قبل طلوع الشمس وبعده لتناوله الليل والنهار فالزيادة تدل على أن المراد خصوصية الوقت، ولا يخفى أن قوله سبحانه: * (من آناء الليل) * متعلق بسبح الثاني فليكن الأول للتعميم، والثاني لتخصيص البعض اعتناء به، نعم يرد أن التنزيه عن الشرك لا معنى لتخيصه إلا إذا أريد به قول: سبحانه الله مرادا
282

به التنزيه عن الشكر، وقيل: يجوز أن يكون المراد من الحمد الصلاة والظرف متعلق به فتكون حكمة التخصيص ظاهرة كذا في " الحواشي الشهابية ". وقد عورض ما قاله الإمام بأن الأنسب بالأمر بالصبر الأمر بالصلاة ليكون ذلك إرشادا لما تصمنه قوله تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * (البقرة: 45) وأيضا الأمر الآتي
أوفق بحمل الأمر بالتسبيح على الأمر بالصلاة وقد علمت أن الآثار تقتضي ذلك ثم إنه يجوز أن يراد بالطرف طائفة من الشيء فإنه أحد معانيه كما في " الصحاح " و " القاموس " وإذا كان تعريف النهار للجنس على هذا لم يبق الكلام فيما روى عن قتادة كما كان فتدبر.
* (لعلك ترضى) * قيل: هو متعلق بسبح أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عنده تعالى ما ترضى به نفسك من الثواب. واستدل به على عدم الوجوب على الله تعالى، وجوز أن يكون متعلقا بالأمر بالصبر والأمر بالصلاة، والمراد * (لعلك ترضى) * في الدنيا بحصول الظفر وانتشار أمر الدعوة ونحو ذلك، وقرأ أبو حيوة. وطلحة. والكسائي. وأبو بكر. وإبان. وعصمة. وأبو عمارة عن حفص. وأبو زيد عن المفضل. وأبو عبيد. ومحمد بن عيسى الأصفهاني * (ترضى) * على صيغة البناء للمفعول من أرضى أي يرضيك ربك.
* (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيواة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) *
* (ولا تمدن عينيك) * أي لا تطل نظرهما بطريق الرغبة والميل * (إلى ما متعنا به) * من زخارف الدنيا كالبنين. والأموال والمنازل. والملابس. والمطاعم * (ازواجا منهم) * أي أصنافا من الكفرة وهو مفعول متعنا قدم عليه الجار والمجرور للاعتناء به ومن بيانية، وجون أن يكون حالا من ضمير به ومن تبعيضية مفعول متعنا أو متعلقة بمحذوف وقع صفة لمفعوله المحذوف أي لا تمدن عينيك إلى الذي متعنا به وهو أصناف وأنواع بعضهم أو بعضا كائنا منهم. والمراد على ما قيل استمر على ترك ذلك، وقيل: الخطاب له عليه الصلاة والسلام والمراد أمته لأنه صلى الله عليه وسلم كان أبعد شيء عن إطالة النظر إلى زينة الدينا وزخارفها وأعلق بما عند الله عز وجل من كل أحد وهو عليه الصلاة والسلام القائل: " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه الله تعالى " وكان صلى الله عليه وسلم شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زخرفها، والكلام على حذف مضاف أو فيه تجوز في النسبة، وفي العدول عن لا تنظر إلى ما متعنا به الخ إلى ما في النظم الكريم إشارة إلى أن النظر الغير الممدود معفو وكان المنهي عنه في الحقيقة هو الإعجاب بذلك والرغبة فيه والميل إليه لكن بعض المتقين بالغوا في غض البصر عن ذلك حتى أنهم لم ينظروا إلى أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمركوب وغيرهما وذلك لمغزى بعيد وهو أنهم اتخذوها لعيون النظارة والفخر بها فيكون النظر إليها محصلا لغرضهم وكالمغري لهم على اتخاذها.
* (زهرة الحياة الدنيا) * أي زينتها وبهجتها وهو منصوب بمحذوف يدل عليه متعنا أي جعلنا لهم زهرة إو بمتعنا على أنه مفعول ثان له لتضمينه معنى أعظينا أو على أنه بدل من محل به وضعفه ابن الحاجب في أماليه لأن إبدال منصوب من محل جار ومجرور ضعيف كمررت بزيد أخاك ولأن الإبدال من العائد مختلف فيه. ومثل ذلك ما قيل إنه بدل من ما الموصولة لما فيه من الفصل بالبدل بين الصلة ومعمولها أو على أنه بدل من - أزواجا - بتقدير مضاف أي ذوي أو أهل زهرة، وقيل: بدون تقدير على كون - أزواجا - حالا بمعنى أصناف التمتعات أو على جعلهم نفس الزهرة مبالغة. وضعف هذا بأن مثله يجري في النعت لا في البدل لمشابهته لبدل الغلط حينئذ أو على
283

أنه تمييز لما أو لضمير به، وحكى عن الفراء أو صفة - أزواجا - ورد ذلك لتعريف التمييز وتعريف وصف النكرة، وقيل: على أنه حال من ضمير به أو من ما وحذف التنوين للالتقاء الساكنين وجر الحياة على البدل من ما واختاره مكي ولا يخفى ما فيه، وقيل: نصب على الذم أي اذم زهرة الخ واعترض بأن المقام يأباه لأن المراد أن النفوس مجبولة على النظر إليها والرغبة فيها ولا يلائمه تحقيرها ورد بأن في إضافة الزهرة إلى الحياة الدنيا كل ذم وما ذكر من الرعبة من شهوة النفوس الغبية التي حرمت. نور التوفيق.
وقرأ الحسن. وأبو حيوة. وطلحة. وحميد. وسلام. ويعقوب. وسهل. وعيسى. والزهري - زهرة - بفتح الهاء وهي لغة كالجهرة في الجهرة، وفي المحتسب لابن جني مذهب أصحابنا في كل حرف حلق ساكن بعد فتحة أنه لا يحرك إلا على أنه لغة كنهر. ونهر. وشعر. وشعر. ومذهب الكوفيين أنه يطرد تحريك الثاني لكونه حرفا حلقيا وإن لم يسمع ما لم يمنع منه مانع كما في لفظ - نحو - لأنه لو حرك قلب الواو ألفا، وجوز الزمخشري كون زهرة بالتحريك جمع زاهر ككافر وكفرة وهو وصف لأزواجا أي أزواجا من الكفرة زاهرين بالحياة الدنيا لصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون وتهلل وجوههم وبهاء زيهم بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب، وجوز على هذا كونه حالا لأن إضافته لفظية.
وأنت تعلم أن المتبادر من هذه الصفة قصد الثبوت لا الحدوث فلا تكون إضافتها لفظية على أن المعنى على تقدير الحالية ليس بذاك * (لنفتنهم فيه) * متعلق بمتعنا أي لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه أو لنعذبهم في الآخرة بسببه وفيه تنفير عن ذلك سوء عاقبته مآلا أثر بهجته حالا، وقرأ الأصمعي عن عاصم لنفتنهم بضم النون من أفتنه إذا جعل الفتنة واقعة فيه على ما قال أبو حيان * (ورزق ربك) * أي ما ادخر لك في الآخرة أو ما رزقك في الدنيا من النبوة والهدى، وادعى " صاحب الكشف " أنه أنسب بهذا المقام أو ما ادخر لك فيها من فتح البلاد والغنائم، وقيل: القناعة * (خير) * مما متع به هؤلاء لأنه مع كونه في نفسه من أجل ما يتنافس فيه المتنافسون مأمون الغائلة بخلاف ما متعوا به * (وأبقى) * فإنه نفسه أو أثره لا يكاد ينقطع كالذي متعوا به.
* (وأمر أهلك بالصلواة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والع‍اقبة للتقوى) *
* (وأمر أهلك بالصلاة) * أمر صلى الله عليه وسلم أن يأمر أهله بالصلاة بعدما أمر هو عليه الصلاة والسلام بها ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت ذوي الثروة، والمراد بأهله صلى الله عليه وسلم قيل أزواجه وبناته وصهره علي رضي الله تعالى عنهم، وقيل: ما يشملهم وسائر مؤمني بني هاشم. والمطلب، وقيل: جميع المتبعين له عليه الصلاة والسلام من أمته، واستظهر أن المراد أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وأيد بما أخرجه ابن مردويه. وابن
عساكر. وابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت * (وأمر أهلك) * الخ كان عليه الصلاة والسلام يجيء إلى باب علي كرم الله تعالى وجهه صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول: الصلاة رحمكم الله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، وروى نحو ذلك الإمامية بطرق كثيرة.
والظاهر أن المراد بالصلاة الصلوات المفروضة ويؤمر بأدائها الصبي وإن لم تجب عليه ليعتاد ذلك فقد روى أبو داود بإسناد حسن مرفوعا * (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع) * أي وداوم عليها فالصبر مجاز مرسل عن المداومة
284

لأنها لازم معناه، وفيه إشارة إلى أن العبادة في رعايتها حق الرعاية مشقة على النفس، والخطاب عام شامل للأهل وإن كان في صورة الخاص وكذا فيما بعد، ولا يخفى ما في التعبير بالتسبيح أولا والصلاة ثانيا مع توجيه الخطاب بالمداومة إليه عليه الصلاة والسلام من الإشارة إلى مزيد رفعة شأنه صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: * (لا نسئلك رزقا نحن نرزقك) * دفع لما عسى أن يخطر ببال أحد من أن المداومة على الصلاة ربما تضر بأمر المعاش فكأنه قيل داوموا على الصلاة غير مشتغلين بأمر المعاش عنها إذ لا نكلفكم رزق أنفسكم إذ نحن نرزقكم، وتقديم المسند إليه للاختصاص أو لإفادة التقوى، وزعم بعضهم أن الخطاب خاص وكذا الحكم إذ لو كان عاما لرخص لكل مسلم المداومة على الصلاة وترك الاكتساب وليس كذلك، وفيه أن قصارى ما يلزم العموم سواء كان الأهل خاصا أو عاما لسائر المؤمنين أن يرخص للمصلي ترك الاكتساب المانع من الصلاة وأي مانع عن ذلك بل ترك الاكتساب لأداء الصلاة المفروضة فرض وليس المراد بالمداومة عليها إلا أداؤها دائما في أوقاتها المعينة لها لا استغراق الليل والنهار بها وكان الزاعم ظن أن المراد بالصلاة ما يشمل المفروضة وغيرها وبالمداومة عليها فعلها دائما على وجه يمنع من الاكتساب وليس كذلك، ومما ذكرنا يعلم أنه لا حاجة في رد ما ذكره الزاعم إلى حمل العموم على شمول خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهله فقط دون جميع الناس كما لا يخفى، نعم قد يستشعر من الآية أن الصلاة مطلقا تكون سببا لإدرار الرزق وكشف الهم وعلى ذلك يحمل ما جاء في الأخبار، أخرج أبو عبيد. وسعيد بن منصور وابن المنذر. والطبراني في " الأوسط ". وأبو نعيم في " الحلية " والبيهقي في " شعب الايمان " بسند صحيح عن عبد الله بن سلام قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة وتلا وأمر أهلك بالصلاة " وأخرج أحمد في الزهد وغيره عن ثابت قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله بالصلاة صلوا صلوا قال ثابت وكانت الأنبياء عليهم السلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة، وأخرج مالك. والبيهقي عن أسلم قال كان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلي حتى إذا كان آخر الليل إيقظ أهله للصلاة ويقول لهم: الصلاة الصلاة ويتلو هذه الآية * (وأمر أهلك) * الخ، وجوز لظاهر الاخبار أن يراد بالصلاة مطلقها فتأمل، وقرأ ابن وثاب. وجماعة * (نرزقك) * بإدغام القاف في الكاف، وجاء ذلك عن يعقوب * (والعاقبة) * الحميدة أعم من الجنة وغيرها وعن السدي تفسيرها بالجنة * (للتقوى) * أي لأهلها كما في قوله تعالى والعاقبة للمتقين ولو لم يقدر المضاف صح وفيما ذكر تنبيه على أن ملاك الأمر التقوى.
* (وقالوا لولا يأتينا بااية من ربه أولم تأتهم بينة ما فى الصحف الاولى) *
* (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه) * حكاية لبعض أقاويلهم الباطلة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر عليها أي هلا يأتينا بآية تدل على صدقه في دعوى النبوة أو بآية من الآيات التي اقترحوها لا على التعيين بلغوا من المكابرة والعناد إلى حيث لم يعدوا ما شاهدوا من المعجزات التي تخر لها صم الجبال من قبيل الآيات حتى اجترؤا على التفوه بهذه العظيمة الشنعاء.
وقوله تعالى: * (أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) * رد من جهته تعالى لمقالتهم القبيحة وتكذيب لهم فما دسوا تحتها من إنكار إتيان الآية بإتيان القرآن الكريم الذي هو أم الآيات وأس المعجزات وأرفعها وأنفعها لأن حقيقة المعجزة الأمر الخارق للعادة يظهر على يد مدعي النبوة عند التحدي أي أمر كان ولا ريب
285

في أن العلم أجل الأمور وأعلاها إذ هو أصل الأعمال ومبدأ الأفعال وبه تنال المراتب العلية والسعادة الأبدية، ولقد ظهر مع حيازته لجميع علوم الأولين والآخرين على يد من لم يمارس شيئا من العلوم ولم يدارس أحدا من أهلها أصلا فأي معجزة تراد بعد وروده، وأية آية تطلب بعد وفوده، فالمراد بالبينة القرآن الكريم، والمراد بالصحف الأولى التوراة والإنجيل وسائل الكتب السماوية وبما فيها العقائد الحقة وأصول الأحكام التي اجمعت عليها كافة الرسل عليهم السلام، ومعنى كونه بينة لذلك كونه شاهدا بحقيته، وفي إيراده بهذا العنوان ما لا يخفى من التنويه بشأنه والإنارة لبرهانه حيث أشار إلى امتيازه وغناه عما يشهد بحقية ما فيه بإعجازه. وإسناد الإتيان إليه مع جعلهم إياه مأتيا به للتنبيه على أصالته فيه مع ما فيه من المناسبة للبينة، والهمزة لإنكار الوقوع والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل: ألم يأتهم سائر الآيات ولم يأتهم خاصة بينة ما في الصحف الأول تقريرا لإتيانه وإيذانا بأنه من الوضوح بحيث لا يتأتى منهم إنكار أصلا: وإن اجترؤا على إنكار سائر الآيات مكابرة وعنادا، وتفسير الآية بما ذكر هو الذي تقتضيه جزالة التنزيل.
وزعم الإمام. والطبرسي أن المعنى أو لم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب الأولى من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما اقترحوا الآيات ثم كفروا بها فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية بقولهم * (لولا يأتينا بآية) * كحال أولئك الهالكين اه‍. وهو بمعزل عن القبول كما لا يخفى على ذوى العقول. وقرأ أكثر السبعة. وأبو بحرية وابن محيصن. وطلحة. وابن أبي ليلى. وابن مناذر. وخلف. وأبو عبيد. وابن سعدان. وابن عيسى. وابن جبير الأنطاكي * (يأتهم) * بالياء التحتانية لمجاز تأنيث الآية والفصل.
وقرأت فرقة منهم أبو زيد عن أبي عمرو * (بينة) * بالتنوين على أن * (ما) * في القرآن من الناسخ والفضل مما لم يكن في غيره من الكتب وهو كما ترى. وقرأت فرقة بنصب * (بينة) * والتنوين على أنه حال، و * (ما) * فاعل. وقرأت فرقة منهم ابن عباس " الصحف " بإسكان الحاء للتخفيف، وقوله تعالى:
* (ولو أنآ أهلكن‍اهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولاأرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاي‍اتك من قبل أن نذل ونخزى) *
* (ولو أنا أهلكناهم بعذاب) * إلى آخر الآية جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من كون القرآن آية بينة لا يمكن إنكارها ببيان أنهم يعترفون بها يوم القيامة، والمعنى ولو أنا أهلكناهم في الدنيا بعذاب مستأصل * (من قبله) * متعلق بأهلكنا أو بمحذوف هو صفة لعذاب أي بعذاب كائن من قبله، والضمير للبينة والتذكير باعتبار أنها برهان ودليل أو للإتيان المفهوم من الفعل أي من قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم * (لقالوا) * أي يوم القيامة * (ربنا لولا أرسلت) * في الدنيا * (إلينا رسولا) * مع آيات * (فنتبع ءاياتك) * التي جاءنا بها * (من قبل أن نذل) * بالعذاب في الدنيا * (ونخزى) * بدخول النار اليوم، وقال أبو حيان: الذل والخزي كلاهما بعذاب الآخرة. ونقل تفسير الذل بالهوان والخزي بالافتضاح والمراد أنا لو أهلكناهم قبل ذلك لقالوا ولكنا لم نهلكهم قبله فانقطعت معذرتهم فعند ذلك * (قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء) * (الملك: 9).
وقرأ ابن عباس. ومحمد بن الحنفية. وزيد بن علي. والحسن في رواية عباد. والعمري. وداود
286

والفزاري. وأبو حاتم. ويعقوب * (نذل ونخزي) * بالناء للمفعول، واستدل الإشاعرة بالآية على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع والجبائي على وجوب اللطف عليه عز وجل وفيه نظر. ‍
* (قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصح‍ابالصراط السوي ومن اهتدى) *
* (قل) * لأولئك الكفرة المتمردين * (كل) * أي كل واحد منا ومنكم * (متربص) * أي منتظر لما يؤل إليه أمرنا وأمركم وهو خبر * (كل) * وإفراده حملا له على لفظه * (فتربصوا) * وقرىء * (فتمتعوا) * * (فستعلمون) * عن قريب * (من أصحاب الصراط السوي) * أي المستقيم. وقرأ أبو مجلز. وعمران بن حدير * (السواء) * أي الوسط، والمراد به الجيد.
وقرأ الجحدري. وابن يعمر * (السوأى) * بالضم والقصر على وزن فعلى وهو تأنيث الأسوأ وأنث لتأنيث الصراط وهو مما يذكر ويؤنث. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما * (السوء) * بفتح وسكون وهمزة آخره بمعنى الشر. وقرىء * (السوي) * بضم السين وفتح الواو وتشديد الياء وهو تصغير سوء بالفتح، وقيل: تصغير سوء بالضم، وقال أبو حيان: الأجود أن يكون تصغير سواء كما قالوا في عطا عطى لأنه لو كان تصغير ذلك لثبتت همزته، وقيل: سوئى. وتعقب بأن إبدال مثل هذه الهمزة ياء جائز، وعن الجحدري. وابن يعمر أنهما قرآ * (السوي) * بالضم والقصر وتشديد الواو، واختير في تخريجه أن يكون أصله السوآى كما في الرواية الأولى فخففت الهمزة بإبدالها واوا وأدغمت الواو في الواو، وقد روعيت المقابلة على أكثر هذه القراءات بين ما تقدم وقوله تعالى: * (ومن اهتدى) * أي من الضلالة ولم تراع على قراءة الجمهور والأولى من الشواذ.
ومن في الموضعين استفهامية في محل رفع على الابتداء والخبر ما بعد والعطف من عطف الجمل ومجموع الجملتين المتعاطفتين ساد مسد مفعولي العلم أو مفعوله إن كان بمعنى المعرفة، وجوز كون من الثانية موصولة فتكون معطوفة على محل الجملة الأولى الاستفهامية المعلق عنها الفعل على أن العلم بمعنى المعرفة المتعدية لواحد إذ لولاه لكان الموصول بواسطة العطف أحد المفعولين وكان المفعول الآخر محذوفا اقتصارا وهو غير جائز.
وجوز أن تكون معطوفة على * (أصحاب) * فتكون في حيز من الاستفهامية أي ومن الذي اهتدى أو على * (الصراط) * فتكون في حيز أصحاب أي ومن * (أصحاب) * فتكون في حيز من الاستفهامية أي ومن الذي اهتدى أو على * (الصراط) * فتكون في حيز أصحاب أي ومن * (أصحاب) * الذي اهتدى يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا عنى بالصراط السوي النبي عليه الصلاة والسلام أيضا كان العطف من باب عطف الصفات على الصفات مع اتحاد الذات.
وأجاز الفراء أن تكون من الأولى موصولة أيضا بمعنى الذين وهي في محل النصب على أنها مفعول للعلم بمعنى المعرفة و * (أصحاب) * خبر مبتدأ محذوف وهو العائد أي الذين هم أصحاب الصراط وهذا جائز على مذهب الكوفيين فإنهم يجوزون حذف مثل هذا العائد سواء كان في الصلة طول أو لم يكن وسواء كان الموصول أيا أو غيره بخلاف البصريين، وما أشد مناسب هذه الخاتمة للفاتحة، وقد ذكر الطيبي أنها خاتمة شريفة ناظرة إلى الفاتحة وأنه إذا لاح أن القرآن أنزل لتحمل تعب الإبلاغ ولا تنهك نفسك فحيث بلغت وبلغت جهدك فلا عليك وعليك بالإقبال على طاعتك قدر طاقتك وأمر أهلك وهم أمتك المتبعون بذلك ودع الذين لا ينجع فيهم الإنذار فإنه تذكرة لمن يخشى وسيندم المخالف حين لا ينفعه الندم انتهى.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (فأوجس في نفسه خيفة موسى) * (طه: 67) قيل: إنه عليه السلام رأى أن الله تعالى ألبس سحر السحرة لباس القهر فخاف من القهر لأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
287

وسئل ابن عطاء عن ذلك فقال: ما خاف عليه السلام على نفسه وإنما خاف على قومه أن يفوتهم حظهم من الله تعالى: * (قلنا لا تخلف إنك أنت الأعلى) * (طه: 68) أي إنك المحفوظ بعيون الرعاية وحرس اللطف أو أنت الرفيع القدر الغالب عليه غلبة تامة بحيث يكونون بسببها من أتباعك فلا يفوتهم حظهم من الله تعالى * (فألقى السحرة سجدا) * إلى آخر ما كان منهم فيه إشارة إلى أن الله تعالى يمن على من يشاء بالتوفيق والوصول إليه سبحانه في أقصر وقت فلا يستبعد حصول الكمال لمن تاب وسلك على يد كامل مكمل في مدة يسيرة. وكثير من الجهلة ينكرون على السالكين التائبين إذا كانوا قريبي العهد بمقارفة الذنوب ومفارقة العيوب حصول الكمال لهم وفيضان الخير عليهم ويقولون كيف يحصل لهم ذلك وقد كانوا بالأمس كيت وكيت، وقولهم: * (لن نؤثرك) * الخ كلام صادر من عظم الهمة الحاصل للنفس بقوة اليقين فإنه متى حصل ذلك للنفس لم تبال بالسعادة الدنيوية والشقاوة البدنية واللذات العاجلة الفانية والآلام الحسية في جنب السعادة الأخروية واللذة الباقية الروحانية * (
ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي) * (طه: 77) الخ فيه إشارة إلى استحباب مفارقة الأغيار وترك صحبة الأشرار * (ولا تطغو فيه) * عد من الطغيان فيه استعماله مع الغفلة عن الله تعالى وعدم نية التقوى به على تقواه عز وجل * (وما أعجلك عن قومك يا موسى) * (طه: 83) الإشارة فيه أنه ينبغي للرئيس رعاية الأصلح في حق المرؤس وللشيخ عدم فعل ما يخشى منه سوء ظن المريد لا سيما إذا لم يكن له رسوخ أصلا * (قال فأنا قد فتنا قومك من بعدك) * (طه: 85).
قال ابن عطاء: إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام بعد أن أخبره بذلك: أتدري من أين أتيت؟ قال: لا يا رب قال سبحانه: من قولك لهارون: اخلفني في قومي وعدم تفويض الأمر إلي والاعتماد في الخلافة علي.
وذكر بعضهم أن سر إخبار الله تعالى إياه بما ذكر مباسطته عليه السلام وشغله بصحبته عن صحبة الأضداد وهو كما ترى: * (وأضلهم السامري) * صار سبب ضلالهم بما صنع قال بعض أهل التأويل: إنما ابتلاهم الله تعالى بما ابتلاهم ليتميز منهم المستعد القابل للكمال بالتجريد من القاصر الاستعداد المنغمس في المواد الذي لا يدرك إلا المحسوس ولا يتنبه للمجرد المعقول. ولهذا قالوا: * (ما أخلفنا موعدك بملكنا) * (طه: 87) أي برأينا فإنهم عبيد بالطبع لا رأي لهم ولا ملكة وليسوا مختارين لا طريق لهم إلا التقليد والعمل لا التحقيق والعلم وإنما استعبدهم السامري بالطلسم المفرغ من الحلي لرسوخ محبة الذهب في نفوسهم لأنها سفلية منجذبة إلى الطبيعة الجسمانية وتزين الطبيعة الذهبية وتحلى تلك الصورة النوعية فيها للتناسب الطبيعي وكان ذلك من باب مزج القوى السماوية التي هي أثر النفس الحيوانية الكلية السماوية المشار إليها بحيزوم وفرس الحياة وهي مركب جبريل عليه السلام المشار به إلى العقل الفعال بالقوى الأرضية ولذلك قال: * (بصرت بما لم يبصروا به) * (طه: 96) أي من العلم الطبيعي والرياضي اللذين يبتني عليهما علم الطلسمات والسيمياء * (قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس) * (طه: 97) قال ذلك عليه السلام غضبا على السامري وطردا له وكل من غضب عليه الأنبياء وكذا الأولياء لكونهم مظاهر صفات الحق تعالى وقع في قهره عز وجل وشقي في الدنيا والآخرة وكانت صورة عذاب هذا الطريد في التحرز عن المماسة نتيجة بعده عن الحق في الدعوة إلى الباطل وأثر لعن موسى عليه السلام إياه عند إبطال كيده وإزالة مكره * (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا) * قال أهل الوحدة: أي يسألونك عن وجودات الأشياء فقل ينسفها ربي برياح النفحات الإلهية الناشئة من معدن الأحدية فيذرها في القيامة الكبرى قاعا صفصفا وجودا أحديا * (لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) * اثنينية ولا غيرية * (يومئذ يتبعون الداعي) *
288

الذي هو الحق سبحانه لا عوج له إذ هو تعالى آخذ بنواصيهم وهو على صراط مستقيم * (وخشعت الأصوات للرحمن) * إذ لا فعل لغيره عز وجل * (فلا تسمع إلا همسا) * (طه: 108) أمرا خفيا باعتبار الإضافة إلى المظاهر انتهى.
ولكم لهم مثل هذه التأويلات والله تعالى العاصم * (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) * (طه: 109) قيل: هو من صحح فعله وعقده ولم ينسب لنفسه شيئا ولا رأى لها عملا * (ولا يحيطون به علما) * لكمال تقدسه وتنزهه وجلاله سبحانه عز وجل فهيهات أن تحلق بعوضة الفكر في جو سماء الجبروت. ومن أين لنحلة النفس الناطقة أن ترعى أزهار رياض بيداء اللاهوت، نعم يتفاوت الخلق في العلم بصفاته عز وجل على قدر تفاوت استعداداتهم وهو العلم المشار إليه بقوله تعالى: * (وقل رب زدني علما) * (طه: 114) وقيل: هذا إشارة إلى العلم اللدني، والإشارة في قصة آدم عليه السلام إلى أنه ينبغي للإنسان مزيد التحفظ عن الوقوع في العصيان، ولله تعالى در من قال: يا ناظرا يرنو بعيني راقد * ومشاهدا للأمر غير مشاهد
منيت نفسك ضلة وأبحتها * طرق الرجاء وهن غير قواصد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي * درج الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدما * منها إلى الدنيا بذنب واحد
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: بينا آدم عليه السلام يبكي جاءه جبريل عليه السلام فبكى آدم وبكى جبريل لبكائه عليهما السلام وقال: يا آدم ما هذا البكاء؟ قال: يا جبريل وكيف لا أبكي وقد حولني ربي من السماء إلى الأرض ومن دار النعمة إلى دار البؤس فانطلق جبريل عليه السلام بمقالة آدم فقال الله تعالى: يا جبريل انطلق إليه فقل له: يا آدم يقول لك ربك ألم أخلقك بيدي ألم أنفخ فيك من روحي ألم أسجد لك ملائكتي ألم أسكنك جنتي ألم آمرك فعصيتني فوعزتي وجلالي لو أن ملء الأرض رجالا مثلك ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين غير أنه يا آدم قد سبقت رحمتي غضبي وقد سمعت تضرعك ورحمت بكاءك وأقلت عثرتك.
* (ومن أعرض عن ذكري) * أي بالتوجه إلى العالم السفلي * (فإن له معيشة ضنكا) * (طه: 124) لغلبة شحه وشدة بخله فإن المعرض عن جناب الحق سبحانه انجذبت نفسه إلى الزخارف الدنيوية والمقتنيات المادية لمناسبتها إياه واشتد حرصه وكلبه عليها وشغفه بها للجنسية والاشتراك في الظلمة والميل إلى الجهة السفلية فيشح بها عن نفسه وغيره وكلما استكثر منها ازداد حرصه عليها وشحه بها وتلك المعيشة الضنك.
ولهذا قال بعضهم: لا يعرض أحد عن ذكر ربه سبحانه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه بخلاف الذاكر المتوجه إليه تعالى فإنه ذو يقين منه عز وجل وتوكل عليه تعالى في سعة من عيشه ورغد ينفق ما يجد ويستغني بربه سبحانه عما يفقد * (والعاقبة للتقوى) * أي العاقبة التي تعتبر وتستأهل أن تسمى عاقبة لأهل التقوى المتخلين عن الرذائل النفسانية المتحلين بالفضائل الروحانية، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بحسن العاقبة وصفاء العمر عن المشاغبة ونحمده سبحانه على آلائه ونسلم على خير أنبيائه وعلى آله خير آل ما طلع نجم ولمع
289