الكتاب: أضواء البيان
المؤلف: الشنقيطي
الجزء: ٣
الوفاة: ١٣٩٣
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: مكتب البحوث والدراسات.
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤١٥ - ١٩٩٥م
المطبعة: بيروت. - دار الفكر للطباعة والنشر.
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

((سورة بني إسرائيل))
* (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الا قصى الذى باركنا حوله لنريه من ءاياتنآ إنه هو السميع البصير * وءاتينآ موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى إسراءيل ألا تتخذوا من دونى وكيلا * ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا * وقضينآ إلى بنى إسراءيل فى الكتاب لتفسدن فى الا رض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جآء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنآ أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا * إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جآء وعد الا خرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا * إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا * وأن الذين لا يؤمنون بالا خرة أعتدنا لهم عذابا أليما * ويدع الإنسان بالشر دعآءه بالخير وكان الإنسان عجولا) *) * قوله تعالى: * (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الا قصى) *. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ويكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول. فإنا نبين ذلك. فإذا علمت ذلك.
فاعلم أن هذا الإسراء به صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة، زعم بعض أهل العلم أنه بروحه صلى الله عليه وسلم دون جسده، زاعما أنه في المنام لا اليقظة، لأن رؤيا الأنبياء وحي.
وزعم بعضهم: أن الإسراء بالجسد، والمعراج بالروح دون الجسد، ولكن ظاهر القرآن يدل على أنه بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما، لأنه قال * (بعبده) * والعبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، ولأنه قال * (سبحان) * والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام. فلو كان مناما لم يكن له كبير شأن حتى يتعجب منه. ويؤيده قوله تعالى: * (ما زاغ البصر وما طغى) * لأن البصر من آلات الذات لا الروح، وقوله هنا * (لنريه من ءاياتنا) *.
ومن أوضح الأدلة القرآنية على ذلك قوله جل وعلا: * (وما جعلنا الرءيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة فى القرءان) * فإنها رؤيا عين يقظة، ولا رؤيا منام، كما صح عن ابن عباس وغيره.
ومن الأدلة الواضحة على ذلك أنها لو كانت رؤيا منام لما كانت فتنة، ولا سببا لتكذيب قريش، لأن رؤيا المنام ليست محل إنكار، لأن المنام قد يرى فيه ما لا يصح. فالذي جعله الله فتنة هو ما رآه بعينه من الغرائب والعجائب. فزعم المشركون أن من ادعى رؤية ذلك بعينه فهو كاذب لا محالة، فصار فتنة لهم. وكون الشجرة المعلونة التي هي شجرة الزقوم على التحقيق فتنة لهم (أن الله لما أنزل قوله: * (إنها
3

شجرة تخرج فى أصل الجحيم) * قالوا: ظهر كذبه. لأن الشجر لا ينبت بالأرض اليابسة، فكيف ينبت في أصل النارا) كما تقدم في البقرة.
ويؤيد ما ذكرنا من كونها رؤيا عين يقظة قوله تعالى هنا: * (لنريه من ءاياتنا) *، وقوله * (ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من ءايات ربه الكبرى) *. وما زعمه بعض أهل العلم من أن الرؤيا لا تطلق بهذا اللفظ لغة إلا على رؤيا المنام، مردود. بل التحقيق: أن لفظ الرؤيا يطلق في لغة العرب على رؤية العين يقظة أيضا. ومنه قول الراعي وهو عربي قح: لقد رأى من ءايات ربه الكبرى) *. وما زعمه بعض أهل العلم من أن الرؤيا لا تطلق بهذا اللفظ لغة إلا على رؤيا المنام، مردود. بل التحقيق: أن لفظ الرؤيا يطلق في لغة العرب على رؤية العين يقظة أيضا. ومنه قول الراعي وهو عربي قح:
* فكبر للرؤيا وهش فؤاده
* وبشر نفسا كان قبل يلومها
*
فإنه يعني رؤية صائد بعينه. ومنه أيضا قول أبي الطيب: ورؤياك أحلى في العيون من الغمض
قال صاحب اللسان.
وزعم بعض أهل العلم: أن المراد بالرؤيا في قوله تعالى: * (وما جعلنا الرءيا التى أريناك) *، رؤيا منام، وأنها هي المذكورة في قوله تعالى: * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شآء الله) *.. والحق الأول.
وركوبه صلى الله عليه وسلم على البراق يدل على أن الإسراء بجسمه. لأن الروح ليس من شأنه الركوب على الدواب كما هو معروف، وعلى كل حال:
فقد تواترت الأحاديث الصحيحة عنه: (أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأنه عرج به من المسجد الأقصى حتى جاوز السماوات السبع).
وقد دلت الأحاديث المذكورة على أن الإسراء والمعراج كليهما بجسمه وروحه، يقظة لا مناما، كما دلت على ذلك أيضا الآيات التي ذكرنا.
وعلى ذلك من يعتد به من أهل السنة والجماعة، فلا عبرة بمن أنكر ذلك من الملحدين. وما ثبت في الصحيحين من طريق شريك عن أنس رضي الله عنه: أن الإسراء
4

المذكور وقع مناما لا ينافي ما ذكرنا مما عليه أهل السنة والجماعة، ودلت عليه نصوص الكتاب والسنة. لإمكان أن يكون رأى الإسراء المذكور نوما، ثم جاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح فأسري به يقظة تصديقا لتلك الرؤيا المنامية. كما رأى في النوم أنهم دخلوا المسجد الحرام، فجاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح، فدخلوا المسجد الحرام في عمرة القضاء عام سبع يقظة، لا مناما، تصديقا لتلك الرؤيا. كما قال تعالى: * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ءامنين) * الآية. ويؤيد ذلك حديث عائشة الصحيح (فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) مع أن جماعة من أهل العلم قالوا: إن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ساء حفظه
في تلك الرواية المذكورة عن أنس، وزاد فيها ونقص، وقدم وأخر. ورواها عن أنس غيره من الحفاظ على الصواب، فلم يذكروا المنام الذي ذكره شريك المذكور. وانظر رواياتهم بأسانيدها ومتونها في تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى. فقد جمع طرق حديث الإسراء جمعا حسنا بإتقان. ثم قال رحمه الله: (والحق أنه عليه الصلاة والسلام أسري به يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس راكبا البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أتي بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها، فصعد فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مر بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزليهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام أي أقلام القدر بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى، وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة، ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح، ورأى رفرفا أخضر قد سد الأفق، ورأى البيت المعمور، وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسندا ظهره إليه. لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة، يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ورأى الجنة والنار. وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفا بعباده. وفي هذا اعتناء بشرف الصلاة وعظمتها. ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء. فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ. ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء. والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس، ولكن
5

، في بعضها أنه كان أول دخوله إليه، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه، لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحدا واحدا وهو يخبره بهم، وهذا هو اللائق. لأنه كان أولا مطلوبا إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى.
ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوانه من النبيين، ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام في ذلك. ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس. والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى بلفظه من تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، فهو متواتر بهذا الوجه. وذكر النقاش ممن رواه: عشرين صحابيا، ثم شرع يذكر بعض طرقه في الصحيحين وغيرهما، وبسط قصة الإسراء، تركناه لشهرته عند العامة، وتواتره في الأحاديث.
وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في آخر كلامه على هذه الآية الكريمة فائدتين، قال في أولاهما: (فائدة حسنة جليلة وروى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب (دلائل النبوة) من طريق محمد بن عمر الواقدي: حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عمر بن عبد الله، عن محمد بن كعب القرظي قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة إلى قيصر). فذكر وروده عليه وقدومه إليه، وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل هرقل، ثم استدعى من بالشام من التجار فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه. فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم كما سيأتي بيانه. وجعل أبو سفيان يجتهد أن يحقر أمره ويصغره عنده، قال في السياق عن أبي سفيان: (والله ما منعني من أن أقول عليه قولا أسقطه به من عينه إلا أنا أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها علي ولا يصدقني في شيء. قال: حتى ذكرت قوله ليلة أسري به، قال فقلت: أيها الملك، ألا أخبرك خبرا تعرف به أنه قد كذب. قال: وما هو؟ قال: قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة، فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء، ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصباح. قال: وبطريق إيلياء عند رأس قيصر، فقال بطريق إيلياء: قد علمت تلك الليلة.
قال: فنظر إليه قيصر وقال: وما علمك بهذا؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد. فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد
6

غلبني، فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فغلبنا، فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلا، فدعوت إليه النجاجرة فنظروا إليه فقالوا: إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ولا نستطيع أن نحركه، حتى نصبح فننظر من أين أتى قال: فرجعت وتركت البابين مفتوحين. فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا المجر الذي في زاوية المسجد مثقوب. وإذا فيه أثر مربط الدابة. قال: فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي وقد صلى الليلة في مسجدنا اه.
ثم قال في الأخرى: (فائدة قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه (التنوير في مولد السراج المنير) وقد ذكر حديث الإسراء عن طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد. ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وأبي ذر، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وشداد بن أوس، وأبي بن كعب، وعبد الرحمن بن قرط، وأبي حبة، وأبي ليلى الأنصاريين، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وحذيفة، وبريدة، وأبي أيوب، وأبي أمامة، وسمرة بن جندب، وأبي الحمراء، وصهيب الرومي، وأم هانىء، وعائشة، وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين. منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة (فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون * (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) * اه من ابن كثير بلفظه.
وقد قدمنا أن أحسن أوجه الإعراب في * (سبحان) * أنه مفعول مطلق، منصوب بفعل محذوف: أي أسبح الله سبحانا أي تسبيحا. والتسبيح: الإبعاد عن السوء. ومعناه في الشرع: التنزيه عن كل ما لا يليق بجلال الله وكماله، كما قدمنا. وزعم بعض أهل العلم: أن لفظة * (سبحان) * علم للتنزيه. وعليه فهو علم جنس لمعنى التنزيه على حد قول ابن مالك في الخلاصة، مشيرا إلى أن علم الجنس يكون للمعنى كما يكون للذات: وقد قدمنا أن أحسن أوجه الإعراب في * (سبحان) * أنه مفعول مطلق، منصوب بفعل محذوف: أي أسبح الله سبحانا أي تسبيحا. والتسبيح: الإبعاد عن السوء. ومعناه في الشرع: التنزيه عن كل ما لا يليق بجلال الله وكماله، كما قدمنا. وزعم بعض أهل العلم: أن لفظة * (سبحان) * علم للتنزيه. وعليه فهو علم جنس لمعنى التنزيه على حد قول ابن مالك في الخلاصة، مشيرا إلى أن
علم الجنس يكون للمعنى كما يكون للذات:
* ومثله برة للمبرة
* كذا فجار علم للفجرة
*
وعلى أنه علم فهو ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. والذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أنه غير علم، وأن معنى * (سبحان) * تنزيها لله عن كل ما لا يليق به. ولفظة * (سبحان) * من الكلمات الملازمة للإضافة، وورودها غير مضافة قليل. كقول
7

الأعشى: وعلى أنه علم فهو ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. والذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أنه غير علم، وأن معنى * (سبحان) * تنزيها لله عن كل ما لا يليق به. ولفظة * (سبحان) * من الكلمات الملازمة للإضافة، وورودها غير مضافة قليل. كقول الأعشى:
* فقلت لما جاءني فخره
* سبحان من علقمة الفاخر
*
ومن الأدلة على أنه غير علم ملازمته للإضافة والأعلام تقل إضافتها، وقد سمعت لفظة * (سبحان) * غير مضافة مع التنوين والتعريف. فمثاله مع التنوين قوله: ومن الأدلة على أنه غير علم ملازمته للإضافة والأعلام تقل إضافتها، وقد سمعت لفظة * (سبحان) * غير مضافة مع التنوين والتعريف. فمثاله مع التنوين قوله:
* سبحانه ثم سبحانا نعوذ به
* وقبلنا سبح الجودي والجمد
*
ومثاله معرفا قول الراجز: * سبحانك اللهم ذا السبحان
والتعبير بلفظ العبد في هذا المقام العظيم يدل دلالة واضحة على أن مقام العبودية هو أشرف صفات المخلوقين وأعظمها وأجلها. إذ لو كان هناك وصف أعظم منه لعبر به في هذا المقام العظيم، الذي اخترق العبد فيه السبع الطباق، ورأى من آيات ربه الكبرى. وقد قال الشاعر في محبوب مخلوق، ولله المثل الأعلى: والتعبير بلفظ العبد في هذا المقام العظيم يدل دلالة واضحة على أن مقام العبودية هو أشرف صفات المخلوقين وأعظمها وأجلها. إذ لو كان هناك وصف أعظم منه لعبر به في هذا المقام العظيم، الذي اخترق العبد فيه السبع الطباق، ورأى من آيات ربه الكبرى. وقد قال الشاعر في محبوب مخلوق، ولله المثل الأعلى:
* يا قوم قلبي عند زهراء
* يعرفه السامع والراءي
*
* لا تدعني إلا بيا عبدها
* فإنه أشرف أسمائي
*
واختلف العلماء في النكتة البلاغية التي نكر من أجلها * (ليلا) * في هذه الآية الكريمة.
قال الزمخشري في الكشاف: أراد بقوله * (ليلا) * بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء، وأنه أسري به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة. وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة * (من اليل) * أي بعض الليل. كقوله: * (ومن اليل فتهجد به نافلة) * يعني بالقيام في بعض الليل اه واعترض بعض أهل العلم هذا.
وذكر بعضهم: أن التنكير في قوله * (ليلا) * للتعظيم. أي ليلا أي ليل، دنا فيه المحب إلى المحبوبا وقيل فيه غير ذلك. وقد قدمنا: أن أسرى وسرى لغتان. كسقى وأسقى، وقد جمعهما قول حسان رضي الله عنه: وذكر بعضهم: أن التنكير في قوله * (ليلا) * للتعظيم. أي ليلا أي ليل، دنا فيه المحب إلى المحبوبا وقيل فيه غير ذلك. وقد قدمنا: أن أسرى وسرى لغتان. كسقى وأسقى، وقد جمعهما قول حسان رضي الله عنه:
* حي النضيرة ربه الخدر
* أسرت إليك ولم تكن تسري
*
بفتح التاء من (تسري) والباء في اللغتين للتعدية، كالباء في * (ذهب الله بنورهم) *
8

وقد تقدمت شواهد هذا في (سورة هود).
تنبيه
اختلف العلماء هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء بعين رأسه أولا؟ فقال ابن عباس وغيره: (رآه بعين رأسه) وقالت عائشة وغيرها: (لم يره). وهو خلاف مشهور، بين أهل العلم معروف.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق الذي دلت عليه نصوص الشرع: أنه صلى الله عليه وسلم لم يره بعين رأسه. وما جاء عن بعض السلف من أنه رآه. فالمراد به الرؤية بالقلب. كما في صحيح مسلم: (أنه رآه بفؤاده مرتين) لا بعين الرأس.
ومن أوضح الأدلة على ذلك أن أبا ذر رضي الله عنه (وهو هو في صدق اللهجة) سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة بعينها. فأفتاه بما مقتضاه: أنه لم يره. قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن زيد بن إبراهيم، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: (نورا أنى أراه)؟.
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي (ح) وحدثني حجاج بن الشاعر، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا همام، كلاهما عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق قال: (قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله: هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: (رأيت نورا) هذا لفظ مسلم.
وقال النووي في شرحه لمسلم: أما قوله صلى الله عليه وسلم: (نورا أنى أراه) ا! فهو بتنوين (نور) وفتح الهمزة في (أنى) وتشديد النون وفتحها. و (أراه) بفتح الهمزة هكذا رواه جميع الرواة في جميع الأصول والروايات. ومعناه: حجابة نور، فكيف أراها!.
قال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله: الضمير في (أراه) عائد إلى الله سبحانه وتعالى، ومعناه: أن النور منعني من الرؤية. كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار، ومنعها من إدراك ما حالت بين الرائي وبينه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت نورا) معناه: رأيت النور فحسب، ولم أر غيره. قال: وروي (نوراني) بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء. ويحتمل أن يكون معناه راجعا إلى ما قلناه.
9

أي خالق النور المانع من رؤيته، فيكون من صفات الأفعال.
قال القاضي عياض رحمه الله: هذه الرواية لم تقع إليناا ولا رأيناها في شيء من الأصول اه محل الغرض من كلام النووي.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق الذي لا شك فيه هو: أن معنى الحديث هو ما ذكر، من كونه لا يتمكن أحد من رؤيته لقوة النور الذي هو حجابه. ومن أصرح الأدلة على ذلك أيضا حديث أبي موسى المتفق عليه (حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (نورا أني أراه)؟. أي كيف أراه وحجابه نور، من صفته أنه لو كشفه لأحرق ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وقد قدمنا: أن تحقيق المقام في رؤية الله جل وعلا بالأبصار أنها جائزة عقلا في الدنيا والآخرة، بدليل قول موسى * (رب أرنى أنظر إليك) * لأنه لا يجهل المستحيل في حقه جل وعلا. وأنها جائزة شرعا وواقعة يوم القيامة، ممتنعة شرعا في الدنيا قال: * (لن ترانى ولاكن انظر إلى الجبل) * إلى قوله * (جعله دكا) *.
ومن أصرح الأدلة في ذلك حديث (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) في صحيح مسلم وصحيح ابن خزيمة كما تقدم.
وأما قوله: * (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين) * فذلك جبريل على التحقيق، لا الله جل وعلا. قوله تعالى: * (الذى باركنا حوله) *. أظهر التفسيرات فيه: أن معنى * (باركنا حوله) * أكثرنا حوله الخير والبركة بالأشجار والثمار والأنهار. وقد وردت آيات تدل على هذا. كقوله تعالى: * (ونجيناه ولوطا إلى الا رض التى باركنا فيها للعالمين) *، وقوله: * (ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الا رض التى باركنا فيها وكنا بكل شىء عالمين) * فإن المراد بتلك الأرض: الشام. والمراد بأنه بارك فيها: أنه أكثر فيها البركة والخير بالخصب والأشجار والثمار والمياه. كما عليه جمهور العلماء.
وقال بعض العلماء: المراد بأنه بارك فيها أنه بعث الأنبياء منها. وقيل غير ذلك. والعلم عند الله تعالى
10

. قوله تعالى: * (لنريه من ءاياتنآ) *. الظاهر إنما أراه الله من آياته في هذه الآية الكريمة: أنه أراه إياه رؤية عين. فهمزة التعدية داخلة على رآى البصرية. كقولك: أرأيت زيدا دار عمرو. أي جعلته يراها بعينه. و (من) في الآية للتبعيض، والمعنى * (لنريه من ءاياتنآ) *: أي بعض آياتنا فنجعله يراها بعينه. وذلك ما رآه صلى الله عليه وسلم بعينه ليلة الإسراء من الغرائب والعجائب. كما جاء مبينا في الأحاديث الكثيرة.
ويدل لما ذكرنا في الآية الكريمة قوله تعالى في سورة النجم: * (ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من ءايات ربه الكبرى) *. قوله تعالى: * (وءاتينآ موسى الكتاب) *. لما بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة عظم شأن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ذكر عظم شأن موسى بالكتاب العظيم، الذي أنزله إليه، وهو التوراة. مبينا أنه جعله هدى لبني إسرائيل. وكرر جل وعلا هذا المعنى في القرآن. كقوله: * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب فلا تكن فى مرية من لقآئه وجعلناه هدى لبنى إسراءيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأاياتنا يوقنون) *، وقوله: * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب من بعد مآ أهلكنا القرون الا ولى بصآئر للناس) *، وقوله: * (ثم ءاتينا موسى الكتاب تماما على الذى أحسن وتفصيلا لكل شىء) *، وقوله: * (وكتبنا له فى الالواح من كل شىء موعظة وتفصيلا لكل شىء) * الآية، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ألا تتخذوا من دونى وكيلا) *. اعلم أن هذا الحرف قرأه جمهور القراء * (إلا * تتخذون) * بالتاء على وجه الخطاب.
وعلى هذا ف (أن) هي المفسرة. فجعل التوراة هدى لبني إسرائيل مفسر بنهيهم عن اتخاذ وكيل من دون الله. لأن الإخلاص لله في عبادته هو ثمرة الكتب المنزلة على الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه. وعلى هذه القراءة ف (لا) في قوله: * (ألا تتخذوا) * ناهية. وقرأه أبو عمرو من السبعة * (ألا تتخذوا من دونى وكيلا) * بالياء على الغيبة. وعلى هذه القراءة فالمصدر المنسبك من (أن) وصلتها مجرور بحرف التعليل المحذوف. أي وجعلناه هدى لبني إسرائيل لأجل ألا يتخذوا من دوني وكيلا. لأن اتخاذ الوكيل الذي تسند إليه الأمور، وتفوض من دون الله ليس من الهدى. فمرجع القراءتين إلى شيء واحد، وهو أن التوكل إنما يكون على الله وحده لا على غيره.
11

وكرر هذا المعنى في موضع كثيرة. كقوله: * (رب المشرق والمغرب لا إلاه إلا هو فاتخذه وكيلا) *، وقوله: * (قل هو الرحمان ءامنا به وعليه توكلنا) *. وقوله: * (فإن تولوا فقل حسبى الله لا إلاه إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) *، وقوله: * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) *، وقوله: * (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولاكن الله يمن على من يشآء من عباده وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على مآ آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) *، وقوله: * (إنى توكلت على الله ربى وربكم ما من دآبة إلا هو ءاخذ بناصيتهآ) *، وقوله: * (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت) *، وقوله: * (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) *، وقوله: * (وتوكل على الحى الذى لا يموت) *، وقوله: * (فاعبده وتوكل عليه) *، وقوله: * (فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
والوكيل: فعيل من التوكل. أي متوكلا عليه، تفوضون إليه أموركم. فيوصل إليكم النفع، ويكف عنكم الضر.
وقال الزمخشري: * (وكيلا) * أي ربا تكلون إليه أموركم.
وقال ابن جرير: حفيظا لكم سواي.
وقال أبو الفرج بن الجوزي: قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عباده. لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل اه. قاله أبو حيان في البحر.
وقال القرطبي: * (وكيلا) * أي شريكا. عن مجاهد. وقيل: كفيلا بأمورهم. حكاه الفراء. وقيل: ربا يتوكلون عليه في أمورهم. قاله الكلبي. وقال الفراء: كافيا اه والمعاني متقاربة، ومرجعها إلى شيء واحد، وهو أن الوكيل: من يتوكل عليه. فتفوض الأمور إليه، ليأتي بالخير، ويدفع الشر. وهذا لا يصح إلا لله وحده جل وعلا. ولهذا حذر من اتخاذ وكيل دونه. لأنه لا نافع ولا ضار، ولا كافي إلا هو وحده جل وعلا.. عليه توكلنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
12

قوله تعالى: * (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من حملهم مع نوح. تنبيها على النعمة التي نجاهم بها من الغرق. ليكون في ذلك تهييج لذرياتهم على طاعة الله. أي يا ذرية من حملنا مع نوح، فنجيناهم من الغرق، تشبهوا بأبيكم، فاشكروا نعمنا. وأشار إلى هذا المعنى في قوله: * (أولائك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية ءادم وممن حملنا مع نوح) *.
وبين في مواضع أخر الذين حملهم مع نوح من هم؟ وبين الشيء الذي حملهم فيه، وبين من بقي له نسل، وعقب منهم، ومن انقطع ولم يبق له نسل ولا عقب.
فبين أن الذين حملهم مع نوح: هم أهله ومن آمن معه من قومه في قوله: * (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن ءامن) *.
وبين أن الذين آمنوا من قومه قليل بقوله: * (وما ءامن معه إلا قليل) *.
وبين أن ممن سبق عليه القول من أهله بالشقاء امرأته وابنه. قال في امرأته: * (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح) * إلى قوله * (ادخلا النار مع الداخلين) *. وقال في ابنه: * (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) *، وقال فيه أيضا: * (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) *. وقوله: * (ليس من أهلك) * أي الموعود بنجاتهم في قوله: * (فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك) *، ونحوها من الآيات.
وبين أن الذي حملهم فيه هو السفينة في قوله: * (قلنا احمل فيها) *. أي السفينة، وقوله: * (فاسلك فيها من كل زوجين اثنين) *. أي أدخل فيها أي السفينة * (من كل زوجين اثنين وأهلك) *.
وبين أن ذرية من حمل من نوح لم يبق منها إلا ذرية نوح في قوله: * (وجعلنا ذريته هم الباقين) *، وكان نوح يحمد الله على طعامه وشرابه، ولباسه وشأنه كله. فسماه الله عبدا شكورا.
13

وأظهر أوجه الإعراب في قوله: * (ذرية من حملنا) * أنه منادى بحرف محذوف. قوله تعالى: * (وقضينآ إلى بنى إسراءيل) *. أظهر الأقوال فيه: أنه بمعنى أخبرناهم وأعلمناهم.
ومن معاني القضاء: الأخبار والإعلام. ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: * (وقضينآ إليه ذلك الا مر أن دابر هاؤلآء مقطوع مصبحين) * والظاهر أن تعديته ب (إلى) لأنه مضمن معنى الإيحاء. وقيل: مضمن معنى: تقدمنا إليهم فأخبرناهم. قال معناه ابن كثير. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من أحسن أي بالإيمان والطاعة فإنه إنما يحسن إلى نفسه. لأن نفع ذلك لنفسه خاصة. وأن من أساء أي بالكفر والمعاصي فإنه إنما يسيء على نفسه. لأن ضرر ذلك عائد إلى نفسه خاصة.
وبين هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أسآء فعليها) *، وقوله: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا
يره) *، وقوله: * (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون) *، إلى غير ذلك من الآيات. واللام في قوله: * (وإن أسأتم فلها) * بمعنى على، أي فعليها، بدليل قوله * (ومن أسآء فعليها) *. ومن إتيان اللام بمعنى على قوله تعالى: * (ويخرون للا ذقان) *. أي عليها: وقوله: * (فسلام لك) *. أي سلام عليك على ما قاله بعض العلماء. ونظير ذلك من كلام العرب: قول جابر التغلبي، أو شريح العبسي، أو زهير المزني أو غيرهم: فسلام لك) *. أي سلام عليك على ما قاله بعض العلماء. ونظير ذلك من كلام العرب: قول جابر التغلبي، أو شريح العبسي، أو زهير المزني أو غيرهم:
* تناوله بالرمح ثم انثنى له
* فخر صريعا لليدين وللفم
*
أي على اليدين وعلى الفم. والتعبير بهذه اللام في هذه الآية للمشاكلة. كما قدمنا في نحو: * (وجزآء سيئة سيئة) *، * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا
14

عليه) *. قوله تعالى: * (فإذا جآء وعد الا خرة ليسوءوا وجوهكم) *. جواب * (إذا) * في هذه الآية الكريمة محذوف، وهو الذي تتعلق به اللام في قوله: * (ليسوءوا) * وتقديره: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسؤوا وجوهكم. بدليل قوله في الأولى: * (فإذا جآء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنآ) *، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. قال ابن قتيبة في مشكل القرآن): ونظيره في حذف العامل قول حميد بن ثور: فإذا جآء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنآ) *، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. قال ابن قتيبة في مشكل القرآن): ونظيره في حذف العامل قول حميد بن ثور:
* رأتني بحبليها فصدت مخافة
* وفي الحبل روعاه الفؤاد فروق
*
أي رأتني أقبلت، أو مقبلا. وفي هذا الحرف ثلاث قرآت سبعيات: قرأه على الكسائي (لنسوء وجوهكم) بنون العظمة وفتح الهمزة. أي لنسوءها بتسليطنا إياهم عليكم يقتلونكم ويعذبونكم. وقرأه ابن عامر وحمزة وشعبة عن عاصم (ليسوء وجوهكم) بالياء وفتح الهمزة والفاعل ضمير عائد إلى الله. أي ليسوء هو. أي الله وجوهكم بتسليطه إياهم عليكم.
وقرأه الباقون * (ليسوءوا وجوهكم) * بالياء وضم الهمزة بعدها واو الجمع التي هي فاعل الفعل، ونصبه بحذف النون، وضمير الفاعل الذي هو واو عائد إلى الذين بعثهم الله عليهم ليسؤوا وجوههم بأنواع العذاب والقتل. قوله تعالى: * (وإن عدتم عدنا) *. لما بين جل وعلا أن بني إسرائيل قضى إليهم في الكتاب أنهم يفسدون في الأرض مرتين، وأنه إذا جاء وعد الأولى منهما: بعث عليهم عبادا له أولي بأس شديد، فاحتلوا بلادهم وعذبوهم. وأنه إذا جاء وعد المرة الآخرة: بعث عليهم قوما ليسوءوا وجوههم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيرا.
وبين أيضا: أنهم إن عادوا للإفساد المرة الثالثة فإنه جل وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم. وذلك في قوله: * (وإن عدتم عدنا) * ولم يبين هنا: هل عادوا للإفساد المرة الثالثة أو لا؟ ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته ونقض عهوده، ومظاهرة عدوه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة. فعاد الله جل وعلا للانتقام منهم تصديقا لقوله: * (وإن عدتم عدنا) * فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم، والمسلمين. فجرى على بني قريظة والنضير، وبني قينقاع
15

وخيبر، ما جرى من القتل، والسبي، والإجلاء، وضرب الجزية على من بقي منهم، وضرب الذلة والمسكنة.
فمن الآيات الدالة على أنهم عادوا للإفساد قوله تعالى * (ولما جآءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جآءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بمآ أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشآء من عباده فبآءو بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين) *، وقوله: * (أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل) *، وقوله: * (ولا تزال تطلع على خآئنة منهم) *، ونحو ذلك من الآيات.
ومن الآيات الدالة على أنه عاد للانتقام منهم، قوله تعالى: * (هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا ياأولى الا بصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا ولهم فى الا خرة عذاب النار ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشآق الله فإن الله شديد العقاب) *، وقوله تعالى: * (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف فى قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها) *، ونحو ذلك من الآيات.
وتركنا بسط قصة الذين سلطوا عليهم في المرتين. لأنها أخبار إسرائيلية. وهي مشهورة في كتب التفسير والتاريخ. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) *. في قوله: * (حصيرا) * في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء، كل منهما يشهد لمعناه قرآن. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية قد يكون فيها وجهان أو أوجه وكلها صحيح ويشهد له قرآن. فنورد جميع ذلك لأنه كله حق:
الأول أن الحصير: المحبس والسجن. من الحصر وهو الحبس. قال الجوهري: يقال حصره يحصره حصرا: ضيق عليه، وأحاط به. وهذا الوجه يدل له قوله
16

تعالى: * (وإذآ ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا) *، ونحو ذلك من الآيات.
الوجه الثاني أن معنى * (حصيرا) * أي فراشا ومهادا. من الحصير الذي يفرش. لأن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا. قال الثعلبي: وهو وجه حسن. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: * (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) *، ونحو ذلك من الآيات. والمهاد: الفراش. قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدا برب العالمين جل وعلا يهدي للتي هي أقوم. أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب. ف * (التى) * نعت لموصوف محذوف. على حد قول ابن مالك في الخلاصة: إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدا برب العالمين جل وعلا يهدي للتي هي أقوم. أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب. ف * (التى) * نعت لموصوف محذوف. على حد قول ابن مالك في الخلاصة:
* وما من المنعوت والنعت عقل
* يجوز حذفه وفي النعت يقل
*
وقال الزجاج والكلبي والفراء: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله.
وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم. لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة. ولكننا إن شاء الله تعالى سنذكر جملا وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدى القرآن للطريق التي هي أقوم بيانا لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة، تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة.
فمن ذلك توحيد الله جل وعلا: فقد هدى القرآن فيه للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها، وهي توحيده جل وعلا في ربوبيته، وفي عبادته، وفي أسمائه وصفاته. وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول توحيده في ربوبيته، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء، قال تعالى: * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) *، وقال: * (قل من
17

يرزقكم من السمآء والا رض أمن يملك السمع والا بصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الا مر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) * وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله: * (قال فرعون وما رب العالمين) * تجاهل من عارف أنه عبد مربوب. بدليل قوله تعالى: * (قال لقد علمت مآ أنزل هاؤلاء إلا رب السماوات والا رض بصآئر) *، وقوله: * (وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا) * وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله. كما قال تعالى: * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) *، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا.
الثاني توحيده جل وعلا في عبادته. وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى (لا إلاه إلا الله) وهي متركبة من نفي وإثبات. فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت. ومعنى الإثبات منها: إفراد الله جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام. وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم * (أجعل الا لهة إلاها واحدا إن هاذا لشىء عجاب) *.
ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى: * (فاعلم أنه لا إلاه إلأ الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله) *، وقوله: * (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) *، وقوله: * (ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إلاه إلا أنا فاعبدون) *، وقوله: * (واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمان ءالهة يعبدون) *، وقوله: * (قل إنمآ يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فهل أنتم مسلمون) * فقد أمر في هذه الآية الكريمة أن يقول: إنما أوحي إليه محصور في هذا النوع من التوحيد. لشمول كلمة (لا إله إلا الله) لجميع ما جاء في الكتب. لأنها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده. فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب، والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة.
النوع الثالث توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته. وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين:
18

الأول تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم. كما قال تعالى: * (ليس كمثله شىء) *.
والثاني الإيمان بما وصفه الله به نفسه. أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله. كما قال بعد قوله: * (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) * مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف، قال تعالى: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) * وقد قدمنا هذا المبحث مستوفى موضحا بالآيات القرآنية (في سورة الأعراف).
ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جل وعلا على وجوب توحيده في عبادته. ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير. فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده. ووبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده. لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: * (قل من يرزقكم من السمآء والا رض أمن يملك السمع والا بصار) * إلى قوله * (فسيقولون الله) *. فلما أقروا بربوبيته وبخهم
منكرا عليهم شركهم به غيره بقوله: * (فقل أفلا تتقون) *.
ومنها قوله تعالى: * (قل لمن الا رض ومن فيهآ إن كنتم تعلمون سيقولون لله) * فلما اعترفوا وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله: * (قل أفلا تذكرون) *، ثم قال: * (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله) * فلما أقروا وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله: * (قل أفلا تتقون) *، ثم قال: * (قل من بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله) * فلما أقروا وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله: * (قل فأنى تسحرون) *.
ومنها قوله تعالى: * (قل من رب السماوات والا رض قل الله) * فلما صح الاعتراف وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله: * (قل أفاتخذتم من دونه أوليآء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا) *.
19

ومنها قوله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) * فلما صح إقرارهم وبخهم منكرا عليهم بقوله: * (فأنى يؤفكون) *.
ومنها قوله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله) * فلما صح اعترافهم وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله: * (فأنى يؤفكون) * * (ولئن سألتهم من نزل من السمآء مآء فأحيا به الا رض من بعد موتها ليقولن الله) * فلما صح إقرارهم وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله: * (قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون) *، وقوله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والا رض ليقولن الله) * فلما صح اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله: * (قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) *، وقوله تعالى: * (ءآلله خير أما يشركون أمن خلق السماوات والا رض وأنزل لكم من السمآء مآء فأنبتنا به حدآئق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) * ولا شك أن الجواب الذي لا جواب لهم البتة غيره: هو أن القادر على خلق السماوات والأرض وما ذكر معها، خير من جماد لا يقدر على شيء. فلما تعين اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله. * (أإلاه مع الله بل هم قوم يعدلون) *، ثم قال تعالى: * (أمن جعل الا رض قرارا وجعل خلالهآ أنهارا وجعل لها رواسى وجعل بين البحرين حاجزا) * ولا شك أن الجواب الذي لا جواب غيره كما قبله. فلما تعين اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله: * (أءلاه مع الله بل أكثرهم لا يعلمون) *، ثم قال جل وعلا: * (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم حلفآء الا رض أءلاه) * ولا شك أن الجواب كما قبله. فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكرا عليهم بقوله: * (أءلاه مع الله قليلا ما تذكرون) *، ثم قال تعالى: * (أمن يهديكم فى ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته) * ولا شك أن الجواب كما قبله. فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكرا عليهم بقوله: * (أءلاه مع الله تعالى الله عما يشركون) *، ثم قال جل وعلا: * (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السمآء والا رض) * ولا شك أن الجواب كما قبله. فلما تعين الاعتراف وبخهم منكرا عليهم بقوله: * (أءلاه مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *، وقوله: * (الله
20

الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركآئكم من يفعل من ذلكم من شىء) * ولا شك أن الجواب الذي لا جواب لهم غيره هو: لاا أي ليس من شركائنا من يقدر على أن يفعل شيئا من ذلك المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء. فلما تعين اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) *.
والآيات بنحو هذا كثيرة جدا. ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع: أن كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير، يراد منها أنهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار. لأن المقر بالربوبية يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورة. نحو قوله تعالى: * (أفى الله شك) *، وقوله: * (قل أغير الله أبغى ربا) * وإن زعم بعض العلماء أن هذا استفهام إنكار. لأن استقراء القرآن دل على أن الاستفهام المتعلق بالربوبية استفهام تقرير وليس استفهام إنكار، لأنهم لا ينكرون الربوبية، كما رأيت كثرة الآيات الدالة عليه.
والكلام على أقسام التوحيد ستجده إن شاء الله في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك، بحسب المناسبات في الآيات التي نتكلم على بيانها بآيات أخر.
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم جعله الطلاق بيد الرجل. كما قال تعالى: * (ياأيها النبى إذا طلقتم النسآء) *، ونحوها من الآيات. لأن النساء مزارع وحقول، تبذر فيها النطف كما يبذر الحب في الأرض. كما قال تعالى: * (نسآؤكم حرث لكم) *.
ولا شك أن الطريق التي هي أقوم الطرق: أن الزارع لا يرغم على الازدراع في حقل لا يرغب الزراعة فيه لأنه يراه غير صالح له، والدليل الحسي القاطع على ما جاء به القرآن من أن الرجل زارع، والمرأة مزرعة أن آلة الازدراع مع الرجل. فلو أرادت المرأة أن تجامع الرجل وهو كاره لها، لا رغبة له فيها لم ينتشر، ولم يقم ذكره إليها فلا تقدر منه على شيء، بخلاف الرجل فإنه قد يرغمها وهي كارهة فتحمل وتلد. كما قال أبو كبير الهذلي: ولا شك أن الطريق التي هي أقوم الطرق: أن الزارع لا يرغم على الازدراع في حقل لا يرغب الزراعة فيه لأنه يراه غير صالح له، والدليل الحسي القاطع على ما جاء به القرآن من أن الرجل زارع، والمرأة مزرعة أن آلة الازدراع مع الرجل. فلو أرادت المرأة أن تجامع الرجل وهو كاره لها، لا رغبة له فيها لم ينتشر، ولم يقم ذكره إليها فلا تقدر منه على شيء، بخلاف الرجل فإنه قد يرغمها وهي كارهة فتحمل وتلد. كما قال أبو كبير الهذلي:
* ممن حملن به وهن عواقد
* حبك النطاق فشب غير مهبل
*
فدلت الطبيعة والخلقة على أنه فاعل وأنها مفعول به ولذا أجمع العقلاء على نسبة
21

الولد له لا لها.
وتسوية المرأة بالرجل في ذلك مكابرة في المحسوس، كما لا يخفى.
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم إباحته تعدد الزوجات إلى أربع، وأن الرجل إذا خاف عدم العدل بينهن، لزمه الاقتصار على واحدة، أو ملك يمينه، كما قال تعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) * ولا شك أن الطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها، هي إباحة تعدد الزوجات لأمور محسوسة يعرفها كل العقلاء.
منها أن المرأة الواحدة تحيض وتمرض، وتنفس إلى غير ذلك من العوائق المانعة من قيامها بأخص لوازم الزوجية، والرجل مستعد للتسبب في زيادة الأمة، فلو حبس عليها في أحوال أعذارها لعطلت منافعه باطلا في غير ذنب.
ومنها أن الله أجرى العادة بأن الرجال أقل عددا من النساء في أقطار الدنيا، وأكثر تعرضا لأسباب الموت منهن في جميع ميادين الحياة. فلو قصر الرجل على واحدة، لبقي عدد ضخم من النساء محروما من الزواج، فيضطرون إلى ركوب الفاحشة فالعدول عن هدي القرآن في هذه المسألة من أعظم أسباب ضياع الأخلاق، والانحطاط إلى درجة البهائم في عدم الصيانة، والمحافظة على الشرف والمروءة والأخلاقا فسبحان الحكيم الخبيرا كتاب حكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير.
ومنها أن الإناث كلهن مستعدات للزواج، وكثير من الرجال لا قدرة لهم على القيام بلوازم الزواج لفقرهم. فالمستعدون للزواج من الرجال أقل من المستعدات له من النساء. لأن المرأة لا عائق لها، والرجل يعوقه الفقر وعدم القدرة على لوازم النكاح. فلو قصر الواحد على الواحدة، لضاع كثير من المستعدات للزواج أيضا بعدم وجود أزواج. فيكون ذلك سببا لضياع الفضيلة وتفشي الرذيلة، والانحطاط الخلقي، وضياع القيم الإنسانية، كما هو واضح. فإن خاف الرجل ألا يعدل بينهن، وجب عليه الاقتصار على واحدة، أو ملك يمينه. لأن الله يقول: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) *. والميل بالتفضيل في الحقوق الشرعية بينهن لا يجوز، لقوله تعالى: * (بين النسآء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) *. أما الميل الطبيعي بمحبة بعضهن أكثر من بعض، فهو غير مستطاع دفعه للبشر، لأنه انفعال وتأثر نفساني لا فعل، وهو المراد بقوله:
22

* (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النسآء) * الآية، كما أوضحناه في غير هذا الموضع. وما يزعمه بعض الملاحدة من أعداء دين الإسلام، من أن تعدد الزوجات يلزمه الخصام والشغب الدائم المفضي إلى نكد الحياة، لأنه كلما أرضى إحدى الضرتين سخطت الأخرى. فهو بين سخطتين دائما وأن هذا ليس من الحكمة. فهو كلام ساقط، يظهر سقوطه لكل عاقل. لأن الخصام والمشاغبة بين أفراد أهل البيت لا انفكاك عنه البتة، فيقع بين الرجل وأمه، وبينه وبين أبيه، وبينه وبين أولاده، وبينه وبين زوجته الواحدة. فهو أمر عادي ليس له كبير شأن، وهو في جنب المصالح العظيمة التي ذكرنا في تعدد الزوجات من صيانة النساء وتيسير التزويج لجميعهن، وكثرة عدد الأمة لتقوم بعددها الكثير في وجه أعداء الإسلام كلا شيء، لأن المصلحة العظمى يقدم جلبها على دفع المفسدة الصغرى.
فلو فرضنا أن المشاغبة المزعومة في تعدد الزوجات مفسدة، أو أن إيلام قلب الزوجة الأولى بالضرة مفسدة، لقدمت عليها تلك المصالح الراجحة التي ذكرنا، كما هو معروف في الأصول. قال في مراقي السعود عاطفا على ما تلغى فيه المفسدة المرجوحة في جنب المصلحة الراجحة: فلو فرضنا أن المشاغبة المزعومة في تعدد الزوجات مفسدة، أو أن إيلام قلب الزوجة الأولى بالضرة مفسدة، لقدمت عليها تلك المصالح الراجحة التي ذكرنا، كما هو معروف في الأصول. قال في مراقي السعود عاطفا على ما تلغى فيه المفسدة المرجوحة في جنب المصلحة الراجحة:
* أو رجح الإصلاح كالأسارى
* تفدى بما ينفع للنصارى
*
* وانظر تدلي دوالي العنب
* في كل مشرق وكل مغرب
*
ففداء الأسارى مصلحة راجحة، ودفع فدائهم النافع للعدو مفسدة مرجوحة، فتقدم عليها المصلحة الراجحة. أما إذا تساوت المصلحة والمفسدة، أو كانت المفسدة أرجح كفداء الأسارى بسلاح يتمكن بسببه العدو من قتل قدر الأسارى أو أكثر من المسلمين، فإن المصلحة تلغى لكونها غير راجحة، كما قال في المراقي: ففداء الأسارى مصلحة راجحة، ودفع فدائهم النافع للعدو مفسدة مرجوحة، فتقدم عليها المصلحة الراجحة. أما إذا تساوت المصلحة والمفسدة، أو كانت المفسدة أرجح كفداء الأسارى بسلاح يتمكن بسببه العدو من قتل قدر الأسارى أو أكثر من المسلمين، فإن المصلحة تلغى لكونها غير راجحة، كما قال في المراقي:
* اخرم مناسبا بمفسد لزم
* للحكم وهو غير مرجوح علم
*
وكذلك العنب تعصر منه الخمر وهي أم الخبائث، إلا أن مصلحة وجود العنب والزبيب والانتفاعبهما في أقطار الدنيا مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر منها ألغيت لها تلك المفسدة المرجوحة. واجتماع الرجال والنساء في البلد الواحد قد يكون سببا لحصول الزنى إلا أن التعاون بين المجتمع من ذكور وإناث مصلحة أرجح من تلك
المفسدة، ولذا لم يقل أحد من العلماء إنه يجب عزل النساء في محل مستقل عن الرجال، وأن يجعل عليهن حصن قوي لا يمكن الوصول إليهن معه، وتجعل المفاتيح بيد أمين
23

معروف بالتقى والديانة كما هو مقرر في الأصول.
فالقرآن أباح تعدد الزوجات لمصلحة المرأة في عدم حرمانها من الزواج، ولمصلحة الرجل بعدم تعطل منافعه في حال قيام العذر بالمرأة الواحدة، ولمصلحة الأمة ليكثر عددها فيمكنها مقاومة عدوها لتكون كلمة الله هي العليا، فهو تشريع حكيم خبير لا يطعن فيه إلا من أعمى الله بصيرته بظلمات الكفر. وتحديد الزوجات بأربع تحديد من حكيم خبير، وهو أمر وسط بين القلة المفضية إلى تعطل بعض منافع الرجل، وبين الكثرة التي هي مظنة عدم القدرة على القيام بلوازم الزوجية للجميع. والعلم عند الله تعالى.
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم تفضيله الذكر على الأنثى في الميراث. كما قال تعالى: * (وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ الا نثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شىء عليم) *.
وقد صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه يبين لخلقه هذا البيان الذي من جملته تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث لئلا يضلوا. فمن سوى بينهما فيه فهو ضال قطعا.
ثم بين أنه أعلم بالحكم والمصالح وبكل شيء من خلقه بقوله: * (والله بكل شىء عليم) *، وقال: * (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الا نثيين) *.
ولا شك أن الطريق التي هي أقوم الطرق وأعد لها تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث الذي ذكره الله تعالى. كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: * (الرجال قوامون على النسآء بما فضل الله بعضهم) * أي وهو الرجال * (على بعض) * أي وهو النساء، وقوله: * (وللرجال عليهن درجة) * وذلك لأن الذكورة في كمال خلقي، وقوة طبيعية، وشرف وجمال. والأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي، كما هو محسوس مشاهد لجميع العقلاء، لا يكاد ينكره إلا مكابر في المحسوس.
وقد أشار جل وعلا إلى ذلك بقوله: * (أومن ينشأ فى الحلية وهو فى الخصام غير مبين) * لأن الله أنكر عليهم في هذه الآية الكريمة أنهم نسبوا له ما لا يليق به من الولد، ومع ذلك نسبوا له أخس الولدين وأنقصهما وأضعفهما. ولذلك ينشأ في الحلية أي الزينة من أنواع الحلي والحلل ليجبر نقصه الخلقي
24

الطبيعي بالتجميل بالحلي والحلل وهو الأنثى. بخلاف الرجل. فإن كمال ذكورته وقوتها وجمالها يكفيه على الحلي. كما قال الشاعر: أومن ينشأ فى الحلية وهو فى الخصام غير مبين) * لأن الله أنكر عليهم في هذه الآية الكريمة أنهم نسبوا له ما لا يليق به من الولد، ومع ذلك نسبوا له أخس الولدين وأنقصهما وأضعفهما. ولذلك ينشأ في الحلية أي الزينة من أنواع الحلي والحلل ليجبر نقصه الخلقي الطبيعي بالتجميل بالحلي والحلل وهو الأنثى. بخلاف الرجل. فإن كمال ذكورته وقوتها وجمالها يكفيه على الحلي. كما قال الشاعر:
* وما الحلي إلا زينة من نقيصة
* يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
*
* وأما إذا كان الجمال موفرا
* كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
*
وقال تعالى: * (ألكم الذكر وله الا نثى تلك إذا قسمة ضيزى) * وإنما كانت هذه القسمة ضيزى أي غير عادلة لأن الأنثى أنقص من الذكر خلقة وطبيعة. فجعلوا هذا النصيب الناقص لله جل وعلا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا! وجعلوا الكامل لأنفسهم كما قال: * (ويجعلون لله ما يكرهون) * أي وهو البنات. وقال: * (وإذا بشر أحدهم بالا نثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم) * إلى قوله * (سآء ما يحكمون) *، وقال: * (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا) * أي وهو الأنثى * (ظل وجهه مسودا وهو كظيم) *.
وكل هذه الآيات القرآنية تدل على أن الأنثى ناقصة بمقتضى الخلقة والطبيعة، وأن الذكر أفضل وأكمل منها. * (أصطفى البنات على البنين إذ نجيناه وأهله أجمعين) * * (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملئكة إناثا) * الآية، والآيات الدالة على تفضيله عليها كثيرة جدا.
ومعلوم عند عامة العقلاء: أن الأنثى متاع لا بد له ممن يقوم بشؤونها ويحافظ عليه.
وقد اختلف العلماء في التمتع بالزوجة: هل هو قوت؟ أو تفكه؟ وأجرى علماء المالكية على هذا الخلاف حكم إلزام الابن بتزويج أبيه الفقير قالوا: فعلى أن النكاح قوت فعليه تزويجه؟ لأنه من جملة القوت الواجب له عليه. وعلى أنه تفكه لا يجب عليه على قول بعضهم. فانظر شبه النساء بالطعام والفاكهة عند العلماء. وقد جاءت السنة الصحيحة بالنهي عن قتل النساء والصبيان في الجهاد. لأنهما من جملة مال المسلمين الغانمين. بخلاف الرجال فإنهم يقتلون.
ومن الأدلة على أفضلية الذكر على الأنثى: أن المرأة الأولى خلقت من ضلع الرجل الأول. فأصلها جزء منه. فإذا عرفت من هذه الأدلة: أن الأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي فاعلم أن العقل الصحيح الذي يدرك الحكم والأسرار، يقضي بأن الناقص الضعيف بخلقته وطبيعته، يلزم أن يكون تحت نظر الكامل في خلقته، القوي
بطبيعته.
25

ليجلب له ما لا يقدر على جلبه من النفع، ويدفع عنه ما لا يقدر على دفعه من الضر. كما قال تعالى: * (الرجال قوامون على النسآء بما فضل الله بعضهم على بعض) *.
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه لما كانت الحكمة البالغة، تقتضي أن يكون الضعيف الناقص مقوما عليه من قبل القوي الكامل، اقتضى ذلك أن يكون الرجل ملزما بالإنفاق على نسائه، والقيام بجميع لوازمهن في الحياة. كما قال تعالى: * (وبمآ أنفقوا من أموالهم) * ومال الميراث ما مسحا في تحصيله عرقا، ولا تسببا فيه البتة، وإنما هو تمليك من الله ملكهما إياه تمليكا جبريا. فاقتضت حكمة الحكيم الخبير أن يؤثر الرجل على المرأة في الميراث وإن أدليا بسبب واحد. لأن الرجل مترقب للنقص دائما بالإنفاق على نسائه، وبذل المهور لهن، والبذل في نوائب الدهر. والمرأة مترقبة للزيادة بدفع الرجل لها المهر، وإنفاقه عليها وقيامه بشؤونها. وإيثار مترقب النقص دائما على مترقب الزيادة دائما لجبر بعض نقصه المترقب حكمته ظاهرة واضحة، لا ينكرها إلا من أعمى الله بصيرته بالكفر والمعاصي. ولذا قال تعالى: * (للذكر مثل حظ الا نثيين) * ولأجل هذه الحكم التي بينا بها فضل نوع الذكر على نوع الأنثى في أصل الخلقة والطبيعة جعل الحكيم الخبير الرجل هو المسؤول عن المرأة في جميع أحوالها. وخصه بالرسالة والنبوة والخلافة دونها، وملكه الطلاق دونها. وجعله الولي في النكاح دونها، وجعل انتساب الأولاد إليه لا إليها، وجعل شهادته في الأموال بشهادة امرأتين في قوله تعالى: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهدآء) *. وجعل شهادته تقبل في الحدود والقصاص دونها، إلى غير ذلك من الفوارق الحسية والمعنوية والشرعية بينهما.
ألا ترى أن الضعف الخلقي والعجز عن الإبانة في الخصام عيب ناقص في الرجال، مع أنه يعد من جملة محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب. قال جرير: مع أنه يعد من جملة محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب. قال جرير:
* إن العيون التي في طرفها حور
* قتلنا ثم لم يحيين قتلانا
*
* يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
* وهن أضعف خلق الله أركانا
*
وقال ابن الدمينة: وقال ابن الدمينة:
* بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له
* ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
*
* فلم يعتذر عذر البريء ولم تزل
* به سكتة حتى يقال مريب
*
26

فالأول تشبب بهن بضعف أركانهن والثاني بعجزهن عن الإبانة في الخصام. كما قال تعالى: * (وهو فى الخصام غير مبين) *. ولهذا التباين في الكمال والقوة بين النوعين، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم اللعن على من تشبه منهما بالآخر. قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال) هذا لفظ البخاري في صحيحه. ومعلوم أن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في كتاب الله. لأن الله يقول: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه) *. كما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه كما تقدم.
فلتعلمن أيتها النساء اللاتي تحاولن أن تكن كالرجال في جميع الشؤون أنكن مترجلات متشبهات بالرجال، وأنكن ملعونات في كتاب الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وكذلك المخنثون المتشبهون بالنساء، فهم أيضا ملعونون في كتاب الله على لسانه صلى الله عليه وسلم، ولقد صدق من قال فيهم:، ولقد صدق من قال فيهم:
* وما عجب أن النساء ترجلت
* ولكن تأنيث الرجال عجاب
*
واعلم وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه. أن هذه الفكرة الكافرة، الخاطئة الخاسئة، المخالفة للحس والعقل، وللوحي السماوي وتشريع الخالق البارىء. من تسوية الأنثى بالذكر في جميع الأحكام والميادين. فيها من الفساد والإخلال بنظام المجتمع الإنساني ما لا يخفى على أحد إلا من أعمى الله بصيرته. وذلك لأن الله جل وعلا
جعل الأنثى بصفاتها الخاصة بها صالحة لأنواع من المشاركة في بناء المجتمع الإنساني، صلاحا لا يصلحه لها غيرها، كالحمل والوضع، والإرضاع وتربية الأولاد، وخدمة البيت، والقيام على شؤونه. من طبخ وعجن وكنس ونحو ذلك. وهذه الخدمات التي تقوم بها للمجتمع الإنساني داخل بيتها في ستر وصيانة، وعفاف ومحافظة على الشرف والفضيلة والقيم الإنسانية لا تقل عن خدمة الرجل بالاكتساب. فزعم أولئك السفلة الجهلة من الكفار وأتباعهم: أن المرأة لها من الحقوق في الخدمة خارج بيتها مثل ما للرجل، مع أنها في زمن حملها ورضاعها ونفاسها، لا قدر على مزاولة أي عمل فيه أي مشقة كما هو مشاهد. فإذا خرجت هي وزوجها بقيت خدمات البيت كلها ضائعة: من حفظ الأولاد الصغار، وإرضاع من هو في زمن الرضاع منهم، وتهيئة الأكل والشرب للرجل إذا جاء من عمله. فلو أجروا إنسانا يقوم مقامها، لتعطل ذلك الإنسان في ذلك البيت التعطل الذي خرجت
27

المرأة فرارا منه. فعادت النتيجة في حافرتها على أن خروج المرأة وابتذالها فيه ضياع المروءة والدين. لأن المرأة متاع، هو خير متاع الدنيا، وهو أشد أمتعة الدنيا تعرضا للخيانة. لأن العين الخائنة إذا نظرت إلى شيء من محاسنها فقد استغلت بعض منافع ذلك الجمال خيانة ومكرا. فتعريضها لأن تكون مائدة للخونة فيه ما لا يخفى على أدنى عاقل. وكذلك إذا لمس شيئا من بدنها بدن خائن سرت لذة ذلك اللمس في دمه ولحمه بطبيعة الغريزة الإنسانية. ولاسيما إذا كان القلب فارغا من خشية الله تعالى، فاستغل نعمة ذلك البدن خيانة وغدرا. وتحريك الغرائز بمثل ذلك النظر واللمس يكون غالبا سببا لما هو شر منه. كما هو مشاهد بكثرة في البلاد التي تخلت عن تعاليم الإسلام، وتركت الصيانة. فصارت نساؤها يخرجن متبرجات عاريات الأجسام إلا ما شاء الله. لأن الله نزع من رجالها صفة الرجولة والغيرة على حريمهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيما نعوذ بالله من مسخ الضمير والذوق، ومن كل سوء، ودعوى الجهلة السفلة: أن دوام خروج النساء بادية الرؤوس والأعناق والمعاصم، والأذرع والسوق، ونحو ذلك يذهب إثارة غرائز الرجال. لأن كثرة الإمساس تذهب الإحساس. كلام في غاية السقوط والخسة. لأن معناه: إشباع الرغبة مما لا يجوز، حتى يزول الأرب منه بكثرة مزاولته، وهذا كما ترى. ولأن الدوام لا يذهب إثارة الغريزة باتفاق العقلاء. لأن الرجل يمكث مع امرأته سنين كثيرة حتى تلد أولادهما، ولا تزال ملامسته لها، ورؤيته لبعض جسمها تثير غريزته. كما هو مشاهد لا ينكره إلا مكابر: لأن العين الخائنة إذا نظرت إلى شيء من محاسنها فقد استغلت بعض منافع ذلك الجمال خيانة ومكرا. فتعريضها لأن تكون مائدة للخونة فيه ما لا يخفى على أدنى عاقل. وكذلك إذا لمس شيئا من بدنها بدن خائن سرت لذة ذلك اللمس في دمه ولحمه بطبيعة الغريزة الإنسانية. ولاسيما إذا كان القلب فارغا من خشية الله تعالى، فاستغل نعمة ذلك البدن خيانة وغدرا. وتحريك الغرائز بمثل ذلك النظر واللمس يكون غالبا سببا لما هو شر منه. كما هو مشاهد بكثرة في البلاد التي تخلت عن تعاليم الإسلام، وتركت الصيانة. فصارت نساؤها يخرجن متبرجات عاريات الأجسام إلا ما شاء الله. لأن الله نزع من رجالها صفة الرجولة والغيرة على حريمهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيما نعوذ بالله من مسخ الضمير والذوق، ومن كل سوء، ودعوى الجهلة السفلة: أن دوام خروج النساء بادية الرؤوس والأعناق والمعاصم، والأذرع والسوق، ونحو ذلك يذهب إثارة غرائز الرجال. لأن كثرة الإمساس تذهب الإحساس. كلام في غاية السقوط والخسة. لأن معناه: إشباع الرغبة مما لا يجوز، حتى يزول الأرب منه بكثرة مزاولته، وهذا كما ترى. ولأن الدوام لا يذهب إثارة الغريزة باتفاق العقلاء. لأن الرجل يمكث مع امرأته سنين كثيرة حتى تلد أولادهما، ولا تزال ملامسته لها، ورؤيته لبعض جسمها تثير غريزته. كما هو مشاهد لا ينكره إلا مكابر:
* لقد أسمعت لو ناديت حيا
* ولكن لا حياة لمن تنادي
*
وقد أمر رب السماوات والأرض، خالق هذا الكون ومدبر شؤونه، العالم بخفايا أموره، وبكل ما كان وما سيكون بغض البصر عما لا يحل. قال تعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذالك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن) *.
ونهى المرأة أن تضرب برجلها لتسمع الرجال صوت خلخالها في قوله: * (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من) *. ونهاهن عن لين الكلام. لئلا يطمع أهل الخنى فيهن. قال تعالى: * (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض
28

وقلن قولا معروفا) *. وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق المقام في مسألة الحجاب (في سورة الأحزاب) كما قدمنا الوعد بذلك في ترجمة هذا الكتاب المبارك.
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: ملك الرقيق المعبر عنه في القرآن بملك اليمين في آيات كثيرة. كقوله تعالى: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) *، وقوله: * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) * (في سورة * (قد أفلح المؤمنون) *، وسأل سائل)، وقوله: * (والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم) *، وقوله: * (والمحصنات من النسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله) *، وقوله جل وعلا: * (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم) *، وقوله: * (لا يحل لك النسآء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك) *، وقوله: * (ياأيها النبى إنآ أحللنا لك أزواجك اللاتىءاتيت أجورهن وما ملكت يمينك ممآ أفآء الله عليك) *، وقوله جل وعلا: * (ولا نسآئهن ولا ما ملكت أيمانهن) *، وقوله: * (أو نسآئهن أو ما ملكت أيمانهن) * وقوله: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم) *، وقوله: * (فما الذين فضلوا برآدى رزقهم على ما ملكت أيمانهم) *، وقوله: * (هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركآء) *، إلى غير ذلك من الآيات.
فالمراد بملك اليمين في جميع هذه الآيات ونحوها: ملك الرقيق بالرق. ومن الآيات الدالة على ملك الرقيق قوله: * (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا) *، وقوله: * (ولعبد مؤمن خير من مشرك) *، ونحو ذلك من الآيات.
وسبب الملك بالرق: هو الكفر، ومحاربة الله ورسوله. فإذا أقدر الله المسلمين المجاهدين الباذلين مهجهم وأموالهم، وجميع قواهم، وما أعطاهم الله لتكون كلمة الله هي العليا على الكفار جعلهم ملكا لهم بالسبي. إلا إذا اختار الإمام المن أو الفداء. لما في ذلك من المصلحة على المسلمين
29

.
وهذا الحكم من أعدل الأحكام وأوضحها وأظهرها حكمة. وذلك أن الله جل وعلا خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه، ويمتثلوا أوامره ويجتنبوا نواهيه. كما قال تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون) *. وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة. كما قال: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) *، وفي الآية الأخرى (في سورة النحل): * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ إن الله لغفور رحيم) *. وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ليشكروه. كما قال تعالى: * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والا بصار والأفئدة لعلكم تشكرون) * فتمرد الكفار على ربهم وطغوا وعتوا، وأعلنوا الحرب على رسله لئلا تكون كلمته هي العليا، واستعملوا جميع المواهب التي أنعم عليهم بها في محاربته، وارتكاب ما يسخطه، ومعاداته ومعاداة أوليائه القائمين بأمره. وهذا أكبر جريمة يتصورها الإنسان.
فعاقبهم الحكم العدل اللطيف الخبير جل وعلا عقوبة شديدة تناسب جريمتهم. فسلبهم التصرف، ووضعهم من مقام الإنسانية إلى مقام أسفل منه كمقام الحيوانات، فأجاز بيعهم وشراءهم، وغير ذلك من التصرفات المالية، مع أنه لم يسلبهم حقوق الإنسانية سلبا كليا. فأوجب على مالكيهم الرفق والإحسان إليهم، وأن يطعموهم مما يطعمون، ويكسوهم مما يلبسون، ولا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، وإن كلفوهم أعانوهم. كما هو معروف في السنة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم، مع الإيصاء عليهم في القرآن. كما في قوله تعالى: * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى) * إلى قوله * (وما ملكت أيمانكم) * كما تقدم.
وتشوف الشارع تشوفا شديدا للحرية والاخراج من الرق. فأكثر أسباب ذلك، كما أوجبه في الكفارات من قتل خطأ وظهار ويمين وغير ذلك. وأوجب سراية العتق، وأمر بالكتابة في قوله: * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * ورغب في الإعتاق ترغيبا شديدا. ولو فرضنا * (ولله المثل الا على) * أن حكومة من هذه الحكومات التي تنكر الملك بالرق، وتشنع في ذلك على دين الإسلام قام عليها رجل من رعاياها كانت تغدق عليه النعم، وتسدي إليه جميع أنواع الإحسان، ودبر عليها ثورة
30

شديدة يريد بها إسقاط حكمها، وعدم نفوذ كلمتها، والحيلولة بينها وبين ما تريده من تنفيذ أنظمتها، التي يظهر لها أن بهما صلاح المجتمع، ثم قدرت عليه بعد مقاومة شديدة فإنها تقتله شر قتلة. ولا شك أن ذلك القتل يسلبه جميع تصرفاته وجميع منافعه. فهو أشد سلبا لتصرفات الإنسان ومنافعه من الرق بمراحل. والكافر قام ببذل كل ما في وسعه ليحول دون إقامة نظام الله الذي شرعه. ليسير عليه خلقه فينشر بسببه في الأرض الأمن والطمأنينة. والرخاء والعدالة، والمساواة في الحقوق الشرعية، وتنتظم به الحياة على أكمل الوجوه وأعدلها وأسماها * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون) * فعاقبه الله هذه المعاقبة بمنعه التصرف. ووضع درجته وجريمته تجعله يستحق العقوبة بذلك.
فإن قيل: إذا كان الرقيق مسلما فما وجه ملكه بالرق؟ مع أن سبب الرق الذي هو الكفر ومحاربة الله ورسله قد زال؟
فالجواب: أن القاعدة المعروفة عند العلماء وكافة العقلاء: أن الحق السابق لا يرفعه الحق اللاحق، والأحقية بالأسبقية ظاهرة لا خفاء بها. فالمسلمون عندما غنموا الكفار بالسبي: ثبت لهم حق الملكية بتشريع خالق الجميع، وهو الحكيم الخبير. فإذا استقر هذا الحق وثبت، ثم أسلم الرقيق بعد ذلك كان حقه في الخروج من الرق بالإسلام مسبوقا بحق المجاهد الذي سبقت له الملكية قبل الإسلام، وليس من العدل والإنصاف رفع الحق السابق بالحق المتأخر عنه. كما هو معلوم عند العقلاء. نعم، يحسن بالمالك ويجمل به: أن يعتقه إذا أسلم، وقد أمر الشارع بذلك ورغب فيه، وفتح له الأبواب الكثيرة كان قدمنا فسبحان الحكيم الخبير * (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) * فقوله * (صدقا) * أي في الأخبار وقوله * (وعدلا) * أي في الأحكام. ولا شك أن من ذلك العدل: الملك بالرق وغيره من أحكام القرآن. وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) * فقوله * (صدقا) * أي في الأخبار وقوله * (وعدلا) * أي في الأحكام. ولا شك أن من ذلك العدل: الملك بالرق وغيره من أحكام القرآن.
* وكم من عائب قولا صحيحا
* وآفته من الفهم السقيم
*
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: القصاص. فإن الإنسان إذا غضب وهم بأن يقتل إنسانا آخر فتذكر أنه إن قتله قتل به، خاف العاقبة فترك القتل. فحيي ذلك الذي كان يريد
31

قتله، وحيي هو. لأنه لم يقتل فيقتل قصاصا. فقتل القاتل يحيا به ما لا يعلمه إلا الله كثرة كما ذكرنا. قال تعالى * (ولكم في القصاص حيواة ياأولي الألباب لعلكم تتقون) * ولا شك أن هذا من أعدل الطرق وأقومها، ولذلك يشاهد في أقطار الدنيا قديما وحديثا قلة وقوع القتل في البلاد التي تحكم كتاب الله. لأن القصاص رادع عن جريمة القتل. كما ذكره الله في الآية المذكورة آنفا. وما يزعمه أعداء الإسلام من أن القصاص غير مطابق للحكمة. لأن فيه إقلال عدد المجتمع بقتل إنسان ثان بعد أن
مات الأول، وأنه ينبغي أن يعاقب بغير القتل فيحبس، وقد يولد له في الحبس فيزيد المجتمع. كله كلام ساقط، عار من الحكمة ا لأن الحبس لا يردع الناس عن القتل. فإذا لم تكن العقوبة رادعة فإن السفهاء يكثر منهم القتل. فيتضاعف نقص المجتمع بكثرة القتل.
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: قطع يد السارق المنصوص عليه بقوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) *، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو سرقت فاطمة لقطعت يدها).
وجمهور العلماء على أن القطع من الكوع، وأنها اليمنى. وكان ابن مسعود وأصحابه يقرؤون (فاقطعوا أيمانهما).
والجمهور أنه إن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى، ثم إن سرق فيده اليسرى، ثم إن سرق فرجله اليمنى، ثم يعزر. وقيل يقتل. كما جاء في الحديث: (ولا قطع إلا في ربع دينار أو قيمته أو ثلاثة دراهم) كما هو معروف في الأحاديث.
وليس قصدنا هنا تفصيل أحكام السرقة. وشروط القطع، كالنصاب والإخراج من حرز. ولكن مرادنا أن نبين أن قطع يد السارق من هدي القرآن للتي هي أقوم. وذلك أن هذه اليد الخبيثة الخائنة، التي خلقها الله لتبطش وتكتسب في كل ما يرضيه من امتثال أوامره واجتناب نهيه، والمشاركة في بناء المجتمع الإنساني فمدت أصابعها الخائنة، إلى مال الغير لتأخذه بغير حق، واستعملت قوة البطش المودعة فيها في الخيانة والغدر، وأخذ أموال الناس على هذا الوجه القبيح، يد نجسة قذرة، ساعية في الإخلال بنظام المجتمع. إذ لا نظام له بغير المال، فعاقبها خالقها بالقطع والإزالة. كالعضو الفاسد الذي يجر الداء لسائر البدن، فإنه يزال بالكلية إبقاء على البدن، وتطهيرا له من المرض. ولذلك فإن قطع اليد يطهر السارق من دنس ذنب ارتكاب معصية السرقة، مع الردع البالغ
32

بالقطع عن السرقة. قال البخاري في صحيحه: (باب الحدود كفارة) حدثنا محمد بن يوسف حدثنا ابن عيينة عن الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: (بايعوني على أن لا تشركوا الله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، وقرأ هذه الآية كلها، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه. إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه. اه هذا لفظ البخاري في صحيحه. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (فهو كفارته) نص صريح في أن الحدود تطهر المرتكبين لها من الذنب.
والتحقيق في ذلك ما حققه بعض العلماء: من أن حقوق الله يطهر منها بإقامة الحد. وحق المخلوق يبقى. فارتكاب جريمة السرقة مثلا يطهر منه بالحد، والمؤاخذة بالمال تبقى، لأن السرقة علة موجبة حكمين: وهما القطع، والغرم. قال في مراقي السعود: والتحقيق في ذلك ما حققه بعض العلماء: من أن حقوق الله يطهر منها بإقامة الحد. وحق المخلوق يبقى. فارتكاب جريمة السرقة مثلا يطهر منه بالحد، والمؤاخذة بالمال تبقى، لأن السرقة علة موجبة حكمين: وهما القطع، والغرم. قال في مراقي السعود:
* وذاك في الحكم الكثير أطلقه
* كالقطع مع غرم نصاب السرقه
*
مع أن جماعة من أهل العلم قالوا: لا يلزمه الغرم مع القطع. لظاهر الآية الكريمة: فإنها نصت على القطع ولم تذكر غرما.
وقال جماعة: يغرم المسروق مطلقا، فات أو لم يفت، معسرا كان أو موسرا. ويتبع به دينا إن كان معسرا.
وقال جماعة: يرد المسروق إن كان قائما. وإن لم يكن قائما رد قيمته إن كان موسرا، فإن كان معسرا فلا شيء عليه ولا يتبع به دينا.
والأول مذهب أبي حنيفة. والثاني مذهب الشافعي وأحمد. والثالث مذهب مالك. وقطع السارق كان معروفا في الجاهلية فأقره الإسلام. وعقد ابن الكلبي بابا لمن قطع في الجاهلية بسبب السرقة، فذكر قصة الذين سرقوا غزال الكعبة فقطعوا في عهد عبد المطلب. وذكر ممن قطع في السرقة عوف بن عبد بن عمرو بن مخزوم، ومقيس بن قيس بن عدي بن سهم وغيرهما، وأن عوفا السابق لذلك انتهى.
وكان من هدايا الكعبة صورة غزالين من ذهب، أهدتهما الفرس لبيت الله الحرام، كما عقده البدوي الشنقيطي في نظم عمود النسب بقوله: وكان من هدايا الكعبة صورة غزالين من ذهب، أهدتهما الفرس لبيت الله الحرام، كما عقده البدوي الشنقيطي في نظم عمود النسب بقوله:
* ومن خباياه غزالا ذهب
* اهدتهما الفرس لبيت العرب
*
33

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: وقد قطع السارق في الجاهلية، وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المغيرة، فأمر الله بقطعه في الإسلام. فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام من الرجال الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم. وقطع أبو بكر يد اليمني الذي سرق العقد. وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبد الرحمان بن سمرة اه.
قال مقيده عفا الله عنه: ما ذكره القرطبي رحمه الله من أن المخزومية التي سرقت فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها أولا هي مرة بنت سفيان خلاف التحقيق. والتحقيق أنها فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وهي بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد الصحابي الجليل، الذي كان زوج أم سلمة قبل
النبي صلى الله عليه وسلم. قتل أبوها كافرا يوم بدر، قتله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. وقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها وقع في غزوة الفتح. وأما سرقة أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد ابنة عم المذكورة، وقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها ففي حجة الوداع، بعد قصة الأولى بأكثر من سنتين.
فإن قيل: أخرج الشيخان في صحيحهما، وأصحاب السنن وغيرهم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم. وفي لفظ بعضهم قيمته ثلاثة دراهم. وأخرج الشيخان في صحيحهما، وأصحاب السنن غير ابن ماجة وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا) والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا، مع أنه عرف من الشرع أن اليد فيها نصف الدية، ودية الذهب ألف دينار. فتكون دية اليد خمسمائة دينار. فكيف تؤخذ في مقابلة ربع دينار؟ وما وجه العدالة والإنصاف في ذلك.
فالجواب أن هذا النوع من اعتراضات الملحدين الذين لا يؤمنون بالله ورسوله، هو الذي نظمه المعري بقوله: فالجواب أن هذا النوع من اعتراضات الملحدين الذين لا يؤمنون بالله ورسوله، هو الذي نظمه المعري بقوله:
* يد بخمس مئين عسجد وديت
* ما بالها قطعت في ربع دينار
*
وللعلماء عنه أجوبة كثيرة نظما ونثرا. منها قول القاضي عبد الوهاب مجيبا له في بحره ورويه: وللعلماء عنه أجوبة كثيرة نظما ونثرا. منها قول القاضي عبد الوهاب مجيبا له في بحره ورويه:
* عز الأمانة أغلاها، وأرخصها
* ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري
*
وقال بعضهم: لما خانت هانت. ومن الواضح: أن تلك اليد الخسيسة الخائنة لما
34

تحملت رذيلة السرقة وإطلاق اسم السرقة عليها في شيء حقير كثمن المجن والأترجة، كان من المناسب المعقول أن تؤخذ في ذلك الشيء القليل، الذي تحملت فيه هذه الرذيلة الكبرى.
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: ثم إنا أجبنا عن هذا الطعن، بأن الشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل. فلا يبعد أن يعاقبه الشرع بسبب تلك الدناءة هذه العقوبة العظيمة اه.
فانظر ما يدعو إليه القرآن: من مكارم الأخلاق، والتنزه عما لا يليق، وقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا يدل على أن التشريع السماوي يضع درجة الخائن من خمسمائة درجة إلى ربع درجة. فانظر هذا الحط العظيم لدرجته، بسبب ارتكاب الرذائل.
وقد استشكل بعض الناس قطع يد السارق في السرقة خاصة دون غيرها من الجنايات على الأموال، كالغصب، والانتهاب، ونحو ذلك.
قال المازري ومن تبعه: صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها، وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها، من الانتهاب والغصب، ولسهولة إقامة البينة على ما عدى السرقة بخلافها، وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر. ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطع فيه حماية لليد. ثم لما خانت هانت. وفي ذلك إثارة إلى الشبهة التي نسبت إلى أبي العلاء المعري في قوله: قال المازري ومن تبعه: صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها، وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها، من الانتهاب والغصب، ولسهولة إقامة البينة على ما عدى السرقة بخلافها، وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر. ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطع فيه حماية لليد. ثم لما خانت هانت. وفي ذلك إثارة إلى الشبهة التي نسبت إلى أبي العلاء المعري في قوله:
* يد بخمس مئين عسجد وديت
* ما بالها قطعت في ربع دينار
*
فأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله: فأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله:
* صيانة العضو أغلاها وأرخصها
* حماية المال فافهم حكمة الباري
*
وشرح ذلك: أن الدية لو كانت ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي. ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموال. فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين.
وقد عسر فهم المعنى المقدم ذكره في الفرق بين السرقة وبين النهب ونحوه على بعض منكري القياس فقال: القطع في السرقة دون الغصب وغيره غير معقول المعنى.
فإن الغصب أكثر هتكا للحرمة من السرقة، فدل على عدم اعتبار القياس. لأنه إذا لم يعمل به في الأعلى فلا يعمل به في المساوي.
35

وجوابه أن الأدلة على العمل بالقياس أشهر من أن يتكلف لإيرادها. وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك في كتاب الأحكام. اه بواسطة نقل ابن حجر في فتح الباري.
قال مقيده عفا الله عنه: الفرق بين السرقة وبين الغصب ونحوه الذي أشار إليه المازري ظاهر، وهو أن النهب والغصب ونحوهما قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأن الأمر الظاهر غالبا توجد البينة عليه بخلاف السرقة. فإن السارق إنما يسرق خفية بحيث لا يطلع عليه أحد، فيعسر الإنصاف منه. فغلظت عليه الجناية ليكون أبلغ في الزجر. والعلم عند الله تعالى.
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: رجم الزاني المحصن ذكرا كان أو أنثى، وجلد الزاني البكر مائة جلدة ذكرا كان أو أنثى.
أما الرجم فهو منصوص بآية منسوخة التلاوة باقية الحكم، وهي قوله تعالى: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم).
وقد قدمنا ذم القرآن للمعرض عما في التوراة من حكم الرجم. فدل القرآن في آيات محكمة كقوله * (يقولون إن أوتيتم هاذا فخذوه) *، وقوله: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم) * على ثبوت حكم الرجم في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم لذمة في كتابنا للمعرض عنه كما تقدم.
وما ذكرنا من أن حكم الرجم ثابت بالقرآن لا ينافي قول علي رضي الله عنه، حين رجم امرأة يوم الجمعة: (رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم). لأن السنة هي التي بينت أن حكم آية الرجم باق بعد نسخ تلاوتها.
ويدل لذلك قول عمر رضي الله عنه في حديثه الصحيح المشهور: (فكان مما أنزل إليه آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده..) الحديث.
والملحدون يقولون: إن الرجم قتل وحشي لا يناسب الحكمة التشريعية، ولا ينبغي أن يكون مثله في الأنظمة التي يعامل بها الإنسان. لقصور إدراكهم عن فهم حكم الله البالغة في تشريعه.
والحاصل أن الرجم عقوبة سماوية معقولة المعنى. لأن الزاني لما أدخل فرجه
36

في فرج امرأة على وجه الخيانة والغدر، فإنه ارتكب أخس جريمة عرفها الإنسان بهتك الأعراض، وتقذير الحرمات، والسعي في ضياع أنساب المجتمع الإنساني. والمرأة التي تطاوعه في ذلك مثله. ومن كان كذلك فهو نجس قذر لا يصلح للمصاحبة. فعاقبه خالقه الحكيم الخبير بالقتل ليدفع شره البالغ غاية الخبث والخسة، وشر أمثاله عن المجتمع. ويطهره هو من التنجيس بتلك القاذورة التي ارتكب، وجعل قتلته أفظع قتلة. لأن جريمته أفظع جريمة والجزاء من جنس العمل.
وقد دل المطهر على أن إدخال الفرج في الفرج المأذون فيه شرعا يوجب الغسل، والمنع من دخول المسجد على كل واحد منهما حتى يغتسل بالماء. فدل ذلك أن ذلك الفعل يتطلب طهارة في الأصل، وطهارته المعنوية إن كان حراما قتل صاحبه المحصن. لأنه إن رجم كفر ذلك عنه ذنب الزنى، ويبقى عليه حق الآدمي. كالزوج إن زنى بمتزوجة، وحق الأولياء في إلحاق العار بهم كما أشرنا له سابقا. وشدة قبح الزنى أمر مركوز في الطبائع، وقد قالت هند بنت عتبة وهي كافرة: ما أقبح ذلك الفعل حلالا! فكيف به وهو حراما وغلظ جل وعلا عقوبة المحصن بالرجم تغليظا أشد من تغليظ عقوبة البكر بمائة جلدة. لأن المحصن قد ذاق عسيلة النساء، ومن كان كذلك يعسر عليه الصبر عنهن. فلما كان الداعي إلى الزنى أعظم، كان الرادع عنه أعظم وهو الرجم.
وأما جلد الزاني البكر ذكرا كان أو أنثى مائة جلدة فهذا منصوص بقوله تعالى * (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) *. لأن هذه العقوبة تردعه وأمثاله عن الزنى، وتطهره من ذنب الزنى كما تقدم. وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل ما يلزم الزناة من ذكور إناث، وعبيد وأحرار (في سورة النور).
وتشريع الحكيم الخبير جل وعلا مشتمل على جميع الحكم من درء المفاسد وجلب المصالح، والجري على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، ولا شك أن من أقوم الطرق معاقبة فظيع الجناية بعظيم العقاب جزاء وفاقا.
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: هديه إلى أن التقدم لا ينافي التمسك بالدين. فما خيله أعداء الدين لضعاف العقول ممن ينتمي إلى الإسلام: من أن التقدم لا يمكن إلا بالانسلاخ من دين الإسلام باطل لا أساس له، والقرآن الكريم يدعو إلى التقدم في جميع الميادين التي لها أهمية في دنيا أو دين. ولكن ذلك التقدم في حدود الدين، والتحلي بآدابه الكريمة، وتعاليمه السماوية. قال تعالى: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) *،
37

وقال: * (ولقد ءاتينا داوود منا فضلا ياجبال أوبى معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر فى السرد واعملوا صالحا) *. فقوله: * (أن اعمل سابغات وقدر فى السرد) * يدل على الاستعداد لمكافحة العدو، وقوله * (واعملوا صالحا) * يدل على أن ذلك الاستعداد لمكافحة العدو في حدود الدين الحنيف. وداود من أنبياء (سورة الأنعام) المذكورين فيها في قوله تعالى: * (ومن ذريته داوود) *، وقد قال تعالى مخاطبا لنبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم بعد أن ذكرهم: * (أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) *.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن مجاهد أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما من أين أخذت السجدة (في ص) فقال: أو ما تقرأ * (ومن ذريته داوود) * * (أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدل ذلك على أنا مخاطبون بما تضمنته الآية مما أمر به داود. فعلينا أن نستعد لكفاح العدو مع التمسك بديننا، وانظر قوله تعالى: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) * فهو أمر جازم بإعداد كل ما في الاستطاعة من قوة ولو بلغت القوة من التطور ما بلغت. فهو أمر جازم بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية، وعدم الجمود على
الحالات الأول إذا طرأ تطور جديد. ولكن كل ذلك مع التمسك بالدين.
ومن أوضح الأدلة في ذلك قوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلواة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) *. فصلاة الخوف المذكورة في هذه الآية الكريمة تدل على لزوم الجمع بين مكافحة العدو، وبين القيام بما شرعه الله جل وعلا من دينه. فأمره تعالى في هذه الآية بإقامة الصلاة في وقت التحام الكفاح المسلح يدل على ذلك دلالة في غاية الوضوح، وقد قال تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) * فأمره في هذه الآية الكريمة بذكر الله كثيرا عند التحام القتال يدل على ذلك أيضا دلالة واضحة. فالكفار خيلوا لضعاف العقول أن النسبة بين التقدم والتمسك بالدين، والسمت الحسن والأخلاق الكريمة تباين مقابلة كتباين النقيضين كالعدم والوجود، والنفي والإثبات. أو الضدين
38

كالسواد والبياض، والحركة والسكون. أو المتضائفين كالأبوة والبنوة، والفوق والتحت. أو العدم والملكة كالبصر والعمى.
فإن الوجود والعدم لا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد من جهة واحدة، وكذلك الحركة والسكون مثلا. وكذلك الأبوة والبنوة. فكل ذات ثبتت لها الأبوة لذات استحالت عليها النبوة لها، بحيث يكون شخص أبا وابنا لشخص واحد. كاستحالة اجتماع السواد والبياض في نقطة بسيطة، أو الحركة والسكون في جرم. وكذلك البصر والعمى لا يجتمعان.
فخيلوا لهم أن التقدم والتمسك بالدين متباينان تباين مقابلة، بحيث يستحيل اجتماعهما. فكان من نتائج ذلك انحلالهم من الدين رغبة في التقدم. فخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
والتحقيق أن النسبة بين التقدم والتمسك بالدين بالنظر إلى العقل وحده، وقطع النظر عن نصوص الكتاب والسنة إنما هي تباين المخالفة، وضابط المتباينين تباين المخالفة أن تكون حقيقة كل منهما في حد ذاتها تباين حقيقة الآخر، ولكنهما يمكن اجتماعهما عقلا في ذات أخرى. كالبياض والبرودة، والكلام والقعود، والسواد والحلاوة.
فحقيقة البياض في حد ذاتها تباين حقيقة البرودة، ولكن البياض والبرودة يمكن اجتماعها في ذات واحدة كالثلج. وكذلك الكلام والقعود فإن حقيقة الكلام تباين حقيقة القعود، مع إمكان أن يكون الشخص الواحد قاعدا متكلما في وقت واحد. وهكذا. فالنسبة بين التمسك بالدين والتقدم بالنظر إلى حكم العقل من هذا القبيل، فكما أن الجرم الأبيض يجوز عقلا أن يكون باردا كالثلج، والإنسان القاعد يجوز عقلا أن يكون متكلما، فكذلك المتمسك بالدين يجوز عقلا أن يكون متقدما. إذ لا مانع في حكم العقل من كون المحافظ على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، مشتغلا في جميع الميادين التقدمية كما لا يخفى، وكما عرفه التاريخ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان. أما بالنظر إلى نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى: * (ولينصرن الله من ينصره) *، وقوله: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) *، وقوله: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) *،
39

وقوله: * (كتب الله لاغلبن أنا ورسلى إن الله قوى عزيز) *، وقوله: * (إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا فى الحيواة الدنيا) *، وقوله: * (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) *، ونحو ذلك من الآيات وما في معناها من الأحاديث.
فإن النسبة بين التمسك بالدين والتقدم، كالنسبة بين الملزوم ولازمه. لأن التمسك بالدين ملزوم للتقدم، بمعنى أنه يلزم عليه التقدم، كما صرحت به الآيات المذكورة. ومعلوم أن النسبة بين الملزوم ولازمه لا تعدو أحد أمرين: إما أن تكون المساواة أو الخصوص المطلق، لأن الملزوم لا يمكن أن يكون أعم من لازمه. وقد يجوز أن يكون مساويا له أو خص منه، ولا يتعدى ذلك. ومثال ذلك: الإنسان مثلا، فإنه ملزوم للبشرية الحيوانية، بمعنى أن الإنسان يلزم على كونه إنسانا أن يكون بشرا وأن يكون حيوانا، وأحد هذين اللازمين مساو له في الماصدق وهو البشر. والثاني أعم منه ما صدقا وهو الحيوان، فالإنسان أخص منه خصوصا مطلقا كما هو معروف.
فانظر كيف خيلوا لهم أن الربط بين الملزوم ولازمه كالتنافي الذي بين النقيضين والضدين. وأطاعوهم في ذلك لسذاجتهم وجهلهم وعمى بصائرهم، فهم ما تقولوا على الدين الإسلامي ورموه بما هو منه بريء إلا لينفروا منه ضعاف العقول ممن ينتمي للإسلام ليمكنهم الاستيلاء عليهم، لأنهم لو عرفوا الدين حقا واتبعوه لفعلوا بهم ما فعل أسلافهم بأسلافهم، فالدين هو هو، وصلته بالله هي هي، ولكن المنتسبين إليه في جل أقطار الدنيا تنكروا له، ونظروا إليه بعين المقت والازدراء. فجعلهم الله أرقاء للكفرة الفجرة. ولو راجعوا دينهم لرجع لهم عزهم ومجدهم، وقادوا جميع أهل الأرض. وهذا مما لا شك فيه * (ذالك ولو يشآء الله لانتصر منهم ولاكن ليبلو بعضكم ببعض) *.
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم بيانه أنه كل من اتبع تشريعا غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح، مخرج عن الملة الإسلامية. ولما قال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: الشاة تصبح ميتة من قتلها؟ فقال لهم: (الله قتلها) فقالوا له: ما ذبحتم بأيديهم حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة تقولون إنه حراما فأنتم إذن أحسن من
40

الله؟ أنزل الله فيهم قوله تعالى: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) * وحذف الفاء من قوله * (إنكم لمشركون) * يدل على قسم محذوف على حد قوله في الخلاصة:
* واحذف لدى اجتماع شرط وقسم
* جواب ما أخرت فهو ملتزم
*
إذ لو كانت الجملة جوابا للشرط لاقترنت بالفاء على حد قوله في الخلاصة أيضا: إذ لو كانت الجملة جوابا للشرط لاقترنت بالفاء على حد قوله في الخلاصة أيضا:
* واقرن بفا حتما جوابا لو جعل
* شرطا لأن أو غيرها لم ينجعل
*
فهو قسم من الله جل وعلا أقسم به على أن من اتبع الشيطان في تحليل الميتة أنه مشرك، وهذا الشرك مخرج عن الملة بإجماع المسلمين، وسيوبخ الله مرتكبه يوم القيامة بقوله: * (ألم أعهد إليكم يابنىءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) * لأن طاعته في تشريعه المخالف للوحي هي عبادته، وقال تعالى: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) * أي ما يعبدون إلا شيطانا، وذلك باتباعهم تشريعه. وقال: * (وكذالك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركآؤهم) *، فسماهم شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى. وقال عن خليله * (ياأبت لا تعبد الشيطان) *، أي بطاعته في الكفر والمعاصي. ولما سأل عدي بن حاتم النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا) *، بين له أن معنى ذلك أنهم أطاعوهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم. والآيات بمثل هذا كثيرة.
والعجب ممن يحكم غير تشريع الله ثم يدعي الإسلام. كما قال تعالى: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) *، وقال: * (ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولائك هم الكافرون) *. وقال: * (أفغير الله أبتغى حكما وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين ءاتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين) *. ومن هدي القرآن للتي هي أقوم هديه إلى أن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع، وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام
41

. لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك، ورجلك، بساقك. كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). ولذلك يكثر في القرآن العظيم إطلاق النفس وإرادة الأخ تنبيها على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه. كقوله تعالى: * (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) *، أي لا تخرجون إخوانكم، وقوله: * (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) * أي بإخوانهم على أصح التفسيرين، وقوله: * (ولا تلمزوا أنفسكم) *، أي إخوانكم على أصح التفسيرين، وقوله: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم) *، أي لا يأكل أحدكم مال أخيه، إلى غير ذلك من الآيات. ولذلك ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين، وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية: قوله تعالى * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الا خر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا ءابآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) * إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر. وقوله: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض) *، وقوله: * (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) * وقوله: * (فأصبحتم بنعمته إخوانا) *، إلى غير ذلك من الآيات.
فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن النداء برابطة أخرى غير الإسلام كالعصبية المعروفة بالقومية لا يجوز، ولا شك أنه ممنوع بإجماع المسلمين.
ومن أصرح الأدلة في ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه قال: باب قوله تعالى: * (يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الا عز منها الا ذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولاكن المنافقين لا يعلمون) * حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان قال: حفظناه من عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال الأنصاري: يا للأنصارا! وقال
42

المهاجري: يا للمهاجرينا! فسمعها الله رسوله قال: (ما هذا)؟ فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة) الحديث. فقول هذا الأنصاري: يا للأنصار، وهذا المهاجري: يا للمهاجرين هو النداء بالقومية العصبية بعينه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة) يقتضي وجوب ترك النداء بها. لأن قوله (دعوها) أمر صريح بتركها، والأمر المطلق يقتضي الوجوب على التحقيق كما تقرر في الأصول. لأن الله يقول: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) *، ويقول لإبليس: * (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) * فدل على أن مخالفة الأمر معصية. وقال تعالى عن نبيه موسى في خطابه لأخيه: * (أفعصيت أمرى) * فأطلق اسم المعصية على مخالفة الأمر: وقال تعالى: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) * فدلت الآية على أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مانع من الاختيار، موجب للامتثال. لا سيما وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بالترك بقوله: (فإنها منتنة) وحسبك بالنتن موجبا للتباعد لدلالته على الخبث البالغ.
فدل هذا الحديث الصحيح على أن النداء برابطة القومية مخالف لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن فاعله يتعاطى المنتن، ولا شك أن المنتن خبيث، والله تعالى
يقول: * (الخبيثات للخبيثين) *، ويقول: * (ويحرم عليهم الخبائث) * وحديث جابر هذا الذي قدمناه عن البخاري أخرجه أيضا مسلم في صحيحه قال رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. وزهير بن حرب، وأحمد بن عبدة الضبي، وابن أبي عمر، واللفظ لابن أبي شيبة قال ابن عبدة: أخبرنا وقال الآخرون: حدثنا سفيان بن عيينة قال: سمع عمرو جابر بن عبد الله يقول: كنا مع النبي في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصارا وقال المهاجري: يا للمهاجرين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بال دعوى الجاهلية) ا قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال: (دعوها فإنها منتنة.) الحديث.
وقد عرفت وجه لدلالة هذا الحديث على التحريم، مع أن في بعض رواياته الثابتة في الصحيح التصريح بأن دعوى الرجل: (يا لبني فلان) من دعوى الجاهلية. وإذا صح بذلك
43

أنها من دعوى الجاهلية فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية). وفي رواية في الصحيح: (ليس منا من ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية)، وذلك صريح في أن من دعا تلك الدعوى ليس منا، وهو دليل واضح على التحريم الشديد. ومما يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا) هذا حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد من طرق متعددة عن عتي بن ضمرة السعدي، عن أبي بن كعب رضي الله عنه، وذكره صاحب الجامع الصغير بلفظ (إذا سمعتم من يعتزي بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا) وأشار لأنه أخرجه أحمد في المسند، والنسائي وابن حبان، والطبراني في الكبير، والضياء المقدسي عن أبي رضي الله عنه، وجعل عليه علامة الصحة. وذكره أيضا صاحب الجامع الصغير بلفظ (إذا رأيتم الرجل يتعزى..) الخ، وأشار إلى أنه أخرجه الإمام أحمد في المسند والترمذي، وجعل عليه علامة الصحة. وقال شارحه المناوي: ورواه عنه أيضا الطبراني، قال الهيتمي: ورجاله ثقات، وقال شارحه العزيزي: هو حديث صحيح. وقال فيه الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني في كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس) قال النجم: رواه أحمد والنسائي وابن حبان عن أبي بن كعب رضي الله عنه. ومراده بالنجم: الشيخ محمد نجم الدين الغزي في كتابه المسمى (إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن) فانظر كيف سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك النداء (عزاء الجاهلية) وأمر أن يقال للداعي به (اعضض على هن أبيك) أي فرجه، وأن يصرح له بذلك ولا يعبر عنه بالكتابة. فهذا يدل على شدة قبح هذا النداء، وشدة بغض النبي صلى الله عليه وسلم له.
واعلم أن رؤساء الدعاة إلى نحو هذه القومية العربية: أبو جهل، وأبو لهب، والوليد بن المغيرة، ونظراؤهم من رؤساء الكفرة.
وقد بين تعالى تعصبهم لقوميتهم في آيات كثيرة. كقوله: * (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءاباءنآ) *، وقوله: * (قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه ءابآءنآ) *، وأمثال ذلك من الآيات.
واعلم أنه لا خلاف بين العلماء كما ذكرنا آنفا في منع النداء برابطة غير الإسلام. كالقوميات والعصبيات النسبية، ولا سيما إذا كان النداء بالقومية يقصد من ورائه القضاء على رابطة الإسلام وإزالتها بالكلية. فإن النداء بها حينئذ معناه الحقيقي: أنه نداء
44

إلى التخلي عن دين الإسلام، ورفض الرابطة السماوية رفضا باتا، على أن يعتاض من ذلك روابط عصبية قومية، مدارها على أن هذا من العرب، وهذا منهم أيضا مثلا. فالعروبة لا يمكن أن تكون خلفا من الإسلام. واستبدالها به صفقة خاسرة. فهي كما قال الراجز: ورفض الرابطة السماوية رفضا باتا، على أن يعتاض من ذلك روابط عصبية قومية، مدارها على أن هذا من العرب، وهذا منهم أيضا مثلا. فالعروبة لا يمكن أن تكون خلفا من الإسلام. واستبدالها به صفقة خاسرة. فهي كما قال الراجز:
* بدلت بالجمة رأسا أزعرا
* وبالثنايا الواضحات الدردرا
*
وقد علم في التاريخ حال العرب قبل الإسلام وحالهم بعده كما لا يخفى.
وقد بين الله جل وعلا في محكم كتابه: أن الحكمة في جعله بني آدم شعوبا وقبائل هي التعارف فيما بينهم. وليست هي أن يتعصب كل شعب على غيره، وكل قبيلة على غيرها. قال جل وعلا: * (ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبآئل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * فاللام في قوله * (لتعارفوا) * لام التعليل، والأصل لتتعارفوا، وقد حذفت إحدى التاءين. فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة لقوله: * (وجعلناكم شعوبا وقبآئل) * ونحن حين نصرح بمنع النداء بالروابط العصبية والأواصر النسبية، ونقيم الأدلة على منع ذلك لا ننكر أن المسلم ربما انتفع بروابط نسبية لا تمت إلى الإسلام بصلة. كما نفع الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب. وقد بين الله جل وعلا أن عطف ذلك العم الكافر على نبيه صلى الله عليه وسلم من منن الله عليه. قال تعالى: * (ألم يجدك يتيما فآوى) * أي آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب.
ومن آثار هذه العصبية النسبية قول أبي طالب فيه صلى الله عليه وسلم::
* والله لن يصلوا إليك بجمعهم
* حتى أوسد في التراب دفينا
*
كما قدمنا في سورة هود.
وقد نفع الله بتلك العصبية النسبية شعيبا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كما قال تعالى عن قومه: * (قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك) *.
وقد نفع الله بها نبيه صالحا أيضا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. كما أشار تعالى لذلك بقوله: * (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون) * فقد دلت الآية على أنهم يخافون من أولياء صالح،
45

ولذلك لم يفكروا أن يفعلوا به سوءا إلا ليلا خفية. وقد عزموا أنهم إن فعلوا به ذلك أنكروا وحلفوا لأوليائه أنهم ما حضروا ما وقع بصالح خوفا منهم. ولما كان لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا عصبة له في قومه ظهر فيه أثر ذلك حتى قال: * (لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) * وقد قدمنا هذا مستوفى في (سورة هود).
فيلزم الناظر في هذه المسألة أن يفرق بين الأمرين، ويعلم أن النداء بروابط القوميات لا يجوز على كل حال، ولا سيما إذا كان القصد بذلك القضاء على رابطة الإسلام، وإزالتها بالكلية بدعوى أنه لا يساير التطور الجديد، أو أنه جمود وتأخر عن مسايرة ركب الحضارة. نعوذ بالله من طمس البصيرة. وأن منع النداء بروابط القوميات لا ينافي أنه ربما انتفع المسلم بنصرة قريبه الكافر بسبب العواطف النسبية والأواصر العصبية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، كما وقع من أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) ولكن تلك القرابات النسبية لا يجوز أن تجعل هي الرابطة بين المجتمع. لأنها تشمل المسلم والكافر، ومعلوم أن المسلم عدو الكافر، كما قال تعالى: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الا خر يوآدون من حآد الله ورسوله) *، كما تقدم.
والحاصل أن الرابطة الحقيقية التي تجمع المفترق وتؤلف المختلف هي رابطة (لا إلاه إلا الله) ألا ترى أن هذه الرابطة التي تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد واحد، وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضا، عطفت قلوب حملة العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الاختلاف. قال تعالى: * (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التى وعدتهم ومن صلح من ءابآئهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم) *. فقد أشار تعالى إلى أن الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله، وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم، إنما هي الإيمان بالله جل وعلا. لأنه قال عن الملائكة: * (ويؤمنون به) *
46

فوصفهم بالإيمان. وقال عن بني آدم في استغفار الملائكة لهم * (ويستغفرون للذين ءامنوا) * فوصفهم أيضا بالإيمان. فدل ذلك على أن الرابطة بينهم هي الإيمان وهو أعظم رابطة.
ومما يوضح لك أن الرابطة الحقيقية هي دين الإسلام قوله تعالى في أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم: * (سيصلى نارا ذات لهب) * ويقابل ذلك بما لسلمان الفارسي من الفضل والمكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: (سلمان منا أهل البيت) رواه الطبراني والحاكم في المستدرك، وجعل عليه صاحب الجامع الصغير علامة الصحة. وضعفه الحافظ الذهبي. وقال الهيتمي فيه، عند الطبراني كثير بن عبد الله المزني ضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات. وقد أجاد من قال: أنه قال فيه: (سلمان منا أهل البيت) رواه الطبراني والحاكم في المستدرك، وجعل عليه صاحب الجامع الصغير علامة الصحة. وضعفه الحافظ الذهبي. وقال الهيتمي فيه، عند الطبراني كثير بن عبد الله المزني ضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات. وقد أجاد من قال:
* لقد رفع الإسلام سلمان فارس
* وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
*
وقد أجمع العلماء: على أن الرجل إن مات وليس له من القرباء إلا ابن كافر، أن إرثه يكون للمسلمين بأخوة الإسلام، ولا يكون لولده لصلبه الذي هو كافر، والميراث دليل القرابة. فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من النبوة النسبية.
وبالجملة، فلا خلاف بين المسلمين أن الرابطة التي تربط أفراد أهل الأرض بعضهم ببعض، وتربط بين أهل الأرض والسماء، هي رابطة (لا إله إلا الله) فلا يجوز البتة النداء برابطة غيرها. ومن والى الكفار بالروابط النسبية محبة لهم، ورغبة فيهم يدخل في قوله تعالى * (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) *، وقوله تعالى: * (إلا تفعلوه تكن فتنة فى الا رض وفساد كبير) * والعلم عند الله تعالى.
وبالجملة فالمصالح التي عليها مدار الشرائع ثلاثة:
الأولى درء المفاسد المعروف عند أهل الأصول بالضروريات.
والثانية جلب المصالح، المعروف عند أهل الأصول بالحاجيات.
والثالثة الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، المعروف عند أهل الأصول بالتحسينيات والتتميمات. وكل هذه المصالح الثلاث هدى فيها القرآن العظيم للطريق التي هي أقوم الطرق وأعد لها.
فالضروريات التي هي درء المفاسد إنما هي درؤها عن ستة أشياء:
47

الأول الدين، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعد لها. كما قال تعالى: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) *، وفي آية الأنفال: * (ويكون الدين كله لله) * وقال تعالى: * (تقاتلونهم أو يسلمون) *، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدو أن لا إلاه إلا الله) الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) إلى غير ذلك من الأدلة على المحافظة على الدين.
والثاني النفس، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليها بأقوم الطرق وأعدلها. ولذلك أوجب القصاص درءا للمفسدة عن الأنفس، كما قال تعالى: * (ولكم في القصاص حيواة ياأولي الألباب) *، وقال: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) *، وقال: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) *.
الثالث العقل، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها. قال تعالى: * (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والا نصاب والا زلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) * إلى قوله * (فهل أنتم منتهون) *. وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام)، وقال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) كما قدمنا ذلك مستوفى (في سورة النحل) وللمحافظة على العقل أوجب صلى الله عليه وسلم حد الشارب درءا للمفسدة عن العقل.
الرابع النسب، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها. ولذلك حرم الزنى وأوجب فيه الحد الرادع، وأوجب العدة على النساء عند المفارقة بطلاق أو موت. لئلا يختلط ماء رجل بماء آخر في رحم امرأة محافظة على الأنساب. قال تعالى: * (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا) *، ونحو ذلك من الآيات، وقال تعالى: * (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) *. وقد قدمنا آية الرجم والأدلة الدالة على أنها منسوخة التلاوة باقية الحكم. وقال تعالى في إيجاب العدة حفظا للأنساب: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) *، وقال: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * وإن كانت عدة الوفاة فيها شبه تعبد لوجوبها مع عدم الخلوة بين الزوجين.
ولأجل المحافظة على النسب منع سقي زرع الرجل بماء غيره. فمنع نكاح الحامل حتى تضع، قال تعالى: * (وأولات الا حمال أجلهن أن يضعن حملهن) *.
الخامس العرض، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها. فنهى
48

المسلم عن أن يتكلم في أخيه بما يؤذيه، وأوجب عليه إن رماه بقرية حد القذف ثمانين جلدة. قال تعالى: * (ولا يغتب بعضكم) *. وقبح جل وعلا غيبة المسلم غاية التقبيح. بقوله: * (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) *، وقال: * (ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالا لقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولائك هم الظالمون) *، وقال في إيجاب حد القاذف: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولائك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) *.
السادس المال، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق واعدلها. ولذلك منع أخذه بغير حق شرعي، وأوجب على السارق حد السرقة وهو قطع اليد كما تقدم. قال تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) *، وقال تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بهآ إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) *، وقال: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من الله) *. وكل ذلك محافظة على المال ودرء للمفسدة عنه.
المصلحة الثانية جلب المصالح، وقد جاء القرآن بجلب المصالح بأقوم الطرق وأعدلها. ففتح الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين، قال تعالى * (فإذا قضيت الصلواة فانتشروا فى الا رض وابتغوا من فضل الله) * وقال: * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) *، وقال: * (يضربون فى الا رض يبتغون من فضل الله وءاخرون) *، وقال: * (بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض) *.
ولأجل هذا جاء الشرع الكريم بإباحة المصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع على الوجه المشروع. ليستجلب كل مصلحته من الآخر، كالبيوع، والإجارات والأكرية والمساقاة والمضاربة، وما جرى مجرى ذلك.
المصلحة الثالثة الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وقد جاء القرآن بذلك بأقوم الطرق وأعدلها. والحض على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات كثير جدا في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت: (كان خلقه القرآن) لأن القرآن يشتمل على جميع مكارم الأخلاق. لأن الله تعالى يقول
49

في نبيه صلى الله عليه وسلم: * (وإنك لعلى خلق عظيم) *.
فدل مجموع الآية وحديث عائشة على أن المتصف بما في القرآن من مكارم الأخلاق: أنه يكون على خلق عظيم، وذلك لعظم ما في القرآن من مكارم الأخلاق، وسنذكر لك بعضا من ذلك تنبيها به على غيره.
فمن ذلك قوله تعالى: * (لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم) *. فانظر ما في
هذه الآية من الحض على مكارم الأخلاق من الأمر بالعفو والنهي عن نسيان الفضل. وقال تعالى * (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا) *، وقال تعالى: * (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) *. فانظر ما في هذه الآيات من مكارم الأخلاق، والأمر بأن تعامل من عصى الله فيك بأن تطيعه فيه. وقال تعالى: * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم) * فانظر إلى هذا من مكارم الأخلاق، والأمر بالإحسان إلى المحتاجين والضعفاء، وقال تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون) *، وقال تعالى: * (يابنىءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد) *، وقال: * (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) *، وقال تعالى: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) *، وقال تعالى: * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين) * إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات.
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم هديه إلى حل المشاكل العالمية بأقوم الطرق وأعدلها. ونحن دائما في المناسبات نبين هدي القرآن العظيم إلى حل ثلاث مشكلات، هي من أعظم ما يعانيه العالم في جميع المعمورة ممن ينتمي إلى الإسلام، تنبيها بها على غيرها: المشكلة الأولى هي ضعف المسلمين في أقطار الدنيا في العدد والعدد عن مقاومة الكفار. وقد هدى القرآن العظيم إلى حل هذه المشكلة بأقوم الطرق وأعدلها. فبين أن علاج الضعف عن مقاومة الكفار إنما هو بصدق التوجه إلى الله تعالى، وقوة الإيمان به
50

والتوكل عليه. لأن الله قوي عزيز، قاهر لكل شيء. فمن كان من حزبه على الحقيقة لا يمكن أن يغلبه الكفار ولو بلغوا من القوة ما بلغوا.
فمن الأدلة المبينة لذلك: أن الكفار لما ضربوا على المسلمين ذلك الحصار العسكري العظيم في غزوة الأحزاب المذكور في قوله تعالى * (إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الا بصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) * كان علاج ذلك هو ما ذكرنا. فانظر شدة هذا الحصار العسكري وقوة أثره في المسلمين، مع أن جميع أهل الأرض في ذلك الوقت مقاطعوهم سياسة واقتصادا. فإذا عرفت ذلك فاعلم أن العلاج الذي قابلوا به هذا الأمر العظيم، وحلوا به هذه المشكلة العظمى، هو ما بينه جل وعلا (في سورة الأحزاب) بقوله: * (ولما رأى المؤمنون الا حزاب قالوا هاذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) *.
فهذا الإيمان الكامل، وهذا التسليم العظيم لله جل وعلا، ثقة به، وتوكلا عليه، هو سبب حل هذه المشكلة العظمى.
وقد صرح الله تعالى بنتيجة هذا العلاج بقوله تعالى: * (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف فى قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شىء قديرا) *.
وهذا الذي نصرهم الله به على عدوهم ما كانوا يظنونه، ولا يحسبون أنهم ينصرون به وهو الملائكة والريح. قال تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جآءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) * ولما علم جل وعلا من أهل بيعة الرضوان الإخلاص الكامل، ونوه عن إخلاصهم بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله: * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما فى قلوبهم) *: أي من الإيمان والإخلاص كان من نتائج ذلك ما ذكره الله جل وعلا في قوله * (وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شىء قديرا) * فصرح جل وعلا في هذه الآية بأنهم لم يقدروا
51

عليها، وأن الله جل وعلا أحاط بها فأقدرهم عليها، وذلك من نتائج قوة إيمانهم وشدة إخلاصهم.
فدلت الآية على أن الإخلاص لله وقوة الإيمان به، هو السبب لقدرة الضعيف على القوي وغلبته له * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) *، وقوله تعالى في هذه الآية: * (لم تقدروا عليها) * فعل في سياق النفي، والفعل في سياق النفي من صيغ العموم على التحقيق، كما تقرر في الأصول. ووجهه ظاهر. لأن الفعل الصناعي (أعني الذي يسمى في الاصطلاح فعل الأمر أو الفعل الماضي أو الفعل المضارع) ينحل عند النحويين، وبعض البلاغيين عن مصدر وزمن، كما أشار له في الخلاصة بقوله: لم تقدروا عليها) * فعل في سياق النفي، والفعل في سياق النفي من صيغ العموم على التحقيق، كما تقرر في الأصول. ووجهه ظاهر. لأن الفعل الصناعي (أعني الذي يسمى في الاصطلاح فعل الأمر أو الفعل الماضي أو الفعل المضارع) ينحل عند النحويين، وبعض البلاغيين عن مصدر وزمن، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* المصدر اسم ما سوى الزمان من
* مدلولي الفعل كأمن من أمن
*
وعند جماعة من البلاغيين ينحل عن مصدر وزمن ونسبة، وهذا هو الظاهر كما حرره بعض البلاغيين، في بحث الاستعارة التبعية.
فالمصدر إذن كامن في مفهوم الفعل إجماعا. فيتسلط النفي الداخل على الفعل على المصدر الكامن في مفهومه، وهو في المعنى نكرة. إذ ليس له سبب يجعله معرفة، فيؤول إلى معنى النكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم.
فقوله: * (لم تقدروا عليها) * في معنى لا قدرة لكم عليها، وهذا يعم سلب جميع أنواع القدرة. لأن النكرة في سياق النفي تدل على عموم السلب وشموله لجميع
الأفراد الداخلة تحت العنوان. كما هو معروف في محله.
وبهذا تعلم أن جميع أنواع القدرة عليها مسلوب عنهم، ولكن الله جل وعلا أحاط بها فأقدرهم عليها. لما علم من الإيمان والإخلاص في قلوبهم * (وإن جندنا لهم الغالبون) *.
المشكلة الثانية
هي تسليط الكفار على المؤمنين بالقتل والجراح وأنواع الإيذاء مع أن المسلمين على الحق. والكفار على الباطل.
وهذه المشكلة استشكلها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فأفتى الله جل وعلا فيها، وبين السبب في ذلك بفتوى سماوية تتلى في كتابه جل وعلا.
وذلك أنه لما وقع ما وقع بالمسلمين يوم أحد: فقتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن
52

عمته، ومثل بهما، وقتل غيرهما من المهاجرين، وقتل سبعون رجلا من الأنصار، وجرح صلى الله عليه وسلم، وشقت شفته، وكسرت رباعيته، وشج صلى الله عليه وسلم.
استشكل المسلمون ذلك وقالوا: كيف يدال منا المشركون؟ ونحن على الحق وهم على الباطل؟ ا فأنزل الله قوله تعالى: * (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هاذا قل هو من عند أنفسكم) *. وقوله تعالى: * (قل هو من عند أنفسكم) *. فيه إجمال بينه تعالى بقوله: * (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم فى الا مر وعصيتم من بعد مآ أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الا خرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) *.
ففي هذه الفتوى السماوية بيان واضح. لأن سبب تسليط الكفار على المسلمين هو فشل المسلمين، وتنازعهم في الأمر، وعصيانهم أمره صلى الله عليه وسلم، وإرادة بعضهم الدنيا مقدما لها على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أوضحنا هذا في سورة (آل عمران) ومن عرف أصل الداء. عرف الدواء. كما لا يخفى.
المشكلة الثالثة
هي اختلاف القلوب الذي هو أعظم الأسباب في القضاء على كيان الأمة الإسلامية. لاستلزامه الفشل، وذهاب القوة والدولة. كما قال تعالى: * (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) *.
وقد أوضحنا معنى هذه الآية في سورة (الأنفال).
فترى المجتمع الإسلامي اليوم في أقطار الدنيا يضمر بعضهم لبعض العداوة والبغضاء، وإن جامل بعضهم بعضا فإنه لا يخفى على أحد أنها مجاملة، وأن ما تنطوي عليه الضمائر مخالف لذلك.
وقد بين تعالى في سورة (الحشر) أن سبب هذا الداء الذي عمت به البلوى إنما هو ضعف العقل. قال تعالى: * (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) * ثم ذكر العلة لكون قلوبهم شتى بقوله: * (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) *. ولا شك أن داء ضعف العقل الذي يصيبه فيضعفه عن إدراك الحقائق، وتمييز الحق من الباطل، والنافع من الضار، والحسن من القبيح، لا دواء له إلا إنارته بنور الوحي. لأن نور الوحي يحيا به من كان ميتا ويضيء الطريق للمتمسك به. فيريه الحق حقا والباطل باطلا، والنافع نافعا، والضار ضارا. قال تعالى: * (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به فى الناس
53

كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك) *، وقال تعالى: * (الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) * ومن أخرج من الظلمات إلى النور أبصر الحق، لأن ذلك النور يكشف له عن الحقائق فيريه الحق حقا، والباطل باطلا، وقال تعالى: * (أفمن يمشى مكبا على وجهه أهدى أمن يمشى سويا على صراط مستقيم) *، وقال تعالى: * (وما يستوى الا عمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوى الا حيآء ولا الا موات) *، وقال تعالى: * (مثل الفريقين كالا عمى والا صم والبصير والسميع هل يستويان مثلا) *، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الإيمان يكسب الإنسان حياة بدلا من الموت الذي كان فيه، ونورا بدلا من الظلمات التي كان فيها.
وهذا النور عظيم يكشف الحقائق كشفا عظيما. كما قال تعالى: * (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح فى) * إلى قوله زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدى الله لنوره من يشآء ويضرب الله الا مثال للناس والله بكل شىء عليم) * ولما كان تتبع جميع ما تدل عليه هذه الآية الكريمة من هدي القرآن للتي هي أقوم يقتضي تتبع جميع القرآن وجميع السنة لأن العمل بالسنة من هدي القرآن للتي هي أقوم. لقوله تعالى: * () * ولما كان تتبع جميع ما تدل عليه هذه الآية الكريمة من هدي القرآن للتي هي أقوم يقتضي تتبع جميع القرآن وجميع السنة لأن العمل بالسنة من هدي القرآن للتي هي أقوم. لقوله تعالى: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * وكان تتبع جميع ذلك غير ممكن في هذا الكتاب المبارك، اقتصرنا على هذه الجمل التي ذكرنا من هدي القرآن للتي هي أقوم تنبيها بها على غيرها والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ويدع الإنسان بالشر دعآءه بالخير وكان الإنسان عجولا) *. في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير للعلماء. وأحدهما يشهد له قرآن.
وهو أن معنى الآية * (ويدع الإنسان بالشر) * كان يدعو على نفسه أو ولده بالهلاك عند الضجر من أمر. فيقول اللهم أهلكني، أو أهلك ولدي. فيدعو بالشر دعاء لا يحب أن يستجاب له. وقوله * (دعآءه بالخير) * أي يدعو بالشر كما يدعو بالخير فيقول عند الضجر: اللهم أهلك ولدي كما يقول في غير وقت الضجر: اللهم عافه، ونحو ذلك من الدعاء.
ولو استجاب الله دعاءه بالشر لهلك. ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: * (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم) * أي لو عجل لهم الإجابة بالشر كما يعجل لهم الإجابة بالخير لقضي إليهم أجلهم أي لهلكوا
54

وماتوا. فالاستعجال بمعنى التعجيل.
ويدخل في عداء الإنسان بالشر قول النضر بن الحارث العبدري: * (اللهم إن كان هاذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم) *.
وممن فسر الآية الكريمة بما ذكرنا: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وهو أصح التفسيرين لدلالة آية يونس عليه.
الوجه الثاني في تفسير الآية أن الإنسان كما يدعو بالخير فيسأل الله الجنة، والسلامة من النار، ومن عذاب القبر، كذلك قد يدعو بالشر فيسأل الله أن ييسر له الزنى بمعشوقته، أو قتل مسلم هو عدو له ونحو ذلك. ومن هذا القبيل قول ابن جامع: الوجه الثاني في تفسير الآية أن الإنسان كما يدعو بالخير فيسأل الله الجنة، والسلامة من النار، ومن عذاب القبر، كذلك قد يدعو بالشر فيسأل الله أن ييسر له الزنى بمعشوقته، أو قتل مسلم هو عدو له ونحو ذلك. ومن هذا القبيل قول ابن جامع:
* أطوف بالبيت فيمن يطوف
* وأرفع من مئزري المسبل
*
* وأسجد بالليل حتى الصباح
* وأتلو من المحكم المنزل
*
* عسى فارج الهم عن يوسف
* يسخر لي ربة المحمل
* * (وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونآ ءاية اليل وجعلنآ ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شىء فصلناه تفصيلا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل الليل والنهار آيتين. أي علامتين دالتين على أنه الرب المستحق أن يعبد وحده، ولا يشرك معه غيره. وكرر تعالى هذا المعنى في مواضع كثيرة. كقوله تعالى: * (ومن ءاياته اليل والنهار) *، وقوله: * (وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) *، وقوله تعالى: * (إن فى اختلاف اليل والنهار وما خلق الله فى السماوات والا رض لآيات لقوم يتقون) *، وقوله: * (إن فى خلق السماوات والا رض واختلاف اليل والنهار لايات لا ولى الا لباب) *، وقوله: * (إن في خلق السماوات والا رض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس) * إلى قوله * (لآيات لقوم يعقلون) *، وقوله: * (وهو الذى يحاى ويميت وله اختلاف اليل والنهار أفلا تعقلون) *، وقوله: * (وهو الذى جعل اليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) *، وقوله: * (خلق السماوات والا رض بالحق يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لاجل مسمى ألا هو العزيز الغفار) *، وقوله: * (فالق الإصباح وجعل اليل سكنا
55

والشمس والقمر حسبانا ذالك تقدير العزيز العليم) *، وقوله * (والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها واليل إذا يغشاها) *، وقوله * (واليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى) *، وقوله: * (والضحى واليل إذا سجى) *، إلى غير ذلك من الآيات. * (وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونآ ءاية اليل وجعلنآ ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شىء فصلناه تفصيلا * وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا * من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فمحونآ ءاية اليل وجعلنآ ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب) * يعني أنه جعل الليل مظلما مناسبا للهدوء والراحة، والنهار مضيئا مناسبا للحركة والاشتغال بالمعاش في الدنيا. فيسعون في معاشهم في النهار، ويستريحون من تعب العمل بالليل. ولو كان الزمن كله ليلا لصعب عليهم العمل في معاشهم، ولو كان كله نهارا لأهلكهم التعب من دوام العمل.
فكما أن الليل والنهار آيتان من آياته جل وعلا، فهما أيضا نعمتان من نعمه جل وعلا.
وبين هذا المعنى المشار إليه هنا في مواضع أخر، كقوله: * (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم اليل سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بضيآء أفلا تسمعون قل أرءيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *.
فقوله: * (لتسكنوا فيه) * أي في الليل. وقوله: * (ولتبتغوا من فضله) * أي في النهار وقوله: * (وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا اليل لباسا وجعلنا النهار معاشا) *، وقوله: * (وهو الذى جعل لكم اليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا) * وقوله: * (ومن ءاياته منامكم باليل والنهار وابتغآؤكم من فضله) *، وقوله: * (وهو الذى يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ولتعلموا عدد السنين والحساب) * بين فيه نعمة أخرى على خلقه، وهي معرفتهم عدد السنين والحساب. لأنهم باختلاف
56

الليل والنهار يعلمون عدد الأيام والشهور والأعوام، ويعرفون بذلك يوم الجمعة ليصلوا فيه صلاة الجمعة، ويعرفون شهر الصوم، وأشهر الحج، ويعلمون مضي أشهر العدة لمن تعتد بالأشهر المشار إليها في قوله: * (واللائى يئسن من المحيض من نسآئكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللاتي لم يحضن) *، وقوله: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) *. ويعرفون مضي الآجال المضروبة للديون والإجارات، ونحو ذلك.
وبين جل وعلا هذه الحكمة في مواضع أخر، كقوله: * (هو الذى جعل الشمس ضيآء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذالك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) *. وقوله جل وعلا: * (يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: * (فمحونآ ءاية اليل وجعلنآ ءاية النهار مبصرة) * فيه وجهان من التفسير للعلماء:
أحدهما أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير: وجعلنا نيرى الليل والنهار، أي الشمس والقمر آيتين.
وعلى هذا القول فآية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس. والمحو الطمس. وعلى هذا القول فمحو آية الليل قيل معناه السواد الذي في القمر. وبهذا قال علي رضي الله عنه، ومجاهد، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقيل: معنى * (فمحونآ ءاية اليل) * أي لم نجعل في القمر شعاعا كشعاع الشمس ترى به الأشياء رؤية بينة. فنقص نور القمر عن نور الشمس هو معنى الطمس على هذا القول.
وهذا أظهر عندي لمقابلته تعالى له بقوله: * (وجعلنآ ءاية النهار مبصرة) * والقول بأن معنى محو آية الليل: السواد الذي في القمر ليس بظاهر عندي وإن قال به بعض الصحابة الكرام، وبعض أجلاء أهل العلما
وقوله: * (وجعلنآ ءاية النهار) * على التفسير المذكور أي الشمس * (مبصرة) * أي ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء على حقيقته.
قال الكسائي: هو من قول العرب: أبصر النهار: إذا أضاء وصار بحالة يبصر
57

بها نقله عنه القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا التفسير من قبيل قولهم: نهاره صائم، وليله قائم. ومنه قوله: قال مقيده عفا الله عنه: هذا التفسير من قبيل قولهم: نهاره صائم، وليله قائم. ومنه قوله:
* لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى
* ونمت وما ليل المحب بنائم
*
وغاية ما في الوجه المذكور من التفسير: حذف مضاف، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب إن دلت عليه قرينة. قال في الخلاصة: وغاية ما في الوجه المذكور من التفسير: حذف مضاف، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب إن دلت عليه قرينة. قال في الخلاصة:
* وما يلي المضاف يأتي خلفا
* عنه في الإعراب إذا ما حذفا
*
والقرينة في الآية الكريمة الدالة على المضاف المحذوف قوله: * (فمحونآ ءاية اليل وجعلنآ ءاية النهار مبصرة) * فإضافة الآية إلى الليل والنهار دليل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما أنفسهما. وحذف المضاف كثيرة في القرآن كقوله: * (واسئل القرية التى كنا فيها والعير التى أقبلنا فيها) *، وقوله: * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الا خ وبنات الا خت) * أي نكاحها، وقوله: * (حرمت عليكم الميتة) * أي أكلها، ونحو ذلك.
وعلى القول بتقدير المضاف، وأن المراد بالآيتين الشمس والقمر فالآيات الموضحة لكون الشمس والقمر آيتين تقدمت موضحة في سورة النحل.
الوجه الثاني من التفسير أن الآية الكريمة ليس فيها مضاف محذوف، وأن المراد بالآيتين نفس الليل والنهار، لا الشمس والقمر.
وعلى هذا القول فإضافة الآية إلى الليل والنهار من إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظ، تنزيلا لاختلاف اللفظ منزلة الاختلاف في المعنى. وإضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظ كثيرة في القرآن وفي كلام العرب. فمنه في القرآن قوله تعالى: * (شهر رمضان) *، ورمضان هو نفس الشهر بعينه على التحقيق، وقوله: * (ولدار الا خرة) *، والدار هي الآخرة بعينها. بدليل قوله في موضع آخر: * (وللدار الا خرة) * بالتعريف، والآخرة نعت للدار. وقوله: * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * والحبل هو الوريد، وقوله: * (ومكر السيىء) *، والمكر هو السيء بدليل قوله * (ولا يحيق المكر السيىء
58

إلا بأهله) *.
ومن أمثلته في كلام العرب قول امرئ القيس: ومن أمثلته في كلام العرب قول امرئ القيس:
* كبكر المقاناة البياض بصفرة
* غذاها نمير الماء غير المحلل
*
لأن المقاناة هي البكر بعينها، وقول عنترة في معلقته: لأن المقاناة هي البكر بعينها، وقول عنترة في معلقته:
* ومشك سابغة هتكت فروجها
* بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
*
لأن مراده بالمشك: السابغة بعينها. بدليل قوله: هتكت فزوجها. لأن الضمير عائد إلى السابغة التي عبر عنها بالمشك.
وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة فاطر. وبينا أن الذي يظهر لنا: أن إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف لفظ المضاف والمضاف إليه أسلوب من أساليب اللغة العربية. لأن تغاير اللفظين ربما نزل منزلة التغاير المعنوي. لكثرة الإضافة المذكورة في القرآن وفي كلام العرب. وجزم بذلك ابن جرير في بعض مواضعه في القرآن. وعليه فلا حاجة إلى التأويل المشار إليه بقوله في الخلاصة: وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة فاطر. وبينا أن الذي يظهر لنا: أن إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف لفظ المضاف والمضاف إليه أسلوب من أساليب اللغة العربية. لأن تغاير اللفظين ربما نزل منزلة التغاير المعنوي. لكثرة الإضافة المذكورة في القرآن وفي كلام العرب. وجزم بذلك ابن جرير في بعض مواضعه في القرآن. وعليه فلا حاجة إلى التأويل المشار إليه بقوله في الخلاصة:
* ولا يضاف اسم لما به اتحد
* معنى وأول موهما إذا ورد
*
ومما يدل على ضعف التأويل المذكور قوله: ومما يدل على ضعف التأويل المذكور قوله:
* وإن يكونا مفردين فأضف
* حتما وإلا أتبع الذي ردف
*
لأن إيجاب إضافة العلم إلى اللقب مع اتحادهما في المعنى إن كانا مفردين المستلزم للتأويل، ومنع الاتباع الذي لا يحتاج إلى تأويل دليل على أن ذلك من أساليب اللغة العربية، ولو لم يكن من أساليبها لوجب تقديم ما لا يحتاج إلى تأويل على المحتاج إلى تأويل كما ترى. وعلى هذا الوجه من التفسير فالمعنى: فمحونا الآية التي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسه، مظلما لا تستبان فيه الأشياء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو. وجعلنا النهار مبصرا. أي تبصر فيه الأشياء وتستبان.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (وكل شىء فصلناه تفصيلا) * تقدم إيضاحه، والآيات الدالة عليه في سورة (النحل) في الكلام على قوله تعالى: * (ونزلنا
59

عليك الكتاب تبيانا لكل شىء) *. قوله تعالى: * (وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *. في قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة * (وكل إنسان ألزمناه طائره) * وجهان معروفان من التفسير:
الأول أن المراد بالطائر: العمل، من قولهم: طار له سهم إذا خرج له. أي ألزمناه ما طار له من عمله.
الثاني أن المراد بالطائر ما سبق له في علم الله من شقاوة أو سعادة. والقولان متلازمان. لأن ما يطير له من العمل هو سبب ما يؤول إليه من الشقاوة أو السعادة.
فإذا عرفت الوجهين المذكورين فاعلم أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية قد يكون فيها للعلماء قولان أو أقوال، وكلها حق، ويشهد له قرآن فنذكر جميع الأقوال وأدلتها من القرآن. لأنها كلها حق، والوجهان المذكوران في تفسير هذه الآية الكريمة كلاهما يشهد له قرآن.
أما على القول الأول بأم المراد بطائره عمله فالآيات الدالة على أن عمل الإنسان لازم له كثيرة جدا. كقوله تعالى: * (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) *، وقوله * (إنما تجزون ما كنتم تعملون) *، وقوله تعالى: * (ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) *، وقوله: * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أسآء فعليها) *، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا.
وأما على القول بأن المراد بطائره نصيبه الذي طار له في الأزل من الشقاوة أو السعادة فالآيات الدالة على ذلك أيضا كثيرة، كقوله: * (هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) *، وقوله: * (ولذالك خلقهم) * أي للاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم. وقوله: * (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) *، وقوله: * (فريق فى الجنة وفريق فى السعير) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فى عنقه) * أي جعلنا عمله أو ما سبق له من شقاوة في عنقه. أي لازما له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه. ومنه قول العرب: تقلدها طوق الحمامة. وقولهم: الموت في الرقاب. وهذا الأمر ربقة في رقبته
60

. ومنه قول الشاعر: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فى عنقه) * أي جعلنا عمله أو ما سبق له من شقاوة في عنقه. أي لازما له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك
عنه. ومنه قول العرب: تقلدها طوق الحمامة. وقولهم: الموت في الرقاب. وهذا الأمر ربقة في رقبته. ومنه قول الشاعر:
* اذهب بها اذهب بها
* طوقتها طوق الحمامة
*
فالمعنى في ذلك كله: اللزوم وعدم الانفكاك. وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) * ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ذلك العمل الذي ألزم الإنسان إياه يخرجه له يوم القيامة مكتوبا في كتاب يلقاه منشورا، أي مفتوحا يقرؤه هو وغيره.
وبين أشياء من صفات هذا الكتاب الذي يلقاه منشورا في آيات أخر. فبين أن من صفاته: أن المجرمين مشفقون أي خائفون مما فيه، وأنه لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنهم يجدون فيه جميع ما عملوا حاضرا ليس منه شيء غائبا، وأن الله جل وعلا لا يظلمهم في الجزاء عليه شيئا. وذلك في قوله جل وعلا: * (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) *.
وبين في موضع آخر: أن بعض الناس يؤتى هذا الكتاب بيمينه جعلنا الله وإخواننا المسلمين منهم. وأن من أوتيه بيمينه يحاسب حسابا يسيرا، ويرجع إلى أهله مسرورا، وأنه في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية. قال تعالى: * (فأما من أوتى كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا) *، وقال تعالى: * (فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هآؤم اقرؤا كتابيه إنى ظننت أنى ملاق حسابيه فهو فى عيشة راضية فى جنة عالية قطوفها دانية) *.
وبين في موضع آخر: أن من أوتيه بشماله يتمنى أنه لم يؤته، وأنه يؤمر به فيصلى الجحيم، ويسلك في سلسلة من سلاسل النار ذرعها سبعون ذراعا. وذلك في قوله: * (وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول ياليتنى لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه ياأيها الذين ءامنوا مآ أغنى عنى ماليه هلك عنى سلطانيه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه) *
61

أعذانا الله وإخواننا المسلمين من النار، ومما قرب إليها من قول وعمل.
وبين في موضع آخر: أن من أوتي كتابه وراء ظهره يصلى السعير، ويدعو الثبور. وذلك في قوله: * (وأما من أوتى كتابه ورآء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا) *، وقوله تعالى: * (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * يعني أن نفسه تعلم أنه لم يظلم، ولم يكتب عليه إلا ما عمل. لأنه في ذلك الوقت يتذكر كل ما عمل في الدنيا من أول عمره إلى آخره. كما قال تعالى: * (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) *.
وقد بين تعالى في مواضع أخر: أنه إن أنكر شيئا من عمله شهدت عليه جوارحه. كقوله تعالى: * (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) *، وقوله: * (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولاكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذى ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين) *، وقوله جل وعلا * (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره) *، وسيأتي إن شاء الله لهذا زيادة إيضاح في سورة القيامة.
تنبيه
لفظة (كفى) تستعمل في القرآن واللغة العربية استعمالين:
تستعمل متعدية، وهي تتعدى غالبا إلى مفعولين، وفاعل هذه المتعدية لا يجر بالباء. كقوله: * (وكفى الله المؤمنين القتال) *، وكقوله: * (أليس الله بكاف عبده) *، وقوله: * (فسيكفيكهم الله) *، ونحو ذلك من الآيات.
وتستعمل لازمة، ويطر، جر فاعلها بالباء المزيدة لتوكيد الكفاية. كقوله في هذه الآية الكريمة * (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *، وقوله تعالى: * (وكفى بالله وكيلا) *، وقوله: * (وكفى بالله حسيبا) * ونحو ذلك.
ويكثر إتيان التمييز بعد فاعلها المجرور بالباء. وزعم بعض علماء العربية: أن
62

جر فاعلها بالباء لازم. والحق أنه يجوز عدم جره بها، ومنه قول الشاعر: ويكثر إتيان التمييز بعد فاعلها المجرور بالباء. وزعم بعض علماء العربية: أن جر فاعلها بالباء لازم. والحق أنه يجوز عدم جره بها، ومنه قول الشاعر:
* عميرة ودع إن تجهزت غاديا
* كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* ويخبرني عن غائب المرء هديه
* كفى الهدى عما غيب المرء مخبرا
*
وعلى قراءة من قرأ * (يلقاه) * بضم الياء وتشديد القاف مبنيا للمفعول فالمعنى: أن الله يلقيه ذلك الكتاب يوم القيامة. فحذف الفاعل فبني الفعل للمفعول.
وقراءة من قرأ * (يخرج) * بفتح الياء وضم الراء مضارع خرج مبنيا للفاعل فالفاعل ضمير يعود إلى الطائر بمعنى العمل وقوله * (كتابا) * حال من ضمير الفاعل. أي ويوم القيامة يخرج هو أي العمل المعبر عنه بالطائر في حال كونه كتابا يلقاه منشورا. وكذلك على قراءة * (يخرج) * بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول، فالمضير النائب عن الفاعل راجع أيضا إلى الطائر الذي هو العمل. أي يخرج له هو أي طائره بمعنى عمله، في حال كونه كتابا.
وعلى قراءة (يخرج) بضم الياء وكسر الراء مبنيا للفاعل، فالفاعل ضمير يعود إلى الله تعالى، وقوله * (كتابا) * مفعول به. أي ويوم القيامة يخرج هو أي الله له كتابا يلقاه منشورا.
وعلى قراءة الجمهور منهم السبعة فالنون في * (نخرج) * نون العظمة لمطابقة قوله * (ألزمناه) * و * (كتابا) * مفعول به لنخرج كما هو واضح. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى * (من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من اهتدى فعمل بما يرضي الله جل وعلا، أن اهتداءه ذلك إنما هو لنفسه لأنه هو الذي ترجع إليه فائدة ذلك الاهتداء، وثمرته في الدنيا والآخرة. وأن من ضل عن طريق الصواب فعمل بما يسخط ربه جل وعلا، أن ضلاله ذلك إنما هو على نفسه. لأنه هو الذي يجني ثمرة عواقبه السيئة الوخيمة، فيخلد به في النار.
وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة. كقوله: * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أسآء فعليها) *، وقوله: * (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون) *، وقوله: * (قد جآءكم بصآئر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها ومآ أنا عليكم بحفيظ) *، وقوله: * (ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن
63

ضل فإنما يضل عليها ومآ أنا عليكم بوكيل) *. والآيات بمثل هذا كثيرة جدا. وقد قدمنا طرفا منها في سورة (النحل). قوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لا تحمل نفس ذنب أخرى. بل لا تحمل نفس إلا ذنبها. فقوله * (ولا تزر) * أي لا تحمل، من وزريزر إذا حمل. ومنه سمي وزير السلطان، لأنه يحمل أعباء تدبير شؤون الدولة. والوزر: الإثم. يقال: وزر يزر وزرا، إذا أثم. والوزر أيضا: الثقل المثقل، أي لا تحمل نفس وازرة أي آثمة وزر نفس أخرى. أي إثمها، أو حملها الثقيل. بل لا تحمل إلا وزر نفسها.
وهذا المعنى جاء في آيات أخر. كقوله: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شىء ولو كان ذا قربى) *، وقوله: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم) *، وقوله: * (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في سورة (النحل) بإيضاح: أن هذه الآيات لا يعارضها قوله تعالى: * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) *، ولا قوله: * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) *. لأن المراد بذلك أنهم حملوا أوزار ضلالهم في أنفسهم، وأوزار إضلالهم غيرهم. لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا كما تقدم مستوفى.
تنبيه
يرد على هذه الآية الكريمة سؤالان:
الأول ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما من (أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) فيقال: ما وجه تعذيبه ببكاء غيره. إذ مؤاخذته ببكاء غيره قد يظن من لا يعلم أنها من أخذ الإنسان بذنب غيره؟
السؤال الثاني إيجاب دية الخطأ على العاقلة. فيقال: ما وجه إلزام العاقلة الدية
64

بجناية إنسان آخر؟.
والجواب عن الأول هو أن العلماء حملوه على أحد أمرين:
الأول أن يكون الميت أوصى بالنوح عليه. كما قال طرفة بن العبد في معلقته: الأول أن يكون الميت أوصى بالنوح عليه. كما قال طرفة بن العبد في معلقته:
* إذا مت فانعيني بما أنا أهله
* وشقى على الجيب يابنة معبد
*
لأنه إذا كان أوصى بأن يناح عليه: فتعذيبه بسبب إيصائه بالمنكر. وذلك من فعله لا فعل غيره.
الثاني أن يهمل نهيهم عن النوح عليه قبل موته مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه. لأن إهماله نهيهم تفريط منه، ومخالفة لقوله تعالى: * (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) * فتعذيبه إذا بسبب تفريطه، وتركه ما أمر الله به من قوله: * (مقتكم أنفسكم) * الآية وهذا ظاهر كما ترى.
وعن الثاني بأن إيجاب الدية على العاقلة ليس من تحميلهم وزر القاتل، ولكنها مواساة محضة أوجبها الله على عاقلة الجاني. لأن الجاني لم يقصد سوءا، ولا إثم عليه البتة فأوجب الله في جنايته خطأ الدية بخطاب الوضع، وأوجب المواساة فيها على العاقلة. ولا إشكال في إيجاب الله على بعض خلقه مواساة بعض خلقه. كما أوجب أخذ الزكاة من مال الأغنياء وردها إلى الفقراء. واعتقد من أوجب الدية على أهل ديوان القاتل خطأ كأبي حنيفة وغيره أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل الديوان.
ويؤيد هذا القول ما ذكره القرطبي في تفسيره قال: (وأجمع أهل السير والعلم: أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام. وكانوا يتعاقلون بالنصرة ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك. حتى جعل عمر الديوان. واتفق الفقهاء على رواية ذلك والقول به. وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زمن أبي بكر ديوان، وأن عمر جعل الديوان، وجمع بين الناس، وجعل أهل كل ناحية يدا، وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو. انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى. قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *. ظاهر هذه الآية الكريمة: أن الله جل وعلا لا يعذب أحدا من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة. حتى يبعث إليه رسولا ينذره ويحذره فيعصى ذلك الرسول، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: * (رسلا مبشرين
65

ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * فصرح في هذه الآية الكريمة: بأن لا بد أن يقطع حجة كل أحد بإرسال الرسل، مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم النار.
وهذه الحجة التي أوضح هنا قطعها بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين. بينها في آخر سورة طه بقوله * (ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك من قبل أن نذل ونخزى) *.
وأشار لها في سورة القصص بقوله: * (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك ونكون من المؤمنين) *، وقوله جل وعلا: * (ذالك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) *، وقوله: * (يأهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير) *، وكقوله: * (وهاذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنمآ أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنآ أنزل علينا الكتاب لكنآ أهدى منهم فقد جآءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة) *، إلى غير ذلك من الآيات.
ويوضح ما دلت عليه هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم من أن الله جل وعلا لا يعذب أحدا إلا بعد الإنذار والإعذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام تصريحه جل وعلا في آيات كثيرة: (بأن لم يدخل أحدا النار إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل. فمن ذلك قوله جل وعلا: * (كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتهآ ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جآءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شىء) *.
ومعلوم أن قوله جل وعلا: * (كلما ألقى فيها فوج) * يعم جميع الأفواج الملقين في النار.
قال أبو حيان في (البحر المحيط) في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها ما نصه: (وكلما) تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين. ومن ذلك قوله جل وعلا: * (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم ءايات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هاذا قالوا
66

بلى ولاكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) *، وقوله في هذه الآية: * (وسيق الذين كفروا) * عام لجميع الكفار.
وقد تقرر في الأصول: أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم. لعمومها في كل ما تشمله صلاتها، وعقده في مراقي السعود بقوله في صيغ العموم: وقد تقرر في الأصول: أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم. لعمومها في كل ما تشمله صلاتها، وعقده في مراقي السعود بقوله في صيغ العموم:
* صيغة كل أو الجميع
* وقد تلا الذي التي الفروع
*
ومراده بالبيت: أن لفظة (كل، وجميع، والذي، والتي) وفروعهما كل ذلك من صيغ العموم. فقوله تعالى: * (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا) * إلى قوله * (يومكم هاذا) * عام في جميع الكفار. وهو ظاهر في أن جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا. فعصوا أمر ربهم كما هو واضح.
ونظيره أيضا قوله تعالى: * (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنآ أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجآءكم النذير) *. فقوله * (وسيق الذين كفروا إلى جهنم) * إلى قوله * (النذير فذوقوا) * عام أيضا في جميع أهل النار. كما تقدم إيضاحه قريبا.
ونظير ذلك قوله تعالى: * (وقال الذين فى النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا فى ضلال) *، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن جميع أهل النار أنذرتهم الرسل في دار الدنيا.
وهذه الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تدل على عذر أهل الفترة بأنهم لم يأتهم نذير ولو ماتوا على الكفر. وبهذا قالت جماعة من أهل العلم.
وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم إلى أن كل من مات على الكفر فهو في النار ولو لم يأته نذير، واستدلوا بظواهر آيات من كتاب الله، وبأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. فمن الآيات التي استدلوا بها قوله تعالى: * (ولا الذين يموتون وهم كفار أولائك أعتدنا لهم عذابا أليما) *، وقوله: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولائك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) *، وقوله: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من
67

أحدهم ملء الا رض ذهبا ولو افتدى به أولائك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين) *، وقوله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء) *، وقوله: * (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السمآء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق) *، وقوله * (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) *،
وقوله: * (قالوا إن الله حرمهما على الكافرين) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وظاهر جميع هذه الآيات العموم. لأنها لم تخصص كافرا دون كافر، بل ظاهرها شمول جميع الكفار.
ومن الأحاديث الدالة على أن الكفار لا يعذرون في كفرهم بالفترة ما أخرجه مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أن رجلا قال: يا رسول الله، أين أبي؟. قال: (في النار) فلما قفى دعاه فقال: (إن أبي وأباك في النار) اه وقال مسلم رحمه الله في صحيحه أيضا: حدثنا يحيى بن أيوب، ومحمد بن عباد واللفظ ليحيى قالا: حدثنا مروان بن معاوية، عن يزيد يعني ابن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب قالا: حدثنا محمد بن عبيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله. فقال: (استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت) اه إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على عدم عذر المشركين بالفترة.
وهذا الخلاف مشهور بين أهل الأصول هل المشركون الذين ماتوا في الفترة وهم يعبدون الأوثان في النار لكفرهم. أو معذورون بالفترة؟ وعقده في (مراقي السعود) بقوله: وهذا الخلاف مشهور بين أهل الأصول هل المشركون الذين ماتوا في الفترة وهم يعبدون الأوثان في النار لكفرهم. أو معذورون بالفترة؟ وعقده في (مراقي السعود) بقوله:
* ذو فترة بالفرع لا يراع
* وفي الأصول بينهم نزاع
*
وممن ذهب إلى أن أهل الفترة الذين ماتوا على الكفر في النار: النووي في شرح مسلم، وحكى عليه القرافي في شرح التنقيح الإجماع. كما نقله عنه صاحب (نشر البنود).
وأجاب أهل هذا القول عن قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * من أربعة أوجه:
الأول أن التعذيب المنفى في قوله * (وما كنا معذبين) *، وأمثالها من
68

الآيات. إنما هو التعذيب الدنيوي. كما وقع في الدنيا من العذاب بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقوم موسى وأمثالهم. وإذا فلا ينافي ذلك التعذيب في الآخرة.
ونسب هذا القول القرطبي، وأبو حيان، والشوكاني وغيرهم في تفاسيرهم إلى الجمهور.
والوجه الثاني أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله: * (وما كنا معذبين) * وأمثالها في غير الواضح الذي لا يخفى على أدنى عاقل. أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل كعبادة الأوثان فلا يعذر فيه أحد. لأن الكفار يقرون بأن الله هو ربهم، الخالق الرازق، النافع، الضار. ويتحققون كل التحقق أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر. كما قال عن قوم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: * (لقد علمت ما هاؤلاء ينطقون) * وكما جاءت الآيات القرآنية بكثرة بأنهم وقت الشدائد يخلصون الدعاء لله وحده. لعلمهم أن غيره لا ينفع ولا يضر. كقوله * (فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) *، وقوله: * (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) *، وقوله: * (وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه) *، إلى غير ذلك من الآيات. ولكن الكفار غالطوا أنفسهم لشدة تعصبهم لأوثانهم فزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى، وأنها شفعاؤهم عند الله. مع أن العقل يقطع بنفي ذلك.
الوجه الثالث أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبل نبينا صلى الله عليه وسلم. كإبراهيم وغيره. وأن الحجة قائمة عليهم بذلك. وجزم بهذا النووي في شرح مسلم، ومال إليه العبادي في (الآيات البينات).
الوجه الرابع ما جاء من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، الدالة على أن بعض أهل الفترة في النار. كما قدمنا بعض الأحاديث الواردة بذلك في صحيح مسلم وغيره.
وأجاب القائلون بعذرهم بالفترة عن هذه الأوجه الأربعة فأجابوا عن الوجه الأول، وهو كون التعذيب في قوله: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * إنما هو التعذيب الدنيوي دون الأخروي من وجهين:
الأول أنه خلاف ظاهر القرآن. لأن ظاهر القرآن انتفاء التعذيب مطلقا، فهو أعم
69

من كونه في الدنيا. وصرف القرآن عن ظاهره ممنوع إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
الوجه الثاني أن القرآن دل في آيات كثيرة على شمول التعذيب المنفي في الآية للتعذيب في الآخرة. كقوله: * (كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتهآ ألم يأتكم نذير قالوا بلى) * وهو دليل على أن جميع أفواج أهل النار ما عذبوا في الآخرة إلا بعد إنذار الرسل. كما تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية.
وأجابوا عن الوجه الثاني وهو أن محل العذر بالفترة في غير الواضح الذي لا يخفى على أحد بنفس الجوابين المذكورين آنفا. لأن الفرق بين الواضح وغيره مخالف
لظاهر القرآن، فلا بد له من دليل يجب الرجوع إليه، ولأن الله نص على أن أهل النار ما عذبوا بها حتى كذبوا الرسل في دار الدنيا، بعد إنذارهم من ذلك الكفر الواضح، كما تقدم إيضاحه.
وأجابوا عن الوجه الثالث الذي جزم به النووي، ومال إليه العبادي وهو قيام الحجة عليهم بإنذار الرسل الذين أرسلوا قبله صلى الله عليه وسلم بأنه قول باطل بلا شك. لكثرة الآيات القرآنية المصرحة ببطلانه، لأن مقتضاه أنهم أنذروا على ألسنة بعض الرسل والقرآن ينفي هذا نفيا باتا في آيات كثيرة. كقوله في (يس): * (لتنذر قوما مآ أنذر ءابآؤهم فهم غافلون) * و (ما) في قوله * (مآ أنذر ءابآؤهم) * نافية على التحقيق، لا موصولة، وتدل لذلك الفاء في قوله * (فهم غافلون) *، وكقوله في (القصص): * (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولاكن رحمة من ربك لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك) *، وكقوله في (سبأ) * (ومآ ءاتيناهم من كتب يدرسونها ومآ أرسلنا إليهم قبلك من نذير) *، وكقوله في (ألم السجدة): * (أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وأجابوا عن الوجه الرابع بأن تلك الأحاديث الواردة في صحيح مسلم وغيره أخبار آحاد يقدم عليها القاطع، وهو قوله: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *، وقوله: * (كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتهآ ألم يأتكم نذير قالوا بلى) *، ونحو ذلك من الآيات.
وأجاب القائلون بالعذر بالفترة أيضا عن الآيات التي استدل بها مخالفوهم كقوله: * (ولا الذين يموتون وهم كفار أولائك أعتدنا لهم عذابا أليما) *، إلى آخر ما تقدم
70

من الآيات بأن محل ذلك فيما إذا أرسلت إليهم الرسل فكذبوهم بدليل قوله: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *. وأجاب القائلون بتعذيب عبده الأوثان من أهل الفترة عن قول مخالفيهم: إن القاطع الذي هو قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * يجب تقديمه على أخبار الآحاد الدالة على تعذيب بعض أهل الفترة، كحديثي مسلم في صحيحه المتقدمين بأن الآية عامة، والحديثين كلاهما خاص في شخص معين. والمعروف في الأصول أنه لا يتعارض عام وخاص. لأن الخاص يقضي على العام كما هو مذهب الجمهور، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله، كما بيناه في غير هذا الموضع.
فما أخرجه دليل خاص خرج من العموم، وما لم يخرجه دليل خاص بقي داخلا في العموم. كما تقرر في الأصول.
وأجاب المانعون بأن هذا التخصيص يبطل حكمة العام. لأن الله جل وعلا تمدح بكمال الإنصاف. وأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل في دار الدنيا، وأشار لأن ذلك الإنصاف الكامل، والإعذار الذي هو قطع العذر علة لعدم التعذيب. فلو عذب إنسانا واحدا من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة التي تمدح الله بها، ولثبتت لذلك الإنسان الحجة التي أرسل الله الرسل لقطعها. كما بينه بقوله: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *، وقوله: * (ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك من قبل أن نذل ونخزى) * كما تقدم إيضاحه.
وأجاب المخالفون عن هذا بأنه لو سلم أن عدم الإنذار في دار الدنيا علة لعدم التعذيب في الآخرة، وحصلت علة الحكم التي هي عدم الإنذار في الدنيا، مع فقد الحكم الذي هو عدم التعذيب في الآخرة للنص في الأحاديث على التعذيب فيها. فإن وجود علة الحكم مع فقد الحكم المسمى في اصطلاح أهل الأصول. ب (النقض) تخصيص للعلة، بمعنى أنه قصر لها على بعض أفراد معلولها بدليل خارج كتخصيص العام. أي قصره على بعض أفراده بدليل. والخلاف في النقض هل هو إبطال للعلة، أو تخصيص لها معروف في الأصول، وعقد الأقول في ذلك صاحب (مراقي السعود) بقوله في مبحث القوادح: وأجاب المخالفون عن هذا بأنه لو سلم أن عدم الإنذار في دار الدنيا علة لعدم التعذيب في الآخرة، وحصلت علة الحكم التي هي عدم الإنذار في الدنيا، مع فقد الحكم الذي هو عدم التعذيب في الآخرة للنص في الأحاديث على التعذيب فيها. فإن وجود علة الحكم مع فقد الحكم المسمى في اصطلاح أهل الأصول. ب (النقض) تخصيص للعلة، بمعنى أنه قصر لها على بعض أفراد معلولها بدليل خارج كتخصيص العام. أي قصره على بعض أفراده بدليل. والخلاف في النقض هل هو إبطال للعلة، أو تخصيص لها معروف في الأصول، وعقد الأقول في ذلك صاحب (مراقي السعود) بقوله في مبحث القوادح:
* منها وجود الوصف دون الحكم
* سماه بالنقض وعاة العلم
*
71

* والأكثرون عندهم لا يقدح
* بل هو تخصيص وذا مصحح
*
* وقد روي عن مالك تخصيص
* إن يك الاستنباط لا التنصيص
*
* وعكس هذا قد رآه البعض
* ومنتقى ذي الاختصار النقض
*
* إن لم تكن منصوصة بظاهر
* وليس فيما استنبطت بضائر
*
* إن جا لفقد الشرط أو لما منع
* والوفق في مثل العرايا قد وقع
*
فقد أشار في الأبيات إلى خمسة أقوال في النقض: هل هو تخصيص، أو إبطال للعلة، مع التفاصيل التي ذكرها في الأقوال المذكورة.
واختار بعض المحققين من أهل الأصول: أن تخلف الحكم عن الوصف إن كان لأجل مانع منع من تأثير العلة، أو لفقد شرط تأثيرها فهو تخصيص للعلة، وإلا فهو نقض وإبطال لها. فالقتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص إجماعا.
فإذا وجد هذا الوصف المركب الذي هو القتل العمد العدوان، ولم يوجد الحكم الذي هو القصاص في قتل الوالد ولده لكون الأبوة مانعا من تأثير العلة في الحكم فلا يقال هذه العلة منقوضة. لتخلف الحكم عنها في هذه الصورة، بل هي علة منع من تأثيرها مانع. فيخصص تأثيرها بما لم يمنع منه مانع.
وكذلك من زوج أمته من رجل، وغره فزعم له أنها حرة فولد منها. فإن الولد يكون حرا، مع أن رق الأم علة لرق الولد إجماعا. لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها. لأن الغرور مانع منع من تأثير العلة التي هي رق الأم في الحكم الذي هو رق الولد.
وكذلك الزنى: فإنه علم للرجم إجماعا.
فإذا تخلف شرط تأثير هذه العلة التي هي الزنى في هذا الحكم الذي هي الرجم، ونعني بذلك الشرط الإحصان. فلا يقال إنها علة منقوضة، بل هي علة تخلف شرط تأثيرها. وأمثال هذا كثيرة جدا. هكذا قاله بعض المحققين.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر: أن آية (الحشر) دليل على أن النقض تخصيص للعلة مطلقا، والله تعالى أعلم. ونعني بآية (الحشر) قوله تعالى في بني النضير: * (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا ولهم فى الا خرة عذاب النار) *.
72

ثم بين جل وعلا علة هذا العقاب بقوله: * (ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله) *. وقد يوجد بعض من شاق الله ورسوله، ولم يعذب بمثل العذاب الذي عذب به بنو النضير، مع الاشتراك في العلة التي هي مشاقة الله ورسوله.
فدل ذلك على أن تخلف الحكم عن العلة في بعض الصور تخصيص للعلة لا نقض لها. والعلم عند الله تعالى.
أما مثل بيع التمر اليابس بالرطب في مسألة بيع العرايا فهو تخصيص للعلة إجماعا لا نقض لها. كما أشار له في الأبيات بقوله: * والوفق في مثل العرايا قد وقع
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة التي هي: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا؟ هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها. فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا. ومن امتنع دخل النار وعذب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا. لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل.
وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق في هذه المسألة لأمرين:
الأول أن هذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبوته عنه نص في محل النزاع. فلا وجه للنزاع البتة مع ذلك.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها، بعد أن ساق الأحاديث الكثيرة الدالة على عذرهم بالفترة وامتحانهم يوم القيامة، رادا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم، بأن الآخرة دار جزاء لا عمل، وأن التكليف بدخول النار تكليف بما لا يطاق وهو لا يمكن ما نصه:
والجواب عما قال: أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضيف يتقوى بالصحيح والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط، أفادت الحجة عند الناظر فيها. وأما قوله: إن الدار الآخرة دار جزاء، فلا شك أنها دار جزاء، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار. كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال، وقد قال تعالى: * (يوم يكشف عن ساق
73

ويدعون إلى السجود) *.
وقد ثبت في الصحاح وغيرها: (أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك، ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقا واحدا، كلما أراد السجود خر لقفاه). وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجا منها: (أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك منه، ويقول الله تعالى: يا بن آدم، ما أعذركا ثم يأذن له في دخول الجنة) وأما قوله: فكيف يكلفهم الله دخول النار، وليس ذلك في وسعهم؟ فليس هذا بمانع من صحة الحديث. (فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط وهو جسر على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعر، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم، كالبرق، وكالريح،
وكأجاويد الخيل والركاب. ومنهم الساعي، ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبوا، ومنهم المكدوس على وجهه في النار) وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا، بل هذا أطم وأعظما
وأيضا فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه بردا وسلاما. فهذا نظير ذلك.
وأيضا فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم. فقتل بعضهم بعضا حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفا، يقتل الرجل أباه وأخاه، وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم. وذلك عقوبة لهم على عبادة العجل. وهذا أيضا شاق على النفوس جدا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور. والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير بلفظه.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى أيضا قبل هذا الكلام بقليل ما نصه:
ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في عرصات المحشر. فمن أطاع دخل الجنة، وانكشف علم الله فيه بسابق السعادة. ومن عصى دخل النار داخرا، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة.
وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة، الشاهد بعضها لبعض.
وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب (الاعتقاد) وكذلك غيره
74

من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو واضح جدا فيما ذكرنا.
الأمر الثاني أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف. لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول بالعذر والامتحان. فمن دخل النار فهو الذي لم يمتثل ما أمر به عند ذلك الامتحان، ويتفق بذلك جميع الأدلة، والعلم عند الله تعالى.
ولا يخفى أن مثل قول ابن عبد البر رحمه الله تعالى: إن الآخرة دار جزاء لا دار عمل لا يصح أن ترد به النصوص الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. كما أوضحناه في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب). * (وإذآ أردنآ أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا * وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا * من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشآء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الا خرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولائك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هاؤلاء وهاؤلاء من عطآء ربك وما كان عطآء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللا خرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا * لا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا * وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا * ربكم أعلم بما فى نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للا وابين غفورا * وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا) * قوله تعالى: * (وإذآ أردنآ أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) *. في معنى قوله * (أمرنا مترفيها) * في هذه الآية الكريمة ثلاثة مذاهب معروفة عند علماء التفسير:
الأول وهو الصواب الذي يشهد له القرآن، وعليه جمهور العلماء أن الأمر في قوله * (أمرنا) * هو الأمر الذي هو ضد النهي، وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره. والمعنى: * (أمرنا مترفيها) * بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله وأتباعهم فيما جاؤوا به * (ففسقوا) * أي خرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوه وكذبوا رسله * (فحق عليها القول) * أي وجب عليها الوعيد * (فدمرناها تدميرا) * أي أهلكناها إهلاكا مستأصلا. وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم.
وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة. كقوله: * (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليهآ ءاباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشآء) *. فتصريحه جل وعلا بأنه لا يأمر بالفحشاء دليل واضح على أن قوله * (أمرنا مترفيها ففسقوا) * أي أمرناهم بالطاعة فعصوا. وليس المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا. لأن الله لا يأمر بالفحشاء.
ومن الآيات الدالة على هذا قوله تعالى: * (ومآ أرسلنا فى قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا بمآ أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) *. فقوله في هذه الآية * (ومآ أرسلنا فى قرية من نذير) *
75

، لفظ عام في جميع المترفين من جميع القرى أن الرسل أمرتهم بطاعة الله فقالوا لهم: إنا بما أرسلتم به كافرون، وتبجحوا بأموالهم وأولادهم. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وبهذا التحقيق تعلم: أن ما زعمه الزمخشري في كشافه من أن معنى * (أمرنا مترفيها) * أي أمرناهم بالفسق ففسقوا. وأن هذا مجاز تنزيلا لإسباغ النعم عليهم الموجب لبطرهم وكفرهم منزلة الأمر بذلك كلام كله ظاهر السقوط والبطلان. وقد أوضح إبطاله أبو حيان في (البحر)، والرازي في تفسيره، مع أنه لا يشك منصف عارف في بطلانه.
وهذا القول الصحيح في الآية جار على الأسلوب العربي المألوف، من قولهم: أمرته فعصاني. أي أمرته بالطاعة فعصى. وليس المعنى: أمرته بالعصيان كما لا يخفى.
القول الثاني في الآية هو أن الأمر في قوله * (أمرنا مترفيها) * أمر كوني قدري، أي قدرنا عليهم ذلك وسخرناهم له. لأن كلا ميسر لما خلق له. والأمر الكوني القدري كقوله * (ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر) *، وقوله: * (قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) *، وقوله * (أتاهآ أمرنا ليلا أو) *، وقوله * (إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) *.
القول الثالث في الآية أن (أمرنا) بمعنى أكثرنا. أي أكثرنا مترفيها ففسقوا.
وقال أبو عبيدة * (أمرنا) * بمعنى أكثرنا لغة فصيحة كآمرنا بالمد.
ويدل لذلك الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن سويد بن هبيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير مال امرئ مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة).
قال ابن كثير: قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه (الغريب): المأمورة: كثيرة النسل. والسكة: الطريقة المصطفة من النخل. والمأبورة: من التأبير، وهو تعليق طلع الذكر على النخلة لئلا يسقط ثمرها. ومعلوم أن إتيان المأمورة على وزن المفعول يدل على أن أمر بفتح الميم مجردا عن الزوائد، متعد بنفسه إلى المفعول. فيتضح كون أمره بمعنى أكثر. وأنكر غير واحد تعدى أمر الثلاثي بمعنى الإكثار إلى المفعول وقالوا: حديث سويد بن هبيرة المذكور من قبيل الازدواج، كقولهم: الغدايا والعشايا، وكحديث (ارجعن مأزورات غير مأجورات) لأن الغدايا لا يجوز، وإنما ساغ
76

للازدواج مع العشايا، وكذلك مأزورات بالهمز فهو على غير الأصل. لأن المادة من الوزر بالواو. إلا أن الهمز في قوله (مأزورات) للازدواج مع (مأجورات). والازدواج يجوز فيه ما لا يجوز في غيره كما هو معلوم. وعليه فقوله (مأمورة) اتباع لقوله (مأبورة) وإن كان مذكورا قبله للمناسبة بين اللفظين.
وقال الشيخ أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تعالى * (أمرنا) * قرأ أبو عثمان النهدي، وأبو رجاء، وأبو العالية، والربيع، ومجاهد، والحسن (أمرنا) بالتشديد. وهي قراءة علي رضي الله عنه. أي سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم.
وقال أبو عثمان النهدي (أمرنا) بتشديد الميم: جعلناهم أمراء مسلطين.
وقاله ابن عزيز: وتأمر عليهم تسلط عليهم. وقرأ الحسن أيضا، وقتادة، وأبو حيوة الشامي، ويعقوب، وخارجة عن نافع، وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعلي وابن عباس باختلاف عنهما (آمرنا) بالمد والتخفيف. أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها. قاله الكسائي.
وقال أبو عبيدة: (آمرته بالمد وأمرته لغتان بمعنى أكثرته. ومنه الحديث (خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة) أي كثيرة النتاج والنسل. وكذلك قال ابن عزيز: آمرنا وأمرنا بمعنى واحد. أي أكثرنا. وعن الحسن أيضا، ويحيى بن يعمر: أمرنا بالقصر وكسر الميم على فعلنا، ورويت عن ابن عباس. قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا، وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد. وأنكره الكسائي وقال: لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد، وأصلها أأمرنا فخفف حكاه المهدوي.
وفي الصحاح: قال أبو الحسن: أمر ماله بالكسر أي كثر. وأمر القوم: أي كثروا. قال الشاعر وهو الأعشى: وفي الصحاح: قال أبو الحسن: أمر ماله بالكسر أي كثر. وأمر القوم: أي كثروا. قال الشاعر وهو الأعشى:
* طرفون ولادون كل مبارك
* أمرون لا يرثون سهم القعدد
*
وآمر الله ماله بالمد. الثعلبي: ويقال للشيء الكثير أمر. والفعل منه أمر القوم يأمرون أمرا: إذا كثروا.
قال ابن مسعود: كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا: أمر أمر بني فلان: قال
77

لبيد: قال ابن مسعود: كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا: أمر أمر بني فلان: قال لبيد:
* كل بني حرة مصيرهم
* قل وإن أكثرت من العدد
*
* إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا
* يوما يصيروا للهلك والنكد
*
قلت: وفي حديث هرقل الحديث الصحيح. لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر. أي كثر. وكلها غير متعد، ولذلك أنكره الكسائي. والله أعلم.
قال المهدوي: ومن قرأ أمر فهي لغة. ووجه تعدية أمر أنه شبهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقرب شيء إلى العمارة. فعدى كما عدى عمر إلى أن قال: وقيل أمرناهم جعلناهم أمراء. لأن العرب تقول: أمير غير مأمور، أي غير مؤمر. وقيل معناه: بعثنا مستكبريها. قال هارون: وهي قراءة أبي: بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا فيها ذكره الماوردي.
وحكى النحاس: وقال هارون في قراءة أبي: وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول اه محل الغرض من كلام القرطبي.
وقد علمت أن التحقيق الذي دل عليه القرآن أن معنى الآية: أمرنا مترفيها بالطاعة فعصوا أمرنا. فوجب عليهم الوعيد فأهلكناهم كما تقدم إيضاحه.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: إن الله أسند الفسق فيها لخصوص المترفين دون غيرهم في قوله * (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) * مع أنه ذكر عموم الهلاك للجميع المترفين وغيرهم في قوله * (فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) * يعني القرية، ولم يستثن منها غير المترفين؟
والجواب من وجهين:
الأول أن غير المترفين تبع لهم. وإنما خص بالذكر المترفين الذين هم سادتهم وكبراؤهم. لأن غيرهم تبع لهم. كما قال تعالى: * (وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا) *، وكقوله * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الا سباب) *، وقوله: * (حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لا ولاهم ربنا هاؤلاء أضلونا) *، وقوله تعالى:
78

* (وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شىء) *، وقوله: * (وإذ يتحآجون فى النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار) * إلى غير ذلك من الآيات.
الوجه الثاني أن بعضهم إن عصى الله وبغى وطغى ولم ينههم الآخرون فإن الهلاك يعم الجميع. كما قال تعالى: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة) *، وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: أنها لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا إلاه إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل، هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها) قالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث) وقد قدمنا هذا المبحث موضحا في سورة المائدة. قوله تعالى: * (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أهلك كثيرا من القرون من بعد نوح. لأن لفظة * (كم) * في قوله * (وكم أهلكنا) * خبرية، معناها الإخبار بعدد كثير. وأنه جل وعلا خبير بصير بذنوب عباده. وأكد ذلك بقوله * (وكفى بربك) *.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة أوضحته آيات أخر من أربع جهات:
الأولى أن في الآية تهديدا لكفار مكة، وتخويفا لهم من أن ينزل بهم ما نزل بغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها. أي أهلكنا قرونا كثيرة من بعد نوح بسبب تكذيبهم الرسل، فلا تكذبوا رسولنا لئلا نفعل بكم مثل ما فعلنا بهم.
والآيات التي أوضحت هذا المعنى كثيرة. كقوله في قوم لوط * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وباليل أفلا تعقلون) *، وكقوله فيهم أيضا: * (إن فى ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم) *، وقوله فيهم أيضا: * (ولقد تركنا منهآ ءاية بينة لقوم يعقلون) *، وقوله: * (أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها) *، وقوله بعد ذكره جل وعلا إهلاكه لقوم نوح، وقوم هود، وقوم
79

صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب في سورة الشعراء: * (إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين) *، وقوله في قوم موسى: * (إن فى ذلك لعبرة لمن يخشى) *، وقوله: * (إن فى ذالك لآية لمن خاف عذاب الا خرة) *، وقوله: * (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم) *، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة عل تخويفهم بما وقع لمن قبلهم.
الجهة الثانية أن هذه القرون تعرضت لبيانها آيات أخر. فبينت كيفية إهلاك قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون وقومه من قوم موسى، وذلك مذكور في مواضع متعددة معلومة من كتاب الله تعالى. وبين أن تلك القرون كثيرة في قوله: * (وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذالك كثيرا) * وبين في موضع آخر: أن منها ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وذلك في قوله في سورة إبراهيم * (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) *. وبين في موضعين آخرين أن رسلهم منهم من قص خبره على نبينا صلى الله عليه وسلم، ومنهم من لم يقصصه عليه. وهما قوله في سورة النساء: * (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما) *، وقوله في سورة المؤمن: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتى بأاية إلا بإذن الله) *. الجهة الثالثة أن قوله * (من بعد نوح) * يدل على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح أنها على الإسلام. كما قال ابن عباس: كانت بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام نقله عنه ابن كثير في تفسير هذه الآية.
وهذا المعنى تدل عليه آيات أخر. كقوله * (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) *، وقوله. * (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) *. لأن معنى ذلك على أصح الأقوال أنهم كانوا على طريق الإسلام، حتى وقع ما وقع من قوم نوح من الكفر. فبعث الله النبيين ينهون عن ذلك الكفر، مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار. وأولهم في ذلك نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
80

ويدل على هذا قوله: * (إنآ أوحينآ إليك كمآ أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده) *. وفي أحاديث الشفاعة الثابتة في الصحاح وغيرها أنهم يقولون لنوح: إنه أول رسول بعثه الله لأهل الأرض كما قدمنا ذلك في سورة البقرة.
الجهة الرابعة أن قوله * (وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) * فيه أعظم زجر عن ارتكاب ما لا يرضي الله تعالى.
والآيات الموضحة لذلك كثيرة جدا. كقوله: * (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * وقوله: * (ألا إنهم يثنون صدورهم
ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) *، وقوله: * (واعلموا أن الله يعلم ما فى أنفسكم فاحذروه) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا هذا المبحث موضحا في أول سورة هود. ولفظة (كم) في هذه الآية الكريمة في محل نصب مفعول به (لأهلكنا) و * (من) * في قوله * (من القرون) * بيان لقوله * (كم) * وتمييز له كما يميز العدد بالجنس. وأما لفظه (من) في قوله * (من بعد نوح) * فالظاهر أنها لابتداء الغاية، وهو الذي اختاره أبو حيان في (البحر). وزعم الحوفي أن (من) الثانية بدل من الأولى، ورده عليه أبو حيان. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ومن أراد الا خرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولائك كان سعيهم مشكورا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن * (ومن أراد الا خرة وسعى لها سعيها) * أي عمل لها عملها الذي تنال به، وهو امتثال أمر الله، واجتباب نهيه بإخلاص على الوجه المشروع * (وهو مؤمن) * أي موحد لله جل وعلا، غير مشرك به ولا كافر به، فإن الله يشكر سعيه، بأن يثيبه الثواب الجزيل عن عمله القليل.
وفي الآية الدليل على أن الأعمال الصالحة لا تنفع إلا مع الإيمان بالله. لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، لأنه شرط في ذلك قوله * (وهو مؤمن) *.
وقد أوضح تعالى هذا في آيات كثيرة. كقوله: * (ومن يعمل من الصالحات من
81

ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) *، وقوله: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيواة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * وقوله: * (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) * إلى غير ذلك من الآيات.
ومفهوم هذه الآيات أن غير المؤمنين إذا أطاع الله بإخلاص لا ينفعه ذلك. لفقد شرط القبول الذي هو الإيمان بالله جل وعلا.
وقد أوضح جل وعلا هذا المفهوم في آيات أخر. كقوله في أعمال غير المؤمنين: * (وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا) *، وقوله: * (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف) *، وقوله: * (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بين جل وعلا في مواضع أخر: أن عمل الكافر الذي يتقرب به إلى الله يجازى به في الدنيا، ولاحظ له منه في الآخرة. كقوله: * (من كان يريد الحيواة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولائك الذين ليس لهم فى الا خرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) *، وقوله تعالى: * (من كان يريد حرث الا خرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له فى الا خرة من نصيب) *.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ما جاءت به هذه الآيات: من انتفاع الكافر بعمله في الدنيا من حديث أنس، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب واللفظ لزهير قالا: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسماته ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها).
حدثنا عاصم بن النضر التيمي، حدثنا معتمر قال: سمعت أبي، حدثنا قتادة
82

عن أنس بن مالك: أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا. وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته).
حدثنا محمد بن عبد الله الرزي، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديثهما.
واعلم أن هذا الذي ذكرنا أدلته من الكتاب والسنة من أن الكافر ينتفع بعمله الصالح في الدنيا: كبر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الضيف والجار، والتنفيس عن المكروب ونحو ذلك، كله مقيد بمشيئة الله تعالى. كما نص على ذلك بقوله: * (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشآء لمن نريد) *.
فهذه الآية الكريمة مقيدة لما ورد من الآيات والأحاديث. وقد تقرر في الأصول أن المقيد يقضي على المطلق، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا. وأشار له في (مراقي السعود) بقوله: فهذه الآية الكريمة مقيدة لما ورد من الآيات والأحاديث. وقد تقرر في الأصول أن المقيد يقضي على المطلق، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا. وأشار له في (مراقي السعود) بقوله:
* وحمل مطلق على ذاك وجب
* إن فيهما اتحد حكم والسبب
* لا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا) *. الظاهر أن الخطاب في هذه الآية الكريمة متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ليشرع لأمته على لسانه إخلاص التوحيد في العبادة له جل وعلا، لأنه صلى الله عليه وسلم معلوم أنه لا يجعل مع الله إلها آخر، وأنه لا يقعد مذموما مخذولا.
ومن الآيات الدالة دلالة واضحة على أنه صلى الله عليه وسلم يوجه إليه الخطاب، والمراد بذلك التشريع لأمته لا نفس خطابه هو صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما) *. لأن معنى قوله * (إما يبلغن) *: أي إن يبلغ عندك والداك أو أحدهما الكبر فلا تقل لهما أف. ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل ذلك بزمن طويل. فلا وجه لاشتراط بلوغهما أو أحدهما الكبر بعد أن ماتا منذ زمن طويل، إلا أن المراد
التشريع لغيره صلى الله عليه وسلم. ومن أساليب اللغة العربية خطابهم إنسانا والمراد بالخطاب غيره. ومن الأمثلة السائرة في ذلك قول الراجز، وهو سهل بن مالك الفزاري: إياك أعني واسمعي يا جاره
83

وسبب هذا المثل: أنه زار حارثة بن لأم الطائي فوجده غائبا. فأنزلته أخته وأكرمته، وكانت جميلة. فأعجبه جمالها، فقال مخاطبا لأخرى غيرها ليسمعها هي: وسبب هذا المثل: أنه زار حارثة بن لأم الطائي فوجده غائبا. فأنزلته أخته وأكرمته، وكانت جميلة. فأعجبه جمالها، فقال مخاطبا لأخرى غيرها ليسمعها هي:
* يا أخت خير البدو والحضارة
* كيف ترين في فتى فزاره
*
* أصبح يهوى حرة معطاره
* إياك أعني واسمعي يا جاره
*
ففهمت المرأة مراده، وأجابته بقولها: ففهمت المرأة مراده، وأجابته بقولها:
* إني أقول يا فتى فزاره
* لا أبتغي الزوج ولا الدعاره
*
* ولا فراق أهل هذي الحاره
* فارحل إلى أهلك باستحاره
*
والظاهر أن قولها (باستحارة) أن أصله استفعال من المحاورة بمعنى رجع الكلام بينهما أي ارحل إلى أهلك بالمحاورة التي وقعت بيني وبينك، وهي كلامك وجوابي له، ولا تحصل مني على غير ذلكا والهاء في (الاستحارة) عوض من العين الساقطة بالإعلال. كما هو معروف في فن الصرف.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخطاب في قوله: * (لا تجعل مع الله إلاها ءاخر) * ونحو ذلك من الآيات متوجه إلى المكلف. ومن أساليب اللغة العربية: إفراد الخطاب مع قصد التعميم. كقول طرفة بن العبد في معلقته: لا تجعل مع الله إلاها ءاخر) * ونحو ذلك من الآيات متوجه إلى المكلف. ومن أساليب اللغة العربية: إفراد الخطاب مع قصد التعميم. كقول طرفة بن العبد في معلقته:
* ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
* ويأتيك بالأخبار من لم تزود
*
وقال الفراء، والكسائي، والزمخشري: ومعنى قوله * (فتقعد) * أي تصير. وجعل الفراء منه قول الراجز: والكسائي، والزمخشري: ومعنى قوله * (فتقعد) * أي تصير. وجعل الفراء منه قول الراجز:
* لا يقنع الجارية الخضاب
* ولا الوشاحان ولا الجلباب
*
* من دون أن تلتقي الأركاب
* ويقعد الأير له لعاب
*
أي يصير له لعاب.
وحكى الكسائي: قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها. بمعنى صار. قاله أبو حيان في البحر.
ثم قال أيضا: والقعود هنا عبارة عن المكث، أي فتمكث في الناس مذموما مخذولا. كما تقول لمن سأل عن حال شخص: هو قاعد في أسوإ حال. ومعناه ماكث ومقيم. سواء كان قائما أم جالسا. وقد يراد القعود حقيقة. لأن من شأن المذموم
84

المخذول أن يقعد حائرا متفكرا، وعبر بغالب حاله وهو القعود. وقيل: معنى * (فتقعد) * فتعجز. والعرب تقول: ما أقعدك عن المكارم اه محل الغرض من كلام أبي حيان.
والمذموم هنا: هو من يلحقه الذم من الله ومن العقلاء من الناس. حيث أشرك بالله ما لا ينفع ولا يضر، ولا يقدر على شيء.
والمخذول: هو الذي لا ينصره من كان يؤمل منه النصر. ومنه قوله: والمخذول: هو الذي لا ينصره من كان يؤمل منه النصر. ومنه قوله:
* إن المرء ميتا بانقضاء حياته
* ولكن بأن يبغي عليه فيخذلا
* وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) *. أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بإخلاص العبادة له وحده، وقرن بذلك الأمر بالإحسان إلى الوالدين.
وجعله بر الوالدين مقرونا بعبادته وحده جل وعلا المذكور هنا ذكره في آيات أخر. كقوله في سورة (النساء): * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) *، وقوله في البقرة: * (وإذ أخذنا ميثاق بنى إسرءيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا) *، وقوله في سورة لقمان: * (أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير) *، وبين في موضوع آخر أن برهما لازم ولو كانا مشركين داعيين إلى شركهما. كقوله في (لقمان): * (وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا) *، وقوله في (العنكبوت): * (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهمآ إلى مرجعكم) *.
وذكره جل وعلا في هذه الآيات: بر الوالدين مقرونا بتوحيده جل وعلا في عبادته، يدل على شدة تأكد وجوب بر الوالدين. وجاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحاديث كثيرة.
وقوله جل وعلا في الآيات المذكورة: * (وبالوالدين إحسانا) * بينه بقوله تعالى: * (إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا) * لأن هذا من الإحسان إليهما المذكور في الآيات. وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح معنى خفض الجناح، وإضافته إلى الذل في سورة (الشعراء) وقد أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في رسالتنا المسماة (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز).
85

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وقضى ربك) * معناه: أمر وألزم، وأوجب ووصى ألا تعبدوا إلا إياه.
وقال الزمخشري: * (وقضى ربك) * أي أمر أمرا مقطوعا به. واختار أبو حيان في (البحر المحيط) أن إعراب قوله * (إحسانا) * أنه مصدر نائب عن فعله. فهو بمعنى الأمر، وعطف الأمر المعنوي أو الصريح على النهي معروف. كقوله: إحسانا) * أنه مصدر نائب عن فعله. فهو بمعنى الأمر، وعطف الأمر المعنوي أو الصريح على النهي معروف. كقوله:
* وقوفا بها صحبي على مطيهم
* يقولون لا تهلك أسى وتجمل
*
وقال الزمخشري في الكشاف: * (وبالوالدين إحسانا) * أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا. أو بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا. * (وإما تعرضن عنهم ابتغآء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا * ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا * إن ربك يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا * ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا * ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا * ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف فى القتل إنه كان منصورا * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا * وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذالك خير وأحسن تأويلا * ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسؤولا * ولا تمش فى الا رض مرحا إنك لن تخرق الا رض ولن تبلغ الجبال طولا * كل ذالك كان سيئه عند ربك مكروها * ذالك ممآ أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتلقى فى جهنم ملوما مدحورا * أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما * ولقد صرفنا فى هاذا القرءان ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا * قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا * سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا * تسبح له السماوات السبع والا رض ومن فيهن وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولاكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا * وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالا خرة حجابا مستورا) * قوله تعالى: * (وإما تعرضن عنهم ابتغآء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا) *. الضمير في قوله * (عنهم) * راجع إلى المذكورين قبله في قوله: * (وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل) *. ومعنى الآية: إن تعرض عن هؤلاء المذكورين فلم تعطهم شيئا لأنه ليس عندك. وإعراضك المذكور عنهم * (ابتغآء رحمة من ربك ترجوها) * أي رزق حلال. كالفيء يرزقكه الله فتعطيهم منه * (فقل لهم قولا ميسورا) * أي لينا لطيفا طيبا. كالدعاء لهم بالغنى وسعة الرزق، ووعدهم بأن الله إذا يسر من فضله رزقا أنك تعطيهم منه.
وهذا تعليم عظيم من الله لنبيه لمكارم الأخلاق، وأنه إن لم يقدر على الإعطاء الجميل فليتجمل في عدم الإعطاء. لأن الرد الجميل خير من الإعطاء القبيح.
وهذا الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، صرح به الله جل وعلا في سورة (البقرة) في قوله: * (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعهآ أذى) *، ولقد أجاد من قال: قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعهآ أذى) *، ولقد أجاد من قال:
* إلا تكن ورق يوما أجود بها
* للسائلين فإني لين العود
*
* لا يعدم السائلون الخير من خلقي
* إما نوالى وإما حسن مردودي
*
والآية الكريمة تشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يعرض عن الإعطاء إلا عند عدم ما يعطى منه، وأن الرزق المنتظر إذا يسره الله فإنه يعطيهم منه، ولا يعرض عنهم. وهذا هو غاية الجود وكرم الأخلاق. وقال القرطبي: قولا * (ميسورا) * مفعول بمعنى الفاعل من لفظ اليسر
86

كالميمون.
وقد علمت مما قررنا أن قوله: * (ابتغآء رحمة من ربك) * متعلق بفعل الشرط الذي هو * (تعرضن) * لا بجزاء الشرط.
وأجاز الزمخشري في الكشاف تعلقه بالجزاء وتقديمه عليه. ومعنى ذلك: فقل لهم قولا ميسورا * (ابتغاء رحمة من ربك) *. أي يسر عليهم والطف بهم. لابتغائك بذلك رحمة الله. ورد ذلك عليه أبو حيان في (البحر المحيط) بأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله. قال: لا يجوز في قولك إن يقم فاضرب خالدا أن تقول: إن يقم خالدا فاضرب. وهذا منصوص عليه انتهى.
وعن سعيد بن جبير رحمه الله: أن الضمير في قوله * (وإما تعرضن عنهم) * راجع للكفار. أي إن تعرض عن الكفار ابتغاء رحمة من ربك، أي نصر لك عليهم، أو هداية من الله لهم. وعلى هذا فالقول الميسور: المداراة باللسان. قاله أبو سليمان الدمشقي، انتهى من البحر. ويسر بالتخفيف يكون لازما ومتعديا، وميسور من المتعدي. تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته. قاله أبو حيان أيضا. قوله تعالى: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف فى القتل إنه كان منصورا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من قتل مظلوما فقد جعل الله لوليه سلطانا، ونهاه عن الإسراف في القتل، ووعده بأنه منصور.
والنهي عن الإسراف في القتل هنا شامل ثلاث صور:
الأولى أن يقتل اثنين أو أكثر بواحد، كما كانت العرب تفعله في الجاهلية. كقول مهلهل بن ربيعة لما قتل بجير بن الحارث بن عباد في حرب البسوس المشهورة: بؤبشسع نعل كليب. فغضب الحارث بن عباد، وقال قصيدته المشهورة: الأولى أن يقتل اثنين أو أكثر بواحد، كما كانت العرب تفعله في الجاهلية. كقول مهلهل بن ربيعة لما قتل بجير بن الحارث بن عباد في حرب البسوس المشهورة: بؤبشسع نعل كليب. فغضب الحارث بن عباد، وقال قصيدته المشهورة:
* قربا مربط النعامة مني
* لقحت حرب وائل عن حيال
*
* قربا مربط النعامة مني
* إن بيع الكرام بالشسع غالي الخ
*
وقال مهلهل أيضا: وقال مهلهل أيضا:
* كل قتيل في كليب غره
* حتى ينال القتل آل مره
*
ومعلوم أن قتل جماعة بواحد لم يشتركوا في قتله: إسراف في القتل داخل في النهي المذكور في الآية الكريمة.
87

الثانية أن يقتل بالقتيل واحدا فقط ولكنه غير القاتل. لأن قتل البريء بذنب غيره إسراف في القتل، منهي عنه في الآية أيضا.
الثالثة أن يقتل نفس القاتل ويمثل به. فإن زيادة المثلة إسراف في القتل أيضا.
وهذا هو التحقيق في معنى الآية الكريمة فما ذكره بعض أهل العلم، ومال إليه الرازي في تفسيره بعض الميل، من أن معنى الآية: فلا يسرف الظالم الجاني في القتل. تخويفا له من السلطان. والنصر الذي جعله الله لولي المقتول لا يخفى ضعفه، وأنه لا يلتئم مع قوله بعده * (إنه كان منصورا) *.
وهذا السلطان الذي جعله الله لولي المقتول لم يبينه هنا بيانا مفصلا، ولكنه أشار في موضعين إلى أن هذا السلطان: هو ما جعله الله من السلطة لولي المقتول على القاتل، من تمكينه من قتله إن أحب. ولا ينافي ذلك أنه إن شاء عفا على الدية أو مجانا.
الأول قوله هنا * (فلا يسرف فى القتل) * بعد ذكر السلطان المذكور، لأن النهي عن الإسراف في القتل مقترنا بذكر السلطان المذكور يدل على أن السلطان المذكور
هو ذلك القتل المنهي عن الإسراف فيه.
الموضع الثاني قوله تعالى: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * إلى قوله * (ولكم في القصاص حيواة ياأولي الألباب) *. فهو يدل على أن السلطان المذكور هو ما تضمنته آية القصاص هذه، وخير ما يبين به القرآن القرآن.
مسائل
تتعلق بهذه الآية الكريمة.
المسألة الأولى يفهم من قوله * (مظلوما) * أن من قتل غير مظلوم ليس لوليه سلطان على قاتله، وهو كذلك، لأن من قتل بحق فدمه حلال، ولا سلطان لوليه في قتله. كما قدمنا بذلك حديث ابن مسعود المتفق عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) كما تقدم إيضاحه في سورة (المائدة).
وبينا هذا المفهوم في قوله * (مظلوما) * يظهر به بيان المفهوم في قوله أيضا: * (ولا
88

تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق) *.
واعلم أنه قد ورد في بعض الأدلة أسباب أخر لإباحة قتل المسلم غير الثلاث المذكورة، على اختلاف في ذلك بين العلماء. من ذلك: المحاربون إذا لم يقتلوا أحدا. عند من يقول بأن الإمام مخير بين الأمور الأربعة المذكورة في قوله: * (أن يقتلوا أو يصلبوا) *. كما تقدم إيضاحه مستوفى في سورة (المائدة).
ومن ذلك: قتل الفاعل والمفعول به في فاحشة اللواط، وقد قدمنا الأقوال في ذلك وأدلتها بإيضاح في سورة (هود).
وأما قتل الساحر فلا يبعد دخوله في قتل الكافر المذكور في قوله (التارك لدينه المفارق للجماعة) لدلالة القرآن على كفر الساحر في قوله تعالى: * (وما كفر سليمان ولاكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) *، وقوله: * (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) *. وقوله: * (ويتعلمون) *.
وأما قتل مانع الزكاة فإنه إن أنكر وجوبها فهو كافر مرتد داخل في (التارك لدينه المفارق للجماعة). وأما إن منعها وهو مقر بوجوبها فالذي يجوز فيه: القتال لا القتل، وبين القتال والقتل فرق واضح معروف.
وأما ما ذكره بعض أهل العلم من: أن من أتى بهيمة يقتل هو وتقتل البهيمة معه لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه) قال الهيثمي في (مجمع الزوائد): رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات. ورواه ابن ماجة من طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا.
وأكثر أهل العلم على أنه لا يقتل. لأن حصر ما يباح به دم المسلم في الثلاث المذكورة في حديث ابن مسعود المتفق عليه أولى بالتقديم من هذا الحديث، مع التشديد العظيم في الكتاب والسنة في قتل المسلم بغير حق، إلى غير ذلك من المسائل المذكورة في الفروع.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الحصر في الثلاث المذكورة في حديث ابن مسعود
89

الثابت في الصحيح لا ينبغي أن يزاد عليه، إلا ما ثبت بوحي ثبوتا لا مطعن فيه، لقوته. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية قد جاءت آيات أخر تدل على أن المقتول خطأ لا يدخل في هذا الحكم. كقوله: * (وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولاكن ما تعمدت قلوبكم) *، وقوله: * (ربنا لا تؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا) *. لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأها، قال الله نعم قد فعلت. وقوله: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا) * ثم بين ما يلزم القاتل خطأ بقوله: * (ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) *. وقد بين صلى الله عليه وسلم الدية قدرا وجنسا كما هو معلوم في كتب الحديث والفقه كما سيأتي إيضاحه.
المسألة الثالثة يفهم من إطلاق قوله تعالى: * (ومن قتل مظلوما) * أن حكم الآية يستوي فيه القتل بمحدد كالسلاح، وبغير محدد كرضخ الرأس بحجر ونحو ذلك. لأن الجميع يصدق عليه اسم القتل ظلما فيجب القصاص.
وهذا قول جمهور العلماء، منهم مالك، والشافعي، وأحمد في أصح الروايتين.
وقال النووي في (شرح مسلم): هو مذهب جماهير العلماء.
وخالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال: لا يجب القصاص إلا في القتل بالمحدد خاصة، سواء كان من حديد، أو حجر، أو خشب، أو فيما كان معروفا بقتل الناس كالمنجنيق، والإلقاء في النار.
واحتج الجمهور على أن القاتل عمدا بغير المحدد يقتص منه بأدلة:
الأول ما ذكرنا من إطلاق النصوص في ذلك. الثاني حديث أنس بن مالك المشهور الذي أخرجه الشيخان، وباقي الجماعة: أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها، فرضخ رأسها بالحجارة، فاعترف بذلك فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين، رض رأسه بهما.
وهذا الحديث المتفق عليه نص صريح صحيح في محل النزاع، تقوم به الحجة على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ولا سيما على قوله: باستواء دم المسلم والكافر المعصوم الدم كالذمي.
90

الثالث ما أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة وغيرهما، عن حمل بن مالك من القصاص في القتل بالمسطح. قال النسائي: أخبرنا يوسف بن سعيد، قال حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال أخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع طاوسا يحدث عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه: أنه نشد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فقام حمل بن مالك فقال: كنت بين حجرتي امرأتين. فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها. فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة، وأن تقتل بها. وقال أبو داود: حدثنا محمد بن مسعود المصيصي، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع طاوسا عن ابن عباس، عن عمر: أنه سأل في قضية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلها وجنينها. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة، وأن تقتل. قال أبو داود: قال النضر بن شميل: المسطح هو الصولج. قال أبو داود: وقال أبو عبيد: المسطح عود من أعواد الخباء. وقال ابن ماجة: حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا أبو عاصم، أخبرني ابن جريج، حدثني عمرو بن دينار: أنه سمع طاوسا، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب أنه نشد الناس قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك (يعني في الجنين) فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين امرأتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وقتلت جنينها. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد، وأن تقتل بها. انتهى من السنن الثلاث بألفاظها.
ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح. فرواية أبي داود، عن محمد بن مسعود المصيصي وهو ابن مسعود بن يوسف النيسابوري، ويقال له المصيصي أبو جعفر العجمي نزيل طرسوس والمصيصة، وهو ثقة عارف. ورواية ابن ماجة عن أحمد بن سعيد الدارمي، وهو ابن سعيد بن صخر الدارمي أبو جعفر وهو ثقة حافظ، وكلاهما (أعني محمد بن مسعود المذكور عند أبي داود، وأحمد بن سعيد المذكور عند ابن ماجة) روي هذا الحديث عن أبي عاصم وهو الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني، وهو أبو عاصم النبيل، وهو ثقة ثبت. والضحاك رواه عن ابن جريج، وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وهو ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل. إلا أن هذا الحديث صرح فيه بالتحديث والاخبار عن عمرو بن دينار وهو ثقة ثبت، عن طاوس وهو ثقة فقيه فاضل، عن ابن عباس، عن حمل، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
91

وأما رواية النسائي فهي عن يوسف بن سعيد، وهو ابن سعيد بن مسلم المصيصي ثقة حافظ، عن حجاج بن محمد، وهو ابن محمد المصيصي الأعور أبو محمد الترمذي الأصل نزيل بغداد ثم المصيصة ثقة ثبت. لكنه اختلط في آخر عمره لما قدم بغداد قبل موته، عن ابن جريج، إلى آخر السند المذكور عند أبي داود وابن ماجة. وهذا الحديث لم يخلط فيه حجاج المذكور في روايته له عن ابن جريج. بدليل رواية أبي عاصم له عند أبي داود وابن ماجة، عن ابن جريج كرواية حجاج المذكور عند النسائي. وأبو عاصم ثقة ثبت.
رواه البيهقي عن عبد الرزاق، عن ابن جريج. وجزم بصحة هذا الإسناد ابن حجر في الإصابة في ترجمة حمل المذكور. وقال البيهقي في (السنن الكبرى) في هذا الحديث: وهذا إسناد صحيح وفيما ذكر أبو عيسى الترمذي في كتاب (العلل) قال: سألت محمدا (يعني البخاري) عن هذا الحديث فقال: هذا حديث صحيح، رواه ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس. وابن جريج حافظ اه.
فهذا الحديث نص قوي في القصاص في القتل بغير المحدد، لأن المسطح عمود. قال الجوهري في صحاحه: والمسطح أيضا عمود الخباء. قال الشاعر وهو مالك بن عوف النصري: فهذا الحديث نص قوي في القصاص في القتل بغير المحدد، لأن المسطح عمود. قال الجوهري في صحاحه: والمسطح أيضا عمود الخباء. قال الشاعر وهو مالك بن عوف النصري:
* تعرض ضيطار وخزاعة دوننا
* وما خير ضيطار يقلب مسطحا
*
يقول: تعرض لنا هؤلاء القوم ليقاتلونا وليسوا بشيء. لأنهم لا سلاح معهم سوى المسطح والضيطار، هو الرجل الضخم الذي لا غناء عنده.
الرابع ظواهر آيات من كتاب الله تدل على القصاص في القتل بغير المحدد. كقوله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) *، وقوله: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) *، وقوله: * (وجزآء سيئة سيئة مثلها) *، وقوله: * (ذالك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه) *، وقوله: * (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولائك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس) *.
وفي الموطأ ما نصه: وحدثني يحيى عن مالك، عن عمر بن حسين مولى عائشة بنت قدامة: أن عبد الملك بن مروان أقاد ولي رجل من رجل قتله بعصا. فقتله وليه
92

بعصا.
قال مالك: والأمر المجتمع عليه الذي لا اختلاف فيه عندنا: أن الرجل إذا ضرب الرجل بعصا أو رماه بحجر، أو ضربه عمدا فمات من ذلك. فإن هذا هو العمد وفيه القصاص.
قال مالك: فقتل العمد عندنا أن يعمد الرجل إلى الرجل فيضربه حتى تفيض نفسه اه محل الغرض عنه.
وقد قدمنا أن هذا القول بالقصاص في القتل بالمثقل هو الذي عليه جمهور العلماء. منهم الأئمة الثلاثة، والنخعي، والزهري، وابن سيرين، وحماد، وعمرو بن دينار، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد، نقله عنهم ابن قدامة في المغني.
وخالف في ذلك أبو حنيفة، والحسن، والشعبي، وابن المسيب، وعطاء، وطاوس رحمهم الله فقالوا: لا قصاص في القتل بالمثقل. واحتج لهم بأدلة:
منها أن القصاص يشترط له العمد، والعمد من أفعال القلوب، ولا يعلم إلا بالقرائن الجازمة الدالة عليه. فإن كان القتل بآلة القتل كالمحدد، علم أنه عامد قتله. وإن كان بغير ذلك لم يعلم عمده للقتل. لاحتمال قصده أن يشجه أو يؤلمه من غير قصد قتله فيؤول إلى شبه العمد.
ومنها ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة. ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها. وأن العقل على عصبتها).
وفي رواية (اقتتلت امرأتان من هذيل. فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها).
قالوا: فهذا حديث متفق، عليه يدل على عدم القصاص في القتل بغير المحدد. لأن روايات هذا الحديث تدل على القتل بغير محدد، لأن في بعضها أنها قتلتها بعمود، وفي بعضها أنها قتلتها بحجر.
ومنها ما روي عن النعمان بن بشير، وأبي هريرة، وعلي، وأبي بكرة رضي الله عنهم مرفوعا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قود إلا بحديدة). وفي بعض رواياته (كل شيء
93

خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرش).
وقد حاول بعض من نصر هذا القول من الحنفية رد حجج مخالفيهم. فزعم أن رض النبي صلى الله عليه وسلم رأس اليهودي بين حجرين إنما وقع بمجرد دعوى الجارية التي قتلها. وأن ذلك دليل على أنه كان معروفا بالإفساد في الأرض. ولذلك فعل به صلى الله عليه وسلم ما فعل.
ورد رواية ابن جريج عن طاوس عن ابن عباس المتقدمة بأنها مخالفة للروايات الثابتة في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على عاقلة المرأة لا بالقصاص.
قال البيهقي في (السنن الكبرى) بعد أن ذكر صحة إسناد الحديث عن ابن عباس بالقصاص من المرأة التي قتلت الأخرى بمسطح كما تقدم ما نصه: إلا أن لفظ الحديث زيادة لم أجدها في شيء من طرق هذا الحديث، وهي قتل المرأة بالمرأة. وفي حديث عكرمة عن ابن عباس موصولا، وحديث ابن طاوس عن أبيه مرسلا، وحديث جابر وأبي هريرة موصولا ثابتا أنه قضى بديتها على العاقلة. انتهى محل الغرض من كلام البيهقي بلفظه.
وذكر البيهقي أيضا: أن عمرو بن دينار روجع في هذا الحديث بأن ابن طاوس رواه عن أبيه على خلاف رواية عمرو، فقال للذي راجعه: شككتني.
وأجيب من قبل الجمهور عن هذه الاحتجاجات: بأن رضه رأسه اليهودي قصاص. ففي رواية ثابتة في الصحيحين وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله حتى اعترف بأنه قتل الجارية. فهو قتل قصاص باعتراف القاتل، وهو نص متفق عليه، صريح في محل النزاع، ولا سيما عند من يقول باستواء دم المسلم والكافر كالذمي كأبي حنيفة رحمه الله.
وأجابوا عن كون العمد من أفعال القلوب، وأنه لا يعلم كونه عامدا إلا إذا ضرب بالآلة المعهودة للقتل بأن المثقل كالعمود والصخرة الكبيرة من آلات القتل كالسيف. لأن المشدوخ رأسه بعمود أو صخرة كبيرة يموت من ذلك حالا عادة كما يموت المضروب بالسيف. وذلك يكفي من القرينة على قصد القتل.
وأجابوا عما ثبت من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم على عاقلة المرأة القاتلة بعمود أو حجر بالدية من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه معارض بالرواية الصحيحة التي قدمناها عند أبي داود، والنسائي، وابن
94

ماجة من حديث حمل بن مالك وهو كصاحب القصة. لأن القاتلة والمقتولة زوجتاه من كونه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بالقصاص لا بالدية.
الثاني: ما ذكره النووي في شرح مسلم وغيره قال: وهذا محمول على حجر صغير وعمود صغير لا يقصد به القتل غالبا. فيكون شبه عمد تجب فيه الدية على العاقلة، ولا يجب فيه قصاص ولا دية على الجاني. وهذا مذهب الشافعي والجماهير اه كلام النووي رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا الجواب غير وجيه عندي: لأن في بعض الروايات الثابتة في الصحيح: أنها قتلت بعمود فسطاط، وحمله على الصغير الذي لا يقتل بعيد.
الثالث: هو ما ذكره ابن حجر في (فتح الباري) من أن مثل هذه المرأة لا تقصد غالبا قتل الأخرى. قال ما نصه:
وأجاب من قال به يعني القصاص في القتل بالمثقل بأن عمود الفسطاط يختلف بالكبر والصغر، بحيث يقتل بعضه غالبا ولا يقتل بعضه غالبا. وطرد المماثلة في القصاص إنما يشرع فيما إذا وقعت الجناية بما يقتل غالبا.
وفي هذا الجواب نظر، فإن الذي يظهر أنه إنما لم يجب فيه القود لأنها لم يقصد مثلها وشرط القود العمد، وهذا إنما هو شبه العمد، فلا حجة فيه للقتل بالمثقل ولا عكسه. انتهى كلام ابن حجر بلفظه.
قال مقيده عفا الله عنه: والدليل القاطع على أن قتل هذه المرأة لضرتها خطأ في القتل شبه عمد. لقصد الضرب دون القتل بما لا يقتل غالبا تصريح الروايات المتفق عليها: بأنه صلى الله عليه وسلم جعل الدية على العاقلة، والعاقلة لا تحمل العمد بإجماع المسلمين.
وأجابوا عن حديث (لا قود إلا بحديدة) بأنه لم يثبت.
قال البيهقي في (السنن الكبرى) بعد أن ساق طرقه عن النعمان بن بشير، وأبي بكرة، وأبي هريرة، وعلي رضي الله عنهم ما نصه:
وهذا الحديث لم يثبت له إسناد معلى بن هلال الطحان متروك، وسليمان بن أرقم ضعيف، ومبارك بن فضالة لا يحتج به، وجابر بن يزيد الجعفي مطعون فيه اه.
وقال ابن حجر (في فتح الباري في باب إذا قتل بحجر أو عصا) ما نصه:
95

وخالف الكوفيون فاحتجوا بحديث (لا قود إلا بالسيف) وهو حديث ضعيف أخرجه البزار، وابن عدي من حديث أبي بكرة. وذكر البزار الاختلاف فيه مع ضعف إسناده: وقال ابن عدي: طرقه كلها ضعيفة. وعلى تقدير ثبوته فإنه على خلاف قاعدتهم في: أن السنة لا تنسخ الكتاب ولا تخصصه.
واحتجوا أيضا بالنهي عن المثلة، وهو صحيح ولكنه محمول عند الجمهور على غير المثلة في القصاص جمعا بين الدليلين انتهى الغرض من كلام ابن حجر بلفظه.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في (نيل الأوطار) ما نصه:
وذهبت العترة والكوفيون، ومنهم أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الاقتصاص لا يكون إلا بالسيف. واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عند ابن ماجة، والبزار، والطحاوي، والطبراني والبيهقي، بألفاظ مختلفة منها (لا قود إلا بالسيف). وأخرجه ابن ماجة أيضا، والبزار، والبيهقي من حديث أبي بكرة. وأخرجه الدارقطني، والبيهقي، من حديث أبي هريرة. وأخرجه الدارقطني من حديث علي. وأخرجه البيهقي، والطبراني من حديث ابن مسعود. وأخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلا.
وهذه الطرق كلها لا تخلو واحدة منها من ضعيف أو متروك. حتى قال أبو حاتم: حديث منكر. وقال عبد الحق وابن الجوزي: طرقه كلها ضعيفة. وقال البيهقي: لم يثبت له إسناد. انتهى محل الغرض من كلام الشوكاني رحمه الله تعالى.
ولا شك في ضعف هذا الحديث عند أهل العلم بالحديث. وقد حاول الشيخ ابن التركماني تقويته في (حاشيته على سنن البيهقي) بدعوى تقوية جابر بن يزيد الجعفي، ومبارك بن فضالة. مع أن جابرا ضعيف رافضي، ومبارك يدلس تدليس التسوية.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يقتضي الدليل رجحانه عندي: هو القصاص مطلقا في القتل عمدا بمثقل كان أو بمحدد. لما ذكرنا من الأدلة، ولقوله جل وعلا: * (ولكم في القصاص حيواة) *. لأن القاتل بعمود أو صخرة كبيرة إذا علم أنه لا يقتص منه جرأه ذلك على القتل. فتنتفي بذلك الحكمة المذكورة في قوله تعالى: * (ولكم في القصاص حيواة) *. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة جمهور العلماء على أن السلطان الذي جعله الله في هذه الآية لولي المقتول ظلما يستلزم الخيار بين ثلاثة أشياء: وهي القصاص، والعفو على الدية جبرا على
96

الجاني، والعفو مجانا في غير مقابل وهو أحد قولي الشافعي.
قال النووي في شرح مسلم: وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وعزاه ابن حجر في الفتح إلى الجمهور.
وخالف في ذلك مالك، وأبو حنيفة، والثوري رحمهم الله فقالوا: ليس للولي إلا القصاص، أو العفو مجانا. فلو عفا على الدية وقال الجاني: لا أرضى إلا القتل، أو العفو مجانا، ولا أرضى الدية. فليس لولي المقتول إلزامه الدية جبرا.
واعلم أن الذين قالوا: إن الخيار للولي بين القصاص والدية اختلفوا في عين ما يوجبه القتل عمدا إلى قولين: أحدهما أنه القود فقط. وعليه فالدية بدل منه. والثاني أنه أحد شيئين: هما القصاص والدية.
وتظهر ثمرة هذا الخلاف فيما لو عفا عن الجاني عفوا مطلقا، لم يصرح فيه بإرادة الدية ولا العفو عنها. فعلى أن الواجب عينا القصاص فإن الدية تسقط بالعفو المطلق. وعلى أن الواجب أحد الأمرين فإن الدية تلزم مع العفو المطلق. أما لو عفا على الدية فهي لازمة، ولو لم يرض الجاني عند أهل هذا القول. والخلاف المذكور روايتان عن الشافعي، وأحمد رحمهما الله.
واحتج من قال: بأن الخيار بين القصاص والدية لولي المقتول بقوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفدى، وإما أن يقتل) أخرجه الشيخان، والإمام أحمد، وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. لكن لفظ الترمذي: (إما أن تعفو وإما أن يقتل). ومعنى (يفدى) في بعض الروايات، (ويودى) في بعضها: يأخذ الفداء بمعنى الدية. وقوله (يقتل) بالبناء للفاعل: أي يقتل قاتل وليه.
قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه نص في محل النزاع، مصرح بأن ولي المقتول مخير بين القصاص وأخذ الدية. وأن له إجبار الجاني على أي الأمرين شاء. وهذا الدليل قوي دلالة ومتنا كما ترى.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأدآء إليه بإحسان) *. قالوا: إن الله جل وعلا رتب الاتباع بالدية بالفاء على العفو في قوله: * (فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف) *. وذلك دليل واضح على أنه بمجرد العفو تلزم الدية، وهو دليل قرآني قوي أيضا.
97

واحتج بعض العلماء للمخالفين في هذا. كمالك وأبي حنيفة رحمهما الله بأدلة. منها ما قاله الطحاوي: وهو أن الحجة لهم حديث أنس في قصة الربيع عمته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) فإنه حكم بالقصاص ولم يخير. ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم. إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما. فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله (فهو بخير النظرين) أي ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية اه.
وتعقب ابن حجر في (فتح الباري) احتجاج الطحاوي هذا بما نصه: وتعقب بأنه قوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص) إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه في العمد القود. فأعلم أن الكتاب الله نزل على أن المجني إذا طلب القود أجيب إليه. وليس فيما ادعاه من تأخير البيان.
الثاني ما ذكره الطحاوي أيضا: من أنهم أجمعوا على أن الولي لو قال للقائل: رضيت أن تعطيني كذا على ألا أقتلك أن القاتل لا يجبر على ذلك. ولا يؤخذ منه كرها، وإن كان يجب عليه أن يحقن دم نفسه.
الثالث أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور (فهو بخير النظرين..) الحديث جار مجرى الغالب فلا مفهوم مخالفة له. وقد تقرر في الأصول: أن النص إذا جرى على الغالب لا يكون له مفهوم مخالفة لاحتمال قصد نفس الأغلبية دون قصد إخراج المفهوم عن حكم المنطوق. ولذا لم يعتبر جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى: * (وربائبكم اللاتى فى حجوركم) *. لجريه على الغالب، وقد ذكرنا هذه المسألة في هذا الكتاب المبارك مرارا.
وإيضاح ذلك في الحديث أن مفهوم قوله (فهو بخير النظرين) أن الجاني لو امتنع من قبول الدية وقدم نفسه للقتل ممتنعا من إعطاء الدية أنه يجبر على إعطائها. لأن هذا أحد النظرين اللذين خير الشارع ولي المقتول بينهما. والغالب أن الإنسان يقدم نفسه على ماله فيفتدى بماله من القتل. وجريان الحديث على هذا الأمر الغالب يمنع من اعتبار مفهوم مخالفته كما ذكره أهل الأصول، وعقده في (مراقي السعود) بقوله في موانع اعتبار دليل الخطاب، أعني مفهوم المخالفة:
98

وإيضاح ذلك في الحديث أن مفهوم قوله (فهو بخير النظرين) أن الجاني لو امتنع من قبول الدية وقدم نفسه للقتل ممتنعا من إعطاء الدية أنه يجبر على إعطائها. لأن هذا أحد النظرين اللذين خير الشارع ولي المقتول بينهما. والغالب أن الإنسان يقدم نفسه على ماله فيفتدى بماله من القتل. وجريان الحديث على هذا الأمر الغالب يمنع من اعتبار مفهوم مخالفته كما ذكره أهل الأصول، وعقده في (مراقي السعود) بقوله في موانع اعتبار دليل الخطاب، أعني مفهوم المخالفة:
* أو جهل الحكم أو النطق انجلب
* للسؤل أو جري على الذي غلب
*
ومحل الشاهد قوله (أو جري على الذي غلب) إلى غير ذلك من الأدلة التي احتجوا بها.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسألة: أو ولي المقتول هو المخير بين الأمرين، فلو أراد الدية وامتنع الجاني فله إجباره على دفعها. لدلالة الحديث المتفق عليه على ذلك، ودلالة الآية المتقدمة عليه، ولأن الله يقول: * (ولا تقتلوا أنفسكم) *، ويقول: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) *.
ومن الأمر الواضح أنه إذا أراد إهلاك نفسه صونا لماله للوارث أن الشارع يمنعه من هذا التصرف الزائغ عن طريق الصواب، ويجبره على صون دمه بماله.
وما احتج به الطحاوي من الإجماع على أنه لو قال له: أعطني كذا على ألا أقتلك لا يجبر على ذلك يجاب عنه بأنه لو قال: أعطني الدية المقررة في قتل العمد فإنه يجبر على ذلك. لنص الحديث، والآية المذكورين.
ولو قال له: أعطني كذا غير الدية لم يجبر. لأنه طلب غير الشيء الذي أوجبه الشارع، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة جمهور العلماء على أن القتل له ثلاث حالات:
الأولى: العمد، وهو الذي فيه السلطان المذكور في الآية كما قدمنا.
والثانية: شبه العمد، والثالثة: الخطأ.
وممن قال بهذا: الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، وأحمد، والشافعي. ونقله في المغني عن عمر، وعلي رضي الله عنهما، والشعبي والنخعي، وقتادة، وحماد، وأهل العراق، والثوري، وغيرهم.
وخالف الجمهور مالك رحمه الله فقال: القتل له حالتان فقط. الأولى العمد والثانية الخطأ. وما يسميه غيره شبه العمد جعله من العمد. واستدل رحمه الله بأن الله لم يجعل في كتابه العزيز واسطة بين العمد والخطأ. بل
99

ظاهر القرآن أنه لا واسطة بينهما. كقوله: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) *، ثم قال في العمد: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه) *، فلم يجعل بين الخطأ والعمد واسطة، وكقوله تعالى: * (وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولاكن ما تعمدت قلوبكم) *. فلم يجعل فيها بين الخطأ والعمد واسطة وإن كانت في غير القتل.
واحتج الجمهور على أن هناك واسطة بين الخطأ المحض، والعمد المحض، تسمى خطأ شبه عمد بأمرين:
الأول أن هذا هو عين الواقع في نفس الأمر. لأن من ضرب بعصا صغيرة أو حجر صغير لا يحصل به القتل غالبا وهو قاصد للضرب معتقدا أن المضروب لا يقتله ذلك الضرب. ففعله هذا شبه العمد من جهة قصده أصل الضرب وهو خطأ في القتل. لأنه ما كان يقصد القتل، بل وقع القتل من غير قصده إياه.
والثاني حديث دل على ذلك، وهو ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا سليمان بن حرب، ومسدد المعنى قالا: حدثنا حماد، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مسدد: خطب يوم الفتح بمكة، فكبر ثلاثا ثم قال: (لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده (إلى ها هنا حفظته عن مسدد، ثم اتفقا): ألا أن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدمي، إلا ما كان
من سقاية الحاج أو سدانة البيت ثم قال ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها، وحديث مسدد أتم.
حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، عن خالد بهذا الإسناد نحو معناه.
حدثنا مسدد، ثنا عبد الوارث، عن علي بن زيد، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أو فتح مكة على درجة البيت أو الكعبة.
قال أبو داود: كذا رواه ابن عيينة أيضا عن علي بن زيد، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
100

رواه أيوب السختياني، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو مثل حديث خالد ورواه حماد بن سلمة، عن علي بن يزيد، عن يعقوب السدوسي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم اه محل الغرض من سنن أبي داود.
وأخرج النسائي نحوه، وذكر الاختلاف على أيوب في حديث القاسم بن ربيعة فيه، وذكر الاختلاف على خالد الحذاء فيه وأطال الكلام في ذلك. وقد تركنا لفظ كلامه لطوله.
وقال ابن ماجة رحمه الله في سننه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة، عن أيوب: سمعت القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل: أربعون منها خلفة في بطونها أولادها).
حدثنا محمد بن يحيى، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن خالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عند عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جدعان، سمعه من القاسم بن ربيعة عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم فتح مكة وهو على درج الكعبة، فحمد الله وأثنى عليه فقال: (الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. إلا أن قتيل الخطأ قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل: منها أربعون خلفة في بطونها أولادها). اه.
وساق البيهقي رحمه الله طرق هذا الحديث، وقال بعد أن ذكر الرواية عن ابن عمر التي في إسنادها علي بن زيد بن جدعان: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت محمد بن إسماعيل السكري يقول: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: حضرت مجلس المزني يوما وسأله سائل من العراقيين عن شبه العمد. فقال السائل: إن الله تبارك وتعالى وصف القتل في كتابه صفتين: عمدا وخطأ. فلم قلتم إنه على ثلاثة أصناف؟ ولم قلتم شبه العمد؟
فاحتج المزني بهذا الحديث فقال له مناظره: أتحتج بعلي بن زيد بن جدعان؟ فسكت المزني. فقلت لمناظره: قد روى هذا الخبر غير علي بن زيد. فقال: ومن رواه غير علي؟ قلت: رواه أيوب السختياني وخالد الحذاء. قال لي: فمن عقبة بن أوس؟ فقلت: عقبة بن أوس رجل من أهل البصرة، وقد رواه عنه محمد بن سيرين مع جلالته. فقال
101

للمزني: أنت تناظرا أو هذا؟ فقال: إذا جاء الحديث فهو يناظر. لأنه أعلم بالحديث مني، ثم أتكلم أنا اه ثم شرع البيهقي يسوق طرق الحديث المذكور.
قال مقيده عفا الله عنه: لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأسانيد. أن الحديث ثابت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وأن الرواية عن ابن عمر وهم، وآفتها من علي بن زيد بن جدعان. لأنه ضعيف.
والمعروف في علوم الحديث: أن الحديث إذا جاء صحيحا من وجه لا يعل بإتيانه من وجه آخر غير صحيح. والقصة التي ذكرها البيهقي في مناظرة محمد بن إسحاق بن حزيمة للعراقي الذي ناظر المزني، تدل على صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند ابن خزيمة.
قال مقيده عفا الله عنه: إذا عرفت الاختلاف بين العلماء في حالات القتل: هل هي ثلاث، أو اثنتان؟ وعرفت حجج الفريقين فاعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه ما ذهب إليه الجمهور من أنها ثلاث حالات: عمد محض، وخطأ محض، وشبه عمد. لدلالة الحديث الذي ذكرنا على ذلك، ولأنه ذهب إليه الجمهور من علماء المسلمين. والحديث إنما أثبت شيئا سكت عنه القرآن، فغاية ما في الباب زيادة أمر سكت عنه القرآن بالسنة، وذلك لا إشكال فيه على الجاري على أصول الأئمة إلا أبا حنيفة رحمه الله. لأن المقرر في أصوله أن الزيادة على النص نسخ، وأن المتواتر لا ينسخ بالآحاد. كما تقدم إيضاحه في سورة (الأنعام). ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله وافق الجمهور في هذه المسألة، خلافا لمالك كما تقدم.
فإذا تقرر ما ذكرنا من أن حالات القتل ثلاث فاعلم أن العمد المحض فيه القصاص. وقد قدمنا حكم العفو فيه. والخطأ شبه العمد. والخطأ المحض فيهما الدية على العاقلة.
واختلف العلماء في أسنان الدية فيهما. وسنبين إن شاء الله تعالى مقادير الدية في العمد المحض إذا وقع العفو على الدية، وفي شبه العمد. وفي الخطأ المحض.
اعلم أن الجمهور على أن الدية في العمد المحض وشبه العمد سواء. واختلفوا في أسنانها فيهما. فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها تكون أرباعا: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة.
102

وهذا هو مذهب مالك وأبي حنيفة، والرواية المشهورة عن أحمد، وهو قول الزهري، وربيعة، وسليمان بن يسار، ويروى عن ابن مسعود. كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني.
وذهبت جماعة أخرى إلى أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون في بطونها أولادها.
وهذا مذهب الشافعي، وبه قال عطاء، ومحمد بن الحسن، وروي عن عمر، وزيد، وأبي موسى، والمغيرة. ورواه جماعة عن الإمام أحمد.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول هو الذي يقتضي الدليل رجحانه. لما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود، والنسائي، وابن ماجة: من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (منها أربعون خلفة في بطونها أولادها) وبعض طرقه صحيح كما تقدم.
وقال البيهقي في بيان الستين التي لم يتعرض لها هذا الحديث: (باب صفة الستين التي مع الأربعين) ثم ساق أسانيده عن عمر، وزيد بن ثابت، والمغيرة بن شعبة، وأبي موسى الأشعري، وعثمان بن عفان، وعلي في إحدى روايتيه عنه أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة.
وقال ابن قدامة في المغني مستدلا لهذا القول: ودليله هو ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل مؤمنا متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا فهو لهم) وذلك لتشديد القتل. رواه الترمذي وقال: هو حديث حسن غريب اه محل الغرض منه بلفظه، ثم ساق حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي قدمنا.
ثم قال مستدلا للقول الأول: ووجه الأول ما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال: (كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعا: خمسا وعشرين جذعة، وخمسا وعشرين حقة، وخمسا وعشرين بنت لبون، وخمسا وعشرين بنت مخاض) وهو قول ابن مسعود اه منه.
وفي الموطأ عن مالك: أن ابن شهاب كان يقول في دية العمد إذا قبلت: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس
103

وعشرون جذعة. وقد قدمنا: أن دية العمد، ودية شبه العمد سواء عند الجمهور.
وفي دية شبه العمد للعلماء أقوال غير ما ذكرنا. منها ما رواه البيهقي، وأبو داود عن علي رضي الله عنه أنه قال: في شبه العمد أثلاث: ثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها، وكلها خلفة.
ومنها ما رواه البيهقي وغيره عن ابن مسعود أيضا: أنها أرباع: ربع بنات لبون، وربع حقاق وربع جذاع) وربع ثنية إلى بازل عامها. هذا حاصل أقوال أهل العلم في دية العمد، وشبه العمد.
وأولى الأقوال وأرجحها: ما دلت عليه السنة، وهو ما قدمنا من كونها ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة في بطونها أولادها.
وقد قال البيهقي رحمه الله في السنن الكبرى بعد أن ساق الأقوال المذكورة ما نصه: قد اختلفوا هذا الاختلاف، وقول من يوافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة في الباب قبله أولى بالاتباع، وبالله التوفيق.
تنبيه
اعلم أن الدية في العمد المحض إذا عفا أولياء المقتول: إنما هي في مال الجاني، ولا تحملها العاقلة إجماعا. وأظهر القولين: أنها حالة غير منجمة في سنين. وهو قول جمهور أهل العلم. وقيل بتنجيمها.
وعند أبي حنيفة أن العمد ليس فيه دية مقررة أصلا. بل الواجب فيه ما انفق عليه الجاني وأولياء المقتول، قليلا كان أو كثيرا، وهو حال عنده.
أما الدية في شبه العمد فهي منجمة في ثلاث سنين، يدفع ثلثها في آخر كل سنة من السنين الثلاث، ويعتبر ابتداء السنة من حين وجوب الدية.
وقال بعض أهل العلم: ابتداؤها من حين حكم الحاكم بالدية، وهي على العاقلة لما قدمناه في حديث أبي هريرة المتفق عليه من كونها على العاقلة. وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد رحمهم الله. وبه قال الشعبي والنخعي، والحكم، والثوري، وابن المنذر وغيرهم. كما نقله عنهم صاحب المغني وهذا القول هو الحق.
104

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الدية في شبه العمد في مال الجاني لا على العاقلة. لقصده الضرب وإن لم يقصد القتل. وبهذا قال ابن سيرين، والزهري، والحارث العكلي، وابن شبرمة، وقتادة، وأبو ثور، واختاره أبو بكر عبد العزيز اه من (المغني) لابن قدامة. وقد علمت أن الصواب خلافه. لدلالة الحديث المتفق عليه على ذلك.
أما مالك رحمه الله فلا يقول بشبه العمد أصلا. فهو عنده عمد محض كما تقدم.
وأما الدية في الخطأ المحض فهو أخماس في قول أكثر أهل العلم.
واتفق أكثرهم على السن والصنف في أربع منها، واختلفوا في الخامس. أما الأربع التي هي محل اتفاق الأكثر فهي عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنت لبون، وعشرون بنت مخاض. وأما الخامس الذي هو محل الخلاف فبعض أهل العلم يقول: هو عشرون ابن مخاض ذكرا. وهو مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وبه قال ابن مسعود، والنخعي، وابن المنذر. واستدل أهل هذا القول بحديث ابن مسعود الوارد بذلك.
قال أبو داود في سننه: حدثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد، ثنا الحجاج عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي، عن عبد الله بن
105

مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكر). وهو قول عبد الله انتهى منه بلفظه.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا علي بن سعيد بن مسروق قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن حجاج، عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي قال: سمعت ابن مسعود يقول: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين ابن مخاض ذكورا، وعشرين بنت لبون، وعشرين جذعة، وعشرين حقة.
وقال ابن ماجة في سننه: حدثنا عبد السلام بن عاصم، ثنا الصباح بن محارب، ثنا حجاج بن أرطاة، ثنا زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني خاض ذكورا) ونحو هذا أخرجه الترمذي أيضا عن ابن مسعود.
وأخرج الدارقطني عنه نحوه. إلا أن فيه: وعشرون بني لبون بدل بني مخاض.
وقال الحافظ في (بلوغ المرام): إن إسناده أقوى من إسناد الأربعة. قال: وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر موقوفا، وهو أصح من المرفوع.
وأما القول الثاني في هذا الخامس المختلف فيه فهو أنه عشرون ابن لبون ذكرا، مع عشرين جذعة، وعشرين حقة، وعشرين بنت لبون، وعشرين بنت مخاض. وهذا هو مذهب مالك والشافعي. وبه قال عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، والزهري، والليث، وربيعة. كما نقله عنهم ابن قدامة في (المغني) وقال: هكذا رواه سعيد في سننه عن النخعي، عن ابن مسعود.
وقال الخطابي: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم (ودي الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة) وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: وأخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الرفاء البغدادي، أنبأ أبو عمرو عثمان بن محمد بن بشر، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا إسماعيل بن أبي أويس وعيسى بن مينا قالا: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، أن أباه قال: كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهي إلى قولهم. منهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار، في مشيخة جلة سواهم من نظرائهم، وربما اختلفوا في الشيء فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيا، وكانوا يقولون: العقل في الخطأ خمسة أخماس: فخمس جذاع، وخمس حقاق، وخمس بنات لبون، وخمس بنات مخاض، وخمس بنو لبون ذكور، والسن في كل جرح قل أو كثر خمسة أخماس على هذه الصفة انتهى كلام البيهقي رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: جعل بعضهم أقرب القولين دليلا قول من قال: إن الصنف الخامس من أبناء المخاض الذكور لا من أبناء اللبون. لحديث عبد الله بن
106

مسعود المرفوع المصرح بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. قال: والحديث المذكور وإن كان فيه ما فيه أولى من الأخذ بغيره من الرأي.
وسند أبي داود، والنسائي رجاله كلهم صالحون للاحتجاج. إلا الحجاج بن أرطاة فإن فيه كلاما كثيرا واختلافا بين العلماء. فمنهم من يوثقه، ومنهم من يضعفه. وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك تضعيف بعض أهل العلم له.
وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق كثير الخطأ والتدليس.
قال مقيده عفا الله عنه: حجاج المذكور من رجال مسلم. وأعل أبو داود والبيهقي وغيرهما الحديث بالوقف على ابن مسعود، قالوا: رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأ، وقد أشرنا إلى ذلك قريبا.
أما وجه صلاحية بقية رجال السنن فالطبقة الأولى من سنده عند أبي داود مسدد وهو ثقة حافظ. وعند النسائي سعيد بن علي بن سعيد بن مسروق الكندي الكوفي وهو صدوق.
والطبقة الثانية عند أبي داود عبد الواحد وهو ابن زياد العبدي مولاهم البصري ثقة، في حديثه عن الأعمش وحده مقال. وعند النسائي يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وهو ثقة متقن.
والطبقة الثالثة عندهما حجاج بن أرطاة المذكور.
والطبقة الرابعة عندهما زيد بن جبير وهو ثقة.
والطبقة الخامسة عندهما خشف بن مالك الطائي وثقه النسائي.
والطبقة السادسة عندهما عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والطبقة الأولى عند ابن ماجة عبد السلام بن عاصم الجعفي الهسنجاني الرازي وهو مقبول.
والطبقة الثانية عنده الصباح بن محارب التيمي الكوفي نزيل الري وهو صدوق، ربما خالف.
والطبقة الثالثة عنده حجاج بن أرطاة إلى آخر السند المذكور.
والحاصل أن الحديث متكلم فيه من جهتين: الأولى من قبل حجاج بن
107

أرطاة، وقد ضعفه الأكثر، ووثقه بعضهم، وهو من رجال مسلم. والثانية إعلاله بالوقف، وما احتج به الخطابي من أن النبي صلى الله عليه وسلم (ودى الذي قتل بخيبر من إبل الصدقة) وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض. يقال فيه: إن الذي قتل في خيبر قتل عمدا، وكلامنا في الخطأ. وحجة من قال يجعل أبناء اللبون بدل أبناء المخاض رواية الدارقطني المرفوعة التي قال ابن حجر: إن سندها أصح من رواية أبناء المخاض، وكثرة من قال بذلك من العلماء.
وفي دية الخطأ للعلماء أقوال أخر غير ما ذكرنا. واستدلوا لها بأحاديث أخرى انظرها في (سنن النسائي، وأبي داود، والبيهقي) وغيرهم.
واعلم أن الدية على أهل الذهب ألف دينار. وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم عند الجمهور.
وقال أبو حنيفة: عشرة آلاف درهم. وعلى أهل البقر مائتا بقرة. وعلى أهل الشاء ألفا شاة. وعلى أهل الحلل مائتا حلة.
قال أبو داود في سننه: حدثنا يحيى بن حكيم، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان، ثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار، أو ثمانية آلاف درهم. ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين.
قال: فكان ذلك كذلك، حتى استخلف عمر رحمه الله تعالى فقام خطيبا فقال: ألا إن الإبل قد غلت، قال: ففرضها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية.
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عطاء بن أبي رباح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وعلى أهل القمح شيئا لم يحفظه محمد).
قال أبو داود: قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني قال: ثنا أبو تميلة، ثنا محمد بن إسحاق قال: ذكر عطاء عن جابر بن عبد الله قال: فرض
108

رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكر مثل حديث موسى وقال: وعلى أهل الطعام شيئا لم أحفظه اه. وقال النسائي في سننه: أخبرنا أحمد بن سليمان قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أنبأنا محمد بن راشد عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور).
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومها على أهل القرى أربعمائة دينار، أو عدلها من الورق. ويقومها على أهل الإبل إذا غلت رفع قيمتها وإذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان. فبلغ قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الأربعمائة دينار، إلى ثمانمائة دينار أو عدلها من الورق.
قال: وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من كان عقله في البقر: على أهل البقر مائتي بقرة. ومن كان عقله في الشاء: ألفي شاة. وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم، فما فضل فللعصبة) وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن يعقل على المرأة عصبتها من كانوا ولا يرثون منه إلا ما فضل عن ورثتها. وإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلها). وقال النسائي في سننه: أخبرنا محمد بن المثنى، عن معاذ بن هانىء قال: حدثني محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار (ح) وأخبرنا أبو داود قال: حدثنا معاذ بن هانىء قال: حدثنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قتل رجل رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا وذكر قوله: * (إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) * في أخذهم الدية واللفظ لأبي داود: أخبرنا محمد بن ميمون قال: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم (قضى باثني عشر ألفا) يعني في الدية انتهى كلام النسائي رحمه الله.
وقال أبو داود في سننه أيضا: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، ثنا زيد بن الحباب، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رجلا من بني عدي قتل. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا. قال أبو داود: رواه ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ابن عباس.
وقال ابن ماجة في سننه: حدثنا العباس بن جعفر، ثنا محمد بن سنان، ثنا
109

محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (جعل الدية اثني عشر ألفا) قال: وذلك قوله: * (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) * قال: بأخذهم الدية.
وفي الموطأ عن مالك: أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. قال مالك: فأهل الذهب أهل الشام وأهل مصر، وأهل الورق أهل العراق.
وعن مالك في الموطأ أيضا: أنه سمع أن الدية تقطع في ثلاث سنين أو أربع سنين. قال مالك: والثلاث أحب ما سمعت إلى في ذلك.
قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يقبل من أهل القرى في الدية الإبل، ولا من أهل العمود الذهب ولا الورق، ولا من أهل الذهب الورق، ولا من أهل الورق الذهب.
فروع تتعلق بهذه المسألة.
الأول جمهور أهل العلم على أن الدية في الخطأ وشبه العمد مؤجلة في ثلاث سنين، يدفع ثلثها في كل واحد من السنين الثلاث.
قال ابن قدامة في (المغني): ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين. فإن عمر وعليا رضي الله عنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين، ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفا. فاتبعهم على ذلك أهل العلم اه.
قال مقيده عفا الله عنه: ومثل هذا يسمى إجماعا سكوتيا، وهو حجة ظنية عند جماعة من أهل الأصول، وأشار إلى ذلك صاحب (مراقي السعود) مع بيان شرط الاحتجاج به عند من يقول بذلك بقوله: قال مقيده عفا الله عنه: ومثل هذا يسمى إجماعا سكوتيا، وهو حجة ظنية عند جماعة من أهل الأصول، وأشار إلى ذلك صاحب
(مراقي السعود) مع بيان شرط الاحتجاج به عند من يقول بذلك بقوله:
* وجعل من سكت مثل من أقر
* فيه خلاف بينهم قد اشتهر
*
* فالاحتجاج بالسكوتي نما
* تفريعه عليه من تقدما
*
* وهو بفقد السخط والضد حرى
* مع مضي مهلة للنظر
*
وتأجيلها في ثلاث سنين هو قول أكثر أهل العلم.
الفرع الثاني اختلف العلماء في نفس الجاني. هل يلزمه قسط من دية الخطأ كواحد من العاقلة، أو لا.
110

فمذهب أبي حنيفة، ومشهور مذهب مالك: أن الجاني يلزمه قسط من الدية كواحد من العاقلة.
وذهب الإمام أحمد، والشافعي: إلى أنه لا يلزمه من الدية شيء، لظاهر حديث أبي هريرة المتفق عليه المتقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم (قضى بالدية على عاقلة المرأة) وظاهره قضاؤه بجميع الدية على العاقلة. وحجة القول الآخر: أن أصل الجناية عليه وهم معينون له. فيتحمل عن نفسه مثل ما يتحمل رجل من عاقلته.
الفرع الثالث اختلف العلماء في تعيين العاقلة التي تحمل عن الجاني دية الخطأ.
فمذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أن العاقلة هم أهل ديوان القاتل إن كان القاتل من أهل ديوان، وأهل الديوان أهل الرايات، وهم الجيش الذين كتبت أسماؤهم في الديوان لمناصرة بعضهم بعضا، تؤخذ الدية من عطاياهم في ثلاث سنين. وإن لم يكن من أهل ديوان فعاقلته قبيلته، وتقسم عليهم في ثلاث سنين. فإن لم تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسبا على ترتيب العصبات.
ومذهب مالك رحمه الله البداءة بأهل الديوان أيضا. فتؤخذ الدية من عطاياهم في ثلاث سنين. فإن لم يكن عطاؤهم قائما فعاقلته عصبته الأقرب فالأقرب. ولا يحمل النساء ولا الصبيان شيئا من العقل.
وليس لأموال العاقلة حد إذا بلغته عقلوا، ولا لما يؤخذ منهم حد. ولا يكلف أغنياؤهم الأداء عن فقرائهم.
ومن لم تكن له عصبة فعقله في بيت مال المسلمين.
والموالي بمنزلة العصبة من القرابة. ويدخل في القرابة الابن والأب.
قال سحنون: إن كانت العاقلة ألفا فهم قليل، يضم إليهم أقرب القبائل إليهم.
ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يؤخذ من واحد من أفراد العصبة من الدية أكثر من درهم وثلث في كل سنة من السنين الثلاث. فالمجموع أربعة دراهم.
ومذهب أحمد والشافعي: أن أهل الديوان لا مدخل لهم في العقل إلا إذا كانوا عصبة. ومذهبهما رحمهما الله: أن العاقلة هي العصبة، إلا أنهم اختلفوا هل يدخل في ذلك الأبناء والآباء؟ فعن أحمد في إحدى الروايتين: أنهم داخلون في العصبة. لأنهم أقرب العصبة. وعن أحمد رواية أخرى والشافعي: أنهم لا يدخلون في العاقلة. لظاهر حديث
111

أبي هريرة المتفق عليه المتقدم: (أن ميراث المرأة لولدها، والدية على عاقلتها) وظاهره عدم دخول أولادها. فقيس الآباء على الأولاد.
وقال ابن قدامة في (المغني): واختلف أهل العلم فيما يحمله كل واحد منهم.
فقال أحمد. يحملون على قدر ما يطيقون. هذا لا يتقدر شرعا. وإنما يرجح فيه إلى اجتهاد الحاكم. فيفرض على كل واحد قدرا يسهل ولا يؤذي، وهذا مذهب مالك. لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف. ولا يثبت بالرأي والتحكم. ولا نص في هذه المسألة فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه يفرض على الموسر نصف مثقال. لأنه أقل مال يتقدر في الزكاة فكان معبرا بها. ويجب على المتوسط ربع مثقال، لأن ما دون ذلك تافه لكون اليد لا تقطع فيه. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: لا تقطع اليد في الشيء التافه، وما دون ربع دينار لا تقطع فيه. وهذا اختيار أبي بكر، ومذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة: أكثر ما يحمل على الواحد أربعة دراهم، وليس لأقله حد اه كلام صاحب (المغني).
الفرع الرابع لا تحمل العاقلة شيئا من الكفارة المنصوص عليها في قوله * (وتحرير رقبة مؤمنة) * بل هي في مال الجاني إجماعا. وشذ من قال: هي في بيت المال.
والكفارة في قتل الخطأ واجبة إجماعا بنص الآية الكريمة الصريحة في ذلك.
واختلفوا في العمد، واختلافهم فيه مشهور، وأجرى القولين على القياس عندي قول من قال: لا كفارة في العمد، لأن العمد في القتل أعظم من أن يكفره العتق. لقوله تعالى في القاتل عمدا: * (فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) * فهذا الأمر أعلى وأفخم من أن يكفر بعتق رقبة. والعلم عند الله تعالى.
والدية لا تحملها العاقلة إن كان القتل خطأ ثابتا بإقرار الجاني ولم يصدقوه، بل إنما تحملها إن ثبت القتل بينة، كما ذهب إلى هذا عامة أهل العلم، منهم ابن عباس، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والزهري، وسليمان بن موسى، والثوري،
112

والأوزاعي، وإسحاق. وبه قال الشافعي، وأحمد، ومالك، وأبو حنيفة وغيرهم. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس جمهور العلماء على أن دية المرأة الحرة المسلمة نصف دية الرجل الحر المسلم على ما بينا.
قال ابن المنذر، وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل. وحكى غيرهما عن ابن علية والأصم أنهما قالا: ديتها كدية الرجل. وهذا قول شاذ، مخالف لإجماع الصحابة كما قاله صاحب المغني.
وجراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى ثلث الدية، فإن بلغت الثلث فعلى النصف. قال ابن قدامة في (المغني): وروي هذا عن عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت. وبه قال سعيد بن المسيب. وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير، والزهري وقتادة، والأعرج، وربيعة، ومالك.
قال ابن عبد البر: وهو قول فقهاء المدينة السبعة. وجمهور أهل المدينة وحكي عن الشافعي في القديم.
وقال الحسن: يستويان إلى النصف. وروي عن علي رضي الله عنه: أنها على النصف فيما قل أو أكثر. وروي ذلك عن ابن سيرين. وبه قال الثوري، والليث، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه. وأبو ثور، والشافعي في ظاهر مذهبه، واختاره ابن المنذر. لأنهما شخصان تختلف دية نفسهما فاختلف أرش جراحهما اه وهذا القول أقيس.
قال مقيده عفا الله عنه: كلام ابن قدامة والخرقي صريح في أن ما بلغ ثلث الدية يستويان فيه، وأن تفضيله عليها بنصف الدية إنما هو فيما زاد على الثلث. فمقتضى كلامهما أن دية جائفة المرأة ومأمومتها كدية جائفة الرجل ومأمومته. لأن في كل من الجائفة والمأمومة ثلث الدية، وأن عقلها لا يكون على النصف من عقله إلا فيما زاد على الثلث، كدية أربعة أصابع من اليد، فإن فيها أربعين من الإبل، إذ في كل إصبع عشر، والأربعون أكثر من ثلث المائة. وكلام مالك في الموطأ وغيره صريح في أن ما بلغ الثلث كالجائفة والمأمومة تكون دية المرأة فيه على النصف من دية الرجل، وأن محل استوائها
113

إنما هو فيما دون الثلث خاصة كالموضحة والمنقلة، والإصبع والإصبعين والثلاثة. وهما قولان معروفان لأهل العلم. وأصحهما هو ما ذكرناه عن مالك، ورجحه ابن قدامة في آخر كلامه بالحديث الآتي إن شاء الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول مشكل جدا لأنه يقتضي أن المرأة إن قطعت من يدها ثلاثة أصابع كانت ديتها ثلاثين من الإبل كأصابع الرجل لأنها دون الثلث. وإن قطعت من يدها أربعة أصابع كانت ديتها عشرين من الإبل، لأنها زادت على الثلث فصارت على النصف من دية الرجل. وكون دية الأصابع الثلاثة ثلاثين من الإبل، ودية الأصابع الأربعة في غاية الإشكال كما ترى.
وقد استشكل هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، على سعيد بن المسيب، فأجابه بأن هذا هو السنة. ففي موطأ مالك رحمه الله عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل. فقلت: كم في إصبعين؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت كم في ثلاث؟ فقال: ثلاثون من الإبل. فقلت: كم في أربع؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟ فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقلت. بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم. فقال سعيد: هي السنة يا بن أخيا
وظاهر كلام سعيد هذا: أن هذا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ولو قلنا: إن هذا له حكم الرفع فإنه مرسل، لأن سعيدا لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ومراسيل سعيد بن المسيب قد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة (الأنعام) مع أن بعض أهل العلم قال: إن مراده بالسنة هنا سنة أهل المدينة.
وقال النسائي رحمه الله في سننه: أخبرنا عيسى بن يونس قال: حدثنا حمزة، عن إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها) اه وهذا يعضد قول سعيد. إن هذا هو السنة.
قال مقيده عفا الله عنه: إسناد النسائي هذا ضعيف فيما يظهر من جهتين.
إحداهما أن إسماعيل بن عياش رواه عن ابن جريج، ورواية إسماعيل المذكور عن غير الشاميين ضعيفة كما قدمنا إيضاحه. وابن جريج ليس بشامي، بل هو حجازي مكي.
114

الثانية أن ابن جريج عنعنه عن عمرو بن شعيب، وابن جريج رحمه الله مدلس، وعنعنة المدلس لا يحتج بها ما لم يثبت السماع من طريق أخرى كما تقرر في علوم الحديث. ويؤيد هذا الإعلال ما قاله الترمذي رحمه الله: من أن محمد بن إسماعيل يعني البخاري قال. إن ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب، كما نقله عنه ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة ابن جريج المذكور.
وبما ذكرنا تعلم أن تصحيح ابن خزيمة لهذا الحديث غير صحيح. وإن نقله عنه ابن حجر في (بلوغ المرام) وسكت عليه. والله أعلم. وهذا مع ما تقدم من كون ما
تضمنه هذا الحديث يلزمه أن يكون في ثلاثة أصابع من أصابع المرأة ثلاثون، وفي أربعة أصابع عشرون. وهذا مخالف لما عهد من حكمة هذا الشرع الكريم كما ترى. اللهم إلا أن يقال: إن جعل المرأة على النصف من الرجل فيما بلغ الثالث فصاعدا أنه في الزائد فقط. فيكون في أربعة أصابع من أصابعها خمس وثلاثون، فيكون النقص في العشرة الرابعة فقط. وهذا معقول وظاهر، والحديث محتمل له، والله أعلم.
ومن الأدلة على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ما رواه البيهقي في السنن الكبرى من وجهين عن عبادة بن نسي، عن ابن غنم، عن معاذ بن جبل قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دية المرأة على النصف من دية الرجل) ثم قال البيهقي رحمه الله: وروي من وجه آخر عن عبادة بن نسي وفيه ضعف. ومعلوم أن عبادة بن نسي ثقة فاضل. فالضعف الذي يعنيه البيهقي من غيره. وأخرج البيهقي أيضا عن علي مرفوعا (دية المرأة على النصف من دية الرجل في الكل) وهو من رواية إبراهيم النخعي عنه وفيه انقطاع. وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه، وأخرجه أيضا من وجه آخر عنه وعن عمر قاله الشوكاني رحمه الله.
الفرع السادس اعلم أن أصح الأقوال وأظهرها دليلا: أن دية الكافر الذمي على النصف من دية المسلم. كما قدمنا عن أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن دية أهل الكتاب كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف من دية المسلمين، وأن عمر لم يرفعها فيما رفع عند تقويمه الدية لما غلت الإبل.
وقال أبو داود أيضا في سننه: حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي، ثنا عيسى بن يونس، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (دية المعاهد نصف دية الحر) قال أبو داود: ورواه أسامة بن زيد الليثي،
115

وعبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب مثله اه.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى.. وذكر كلمة معناها عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى) أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح قال: أنبأنا ابن وهب قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عقل الكافر نصف عقل المؤمن).
وقال ابن ماجة رحمه الله في سننه: حدثنا هشام بن عمار، ثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن عياش، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين، وهم اليهود والنصارى). وأخرج نحوه الإمام أحمد، والترمذي، عن عمرو عن أبيه عن جده.
قال الشوكاني في (نيل الأوطار). وحديث عمرو بن شعيب هذا حسنه الترمذي، وصححه ابن الجارود. وبهذا تعلم أن هذا القول أولى من قول من قال: دية أهل الذمة كدية المسلمين. كأبي حنيفة ومن وافقه. ومن قال: إنها قدر ثلث دية المسلم. كالشافعي ومن وافقه. والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن الروايات التي جاءت بأن دية الذمي والمعاهد كدية المسلم ضعيفة لا يحتج بها. وقد بين البيهقي رحمه الله تعالى ضعفها في (السنن الكبرى) وقد حاول ابن التركماني رحمه الله في حاشيته على سنن البيهقي أن يجعل تلك الروايات صالحة للاحتجاج، وهي ليس فيها شيء صحيح.
أما الاستدلال بظاهر قوله تعالى: * (ودية مسلمة إلى أهله) * فيقال فيه: هذه دلالة اقتران، وهي غير معتبرة عند الجمهور. وغاية ما في الباب: أن الآية لم تبين قدر دية المسلم ولا الكافر، والسنة بينت أن دية الكافر على النصف من دية المسلم. وهذا لا إشكال فيه.
أما استواؤهما في قدر الكفارة فلا دليل فيه على الدية. لأنها مسألة أخرى.
الأدلة التي ذكرنا دلالتها أنها على النصف من دية المسلم أقوى، ويؤيدها: أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: (وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل) فمفهوم
116

قوله (المؤمنة) أن النفس الكافرة ليست كذلك. على أن المخالف في هذه الإمام أبو حنيفة رحمه الله، والمقرر في أصوله: أنه لا يعتبر دليل الخطاب أعني مفهوم المخالفة كما هو معلوم عنه. ولا يقول بحمل المطلق على المقيد. فيستدل بإطلاق النفس عن قيد الإيمان في الأدلة الأخرى على شمولها للكافر. والقول بالفرق بين الكافر المقتول عمدا فتكون ديتة كدية المسلم، وبين المقتول خطأ فتكون على النصف من دية المسلم لا نعلم له مستندا من كتاب ولا سنة. والعلم عند الله تعالى.
وأما دية المجوسي فأكثر أهل العلم على أنها ثلث خمس دية المسلم. فهو ثمانمائة درهم. ونساؤهم على النصف من ذلك.
وهذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأكثر أهل العلم. منهم عمر وعثمان، وابن مسعود رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وإسحاق.
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ديته نصف دية المسلم كدية الكتابي.
وقال النخعي، والشعبي: ديته كدية المسلم. وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
والاستدلال على أن دية المجوسي كدية الكتابي بحديث (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) لا يتجه. لأنا لو فرضنا صلاحية الحديث للاحتجاج، فالمراد به أخذ الجزية منهم فقط. بدليل أن نساءهم لا تحل، وذبائحهم لا تؤكل اه.
وقال ابن قدامة في (المغني): إن قول من ذكرنا من الصحابة: إن دية المجوسي ثلث خمس دية المسلم، لم يخالفهم فيه أحد من الصحابة فصار إجماعا سكوتيا. وقد قدمنا قول من قال: إنه حجة.
وقال بعض أهل العلم: دية المرتد إن قتل قبل الاستتابة كدية المجوسي. وهو مذهب مالك. وأما الحربيون فلا دية لهم مطلقا. والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع اعلم أن العلماء اختلفوا في موجب التغليظ في الدية. وبم تغلظ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها تغلظ بثلاثة أشياء: وهي القتل في الحرم، وكون المقتول محرما بحج أو عمرة، أو في الأشهر الحرم. فتغلظ الدية في كل واحد منها بزيادة ثلثها.
117

فمن قتل محرما فعليه دية وثلث. ومن قتل محرما في الحرم فدية وثلثان. ومن قتل محرما في الحرم في الشهر الحرام فديتان.
وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله. وروي نحوه عن عمر، وعثمان، وابن عباس رضي الله عنهم. نقله عنهم البيهقي وغيره.
وممن روى عنه هذا القول: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، والشعبي، ومجاهد، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد. وقتادة، والأوزاعي، وإسحاق، وغيرهم. كما نقله عنهم صاحب المغني.
وقال أصحاب الشافعي رحمه الله: تغلظ الدية بالحرم، والأشهر الحرم، وذي الرحم المحرم، وفي تغليظها بالإحرام عنهم وجهان.
وصفة التغليظ عند الشافعي: هي أن تجعل دية العمد في الخطأ. ولا تغلظ الدية عند مالك رحمه الله في قتل الوالد ولده قتلا شبه عمد. كما فعل المدلجي بأبيه. والجد والأم عنده كالأب.
وتغليظها عنده: هو تثليثها بكونها ثلاثين حقه، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة في بطونها أولادها، لا يبالي من أي الأسنان كانت. ولا يرث الأب عنده في هذه الصورة من دية الولد ولا من ماله شيئا.
وظاهر الأدلة أن القاتل لا يرث مطلقا من دية ولا غيرها، سواء كان القتل عمدا أو خطأ.
وفرق المالكية في الخطأ بين الدية وغيرها. فمنعوا ميراثه من الدية دون غيرها من مال التركة. والإطلاق أظهر من هذا التفصيل، والله أعلم. وقصة المدلجي: هي ما رواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن شعيب: أن رجلا من بني مدلج يقال له (قتادة) حذف ابنه بالسيف. فأصاب ساقه فنزى في جرحه فمات. فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له. فقال له عمر: أعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك. فلما قدم إليه عمر بن الخطاب أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، وقال: أين أخو المقتول؟ قال: ها أنذا. قال: خذها. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لقاتل شيء).
الفرع الثامن اعلم أن دية المقتول ميراث بين ورثته. كسائر ما خلفه من تركته.
118

ومن الأدلة الدالة على ذلك، ما روي عن سعيد بن المسيب: أن عمر رضي الله عنه قال: الدية للعاقلة، لا ترث المرأة من دية زوجها. حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه. ورواه مالك في الموطأ من رواية ابن شهاب عن عمر وزاد: قال ابن شهاب: وكان قتلهم أشيم خطأ. وما روي عن الضحاك بن سفيان رضي الله عنه. روي نحوه عن المغيرة بن شعبة وزرارة بن جري. كما ذكره الزرقاني في شرح الموطأ.
ومنها ما رواه عمر بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم (قضى أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم) رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة. وقد قدمنا نص هذا الحديث عند النسائي في حديث طويل.
وهذا الحديث قواه ابن عبد البر، وأعله النسائي. قاله الشوكاني. وهو معتضد بما تقدم وبما يأتي، وبإجماع الحجة من أهل العلم على مقتضاه.
ومنها ما رواه البخاري في تاريخه عن قرة بن دعموص النميري قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي، فقلت: يا رسول الله، عند هذا دية أبي فمره يعطنيها وكان قتل في الجاهلية. فقال: (أعطه دية أبيه) فقلت: هل لأمي فيها حق؟ قال: (نعم) وكانت ديته مائة من الإبل.
وقد ساقه البخاري في التاريخ هكذا: قال قيس بن حفص: أنا الفضيل بن سليمان النميري قال: أنا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري قال: حدثني قرة بن دعموص قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي إلى آخر الحديث باللفظ الذي ذكرنا. وسكت عليه البخاري رحمه الله. ورجال إسناده صالحون للاحتجاج. إلا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري فلم نر من جرحه ولا من عدله.
وذكر له البخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ترجمة، وذكرا أنه سمع قرة بن دعموص ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا.
وظاهر هذه الأدلة يقتضي أن دية المقتول تقسم كسائر تركته على فرائض الله، وهو الظاهر. سواء كان القتل عمدا أو خطأ. ولا يخلو ذلك من خلاف.
وروي عن علي رضي الله عنه أنها ميراث كقول الجمهور، وعنه رواية أخرى: أن
119

الدية لا يرثها إلا العصبة الذين يعقلون عنه، وكان هذا هو رأي عمر، وقد رجع عنه لما أخبره الضحاك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياه: أن يورث زوجة أشيم المذكور من دية زوجها.
وقال أبو ثور: هي ميراث، ولكنها لا تقضي منها ديونه. ولا تنفذ منها وصاياه. وعن أحمد رواية بذلك.
قال ابن قدامة في (المغني): وقد ذكر الخرقي فيمن أوصى بثلث ماله لرجل فقتل وأخذت ديته. فللموصى له بالثلث ثلث الدية في إحدى الروايتين.
والأخرى: ليس لمن أوصى له بالثلث من الدية شيء.
ومبنى هذا: على أن الدية ملك للميت، أو على ملك الورثة ابتداء. وفيه روايتان: إحداهما أنها تحدث على ملك الميت. لأنها بدل نفسه، فيكون بدلها له كدية أطرافه المقطوعة منه في الحياة، ولأنه لو أسقطها عن القاتل بعد جرحه إياه كان صحيحا وليس له إسقاط حق الورثة، ولأنها مال موروث فأشبهت سائر أمواله. والأخرى أنها تحدث على ملك الورثة ابتداء. لأنها إنما تستحق بعد الموت وبالموت تزول أملاك الميت الثابتة له، ويخرج عن أن يكون أهلا لذلك، وإنما يثبت الملك لورثته ابتداء. ولا أعلم خلافا في أن الميت يجهز منها اه محل الغرض من كلام ابن قدامة رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر القولين عندي: أنه يقرر ملك الميت لديته عند موته فتورث كسائر أملاكه. لتصريح النبي صلى الله عليه وسلم للضحاك في الحديث المذكور بتوريث امرأة أشيم الضبابي من ديته. والميراث لا يطلق شرعا إلا على ما كان مملوكا للميت، والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة اختلف العلماء في تعيين ولي المقتول الذي جعل الله له هذا السلطان المذكور في هذه الآية الكريمة في قوله: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) *.
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بالولي في الآية: الورثة من ذوي الأنساب والأسباب، والرجال والنساء، والصغار والكبائر. فإن عفا من له ذلك منهم صح عفوه وسقط به القصاص، وتعينت الدية لمن لم يعف.
وهذا مذهب الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي رحمهم الله تعالى.
120

وقال ابن قدامة في (المغني): هذا قول أكثر أهل العلم. منهم عطاء، والنخعي، والحكم، وحماد والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي. وروي معنى ذلك عن عمر، وطاوس، والشعبي. وقال الحسن، وقتادة، والزهري، وابن شبرمة، والليث، والأوزاعي: ليس للنساء عفو. أي فهن لا يدخلن عندهم في اسم الولي الذي له السلطان في الآية.
ثم قال ابن قدامة: والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة. وهو وجه لأصحاب الشافعي.
قال مقيده عفا الله عنه: مذهب مالك في هذه المسألة فيه تفصيل: فالولي الذي له السلطان المذكور في الآية الذي هو استيفاء القصاص أو العفو عنده هو أقرب الورثة العصبة الذكور، والجد والإخوة في ذلك سواء. وهذا هو معنى قول خليل في مختصره والاستيفاء للعاصب كالولاء، إلا الجد والإخوة فسيان اه.
وليس للزوجين عنده حق في القصاص ولا العفو، وكذلك النساء غير الوارثات: كالعمات، وبنات الإخوة، وبنات العم.
أما النساء الوارثات: كالبنات. والأخوات، والأمهات فلهن القصاص. وهذا فيما إذا لم يوجد عاصب مساو لهن في الدرجة. وهذا هو معنى قول خليل في مختصره: وللنساء إن ورثن ولم يساوهن عاصب.
فمفهوم قوله (إن ورثن) أن غير الوارثات لا حق لهن، وهو كذلك.
ومفهوم قوله: (ولم يساوهن عاصب) أنهن إن ساواهن عاصب: كبنين، وبنات، وإخوة وأخوات، فلا كلام للإناث مع الذكور. وأما إن كان معهن عاصب غير مساو لهن: كبنات، وإخوة. فثالث الأقوال هو مذهب المدونة: أن لكل منها القصاص ولا يصح العفو عنه إلا باجتماع الجميع. أعني ولو عفا بعض هؤلاء، وبعض هؤلاء. وهذا هو معنى قول خليل في مختصره: ولكل القتل ولا عفو إلا باجتماعهم. يعني ولو بعض هؤلاء وبعض هؤلاء.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يقتضي الدليل رجحانه عندي في هذه المسألة: أن الولي في هذه الآية هم الورثة ذكورا كانوا أو إناثا. ولا مانع من إطلاق الولي على الأنثى. لأن المراد جنس الولي الشامل لكل من انعقد بينه وبين غيره سبب يجعل كلا منهما يوالي
121

الآخر. كقوله تعالى: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض) *، وقوله: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) *.
والدليل على شمول الولي في الآية للوارثات من النساء ولو بالزوجية الحديث الوارد بذلك، قال أبو داود في سننه: (باب عفو النساء عن الدم) حدثنا داود بن رشيد، ثنا الوليد عن الأزواعي: أنه سمع حصنا، أنه سمع أبا سلمة يخبر عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة).
قال أبو داود: بلغني أن عفو النساء في القتل جائز إذا كانت إحدى الأولياء. وبلغني عن أبي عبيدة في قوله (ينحجزوا) يكفوا عن القود.
وقال النسائي رحمه الله في سننه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا الوليد بن الأوزاعي قال: حدثني حصين قال: حدثني أبو سلمة (ح) وأنبأنا الحسين بن حريث قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثني حصين: أنه سمع أبا سلمة يحدث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة) اه.
وهذا الإسناد مقارب. لأن رجاله صالحون للاحتجاج، إلا حصنا المذكور فيه ففيه كلام.
فطبقته الأولى عند أبي داود: هي داود بن رشيد الهاشمي مولاهم الخوارزمي نزيل بغداد وهو ثقة. وعند النسائي حسين بن حريث، وإسحاق بن إبراهيم. وحسين بن حريث الخزاعي مولاه أبو عمار المروزي ثقة.
والطبقة الثانية عندهما: هي الوليد بن مسلم القرشي مولاهم أبو العباس الدمشقي ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية، وهو من رجال البخاري ومسلم وباقي الجماعة.
والطبقة الثالثة عندهما: هي الإمام الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو أبو عمر الأوزاعي، وهو الإمام الفقيه المشهور، ثقة جليل.
والطبقة الرابعة عندهما: هي حصن المذكور وهو ابن عبد الرحمن، أو ابن محصن التراغمي أبو حذيفة الدمشقي، قال فيه ابن حجر في (التقريب): مقبول. وقال فيه في (تهذيب التهذيب): قال الدارقطني شيخ يعتبر به، له عند أبي داود والنسائي حديث
122

واحد (على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة) (قلت): وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن القطان لا يعرفه حاله (ا ه) وتوثيق ابن حبان له لم يعارضه شيء مانع من قبوله. لأن من اطلع على أنه ثقة حفظ ما لم يحفظه مدعي أنه مجهول لا يعرف حاله. وذكر ابن حجر في (تهذيب التهذيب) عن أبي حاتم ويعقوب بن سفيان أنهما قالا: لا نعلم أحدا روى عنه غير الأوزاعي.
والطبقة الخامسة عندهما: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وهو ثقة مشهور.
والطبقة السادسة عندهما: عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقد رأيت أن ابن حبان رحمه الله ذكر حصنا المذكور في الثقات. وأن بقية طبقات السند كلها صالح للاحتجاج. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
إذا كان بعض أولياء الدم صغيرا، أو مجنونا، أو غائبا. فهل للبالغ الحاضر العاقل: القصاص قبل قدوم الغائب، وبلوغ الصغير، وإفاقة المجنون؟ أو يجب انتظار قدوم الغائب، وبلوغ الصغير..! الخ.
فإن عفا الغائب بعد قدومه، أو الصغير بعد بلوغه مثلا سقط القصاص ووجبت الدية. في ذلك خلاف مشهور بين أهل العلم.
فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لا بد من انتظار بلوغ الصغير، وقدوم الغائب، وإفاقة المجنون.
وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد. قال ابن قدامة: وبهذا قال ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأبو يوسف، وإسحاق، ويروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وعن أحمد رواية أخرى للكبار العقلاء استيفاؤه. وبه قال حماد، ومالك، والأوزاعي، والليث، وأبو حنيفة اه محل الغرض من كلام صاحب المغني.
وذكر صاحب المغني أيضا: أنه لا يعلم خلافا في وجوب انتظار قدوم الغائب. ومنه استبداد الحاضر دونه.
قال مقيده عفا الله عنه: إن كانت الغيبة قريبة فهو كما قال. وإن كانت بعيدة ففيه
123

خلاف معروف عند المالكية. وظاهر المدونة الانتظار ولو بعدت غيبته.
وقال بعض علماء المالكية منهم سحنون: لا ينتظر بعيد الغيبة. وعليه درج خليل بن إسحاق في مختصره في مذهب مالك، الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى بقوله: (وانتظر غائب لم تبعد غيبته. لا مطبق وصغير لم يتوقف الثبوت عليه).
وقال ابن قدامة في (المغني) ما نصه: والدليل على أن للصغير والمجنون فيه حقا أربعة أمور: أحدها أنه لو كان منفردا لاستحقه. ولو نافاه الصغر مع غيره لنافاه منفردا كولاية النكاح. والثاني أنه لو بلغ لاستحق. ولو لم يكن مستحقا عند الموت لم يكن مستحقا بعده. كالرقيق إذا عتق بعد موت أبيه. والثالث أنه لو صار الأمر إلى المال لاستحق، ولو لم يكن مستحقا للقصاص لما استحق بدله كالأجنبي. والرابع أنه لو مات الصغير لاستحقه ورثته، ولو لم يكن حقا لم يرثه كسائر ما لم يستحقه.
واحتج من قال: إنه لا يلزم انتظار بلوغ الصبي ولا إفاقة المجنون المطبق بأمرين:
أحدهما أن القصاص حق من حقوق القاصر، إلا أنه لما كان عاجزا عن النظر لنفسه كان غيره يتولى النظر في ذلك كسائر حقوقه فإن النظر فيها لغيره، ولا ينتظر بلوغه في جميع التصرف بالمصلحة في جميع حقوقه. وأولى من ينوب عنه في القصاص الورثة المشاركون له فيه. وهذا لا يرد عليه شيء من الأمور الأربعة التي ذكرها صاحب المغني. لأنه يقال فيه بموجبها فيقال فيه: هو مستحق لكنه قاصر في الحال، فيعمل غيره بالمصلحة في حقه في القصاص كسائر حقوقه. ولا سيما شريكه الذي يتضرر بتعطيل حقه في القصاص إلى زمن بعيد.
الأمر الثاني أن الحسن بن علي رضي الله عنه قتل عبد الرحمن بن ملجم المرادي قصاصا بقتله عليا رضي الله عنه، وبعض أولاد علي إذ ذاك صغار، ولم ينتظر بقتله بلوغهم، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة ولا غيرهم. وقد فعل ذلك بأمر علي رضي الله عنه كما هو مشهور في كتب التاريخ. ولو كان انتظار بلوغ الصغير واجبا لانتظره.
وأجيب عن هذا من قبل المخالفين بجوابين: أحدهما أن ابن ملجم كافر. لأنه مستحل دم علي، ومن استحل دم مثل علي رضي الله عنه فهو كافر. وإذا كان كافرا فلا حجة في قتله. الثاني أنه ساع في الأرض بالفساد، فهو محارب، والمحارب إذا قتل وجب قتله على كل حال ولو عفا أولياء الدم. كما قدمناه في سورة (المائدة) وإذن فلا
124

داعي للانتظار.
قال: البيهقي في السنن الكبرى ما نصه: قال بعض أصحابنا: إنما استبد الحسن بن علي رضي الله عنهما بقتله قبل بلوغ الصغار من ولد علي رضي الله عنه. لأنه قتله حدا لكفره لا قصاصا.
وقال ابن قدامة في (المغني): فأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله بكفره. لأنه قتل عليا مستحلا لدمه، معتقدا كفره، متقربا بذلك إلى الله تعالى. وقيل: قتله لسعيه في الأرض بالفساد وإظهار السلاح، فيكون كقاطع الطريق إذا قتل، وقتله متحتم، وهو إلى الإمام. والحسن هو الإمام، ولذلك لم ينتظر الغائبين من الورثة. ولا خلاف
بيننا في وجوب انتظارهم. وإن قدر أنه قتله قصاصا فقد اتفقنا على خلافه. فكيف يحتج به بعضنا على بعض. انتهى كلام صاحب المغني.
وقال ابن كثير في تاريخه ما نصه: قال العلماء: ولم ينتظر بقتله بلوغ العباس بن علي. فإنه كان صغيرا يوم قتل أبوه. قالوا: لأنه كان قتل محاربة لا قصاصا. والله أعلم اه.
واستدل القائلون بأن ابن ملجم كافر بالحديث الذي رواه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أشقى الأولين)؟ قلت: عاقر الناقة. قال: (صدقت. فمن أشقى الآخرين)؟ قلت: لا علم لي يا رسول الله. قال: (الذي يضربك على هذا وأشار بيده على يافوخه فيخضب هذه من هذه يعني لحيته من دم رأسه) قال: فكان يقول: وددت أنه قد انبعث أشقاكم) وقد ساق طرق هذا الحديث ابن كثير رحمه الله في تاريخه، وابن عبد البر في (الاستيعاب) وغيرهما.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي عليه أهل التاريخ والأخبار والله تعالى أعلم أن قتل ابن ملجم كان قصاصا لقتله عليا رضي الله عنه. لا لكفر ولا حرابة. وعلي رضي الله عنه لم يحكم بكفر الخوارج. ولما سئل عنهم قال: من الكفر فروا. فقد ذكر المؤرخون أن عليا رضي الله عنه أمرهم أن يحبسوا ابن ملجم ويحسنوا إساره، وأنه إن مات قتلوه به قصاصا، وإن حي فهو ولي دمه. كما ذكره ابن جرير، وابن الأثير، وابن كثير وغيرهم في تواريخهم.
وذكره البيهقي في سننه، وهو المعروف عند الإخباريين. ولا شك أن ابن ملجم
125

متأول قبحه الله ولكنه تأويل بعيد فاسد، مورد صاحبه النار، ولما ضرب عليا رضي الله عنه قال: الحكم لله يا علي، لا لك ولا لأصحابكا ومراده أن رضاه بتحكيم الحكمين: أبي موسى، وعمرو بن العاص كفر بالله لأن الحكم لله وحده. لقوله: * (إن الحكم إلا لله) *.
ولما أراد أولاد علي رضي الله عنه أن يتشفوا منه فقطعت يداه ورجلاه لم يجزع، ولا فتر عن الذكر. ثم كحلت عيناه وهو في ذلك يذكر الله، وقرأ سورة * (اقرأ باسم ربك) * إلى آخرها، وإن عينيه لتسيلان على خديه. ثم حاولوا لسانه ليقطعوه فجزع من ذلك جزعا شديدا. فقيل له في ذلك؟ فقال: إني أخاف أن أمكث فواقا لا أذكر الله (ا ه) ذكره ابن كثير وغيره.
ولأجل هذا قال عمران بن حطان السدوسي يمدح ابن ملجم قبحه الله في قتله أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه: ولأجل هذا قال عمران بن حطان السدوسي يمدح ابن ملجم قبحه الله في قتله أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه:
* يا ضربة من تقي ما أراد بها
* إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
*
* إني لأذكره يوما فأحسبه
* أو في البرية عند الله ميزانا
*
وجزى الله خيرا الشاعر الذي يقول في الرد عليه: وجزى الله خيرا الشاعر الذي يقول في الرد عليه:
* قل لابن ملجم والأقدار غالبة
* هدمت ويلك للإسلام أركانا
*
* قتلت أفضل من يمشي على قدم
* وأول الناس إسلاما وإيمانا
*
* وأعلم الناس بالقرآن ثم بما
* سن الرسول لنا شرعا وتبيانا
*
* صهر النبي ومولاه وناصره
* أضحت مناقبه نورا وبرهانا
*
* وكان منه على رغم الحسود له
* مكان هارون من موسى بن عمرانا
* ذكرت قاتله والدمع منحدر
; فقلت: سبحان رب العرش سبحانا
* إني لأحسبه ما كان من بشر
* يخشى المعاد ولكن كان شيطانا
*
* أشقى مراد إذا عدت قبائلها
* وأخسر الناس عند الله ميزانا
*
* كعاقر الناقة الأولى التي جلبت
* على ثمود بأرض الحجر خسرانا
*
* قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها
* قبل المنية أزمانا فأزمانا
*
* فلا عفا الله عنه ما تحمله
* ولا سقى قبر عمران بن حطانا
*
* لقوله في شقي ظل مجترما
* ونال ما ناله ظلما وعدوانا
*
126

* (يا ضربة من تقى ما أراد بها
* إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا)
*
* بل ضربة من غوى أوردته لظى
* فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
*
* كأنه لم يرد قصدا بضربته
* إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا
*
وبما ذكرنا تعلم أن قتل الحسن بن علي رضوان الله عنه لابن ملجم قبل بلوغ الصغار من أولاد علي يقوي حجة من قال بعدم انتظار بلوغ الصغير.
وحجة من قال أيضا بكفره قوية. للحديث الدال على أنه أشقى الآخرين، مقرونا بقاتل ناقة صالح المذكور في قوله: * (إذ انبعث أشقاها) * وذلك يدل على كفره. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة اعلم أن هذا القتل ظلما، الذي جعل الله بسببه هذا السلطان والنصر المذكورين في هذه الآية الكريمة، التي هي قوله تعالى: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) *، يثبت بواحد من ثلاثة أشياء: اثنان منها متفق عليهما، وواحد مختلف فيه.
أما الاثنان المتفق على ثبوته بهما: فهما الإقرار بالقتل، والبينة الشاهدة عليه.
وأما الثالث المختلف فيه: فهو أيمان القسامة مع وجود اللوث، وهذه أدلة ذلك كله.
أما الإقرار بالقتل فقد دلت أدلة على لزوم السلطان المذكور في الآية الكريمة به. قال البخاري في صحيحه: (باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به) حدثني إسحاق، أخبرنا حبان، حدثنا همام، حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك: أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين. فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سمي اليهودي. فأومأت برأسها، فجيء باليهودي فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بالحجارة. وقد قال همام: بحجرين.
وقد قال البخاري أيضا: (باب سؤال القاتل حتى يقر) ثم ساق حديث أنس هذا وقال فيه: فلم يزل به حتى أقر فرض رأسه بالحجارة. وهو دليل صحيح واضح على لزوم السلطان المذكور في الآية الكريمة بإقرار القاتل. وحديث أنس هذا أخرجه أيضا مسلم، وأصحاب السنن، والإمام أحمد. ومن الأدلة الدالة على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا عبيد الله بن معاذ
127

العنبري، حدثنا أبي، حدثنا أبو يونس عن سماك بن حرب: أن علقمة بن وائل حدثه أن أباه حدثه قال: إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال: يا رسول الله، هذا قتل أخيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقتلته)؟ فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة. قال نعم قتلته. قال: (كيف قتلته؟) قال كنت: أنا وهو نختبط من شجرة. فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هل لك من شيء تؤديه عن نفسك)؟ قال: ما لي مال إلا كسائي وفأسي. قال: (فترى قومك يشترونك) قال: أنا أهون على قومي من ذاكا فرمى إليه بنسعته وقال: (دونك صاحبك..) الحديث. وفيه الدلالة الواضحة على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بالإقرار.
ومن الأدلة على ذلك إجماع المسلمين عليه. وسيأتي إن شاء الله إيضاح إلزام الإنسان ما أقربه على نفسه في سورة (القيامة).
وأما البينة الشاهدة بالقتل عمدا عدوانا فقد دل الدليل أيضا على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بها. قال أبو داود في سننه: حدثنا الحسن بن علي بن راشد، أخبرنا هشيم، عن أبي حيان التيمي، ثنا عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج قال: أصبح رجل من الأنصار مقتولا بخيبر. فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: (لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم)؟ قالوا: يا رسول الله، لم يكن ثم أحد من المسلمين، وإنما هم يهودا وقد يجترئون على أعظم من هذا، قال: (فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم فأبوا. فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده اه).
فقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (لكم شاهدان على قتل صاحبكم). فيه دليل واضح على ثبوت السلطان المذكور في الآية بشهادة شاهدين على القتل.
وهذا الحديث سكت عليه أبو داود، والمنذري. ومعلوم أن رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. إلا الحسن بن علي بن راشد وقد وثق. وقال فيه ابن حجر في (التقريب): صدوق رمي بشيء من التدليس.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا محمد بن معمر قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا على أبواب خيبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته) قال: يا رسول الله، ومن أين أصيب شاهدين، وإنما أصبح قتيلا
128

على أبوابهم. قال: (فتحلف خمسين قسامة) قال: يا رسول الله، وكيف أحلف على ما لا أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فنستحلف منهم خمسين قسامة) فقال: يا رسول الله، كيف نستحلفهم وهم اليهود فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها اه.
فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته) دليل واضح على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بشهادة شاهدين. وأقل درجات هذا الحديث الحسن. وقال فيه ابن حجر في (الفتح): هذا السند صحيح حسن.
ومن الأدلة الدالة على ذلك إجماع المسلمين على ثبوت القصاص بشهادة عدلين على القتل عمدا عدوانا.
وقد قدمنا قول من قال من العلماء: إن أخبار الآحاد تعتضد بموافقة الإجماع لها حتى تصير قطعية كالمتواتر، لاعتضادها بالمعصوم وهو إجماع المسلمين.
وأكثر أهل الأصول يقولون: إن اعتضاد خبر الآحاد بالإجماع لا يصيره قطعيا. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث أخبار الآحاد: وأكثر أهل الأصول يقولون: إن اعتضاد خبر الآحاد بالإجماع لا يصيره قطعيا. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث أخبار الآحاد:
* ولا يفيد القطع ما يوافق ال
* إجماع والبعض بقطع ينطق
*
* وبعضهم يفيد حيث عولا
* عليه وانفه إذا ما قد خلا
*
* مع دواعي رده من مبطل
* كما يدل لخلافة علي
*
وقوله: وانفه إذا ما قد خلا.. الخ مسألة أخرى غير التي نحن بصددها. وإنما ذكرناها لارتباط بعض الأبيات ببعض.
وأما أيمان القسامة مع وجود اللوث فقد قال بعض أهل العلم بوجوب القصاص بها. وخالف في ذلك بعضهم.
فممن قال بوجوب القود بالقسامة: مالك وأصحابه، وأحمد، وهو أحد قولي الشافعي، وروي عن ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز. والظاهر أن عمر بن عبد العزيز
رجع عنه.
وبه قال أبو ثور، وابن المنذر، وهو قول الزهري، وربيعة، وأبي الزناد، والليث، والأزواعي، وإسحاق، وداود.
وقضى بالقتل بالقسامة عبد الملك بن مروان، وأبوه مروان. وقال أبو الزناد: قلنا
129

بها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان.
وقال ابن حجر (في فتح الباري). إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة وروي بن زيد بن ثابت. كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة فضلا عن ألف.
وممن قال بأن القسامة تجب بها الدية ولا يجب بها القود: الشافعي في أصح قوليه، وهو مذهب أبي حنيفة، وروى عن أبي بكر وعمر وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم. وهو مروي عن الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان البتي، والحسن بن صالح، وغيرهم. وعن معاوية: القتل بها أيضا.
وذهبت جماعة أخرى إلى أن القسامة لا يثبت بها حكم من قصاص ولا دية. وهذا مذهب الحكم بن عتيبة، وأبي قلابة، وسالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، وقتادة، ومسلم بن خالد، وإبراهيم بن علية. وإليه بنحو البخاري، وروي عن عمر بن عبد العزيز باختلاف عنه.
وروي عن عبد الملك بن مروان أنه ندم على قتله رجلا بالقسامة، ومحا أسماء الذين حلفوا أيمانهم من الديوان، وسيرهم إلى الشام. قاله البخاري في صحيحه.
فإذا عرفت أقوال لهم أهل العلم في القسامة فدونك أدلتهم على أقوالهم في هذه المسألة:
أما الذين قالوا بالقصاص بالقسامة فاستدلوا على ذلك بما ثبت في بعض روايات حديث سهل بن أبي حثمة في صحيح مسلم وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قتل عبد الله بن سهل الأنصاري بخيبر، مخاطبا لأولياء المقتول: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته..) الحديث. فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الثابت في صحيح مسلم وغيره (فيدفع برمته) معناه: أنه يسلم لهم ليقتلوه بصاحبهم. وهو نص صحيح صريح في القود بالقسامة.
ومن أدلتهم على ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي الذي قدمناه قريبا. وقد قدمنا عن ابن حجر أنه قال فيه: صحيح حسن. فقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته) صريح أيضا في القود بالقسامة. وادعاء أن معنى دفعه إليهم برمته: أي ليأخذوا منه الدية بعيد جدا كما ترى
130

.
ومن أدلتهم ما ثبت في رواية متفق عليها في حديث سهل المذكور: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأولياء المقتول: (تحلفون خمسين يمينا وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم..) الحديث. قالوا: فعلى أن الرواية (قاتلكم) فهي صريح في القود بالقسامة. وعلى أنها (صاحبكم) فهي محتملة لذلك احتمالا قويا. وأجيب من جهة المخالف بأن هذه الرواية لا يصح الاحتجاج بها للشك في اللفظ الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو فرضنا أن لفظ الحديث في نفس الأمر (صاحبكم) لاحتمل أن يكون المراد به المقتول، وأن المعنى: تستحقون ديته. والاحتمال المساوي يبطل الاستدلال كما هو معروف في الأصول. لأن مساواة الاحتمالين يصير بها اللفظ مجملا، والمجمل يجب التوقف عنه حتى يرد دليل مبين للمراد منه.
ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند الإمام أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا ثم تسلمه).
ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند مسلم وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم) قالوا: معنى (دم صاحبكم) قتل القاتل.
وأجيب من جهة المخالف باحتمال أن المراد (بدم صاحبكم) الدية، وهو احتمال قوي أيضا. لأن العرب تطلق الدم على الدية. ومنه قوله: وأجيب من جهة المخالف باحتمال أن المراد (بدم صاحبكم) الدية، وهو احتمال قوي أيضا. لأن العرب تطلق الدم على الدية. ومنه قوله:
* أكلت دما إن لم أرعك بضرة
* بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
*
ومن أدلتهم ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد قالا: حدثنا الوليد (ح) وحدثنا محمد بن الصباح بن سفيان، أخبرنا الوليد عن أبي عمرو، عن عمرو بن شعيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاة على شط لية البحرة قال القائل والمقتول منهم. وهذا لفظ محمود ببحرة أقامه محمود وحده على شط لية اه وانقطاع سند هذا الحديث واضح في قوله: (عن عمرو بن شعيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كما ترى. وقد ساق البيهقي في السنن الكبرى حديث أبي داود هذا وقال: هذا منقطع، ثم قال: وروى أبو داود أيضا في المراسيل عن موسى بن إسماعيل، عن حماد عن قتادة، وعامر الأحول عن أبي المغيرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أقاد بالقسامة الطائف) وهو أيضا منقطع. وروى البيهقي في سننه عن أبي الزناد قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، أن رجلا من الأنصار قتل وهو سكران
131

رجلا ضربه بشويق، ولم يكن على ذلك بينة قاطعة إلا لطخ أو شبيه ذلك، وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن فقهاء الناس ما لا يحصى، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا. فحلفوا خمسين يمينا وقتلوا، وكانوا يخبرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى
بالقسامة، ويرونها للذي يأتي به من اللطخ أو الشبهة أقوى مما يأتي به خصمه، ورأوا ذلك في الصهيبي حين قتله الحاطبيون وفي غيره. ورواه ابن وهب عن أبي الزناد وزاد فيه: أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص: إن كان ما ذكرنا له حقا أن يحلفنا على القاتل ثم يسلمه إلينا.
وقال البيهقي في سننه أيضا: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا بحر بن نصر، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد: أن هشام بن عروة أخبره: أن رجلا من آل حاطب بن أبي بلتعة كانت بينه وبين رجل من آل صهيب منازعة.. فذكر الحديث في قتله قال: فركب يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك. فقضى بالقسامة على ستة نفر من آل حاطب، فثنى عليهم الأيمان، فطلب آل حاطب أن يحلفوا على اثنين ويقتلوهما. فأبى عبد الملك إلا أن يحلفوا على واحد فيقتلوه. فحلفوا على الصهيبي فقتلوه. قال هشام: فلم ينكر ذلك عروة، ورأى أن قد أصيب فيه الحق، وروينا فيه عن الزهري وربيعة.
ويذكر عن ابن أبي مليكة عن عمر بن عبد العزيز وابن الزبير: أنهما أقادا بالقسامة.
ويذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه رجع عن ذلك وقال: إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس. فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة انتهى كلام البيهقي رحمه الله.
هذه هي أدلة من أوجب القود بالقسامة.
وأما حجج من قال: لا يجب بها إلا الدية فمنها ما ثبت في بعض روايات حديث سهل المذكور عند مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب).
قال النووي في شرح مسلم: معناه إن ثبت القتل عليهم بقسامتكم فإما أن يدوا صاحبكم أي يدفعوا إليكم ديته وإما أن يعلمونا أنهم ممتنعون من التزام أحكامنا. فينتقض عهدهم، ويصيرون حربا لنا.
وفيه دليل لمن يقول: الواجب بالقسامة الدية دون القصاص اه كلام النووي،
132

رحمه الله.
ومنها ما ثبت في بعض روايات الحديث المذكور في صحيح البخاري وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفتسحقون الدية بأيمان خمسين منكم) قالوا: هذه الرواية الثابتة في صحيح البخاري صريحة في أن المستحق بأيمان القسامة إنما هو الدية لا القصاص.
ومن أدلتهم أيضا ما ذكره الحافظ (في فتح الباري) قال: وتمسك من قال: لا يجب فيها إلا الدية بما أخرجه الثوري في جامعه، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور بسند صحيح إلى الشعبي قال: وجد قتيل بين حيين من العرب فقال عمر: قيسوا ما بينهما فأيهما وجدتموه إليه أقرب فأحلفوهم خمسين يمينا، وأغرموهم الدية. وأخرجه الشافعي عن سفيان بن عيينة، عن منصور، عن الشعبي: أن عمر كتب في قتيل وجد بين خيران وداعة أن يقاس ما بين القريتين. فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منها خمسون رجلا حتى يوافوه في مكة، فأدخلهم الحجر فأحلفهم، ثم قضى عليهم الدية. فقال: (حقنتم بأيمانكم دماءكم، ولا يطل دم رجل مسلم).
قال الشافعي: إنما أخذه الشعبي عن الحارث الأعور، والحارث غير مقبول. انتهى. وله شاهد مرفوع من حديث أبي سعيد عند أحمد: أن قتيلا وجد بين حيين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم (أن يقاس إلى أيهما أقرب فألقى ديته على الأقرب) ولكن سنده ضعيف.
وقال عبد الرزاق في مصنفه: عن معمر قال: قلت لعبد الله بن عمر العمري: أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فعمر؟ قال لا. قلت: فكيف تجترؤون عليها؟ فسكت... الحديث.
وأخرج البيهقي من طريق القاسم بن عبد الرحمن: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: في القسامة: توجب العقل ولا تسقط الدم. انتهى كلام ابن حجر رحمه الله.
وأما حجة من قال: إن القسامة لا يلزم بها حكم فهي أن الذين يحلفون أيمان القسامة إنما يحلفون على شيء لم يحضروه، ولم يعلموا أحق هو أم باطل، وحلف الإنسان على شيء لم يره دليل على أنه كاذب.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان، حدثنا أبو رجاء من آل أبي قلابة، حدثني أبو
133

قلابة: أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس، ثم أذن لهم فدخلوا، فقال: ما تقولون في القسامة؟ قال: نقول القسامة القود بها حق، وقد أقادت بها الخلفاء. قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس. فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك رؤوس الأجناد وأشراف العربا أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى لم يروه، أكنت ترجمه؟ قال لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق، أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال لا. قلت: فوالله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قط إلا في إحدى ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل أو رجل زنى بعد إحصان. أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام.. إلى آخر حديثه.
ومراد أبي قلابة واضح، وهو أنه كيف يقتل بأيمان قوم يحلفون على شيء لم يروه ولم يحضروها
هذا هو حاصل كلام أهل العلم في القود بالقسامة، وهذه حججهم.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال عندي دليلا القود بالقسامة. لأن الرواية الصحيحة التي قدمنا فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنهم إن حلفوا أيمان القسامة دفع القاتل برمته إليهم) وهذا معناه القتل بالقسامة كما لا يخفى. ولم يثبت ما يعارض هذا. والقسامة أصل وردت به السنة، فلا يصح قياسه على غيره من رجم أو قطع. كما ذهب إليه أبو قلابة في كلامه المار آنفا. لأن القسامة أصل من أصول الشرع مستقل بنفسه. شرع لحياة الناس وردع المعتدين، ولم تمكن فيه أولياء المقتول من أيمان القسامة إلا مع حصول لوث يغلب على الظن به صدقهم في ذلك.
تنبيه
اعلم أن رواية سعيد بن عبيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة التي فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم (لما سأل أولياء المقتول هل لهم بينة) وأخبروه بأنهم ليس لهم بينة قال: (يحلفون) يعني اليهود المدعى عليهم، وليس فيها ذكر حلف أولياء المقتول أصلا لا دليل فيها لمن نفى القود بالقسامة. لأن سعيد بن عبيد وهم فيها، فأسقط من السياق تبدئة المدعين باليمين. لكونه لم يذكر في روايته رد اليمين. ورواه يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض الأيمان أولا على أولياء المقتول، فلما أبوأ عرض عليهم رد الأيمان على المدعى عليهم. فاشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة
134

من ثقة حافظ فوجب قبولها. وقد ذكر البخاري رحمه الله رواية سعيد بن عبيد (في باب القسامة)، وذكر رواية يحيى بن سعيد (في باب الموادعة والمصالحة مع المشركين... الخ) وفيها: (تحلفون وتستحقون قاتلكم) أو صاحبكم الحديث. والخطاب في قوله (تحلفون وتستحقون، لأولياء المقتول).
وجزم بما ذكرنا من تقديم رواية يحيى بن سعيد المذكورة على رواية سعيد بن عبيد ابن حجر في الفتح وغير واحد. لأنها زيادة من ثقة حافظ لم يعارضها غيرها فيجب قبولها. كما هو مقرر في علم الحديث وعلم الأصول.
وقال القرطبي في تفسيره في الكلام على قوله تعالى: * (فقلنا اضربوه ببعضها) *: وقد أسند حديث سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ المدعين: يحيى بن سعيد، وابن عيينة، وحماد بن زيد، وعبد الوهاب الثقفي، وعيسى بن حماد، وبشر بن المفضل. فهؤلاء سبعة. وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد.
وقال مالك رحمه الله (في الموطأ) بعد أن ساق رواية يحيى بن سعيد المذكورة: الأمر المجتمع عليه عندنا، والذي سمعته ممن أرضى في القسامة، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث: أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون اه محل الغرض منه.
واعلم أن العلماء أجمعوا على أن القسامة يشترط لها لوث، ولكنهم اختلفوا في تعيين اللوث الذي تحلف معه أيمان القسامة. فذهب مالك رحمه الله إلى أنه أحد أمرين:
الأول أن يقول المقتول: دمي عند فلان. وهل يكفي شاهد واحد على قوله ذلك، أو لا بد من اثنين؟ خلاف عندهم.
والثاني أن تشهد بذلك بينة لا يثبت بها القتل كاثنين غير عدلين.
قال مالك في الموطأ: الأمر المجتمع عليه عندنا والذي سمعته ممن أرضى في القسامة والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون، وأن القسامة لا تجب إلا بأحد أمرين: إما أن يقول المقتول دمي عند فلان، أو يأتي ولاة الدم بلوث من بينة وإن لم تكن قاطعة على الذي يدعى عليه الدم. فهذا يوجب القسامة لمدعي الدم على من ادعوه عليه. ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين
135

الوجهين اه محل الغرض منه، هكذا قال في الموطأ، وستأتي زيادة عليه إن شاء الله.
واعلم أن كثيرا من أهل العلم أنكروا على مالك رحمه الله إيجابه القسامة بقول المقتول قتلني فلان. قالوا: هذا قتل مؤمن بالأيمان على دعوى مجردة.
واحتج مالك رحمه الله بأمرين:
الأول أن المعروف من طبع الناس عند حضور الموت: الإنابة والتوبة والندم على ما سلف من العمل السيء. وقد دلت على ذلك آيات قرآنية. كقوله * (وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) *، وقوله: * (حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الا ن) *، وقوله: * (فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين) * إلى غير ذلك من الآيات.
فهذا معهود من طبع الإنسان، ولا يعلم من عادته أن يدع قاتله ويعدل إلى غيره، وما خرج عن هذا نادر في الناس لا حكم له.
الأمر الثاني أن قصة قتيل بني إسرائيل تدل على اعتبار قول المقتول دمي عند فلان. فقد استدل مالك بقصة القتيل المذكور على صحة القول بالقسامة بقوله قتلني فلان، أو دمي عند فلان في رواية ابن وهب وابن القاسم.
ورد المخالفون هذا الاستدلال بأن إحياء معجزة لنبي الله موسى، وقد أخبر الله تعالى أنه يحييه، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبرا جزما لا يدخله احتمال فافترقا.
ورد ابن العربي المالكي هذا الاعتراض بأن المعجزة إنما كانت في إحياء المقتول، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد.
قال: وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه. فلعله أمرهم بالقسامة معه اه كلام ابن العربي. وهو غير ظاهر عندي. لأن سياق القرآن يقتضي أن القتيل إذا ضرب ببعض البقرة وحيي أخبرهم بقاتله، فانقطع بذلك النزاع المذكور في قوله تعالى: * (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها) *. فالغرض الأساسي من ذبح البقرة قطع النزاع بمعرفة القاتل بإخبار المقتول إذا ضرب ببعضها فحيي والله تعالى أعلم. والشاهد العدل لوث عند مالك في رواية ابن القاسم. وروى أشهب عن مالك: أنه
136

يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة وروى ابن وهب: أن شهادة النساء لوث. وذكر محمد عن ابن القاسم: أن شهادة المرأتين لوث. دون شهادة المرأة الواحدة.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: اختلف في اللوث اختلافا كثيرا. ومشهور مذهب مالك: أنه الشاهد العدل. وقال محمد: هو أحب إلي، قال: وأخذ به ابن القاسم وابن عبد الحكم.
وممن أوجب القسامة بقوله دمي عند فلان: الليث بن سعد وروي عن عبد الملك بن مروان.
والذين قالوا بالقسامة بقول المقتول دمي عند فلان، منهم من يقول: يشترط في ذلك أن يكون به جراح. ومنهم من أطلق.
والذي به الحكم وعليه العمل عند المالكية: أنه لا بد في ذلك من أثر جرح أو ضرب بالمقتول، ولا يقبل قوله بدون وجود أثر الضرب.
واعلم أنه بقيت صورتان من صور القسامة عند مالك.
الأولى أن يشهد عدلان بالضرب، ثم يعيش المضروب بعده أياما ثم يموت منه من غير تخلل إفاقة. وبه قال الليث أيضا.
وقال الشافعي: يجب في هذه الصورة القصاص بتلك الشهادة على الضرب. وهو مروي أيضا عن أبي حنيفة.
الثانية أن يوجد مقتول وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل، وعليه أثر الدم مثلا، ولا يوجد غيره فتشرع القسامة عند مالك. وبه قال الشافعي. ويلحق بهذا أن تفترق جماعة من قتيل. وفي رواية عن مالك في القتيل يوجد بين طائفتين مقتتلتين: أن القسامة على الطائفة التي ليس منها القتيل إن كان من إحدى الطائفتين. أما إن كان من غيرهما فالقسامة عليهما. والجمهور على أن القسامة عليهما معا مطلقا. قاله ابن حجر في الفتح.
وأما اللوث الذي تجب به القسامة عند الإمام أبي حنيفة فهو أن يوجد قتيل في محلة أو قبيلة لم يدر قاتله، فيحلف خمسون رجلا من أهل تلك المحلة التي وجد بها القتيل يتخيرهم الولي ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا. ثم إذا حلفوا غرم أهل المحلة الدية ولا يحلف الولي، وليس في مذهب أبي حنيفة رحمه الله قسامة إلا بهذه الصورة.
وممن قال بأن وجود القتيل بمحلة لوث يوجب القسامة: الثوري والأوزاعي.
137

وشرط هذا عند القائلين به إلا الحنفية: أن يوجد بالقتل أثر. وجمهور أهل العلم على أن وجود القتيل بمحلة لا يوجب القسامة، بل يكون هدرا لأنه قد يقتل ويلقى في المحلة لتلصق بهم التهمة. وهذا ما لم يكونوا أعداء للمقتول ولم يخالطهم غيرهم وإلا وجبت القسامة. كقصة اليهود مع الأنصاري.
وأما الشافعي رحمه الله فإن القسامة تجب عنده بشهادة من لا يثبت القتل بشهادته. كالواحد أو جماعة غير عدول. وكذلك تجب عنده بوجود المقتول يتشحط في دمه، وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل وعليه أثر الدم مثلا ولا يوجد غيره، ويلحق به افتراق الجماعة عن قتيل.
وقد قدمنا قول الجمهور في القتيل يوجد بين الطائفتين المقتتلتين. والذي يظهر لي أنه إن كان من إحدى الطائفتين المقتتلتين: أن القسامة فيه تكون على الطائفة الأخرى دون طائفته التي هو منها وكذلك تجب عنده فيما كقصة اليهودي مع الأنصاري.
واما الإمام أحمد فاللوث الذي تجب به القسامة عنده فيه روايتان.
الأولى أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار واليهود، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب وما جرى مجرى ذلك. ولا يشترط عنده على الصحيح ألا يخالطهم غيرهم نص على ذلك الإمام أحمد في رواية مهنأ. واشترط القاضي ألا يخالطهم غيرهم كمذهب الشافعي. قاله في المغني.
والرواية الثانية عن أحمد رحمه الله أن اللوث هو ما يغلب به على الظن صدق المدعي، وذلك من وجوه.
أحدها: العداوة المذكورة.
والثاني: أن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثا في حق كل واحد منهم. فإن ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه ذكره القاضي، وهو مذهب الشافعي.
والثالث: أن يوجد المقتول ويوجد بقربه رجل معه سكين أو سيف ملطخ بالدم، ولا يوجد غيره.
الرابع: أن تقتتل فئتان فيفترقون عن قتيل من إحداهما، فاللوث على الأخرى
138

. ذكره القاضي. فإن كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضا فاللوث على طائفة القتيل. وهذا قول الشافعي. وروي عن أحمد: أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه. وهذا قول مالك. وقال ابن أبي ليلى: على الفريقين جميعا، لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه. وقد قدمنا عن ابن حجر أن هذا قول الجمهور.
الخامس: أن يشهد بالقتل عبيد ونساء. فعن أحمد هو لوث لأنه يغلب على الظن صدق المدعي. وعنه ليس بلوث، لأنها شهادة مردودة فلم يكن لها أثر.
فأما القتيل الذي يوجد في الزحام كالذي يموت من الزحام يوم الجمعة أو عند الجمرة فظاهر كلام أحمد أن ذلك ليس بلوث، فإنه قال فيمن مات بالزحام يوم الجمعة: ديته في بيت المال. وهذا قول إسحاق، وروي عن عمر وعلي، فإن سعيدا روى في سننه عن إبراهيم قال: قتل رجل في زحام الناس بعرفة. فجاء أهله إلى عمر فقال بينتكم على من قتله؟ فقال علي: يا أمير المؤمنين، لا يطل دم امرئ مسلم إن علمت قاتله، وإلا فأعطهم ديته من بيت المال. انتهى من المغني.
وقد قال ابن حجر في الفتح (في باب إذا مات في الزحام أو قتل) في الكلام على قتل المسلمين يوم أحد اليمان والد حذيفة رضي الله عنهما ما نصه: وحجته (يعني
إعطاء ديته من بيت المال) ما ورد في بعض طرق قصة حذيفة، وهو ما أخرجه أبو العباس السراج في تاريخه من طريق عكرمة: أن والد حذيفة قتل يوم أحد بعض المسلمين وهو يظن أنه من المشركين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجاله ثقات مع إرساله. وقد تقدم له شاهد مرسل أيضا (في باب العفو عن الخطأ) وروى مسدد في مسنده من طريق يزيد بن مذكور: أن رجلا زحم يوم الجمعة فمات فوداه علي من بيت المال.
وفي المسألة مذاهب أخرى (منها) قول الحسن البصري: أن ديته تجب على جميع من حضر، وهو أخص من الذي قبله. وتوجيهه: أنه مات بفعلهم فلا يتعداهم إلى غيرهم. (ومنها) قول الشافعي ومن تبعه: أنه يقال لوليه ادع على من شئت واحلف. فإن حلفت استحققت الدية، وإن نكلت حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة. وتوجيهه: أن الدم لا يجب إلا بالطلب.
(ومنها) قول مالك: دمه هدر. وتوجيهه: أنه إذا لم يعلم قائله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد. وقد تقدمت الإشارة إلى الراجح من هذه المذاهب (في باب العفو عن الخطأ) انتهى
139

كلام ابن حجر رحمه الله.
والترجيح السابق الذي أشار له هو قوله في قول حذيفة رضي الله عنه مخاطبا للمسلمين الذين قتلوا أباه خطأ: (غفر الله لكم) استدل به من قال: إن ديته وجبت على من حضر. لأن معنى قوله (غفر الله لكم) عفوت عنكم، وهو لا يعفو إلا عن شيء استحق أن يطالب به. انتهى محل الغرض منه. فكأن ابن حجر يميل إلى ترجيح قول الحسن البصري رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال عندي في اللوث الذي تجب القسامة به: أنه كل ما يغلب به على الظن صدق أولياء المقتول في دعواهم. لأن جانبهم يترجح بذلك فيحلفون معه. وقد تقرر في الأصول (أن المعتبر في الروايات والشهادات ما تحصل به غلبة الظن) وعقده صاحب مراقي السعود بقوله في شروط الراوي: قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال عندي في اللوث الذي تجب القسامة به: أنه كل ما يغلب به على الظن صدق أولياء المقتول في دعواهم. لأن جانبهم يترجح بذلك فيحلفون معه. وقد تقرر في الأصول (أن المعتبر في الروايات والشهادات ما تحصل به غلبة الظن) وعقده صاحب مراقي السعود بقوله في شروط الراوي:
* بغالب الظن يدور المعتبر
* فاعتبر الإسلام من غبر الخ
*
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول لا يحلف النساء ولا الصبيان في القسامة، وإنما يحلف فيها الرجال. وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد، والثوري والأوزاعي وربيعة والليث، ووافقهم مالك في قسامة العمد، وأجاز حلف النساء الوارثات في قسامة الخطأ خاصة. وأما الصبي فلا خلاف بين العلماء في أنه لا يحلف أيمان القسامة. وقال الشافعي: يحلف في القسامة كل وارث بالغ ذكرا كان أو أنثى، عمدا كان أو خطأ.
واحتج القائلون بأنه لا يحلف إلا الرجال بأن في بعض روايات الحديث في القسامة يقسم خمسون رجلا منكم. قالوا: ويفهم منه أن غير الرجال لا يقسم.
واحتج الشافعي ومن وافقه بقوله صلى الله عليه وسلم (تحلفون خمسين يمينا فتستحقون دم صاحبكم) فجعل الحالف هو المستحق للدية والقصاص. ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئا فدل على أن المراد حلف من يستحق الدية.
وأجاب الشافعية عن حجة الأولين بما قاله النووي في شرح مسلم. فإنه قال في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم) ما نصه: هذا مما يجب تأويله. لأن اليمين إنما تكون على الوارث خاصة لا على غيره من القبيلة. وتأويله عند أصحابنا: أن معناه يؤخذ منكم خمسون يمينا والحالف هم الورثة، فلا يحلف أحد من
140

الأقارب غير الورثة، يحلف كل الورثة ذكورا كانوا أو إناثا، سواء كان القتل عمدا أو خطأ هذا مذهب الشافعي، وبه قال أبو ثور وابن المنذر. ووافقنا مالك فيما إذا كان القتل خطأ، وأما في العمد فقال: يحلف الأقارب خمسين يمينا. ولا تحلف النساء ولا الصبيان. ووافقه ربيعة والليث، والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر انتهى الغرض من كلام النووي رحمه الله.
ومعلوم أن هذا التأويل الذي أولوا به الحديث بعيد من ظاهر اللفظ، ولا سيما على الرواية التي تصرح بتمييز الخمسين بالرجل عند أبي داود وغيره.
الفرع الثاني قد علمت أن المبدأ بأيمان القسامة أولياء الدم على التحقيق كما تقدم إيضاحه. فإن حلفوا استحقوا القود أو الدية على الخلاف المتقدم. وإن نكلوا ردت الأيمان على المدعى عليهم. فإن حلفوها برؤوا عند الجمهور، وهو الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم: (فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم) أي يبرؤون منكم بذلك. وهذا قول مالك والشافعي، والرواية المشهورة عن أحمد، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وأبو الزناد والليث وأبو ثور، كما نقله عنهم صاحب المغني.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنهم إن حلفوا لزم أهل المحلة التي وجد بها القتيل أن يغرموا الدية. وذكر نحوه أبو الخطاب. رواية عن أحمد. وقد قدمنا أن عمر ألزمهم الدية بعد أن حلفوا. ومعلوم أن المبدأ بالأيمان عند أبي حنيفة المدعى عليهم، ولا حلف على الأولياء عنده كما تقدم.
الفرع الثالث إن امتنع المدعون من الحلف ولم يرضوا بأيمان المدعى عليهم فالظاهر أن الإمام يعطي ديته من بيت المال. لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك، والله
تعالى يقول: * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) *.
الفرع الرابع إن ردت الأيمان على المدعى عليهم فقد قال بعض أهل العلم: لا يبرأ أحد منهم حتى يحلف بانفراده خمسين يمينا، ولا توزع الأيمان عليهم بقدر عددهم.
قال مالك في الموطأ: وهذا أحسن ما سمعت في ذلك. وهو مذهب الإمام أحمد.
وقال بعض علماء الحنابلة: تقسم الأيمان بينهم على عددهم بالسوية. لأن المدعى عليهم متساوون. وللشافعي قولان كالمذهبين اللذين ذكرنا. فإن امتنع المدعى عليهم من اليمين فقيل يحبسون حتى يحلفوا. وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وهو مذهب
141

مالك أيضا. إلا أن المالكية يقولون: إن طال حبسهم ولم يحلفوا تركوا، وعلى كل واحد منهم جلد مائة وحبس سنة. ولا أعلم لهذا دليلا. وأظهر الأقوال عندي: أنهم تلزمهم الدية بنكولهم عن الأيمان، ورواه حرب بن إسماعيل عن أحمد، وهو اختيار أبي بكر. لأنه حكم ثبت بالنكول فثبت في حقهم ها هنا كسائر الدعاوى. قال في المغني: وهذا القول هو الصحيح، والله تعالى أعلم.
الفرع الخامس اختلف العلماء في أقل العدد الذي يصح أن يحلف أيمان القسامة. فذهب مالك وأصحابه إلى أنه لا يصح أن يحلف أيمان القسامة في العمد أقل من رجلين من العصبة. فلو كان للمقتول ابن واحد مثلا استعان برجل آخر من عصبة المقتول ولو غير وارث يحلف معه أيمانها. وأظهر الأقوال دليلا هو صحة استعانة الوارث بالعصبة غير الوارثين في أيمان القسامة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحويصة ومحيصة: (يحلف خمسون منكم..) الحديث. وهما ابنا عم المقتول، ولا يرثان فيه لوجود أخيه. وقد قال لهم (يحلف خمسون منكم) وهو يعلم أنه لم يكن لعبد الله بن سهل المقتول عشرون رجلا وارثون. لأنه لا يرثه إلا أخوه ومن هو في درجته أو أقرب منه نسبا.
وأجاب المخالفون: بأن الخطاب للمجموع مرادا به بعضهم، وهو الوارثون منهم دون غيرهم ولا يخفى بعده. فإن كانوا خمسين حلف كل واحد منهم يمينا. وإن كانوا أقل من ذلك وزعت عليهم بحسب استحقاقهم في الميراث. فإن نكل بعضهم رد نصيبه على الباقين إن كان الناكل معينا لا وارثا. فإن كان وارثا يصح عفوه عن الدم سقط القود بنكوله، وردت الأيمان على المدعى عليهم على نحو ما قدمنا. هذا مذهب مالك رحمه الله.
وأما القسامة في الخطأ عند مالك رحمه الله فيحلف أيمانها الوارثون على قدر أنصبائهم. فإن لم يوجد إلا واحد ولو امرأة حلف الخمسين يمينا كلها واستحق نصيبه من الدية.
وأما الشافعي رحمه الله فقال: لا يجب الحق حتى يحلف الورثة خاصة خمسين يمينا سواء قلوا أم كثروا. فإن كان الورثة خمسين حلف كل واحد منهم يمينا وإن كانوا أقل أو نكل بعضهم ردت الأيمان على الباقين. فإن لم يكن إلا واحد حلف خمسين يمينا واستحق حتى لو كان من يرث بالفرص والتعصيب أو بالنسب والولاء حلف واستحق.
وقد قدمنا أن الصحيح في مذهب الشافعي رحمه الله: أن القسامة إنما تستحق بها
142

الدية لا القصاص.
وأما الإمام أحمد فعنه في هذه المسألة روايتان: الأولى أنه يحلف خمسون رجلا من العصبة خمسين يمينا، كل رجل يحلف يمينا واحدة. فإن وجدت الخمسون من ورثة المقتول فذلك، وإلا كملت الخمسون من العصبة الذين لا يرثون، الأقرب منهم فالأقرب حتى تتم الخمسون. وهذا قول لمالك أيضا، وهذا هو ظاهر بعض روايات حديث سهل الثابتة في الصحيح.
والرواية الأخرى عن الإمام أحمد أنه لا يحلف أيمان القسامة إلا الورثة خاصة، وتوزع عليهم على قدر ميراث كل واحد منهم. فإن لم يكن إلا واحد حلف الخمسين واستحق. إلا أن النساء لا يحلفن أيمان القسامة عند أحمد. فالمراد بالورثة عنده الذكور خاصة. وهذه الرواية هي ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي حامد.
وأما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فقد قدمنا أن أيمان القسامة عنده لا يحلفها إلا خمسون رجلا من أهل المحلة التي وجد بها القتيل. فيقسمون أنهم ما قتلوه ولا علموا له قاتلا.
تنبيه
قد علمت كلام العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة. فإذا وزعت على عدد أقل من الخمسين ووقع فيها انكسار فإن تساووا جبر الكسر عليهم. كما لو خلف المقتول ثلاثة بنين. فإن على كل واحد منهم ثلث الخمسين يمينا وهو ست عشرة وثلثان، فيتمم الكسر على كل واحد منهم. فيحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا.
فإن قيل: يلزم على ذلك خلاف الشرع في زيادة الأيمان على خمسين يمينا. لأنها تصير بذلك إحدى وخمسين يمينا.
فالجواب أن نقص الأيمان عن خمسين لا يجوز، وتحميل بعض الورثة زيادة على الآخرين لا يجوز. فعلم استواؤهم في جبر الكسر. فإذا كانت اليمين المنكسرة لم يستو في قدر كسرها الحالفون، كأن كان على أحدهم نصفها، وعلى آخر ثلثها، وعلى آخر سدسها، حلفها من عليه نصفها تغليبا للأكثر، ولا تجبر على صاحب الثلث والسدس. وهذا هو مذهب مالك وجماعة من أهل العلم. وقال غيرهم: تجبر على الجميع. والله تعالى أعلم.
143

وقال بعض أهل العلم: يحلف كل واحد من المدعين خمسين يمينا، سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه. واحتج من قال بهذا بأن الواحد منهم لو انفرد لحلف الخمسين يمينا كلها. قال: وما يحلفه منفردا يحلفه مع غيره كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول بعيد فيما يظهر. لأن الأحاديث الواردة في القسامة تصرح بأن عدد أيمانها خمسون فقط، وهذا القول قد تصير به مئات كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
الفرع السادس لا يقتل بالقسامة عند من يوجب القود بها إلا واحد. وهذا قول أكثر القائلين بالقود بها، منهم مالك وأحمد والزهري، وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم.
وهذا القول هو الصواب، وتدل عليه الرواية الصحيحة التي قدمناها عند مسلم وغيره: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته..) الحديث. فقوله صلى الله عليه وسلم في معرض بيان حكم الواقعة: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم) يدل على أنهم ليس لهم أن يقسموا على غير واحد. وقيل: يستحق بالقسامة قتل الجماعة. لأنها بينة موجبة للقود، فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة. وممن قال بهذا أبو ثور: قاله ابن قدامة في المغني.
وهل تسمع الدعوى في القسامة على غير معين أو لا؟ وهل تسمع على أكثر من واحد أو لا. فقال بعض أهل العلم: تسمع على غير معين. وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله مستدلا بقصة الأنصاري المقتول بخبير. لأن أولياءه ادعو على يهود خيبر. وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن الدعوى فيها لا تسمع إلا على معين، قالوا: ولا دليل في قصة اليهود والأنصاري. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها (يقسم خمسون منكم على رجل منهم) فبين أن المدعي عليه لا بد أن يعين.
وقال بعض من اشترط كونها على معين: لا بد أن تكون على واحد، وهو قول أحمد ومالك.
وقال بعض من يشترط كونها على معين: يجوز الحلف على جماعة معينين، وقد قدمنا اختلافهم: هل يجوز قتل الجماعة أو لا يقتل إلا واحد، وهو ظاهر الحديث، وهو الحق إن شاء الله.
وقال أشهب صاحب مالك: لهم أن يحلفوا على جماعة ويختاروا واحدا للقتل،
144

ويسجن الباقون عاما، ويضربون مائة.
قال ابن حجر في الفتح. وهو قول لم يسبق إليه. والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع اعلم أن أيمان القسامة تحلف على البت، ودعوى القتل أيضا على البت. فإن قيل: كيف يحلف الغائب على أمر لم يحضره، وكيف يأذن الشارع في هذه اليمين التي هي من الأيمان على غير معلوم؟
فالجواب أن غلبة الظن تكفي في مثل هذا، فإن غلب على ظنه غلبة قوية أنه قتله حلف على ذلك. وإن لم يغلب على ظنه غلبة قوية فلا يجوز له الإقدام على الحلف.
الفرع الثامن إن مات مستحق الأيمان قبل أن يحلفها انتقل إلى وارثه ما كان عليه من الأيمان، وكانت بينهم على حسب مواريثهم، ويجبر الكسر فيها عليهم كما يجبر في حق ورثة القتيل على نحو ما تقدم. لأن من مات عن حق انتقل إلى وارثه.
ولنكتف بما ذكرنا من أحكام القسامة خوف الإطالة المملة، ولأن أحكامها كثيرة متشعبة جدا، وقد بسط العلماء عليها الكلام في كتب الفروع.
غريبة تتعلق بهذه الآية الكريمة
وهي أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما استنبط من هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها: أيام النزاع بين علي رضي الله عنه وبين معاوية رضي الله عنه أن السلطنة والملك سيكونان لمعاوية، لأنه من أولياء عثمان رضي الله عنه وهو مقتول ظلما، والله تعالى يقول: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) *. وكان الأمر كما قال ابن عباس.
وهذا الاستنباط عنه ذكره ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة، وساق الحديث في ذلك بسنده عند الطبراني في معجمه. وهو استنباط غريب عجيب. ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية الكريمة خوف الإطالة المملة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسؤولا) *. نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به علم. ويشمل ذلك قوله: رأيت ولم ير، وسمعت ولم يسمع، وعلمت ولم يعلم. ويدخل فيه كل قول بلا علم وأن يعمل الإنسان بما لا يعلم. وقد أشار جل وعلا إلى هذا المعنى في آيات أخر. كقوله: * (إنما يأمركم بالسوء والفحشآء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *
145

وقوله: * (إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *، وقوله: * (ياأيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم) *، وقوله: * (قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون) *، وقوله: * (وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا) * وقوله: * (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) *، والآيات بمثل هذا في ذم اتباع غير العلم المنهي عنه في هذه الآية الكريمة كثيرة جدا. وفي الحديث: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث).
تنبيه
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة منع التقليد، قالوا: لأنه اتباع غير العلم.
قال مقيده عفا الله عنه: لا شك أن التقليد الأعمى الذي ذم الله به الكفار في آيات من كتابه تدل هذه الآية وغيرها من الآيات على منعه، وكفر متبعه. كقوله: * (وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه ءابآءنآ أولو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) *، وقوله: * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءاباءنآ أولو كان ءاباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) *، وقوله: * (وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه
ءابآءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) *، وقوله: * (أم ءاتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا علىءاثارهم مهتدون وكذلك مآ أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا علىءاثارهم مقتدون قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءابآءكم) *، وقوله: * (قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد ءابآؤنا) *، إلى غير ذلك من الآيات.
أما استدلال بعض الظاهرية كابن حزم ومن تبعه بهذه الآية التي نحن بصددها وأمثالها من الآيات على منع الاجتهاد في الشرع مطلقا، وتضليل القائل به، ومنع التقليد من أصله، فهو من وضع القرآن في غير موضعه، وتفسيره بغير معناه، كما هو كثير في
146

الظاهرية، لأن مشروعية سؤال الجاهل للعالم وعمله بفتياه أمر معلوم من الدين بالضرورة. ومعلوم أنه كان العامي يسأل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيفتيه فيعمل بفتياه، ولم ينكر ذلك أحد من المسلمين. كما أنه من المعلوم أن المسألة إن لم يوجد فيها نص من كتاب الله أو سنة صلى الله عليه وسلم. فاجتهاد العالم حينئذ بقدر طاقته في تفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليعرف حكم المسكوت عنه من المنطوق به لا وجه لمنعه، وكان جاريا بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكره أحد من المسلمين. وسنوضح غاية الإيضاح إن شاء الله تعالى (في سورة الأنبياء، والحشر) مسألة الاجتهاد في الشرع، واستنباط حكم المسكوت عنه من المنطوق به بإلحاقه به قياسا كان الإلحاق أو غيره. ونبين أدلة ذلك، ونوضح رد شبه المخالفين كالظاهرية والنظام، ومن قال بقولهم في احتجاجهم بأحاديث وآيات من كتاب الله على دعواهم، وبشبه عقلية حتى يتضح بطلان جميع ذلك.
وسنذكر هنا طرفا قليلا من ذلك يعرف به صحة القول بالاجتهاد والقياس فيما لا نص فيه، وأن إلحاق النظير بنظيره المنصوص عليه غير مخالف للشرع الكريم.
اعلم أولا أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بنفي الفارق بينهما لا يكاد ينكره إلا مكابر، وهو نوع من القياس الجلي، ويسميه الشافعي رحمه الله (القياس في معنى الأصل) وأكثر أهل الأصول لا يطلقون عليه اسم القياس، مع أنه إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به لعدم الفرق بينهما. أعني الفرق المؤثر في الحكم.
ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى: * (فلا تقل لهمآ أف) * فإنه لا يشك عاقل في أن النهي عن التأفيف المنطوق به يدل على النهي عن الضرب المسكوت عنه.
وقوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * فإنه لا شك أيضا في أن التصريح بالمؤاخذة بمثال الذرة والإثابة عليه المنطوق به يدل على المؤاخذة والإناثة بمثقال الجبل المسكوت عنه.
وقوله تعالى: * (وأشهدوا ذوى عدل) *، لا شك في أنه يدل على أن شهادة أربعة عدول مقبولة وإن كانت شهادة الأربعة مسكوتا عنها.
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء يدل على النهي عن التضحية بالعمياء، مع أن ذلك مسكوت عنه.
وقوله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى) *. لا شك في أنه
147

يدل على منع إحراق مال اليتيم وإغراقه. لأن الجميع إتلاف له بغير حق.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، فأعطى شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق) يدل على أن من أعتق شركا له في أمة فحكمه كذلك. لما عرف من استقراء الشرع أن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا تأثير لهما في أحكام العتق وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالشهادة والميراث وغيرهما.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان) لا شك في أنه يدل على منع قضاء الحكم في كل حال يحصل بها التشويش المانع من استيفاء النظر. كالجوع والعطش المفرطين، والسرور والحزن المفرطين، والحقن والحقب المفرطين.
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد، لا شك في أنه يدل على النهي عن البول في قارورة مثلا وصب البول من القارورة في الماء الراكد. إذ لا فرق يؤثر في الحكم بين البول فيه مباشرة وصبه فيه من قارورة ونحوها، وأمثال هذا كثيرة جدا، ولا يمكن أن يخالف فيها إلا مكابر. ولا شك أن في ذلك كله استدلالا بمنطوق به على مسكوت عنه. وكذلك نوع الاجتهاد المعروف في اصطلاح أهل الأصول (بتحقيق المناط) لا يمكن أن ينكره إلا مكابر، ومسائلة التي لا يمكن الخلاف فيها من غير مكابر لا يحيط بها الحصر، وسنذكر أمثلة منها. فمن ذلك قوله تعالى: * (يحكم به ذوا عدل منكم) * فكون الصيد المقتول يماثله النوع المعين من النعم اجتهاد في تحقيق مناط هذا الحكم، نص عليه جل وعلا في محكم كتابه. وهو دليل قاطع على بطلان قول من يجعل الاجتهاد في الشرع مستحيلا من أصله. والإنفاق على الزوجات واجب، وتحديد القدر اللازم لا بد فيه من نوع من الاجتهاد في تحقيق مناط ذلك الحكم. وقيم المتلفات واجبة على من أتلف، وتحديد القدر الواجب لا بد فيه من اجتهاد. والزكاة لا تصرف إلا في مصرفها، كالفقير ولا يعلم فقره إلا بأمارات ظنية يجتهد في الدلالة عليها بالقرائن. لأن حقيقة الباطن لا يعلمها إلا الله. ولا يحكم إلا بقول العدل، وعدالته إنما تعلم بأمارات ظنية يجتهد في معرفتها بقرائن الأخذ والإعطاء وطول المعاشرة. وكذلك الاجتهاد من المسافرين في جهة القبلة بالأمارات، إلى غير ذلك مما لا يحصى.
ومن النصوص الدالة على مشروعية الاجتهاد في مسائل الشرع ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن
148

يحيى التميمي، أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر).
وحدثني إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن أبي عمر كلاهما عن عبد العزيز بن محمد بهذا الإسناد مثله، وزاد في عقب الحديث: قال يزيد: فحدثت هذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة، وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: أخبرنا مروان يعني ابن محمد الدمشقي، حدثنا الليث بن سعد، حدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي بهذا الحديث، مثل رواية عبد العزيز بن محمد بالإسنادين جميعا انتهى.
فهذا نص صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم، صريح في جواز الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وحصول الأجر على ذلك وإن كان المجتهد مخطئا في اجتهاده. وهذا يقطع دعوى الظاهرية: منع الاجتهاد من أصله، وتضليل فاعله والقائل به قطعا باتا كما ترى.
وقال النووي في شرح هذا الحديث: قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم. فإن أصاب فله أجران: أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده. وفي الحديث محذوف تقديره: إذا أراد الحاكم أن يحكم فاجتهد. قالوا: فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم. فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم. ولا ينعقد حكمه سواء وافق الحق أم لا. لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شيء من ذلك. وقد جاء في الحديث في السنن: (القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، واثنان في النار. قاض عرف الحق فقضى به في الجنة، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه فهو في النار، وقاض قضى على جهل فهو في النار) انتهى الغرض من كلام النووي.
فإن قيل: الاجتهاد المذكور في الحديث هو الاجتهاد في تحقيق المناط دون غيره من أنواع الاجتهاد.
فالجواب أن هذا صرف لكلامه صلى الله عليه وسلم عن ظاهره من غير دليل يجب الرجوع إليه، وذلك ممنوع.
149

وقال البخاري في صحيحه: باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، حدثني يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر). قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عمرو بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. وقال عبد العزيز بن المطلب، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله اه. فهذا الحديث المتفق عليه يدل على بطلان قول من منع الاجتهاد من أصله في الأحكام الشرعية. ومحاولة ابن حزم تضعيف هذا الحديث المتفق عليه، الذي رأيت أنه في أعلى درجات الصحيح لاتفاق الشيخين عليه لا تحتاج إلى إبطالها لظهور سقوطها كما ترى. لأنه حديث متفق عليه مروي بأسانيد صحيحة عن صحابيين جليلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة الدالة على ذلك ما روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال له: (فبم تحكم)؟ قال: بكتاب الله. قال: (فإن لم تجد)؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (فإن لم تجد)؟ قال: أجتهد رأيي. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: (الحمد لله الذي وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال ابن كثير رحمه الله في مقدمة تفسيره بعد أن ذكر هذا الحديث ما نصه: وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه.
وقال ابن قدامة (في روضة الناظر) بعد أن ساق هذا الحديث: قالوا هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو عن رجال من أهل حمص، والحارث والرجال مجهولون. قاله الترمذي. قلنا: قد رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ رضي الله عنه. انتهى.
ومراد ابن قدامه ظاهر. لأن رد الظاهرية لهذا الحديث بجهالة من رواه عن معاذ مردود بأنه رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عنه. وهذه الرواية ليست هي مراد ابن كثير بقوله: هذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد لأنها ليست في المسند ولا في
150

السنن، ولعل مراده بجودة هذا الإسناد أن الحارث ابن أخي المغيرة بن شعبة وثقة ابن حبان، وأن أصحاب معاذ يراهم عدولا ليس فيهم مجروح ولا منهم، وسيأتي استقضاء البحث في طرق هذا الحديث في سورة الأنبياء. ومعلوم أن عبادة بن نسي ثقة فاضل كما قدمنا. وعبد الرحمن بن غنم قيل صحابي، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين، قاله في التقريب. وحديث معاذ هذا تلقته الأمة قديما وحديثا بالقبول. وسيأتي إن شاء الله (في سورة الأنبياء)، و (سورة الحشر) ما استدل به أهل العلم على هذا من آيات القرآن العظيم.
ومن الأدلة الدالة على أن إلحاق النظير بنظيره في الشرع جائز: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: (أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤدي ذلك عنها)؟ قالت: نعم. قال: (فصومي عن أمك) وفي رواية لهما عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: (لو كان على أمك دين، أكنت قاضيه عنها)؟ قال: نعم. قال: (فدين الله أحق أن يقضى) انتهى.
واختلاف الرواية في هذا الحديث لا يعد اضطرابا، لأنها وقائع متعددة: سألته امرأة فأفتاها، وسأله رجل فأفتاه بمثل ما أفتى به المرأة، كما نبه عليه غير واحد.
وهذا نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، صريح في مشروعية إلحاق النظير بنظيره المشارك له في علة الحكم. لأنه صلى الله عليه وسلم بين إلحاق دين الله تعالى بدين الآدمي، بجامع أن الكل حق مطالب به تسقط المطالبة به بأدائه إلى مستحقه. وهو واضح في الدلالة على القياس كما ترى.
ومن الأدلة الدالة على ذلك أيضا: ما رواه الشيخان في صحيحيهما أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسودا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل لك إبل)؟ قال: نعم. قال: (فما ألوانها)؟ قال: حمر. قال: (فهل يكون فيها من أورق)؟ قال: إن فيها لورقا. قال: (فأني أتاها ذلك)؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق. قال: (وهذا عسى أن يكون نزعه عرق) اه.
فهذا نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم صريح في قياس النظير على نظيره. وقد ترتب على هذا القياس حكم شرعي، وهو كون سواد الولد مع بياض أبيه وأمه، ليس موجبا للعان.
151

فلم يجعل سواده قرينة على أنها زنت بإنسان أسود، لإمكان أن يكون في أجداده من هو أسود فنزعه إلى السواد سواد ذلك الجد. كما أن تلك الإبل الحمر فيها جمال ورق يمكن أن لها أجدادا ورقا نزعت ألوانها إلى الورقة. وبهذا اقتنع السائل.
ومن الأدلة الدالة على إلحاق النظير بنظيره: ما رواه أبو داود، والإمام أحمد، والنسائي، عن عمر رضي الله عنه قال: هششت يوما فقبلت وأنا صائم. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمرا عظيما! قبلت وأنا صائما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم)؟ فقلت: لا بأس بذلك. فقال صلى الله عليه وسلم (فمه) اه.
فإن قيل: هذا الحديث قال فيه النسائي: منكر.
قلنا: صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم. قاله الشوكاني في نيل الأوطار.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الحديث ثابت وإسناده صحيح. قال: أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن يونس ثنا الليث (ح) وثنا عيسى بن حماد، أخبرنا الليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله، عن عبد الملك بن سعيد، عن جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب: هششت فقبلت... إلى آخر الحديث بلفظه المذكور آنفا. ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح، فإن طبقته الأولى أحمد بن يونس وعيسى بن حماد. أما أحمد فهو ابن عبد الله بن يونس الكوفي التميمي اليربوعي ثقة حافظ. وعيسى بن حماد التجيبي أبو موسى الأنصاري الملقب زغبة، ثقة. وطبقته الثانية الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري ثقة ثبت، فقيه إمام مشهور. وطبقته الثالثة بكير بن عبد الله بن الأشج مولى بني مخزوم أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدني نزيل مصر ثقة. وطبقته الرابعة عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري المدني ثقة. وطبقته الخامسة جابر بن عبد الله عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا إسناد صحيح رجاله ثقات كما ترى. فهو نص صحيح صريح في أنه صلى الله عليه وسلم قاس القبلة على المضمضة. لأن المضمضة مقدمة الشرب، والقبلة مقدمة الجماع. فالجامع بينهما أن كلا منهما مقدمة المفطر، وهي لا تفطر بالنظر لذاتها.
فهذه الأدلة التي ذكرنا فيه الدليل الواضح على أن إلحاق النظير بنظيره من الشرع لا مخالف له. لأنه صلى الله عليه وسلم فعله، والله يقول: * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) *، وهو صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا لينبه الناس له.
152

فإن قيل: إنما فعله صلى الله عليه وسلم لأن الله أوحى إليه ذلك.
قلنا: فعله حجة في فعل مثل ذلك الذي فعل، ولو كان فعله بوحي كسائر أقواله وأفعاله وتقريراته، فكلها تثبت بها الحجة، وإن كان هو صلى الله عليه وسلم فعل ما فعل من ذلك بوحي من الله تعالى.
مسألة
قال ابن خويز منداد من علماء المالكية: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة. لأنه لما قال: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * دل على جواز ما لنا به علم. فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به. وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص. لأنه ضرب من غلبة الظن، وقد يسمى علما اتساعا. فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما، كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل عن طريق الشبه. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: (ألم ترى أن مجززا المدلجي نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة، قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض) وفي حديث يونس بن يزيد: وكان مجزز قائفا اه بواسطة نقل القرطبي في تفسيره.
قال مقيده عفا الله عنه: من المعلوم أن العلماء اختلفوا في اعتبار أقوال القافة. فذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها. واحتج من قال بعدم اعتبارها بقصة الأنصارية التي لاعنت زوجها وجاءت بولد شبيه جدا بمن رميت به ولم يعتبر هذا الشبه النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يحكم بأن الولد من زنى ولم يجلد المرأة.
قالوا: فلو كان الشبه تثبت به الأنساب لأثبت النبي صلى الله عليه وسلم به أن ذلك الولد من ذلك الرجل الذي رميت به. فيلزم على ذلك إقامة الحد عليها، والحكم بأن الولد ابن زنى، ولم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من ذلك كما يأتي إيضاحه (في سورة النور) إن شاء الله تعالى.
وهذا القول بعدم اعتبار أقوال القافة مروي عن أبي حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم.
وذهب جمهور أهل العلم إلى اعتبار أقوال القافة عند التنازع في الولد، محتجين بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سر بقول مجزز بن الأعور المدلجي: إن بعض هذه الأقدام من بعض، حتى برقت أسارير وجهه من السرور.
153

قالوا: وما كان صلى الله عليه وسلم ليسر بالباطل ولا يعجبه، بل سروره بقول القائف دليل على أنه من الحق لا من الباطل، لأن تقديره وحده كاف في مشروعية ما قرر عليه، وأحرى من ذلك ما لو زاد السرور بالأمر على التقرير عليه، وهو واضح كما ترى.
واعلم أن الذين قالوا باعتبار أقوال القافة اختلفوا فمنهم من قال لا يقبل ذلك إلا في أولاد الإماء دون أولاد الحرائر. ومنهم من قال: يقبل ذلك في الجميع.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق باعتبار ذلك في أولاد الحرائر والإماء لأن سرور النبي صلى الله عليه وسلم وقع في ولد حرة، وصورة سبب النزول قطعية الدخول كما تقرر في الأصول، وهو قول الجمهور وهو الحق، خلافا للإمام مالك رحمه الله قائلا: إن صورة السبب ظنية الدخول، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله: وقع في ولد حرة، وصورة سبب النزول قطعية الدخول كما تقرر في الأصول، وهو قول الجمهور وهو الحق، خلافا للإمام مالك رحمه الله قائلا: إن صورة السبب ظنية الدخول، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله:
* واجزم بإدخال ذوات السبب
* وارو عن الإمام ظنا تصب
*
تنبيهان
الأول لا تعتبر أقوال القافة في شبه مولود برجل إن كانت أمه فراشا لرجل آخر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شدة شبه الولد الذي اختصم فيه سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة بعتبة بن أبي وقاص ولم يؤثر عنده هذا الشبه في النسب لكون أم الولد فراشا لزمعة. فقال صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر) ولكنه صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا الشبه من جهة أخرى غير النسب. فقال لسودة بنت زمعة رضي الله عنها (احتجبي عنه) مع أنه ألحقه بأبيها فلم ير سودة قط. وهذه المسألة أصل عند المالكية في مراعاة الخلاف كما هو معلوم عندهم. التنبيه الثاني: قال بعض علماء العربية: أصل القفو البهت والقذف بالباطل. ومنه الحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا) أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة وغيرهما من حديث الأشعث بن قيس. وساق طرق هذا الحديث ابن كثير في تاريخه. وقوله (لا نقفوا أمنا) أي لا نقذف أمنا ونسبها، ومنه قول الكميت:: (نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا) أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة وغيرهما من حديث الأشعث بن قيس. وساق طرق هذا الحديث ابن كثير في تاريخه. وقوله (لا نقفوا أمنا) أي لا نقذف أمنا ونسبها، ومنه قول الكميت:
* فلا أرمي البريء بغير ذنب
* ولا أقفوا الحواصن إن قفينا
*
وقول النابغة الجعدي:
154

وقول النابغة الجعدي:
* ومثل الدمى شم العرانين ساكن
* بهن الحياء لا يشعن التقافيا
*
والذي يظهر لنا أن أصل القفو في لغة العرب: الاتباع كما هو معلوم من اللغة. ويدخل فيه اتباع المساوي كما ذكره من قال: إن أصله القذف والبيت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسؤولا) * فيه وجهان من التفسير: الأول أن معنى الآية أن الإنسان يسأل يوم القيامة عن أفعال جوارحه فيقال له: لم سمعت ما لا يحل لك سماعها؟ ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليها؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليها؟
ويدل لهذا المعنى آيات من كتاب الله تعالى، كقوله: * (ولتسألن عما كنتم تعملون) *، وقوله * (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) *، ونحو ذلك من الآيات.
والوجه الثاني أن الجوارح هي التي تسأل عن أفعال صاحبها، فتشهد عليه جوارحه بما فعل.
قال القرطبي في تفسيره: وهذا المعنى أبلغ في الحجة. فإنه يقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي كما قال: * (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) *، وقوله: * (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) *.
قال مقيده عفا الله عنه: والقول الأول أظهر عندي، وهو قول الجمهور.
وفي الآية الكريمة نكتة نبه عليها في مواضع أخر. لأن قوله تعالى: * (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسؤولا) * يفيد تعليل النهي في قوله: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * بالسؤال عن الجوارح المذكورة، لما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه: أن (إن) المكسورة من حروف التعليل. وإيضاحه: أن المعنى انته عما لا يحل لك لأن الله أنعم عليك بالسمع والبصر والعقل لتشركه، وهو مختبرك بذلك وسائلك عنه، فلا تستعمل نعمه في معصيته.
ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا
155

وجعل لكم السمع والا بصار والأفئدة لعلكم تشكرون) *، ونحوها من الآيات. والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة بقوله: * (أولائك) * راجعة إلى * (
السمع والبصر والفؤاد) * وهو دليل على الإشارة (بأولئك) لغير العقلاء وهو الصحيح. ومن شواهده في العربية قول الشاعر وهو العرجي: السمع والبصر والفؤاد) * وهو دليل على الإشارة (بأولئك) لغير العقلاء وهو الصحيح. ومن شواهده في العربية قول الشاعر وهو العرجي:
* يا ما أميلح غزلانا شدن لنا
* من هؤلياء كن الضال والسمر
*
وقول جرير:
* ذم المنازل بعد منزلة اللوى
* والعيش بعد أولئك الأيام
*
خلافا لمن زعم أن بيت جرير لا شاهد فيه، وأن الرواية فيه (بعد أولئك الأقوام) والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولا تمش فى الا رض مرحا إنك لن تخرق الا رض ولن تبلغ الجبال طولا) *. نهى الله جل وعلا الناس في هذه الآية الكريمة عن التجبر والتبختر في المشية. وقوله * (مرحا) * مصدر منكر، وهو حال على حد قول ابن مالك في الخلاصة: مرحا) * مصدر منكر، وهو حال على حد قول ابن مالك في الخلاصة:
* ومصد منكر حالا يقع
* بكثرة كبغتة زيد طلع
*
وقرئ (مرحا) بكسر الراء على أنه الوصف من مرح (بالكسر) يمرح (بالفتح) أي لا تمش في الأرض في حال كونك متبخترا متمايلا مشي الجبارين.
وقد أوضح حل وعلا هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله عن لقمان مقررا له * (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش فى الا رض مرحا إن الله لا يحب كل واقصد فى مشيك) *، وقوله: * (وعباد الرحمان الذين يمشون على الا رض هونا) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وأصل المرح في اللغة: شدة الفرح والنشاط، وإطلاقه على مشي الإنسان متبخترا مشي المتكبرين، لأن ذلك من لوازم شدة الفرح والنشاط عادة.
وأظهر القولين عندي في قوله تعالى: * (إنك لن تخرق الا رض) * أن معناه لن تجعل فيها خرقا بدوسك لها وشدة وطئك عليها، ويدل لهذا المعنى قوله بعده * (ولن تبلغ الجبال طولا) * أي أنت أيها المتكبر المختال: ضعيف حقير عاجز محصور بين جمادينا أنت عاجز عن التأثير فيهما. فالأرض التي تحتك لا تقدر أن
156

تؤثر فيها فنخرقها بشدة وطئك عليها، والجبال الشامخة فوقك لا يبلغ طولك طولها. فاعرف قدركا ولا تتكبر، ولا تمش في الأرض مرحا. القول الثاني أن معنى * (لن تخرق الا رض) * لن تقطعها بمشيك. قاله ابن جرير، واستشهد له بقول رؤبة بن العجاج: لن تخرق الا رض) * لن تقطعها بمشيك. قاله ابن جرير، واستشهد له بقول رؤبة بن العجاج:
* وقاتم الأعماق خاوى المخترق
* مشتبه الأعلام لماع الخفق
*
لأن مراده بالمخترق: مكان الاختراق. أي المشي والمرور فيه. وأجود الأعاريب في قوله * (طولا) * أنه تمييز محول عن الفاعل، أي لن يبلغ طولك الجبال. خلافا لمن أعربه حالا ومن أعربه مفعولا من أجله. وقد أجاد من قال: طولا) * أنه تمييز محول عن الفاعل، أي لن يبلغ طولك الجبال. خلافا لمن أعربه حالا ومن أعربه مفعولا من أجله. وقد أجاد من قال:
* ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا
* فيكم تحتها قوم هم منك أرفع
*
* وإن كنت في عز وحرز ومنعة
* فكم مات من قوم هم منك أمنع
*
واستدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: * (ولا تمش فى الا رض مرحا) * على منع الرقص وتعاطيه. لأن فاعله ممن يمشي مرحا. قوله تعالى: * (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما) *. الهمزة في قوله * (أفأصفاكم ربكم بالبنين) * للانكار ومعنى الآية. أفخصكم ربكم على وجه الخصوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون، لم يجعل فيهم نصيبا لنفسه، واتخذ لنفسه أدونهم وهي البناتا وهذا خلاف المعقول والعادة. فإن السادة لا يؤثرون عبيدهم بأجود
الأشياء وأصفاها من الشوب، ويتخذون لأنفسهم أردأها وأدونها. فلو كان جل وعلا متخذا ولدا (سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا) لاتخذ أجود النصيبين ولم يتخذ أردأهماا ولم يصطفكم دون نفسه بأفضلهما.
وهذا الإنكار متوجه على الكفار في قولهم: الملائكة بنات الله. سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. فقد جعلوا له الأولادا ومع ذلك جعلوا له أضعفها وأردأها وهو الإناثا وهم لا يرضونها لأنفسهم.
وقد بين الله هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله * (ألكم الذكر وله الا نثى تلك إذا قسمة ضيزى) *، وقوله: * (أم له البنات ولكم البنون) *، وقوله: * (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء) * والآيات بمثل هذا كثيرة جدا. وقد بينا ذلك بإيضاح في (سورة النحل). وقوله في هذه الآية الكريمة * (إنكم
157

لتقولون قولا عظيما) * بين فيه أن ادعاء الأولاد لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا أمر عظيم جدا. وقد بين شدة عظمه بقوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الا رض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمان ولدا وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا إن كل من فى السماوات والا رض إلا آتى الرحمان عبدا إن الذين ءامنوا وعملوا وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا) * فالمشركون قبحهم الله جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، ثم ادعوا أنهم بنات الله، ثم عبدوهم. فاقترفوا الجريمة العظمى في المقامات الثلاث، والهمزة والفاء في نحو قوله: * (أفأصفاكم) * قد بينا حكمها بإيضاح في (سورة النحل) أيضا. قوله تعالى: * (قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا) *. قرأ جمهور القراء (كما تقولون) بتاء الخطاب. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم (كما يقولون) بياء الغيبة. وفي معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير، كلاهما حق ويشهد له قرآن. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية قد يكون فيها وجهان كلاهما حق، وكلاهما يشهد له قرآن فنذكر الجميع لأنه كله حق.
الأول من الوجهين المذكورين أن معنى الآية الكريمة: لو كان مع الله آلهة أخرى كما يزعم الكفار لابتغوا أي الآلهة المزعومة أي لطلبوا إلى ذي العرش أي إلى الله سبيلا أي إلى مغالبته وإزالة ملكه، لأنهم إذا يكونون شركاءه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض. سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا!
وهذا القول في معنى الآية هو الظاهر عندي، وهو المتبادر من معنى الآية الكريمة. ومن الآيات الشاهدة لهذا المعنى قوله تعالى: * (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إلاه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون) *، وقوله: * (لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) * وهذا المعنى في الآية مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبي علي الفارسي، والنقاش، وأبي منصور، وغيره من المتكلمين.
الوجه الثاني في معنى الآية الكريمة: أن المعنى * (لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا) *
158

أي طريقا ووسيلة تقربهم إليه لاعترافهم بفضله. ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: * (أولائك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه) *. ويروى هذا القول عن قتادة. واقتصر عليه ابن كثير في تفسيره.
ولا شك أن المعنى الظاهر المتبادر من الآية بحسب اللغة العربية هو القول الأول، لأن في الآية فرض المحال، والمحال المفروض الذي هو وجود آلهة مع الله مشاركة له لا يظهر معه أنها تتقرب إليه، بل تنازعه لو كانت وجودة، ولكنها معدومة مستحيلة الوجود. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالا خرة حجابا مستورا) * في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير:
الأول أن المعنى: وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا. أي حائلا وساترا يمنعهم من تفهم القرآن وإدراكه لئلا يفقهوه فينتفعوا به. وعلى هذا القول فالحجاب المستور هو ما حجب الله به قلوبهم عن الانتفاع بكتابه. والآيات الشاهدة لهذا المعنى كثيرة. كقوله: * (وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفىءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) *، وقوله: * (ختم الله على قلوبهم) *، وقوله: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) *. إلى غير ذلك من الآيات، وممن قال بهذا القول في معنى الآية: قتادة والزجاج وغيرهما.
الوجه الثاني في الآية أن المراد بالحجاب المستور أن الله يستره عن أعين الكفار فلا يرونه. قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية. أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وصححه. وابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لما نزلت * (تبت يدآ أبى لهب) * أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول: تبت يدآ أبى لهب) * أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول:
* مذمما أبينا... ودينه قلينا
*... وأمره عصينا
*
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وأبو بكر رضي الله عنه إلى جنبه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك؟ فقال: (إنها لن تراني) وقرأ قرآنا اعتصم به. كما قال تعالى: * (وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالا خرة حجابا
159

مستورا) *. فجاءت حتى قامت على أبي بكر رضي الله عنه فلم تر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر، بلغني أن صاحبك هجانيا؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا ورب هذا البيت ما هجاك. فانصرفت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها. إلى غير ذلك من الروايات بهذا المعنى.
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية، بعد أن ساق بعض الروايات نحو ما ذكرنا في هذا الوجه الأخير ما نصه: ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا. وذلك أني هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن، فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا، وأحدهما يقول للآخر: هذا ديبله (يعنون شيطانا) وأعمى الله عز وجل أيصارهم فلم يروني اه وقال القرطبي: إن هذا الوجه في معنى الآية هو الأظهر. والعلم عند الله تعالى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (حجابا مستورا) * قال بعض العلماء: هو من إطلاق اسم المفعول وإرادة اسم الفاعل. أي حجابا ساترا، وقد يقع عكسه كقوله تعالى: * (من مآء دافق) * أي مدفوق * (عيشة راضية) * أي مرضية. فإطلاق كل من اسم الفاعل واسم المفعول وإرادة الآخر أسلوب من أساليب اللغة العربية. والبيانيون يسمون مثل ذلك الإطلاق (مجازا عقليا) ومن أمثلة إطلاق المفعول وإرادة الفاعل كالقول في الآية قولهم: ميمون ومشؤوم، بمعنى يا من وشائم. وقال بعض أهل العلم: قوله * (مستورا) * على معناه الظاهر من كونه اسم مفعول، لأن ذلك الحجاب مستور عن أعين الناس فلا يرونه. أو مستورا به القارئ فلا يراه غيره. واختار هذا أبو حيان في البحر. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل على قلوب الكفار أكنة، (جمع كنان) وهو ما يستر الشيء ويغطيه ويكنه، لئلا يفقهوا القرآن. أو كراهة أن يفقهوه لحيلولة تلك الأكنة بين قلوبهم وبين فقه القرآن. أي فهم معانيه فهما ينتفع به صاحبه. وأنه جعل في آذانهم وقرأ أي صمما وثقلا لئلا يسمعوه سماع قبول وانتفاع.
وبين في مواضع أخر سبب الحيلولة بين القلوب وبين الانتفاع به، وأنه هو كفرهم،
160

فجازاهم الله على كفرهم بطمس البصائر، وإزاغة القلوب والطبع والختم والأكنة المانعة من وصول الخير إليها، كقوله تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *، وقوله: * (بل طبع الله عليها بكفرهم) *، وقوله: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) *، وقوله: * (فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) *، وقوله: * (وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) *، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة الرد الواضح على القدرية في قولهم: إن الشر لا يقع بمشيئة الله، بل بمشيئة العبد. سبحان الله وتعالى علوا كبيرا عن أن يقع في ملكه شيء ليس بمشيئته؟ * (ولو شآء الله مآ أشركوا) *، * (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها) *، * (ولو شآء الله لجمعهم على الهدى) * إلى غير ذلك من الآيات. * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك فى القرءان وحده ولوا على أدبارهم نفورا * نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الا مثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا * وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر فى صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا * وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا * ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم ومآ أرسلناك عليهم وكيلا * وربك أعلم بمن فى السماوات والا رض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وءاتينا داوود زبورا * قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولائك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا) * قوله تعالى: * (وإذا ذكرت ربك فى القرءان وحده ولوا على أدبارهم نفورا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن نبيه صلى الله عليه وسلم إذا ذكر ربه وحده في القرآن بأن قال (لا إله لا الله) ولى الكافرون على أدبارهم نفورا، بغضا منهم لكلمة التوحيد، ومحبة للإشراك به جل وعلا.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، مبينا أن نفورهم من ذكره وحده جل وعلا سبب خلودهم في النار، كقوله: * (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالا خرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) *، وقوله: * (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير) *، وقوله: * (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إلاه إلا الله يستكبرون ويقولون أءنا لتاركو ءالهتنا لشاعر مجنون) *، وقوله: * (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) *، وقوله: * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم ءاياتنا) *، وقوله: * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهاذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون) *.
161

وقوله في هذه الآية: * (نفورا) * جمع نافر. فهو حال. أي ولوا على أدبارهم في حال كونهم نافرين من ذكر الله وحده من دون إشراك. والفاعل يجمع على فعول كساجد وسجود، وراكع وركوع.
وقال بعض العلماء: (نفورا) مصدر، وعليه فهو ما ناب عن المطلق من قوله * (ولوا) * لأن التولية عن ذكره وحده بمعنى النفور منه. قوله تعالى: * (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولائك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المعبودين من دون الله الذين زعم الكفار أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ويشفعون لهم عنده لا يملكون كشف الضر عن عابديهم. أي إزالة المكروه عنهم، ولا تحويلا أي تحويله من إنسان إلى آخر، أو تحويل المرض إلى الصحة، والفقر إلى الغنى، والقحط إلى الجدب ونحو ذلك. ثم بين فيها أيضا أن المعبودين الذين عبدهم الكفار من دون الله يتقربون إلى الله بطاعته، ويبتغون الوسيلة إليه، أي الطريق إلى رضاه ونيل ما عنده من الثواب بطاعته فكان الواجب عليكم أن تكونوا مثلهم.
قال ابن مسعود: نزلت هذه الآية في قوم من العرب من خزاعة أو غيرهم، كانوا يعبدون رجالا من الجن، فأسلم الجنيون وبقي الكفار يعبدونهم فأنزل الله * (أولائك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) * وعن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في الذين كانوا يعبدون عزيرا والمسيح وأمه. وعنه أيضا، وعن ابن مسعود، وابن زيد، والحسن: أنها نزلت في عبدة الملائكة. وعن ابن عباس: أنها نزلت في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه.
وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن كل معبود من دون الله لا ينفع عابده، وأن كل معبود من دونه مفتقر إليه ومحتاج له جل وعلا بينه أيضا في مواضع أخر، كقوله (في سبإ) * (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الا رض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) *، وقوله (في الزمر): * (أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادنى برحمة هل هن ممسكات
162

رحمته قل حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون) *، إلى غير ذلك من الآيات وقد قدمنا (في سورة المائدة) أن المراد بالوسيلة في هذه الآية الكريمة (وفي آية المائدة): هو التقرب إلى الله بالعمل الصالح. ومنه قول لبيد: أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادنى برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون) *، إلى غير ذلك من الآيات وقد قدمنا (في سورة المائدة) أن المراد بالوسيلة في هذه الآية الكريمة (وفي آية المائدة): هو التقرب إلى الله بالعمل الصالح. ومنه قول لبيد:
* أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم
* بلى كل ذي لب إلى الله واسل
*
وقد قدمنا (في المائدة) أن التحقيق أن قول عنترة: وقد قدمنا (في المائدة) أن التحقيق أن قول عنترة:
* إن الرجال لهم إليك وسيلة
* إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
*
من هذا المعنى، كما قدمنا أنها تجمع على وسائل، كقوله: من هذا المعنى، كما قدمنا أنها تجمع على وسائل، كقوله:
* إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا
* وعاد التصافي بيننا والوسائل
*
وأصح الأعاريب في قوله: * (أيهم أقرب) * أنه بدل من واو الفاعل في قوله * (يبتغون) * وقد أوضحنا هذا (في سورة المائدة) بما أغنى عن إعادته هنا، والعلم عند الله تعالى. * (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذالك فى الكتاب مسطورا * وما منعنآ أن نرسل بالا يات إلا أن كذب بها الا ولون وءاتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالا يات إلا تخويفا * وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرءيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة فى القرءان ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أءسجد لمن خلقت طينا * قال أرءيتك هاذا الذى كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا) * قوله تعالى: * (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذالك فى الكتاب مسطورا) *. قال بعض أهل العلم: في هذه الآية الكريمة حذف الصفة، أي وإن من قرية ظالمة إلا نحن مهلكوها. وهذا النعت المحذوف دلت عليه آيات من كتاب الله تعالى. كقوله * (وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها ظالمون) * وقوله: * (ذالك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) *. أي بل لا بد أن تنذرهم الرسل فيكفروا بهم وبربهم. وقوله * (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) *، وقوله * (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا) * إلى غير ذلك من الآيات. وغاية ما في هذا القول حذف النعت مع وجود أدلة تدل عليه. ونظيره في القرآن قوله تعالى: * (وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) * أي كل سفينة صالحة. بدليل أن خرق الخضر للسفينة التي ركب فيها هو وموسى يريد به سلامتها من أخذ الملك لها، لأنه لا يأخذ المعيبة التي فيها الخرق وإنما يأخذ الصحيحة. ومن حذف النعت قوله تعالى: * (قالوا اأان جئت بالحق) * أي بالحق الواضح الذي لا لبس معه في صفات البقرة المطلوبة. ونظيره من كلام العرب قول الشاعر، وهو المرقش الأكبر
163

: قالوا اأان جئت بالحق) * أي بالحق الواضح الذي لا لبس معه في صفات البقرة المطلوبة. ونظيره من كلام العرب قول الشاعر، وهو المرقش الأكبر:
* ورب أسيلة الخدين بكر
* مهفهفة لها فرع وجيد
*
أي فرع فاحم وجيد طويل، وقول عبيد بن الأبرص: أي فرع فاحم وجيد طويل، وقول عبيد بن الأبرص:
* من قوله قول ومن فعله
* فعل ومن نائله نائل
*
أي قوله قول فصل، وفعله فعل جميل، ونائله نائل جزيل، وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله: أي قوله قول فصل، وفعله فعل جميل، ونائله نائل جزيل، وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله:
* وما من المنعوت والنعت عقل
* يجوز حذفه وفي النعت يقل
*
وقال بعض أهل العلم: الآية عامة. فالقرية الصالحة إهلاكها بالموت، والقرية الطالحة إهلاكها بالعذاب. ولا شك أن كل نفس ذائفة الموت. والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، والمسطور: المكتوب. ومنه قول جرير: والقرية الطالحة إهلاكها بالعذاب. ولا شك أن كل نفس ذائفة الموت. والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، والمسطور: المكتوب. ومنه قول جرير:
* من شاء بايعته مالي وخلعته
* ما تكمل التيم في ديوانها سطرا
*
وما يرويه مقاتل عن كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية: من أن مكة تخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف. وأما خراسان فهلاكها ضروب. ثم ذكر بلدا بلدا لا يكاد يعول عليه. لأنه لا أساس له من الصحة، وكذلك ما يروى عن وهب بن منبه: أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية، وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر، ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة. فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينة على يد رجل من بني هاشم. وخراب الأندلس من قبل الزنج، وخراب إفريقية من قبل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها، وخراب العراق من الجوع، وخراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم ويمنعهم الشراب من الفرات، وخراب البصرة من قبيل الغرق، وخراب الأبلة من عدو يحصرهم برا وبحرا، وخراب الري من الديلم، وخراب خراسان من قبل التبت، وخراب التبت من قبل الصين، وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان، وخراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة من الجوع اه كل ذلك لا يعول عليه. لأنه من قبيل الإسرائيليات. قوله تعالى: * (وءاتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه آتى ثمود الناقة في حال كونها آية مبصرة، أي بينة تجعلهم يبصرون الحق واضحا لا لبس فيه فظلموا بها. ولم يبين ظلمهم بها ها هنا، ولكنه أوضحه في مواضع أخر
164

، كقوله: * (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم) *، وقوله * (فكذبوه فعقروها) *، وقوله * (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) *، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه أحاط بالناس. أي فهم في قبضته يفعل فيهم كيف يشاء فيسلط نبيه عليهم ويحفظه منهم.
قال بعض أهل العلم: ومن الآيات التي فصلت بعض التفصيل في هذه الإحاطة، قوله تعالى: * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) *، وقوله: * (قل للذين كفروا ستغلبون) *، وقوله: * (والله يعصمك من الناس) *. وفي هذا أن هذه الآية مكية، وبعض الآيات المذكورة مدني. أما آية القمر وهي قوله: * (سيهزم الجمع) * فلا إشكال في البيان بها لأنها مكية. قوله تعالى: * (وما جعلنا الرءيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة فى القرءان) *. التحقيق في معنى هذه الآية الكريمة: أن الله جل وعلا جعل ما أراه نبيه صلى الله عليه وسلم من الغرائب والعجائب ليلة الإسراء والمعراج فتنة للناس، لأن عقول بعضهم ضاقت عن قبول ذلك، معتقدة أنه لا يمكن أن يكون حقا، قالوا: كيف يصلي ببيت المقدس، ويخترق السبع الطباق، ويرى ما رأى في ليلة واحدة، ويصبح في محله بمكة؟ هذا محالا فكان هذا الأمر فتنة لهم لعدم تصديقهم به، واعتقادهم أنه لا يمكن، وأنه جل وعلا جعل الشجرة الملعونة في القرآن التي هي شجرة الزقوم فتنة للناس، لأنهم لما سمعوه صلى الله عليه وسلم يقرأ * (إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم) * قالوا: ظهر كذبه. لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة، فكيف ينبت في أصل النار؟ فصار ذلك فتنة. وبين أن هذا هو المراد من كون الشجرة المذكورة فتنة لهم بقوله: * (أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم) *، وهو واضح كما ترى. وأشار في مواضع آخر إلى الرؤيا التي جعلها فتنة لهم، وهو قوله: * (أفتمارونه على ما يرى ولقد رءاه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من ءايات ربه الكبرى) *. وقد قدمنا إيضاح هذا في أول هذه السورة الكريمة. وبهذا التحقيق الذي ذكرنا تعلم
165

أن قول من قال: إن الرؤيا التي أراه بالله إياها هي رؤياه في المنام بني أمية على منبره، وإن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية لا يعول عليه. إذا لا أساس له من الصحة. والحديث الوارد بذلك ضعيف لا تقوم به حجة. وإنما وصف الشجرة باللعن لأنها في أصل النار، وأصل النار بعيد من رحمة الله. واللعن: الإبعاد عن
رحمة الله، أو لخبث صفاتها التي وصفت بها في القرآن، أو للعن الذين يطعمونها. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أءسجد لمن خلقت طينا) *. قوله تعالى في هذه الآية عن إبليس: * (أءسجد لمن خلقت طينا) * يدل فيه إنكار إبليس للسجود بهمزة الإنكار على إبائه واستكباره عن السجود لمخلوق من طين، وصرح بهذا الإباء والاستكبار في مواضع أخر. فصرح بهما معا (في البقرة) في قوله * (إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) * وصرح بإبائه (في الحجر) بقوله * (إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين) *، وباستكباره (في ص) بقوله * (إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) * وبين سبب استكباره بقوله * (قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين) * كما تقدم إيضاحه (في البقرة) وقوله: * (طينا) * حال. أي لمن خلقته في حال كونه طينا. وتجويز الزمخشري كونه حالا من نفس الموصول غير ظاهر عندي. وقيل: منصوب بنزع الخافض. أي من طين. وقيل: تمييز، وهو أضعفها. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (قال أرءيتك هاذا الذى كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن إبليس اللعين قال له * (أرءيتك) * أي أخبرني: هذا الذي كرمته علي فأمرتني بالسجود له وهو آدم. أي لم كرمته علي وأنا خير منها والكاف في * (أرءيتك) * حرف خطاب، وهذا مفعول به لأرأيت. والمعنى: أخبرني. وقيل: إن الكاف مفعول به، و (هذا) مبتدأ، وهو قول ضعيف. وقوله * (لأحتنكن ذريته) * قال ابن عباس: لأستولين عليهم، وقاله الفراء. وقال مجاهد: لأحتوينهم. وقال ابن زيد: لأضلنهم. قال القرطبي: والمعنى متقارب. أي لأستأصلنهم بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنهم.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي في معنى الآية أن المراد بقوله * (لأحتنكن ذريته) * أي لأقودنهم إلى ما أشاء. من قول العرب: احتنكت الفرس: إذا جعلت الرسن
166

في حنكه لتقوده حيث شئت. تقول العرب: حنكت الفرس أحنكه (من باب ضرب ونصر) واحتنكته: إذا جعلت فيه الرسن. لأن الرسن يكون على حنكه. وقول العرب: احتنك الجراد الأرض: أي أكل ما عليها من هذا القبيل. لأنه يأكل بأفواهه، والحنك حول الفم. هذا هو أصل الاستعمال في الظاهر. فالاشتقاق في المادة من الحنك، وإن كان يستعمل في الإهلاك مطلقا والاستئصال. كقول الراجز: لأحتنكن ذريته) * أي لأقودنهم إلى ما أشاء. من قول العرب: احتنكت الفرس: إذا جعلت الرسن في حنكه لتقوده حيث شئت. تقول العرب: حنكت الفرس أحنكه (من باب ضرب ونصر) واحتنكته: إذا جعلت فيه الرسن. لأن الرسن يكون على حنكه. وقول العرب: احتنك الجراد الأرض: أي أكل ما عليها من هذا القبيل. لأنه يأكل بأفواهه، والحنك حول الفم. هذا هو أصل الاستعمال في الظاهر. فالاشتقاق في المادة من الحنك، وإن كان يستعمل في الإهلاك مطلقا والاستئصال. كقول الراجز:
* أشكو إليك سنة قد أجحفت
* جهدا إلى جهد بنا وأضعفت
*
وهذا الذي ذكر جل وعلا عن إبليس في هذه الآية من قوله * (لأحتنكن ذريته) *، بينه أيضا في مواضع أخر من كتابه. كقوله * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمآئلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) *، وقوله: * (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) *، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه (في سورة النساء) وغيرها.
وقوله في هذه الآية * (إلا قليلا) * بين المراد بهذا القليل في مواضع أخر. كقوله: * (ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) *، وقوله: * (لأزينن لهم فى الا رض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) * كما تقدم إيضاحه.
وقول إبليس في هذه الآية. * (لأحتنكن ذريته) *. قاله ظنا منه أنه سيقع وقد تحقق له هذا الظن. كما قال تعالى: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) *. * (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الا موال والا ولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا * إن عبادى ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا * ربكم الذى يزجى لكم الفلك فى البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما) * قوله تعالى: * (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفورا) *. قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: * (قال اذهب) * هذا أمر إهانة. أي اجهد جهدك، فقد أنظرناك * (فمن تبعك) * أي أطاعك من ذرية آدم * (فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفورا) * أي وافرا. عن مجاهد وغيره. وقال الزمخشري وأبو حيان: * (اذهب) * ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء، وإنما معناه: امض لشأنك الذي اخترته. وعقبه بذكر ما جره سوء اختياره في قوله * (فمن تبعك منهم فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفورا) *.
167

وهذا الوعيد الذي أوعد به إبليس ومن تبعه في هذه الآية الكريمة بينه أيضا في مواضع أخر. كقوله: * (قال فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) *، وقوله: * (فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون) * إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (جزاء) * مفعول مطلق منصوب بالمصدر قبله. على حد قول ابن مالك في الخلاصة: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (جزاء) * مفعول مطلق منصوب بالمصدر قبله. على حد قول ابن مالك في الخلاصة:
* بمثله أو فعل أو وصف نصب
* وكونه أصلا لهذين انتخب
*
والذي يظهر لي: أن قول من قال إن (مرفورا) بمعنى وافر لا داعي له. بل (موفورا) اسم مفعول على بابه. من قولهم: وفر الشيء يفره، فالفاعل وافر، والمفعول موفور. ومنه قول زهير: والذي يظهر لي: أن قول من قال إن (مرفورا) بمعنى وافر لا داعي له. بل (موفورا) اسم مفعول على بابه. من قولهم: وفر الشيء يفره، فالفاعل وافر، والمفعول موفور. ومنه قول زهير:
* ومن يجعل المعروف من دون عرضه
* يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
*
وعليه: فالمعنى جزاء مكملا متمما. وتستعمل هذه المادة لازمة أيضا تقول: وفر ماله فهو وافر. أي كثير. وقوله (موفورا) نعت للمصدر قبله كما هو واضح، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الا موال والا ولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: هذا أمر قدري. كقوله تعالى: * (ألم تر أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) * أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا، وتسوقهم إليها سوقا انتهى.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن صيغ الأمر في قوله * (واستفزز) *، وقوله * (وأجلب) *، وقوله * (وشاركهم) * إنما هي للتهديد، أي افعل ذلك فسترى عاقبته الوخيمة. كقوله * (اعملوا ما شئتم) * وبهذا جزم أبو حيان (في البحر)، وهو واضح كما ترى. وقوله * (واستفزز) * أي استخف من استطعت أن تستفزه منهم. فالمفعول محذوف لدلالة المقام عليه. والاستفزاز: الاستخفاف. ورجل فز: أي خفيف. ومنه قيل لولد البقرة: فز. لخفة حركته. ومنه قول زهير
168

: واستفزز) * أي استخف من استطعت أن تستفزه منهم. فالمفعول محذوف لدلالة المقام عليه. والاستفزاز: الاستخفاف. ورجل فز: أي خفيف. ومنه قيل لولد البقرة: فز. لخفة حركته. ومنه قول زهير:
* كما استغاث بسيىء فز غيطلة
* خاف العيون ولم ينظر به الحشك
*
(والسيىء) في بيت زهير بالسين المهملة مفتوحة بعدها ياء ساكنة وآخره همز: اللبن الذي يكون في أطراف الأخلاف قبل نزول الدرة. والحشك أصله السكون. لأنه مصدر حشكت الدرة: إذا امتلأت، وإنما حركه زهير للوزن. والغيطلة هنا: بقرة الوحش ذات اللبن. وقوله * (بصوتك) * قال مجاهد: هو اللهو والغناء والمزامير. أي استخف من استطعت أن تستخفه منهم باللهو والغناء والمزامير. وقال ابن عباس: صوته يشمل كل داع دعا إلى معصية. لأن ذلك إنما وقع طاعة له. وقيل * (بصوتك) *: أي وسوستك. وقوله * (وأجلب) * أصل الإجلاب: السوق بجلبة من السائق. والجلبة: الأصوات. تقول العرب: أجلب على فرسه، وجلب عليه: إذا صاح به من خلف واستحثه للسبق. والخيل تطلق على نفس الأفراس، وعلى الفوارس الراكبين عليها، وهو المراد في الآية. والرجل: جمع راجل، كما قدمنا أن التحقيق جمع الفاعل وصفا على فعل بفتح فسكون وأوضحنا أمثلته بكثرة، واخترنا أنه جمع موجود أغفله الصرفيون: إذ ليست فعل (بفتح فسكون) عندهم من صيغ الجموع. فيقولون فيما ورد من ذلك كراجل ورجل، وصاحب وصحب، وراكب وركب، وشارب وشرب إنه اسم جمع لا جمع. وهو خلاف التحقيق.
وقرأ حفص عن عاصم (ورجلك) بكسر الجيم لغة في الرجل جمع راجل.
وقال الزمخشري: هذه القراءة على أن فعلا بمعنى فاعل، نحو تعب وتاعب ومعناه وجمعك الرجل اه أي الماشيين على أرجلهم. * (وشاركهم فى الا موال والا ولاد) *. أما مشاركته لهم في الأموال فعلى أصناف: (منها) ما حرموا على أنفسهم من أموالهم طاعة له. كالبحائر والسوائب ونحو ذلك، وما يأمرهم به من إنفاق الأموال في معصية الله تعالى، وما يأمرهم به من اكتساب الأموال بالطرق المحرمة شرعا كالربا والغصب وأنواع الخيانات. لأنهم إنما فعلوا ذلك طاعة له.
أما مشاركته لهم في الأولاد فعلى أصناف أيضا:
منها قتلهم بعض أولادهم طاعة له.
169

ومنها أنهم يمجسون أولادهم ويهودونهم وينصرونهم طاعة له وموالاة.
ومنها تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى ونحو ذلك، لأنهم بذلك سموا أولادهم عبيدا لغير الله طاعة له. ومن ذلك أولاد الزنى. لأنهم إنما تسببوا في وجودهم بارتكاب الفاحشة طاعة له إلى غير ذلك.
فإذا عرفت هذا فاعلم أن الله قد بين في آيات من كتابه بعض ما تضمنه هذه الآية من مشاركة الشيطان لهم في الأموال والأولاد، كقوله: * (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افترآء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) * فقتلهم أولادهم المذكور في هذه الآية طاعة للشيطان مشاركة منه لهم في أولادهم حيث قتلوهم في طاعته. وكذلك تحريم بعض ما رزقهم الله المذكور في الآية طاعة له مشاركة منه لهم في أموالهم أيضا. وكقوله * (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث
والا نعام نصيبا فقالوا هاذا لله بزعمهم وهاذا لشركآئنا) *، وكقوله: * (وقالوا هاذه أنعام وحرث حجر لا يطعمهآ إلا من نشآء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افترآء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون) *، وقوله: * (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون) *، إلى غير ذلك من الآيات. ومن الآحاديث المبينة بعض مشاركته لهم فيما ذكر ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم)، وما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله فقال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان) انتهى.
فاجتيال الشياطين لهم عن دينهم، وتحريمها عليهم ما أحل الله لهم في الحديث الأول، وضرها لهم لو تركوا التسمية في الحديث الثاني كل ذلك من أنواع مشاركتهم فيهم. وقوله (فاجتالتهم) أصله افتعل من الجولان: أي استخفتهم الشياطين فجالوا معهم في الضلال. يقال: جال واجتال: إذا ذهب وجاء، ومنه الجولان في الحرب: واجتال الشيء: إذا ذهب به وساقه. والعلم عند الله تعالى. والأمر في قوله * (وعدهم) *
170

كالأمر في قوله * (واستفزز) *، وقوله * (وأجلب) *. وقد قدمنا أنه للتهديد.
وقوله * (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) * بين فيه أن مواعيد الشيطان كلها غرور وباطل. كوعده لهم بأن الأصنام تشفع لهم وتقربهم عند الله زلفى، وأن الله لما جعل لهم المال والولد في الدنيا سيجعل لهم مثل ذلك في الآخرة، إلى غير ذلك من المواعيد الكاذبة.
وقد بين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: * (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *، وقوله: * (ولاكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الا مانى حتى جآء أمر الله وغركم بالله الغرور) *، وقوله: * (وقال الشيطان لما قضى الا مر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) *، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن عباده الصالحين لا سلطان للشيطان عليهم. فالظاهر أن في الآية الكريمة حذف الصفة كما قدرنا، ويدل على الصفة المحذوفة إضافته العباد إليه إضافة تشريف. وتدل لهذه الصفة المقدرة أيضا آيات أخر. كقوله: * (إلا عبادك منهم المخلصين) *، وقوله: * (إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) *، وقوله: * (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) *، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه. * (وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا * أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا * أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا * ولقد كرمنا بنىءادم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) * قوله تعالى: * (وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) *. بين جل وعلا في هذه الآيات الكريمة: أن الكفار إذا مسهم الضر في البحر. أي اشتدت عليهم الريح فغشيتهم أمواج البحر كأنها الجبال، وظنوا أنهم لا خلاص لهم من ذلك ضل عنهم. أي غاب عن أذهانهم وخواطرهم في ذلك الوقت كل ما كانوا يعبدون من دون الله جل وعلا. فلا يدعون في ذلك الوقت إلا الله جل وعلا وحده. لعلمهم أنه لا ينقذ من ذلك الكرب وغيره من الكروب إلا هو وحده جل وعلا،
171

فأخلصوا العبادة والدعاء له وحده في ذلك الحين الذي أحاط بهم فيه هول البحر، فإذا نجاهم الله وفرج عنهم، ووصلوا البر رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر. كما قال تعالى: * (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا) *.
وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة أوضحه الله جل وعلا في آيات كثيرة. كقوله: * (هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف وجآءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هاذه لنكونن من الشاكرين فلمآ أنجاهم إذا هم يبغون فى الا رض بغير الحق) *، وقوله: * (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هاذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) *، وقوله: * (فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) *، وقوله: * (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بأاياتنآ إلا كل ختار كفور) *، وقوله: * (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله) *، إلى غير ذلك من الآيات كما قدمنا إيضاحه (في سورة الأنعام) وغيرها.
ثم إن الله جل وعلا بين في هذا الموضع الذي نحن بصدده سخافة عقول الكفار، وأنهم إذا وصلوا إلى البر ونجوا من هول البحر رجعوا إلى كفرهم آمنين عذاب الله. مع أنه قادر على إهلاكهم بعد وصولهم إلى البر، بأن يخسف بهم جانب البر الذي يلي البحر فتبتلعهم الأرض، أو يرسل عليهم حجارة من السماء فتهلكهم، أو يعيدهم مرة أخرى في البحر فتغرقهم أمواجه المتلاطمة. كما قال هنا منكرا عليهم أمنهم وكفرهم بعد وصول البر * (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا) * وهو المطر أو الريح اللذين فيهما الحجارة * (قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم) * أي بسبب كفركم. فالباء سببية، وما مصدرية. والقاصف: ريح البحار الشديدة التي تكسر المراكب وغيرها. ومنه قول أبي تمام: قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم) * أي بسبب كفركم. فالباء سببية، وما مصدرية. والقاصف: ريح البحار
الشديدة التي تكسر المراكب وغيرها. ومنه قول أبي تمام:
* إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت
* عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم
*
يعني: إذا ما هبت بشدة كسرت عيدان شجر نجد رتما كان أو غيره.
172

وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا هنا من قدرته على إهلاكهم في غير البحر بخسف أو عذاب من السماء أوضحه في مواضع أخر. كقوله: * (إن نشأ نخسف بهم الا رض أو نسقط عليهم كسفا من السمآء) *، وقوله: * (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم) *، وقوله: * (أءمنتم من فى السمآء أن يخسف بكم الا رض فإذا هى تمور أم أمنتم من فى السمآء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير) *، وقوله (في قوم لوط): * (إنآ أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر) *، وقوله: * (لنرسل عليهم حجارة من طين) * إلى غير ذلك من الآيات. والحاصب في هذه الآية قد قدمنا أنه قيل: إنها السحابة أو الريح، وكلا القولين صحيح. لأن كل ريح شديدة ترمي بالحصباء تسمى حاصبا وحصبة. وكل سحابة ترمي بالبرد تسمى حاصبا أيضا. ومنه قول الفرزدق: لنرسل عليهم حجارة من طين) * إلى غير ذلك من الآيات. والحاصب في هذه الآية قد قدمنا أنه قيل: إنها السحابة أو الريح، وكلا القولين صحيح. لأن كل ريح شديدة ترمي بالحصباء تسمى حاصبا وحصبة. وكل سحابة ترمي بالبرد تسمى حاصبا أيضا. ومنه قول الفرزدق:
* مستقبلين شمال الشام يضربنا
* بحاصب كنديف القطن منثور
*
وقول لبيد: وقول لبيد:
* جرت عليها أن خوت من أهلها
* أذيالها كل عصوف حصبه
*
وقوله في هذه الآية * (ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) * فعيل بمعنى فاعل. أي تابعا يتبعنا بالمطالبة بثأركم. كقوله * (فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها) * أي لا يخاف عاقبة تبعة تلحقه بذلك. وكل مطالب بدين أو ثأر أو غير ذلك تسميه العرب تبيعا. ومنه قول الشماخ يصف عقابا: ولا يخاف عقباها) * أي لا يخاف عاقبة تبعة تلحقه بذلك. وكل مطالب بدين أو ثأر أو غير ذلك تسميه العرب تبيعا. ومنه قول الشماخ يصف عقابا:
* تلوذ ثعالب الشرفين منها
* كما لاذ الغريم من التبيع
*
أي كعياذ المدين من صاحب الدين الذي يطالبه بغرمه منه. ومنه قول الآخر: ومنه قول الآخر:
* غدوا وغدت غزلانهم وكأنها
* ضوامن غرم لدهن تبيع
*
أي خصمهن مطالب بدين، ومن هذا القبيل قوله تعالى: * (فاتباع بالمعروف وأدآء إليه بإحسان) *، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتبع أحدكم على ملىء فليتبع) وهذا هو معنى قول ابن عباس وغيره (تبيعا) أي نصيرا، وقول مجاهد نصيرا ثائرا.
173

تنبيه
لا يخفى على الناظر في هذه الآية الكريمة: أن الله ذم الكفار وعاتبهم بأنهم في وقت الشدائد والأهوال خاصة يخلصون العبادة له وحده، ولا يصرفون شيئا من حقه لمخلوق. وفي وقت الأمن والعافية يشركون به غيره في حقوقه الواجبة له وحده، التي هي عبادته وحده في جميع أنواع العبادة، ويعلم من ذلك أن بعض جهلة المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالا من عبدة الأوثان. فإنهم إذا دهمتهم الشدائد، وغشيتهم الأهوال والكروب التجؤوا إلى غير الله ممن يعتقدون فيه الصلاح. في الوقت الذي يخلص فيه الكفار العبادة لله. مع أن الله جل وعلا أوضح في غير موضع: أن إجابة المضطر، وإنجاءه من الكرب من حقوقه التي لا يشاركه فيها غيره.
ومن أوضح الأدلة في ذلك قوله تعالى (في سورة النمل): * (ءآلله خير أما يشركون أمن خلق السماوات والا رض وأنزل لكم من السمآء مآء فأنبتنا به حدآئق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإلاه مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل الا رض قرارا وجعل خلالهآ أنهارا وجعل لها رواسى وجعل بين البحرين حاجزا أءلاه مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) *. فتراه جل وعلا في هذه الآية الكريمات جعل إجابة المضطر إذا دعا وكشف السوء عنه من حقه
الخالص الذي لا يشاركه فيه أحد. كخلقه السماوات والأرض، وإنزاله الماء من السماء، وإنباته به الشجر، وجعله الأرض قرارا، وجعله خلالها أنهارا، وجعله لها رواسي، وجعله بين البحرين حاجزا، إلى آخر ما ذكر في هذه الآيات من غرائب صنعه وعجائبه التي لا يشاركه فيها أحد. سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وهذا الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمات: كان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل. فإنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب فارا منه إلى بلاد الحبشة، فركب في البحر متوجها إلى الحبشة. فجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يفنى عنكم إلا أن تدعوا الله وحده. فقال عكرمة في نفسه: والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيرها اللهم لك علي عهد، لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رؤوفا رحيما. فخرجوا من البحر، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه اه.
174

والظاهر أن الضمير في قوله * (به تبيعا) * راجع إلى الإهلاك بالإغراق المفهوم من قوله * (فيغرقكم بما كفرتم) * أي لا تجدون تبيعا يتبعنا بثأركم بسبب ذلك الإغراق.
وقال صاحب روح المعاني. وضمير (به) قيل للإرسال، وقيل للإغراق، وقيل لهما باعتبار ما وقع. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولقد كرمنا بنىءادم) *. قال بعض أهل العلم: من تكريمه لبين آدم خلقه لهم على أكمل الهيئات وأحسنها. فإن الإنسان يمشي قائما منتصبا على رجليه، ويأكل بيديه. وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه.
ومما يدل لهذا من القرآن قوله تعالى: * (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم) *، وقوله: * (وصوركم فأحسن صوركم) * وفي الآية كلام غير هذا. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وحملناهم فى البر والبحر) *. أي في البر على الأنعام، وفي البحر على السفن.
والآيات الموضحة لذلك كثيرة جدا. كقوله: * (وعليها وعلى الفلك تحملون) *، وقوله: * (والذى خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والا نعام ما تركبون) * وقد قدمنا في مستوفى بإيضاح (في سورة النحل). * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمينه فأولائك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا * ومن كان فى هاذه أعمى فهو فى الا خرة أعمى وأضل سبيلا * وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينآ إليك لتفترى علينا غيره وإذا لآتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحيواة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا * وإن كادوا ليستفزونك من الا رض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا * سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا) * قوله تعالى: * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) *. قال بعض العلماء: المراد (بإمامهم) هنا كتاب أعمالهم.
ويدل لهذا قوله تعالى: * (وكل شىء أحصيناه فى إمام مبين) *، وقوله: * (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون) *. وقوله: * (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه) *، وقوله: * (وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) * واختار هذا القول ابن كثير. لدلالة آية (يس) المذكورة عليه. وهذا القول رواية عن ابن عباس ذكرها ابن جرير وغيره، وعزاه ابن كثير لابن عباس وأبي العالية والضحاك والحسن. وعن قتادة ومجاهد: أن المراد (بإمامهم) نبيهم.
175

ويدل لهذا القول قوله تعالى: * (ولكل أمة رسول فإذا جآء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) *، وقوله: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هاؤلاء شهيدا) *، وقوله * (ويوم نبعث فى كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هاؤلآء) *، وقوله: * (وأشرقت الا رض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهدآء) *.
قال بعض السلف: وفي هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث. لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض أهل العلم: * (بإمامهم) * أي بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع. وممن قال به: ابن زيد، واختاره ابن جرير.
وقال بعض أهل العلم: * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) * أي ندعو كل قوم بمن يأتمون به. فأهل الإيمان أئمتهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وأهل الكفر أئمتهم سادتهم وكبراؤهم من رؤساء الكفرة. كما قال تعالى: * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) *. وهذا الأخير أظهر الأقوال عندي. والعلم عند الله تعالى.
فقد رأيت أقوال العلماء في هذه الآية، وما يشهد لها من قرآن. وقوله بعد هذا: * (فمن أوتى كتابه بيمينه) * من القرائن الدالة على ترجيح ما اختاره ابن كثير من أن الإمام في هذه الآية كتاب الأعمال.
وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يقرؤونه ولا يظلمون فتيلا.
وقد أوضح هذا في مواضع أخر، كقوله: * (فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هآؤم اقرؤا كتابيه) * إلى قوله * (وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول ياليتنى لم أوت كتابيه) * وقد قدمنا هذا مستوفى في أول هذه السورة الكريمة.
وقول من قال: إن المراد (بإمامهم) كمحمد بن كعب (أمهاتهم) أي يقال: يا فلان بن فلانة قول باطل بلا شك. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر مرفوعا: (يرفع يوم القيامة لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان). قوله تعالى: * (ومن كان فى هاذه أعمى فهو فى الا خرة أعمى وأضل سبيلا) *. المراد بالعمى في هذه الآية الكريمة: عمى القلب لا عمى العين. ويدل لهذا قوله تعالى: * (فإنها
176

لا تعمى الا بصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور) * لأن عمى العين مع إبصار القلب لا يضر، بخلاف العكس. فإن أعمى العين يتذكر فتنفعه الذكرى ببصيرة قلبه، قال تعالى: * (عبس وتولى أن جآءه الا عمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى) *. أو يذكر فتنفعه الذكرى) *.
* إذا بصر القلب المروءة والتقى
* فإن عمى العينين ليس يضير
*
وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما عمي في آخر عمره كما روي عنه من وجوه كما ذكره ابن عبد البر وغيره: وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما عمي في آخر عمره كما روي عنه من وجوه كما ذكره ابن عبد البر وغيره:
* إن يأخذ الله من عيني نورهما
* ففي لساني وقلبي منهما نور
*
* قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل
* وفي فمي صارم كالسيف مأثور
*
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (فهو فى الا خرة أعمى وأضل سبيلا) * قال بعض أهل العلم: ليست الصيغة صيغة تفضيل، بل المعنى فهو لآخرة أعمى كذلك لا يهتدى إلى نفع. وبهذا جزم الزمخشري.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يتبادر إلى الذهن أن لفظة (أعمى) الثانية صيغة تفضيل. أي هو أشد عمى في الآخرة.
ويدل عليه قوله بعده * (وأضل سبيلا) * فإنها صيغة تفضيل بلا نزاع. والمقرر في علم العربية: أن صيغتي التعجب وصيغة التفضيل لا يأتيان من فعل الوصف منه على أفعل الذي أنثاه فعلاء. كما أشار له في الخلاصة بقوله: * وغير ذي وصف يضاهي أشهلا
والظاهر أن ما وجد في كلام العرب مصوغا من صيغة تفضيل أو تعجب غير مستوف للشروط أنه يحفظ ولا يقاس عليه. كما أشار له في الخلاصة بقوله: والظاهر أن ما وجد في كلام العرب مصوغا من صيغة تفضيل أو تعجب غير مستوف للشروط أنه يحفظ ولا يقاس عليه. كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* وبالندور احكم لغير ما ذكر
* ولا تقس على الذي منه أثر
*
ومن أمثلة ذلك قوله: ومن أمثلة ذلك قوله:
* ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر
* وفي المخازي لكم أشباح أشياخ
*
* أما الملوك فأنت اليوم الأمهم
* لؤما وأبيضهم سربال طباخ
*
وقال بعض العلماء: إن قوله في هذا البيت (وأبيضهم سربال طباخ) ليس صيغة
177

تفضيل. بل المعنى أنت وحدك الأبيض سربال طباخ من بينهم. قوله تعالى: * (وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينآ إليك لتفترى علينا غيره وإذا لآتخذوك خليلا) *. روي عن سعيد بن جبير أنها نزلت في المشركين من قريش، قالوا له صلى الله عليه وسلم: لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تلم بآلهتنا وعن ابن عباس في رواية عطاء: أنها نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي فسألوه شططا قالوا: متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، وحرم وادينا كما حرمت مكة، إلى غير ذلك من الأقوال في سبب نزولها. وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
ومعنى الآية الكريمة: أن الكفار كادوا يفتنونه أي قاربوا ذلك. ومعنى يفتنونك: يزلونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره مما لم نوحه إليك.
قال بعض أهل العلم: قاربوا ذلك في ظنهم لا فيما في نفس الأمر. وقيل: معنى ذلك أنه خطر في قلبه صلى الله عليه وسلم أن يوافقهم في بعض ما أحبوا ليجرهم إلى الإسلام لشدة حرصه على إسلامهم.
وبين في مواضع آخر: أنهم طلبوا منه الإتيان بغير ما أوحي إليه، وأنه امتنع أشد الامتناع وقال لهم: إنه لا يمكنه أن يأتي بشيء من تلقاء نفسه. بل يتبع ما أوحي إليه ربه، وذلك في قوله: * (قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرءان غير هاذآ أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقآء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) *. وقوله في هذه الآية * (وإن كادوا) * هي المخففة من الثقيلة، وهي هنا مهملة. واللام هي الفارقة بينها وبين إن النافية كما قال
في الخلاصة: وإن كادوا) * هي المخففة من الثقيلة، وهي هنا مهملة. واللام هي الفارقة بينها وبين إن النافية كما قال في الخلاصة:
* وخففت إن فقل العمل
* وتلزم اللام إذا ما تهمل
*
والغالب أنها لا تكون كذلك مع فعل إلا إن كان ناسخا كما في هذه الآية، قال في الخلاصة. والغالب أنها لا تكون كذلك مع فعل إلا إن كان ناسخا كما في هذه الآية، قال في الخلاصة.
* والفعل إن لم يك ناسخا فلا
* تلفيه غالبا بأن ذي موصلا
*
كما هو معروف في النحو. قوله تعالى: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحيواة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة تثبيته لنبيه صلى الله عليه وسلم، وعصمته له من الركون إلى الكفار. وأنه لو ركن إليهم لأذاقه ضعف الحياة
178

وضعف الممات. أي مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة. وبهذا جزم القرطبي في تفسيره. وقال بعضهم: المراد بضعف عذاب الممات: العذاب المضاعف في القبر والمراد بضعف الحياة: العذاب المضاعف في الآخرة بعد حياة البعث. وبهذا جزم الزمخشري وغيره. والآية تشمل الجميع، وهذا الذي ذكره هنا من شدة الجزاء لنبيه لو خالف بينه في غير هذا الموضع. كقوله: * (ولو تقول علينا بعض الا قاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) *.
وهذا الذي دلت عليه هذه الآية من أنه إذا كانت الدرجة أعلى كان الجزاء عند مخالفة أعظم بينه في موضع آخر. كقوله: * (يانسآء النبى من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) *. ولقد أجاد من قال: ولقد أجاد من قال:
* وكبائر الرجل الصغير صغائر
* وصغائر الرجل الكبير كبائر
*
تنبيه
هذه الآية الكريمة أوضحت غاية الإيضاح براءة نبينا صلى الله عليه وسلم من مقاربة الركون إلى الكفار، فضلا عن نفس الركون. لأن * (ولولا) * حرف امتناع لوجود. فمقاربة الركون منعتها * (ولولا) * الامتناعية لوجود التثبيت من الله جل وعلا لأكرم خلقه صلى الله عليه وسلم. فصح يقينا انتفاء مقاربة الركون فضلا عن الركون نفسه. وهذه الآية تبين ما قبلها، وأنه لم يقارب الركون إليهم البتة. لأن قوله * (لقد كدت تركن إليهم شيئا) * أي قاربت تركن إليهم هو عين الممنوع ب * (ولولا) * الامتناعية كما ترى. ومعنى * (تركن إليهم) *: تميل إليهم. * (أقم الصلواة لدلوك الشمس إلى غسق اليل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا * ومن اليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا * وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا * وقل جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا * وننزل من القرءان ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا * وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا * قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا * ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا * ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا * إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا * قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هاذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا * ولقد صرفنا للناس فى هاذا القرءان من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا * وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الا رض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الا نهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السمآء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى فى السمآء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرءه قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا * قل لو كان فى الا رض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السمآء ملكا رسولا * قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا * ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أوليآء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا * ذلك جزآؤهم بأنهم كفروا بأاياتنا وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا * أولم يروا أن الله الذى خلق السماوات والا رض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا * قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا * ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات فاسأل بنى إسراءيل إذ جآءهم فقال له فرعون إنى لأظنك ياموسى مسحورا * قال لقد علمت مآ أنزل هاؤلاء إلا رب السماوات والا رض بصآئر وإنى لأظنك يافرعون مثبورا * فأراد أن يستفزهم من الا رض فأغرقناه ومن معه جميعا * وقلنا من بعده لبنى إسراءيل اسكنوا الا رض فإذا جآء وعد الا خرة جئنا بكم لفيفا * وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) * قوله تعالى: * (أقم الصلواة لدلوك الشمس) *. قد بينا (في سورة النساء): أن هذه الآية الكريمة من الآيات التي أشارت لأوقات الصلاة. لأن قوله * (لدلوك الشمس) * أي لزوالها على التحقيق، فيتناول وقت الظهر والعصر. بدليل الغاية في قوله * (إلى غسق
اليل) * أي ظلامه، وذلك يشمل وقت المغرب والعشاء. وقوله * (وقرءان الفجر) * أي صلاة الصبح، كما تقدم إيضاحه وأشرنا للآيات المشيرة لأوقات الصلوات. كقوله: * (وأقم الصلواة طرفى النهار وزلفا من اليل) *، وقوله: * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) *. وأتممنا بيان ذلك
179

من السنة في الكلام على قوله: * (إن الصلواة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * فراجعه هناك إن شئت. والعلم عند الله تعالى. وقوله تعالى: * (وقل جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) *. الحق في لغة العرب: الثابت الذي ليس بزائل ولا مضحمل. والباطل: هو الذاهب المضمحل. والمراد بالحق في هذه الآية: هو ما في هذا القرآن العظيم والسنة النبوية من دين الإسلام. والمراد بالباطل فيها: الشرك بالله، والمعاصي المخالفة لدين الإسلام.
وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الإسلام جاء ثابتا راسخا، وأن الشرك بالله زهق. أي ذهب واضمحل وزال. تقول العرب: زهقت نفسه: إذا خرجت وزالت من جسده.
ثم بين جل وعلا أن الباطل كان زهوقا، أي مضمحلا غير ثابت في كل وقت. وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع. وذكر أن الحق بزيل الباطل ويذهبه. كقوله: * (قل إن ربى يقذف بالحق علام الغيوب قل جآء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد) *، وقوله: * (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) *.
وقال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية الكريمة: أخرج ابن أبي شيبة، والبخاري ومسلم، والترمذي والنسائي، وابن جرير وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول * (جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) * * (قل جآء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد) *.
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن المنذر عن جابر رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما. فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت لوجهها، وقال: * (جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) *.
وأخرج الطبراني في الصغير، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنما. فشد لهم إبليس أقدامها بالرصاص. فجاء ومعه قضيب فجعل يهوي إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول: * (جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) *
180

حتى مر عليها كلها.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: وفي هذه الآية دليل على كسر نصب المشركين وجميع الأوثان إذا غلب عليهم. ويدخل المعنى كسر آلة الباطل كله وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله.
قال ابن المنذر: وفي معنى الأصنام الصور المتخذة من المدر والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه، ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص إذا غيرت عما هي عليه وصارت نقرا أو قطعا فيجوز بيعها والشراء بها. قال المهلب: وما كسر من آلات الباطل وكان في حبسها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة. إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشديد والعقوبة في المال. وقد تقدم حرق ابن عمر رضي الله عنه. وقد هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق دور من تخلف عن صلاة الجماعة وهذا أصل في العقوبة في المال. مع قوله صلى الله عليه وسلم في الناقة التي لعنتها صاحبتها (دعوها فإنها ملعونة) فأزال ملكها عنها تأديبا لصاحبتها، وعقوبة لها فيما دعت عليه بما دعت به. وقد أراق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبنا شيب بماء على صاحبه اه الغرض من كلام القرطبي رحمه الله تعالى. وقوله صلى الله عليه وسلم: (والله لينزلن عيسى بن مريم حكما عدلا فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير) الحديث من قبيل ما ذكرنا دلالة الآية عليه والعلم عند الله تعالى: قوله تعالى: * (وننزل من القرءان ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) *. قد قدمنا في أول (سورة البقرة) الآيات المبينة لهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة. كقوله: * (فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) *، وقوله: * (قل هو للذين ءامنوا هدى وشفآء والذين لا يؤمنون فىءاذانهم وقر وهو عليهم عمى) * كما تقدم إيضاحه. وقوله في هذه الآية * (ما هو شفآء) * يشمل كونه شفاء للقلب من أمراضه. كالشك والنفاق وغير ذلك. وكونه شفاء للأجسام إذا رقى عليها به. كما تدل له قصة الذي رقى الرجل اللديغ بالفاتحة، وهي صحيحة مشهورة. وقرأ أبو عمرو * (وننزل) * بإسكان النون وتخفيف الزاي. والباقون بفتح النون وتشديد الزاي. والعلم عند الله تعالى
181

. قوله تعالى: * (وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه إذا أنعم على الإنسان بالصحة والعافية والرزق أعرض عن ذكر الله وطاعته، ونأى بجانبه: أي تباعد عن طاعة ربه. فلم يمتثل أمره، ولم يجتنب نهيه.
وقال الزمخشري: أعرض عن ذكر الله كأنه مستغن عنه، مستبد بنفسه. * (ونأى بجانبه) * تأكيد للإعراض. لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه. والنأي بالجانب: أن يلوي عنه عطفه، ويوليه ظهره، وأراد الاستكبار، لأن ذلك من عادة المستكبرين. واليؤوس: شديد اليأس، أي القنوط من رحمة الله.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله (في سورة هود) * (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعمآء بعد ضرآء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور) *، وقوله في (آخر فصلت): * (لا يسأم الانسان من دعآء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضرآء مسته ليقولن هاذا لى ومآ أظن الساعة قآئمة ولئن رجعت إلى ربى إن لى عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من
عذاب غليظ وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعآء عريض) *، وقوله: (في سورة الروم) * (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذآ أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون) *، وقوله فيها أيضا: * (وإذآ أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) *، وقوله (في سورة يونس): * (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قآئما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنآ إلى ضر مسه) *، وقوله (في سورة الزمر): * (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله) *، وقوله فيها أيضا: * (فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنمآ أوتيته على علم بل هى فتنة ولاكن أكثرهم لا يعلمون) *. إلى غير ذلك من الآيات.
وقد استثنى الله من هذه الصفات عباده المؤمنين في قوله (في سورة هود): * (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولائك لهم مغفرة وأجر كبير) * كما تقدم
182

إيضاحه. وقرأ ابن ذكوان (وناء) كجاء، وهو بمعنى نآى. كقولهم: راء في رأى. قوله تعالى: * (ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه ما أعطى خلقه من العلم إلا قليلا بالنسبة إلا علمه جل وعلا. لأن ما أعطيه الخلق من العلم بالنسبة إلى علم الخالق قليل جدا.
ومن الآيات التي فيها الإشارة إلى ذلك قوله تعالى: * (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا) *، وقوله: * (ولو أنما فى الا رض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم) *. قوله تعالى: * (إن فضله كان عليك كبيرا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فضله على نبيه صلى الله عليه وسلم كبير.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: * (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) *، وقوله: * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا) * وقوله: * (ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذى أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وبين تعالى في موضع آخر: أن فضله كبير على جميع المؤمنين، وهو قوله: * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) * وبين المراد بالفضل الكبير في قوله: * (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات فى روضات الجنات لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير) *. قوله تعالى: * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الا رض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الا نهار خلالها تفجيرا أو تسقط السمآء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى فى السمآء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرءه قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا) *. بين الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمة شدة عناد الكفار وتعنتهم، وكثرة اقتراحاتهم لأجل التعنت لا لطلب الحق. فذكر أنهم قالوا له صلى الله عليه وسلم: إنهم لن يؤمنوا له أي لن يصدقوه حتى يفجر لهم من الأرض ينبوعا. وهو يفعول من نبع: أي ماء غزير. ومنه قوله تعالى: * (فسلكه ينابيع فى
183

الا رض) * * (أو تكون لك جنة) * أي بستان من نخيل وعنب. فيفجر خلالها، أي وسطها أنهارا من الماء، أو يسقط السماء عليهم كسفا: أي قطعا كما زعم. أي في قوله تعالى: * (إن نشأ نخسف بهم الا رض أو نسقط عليهم كسفا من السمآء) *. أو يأتيهم بالله والملائكة قبيلا: أي معاينة. قاله قتادة وابن جريج) كقوله: * (لقآءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى) *.
وقال بعض العلماء: قبيلا: أي كفيلا. من تقبله بكذا: إذا كفله به. والقبيل والكفيل والزعيم بمعنى واحد. وقال الزمخشري قبيلا بما تقول، شاهدا بصحته. وكون القبيل في هذه الآية بمعنى الكفيل مروي عن ابن عباس والضحاك. وقال مقاتل: * ((91)) * شهيدا. وقال مجاهد: هو جمع قبيلة. أي تأتي بأصناف الملائكة. وعلى هذا القول فهو حال من الملائكة، أو يكون له بيت من زخرف: أي من ذهب: ومنه قوله (في الزخرف): * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة) * إلى قوله * (وزخرفا) * أي ذهبا. أو يرقى في السماء: أي يصعد فيه، وإنهم لن يؤمنوا لرقيه: أي من أجل صعوده، حتى ينزل عليهم كتابا يقرؤونه. وهذا التعنت والعناد العظيم الذي ذكره جل وعلا عن الكفار هنا بينه في مواضع أخر. وبين أنهم لو فعل الله ما اقترحوا ما آمنوا. لأن من سبق عليه الشقاء لا يؤمن. كقوله تعالى: * (ولو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هاذآ إلا سحر مبين) *، وقوله: * (ولو أننا نزلنآ إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شىء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشآء الله) *، وقوله: * (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) *، وقوله: * (وما يشعركم أنهآ إذا جآءت لا يؤمنون) *، وقوله: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جآءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الا ليم) *، والآيات بمثل هذا كثيرة.
وقوله في هذه الآية * (كتابا نقرءه) * أي كتابا من الله إلى كل رجل منا.
ويوضح هذا قوله تعالى (في المدثر): * (بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا
184

منشرة) * كما يشير إليه قوله تعالى: * (وإذا جآءتهم ءاية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآ أوتى رسل الله) *. وقوله في هذه الآية الكريمة: * (قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا) * أي تنزيها لربي جل وعلا عن كل ما لا يليق به، ويدخل فيه تنزيهه عن العجز عن فعل ما اقترحتم. فهو قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء، وأنا بشر أتبع ما يوحيه إلى ربي.
وبين هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: * (قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *، وقوله: * (قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فاستقيموا إليه واستغفروه) *. وكقوله تعالى عن جميع الرسل: * (قالت لهم رسلهم
إن نحن إلا بشر مثلكم ولاكن الله يمن على من يشآء من عباده) * إلى غير ذلك من الآيات. وقرأ * (تفجر) * الأولى عاصم وحمزة والكسائي بفتح التاء وإسكان الفاء وضم الجيم. والباقون بضم التاء وفتح الفاء وتشديد الجيم مكسورة. واتفق الجميع على هذا في الثانية. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم * (كسفا) * بفتح السين والباقون بإسكانها. وقرأ أبو عمرو * (تنزل) * بإسكان النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وشد الزاي. قوله تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) *. هذا المانع المذكور هنا عادي. لأنه جرت عادة جميع الأمم باستغرابهم بعث الله رسلا من البشر. كقوله: * (قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا) *، وقوله: * (أنؤمن لبشرين مثلنا) *، وقوله: * (أبشرا منا واحدا نتبعه إنآ إذا لفى ضلال وسعر) *، وقوله: * (ذالك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا) *، وقوله: * (ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
والدليل على أن المانع في هذه الآية عادي: أنه تعالى صرح بمانع آخر غير هذا (في سورة الكهف) وهو قوله: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الا ولين أو يأتيهم العذاب قبلا) * فهذا المانع المذكور (في الكهف) مانع حقيقي. لأن من أراد الله به سنة الأولين: من الإهلاك، أو أن يأتيه
185

العذاب قبلا فإرادته به ذلك مانعة من خلاف المراد. لاستحالة أن يقع خلاف مراده جل وعلا. بخلاف المانع (في آية بني إسرائيل) هذه، فهو مانع عادي يصح تخلفه. وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب). قوله تعالى: * (قل لو كان فى الا رض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السمآء ملكا رسولا) *. بين جل وعلا في هذه الآية: أن الرسول يلزم أن يكون من جنس المرسل إليهم. فلو كان مرسلا رسولا إلى الملائكة لنزل عليهم ملكا مثلهم. أي وإذا أرسل إلى البشر أرسل لهم بشرا مثلهم.
وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: * (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الا مر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) *، وقوله: * (ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم) *، وقوله: * (ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون فى الا سواق) * كما تقدم إيضاحه. قوله تعالى: * (أولم يروا أن الله الذى خلق السماوات والا رض قادر على أن يخلق مثلهم) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من خلق السماوات والأرض مع عظمها قادر على بعث الإنسان بلا شك. لأن من خلق الأعظم الأكبر فهو على خلق الأصغر قادر بلا شك.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: * (لخلق السماوات والا رض أكبر من خلق الناس) *، أي ومن قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق الأصغر. وقوله: * (أوليس الذى خلق السماوات والا رض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى) *، وقوله: * (أولم يروا أن الله الذى خلق السماوات والا رض ولم يعى بخلقهن) *، وقوله: * (أءنتم أشد خلقا أم السمآء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والا رض بعد ذلك دحاها أخرج منها مآءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولانعامكم) *. قوله تعالى: * (قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا) *. بين تعالى في هذه الآية: أن بني آدم لو كانوا يملكون خزائن رحمته أي خزائن الأرزاق والنعم لبخلوا بالرزق على غيرهم، ولأمسكوا عن الإعطاء. خوفا من الإنفاق لشدة بخلهم.
186

وبين أن الإنسان قتور: أي بخيل مضيق. من قولهم: قتر على عياله، أي ضيق عليهم.
وبين هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله تعالى: * (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) *، وقوله: * (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين) *، إلى غير ذلك من الآيات.
والمقرر في علم العربية أن (لو) لا تدخل إلى علي الأفعال. فيقدر لها في الآية فعل محذوف، والضمير المرفوع بعد (لو) أصله فاعل الفعل المحذوف. فلما حذف الفعل فصل الضمير. والأصل قل لو تملكون، فحذف الفعل فبقيت الواو فجعلت ضميرا منفصلا: هو أنتم. هكذا قاله غير واحد، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات) *. قال بعض أهل العلم: هذه الآيات التسع، هي: العصا، واليد، والسنون. والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات.
وقد بين جل وعلا هذه الآيات في مواضع أخر. كقوله: * (فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين ونزع يده فإذا هى بيضآء للناظرين) *، وقوله: * (ولقد أخذنآ ءال فرعون بالسنين ونقص من الثمرات) *، وقوله: * (فأوحينآ إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) * وقوله: * (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات مفصلات) * إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما ذكرنا. وجعل بعضهم الجبل بدل (السنين) وعليه فقد بين ذلك قوله تعالى: * (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) * ونحوها من الآيات. قوله تعالى: * (قال لقد علمت مآ أنزل هاؤلاء إلا رب السماوات والا رض بصآئر) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فرعون عالم بأن الآيات المذكورة ما أنزلها إلا رب السماوات والأرض بصائر: أي حججا واضحة. وذلك يدل على أن قول فرعون * (فمن ربكما ياموسى) *، وقوله: * (قال فرعون وما رب العالمين) * كل ذلك منه تجاهل عارف.
187

وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى مبينا سبب جحوده لما علمه (في سورة النمل) بقوله: * (وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضآء من غير سوء فى تسع ءايات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جآءتهم ءاياتنا مبصرة قالوا هاذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا) *. قوله تعالى: * (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أنزل هذا القرآن بالحق: أي متلبسا به متضمنا له. فكل ما فيه حق. فأخباره صدق، وأحكامه عدل. كما قال تعالى: * (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) * وكيف لاا وقد أنزله جل وعلا بعلمه. كما قال تعالى: * (لاكن الله يشهد بمآ أنزل إليك أنزله بعلمه) *، وقوله: *
(وبالحق نزل) * يدل على أنه لم يقع فيه تغيير ولا تبديل في طريق إنزاله. لأن الرسول المؤتمن على إنزاله قوي لا يغلب عليه حتى يغير فيه، أمين لا يغير ولا يبدل. كما أشار إلى هذا بقوله: * (نزل به الروح الا مين على قلبك) *، وقوله: * (إنه لقول رسول كريم ذى قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم أمين) *، وقوله: في هذه الآية: * (لقول رسول) * أي لتبليغه عن ربه. بدلالة لفظ الرسول لأنه يدل على أنه مرسل به. * (وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا * قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للا ذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنآ إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للا ذقان يبكون ويزيدهم خشوعا * قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الا سمآء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذالك سبيلا * وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا) * قوله تعالى: * (وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث) *. قرأ هذا الحرف عامة القرآء (فرقناه) بالتخفيف: أي بيناه وأوضحناه، وفصلناه وفرقنا فيه بين الحق والباطل. وقرأ بعض الصحابة * (فرقناه) * بالتشديد: أي أنزلناه مفرقا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة. ومن إطلاق فرق بمعنى بين وفصل قوله تعالى: * (فيها يفرق كل أمر حكيم) *.
وقد بين جل وعلا أنه بين هذا القرآن لنبيه ليقرأه على الناس على مكث، أي مهل وتؤدة وتثبت، وذلك يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يقرأ إلا كذلك. وقد أمر تعالى بما يدل على ذلك في قوله: * (ورتل القرءان ترتيلا) * ويدل لذلك أيضا قوله: * (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) * وقوله تعالى: * (وقرءانا) * منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده. على حد قوله في الخلاصة: وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) * وقوله تعالى: * (وقرءانا) * منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده. على حد قوله في الخلاصة:
188

* فالسابق انصبه بفعل أضمرا
* حتما موافق لما قد أظهرا
* قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الا سمآء) *. أمر الله جل وعلا عباده في هذه الآية الكريمة: أن يدعوه بما شاؤوا من أسمائه، إن شاؤواا قالوا: يا الله، وإن شاؤوا قالوا: يا رحمن، إلى غير ذلك من أسمائه جل وعلا.
وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله: * (ولله الأسمآء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون فى أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) *، وقوله: * (هو الله الذى لا إلاه إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم هو الله الذى لا إلاه إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارىء المصور له الا سمآء الحسنى يسبح له ما فى السماوات والا رض وهو العزيز الحكيم) *.
وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع: أنهم تجاهلوا اسم الرحمن في قوله: * (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان) *. وبين لهم بعض أفعال الرحمن جل وعلا في قوله: * (الرحمان علم القرءان خلق الإنسان علمه البيان) * ولذا قال بعض العلماء: إن قوله * (الرحمان علم القرءان) * جواب لقولهم: * (قالوا وما الرحمان) *. وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح (في سورة الفرقان). قوله تعالى: * (وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا) *. أمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة الناس على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. لأن أمر القدوة أمر لاتباعه كما قدمنا أن يقولوا: (الحمد لله) أي كل ثناء جميل لائق بكماله وجلاله، ثابت له، مبينا أنه منزه عن الأولاد والشركاء والعزة بالأولياء، سبحانه وتعالى عن ذلك كله علوا كبيرا.
فبين تنزهه عن الولد والصاحبة في مواضع كثيرة. كقوله: * (قل هو الله أحد) * إلى آخر السورة، وقوله: * (وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) *، وقوله: * (بديع السماوات والا رض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شىء وهو بكل شىء عليم) *، وقوله: * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الا رض وتخر الجبال هدا أن دعوا
189

للرحمان ولدا وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وبين في مواضع أخر: أنه لا شريك له في ملكه، أي ولا في عبادته. كقوله: * (وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير) *، وقوله: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) *، وقوله: * (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير) *، وقوله: * (قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة. ومعنى قوله في هذه الآية * (ولم يكن له ولى من الذل) * يعني أنه لا يذل فيحتاج إلى ولي يعزبه. لأنه هو العزيز القهار، الذي كل شيء تحت قهره وقدرته، كما بينه في مواضع كثيرة كقوله: * (والله غالب على أمره) *، وقوله: * (إن الله عزيز حكيم) * والعزيز: الغالب. وقوله: * (وهو القاهر فوق عباده) * والآيات بمثل ذلك كثيرة. وقوله * (وكبره تكبيرا) * أي عظمه تعظيما شديدا. ويظهر تعظيم الله في شدة المحافظة على امتثال أمره واجتناب نهيه، والمسارعة إلى كل ما يرضيه، كقوله تعالى: * (ولتكبروا الله على ما هداكم) * ونحوها من الآيات، والعلم عند الله تعالى.
وروى ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الصغير والكبير من أهله هذه الآية * (الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا) *. وقال ابن كثير: قلت وقد جاء في حديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى هذه الآية آية العز. وفي بعض الآثار: أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة. والله أعلم. ثم ذكر حديثا عن أبي يعلى من حديث أبي هريرة مقتضاه: أن قراءة هذه الآية تذهب السقم والضر، ثم قال: إسناده ضعيف، وفي متنه نكارة. والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
190

((سورة الكهف))
* (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لأبآئهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) * * (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لأبآئهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) *. علم الله جل وعلا عباده في أول هذه السورة الكريمة أن يحمدوه على أعظم نعمة أنعمها عليهم. وهي إنزاله على نبينا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، الذي لا اعوجاج فيه. بل هو في كمال الاستقامة. أخرجهم به من الظلمات إلى النور. وبين لهم فيه العقائد، والحلال والحرام، وأسباب دخول الجنة والنار، وحذرهم فيه من كل ما يضرهم، وحضهم فيه على كل ما ينفعهم، فهو النعمة العظمى على الخلق، ولذا علمهم ربهم كيف يحمدونه على هذه النعمة الكبرى بقوله: * (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب) *.
وما أشار له هنا من عظيم الإنعام والامتنان على خلقه بإنزال هذا القرآن العظيم، منذرا من لم يعمل به، ومبشرا من عمل به ذكره جل وعلا في مواضع كثيرة، كقوله: * (ياأيها الناس قد جآءكم برهان من ربكم وأنزلنآ إليكم نورا مبينا فأما الذين ءامنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم فى رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما) *، وقوله: * (أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن فى ذالك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) *، وقوله: * (إن هاذا القرءان يقص على بنى إسراءيل أكثر الذى هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين) *، وقوله: * (وننزل من القرءان ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين) *، وقوله: * (قل هو للذين ءامنوا هدى وشفآء) *، وقوله تعالى * (إن فى هاذا لبلاغا لقوم عابدين ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين) *، وقوله: * (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة
191

من ربك) *، وقوله: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير) *.
وهو تصريح منه جل وعلا بأن إيراث هذا الكتاب فضل كبير والآيات بمثل هذا كثيرة جدا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ولم يجعل له عوجا) * أي لم يجعل في القرآن عوجا. أي لا اعوجاج فيه البتة، لا من جهة الألفاظ، ولا من جهة المعاني. أخباره كلها صدق، وأحكامه عدل، سالم من جميع العيوب في ألفاظه ومعانيه، وأخباره وأحكامه. لأن قوله (عوجا) نكرة في سياق النفي. فهي تعم نفي جميع أنواع العواج.
وما ذكره جل وعلا هنا من أنه لا اعوجاج فيه بينه في مواضع أخر كثيرة كقوله: * (ولقد ضربنا للناس فى هاذا القرءان من كل مثل لعلهم يتذكرون قرءانا عربيا غير ذى عوج لعلهم يتقون) *، وقوله: * (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) *. فقوله (صدقا) أي في الأخبار، وقوله (عدلا) أي في الأحكام وكقوله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *. والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (قيما) * أي مستقيما لا ميل فيه ولا زيغ. وما ذكره هنا من كونه * (قيما) * لا ميل فيه ولا زيغ بينه أيضا في مواضع أخر، كقوله * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة) *، وقوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *، وقوله: * (وما كان هاذا القرءان أن يفترى من دون الله ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) *. وقوله تعالى: * (ما كان حديثا يفترى ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) * وقوله * (ألم ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) *، وقوله * (الر كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) * وقوله: * (ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نشآء من عبادنا) * إلى غير ذلك من الآيات.
192

وهذا الذي فسرنا به قوله تعالى * (قيما) * هو قول الجمهور وهو الظاهر. وعليه فهو تأكيد في المعنى لقوله * (ولم يجعل له عوجا) * لأنه قد يكون الشيء مستقيما في الظاهر وهو لا يخلو من اعوجاج في حقيقة الأمر. ولذا جمع تعالى، بين نفي العوج وإثبات الاستقامة. وفي قوله (قيما) وجهان آخران من التفسير:
الأول أن معنى كونه (قيما) أنه قيم على ما قبله من الكتب السماوية، أي مهيمن عليها وعلى هذا التفسير فالآية كقوله تعالى: * (وأنزلنآ إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) *.
ولأجل هيمنته على ما قبله من الكتب قال تعالى: * (إن هاذا القرءان يقص على بنى إسراءيل أكثر الذى هم فيه يختلفون) *. وقال: * (التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم) * وقال * (ياأهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب) *.
الوجه الثاني أن معنى كونه (قيما): أنه قيم بمصالح الخلق الدينية والدنيوية. وهذا الوجه في الحقيقة يستلزمه الوجه الأول.
واعلم أن علماء العربية اختلفوا في إعراب قوله (قيما) فذهب جماعة إلى أنه حال من الكتاب. وأن في الآية تقديما وتأخيرا، وتقريره على هذا: أنزل على عبده الكتاب في حال كونه قيما ولم يجعل له عوجا. ومنع هذا الوجه من الإعراب الزمخشري في الكشاف قائلا: إن قوله * (ولم يجعل له عوجا) * معطوف على صلة الموصول التي هي جملة * (أنزل على عبده الكتاب) * والمعطوف على الصلة داخل في حيز الصلة. فجعل (قيما) حال من (الكتاب) يؤدي إلى الفصل بين الحال وصاحبها ببعض الصلة، وذلك لا يجوز. وذهب جماعة آخرون إلى أن (قيما) حال من (الكتاب) وأن المحذور الذي ذكره الزمخشري منتف. وذلك أنهم قالوا: إن جملة * (
ولم يجعل له عوجا) * ليست معطوفة على الصلة، وإنما هي جملة حالية. وقوله (قيما) حال بعد حال، وتقريره: أن المعنى أنزل على عبده الكتاب في حال كونه غير جاعل فيه عوجا، وفي حال كونه قيما. وتعدد الحال لا إشكال فيه، والجمهور على جواز تعدد الحال مع اتحاد عامل الحال وصاحبها، كما أشار له في الخلاصة بقوله: ولم يجعل له عوجا) * ليست معطوفة على الصلة، وإنما هي جملة حالية. وقوله (قيما) حال بعد حال، وتقريره: أن المعنى أنزل على عبده الكتاب في حال كونه غير جاعل فيه عوجا، وفي حال كونه قيما. وتعدد الحال لا إشكال فيه، والجمهور على جواز تعدد الحال مع اتحاد عامل الحال وصاحبها، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* والحال قد يجيء ذا تعدد
* لمفرد فاعلم وغير مفرد
*
193

وسواء كان ذلك بعطف أو بدون عطف. فمثاله مع العطف: قوله تعالى: * (أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) * ومثاله بدون عطف قوله تعالى: * (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) *. وقول الشاعر: ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) *. وقول الشاعر:
* على إذا ما جئت ليلى بخفية
* زيارة بيت الله رجلان حافيا
*
ونقل عن أبي الحسن بن عصفور منع تعدد الحال ما لم يكن العامل فيه صيغة التفضيل في نحو قوله: هذا بسرا أطيب منه رطبا. ونقل منع ذلك أيضا عن الفارسي وجماعة. وهؤلاء الذين يمنعون تعدد الحال يقولون: إن الحال الثانية إنما هي حال من الضمير المستكن في الحال الأولى. والأولى عندهم هي العامل في الثانية. فهي عندهم أحوال متداخلة، أو يجعلون الثانية نعتا للأولى وممن اختار أن جملة * (ولم يجعل) * حالية، وأن * (قيما) * حال بعد حال الأصفهاني.
وذهب بعضهم إلى أن قوله * (قيما) * بدل من قوله * (ولم يجعل له عوجا) * لأن انتفاء العوج عنه هو معنى كونه قيما.
وعزا هذا القول الرازي وأبو حيان لصاحب حل العقد، وعليه فهو بدل مفرد من جملة.
كما قالوا: في عرفت زيدا أبو من. أنه بدل جملة من مفرد. وفي جواز ذلك خلاف عند علماء العربية.
وزعم قوم أن * (قيما) * حال من الضمير المجرور في قوله * (ولم يجعل له عوجا) * واختار الزمخشري وغيره أن * (قيما) * منصوب بفعل محذوف، وتقديره: ولم يجعل له عوجا وجعله قيما، وحذف ناصب الفضلة إذا دل عليه المقام جائز. كما قال في الخلاصة: ولم يجعل له عوجا) * واختار الزمخشري وغيره أن * (قيما) * منصوب بفعل محذوف، وتقديره: ولم يجعل له عوجا وجعله قيما، وحذف ناصب الفضلة إذا دل عليه المقام جائز. كما قال في الخلاصة:
* ويحذف الناصبها إن علما
* وقد يكون حذفه ملتزما
*
وأقرب أوجه الإعراب في قوله (قيما) أنه منصوب بمحذوف، أو حال ثانية من (الكتاب) والله تعالى أعلم.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (لينذر بأسا شديدا) * اللام فيه متعلقة
194

ب * (أنزل) * وقال الحوفي: هي متعلقة بقوله * (قيما) * والأول هو الظاهر.
والإنذار: الإعلام المقترن بتخويف وتهديد. فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذارا. والإنذار يتعدى إلى مفعولين، كما في قوله تعالى: * (فأنذرتكم نارا تلظى) *، وقوله * (إنآ أنذرناكم عذابا قريبا) *.
وفي أول هذه السورة الكريمة كرر تعالى الإنذار، فحذف في الموضع الأول مفعول الإنذار الأول، وحذف في الثاني مفعول الثاني، فصار المذكور دليلا على المحذوف في الموضعين. وتقدير المفعول الأول المحذوف في الموضع الأول: لينذر الذين كفروا بأسا شديدا من لدنه. وتقدير المفعول الثاني المحذوف في الموضع الثاني: وينذر الذين قالوا اتخذا الله ولدا بأسا شديدا من لدنه.
وقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى أن هذا القرآن العظيم تخويف وتهديد للكافرين. وبشارة للمؤمنين المتقين. إذ قال في تخويف الكفرة به * (لينذر بأسا شديدا من لدنه) * وقال * (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا) * الآية. وقال في بشارته للمؤمنين: * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا) *.
وهذا الذي ذكره هنا من كونه إنذارا لهؤلاء وبشارة لهؤلاء بينه في مواضع أخر كقوله: * (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) *، وقوله: * (المص كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين) *.
وقد أوضحنا هذا المبحث في أول سورة (الأعراف). وأوضحنا هنا لك المعاني التي ورد بها الإنذار في القرآن. والبأس الشديد الذي أنذرهم إياه: هو العذاب الأليم في الدنيا والآخرة والبشارة: الخير بما يسر.
وقد تطلق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء، ومنعه قوله تعالى: * (فبشره بعذاب أليم) * ومنه قول الشاعر: فبشره بعذاب أليم) * ومنه قول الشاعر:
* وبشرتني يا سعد أن أحبتي
* جفوني وقالوا الود موعده الحشر
*
وقول الآخر
195

: وقول الآخر:
* يبشرني الغراب ببين أهلي
* فقلت له ثكلتك من بشير
*
والتحقيق: أن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء، أسلوب من أساليب اللغة العربية. ومعلوم أن علماء البلاغة يجعلون مثل ذلك مجازا، ويسمونه استعارة عنادية، ويقسمونها إلى تهكمية وتمليحية كما هو معروف في محله.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (الذين يعملون الصالحات) * بينت المراد به آيات أخر، فدلت على أن العمل لا يكون صالحا إلا بثلاثة أمور:
الأول أن يكون مطابقا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. فكل عمل مخالف لما جاء به صلوات الله وسلامه عليه فليس بصالح، بل هو باطل، قال تعالى: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه) *، وقال: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * وقال: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله) *، وقال: * (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) *. إلى غير ذلك من الآيات.
الثاني أن يكون العامل مخلصا في عمله لله فيما بينه وبين الله، قال تعالى: * (ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) *، وقال: * (قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لان أكون أول المسلمين قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له دينى فاعبدوا ما شئتم من دونه) * إلى غير ذلك من الآيات.
الثالث أن يكون العمل مبنيا على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة، لأن العمل كالسقف، والعقيدة كالأساس، قال تعالى: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) *، فجعل الإيمان قيدا في ذلك.
وبين مفهوم هذا القيد في آيات كثيرة، كقوله في أعمال غير المؤمنين: * (وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا) *، وقوله: * (أعمالهم كسراب) *، وقوله: * (أعمالهم كرماد اشتدت به الريح) *، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.
والتحقيق: أن مفرد الصالحات في قوله: * (يعملون الصالحات) *، وقوله:
196

* (وعملوا الصالحات) * ونحو ذلك أنه صالحة، وأن العرب تطلق لفظة الصالحة على الفعلة الطيبة. كإطلاق اسم الجنس لتناسى الوصيفة، كما شاع ذلك الإطلاق في الحسنة مرادا بها الفعلة الطيبة.
ومن إطلاق العرب لفظ الصالحة على ذلك قول أبي العاص بن الربيع في زوجة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم::
* بنت الأمين جزاك الله صالحة
* وكل بعل سيثنى بالذي علما
*
وقول الحطيئة: وقول الحطيئة:
* كيف الهجاء ولا تنفك صالحة
* من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
*
وسئل إعرابي عن الحب فقال: وسئل إعرابي عن الحب فقال:
* الحب مشغلة عن كل صالحة
* وسكرة الحب تنفي سكرة الوسن
*
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (أن لهم أجرا حسنا) * أي وليبشرهم بأن لهم أجرا حسنا. الأجر: جزاء العمل، وجزاء عملهم المعبر عنه هنا بالأجر: هو الجنة. ولذا قال * (ماكثين فيه أبدا) * وذكر الضمير في قوله * (فيه) * لأنه راجع إلى الأجر وهو مذكر، وإن كان المراد بالأجر الجنة: ووصف أجرهم هنا بأنه حسن،
وبين أوجه حسنه في آيات كثيرة. كقوله * (ثلة من الا ولين وقليل من الا خرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين) * إلى قوله * (ثلة من الا ولين وثلة من الا خرين) *، وكقوله: * (فلا تعلم نفس مآ أخفى لهم من قرة أعين) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا معلومة.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ماكثين فيه أبدا) * أي خالدين فيه بلا انقطاع.
وقد بين هذا المعنى في مواضع أخر كثيرة، كقوله: * (وأما الذين سعدوا ففى الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والا رض إلا ما شآء ربك عطآء غير مجذوذ) * أي غير مقطوع، وقوله: * (إن هاذا لرزقنا ما له من نفاد) * أي ما له من انقطاع وانتهاء، وقوله: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) *، وقوله: * (والا خرة خير وأبقى) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا) *
197

أي ينذرهم بأسا شديدا * (من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا) * أي من عنده كما تقدم. وهذا من عطف الخاص على العام، لأن قوله * (لينذر بأسا شديدا من لدنه) * شامل للذين قالوا اتخذ الله ولدا، ولغيرهم من سائر الكفار.
وقد تقرر في فن المعاني: أن عطف الخاص على العام إذا كان الخاص يمتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة أو قبيحة من الإطناب المقبول، تنزيلا للتغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات.
ومثاله في الممتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة قوله تعالى: * (وملائكته ورسله وجبريل) *، وقوله: * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) *.
ومثاله في الممتاز بصفات قبيحة الآية التي نحن بصددها، فإن * (الذين قالوا اتخذ الله ولدا) * امتازوا عن غيرهم بفرية شنعاء. ولذا ساغ عطفهم على اللفظ الشامل لهم ولغيرهم.
والآيات الدالة على شدة عظم فريتهم كثيرة جدا. كقوله هنا: * (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) *، وكقوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الا رض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمان ولدا وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا) *، وقوله: * (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما) * والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.
وقد قدمنا أن القرآن بين أن الذين نسبوا الولد لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ثلاثة أصناف من الناس: اليهود، والنصارى، قال تعالى: * (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذالك قولهم بأفواههم) *. والصنف الثالث مشركو العرب. كما قال تعالى عنهم: * (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) *، والآيات بنحوها كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ما لهم به من علم ولا لأبآئهم) * يعني أن ما نسبوه له جل وعلا من اتخاذ الولد لا علم لهم به. لأنه مستحيل.
والآية تدل دلالة واضحة على أن نفي الفعل لا يدل على إمكانه. ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (وما ظلمونا ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) * لأن ظلمهم
198

لربنا وحصول العلم لهم باتخاذه الولد كل ذلك مستحيل عقلا. فنفيه لا يدل على إمكانه. ومن هذا القبيل قول المنطقيين: السالبة لا تقتضى وجود الموضوع، كما بيناه في غير هذا الموضع.
وما نفاه عنهم وعن آبائهم من العلم باتخاذه الولد سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا بينه في مواضع أخر، كقوله: * (وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون) *، وقوله في آبائهم: * (أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءاباءنآ أولو كان ءاباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) * يعني أن ما قالوه بأفواههم من أن الله اتخذ ولدا أمر كبير عظيم. كما بينا الآيات الدالة على عظمه آنفا. كقوله: * (إنكم لتقولون قولا عظيما) *، وقوله: * (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الا رض وتخر الجبال هدا) *. وكفى بهذا كبرا وعظما.
وقال بعض علماء العربية: إن قوله * (كبرت كلمة) * معناه التعجب. فهو بمعنى ما أكبرها كلمة. أو أكبر بها كلمة.
والمقرر في علم النحو: أن (فعل) بالضم تصاغ لإنشاء الذم والمدح، فتكون من باب نعم وبئس، ومنه قوله تعالى: * (كبرت كلمة) *. وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله: والمقرر في علم النحو: أن (فعل) بالضم تصاغ لإنشاء الذم والمدح، فتكون من باب نعم وبئس، ومنه قوله تعالى: * (كبرت كلمة) *. وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله:
* واجعل كبئس ساء واجعل فعلا
* من ذي ثلاثة كنعم مسجلا
*
وقوله (كنعم) أي اجعله من باب (نعم) فيشمل بئس. وإذا تقرر ذلك ففاعل (كبر) ضمير محذوف و * (كلمة) * نكرة مميزة للضمير المحذوف. على حد قوله في الخلاصة. وقوله (كنعم) أي اجعله من باب (نعم) فيشمل بئس. وإذا تقرر ذلك ففاعل (كبر) ضمير محذوف و * (كلمة) * نكرة مميزة للضمير المحذوف. على حد قوله في الخلاصة.
* ويرفعان مضمرا يفسره
* مميز كنعم قوما معشره
*
والمخصوص بالذم محذوف، والتقدير: كبرت هي كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة التي فاهوا بها، وهي قولهم: اتخذ الله ولدا، وأعرب بعضهم * (كلمة) * بأنها حال، أي كبرت فريتهم في حال كونها كلمة خارجة من أفواههم. وليس بشيء.
199

وقال ابن كثير في تفسيره * (تخرج من أفواههم) * أي ليس لها مستند سوى قولهم ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، ولذا قال: * (إن يقولون إلا كذبا) *.
وهذا المعنى الذي ذكره ابن كثير له شواهد في القرآن. كقوله: * (يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم) * ونحو ذلك من الآيات.
والكذب: مخالفة الخبر للواقع على أصح الأقوال.
فائدة
لفظة (كبر) إذا أريد بها غير الكبر في السن فهي مضمومة الباء في الماضي والمضارع، كقوله هنا * (كبرت كلمة) *، وقوله: * (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) *، وقوله: * (أو خلقا مما يكبر فى صدوركم) * ونحو ذلك.
وإن كان المراد بها الكبر في السن فهي مكسورة الباء في الماضي، مفتوحتها في المضارع على القياس، ومن ذلك قوله تعالى: * (ولا تأكلوهآ إسرافا وبدارا أن يكبروا) *، وقول المجنون: ولا تأكلوهآ إسرافا وبدارا أن يكبروا) *، وقول المجنون:
* تعشقت ليلى وهي ذات ذوائب
* ولم يبد للعينين من ثديها حجم
*
* صغيرين نرعى إليهم يا ليت أننا
* إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر إليهم
*
وقوله في هذا البيت (صغيرين) شاهد عند أهل العربية في إتيان الحال من الفاعل والمفعول معا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (كبرت كلمة) * يعني بالكلمة: الكلام الذي هو قولهم * (اتخذ الله ولدا) *.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله يطلق اسم الكلمة على الكلام أوضحته آيات أخر. كقوله: * (كلا إنها كلمة هو قآئلها) *، والمراد بها قوله: * (قال رب ارجعون لعلى أعمل صالحا فيما تركت) *. وقوله: * (وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) * وما جاء لفظ الكلمة في القرآن إلا مرادا به الكلام المفيد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (عوجا) * هو بكسر العين في المعاني كما في هذه الآية الكريمة. وبفتحها فيما كان منتصبا كالحائط.
200

قال الجوهري في صحاحه: قال ابن السكيت: وكل ما كان ينتصب كالحائط والعود قيل فيه (عوج) بالفتح. والعوج بالكسر ما كان في أرض أو دين أو معاش، يقال في دينه عوج ا ه.
وقرأ هذا الحرف حفص عن عاصم في الوصل * (عوجا) * بالسكت على الألف المبدلة من التنوين سكتة يسيرة من غير تنفس، إشعارا بأن * (قيما) * ليس متصلا ب * (عوجا) * في المعنى بل للإشارة إلى أنه منصوب بفعل مقدر، أي جعله قيما كما قدمنا.
وقرأ أبو بكر عن عاصم * (من لدنه) * بإسكان الدال مع إشمامها الضم وكسر النون والهاء ووصلها بياء في اللفظ. وقوله: * (ويبشر المؤمنين الذين) * قرأه الجمهور بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشددة. وقرأه حمزة والكسائي (يبشر) بفتح الياء وإسكان الباء الموحدة وضم الشين.
* (فلعلك باخع نفسك علىءاثارهم إن لم يؤمنوا بهاذا الحديث أسفا * إنا جعلنا ما على الا رض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) * قوله تعالى: * (فلعلك باخع نفسك علىءاثارهم إن لم يؤمنوا بهاذا الحديث أسفا) *. اعلم أولا أن لفظة (لعل) تكون للترجي في المحبوب، وللإشفاق في المحذور. واستظهر أبو حيان في البحر المحيط أن (لعل) في قوله هنا * (فلعلك باخع نفسك) * للإشفاق عليه صلى الله عليه وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم به.
وقال بعضهم: إن (لعل) في الآية للنهي. وممن قال به العسكري، وهو معنى كلام ابن عطية كما نقله عنهما صاحب البحر المحيط.
وعلى هذا القول فالمعنى: لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم. وقيل: هي في الآية للاستفهام المضمن معنى الإنكار. وإتيان لعل للاستفهام مذهب كوفي معروف.
وأظهر هذه الأقوال عندي في معنى (لعل) أن المراد بها في الآية النهي عن الحزن عليهم.
وإطلاق لعل مضمنة معنى النهي في مثل هذه الآية أسلوب عربي يدل عليه سياق الكلام.
ومن الأدلة على أن المراد بها النهي عن ذلك كثرة ورود النهي صريحا عن ذلك. كقوله: * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) *، وقوله: * (ولا تحزن عليهم) *
201

، وقوله: * (فلا تأس على القوم الكافرين) * إلى غير ذلك من الآيات وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
والباخع: المهلك: أي مهلك نفسك من شدة الأسف على عدم إيمانهم ومنه قول ذي الرمة: والباخع: المهلك: أي مهلك نفسك من شدة الأسف على عدم إيمانهم ومنه قول ذي الرمة:
* ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه
* لشيء نحته عن يديه المقادر
*
كما تقدم.
وقوله * (علىءاثارهم) * قال القرطبي: آثارهم جمع أثر. ويقال إثر. والمعنى: على أثر توليهم وإعراضهم عنك.
وقال أبو حيان في البحر: ومعنى (على آثارهم) من بعدهم، أي بعد يأسك من إيمانهم. أو بعد موتهم على الكفر. يقال: مات فلان على أثر فلان. أي بعده.
وقال الزمخشري: شبهه وإباهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به، وما داخله من الوجد والأسف على توليهم برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم، وتلهفا على فراقهما والأسف هنا: شدة الحزن. وقد يطلق الأسف على الغضبا كقوله: * (فلمآ ءاسفونا انتقمنا منهم) *.
فإذا حققت معنى هذه الآية الكريمة فاعلم أن ما ذكره فيها جل وعلا من شدة حزن نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم، وعن نهيه له عن ذلك مبين في آيات أخر كثيرة، كقوله: * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) *، وكقوله: * (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) *، وكقوله: * (ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين) *، وكقوله: * (فلا تأس على القوم الكافرين) *، وكقوله: * (قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون) *، وكقوله * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) * كما قدمناه موضحا.
وقوله في هذه الآية الكريمة * (أسفا) * مفعول من أجله، أي مهلك نفسك من أجل الأسف. ويجوز إعرابه حالا. أي في حال كونك آسفا عليهم. على حد قوله في الخلاصة: وقوله في هذه الآية الكريمة * (أسفا) * مفعول من أجله، أي مهلك نفسك من أجل الأسف. ويجوز إعرابه حالا. أي في حال كونك آسفا عليهم. على حد قوله في الخلاصة:
* ومصدر منكر حالا يقع
* بكثرة كبغتة زيد طلع
*
202

إنا جعلنا ما على الا رض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) *. قال الزمخشري في معنى هذه الآية الكريمة: (ما عليها) يعني ما على الأرض مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها.
وقال بعض العلماء: كل ما على الأرض زينة لها من غير تخصيص. وعلى هذا القول فوجه كل الحيات وغيرها مما يؤدي زينة للأرض. لأنه يدل على وجود خالقه، واتصافه بصفات الكمال والجلال، ووجود ما يحصل به هذا العلم في شيء زينة له.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان المذكورة فيه أن يذكر لفظ عام ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، كقوله تعالى: * (ذالك ومن يعظم شعائر الله) *. مع تصريحه بأن البدن داخلة في هذا العموم بقوله * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) *.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة: * (إنا جعلنا ما على الا رض زينة لها) * قد صرح في مواضع أخر ببعض الأفراد الداخلة فيه، كقوله تعالى: * (المال والبنون زينة الحيواة الدنيا) *، وقوله: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (صعيدا) * أي أرضا بيضاء لانبات بها. وقد قدمنا معنى (الصعيد) بشواهده العربية في سورة (المائدة).
والجرز: الأرض التي لانبات بها كما قال تعالى: * (أولم يروا أنا نسوق المآء إلى الا رض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) * ومنه قول ذي الرمة: أولم يروا أنا نسوق المآء إلى الا رض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) * ومنه قول ذي الرمة:
* طوى النحز والأجراز ما في غروضها
* وما بقيت إلا الضلوع الجراشع
*
لأن مراده (بالأجراز) الفيافي التي لا نبات فيها، والأجراز: جمع جرزة، والجرزة: جمع جرز، فهو جمع الجمع للجرز، كما قاله الجوهري في صحاحه.
قال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة * (وإنا لجاعلون ما عليها) * من هذه الزينة صعيدا أو جرزا، أي مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته، وإماطة حسنه، وإبطال ما به كان زينة من إماتة الحيوان، وتجفيف
203

النبات والأشجار اه.
وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبينا في مواضع أخر، كقوله: * (إنما مثل الحيواة الدنيا كمآء أنزلناه من السمآء فاختلط به نبات الا رض مما يأكل الناس والا نعام حتى إذآ أخذت الا رض زخرفها وازينت وظن أهلهآ أنهم قادرون عليهآ أتاهآ أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالا مس كذالك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) *، وكقوله تعالى: * (واضرب لهم مثل الحيواة الدنيا كمآء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الا رض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شىء مقتدرا) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة * (لنبلوهم أيهم أحسن عملا) * أي لنختبرهم على ألسنة رسلنا.
وهذه الحكمة التي ذكرها هنا لجعل ما على الأرض زينة لها وهي الابتلاء في إحسان العمل بين في مواضع أخر أنها هي الحكمة في خلق الموت والحياة والسماوات والأرض، قال تعالى: * (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير الذى خلق الموت والحيواة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) *، وقال تعالى: * (وهو الذى خلق السماوات والا رض فى ستة أيام وكان عرشه على المآء ليبلوكم أيكم أحسن عملا) *.
وقد بين صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) كما تقدم.
وهذا الذي أوضحنا من أنه جل وعلا جعل ما على الأرض زينة لها ليبتلى خلقه، ثم يهلك ما عليها ويجعله صعيدا جرزا فيه أكبر واعظ للناس، وأعظم زاجر عن اتباع الهوى، وإيثار الفاني على الباقي، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون. فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
* (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من ءاياتنا عجبا * إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنآ ءاتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا * فضربنا علىءاذانهم فى الكهف سنين عددا * ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) * قوله تعالى: * (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من ءاياتنا عجبا) *. * (الارض أم) * في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة عن التحقيق، ومعناها عند الجمهور (بل والهمزة) وعند بعض العلماء بمعنى (بل) فقط، فعلى القول الأول فالمعنى: بل
204

أحسبت، وعلى الثاني فالمعنى: بل حبست، فهي على القول الأول جامعة بين الإضراب والإنكار. وعلى الثاني فهي للإضراب الانتقالي فقط.
وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة: أن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إن قصة أصحاب الكهف وإن استعظمها الناس وعجبوا منها، فليست شيئا عجبا بالنسبة إلى قدرتنا وعظيم صنعنا، فإن خلقنا للسموات والأرض، وجعلنا ما على الأرض زينة لها، وجعلنا إياها بعد ذلك صعيدا جرزا أعظم وأوجب مما فعلنا بأصحاب الكهف، ومن كوننا أنمناهم هذا الزمن الطويل، ثم بعثناهم، ويدل لهذا الذي ذكرنا آيات كثيرة:
منها أنه قال: * (إنا جعلنا ما على الا رض زينة لها) * إلى قوله * (صعيدا جرزا) *، ثم أتبع ذلك بقوله: * (أم حسبت أن أصحاب الكهف) *، فدل ذلك على أن المراد أن قصتهم لا عجب فيها بالنسبة إلى ما خلقنا مما هو أعظم منها.
ومنها أنه يكثر في القرآن العظيم تنبيه الناس على أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الناس، ومن خلق الأعظم فهو قادر على الأصغر بلا شك، كقوله تعالى: * (لخلق السماوات والا رض أكبر من خلق الناس) *، وكقوله: * (أءنتم أشد خلقا أم السمآء بناها) * إلى قوله * (متاعا لكم ولانعامكم) * كما قدمناه مستوفى في سورة (البقرة والنحل).
ومن خلق هذه المخلوقات العظام: كالسماء والأرض وما فيهما فلا عجب في إقامته أهل الكهف هذه المدة الطويلة، ثم بعثه إياهم، كما هو واضح.
والكهف: النقب المتسع في الجبل، فإن لم يك واسعا فهو غار. وقيل: كل غار في جبل: كهف. وما يروى عن أنس من أن الكهف نفس الجبل غريب، غير معروف في اللغة.
واختلف العلماء في المراد ب * (الرقيم) * في هذه الآية على أقوال كثيرة، قيل: الرقيم اسم كلبهم، وهو اعتقاد أمية بن أبي الصلت حيث يقول: واختلف العلماء في المراد ب * (الرقيم) * في هذه الآية على أقوال كثيرة، قيل: الرقيم اسم كلبهم، وهو اعتقاد أمية بن أبي الصلت حيث يقول:
* وليس بها إلا الرقيم مجاورا
* وصيدهم والقوم في الكهف همد
*
وعن الضحاك أن الرقيم: بلدة بالروم، وقيل: اسم الجبل الذي فيه الكهف. وقيل: اسم للوادي الذي فيه الكهف. والأقوال فيه كثيرة. وعن ابن عباس أنه قال: ل
205

ا أدري ما الرقيم؟ أكتاب أم بنيان؟.
وأظهر الأقوال عندي بحسب اللغة العربية وبعض آيات القرآن: أن الرقيم معناه: المرقوم، فهو فعيل بمعنى مفعول، من رقمت الكتاب إذا كتبته، ومنه قوله تعالى: * (كتاب مرقوم) *. سواء قلنا: إن الرقيم كتاب كان عندهم فيه شرعهم الذي تمسكوا به، أو لوح من ذهب كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم وسبب خروجهم، أو صخرة نقشت فيها أسماؤهم. والعلم عند الله تعالى.
والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم: طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين: أحدهما معطوف على الآخر، خلافا لمن قال: إن أصحاب الكهف طائفة، وأصحاب الرقيم
طائفة أخرى وأن الله قص على نبيه في هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم: وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدت عليهم باب الكهف الذي هم فيه، فدعو الله بأعمالهم الصالحة: وهم البار بوالديه، والعفيف، والمستأجر. وقصتهم مشهورة ثابتة في الصحيح، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد بعيد كما ترى.
واعلم أن قصة أصحاب الكهف وأسماءهم، وفي أي محل من الأرض كانوا كل ذلك لم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء زائد على ما في القرآن، وللمفسرين في ذلك أخبار كثيرة إسرائيلية أعرضنا عن ذكرها لعدم الثقة بها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ءاياتنا عجبا) * صفة المحذوف، أي شيئا عجبا. أو آية عجبا.
وقوله: * (من ءاياتنا) * في موضع الحال. وقد تقرر في فن النحو أن نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا، وأصل المعنى: كانوا عجبا كائنا من آياتنا، فلما قدم النعت صار حالا. قوله تعالى: * (إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنآ ءاتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من صفة أصحاب الكهف أنهم فتية، وأنهم أووا إلى الكهف، وأنهم دعوا ربهم هذا الدعاء العظيم الشامل لكل خير، وهو قوله عنهم * (ربنآ ءاتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا) *.
وبين في غير هذا الموضع أشياء أخرى من صفاتهم وأقوالهم، كقوله: * (إنهم فتية
206

ءامنوا بربهم وزدناهم هدى) * إلى قوله * (ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيىء لكم من أمركم مرفقا) * و * (إذ) * في قوله هنا * (إذ أوى الفتية) * منصوبة ب * (اذكر) * مقدرا. وقيل: بقوله * (عجبا) * ومعنى قوله * (إذ أوى الفتية إلى الكهف) * أي جعلوا الكهف مأوى لهم ومكان اعتصام.
ومعنى قوله: * (ءاتنا من لدنك رحمة) * أي أعطنا رحمة من عندك. والرحمة هنا تشمل الرزق والهدى والحفظ مما هربوا خائفين منه من أذى قومهم، والمغفرة.
والفتية: جمع فتى جمع تكسير، وهو من جموع القلة. ويدل لفظ الفتية على قلتهم، وأنهم شباب لا شيب، خلافا لما زعمه ابن السراج من: أن الفتية اسم جمع لا جمع تكسير. وإلى كون مثل الفتية جمع تكسير من جموع القلة أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله: والفتية: جمع فتى جمع تكسير، وهو من جموع القلة. ويدل لفظ الفتية على قلتهم، وأنهم شباب لا شيب، خلافا لما زعمه ابن السراج من: أن الفتية اسم جمع لا جمع تكسير. وإلى كون مثل الفتية جمع تكسير من جموع القلة أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله:
* أفعلة أفعل ثم فعله
* كذاك أفعال جموع قلة
*
والتهيئة: التقريب والتيسير: أي يسر لنا وقرب لنا من أمرنا رشدا. والرشد: الاهتداء والديمومة عليه. و * (من) * في قوله * (من أمرنا) * فيها وجهان: أحدهما أنها هنا للتجريد، وعليه فالمعنى: اجعل لنا أمرنا رشدا كله. كما تقول: لقيت من زيد أسدا. ومن عمرو بحرا.
والثاني أنها للتبعيض. وعليه فالمعنى: واجعل لنا بعض أمرنا. أي وهو البعض الذي نحن فيه من مفارقة الكفار رشدا حتى نكون بسببه راشدين مهتدين. قوله تعالى * (فضربنا علىءاذانهم فى الكهف سنين عددا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ضرب على آذان أصحاب الكهف سنين عددا. ولم يبين قدر هذا العدد هنا، ولكنه بينه في موضع آخر. وهو قوله: * (ولبثوا فى كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا) *.
وضربه جل وعلا على آذانهم في هذه الآية كناية عن كونه أنامهم ومفعول (ضربنا) محذوف، أي ضربنا على آذانهم حجابا مانعا من السماع فلا يسمعون شيئا يوقظهم. والمعنى: أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات.
وقوله * (سنين عددا) * على حذف مضاف. أي ذات عدد، أو مصدر بمعنى اسم المفعول، أي سنين معدودة. وقد ذكرنا الآية المبينة لقدر عددها بالسنة القمرية
207

والشمسية، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: * (وازدادوا تسعا) *.
وقال أبو حيان في البحر في قوله * (فضربنا علىءاذانهم) * عبر بالضرب ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم، ومنه * (ضربت عليهم الذلة) * وضرب الجزية وضرب البعث. وقال الفرزدق: ضربت عليهم الذلة) * وضرب الجزية وضرب البعث. وقال الفرزدق:
* ضرب عليك العنكبوت بنسجها
* وقضى عليك به الكتاب المنزل
*
وقال الأسود بن يعفر: وقال الأسود بن يعفر:
* ومن الحوادث لا أبالك أنني
* ضربت على الأرض بالأسداد
*
وقال الآخر: وقال الآخر:
* إن المروءة والسماحة والندى
* في قبة ضربت على ابن الحشرج
*
وذكر الجارحة التي هي الآذان، إذ هي يكون منها السمع، لأنه لا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع. وفي الحديث: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنه) أي استثقل نومه جدا حتى لا يقوم بالليل ا ه كلام أبي حيان. قوله تعالى: * (ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من حكم بعثه لأصحاب الكهف بعد هذه النومة الطويلة أن يبين للناس أي الحزبين المختلفين في مدة لبثهم أحصى لذلك وأضبط له. ولم يبين هنا شيئا عن الحزبين المذكورين.
وأكثر المفسرين على أن أحد الحزبين هم أصحاب الكهف. والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية. وقيل: هما حزبان من أهل المدينة المذكورة، كان منهم مؤمنون وكافرون. وقيل: هما حزبان من المؤمنين في زمن أصحاب الكهف. اختلفوا في مدة لبثهم، قاله الفراء: وعن ابن عباس: الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب، وأصحاب الكهف حزب. إلى غير ذلك من الأقوال.
والذي يدل عليه القرآن: أن الحزبين كليهما من أصحاب الكهف. وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وذلك في قوله تعالى: * (وكذالك بعثناهم ليتسآءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) *. وكأن الذين
208

قالوا * (فلينظر أيهآ أزكى طعاما) * هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول. ولقائل أن يقول: قوله عنهم * (ربكم أعلم بما لبثتم) * يدل على أنهم لم يحصوا مدة لبثهم. والله تعالى أعلم.
وقد يجاب عن ذلك بأن رد العلم إلى الله لا ينافي العلم، بدليل أن الله أعلم نبيه بمدة لبثهم في قوله: * (ولبثوا فى كهفهم) *، ثم أمره برد العلم إليه في قوله: * (قل الله أعلم بما لبثوا) *.
وقوله * (بعثناهم) * أي من نومتهم الطويلة. والبعث: التحريك من سكون، فيشمل بعث النائم والميت، وغير ذلك.
وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر الله جل وعلا حكمة لشيء في موضع، ويكون لذلك الشيء حكم أخر مذكورة في مواضع أخرى فإنا نبينها. ومثلنا لذلك، وذكرنا منه أشياء متعددة في هذا الكتاب المبارك.
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى هنا في هذه الآية الكريمة بين من حكم بعثهم إظهاره للناس: أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا. وقد بين لذلك حكما أخر في غير هذا الموضع.
منها أن يتساءلوا عن مدة لبثهم، كقوله: * (وكذالك بعثناهم ليتسآءلوا بينهم) *.
ومنها إعلام الناس أن البعث حق، وأن الساعة حق لدلالة قصة أصحاب الكهف على ذلك. وذلك في قوله: * (وكذالك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها) *.
واعلم أن قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة * (ثم بعثناهم لنعلم) * الآية لا يدل على أنه لم يكن عالما بذلك قبل بعثهم، وإنما علم بعد بعثهم. كما زعمه بعض الكفرة الملاحدة ا بل هو جل وعلا عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون، لا يخفى عليه من ذلك شيء. والآيات الدالة على ذلك لا تحصى كثر.
وقد قدمنا أن من أصرح الأدلة على أنه جل وعلا لا يستفيد بالاختبار والابتلاء علما جديدا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا قوله تعالى في آل عمران: * (وليبتلى الله ما فى صدوركم وليمحص ما فى قلوبكم والله عليم بذات الصدور) * فقوله
209

* (والله عليم بذات الصدور) * بعد قوله * (وليبتلى) * دليل واضح في ذلك.
وإذا حققت ذلك فمعنى * (لنعلم أي الحزبين) * أي نعلم ذلك علما يظهر الحقيقة للناس، فلا ينافي أنه كان عالما به قبل ذلك دون خلقه.
واختلف العلماء في قوله * (أحصى) * فذهب بعضهم إلى أنه فعل ماض و (أمدا) مفعوله (وما) في قوله (لما لبثوا) مصدرية. وتقرير المعنى على هذا: لنعلم أن الحزبين ضبط أمدا للبثهم في الكهف.
وممن اختار أن * (أحصى) * فعل ماض: الفارسي والزمخشري. وابن عطية وغيرهم.
وذهب بعضهم إلى أن * (أحصى) * صيغة تفضيل، (وأمدا) تمييز. وممن اختاره الزجاج والتبريزي وغيرهما. وجوز الحوفى وأبو البقاء الوجهين.
والذين قالوا: إن * (أحصى) * فعل ماض قالوا: لا يصح فيه أن يكون صيغة تفضيل. لأنها لا يصح بناؤها هي ولا صيغة فعل التعجب قياسا إلا من الثلاثي، (وأحصى) رباعي فلا تصاغ منه صيغة التفضيل ولا التعجب قياسا. قالوا: وقولهم: ما أعطاه وما أولاه للمعروف، وأعدى من الجرب، وأفلس من ابن المذلق شاذ لا يقاس عليه، فلا يجوز حمل القرآن عليه.
واحتج الزمخشري في الكشاف أيضا لأن * (أحصى) * ليست صيغة تفضيل بأن * (أمدا) * لا يخلو: إما أن ينتصب بأفعل فأفعل لا يعمل. وإما أن ينتصب ب * (لبثوا) * فلا يسد عليه المعنى أن لا يكون سديدا على ذلك القول، وقال: فإن زعمت نصبه بإضمار فعل يدل عليه * (أحصى) * كما أضمر في قوله: * وأضرب منا
بالسيوف القوانسا
أي نضرب القوانس فقد أبعدت المتناول وهو قريب حيث أبيت أن يكون * (أحصى) * فعلا، ثم رجعت مضطرا إلى تقديره وإضماره انتهى كلام الزمخشري.
وأجيب من جهة المخالفين عن هذا كله قالوا: لا نسلم أن صيغة التفضيل لا تصاغ من غير الثلاثي، ولا نسلم أيضا لأنها لا تعمل.
وحاصل تحرير المقام في ذلك أن في كون صيغة التفضيل تصاغ من (أفعل) كما
210

هنا، أو لا تصاغ منه. ثلاثة مذاهب لعلماء النحو:
الأول جواز بنائها من أفعل مطلقا، وهو ظاهر كلام سيبويه، وهو مذهب أبي إسحاق كما نقله عنه أبو حيان في البحر.
والثاني لا يبنى منه مطلقا، وما سمع منه فهو شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. وهو الذي درج عليه ابن مالك في الخلاصة بقوله: والثاني لا يبنى منه مطلقا، وما سمع منه فهو شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. وهو الذي درج عليه ابن مالك في الخلاصة بقوله:
* وبالندور احكم لغير ما ذكر
* ولا تقس على الذي منه أثر
*
كما قدمناه في سورة (بني إسرائيل) في الكلام على قوله: * (فهو فى الا خرة أعمى وأضل سبيلا) *.
الثالث تصاغ من أفعل إذا كانت همزتها لغير النقل خاصة. كأظلم الليل، وأشكل الأمر. لا إن كانت الهمزة للنقل فلا تصاغ منها، وهذا هو اختيار أبي الحسن بن عصفور. وهذه المذاهب مذكورة بأدلتها في كتب النحو وأما قول الزمخشري: فأفعل لا يعمل فليس بصحيح. لأن صيغة التفضيل تمل في التمييز بلا خلاف، وعليه درج في الخلاصة بقوله: الثالث تصاغ من أفعل إذا كانت همزتها لغير النقل خاصة. كأظلم الليل، وأشكل الأمر. لا إن كانت الهمزة للنقل فلا تصاغ منها، وهذا هو اختيار أبي الحسن بن عصفور. وهذه المذاهب مذكورة بأدلتها في كتب النحو وأما قول الزمخشري: فأفعل لا يعمل فليس بصحيح. لأن صيغة التفضيل تمل في التمييز بلا خلاف، وعليه درج في الخلاصة بقوله:
* والفاعل المعنى انصبن بأفعلا
* مفضلا كأنت أعلى منزلا
*
و * (أمدا) * تمييز كما تقدم. فنصبه بصيغة التفضيل لا إشكال فيه. وذهب الطبري إلى أن: * (أمدا) * منصوب ب * (لبثوا) * وقال ابن عطية: إن ذلك غير متجه.
وقال أبو حيان: قد يتجه ذلك. لأن الأمد هو الغاية، ويكون عبارة عن المدة من حيث إن المدة غاية. و * (ما) * بمعنى الذي، و * (أمدا) * منتصب على إسقاط الحرف. أي لما لبثوا من أمد، أي مدة. ويصير من أمد تفسيرا لما انبهم في لفظ * (ما لبثوا) * كقوله * (ما ننسخ من ءاية) *، * (ما يفتح الله للناس من رحمة) * ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل.
قال مقيده عفا الله عنه: إطلاق الأمد على الغاية معروف في كلام العرب ومنه قول نابغة ذبيان: قال مقيده عفا الله عنه: إطلاق الأمد على الغاية معروف في كلام العرب ومنه قول نابغة ذبيان:
* إلا لمثلك أو من أنت سابقه
* سبق الجواد إذا استولى على الأمد
*
211

وقد قدمنا في سورة (النساء) أن علي بن سليمان الأخفش الصغير أجاز النصب بنزع الخافض عند أمن اللبس مطلقا. ولكن نصب قوله * (أمدا) *، بقوله * (لبثوا) * غير سديد كما ذكره الزمخشري وابن عطية وكما لا يخفى ا ه.
وأجاز الكوفيون نصب المفعول بصيغة التفضيل، وأعربوا قول العباس بن مرداس السلمي: وأجاز الكوفيون نصب المفعول بصيغة التفضيل، وأعربوا قول العباس بن مرداس السلمي:
* فلم أر مثل الحي حيا مصبحا
* ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
*
* أكر وأحمي الحقيقة منهم
* وأضرب منا بالسيوف القوانسا
*
بأن (القوانس) مفعول به لصيغة التفضيل التي هي أضرب. قالوا ولا حاجة لتقدير فعل محذوف ومن قال هنا قال بعض النحويين: إن * (من) * في قوله تعالى: * (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله) * منصوب بصيغة التفضيل قبله نصب المفعول به.
قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له: ومذهب الكوفيين هذا أجرى عندي على المعنى المعقول. لأن صيغة التفضيل فيها معنى المصدر الكامن فيها فلا مانع من عملها عمله. ألا ترى أن قوله: وأضرب منا بالسيوف القوانسا معناه: يزيد ضربنا بالسيوف القوانس على ضرب غيرنا، كما هو واضح. وعلى هذا الذي قررنا فلا مانع من كون * (أمدا) * منصوب ب * (أحصى) * نصب المفعول به على أنه صيغة تفضيل. وإن كان القائلون بأن * (أحصى) * صيغة تفضيل أعربوا * (أمدا) * بأنه تمييز.
تنبيه
فإن قيل: ما وجه رفع * (أي) * من قوله: * (لنعلم أي الحزبين أحصى) *، مع أنه في محل نصب لأنه مفعول به؟ فالجواب أن العلماء في ذلك أجوبة، منها، أن * (أي) * فيها معنى الاستفهام، والاستفهام يعلق الفعل عن مفعوليه كما قال ابن مالك في الخلاصة عاطفا على ما يعلق الفعل القلبي عن مفعوليه: لنعلم أي الحزبين أحصى) *، مع أنه في محل نصب لأنه مفعول به؟ فالجواب أن العلماء في ذلك أجوبة، منها، أن * (أي) * فيها معنى الاستفهام، والاستفهام يعلق الفعل عن مفعوليه كما قال ابن مالك في الخلاصة عاطفا على ما يعلق الفعل القلبي عن مفعوليه:
* وإن ولا لام ابتداء أو قسم
* كذا والاستفهام ذاله انحتم
*
ومنها ما ذكره الفخر الرازي وغيره: من أن الجملة بمجموعها متعلق العلم. ولذلك السبب لم يظهر عمل قوله * (لنعلم) * في لفظة * (أي) * بل بقيت على ارتفاعها. ولا يخفى عدم اتجاه هذا القول كما ترى.
212

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر أوجه الأعاريب عندي في الآية: أن لفظة * (أي) * موصولة استفهامية. و * (أي) * مبنية لأنها مضافة، وصدر صلتها محذوف على حد قوله في الخلاصة: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر أوجه الأعاريب عندي في الآية: أن لفظة * (أي) * موصولة استفهامية. و * (أي) * مبنية لأنها مضافة، وصدر صلتها محذوف على حد قوله في الخلاصة:
* أي كما وأعربت ما لم تضف
* وصدر وصلها ضمير انحذف
*
ولبنائها لم يظهر نصبها. وتقدير المعنى على هذا: لنعلم الحزب الذي هو أحصى لما لبثوا أمدا ونميزه عن غيره. و * (أحصى) * صيغة تفضيل كما قدمنا توجيهه. نعم، للمخالف أن يقول: إن صيغة التفضيل تقتضى بدلالة مطابقتها الاشتراك بين المفضل والمفضل عليه في أصل الفعل، وأحد الحزبين لم يشارك الآخر في أصل الإحصاء لجهله بالمدة من أصلها، وهذا مما يقوي قول من قال: إن * (أحصى) * أفعل، والعلم عند الله تعالى.
فإن قيل: أي فائدة مهمة في معرفة الناس للحزب المحصى أمد الليث من غيره، حتى يكون علة غائية لقوله، * (ثم بعثناهم لنعلم) *؟ وأي فائدة مهمة في مساءلة بعضهم بعضا، حتى يكون علة غائية لقوله: * (وكذالك بعثناهم ليتسآءلوا بينهم) *؟.
فالجواب أنا لم نر من تعرض لهذا. والذي يظهر لنا والله تعالى أعلم أن ما ذكر من إعلام الناس بالحزب الذي هو أحصى أمدا لما لبثوا، ومساءلة بعضهم بعضا عن ذلك، يلزمه أن يظهر للناس حقيقة أمر هؤلاء الفتية، وأن الله ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، ثم بعثهم أحياء طرية أبدانهم. لم يتغير لهم حال. وهذا من غريب صنعه جل وعلا الدال على كمال قدرته، وعلى البعث بعد الموت. ولاعتبار هذا اللازم جعل ما ذكرنا علة غائبة والله تعالى أعلم.
* (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية ءامنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والا رض لن ندعوا من دونه إلاها لقد قلنا إذا شططا * هاؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءالهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا * وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيىء لكم من أمركم مرفقا * وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم فى فجوة منه ذالك من ءايات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) * قوله تعالى: * (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية ءامنوا بربهم وزدناهم هدى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه يقص عليه نبأ أصحاب الكهف بالحق. ثم أخبره مؤكدا له أنهم فتية آمنوا بربهم، وأن الله جل وعلا زادهم هدى.
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من آمن بربه وأطاعه زاده ربه هدى. لأن الطاعة سبب للمزيد من الهدى والإيمان.
وهذا المفهوم من هذه الآية الكريمة جاء مبينا في مواضع أخر. كقوله تعالى: * (والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم) *، وقوله: * (والذين جاهدوا فينا
213

لنهدينهم سبلنا) *، وقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) *، وقوله: * (فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون) *، وقوله تعالى: * (هو الذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) *، وقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وهذه الآيات المذكورة نصوص صريحة في أن الإيمان يزيد مفهوم منها أنه ينقص أيضا، كما استدل بها البخاري رحمه الله على ذلك. وهي تدل عليه دلالة صريحة لا شك فيها، فلا وجه معها للاختلاف في زيادة الإيمان ونقصه كما ترى. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا) *. أي ثبتنا قلوبهم وقويناها على الصبر، حتى لا يجزعوا ولا يخافوا من أن يصدعوا بالحق، ويصبروا على فراق الأهل والنعيم، والفرار بالدين في غار في جبل لا أنيس به، ولا ماء ولا طعام.
ويفهم من هذه الآية الكريمة: أن من كان في طاعة ربه جل وعلا أنه تعالى يقوي قلبه، ويثبته على تحمل الشدائد، والصبر الجميل.
وقد أشار تعالى إلى وقائع من هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في أهل بدر مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه: * (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السمآء مآء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الا قدام إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين ءامنوا) *، وكقوله في أم موسى: * (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين) *.
وأكثر المفسرين على أن قوله * (إذ قاموا) * أي بين يدي ملك بلادهم، وهو ملك جبار يدعو إلى عبادة الأوثان، يزعمون أن اسمه: دقيانوس.
وقصتهم مذكورة في جميع كتب التفسير، أعرضنا عنها لأنها إسرائيليات. وفي قيامهم المذكور هنا أقوال أخر كثيرة. والعامل في قوله (إذ) هو (ربطنا)، على قلوبهم حين قاموا. قوله تعالى: * (فقالوا ربنا رب السماوات والا رض لن ندعوا من دونه إلاها لقد قلنا إذا
214

شططا) *. ذكر جل وعلا هذه الآية الكريمة: أن هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم ربهم هدى قالوا إن ربهم هو رب السماوات والأرض، وأنهم لن يدعوا من دونه إلها، وأنهم لو فعلوا ذلك قالوا شططا. أي قولا ذا شطط. أو هو من النعت بالمصدر للمبالغة. كأن قولهم هو نفس الشطط. والشطط: البعد عن الحق والصواب. وإليه ترجع أقوال المفسرين، كقول بعضهم (شططا): جوارا، تعديا، كذبا، خطأ، إلى غير ذلك من الأقوال.
وأصل مادة الشطط: مجاوزة الحد، ومنه أشط في السوم: إذا جاوز الحد. ومنه قوله تعالى: * (ولا تشطط) *. أو البعد، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: ولا تشطط) *. أو البعد، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
* تشط غدا دار جيراننا
* وللدار بعد غد أبعد
*
ويكثر استعمال الشطط في الجور والتعدي، ومنه قول الأعشى: ويكثر استعمال الشطط في الجور والتعدي، ومنه قول الأعشى:
* أتنتهون وان ينهى ذوي شطط
* كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
*
وهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن من أشرك مع خالق السماوات والأرض معبودا آخر فقد جاء بأمر شطط بعيد عن الحق والصواب في غاية الجور والتعدي. لأن الذي يستحق العبادة هو الذي يبرز الخلائق من العدم إلى الوجود، لأن الذي لا يقدر على خلق غيره مخلوق يحتاج إلى خالق يخلقه ويرزقه. ويدبر شؤونه.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر كثيرة، كقوله: * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذى جعل لكم الا رض فراشا والسمآء بنآء وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) *، وقوله تعالى: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) *، وقوله تعالى: * (أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شىء وهو الواحد القهار) * أي الواحد القهار الذي هو خالق كل شيء هو المستحق للعبادة وحده جل وعلا. وقوله جل وعلا: * (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) *، وقوله تعالى: * (واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: * (لقد قلنا إذا شططا) * أي إذا دعونا من
215

دونه إلها فقد قلنا شططا. قوله تعالى: * (هاؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءالهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين) *. (لولا) في هذه الآية الكريمة للتحضيض، وهو الطلب بحث وشدة. والمراد بهذا الطلب التعجيز، لأنه من المعلوم أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسلطان بين على جواز عبادة غير الله تعالى. والمراد بالسلطان البين: الحجة الواضحة.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من تعجيزهم عن الإتيان بحجة على شركهم وكفرهم وإبطال حجة المشركين على شركهم جاء موضحا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: * (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) *، وقوله تعالى: * (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الا رض أم لهم شرك فى السماوات ائتونى بكتاب من قبل هاذآ أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) *، وقوله تعالى منكرا عليهم: * (أم ءاتيناهم كتابا من قبله فهم به
مستمسكون) *، وقوله جل وعلا: * (أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) *، وقوله تعالى: * (قل أرءيتم شركآءكم الذين تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الا رض أم لهم شرك فى السماوات أم ءاتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا) *، وقوله تعالى: * (ومن يدع مع الله إلها ءاخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) *، والآيات الدالة على أن المشركين لا مستند لهم في شركهم إلا تقليد آبائهم الضالين كثيرة جدا وقوله في هذه الآية الكريمة (هؤلاء) مبتدأ، و (قوما) قيل عطف بيان، والخبر جملة (اتخذوا) وقيل (قومنا) خبر المبتدأ، وجملة (اتخذوا في محل حال. والأول أظهر، والله تعالى أعلم. قوله تعالى * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) *. أي لا أحد ظلم ممن افترى على الله الكذب بادعاء أن له شريكا كما افتراه عليه قوم أصحاب الكهف، كما قال عنهم أصحاب الكهف * (هاؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءالهة) *.
وهذا المعنى الذي ذكره هنا من أن افتراء الكذب على الله يجعل الشركاء له هو أعظم الظلم جاء مبينا في آيات كثيرة، كقوله: * (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جآءه) *، وقوله: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولائك
216

يعرضون على ربهم ويقول الا شهاد هاؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا. قوله تعالى: * (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيىء لكم من أمركم مرفقا) *. (إذ) في قوله * (وإذ اعتزلتموهم) * للتعليل على التحقيق، كما قاله ابن هشام وعليه فالمعنى: ولأجل اعتزالكم قومكم الكفار وما يعبدونه من دون الله، فاتخذوا الكهف مأوى ومكان اعتصام، ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيىء لكم من أمركم مرفقا، وهذا يدل على أن اعتزال المؤمن قومه الكفار ومعبوديهم من أسباب لطف الله به ورحمته.
وهذا المعنى يدل عليه أيضا قوله تعالى في نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: * (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربى عسى ألا أكون بدعآء ربى شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا) *. واعتزالهم إياهم هو مجانبتهم لهم، وفرارهم منهم يدينهم.
وقوله: * (وما يعبدون من دون الله) * اسم موصول في محل نصب معطوف على الضمير المنصوب في قوله: * (اعتزلتموهم) * أي واعتزلتم معبوديهم من دون الله. وقيل: (ما) مصدرية، أي اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم غير الله تعالى. والأول أظهر.
وقوله: * (إلا الله) * قيل: هو استثناء متصل، بناء على أنهم كانوا يعبدون الله والأصنام. وقيل: هو استثناء منقطع. بناء على القول بأنهم كانوا لا يعبدون إلا الأصنام، ولا يعرفون الله ولا يعبدونه.
وقوله: * (مرفقا) * أي ما ترتفقون به أي تنتفعون به. وقرأه نافع وابن عامر بفتح الميم وكسر الفاء مع تفخيم الراء. وقرأه باقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء وترقيق الراء، وهما قراءتان ولغتان فيما يرتفق به، وفي عضو الإنسان المعروف. وأنكر الكسائي في (المرفق) بمعنى عضو الإنسان فتح الميم وكسر الفاء، وقال: هو بكسر الميم وفتح الفاء، ولا يجوز غير ذلك.
وزعم ابن الأنباري أن (من) في قوله: * (ويهيىء لكم من أمركم) * بمعنى البدلية، أي يهيىء لكم بدلا من (أمركم) الصعب مرفقا: وعلى هذا الذي زعم غاية كقوله
217

تعالى: * (أرضيتم بالحيواة الدنيا من الا خرة) * أي بدلا منها وعوضا عنها. ومن هذا المعنى قول الشاعر: أرضيتم بالحيواة الدنيا من الا خرة) * أي بدلا منها وعوضا عنها. ومن هذا المعنى قول الشاعر:
* فليت لنا من ماء زمزم شربة
* مبردة باتت على طهيان
*
أي بدلا من ماء زمزم، والله تعالى أعلم.
ومعنى * (ينشر لكم) *: يبسط لكم: كقوله: * (وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته) *: وقوله * (ويهيىء) * أي أييسر ويقرب ويسهل. قوله تعالى: * (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم فى فجوة منه ذالك من ءايات الله) *. اعلم أولا أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول. وذكرنا من ذلك أمثلة متعددة.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذه الآية على قولين وفي نفس الآية قرينة تدل على صحة أحدهما وعدم صحة الآخر.
أما القول الذي تدل القرينة في الآية على خلافه فهو أن أصحاب الكهف كانوا في زاوية من الكهف، وبينهم وبين الشمس حواجز طبيعية من نفس الكهف، تقيهم حر الشمس عند طلوعها وغروبها. على ما سنذكر تفصيله إن شاء الله تعالى.
وأما القول الذي تدل القرينة في هذه الآية على صحته فهو أن أصحاب الكهف كانوا في فجوة من الكهف على سمت تصيبه الشمس وتقابله. إلا أن الله منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم على وجه خرق العادة. كرامة لهؤلاء القوم الصالحين، الذين فروا بدينهم طاعة لربهم جل وعلا.
والقرينة الدالة على ذلك هي قوله تعالى: * (ذالك من ءايات الله) * إذ لو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول لكان ذلك أمرا معتادا مألوفا، وليس فيه غرابة حتى يقال فيه * (ذالك من ءايات الله) * وعلى هذا الوجه الذي ذكرناه أنه تشهد له القرينة المذكورة. فمعنى تزوار الشمس عن كهفهم ذات اليمين عند طلوعها، وفرضها إياهم ذات الشمال عند غروبها هو أن الله يقلص ضوئها عنهم، وببعده إلى جهة اليمين عند الطلوع، وإلى جهة الشمال عند الغروب. والله جل وعلا قادر على كل شيء، يفعل ما يشاء. فإذا علمت هذا فاعلم أن أصحاب القول الأول اختلفوا في كيفية وضع الكهف. وجزم
218

ابن كثير في تفسير بأن الآية تدل على أن باب الكهف كان من نحو الشمال، قال: لأنه تعالى أخبر بأن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزوار عنه ذات اليمين، أي يتقلص الفيء يمنة. كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: تزاور أي تميل، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في ذلك المكان. ولهذا قال تعالى * (وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال) * أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية الشرق، فدل على صحة ما قلناه وهذا بين لمن تأمله، وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب.
وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب. ولو كان من ناحية القبلة لما دخل إليه منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب. ولا تزوار الفيء يمينا وشمالا. ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب، فتعين ما ذكرناه، ولله الحمد. انتهى كلام ابن كثير.
وقال الفخر الرازي في تفسيره: أصحاب هذا القول قالوا إن باب الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال، فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف، وإذا غربت كانت على شماله، فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف، وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل إليه. انتهى كلام الرازي. وقال أبو حيان في تفسير هذه الآية: وهذه الصفة مع الشمس تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاوية. وقال عبد الله بن مسلم: كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش، وعلى هذا كان أعلى الكهف مستورا من المطر.
قال ابن عطية: كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب، اختار الله لهم مضجعا متسعا في مقنأة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم. انتهى الغرض من كلام أبو حيان. والمقنأة: المكان الذي لا تطلع عليه الشمس، وإلى غير ذلك من أقوال العلماء.
والقول الأول أنسب للقرينة القرآنية التي ذكرنا.
وممن اعتمد القول الأول لأجل القرينة المذكورة الزجاج، ومال إليه بعض الميل الفخر الرازي والشوكاني في تفسيريهما، لتوجيههما قول الزجاج المذكور بقرينة الآية المذكورة.
219

وقال الشوكاني رحمه الله في تفسيره: ويؤيد القول الأول قوله تعالى: * (ذالك من ءايات الله) * فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب، بمعنى كونها آية. ويؤيده أيضا إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا. ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر: ذالك من ءايات الله) * فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب، بمعنى كونها آية. ويؤيده أيضا إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا. ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر:
* ألبست قومك مخزاة ومنقصة
* حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار
*
انتهى كلام الشوكاني.
ومعلوم أن الفجوة: هي المتسع. وهو معروف في كلام العرب ومنه البيت المذكور، وقول الآخر: ومعلوم أن الفجوة: هي المتسع. وهو معروف في كلام العرب ومنه البيت المذكور، وقول الآخر:
* ونحن ملأنا كل واد وفجوة
* رجالا وخيلا غير ميل ولا عزل
*
ومنه الحديث: (فإذا وجد فجوة نص).
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وترى الشمس إذا طلعت) * أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل على كهفهم. والمعنى: أنك لو رأيتهم لرأيتهم كذلك. لا أن المخاطب رآهم بالفعل، كما يدل لهذا المعنى قوله تعالى: * (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا) * والخطاب بمثل هذا مشهور في لغة العرب التي نزل بها هذا القرآن العظيم. وأصل مادة التزاور: الميل، فمعنى تزاور: تميل. والزور: الميل، ومنه شهادة الزور، لأنها ميل عن الحق. ومنه الزيادة، لأن الزائر يميل إلى المزور. ومن هذا المعنى قول عنترة في معلقته: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا) * والخطاب بمثل هذا مشهور في لغة العرب التي نزل بها هذا القرآن العظيم. وأصل مادة التزاور: الميل، فمعنى تزاور: تميل. والزور: الميل، ومنه شهادة الزور، لأنها ميل عن الحق. ومنه الزيادة، لأن الزائر يميل إلى المزور.
ومن هذا المعنى قول عنترة في معلقته:
* فازور من وقع القنا بلبانه
* وشكا إلي بعبرة وتحمحم
*
وقول عمر بن أبي ربيعة: وقول عمر بن أبي ربيعة:
* وخفض عني الصوت أقبلت مشية ال
* حباب وشخصي خشية الحي أزور
*
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ذات اليمين) * أي جهة اليمين، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين. وقال أبو حيان في البحر: وذات اليمين: جهة يمين الكهف، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين، يعني يمين الداخل إلى الكهف، أو يمين الفتية ا ه وهو منصوب على الظرف. وقوله تعالى: * (وإذا غربت تقرضهم) *. من القرض بمعنى القطيعة والصرم. أي
220

تقطعهم وتتجافى عنهم ولا تقربهم. وهذا المعنى معروف من كلام العرب. ومنه قول غيلان ذي الرمة: وإذا غربت تقرضهم) *. من القرض بمعنى القطيعة والصرم. أي تقطعهم وتتجافى عنهم ولا تقربهم. وهذا المعنى معروف من كلام العرب. ومنه قول غيلان ذي الرمة:
* نظرت بجرعاء السبية نظره
* ضحى وسواد العين في الماء شامس
*
* إلى ظعن يقرضن أفواز مشرف
* شمالا وعن أيمانهن الفوارس
*
فقوله: (يقرضن أفواز مشرف) أي يقطعنها ويبعدنها ناحية الشمال وعن أيمانهن الفوارس، وهو موضع أو رمال الدهناء. والأقواز: جمع قوز بالفتح وهو العالي من الرمل كأنه جبل. ويروى أجواز مشرف جمع جوز. من المجاز بمعنى الطريق. وهذا الذي ذكرنا هو الصواب في معنى قوله تعالى * (تقرضهم) * خلافا لمن زعم أن معنى تقرضهم: تقطعهم من ضوئها شيئا ثم يزول سريعا كالقرض يسترد. ومراد قائل هذا القول أن الشمس تميل عنهم بالغداة، وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة، بقدر ما يطيب لهم هواء المكان ولا يتعفن. قال أبو حيان في البحر: ولو كان من القرض الذي يعطى ثم يسترد لكان الفعل رباعيا، فتكون التاء في قوله: (تقرضهم) مضمومة، لكن دل فتح التاء من قوله (تقرضهم) على أنه من القرض بمعنى القطع، أي تقطع لهم من ضوئها شيئا، وقد علمت أن الصواب القول الأول. وقد قدمنا أن الفجوة: المتسع.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (تزاور عن كهفهم) * فيه ثلاث قراءات سبعيات:
قرأه ابن عامر الشامي (تزور) بإسكان الزاي وإسقاط الألف وتشديد الراء. على وزن تحمر، وهو على هذه القراءة من الأزورار بمعنى الميل. كقول عنترة المتقدم: * فازور من وقع القنا *. البيت
وقرأه الكوفيون وهم عاصم وحمزة والكسائي بالزاي المخففة بعدها ألف. وعلى هذه القراءة فأصله (تتزاور) فحذفت منه إحدى التاءين. على حد قوله في الخلاصة: وقرأه الكوفيون وهم عاصم وحمزة والكسائي بالزاي المخففة بعدها ألف. وعلى هذه القراءة فأصله (تتزاور) فحذفت منه إحدى التاءين. على حد قوله في الخلاصة:
* وما بتاءين ابتدى قد يقتصر
* فيه على تاكتبين العبر
*
وقرأه نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري (تزاور) بتشديد الزاي بعدها ألف، وأصله (تتزاور) أدغمت فيه التاء في الزاي. وعلى هاتين القراءتين: أعني قراءة حذف إحدى التاءين، وقراءة إدغامها في الزاي فهو من التزاور بمعنى الميل أيضا.
221

وقد يأتي التفاعل بمعنى مجرد الفعل كما هنا، وكقولهم: سافر وعاقب وعافى.
وعلى قول من قال: إن في الكهف حواجز طبيعية تمنع من دخول الشمس بحسب وضع الكهف فالإشارة في قوله: * (ذالك من ءايات الله) * راجعة إلى ما ذكر من حديثهم. أي ذلك المذكور إلى هدايتهم إلى التوحيد وإخراجهم من بين عبدة الأوثان، وإيوائهم إلى ذلك الكهف، وحمايتهم من عدوهم إلى آخر حديثهم من آيات الله. وأصل الآية عند المحققين (أيية) بثلاث فتحات، أبدلت فيه الياء الأولى ألفا. والغالب في مثل ذلك أنه إذا اجتمع موجبا إعلال كان الإعلال في الأخير. لأن التغير عادة
أكثر في الأواخر، كما في طوى ونوى، ونحو ذلك. وهنا أعل الأول على خلاف الأغلب، كما أشار له في الخلاصة بقوله: ذالك من ءايات الله) * راجعة إلى ما ذكر من حديثهم. أي ذلك المذكور إلى هدايتهم إلى التوحيد وإخراجهم من بين عبدة الأوثان، وإيوائهم إلى ذلك الكهف، وحمايتهم من عدوهم إلى آخر حديثهم من آيات الله. وأصل الآية عند المحققين (أيية) بثلاث فتحات، أبدلت فيه الياء الأولى ألفا. والغالب في مثل ذلك أنه إذا اجتمع موجبا إعلال كان الإعلال في الأخير. لأن التغير عادة أكثر في الأواخر، كما في طوى ونوى، ونحو ذلك. وهنا أعل الأول على خلاف الأغلب، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* وإن لحرفين ذا الإعلال استحق
* صحح أول وعكس قد يحق
*
والآية تطلق في اللغة العربية إطلاقين. وتطلق في القرآن العظيم إطلاقين أيضا. أما إطلاقاها في اللغة الأول منهما أنها تطلق بمعنى العلامة، وهو الإطلاق المشهور، ومنه قوله تعالى: * (إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت) *، وقول عمر بن أبي ربيعة: إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت) *، وقول عمر بن أبي ربيعة:
* بآية ما قالت غداة لقيتها
* بمدفع أكنان أهذا المشهر
*
يعني أن قولها ذلك هو العلامة بينها وبين رسوله إليها المذكور في قوله قبله: يعني أن قولها ذلك هو العلامة بينها وبين رسوله إليها المذكور في قوله قبله:
* ألكني إليها بالسلام فإنه
* يشهر إلمامي بها وينكر
*
وقد جاء في شعر نابغة ذبيان وهو جاهلي تفسير الآية بالعلامة في قوله: وقد جاء في شعر نابغة ذبيان وهو جاهلي تفسير الآية بالعلامة في قوله:
* توهمت آيات لها فعرفتها
* لستة أعوام وذا العام سابع
*
ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار بقوله بعده: ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار بقوله بعده:
* رماد ككحل العين لأيا أبينه
* ونؤدي كجذم الحوض أثلم خاشع
*
وأما الثاني منهما فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة، يقولون: جاء القوم بآيتهم، أي بجماعتهم. ومنه قول برج بن مسهر أو غيره: وأما الثاني منهما فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة، يقولون: جاء القوم بآيتهم، أي بجماعتهم. ومنه قول برج بن مسهر أو غيره:
* خرجنا من النقبين لاحى مثلنا
* بآياتنا لزجي اللقاح المطافلا
*
فقوله (بآياتنا) أي بجماعتنا
222

.
وإما إطلاقاها في القرآن فالأول منهما إطلاقها على الآية الكونية القدرية، كقوله تعالى: * (إن فى خلق السماوات والا رض واختلاف اليل والنهار لايات لا ولى الا لباب) * أي علامات كونية قدرية، يعرف بها أصحاب العقول السليمة أن خالقها هو الرب المعبود وحده جل وعلا. والآية الكونية القدرية في القرآن من الآية بمعنى العلامة لغة.
وأما إطلاقها الثاني في القرآن فهو إطلاقها على الآية الشرعية الدينية، كقوله: * (رسولا يتلو عليكم ءايات الله) * ونحوها من الآيات.
والآية الشرعية الدينية قيل: هي من الآية بمعنى العلامة لغة، لأنها علامات على صدق من جاء بها. أو أن فيها علامات على ابتدائها وانتهائها.
وقيل: من الآية. بمعنى الجماعة، لاشتمال الآية الشرعية الدينية على طائفة وجماعة من كلمات القرآن. قوله تعالى: * (من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الهدى والإضلال بيده وحده جل وعلا، فمن هداه فلا مضل له، ومن أضله فلا هادي له.
وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة جدا، كقوله تعالى: * (ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أوليآء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا
وبكما وصما) *، وقوله: * (من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولائك هم الخاسرون) *، وقوله: * (إنك لا تهدى من أحببت ولاكن الله يهدى من يشآء) *، وقوله: * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا) *، وقوله: * (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين) *، وقوله تعالى: * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد فى السمآء) * والآيات بمثل هذا كثيرة جدا.
ويؤخذ من هذه الآيات وأمثالها في القرآن بطلان مذهب القدرية: أن العبد مستقل بعمله من خير أو شر، وأن ذلك ليس بمشيئة الله بل بمشيئة العبد. سبحانه جل وعلا عن أن يقع في ملكه شيء بدون مشيئتها وتعالى عن ذلك علوا كبيرا! وسيأتي بسط
223

هذا المبحث إن شاء الله تعالى.
وقد أوضحنا أيضا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة (الشمس) في الكلام على قوله تعالى: * (فألهمها فجورها وتقواها) * وقوله * (فلن تجد له وليا مرشدا) * أي لن يكون بينه وبينه سبب للموالاة يرشده إلى الصواب والهدى، أي لن يكون ذلك لأن من أضله الله فلا هادي له. وقوله: * (فهو المهتد) * قرأه بإثبات الياء في الوصل دون الوقف نافع وأبو عمرو. وبقية السبعة قرؤوه بحذف الياء في الحالين.
* (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا * وكذالك بعثناهم ليتسآءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هاذه إلى المدينة فلينظر أيهآ أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا * إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا) * قوله تعالى: * (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود) *. الحسبان بمعنى الظن. والأيقاظ: جمع يقظ بكسر القاف وضمها، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: وتحسبهم أيقاظا وهم رقود) *. الحسبان بمعنى الظن. والأيقاظ: جمع يقظ بكسر القاف وضمها، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
* فلما رأت من قد تنبه منهم
* وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر
*
والرقود: جمع راقد وهو النائم، أي تظنهم أيها المخاطب لو رأيتهم أيقاظا والحال أنهم رقود. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى في نظيره: * (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا) *. وقال بعض العلماء: سبب ظن الرائي أنهم أيقاظ هو أنهم نيام وعيونهم مفتحة. وقيل: لكثرة تقلبهم. وهذا القول يشير له قوله تعالى بعده: * (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) *. وكلام المفسرين هنا في عدد تقلبهم من كثرة وقلة لا دليل عليه. ولذا أعرضنا عن ذكر الأقوال فيه.
وقوله في هذه الآية: * (وتحسبهم) * قرأه بفتح السين على القياس ابن عامر وعاصم وحمزة. وقرأه بكسر السين نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي، وهما قراءتان سبعيتان، ولغتان مشهورتان، والفتح أقيس والكسر أفصح. قوله تعالى: * (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) *. اختلفت عبارات المفسرين في المراد ب (الوصيد) فقيل: هو فناء البيت. ويروى عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقيل الوصيد: الباب، وهو مروي عن ابن عباس أيضا. وقيل: الوصيد العتبة. وقيل الصعيد. والذي يشهد له القرآن أن الوصيد هو الباب. ويقال له (أصيد) أيضا. لأن الله يقول: * (إنها عليهم مؤصدة) * أي مغلقة مطبقة. وذلك بإغلاق كل وصيد أو أصيد، وهو الباب من أبوابها. ونظير الآية من كلام العرب قول الشاعر: إنها عليهم مؤصدة) * أي مغلقة مطبقة. وذلك بإغلاق كل وصيد أو أصيد، وهو الباب من أبوابها. ونظير الآية من كلام العرب قول الشاعر:
* تحن إلى أجبال مكة ناقتي
* ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة
*
224

وقول ابن قيس الرقيات: وقول ابن قيس الرقيات:
* إن في القصر لو دخلنا غزالا
* مصفقا مؤصدا عليه الحجاب
*
فالمراد بالإيصاد في جميع ذلك: الإطباق والإغلاق. لأن العادة فيه أن يكون بالوصيد وهو الباب. ويقال فيه أصيد. وعلى اللغتين القراءتان في قوله: (مؤصدة) مهموزا من الأصيد.. وغير مهموز من الوصيد.
ومن إطلاق العرب الوصيد على الباب قول عبيد بن وهب العبسي، وقيل زهير: ومن إطلاق العرب الوصيد على الباب قول عبيد بن وهب العبسي، وقيل زهير:
* بأرض فضاء لا يسد وصيدها
* علي ومعروفي بها غير منكر
*
أي لا يسد بابها علي، يعني ليست فيها أبواب حتى تسد علي. كقول الآخر: * ولا ترى الضب بها ينجحر
فإن قيل: كيف يكون الوصيد هو الباب في الآية، والكهف غار في جبل لا باب له؟
فالجواب: أن الباب يطلق على المدخل الذي يدخل للشيء منه. فلا مانع من تسمية المدخل إلى الكهف بابا. ومن قال: الوصيد الفناء لا يخالف ما ذكرنا. لأن فناء الكهف هو بابه. وقد قدمنا مرارا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك: أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في الآية قرينة تدل على خلافه.
وقد قال بعض أهل العلم في هذه الآية الكريمة: إن المراد بالكلب في هذه الآية رجل منهم لا كلب حقيقي. واستدلوا لذلك ببعض القراءات الشاذة، كقراءة (وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد) وقراءة (وكالئهم باسط ذراعيه).
وقوله جل وعلا: * (باسط ذراعيه) * قرينة على بطلان ذلك القول. لأن بسط الذراعين معروف من صفات الكلب الحقيقي، ومنه حديث أنس المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) وهذا المعنى مشهور في كلام العرب، فهو قرينة على أنه كلب حقيقي. وقراءة (وكالئهم) بالهمزة لا تنافي كونه كلبا، لأن الكلب يحفظ أهله ويحرسهم. والكلاءة: الحفظ.
فإن قيل: ما وجه عمل اسم الفاعل الذي هو (باسط) في مفعوله الذي هو (ذراعيه) والمقرر في النحو أن اسم الفاعل إذا لم يكن صلة (ال) لا يعمل إلا إذا كان واقعا في الحال أو المستقبل؟
225

فالجواب أن الآية هنا حكاية حال ماضية، ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى: * (إني جاعل فى الأرض خليفة) *، وقوله تعالى: * (والله مخرج ما كنتم تكتمون) *.
واعلم أن ذكره جل وعلا في كتابه هذا الكلب، وكونه باسطا ذراعيه بوصيد كهفهم في معرض التنويه بشأنهم يدل على أن صحبة الأخيار عظيمة الفائدة. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: وشملت كلبهم بركتهم، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن ا ه.
ويدل لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال إني أحب الله ورسوله: (أنت مع من أحببت) متفق عليه من حديث أنس.
ويفهم من ذلك أن صحبة الأشرار فيها ضرر عظيم. كما بينه الله تعالى في سورة (الصافات) في قوله: * (قال قآئل منهم إنى كان لى قرين) * إلى قوله * (قال تالله إن كدت ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين) *.
وما يذكره المفسرون من الأقوال في اسم كلبهم، فيقول بعضهم: اسمه قطمير. ويقول بعضهم: اسمه حمران، إلى غير ذلك لم نطل به الكلام لعدم فائدته.
ففي القرآن العظيم أشياء كثيرة لم يبينها الله لنا ولا رسوله، ولم يثبت في بيانها شيء، والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه.
وكثير من المفسرين يطنبون في ذكر الأقوال فيها بدون علم ولا جدوى، ونحن نعرض عن مثل ذلك دائما. كلون كلب أصحاب الكهف، واسمه، وكالبعض الذي ضرب به القتيل من بقرة بني إسرائيل، وكاسم الغلام الذي قتله الخضر، وأنكر عليه موسى قتله، وكخشب سفينة نوح من أي شجر هو، وكم طول السفينة وعرضها، وكم فيها من الطبقات، إلى غير ذلك مما لا فائدة في البحث عنه، ولا دليل على التحقيق فيه.
وقد قدمنا في سورة (الأنعام) في الكلام على قوله تعالى: * (قل لا أجد فى مآ أوحى إلى محرما) * حكم أكل لحم الكلب وبيعه، وأخذ قيمته إن قتل، وما يجوز افتناؤه منها وما يجوز. وأوضحنا الأدلة في ذلك وأقوال العلماء فيه. قوله تعالى: * (وكذالك بعثناهم ليتسآءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه بعث
226

أصحاب الكهف من نومتهم الطويلة ليتساءلوا بينهم، أي ليسأل بعضهم بعضا عن مدة لبثهم في الكهف في تلك النومة، وأن بعضهم قال إنهم لبثوا يوما أو بعض يوم، وبعضهم رد علم ذلك إلى الله جل وعلا.
ولم يبين هنا قدر المدة التي تساءلوا عنها في نفس الأمر، ولكنه بين في موضع آخر أنها ثلاثمائة سنة بحساب السنة الشمسية، وثلاثمائة سنة وتسع سنين بحساب السنة القمرية، وذلك في قوله تعالى: * (ولبثوا فى كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا) * كما تقدم. قوله تعالى: * (فابعثوا أحدكم بورقكم هاذه إلى المدينة فلينظر أيهآ أزكى طعاما فليأتكم برزق منه) *. في قوله هذه الآية (أزكى) قولان للعلماء.
أحدهما أن المراد بكونه (أزكى) أطيب لكونه حلالا ليس مما فيه حرام ولا شبهة.
والثاني أن المراد بكونه أزكى أنه أكثر، كقولهم: زكا الزرع إذا كثر، وكقول الشاعر: والثاني أن المراد بكونه أزكى أنه أكثر، كقولهم: زكا الزرع إذا كثر، وكقول الشاعر:
* قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة
* وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب
*
أي أكثر من ثلاثة.
والقول الأول هو الذي يدل له القرآن، لأن أكل الحلال والعمل الصالح أمر الله المؤمنين كما أمر المرسلين قال: * (ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) *، وقال: * (ياأيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) *. ويكثر في القرآن إطلاق مادة الزكاة على الطهارة كقوله: * (قد أفلح من تزكى) *، وقوله: * (قد أفلح من زكاها) *، وقوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) *، وقوله: * (فأردنآ أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكواة وأقرب رحما) * وقوله: * (أقتلت نفسا زكية بغير نفس) *، إلى غير ذلك من الآيات.
فالزكاة في هذه الآيات ونحوها: يراد الطهارة من أدناس الذنوب والمعاصي، فاللائق بحال هؤلاء الفتية الأخيار المتقين أن يكون مطلبهم في مأكلهم الحلبة والطهارة، لا الكثرة. وقد قال بعض العلماء: إن عهدهم بالمدينة فيها مؤمنون يخفون إيمانهم،
227

وكافرون. وأنهم يريدون الشراء من طعام المؤمنين دون الكافرين. وأن ذلك هو مرادهم بالزكاة في قوله * (أزكى طعاما) * وقيل: كان فيها أهل كتاب ومجوس. والعلم عند الله تعالى.
والورق في قوله تعالى: * (فابعثوا أحدكم بورقكم) * الفضة، وأخذ علماء المالكية وغيرهم من هذه الآية الكريمة مسائل من مسائل الفقه:
المسألة الأولى جواز الوكالة وصحتها، لأن قولهم * (فابعثوا أحدكم بورقكم) * الآية يدل على توكيلهم لهذا المبعوث لشراء الطعام. وقال بعض العلماء: لا تدل الآية على جواز التوكيل مطلقا بل مع التقية والخوف، لأنهم لو خرجوا كلهم لشراء حاجتهم لعلم بهم أعداؤهم في ظنهم فهم معذورون، فالآية تدل على توكيل المعذور دون غيره. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. وهو قول سحنون من أصحاب مالك في التوكيل على الخصام.
قال ابن العربي: وكان سحنون تلقه من أسد بن الفرات، فحكم به أيام قضائه. ولعله كان يفعل ذلك لأهل الظلم والجبروت إنصافا منهم وإذلالا لهم. وهو الحق، فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل ا ه.
وقال القرطبي: كلام ابن العربي هذا حسن. فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء. والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ما أخرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال: كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم من الإبل، فجاء يتقاضاه فقال: (أعطوه) فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها. فقال (أعطوه) فقال: أوفيتني أوفي الله لك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن خيركم أحسنكم قضاء) لفظ البخاري.
فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي عليه وذلك توكيل منه لهم على ذلك، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مريضا ولا مسافرا. وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما: إنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح إلا برضا خصمه) وهذا الحديث خلاف قولهما ا ه كلام القرطبي. ولا يخفى ما فيه، لأن أبا حنيفة وسحنونا إنما خالفا في الوكالة على المخاصمة بغير إذن لخصم فقط، ولم يخالفا في الوكالة في دفع الحق.
228

وبهذه المناسبة سنذكر إن شاء الله الأدلة من الكتاب والسنة على صحة الوكالة وجوازها، وبعض المسائل المحتاج إليها من ذلك، تنبيها بها على غيرها.
اعلم أولا أن الكتاب والسنة والإجماع كلها دل على جواز الوكالة وصحتها في الجملة. فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى هنا: * (فابعثوا أحدكم بورقكم) * هذه الآية، وقوله تعالى: * (والعاملين عليها) *، فإن عملهم عليها توكيل لهم على أخذها.
واستدل لذلك بعض العلماء أيضا بقوله: * (اذهبوا بقميصى هاذا فألقوه على وجه أبى) *. فإنه توكيل لهم من يوسف على إلقائهم قميصه على وجه أبيه ليرتد بصيرا.
واستدل بعضهم لذلك أيضا بقوله تعالى عن يوسف: * (قال اجعلنى على خزآئن الا رض) *، فإنه توكيل على ما في خزائن الأرض.
وأما السنة فقد دلت أحاديث كثيرة على جواز الوكالة وصحتها. من ذلك حديث أبي هريرة للتقدم في كلام القرطبي، الدال على التوكيل في قضاء الدين، وهو حديث متفق عليه. وأخرج الجماعة إلا البخاري من حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
ومنها حديث عروة بن أبي الجعد البارقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري به له شاة، فاشترى له شاتين: فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعا بالبركة في بيعه. وكان لو اشترى التراب لربح فيه، رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني وفيه التوكيل على الشراء.
ومنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أردت الخروج إلى خيبر؟ فقال: (إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته) أخرجه أبو داود والدارقطني. وفيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن له وكيلا.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) وهو صريح في التوكيل في إقامة الحدود.
ومنها حديث علي رضي الله عنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها، وألا أعطي الجازر منها شيئا وقال: نحن نعطيه من
229

عندنا) متفق عليه. وفيه التوكيل على القيام على البدن والتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها. وعدم إعطاء الجازر شيئا منها.
ومنها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنما يقسمها على أصحابه فبقي عتود، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال (ضح أنت به) متفق عليه أيضا. وفيه الوكالة في تقسيم الضحايا، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة. وقد أخرج الشيخان في صحيحهما طرفا كافيا منها ذكرنا بعضه هنا.
وقد قال ابن حجر في فتح الباري في كتاب الوكالة ما نصه: اشتمل كتاب الوكالة يعني من صحيح البخاري على ستة وعشرين حديثا، المعلق منها ستة، والبقية موصولة. المكرر منها فيه وفيما مضى اثنا عشر حديثا، والبقية خالصة وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عبد الرحمن بن عوف في قتل أمية بن خلف، وحديث كعب بن مالك في الشاة المذبوحة، وحديث وفد هوازن من طريقيه، وحديث أبي هريرة في حفظ زكاة رمضان، وحديث عقبة بن الحارث في قصة النعيمان، وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم ستة آثار، والله أعلم. انتهى من فتح الباري. وكل تلك الأحاديث دالة على جواز الوكالة وصحتها.
وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على جواز الوكالة وصحتها في الجملة وقال ابن قدامة في المغني: وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك. فإن لا يمكن كل أحد فعل ما يحتاج إليه فدعت الحاجة إليها، انتهى منه. وهذا مما لا نزاع فيه.
فروع تتعلق بمسألة الوكالة
الفرع الأول لا يجوز التوكيل إلا في شيء تصح النيابة فيه. فلا تصح في فعل محرم، لأن التوكيل من التعاون، والله يقول: * (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) *.
ولا تصح في عبادة محضة كالصلاة والصوم ونحوهما، لأن ذلك مطلوب من كل أحد بعينه، فلا ينوب فيه أحد من أحد، لأن الله يقول: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *. أما الحج عن الميت والمعضوب، والصوم عن الميت فقد دلت أدلة أخر على
230

النيابة في ذلك. وإن خالف كثير من العلماء في الصوم عن الميت، لأن العبرة بالدليل الصحيح من الوحي، لا بآراء العلماء إلا عند عدم النص من الوحي.
الفرع الثاني ويجوز التوكيل في المطالبة بالحقوق وإثباتها والمحاكمة فيها. سواء كان الموكل حاضرا أو غائبا، صحيحا أو مريضا. وهذا قول جمهور العلماء، منهم مالك والشافعي وأحمد وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وغيرهم. وقال أبو حنيفة: للخصم أن يمتنع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضرا غير معذور، لأن حضوره مجلس الحكم ومخاصمته حق لخصمه عليه فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضا خصمه. وقد قدمنا في كلام القرطبي: أن هذا قول سحنون أيضا من أصحاب مالك. واحتج الجمهور بظواهر النصوص لأن الخصومة أمر لا مانع من الاستنابة فيه.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم في مسألة التوكيل على الخصام والمحاكمة: أن الصواب فيها التفصيل.
فإن كان الموكل ممن عرف بالظلم والجبروت والادعاء بالباطل فلا يقبل منه التوكيل لظاهر قوله تعالى: * (ولا تكن للخآئنين خصيما) *. وإن كان معروفا بغير ذلك فلا مانع من توكيله على الخصومة. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث ويجوز التوكيل بجعل وبدون جعل، والدليل على التوكيل بغير جعل أنه صلى الله عليه وسلم وكل أنيسا في إقامة الحد على المرأة، وعروة البارقي في شراء الشاة من غير جعل. ومثال ذلك كثير في الأحاديث التي ذكرنا غيرها.
والدليل على التوكيل بجعل قوله تعالى: * (والعاملين عليها) * فإنه توكيل على جباية الزكاة وتفريقها بجعل منها كما ترى.
الفرع الرابع إذا عزل الموكل وكيله في غيبته وتصرف الوكيل بعد العزل وقبل العلم به، أو مات موكله وتصرف بعد موته وقبل العلم به، فهل يمضي تصرفه نظرا لاعتقاده، أو لا يمضي نظرا للواقع في نفس الأمر. في ذلك خلاف معروف بين أهل العلم مبني على قاعدة أصولية، وهي:
هل يستقل الحكم بمطلق وروده وإن لم يبلغ المكلف. أو لا يكون ذلك إلا بعد بلوغه للمكلف، ويبنى على الخلاف في هذه القاعدة الاختلاف في خمس وأربعين صلاة التي نسخت من الخمسين بعد فرضها ليلة الإسراء، هل يسمى ذلك نسخا في حق الأمة
231

لوروده، أو لا يسمى نسخا في حقهم. لأنه وقع قبل بلوغ التكليف بالمنسوخ لهم. وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله: هل يستقل الحكم بمطلق وروده وإن لم يبلغ المكلف. أو لا يكون ذلك إلا بعد بلوغه للمكلف، ويبنى على الخلاف في هذه القاعدة الاختلاف في خمس وأربعين صلاة التي نسخت من الخمسين بعد فرضها ليلة الإسراء، هل يسمى ذلك نسخا في حق الأمة لوروده، أو لا يسمى نسخا في حقهم. لأنه وقع قبل بلوغ التكليف بالمنسوخ لهم. وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله:
* هل يستقل الحكم بالورود
* أو ببلوغه إلى الموجود
*
* فالعزل بالموت أو العزل عرض
* كذا قضاء جاهل للمفترض
*
ومسائل الوكالة معروفة مفصلة في كتب فروع المذاهب الأربعة، ومقصودنا ذكر أدلة ثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع، وذكر أمثلة من فروعها تنبيها بها على غيرها. لأنها باب كبير من أبواب الفقه.
المسألة الثانية أخذ بعض علماء المالكية من هذه الآية الكريمة جواز الشركة، لأنهم كانوا مشتركين في الورق التي أرسلوها ليشتري لهم طعام بها.
وقال ابن العربي المالكي: لا دليل في هذه الآية على الشركة، لاحتمال أن يكون كل واحد منهم أرسل معه نصيبه منفردا ليشتري له به طعامه منفردا. وهذا الذي ذكره
ابن العربي متجه كما ترى. وقد دلت أدلة أخرى على جواز الشركة. وسنذكر إن شاء الله بهذه المناسبة أدلة ذلك، وبعض مسائله المحتاج إليها، وأقوال العلماء في ذلك.
اعلم أولا أن الشركة جائزة في الجملة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
أما الكتاب فقد دلت على ذلك منه آيات في الجملة، كقوله تعالى: * (فإن كانوا أكثر من ذالك فهم شركآء فى الثلث) *، وقوله تعالى: * (وإن كثيرا من الخلطآء ليبغى بعضهم على بعض) * عند من يقول: إن الخلطاء الشركاء، وقوله تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه) *، وهي تدل على الاشتراك من جهتين.
وأما السنة فقد دلت على جواز الشركة أحاديث كثيرة سنذكر هنا إن شاء الله طرفا منها. فمن ذلك ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم، وإلا فقد عتق عليه ما عتق). وقد ثبت نحوه في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بالاشتراك في الرقيق. وقد ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه لحديث ابن عمر وأبي هريرة المذكورين بقوله (باب الشركة في الرقيق)، ومن ذلك، ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري رحمهما الله عن أبي المنهال قال: اشتريت أنا
232

وشريك لي شيئا يدا بيد ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه فقال: فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم وسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (ما كان يدا بيد فخذوه، وما كان نسيئه فذروه). وفيه إقراره صلى الله عليه وسلم البراء وزيدا المذكورين على ذلك الاشتراك. وترجم البخاري رحمه الله لهذا الحديث في كتاب الشركة بقوله: (باب الاشتراك في الذهب والفضة وما يكون فيه الصرف). ومن ذلك إعطاؤه صلى الله عليه وسلم أرض خيبر لليهود ليعلموا فيها ويزرعوها، على أن لهم شطر ما يخرج من ذلك، وهو اشتراك في الغلة الخارجة منها، وقد ترجم البخاري رحمه الله لهذا الحديث في كتاب الشركة بقوله (باب مشاركة الذميين والمشركين في المزارعة) ومن ذلك ما أخرجه أحمد والبخاري عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة. في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. وترجم البخاري لهذا الحديث في كتاب الشركة بقوله (باب الشركة في الأرضين وغيرها). ثم ساق الحديث بسند آخر، وترجم له أيضا بقوله (باب إذا قسم الشركاء الدور وغيرها، فليس لهم رجوع ولا شفعة) ومن ذلك ما رواه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا قال: إن الله يقول: (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما) قال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى (في نيل الأوطار) في هذا الحديث: صححه الحاكم وأعله ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حيان. وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وأعله أيضا ابن القطان بالإرسال، فلم يذكر فيه أبا هريرة وقال إنه الصواب. ولم يسنده غير أبي همام محمد بن الزبرقان وسكت أبو داود والترمذي على هذا الحديث، وأخرج نحوه أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب عن حكيم بن حزام. انتهى منه. ومن المعروف عن أبي داود رحمه الله أنه لا يسكت الكلام في حديث إلا وهو يعتقد صلاحيته للاحتجاج. والسند الذي أخرجه به أبو داود الظاهر منه أنه صالح للاحتجاج، فإنه قال: حدثنا محمد بن سليمان المصيصي ثنا محمد بن الزبرقان عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن أبي هريرة رحمه الله رفعه قال: إن الله يقول: (أنا ثالث الشريكين). إلى آخر الحديث.
فالطبقة الأولى من هذا الإسناد هي محمد بن سليمان، وهو أبو جعفر العلاف الكوفي. ثم المصيصي لقبه لوين بالتصغير، وهو ثقة.
والطبقة الثانية منه محمد بن الزبرقان أبو همام الأهوازي، وهو من رجال
233

الصحيحين، وقال في التقريب: صدوق، ربما وهم.
والطبقة الثالثة منه هي أبو حيان التيمي، وهو يحيى بن سعد بن حيان الكوفي، وهو ثقة.
والطبقة منه هي أبوه سعيد بن حيان المذكور الذي قدمنا في كلام الشوكاني: أن ابن القطان أعل هذا الحديث بأنه مجهول، ورد ذلك بأن ابن حبان قد ذكره في الثقات. وقال ابن حجر (في التقريب): إنه وثقه العجلي أيضا.
والطبقة الخامسة منه أبو هريرة رفعه.
فهذا إسناد صالح كما ترى. وإعلال الحديث بأنه روي موقوفا من جهة أخرى يقال فيه إن الرفع زيادة. وزيادة العدول مقبولة كما تقرر في الأصول وعلوم الحديث. ويؤيده كونه جاء من طريق أخرى عن حكيم بن حزام كما ذكرناه في كلام الشوكاني آنفا. ومن ذلك حديث السائب بن أبي السائب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك، لا تداريني ولا تماريني. أخرجه أبو داود وابن ماجة. ولفظه: كنت شريكي ونعم الشريك. كنت لا تداري ولا تماري. وأخرجه أيضا النسائي والحاكم وصححه. وفيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له على كونه كان شريكا له. والأحاديث الدالة على الشركة كثيرة جدا.
وقد قال ابن حجر في فتح الباري في آخر كتاب الشركة ما نصه: اشتمل كتاب الشركة (يعني من صحيح البخاري) من الأحاديث المرفوعة على سبعة وعشرين حديثا، المعلق منها واحد، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثلاثة عشر حديثا، والخالص أربعة عشر، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث النعمان (مثل القائم على حدود الله)، وحديثي عبد الله بن هشام، وحديثي عبد الله بن عمر، وحديث عبد الله بن الزبير في قصته، وحديث ابن عباس الأخير. وفيه من الآثار أثر واحد. والله أعلم انتهى كلام ابن حجر. وبهذا تعلم كثرة الأحاديث الدالة على الشركة في الجملة.
وأما الإجماع فقد أجمع جميع علماء المسلمين على جواز أنواع من أنواع الشركات، وإنما الخلاف بينهم في بعض أنواعها.
اعلم أولا أن الشركة قسمان: شركة أملاك، وشركة عقود.
فشركة الأملاك أن يملك عينا اثنان أو أكثر بإرث، أو شراء، أو هبة ونحو ذلك. وهي المعروفة عند المالكية بالشركة الأعمية.
234

وشركة العقود تنقسم إلى شركة مفاوضة، وشركة عنان، وشركة وجوه، وشركة أبدان، وشركة مضاربة. وقد تتداخل هذه الأنواع فيجتمع بعضها مع بعض.
أما شركة الأملاك فقد جاء القرآن الكريم بها في قوله تعالى: * (فإن كانوا أكثر من ذالك فهم شركآء فى الثلث) * ولا خلاف فيها بين العلماء.
وأما أنواع شركة العقود فسنذكر إن شاء الله هنا معانيها، وكلام العلماء فيها، وأمثلة للجائز منها تنبيها بها على غيرها، وما ورد من الأدلة في ذلك.
اعلم أن شركة المفاوضة مشتقة من التفويض. لأن كل واحد منهما يفوض أمر التصرف مال الشركة إلى الآخر. ومن هذا قوله تعالى عن مؤمن آل فرعون: * (وأفوض أمرى إلى الله) *.
وقيل: أصلها من المساواة. لاستواء الشريكين فيها في التصرف والضمان. وعلى هذا فهي من الفوضى بمعنى التساوي. ومنه قول الأفوه الأودي: وقيل: أصلها من المساواة. لاستواء الشريكين فيها في التصرف والضمان. وعلى هذا فهي من الفوضى بمعنى التساوي. ومنه قول الأفوه الأودي:
* لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
* ولا سراة إذا جهالهم سادوا
*
* إذا تولى سراة الناس أمرهم
* نما على ذاك أمر القوم وازدادوا
*
فقوله: (لا يصلح الناس فوضى) أي لا تصلح أمورهم في حال كونهم فوضى، أي متساوين لا أشراف لهم يأمرونهم وينهونهم. والقول الأول هو الصواب. هذا هو أصلها في اللغة.
وأما شركة العنان فقد اختلف في أصل اشتقاقها اللغوي. فقيل: أصلها من عن الأمر يعن بالكسر والضم عنا وعنونا: إذا عرض. ومنه قول امرئ القيس: وأما شركة العنان فقد اختلف في أصل اشتقاقها اللغوي. فقيل: أصلها من عن الأمر يعن بالكسر والضم عنا وعنونا: إذا عرض. ومنه قول امرئ القيس:
* فعن لنا سرب كأن نعاجه
* عذارى دوار في ملاء مذيل
*
قال ابن منظور في اللسان: وشرك العنان وشركة العنان: شركة في شيء خاص دون سائر أموالهما. كأنه عن لهما شيء فاشترياه واشتركا فيه. واستشهد لذلك بقول النابغة الجعدي: قال ابن منظور في اللسان: وشرك العنان وشركة العنان: شركة في شيء خاص دون سائر أموالهما. كأنه عن لهما شيء فاشترياه واشتركا فيه. واستشهد لذلك بقول النابغة الجعدي:
* فشاركنا قريشا في تقاها
* وفي أحسابها شرك العنان
*
* بما ولدت نساء بني هلال
* وما ولدت نساء بني أبان
*
وبهذا تعلم: أن شركة العنان معروفة في كلام العرب، وأن قول ابن القاسم من
235

أصحاب مالك: إنه لا يعرف شركة العنان عن مالك، وأنه لم ير أحدا من أهل الحجاز يعرفها، وإنما يروى عن مالك والشافعي من أنهما لم يطلقا هذا الاسم على هذه الشركة، وأنهما قالا: هي كلمة تطرق بها أهل الكوفة ليمكنهم التمييز بين الشركة العامة والخاصة من غير أن يكون مستعملا في كلام العرب. كل ذلك فيه نظر لما عرفت أن كان ثابتا عنهم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له.
اعلم أن مراد النابغة في بيتيه المذكورين: * بما ولدت نساء بني هلال
ابن عامر بن صعصعة، أن منهم لبابة الكبرى، ولبابة الصغرى، وهما أختان، ابنتا الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن روبية بن عبد الله بن هلال، وهما أختا
ميمونة بنت الحارث زوج للنبي صلى الله عليه وسلم.
أما لبابة الكبرى فهي زوج العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهي أم أبنائه: عبد الله، وعبيد الله، والفضل وبه كانت تكنى، وفيها يقول الراجز: أما لبابة الكبرى فهي زوج العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهي أم أبنائه: عبد الله، وعبيد الله، والفضل وبه كانت تكنى، وفيها يقول الراجز:
* ما ولدت نجيبة من فحل
* كستة من بطن أم الفضل
*
وأما لبابة الصغرى فهي أم خالد بن الوليد رضي الله عنه، وعمتهما صفية بنت حزن هي أم أبي سفيان بن حرب. وهذا مراده: * بما ولدت نساء بني هلال
وأما نساء بني أبان فإنه يعني أن أبا العاص، والعاص، وأبا العيص، والعيص أبناء أمية بن عبد شمس، أمهم آمنة بنت أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فهذه الأرحام المختلطة بين العامريين وبين قريش هي مراد النابغة بمشاركتهم لهم في الحسب والتقى شرك العنان.
وقيل: إن شركة العنان أصلها من عنان الفرس. كما يأتي إيضاحه إن شاء الله. وهو المشهور عند العلماء.
وقيل هي من المعاناة بمعنى المعارضة، يقال عاننته إذا عارضته بمثل ماله أو فعاله، فكل واحد من الشريكين يعارض الآخر بماله وفعاله وهي بكسر العين على الصحيح خلافا لمن زعم فتحها، ويروى عن عياض وغيره وادعاء أن أصلها من عنان السماء بعيد جدا كما ترى.
236

وأما شركة الوجوه فأصلها من الوجاهة. لأن الوجيه تتبع ذمته بالدين، وإذا باع شيئا باعه بأكثر مما يبيع به الخامل.
وأما شركة الأبدان فأصلها اللغوي واضح، لأنهما يشتركان بعمل أبدانهما، ولذا تسمى شركة العمل، إذ ليس الاشتراك فيها بالمال، وإنما هو بعمل البدن.
وأما شركة المضاربة وهي القراض فأصلها من الضرب في الأرض، لأن التاجر يسافر في طلب الربح. والسفر يكنى عنه بالضرب في الأرض، كما في قوله تعالى: * (يضربون فى الا رض يبتغون من فضل الله وءاخرون) *، وقوله: * (وإذا ضربتم فى الا رض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة) *.
فإذا عرفت معاني أنواع الشركة في اللغة، فسنذكر لك إن شاء الله تعالى هنا معانيها المرادة بها في الاصطلاح عند الأئمة الأربعة وأصحابهم، وأحكامها، لأنهم مختلفون في المراد بها اصطلاحا، وفي بعض أحكامها.
أما مذهب مالك في أنواع الشركة وأحكامها فهذا تفصيله:
اعلم أن شركة المفاوضة جائزة عند مالك وأصحابه. والمراد بشركة المفاوضة عندهم هو أن يطلق كل واحد منهما التصرف لصاحبه في المال الذي اشتركا فيه غيبة وحضورا، وبيعا وشراء، وضمانا وتوكيلا. وكفالة وقراضا. فما فعل أحدهما من ذلك لزم صاحبه إذا كان عائدا على شركتهما.
ولا يكونان شريكين إلا فيما يعقدان عليه الشركة من أموالهما، دون ما ينفرد به كل واحد منهما من ماله. وسواء اشتركا في كل ما يملكانه أو في بعض أموالهما، وتكون يد كل منهما كيد صاحبه، وتصرفه كتصرفه ما لم يتبرع بشيء ليس في مصلحة الشركة.
وسواء كانت المفاوضة بينهما في جميع أنواع المتاجر أو في نوع واحد منها، كرقيق يتفاوضان في التجارة فيه فقط، ولكل واحد منهما أن يبيع بالدين ويشتري فيه ويلزم ذلك صاحبه وهذا هو الصواب. خلافا لخليل في مختصره في الشراء بالدين.
وقد أشار خليل في مختصره إلى جواز شركة المفاوضة في مذهب مالك مع تعريفها، وما يستلزمه عقدها من الأحكام بالنسبة إلى الشريكين بقوله: ثم إن أطلقا التصرف وإن بنوع فمفاوضة، ولا يفسدها انفراد أحدهما بشيء وله أن يتبرع إن استألف به أوخف كإعارة آلة ودفع كسرة ويبضع ويقارد ويودع لعذر وإلا ضمن، ويشارك في معين ويقيل ويولى ويقبل
237

المعيب وإن أبى الآخر، ويقر بدين لمن لا يتهم عليه، ويبيع بالدين لا الشراء به. ككتابة وعتق على مال، وإذن لعبد في تجارة ومفاوضة وقد قدمنا أن الشراء بالدين كالبيع به. فللشريك فعله بغير إذن شريكه على الصحيح من مذهب مالك خلافا لخليل: وأما الكتابة والعتق على المال وما عطف عليه فلا يجوز شيء منه إلا بإذن الشريك.
واعلم أن الشركة المفاوضة هذه في مذهب مالك لا تتضمن شيئا من أنواع الغرر التي حرمت من أجلها شركة المفاوضة عند الشافعية ومن وافقهم لأن ما استفاده أحد الشريكين المتفاوضين من طريق أخرى كالهبة والإرث، واكتساب مباح كاصطياد واحتطاب ونحو ذلك لا يكون شيء منه لشريكه. كما أن ما لزمه غرمه خارجا عن الشركة كأرش جناية، وثمن مغصوب ونحو ذلك، لا شيء منه على شريكه، بل يقتصر كل ما بينهما على ما كان متعلقا بمال الشركة، فكل منهما وكيل عن صاحبه، وكفيل عليه في جميع ما يتعلق بمال الشركة، وهكذا اقتضاه العقد الذي تعاقدا عليه. فلا موجب للمنع ولا غرر في هذه الشركة عند المالكية، لأنهم لا يجعلون المتفاوضين شريكين في كل ما اكتسبا جميعا حتى يحصل الغرر بذلك، ولا متضامنين في كل ما جنيا حتى يحصل الغرر بذلك. بل هو عقد على أن كل واحد منهما نائب عن الآخر في كل التصرفات في مال الشركة، وضامن عليه في كل ما يتعلق بالشركة.. وهذا لا مانع منه كما ترى، وبه تعلم أن اختلاف المالكية والشافعية في شركة المفاوضة خلاف في حال، لا في حقيقة.
وأما شركة العنان فهي جائزة عند الأئمة الأربعة. مع اختلافهم في تفسيرها وفي معناها في مذهب مالك قولان، وهي جائزة على كلا القولين: الأول وهو المشهور أنها
هي الشركة التي يشترط كل واحد من الشريكين فيها على صاحبه ألا يتصرف في مال الشركة إلا بحضرته وموافقته، وعلى هذا درج خليل في مختصره بقوله: وإن اشترطا نفى الاستبداد فعنان، وهي على هذا القول من عنان الفرس. لأن عنان كل واحد من الشريكين بيد الآخر فلا يستطيع الاستقلال دونه بعمل، كالفرس التي يأخذ راكبها بعنانها فإنها لا تستطيع الذهاب إلى جهة بغير رضاه.
والقول الثاني عند المالكية: أن شركة العنان هي الاشتراك في شيء خاص. وبهذا جزم ابن رشد ونقله عنه المواق في شرح قول خليل وإن اشترطا نفى الاستبداد الخ. وهذا المعنى الأخير أقرب للمعروف في اللغة كما قدمنا عن ابن منظور في اللسان وأما شركة الوجوه فلها عند العلماء معان:
238

الأول منها هو أن يشترك الوجيهان عند الناس بلا مال ولا صنعة. بل ليشتري كل واحد منهما بمؤجل في ذمته لهما معا. فإذا باعا كان الربح الفاضل عن الأثمان ببينهما.
وهذا النوع من شركة الوجوه هو المعروف عند المالكية بشركة الذمم، وهو فاسد عند المالكية والشافعية. خلافا للحنيفة والحنابلة. ووجه فساد ظاهر. لما فيه مر الغرر، لاحتمال أن يخسر هذا ويربح هذا كالعكس. وإلى فساد هذا النوع من الشركة أشار ابن عاصم المالكي في تحفته بقوله: وهذا النوع من شركة الوجوه هو المعروف عند المالكية بشركة الذمم، وهو فاسد عند المالكية والشافعية. خلافا للحنيفة والحنابلة. ووجه فساد ظاهر. لما فيه مر الغرر، لاحتمال أن يخسر هذا ويربح هذا كالعكس. وإلى فساد هذا النوع من الشركة أشار ابن عاصم المالكي في تحفته بقوله:
* وفسخها إن وقعت على الذمم
* ويقسمان الربح حكم ملتزم
*
المعنى الثاني من معانيها أن يبيع وجيه مال خامل بزيادة ربح، على أن يكون له بعض الربح الذي حصل في المبيع بسبب وجاهته. لأن الخامل لو كان هو البائع لما حصل ذلك الربح. وهذا النوع أيضا فاسد. لأنه عوض جاه، كما قاله غير واحد من أهل العلم والمعنى الثالث أن يتفق وجيه وخامل على أن يشتري الوجيه في الذمة ويبيع الخامل ويكون الربح بينهما. وهذا النوع أيضا فاسد عند المالكية والشافعية، لما ذكرنا من الغرر سابقا.
وأما شركة الأبدان عند المالكية فهو جائز بشروط، وهي أن يكون عمل الشركين متحدا كخياطين. أو متلازما كأن يغزل أحدهما وينسج الآخر، لأن النسج لا بد له من الغزل، وأن يتساويا في العمل جودة ورداءة وبطأ وسرعة، أو يتقاربا في ذلك، وأن يحصل التعاون بينهما. وإلى جواز هذا النوع من الشركة بشروطه أشار خليل في مختصره بقوله: وجازت بالعمل إن اتحد أو تلازم وتساويا فيه، أو تقاربا وحصل التعاون، وإن يمكانين. وفي جواز إخراج كل آلة واستئجاره من الآخر. أو لا بد من ملك أو كراء تأويلان، كطبيبين اشتركا في الدواء، وصائدين في البازين، وهل وإن افترقا رويت عليهما وحافرين بكركاز ومعدن، ولم يستحق وارثه بقيته وأقطعه الإمام. وقيد بما لم يبد، ولزمه ما يقبله صاحبه وإن تفاصلا وألغى مرض كيومين الخ. وبهذا تعلم أن شركة الأبدان جائزة عند المالكية في جميع أنواع العمل: من صناعات بأنواعها، وطب واكتساب مباح. كالاصطياد والاحتشاش والاحتطاب، وغير ذلك بالشروط المذكورة. وقال ابن عاصم في تحفته: وأما شركة الأبدان عند المالكية فهو جائز بشروط، وهي أن يكون عمل الشركين متحدا كخياطين. أو متلازما كأن يغزل أحدهما وينسج الآخر، لأن النسج لا بد له من الغزل، وأن يتساويا في العمل جودة ورداءة وبطأ وسرعة، أو يتقاربا في ذلك، وأن يحصل التعاون بينهما. وإلى جواز هذا النوع من الشركة بشروطه أشار خليل في مختصره بقوله: وجازت بالعمل إن اتحد أو تلازم وتساويا فيه، أو تقاربا وحصل التعاون، وإن يمكانين. وفي جواز إخراج كل آلة واستئجاره من الآخر. أو لا بد من ملك أو كراء تأويلان، كطبيبين اشتركا في الدواء، وصائدين في البازين، وهل وإن افترقا رويت عليهما وحافرين بكركاز ومعدن، ولم يستحق وارثه بقيته وأقطعه الإمام. وقيد بما لم يبد، ولزمه ما يقبله صاحبه وإن تفاصلا وألغى مرض كيومين الخ. وبهذا تعلم أن شركة الأبدان جائزة عند المالكية في جميع أنواع العمل: من صناعات بأنواعها، وطب واكتساب مباح. كالاصطياد والاحتشاش والاحتطاب، وغير ذلك بالشروط المذكورة. وقال ابن عاصم في تحفته:
* شركة بمال أو بعمل
* أو بهما تجوز لا لأجل
*
239

وبقي نوع معروف عند المالكية من أنواع الشركة يسمى في الاصطلاح ب (شركة الجبر) وكثير من العلماء يخالفهم في هذا النوع الذي هو (شركة الجبر).
وشركة الجبر: هي أن يشتري شخص سلعة بسوقها المعهود لها، ليتجر بها بحضرة بعض تجار جنس تلك السلعة الذين يتجرون فيها، ولم يتكلم أولئك التجار الحاضرون. فإن لهم إن أرادوا الاشتراك في تلك السلعة مع ذلك المشتري أن يجبروه على ذلك، ويكونون شركاءه في تلك السلعة شاء أو أبى.
وشركتهم هذه معه جبرا عليه هي (شركة الجبر) المذكورة. فإن كان اشتراها ليقتنيها لا ليتجر بها، أو اشتراها ليسافر بها إلى محل آخر ولو للتجارة بها فيه فلا جبر لهم عليه. وأشار خليل في مختصره إلى (شركة الجبر) بقوله: وأجبر عليها إن اشترى شيئاسوقه لا لكفر أو قنية، وغيره حاضر لم يتكلم من تجاره. وهل في الزقاق لا كبيته قولان. وأما شركة المضاربة فهي القراض، وهو أن يدفع شخص إلى آخر مالا ليتجر به على جزء من ربحه يتفقان عليه. وهذا النوع جائز بالإجماع إذا استوفى الشروط كما سيأتي إن شاء الله دليله.
وأما أنواع الشركة في مذهب الشافعي رحمه الله فهي أربعة: ثلاثة منها باطلة في مذهبه، والرابع صحيح.
وأما الثلاثة الباطلة فالأول منها (شركة الأبدان) كشركة الحمالين، وسائر المحترفين: كالخياطين، والنجارين، والدلالين، ونحو ذلك، ليكون بينهما كسبهما متساويا أو متفاوتا مع اتفاق الصنعة أو اختلافها.
فاتفاق الصنعة كشركة خياطين، واختلافها كشركة خياط ونجار ونحو ذلك. كل ذلك باطل في مذهب الشافعي، ولا تصح عنده الشركة إلا بالمال فقط لا بالعمل.
ووجه بطلان شركة الأبدان عند الشافعية هو أنها شركة لا مال فيها، وأن فيها غررا، لأن كل واحد منهما لا يدري أيكتسب صاحبه شيئا أم لا، ولأن كل واحد منهما متميز ببدنه ومنافعه فيختص بفوائده، كما لو اشتركا في ماشيتهما وهي متميزة على أن يكون النسل والدر بينهما، وقياما على الاحتطاب والاصطياد. هكذا توجيه الشافعية للمنع في هذا النوع من الشركة.
وقد علمت فيما مد من شروط جواز هذا النوع عند المالكية، إذ بتوفر الشروط المذكورة
240

ينتفي الغرر.
والثاني من الأنواع الباطلة عند الشافعية هو شركة المفاوضة، وهي عندهم أن يشتركا على أن يكون بينهما جميع كسبهما بأموالهما وأبدانهما، وعليهما جميع ما يعرض لكل واحد منهما من غرم، سواء كان يغصب أو إتلاف أو بيع فاسد أو غير ذلك. ولا شك أن هذا النوع مشتمل على أنواع من الغرر فبطلانه واضح، وهو ممنوع عند المالكية، ولا يجيزون هذا ولا يعنونه ب (شركة المفاوضة) كما قدمنا.
وقد قال الشافعي رحمه الله في هذا النوع: إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة، فلا باطل أعرفه في الدنيا يشير إلى كثرة الغرر والجهالات فيها: لاحتمال أن يكسب كل واحد منهما كسبا دون الآخر، وأن تلزم كل واحد منهما غرامات دون الآخر، فالغرر ظاهر في هذا النوع جدا.
والثالث من الأنواع الباطلة عند الشافعية هو (شركة الوجوه) وهي عندهم أن يشترط الوجيهان ليبتاع كل واحد منهما بمؤجل في ذمته لهما معا فإذا باعا كان الفاضل من الأثمان بينهما. وهذا النوع هو المعروف عند المالكية ب (شركة الذمم). ووجه فساده ظاهر، لما فيه من الغرر، لأن كل منهما يشتري في ذمته ويجعل كل منهما للآخر نصيبا من ربح ما اشترى في ذمته، مقابل نصيب من ربح ما اشترى الآخر في ذمته. والغرر في مثل هذا ظاهر جدا. وبقية أنواع (شركة الوجوه) ذكرناه في الكلام عليها في مذهب مالك، وكلها ممنوعة في مذهب مالك ومذهب الشافعي، ولذا اكتفينا بما قدمنا عن الكلام على بقية أنواعها في مذهب الشافعي أما النوع الرابع من أنواع الشركة الذي هو صحيح عند الشافعية فهو (شركة العنان) وهي: أن يشتركا في مال لهما ليتجرا فيه. ويشترط فيها عندهم صيغة تدل على الإذن في التصرف في مال الشركة، فلو اقتصرا على لفظ (اشتركنا) لم يكف على الأصح عندهم.
ويشترط في الشريكين أهلية التوكيل والتوكل، وهذا الشرط مجمع عليه. وتصح (شركة العنان) عند الشافعية في المثليات مطلقا دون المقومات وقيل: تختص بالنقد المضروب.
ويشترط عندهم فيها خلط المالين. بحيث لا يتميز أحدهما من الآخر. والحيلة عندهم في الشركة في العروض هي أن يبيع كل واحد بعض عرضه ببعض عرض الآخر
241

ويأذن له في التصرف، ولا يشترط عندهم تساوي المالين. والربح والخسران على قدر المالين، سواء تساويا في العمل أو تفاوتا. وإن شرطا خلاف ذلك فسد العقد، ويرجع كل واحد منهما على الآخر بأجرة عمله في ماله.
عقد الشركة المذكورة يسلط كل واحد منهما على التصرف في مال الشركة بلا ضرر، فلا يبيع بنسيئة، ولا بغبن فاحش، ولا يبضعه بغير إذن شريكه، ولكل منهما فسخها متى شاء.
وأما تفصيل أنواع الشركة في مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله فهو أن الشركة تنقسم إلى ضربين:
شركة ملك، وشركة عقد.
فشركة الملك واضحة. كأن يملكان شيئا بإرث أو هبة ونحو ذلك كما تقدم. وشركة العقد عندهم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
شركة بالمال، وشركة بالأعمال، وشركة بالوجوه. وكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة عندهم ينقسم قسمين: مفاوضة، وعنان. فالمجموع ستة أقسام.
أما شركة المفاوضة عندهم فهي جائزة إن توفرت شروطها، وهي عندهم الشركة التي تتضمن وكالة كل من الشريكين للآخر، وكفالة كل منهما الآخر، ولا بد فيها من مساواة الشريكين في المال والدين والتصرف.
فبتضمنها الوكالة يصح تصرف كل منهما في نصيب الآخر.
وبتضمنها الكفالة يطلب كل منهما بما لزم الآخر.
وبمساواتهما في المال يمتنع أحد أن يستبد أحدهما بشيء تصح الشركة فيه دون الآخر. ولذا لو ورث بعد العقد شيئا تصح الشركة فيه كالنقد بطلت المفاوضة، ورجعت الشركة شركة عنان.
وبتضمنها المساواة في الدين تمتنع بين مسلم وكافر.
وبتضمنها المساواة في التصرف تمتنع بين بالغ وصبي، وبين حر وعبد، وكل ما اشتراه واحد من شريكي المفاوضة فهو بينهما. الإطعام أهله وكسوتهم وكل دين لزم أحدهما بتجارة وغصب وكفالة لزم الآخر.
242

ولا تصح عندهم شركة مفاوضة أو عنان بغير النقدين والتبر والفلوس النافقه. والحيلة في الشركة في العروض عندهم هي ما قدمناه عن الشافعية، فهم متفقون في ذلك.
وأما شركة العنان فهي جائزة عند الحنفية. وقد قدمنا الإجماع على جوازها على كل المعاني التي تراد بها عند العلماء.
وشركة العنان عند الحنفية هي الشركة التي تتضمن الوكالة وحدها، ولم تتضمن الكفالة. وهي: أن يشتركا في نوع بز أو طعام أو في عموم التجارة ولم يذكر الكفالة.
ويعلم من هذا أن كل ما اشتراه أحدهما كان بينهما، ولا يلزم أحدهما ما لزم الآخر من الغرامات، وتصح عندهم شركة العنان المذكورة مع التساوي في المال دون الربح وعكسه إذا كانت زيادة الربح لأكثرهما عملا. لأن زيادة الربح في مقابلة زيادة العمل وفاقا للحنابلة. وعند غيرهم لا بد أن يكون الربح بحسب المال. ولو اشترى أحد الشريكين (شركة العنان) بثمن فليس لمن باعه مطالبة شريكه الآخر، لأنها لا تتضمن الكفالة بل يطالب الشريك الذي اشترى منه فقط، ولكن الشريك يرجع على شريكه بحصته. ولا يتشرط في هذه الشركة عندهم خلط المالين، فلو اشترى أحدهما بماله وهلك مال الآخر كان المشتري بينهما، ويرجع على شريكه بحصته منه.
وتبطل هذه الشركة عندهم بهلاك المالين أو أحدهما قبل الشراء. وتفسد عندهم باشتراط دراهم مسماة من الربح لأحدهما. ويجوز عندهم لكل من شريكي المفاوضة والعنان أن يبضع ويستأجر. ويودع ويضارب ويوكل. ويد كل منهما في مال الشركة يد أمانة، كالوديعة والعارية وأما شركة الأعمال ففيها تفصيل عند الحنفية. فإن كان العمل من الصناعات ونحوها جازت عندهم شركة الأعمال، ولا يشترطون اتحاد العمل أو تلازمه خلافا للمالكية كما تقدم فيجوز عند الحنفية: أن يشترك خياطان مثلا، أو خياط وصباغ على أن يتقبلا الأعمال، ويكون الكسب بينهما، وكل عمل يتقبله أحدهما يلزمهما: وإذا عمل أحدهما دون الآخر فما حصل من عمله فهو بينهما. وإنما استحق فيه الذي لم يعمل لأنه ضمنه بتقبل صاحبه له، فاستحق نصيبه منه بالضمان.
وهذا النوع الذي أجازه الحنفية لا يخفى أنه لا يخلو من غرر في الجملة عند اختلاف صنعة الشريكين. لاحتمال أن يحصل أحدهما أكثر مما حصله الآخر. فالشروط التي أجاز بها المالكية (شركة الأعمال) أحوط وأبعد من الغرر كما ترى
243

.
وأما إن كانت الأعمال من جنس اكتساب المباحات فلا تصح فيها الشركة عند الحنفية، كالاحتطاب والأحتشاش، والاصطياد واجتناه الثمار من الجبال والبراري، خلافا للمالكية والحنابلة.
ووجه منعه عند الحنفية أن من اكتسب مباحا كحطب أو حشيش أو صيد ملكه ملكا مستقلا. فلا وجه لكون جزء منه لشريك آخر، لأنه لا يصح التوكيل فيه ومن أجازه قال: إن كل واحد منهما جعل للآخر نصيبا من ذلك المباح الذي يكتسبه في مقابل النصيب الذي يكتسبه الآخر. والمالكية القائلون بجواز هذا يشترطون اتحاد العمل أو تقاربه، فلا غرر في ذلك، ولا موجب للمنع. وفي اشتراط ذلك عند الحنابلة خلاف كما سيأتي إن شاء الله.
وأما (شركة الوجوه) التي قدمنا أنها هي المعروفة عند المالكية (بشركة الذمم) وقدمنا منعها عند المالكية والشافعية فهي جائزة عند الحنفية، سواء كانت مفاوضة أو عنانا. وقد علمت مما تقدم أن المفاوضة عندهم تتضمن الوكالة والكفالة. وأن العنان تتضمن الوكالة فقط، وإن اشترط الشريكان في (شركة الوجوه) مناصفة المشتري أو مثالثته فالربح كذلك عندهم وبطل عندهم شرط الفضل. لأن الربح عندهم لا يستحق إلا بالعمل. كالمضارب أو بالمال كرب المال. أو بالضمان كالأستاذ الذي يتقبل العمل من الناس ويلقيه على التلميذ بأقل مما أخذ، فيطيب له الفضل بالضمان هكذا يقولونه. ولا يخفى ما في (شركة الوجوه) من الغرر.
واعلم أن الربح في الشركة الفاسدة على حسب المال إن كانت شركة مال، وعلى حسب العمل إن كانت شركة عمل، وهذا واضح، وتبطل الشركة بموت أحدهما. وأما تفصيل أنواع الشركة في مذهب الإمام أحمد رحمه الله فهي أيضا قسمان: شركة أملاك، وشركة عقود.
وشركة العقود عند الحنابلة خمسة أنواع: شركة العنان، والأبدان، والوجوه، والمضاربة، والمفاوضة.
أما شركة الأبدان فهي جائزة عندهم، سواء كان العمل من الصناعات أو اكتساب المباحات. أما مع اتحاد العمل فهي جائزة عندهم بلا خلاف. وأما مع اختلاف العمل فقال أبو الخطاب: لا تجوز وفاقا للمالكية. وقال القاضي: تجوز وفاقا للحنفية
244

في الصناعات دون اكتساب المباحات.
وإن اشتركا على أن يتقبل أحدهما للعمل ويعمله الثاني والأجرة بينهما صحت الشركة عند الحنابلة والحنفية خلافا لزفر. والربح في شركة الأبدان على ما انفقوا عليه عند الحنابلة.
وأما شركة الوجوه التي قدمنا أنها هي المعروفة بشركة الذمم عند المالكية فهي جائزة أيضا في مذهب الإمام أحمد وفاقا لأبي حنيفة، وخلافا لمالك والشافعي. وأما شركة العنان فهي جائزة أيضا عند الإمام أحمد. وقد قدمنا الإجماع على جوازها. وهي عندهم: أن يشترك رجلان بماليهما على أن يعملا فيهما بأبدانهما والربح بينهما. وهذه الشركة إنما تجوز عندهم بالدنانير والدراهم، ولا تجوز بالعروض.
وأما شركة المفاوضة فهي عند الحنابلة قسمان: أحدهما جائز، والآخر ممنوع.
وأما الجائز منهما فهو أن يشتركا في جميع أنواع الشركة. كأن يجمعا بين شركة العنان والوجوه والأبدان فيصح ذلك، لأن كل نوع منها يصح على انفراده فصح مع غيره.
وأما النوع الممنوع عندهم منها فهو أن يدخلا بينهما في الشركة الاشتراك فيما يحصل لكل واحد منهما من ميراث أو يجده من ركاز أو لقطة. ويلزم كل واحد منهما ما
لزم الآخر من أرش جناية وضمان غصب، وقيمة متلف، وغرامة ضمان، وكفالة وفساد هذا النوع ظاهر لما فيه من الغرر كما ترى.
وأما شركة المضاربة وهي القراض فهي جائزة عند الجميع وقد قدمنا أنها هي: أن يدفع شخص لآخر ما لا يتجر فيه على أن يكون الربح بينهما بنسبة يتفقان عليها، وكون الربح في المضاربة بحسب ما اتفقا عليه لا خلاف فيه بين العلماء، سواء كان النصف أو أقل أو كثر لرب المال أو للعامل.
وأما شركة العنان عند الشافعية والحنابلة والحنفية والمالكية، وشركة المفاوضة عند المالكية فاختلف في نسبة الربح، فذهب مالك والشافعي إلى أنه لا بد من كون الربح والخسران بحسب المالين، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أن الربح بينهما على ما اتفقا عليه، فلهما أن يتساويا في الربح مع تفاضل المالين.
وحجة القول الأول أن الربح تبع للمال، فيلزم أن يكون بحسبه. وحجة القول الأخير أن العمل مما يستحق به الربح، وقد يكون أحدهما أبصر بالتجارة وأقوى على
245

العمل من الآخر، فتزاد حصته لزيادة عمله.
هذا خلاصة مذاهب الأئمة الأربعة في أنواع الشركة. وقد علمت أنهم أجمعوا على جواز شركة العنان، وشركة المضاربة، وشركة الأملاك. واختلفوا فيما سوى ذلك. فأجاز الحنفية والحنابلة شركة الوجوه، ومنعها المالكية والشافعية.
وأجاز المالكية والحنفية والحنابلة شركة الأبدان إلا في اكتساب المباحات فقط فلم يجزه الحنفية. ومنع الشافعية شركة الأبدان مطلقا.
وأجاز المالكية شركة المفاوضة، وصورها بصورة العنان عند الشافعية والحنابلة.
وأجاز الحنفية شركة المفاوضة، وصوروها بغير ما صورها به المالكية، وأجاز الحنابلة نوعا من أنواع المفاوضة وصوروه بصورة مخالفة لتصوير غيرهم لها. ومنع الشافعية المفاوضة كما منعوا شركة الأبدان والوجوه. وصوروا المفاوضة بصورة أخرى كما تقدم.
والشافعية إنما يجيزون الشركة بالمثلى مطلقا نقدا أو غيره، لا بالمقومات.
والحنفية لا يجيزونها إلا بالنقدين والتبر والفلوس النافقة. والحنابلة لا يجيزونها إلا بالدنانير والدراهم كما تقدم جميع ذلك.
وقد بينا كيفية الحيلة في الاشتراك بالعروض عند الشافعية والحنفية، وعند المالكية تجوز بدنانير من كل واحد منهما، وبدراهم من كل واحد منهما، وبدنانير ودراهم من كل واحد منهما، وبنقد من أحدهما وعرض من الآخر، وبعرض من كل واحد منهما سواء اتفقا أو اختلفا، وقيل: إن اتفقا لا إن اختلفا، إلا أن العروض تقوم. وأما خلط المالين فلا بد منه عند الشافعي رحمه الله حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر كما تقدم. ويكفي في مذهب مالك أن يكون المالان في حوز واحد. ولو كان كل واحد من المالين في صرته لم يختلط بالآخر. ولا يشترط خلط المالين عند الحنفية كما تقدم. وكذلك لا يشترط خلط المالين عند الحنابلة.
فتحصل أنه لم يشترط خلط المالين إلا الشافعية: وأن المالكية إنما يشترطون كون المالين في محل واحد. كحانوت أو صندوق، وإن كان كل واحد منهما متميزا عن الآخر.
فإذا عرفت ملخص كلام العلماء في أنواع الشركة، فسنذكر ما تيسر من أدلتها. أما النوع الذي تسميه المالكية (مفاوضة) ويعبر عنه الشافعية والحنابلة بشركة العنان. فقد
246

يستدل له بحديث البراء بن عازب الذي قدمنا عن البخاري والإمام أحمد، فإنه يدل على الاشتراك في التجارة والبيع، والشراء لأن المقصود بالاشتراك التعاون على العمل المذكور فينوب كل واحد من الشريكين عن الآخر. ويدل لذلك أيضا حديث أبي هريرة يرفعه قال: إن الله يقول (أنا ثالث الشريكين..) الحديث المتقدم. وقد بينا كلام العلماء فيه، وبينا أنه صالح للاحتجاج، وهو ظاهر في أنهما يعملان معا في مال الشركة بدليل قوله: (ما لم يخن أحدهما صاحبه..) الحديث. ويدل لذلك أيضا حديث السائب بن أبي السائب المتقدم في أنه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وهو اشتراك في التجارة والبيع والشراء.
وأما شركة الأبدان فيحتج لها بما رواه أبو عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر قال: فجاء سعد بأسيرين ولم أجىء أنا وعمار بشيء: رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة، وقال المجد في (منتقى الأخبار) بعد أن ساقه: وهو حجة في شركة الأبدان وتملك المباحات. وأعلى هذا الحديث بأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه عبد الله المذكور فالحديث مرسل. وقد قدمنا مرارا أن الأئمة الثلاثة يحتجون بالمرسل خلافا والمحدثين.
وأما المضاربة فلم يثبت فيها حديث صحيح مرفوع، ولكن الصحابة أجمعوا عليها لشيوعها وانتشارها فيهم من غير نكير. وقد مضى على ذلك عمل المسلمين من لدن الصحابة إلى الآن من غير نكير. قال ابن حزم في مراتب الإجماع: كل أبواب الفقه فلها أصل من الكتاب والسنة، حاشا القراض فما وجدنا له أصلا فيهما البتة، ولكنه إجماع صحيح مجرد. والذي يقطع به أنه كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فعلم به وأقره، ولولا ذلك لما جاز ا ه. منه بواسطة نقل الشوكاني في نيل الأوطار.
واعلم أن اختلاف الأئمة الذي قدمنا في أنواع الشركة المذكورة راجع إلى الاختلاف في تحقيق المناط، فبعضهم يقول: هذه الصورة يوجد فيها الغرر وهو مناط المنع فهي ممنوعة، فيقول الآخر: لا غرر في هذه الصورة يوجب المنع فمناط المنع ليس موجودا فيها. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة أخذ بعض علماء المالكية وغيرهم من هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها أيضا: جواز خلط الرفقاء طعامهم وأكل بعضهم مع بعض وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر؛ لأن أصحاب الكهف بعثوا ورقهم ليشتري لهم بها طعام يأكلونه جميعا.
247

وقد قدمنا في كلام ابن العربي أنه تحتمل انفراد ورق كل واحد منهم وطعامه؛ فلا تدل الآية على خلطهم طعامهم. كما قدمنا عنه: أنها لا تدل على الاشتراك للاحتمال
المذكور، وله وجه كما ترى.
وقال ابن العربي: ولا معول في هذه المسألة إلا على حديثين، أحدهما: أن ابن عمر مر بقوم يأكلون تمرا فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه. والثاني: حديث أبي عبيدة في جيش الخبط. وهذا دون الأول في الظهور، لأنه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافا من ذلك القوت ولا يجمعهم ا ه كلام ابن العربي المالكي رحمه الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا النوع من الاشتراك وهو خلط الرفقة طعامهم واشتراكهم في الأكل فيه هو المعروف ب (النهد) بكسر النون وفتحها، ولجوازه أدلة من الكتاب والسنة. أما دليل ذلك من الكتاب فقوله تعالى: * (وإن تخالطوهم فإخوانكم) * فإنها تدل على خلط طعام اليتيم مع طعام وصيه وأكلهما جميعا، وقوله تعالى * (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا) * ومن صور أكلهم جميعا أن يكون الطعام بينهم فيأكلون جميعا. وأما السنة فقد دلت على ذلك أحاديث صحيحة. منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا إلى الساحل، فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة نفر، وأنا فيهم. فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فتى الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله، فكان مزودي تمر فكان يقوتنا كل يوم قليلا حتى فنى، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة. فقلت: وما تغنى تمرة؟ فقال لقد وجدنا فقدها حين فنيت. ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت).. الحديث. وهذا الحديث ثابت في الصحيح، واللفظ الذي سقناه به لفظ البخاري في كتاب (الشركة) وفيه. جمع أبي عبيدة بقية أزواد القوم وخلطها في مزودي تمر، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم بعد قدومهم إليه، ومنها حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خفت أزواد القوم وأملقوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم، فأذن لهم فلقيهم عمر فأخبروه فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ناد في الناس فيأتون بفضل أزوادهم) فبسط لذلك نطع وجعلوه على النطع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا وبرك عليه، ثم دعاهم بأوعيتهم فاحتثى الناس حتى فرغوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
248

: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) هذا الحديث ثابت في الصحيح، واللفظ الذي سقناه به للبخاري أيضا في كتاب (الشركة) وفيه: خلط طعامهم بعضه مع بعض.
ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين جميعا حتى يستأذن أصحابه. في رواية في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران إلا أن يستأذن الرجل منكم أخاه. كل هذا ثابت في الصحيح واللفظ للبخاري رحمه الله في كتاب (الشركة). وإذن صاحبه له يدل على اشتراكهما في التمر كما ترى. وهذا الذي ذكرنا جوازه من خلط الرفقاء طعامهم وأكلهم منه جميعا هو مراد البخاري رحمه الله بلفظ النهد في قوله (كتاب الشركة. الشركة في الطعام والنهد إلى قوله لم ير المسلمون في النهد بأسا أن يأكل هذا بعضا وهذا بعضا وهذا بعضا الخ.
فروع تتعلق بمسألة الشركة
الأول إن دفع شخص دابته لآخر ليعمل عليها وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثا أو كيفما شرطا ففي صحة ذلك خلاف بين العلماء، فقال بعضهم: يصح ذلك. وهو مذهب الإمام أحمد، ونقل نحوه عن الأوزاعي. وقال بعضهم: لا يصح ذلك، وما حصل فهو العامل وعليه أجرة مثل الدابة. وهذا هو مذهب مالك: قال ابن قدامة في (المغني) وكره ذلك الحسن والنخعي. وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي: لا يصح، والربح كله لرب الدابة، وللعامل أجرة مثله، هذا حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة.
وأقوى الأقوال دليلا عندي فيها مذهب من أجاز ذلك، كالإمام أحمد، بدليل حديث رويفع بن ثابت قال: إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ نضو أخيه على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف، وإن كان أحدنا لطير له النصل والريش وللآخر القدح. هذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. قال الشوكاني في (نيل الأوطار): إسناد أبي داود فيه شيبان بن أمية القتباني وهو مجهول، وبقية رجاله ثقات. وقد أخرجه النسائي من غير طريق هذا المجهول بإسناد رجاله كلهم ثقات. والحديث دليل صريح على جواز دفع الرجل إلى الآخر راحلته في الجهاد على أن تكون الغنيمة بينهما. وهو عمل على الدابة على أنما يرزقه الله بينهما كما ترى. والتفريق بين العمل في الجهاد وبين غيره لا يظهر. والعلم عند الله تعالى
249

. الفرع الثاني أن يشترك ثلاثة: من أحدهم دابة، ومن آخر رواية، ومن الثالث العمل: على أن ما رزقه الله تعالى فهو بينهم، فهل يجوز هذا؟ اختلف في ذلك. فمن العلماء من قال لا يجوز هذا. وهو مذهب مالك، وهو ظاهر قول الشافعي: وممن قال بذلك: القاضي من الحنابلة وأجازه بعض الحنابلة. وقال ابن قدامة في (المغني): إنه صحيح في قياس قول أحمد رحمه الله. الفرع الثالث أن يشترك أربعة: من أحدهم دكان، ومن آخر رحى، ومن آخر بغل، ومن الرابع العمل، على أن يطحنوا بذلك، فما رزقه الله تعالى فهو بينهم فهل يصح ذلك أولا. اختلف فيه، فقيل: يصح ذلك وهو مذهب الإمام أحمد. وخالف فيه القاضي من الحنابلة وفاقا للقائلين بمنع ذلك كالمالكية. قال ابن قدامة: ومنعه هو ظاهر قول الشافعي. لأن هذا لا يجوز أن يكون مشاركة ولا مضاربة: فلو كان صاحب الرحى، وصاحب الدابة، وصاحب الحانوت اتفقوا على أن يعملوا جميعا وكان كراء الحانوت والرحى والدابة متساويا، وعمل أربابها متساويا فهو جائز عند المالكية.. وهذه المسألة هي التي أشار إليها خليل في مختصره بقوله عاطفا على ما لا يجوز: وذي رحا، وذي بيت، وذي دابة ليعلموا إن لم يتساو الكراء وتساووا في الغلة وترادوا الأكربة. وإن اشترط عمل رب الدابة فالغلة له وعليه كراؤهما. ولا يخفى أن (الشركة) باب كبير من أبواب الفقه، وأن مسائلها مبينة باستقصاء في كتب فروع الأئمة الأربعة رضي
الله عنهم. وقصدنا هنا أن نبين جوازها بالكتاب والسنة والإجماع. ونذكر أقسامها ومعانيها اللغوية والاصطلاحية، واختلاف العلماء فيها. وبيان أقوالهم، وذكر بعض فروعها تنبيها بها على غيرها، وقد أتينا على جميع ذلك. والحمد لله رب العالمين. قوله تعالى: * (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن أصحاب الكهف أنهم قالوا إن قومهم الكفار الذين فروا منهم بدينهم إن يظهروا عليهم، أي يطلعوا عليهم ويعرفوا مكانهم، يرجموهم بالحجارة، وذلك من أشنع أنواع القتل. وقيل: يرجموهم بالشتم والقذف، أو يعيدوهم في ملتهم، أي يردوهم إلى ملة الكفر:
وهذا الذي ذكره هنا من فعل الكفار مع المسلمين من الأذى أو الرد إلى الكفر ذكر
250

في مواضع أخر أنه هو فعل الكفار مع الرسل وأتباعهم. كقوله جل وعلا: * (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنآ أو لتعودن فى ملتنا) *، وقوله تعالى: * (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين ءامنوا معك من قريتنآ أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا فى ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنآ أن نعود فيهآ إلا أن يشآء الله) *، وقوله تعالى: * (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) * إلى غير ذلك من الآيات.
مسألة
أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة، لأن قوله عن أصحاب الكهف * (إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم) * ظاهر في إكراههم على ذلك وعدم طواعيتهم، ومع هذا قال عنهم: * (ولن تفلحوا إذا أبدا) * فدل ذلك على أن ذلك الإكراه ليس بعذر. ويشهد لهذا المعنى حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه مع الإكراه بالخوف من القتل. لأن صاحبه الذي امتنع أن يقرب ولو ذبابا قتلوه.
ويشهد له أيضا دليل الخطاب، أي مفهوم المخالفة في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فإنه يفهم من قوله: (تجاوز لي عن أمتي) أن غير أمته من الأمم لم يتجاوز لهم عن ذلك. وهذا الحديث وإن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديما وحديثا بالقبول، وله شواهد ثابتة في القرآن العظيم والسنة الصحيحة. وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة (الكهف)، في الكلام على قوله * (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم) *. ولذلك اختصرناها هنا. أما هذه الأمة فقد صرح الله تعالى بعذرهم بالإكراه في قوله: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *. والعلم عند الله تعالى.
* (وكذالك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا * سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا * ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا * إلا أن يشآء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربى لاقرب من هاذا رشدا * ولبثوا فى كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا * قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والا رض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك فى حكمه أحدا * واتل مآ أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا * واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيواة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا * وقل الحق من ربكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وسآءت مرتفقا * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا * أولائك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الا رآئك نعم الثواب وحسنت مرتفقا * واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا * كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا * وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا * ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال مآ أظن أن تبيد هاذه أبدا * ومآ أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا * قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا * لكن هو الله ربى ولا أشرك بربى أحدا * ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شآء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا * فعسى ربى أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السمآء فتصبح صعيدا زلقا * أو يصبح مآؤها غورا فلن تستطيع له طلبا * وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على مآ أنفق فيها وهى خاوية على عروشها ويقول ياليتنى لم أشرك بربى أحدا) * قوله تعالى: * (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) *. لم يبين الله هنا من هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم، هل هم من المسلمين أو من الكفار؟ وذكر ابن جرير وغيره فيهم قولين: أحدهما أنهم كفار، والثاني أنهم مسلمون،
251

وهي قولهم: * (لنتخذن عليهم مسجدا) * لأن اتخاذ المساجد من صفات المؤمنين لا من صفات الكفار. هكذا قال بعض أهل العلم. ولقائل أن يقول: اتخاذ المساجد على القبور من فعل الملعونين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا من فعل المسلمين، وقد قدمنا ذلك مستوفي بأدلته في سورة (الحجر) في الكلام على قوله تعالى: * (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين) *. قوله تعالى: * (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) *. أخبر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فذكر ثلاثة أقوال. على أنه لا قائل برابع، وجاء في الآية الكريمة بقرينة تدل على أن القول الثالث هو الصحيح والأرلان باطلان، لأنه لما ذكر القولين الأولين بقوله: * (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم) * أتبع ذلك بقوله * (رجما بالغيب) * أي قولا بلا علم، كمن يرمى إلى مكان لا يعرفه فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب بلا قصد،
كقوله: * (ويقذفون بالغيب من مكان) * وقال القرطبي: الرجم القول بالظن، يقال لكل ما يخرص رجم فيه ومرجوم ومرجم كما قال زهير: ويقذفون بالغيب من مكان) * وقال القرطبي: الرجم القول بالظن، يقال لكل ما يخرص رجم فيه ومرجوم ومرجم كما قال زهير:
* وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
* وما هو عنها بالحديث المرجم
*
ثم حكى القول الثالث بقوله: * (ويقولون خمسة سادسهم كلبهم) * فأقره، ولم يذكر بعده أن ذلك رجم بالغيب، فدل على أن الصحيح. وقوله * (ما يعلمهم إلا قليل) * قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم، كانوا سبعة. وقوله: * (قل ربى أعلم بعدتهم) * فيه تعليم للناس أن يردوا علم الأشياء إلى خالقها جل وعلا وإن علموا بها، كما أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بمدة لبثهم في قوله: * (ولبثوا فى كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا) * ثم أمره مع ذلك برد العلم إليه جل وعلا في قوله جل وعلا: * (قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والا رض) *. وما قدمنا من أنه لا قائل يرابع قاله ابن كثير أخذا من ظاهر الآية الكريمة. مع أن ابن إسحاق وابن جريج قالا: كانوا ثمانية. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا إلا أن يشآء الله) *. نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول: إنه سيفعل شيئا في المستقبل إلا معلقا ذلك على مشيئة
252

الله الذي لا يقع شيء في العالم كائنا ما كان إلا بمشيئته جل وعلا فقوله: * (ولا تقولن لشىء) * أي لا تقولن لأجل شيء تعزم على فعله في المستقبل إني فاعل ذلك الشيء غدا. والمراد بالغد: ما يستقبل من الزمان لا خصوص الغد. ومن أساليب العربية إطلاق الغد على المستقبل من الزمان. ومنه قول زهير: والمراد بالغد: ما يستقبل من الزمان لا خصوص الغد. ومن أساليب العربية إطلاق الغد على المستقبل من الزمان. ومنه قول زهير:
* واعلم علم اليوم والأمس قبله
* ولكنني عن علم ما في غد عم
*
يعني أنه لا يعلم ما يكون في المستقبل، إذ لا وجه لتخصيص الغد المعين بذلك. وقوله: * (إلا أن يشآء الله) * إلا قائلا في ذلك إلا أن يشاء الله، أي معلقا بمشيئة الله. أو لا تقولنه إلا بأن شاء الله، أي إلا بمشيئة الله. وهو في موضع الحال، يعني إلا متلبسا بمشيئة الله قائلا إن شاء الله، قاله الزمخشري وغيره.
وسبب نزول هذه الآية الكريمة أن اليهود قالوا لقريش: سلوا محمدا (صلى الله عليه وسلم) عن الروح، وعن رجل طواف في الأرض (يعنون ذا القرنين)، وعن فتية لهم قصة عجيبة في الزمان الماضي (يعنون أصحاب الكهف). فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سأخبركم غدا عما سألتم عنه) ولم يقل إن شاء الله، فلبث عنه الوحي مدة، قيل خمس عشرة ليلة، وقيل غير ذلك. فأحزنه تأخر الوحي عنه، ثم أنزل عليه الجواب عن الأسئلة الثلاثة، قال في الروح: * (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى) *. وقال في الفتية * (نحن نقص عليك نبأهم بالحق) * الآيات إلى آخر قصتهم. وقال في الرجل الطواف: * (ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا) * الآيات إلى آخر قصته.
فإذا عرفت معنى هذه الآية الكريمة وسبب نزولها، وأن الله عاتب نبيه فيها على عدم قوله إن شاء الله، لما قال لهم سأخبركم غدا فاعلم أنه دلت آية أخرى بضميمة بيان السنة لها على أن الله عاتب نبيه سليمان على عدم قوله إن شاء الله، كما عاتب نبيه في هذه الآية على ذلك. بل فتنة سليمان بذلك كانت أشد. فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة وفي رواية تسعين امرأة، وفي رواية مائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله) فقيل له وفي رواية قال له الملك: (قل إن شاء الله) فلم يقل. فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف
253

إنسان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته). وفي رواية (ولقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعون) ا ه.
فإذا علمت هذا فاعلم أن هذا الحديث الصحيح بين معنى قوله تعالى: * (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا) *. وأن فتنة سليمان كانت بسبب تركه قوله (إن شاء الله)، وأنه لم يلد من تلك النساء إلا واحدة نصف إنسان، وأن ذلك الجسد الذي هو نصف إنسان هو الذي ألقي على كرسيه بعد موته في قوله تعالى: * (وألقينا على كرسيه جسدا) *، فما يذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى: * (وألقينا على كرسيه جسدا) *، من قصة الشيطان الذي أخذ الخاتم وجلس على كرسي سليمان، وطرد سليمان عن ملكه. حتى وجد الخاتم في بطن السمكة التي أعطاها له من كان يعمل عنده بأجر مطرودا عن ملكه، إلى آخر القصة لا يخفى أنه باطل لا أصل له، وأنه لا يليق بمقام النبوة. فهي من الإسرائيليات التي لا يخفى أنها باطلة.
والظاهر في معنى الآية هو ما ذكرنا، وقد دلت السنة الصحيحة عليه في الجلة، واختاره بعض المحققين. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (واذكر ربك إذا نسيت) *. في هذه الآية الكريمة قولان معروفان لعلماء التفسير:
الأول أن هذه الآية الكريمة متعلقة بما قبلها، والمعنى: أنك إن قلت سأفعل غدا كذا ونسيت أن تقول إن شاء الله، ثم تذكرت بعد ذلك فقل إن شاء الله. أي اذكر ربك
معلقا على مشيئته ما تقول أنك ستفعله غدا إذا تذكرت بعد النسيان. وهذا القول هو الظاهر. لأنه يدل عليه قوله تعالى: * (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا إلا أن يشآء الله) * وهو قول الجمهور. وممن قال به ابن عباس والحسن البصري وأبو العالية وغيرهم.
القول الثاني أن الآية لا تعلق لها بما قبلها. أن المعنى: إذا وقع منك النسيان لشيء فاذكر الله. لأن النسيان من الشيطان. كما قال تعالى عن فتى موسى: * (ومآ أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) *، وكقوله: * (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله) *، وقال تعالى: * (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) * وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، كما يدل لذلك قوله تعالى: * (ومن
254

يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين) * وقوله تعالى: * (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إلاه الناس من شر الوسواس الخناس) *. أي الوسواس عند الغفلة عن ذكر الله. الخناس الذي يخنس ويتأخر صاغرا عند ذكر الله، فإذا ذهب الشيطان النسيان. وقال بعضهم: * (واذكر ربك إذا نسيت) * أي صل الصلاة التي كنت ناسيا لها عند ذكرك لها، كما قال تعالى: * (وأقم الصلواة لذكرى) * وقول من قال إذا نسيت، أي إذا غضبت ظاهر السقوط.
مسألة
اشتهر على ألسنة العلماء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه استنبط من هذه الآية الكريمة. أن الاستثناء يصح تأخيره عن المستثنى منه زمنا طويلا قال بعضهم إلى شهر. وقال بعضهم: إلى سنة. وقال بعضهم عنه: له الاستثناء أبدا. ووجه أخذه ذلك من الآية: أن الله تعالى نهى نبيه أن يقول: إنه سيفعل شيئا في المستقبل إلا من الاستثناء بأن شاء الله. ثم قال: * (واذكر ربك إذا نسيت) *، أي إن نسيت تستثنى بأن شاء الله فاستثن إذا تذكرت من غير تقييد باتصال ولا قرب.
والتحقيق الذي لا شك فيه أن الاستثناء لا يصح إلا مقترنا بالمستثنى منه. وأن الاستثناء المتأخر لا أثر له ولا تحل به اليمين. ولو كان الاستثناء المتأخر يصح لما علم في الدنيا أنه تقرر عقد ولا يمين ولا غير ذلك، لاحتمال طرو الاستثناء بعد ذلك، وهذا في غاية البطلان كما ترى. ويحكى عن المنصور أنه بلغه أن أبا حنيفة رحمه الله يخالف مذهب ابن عباس المذكور. فاستحضره لينكر عليه ذلك، فقال الإمام أبو حنيفة للمنصور: هذا يرجع عليكا إنك تأخذ البيعة بالأيمان، أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليكا؟ فاستحسن كلامه ورضي عنه.
فائدة
قال ابن العربي المالكي: سمعت فتاة ببغداد تقول لجارتها: لو كان مذهب ابن عباس صحيحا في الاستثناء ما قال الله تعالى لأيوب: * (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) * بل يقول استثن بأن شاء الله انتهى منه بواسطة نقل صاحب نشر البنود في شرح وقوله في مراقي السعود:
255

* بشركة وبالتوطي قالا
* بعض وأوجب فيه الاتصالا
*
* وفي البواقي دون ما اضطرار
* وأبطلن بالصمت للتذكار
*
فإن قيل: فما الجواب الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما نسب إليه من القول بصحة الاستثناء المتأخر.
فالجواب أن مراد ابن عباس رضي الله عنهما أن الله عاتب نبيه على قوله إنه سيفعل كذا غدا ولم يقل إن شاء الله، وبين له أن التعليق بمشيئة الله هو الذي ينبغي أن يفعل، لأنه تعالى لا يقع شيء إلا بمشيئته، فإذا نسي التعليق بالمشيئة ثم تذكر ولو بعد طول فإنه يقول إن شاء الله، ليخرج بذلك من عهدة عدم التعليق بالمشيئة، ويكون قد فوض الأمر إلى من لا يقع إلا بمشيئة. فنتيجة هذا الاستثناء هي الخروج من عهدة تركة الموجب للعتاب السابق، لا أنه يحل اليمين لأن تداركها قد فات بالأنفصال. هذا هو مراد ابن عباس كما جزم به الطبري وغيره. وهذا لا محذور فيه ولا إشكال.
وأجاب بعض أهل العلم بجواب آخر وهو أنه نوى الاستثناء بقلبه ونسي النطق به بلسانه. فأظهر بعد ذلك الاستثناء الذي نواه وقت اليمين، هكذا قاله بعضهم. والأول هو الظاهر. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (له غيب السماوات والا رض) *. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو المختص بعلم الغيب في السماوات والأرض. وذكر هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: * (قل لا يعلم من فى السماوات والا رض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون) * وقوله تعالى: * (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) *، وقوله تعالى: * (ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن) *، وقوله تعالى: * (ولله غيب السماوات والا رض وإليه يرجع الا مر كله) *، وقوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو ويعلم ما فى البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة فى ظلمات الا رض ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين) *، وقوله تعالى: * (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الا رض ولا فى السمآء ولا أصغر من ذالك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين) *، وقوله تعالى: * (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الا رض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين) *، وقوله
256

تعالى: * (إن الله لا يخفى عليه شىء في الا رض ولا فى) *. وبين في مواضع أخر: أنه يطلع من شاء من خلقه على ما شاء من وحيه، كقوله تعالى: * (عالم
الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) *. وقد أشار إلى ذلك بقوله: * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشآء) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (أبصر به وأسمع) *. أي ما أبصره وما أسمعه جل وعلا. وما ذكره في هذه الآية الكريمة من اتصافه جل وعلا بالسمع والبصر، ذكره أيضا في مواضع أخر، كقوله: * (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) * وقوله: * (قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى الله والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير) * وقوله تعالى: * (الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير) *. والآيات بذلك كثيرة جدا. قوله تعالى: * (ما لهم من دونه من ولى) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أصحاب الكهف ليس لهم ولي من دونه جل وعلا، بل هو وليهم جل وعلا. وهذا المعنى مذكور في آيات أخر، كقوله تعالى: * (الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) *، وقوله تعالى: * (ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * فبين أنه ولي المؤمنين، وأن المؤمنين أولياؤه والولي: هو من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به. فالإيمان سبب يوالي به المؤمنين ربهم بالطاعة، ويواليهم به الثواب والنصر والإعانة. وبين في مواضع أخر: أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، كقوله: * (إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا) *، وقوله: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض) *. وبين في مواضع أخر: أن نبينا صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو قوله تعالى: * (النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) *.
وبين في مواضع أخر: أنه تعالى مولى المؤمنين دون الكافرين، وهو قوله تعالى: * (ذلك بأن الله مولى الذين ءامنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) *، وهذه الولاية المختصة بالمؤمنين هي ولاية الثواب والنصر والتوفيق والإعانة، فلا تنافي أنه مولى
257

الكافرين ولاية ملك وقهر ونفوذ مشيئة، كقوله: * (وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) *. وقال بعض العلماء: الضمير في قوله: * (ما لهم من دونه من ولى) * راجع لأهل السماوات والأرض المفهومين من قوله تعالى: * (له غيب السماوات والا رض) * وقيل: الضمير في قوله (ما لهم) راجع لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار. ذكره القرطبي. وعلى كل حال فقد دلت الآيات المتقدمة أن ولاية الجميع لخالقهم جل وعلا، وأن منها ولاية ثواب وتوفيق وإعانة، وولاية ملك وقهر ونفوذ مشيئة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولا يشرك فى حكمه أحدا) *. قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر (ولا يشرك) بالياء المثناة التحتية، وضم الكاف على الخبر، ولا نافية والمعنى: ولا يشرك الله جل وعلا أحدا في حكمه، بل الحكم له وحده جل وعلا لا حكم لغيره البتة، فالحلال ما أحله تعالى، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه. والقضاء ما قضاه. وقرأه ابن عامر من السبعة. (ولا تشرك) بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي، أي لا تشرك يا نبي الله. أو لا تشرك أيها المخاطب أحدا في حكم الله جل وعلا، بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم. وحكمه جل وعلا المذكور في قوله: * (ولا يشرك فى حكمه أحدا) * شامل لكل ما يقضيه جل وعلا. ويدخل في ذلك التشريع دخولا أوليا.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه على كلتا القراءتين جاء مبينا في آيات أخر. كقوله تعالى: * (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) * وقوله تعالى: * (وقال يابنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا) *، وقوله تعالى: * (وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله) *، وقوله تعالى: * (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير) *، وقوله تعالى: * (كل شىء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) *، وقوله تعالى: * (له الحمد فى الا ولى والا خرة وله الحكم وإليه ترجعون) *، وقوله: * (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) *. وقوله تعالى: * (أفغير الله أبتغى حكما وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلا) *، إلى غير ذلك من الآيات.
258

ويفهم من هذه الآيات كقوله * (ولا يشرك فى حكمه أحدا) * أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله. وهذا المفهوم جاء مبينا في آيات أخر. كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) * فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم. وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم يابنىءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدونى هاذا صراط مستقيم) *، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم: * (ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا) *، وقوله تعالى: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) * أي ما يعبدون إلا شيطانا، أي وذلك باتباع تشريعه. ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى: * (وكذالك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركآؤهم) *. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أربابا. ومن أصرح الأدلة في هذا: أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب. وذلك في قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) *.
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.
259

تنبيه
اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضى تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضى ذلك.
وإيضاح ذلك أن النظام قسمان: إداري، وشرعي. أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة، فمن بعدهم. وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر كما قدمنا إيضاح المقصود منه في سورة (بني إسرائيل) في الكلام على العاقلة التي تحمل دية الخطأ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك صلى الله عليه وسلم. وكاشترائه أعني عمر رضي الله عنه دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجنا في مكة المكرمة، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجنا هو ولا أبو بكر. فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع لا بأس به. كتنظيم شؤون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع. فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة.
وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالقي السماوات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السماوات والأرض. كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث. وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، ونحو ذلك.
فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السماوات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى عن أن يكون معه مشرع آخر علوا كبيرا * (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) *، * (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون) *، * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هاذا حلال وهاذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) * وقد قدمنا جملة وافية من هذا النوع في سورة (بني إسرائيل) في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى
260

للتى هى أقوم) *. قوله تعالى: * (واتل مآ أوحى إليك من كتاب ربك) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يتلو هذا القرآن الذي أوحاه إليه ربه. والأمر في قوله (واتل) شامل للتلاوة بمعنى القراءة. والتلو: بمعنى الاتباع. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن العظيم واتباعه جاء مبينا في آيات أخر. كقوله تعالى في سورة (العنكبوت): * (اتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلواة) *، وكقوله تعالى في آخر سورة (النمل): * (إنمآ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذى حرمها وله كل شىء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرءان) *، * (ورتل القرءان ترتيلا) * إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر بتلاوته، وكقوله تعالى على الأمر باتباعه * (اتبع مآ أوحى إليك من ربك لا إلاه إلا هو وأعرض عن المشركين) *، وقوله تعالى: * (فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم) *، وقوله تعالى: * (قل ما كنت بدعا من الرسل ومآ أدرى ما يفعل بى ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلى ومآ أنا إلا نذير مبين) *، وقوله تعالى: * (قل ما يكون لى أن أبدله من تلقآء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) *، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر باتباع هذا القرآن العظيم. وقد بين في مواضع أخر بعض النتائج التي تحصل بسبب تلاوة القرآن واتباعه. كقوله تعالى: * (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلواة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور) *، وقوله تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولائك يؤمنون به ومن يكفر به فأولائك هم الخاسرون) * والعبرة في هذه الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله تعالى: * (لا مبدل لكلماته) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا مبدل لكلماته. أي لأن أخبارها صدق: وأحكامها عدل، فلا يقدر أحد أن يبدل صدقها كذبا. ولا أن يبدل عدلها جورا: وهذا الذي ذكره هنا جاء مبينا في مواضع أخر، كقوله تعالى: * (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) *. فقوله: (صدقا) يعني في الإخبار. وقوله (عدلا) أي في الأحكام. وكقوله
261

: * (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جآءك من نبإ المرسلين) *.
وقد بين تعالى في مواضع أخر، أنه هو يبدل ما شاء من الآيات مكان ما شاء منها. كقوله تعالى: * (وإذا بدلنآ ءاية مكان ءاية والله أعلم بما ينزل) *. وقوله: * (ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) *، وقوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرءان غير هاذآ أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقآء نفسى) *. قوله تعالى: * (ولن تجد من دونه ملتحدا) *. أصل الملتحد: مكان الالتحاد وهو الافتعال: من اللحد بمعنى الميل، ومنه اللحد في القبر، لأنه ميل في الحفر، ومنه قوله تعالى: * (إن الذين يلحدون فىءاياتنا لا يخفون علينآ) *، وقوله: * (وذروا الذين يلحدون فى أسمائه) *، فمعنى اللحد والإلحاد في ذلك: الميل عن الحق. والملحد المائل عن دين الحق. وقد تقرر في فن الصرف أن الفعل إن زاد ماضيه على ثلاثة أحرف فمصدره الميمى واسم مكانه واسم زمانه كلها بصيغة اسم المفعول كما هنا. فالملتحد بصيغة اسم المفعول، والمراد به مكان الالتحاد، أي المكان الذي يميل فيه إلى ملجإ أو منجي ينجيه مما يريد الله أن يفعله به.
وهذا الذي ذكره هنا من أن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يجد من دونه ملتحدا. أي مكانا يميل إليه ويلجأ إليه إن لم يبلغ رسالة ربه ويطعه جاء مبينا في مواضع أخر. كقوله: * (قل إنى لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إنى لن يجيرنى من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته) *، وقوله: * (ولو تقول علينا
بعض الا قاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين) *.
وكونه ليس له ملتحد، أي مكان يلجأ إليه تكرر نظيره في القرآن بعبارات مختلفة. كالمناص، والمحيص، والملجإ، والموئل، والمفر، والوزر، كقوله: * (فنادوا ولات حين مناص) * وقوله: * (ولا يجدون عنها محيصا) *، وقوله: * (فنقبوا فى البلاد هل من محيص) *، وقوله: * (ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير) *، وقوله: * (يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) *،
262

وقوله: * (يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا) * فكل ذلك راجع في المعنى إلى شيء واحد، وهو انتفاء مكان يلجؤون إليه ويعتصمون به. قوله تعالى: * (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يصبر نفسه، أي يحبسها مع المؤمنين الذي يدعون ربهم أول النهار وآخره مخلصين له، لا يريدون بدعائهم إلا رضاه جل وعلا.
وقد نزلت هذه الآية الكريمة في فقراء المهاجرين كعمار، وصهيب، وبلال، وابن مسعود ونحوهم. لما أراد صناديد الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطردهم عنه، ويجالسهم بدون حضور أولئك الفقراء المؤمنين، وقد قدمنا في سورة (الأنعام) أن الله كما أمره هنا بأن يصبر نفسه معهم أمره أمره بألا يطردهم، وأنه إذا رآهم يسلم عليهم، وذلك في قوله: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شىء وما من حسابك عليهم من شىء فتطردهم فتكون من الظالمين) * إلى قوله * (وإذا جآءك الذين يؤمنون بأاياتنا فقل سلام عليكم) * وقد أشار إلى ذلك المعنى في قوله: * (عبس وتولى أن جآءه الا عمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جآءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا) *. وقد قدمنا أن ما طلبه الكفار من نبينا صلى الله عليه وسلم من طرده فقراء المؤمنين وضعفاءهم تكبرا عليهم وازدراء بهم طلبه أيضا قوم نوح من نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنه امتنع من طردهم أيضا، كقوله تعالى عنهم: * (قالوا أنؤمن لك واتبعك الا رذلون) *، وقوله عنهم أيضا: * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى) *، وقال عن نوح في امتناعه من طردهم: * (ومآ أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين) *، وقوله تعالى عنه: * (ومآ أنا بطارد الذين ءامنوا إنهم ملاقو ربهم ولاكنى أراكم قوما تجهلون وياقوم من ينصرنى من الله إن طردتهم أفلا تذكرون) *.
وقوله * (واصبر نفسك) * فيه الدليل على أن مادة الصبر تتعدى بنفسها للمفعول، ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي ذؤيب أو عنترة: واصبر نفسك) * فيه الدليل على أن مادة الصبر تتعدى بنفسها للمفعول، ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي ذؤيب أو عنترة:
* فصبرت عارفة بذلك حرة
* ترسو إذا نفس الجبان تطلع
*
والغداة: أول النهار. والعشي آخره. وقال بعض العلماء:
263

* (يدعون ربهم بالغداة والعشى) * أي يصلون صلاة الصبح والعصر. والتحقيق أن الآية تشمل أعم من مطلق الصلاة. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيواة الدنيا) *. نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن تعدو عيناه عن ضعفاء المؤمنين وفقرائهم، طموحا إلى الأغنياء وما لديهم من زينة الحياة الدنيا. ومعنى * (لا تعدوا عيناك) *: أي لا تتجاوزهم عيناك وتنبوا عن رثاثة زيهم، محتقرا لهم طامحا إلى أهل الغنى والجاه والشرف بدلا منهم. وعدا يعدو: تتعدى بنفسها إلى المفعول وتلزم. والجملة في قوله * (تريد زينة الحيواة الدنيا) * في محل حال والرابط الضمير، على حد قوله في الخلاصة: تريد زينة الحيواة الدنيا) * في محل حال والرابط الضمير، على حد قوله في الخلاصة:
* وذات بدء بمضارع ثبت
* حوت ضميرا ومن الواو خلت
*
وصاحب الحال المذكورة هو الضمير المضاف إليه في قوله (عيناك) وإنما ساغ ذلك لأن المضاف هنا جزء من المضاف إليه، على حد قوله في الخلاصة: على حد قوله في الخلاصة:
* ولا تجز حالا من المضاف له
* إلا إذا اقتضى المضاف عمله
*
* أو كان جزء ماله أضيفا
* أو مثل جزئه فلا تحيفا
*
وما نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة من طموح العين إلى زينة الحياة الدنيا، مع الاتصاف بما يرضيه جل وعلا من الثبات على الحق،
كمجالسة فقراء المؤمنين أشار له أيضا في مواضع أخر، كقوله * (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن ءانآء اليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيواة الدنيا) *، وقوله تعالى: * (ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) *. قوله تعالى: * (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) *. نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة عن طاعة من أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه، وكان أمره فرطا. وقد كرر في القرآن نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن اتباع مثل هذا الغافل عن ذكر الله المتبع هواه، كقوله تعالى: * (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا) *، وقوله: * (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم) *
264

، وقوله تعالى: * (ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشآء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أمره في موضع آخر بالإعراض عن المتولين عن ذكر الله، والذين لا يريدون غير الحياة الدنيا، وبين له أن ذلك هو مبلغهم من العلم. وذلك في قوله تعالى: * (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيواة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (من أغفلنا) * يدل على أن ما يعرض للعبد من غفلة ومعصية، إنما هو بمشيئة الله تعالى. إذ لا يقع شيء البتة كائنا ما كان إلا بمشيئته الكونية القدرية، جل وعلا، * (وما تشآءون إلا أن يشآء الله) *، * (ولو شآء الله مآ أشركوا) *، * (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها) *، * (ولو شآء الله لجمعهم على الهدى) *، * (ختم الله على قلوبهم) *، * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا) * إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل شيء من خير وشر، لا يقع إلا بمشيئة خالق السماوات والأرض. فما يزعمه المعتزلة، ويحاول الزمخشري في تفسيره دائما تأويل آيات القرآن على نحو ما يطابقه من استقلال قدرة العبد وإرادته فأفعاله دون مشيئة الله، لا يخفى بطلانه كما تدل عليه الآيات المذكورة آنفا، وأمثالها في القرآن كثيرة.
ومعنى اتباعه هواه: أنه يتبع ما تميل إليه نفسه الأمارة بالسوء وتهواه من الشر، كالكفر والمعاصي.
وقوله: * (وكان أمره فرطا) * قيل: هو من التفريط الذي هو التقصير، وتقديم العجز بترك الإيمان. وعلى هذا فمعنى * (وكان أمره فرطا) * أي كانت أعماله سفها وضياعا وتفريطا. وقيل: من الإفراط الذي هو مجاوزة الحد، كقول الكفار المحتقرين لفقراء المؤمنين: نحن أشراف مضر وساداتهاا إن اتبعناك اتبعك جميع الناس. وهذا من التكبر والإفراط في القول. وقيل (فرطا) أي قدما في الشر.. من قولهم: فرط منه أمر، أي سبق. وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة عندي بحسب اللغة العربية التي نزل بها للقرآن أن معنى قوله (فرطا): أي متقدما للحق والصواب، نابذا له وراء
265

ظهره. من قولهم: فرس فرط، أي متقدم للخيل. ومنه قول لبيد في معلقته: وكان أمره فرطا) * أي كانت أعماله سفها وضياعا وتفريطا. وقيل: من الإفراط الذي هو مجاوزة الحد، كقول الكفار المحتقرين لفقراء المؤمنين: نحن أشراف مضر وساداتهاا إن اتبعناك اتبعك جميع الناس. وهذا من التكبر والإفراط في القول. وقيل (فرطا) أي قدما في الشر.. من قولهم: فرط منه أمر، أي سبق. وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة عندي بحسب اللغة العربية التي نزل بها للقرآن أن معنى قوله (فرطا): أي متقدما للحق والصواب، نابذا له وراء ظهره. من قولهم: فرس فرط، أي متقدم للخيل. ومنه قول لبيد في معلقته:
* ولقد حميت الخيل تحمل شكتي
* فرط وشاحي إذ غدوت لجامها
*
وإلى ما ذكرنا في معنى الآية ترجع أقوال المفسرين كلها، كقول قتادة ومجاهد (فرطا) أي ضياعا. وكقول مقاتل بن حيان (فرطا) أي سرفا. كقول الفراء (فرطا) أي متروكا. وكقول الأخفش (فرطا) أي مجاوزا للحد، إلى غير ذلك من الأقوال. قوله تعالى: * (وقل الحق من ربكم) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للناس: الحق من ربكم. وفي إعرابه وجهان: أحدهما أن (الحق) مبتدأ، والجار والمجرور خبره، أي الحق الذي جئتكم به في هذا القرآن العظيم، المتضمن لدين الإسلام كائن مبدؤه من ربكم جل وعلا. فليس من وحي الشيطان، ولا من افتراء الكهنة، ولا من أساطير الأولين، ولا غير ذلك. بل هو من خالقكم جل وعلا، الذي تلزمكم طاعته وتوحيده، ولا يأتي من لدنه إلا الحق الشامل للصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام، فلا حق إلا منه جل وعلا.
الوجه الثاني أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا الذي جئتكم به الحق.
وهذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ذكره أيضا في مواضع أخر. كقوله في سورة (البقرة): * (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) *، وقوله في (آل عمران): * (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر) *. ظاهر هذه الآية الكريمة بحسب الوضع اللغوي التخيير بين الكفر والإيمان ولكن المراد من الآية الكريمة ليس هو التخيير، وإنما المراد بها التهديد والتخويف. والتهديد بمثل هذه الصيغة التي ظاهرها التخيير أسلوب من أساليب اللغة العربية. والدليل من القرآن العظيم على أن المراد في الآية التهديد والتخويف أنه أتبع ذلك بقوله * (إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وسآءت مرتفقا) * وهذا أصرح دليل على أن المراد التهديد والتخويف. إذ لو كان التخيير على بابه لما توعد فاعل أحد الطرفين المخير بينهما بهذا العذاب الأليم. وهذا واضح كما ترى. وقوله في هذه الآية الكريمة * (أعتدنا) * أصله من الاعتاد، والتاء فيه
266

أصلية وليست مبدلة من دال على الأصح. ومنه العتاد بمعنى العدة للشيء. ومعنى (اعتدنا): أرصدنا وأعددنا. والمراد بالظالمين هنا: الكفار. بدليل قوله قبله * (ومن شآء فليكفر) * وقد قدمنا كثرة إطلاق الظلم على الكفر في القرآن. كقوله: * (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) *،
وقوله تعالى: * (والكافرون هم الظالمون) *، وقوله تعالى: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) * ونحو ذلك من الآيات. وقد قدمنا أن الظلم في لغة العرب: وضع الشيء في غير محله، ومن أعظم ذلك وضع العبادة في مخلوق. وقد جاء في القرآن إطلاق الظلم على النقص في قوله: * (ولم تظلم منه شيئا) * وأصل معنى مادة الظلم هو ما ذكرنا من وضع الشيء في غير موضعه، ولأجل ذلك قيل الذي يضرب اللبن قبل أن يروب: ظالم لوضعه ضرب لبنه في غير موضعه، لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده. ومن هذا المعنى قول الشاعر: ولم تظلم منه شيئا) * وأصل معنى مادة الظلم هو ما ذكرنا من وضع الشيء في غير موضعه، ولأجل ذلك قيل الذي يضرب اللبن قبل أن يروب: ظالم لوضعه ضرب لبنه في غير موضعه، لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده. ومن هذا المعنى قول الشاعر:
* وقائلة ظلمت لكم سقائي
* وهل يخفى على العكد الظليم
*
فقوله (ظلمت لكم سقائي) أي ضربته لكم قبل أن يروب. ومنه قول الآخر في سقاء له ظلمه بنحو ذلك: فقوله (ظلمت لكم سقائي) أي ضربته لكم قبل أن يروب. ومنه قول الآخر في سقاء له ظلمه بنحو ذلك:
* وصاحب صدق لم تربني شكاته
* ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر
*
وفي لغز الحريري في مقاماته في الذي يضرب لبنه قبل أن يروب قال: أيجوز أن يكون الحاكم ظالما؟ قال: نعم، إذا كان عالما. ومن ذلك أيضا قولهم للأرض التي حفر فيها وليست محل حفر في السابق: أرض مظلومة، ومنه قول نابغة ذبيان: وفي لغز الحريري في مقاماته في الذي يضرب لبنه قبل أن يروب قال: أيجوز أن يكون الحاكم ظالما؟ قال: نعم، إذا كان عالما. ومن ذلك أيضا قولهم للأرض التي حفر فيها وليست محل حفر في السابق: أرض مظلومة، ومنه قول نابغة ذبيان:
* إلا الأواري لأيا ما أبينها
* والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
*
وما زعمه بعضهم من أن (المظلومة) في البيت هي التي ظلمها المطر بتخلفه عنها وقت إبانه المعتاد غير صواب. والصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى. ولأجل ما ذكرنا قالوا للتراب المخرج من القبر عند حفره ظليم بمعنى مظلوم، لأنه حفر في غير محل الحفر المعتاد، ومنه قول الشاعر يصف رجلا مات ودفن: وما زعمه بعضهم من أن (المظلومة) في البيت هي التي ظلمها المطر بتخلفه عنها وقت إبانه المعتاد غير صواب. والصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى. ولأجل ما ذكرنا قالوا للتراب المخرج من القبر عند حفره ظليم بمعنى مظلوم، لأنه حفر في غير محل الحفر المعتاد، ومنه قول الشاعر يصف رجلا مات ودفن:
* فأصبح في غبراء بعد إشاحة
* على العيش مرود عليها ظليمها
*
وقوله * (أحاط بهم) * أي أحدق بهم من كل جانب. وقوله * (سرادقها) * أصل السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار. وكل بيت من
267

كرسف فهو سرادق. والكرسف: القطن، ومنه قول رؤبة أو الكذاب الحرمازي: سرادقها) * أصل السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار. وكل بيت من كرسف فهو سرادق. والكرسف: القطن، ومنه قول رؤبة أو الكذاب الحرمازي:
* يا حكم بن المنذر بن الجارود
* سرادق المجد عليك ممدود
*
وبيت مسردق: أن مجعول له سرادق، ومنه قول سلامة بن جندل يذكر أبريويز وقتله للنعمان بن المنذر تحت أوجل الفيلة: وبيت مسردق: أن مجعول له سرادق، ومنه قول سلامة بن جندل يذكر أبريويز وقتله للنعمان بن المنذر تحت أوجل الفيلة:
* هو المدخل النعمان بيتا سماؤه
* صدور الفيول بعد بيت مسردق
*
هذا هو أصل معنى السرادق في اللغة. ويطلق أيضا في اللغة على الحجرة التي حول الفسطاط.
وأما المراد بالسرادق في الآية الكريمة ففيه للعلماء أقوال مرجعها إلى شيء واحد، وهو إحداق النار بهم من كل جانب، فمن العلماء من يقول (سرداقها): أي سورها، قاله ابن الأعرابي وغيره. ومنهم من يقول (سرداقها): سور من نار، وهو مروي عن ابن عباس. ومنهم من يقول (سرداقه): عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة، قاله الكلبي: ومنهم من يقول: هو دخان يحيط بهم. وهو المذكور في (المرسلات) في قوله تعالى: * (انطلقوا إلى ظل ذى ثلاث شعب لا ظليل ولا يغنى من اللهب) *، و (الواقعة) في قوله: * (وظل من يحموم لا بارد ولا كريم) *.
ومنهم من يقول: هو البحر المحيط بالدنيا. وروى يعلى بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (البحر هو جهنم ثم تلا نارا أحاط بهم سرادقها ثم قال والله لا أدخلها أبدا ما دمت حيا ولا تصيبني منها قطرة) ذكره الماوردي. وروى ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لسرادق النار أربعة جدر كثف، كل جدار مسيرة أربعين سنة) وأخرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه: حديث حسن صحيح غريب. انتهى من القرطبي. وهذا الحديث رواه أيضا الإمام أحمد وابن جرير وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه وابن أبي الدنيا. قاله صاحب الدر المنثور وتبعه الشوكاني. وحديث يعلى بن أمية رواه أيضا ابن جرير في تفسيره. قال الشوكاني: ورواه أحمد والبخاري وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، ورواه صاحب الدر المنثور عن البخاري في تاريخه، وأحمد وابن أبي الدنيا وابن جرير والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي. وعلى كل حال، فمعنى الآية الكريمة: أن النار محيطة بهم من كل
268

جانب، كما قال تعالى: * (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) *، وقال: * (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل) *، وقال: * (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (وإن يستغيثوا) * يعني إن يطلبوا الغوث مما هم فيه من الكرب يغاثوا، يؤتوا بغوث هو ماء كالمهل. والمهل في اللغة: يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض، كذائب الحديد والنحاس، والرصاص ونحو ذلك.
ويطلق أيضا على دردي الزيت وهو عكره. والمراد بالمهل في الآية: ما أذيب من جواهر الأرض. وقيل: دردي الزيت. وقيل: هو نوع من القطران. وقيل السم.
فإن قيل: أي إغاثة في ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب، وكيف قال الله تعالى: * (يغاثوا بمآء كالمهل) *.
فالجواب أن هذا من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن. ونظيره من كلام العرب قول بشر بن أبي حازم: فالجواب أن هذا من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن. ونظيره من كلام العرب قول بشر بن أبي حازم:
* غضبت تميم أن تقتل عامر
* يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
*
فمعنى قوله (أعتبوا بالصيلم): أي أرضوا بالسيف. يعني ليس لهم منا إرضاء إلا بالسيف. وقول عمرو بن معد يكرب: فمعنى قوله (أعتبوا بالصيلم): أي أرضوا بالسيف. يعني ليس لهم منا إرضاء إلا بالسيف. وقول عمرو بن معد يكرب:
* وخيل قد دلفت لها بخيل
* تحية بينهم ضرب وجيع
*
يعني لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع. وإذا كانوا لا يغاثون إلا بماء كالمهل علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم البتة. والياء في قوله (يستغيثوا) والألف في قوله (يغاثوا) كانا هما مبدلة من واو، لأن مادة الاستغاثة من الأحرف الواوي العين، ولكن العين أعلت للساكن الصحيح قبلها، على حد قوله في الخلاصة: على حد قوله في الخلاصة:
* لساكن صح انقل التحريك من
* ذي لين آت عين فعل كأبن
*
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (يشوى الوجوه) * أي يحرقها حتى تسقط فروة الوجه، أعاذنا الله والمسلمين منها وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية الكريمة أنه قال: (كالمهل يشوي الوجوه)، هو كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه. قال
269

ابن حجر رحمه الله في (الكافي الشاف، في تخريج أحاديث الكشاف): أخرجه الترمذي من طريق رشدين ابن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، واستغربه وقال: لا يعرف إلا من حديث رشدين بن سعد، وتعقب قوله بأن أحمد وأبا يعلى أخرجاه من طريق ابن لهيعة عن دراج، وبأن ابن حبان والحاكم أخرجاه من طريق وهب عن عمرو بن الحارث.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (بئس الشراب) * المخصوص بالذم فيه محذوف، تقديره: بئس الشراب ذلك الماء الذي يغاثون به. والضمير الفاعل في قوله (ساءت) عائد إلى النار. والمرتفق: مكان الارتفاق. وأصله أن يتكئ الإنسان معتمدا على مرفقه. وللعلماء في المراد بالمرتفق في الآية أقوال متقاربة في المعنى. قيل
مرتفقا. أي منزلا، وهو مروي عن ابن عباس. وقيل مقرا، وهو مروي عن عطاء. وقيل مجلسا وهو مروي عن العتبي. وقال مجاهد: مرتفقا أي مجتمعا. فهو عنده مكان الارتفاق بمعنى مرافقة بعضهم لبعض في النار.
وحاصل معنى الأقوال أن النار بئس المستقر هي، وبئس المقام هي. ويدل لهذا قوله تعالى: * (إنها سآءت مستقرا ومقاما) *، وكون أصل الارتفاق هو الاتكاء على المرفق معروف في كلام العرب، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي: إنها سآءت مستقرا ومقاما) *، وكون أصل الارتفاق هو الاتكاء على المرفق معروف في كلام العرب، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:
* نام الخلي وبت الليل مرتفقا
* كأن عيني فيها الصاب مذبوح
*
ويروى (وبت الليل مشتجرا) وعليه فلا شاهد في البيت. ومنه قول أعشى باهلة: ويروى (وبت الليل مشتجرا) وعليه فلا شاهد في البيت. ومنه قول أعشى باهلة:
* قد بت مرتفقا للنجم أرقبه
* حيران ذا حذر لو ينفع الحذر
*
وقول الراجز: وقول الراجز:
* قالت له وارتفقت ألا فتى
* يسوق بالقوم غزالات الضحا
*
وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من صفات هذا الشراب، الذي يسقى به أهل النار جاء نحوه في آيات كثيرة، كقوله تعالى: * (الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) *، وقوله تعالى: * (وسقوا مآء حميما فقطع أمعآءهم) *، وقوله تعالى: * (تسقى من عين ءانية) *، وقوله تعالى: * (يطوفون بينها وبين حميم ءان) * والحميم الآني من الماء المتناهي في الحرارة.
270

وقوله تعالى: * (ويسقى من مآء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه) *، وقوله تعالى: * (ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم) *، وقوله تعالى: * (فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم) *. وقوله تعالى: * (لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا) *، وقوله تعالى: * (هاذا فليذوقوه حميم وغساق) * * (هاذا فليذوقوه حميم وغساق) * إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا طرقا من هذا في سورة (يونس). قوله تعالى: * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من عمل صالحا وأحسن في عمله أنه جلا وعلا لا يضيع أجره، أي جزاء عمله: بل يجازى بعمله الحسن الجزاء الأوفى.
وبين هذا المعنى في آيات كثيرة جدا، كقوله تعالى: * (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) *. وقوله تعالى: * (يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) * وقوله * (هل جزآء الإحسان إلا الإحسان) * والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جدا. وفي هذا المعنى الكريمة سؤلان معروفان عند العلماء:
الأول أن يقال أين خبر (إن) في قوله تعالى * (إن الذين ءامنوا) *؟ فإذا قيل: خبرها جملة * (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) * توجه السؤال.
الثاني وهو أن يقال: أين رابط الجملة الخبرية بالمبتدأ الذي هو اسم (إن)؟.
اعلم أن خبر (إن) في قوله: * (إن الذين ءامنوا) * قيل هو جملة * (أولائك لهم جنات عدن) * وعليه فقوله: * (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) * جملة اعتراضية. وعلى هذا فالرابط موجود ولا إشكال فيه. وقيل: (إن) الثانية واسمها وخبرها، كل ذلك خبر (إن) الأولى. ونظير الآية من القرآن في الإخبار عن (إن) ب (إن) وخبرها واسمها قوله تعالى في سورة (الحج): * (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة) *، وقول الشاعر: إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة) *، وقول الشاعر:
* إن الخليفة إن الله ألبسه
* سربال ملك به ترجى الخواتيم
*
على أظهر الوجهين في خبر (إن) الأولى في البيت. وعلى هذا فالجواب عن السؤال
271

الثاني من وجهين:
الأول أن الضمير الرابط محذوف، تقديره: لا نضيع أجر من أحسن منهم عملا: كقولهم: السمن منوان بدرهم، أي منوان منه بدرهم، كما تقدم في قوله تعالى: * (
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن) *. أي يتربصن بعدهم.
الوجه الثاني أن * (من أحسن عملا) * هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وإذا كان الذين آمنوا، ومن أحسن عملا ينظمها معنى واحد قام ذلك مقام الربط بالضمير. وهذا هو مذهب الأخفش، وهو الصواب. لأن الربط حاصل بالاتحاد في المعنى. قوله تعالى: * (أولائك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الأنهار) * إلى قوله * (وحسنت مرتفقا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أجر من أحسن عملا، فذكر أنه جنات عدن تجري من تحتهم فيها الأنهار، ويحلون فيها أساور الذهب، ويلبسون فيها الثياب الخضر من السندس والإستبرق، في حال كونهم متكئين فيها على الأرائك وهي السرر في الحجال والحجال: جمع حجلة وهو بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة. ثم أثنى على ثوابهم بقوله: * (نعم الثواب وحسنت مرتفقا) *: وهذا الذي بينه هنا من صفات جزاء المحسنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات جاء مبينا في مواضع كثيرة جدا من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى في سورة (الإنسان): * (إن الا برار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) * إلى قوله * (وكان سعيكم مشكورا) *، وكقوله في سورة (الواقعة)، * (والسابقون السابقون أولائك المقربون فى جنات النعيم) * إلى قوله * (لاصحاب اليمين) * وأمثال ذلك كثيرة في القرآن:
وقد بين في سورة (السجدة) أن ما أخفاه الله لهم من قرة أعين لا يعلمه إلا هو جل وعلا، وذلك في قوله: * (فلا تعلم نفس مآ أخفى لهم من قرة أعين) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة. * (جنات عدن) * أي إقامة لا رحيل بعدها ولا تحول. كما قال تعالى: * (لا يبغون عنها حولا) * أصله من عدن بالمكان: إذا أقام به. وقد تقدم في سورة (النحل) معنى السندس والإستبرق بما أغنى عن إعادته هنا، والأساور: جمع سوار. وقال بعضهم: جمع أسورة. والثواب: الجزاء مطلقا على
272

التحقيق. ومنه قول الشاعر: لا يبغون عنها حولا) * أصله من عدن بالمكان: إذا أقام به. وقد تقدم في سورة (النحل) معنى السندس والإستبرق بما أغنى عن إعادته هنا، والأساور: جمع سوار. وقال بعضهم: جمع أسورة. والثواب: الجزاء مطلقا على التحقيق. ومنه قول الشاعر:
* لكل أخي مدح ثواب علمته
* وليس لمدح الباهلي ثواب
*
وقول من قال: إن الثواب في اللغة يختص بجزاء الخير بالخير غير صواب: بل يطلق الثواب أيضا على جزاء الشر بالشر. ومنه قوله تعالى: * (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) *، وقوله تعالى: * (قل هل أنبئكم بشر من ذالك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه) *.
وقوله: * (وحسنت مرتفقا) * الضمير في قوله (حسنت) راجع إلى (جنات عدن). والمرتفق قد قدمنا أقوال العلماء فيه. وقوله هنا في الجنة (وحسنت مرتفقا) يبين معناه قوله تعالى: * (أولائك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما) *. قوله تعالى: * (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال مآ أظن أن تبيد هاذه أبدا) * ومآ أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن هذا الرجل الكافر الظالم لنفسه، الذي ضربه مثلا مع الرجل المؤمن في هذه الآيات لرؤساء الكفار، الذين افتخروا بالمال والجاه على ضعفاء المسلمين الفقراء كما تقدم أنه دخل جنته في حال كونه ظالما لنفسه وقال: إنه ما يظن أن تهلك جنته ولا تفنى: لما رأى من حسنها ونضارتها؟ وقال: إنه لا يظن الساعة قائمة، وإنه إن قدر أنه يبعث ويرد إلى ربه ليجدن عنده خيرا من الجنة التي أعطاه في الدنيا.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة: من جهل الكفار واغترارهم بمتاع الحياة الدنيا، وظنهم أن الآخرة كالدنيا ينعم عليهم فيها أيضا بالمال والولد، كما أنعم عليهم في الدنيا جاء مبينا في آيات أخر، كقوله في (فصلت): * () *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن هذا الرجل الكافر الظالم لنفسه، الذي ضربه مثلا مع الرجل المؤمن في هذه الآيات لرؤساء الكفار، الذين افتخروا بالمال والجاه على ضعفاء المسلمين الفقراء كما تقدم أنه دخل جنته في حال كونه ظالما لنفسه وقال: إنه ما يظن أن تهلك جنته ولا تفنى: لما رأى من حسنها ونضارتها؟ وقال: إنه لا يظن الساعة قائمة، وإنه إن قدر أنه يبعث ويرد إلى ربه ليجدن عنده خيرا من الجنة التي أعطاه في الدنيا.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة: من جهل الكفار واغترارهم بمتاع الحياة الدنيا، وظنهم أن الآخرة كالدنيا ينعم عليهم فيها أيضا بالمال والولد، كما أنعم عليهم في الدنيا جاء مبينا في آيات أخر، كقوله في (فصلت): * (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضرآء مسته ليقولن هاذا لى ومآ أظن الساعة قآئمة ولئن رجعت إلى ربى إن لى عنده للحسنى) *، وقوله في (مريم): * (أفرأيت الذى كفر بأاياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) * وقوله في (سبأ): * (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) *. وقوله في هذه السورة الكريمة: * (فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) *.
وبين جل وعلا كذبهم واغترارهم فيما ادعوه: من أنهم يجدون نعمة الله في الآخرة
273

كما أنعم عليهم بها في الدنيا في مواضع كثيرة، كقوله: * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل) *، وقوله * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين) *، وقوله * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لانفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) *، وقوله: * (ومآ أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى) *، وقوله تعالى: * (مآ أغنى عنه ماله وما كسب) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: * (منقلبا) * أي مرجعا وعاقبة. وانتصابه على التمييز. وقوله: * (لأجدن خيرا منها) * قرأه ابن عامر ونافع وابن كثير (منهما) بصيغة تثنية الضمير.
وقرأه الباقون (منها) بصيغة إفراد هاء الغائبة. فالضمير على قراءة تثنيته راجع إلى الجنتين في قوله * (جعلنا لاحدهما جنتين) *، وقوله: * (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا) *. وعلى قراءة الإفراد راجع إلى الجنة في قوله: * (ودخل جنته) *.
فإن قيل: ما وجه إفراد الجنة مع أنهما جنتان؟ فالجواب أنه قال ما ذكره الله عنه حين دخل إحداهما، إذ لا يمكن دخوله فيهما معا في وقت واحد. وما أجاب به الزمخشري عن هذا السؤال ظاهر السقوط، كما نبه عليه أبو حيان في البحر. قوله تعالى: * (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكن هو الله ربى ولا أشرك بربى أحدا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ذلك الرجل المؤمن المضروب مثلا للمؤمنين، الذين تكبر عليهم أولو المال والجاه من الكفار، قال لصاحبه الآخر الكافر المضروب مثلا لذوي المال والجاه من الكفار، منكرا عليه كفره أكفرت بالذي خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم سواك رجلا، لأن خلقه إياه من تراب ثم من نطفة، ثم تسويته إياه رجلا، كل ذلك يقتضي إيمانه بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود، وجعله بشرا سويا، ويجعله يستبعد منه كل البعد الكفر بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود. وهذا المعنى المبين هنا بينه في مواضع أخر، كقوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) *، وقوله تعالى: * (وما لى لا أعبد الذى فطرنى وإليه ترجعون) * وقوله تعالى: * (قال أفرءيتم ما كنتم تعبدون أنتم وءابآؤكم الا قدمون فإنهم عدو لى إلا رب
274

العالمين الذى خلقنى فهو يهدين والذى هو يطعمنى ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذى يميتنى ثم يحيين) *، وقوله تعالى: * (وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إننى برآء مما تعبدون إلا الذى فطرنى فإنه سيهدين) * إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا كثيرا من الآيات الدالة على أن ضابط من يستحق العبادة وحده دون غيره أن يكون هو الذي يخلق المخلوقات، ويظهرها من العدم إلى الوجوه بما أغنى عن إعادته هنا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (بالذى خلقك من تراب) * معنى خلقه إياه من تراب: أي خلق آدم الذي هو أصله من التراب. كما قال تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب) *. ونظير الآية التي نحن بصددها قوله تعالى: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) *.
وقوله: * (ثم من نطفة) * أي بعد أن خلق آدم من التراب، وخلق حواء من ضلعه، وجعلها زوجا له كانت طريق إيجاد الإنسان بالتناسل. فبعد طور التراب طور النطفة، ثم طور العلقة إلى آخر أطواره المذكورة في قوله: * (وقد خلقكم أطوارا) *، وقوله تعالى: * (يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق فى ظلمات ثلاث) * وقد أوضحها تعالى إيضاحا تاما في قوله: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين) *.
ومما يبين خلق الإنسان من تراب، ثم من نطفة، قوله تعالى في (السجدة): * (ذالك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من مآء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والا بصار والا فئدة قليلا ما تشكرون) *. وقوله في هذه الآية: * (ثم سواك رجلا) * كقوله * (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) *، وقوله: * (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم م بين) * أي بعد أن كان نطفة سار إنسانا خصيما شديد الخصومة في توحيد ربه.
275

وقوله * (سواك) * أي خلقك مستوي الأجزاء، معتدل القامة والخلق، صحيح الأعضاء في أكمل صورة، وأحسن تقويم. كقوله تعالى: * (ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن) *، وقوله: * (وصوركم فأحسن صوركم) *، وقوله: * (ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذى خلقك فسواك فعدلك فى أى صورة ما شآء) *، وقوله (رجلا) أي ذكرا بالغا مبلغ الرجال، وربما قالت العرب للمرأة: رجلة، ومنه قول الشاعر: فى أى صورة ما شآء) *، وقوله (رجلا) أي ذكرا بالغا مبلغ الرجال، وربما قالت العرب للمرأة: رجلة، ومنه قول الشاعر:
* كل جار ظل مغتبطا
* غير جيران بني جبلة
*
* مزقوا ثوب فتاتهم
* لم يراعوا حرمة الرجلة
*
وانتصاب (رجلا) على الحال. وقيل مفعول ثان لسوى على تضمينه معنى جعلك أو صيرك رجلا. وقيل: هو تمييز. وليس بظاهر عندي، والظاهر أن الإنكار المدلول عليه بهمزة الإنكار في قوله * (أكفرت بالذى خلقك من تراب) * مضمن معنى الاستبعاد، لأنه يستبعد جدا كفر المخلوق بخالقه، الذي أبرزه من العدم إلى الوجود، ويستبعد إنكار البعث ممن علم الله أن الله خلقه من تراب، ثم من نطفة، ثم سواه رجلا. كقوله: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) *. ونظير الآية في الدلالة على الاستعباد لوجود موجبه قول الشاعر: ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) *. ونظير الآية في الدلالة على الاستعباد لوجود موجبه قول الشاعر:
* ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة
* يرى غمرات الموت ثم يزورها
*
لأن من عاين غمرات الموت يستبعد منه اقتحامها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (لكن هو الله ربى ولا أشرك بربى أحدا) * بين فيه أن هذا الرجل المؤمن قال لصاحبه الكافر: أنت كافرا لكن أنا لست بكافرا بل مخلص عبادتي لربي الذي خلقني. أي لأنه هو الذي يستحق في أن أعبده، لأن المخلوق محتاج مثلي إلى خالق يخلقه، تلزمه عبادة خالقه كما تلزمني. ونظير قول هذا المؤمن ما قدمنا عن الرجل المؤمن المذكور في (يس) في قوله تعالى: * (وما لى لا أعبد الذى فطرنى) * أي أبدعني وخلقني وإليه ترجعون. وما قدمنا عن إبراهيم في قوله: * (فإنهم عدو لى إلا رب العالمين الذى خلقنى فهو يهدين) *، وقوله: * (إننى برآء مما تعبدون إلا الذى فطرنى) *.
276

وقوله في هذه الآية الكريمة: * (أكفرت بالذى خلقك من تراب) * بعد قوله: * (ومآ أظن الساعة قائمة) * يدل على أن الشك في البعث كفر بالله تعالى. وقد صرح بذلك في أول سورة (الرعد) في قوله تعالى: * (وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أءنا لفى خلق جديد أولائك الذين كفروا بربهم) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (لكنا) * أصله (لكن أنا) فحذفت همزة (أنا) وأدغمت نون (لكن) في نون (أنا) بعد حذف الهمزة. وقال بعضهم: نقلت حركة الهمزة إلى نون (لكن) فسقطت الهمزة بنقل حركتها، ثم أدغمت النون في النونا ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر: وقوله في هذه الآية الكريمة: * (لكنا) * أصله (لكن أنا) فحذفت همزة (أنا) وأدغمت نون (لكن) في نون (أنا) بعد حذف الهمزة. وقال بعضهم: نقلت حركة الهمزة إلى نون (لكن) فسقطت الهمزة بنقل حركتها، ثم أدغمت النون في النونا ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر:
* وترمينني بالطرف أي أنت مذنب
* وتقلينني لكنا إياك لم أقل
*
أي لكن أنا إياك لم أقل. وقال بعضهم: لا يتعين في البيت ما ذكر. لجواز أن يكون المقصود لكنني فحذف اسم (لكن) كقول الآخر: أي لكن أنا إياك لم أقل. وقال بعضهم: لا يتعين في البيت ما ذكر. لجواز أن يكون المقصود لكنني فحذف اسم (لكن) كقول الآخر:
* فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي
* ولكن زنجي عظيم المشافر
*
أي لكنك زنجي في رواية من روى زنجي بالرفع. وأنشد الكسائي لنحو هذا الحذف من (لكن أنا) قول الآخر: أي لكنك زنجي في رواية من روى زنجي بالرفع. وأنشد الكسائي لنحو هذا الحذف من (لكن أنا) قول الآخر:
* لهنك من عبسية لوسمية
* على منوات كاذب من يقولها
*
قال: أراد بقوله (لهنك) لله إنك. فحذف إحدى اللامين من (لله)، وحذف الهمزة من (إنك) نقله القرطبي عن أبي عبيد. وقوله تعالى: * (لكن هو الله ربى) *. قرأه جماهير القراء في الوصل (لكن) بغير ألف بعد النون المشددة. وقرأه ابن عامر من السبعة (لكنا) بالألف في الوصل. ويروى ذلك عن عاصم، ورواه المسيلي عن نافع، ورويس عن يعقوب. واتفق الجميع على إثبات الألف في الوقف. ومد نون (أنا) لغة تميم إن كان بعدها همزة. وقال أبو حيان في البحر: إن إثبات ألف (أنا) مطلقا في الوصل لغة بني تميم، وغيرها ما يثبتونها على الاضطرار. قال: فجاءت قراءة (لكنا) بإثبات الألف في الوصل على لغة تميم. ومن شواهد مد (أنا) قبل غير الهمزة قو الشاعر
277

: لكن هو الله ربى) *. قرأه جماهير القراء في الوصل (لكن) بغير ألف بعد النون المشددة. وقرأه ابن عامر من السبعة (لكنا) بالألف في الوصل. ويروى ذلك عن عاصم، ورواه المسيلي عن نافع، ورويس عن يعقوب. واتفق الجميع على إثبات الألف في الوقف. ومد نون (أنا) لغة تميم إن كان بعدها همزة. وقال أبو حيان في البحر: إن إثبات ألف (أنا) مطلقا في الوصل لغة بني تميم، وغيرها ما يثبتونها على الاضطرار. قال: فجاءت قراءة (لكنا) بإثبات الألف في الوصل على لغة تميم. ومن شواهد مد (أنا) قبل غير الهمزة قو الشاعر:
* أنا سيف العشيرة فاعرفوني
* حميدا قد تذريت السناما
*
وقول الأعشى: وقول الأعشى:
* فكيف أنا وانتحال القوافي
* بعد المشيب كفى ذاك عارا
*
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (وهو يحاوره) * جملة حالية. والمحاورة: المراجعة في الكلام: ومنه قوله تعالى: * (قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى الله والله يسمع تحاوركمآ) *، وقول عنترة في معلقته: قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى الله والله يسمع تحاوركمآ) *، وقول عنترة في معلقته:
* لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
* ولكان لو علم الجواب مكلمي
*
وكلام المفسرين في الرجلين المذكورين هنا في قصتهما كبيان أسمائها، ومن أي الناس هما أعرضنا عنه لما ذكرنا سابقا من عدم الفائدة فيه، وعدم الدليل المقنع عليه. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (أو يصبح مآؤها غورا فلن تستطيع له طلبا) *. معنى قوله: (غورا) أي غائرا. فهو من الوصف بالمصدر. كما قال في الخلاصة: معنى قوله: (غورا) أي غائرا. فهو من الوصف بالمصدر. كما قال في الخلاصة:
* ونعتوا بمصدر كثيرا
* فالتزموا الإفراد والتذكيرا
*
والغائر: ضد النابع. وقوله: * (فلن تستطيع له طلبا) * لأن الله إذا أعدم ماءها بعد وجوده، لا تجد من يقدر على أن يأتيك به غيره جل وعلا. وأشار إلى نحو هذا المعنى في قوله تعالى: * (قل أرءيتم إن أصبح مآؤكم غورا فمن يأتيكم بمآء معين) * ولا شك أن الجواب الصحيح: لا يقدر على أن يأتينا به إلا الله وحده. كما قال هنا: * (فلن تستطيع له طلبا) *.
* (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا * هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا * واضرب لهم مثل الحيواة الدنيا كمآء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الا رض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شىء مقتدرا * المال والبنون زينة الحيواة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا * ويوم نسير الجبال وترى الا رض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا * وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا * ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا * وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أوليآء من دونى وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا * مآ أشهدتهم خلق السماوات والا رض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا) * قوله تعالى: * (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا) *. اعلم أن في هذه الآية الكريمة: قراءات سبعية، وأقوالا لعلماء التفسير، بعضها يشهد له قرآن، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية قد تكون فيها مذاهب العلماء، يشهد لكل واحد منها قرآن. فنذكر الجميع وأدلته في القرآن. فإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله في هذه الآية: * (ولم تكن له فئة) * قرأه السبعة ما عدا حمزة والكسائي بالتاء المثناة الفوقية. وقرأه حمزة والكسائي (ولم يكن له فئة) بالياء المثناة التحتية. وقوله * (الولاية لله الحق) * قرأه السبعة
278

ما عدا حمزة والكسائي أيضا (الولاية) بفتح الواو. وقرأه حمزة والكسائي بكسر الواو. وقوله (الحق) قرأه السبعة ما عدا أبا عمرو والكسائي بالخفض نعتا (لله) وقرأه أبو عمرو والكسائي بالرفع نعتا للولاية. فعلى قراءة من قرأ (الولاية لله) بفتح الواو فإن معناها: الموالاة والصلة، وعلى هذه القراءة ففي معنى الآية وجهان:
الأول أن معنى * (هنالك الولاية لله) * أي في ذلك المقام، وتلك الحال تكون الولاية من كل أحد لله، لأن الكافر إذا رأى العذاب رجع إلى الله. وعلى هذا المعنى فالآية كقوله تعالى: * (فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين) *، وقوله في فرعون: * (حتى إذآ أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إلاه إلا الذىءامنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين ءاأن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) * ونحو ذلك من الآيات.
الوجه الثاني أن الولاية في مثل ذلك المقام وتلك الحال لله وحده، فيوالى فيه المسلمين ولاية رحمة، كما في قوله تعالى: * (الله ولي الذين ءامنوا) *، وقوله: * (ذلك بأن الله مولى الذين ءامنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) *. وله على الكافرين ولاية الملك والقهر، كما في قوله: * (وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) *. وعلى قراءة حمزة والكسائي فالولاية بالكسر بمعنى الملك والسلطان، والآية على هذه القراءة كقوله: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * وقوله * (الملك يومئذ الحق للرحمان) *، وقوله: * (الملك يومئذ لله يحكم بينهم) *. وعلى قراءة (الحق) بالجر نعتا لله، فالآية كقوله * (هنالك تبلوا كل نفس مآ) *. وقوله * (فذلكم الله ربكم الحق) *، وقوله: * (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين) * إلى غير ذلك من الآيات. وعلى قراءة (
الحق) بالرفع نعتا للولاية، على أن الولاية بمعنى الملك، فهو كقوله: * (الملك يومئذ لله يحكم بينهم) *.
وما ذكره جل وعلا عن هذا الكافر: من أنه لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله ذكره نحوه عن غيره من الكفار، كقوله في قارون: * (فخسفنا به وبداره الا رض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) *، وقوله: * (فما له من قوة ولا
279

ناصر) *، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا. وقوله * (هنالك) * قال بعض العلماء. هو متعلق بما بعده، والوقف تام على قوله * (وما كان منتصرا) *. وقال بعضهم: هو متعلق بما قبله، فعلى القول الأول فالظرف الذي هو (هنالك) عامله ما بعده، أي الولاية كائنة لله هنالك. وعلى الثاني فالعامل في الظرف اسم الفاعل الذي هو (منتصرا) أي لم يكن انتصاره واقعا هنالك. وقوله: * (هو خير ثوابا) * أي جزاء كما تقدم. وقوله (عقبا) أي عاقبة ومآلا. وقرأه السبعة ما عدا عاصما وحمزة (عقبا) بضمتين. وقراءة عاصم وحمزة (عقبا) بضم العين وسكون القاف والمعنى واحد. وقوله (ثوابا) وقوله (عقبا) كلاهما منصوب على التمييز بعد صيغة التفضيل التي هي (خير) كما قال في الخلاصة: هو خير ثوابا) * أي جزاء كما تقدم. وقوله (عقبا) أي عاقبة ومآلا. وقرأه السبعة ما عدا عاصما وحمزة (عقبا) بضمتين. وقراءة عاصم وحمزة (عقبا) بضم العين وسكون القاف والمعنى واحد. وقوله (ثوابا) وقوله (عقبا) كلاهما منصوب على التمييز بعد صيغة التفضيل التي هي (خير) كما قال في الخلاصة:
* والفاعل المعنى انصبن بأفعلا
* مفضلا كأنت أعلى منزلا
*
ولفظة خير وشر كلتاهما تأتي صيغة تفضيل حذفت منها الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال، قال ابن مالك في الكافية. ولفظة خير وشر كلتاهما تأتي صيغة تفضيل حذفت منها الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال، قال ابن مالك في الكافية.
* وغالبا أغناهم خير وشر
* عن قولهم أخير منه وأشر
*
تنبيه
قوله في هذه الآية الكريمة * (فئة) * محذوف منه حرف بلا خلاف، إلا أن العلماء اختلفوا في الحرف المحذوف. هل هو ياء أو واو، وهل هو العين أو اللام؟ قال بعضهم: المحذوف العين، وأصله ياء. وأصل المادة ف ي أ، من فاء يفيء: إذا رجع، لأن فئة الرجل طائفته التي يرجع إليها في أموره، وعلى هذا فالتاء عوض عن العين المحذوفة، ووزنه بالميزان الصرفي (فلة) وقال بعضهم: المحذوف اللام. وأصله واو، من فأوت رأسه: إذا شققته نصفين. وعليه فالفئة الفرقة من الناس. وعلى هذا فوزنه بالميزان الصرفي (فعة) والتاء عوض عن اللام. وكلا القولين نصره بعض أهل العلم، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (المال والبنون زينة الحيواة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، وأن الباقيات الصالحات خير عند الله ثوابا وخير أملا.
والمراد من الآية الكريمة تنبيه الناس للعمل الصالح. لئلا يشتغلوا بزينة الحياة الدنيا
280

من المال والبنين عما ينفعهم في الآخرة عند الله من الأعمال الباقيات الصالحات. وهذا المعنى الذي أشار له هنا جاء مبينا في آيات أخر. كقوله تعالى: * (زين للناس حب الشهوات من النسآء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذالك متاع الحيواة الدنيا والله عنده حسن المأب قل أؤنبئكم بخير من ذالكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الا نهار خاالدين فيها وأزواج مطهرة) *، وقوله: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولائك هم الخاسرون) *، وقوله: * (إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) *، وقوله: * (ومآ أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى إلا من ءامن وعمل صالحا) *، وقوله: * (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) * إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الإنسان لا ينبغي له الاشتغال بزينة الحياة الدنيا عما ينفعه في آخرته. وأقوال العلماء في الباقيات الصالحات كلها راجعة إلى شيء واحد، وهو الأعمال التي ترضي الله، سواء قلنا: إنها الصلوات الخمس، كما هو مروي عن جماعة من السلف. منهم ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبو ميسرة، وعمرو بن شرحبيل. أو أنها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وعلى هذا القول جمهور العلماء، وجاءت دالة عليه أحاديث مرفوعة عن أبي سعيد الخدري، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، والنعمان بن بشير، وعائشة رضي الله عنهم.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق أن (الباقيات الصالحات) لفظ عام، يشمل الصلوات الخمس، والكلمات الخمس المذكورة، وغير ذلك من الأعمال التي ترضي الله تعالى: لأنها باقية لصاحبها غير زائلة. ولا فانية كزينة الحياة الدنيا، ولأنها أيضا صالحة لوقوعها على الوجه الذي يرضي الله تعالى. وقوله * (خير ثوابا) * تقدم معناه. وقوله * (وخير أملا) * أي الذي يؤمل من عواقب الباقيات الصالحات، خير مما يؤمله أهل الدنيا من زينة حياتهم الدنيا وأصل الأمل: طمع الإنسان بحصول ما يرجوه في المستقبل. ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى في (مريم): * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والبقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا) *
والمرد: المرجع إلى الله يوم القيامة. وقال بعض العلماء: (مردا) مصدر ميمي، أي
281

وخير ردا للثواب على فاعلها، فليست كأعمال الكفار التي لا ترد ثوابا على صاحبها.
قوله تعالى: * (ويوم نسير الجبال وترى الا رض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) *.
قوله (ويوم) منصوب باذكر مقدرا. أو بفعل القول المحذوف قبل قوله: * (ولقد جئتمونا فرادى) * أي قلنا لهم يوم نسير الجبال: لقد جئتمونا فرادى. وقول من زعم أن العامل فيه (خير) يعني والباقيات الصالحات خير يوم نسير الجبال بعيد جدا كما ترى.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن يوم القيامة يختل فيه نظام هذا العام الدنيوي، فتسير جباله، وتبقى أرضه بارزة لا حجر فيها ولا شجر، ولا بناء ولا وادي ولا علم ذكره في مواضع أخر كثيرة، فذكر أنه يوم القيامة يحمل الأرض والجبال من أماكنهما، ويدكهما دكة واحدة، وذلك في قوله: * (فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة وحملت الا رض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة) *.
وما ذكره من تسيير الجبال في هذه الآية الكريمة ذكره أيضا في مواضع أخر، كقوله: * (يوم تمور السمآء مورا وتسير الجبال سيرا) *، وقوله: * (وسيرت الجبال فكانت سرابا) *، وقوله: * (وإذا الجبال سيرت) *، وقوله: * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب) *.
ثم ذكر في مواضع أخر أنه جل وعلافتتها حتى تذهب صلابتها الحجرية وتلين، فتكون في عدم صلابتها ولينها كالعهن المنفوش، وكالرمل المتهايل، كقوله تعالى: * (يوم تكون السمآء كالمهل وتكون الجبال كالعهن) *، وقوله تعالى: * (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش) * والعهن: الصوف. وقوله تعالى: * (يوم ترجف الا رض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا) *، وقوله تعالى: * (وبست الجبال بسا) * أي فتتت حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن، على أشهر التفسيرات.
ثم ذكر جل وعلا ب أنه يجعلها هباء وسرابا. قال: * (وبست الجبال بسا فكانت هبآء منبثا) *، وقال: * (وسيرت الجبال فكانت سرابا) *.
وبين في موضع آخر أن السراب عبارة عن لا شيء. وهو قوله * (والذين كفروا
282

أعمالهم كسراب بقيعة) * إلى قوله * (لم يجده شيئا) *.
وقوله: * (ويوم نسير الجبال) * قرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو (تسير الجبال) بالتاء المثناة الفوقية وفتح الياء المشددة من قوله (تسير) مبينا للمفعول. و * (الجبال) * بالرفع نائب فاعل * (تسير) * والفاعل المحذوف ضمير يعود إلى الله جل وعلا. وقرأه باقي السبعة (نسير) بالنون وكسر الياء المشددة مبنيا للفاعل، و (الجبال) منصوب مفعول به، والنون في قوله (نسير) التعظيم.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (وترى الا رض بارزة) * البروز: الظهور. أي ترى الأرض ظاهرة منكشفة لذهاب الجبال والظراب والآكام، والشجر والعمارات التي كانت عليها. وهذا المعنى الذي ذكره هنا بينه أيضا في غير هذا الموضع. كقوله تعالى: * (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) *. وأقوال العلماء في معنى ذلك راجعة إلى شيء واحد، وهو أنها أرض مستوية لا نبات فيها، ولا بناء ولا ارتفاع ولا انحدار. وقول من قال: إن معنى * (وترى الا رض بارزة) * أي بارزا ما كان في بطنها من الأموات والكنوز بعيد جدا كما ترى. وبروز ما في بطنها من الأموات والكنوز دلت عليه آيات أخر. كقوله تعالى: * (وإذا الا رض مدت وألقت ما فيها وتخلت) *، وقوله تعالى: * (أفلا يعلم إذا بعثر ما فى القبور وحصل ما فى الصدور) *، وقوله: * (وأخرجت الأرض أثقالها) *، وقوله: * (وإذا القبور بعثرت) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (بارزة وحشرناهم) * أي جمعناهم للحساب والجزاء. وهذا الجمع المعير عنه بالحشر هنا جاء مذكورا في آيات أخر، كقوله تعالى: * (قل إن الا ولين والا خرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) *، وقوله تعالى: * (الله لا إلاه إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة) *، وقوله تعالى: * (يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن) *، وقوله تعالى: * (ذالك يوم مجموع له الناس وذالك يوم مشهود) *. وقوله: * (ويوم نحشرهم جميعا) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وبين في مواضع آخر أن هذا الحشر المذكور شامل للعقلاء وغيرهم من أجناس المخلوقات، وهو قوله تعالى: * (وما من دآبة فى الا رض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم
283

أمثالكم ما فرطنا فى الكتاب من شىء ثم إلى ربهم يحشرون) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (فلم نغادر منهم أحدا) * أي لم نترك. والمغادرة: الترك. ومنه الغدر. لأنه ترك الوفاء والأمانة. وسمي الغدير من الماء غديرا، لأن السيل ذهب وتركه. ومن المغادرة بمعنى الترك قول عنترة في مطلع معلقته: فلم نغادر منهم أحدا) * أي لم نترك. والمغادرة: الترك. ومنه الغدر. لأنه ترك الوفاء والأمانة. وسمي الغدير من الماء غديرا، لأن السيل ذهب وتركه. ومن المغادرة بمعنى الترك قول عنترة في مطلع معلقته:
* هل غادر الشعراء من متردم
* أم هل عرفت الدار بعد توهم
*
وقوله أيضا: وقوله أيضا:
* غادرته متعفرا أوصاله
* والقوم بين مجرح ومجدل
*
وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أنه حشرهم ولم يترك منهم أحدا جاء مبينا في مواضع أخر، كقوله: * (ويوم نحشرهم جميعا) *، ونحوها من الآيات، لأن حشرهم جميعا هو معنى أنه لم يغادر منهم أحدا. قوله تعالى: * (وعرضوا على ربك صفا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الخلائق يوم القيامة يعرضون على ربهم صفا، أي في حال كونهم مصطفين. قال بعض العلماء: صفا بعد صف. وقال بعضهم: صفا واحدا وقال بعض العلماء (صفا) أي جميعا، كقوله * (ثم ائتوا صفا) * على القول فيه بذلك. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع: يا عبادي، أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين. يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسؤولون محاسبون. يا ملائكتي، أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب). قلت: هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية. ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة ومنه نقلناه، والحمد لله. انتهى كلام القرطبي. والحديث المذكور يدل على أن (صفا) في هذه الآية يراد به صفوفا. كقوله في الملائكة: * (وجآء ربك والملك صفا صفا) *. ونظير الآية قوله في الملائكة: * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا) *.
فإذا علمت أن الله جل وعلا ذكر في هذه الآية الكريمة حالا من أحوال عرض
284

الخلائق عليه يوم القيامة فاعلم أنه بين في مواضع أخر أشياء أخر من أحوال عرضهم عليه. كقوله: * (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) *. وبين في مواضع أخر ما يلاقيه الكفار، وما يقال لهم عند ذلك العرض على ربهم. كقوله: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولائك يعرضون على ربهم ويقول الا شهاد هاؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالا خرة هم كافرون) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة * (صفا) * أصله مصدر، والمصدر المنكر قد يكون حالا على حد قوله في الخلاصة: وقوله في هذه الآية الكريمة * (صفا) * أصله مصدر، والمصدر المنكر قد يكون حالا على حد قوله في الخلاصة:
* ومصدر منكر حالا يقع
* بكثرة كبغتة زيد طلع
* لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) *. هذا الكلام مقول قول محذوف. وحذف القول مطرد في اللغة العربية، كثير جدا في القرآن العظيم. والمعنى: يقال لهم يوم القيامة لقد جئتمونا، أي والله لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة، أي حفاة عراة غرلا، أي غير مختونين، كل واحد منكم فرد لا مال معه ولا ولد، ولا خدم ولا حشم.
وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعآءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركآء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) *، وقوله: * (لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا) * وقوله تعالى: * (كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ) *، وقوله: * (كما بدأكم تعودون) * تقدم. وقوله في هذه الآية الكريمة: * (كما خلقناكم) * (ما) مصدرية، والمصدر المنسبك منها ومن صلتها نعت لمصدر محذوف على حذف مضاف. وإيضاح تقريره: ولقد جئتمونا كما خلقناكم، أي مجيئا مثل مجيء خلقكم، أي حفاة غراة غرلا كما جاء في الحديث، وخالين من المال والولد. وهذا الإعراب هو مقتضى كلام أبي حيان في البحر. ويظهر لي أنه يجوز إعرابه أيضا حالا، أي جئتمونا في حال كونكم مشابهين لكم في حالتكم الأولى، لأن التشبيه يؤول بمعنى الوصف، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
285

وقوله في هذه الآية الكريمة: * (كما خلقناكم) * (ما) مصدرية، والمصدر المنسبك منها ومن صلتها نعت لمصدر محذوف على حذف مضاف. وإيضاح تقريره: ولقد جئتمونا كما خلقناكم، أي مجيئا مثل مجيء خلقكم، أي حفاة غراة غرلا كما جاء في الحديث، وخالين من المال والولد. وهذا الإعراب هو مقتضى كلام أبي حيان في البحر. ويظهر لي أنه يجوز إعرابه أيضا حالا، أي جئتمونا في حال كونكم مشابهين لكم في حالتكم الأولى، لأن التشبيه يؤول بمعنى الوصف، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* ويكثر الجمود في سعر وفي
* مبدي تأول بلا تكلف
*
* كبعه مدا بكذا يدا بيد
* وكر زيد أسدا أي كأسد
*
فقوله (وكر زيد أسدا أي كأسد) مثال لمبدي التأول، لأنه في تأويل كر في حال كونه مشابها للأسد كما ذكرنا واعلم أن حذف القول وإثبات مقولة مطرد في اللغة العربية، وكثير في القرآن العظيم كما ذكرناه آنفا. لكن عكسه وهو إثبات القول وحذف مقولة قليل جدا، ومنه قول الشاعر: فقوله (وكر زيد أسدا أي كأسد) مثال لمبدي التأول، لأنه في تأويل كر في حال كونه مشابها للأسد كما ذكرنا واعلم أن حذف القول وإثبات مقولة مطرد في اللغة العربية، وكثير في القرآن العظيم كما ذكرناه آنفا. لكن عكسه وهو إثبات القول وحذف مقولة قليل جدا، ومنه قول الشاعر:
* لنحن الألى قلتم فأني ملئتم
* برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا
*
لأن المراد لنحن الألى قلتم نقاتلهم، فحذف جملة نقاتلهم التي هي مقول القول. وقوله * (ولقد جئتمونا) * عبر فيه بالماضي وأراد المستقبل، لأن تحقيق وقوع ذلك ينزله منزلة الواقع بالفعل. والتعبير بصيغة الماضي عن المستقبل لما ذكرنا كثير جدا في القرآن العظيم، ومنه قوله هنا: * (وحشرناهم) *، وقوله: * (وعرضوا على ربك) *، وقوله: * (لقد جئتمونا) *. ومنه قوله: * (أتى أمر الله) *، وقوله: * (ونفخ فى الصور) *، وقوله: * (وسيق الذين كفروا) * وقوله: * (وسيق الذين اتقوا ربهم) * ونحو ذلك كثير في القرآن لما ذكرنا. قوله تعالى: * (بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار زعموا أن الله لن يجعل لهم موعدا. والموعد يشمل زمان الوعد ومكانه. والمعنى: أنهم زعموا أن الله لم يجعل وقتا ولا مكانا لإنجاز ما وعدهم على ألسنة رسله من البعث والجزاء والحساب.. وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من إنكارهم البعث جاء مبينا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: * (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) *. وقوله عنهم: * (وما نحن بمبعوثين) *، * (وما نحن بمنشرين) * ونحو ذلك من الآيات.
وقد بين الله تعالى كذبهم في إنكارهم للبعث في آيات كثيرة. كقوله في هذه السورة الكريمة: * (بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا) *، وقوله * (قل بلى وربى لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم) *، وقوله: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا) *، وقوله: * (كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين) * والآيات بمثل هذا كثيرة جدا. وقد قدمنا في
286

سورة (البقرة) وسورة (النحل) البراهين التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (بل زعمتم) * إضراب انتقالي من خبر إلى خبر آخر، لا إبطالي كما هو واضح. وأن في قوله * (ألن نجعل لكم) *. مخففة من الثقيلة، وجملة الفعل الذي بعدها خبرها، والاسم ضمير الشأن المحذوف. على حد قوله في الخلاصة: وإن تخفف أن.. البيت والفعل المذكور متصرف وليس بدعاء، ففصل بينه وبينها بالنفي. على حد قوله في الخلاصة: وإن يكن فعلا ولم يكن دعا.. البيتين. قوله تعالى: * (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكتاب يوضع يوم القيامة. والمراد بالكتاب: جنس الكتاب. فيشمل جميع الصحف التي كتبت فيها أعمال المكلفين في دار الدنيا. وأن المجرمين يشفقون مما فيه. أي يخافون منه، وأنهم يقولون * (ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر) *. أي لا يترك * (صغيرة ولا كبيرة) * من المعاصي التي عملنا * (إلا أحصاها) * أي ضبطها وحصرها.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في مواضع أخر. كقوله: * (وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *. وبين أن بعضهم يؤتى كتابه بيمينه. وبعضهم يؤتاه بشماله. وبعضهم يؤتاه وراء ظهره. قال: * (وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول ياليتنى لم أوت كتابيه) *، وقال تعالى: * (فأما من أوتى كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتى كتابه ورآء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا) * وقد قدمنا هذا في سورة (بني إسرائيل). وما ذكره من وضع الكتاب هنا ذكره في (الزمر) في قوله: * (وأشرقت الا رض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهدآء وقضى بينهم بالحق) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (فترى المجرمين) * تقدم معنى مثله في الكلام على
287

قوله: * (وترى الشمس إذا طلعت) *. والمجرمون: جمع المجرم، وهو اسم فاعل الإجرام. والإجرام: ارتكاب الجريمة، وهي الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه عليه النكال. ومعنى كونهم (مشفقين مما فيه): أنهم خائفون مما في ذلك الكتاب من كشف أعمالهم السيئة، وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد، وما يترتب على ذلك من العذاب السرمدي. وقولهم * (ياويلتنا) * الويلة: الهلكة، وقد نادوا هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات فقالوا: يا ويلتناا أي يا هلكتنا احضري فهذا أوان حضوركا وقال أبو حيان في البحر: المراد من بحضرتهم: كأنهم قالوا: يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا. وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل كقوله * (ياأسفا على يوسف) *، * (ياحسرتى على ما فرطت فى جنب الله) *، * (ياويلنا من بعثنا من مرقدنا) *، وقوله: يا عجبا لهذه الفليقة، فيا عجبا من رحلها المتحمل، إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادى انتهى كلام أبي حيان. وحاصل ما ذكره: أن أداة النداء في قوله (يا ويلتنا) ينادى بها محذوف، وأن ما بعدها مفعول فعل محذوف، والتقدير كما ذكره: يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا. ومعلوم أن حذف المنادى مع إثبات أداة النداء، ودلالة القرينة على المنادى المحذوف مسموع في كلام العرب. ومنه قول عنترة في معلقته: ياويلنا من بعثنا من مرقدنا) *، وقوله: يا عجبا لهذه الفليقة، فيا عجبا من رحلها المتحمل، إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادى انتهى كلام أبي حيان. وحاصل ما ذكره: أن أداة النداء في قوله (يا ويلتنا) ينادى بها محذوف، وأن ما بعدها مفعول فعل محذوف، والتقدير كما ذكره
: يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا. ومعلوم أن حذف المنادى مع إثبات أداة النداء، ودلالة القرينة على المنادى المحذوف مسموع في كلام العرب. ومنه قول عنترة في معلقته:
* يا شاة ما قنص لمن حلت له
* حرمت على وليتها لم تحرم
*
يعني: يا قوم انظروا شاة قنص. وقول ذي الرمة: يعني: يا قوم انظروا شاة قنص. وقول ذي الرمة:
* ألا يا اسلمي يا دارمي على البلا
* ولا زال منهلا بجر عائك القطر
*
يعني: يا هذه اسلمي. وقوله تعالى: * (ما لهاذا الكتاب) * أي أي شيء ثبت لهذا الكتاب * (لا يغادر) * أي لا يترك * (صغيرة ولا كبيرة) * أي من المعاصي. وقول من قال: الصغيرة القبلة، والكبيرة الزنى، ونحو ذلك من الأقوال في الآية إنما هو على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر. وللعلماء اختلاف كثير في تعريف الكبيرة معروف في الأصول. وقد صرح تعالى بأن المنهيات منها كبائر. ويفهم من ذلك أن منها صغائر. وبين أن اجتناب الكبائر يكفر الله به الصغائر. وذلك في قوله: * (إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) *. ويروى عن الفضيل بن عياض في هذه الآية أنه
288

قال: ضجوا من الصغائر قبل الكبائر. وجملة (لا يغادر) حال من (الكتاب).
تنبيه
هذه الآية الكريمة يفهم منها أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. لأنهم وجدوا في كتاب أعمالهم صغائر ذنوبهم محصاة عليهم، فلو كانوا غير مخاطبين بها لما سجلت عليهم في كتاب أعمالهم. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنهم في يوم القيامة يجدون أعمالهم التي عملوها في الدنيا حاضرة محصاة عليهم. وأوضح هذا أيضا في غير هذا الموضع، كقوله: * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) *، وقوله تعالى: * (هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت) *، وقوله: * (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) *، وقوله: * (يوم تبلى السرآئر) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (ولا يظلم ربك أحدا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا يظلم أحدا، فلا ينقص من حسنات محسن، ولا يزيد من سيئات مسيء، ولا يعاقب على غير ذنب.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: * (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولاكن الناس أنفسهم يظلمون) *، وقوله تعالى: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) *، وقوله تعالى: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) *، وقوله: * (وما ربك بظلام للعبيد) * وقوله: * (وما ظلمهم الله ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) *، وقوله: * (وما ظلمناهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) * والآيات بمثل ذلك كثيرة. قوله تعالى: * (وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) *. قدمنا في سورة (البقرة) أن قوله تعالى: * (اسجدوا لادم) * محتمل لأن يكون أمرهم بذلك قبل وجود آدم أمرا معلقا على وجوده. ومحتمل لأنه أمرهم بذلك تنجيزا بعد وجود آدم. وأنه جل وعلا بين في سورة (الحجر) وسورة (ص) أن أصل
289

الأمر بالسجود متقدم على خلق آدم معلق عليه. قال في (الحجر) وسورة (الحجر): * (وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين) * وقال في (ص): * (إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين) * ولا ينافي هذا أنه بعد وجود آدم جدد لهم الأمر بالسجود له تنجيزا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (فسجدوا) * محتمل لأن يكونوا سجدوا كلهم أو بعضهم، ولكنه بين في مواضع أخر أنهم سجدوا كلهم، كقوله: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * ونحوها من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة، * (كان من الجن ففسق عن أمر ربه) * ظاهر في أن سبب فسقه عن أمر ربه كونه من الجن. وقد تقرر في الأصول في (مسلك النص) وفي (مسلك الإيماء والتنبيه): أن الفاء من الحروف الدالة على التعليل، كقولهم: سرق فقطعت يده، أي لأجل سرقته. وسها فسجد، أي لأجل سهوه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * أي لعلة سرقتهما. وكذلك قوله هنا * (كان من الجن ففسق) * أي لعلة كينونته من الجن، لأن هذا الوصف فرق بينه وبين الملائكة، لأنهم امتثلوا الأمر وعصا هو. ولأجل ظاهر هذه الآية الكريمة ذهبت جماعة من العلماء إلى أن إبليس ليس من الملائكة في الأصل بل من الجن، وأنه كان يتعبد معهم، فأطلق عليهم اسمهم لأنه تبع لهم، كالحليف في القبيلة يطلق عليه اسمها. والخلاف في إبليس هل هو ملك في الأصل وقد مسخه الله شيطانا، أوليس في الأصل بملك، وإنما شمله لفظ الملائكة لدخوله فيهم وتعبده معهم مشهور عند أهل العلم. وحجة من قال: إن أصله ليس من الملائكة أمران: أحدهما عصية الملائكة من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس. كما قال تعالى عنهم: * (لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) *، وقال تعالى: * (لا يسبقونه بالقول
وهم بأمره يعملون) *. والثاني: أن الله صرح في هذه الآية الكريمة بأنه من الجن، والجن غير الملائكة. قالوا: وهو نص قرآني في محل النزاع. واحتج من قال: إنه ملك في الأصل بما تكرر في الآيات القرآنية من قوله: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس) * قالوا: فإخراجه بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنه منهم. وقال
290

بعضهم: والظواهر إذا كثرت صارت بمنزلة النص. ومن المعلوم أن الأصل في الاستثناء الاتصال لا الانقطاع. قالوا: ولا حجة لمن خالفنا في قوله تعالى * (كان من الجن) * لأن الجن قبيلة من الملائكة، خلقوا من بين الملائكة من نار السموم كما روي عن ابن عباس. والعرب تعرف في لغتها إطلاق الجن على الملائكة. ومنه قول الأعشى في سليمان بن داود: فإخراجه بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنه منهم. وقال بعضهم: والظواهر إذا كثرت صارت بمنزلة النص. ومن المعلوم أن الأصل في الاستثناء الاتصال لا الانقطاع. قالوا: ولا حجة لمن خالفنا في قوله تعالى * (كان من الجن) * لأن الجن قبيلة من الملائكة، خلقوا من بين الملائكة من نار السموم كما روي عن ابن عباس. والعرب تعرف في لغتها إطلاق الجن على الملائكة. ومنه قول الأعشى في سليمان بن داود:
* وسخر من جن الملائك تسعة
* قياما لديه يعملون بلا أجر
*
قالوا: ومن إطلاق الجن على الملائكة قوله تعالى: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * عند من يقول: بأن المراد بذلك قولهم: الملائكة بنات الله. سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علوا كبيرا! وممن جزم بأنه ليس من الملائكة في الأصل لظاهر هذه الآية الكريمة: الحسن البصري، وقصره الزمخشري في تفسيره. وقال القرطبي في تفسير سورة (البقرة): إن كونه من الملائكة هو قول الجمهور: ابن عباس، وابن مسعود، وابن جريج، وابن المسيب، وقتادة وغيرهم. وهو اختيار الشيخ أبي الحسن، ورجحه الطبري، وهو ظاهر قوله (إلا إبليس) اه وما يذكره المفسرون عن جماعة من السلف كابن عباس وغيره: من أنه كان من أشراف الملائكة، ومن خزان الجنة، وأنه كان يدبر أمر السماء الدنيا، وأنه كان اسمه عزازيل كله من الإسرائيليات التي لا معول عليها.
وأظهر الحجج في المسألة حجة من قال: إنه غير ملك. لأن قوله تعالى: * (إلا إبليس كان من الجن ففسق) *، وهو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ففسق عن أمر ربه) * أي خرج عن طاعة أمر ربه. والفسق في اللغة: الخروج. ومنه قول رؤبة بن العجاج: ففسق عن أمر ربه) * أي خرج عن طاعة أمر ربه. والفسق في اللغة: الخروج. ومنه قول رؤبة بن العجاج:
* يهوين في نجد وغورا غائرا
* فواسقا عن قصدها جوائرا
*
وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه. فلا حاجة لقول من قال: إن (عن) سببية، كقوله: * (وما نحن بتاركى ءالهتنا عن قولك) * أي بسببه وأن المعنى: ففسق عن أمر ربه، أي بسبب أمره حيث لم يمتثله، ولا غير ذلك من الأقوال.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (أفتتخذونه وذريته أوليآء من دونى وهم لكم عدو بئس للظالمين
291

بدلا) * الهمزة فيه للإنكار والتوبيخ، ولا شك أن فيها معنى الاستبعاد كما تقدم نظيره مرارا. أي أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان، وشدة العداوة لكم ولأبويكم آدم وحواء تتخذونه وذريته أولياء من دون خالقكم جل وعلاا بئس للظالمين بدلا من الله إبليس وذريتها وقال * (للظالمين) * لأنهم اعتاضوا الباطل من الحق، وجعلوا مكان ولايتهم لله ولايتهم لإبليس وذريته. وهذا من أشنع الظلم الذي هو في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه. كما تقدم مرارا. والمخصوص بالذم في الآية محذوف دل عليه المقام، وتقديره: بئس البدل من الله إبليس وذريته. وفاعل (بئس) ضمير محذوف يفسره التمييز الذي هو (بدلا) على حد قوله له في الخلاصة: أفتتخذونه وذريته أوليآء من دونى وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) * الهمزة فيه للإنكار والتوبيخ، ولا شك أن فيها معنى الاستبعاد كما تقدم نظيره مرارا. أي أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان، وشدة العداوة لكم ولأبويكم آدم وحواء تتخذونه وذريته أولياء من دون خالقكم جل وعلاا بئس للظالمين بدلا من الله إبليس وذريتها وقال * (للظالمين) * لأنهم اعتاضوا الباطل من الحق، وجعلوا مكان ولايتهم لله ولايتهم لإبليس وذريته. وهذا من أشنع الظلم الذي هو في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه. كما تقدم مرارا. والمخصوص بالذم في الآية محذوف دل عليه المقام، وتقديره: بئس البدل من الله إبليس وذريته. وفاعل (بئس) ضمير محذوف يفسره التمييز الذي هو (بدلا) على حد قوله له في الخلاصة:
* ويرفعان مضمرا يفسره
* مميز كنعم قوما معشره
*
والبدل: العوض من الشيء، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من عداوة الشيطان لبني آدم جاء مبينا في آيات أخر. كقوله: * (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه
عدوا) *. وكذلك الأبوان، كما قال تعالى: * (فقلنا ياأادم إن هاذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) *.
وقد بين في غير هذا الموضع: أن الذين اتخذوا الشياطين أولياء بدلا من ولاية الله يحسبون أنهم في ذلك على حق. كقوله تعالى: * (إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) *. وبين في مواضع أخر أن الكفار أولياء الشيطان. كقوله تعالى: * (والذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان) *، وقوله تعالى: * (إنا جعلنا الشياطين أوليآء للذين لا يؤمنون) *، وقوله تعالى: * (والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت) *، وقوله: * (إنما ذالكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (وذريته) * دليل على أن للشيطان ذرية. فادعاء أنه لا ذرية له مناقض لهذه الآية مناقضة صريحة كما ترى. وكل ما ناقض صريح القرآن فهو باطل بلا شكا ولكن طريقة وجود نسله هل هي عن تزويج أو غيره. لا دليل عليها من نص صريح، والعلماء مختلفون فيها. وقال الشعبي: سألني الرجل: هل لإبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهدها ثم ذكرت قوله تعالى: * (أفتتخذونه وذريته أوليآء
292

من دونى) * فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة فقلت: نعم. وما فهمه الشعبي من هذه الآية من أن الذرية تستلزم الزوجة روي مثله عن قتادة. وقال مجاهد: إن كيفية وجود النسل منه أنه أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات: قال: فهذا أصل ذريته. وقال بعض أهل العلم: إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا، وفي اليسرى فرجا، فهو ينكح هذا بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة. ولا يخفى أن هذه الأقوال ونحوها لا معول عليها لعدم اعتضادها بدليل من كتاب أو سنة. فقد دلت الآية الكريمة على أن له ذرية. أما كيفية ولادة تلك الذرية فلم يثبت فيه نقل صحيح، ومثله لا يعرف بالرأي. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: قلت: الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميري في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني: أنه خرج في كتابه مسندا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ، من رواية عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فيها باض الشيطان وفرخ) وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الحديث إنما يدل على أنه يبيض ويفرخ، ولكن لا دلالة فيه على ذلك. هل هي من أنثى هي زوجة له، أو من غير ذلك. مع أن دلالة الحديث على ما ذكرنا لا تخلو من احتمال. لأنه يكثر في كلام العرب إطلاق باض وفرخ على سبيل المثل. فيحتمل معنى باض وفرخ على سبيل المثل؛ فيحتمل معنى باض وفرخ أنه فعل بها ما شاء من إضلال وإغواء ووسوسة ونحو ذلك على سبيل المثل، لأن الأمثال لا تغير ألفاظها. وما يذكره كثير من المفسرين وغيرهم من تعيين أسماء أولاده ووظائفهم التي قلدهم إياها؛ كقوله: زلنبور صاحب الأسواق. وتبر صاحب المصائب يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب ونحو ذلك. والأعور صاحب أبواب الزنى. ومسوط صاحب الأخبار يلقها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلا. وداسم هو الشيطان الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره ما لم يرفع من المتاع وما لم يحسن موضعه يثير شره على أهله. وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. والولهان صاحب المزامير وبه كان يكنى إبليس، إلى غير ذلك من تعيين أسمائهم ووظائفهم كله لا معلو عليه؛ إلا ما ثبت منه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من تعيين وظيفة الشيطان واسمه ما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن خلف
293

الباهلي، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري عن أبي العلاء: أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذاك شيطان يقال له خنرب. فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثا) قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني.
وتحريش الشيطان بين الناس وكون إبليس يضع عرشه على البحر، ويبعث سرايا فيفتنون الناس فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة كل ذلك معروف ثابت في الصحيح. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (مآ أشهدتهم خلق السماوات والا رض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا) *. التحقيق في معنى هذه الآية الكريمة أن الله يقول: ما أشهدت إبليس وجنوده؛ أي ما أحضرتهم خلق السماوات والأرض، فأستعين بهم على خلقها ولا خلق أنفسهم، أي ولا أشهدتهم خلق أنفسهم، أي ما أشهدت بعضهم خلق بعضهم فأستعين به على خلقه، بل تفردت بخلق جميع ذلك يغير معين ولا ظهيرا فكيف تصرفون لهم حقي وتتخذونهم أولياء من دوني وأنا خالق كل شيءا؟
وهذا المعنى الذي أشارت له الآية من أن الخالق هو المعبود وحده جاء مبينا في آيات كثيرة، وقد قدمنا كثيرا منها في مواضع متعددة، كقوله: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) *، وقوله: * (أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شىء وهو الواحد القهار) *، وقوله: * (هاذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون فى ضلال مبين) *، وقوله تعالى: * (قل أرءيتم شركآءكم الذين تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الا رض أم لهم شرك فى السماوات) *، وقوله تعالى: * (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الا رض أم لهم شرك فى السماوات) *، إلى غير ذلك من الآيات كما قدمناه مرارا. وقال بعض العلماء * (ولا خلق أنفسهم) * أي: ما أشهدتهم خلق أنفسهم؛ بل خلقتهم على ما أردت وكيف شئت. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وما كنت متخذ المضلين عضدا) * فيه الإظهار في محل الإضمار، لأن الأصل الظاهر. وما كنت متخذهم عضدا، كقوله: * (ما أشهدتهم) * والنكتة البلاغية في الإظهار في محل الإضمار هي ذمه تعالى لهم بلفظ
294

الإضلال. وقوله (عضدا) أي أعوانا.
وفي هذه الآية الكريمة التنبيه على أن الضالين المضلين لا تنبغي الاستعانة بهم، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. والمعنى المذكور أشير له في مواضع أخر
؛ كقوله تعالى: * (قال رب بمآ أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين) * والظهير: المعين. والمضلون: الذين يضلون أتباعهم عن طريق الحق. وقد قدمنا معنى الضلال وإطلاقاته في القرآن بشواهده العربية.
* (ويوم يقول نادوا شركآئى الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا * ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا * ولقد صرفنا فى هاذا القرءان للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شىء جدلا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الا ولين أو يأتيهم العذاب قبلا * وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا ءاياتى وما أنذروا هزوا * ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا * وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا * وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا * وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا) * قوله تعالى: * (ويوم يقول نادوا شركآئى الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا) *. أي واذكر يوم يقول الله جل وعلا للمشركين الذين كانوا يشركون معه الآلهة والأنداد من الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله توبيخا لهم وتقريعا: نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم شركاء معي، فالمفعولان محذوفان: أي زعمتموهم شركاء لي كذبا وافتراء. أي ادعوهم واستغيثوا بهم لينصروكم ويمنعوكم من عذابي، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم، أي فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من عدم استجابتهم لهم إذا دعوهم يوم القيامة جاء موضحا في مواضع أخر، كقوله تعالى في سورة (القصص): * (ويوم يناديهم فيقول أين شركآئى الذين كنتم تزعمون قال الذين حق عليهم القول ربنا هاؤلاء الذين أغوينآ أغويناهم كما غوينا تبرأنآ إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركآءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون) *، وقوله تعالى: * (ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعآءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) *، وقوله: * (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعآئهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعدآء وكانوا بعبادتهم كافرين) *، وقوله: * (واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) *، وقوله تعالى: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعآءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركآء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) *، والآيات في تبرئهم منهم يوم القيامة، وعدم استجابتهم لهم كثيرة جدا. وخطبة الشيطان المذكورة في سورة إبراهيم في
295

قوله تعالى: * (وقال الشيطان لما قضى الا مر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) * إلى قوله * (إنى كفرت بمآ أشركتمون من قبل) * من قبيل ذلك المعنى المذكور في الآيات المذكورة.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (وجعلنا بينهم موبقا) * اختلف العلماء فيه من ثلاث جهات:
الأولى في المراد بالظرف الذي هو (بين). والثانية في مرجع الضمير. والثالثة في المراد بالموبق. وسنذكر هنا أقوالهم، وما يظهر لنا رجحافه منها إن شاء الله تعالى.
أما الموبق: فقيل: المهلك. وقيل واد في جهنم. وقيل الموعد. قال صاحب الدر المنثور: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله: * (وجعلنا بينهم موبقا) * يقول: مهلكا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في قوله (موبقا) يقول: مهلكا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في قوله (موبقا) قال. واد في جهنم. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عن أنس في قوله * (وجعلنا بينهم موبقا) * قال: واد في جهنم من قيح ودم. وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عمر ي قوله * (وجعلنا بينهم موبقا) * قال: هو واد عميق في النار، فرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى والضلالة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمرو البكالي قال: الموبق الذي ذكر الله: واد في النار، بعيد القعر، يفرق الله به يوم القيامة بين أهل الإسلام وبين من سواهم من الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله تعالى * (موبقا) * قال: هو نهر يسيل نارا على حافتيه حيات أمثال البغال الدهم، فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال: إن في النار أربعة أودية يعذب الله بها أهلها: غليظ، وموبق، وأثام، وغي. انتهى كلام صاحب الدر المنثور. ونقل ابن جرير عن بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة: أن الموبق: الموعد، واستدل لذلك بقول الشاعر: وجعلنا بينهم موبقا) * قال: هو واد عميق في النار، فرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى والضلالة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمرو البكالي قال: الموبق الذي ذكر الله: واد في النار، بعيد القعر، يفرق الله به يوم القيامة بين أهل الإسلام وبين من سواهم من الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله تعالى * (موبقا) * قال: هو نهر يسيل نارا على حافتيه حيات أمثال البغال الدهم، فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال: إن في النار أربعة أودية يعذب الله بها أهلها: غليظ، وموبق، وأثام، وغي. انتهى كلام صاحب الدر المنثور. ونقل ابن جرير عن بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة: أن الموبق: الموعد، واستدل لذلك بقول الشاعر:
* وحاد شروري والستار فلم يدع
* تعارا له والواديين بموبق
*
يعني بموعد. والتحقيق: أن الموبق المهلك، من قولهم وبق يبق، كوعد بعد:
296

إذا هلك. وفيه لغة أخرى وهي وبق يوبق كلأجل يوجل. ولغة ثالثة أيضا وهي: وبق يبق كورث يرث. ومعنى كل ذلك: الهلاك. والمصدر من وبق بالفتح الوبوق على القياس، والوبق. ومن وبق بالكسر الوبق بفتحتين على القياس. وأوبقته ذنوبه: أهلكته، ومن هذا المعنى قوله تعالى: * (أو يوبقهن بما كسبوا) * أي يهلكهن، ومنه الحديث، (فموبق نفسه أو بائعها فمعتقها) وحديث (السبع الموبقات) أي المهلكات، ومن هذا المعنى قول زهير: ومنه الحديث، (فموبق نفسه أو بائعها فمعتقها) وحديث (السبع الموبقات) أي المهلكات، ومن هذا المعنى قول زهير:
* ومن يشتري حسن الثناء بماله
* يصن عرضه عن كل شنعاء موبق
*
وقول من قال، إن الموبق العداوة، وقول من قال: إنه المجلس كلاهما ظاهر السقوط. والتحقيق فيه هو ما قدمنا. وأما الأقوال العلماء في المراد بلفظه (بين) فعلى قول الحسن ومن وافقه: أن الموبق العداوة فالمعنى واضح؛ أي وجعلنا بينهم عداوة؛ كقوله: * (الا خلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو) *، وقوله: * (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحيواة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) *، إلى غير ذلك من الآيات. ولكن تفسير الموبق بالعداوة بعيد كما قدمنا. وقال بعض العلماء: المراد بالبين في الآية: الوصل؛ أي وجعلنا تواصلهم في الدنيا ملكا لهم يوم القيامة؛ كما قال تعالى: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الا سباب) * أي المواصلات التي كانت بينهم في الدنيا. وكما قال: * (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) *، وكما قال تعالى: * (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) * ونحو ذلك من الآيات. وقال بعض العلماء: * (وجعلنا بينهم موبقا) *: جعلنا الهلاك بينهم؛ لأن كلا منهم معين على هلاك الآخر لتعاونهم على الكفر والمعاصي فهم شركاء في العذاب؛ كما قال تعالى: * (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم فى العذاب مشتركون) *، وقوله: * (قال لكل ضعف ولاكن لا تعلمون) * ومعنى هذا القول مروي عن ابن زيد. وقال بعض العلماء: * (وجعلنا بينهم موبقا) *: أي بين المؤمنين والكافرين موبقا، أي مهلكا يفصل بينهم، فالداخل فيه، في هلاك، والخارج عنه في عافية. وأظهر الأقوال عندي وأجراها على ظاهر القرآن، أن المعنى: وجعلنا بين الكفار وبين من كانوا يعبدونهم ويشركونهم مع الله موبقا أي مهلكا،
297

لأن الجميع يحيط بهم الهلاك من كل جانب، كما قال تعالى: * (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل) *، وقوله: * (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) *، وقوله: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) *. وقال ابن الأعرابي: كل شيء حاجز بين شيئين يسمى موبقا، نقله عنه القرطبي. وبما ذكرنا تعلم أن الضمير في قوله (بينهم) قيل راجع إلى أهل النار. وقيل راجع إلى أهل الجنة وأهل النار معا. وقيل راجع للمشركين وما كانوا يعبدونه من دون الله. وهذا هو أظهرها لدلالة ظاهره السياق عليه، لأن الله يقول: * (ويوم يقول نادوا شركآئى الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم) * ثم قال مخبرا عن العابدين والمعبودين: * (وجعلنا بينهم موبقا) * أي مهلكا يفصل بينهم ويحيط بهم. وهذا المعنى كقوله: * (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركآؤكم فزيلنا بينهم) *. أي فرقنا بينهم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ويوم يقول) * قرأه عامة السبعة ما عدا حمزة بالياء المثناة التحتية، وقرأه حمزة (نقول) بنون العظمة، وعلى قراءة الجمهور فالفاعل ضمير يعود إلى الله، أي يقول هو أي الله. قوله تعالى: * (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المجرمين يرون النار يوم القيامة، ويظنون أنهم مواقعوها، أي مخالطوها وواقعون فيها. والظن في هذه الآية بمعنى اليقين؛ لأنهم أبصروا الحقائق وشاهدوا الواقع. وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم موقنون بالواقع؛ كقوله عنهم: * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) *، وكقوله: * (فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد) *، وقوله تعالى: * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) *. ومن إطلاق الظن على اليقين تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلواة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) * أي يوقنون أنهم ملاقوا ربهم. وقوله تعالى: * (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) *. وقوله تعالى: * (فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هآؤم اقرؤا كتابيه إنى ظننت أنى ملاق
298

حسابيه) * فالظن في هذه الآيات كلها بمعنى اليقين. والعرب تطلق الظن على اليقين وعلى الشك. ومن إطلاقه على اليقين في كلام العرب قول دريد بن الصمة: إنى ظننت أنى ملاق حسابيه) * فالظن في هذه الآيات كلها بمعنى اليقين. والعرب تطلق الظن على اليقين وعلى الشك. ومن إطلاقه على اليقين في كلام العرب قول دريد بن الصمة:
* فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
* سراتهم في الفارسي المسرد
*
وقول عميرة بن طارق: وقول عميرة بن طارق:
* بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم
* وأجعل مني الظن غيبا مرجما
*
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المجرمين يرون النار، وبين في موضع آخر أنها هي تراهم أيضا، وهو قوله تعالى: * (بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا الذين هم فى خوض يلعبون) *. وما جرى على ألسنة العلماء من أن الظن جل الاعتقاد اصطلاح للأصوليين والفقهاء. ولا مشاحة في الاصطلاح. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ولم يجدوا عنها مصرفا) * المصرف: المعدل، أي ولم يجدوا عن النار مكانا ينصرفون إليه ويعدلون إليه، ليتخذوه ملجأ ومعتصما ينجون فيه من عذاب الله. ومن إطلاق المصرف على المعدل بمعنى مكان الانصراف للاعتصام بذلك المكان قول أبي كبير الهذلي: ولم يجدوا عنها مصرفا) * المصرف: المعدل، أي ولم يجدوا عن النار مكانا ينصرفون إليه ويعدلون إليه، ليتخذوه ملجأ ومعتصما ينجون فيه من عذاب الله. ومن إطلاق المصرف على المعدل بمعنى مكان الانصراف للاعتصام بذلك المكان قول أبي كبير الهذلي:
* أزهير هل عن شيبة من مصرف
* أم لا خلود لباذل متكلف
*
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ورأى المجرمون النار) * من رأى البصرية، فهي تتعدى لمفعول واحد، والتعبير بالماضي عن المستقبل نظرا لتحقق الوقوع، فكان ذلك لتحقق وقوعه كالواقع بالفعل، كما تقدم مرارا. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ولقد صرفنا فى هاذا القرءان للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شىء جدلا) *. قوله: * (ولقد صرفنا) * أي رددنا وكثرنا تصريف الأمثال بعبارات مختلفة، وأساليب متنوعة في هذا القرآن للناس. ليهتدوا إلى الحق، ويتعظوا. فعارضوا بالجدل والخصومة. والمثل: هو القول الغريب السائر في الآفاق. وضرب الأمثال كثير في القرآن جدا. كما قال تعالى: * (إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) * ومن أمثلة ضرب المثل فيه * (ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله) *، وقوله: * (مثل الذين اتخذوا من دون الله أوليآء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا
299

وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) *، وقوله: * (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذالك مثل القوم الذين كذبوا بثاياتنا سآء مثلا القوم الذين كذبوا بأاياتنا) *، وكقوله: * (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بأايات الله) *، وقوله: * (واضرب لهم مثل الحيواة الدنيا كمآء أنزلناه من السماء) *، وقوله: * (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شىء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) *، وقوله: * (وضرب الله مثلا رجلين أحدهمآ أبكم لا يقدر على شىء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) *، وقوله: * (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركآء فى ما رزقناكم فأنتم فيه سوآء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) *. والآيات بمثل هذا كثيرة جدا. وفي هذه الأمثال وأشباهها في القرآن عبر ومواعظ وزواجر عظيمة جدا، لا لبس في الحق معها. إلا أنها لا يعقل معانيها إلا أهل العلم. كما قال تعالى: * (وتلك الا مثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون) *. ومن حكم ضرب المثل: أن يتذكر الناس. كما قال تعالى: * (وتلك الا مثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) *.
وقد بين تعالى في مواضع أخر: أن الأمثال مع إيضاحها للحق يهدي بها الله قوما، ويضل بها قوما آخرين. كما في قوله تعالى: * (إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهاذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) *، وأشار إلى هذا المعنى في سورة (الرعد). لأنه لما ضرب المثل بقوله: * (أنزل من السمآء مآء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه فى النار ابتغآء حلية أو متاع زبد مثله كذالك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفآء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الا رض كذالك يضرب الله الا مثال) * أتبع ذلك بقوله: * (للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما فى الا رض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولائك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد) *. ولا شك أن الذين
300

استجابوا لربهم هم العقلاء الذين عقلوا معنى الأمثال، وانتفعوا بما تضمنت من بيان الحق. وأن الذين لم يستجيبوا له هم الذين لم يعقلوها، ولم يعرفوا ما أوضحته من الحقائق. فالفريق الأول هم الذين قال الله فيهم * (ويهدي به كثيرا) *، والفريق الثاني هم الذين قال فيهم * (يضل به كثيرا) * وقال فيهم * (وما يضل به إلا الفاسقين) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ولقد صرفنا) * قال بعض العلماء: مفعول (صرفنا) محذوف، تقديره: البينات والعبر. وعلى هذا ف (من) للناس في هذا القرآن ليذكروا، فقابلوا ذلك بالجدال والخصام. ولذا قال: * (وكان الإنسان أكثر شىء جدلا) * وهذا هو الذي استظهره أبو حيان في البحر، ثم قال: وقال ابن عطية يجوز أن تكون (من) زائدة التوكيد. فالتقدير: ولقد صرفنا كل مثل. فيكون مفعول (صرفنا): (كل مثل) وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش، لا على مذهب جمهور البصريين. انتهى الغرض من كلام صاحب البحر المحيط. وقال الزمخشري: (من كل مثل) من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه ا ه.
وضابط ضرب المثل الذي يرجع إليه كل معانيه التي يفسر بها: هو إيضاح معنى النظير بذكر نظيره. لأن النظير يعرف بنظيره. وهذا المعنى الذي ذكره في هذه الآية الكريمة جاء مذكورا في آيات أخر. كقوله في (الإسراء): * (ولقد صرفنا للناس فى هاذا القرءان من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا) *، وقوله تعالى: * (ولقد صرفنا فى هاذا القرءان ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا) *، وقوله: * (وكذالك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) *، وقوله: * (ولقد ضربنا للناس فى هاذا القرءان من كل مثل لعلهم يتذكرون قرءانا عربيا غير ذى عوج لعلهم يتقون) *، وقوله: * (ولقد ضربنا للناس فى هاذا القرءان من كل مثل ولئن جئتهم بأاية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون) *. والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
وقوله في هذه الآية: * (وكان الإنسان أكثر شىء جدلا) * أي أكثر الأشياء التي من شأنها الخصومة إن فصلتها واحدا بعد واحد. (جدلا) أي خصومة ومماراة بالباطل لقصد إدحاض الحق. ومن الآيات الدالة على خصومة الإنسان بالباطل لإدحاض الحق قوله هنا * (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق) *،
301

وقوله تعالى: * (والذين يحاجون فى الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم) *، وقوله تعالى: * (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم م بين) *، وقوله تعالى: * (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) *، إلى غير ذلك من الآيات. وما فسرنا به قوله تعالى: * (وكان الإنسان أكثر شىء جدلا) * من أن معناه كثرة خصومة الكفار ومماراتهم بالباطل ليدحضوا به الحق هو السباق الذي نزلت فيه الآية الكريمة، لأن قوله: * (ولقد صرفنا فى هاذا القرءان للناس من كل مثل) * أي ليذكروا ويتعظوا وينيبوا إلى ربهم: بدليل قوله: * (ولقد صرفنا فى هاذا القرءان ليذكروا) *، وقوله: * (وتلك الا مثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) * فلما أتبع ذلك بقوله: * (وكان الإنسان أكثر شىء جدلا) * علمنا من سياق الآية أن الكفار أكثروا الجدل والخصوصة والمراء لإدحاض الحق الذي أوضحه الله بما ضربه في هذا القرآن من كل مثل. ولكن كون هذا هو ظاهر القرآن وسبب النزول لا ينافي تفسير الآية الكريمة بظاهر عمومها. لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما بيناه بأدلته فيما مضى. ولأجل هذا لما طرق النبي صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة رضي الله عنهما ليلة فقال: (ألا تصليان)؟ وقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. انصرف النبي صلى الله عليه وسلم راجعا وهو يضرب فخذه ويقول: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) والحديث مشهور متفق عليه. فإيراده صلى الله عليه وسلم الآية على قول علي رضي الله عنه (إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا) دليل على عموم الآية الكريمة، وشمولها لكل خصام وجدل، لكنه قد دلت آيات أخر على أن من الجدل ما هو محمود مأمور به لإظهار الحق، كقوله تعالى: * (وجادلهم بالتى هى أحسن) *، وقوله تعالى: * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن) *. وقوله (جدلا) منصوب على التمييز، على حد قوله في الخلاصة: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن) *. وقوله (جدلا) منصوب على التمييز، على حد قوله في الخلاصة:
* والفاعل المعنى انصبن بأفعلا
* مفضلا كانت أعلى منزلا
*
وقوله * (فى هاذا القرءان) * أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل جدلا كما تقدم. وصيغة التفضيل إذا أضيفت إلى نكرة كما في هذه الآية، أو جردت من الإضافة والتعريف بالألف واللام لزم إفرادها وتذكيرها كما عقده في الخلاصة بقوله
302

: فى هاذا القرءان) * أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل جدلا كما تقدم. وصيغة التفضيل إذا أضيفت إلى نكرة كما في هذه الآية، أو جردت من الإضافة والتعريف بالألف واللام لزم إفرادها وتذكيرها كما عقده في الخلاصة بقوله:
* وإن لمنكور يضف أو جردا
* ألزم تذكيرا وأن يوحدا
*
وقال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة مبينا بعض الآيات المبينة للمراد بجدل الإنسان في الآية الكريمة، بعد أن ساق سنده إلى ابن زيد في قوله * (وكان الإنسان أكثر شىء جدلا) * قال: الجدل الخصومة خصومة القوم لأنبيائهم وردهم عليهم ما جاؤوا به. وقرأ * (ما هاذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون) *، وقرأ: * (يريد أن يتفضل عليكم) *، وقرأ (حتى توفي) الآية، * (ولو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هاذآ إلا سحر مبين) *، وقرأ: * (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) * انتهى من تفسير الطبري. ولا شك أن هذه الآيات التي ذكر عن ابن زيد أنها مفسرة لجدل الإنسان المذكور في الآية أنها كذلك، كما قدمنا أن ذلك هو ظاهر السياق وسبب النزول، والآيات الدالة على مثل ذلك كثيرة في القرآن العظيم. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الا ولين أو يأتيهم العذاب قبلا) *. في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند أهل العلم، وكلاهما تدل على مقتضاه آيات من كتاب الله تعالى، وأحد الوجهين أظهر عندي من الآخر.
الأول منهما أن معنى الآية: وما منع الناس من الإيمان والاستغفار إذ جاءتهم الرسل بالبينات الواضحات، إلا ما سبق في علمنا: من أنهم لا يؤمنون، بل يستمرون على كفرهم حتى تأتيهم سنة الأولين من الكفار، وإتيان العذاب إياهم يوم القيامة قبلا. وعلى هذا القول فالآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جدا، كقوله تعالى: * (إن الذين
حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جآءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الا ليم) *، وقوله: * (وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) *، وقوله تعالى: * (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين) *، وكقوله تعالى: * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا
303

أولائك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الا خرة عذاب عظيم) *. والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة.
القول الثاني أن في الآية الكريمة مضافا محذوفا، تقديره: وما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلبهم أن تأتيهم سنة الأولين، أو يأتيهم العذاب قبلا.
والآيات الدالة على طلبهم الهلاك والعذاب عنادا وتعنتا كثيرة جدا، كقوله عن قوم شعيب: * (فأسقط علينا كسفا من السمآء إن كنت من الصادقين) *، وكقوله عن قوم هود: * (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن ءالهتنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين) *، وكقوله عن قوم صالح: * (وقالوا ياصاح ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين) *، وكقوله عن قوم لوط: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) *، وكقوله عن قوم نوح: * (قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين) *.
فهذه الآيات وأمثالها في القرآن ذكر الله فيها شيئا من سنة الأولين: أنهم يطلبون تعجيل العذاب عنادا وتعنتا. وبين تعالى أنه أهلك جميعهم بعذاب مستأصل، كإهلاك قوم نوح بالطوفان، وقوم صالح بالصيحة، وقوم شعيب بعذاب يوم الظلة، وقوم هود بالريح العقيم، وقوم لوط بجعل عالي قراهم سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم، كما هو مفصل في الآيات القرآنية.
وبين في آيات كثيرة: أن كفار هذه الأمة كمشركي قريش سألوا العذاب كما سأله من قبلهم، كقوله: * (وإذ قالوا اللهم إن كان هاذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم) *، وقوله: * (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) * وأصل القط: كتاب الملك الذي فيه الجائزة، وصار يطلق على النصيب: فمعنى * (عجل لنا قطنا) * أي نصيبا المقدر لنا من العذاب الذي تزعم وقوعه بنا إن لم نصدقك ونؤمن بك، كالنصيب الذي بقدره الملك في القط الذي هو كتاب الجائزة، ومنه قول الأعشى: عجل لنا قطنا) * أي نصيبا المقدر لنا من العذاب الذي تزعم وقوعه بنا إن لم نصدقك ونؤمن بك، كالنصيب الذي بقدره الملك في القط الذي هو كتاب الجائزة، ومنه قول الأعشى:
* ولا الملك النعمان يوم لقيته
* بغبطته يعطي القطوط ويأفق
*
وقوله (يأفق) أي يفضل بعضا على بعض في العطاء. والآيات بمثل ذلك كثيرة. والقول الأول أظهر عندي، لأن ما لا تقدير فيه أولى مما فيه تقدير إلا بحجة
304

الرجوع إليها تثبت المحذوف المقدر. والله تعالى أعلم. وقد ذكرنا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) وجه الجمع بين قوله تعالى هنا: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الا ولين) * وبين قوله تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) * بما حاصله باختصار: أن المانع المذكور في سورة (الإسراء) مانع عادي يجوز تخلفه، لأن استغرابهم بعث رسول من البشر مانع عادي يجوز تخلفه لإمكان أن يستغرب الكافر بعث رسول من البشر ثم يؤمن به مع ذلك الاستغراب. فالحضر في قوله تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) * حضر في المانع العادي. وأما الحصر في قوله هنا * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الا ولين أو يأتيهم العذاب قبلا) * فهو حصر في المانع الحقيقي، لأن إرادته جل وعلا عدم إيمانهم، وحكمه عليهم بذلك، وقضاءه به مانع حقيقي من وقوع غيره.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (أو يأتيهم العذاب قبلا) * قرأه الكوفيون: وهم عاصم وحمزة والكسائي (قبلا) بضم القاف والباء. وقرأه الأربعة الباقون من السبعة: وهم نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر (قبلا) بكسر القاف وفتح الباء. أما على قراءة الكوفيين فقوله (قبلا) بضمتين جمع قبيل. والفعيل إذا كان اسما يجمع على فعل كسرير وسرر، وطريق وطرق، وحصير وحصر، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: أو يأتيهم العذاب قبلا) * قرأه الكوفيون: وهم عاصم وحمزة والكسائي (قبلا) بضم القاف والباء. وقرأه الأربعة الباقون من السبعة: وهم نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر (قبلا) بكسر القاف وفتح الباء. أما على قراءة الكوفيين فقوله (قبلا) بضمتين جمع قبيل. والفعيل إذا كان اسما يجمع على فعل كسرير وسرر، وطريق وطرق، وحصير وحصر، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:
* وفعل لاسم رباعي بمد
* قد زيد قبل الام اعلالا فقد
*
ما لم يضاعف في الأعم ذو الألف... إلخ.
وعلى هذا، فمعنى الآية * (أو يأتيهم العذاب قبلا) * أي أنواعا مختلفة، يتلو بعضها بعضا. وعلى قراءة من قرأوا (قبلا) كعنب، فمعناه عيانا، أي أو يأتيهم العذاب عيانا. وقال مجاهد رحمه الله (قبلا) أي فجأة. والتحقيق: أن معناها عيانا. وأصله من المقابلة، لأن المتقابلين يعاين كل واحد منهما الآخر. وذكر أبو عبيد: أن معنى القراءتين واحد، وأن معناهما عيانا، وأصله من المقابلة. وانتصاب (قبلا) على الحال على كلتا القراءتين. وهو على القولين المذكورين في معنى (قبلا) إن
قدرنا أنه بمعنى عيانا، فهو مصدر منكر حال كما قدمنا مرارا. وعلى أنه جمع قبيل: فهو اسم جامد
305

مؤول بمشتق، لأنه في تأويل: أو يأتيهم العذاب في حال كونه أنواعا وضروبا مختلفة. والمصدر المنسبك من (أن) وصلتها في قوله * (أن يؤمنوا) * في محل نصب. لأنه مفعول (منع) الثاني، والمنسبك من (أن) وصلتها في قوله * (إلا أن تأتيهم سنة الا ولين) * في محل رفع، لأنه فاعل (منع) لأن الاستثناء مفرغ، وما قبل (إلا) عامل فيما بعدها، فصار التقدير: منع الناس الإيمان إتيان سنة الأولين، على حد قوله في الخلاصة: إلا أن تأتيهم سنة الا ولين) * في محل رفع، لأنه فاعل (منع) لأن الاستثناء مفرغ، وما قبل (إلا) عامل فيما بعدها، فصار التقدير: منع الناس الإيمان إتيان سنة الأولين، على حد قوله في الخلاصة:
* وإن يفرغ سابق إلا لما
* بعد يكن كما لو إلا عدما
*
والاستغفار في قوله * (ويستغفروا ربهم) * هو طلب المغفرة منه جل وعلا لجميع الذنوب السالفة بالإنابة إليه، والندم على ما فات، والعزم المصمم على عدم العود إلى الذنب. قوله تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه ما يرسل الرسل إلا مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار. وكرر هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: * (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن ءامن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *. وقد أوضحنا معنى البشارة والإنذار في أول هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله تعالى: * (لينذر بأسا شديدا من لدنه) *، وانتصاب قوله (مبشرين) على الحال، أي ما نرسلهم إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين. قوله تعالى: * (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الذين كفروا يجادلون بالباطل، أي يخاصمون الرسل بالباطل، كقولهم في الرسول: ساحر، شاعر، كاهن. وكقولهم في القرآن: أساطير الأولين، سحر، شعر، كهانة. وكسؤالهم عن أصحاب الكهف، وذي القرنين. وسؤالهم عن الروح عنادا وتعنتا، ليبطلوا الحق بجدالهم وخصامهم بالباطل، فالجدال: المخاصمة. ومفعول (يجادل) محذوف دل ما قبله عليه، لأن قوله * (وما نرسل المرسلين) * يدل على أن الذين يجادلهم الكفار بالباطل هم المرسلون المذكورون آنفا، وحذف الفضلة إذا دل المقام عليها جائز، وواقع كثيرا في القرآن وفي كلام العرب: كما عقده في الخلاصة بقوله: وما نرسل المرسلين) * يدل على أن الذين يجادلهم الكفار بالباطل هم المرسلون المذكورون آنفا، وحذف الفضلة إذا دل المقام عليها جائز، وواقع كثيرا في القرآن وفي كلام العرب: كما عقده في الخلاصة بقوله:
* وحذف فضلة أجز إن لم يضر
* كحذف ما سيق جوابا أو حصر
*
306

والباطل: ضد الحق وكل شيء ذائل مضمحل تسميه العرب: باطلا، ومنه قول لبيد: والباطل: ضد الحق وكل شيء ذائل مضمحل تسميه العرب: باطلا، ومنه قول لبيد:
* ألا كل شيء ما خلا الله باطل
* وكل نعيم لا محالة زائل
*
ويجمع الباطل كثيرا على أباطيل على غير القياس، فيدخل في قول ابن مالك في الخلاصة: ويجمع الباطل كثيرا على أباطيل على غير القياس، فيدخل في قول ابن مالك في الخلاصة:
* وحائد عن القياس كل ما
* خالف في البابين حكما رسما
*
ومنه قول كعب بن زهير:
* كانت مواعيد عرقوب لها مثلا
* وما مواعيده إلا الأباطيل
*
ويجمع أيضا على البواطل قياسا. والحق: ضد الباطل. وكل شيء ثابت غير زائل ولا مضمحل نسميه العرب حقا. وقوله تعالى: * (ليدحضوا به الحق) * أي ليبطلوه ويزيلوه به وأصله من إدحاض القدم، وهو إزلاقها وإزلتها عن موضعها. تقول العرب، دحضت رجله: إذا زلقت، وأدحضها الله، أزلقها ودحضت حجته إذا بطلت، وأدحضها الله أبطلها، والمكان الدحض: هو الذي تزل فيه الأقدام؟ ومنه قول طرفة: ليدحضوا به الحق) * أي ليبطلوه ويزيلوه به وأصله من إدحاض القدم، وهو إزلاقها وإزلتها عن موضعها. تقول العرب، دحضت رجله: إذا زلقت، وأدحضها الله، أزلقها ودحضت حجته إذا بطلت، وأدحضها الله أبطلها، والمكان
الدحض: هو الذي تزل فيه الأقدام؟ ومنه قول طرفة:
* أبا منذر رمت الوفاء فهبته
* وحدت كما حاد البعير عن الدحض
*
وهذا الذي ذكره هنا من مجادلة الكفار للمرسل بالباطل أوضحه في مواضع أخر: كقوله: * (والذين يحآجون فى الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم) *. وقوله جل وعلا: * (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) *، وقوله تعالى: * (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) * وإرادتهم إطفاء نور الله بأفواههم، إنما هي بخصامهم وجدالهم بالباطل.
وقد بين تعالى في مواضع أخر. أن ما أراده الكفار من إدحاض الحق بالباطل لا يكون، وأنهم لا يصلون إلى ما أرادوا، بل الذي سيكون هو عكس ما أرادوه فيحق ويبطل الباطل، كما قال تعالى: * (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) *. وكقوله: * (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) *، وقوله: * (والله متم نوره ولو كره الكافرون) *،
307

وقوله تعالى: * (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) *، وقوله تعالى: * (وقل جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) *، وقوله تعالى: * (أنزل من السمآء مآء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه فى النار ابتغآء حلية أو متاع زبد مثله كذالك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفآء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الا رض كذالك يضرب الله الا مثال) * إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحق سيظهر ويعلو، وأن الباطل سيضمحل ويزهق ويذهب جفاء. وذلك هو نقيض ما كان يريده الكفار من إبطال الحق وإدحاضه بالباطل عن طريق الخصام والجدال. قوله تعالى: * (واتخذوا ءاياتى وما أنذروا هزوا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار اتخذوا آياته التي أنزلها على رسوله، وإنذاره لهم هزؤا، أي سخرية واستخفافا، والمصدر بمعنى اسم المفعول، أي اتخذوها مهزوءا بها مستخفا بها: كقوله: * (إن قومى اتخذوا هاذا القرءان مهجورا) *.
وهذا المعنى المذكور هنا جاء مبينا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: * (وإذا علم من ءاياتنا شيئا اتخذها هزوا) *، وكقوله تعالى: * (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون) *، وقوله تعالى: * (ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون) *، وقوله تعالى: * (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد) *، إلى غير ذلك من الآيات. و (ما) في قوله (ما أنذروا) مصدرية، كما قررنا، وعليه فلا ضمير محذوف. وقيل هي موصولة والعائد محذوف. تقديره: وما أنذروا به هزؤا. وحذف العائد المجرور بحرف إنما يطرد بالشروط التي ذكرنا في الخلاصة بقوله: لا تعتذروا قد كفرتم بعد) *، إلى غير ذلك من الآيات. و (ما) في قوله (ما أنذروا) مصدرية، كما قررنا، وعليه فلا ضمير محذوف. وقيل هي موصولة والعائد محذوف. تقديره: وما أنذروا به هزؤا. وحذف العائد المجرور بحرف إنما يطرد بالشروط التي ذكرنا في الخلاصة بقوله:
* كذلك الذي جر بما الموصول جر
* كمر بالذي مررت فهو بر
*
وفي قوله (هزوا) ثلاث قراءات سبعية قرأه حمزة بإسكان الزاي في الوصل. وبقية السبعة بضم الزاي وتحقيق الهمزة. إلا حفصا عن عاصم فإنه يبدل الهمزة واوا، وذلك مروي عن حمزة في الوقف. قوله تعالى * (ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه) *. ذكر جل
308

وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لا أحد أظلم. أي أكثر ظلما لنفسه ممن ذكر. أي وعظ بآيات ربه، وهي هذا القرآن العظيم (فأعرض عنها) أي تولى وصد عنها. وإنما قلنا: إن المراد بالآيات هذا القرآن العظيم لقرينة تذكير الضمير العائد إلى الآيات في قوله * (أن يفقهوه) *، أي القرآن المعبر عنه بالآيات. ويحتمل شمول الآيات للقرآن وغيره، ويكون الضمير في قوله * (أن يفقهوه) * أي ما ذكر من الآيات، كقول رؤبة: ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لا أحد أظلم. أي أكثر ظلما لنفسه ممن ذكر. أي وعظ بآيات ربه، وهي هذا القرآن العظيم (فأعرض عنها) أي تولى وصد عنها. وإنما قلنا: إن المراد بالآيات هذا القرآن العظيم لقرينة تذكير الضمير العائد إلى الآيات في قوله * (أن يفقهوه) *، أي القرآن المعبر عنه بالآيات. ويحتمل شمول الآيات للقرآن وغيره، ويكون الضمير في قوله * (أن يفقهوه) * أي ما ذكر من الآيات، كقول رؤبة:
* فيها خطوط من سواد وبلق
* كأنه في الجلد توليع البهق
*
وتظهر ذلك في القرآن قوله تعالى: * (قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذالك) * أي ذلك الذي ذكر من الفارض والبكر. ونظيره من كلام العرب قول ابن الزبعري: قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذالك) * أي ذلك الذي ذكر من الفارض والبكر. ونظيره من كلام العرب قول ابن الزبعري:
* إن للخير وللشر مدى
* وكلا ذلك وجه وقبل
*
أي كلا ذلك المذكور من خير وشر. وقد قدمنا إيضاح هذا. وقوله * (ونسى ما قدمت يداه) * أي من المعاصي والكفر، مع أن الله لم ينسه بل هو محصيه عليه ومجازيه، كما قال تعالى: * (يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شىء شهيد) *، وقال تعالى: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذالك وما كان ربك نسيا) *، وقال تعالى: * (قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) *. وقال بعض العلماء في قوله * (ونسى ما قدمت يداه) * أي تركه عمدا ولم يتب منه. وبه صدر القرطبي رحمه الله تعالى. وما ذكره في هذه الآية الكريمة من إن الإعراض عن التذكرة بآيات الله من أعظم الظلم، قد زاد عليه في مواضع أخر بيان أشياء من النتائج السيئة، والعواقب الوخيمة الناشئة من الإعراض عن التذكرة. فمن نتائجه السيئة: ما ذكره هنا من أن صاحبه من أعظم الناس ظلما. ومن نتائجه السيئة جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق، وعدم الاهتداء أبدا كما قال هنا مبينا بعض ما ينشأ عنه من العواقب السيئة: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا) * ومنها انتقام الله جل وعلا من المعرض عن التذكرة، كما قال تعالى: * (ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه ثم أعرض عنهآ إنا من المجرمين منتقمون) *. ومنها
309

كون المعرض كالحمار، كما قال تعالى: * (فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة) *. ومنها الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، كما قال تعالى: * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) *. ومنها المعيشة الضنك والعمى، كما قال تعالى: * (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) *. ومنها سلكه العذاب الصعد، كما قال تعالى: * (ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا) * ومنها تقبيضي القرناء من الشياطين، كما قال تعالى: * (ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين) * إلى غير ذلك من النتائج السيئة، والعواقب الوخيمة، الناشئة عن الإعراض عن التذكير بآيات الله جل وعلا. وقد أمر تعالى في موضع آخر بالإعراض عن المتولي عن ذكره، القاصر نظره على الحياة الدنيا. وبين أن ذلك هو مبلغه من العلم، فلا علم عنده بما ينفعه في معاده، وذلك في قوله تعالى: * (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيواة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم) *. وقد نهى جل وعلا عن طاعة مثل ذلك المتولي عن الذكر الغافلي عنه في قوله: * (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) * كما تقدم إيضاحه.
وقوله في هذه الآية: * (ما قدمت يداه) * أي ما قدم من أعمال الكفر. ونسبة التقديم إلى خصوص اليد لأن اليد أكثر مزاولة للأعمال من غيرها من الأعضاء، فنسبت الأعمال إليها على عادة العرب في كلامهم، وإن كانت الأعمال التي قدمها منها ما ليس باليد كالكفر باللسان والقلب، وغير ذلك من الأعمال التي لا تزوال باليد كالزنى. وقد بينا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) وجه الجمع بين قوله * (ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه) *، وقوله: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * ونحو ذلك من الآيات. وأشهر أوجه الجمع في ذلك وجهان: أحدهما أن كل من قال الله فيه: ومن أظلم ممن فعل كذا، لا أحد أظلم من واحد منهم. وإذا فهم متساوون في الظلم لا يفوق بعضهم فيه بعضا، فلا إشكال في كون كل واحد منهم لا أحد أظلم منه. والثاني أن صلة الموصول تعين كل واحد في محله. وعليه فالمعنى في قوله * (ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه فأعرض عنها) *. لا أحد أظلم ممن ذكر فأعرض أظلم ممن ذكر بآيات ربه
310

فأعرض عنها. وفي قوله: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) *، لا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا، وهكذا. والأول أولى. لأنه جار على ظاهر القرآن ولا إشكال فيه. وممن اختاره أبو حيان في البحر. قوله تعالى: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل على قلوب الظالمين المعرضين عن آيات الله إذا ذكروا بها أكنة أي أغطية تغطي قلوبهم فتمنعها من إدراك ما ينفعهم مما ذكروا به. وواحد الأكنة كنان، وهو الغطاء. وأنه جعل في آذانهم وقرا، أي ثقلا يمنعها من سماع ما ينفعهم من الآيات الذي ذكروا بها. وهذا المعنى أوضحه الله تعالى في آيات أخر. كقوله: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) *، وقوله: * (أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) *، وقوله تعالى: * (وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالا خرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك فى القرءان وحده ولوا على أدبارهم نفورا) *، وقوله: * (أولائك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) *، وقوله: * (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) *. والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا.
فإن قيل: إذا كانوا لا يستطيعون السمع ولا يبصرون ولا يفقهون، لأن الله جعل الأكنة المانعة من الفهم على قلوبهم. والوقر الذي هو الثقل المانع من السمع في آذانهم فهم مجبورون. فما وجه تعذيبهم على شيء لا يستطيعون العدول عنه والانصراف إلى غيره؟ ا
فالجواب أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة من كتابه العظيم: أن تلك الموانع التي يجعلها على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، كالختم والطبع والغشاوة والأكنة، ونحو ذلك إنما جعلها عليهم جزاء وفاقا لما بادروا إليه من الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم، فأزاغ الله قلوبهم بالطبع والأكنة ونحو ذلك، جزاء على كفرهم، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (بل طبع الله عليها بكفرهم) * أي بسبب كفرهم، وهو نص قرآني صريح في أن كفرهم السابق هو سبب الطبع على قلوبهم. وقوله: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *
311

وهو دليل أيضا واضح على أن سبب إزاغة الله قلوبهم هو زيغهم السابق. وقوله: * (ذلك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم) *، وقوله تعالى: * (فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) *، وقوله: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم فى طغيانهم يعمهون) *، وقوله تعالى: * (كلا بل ران على
قلوبهم ما كانوا يكسبون) *، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الطبع على القلوب ومنعها من فهم ما ينفع عقاب من الله على الكفر السابق على ذلك. وهذا الذي ذكرنا هو وجه رد شبهة الجبرية التي يتمسكون بها في هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم. وبهذا الذي قررنا يحصل الجواب أيضا عن سؤال يظهر لطالب العلم فيما قررنا: وهو أن يقول: قد بينتم في الكلام على الآية التي قبل هذه أن جعل الأكنة على القلوب من نتائج الإعراض عن آيات الله عند التذكير بها، مع أن ظاهر الآية يدل عكس ذلك من أن الإعراض المذكور سببه هو جعل الأكنة على القلوب، لأن (إن) من حروف التعليل كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، كقولك: اقطعه إنه سارق، وعاقبه إنه ظالم، فالمعنى: اقطعه لعله سرقته، وعاقبه لعلة ظلمه. وكذلك قوله تعالى: * (فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة) * أي أعرض عنها لعلة جعل الأكنة على قلوبهم. لأن الآيات الماضية دلت على أن الطبع الذي يعبر عنه تارة بالطبع، وتارة بالختم، وتارة بالأكنة، ونحو ذلك سببه الأول الإعراض عن آيات الله والكفر بها كما تقدم إيضاحه.
وفي هذه الآية الكريمة سؤالان معروفان: الأول أن يقال: ما مفسر الضمير في قوله: * (أن يفقهوه) * وقد قدمنا أنه الآيات في قوله * (ذكر بأايات ربه) * بتضمين الآيات معنى القرآن. فقوله * (أن يفقهوه) * أي القرآن المعبر عنه بالآيات كما تقدم إيضاحه قريبا.
السؤال الثاني أن يقال: ما وجه إفراد الضمير في قوله * (ذكر) * وقوله: * (أعرض عنها) * وقوله * (ونسى ما قدمت يداه) * مع الإتيان بصيغة الجمع في الضمير في قوله: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا) * مع أن مفسر جميع الضمائر المذكورة واحد، وهو الاسم الموصول في قوله: * (ممن ذكر بأايات ربه) *.
312

والجواب هو أن الإفراد باعتبار لفظ (من) والجمع باعتبار معناها، وهو كثير في القرآن العظيم. والتحقيق في مثل ذلك جواز مراعاة اللفظ تارة، ومراعاة المعنى تارة أخرى مطلقا. خلافا لمن زعم أن مراعاة اللفظ بعد مراعاة المعنى لا تصح. والدليل على صحة قوله تعالى: * (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيهآ أبدا قد أحسن الله له رزقا) * فإنه في هذه الآية الكريمة راعى لفظ (من) أولا فأفرد الضمير في قوله * (يؤمن) * وقوله (ويعمل) وقوله (يدخله) وراعى المعنى في قوله: * (خالدين) * فأتى فيه بصيغة الجمع، ثم راعى اللفظ بعد ذلك في قوله: * (قد أحسن الله له رزقا) * وقوله: * (أن يفقهوه) * فيه وفي كل ما يشابهه من الألفاظ وجهان معروفان لعلماء التفسير: أحدهما أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة لئلا يفقهوه. وعليه فلا النافية محذوفة دل المقام عليها. وعلى هذا القول هنا اقتصر ابن جرير الطبري. والثاني أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة كراهة أن يفقهوه، وعلى هذا فالكلام على تقدير مضاف، وأمثال هذه الآية في القرآن كثيرة. وللعلماء في كلها الوجهان المذكوران كقوله تعالى: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * أي لئلا تضلوا، أو كراهة أن تضلوا. وقوله: * (إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة) * أي لئلا تصيبوا، أو كراهة أن تصيبوا، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن العظيم.
وقوله تعالى: * (أن يفقهوه) * أي يفهموه. فالفقه: الفهم، ومنه قوله تعالى: * (فما لهاؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) * أي يفهمونه، وقوله تعالى * (قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول) * أي ما نفهمه. والوقر: الثقل. وقال الجوهري في صحاحه: الوقر بالفتح، الثقل في الأذن. والوقر بالكسر: الحمل، يقال جاء يحمل وقره، وأوقر بعيره وأكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغال والحمار ا ه وهذا الذي ذكره الجوهري وغيره جاء به القرآن، قال في ثقل الأذن: * (وفىءاذانهم وقرا) * وقال في الحمل: * (فالحاملات وقرا) *. قوله تعالى: * (وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا) *. بين في هذه الآية الكريمة: أن الذين جعل الله على قلوبهم أكنة تمنعهم أن يفقهوا ما ينفعهم من آيات القرآن التي ذكروا بها لا يهتدون أبدا، فلا ينفع فيهم دعاؤك إياهم إلى الهدى. وهذا المعنى الذي أشار
313

له هنا من أن من أشقاهم الله لا ينفع فيهم التذكير جاء مبينا في مواضع أخر، كقوله: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جآءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الا ليم) *، وقوله تعالى: * (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الا ليم) *، وقوله تعالى: * (وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) *، وقوله تعالى: * (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) *، وقوله تعالى: * (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين) *.
وهذه الآية وأمثالها في القرآن فيها وجهان معروفان عند العلماء.
أحدهما أنها في الذين سبق لهم في علم الله أنهم أشقياء، عياذا بالله تعالى.
والثاني أن المراد أنهم كذلك ما داموا متلبسين بالكفر. فإن هداهم الله إلى الإيمان وأنابوا زال ذلك المانع، والأول أظهر والعلم عند الله تعالى. والفاء في قوله: * (إذآ أتيآ) * لأن الفعل الذي بعد (لن) لا يصلح أن يكون شرطا ل (إن) ونحوها. والجزاء إذا لم يكن صالحا (لأن) يكون شرطا ل (إن) ونحوها لزم اقترانه بالفاء. كما عقده في الخلاصة بقوله: إذآ أتيآ) * لأن الفعل الذي بعد (لن) لا يصلح أن يكون شرطا ل (إن) ونحوها. والجزاء إذا لم يكن صالحا (لأن) يكون شرطا ل (إن) ونحوها لزم اقترانه بالفاء. كما عقده في الخلاصة بقوله:
* واقرن بفاحتما جوابا لو جعل
* شرطا لأن أو غيرها لم ينجعل
*
وقوله في هذه الآية الكريمة (إذا) جزاء وجواب. فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنهم جعلوا ما جيب أن يكون سببا للاهتداء سببا
لانتفائه. لأن المعنى: فلن يهتدوا إذا دعوتهم ذكر هذا المعنى الزمخشري، وتبعه أبو حيان في البحر. وهذا المعنى قد غلطا فيه، وغلط فيه خلق لا يحصى كثرة من البلاغيين وغيرهم.
وإيضاح ذلك أن الزمخشري هنا وأبا حيان ظنا أن قوله: * (عذرا) * شرط وجزاء، وأن الجزاء مرتب على الشرط كترتيب الجزاء على ما هو شرط فيه. ولذا ظنا أن الجزاء الذي هو عدم الاهتداء المعبر عنه في الآية بقوله: * (فلن يهتدوا) * مرتب على الشرط الذي هو دعاؤه إياهم المعبر عنه في الآية بقوله: * (وإن تدعهم إلى الهدى) * المشار إليه أيضا بقوله (إذا) فصار دعاؤه إياهم سبب انتفاء اهتدائهم وهذا غلط. لأن هذه القضية الشرطية في هذه الآية الكريمة ليست شرطية لزومية، حتى يكون بين شرطها وجزائها ارتباط، بل هي شرطية اتفاقية، والشرطية الاتفاقية
314

لا ارتباط أصلا بين طرفيها، فليس أحدهما سببا في الآخر، ولا ملزوما له، كما لو قلت: إن كان الإنسان ناطقا فالفرس صاهل فلا ربط بين الطرفين، لأن الجزاء في الاتفاقية له سبب آخر غير مذكور، كقولك: لو لم يخف الله لم يعصه، لأن سبب انتفاء العصيان ليس هو عدم الخوف الذي هو الشرط، بل هو شيء آخر غير مذكور، وهو تعظيم الله جل وعلا، ومحبته المانعة من معصيته. وكذلك قوله هنا: * (فلن يهتدوا إذا أبدا) * سببه الحقيقي غير مذكور معه فليس هو قوله (وإن تدعهم) كما ظنه الزمخشري وأبو حيان وغيرهما. بل سببه هو إرادة الله جل وعلا انتفاء اهتدائهم على وفق ما سبق في علمه أزلا.
ونظير هذه الآية الكريمة في عدم الارتباط بين طرفي الشرطية قوله تعالى: * (قل لو كنتم فى بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) * لأن سبب بروزهم إلى مضاجعهم شيء آخر غير مذكور في الآية، وهو ما سبق في علم الله من أن بروزهم إليها لا محالة واقع، وليس سببه كينونتهم في بيوتهم المذكورة في الآية. وكذلك قوله تعالى: * (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقد أوضحت الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في أرجوزتي في المنطق وشرحي لها في قولي: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقد أوضحت الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في أرجوزتي في المنطق وشرحي لها في قولي:
* مقدم الشرطية المتصلة
* مهما تكن صحبة ذاك التال له
*
* لموجب قد اقتضاها كسبب
* فهي اللزومية ثم إن ذهب
*
* موجب الاصطحاب ذا بينهما
* فالاتفاقية عند العلما
*
ومثال الشرطية المتصلة اللزومية قولك: كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا، لظهور التلازم بين الطرفين، ويكفي في ذلك حصول مطلق اللازمية دون التلازم من الطرفين، كقولك: كلما كان الشيء إنسانا كان حيوانا، إذ لا يصدق عكسه.
فلو قلت: كلما كان الشيء حيوانا كان إنسانا لم يصدق، لأن اللزوم في أحد الطرفين لا يقتضي الملازمة في كليهما، ومطلق اللزوم تكون به الشرطية لزومية، أما إذا عدم اللزوم من أصله بين طرفيها فهي اتفاقية. ومثالها: كلمة كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا. وبسبب عدم التنبه للفرق بين الشرطية اللزومية، والشرطية الاتفاقية ارتبك خلق كثير من النحويين والبلاغيين في الكلام على معنى (لو) لأنهم أرادوا أن يجمعوا في
315

المعنى بين قولك: لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودا. وبين قولك: لو لم يخف الله لم يعصه، مع أن الشرط سبب في الجزاء في الأول، لأنها شرطية لزومية، ولا ربط بينهما في الثاني لأنها شرطية اتفاقية. ولا شك أن من أراد أن يجمع بين المفترتين ارتبك، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وربك الغفور ذو الرحمة) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه غفور، أي كثير المغفرة، وأنه ذو الرحمة يرحم عباده المؤمنين يوم القيامة، ويرحم الخلائق في الدنيا.
وبين في مواضع أخر: أن هذه المغفرة شاملة لجميع الذنوب بمشيئته جل وعلا إلا الشرك. كقوله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء) *، وقوله: * (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) *.
وبين في موضع آخر: أن رحمته واسعة، وأنه سيكتبها للمتقين. وهو قوله: * (ورحمتى وسعت كل شىء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكواة) *.
وبين في مواضع أخر سعة مغفرته ورحمته: كقوله: * (إن ربك واسع المغفرة) *، وقوله: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) *. ونحو ذلك من الآيات.
وبين في مواضع أخر أنه مع سعة رحمته ومغفرته شديد العقاب. كقوله: * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب) * وقوله: * (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) *، وقوله تعالى: * (نبىء عبادى أنى أنا الغفور الرحيم وأن عذابى هو العذاب الا ليم) *، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب) *. بين في هذه الآية الكريمة: أنه لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من الذنوب كالكفر والمعاصي لعجل لهم العذاب لشناعة ما
يرتكبونه، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة. فهو يمهل ولا يهمل.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: * (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة) *، وقوله: * (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة) * وقد قدمنا هذا في سورة (النحل) مستوفى. قوله تعالى: * (بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه وإن لم يعجل لهم العذاب في الحال فليس غافلا عنهم ولا تاركا
316

عذابهم، بل هو تعالى جاعل لهم موعدا يعذبهم فيه، لا يتأخر العذاب عنه ولا يتقدم.
وبين هذا في مواضع أخر، كقوله في (النحل): * (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة ولاكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) *، وقوله في آخر سورة (فاطر): * (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولاكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا) *، وكقوله: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) *، وكقوله: * (ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب) *.
وقد دلت آيات كثيرة على أن الله لا يؤخر شيئا عن وقته الذي عين له ولا يقدمه عليه، كقوله: * (ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلهآ) *، وقوله: * (يستقدمون) *، وقوله تعالى: * (إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر) *، وقوله: * (لكل أجل كتاب) *، وقوله: * (لكل نبإ مستقر) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (لن يجدوا من دونه موئلا) * أي ملجأ يلجؤون إليه فيعتصمون به من ذلك العذاب المجعول له الموعد المذكور. وهو اسم مكان، من وأل يئل وألا ووؤلا بمعنى لجأ. ومعلوم في فن الصرف أن واوي الفاء من الثلاثي ينقاس مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه على المفعل بكسر العين كما هنا، ما لم يكن معتل اللام فالقياس فيه الفتح كالمولى. والعرب تقول: لا وألت نفسه، أي لا وجدت منجى تنجو به، ومنه قول الشاعر: لن يجدوا من دونه موئلا) * أي ملجأ يلجؤون إليه فيعتصمون به من ذلك العذاب المجعول له الموعد المذكور. وهو اسم مكان، من وأل يئل وألا ووؤلا بمعنى لجأ. ومعلوم في فن الصرف أن واوي الفاء من الثلاثي ينقاس مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه على المفعل بكسر العين كما هنا، ما لم يكن معتل اللام فالقياس فيه الفتح كالمولى. والعرب تقول: لا وألت نفسه، أي لا وجدت منجى تنجو به، ومنه قول الشاعر:
* لا وألت نفسك خليتها
* للعامرين ولم تكلم
*
وقال الأعشى: وقال الأعشى:
* وقد أخالس رب البيت غفلته
* وقد يحاذر مني ثم ما يئل
*
أي ما ينجو.
وأقوال المفسرين في (الموئل) راجعة إلى ما ذكرنا، كقول بعضهم: موئلا محيصا، وقول بعضهم منجى. وقول بعضهم محرزا، إلى غير ذلك. فكله بمعنى ما ذكرنا
317

.
وقوله تعالى: * (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا) *. بين في هذه الآية الكريمة: أن القرى الماضية لما ظلمت بتكذيب الرسل والعناد واللجاج في الكفر والمعاصي أهلكهم الله بذنوبهم.
وهذا الإجمال في تعيين هذه القرى وأسباب هلاكها، وأنواع الهلاك التي وقعت بها جاء مفصلا في آيات أخر كثيرة، كما جاء في القرآن من قصة قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وقوم موسى، كما تقدم بعض تفاصيله. والقرى: جمع قرية على غير قياس، لأن جمع التكسير على (فعل) بضم ففتح لا ينقاس إلا في جمع (فعلة) بالضم اسما كغرفة وقربة. أو (فعلى) إذا كانت أنثى الأفعل خاصة، كالكبرى والكبر، كما أشار لذلك في الخلاصة بقوله: وهذا الإجمال في تعيين هذه القرى وأسباب هلاكها، وأنواع الهلاك التي وقعت بها جاء مفصلا في آيات أخر كثيرة، كما جاء في القرآن من قصة قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وقوم موسى، كما تقدم بعض تفاصيله. والقرى: جمع قرية على غير قياس، لأن جمع التكسير على (فعل) بضم ففتح لا ينقاس إلا في جمع (فعلة) بالضم اسما كغرفة وقربة. أو (فعلى) إذا كانت أنثى الأفعل خاصة، كالكبرى والكبر، كما أشار لذلك في الخلاصة بقوله:
* وفعل جمعا لفعلة عرف
* ونحو كبرى.. الخ
*
أي وأما في غير ذلك فسماع يحفظ ولا يقاس عليه. وزاد في التسهيل نوعا ثالثا ينقاس فيه (فعل) بضم ففتح، وهو الفعلة بضمتين إن كان اسما كجمعة وجمع. واسم الإشارة في قوله: * (وتلك القرى) * إنما أشير به لهم لأنهم يمرون عليها في أسفارهم، كقوله: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وباليل أفلا تعقلون) *، وقوله: * (وإنها لبسبيل مقيم) *، وقوله: * (وإنهما لبإمام مبين) * ونحو ذلك من الآيات.
وقوله (وتلك) مبتدأ و (القرى) صفة له. أو عطف بيان. وقوله: (أهلكناهم) هو الخبر. ويجوز أن يكون الخبر هو (القرى) وجملة (أهلكناهم) في محل حال، كقوله: * (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) *. ويجوز أن يكون قوله: (وتلك) في محل نصب بفعل محذوف يفسره العامل المشتغل بالضمير، على حد قوله في الخلاصة: فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) *. ويجوز أن يكون قوله: (وتلك) في محل نصب بفعل محذوف يفسره العامل المشتغل بالضمير، على حد قوله في الخلاصة:
* إن مضمر اسم سابق فعلا شغل
* عنه بنصب لفظه أو المحل
*
* فالسابق انصبه بفعل أضمرا
* حتما موافق لما قد أظهرا
*
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (لمهلكهم موعدا) * قرأه عامة السبعة ما عدا عاصما بضم الميم وفتح اللام على صيغة اسم المفعول. وهو محتمل على هذه القراءة أن يكون مصدرا ميميا، أي جعلنا لإهلاكهم موعدا. وأن يكون اسم زمان، أي
318

وجعلنا لوقت إهلاكهم وعدا. وقد تقرر في فن الصرف أن كل فعل زاد ماضيه على ثلاثة أحرف مطلقا فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه واسم زمانه أن يكون الجميع بصيغة اسم المفعول. والمهلك بضم الميم من أهلكه الرباعي. وقرأه حفص عن عاصم (لمهلكهم) بفتح الميم وكسر اللام. وقرأه شعبة عن عاصم (لمهلكهم) بفتح الميم واللام معا. والظاهر أنه على قراءة حفص اسم زمان، أي وجعلنا لوقت هلاكهم موعدا. لأنه من هلك يهلك بالكسر. وما كان ماضيه على (فعل) بالفتح ومضارعه (يفعل) بالكسر كهلك يهلك، وضرب يضرب، ونزل ينزل فالقياس في اسم مكانه وزمانه (المفعل) بالكسر. وفي مصدره الميمي المفعل بالفتح. تقول هذا منزله بالكسر أي مكان نزوله أو وقت نزوله، وهذا (منزله) بفتح الزاي. أي نزوله، وهكذا. منه قول الشاعر: وهو محتمل على هذه القراءة أن يكون مصدرا ميميا، أي جعلنا لإهلاكهم موعدا. وأن يكون اسم زمان، أي وجعلنا لوقت إهلاكهم وعدا. وقد تقرر في فن الصرف أن كل فعل زاد ماضيه على ثلاثة أحرف مطلقا فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه واسم زمانه أن يكون الجميع بصيغة اسم المفعول. والمهلك بضم الميم من أهلكه الرباعي. وقرأه حفص عن عاصم (لمهلكهم) بفتح الميم وكسر اللام. وقرأه شعبة عن عاصم (لمهلكهم) بفتح الميم واللام معا. والظاهر أنه على قراءة حفص اسم زمان، أي وجعلنا لوقت هلاكهم موعدا. لأنه من هلك يهلك بالكسر. وما كان ماضيه على (فعل) بالفتح ومضارعه (يفعل) بالكسر كهلك يهلك، وضرب يضرب، ونزل ينزل فالقياس في اسم مكانه وزمانه (المفعل) بالكسر. وفي مصدره الميمي المفعل بالفتح. تقول هذا منزله بالكسر أي مكان نزوله أو وقت نزوله، وهذا (منزله) بفتح الزاي. أي نزوله، وهكذا. منه قول الشاعر:
* أأن ذكرتك الدار منزلها جمل
* بكيت فدمع العين منحدر سجل
*
فقوله (منزلها جمل) بالفتح. أي نزول جمل إياها وبه تعلم أنه على قراءة شعبة (لمهلكهم) بفتح الميم واللام أنه مصدر ميمي. أي وجعلنا لهلاكهم موعدا. والموعد: الوقت المحدد لوقوع ذلك فيه.
تنبيه
لفظة (لما) ترد في القرآن وفي كلام العرب على ثلاثة أنواع:
الأول لما النافية الجازمة للمضارع. نحو قوله: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) *، وقوله: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) *. وهذه حرف بلا خلاف، وهي مختصة بالمضارع. والفوارق المعنوية بينها وبين لم النافية مذكورة في علم العربية، وممن أوضحها ابن هشام وغيره.
الثاني أن تكون حرف استثناء بمعنى إلا. فتدخل على الجملة الاسمية. كقوله تعالى: * (إن كل نفس لما عليها حافظ) * في قراءة من شدد (لما) أي ما كل نفس إلا عليها حافظ. ومن هذا النوع قول العرب: أنشدك الله لما فعلت. أي ما أسألك إلا فعلك. ومنه قول الراجز: إن كل نفس لما عليها حافظ) * في قراءة من شدد (لما) أي ما كل نفس إلا عليها حافظ. ومن هذا النوع قول العرب: أنشدك الله لما فعلت. أي ما أسألك إلا فعلك. ومنه قول الراجز:
* قالت له الله يا ذا البردين
* لما غنثت نفسا أو نفسين
*
319

فقولها (غنثت) بغين معجمة ونون مكسورة وثاء مثلثة مسندا لتاء المخاطب. والمراد بقولها (غنث) تنفست في الشرب. كنت بذلك عن الجماع، تريد عدم متابعته لذلك، وأن يتنفس بين ذلك. وهذا النوع حرف أيضا بلا خلاف. وبعض أهل العلم يقول: إنه لغة هذيل.
الثالث من أنواع (لما) هو النوع المختص بالماضي المقتضي جملتين، توجد ثانيتهما عند وجود أولاهما، كقوله: * (لما ظلموا) * أي لما ظلموا أهلكناهم، فما قبلها دليل على الجملة المحذوفة. وهذا النوع هو الغالب في القرآن وفي كلام العرب. (ولما) هذه التي تقتضي ربط جملة بجملة اختلف فيها النحويون: هل هي حرف، أو اسم، وخلافهم فيها مشهور، وممن انتصر لأنها حرف ابن خروف وغيره. وممن انتصر لأنها اسم ابن السراج والفارسي وابن جني وغيرهم. وجواب (لما) هذه يكون فعلا ماضيا بلا خلاف. كقوله تعالى: * (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم) *، ويكون جملة اسمية مقروية ب (إذا) الفجائية. كقوله: * (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) *، أو مقرونة بالفاء كقوله: * (فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) *، ويكون حواسا فعلا مضارعا كما قاله ابن عصفور. كقوله: * (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجآءته البشرى يجادلنا فى قوم لوط) *. وبعض ما ذكرنا لا يخلو من مناقشة عند علماء العربية، ولكنه هو الظاهر.
هذه الأنواع الثلاثة، هي التي تأتي لها (لما) في القرآن وفي كلام العرب.
أما (لما) المتركبة من كلمات أو كلمتين فليست من (لما) التي كلامنا فيها، لأنها غيرها. فالمركبة من كلمات كقول بعض المفسرين في معنى قوله تعالى: * (وإن كلا لما ليوفينهم ربك) * في قراءة ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بتشديد نون (إن) وميم (لما) على قول من زعم أن الأصل على هذه القراءة: لمن ما بمن التبعيضية، وما بمعنى من، أ ي و إن كلا لمن جملة ما يوفيهم ربك أعمالهم، فأبدلت نون (من) ميما وأدغمت في ما، فلما كثرت الميمات حذفت الأولى فصار لما. وعلى هذا القول: ف (لما) مركبة من ثلاث كلمات: الأولى الحرف الذي هو اللام، والثانية من، والثالثة ما، وهذا القول وإن قال به بعض أهل العلم لا يخفى ضعفه وبعده، وأنه لا يجوز حمل القرآن عليه. وقصدنا مطلق التمثيل ل (لما) المركبة من كلمات على
320

قول من قال بذلك. وأما المركبة من كلمتين فكقول الشاعر: وإن كلا لما ليوفينهم ربك) * في قراءة ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بتشديد نون (إن) وميم (لما) على قول من زعم أن الأصل على هذه القراءة: لمن ما بمن التبعيضية، وما بمعنى من، أ ي و إن كلا لمن جملة ما يوفيهم ربك أعمالهم، فأبدلت نون (من) ميما وأدغمت في ما، فلما كثرت الميمات حذفت الأولى فصار لما. وعلى هذا القول: ف (لما) مركبة من ثلاث كلمات: الأولى الحرف الذي هو اللام، والثانية من، والثالثة ما، وهذا القول وإن قال به بعض أهل العلم لا يخفى ضعفه وبعده، وأنه لا يجوز حمل القرآن عليه. وقصدنا مطلق التمثيل ل (لما) المركبة من كلمات على قول من قال بذلك. وأما المركبة من كلمتين فكقول الشاعر:
* لما رأيت أبا يزيد مقاتلا
* أدع القتال وأشهد الهيجاء
*
لأن قوله (لما) في هذه البيت، مركبة من (لن) النافية الناصبة للمضارع و (ما) المصدرية الظرفية، أي لن أدع القتال ما رأيت أبا يزيد مقاتلا، أي مدة رؤيتي له مقاتلا.
* (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله فى البحر سربا * فلما جاوزا قال لفتاه ءاتنا غدآءنا لقد لقينا من سفرنا هاذا نصبا * قال أرأيت إذ أوينآ إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت ومآ أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله فى البحر عجبا * قال ذالك ما كنا نبغ فارتدا علىءاثارهما قصصا * فوجدا عبدا من عبادنآ ءاتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معى صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدنى إن شآء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا * قال فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شىء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا فى السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا * قال لا تؤاخذنى بما نسيت ولا ترهقنى من أمرى عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا * قال إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى عذرا) * قوله تعالى: * (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى وفتاه نصبا حوتهما لما بلغ مجمع البحرين، ولكنه تعالى أوضح أن النسيان واقع من فتى موسى، لأنه هو الذي كان تحت يده الحوت، وهو الذي نسيه. وإنما أسند النسيان إليهما، لأن إطلاق المجموع مرادا بعضه أسلوب عربي كثير في القرآن وفي كلام العرب. وقد أوضحنا أن من أظهر أدلته قراءة حمزة والكسائي * (فإن قاتلوكم فاقتلوهم) * من القتل في الفعلين لا من القتال، أي فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر. والدليل على أن النسيان إنما وقع من فتى موسى دون موسى قوله تعالى عنهما: * (فلما جاوزا قال لفتاه ءاتنا غدآءنا لقد لقينا من سفرنا هاذا نصبا قال أرأيت إذ أوينآ إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت ومآ أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) *، لأن قول موسى: (آتنا غداءنا) يعني به الحوت فهو يظن أن فتاه لم ينسه، كما قاله غير واحد. وقد صرح فتاه: بأنه نسيه بقوله: * (فإنى نسيت الحوت ومآ أنسانيه إلا الشيطان) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ومآ أنسانيه إلا الشيطان) * دليل على أن النسيان من الشيطان كما دلت عليه آيات أخر. كقوله تعالى: * (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) * وقوله تعالى: * (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله) *.
وفتى موسى هو يوشع بن نون. والضمير في قوله تعالى: * (مجمع بينهما) * عائد إلى (البحرين) المذكورين في قوله تعالى: * (لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين) *. والمجمع: اسم مكان على القياس، أي مكان اجتماعهما.
والعلماء مختلفون في تعيين (البحرين) المذكورين. فذهب أكثرهم إلى أنهما بحر
321

فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب. وقال محمد بن كعب القرطي: (مجمع البحرين) عند طنجة في أقصى بلاد المغرب وروى ابن أبي حاتم من طريق السدى قال: هما الكر والرأس حيث يصبان في البحر. وقال ابن عطية: (مجمع البحرين) ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان، يخرج من البحر المحيط من شماله إلى جنوبه، وطرفيه مما يلي بر الشام. وقيل: هما بحر الأردن والقلزم. وعن ابن المبارك قال: قال بعضهم بحر أرمينية. وعن أبي بن كعب قال: بإفريقية. إلى غير ذلك من الأقوال. ومعلوم أن تعيين (البحرين) من النوع الذي قدمنا أنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، وليس في معرفته فائدة، فالبحث عنه تعب لا طائل تحته، وليس عليه دليل يجب الرجوع إليه. وزعم بعض الملاحدة الكفرة المعاصرين: أن موسى لم يسافر إلى مجمع بحرين، بدعوى أنه لم يعرف ذلك في تاريخه زعم في غاية الكذب والبطلان. ويكفي في القطع بذلك أنه مناقض لقوله تعالى: * (فلما بلغا مجمع بينهما) *. مع التصريح بأنه سفر فيه مشقة وتعب، وذلك لا يكون إلا في بعيد السفر، ولذا قال تعالى عن موسى: * (لقد لقينا من سفرنا هاذا نصبا) *. ومعلوم أن ما ناقض القرآن فهو باطل، لأن نقيض الحق باطل بإجماع العقلاء لاستحالة صدق النقيضين معا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ومآ أنسانيه إلا الشيطان) * قرأه عامة القراء ما عدا حفصا (أنسانيه) بكسر الهاء. وقرأه حفص عن عاصم (أنسانيه) بضم الهاء. قوله تعالى: * (فوجدا عبدا من عبادنآ ءاتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما) *. هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو الخضر عليه السلام بإجماع العلماء، ودلالة النصوص الصحيحة على ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبين هنا هل هما رحمة النبوة وعلمها، أو رحمة الولاية وعلمها. والعلماء مختلفون في الخضر: هل هو نبي، أو رسول، أو ولي. كما قال الراجز:. وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبين هنا هل هما رحمة النبوة وعلمها، أو رحمة الولاية وعلمها. والعلماء مختلفون في الخضر: هل هو نبي، أو رسول، أو ولي. كما قال الراجز:
* واختلفت في خضر أهل العقول
* قيل نبي أو ولي أو رسول
*
وقيل ملك. ولكنه يفهم من بعض الآيات أن هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة. وأن هذا العلم اللدني علم وحي، مع العلم بأن في الاستدلال بها على ذلك مناقشات معروفة عند العلماء.
اعلم أولا أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن. وكذلك العلم المؤتى
322

من الله تكرر إطلاقه فيه على علم الوحي. فمن إطلاق الرحمة على النبوة قوله تعالى في (الزخرف): * (وقالوا لولا نزل هاذا القرءان على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك) *. أي نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين. وقوله تعالى في سورة (الدخان): * (فيها يفرق كل أمر حكيم) * * (أمرا من عندنآ إنا كنا مرسلين رحمة من ربك) *، وقوله تعالى في آخر (القصص): * (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) *. ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله تعالى: * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) *، وقوله: * (وإنه لذو علم لما علمناه) *، إلى غير ذلك من الآيات. ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها. والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف. ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه: * (وما فعلته عن أمرى) * أي وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا. وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي، إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا. ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها. لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى. وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى: * (قل إنمآ أنذركم بالوحى) * و (إنما) صيغة حصر. فإن قيل: قد يكون ذلك عن طريق الإلهام؟ فالجواب أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء، لعدم العصمة، وعدم الدليل على الاستدلال به. بل لوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به، وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره، وما يزعمه بعض الجبرية أيضا من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره جاعلين الإلهام كالوحي المسموع مستدلين بظاهر قوله تعالى: * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) *، وبخبر (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) كله باطل لا يعول عليه، لعدم اعتضاده بدليل. وغير المعصوم لا ثقة بخواطره، لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان. وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات. والإلهام في الاصطلاح: إيقاع شيء
323

في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي ولا نظر في حجة عقلية، يختص الله به من يشاء من خلقه. أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كالإلهام غيرهم، لأنهم معصومون بخلاف غيرهم. قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) *، وبخبر (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) كله باطل لا يعول عليه، لعدم اعتضاده بدليل. وغير المعصوم لا ثقة بخواطره، لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان. وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات. والإلهام في الاصطلاح: إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي ولا نظر في حجة عقلية، يختص الله به من يشاء من خلقه. أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كالإلهام غيرهم، لأنهم معصومون بخلاف غيرهم. قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال:
* وينبذ الإلهام بالعراء
* أعني به إلهام الأولياء
*
* وقد رآه بعض من تصوفا
* وعصمة النبي توجب اقتفا
*
وبالجملة، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه، وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي. فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل، وما جاؤوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته. والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاما. وقال تعالى: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *. وقال: * (ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك) *. والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا. وقد بينا طرفا من ذلك في سورة (بني إسرائيل) في الكلام على قوله: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *. وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقا باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره.
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره ما نصه: قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة. وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص. بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم. ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما
324

ينقلون (استفت قلبك وإن أفتاك المفتون). قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول زندقة وكفر، يقتل قائله ولا يستتاب. لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالتهم وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى: * (الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير) *، وقال تعالى: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * وقال تعالى: * (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) *، إلى غير ذلك من الآيات. وعلى الجملة، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل. فمن قال إن هناك طريقا أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل حيث يستغني عن الرسل فهو كافر يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال وجواب. ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول.
وبيان ذلك أن من قال: يأخذ عن قلبه. وأن ما يقع فيه حكم الله تعالى، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه ولا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة. فإن هذا نحو ما قاله صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي..) الحديث. انتهى من تفسير القرطبي.
وما ذكره في كلام شيخه المذكور من أن الزنديق لا يستتاب هو مذهب مالك ومن وافقه، وقد بينا أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم، وما يرجحه الدليل في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة (آل عمران). وما يستدل به بعض الجهلة ممن يدعي التصوف على اعتبار الإلهام من ظواهر بعض النصوص كحديث (استفت قلبك وأن أفتاك الناس وأفتوك) لا دليل فيه البتة على اعتبار الإلهام: لأنه لم يقل أحد ممن يعتد به أن المفتي الذي تتلقى الأحكام الشرعية من قبله القلب، بل من الحديث: التحذير من الشبه، لأن الحرام بين والحلال بين، وبينهما أمور مشتبهة لا يعلمها كل الناس. فقد يفتيك المفتي بحلية شيء وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراما، وذلك باستناد إلى الشرع، فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة، والحديث، كقوله (دع ما
325

يريبك إلى ما لا يريبك) وقوله صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) رواه مسلم من حديث النواس بن
سمعان رضي الله عنه، وحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه المشار إليه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (جئت تسأل عن البر)؟ قلت نعم: قال: (استفت قلبك. البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأنت إليه القلب. والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك) قال النووي في (رياض الصالحين): حديث حسن، رواه أحمد والدارمي في مسنديهما. ولا شك أن المراد بهذا الحديث ونحوه الحث على الورع وترك الشبهات، فلو التبست مثلا ميتة بمذكاة، أو امرأة محرم بأجنبية، وأفتاك بعض المفتين بحلية إحداهما لاحتمال أن تكون هي المذكاة في الأول، والأجنبية في الثاني. فإنك إذا استفتيت قلبك علمت أنه يحتمل أن تكون هي الميتة أو الأخت، وأن ترك الحرام والاستبراء للدين والعرض لا يتحقق إلا بتجنب الجميع، لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب. فهذا يحيك في النفس ولا تنشرح له، لاحتمال الوقوع في الحرام فيه كما ترى. وكل ذلك مستند لنصوص الشرح لا للالهام.
ومما يدل على ما ذكرنا من كلام أهل الصوفية المشهود لهم بالخير والدين والصلاح قول الشيخ أبي القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخزاز القواريري رحمه الله: (مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة)، نقله عنه غير واحد ممن ترجمه رحمه الله، كابن كثير وابن خلكان وغيرهما. ولا شك أن كلامه المذكور هو الحق، فلا أمر ولا نهي إلا على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام. وبهذا كله تعلم أن قتل الخضر للغلام، وخرقه للسفينة، وقوله: * (وما فعلته عن أمرى) * دليل ظاهر على نبوته. وعز الفخر الرازي في تفسيره القول بنبوته للأكثرين، ومما يستأنس به للقول بنبوته تواضع موسى عليه الصلاة والسلام له في قوله: * (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا) *، وقوله: * (قال ستجدنى إن شآء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا) * مع قول الخضر له * (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) *.
مسألة
اعلم أن العلماء اختلفوا في الخضر: هل هو حي إلى الآن، أو هو غير حي، بل ممن مات فيما مضى من الزمان؟ فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه حي، وأنه شرب من
326

عين تسمى عين الحياة. وممن نصر القول بحياته القرطبي في تفسيره، والنووي في شرح مسلم وغيره، وابن الصلاك، والنقاش وغيرهم. قال ابن عطية: وأطنب النقاش له هذا المعنى، يعني حياة الخضر وبقاءه إلى يوم القيامة. وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب، وكلها لا تقوم على ساق انتهى بواسطة نقل القرطبي في تفسيره.
وحكايات الصالحين عن الخضر أكثر من أن تحصر. ودعواهم أنه يحج هو وإلياس كل سنة، ويروون عنهما بعض الأدعية. كل ذلك معروف. ومستند القائلين بذلك ضعيف جدا. لأن غالبه حكايات عن بعض من يظن به الصلاح. ومنامات وأحاديث مرفوعة عن أنس وغيره، وكلها ضعيف لا تقوم به حجة.
ومن أقواه عند القائلين به آثار التعزية حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ابن عبد البر في تميهده عن علي رضي الله عنه قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وسجى بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. السلام عليكم أهل البيت * (كل نفس ذآئقة الموت) *. إن في الله خلفا من كل هالك، وعوضا من كل تالف، وعزاء من كل مصيبة فبالله فتقوا، وإياه فارجو. فإن المصاب من حرم الثواب. فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام. يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى بواسطة نقل القرطبي في تفسيره.
قال مقيده عفا الله عنه: والاستدلال على حياة الخضر بآثار التعزية كهذا الأثر الذي ذكرنا آنفا مردود من وجهين:
الأول أنه لم يثبت ذلك بسند صحيح. قال ابن كثير في تفسيره: وحكى النووي وغيره في بقاء الخضر إلى الآن، ثم إلى يوم القيامة قولين، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه. وذكروا في ذلك حكايات عن السلف وغيرهم. وجاء ذكره في بعض الأحاديث، ولا يصح شيء من ذلك. وأشهرها حديث التعزية وإسناده ضعيف ا ه. منه.
الثاني أنه على فرض أن حديث التعزية صحيح لا يلزم من ذلك عقلا ولا شرعا ولا عرفانا أن يكون ذلك المعزي هو الخضر. بل يجوز أن يكون غير الخضر من مؤمني الجن. لأن الجن هم الذين قال الله فيهم: * (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) *. ودعوى أن ذلك المعزي هو الخضر تحكم بل دليل. وقولهم: كانوا يرون أنه الخضر ليس حجة يجب الرجوع إليها. لاحتمال أن يخطئوا في ظنهم، ولا يدل ذلك على
327

إجماع شرعي معصوم، ولا متمسك لهم في دعواهم أنه الخضر كما ترى.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسألة أن الخضر ليس بحي بل توفي، وذلك لعدة أدلة:
الأول ظاهر عموم قوله تعالى: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون) *، فقوله (لبشر) نكرة في سياق النفي فهي تعم كل بشر فيلزم من ذلك نفي الخلد عن كل بشر من قبله. والخضر بشر من قبله. فلو كان شرب من عين الحياة وصار حيا خالدا إلى يوم القيامة لكان الله قد جعل لذلك البشر الذي هو الخضر من قبله الخلد.
الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) فقد قال مسلم في صحيحه: حدثنا هناد بن السري، حدثنا ابن المبارك عن عكرمة بن عمار، حدثني سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر (ح) وحدثنا زهير بن حرب واللفظ له، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني أبو زميل هو زميل الحنفي، حدثني عبد الله بن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا. فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل
يهتف بربه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: * (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) * فأمده الله بالملائكة.. الحديث. ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تعبد في الأرض) فعل في سياق النفي فهو بمعنى: لا تقع عبادة لك في الأرض، لأن الفعل ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين. وعن مصدر ونسبة وزمن عند كثير من البلاغيين. فالمصدر كامن في مفهومه إجماعا، فيتسلط عليه النفي فيؤول إلى النكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم كما تقدم إيضاحه في سورة (بني إسرائيل) وإلى كون الفعل في سياق النفي والشرط من صيغ العموم أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما يفيد العموم
328

: فالمصدر كامن في مفهومه إجماعا، فيتسلط عليه النفي فيؤول إلى النكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم كما تقدم إيضاحه في سورة (بني إسرائيل) وإلى كون الفعل في سياق النفي والشرط من صيغ العموم أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما يفيد العموم:
* ونحو لا شربت أو إن شربا
* واتفقوا إن مصدر قد جلبا
*
فإذا علمت أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) أي لا تقع عبادة لك في الأرض.
فاعلم أن ذلك النفي يشمل بعمومه وجود الخضر حيا في الأرض، لأنه على تقدير وجوده حيا في الأرض فإن الله يعبد في الأرض، ولو على فرض هلاك تلك العصابة من أهل الإسلام. لأن الخضر ما دام حيا فهو يعبد الله في الأرض. وقال البخاري في صحيحه: حدثني محمد بن عبد الله بن حوشب حدثنا عبد الوهاب، حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (اللهم أنشدك عهدك ووعدك. اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض) فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبكا فخرج وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر). فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض) أي إن شئت إهلاك هذه الطائفة من أهل الإسلام لم تعبد في الأرض. فيرجع معناه إلى الرواية التي ذكرنا عن مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد بينا وجه الاستدلال بالحديث عن وفاة الخضر.
الثالث إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه على رأس مائة سنة من الليلة التي تكلم فيها بالحديث لم يبق على وجه الأرض أحد ممن هو عليها تلك الليلة، فلو كان الخضر حيا في الأرض لما تأخر بعد المائة المذكورة. قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن رافع. وعبد بن حميد، قال محمد بن رافع: حدثنا، وقال عبد: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، أخبرني سالم بن عبد الله وأبو بكر بن سليمان: أن عبد الله بن عمر قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته. فلما سلم قام فقال: (أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد)، يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الداري، أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب، ورواه الليث عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، كلاهما عن الزهري بإسناد معمر كمثل حديثه، حدثني هارون بن عبد الله، وحجاج بن الشاعر قالا: حدثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر: (تسألوني
329

عن الساعة وإنما علمها عند الله. وأقسم الله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة) حدثنيه محمد بن حاتم، حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج بهذا الإسناد ولم يذكر (قبل موته بشهر).
حدثني يحيى بن حبيب، ومحمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن المعتمر قال ابن حبيب، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي حدثنا أبو نضرة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك قبل موته بشهر أو نحو ذلك: (ما من نفس منفوسة اليوم تأتي مائة سنة وهي حية يومئذ) وعن عبد الرحمن صاحب السقاية، عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك. وفسرها عبد الرحمن قال: نقص العمر. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا سليمان التيمي بالإسنادين جميعا مثله. حدثنا ابن نمير، حدثنا أبو خالد عن داود واللفظ له (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سليمان بن حيان عن داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك سألوه عن الساعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تأتي مائة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم) حدثني إسحاق بن منصور، أخبرنا أبو الوليد، أخبرنا أبو عوانة عن حصين عن سالم عن جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نفس منفوسة تبلغ مائة سنة) فقال سالم: تذاكرنا ذلك عنده: إنما هي كل نفس مخلوقة يومئذ ا ه منه بلفظه.
فهذا الحديث الصحيح الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر، وجابر، وأبو سعيد فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا تبقى نفس منفوسة حية على وجه الأرض بعد مائة سنة. فقوله (نفس منفوسة) ونحوها من الألفاظ في روايات الحديث نكرة في سياق النفي فهي تعم كل نفس مخلوقة على الأرض. ولا شك أن ذلك العموم بمقتضى اللفظ يشمل الخضر، لأنه نفس منفوسة على الأرض. وقال البخاري في صحيحه: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال: حدثني سالم بن عبد الله بن عمر، وأبو بكر بن أبي حثمة أن عبد الله بن عمر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد) فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يتحدثون
من هذه الأحاديث عن مائة سنة: وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض) يريد بذلك أنها تخرم ذلك القرن انتهى منه بلفظه. وقد بينا وجه دلالته على المراد قريبا.
330

الرابع أن الخضر لو كان حيا إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم لكان من أتباعه، ولنصره وقاتل معه، لأنه مبعوث إلى جميع الثقلين الإنس والجن. والآيات الدالة على عموم رسالته كثيرة جدا، كقوله تعالى: * (قل ياأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا) *، وقوله: * (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) *، وقوله تعالى: * (ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس) * ويوضح هذا أنه تعالى بين في سورة (آل عمران): أنه أخذ على جميع النبيين الميثاق المؤكد أنهم إن جاءهم نبينا صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم أن يؤمنوا به وينصرونه، وذلك في قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذالكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذالك فأولائك هم الفاسقون) *.
وهذه الآية الكريمة على القول بأن المراد بالرسول فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، كما قاله ابن العباس وغيره فالأمر واضح. وعلى أنها عامة فهو صلى الله عليه وسلم يدخل في عمومها دخولا أوليا. فلو كان الخضر حيا في زمنه لجاءه ونصره وقاتل تحت رايته. ومما يوضح أنه لا يدركه نبي إلا اتبعه ما رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث جابر رضي الله عنه: أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضب وقال: (لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو يباطل فتصدقوا به. والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني) ا ه قال ابن حجر في الفتح: ورجاله موثوقون، إلا أن في مجالد ضعفا. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه بعد أن ساق آية (آل عمران) المذكورة آنفا مستدلا بها على أن الخضر لو كان حيا لجاء النبي صلى الله عليه وسلم ونصره ما نصه: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبينا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذها على أمته الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به وينصرونه ذكره البخاري عنه ا ه. فالخضر إن كان نبيا أو وليا فقد دخل في هذا الميثاق. فلو كان حيا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أشرف أحواله أن يكون بين يديه، يؤمن بما أنزل الله عليه، وينصره أن يصل أحد من الأعداء إليه. لأنه إن كان وليا فالصديق أفضل منه. وإن كان نبيا فموسى أفضل منه
331

.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده: حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا هشيم أنبأنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني) وهذا الذي يقطع به ويعلم من الدين علم الضرورة..
وقد دلت هذه الآية الكريمة: أن الأنبياء كلهم لو فرض أنهم أحياء مكلفون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانوا كلهم أتباعا له وتحت أوامره، وفي عموم شرعه. كما أن صلوات الله وسلامه عليه لما اجتمع بهم الإسراء رفع فوقهم كلهم، ولما هبطوا معه إلى بيت المقدس وحانت الصلاة أمره جبريل عن أمر الله أن يؤمهم. فصلى بهم في محل ولايتهم ودار إقامتهم. فدل على أنه الإمام الأعظم، والرسول الخاتم المبجل المقدم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
فإذا علم هذا، وهو معلوم عند كل مؤمن علم أنه لو كان الخضر حيا لكان من جملة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وممن يقتدى بشرعه لا يسعه إلا ذلك. هذا عيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة، لا يخرج منها ولا يحيد عنها، وهو أحد أولي العزم الخمسة المرسلين، وخاتم أنبياء بني إسرائيل. والمعلوم أن الخضر لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن النفس إليه أنه اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد، ولم يشهد معه قتالا في مشهد من المشاهد. وهذا يوم بدر يقول الصادق المصدوق فيما دعا به ربه عز وجل واستنصره واستفتحه على من كفره: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض) وتلك العصابة كان تحتها سادة المسلمين يومئذ، وسادة الملائكة حتى جبريل عليه السلام. كما قال حسان بن ثابت في قصيدة له في بيت يقال بأنه أفخر بيت قالته العرب: في يوم واحد، ولم يشهد معه قتالا في مشهد من المشاهد. وهذا يوم بدر يقول الصادق المصدوق فيما دعا به ربه عز وجل واستنصره واستفتحه على من كفره: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض) وتلك العصابة كان تحتها سادة المسلمين يومئذ، وسادة الملائكة حتى جبريل عليه السلام. كما قال حسان بن ثابت في قصيدة له في بيت يقال بأنه أفخر بيت قالته العرب:
* وببئر بدر إذ يرد وجوههم
* جبريل تحت لوائنا ومحمد
*
فلو كان الخضر حيا لكان وقوفه تحت هذه الراية أشرف مقاماته، وأعظم غزواته. قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي: سئل بعض أصحابنا عن الخضر هل مات؟ فقال: نعم. قال: وبلغني مثل هذا عن أبي طاهر بن العبادي قال: وكان يحتج بأنه لو كان حيا لجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نقله ابن الجوزي في العجالة. فإن قيل: فهل يقال إنه كان حاضرا في هذه المواطن كلها ولكن لم يكن أحد يراه؟ فالجواب أن الأصل عدم هذا الاحتمال البعيد الذي يلزم منه تخصيص العمومات بمجرد التوهمات. ثم
332

ما الحامل له على هذا الاختفاء؟ وظهوره أعظم لأجره، وأعلى في مرتبته، وأظهر لمعجزته. ثم لو كان باقيا بعده لكان تبليغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحاديث النبوية، والآيات القرآنية، وإنكاره لما وقع من الأحاديث المكذوبة، والروايات المقلوبة، والآراء البدعية، والأهواء العصبية، وقتاله مع المسلمين في
غزواتهم، وشهوده جمعهم وجماعاتهم، ونفعه إياهم، ودفعه الضرر عنهم مما سواهم، وتسديده العلماء والحكام، وتقريره الأدلة والأحكام أفضل مما يقال من كونه في الأمصار، وجوبه الفيافي والإفطار، واجتماعه بعباد لا تعرف أحوال كثير منهم، وجعله كالنقيب المترجم عنهم؟ ا
وهذا الذي ذكرته لا يتوقف أحد فيه بعد التفهم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. انتهى من البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله تعالى.
فتحصل أن الأحاديث المرفوعة التي تدل على وجود الخضر حيا باقيا لم يثبت منها شيء. وأنه قد دلت الأدلة المذكورة على وفاته، كما قدمنا إيضاحه.
وممن بين ضعف الأحاديث الدالة على حياة الخضر، وبقائه ابن كثير في تاريخه وتفسيره. وبين كثيرا من أوجه ضعفها ابن حجر في الإصابة. وقال ابن كثير في البداية والنهاية بعد أن ساق الأحاديث والحكايات الواردة في حياة الخضر: وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم. وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جدا، لا تقوم بمثلها حجة في الدين.
والحكايات لا يخلو أكثرها من ضعف في الإسناد. وقصاراها أنها صحيحة إلي من ليس بمعصوم من صحابي أو غيره. لأنه يجوز عليه الخطأ (والله أعلم)، إلى أن قال رحمه الله: وقد تصدى الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله في كتابه (عجلة المنتظر في شرح حالة الخضر) للأحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات فبين أنها موضوعات، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم. فبين ضعف أسانيدها ببيان أحوالها، وجهالة رجالها، وقد أجاد في ذلك وأحسن الانتقاد ا ه منه.
واعلم أن جماعة من أهل العلم ناقشوا الأدلة التي ذكرنا أنها تدل على وفاته. فزعموا أنه لا يشمله عموم * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) * ولا عموم حديث: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لم يبق على ظهر الأرض أحد ممن هو عليها اليوم) كما تقدم. قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره رحمه الله تعالى: ولا حجة لمن استدل به يعني الحديث المذكور على بطلان قول من يقول: إن الخضر
333

حي لعموم قوله (ما من نفس منفوسة..) لأن العموم وإن كان مؤكد الاستغراق ليس نصا فيه، بل هو قابل للتخصيص، فكما لم يتناول عيسى عليه السلام فإنه لم يمت ولم يقتل، بل هو حي بنص القرآن ومعناه. ولا يتناول الدجال مع أنه حي بدليل حديث الجساسة: فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام، وليس مشاهدا للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حاله مخاطبة بعضهم بعضا، فمثل هذا العموم لا يتناوله. وقيل: إن أصحاب الكهف أحياء، ويحجون مع عيسى عليه السلام كما تقدم. وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا ا ه منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: كلام القرطبي هذا ظاهر السقوط كما لا يخفى على من له إلمام بعلوم الشرع، فإنه اعترف بأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم عام في كل نفس منفوسة عموما مؤكدا، لأن زيادة (من) قبل النكرة في سياق النفي تجعلها نصا صريحا في العموم لا ظاهرا فيه كما هو مقرر في الأصول. وقد أوضحناه في سورة (المائدة).
ولو فرضنا صحة ما قاله القرطبي رحمه الله تعالى من أنه ظاهر في العموم لا نص فيه، وقررنا أنه قابل للتخصيص كما هو الحق في كل عام، فإن العلماء مجمعون على وجوب استصحاب عموم العام حتى يرد دليل مخصص صالح للتخصيص سندا ومتنا. فالدعوى المجردة عن دليل من كتاب أو سنة لا يجوز أن يخصص بها نص من كتاب أو سنة إجماعا.
وقوله: (إن عيسى لم يتناوله عموم الحديث) فيه أن لفظ الحديث من أصله لم يتناوله عيسى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (لم يبق على ظهر الأرض ممن هو بها اليوم أحد). فخصص ذلك بظهر الأرض فلم يتناول اللفظ من في السماء، وعيسى قد رفعه الله من الأرض كما صرح بذلك في قوله تعالى: * (بل رفعه الله إليه وهذا واضح جدا كما ترى.
ودعوى حياة أصحاب الكهف، وفتى موسى ظاهرة السقوط ولو فرضنا حياتهم فإن الحديث يدل على موتهم عند المائة كما تقدم، ولم يثبت شيء يعارضه.
وقوله (إن الخضر ليس مشاهدا الناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضا) يقال فيه: إن الاعتراض يتوجه عليه من جهتين:
الأولى أن دعوى كون الخضر محجوبا عن أعين الناس كالجن والملائكة
334

دعوى لا دليل عليها والأصل خلافها، لأن الأصل أن بني آدم يرى بعضهم بعضا لاتفاقهم في الصفات النفسية، ومشابهتهم فيما بينهم.
الثانية أنا لو فرضنا أنه لا يراه بنو آدم، فالله الذي أعلم النبي بالغيب الذي هو (هلاك كل نفس منفوسة في تلك المائة) عالم بالخضر، وبأنه نفس منفوسة. ولو سلمنا جدليا أن الخضر فرد نادر لا تراه العيون. وأن مثله لم يقصد بالشمولي في العموم فأصح القولين عند علماء الأصول شمول العام والمطلق للفرد النادر والفرد غير المقصود. خلافا لمن زعم أن الفرد النادر وغير المقصود لا يشملهما العام ولا المطلق.
قال صاحب جمع الجوامع في (مبحث العام) ما نصه: والصحيح دخول النادرة وغير المقصودة تحته. فقوله: (النادرة وغير المقصودة)، يعني الصورة النادرة وغير المقصودة. وقوله: (تحته) يعني العام. والحق أن الصورة النادرة، وغير المقصودة صورتان واحدة، وبينهما عموم وخصوص من وجه على التحقيق. لأن الصورة النادرة قد تكون مقصودة وغير مقصودة. والصورة غير المقصودة قد تكون نادرة وغير نادرة. ومن الفروع التي تبنى على دخول الصورة النادرة في العام والمطلق وعدم دخولها فيهما اختلاف العلماء في جواز دفع السبق بفتحتين في المسابقة على الفيل. وإيضاحه أنه جاء في الحديث الذي رواه أصحاب السنن والإمام أحمد من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر) ولم يذكر فيه ابن ماجة (أو نصل) والفيل ذو خف، وهو صورة نادرة. فعلى القول بدخول الصورة النادرة في العام يجوز دفع السبق بفتحتين في المسابقة على الفيلة. والسبق المذكور هو المال المجعول للسابق. وهذا الحديث جعله
بعض علماء الأصول مثالا لدخول الصورة النادرة في المطلق لا العام. قال: لأن قوله: (إلا في خف) نكرة في سياق الإثبات. لأن ما بعد (إلا) مثبت، والنكرة في سياق الإثبات إطلاق لا عموم. وجعله بعض أهل الأصول مثالا لدخول الصورة النادرة في العام.
قال الشيخ زكريا: وجه عمومه مع أنه نكرة في الإثبات أنه في حيز الشرط معنى، إذ التقدير: إلا إذا كان في خف. والنكرة في سياق الشرط نعم، وضابط الصورة النادرة عند أهل الأصول هي: أن يكون ذلك الفرد لا يخطر غالبا ببال المتكلم لندرة وقوعه. ومن أمثلة الاختلاف في الصورة النادرة: هل تدخل في العام والمطلق أولا اختلاف العلماء في وجوب الغسل من خروج المني الخارج بغير لذة، كمن تلدغه عقرب في ذكره فينزل منه
335

المني. فنزول المني بغير لذة، أو بلذة غير معتادة صورة نادرة، ووجوب الغسل منه يجري على الخلاف المدخول في دخول الصور النادرة في العام والمطلق وعدم دخولها فيهما. فعلى دخول تلك الصورة النادرة في عموم (إنما الماء من الماء) فالغسل واجب، وعلى العكس فلا. ومن أمثلة ذلك في المطلق ما لو أوصى رجل برأس من رقيقه، فهل يجوز دفع الخنثى أولا. فعلى دخول الصورة النادرة في المطلق يجوز دفع الخنثى، وعلى العكس فلا. ومن أمثلة الاختلاف في دخول الصورة غير المقصودة في الإطلاق. ما لو وكل رجل آخر على أن يشتري له عبدا ليخدمه، فاشترى الوكيل عبدا يعتق على الموكل، فالموكل لم يقصد من يعتق عليه، وإنما أراد خادما يخدمه، فعلى دخول الصورة غير المقصودة في المطلق يمضي البيع ويعتق العبد، وعلى العكس فلا. وإلا هاتين المسألتين أشار في المراقي بقوله: أو بلذة غير معتادة صورة نادرة، ووجوب الغسل منه يجري على الخلاف المدخول في دخول الصور النادرة في العام والمطلق وعدم دخولها فيهما. فعلى دخول تلك الصورة النادرة في عموم (إنما الماء من الماء) فالغسل واجب، وعلى العكس فلا. ومن أمثلة ذلك في المطلق ما لو أوصى رجل برأس من رقيقه، فهل يجوز دفع الخنثى أولا. فعلى دخول الصورة النادرة في المطلق يجوز دفع الخنثى، وعلى العكس فلا. ومن أمثلة الاختلاف في دخول الصورة غير المقصودة في الإطلاق. ما لو وكل رجل آخر على أن يشتري له عبدا ليخدمه، فاشترى الوكيل عبدا يعتق على الموكل، فالموكل لم يقصد من يعتق عليه، وإنما أراد خادما يخدمه، فعلى دخول الصورة غير المقصودة في المطلق يمضي البيع ويعتق العبد، وعلى العكس فلا. وإلا هاتين المسألتين أشار في المراقي بقوله:
* هل نادر في ذي العموم يدخل
* ومطلق أولا خلاف ينقل
*
* فما لغير لذة والفيل
* ومشبه فيه تنافي القيل
*
* وما من القصد خلا فيه اختلف
* وقد يجيء بالمجاز متصف
*
وممن مال إلى عدم دخول الصور النادرة وغير المقصودة في العام والمطلق أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر رجحانه بحسب المقرر في الأصول شمول العام والمطلق للصور النادرة، لأن العام ظاهر في عمومه حتى يرد دليل مخصص من كتاب أو سنة. وإذا تقرر أن العام ظاهر في عمومه وشموله لجميع الأفراد فحكم الظاهر أنه لا يعدل عنه، بل يجب العمل به إلا بدليل يصلح للتخصيص. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعملون بشمول العمومات من غير توقف في ذلك. وبذلك تعلم أن دخول الخضر في عموم قوله تعالى: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) * وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد) هو الصحيح، ولا يمكن خروجه من تلك العمومات إلا بمخصص صالح للتخصيص.
ومما يوضح ذلك: أن الخنثى صورة نادرة جدا، مع أنه داخل في عموم آيات المواريث والقصاص والعتق، وغير ذلك من عمومات أدلة الشرع. وما ذكره القرطبي من
336

خروج الدجال من تلك العمومات بدليل حديث الجساسة لا دليل فيه، لأن الدجال أخرجه دليل صالح للتخصيص، وهو الحديث الذي أشار له القرطبي، وهو حديث ثابت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنه حدثه به تميم الداري، وأنه أعجبه حديث تميم المذكور، لأنه وافق ما كان يحدث به أصحابه من خبر الدجال. قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، وحجاج بن الشاعر كلاهما عن عبد الصمد واللفظ لعبد الوارث بن عبد الصمد، حدثنا أبي عن جدي عن الحسين بن ذكوان، حدثنا ابن بريدة حدثني عامر بن شراحيل الشعبي شعب همدان، أنه سأل فاطمة بنت قيس وكانت من المهاجرات الأول فقال: حدثيني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسنديه إلى أحد غيره. فقالت لئن شئت لأفلعن؟ فقال لها: أجل؟ حدثيني. فقالت:.. ثم ساق الحديث وفيه طول. ومحل الشاهد منه قول تميم الداري: فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلكا ما لكا الحديث بطوله إلى قوله وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، فهما محرمتان على كلتاهما... الحديث.
فهذا نص صحيح صريح في أن الدجال حي موجود في تلك الجزيرة البحرية المذكورة في حديث تميم الدارمي المذكور، وإنه باق وهو حي حتى يخرج في آخر الزمان. وهذا نص صالح للتخصيص يخرج الدجال من عموم حديث موت كل نفس في تلك المائة. والقاعدة المقررة في الأصول: أن العموم يجب إبقاؤه على عمومه، فما أخرجه نص مخصص خرج من العموم وبقي العام حجة في بقية الأفراد التي لم يد على إخراجها دليل، كما قدمناه مرارا وهو الحق ومذهب الجمهور، وهو غالب ما في الكتاب والسنة من العمومات يخرج منها بعض الأفراد بنص مخصص، ويبقى العام حجة في الباقي، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود في مبحث التخصيص بقوله: فهذا نص صحيح صريح في أن الدجال حي موجود في تلك الجزيرة البحرية المذكورة في حديث تميم الدارمي المذكور، وإنه باق وهو حي حتى يخرج في آخر الزمان. وهذا نص صالح للتخصيص يخرج الدجال من عموم حديث موت كل نفس في تلك المائة. والقاعدة المقررة في الأصول: أن العموم يجب إبقاؤه على عمومه، فما أخرجه نص مخصص خرج من العموم وبقي العام حجة في بقية الأفراد التي لم يد على إخراجها دليل، كما قدمناه مرارا وهو الحق ومذهب الجمهور، وهو غالب ما في الكتاب والسنة من العمومات يخرج منها بعض الأفراد بنص مخصص، ويبقى العام حجة في الباقي، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود في مبحث التخصيص بقوله:
* وهو حجة لدى الأكثر إن
* مخصص له معينا بين
*
337

واعلم أن العلماء اختلفوا اختلافا كثيرا في نسب الخضر، فقيل: هو ابن آدم لصلبه. وقال ابن حجر في الإصابة: وهذا قول رواه الدارقطني في الأفراد من طريق رواد بن الجراح عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس، ورواد ضعيف، ومقاتل متروك، والضحاك لم يسمع من ابن عباس. وقيل: إنه ابن قابيل بن آدم قال ابن حجر: ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين. ثم ساق سنده وقال: هو معضل وحكى صاحب هذا القول: أنه اسمه خضرون وهو الخضر. وقيل: اسمه عامر، ذكره أبو الخطاب بن دحية عن ابن حبيب البغدادي. وقيل: إن اسمه بليان بن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. ذكره هذا القول ابن قتيبة في المعارف عن وهب بن منبه. قاله ابن كثير، وغيره. وقيل: إن اسمه المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد، وهذا قول إسماعيل بن أبي أويس، نقله عنه ابن كثير وغيرهما.
وقيل: خضرون بن عماييل من ذرية العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل: وهذا القول حكاه ابن قتيبة أيضا ذكره عنه ابن حجر. وقيل: إنه من سبط هارون أخي موسى، وروي ذلك عن الكلبي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن ابن عباس، ذكره ابن حجر أيضا ثم قال: وهو بعيد، وأعجب منه قول ابن إسحاق: إنه أرميا بن حلقيا، وقد رد ذلك أبو جعفر بن جرير، وقيل: إنه ابن بنت فرعون، حكاه محمد بن أيوب عن ابن لهيعة.
وقيل: ابن فرعون لصلبه، حكاه النقاش. وقيل: إنه اليسع، حكي عن مقاتل. وقال ابن حجر: إنه بعيد. وقيل: إنه من ولد فارس. قال ابن حجر: جاء ذلك عن ابن شوذب، أخرجه الطبري بسند جيد من رواية ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب. وقيل: إنه من ولد بعض من كان آمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض بابل، حكاه ابن جرير الطبري في تاريخه. وقيل: كان أبوه فارسيا، وأمه رومية. وقيل عكس ذلك ا ه. والله أعلم بحقيقة الواقع. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أنه قال: إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء. والفروة البيضاء: ما على وجه الأرض من الحشيش الأبيض وشبهه من الهشيم. وقيل. الفروة: الأرض البيضاء التي لا نبات فيها. وقيل: هي الهشيم اليابس.
ومن ذلك القبيل تسمية جلدة الرأس فروة، كما قدمنا في سورة (البقرة) في قول الشاعر:
338

ومن ذلك القبيل تسمية جلدة الرأس فروة، كما قدمنا في سورة (البقرة) في قول الشاعر:
* دنس الثياب كأن فروة رأسه
* غرست فأنبت جانباها فلفلا
*
* (فانطلقا حتى إذآ أتيآ أهل قرية استطعمآ أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هاذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر فأردت أن أعيبها وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينآ أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنآ أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكواة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغآ أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا * ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا * إنا مكنا له فى الا رض وآتيناه من كل شىء سببا * فأتبع سببا * حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا ياذا القرنين إمآ أن تعذب وإمآ أن تتخذ فيهم حسنا * قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحا فله جزآء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا * ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا * كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا * ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا * قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الا رض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل
بيننا وبينهم سدا * قال ما مكنى فيه ربى خير فأعينونى بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما * ءاتونى زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتونى أفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا * قال هاذا رحمة من ربى فإذا جآء وعد ربى جعله دكآء وكان وعد ربى حقا * وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض ونفخ فى الصور فجمعناهم جمعا) * قوله تعالى: * (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه) *. هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون: بأن المجاز في القرآن. زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة، وإنما هي مجاز. وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة، لأن الله تعالى يعلم للجمادات إرادات وأفعالا وأقوالا لا يدركها الخلق كما صرح تعالى بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جل وعلا: * (وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولاكن لا تفقهون تسبيحهم) * فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها هو جل وعلا ونحن لا نعلمها. وأمثال ذلك كثيرة في القرآن والسنة.
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: * (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه المآء وإن منها لما يهبط من خشية الله) *. فتصريحه تعالى بأن بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك. لأن تلك الخشية بإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه. وقوله تعالى: * (إنا عرضنا الا مانة على السماوات والا رض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) *. فتصريحه جل وعلا بأن السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت أي خافت دليل على أن ذلك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو جل وعلا ونحن لا نعلمه.
ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجرا كان يسلم علي بمكة) وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم جزعا لفراقه فتسليم ذلك الحجر، وحنين ذلك الجذع كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، كما صرح بمثله في قوله: * (ولاكن لا تفقهون تسبيحهم) *. وزعم من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها، وإنما هي ضرب أمثال زعم باطل، لأن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه. وأمثال هذا كثيرة جدا. وبذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض، وإن لم يعلم خلقه تلك الإرادة. وهذا واضح جدا كما ترى. مع أنه من الأساليب المربية إطلاق الإرادة على المقاربة والميل إلى الشيء. كما في قول الشاعر
339

: ولاكن لا تفقهون تسبيحهم) *. وزعم من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها، وإنما هي ضرب أمثال زعم باطل، لأن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه. وأمثال هذا كثيرة جدا. وبذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض، وإن لم يعلم خلقه تلك الإرادة. وهذا واضح جدا كما ترى. مع أنه من الأساليب المربية إطلاق الإرادة على المقاربة والميل إلى الشيء. كما في قول الشاعر:
* يريد الرمح صدر أبي براء
* ويعدل عن دماء بني عقيل
*
أي يميل إلى صدر أبي براء. وكقول راعي نمير: أي يميل إلى صدر أبي براء. وكقول راعي نمير:
* إن دهرا يلف شمل بجمل
* لزمان يهم بالإحسان
*
فقوله (لزمان يهم بالإحسان فيه. وقد بينا في رسالتنا المسماة (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز) أن جميع الآيات التي يزعمون أنها مجاز أن ذلك لا يتعين في شيء منها. وبينا أدلة ذلك. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) *. ظاهر هذه الآية الكريمة أن ذلك الملك يأخذ كل سفينة، صحيحة كانت أو معيبة. ولكنه يفهم من آية أخرى أنه لا يأخذ المعيبة، وهي قوله: * (فأردت أن أعيبها) * أي لئلا يأخذها، وذلك هو الحكمة في خرقه لها المذكور في قوله: * (حتى إذا ركبا فى السفينة خرقها) * ثم بين أن قصده بخرقها سلامتها لأهلها من أخذ ذلك الملك الغاصب. لأن عيبها يزهده فيها. ولأجل ما ذكرنا كانت هذه الآية الكريمة مثالا عند علماء العربية لحذف النعت. أي وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غير معيبة بدليل ما ذكرنا. وقد قدمنا الشواهد العربية على ذلك في سورة (بني إسرائيل) في الكلام على قوله تعالى: * (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا) *. واسم ذلك الملك: هدد بن بدر: وقوله (وراءهم) أي أمامهم كما تقدم في سورة (إبراهيم): قوله تعالى: * (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة) *. قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم (حمئة) بلا ألف بعد الحاء، وبهمزة مفتوحة بعد الميم المكسورة. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم (حامية) بألف بعد الحاء، وياء مفتوحة بعد الميم المكسورة على صيغة اسم الفاعل. فعلى القراءة الأولى فمعنى (حمئة) ذات حمأة وهي الطين الأسود، ويدل لهذا التفسير قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون) *
340

والحمأ: الطين كما تقدم. ومن هذا المعنى قول تبع الحميري فيما يؤثر عنه يمدح ذا القرنين: ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون) * والحمأ: الطين كما
تقدم. ومن هذا المعنى قول تبع الحميري فيما يؤثر عنه يمدح ذا القرنين:
* بلغ المشارق والمغارب يبتغى
* أسباب أمر من حكيم مرشد
*
* فرأى مغيب الشمس عند غروبها
* في عين ذي خلب وثأط حرمد
*
والخلب في لغة حمير: الطين. والثأط: الحمأة. والحرمد: الأسود. وعلى قراءة (حامية) بصيغة اسم الفاعل، فالمعنى: أنها حارة، وذلك لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها، وملاقاتها الشعاع بلا حائل. ولا منافاة بين القراءتين حق. قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: (وجدها تغرب في عين حمئة) أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه إلى آخر كلامه. ومقتضى كلامه أن المراد بالعين في الآية البحر المحيط، وهو ذو طين أسود. والعين تطلق في اللغة على ينبوع الماء. والينبوع: الماء الكثير. فاسم العين يصدق على البحر لغة. وكون من على شاطىء المحيط الغربي يرى الشمس في نظر عينه تسقط في البحر أمر معروف. وعلى هذا التفسير فلا إشكال في الآية، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (قال هاذا رحمة من ربى فإذا جآء وعد ربى جعله دكآء وكان وعد ربى حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض ونفخ فى الصور فجمعناهم جمعا) *. اعلم أولا أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أنه إن كان لبعض الآيات بيان من القرآن لا يفي بإيضاح المقصود وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم فمنا نتمم بيانه بذكر السنة المبينة له. وقد قدمنا أمثله متعددة لذلك. فإذا علمت ذلك فاعلم أن هاتين الآيتين لهما بيان من كتاب أوضحته السنة، فصار بضميمة السنة إلى القرآن بيانا وافيا بالمقصود، والله جل وعلا قال في كتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) * فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الآية الكريمة، وآية الأنبياء قد دلتا في الجملة على أن السد الذي بناه ذو القرنين دون يأجوج ومأجوج إنما يجعله الله دكا عند مجيء الوقت الموعود بذلك فيه. وقد دلتا على أنه بقرب يوم القيامة، لأنه قال هنا: * (فإذا جآء وعد ربى جعله دكآء وكان وعد ربى حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض ونفخ فى الصور) *. وأظهر الأقوال في الجملة المقدرة
341

التي عوض عنها تنوين (يومئذ) من قوله * (وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض) * أنه يوم إذ جاء وعد ربي بخروجهم وانتشارهم في الأرض. ولا ينبغي العدول عن هذا القول لموافقته لظاهر سياق القرآن العظيم. وإذا تقرر أن معنى (يومئذ) يوم إذ جاء الوعد بخروجهم وانتشارهم فاعلم أن الضمير في قوله * (وتركنا بعضهم) * على القول بأنه لجميع بني آدم فالمراد يوم القيامة. وإذا فقد دلت الآية على اقترانه بالخروج إذا دك السد، وقربه منه. وعلى القول بأن الضمير راجع إلى يأجوج ومأجوج. فقوله بعده * (ونفخ فى الصور) * يدل في الجملة على أنه قريب منه. قال الزمخشري في تفسير هذه الآية (قال هذا رحمة من ربي) هو إشارة إلى السد. أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده. أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته * (فإذا جآء وعد ربى) * يعني فإذا دنا مجيء يوم القيامة، وشارف أن يأتي جعل السد دكا. أي مدكوكا مبسوطا مسوى بالأرض. وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك. ومنه الجمل الأدك المنبسط السنام ا ه.
وآية الأنبياء المشار إليها هي قوله تعالى: * (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هى شاخصة أبصار الذين كفروا) *. لأن قوله: * (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج) * واتباعه لذلك بقوله * (واقترب الوعد الحق فإذا هى شاخصة أبصار الذين كفروا) * يدل في الجملة على ما ذكرنا في تفسير آية الكهف التي نحن بصددها. وذلك يدل على بطلان قول من قال: إنهم روسية، وأن السد فتح منذ زمان طويل. فإذا قيل: إنما تدل الآيات المذكورة في (الكهف) و (الأنبياء) على مطلق اقتراب يوم القيامة من دك السد واقترابه من يوم القيامة لا ينافي كونه قد وقع بالفعل. كما قال تعالى: * (اقترب للناس حسابهم) *. وقال: * (اقتربت الساعة وانشق القمر) *، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للعرب، من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها..) الحديث، وقد قدمنا في سورة (المائدة). فقد دل القرآن والسنة الصحيحة على أن اقتراب ما ذكر لا يستلزم اقترانه به، بل يصح اقترابه مع مهلة، وإذا فلا ينافي دك السد الماضي الزعوم الاقتراب من يوم القيامة، فلا يكون في الآيات المذكورة دليل على أنه لم يدك السد إلى الآن.
342

فالجواب هو ما قدمنا أن هذا البيان بهذه الآيات ليس وافيا بتمام الإيضاح إلا بضميمة السنة له، ولذلك ذكرنا أننا نتمم مثله من السنة لأنها مبينة للقرآن. قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص، حدثني عبد الرحمن بن جبير عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي: أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي (ح) وحدثني محمد بن مهران الرازي (واللفظ له)، حدثني الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن يحيى بن جابر الطائي، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه جبير بن نفير، عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: (ما شأنكم)؟ قلنا: يا رسول الله، ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت، حتى ظنناه في طائفة النخل؟ فقال: (غير الدجال أخوفني عليكما إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي هل كل مسلم. إنه شاب قطط، عينه طائفته، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة (الكهف) إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يمينا وعاث شمالا. (يا عباد فاثبتوا) قلنا: يا رسول الله، وما لبثه في الأرض؟ قال: (أربعون يوما، يوم
، كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم) قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنه، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: (لا، أقدروا له قدره) قلنا: يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض؟ قال: (كالغيث استدبرته الريح). فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له: فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعا، وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله. فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعون فيقبل ويتهلل وجهه يضحك. فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ. فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله. ثم يأتي عيسى بن
343

مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون. فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم. فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم. فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة. ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم. فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله. ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض: انبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، يبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس. واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس. واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ الفخذ من الناس. فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم. فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم. ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة) انتهى بلفظه من صحيح مسلم رحمه الله تعالى.
وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم: بأن الله يوحي إلى عيسى بن مريم خروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال. فمن يدعي أنهم روسية. وأن السد قد اندك منذ زمان فهو مخالف لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها. ولا شك أن كل خبر ناقض خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهو باطل. لأن نقيض الخبر الصادق كاذب ضرورة كما هو معلوم. ولم يثبت في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يعارض هذا الحديث الذي رأيت صحة سنده، ووضوح دلالته على المقصود.
والعمدة في الحقيقة لمن ادعى أن يأجوج ومأجوج هم روسية، ومن ادعى من الملحدين أنهم لا وجود لهم أصلا هي حجة عقلية في زعم صاحبها، وهي بحسب المقرر في الجدل قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة لزومية في زعم المستدل به يستثنى فيه نقيض التالي، فينتج نقيض المقدم. وصورة نظمه أن يقول: لو كان يأجوج ومأجوج وراء السد إلى الآن، لا طلع عليهم الناس لتطور طرق المواصلات، لكنهم لم
344

يطلع عليهم أحد ينتج فهم ليسوا وراء السد إلى الآن، لأن استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم كما هو معلوم. وبعبارة أوضح لغير المنطقي: لأن نفي اللازم يقتضي نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم هذا هو عمدة حجة المنكرين وجودهم إلى الآن وراء السد. ومن المعلوم أن القياس الاستثنائي المعروف بالشرطي، إذا كان مركبا من شرطية متصلة واستثنائية، فإنه يتوجه عليه القدح من ثلاث وجهات:
الأولى أن يقدح فيه من جهة شرطيته، لكون الربط بين المقدم والتالي ليس صحيحا.
الثانية أن يقدح فيه من جهة استثنائيته.
الثالثة أن يقدح فيه من جهتهما معا. وهذا القياس المزعوم يقدح فيه من جهة شرطيته فيقول للمعترض: الربط فيه بين المقدم والتالي غير صحيح. فقولكم: لو كانوا موجودين وراء السد إلى الآن لأطلع عليهم الناس غير صحيح. لإمكان أن يكونوا موجودين والله يخفي مكانهم على عامة الناس حتى يأتي الوقت المحدد لإخراجهم على الناس، ومما يؤيد إمكان هذا ما ذكره الله تعالى في سورة (المائدة) من أنه جعل بني إسرائيل يتيهون في الأرض أربعين سنة. وذلك في قوله تعالى: * (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الا رض) *، وهم في فراسخ قليلة من الأرض، يمشون ليلهم ونهارهم ولم يطلع عليهم الناس حتى انتهى أمد التيه، لأنهم لو اجتمعوا بالناس لبينوا لهم الطريق. وعلى كل حال، فربك فعال لما يريد. وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه صادقة، وما يوجد بين أهل الكتاب مما يخالف ما ذكرنا ونحوه من القصص الواردة في القرآن والسنة الصحيحة، زاعمين أنه منزل في التوراة أو غير من الكتب السماوية باطل يقينا لا يعول علينا. لأن الله جل وعلا صرح في هذا القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد بأنهم بدلوا وحرفوا وغيروا في كتبهم، كقوله: * (يحرفون الكلم عن مواضعه) *، وقوله: * (تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) *، وقوله: * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هاذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) *، وقوله تعالى: * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب
345

وهم يعلمون) * إلى غير ذلك من الآيات بخلاف هذا القرآن العظيم، فقد تولى الله جل وعلا حفظه بنفسه، ولم يكلمه أحد حتى يغير فيه أو يبدل أو يحرف، كما قال تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *، وقال: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه) *، وقال: * (لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه) *. وقال في النبي صلى الله عليه وسلم: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى) *، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن لأمته أن تحدث عن بني إسرائيل، ونهاهم عن تصديقهم وتكذيبهم، خوف أن يصدقوا بباطل، أو يكذبوا بحق.
ومن المعلوم أن ما يروى عن بني إسرائيل من الأخبار المعروفة بالإسرائيليات له ثلاث حالات: في واحدة منها يجب تصديقه، وهي ما إذا دل الكتاب أو السنة الثابتة على صدقه. وفي واحدة يجب تكذيبه، وهي ما إذا دل القرآن أو السنة أيضا على كذبه. وفي الثالثة لا يجوز التكذيب ولا التصديق، كما في الحديث المشار إليه آنفا: وهي ما إذا لم يثبت في كتاب ولا سنة صدقه ولا كذبه. وبهذا التحقيق تعلم أن القصص المخالفة للقرآن والسنة الصحيحة التي توجه بأيدي بعضهم، زاعمين أنها في الكتب المنزلة يجب تكذيبهم فيها لمخالفتها نصوص الوحي الصحيح، التي لم تحرف ولم تبدل. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (جعله دكآء) * قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو (دكا) بالتنوين مصدر دكه. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي * (جعله دكاء) * بألف التأنيث الممدودة تأنيث الأدك. ومعنى القراءتين راجع إلى شيء واحد، وقد قدمنا إيضاحه.
* (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا * الذين كانت أعينهم فى غطآء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا * أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادى من دونى أوليآء إنآ أعتدنا جهنم للكافرين نزلا * قل هل ننبئكم بالا خسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم فى الحيواة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولائك الذين كفروا بأايات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا * ذلك جزآؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا ءاياتى ورسلى هزوا) * قوله تعالى: * (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا) *. قوله: * (وعرضنا) * أي أبرزنا وأظهرنا جهنم * (يومئذ) * أي يوم إذ جمعناهم جمعا. كما دل على ذلك قوله قبله: * (ونفخ فى الصور فجمعناهم جمعا) *. وقال بعض العلماء: اللام في قوله (للكافرين) بمعنى على، أي عرضنا جهنم على الكافرين، وهذا يشهد له القرآن في آيات متعددة. لأن العرض في القرآن يتعدى بعلى لا باللام. كقوله تعالى: * (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) *، وقوله: * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) *، وقوله تعالى: * (وعرضوا على ربك
346

صفا) *، ونظيره في كلام العرب من إتيان اللام بمعنى على البيت الذي قدمناه في أول سورة (هود)، وقدمنا الاختلاف في قائله، وهو قوله: وعرضوا على ربك صفا) *، ونظيره في كلام العرب من إتيان اللام بمعنى على البيت الذي قدمناه في أول سورة (هود)، وقدمنا الاختلاف في قائله، وهو قوله:
* هتكت له بالرمح جيب قميصه
* فخر صريعا لليدين وللفم
*
أي خر صريعا على اليدين:
وقد علم من هذه الآيات: أن النار تعرض عليهم ويعرضون عليها. لأنها تقرب إليهم ويقربون إليها. كما قال تعالى في عرضها عليهم هنا: * (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا) *، وقال في عرضهم عليها: * (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) *، ونحوها من الآيات. وقد بينا شيئا من صفات عرضهم دلت عليه آيات أخر من كتاب الله في الكلام على قوله تعالى * (وعرضوا على ربك صفا) *. وقول من قال: إن قوله هنا: (وعرضنا جهنم) الآية فيه قلب. وأن المعنى: وعرضنا الكافرين لجهنم أي عليها بعيد كما أوضحه أبو حيان في البحر. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: * (الذين كانت أعينهم فى غطآء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا) *. التحقيق في قوله: * (الذين كانت أعينهم) * أنه في محل خفص نعتا للكافرين. وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات الكافرين الذين تعرض لهم جهنم يوم القيامة أنهم كانت أعينهم في دار الدنيا في غطاء عن ذكره تعالى، وكانوا لا يستطيعون سمعا. وقد بين هذا من صفاتهم في آيات كثيرة، كقوله في تغطية أعينهم: * (وعلى أبصارهم غشاوة) *، وقوله * (وجعل على بصره غشاوة) *، وقوله: * (أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) *، وقوله: * (وما يستوى الا عمى والبصير) *، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا. وقال في عدم استطاعتهم السمع: * (أولائك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) *، وقال: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم
347

وقرا) *. وقد بينا معنى كونهم لا يستطيعون السمع في أول سورة (هود) في الكلام على قوله تعالى: * (يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) * فأغنى عن إعادته هنا. وقد بينا أيضا طرفا من ذلك في الكلام على قوله تعالى في هذه السورة الكريمة: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا) * وقد بين تعالى في موضع آخر: أن الغطاء المذكور الذي يغشو بسببه البصر عن ذكره تعالى يقيض الله لصاحبه شيطانا فيجعله له قرينا. وذلك في قوله تعالى: * (ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين) *. قوله تعالى: * (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادى من دونى أوليآء إنآ أعتدنا جهنم للكافرين نزلا) *. الهمزة في قوله تعالى: * (أفحسب) * للإنكار والتوبيخ. وفي الآية حذف دل المقام عليه. قال بعض العلماء: تقدير المحذوف هو: أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء، ولا أعاقبهم العقاب الشديدا كلاا! بل سأعاقبهم على ذلك العقاب الشديد. بدليل قوله تعالى بعده: * (إنآ أعتدنا جهنم للكافرين نزلا) * وقال بعض العلماء: تقديره: أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياءا وأن ذلك ينفعهم. كلاا لا ينفعهم بل يضرهم. ويدل لهذا قوله تعالى عنهم: * (ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى) * وقوله عنهم: * (ويقولون هاؤلاء شفعاؤنا عند الله) *. ثم إنه تعالى بين بطلان ذلك بقوله: * (قل أتنبئون الله بما لا يعلم فى السماوات ولا فى الا رض سبحانه وتعالى عما يشركون) *، وما أنكره عليهم هنا من ظنهم أنهم يتخذون من دونه أولياء من عباده ولا يعاقبهم
. أو أن ذلك ينفعهم جاء مبينا في مواضع، كقوله في أول سورة (الأعراف): * (اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء) *. فقد نهاهم عن اتباع الأولياء من دونه في هذه الآية، لأنه يضرهم ولا ينفعهم، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن من الأدلة على أنه لا ولي من دون الله لأحد، وإنما الموالاة في الله، كقوله: * (وأسمع ما لهم من دونه من ولى) *، وقوله: * (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أوليآء ثم لا تنصرون) *، وقوله: * (ومن يضلل الله فما له من ولى) *، وقوله * (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولى) *، وقوله: * (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيواة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولى) *، ونحو ذلك من الآيات. وسيأتي له قريبا إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح وأمثلة. والأظهر المتبادر من الإضافة في قوله (عبادي) أن المراد بهم نحو الملائكة
348

وعيسى وعزيز، لا الشياطين ونحوهم، لأن مثل هذه الإضافة للتشريف غالبا. وقد بين تعالى: أنهم لا يكونون أولياء لهم في قوله: * (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهاؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم) *، وقوله * (إنا أعتدنا) * قد أوضحنا معناه في قوله تعالى: * (إنا أعتدنا للظالمين نارا) *، فأغنى عن إعادته هنا. وفي قوله * (نزلا) * أوجه من التفسير للعلماء، أظهرها: أن (النزل) هو ما يقدم للضيف عند نزوله، والقادم عند قدومه. والمعنى: أن الذي يهيأ لهم من الإكرام عند قدومهم إلى ربهم هو جهنم المعدة لهم، كقوله: * (فبشرهم بعذاب أليم) *. وقوله: * (يغاثوا بمآء كالمهل) *. وقد قدمنا شواهده العربية في الكلام على قوله تعالى. * (يغاثوا بمآء كالمهل) * لأن ذلك الماء الذي يشوى الوجوه ليس فيه إغاثة، كما أن جهنم ليست نزل إكرام الضيف أو قادم.
الوجه الثاني أن (نزلا) بمعنى المنزل، أي إعتدنا جهنم للكافرين منزلا، أي مكان نزول، لا منزل لهم غيرها. وأضعف الأوجه ما زعمه بعضهم من أن (النزل) جمع نازل، كجمع الشارف على شرف بضمتين. والذي يظهر في إعراب (نزلا) أنه حال مؤولة بمعنى المشتق. أو مفعول ل (اعتدنا) بتضمينه معنى صيرنا أو جعلنا. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (قل هل ننبئكم بالا خسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى الحيواة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) *. المعنى: قل لهم يا نبي الله: هل ننبئكم أي نخبركم بالأخسرين أعمالا، أي بالذين هم أخسر الناس أعمالا وأضيعها. فالأخسر صيغه تفضيل من الخسران وأصله نقص مال التاجر، والمراد به في القرآن غبنهم بسبب كفرهم ومعاصيهم في حظوظهم مما عند الله لو أطاعوه. وقوله * (أعمالا) * منصوب على التمييز:
فإن قيل: نبئنا بالأخسرين أعمالا من هم؟
كان الجواب هم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وبه تعلم أن (الذين) من قوله * (الذين ضل سعيهم) * خبر مبتدأ محذف جوابا للسؤال المفهوم من المقام، ويجوز نصبه على الذم، وجره على وأنه بدل من الأخسرين، أو نعت له، وقوله * (ضل سعيهم) * أي بطل عملهم وحبط، فصار كالهباء وكالسراب وكالرمادا كما في قوله تعالى: * (وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه
349

هبآء منثورا) *، وقوله: * (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة) *؟ وقوله: * (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف) * ومع هذا فهم يعتقدون أن عملهم حسن مقبول عند الله.
والتحقيق. أن الآية نازلة في الكفار الذين يعتقدون أن كفرهم صواب وحق، وأن فيه رضى ربهم. كما قال عن عبدة الأوثان: * (ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى) *، وقال عنهم * (ويقولون هاؤلاء شفعاؤنا عند الله) *، وقال عن الرهبان الذين يتقربون إلى الله على غير شرع صحيح: * (وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية) *، على القول فيها بذلك. وقوله تعالى في الكفار: * (إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) * وقوله: * (وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) * والدليل على نزولها في الكفار تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه * (أولائك الذين كفروا بأايات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم) *. فقول من قال: إنهم الكفار، وقول من قال: إنهم الرهبان، وقول من قال: إنهم أهل الكتاب الكافرون بالنبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك تشمله هذه الآية. وقد روى البخاري في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه سأله ابنه مصعب عن (الأخسرين أعمالا) في هذه الآية هل هم الحرورية؟ فقال لا هم اليهود والنصارى. أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأما النصارى فكفروا بالجنة، وقالوا لا طعام فيها، ولا شراب. والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعيد يسميهم الفاسقين. ا ه من البخاري. وما روي عن علي رضي الله عنه من أنهم أهل حروراء المعروفون بالحروريين معناه أنهم يكون فيهم من معنى الآية بقدر ما فعلوا، لأنهم يرتكبون أمورا شنيعة من الضلال، ويعتقدون أنها هي معنى الكتاب والسنة، فقد ضل سيعهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وإن كانوا في ذلك أقل من الكفار المجاهرين. لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب كما قد قدمنا إيضاحه وأدلته.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (الذين ضل سعيهم) * أي بطل واضمحل. وقد قدمنا أن الضلال يطلق في القرآن واللغة العربية ثلاثة إطلاقات:
الأول الضلال بمعنى الذهاب عن طريق الحق إلى طريق الباطل. كالذهاب عن
350

الإسلام إلى الكفر. وهذ أكثر استعمالاته في القرآن. ومنه قوله تعالى: * (غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) *، وقوله: * (ولا تتبعوا أهوآء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل) *.
الثاني الضلال بمعنى الهلاك والغيبة والاضمحلال، ومنه قول العرب: ضل السمن في الطعام إذا استهلك فيه وغاب فيه. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * أي غاب واضمحل، وقوله هنا: * (الذين ضل سعيهم) * أي بطل واضمحل، وقول الشاعر: الذين ضل سعيهم) * أي بطل واضمحل، وقول الشاعر:
* ألم تسأل فتخبرك الديار
* عن الحي المضلل أين ساروا
*
أي عن الحي الذي غاب واضمحل، ومن هنا سمي الدفن إضلالا. لأن مآل الميت المدفون إلى أن تختلط عظامه بالأرض، فيضل فيها كما يضل السمن في الطعام. ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان: أي عن الحي الذي غاب واضمحل، ومن هنا سمي الدفن إضلالا. لأن مآل الميت المدفون إلى أن تختلط عظامه بالأرض، فيضل فيها كما يضل السمن في الطعام. ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان:
* فآب مضلوه بعين جلية
* وغودو بالجولان حزم ونائل
*
فقوله (مضلوه) يعني دافنيه في قبره. ومن هذا المعنى قوله تعالى: * (وقالوا أءذا ضللنا فى الا رض أءنا لفى خلق جديد) *. فمعنى * (ضللنا فى الا رض) * أنهم اختلطت عظامهم الرميم بها لغابت واستهلكت فيها.
الثالث الضلال بمعنى الذهاب عن علم حقيقة الأمر المطابقة للواقع، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: * (ووجدك ضآلا فهدى) * أي ذاهبا عما تعلمه الآن من العلوم والمعارف التي لا تعرف إلا بالوحي فهداك إلى تلك العلوم والمعارف بالوحي. وحدد هذا المعنى قوله تعالى عن أولاد يعقوب: * (قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم) * أي ذهابك عن العلم بحقيقة أمر يوسف، ومن أجل ذلك تطمع في رجوعه إليك، وذلك لا طمع فيه على أظهر التفسيرات وقوله تعالى: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهدآء أن تضل إحداهما) * أي نذهب عن حقيقة علم المشهود به بنسيان أو نحوه، بدليل قوله * (فتذكر أحدهما الاخرى) *، وقوله تعالى: * (قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) * ومن هذا المعنى قول الشاعر
351

: قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) * ومن هذا المعنى قول الشاعر:
* وتظن سلمى أنثى أبغى بها
* بدلا أراها في الضلال تهيم
*
فقوله (أراها في الضلال) أي الذهاب عن علم حقيقة الأمر حيث تظنني أبغى بها بدلا، والواقع بخلاف ذلك.
وقوله في هذه الآية: * (وهم يحسبون) * أي يظنون. وقرأه بعض السبعة بكسر السين، وبعضهم بفتحها كما قدمنا مرارا في جميع القرآن. ومفعولا (حسب) هما المبتدأ والخبر اللذان عملت فيهما (أن) والأصل ويحسبون أنفسهم محسنين صنعهم. وقوله (صنعا) أي عملا وبين قوله (يحسبون، ويحسنون) الجناس المسمى عند أهل البديع (تجنيس التصحيف) وهو أن يكون النقط فرقا بين الكلمتين، كقول البحتري: وقوله في هذه الآية: * (وهم يحسبون) * أي يظنون. وقرأه بعض السبعة بكسر السين، وبعضهم بفتحها كما قدمنا مرارا في جميع القرآن. ومفعولا (حسب) هما المبتدأ والخبر اللذان عملت فيهما (أن) والأصل ويحسبون أنفسهم محسنين صنعهم. وقوله (صنعا) أي عملا وبين قوله (يحسبون، ويحسنون) الجناس المسمى عند أهل البديع (تجنيس التصحيف) وهو أن يكون النقط فرقا بين الكلمتين، كقول البحتري:
* ولم يكن المغتر بالله إذ سرى
* ليعجز والمعتز بالله طالبه
*
فبين (المغتر والمعتز) الجناس المذكور.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (أولائك الذين كفروا بأايات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم) *، نص في أن الكفر بآيات الله ولقائة يحبط العمل، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا، كقوله تعالى في (العنكبوت) * (والذين كفروا بأايات الله ولقآئه أولائك يئسوا من رحمتى وأولائك لهم عذاب أليم) * والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا، وسيأتي بعض أمثلة لذلك قريبا إن شاء الله.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) * فيه للعلماء أوجه:
أحدها أن المعنى أنهم ليس لهم حسنات توزن في الكفة الأخرى في مقابلة سيئاتهم، بل لم يكن إلا السيئات، ومن كان كذلك فهو في النار، كما قال تعالى: * (ومن خفت موازينه فأولائك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون) *. وقال: * (والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون) *. * (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) *، وقال: * (وأما من خفت موازينه فأمه هاوية ومآ أدراك ما نار حامية) *. إلى غير ذلك من الآيات. وقال بعض أهل العلم. معنى * (فلا
352

نقيم لهم يوم القيامة وزنا) * أنهم لا قدر لهم عند الله لحقارتهم، وهو أنهم بسبب كفرهم. وذلك كقوله عنهم: * (سيدخلون جهنم داخرين) *، أي صاغرين أذلاء حقيرين، وقوله: * (قل نعم وأنتم داخرون) * وقوله: * (قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) *، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هوانهم وصغارهم وحقارتهم.
وقد دلت السنة الصحيحة على أن معنى الآية يدخل فيه الكافر السمين العظيم البدن. لا يزن عند الله يوم القيامة جناح بعوضة. قال البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن عبد الله. حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا المغيرة بن عبد الرحمن، حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرءوا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) وعن يحيى بن بكير، عن المغير بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد مثله ا ه. من البخاري.
وهذا الحديث أخرجه أيضا مسلم في صحيحه، وهو يدل على أن نفس الكافر العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة. وفيه دلالة على وزن الأشخاص. وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره هذه الآية بعد أن أشار إلى حديث أبي هريرة المذكور ما نصه: وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه. لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم. بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية، المبتغى به الترفه والسمن. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الحبر السمين) ومن حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم قرني ثم الذين يلونهم قال عمران. فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم إن من بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن) وهذا ذم. وسبب ذلك: أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره والدعة والراحة والأمن، والاسترسال مع النفس على شهواتها. فهو عبد نفسه لا عبد ربه. ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام، وكل لحم تولد منسحت فالنار أولى به. وقد ذم الله تعالى الكفار بكثرة الأكل فقال: * (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الا نعام والنار مثوى لهم) * فإذا كان المؤمن يتشبه بهم. ويتنعم تنعمهم في كل أحواله وأزمانه، فأين حقيقة الإيمان والقيام بوظائف الإسلام. ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه، وزاد
353

بالليل كسله ونومه، فكان نهاره هائما، وليله نائما ا ه. محل الغرض من كلام القرطبي. وما تضمنه كلامه من الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبغض الحبر السمين) فيه نظر، لأنه لم يصح مرفوعا، وقد حسنه البيهقي من كلام كعب. وما ذكر من ذم كثرة الأكل والشرب والسمن المكتسب ظاهر وأدلته كثيرة (وحسب المؤمن لقيمات يقمن صلبه).
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا * خالدين فيها لا يبغون عنها حولا * قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا * قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * قوله تعالى: * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الأعمال الصالحة والإيمان سبب في نيل جنات الفردوس. والآيات الموضحة لكون العمل الصالح سببا في دخول الجنة كثيرة جدا. كقوله تعالى: * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا) *، وقوله: * (أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) * أي بسببه، وقوله تعالى: * (وتلك الجنة التى أورثتموها بما كنتم تعملون) *. وقوله تعالى: * (إلا من تاب وءامن وعمل صالحا فأولائك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التى وعد الرحمان عباده بالغيب) *، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
فإن قيل هذه ا لآيات فيها الدلالة على أن طاعة الله بالإيمان والعمل الصالح سبب في دخول الجنة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم عمله الجنة) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا يتغمدني الله برحمة منه وفضل) يرد بسببه إشكال على ذلك.
فالجواب أن العمل لا يكون سببا لدخول الجنة إلا إذا تقبله الله تعالى وتقبله له فضل منه. فالفعل الذي هو سبب لدخول الجنة هو الذي تقبله الله بفضله، وغيره من الأعمال لا يكون سببا لدخول الجنة. والجمع بين الحديث والآيات المذكورة أوجه أخر، هذا أظهرها عندي. والعلم عند الله تعالى. وقد قدمنا أن (النزل) هو ما يهيأ من الإكرام للضيف أو القادم. قوله تعالى: * (خالدين فيها لا يبغون عنها حولا) *. أي خالدين في جنات الفردوس لا يبغون عنها حولا، أي تحولا إلى منزل آخر، لأنها لا يوجد منزل أحسن منها يرغب في التحول إليه عنها، بل هم خالدون فيها
354

دائما من غير تحول ولا انتقال. وهذا المعنى المذكور هنا جاء موضحا في مواضع أخر، كقوله: * (الذى أحلنا دار المقامة) * أي الإقامة أبدا، وقوله: * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا) *، وقوله: * (إن هاذا لرزقنا ما له من نفاد) *، وقوله: * (عطآء غير مجذوذ) *، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على دوامهم فيها، ودوام نعيمها لهم. والحول: اسم مصدر بمعنى التحول. قوله تعالى: * (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا) *. أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يقول * (لو كان البحر مدادا لكلمات ربى) * أي لو كان ماء البحر مدادا للأقلام التي تكتب بها كلمات الله (لنفد البحر) أي فرغ وانتهى قبل أن تنفد كلمات ربي * (ولو جئنا بمثله مددا) * أي ببحر آخر مثله مددا، أي زيادة عليه. وقوله (مددا) منصوب على التمييز، ويصح إعرابه حالا. وقد زاد هذا المعنى إيضاحا في سورة (لقمان) في قوله تعالى: * (ولو أنما فى الا رض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) *. وقد دلت هذه الآيات على أن كلماته تعالى لا نفاد لها سبحانه وتعالى علوا كبيرا. قوله تعالى: * (قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد) *. أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للناس: * (إنمآ أنا بشر مثلكم) * أي لا أقول لكم إني ملك ولا غير بشر، بل أنا بشر مثلكم أي بشر من جنس البشر، إلا أن الله تعالى فضلني وخصني بما أوحى إلي من توحيده وشرعه. وقوله هنا
* (يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد) * أي فوحدوه ولا تشركوا به غيره. وهذا الذي بينه تعالى في هذه الآية. أوضحه في مواضع أخر. كقوله في أول (فصلت): * (قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكواة وهم بالا خرة هم كافرون) *، وقوله تعالى: * (قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا) * وقوله: * (قل لا أقول لكم عندى خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلى) *
355

. وهذا الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية من أنه يقول للناس أنه بشر، ولكن الله فضله على غيره بما أوحى إليه من وحيه جاء مثله عن الرسل غيره صلوات الله وسلامه عليهم في قوله تعالى: * (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولاكن الله يمن على من يشآء من عباده) *. فكون الرسل مثل البشر من حيث أن أصل الجميع وعنصرهم واحد، وأنهم تجري على جميعهم الأعراض البشرية لا ينافي تفضيلهم على سائر البشر بما خصهم الله به من وحيه واصطفائه وتفضيله كما هو ضروري.
وقال بعض أهل العلم: معنى هذه الآية قل يا محمد للمشركين: إنما أنا بشر مثلكم، فمن زعم منكم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به، فإنني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به عما سألتم عنه من أخبار الماضين كقصة أصحاب الكهف. وخبر ذي القرنين. وهذا له اتجاه والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *. قوله في هذه الآية: * (فمن كان يرجو لقآء ربه) * يشمل كونه يأمل ثوابه، ورؤية وجهه الكريم يوم القيامة، وكونه يخشى عقابه. أي فمن كان راجيا من ربه يوم يلقاه الثواب الجزيل والسلامة من الشر فليعمل عملا صالحا. وقد قدمنا إيضاح العمل الصالح وغير الصالح في أول هذه السورة الكريمة وغيرها، فأغنى عن إعادته هنا.
وقوله: * (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * قال جماعة من أهل العلم. أي لا يرائى الناس في عمله، لأن العمل بعبادة الله لأجل رياء الناس من نوع الشرك، كما هو معروف عند العلماء أن الرياء من أنواع الشرك. وقد جاءت في ذلك أحاديث مرفوعة. وقد ساق طرفها ابن كثير في تفسير هذه الآية. والتحقيق أن قوله: * (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * أعم من الرياء وغيره، أي لا يعبد ربه رياء وسمعة، ولا يصرف شيئا من حقوق خالقه لأحد من خلقه، لأن الله يقول: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * في الموضعين، ويقول: * (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السمآء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق) *، إلى غير ذلك من الآيات.
ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة: أن الذي يشرك أحدا بعبادة ربه، ولا يعمل صالحا أنه لا يرجو لقاء ربه، والذي لا يرجو لقاء ربه لا خير له عند الله يوم القيامة.
وهذا المفهوم جاء مبينا في مواضع أخر، كقوله تعالى فيما مضى قريبا: * (أولائك
356

الذين كفروا بأايات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزآؤهم جهنم) * لأن من كفر بلقاء الله لا يرجو لقاءه. وقوله في (العنكبوت) * (والذين كفروا بأايات الله ولقآئه أولائك يئسوا من رحمتى) *، وقوله في (الأعراف): * (والذين كذبوا بأاياتنا ولقآء الا خرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) * وقوله في (الأنعام): * (قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها) *، وقوله تعالى في (يونس): * (قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله وما كانوا مهتدين) *، وقوله في (الفرقان): * (وقال الذين لا يرجون لقآءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا فى أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) *، وقوله في (الروم): * (وأما الذين كفروا وكذبوا بأاياتنا ولقآء الاخرة فأولائك فى العذاب محضرون) * إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
اعلم أن الرجال كقوله هنا * (يرجو لقآء ربه) * يستعمل في رجاء الخير، ويستعمل في الخوف أيضا. واستعماله في رجاء الخير مشهور. ومن استعمال الرجاء في الخوف قول أبي ذؤيب الهذلي: يرجو لقآء ربه) * يستعمل في رجاء الخير، ويستعمل في الخوف أيضا. واستعماله في رجاء الخير مشهور. ومن استعمال الرجاء في الخوف قول أبي ذؤيب الهذلي:
* إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
* وحالفها في بيت نوب عواسل
*
فقوله (لم يرج لسعها) أي لم يخف لسعها. ويروى حالفها بالحاء والخاء، ويروى عواسل بالسين، وعوامل بالميم.
فإذا علمت أن الرجاء يطلق على كلا الأمرين المذكورين فاعلم أنهما متلازمان، فمن كان يرجوا ما عند الله من الخير فهو يخاف ما لديه من الشر كالعكس. واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. أعني قوله تعالى: * (فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا) *، فعن ابن عباس أنها نزلت في جندب بن زهير الأزدي الغامدي، قال: يا رسول الله، إنني أعمل العمل لله تعالى وأريد وجه الله تعالى، إلا أنه إذا اطلع عليه سرني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب، ولا يقبل ما شورك فيه) فنزلت الآية وذكره القرطبي في تفسيره، وذكر ابن حجر في الإصابة: أنه من رواية ابن الكلبي في التفسير عن أبي صالح عن أبي هريرة، وضعف هذا السند مشهور،
357

وعن طاوس أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أحب الجهاد في سبيل الله تعالى، وأحب أن يرى مكاني. فنزلت هذه الآية. وعن مجاهد قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إني أتصدق وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله تعالى، فيذكر ذلك مني، وأحمد عليه فيسرني ذلك
، وأعجب به فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا، فأنزل الله تعالى: * (فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * انتهى من تفسير القرطبي. ومعلوم أن من قصد بعمله وجه الله فعله لله ولو سره اطلاع الناس على ذلك، ولا سيما إن كان سروره بذلك لأجل أن يقتدوا به فيه. ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. والعلم عند الله تعالى. وقال صاحب الدر المنثور: أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: * (فمن كان يرجو لقآء ربه) * قال: نزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله إلها غيره، وليست هذه في المؤمنين. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي الدنيا في الإخلاص، وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم عن طاوس قال: قال رجل: يا نبي الله إني أقف موقف أبتغي وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الآية: * (فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *. وأخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي موصولا عن طاوس عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان من المسلمين من يقاتل وهو يحب أن يرى مكانه. فأنزل الله * (فمن كان يرجو لقآء ربه) *. وأخرج ابن منده وأبو نعيم في الصحابة، وابن عساكر من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لمقالة الناس فلامه الله، فنزل في ذلك: * (فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *، وأخرج هناد في الزهد عن مجاهد قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتصدق بالصدقة وألتمس بها ما عند الله، وأحب أن يقال لي خير، فنزلت: * (فمن كان يرجو لقآء ربه) * ا ه من (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) والعلم عند الله تعالى.
358

((سورة مريم))
* (كهيعص * ذكر رحمت ربك عبده زكريآ * إذ نادى ربه ندآء خفيا * قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعآئك رب شقيا * وإني خفت الموالى من ورآئى وكانت امرأتى عاقرا فهب لى من لدنك وليا * يرثنى ويرث من ءال يعقوب واجعله رب رضيا) * قوله تعالى: * (كهيعص ذكر رحمت ربك عبده زكريآ إذ نادى ربه ندآء خفيا قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعآئك رب شقيا) *. قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور. كقوله هنا: * (كهيعص) * في سورة (هود) فأغنى عن إعادته هنا. وقوله * (ذكر رحمت ربك) * خبر مبتدأ محذوف. أي هذا ذكر رحمة ربك. وقيل: مبتدأ خبره محذوف، وتقديره: فيما يتلى عليكم ذكر رحمة ربك، والأول أظهر. والقول بأنه خبر عن قوله (كهيعص) ظاهر السقوط لعدم ربط بينهما. وقوله: * (ذكر رحمت ربك) * لفظة (ذكر) مصدر مضاف إلى مفعوله. ولفظة (رحمة) مصدر مضاف إلى فاعله وهو (ربك). وقوله * (عبده) * مفعول به للمصدر الذي هو (رحمة) المضاف إلى فاعله، على حد قوله في الخلاصة: ذكر رحمت ربك) * لفظة (ذكر) مصدر مضاف إلى مفعوله. ولفظة (رحمة) مصدر مضاف إلى فاعله وهو (ربك). وقوله * (عبده) * مفعول به للمصدر الذي هو (رحمة) المضاف إلى فاعله، على حد قوله في الخلاصة:
* وبعد جره الذي أضيف له
* كمل بنصب أو برفع عمله
*
وقوله (زكريا) بدل من قوله (عبده) أو عطف بيان عليه.
وقد بين جل وعلا في هذه الآية: أن هذا الذي يتلى في أول هذه السورة الكريمة هو ذكر الله رحمته التي رحم بها عبده زكريا حين ناداه نداء خفيا أي دعاء في سر وخفية. وثناؤه جل وعلا عليه يكون دعائه خفيا يدل على أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره وإعلانه. وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية جاء مصرحا به في قوله تعالى: * (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية) *، وقوله تعالى: * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) *. وإنما كان الإخفاء أفضل من الإظهار لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء. فقول من قال: إن سبب إخفائه دعاءه أنه خوفه من قومه أن يلوموه على طلب الولد، في حالة لا يمكن فيها الولد عادة لكبر
359

سنه وسن امرأته، وكونها عاقرا. وقول من قال: إنه أخفاه لأنه طلب أمر دنيوي، فإن أجاب الله دعاءه فيه نال ما كان يريد. وإن لم يجبه لم يعلم ذلك أحد، إلى غير ذلك من الأقوال، كل ذلك ليس بالأظهر. والأظهر أن السر في إخفائه هو ما ذكرنا من كون الإخفاء أفضل من الإعلان في الدعاء. ودعاء زكريا هذا لم يبين الله في هذا الموضع مكانه ولا وقته، ولكنه أشار إلى ذلك في سورة (آل عمران) في قوله: * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هاذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشآء بغير حساب هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة) *. فقوله (هنالك) أي في ذلك المكان الذي وجد فيه ذلك الرزق عند مريم. وقال بعضهم: (هنالك) أي في ذلك الوقت، بناء على أن هنا ربما أشير بها إلى الزمان. وقوله في دعائه هذا: * (رب إنى وهن العظم منى) * أي ضعف. والوهن: الضعف. وإنما ذكر ضعف العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه، وهو أصل بنائه فإذا وهن دل على ضعف جميع البدن، لأنه أشد ما فيه وأصلبه، فوهنه يستلزم وهن غيره من البدن.
وقوله: * (واشتعل الرأس شيبا) * الألف واللام في (الرأس) قاما مقام المضاف إليه. إذ المراد: واشتعل رأسي شيبا. والمراد باشتعال الرأس شيبا: انتشار بياض الشيب فيه. قال الزمخشري في كشافه: شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس، وأخرج الشيب مميزا، ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم الخاطب أنه رأس زكريا. فمن ثم
فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة انتهى منه. والظاهر عندنا كما بينا مرارا: أن مثل هذا من التعبير عن انتشار بياض الشيب في الرأس، باشتعال الرأس شيبا أسلوب من أساليب اللغة العربية الفصحى جاء القرآن به، ومنه قول الشاعر: واشتعل الرأس شيبا) * الألف واللام في (الرأس) قاما مقام المضاف إليه. إذ المراد: واشتعل رأسي شيبا. والمراد باشتعال الرأس شيبا: انتشار بياض الشيب فيه. قال الزمخشري في كشافه: شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس، وأخرج الشيب مميزا، ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم الخاطب أنه رأس زكريا. فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة انتهى منه. والظاهر عندنا كما بينا مرارا: أن مثل هذا من التعبير عن انتشار بياض الشيب في الرأس، باشتعال الرأس شيبا أسلوب من أساليب اللغة العربية الفصحى جاء القرآن به، ومنه قول الشاعر:
* ضيعت حزمي في إبعادي الأملا
* وما أرعويت وشيبا رأسي اشتعلا
*
ومن هذا القبيل قول ابن دريد في مقصورته. ومن هذا القبيل قول ابن دريد في مقصورته.
* واشتعل المبيض في مسوده
* مثل اشتعال النار في جزل الغضا
*
360

وقوله (شيبا) تمييز محول عن الفاعل في أظهر الأعاريب. خلافا لمن زعم أنه ما ناب عن المطلق من قوله (واشتعل) لأنه اشتعل بمعنى شاب، فيكون (شيبا) مصدرا منه في المعنى ومن زعم أيضا أنه مصدر منكر في موضع الحال.
وهذا الذي ذكره الله هنا عن زكريا في دعائه من إظهار الضعف والكبر جاء في مواضع أخر. كقوله هنا: * (وقد بلغت من الكبر عتيا) *، وقوله في (آل عمران): * (وقد بلغني الكبر) *. وهذا الذي ذكره هنا من إظهار الضعف يدل على أنه ينبغي للداعي اظهار الضعف والخشية والخشوع في دعائه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ولم أكن بدعآئك رب شقيا) * أي لم أكن بدعائي إياك شقيا، أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك، يعني أنك عودتني الإجابة فيما مضى. والعرب تقول: شقى بذلك إذا تعب فيه ولم يحصل مقصوده. وربما أطلقت الشقاء. على التعب، كقوله تعالى: * (إن هاذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * وأكثر ما يستعمل في ضد السعادة. ولا شك أن إجابة الدعاء من السعادة، فيكون عدم إجابته من الشقاء.
قوله تعالى عن زكريا: * (وإني خفت الموالى من ورآئى وكانت امرأتى عاقرا فهب لى من لدنك وليا يرثنى ويرث من ءال يعقوب واجعله رب رضيا) *.
معنى قوله: * (خفت الموالى) * أي خفت أقاربي وبني عمي وعصبتي: أن يضيعوا الدين بعدي، ولا يقوموا لله بدينه حق القيام، فأرزقني ولدا يقوم بعدي بالدين حق القيام. وبهذا التفسير تعلم أن معنى قومه (يرثني) أنه إرث وعلم ونبوة، ودعوة إلى الله والقيام بدينه، لا إرث مال. ويدل لذلك أمران:
أحدهما قوله * (ويرث من ءال يعقوب) * ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين.
والأمر الثاني ما جاء من الأدلة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال، وإنما يورث عنهم العلم والدين. فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا نورث، ما تركنا صدقه). ومن ذلك أيضا ما رواه الشيخان أيضا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير وسعد، وعلي، والعباس، رضي الله عنهم: أنشدكم الله
361

الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث ما تركنا صدقة)، قالوا: نعم. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن. فقالت عائشة: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركنا صدقة). ومن ذلك ما رواه الشيخان أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتسم ورثني دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة) وفي لفظ عند أحمد: (لا تقتسم ورثني دينارا ولا درهما). ومن ذلك أيضا ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه. عن أبي هريرة: أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه: من يرثك إذا مت؟ قال: ولدي وأهلي. قالت: فما لنا لا نرث النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن النبي لا يورث) ولكن أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق.
فهذه الأحاديث وأمثالها ظاهرة في أن الأنبياء لا يورث عنهم المال بل العلم والدين. فإن قيل: هذا مختص به صلى الله عليه وسلم. لأن قوله (لا نورث) يعني به نفسه. كما قال عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح المشار إليه عنه آنفا: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث ما تركنا صدقة) يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه. فقال الرهط: قد قال ذلك الحديث. ففي هذا الحديث الصحيح أن عمر قال: إن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (لا نورث) نفسه، وصدقه الجماعة المذكورون في ذلك، وهذا دليل على الخصوص فلا مانع إذن من كون الموروث عن زكريا في الآية التي نحن بصددها هو المال؟ فالجواب من أوجه:
الأول أن ظاهر صيغة الجمع شمول جميع الأنبياء، فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلا بدليل من كتاب أو سنة. وقول عمر لا يصح تخصيص نص نص من السنة به. لأن النصوص لا يصح تخصيصها بأقوال الصحابة على التحقيق كما هو مقرر في الأصول.
الوجه الثاني أن قول عمر (يريد صلى الله عليه وسلم نفسه) لا ينافي شمول الحكم لغيره من الأنبياء، لاحتمال أن يكون قصده يريد أنه هو صلى الله عليه وسلم يعني نفسه فإنه لا يورث، ولم يقل عمر إن اللفظ لم يشمل غيره، وكونه يعني نفسه لا ينافي أن غيره من الأنبياء لا يورث أيضا.
الوجه الثالث ما جاء من الأحاديث صريحا في عموم عدم الإرث المال في جميع الأنبياء. وسنذكر طرفا من ذلك هنا إن شاء الله تعالى.
قال ابن حجر في فتح الباري ما نصه: وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول
362

وغيرهم بلفظ (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ (نحن) لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد بلفظ (إنا معاشر الأنبياء لا نورث..) الحديث وأخرجه عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة عنه، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه. وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور. وأخرجه الطبراني في الأوسط بنحو اللفظ المذكور. وأخرجه الدارقطني في العلل من رواية أم هانىء عن فاطمة رضي الله عنها، عن أبي بكر الصديق بلفظ (إن الأنبياء لا يورثون) انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر. وقد رأيت فيه هذه الطرق التي فيها التصريح بعموم الأنبياء. وقد قال ابن حجر: إن إنكار الحديث المذكور غير مسلم إلا بالنسبة لخصوص لفظ (نحن) هذه الروايات التي أشار لها يشد بعضها. وقد تقرر في الأصول أن البيان يصح بكل ما يزيل الإشكال ولو قرينة أو غيرها كما قدمناه موضحا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، وعليه فهذه الأحاديث التي ذكرنا تبين أن المقصود من قوله في الحديث المتفق عليه (لا نورث) أنه يعني نفسه. كما قال عمر وجميع الأنبياء كما دلت عليه الروايات المذكورة. والبيان إرشاد ودلالة يصح بكل شيء يزيل اللبس عن النص من نص أو فعل أو قرينة أو غير ذلك. قال في مراقي السعود في تعريف البيان وما به البيان:.) الحديث وأخرجه عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة عنه، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه. وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور. وأخرجه الطبراني في الأوسط بنحو اللفظ المذكور. وأخرجه الدارقطني في العلل من رواية أم هانىء عن فاطمة رضي الله عنها، عن أبي بكر الصديق بلفظ (إن الأنبياء لا يورثون) انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر. وقد رأيت فيه هذه الطرق التي فيها التصريح بعموم الأنبياء. وقد قال ابن حجر: إن إنكار الحديث المذكور غير مسلم إلا بالنسبة لخصوص لفظ (نحن) هذه الروايات التي أشار لها يشد بعضها. وقد تقرر في الأصول أن البيان يصح بكل ما يزيل الإشكال ولو قرينة أو غيرها كما قدمناه موضحا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، وعليه فهذه الأحاديث التي ذكرنا تبين أن المقصود من قوله في الحديث المتفق عليه (لا نورث) أنه يعني نفسه. كما قال عمر وجميع الأنبياء كما دلت عليه الروايات المذكورة. والبيان إرشاد ودلالة يصح بكل شيء يزيل اللبس عن النص من نص أو فعل أو قرينة أو غير ذلك. قال في مراقي السعود في تعريف البيان وما به البيان:
* تصيير مشكل من الجلى
* وهو واجب على النبي
*
* إذا أريد فهمه وهو بما
* من الدليل مطلقا يجلو العما
*
وبهذا الذي قررنا تعلم: أن قوله هنا * (يرثنى ويرث من ءال يعقوب) * يعني وراثة العلم والدين لا المال. وكذلك قوله: * (وورث سليمان داوود) *. فتلك الوراثة أيضا وراثة علم ودين. والوراثة قد تطلق في الكتاب والسنة على وراثة العلم والدين، كقوله تعالى: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) *، وقوله: * (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفى شك منه مريب) *، وقوله: * (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب) *، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السنة الواردة في ذلك ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العلماء ورثة الأنبياء) وهو في المسند والسنن قال صاحب (تمييز الطيب من
363

الخبيث، فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث): رواه أحمد أبو داود والترمذي وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعا بزيادة (إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم) وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما انتهى منه بلفظه. وقال صاحب (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس): (العلماء ورثة الأنبياء) رواه أحمد والأربعة وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعا بزيادة (إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم..) الحديث، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وحسنه حمزة الكناني وضعفه غيرهم لاضطراب سنده لكن له شواهد. ولذا قال الحافظ: له طرق يعرف بها أن الحديث أصلا، ورواه الديلمي عن البراء بن عازب بلفظ الترجمة ا ه محل الغرض منه. والظاهر صلاحية هذا الحديث للاحتجاج لاعتضاد بعض طرقه ببعض. فإذا علمت ما ذكرنا من دلالة هذه الأدلة على أن الوراثة المذكورة في الآية وراثة علم ودين لا وراثة مال فاعلم أن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: الأول هو ما ذكرنا. والثاني أنها وراثة مال، والثالث: أنها وبالنسبة لآل يعقوب في قوله (ويرث من آل يعقوب) وراثة علم ودين. وهذا اختيار ابن جرير الطبري. وقد ذكر من قال: إن وراثته لزكريا وراثة مال حديثا
عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال: (رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته) أي ما يضره إرث ورثته لماله. ومعلوم أن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. والأرجح فيما يظهر لنا هو ما ذكرنا من أنها وراثة علم ودين؛ للأدلة التي ذكرنا وغيرها مما يدل على ذلك. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره هنا ما يؤيد ذلك من أوجه. قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: * (وإني خفت الموالى من ورآئى) * وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفا سيئا فسأل الله ولدا يكون نبيا من بعده؛ ليسوسهم بنبوته بما يوحى إليه فأجيب في ذلك؛ لا أنه خشي من وراثتهم له ماله؛ فإن النبي أعظم منزلة، وأجل قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم وهذا وجه.
الثاني أنه لم يذكر أنه كان ذا مال؛ بل كان نجارا يأكل من كسب يديه. ومثل هذا لا يجمع مالا، ولا سيما الأنبياء، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
الثالث أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث ما تركنا صدقة) وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح (نحن معشر الأنبياء لا نورث) وعلى هذا فتعين حمل قوله * (فهب لى من لدنك وليا يرثنى) *
364

على ميراث النبوة. ولهذا قال * (يرثنى ويرث من ءال يعقوب) * كقوله: * (وورث سليمان داوود) * أي في النبوة، إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة. إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل: أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها. وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركنا فهو صدقة) ا ه محل الغرض من كلام ابن كثير، ثم ساق بعد هذا طرق الحديث الذي أشرنا له (يرحم الله زكريا وما كان عليه من ورثة ماله) الحديث. ثم قال في أسانيده: وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح. واعلم أن لفظ (نحن معاشر الأنبياء) ولفظ (إنا معاشر الأنبياء) مؤداهما واحد. إلا أن (إن) دخلت على (نحن) فأبدلت لفظة (نحن) التي هي المبتدأ بلفظة (نا) الصالحة للنصب، والجملة هي هي إلا أنها في أحد اللفظين أكدت. (إن) كما لا يخفى. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فهب لى من لدنك وليا) * يعني بهذا الولي الولد خاصة دون غيره من الأولياء. بدليل قوله تعالى في القصة نفسها * (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة) *، وأشار إلى أنه الولد أيضا بقوله * (وزكريآ إذ نادى ربه رب لا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين) * فقوله (لا تذرني فردا) أي واحدا بلا ولد. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن زكريا: * (وإني خفت الموالى من ورآئى) * أي من بعدي إذا مت أن يغيروا في الدين. وقد قدمنا أن الموالي الأقارب والعصبات، ومن ذلك قوله تعالى: * (ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والا قربون) *. والمولى في لغة العرب: يطلق على كل من انعقد بينك وبينه سبب بواليك وتواليه به. وكثيرا ما يطلق في اللغة على ابن العم. لأن ابن العم يوالي ابن عمه بالقرابة العصبية. ومنه قول طرفة بن العبد:
* واعلم علما ليس بالظن أنه
* إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
*
يعني إذا ذلت بنو عمه فهو ذليل. وقول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب: يعني إذا ذلت بنو عمه فهو ذليل. وقول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
* مهلا ابن عمنا مهلا موالينا
* لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
*
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وكانت امرأتى عاقرا) * ظاهر في أنها كانت عاقرا في زمن شبابها. والعاقر: هي العقيم التي لا تلد وهو يطلق على الذكر والأنثى
365

. فمن إطلاقه على الأنثى هذه الآية، وقوله تعالى عن زكريا أيضا * (وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر) *. ومن إطلاقه على الذكر أول عامر بن الطفيل: وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر) *. ومن إطلاقه على الذكر أول عامر بن الطفيل:
* لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا
* جبانا فما عذري لدي كل محضر
*
وقد أشار تعالى إلى أنه أزال عنها العقم. وأصلحها. فجعلها ولودا بعد أن كانت عاقرا في قوله عز وجل: * (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه) * فهذا الإصلاح هو كونها صارت تلد بعد أن كانت عقيما. وقول من قال: إن إصلاحها المذكور هو جعلها حسنة الخلق بعد أن كانت سيئة الخلق لا ينافي ما ذكر لجواز أن يجمع له بين الأمرين فيها، مع أن كون الإصلاح هو جعلها ولودا بعد العقم هو ظاهر السياق، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير، ومجاهد وغيرهم. والقول الثاني يروي عن عطاء.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن زكريا * (واجعله رب رضيا) * أي مرضيا عندك وعند خلقك في أخلاقه وأقواله وأفعاله ودينه، وهو فعيل بمعنى مفعول.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فهب لى من لدنك) * أي من عندك. وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة * (يرثنى ويرث من ءال يعقوب) * قرأه أبو
عمرو والكسائي بإسكان الثاء المثلثة من الفعلين، أعني * (يرثنى ويرث من ءال يعقوب) * وهما على هذه القراءة مجزومان لأجل جواب الطلب الذي هو (هب لي) والمقرر عند علماء العربية. أن المضارع المجزوم في جواب الطلب مجزوم بشرط مقدر يدل عليه فعل الطلب، وتقديره في هذه الآية التي نحن بصددها، إن تهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب. وقرأ الباقون * (يرثنى ويرث من ءال يعقوب) * يرفع الفعلين على أن الجملة نعت لقوله (وليا) أي وليا وارثا لي، ووارثا من آل يعقوب، كما قال في الخلاصة: يرثنى ويرث من ءال يعقوب) * يرفع الفعلين على أن الجملة نعت لقوله (وليا) أي وليا وارثا لي، ووارثا من آل يعقوب، كما قال في الخلاصة:
* ونعتوا بجملة منكرا
* فأعطيت ما أعطيته خبرا
*
وقراءة الجمهور برفع الفعلين أوضح معنى. وقرأ ابن كثير بفتح الياء من قوله * (من ورآئى وكانت امرأتى) * والباقون بإسكانها. وقرأ زكريا بلا همزة بعد الألف حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. والباقون قرؤوا (زكريا) بهمزة بعد الألف، وبه تعلم أن المد في قوله * (وزكريآ إذ نادى) * منفصل على قراءة حمزة والكسائي وحفص، ومتصل
366

على قراءة الباقين. والهمزة الثانية على قراءة الجمهور التي هي همزة (إذا) مسهلة في قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، ومحققة في قراءة ابن عامر وشعبة عن عاصم. وقراءة * (خفت الموالى) * بفتح الخاء والفاء المشددة بصيغة الفعل الماضي بمعنى أن مواليه خفوا أي قلوا شاذة لا تجوز القراءة بها وإن رويت عن عثمان بن عفان، ومحمد بن علي بن الحسين، وغيرهم رضي الله عنهم. وامرأة زكريا المذكورة قال القرطبي: هي إيشاع بنت فاقوذ بن قبيل، وهي أخت حنة بنت فاقوذا. قاله الطبري. وحنة: هي أم مريم. وقال القتبي: امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران. فعلى هذا القول يكون يحيى بن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة. وعلى القول الأول يكون ابن خالة أمه. وفي حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام: (فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى) شاهدا القول الأول ا ه. منه. والظاهر شهادة الحديث للقول الثاني لا للأول، خلافا لما ذكره رحمه الله تعالى، والعلم عند الله تعالى.
* (يازكريآ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا * قال رب أنى يكون لى غلام وكانت امرأتى عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا * قال كذالك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا * قال رب اجعل لىءاية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا * يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا * وحنانا من لدنا وزكواة وكان تقيا * وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) * قوله تعالى: * (يازكريآ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) *. في هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه، وتقديره: فأجاب الله دعاءه فنودي * (عبده زكريا) * الآية. وقد أوضح جل وعلا في موضع آخر هذا الذي أجمله هنا، فبين أن الذي ناداه بعض الملائكة. وأن النداء المذكور وقع وهو قائم يصلي في المحراب. وذلك قوله تعالى: * (فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) *، وقوله تعالى: * (فنادته الملائكة) * قال بعض العلماء: أطلق الملائكة وأراد جبريل. ومثل به بعض علماء الأصول العالم المراد به الخصوص قائلا: إنه أراد بعموم الملائكة خصوص جبريل، وإسناد الفعل للمجموع مرادا بعضه قد بينا فيما مضى مرارا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (اسمه يحيى) * يدل على أن الله هو الذي سماه، ولم يكل تسميته إلى أبيه. وفي هذا منقبة عظيمة ليحيى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (لم نجعل له من قبل سميا) * اعلم أولا أن السمى يطلق في اللغة العربية إطلاقين: الأول قولهم: فلان سمى فلان أي مسمى باسمه. فمن كان اسمهما واحدا فكلاهما سمى الآخر أي مسمى باسمه.
والثاني إطلاق السمي يعني المسامي أي المماثل في السمو والرفعة
367

والشرف، وهو فعيل بمعنى مفاعل من السمو بمعنى العلو والرفعة، ويكثر في اللغة إتيان الفعيل بمعنى المفاعل. كالقعيد والجليس بمعنى المقاعد والمجالس. والأكيل والشريب بمعنى المؤاكل والمشارب، وكذلك السمى بمعنى المسامي أي المماثل في السمو. فإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله هنا * (لم نجعل له من قبل سميا) * أي لم نجعل من قبله أحدا يتسمى باسمه. فهو أول من كان اسمه يحيى. وقول من قال: إن معناه لم نجعل له سميا أي نظيرا في السمو والرفعة غير صواب لأنه ليس بأفضل من إبراهيم وموسى ونوح، فالقول الأول هو الصواب. وممن قال به ابن عباس وقتادة والسدي وابن أسلم وغيرهم. ويروى القول الثاني عن مجاهد وابن عباس أيضا. وإذا علمت أن الصواب أن معنى قوله * (لم نجعل له من قبل سميا) * أي لم نسم أحدا باسمه قبله فاعلم أن قوله * (رب السماوات والا رض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا) * معناه: أنه تعالى ليس له نظير ولا مماثل يساميه في العلو والعظمة والكمال على التحقيق. وقال بعض العلماء: وهو مروي عن ابن عباس * (هل تعلم له سميا) * هل تعلم أحدا يسمى باسمه الرحمن جل وعلا. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (قال رب أنى يكون لى غلام وكانت امرأتى عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن زكريا لما بشر بيحيى قال * (رب أنى يكون لى غلام وكانت امرأتى عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا) * وهذا الذي ذكر أنه قاله هنا ذكره أيضا في (آل عمران) في قوله * (قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر) *. وقوله في هذه الآية الكريمة * (وقد بلغت من الكبر عتيا) * قرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (عتيا) بكسر العين اتباعا للكسرة التي بعدها، ومجانسة للياء وقرأه الباقون (
عتيا) أنه بلغ غاية الكبر في السن. حتى نحل عظمه ويبس. قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: يقول وقد عتوت من الكبر فصرت نحيل العظام يابسها. يقال منه للعود اليابس: عودعات وعاس. وقد عتا يعتو عتوا وعتيا. وعسا يعسو عسيا وعسوا. وكل متناه إلى غاية في كبر أو فساد أو كفر فهو عات وعاس.
368

تنبيه
فإن قيل: ما وجه استفهام زكريا في قوله * (أنى يكون لى غلام) * مع علمه بقدرة الله تعالى على كل شيء.
فالجواب من ثلاثة أوجه قد ذكرناها في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عند آيات الكتاب) في سورة (آل عمران) وواحد منها فيه بعد وإن روى عن عكرمة والسدي وغيرهما.
الأول أن استفهام زكريا استفهام استخبار واستعلام. لأنه لا يعلم هل الله يأتيه بالولد من زوجة العجوز على كبر سنهما على سبيل خرق العادة. أو يأمره بأن يتزوج شابة، أو يردهما شابين؟ فاستفهم عن الحقيقة ليعلمها. ولا إشكال في هذا، وهو أظهرها.
الثاني أن استفهامه استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى.
الثالث وهو الذي ذكرنا أن فيه بعدا هو ما ذكره ابن جرير عن عكرمة والسدي: من أن زكريا لما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى، قال له الشيطان: ليس هذا نداء الملائكة، وإنما هو نداء الشيطان، فداخل زكريا الشك في أن النداء من الشيطان، فقال عند الله الشك الناشئ عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من الله: * (أنى يكون لى غلام) * ولذا طلب الآية من الله على ذلك بقوله: * (رب اجعل لىءاية) *. وإنما قلنا: إن هذا القول فيه بعد لأنه لا يلتبس على زكريا نداء الملائكة بنداء الشيطان.
وقوله في هذه الآية الكريمة (عتيا) أصله عتوا، فأبدلت الواو ياء. ومن إطلاق العتى الكبر المتناهي قول الشاعر: وقوله في هذه الآية الكريمة (عتيا) أصله عتوا، فأبدلت الواو ياء. ومن إطلاق العتى الكبر المتناهي قول الشاعر:
* إنما يعذر الوليد ولا يع
* ذر من كان في الزمان عتيا
*
وقراءة (عسيا) بالسين شاذة لا تجوز القراءة بها. وقال القرطبي: وبها قرأ ابن عباس، وهي كذلك في مصحف أبي. قوله تعالى: * (قال كذالك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) *. هذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ذكره أيضا في (آل عمران) في قوله: * (قال كذالك الله يفعل ما يشآء) *. وقوله في هذه الآية الكريمة (كذلك) للعلماء في إعرابه أوجه:
369

الأول أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره، الأمر كذلك، ولا محالة أن تلد الغلام المذكور. وقيل، الأمر كذلك أنت كبير في السن، وامرأتك عاقر. وعلى هذا فقوله * (قال ربك) * ابتداء كلام:
الوجه الثاني أن (كذلك) في محل نصب ب (قال) وعليه فالإشارة بقوله (ذلك) إلى مبهم يفسره قوله: * (هو على هين) * ونظيره على هذا القول قوله تعالى: * (وقضينآ إليه ذلك الا مر أن دابر هاؤلآء مقطوع مصبحين) *. وغير هذين من أوجه إعرابه تركناه لعدم وضوحه عندنا. وقوله * (هو على هين) * أي يسير سهل.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) * أي ومن خلقك ولم تك شيئا فهو قادر على أن يرزقك الولد المذكور كما لا يخفى. وهذا الذي قاله هنا لزكريا: من أنه خلقه ولم يك شيئا أشار إليه بالنسبة إلى الإنسان في مواضع أخر. كقوله: * (أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) *، وقوله تعالى: * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (ولم تك شيئا) * دليل على أن المعدوم ليس بشيء. ونظيره قوله تعالى: * (حتى إذا جآءه لم يجده شيئا) *، وهذا هو الصواب. خلافا للمعتزلة القائلين: إن المعدوم الممكن وجوده شيء، مستدلين لذلك بقوله تعالى: * (إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * قالوا: قد سماه الله شيئا قبل أن يقول له كن فيكون، وهو يدل على أنه شيء قبل وجوده. ولأجل هذا قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: لأن المعدوم ليس بشيء. أوليس شيئا يعتد به. كقولهم: عجبت من لا شيء. وقول الشاعر: إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * قالوا: قد سماه الله شيئا قبل أن يقول له كن فيكون، وهو يدل على أنه شيء قبل وجوده. ولأجل هذا قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: لأن المعدوم ليس بشيء. أوليس شيئا يعتد به. كقولهم: عجبت من لا شيء. وقول الشاعر:
* وضاقت الأرض حتى كان هاربهم
* إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
*
لأن مراده بقوله: غير شيء، أي إذا رأى شيئا تافها لا يعتد به كأنه لا شيء لحقارته ظنه رجلا، لأن غير شيء بالكلية لا يصح وقوع الرؤية عليه. والتحقيق هو ما دلت عليه هذه الآية وأمثالها في القرآن: من أن المعدوم ليس بشيء؟ والجواب عن استدلالهم بالآية: أن ذلك المعدوم لما تعلقت الإرادة بإيجاده، صار تحقق وقوعه
كوقوعه بالفعل، كقوله * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) *، وقوله: * (ونفخ فى الصور) *، وقوله: * (وأشرقت الا رض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين) *
370

، وقوله * (وسيق الذين كفروا) *، وقوله * (وسيق الذين اتقوا ربهم) *، وأمثال ذلك. كل هذه الأفعال الماضية الدالة على الوقوع بالفعل فيما مضى أطلقت مرادا بها المستقبل، لأن تحقق وقوع ما ذكر صيره كالواقع بالفعل. وكذلك وكذلك تسميته شيئا قبل وجوده لتحقق وجوده بإرادة الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وقد خلقتك من قبل) * قرأه عامة السبعة ما عدا حمزة والكسائي (خلقتك) بتاء الفاعل المضمومة التي هي تاء المتكلم. وقرأه حمزة والكسائي (وقد خلقناك) بنون بعدها ألف، وصيغة الجمع فيها للتعظيم. قوله تعاله: * (قال رب اجعل لىءاية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) *. المراد بالآية هنا العلامة، أي اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به من الولد. قال بعض أهل العلم: طلب الآية على ذلك لتتم طمأنينته بوقوع ما بشر به. ونظيره على هذا القول قوله تعالى عن إبراهيم: * (قال إبراهيم رب أرنى كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولاكن ليطمئن قلبى) *. وقيل: أراد بالعلامة أن يعرف ابتداء حمل امرأته، لأن الحمل في أول زمنه يخفى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ءايتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) * أي علامتك على وقوع ذلك ألا تكلم الناس، أي أن تمنع الكلام فلا تطيقه ثلاث ليال بأيامهن في حال كونك سويا، أي سوى الخلق، سليم الجوارح، ما بك خرس ولا بكم ولكنك ممنوع من الكلام على سبيل خرق العادة، كما قدمنا في (آل عمران). أما ذكر الله فليس ممنوعا منه بدليل قوله في (آل عمران): * (واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والإبكار) *. وقول من قال: إن معنى قوله تعالى. * (ثلاث ليال سويا) * أي ثلاث ليال متتابعات غير صواب، بل معناه هو ما قدمنا من كون اعتقال لسانه عن كلام قومه ليس لعلة ولا مرض حدث به. ولكن بقدرة الله تعالى وقد قال تعالى هنا (ثلاث ليال) ولم يذكر معها أيامها، ولكنه ذكر الأيام في (آل عمران)، في قوله * (قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام) *. فدلت الآيتان على أنها ثلاث ليالي بأيامهن.
وقوله تعالى في هذه الآية: * (ألا تكلم الناس) * يعني إلا بالإشارة أو الكتابة، كما دل عليه قوله هنا: * (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) *، وقوله في (آل
371

عمران): * (قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام) *. لأن الرمز: الإشارة والإيماء بالشفتين والحاجب. والإيحاء في قوله: * (فأوحى إليهم أن سبحوا) *، قال بعض العلماء: هو الإشارة وهو الأظهر بدليل قوله (إلا رمزا) كما تقدم آنفا. وممن قال بأن الوحي في الآية الإشارة: قتادة، والكلبي، وابن منبه، والعتبي، كما نقله عنهم القرطبي وغيره. وعن مجاهد، والسدي (فأوحى إليهم) أي كتب لهم في الأرض. وعن عكرمة: كتب لهم في كتاب. والوحي في لغة العرب يطلق على كل إلقاء في سرعة وخفاء. ولذلك أطلق على الإلهام، كما في قوله تعالى: * (وأوحى ربك إلى النحل) *. وعلى الإشارة كما هو الظاهر في قوله تعالى: * (فأوحى إليهم أن سبحوا) *. ويطلق على الكتابة كما هو القول الآخر في هذه الآية الكريمة. وإطلاق الوحي على الكتابة مشهور في كلام العرب، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته: فأوحى إليهم أن سبحوا) *. ويطلق على الكتابة كما هو القول الآخر في هذه الآية الكريمة. وإطلاق الوحي على الكتابة مشهور في كلام العرب، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
* فمدافع الريان عرى رسمها
* خلقا كما ضمن الوحي سلامها
*
فقوله (الوحي) بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء، جمع وحي بمعنى الكتابة. وقول عنترة: فقوله (الوحي) بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء، جمع وحي بمعنى الكتابة. وقول عنترة:
* كوحي صحائف من عهد كسرى
* فأهداها لأعجم طمطمي
*
وقول ذي الرمة: وقول ذي الرمة:
* سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها
* بقية بطرحى في ون الصحائف
*
وقول جرير:
* كأن أخا الكتاب يخط وحيا
* بكاف في منازلها ولام
* فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن زكريا خرج على قومه من المحراب فأشار إليهم،
أو كتب لهم: أن سبحوا الله أول النهار وآخره. فالبكرة أول النهار، والعشي آخره. وقد بين تعالى في (آل عمران) أن هذا الذي أمر به زكريا قومه بالإشارة أو الكتابة من التسبيح بكرة وعشيا أن الله أمر زكرياء به أيضا، وذلك في قوله: * (واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والإبكار) *. والظاهر أن هذا المحراب الذي خرج منه على قومه هو المحراب الذي بشر بالولد وهو قائم يصلي فيه المذكور في قوله تعالى: * (فنادته
372

الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب) *. قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: والمحراب: أرفع المواضع، وأشرف المجالس. وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ا ه. وقال الجوهري في صحاحه: قال الفراء المحاريب: صدور المجالس، ومنه سمي محراب المسجد، والمحراب: الغرفة. قال وضاح اليمن: فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب) *. قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: والمحراب: أرفع المواضع، وأشرف المجالس. وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ا ه. وقال الجوهري في صحاحه: قال الفراء المحاريب: صدور المجالس، ومنه سمي محراب المسجد، والمحراب: الغرفة. قال وضاح اليمن:
* ربة محراب إذا جئتها
* لم ألقها أو أرتقي سلما
*
ومن هذا المعنى قوله تعالى: * (كلما دخل عليها زكريا المحراب) *.
تنبيه
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة: مشروعية ارتفاع الإمام على المأمومين في الصلاة. لأن المحراب موضع صلاة زكريا، كما دل عليه قومه (وهو قائم يصلي في المحراب). والمحراب أرفع من غيره، فدل ذلك على ما ذكر. قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره: هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعا عندهم. وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره، متمسكا بقصة المنبر. ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير. وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام.
قلت: وهذا فيه نظر، وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان. فأخذ أبو مسعود بقميصه فحبذه. فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا، أو ينهى عن ذلك؟ قال بلى، ذكرت ذلك حين مددتني. وروي أيضا عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن. فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة. فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أم للرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم) أو نحو ذلك؟ فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.
قلت: فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر. فدل على أنه منسوخ، ومما يدل على نسخه: أن فيه عملا زائدا في الصلاة وهو النزول والصعود، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام. وهذا أولى مما
373

اعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما من الكبر. لأن كثيرا من الأئمة يوجدون لا كبر عندهم. ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرا، والله أعلم. انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: سنتكلم هنا إن شاء الله تعالى على الأحاديث المذكورة، ونبين أقوال العلماء في هذه المسألة، وأدلتهم وما يظهر رجحناه بالدليل.
أما الحديثان اللذان ذكرهما القرطبي عن أبي داود فقد ساقهما أبو داود في سننه حدثنا أحمد بن سنان وأحمد بن الفرات أبو مسعود الرازي المعنى قال: ثنا يعلى ثنا الأعمش عن إبراهيم عن همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، إلى آخر الحديث. ثم قال أبو داود رحمه الله: حدثنا أحمد بن إبراهيم ثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني أبو خالد عن عدي بن ثابت الأنصاري، حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن. إلى آخر الحديث. ولا يخفى أن هذا الحديث الأخير ضعيف، لأن الراوي فيه عن عمار رجل لا يدرى من هو كما ترى. وأما الأثر الأول فقد صححه غير واحد، وروى مرفوعا صريحا. قال ابن حجر في (التلخيص) في الكلام على الأثر والحديث المذكورين: ويعارضه ما رواه أبو داود من طريق همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال بلى. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وفي رواية للحاكم التصريح برفعه. ورواه أبو داود من وجه آخر، وفيه أن الإمام كان عمار بن ياسر، والذي جبذه حذيفة، وهو مرفوع لكن فيه مجهول. والأول أقوى، ويقويه ما رواه الدارقطني من وجه آخر عن همام عن أبي مسعود: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه أسفل منه. ا ه من التلخيص. وقال النووي في (شرح المهذب) في الكلام على حديث صلاة حذيفة على الدكان وجبذ أبي مسعود له المذكور: رواه الشافعي وأبو داود والبيهفي. ومن لا يحصى من كبار المحدثين ومصنفيهم، وإسناده صحيح. ويقال جذب وجبذ، لغتان مشهورتان ا ه منه. وأما قصة المنبر التي أشار لها القرطبي، وقال: إنها حجة من يجيز ارتفاع الإمام على المأموم فهي حديث سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر في أول يوم وضع، فكبر وهو عليه ثم ركع ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ، فلما انصرف قال: (أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي) متفق عليه. أما أقوال الأئمة في هذه
374

المسألة: فمذهب الشافعي فيها هو كراهة علو الإمام على المأموم. وكذلك عكسه إلا إذا كان ذلك لغرض صحيح محتاج إليه، كارتفاع الإمام ليعلم الجاهلين الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على المنبر، وبين أنه فعل ذلك لقصد التعليم، وكارتفاع المأموم ليبلغ غير من المأمومين تكبيرات الإمام فإن كان ارتفاع أحدهما لنحو هذا الغرض استحب له الارتفاع لتحصيل الغرض المذكور.
قال النووي في (شرح المهذب): هذا مذهبنا، وهو رواية عن أبي حنيفة، وعنه رواية. أنه يكره الارتفاع مطلقا، وبه قال مالك والأوزاعي. وحكي الشيخ أبو حامد عن الأوزاعي: أنه قال تبطل به الصلاة. وأما مذهب مالك في المسألة ففيه تفصيل بين علو الإمام على المأموم وعكسه. فعلو المأموم جائز عنده. وقد رجع إلى كراهته. وبقي بعض أصحابه على قوله بجوازه. وعلو الإمام لا يعجبه. وفي المدونة قال مالك: لا بأس في غير الجمعة أن يصلي الرجل بصلاة الإمام على ظهر المسجد والإمام في داخل المسجد. ثم كرهه. وأخذ ابن القاسم بقوله الأول. انتهى بواسطة نقل الموق في الكلام على قول خليل بن إسحاق في مختصره عاطفا على ما يجوز. وعلو مأموم ولو بسطح. وفي المدونة أيضا قال مالك: إذا صلى الإمام بقوم على ظهر المسجد والناس خلفه أسفل من ذلك فلا يعجبني. انتهى بواسطة نقل المواق أيضا. وقوله (يعجبني) ظاهر في الكراهة. وحمله بعضهم على المنع. وفي وجوب إعادة الصلاة قولان. ومحل الخلاف ما لم يقصد المرتفع بارتفاعه التكبر على الناس، فإن قصد ذلك بطلت صلاته عندهم إماما كان أو مأموما. وهذه المسألة ذكرها خليل بن إسحاق في مختصره في قوله: وعلو مأموم ولو بسطح لا عكسه، وبطلب بقصد إمام ومأموم به الكبر إلا بكثير ا ه. وقوله (إلا بكشبر) يعني إلا أن يكون الارتفاع بكشبر، ونحو المنبر عظم الذراع عندهم. ومحل جواز الارتفاع اليسير المذكور ما لم يقصد به الكبر. فقوله (إلا بكشبر) مستثنى من قوله (لا عكسه) لا من مسألة قصده الكبر فالصلاة فيها باطلة عندهم مطلقا: قال المواق في شرحه لكلام خليل المذكور من المدونة: كره مالك وغيره أن يصلي الإمام على شيء أرفع مما يصلي عليه من خلفه، مثل الدكان يكون في المحراب ونحوه. قال ابن القاسم: فإن فعل أعادوا أبدا، لأنهم يعبشون إلا أن يكون ذلك دكانا يسير الارتفاع مثل ما كان عندنا بمصر فتجزئهم الصلاة. قال أبو محمد: مثل الشبر وعظم الذراع إلى أن قال: وانظر إذا صلى المقتدي كذلك أعني على موضع مرتفع قصدا
375

إلى التكبر عن مساواة الإمام. قال ابن بشير: صلاته أيضا باطلة. ا ه محل الغرض منه. وقول ابن القاسم (لأنهم يعبثون) يعني برفع ذلك البنيان الذي يصلي عليه الإمام، كما قال تعالى عن نبيه هود مخاطبا لقومه عاد: * (أتبنون بكل ريع ءاية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) * وإذا ارتفعت مع الإمام طائفة من المصلين سائر الناس، أعني ليست من أشراف الناس وأعيانهم، ففي نفي الكراهة بذلك خلاف عندهم وإليه أشار خليل في مختصره بقوله: وهل يجوز إن كان مع الإمام طائفة كغيرهم تردد. هذا هو حاصل مذهب مالك في هذه المسألة.
وأما مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة: فهو أن ارتفاع كل من الإمام والمأموم على الآخر مكروه. وقال الطحاوي: لا يكره علو المأموم على الإمام. ومحل الكراهة عند الحنفية في الارتفاع غير اليسير، ولا كراهة عندهم في اليسير: وقدر الارتفاع الموجب للكراهة عندهم قدر قامة، ولا بأس بما دونها، ذكره الطحاوي، وهو مروي عن أبي يوسف: وقيل هو مقدر بقدر ما يقع عليه الامتياز. وقيل: مقدر بقدر ذراع اعتبارا بالسترة. قال صاحب (تبيين الحقائق). وعليه الاعتماد. وإن كان مع الإمام جماعة في مكانه المرتفع، وبقية المأمومين أسفل منهم فلا يكره ذلك على الصحيح عندهم انتهى بمعناه (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق).
وأما مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة فهو التفصيل بين علو الإمام على المأموم، فيكره على المشهور من مذهب أحمد. وبين علو المأموم الإمام فيجوز. قال ابن قدامة في المغني: المشهور في المذهب أنه يكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين، سواء أراد تعليمهم الصلاة، أو لم يرد. وهو قول مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي. وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكره ا ه. محل الغرض منه. وقال في المغني أيضا: فإن صلى الإمام في مكان أعلى من المأمومين فقال ابن حامد: لا تصح صلاتهم. وهو قول الأوزاعي، لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه. وقال القاضي: لا تبطل، وهو قول أصحاب الرأي ا ه محل الغرض منه.
فإذا عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة فاعلم أن حجة من كره علو الإمام على المأموم أو منعه هي ما قدمنا في قصة جبذ أبي مسعود لحذيفة لما أم الناس، وقام يصلي على دكان. الحديث المتقدم. وقد بينا أقوال أهل العلم في الحديث المذكور. وحجة من أجاز ذلك للتعليم حديث سهل بن سعد المتفق عليه في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
376

على المنبر وجواب المخالفين عن صلاته على المنبر. بأنه ارتفاع يسير، وذلك لا بأس به، أو بأنه منسوخ كما تقدم في كلام القرطبي: وحجة من أجاز على المأموم على الإمام ما روي عن أبي هريرة: أنه صلى بصلاة الإمام وهو على سطح المسجد.
قال ابن حجر (في التلخيص): رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد قال حدثني صالح مولى التوأمة أنه رأى أبا هريرة يصلي فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام في المسجد. ورواه البيهقي من حديث القعنبي عن ابن أبي ذئب عن صالح، ورواه سعد بن منصور، وذكره البخاري تعليقا انتهى محل الغرض من كلامه. فقد رأيت مذاهب العلماء في المسألة وأدلتهم.
قال مقيده عفا الله عنه: والذي يظهر والله تعالى أعلم وجوب الجمع بين الأدلة المذكورة، وأن علو الإمام مكروه لما تقدم. ويجمع بينه وبين قصة الصلاة على المنبر بجوازه للتعليم دون غيره. ويدل لهذا إخباره صلى الله عليه وسلم أنه إذا ارتفع رأوه وإذا نزل لم يره إلا من يليه، وجمع بعضهم بأن ارتفاعه على المنبر ارتفاع يسير وهو مغتفر. أما علو المأموم فقد تعارض فيه القياس مع فعل أبي هريرة. لأن القياس يقتضي كراهة ارتفاع المأموم قياسا على ارتفاع الإمام وهو قياس جلي، وإذا تعارض القياس مع قول الصحابي فمن الأصوليين من يقول بتقديم القياس، وهو مذهب مالك وجماعة، ومنهم من يقول بتقديم قول الصحابي. ولا شك أن الأحوط تجنب
علو كل واحد من الإمام والمأموم على الآخر. والعلم عند الله تعالى. و (أن) في قوله * (فأوحى إليهم أن سبحوا) * هي المفسرة. والمعنى أن ما بعدها يفسر الإيحاء المذكور قبلها. فهذا الذي أشار لهم به هو الأمر بالتسبيح بكرة وعشيا، وهذا هو الصواب. ويحتمل أن تكون مصدرية بناء على أن (أن) المصدرية تأتي مع الأفعال الطلبية. وعليه فالمعنى: أوحى إليهم أي أشار إليهم بأن سبحوا، أي بالتسبيح أو كتب لهم ذلك بناء على القول بأن المراد به الكتابة، وكونها مفسرة هو الصواب. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكواة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) *.
377

اعلم أولا أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر شيء مع بعض صفاته وله صفات أخر مذكورة في موضع آخر، فإنا نبينها. وقد مر فيه أمثلة كثيرة من ذلك، وأكثرها في الموصوفات من أسماء الأجناس لا الأعلام، وربما ذكرنا ذلك في صفات الأعلام كما هنا فإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة بعض صفات يحيى، وقد ذكر شيئا من صفاته أيضا في غير هذا الموضع. وسنبين إن شاء الله المراد بالمذكور منها هنا، والمذكور في غير هذا الموضع.
اعلم أنه هنا وصفه بأنه قال له * (يايحيى خذ الكتاب بقوة) * ووصفه بقوله * (وآتيناه الحكم) * إلى قوله * (ويوم يبعث حيا) *. فقوله * (يايحيى خذ الكتاب) * مقول قول محذوف. أي وقلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوة. والكتاب: التوراة. أي خذ التوراة بقوة. أي بجد واجتهاد، وذلك بتفهم المعنى أولا حتى يفهمه على الوجه الصحيح، ثم يعمل به من جميع الجهات، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويتأدب بآدابه، ويتعظ بمواعظه، إلى غير ذلك من جهات العمل به. وعامة المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا: التوراة. وحكى غير واحد عليه الإجماع. وقيل: هو كتاب أنزل على يحيى، وقيل: هو اسم جنس يشمل الكتب المقدمة. وقيل: هو صحف إبراهيم. والأظهر قول الجمهور: إنه التوراة كما قدمنا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وآتيناه الحكم) * أي أعطيناه الحكم، وللعلماء في المراد بالحكم أقوال متقاربة، مرجعها إلى شيء واحد، وهو أن الله أعطاه الفهم في الكتاب. أي إدراك ما فيه والعمل به في حال كونه صبيا. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: * (وآتيناه الحكم صبيا) * أي الفهم والعلم والجد والعزم، والاقبال على الخير والإكباب عليه، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث. قال عبد الله بن المبارك قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال:
378

ما للعب خلقناا فلهذا أنزل الله * (وآتيناه الحكم صبيا) *. وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة * (وآتيناه الحكم صبيا) * يقول تعالى ذكره: وأعطيناه الفهم بكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان للرجال. وقد حدثنا أحمد بن منيع قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرني معمر ولم يذكره عن أحد في هذه الآية (وآتيناه الحكم صبيا) قال بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب. فقال: ما للعب خلقنا، فأنزل الله * (وآتيناه الحكم صبيا) * وقال الزمخشري في الكشاف * (وآتيناه الحكم) * أي الحكمة، ومنه قول نابغة ذبيان: وآتيناه الحكم) * أي الحكمة، ومنه قول نابغة ذبيان:
* واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت
* إلى حمام سراع وارد الثمد
*
وقال أبو حيان في البحر في تفسير هذه الآية: والحكم النبوة، أو حكم الكتاب، أو الحكمة، أو العلم بالأحكام. أو اللب وهو العقل، أو آداب الخدمة، أو الفراسة الصادقة. أقوال:
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي هو أن الحكم يعلم النافع والعمل به، وذلك بفهم الكتاب السماوي فهما صحيحا، والعمل به حقا، فإن هذا يشمل جميع أقوال العلماء في الآية الكريمة. وأصل معنى (الحكم) المنع، والعلم النافع. والعمل به يمنع الأقوال والأفعال من الخلل والفساد والنقصان.
وقوله تعالى: * (صبيا) * أي لم يبلغ، وهو الظاهر. وقيل: صبيا أي شابا لم يبلغ سن الكهولة ذكره أبو حيان وغيره، والظاهر الأول. قيل ابن ثلاث سنين، وقيل ابن سبع، وقيل ابن سنتين. والله أعلم.
وقوله في هذه الآية الكريمة * (وحنانا) * معطوف على * (الحكم) * أي وآتيناه حنانا من لدنا. والحنان: هو ما جبل عليه من الرحمة، والعطف والشفقة. وإطلاق الحنان على الرحمة والعطف مشهور في كلام العرب، ومنه قولهم: حنانك وحنانيك يا رب، بمعنى رحمتك. ومن هذا المعنى قول امرئ القيس: وقوله في هذه الآية الكريمة * (وحنانا) * معطوف على * (الحكم) * أي وآتيناه حنانا من لدنا. والحنان: هو ما جبل عليه من الرحمة، والعطف والشفقة. وإطلاق الحنان على الرحمة والعطف مشهور في كلام العرب، ومنه قولهم: حنانك وحنانيك يا رب، بمعنى رحمتك. ومن هذا المعنى قول امرئ القيس:
* أبنت الحارث الملك بن عمرو
* له ملك العراق إلى عمان
*
* ويمنحها بنو شمجي بن جرم
* معيزهم حنانك ذا الحنان
*
يعني رحمتك يا رحمن. وقول طرفة بن العبد: يعني رحمتك يا رحمن. وقول طرفة بن العبد:
* أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
* حنانيك بعض الشر أهون من بعض
*
وقول منذر بن درهم الكلبي: وقول منذر بن درهم الكلبي:
* وأحدث عهد من أمينة نظرة
* على جانب العلياء إذ أنا واقف
*
* فقالت حنان ما أتى بك ها هنا
* أذو نسب أم أنت بالحي عارف
*
فقوله (حنان) أي أمري حنان. أي رحمة لك، وعطف وشفقة عليك
379

وقول الحطيئة أو غيره: أي رحمة لك، وعطف وشفقة عليك وقول الحطيئة أو غيره:
* تحنن على هداك المليك
* فإن لكل مقام مقالا
*
وقوله تعالى: * (من لدنا) * أي من عندنا، وأصح التفسيرات في قوله (وزكاة) أنه معطوف على ما قبله أي أو أعطيناه زكاة، أي طهارة من أدران الذنوب والمعاصي بالطاعة، والتقرب إلى الله بما يرضيه: وقد قدمنا في سورة (الكهف) الآيات الدالة على إطلاق الزكاة في القرآن بمعنى الطهارة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية (وزكاة) الزكاة: التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير. أي جعلناه مباركا للناس يهديهم. وقيل المعنى: زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكي الشهود إنسانا. وقيل (زكاة) صدقة على أبويه. قاله ابن قتيبة إنتهى كلام القرطبي. وهو خلاف التحقيق في معنى الآية. والتحقيق فيه إن شاء الله هو ما ذكرنا، من أن المعنى: وأعطيناه زكاة أي طهارة من الذنوب والمعاصي بتوفيقنا إياه للعمل بما يرضي الله تعالى. وقول من قال من العلماء: بأن المراد بالزكاة في الآية العمل الصالح، راجع إلى ما ذكرنا لأن العمل الصالح هو الذي به الطهارة من الذنوب والمعاصي.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وكان تقيا) * أي ممتثلا لأوامر ربه مجتنبا كل ما نهى عنه. ولذا لم يعمل خطيئة قط، ولم يلم بها، قاله القرطبي وغيره عن قتادة وغيره. وفي نحو ذلك أحاديث مرفوعة، والظاهر أنه لم يثبت شيء من ذلك مرفوعا، إما بانقطاع، وإما بعنعنة مدلس: وإما بضعف واو، كما أشار له ابن كثير وغيره. وقد قدمنا معنى (التقوى) مرارا وأصل مادتها في اللغة العربية.
وقوله تعالى: * (وبرا بوالديه) * البر بالفتح هو فاعل البر بالكسر كثيرا أي وجعلناه كثير البر بوالديه، أي محسنا إليهما، لطيفا بهما، لين الجانب لهما. وقوله (وبرا) معطوف على قوله (تقيا)، وقوله (ولم يكن جبارا عصيا) أي لم يكن مستكبرا عن طاعة ربه وطاعة والديه، ولكنه كان مطيعا لله، متواضعا لوالديه، قاله ابن جرير. والجبار: هو كثير الجبر، أي القهر للناس، والظلم لهم. وكل متكبر على الناس يظلمهم: فهو جبار. وقد أطلق في القرآن على شديد البطش في قوله تعالى: * (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) * وعلى من يتكرر منه القتل في
380

قوله: * (أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسا بالا مس إن تريد إلا أن تكون جبارا فى الا رض) *. والظاهر أن قوله: (عصيا) فعول قبلت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء على القاعدة التصريفية المشهورة: التي عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله: أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسا بالا مس إن تريد إلا أن تكون جبارا فى الا رض) *. والظاهر أن قوله: (عصيا) فعول قبلت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء على القاعدة التصريفية المشهورة: التي عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله:
* إن يسكن السابق من واو ويا
* واتصلا ومن عروض عريا
*
* فياء الواو اقلبن مدغما
* وشذ معطى غير ما قد رسما
*
فأصل (عصيا) على هذا (عصويا) كصبور، أي كثير العصيان. ويحتمل أن يكون أصله فعيلا وهي من صيغ المبالغة أيضا، قاله أبو حيان في البحر.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) * قال ابن جرير: وسلام عليه أي أمان له. وقال ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف من الأمان، لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهو أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة، وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول انتهى كلام ابن عطية بواسطة نقل القرطبي في تفسير هذه الآية، ومرجع القولين إلى شيء واحد، لأن معنى سلام، التحية، الأمان، والسلامة مما يكره. وقول من قال: هو الأمان. يعني أن ذلك الأمان من الله. والتحية من الله معناها الأمان والسلامة مما يكره. والظاهر المتبادر أن قوله * (وسلام عليه يوم ولد) * تحية من الله ليحيى ومعناها الأمان والسلامة. وقوله: * (وسلام عليه) * مبتدأ، وسوغ الابتداء به وهو نكرة أنه في معنى الدعاء، وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة بالسلام التي هي وقت ولادته، ووقت موته، ووقت بعثه، في قوله * (يوم ولد ويوم يموت) *، لأنها أوحش من غيرها. قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم. ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم. قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه فيها. رواه عنه ابن جرير وغيره. وذكر ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية بإسناده عن الحسن رحمه الله قال: إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير مني. فقال الآخر: استغفر لي، أنت خير مني. فقال عيسى: أنت خير مني، سلمت على نفسي وسلم الله عليك. وقد نقل القرطبي هذا الكلام الذي رواه ابن جرير عن الحسن البصري رحمه الله تعالى. ثم قال: انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى بأن قال إدلاله
381

في التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكي في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه، قال ابن عطية: ولكل وجه. انتهى كلام القرطبي. والظاهر أن سلام الله على يحيى في قوله * (فلما ذهبوا به وأجمعوا) * أعظم من سلام عيسى على نفسه في قوله: * (والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) * كما هو ظاهر.
تنبيه
الفتحة في قوله: * (به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب) * يحتمل أن تكون في الظروف الثلاثة فتحة إعراب نصبا على الظرفية. ويحتمل أن تكون فتحة بناء لجواز البناء في نحو ذلك، والأجود أن تكون فتحة (يوم ولد) فتحة بناء، وفتحة * (ويوم يموت ويوم يبعث) * فتحة نصب، لأن بناء ما قبل الفعل الماضي أجود من إعرابه وإعراب ما قبل المضارع، والجملة الاسمية أجود عن بنائه، كما عقده في الخلاصة بقوله: ويوم يموت ويوم يبعث) * فتحة نصب، لأن بناء ما قبل الفعل الماضي أجود من إعرابه وإعراب ما قبل المضارع، والجملة الاسمية أجود عن بنائه، كما عقده في الخلاصة بقوله:
* وابن أو أعرب ما كإذ قد أجريا
* واختر بنا متلو فعل بنيا
*
* وقبل فعل معرب أو مبتدأ
* أعرب ومن بنى فلن يفندا
*
والأحوال في مثل هذا أربعة: الأول أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء أصليا وهو الماضي، كقول نابغة ذبيان: والأحوال في مثل هذا أربعة: الأول أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء أصليا وهو الماضي، كقول نابغة ذبيان:
* على حين عاتبت المشيب على الصبا
* فقلت ألما أصح والشيب وازع
*
فبناء الظرف في مثل ذلك أجود، وإعرابه جائز.
الثاني أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء عاوضا، كالمضارع المبني لاتصاله بنون النسوة. كقول الآخر: الثاني أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء عاوضا، كالمضارع المبني لاتصاله بنون النسوة. كقول الآخر:
* لأجتذبن منهن قلبي تحلما
* على حين يستصبين كل حليم
*
وحكم هذا كما قبله.
الثالث أن يضاف إلى جملة فعلية فعلها معرب. كقول أبي صخر الهذلي: الثالث أن يضاف إلى جملة فعلية فعلها معرب. كقول أبي صخر الهذلي:
* إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني
* نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر
*
فإعراب مثل هذا أجود، وبناؤه جائز.
الرابع أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة اسمية. كقول الشاعر
382

: الرابع أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة اسمية. كقول الشاعر:
* ألم تعلمي يا عمرك الله أنني
* كريم على حين الكرام قليل
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* تذكر ما تذكر من سليمى
* على حين التواصل غير دان
*
وحكم هذا كما قبله. واعلم أن هذه الأوجه إنما هي في الظرف المبهم الماضي. وأما إن كان الظرف المبهم مستقبل المعنى، كقوله: * (ويوم يموت ويوم يبعث) * فإنه لا يضاف إلا إلى الجمل الفعلية دون الاسمية. فتكون فيه الأوجه الثلاثة المذكورة دون الرابع. وأجاز ابن مالك إضافته إلى الجملة الاسمية بقلة، كقوله تعالى: * (يوم هم على النار يفتنون) * وقول سواد بن قارب: يوم هم على النار يفتنون) * وقول سواد بن قارب:
* وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة
* بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
*
لأن الظرف في الآية والبيت المذكورين مستقبل لا ماض، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ويوم يبعث حيا) * قال أبو حيان: فيه تنبيه على كونه من الشهداء، لقوله تعالى فيهم: * (بل أحياء عند ربهم يرزقون) *.
قال مقيده عفا الله عنه: وجه هذا الاستنباط أن الحال قيد لعاملها، وصف لصاحبها. وعليه فبعثه مقيد بكونه حيا، وتلك حياة الشهداء، وليس بظاهر كل الظهور. والله تعالى أعلم.
هذا هو حاصل ما ذكره الله تعالى في هذه السورة الكريمة من صفات يحيى، وذكر بعض صفاته في غير هذا الموضع، كقوله في (آل عمران): * (فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) * ومعنى كونه * (مصدقا بكلمة من الله) * أنه مصدق بعيسى، وإنما قيل لعيسى كلمة لأن الله أوجده بكلمة هي قوله (كن) فكان، كما قال تعالى: * (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم) *. وقال: * (إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه) *. وهذا هو قول جمهور المفسرين في معنى قوله تعالى: * (مصدقا بكلمة من الله) * وقيل: المراد بكلمة الكتاب، أي مصدقا بكتاب الله. والكلمة في القرآن تطلق على الكلام المفيد، كقوله: * (وتمت كلمت ربك الحسنى) *، وقوله: * (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) *
383

، وقوله: * (كلا إنها كلمة هو قآئلها) * إلى غير ذلك من الآيات، وباقي الأقوال: تركناه لظهور ضعفه. والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا. وقوله (وسيدا) وزن السيد بالميزان الصرفي فيعل وأصل مادته (س و د) سكنت ياء الفعيل الزائدة قبل الواو التي هي في موضع العين، فأبدلت الواو ياء عن القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة: * إن يسكن السابق من واو ويا
البيتين المتقدمين آنفا. وأصله من السواد وهو الخلق الكثير. فالسيد من يطعيه، ويتبعه سواد كثير من الناس. والدليل على أن عين المادة واو أنك تقول فيه: ساد يسود بالواو، وتقول سودوه إذا جعلوه سيدا. والتضعيف يرد العين إلى أصلها، ومنه قول عامر بن الطفيل العامري: البيتين المتقدمين آنفا. وأصله من السواد وهو الخلق الكثير. فالسيد من يطعيه، ويتبعه سواد كثير من الناس. والدليل على أن عين المادة واو أنك تقول فيه: ساد يسود بالواو، وتقول سودوه إذا جعلوه سيدا. والتضعيف يرد العين إلى أصلها، ومنه قول عامر بن الطفيل العامري:
* وإني وإن كنت ابن سيد عامر
* وفارسها المشهور في كل موكب
*
* فما سودتني عامر عن وراثة
* أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
*
وقال الآخر: وقال الآخر:
* وإن بقوم سودوك لحاجة
* إلى سيد لو يظفرون بسيد
*
وشهرة مثل ذلك تكفي عن بيانه. والآية فيها دليل على إطلاق السيد على من ساد من الناس، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن بن علي رضي الله عنهما (إن ابني هذا سيد) الحديث. وأنه صلى الله عليه وسلم: لما جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه للحكم في بني قريظة قال صلى الله عليه وسلم: (قوموا لسيدكم) والتحقيق في معنى قوله (حصورا) أنه الذي حصر نفسه عن النساء مع القدرة على إتيانهن تبتلا منه، وانقطاعا لعبادة الله. وكان ذلك جائزا في شرعه. وأما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهي التزويج وعدم التبتل. أما قول من قال: إن الحصور فعول بمعنى مفعول، وأنه محصور عن النساء لأنه عنين لا يقدر على إتيانهن فليس بصحيح، لأن العنة عيب ونقص في الرجال، وليست من فعله حتى يثنى عليه بها. فالصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا، واختاره غير واحد من العلماء. وقول من قال: إن الحصور هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر كما قال الأخطل: فهي التزويج وعدم التبتل. أما قول من قال: إن الحصور فعول بمعنى مفعول، وأنه محصور عن النساء لأنه عنين لا يقدر على إتيانهن فليس بصحيح، لأن العنة عيب ونقص في الرجال، وليست من فعله حتى يثنى عليه بها. فالصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا، واختاره غير واحد من العلماء. وقول من قال: إن الحصور هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر كما قال الأخطل:
* وشارب مربح بالكأس نادمني
* لا بالحصور ولا فيها بسوار
*
قول ليس بالصواب في معنى الآية. بل معناها هو ما ذكرنا وإن كان إطلاق الحصور
384

على ذلك صحيحا لغة. وقوله (ونبيا) على قراءة نافع بالهمزة معناه واضح، وهو فعيل بمعنى مفعول، من النبأ وهو الخبر الذي له شأن، لأن الوحي خبر لهشأن يخبره الله به. وعلى قراءة بالياء المشددة فقال بعض العلماء: معناه كمعنى قراءة نافع، إلا أن الهمزة أبدلت ياء وأدغمت فيها للياء التي قبلها. وعلى هذا فهو كالقراءتين السبعيتين في قوله * (إنما النسىء زيادة فى الكفر) * بالهمزة وتشديد الياء. وقال بعض العلماء: هو على قراءة الجمهور من النبوة بمعنى الارتفاع لرفعة النبي وشرفه. والصالحون: هم الذين صلحت عقائدهم، وأعمالهم. وأقوالهم، ونياتهم، والصلاح ضد الفساد. وقد وصف الله تعالى يحيى بالصلاح مع من وصف بذلك من الأنبياء في سورة (الأنعام) في قوله: * (وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) *.
* (واذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنآ إليهآ روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إنى أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا * قال إنمآ أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا * قال كذالك قال ربك هو على هين ولنجعله ءاية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا * فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجآءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتنى مت قبل هاذا وكنت نسيا منسيا * فناداها من تحتهآ ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا * وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلى واشربى وقرى عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولى إنى نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) * قوله تعالى: * (واذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يذكر في الكتاب وهو القرآن (مريم) حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا. وقوله (انتبذت) أي تنحت عنهم واعتزلتهم منفردة عنهم. وقوله * (مكانا شرقيا) * أي مما يلي شرقي بيت المقدس. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة (إذ) (مريم) بدل اشتمال، لأن الأحيان مشتملة على ما فيها اشتمال الظرف على مظروفه. قاله الزمخشري في الكشاف واعترضه عليه أبو البقاء وأبو حيان: والظاهر سقوط اعتراضهما، وأن الصواب معه، والله تعالى أعلم. ولم يذكر هنا شيئا عن نسب (مريم) ولا عن قصة ولادتها. وبين في غير هذا الموضع أنها ابنة عمران، وأن أمها نذرت ما في بطنها محررا، تعني لخدمة بيت المقدس، تظن أنها ستلد ذكرا (فولدت مريم). قال في بيان كونها ابنة عمران: * (ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها) *. وذكر قصة ولادتها في (آل عمران) في قوله: * (إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتهآ أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالا نثى وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هاذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشآء بغير حساب) *. وقوله (مكانا) منصوب لأنه ظرف.
385

قوله تعالى: * (فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنآ إليهآ روحنا) *. أظهر الأقوال أن المراد بقوله (روحنا) جبريل. ويدل لذلك قوله: * (نزل به الروح الا مين)
*، وقوله: * (قل نزله روح القدس من ربك بالحق) *، وإضافته إلى الله إضافة تشريف وتكريم. قوله تعالى: * (لها بشرا سويا) *.
تمثله لها بشرا سويا المذكور في الآية يدل على أنه ملك وليس بآدمي. وهذا المدلول صرح به تعالى في قوله: * (إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم) *. وهذا الذي بشرها به هو الذي قال لها هنا * (إنمآ أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا) *. وقوله * (بشرا سويا) * حالان من ضمير الفاعل في قوله (تمثل لها). قوله تعالى: * (قال إنمآ أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ذلك الروح الذي هو جبريل قال لها إنه رسول ربها ليهب لها، أي ليعطيها غلاما أي ولدا زكيا، أي طاهرا من الذنوب والمعاصي، كثير البركات. وبين في غير هذا الموضع كثيرا من صفات هذا الغلام الموهوب لها، وهو عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كقوله: * (إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والا خرة ومن المقربين ويكلم الناس فى المهد وكهلا ومن الصالحين) * وقوله: * (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا إلى بنى إسراءيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرىء الا كمه والا برص وأحى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم) *، إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على صفات هذا الغلام. وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وورش عن نافع وقالون عنه أيضا بخلف عنه (ليهب) بالياء المفتوحة بعد اللام أي ليهب لك هو، أي ربك غلاما زكيا. وقرأ الباقون (لأهب) بهمزة المتكلم أي لأهب لك هو أنا أيها الرسول من ربك غلاما زكيا. وفي معنى إسناده الهبة إلى نفسه على قراءة الجمهور خلاف معروف بين العلماء. وأظهر الأقوال في ذلك عندي: أن المراد بقول جبريل لها * (قال إنمآ أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا) * أي لأكون سببا في هبة الغلام
386

بالنفخ في الدرع الذي وصل إلى الفرج، فصار بسببه حملها عيسى. وبين تعالى في سورة (التحريم) أن هذا النفخ في فرجها في قوله تعالى: * (ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) *. والضمير في قوله (فيه) راجع إلى فرجها ولا ينافي ذلك قوله تعالى في (الأنبياء): * (والتى أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا) * لأن النفخ وصل إلى الفرج فكان منه حمل عيسى، وبهذا فسر الزمخشري في الكشاف الآية.
وقال بعض العلماء: قول جبريل * (ربك لاهب لك) * حكاية منه لقول الله جل وعلا. وعليه فالمعنى: إنما أنا رسول ربك، وقد قال لي أرسلتك لأهب غلاما. والأول أظهر. وفي الثاني بعد عن ظاهر اللفظ. وقال بعض العلماء: جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وبهذا صدر القرطبي في تفسيره. وأظهرها الأول: والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (قالت أنى يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن مريم لما بشرها جبريل بالغلام الزكي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قالت: * (أنى يكون لى غلام) * أي كيف ألد غلاما والحال أني لم يمسسني بشر. تعني لم يجامعني زوج بنكاح، * (ولم أك بغيا) *، أي لم أك زانية. وإذا انتفى عنها مسيس الرجال حلالا وحراما فكيف تحمل. والظاهر أن استفهامها استخبار واستعلام عن الكيفية التي يكون فيها حمل الغلام المذكور، لأنها مع عدم مسيس الرجال لم تتضح لها الكيفية. ويحتمل أن يكون استفهامها تعجب من كمال قدرة الله تعالى، وهذا الذي ذكر الله جل وعلا عنها: أنها قالته هنا ذكره عنها أيضا في سورة (آل عمران) في قوله تعالى: * (إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والا خرة ومن المقربين ويكلم الناس فى المهد وكهلا ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر) *. واقتصارها في آية (آل عمران) على قولها * (ولم يمسسنى بشر) * يدل على أن مسيس البشر المنفي عنها شامل للمسيس بنكاح والمسيس بزنى. كما هو الظاهر. وعليه فقولها في سورة (مريم): * (ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا) * يظهر فيه أن قولها (ولم أك بغيا): تخصيص بعد تعميم. لأن مسيس البشر يشمل الحلال
387

والحرام. وقال الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى هنا * (إنه كان بى حفيا) *: جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه. كقوله تعالى: * (من قبل أن تمسوهن) *. * (أو لامستم النسآء) * والزنى ليس كذلك، إنما يقال فيه: فجر بها، وخبث بها وما أشبه ذلك. وليس بقمن أن تراعي فيه الكنايات والآداب ا ه.
والأظهر الأول. وآية آل عمران تدل عليه. ويؤيده أن لفظة (بشر) نكرة في سياق النفي فهي تعم كل بشر: فينتفي مسيس كل بشر كائنا من كان، والبغي: المجاهرة المشتهر بالزنى. ووزنه فعول عند المبرد، اجتمعت فيه واو وياء سبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لأجل الياء كما كسرت في عصى ودلى جمع عصا ودلو. كما قدمنا هذا مرارا. والقائل بأن أصلي البغي فعول، يقول: لو كان أصله فعيلا للحقته هام التأنيث، لأنها لازمة في فعيل بمعنى فاعل. وقال ابن جني في كتاب التمام: أصل البغي على وزن فعيل، ولو كان فعولا لقيل بغو. كما قيل: فلان نهو عن المنكر. وعلى هذا القول فقد يجاب عن عدم لحوق تاء التأنيث: بأن البغي وصف مختص بالإناث. والرجل يقال فيه باغ لا بغي. كما قاله أبو حيان في البحر. والأوصاف المختصة بالإناث لا تحتاج إلى تاء الفرق بين الذكر والأنثى كحائض. كما عقده ابن مالك في الكافية بقوله: والأظهر الأول. وآية آل عمران تدل عليه. ويؤيده أن لفظة (بشر) نكرة في سياق النفي فهي تعم كل بشر: فينتفي مسيس كل بشر كائنا من كان، والبغي: المجاهرة المشتهر بالزنى. ووزنه فعول عند المبرد، اجتمعت فيه واو وياء سبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لأجل الياء كما كسرت في عصى ودلى جمع عصا ودلو. كما قدمنا هذا مرارا. والقائل بأن أصلي البغي فعول، يقول: لو كان أصله فعيلا للحقته هام التأنيث، لأنها لازمة في فعيل بمعنى فاعل. وقال ابن جني في كتاب التمام: أصل البغي على وزن فعيل، ولو كان فعولا لقيل بغو. كما قيل: فلان نهو عن المنكر. وعلى هذا القول فقد يجاب عن عدم لحوق تاء التأنيث: بأن البغي وصف مختص بالإناث. والرجل يقال فيه باغ لا بغي. كما قاله أبو حيان في البحر. والأوصاف المختصة بالإناث لا تحتاج إلى تاء الفرق بين الذكر والأنثى كحائض. كما عقده ابن مالك في الكافية بقوله:
* وما من الصفات بالأنثى يخص
* عن تاء استغنى لأن اللفظ نص
*
قوله تعالى: * (قال كذالك قال ربك هو على هين) *. قد قدمنا تفسير هذه الآية مستوفى في قصة زكريا، فأغنى عن إعادته هنا. وقول جبريل لمريم في هذه الآية: * (كذالك قال ربك هو على هين) * أي وستلدين ذلك الغلام المبشر به من غير أن يمسك بشر، وقد أشار تعالى إلى معنى هذه الآية في سورة (آل عمران) في قوله: * (قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر قال كذالك الله يخلق ما يشآء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *. قوله تعالى: * (ولنجعله ءاية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من حكم خلقه عيسى من امرأة بغير زوج ليجعل ذلك آية للناس. أي علامة دالة على كمال قدرته. وأنه تعالى يخلق ما يشاء كيف
388

يشاء: إن شاء خلقه من أنثى بدون ذكر كما فعل بعيسى. وإن شاء خلقه من ذكر بدون أنثى كما فعل بحواء. كما نص على ذلك في قوله: * (وخلق منها زوجها) * أي خلق من تلك النفس التي هي آدم زوجها حواء. وإن شاء خلقه بدون الذكر والأنثى معا كما فعل بآدم. وإن شاء خلقه من ذكر وأنثى كما فعل بسائر بني آدم. فسبحان الله العظيم القادر على كل شيء؟ وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من كونه جعل عيسى آية حيث ولدته أمه من غير زوج أشار له أيضا في (الأنبياء) بقوله: * (وجعلناها وابنهآ ءاية للعالمين) *، وفي (الفلاح) بقوله: * (وجعلنا ابن مريم وأمه ءاية وءاويناهمآ) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ولنجعله ءاية للناس) * فيه حذف دل المقام عليه. قال الزمخشري في الكشاف: * (ولنجعله ءاية للناس) * تعليل معلله محذوف. أي ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك. أو هو معطوف على تعليل مضمر، أي لنبين به قدرتنا ولنجعله آية. ونحوه * (وخلق الله السماوات والا رض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت) *، وقوله: * (وكذالك مكنا ليوسف فى الا رض ولنعلمه) * ا ه.
وقوله في هذه الآية * (ورحمة منا) * أي لمن آمن به. ومن كفر به فلم يبتغ الرحمة لنفسه، كما قال تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم: * (ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين) *، وقوله تعالى: * (نتخذه ولدا وكذالك) * أي وكان وجود ذلك الغلام منك أمرا مقضيا، أي مقدرا في الأزل، مسطورا في اللوح المحفوظ لا بد من وقوعه، فهو واقع لا محالة. قوله تعالى: * (فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجآءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتنى مت قبل هاذا وكنت نسيا منسيا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن مريم حملت عيسى. فقوله * (حملته) * أي عيسى * (فانتبذت به) *: أي تنحت به وبعدت معتزلة عن قومها * (مكانا قصيا) * أي في مكانها بعيد: والجمهور على أن المكان المذكور بيت لحم. وفيه أقوال أخر غير ذلك. وقوله: * (فأجآءها المخاض) * أي ألجأها الطلق إلى جذع النخلة، أي جذع نخلة في ذلك المكان. والعرب تقول: جاء فلان، وأجاءه غيره: إذا حمله على المجيء،
389

ومنه قول زهير: وأجاءه غيره: إذا حمله على المجيء، ومنه قول زهير:
* وجار سار معتمدا إلينا
* أجاءته المخافة والرجاء
*
وقول حسان رضي الله عنه: وقول حسان رضي الله عنه:
* إذ شددنا شدة صادقة
* فأجأناكم إلى سفح الجبل
*
والمخاض: الطلق، وهو وجع الولادة، وسمي مخاضا من المخض، وهو الحركة الشديدة لشدة تحرك الجنين في بطنها إذا أراد الخروج.
وقوله: * (قالت ياليتنى مت قبل هاذا وكنت نسيا منسيا) * تمنت أن تكون قد ماتت قبل ذلك ولم تكن شيئا يذكر. فإذا عرفت معنى هاتين الآيتين فاعلم أنه هنا لم يبين كيفية حملها به، ولم يبين هل هذا الذي تنحت عنهم من أجله، وتمنت من أجله أن تكون ماتت قبل ذلك، وكانت نسيا منسيا: وهو خوفها من أن يتهموها بالزنى، وأنها جاءت بذلك الغلام من زنى وقعت فيه أو سلمت منه. ولكنه تعالى بين كل ذلك في غير هذا الموضع، فأشار إلى أن كيفية حملها أنه نفح فيها فوصل النفخ إلى فرجها فوقع الحمل بسبب ذلك، كما قال: * (ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) * وقال * (والتى أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا) *. والذي عليه الجمهور من العلماء: أن المراد بذلك النفخ نفخ جبريل فيها بإذن الله فحملت، كما تدل لذلك قراءة الجمهور في قوله: * (إنمآ أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا) * كما تقدم. ولا ينافي ذلك إسناد الله جل وعلا النفخ المذكور لنفسه في قوله * (فنفخنا) * لأن جبريل إنما أوقعه بإذنه وأمره ومشيئته، وهو تعالى الذي خلق الحمل من ذلك النفخ. فجبريل لا قدرة له على أن يخلق الحمل من ذلك النفخ ومن أجل كونه بإذنه ومشيئته وأمر تعالى، ولا يمكن أن يقع النفخ المذكور ولا وجود الحمل منه إلا منه إلا بمشيئته جل وعلا أسنده إلى نفسه والله تعالى أعلم.
وقول من قال: إن فرجها الذي نفخ فيه الملك هو جيب درعها ظاهر السقوط، بل النفخ الواقع في جيب الدرع وصل إلى الفرج المعروف فوقع الحمل.
وقد بين تعالى في مواضع أخر، أن ذلك الذي خافت منه وهو قذفهم لها بالفاحشة قد وقعت فيه، ولكن الله برأها، وذلك كقوله عنهم: * (قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا) * يعنون الفاحشة، وقوله عنهم، * (ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما
390

كانت أمك بغيا) * يعنون فكيف فجرت أنت وجئت بهذا الولد؟ وكقوله تعالى * (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما) *.
وقوله: * (مكانا قصيا) * القصي، البعيد، ومنه قول الراجز: وقوله: * (مكانا قصيا) * القصي، البعيد، ومنه قول الراجز:
* لتقعدن مقعد القصي
* مني ذي القاذورة المقلي
*
* أو تحلفي بربك العلي
* أني أبو ذيالك الصبي
*
وهذا المكان القصي قد وصفه الله تعالى في غير هذا الموضع بقوله: * (وجعلنا ابن مريم وأمه ءاية وءاويناهمآ إلى ربوة ذات قرار ومعين) *. وقوله في هذه الآية الكريمة: * (فانتبذت به) * أي انتبذت وهو في بطنها. والإشارة في قوله هذا إلى الحمل والمخاض الذي أصابها للوضع.
وقوله في هذه الآية الكريمة عنها: * (وكنت نسيا منسيا) * النسي والنسي بالكسر وبالفتح: هو ما من حقه أن يطرح وينسى لحقارته، كخرق الحيض، وكالوتد والعصا، ونحو ذلك. ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهم: انظروا أنساءكم جمع نسي؟ أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا والوتد. ونحو ذلك. فقولها (وكنت نسيا) أي شيئا تافها حقيرا من حقه أن يترك وينسى عادة. وقولها (منسيا) تعني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك وينسى قد نسي وطرح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه. وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت: وقوله في هذه الآية الكريمة عنها: * (وكنت نسيا منسيا) * النسي والنسي بالكسر وبالفتح: هو ما من حقه أن يطرح وينسى لحقارته، كخرق الحيض، وكالوتد والعصا، ونحو ذلك. ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهم: انظروا أنساءكم جمع نسي؟ أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا والوتد. ونحو ذلك. فقولها (وكنت نسيا) أي شيئا تافها حقيرا من حقه أن يترك وينسى عادة. وقولها (منسيا) تعني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك وينسى قد نسي وطرح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه. وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت:
* اتجعلنا جسرا لكلب قضاعة
* ولست بنسي في معد ولا دخل
*
فقوله (بنسي) أي شيء تافه منسي، وقول الشنفرى: فقوله (بنسي) أي شيء تافه منسي، وقول الشنفرى:
* كان لها في الأرض نسيا تقصه
* على أمها وإن تحدثك تبلت
*
فقوله (نسيا) أي شيء تركته ونسيته. وقوله (تبلت) بفتح التاء وسكون الباء الموحدة وفتح اللام بعدها تاء التأنيث أي تقطع كلامها من الحياء. والبلت في اللغة: القطع. وقرأ نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي (يا ليتني مت) بكسر الميم. وقرأ الباقون (مت) بضم الميم. وقرأ حفص عن عاصم وحمزة، (وكنت نسيا) بفتح النون. والباقون بكسرها، وهما لغتان فصيحتان، وقراءتان صحيحتان.
391

تنبيه
قراءة (مت) بكسر الميم كثيرا ما يخفى على طلبة العلم وجهها. لأن لغة مات يموت) لا يصح منها (مت) بكسر الميم. ووجه القراءة بكسر الميم أنه من مات يمات، كخاف يخاف. لا من مات يموت. كقال يقول: فلفظ (مات) فيها لغتان عربيتان فصيحتان. الأولى منهما موت بفتح الواو فأبدلت الواو ألفا على القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة: قراءة (مت) بكسر الميم كثيرا ما يخفى على طلبة العلم وجهها. لأن لغة مات يموت) لا يصح منها (مت) بكسر الميم. ووجه القراءة بكسر الميم أنه من مات يمات، كخاف يخاف. لا من مات يموت. كقال يقول: فلفظ (مات) فيها لغتان عربيتان فصيحتان. الأولى منهما موت بفتح الواو فأبدلت الواو ألفا على القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة:
* من ياء أو واو بتحريك أصل
* ألفا إبدل بعد فتح متصل
*
إن حرك الثاني.. الخ ومضارع هذه المفتوحة (يموت) بالضم على القياس وفي هذه ونحوها إن أسند الفعل إلى تاء الفاعل أو نونه سقطت العين بالاعتلال وحركت الفاء بحركة تناسب العين، والحركة المناسبة للواو هي الضمة، فتقول (مت) بضم الميم، ولا يجوز غير ذلك.
الثانية أنها (موت) بكسر الواو، أبدلت الواو ألفا للقاعدة المذكورة آنفا. ومضارع هذه (يمات) بالفتح، لأن فعل بكسر العين ينقاس في مضارعها بفعل بفتح العين، كما قال ابن مالك في اللامية: * وافتح موضع الكسر في المبنى من فعلا
ويستثنى من هذه القاعدة كلمات معروفة سماعية تحفظ ولا يقاس عليها. والمقرر في فن الصرف: أن كل فعل ثلاثي أجوف أعني معتل العين إذا كان على وزن فعل بكسر العين، أو فعل بضمها فإنه إذا أسند إلى تاء الفاعل أو نونه تسقط عينه بالاعتلال وتنقل حركة عينه الساقطة بالاعتلال إلى الفاء فتكسر فاؤه إن كان من فعل بكسر العين، وتضم إن كان من فعل بضمها. مثال الأول (مت) من مات يمات، لأن أصلها (موت) بالكسر وكذلك خاف يخاف، ونام ينام، فإنك تقول فيها (مت) بكسر الميم، و (نمت) بكسر للنون، (وخفت) بكسر الخاء. لأن حركة العين نقلت إلى الفاء وهي الكسرة. ومثاله في الضم (طال) فأوصلها (طول) بضم الواو فتقول فيها (طلت) بالضم لنقل حركة العين إلى الفاء. أما إذا كان الثلاثي من فعل بفتح العين كمات يموت، وقال يقول، فإن العين تسقط بالاعتدال وتحرك الفاء بحركة مناسبة للعين الساقطة فيضم الفاء إن كانت العين الساقطة واوا كمات يموت، وقال يقول: فتقول مت وقلت. بالضم وتكسر الفاء إن
392

كانت العين الساقطة ياء، كباع وسار، فتقول: بعت وسرت بالكسر فيهما. وإلى هذا أشار ابن مالك في اللامية بقوله: وقال يقول: فتقول مت وقلت. بالضم وتكسر الفاء إن كانت العين الساقطة ياء، كباع وسار، فتقول: بعت وسرت بالكسر فيهما. وإلى هذا أشار ابن مالك في اللامية بقوله:
* وانقل لفاء الثلاثي في شكل عين
* إذا اعتلت وكان بنا الإضمار متصلا
*
* أو نونه وإذا فتحا يكون منه
* اعتض مجانس تلك العين منتفلا
*
واعلم أن مات يمات، من فعل بالكسر يفعل بالفتح لغة فصيحة، ومنها قول الراجز: واعلم أن مات يمات، من فعل بالكسر يفعل بالفتح لغة فصيحة، ومنها قول الراجز:
* بنيتي سيدة البنات
* عيشي ولا نأمن أن تما
*
وأما مات يميت فهي لغة ضعيفة. وقد أشار إلى اللغات الثلاث الفصيحتين والردية بعض أدباء قطر شنقيط في بيت رجز هو قوله: وأما مات يميت فهي لغة ضعيفة. وقد أشار إلى اللغات الثلاث الفصيحتين والردية بعض أدباء قطر شنقيط في بيت رجز هو قوله:
* من منعت زوجته منه بالمبيت
* مات يموت ويمات ويميت
*
وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم بعيسى قبل الوضع لم نذكرها، لعدم دليل على شيء منها. وأظهرها: أنه حمل كعادة حمل النساء وإن كان منشؤه خارقا للعادة، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (فناداها من تحتهآ ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا) *. اعلم أولا: أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين: قرأه نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي * (فناداها من تحتهآ) * بكسر الميم على أن (من) حرف جر، وخفض تاء تحتها، لأن الظرف مجرور ب (من) على أنه اسم موصول هو فاعل نادى، أن ناداها الذي تحتها. وفتح (تحتها) فعلى القراءة ففاعل النداء ضمير محذوف. وعلى الثانية فالفاعل الاسم الموصول الذي هو (من). وإذا عرفت هذا فاعلم أن العلماء مختلفون في هذا المنادي الذي ناداها المعبر عنه في إحدى القراءتين بالضمير، وفي الثانية بالاسم الموصول من هو؟ فقال بعض العلماء: هو عيسى. وقال بعض العلماء: هو جبريل. وممن قال: إن الذي نادى مريم هو جبريل ابن عباس، وعمرو بن ميمون الأودي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وسعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه. وأهل هذا القول قالوا: لم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها.
393

وممن قال إن الذي ناداها هو عسيى عندما وضعته أبي، ومجاهد، والحسن، ووهب بن منبه، وسعيد بن جبير في الرواية الأخرى عنه وابن زيد.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن من قال إنه الملك يقول: فناداها جبريل من مكان تحتها، لأنها على ربوة مرتفعة، وقد ناداها من مكان منخفض عنها، وبعض أهل هذا القول يقول: كان جبريل تحتها يقبل الولد كما تقبله القابلة. والظاهر الأول على هذا القول. وعلى قراءة (فناداها من تحتها) بفتح الميم وتاء (تحتها) عند أهل هذا القول. فالمعنى فناداها الذي هو تحتها أي في مكان أسفل من مكانها، أو تحتها يقبل الولد كما تقبل القابلة مع ضعف الاحتمال الأخير كما قدمنا، أي وهو جبريل فعلى القراءة
الأولى على هذا القول (فناداها) هو أي جبريل من تحتها. وعلى القراءة الثانية (فنادها من تحتها) أي الذي تحتها وهو جبريل. وأما على القول بأن المنادى هو عيسى، فالمعنى على القراءة الأولى: فناداها هو أي المولود الذي وضعته من تحتها. لأنه كان تحتها عند الوضع. وعلى القراءة الثانية: (فناداها من تحتها) أي الذي تحتها وهو المولود المذكور الكائن تحتها عند الوضع. وممن اختار أن الذي ناداها هو عيسى: ابن جرير الطبري في تفسيره، واستظهره أبو حيان في البحر، واستظهر القرطبي أنه جبريل.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي أن الذي ناداها هو ابنها عيسى، وتدل على ذلك قرينتان: الأولى أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إلا بدليل صارف عن ذلك يجب الرجوع إليه، وأقرب مذكور في الآية هو عيسى لا جبريل. لأن الله قال * (فحملته) * يعني عيسى * (فانتبذت به) * أي بعيسى.
ثم قال بعده (فناداها) فالذي يظهر ويتبادر من السياق أنه عيسى. والقرينة الثانية أنها لما جاءت به قومها تحمله، وقالوا لها ما قالوا أشارت إلى عيسى ليكلموه. كما قال تعالى عنها: * (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا) * وإشارتها إليه ليكلموه قرينة على أنها عرفت قبل ذلك أنه يتكلم على سبيل خرق العادة لندائه لها عندما وضعته. وبهذه القرينة الأخيرة استدل سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه على أنه عيسى. كما نقله عنه غير واحد. و (أن) في قوله (ألا تحزني) هي المفسرة، فهي بمعنى أي. وضابط (أن) المفسرة أن يتقدمها معنى القول دون حروفه كما هنا. فالنداء فيه بمعنى القول دون حروفه ومعنى كونها مفسرة: أن الكلام الذي بعدها هو معنى ما
394

قبلها. فالنداء المذكور قبلها هو: لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا.
واختلف العلماء في المراد بالسري هنا. فقال بعض العلماء: هو الجدول وهو النهر الصغير. لأن الله أجرى لها تحتها نهرا. وعليه فقوله تعالى: * (فكلى) * أي من الرطب المذكور في قوله * (تساقط عليك رطبا جنيا واشربى) * أي من النهر المذكور في قوله * (فناداها من تحتهآ ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا) * وإطلاق السري على الجدول مشهور في كلام العرب. ومنه قول لبيد في معلقته: فناداها من تحتهآ ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا) * وإطلاق السري على الجدول مشهور في كلام العرب. ومنه قول لبيد في معلقته:
* فتوسطا عرض السري وصدعا
* مسجورة متجاورا نلامها
*
وقول لبيد أيضا يصف نخلا نابتا على ماء النهر: وقول لبيد أيضا يصف نخلا نابتا على ماء النهر:
* سحق يمتعها الصفا وسريه
* عم نواعم بينهن كروم
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* سهل الخليفة ما جد ذو فائل
* مثل السري تمده الأنهار
*
فقوله (سريه). وقولهما (السري) بمعنى الجدول. وكذلك قول الراجز: فقوله (سريه). وقولهما (السري) بمعنى الجدول. وكذلك قول الراجز:
* سلم ترى الدالي منه أزورا
* إذا يعب في السري هرهرا
*
وقال بعض أهل العلم: السري هو عيسى. والسري هو الرجل الذي له شرف ومروءة. يقال في فعله سرو بالضم. وسرا بالفتح يسرو سروا فيهما. وسري بالكسر يسري سري وسراء وسروا إذا شرف. ويجمع السري هذا على أسرياء على القياس، وسرواء وسراة بالفتح. وعن سيبويه أن السراة بالفتح اسم جمع لا جمع. ومنه قول الأفوه الأودي: وقال بعض أهل العلم: السري هو عيسى. والسري هو الرجل الذي له شرف ومروءة. يقال في فعله سرو بالضم. وسرا بالفتح يسرو سروا فيهما. وسري بالكسر يسري سري وسراء وسروا إذا شرف. ويجمع السري هذا على أسرياء على القياس، وسرواء وسراة بالفتح. وعن سيبويه أن السراة بالفتح اسم جمع لا جمع. ومنه قول الأفوه الأودي:
* لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
* ولا سراة إذا جهالهم سادوا
*
ويجمع السراة على سروات. ومنه قول قيس بن الحطيم: ويجمع السراة على سروات. ومنه قول قيس بن الحطيم:
* وعمرة من سروات النساء
* تنفح بالمسك أردانها
*
ومن إطلاق السري بمعنى الشريف قول الشاعر: ومن إطلاق السري بمعنى الشريف قول الشاعر:
* تلقى السري من الرجال بنفسه
* وابن السري إذا سرى أسراهما
*
وقوله (أسراهما) أي أشرفهما. قاله في اللسان.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي أن السري في الآية النهر
395

الصغير، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما القرينة من القرآن، فقوله تعالى: * (فكلى واشربى) * قرينة على أن ذلك المأكول والمشروب هو ما تقدم الامتنان به في قوله: * (قد جعل ربك تحتك سريا) *، وقوله * (مئة سنين وازدادوا تسعا) *، وكذلك قوله تعالى: * (إلى ربوة ذات قرار ومعين) * لأن المعين: الماء الجاري. والظاهر أن الجدول المعبر عنه بالسري في هذه الآية. والله تعالى أعلم.
الأمر الثاني حديث جاء بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وقد جاء بذلك حديث مرفوع، قال الطبراني: حدثنا أبو شعيب الحراني، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي، حدثنا أيوب بن نهيك، سمعت عكرمة مولى ابن عباس، سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن السري الذي قال الله لمريم: * (قد جعل ربك تحتك سريا) *، نهر أخرجه الله لها لتشرب منه) وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه. وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلى، قال فيه أبو حاتم الرازي: ضعيف. وقال أبو زرعة: منكر الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث انتهى كلام ابن كثير. وقال ابن حجر رحمه الله في (الكافي الشاف، في تخريج أحاديث الكشاف) في الحديث المذكور: أخرجه الطبراني في الصغير، وابن عدي من رواية أبي سنان سعيد بن سنان، عن أبي إسحاق، عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: * (قد جعل ربك تحتك سريا) * قال: (السري النهر). قال الطبراني: لم يرفعه عن أبي إسحاق إلا أبو سنان، رواه عنه يحيى بن معاوية وهو ضعيف. وأخرجه عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي إسحاق عن البراء موقوفا. وكذا ذكره البخاري تعليقا عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق. ورواه ابن مردويه من طريق آدم، عن إسرائيل كذلك وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن أبي إسحاق موقوفا. وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إن السري الذي قاله لمريم نهر أخرجه الله لتشرب منه). أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية في ترجمة عكرمة عن ابن عمر، ورواية عن عكرمة أيوب بن نهيك ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة انتهى.
فهذا الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت طرقه لا يخلو شيء منها من ضعف أقرب إلى الصواب من دعوى أن السري عيسى بغير دليل يجب الرجوع إليه. وممن اختار أن السري المذكور في الآية النهر: ابن جرير في تفسيره، وبه قال البراء بن عازب، وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وعمرو بن ميمون، ومجاهد، وسعيد بن جبير،
396

والضحاك، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والسدي، ووهب بن منبه وغيرهم. وممن قال إنه عيسى: الحسن، والربيع بن أنس، ومحمد بن عباد بن جعفر. وهو إحدى الروايتين عن قتادة. وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قاله ابن كثير وغيره. قوله تعالى: * (وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلى واشربى وقرى عينا) *. لم يصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة ببيان الشيء الذي أمرها أن تأكل منه، والشيء الذي أمرها أن تشرب منه. ولكنه أشار إلى أن الذي أمرها أن تأكل منه هو (الرطب الجني) المذكور. والذي أمرها أن تشرب منه هو النهر المذكور المعبر عنه (بالسري) كما تقدم هذا هو الظاهر.
وقال بعض العلماء: إن جذع النخلة الذي أمرها أن تهز به كان جزعا يابسا؛ فلما هزته جعله الله نخلة ذات رطب جني. وقال بعض العلماء: كان الجذع جذع نخلة نابتة إلا أنها غير مثمرة، فلما هزته أنبت الله فيه الثمر وجعله رطبا جنيا. وقال بعض العلماء: كانت النخلة مثمرة، وقد أمرها الله بهزها ليتساقط لها الرطب الذي كان موجودا. والذي يفهم من سياق القرآن: أن الله أنبت لها ذلك الرطب على سبيل خرق العادة، وأجرى لها ذلك النهر على سبيل خرق العادة. ولم يكن الرطب والنهر موجودين قبل ذلك، سواء قلنا إن الجذع كان يابسا أو نخلة غير مثمرة، إلا أن الله أنبت فيه الثمر وجعله رطبا جنيا. ووجه دلالة السياق على ذلك أن قوله تعالى: * (فكلى واشربى وقرى عينا) * يدل على أن عينها إنما تقر في ذلك الوقت بالأمور الخارقة للعادة؛ لأنها هي التي تبين براءتها مما اتهموها به. فوجود هذه الخوارق من تفجير النهر، وإنبات الرطب، وكلام المولود تطمئن إليه نفسها وتزول به عنها الربية، وبذلك يكون قرة عين لها؛ لأن مجرد الأكل والشرب مع بقاء التهمة التي تمنت بسببها أن تكون قد ماتت من قبل وكانت نسيا منسيا لم يكن قرة لعينها في ذلك الوقت كما هو ظاهر. وخرق الله لها العادة بتفجير الماء، وإنبات الرطب، وكلام المولود لا غرابة فيه. وقد نص الله جل وعلا في (آل عمران) على خرقه لها العادة في قوله * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هاذا
قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشآء بغير حساب) *. قال العلماء: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. وإجراء النهر وإنبات الرطب ليس أغرب من هذا المذكور في سورة (آل عمران).
397

مسألة
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وهزى إليك بجذع النخلة) * أن السعي والتسبب في تحصيل الرزق أمر مأمور به شرعا وأنه لا ينافي التوكل على الله جل وعلا. وهذا أمر كالمعلوم من الدين بالضرورة. أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا أمر مأمور به شرعا لا ينافي التوكل على الله بحال؛ لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالا لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه. فهو متوكل على الله، عالم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر. ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف.
ومن أصرح الأدلة في ذلك قوله تعالى: * (قلنا يانار كونى بردا وسلاما على إبراهيم) *. فطبيعة الإحراق في النار معنى واحد لا يتجزأ إلى معان مختلفة، ومع هذا أحرقت الحطب فصار رمادا من حرها في الوقت الذي هي كائنة بردا وسلاما على إبراهيم. فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا.
ومن أوضح الأدلة في ذلك أنه ربما جعل الشيء سببا لشيء آخر مع أنه مناف له: كجعله ضرب ميت بني إسرائيل ببعض من بقرة مذبوحة سببا لحياته، وضربه بقطعة ميتة من بقرة ميتة مناف لحياته. إذ لا تكسب الحياة من ضرب بميت؟ وذلك يوضح أنه جل وعلا يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، ولا يقع تأثير البتة إلا بمشيئته جل وعلا.
ومما يوضح أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله قوله تعالى عن يعقوب: * (وقال يابنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) * أمرهم في هذا الكلام بتعاطي السبب، وتسبب في ذلك بالأمر به، لأنه يخاف عليهم أن تصيبهم الناس بالعين لأنهم أحد عشر رجلا أبناء رجل واحد، وهم أهل جمال وكمال وبسطة في الأجسام. فدخولهم من باب واحد مظنة لأن تصيبهم العين فأمرهم بالتفرق والدخول من أبواب متفرقة تعاطيا للسبب في السلامة من إصابة العين؛ كما قال غير واحد من علماء السلف. ومع هذا التسبب فقد قال الله عنه: * (وقال يابنى لا تدخلوا من باب واحد
398

وادخلوا من أبواب متفرقة ومآ أغنى عنكم من الله من شىء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون) *. فانظر كيف جمع بين التسبب في قوله: * (لا تدخلوا من باب واحد) * وبين التوكل على الله في قوله: * (عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون) * وهذا أمر معلوم لا يخفى إلا على من طمس الله بصيرته. والله جل وعلا قادر على أن يسقط لها الرطب من غير هز الجذع، ولكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع. وقد قال بعضهم في ذلك: عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون) * وهذا أمر معلوم لا يخفى إلا على من طمس الله بصيرته. والله جل وعلا قادر على أن يسقط لها الرطب من غير هز الجذع، ولكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع. وقد قال بعضهم في ذلك:
* ألم تر أن الله قال لمريم
* وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
*
* ولو شاء أن تجنيه من غير هزه
* جنته ولكن كل شيء له سبب
*
وقد أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن خير ما تطعمه النفساء الرطب، قالوا: لو كان شيء أحسن للنفساء من الرطب لأطعمه الله مريم وقت نفاسها بعيسى، قاله الربيع بن خيثم وغيره. والباء في قوله * (وهزى إليك بجذع النخلة) * مزيدة للتوكيد، لأن فعل الهز يتعدى بنفسه، وزيادة حرف الباء للتوكيد قبل مفعول الفعل المتعدي بنفسه كثيرة في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قوله هنا * (وهزى إليك بجذع النخلة) * لأن المتبادر من اللغة أن الأصل: وهزي إليك جذع النخلة، وقوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) *، وقوله: * (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) *. وقوله: * (فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون) *، وقوله: * (تنبت بالدهن) * على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم التاء وكسر الباء مضارع أنبت الرباعي، لأن الرباعي الذي هو أنبت ينبت بضم الياء المثناة وكسر الباء الموحدة يتعدى بنفسه دون الحرف، فالباء مزيدة للتوكيد كما رأيت في الآيات المذكورة. ونظير ذلك من كلام العرب قول أمية بن أبي الصلت الثقفي: تنبت بالدهن) * على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم التاء وكسر الباء مضارع أنبت الرباعي، لأن الرباعي الذي هو أنبت ينبت بضم الياء المثناة وكسر الباء الموحدة يتعدى بنفسه دون الحرف، فالباء مزيدة للتوكيد كما رأيت في الآيات المذكورة. ونظير ذلك من كلام العرب قول أمية بن أبي الصلت الثقفي:
* إذ يسقون بالدقيق وكانوا
* قبل لا يأكلون خبزا فطيرا
*
لأن الأصل يسقون الدقيق فزيدت الباء للتوكيد. وقول الراعي: لأن الأصل يسقون الدقيق فزيدت الباء للتوكيد. وقول الراعي:
* هن الحرائر لا ربات أخمرة
* سود المعاجر لا يقرأن بالسور
*
فالأصل: لا يقرأن السور، فزيدت الباء لما ذكر. وقول يعلى الأحول اليشكري أو غيره:
399

فالأصل: لا يقرأن السور، فزيدت الباء لما ذكر. وقول يعلى الأحول اليشكري أو غيره:
* بواد يمان ينبت الشث صدره
* وأسفله بالمرخ والشبهان
*
فالأصل: وأسفله المارح؛ أي وينبت أسفله المرخ، فزيدت الباء لما ذكر وقول الأعشى: فالأصل: وأسفله المارح؛ أي وينبت أسفله المرخ، فزيدت الباء لما ذكر وقول الأعشى:
* ضمنت برزق عيالنا أرماحنا
* ملء المراجل والصريح الأجودا
*
فالأصل ضمنت رزق عيالنا. وقول الراجز: وقول الراجز:
* نحن بنو جعدة أصحاب الفلج
* نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
*
أي نرجو الفرج. وقول امريء القيس: أي نرجو الفرج. وقول امريء القيس:
* فلما تنازعنا الحديث وأسمحت
* هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
*
فالأصل: هصرت غصنا؛ لأن هصر تتعدى بنفسها. وأمثال هذا كثيرة في كلام العرب.
وفي قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (تساقط) تسع قراءات، ثلاث منها سبعية. وست شاذة. أما الثلاث السبعية فقد قرأه حمزة وحده من السبعة (تساقط) بفتح التاء وتخفيف السين وفتح القاف، وأصله: تتساقط؛ فحذفت إحدى التاءين. وعلى هذه القراءة فقوله (رطبا) تمييز محول عن الفاعل. وقرأه حفص وحده عن عاصم (تساقط) بضم التاء وكسر القاف وتخفيف السين، ومضارع ساقطت تساقط. وعلى هذه القراءة فقوله (رطبا) مفعول به الفعل الذي هو (تساقط) هي أي النخلة رطبا. وقرأه بقية السبعة (تساقط) بفتح التاء والقاف وتشديد السين، أصله: تتساقط؛ فأدغمت إحدى التاءين في السين. وعلى قراءة الجمهور هذه فقوله (رطبا) تمييز محول عن الفاعل كإعرابه على قراءة حمزة وغير هذا من القراءات شاذ.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (رطبا جنيا) * الجني: هو ما طلب وصلح لأن يجنى فيؤكل. وعن أبي عمرو بن العلاء: أن الجني هو الذي لم يجف ولم ييبس، ولم يبعد عن يدي متناولة. قوله تعالى: * (فإما ترين من البشر أحدا فقولى إنى نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) *. قائل هذا الكلام لمريم: هو الذي ناداها من تحتها ألا تحزني. وقد قدمنا الخلاف فيه؛ هل هو عيسى، أو جبريل، وما يظهر رجحانه عندنا من ذلك.
400

وقوله في هذه الآية الكريمة: * (فقولى إنى نذرت للرحمان صوما) * قيل أمرت أن تقول ذلك باللفظ. وقيل أمرت أن تقوله بالإشارة. وكونها أمرت أن تقوله باللفظ هو مذهب الجمهور؛ كما قاله القرطبي وأبو حيان، وهو ظاهر الآية الكريمة؛ لأن ظاهر القول في قوله تعالى: * (فقولى إنى نذرت) * أنه قول باللسان. واستدل من قال: إنها أمرت أن تقول ذلك بالإشارة بأنها لو قالته باللفظ أفسدت نذرها الذي نذرته ألا تكلم اليوم إنسيا، فإذا قالت لإنسي بلسانها إني نذرت للرحمن صوما فقد كلمت ذلك الإنسي فأفسدت نذرها. واختار هذا القول الأخير لدلالة الآية عليه ابن كثير رحمه الله، قال في تفسير هذه الآية * (فقولى إنى نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) * المراد بهذا القول الإشاءة إليه بذلك لا أن المراد القول اللفظي لئلا ينافي * (فلن أكلم اليوم إنسيا) * وأجاب المخالفون عن هذا بأن المعنى * (فلن أكلم اليوم إنسيا) * قوله: * (فلن أكلم اليوم إنسيا) * فقد رأيت كلام العلماء في الآية. وإن القول الأول يدل عليه ظاهر السياق. وإن الثاني يدل عليه قوله: * (فلن أكلم اليوم إنسيا) * لأنه يدل على نفي الكلام للإنسي مطلقا. قال أبو حيان في البحر: وقوله (إنسيا) لأنها كانت تكلم الملائكة. ومعنى كلامه أن قوله (إنسيا) له مفهوم مخالفة، أي بخلاف غير الإنسي كالملائكة فإني أكلمه. والذي يظهر لي أنه لم يرد في الكلام إخراج المفهوم عن حكم المنطوق، وإنما المراد شمول نفي الكلام كل
إنسان كائنا من كان.
مسألة
اعلم أنه على هذا القول الذي اختاره ابن كثير أن المراد بقوله * (فقولى إنى نذرت للرحمان صوما) * أي قولي ذلك بالإشارة يدل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام، لأنها في هذه الآية سميت قولا على هذا الوجه من التفسير. وسمع في كلام العرب كثيرا إطلاق الكلام على الإشارة، كقوله: فقولى إنى نذرت للرحمان صوما) * أي قولي ذلك بالإشارة يدل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام، لأنها في هذه الآية سميت قولا على هذا الوجه من التفسير. وسمع في كلام العرب كثيرا إطلاق الكلام على الإشارة، كقوله:
* إذا كلمتني بالعيون الفواتر
* رددت عليها بالدموع البوادر
*
وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى ما يدل من النصوص على أن الإشارة المفهمة تنزل منزلة الكلام، وما يدل من النصوص على أنها ليست كالكلام، وأقوال العلماء في ذلك. اعلم أنه دلت أدلة على قيام الإشارة المفهمة مقام الكلام، وجاءت أدلة أخرى يفهم
401

منها خلاف ذلك. فمن الأدلة الدالة على قيام الإشارة مقام الكلام قصة الأمة السوداء التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين الله)؟ فأشارت إلى السماء. فقال صلى الله عليه وسلم: (أعتقها فإنها مؤمنة) فجعل إشارتها كنطقها في الإيمان الذي هو أصل الديانات. وهو الذي يعصم به الدم والمال، وتستحق به الجنة، وينجي به من النار. والقصة المشهورة مروية عن جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة، وابن عباس، ومعاوية بن الحكم السلمي، والشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنهم. وفي بعض رواياتهم: أنها أشارت إلى السماء. قال أبو داود في سننه: حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، ثنا يزيد بن هارون، قال أخبرني المسعودي عن عون بن عبد الله، عن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال: يا رسول الله، إن علي رقبة مؤمنة؟ فقال لها: (أين الله)؟ فأشارت إلى السماء بإصبعها فقال لها: (فمن أنا)؟ فأشارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى السماء، يعني أنت رسول الله. فقال: (اعتقها فإنها مؤمنة). والظاهر حمل الروايات التي فيها أنه لما قال لها أين الله قالت في السماء من غير ذكر الإشارة، على أنها قالت ذلك بالإشارة. لأن القصة واحدة والروايات يفسر بعضها بعضا. قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره في سورة (آل عمران) في الكلام على قوله تعالى * (قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) * ما نصه: في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام، وذلك موجود في كثير من السنة، وآكد الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها: (أين الله)؟ فأشارت برأسها إلى السماء، فقال: (اعتقها فإنها مؤمنة) فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديان الذي يحرز به الدم والمال، وتستحق به الجنة وينجي به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء.
وروى ابن القاسم عن مالك: أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه. وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه: فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق. وقال أبو حنيفة: ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف، وإن شك فيها فهذا باطل، وليس ذلك بقياس، وإنما هو استحسان. والقياس في هذا كله أنه باطل، لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته انتهى محل الغرض من كلام القرطبي رحمه الله. وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة تدل على قيام الإشارة مقام الكلام في أشياء متعددة، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن
402

رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: (الشهر هكذا وهكذا وهكذا، ثم عقد إبهامه في الثالثة فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين) هذا لفظ مسلم في صحيحه وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم نزل إشارته بأصابعه إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما، وقد يكون ثلاثين منزلة نطقه بذلك. وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على هذا الحديث: وفي هذا الحديث جواز اعتماد الإشارة المفهمة في مثل هذا. وحديث ابن عمر هذا أورده البخاري في باب (اللعان) مستدلا به على أن الإشارة كاللفظ. وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه أحاديث كثيرة تدل على جعل الإشارة كالنطق، قال رحمه الله تعالى: (باب الإشارة في الطلاق والأمور) وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم، (لا يعذب الله بدمع العين ولكن يعذب بهذا) فأشار إلى لسانه، وقال كعب بن مالك: أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلي أي خذ النصف. وقالت أسماء: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف. فقلت لعائشة: ما شأن الناس وهي تصلي؟ فأومأت برأسها إلى الشمس. فقلت: آية؟ فأومأت برأسها أن نعم. وقال أنس: أومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم. وقال ابن عباس: أومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده لا حرج. وقال أبو قتادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصيد للمحرم: (آحدكم أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟) قالوا لا. قال: (فكلوا) حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا إبراهيم، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير، وكان كلما أتى على الركن أشار إليه وكبر. وقالت زينب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وهذه) وعقد تسعين حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا سلمة بن عقلمة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيرا إلا أعطاه) وقال بيده، ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر. قلنا: يزهدها: وقال الأويسي: حدثنا إبراهيم بن سعد عن شعبة بن الحجاج عن هشام بن يزيد عن أنس بن مالك قال: عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية فأخذ أوضاحا كانت
عليها، ورضخ رأسها. فأتى به أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق وقد أصمتت. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتلك؟ فلان) لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها أن لا. قال: فقال لرجل آخر غير الذي قتلها، فأشارت أن لا. فقال: (فلان)؟ لقاتلها، فأشارت أن نعم. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين. حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن
403

دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول؟ (الفتنة من هنا) وأشار إلى المشرق. حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن أبي إسحاق الشيباني؟ عن عبد الله بن أبي أوهم قال: كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلما غربت الشمس قال لرجل؟ (أنزل فاجدح لي) قال؟ يا رسول الله، لو أمسيت؟ ثم قال. أنزل فاجدح) قال؟ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لو أمسيت إن عليك نهارا، ثم قال؟ (أنزل فاجدح) فنزل فجدح له في الثالثة فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أومأ بيده إلى المشرق فقال: (إذا رأيتم قد أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم). حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن أحدا منكم نداء بلال) أو قال أذانه من سحوره؟ فإنما ينادي أو قال يؤذن ليرجع قائمكم وليس أن يقول كأنه يعني الصبح أو الفجر، وأظهر يزيد يديه ثم مد إحداهما من الأخرى. وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز، سمعت أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثدييهما إلى تراقيهما. فأما المنفق فلا ينفق شيئا إلا مادت على جلده حتى تجن بنانه وتعفو أثره. وأما البخيل فلا يريد ينفق إلا لزمت كل حلقة موضعها، فهو يوسعها فلا تتسع) ويشير بأصبعه إلى حلقه. انتهى من صحيح البخاري.
فهذه أحاديث دالة، على قيام الإشارة مقام النطق في أمور متعددة. وقال ابن حجر في الفتح في هذا الباب: ذكر فيه عدة أحاديث معلقة وموصولة أولها قوله: وقال ابن عمر: هو طرف من حديث تقدم موصولا في الجنائز، وفيه قصة لسعد بن عبادة، وفيها: (ولكن الله يعذب بهذا) وأشار إلى لسانه. ثانيها وقال كعب بن مالك؟ هو أيضا طرف من حديث تقدم موصولا في الملازمة؟ وفيها وأشار إلى أن خذ النصف. ثالثها (وقالت أسماء) هي بنت أبي بكر. صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف. الحديث تقدم موصولا في كتاب الإيمان بلفظ: فأشارت إلى السماء، وفيه. فأشارت برأسها أي نعم. وفي صلاة الكسوف بمعناه. وفي صلاة السهو باختصار إلى آخر كلامه. وبالجملة فجميع الأحاديث التي ذكرها البخاري في الباب المذكور كلها ثابتة في الصحيح موصولة. أما ما جاء منها موصولا في الباب المذكور فأمره واضح. وأما ما جاء منها معلقا في الباب المذكور فقد جاء موصولا في محل آخر من
404

البخاري.
والحديث الأول دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل إشارته إلى اللسان أن الله يعذب به كنطقه بذلك.
والحديث الثاني جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارته إلى كعب بن مالك أن يسقط نصف ديته عن ابن أبي حدود ويأخذ النصف الباقي منه كنطقه بذلك.
والحديث الثالث جعلت فيه عائشة إشارتها لأختها أن الكسوف آية من آيات الله هي السبب في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، كنطقها بذلك.
والحديث الرابع جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارته إلى أبي بكر رضي الله عنه أن يتقدم كنطقه له بذلك. وإيضاح ذلك هو ما رواه البخاري عن أنس في باب (أهل العلم والفضل أحق بالإمامة).
قال أنس: لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا، فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا. فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم: وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات ا ه. هذا لفظ البخاري وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث في مرض موته وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم بقليل إشارته إلى أبي بكر أن يتقدم ليصلي بالناس كنطقه له بذلك. لأن أبا بكر رضي الله عنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كشف الحجاب نكص على عقيبه ليصل الصف، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة كما ثبت في صحيح البخاري في الباب المذكور آنفا من حديث أنس، فأشار إليه أن يتقدم، وقامت الإشارة مقام النطق.
والحديث الخامس جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الفتيا بإشارة اليد كالفتيا بالنطق. وإيضاحه هو ما رواه البخاري في كتاب العلم (في باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس) حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا وهيب. قال حدثنا أيوب، عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في حجته فقال: (ذبحت قبل أن أرمي فأومأ بيده قال: ولا حرج، قال حلقت قبل أن أذبح. فأومأ بيده ولا حرج). ومن أمثلة الفتيا بإشارة اليد ما رواه البخاري في هذا الباب المذكور آنفا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج) قيل: يا رسول الله، وما الهرجا فقال: (هكذا) بيده فحرفها كأنه يريد القتل ا ه فجعل صلى الله عليه وسلم إشارته بيده كنطقة: بأن
405

المراد بالهرج القتل.
والحديث السادس جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارة المحرم إلى الصيد لينبه إليه المحل كأمره له باصطياده بالنطق، وقد قدمنا هذا الحديث في سورة (المائدة).
والحديث السابع جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة إلى الركن في طوافه كاستلامه وتقبيله بالفعل.
والحديث الثامن جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارته بأصابعه كعقد التسعين. لبيان القدر الذي فتح من ردم يأجوج ومأجوج كالنطق بذلك.
والحديث التاسع فيه أنه جعل وضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر. مشيرا بذلك لقلة زمن الساعة التي يجاب فيها الدعاء بالخير يوم الجمعة. أو مشيرا بذلك لوقتها عند من قال: إن وضع الأنملة في وسط الكف يراد به الإشارة إلى أن ساعة الجمعة في وسط يوم الجمعة. ووضعها على الخنصر يراد به أنها في آخر النهار، لأن الخنصر آخر أصابع الكف كالنطق بذلك. وذكر ابن حجر عن بعض أهل العلم. أن هذه الإشارة باليد لساعة الجمعة من فعل بشر بن المفضل راوي الحديث عن سلمة بن علقمة كما تقدم في إسناد الحديث. وعليه ففي سياق هذا الحديث عند البخاري إدراج.
والحديث العاشر جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارة الجارية التي قتلها اليهودي كنطقها بأن اليهودي قتلها، وأن من سمى لها غيره لم يكن هو الذي قتلها. وقد قدمنا هذا الحديث في سورة (بني إسرائيل) وبينا هنالك أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان جعل إشارة الجارية كنطقها لم يقتل اليهودي بإشارة الجارية القائمة مقام نطقها بمن قتلها، ولكنه اعترف بأنه قتلها فثبت عليه القتل باعترافه واقتص لها منه بذلك.
والحديث الحادي عشر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الفتنة من هنا) وأشار إلى المشرق، فجعل إشارته إلى المشرق كنطقه بذلك.
والحديث الثاني عشر فيه أنه صلى الله عليه وسلم أومأ بيده إلى المشرق فقال: (إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم) فجعل إشارته بيده إلى المشرق كنطقه بلفظ المشرق.
والحديث الثالث عشر جعل فيه الإشارة باليد إلى الفرق بين الفجر الكاذب والفجر الصادق بذلك.
والحديث الرابع عشر قال فيه صلى الله عليه وسلم: (فهو يوسعها ولا تتسع) ويشير بأصبعه إلى
406

حلقه، فجعل إشارته إلى أن درع الحديد المضروب بها المثل للبخيل ثابتة على حلقه لا تنزل عنه ولا تستر عورته ولا بدنه كالنطق بذلك.
فهذه أربعة عشر حديثا أوردها البخاري رحمه الله في الباب المذكور، وسقناها هنا، وبينا وجه الدلالة على أن الإشارة كالنطق في كل واحد منها، مع ما قدمنا من الأحاديث الدالة على ذلك زيادة على ما ذكره البخاري هنا.
وقد ذكر البخاري رحمه الله في أول باب (اللعان) خمسة أحاديث أيضا كل واحد منها فيه الدلالة على أن الإشارة كالنطق ولم نذكرها هنا لأن فيما ذكرنا كفاية.
وقال ابن حجر في (الفتح) في آخر كلامه على أحاديث الباب المذكورة. قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى أن الإشارة المفهمة تنزل منزلة النطق. وخالفه الحنيفة في بعض ذلك. ولعل البخاري رد عليهم بهذه الأحاديث التي جعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة قائمة مقام النطق. وإذا جازت الإشارة في أحكام مختلفة في الديانة فهي لمن لا يمكنه النطق أجوز.
وقال ابن المنير: أراد البخاري أن الإشارة بالطلاق وغيره من الأخرس وغيره التي يفهم منها الأصل والعدد نافذة كاللفظ ا ه ويظهر لي أن البخاري أورد هذه الترجمة وأحاديثها توطئة لما يذكره من البحث في الباب الذي يليه، مع من فرق بين لعان الأخرس، وطلاقه، والله أعلم.
فهذه الأحاديث وأمثالها هي حجة من قال: إن الإشارة المفهمة تقوم مقام اللفظ. واحتج من قال: بأن الإشارة ليست كاللفظ بأن القرآن العظيم دل على ذلك، وذلك في قوله تعالى في الآية التي نحن بصددها: * (فقولى إنى نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) * فإن في هذه الآية التصريح بنذرها الإمساك عن كلام كل إنسي، مع أنه تعالى قال: * (فأشارت إليه) * أي أشارت لهم إليه أن كلموه يخبركم بحقيقة الأمر فهذه إشارة مفهمة، وقد فهمها قومها فأجابوها جوابا مطابقا لفهمهم ما أشارت به: * (قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا) *، وهذه الإشارة المفهمة لو كانت كالنطق لأفسدت نذر مريم ألا تكلم إنسيا. فالآية صريحة في أن الكلام باللفظ يخل بنذرها، وأن الإشارة ليست كذلك، فقد جاء الفرق صريحا في القرآن بين اللفظ والإشارة، وكذلك قوله تعالى * (قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) * فإن الله جعل له آية على ما بشر به وهي منعه من الكلام، مع أنه لم يمنع من الإشارة بدليل قوله: * (إلا
407

رمزا) *، وقوله: * (فأوحى إليهم أن سبحوا) *. فدل ذلك على أن الإشارة ليست كالكلام. والآية الأولى أصرح في الدلالة على أن الإشارة ليست كاللفظ، لأن الآية الثانية محتملة لكون الإشارة كالكلام، لأن استثناءه تعالى قوله * (إلا رمزا) * من قوله * (ألا تكلم الناس) * يفهم منه أن الرمز الذي هو الإشارة نوع من جنس الكلام استثنى منه، لأن الأصل في الاستثناء الاتصال. والله تعالى أعلم.
فإذا علمت أدلة الفريقين في الإشارة، هل هي كاللفظ أو لا فاعلم أن العلماء مختلفون في الإشارة المفهمة، هل تنزل اللفظ أولا. وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى جملا من أقوال أهل العلم في ذلك، وما يظهر رجحانه بالدليل.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري) في آخر (باب الإشارة في الطلاق والأمور) ما نصه: وقد اختلف العلماء في الإشارة المفهمة. فأما في حقوق الله فقالوا: يكفي ولو من القادر على النطق. وأما في حقوق الآدميين كالعقود والإقرار والوصية ونحو ذلك فاختلف العلماء فيمن اعتقل لسانه. ثالثها عن أبي حنيفة إن كان مأيوسا من نطقه. وعن بعض الحنابلة إن اتصل بالموت، ورجحه الطحاوي. وعن الأوزاعي إن سبقه كلام، ونقل عن مكحول إن قال: فلان حر ثم أصمت فقيل له: وفلان؟ فأومأ صح. وأما القادر على النطق فلا تقوم إشارته مقام نطقه عند الأكثرين واختلف هل يقوم منه مقام النية، كما لو طلق امرأته فقيل له: كم طلقة؟ فأشار بأصبعه انتهى منه.
وقال البخاري في أول (باب اللعان) ما نصه: فإذا قذف الأخرس امرأته بكتابة أو إشارة أو إيماء معروف فهو كالمتكلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز الإشارة في الفرائض. وهو قول بعض أهل الحجاز وأهل العلم، وقال تعالى: * (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا) *. وقال الضحاك: * (إلا
رمزا) * إشارة. وقال بعض الناس: لا حد ولا لعان. ثم زعم أنه إن الطلاق بكتاب أو إشارة أو إيماء جائز وليس بين الطلاق والقذف فرق، فإن قال: القذف لا يكون إلا بكلام قيل له: كذلك الطلاق لا يجوز إلا بكلام وإلا بطل الطلاق والقذف وكذلك العتق. وكذلك الأصم يلاعن. وقال الشعبي وقتادة: إذا قال أنت طالق فأشار بأصابعه تبين منه بإشارته. وقال إبراهيم: الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه. وقال حماد: الأخرس والأصم إن قال برأسه جاز: انتهى محل الغرض من كلام البخاري رحمه الله.
408

ومذاهب الأئمة الأربعة متقاربة في هذه المسألة، وبينهم اختلاف في بعض فروعها.
فمذهب مالك رحمه الله: أن الإشارة المفهمة تقوم مقام النطق. قال خليل بن إسحاق في مختصره، الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى يعني في مذهب مالك الكلام على الصيغة التي يحصل بها الطلاق. ولزم بالإشارة المفهمة. يعني أن الطلاق يلزم بالإشارة المفهمة مطلقا من الأخرس والناطق وقال شارحه المواق رحمه الله من المدونة. ما علم من الأخرس بإشارة أو بكتاب من طلاق أو خلع أو عتق أو نكاح. أو بيع أو شراء أو قذف لزمه حكم المتكلم. وروى الباجي. إشارة السليم بالطلاق برأسه أو بيده كلفظه، لقوله تعالى: * (ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) * ا ه منه. ورواية الباجي هذه عليها أهل المذهب. ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: أن إشارة الأخرس تقوم مقام كلام الناطق في تصرفاته، كإعتاقه وطلاقه، وبيعه وشرائه، ونحو ذلك. أما السليم فلا تقبل عنده إشارته لقدرته على النطق. وإشارة الأخرس بقذف زوجته لا يلزم عنده فيها حد ولا لعان. لأن الحدود تدرأ بالشبهات. وعدم التصريح شبهة عنده. لأن الإشارة قد يفهم ما لا يقصد المشير. ولأن أيمان اللعان لها صيغ لا بد منهما ولا تحصل بالإشارة وكذلك عنده إذا كانت الزوجة المقذوفة خرساء فلا حد ولا لعان عنده. لاحتمال أنها لو نطقت لصدقته، ولأنها لا يمكنها الإتيان بألفاظ الأيمان المنصوصة في آية اللعان. وكذلك عنده القذف لا يصح من الأخرس. لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
وقال بعض العلماء من الحنيفة: إن القياس منع اعتبار إشارة الأخرس، لأنها لا تفهم كالنطق في الجميع، وأنهم أجازوا العمل بإشارة الأخرس في غير اللعان والقذف على سبيل الاستحسان، والقياس المنع مطلقا. ومذهب الشافعي في هذه المسألة اعتبار إشارة الأخرس في اللعان وغيره. وعدم اعتبار إشارة السليم.
وأما مذهب الإمام أحمد فظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى أنه لا لعان إن كان أحد الزوجين أخرس، كما قدمنا توجيهه في مذهب أبي حنيفة. وقال القاضي وأبو الخطاب: إن فهمت إشارة الأخرس فهو كالناطق في قذفه ولعانه. وأما طلاق الأخرس ونكاحه وشبه ذلك فالإشارة كالنطق في مذهب الإمام أحمد. وأما السليم فلا تقبل عنده إشارته بالطلاق ونحوه.
هذا حاصل كلام الأئمة وغيرهم من فقهاء الأمصار في هذه المسألة. وقد رأيت ما جاء فيها من أدلة الكتاب والسنة.
409

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي رجحانه في المسألة: أن الإشارة إن دلت على المعنى دلالة واضحة لا شك في المقصود معها أنها تقوم مقام النطق مطلقا، ما لم تكن في خصوص اللفظ أهمية مقصودة من قبل الشارع، فإن كانت فيه فلا تقوم الإشارة مقامه كأيمان اللعان، فإن الله نص عليها بصورة معينة. فالظاهر أن الإشارة لا تقوم مقامها وكجميع الألفاظ المتعمد بها فلا تكفي فيها الإشارة، والله جل وعلا أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إنى نذرت للرحمان صوما) * أي إمساكا عن الكلام في قول الجمهور. والصوم في اللغة: الإمساك، ومنه قول نابغة ذبيان. إنى نذرت للرحمان صوما) * أي إمساكا عن الكلام في قول الجمهور. والصوم في اللغة: الإمساك، ومنه قول نابغة ذبيان.
* خيل صيام وخيل غير صائمة
* تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
* فقوله: (خيل صيام) أي ممسكة عن الجري. وقيل عن العلف، (وخيل غير صائمة) أي غير ممسكة عما ذكر وقول امرئ القيس.
* كأن الثريا علقت في مصامها
* بأمراس كتان إلى صم جندل
* فلن أكلم اليوم إنسيا) * وهو قول أكثر أهل العلم. وقال ابن حجر (في الفتح في باب اللعان). وقد ثبت من حديث أبي كعب وأنس بن مالك: أن معنى قوله تعالى: * (إنى نذرت للرحمان صوما) * أي صمتا. أخرجه الطبراني وغيره ا ه. وقال بعض العلماء: المراد بالصوم في الآية: هو الصوم الشرعي المعروف المذكور في قوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) *. وعليه فالمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم حرم عليهم الكلام كما يحرم عليهم الطعام، والصواب في معنى الآية الأول. وعليه فهذا النذر الذي نذرته ألا تكلم اليوم إنسيا كان جائزا في شريعتهم. أما في الشريعة التي جاءنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم فلا يجوز ذلك النذر ولا يجب الوفاء به. قال البخاري في صحيحه: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: بينا النبي يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم لا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم. (مرة فليتكلم، وليستظل وليقعد وليتم صومه) قال عبد الوهاب: حدثنا أيوب عن عكرمة عن
410

النبي صلى الله عليه وسلم ا ه.
وقال ابن حجر (في الفتح) في الكلام على هذا الحديث وفي حديثه أن السكوت عن المباح ليس من طاعة الله: وقد أخرج أبو داود من حديث علي (ولا صمت يوم إلى الليل) وتقدم في السيرة النبوية قول أبي بكر الصديق إن هذا (يعني الصمت) من فعل الجاهلية، وفيه: أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلا مما لم يرد بمشروعيته
كتاب أو سنة، كالمشي حافيا، والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله، فلا ينعقد به النذر، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم دون غيره. وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه. وأمره أن يقعد ويتكلم ويستظل. قال القرطبي: في قصة أبي إسرائيل هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة على من نذر معصية، أو ما لا طاعة فيه. قال مالك لما ذكره: ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالكفارة. انتهى كلام صاحب (فتح الباري). وقد قال الزمخشري في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها: وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت. فقال ابن حجر في (الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف): لم أره هكذا. وأخرج عبد الرزاق من حديث جابر بلفظ (لا صمت يوم إلى الليل) وفيه حزام بن عثمان وهو ضعيف. ولأبي داود من حديث علي مثله، وقد تقدم في تفسير سورة (النساء).
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فإما ترين) * معناه فإن ترى من البشر أحدا. فلفظه (إما) مركبة من (إن) الشرطية و (ما) المزيدة لتوكيد الشرط. والأصل ترأيين على وزن تفعلين، تحركت الياء التي هي لام الكلمة وانفتح ما قبلها وجب قبلها ألفا فصارت ترآين، فحذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الراء. لأن اللغة الفصحى التي هي الأغلب في كلام العرب حذف همزة رأى في المضارع والأمر، ونقل حركتها إلى الراء فصارت تراين، فالتقى الساكنان فحذف الأول وهو الألف، فصار ترين فدخلت عليه نون التوكيد الثقيلة فحذفت نون الرفع من أجلها هي، والجازم الذي هو إن الشرطية، لأن كل واحد منهما بانفراده يوجب حذف نون الرفع، فصار ترين، فالتقى ساكنان هما الياء الساكنة والنون الأولى الساكنة من نون التوكيد المثقلة، لأن كل حرف مشدد فهو حرفان، فحركت الياء بحركة تناسبها وهي الكسرة فصارت ترين، كما أشار إلى هذا ابن مالك في الخلاصة بقوله: فإما ترين) * معناه فإن ترى من البشر أحدا. فلفظه (إما) مركبة من (إن) الشرطية و (ما) المزيدة لتوكيد الشرط. والأصل ترأيين على وزن تفعلين، تحركت الياء التي هي لام الكلمة وانفتح ما قبلها وجب قبلها ألفا فصارت ترآين، فحذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الراء. لأن اللغة الفصحى التي هي الأغلب في كلام العرب حذف همزة رأى في المضارع والأمر، ونقل حركتها إلى الراء فصارت تراين، فالتقى الساكنان فحذف الأول وهو الألف، فصار ترين فدخلت عليه نون التوكيد الثقيلة فحذفت نون الرفع من أجلها هي، والجازم الذي هو إن الشرطية، لأن كل واحد منهما بانفراده يوجب حذف نون الرفع، فصار ترين، فالتقى ساكنان هما الياء الساكنة والنون الأولى الساكنة من نون التوكيد المثقلة، لأن كل حرف مشدد فهو حرفان، فحركت الياء بحركة تناسبها وهي الكسرة فصارت ترين، كما أشار إلى هذا ابن مالك في الخلاصة بقوله:
* واحذفه من رافع هاتين وفي
* واو ويا شكل مجالس قفي
*
411

وما ذكرنا من أن همزة (رأى) تحذف في المضارع والأمر هو القياس المطرد في كلام العرب وبقاؤها على الأصل مسموع، ومنه قول سراقة بن مرداس البارقي الأصغر: وما ذكرنا من أن همزة (رأى) تحذف في المضارع والأمر هو القياس المطرد في كلام العرب وبقاؤها على الأصل مسموع، ومنه قول سراقة بن مرداس البارقي الأصغر:
* أرى عيني ما لم ترأياه
* لأنا عالم بالترهات
* وقول الأعلم بن جرادة السعدي، أو شاعر من تيم الرباب:
* ألم ترأ ما لاقيت والدهر أعصر
* ومن يتمل العيش يرأ ويسمع
* وقول الآخر:
* أحن إذا رأيت جبال نجد
* ولا أرأى إلى نجد سبيلا
*
ونون التوكيد في العمل المضارع بعد (إما) لازمة عند بعض علماء العربية. وممن قال بلزومها بعد (إما) كقوله هنا * (فإما ترين من البشر أحدا) *: المبراد والزجاج. ومذهب سيبويه والفارسي وجماعة أن نون التوكيد في الفعل المضارع بعد (إما) غير لازمة، ويدل له كثرة وروده في شعر العرب، كقول الأعشى ميمون بن قيس: فإما ترين من البشر أحدا) *: المبراد والزجاج. ومذهب سيبويه والفارسي وجماعة أن نون التوكيد في الفعل المضارع بعد (إما) غير لازمة، ويدل له كثرة وروده في شعر العرب، كقول الأعشى ميمون بن قيس:
* فإما تريني ولي لمة
* فإن الحوادث أردى بها
*
وقول لبيد بن ربيعة: وقول لبيد بن ربيعة:
* فإما تريني اليوم أصبحت سالما
* فلست بأحيا من كلاب وجعفر
*
وقول الشنفرى: وقول الشنفرى:
* فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا
* على رقة أحفى ولا أتنعل
*
وقول الأفوه الأودي: وقول الأفوه الأودي:
* إما ترى رأسي أزرى به
* مأس زمان ذي انتكاس مؤس
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* زعمت تماضر أنني إما أمت
* يسدد أبينوها الأصاغر خلتي
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* يا صاح إما تجدني غير ذي جدة
* فما التخلي عن الخلان من شيمي
*
وأمثال هذا كثيرة في شعر العرب. والمبرد والزجاج يقولان: إن حذف النون في الأبيات المذكورة ونحوها إنما هو لضرورة الشعر. ومن خالفهم كسيبويه والفارسي
412

يمنعون كونه للضرورة، ويقولون: إنه جائز مطلقا. والعلم عند الله تعالى.
* (فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا * ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا * قال إنى عبد الله ءاتانى الكتاب وجعلنى نبيا * وجعلنى مباركا أين ما كنت وأوصانى بالصلواة والزكواة ما دمت حيا * وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جبارا شقيا * والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا * ذالك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربى وربكم فاعبدوه هاذا صراط مستقيم * فاختلف الا حزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم * أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لاكن الظالمون اليوم فى ضلال مبين * وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الا مر وهم فى غفلة وهم لا يؤمنون) * قوله تعالى: * (فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) *. لما اطمأنت مريم بسبب ما رأت من الآيات الخارقة للعادة التي تقدم ذكرها آنفا أتت به (أي بعيسى) قومها تحمله غير محتشمة ولا مكترثة بما يقولون، فقالوا لها: * (يامريم لقد جئت شيئا فريا) *! قال مجاهد وقتادة وغير واحد: (فريا) أي عظيما. وقال سعيد بن مسعدة: (فريا) أي مختلفا مفتعلا. وقال أبو عبيدة والأخفش: (فريا) أي عجيبا نادرا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يفهم من الآيات القرآنية أن مرادهم بقولهم * (لقد جئت شيئا فريا) * أي منكرا عظيما، لأن الفري فعيل من الفرية، يعنون به الزنى، لأن ولد الزنى كالشئ المفتري المختلق، لأن الزانية تدعى إلحاقه بمن ليس أباه. ويدل على أن مرادهم بقولهم (فريا) الزنى قوله تعالى: * (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما) * لأن ذلك البهتان العظيم الذي هو ادعاؤهم أنها زنت، وجاءت بعيسى من ذلك الزنى (حاشاها وحاشاه من ذلك) هو المراد بقولهم لها: * (لقد جئت شيئا فريا) *. ويدل لذلك قوله تعالى بعده: * (ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) * والبغي الزانية كما تقدم. يعنون كان أبواك عفيفين لا يفعلان الفاحشة، فمالك أنت ترتكبينهاا! ومما يدل على أن ولد الزنى كالشئ المفتري قوله تعالى: * (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) * قال بعض العلماء: معنى قوله تعالى: * (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) * أي ولا يأتين بولد زنى يقصدن إلحاقه برجل ليس أباه، هذا هو الظاهر الذي دل عليه القرآن في معنى الآية. وكل عمل أجاده عامله فقد فرآه لغة، ومنه قول الراجز وهو زرارة بن صعب بن دهر: وكل عمل أجاده عامله فقد فرآه لغة، ومنه قول الراجز وهو زرارة بن صعب بن دهر:
* وقد أطمعتني دقلا حوليا
* مسوسا مدودا حجريا
*
يعني تعملين به العمل العظيم. والظاهر أنه يقصد أنها تأكله أكلا لما عظيما.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (ياأخت هارون) * ليس المراد به هارون بن
413

عمران أخا موسى كما يظنه بعض الجهلة. وإنما هو رجل آخر صالح من بني إسرائيل يسمى هارون. والدليل على أنه ليس هارون أخا موسى ما رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو سعيد الأشج، ومحمد بن المثنى العنزي. واللفظ لابن نمير قالوا: حدثنا ابن إدريس عن أبيه، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون * (ياأخت هارون) * وموسى قبل عيسى بكذا وكذا. فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال: (إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم) ا ه، هذا لفظ مسلم في الصحيح. وهو دليل على أنه رجل آخر غير هارون أخي موسى، ومعلوم أن هارون أخا موسى قبل مريم بزمن طويل. وقال ابن حجر في (الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف) في قول الزمخشري: إنما عنوا هارون النبي ما نصه: لم أجده هكذا إلا عند الثعلبي بغير سند، ورواه الطبري عن السدي قوله وليس بصحيح. فإن عند مسلم والنسائي والترمذي عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا لي: أرأيتم شيئا يقرؤونه (يا أخت هارون) وبين موسى وعيسى ما شاء الله من السنين، فلم أدر ما أجيبهم؟ فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم) وروى الطبري من طريق ابن سيرين: نبئت أن كعبا قال: إن قوله تعالى * (ياأخت هارون) * ليس بهارون أخي موسى، فقالت له عائشة: كذبت؟ فقال لها: يا أم المؤمنين، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال فهو أعلم، وإلا فأني أجد بينهما ستمائة سنة انتهى كلام ابن حجر.
وقال صاحب الدر المنثور في قوله تعالى * (ياأخت هارون) *: أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد وعبد بن حميد، ومسلم والترمذي والنسائي، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن حبان والطبراني، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران.. إلى آخر الحديث كما تقدم آنفا. وبهذا الحديث الصحيح الذي رأيت إخراج هؤلاء الجماعة له، وقد قدمناه بلفظه عند مسلم في صحيحه تعلم أن قول من قال: إن المراد هارون أخو موسى باطل سواء قيل إنها أخته، أو أن المراد بأنها أخته أنها من ذريته، كما يقال للرجال: يا أخا تميم، والمراد يا أخا بني تميم، لأنه من ذرية تميم. ومن هذا القبيل قوله: * (واذكر أخا عاد) *، لأن هودا إنما قيل له أخو عاد لأنه من ذريته، فهو أخو بني عاد، وهم المراد بعاد في الآية لأن
414

المراد بها القبيلة لا الجد. وإذا حققت أن المراد بهارون في الآية غير هارون أخي موسى، فاعلم أن بعض العلماء: قال: إن لها أخا اسمه هارون. وبعضهم يقول: إن هاروت المذكور رجل من قومها مشهور بالصلاح، وعلى هذا فالمراد بكونها أخته أنها تشبه في العبادة والتقوى. وإطلاق اسم الأخ على النظير المشابه معروف في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قوله تعالى: * (وما نريهم من ءاية إلا هى أكبر من أختها) *، وقوله تعالى: * (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) *، وقوله تعالى * (وإخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون) *، ومنه في كلام العرب قوله: وإخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون) *، ومنه في كلام العرب قوله:
* وكل أخ يفارقه أخوه
* لعمر أبيك إلا الفرقدان
*
فجعل الفرقدين أخوين.
وكثيرا ما تطلق العرب اسم الأخ على الصديق والصاحب، ومن إطلاقه على الصاحب قول القلاخ بن حزن: وكثيرا ما تطلق العرب اسم الأخ على الصديق والصاحب، ومن إطلاقه على الصاحب قول القلاخ بن حزن:
* أخا الحرب لباسا إليها جلالها
* وليس بولاج الخوالف أعقلا
*
فقوله: (أخا الحرب) يعني صاحبها. ومنه قول الراعي وقيل لأبي ذؤيب: فقوله: (أخا الحرب) يعني صاحبها. ومنه قول الراعي وقيل لأبي ذؤيب:
* عشية سعدي لو تراءت لراهب
* بدومة تجر دونه وحجيج
*
* قلى دينه واهتاج للشوق إنها
* على النأي إخوان العزاء هيوج
*
فقوله (إخوان العزاء) يعني أصحاب الصبر. قوله تعالى: * (فأشارت إليه) *. معنى إشارتها إليه: أنهم يكلمونه فيخبرهم بحقيقة الأمر. والدليل على أن هذا هو مرادها بإشارتها إليه قوله تعالى بعده: * (قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا) * فالفعل الماضي الذي هو (كان) بمعنى الفعل المضارع المقترن بالحال كما يدل عليه السياق. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (قال إنى عبد الله ءاتانى الكتاب وجعلنى نبيا وجعلنى مباركا أين ما كنت وأوصانى بالصلواة والزكواة ما دمت حيا وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جبارا شقيا والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) *.
415

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أول كلمة نطق لهم بها عيسى وهو صبي في مهده أنه عبد الله، وفي ذلك أعظم زجر للنصارى عن دعواهم أنه الله، أو ابنه أو إله معها وهذه الكلمة التي نطق بها عيسى في أول خطابه لهم ذكرها الله جل وعلا عنه في مواضع أخر. كقوله تعالى: * (وقال المسيح يابنى إسراءيل اعبدوا الله ربى وربكم) * وقوله في (آل عمران): * (إن الله ربى وربكم فاعبدوه هاذا صراط مستقيم) *، وقوله في (الزخرف) * (فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه هاذا صراط مستقيم) *، وقوله هنا في سورة (مريم): * (وإن الله ربى وربكم فاعبدوه هاذا صراط مستقيم) *، وقوله: * (ما قلت لهم إلا مآ أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم) *. إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ءاتانى الكتاب وجعلنى نبيا) * التحقيق فيه إن شاء الله: أنه عبر بالماضي عما سيقع في المستقبل تنزيلا لتحقق الوقوع منزلة الوقوع. ونظائره في القرآن كثيرة. كقوله تعالى: * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) *، وقوله تعالى: * (ونفخ فى الصور فصعق من فى السماوات ومن فى الا رض إلا من شآء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الا رض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهدآء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت) * إلى قوله * (وسيق الذين كفروا) *. وقوله تعالى: * (وسيق الذين اتقوا ربهم) *.
فهذه الأفعال الماضية المذكورة في الآيات بمعنى المستقبل. تنزيلا لتحقق وقوعه منزلة الوقوع بالفعل، ونظائرها كثيرة في القرآن. وهذا الذي ذكرنا من أن الأفعال الماضية في قوله تعالى: * (ءاتانى الكتاب) * الخ بمعنى المستقبل هو الصواب إن شاء الله. خلافا لمن زعم أنه نبىء وأوتي الكتاب في حال صباه لظاهر اللفظ. وقوله * (وجعلنى مباركا) * أي كثير البركات. لأنه يعلم الخير ويدعو إلى الله، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله. وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية * (مباركا أين ما كنت) *: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفاعا حيث كنت. وقال ابن حجر في (الكافي الشاف): أخرجه أبو نعيم (في الحلية) في ترجمة يونس بن عبيد عن الحسن عن أبي هريرة بهذا وأتم. وقال: تفرد به هشيم عن يونس، وعنه شعيب بن محمد الكوفي، ورواه ابن مردويه عن هذا الوجه ا ه.
وقوله في هذه الآية الكريمة * (وبرا بوالدتى) * قال الحوفي وأبو البقاء: هو
416

معطوف على قوله * (وجعلنى مباركا) *. وقال أبو حيان (في البحر): وفيه بعد للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة التي هي (أوصاني) ومتعلقها. والأولى أنه منصوب بفعل مضمر. أي وجعلني برأ بوالدتي. ولما قال بوالدتي ولم يقل بوالدي علم أنه أمر من قبل الله. كما ذكره القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقد قدمنا معنى (الجبار والشقي). وقال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: (شقيا) أي خائبا من الخير. ابن عباس: وقيل عاصيا لربه. وقيل: لم يجعلني تاركا لأمره فأشقى كما شقي إبليس ا ه كلام القرطبي.
تنبيه
احتج مالك رحمه الله بهذه الآية على القدرية. قال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر. أخبر عيسى عليه السلام بما قضى من أمره وبما هو كائن إلى أن يموت ا ه. وقوله تعالى: * (ذالك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون) *. اعلم أن هذا الحرف فيه قراءتان سبعيتان: قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي * (قول الحق) * بضم اللام. وقرأه ابن عامر وعاصم * (قول الحق) * بالنصب. والإشارة في قوله (ذلك) راجعة إلى المولود المذكور في الآيات المذكورة قبل هذا. وقوله (ذلك) مبتدأ، (وعيسى)، خبره، و (ابن مريم) نعت ل (عيسى) وقيل بدل منه. وقيل خبر بعد خبر.
وقوله * (قول الحق) * على قراءة النصب مصدر مؤكد لمضمون الجملة. وإلى نحوه أشار ابن مالك بقوله في الخلاصة: * والثاني كابني أنت حقا صرفا
وقيل منصوب على المدح: وأما على قراءة الجمهور بالرفع (فقول الحق) خبر مبتدأ محذوف. أي هو أي نسبته إلى أمه فقط قول الحق. قاله أبو حيان. وقال الزمخشري: وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر، أو بدل، أو خبر مبتدأ محذوف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: اعلم أن لفظة (الحق) في قوله هنا (قول الحق) فيها للعلماء وجهان:
417

الأول أن المراد بالحق ضد الباطل بمعنى الصدق والثبوت. كقوله: * (وكذب به قومك وهو الحق) * وعلى هذا القول فاعراب قوله (قول الحق) على قراءة النصب أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كما تقدم. وعلى قراءة الرفع فهو خبر مبتدأ محذوف كما تقدم. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى في (آل عمران) في القصة بعينها: * (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) *.
الوجه الثاني أن المراد بالحق في الآية الله جل وعلا. لأن من أسمائه (الحق) كقوله: * (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) *، وقوله * (ذالك بأن الله هو الحق) *. وعلى هذا القول فإعراب قوله تعالى * (قول الحق) * على قراءة النصب أنه منصوب على المدح. وعلى قراءة الرفع فهو بدل من (عيسى) أو خبر، وعلى
هذا الوجه ف (قول الحق)، هو (عيسى) كما سماء الله كلمة في قوله: * (وكلمته ألقاها إلى مريم) *، وقوله: * (إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح) *. وإنما سمى (عيسى) كلمة لأن الله أوجده بكلمته التي هي (كن) فكان. كما قال: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن) *. والقول والكلمة على هذا الوجه من التفسير بمعنى واحد.
وقوله: * (الذى فيه يمترون) * أي يشكون. فالامتراء افتعال من المرية وهي الشك. وهذا الشك الذي وقع للكفار نهى الله عنه المسلمين على لسان نبيهم في قوله تعالى * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين) * وهذا القول الحق الذي أوضح الله به حقيقة الأمر في شأن عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بعد نزوله على نبينا صلى الله عليه وسلم أمره ربه أن يدعو من حاجه في شأن عيسى إلى المباهلة. ثم أخبره أن ما قص عليه من خبر عيسى هو القصص الحق، وذلك في قوله تعالى: * (فمن حآجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنآءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين إن هاذا لهو القصص الحق) *. ولما نزلت ودعا للنبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران إلى المباهلة خافوا الهلاك وأدوا كما هو مشهور. قوله تعالى * (ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *.
418

اعلم أولا أن لفظ (ما كان) يدل على النفي، فتارة يدل ذلك النفي من جهة المعنى على الزجر والردع، كقوله تعالى: * (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الا عراب أن يتخلفوا عن رسول الله) *. وتارة يدل على التعجيز، كقوله تعالى: * (ءآلله خير أما يشركون أمن خلق السماوات والا رض وأنزل لكم من السمآء مآء فأنبتنا به حدآئق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) *. وتارة يدل على التنزيه، كقوله هنا: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * وقد أعقبه بقوله * (سبحانه) * أي تنزيها له عن اتخاذ الولد وكل ما لا يليق بكماله وجلاله. فقوله * (ما كان لله) * بمعنى ما يصح ولا يتأتى ولا يتصور في حقه جل وعلا أن يتخذ ولدا، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. والآية كقوله تعالى: * (وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا) *. وفي هذه الآية الرد البالغ على النصارى الذين زعموا المحال في قولهم (عيسى ابن الله) وما نزه عنه جل وعلا نفسه هنا من الولد المزعوم كذبا كعيسى نزه عنه نفسه في مواضع أخر، كقوله تعالى: * (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم) * إلى قوله * (إنما الله إلاه واحد سبحانه أن يكون له ولد) *. والآيات الدالة على مثل ذلك كثيرة، كقوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الا رض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمان ولدا وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا) * إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم مستوفى في سورة (الكهف). وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إذا قضى أمرا) * أي أراد قضاءه، بدليل قوله: * (إنما قولنا لشىء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون) *، وقوله تعالى: * (إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * وحذف فعل الإرادة لدلالة المقام عليه كثير في القرآن وفي كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلواة) *، أي إذا أردتم القيام إليها، وقوله تعالى: * (فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) * أي إذا أردت قراءة القرآن، كما تقدم مستوفى.
وقوله تعالى في الآية التي نحن بصددها: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * زيدت فيه لفظة (من) قبل المفعول به لتأكيد العموم. وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي
419

إذا زيدت قبلها لفظة (من) لتوكيد العموم كانت نصا صريحا في العموم، وتطرد زيادتها للتوكيد المذكور قبل النكرة في سياق النفي في ثلاثة مواضع: قبل الفاعل كقوله تعالى: * (مآ أتاهم من نذير) *، وقبل المفعول كهذه الآية، وكقوله * (ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه) *: وقبل المبتدأ كقوله * (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره) *. قوله تعالى: * (فاختلف الا حزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) *. أظهر الأقوال في (الأحزاب) المذكورة في هذه الآية أنهم فرق اليهود والنصارى الذين اختلفوا في شأن عيسى. فقالت طائفة: هو ابن زنى. وقالت طائفة: هو ابن الله. وقالت طائفة: هو الله. وقالت طائفة: هو إله مع الله. ثم إن الله توعد الذين كفروا منهم بالويل لهم من شهود يوم القيامة. وذلك يشمل من كفر بالتفريط في عيسى كالذي قال إنه ابن زنى. ومن كفر بالإفراط فيه كالذين قالوا إنه الله أو ابنه. وقوله (ويل) كلمة عذاب. فهو مصدر لا فعل له من لفظه. وسوغ الابتداء به وهو نكرة كونه في معنى الدعاء. والظاهر أن المشهد في الآية مصدر ميمي. أي فويل لهم من شهود ذلك اليوم أي حضوره لما سيلاقونه فيه من العذاب. خلافا لمن زعم أن المشهد في الآية اسم مكان. أي فويل لهم من ذلك المكان الذي يشهدون فيه تلك الأهوال والعذاب. والأول هو الظاهر وهو الصواب إن شاء الله تعالى. وهذا المعنى الذي ذكره هنا ذكره أيضا في سورة (الزخرف) في قوله تعالى: * (ولما جآء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذى تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه هاذا صراط مستقيم فاختلف الا حزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) * وما أشار إليه في الآيتين: من أن الذين كفروا بالإفراط أو التفريط في عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أنه لم يعاجلهم بالعذاب، وأنه يؤخر عذابهم إلى الوقت المحدد لذلك أشار له في مواضع أخر. كقوله تعالى: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) *، وقوله تعالى: * (وما نؤخره إلا لاجل معدود) *، وقوله: * (ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون) *. وبالجملة فالله تعالى يمهل الظالم إلى وقت عذابه، ولكنه لا يهمله. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله
420

عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: * (وكذالك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد) *، وقال تعالى: * (وكأين من قرية أمليت لها وهى ظالمة ثم أخذتها وإلى المصير) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (فاختلف الا حزاب من بينهم) * قال أبو حيان في (البحر): ومعنى قوله (من بينهم) أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين انتهى محل الغرض منه. قوله تعالى: * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لاكن الظالمون اليوم فى ضلال مبين) *. قوله * (أسمع بهم وأبصر) * صيغتنا تعجب. ومعنى الآية الكريمة: أن الكفار يوم القيامة يسمعون ويبصرون الحقائق التي أخبرتهم بها الرسل سمعا وإبصارا عجيبين، وأنهم في دار الدنيا في ضلال وغفلة لا يسمعون الحق ولا يبصرونه. وهذا الذي بينه تعالى في هذه الآية الكريمة بينه في مواضع أخر. كقوله في سمعهم وإبصارهم يوم القيامة: * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) *، وقوله تعالى: * (لقد كنت فى غفلة من هاذا فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد) *، وكقوله في غفلتهم في الدنيا وعدم إبصارهم وسمعهم: * (اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون) *، وقوله: * (يعلمون ظاهرا من الحيواة الدنيا وهم عن الا خرة هم غافلون) *، وقوله: * (صم بكم عمى فهم لا يرجعون) *، وقوله: * (مثل الفريقين كالا عمى والا صم والبصير والسميع) *. والمراد بالأعمى والأصم: الكفار. والآيات بمثل هذا كثيرة. واعلم أن صيغة التعجب إذا كانت على وزن أفعل به فهي فعل عند الجمهور، وأكثرهم يقولون إنه فعل ماض جاء على صورة الأمر. وبعضهم يقول: إنه فعل أمر لإنشاء التعجب، وهو الظاهر من الصيغة، ويؤيده دخول نون التوكيد عليه. كقول الشاعر: مثل الفريقين كالا عمى والا صم والبصير والسميع) *. والمراد بالأعمى والأصم: الكفار. والآيات بمثل هذا كثيرة. واعلم أن صيغة التعجب إذا كانت على وزن أفعل به فهي فعل عند الجمهور، وأكثرهم يقولون إنه فعل ماض جاء على صورة الأمر. وبعضهم يقول: إنه فعل أمر لإنشاء التعجب، وهو الظاهر من الصيغة، ويؤيده دخول نون التوكيد عليه. كقول الشاعر:
* ومستبدل من بعد غضيبا صريمة
* فأحربه من طول فقر وأحريا
*
لأن الألف في قوله (وأحريا) مبدلة من نون التوكيد الخفيفة على حد قوله في الخلاصة: لأن الألف في قوله (وأحريا) مبدلة من نون التوكيد الخفيفة على حد قوله في الخلاصة:
* وأبدلتها بعد فتح ألفا
* وقفا كما تقول في قفن قفا
*
421

والجمهور أيضا على أن صيغة التعجب الأخرى التي هي ما أفعله فعل ماض. خلافا لجماعة من الكوفيين في قولهم: إنها اسم بدليل تصغيرها في قول العرجي: والجمهور أيضا على أن صيغة التعجب الأخرى التي هي ما أفعله فعل ماض. خلافا لجماعة من الكوفيين في قولهم: إنها اسم بدليل تصغيرها في قول العرجي:
* يا ما أميليح غزلانا شدن لنا
* من هؤلياتكن الضال السمر
*
قالوا والتصغير لا يكون إلا في الأسماء. وأجاب من خالفهم بأن تصغيرها في البيت المذكور شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. قوله تعالى: * (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الا مر وهم فى غفلة وهم لا يؤمنون) *. الحسرة: أشد الندم والتلف على الشيء الذي فات ولا يمكن تداركه. والإنذار: الإعلام المقترن بتهديد. أي أنذر الناس يوم القيامة. وقيل له يوم الحسرة لشدة ندم الكفار فيه على التفريط. وقد يندم فيه المؤمنون على ما كان منهم من التقصير وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: * (وأنذرهم يوم الا زفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين) *، وقوله * (إن هو إلا نذير لكم بين يدى عذاب شديد) *.
وأشار إلى ما يحصل فيه من الحسرة في مواضع أخر. كقوله: * (أن تقول نفس ياحسرتى على ما فرطت فى جنب الله) *، وقوله تعالى: * (قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها) *، وقوله: * (كذالك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) * إلى غير ذلك من الآيات. وقوله في هذه الآية الكريمة: * (وهم فى غفلة) * أي في غفلة الدنيا معرضون عن الآخرة. وجملة (وهم في غفلة) حالية، والعامل فيها (أنذرهم) أي أنذرهم في حال غفلتهم غير مؤمنين. خلافا لمن قال: إن العامل في الجملة الحالية قوله قبل هذا (في ضلال مبين). وقد جاء في الحديث الصحيح ما يدل على أن المراد بقوله هنا (إذ قضي الأمر) أي ذبح الموت. قال البخاري رحمه الله في صحيحه: (باب قوله عز وجل: * (وأنذرهم يوم الحسرة) * حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت كالهيئة كبش أملح فينادي مناد: يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول هل
422

تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه. ثم ينادى يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه. فيذبح. ثم يقول يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت) ثم قرأ * (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الا مر وهم فى غفلة) * وهؤلاء في غفلة الدنيا وهم لا يؤمنون) انتهى منه صحيح البخاري.
والحديث مشهور متفق عليه وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم الآية بعد ذكره ذبح الموت تدل على أن المراد بقوله (إذ قضي الأمر) أي ذبح الموت. وفي معناه أقوال أخر غير هذا تركناها لدلالة الحديث الصحيح على المعنى الذي ذكرنا.
* (إنا نحن نرث الا رض ومن عليها وإلينا يرجعون * واذكر فى الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لابيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا * ياأبت إنى قد جآءنى من العلم ما لم يأتك فاتبعنى أهدك صراطا سويا * ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا * ياأبت إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا * قال أراغب أنت عن آلهتى ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بى حفيا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربى عسى ألا أكون بدعآء ربى شقيا * فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا * ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا * واذكر فى الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا) * قوله تعالى: * (إنا نحن نرث الا رض ومن عليها وإلينا يرجعون) *. معنى قوله جل وعلا في هذه الآية: أنه يرث الأرض ومن عليها: أنه يميت جميع الخلائق الساكنين بالأرض، ويبقى هو جل وعلا لأنه الحي الذي لا يموت، ثم يرجعون إليه يوم القيامة. وقد أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: * (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) * وقوله تعالى: * (وإنا لنحن نحى ونميت ونحن الوارثون) * إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (واذكر فى الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لابيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا ياأبت إنى قد جآءنى من العلم ما لم يأتك فاتبعنى أهدك صراطا سويا ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا ياأبت إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا) *. أمر الله جل وعلا نبيه (محمدا) صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يذكر في الكتاب الذي هو القرآن العظيم المنزل إليه من الله (إبراهيم) عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ويتلو على الناس في القرآن نبأه مع قومه ودعوته لهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر. وكرر هذا المعنى المذكور في هذه الآيات في آيات أخر من كتابه جل وعلا. فهذا الذي أمر به نبيه هنا من ذكره في الكتاب إبراهيم * (إذ قال لابيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر) * أوضحه في سورة (الشعراء) في قوله: * (واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون) *. فقوله هنا * (واذكر فى الكتاب) * هو معنى قوله: * (واتل عليهم نبأ إبراهيم) * وزاد في (الشعراء) أن هذا الذي قاله لأبيه من النهي عن عبادة الأوثان قاله أيضا لسائر قومه. وكرر
423

تعالى الإخبار عنه بهذا النهي لأبيه وقومه عن عبادة الأوثان في مواضع أخر. كقوله: * (وإذ قال إبراهيم لابيه ءازر أتتخذ أصناما ءالهة إنى أراك وقومك فى ضلال مبين) *، وقوله تعالى: * (إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنآ ءابآءنا كذلك يفعلون قال أفرءيتم ما كنتم تعبدون أنتم وءابآؤكم الا قدمون فإنهم عدو لى إلا رب العالمين) *، وقوله تعالى: * (ولقد ءاتينآ إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لابيه وقومه ما هاذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون قالوا وجدنآ ءابآءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وءابآؤكم فى ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والا رض الذى فطرهن وأنا على ذالكم من الشاهدين) *، وقوله تعالى: * (وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إننى برآء مما تعبدون إلا الذى فطرنى فإنه سيهدين) *، وقوله تعالى: * (وإن من شيعته لإبراهيم إذ جآء ربه بقلب سليم إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون أءفكا ءالهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين) * وقوله تعالى: * (قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضآء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية: * (إذ قال لابيه) * الظرف الذي هو (إذ) يدل اشتمال من (إبراهيم) في قوله: * (واذكر فى الكتاب إبراهيم) * كما تقدم نظيره في قوله: * (واذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت) *. وقد قدمنا هناك إنكار بعضهم لهذا الإعراب. وجملة * (إنه كان صديقا نبيا) * معترضة بين البدل والمبدل منه على الإعراب المذكور. والصديق صيغة مبالغة من الصدق. لشدة صدق إبراهيم في معاملته مع ربه وصدق لهجته، كما شهد الله له بصدق معاملته في قوله: * (وإبراهيم الذى وفى) *، وقوله: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما) *.
ومن صدقه في معاملته ربه: رضاه بأن يذبح ولده، وشروعه بالفعل في ذلك طاعة لربه. مع أن الولد فلذة من الكبد. ومن صدقه في معاملته ربه: رضاه بأن يذبح ولده، وشروعه بالفعل في ذلك طاعة لربه. مع أن الولد فلذة من الكبد.
424

* لكنما أولادنا بيننا
* أكبادنا تمشي على الأرض
* فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيآ) *. ومن صدقه في معاملته مع ربه: صبره على الإلقاء في النار. كما قال تعالى: * (قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين) *، وقال: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار) *.
وذكر علماء التفسير في قصته أنهم لما رموه إلى النار لقيه جبريل فسأله: هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلاا وأما إلى الله فنعم. فقال له: لم لا تسأله؟ فقال: علمه بحالي كاف عن سؤالي؟؟
ومن صدقه في معاملته ربه: صبره على مفارقة الأهل والوطن فرارا لدينه. كما قال تعالى: * (فأامن له لوط وقال إنى مهاجر إلى ربى) * وقد هاجر من سواد العرق إلى دمشق: وقد بين جل وعلا في مواضع أخر أنه لم يكتف بنهيهم عن عبادة الأوثان وبيان أنها لا تنفع ولا تضر، بل زاد على ذلك أنه كسرها وجعلها جذاذا
وترك الكبير من الأصنام، ولما سألوه هل هو الذي كسرها قال لهم: إن الذي فعل ذلك كبير الأصنام، وأمرهم بسؤال الأصنام إن كانت تنطق. كما قال تعالى عنه: * (وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون قالوا من فعل هاذا بأالهتنآ إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا ءأنت فعلت هاذا بأالهتنا ياإبراهيم قال بل فعله كبيرهم هاذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هاؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) *، وقال تعالى: * (فراغ إلىءالهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون) *. فقوله * (فراغ عليهم ضربا باليمين) * أي مال إلى الأصنام يضربها ضربا بيمنه حتى جعلها جذاذا، أي قطاعا متكسرة من قولهم: جذه إذا قطعه وكسره.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إنه كان صديقا) * أي كثير الصدق يعرف
425

منه أن الكذبات الثلاث المذكورة في الحديث عن إبراهيم كلها في الله تعالى، وأنها في الحقيقة من الصدق لا من الكذب بمعناه الحقيقي، وسيأتي إن شاء الله زيادة إيضاح لهذا في سورة (الأنبياء):
وقوله تعالى عن إبراهيم * (ياأبت) * التاء فيه عوض عن ياء المتكلم، فالأصل يا أبي كما أشار له في الخلاصة بقوله: ياأبت) * التاء فيه عوض عن ياء المتكلم، فالأصل يا أبي كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* وفي النداء أبت أمت عرض
* واكسر أو افتح ومن اليا التا عوض
*
وقوله تعالى في هذه الآية * (لم تعبد) * أصله (ما) الاستفهامية، فدخل عليها حرف الجر الذي هو (اللام) فحذف ألفها على حد قوله في الخلاصة: لم تعبد) * أصله (ما) الاستفهامية، فدخل عليها حرف الجر الذي هو (اللام) فحذف ألفها على حد قوله في الخلاصة:
* وما في الاستفهام إن جرت حذف
* ألفها وأولها الها إن تقف
*
ومعلوم أن القراءة سنة متبعة لا تجوز بالقياس. ولذا يوقف على (لم) بسكون الميم لإبهاء السكت كما في البيت. ومعنى عبادته للشيطان في قوله * (لا تعبد الشيطان) * طاعته للشيطان في الكفر والمعاصي. فذلك الشرك شرك طاعة، كما قال تعالى: * (ألم أعهد إليكم يابنىءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدونى هاذا صراط مستقيم) * كما تقدم هذا المبحث مستوفي في سورة (الإسراء) وغيرها.
والآية تدل على أن الكفار المعذبين يوم القيامة أولياء الشيطان. لقوله هنا * (إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا) * والآيات الدالة على أن الكفار أولياء الشيطان كثيرة، وقد قدمنا كثيرا من ذلك في سورة الكهف وغيرها، كقوله تعالى: * (فقاتلوا أولياء الشيطان) *، وقوله: * (إنما ذالكم الشيطان يخوف أولياءه) *، أي يخوفكم أولياءه. وقوله: * (إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله) * إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم. وكل من كان الشيطان يزين له الكفر والمعاصي فيتبعه في ذلك في الدنيا فلا ولي له في الآخرة إلا الشيطان. كما قال تعالى: * (تالله لقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطن أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم) * ومن كان لا ولي له يوم القيامة إلا الشيطان تحقق أنه لا ولي له ينفعه يوم القيامة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إنى قد جآءنى من العلم ما لم يأتك) *
426

يعني ما علمه الله من الوحي وما ألهمه وهو صغير، كما قال تعالى: * (ولقد ءاتينآ إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين) * ومحاجة إبراهيم لقومه كما ذكرنا بعض الآيات الدالة عليها أثنى الله بها على إبراهيم، وبين أنها حجة الله آتاها نبيه إبراهيم. كما قال تعالى: * (وتلك حجتنآ ءاتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشآء) *، وقال تعالى: * (وحآجه قومه قال أتحاجونى فى الله وقد هدانى) *، وكون الآيات المذكورة واردة في محاجته لهم المذكورة في سورة (الأنعام) لا ينافي ما ذكرنا. لأن أصل المحاجة في شيء واحد وهو توحيد الله جل وعلا، وإقامة الحجة القاطعة على أنه لا معبود إلا هو وحده جل وعلا في سورة (الأنعام) وفي غيرها. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (قال أراغب أنت عن آلهتى ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بى حفيا) *. بين الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين: أن إبراهيم لما نصح أباه النصيحة المذكورة مع ما فيها من الرفق واللين، وإيضاح الحق والتحذير من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر. ومن عذاب الله تعالى وولاية الشيطان خاطبة هذا الخطاب العنيف، وسماه باسمه ولم يقل له يا بني في مقابلة قوله له يا أبت. وأنكر عليه أنه راغب عن عبادة الأوثان أي معرض عنها لا يريدها. لأنه لا يعيد إلا الله وحده جل وعلا. وهدده جل وعلا. وهدده بأنه إن لم ينته عما يقوله له ليرجمنه (قيل بالحجارة وقيل باللسان شتما) والأول أظهر. ثم أمره بهجره مليا أي زمانا طويلا، ثم بين أن إبراهيم قابل أيضا جوابه العنيف بغاية الرفق واللين في قوله: * (قال سلام عليك سأستغفر لك ربي) *. وخطاب إبراهيم لأبيه الجاهل بقوله * (سلام عليك) * قد بين جل وعلا أنه خطاب عباده المؤمنين للجهال إذا خاطبوهم، كما قال تعالى: * (وعباد الرحمان الذين يمشون على الا رض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) *، وقال تعالى: * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنآ أعمالنا ولكم
أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين) * وما ذكره تعالى هنا من أن إبراهيم لما أقنع أباه بالحجة القاطعة، قابله أبوه بالعنف والشدة بين في مواضع أخر أنه هو عادة الكفار المتعصبين لأصنامهم، كلما أفحموا بالحجة القاطعة لجؤوا إلى استعمال القوة، كقوله تعالى عن إبراهيم لما قال له الكفار عن أصنامهم: * (لقد علمت
427

ما هاؤلاء ينطقون) * قال * (أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) * فلما أفحمهم بهذه الحجة لجؤوا إلى القوة، كما قال تعالى عنهم: * (قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين) *. ونظيره قوله تعالى عن قوم إبراهيم: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار) *، وقوله عن قوم لوط لما أفحمهم بالحجة: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا ءال لوط من قريتكم) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: * (سلام عليك) * يعني لا ينالك مني أذى ولا مكروه، بل ستسلم مني فلا أوذيك. وقوله: * (سأستغفر لك ربي) * وعد من إبراهيم لأبيه باستغفاره له، وقد وفى بذلك الوعد، كما قال تعالى عنه: * (واغفر لابى إنه كان من الضآلين) *، وكما قال تعالى عنه: * (ربنا اغفر لى ولوالدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) *.
ولكن الله بين له أنه عدو لله تبرأ منه، ولم يستغفر له بعد ذلك، كما قال تعالى: * (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) *، وقد قال تعالى: * (وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه) * والموعدة المذكورة هي قوله هنا * (سأستغفر لك ربي) * الآية. ولما اقتدى المؤمنون بإبراهيم فاستغفروا لموتاهم المشركين، واستغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب أنزل الله فيهم * (ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) *. ثم قال: * (وما كان استغفار إبراهيم لابيه) *. وبين في سورة (الممتحنة) أن الاستغفار للمشركين مستثنى من الإسوة بإبراهيم، والإسوة الاقتداء، وذلك في قوله تعالى: * (قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا) * إلى قوله * (إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك) *، أي فلا أسوة لكم في إبراهيم في ذلك. ولما ندم المسلمون على استغفارهم للمشركين حين قال فيهم: * (ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين) * بين الله تعالى أنهم معذورون في ذلك. لأنه لم يبين لهم منع ذلك قبل فعله، وذلك في قوله: * (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) *.
وقوله في هذه الآية: * (أراغب أنت عن آلهتى) * يجوز فيه أن يكون (راغب) خبرا
428

مقدما، و (أنت) مبتدأ مؤخرا، وأن يكون (أراغب) مبتدأ و (أنت) فاعل سد مسد الخبر. ويترجح هذا الإعراب الأخير على الأول من وجهين: الأول أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير. والأصل في الخبر التأخير كما هو معلوم. الوجه الثاني هو ألا يكون فصل بين العامل الذي هو (أراغب) وبين معمولة الذي هو (عن آلهتي) بما ليس بمعمول للعامل. لأن الخبر ليس هو عاملا في المبتدأ، بخلاف كون (أنت) فاعلا. فإنه معمول (أراغب) فلم يفصل بين (أراغب) وبين (عن آلهتي) بأجنبي، وإنما فصل بينهما بمعمول المبتدأ الذي هو فاعله الساد مسد خبره. والرغبة عن الشيء: تركه عمدا المزهد فيه، وعدم الحاجة إليه، وقد قدمنا في سورة (النساء) الفرق بين قولهم: رغب عنه، وقولهم: رغب فيه في الكلام على قوله تعالى: * (وترغبون أن تنكحوهن) *. والتحقيق في قوله (مليا) أن المراد به الزمن الطويل ومنه قول مهلهل: وترغبون أن تنكحوهن) *. والتحقيق في قوله (مليا) أن المراد به الزمن الطويل ومنه قول مهلهل:
* فتصدعت صم الجبال لموته
* وبكت عليه المرملات مليا
*
وأصله واوي اللام. لأنه من الملاوة وهي مدة العيش. ومن ذلك قيل الليل والنهار. الملوان: ومنه قول ابن مقبل: وأصله واوي اللام. لأنه من الملاوة وهي مدة العيش. ومن ذلك قيل الليل والنهار. الملوان: ومنه قول ابن مقبل:
* ألا يا ديار الحي بالسبعان
* أمل عليها بالبلي الملوان
*
وقول الآخر: وقول الآخر:
* نهار وليل دائم ملواهما
* على كل حال المرء يختلفان
*
وقيل الملوان في بيت ابن مقبل: طرفا النهار. وقوله * (إنه كان بى حفيا) * أي لطيفا بي. كثير الإحسان إلي. وجملة * (واهجرنى) * عطف على جملة * (لئن لم تنته لأرجمنك) * وذلك دليل على جواز عطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس: لئن لم تنته لأرجمنك) * وذلك دليل على جواز عطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس:
* وإن شفائي عبرة إن سفحتها
* وهل عند رسم دارس من معول
*
فجملة (وإن شفائي) خبرية، وجملة (وهل عند رسم) الخ إنشائية معطوفة عليها. وقول الآخر أيضا: فجملة (وإن شفائي) خبرية، وجملة (وهل عند رسم) الخ إنشائية معطوفة عليها. وقول الآخر أيضا:
* تناغي غزالا عند باب ابن عامر
* وكحل مآقيك الحسان بإثمد
*
وهذا هو الظاهر كما قاله أبو حيان عن سيبويه. وقال الزمخشري في الكشاف: فإن
429

قلت: علام عطف * (واهجرنى) * قلت على معطوف عليه محذوف يدل عليه (لأرجمنك) أي فاحذرني واهجرني. لأن * (لأرجمنك) * تهديد وتقريع طا ه. قوله تعالى: * (واذكر فى الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا) *. اعلم أن في قوله (مخلصا) قراءتين سبعيتين: قرأه عاصم وحمزة والكسائي بفتح اللام بصيغة اسم المفعول، والمعنى على هذه القراءة أن الله استخلصه واصطفاه: ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: * (قال ياموسى إنى اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) *. ومما يماثل هذه القراءة في القرآن قوله تعالى: * (إنآ أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) * فالذين أخلصهم الله هم المخلصون بفتح اللام، وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (مخلصا) بكسر اللام بصيغة اسم الفاعل. كقوله تعالى: * (ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) *، وقوله تعالى: * (قل الله أعبد مخلصا له دينى) *.
* (وناديناه من جانب الطور الا يمن وقربناه نجيا * ووهبنا له من رحمتنآ أخاه هارون نبيا * واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا * وكان يأمر أهله بالصلواة والزكواة وكان عند ربه مرضيا * واذكر فى الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا * ورفعناه مكانا عليا * أولائك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية ءادم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسراءيل وممن هدينا واجتبينآ إذا تتلى عليهم ءايات الرحمان خروا سجدا وبكيا * فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلواة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا * إلا من تاب وءامن وعمل صالحا فأولائك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا * جنات عدن التى وعد الرحمان عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا * لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا * تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا * وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذالك وما كان ربك نسيا * رب السماوات والا رض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا * ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا * أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) * قوله تعالى: * (وناديناه من جانب الطور الا يمن وقربناه نجيا) *. قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: يقول تعالى ذكره: ونادينا موسى من ناحية الجبل. ويعني بالأيمن يمين موسى. لأن الجبل لا يمين له ولا شمال، وإنما ذلك كما يقال: قام عن يمين القبلة وعن شمالها، وهذه القصة جاءت مبينة في مواضع متعددة من كتاب الله تعالى. وذلك أن موسى لما قضى الأجل الذي بينه وبين صهره، وسار بأهله راجعا من مدين إلى مصر آنس من جانب الطور نارا، فذهب إلى تلك النار ليجد عندها من يدله على الطريق، وليأتي بجذوة منها ليوقد بها النار لأهله ليصطلوا بها. فناداه الله وأرسله إلى فرعون، وشفعه في أخيه هارون فأرسله معه، وأراه في ذلك الوقت معجزة العصا واليد ليستأنس بذلك قبل حضوره عند فرعون. لأنه لما رأى العصا في المرة الأولى صارت ثعبانا ولى مدبرا ولم يعقب. فلو فعل ذلك عندما انقلبت ثعبانا لما طالبه فرعون وقومه بآية لكان غير ذلك لائق، ولأجل هذا مرن عليها في أول مرة ليكون مستأنسا غير خائف منها حين تصير ثعبانا مبينا قال تعالى في سورة (طه): * (وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لاهله امكثوا إنىءانست نارا لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى فلمآ أتاها نودى ياموسى إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى لا تركضوا وارجعوا إلى مآ إننى أنا الله لا إلاه إلا أنا فاعبدنى وأقم
430

الصلواة لذكرى) *، وقوله: * (وناديناه من جانب الطور الا يمن) * هو معنى قوله في (طه): * (فلمآ أتاها نودى ياموسى إنى أنا ربك) *.
وقوله * (بقبس) * أي شهاب. بدليل قوله في (النمل): * (أو ءاتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون) * وذلك هو المراد بالجذوة في قوله: * (أو جذوة من النار) *، وقوله: * (أو أجد على النار هدى) * أي من يهديني إلى الطريق ويدلني عليها. لأنهم كانوا ضلوا الطريق، والزمن زمن برد، وقوله: * (ءانست نارا) * أي أبصرتها. وقوله: * (فاخلع نعليك) * قال بعض العلماء: لأنهما كانتا من جلد حمار غير ذكي، ويروى هذا عن كعب وعكرمة وقتادة، نقله عنهم القرطبي وغيره. وروي أيضا عن علي والحسن والزهري كما رواه عنهم صاحب الدر المنثور، ونقله ابن كثير عن علي وأبي أيوب وغير واحد من السلف. ويروى هذا القول عن غير من ذكر. وجاء فيه حديث مرفوع من حديث عبد الله بن مسعود رواه الترمذي وغيره ولا يصح. وفيه أقوال أخر للعلماء غير ذلك. وأظهرها عندي والله تعالى أعلم: أن الله أمره بخلع نعليه أن نزعهما من قدميه ليعلمه التواضع لربه حين ناداه، فإن نداء الله لعبده أمر عظيم، يستوجب من العبد كمال التواضع والخضوع. والله تعالى أعلم. وقول من قال: إنه أمر بخلعهما احتراما للبقعة يدل له أنه أتبع أمره بخلعهما بقوله: * (إنك بالواد المقدس طوى) * وقد تقرر في (مسك الإيماء والتنبيه): أن (إن) من حروف التعليل. وأظهر الأقوال في قوله (طوى): أنه اسم للوادي، فهو يدل من الوادي أو عطف بيان. وفيه أقوال أخر غير ذلك. وقوله: * (وأنا اخترتك) * أي اصطفيتك برسالتي، كقوله: * (إنى اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) * ومعنى الاستعلاء في قوله: * (آتيكم منها بقبس أو أجد على النار) * أن
المصطلين بالنار يستعلون المكان القريب منها. ونظير ذلك من كلام العرب قول الأعشى: آتيكم منها بقبس أو أجد على النار) * أن المصطلين بالنار يستعلون المكان القريب منها. ونظير ذلك من كلام العرب قول الأعشى:
* تشب لمقرورين يصطليانها
* وبات على النار الندى والمحلق
*
قال تعالى في سورة (النمل): * (وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم إذ قال موسى لاهله إنى آنست نارا سأاتيكم منها بخبر أو ءاتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جآءها نودى أن بورك من فى النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم) *. فقوله في (النمل): * (فلما جآءها نودى) *
431

هو معنى قوله في (مريم): * (وناديناه من جانب الطور الا يمن) *. وقوله في (طه): * (فلمآ أتاها نودى ياموسى) *، وقوله: * (سأاتيكم منها بخبر) * هو معنى قوله في (طه): * (أو أجد على النار هدى) * أي من يدلني على الطريق فيخبرني عنها فآتيكم بخبره عنها. وقال تعالى في سورة (القصص): * (فلما قضى موسى الا جل وسار بأهله ءانس من جانب الطور نارا قال لاهله امكثوا إنىءانست نارا لعلى ءاتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلمآ أتاها نودى من شاطىء الوادى الأيمن فى البقعة المباركة من الشجرة) *. فالنداء في هذه الآية هو المذكورة في (مريم)، وطه. والنمل) وقد بين هنا أنه نودي من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة. فدلت الآيات على أن الشجرة التي رأى فيها النار عن يمين الجبل الذي هو الطور، وفي يمين الوادي المقدس الذي هو طوى على القول بأن طوى اسم له. وقد قدمنا قول ابن جرير: أن المراد يمين موسى. لأن الجبل ومثله الوادي لا يمين له ولا شمال. وقال ابن كثير في قوله * (نودى من شاطىء الوادى الأيمن) * أي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب. كما قال تعالى: * (وما كنت بجانب الغربى إذ قضينآ إلى موسى الا مر) * فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة والجبل الغربي عن يمينه ا ه منه وهو معنى قوله: * (وناديناه من جانب الطور الا يمن) *، وقوله: * (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) *.
والنداء المذكور في جميع الآيات المذكورة نداء الله له. فهو كلام الله أسمعه نبيه موسى. ولا يعقل أنه كلام مخلوق، ولا كلام خلقه الله في مخلوق كما يزعم ذلك بعض الجهلة الملاحدة. إذ لا يمكن أن يقول غير الله: * (إنه أنا الله العزيز الحكيم) *، ولا أن يقول: * (إننى أنا الله لا إلاه إلا أنا فاعبدنى) * ولو فرض أن الكلام المذكور قاله مخلوق افتراء على الله، كقول فرعون * (أنا ربكم الا على) * على سبيل فرض المحال فلا يمكن أن يذكره الله في معرض أنه حق وصواب.
فقوله: * (إننى أنا الله لا إلاه إلا أنا فاعبدنى) *، وقوله: * (إنه أنا الله العزيز الحكيم) * صريح في أن الله هو المتكلم بذلك صراحة لا تحتمل غير ذلك. كما هو معلوم عند من له أدنى معرفة بدين الإسلام.
432

وقوله تعالى: * (من شاطىء الوادى الأيمن فى البقعة المباركة من الشجرة) * قال الزمخشري في الكشاف: (من) الأولى والثانية لابتداء الغاية. أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة و * (من الشجرة) * بدل من قوله * (من شاطىء الوادى) * بدل اشتمال. لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ. كقوله: * (لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم) *.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: * (نودى من شاطىء الوادى الأيمن) *: قال المهدوي: وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه، وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء انتهى منه. وشاطىء الوادي جانبه. وقال بعض أهل العلم: معنى (الأيمن) في قوله: * (من شاطىء الوادى الأيمن) *. وقوله: * (وناديناه من جانب الطور الا يمن) * من اليمن وهو البركة. لأن تلك البلاد بارك الله فيها. وأكثر أهل العلم على أن النار التي رآها موسى (نور) وهو يظنها نارا. وفي قصته أنه رأى النار تشتعل فيها وهي لا تزداد إلا خضرة وحسنا. قيل هي شجرة عوسج. وقيل شجرة عليق. وقيل شجرة عناب. وقيل سمرة. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى في سورة (النمل): * (فلما جآءها نودى أن بورك من فى النار ومن حولها) * اختلفت عبارات المفسرين في المراد ب * (من فى النار) * في هذه الآية في سورة (النمل) فقال بعضهم: هو الله جل وعلا، وممن روي عنه هذا القول: ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب قالوا: (بورك من في النار) أي تقدس الله وتعالى. وقالوا: كان نور رب العالمين في الشجرة. واستدل من قال بهذا القول بحديث أبي موسى الثابت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل. حجا به النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول بعيد من ظاهر القرآن. ولا ينبغي أن يطلق على الله أنه في النار التي في الشجرة. سواء قلنا: إنها نار أو نور، سبحانه جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلالها وتأويل ذلك ب * (من فى النار) * سلطانه وقدرته لا يصح. لأن صرف كتاب الله عن ظاهره المتبادر منه لا يجوز إلا بدليل يجب الرجوع
433

إليه من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وبه تعلم أن قول أبي حيان في (البحر المحيط): قال ابن عباس، وابن جبير، والحسن وغيرهم: أراد بمن في النار ذاته. وعبر بعضهم بعبارات شنيعة مردودة بالنسبة إلى الله تعالى. وإذا أثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف. أي بورك من قدرته وسلطانه في النار ا ه
أنه أصاب في تنزيهه لله عن تلك العبارات، ولم يصب فيما ذكر من التأويل. والله أعلم. وقال بعضهم: إن معنى * (بورك من فى النار) * أي بوركت النار لأنها نور. وبعده عن ظاهر القرآن واضح كما ترى. وقال بعضهم: أن * (بورك من فى النار) * أي بوركت الشجرة التي تتقد فيها النار. وبعده عن ظاهر القرآن أيضا واضح كما ترى. وإطلاق لفظة (من) على الشجرة وعلى ما في النار من أمر الله غير مستقيم في لغة العرب التي نزل بها القرآن العظيم كما ترى.
وأقرب الأقوال في معنى الآية إلى ظاهر القرآن العظيم قول من قال: إن في النار التي هي نور ملائكة وحولها ملائكة وموسى. وأن معنى * (بورك من فى النار) * أي الملائكة الذين هم في ذلك النور ومن حولها. أي وبورك الملائكة الذين هم حولها، وبورك موسى لأنه حولها معهم. وممن يروى عنه هذا: السدي. وقال الزمخشري (في الكشاف): ومعنى أن * (بورك من فى النار ومن حولها) * بورك من في مكان النار ومن حول مكانها، ومكانها البقعة التي حصلت فيها، وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: * (أتاها نودى من شاطىء الوادى الأيمن فى البقعة المباركة) * وتدل عليه قراءة أبي (أن تباركت النار ومن حولها). وعنه (بوركت النار).
وقال القرطبي رحمه الله في قوله * (أن بورك من فى النار) *: وهذا تحية من الله لموسى، وتكرمة له كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا إليه قال: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت. وقوله * (من فى النار) * نائب فاعل (بورك) والعرب تقول: باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك. فهي أربع لغات. قال الشاعر: من فى النار) * نائب فاعل (بورك) والعرب تقول: باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك. فهي أربع لغات. قال الشاعر:
* فبوركت مولودا وبوركت ناشئا
* وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
*
وقال أبو طالب بن عبد المطلب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية:
434

وقال أبو طالب بن عبد المطلب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية:
* ليت شعري مسافر بن أبي عم
* ر وليت يقولها المحزون
*
* بورك الميت الغريب كما
* بورك نبع الرمان والزيتون
*
وقال آخر:
* فبورك في بنيك وفي بنيهم
* إذا ذكروا ونحن لك للفداء
*
والآيات في هذه القصة الدالة على أنه أراه آية اليد والعصا ليتمرن على ذلك قبل حضوره عند فرعون وقومه، وأنه ولى مدبرا خوفا منها في المرة الأولى لما صارت ثعبانا جاءت في مواضع متعددة. كقوله تعالى في سورة (طه): * (قال ألقها ياموسى فألقاها فإذا هى حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الا ولى واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضآء من غير سوء ءاية أخرى) *. فقوله * (ولا تخف) * يدل على أنه فزع منها لما صارت ثعبانا مبينا. كما جاء مبينا في (النمل والقصص). وقوله في آية (طه) هذه * (من غير سوء) * أي من غير برص. وفيه ما يسميه البلاغيون احتراسا، وكقوله تعالى في سورة (النمل): * (ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جآن ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى لا تخف إنى لا يخاف لدى المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضآء من غير سوء) *. وقوله في (القصص): * (وأن ألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جآن ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الا منين اسلك يدك فى جيبك تخرج بيضآء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين) *. والبرهانان المشار إليهما بقوله * (فذانك برهانان) * هما اليد والعصا. فلما تمرن موسى على البرهانين المذكورين، وبلغ الرسالة هو وأخوه إلى فرعون وملئه طالبوه بآية تدل على صدقه فجاءهم بالبرهانين المذكورين، ولم يخف من الثعبان الذي صارت العصا إياه كما قال تعالى: * (قال أولو جئتك بشىء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين ونزع يده فإذا هى بيضآء للناظرين) * ونحوها من الآيات.
وقوله في (النمل، والقصص): * (ولم يعقب) * أي لم يرجع من فراره منها. يقال: عقب الفارس إذا كر بعد الفرار. ومنه قوله:
435

وقوله في (النمل، والقصص): * (ولم يعقب) * أي لم يرجع من فراره منها. يقال: عقب الفارس إذا كر بعد الفرار. ومنه قوله:
* فما عقبوا إذ قيل هل من معقب
* ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
*
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وقربناه نجيا) * أي قرب الله موسى في حال كونه نجيا. أي مناجيا لربه. وإتيان الفعيل بمعنى الفاعل كثير كالعقيد والجليس. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: روى ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى هو القطان، حدثنا سفيان عن عطاء بن يسار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس * (وقربناه نجيا) * قال: أدنى حتى سمع صريف القلم. وهكذا قال مجاهد وأبو العالية وغيرهم. يعنون صريف القلم بكتابة التوراة. وقال السدي * (وقربناه نجيا) * قال: أدخل في السماء فكلم. وعن مجاهد نحوه. وقال عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة * (وقربناه نجيا) * قال نجيا بصدقه ا ه محل الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى.
وقوله تعالى في طه: * (اشدد به أزرى) * أي قوني به. والأزر: القوة. وآزره: أي قواه. وقوله في القصص: * (سنشد عضدك بأخيك) * أي سنقويك به. وذلك لأن العضد هو قوام اليد، وبشدتها تشتد اليد، قال طرفة: سنشد عضدك بأخيك) * أي سنقويك به. وذلك لأن العضد هو قوام اليد، وبشدتها تشتد اليد، قال طرفة:
* أبني لبيني لستمو بيد
* إلا يدا ليست لها عضد
*
وقوله * (ردءا) * أي معينا، لأن الردء اسم لكل ما يعان به، ويقال ردأته أي أعنته. قوله تعالى: * (ووهبنا له من رحمتنآ أخاه هارون نبيا) *. معنى الآية الكريمة: أن الله وهب لموسى نبوة هارون. والمعنى أنه سأله ذلك فآتاه سؤله. وهذا المعنى أوضحه تعالى في آيات أخر، كقوله في سورة (طه) عنه: * (واجعل لى وزيرا من أهلى هارون أخى اشدد به أزرى وأشركه فى أمرى) * إلى قوله * (قال قد أوتيت سؤلك ياموسى) *، وقوله في (القصص): * (قال رب إنى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخى هرون هو أفصح منى لسانا فأرسله معى ردءا يصدقنى إنى أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بأاياتنآ أنتما ومن اتبعكما الغالبون) *، وقوله في سورة (الشعراء): * (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون قال رب إنى
436

أخاف أن يكذبون ويضيق صدرى ولا ينطلق لسانى فأرسل إلى هارون ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بأاياتنآ إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين) * فهذه الآيات تبين أنه سأل ربه أن يرسل معه أخاه، فأجاب ربه جل وعلا سؤاله في ذلك. وذلك يبين أن الهبة في قوله: * (ووهبنا) * هي في الحقيقة واقعة على رسالته لا على نفس هارون، لأن هارون أكبر من موسى، كما قاله أهل التاريخ. قوله تعالى: * (واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا) *. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يذكر في الكتاب وهو هذا القرآن العظيم (جده إسماعيل)، وأثنى عليه أعني إسماعيل بأنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا. ومما يبين من القرآن شدتة صدقه في وعده: أنه وعد أباه بصبره له على ذبحه ثم وفى بهذا الوعد. ومن وفى بوعده في تسليم نفسه للذبح فإن ذلك من أعظم الأدلة على عظيم صدقه في وعده. قال تعالى: * (فلما بلغ معه السعى قال يابنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شآء الله من الصابرين) * فهذا وعده. وقد بين تعالى وفاءه به في قوله: * (فلما أسلما وتله للجبين) *. والتحقيق أن الذبيح هو إسماعيل. وقد دلت على ذلك آيتان من كتاب الله تعالى دلالة واضحة لا لبس فيها. وسنوضح ذلك إن شاء الله غاية الإيضاح في سورة (الصافات). وثناؤه جل وعلا في هذه الآية الكريمة على نبيه إسماعيل بصدق الوعد يفهم من دليل خطابه أعني مفهوم مخالفته أن إخلاف الوعد مذموم. وهذا المفهوم قد جاء مبينا في مواضع أخر من كتاب الله تعالى. كقوله تعالى: * (فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا) * وقوله: * (ياأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * إلى غير ذلك من الآيات. وفي الحديث: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان).
وقوله تعالى في هذه الآية: * (وكان يأمر أهله بالصلواة والزكواة) *، قد بين في مواضع أخر أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك الذي أثنى الله به على جده إسماعيل، كقوله تعالى: * (وأمر أهلك بالصلواة واصطبر عليها) *. ومعلوم أنه امتثل
437

هذا الأمر. وكقوله: * (ياأيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) *. ويدخل في ذلك أمرهم أهليهم بالصلاة والزكاة. إلى غير ذلك من الآيات.
مسألة
اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد. فقال بعضهم: يلزم الوفاء به مطلقا. وقال بعضهم: لا يلزم مطلقا. وقال بعضهم: إن أدخله بالوعد في ورطة لزم الوفاء به، وإلا فلا. ومثاله ما لو قال له: تزوج. فقال له: ليس عندي ما أصدق به الزوجة. فقال: تزوج والتزم لها الصداق وأنا أدفعه عنك، فتزوج على هذا الأساس، فإنه قد أدخله بوعده في ورطة التزام الصداق. واحتج من قال يلزمه: بأدلة منها آيات من كتاب الله دلت بظواهر عمومها على ذلك وبأحاديث. فالآيات كقوله تعالى: * (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) *، وقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود) *، وقوله تعالى: * (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الا يمان بعد توكيدها) *، وقوله هنا: * (إنه كان صادق الوعد) *، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث كحديث (العدة دين) فجعلها دينا دليل على لزومها. قال صاحب كشف
الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: (العدة دين، رواه الطبراني في الأوسط والقضاعي وغيرهما عن ابن مسعود بلفظ قال: لا يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العدة دين) ورواه أبو نعيم عنه بلفظ: إذا وعد أحدكم صبيه فلينجز له: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكره بلفظ (عطية) ورواه البخاري في الأدب المفرد موقوفا، ورواه الطبراني والديلمي عن علي مرفوعا بلفظ: العدة دين. ويل لمن وعد ثم أخلف. ويل له..) ثلاثا. ورواه القضاعي بلفظ الترجمة فقط. والديلمي أيضا بلفظ: (الوعد بالعدة مثل الدين أو أشد) أي وعد الواعد. وفي لفظ له (عدة المؤمن دين. وعدة المؤمن كالأخذ باليد). وللطبراني في الأوسط عن قياث بن أشيم الليثي مرفوعا: (العدة عطية). وللخرائطي في المكارم عن الحسن البصري مرسلا: أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلم تجد عنده، فقالت: عدني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العدة عطية) وهو في مراسيل أبي داود. وكذا في الصمت لابن أبي الدنيا عن الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العدة عطية). وفي رواية لهما عن الحسن أنه قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فقال: (ما عندي ما أعطيك) قال: في المقاصد بعد ذكر الحديث وطرقه: وقد أفردته مع
438

ما يلائمه بجزء انتهى منه. وقد علم في الجامع الصغير على هذا الحديث من رواية علي عند الديلمي في مسند الفردوس بالضعف.
وقال شارحه المناوي: وفيه دارم بن قبيصة، قال الذهبي: لا يعرف ا ه. ولكن قد مر لك أن طرقه متعددة. وقد روي عن غير علي من الصحابة كما قدمنا روايته عن ابن مسعود، وقياث بن أشيم الكناني الليثي رضي الله عنهما. وسيأتي في هذا المبحث إن شاء الله أحاديث صحيحة، دالة على الوفاء بالوعد.
واحتج من قال: بأن الوعد لا يلزم الوفاء به بالإجماع على أن من وعد رجلا بمال إذا فلس الواعد لا يضرب للموعود بالوعد مع الغرماء، ولا يكون مثل ديونهم اللازمة بغير الوعد، حكى الإجماع على هذا ابن عبد البر. كما نقله عنه القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة، وفيه مناقشة. وحجة من فرق بين إدخاله إياه في ورطة بالوعد فيلزم. وبين عدم إدخاله إياه فيها فلا يلزم أنه إذا أدخله في ورطة بالوعد ثم رجع في الوعد وتركه في الورطة التي أدخله فيها. فقد أضر به. وليس للمسلم أن يضر بأخيه، الحديث (لا ضرر ولا ضرار).
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال مالك: إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه، قال مالك: ولو كان ذلك في قضاءه دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي وسائر الفقهاء إن العدة لا يلزم منها شيء، لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. وفي البخاري: * (واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد) * وقضى ابن أشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندي، قال البخاري: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع ا ه كلام القرطبي. وكلام البخاري الذي ذكر القرطبي بعضه، هو قوله في آخر الكتاب (الشهادات): باب من أمر بإنجاز الوعد، وفعله الحسن وذكر في إسماعيل إنه كان صادق الوعد، وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة وقال المسور بن مخرمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر صهرا له، قال وعدني فوفى لي، قال أبو عبد الله: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع: حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا
439

إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله: أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره قال أخبرني أبو سفيان: أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم. فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال: وهذه صفة نبي. حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف). حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو كانت له قبله عدة فليأتنا. قال جابر: فقلت وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرات. قال جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة. حدثنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير: قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس، قال: قضى أكثرهما وأطيبهما. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل انتهى من صحيح البخاري. وقوله في ترجمة الباب المذكور (وفعله الحسن) يعني الأمر بإنجاز الوعد. ووجه احتجاجه بآية * (إنه كان صادق الوعد) * أن الثناء عليه بصدق الوعد يفهم منه أن إخلافه مذموم فاعله، فلا يجوز. وابن الأشوع المذكور هو سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي، كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وقد وقع بيان روايته المذكورة عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه وهو إسحاق بن إبراهيم الذي ذكر البخاري أنه رآه يحتج بحديث ابن أشوع، كما قاله ابن حجر في (الفتح). والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد. وصهر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أثنى عليه بوفائه له بالوعد هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسره المسلمون يوم بدر كافرا، وقد وعده برد ابنته زينب إليه وردها إليه. خلافا لمن زعم أن الصهر المذكور أبو بكر رضي الله عنه. وقد ذكر البخاري في الباب المذكور أربعة أحاديث في كل واحد منها دليل على الوفاء بإنجاز الوعد.
الأول حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل وهو طرف من حديث صحيح
440

مشهور. ووجه الدلالة منه في قوله: (فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة) فإن جميع المذكورات في هذا الحديث مع الوفاء بالعهد كلها واجبة، وهي الصلاة والصدق والعفاف وأداء الأمانة. وقد ذكر بعد ذلك أن هذه الأمور صفة نبي والاقتداء بالأنبياء واجب.
الثاني حديث أبي هريرة في آية المنافق. ومحل الدليل منه قوله (وإذا وعد أخلف) فكون إخلاف الوعد من علامات المنافق يدل على أن المسلم لا يجوز له أن يتسم بسمات المنافقين.
الثالث حديث جابر في قصته مع أبي بكر. ووجه الدلالة منه أن أبا بكر قال: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبلة عدة.. الحديث. فجعل العدة كالدين، وأنجز لجابر ما وعده النبي صلى الله عليه وسلم من المال: فدل ذلك على الوجوب.
الرابع حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى: ووجه الدلالة منه أنه قضى أطيبهما وأكثرهما، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل. فعلى المؤمنين الاقتداء بالرسل، وأن يفعلوا إذا قالوا. وفي الاستدلال بهذه الأحاديث مناقشات من المخالفين. ومن أقوى الأدلة في الوفاء بالعهد قوله تعالى: * (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * لأن المقت الكبير من الله على عدم الوفاء بالقول يدل على التحريم الشديد في عدم الوفاء به. وقال ابن حجر في (الفتح) في الكلام على ترجمة الباب المذكورة قال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض: لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء ا ه. ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل: وقال ابن عبد البر وابن العربي أجل من قال به عمر بن العزيز انتهى محل الغرض من كلام الحافظ في الفتح، وقال أيضا: وخرج بعضهم الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في الهبة، هل تملك بالقبض أو قبله.
فإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة. وما استدل به كل فريق منهم فاعلم أن الذي يظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم: أن إخلاف الوعد لا يجوز، لكونه من علامات المنافقين، ولأن الله يقول: * (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به ولا يلزم به جبرا. بل يؤمر به ولا يجبر عليه. لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر على الوفاء به لأنه وعد بمعروف محض. والعلم عند الله تعالى
441

. قوله تعالى: * (أولائك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية ءادم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسراءيل وممن هدينا واجتبينآ إذا تتلى عليهم ءايات الرحمان خروا سجدا وبكيا) *. الإشارة في قوله * (أولائك) * راجعة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة الكريمة. وقد بين الله هنا أنه أنعم عليهم واجتباهم وهداهم. وزاد على هذا في سورة (النساء) بيان جميع من أنعم عليهم من غير الأنبياء في قوله: * (ومن يطع الله والرسول فأولائك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وحسن أولائك رفيقا) *. وبين في سورة الفاتحة: أن صراط الذين أنعم عليهم غير صراط المغضوب عليهم ولا الضالين في قوله: * (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) *. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: قال السدي وابن جرير رحمهما الله: فالذي عنى به من ذرية آدم: (إدريس). والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح: (إبراهيم). والذي عنى به من ذرية إبراهيم: (إسحاق ويعقوب وإسماعيل). والذي عنى به من ذرية إسرائيل: (موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم). قال ابن جرير: ولذلك فرق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم، لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس فإنه جد نوح.
قلت: هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقد قيل: إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذا من حديث الإسراء حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم: مرحبا بالنبي الصالح، والأخ الصالح، ولم يقل والولد الصالح، كما قال آدم وإبراهيم عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام انتهى الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى.
وقال ابن كثير أيضا في تفسير هذه الآية الكريمة: يقول تعالى هؤلاء النبييون، وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط. بل جنس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس، إلى أن قال في آخر كلامه: ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة (الأنعام): * (وتلك حجتنآ ءاتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشآء إن ربك حكيم عليم) * * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان) * إلى قوله * (أولائك الذين هدى الله فبهداهم
442

اقتده) * ا ه. وقد قال تعالى في صفة هؤلاء المذكورين في (الأنعام): * (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) *. كما قال في صفة هؤلاء المذكورين في سورة (مريم) * (حسابه والله سريع) *.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (إذا تتلى عليهم ءايات الرحمان خروا سجدا وبكيا) * بين فيه أن هؤلاء الأنبياء المذكورين إذا تتلى عليهم آيات ربهم بكوا وسجدوا. وأشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر بالنسبة إلى المؤمنين لا خصوص الأنبياء، كقوله تعالى: * (قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للا ذقان سجدا ويقولون سبحان ربنآ إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للا ذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) *، وقوله: * (وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) *، وقوله تعالى: * (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا) *، وقوله تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) *. فكل هذه الآيات فيها الدلالة على أنهم إذا سمعوا آيات ربهم تتلى تأثروا تأثرا عظيما، يحصل منه لبعضهم البكاء والسجود. ولبعضهم قشعريرة الجلد ولين القلوب والجلود، ونحو ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (وبكيا) * جمع باك. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية من سورة (مريم) فسجد وقال: هذا السجود،
فأين البكى؟ يريد البكاء. وهذا الموضع من عزائم السجود بلا خلاف بين العلماء في ذلك. قوله تعالى: * (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلواة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وءامن وعمل صالحا فأولائك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا) *. الضمير في قوله (من بعدهم) راجع إلى النبيين المذكورين في قوله تعالى: * (أولائك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية ءادم وممن حملنا مع نوح) *. أي فخلف من بعد أولئك النبيين خلف، أي أولاد سوء. قال القرطبي رحمه الله في تفسير سورة (الأعراف) قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام: الأولاد، الواحد والجمع فيه سواء. والخلف بفتح اللام البدل ولدا كان أو غريبا. وقال ابن والأعرابي: الخلف بالفتح الصالح. وبالسكون: الطالح.
443

قال لبيد: أولائك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية ءادم وممن حملنا مع نوح) *. أي فخلف من بعد أولئك النبيين خلف، أي أولاد سوء. قال القرطبي رحمه الله في تفسير سورة (الأعراف) قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام: الأولاد، الواحد والجمع فيه سواء. والخلف بفتح اللام البدل ولدا كان أو غريبا. وقال ابن والأعرابي: الخلف بالفتح الصالح. وبالسكون: الطالح. قال لبيد:
* ذهب الذين يعاش في أكنافهم
* وبقيت في خلف كجلد الأجرب
*
ومنه قيل للرديء من الكلام: خلف. ومنه المثل السائر (سكت ألفا ونطق خلفا). فخلف في الذم بالإسكان، وخلف بالفتح في المدح. هذا هو المستعمل المشهور. قال صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له) وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
* لنا القدم الأولى إليك وخلفنا
* لأولنا في طاعة الله تابع
*
وقال آخر: وقال آخر:
* إنا وجدنا خلفا بئس الخلف
* أغلق عنا بابه ثم حلف
*
* لا يدخل البواب إلا من عرف
* عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
*
ويروى خلف، أي ردم انتهى منه. والردم: الضراط.
ومعنى الآية الكريمة: أن هذا الخلف السئ الذي خلف من بعد أولئك النبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة: أنهم أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات. واختلف أهل العلم في المراد بإضاعتهم الصلاة، فقال بعضهم: المراد بإضاعتها تأخيرها عن وقتها. وممن يروى عنه هذا القول ابن مسعود، والنخعي، والقاسم بن مخيمرة، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: إن هذا القول هو الصحيح. وقال بعضهم: إضاعتها الإخلال بشروطها، وممن اختار هذا القول الزجاج، وقال بعضهم: المراد بإضاعتها جحد وجوبها. ويروى هذا القول وما قبله عن محمد بن كعب القرظي، وقيل: إضاعتها في غير الجماعات. وقيل: إضاعتها تعطيل المساجد، والاشتغال بالصنائع والأسباب.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وكل هذه الأقوال تدخل في الآية. لأن تأخيرها عن وقتها، وعدم إقامتها في الجماعة، والإخلال بشروطها، وجحد وجوبها، وتعطيل المساجد منها كل ذلك إضاعة لها، وإن كانت أنواع الإضاعة تتفاوت، واختلف العلماء أيضا في الخلف المذكورين من هم؟ فقيل: هم اليهود. ويروى عن ابن عباس ومقاتل. وقيل: هم اليهود والنصارى، ويروى عن السدي. وقيل: هم قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأتون عند ذهاب الصالحين منها، يركب بعضهم بعضا في الأزقة زنى. ويروى عن مجاهد وعطاء وقتادة ومحمد بن كعب القرظي. وقيل: إنهم البربر، وقيل: إنهم أهل الغرب. وفيهم
444

أقوال أخر.
قال مقيده عفا الله عنه: وكونهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس بوجيه عندي. لأن قوله تعالى: * (فخلف من بعدهم) * صيغة تدل على الوقوع في الزمن الماضي، ولا يمكن صرفها إلى المستقبل إلا بدليل يجب الرجوع إليه كما ترى. والظاهر أنهم اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين خلفوا أنبياءهم وصالحيهم قبل نزول الآية، فأضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وعلى كل حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات يدخلون في الذم والوعيد المذكور في هذه الآية، واتباع الشهوات المذكور في الآية عام في اتباع كل مشتهى يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن علي رضي الله عنه: من بني
المشيد، وركب المنظور، ولبس المشهور فهو ممن اتبع الشهوات.
وقوله تعالى: * (فسوف يلقون غيا) *.
اعلم أولا أن العرب تطلق الغي على كل شر. والرشاد على كل خير. قال المرقش الأصغر: اعلم أولا أن العرب تطلق الغي على كل شر. والرشاد على كل خير. قال المرقش الأصغر:
* فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره
* ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
*
فقوله (ومن يغو) يعني ومن يقع في شر. والإطلاق المشهور هو أن الغي الضلال. وفي المراد بقوله (غيا) في الآية أقوال متقاربة، منها أن الكلام على حذف مضاف، أي فسوف يلقون جزاء غي، ولا شك أنهم سيلقون جزاء ضلالهم. وممن قال بهذا القول: الزجاج. ونظير هذا التفسير قوله تعالى: * (يلق أثاما) * عند من يقول إن معناه يلق مجازاة أثامه في الدنيا، ويشبه هذا المعنى قوله تعالى: * (إنما يأكلون فى بطونهم نارا) *، وقوله: * (أولائك ما يأكلون في بطونهم إلا النار) *. فأطلق النار على ما أكلوا في بطونهم في الدنيا من المال الحرام لأنها جزاؤه. كما أطلق الغي والأثام على العذاب لأنه جزاؤهما. ومنها أن الغي في الآية الخسران والحصول في الورطات. وممن روى عنه هذا القول: ابن عباس، وابن زيد. وروي عن ابن زيد أيضا (غيا) أي شرا أو ضلالا أو خيبة. وقال بعضهم: إن المراد بقوله (غيا) في الآية: واد في جهنم من قيح، لأنه يسيل فيه قيح أهل النار وصديدهم، وهو بعيد القعر خبيث الطعم. وممن قال بهذا ابن مسعود، والبراء بن عازب. وروي عن عائشة، وشفي بن ماتع.
445

وجاء حديث مرفوع بمقتضى هذا القول من حديث أبي أمامة وابن عباس فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن غيا واد في جنهم) كما في حديث ابن عباس. وفي حديث أبي أمامة: أن غيا، وأثاما: نهران في أسفل جهنم، يسيل فيهما صديد أهل النار. والظاهر أنه لم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية حديث أبي أمامة صدى بن عجلان الباهلي الذي أشرنا له آنفا، ثم قال: هذا حديث غريب ورفعه منكر. وقيل: إن المعنى فسوف يلقون غيا أي ضلالا في الآخرة عن طريق الجنة، ذكره الزمخشري. وفيه أقوال أخر، ومدار جميع الأقوال في ذلك على شيء واحد، وهو: أن أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات سوف يلقون يوم القيامة عذابا عظيما.
فإذا عرفت كلام العلماء في هذه الآية الكريمة، وأن الله تعالى توعد فيها من أضاع الصلاة واتبع الشهوات بالغي الذي هو الشر العظيم والعذاب الأليم. فاعلم أنه أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله في ذم الذين يضيعون الصلاة ولا يحافظون عليها وتهديدهم: * (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يرآءون ويمنعون الماعون) *، وقوله في ذم المنافقين: * (وإذا قاموا إلى الصلواة قاموا كسالى يرآءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) *، وقوله فيهم أيضا: * (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلواة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون) *. وأشار في مواضع كثيرة إلى ذم الذين يتبعون الشهوات وتهديدهم، كقوله تعالى: * (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الا نعام والنار مثوى لهم) *، وقوله تعالى: * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الا مل فسوف يعلمون) *، وقوله تعالى: * (كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين) * إلى غير ذلك من الآيات. ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة: أن الخلف الطيبين لا يضيعون الصلاة، ولا يتبعون الشهوات، وقد أشار تعالى إلى هذا في مواضع من كتابه. كقوله تعالى: * (قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون إلى قوله * (والذين هم على صلواتهم يحافظون أولائك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) *، إلى غير ذلك من الآيات. وكقوله: * (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن
446

الهوى فإن الجنة هى المأوى) * إلى غير ذلك من الآيات.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة:
المسألة الأولى أجمع العلماء على أن تارك الصلاة، الجاحد لوجوبها كافر، وأنه يقتل كفرا ما لم يتب. والظاهر أن ترك ما لا تصح الصلاة دونه كالوضوء وغسل الجنابة كتركها. وجحد وجوبه كجحد وجوبها.
المسألة الثانية اختلف العلماء في تارك صلاة عمدا تهاونا وتكاسلا مع اعترافه بوجوبها، هل هو كافر أو مسلم. وهل يقتل كفرا أو حدا أو لا يقتل. فذهب بعض أهل العلم إلى أنه كافرا مرتد يستتاب، فإن تاب فذلك. وإن لم يتب قتل كفرا. وممن قال بهذا: الإمام أحمد رحمه الله في أصح الروايتين. وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وبه قال ابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، ومنصور الفقيه من الشافعية. ويروى أيضا عن أبي الطيب بن سلمة من الشافعية. وهو رواية ضعيفة عن مالك. واحتج أهل هذا القول بأدلة، منها قوله تعالى: * (فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءااتوا الزكواة فإخوانكم) *. ويفهم من مفهوم الآية: أنهم إن لم يقيموا الصلاة لم يكونوا من أخوان المؤمنين، ومن انتفت عنهم إخوة المؤمنين فهم من الكافرين، لأن الله يقول: * (إنما المؤمنون إخوة) *. ومنها حديث جابر الثابت في صحيح مسلم عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين. لفظ المتن في الأولى منهما: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة). ولفظ المتن في الأخرى: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) انتهى منه. وهو
واضح في أن تارك الصلاة كافر، لأن عطف الشرك على الكفر فيه تأكيد قوي لكونه كافرا. ومنها حديث أم سلمة، وحديث عوف بن مالك الآتيين الدالين على قتال الأمراء إذا لم يصلوا، وهما في صحيح مسلم مع حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه قال: بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا تنازع الأمر أهله. قال: (ألا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان). فدل مجموع الأحاديث المذكورة أن ترك الصلاة كفر بواح عليه من الله برهان. وقد قدمنا هذه الأحاديث المذكورة في سورة (البقرة). وهذا من أقوى أدلة أهل هذا القول. ومنها حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (العهد الذي
447

بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) أخرجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان والحاكم. وقال الشوكاني في (نيل الأوطار) في هذا الحديث: صححه النسائي، والعراقي. وقال النووي في شرح (المهذب): رواه الترمذي والنسائي، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم في المستدرك بعد أن ساق هذا الحديث بإسناده: هذا حديث صحيح الإسناد، لا تعرف له علة بوجه من الوجوه. فقد احتجا جميعا بعبد الله بن بريدة عن أبيه. واحتج مسلم بالحسين بن واقد، ولم يخرجاه بهذا اللفظ. ولهذا الحديث شاهد صحيح على شرطهما جميعا. أخبرنا أحمد بن سهل الفقيه ببخارى، حدثنا قيس بن أنيف، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بشر بن المفضل، عن الجريري عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. وأقره الذهبي على تصحيحه لحديث بريدة المذكور. وقال في أثر ابن شقيق عن أبي هريرة المذكور: لم يتكلم عليه وإسناده صالح.
قال مقيده عفا الله عنه: والظاهر أن قول الحافظ الذهبي رحمه الله (لم يتكلم عليه) سهو منه، لأنه تكلم عليه في كلامه على حديث بريدة المذكور آنفا، حيث قال: ولهذا الحديث شاهد صحيح على شرطهما جميعا. يعني أثر ابن شقيق المذكور كما ترى. وقال النووي في شرح المهذب: وعن عبد الله بن شقيق العقيلي التابعي المتفق على جلالته: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه الترمذي في كتاب الإيمان بإسناد صحيح ا ه منه، وقد ذكر النووي رحمه الله في كلامه هذا الاتفاق على جلالة ابن شقيق المذكور مع أن فيه نصبا. وقال المجد في المنتقى: وعن عبد الله بن شقيق العقيلي كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره. ثم قال: رواه الترمذي ا ه، ولا يخفى عليك أن رواية الحاكم فيها أبو هريرة ورواية الترمذي ليس فيها أبو هريرة. وحديث بريدة بن الحصيب، وأثر ابن شقيق المذكور أن فيها الدلالة الواضحة على أن ترك الصلاة عمدا تهاونا كفر ولو أقر تاركها بوجوبها. وبذلك يعتضد حديث جابر المذكور عند مسلم.
ومن الأدلة الدالة على أن ترك الصلاة كفر ما رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر الصلاة يوما فقال: (من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة. ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن
448

خلف) اه. وهذا الحديث أوضح دلالة على كفر تارك الصلاة، لأن انتفاء النور والبرهان والنجاة، والكينونة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف يوم القيامة أوضح دليل على الكفر كما ترى. وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) في هذا الحديث: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد ثقات ا ه. وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا، منها ما هو ضعيف، ومنها ما هو صالح للاحتجاج، وذكر طرفا منها الهيثمي في مجمع الزوائد. وفيما ذكرناه كفاية.
وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن تارك الصلاة عمدا تهاونا وتكاسلا إذا كان معترفا بوجوبها غير كافر، وأنه يقتل حدا كالزاني المحصن لا كفرا. وهذا هو مذهب مالك وأصحابه، وهو مذهب الشافعي وجمهور أصحابه، وعزاه النووي في شرح المهذب للأكثرين من السلف والخلف، وقال في شرح مسلم: ذهب مالك والشافعي رحمهما الله تعالى والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق ويستتاب. فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن ولكنه يقتل بالسيف ا ه.
واعلم أن هذا القول يحتاج إلى الدليل من جهتين وهما عدم كفره، وأنه يقتل. وهذه أدلتهم على الأمرين معا. أما أدلتهم على أنه يقتل:
فمنها قوله تعالى: * (فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءاتوا الزكواة فخلوا سبيلهم) * فإن الله تعالى في هذه الآية اشتراط في تخلية سبيلهم إقامتهم الصلاة. ويفهم من مفهوم الشرط أنهم إن لم يقيموها لم يخل سبيلهم وهو كذلك.
(ومنها) ما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) ا ه.
فهذا الحديث الصحيح يدل على أنهم لا تعصم دماؤهم ولا أموالهم إلا بإقامة الصلاة كما ترى.
(ومنها) ما أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة فقسمها بين أربعة. فقال رجل: يا رسول الله، اتق الله. فقال: (ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقى الله)؟ ا ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: (لا، لعله أن
449

يكون يصلي) فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم) مختصر من حديث متفق عليه. فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح (لا) يعني لا تقتله. وتعليله ذلك بقوله (لعله أن يكون يصلي) فيه الدلالة الواضحة على النهي عن قتل المصلين. ويفهم منه أنه إن لم يصل يقتل، وهو كذلك.
ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون. فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع) قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: (لا ما صلوا) هذا لفظ مسلم في صحيحه. و (ما) في قوله (ما صلوا) مصدرية ظرفية. أي لا تقاتلوهم مدة كونهم يصلون. ويفهم منه أنهم إن لم يصلوا قوتلوا، وهو كذلك، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه: (إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان) فحديث أم سلمة هذا ونحو حديث عوف بن مالك الآتي يدل على قتل من لم يصل، وبضميمة حديث عبادة بن الصامت إلى ذلك يظهر الدليل على الكفر بترك الصلاة. لأنه قال في حديث عبادة بن الصامت: (إلا أن تروا كفرا بواحا..) الحديث. وأشار في حديث أم سلمة وعوف بن مالك: إلى أنهم إن تركوا الصلاة قوتلوا. فدل ذلك على أن تركها من الكفر البواح. وهذا من أقوى أدلة أهل القول الأول. وحديث عرف بن مالك المذكور هو ما رواه مسلم في صحيحه عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم) قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة..) الحديث. وفيه الدلالة الواضحة على قتالهم إذا لم يقيموا الصلاة كما ترى.
ومن أدلة أهل هذا القول على قتل تارك الصلاة: ما رواه الأئمة الثلاثة: مالك في موطئه، والشافعي، وأحمد في مسنديهما، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار: أن رجلا من الأنصار حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس يساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين. فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أليس يشهد ألا إله إلا الله)؟ قال الأنصاري: بلى يا رسول الله، ولا شهادة لها قال: (أليس يشهد أن محمدا رسول الله)؟ قال: بلى ولا شهادة لها قال: (أليس يصلي)؟ قال: بلى ولا صلاة له. قال: (أولئك الذين نهاني
450

الله عن قتلهم) ا ه. وفي رواية عنهم: هذا هو خلاصة أدلة أهل هذا القول على قتل تارك الصلاة. واعلم أن جمهور من قال بقتله يقولون إنه يقتل بالسيف. وقال بعضهم: يضرب بالخشب حتى يموت. وقال ابن سريج: ينخس بحديدة أو يضرب بخشبة، ويقال له: صل وإلا قتلناك، ولا يزال يكرر عليه حتى يصلي أو يموت.
واختلفوا في استتابته. فقال بعضهم: يستتاب ثلاثة أيام. فإن تاب وإلا قتل. وقال بعضهم: لا يستتاب. لأنه يقتل حدا والحدود لا تسقط بالتوبة. وقال بعضهم: إن لم يبق من الضروري إلا قدر ركعة ولم يصل قتل. وبعضهم يقول: لا يقتل حتى يخرج وقتها. والجمهور على أنه يقتل بترك صلاة واحدة، وهو ظاهر الأدلة. وقيل: لا يقتل حتى يترك أكثر من واحدة. وعن الإمام أحمد روايتان: إحداهما أنه لا يقتل حتى يضيق وقت الصلاة الثانية المتروكة مع الأولى. والأخرى لا يقتل حتى يضيق وقت الرابعة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر الأقوال عندي أنه يقتل بالسيف، وأنه يستتاب، للإجماع على قبول توبته إذا تاب. والأظهر أنه يستتاب في الحال، ولا يمهل ثلاثة أيام وهو يمتنع من الصلاة لظواهر النصوص المذكورة، وأنه لا يقتل حتى لا يبقى من الوقت الضروري ما يسع ركعة بسجدتيها. والعلم عند الله تعالى.
وأما أدلة أهل هذا القول على عدم كفره، فمنها قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذالك لمن يشآء) *. ومنها حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز: أن رجلا من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلا بالشام يكنى أبا محمد يقول: إن الوتر واجب. فقال المخدجي: فرحت إلى عبادة بن الصامت فاعترضت له وهو رائح إلى المسجد فأخبرته بالذي قال أبو محمد، فقال عبادة: كذب أبو محمدا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة. ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة) ا ه منه بلفظه. وفي سنن أبي داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن حبان، إلى آخر الإسناد والمتن كلفظ الموطأ الذي ذكرنا. وفي سنن النسائي: أخبرنا قتيبة عن مالك عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان. إلى آخر الإسناد والمتن كاللفظ المذكور. وفي سنن ابن ماجة: حدثنا محمد بن بشار، ثنا ابن أبي عدي عن
451

شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز عن المخدجي، عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات افترضهن الله على عباده..) إلى آخر الحديث المذكور بمعناه قريبا من لفظه. ومعلوم أن رجال هذه الأسانيد ثقات معروفون إلا المخدجي المذكور وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وبتوثيقه تعلم صحة الحديث المذكور، وله شواهد يعتضد بها أيضا. قال أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن حرب الواسطي، ثنا يزيد يعني ابن هارون، ثنا محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله الصنابحي قال: زعم أبو محمد: أن الوتر واجب. فقال عبادة بن الصامت كذب أبو محمد، أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات افترضهن الله..) إلى آخر الحديث بمعناه. وعبد الله الصنابحي المذكور قيل إنه صحابي مدني. وقيل: هو عبد الرحمن بن عسيلة المرادي أبو عبد الله الصنابحي، وهو ثقة من كبار التابعين، قدم المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أيام، مات في خلافة عبد الملك. وعلى كلا التقديرين فرواية الصنابحي المذكور إما رواية صحابي أو تابعي ثقة، وبها تعتضد رواية المخدجي المذكور. ورجال سند أبي داود هذا غير عبد الله الصنابحي ثقات، معروفون لا مطعن فيهم. وبذلك تعلم صحة حديث عبادة بن الصامت المذكور.
وقال الزرقاني (في شرح الموطأ): وفيه يعني حديث عبادة المذكور أن تارك الصلاة لا يكفر ولا يتحتم عذابه. بل هو تحت المشيئة بنص الحديث، وقد أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، من طريق مالك، وصححه ابن حبان، والحاكم، وابن عبد البر. وجاء من وجه آخر عن عبادة بنحوه في أبي داود، والنسائي، والبيهقي، وله شاهد عند محمد بن نصر من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. ا ه منه.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله في (نيل الأوطار): ولهذا الحديث شاهد من حديث أبي قتادة عند ابن ماجة، ومن حديث كعب بن عجزة عند أحمد، ورواه أبو داود عن الصنابحي ا ه محل الغرض منه.
وقال النووي (في شرح المهذب) بعد أن ساق حديث عبادة بن الصامت المذكور: هذا حديث صحيح، رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة. وقال ابن عبد البر: هو حديث صحيح ثابت، لم يختلف عن مالك فيه. فإن قيل: كيف صححه ابن عبد البر مع أنه قال: إن المخدجي المذكور في سنده مجهول؟ فالجواب عن هذا من جهتين: الأولى أن
452

صحته من قبيل الشواهد التي ذكرنا، فإنها تصيره صحيحا. والثانية هي ما قدمنا من توثيق ابن حبان المخدجي المذكور. وحديث عبادة المذكور فيه الدلالة الواضحة على أن ترك الصلاة ليس بكفر، لأن كونه تحت المشيئة المذكور فيه دليل على عدم الكفر لقوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذالك لمن يشآء) *.
ومن أدلة أهل هذا القول على أن تارك الصلاة المقر بوجوبها غير كافر ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة، فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل له من تطوع، فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه. ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك) ا ه.
وقال الشوكاني رحمه الله في (نيل الأوطار): الحديث أخرجه أبو داود من ثلاث طرق: طريقين متصلين بأبي هريرة. والطريق الثالث متصل بتميم الداري. وكلها لا مطعن فيها، ولم يتكلم عليه وهو ولا المنذري بما يوجب ضعفه. وأخرجه النسائي من طريق إسنادها جيد ورجالها رجال الصحيح كما قال العراقي وصححها ابن القطان. وأخرج الحديث الحاكم (في المستدرك) وقال: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وفي الباب عن تميم الداري عند أبي داود وابن ماجة بنحو حديث أبي هريرة، قال العراقي: وإسناده صحيح، وأخرجه الحاكم (في المستدرك) وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم ا ه محل الغرض منه.
ووجه الاستدلال بالحديث المذكور على عدم كفر تارك الصلاة أن نقصان الصلوات المكتوبة وإتمامها من النوافل يتناول بعمومه ترك بعضها عمدا، كما يقتضيه ظاهر عموم اللفظ كما ترى.
وقال المجد (في المنتقى) بعد أن ساق الأدلة التي ذكرنا على عدم كفر تارك الصلاة المقر بوجوبها ما نصه: ويعضد هذا المذهب عمومات، ومنها ما رويى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) متفق عليه. وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ومعاذ رديفه على الرجل: (يا معاذ)، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا، ثم قال: (ما من عبد يشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله
453

إلا حرمه الله على النار) قال. يا رسول الله، أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: (إذا يتكلوا) فأخبر بها معاذ عند موته تأثما، أي خوفا من الإثم بترك الخبر به. متفق عليه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا) رواه مسلم. وعنه أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه) رواه البخاري ا ه محل الغرض منه. وقالت جماعة من أهل العلم، منهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه، وجماعة من أهل الكوفة، وسفيان الثوري، والمزني صاحب الشافعي: إن تارك الصلاة عمدا تكاسلا وتهاو ا مع إقراره بوجوبها لا يقتل ولا يكفر. بل يعزر ويحبس حتى يصلي واحتجوا على عدم كفره بالأدلة التي ذكرنا آنفا لأهل القول الثاني. واحتجوا لعدم قتله بأدلة، منها حديث ابن مسعود المتفق عليه الذي قدمناه في سورة (المائدة) وغيرها: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) قالوا: هذا حديث متفق عليه، صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث، ولم يذكر منها ترك الصلاة. فدل ذلك على أنه غير موجب للقتل. قالوا: والأدلة التي ذكرتم على قتله إنما دلت عليه بمفاهيمها أعني مفاهيم المخالفة كما تقدم إيضاحه. وحديث ابن مسعود دل على ما ذكرنا بمنطوقه والمنطوق مقدم على المفهوم. مع أن المقرر في أصول الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يعتبر المفهوم المعروف بدليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة وعليه فإنه لا يعترف بدلالة الأحاديث المذكورة على قتله. لأنها إنما دلت عليه بمفهوم مخالفتها، وحديث ابن مسعود دل على ذلك بمنطوقه. ومنها قياسهم ترك الصلاة على ترك الصوم والحج مثلا. فإن كل واحد منهما من دعائم الإسلام ولم يقتل تاركها، فكذلك الصلاة.
أما الذين قالوا بأنه كافر، وأنه يقتل. فقد أجابوا عن حديث ابن مسعود: بأنه عام يخصص بالأحاديث الدالة على قتل تارك الصلاة. وعن قياسه على تارك الحج والصوم: بأنه فاسد الاعتبار لمخالفته للأحاديث المذكورة الدالة على قتله. وعن الأحاديث الدالة على عدم الكفر: بأن منها ما هو عام يخصص بالأحاديث الدالة على كفره. ومنها ما هو ليس كذلك كحديث عبادة بن الصامت الدال على أنه تحت المشيئة. فالأحاديث الدالة
454

على كفره مقدمة عليه، لأنها أصح منه، لأن بعضها في صحيح مسلم وفيه التصريح بكفره وشركه. ومنها حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه، مع حديث أم سلمة وعوف بن مالك في صحيح مسلم كما تقدم إيضاحه.
ورد القائلون بأنه غير كافر أدلة مخالفيهم بأن المراد بالكفر في الأحاديث المذكورة كفر دون كفر. وليس المراد الكفر المخرج عن ملة الإسلام. واحتجوا لهذا بأحاديث
كثيرة يصرح فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر، وليس مراده الخروج عن ملة الإسلام. قال المجد (في المنتقى): وقد حملوا أحاديث التكفير على كفر النعمة، أو على معنى قد قارب الكفر وقد جاءت أحاديث في غير الصلاة أريد بها ذلك. فروى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) متفق عليه: وعن أبي ذر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار) متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) رواه أحمد ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان عمر يحلف (وأبى) فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (من حلف بشيء دون الله فقد أشرك) رواه أحمد. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن) انتهى منه بلفظه. وأمثاله في السنة كثيرة جدا. ومن ذلك القبيل تسمية الرياء شركا. ومنه الحديث الصحيح في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت النار فلم أر منظرا كاليوم أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء) قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: (بكفرهن) قيل: يكفرن بالله؟ قال: (يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان. لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط) هذا لفظ البخاري في بعض المواضع التي أخرج فيها الحديث المذكور. وقد أطلق فيه النبي صلى الله عليه وسلم اسم الكفر عليهن. فلما استفسروه عن ذلك تبين أن مراده غير الكفر المخرج عن ملة الإسلام.
هذا هو حاصل كلام العلماء وأدلتهم في مسألة ترك الصلاة عمدا مع الاعتراف بوجوبها. وأظهر الأقوال أدلة عندي: قول من قال إنه كافر. وأجرى الأقوال على مقتضى الصناعة الأصولية وعلوم الحديث قول الجمهور: إنه كفر غير مخرج عن الملة لوجوب الجمع بين الأدلة إذا أمكن. وإذا حمل الكفر والشرك المذكوران في الأحاديث على الكفر الذي لا يخرج عن الملة حصل بذلك الجمع بين الأدلة والجمع واجب إذا أمكن. لأن
455

إعمال الدليلين أولى إن إلغاء أحدهما كما هو معلوم في الأصول وعلم الحديث. وقال النووي (في شرح المهذب) بعد أن ساق أدلة من قالوا إنه غير كافر ما نصه: ولم يزل المسلمون يورثون تارك الصلاة ويورثون عنه ولو كان كافرا لم يغفر له ولم يرث ولم يورث.
وأما الجواب عما احتج به من كفره من حديث جابر وبريدة، ورواية ابن شقيق فهو أن كل ذلك محمول على أنه شارك الكافر في بعض أحكامه وهو القتل. وهذا التأويل متعين للجمع بين نصوص الشرع وقواعده التي ذكرناها انتهى محل الغرض منه.
المسألة الثالثة
أجمع العلماء على أن من نسي الصلاة أو نام عنها حتى خرج وقتها يجب عليه قضاؤها. وقد دلت على ذلك أدلة صحيحة:
(منها) ما رواه الشيخان في صحيحهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك).
(ومنها) ما رواه مسلم عن أنس أيضا مرفوعا: (إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل يقول: * (وأقم الصلواة لذكرى) *).
(ومنها) ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها. فإن الله يقول: * (وأقم الصلواة لذكرى) *).
(ومنها) ما رواه النسائي، والترمذي وصححه، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة؟ فقال: (إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها).
(ومنها) ما رواه مسلم، والإمام أحمد، عن أبي قتادة في قصة نومهم عن صلاة الفجر قال: ثم أذن بلال بالصلاة. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم.
(ومنها) ما أخرجه الإمام أحمد، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، وابن أبي شيبة، والطبراني وغيرهم، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: سرينا مع النبي صلى الله عليه وسلم. فلما كان في آخر الليل عرسنا فلم نستيقظ حتى أيقظنا حر الشمس، فجعل
456

الرجل منا بقوم دهشا إلى طهوره، ثم أمر بلالا فأذن، ثم صلى الركعتين قبل الفجر، ثم أقام فصلينا. فقالوا: يا رسول الله، ألا نعيدها في وقتها من الغد؟ فقال: (أينهاكم ربكم تعالى عن الربا ويقبله منكم)؟ ا ه. وأصلي حديث عمران هذا في الصحيحين. وليس فيهما ذكر الأذان والإقامة، ولا قوله: فقالوا يا رسول الله ألا نعيدها إلى آخره.
والحاصل أن قضاء النائم والناسي لا خلاف فيه بين العلماء. وقد دلت عليه الأحاديث التي ذكرنا وأمثالها مما لم نذكره.
المسألة الرابعة
اعلم أن التحقيق أنه يجب تقديم الصلوات الفوائت على الصلاة الحاضرة. والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش. قال يا رسول الله، ما كدت أصل العصر حتى كادت الشمس تغرب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما صليتها) فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها. فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب ا ه. فهذا الحديث المتفق
عليه فيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر قضاء بعد غروب الشمس وقدمها على المغرب. وهو نص صحيح صريح في تقديم الفائتة على الحاضرة. والمقرر في الأصول: أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم المجردة من قرينة الوجوب وغيره تحمل على الوجوب، لعموم النصوص الواردة بالتأسي به صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله. وللاحتياط في الخروج من عهدة التكليف.
ومن أظهر الأدلة في ذلك أنه لما خلع نعله في الصلاة فخلع أصحابه نعالهم تأسيا به صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلموا أن جبريل أخبره أن بباطنها أذى، وسألهم صلى الله عليه وسلم لم خلعوا نعالهم؟ وأجابوا بأنهم رأوه خلع نعله وهو فعل مجرد من قرائن الوجوب وغيره أقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم. فدل ذلك على لزوم التأسي به في أفعاله المجردة من القرائن. والحديث وإن ضعفه بعضهم بالإرسال فقد رجح بعضهم وصله.
والأدلة الكثيرة الدالة على وجوب التأسي به صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة شاهدة له. وإلى كون أفعاله صلى الله عليه وسلم المجردة من القرائن تحمل على الوجوب أشار في مراقي السعود في كتاب السنة بقوله: المجردة من القرائن تحمل على الوجوب أشار في مراقي السعود في كتاب السنة بقوله:
* وكل ما الصفة فيه تجهل
* فللموجوب في الأصح يجعل
*
457

وفي حمله على الوجوب مناقشات معروفة في الأصول. انظرها في (نشر البنود) وغيره.
ويعتضد ما ذكرنا من أن فعله المجرد الذي هو تقديم العصر الفائتة على المغرب الحاضرة يقتضي الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي). وقال الحافظ في (فتح الباري) في استدلال البخاري على تقديم الأولى من الفوائت. فالأولى بفعل النبي صلى الله عليه وسلم المذكور ما نصه: ولا ينهض الاستدلال به لمن يقول بترتيب الفوائت، إلا إذا قلنا: إن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم المجردة للوجوب. اللهم إلا أن يستدل له بعموم قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي). وقد اعتبر ذلك الشافعية في أشياء غير هذا انتهى منه.
ونحن نقول: الأظهر أن الأفعال المجردة تقتضي الوجوب كما جزم به صاحب المراقي في البيت المذكور، وكذلك عموم حديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي) يقتضي ذلك أيضا. والعلم عند الله تعالى
واعلم أنه إن تذكر فائتة في وقت حاضرة ضيق. فقد اختلف العلماء: هل يقدم الفائنة وإن خرج وقت الحاضرة أو لا إلى ثلاثة مذاهب:
الأول أنه يقدم الفائتة وإن خرج وقت الحاضرة. هو مذهب مالك وجل أصحابه.
الثاني: أن يبدأ بالحاضرة محافظة على الوقت. وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وأكثر أصحاب الحديث.
الثالث أنه يخير في تقديم ما شاء منهما. وهو قول أشهب من أصحاب مالك. قال عياض: ومحل الخلاف إذا لم تكثر الصلوات الفوائت. فأما إذا كثرت فلا خلاف أنه يبدأ بالحاضرة. واختلفوا في حد القليل في ذلك. فقيل صلاة يوم. وقيل أربع صلوات.
المسألة الخامسة
أما ترتيب الفوائت في أنفسها فأكثر أهل العلم على وجوبه مع الذكر لا مع النسيان. وهو الأظهر: وقال الشافعي رحمه الله: لا يجب الترتيب واجب مطلقا، قلت الفوائت أم كثرت. وبه قال أحمد وزفر. وعن أحمد رحمه الله: لو نسي الفوائت صحت الصلوات التي صلى بعدها. وقال أحمد وإسحاق: لو
458

ذكر فائتة وهو في حاضرة تمم التي هو فيها ثم قضى الفائتة، ثم يجب إعادة الحاضرة. واحتج لهم بحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فإذا فرغ من صلاته فليعد الصلاة التي نسي، ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام). قال النووي في (شرح المهذب) وهذا حديث ضعيف، ضعفه موسى بن هارون الحمال (بالحاء) الحافظ. وقال أبو زرعة الرازي. ثم البيهقي: الصحيح أنه موقوف.
قال مقيده عفا الله عنه: والأظهر عندي وجوب ترتيب الفوائت في أنفسها الأولى فالأولى. والدليل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري، وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. قال النسائي في سننه: أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا ابن أبي ذئب قال: حدثنا سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه قال: شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل. فأنزل الله عز وجل: * (وكفى الله المؤمنين القتال) * فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام لصلاة الظهر فصلاها كما كان يصليها لوقتها، ثم أقام العصر فصلاها كما كان يصليها في وقتها، ثم أذن للمغرب فصلاها كما كان يصليها في وقتها ا ه. فهذا الإسناد صحيح كما ترى، ورجاله ثقات معروفون. فعمرو بن علي هو أبو حفص الفلاس وهو ثقة حافظ، ويحيى هو القطان وجلالته معروفة. وكذلك ابن أبي ذئب جلالته معروفة. وسعيد بن سعيد هو المقبري وهو ثقة. وعبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ثقة. فهذا إسناد صحيح كما ترى، وفيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الفوائت في القضاء: الأولى فالأولى.
وقد قدمنا أن أفعاله المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب على الأصح، وأن ذلك يعتضد بحديث مالك بن الحويرث الثابت في الصحيح: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وحديث أبي سعيد هذا أخرجه أيضا الإمام أحمد. قال الشوكاني في (نيل الأوطار): ورجال إسناده رجال الصحيح. وقال الشوكاني أيضا عن ابن سيد الناس اليعمري: إن حديث أبي سعيد رواه الطحاوي عن المزني عن الشافعي: حدثنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال: وهذا
إسناد صحيح جليل ا ه. وقال النسائي في سننه: أخبرنا هناد عن هشيم، عن أبي الزبير، عن نافع بن جبير، عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله: إن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم
459

الخندق، فأمر بلالا فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصل العشاء ا ه. أخبرنا القاسم بن زكريا بن دينار قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة قال: حدثنا هشام: أن أبا الزبير المكي حدثهم عن نافع بن جبير: أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود حدثهم أن عبد الله بن مسعود قال: كنا في غزوة فحبسنا المشركون عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء. فلما انصرف المشركون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فأقام لصلاة الظهر فصلينا، وأقام لصلاة العصر فصلينا، وأقام لصلاة المغرب فصلينا، وأقام لصلاة العشاء فصلينا، ثم طاف علينا فقال: (ما على الأرض عصابة يذكرون الله عز وجل غيركم) ا ه. وحديث ابن مسعود هذا أخرجه الترمذي أيضا. قال الشوكاني رحمه الله في (نيل الأوطار): إن إسناده لا بأس به.
قال مقيده عفا الله عنه: والظاهر أن إسناد حديث ابن مسعود هذا لا يخلو من ضعف، لأن راوية عنه ابنه أبو عبيدة، وروايته عنه مرسلة لأنه لم يسمع منه. ولكن هذا المرسل يعتضد بحديث أبي سعيد الذي قدمنا آنفا أنه صحيح، ومن يحتج من العلماء بالمرسل يحتج به ولو لم يعتضد بغيره.
واعلم أن حديث أبي سعيد وابن مسعود المذكورين لا يعارضهما ما في الصحيحين من كونهم شغلوهم عن العصر وحدها. لأن ما فيهما زيادة، وزيادة العدول مقبولة (ومن حفظ حجة على من لم يحفظ) وبه تعلم أن ما ذكره ابن العربي من تقديم ما في الصحيحين على الزيادة التي في حديث أبي سعيد وابن مسعود خلاف التحقيق.
تنبيه
اعلم أن الأئمة الأربعة وأصحابهم وجماهير فقهاء الأمصار: على أن من نسي صلاة أو أنام عنها قضاها وحدها ولا تلزمه زيادة صلاة أخرى. قال البخاري في صحيحه: (باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة) وقال إبراهيم: من ترك صلاة واحدة عشرين سنة لم يعد إلا تلك الصلاة الواحدة. حدثنا أبو نعيم، وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك). * (وأقم الصلواة لذكرى) * قال موسى: قال همام: سمعته يقول بعد * (وأقم الصلواة لذكرى) * وقال حبان: حدثنا همام، حدثنا قتادة،
460

حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ا ه. وقال في (الفتح الباري) في الكلام على هذا الحديث وترجمته قال علي بن المنبر: صرح البخاري بإثبات هذا الحكم مع كونه مما اختلف فيه ثقوة دليله، ولكنه على وفق القياس، إذ الواجب خمس صلوات لا أكثر. فمن قضى الفائتة كمل العدد المأمور به، ولكونه على مقتضى ظاهر الخطاب. لقول الشارع (فليصلها) ولم يذكر زيادة، وقال أيضا: (لا كفارة لها، إلا ذلك) فاستفيد من هذا الحصر أن لا يجب غير إعادتها. وذهب مالك إلى أن من ذكر بعد أن صلى صلاة أنه لم يصل التي قبلها فإنه يصل التي ذكر، ثم يصلي التي كان صلاها مراعاة للترتيب انتهى منه. فإن قيل: جاء في صحيح مسلم في بعض طرق حديث أبي قتادة في قصة نوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة الصبح حتى ضربتهم الشمس ما نصه: ثم قال: يعني (النبي صلى الله عليه وسلم): (أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى. فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها. فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها) ا ه.
فقوله في هذا الحديث: فإذا كان الغد الخ يدل على أنه يقضي الفائتة مرتين: الأولى عند ذكرها، والثانية: عند دخول وقتها من الغد؟ فالجواب ما ذكره النووي في شرحه للحديث المذكور قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها) فمعناه أنه إذا فاتته صلاة فقضاها لا يتغير وقتها ويتحول في المستقبل، بل يبقى كما كان، فإذا كان الغد صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد ولا يتحول. وليس معناه أنه يقضي الفائتة مرتين: مرة في الحال، ومرة في الغد، وإنما معناه ما قدمناه. فهذا هو الصواب في معنى هذا الحديث. وقد اضطربت أقوال العلماء فيه. واختار المحققون ما ذكرته والله أعلم انتهى منه. وهذا الذي فسر به هذه الرواية هو الذي يظهر لنا صوابه والعلم عند الله تعالى. ولكن جاء في سنن أبي داود في بعض طرق حديث أبي قتادة في قصة النوم عن الصلاة المذكورة ما نصه: (فمن أدرك منكم صلاة الغد من غد صالحا فليقض معها مثلها) ا ه. وهذا اللفظ صريح في أنه يقضي الفائتة مرتين، ولا يحمل المعنى الذي فسر به النووي وغيره لفظ رواية مسلم.
وللعلماء عن هذه الرواية أجوبة، قال ابن حجر في (فتح الباري) بعد أن أشار إلى رواية أبي داود المذكور ما نصه: قال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بظاهره وجوبا، قال: ويشبه أن يكون الأمر فيه للاستحباب ليحوز فضيلة الوقت في القضاء انتهى. ولم يقل أحد من السلف باستحباب ذلك أيضا. بل عدو الحديث غلطا من راويه. حكى ذلك الترمذي وغيره عن البخاري. ويؤيده ما رواه
461

النسائي من حديث عمران بن حصين أنهم قالوا: يا رسول الله، ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (لا ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم) ا ه كلام صاحب الفتح. وحديث عمران المذكور قد قدمناه وذكرنا من أخرجه. والعلم عند الله تعالى.
المسألة السادسة
اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن ترك الصلاة عمدا تكاسلا حتى خرج وقتها وهو معترف بوجوبها. هل يجب عليه قضاؤها أو لا يجب عليه. فقد قدمنا خلاف العلماء في كفره، فعلى القول بأنه كافر مرتد يجري على الخلاف في المرتد، هل يجب عليه قضاء ما فاته في زمن ردته أو لا يجب عليه.
واعلم أولا أن الكافر تارة يكون كافرا أصليا لم يسبق عليه إسلام، وتارة يكون كافرا بالردة عن دين الإسلام بعد أن كان مسلما.
أما الكافر الأصلي فلا يلزمه قضاء ما تركه من العبادات في حال كفره وهذا لا خلاف فيه بين علماء المسلمين. لأن الله تعالى يقول: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر
لهم ما قد سلف) * وقد أسلم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثير فلم يأمر أحدا منهم بقضاء شيء فائت كفره. وأما المرتد ففيه خلاف بين العلماء معروف. قال بعض أهل العلم: لا يلزمه قضاء ما تركه في زمن ردته، ولا في زمن إسلامه قبل ردته، لأن الردة تحبط جميع عمله وتجعله كالكافر الأصلي عياذا بالله تعالى. وإن كان قد حج حجة الإسلام أبطلتها ردته على هذا القول. فعليه إعادتها إذا رجع إلى الإسلام. وتمسك من قال بهذا بظاهر قوله تعالى: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) *، وقوله * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو فى الا خرة من الخاسرين) *. وقال بعض أهل العلم: يلزمه قضاء ما تركه من العبادات في زمن ردته وزمن إسلامه قبل ردته، ولا تجب عليه إعادة حجة الإسلام. لأن الردة لم تبطلها. واحتج من قال بهذا قوله تعالى: * (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولائك حبطت أعمالهم في الدنيا والا خرة) *. فجعل الموت على الكفر شرطا في حبوط العمل. وبالأول قال مالك، ومن وافقه. وبالثاني قال الشافعي، ومن وافقه. وهما روايتان عن الإمام أحمد. وقد ذكرنا في غير هذا الموضع: أن قول قول الشافعي ومن وافقه في هذه المسألة أجري على الأصول. لوجوب
462

حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا.
وأما على قول الجمهور بأنه غير كافر فقد اختلفوا أيضا في وجوب القضاء عليه. اعلم أولا أن علماء الأصول اختلفوا في الأمر بالعبادة المؤقتة بوقت معين، هل هو يستلزم الأمر بقضائها بعد خروج وقتها من غير احتياج إلى أمر جديد بالقضاء أو لا يستلزم القضاء بعد خروج الوقت، ولا بد للقضاء من أمر جديد، فذهب أبو بكر الرازي من الحنفية وفاقا لجمهور الحنفية إلى أن الأمر بالعبادة الموقتة يستلزم الأمر بقضائها بعد خروج الوقت من غير احتياج إلى أمر جديد، واستدلوا لذلك بقاعدة هي قولهم: الأمر بالمركب أمر بكل جزء من أجزائه، فإذا تعذر بعض الأجزاء لزم فعل بعضها الذي لم يتعذر. فالأمر بالعبادة الموقتة كالصلوات الخمس أمر بمركب من شيئين: الأول منهما: فعل العبادة. والثاني: كونها مقترنة بالوقت المعين لها، فإذا خرج الوقت تعذر أحدهما وهو الاقتران بالوقت المعين، وبقي الآخر غير متعذر وهو فعل العبادة، فيلزم من الأمر الأول فعل الجزء المقدور عليه، لأن الأمر بالمركب أمر بأجزائه.
وهذا القول صدر به ابن قدامة في (روضة الناظر) وعزاه هو والغزالي في (المستصفى) إلى بعض الفقهاء.
وذهب جمهور أهل الأصول إلى أن الأمر بالعبادة الموقتة لا يستلزم الأمر بقضائها بعد خروج الوقت واستدلوا لذلك بقاعدة وهي (أن تخصيص العبادة بوقت معين دون غيره من الأوقات لا يكون إلا لمصلحة تختص بذلك الوقت دون غيره، إذ لو كانت المصلحة في غيره من الأوقات لما كان لتخصيصه دونها فائدة)، قالوا: فتخصيصه الصلوات بأوقاتها المعينة، والصوم برمضان مثله، كتخصيص الحج بعرفات، والزكاة بالمساكين والصلاة بالقبلة، والقتل بالكافر ونحو ذلك.
واعلم أن الذين قالوا: إن الأمر لا يستلزم القضاء، وهم الجمهور اختلفوا في إعادة الصلاة المتروكة عمدا على قولهم: إن تاركها غير كافر، فذهب جمهورهم إلى وجوب إعادتها، قالوا: نحن نقول: إن القضاء لا بد له من أمر جديد، ولكن الصلاة المتروكة عمدا جاءت على قضائها أدلة، منها: قياس العامد على الناسي والنائم، المنصوص على وجوب القضاء عليهما، قالوا: فإذا وجب القضاء على النائم، والناسي فهو واجب على العامد من باب أولى، وقال النووي في شرح المهذب: ومما يدل على وجوب القضاء حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجامع في نهار
463

رمضان أن يصوم يوما مع الكفارة، أي بدل اليوم الذي أفسده بالجماع عمدا. رواه البيهقي بإسناد جيد، وروى أبو داود نحوه انتهى كلام النووي.
ومن أقوى الأدلة على وجوب القضاء على التارك عمدا عموم الحديث الصحيح الذي قدمناه في سورة (الإسراء) الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى)، فقوله: (دين الله) اسم جنس مضاف إلى معرفة فهو عام في كل دين، كقوله: * (وإن تعدوا نعمة الله) *، فهو عام في كل نعمة. ولا شك أن الصلاة المتروكة عمدا دين الله في ذمة تاركها، فدل عموم الحديث على أنها حقيقة جديرة بأن تقضى، ولا معارض لهذا العموم.
وقال بعض أهل العلم: ليس على التارك الصلاة عمدا قضاء، لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد ولم يأت أمر جديد بقضاء التارك عمدا. وممن قال بهذا ابن حزم واختاره أبو العباس بن تيمية رحمه الله. وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله: وقال بعض أهل العلم: ليس على التارك الصلاة عمدا قضاء، لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد ولم يأت أمر جديد بقضاء التارك عمدا. وممن قال بهذا ابن حزم واختاره أبو العباس بن تيمية رحمه الله. وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله:
* والأمر لا يستلزم القضاء
* بل هو بالأمر الجديد جاء
*
* لأنه في زمن معين
* يجي لما عليه من نفع بني
*
* وخالف الرازي إذ المركب
* لكل جزء حكمه ينسحب
*
تنبيه
سبب اختلاف العلماء في هذه المسألة: أنها تجاذبها أصلان مختلفان: فنظرت كل طائفة إلى أحد الأصلين المختلفين:
أحدهما: الأمر بالمركب أمر بأجزائه. وإليه نظر الحنفية ومن وافقهم.
والثاني: الأمر بالعبادة في وقت معين لا يكون إلا لمصلحة تختص بالوقت المذكور، وإليه نظر الجمهور. ومثل هذا من الأشياء التي تكون سببا للاختلاف في المسألة كما أشار له الشيخ ميارة في التكميل بقوله: والثاني: الأمر بالعبادة في وقت معين لا يكون إلا لمصلحة تختص بالوقت المذكور، وإليه نظر الجمهور. ومثل هذا من الأشياء التي تكون سببا للاختلاف في المسألة كما أشار له الشيخ ميارة في التكميل بقوله:
* وإن يكن في الفرع تقريران
* بالمنع والجواز فالقولان
* * (جنات عدن التى وعد الرحمان عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه وعد عباده المؤمنين المطيعين جنات عدن. ثم بين أن وعده مأتي. بمعنى أنهم يأتونه وينالون ما عدوا به. لأنه جل وعلا لا يخلف
464

الميعاد. وأشار لهذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: * (وعد الله لا يخلف الله وعده) *. وقوله: * (إن الله لا يخلف الميعاد) *، وقوله * (ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فاستجاب لهم ربهم) *، وقوله تعالى: * (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للا ذقان سجدا ويقولون سبحان ربنآ إن كان وعد ربنا لمفعولا) *، وقوله تعالى: * (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السمآء منفطر به كان وعده مفعولا) *، وقوله تعالى: * (أذالك خير أم جنة الخلد التى وعد المتقون كانت لهم جزآء ومصيرا لهم فيها ما يشآءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا) * إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: * (مأتيا) * اسم مفعول أتاه إذا جاءه. والمعنى: أنهم لا بد أن يأتون ما وعدوا به. خلافا لمن زعم أن * (مأتيا) * صيغة مفعول أريد بها الفاعل. أي كان وعده آتيا، إذ لا داعي لهذا مع وضوح ظاهر الآية.
تنبيه
مثل بعض علماء البلاغة بهذه الآية لنوع من أنواع البدل. وهو بدل الكل من البعض، قالوا: * (جنات عدن) * بدل من الجنة في قوله: * (أولائك * يدخلون الجنة) * بدل كل من بعض.
قالوا: ومن أمثلة بدل الكل من البعض قوله: قالوا: ومن أمثلة بدل الكل من البعض قوله:
* رحم الله أعظما دفنوها
* بسجستان طلحة الطلحات
*
(فطلحة) بدل من قوله (أعظما) بدل كل من بعض. وعليه فأقسام البدل ستة: بدل الشيء من الشيء. وبدل البعض من الكل. وبدل الكل من البعض. وبدل الاشتمال. وبدل البداء. وبدل الغلط.
قال مقيده عفا الله عنه: ولا يتعين عندي في الآية والبيت كون البدل بدل كل من بعض، بل يجوز أن يكون بدل الشيء من الشيء، لأن الألف واللام في قوله: * (فأولائك يدخلون الجنة) * للجنس، وإذا كان للجنس جاز أن يراد بها جميع الجنات، فيكون قوله: * (جنات عدن) * بدلا من * (الجنة) * بدل الشيء من الشيء، لأن المراد
465

بالأول الجمع كما تقدم كثير من أمثلة ذلك. والأعظم في البيت كناية عن الشخص، (فطلحة) بدل منه بدل الشيء من الشيء، لأنهم لم يدفنوا الأعظم وحدها بل دفنوا الشخص المذكور جميعه، أعظمه وغيرها من بدنه، وعبر هو عنه بالأعظم. قوله تعالى: * (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المؤمنين إذا أدخلهم ربهم جنات عدن التي وعدهم * (لا يسمعون فيها) * أي في الجنات المذكورة * (لغوا) * أي كلاما تافها ساقطا كما يسمع في الدنيا. واللغو: هو فضول الكلام، وما لا طائل تحته. ويدخل فيه فحش الكلام وباطله، ومنه قول رؤبة وقيل العجاج: هو فضول الكلام، وما لا طائل تحته. ويدخل فيه فحش الكلام وباطله، ومنه قول رؤبة وقيل العجاج:
* ورب أسراب حجيج كظم
* عن اللغا ورفث التكلم
*
كما تقدم في سورة (المائدة).
والظاهر أن قوله * (إلا سلاما) * استثناء منقطع، أي لكن يسمعون فيها سلاما، لأنهم يسلم بعضهم على بعض، وتسلم عليهم الملائكة، كما يدل على ذلك قوله تعالى: * (تحيتهم فيها سلام) *، وقوله: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم) *. كما تقد بمستوفى.
وهذا المعنى الذي أشار له هنا جاء في غير هذا الموضع أيضا كقوله في (الواقعة): * (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما) * وقد جاء الاستثناء
المنقطع في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى: * (ما لهم من * علم إلا اتباع الظن) * الآية: وقوله: * (وما لاحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغآء وجه ربه الا على) *، وقوله: * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الا ولى) *، وكقوله: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) *، إلى غير ذلك من الآيات. فكل الاستثناءات المذكورة في هذه الآيات منقطعة. ونظير ذلك من كلام العرب في الاستثناء المنقطع قول نابغة ذبيان: ياأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) *، إلى غير ذلك من الآيات. فكل الاستثناءات المذكورة في هذه الآيات منقطعة. ونظير ذلك من كلام العرب في الاستثناء المنقطع قول نابغة ذبيان:
* وقفت فيها أصيلا لا أسائلها
* عيت جوابا وما بالربع من أحد
*
* إلا الأواري لأبا ما أبينها
* والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
*
(فالأواري) التي هي مرابط الخيل ليست من جنس (الأحد). وقول الفرزدق: (فالأواري) التي هي مرابط الخيل ليست من جنس (الأحد). وقول الفرزدق:
466

* وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن
* لها خاطب إلا السنان وعامله
*
وقول جران العود: وقول جران العود:
* وبلدة ليس بها أنيس
* إلا اليعافير وإلا العيس
*
(فالسنان) ليس من جنس (الخاطب) و (اليعافير والعيس) ليس واحد منهما من جنس (الأنيس). وقول ضرار بن الأزور: (فالسنان) ليس من جنس (الخاطب) و (اليعافير والعيس) ليس واحد منهما من جنس (الأنيس). وقول ضرار بن الأزور:
* أجاهد إذ كان الجهاد غنيمة
* ولله بالعبد المجاهد أعلم
*
* عشية لا تغني الرماح مكانها
* ولا النل إلا المشرفي المصمم
*
وبهذا الذي ذكرنا تعلم صحة وقوع الاستثناء المنقطع كما عليه جماهير الأصوليين خلافا للإمام أحمد بن حنبل وبعض الشافعية القائلين: بأن الاستثناء المنقطع لا يصح، لأن الاستثناء إخراج ما دخل في اللفظ، وغير جنس المستثنى منه لم يدخل في اللفظ أصلا حتى يخرج بالاستثناء.
تنبيهات
الأول اعلم أن تحقيق الفرق بين الاستثناء المتصل والمنقطع يحصل بأمرين يتحقق بوجودهما أن الاستثناء متصل. وإن اختل واحد منهما فهو منقطع: الأول أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، نحو: جاء القوم إلا زيدا. فإن كان من غير جنسه فهو منقطع، نحو: جاء القوم إلا حمارا. والثاني أن يكون الحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه. ومعلوم أن نقيض الإثبات النفي كالعكس. ومن هنا كان الاستثناء من النفي إثباتا، ومن الإثبات نفيا. فإن كان الحكم على المستثنى ليس نقيض الحكم على المستثنى منه فهو منقطع ولو كان المستثنى من جنس المستثنى منه. فقوله تعالى: * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الا ولى) * استثناء منقطع على التحقيق، مع أن المستثنى من جنس المستثنى منه. وكذلك قوله: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * وإنما كان منقطعا في الآيتين لأنه لم يحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه. فنقيض: * (لا يذوقون فيها الموت إلا) *: هو يذوقون فيها الموت. وهذا النقيض الذي هو ذوق الموت في الآخرة لم يحكم به على المستثنى بل حكم بالذوق في الدنيا. ونقيض * (لا تأكلوا أموالكم
467

بينكم بالباطل) * كلوها بالباطل ولم يحكم به في المستثنى.
فتحصل أن انقطاع الاستثناء قسمان: أحدهما بالحكم على غير جنس المستثنى منه. كقولك: رأيت أخويك إلا ثوبا. الثاني: بالحكم بغير النقيض. نحو: رأيت أخويك
إلا زيدا لم يسافر.
التنبيه الثاني
اعلم أنه يبنى على الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع بعض الفروع الفقهية. فلو أقر رجل لآخر فقال له: علي ألف دينار إلا ثوبا. فعلى القول بعدم صحة الاستثناء المنقطع يكون قوله (إلا ثوبا) لغوا وتلزمه الألف كاملة. وعلى القول بصحة الاستثناء المنقطع لا يلغى قوله (إلا ثوبا) وتسقط قيمة الثوب من الألف. والذين قالوا تسقط قيمته اختلفوا في توجيهه على قولين: أحدهما أنه مجاز، وأنه أطلق الثوب وأراد قيمته. والثاني: أن فيه إضمارا. أي حذف مضاف، يعني: إلا قيمة ثوب. فمن قال يقدم المجاز على الإضمار قال (إلا ثوبا) مجاز، أطلق الثوب وأراد القيمة. كإطلاق الدم على الدية. ومن قال يقدم الإضمار على المجاز قال (إلا ثوبا) أي إلا قيمة ثوب. واعتمد صاحب مراقي السعود تقديم المجاز على الإضمار في قوله: اعلم أنه يبنى على الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع بعض الفروع الفقهية. فلو أقر رجل لآخر فقال له: علي ألف دينار إلا ثوبا. فعلى القول بعدم صحة الاستثناء المنقطع يكون قوله (إلا ثوبا) لغوا وتلزمه الألف كاملة. وعلى القول بصحة الاستثناء المنقطع لا يلغى قوله (إلا ثوبا) وتسقط قيمة الثوب من الألف. والذين قالوا تسقط قيمته اختلفوا في توجيهه على قولين: أحدهما أنه مجاز، وأنه أطلق الثوب وأراد قيمته. والثاني: أن فيه إضمارا. أي حذف مضاف، يعني: إلا قيمة ثوب. فمن قال يقدم المجاز على الإضمار قال (إلا ثوبا) مجاز، أطلق الثوب وأراد القيمة. كإطلاق الدم على الدية. ومن قال يقدم الإضمار على المجاز قال (إلا ثوبا) أي إلا قيمة ثوب. واعتمد صاحب مراقي السعود تقديم المجاز على الإضمار في قوله:
* وبعد تخصيص مجاز قبلي
* الإضمار فالنقل على المعول
*
ومعنى البيت: أن المقدم عندهم التخصيص، ثم المجاز، ثم الإضمار، ثم النقل. مثال تقديم التخصيص على المجاز إذا احتمل اللفظ كل واحد منهما قوله تعالى: * (فاقتلوا المشركين) * يحتمل التخصيص، لأن بعض المشركين كالذميين والمعاهدين أخرجهم دليل مخصص لعموم المشركين. ويحتمل عند القائلين بالمجاز أنه مجاز مرسل، أطلق فيه الكل وأراد البعض. فيقدم التخصيص لأمرين: أحدهما أن اللفظ يبقى حقيقة فيما لم يخرجه المخصص، والحقيقة مقدمة على المجاز الثاني أن اللفظ يبقى مستصحبا في الأفراد الباقية بعد التخصيص من غير احتياج إلى قرينة. ومثال تقديم المجاز على الإضمار عند احتمال اللفظ لكل واحد منهما قول السيد لعبده الذي هو أكبر منه سنا: أنت أبي، يحتمل أنه مجاز مرسل، من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. أي أنت عتيق. لأن الأبوة يلزمها العتق. ويحتمل الإضمار. أي أنت مثل أبي في الشفقة والتعظيم. فعلى الأول يعتق. وعلى الثاني لا يعتق. ومن أمثلته المسألة التي
468

نحن بصددها. ومثال تقديم الإضمار على النقل عند احتمال اللفظ لكل واحد منهما قوله تعالى: * (وحرم الربواا) * يحتمل الإضمار. أي أخذ الربا وهو الزيادة في بيع درهم بدرهمين مثلا. وعلى هذا لو حذف الدرهم الزائد لصح البيع في الدرهم بالدرهم. ويحتمل نقل الربا إلى معنى العقد. فيمتنع عقد بيع الدرهم بالدرهمين. ولو حذف الزائد فلا بد من عقد جديد مطلقا.
قال مقيده عفا الله عنه: وعلى هذين الوجهين اللذين ذكروهما في (له علي ألف دينار إلا ثوبا) وهما الإضمار والنقل يرجع الاستثناء إلى كونه متصلا، لأن قيمة الثوب من جنس الألف التي أقر بها. سواء قلنا إن القيمة مضمرة، أو قلنا إنها معبر عنها بلفظ الثوب.
التنبيه الثالث
اعلم أن الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع هو في الحقيقة خلاف لفظي. لأن الذين منعوه لم يمنعوه بالكلية، وإنما قالوا: إنه ليس من الاستثناء الحقيقي، لأن أداة الاستثناء فيه بمعنى لكن، فهو إلى الاستدراك أقرب منه إلى الاسثناء. وبعض القائلين بالاستثناء المنقطع يقول: إن الثوب في المثال المتقدم لغو، ويعد ندما من المقر بالألف. والنسبة بين الاستثناء المتصل والمنقطع عند القائلين به قيل إنها نسبة تواطؤ. وقيل: إنها من قبيل الاشتراك. وإلى مسألة الاستثناء المنقطع والفرق بينه وبين المتصل أشار في مراقي السعود بقوله: اعلم أن الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع هو في الحقيقة خلاف لفظي. لأن الذين منعوه لم يمنعوه بالكلية، وإنما قالوا: إنه ليس من الاستثناء الحقيقي، لأن أداة الاستثناء فيه بمعنى لكن، فهو إلى الاستدراك أقرب منه إلى الاسثناء. وبعض القائلين بالاستثناء المنقطع يقول: إن الثوب في المثال المتقدم لغو، ويعد ندما من المقر بالألف. والنسبة بين الاستثناء المتصل والمنقطع عند القائلين به قيل إنها نسبة تواطؤ. وقيل: إنها من قبيل الاشتراك. وإلى مسألة الاستثناء المنقطع والفرق بينه وبين المتصل أشار في مراقي السعود بقوله:
* والحكم بالنقيض للحكم حصل
* لما عليه الحكم قبل متصل
*
* وغيره منقطع ورجحا
* جوازه وهو مجاز أوضحا
*
* فلتنم ثوبا بعد ألف درهم
* الحذف والمجاز أو للندم
*
* وقيل بالحذف لدى الإقرار
* والعقد معنى الواو فيه جار
*
* بشركة وبالتواطي قالا
* بعض وأوجب فيه الاتصالا
*
وما ذكرنا من أن الاستثناء في قوله تعالى: * (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) * منقطع هو الظاهر. وقيل: هو من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم، كقول نابغة ذبيان: لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) * منقطع هو الظاهر. وقيل: هو من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم، كقول نابغة ذبيان:
* ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
* بهن فلول من قراع الكتائب
*
469

وقول الآخر: وقول الآخر:
* فما يك في من عيب فإني
* جبان الكلب مهزول الفصيل
*
وعلى هذا القول فالآية كقوله: * (وما تنقم منآ إلا أن ءامنا بأايات ربنا) *، وقوله: * (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) * ونحو ذلك من الآيات كما تقدم مستوفى في سورة (براءة).
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * فيه سؤال معروف، وهو أن يقال: ما وجه ذكر البكرة والعشي، مع أن الجنة ضياء دائم ولا دليل فيها. وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة:
الأول أن المراد بالبكرة والعشي قدر ذلك من الزمن، كقوله: * (غدوها شهر ورواحها شهر) * أي قدر شهر. وروي معنى هذا عن ابن عباس، وابن جريج وغيرهما.
الجواب الثاني أن العرب كانت في زمنها ترى أن من وجد غداء وعشاء فذلك الناعم، فنزلت الآية مرغبة لهم وإن كان في الجنة أكثر من ذلك. ويروى هذا عن قتادة، والحسن، ويحيى بن أبي كثير.
الجواب الثالث أن العرب تعبر عن الدوام بالبكرة والعشي، والمساء والصباح، كما يقول الرجل: أنا عند فلان صباحا ومساء، وبكرة وعشيا. يريد الديمومة ولا يقصد الوقتين المعلومين.
الجواب الرابع أن تكون البكرة هي الوقت الذي قبل اشتغالهم بلذاتهم. والعشي: هو الوقت الذي بعد فراغهم من لذاتهم، لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال. وهذا يرجع معناه إلى الجواب الأول.
الجواب الخامس هو ما رواه الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول) من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا: قال رجل: يا رسول الله، هل في الجنة من ليل؟ قال: (وما يهيجك على هذا)؟ قال: سمعت الله تعالى يذكر * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * فقلت: الليل بين البكرة والعشي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس هناك ليل، إنما هو ضوء ونور، يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو، تأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة) انتهى
470

بواسطة نقل صاحب الدر المنثور والقرطبي في تفسيره. وقال القرطبي بعد أن نقل هذا: وهذا في غاية البيان لمعنى الآية. وقد ذكرناه في كتاب (التذكرة) ثم قال: وقال العلماء ليس في الجنة ليل ولا نهار، وإنما هم في نور أبدا، إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب، وإغلاق الأبواب. ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب، وفتح الأبواب. ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما ا ه منه. وهذا الجواب الأخير الذي ذكره الحكيم الترمذي عن الحسن وأبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم راجع إلى الجواب الأول. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا) *. الإشارة في قوله (تلك) إلى ما تقدم من قوله. * (فأولائك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التى وعد الرحمان عباده بالغيب) *. وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يورث المتقين
من عباده جنته. وقد بين هذا المعنى أيضا في مواضع أخر، كقوله تعالى: * (قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون) * إلى قوله * (أولائك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) *، وقوله: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والا رض أعدت للمتقين) *، وقوله تعالى: * (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا) *، وقوله * (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) *، إلى غير ذلك من الآيات. ومعنى إيراثهم الجنة: الإنعام عليهم بالخلود فيها في أكمل نعيم وسرور. قال الزمخشري في (الكشاف): نورث أي نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث، ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم، وثمرتها باقية وهي الجنة. فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى. وقال بعض أهل العلم: معنى إيراثهم الجنة أن الله تعالى خلق لكل نفس منزلا في الجنة. ومنزلا في النار. فإذا دخل أهل الجنة الجنة؛ أراهم منازلهم في النار لو كفروا وعصوا الله ليزداد سرورهم وغبطتهم؛ وعند ذلك يقولون * (الحمد لله الذى هدانا لهاذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله) *. وكذلك يرى أهل النار منازلهم في الجنة لو آمنوا واتقوا الله لتزداد ندامتهم وحسرتهم، وعند ذلك يقول الواحد منهم: * (لو أن الله
471

هدانى لكنت من المتقين) *. ثم إنه تعالى يجعل منازل أهل الجنة في النار لأهل النار، ومنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة فيرثون منازل أهل النار في الجنة. وهذا هو معنى الإيراث المذكور على هذا القول.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد جاء حديث يدل لما ذكر من أن لكل أحد منزلا في الجنة ومنزلا في النار، إلا أن حمل الآية عليه غير صواب، لأن أهل الجنة يرثون من الجنة منازلهم لمعدة لهم بأعمالهم وتقواهم، كما قد قال تعالى: * (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) * ونحوها من الآيات. ولو فرضنا أنهم يرثون منازل أهل النار فحمل الآية على ذلك يوهم أنهم ليس لهم في الجنة إلا ما أورثوا من منازل أهل النار والواقع بخلاف ذلك كما ترى. والحديث المذكور هو ما رواه الإمام أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة (كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول: لولا أن الله هداني فيكون له شكر. وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لولا أن الله هداني فيكون عليه حسرة) ا ه. وعلم في الجامع الصغير على هذا الحديث علامة الصحة. وقال شارحه المناوي: قال الحاكم صحيح على شرطهما وأقره الذهبي. وقال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح ا ه قوله تعالى: * (ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) *.
قال بعض أهل العلم: نزلت هذه الآية في أبي بن خلف، وجد عظاما بالية ففتتها بيده وقال: زعم محمد أنا نبعث بعد الموت؟ قاله الكلبي، وذكره الواحدي والثعلبي. وقال المهدوي: نزلت في الوليد بن المغيرة، وأصحابه، وهو قول ابن عباس. وقيل: نزلت في العاص بن وائل. وقيل: في أبي جهل، وعلى كل واحد من هذه الأقوال فقد أسند تعالى هذا القول لجنس الإنسان وهو صادر من بعض أفراد الجنس، لأن من أساليب العربية إسناد الفعل إلى المجموع، مع أن فاعله بعضهم لا جميعهم. ومن أظهر الأدلة القرآنية في ذلك قراءة حمزة والكسائي * (فإن قاتلوكم فاقتلوهم) * من القتل في الفعلين، أي فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر كما تقدم مرارا. ومن أظهر الشواهد العربية في ذلك قول الفرزدق: فإن قاتلوكم فاقتلوهم) * من القتل في الفعلين، أي فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر كما تقدم مرارا. ومن أظهر الشواهد العربية في ذلك قول الفرزدق:
* فسيف بني عبس وقد ضربوا به
* نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
*
472

فقد أسند الضرب إلى بني عبس، مع أنه صرح بأن الضارب الذي بيده السيف هو ورقاء وهو ابن زهير بن جذيمة العبسي. وخالد هو ابن جعفر الكلابي. وقصة قتله لزهير المذكور مشهورة.
وقد بين في هذه الآية: أي هذا الإنسان الكافر يقول منكرا البعث: أئذا مت لسوف أخرج حيا، زعما منه أنه إذا مات لا يمكن أن يحيا بعد الموت. وقد رد الله عليه مقالته هذه بقوله: * (أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) * يعني: أيقول الإنسان مقالته هذه في إنكار البعث، ولا يذكر أنا أوجدناه الإيجاد الأول ولم يك شيئا، بل كان عدما فأوجدناه، وإيجادنا له المرة الأولى دليل قاطع على قدرتنا على إيجاده بالبعث مرة أخرى.
وهذا البرهان الذي أشار له هنا قد قدمنا الآيات الدالة عليه في سورة (البقرة والنحل) وغيرهما، كقوله تعالى: * (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم) *، وقوله تعالى: * (أفعيينا بالخلق الا ول بل هم فى لبس من خلق جديد) *، وقوله: * (ولقد علمتم النشأة الا ولى فلولا تذكرون) *، وقوله: * (وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) * وقوله: * (فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة) *، وقوله: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) *. وقوله تعالى: * (كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين) * إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.
وفي الحديث الصحيح الذي يرويه صلى الله عليه وسلم عن ربه: (يقول الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني. أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني؛ وليس أول الخلق أهون علي من آخره. وأما أذاه إياي فقوله إن لي ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد). فإن قيل: أين العامل في الظرف الذي هو * (إذا) * فالجواب: أنه منصوب بفعل مضمر دل عليه جزاء الشرط؛ وتقديره: أأخرج حيا إذا ما مت أي حين
يتمكن في الموت والهلاك أخرج حيا. يعني لا يمكن ذلك. فإن قيل: لم لا تقول بأنه منصوب ب * (أخرج) * المذكور في
473

قوله * (لسوف أخرج حيا) * على العادة المعروفة، من أن العامل في * (إذا) * هو جزاؤها؟ فالجواب: أن لام الابتداء في قوله: * (لسوف أخرج حيا) * مانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها كما هو معلوم في علم العربية. فلا يجوز أن تقول: اليوم لزيد قائم؛ تعني لزيد قائم اليوم. وما زعمه بعضهم من أن حرف التنفيس الذي هو سوف مانع من عمل ما بعده فيما قبله أيضا، حتى إنه على قراءة طلحة بن مصرف * (ويوم يموت ويوم يبعث حيا) * بدون اللام يمتنع نصب * (إذا) * ب * (أخرج) * المذكورة؛ فهو خلاف التحقيق.
والتحقيق أن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده فيما قبله. ودليله وجوده في كلام العرب؛ كقول الشاعر: والتحقيق أن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده فيما قبله. ودليله وجوده في كلام العرب؛ كقول الشاعر:
* فلما رأته آمنا هان وجدها
* وقالت أبونا هكذا سوف يفعل
*
فقوله (هكذا) منصوب بقوله (يفعل) كما أوضحه أبو حيان في البحر. وعليه فعلى قراءة طلحة بن مصرف فقوله: * (إذا) * منصوب بقوله * (أخرج) * لعدم وجود اللام فيها وعدم منع حرف التنفيس من عمل ما بعده فيما قبله.
تنبيه
فإن قلت: لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال، فكيف جامعت حرف التنفيس الدال على الاستقبال؟ فالجواب: أن اللام هنا جردت من معنى الحال، وأخلصت لمعنى التوكيد فقط. ولذلك جامعت حرف الاستقبال كما بينه الزمحشري في الكشاف، وتعقبه أبو حيان في البحر المحيط بأن من علماء العربية من يمنع أن اللام المذكورة تعطي معنى الحال، وعلى قوله يسقط الإشكال من أصله. والعلم عند الله تعالى.
* (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا * ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمان عتيا * ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا * وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) * قوله تعالى: * (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) *. لما أقام الله جل وعلا البرهان على البعث بقوله: * (أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) * أقسم جل وعلا بنفسه الكريمة، أنه يحشرهم أي الكافرين المنكرين للبعث وغيرهم من الناس، ويحشرهم معهم الشياطين الذين كانوا يضلونهم في الدنيا، وأنه يحضرهم حول جهنم جثيا. وهذان الأمران اللذان ذكرهما في هذه الآية الكريمة أشار إليهما في غير هذا الموضع. أما حشره لهم ولشياطينهم فقد أشار إليه في قوله: * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله
474

فاهدوهم إلى صراط الجحيم) * على أحد التفسيرات. وقوله: * (حتى إذا جآءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) *.
وأما إحضارهم حول جهنم جثيا فقد أشار له في قوله: * (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون) *، وقوله في هذه الآية الكريمة * (جثيا) * جمع جاث. والجاثي اسم فاعل جثا يجثو جثوا. وجثى يجثي جثيا: إذا جلس على ركبتيه أو قام على أطراف أصابعه. والعادة عند العرب: أنهم إذا كانوا في موقف ضنك وأمر شديد، جثوا على ركبهم، ومنه قول بعضهم: وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون) *، وقوله في هذه الآية الكريمة * (جثيا) * جمع جاث. والجاثي اسم فاعل جثا يجثو جثوا. وجثى يجثي جثيا: إذا جلس على ركبتيه أو قام على أطراف أصابعه. والعادة عند العرب: أنهم إذا كانوا في موقف ضنك وأمر شديد، جثوا على ركبهم، ومنه قول بعضهم:
* فمن للحماة ومن للكماة
* إذا ما الكماة جثوا للركب
*
* إذا قيل مات أبو مالك
* فتى المكرمات قريع العرب
*
وكون معنى قوله * (جثيا) * في هذه الآية، وقوله * (وترى كل أمة جاثية) * أنه جثيهم على ركبهم وهو الظاهر، وهو قول الأكثر، وهو الإطلاق المشهور في اللغة؛ ومنه قول الكميت: وترى كل أمة جاثية) * أنه جثيهم على ركبهم وهو الظاهر، وهو قول الأكثر، وهو الإطلاق المشهور في اللغة؛ ومنه قول الكميت:
* هم تركوا سراتهم جثيا
* وهم دون السراة مقرنينا
*
وعن ابن عباس في قوله في هذه الآية الكريمة * (جثيا) * أن معناه جماعات. وعن مقاتل * (جثيا) *: أي جمعا جمعا، وهو على هذا القول جمع (جثوة) مثلثة الجيم، وهي الحجارة المجموعة والتراب المجموع. فأهل الخمر يحضرون حول جهنم على حدة، وأهل الزنى على حدة؛ وأهل السرقة على حدة..؛ وهكذا. ومن هذا المعنى قول طرفة بن العبد في معلقته: وعن ابن عباس في قوله في هذه الآية الكريمة * (جثيا) * أن معناه جماعات. وعن مقاتل * (جثيا) *: أي جمعا جمعا، وهو على هذا القول جمع (جثوة) مثلثة الجيم، وهي الحجارة المجموعة والتراب المجموع. فأهل الخمر يحضرون حول جهنم على حدة، وأهل الزنى على حدة؛ وأهل السرقة على حدة..؛ وهكذا. ومن هذا المعنى قول طرفة بن العبد في معلقته:
* ترى جثوتين من تراب عليهما
* صفائح صم من صفيح منضد
*
هكذا قال بعض أهل العلم: ولكنه يرد عليه أن فعلة كجثوة لم يعهد جمعها على فعول كجثى. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي وحفص * (جثيا) * بكسر الجيم إتباعا للكسرة بعده وقرأ الباقون * (جثيا) * بضم الجيم على الأصل. قوله تعالى: * (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمان عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) *. قوله في هذه الآية * (لننزعن) * أي لنستخرجن * (من كل
475

شيعة) * أي من كل أمة أهل دين واحد. وأصل الشيعة فعلة كفرقة، وهي الطائفة التي شاعت غيرها أي تبعته في هدى أو ضلال؛ تقول العرب: شاعه شياعا: إذا تبعه. وقوله تعالى: * (أيهم أشد على الرحمان عتيا) *. أي لنستخرجن ولنميزن من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم فأعصاهم، وأعتاهم فأعتاهم، فيبدأ بتعذيبه وإدخاله النار على حسب مراتبهم في الكفر، والإضلال والضلال. وهذا هو الظاهر في معنى الآية الكريمة: أن الرؤساء القادة في الكفر يعذبون قبل غيرهم ويشدد عليهم العذاب لضلالهم وإضلالهم.
وقد جاءت آيات من كتاب الله تعالى تدل على هذا، كقوله تعالى: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) *، وقوله تعالى: * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون) *، وقوله: * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون) * ولأجل هذا كان في أمم النار أولى وأخرى. فالأولى: التي يبدأ بعذابها وبدخولها النار. والأخرى التي تدخل بعدها على حسب تفاوتهم في أنواع الكفر والضلال، كما قال تعالى: * (قال ادخلوا فى أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس فى النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لا ولاهم ربنا هاؤلاء أضلونا فأاتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولاكن لا تعلمون وقالت أولاهم لا خراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) * يعني: أنه جل وعلا أعلم بمن يستحق منهم أن يصلى النار، ومن هو أولى بذلك. وقد بين الرؤساء والمرؤوسين كلهم ممن يستحق ذلك في قوله * (قال لكل ضعف) * والصلى مصدر صلى النار كرضى يصلاها صليا (بالضم والكسر) إذا قاسى ألمها، وباشر حرها.
واختلف العلماء في وجه رفع (أي) مع أنه منصوب؛ لأنه مفعول * (لننزعن) * فذهب سيبويه ومن تبعه إلى أن لفظة (أي) موصولة، وأنها مبنية على الضم إذا كانت مضافة وصدر صلتها ضمير محذوف كما هنا. وعقده ابن مالك في الخلاصة بقوله: واختلف العلماء في وجه رفع (أي) مع أنه منصوب؛ لأنه مفعول * (لننزعن) * فذهب سيبويه ومن تبعه إلى أن لفظة (أي) موصولة، وأنها مبنية على الضم إذا كانت مضافة وصدر صلتها ضمير محذوف كما هنا. وعقده ابن مالك في الخلاصة بقوله
476

:
* أي كما وأعربت ما لم تضف
* وصدر وصلها ضمير انحذف
*
وبعضهم أعرب مطلقا.. الخ.
ويدل على صحة قول سيبويه رحمه الله قول غسان بن وعلة: ويدل على صحة قول سيبويه رحمه الله قول غسان بن وعلة:
* إذا ما لقيت بني مالك
* فسلم على أيهم أفضل
*
والرواية بضم * (أيهم) * وخالف الخليل ويونس وغيرهما سيبويه في (أي) المذكورة. فقال الخليل: إنها في الآية استفهامية محكية بقول مقدر والتقدير: ثم لننزعن من كل شيعة الذي يقال فيه أيهم أشد؛ وأنشد الخليل لهذا المعنى الذي ذهب إليه قول الشاعر: ثم لننزعن من كل شيعة الذي يقال فيه أيهم أشد؛ وأنشد الخليل لهذا المعنى
الذي ذهب إليه قول الشاعر:
* ولقد أبيت من الفتاة بمنزل
* فأبيت لا حرج ولا محروم
*
أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له: لا هو حرج ولا محروم. وأما يونس فذهب إلى أنها استفهامية أيضا؛ لكنه حكم بتعليق الفعل قبلها بالاستفهام لأن التعليق عنده لا يختص بأفعال القلوب، واحتج لسيبويه على الخليل ويونس ومن تبعهما ببيت غسان بن وعلة المذكور آنفا، لأن الرواية فيه بضم * (أيهم) * مع أن حروف الجر، لا يضمر بينها وبين معمولها قول ولا تعلق على الأصوب، وإن خالف فيه بعضهم ببعض التأويلات. ومما ذكرنا تعلم أن ما ذكره بعضهم من أن جميع النحويين غلطوا سيبويه في قوله هذا في (أي) في هذه الآية الكريمة خلاف التحقيق. والعلم عند الله تعالى. وقرأه حمزة والكسائي وحفص * (عتيا) * بكسر العين. و * (صليا) * بكسر الصاد للاتباع. وقرأ الباقون بالضم فيهما على الأصل. قوله تعالى: * (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) *. اختلف العلماء في المراد بورود النار في هذه الآية الكريمة على أقوال:
الأول: أن المراد بالورود الدخول، ولكن الله يصرف أذاها عن عباده المتقين عند ذلك الدخول.
الثاني: أن المراد بورود النار المذكور: الجواز على الصراط، لأنه جسر منصوب على متن جهنم.
477

الثالث: أن الورود المذكور هو الإشراف عليها والقرب منها.
الرابع: أن حظ المؤمنين من ذلك الورود هو حر الحمى في دار
478

الدنيا. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في القرآن فغلبته فيه دليل استقرائي على عدم خروجه من معنى الآية. وقد قدمنا أمثلة لذلك. فإذا علمت ذلك فاعلم أن ابن عباس رضي الله عنهما استدل على المراد بورود النار في الآية بمثل ذلك الدليل الذي ذكرنا أنه من أنواع البيان في هذا الكتاب المبارك.
وإيضاحه أن ورود النار جاء في القرآن في آيات متعددة، والمراد في كل واحدة منها الدخول. فاستدل بذلك ابن عباس على أن (الورود في الآية التي فيها النزاع هو الدخول)، لدلالة الآيات الأخرى على ذلك، كقوله تعالى: * (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود) * قال: فهذا ورود دخول، وكقوله: * (لو كان هاؤلاء ءالهة ما وردوها وكل فيها خالدون) * فهو ورود دخول أيضا، وكقوله: * (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) * وقوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) * وبهذا استدل ابن عباس على نافع بن الأزرق في (أن الورود الدخول).
واحتج من قال بأن الورود: الإشراف والمقاربة بقوله تعالى: * (ولما ورد مآء مدين) *. قال: فهذا ورود مقاربة وإشراف عليه. وكذا قوله تعالى: * (فأرسلوا واردهم) *. ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى في معلقته: فأرسلوا واردهم) *. ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
* فلما وردن الماء زرقا جمامه
* وضعن عصي الحاضر اطلمتخيم
*
قالوا: والعرب تقول: وردت القافلة البلد وإن لم تدخله، ولكن قربت منه. واحتج من قال بأن الورود في الآية التي نحن بصددها ليس نفس الدخول بقوله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولائك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فى ما اشتهت أنفسهم خالدون) * قالوا: إبعادهم عنها المذكور في هذه الآية يدل على عدم دخولهم فيها؛ فالورود غير الدخول.
واحتج من قال: بأن ورود النار في الآية بالنسبة للمؤمنين حر الحمى في دار الدنيا بحديث (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء) وهو حديث متفق عليه من حديث عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، وابن عمر ورافع بن خديج رضي الله عنهم. ورواه البخاري أيضا مرفوعا عن ابن عباس:
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد دلت على أن الورود في الآية معناه الدخول أدلة: الأول هو ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن جميع ما في القرآن من ورود النار معناه دخولها غير محل النزاع، فدل ذلك على أن محل النزاع كذلك، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. الدليل الثاني هو أن في نفس الآية قرينة دالة على ذلك، وهي أنه تعالى لما خاطب جميع الناس بأنهم سيردون النار برهم وفاجرهم بقوله: * (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) * بين مصيرهم ومآلهم بعد ذلك الورود المذكور بقوله: * (ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها) * أي نترك الظالمين فيها دليل على أن ورودهم لها دخولهم فيها، إذ لو لم يدخلوها لم يقل: ونذر الظالمين فيها. بل يقول: وندخل الظالمين، وهذا واضح كما ترى وكذلك قوله: * (ثم ننجى الذين اتقوا) * دليل على أنهم وقعوا فيما من شأنه أنه هلكة، ولذا عطف على قوله: * (وإن منكم إلا واردها) * قوله: * (ثم ننجى الذين اتقوا) *.
الدليل الثالث ما روي من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية الكريمة: أخرج أحمد وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن. وقال
بعضهم: يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا. فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فذكرت له ذلك فقال وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها: فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجا من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا) ا ه. وقال ابن حجر في (الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف) في هذا الحديث: رواه أحمد وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد قالوا: حدثنا سليمان بن حرب، وأخرجه أبو يعلى والنسائي في الكنى، والبيهقي في الشعب في باب النار، والحكم في النوادر، كلهم من طريق سليمان قال: حدثنا أبو صالح غالب بن سليمان، عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فسألنا جابرا فذكر الحديث أتم من اللفظ
479

الذي ذكره الزمخشري. وخالفهم كلهم الحاكم فرواه من طريق سليمان بهذا الإسناد فقال عن منية الأزدية عن عبد الرحمن بن شيبة بدل أبي سمية عن جابر ا ه. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا غالب بن سليمان، عن كثير بن زياد البرساني، عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن. وقال بعضهم: يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت: إنا اختلفنا في الورود فقال: يدخلونها جميعا. ثم ذكر الحديث المتقدم. ثم قال ابن كثير رحمه الله: غريب ولم يخرجوه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر أن الإسناد المذكور لا يقل عن درجة الحسن لأن طبقته الأولى: سليمان بن حرب، وهو ثقة إمام حافظ مشهور. وطبقته الثانية: أبو صالح أو أبو سلمة غالب بن سليمان العتكي الجهضمي الخراساني أصله من البصرة، وهو ثقة. وطبقته الثالثة: كثير بن زياد أبو سهل البرساني بصري نزل بلخ، وهو ثقة. وطبقته الرابعة: أبو سمية وقد ذكره ابن حبان في الثقات، قاله ابن حجر في تهذيب التهذيب: وبتوثيق أبي سمية المذكور تتضح صحة الحديث، لأن غيره من رجال هذا الإسناد ثقات معروفون، مع أن حديث جابر المذكور يعتضد بظاهر القرآن وبالآيات الأخرى التي استدل بها ابن عباس وآثار جاءت عن علماء السلف رضي الله عنهم كما ذكره ابن كثير عن خالد بن معدان، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وذكره هو وابن جرير عن أبي ميسرة، وذكره ابن كثير عن عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري، كلهم يقولون: إنه ورود دخول. وأجاب من قال: بأن الورود في الآية الدخول عن قوله تعالى: * (أولائك عنها مبعدون) * بأنهم مبعدون عن عذابها وألمها. فلا ينافي ذلك ورودهم إياها من غير شعورهم بألم ولا حر منها كما أوضحناه في كتابنا * (دفع الر تلك ءايات الكتاب الحكيم) * في الكلام على هذه الآية الكريمة. وأجابوا عن الاستدلال بحديث (الحمى من فيح جهنم) بالقول بموجبه، قالوا: الحديث حق صحيح ولكنه لا دليل فيه لمحل النزاع، لأن السياق صريح في أن الكلام في النار في الآخرة وليس في حرارة منها في الدنيا، لأن أول الكلام قوله تعالى: * (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) * إلى أن قال * (وإن منكم إلا واردها) * فدل على أن كل ذلك في الآخرة لا في الدنيا كما ترى. والقراءة في قوله: * (جثيا) * كما قدمنا في قوله * (ثم لنحضرنهم حول جهنم
480

جثيا) *. وقوله: * (ثم ننجى) * قراءة الكسائي بإسكان النون الثانية وتخفيف الجيم، وقرأه الباقون بفتح النون الثانية وتشديد الجيم. وقد ذكرنا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) أن جماعة رووا عن ابن مسعود: (أن ورود النار المذكور في الآية هو المرور عليها، لأن الناس تمر على الصراط وهو جسر منصوب على متن جهنم) وأن الحسن وقتادة روي عنهما نحو ذلك أيضا. وروي عن ابن مسعود أيضا مرفوعا: (أنهم يردونها جميعا ويصدون عنها بحسب أعمالهم). وعنه أيضا تفسير (الورود بالوقوف عليها). والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في الآية الكريمة: * (كان على ربك حتما مقضيا) * يعني أن ورودهم النار المذكور كان حتما على ربك مقضيا، أي أمرا واجبا مفعولا لا محالة، والحتم: الواجب الذي لا محيد عنه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي: كان على ربك حتما مقضيا) * يعني أن ورودهم النار المذكور كان حتما على ربك مقضيا، أي أمرا واجبا مفعولا لا محالة، والحتم: الواجب الذي لا محيد عنه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي:
* عبادك يخطؤون وأنت رب
* يكفيك المنايا والحتوم
*
فقوله: (والحتوم) جمع حتم، يعني الأمور الواجبة التي لا بد من وقوعها. وما ذكره جماعة من أهل العلم من أن المراد بقوله: حتما مقضيا) * قسما واجبا)، كما روي عن عكرمة وابن مسعود ومجاهد وقتادة وغيرهم لا يظهر كل الظهور.
واستدل من قال: إن في الآية قسما بحديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين. قال البخاري في صحيحه: حدثنا علي، حدثنا سفيان قال: سمعت الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم) قال أبو عبد الله: * () * قسما واجبا)، كما روي عن عكرمة وابن مسعود ومجاهد وقتادة وغيرهم لا يظهر كل الظهور.
واستدل من قال: إن في الآية قسما بحديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين. قال البخاري في صحيحه: حدثنا علي، حدثنا سفيان قال: سمعت الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم) قال أبو عبد الله: * (وإن منكم إلا واردها) * ا ه. وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم). حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب
قالوا. حدثنا سفيان بن عيينة (ح) وحدثنا عبد بن حميد، وابن رافع، عن عبد الرزاق، أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري بإسناد مالك، وبمعنى حديثه إلا أن في حديث سفيان (فيلج النار إلا تحلة القسم) ا ه. قالوا. المراد بالقسم المذكور في هذا الحديث الصحيح هو قوله تعالى: * (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) * وهو معنى ما ذكرنا عن البخاري في قوله: قال أبو عبد الله * (وإن منكم إلا واردها) *.
481

والذين استدلوا بالحديث المذكور على أن الآية الكريمة قسما اختلفوا في موضع القسم من الآية، فقال بعضهم: هو مقدر دل عليه الحديث المذكور، أي والله وإن منكم إلا واردها. وقال بعضهم: هو معطوف على القسم قبله، والمعطوف على القسم قسم، والمعنى: فوربك لنحشرنهم والشياطين وربك إن منكم إلا واردها، وقال بعضهم: القسم المذكور مستفاد من قوله: * (كان على ربك حتما مقضيا) * أي قسما واجبا كما قدمناه عن ابن مسعود ومجاهد، وعكرمة، وقتادة. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق. فإن قوله تعالى: * (كان على ربك حتما مقضيا) * تذييل وتقرير لقوله * (وإن منكم إلا واردها) * وهذا بمنزلة القسم في تأكيد الإخبار. بل هذا أبلغ للحصر في الآية بالنفي والإثبات.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن الآية ليس يتعين فيها قسم. لأنها لم تقترن بأداة من أدوات القسم، ولا قرينة واضحة دالة على القسم، ولم يتعين عطفها على القسم. والحكم بتقدير قسم في كتاب الله دون قرينة ظاهرة فيه زيادة على معنى كلام الله بغير دليل يجب الرجوع إليه. وحديث أبي هريرة المذكور المتفق عليه لا يتعين منه أن في الآية قسما. لأن من أساليب اللغة العربية التعبير بتحلة القسم عن القلة الشديدة وإن لم يكن هناك قسم أصلا. يقولون: ما فعلت كذا إلا تحلة القسم، يعنون إلا فعلا قليلا جدا قدر ما يحلل به الحالف قسمه. وهذا أسلوب معروف في كلام العرب، ومنه قول كعب بن زهير في وصف ناقته: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن الآية ليس يتعين فيها قسم. لأنها لم تقترن بأداة من أدوات القسم، ولا قرينة واضحة دالة على القسم، ولم يتعين عطفها على القسم. والحكم بتقدير قسم في كتاب الله دون قرينة ظاهرة فيه زيادة على معنى كلام الله بغير دليل يجب الرجوع إليه. وحديث أبي هريرة المذكور المتفق عليه لا يتعين منه أن في الآية قسما. لأن من أساليب اللغة العربية التعبير بتحلة القسم عن القلة الشديدة وإن لم يكن هناك قسم أصلا. يقولون: ما فعلت كذا إلا تحلة القسم، يعنون إلا فعلا قليلا جدا قدر ما يحلل به الحالف قسمه. وهذا أسلوب معروف في كلام العرب، ومنه قول كعب بن زهير في وصف ناقته:
* تخدي على يسرات وهي لاصقة
* ذوابل مسهن الأرض تحليل
*
يعني: أن قوائم ناقته لا تمس الأرض لشدة خفتها إلا قدر تحليل القسم، ومعلوم أنه لا يمين من ناقته أنها تمس الأرض حتى يكون ذلك المس تحليلا لها كما ترى. وعلى هذا المعنى المعروف: فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم (إلا تحلة) أي لا يلج النار إلا ولوجا قليلا جدا لا ألم فيه ولا حر، كما قدمنا في حديث جابر المرفوع. وأقرب أقوال من قالوا: إن في الآية قسما قول من قال إنه معطوف على قوله: * (فوربك لنحشرنهم) * لأن الجمل المذكورة بعده معطوفة عليه، كقوله: * (ثم لنحضرنهم) *، وقوله: * (ثم لننزعن) * وقوله: * (ثم لنحن أعلم) * لدلالة قرينة لام القسم في الجمل المذكورة على ذلك. أما قوله: * (وإن منكم إلا واردها) * فهو محتمل للعطف أيضا، ومحتمل للاستئناف. والعلم عند الله تعالى.
482

* (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين كفروا للذين ءامنوا أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا * وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا * قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمان مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا * ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والبقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا * أفرأيت الذى كفر بأاياتنا وقال لأوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) * قوله تعالى * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين كفروا للذين ءامنوا أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا) *. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (خير مقاما) * قرأه ابن كثير بضم الميم. والباقون بفتحها. وقوله: * (ورئيا) * قرأه قالون وابن ذكوان (وريا) بتشديد الياء من غير همز. وقرأه الباقون بهمزة ساكنة بعد الراء وبعدها ياء مخففة.
ومعنى الآية الكريمة: أن كفار قريش كانوا إذا يتلوا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه آيات هذا القرآن، في حال كونها بينات أي مرتلات الألفاظ، واضحات المعاني، بينات المقاصد، إما محكمات جاءت واضحة، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا، أو ظاهرات الإعجاز تحدي بها فلم يقدر على معارضتها أو حججا وبراهين.
والظاهر أن قوله: * (ءاياتنا بينات) * حال مؤكدة. لأن آيات الله لا تكون إلا كذلك. ونظير ذلك قوله تعالى: * (وهو الحق مصدقا) * أي إذا تتلى عليهم آيات الله في حال كونها متصفة بما ذكرنا عارضوها واحتجوا على بطلانها، وأن الحق معهم لا مع من يتلوها بشبهة ساقطة لا يحتج بها إلا من لا عقل له. ومضمون شبهتهم المذكورة: أنهم يقولون لهم: نحن أوفر منكم حظا في الدنيا، فنحن أحسن منكم منازل، وأحسن منكم متاعا، وأحسن منكم منظرا، فلولا أننا أفضل عند الله منكم لما آثرنا عليكم في الحياة الدنيا، وأعطانا من نعيمها وزينتها ما لم يعطكم.
فقوله: * (أى الفريقين خير مقاما) * أي نحن وأنتم أينا خير مقاما. والمقام على قراءة ابن كثير بضم الميم محل الإقامة، وهو المنازل والأمكنة التي يسكنونها. وعلى قراءة الجمهور فالمقام بفتح الميم مكان القيام وهو موضع قيامهم وهو مساكنهم ومنازلهم. وقيل: وهو موضع القيام بالأمور الجليلة، والأول هو الصواب.
وقوله: * (وأحسن نديا) * أي مجلسا ومجتمعا. والاستفهام في قوله: * (أى الفريقين) * الظاهر أنه استفهام تقرير. ليحملوا به ضعفاء المسلمين الذين هم في تقشف ورثاثة هيئة على أن يقولوا أنتم خير مقاما وأحسن نديا منا. وعلى كل حال فلا خلاف أن
483

مقصودهم بالاستفهام المذكور أنهم أي كفار قريش خير مقاما وأحسن نديا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك هو دليلهم على أنهم على الحق، وأنهم أكرم على الله من المسلمين. وما في التلخيص وشروحه من أن السؤال ب (أي) في الآية التي نحن بصددها سؤال بها عما يميز أحد المشتركين في أمر يعمهما كالعادة في أي غلط منهم. لأنهم فسروا الآية الكريمة بغير معناها الصحيح. والصواب ما ذكرناه إن شاء الله تعالى. واستدلالهم هذا بحظهم في الحياة الدنيا على حظهم يوم القيامة، وأن الله ما أعطاهم في الدنيا إلا لمكانتهم عنده، واستحقاقهم لذلك القيامة، وأن الله ما أعطاهم في الدنيا إلا لمكانتهم عنده، واستحقاقهم لذلك لسخافة عقولهم ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه. كقوله تعالى عنهم: * (وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيرا ما سبقونآ إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هاذآ إفك قديم) *، وقوله تعالى: * (وكذالك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهاؤلاء من الله عليهم من بيننآ أليس الله بأعلم بالشاكرين) *، وقوله تعالى: * (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) *، وقوله تعالى: * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون) *، وقوله * (أفرأيت الذى كفر بأاياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) *، وقوله * (قال مآ أظن أن تبيد هاذه أبدا ومآ أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا) *، وقوله: * (ولئن رجعت إلى ربى إن لى عنده للحسنى) *، إلى غير ذلك من الآيات. فكل هذه الآيات دالة على أنهم لجهلهم يظنون أن الله لم يعطهم نصيبا من الدنيا إلا لرضاه عنهم، ومكانتهم عنده، وأن الأمر في الآخرة سيكون كذلك.
وقد أبطل الله تعالى دعواهم هذه في آيات كثيرة من كتابه كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا) * والمعنى: أهلكنا قرونا كثيرة، أي أمما كانت قبلهم وهم أكثر نصيبا في الدنيا منهم، فما معهم ما كان عندهم من زينة الدنيا ومتاعها من إهلاك الله إياهم لما عصوا وكذبوا رسله، فلو كان الحظ والنصيب في الدنيا يدل على رضا الله والمكانة عنده لما أهلك الذين من قبلكم، الذين هم أحسن أثاثا ورئيا منكم.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (وكم) * هي الخبرية، ومعناها الإخبار بعدد كثير، وهي في حمل نصب على المفعول به لأهلكنا، أي أهلكنا كثيرا. * (ومن) * مبينة
484

ل * (كم) * وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم. قيل: سموا قرنا لاقترانهم في الوجود. والأثاث: متاع البيت. وقيل هو الجديد من الفرش. وغير الجديد منها يسمى (الخرثي) بضم الخاء وسكون الراء والثاء المثلثة بعدها ياء مشددة. وأنشد لهذا التفصيل الحسن بن علي الطوسي قول الشاعر: وقوله في هذه الآية الكريمة: * (وكم) * هي الخبرية، ومعناها الإخبار بعدد كثير، وهي في حمل نصب على المفعول به لأهلكنا، أي أهلكنا كثيرا. * (ومن) * مبينة ل * (كم) * وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم. قيل: سموا قرنا لاقترانهم في الوجود. والأثاث: متاع البيت. وقيل هو الجديد من الفرش. وغير الجديد منها يسمى (الخرثي) بضم الخاء وسكون الراء والثاء المثلثة بعدها ياء مشددة. وأنشد لهذا التفصيل الحسن بن علي الطوسي قول الشاعر:
* تقادم العهد من أم الوليد بنا
* دهرا وصار أثاث البيت خرثيا
*
والإطلاق المشهور في العربية هو إطلاق الأثاث على متاع البيت مطلقا. قال الفراء: لا واحد له. ويطلق الأثاث على المال أجمع: الإبل، والغنم، والعبيد، والمتاع. والواحد أثاثة. وتأثث فلان: إذا أصاب رياشا، قاله الجوهري عن أبي زيد. وقوله * (ورئيا) * على قراءة الجمهور مهموزا، أي أحسن منظرا وهيئة، وهو فعل بمعنى مفعول من رأى البصرية. والمراد به الذي تراه العين من هيأتهم الحسنة ومتاعهم الحسن. وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي في هذا المعنى قوله: وتأثث فلان: إذا أصاب رياشا، قاله الجوهري عن أبي زيد. وقوله * (ورئيا) * على قراءة الجمهور مهموزا، أي أحسن منظرا وهيئة، وهو فعل بمعنى مفعول من رأى البصرية. والمراد به الذي تراه العين من هيأتهم الحسنة ومتاعهم الحسن. وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي في هذا المعنى قوله:
* أشافتك الظغائن يوم بانوا
* بذي الرئي الجميل من الأثاث
*
وعلى قراءة قالون وابن ذكوان بتشديد الياء من غير همز. فقال بعض العلماء: معناه معنى القراءة الأولى، إلا أن الهمزة أبدلت ياء فأدغمت في الياء. وقال بعضهم: لا همز على قراءتهما أصلا بل عليها فهو من الري الذي هو النعمة والترفه، من قولهم: هو ريان من النعيم، وهي ريا منه. وعلى هذا فالمعنى أحسن نعمة وترفها. والأول أظهر عندي. والله تعالى أعلم.
والآيات التي أبطل الله بها دعواهم هذه كثيرة. كقوله تعالى: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لانفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) *، وقوله: * (ومآ أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى إلا من ءامن وعمل صالحا فأولائك لهم جزآء الضعف بما عملوا وهم فى الغرفات ءامنون) *. وقوله: * (فذرنى ومن يكذب بهاذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) * وأملى لهم إن كيدى متين) *، وقوله تعالى: * () *، وقوله تعالى: * (فلما نسوا ما ذكروا
به فتحنا عليهم أبواب كل شىء حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) *. والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا، وقد قدمنا شيئا من ذلك.
وقول الكفار الذي حكاه الله عنهم في هذه الآية الكريمة * (أى الفريقين خير مقاما
485

وأحسن نديا) * الظاهر فيه أن وجه ذكرهم للمقام والندي: أن المقام هو محل السكنى الخاص لكل واحد منهم. والندي محل اجتماع بعضهم ببعض، فإذا كان كل منهما للكفار أحسن من نظيره عند المسلمين دل ذلك على أن نصيبهم في الدنيا أوفر من نصيب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت. ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر: في ذلك الوقت. ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر:
* يومان يوم مقامات وأندية
* ويوم سير إلى الأعداء تأويب
*
والمقامات: جمع مقامة بمعنى المقام. والأندية: جمع ناد بمعنى الندى وهو مجلس القوم، ومنه قوله تعالى: * (السبيل وتأتون فى ناديكم المنكر) * فالنادي والندي يطلقان على المجلس، وعلى القوم الجالسين فيه. وكذلك المجلس يطلق على القوم الجالسين، ومن إطلاق الندي على المكان قول الفرزدق: والمقامات: جمع مقامة بمعنى المقام. والأندية: جمع ناد بمعنى الندى وهو مجلس القوم، ومنه قوله تعالى: * (السبيل وتأتون فى ناديكم المنكر) * فالنادي والندي يطلقان على المجلس، وعلى القوم الجالسين فيه. وكذلك المجلس يطلق على القوم الجالسين، ومن إطلاق الندي على المكان قول الفرزدق:
* وما قام منا قائم في ندينا
* فينطق إلا بالتي هي أعرف
*
وقوله تعالى هنا: * (وأحسن نديا) *. ومن إطلاقه على القوم قوله: * (فليدع ناديه سندع الزبانية) *. ومن إطلاق المجلس على القوم الجالسين فيه قول ذي الرمة: سندع الزبانية) *. ومن إطلاق المجلس على القوم الجالسين فيه قول ذي الرمة:
* لهم مجلس صهب السبال أذلة
* سواسية أحرارها وعبيدها
*
والجملة في قوله: * (هم أحسن أثاثا ورءيا) *: قال الزمخشري: هي في محل نصب صفة لقوله: * (كم) * ألا ترى أنك لو تركت لفظة * (هم) * لم يكن لك بد من نصب * (أحسن) * على الوصفية ا ه وتابع الزمخشري أبو البقاء على ذلك. وتعقبه أبو حيان في البحر بأن بعض علماء النحو نصوا على أن (كم) سواء كانت استفهامية أو خبرية لا توصف ولا يوصف بها. قال: وعلى هذا يكون * (هم أحسن) * في موضع الصفة ل * (قرن) * وجمع نعت القرن اعتبارا لمعنى القرن، وهذا هو الصواب عندي لا ما ذكره الزمخشري وأبو البقاء. وصيغة التفضيل في قوله: * (هم أحسن أثاثا ورءيا) * تلزمها (من) لتجردها من الإضافة والتعريف، إلا أنها محذوفة لدلالة المقام عليها. والتقدير: هم أحسن أثاثا ورئيا منهم، على حد قوله في الخلاصة: هم أحسن أثاثا ورءيا) * تلزمها (من) لتجردها من الإضافة والتعريف، إلا أنها محذوفة لدلالة المقام عليها. والتقدير: هم أحسن أثاثا ورئيا منهم، على حد قوله في الخلاصة:
* وأفعل التفضيل صله أبدا
* تقديرا أو لفظا بمن إن جردا
*
فإن قيل: أين مرجع الضمير في هذه الآية الكريمة في قوله: * (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين كفروا) *؟ فالجواب أنه راجع إلى الكفار
486

المذكورين في قوله: * (ويقول الإنسان أإذا ما مت) *، وقوله: * (ونذر الظالمين فيها جثيا) * قاله القرطبي. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمان مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا) *. في معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء، وكلاهما يشهد له قرآن:
الأول أن الله جل وعلا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول هذه الكلمات كدعاء المباهلة بينه وبين المشركين. وإيضاح معناه: قل يا نبي الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المشركين الذين ادعوا أنهم خير منكم، وأن الدليل على ذلك أنهم خير منكم مقاما وأحسن منكم نديا من كان منا ومنكم في الضلالة أي الكفر والضلال عن طريق الحق فليمدد له الرحمن مدا، أي فأمهله الرحمن إمهالا فيما هو فيه حتى يستدرجه بالإمهال ويموت على ذلك ولا يرجع عنه، بل يستمر على ذلك حتى يرى ما يوعده الله، وهو: إما عذاب في الدنيا بأيدي المسلمين، كقوله * (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) * أو بغير ذلك. وإما عذاب الآخرة إن ماتوا وهم على ذلك الكفر. وعلى ذلك التفسير فصيغة الطلب المدلول عليها باللام في قوله * (فليمدد) * على بابها. وعليه فهي لام الدعاء بالإمهال في الضلال على الضال من الفريقين، حتى يرى ما يوعده من الشر وهو على أقبح حال من الكفر والضلال. واقتصر على هذا التفسير ابن كثير وابن جرير، وهو الظاهر من صيغة الطلب في قوله * (
فليمدد) * ونظير هذا المعنى في القرآن قوله تعالى: * (فمن حآجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنآءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين) * لأنه على ذلك التفسير يكون في كلتا الآيتين دعاء بالشر على الضال من الطائفتين. وكذلك قوله تعالى في اليهود: * (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) * في (البقرة والجمعة) عند من يقول: إن المراد بالتمني الدعاء بالموت على الكاذبين من الطائفتين، وهو اختيار ابن كثير. وظاهر الآية لا يساعد عليه.
الوجه الثاني أن صيغة الطلب في قوله * (فليمدد) * يراد بها الإخبار عن سنة الله في الضالين. وعليه فالمعنى: أن الله أجرى العادة بأنه يمهل الضال ويملي له فيستدرجه
487

بذلك حتى يرى ما يوعده، وهو في غفلة وكفر وضلال.
وتشهد لهذا الوجه آيات كثيرة، كقوله: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لانفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما) *، وقوله: * (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شىء حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا أخذناهم بغتة) *، كما قدمنا قريبا بعض الآيات الدالة عليه.
ومما يؤيد هذا الوجه ما أخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال: في حرف أبي: (قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة) ا ه قاله صاحب الدر المنثور. ومثل هذا من جنس التفسير لا من جنس القراءة. فإن قيل على هذا الوجه. ما النكتة في إطلاق صيغة الطلب في معنى الخبر؟ فالجواب أن الزمخشري أجاب في كشافه عن ذلك. قال في تفسير قوله تعالى: * (فليمدد له الرحمان مدا) * أي مد له الرحمن، يعني أمهله وأملى له في العمر. فأخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة، كالمأمور به الممتثل لتنقطع معاذير الضال، ويقال له يوم القيامة: * (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) * ا ه محل الغرض منه. وأظهر الأقوال عندي في قوله: * (قل من كان فى الضلالة) * أنه متعلق بما قبله يليه، والمعنى: فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأى ما يوعد علم أن الأمر على خلاف ما كان يظن. وقال الزمخشري: إن * (حتى) * في هذه الآية هي التي تحكي بعدها الجمل. واستدل على ذلك بمجيء الجملة الشرطية بعدها.
وقوله * (ما يوعدون) * لفظة * (ما) * مفعول به ل * (وأوا) *. وقوله. * (إما العذاب وإما الساعة) * بدل من المفعول به الذي هو * (فى ما) * ولفظة * (من) * ن قوله * (فسيعلمون من هو) *، قال بعض العلماء: هي موصولة في محل نصب على المفعول به ليعلمون. وعليه فعلم هنا عرفانية تتعدى إلى مفعول واحد. وقال بعض أهل العلم: * (من) * استفهامية والفعل القلبي الذي هو يعلمون معلق بالاستفهام. وهذا أظهر عندي.
وقوله: * (شر مكانا وأضعف جندا) * في مقابلة قولهم: * (خير مقاما وأحسن نديا) * لأن مقامهم هو مكانهم ومسكنهم. والندي: المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم. والجند هم الأنصار والأعوان، فالمقابلة المذكورة ظاهرة. وقد دلت آية من كتاب الله على إطلاق * (شر مكانا) *. والمراد اتصاف الشخص بالشر
488

لا المكان. وهو قوله تعالى: * (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف فى نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا) * فتفضيل المكان في الشر ها هنا الظاهر أن المراد به تفضيله إخوته في الشر على نفسه فيما نسبوا إليه من شر السرقة لا نفس المكان. اللهم إلا أن يراد بذلك المكان المعنوي: أي أنتم شر منزلة عند الله تعالى.
وقوله في هذه الآيات المذكورة مقاما، ونديا، وأثاثا، ومكانا وجندا كل واحد منها تمييز محول عن الفاعل، كما أشار له في الخلاصة بقوله: ومكانا وجندا كل واحد منها تمييز محول عن الفاعل، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
* والفاعل المعنى انصبن بأفعلا
* مفضلا كأنت أعلى منزلا
* ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والبقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا) * قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) * دليل على رجحان القول الثاني في الآية المتقدمة. وأن المعنى: أن من كان في الضلالة زاده الله ضلالة، ومن اهتدى زاده الله هدى. والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، كقوله في الضلال * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *، وقوله: * (بل طبع الله عليها بكفرهم) *، وقوله: * (ذلك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم) *، وقوله تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) *، كما قدمنا كثيرا من الآيات الدالة على هذا المعنى.
وقال في الهدى: * (والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم) *، وقال: * (هو الذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) *، وقال: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) *: وقد جمع بينهما في آيات أخر. كقوله: * (وننزل من القرءان ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) *، وقوله تعالى: * (قل هو للذين ءامنوا هدى وشفآء والذين لا يؤمنون فىءاذانهم وقر وهو عليهم عمى) *، وقوله تعالى: * (وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هاذه إيمانا فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) * كما تقدم
489

إيضاحه.
وقوله: * (والبقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا) * إيضاحه في سورة (الكهف). فإن قيل: ظاهر الآية أن لفظة * (خير) * في قوله: * (ثوابا
وخير مردا) * صيغة تفضيل، والظاهر أن المفضل عليه هو جزاء الكافرين. ويدل لذلك ما قاله صاحب الدر المنثور، قال: وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: * (خير عند ربك ثوابا) *. يعني خير جزاء من جزاء المشركين. * (وخير مردا) * يعني مرجحا من مرجعهم إلى النار. والمعروف في العربية أن صيغة التفضيل تقتضي مشاركة المفضل عليه. والخيرية منفية بتاتا عن جزاء المشركين وعن مردهم، فلم يشاركوا في ذلك المسلمين حتى يفضلوا عليهم.
فالجواب أن الزمخشري في كشافه حاول الجواب عن هذا السؤال بما حاصله: أنه كأنه قيل ثوابهم النار، والجنة خير منها على طريقة قول بشر بن أبي حازم: فالجواب أن الزمخشري في كشافه حاول الجواب عن هذا السؤال بما حاصله: أنه كأنه قيل ثوابهم النار، والجنة خير منها على طريقة قول بشر بن أبي حازم:
* غضبت تميم أن تقتل عامر
* يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
*
فقوله: (أعتبوا بالصيلم) يعني أرضوا بالسيف، أي لا رضى لهم عندنا إلا السيف لقتلهم به. ونظيره قول عمرو بن معدي كرب: (أعتبوا بالصيلم) يعني أرضوا بالسيف، أي لا رضى لهم عندنا إلا السيف لقتلهم به. ونظيره قول عمرو بن معدي كرب:
* وخيل قد دلفت لها بخيل
* تحية بينهم ضرب وجميع
*
أي لا تحية بينهم إلا الضرب الوجيع. وقول الآخر: أي لا تحية بينهم إلا الضرب الوجيع. وقول الآخر:
* شجعاء جرتها الذميل تلوكه
* أصلا إذا راح المطي غراثا
*
يعني أن هذه الناقة لا جرة لها تخرجها من كرشها فتمضغها إلا السير، وعلى هذا المعنى فالمراد: لا ثواب لهم إلا النار. وباعتبار جعلها ثوابا بهذا المعنى فضل عليها ثواب المؤمنين. هذا هو حاصل جواب الزمخشري مع إيضاحنا له.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ويظهر لي في الآية جواب آخر أقرب من هذا، وهو أنا قدمنا أن القرآن والسنة الصحيحة دلا على أن الكافر مجازى بعمله الصالح في الدنيا، فإذا بر والديه ونفس عن المكروب، وقرى الضيف، ووصل الرحم مثلا يبتغي بذلك وجه الله فإن الله يثيبه في الدنيا، كما قدمنا دلالة الآيات عليه، وحديث أنس عند مسلم. فثوابه هذا الراجع إليه من عمله في الدنيا، هو الذي فضل الله عليه في الآية ثواب المؤمنين. وهذا واضح لا إشكال فيه. والعلم عند الله تعالى.
490

قوله تعالى: * (أفرأيت الذى كفر بأاياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) *. أخرج الشيخان وغيرهما من غير وجه عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: (جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقا لي عنده. فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقلت: لا؟ حتى تموت ثم تبعث. قال: وإني لميت ثم مبعوث؟؟ قلت نعم. قال: إن لي هناك مالا فأقضيك. فنزلت هذه الآية: * (أفرأيت الذى كفر بأاياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) *). وقال بعض أهل العلم: إن مراده بقوله: * (لأوتين مالا وولدا) * الاستهزاء بالدين وبخباب بن الأرت رضي الله عنه، والظاهر أنه زعم أنه يؤتى مالا وولدا قياسا منه للآخرة على الدنيا، كما بينا الآيات الدالة على ذلك. كقوله: * (ولئن رجعت إلى ربى إن لى عنده للحسنى) *، وقوله: * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات) *، وقوله: * (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) * إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي * (وولدا) * بضم الواو الثانية وسكون اللام. وقرأه الباقون بفتح الواو واللام معا، وهما لغتان معناهما واحد كالعرب والعرب، والعدم والعدم. ومن إطلاق العرب الولد بضم الواو وسكون اللام كقراءة حمزة والكسائي قول الحارث بن حلزة: وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) * إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي * (وولدا) * بضم الواو الثانية وسكون اللام. وقرأه الباقون بفتح الواو واللام معا، وهما لغتان معناهما واحد كالعرب والعرب، والعدم والعدم. ومن إطلاق العرب الولد بضم الواو وسكون اللام كقراءة حمزة والكسائي قول الحارث بن حلزة:
* ولقد رأيت معاشرا
* قد ثمروا مالا وولدا
*
وقول رؤبة: وقول رؤبة:
* الحمد لله العزيز فردا
* لم يتخذ من ولد شيء ولدا
*
وزعم بعض علماء العربية: أن الولد بفتح الواو واللام مفرد. وأن الولد بضم الواو وسكون اللام جمع له. كأسد بالفتح يجمع على أسد بضم فسكون. والظاهر عدم صحة هذا.
ومما يدل على أن (الولد) بالضم ليس يجمع قول الشاعر: ومما يدل على أن (الولد) بالضم ليس يجمع قول الشاعر:
* فليت فلانا كان في بطن أمه
* وليت فلانا كان ولد حمار
*
لأن (الولد) في هذا البيت بضم الواو وسكون اللام، وهو مفرد قطعا كما ترى. قوله تعالى: * (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهدا كلا) *. اعلم أن الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة رد على العاص بن وائل السهمي
491

قوله: إنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا، بالدليل المعروف عند الجدليين بالتقسيم والترديد، وعند الأصوليين بالسير والتقسيم. وعند المنطقيين بالشرطي المنفصل.
وضابط هذا الدليل العظيم أنه متركب من أصلين: أحدهما حصر أوصاف المحل بطريق من طرق الحصر، وهو المعبر عنه بالتقسيم عند الأصوليين والجدليين، وبالشرطي المنفصل عند المنطقيين.
والثاني هو اختيار تلك الأوصاف المحصورة، وإبطال ما هو باطل منها وإبقاء ما هو صحيح منها كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى. وهذا الأخير هو المعبر عنه عند الأصوليين (بالسبر)، وعند الجدليين (بالترديد)، وعند المنطقيين، بالاستثناء في الشرطي المنفصل. والتقسيم الصحيح في هذه الآية الكريمة يحصر أوصاف المحل في ثلاثة، والسبر الصحيح يبطل اثنين منها ويصحح الثالث. وبذلك يتمم إلقام العاص بن وائل الحجر في دعواه: أنه تؤتى يوم القيامة مالا وولدا.
أما وجه حصر أوصاف المحل في ثلاثة فهو أنا نقول: قولك إنك تؤتي مالا وولدا يوم القيامة لا يخلو مستندك فيه من واحد من ثلاثة أشياء:
الأول أن تكون اطلعت على الغيب، وعلمت أن إيتاءك المال والولد يوم القيامة مما كتبه الله في اللوح المحفوظ.
والثاني أن يكون الله أعطاك عهدا بذلك، فإنه إن أعطاك عهدا لن يخلفه.
الثالث أن تكون قلت ذلك افتراء على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب.
وقد ذكر تعالى القسمين الأولين في قوله: * (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهدا) * مبطلا لهما بأداة الإنكار. ولا شك أن كلا هذين القسمين باطل. لأن العاص المذكور لم يطلع الغيب. ولم يتخذ عند الرحمن عهدا. فتعين القسم الثالث وهو أنه قال ذلك افتراء على الله. وقد أشار تعالى إلى هذا القسم الذي هو الواقع بحرف الزجر والردع وهو قوله، * (كلا) * أي لأنه يلزمه ليس الأمر كذلك، لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهدا، بل قال ذلك افتراء على الله، لأنه لو كان أحدهما حاصلا لم يستوجب الردع عن مقالته كما ترى. وهذا الدليل الذي أبطل به دعوى ابن وائل هذه هو الذي أبطل به بعينه دعوى اليهود: أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة في سورة (البقرة)، وصرح في ذلك بالقسم الذي هو الحق، وهو أنهم قالوا ذلك كذبا من غير علم
492

. وحذف في (البقرة) قسم اطلاع للغيب المذكور في (مريم) لدلالة ذكره في (مريم) على قصده في (البقرة) كما أن كذبهم الذي صرح به في (البقرة) لم يصرح به في (مريم) لأن ما في (البقرة) يبين ما في (مريم) لأن القرآن العظيم يبين بعضه بعضا. وذلك في قوله تعالى: * (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون) * فالأوصاف هنا هي الأوصاف الثلاثة المذكورة في (مريم) كما أوضحنا، وما حذل منها يدل عليه ذكره في (مريم) فاتخاذ العهد ذكره في (البقرة ومريم) معا والكذب في ذلك على الله صرح به في (البقرة) بقوله: * (أم تقولون على الله ما لا تعلمون) * وأشار له في (مريم) بحرف الزجر الذي هو * (كلا) * واطلاع الغيب صرح به في (مريم) وحذفه في (البقرة) لدلالة ما في (مريم) على المقصود في (البقرة) كما أوضحنا.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة.
المسألة الأولى
اعلم أن هذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم تكرر وروده في القرآن العظيم، وقد ذكرنا الآن مثالين لذلك أحدهما في (البقرة) والثاني في (مريم) كما أوضحناه آنفا. وذكر السيوطي في الإتقان في كلامه على جدل القرآن مثالا واحدا للسبر والتقسيم، ومضمون المثال الذي ذكره باختصار، هو ما تضمنه قوله تعالى: * (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) *، فكأن الله يقول للذين حرموا بعض الإناث كالبحائر والسوائب دون بعضها، وحرموا بعض الذكور كالحامي دون بعضها: لا يخلو تحريمكم لبعض ما ذكر دون بعضه من أن يكون معللا بعلة معقولة أو تعبديا. وعلى أنه معلل بعلة فإما أن تكون العلة في المحرم من الإناث الأنوثة، ومن الذكور الذكورة. أو تكون العلة فيهما معا التخلق في الرحم، واشتمالها عليهما، هذه هي الأقسام التي يمكن ادعاء إناطة الحكم بها. ثم بعد حصر الأوصاف بهذا التقسيم نرجع إلى سبر الأقسام المذكورة. أي اختبارها ليتميز الصحيح من الباطل فنجدها كلها باطلة بالسبر الصحيح، لأن كون العلة الذكورة يقتضي تحريم كل ذكر وأنتم تحلون بعض الذكور، فدل ذلك على بطلان التعليل بالذكورة لقادح النقض الذي هو عدم الاطراد. وكون العلة الأنوثة يقتضي تحريم كل أنثى كما ذكرنا فيما قبله. وكون العلة اشتمال الرحم عليهما يقتضي تحريم
493

الجمع. وإلى هذا الإبطال أشار تعالى بقوله: * (قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) * أي فلو كانت العلة الذكورة لحرم كل ذكر. ولو كانت الأنوثة لحرمت كل أنثى. ولو كانت اشتمال الرحم عليهما لحرم الجميع. وكون ذلك تعبديا يقتضي أن الله وصاكم به بلا واسطة. إذ لم يأتكم منه رسول بذلك. فدل ذلك على أنه باطل أيضا، وأشار تعالى إلى بطلانه بقوله: * (أم كنتم شهدآء إذ وصاكم الله بهاذا) * لم بين أن ذلك التحريم بغير دليل من أشنع الظلم، وأنه كذب مفتري وإضلال بقوله: * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * ثم أكد عدم التحريم في ذلك بقوله: * (قل لا أجد فى مآ أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به) *.
والحاصل أن إبطال جميع الأوصاف المذكورة دليل على بطلان الحكم المذكور كما أوضحنا. ومن أمثلة السبر والتقسيم في القرآن قوله تعالى: * (أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون) * فكأنه تعالى يقول: لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح. الأولى أن يكونوا خلقوا من غير شيء أي بدون خالق أصلا. الثانية أن يكونوا خلقوا أنفسهم. الثالثة أن يكون خلقهم خالق غير أنفسهم. ولا شك أن القسمين الأولين باطلان، وبطلانهما ضروري كما ترى، فلا حاجة إلى إقامة الدليل عليه لوضوحه. والثالث هو الحق الذي لا شك فيه، وهو جل وعلا خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه وحده جل وعلا.
واعلم أن المنطقيين والأصوليين والجدليين كل منهم يستعملون هذا الدليل في غرض ليس هو غرض الآخر من استعماله، إلا أن استعماله عند الجدليين أعم من استعماله عند المنطقيين والأصوليين.
المسألة الثانية
اعلم أن مقصود الجدليين من هذا الدليل معرفة الصحيح والباطل من أوصاف محل النزاع، وهو عندكم يتركب من أمرين: الأول حصر أوصاف المحل. والثاني إبطال الباطل منها وتصحيح الصحيح مطلقا، وقد تكون باطلة كلها فيتحقق بطلان الحكم المستند إليها، كآية * (قل ءآلذكرين) * المتقدمة. وقد يكون بعضها باطلا وبعضها
494

صحيحا: كآية (مريم والبقرة، والطور) التي قدمنا إيضاح هذا الدليل في كل واحدة منها. وهذا الدليل أعم نفعا، وأكثر فائدة على طريق الجدليين منه على طريق الأصوليين والمنطقيين.
المسألة الثالثة
اعلم أن السبر والتقسيم عند الأصوليين يستعمل في شيء خاص، وهو استنباط علة الحكم الشرعي بمسلك السبر والتقسيم. وضابط هذا الملك عند الأصوليين أمران: الأول هو حصر أوصاف الأصل المقيس عليه بطريق من طرق الحصر التي سنذكر بعضها إن شاء الله تعالى. والثاني إبطال ما ليس صالحا للعلة بطريق من طرق الإبطال التي سنذكر أيضا بعضها إن شاء الله تعالى. وزاد بعضهم أمرا ثالثا وهو الإجماع على أن حكم الأصل معلل في الجملة لا تعبدي، والجمهور لا يشترطون هذا الأخير، والحاصل أن هذا الدليل يتركب عند الأصوليين من أمرين. الأول حصر أوصاف المحل. والثاني إبطال ما ليس صالحا للعلة، فإن كان الحصر والإبطال معا قطعيين فهو دليل قطعي، وإن كانا ظنيين أو أحدهما ظنيا فهو دليل ظني. ومثال ما كان الحصر والإبطال فيه قطيعين قوله تعالى: * (أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون) * لأن حصر أوصاف المحل في الأقسام الثلاثة قطعي لا شك فيه، لأنهم إما إن يخلقوا من غير شيء أو يخلقوا أنفسهم أو يخلقهم خالق غير أنفسهم. ولا رابع البتة. وإبطال القسمين الأولين قطعي لا شك فيه: فيتعين أن الثالث حق لا شك فيه. وقد حذف في الآية لظهوره. فدلالة هذا السبر والتقسيم على عبادة الله وحده قطعية لا شك فيها، وإن كان المثال بهذه الآية للقطعي من هذا الدليل إنما يصح على المراد به عند الجدليين دون الأصوليين، لأن المراد التمثيل للقطعي من هذا الدليل ولو بمعناه الأعم، والقعطي منه لا يمكن الاختلاف فيه. وأما الظني فإن العلماء يختلفون فيه لاختلاف ظنون المجتهدين عند نظرهم في المسائل. وقد اختلفوا في الربا في أشياء كثيرة كالتفاح ونحوه. والنورة ونحوها بسبب اختلافهم في إبطال ما ليس بصالح فيقول بعضهم: هذا وصف يصح إبطاله، ويقول الآخر: هو ليس بصالح فيلزم إبطاله كقولهم مثلا في حصر أوصاف البر الذي هو الأصل مثلا المحرم فيه الربا إذا أريد قياس الذرة عليه مثلا، أما أن يكون علة تحريم الربا في البر الكيل أو الطعم أو الاقتيات والادخار أو هما وغلبة العيش به أو المالية والملكية يقول المالكي غير الاقتيات والادخار باطل، ويدعى أن دليل بطلانه عدم الاطراد الذي هو النقض. ويقول
495

الحنفي والحنبلي غير الكيل من تلك الأوصاف باطل، والكيل هو العلة هي مناط الحكم، ويستدل على ذلك بأحاديث كحديث حيان بن عبيد الله عند الحاكم، وفيه بعد ذكر الستة التي يمنع فيها الربا. وكذلك كل ما يكال أو يوزن وبالحديث الصحيح الذي فيه. وكذلك الميزان كما قدمناه مستوفى في سورة البقرة في الكلام على آية الربا. ويقول الشافعي غير الطعم باطل، والعلة في تحريم الربا في البر الطعم، ويستدل بحديث معمر بن عبد الله عند مسلم (الطعام بالطعام مثلا بمثل) الحديث كما تقدم إيضاحه أيضا في البقرة. وهذا النوع من القياس الذي يختلف المجتهدون في العلة فيه هو المعروف عند أهل الأصول بمركب الأصل، وأشار إليه في مراقي السعود بقوله: أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون) * لأن حصر أوصاف المحل في الأقسام الثلاثة قطعي لا شك فيه، لأنهم إما إن يخلقوا من غير شيء أو يخلقوا أنفسهم أو يخلقهم خالق غير أنفسهم. ولا رابع البتة. وإبطال القسمين الأولين قطعي لا شك فيه: فيتعين أن الثالث حق لا شك فيه. وقد حذف في الآية لظهوره. فدلالة هذا السبر والتقسيم على عبادة الله وحده قطعية لا شك فيها، وإن كان المثال بهذه الآية للقطعي من هذا الدليل إنما يصح على المراد به عند الجدليين دون الأصوليين، لأن المراد التمثيل للقطعي من هذا الدليل ولو بمعناه الأعم، والقعطي منه لا يمكن الاختلاف فيه. وأما الظني فإن العلماء يختلفون فيه لاختلاف ظنون المجتهدين عند نظرهم في المسائل. وقد اختلفوا في الربا في أشياء كثيرة كالتفاح ونحوه. والنورة ونحوها بسبب اختلافهم في إبطال ما ليس بصالح فيقول بعضهم: هذا وصف يصح إبطاله، ويقول الآخر: هو ليس بصالح فيلزم إبطاله كقولهم مثلا في حصر أوصاف البر الذي هو الأصل مثلا المحرم فيه الربا إذا أريد قياس الذرة عليه مثلا، أما أن يكون علة
تحريم الربا في البر الكيل أو الطعم أو الاقتيات والادخار أو هما وغلبة العيش به أو المالية والملكية يقول المالكي غير الاقتيات والادخار باطل، ويدعى أن دليل بطلانه عدم الاطراد الذي هو النقض. ويقول الحنفي والحنبلي غير الكيل من تلك الأوصاف باطل، والكيل هو العلة هي مناط الحكم، ويستدل على ذلك بأحاديث كحديث حيان بن عبيد الله عند الحاكم، وفيه بعد ذكر الستة التي يمنع فيها الربا. وكذلك كل ما يكال أو يوزن وبالحديث الصحيح الذي فيه. وكذلك الميزان كما قدمناه مستوفى في سورة البقرة في الكلام على آية الربا. ويقول الشافعي غير الطعم باطل، والعلة في تحريم الربا في البر الطعم، ويستدل بحديث معمر بن عبد الله عند مسلم (الطعام بالطعام مثلا بمثل) الحديث كما تقدم إيضاحه أيضا في البقرة. وهذا النوع من القياس الذي يختلف المجتهدون في العلة فيه هو المعروف عند أهل الأصول بمركب الأصل، وأشار إليه في مراقي السعود بقوله:
* وإن يكن لعلتين اختلفا
* تركب الأصل لدي من سلفا
*
وأشار إلى مركب الوصف بقوله:
* مركب الوصف إذا الخصم منع
* وجود ذا الوصف في الأصل المتبع
*
والقياس المركب بنوعه المذكورين لا تنهض الحجة به على الخصم خلافا لبعض الجدليين. وإلى كون رده بالنسبة للخصم المخالف هو المختار. أشار في مراقي السعود بقوله: والقياس المركب بنوعه المذكورين لا تنهض الحجة به على الخصم خلافا لبعض الجدليين. وإلى كون رده بالنسبة للخصم المخالف هو المختار. أشار في مراقي السعود بقوله:
* ورده انتفى وقيل يقبل
* وفي التقدم خلاف ينقل
*
والضمير في قوله (ورده) راجع إلى المركب بنوعيه وهذا هو الحق. فلا تنهض الحجة بقول الشافعي إن العلة في تحريم الربا في البر الطعم على الحنفي والحنبلي القائلين إنها الكيل كالعكس وهكذا. أما في حق المجتهد ومقلديه فظنه المذكور حجة ناهضة له ولمقلديه. واعلم أن لحصر أوصاف المحل طرقا. منها أن يكون الحصر عقليا كما قدمنا في آية * (أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون) *. وكقولك: إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عالما بهذا الأمر الذي تدعو الناس إليه أو غير عالم به: كما يأتي إيضاحه. فأوصاف المحل محصورة في الأمرين المذكورين إذ لا ثالث البتة. أنه لا واسطة بين الشيء ونقيضه كما هو معروف. ومنها أن يدل على الحصر المذكور إجماع. ومثل له بعض الأصوليين بإجبار البكر البالغة على النكاح عند من يقول به. فإن علة الإجبار إما الجهل بالمصالح، وإما البكارة: فإن قال المعترض: أين دليل حصر الأوصاف في الأمرين؟ أجيب بأنه الإجماع على عدم التعليل بغيرهما، فلو ادعى
496

المستدل حصر أوصاف المحل، فقال المعترض: أين دليل الحصر؟ فقال المستدل: بحثت بحثا تاما عن أوصاف المحل فلم أجد غير ما ذكرت، أو قال: الأصل عدم غير ما ذكرت، فالصحيح أن هذا يكفيه في إثبات الحصر. فإن قال المعترض: أنا أعلم وصفا زائدا لم تذكره. قيل له: بينه، فإن لم يبينه سقط اعتراضه. وإن بين وصفا زائدا على الأوصاف التي ذكرهما المستدل بطل حصر المستدل بمجرد إبداء المعترض الوصف الزائد. إلا أن يبين المستدل أنه لا يصلح العلية فيكون إذا وجوده وعدمه سواء. وقول من قال: إنه لا يكفيه قوله، بحثت فلم أجد غير هذا خلاف التحقيق. وأشار في مراقي السعود إلى هذا المسلك من مسالك العلة بقوله: عالما بهذا الأمر الذي تدعو الناس إليه أو غير عالم به: كما يأتي إيضاحه. فأوصاف المحل محصورة في الأمرين المذكورين إذ لا ثالث البتة. أنه لا واسطة بين الشيء ونقيضه كما هو معروف. ومنها أن يدل على الحصر المذكور إجماع. ومثل له بعض الأصوليين بإجبار البكر البالغة على النكاح عند من يقول به. فإن علة الإجبار إما الجهل بالمصالح، وإما البكارة: فإن قال المعترض: أين دليل حصر الأوصاف في الأمرين؟ أجيب بأنه الإجماع على عدم التعليل بغيرهما، فلو ادعى المستدل حصر أوصاف المحل، فقال المعترض: أين دليل الحصر؟ فقال المستدل: بحثت بحثا تاما عن أوصاف المحل فلم أجد غير ما ذكرت، أو قال: الأصل عدم غير ما ذكرت، فالصحيح أن هذا يكفيه في إثبات الحصر. فإن قال المعترض: أنا أعلم وصفا زائدا لم تذكره. قيل له: بينه، فإن لم يبينه سقط اعتراضه. وإن بين وصفا زائدا على الأوصاف التي ذكرهما المستدل بطل حصر المستدل بمجرد إبداء المعترض الوصف الزائد. إلا أن يبين المستدل أنه لا يصلح العلية فيكون إذا وجوده وعدمه سواء. وقول من قال: إنه لا يكفيه قوله، بحثت فلم أجد غير هذا خلاف التحقيق. وأشار في مراقي السعود إلى هذا المسلك من مسالك العلة بقوله:
* والسبر والتقسيم قسم رابع
* أن يحصر الأوصاف فيه جامع
*
* ويبطل الذي لها لا يصلح
* فما بقي تعيينه متضح
*
* معترض الحصر في دفعه يرد
* بحثت ثم بعد بحثي لم أجد
*
* أو انعقاد ما سواها الأصل
* وليس في الحصر لظن حظل
*
* وهو قطعي إذا ما نميا
* للقطع والظني سواه وعيا
*
* حجية الظني عند الأكثر
* في حق ناظر وفي المناظر
*
* إن يبد وصفا زائدا معترض
* وفي به دون البيان الغرض
*
* وقطع ذي السبر إذا منحتم
* والأمر في إبطاله منبهم
*
وقوله في هذه الأبيات (في حق ناظر وفي المناظر) محله ما لم يدع المناظر علة غير اعلته، وإن ادعاها فلا تكون علة أحدهما حجة على الآخر، كما أوضحناه آنفا، وكما أشار له بقوله المذكور آنفا (ورده انتفى..) الخ.
وإذا حصل حصر أوصاف المحل فإبطال غير الصالح منها له طرق معروفة:
(منها) بيان أن الوصف طردي محض، إما بالنسبة إلى جميع الأحكام كالطول والقصر، والبياض والسواد، أو بالنسبة إلى خصوص الحكم المتنازع في ثبوته أو نفيه، كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى باب العتق، فإنه لا فرق في أحكام العتق بين الذكر والأنثى، لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إليه وصفان طرديان. وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالإرث والشهادة، والقضاء وولاية النكاح. فإن الذكر في ذلك ليس كالأنثى. ويعرف كون الوصف طرديا (أي لا مدخل له في التعليل أصلا) باستقراء موارد الشرع ومصادره، إما مطلقا، وإما في بعض الأبواب دون بعضها كما قدمناه آنفا.
497

ومثال إبطال الطردي في جميع الأحكام ما جاء في بعض روايات الحديث في المجامع في رمضان. فإن في بعض الروايات أنه أعرابي. وفي بعضها أنه جاء ينتف شعره ويضرب صدره. والقاعدة المقررة في الأصول: أن المثال لا يعترض. لأن المراد منه بيان القاعدة. ويكفي فيه الفرض ومطلق الاحتمال، كما أشار له في مراقي السعود بقوله: ومثال إبطال الطردي في جميع الأحكام ما جاء في بعض روايات الحديث في المجامع في رمضان. فإن في بعض الروايات أنه أعرابي. وفي بعضها أنه جاء ينتف شعره ويضرب صدره. والقاعدة المقررة في الأصول: أن المثال لا يعترض. لأن المراد منه بيان القاعدة. ويكفي فيه الفرض ومطلق الاحتمال، كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
* والشأن لا يعترض المثال
* إذ قد كفى الغرض والاحتمال
*
فإذا عرفت ذلك فاعلم: أن كونه أعرابيا، وكونه جاء يضرب صدره وينتف شعره من أوصاف المحل في هذا الحكم، وهي أوصاف يجب إبطالها وعدم تعليل وجوب الكفارة بها. لأنها أوصاف طردية لا تحصل من إناطة الحكم بها فائدة أصلا، فالأعرابي وغيره في ذلك سواء. ومن جاء في سكينة ووقار، ومن جاء يضرب صدره وينتف شعره في ذلك سواء أيضا. ومثال الإبطال يكون الوصف طرديا في الباب الذي فيه النزاع دون غيره وحديث (من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن
العبد قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد..) الحديث، وهو متفق عليه من حديث ابن عمر، وقد قدمنا في سورة (الإسراء والكهف) فلفظ العبد الذكر في هذا الحديث وصف طردي. فمن أعتق شركا له في أمة فكذلك. لأنه عرف من استقراء الشرع أن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا تناط بهما أحكام العتق، وإن كانت الذكورة والأنوثة غير طرديين في غير العتق كالميراث والشهادة كما تقدم. والوصف الطردي في اصطلاح أهل الأصول: هو ما علم من الشرع إلغاؤه وعدم اعتباره، لأنه ليس في إناطة الحكم به مصلحة أصلا فهو خال من المناسبة، ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر ألا تظهر للوصف مناسبة. والمناسبة في اصطلاح أهل الأصول: هي كون إناطة الحكم بالوصف تترتب عليها مصلحة فعدم المناسبة المذكورة من طرق إبطاله في مسلك السبر، وإن كان عدم ظهور المناسبة في الوصف لا يبطله في بعض المسالك غير السبر كالإيماء على الأصح والدوران. فالأحوال ثلاثة:
الأول: أن تظهر المناسبة، وظهورها لا بد منه في مسلك السبر ومسلك المناسبة والإخالة. الثاني: ألا تظهر المناسبة ولا عدمها. وهذا يكفي في الدوران والإيماء على الصحيح.
498

الثالث: أن يظهر عدم المناسبة، فيكون الوصف طرديا كما تقدم قريبا.
ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر كون الوصف ملغي وإن كان مناسبا للحكم المتنازع فيه، ويكون الإلغاء باستقلال الوصف المستبقي بالحكم دونه في صورة مجمع عليها. حكاه الفهري. ومثاله قول الشافعي: إن الكيل والاقتيات ونحو ذلك أوصاف ملغاة بالنسبة إلى تحريم الربا في ملء كف من البر. لأنه لا يكال ولا يقات لقلته. فعلة تحريم الربا فيه الطعم لاستقلال علة الطعم بالحكم دون غيرها من الأوصاف في هذه الصورة، والقصد مطلق التمثيل، لا مناقشة الأمثلة.
ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر كون الوصف الذي أبقاه المستدل متعديا من محل الحكم إلى غيره، والوصف الذي يريد المعترض إبقاءه قاصر على محل الحكم. قال صاحب (الضياء اللامع): وذلك يشبه تعارض العلة المتعدية والقاصرة، وهو كما قال، ومثاله: اختلاف الأئمة رحمهم الله في علة الكفارة في الإفطار عمدا في نهار رمضان. فبعضهم يقول: العلة في ذلك خصوص الجماع. وبعضهم يقول: العلة في ذلك انتهاك حرمة رمضان. فكون الوصف المعلل به في هذا الحكم الجماع يقتضي عدم التعدي عن محل الحكم إلى غيره، فلا تكون كفارة إلا في الجماع خاصة. وكونه في هذا الحكم انتهاك حرمة رمضان يقضي التعدي في محل الحكم إلى غيره، فتلزم الكفارة في الأكل والشرب عمدا في نهار رمضان بجامع انتهاك حرمة رمضان في الجميع من جماع وأكل وشرب، فيترجح هذا الوصف بكونه متعديا على الآخر لقصوره على حمل الحكم وقصدنا التمثيل لا مناقشة الأمثلة، ولا ينافي ما ذكرنا أن يأتي من يقول: العلة الجماع بمرجحات أخر لعلته، وأشار في مراقي السعود إلى طرق الإبطال المذكورة بقوله: ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر كون الوصف الذي أبقاه المستدل متعديا من محل الحكم إلى غيره، والوصف الذي يريد المعترض إبقاءه قاصر على محل الحكم. قال صاحب (الضياء اللامع): وذلك يشبه تعارض العلة المتعدية والقاصرة، وهو كما قال، ومثاله: اختلاف الأئمة رحمهم الله في علة الكفارة في الإفطار عمدا في نهار رمضان. فبعضهم يقول: العلة في ذلك خصوص الجماع. وبعضهم يقول: العلة في ذلك انتهاك حرمة رمضان. فكون الوصف المعلل به في هذا الحكم الجماع يقتضي عدم التعدي عن محل الحكم إلى غيره، فلا تكون كفارة إلا في الجماع خاصة. وكونه في هذا الحكم انتهاك حرمة رمضان يقضي التعدي في محل الحكم إلى غيره، فتلزم الكفارة في الأكل والشرب عمدا في نهار رمضان بجامع انتهاك حرمة رمضان في الجميع من جماع وأكل وشرب، فيترجح هذا الوصف بكونه متعديا على الآخر لقصوره على حمل الحكم وقصدنا التمثيل لا مناقشة الأمثلة، ولا ينافي ما ذكرنا أن يأتي من يقول: العلة الجماع بمرجحات أخر لعلته، وأشار في مراقي السعود إلى طرق الإبطال المذكورة بقوله:
* أبطل لما طردا يرى ويبطل
* غير مناسب له المنخرل
*
* كذلك بالإلغا وإن قد ناسيا
* ويتعدى وصفه الذي اجتبى
*
هذا هو حاصل كلام أهل الأصول في المقصود عندهم بهذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم.
المسألة الرابعة
اعلم أن المقصود من هذا الدليل المذكور عند المنطقيين يخالف المقصود منه عند الأصوليين والجدليين. فالتقسم عند المنطقيين لا يكون إلا في الأوصاف التي بينها تناف
499

وتنافر، وهذا التقسيم هو المعبر عنه عندهم بالشرطي المنفصل. ومقصودهم من ذكر تلك الأوصاف المتنافية هو أن يستدلوا بوجود بعضها على عدم بعضها، وبعدمه على وجوده، وهذا هو المعبر عنه عندهم (بالاستثناء في الشرطي المنفصل) وحرف الاستثناء عندهم هو (لكن) والتنافي المذكور بين الأوصاف المذكورة يحصره العقل في ثلاثة أقسام:
لأنه إما أن يكون في الوجود والعدم معا، أو الوجود فقط، أو العدم فقط، ولا رابع البتة.
فإن كان في الوجود والعدم معا فهي عندهم الشرطية المنفصلة المعروفة بالحقيقية، وهي مانعة الجميع والخلو معا، ولا تتركب إلا من النقيضين، أو من الشيء ومساوي
نقيضيه. وضابطها أن طرفيها لا يجتمعان معا ولا يرتفعان معا. بل لا بد من وجود أحدهما وعدم الآخر، وعدم اجتماعها لما بينهما من المنافرة والعناد في الوجود، وعدم ارتفاعهما لما بينهما من المنافرة والعناد في العدم، وضروبها الأربعة منتجة، كما لو قلت: العدد إما زوج وإما فرد. فلو قلت: لكنه زوج أنتج فهو غير فرد. ولو قلت: لكنه فرد أنتج فهو غير زوج. ولو قلت: ولكنه غير زوج أنتج فهو فرد. ولو قلت: لكنه غير فرد أنتج فهو زوج. وضابط قياسها أنه يرجع إلى الاستدلال بعدم النقيض، أو مساويه على وجود النقيض، أو مساويه كعكسه.
وإن كان التنافر والعناد بين طرفيها في الوجود فقط فهي مانعة الجمع المجوزة للخلو، ولا يلزم فيها حصر الأوصاف، ولا تتركب إلا من قضية وأخص من نقيضها، وضابطها: أن طرفيها لا يجتمعان لما بينهما من المنافرة والعناد في الوجود، ولا مانع من ارتفاعهما لعدم العناد والمنافرة بينهما في العدم، ومانعة الجمع المذكورة ينتج من قياسها ضربان، ويعقم منه ضربان. ومثالها قولك: الجسم إما أبيض، وإما أسود، فإن استثناء عين كل واحد من الطرفين ينتج نقيض الآخر. بخلاف استثناء نقيض أحدهما فلا ينتج شيئا. فلو قلت: الجسم إما أبيض، وإما أسود لكنه أبيض، أنتج فهو غير أسود. وإن قلت: لكنه أسود أنتج فهو غير أبيض. بخلاف ما لو قلت: لكنه غير أبيض فلا ينتج كونه أسود. لأن غير الأبيض صادق بالأسود وغيره. وكذلك لو قلت: لكنه غير أسود فلا ينتج كونه أبيض لصدق غير الأسود بالأبيض وغيره، فلا مانع من انتفاء الطرفين وكون جسم غير أبيض وغير أسود. لأن مانعة الجميع تجوز الخلو من الطرفين بأن يكونا معدومين معا. وإنما جاز فيها الخلو من الطرفين معا لواحد من سببين.
500

الأول وجود واسطة أخرى غير طرفي القضية المذكورة. فقولنا في المثال السابق: الجسم إما أبيض، وإما أسود يجوز فيه الخلو عن البياض والسواد لوجود واسطة أخرى من الألوان غير السواد والبياض. كالحمرة والصفرة مثلا. فالجسم الأحمر مثلا غير أبيض ولا أسود.
السبب الثاني ارتفاع المحل، كقولك: الجسم إما متحرك، وإما ساكن، فإنه إن انعدم بعض الأجسام التي كانت موجودة ورجع إلى العدم بعد الوجود فإنه يرتفع عنه كل من طرفي القضية المذكورة، فلا يقال للمعدوم: هو ساكن ولا متحرك، لأن المعدوم ليس بشيء، بدليل قوله تعالى: * (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) *، وقوله: * (أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) *.
وإن كان العناد والمنافرة بين طرفيها في العدم فقط فهي مانعة الخلو المجوزة للجمع. وهي عكس التي ذكرنا قبلها تصورا وإنتاجا، ولا تتركب إلا من قضية وأعم من نقيضها. وضابطها أن طرفيها لا يرتفعان لما بينهما من المنافرة والعناد في العدم، ولا مانع من اجتماعهما لعدم المنافرة والعناد بينهما في الوجود. ومثالها: الجسم إما غير أبيض، وإما غير أسود، فإن هذا المثال قد يجتمع فيه الطرفان فلا مانع من وجود جسم موصوف بأنه غير أبيض وغير أسود، كالأحمر فإنه غير أبيض وغير أسود، ولكنه لا يمكن بحال وجود جسم خال من طرفي هذه القضية التي مثلنا بها، فيكون خاليا من كونه غير أبيض وغير أسود. لأنك إذا نفيت غير أبيض أثبت أنه أبيض، لأن نفي النفي إثبات. وإذا أثبت أنه أبيض استحال ارتفاع الطرف الثاني الذي هو غير أسود. لأن الأبيض موصوف ضرورة بأنه غير أسود، وهكذا في الطرف الآخر. لأنك إذا نفيت غير أسود أثبت أنه أسود، وإذا أثبت أنه أسود لزم ضرورة أنه غير أبيض، وهو عين الآخر من طرفي القضية المذكورة، وقياس هذه ينتج منه الضربان العقيمان في قياس التي قبلها، ويعقم منه الضربان المنتجان في قياس التي قبلها. فتبين أن استثناء نقيض كل واحد من الطرفين في قياس هذه الأخيرة ينتج عين الآخر، وأن استثناء عين الواحد منهما لا ينتج شيئا.
فقولنا في المثال السابق: الجسم إما غير أبيض وإما غير أسود لو قلت فيه لكنه أبيض أنتج، فهو غير أسود. ولو قلت: لكنه أسود أنتج فهو غير أبيض، بخلاف ما لو قلت: لكنه غير أبيض فلا ينتج نفي الطرف الآخر ولا وجوده، لأن غير الأبيض يجوز أن يكون أسود، ويجوز أن يكون غير أسود بل أحمر أو أصفر. وكذلك لو قلت: لكنه غير
501

أسود لم يلزم منه نفي الطرف الآخر ولا إثباته، لأن غير الأسود يجوز أن يكون أبيض وغير أبيض لكونه أحمر مثلا هذه خلاصة موجزة عن هذا الدليل المذكور في نظر المنطقيين.
المسألة الخامسة
اعلم أن لهذا الدليل آثارا تاريخية، وسنذكر هنا إن شاء الله بعضها.
فمن ذلك أن هذا الدليل العظيم جاء في التاريخ: أنه أول سبب لضعف المحنة العظمى على المسلمين في عقائدهم بالقول يخلق القرآن العظيم. وذلك أن محنة القول بخلق القرآن نشأن في أيام المأمون، واستفحلت جدا في أيام المعتصم، واستمرت على ذلك في أيام الواثق. وهي في جميع ذلك التاريخ قائمة على ساق وقدم.
ومعلوم ما وقع فيها من قتل بعض أهل العلم الأفاضل وتعذيبهم، واضطرار بعضهم إلى المداهنة بالقول خوفا.
ومعلوم ما وقع فيها لسيد المسلمين في زمنه (الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل) تغمده الله برحمته الواسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا من الضرب المبرح أيام المعتصم. وقد جاء أن أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة وكبح جماحها هو هذا الدليل العظيم.
قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الكلام على ترجمة (أحمد بن أبي دؤاد): أخبرنا محمد بن الفرج بن علي البزار، أخبرنا عبد الله بن إبراهيم بن ماسي، حدثنا جعفر بن شعيب الشاشي، حدثني محمد بن يوسف الشاشي، حدثني إبراهيم بن منبه قال: سمعت طاهر بن خلف يقول: سمعت محمد بن الواثق الذي يقال له المهتدي بالله يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا ذلك المجلس، فأتى بشيخ مخضوب مقيد فقال أبي: ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه (يعني ابن أبي دؤاد) قال:
فأدخل الشيخ والواثق في مصلاه فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال له: لا سلم الله عليكا فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدبك مؤدبكا قال الله تعالى: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * والله ما حييتني بها ولا بأحسن منها. فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، الرجل متكلم. فقال له: كلمه. فقال: يا شيخ، ما تقول في القرآن؟ قال الشيخ: لم تنصفني (يعني ولي السؤال) فقال له: سل: فقال
502

له الشيخ: ما تقول في القرآن؟ فقال مخلوق: فقال: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون؟ أم شيء لم يعلموه؟ فقال: شيء لم يعلموه. فقال: سبحان الله شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنتا؟ قال: فخجل. فقال: أقلني والمسألة بحالها. قال نعم. قال: ما تقول في القرآن؟ فقال مخلوق. فقال: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون أو لم يعلموه؟ فقال: علموه ولم يدعوا الناس إليه قال: أفلا وسعك ما وسعهما؟ قال: ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه، ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: هذا شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الخلفاء الراشدون علمته أنتا سبحان الله شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، والخلفاء الراشدون ولم يدعوا الناس إليه، أفلا وسعك ما وسعهم؟؟ ثم دعا عمارا الحاجب، فأمر أن يرفع عنه القيود ويعطيه أربعمائة دينار، ويأذن له في الرجوع، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد، ولم يمتحن بعد ذلك أحدا. ا ه منه. وذكر ابن كثير في تاريخه هذه القصة عن الخطيب البغدادي، ولما انتهى من سياقها قال: ذكره الخطيب في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا يعرف ا ه.
ويستأنس لهذه القصة بما ذكره الخطيب وغيره: من أن الواثق تاب من القول بخلق القرآن.
قال ابن كثير في البداية والنهاية: قال الخطيب: وكان ابن أبي دؤاد استولى على الواثق وحمله على التشديد في المحنة، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن: قال: ويقال إن الواثق رجع عن ذلك قبل موته. فأخبرني عبد الله بن أبي الفتح، أنبأ أحمد بن إبراهيم بن الحسن، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، حدثني حامد بن العباس، عن رجل عن المهتدي: أن الواثق مات وقد تاب من القول بخلق القرآن. وعلى كل حال فهذه القصة لم تزل مشهورة عند العلماء، صحيحة الاحتجاج فيها إلقام الخصم الحجر.
وحاصل هذه القصة التي ألقم بها هذا الشيخ الذي كان مكبلا بالقيود يراد قتله أحمد بن أبي دؤاد حجرا، هو هذا الدليل العظيم الذي هو السبر والتقسيم: فكان الشيخ المذكور يقول لابن أبي دؤاد: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها لا تخلو بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين: إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أو غير
503

عالمين بها ولا واسطة بين العلم وغيره. فلا قسم ثالث البتة. ثم إنه رجع بالسبر الصحيح إلى القسمين المذكورين فبين أن السبر الصحيح يظهر أن أحمد بن أبي دؤاد ليس على كل تقدير من التقديرين.
أما على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بها هو وأصحابه، وتركوا الناس ولم يدعوهم إليها فدعوه ابن أبي دؤاد إليها مخالفة لما كان عليه النبي وأصحابه من عدم الدعوة لها، وكان يسعه ما وسعهم.
وأما على كون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه غير عالمين بها فلا يمكن لابن أبي دؤاد أن يدعي أنه عالم بها مع عدم علمهم بها. فظهر ضلاله على كل تقدير، ولذلك سقط من عين الواثق، وترك الواثق لذلك امتحان أهل العلم. فكان هذا الدليل العظيم أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة الكبرى. حتى أزالها الله بالكلية على يد المتوكل رحمه الله، وفي هذا منقبة تاريخية عظيمة لهذا الدليل المذكور.
ومن آثار هذا الدليل التاريخية ما ذكره بعض المؤرخين: من أن عبد الله بن همام السلولي وشى به واش إلى عبيد الله بن زياد. فأدخل ابن زياد الواشي في محل قريب من مجلسه، ثم نادى ابن همام السلولي وقال له: ما حملك على أن تقول في كذا وكذا..!؟ فقال السلولي: أصلح الله الأميرا والله ما قلت شيئا من ذلكا! فأخرج ابن زياد الواشي، وقال: هذا أخبرني أنك قلت ذلك. فسكت ابن همام هنيهة ثم قال مخاطبا للواشي: ومن آثار هذا الدليل التاريخية ما ذكره بعض المؤرخين: من أن عبد الله بن همام السلولي وشى به واش إلى عبيد الله بن زياد. فأدخل ابن زياد الواشي في محل قريب من مجلسه، ثم نادى ابن همام السلولي وقال له: ما حملك على أن تقول في كذا وكذا..!؟ فقال السلولي: أصلح الله الأميرا والله ما قلت شيئا من ذلكا! فأخرج ابن زياد الواشي، وقال: هذا أخبرني أنك قلت ذلك. فسكت ابن همام هنيهة ثم قال مخاطبا للواشي:
* وأنت امرؤ ائتمنتك خاليا
* فخنت وإما قلت قولان بلا علم
*
* فأنت من الأمر الذي كان بيننا
* بمنزلة بين الخيانة والإثم
*
فقال ابن زياد: صدقتا وطرد الواشي. وحاصل هذين البيتين الذين طرد بهما ابن زياد الواشي ولم يتعرض للسلولي بسوء بسببهما هو هذا الدليل العظيم المذكور. فكأنه
يقول له: لا يخلو قولك هذا من أحد أمرين: إما أن أكون ائتمنتك على سر فأفشيته. وإما أن تكون قلته علي كذبا. ثم رجع بالسبر إلى القسمين المذكورين فبين أن الواشي مرتكب ما لا ينبغي على كل تقدير من التقديرين، لأنه إذا كان ائتمنه على سر فأفشاه فهو خائن له، وإن كان قال عليه ذلك كذبا وافتراء فالأمر واضح.
المسألة السادسة
اعلم أن بين الدليل التاريخي العظيم يوضح غاية الإيضاح موقف المسلمين
504

الطبيعي من الحضارة الغربية. وبذلك الإيضاح التام يتميز النافع من الضار، والحسن من القبيح، والحق من الباطل. وذلك أن الاستقراء التام القطعي دل على أن الحضارة الغربية المذكورة تشتمل على نافع وضار: أما النافع منها فهو من الناحية المادية وتقدمها في جميع الميادين المادية أوضح من أن أبينه. وما تضمنته من المنافع للإنسان أعظم مما كان يدخل تحت التصور، فقد خدمت الإنسان خدمات هائلة من حيث إنه جسد حيواني. وأما الضار منها فهو إهمالها بالكلية للناحية التي هي رأس كل خير، ولا خير البتة في الدنيا بدونها، وهي التربية الروحية للإنسان وتهذيب أخلاقه. وذلك لا يكون إلا بنور الوحي السماوي الذي يوضح للإنسان طريق السعادة، ويرسم له الخطط الحكمية في كل ميادين الحياة الدنيا والآخرة، ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته.
فالحضارة العربية غنية بأنواع المنافع من الناحية الأولى، مفلسة إفلاسا كليا من الناحية الثانية.
ومعلوم أن طغيان المادة على الروح يهدد العالم أجمع بخطر داهم، وهلاك مستأصل، كما هو مشاهد الآن. وحل مشكلته لا يمكن البتة إلا بالاستضاءة بنور الوحي السماوي الذي هو تشريع خالق السمواات والأرض، لأن من أطغته المادة حتى تمرد على خالقه ورازقه لا يفلح أبدا.
والتقسيم الصحيح يحصر أوصاف المحل الذي هو الموقف من الحضارة الغربية في أربعة أقسام لا خامس لها، حصرا عقليا لا شك فيه:
الأول ترك الحضارة المذكورة نافعها وضارها.
الثاني أخذها كلها وضارها ونافعها.
الثالث أخذ ضارها وترك نافعها.
الرابع أخذ نافعها وترك ضارها. فنرجع بالسبر الصحيح إلى هذه الأقسام الأربعة، فنجد ثلاثة منها باطلة بلا شك، وواحدا صحيحا بلا شك.
أما الثلاثة الباطلة: فالأول منها تركها كلها، ووجه بطلانه واضح، لأن عدم الاشتغال بالتقدم المادي يؤدي إلى الضعف الدائم، والتواكل والتكاسل، ويخالف الأمر السماوي في قوله جل وعلا: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) *. وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) *.
* لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
* حتى يراق على جوانبه اطدم
*
505

ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون) *. * (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) *. والقسم الثالث من الأقسام الباطلة هو أخذ الضار وترك النافع، ولا شك أن هذا لا يفعله من له أقل تمييز. فتعينت صحة القسم الرابع بالتقسيم والسبر الصحيح، وهو أخذ النافع وترك الضار.
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل، فقد انتفع بحفر الخندق في غزوة الأحزاب، مع أن ذلك خطة عسكرية كانت للفرس، أخبره بها سلمان فأخذ بها. ولم يمنعه من ذلك أن أصلها للكفار. وقد هم صلى الله عليه وسلم بأن يمنع وطء النساء المراضع خوفا على أولادهن، لأن العرب كانوا يظنون أن الغيلة (وهي وطء المرضع) تضعف ولدها وتضره، ومن ذلك قول الشاعر: بأن يمنع وطء النساء المراضع خوفا على أولادهن، لأن العرب كانوا يظنون أن الغيلة (وهي وطء المرضع) تضعف ولدها وتضره، ومن ذلك قول الشاعر:
* فوارس لم يغالوا في رضاع
* فتتبوا في أكفهم السيوف
*
فأخبرته صلى الله عليه وسلم فارس والروم بأنهم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم، فأخذ صلى الله عليه وسلم منهم تلك الخطة الطبية، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها من الكفار.
وقد انتفع صلى الله عليه وسلم بدلالة ابن الأريقط الدؤلي له في سفر الهجرة على الطريق، مع أنه كافر.
فاتضح من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للإسلام والمسلمين من الحضارة الغربية هو أن يجتهدوا في تحصيل ما أنتجته من النواحي المادية، ويحذروا مما جنته من التمرد على خالق الكون جل وعلا فتصلح لهم الدنيا والآخرة. والمؤسفا أن أغلبهم يعكسون القضية، فيأخذون منها الانحطاط الخلقي، والانسلاخ من الدين، والتباعد من طاعة خالق الكون، ولا يحصلون على نتيجة مما فيها من النفع المادي. فخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. فاتضح من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للإسلام والمسلمين من الحضارة الغربية هو أن يجتهدوا في تحصيل ما أنتجته من النواحي المادية، ويحذروا مما جنته من التمرد على خالق الكون جل وعلا فتصلح لهم الدنيا والآخرة. والمؤسفا أن أغلبهم يعكسون القضية، فيأخذون منها الانحطاط الخلقي، والانسلاخ من الدين، والتباعد من طاعة خالق الكون، ولا يحصلون على نتيجة
مما فيها من النفع المادي. فخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
* وما أحسن الدين والدنيا إذا جتمعا
* وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
*
وقد قدمنا طرفا نافعا في كون الدين لا ينافي التقدم المادي في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) * فأغنى ذلك
506

عن إعادته هنا. وقد عرف في تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا يسعون في التقدم في جميع الميادين مع المحافظة على طاعة خالق السمواات والأرض جل وعلا.
وأظهر الأقوال عندي في معنى العهد في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: * (أم اتخذ عند الرحمان عهدا) * أن المعنى: أم أعطاه الله عهدا أنه سيفعل له ذلك، بدليل قوله تعالى في نظيره في سورة البقرة: * (قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده) *. وخير ما يفسره به القرآن القرآن. وقيل: العهد المذكور: العمل الصالح. وقيل شهادة أن لا إله إلا الله. قوله تعالى: * (سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه سيكتب ما قاله ذلك الكافر افتراء عليه. من أنه يوم القيامة يؤتي مالا وولدا مع كفره بالله، وأنه يمد له من العذاب مدا. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: * (يقول ونمد له من العذاب) *: أي يزيده عذابا فوق عذاب. وقال الزمخشري في الكشاف: * (يقول ونمد له من العذاب) * أي نطول له من العذاب ما يستأهله. ويعذبه بالنوع الذي يعذب به المستهزؤون. أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد، يقال: مده وأمده بمعنى. وتدل عليه قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه * (إن له) * بالضم وأكد ذلك بالمصدر. وذلك من فرط غضب الله. نعوذ به من التعرض لما يستوجب غضبه ا ه. وأصل المدد لغة: الزيادة، ويدل لذلك المعنى قوله تعالى في أكابر الكفار الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله: * (زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) *، وقوله في الأتباع والمتبوعين: * (قال لكل ضعف ولاكن لا تعلمون) *.
وقوله في هذه الآية: * (ونرثه ما يقول) * أي ما يقول إنه يؤتاه يوم القيامة من مال وولد، أي نسلبه منه في الدنيا ما أعطيناه من المال والولد بإهلاكنا إياه. وقيل: نحرمه ما تمناه من المال والولد في الآخرة، ونجعله للمسلمين. ويدل للمعنى الأول قوله تعالى: * (إنا نحن نرث الا رض ومن عليها وإلينا يرجعون) *، وقوله: * (وإنا لنحن نحى ونميت ونحن الوارثون) * كما تقدم إيضاحه في
507

هذه السورة الكريمة.
وقوله: * (ويأتينا فردا) * أي منفردا لا مال له ولا ولد ولا خدم ولا غير ذلك، كما قال تعالى: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) *، وقال تعالى: * (وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا) * كما تقدم إيضاحه.
فإن قيل: كيف عبر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بحرف التنفيس الدال على الاستقبال في قوله * (لنحن أعلم بالذين) * مع أن ما يقوله الكافر يكتب بلا تأخير. بدليل قوله تعالى: * (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) *؟
فالجواب أن الزمخشري في كشافه تعرض للجواب عن هذا السؤال بما فصه: قلت فيه وجهان: أحدهما: سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله، على طريقة قول زائد بن صعصعة الفقعسي: على طريقة قول زائد بن صعصعة الفقعسي:
* إذ ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
* ولم تجدي من أن تقري بها بدا
*
أي تبين وعلم بالانتساب أني لست بابن لئيمة. والثاني أن المتوعد يقول للجاني: سوف أنتقم منك. يعني أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان واستأخر، فجردها هنا لمعنى الوعيد ا ه منه بلفظه. إلا أنا زدنا اسم قائل البيت وتكلمته.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أنه يكتب ما يقول هذا الكافر ذكر نحوه في مواضع متعددة من كتابه، كقوله تعالى: * (قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) *، وقوله تعالى: * (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون) *، وقوله تعالى: * (هاذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) *، وقوله تعالى: * (ستكتب شهادتهم ويسألون) *. وقوله تعالى: * (سنكتب ما قالوا وقتلهم الا نبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) *، وقوله تعالى: * (كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) * وقوله تعالى: * (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) *. وقوله تعالى: * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *: إلى غير ذلك من الآيات.
508

* (واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا * ألم تر أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا * فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا * يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا * ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا * لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا * وقالوا اتخذ الرحمان
ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الا رض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمان ولدا * وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا * إن كل من فى السماوات والا رض إلا آتى الرحمان عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا) *
قوله تعالى: * (واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار المتقدم ذكرهم في قوله: * (ونذر الظالمين فيها جثيا) * اتخذوا من دون الله آلهة أي معبودات من أصنام وغيرها يعبدونها من دون الله، وأنهم عبدوهم لأجل أن يكونوا لهم عزا أي أنصارا وشفعاء ينقذونهم من عذاب الله. كما أوضح تعالى مرادهم ذلك في قوله: * (والذين اتخذوا من دونه أوليآء ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى) * فتقريبهم إياهم إلى الله زلفى في زعمهم هو عزهم الذي أملوه بهم. وكقوله تعالى عنهم: * (ويقولون هاؤلاء شفعاؤنا عند الله) *. فالشفاعة عند الله عز لهم بهم يزعمونه كذبا وافتراء على الله. كما بينه بقوله تعالى: * (قل أتنبئون الله بما لا يعلم فى السماوات ولا فى الا رض سبحانه وتعالى عما يشركون) *.
وقوله في هذه الآية الكريمة * (كلا) * زجر وردع لهم عن ذلك الظن الفاسد الباطل. أي ليس الأمر كذلكا لا تكون المعبودات التي عبدتم من دون الله عزا لكم، بل تكون بعكس ذلك. فيكون عليكم ضدا، أي أعوانا عليكم في خصومتكم وتكذيبكم والتبرؤ منكم. وأقوال العلماء في الآية تدور حول هذا الذي ذكرنا. كقول ابن عباس * (ضدا) * أي أعوانا) وقول الضحاك * (ضدا) * أي أعداء.. وقول قتادة * (ضدا) * أي قرناه في النار يلعن بعضهم بعضا، وكقول ابن عطية * (ضدا) * يجيئهم منهم خلاف ما أملوه فيؤول بهم ذلك إلى الذل والهوان، ضد ما أملوه من العز.
وهذا المعنى الذي ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: بينه أيضا في غير هذا الموضع. كقوله: * (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعآئهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعدآء وكانوا بعبادتهم كافرين) *، وقوله تعالى: * (ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعآءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) * إلى غير ذلك من الآيات. وضمير الفاعل في قوله: * (سيكفرون) * فيه وجهان للعلماء، وكلاهما يشهد له قرآن. إلا أن لأحدهما قرينة ترجحه على الآخر.
509

الأول أن واو الفاعل في قوله: * (سيكفرون) * راجعة إلى المعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله. أما العاقل منها فلا إشكال فيه. وأما غير العاقل بالله قادر على أن يخلق له إدراكا يخاطب به من من عبده ويكفر به بعبادته إياه. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى عنهم: * (تبرأنآ إليك ما كانوا إيانا يعبدون) *، وقوله تعالى: * (وإذا رءا الذين أشركوا شركآءهم قالوا ربنا هاؤلآء شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) * وقوله تعالى: * (وقال شركآؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين) *، إلى غير ذلك من الآيات.
الوجه الثاني أن العابدين هم الذين يكفرون بعبادتهم شركاءهم وينكرونها ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) *، وقوله عنهم: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) *، وقوله عنهم: * (بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا) *، إلى غير ذلك من الآيات.
والقرينة المرجحة للوجه الأول أن الضمير في قوله * (ويكونون) * راجع للمعبودات. وعليه فرجوع الضمير في * (يكفرون) * للمعبودات أظهر. لانسجام الضمائر بعضها مع بعض.
أما على القول الثاني فإنه يكون ضمير * (يكفرون) * للعابدين، وضمير * (يكونون) * للمعبودين، وتفريق الضمائر خلاف الظاهر. والعلم عند الله تعالى.
وقوله من قال من العلماء. إن * (كلا) * في هذه الآية متعلقة بما بعدها لا بما قبلها، وأن المعنى: كلا سيكفرون أي حقا سيكفرون بعبادتهم محتمل، ولكن الأول أظهر منه وأرجح، وقائله أكثر. والعلم عند الله تعالى، وفي قوله * (كلا) * قراءات شاذة تركنا الكلام عليها لشذوذها.
وقوله في هذه الآية: * (ليكونوا لهم عزا) * أفرد فيه العز مع أن المراد الجمع. لأن أصله مصدر على حد قوله في الخلاصة: ليكونوا لهم عزا) * أفرد فيه العز مع أن المراد الجمع. لأن أصله مصدر على حد قوله في الخلاصة:
* ونعتوا بمصدر كثير
* فانتزموا الإفراد والتذكيرا
*
والإخبار بالمصدر يجري على حكم النعت به. وقوله * (ضدا) * مفردا أيضا أريد به الجمع. قال ابن عطية: لأنه مصدر في الأصل. حكاه عنه أبو حيان في البحر. وقال
510

الزمخشري: الضد العون، وحد توحيد قوله عليه السلام، (هم يد على من سواهم) لاتفاق كلمتهم، وأنهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم. قوله تعالى: * (ألم تر أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) *. قوله: * (تر أنآ) *: أي سلطانهم عليهم وقيضناهم لهم. وهذا هو الصواب. خلافا لمن زعم أن معنى * (تر أنآ) *: أي خلينا بينهم وبينهم، ولم نعصمهم من شرهم. يقال: أرسلت البعير أي خليته.
وقوله: * (تؤزهم أزا) *: الأز والهز والاستفزاز بمعنى، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج. فقوله * (تؤزهم أزا) * أي تهيجهم وتزعجهم إلى الكفر والمعاصي.
وأقوال أهل العلم في الآية راجعة إلى ما ذكرنا: كقول ابن عباس * (تؤزهم أزا) *: أي تغريهم إغراء). وكقول مجاهد * (تؤزهم أزا) *: أي تشليهم إشلاء. وكقول قتادة * (تؤزهم أزا) * أي تزعجهم إزعاجا.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه سلط الشياطين على الكافرين، وقيضهم لهم يضلونهم عن الحق بينه في مواضع أخر من كتابه. كقوله تعالى: * (وقيضنا لهم قرنآء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) *، وقوله تعالى: * (ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل) *، وقوله تعالى: * (ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس) *، وقوله: * (وإخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون) *، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى: * (فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا) *. قوله: * (فلا تعجل عليهم) * أي لا تستعجل وقوع العذاب بهم فإن الله حدد له أجلا معينا معدودا. فإذا انتهى ذلك الأجل جاءهم العذاب. فقوله: * (إنما نعد لهم عدا) * أي نعد الأعوام والشهور والأيام التي دون وقت هلاكهم، فإذا جاء الوقت المحدد لذلك أهلكناهم. والعرب تقول: عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه.
وفما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن هلاك الكفار حدد له أجل معدود ذكره في مواضع كثيرة من كتابه. كقوله تعالى: * (ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما
511

يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) *، وقوله تعالى: * (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب) *، وقوله: * (وما نؤخره إلا لاجل معدود) *، وقوله: * (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه) *، وقوله: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) *، قوله تعالى: * (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) *، وقوله: * (قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار) *، وقوله: * (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) * إلى غير ذلك من الآيات.
وروي أن المأمون قرأ هذه السورة الكريمة فمر بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء. فأشار إلى ابن السماك أن يعظه. فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد.
والأظهر في الآية هو ما ذكرنا من أن العد المذكور عد الأعوام والأيام والشهور من الأجل المحدد.
وقال بعض أهل العلم. هو عد أنفاسهم. كما أشار إليه ابن السماك في موعظته للمأمون التي ذكرنا إن صح ذلك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أنه كان إذا قرأها بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد: فراق أهلك، آخر العدد: دخول قبرك).
وقال بعض أهل العلم * (إنما نعد لهم عدا) * أي نعد أعمالهم لنجازيهم عليها. والظاهر هو ما قدمنا. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين الذين كانوا يتقونه في دار الدنيا بامتثال أمره واجتناب نهيه يحشرون إليه يوم القيامة في حال كونهم وفدا. والوفد على التحقيق: جمع وافد كصاحب وصحب، وراكب وركب. وقدمنا في سورة (النحل) أن التحقيق أن الفعل بفتح فسكون من صيغ جموع الكثرة للفاعل وصفا، وبينا شواهد ذلك من العربية، وإن أغفله الصرفيون. والوافد: من يأتي إلى الملك مثلا إلى أمر له شأن. وجمهور المفسرين على أن معنى قوله * (وفدا) * أي ركبانا. وبعض العلماء يقول: هم ركبان على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة. وبعضهم يقول:
512

يحشرون ركبانا على صور من أعمالهم الصالحة في الدنيا في غاية الحسن وطيب الرائحة.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا) * قال: يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحا، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد طيب ريحك، وحسن وجهك، فيقول: أنا عملك الصالح، وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني. فذلك قوله * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا) * وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا) * قال: ركبانا). وقال ابن جرير: حدثني ابن المثنى، حدثني ابن مهدي عن سعيد عن إسماعيل عن رجل عن أبي هريرة (* (يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا) * قال: على الإبل:). وقال ابن جريج: هل النجائب. وقال الثوري: على الإبل النوق. وقال قتادة * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا) * قال: إلى الجنة. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا سويد بن سعيد، أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق، حدثنا النعمان بن سعد قال: كنا جلوسا عند علي رضي الله عنه فقرأ هذه الآية * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا) * قال: والله ما على أرجلهم يحشرون. ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة ا!) وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني به، وزاد عليها: (رحائل من ذهب، وأزمتها الزبرجد..))، والباقي مثله. وروى ابن أبي حاتم هنا حديثا غريبا جدا مرفوعا عن علي قال: حدثنا أبي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي، حدثنا سلمة بن جعفر البجلي، سمعت أبا معاذ البصري يقول: إن عليا كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا) * فقال: ما أظن الوفد إلا الركب يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون أو يؤتون بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحائل الذهب، شرك نعالهم نور يتلألأ، كل خطوة منها مد البصر، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم في دنس، ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدا، وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون أو فيأتون باب الجنة فإذا حلقة من ياقوت
513

حمراء على صفائح الذهب. فيضربون بالحلقة على الصفحة فيسمع لها طنين يا علي. فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل فتبعث قيمها ليفتح له فإذا رآه خر له (قال
سلمة: أراه قال ساجدا) فيقول ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك، فيتبعه ويقفوا أثره فتستخف الحوراء العجلة فنخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه..) إلى آخر الحديث بطوله. وفي آخر السياق: هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعا. وقد رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه، وهو أشبه بالصحة. والله أعلم ا ه. وركوبهم المذكور إنما يكون من المحشر إلى الجنة، أما من القبر فالظاهر أنهم يحشرون مشاة. بدليل حديث ابن عباس الدال على أنهم يحشرون حفاة عراة غرلا. هذا هو الظاهر وجزم به القرطبي. والله تعالى أعلم.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) * السوق معروف. والمجرمون: جمع تصحيح للمجرم، وهو اسم فاعل الإجرام. والإجرام: ارتكاب الجريمة، وهي الذنب الذي يستحق صاحبه به النكال والعذاب. ولم يأت الإجرام في القرآن إلا من أجرم الرباعي على وزن أفعل. ويجوز إتيانه في اللغة بصيغة الثلاثي فتقول: جرم يجرم كضرب يضرب. والفاعل منه جارم، والمفعول مجروم، كما هو ظاهر، ومنه قول عمرو بن البراقة النهمي: ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) * السوق معروف. والمجرمون: جمع تصحيح للمجرم، وهو اسم فاعل الإجرام. والإجرام: ارتكاب الجريمة، وهي الذنب الذي يستحق صاحبه به النكال والعذاب. ولم يأت الإجرام في القرآن إلا من أجرم الرباعي على وزن أفعل. ويجوز إتيانه في اللغة بصيغة الثلاثي فتقول: جرم يجرم كضرب يضرب. والفاعل منه جارم، والمفعول مجروم، كما هو ظاهر، ومنه قول عمرو بن البراقة النهمي:
* وننصر مولانا ونعلم أنه
* كما الناس مجروم عليه وجارم
*
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (وردا) * أي عطاشا. وأصل الورد: الإتيان إلى الماء، ولما كان الإتيان إلى الماء لا يكون إلا من العطش أطلق هنا اسم الورد على الجماعة العطاش، أعاذنا الله والمسلمين من العطش في الآخرة والدنيا. ومن إطلاق الورد على المسير إلى الماء قول الراجز يخاطب ناقته: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة * (وردا) * أي عطاشا. وأصل الورد: الإتيان إلى الماء، ولما كان الإتيان إلى الماء لا يكون إلا من العطش أطلق هنا اسم الورد على الجماعة العطاش، أعاذنا الله والمسلمين من العطش في الآخرة والدنيا. ومن إطلاق الورد على المسير إلى الماء قول الراجز يخاطب ناقته:
* ردي ردي ورد قطاة صما
* كدرية أعجبها برد الماء
*
واختلف العلماء في العامل الناصب لقوله * (يوم نحشر المتقين) * فقيل منصوب ب * (يملكون) * بعده. أي لا يملكون الشفاعة يوم نحشر المتقين. واختاره أبو حيان في البحر. وقيل: منصوب ب (اذكر) أو احذر مقدرا. وفيه أقوال غير ذلك.
وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة (الزمر): * (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها
514

وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم ءايات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هاذا قالوا بلى ولاكن حقت كلمة العذاب على قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) *. قوله تعالى: * (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا) *. قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في الآية وجهان أو أوجه من التفسير كلها حق، وكل واحد منها يشهد له قرآن فإنا نذكر الجميع وأدلته من كتاب الله تعالى لأنه كله حق، فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الآية الكريمة من ذلك النوع. قال بعض أهل العلم: الواو في قوله * (لا يملكون) * راجعة إلى * (المجرمين) * المذكورين في قوله * (ونسوق المجرمين إلى جهنم) * أي لا يملك المجرمون الشفاعة، أي لا يستحقون أن يشفع فيهم شافع يخلصهم مما هم فيه من الهول والعذاب.
وهذا الوجه من التفسير تشهد له آيات من كتاب الله. كقوله تعالى: * (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) *، وقوله تعالى: * (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) *، وقوله تعالى: * (وأنذرهم يوم الا زفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) *. وقوله: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * مع قوله: * (ولا يرضى لعباده الكفر) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا الوجه يفهم منه بالأحرى أن المجرمين لا يشفعون في غيرهم، لأنهم إذا كانوا لا يستحقون أن يشفع فيهم غيرهم لكفرهم فشفاعتهم في غيرهم ممنوعة من باب أولى. وعلى كون الواو في * (لا يملكون) * راجعة إلى * (المجرمين) * فالاستثناء منقطع و (من) في محل نصب. والمعنى: لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا يملكون الشفاعة، أي بتمليك الله إياهم وإذنه لهم فيها. فيملكون الشافعون بما ذكرنا ويستحقها به المشفوع لهم، قال تعالى: * (من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه) *، وقال: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) *، وقال: * (وكم من ملك فى السماوات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشآء ويرضى) *
515

.
وقال بعض أهل العلم: الواو في قوله * (لا يملكون الشفاعة) * راجعة إلى (المتقين والمجرمين) جميعا المذكورين في قوله * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا
ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) * وعليه فالاستثناء في قوله * (إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا) *: متصل. و * (من) * من بدل من الواو في (لا يملكون) أي لا يملك من جميعهم أحد الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا وهم المؤمنون. والعهد: العمل الصالح. والقول بأنه لا إله إلا الله وغيره من الأقوال يدخل في ذلك. أي إلا المؤمنون فإنهم يشفع بعضهم في بعض، كما قال تعالى: * (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضى له قولا) *. وقد بين تعالى في مواضع أخر: أن المعبودات التي يعبدونها من دون الله لا تملك الشفاعة، وأن من شهد بالحق يملكها بإذن الله له في ذلك، وهو قوله تعالى: * (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق) *: أي لكن من شهد بالحق يشفع بإذن الله له في ذلك. وقال تعالى: * (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ولم يكن لهم من شركآئهم شفعاء) *، وقال تعالى: * (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هاؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم) *. والأحاديث في الشفاعة وأنواعها كثيرة معروفة. والعلم عند الله تعالى.
وفي إعراب جملة * (لا يملكون) * وجهان: الأول أنها حالية. أي نسوق المجرمين إلى جهنم في حال كونهم لا يملكون الشفاعة. أو نحشر المتقين ونسوق المجرمين في حال كونهم لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ منهم عند الرحمن عهدا. والثاني أنها مستأنفة للإخبار، حكاه أبو حيان في البحر. ومن أقوال العلماء في العهد المذكور في الآية: أنه المحافظة على الصلوات الخمس، واستدل من قال ذلك بحديث عبادة بن الصامت الذي قدمنا الكلام على قوله تعالى * (فخلف من بعدهم خلف) *. وقال بعضهم: العهد المذكور: هو أن يقول العبد كل صباح ومساء. اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، فلا تكلني إلى نفسي. فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقربني من الشر، وإني لا أثق إلا برحمتك.
516

فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة. إنك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا ووضعها تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الله عهد؟ فيقوم فيدخل الجنة انتهى. ذكره القرطبي بهذا اللفظ مرفوعا عن ابن مسعود. وذكر صاحب الدر المنثور أنه أخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن مسعود موقوفا عليه، وليس فيه قوله: فإذا قال ذلك الخ. وذكر صاحب الدر المنثور أيضا: أن الحكيم الترمذي أخرج نحوه مرفوعا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. والظاهر أن المرفوع لا يصح. والذي يظهر لي أن العهد في الآية يشمل الإيمان بالله وامتثال أمره واجتناب نهيه. خلافا لمن زعم أن العهد في الآية كقول العرب: عهد الأمير إلى فلان بكذا. أي أمره به. أي لا يشفع إلا من أمره الله بالشفاعة. فهذا القول ليس صحيحا في المراد بالآية وإن كان صحيحا في نفسه. وقد دلت على صحته آيات من كتاب الله. كقوله تعالى: * (من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه) *، وقوله * (وكم من ملك فى السماوات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشآء ويرضى) *، وقوله: * (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) *، وقوله: * (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان) *، وقوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا) *، قد تكلمنا عليها وعلى الآيات التي بمعناها في القرآن في مواضع متعددة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا * فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا * وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) * قوله تعالى: * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا) *. قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر في القرآن لفظ عام ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، وقد قدمنا أمثلة متعددة لذلك. فإذا علمت ذلك فاعلم أنه جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكر أنه سيعجل لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ودا. أي محبة في قلوب عباده. وقد صرح في موضع آخر بدخول نبيه موسى عليه وعلى نبينا والسلام في هذا العموم، وذلك في قوله * (وألقيت عليك محبة منى) * الآية. وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه. قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإن الله إذا أبغض عبدا دعا جبريل، فقال يا جبريل إني أبغض فلانا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل
517

ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، قال: فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض) ا ه. قوله تعالى: * (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) *. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه إنما يسر هذا القرآن بلسان هذا النبي العربي الكريم، ليبشر به المتقين، وينذر به الخصوم الألداء، وهم الكفرة. وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في مواضع أخر. أما ما ذكر فيها من تيسير هذا القرآن العظيم فقد أوضحه في مواضع أخر، كقوله في سورة (القمر) مكررا لذلك: * (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر) *، وقوله في آخر (الدخان): * (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) * وأما ما ذكر فيها من كونه بلسان هذا النبي العربي الكريم فقد ذكره في مواضع أخر، كقوله: * (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الا مين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين) *، وقوله تعالى: * (الر تلك ءايات الكتاب المبين إنآ أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) *، وقوله تعالى: * (حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون) *، وقوله تعالى: * (لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهاذا لسان عربى مبين) *، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: * (لتبشر به المتقين) * قد أوضحنا الآيات الدالة عليه في سورة (الكهف) وغيرها فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وأظهر الأقوال في قوله: * (لدا) * أنه جمع الألد، وهو شديد الخصومة. ومنه قوله تعالى: * (وهو ألد الخصام) *، وقول الشاعر: وهو ألد الخصام) *، وقول الشاعر:
* أبيت نجيا للهموم كأنني
* أخاصم أقواما ذوي جدل لدا
* وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) *. * (وكم أهلكنا) * في هذه الآية الكريمة هي الخيرية، وهي في محل نصب لأنها مفعول * (أهلكنا) *. و * (من) * هي المبينة ل * (كم) * كما تقدم إيضاحه.
وقوله: * (هل تحس منهم من أحد) * أي هل ترى أحدا منهم، أو تشعر به، أو تجده * (أو تسمع لهم ركزا) * أي صوتا. وأصل الركز: الصوت الخفي. ومنه ركز
518

الرمح: إذا غيب طرفه وأخفاه في الأرض. ومنه الركاز: وهو دفن جاهلي مغيب بالدفن في الأرض. ومن إطلاق الركز على الصوت قول لبيد في معلقته: أو تسمع لهم ركزا) * أي صوتا. وأصل الركز: الصوت الخفي. ومنه ركز الرمح: إذا غيب طرفه وأخفاه في الأرض. ومنه الركاز: وهو دفن جاهلي مغيب بالدفن في الأرض. ومن إطلاق الركز على الصوت قول لبيد في معلقته:
* فتوجست ركز الأنيس فراعها
* عن ظهر غيب والأنيس سقامها
*
وقول طرفة في معلقته: وقول طرفة في معلقته:
* وصادقتا سمع التوجس للسرى
* لركز خفي أو لصوت مندد
*
وقول ذي الرمة: وقول ذي الرمة:
* إذا توجس ركزا مقفر ندس
* بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
*
والاستفهام في قوله * (هل) * يراد به النفي. والمعنى: أهلكنا كثيرا من الأمم الماضية فما ترى منهم أحد ولا تسمع لهم صوتا. وما ذكره في هذه الآية من عدم رؤية أشخاصهم، وعدم سماع أصواتهم ذكر بعضه في غير هذا الموضع. كقوله في عاد: * (فهل ترى لهم من باقية) *، وقوله فيهم: * (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) *، وقوله: * (فكأين من قرية أهلكناها وهى ظالمة فهى خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد) *، إلى غير ذلك من الآيات.
519