الكتاب: نهاية الأفكار
المؤلف: آقا ضياء العراقي
الجزء: ١ - ٢
الوفاة: ١٣٦١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٥ - ١٣٦٤ ش
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات: تقرير أبحاث آية الله العظمى الشيخ آغا ضياء الدين العراقي

بسمه تعالى
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله المصطفى وآله الغر الميامين.
وبعد فإن الانسان انسان بفكره وثقافته. والأمم حية بحياة أفكارها وعلومها.
والعلماء هم أصحاب الدور الأسمى في قيادة الأمة والحفاظ على حياتها الفكرية واحياء
تراثها العلمي وإثراه.
والأمة الاسلامية - بفضل ثقافة القرآن الإلهية وتربية الرسول الأعظم والمعصومين من آله
- امتازت بعلماء فطاحل ومفكرين عظام، إرتووا من معين الحق الذي لا ينضب، وخلدتهم
دروسهم بألسنتهم وأقلامهم بما جسدته كتبهم من ثقافتهم وأفكارهم.
وتراثنا العلمي الاسلامي الثر في مختلف الفنون خير شاهد على ما نقول، بالرغم من
ضياع كثير مما حبرته أقلام علمائنا الكرام.
ومنذ سنوات، قامت مؤسسة النشر الاسلامي بمهمة احياء تراثنا العلمي العظيم
في المجالات العلمية الاسلامية وكرست جهودها لابرازه بما يتناسب وروح العصر في عالمي
الطباعة والتحقيق ونشره على صعيد يحفظه من الضياع والتلف. واليوم تقدم هذه المؤسسة
للأمة الاسلامية والحوزات العملية خدمة جديدة وعطاء ثمينا لعظيم من علمائنا المحققين في
علم أصول الفقه هو آية الله الشيخ المحقق الآغا ضياء الدين العراقي (قدس سره) صاحب الفكر
الثاقب الذي ربى جيلا من العلماء العظام ومنهم تلميذه المدقق الحجة الشيخ محمد تقى
البروجردي النجفي (قدس سره) فإنه بتقريراته هذه وقد أحيا دقائق أفكار أستاذه وأعان على
حل معضلات بيانه.
ونشكر العلامة الجليل الحجة الشيخ محمد المؤمن والعلامة الجليل الحجة الشيخ محمد مهدى
الآصفي على ما بذلاه من جهد وافر في هذا المجال بتهيئة النسخة المخطوطة وتصحيحها وبالتقديم
لها فلله تعالى درهما وعلى الله أجرهما، ولهما منا ومن الأمة الاسلامية والحوزات العلمية
جزيل الشكر. ونسأله تعالى ان يوفقهما وإيانا لمواصلة الدرب انه خير معين.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة
لجماعة المدرسين بقم المشرفة (إيران)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة 1

مقدمة
هذا الكتاب واحد من كتب معدودة تمثل قمة الفكر الأصولي عند الشيعة الامامية،
في مجال أصول الاستنباط.
فقد اعطى انفتاح باب الاجتهاد في الفقه فرصة طيبة لنمو حركة الاجتهاد ونمو العلوم
المرتبطة بهذه الحركة، وفى مقدمتها على أصول الفقه في الحوزات العلمية الامامية. وهيأ الله
تعالى لهذا العلم في العصور الأخير أبطالا من فحول العلماء عمقوا أبحاث هذا العلم، ومتنوا
قواعده وأحكموا أسسه، ووضعوا أصوله على أسس متينة قوية، واكتشفوا آفاقا جديدة من
هذا العلم، لم يفتحه الله تعالى على من سبقهم من العلماء من قبل، وذلك من أمثال
الوحيد البهبهاني، وشريف العلماء، والشيخ الأنصاري، والخراساني (ملا محمد كاظم)،
والشيخ محمد حسين الأصبهاني، والميرزا النائيني، والشيخ ضياء الدين العراقي.
وفى عصر العلمين الأخيرين بلغ علم الأصول ذروته. وكانا بحق مدرستين في الفكر
الأصولي المعاصر، تخرج عليهما بصورة مباشره أو غير مباشرة الكثير من علمائنا المعاصرين، ولا تزال آراؤهما في الأصول مدارا للبحث والتحقيق، ومحورا للمناقشات والرد والايجاب
في الدراسات الأصولية العليا (أبحاث الخارج).
والكتاب الذي بين أيدينا من ثمرات هذه المدرسة الأصولية، القى مطالبه الأستاذ
المحقق العراقي، وقرره وكتبه تلميذه المحقق الشيخ محمد تقى البروجردي، رحمهما الله، وفى
هذه الأسطر القليلة في مقدمة الكتاب أود ان أشير إلى بعض الجوانب البارزة من حياة
العلمين الفقيدين: الأستاذ والمقرر رحمهما الله راجيا أن يوفقني الله تعالى لتقديم هذا
المقدمة 2

العلمين رحمهما الله إلى الوسط العلمي في دراسة موسعة ان شاء الله.
المحقق العراقي
آية الله الفقيه الأصولي المحقق الشيخ ضياء الدين العراقي - ولد في مدينة عراق
(أراك) وانتقل في بداية شبابه إلى أصفهان للدراسة، وتخرج على يد علمائها، وانتقل بعد
ذلك إلى النجف الأشرف لاستكمال دراساته واعمال العلمية.
يقول تلاميذه: ان المحقق العراقي جاء إلى النجف الأشرف مجتهدا حضر دروس
المحقق السيد محمد الفشاركي، ودروس المحقق الخراساني (صاحب الكفاية) حضور
تحقيق، وكان فيهما من ابرز الفضلاء يومذاك.
واستقل بعد ذلك في التدريس على مستوى الدراسات العليا (الخارج)، واستمر في
التدريس على هذا المستوى في الفقه والأصول قرابة ستين سنة في النجف الأشرف،
وتخرج على يده خلال هذه الفترة حدود ثلاثة آلاف من الفقهاء والمجتهدين والعلماء.
ولا نعرف في فقهائنا في الادوار الأخيرة من امضى ستين عاما في التدريس على مستوى
الخارج (الدراسات العليا).
ودرس الأصول دورات عديدة خلال هذه الفترة كما درس أهم أبواب الفقه:
(الصلاة دورة كاملة، والإجارة، والقضاء، والشهادات، والغصب، والمكاسب،
وغير ذلك من الكتب الفقهية).
ولما كان المحقق العراقي رحمه الله بعيدا عن أجواء الزعامة الدينية فقد أتاح الله تعالى
له فرصة مباركة للتفرغ للعلم تحقيقا وتدريسا وتأليفا.
وقد نشأ على يده في هذه الفترة نخبة من فقهائنا المعاصرين الكبار نذكر منهم
المرحوم آية الله اليثربي، وآية الله السيد محمود الشاهرودي، وآية الله السيد أبو القاسم
الخوئي، وآية الله السيد محسن الحكيم، وآية الله الشيخ موسى الخونساري، وآية الله الشيخ
حسين الحلى، وآية الله الشيخ محمد تقى البروجردي، وآية الله السيد يحيى اليزدي
وآية الله الميرزا حسن اليزدي، وآية الله السيد حسن البجنوردي، وآية الله الميرزا هاشم
الآملي، وآية الله السيد عبد الله الشيرازي، وآية الله الشهيدي التبريزي، وآية الله الشيخ
المقدمة 3

آقا بزرگ الشاهرودي، وآية الله السيد عباس الأصفهاني (نجل استاده السيد محمد
فشاركي)، وغيرهم من الفقهاء المعاصرين وفحول المحققين، وأساطين الفقه والأصول.
وخلف المحقق العراقي من بعده مجموعة من المؤلفات العلمية في حقلى الفقه والأصول
تتميز جميعا بالدقة، والعمق، والاصالة، والمتانة العلمية، نذكر فيما يلي بعضها:
1 - دورة فقهية استدلالية كاملة بعنوان شرح التبصرة.
طبع منها كتاب الطهارة، والصلاة، والزكاة، والخمس، والصوم، والاعتكاف،
والقضاء، والشهادات، والمكاسب. ويصدر قريبا ان شاء الله سائر مجلدات هذه الدورة
الفقهية.
2 - حاشية استدلالية على العروة الوثقى مخطوطة.
3 - حاشية موسعة على كفاية الأصول لأستاذه المحقق الخراساني يتعرض فيها
لآراء صاحب الكفاية.
4 - حاشية على كتاب فوائد الأصول تقريرات بحث المحقق النائيني بقلم المحقق
الكاظمي.
وفى هذه التعليقات يتناول المحقق العراقي نقاط الاختلاف في الرأي بينه وبين
المحقق النائيني. وهذا الكتاب يعتبر مصدرا أساسيا لدراسة وجوه الاختلاف بين
المدرستين الأصوليين المعاصرين (مدرسة المحقق العراقي ومدرسة المحقق النائيني).
5 - مقالات الأصول: خلاصة وافية لآراء المحقق العراقي في الأصول في
مجلدين.
6 - تعليقه على رسائل الشيخ الأنصاري يتعرض فيها لآراء الشيخ الأنصاري
الكبير (قدس الله سره).
ومما يلفت النظر ان المحقق العراقي يطرح في هذه الكتب الأربعة آراءه الأصولية في
أربعة قوالب علمية مختلفة تماما وان كان الرأي والتصورات واحدة في الأغلب،
وليس في هذه الكتب الأربعة تكرارا للعرض.
7 - كما صدر من تقارير أبحاثه رحمه الله في الأصول (نهاية الأفكار) الكتاب
الحاضر لآية الله الشيخ محمد تقى لآية الله شيخ محمد تقى البروجردي رحمه الله و (بدائع الأفكار) لآية الله الشيخ
الميرزا هاشم الآملي حفظه الله من فقهاء الحوزتين العلميتين النجف الأشرف وقم المقدسة
المقدمة 4

وأساتذتهما البارزين.
وقد كان رحمه الله كثير الاشتغال، عميق النظر والرأي، يعد في القمة من فقهائنا
المعاصرين من أمثال شريف العلماء بحاثا، قوى الحجة، دؤوبا في الاعمال العلمية دائم
التفكير، يستغرق في التفكير العلمي، مربيا من الناحية العلمية. لا يفارقه العمل العلمي
تفكيرا، أو تدريسا، أو تأليفا، الا في أوقات العبادة والراحة. وكان في حياته الشخصية
زاهدا قانعا باليسير من أسباب الحياة المادية، معرضا عن الدنيا وزينتها، مقبلا على أعماله
العلمية، ورعا تقيا في حدود الله، حلو المعاشرة، خفيف الروح، عذب البيان.
وقد وافاه الاجل في النجف الأشرف 1361 ه‍. ق ودفن في الضلع الغربي من
الصحن الحيدري الشريف.
المحقق البروجردي
اما المقرر فهو آية الله المحقق الفقيه الشيخ محمد تقى البروجردي رحمه الله، ولد في
بروجرد، وتلقى مبادئ العلم في بروجرد، ثم انتقل إلى النجف الأشرف في بدايات
شبابه، وتلمذ أساتذتها في السطح.
ثم حضر في أبحاث الخارج دروس المحقق العراقي والمحقق النائيني، وآية الله السيد
أبو الحسن الأصفهاني رحمهم الله وكان حضوره في هذه الدروس حضور تحقيق، وكان أكثر
استفادته من المحقق العراقي في الأصول وآية الله الأصفهاني في الفقه.
كان رحمه الله بحاثا، معروفا بقوة الرأي، ودقة النظر، وسلامة الفكر في مسائل الفقه
والأصول. وكان كثير النقاش لاستاذيه العراقي والأصفهاني في مجالس الدرس.
حضر الأصول على المحقق العراقي رحمه الله أكثر من أربع دورات كاملة وكتب
أبحاث المحقق العراقي في الأصول ثلاث دورات، كما كتب تقارير أبحاث أستاذيه
الآخرين المحقق النائيني وآية الله الأصفهاني في الفقه والأصول بصورة متفرقة.
له من المؤلفات:
المقدمة 5

1 - نهاية الأفكار
وهو دورة كاملة لدروس أستاذه العراقي في الأصول، طبع منه في حياته رحمه الله
المباحث العقلية (ضمن الجزئين الثالث والرابع من الكتاب)، وتحت الطبع الان الجزء
الأول والثاني من الكتاب في مباحث الالفاظ، ويمتاز هذا الكتاب بالاستيفاء الكامل
والدقيق لمطالب المحقق العراقي مع سلاسة التعبير ووضوح البيان وهو من هذه الناحية من
أفضل الكتب الأصولية التي تجمع بين سلاسة وسهولة التعبير وعمق دقة المحتوى.
وهذا الكتاب منذ أن صدر منه الجزء الثالث والرابع في النجف الأشرف إلى اليوم
موضع اهتمام وعناية أساتذة البحث الخارج والفضلاء والطلاب في الحوزات العلمية في
الدراسات الأصولية.
2 - حاشية استدلالية واسعة على العروة الوثقى
صدر منه الجزء الأول في النجف الأشرف والجزء الثاني في بيروت ونسأل الله تعالى
التوفيق لطبع بقية مجلداته. وهذا الكتاب يمثل خلاصة آرائه رحمه الله في الفقه.
وفى هذا الكتاب تتجلى مكانة المؤلف الفقهية وقدرته العلمية، كما يتضح للقاري
من هذا الكتاب ذوق المؤلف السليم والصافي في الاستنباط والاجتهاد، وقد انهى رحمه الله
هذه التعليقات إلى كتاب الحج. وتوفى فجأة اثر عارض قلبي عند اشتغاله بكتابة هذه
التعليقات فسقط القلم من يده، وأسلم روحه الله تعالى. ولما زرت مكتبته الشخصية
رحمه الله أحببت ان أقرأ آخر كلمة صدرت من قلمه قبل ان يسقط القلم من يده،
فتصفحت التعليقة فوجدت ان الكلمة الأخيرة التي كتبها قبل ان يسقط القلم من يده،
هي: (وقضى امده وانتهى) وتأتى هذه الجملة بمناسبة طبيعية ضمن الكلام، وبهذه
الجملة ينتهى امده رحمه الله في هذه الدنيا ويمضى إلى ربه الغفور الرحيم.
3 - حاشية فتوائية، فارسية على توضيح المسائل مخطوطة
4 - رسالة في الرد على الفرقة البابية، مخطوطة.
5 - رسالة في منجزات المريض، مخطوطة.
6 - رسالة في الاجتهاد والتقليد، مطبوعة.
وقد قرأ المرحوم آية الله البروجردي هذه الرسالة قبل الطبع فاعجب بها كثيرا،
وكان يثنى عليها في مجالسه.
المقدمة 6

7 - رسالة في إرث الزوجة من الأراضي والعقار، مطبوعة.
وغيرها من المؤلفات الناقصة والكاملة.
وقد عاش ردحا طويلا من عمره الشريف في النجف الأشرف طالبا، ثم محققا،
وعالما، ثم مدرسا على مستوى الدراسات العليا - الخارج - ثم هاجر إلى قم، وزوال
التدريس في الحوزة العلمية في قم.
وكان يحضر أبحاثه نخبة من الفضلاء ثم هاجر إلى طهران وتوفى فيها في
24 ذق 1391 ه‍. ق و دفن في مدينة قم بمقبرة أبو حسين.
وقد كان رحمه الله دؤوبا على الدراسة والتحقيق، قوى الحجة في المناقشة، سليم
الرأي، بحاثا ثاقب النظر، عذب البيان.
كما كان معروفا بالتقوى والاعراض عن الدنيا والزهد فيها، شأنه في ذلك شأن
أستاذه رحمه الله، خفيف الروح، لا يعطى من وقته ونفسه للتكلفات التي يتكلفها الناس
عادة في مثل وضعه وظروفه. وكان كثير الذكر لله كثير التلاوة لكتاب الله. لا يفوته
التهجد في آناء الليل، طويل الجلوس في مجالس العبادة والدعاء والذكر، غيورا على
حدود الله ومعالم وأصول طريقة أهل البيت عليهم السلام، أبي النفس، مترفعا عن مغريات
الحياة الدنيا، متواضعا جم التواضع.
رحمه الله وتغمده برحمة، وأسكنه فسيح جنانه، ونفعنا به.
محمد مهدى الآصفي
قم المقدسة في 1 محرم 1405
المقدمة 7

نهاية الأفكار
" في مباحث الألفاظ "
تقرير أبحاث العلامة المحقق آية الله العظمى
الشيخ آغا ضياء الدين العراقي (قدس سره)
تأليف الفقيه المحقق والأصولي المدقق
الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي (طاب ثراه)
الجزء الأول والثاني
مؤسسة النشر الاسلامي (التابعة)
لجماعة المدرسين بقم المشرفة (إيران)
1

بسم الله الرحمن الرحيم
2

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريته محمد وآله الطاهرين واللعنة الأبدية
على أعدائهم وغاصبي حقوقهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين آمين رب العالمين.
اما بعد فهذا تأليف منيف مشتمل لمهمات الأصول من إفادات شيخنا العلامة
الأستاذ الشيخ ضياء الدين العراقي أدام الله ظله على رؤوس الأنام مما استفدتها في درسه
الشريف، حسب فهمي القاصر، والله هو الموفق للصواب، وقد سميتها بنهاية الأفكار و
رتبتها على مقدمة ومقاصد وخاتمة اما المقدمة فيذكر فيها أمور:
الامر الأول في بيان تعريف العلم وموضوعه
كما هو المتداول بين أرباب التصانيف
فنقول وعليه التكلان:
اعلم: بان كل من قنن قانونا أو أسس فنا من الفنون لابد وان يلاحظ في نظره أولا
في مقام تأسيس الفن غرضا ومقصدا خاصا، ثم يجمع شتاتا من القواعد والمسائل
3

الخاصة التي هي عبارة عن مجموع القضية من الموضوع والمحمول أو المحمولات المنتسبة إلى
الموضوعات مما كانت وافية بذلك الغرض والمقصد المخصوص، كما عليه أيضا قد جرى
ديدن أرباب الفنون من الصدر الأول، حيث إنه قد جرى ديدنهم على تدوين شتات من
القواعد الخاصة مما كانت وافية بغرض مخصوص ومقصد خاص لهم وجعلهم إياها فنا
خاصا وموسومة باسم مخصوص كالصرف والنحو والهيئة والهندسة والفقه والأصول و
غير ذلك.
ومن المعلوم أيضا - كما عرفت انه لا يكاد يجمع من القضايا والقواعد في كل فن
الا ما كانت منها محصلة لذلك الغرض والمقصد الخاص ومرتبطة به، دون غيرها من
القضايا التي لا يكون لها دخل في ذلك الغرض ولا مرتبطة به، فمن كان غرضه مثلا هو
صيانة الفكر عن الخطأ كما في علم المنطق أو صيانة الكلام عن الغلط لابد له من تدوين
القضايا والقواعد التي لها دخل في الغرض المزبور دون غيرها من القضايا الغير المرتبطة به،
وعلى ذلك ربما أمكن اشتراك العلمين أو أزيد في بعض المسائل بان كان مسألة واحدة
من مسائل العلمين باعتبارين كما سنبينه (إن شاء الله تعالى).
وعلى كل حال فحقيقة كل فن وعلم عبارة عن نفس تلك القواعد والواقعية و
الكبريات النفس الامرية المحفوظة في مرتبة ذاتها والمعروضة للعلم تارة وللجهل أخرى،
لا صورها التصورية أو التصديقية، فكان لعلم النحو والصرف واقع محفوظ في نفس الامر
وهي القواعد الخاصة وان لم يكن لها محصل في العالم أصلا، وبهذا الاعتبار أيضا يقال
بان المسألة الكذائية من اجزاء فن دون فن آخر، فكانت أسامي هذه الفنون كالنحو
والصرف والفقه والكلام وغيرها حاكيات عن نفس تلك القواعد الواقعية بأجمعها مع
قطع النظر عن ادراكها ومحصلها، ومن ذلك صح إضافة العلم إليها تارة والجهل أخرى
كما في قولك فلان عالم بالنحو والصرف وفلان جاهل بهما، فلو انه كان العلم والفن
عبارة عن العلم بتلك القواعد لما كان مجال لإضافة العلم إليها تارة والجهل أخرى، كما
لا يخفى.
وعلى ذلك فما في بعض التعابير من التعبير عن تلك الفنون بالعلم بها - كقولهم في مقام
التعريف: بأن النحو علم بكذا، وان الصرف علم بكذا - لا يخلو عن مسامحة واضحة، الا
إذا كان ذلك منهم باعتبار وجوده الادراكي الذي هو في الحقيقة إحدى مراتب
4

وجود الشئ، كما أنه يمكن ان يكون التعبير بالصناعة أيضا باعتبار استنباط مسائل ذلك
الفن، ولكن حق التعبير في مقام شرح عناوين العلوم هو التعبير عنها بما عرفت بكونها
عبارة عن القواعد الخاصة التي لها دخل في الغرض الذي دعى إلى تدوينه، كالاقتدار
على التكلم الصحيح مثلا في علم النحو.
ومن ذلك البيان ظهر أيضا حال إضافة الموضوع إلى العلم فإنه على ما ذكرنا لابد و
ان يراد من العلم في اطلاقه على العناوين الخاصة وإضافة الموضوع الخاص إليه نفس
القواعد الواقعية والا فلا معنى لإضافة الموضوع إلى التصديق بها لان معروض التصديق
هو النفس ومتعلقه نفس القواعد فلا مجال بعد لإضافة الموضوع الخاص إليه.
كما أنه في إضافة الغاية إليه أيضا لابد وان يراد من العلم هذا المعنى فيما لو أريد من
الغرض والغاية ما يترتب على نفس القواعد الواقعية لا الاغراض المترتبة على تحصيل
العلم بها لان ذلك لا يكون تحت ضبط بل يختلف باختلاف الاغراض الداعية إلى
تحصيلها، فقد لا يكون غرض المحصل لعلم النحو مثلا حفظ كلامه عن الخطأ والغلط
بل كان غرضه شيئا آخر.
تذكار فيه ارشاد:
اعلم بان المراد من الغرض والغاية في كل شئ هو المقصد الأصلي الذي دعى إلى
تحصيل مقدماته للتوصل بها إليه، ومن ذلك لابد من ترتبه عليها، وعليه فكما انه لابد في
كل فن من غرض وغاية في نظر الجاعل له كذلك لابد وأن يكون ذلك الغرض والغاية
مترتبا على قواعد ذلك العلم والفن، وهذا بحسب أصل الكبرى مما لا اشكال فيه، نعم
انما الكلام في صغرى الغرض الداعي إلى جعل العلم وتمهيد قواعده وانه أي شئ؟
وفى مثله نقول بأنه لو جعلنا الغرض في كل علم عبارة عن تصحيح الأعمال القابلة
للصدور من فاعلها قولا أو فعلا أو استنباطا، وبعبارة أخرى، حيث اتصاف ذوات
الأعمال القابلة للصدور من فاعلها بالصحة قولا أو فعلا أو استنباطا كاتصاف الكلام
هيئة بالصحة في النحو، ومادة في الصرف، وافعال المكلفين في الفقه، ونحو ذلك،
فلازمه هو كون التصحيح المزبور مترتبا على نفس القواعد الواقعية بلا دخل لشئ آخر
5

فيه أصلا، إذ القواعد المزبورة حينئذ من مبادئ اتصاف هذه الأمور بالصحة في قبال
مبادئ ايجاد هذه الأمور الصحيحة خارجا فارغا عن أصل اتصافها بها فتكون من
قبيل المقدمة المنحصرة لتصحيح الأمور المزبورة من دون مدخلية لشئ آخر فيه، من جهة
انه بمجرد جعل القواعد يترتب عليها الاتصاف بالصحة الذي هو الغرض من العلم والفن
وان لم يتحقق بعد في الخارج أصلا، فان مبادئ الوجود غير مرتبط بمبادئ اتصاف
الشئ بالصحة، هذا إذا جعلنا الاغراض من العلوم المتداولة عبارة عن تصحيح الأعمال
القابلة للصدور من فاعلها قولا أو فعلا أو استنباطا أو غيرها، ولقد عرفت في مثله ترتب
العنوان المزبور بقول مطلق على نفس القواعد الواقعية بلا مدخلية الشئ آخر فيه.
واما لو جعلنا الاغراض عبارة عن وجود الأعمال الصحيحة في الخارج كحفظ
الكلام هيئة في النحو ومادة في الصرف وحفظ فعل المكلف في الفقه وحفظ استنباط
الاحكام في القواعد الأصولية بل وحفظ استنباط حقايق الأشياء ومعرفتها في مثل قواعد
العلوم الفلسفية والرياضية وهكذا، فلا جرم ما يترتب على القواعد حينئذ لما لا يكون
الا الحفظ من جهة، لا الحفظ على الاطلاق، من جهة وضوح استحالة ترتبة حينئذ على
نفس القواعد الواقعية، بل ولا على العلم بها أيضا لمكان مدخلية إرادة العالم والمحصل لها
في ذلك أيضا، فلابد وأن يكون الغرض والمقصد الأصلي الذي هو مورد ارادته النفسية
عبارة عما يترتب على هذه القواعد وليس هو الا الحفظ من جهة الراجع إلى سد باب
عدمه من قبلها، لا الحفظ بقول مطلق، من جهة ان ذلك مما يستحيل تمشى الإرادة
التوصلية بالنسبة إليه لأنها لا تكاد تتعلق الا بما يترتب على ذيها، بل ومثل هذا المعنى
جار في كل امر كان لإرادة الغير مدخل في تحققه كما في الملكية في البيع مثلا ونحوها،
فإنها من جهة إناطتها في التحقق على ايجاب البايع وقبول المشترى لا يكاد تمشى
الإرادة والقصد الجدي من البايع في ايجابه إلى حصول الملكية في الخارج بقول مطلق،
بل ما هو المتمشى من قبله لا يكون الا التوصل إلى وجود الملكية من ناحية ايجابه الراجع
إلى سد باب عدمها من قبله، لا السد بقول مطلق، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في كلية
الخطابات الشرعية والأحكام التكليفية المتعلقة بأفعال المكلفين حيث إنه لا يكون
الغرض والمقصود من الايجاب والخطاب أيضا فيها الا حفظ وجود المرام من ناحية ايجابه
وخطابه لا الحفظ على الاطلاق، فان ذلك مما لا يكاد ترتبه على مجرد ايجابه وخطابه،
6

نظرا إلى مدخلية اختيار المكلف والمأمور وارادته أيضا، كما هو ظاهر. وحينئذ ففي المقام
أيضا بعد أن كان تحقق الكلام الصحيح والاستنباط الصحيح منوطا بإرادة المتكلم و
المستنبط المحصل للقواعد فيستحيل كونه هو الغرض والمقصد الأصلي من العلم، فلابد
حينئذ من جعل الغرض والمقصد الأصلي عبارة عما يترتب على الأمور المزبورة وهو لا
يكون الا الحفظ من جهة لا الحفظ على الاطلاق.
وعلى ذلك فلا مجال لما قد يتوهم من الاشكال في أصل الغرض والغاية للعلم و
انكاره ونفى كون تمايز العلوم بتمايز الاغراض من جهة ما يرى من تخلفه كثيرا لأنه
كثيرا يتعلم الشخص قواعد النحو والصرف ومع ذلك لا يتحقق عنوان الحفظ المزبور من
جهة تكلمه غلطا على غير القواعد ولو عن تعمد منه في ذلك، مع أن الغرض مما لابد منه
ومن ترتبه البتة، إذ فيه ان غاية ذلك انما هو نفى كون عنوان الحفظ عن الخطأ في المقال
مثلا غرضا لعلم النحو مثلا، لا نفى أصل الغرض والغاية للعلم كلية، كيف وقد عرفت
بأنه مما لابد منه في كل فن ليكون هو الداعي والباعث على تمهيد قواعده، على أنه نقول
بعدم اضرار ذلك أيضا في كون الحفظ المزبور هو الغرض الداعي على جعل قواعد العلم،
وذلك لما عرفت بان الغرض في أمثال هذه النتائج التي فيها مدخلية لإرادة الغير ليس الا
الحفظ من جهة الراجع إلى سد باب عدمه من ناحية تلك القواعد لا الحفظ على الاطلاق
حتى من ناحية غيرها، ومثل ذلك أيضا كما عرفت مما لا يكاد تخلفه على كل حال،
حيث إنه بمجرد تمهيد القواعد يترتب عليها الحفظ من جهة، ولو لم يكن لها محصل في
العالم أصلا أو كان لها محصل ولكنه لم يتحقق في الخارج من جهة تعمد المحصل لها على
التكلم غلطا على خلاف قواعد النحو والصرف، كما هو ظاهر، خصوصا مع امكان جعل
الغرض والمقصد الأصلي من كل علم عبارة عن تصحيح الأعمال القابلة للصدور من
فاعلها قولا أو فعلا أو استنباطا الذي هو مترتب لا محالة بقول مطلق على نفس القواعد
بلا دخل لشئ آخر فيه.
وعلى كل حال فسواء جعلنا الغرض في العلوم عبارة عن تصحيح الأعمال القابلة
للصدور من فاعلها أو عنوان الحفظ على ما شرحناه، فلا ينبغي الاشكال في عدم كون
دخل القواعد فيه من باب دخل المؤثر في المتأثر بنحو كان بينهما المؤثرية والمتأثرية، بل و
انما هو من باب دخل طرف الإضافة وما تقوم بها لنفس الإضافة والمضاف بوصف كونه
7

مضافا، فان عنوان الحفظ المزبور والصحة المسطورة انما هو منتزع من تطبيق من يطبق
القواعد المعهودة من كل علم على ما ينسب إليه الحفظ المزبور والصحة المسطورة،
فالقواعد الواقعية في الحقيقة منطبقة على مواردها ومن هذا الانطباق ينتزع العنوانان، و
الا فالمؤثر في وجود الأعمال الصحيحة خارجا انما هو إرادة الفاعل لايجاد الأعمال
الصحيحة، وعلى ذلك فكانت القواعد الواقعية طرا طرفا لهذه الإضافة، وكان للحفظ
المزبور أيضا جهات عديدة تترتب كل جهة على قاعدة من تلك القواعد بلحاظ مطابقتها
معها، كما في صحة الصلاة مثلا وحفظها، حيث إن صحتها انما هي بلحاظ مطابقتها
باجزائها وشرائطها لتلك القواعد المجعولة في باب الصلاة الراجعة بعضها إلى اجزائها و
بعضها إلى شرائطها وموانعها، فمن مطابقتها بجهاتها الراجعة إلى اجزائها وشرائطها لمجموع
تلك القواعد ينتزع عنها عنوان الصحة، كما أن من عدم مطابقتها لمجموعها ينتزع عنها عنوان
الفساد، وهكذا الكلام في عنوان حفظ لكلام عن الغلط الذي جعل غرض العلم النحو،
حيث إنه كان لعنوان الحفظ المزبور جهات عديدة وإضافات متعددة إلى كل قاعدة من
قواعد الفن إضافة خاصة، وكان انتزاع عنوان الحفظ المسطور من مطابقة الكلام لمجموع
تلك القواعد الواقعية، وحينئذ فإذا كانت القواعد الواقعية على شتاتها طرفا للإضافة
بالنسبة إلى الغرض فلا جرم لا يكاد يكون دخلها في الغرض الا بنحو دخل طرف
الإضافة في المضاف بوصف كونه مضافا، لا دخلا تأثيريا، كما هو واضح.
نعم لو حصلت تلك القواعد وبلغت إلى مرحلة الوجود الادراكي ربما تصير في مثله
سببا لحصول الغرض تارة وشرطا له أخرى، فإنه لو كانت القواعد من القواعد الفكرية
كقواعد المنطق فما يترتب عليها حينئذ من صحة الفكر وصونه عن الخطأ كان قهريا،
بخلاف ما لو كانت من غيرها كقواعد النحو والصرف فان ما يترتب عليها حينئذ انما
كان مجرد الاقتدار على التكلم الصحيح والاستنباط الصحيح والا فنفس التكلم
الصحيح وتحققه في الخارج منوط بإرادة المحصل لها.
ثم إن ذلك أيضا في مرحلة تحصل تلك القواعد ذهنا، والا فمع قطع النظر عن ذلك فكما
عرفت لا سببية ولا مسببية بينهما بل لا يكون بينهما إلا مجرد الإضافة.
وعلى ذلك نقول بأنه إذا لم يكن دخل القواعد الواقعية في الغرض الا من قبيل دخل
طرف الإضافة كما شرحناه، لامن قبيل المؤثرية والمتأثرية فلا يبقى مجال كشف جامع
8

وحداني بين الشتات المتفرقة بالبرهان المعروف بمحض وحدانية الغرض القائم بها، بخيال
ان الغرض إذا كان واحدا فلابد بمقتضى برهان - امتناع تأثر الواحد بما هو واحد عن
المتعدد بما هو كذلك - من كشف جامع وحداني بين تلك الشتات ليكون تأثيرها في ذاك
الغرض الوحداني باعتبار ذاك الجامع الساري المحفوظ في ضمنها، إذ نقول بان ما أفيد لو تم
فإنما هو في فرض كون النسبة بين الغرض والقواعد من قبيل المؤثرية، والا فعلى فرض
كونها من قبيل طرف الإضافة فلا مجال لجريان البرهان المزبور، كي يلتجأ بذلك إلى
تخريج جامع وحداني بين قواعد العلم فيجعل ذلك الجامع المستخرج من بين الشتات
المتفرقة عند عدم جامع صوري بينها هو الموضوع للعلم والفن.
وثانيا على فرض كون دخلها في الغرض بنحو المؤثرية نمنع أيضا اقتضاء البرهان
المزبور في المقام لتخريج الجامع الوحداني بينها بمحض وحدة الغرض القائم بها، وذلك
لوضوح ان مجرد وحدة الغرض وجودا ولو مع اختلاف الجهات فيه غير موجب للزوم وحدة
سنخية بين الشتات المختلفة من جهة انه من الممكن حينئذ ان تكون تلك القواعد على
شتاتها كل واحدة منها مؤثرة بخصوصيتها في جهة خاصة من ذلك الغرض دون جهة أخرى
ولا برهان يقتضى استحالة مثل ذلك، نعم لو كان الغرض بسيطا محضا غير ذي جهات
أمكن بمقتضى البرهان المزبور المصير إلى تخريج جامع وحداني بين شتات القواعد، و
لكن على ذلك لا يختص الجامع المزبور بين موضوعات المسائل، بل لابد حينئذ من انتزاع
الجامع بين المحمولات بل وبين المحمولات والموضوعات أيضا.
ولكنه أنى ينتهى الامر في أمثال المقام إلى ذلك كي يصار لأجله إلى كشف جهة
جامعة بين الموضوعات المختلفة عند عدم جامع صوري بينها من باب الاتفاق، وجعلها
موضوعا للعلم، ويصار بذلك أيضا إلى كون تميز العلوم بعضها عن الآخر بتمايز
موضوعاتها، كيف وان غالب العلوم لا يكون فيها جامع صوري بل ولا معنوي بين
موضوعات مسائلها كما في كثير من مسائل الفقه لمكان كون النسبة بين بعضها والبعض
الآخر من قبيل الوجود والعدم كما في الصلاة بالقياس إلى الصوم، فان من المعلوم انه
لا جامع متصور بينهما ولو معنويا بعد كون الصوم عبارة عن نفس الترك ومجرد ان لا يفعل
بشهادة صحة الصوم فيما لو تبيت في الليل ونام إلى الغروب بخلاف الصلاة التي هي من
الأمور الوجودية فأي جامع متصور حينئذ بين الوجود والعدم. بل وكذلك الامر بالنسبة
9

إلى نفس الصلاة التي هي مركبة من مقولات متعددة متبائنة كالفعل والإضافة ونحوها،
وهكذا غيرها من مسائل الفقه المغايرة بعضها مع البعض الآخر موضوعا ومحمولا مع
معلومية عدم تصور جامع قريب بينها. وهكذا الكلام في الكلمة والكلام في علم النحو
نظرا إلى وضوح تقوم الثاني بنسبة معنوية خارجة عن سنخ القول واللفظ فلا يمكن حينئذ
دعوى كون الجامع بينهما هو ما يتلفظ به من اللفظ والقول، مع فرض تقوم الكلام بأمر
معنوي خارج عن سنخ اللفظ. وهكذا التصور والتصديق والفصاحة والبلاغة.
وكذا الكلام في علم الأصول فان من البداهة انه لا جامع متصور فيها من جهة ان
عمدة مسائلها انما هي حجية الامارات الملحوظ فيها جهة الإرائة والكاشفية عن الواقع و
الأصول الملحوظ فيها جهة عدم الإرائة عن الواقع والسترة عنه، ولا جامع بين الإرائة و
اللارائة عن الواقع في طرفي النقيض.
وحينئذ فأين الموضوع الوحداني في هذه العلوم يمتاز به بعضها عن البعض الآخر كي
يبقى مجال القول بكون ميز العلوم بقول مطلق بتمايز موضوعاتها، خصوصا بعد ما يرى من
تعريفهم إياه بأنه ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية، فإنه فيما ذكرنا من العلوم لا
يتصور موضوع وحداني فيها حتى يكون البحث عن عوارضه الذاتية، لأنه إذا نظرنا إلى
موضوعات مسائلها المعروضة للعوارض المبحوث عنها في العلم نرى بأنها لا تكون الا عبارة
عن المتكثرات بلا جامع ذاتي بينها، واما الجامع العرضي فهو وان كان متصورا فيها و
لكنه لا يكون مثل هذا الجامع العرضي الانتزاعي معروضا لعارض حتى يبحث في العلم
عن عوارضه الذاتية، كما هو ظاهر.
نعم قد يكون لبعض العلوم موضوع وحداني سار في موضوعات مسائله بنحو تكون
الخصوصيات المأخوذة في مسائله على فرضها من قبيل الجهات التعليلية لطرو العرض على
ذات الموضوع المزبور مستقلا، نظير الفاعلية والمفعولية بالإضافة إلى عروض الرفع
والنصب على ذات الكلمة، كما في كثير من العلوم العقلية من الفلسفية والرياضية كعلم
الحساب المبحوث فيه عن الاعراض الطارية عن ذات العدد ككون العدد منطقا أو اصم
وكالجمع والتفريق والضرب وأعمال الكسور، وكعلم الهندسة المتعرض للوازم المقدار
العارضة عليه غالبا بنفسه كمبحث الاشكال والنظريات من الهندسة ونحو ذلك، فإنه
في أمثال هذه العلوم أمكن دعوى وجود موضوع وحداني للعلم مبحوث فيه عن عوارضه
10

الذاتية فأمكن من هذه الجهة دعوى كون امتيازها عن غيرها بميز موضوعاتها المتخالفة بنحو
التباين أو العموم والخصوص خصوصا بعد كون غاياتها غالبا من سنخ واحد بملاحظة
كونها عبارة عن استنباط حقايق الأشياء بلوازمها.
ولكن مثل هذه الجهة لا توجب جرى جميع العلوم على منوال واحد حتى مثل العلوم
الأدبية والنقلية التي هي في تمام المعاكسة مع العلوم العقلية، لأنها كما عرفت علاوة عن
عدم تصور الموضوع الوحداني لها كانت غاياتها أيضا في كمال الامتياز عن الآخر من
حيث الاختلاف بحسب السنخ كما في حفظ الكلام عن الغلط في علم النحو، حيث إنه
سنخ غير مرتبط بحفظ الفكر عن الخطأ الذي هو الغرض في علم المنطق، وهكذا حفظ
فعل المكلف وحفظ الاستنباط وغير ذلك.
بل ولئن تدبرت ترى بان الامر كذلك في العلوم العقلية أيضا حيث إن غاياتها أيضا
مختلفة بحسب السنخ وان كان في بدو النظر يرى كونها من سنخ واحد.
وعلى ذلك فكان الحري الحقيق ان يقال في وجه تمايز العلوم بان ميزها انما هو من
جهة الاغراض الداعية على تدوينها، لا انه من جهة تمايز موضوعاتها، وان وحدة العلم و
تعدده انما هو بلحاظ وحدة الغرض وتعدده، وعليه فمتى كان الغرض والمهم واحدا
كانت القواعد الدخلية في ترتب ذلك الغرض بأجمعها من مسائل علم واحد وكانت تفرد
بالتدوين وان كانت متعددة موضوعا ومحمولا، كما أنه لو كان الغرض والمهم متعددا
يكون تكثر العلوم حسب تكثر الاغراض وعليه فلو أراد من هو بصدد تدوين العلم و
الفن في علم العربية وكان غرضه الاطلاع على جميع خصوصيات ألفاظ العرب مما يرجع
إلى مادة اللفظ وهيئته، فعند ذلك لابد بمقتضى ما ذكرنا من جعل العلوم العربية كلها
علما واحدا وان يفردها بالتدوين أيضا، وان كان لغرضه ذلك جهات متعددة راجعة
بعضها إلى مادة الكلمة وبعضها إلى هيئتها وبعضها إلى هيئة الكلام، إذ حينئذ يكون
البحث في كل جهة من تلك الجهات في الحقيقة بابا من ذلك العلم لا علما مستقلا، كما أنه
لو تعلق غرضه بالتكلم الصحيح من حيث خصوص الاعراب والبناء لابد وان يجعل
النحو علما برأسه في قبال الصرف ونحوه من العلوم العربية، وليس له جعل العلوم
العربية كلها علما واحدا، وهكذا الكلام في غيره من العلوم. فحينئذ لابد من ملاحظة
سعة دائرة الغرض وضيقها في وحدة العلم وتعدده، وعليه أيضا ربما تكون المسألة الواحدة
11

مع وحدتها باعتبار دخلها في مهمين أو أزيد من مسائل علمين أو أكثر، فمن جهة وفائها
بهذا الغرض تكون من مسائل هذا العلم، كما أنه من جهة أخرى تكون من مسائل علم
آخر، كما أنه ربما تكون المسائل المتعددة مع اختلافها وشتاتها بلحاظ دخلها في غرض
واحد ومهم فارد من مسائل علم واحد.
وحينئذ فصح لنا بعد البيان المزبور دعوى ان تمايز العلوم بقول مطلق بتمايز
الاغراض الداعية على تدوينها لا بتمايز موضوعاتها. ولئن أبيت من ذلك فلك ان تجعل
العلوم صنفين صنف منها لا يكون امتيازها الا باغراضها كما في العلوم الأدبية والنقلية، و
صنف منها يكون امتيازها بتمايز موضوعاتها كما في كثير من العلوم العقلية من الفلسفية
والرياضية، بناء على ما تقدم من امكان دعوى وجود موضوع وحداني فيها سار في
موضوعات مسائلها بنحو كانت الخصوصيات المأخوذة فيها على فرضها من قبيل الجهات
التعليلية لطرو العرض على ذات ذلك الموضوع الوحداني، لأجرى الجميع حتى الأدبية و
النقلية على منوال واحد والقول بان ميز العلوم كلية بميز موضوعاتها.
وعليه أيضا لابد من التفرقة والتفصيل في العلوم أيضا في وجه نسبة موضوع العلم
إلى موضوعات مسائله بجعل النسبة بينها في مثل العلوم الرياضية بنحو الاتحاد ومن قبيل
نسبة الكلى إلى افراده والطبيعي ومصاديقه، وفى مثل العلوم الأدبية والنقلية بنحو
العينية ومن قبيل نسبة الكل إلى اجزائه، لأجرى جميع العلوم في ذلك على منوال واحد و
القول بان النسبة بين موضوع العلم وموضوعات المسائل بقول مطلق على نحو الاتحاد كما
في الكلى وافراده والطبيعي ومصاديقه، كما افاده في الكفاية. كيف وقد عرفت بأنه
في كثير من العلوم كالعلوم الأدبية والنقلية وغيرها لا يكون الموضوع فيها الا عبارة عن
نفس موضوعات المسائل على شتاتها واختلافها، بملاحظة عدم تصور موضوع وحداني فيها
ولو معنويا بحيث يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية. واما تلك الجهة من الوحدة
الاعتبارية الطارية عليها من قبل وحدة الغرض القائم بالمجموع فهي كما عرفت غير مجدية
فيما هو المقصود والمهم، لان موضوع العلم كما عرفوه عبارة: عما يبحث في العلم عن
عوارضه الذاتية، ومثل هذه الجهة من الوحدة الاعتبارية الطارية لا تكاد تكون معروضة
لعرض ولا مبحوثا عنها في العلم عن عوارضها الذاتية، كما هو ظاهر.
12

في شرح العرض الذاتي
وحيث اتضح لك ما شرحناه في شرح موضوع العلم فلنعطف الكلام إلى بيان
العوارض الذاتية الواقعة في كلماتهم في تعريفهم موضوع العلوم بأنه: ما يبحث في العلم عن
عوارضه الذاتية، حيث إنه قد اختلف كلماتهم في مقام شرح المراد من العرض الذاتي،
فنقول وعليه التكلان:
ان توضيح المرام في المقام يحتاج إلى تمهيد مقدمة، وهي ان الأوصاف المنسوبة إلى
الشئ تارة يكون انتزاعها عن نفس ذات الشئ بلا جهة خارجية في البين زائدة عن
ذات الموصوف كما في الأبيضية والأسودية المنتزعين عن البياض والسواد وكالموجودية
المنتزعة عن الوجود، وأخرى يكون انتزاعها عن جهة خارجة عن ذات الموصوف. وعلى
الأخير فتارة يكون اتصاف الموصوف بالوصف من جهة اقتضاء ذاته كما في توصيف
العقل بالمدركية والانسان بقوة الضحك والتعجب، وأخرى يكون ذلك باقتضاء امر
خارجي على نحو السببية والعلية المعبر عنه باصطلاح الأصول بالمقتضى أو على نحو
الشرطية بلا اقتضاء لذلك في نفسه كما في حركة اليد لحركة المفتاح وكالمجاورة في
عروض الحرارة من النار للماء. وعلى الأخير فتارة لا يكون ذلك الامر الخارجي بنفسه
معروضا لذلك العرض أصلا بل وانما كان شأنه مجرد السببية لعروض الوصف والعرض
على الشئ كما في نحو المجاورة للنار الموجبة لعروض الحرارة على الماء مستقلا، ومثله كلية
الجهات التعليلية الموجودة لعروض الوصف على شئ واتصافه به كالفاعلية والمفعولية و
نحوهما في عروض الرفع والنصب على ذات الكلمة، وأخرى بعكس ذلك بان كان
الامر الخارجي - وهو الواسطة بنفسه معروضا للعرض. وعلى الأخير فتارة يكون
ذو الواسطة أيضا معروضا للعرض المزبور ولو ضمنا كما في خواص النوع فإنه في مثل ذلك
يكون العرض المزبور عارضا للجنس أيضا غايته بنحو الضمنية لا الاستقلالية، ومن ذلك
أيضا كلية الاعراض الثابتة للعناوين بخصوصيات تقيدية نظير الوجوب العارض للصلاة
بخصوصية عنوانها، وهكذا غيرها، فان مثل ذلك ملازم لعروض العرض وهو الوجوب
لفعل المكلف الذي هو بمنزلة الجنس ولو ضمنا لا استقلالا، وأخرى يكون تمام
13

المعروض للعرض والوصف حقيقة هو الواسطة بلا عروضه لذي الواسطة أصلا ولو بنحو
الضمنية، كما في الخواص المترتبة العارضة على الفصول بالنسبة إلى جنسها، كالمدركية
للكليات وللأمور الغريبة، حيث إن تمام المعروض لها حينئذ انما هي جهة الفصلية
خاصة دون جهة الجنسية ولو بنحو الضمنية. وذلك أيضا تارة على نحو يكون الوصف قابلا
للحمل على ذي الواسطة ولو بتبع حمل الواسطة عليه كما في المثال المتقدم في الخواص
العارضة على الفصول بالنسبة إلى الجنس، حيث إن مثل المدركية وان لم تكن بالدقة
حقيقة عارضة على الجنس بل كان تمام المعروض لها هي جهة الفصلية التي هي أجنبية
عن جهة الجنسية مع ما كان بينهما من الاتحاد في الوجود وعدم تحصله الا بالفصل، و
لكنه بملاحظة قابلية الفصل الذي هو الواسطة للحمل على الجنس صح بهذا الاعتبار حمل
خواصه عليه أيضا في مثل قولك: بعض الحيوان مدرك الكليات، ومن ذلك أيضا حمل
الضحك والتعجب على الحيوان بناء على كونها من خواص فصله، حيث إن صحة حملها
على الحيوان في قولك بعض الحيوان ضاحك أو متعجب، انما هو بتبع حمل فصله عليه، والا
فلا يكون جهة الجنسية والحيوانية معروضة لهما ولو على وجه الضمنية بوجه أصلا، و
أخرى على نحو لا يكون قابلا للحمل على ذي الواسطة نظرا إلى عدم قابلية الواسطة
المعروضة للوصف للحمل على ذيها، وذلك كما في السرعة والبطؤ العارضين على الحركة
العارضة للجسم، وكالاستقامة والانحناء العارضين للخط القائم بالجنس، فان الوصف
في الأمثلة المزبورة علاوة عن عدم عروضها على ذي الواسطة لا يكون قابلا للحمل عليه
أيضا نظرا إلى عدم صحة حمل الواسطة عليه، حيث لا يقال الجسم حركة أو خط، فكما لا
يصح القول حينئذ بان الجسم حركة أو خط لا يصح القول أيضا بأنه سرعة أو بطؤ.
وحيثما عرفت هذه فنقول: انه لا اشكال حسب ما يستفاد من كلماتهم في شرح
الاعراض الذاتية في دخول ما عدا الثلاثة الأخيرة في الاعراض الذاتية فان تخصيص
العرض الذاتي بما كان المقتضى للعروض فيه هو نفس ذات الشئ بلا واسطة لا في
الثبوت ولا في المعروض أو تعميمه بما يعم ذلك وما يحتاج إلى الواسطة في الثبوت بالمعنى
الذي ذكرناه دون الواسطة في العروض، مع أنه بعيد غايته، ينافي ما هو المصرح به في
كلماتهم من عموم المراد من العرض الذاتي لما يحتاج إلى الواسطة في العروض أيضا
بنحو الجهة التعليلية الموجبة لعروض الوصف على نفس الذات مستقلا واتصافها به
14

حقيقة كالمجاورة للنار بالنسبة إلى عروض الحرارة للماء وكالفاعلية والمفعولية الموجبة
لعروض الرفع على ذات الكلمة. وحينئذ فلا اشكال في دخول ذلك أيضا في المراد من
العرض الذاتي المبحوث عنه في العلم.
كما لا اشكال أيضا في خروج القسم الأخير من الأقسام الثلاثة الأخيرة عن العرض
الذاتي ودخوله في الاعراض الغريبة وهو ما كان تمام المعروض له مستقلا هو الواسطة
دون ذيها مع عدم قابلية للحمل على ذي الواسطة أيضا، كما مثلنا به في مثال السرعة و
البطؤ العارضين للحركة العارضة على الجسم، والانحناء والاستقامة العارضين على الخط
القائم بالجنس، فان مثل هذه العوارض كما عرفت مع عدم عروضها على ذي الواسطة لا
تكون قابلة للحمل عليه أيضا.
نعم انما الكلام والاشكال في القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة الأخيرة في كونهما
من الاعراض الذاتية أو الغريبة، وهما صورة كون العروض على الواسطة مستقلا وعلى
ذيها ضمنا، كالأعراض الثابتة للعناوين بخصوصيات تقييدية وكالعوارض الثابتة للنوع
بالقياس إلى الجنس، وصورة كون العروض حقيقة وبالدقة على الواسطة دون ذيها ولو
على نحو الضمنية مع قابلية حمل الوصف على ذي الواسطة ولو بتبع حمل الواسطة عليه، كما
مثلنا له بالخواص المرتبة العارضة على الفصول بالنسبة إلى الجنس كالمدركية للكليات.
ومبنى الاشكال فيهما انما هو من جهة عدم تنقيح المراد من العرض الذاتي وان المدار في
كون شئ عرضا ذاتيا هل على مجرد اتحاد معروض العارض مع ذي الواسطة وصحة حمل
العرض عليه بالحمل الشايع الصناعي ولولا يكون ذو الواسطة الذي يحمل عليه العرض
معروضا له حقيقة بل كان تمام المعروض له هو الواسطة، أو انه لابد من كون العرض
ثابتا له حقيقة وبالدقة وعلى نحو الاستقلال؟ فعلى الأول يدخل القسمان الأولان من
الأقسام الثلاثة الأخيرة أيضا في العرض الذاتي، بخلافه على الثاني فإنه يدخلان حينئذ في
الاعراض الغريبة.
ولكن الذي يظهر من جماعة كصاحب الاسفار وغيره دخولهما في الاعراض الغريبة
حيث قال فيما حكى عنه في مقام تميز الاعراض الغربية عن الذاتية ما مضمونه: ان كل
عرض ثابت لنوع متخصص الاستعداد من غير ناحية هذا العرض فهو من الاعراض
الغريبة المبحوث عنها في علم آخر يكون هذا النوع موضوعه وكل عرض ثابت لشئ
15

بنحو يكون هذا العرض موجبا لتخصصه كالبحث عن استقامة الخط وانحنائه فهو
من الاعراض الذاتية. ونحوه كلام غيره: بان الاعراض الثابتة لعناوين خاصة
بخصوصيات منوعة لابد وان يبحث عنها في علم يكون هذا العنوان الخاص موضوعه ولا
يبحث في علم آخر يكون موضوعه عنوانا أعم من ذلك بنحو العموم والخصوص أو
الاطلاق والتقييد ونحو ذلك. فان مقتضى كلامهم هو عدم الاكتفاء في العرض الذاتي
على مجرد عروض العارض على الشئ ولو ضمنا كما في الاعراض الثابتة للنوع العارضة
على الجنس أيضا بنحو الضمنية، ولازمه الاشكال في الاكتفاء بصرف صحة حمل
العارض على الشئ بالحمل الحقيقي وصرف اتحاد معروض العرض وهي الواسطة
وجودا مع ذيها مع كون تمام المعروض للعرض مستقلا هي الواسطة بطريق أولى، فإنه إذا
كان الاعراض الثابتة للنوع والمقيد والخاص بالنسبة إلى جنسه ومطلقه وعامه من
الاعراض الغريبة مع صدق العروض فيها على الجنس والمطلق والعام بنحو الضمنية
فكونها من الاعراض الغريبة في صورة عدم صدق العروض على ذي الواسطة ولو ضمنا انما
كان بطريق أولى.
وعليه يمكن ان يقال بدخول مثل هذه العوارض الثابتة للعناوين بجهات تقييدية
كالأعراض الثابتة للنوع والمقيد بالنسبة إلى جنسه ومطلقه والاعراض الثابتة للفصل
بالقياس إلى جنسه في الاعراض الغريبة، وان تمام المدار في العرض الذاتي للشئ هو
كونه ثابتا له دقة وعلى نحو استقلال ولو بجعل الخصوصيات المأخوذة فيه من الجهات
التعليلية كما عرفت في مثل الفاعلية لعروض الرفع على ذات الكلمة - لا من الجهات
التقييدية الموجبة لتخصص الموضوع بخصوصية منوعة، من غير فرق بين ان يكون ثبوت
العرض والوصف له بلا واسطة امر خارجي أو معها، ولابين كون الامر الخارجي الذي
هو الواسطة مساويا أو أعم أو أخص. كما أن المدار في العرض الغريب انما هو على صحة
سلب العارض حقيقة في مقام العروض وعلى نحو الاستقلال عن ذي الواسطة، كان
تمام المعروض للعرض هو خصوص الواسطة أم لا بل كان ذوها أيضا معروضا له على نحو
الضمنية، كما في موارد كون الواسطة من الجهات التقييدية، من غير فرق فيه أيضا بين
كون الواسطة التي هي من الجهات التقييدية مساوية أو أعم أو أخص. فعلى جميع
التقادير مهما كان العرض قائما حقيقة بالواسطة كان نسبته إلى ذي الواسطة من
16

الاعراض الغريبة.
وحينئذ فعلى كان تقدير لا مجال للقول بالتفصيل بين كون الواسطة مساوية وبين
كونها أعم أو أخص بل لابد من ملاحظة كون الواسطة من الجهات التعليلية الموجبة
لعروض الشئ على شئ أو من الجهات التقييدية الموجبة لصحة سلب العروض على نحو
الاستقلال عن الجامع بينها، فعلى الأول يكون العرض المنسوب إلى الشئ من الاعراض
الذاتية وعلى الثاني يكون من الاعراض الغريبة لذلك الشئ.
وبذلك ربما ظهر أيضا دفع ما ربما يتوهم من الاشكال: بان موضوع المسائل بالقياس
إلى موضوع العلم انما كان من قبيل النوع والجنس والمقيد والمطلق فعلى القول بكون
العرض الثابت للنوع بالنسبة إلى جنسه عرضا غريبا يلزم كونها من الاعراض الغريبة لا
الذاتية مع أنه ليس كذلك قطعا. إذ نقول: بأنه كذلك فيما لو كانت الخصوصيات المأخوذة
في موضوعات المسائل من قبيل الجهات التقييدية الدخيلة في المعروض كي تكون المسألة
بذلك بالنسبة إلى موضوع العلم من قبيل النوع بالنسبة إلى جنسه، ولكنه ليس الامر كذلك
بل وانما كانت الخصوصيات المأخوذة فيها من قبيل الجهات التعليلية نظير الفاعلية و
المفعولية الموجبة لطرو الرفع والنصب على ذات الكلمة، ومعه فيخرج موضوع المسائل
عن النوعية. ثم إن ذلك أيضا في صورة تخريج موضوع وحداني للعلم والا فمع عدم تخريج
الموضوع الوحداني - كما في العلوم العربية والنقلية وغيرها كما عرفت - فلا يضر أيضا جهة
كون الخصوصية المأخوذة في موضوع المسألة من الجهات التقييدية في كون العرض عرضا
ذاتيا، إذ حينئذ ليس هناك موضوع وحداني للعلم كي يجئ الاشكال المزبور، وانما كان
الموضوع فيه عبارة عن نفس موضوعات المسائل على شتاتها واختلافها، وفي مثله لابد من
ملاحظة شخص المحمول في كل قضية قضية بالنسبة إلى شخص الموضوع في تلك القضية
في ثبوته حقيقة وبالدقة على الاستقلال لشخص ذاك الموضوع أم لا، وعليه فلا يشكل
علينا في مثل الوجوب العارض للصلاة التي هي فعل المكلف بخصوصية عنوانها، بل وانما
الاشكال على القول بتخريج الموضوع الوحداني بين موضوعات المسائل وجعل موضوع
الفقه عبارة عن نفس فعل المكلف، فإنه عليه يكون نسبة الفعل إلى عنوان الصلاة من
قبيل نسبة الجنس إلى نوعه فيتوجه الاشكال حينئذ من جهة عدم كون الموضوع الذي هو
فعل المكلف مستقلا في مقام المعروضية للوجوب، من جهة ما هو المفروض من كون
17

معروض تلك الأحكام انما هو فعل المكلف بما هو متخصص بخصوصية عنوان الصلوتية و
الحجية والغصبية ونحوها، وان جهة الصلوتية والحجية أيضا كانت تحت الحكم. ومن
ذلك ظهر انه لا يجديه أيضا ضم حيثية الاقتضاء والتخيير، إذ نقول: بأنه ان أريد بذلك
اقتضاء الفعل مستقلا ففساده واضح من جهة بداهة مدخلية خصوصية عنوان الصلوتية و
الحجية والغصبية ونحوها لعروض الوجوب أو الحرمة، وان أريد به اقتضائه ولو بنحو
الضمنية فغير مثمر، إذ يعود حينئذ الاشكال المزبور من لزوم كون العرض بالنسبة إلى
الجامع في ضمن العناوين الخاصة وهو ذات فعل المكلف من العوارض الغريبة. واما
الالتزام بكفاية مجرد كون الشئ معروضا للعرض ولولا بنحو الاستقلال بل بنحو
الضمنية في كونه عرضا ذاتيا له، فمع انه مناف لما هو المصرح به في كلماتهم من كون مثله
من العرض الغريب، يلزمه ادخال مسائل العلوم السافلة في العلوم العالية التي يكون
موضوعها من قبيل الجنس والمطلق بالنسبة إلى موضوع علم السافل، كما في علم الهندسة
الذي يكون الموضوع فيه وهو المقدار من قبيل الجنس للجسم التعليمي الذي هو موضوع
علم المجسمات. فمن ذلك لابد من جعل العنوان المزبور من العناوين المشيرة إلى العناوين
الخاصة التي هي موضوعات المسائل، ومعه فيخرج عن الوحدة وينطبق على ما ذكرناه.
في تعريف علم الأصول وبيان موضوعه
ثم انه بعد ما اتضح ما ذكرناه نقول: بأن فن الأصول بعد أن كان عبارة عن جملة من
القواعد خاصة الوافية بغرض مخصوص كان من جملة العلوم، وان موضوعه أيضا عبارة
عن نفس موضوعات مسائله على اختلافها وشتاتها، من دون احتياج إلى اتعاب النفس
في تخريج الموضوع الوحداني له، خصوصا بعد ما يرى من عدم الطريق إلى كشف الجامع
الوحداني المعنوي بينها بعد فرض كون الغرض ذا جهات عديدة، بل وعدم امكانه
أيضا مع رجوع مسائل الأصول إلى صنفين: صنف لو حظ فيها الحكاية والكشف عن
الواقع وهو الامارات، وصنف لو حظ فيه عدم الإرائة وحيث السترة للواقع وهو
الأصول، من جهة ما عرفت من عدم تصور جامع ذاتي بين هذين الصنفين باعتبار رجوعه
إلى الجامع بين النقيضين.
18

كعدم الاحتياج أيضا إلى اتعاب النفس بجعل الموضوع فيه عبارة عن عناوين متعددة:
تارة الأدلة الأربعة فارغا عن دليليتها كما عن القوانين، وأخرى ذوات الأدلة الأربعة كما
عن الفصول (قدس سره) كي يورد على الأول بلزوم خروج كثير من مهمات المسائل
الأصولية كمبحث حجية الكتاب وحجية الخبر الواحد، وعلى الثاني بلزوم خروج
مباحث الألفاظ طرا كالبحث عن أن الامر للوجوب والبحث عن العموم والخصوص و
المطلق والمقيد والمفهوم والمنطوق أيضا، بل وخروج مبحث حجية خبر الواحد أيضا، نظرا
إلى عدم كون البحث المزبور عن كون الامر حقيقة في الوجوب والنهى في الحرمة وعن
العموم والخصوص عن الأوامر والعمومات الواردة في الكتاب والسنة، وعدم كون
البحث عن حجية خبر الواحد بحثا عن حال السنة الواقعية التي هو قول المعصوم وفعله و
تقريره. وارجاعه إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد كثبوتها بالمتواتر غير مفيد، من
جهة ان البحث عن ثبوتها حقيقة ليس من عوارضها واما تعبدا فمن عوارض مشكوكها
لامن عوارض السنة الواقعية.
كما أنه لا وجه أيضا لاتعاب النفس في تخريج الجامع الوحداني بين مسائله ببعض
التكلفات. ولئن أبيت الا من لزوم جامع في البين بين المسائل ولو بنحو المشيرية لكان
الأولى هو ان يقال: بأنه القواعد الخاصة الواقعة في طريق استكشاف الوظائف الكلية
العلمية شرعية كانت أم عقلية، لان ذلك هو المناسب أيضا لما هو الغرض الباعث على
تدوينها، وهو استنباط الاحكام والوظائف الفعلية.
ومن ذلك البيان ظهر الحال في تعريفه أيضا وانه لا وجه لما هو المعروف من تعريفه:
بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية، وذلك لما فيه من الخلل من
جهات: تارة من جهة اخذ العلم في تعريفه مع أن العلم والفن كما عرفت عبارة عن نفس
القواعد الواقعية الوافية بغرض مخصوص دون العلم والتصديق بها، بشهادة صحة إضافة العلم إليها
تارة والجهل أخرى في قولك فلان عالم بالأصول وفلان جاهل به. وأخرى من جهة لفظ
الاستنباط الظاهر في إرادة وقوع القواعد واسطة لا ثبات الواقع وسببا للعلم به، فإنه
حينئذ يلزمه خروج الأصول العلمية كالاستصحاب وأصالة البراءة ونحوها عن مسائل
الأصول مع أنها من أهم مسائله، من جهة ان مضمون هذه الأمور لا يكون الا أحكاما
ظاهرية منطبقة على مواردها، وقضية الاستنباط فيها انما كان عبارة عن مقام تطبيقها
19

على مواردها بعد الفحص عن الدليل الاجتهادي واليأس عنه، وأين ذلك ومقام وقوعها
طريقا وواسطة لا ثبات الحكم الشرعي. نعم ونفس تلك القواعد تكون مضامينها أحكاما
كلية ظاهرية مستنبطة من الامارات الحاكية عن الواقع كالأحكام الفرعية، ولكن ذلك
غير مرتبط بمقام تطبيقها على الموارد في مقام العمل، بل ويلزمه أيضا خروج الامارات
كخبر الواحد ونحوه بناء على القول بكون مفاد دليل الحجية فيها هو تنزيل المؤذي وجعل
المماثل في الظاهر، فإنه على هذا القول أيضا يلزم خروج الامارات عن مسائل الأصول
بلحاظ عدم وقوعها في مقام تشكيل القياس وسطا لا ثبات الحكم الشرعي، نعم بناء على
القول بتتميم الكشف كما هو المختار يدخل مبحث الأمارات في التعريف المزبور لوقوعها
حينئذ وسطا لا ثبات الحكم الشرعي، حيث تقع وسطا في القياس، فيقال: ان هذا مما قام
على وجوبه خبر الواحد وكل ما هو كذلك فهو منكشف - بحكم الشارع بكونه كاشفا
فهذا منكشف، فتكون حينئذ من القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية.
وثالثة من حيث التقييد بالشرعية، إذ يخرج حينئذ كثير من المسائل الأصولية أيضا
كالبرائة والاشتغال العقليين و مسألة الظن في حال الانسداد على تقرير الحكومة، كما هو
ظاهر.
ومن ذلك البيان ظهر الحال في غيره من التعاريف الاخر التي أفادوها في المقام في
ميزان كون المسألة أصولية، ككونها مما يتعلق بالعمل مع الواسطة في قبال المسائل الفقهية
التي تعلقها بالعمل كان بلا واسطة. وذلك لخروج المسائل العملية الأصولية أيضا على هذا
الميزان بلحاظ تعلقها بالعمل بلا واسطة بانطباقها على مواردها.
وبالجملة نقول: بان القواعد المبحوث عنها في الأصول حيثما كانت على صنفين:
صنف منها لو حظ فيها جهة الكشف والحكاية عن الواقع كشفا تاما أو ناقصا وكان
شأنها الوقوع في طريق استنباط الاحكام كالأمارات، وصنف آخر منها لو حظ فيها
حيث السترة وعدم الكشف والحكاية عن الواقع وكان مما ينتهي إليها الفقيه في مقام
العمل عند تحيره وجهله بالواقع كالقواعد العملية من نحو الاستصحاب وغيره، وكان
الصنفان كل واحد منهما دخيلا في الغرض الخاص الداعي على تدوين العلم وجمع
قواعده، فلا جرم كان الحري الحقيق هو تعريفه بما ذكرنا: بأنه القواعد الخاصة التي تعمل
في استخراج الاحكام الكلية الإلهية أو الوظائف العملية الفعلية عقلية كانت أم شرعية،
20

ولو بجعل نتيجتها كبرى القياس في استنتاج الحكم الشرعي الواقعي (كما في قولك: هذا ما
أخبر العادل بوجوبه واقعا وكلما كان كذلك فهو واجب كذلك) أو الحكم الشرعي
الظاهري (كقولك بعد اثبات حجية الاستصحاب: هذا مما علم بوجوبه أو حرمته سابقا و
شك لاحقا في وجوبه أو حرمته وكلما كان كذلك فهو واجب في الظاهر ولا ينقض
اليقين به بالشك فيه) أو حكما عقليا (كقولك: هذا مما لم يرد عليه نص ولا بيان وكلما كان
كذلك فهو مما لا حرج في فعله وتركه أو يجب فيه الاحتياط أو يتخير بين الامرين)
نعم على هذا التعريف ينبغي التقييد بعدم اختصاصها بباب دون باب من أبواب الفقه
ليخرج مثل قاعدة الطهارة عن التعريف المزبور وتدخل في مسائل الفقه بلحاظ عدم
سريانها في جميع أبواب الفقه.
ولعله إليه أيضا يرجع سائر التعاريف كتعريف الشيخ (قدس سره) المسألة الأصولية
بما يكون امر تطبيقه مخصوصا بالمجتهد ولا يشترك فيه المقلد، قبال المسألة الفقهية التي يكون
تطبيقها على الموارد مشتركا بين المجتهد والمقلد. فلا يرد عليه حينئذ بمثل قاعدة الطهارة
التي هي من المسائل الفقهية في الشبهات الحكمية ومسألة الشرط المخالف للكتاب و
السنة التي هي أيضا من المسائل الفقهية، بتقريب انهما مع كونهما من المسائل الفقهية
لا شبهة في أن تطبيقها على مواردها لا يكون الا من وظائف المجتهد خاصة، بملاحظة اشتراط
الأول بالفحص والثاني بمعرفة الكتاب والسنة لكي يتميز بها كون الشرط مخالفا
للكتاب والسنة أو غير مخالف لهما، ولا سبيل في ذلك للعامي الذي لا يعرف ظواهر
الكتاب والسنة. وهكذا غيره من التعاريف الاخر كتعريفه: بأنه صناعة يقتدر بها على
استنباط الاحكام الفرعية ونحوه، فان هذه التعاريف جميعها راجعة إلى امر واحد ولكل
منها جهة مناسبة مع تلك القواعد فكل إلى ذاك الجمال يشير وحينئذ فلا ينبغي
النقص والابرام من جهة الطرد والعكس في مثل هذه التعاريف.
نعم بقى في المقام اشكال يرد على ما ذكرنا من التعريف بل وعلى غيره من
التعاريف الاخر أيضا فينبغي التعرض له ولدفعه، ومحصل الاشكال: هوان ميزان
كون المسألة أصولية - على ما عرف من وقوع نتيجتها كبرى القياس - ان كان على وقوعها في
طريق الاستنباط المزبور بلا واسطة فيلزمه خروج مباحث الألفاظ طرا - كمبحث الامر و
النهى والعام والخاص والمطلق والمقيد والمفهوم والمنطوق ونحوها مما شأنها اثبات
21

الوضع والظهور - من مسائل الأصول، من جهة وضوح ان نتيجة هذه المباحث لا تكون الا
تعيين الظهور واثبات كون الشئ ظاهرا في كذا، كظهور هيأة الامر في الوجوب وظهور
النهى في الحرمة مثلا والعام والخاص والمطلق والمقيد في كذا وكذا، ومن المعلوم
حينئذ ان مثل هذه لا يكاد يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي بتشكيل قياس واحد
بل يحتاج في مقام انتاج الحكم الشرعي إلى تشكيل قياسين يكون نتيجة أحدهما صغرى
لكبري القياس الآخر، بان نقول في القياس الأول: هذا امر وكل امر ظاهر في الوجوب
فهذا ظاهر في الوجوب، ثم نجعل هذه النتيجة صغرى لكبري في قياس آخر، ونقول في
القياس الثاني: هذا ظاهر وكل ظاهر يجب التعبد به والعمل على طبقه بمقتضى ما دل
على وجوب الاخذ بكل ظاهر. وهذا بخلافه في مسألة حجية خبر الواحد ونحوها فإنه فيها
لا يحتاج الا إلى تشكيل قياس واحد بقولك: هذا مما أخبر العادل بوجوبه أو حرمته وكلما
كان كذلك يجب الاخذ به والتعبد بمضمونه فهذا يجب الاخذ به والتعبد بمضمونه. وان
كان ميزان كون المسألة أصولية على وقوعها في طريق الاستنباط ولو مع الواسطة، فعليه و
ان اندفع الاشكال المتقدم الا انه عليه بلزوم دخول مسائل كثيرة من العلوم الأدبية
- كالصرف والنحو واللغة ومسائل علم الرجال - في المسائل الأصولية، بملاحظة وقوع
نتيجتها بالآخرة في طريق الاستنباط، وهذا كما ترى، مع أن ديدنهم على اخراج مسائل
المشتق ونحوها عن المسائل من حيث جعلهم أول المباحث مباحث الأمر والنهي، فيبقى
حينئذ سؤال الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الأمر والنهي والعام والخاص الخ.
وحاصل الدفع هو انا نختار الشق الثاني ومع ذلك نلتزم بخروج الأمور المزبورة عن
مسائل الأصول، وذلك اما أولا فلوضوح ان المهم والمقصود في العلوم الأدبية كالنحو و
الصرف ليس هو اثبات الظهور للكلمة والكلام بل وانما المهم فيها انما هو اثبات كون
الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا في ظرف الفراغ عن فاعلية الفاعل ومفعولية المفعول، و
أين ذلك ومثل مباحث الأمر والنهي والعام والخاص المتكلفة لاحراز الظهور في الكلمة
والكلام؟ وثانيا على فرض ان المقصود في العلوم الأدبية أيضا احراز الظهور في شئ
كظهور المرفوع في الفاعلية والمنصوب في المفعولية، نقول بان غاية ما يقتضيه ذلك حينئذ
انما هو وقوع نتيجتها في طريق استنباط موضوعات الاحكام لأنفسها، والمسائل الأصولية
انما كانت عبارة عن القواعد الواقعة في طريق استنباط نفس الأحكام الشرعية العملية
22

فيخرج حينئذ أيضا مسائل العلوم الأدبية كالنحو والصرف بل اللغة أيضا. وتوهم
استلزامه لخروج مثل مباحث العام والخاص أيضا مدفوع بأنها وان لم تكن واقعة في
طريق استنباط ذات الحكم الشرعي الا انها باعتبار تكفلها لا ثبات كيفية تعلق الحكم
بموضوعه كانت داخلة في مسائل الأصول، كما هو الشأن أيضا في مبحث المفهوم والمنطوق
حيث إن دخوله باعتبار تكفله لبيان إناطة سنخ الحكم بشئ الذي هو في الحقيقة من
أنحاء وجود الحكم وثبوته، وهذا بخلاف المسائل الأدبية فإنها ممحضة لا ثبات موضوع
الحكم بلا نظر فيها إلى كيفية تعلق الحكم أصلا. ومن ذلك البيان ظهر وجه خروج
المشتقات أيضا عن مسائل الأصول، حيث إن خروجها أيضا انما هو بلحاظ عدم تكلفها
الا لاحراز موضوع الحكم وانه خصوص المتلبس الفعلي أو الأعم، لأنفسه لا بذاته ولا
بكيفية تعلقه بموضوعه.
نعم يبقى الاشكال حينئذ في خروج مسائل علم الرجال عن مسائل الأصول مع أنها
كمبحث دلالة الألفاظ واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي ولو بالواسطة من كون
السند موثوقا به في شمول دليل التعبد له، ويمكن الاعتذار عنه بان عدم تدوينهم إياها
في الأصول حينئذ انما هو من جهة كثرة مسائلها الموجبة لافرادها بالتدوين وجعلها علما
مخصوصا موسوما باسم مخصوص مستقلا عن الأصول، فتدبر.
الامر الثاني في الوضع
فنقول: انه بعد ما لم تكن العلاقة والارتباط التي بين الألفاظ ومعانيها ذاتية محضة
بنحو يعرفها كل أحد، يبقى الكلام في أن لها أي للألفاظ نحو مناسبة لمعانيها توجب
وضعها لمعانيها بحسب الارتكاز وان لم يلتفت الواضع تفصيلا إلى تلك المناسبة، أم لا؟ بل
تمام العلقة والارتباط بينهما كانت حاصلة بالجعل وبوضع الواضع بعد أن لم تكن بينهما
علاقة وارتباط أصلا حيث إن فيه وجهين: قد يقال بالأول وان الواضع حيثما يجعل لفظا
لمعنى فإنما هو من جهة الهام الباري (عز اسمه) إياه بل ومن ذلك أيضا أنكر استناد
الجعل إلى المخلوقين فقال: بان الجاعل والواضع في الألفاظ انما هو الباري عز اسمه و
انه سبحانه وتعالى يلهم كل طائفة ان يتلفظوا عند ابراز مقاصدهم بألفاظ خاصة مناسبة
23

لمعانيها حسب جعله سبحانه، واستدل أيضا على مرامه من عدم كون تلك العلاقة و
الارتباط التي بين الألفاظ ومعانيها مستندة إلى جعل المخلوق ووضعه بأمرين: أحدهما
خلق التواريخ عن ذكره، فإنه لو كان الامر كذلك لكان اللازم بحسب العادة ذكره في
التواريخ بان الواضع للغة العرب كان هو شخص كذا كيعرب بن قحطان كما قيل، وان
الواضع للغة الفرس كان شخص كذا وهكذا بقية اللغات، لان ذلك من الأمور المهمة
التي لا يمكن الغفلة عنها عادة، مع أنه لم يرد في تاريخ ان واضع لغة العرب هو شخص
كذا وواضع لغة الفرس كان شخص كذا، وحينئذ فخلو التواريخ عن ذكر هذه
القضية دليل عدم استناد وضع الألفاظ إلى أحد من المخلوقين.
وثانيهما من جهة عدم تناهى المعاني والألفاظ حيث إن عدم تناهيها يقتضى بعد
استناد وضعها إلى المخلوقين بل امتناعه، كما هو ظاهر عند من أمعن النظر وانصف.
أقول: وفيه ما لا يخفى، إذ نقول بأنه لو فرض من أول خلقة آدم (على نبينا وآله و
عليه السلام) إلى زماننا هذا كل طائفة قد وضعوا جملة من الألفاظ لجملة من المعاني
المتداولة بينهم على قدر ابتلائهم بها في اظهار ما في ضمائرهم إلى أن انتهى الامر إلى زماننا
الذي قد كثر فيه اللغات وكثرت الألفاظ والمعاني، فأي محذور عادى أو عقلي يترتب
عليه؟ فهل تقول في مثل ذلك بلزوم ضبطه في التواريخ أو تقول بأنه من الممتنع العادي
وضع الألفاظ الكثيرة الغير المتناهية لمعان كذلك بمرور الدهور والأزمنة الكثيرة من
طوائف كثيرة؟ نعم انما يتم ما ذكر فيما لو كان المدعي وضع شخص واحد أو شخصين في
كل لغة وضع الألفاظ المستعملة فيها في معانيها، ولكنه لم يدعه أحد كذلك حتى يرد عليه
المحذور المزبور، بل وانما المقصود من ذلك انما هو استناد وضع الألفاظ في اللغات إلى
الواضعين ولو على نحو التدرج بحسب مرور الدهور والأزمنة بوضع كل طائفة من لدن
زمان آدم إلى زماننا جملة من الألفاظ لجملة من المعاني التي دار عليها ابتلائهم، كما نشاهد
ذلك بالعيان والوجدان من وجود كثير من المعاني والألفاظ المستحدثة في زماننا التي لا
يكون لها في سالف الزمان عين ولا اثر، كما في كثير من الجوهريات والآلات، ومن
المعلوم انه لو ادعاه القائل باستناد الوضع إلى المخلوقين لا يتوجه عليه شئ من المحذورين.
ثم انه نقول: على قولك (بان الباري عز اسمه هو الواضع وانه يلهم المستعملين في مقام
اظهار ما في ضمائرهم) بأنه هل تجد من نفسك عند تسميتك ولدك انه أوحى الله تعالى
24

إليك أو نزل إليك جبرئيل ان سمه بكذا أم لا بل أنت تضع له اسما من الأسامي وأنت
الجاعل للعلقة والارتباط بجعلك اللفظة اسما له بعد أن لم يكن بينهما علاقة وارتباط؟ لا
يقال: بأنه كيف ذلك مع أنه لولا قضية المناسبة الذاتية بينهما الحاصلة من تخصيص إلهي
يكون تخصيص لفظ خاص من بين الألفاظ للمعنى الملحوظ ترجيحا بلا مرجح، فإنه يقال:
يكفي في الترجيح انسباق اللفظ إلى الذهن من بين الألفاظ عند إرادة الوضع ولو من جهة
اقتضاء استعداده للوجود في عالم الذهن، حيث إنه موجب لتخصيصه بالمعنى الملحوظ من
بين الألفاظ، ففي الحقيقة ما هو الموجب لتخصيص لفظ من بين الألفاظ لمعنى من بين
المعاني انما هو قضية تقارنهما للوجود في عالم الذهن، ومن المعلوم انه في ذلك لا يحتاج في
تخصيص أحدهما بالآخر إلى جهة مناسبة ذاتية بينهما، كما لا يخفى.
في تعريف الوضع:
ثم انه مما ذكرنا ظهر حال حقيقة الوضع وانه عبارة عن نحو إضافة واختصاص
خاص توجب قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه فناء المرآة في المرئي بحيث يصير اللفظ مغفولا
عنه وبالقائه كان المعنى هو الملقى بلا توسيط امر في البين، لا انه من قبيل اختصاص
الامارة لذيها كما في النصب الموضوعة في الطريق للدلالة على وجود الفرسخ، كيف و
لازمه ان يكون انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ من شؤون الانتقال إلى اللفظ و
لازمه كون انتقال الذهن إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى المعنى بحيث كان في الذهن
انتقالان عرضيان: انتقال إلى اللفظ وانتقال منه بواسطة الملازمة إلى المعنى نظير الانتقال
من الدخان إلى وجود النار، مع أن ذلك كما ترى مما يحكم بفساده بداهة الوجدان،
ضرورة وضوح انه بالقاء اللفظ لا يكاد في الذهن الا انتقال واحد إلى المعنى بلا التفات
إلى شخص اللفظ الملقى بنحو كان المعنى بنفسه قد ألقى بلا توسيط لفظ، كما هو الشأن في
الكتابة أيضا فان الناظر فيها بمقتضى الارتكاز لا يرى الا نفس المعنى بلا التفاته في هذا
النظر إلى حيث نقوش الكتابة تفصيلا، ومن المعلوم انه لا يكون الوجه في ذلك الا جهة
شدة العلاقة والارتباط بينهما التي أوجبت قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه. ومن جهة
هذا الفناء أيضا ترى بأنه قد يسرى إلى المعنى ما للفظ من التعقيد مع أن المعنى لا يكون
25

فيه تعقيد وانما التعقيد للفظ، كما أنه قد يكون بالعكس فيسري إلى اللفظ ما للمعنى من
الحسن والقبح، فيرى اللفظ قبيحا وحسنا مع أن اللفظ لا يكون فيه حسن ولا قبح وانما
الحسن والقبح للمعنى، كما هو واضح.
كما أنه من التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا انه ليست تلك العلاقة والارتباط الخاص من
سنخ الإضافات الخارجية التي توجب احداث هيئة خارجية كهيئة السريرية الحاصلة من
ضم الأخشاب بعضها ببعض على كيفية خاصة وكالفوقية والتحتية والتقابل ونحوها
من الإضافات والهيئات القائمة بالأمور الخارجية التي كان الخارج ظرفا لنفسها ولولا
لوجودها، ولا من سنخ الاعتباريات التي لا يكون صقعها الا الذهن كما في النسب بين
الاجزاء التحليلية في المركبات العقلية في مثل الانسان والحيوان الناطق، بل وانما هي
متوسطة بين هاتين، فكانت سنخها من قبيل الاعتباريات التي كان الخارج موطن منشأ
اعتبارها، كما نظيره في الملكية والزوجية ونحوهما من الاعتباريات مما لا يكون الخارج
موطن نفسها بل موطن مصحح اعتبارها من الانشاء القولي أو الفعلي، ولكن مع ذلك لها
واقعية بمعنى ان صقعها قبل وجود اللفظ في الخارج وان لا يكن الا الذهن الا انها بنحو
ينال العقل خارجيتها عند وجود طرفيها تبعا لها بنحو القضية الحقيقية بأنه لو وجد اللفظ
وجد العلاقة والارتباط بينه وبين المعنى نظير الملازمات كالملازمة بين النار والحرارة، فكما
ان صقع هذه الملازمة قبل وجود النار في الخارج لا يكون الا الذهن وبوجود النار و
تحققها تصير الملازمة تبعا لوجود طرفها خارجية، كذلك تلك العلاقة والارتباط الخاص بين
اللفظ والمعنى، فان العلقة الحاصلة بينهما بالجعل لما كانت بين الطبيعتين، يعنى طبيعة
اللفظ وطبيعة المعنى، فقبل وجود طرفيها خارجا لا يكون صقعها الا الذهن ولكن بعد
وجود طرفيها تبعا لهما تصير الملازمة بينهما أيضا خارجية فكلما وجد اللفظ في الخارج يتحقق
العلقة والارتباط بينه وبين المعنى، ويكفي في خارجيتها كون الخارج ظرفا لمنشأ انتزاعها.
وبالجملة المقصود من هذا التطويل هو بيان ان هذا النحو من الإضافة والارتباط
مما لها واقعية في نفسها وانها لا تكون من سنخ الاعتباريات المحضة التي لا يكون صقعها
الا الذهن ولا كان الخارج ظرفا لمنشأ اعتبارها، ولا من سنخ الإضافات الخارجية
الموجبة لاحداث هيئة في الخارج، بل وانما هي متوسطة بين هاتين فلها واقعية يعتبرها
العقل عن منشأ صحيح خارجي، ولئن أبيت عن تسميتك هذه إضافة وتقول بان
26

المصطلح منها هي الإضافات المغيرة للهيئة في الخارج فسمها بالإضافة النحوية أو بغيرها
مما شئت، إذ لا مشاحة في الاسم بعد وضوح المعنى.
وكيف كان فبعد ما عرفت ذلك نقول: بأنه لا شبهة في أن مثل هذا النحو من
الإضافات النحوية في غاية خفة المؤنة حيث لا يحتاج تحققها إلى كثير مؤنة فيكفي في
تحققها أدنى ملابسة فتحصل بمجرد الجعل كما في قولك: المال لزيد والغلام لعمرو
والجل للفرس، حيث إنه بنفس تخصيصك المال بزيد والجل بالفرس يتحقق بينهما تلك
الإضافة والاختصاص، بل ربما تتحقق بمجرد نسبة شئ إلى شئ من دون منشأ
خارجي لذلك، كما في اعتبارك غولا ونسبة أنياب إليه، غايته انه من جهة عدم وجود
منشأ صحيح خارجي له لا يكون من الاعتباريات الصحيحة القابلة لإضافتها إلى
الخارج، كما هو واضح.
ومن ذلك البيان ظهر فساد ما يظهر من بعض الاعلام: من الالتزام بالتعهد وانكار
استناد العلقة والارتباط التي بين اللفظ والمعنى إلى جعل الجاعل ووضعه، والعمدة في
ذلك انما هو تخيل قصر الإضافة بالإضافات الخارجية والملازمات الواقعية الذاتية، فإنه من
هذه الجهة أنكر استناد العلقة والارتباط المزبور إلى جعل الجاعل ووضعه بل ادعى
استحالته وقال: بأنه من المستحيل جعل العلقة والارتباط بين الامرين اللذين لا علاقة
بينهما بحيث تكون تلك العلقة مجعولا ابتدائيا للجاعل تكوينا بدون جعل طرفيها أو تغيير
وضع فيهما. ثم انه بعد انكاره لذلك التزم بالتعهد وقال: بان ما يمكن تعقله ويبنى عليه هو
ان يلتزم الواضع ويتعهد تعهدا كليا بأنه من أراد معنى وتعقله وأراد افهام الغير تلفظ
بلفظ كذا، لان ما هو الممكن انما هو جعل الارتباط بين إرادة المعنى وإرادة التلفظ بلفظ
كذائي لا جعل الارتباط تكوينا بين اللفظ والمعنى، فإذا التفت المخاطب حينئذ إلى
هذا الالتزام والتعهد المزبور الذي مرجعه إلى الاعلام بإرادة المعنى الكذائي عند التكلم
بلفظ كذا وعلم به، فلا جرم ينتقل ذهنه إلى ذلك المعنى عند سماع اللفظ منه، وحينئذ
فكان مرجع الوضع إلى مثل هذا الالتزام والتعهد الكلى وكانت العلقة المزبورة بين اللفظ
والمعنى نتيجة لذلك التعهد، لا انها مجعولة تكوينا ابتداء للواضع بوضعه وجعله. ثم انه من
هذا الأساس أيضا أنكر الجعل في الوضعيات والتزم بأنه ليس في البين في ذلك المقام
أيضا الا الأحكام التكليفية والإرادات الخاصة وانها انما كانت منتزعة عن الاحكام
27

التكليفية، فكان مثل الملكية منتزعة عن حكم الشارع بجواز تصرف شخص في عين و
حرمة تصرف غيره فيه بدون اذنه ورضاه، والزوجية منتزعة عن حكمه بجواز وطي
شخص امرأة وعدم جواز وطيها على غيره بمثل قوله: من عقد على امرأة يجوز له وطيها ولا
يجوز لغيره ذلك، حيث كان العقل ينتزع في الأول من حكم الشارع نحو إضافة بين المال
وبين الشخص نعبر عنها بالملكية، وفى الثاني إضافة بين الشخصين يعبر عنها بالزوجية، و
هكذا غيرهما من الوضعيات، فكان الكل منتزعا عن الأحكام التكليفية بلا كونها مجعولة
بوجه أصلا، هذا
وتوضيح الفساد يظهر مما قدمناه من وجه الفرق بين نحوي الإضافة وعدم كون
العلاقة والربط بين اللفظ والمعنى من سنخ الإضافات الخارجية بين الامرين الخارجيين
من نحو الفوقية والتحتية ونحوهما مما يتوقف تحققها على تغيير وضع في طرفيها، بل وانها
من سنخ الاعتباريات التي تحققها كان بالجعل كالملكية والزوجية، على أن ارجاع
الوضع إلى تعهد الواضع بذكر اللفظ عند إرادة المعنى أيضا غير مستقيم، فإنه بعد أن كان
مرجع التعهد المزبور إلى إرادة ذكر اللفظ عند إرادة المعنى نقول بأنه يسأل عنه بان تلك
الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ لا تخلو: اما ان تكون إرادة نفسية، واما ان تكون إرادة غيرية
توصلية إلى ابراز المعنى باللفظ نظرا إلى قالبية اللفظ له، وعلى الأول فاما ان يكون الغرض
من تلك الإرادة ايجاد العلقة والارتباط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة، واما ان لا
يكون الغرض من توجيه الإرادة إلى ذكر اللفظ ذلك بل وانما الغرض من توجيه الإرادة
إليه هو جهة مطلوبيته ذاتا في ظرف إرادة تفهيم المعنى. فان كان المقصود هو هذا الأخير
فلا سبيل إلى دعواه فإنه مع منافاته لما يقتضيه الوجدان والارتكاز في مقام إرادة التلفظ
باللفظ من كونها لأجل التوصل به إلى تفهيم المعنى المقصود لامن جهة مطلوبية التلفظ به
نفسا - مناف أيضا لما يقتضيه الطبع والوجدان في مقام الانتقال إلى المعنى عند سماع
اللفظ، لان لازم البيان المزبور هو ان يكون الانتقال إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى
المعنى بحيث يكون في الذهن انتقالان: انتقال بدوا إلى اللفظ عند سماعه وانتقال منه
بمقتضى الملازمة والإناطة إلى المعنى نظير الانتقال من اللازم إلى ملزومه، مع أن ذلك كما
ترى مما يأبى عنه الوجدان والارتكاز، فإنه يرى بالوجدان انتقال الذهن إلى المعنى عند
سماع اللفظ بدوا مع الغفلة عن جهة اللفظ بحيث كأنه كان المعنى هو الملقى إليه بلا
28

توسيط لفظ في البين أصلا، كما لا يخفى. وان كان المقصود الأول فله وان كان وجه الا
انه يرجع إلى ما ذكرنا من القول بالوضع، فان القائل بالوضع لا يدعى أزيد من ذلك، و
لقد تقدم ان هذا النحو من الإضافة والارتباط لا يحتاج تحققها إلى كثير مؤنة، فيكفي في
تحققها مجرد الجعل والإرادة. نعم على ذلك تكون الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعد
في طول تلك الإرادة الكلية ومترتبة عليها نظرا إلى تحقق العلقة والربط بين اللفظ والمعنى
بنفس تلك الإرادة والتعهد الكلى، فينا في حينئذ ما هو مسلك هذا القائل من كون
الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعده من شؤون تلك الإرادة الكلية وفعليتها. واما ان
كان المقصود هو الأخير الذي فرضناه من كون الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ إرادة غيرية
توصلية لابراز المعنى المقصود باللفظ باعتبار ما للفظ من المبرزية عن المعنى، فعليه نقول:
بان جهة مبرزية اللفظ عن المعنى بعد أن لم تكن مستندة إلى اقتضاء ذات اللفظ كما
يدعيه القائل بذاتية دلالة الألفاظ على معانيها، فلا جرم لابد وأن يكون نشؤها اما من قبل
وضع الواضع وجعله أو من قبل تلك الإرادة الغيرية المتعلقة بذكر اللفظ أو من قبل إرادة
أخرى، ولا سبيل إلى الأخيرين لان الأول منهما بديهي الاستحالة وكذا الثاني، فإنه مع أنه
لا سبيل إلى دعواه للقطع بعدم إرادة أخرى في البين يجئ فيها ما ذكرناه من
الاحتمالات من كونها إرادة غيرية أو نفسية، فيتعين حينئذ المعنى الأول وهو المطلوب.
لا يقال: انما يرد هذا المحذور لو أريد تحقق العلقة والارتباط من قبل الإرادة المتعلقة
بذكر اللفظ في مقام الاستعمال وليس كذلك بل المقصود كونها نتيجة لذلك التعهد
الكلى.
فإنه يقال: كلا فان الإرادات الاستعمالية على مسلك هذا القائل عين تلك الإرادة
الكلية المسماة عنده بالتعهد الكلي، وهو تعهده كليا التلفظ بلفظ كذا عند إرادة تفهيم
معنى كذا، إذ حينئذ تكون الإرادات الاستعمالية المتعلقة بذكر اللفظ عبارة عن فعلية ذلك
التعهد الكلي، والا فقبل إرادة التفهيم لا يكون في البين الا مجرد البناء على إرادة اللفظ
عند إرادة تفهيم المعنى، وعليه يتوجه الاشكال المزبور بأنه بعد غيرية الإرادة المتعلقة بذكر
اللفظ لابد من الالتزام بان جهة مبرزية اللفظ كانت مستندة إلى وضع الواضع وجعله
كما هو واضح.
ثم إن من لوازم هذا المسلك انحصار الدلالة في الألفاظ بالدلالة التصديقية لأنه لا
29

ظهور للفظ حينئذ حتى يكون وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية، بخلافه على
مسلك الوضع فإنه عليه يكون للفظ وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ناشئة من
قبل الوضع والجعل، وربما ينتج هذا المعنى في بعض المباحث الآتية كما في مبحث العام
والخاص.
وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا بطلان ما أسسه على هذا الأساس من
انكار الجعل في مطلق الوضعيات والتزامه بان مثل الملكية والزوجية انتزاعية صرفة من
الأحكام التكليفية، إذ نقول: بان في مثل قوله: الناس مسلطون على أموالهم، وقوله: لا يجوز
التصرف في مال أحد بدون اذن صاحبه، لا يكاد يتم هذا المقالة لان جهة الملكية وإضافة
المال إلى الغير حينئذ انما كانت مأخوذة في موضوع هذا الحكم أعني حرمة التصرف، ولازمه
كونه في رتبة سابقة عنه كنفس المال كما هو الشأن في كل موضوع بالقياس إلى حكمه، و
حينئذ نقول: بان مثل هذه الإضافة بعد ما لا يمكن نشؤها من قبل هذا الحكم التكليفي
المتأخر عنها رتبة فلا بد وأن يكون نشؤها اما من قبل حكم تكليفي آخر في رتبة سابقة عنها
واما من قبل الجعل، والأول بديهي الفساد فإنه - مضافا إلى القطع بأنه لا حكم آخر في
البين غير هذا الحكم المترتب عليها - يلزمه اجتماع الحكمين المتماثلين في نحو قوله: لا يجوز
التصرف في مال الغير بدون اذن صاحبه، أحدهما في رتبة سابقة عن الإضافة والآخر في
رتبة لا حقة عنها، وحينئذ فبعد القطع أيضا بعدم نشؤ إضافة الملكية من مجرد جواز تصرف
الانسان في شئ - بشهادة جواز تصرف كل شخص في المباحات الأصلية يتعين الثاني
من كون نشؤها من قبل الجعل.
وكيف كان فبعد ما ظهر بطلان القول بالتعهد نقول: بان العلاقة والربط بين
اللفظ والمعنى في الأوضاع التخصيصية كما يتحقق بالانشاء القولي من قول الواضع
(جعلت هذا اللفظ لمعنى كذا) كذلك يتحقق أيضا بالانشاء الفعلي وبنفس الاستعمال
قاصدا به تحقق العلقة والربط بينهما، كقولك عند تسميتك ولدك: جئني بولدي محمد
قاصدا به حصول العلقة الوضعية بهذا الاستعمال، كما نظيره في المعاطاة التي هي انشاء
فعلى لحصول الملكية لزيد، وعدم كون مثل هذا الاستعمال من الاستعمال في المعنى
الحقيقي أو المجازى غير ضمائر فيما نحن بصدده من تحقق العلقة والربط بمثل هذا
الاستعمال. واما ما قد يقال: من امتناع ذلك من جهة استلزامه لمحذور اجتماع اللحاظين
30

في اللفظ: اللحاظ العبوري الآلي تارة، واللحاظ الاستقلالي إليه أخرى - نظرا إلى اقتضاء
الوضع لان يكون النظر إليه نظرا استقلاليا - فمدفوع بان النظر إلى شخص هذا اللفظ لا
يكون الا عبوريا إلى طبيعة اللفظ التي قصد تحقق العلاقة والربط بينها وبين المعنى، و
حينئذ فمتعلق اللحاظ الاستقلالي انما كان هو طبيعة اللفظ التي قصد تحقق العلقة بينها و
بين المعنى، ومتعلق اللحاظ الآلي كان هو شخص هذا اللفظ، ومعه لم يجتمع اللحاظان في
موضوع واحد كي يتوجه عليه محذور الاستحالة المزبورة، كما هو واضح. وحينئذ فلا ينبغي
الاشكال في صحة هذا القسم من الوضع وامكانه.
بل قد يدعى كما عن المحقق الخراساني (قدس سره) لزوم انتهاء الأوضاع التخصصية
أيضا إلى مثل هذا النحو من الوضع التخصيصي وانه لابد في تحقق العلقة الوضعية بين
اللفظ والمعنى من القصد إلى تحققها في أحد تلك الاستعمالات والا فبدونه لا يكاد يجدي
مجرد الاستعمال في تحققها ولو بلغ الاستعمال في الكثرة ما بلغ، فلذلك أورد على تقسيم
المشهور للوضع بالوضع التعيني تارة وبالتعييني أخرى وقال: بأنه لا مجال لهذا التقسيم وان
الحري هو حصره بخصوص التعييني بالجعل والانشاء غايته بالأعم من الانشاء القولي و
الفعلي. ولكن يرد عليه بأنه انما يتوجه هذا الاشكال فيما لو كان سنخ هذا النحو من
العلاقة والربط بجميع أفراده جعليا بحيث يحتاج في تحققها إلى توسيط انشاء وجعل في
البين، ولكنه ممنوع بل نقول بأنها كما تتحقق بالانشاء القولي أو الفعلي كذلك تتحقق
بواسطة كثرة الاستعمال كما نشاهد بالوجدان والعيان في استعمالنا الألفاظ في المعاني
المجازية حيث نرى بأنه بكثرة الاستعمال يحدث مرتبة من العلاقة بينه وبين المعنى الثاني
وبهذا المقدار يضعف علاقته عن المعنى الأول بحيث كلما كثرت الاستعمالات تضعف
علاقته للمعنى الأول ويشتد في قباله العلاقة بينه وبين المعنى الثاني إلى أن تبلغ بحد يصير
المعنى الأول مهجورا بالمرة وتصير العلاقة التامة بينه وبين المعنى الثاني بحيث لو أريد منه
المعنى الأول لاحتاج إلى إقامة قرينة في البين، ومع هذا الوجدان لا مجال لانكار هذا
القسم من الوضع، كما هو واضح. نعم لهذا الاشكال مجال فيما لو أريد تحقق تلك العلقة و
الارتباط دفعة واحدة لا بنحو التدريج، ولكنه لم يدع أحد مثل ذلك بل وان كل من
يدعى وجود هذا القسم من الوضع يدعى تحققها شيئا فشيئا بنحو التدريج، ومن المعلوم
ان مثل هذا المعنى امر ممكن بل واقع كما ذكرنا.
31

في اقسام الوضع
وعلى كل حال يبقى الكلام في اقسام الوضع
فنقول:
انهم قد قسموا الوضع باعتبار عموم الوضع والموضوع له وخصوصهما على اقسام. و
لابد في تنقيح الكلام في هذه الجهة من تمهيد مقامات: الأول في بيان ما يمكن ان يقع
عليه التقسيم باعتبار الحصر العقلي، الثاني في بيان ما يمكن من هذه الأقسام، الثالث في
بيان ما هو الواقع منها، فنقول:
اما المقام الأول: فلا شبهة في أن للوضع حسب الحصر العقلي أقساما أربعة: عام
الوضع والموضوع له، وخاصهما، وعام الوضع وخاص الموضوع له، وعكسه، من جهة
ان المعنى الملحوظ حال الوضع اما ان يكون كليا واما ان يكون جزئيا، وعلى الأول فاما
ان يكون وضع اللفظ لذلك المعنى الكلى الملحوظ واما ان يكون وضعه لمصاديقه المندرجة
تحته، كما أنه على الثاني أيضا تارة يكون وضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الجزئي وأخرى
يكون وضعه بإزاء معنى كلي يكون متصوره من افراده ومصاديقه، فباعتبار الأول يكون
من عام الوضع والموضوع له، وباعتبار الثاني يكون من عام الوضع وخاص الموضوع له،
وباعتبار الثالث يكون من خاص الوضع والموضوع له، وباعتبار الرابع يكون من خاص
الوضع وعام الموضوع له، فهذه اقسام أربعة للوضع حسب اقتضاء الحصر العقلي.
فنقول: اما القسم الأول وهو عام الوضع والموضوع له فيتصور على نحوين: الأول ما
هو المعروف المشهور من لحاظ معنى كلي عام ووضع اللفظ بإزائه كما في الانسان و
الحيوان حيث يلاحظ مفهوم الانسان في ذهنه فيضع لفظ الانسان بإزاء ما تصوره من
المعنى الكلام العام. ولا يخفى انه على هذا يكون عمومية الوضع وكليته من قبيل كلية
الأحكام التكليفية، من كونه باعتبار كلية متعلقه، فكما ان كلية الإرادة والحكم كانت
باعتبار كليه متعلقه من حيث انحلالها حسب تعدد افراد المتعلق إلى إرادات واحكام
جزئية، كقوله: لا تشرب الخمر - والا فنفس هذا الحكم وتلك الإرادة المتعلقة بهذا العنوان
لا تكون الا شخصية وممتنعة الصدق على الكثيرين - كذلك أيضا عمومية الوضع وكليته
32

انما كانت باعتبار كلية متعلقه، لا ان عموميته كانت باعتبار عمومية آلة الملاحظة كما
قبل بان معنى عمومية الوضع وخصوصيته انما كانت من جهة عمومية آلة الملاحظة و
خصوصيتها، كيف وانه في الفرض لا يحتاج في مقام الوضع إلى توسيط آلة الملاحظة، فان
المفهوم الكلي كمفهوم الانسان أو الحيوان وكذا طبيعة اللفظ بنفسها متصورة في الذهن
بلا توسيط آلة ملاحظة في البين، ومعه لا يحتاج في مقام وضع اللفظ بإزائه واحداث
العلقة والربط بينهما إلى توسيط شئ نسميه آلة الملاحظة، كي لأجل عموميتها وكليتها
يتصف الوضع بالكلية والعمومية، كما هو واضح.
الثاني: من قسمي عموم الوضع والموضوع له: هو ان يكون الموضوع له الجهة المشتركة
بين الافراد المتصورة في الذهن التي بها تمتاز افراد كل نوع عن افراد نوع آخر بنحو لا
يكاد تحققه في الذهن الا مع الخصوصية وبالوجود الضمني لا المستقل، وذلك بان يلاحظ
معنى عام ويشار به إلى الجهة المشتركة والجامع المتحد مع الافراد الذهنية التي بها امتياز
افراد كل نوع عن آخر فيجعل اللفظ بإزاء تلك الجهة المشتركة بما هي مشتركة وموجودة
في الذهن بعين وجود الفرد والخصوصية، وبعبارة أخرى يكون الموضوع له حينئذ عبارة
عما هو منشأ انتزاع هذا المفهوم العام المنتزع عن الافراد المتصورة في الذهن لا المفهوم
المنتزع عن ذلك، فهذا أيضا قسم آخر من عموم الوضع والموضوع له. ولا يخفى انه على
هذا التصوير يحتاج في مقام الوضع إلى وجود آلة الملاحظة، لان المعنى الموضوع له بعد أن
لم يكن له وجود مستقل في عالم الذهن واللحاظ بل كان وجوده في ضمن وجود الفرد و
متحدا معه نظير الجامع بين الافراد الخارجية من حيث عدم وجود له في الخارج مستقلا و
كونه موجودا في ضمن الفرد والخصوصية، فلا جرم يحتاج في مقام الوضع إلى توسيط معنى
عام يجعله آلة للملاحظة تلك الجهة المحفوظة بين هذه الخصوصية وتلك الخصوصية، ولكن
مورد الوضع ومحله كان مختصا بتلك الجهة المحفوظة في ضمن الافراد فكانت الضمائم و
الخصوصيات كلها خارجة عن مصب الوضع. وليكن ذلك على ذكر منك ينفعك فيما يأتي
عند التعرض لبيان وضع الحروف وأسماء الإشارة.
وحينئذ فكم فرق بين هذا القسم من عام الوضع والموضوع له وبين سابقه الذي هو
المعروف لدى المشهور، فإنه على الأول يكون الموضوع له عبارة عن معنى عام منتزع له
وجود مستقل في وعاء الذهن واللحاظ قبال الخصوصيات كمفهوم الانسان والحيوان
33

بخلافه على الثاني فان الموضوع له على ذلك عبارة على الجامع المتحد مع الافراد الذي
لا يكاد تحققه في الذهن وفى عالم اللحاظ الا في ضمن الفرد والخصوصية، ومن ذلك دائما
يحتاج في مقام الاستعمال ومرحلة التفهيم إلى وجود دالين: أحدهما على نفس الجامع و
الآخر على الخصوصية، كما أنه على ذلك يحتاج أيضا إلى توسيط آلة الملاحظة في مقام وضع
اللفظ من جهة ما عرفت من عدم امكان لحاظ مثل هذا المعنى مستقلا في الذهن، كما هو
واضح.
بل ولئن تأملت ودققت النظر ترى أيضا الاحتياج إلى توسيط آلة الملاحظة حتى على
القسم الأول من عام الوضع والموضوع له، وذلك فإنه على ما هو التحقيق من مسلك
السلطان: من وضع أسامي الأجناس للمهية المهملة، لما كان لا يمكن لحاظ المهية المهملة
مستقلا في الذهن معراة عن خصوصية الاطلاق والتقييد، لان كل ما يتصوره الانسان لا
يخلو من كونه اما طبيعة مقيدة واما طبيعة مطلقة وعارية عن القيد والخصوصية ولا
صورة ثالثة في الذهن جامعة بين الواجد للقيد وفاقده بحيث كان لها موجود مستقل في
الذهن قبالا للفاقد والواجد نسميها بالمهية المهملة، فلا جرم في مقام وضع اللفظ لهذه
الطبيعة التي هي الجامعة بين الطبيعة المطلقة والمقيدة لابد من توسيط آلة ملاحظة في
البين مشيرا بها إلى ما هو الجامع بين الواجد للقيد والخصوصية وفاقده الذي لا يكون له
وجود في الذهن الا في ضمن الواجد للقيد أو فاقده، كما هو واضح. نعم بناء على مسلك
المشهور من القدماء في وضع أسامي الأجناس: من كونها للطبيعة المطلقة الصادقة على
القليل والكثير، لا يحتاج إلى توسيط آلة ملاحظة في البين في مقام الوضع، من جهة ان
نفس المعنى والمفهوم حينئذ مما أمكن لحاظه وتصوره مستقلا بلا توسيط عنوان وآلة
ملاحظة في البين. ولكن مثل هذا المشرب مرمى بالضعف عند المحققين، بل الموضوع له
في أسامي الأجناس - كما سنحققه إن شاء الله تعالى - عبارة عن الطبيعة المهملة التي هي
جامعة بين الطبيعة المقيدة والمطلقة التي هي مقالة المشهور من القدماء، ومن ذلك نقول
بأنه يحتاج في اثبات الاطلاق إلى التشبث بمقدمات الحكمة، وعليه لا محيص بعد عدم
امكان تصور مثل هذا الجامع ولحاظه مستقلا في الذهن من توسيط عنوان يكون آلة
للملاحظة الجامع المزبور في مقام الوضع. ولكن على تقدير تكون جهة عمومية آلة
الملاحظة غير مرتبطة بعالم عمومية الوضع بل وانما عمومية الوضع وخصوصية من قبيل
34

عمومية الحكم والتكليف وخصوصيته من كونه باعتبار كلية المتعلق وجزئيته، فتدبر.
هذا كله في القسم الأول من الأقسام الأربعة المتصورة في الوضع.
واما القسم الثاني منها: وهو فرض عموم الوضع وخصوص الموضوع له، ففيه أيضا
يتصور صور ثلاث:
الأولى: ان يكون الموضوع له الملحوظ بتوسيط العنوان العام الكلى عبارة عن الافراد
المخصوصة والخصوصيات التفصيلية الجزئية، كما لو لاحظ في مقام الوضع عنوان الانسان
وعنوان الابتداء الكلى مشيرا بهذا العنوان إلى المصاديق الخاصة والصور التفصيلية
بخصوصيتها الخاصة من زيد وعمرو وبكر، كما نظيره في باب التكاليف من قوله: أكرم
من في الصحن، مشيرا به إلى الافراد الخارجية الموجودة في الصحن من زيد وعمرو وبكر.
الثانية: ان يكون المعنى الموضوع له عبارة عن الافراد والصور التفصيلية ولكن بما انها
تعم الكلى والشخصي، كما في لحاظ عنوان الشئ أو الذات مشيرا به في مقام وضع لفظ
الانسان مثلا أو غيره إلى ما ينطبق عليه هذا العنوان العام من المصاديق والصور
التفصيلية التي منها الانسان والحيوان ومنها زيد وعمرو وبكر، واضعا للفظ الانسان
بإزاء الصور التفصيلية المزبورة، كما قد يتوهم ان وضع أسماء الإشارة من هذا القبيل و
انها موضوعة للصور التفصيلية بما انها تعم الشخصي والكلي ولذلك يقال: هذا الانسان و
هذا زيد. والفرق بينه وبين سابقه واضح، فإنه على الأول يكون الموضوع له دائما معنى
جزئيا بخلافه في هذا القسم، فان الموضوع له عبارة عما يعم الشخصي والكلي، ولذلك
يلزمه عدم صحة استعمال اللفظ على الأول في الكلى وما له القابلية للصدق على
الكثيرين وصحة استعماله فيه على الثاني.
الثالثة: ان يكون الموضوع له الملحوظ بتوسيط العنوان الكلى عبارة عن معنى اجمالي
مبهم كالشبه مثلا بنحو يكون نسبته إلى الصور التفصيلية نسبة الاجمال والتفصيل بحيث
لو انكشف الغطاء لكان ذلك المعنى الاجمالي عين المعنى التفصيلي، لامن قبيل نسبة
الكلى والفرد، فيلاحظ الواضع حينئذ بتوسيط العنوان الكلى معنى مبهما ثم في مقام الوضع
يضع لفظا بإزاء ذلك المعنى المبهم لكن لا بما هو مبهم محض بل بما انه مشتمل على
خصوصية زائدة كخصوصية كونه معروض الخطاب أو الغيبة أو الإشارة أو المعهودية. و
لعله من هذا القبيل باب الضمائر وأسماء الإشارة والموصولات كما سيجئ، إذ يمكن
35

ان يقال: بان الموضوع له فيها عبارة عن معنى فيه ابهام متحد مع ما يماثل مفهوم مرجعها
لكنه مع اشتمالها على خصوصية زائدة من الغيبة والحضور كما في الضمائر، أو الإشارة و
المعهودية كما في أسماء الإشارة والموصولات من نحو هذا والذي كما يشهد لذلك التعبير
عنها بالفارسية ب‍ (أو) و (أين) ونحو ذلك، ومن ذلك جرى التعبير عنها بالمبهمات، فان
ذلك لا يكون الا من جهة ان الموضوع له فيها معنى ابهامي، ولذلك أيضا نحتاج دائما إلى
عطف البيان بقولك: هذا الرجل هذا الانسان وهذا زيد. كيف وان دعوى كون وضعها
للمراجع الخاصة والصور التفصيلية بعيدة غايته، لان لازمه انسباق مفهوم الانسان في
مثل هذا الانسان مرتين في الذهن: تارة من لفظ هذا وأخرى من لفظ الانسان، وهو كما
ترى! كما أن مثله في العبد دعوى كون هذا موضوعا لنفس الإشارة التي هي معنى حرفي
وان هذا تقوم مقام الإشارة باليد إلى الانسان وغيره، إذ لازم ذلك أيضا هو عدم اجراء
احكام الاسم عليها من جعلها مسندا إليه ومسندا، مع أنه أيضا كما ترى! وذلك بخلافه
على المعنى الأول، فإنه عليه قد حفظ جهة اسمية المعنى فيها فلا يلزم من اجراء احكام
الاسم عليها ارتكاب خلاف قواعد، كما هو واضح. وسيجئ زيادة بيان لذلك إن شاء الله
تعالى في محله، فانتظر.
واما القسم الثالث منها: أعني خاص الوضع والموضوع له ففرضه واضح، كما في
الاعلام الشخصية.
واما القسم الرابع منها: أعني خاص الوضع وعام الموضوع له، فتصويره انما هو
بلحاظ عنوان خاص كزيد مثلا جاعلا له عبرة ومرآة لعنوان كلي منطبق عليه وعلى
غيره كعنوان الانسان ثم وضع اللفظ بإزاء ذاك العنوان الكلى الفوق أو بلحاظ الانسان
المقيد بخصوصية الزيدية جاعلا له مرآة لطبيعة الانسان المنطبق عليه وعلى غيره من
الحصص الأخرى. هذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول فيما يمكن ان يقع عليه التقسيم بحسب
الحصر العقلي.
واما المقام الثاني: فالكلام فيه كما عرفت انما هو في بيان ما يمكن من الأقسام
الأربعة المزبورة، فنقول:
اما القسم الأول: فلا اشكال في امكانه بل وقوعه أيضا، كما في أسامي الأجناس.
ومثله في الامكان بل الوقوع أيضا القسم الثالث، كما في الاعلام الشخصية.
36

واما القسم الثاني: فالظاهر هو امكانه أيضا ضرورة امكان تصور الجزئيات و
الافراد بتوسيط عنوان كلي عام ينطبق عليها، إذ معرفة العنوان الكلى العام معرفة للافراد
المندرجة تحته ولو بنحو الاجمال، وبعد كفاية معرفة الموضوع له وتصوره ولو بوجوبه اجمالي لا
مجال للاشكال في امكانه. نعم انما يتوجه الاشكال فيما لو احتاج الوضع إلى تصور المعنى
الموضوع له بوجه تفصيلي، إذ حينئذ يتوجه الاشكال بان شيئا من العناوين التفصيلية
كعنوان الانسان والحيوان ونحوهما وكذا العناوين العامة العرضية كعنوان الذات و
الشئ ونحوهما - لا يمكن ان يكون مرآة إلى الافراد الخاصة والعناوين التفصيلية، لان
غاية ما يحكى عنه تلك العناوين انما هي الجهة المشتركة بين الافراد التي بها امتياز كل
فرد من هذا النوع عن افراد نوع آخر، واما حكايتها عن الافراد بما لها من الخصوصيات
التي بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن الفرد الآخر من ذلك النوع فلا، بل هو من
المستحيل، من جهة ان الفرد والخصوصية مبائن مفهوما مع مفهوم العام والكلي، والمبائن
لا يمكن ان يكون وجها للمبائن. ولكنه بعد كفاية لحاظ الموضوع له ولو بوجوبه اجمالي
لا مجال لهذا الاشكال، ضرورة امكان تصور الافراد والجزئيات الخاصة بنحو الاجمال
بتوسيط عنوان اجمالي مشيرا به إلى الافراد الخاصة في مقام الوضع المعبر عنها بها ينطبق
عليه مفهوم الانسان أو مفهوم الذات أو الشئ. وحينئذ فلا ينبغي الاشكال في امكان
هذا القسم أيضا.
واما القسم الرابع: أعني فرض خاص الوضع وعام الموضوع له، فقد يقال بامكانه
أيضا وانه كما يمكن جعل عنوان عام كلي وجها للافراد والخصوصيات المندرجة تحته
كذلك يمكن العكس بجعل الفرد وجها للكلي المنطبق عليه وعلى غيره. ولكن التحقيق
هو عدم امكانه واستحالته، وهذا فيما لو كان آلة الملاحظة هو الفرد والخصوصية كعنوان
زيد مثلا واضح، ضرورة ان الفرد والخصوصية يباين مفهوما مع مفهوم العام والكلي و
معه لا يمكن جعله وجها وعنوانا له. واما لو كان آلة اللحاظ هو الكلي المقيد كالانسان
المتقيد بالخصوصية الزيدية أو العمروية ولو بنحو دخول التقييد وخروج القيد فكذلك
أيضا، فإنه مع حفظ جهة التقيد بالخصوصية فيه يباين لا محالة مفهوما مع الانسان المطلق
الجامع بين هذه الحصة وغيرها، ومع الغاء جهة التقيد وتجريده عن الخصوصية ولحاظه
بما انه قابل للانطباق عليه وعلى غيره يرجع إلى عام الوضع والموضوع له، فتدبر.
37

واما المقام الثالث فنقول: انه بعد ما ظهر في المقام الثاني امكان الأقسام الثلاثة
أعني ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين أو خاصين وما كان الوضع فيه عاما و
الموضوع له خاصا، يبقى الكلام في بيان ما هو الواقع منها فنقول:
اما ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين أو خاصين فلا اشكال في وقوعه، كما في
الاعلام الشخصية وأسامي الأجناس. وانما الكلام فيما كان الوضع فيه عاما والموضوع
له خاصا، حيث إنه قيل بوقوع هذا القسم أيضا وان وضع الحروف وما شابهها من
الهيئات والافعال والأسامي المتضمنة للمعنى الحرفي من هذا القبيل، لما يرى من عدم
كون الاستعمال فيها الا في معان جزئية. وتنقيح المرام في هذا المقام يحتاج إلى شرح
حقيقة المعاني الحرفية وما ضاهاها ثم بيان انها كلية أو جزئية.
في شرح المعاني الحرفية
فهنا جهات من الكلام:
الأولى في المعاني الحرفية وفيها مقامان: الأول في شرح حقيقة المعنى الحرفي، الثاني في
بيان انه كلي أم جزئي فنقول:
اما المقام الأول فاعلم أن المشارب في الحروف كثيرة ربما يبلغ إلى الأربعة بل
الخمسة كما سنذكرها:
أحدها ما ينسب إلى الرضى في شرح الكافية وجماعة أخرى بان الحروف مما لا معنى
لها أصلا، بل وانما هي مجرد علامات لتعرف معنى الغير كالرفع الذي هو علامة للفاعلية،
وانه كما أن الرفع في زيد في مثل جائني زيد لا معنى له في نفسه بل وانما كان مجرد
علامة لتعرف حال زيد وانه فاعل في تركيب الحروف، فلفظ في مثلا في مثل زيد في
الدار لا يكون له معنى أصلا وانما هي علامة لتعرف معنى الدار وانها معنى أيني من
حيث كونها مكان زيد قبال كونها معنى عينيا ومن الأعيان الخارجية وحينئذ فلفظة في
في قولك زيد في الدار، مما لا معنى لها أصلا في هذا التركيب وانما المعنى كان في الدار من
حيث كونها مكان زيد ومعنى أينيا وقد جئ بكلمة في لتعرف حال الدار وخصوصية
معناها، وهكذا لفظ من وعلى ونحوهما من الحروف، وحينئذ فلا يكون للحروف معنى
38

أصلا وانما هي مجرد علامات لمعان تحت ألفاظ غيرها.
ولكن مثل هذا المشرب مرمى بالضعف عند المحققين لذهابهم طرا إلى أن للحروف
معاني في نفسها كما يكشف عنه تعريفهم للحروف بأنها ما دل على معنى غير مستقل
بالمفهومية قبالا للاسم الذي دل على معنى مستقل بالمفهومية، وهكذا تعريفهم الاخر لها
بان الحرف هو ما دل على معنى في غيره قبال الاسم الذي دل على معنى في نفسه، فان
من المعلوم ان الغرض من هذا التعريف هو بيان ان للحرف معنى، غير أن معناه كان قائما
بالغير نظير الاعراض لا ان معناه كان تحت لفظ الغير وان الحرف علامة لذلك كما هو
واضح. كيف وان مثل الدار في المثال وكذا السير والبصرة انما هي من أسامي
الأجناس وهي حسب وضعها لا تدل الاعلى المهية المهملة وذات المعنى بما هي عارية
عن الاطلاق والتقييد ولذا تحتاج في مقام اثبات ان مراد المتكلم هو المعنى الاطلاقي
العاري عن الخصوصيات إلى مقدمات الحكمة كي يحكم بان مراد المتكلم من اللفظ هو
المعنى الاطلاقي. وحينئذ نقول بأنه على فرض ان تكون تلك الخصوصية تحت لفظ الغير و
مرادة منه يلزم استعمال لفظ الدار والسير والبصرة في مثل زيد في الدار وسرت من
البصرة في معنى الخاص فيلزمه المصير إلى المجاز حينئذ لأنه من باب استعمال اللفظ
الموضوع للكلي في الفرد والخصوصية، وهو كما ترى! فلا محيص حينئذ الا من الالتزام
بعدم استعمال لفظ الدار الا في معناها الكلى أعني الطبيعة المهملة وكونه من باب
اطلاق الكلى على الفرد وإرادة الخصوصية بدال اخر كما في قوله جاء رجل من أقصى
المدينة وعليه ونقول: بأنه بعد خروج القيد والخصوصية عن تحت لفظ الدار والسير و
البصرة فلابد وأن يكون تحت دال اخر وهو في المقام لا يكون إلا لفظ في في زيد في الدار
ولفظ من في سر من البصرة هذا. على أن ما أفيد في طرف المشبه به وهو الرفع والنصب
والجر من التسلم بأنها مما لا معنى لها وانها ومجرد علامات لخصوصية وقوع زيد في جائني
زيد فاعلا في التركيب غير وجيه أيضا، إذ نقول فيها أيضا بان الرفع وكذا النصب والجر
انما هي من مقولات الهيئة الكلامية، وحينئذ فبعد ان كان للهيئة وضع للدلالة على
النسب الكلامية كما سنحققه إن شاء الله تعالى فلا جرم كان للأعراب أيضا معنى، حيث
كان لها الدلالة على خصوصية النسبة الكلامية من حيث الفاعلية والمفعولية والحالية و
نحو ذلك من أنحاء النسب وخصوصياتها، من غير أن تكون تلك الخصوصيات تحت لفظ
39

الغير ومستفادة من لفظ الاسم وهو زيد أو المجئ، لما عرفت من أن لفظ زيد لا يدل
بحسب وضعه الا على ذات زيد بما هي عارية عن خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا أو
حالا في الكلام، فيحتاج حينئذ في إفادة خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا في الكلام إلى أن
يكون بدال آخر وهذا الدال لا يكون الا الهيئة والرفع في قولك جاء زيد أو النصب في
قولك: ضربت زيدا. وحينئذ فما أفيد من التسلم على عدم المعنى للأعراب وانها علامة
محضة لتعرف حال الاسم من حيث وقوعه فاعلا ومفعولا أو حالا في التركيب الكلامي
مشبها للحروف بها أيضا في ذلك واضح البطلان في كل من المشبه والمشبه به كما هو
واضح.
وحينئذ فبعد أن ظهر فساد هذا المشرب يبقى الكلام في غيره من المشارب الاخر وانه
بعد أن كان للحروف معان في نفسها فهل هي من سنخ المعاني الآلية؟ أو انها من سنخ
الاعراض الخارجية في قيامها بمعروضاتها؟ أو انها من سنخ النسب والارتباطات المتقومة
بالطرفين؟ حيث إن فيه وجوها وأقوالا منشأه ما هو المعروف المشهور من تعريفها: بأنها
مفاهيم تكون في نفس حقيقتها غير مستقلة بالمفهومية المعبر عنها: تارة بأنها ما دل على معنى
في غيره، وأخرى بأنها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية، قبالا للاسم الذي عرفوه: بأنه
ما دل على معنى في نفسه ومستقل بالمفهومية. ففي الحقيقة منشأ هذا النزاع انما هو في وجه
عدم استقلال المعنى الحرفي وكيفية احتياجه وقيامه بالغير، وانه من قبيل قيام المرآة
بالمرئي في كونه ملحوظا باللحاظ الآلي ومنظورا بالنظر المرآتي، أو من قبيل قيام الاعراض
الخارجية بمعروضاتها، أو من قبيل الارتباطات القائمة بالطرفين بحيث كان عدم استقلال
المعنى الحرفي باعتبار نفس ذاته لا باعتبار اللحاظ كما هو قضية الوجه الأول، والا ففي
أصل كون المعنى الحرفي معنى غير مستقل لا شبهة فيه عندهم.
وحينئذ نقول بان المشارب في هذا المقام ثلاثة:
أحدها: ما سلكه الفصول وتبعه المحقق الخرساني (قدس سره) وبعض آخر من كون
معاني الحروف معاني آلية، وان الفرق بينها وبين الاسم انما هو باعتبار اللحاظ الآلي و
الاستقلالي والا فلا فرق بين المعنى الحرفي وبين المعنى الأسمى، فإذا لو حظ المعنى في
مقام الاستعمال باللحاظ الآلي يصير معنى حرفيا وإذا لو حظ باللحاظ الاستقلالي يصير
معنى اسميا فيكون المعنى والملحوظ في الحالتين معنى واحدا لا تعدد فيه ولا تكثر، وانما
40

الفرق بينهما من جهة كيفية اللحاظ من حيث الاستقلالية والآلية لمعنى آخر. ومن هذه
الجهة أيضا التزموا بعموم الوضع والموضوع له في الحروف نظرا إلى كون ذات المعنى و
الملحوظ حينئذ معنى كليا وعدم كون اللحاظ الآلي كاللحاظ الاستقلالي موجبا لجزئيته.
ولعل عمدة النكتة في مصيرهم إلى اختيار هذا المشرب انما هو ملاحظة انسباق
الخصوصيات والارتباطات الخاصة في موارد استعمال الحروف في قوله: زيد في الدار و
سرت من البصرة أو من الكوفة، مع ملاحظة بعد كونها بحسب الارتكاز من قبيل المتكثر
المعنى، فان ملاحظة هذين الامرين أوجبت مصيرهم إلى أن للحروف أيضا معاني كلية
هي بعينها معاني الأسماء وانها مفاهيم كلية كمفهوم الابتداء الذي هو معنى لكلمة من و
لفظ الابتداء، غايته انه جعل في الحروف بنحو يلاحظ مرآة لملاحظة المصاديق الخاصة
من النسب الابتدائية الذهنية الحاصلة بين السير والبصرة ونحو ذلك.
نعم على هذا لقول لما كان يلزمه صيرورة لفظ من ولفظ الابتداء مثلا من المترادفين
كما في الانسان والبشر فيلزمه صحة استعمال كل منهما مكان الآخر مع أنه بديهي
البطلان، إذ لا يصح ان يقال بدل الابتداء خير من الانتهاء (من خير من إلى) وبدل سرت
من البصرة إلى الكوفة (سرت ابتداء البصرة انتهاء الكوفة) اعتذر عنه في الكفاية بان عدم
صحة ذلك انما هو من جهة ما يقتضيه قانون الوضع حيث إنه وضع الاسم لان يراد معناه
بما هو وفي نفسه بخلاف الحرف فإنه وضع لان يراد معناه لا كذلك بل هو آلة الملاحظة
خصوصية حال المتعلق، ففي الحقيقة منشأ عدم صحة الاستعمال المزبور انما هو حيث
قصور الوضع وعدم اطلاقه لما إذا لم يستعمل كذلك لا من جهة تقيد المعنى والموضوع له
فيهما باللحاظ الاستقلالي والآلي لان ذلك من المستحيل لما فيه من التوالي الفاسدة التي:
منها لزوم عدمه صدقه على الخارجيات لان الامر المقيد باللحاظ الذهني كل عقلي لا موطن
له الا الذهن فيلزمه امتناع امتثال مثل قوله: سر من البصرة إلى الكوفة الا مع التجريد و
الغاء الخصوصية. ومنها لزوم اجتماع اللحاظين في مقام الاستعمال: أحدهما ما هو
المأخوذ في ناحية نفس المعنى والمستعمل فيه، وثانيهما ما به قوام الاستعمال، فيلزمه
حينئذ تعلق اللحاظ بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ. ومنها اقتضائه لجزئية المعنى في الأسماء
أيضا باعتبار ان اللحاظ الاستقلالي كاللحاظ الآلي مع أن ذلك كما ترى، ولا من جهة
وجود المانع عن الاستعمال المزبور مع اطلاق الوضع واقتضائه جواز استعمال كل من
41

الاسم والحرف في معناه ولولا على الكيفية المزبورة، كما هو واضح.
الثاني من المشارب: ما يظهر من بعض آخر من أن معاني الحروف معان قائمة بغيرها و
انها من سنخ الاعراض القائمة بمعروضاتها كالسواد والبياض، وهذا المشرب هو ظاهر
كل من عبر عنها بأنها حالة لمعنى آخر.
والفرق بين هذا المشرب وسابقه واضح، فإنه على هذا المشرب يكون المعنى الحرفي
بذاته وحقيقته مبائنا مع المعنى الأسمى، حيث كان المعنى الحرفي حينئذ من سنخ
المحمولات بالضميمة ومن قبيل الاعراض الخارجية التي وجودها في نفسها عين وجودها
لغيرها، فيغاير ذاتا وحقيقة مع الاسم الذي لا يكون معناه كذلك، بخلافه على مشرب
الكفاية فإنه عليه لا يكون اختلاف بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ذاتا وحقيقة وانما
الاختلاف بينهما كان من جهة كيفية اللحاظ من حيث الآلية والاستقلالية مع كون
الملحوظ فيهما واحدا ذاتا وحقيقة، ومن ذلك عند هؤلاء لو انقلب النظر ولو حظ المعنى
استقلالا وبما هو شئ في نفسه ينقلب المعنى عن كونه معنى حرفيا إلى المعنى الاسمي و
بالعكس. وبذلك البيان ظهر الفرق بينهما من جهة الاستقلالية والتبعية أيضا حيث كان
الاستقلالية والتبعية على المسلك الأول من صفات اللحاظ من حيث توجه اللحاظ إلى
المعنى تارة بنحو الاستقلال وأخرى بنحو الآلية والمرآتية إلى الغير كما في نظرك إلى المرآة
تارة مرآة لملاحظة وجهك وأخرى استقلالا لملاحظة نفسها للحكم عليها بان هذه المرآة
أحسن من تلك، بخلافه على المسلك الثاني فان الاستقلالية والتبعية على هذا المسلك انما
كانت من صفات نفس المعنى والملحوظ من حيث تحققه تارة في الذهن محدودا بحد
مستقل وغير متقوم بالغير وأخرى لا كذلك بل حالة لمعنى آخر وقائما به كقيام العرض
بمعروضه مع كونه في مقام اللحاظ في الصورتين ملحوظا استقلالا لا مرآة. وحينئذ فكم
فرق بين المشربين في الاستقلالية والتبعية ونحوي القيام بالغير، فإنه في الحقيقة على الأول
لا يكون للمعنى الحرفي قيام بالغير أصلا ولو كان فإنما هو قيام زعمي تخيلي، بخلافه على
الثاني، فان قيام المعنى الحرفي بالغير عليه قيام حقيقي لا زعمي، كما هو واضح.
الثالث من المشارب في الحروف: ما سلكه جماعة من الأساطين من كون معاني
الحروف عبارة عن الروابط الخاصة والنسب والإضافات المتحققة بين المفهومين التي
هي من سنخ الإضافات المتقومة بالطرفين، فكان لفظ في في قولك: الماء في الكوز مثلا
42

موضوعا للربط الخاص الذي كان بين مفهوم الماء ومفهوم الكوز، وهكذا لفظ من في
قولك: سرت من البصرة والى وعلى وحتى ونحوها من الحروف بل الهيئات أيضا كما
سيأتي إن شاء الله، فيكون الجميع موضوعا للروابط الخاصة الذهنية بين المفهومين لكن لا
مفهوم الربط الذي هو معنى اسمي بل ما هو واقع الربط الذهني ومصداقه بالحمل
الشايع، فإنك إذا لاحظت السير الخاص المضاف بدوه إلى البصرة وكذلك الماء والكوز
تجد في نفسك أمورا ثلاثة: مفهوم السير ومفهوم البصرة والتعلق الخاص بينهما، وهكذا
في مثال الماء في الكوز، فكان لفظ في ولفظ من في المثالين موضوعا لذاك الربط والتعلق
الخاص الذي بين مفهوم السير والبصرة ومفهوم الماء والكوز لأنه كما يحتاج مفهوم السير
والبصرة ومفهوم الماء والكوز إلى لفظ خاص يحكى عنه في مقام تفهيم المقصود واظهار
ما في الضمير كذلك ذلك الربط والتعلق الخاص بينهما حيث لا يكاد يغنى عنه الألفاظ
الموضوعة للمفاهيم الاسمية التي بها تقوم تلك الروابط والإضافات الخاصة كما هو واضح.
ثم إن الفرق بين هذا المشرب وسابقه أيضا واضح فان المعنى الحرفي على المشرب
السابق كان من قبيل المحمولات بالضميمة المرتبط وجودها بالغير نظير الاعراض الخارجية
كالسواد والبياض بخلافه على هذا المشرب الأخير فان المعنى الحرفي على ذلك كان من
سنخ الروابط والإضافات المتقومة بالطرفين. وبعبارة أخرى: المعنى الحرفي على المشرب
المتقدم عبارة عن الشئ المرتبط وجوده بالغير وعلى المشرب الأخير عبارة عن نفس الربط
بين الطرفين فالفرق بينهما واضح.
وكيف كان فهذه مشارب أربعة في الحروف والمتعين منها هو المشرب الأخير. و
ذلك: اما المشرب الأول منها فلما عرفت فساده وبطلانه بما لا مزيد عليه، واما المشرب
الثاني منها الذي اختاره الفصول والكفاية (قدس سرهما) فلانه لا سبيل إلى دعواه
أيضا، وذلك مضافا إلى ما فيه من مخالفته لما عليه الوجدان والارتكاز من انسباق الروابط
الخاصة في موارد استعمالها ربما يساعد البرهان على خلافه أيضا، وذلك من جهة وضوح
انه انما يمكن المصير إلى ذلك فيما لو أمكن جعل المفهوم الكلي كمفهوم الابتداء مثلا مرآة
إلى مصاديق النسب الابتدائية الذهنية بين المفهومين بخصوصياتها التفصيلية وهو من
المستحيل جدا، بداهة ان مصاديق الروابط الخاصة التفصيلية مما يباين مفهوم الابتداء
الكلي أو النسبة الابتدائية ومعه كيف يمكن حكاية الكلي بما هو كلي عن الروابط
43

الجزئية الخاصة المفصلة؟ فلا محيص حينئذ اما من الغاء الخصوصيات التفصيلية طرا و
المصير إلى أن الموضوع له للفظ من مثلا عبارة عن مفهوم الابتداء الكلي أو النسبة
الابتدائية التي هي جهة مشتركة بين مصاديق النسب الابتدائية الذهنية، أو المصير إلى أن
الموضوع له فيها عبارة عن نفس الروابط الذهنية الخاصة، فعلى الثاني يلزمه الالتزام في
وضع الحروف بكونها من باب عام الوضع وخاص الموضوع له وهو مناف لما اختاره فيها
من كونها من باب عام الوضع والموضوع له، وعلى الأول وان كان يلزم عليه هذا
المحذور الا انه يلزمه عدم انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالاتها بعد عدم امكان
جعل المفهوم الكلي بما هو كلي مرآة لملاحظة الروابط الذهنية الخاصة، وهو كما ترى
خلاف الوجدان كما هو واضح.
نعم لو اغمض النظر عن ذلك لا يرد عليه ما ربما يتوهم وروده عليه من لزوم صحة
استعمال كل من الاسم والحرف مكان الاخر فيقال بدل سرت من البصرة إلى الكوفة
سرت ابتداء البصرة انتهاء الكوفة، إذ قد عرفت فيما تقدم الاعتذار عن ذلك بان عدم صحة
استعمال كل من الاسم والحرف حينئذ مكان الآخر انما هو من جهة قصور الوضع و
تضيق دائرته وعدم اطلاقه الناشي ذلك الضيق من جهة تضيق الغرض الداعي على
الوضع وأخصيته، باعتبار ان الغرض من وضع الحروف انما هو لان يراد معناه لا بما هو
شئ في حياله بل بما هو مرآة لملاحظة خصوصية حال المتعلق وفي وضع الأسماء لان يراد
معناها لا كذلك بل بما هو وفي نفسه، فان قضية أخصية دائرة الغرض توجب قهرا تضيقا
في دائرة وضعه أيضا بنحو يخرجه عما له من سعة الاطلاق الشامل لحال عدم لحاظ الآلية
في الحروف والاستقلالية في الأسماء، كما نظيره أيضا في الواجبات العبادية الموقوف
صحتها على قصد القربة واتيانها بدعوة الامر المتعلق بها، فكما ان أخصية دائرة الغرض
هناك أو جبت تضيقا في دائرة الامر والإرادة عن الشمول لغير ما هو المحصل لغرضه، وهو
العمل الماتى عن داع قربى، فلا يكون للمتعلق اطلاق يعم حال عدم الدعوة ولا كان
مأخوذا فيه قيد دعوة الامر، كذلك في المقام أيضا، فإذا كان الغرض من وضع الحروف
مثلا تفهيم معناه حال كونه ملحوظا باللحاظ الآلي بنحو القضية الحينية وفى الأسماء تفهيم
معناها حال كونها ملحوظة باللحاظ الاستقلالي فلا جرم يتضيق من اجله دائرة موضوع
وضعه أيضا بنحو يخرج عماله من سعة الاطلاق ويختص بذات المعنى لكن في حال كونه
44

ملازما مع اللحاظ الآلي في الحروف والاستقلالي في الأسماء بنحو القضية الحينية لا بنحو
التقيد، لان ذلك كما عرفت من المستحيل، من جهة استحالة تقيد المعنى باللحاظ المتأخر
عنه، ومن المعلوم ان قضية ذلك قهرا هو عدم صحة الاستعمال المزبور على النحو المزبور
من جهة عدم كونه من الاستعمال فيما وضع له بعد فرض قصور الوضع وعدم اطلاقه في
الحروف والأسماء لحال عدم لحاظ المعنى مرآة أو استقلالا كما هو واضح.
والى مثل هذا البيان أيضا نظر الكفاية (قدس سره) في جوابه عن الاشكال المزبور
بأنه قضية قانون الوضع واشتراط الواضع لان يراد في الحروف معناها بما هي حالة لمعنى
اخر وفى الأسماء بما هو هو وان كان في عبارته قصور في إفادة ذلك، لا ان المقصود من ذلك
بيان اشتراط الواضع بعد الوضع على المستعملين لان لا يستعملوا الحروف الا في حال
لحاظ المعنى مرآة لحال المتعلق ولا الأسماء الا في حال لحاظ المعنى مستقلا ليكون من
قبيل الشرط في ضمن العقد كما توهم، كي يورد عليه بان لا معنى محصل ذلك، ولا
ملزم لاتباع شرط الواضع بعد اطلاق المعنى والموضوع له وعدم تقيده بصورة وجود القيد و
الخصوصية، كيف وان بطلان مثل هذا الاشتراط على المستعملين لولا رجوعه إلى
الارشاد إلى كيفية وضعه وعدم كونه مطلقا كما ذكرناه غنى عن البيان فلا ينبغي ان
ينسب ذلك إلى من له أدنى دراية فضلا عن القائل المزبور. وحينئذ فالعمدة في بطلان هذا
المشرب هو ما أوردناه عليه من مخالفته لما هو قضية الوجدان والارتكاز بل ومساعدة
البرهان أيضا على امتناعه، نظرا إلى ما عرفت من امتناع كون الكلي مرآة للجزئيات و
المصاديق بخصوصياتها التفصيلية خصوصا مع ما فيه أيضا من اقتضائه لزوم صرف جميع
التقيدات عن مدلول الهيئة وارجاعها تماما إلى المادة والمتعلق نظرا إلى فرض كونها
حينئذ على هذا المشرب غير ملتفت إليها كما لا يخفى، مع أن ذلك كما ترى خلاف
الوجدان.
وحينئذ بعد بطلان هذا المشرب أيضا يدور الامر بين المشرب الثالث والرابع وفي
مثله لا ينبغي التأمل في أن الأخير هو المتعين، فان الوجدان في نحو قولك الماء في الكوز أو
سرت من البصرة ونحو ذلك لا يرى من لفظ في ومن الا الروابط الخاصة الذهنية بين
مفهومي الماء والكوز ومفهومي السير والبصرة، لا انه يرى من لفظ في الشئ المرتبط
بالغير نظير السواد والبياض ولذلك لا يصح الاكتفاء أيضا بذكر متعلق واحد بقولك
45

سرت من أو من البصرة بل لابد من ذكر المتعلقين فان ذلك شاهد صدق على كون مدلول
الحروف من سنخ النسب والارتباطات المتقومة بالطرفين.
ثم انه بعد ما ظهر من كون معاني الحروف عبارة عن الروابط الذهنية بين
المفهومين، يبقى الكلام في أنها ايجادية توجد باستعمال الأداة، أو انها غير ايجادية بل
كانت منبئة تنبئ عنها الأداة والهيئات كما في الأسماء، حيث إن فيها وجهين:
وقد ذهب بعض الأساطين إلى الأول والتزم بكونها ايجادية حيث أفاد في وجه
ايجادية معاني الحروف بان الأسماء انما كانت موضوعة للطبايع المجردة عن خصوصية
الارتباط بالغير فكان المفهوم الماء ومفهوم الكوز مفهومين متغايرين في الذهن غير مربوط
أحدهما بالآخر عند لحاظهما، ولكنك بقولك: (الماء في الكوز) توجد بلفظ (في) ربطا
بين مفهومي الماء والكوز فكان هذا الربط جائيا من لفظ (في) والا فبدونه كان
المفهومان أجنبيين لا ربط لأحدهما بالآخر، وهكذا في نحو السير والبصرة، فتكون
الحروف كلها حينئذ آلات لايجاد معانيها، بل وهكذا الهيئات أيضا إذ كان مفهوم
كلمة الماء معنى متعقلا في ذاته، استعمل فيه كلمة الماء أم لا، كان الاستعمال في ضمن
الهيئة الكلامية أو على نحو الافراد فلا فرق بين ان يقال الماء بارد مثلا أو الماء بلا تركيب
كلامي، حيث كان لهذا اللفظ في الصورتين معنى مستعمل فيه، الا ان الهيئة الكلامية
توجد ربطا بينه وبين البارد بعد أن لم يكن بينهما هذا الربط. وهذا بخلافه في المعاني
الاسمية فإنها متحققة في حد ذاتها في عالم المفهوم ويكون استعمالها لاخطارها في الذهن.
وحينئذ فكم فرق بين الأسماء وبين الحروف والهيئات، فان الأسماء كلها تكون حاكية
ومنبئة عن معانيها التي هي المفاهيم المستقلة في حد ذواتها بخلاف الحروف والهيئات فان
هذه طرا تكون آلة لاحداث معانيها. ثم انه استشهد لذلك أيضا بالخبر المروي في المعالم عن أبي
السلام عن أبي الأسود الدؤلي عن أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: (الاسم ما أنبأ عن
المسمى والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى والحرف ما أوجد معنى في غيره)، بتقريب ان
في العدول في الحروف عن الانباء كما في الأسماء والافعال إلى الايجاد دلالة على أنه لا
معنى للحروف تكشف عنها الأداة كما في الأسماء والافعال وان معانيها معان ايجادية
تحدث باستعمال ألفاظها. نعم في نسخة أخرى هكذا بدل (والحرف ما أوجد معنى في
غيره) (والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل) ولكنه رجح الأول من جهة علو
46

مضمونه الموجب لاستبعاد ان يناله يد المجعولية، بخلاف ما في النسخة الأخرى فان فيها
شواهد الجعل، باعتبار انه لا يكون مثل هذا التفسير مختصا بالحرف فيجرى في الاسم و
الفعل أيضا فان الاسم أيضا لا يكون بفعل ولا حرف، فكان من نفس هذا التعبير في
الحروف بأنها ما توجد معنى في غيره يحصل الاطمينان بصدوره من قائله ولكنه باعتبار
دقته وغموضه خفى على الرواة فصحفوا الخبر الشريف وعبروا مكان هذا التعبير بأنها ما
لا تكون اسما ولا فعلا. هذا محصل ما أفيد في وجه كون معاني الحروف معاني إيجادية لا
أنبائية.
وقد يظهر من بعض آخر (*) التفصيل في الحروف بين مثل أداة النداء ولام الامر و
الحروف المشبهة بالفعل وبين غيرها من الحروف فالتزم بالايجادية في نحو أداة النداء و
الاستفهام والحروف المشبهة بالفعل وقال بالأنباء في غيرها هذا.
ولكن التحقيق خلافه وانه لا يكون مداليل الحروف إلا كمداليل الأسماء في كونها
أنبائية محضة لا ايجادية. وما أفيد في وجه كون مداليل الحروف والهيئات ايجادية من
التقريب المزبور لو تم فإنما هو على مبنى المشهور من القدماء في أسامي الأجناس من كون
مداليلها عبارة عن نفس الطبايع المجردة التي تقتضيها مقدمات الحكمة عند السلطان إذ
حينئذ بعد عراء المعنى الأسمى دائما في الذهن عن خصوصية الارتباط بالغير أمكن المجال
لدعوى ايجادية خصوصية جهة ارتباط أحد المفهومين بالآخر، والا فعلى ما هو التحقيق
من مسلك السلطان - من وضع أسامي الأجناس للمهية المبهمة والجامع بين الفاقد
للخصوصية وواجدها الذي لا يكاد تحققه في الذهن الا مقرونا مع إحدى الخصوصيتين:
اما التجرد والاطلاق، واما الواجد للقيد والخصوصية فلا يكاد يتم هذه المقالة، حيث إنه
بعد عدم امكان تحقق ذلك الجامع في الذهن الا مقرونا مع خصوصية التجرد والاطلاق
الذي يقتضيه مقدمات الحكمة أو مع خصوصية التقيد، نقول: بأنه إذا لو حظ المعنى
الأسمى مقرونا مع خصوصية ارتباطه بالغير في مثل سر من البصرة، والماء في الكوز، و
الزيد على السطح ونحو ذلك، وأريد القاء ما تصوره من الصورة المرتبطة إلى ذهن المخاطب
فلا جرم يحتاج إلى وجود دال وكاشف في البين يحكى به عما تصوره من الصورة الخاصة،

* هذا البعض صاحب الحاشية، الشيخ محمد تقي " قدس سره " (المؤلف " قده ").
47

ومن المعلوم حينئذ انه كما أن ذات المعنى الأسمى وهو الطبيعة المهملة تحتاج إلى كاشف
في مقام الكشف عنها، كذلك أيضا جهة خصوصية ارتباطه بالغير، فيحتاج تلك أيضا إلى
كاشف يكشف عنها، ولا يكون الكاشف عنها الا الإرادة والهيئات كما هو الشأن أيضا
عند لحاظ المعنى مجردا عن القيد والخصوصية، حيث إن الاحتياج إلى مقدمات الحكمة
حينئذ انما هو من جهة كشفها عن خصوصية التجرد والاطلاق والا فاللفظ حسب
وضعه لا يدل الا على ذات المعنى والطبيعة المهملة بما هي متحققة تارة في ضمن الفاقد
للقيد والخصوصية وأخرى في ضمن الواجد لها. وحينئذ فكما ان حيث خصوصية العراء
وتجرد المعنى تحتاج إلى كاشف يكشف عنها وكان الكاشف عنها هو مقدمات الحكمة،
كذلك بعين هذا المناط حيث خصوصية ارتباط المعنى بالغير، فهي أيضا مما تحتاج إلى
كاشف يكشف عنها وكان الكاشف عنها هو الأداة والهيئات. وحينئذ فلا يكون
مداليل الحروف والهيئات إلا كمداليل الأسماء في كونها منبئة تنبئ عنها الأداة لا انها
كانت موجدة بالأداة، كما لا يخفى.
وبالجملة نقول: بان من راجع وجدانه يرى أنه كما أن في مرحلة الخارج هيئات و
نسبا خارجية متحققة من مثل وضع الحجر على حجر آخر وخشب فوق خشب وكون
شئ في وعاء كالماء في الكوز، كذلك أيضا في عالم الذهن فان لنا ان نلاحظ ونتصور
هيئات ونسبا على النحو الذي كانت في الخارج بان نلاحظ ونتصور في الذهن أحجارا
موضوعة بعضها فوق بعض بهذه الهيئة والنسبة والخاصة ونلاحظ ماء في كوز كما أن لنا
ان نلاحظ أحجارا بنحو لا يكون بينها ارتباط وذلك بملاحظة حجر ثم ملاحظة حجر آخر
غير مرتبط بالحجر الأول وملاحظة ماء وكوز غير مرتبط أحدهما بالآخر. وبعد ذلك
نسئل عن هذا القائل ونقول: بأنه إذا تصور شخص ولا حظ الحجر الموضوع على حجر آخر
بهذا الارتباط الخاص فأراد القاء ما تصوره من الصورة المرتبطة في ذهن لتفهيمه
بان ما في ذهنه هو تلك الصورة الخاصة فهل له محيص الا وان يكشف عنها بقوله الحجر
على حجر بجعل (الحجر) حاكيا حسب وضعه عن الذات المعروضة للهيئة و (على) عن
حيث الارتباط الخاص الذي بين المفهومين، أو انه لابد أيضا وان يوجد النسبة و
الارتباط بين مفهومي الحجرين بالأداة؟ لا شبهة في أنه لا سبيل إلى الثاني لأن المفروض
حينئذ هو تحقق تلك الإضافة والارتباط الخاص بين المفهومين قبل هذا الاستعمال فيكون
48

ايجادها من قبيل تحصيل الحاصل الذي هو من المستحيل. وحينئذ فتعين الأول باعتبار
ان ما هو المحتاج إليه حينئذ انما هو الكشف عما في ذهنه من الصورة الخاصة، ومعه لا
محيص الا من المصير إلى كون الأداة والهيئات كاشفة عن مداليلها كما في الأسماء، وان
في قولك الماء في الكوز أو سرت من البصرة أو صعدت على السطح ونحو ذلك كما كان
لفظ الماء والكوز ولفظ السير والبصرة ولفظ الصعود والسطح ونحو كاشفا عن مداليلها،
كذلك لفظ في ومن وعلى أيضا كان كاشفا عن الارتباط الخاص بين مفهومي الماء و
الكوز، والارتباط بين مفهومي السير والبصرة، ومفهومي الصعود والسطح.
كيف وانه لم نتعقل مفهوما محصلا لايجادية مداليل الحروف والهيئات، فإنه ان
أريد بايجاديتها حضورها في الذهن باعتبار ما يكون النفس من الخلاقية للصور في
وعاء الذهن فهو مسلم لا يعتريه ريب، ولكنه نقول: بان هذا المعنى لا يكون مختصا
بمداليل الحروف والهيئات فيجرى في الأسماء أيضا، ففي مثل الماء في الكوز كان كل
واحد من مفهوم الماء والكوز والنسبة الظرفية بينهما من موجدات النفس حسب ما لها
من الخلاقية للصور بلا خصيصة لذلك بالحروف، ولكن لا يكون الموضوع له حينئذ هو
هذه المفاهيم بقيد وجودها في الذهن بل الموضوع له حينئذ هو نفس المتصور الذي تعلق به
اللحاظ والتصور، وذلك أيضا لا بما هو، بل بما هو يرى خارجيا وفي هذه المرحلة كما
لا يكون مداليل الأسماء ايجادية كذلك الحروف أيضا. وان أريد بايجاد معاني الحروف
كون الحروف موجدة لها في مقام الاستعمال فهو أيضا امر لا نتعقله بعد فرض تحقق تلك
النسب والارتباطات الخاصة بين المفهومين قبل استعمال أداتها إذ هو حينئذ من تحصيل
الحاصل وغير محتاج إليه، على أنه نقول حينئذ بان لازم كاشفية الأسماء عن مداليلها انما
هو تحقق مضامينها في رتبة سابقة عن كشف الألفاظ عنها كما هو شأن كل محكى بالنسبة
إلى حاكيه، وحينئذ فلو كان شأن الأداة والهيئات هو الموجدية لمداليلها التي هي
الارتباطات الخاصة بين مفاهيم الأسماء يلزمه تأخر صقع الارتباط بين المفهومين عن صقع
الألفاظ والأداة المتأخر عن صقع مفهومي الاسمين بمرتبتين، نظرا إلى علية الأداة لوجود
الارتباط بين المفهومين ولازمه حينئذ هو تقوم مثل هذا الربط الواقع في الصقع المتأخر بما
يكون صقعه متقدما عليه بمرتبتين وهو كما ترى، بل لازمه أيضا هو اخراج جميع مثل هذه
التقييدات عن حيز الطلب والإرادة في الطلب المنشأ بالهيئة كما في نحو سر من البصرة إلى
49

الكوفة ونحو اضرب زيدا في الدار، من جهة ان لازم موجدية الأداة والهيئات حينئذ
للتقييدات والارتباطات هو وقوع جهة تقيد السير بالبصرة وتقيد زيد بالدار في المثال في
الموطن المتأخر عن موطن مفهومي الاسمين، أعني ذات السير والبصرة، الملازم ذلك لكونه
في عرض الطلب المنشأ بالهيئة، من جهة انه كما أن لفظ من في المثال علة لتحقق التقيد و
الارتباط الخاص بين مفهومي السير والبصرة كذلك الهيئة أيضا علة لايجاد الطلب. ومن
المعلوم حينئذ ان لازم وحدة الرتبة بين العلتين أي الهيئة ولفظ من انما هو عرضية معلوليهما
وهما الطلب والتقيد أيضا، ولازمه هو خروج جهة التقييد عن حيز الطلب وتجريد
متعلقه عنه، من جهة استحالة اخذ ما هو في عرض الطلب في متعلقه وفي رتبة سابقة
عليه، مع أن ذلك كما ترى، فان بنائهم طرا في نحو هذه القضايا على اخذ جهة التقيد أيضا
في الذات في مقام معروضيتها للطلب بجعل المتعلق عبارة عن الذات مع خصوصية التقيد
بأمر كذا وكذا، ومن هنا يحكمون بوجوب تحصيل القيد مقدمة لحيث التقيد، لا على
تجريد المتعلق والذات عن جهة التقيد، ولذا يقولون بان الواجب في مثل قوله سر من
البصرة انما هو السير الخاص بما هو متخصص بخصوصية كونه مضافا بدؤه إلى البصرة،
فهذا أيضا من المحاذير التي تترتب على القول بكون معاني الحروف والهيئات ايجادية
احداثية. ولكن ذلك بخلافه على القول بالكاشفية فيها، فإنه لا يكاد يترتب عليه هذا
المحذور من جهة امكان حفظ التقيد بالخصوصية على هذا القول في ناحية متعلق الطلب،
نظرا إلى معلومية عدم اقتضاء مجرد العرضية بين الكاشفين العرضية بين المنكشفين أيضا
كما هو واضح.
فتلخص مما ذكرنا انه على ما هو التحقيق من مسلك السلطان في وضع أسامي
الأجناس: من كونها موضوعة للمهية المهملة والجامع بين الطبيعة المجردة والمقيدة لا
محيض من الالتزام بكون الحروف أيضا كالأسماء منبئة عن مداليلها لا موجدة لها فعند
ملاحظة مفهومي الاسمين مرتبطا أحدهما بالآخر كالماء في الكوز والسير من البصرة لابد
في مقام الحكاية القاء ما في الذهن إلى المخاطب من جعل الاسم حاكيا عن مدلوله و
الأداة عن الارتباط الخاص بين المفهومين ولا سبيل حينئذ إلى دعوى موجدية الأداة
للربط الخاص بين المفهومين بعد فرض تحقق الربط بينهما قبل ذكر الأداة كما هو واضح.
ثم انه مما ذكرنا أيضا ظهر انه لا فرق في مداليل الحروف والهيئات بين كونها من
50

قبيل النسب الثابتة كما في المركبات التقيدية التوصيفية أو من قبيل النسب الايقاعية
المتحققة في المركبات التامة فكما انه في النسب الثابتة لا يكون الحروف والهيئات الا
كاشفة عنها ككشف الأسماء عن مداليلها كذلك في النسب الايقاعية ففيها أيضا لا يكون
شأن الحروف والهيئات الا الكشف والانباء عنها.
ومن هذا البيان ظهر أيضا ضعف ما أفيد من التفصيل المزبور في الحروف بين مثل
أداة النداء وما شابهها كأداة التنبيه والندبة والاستفهام والتمني والترجي ونحوها مما
يكون مداليلها عبارة عن ايقاع النسبة، وبين مثل الأداة الجارة ونحوها مما يكون مداليلها
عبارة عن النسبة الثابتة بجعل الطائفة الثانية حاكية ومنبئة عن مداليلها كالأسماء و
الطائفة الأولى موجدة لها، بخيال ان قولك: يا زيد وأنت وهذا ونحوها انما هو موجد
لمصاديق النداء والإشارة والاستفهام وانه كان بمنزلة تحريك اليد والعين في مقام النداء
والإشارة والخطاب، فكما انك بتحريك اليد والعين توجد مصداق النداء حقيقة ومصداق
الإشارة والخطاب والبعث نحو الشئ كذلك أيضا بتلك الأداة فإنك بقولك يا زيد توجد
مصداق النداء، وبقولك أنت توجد فردا للخطاب، وبقولك هذا توجد مصداق الإشارة، و
بقولك ليضرب مصداق البعث إلى الضرب من دون ان يكون تحقق لتلك المصاديق قبل
هذا الاستعمال. ولكن ذلك بخلافه في مثل الأداة الجارة من نحو قولك: الماء في الكوز، و
سرت من البصرة إلى الكوفة فإنه فيها قبل الاستعمال كان لتلك النسبة واقع تطابقه تارة ولا تطابقه أخرى.
إذ نقول: بان منشأ هذا التوهم انما هو توهم وضع هذا الأداة للنداء الخارجي و
الإشارة والخطاب والاستفهام الخارجية كما يظهر من التطهير بتحرك اليد والرأس و
العين للإشارة والنداء والخطاب، فإنه على هذا الاس لا محيص من القول بكونها آلات
لايجاد معانيها وان معانيها معان احداثية. ولكنه توهم فاسد، كيف وان المعنى الحرفي
ليس الا عبارة عن الربط الخاص بين المفهومين لا الربط بين الخارجين فلو انه كان مثل
هذه الأداة موضوعا لايقاع مصداق النداء الخارجي والاستفهام والبعث والتمني
الخارجي يلزم كون معانيها من سنخ الارتباطات المتقومة بالخارجيات، وهو كما ترى،
حيث لا يلائم مع حرفية المعنى فيها من جهة ان المعنى الحرفي كما عرفت وعليه أيضا
اطباقهم انما هو عبارة عن الروابط الذهنية القائمة بالمفاهيم، كما يشهد لذلك أيضا
51

استعمال تلك الأداة أحيانا في معانيها لا بداعي النداء والاستفهام والبعث الحقيقي
الخارجي بل بغيره من الدواعي الاخر من هزل أو سخرية كما هو كذلك أيضا في أداة
التمني والترجي ونحوها كقولك: يا ليتني كنت جمادا أو حمارا، مع كون الاستعمال
المزبور أيضا على نحو الحقيقة دون المجاز فان ذلك أيضا شاهد عدم كونها الا موضوعة لايقاع
الربط والنسبة ذهنا بين المفهومين في موطن الاستعمال المطابق تارة للربط الخارجي
وأخرى لا، غايته انه لا بما هو ربط ذهني بحيث يلتفت إلى ذهنيته، بل بما انه يرى
خارجيا تصورا وان كان تصديقا يقطع بخلافه. وعليه لا محيص من الالتزام بما ذكرنا
من الكاشفية فيها أيضا كما في الأسماء حيث كانت الأداة المزبورة حينئذ كاشفة عن
صورة ايقاع الربط بين المفهومين الموجودة في ذهنه في مرحلة تصوره قبالا للربط الثابت
بين المفهومين التي هي مفاد الأداة الجارة. نعم لما لا يكون مثل هذا الربط الايقاعي
ملحوظا الا خارجيا ربما أوجب ذلك تخيل كون المعنى والموضوع له فيها عبارة عن ايقاع
الربط الخارجي ولكنك بعد ما تأملت ترى كونها من قبيل سراب بقيعة يحسبه الظمآن
ماء.
واما الاستشهاد المزبور بالخبر المروى عن علي عليه السلام ففيه ما لا يخفى إذ مضافا
إلى اجمال الخبر من جهة اختلاف النسخ فيه كما عرفت والى كونه مرويا من طرق غيرنا
كما ترى لا مجال للاستدلال بمثله في المسألة حيث إنه ليس مسئلتنا تلك من المسائل التي
يستدل لها بالاخبار الآحاد كما لا يخفى. مع أنه يمكن توجيه الرواية أيضا بما لا ينافي ما
ذكرناه من الكشف والانباء في الحروف، بان يقال: بان النكتة في العدول فيها في
الحروف إلى الايجاد انما هي ملاحظة كون النسب التي هي المعنى الحرفي علة لتحقق
الهيئة في الذهن كما هو كذلك أيضا في النسب الخارجية، كالنسب بين ذوات الأخشاب
بالنسبة إلى تحقق الهيئة السريرية في الخارج، وذلك أيضا بضميمة ما كان بين الألفاظ و
معانيها من العلاقة والارتباط الخاص الموجب لفنائها فيها، فإنه باعتبار ان الأداة مرآة
لمعانيها التي هي النسب الخاصة بين المفهومين وموجدية تلك النسب للهيئة في الذهن
أضيف صفة الموجدية في الرواية إلى الأداة فعبر عنها بهذه العناية بأنها أو جدت معنى في
غيره فتأمل.
وعلى كل حال فهذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول في شرح حقيقة المعنى الحرفي، ولقد
52

عرفت ما هو الحق فيها من كونها عبارة عن الإضافات الخاصة والارتباطات الذهنية
المتقومة بالمفهومين مع كونها أيضا كالأسماء انبائية لا احداثية من دون فرق في ذلك بين
كون النسب ايقاعية أو وقوعية كما هو واضح.
واما المقام الثاني: فالكلام فيه كما عرفت انما هو في عموم الموضوع له فيها و
خصوصه، فان المشهور فيها على كونها من قبيل عام الوضع وخاص الموضوع له حتى أنه
يظهر من بعضهم كصاحب تشريح الأصول جعل ذلك من عيوب المعنى الحرفي فإنه على ما
حكى عنه الأستاذ قال: بان من عيوب المعنى الحرفي عدم تصور عموم الموضوع له فيها، و
لعله من جهة ما يرى من كون المنسبق منها في موارد استعمالاتها هي المصاديق الخاصة
من الروابط التي لاختلافها لا يجمعها جامع واحد، حيث كان شخص الربط الحاصل
من إضافة السير بالبصرة في قولك سرت من البصرة غير شخص الربط الحاصل من اضافته
إلى الكوفة في قولك: سرت من الكوفة، وهو أيضا غير شخص الربط الحاصل من اضافته
إلى مكان آخر، وهكذا، حيث إنه حينئذ يقال: بأنه بعد عدم جامع في البين بين تلك
الروابط الخاصة الا مفهوم الربط الذي هو معنى اسمى لا حرفي لا مناص الا من القول
بخصوص الموضوع له فيها هذا.
ولكن نقول: بأنه انما يكون الامر كذلك بناء على ما هو المعروف المشهور من عموم
الوضع والموضوع له إذ بعد ما يرى من عدم انسباق معنى عام في الذهن في موارد
استعمالات الحروف بل كون المنسبق في الذهن منها هي اشخاص الروابط الخاصة
المبائنة بعضها مع البعض الاخر لا مناص من القول بخصوص الموضوع له فيها، والا
فبناء على القسم الآخر من عموم الوضع والموضوع له الذي نحن تصورناه فلا قصور في
دعوى عموم الوضع والموضوع له، إذا مكن حينئذ دعوى ان الموضوع له فيها في كل صنف
منها من الروابط الابتدائية والروابط الانتهائية والظرفية وهكذا عبارة عن جامع بين
اشخاص تلك الروابط الذي به تمتاز الروابط الخاصة من كل صنف عن اشخاص
الروابط الخاصة من صنف آخر، كما نشاهد ذلك بالوجدان أيضا في الروابط الخاصة من
كل صنف وطائفة كالروابط الابتدائية بان فيها وحدة سنخية وجامعا محفوظا توجب
امتياز هذه الطائفة من الروابط عن الطوائف الأخرى من الروابط الانتهائية والظرفية و
الاستعلائية ونحوها، فان مثل هذا الجامع المحفوظ وان لم يكن له وجود مستقل في الذهن
53

بنحو أمكن لحاظه وتصوره مستقلا حيث كان وجوده دائما في ضمن الفرد والخصوصية و
لكنه في مقام الوضع أمكن وضع اللفظ بإزائه ليكون الخصوصيات طرا خارجة عن دائرة
الموضوع له، إذ يكفي في الوضع لحاظ المعنى الموضوع له ولو بوجه اجمالي بالإشارة الا جمالية
إليه بما هو المحفوظ في ضمن الروابط الخاصة، وعليه فيكون الموضوع له في الحروف
كالوضع عاما لا خاصا ويكون استفادة الخصوصيات حينئذ من قبيل تعدد الدال و
المدلول.
هذا كله بناء على ما سلكناه في معنى الحروف من كونها عبارة عن الارتباطات
الذهنية المتقومة بالمفاهيم من دون فرق في ذلك بين القول بالايجاد فيها أو القول بالكشف
والانباء، واما على بقية المسالك الاخر فعموم الوضع والموضوع له فيها أوضح كما لا يخفى.
هذا كله في الجهة الأولى.
في شرح معاني الهيئات
واما الجهة الثانية فيقع البحث فيها في شرح مفاد الهيئات الطارئة على المواد في
الجمل التامة والناقصة وبيان الفارق بينهما:
فنقول اما مفاد الهيئات في المركبات والجمل التامة والناقصة كلية فهو على ما تقدم
في شرح المعاني الحرفية عبارة عن النسب والروابط الذهنية القائمة بالمفاهيم كما في قولك
زيد قائم، حيث إن مفاد الهيئة في تلك الجملة عبارة عن النسبة الكلامية والربط القائم
بالمفهومين أعني مفهومي زيد والقيام. وفي كون تلك النسبة المدلول عليها بالهيئة في
الجمل ايجادية أو انبائية الخلاف المتقدم، وقد تقدم تحقيق القول فيه وانه لا يكون الا
من قبيل الكشف والانباء لا الايجاد والاحداث. وهذا من غير فرق بين المركبات
التامة أو الناقصة من المركبات التقييدية التوصيفية، حيث كان مداليل الهيئات فيها طرا
عبارة عن النسب والروابط الذهنية القائمة بالمفاهيم، مع كونها أيضا حاكية وكاشفة
عنها لا موجدة لها.
نعم بينهما فرق من جهة أخرى من حيث كون النسبة ايقائية أو وقوعية حيث كان
المحكى للهيئة في الجمل التامة مطلقا عبارة عن ايقاع النسبة، بخلافه في الجمل الناقصة و
54

المركبات التقييدية حيث كان المحكى للهيئة فيها عبارة عن وقوع النسبة لا ايقاعها، إذ
كما أنه في الإضافات الخارجية الحاصلة من مثل وضع الحجر على حجر آخر يتصور
حيثيتان، حيثية ايقاع النسبة أعني خرجها من العدم إلى الوجود المعبر عنها بالمعنى
المصدري، وحيثية وقوع النسبة وثبوتها المعبر عنها بالمعنى الاسم المصدري، كذلك يتصور
هاتان الحيثيتان في النسب والروابط الذهنية بين المفاهيم فيتصور النسبة تارة من حيث
ايقاعها وصدورها، وأخرى من حيث وقوعها وثبوتها، فارغا عن ايقاعها، باعتبار تفرع
وقوع الشئ وثبوته دائما على ايقاعه. فكان المحكى للجمل التامة مطلقا اسمية كانت أم
فعلية أم شرطية هي النسب الايقاعية، وللجمل الناقصة في المركبات التقييدية التوصيفة
كزيد القائم هي النسب الثابتة. ومن ذلك أيضا يختلف كيفية استعمالها حيث كان
استعمال الهيئة في الجمل التامة من باب الهيئة بعنوان الموقعية للنسب الذهنية
بخلاف المركبات التقييدية حيث كان ذلك من باب ذكر اللفظ ولحاظ معنى مفروغ
التحقق في الذهن. وبهذه الجهة نقول أيضا بان مفاد الهيئة دائما في الجمل الناقصة و
المركبات التقييدية في طول مفاد الهيئة في الجمل التامة وفي رتبة متأخرة عنها باعتبار
كونها نتيجة لمفاد القضايا الحملية والجمل التامة. ولعله إلى ذلك أيضا يشير ما هو المشهور
بينهم من أن الأوصاف قبل العلم بها اخبار والاخبار بعد العلم بها أوصاف، فكون
القضية التوصيفية اخبارا قبل العلم بها انما كان بلحاظ ان الملحوظ فيها حينئذ هو النسبة
لكن لامن حيث ثبوتها بل من حيث ايقاعها، كما أن كون القضية الحملية توصيفية بعد
العلم بها انما هو بلحاظ ان الملحوظ فيها هو ثبوت النسبة فارغا عن ايقاعها.
ثم انه ربما يفرق بينهما من جهة أخرى وهي عدم اقتضاء المحكى للمركبات التقييدية
للوجود خارجا وكونه عبارة عن ذات المهية بما هي قابلة للوجود والعدم، ومن ذلك يحمل
عليها الوجود تارة والعدم أخرى كما في قولك زيد الضارب موجود أو معدوم، إذ التقيد
المزبور لا يقتضى الا تضيق دائرة الذات واخراجها عما لها من سعة الاطلاق، وهذا
بخلافه في المركبات التامة فان للمحكى فيها اقتضاء الوجود الخارجي، ولذلك لا يصح
ان يقال زيد قائم موجود أو معدوم، بل وانما الصحيح فيها هو المطابقة واللا مطابقة
للواقع، ومن المعلوم انه لا يكون الوجه فيه الا ما ذكرناه من حكايتها تصورا عن النسبة
الخارجية بين زيد والقيام في قولك زيد قائم واقتضاء المحكى فيها للوجود في الخارج. و
55

من ذلك أيضا لا يكون وزان القيود الواقعة في حيز الجمل الناقصة والمركبات التقييدية
على وزان القيود الواقعة في حيز الجمل التامة حيث كان صقع التقييد في الأول هو صقع
نفس ذات المهية القابلة للوجود والعدم، بخلافه في الثاني فان صقع التقييد فيه عبارة عن
صقع موجودية ذات خارجا. وربما يثمر ذلك في جريان الأصول في الاعدام الأزلية بنحو
السلب المحصل فإذا كان القيد واقعا في حيز الجمل الناقصة كالقرشية للمرأة والكرية
للماء والشرط المخالف للكتاب ونحو ذلك فعند الشك في تلك القيود أمكن استصحاب
اعدامها ولو بنحو السلب المحصل، فإنه بعد أن كان معروض التقيد حينئذ هو الذات
العارية عن حيث الوجود أو العدم لا هي بوصف موجوديتها وكان الوجود من العوارض
الطارية على الذات المتقيدة بالوصف والقيد فلا جرم لا مانع من جر عدم الوصف و
القيد الناشئ من عدم الموصوف إلى زمان وجوده من دون اقتضاء حيث عدم موجودية
الذات في الخارج لسلب هذا التقيد كي يلزمه عدم صحة جريان استصحاب عدم
الوصف إلى زمان وجود الموصوف كما لا يخفى. وهذا بخلافه في القيود الواقعة في حيز
الجمل التامة فإنه لما لا يكون صقع التقيد فيها عبارة عن صقع ذات المهية بل كان
صقعه صقع موجودية الذات خارجا يلزمه لا محالة عدم صحة استصحاب عدم الوصف
المتحقق في ظرف عدم الموصوف. وتنقيح الكلام فيه موكول إلى محله فالمقصود في المقام
هو مجرد الإشارة إلى ما يترتب عليهما من الثمرة.
وكيف كان فبعد ان ظهر لك بيان الفارق بين الجمل التامة وبين الجمل الناقصة في
القضايا التقييدية وان كون الجملة تامة مطلقا اسمية كانت أم فعلية انشائية كانت أم
أخبارية انما هو باعتبار اشتمالها على النسبة الايقاعية قبالا للجمل الناقصة في القضايا
التقييدية المشتملة على النسب الثابتة، يبقى الكلام في بيان الفارق بين الجمل الأخبارية
والانشائية وما به امتياز إحديهما عن الأخرى بعد اشتراكهما في الاشتمال على النسب
الايقاعية.
فنقول: اما ما كان منها متمحضا في الأخبارية والانشائية كقولك زيد قائم
المتمحض في الأخبارية، وقولك: اضرب المتمحض في الانشائية فالفرق بينهما واضح،
باعتبار حكاية النسبة الايقاعية في الأول عن نسبة ثابتة خارجية تطابقها تارة ولا
تطابقها أخرى بخلافه في الثاني فإنه لا يكون فيه محكى تحكي عنه النسبة الايقاعية
56

الذهنية كي تطابقه تارة ولا تطابقه أخرى بل لا تكون الجملة فيه الا مشتملة على نسبة
ايقاعية ارسالية بين المبدأ والفاعل من دون مدخلية فيه لقصد الجدية والهزلية كما هو
كذلك في الاخبار أيضا لان هذه الأمور انما كانت من دواعي الاخبار والانشاء فإنه كما
يخبر أو ينشأ هزلا يخبر وينشأ جدا أيضا، فلا يكون حينئذ من مقوماتها كما هو واضح. و
من ذلك ظهر أيضا عدم دلالة الهيئة في مثل اضرب في فرض الجد بالارسال على الطلب
الحقيقي الذي هو عين الإرادة أو ما ينتزع عن مقام اظهارها كالايجاب والالزام والتحريك
الا على نحو الالتزام دون المطابقة، من جهة ان مفاد الهيئة كما عرفت عبارة عن النسبة
الايقاعية الارسالية بين المبدأ والفاعل وحينئذ فدلالتها على الطلب انما هو باعتبار كون
هذه النسبة من شؤون الطلب ولازمه كما هو واضح. وسيجئ لذلك مزيد بيان في محله إن
شاء الله. وكيف كان فهذا كله في الجمل المتمحضة في الأخبارية والانشائية.
واما ما كان منها صالحا للامرين كقولك اطلب وبعت وزوجت مما تصلح لان
تكون اخبارا تارة وانشاء أخرى، فقد يقال: بان الفرق بينهما حينئذ انما هو من جهة قصد
الحكاية وقصد الموجدية، وانه ان قصد المستعمل في مقام الاستعمال الحكاية بها عن
نسبة ثابتة خارجية تكون اخبارا، وان قصد بها موجديتها للمبدأ تكون انشاء فكان تمام
الميز والفرق حينئذ بين كون الجملة أخبارية وبين كونها انشائية من جهة قصد الحكاية و
الموجدية. ولكن فيه ما لا يخفى، من أنه لا مدخل لقصد الموجدية في انشائية الانشاء بوجه
أصلا بل هو من الطوارئ للانشاء الخارجة عما به قوام انشائية الانشاء ومن ذلك ترى
صدق الانشاء حقيقة في الانشاءات الهزلية من مثله قوله ملكتك السماء ونحوه مع انتفاء
قصد الموجدية فيها، فان صدق ذلك كاشف ان ما به تحقق الانشاء الكلامي غير القصد
المزبور وان قصد الموجدية كقصد الهزلية من الدواعي للانشاء الخارجة عما به قوام
انشائية الانشاء، كيف ولازم دخل القصد المزبور في الانشاء في فرض الجد بايجاد
المبدأ في الخارج وفى الوعاء المناسب ان يكون المتحقق هناك قصدين طوليين أحدهما ما
به قوام تحقق الانشاء وثانيهما قصد الجد بالايجاد بالانشاء الكلامي، مع أن ذلك كما ترى
مخالف لما هو قضية الوجدان في الانشاءات الجدية الحقيقية كما هو واضح.
وربما يفرق بينهما أيضا من جهة قصد الحكاية وعدم قصدها بأنه، ان كان استعمل
الجملة حاكيا بها عن نسبة ثابتة تكون اخبارا، وان كان المستعمل استعملها لا بقصد
57

الحكاية عن واقع ثابت تكون انشاء وحينئذ فيكون الاخبار والانشاء مشتركين في
الاشتمال على النسبة الايقاعية الكلامية الا ان للاخبار خصوصية زائدة لم تكن تلك
الخصوصية في الانشاء، هذا. ولكن فيه ان هذا الفرق وان كان وجيها في نفسه الا انه
بعيد أيضا باعتبار اقتضائه لاشتمال كل اخبار على الانشاء أيضا مع أن ذلك خلاف ما
بنوا عليه من المقابلة بين الانشاء والاخبار كما هو واضح.
وحينئذ فالتحقيق في الفرق والميز بينهما هو ان يفرق بينهما من جهة المحكى من حيث
كونه في الاخبار عبارة عن وقوع النسبة وثبوتها وفى الانشاء ايقاعها الذي هو خروجها
من العدم إلى الوجود، وذلك انما هو من جهة ما هو قضية الارتكاز والوجدان من قولك
بعتك اخبارا حيث كان المتبادر منه هو الحكاية عن نسبة ثابتة محفوظة قبال كونه انشاء
المتبادر منه الحكاية عن نسبة ايقاعية، وحينئذ فإذا استعمل المستعمل الجملة في ايقاع
نسبة كلامية حاكيا بها عن واقع ثابت تكون الجملة اخبارية وإذا استعملها فيها حاكيا
بها عن نسبة ايقاعية توقعها المستعمل في وعائها المناسب لها تكون جملة انشائية فيكون كل
من الاخبار والانشاء حينئذ مشتركا في جهة الحكاية في نحو قوله بعت اخبارا أو انشاء
الا ان الفرق بينهما كان من جهة المحكى فتأمل. ثم إن ذلك كله بحسب مقام الثبوت.
واما بحسب مقام الاثبات فحيث ان طبع مثل هذه الجمل كان على الحكاية عن
واقع ثابت فيحتاج في احراز كونها انشاء من قيام قرينة في البين توجب صرفها عن
الاخبارية والحكاية عن الواقع الثابت والا فطبعها كان على الاخبار. هذا كله في شرح
ما هو مفاد الهيئات في الجمل والافعال في المركبات التامة والناقصة وبيان الفارق بين
الجمل الانشائية والاخبارية.
واما كون الموضوع له فيها عاما أو خاصا فقد ظهر مما قدمناه في المعاني الحرفية، ولقد
عرفت ما هو التحقيق فيها من كون الموضوع له بل المستعمل فيه كالوضع فيها عاما لا
خاصا.
في المبهمات
الجهة الثالثة في المبهمات كأسماء الإشارة والضمائر و الموصولات ونحوها من
58

الأسماء المتضمنة للمعنى الحرفي حيث إنه وقع فيها الخلاف من حيث عمومية الموضوع له
فيها وخصوصيته. ولتنقيح المرام في المقام أيضا لا باس بالإشارة الاجمالية إلى شرح ما هو
مفاد هذه الأسماء وما هو المعنى والموضوع له فيها.
فنقول: واجمال القول فيها هو ان المعنى والموضوع له في هذه الأسامي على ما هو
المتبادر المنساق منها ويشهد عليه اطباقهم من التعبير عنها بالمبهمات عبارة عن معان
ابهامية تكون نسبتها إلى الذوات التفصيلية من قبيل الاجمال والتفصيل لامن قبل الكلى
والفرد مع اشتمالها أيضا على خصوصية زائدة كخصوصية الإشارة والغيبة والخطاب و
المعهودية ونحوها، ففي أسماء الإشارة كهذا يكون المعنى والموضوع له عبارة عن معنى
ابهامي اجمالي يكون نسبته إلى الخصوصيات والذوات المفصلة من زيد وعمرو نسبة
المجمل إلى المفصل المعبر عنه بالفارسية ب‍ (أين)، نظير الشبح الذي تراه في البعيد في كونه
مع ابهامه واجماله عين الذوات التفصيلية من زيد أو عمرو أو حيوان أو حجر بعد
انكشاف الغطاء ولذلك تحتاج دائما إلى عطف بيان كما في قولك هذا الانسان وهذا
الحمار وهذا زيد. لا ان الموضوع له فيها عبارة عن اشخاص الذوات المخصوصة و
العناوين التفصيلية كما توهم، والا يلزمه انسباق مفهوم زيد والانسان في مثل قولك هذا
زيد وهذا الانسان في الذهن مرتين تارة من لفظ هذا وأخرى من لفظ زيد ولفظ
الانسان، مع أنه كما ترى. ولا ان الموضوع له فيها عبارة عن نفس الإشارة إلى الذوات
التفصيلية التي هي معنى حرفي كما يوهمه ظاهر تعبير بعض من علماء الأدب كابن مالك في
منظومته بذا المفرد مذكر أشر، كيف وانه بعد أن لم تكن المقصود من الإشارة مفهومها
الذي هو معنى اسمى بل كان المقصود مصداق الإشارة يلزم خروجها عن الاسمية رأسا
إلى الحرفية ولازمه هو عدم جواز اجراء احكام الاسم عليها من الاخبار عنها تارة وبها
أخرى ووقوعها فاعلا ومفعولا كقولك ضربني هذا وضربت هذا، مع أن ذلك أيضا كما
ترى.
وحينئذ فلا محيص من القول فيها بما ذكرناه من وضعها لجهة عرضية ابهامية منطبقة
على الصور التفصيلية والذوات الخاصة بتمام الانطباق مع اشتمالها أيضا على خصوصية
زائدة وهي خصوصية الإشارة الذهنية لا الإشارة الخارجية كما توهم بخيال ان لفظ هذا
انما هو بمنزلة الإشارة باليد والعين، وانه كما أنه بتحريك اليد والعين مشيرا إلى زيد يوجد
59

ويتحقق مصداق الإشارة الخارجية كذلك بلفظ هذا يتحقق مصداق الإشارة إلى الذوات
المفصلة، فالتزم لذلك بكونها آلات لايجاد مصداق الإشارة والخطاب وان معانيها معان
ايجادية لا اخطارية. ولكنه توهم فاسد كما بيناه سابقا ونقول في المقام أيضا: بان لازم
ذلك هو ان يكون استعمال هذا في قولك هذا الانسان الكلى أحسن من الحمار مجرد لقلقة
لسان حيث لم يكن هناك إشارة خارجية أصلا، مع أنه كما ترى. وحينئذ فبعدان لا يرى
بالوجدان فرق بين هذا الانسان الكلى وهذا زيد من حيث كونهما على حد سواء فلا
محيص من دعوى ان الموضوع له فيها هي الجهة العرضية الاجمالية المشتملة لخصوصية
الإشارة الذهنية، ومعه يبطل القول بالايجادية أيضا حيث كان معناها حينئذ معاني
اخطارية قد استعمل فيها أسامي الإشارة كما في ساير الأسماء.
ومن ذلك البيان ظهر حال الضمائر أيضا، فإنها أيضا موضوعة لجهة عرضية اجمالية
متحدة مع ما يماثل مفهوم مراجعها، مع اشتمالها أيضا على خصوصية الغيبة والحضور.
وكذا الموصولات فإنها أيضا موضوعة لجهة عرضية قبال خصوصيات الصور
المعبر عنها بالفارسية ب‍ (آن كس) قبال الموصوفات المعبر عنها بالفارسية ب‍ (كس) مع
اشتمالها لها أيضا على خصوصية زائدة وهي المعهودية.
وبعد ما عرفت ذلك نقول بأنه حيثما كان المعنى في تلك الأسامي متخصصا
بخصوصيات زائدة من الإشارة والغيبة والخطاب والمعهودية لا بمفهومها بل بمصداقها
ولو بنحو خروج القيد ودخول التقيد، فلا جرم باعتبار خصوصية التقيدات لابد من
المصير فيها إلى كونها من باب عام الوضع وخاص الموضوع له، لولا ما تصورناه من القسم
الآخر لعام الوضع والموضوع له، والا فبناء على ما تصورناه أمكن المصير فيها أيضا إلى عام
الوضع والموضوع له بدعوى الوضع فيه للقدر الجامع بين الخصوصيات الذي لا يكاد
تحققه في الذهن الا توأما مع الخصوصية. بل ولئن ألغيت جهة التقيد بتلك الخصوصيات
من الإشارة والغيبة والخطاب والمعهودية عن المعنى والموضوع له فيها وجعلت المعنى و
الموضوع له فيها عبارة عن ذات ذاك المعنى الابهامي بما انها ملازمة مع خصوصية الإشارة
في أسماء الإشارة وخصوصية الغيبة والخطاب في الضمائر وخصوصية المعهودية في
الموصولات لا مقيدة بالخصوصيات المزبورة ولا مطلقة أيضا، كان امر عمومية الموضوع
له فيها أوضح، حيث أمكن تصوير عمومية الموضوع له فيها بالوضع العام المشهوري بلا
60

احتياج إلى ما تصورناه من القسم الآخر لعام الوضع والموضوع له. فيقال حينئذ بان
الموضوع له في كل من أسماء الإشارة والضمائر والموصولات عبارة عن الذات المبهمة التي
هي معنى كلي، لكنها بما هي ملازمة مع خصوصية الإشارة والغيبة والخطاب و
المعهودية، وعليه أيضا لا يكون دلالة تلك الأسامي على الإشارة والغيبة والخطاب الا
بالملازمة، كما هو كذلك أيضا في لام الامر في قولك ليضرب فان دلالته على الطلب انما كان
بالملازمة لا بالمطابقة لأنه لا يدل الا على وقوع المبدأ وصدوره من الفاعل متعلقا للطلب
فبهذه الجهة دل على الطلب أيضا. وسيأتي لذلك مزيد بيان أيضا إن شاء الله تعالى في
مبحث الأوامر.
الامر الثالث
لا يخفى عليك ان حقيقة الاستعمال سواء في المعنى الحقيقي أو فيما يناسبه من المعنى
المجازى حسب ما يدركه الطبع والذوق من المناسبات انما يتحقق بجعل اللفظ في مقام
الاستعمال فانيا في المعنى فناء المرآة في المرئي بحيث بالقائه كان المعنى هو الملقى إلى
المخاطب ويكون اللفظ مما به ينظر إلى الغير لا مما فيه ينظر، وعليه يستحيل اطلاق اللفظ
وإرادة شخصه منه بنحو كان اللفظ حاكيا عن شخص نفسه كحكايته عن معناه عند
استعماله فيه، ضرورة استلزامه حينئذ لاجتماع النظرين فيه: أحدهما النظر العبوري
الآلي والآخر النظر الاستقلالي، حيث إنه باعتبار كونه حاكيا يكون منظورا فيه بالنظر
الآلي وباعتبار كون شخصه أيضا محكيا يكون منظورا بالنظر الاستقلالي وهو كما ترى
كونه من المستحيل. وعليه فلا يحتاج في ابطاله إلى ما عن الفصول (قدس سره) من لزوم
تركب القضية من جزئين بل من جزء واحد بملاحظة امتناع تحقق النسبة بدون
المنتسبين. وما يرى من قوله زيد لفظ فهو غير مربوط بباب الاستعمال بل هو من قبيل
القاء الموضوع والحكم عليه كما في اعطائك زيدا درهما وقولك انه درهم فيكون لفظ زيد
حينئذ هو الموضوع الملقى إلى المخاطب فحكمت عليه بأنه لفظ وحينئذ فلا يرتبط ذلك
بالاستعمال الذي حقيقة عبارة عن جعل اللفظ فانيا في المعنى كما هو واضح.
ومن ذلك البيان ظهر حال ما إذا أطلق لفظ وأريد صنفه أو نوعه كقوله: ضرب
61

فعل ماض، مريدا به نوعه، أو زيد في ضرب زيد فاعل، مريدا به صنفه، فإنه لو كان ذلك
من باب جعل شخص اللفظ الملقى خارجا امارة لنوعه أو صنفه لامن باب الاستعمال
الذي مرجعه إلى جعل شخص اللفظ مرآة وفانيا فيما يستعمل فيه فلا مانع عن صحته،
ضرورة امكان جعل الشخص والجزئي الخارجي امارة لنوعه لكي ينتقل المخاطب من
الشخص إلى نوعه وصنفه ثم الحكم على النوع من ذلك المرئي والموجود الخارجي الجزئي
من دون ان يترتب عليه محذور أصلا. بل ولئن تأملت ترى صحة الاطلاق على النحو
المزبور بنحو يعم الحكم شخص اللفظ المذكور أيضا، فإنه بعد ما لم يكن ذلك من باب
الاستعمال بل من باب القاء الفرد وجعله امارة لنوعه فأمكن الحكم عليه أيضا بما انه
فرد ومصداق للكلي، كما هو واضح.
واما لو كان الاطلاق المزبور من باب الاستعمال الذي مرجعه إلى جعل اللفظ فانيا
في المعنى ففيه اشكال ينشأ من امتناع كون الفرد والجزئي مرآة للطبيعي والكلي من جهة
ان الفرد والكلي وان كانا متحدين وجودا خارجا ولكنهما متغايران مفهوما وذهنا، و
مع تغايرهما وتباينها لا يمكن حكاية الفرد بما انه فرد وجزئي عن الطبيعي والكلي،
كيف ولازمه هو امكان القسم الرابع من الأقسام الأربعة المتصورة في الوضع وهو
الوضع الخاص والموضوع له العام لا امتناعه كما التزموا به، فان عمدة ما أوجب مصيرهم
إلى امتناعه انما هو هذه الجهة من عدم امكان حكاية الفرد والجزئي بما هو فرد عن الكلي و
الطبيعي كي يصح جعله آلة لملاحظة المعنى العام الكلي. وحينئذ فإذا امتنع ذلك هناك
يلزمه القول في المقام بامتناع اطلاق اللفظ وإرادة جنسه أو نوعه أو صنفه أيضا إذا كان
من باب استعمال. هذا إذا لم يرد من الطبيعي والنوع ما يشمل شخص اللفظ
المذكور، وأما إذا أريد به ما يعم هذا الفرد أيضا فامر الاستحالة أوضح، لأنه مضافا إلى
ما ذكر يترتب عليه محذور اجتماع اللحاظين في شخص اللفظ المذكور: اللحاظ الآلي، و
اللحاظ الاستقلالي، وهو كما عرفت من المستحيل.
لا يقال: كيف ذلك مع أنه في الحقيقة من افراد الطبيعة المطلقة.
فإنه يقال: نعم ولكن النظر إلى شخص اللفظ في مقام الاستعمال بعد كونه آليا
يلزمه لا محالة تضيق في دائرة المحكى والملحوظ بنحو يخرج عنه شخص هذا اللفظ، إذ
المحكى والملحوظ حينئذ لا يكون في لحاظه الا الطبيعة الغير القابلة للانطباق
62

على شخص هذا الفرد الحاكي.
فتلخص انه لا فرق بين اطلاق اللفظ وإرادة شخصه وبين اطلاقه وإرادة نوعه أو
صنفه فإذا كان الاطلاق المزبور من باب الاستعمال فكما لا يجوز ذلك في الصورة الأولى
لا يجوز في الصورة الثانية أيضا. وأما إذا لم يكن الاطلاق من باب الاستعمال بل من
باب القاء الفرد وجعله امارة لنوعه وصنفه فكما يجوز ذلك في الصورة الثانية كذلك يجوز في
الصورة الأولى أيضا حيث أمكن القاء شخص لفظ والحكم عليه بأنه لفظ كما هو
واضح.
الامر الرابع
هل الألفاظ موضوعه للمعاني المرادة للافظها أو انها موضوعة لذات معانيها من حيث
هي مع قطع النظر عن كونها مرادة أو غير مرادة؟ فيه وجهان بل قولان:
أولهما منسوب إلى العلمين الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي الخواجة نصير الدين
(قدهما) بان الدلالة تتبع الإرادة، ولعل وجه استفادة ذلك من كلامهما انما هو من جهة
الملازمة بين تبعية الدلالة تتبع الدلالة للإرادة وبين كون الموضوع له المعنى المقيد بكونه مرادا، بتقريب
ان طرف العلقة الخاصة بعد أن كان هو المعنى المراد فقهرا يلزمه ان يكون الدلالة الحاصلة
من العلقة المزبورة أيضا تابعة للإرادة. وهذا بخلاف ما لو كان المعنى والموضوع له ذات
المعنى مجردا عن حيثية الإرادة فإنه عليه لا يبقى مجال للتبعية المزبورة الا إذا أريد التبعية
في مقام الاثبات والكشف عن الواقع وكان المراد من الدلالة هي الدلالة التصديقية.
ولكن التحقيق هو الثاني من وضع الألفاظ لذات المعاني من حيث هل بل وامتناع
وضعهما للمعاني المرادة، وذلك لوضوح ان الإرادة سواء أريد بها اللحاظ المقوم للاستعمال،
أو إرادة تفهيم المعنى، أو إرادة الحكم في مقام الجد انما هي من الأمور المتأخرة رتبة عن
المعنى فيستحيل حينئذ اخذها قيدا في ناحية المعنى والموضوع له، فلا محيص حينئذ من
تجريد المعنى والموضوع له عن الإرادة مطلقا سواء بمعناها المقوم للاستعمال أعني اللحاظ
أو بمعنى إرادة التفهيم أو الحكم والمصير إلى أن الموضوع له في الألفاظ عبارة عن ذات
المعنى بما هي عارية عن خصوصية كونها ملحوظة باللحاظ الاستعمال أو مرادة بإرادة
63

التفهيم أو الحكم، ومعه يبطل القول بوضعها للمعنى المراد كما هو واضح.
نعم لهذا الكلام مجال فيما لو أريد وضعها للمعاني المقرونة بكونها مرادة على نحو القضية
الحينية لا التقيدية حتى يتوجه الاشكال المزبور، وذلك أيضا بالتقريب الذي ذكرناه
سابقا في شرح مرام الكفاية في وجه عدم صحة استعمال الحروف مكان الأسماء، بان
يقال في المقام أيضا بان الداعي والغرض من الوضع بعد أن كان هو تفهيم المعنى و
المقصود باللفظ وكان التفهيم أيضا ملازما مع إرادة المعنى حين القاء اللفظ فلا جرم
يقتضى هذا الضيق تضيقا في دائرة وضعه وبتبعه أيضا يتضيق موضوع وضعه بنحو يخرج
عماله من سعة الاطلاق الشامل لحال عدم الإرادة فيختص المعنى والموضوع له حينئذ
بحال إرادة المعنى أي لحاظه أو إرادة التفهيم أو الحكم وان لم يكن مقيدا بها، إذ على هذا
التقريب يسلم القول المزبور عن الاشكال المذكور حيث لا محذور يرد عليه ثبوتا.
ولكنه فرع اثبات ان الغرض من الوضع انما هو تفهيم المعنى، والا فبناء على المنع عن
ذلك كما هو الأقوى من دعوى ان الغرض من الوضع انما هو مجرد جعل العلقة بين اللفظ و
معناه بنحو ينتقل الذهن عند سماعه بانتقال تصوري إلى معناه ولو كان صدوره من خرق
الهوى أو من شئ آخر فلا يتم ذلك كما هو واضح. كيف وانه لولا ذلك لما كان وجه
لاحتياجهم في الدلالة التصديقية في استفادة إرادة المتكلم للمعنى إلى ضم مقدمات
الحكم من مثل كون المتكلم في مقام الإفادة، إذ لو كان ذلك بمقتضى الوضع يكفيه نفس
وضع الواضع كما في الحمل على المعنى الحقيقي ولا يحتاج إلى ضم مقدمة خارجية، مع أنه
خلاف ما تسالموا عليه من اشتراط كون المتكلم في مقام الإفادة في استفادة إرادة المعنى.
ثم انه مما يشهد لما ذكرنا أيضا انسباق ذات المعنى وتبادرها عند سماعنا اللفظ من
النائم والساهي أو من خرق الهوى فإنه لولا كونها أي الألفاظ موضوعة لذات المعاني لما
كان وجه لانسباقها في الذهن عند صدوره من النائم والغافل والساهي. وتوهم ان ذلك
انما كان من جهة انس الذهن لا انه من حاق اللفظ، يدفعه الألفاظ الغير المأنوسة
الاستعمال فإنه يرى فيها أيضا انسباق ذات المعنى منها في الذهن بمجرد العلم بالوضع، ولو
كان صدوره من النائم الذي هو غير مريد قطعا أو من خرق الهواء، فيكون ذلك حينئذ
أقوى شاهد لما ذكرناه من وضعها لنفس المعاني من حيث هي لا للمعاني المرادة.
واما كلام العلمين (قدس سرهما) من التبعية المزبورة فغير ظاهر في إرادة الدلالة
64

التصورية التي هي محل البحث لولا دعوى ظهوره في إرادة الدلالة التصديقية وفيها نحن
نقول أيضا بتبعية الدلالة للإرادة، ولذا لا نحكم بان الكلام ظهورا في المعنى بالظهور
التصديقي الا في مورد أحرز ولو من الخارج ان المتكلم كان في مقام بيان مرامه من لفظه و
في مقام الإفادة كما هو واضح.
الامر الخامس
لا يخفى انه لا وضع للمركبات من المواد والهيئات علاوة عن وضع المفردات ووضع
الهيئات الخاصة وضعا نوعيا للدلالة على النسب الايقاعية، ضرورة كفاية وضع المفردات
ووضع الهيئات عن وضع آخر لها بجملتها من المادة والهيئة فارتكاب وضع آخر حينئذ
للمجموع يكون لغوا ومستدركا. ومن ذلك البيان ظهر أيضا فساد ما عسى يتوهم من أن
للمركبات وضعين: وضع للمواد خاصة ووضع آخر لمجموع المادة والهيئة. وجه الفساد
هو انتفاء الحاجة حينئذ إلى الوضع للمجموع لان المحتاج إليه حينئذ بعد وضع المواد انما هو
الوضع لخصوص الهيئات لا لها وللمواد أيضا كما هو واضح.
الامر السادس
هل الألفاظ كما كان لها وضع للمعنى الحقيقي كذلك لها وضع آخر نوعي لما يناسبه
من المعنى المجازي حسب أنحاء العلائق والمناسبات، أو لا يكون لها الا وضع واحد
للمعنى الحقيقي وان صحة استعماله في المعنى المجازي لمناسبات خاصة يدركها الطبع و
الذوق في الموارد الخاصة غير مندرجة تحت ضابط كلي؟ فيه وجهان. أقويهما الثاني، فان
كل ما يتصور من المناسبات والعلاقات النوعية من نحو علاقة المجاورة وعلاقة الحال و
المحل والسببية والمسببية ونحوها يرى بالوجدان بأنه لا يدور مدارها صحة الاستعمال في
المعنى المجاري، ولذا لا يجوز استعمال الحمار في زيد بعلاقة الحال والمحل فيما لو كان زيد
دائما راكبا على الحمار، مع أنه لو كان في البين وضع نوعي باعتبار تلك المناسبات و
العلاقات النوعية يلزمه جواز الاستعمال المزبور. وحينئذ فنفس عدم صحة الاستعمال
المزبور مع وجود العلائق النوعية وصحته بدون وجود تلك العلائق كاشف قطعي عن أن
65

مناط صحة الاستعمال المجازي انما هو على مناسبات خاصة يدركها الطبع والذوق في
مواردها لا على وجود العلائق النوعية كما هو واضح.
الامر السابع في الحقيقة والمجاز
وتعرف الحقيقة بأمور:
منها: تنصيص الواضع بقوله: اني قد وضعت اللفظ الكذائي لمعنى كذائي ولا اشكال
في ثبوت الوضع ولكن الكلام في فرض ثبوت صغراه حيث لا يكاد حصول العلم
بذلك خصوصا بالنسبة إلينا.
ومنها: تنصيص أهل اللغة حيث كانوا هم المرجع في تعيين الأوضاع ويقبل قولهم فيما
قالوا اما من جهة كونهم من أهل الخبرة، أو من جهة الشهادة، أو الانسداد. ولكن
الاشكال فيه أيضا من جهة عدم ثبوته نظرا إلى عدم كونهم بصدد تعيين الأوضاع حتى
يثبت الوضع بقولهم بل وانما هم بصدد تعيين ما يستعمل فيه اللفظ ومن الواضح انه بمثل
ذلك لا يكاد يثبت الوضع نظرا إلى أعمية الاستعمال من الحقيقة، كما هو واضح.
ومنها: التبادر وهو انسباق المعنى إلى الذهن من نفس اللفظ وحاقه عند سماعه
بلا كونه لقرينة حالية أو مقالية، ولا اشكال أيضا في ثبوت الوضع بذلك حيث إنه كان
امارة على كون المعنى المنساق في الذهن من اللفظ معناه الحقيقي الموضوع له. نعم قد يورد
عليه باستلزامه محذور الدور الباطل من جهة توقف التبادر والانسباق على العلم بالوضع -
من جهة انه لولاه لا يكاد تبادر المعنى من نفس اللفظ وحاقه وتوقف العلم بالوضع و
كون المعنى المنساق هو المعنى الحقيقي على التبادر فيدور. وبعين هذا التقريب أورد هذا
الاشكال على الشكل الأول بان العلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى وتوقف
العلم بكلية الكبرى على العلم بالنتيجة. وقد أجيب عنه في المقامين بالاجمال والتفصيل
بان العلم الذي يتوقف التبادر عليه انما هو العلم الاجمالي الارتكازي، والعلم الذي
يتوقف على التبادر هو العلم التفصيلي، فان الانسان بحسب ماله من الارتكاز يتبادر
المعنى في ذهنه من اللفظ وبالتبادر يلتفت تفصيلا بان المعنى المنساق هو المعنى الحقيقي و
حينئذ فيرتفع الدور المزبور باختلاف العلمين وكون الموقوف على التبادر غير الموقوف
66

عليه التبادر. هذا إذا أريد تبادر المعنى عند شخص المستعلم الذي هو جاهل بالأوضاع، و
اما لو أريد بالتبادر تبادر المعنى عند أهل المحاورة فالامر أوضح، حيث لا يكاد مجال
لتوهم الاشكال المزبور حتى يحتاج إلى الجواب عنه بالاجمال والتفصيل إذ عليه يكون ما
يتوقف على التبادر هو علم المستعلم الجاهل بالأوضاع وما يتوقف التبادر عليه هو علم
أهل المحاورة فيكون الموقوف عليه غير الموقوف عليه.
نعم قد يورد على التبادر اشكال آخر، وحاصله ان مجرد تبادر المعنى ولو من حاق
اللفظ غير موجب لكونه كذلك في زمن صدور الاخبار عن الأئمة عليهم السلام حتى يحمل
عليه ما ورد عنهم في مقام الاستنباط فان من المحتمل حينئذ كون المعنى المتبادر من اللفظ
حين صدوره في ذلك الزمان شيئا آخر غير ما هو المتبادر عندنا الآن، ومع هذا الاحتمال لا
يكاد يجدي هذا التبادر في مقام الاستنباط أصلا الا إذا انضم إليه امر آخر وهو أصالة
عدم النقل المعبر عنها بأصالة تشابه الأزمان كي يثبت بها كون المعنى المتبادر في سابق
الزمان أيضا هو المعنى المتبادر عندنا. ولكن فيه انه وان كان الامر كذلك ولكنه نقول
بأنه لا مانع من اجراء الأصل المزبور بعد كونه من الأصول العقلائية المتداولة بينهم في
محاوراتهم كما في أصالة عدم القرينة وأصالة عدم التخصيص والتقييد، إذ لولا تلك
الأصول العقلائية لانهدم أساس الاستنباط في المسائل الشرعية، وحينئذ فبعد تبادر المعنى
من اللفظ يحمل عليه اللفظ الصادر ويحكم بمعونة الأصل المزبور بكونه كذلك في زمن
صدوره أيضا.
ومنها عدم صحة السلب المعبر عنه بصحة الحمل أيضا فإنه قيل بكونه مما يثبت به
الوضع أيضا لكونه علامة ان المعنى هو المعنى الحقيقي. وفي قباله صحة سلب المعنى بقول
مطلق فإنه أيضا من علائم المجاز، فهما علامتان حينئذ للحقيقة والمجاز. وقد أورد عليه بما
أورد على التبادر باستلزامه الدور المحال، ولكن الجواب هناك حرفا
بحرف وكلمة بكلمة.
نعم هنا اشكال آخر وحاصله هو منع كون مجرد صحة العمل من علائم الحقيقة كما
في استعمال اللفظ الموضوع للكل في الجزء والملزوم في اللازم فإنه نرى صحة الحمل في تلك
الموارد كقولك الانسان ناطق والانسان ضاحك وكاتب وهكذا مع أنه لا شبهة في كونه
مجازا حيث لا يصح استعمال اللفظ الموضوع لاحد المفهومين في المفهوم الآخر على
67

الحقيقة. بل ومن ذلك ظهر الحال في موارد الحمل الذاتي كقولك الانسان حيوان ناطق
حيث إنهما مع كونهما متحدين ذاتا ووجودا خارجا، لا يصح استعمال أحدهما في الآخر
نظرا إلى ما بين المفهومين من التغاير وكونه في أحدهما بسيطا وفى الآخر مركبا. و
بالجملة نقول بان المدار في الحقيقة وصحة الاستعمال انما هو على وحدة المفهوم منهما كما
في الانسان والبشر، وصحة الحمل ولو بالحمل الذاتي فضلا عن الشايع الصناعي الذي
مداره الاتحاد في الوجود لا تقتضي وحدة المفهوم الموجبة لصحة استعمال أحد اللفظين
في الآخر بنحو الحقيقة لأنه يكفي في صحة الحمل مجرد الاتحاد وجودا أو ذاتا وان اختلفا
في حدود المفهوم، وعليه فلا يكون مجرد عدم صحة السلب وصحة الحمل من علائم
الحقيقة بقول مطلق وكاشفا عن وحدة المفهوم كما هو واضح. نعم صحة السلب بقول
مطلق من علائم المجاز من جهة كشفه حينئذ عن اختلاف المفهومين وعدم اتحادهما كما
هو واضح. ولذلك أيضا ترى خلو كلمات السابقين عن ذلك حيث إنهم جعلوا صحة
السلب بقول مطلق من امارات المجاز وما تعرضوا لصحة الحمل وعدم صحة السلب في
جعله في عداد امارات الحقيقة.
ومنها الاطراد في استعمال بلا معونة قرينة في البين حالية أو مقالية، ولا اشكال
ظاهرا أيضا في كونه من علائم الحقيقة كما كان عدم الاطراد كذلك من علائم المجاز فإنه
بعد أن يرى اطراد استعمال لفظ في مقامات متعددة في معنى وانه في جميع تلك الموارد
ينسبق منه معنى واحد يقطع عادة بان الانسباق المعهود في تلك الموارد كان من نفس
اللفظ وحاقه لا انه كان من جهة قرينة مخفية في البين أو مناسبة طبيعية، ففي الحقيقة
يكون الاطراد من قبيل السراج على السراج حيث إنه كان طريقا إلى التبادر الحاقي
الذي هو طريق إلى الحقيقة، وعلى كل حال فلا اشكال في كونه علامة الحقيقة ومما
يثبت به الوضع ولو باعتبار كونه طريقا على الطريق، غير أن الكلام فيه في تشخيص
موارد الاستعمالات بأنها كانت من جهة القرائن الخاصة والمناسبات الطبيعية أم لا. ثم إن
اشكال الدور الوارد في التبادر غير جار في الاطراد كي يحتاج إلى الجواب عنه بما
عرفت من الاجمال والتفصيل بداهة عدم توقف الاطراد على العلم بالوضع ولو اجمالا
أصلا.
68

الامر الثامن
قد اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدم ثبوتها على أقوال: ثالثها التفصيل بين
الألفاظ المتداولة الكثيرة الدوران وبين غيرها، بالثبوت في الأول دون الثاني.
وليعلم بان مورد النزاع في هذا البحث بين الفريقين نفيا واثباتا انما هو في المهيات
المخترعة الشرعية كالصلاة والصوم والحج ونحوها، والا ففي المفردات كالركوع و
السجود والقيام والقعود ونحوها وكذا المخترعات العرفية لا مجال لجريان هذا البحث و
النزاع، إذ فيها لا يكون استعمال الشارع ألفاظها الا في معانيها العرفية أو اللغوية كما في
استعماله غيرها من الألفاظ المتداولة كالماء والتراب والحجر ونحوها، ومجرد اعتبار
الشارع فيها بعض القيود عند الامر بها والبعث نحوها بالايجاد بدال آخر عليه غير موجب
لجريان النزاع فيها أيضا، إذ عليه لا يكون استعمال الشارع تلك الألفاظ الا في نفس
معانيها العرفية أو اللغوية غايته انه في مقام المطلوبية أفاد بعض القيود والخصوصيات فيها
بدال اخر. ومن ذلك البيان ظهر خروج المعاملات طرا كالبيع والصلح والإجارة و
نحوها عن حريم هذا النزاع حيث كان حقايقها عرفية أمضاها الشارع، غايته انه
اعتبر فيها بعض القيود الوجودية أو العدمية بدال آخر ككونه مقترنا بأمر كذا وفي حال
عدم كذا. وعليه فلا ينبغي عد ذلك تفصيلا في المسألة كما يظهر عن بعض حيث فصل
بين العبادات والمعاملات إذ التفصيل المزبور فرع عموم النزاع وجريانه حتى في
المخترعات العرفية كما هو واضح.
بل ومن هذا البيان ابتناء هذا النزاع وجريانه في العبادات أيضا على أن يكون
حقائقها مستحدثة في شرعنا، والا فبناء على ثبوتها في الشرايع السابقة وكون الاختلاف
فيها بين الشريعتين في خصوصيات الافراد نظير اختلافها بحسب حالات المكلفين كما
ينبئ عنه غير واحد من الآيات من مثله قوله عز من قائل: أوصاني بالصلاة والزكاة
ما دمت حيا (1) وقوله سبحانه لإبراهيم عليه السلام واذن في الناس بالحج (2) وقوله

(1) سورة مريم، الآية 31.
(2) سورة الحج، الآية 27.
69

سبحانه: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم (1) تخرج أيضا عن
حريم النزاع إذ عليه يكون ألفاظها حقايق لغوية قد استعملها الشارع في معانيها المعهودة
الثابتة في اللغة، غاية ما هناك انه صلى الله عليه وآله بعض الشرائط والموانع فيها
بدوال أخر.
واما ما قيل من أن مجرد ثبوت هذه المعاني قبل شرعنا ومعهوديتها عند العرف لا
يقتضى معهوديتها عندهم بتلك الألفاظ الخاصة المستعملة فيها في شرعنا فيمكن حينئذ
كونها حقيقة شرعية بوضع الشارع تلك الألفاظ الخاصة لتلك المعاني والمهيات المخصوصة
وضعا تعيينيا أو تعينيا فان العبرة والمدار في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدم ثبوتها انما هو
على صيرورة تلك الألفاظ حقيقة في تلك المعاني والمهيات بوضعه صلى الله عليه وآله،
كانت تلك المعاني ثابتة قبل شرعنا ومعهودة عند العرف أو كانت حادثة في شرعنا، و
عليه فلا يوجب مجرد ثبوت تلك المعاني في الشرايع السابقة كون ألفاظها حقائق لغوية
كي تخرج عن حريم النزاع ما لم يثبت ان تلك الألفاظ المستعملة فيها في لسان الشارع
بعينها هي الألفاظ المستعملة فيها في عرف اللغة في سابق الزمان واما دعوى ان تلك
الألفاظ بعينها هي الألفاظ المستعملة فيها في سابق الزمان فخال عن البرهان، حيث لا
برهان يساعده ولا شاهد له غير ما يرى في الكتاب العزيز من اطلاق تلك الألفاظ فيه
على تلك المعاني، وهو كما ترى مما لا شهادة فيه على ذلك، لان غاية ما يوجبه انما هي
الدلالة على وجود سنخ تلك المهيات والمعاني في الشرايع السابقة واما انها مما يعبر عنها
أيضا بتلك الألفاظ في ذلك الزمان فلا كما لا يخفى. فمدفوع بأنه يكفي في الشهادة على
ذلك ما في قوله سبحانه (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) فإنه لولا
معهودية حقيقة الصوم بمثل هذا اللفظ عند العرف لكان اللازم حينئذ إقامة البيان على
ما هو المراد من الصوم إذ حينئذ كان المجال لسؤالهم من النبي صلى الله عليه وآله بأنه أي
شئ كان واجبا على الأمم السابقة فصار واجبا علينا، وحينئذ فنفس هذا الاطلاق بضم
عدم التعرض لتفسيره بالامساك المخصوص أقوى شاهد على معهودية الصوم الذي كان
واجبا على الأمم السابقة بهذا اللفظ عند عرف اللغة. وعليه يتوجه الاشكال المزبور بأنه

(1) سورة البقرة، الآية 183.
70

بعد ثبوت تلك المعاني في الشرايع السابقة يكون ألفاظها أيضا حقايق لغوية فيخرج عن
حريم النزاع.
نعم لو اغمض عن هذه الجهة وقلنا بكون هذه المهيات مستحدثة في شرعنا أو كونها
ثابتة في الشرايع السابقة ولكنها بغير تلك الألفاظ المستعملة فيها في لسان الشارع، لما كان
مجال حينئذ لانكار الحقيقة الشرعية، تارة بدعوى ان استعمال الشارع تلك الألفاظ فيها
كان من باب المجاز ومعونة القرائن، وأخرى كما عن الباقلاني - بدعوى ان استعمال
الشارع تلك الألفاظ دائما كان في معناها اللغوي لا غير ولكنه أفاد بعض الخصوصيات
من الشرائط والموانع بدوال خارجية، فكان لفظ الصلاة مثلا في جميع الموارد في كلامه
صلى الله عليه وآله مستعملة في الدعاء وأفاد الخصوصيات من الترتيب والموالاة ونحوها
من الشرائط والاجزاء والموانع بدوال أخر خارجية، وثالثة بغير ذلك. إذ ذلك كله
ينافيه ما عليه ديدن العقلاء في اخترائهم الماهيات، فان كل مخترع لماهية من الصدر الأول
إلى الآن بنائه وديدنه على وضع لفظ مخصوص أيضا بإزاء ما اخترعه من الماهية لا انه
يستعمل فيه اللفظ مجازا بلا وضع اسم خاص لما اخترعه، ومن المعلوم أيضا ان الشارع في
مقام شارعيته واختراعه لتلك الماهيات أو امضائه لها بين رعيته ما جاوز هذه الطريقة
المألوفة، حيث إنه من المستبعد جدا ان يكون له في ذلك طريقة خاصة غير ما جرى عليه
ديدن العقلاء، وإلا يلزم عليه البيان بكونه غير سالك لما هو طريقة العقلاء لكي لا يحملوا
اللفظ الصادر منه عند خلوه عن القرينة على المعنى الشرعي مع أنه صلى الله عليه وآله لم
يقم بيانا على ذلك فكان نفس عدم بيانه لذلك كاشف كون جريه على طبق ديدن
العقلاء فيثبت بذلك الوضع والحقيقة الشرعية.
واما الاشكال عليه بان صيرورة اللفظ حقيقة في معنى لسانه صلى الله عليه وآله
لابد وأن يكون بأحد الامرين، اما وضعه صلى الله عليه وآله ابتداء أو كثرة استعماله،
وهما ممنوعان، اما الأول فلبعده غايته لأنه لو كان لو صل إلينا مع أنه لم ينقل أحد من
المؤرخين انه صلى الله عليه وآله قام يوم كذا في مجلس كذا وقال اني وضعت لفظ
الصلاة للأركان المخصوصة، خصوصا مع وفور الدواعي على نقل ما يصدر منه صلى الله
عليه وآله واما الثاني فمن جهة احتياجه إلى مضى زمان طويل بنحو يصير اللفظ إلى حد
الحقيقة، فمندفع بأنه كذلك مع انحصار الوضع بما ذكر وليس كذلك، بل له طريق ثالث،
71

وهو ان يتحقق بنفس الاستعمال الذي هو من قبيل الانشاء الفعلي نظير المعاطاة في
المعاملات كما في قولك في مقام تسميتك ولدك جئني بولدي محمد، قاصدا تحقق العلقة
الوضعية بنفس هذا الاستعمال، بل ومن ذلك أيضا ما للمصنفين في كتبهم من
الاصطلاحات الخاصة، كالحاكم والمحكوم والوارد والمورود ونحو ذلك. نعم لابد في
ذلك من إقامة قرينة على وضعه كي لا يحتاج بعد ذلك إلى إقامة قرينة على المراد كما في
المجاز. وعدم كون مثل هذا الاستعمال حقيقة ولا مجازا غير ضمائر بالمقصود بعد عدم كونه
أيضا من المستنكرات. وحينئذ لو ادعى القائل بالثبوت مثل هذا المعنى كان دعواه في
محله حيث لا يرد عليه محذور، كما هو واضح.
ثم إن الثمرة بين القولين انما هي في الألفاظ المستعملة في لسانه صلى الله عليه وآله
من دون تعويل على القرينة، فإنه بناء على الثبوت يحمل على المعنى الشرعي وبناء على
عدم الثبوت يحمل على المعنى اللغوي، فتدبر.
الامر التاسع
قد وقع التشاجر والخلاف بين الاعلام في أن الألفاظ أسام للمعاني الصحيحة أو
لأعم منها والفاسدة، ولتنقيح المرام نقدم أمورا فنقول:
الامر الأول: ان مورد الخلاف كما عرفت في عنوان البحث انما هو الوضع لخصوص
الصحيح أو لأعم منه والفاسد واما احتمال وضعها لخصوص الفاسدة قبالا للقولين
الأولين فلم يعهد من كلماتهم بل لم يتوهمه أحد منهم. كما أن الظاهر هو اختصاص هذا
النزاع بخصوص الألفاظ المستعملة في المعاني المخترعة الشرعية كألفاظ العبادات ونحوها
لا مطلقا حتى الألفاظ الموضوعة للمعاني المفردة كالركوع والسجود ونحوهما مما اخذ
موضوعا للتكليف في لسان الشرع ولو مقيدا بأمور وجودية أم عدمية، لان مثل هذه مما لا
يتصور فيها اتصافها بالصحة تارة وبالفساد أخرى، حيث كان أمرها دائما دائرا بين
الوجود والعدم. نعم قد يتصور جريانه بالنسبة إلى المركبات الخارجية أيضا مما كان لها
القابلية للاتصاف بأحد الامرين تارة وبالآخر أخرى، ولكن مورد كلامهم انما كان في
المخترعات الشرعية من نحو الصلاة والحج ونحوهما.
72

الثاني من الأمور: ان مثل هذا النزاع غير مبتن على القول بثبوت الحقيقة الشرعية كما
توهمه بعض، بل يجري النزاع ولو على القول بعدم الثبوت حيث كان مرجع النزاع على
هذا القول إلى أن العلاقة النوعية التي اعتبرها الشارع ابتداء في استعمال تلك الألفاظ
مجازا هل هي بين المعنى اللغوي وخصوص الصحيح منها بحيث يحتاج استعمالها في الأعم
إلى رعاية علاقة أخرى بينه وبين الأعم، أو بين الأعم والصحيح من باب سبك المجاز عن
مجاز، أو ان تلك العلاقة النوعية ابتداء كانت بين المعنى اللغوي وبين الأعم من الصحيح
من تلك الماهيات؟ كما أنه يجرى النزاع أيضا على قول الباقلاني من استعمال الشارع تلك
الألفاظ في خصوص معانيها اللغوية مع ضم قرينة عامة على اعتبار بعض القيود، إذ
مرجع النزاع على هذا القول أيضا إلى أن تلك القرينة العامة هل بنحو تدل على اعتبار جميع
الاجزاء والشرائط والموانع أو بنحو تدل على اعتبارها في الجملة؟ نعم لو كان اعتبار
الاجزاء والشرائط على هذا القول بمعونة القرائن الشخصية الدالة كل واحدة منها على
اعتبار جزء أو شرط أو مانع لاشكل جريان النزاع على هذا القول، ولكن الفرض بعيد
جدا فإنه مضافا إلى ضعف هذا المسلك في نفسه ولذا لم يذهب إليه الا الباقلاني لا يظن
التزامه بالقرائن الشخصية لكل واحد من الاجزاء والشرائط والموانع، وعليه فكان
المجال لجريان هذا النزاع على كلا القولين في المسألة السابقة.
الثالث من الأمور: لا يخفى ان الصحة في المقام وكذا في غير المقام انما هي بمعناها
اللغوي والعرفي أي التمامية بالإضافة إلى الأثر المهم، وفي قبالها الفساد بمعنى النقصان
الذي هو عبارة عن كون الشئ بحيث لم يترتب عليه الأثر المرغوب منه. وحينئذ فكانت
الصحة في جميع الموارد بمعنى واحد وهو التمامية بلا اختلاف في معناها وحقيقتها أصلا. و
اما ما يرى من الاختلاف بين الفقيه والمتكلم في تفسيرها تارة باسقاط الإعادة و
القضاء كما عن الفقيه، وأخرى بموافقة الامر والشريعة كما عن المتكلم، وثالثة بغير
ذلك فإنما هو بلحاظ ما هو المهم عند كل طائفة من الآثار والاغراض، لا ان الاختلاف
بينهم كان في أصل مفهوم الصحة وحقيقتها، فغرض الفقيه لما تعلق باثر خاص منها وهو
المسقطية للإعادة والقضاء فسرها بما يوافق غرضه، كما أن غرض المتكلم تعلق باثر
خاص آخر منها وهو تحقق الامتثال الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة عليه ففسرها بما
وافق غرضه من موافقة الامر والشريعة، مع وفاقهم على وحدة معناها، فكان كل منهم
73

مشيرا إلى تلك الحقيقة بتوسيط ما هو المهم في نظره في إضافة تمامية الشئ بالقياس إليه
بلا اختلاف بينهم في أصل مفهوم الصحة وحقيقتها. ولئن شئت قلت بان اختلاف
الفقيه والمتكلم انما هو فيما هو مصداق الصحة الذي يختلف باختلاف الأنظار لا في
مفهومها، والا فالصحة حقيقتها من الأمور الاعتبارية الطارية على الشئ بلحاظ ما
يترتب على الشئ من الآثار من دون اختلاف في حقيقتها أصلا.
ومن ذلك نقول أيضا بان الصحة والفساد أمران إضافيان يختلفان بحسب الأنظار و
الآثار، فربما يكون الشئ صحيحا بنظر بلحاظ ترتب الأثر المقصود عليه في هذا النظر،
وفاسدا بنظر آخر لعدم ترتب الأثر المرغوب منه عليه في هذا النظر، كما في الاتيان
بالمأمور به الظاهري على القول بالاجزاء عند كشف الخلاف فإنه يكون صحيحا بنظر
الفقيه وفاسدا بنظر المتكلم كما هو واضح.
ومن ذلك البيان انقدح أيضا جهة أخرى وهي عدم امكان اخذ عنوان الصحة
مفهوما أو مصداقا قيدا في ناحية المعنى والموضوع له، لان هذه الحيثية حينئذ انما هي
كعنوان الموضوعية والكلية والجزئية من العناوين المنتزعة عن رتبة متأخرة عن الشئ
فإنها بعد كونها بمعنى تمامية الشئ التي هي عبارة أخرى عن مؤثريته ووفائه بالغرض فلا
جرم كان انتزاع عنوانها عن رتبة متأخرة عن ترتب الأثر عليه، نظير العلية والموضوعية،
لان الشئ باعتبار انه واف بالغرض ويترتب عليه الأثر ينتزع عنه الصحة ويتصف
بكونه صحيحا، ومعه يستحيل اخذ مثل ذلك مفهوما أو مصداقا في ناحية ذات المعنى و
الموضوع له الذي هو الموضوع للآثار، من دون فرق في ذلك بين الصحة الفعلية أو الشأنية
ففي الثاني أيضا تكون الصحة مفهوما ومصداقا من العناوين الطارية على الشئ المنتزعة
عن رتبة متأخرة عن قابلية الشئ بنحو يترتب عليه الأثر المهم، وهذا واضح بعد وضوح
كون القابلية المزبورة من العوارض الطارية على الذات الزائدة عليها.
نعم الذي يمكن اخذه فيه انما هو المعنى الملازم للصحة لا المقيد بها. وعليه فتحريرهم
النزاع بالوضع لخصوص المعنى الصحيح أو الأعم لابد وأن يكون بضرب من العناية و
المسامحة والا فقد عرفت كونه من المستحيل. وحينئذ فكان الأولى في مقام تحرير النزاع
هو تحريره بان اللفظ هل هو موضوع للمعنى الملازم للصحة خارجا أو المعنى الغير الملازم لها
فتدبر.
74

وعلى كل حال فالظاهر أن المراد من الصحة في المقام عند القائل بالصحيح هو
الصحة الاقتضائية على معنى كون الشئ تاما في مرحلة اقتضائه في المؤثرية ويقابلها
الفساد بمعنى عدم تماميته في مرحلة الاقتضاء في التأثير، لا ان المراد هو الصحة الفعلية
الملازمة للمؤثرية الفعلية، كيف وان مثل هذا المعنى في العبادات منوط بقصد القربة
المعلوم بالبداهة خروجه عن المسمى جزما نظرا إلى استحالة اخذه فيه كما هو واضح، و
معه لا محيص وأن يكون مورد البحث والكلام من الصحة والتمامية هو الصحة
الاقتضائية لا الفعلية.
نعم يبقى الكلام حينئذ بالنسبة إلى غير قصد القربة من الشرائط الاخر كالطهور و
القبلة والتستر ونحوها في عموم النزاع وجريانه بالنسبة إليها أيضا أو اختصاصه
بخصوص الاجزاء؟ فنقول: الذي يظهر من المشهور من القائلين بالصحيح من مثل
استدلالهم بمثل قوله: لا صلاة الا بطهور ولا صلاة الا إلى القبلة، هو الأول من تعميم
النزاع بالنسبة إلى الشرائط أيضا فان استدلالهم بما ذكر لنفى الحقيقة بدون الطهور والقبلة
ظاهر بل صريح في إرادة الصحة والتمامية حتى بحسب الشرائط أيضا. وعليه فلا يبقى
مجال لتخصيص هذا النزاع بخصوص الاجزاء وجعل المراد من الصحة والتمامية هو
التمامية بحسب الاجزاء دون الشرائط كما لا يخفى.
نعم قد يشكل عليه بان ذلك كذلك فيما لو كانت الشرائط راجعة إلى مقام الدخل في
ناحية المؤثر والمقتضى ولو بنحو دخول التقيد وخروج القيد الراجع إلى كون حقيقة
الصلاة مثلا عبارة عن الاجزاء الخاصة من الركوع والسجود ونحوهما مع تقيدات خاصة
بالطهارة والقبلة والستر، والا فبناء على رجوعها إلى مقام الدخل في قابلية المحل للتأثر و
الانوجاد نظير الشرائط في العلل التكوينية الخارجية كما في مثل يبوسة المحل والمحاذاة
الخاصة في الاحراق، فلا جرم يلزمه خروج الشرائط طرا عن مركز هذا النزاع، من جهة
ان ما فيه اقتضاء الصحة حينئذ ليس الا نفس الاجزاء وانما كان دخل الشرائط في مقام
اتصافها بالصحة والمؤثرية الفعلية، كما هو الشأن في العلل التكوينية الخارجية أيضا
كالنار مثلا فان ما ينشأ منه الاحراق الا النار بلا مدخل لحيث يبوسة المحل و
المحاذاة الخاصة الا في مرحلة اتصافها بالمؤثرية الفعلية. وعليه فبعد ان لم يكن المراد من
الصحة هو الصحة الفعلية بشهادة خروج مثل قصد القربة، بل كان المراد منها هو الصحة
75

الاقتضائية على معنى كون الشئ تاما في عالم اقتضائه في التأثير، فلا جرم يلزمه تخصيص
النزاع بخصوص الاجزاء في التمامية والنقصان مع الالتزام بخروج الشرائط عن مقام
الدخل في المسمى والتسمية لا تعميمه حتى بالنسبة إلى الشرائط، الا على فرض إرادة
القائل بالصحيح الوضع للصحيح الفعلي، وعليه أيضا يتوجه اشكال قصد القربة كما هو
واضح.
وعليه فلابد من تنقيح ان الشرائط هل هي راجعة إلى مقام الدخل في ناحية
المقتضى ولو بنحو دخول التقيد، أو هي راجعة إلى مرحلة الدخل في قابلية المحل و
المقتضى بالفتح للتأثر والانوجاد من قبل المقتضي بالكسر وما ينشأ منه الوجود، كي
يلزمه انحصار ما فيه اقتضاء الصحة في المقام بخصوص الاجزاء؟ وفي مثله ربما كان
المتعين هو الثاني، نظرا إلى ما تقتضيه النصوص من استناد المقربية والنهى عن الفحشاء
إلى عنوان الصلاة بضميمة معلومية كون الصلاة من العناوين القصدية التي قوام تحققها
بالقصد إلى عنوانها عند الاتيان بها، بشهادة عدم صدق الزيادة الحقيقية عند الاتيان
بشئ من اجزائها قرائة أو ركوعا أو غير هما لا بقصد الصلوتية، حيث إنه بعد عدم قصدية
التقيدات الخاصة بالطهارة والستر والقبلة وتوصليتها، بشهادة اجماعهم على صحة صلاة
من صلى مع الغفلة عن الشروط مع اتفاق وجدان صلوته لجميع ما اعتبر فيها من الطهارة
والستر والقبلة ونحوها واقعا، يستفاد من المقدمتين المزبورتين ان الصلاة التي هي المؤثرة
في النهى عن الفحشاء والمقربية عبارة عن خصوص الاجزاء وان الشرائط خارجة عن
المسمى وعن مقام الدخل في المقتضي، لأنه لولا خروجها عنه يلزمه تركيب الصلاة من
الأمور القصدية وغيرها. وهو كما ترى مما لا يمكن الالتزام به، لمنافاته لما بنوا عليه وما
هو المرتكز من قصدية عنوان الصلاة كما هو واضح فتأمل. وعليه فلا يبقى مجال للقائل
بالصحيح لا دخال الشرائط في المسمى بدعواه الوضع للصحيح حتى من جهة الشرائط
بعد فرض عدم التزامه بالصحيح الفعلي، هذا.
اللهم الا ان يقال حينئذ بان الشرائط بمقتضى البيان المزبور وان كانت خارجة عن
المسمى وعن مقام الدخل في الاقتضاء بل كان المسمى وما فيه الاقتضاء للتأثير هو
خصوص الاجزاء، دونها مع التقيدات الخاصة، ولكنه مع ذلك أمكن دعوى دخلها في
مقام التسمية، حيث يمكن ان يقال بكونها بمقتضى قوله: لا صلاة الا بطهور، والا إلى
76

القبلة، مما لها الدخل في أصل اتصاف الاجزاء بالصلوتية بحيث لو لاها لما كاد اتصافها
بكونها صلاة أصلا، وعليه فللقائل بالصحيح كمال المجال لدعوى الوضع للصحيح حتى
من جهة الشرائط مع التزامه أيضا بالصحيح الاقتضائي دون الفعلي والتزامه أيضا بان ما
هو المقتضي للصحة وللنهي عن الفحشاء هو خصوص الاجزاء وانها هي المسماة
بالصلاة دون غيرها كما لا يخفى.
بقى شئ وان لم يكن له مساس بما نحن بصدده وهو ان الصحة والفساد في
المقام بل وكذا في غير المقام، هل هي مجعولة أو انتزاعية صرفة من التكليف، أو انها من
الأمور الواقعية؟ حيث إن فيها وجوها، ولكن التحقيق فيها هو التفصيل بين كونها بمعنى
سقوط الإعادة والقضاء كما عند الفقيه فجعلية كما في موارد القصر والاتمام والجهر و
الاخفات حيث كان سقوط الإعادة والقضاء بجعل من الشارع وحكم منه بالسقوط،
وبين كونها بمعنى موافقة الامر كما عند المتكلم فانتزاعية صرفة من التكليف والامر، و
بين كونها بمعنى المؤثرية في الملاك والمصلحة فامر واقعي لا جعلي ولا انتزاعي من
التكليف والامر فتدبر.
الرابع من الأمور: لا يخفى ان هذا النزاع انما يختص جريانه بالمعاني القابلة
للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى، واما ما لا يكون كذلك مما يدور امره دائما
بين الوجود والعدم وكان وجوده مساوقا لصحته فلا يجري فيه هذا النزاع. وعلى هذا
فيختص هذا النزاع بعناوين العبادات كالصلاة والصوم والحج ونحوها ولا يجرى في
عناوين المعاملات كالبيع والصلح والنكاح ونحوها لان تلك العناوين مما يدور أمرها
دائما بين الوجود والعدم، حيث كان صحتها وترتب الأثر عليها مساوق وجودها وتحققها
كما أن عدم ترتب الأثر عليها مساوق عدم وجودها فلا يتصور لها وجود حينئذ يترتب عليها
الأثر تارة ولا يترتب عليها أخرى. وهذا بخلافه في العبادات فإنها باعتبار تركبها كانت
قابلة للاتصاف بالصفين المزبورين بحيث يترتب عليها الأثر تارة ولا يترتب عليها أخرى
ولذلك كان لجريان النزاع فيها كمال مجال. نعم لو قلنا في المعاملات بان تلك العناوين
من البيع والصلح والإجارة ونحوها أسام للأسباب وهي العقود دون المسببات يدخل
المعاملات أيضا في عموم النزاع، حيث إنها باعتبار تركبها حينئذ من اجزاء كالايجاب و
القبول واشتمالها على شرائط خاصة من نحو صدورها عن البالغ العاقل وممن له الأهلية
77

كانت قابلة للصحة تارة والفساد أخرى، فبذلك يجرى فيها النزاع أيضا.
اشكال ودفع: قد يتوهم منافاة ما ذكرنا من خروج عناوين المسببات في
المعاملات عن حريم هذا النزاع من جهة دوران أمرها بين الوجود والعدم وعدم قابليتها
للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى، مع ما بنوا عليه من جريان أصالة الصحة فيها
عند الشك في صحتها وفسادها من جهة الشك في بعض ما اعتبر فيها، حيث كان قضية
بنائهم على جريان أصالة الصحة فيها هي قابليتها للوصفين المزبورين فيلزمه حينئذ دخولها
في حريم هذا النزاع. ولكنه مدفوع بمنع التنافي لان ما يرى من بنائهم على جريان أصالة
الصحة في البيع الصادر مثلا عند الشك في صحته وفساده فإنما هو باعتبار اجرائهم
القائدة المزبورة في سببه الذي هو العقد الصادر، باعتبار كون ترتب المسبب شرعا من
لوازم صحة العقد وتماميته في عالم مؤثريته لا ان ذلك من جهة اجرائهم القاعدة في نفس
المسبب حتى يرد الاشكال التنافي وهذا واضح.
وهم ودفع آخر: اما الوهم فهو انه قد يشكل في العبادات أيضا بلزوم خروجها عن
محل النزاع، نظرا إلى دعوى بساطتها وان الصلاة مثلا عبارة عن العطف الخاص الذي هو
امر بسيط غاية البساطة وكان الافعال والأذكار الخاصة من قبيل المحققات لذلك
العطف الخاص، نظيره الطهارة بالقياس إلى الغسلات والمسحات فيلزمها خروجها أيضا
على هذا المبنى عن حريم النزاع لعين ما ذكر من المناط في عناوين المسببات في المعاملات
من العقود والايقاعات، بل ولازمها حينئذ هو تعين المصير فيها إلى الاشتغال عند الشك
في جزئية شئ أو شرطيته أو ما نعيته دون البراءة، نظرا إلى كون مرجع الشك حينئذ إلى
الشك في مرحلة الفراغ والخروج عن عهدة ما ثبت الاشتغال به يقينا وهو الامر البسيط
لا إلى الشك في أصل الاشتغال بالتكليف، كما هو واضح.
وتوضيح الدفع هو انه انما يتوجه هذا الاشكال بناء على كون الامر البسيط أمرا آنيا
غير متدرج الحصول من قبل الاجزاء والشرائط المعهودة وهو في محل المنع جدا، من جهة
منافاته لما نطق به الأخبار الواردة في شرح الصلاة من نحو قوله عليه السلام تحريمها التكبير
وتحليلها التسليم، وما دل على قاطعية بعض الأمور لها كالحدث والاستدبار ونحوهما، بل
الذي يمكن القول به على فرض البساطة هو كونها أمرا ممتدا ذا مراتب من أول التكبيرة
إلى آخر التسليم بنحو يكون كل جزء مؤثرا في تحقق مرتبة منها، وعليه فلا يقتضي مجرد
78

بساطتها خروجها عن محل النزاع بل لجريان النزاع المزبور فيها حينئذ كمال مجال، إذ
كان مرجع النزاع المزبور إلى أن الصلاة هل هي اسم لتلك المرتبة الخاصة الناشئة من قبل
مجموع الاجزاء والشرايط والممتدة من أول التكبيرة إلى اخر التسليم التي هي منشأ
للآثار أو انها اسم للأعم منها ومن غيرها من المراتب الاخر الناشئة من قبل بعض
الاجزاء والشرائط؟
ومن ذلك البيان ظهر الجواب عن شبهة مرجعية الاشتغال أيضا عند الشك في جزئية
شئ أو شرطيته للواجب، إذ نقول بأنه بعد فرض كون الامر البسيط أمرا ممتدا
ذا مراتب فلا جرم مرجع الشك في دخل المشكوك إلى الشك في تعلق التكليف بأزيد من تلك
المرتبة المعلومة، وفي مثله كان لجريان البراءة فيها كمال مجال بناء على جريانها في كلية
الأقل والأكثر الارتباطيين.
ثم إن هذا كله في فرض تسليم البساطة بالمعنى المزبور والا فبناء على المنع عن ذلك
أيضا والقول بالبساطة فيها بمعنى آخر بجعل الصلاة عبارة عن امر معنوي منطبق خارجا
على الافعال والأذكار المعهودة فلا موقع لهذا الاشكال، فضلا عما لو قلنا بأنها عبارة
عن نفس الافعال والأذكار المعهودة المتقيدة بقصد الصلوتية على نحو خروج القيد و
دخول التقيد كما هو الظاهر المنساق من النصوص الواردة في شرح حقيقة الصلاة، إذ
عليها كان امر جريان النزاع المزبور فيها بل والنزاع الآخر أيضا من جهة مرجعية البراءة
أو الاشتغال أوضح كما هو واضح.
الخامس من الأمور: وهو العمدة في الباب، انه على كلا القولين في المسألة لابد من
تصور جامع في البين يكون هو المسمى بالصلاة مثلا، حيث لا اختصاص لذلك على القول
بالأعم، بل على القول بالصحيح أيضا لابد من وجود الجامع أيضا عنده بين الافراد
الصحيحة، نظرا إلى ما يرى من الاختلاف الفاحش بين افراد الصحيح حسب اختلاف
الموارد والاشخاص بحسب حالاتهم، كما في صلاة العالم القادر المختار وصلاة العاجز غير
القادر على اختلاف مراتب العجز المتصور فيه البالغ إلى صلاة الغريق المشرف على الهلاك،
بل وكذلك بالنسبة إلى افراد صلاة العالم القادر المختار حيث إن فيها أيضا اختلافا عظيما
من حيث الكمية والكيفية كصلاة القصر والاتمام وصلاة الصبح والظهر والمغرب و
صلاة الكسوف والعيد والجنازة ونحوها، إذ حينئذ لا محيص على القول بالصحيح أيضا
79

من كشف جامع بين تلك الافراد المختلفة كمية وكيفية يكون هو المسمى بالصلاة عنده،
فرارا عن محذور الاشتراك اللفظي فيها وجعل الصلاة من قبيل متكثر المعنى.
وحيث إن تصور الجامع بين افراد الصحيح في غاية الصعوبة والاشكال لعدم جامع
صوري بينها يدور عليه مدار التسمية ولا جامع معنوي أيضا بينها، التزم بعض
كالشيخ (قدس سره) على ما في التقرير بالصحيح الشخصي فقال بان الصلاة اسم
لخصوص صلاة العالم القادر المختار التي هي تامة الاجزاء والشرائط، وان ما عداها من
الصلوات الاخر ابدال لها لا انها صلاة حقيقة وان اطلاقها على مثل صلاة الناسي
لبعض الاجزاء والشرائط وصلاة المريض ونحو هما من باب التوسعة بمعنى ان المتشرعة
توسعوا في تسميتها بالصلاة من جهة حصول ما هو الأثر المقصود من الصلاة التامة الاجزاء
والشرائط وهو المسقطية للإعادة والقضاء منها أيضا. ولكن فيه ما لا يخفى إذ ذلك بعد
عدم تماميته في نفسه لا يكاد يندفع به الاشكال المزبور أيضا، إذ نقول بأنه بعد وضوح
كثرة الاختلاف بين الصلوات الثابتة في حق العالم القادر المختار كمية وكيفية كما بين
صلاة الكسوف والعيدين وصلاة الجنازة والقصر والاتمام والصبح والظهر والمغرب و
نحوها فيسئل عنه بأنه أي واحدة منها تجعل أصلا والبقية بدلا؟.
فلا محيص حينئذ بعد بطلان القول بالأصلية والبدلية في مثل تلك الصلوات من
القول بأحد الامرين، اما الالتزام بالاشتراك اللفظي فيها، واما الالتزام بكشف الجامع و
قدر المشترك بينها. وبعد بطلان الاشتراك اللفظي فيها بشهادة صحة قولك هذه الجماعة
يصلون، في جماعة يصلي كل واحد منها صلاة غير ما يصلى الاخر، بلا محذور لزوم
استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، يتعين الوجه الثاني من الالتزام بالجامع بين افراد
صلاة المختار التامة الاجزاء والشرائط. وعليه نقول بأنه إذا أمكن تصور الجامع بين هذه
فلا داعي إلى اتعاب النفس وجعل مثل صلاة الناسي والعاجز ابدالا للصلاة، بل من
الأول توسع دائرة ذلك الجامع بنحو يشمل الصلوات الاضطرارية وصلاة الناسي للجزء أو
الشرط كي لا نحتاج إلى اتعاب النفس بجعل ما عدا الصلوات التامة الاجزاء والشرائط
الثابتة في حق العالم القادر ابدالا للصلاة.
نعم لو كان قضية الالتزام بالصحيح الشخصي من جهة الاستفادة من الأخبار الواردة
في شرح حقيقة الصلاة لا من جهة عدم تصور الجامع والقدر المشترك بينها فله وجه،
80

حيث يسلم عما أوردنا عليه من الاشكال، ولكن الكلام حينئذ في أصل استفادة هذا
المطلب من النصوص إذ لا يكاد استفادة ذلك من شئ من النصوص لولا دعوى استفادة
خلافه منها إذ المستفاد من مثل النصوص الواردة في الناسي للقرائة والسجدة والتشهد و
في الجاهل التارك للاجهار أو الاخفات بالقراءة وكذلك القصر والاتمام بمثل قوله عليه
السلام (قد تمت صلوته ولا يعيد) وكذلك النصوص الواردة في الصلوات الاضطرارية
بالنسبة إلى العاجز، هو كون الصلوات المزبورة صلاة حقيقية لا انها ابدال للصلاة وان ما
هو المسمى بالصلاة هو خصوص الصلاة الثابتة في حق العالم القادر المختار كما هو واضح. و
حينئذ فعلى كل حال لا مجال لما افاده في التقرير من الالتزام بالصحيح الشخصي بوجه
أصلا كما لا يخفى.
وحينئذ فبعد بطلان احتمال الاشتراك اللفظي وتعدد الوضع بشهادة صحة قولك
هذه الجماعة يصلون في جماعة يصلي كل واحد صلاة تغاير صلاة الآخر كالصلاة اليومية
وصلاة الخسوف والعيدين وصلاة الجنازة من دون رعاية عناية في البين من نحو التأويل
بالمسمى، وبطلان تخصيص الوضع ببعض الأنواع دون بعض بجعل البقية ابدالا كما عن
التقرير فلا محيص من الكشف عن قدر مشترك بين تلك المختلفات الكمية والكيفية يكون
هو المسمى بالصلاة ويدور عليه مدار التسمية والصحة، مع كونه أيضا من التشكيكيات
التي تنطبق على الزائد والناقص بتمام الانطباق، فينطبق على الفرد المشتمل على ثلاثة
اجزاء والفرد المشتمل على أربعة اجزاء وهكذا الفرد المشتمل على تمام الاجزاء و
الشرائط الذي هو صلاة الكامل العالم المختار، نظير مفهوم الجمع الصادق على الثلاثة و
الأربعة والخمسة، ونظير مفهوم الكلمة الصادق على كل حرفين من حروف التهجي و
على الثلاثة وعلى الأربعة فصاعدا، ومفهوم الكلام الصادق على كل كلمتين فصاعدا.
وطريق كشف الجامع حينئذ انما هو أحد الامرين على سبيل منع الخلو:
الأول استكشافه من جهة ما ذكرنا من صدق مفهوم الصلاة على الصلوات المختلفة
بحسب الكمية والكيفية وانسباق وحدة المفهوم منها الحاكية عن اتحاد الحقيقة، نظير
تمسكهم بانسباق مفهوم واحد من الوجود على كونه مشتركا معنويا ومتحدا في الحقيقة،
حيث إن الانسباق المزبور وصدق الصلاة على الصلوات المختلفة في قولك هذه الجماعة
يصلون في جماعة يصلي كل واحد منها صلاة تخالف صلاة الآخر، من دون رعاية عناية و
81

تأويل بالمسمى يقتضي قهرا وجود جامع بين تلك المختلفات مع كونه من قبيل
التشكيكيات الصادقة على القليل والكثير. وحينئذ نقول بأنه بعد عدم جامع صوري
محفوظ في البين بين تلك الافراد وعدم جامع مقولي ذاتي أيضا - لالتيام الصلاة خارجا من
مقولات متعددة كالكيف والوضع والفعل والإضافة ونحوها - فلابد في تصويره من أن
يجعل الجامع المزبور عبارة عن الجامع الوجودي.
وذلك انما هو بان يؤخذ من كل مقولة من تلك المقولات المتعددة جهة وجودها، بالغاء
الحدودات الخاصة المقومة لخصوصيات المقولات، مع تحديد الوجود المزبور أيضا بان لا
يخرج عن دائرة أفعال الصلاة واجزائها على اختلافها حسب اختلاف حالات المكلفين،
ثم جعله أيضا من التشكيكيات الصادقة على الزائد والناقص وعلى القليل والكثير،
فيقال في مقام شرح حقيقة الصلاة بأنها عبارة عن رتبة خاصة من الوجود المحدود بكونها
من الدائرة المزبورة مع اشتمالها أيضا على الأركان ولولا بوصف مقوليتها بل بجهة
وجودها الساري فيها - نظير تحديد مفهوم الكلمة مثلا الملتئمة من حرفين فصاعدا بكونها
مشتملة على الحرف أو حرفين من حروف التهجي - وجعلها من طرف غير الأركان من
الافعال والأذكار مبهما محضا وعلى نحو اللابشرط كي تصدق على ذي اجزاء خمسة و
ذي اجزاء سبعة فصاعدا بحيث يشار إليها في مقام الإشارة الاجمالية بما هو معراج المؤمن و
ما هو قربان كلي تقي وما هوناه عن الفحشاء والمنكر، فإنه على هذا البيان يكون مفهوم
الصلاة بعينه من قبيل مفهوم الكلمة المنطبق على كل حرفين من حروف التهجي
فصاعدا، ومن قبيل مفهوم الجمع الصادق على كل ثلاثة وأربعة فصاعدا على اختلاف
مراتب الجمع قلة وكثر فينطبق الصلاة أيضا على كل واحدة من افراد الصلاة من صلاة
الكامل العالم المختار وصلاة المضطر والغريق ونحوها من المصاديق المختلفة كيفية و
كمية، نحو انطباق الكلي المتواطي على افراده ومصاديقه، ومع ذلك أيضا باعتبار جعلها
لا بشرط من طرف غير الأركان يكون من قبيل الحقايق التشكيكية المتصورة في الكم
الملتئم من اجزاء مختلفة بحسب المصداق من حيث الزيادة والنقصان.
واما ما قيل من استلزام هذا المعنى لجواز اتيان المكلف بأي نحو من الافراد و
المصاديق في مقام الامتثال نظرا إلى تحقق الجامع المزبور الذي هو مورد تعلق التكليف و
الامر باتيان أي فرد من الافراد مع قضاء الضرورة من الدين ببطلانه، من جهة ضرورية
82

ان لكل شخص حسب اختلاف الحالات والعوارض الطارية عليه من السفر والحضر و
الاختيار والاضطرار والصحة والسقم وظيفة خاصة معينة بحيث لو أتى في مقام الامتثال
بغير ما هو الوظيفة المقررة في حقه لما كان آتيا بالصلاة وما هو المأمور به في حقه، فمدفوع
بان هذا المحذور انما يتوجه لولا مدخلية الحالات الخاصة في حصر مصداق الجامع في حقه
بصدور فعل خاص من فاعله ولو من جهة إناطة القرب في كل حالة مخصوصة بصدور
فعل خاص منه، والا فمع مدخلية تلك الحالات الخاصة في ذلك فلا مجال لهذا الاشكال
فان عدم جواز اتيان المكلف العالم المختار مثلا بصلاة المضطر والغريق في مقام الامتثال
انما هو من جهة مدخلية تلك الحالة الخاصة في جزئية الشئ الفلاني وشرطيته بنحو
يستحيل تحقق الجامع المزبور بدونه، كمدخلية كل حالة مخصوصة في انحصار المرتبة
الخاصة من مراتب الجامع المزبور بها، بملاحظة دوران التسمية مدار تأثيرها المختص كل
مرتبة منها بطائفة خاصة، وعليه يلزمه انحصار مصداق الجامع المزبور في حق كل طائفة
بفرد خاص بنحو لا يكاد تحقق الجامع منه بدونه.
ولئن شئت فاستوضح ذلك بما لو تعلق الغرض مثلا بشرب الماء المشبع والرافع
للعطش الجامع بين ماء الكوز وماء الجرة وماء الحب وماء الشط مع فرض اختلاف
الاشخاص حسب استعداد مزاجهم واختلاف حالاتهم الطارية عليهم في مقدار الرافع
للعطش وفرض وجود الماء المزبور أيضا في ضمن هيئات مخصوصة واشكال متعدده،
حيث إنه باعتبار اختلاف الاشخاص قد يختلف مصداق المشبع من الماء أيضا في حقهم
فيكون مصداق المشبع بالنسبة إلى شخص ماء الكوز على شكل خاص وهيئة مخصوصة و
مصداق المشبع بالنسبة إلى آخر ماء الجرة على هيئة خاصة وبالنسبة إلى ثالث يكون
مصداق المشبع في حقه ماء الحب، وهكذا، فصار مصداق المشبع من الماء الرافع للعطش
في حق كل شخص غير ما هو المصداق في حق الاخر. وفى المقام أيضا كذلك حيث نقول
بان الغرض الذي هو تكميل العباد المعبر عنه بقربان كل تقى تعلق بالجامع المزبور وان
لهذا الجامع مصاديق متعددة مختلفة بحسب الكيفية والكمية حسب اختلاف حالات
المكلفين فكان مصداق الجامع المزبور في حق كل طائفة مخصوصا بفرد خاص ولو بلحاظ
إناطة القرب في كل حالة مخصوصة بفعل خاص من فاعله بنحو لا يكاد بدونه تحقق
الجامع منه في الخارج ولا تحقق الغرض الذي هو التكميل الا به.
83

وعلى هذا فتلخص ان حقيقة الصلاة التي رتب عليها غرض التكميل لا تكون
الا عبارة عن معنى بسيط وحداني لا يكون بجوهر ولا عرض بل مرتبة خاصة من الوجود
من المقولات الخاصة بعد الغاء خصوصيات الحدود والمقولات المحدودة بكونها من أول
التكبيرة إلى آخر التسليم مثلا، ولها جهة كلية بالنسبة إلى الافراد العرضية ينطبق عليها
بنحو التواطئ، وكلية بالقياس إلى الاجزاء والافراد الطولية ينطبق عليها بنحو السريان
والتشكيك، نظير مفهوم الجامع الصادق على الثلاثة والأربعة وغيرها من مراتب الجمع
على اختلافها قلة وكثرة، نعم في عالم تنزل تلك الحقيقة ومرحلة تحققها في الخارج، تحتاج
إلى خصوصيات الحدود والمقولات، نظرا إلى استحالة تحقق تلك الحقيقة في الخارج الا
محدودة بحدود خاصة وفي ضمن المقولات المخصوصة من الكيف والفعل والإضافة و
الوضع ونحوها، وذلك أيضا على اختلاف حالات المكلفين في الدخل في لزوم صدور
فعل خاص من فاعله الذي لا يكاد بدونه تحقق الجامع منه في الخارج، ومرجع ذلك كله
إلى كون دخل الحدود والمقولات الخاصة من باب كونها من المشخصات الفردية لحقيقة
الصلاة بلا ان يكون لها دخل في أصل حقيقة الصلاة بوجه أصلا كي يلزمها كونها أمرا
مركبا من المقولات المتعددة كما هو واضح. وبذلك أيضا يجمع بين ما ذكرنا من بساطة
حقيقة الصلاة وبين ما ورد في شرح الصلاة بأنها ركوع وسجود وقراءة ونحوها، حيث
يحمل تلك النصوص على بيان المصداق الخارجي للصلاة.
الثاني: من طرق كشف الجامع على صحيح استكشافه من جهة وحدة الأثر
المترتب عليها على ما يقتضيه النصوص الواردة في مقام اثبات بعض الخواص والآثار
للصلاة من نحو قوله عليه السلام الصلاة قربان كلي تقى وانها معراج المؤمن وانها تنهى
عن الفحشاء والمنكر، حيث إنه جهة القرب والتكميل بعد أن كان اثرا بسيطا غاية
البساطة فلا بد بمقتضي وحدته وبساطته من كشف جامع وحداني بسيط بين تلك
المختلفات الكمية والكيفية يكون هو المؤثر في ذلك الأثر الوحداني البسيط نظرا إلى استحالة
تأثير المتبائنات بما هي كذلك في واحد بسيط. واما احتمال ان يكون الأثر الوحداني في
المقام اثرا ذا جهات متعددة مختلفة يؤثر كل امر من تلك الأمور المتعددة في جهة من ذلك
الأثر، فمدفوع بان جهة المقربية والمعراج ليست الا عبارة عن تكميل العبد وبلوغ نفسه
بمرتبة خاصة من الكمال بها يصير العبد موردا للألطاف الإلهية والعنايات الخاصة
84

الرحمانية، ومن المعلوم بداهة ان مثل ذلك لا يكون الا أمرا بسيطا وحدانيا غير ذي
جهات، وعليه فبعد امتناع المتبائنات في امر وحداني بسيط فلا بد بمقتضي بساطة
الأثر ووحدته من وجود جامع وحداني في البين بين تلك الافراد المتعددة المختلفة بحيث
نشير إليه بنحو الاجمال بما هو قربان كل تقى وما هو معراج المؤمن وان لك يمكننا تحديده
تفصيلا، مع امكان تحديده بوجه اجمالي أبسط أيضا بالإشارة إلى تلك الحقيقة بالوجود
المحفوظ بين تلك المراتب من مرتبة صلاة الغريق إلى مرتبة صلاة الكامل العالم المختار،
بالغاء خصوصيات الحدود والمراتب الخاصة، فيقال بان حقيقة الصلاة عبارة عن معنى
وحداني بسيط غير ذي جهات لا تكون بجوهر ولا عرض بل مرتبة خاصة من الوجود
المحفوظ بين المراتب من الصلاة المختلفة المحدودة حدها من التكبيرة إلى آخر التسليم، بالغاء
خصوصيات التكبيرة والقيام والركوع والسجود ونحوها، بجعل تلك الحدود والمقولات
الخاصة من المشخصات الفردية للصلاة لامن مقولات حقيقتها.
ثم لا يخفى عليك انه كما يستكشف الجامع الافرادي بمقتضى البيان المزبور بين افراد
الصلوات المختلفة كذلك لابد من الكشف عن جامع اجزائي أيضا بين الاجزاء من افراد
الصلوات يكون هو المؤثر في ذلك الأثر الوحداني البسيط مع كونه أيضا من قبيل الحقايق
التشكيكية الصادقة على الزائد والناقص، والفرق بينه وبين الجامع الافرادي هو الفرق
بين الطبيعة الصرفة المتحققة بأول وجود فردها والطبيعة السارية في ضمن جميع الافراد،
فيكون الجامع الافرادي من قبيل الأول والجامع الاجزائي من قبيل الثاني، من حيث
عدم تحققه بمرتبة المؤثر الفعلي منه الا في صورة تحقق مجموع الاجزاء، وان تحقق مرتبة
أخرى غير مؤثرة فعلا بتحقق بعض الاجزاء، مثلا لو فرضنا تركب فرد من اجزاء ثمانية
أو عشرة يكون المؤثر الفعلي من الجامع المزبور الساري في مجموع الاجزاء الثمانية أو العشرة
وما دون تلك المرتبة يكون مؤثرا شأنيا لا فعليا فإذا تحقق في الخارج الاجزاء الثمانية أو
العشرة يتحقق الجامع الافرادي أيضا لان تحققه انما هو بأول وجوده فرده. وأما إذا لم
يتحقق في الخارج الاجزاء الثمانية أو العشرة بل كان المتحقق في الخارج من ذي اجزاء
ثمانية سبعة اجزاء ومن ذي اجزاء عشرة ثمانية ففي مثله لم يتحقق المرتبة المؤثرة الفعلية
من الجامع المزبور بل المتحقق في مثله هو المرتبة المؤثرة الشأنية منه.
فإذا تمهد لك هذه الجهة نقول بأنه بعد أن كان للجامع المتصور المزبور بين الافراد
85

عرض عريض ومراتب متفاوتة وكان المؤثر الفعلي منه من كل فرد ومرتبة هو الساري
في مجموع الاجزاء من ذي اجزاء خمسة وذي اجزاء ستة وذي اجزاء ثمانية وهكذا و
المؤثر الشأني منه من كل فرد ومرتبة هو الساري لا في ضمن مجموع الاجزاء، فلك ان تعتبر
الجامع أيضا بين الصحيح والأعم بعين ما اعتبرته بين افراد الصحيح من البرهان فتأخذ
من كل فرد ومرتبة جزء أو جزئين وتجعل الجامع عبارة عن الأعم من واجد هذا الجزء
الذي يكون مؤثرا فعليا ومن فاقده الذي يكون مؤثرا شأنيا، حيث لا نعنى من الفاسد الا
ما كان مؤثرا شأنيا وغير تام في نفسه في عالم المؤثرية الفعلية وتشير إليه في مقام الإشارة
بالوجود المحفوظ بين المرتبة المؤثرة الشأنية الفاقدة لبعض الاجزاء وبين المرتبة المؤثرة
الفعلية الواجدة لتمام الاجزاء. وعليه ما مر من تصوير الجامع على الأعم ثبوتا كتصويره
على الصحيح واضح لا ينبغي الارتياب فيه، نعم لو كان كلام حينئذ فإنما هو في مرحلة
الاثبات ومقام وضع اللفظ في أن الصلاة هل هي موضوعة للجامع بين افراد الصحيح أو
انها موضوعة للأعم من الفاسد والصحيح؟ والا فاصل امكانه ثبوتا بعد الالتزام
بالصحيح النوعي بمقتضي ما ذكرنا مما لا يعتريه ريب كما هو واضح.
ثم إن في المقام وجوها اخر أفادوه في تصوير الجامع بين الصحيح والفاسد لا باس
بالإشارة إلى بعضها، فنقول:
ان منها ما عن المحقق القمي (قدس سره) بان الصلاة اسم لجملة من الاجزاء كالأركان
مثلا وان بقية الاجزاء خارجة عن المسمى وان كانت داخلة في المأمور به ومنها ان
الصلاة عبارة عن معظم الاجزاء من غير مدخلية لخصوصية جزء أو جزء. ومنها تنظيره
بباب الاعلام الشخصية كزيد من حيث إنه زيد في جميع الحالات من دون ان يضر في
التسمية تبادل الحالات من الصغر والكبر والصحة والسقم وكذلك نقصان بعض
اجزائه كاليد والرجل وغيرها.
ولكن يرد على الأول بان ذلك مجرد فرض لا واقعية له إذ نرى بأنه لا جامع صوري
متصور بين تلك المختلفات يدور عليه المسمى وجودا وعدما. ويرد على الثاني أيضا بعد
عدم إرادة مفهوم معظم الاجزاء قطعا بل ما يصدق عليه هذا المفهوم، بأنه يلزمه كون شئ
واحد داخلا في المسمى تارة وخارجا عنه أخرى. وعلى الثالث بمنع المقايسة المزبورة
للفرق الواضح بين المقامين فإنه في الاعلام الشخصية يكون في البين شئ محفوظ في جميع
86

تلك الحالات المتبادلة المختلفة لا تغير ولا تبدل وهو الموجود الشخصي والتشخص
الخاص الذي به قوام شخصيته، وهذا بخلاف المقام حيث إنه لا يكون في البين ما
يجمع شتات تلك المختلفات مع تركبها من المقولات المختلفة، الا على النحو الذي
تصورناه من الجامع الوجودي. وعليه يرجع هذا التقريب إلى ما قربناه سابقا فلا يكون
تقريبا آخر للجامع.
وعلى كل حال فبعدان ظهر لك امكان تصوير الجامع ثبوتا على كل واحد من
القولين في المسألة بما ذكرناه من البيان، يبقى الكلام في مقام اثبات ان الوضع هل هو
لخصوص الصحيح أو للأعم منه والفاسد؟
فنقول انه يمكن ان يستدل للوضع للأعم بأمور:
منها: صلوح التقسيم إلى الصحيح والفاسد في قولك: الصلاة اما صحيحة أو فاسدة، فان
في ذلك شهادة على الوضع للأعم، لأنه لولا ذلك يلزم ان يكون الاستعمال المزبور استعمالا
مجازيا محتاجا إلى رعاية عناية في البين، وهو كما ترى مما يشهد الوجدان بخلافه.
ومنها: صدق الصلاة وصحة اطلاقها على صلوات مختلفة في قولك: هذه الجماعة يصلون
في جماعة يصلي كل واحد منها صلاة بعضها فاسدة وبعضها صحيحة، فإنه لولا كونها
مشتركا معنويا بينهما يلزم محذور استعمال اللفظ في أزيد من معنى واحد أو عدم صحة
الاطلاق المزبور، وحيث إن الاطلاق المزبور كان صحيحا بالوجدان فلا جرم بعد بطلان
استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد واستحالته يثبت المطلوب من الوضع
للأعم.
ومنها: ملاحظة ما استقر عليه ديدن العرف والعقلاء في مخترعاتهم من المركبات
الخارجية وغيرها من الوضع للأعم من الصحيح منها والفاسد لكي لا يحتاجوا في
استعمالهم إياها في الفاسد إلى رعاية عناية وعلاقة، فإنه بعد القطع بأنه لم يكن للشارع
في هذا الباب ديدن خاص وطريقة مخصوصة على خلاف ديدن العرف والعقلاء وانه
من هذه الجهة كأحد من أهل العرف يكشف به الوضع للأعم لا لخصوص الصحيح.
ومنها: قوله عليه السلام: لا تعاد الصلاة من سجدة وتعاد من ركعة وقول عليه
السلام: (لا تعاد الصلاة الا من خمس) فإنه بناء على الوضع للأعم يكون الصلاة في
الفقرتين مستعملة في الجامع وأريد خصوصية الفرد الصحيح والفاسد بدالين ومدلولين
87

بلا لزوم محذور في البين من نحو استخدام أو غيره. وهذا بخلافه على القول بالوضع
للصحيح فإنه عليه يلزم اما استعمال لفظ الصلاة في أكثر من معنى واحد أي المعنى الحقيقي
والمجازي بناء على رجوع الضمير في قوله (وتعاد) إلى تلك الصلاة المذكورة في الصدر، أو
المصير إلى نحو استخدام ورعاية عناية في البين، وهما كما ترى.
ومنها: ما دل على مبطلية الزيادة في الصلاة من نحو قوله عليه السلام: (من زاد في
صلوته فعليه الإعادة) خصوصا على القول بتصوير الزيادة الحقيقية في الصلاة كما حققناه
في محله فان تصوير الزيادة الحقيقية لا يكاد يمكن الا بجعل دائرة اختراع ماهية الصلاة
أوسع من دائرة المأمور به ومن المعلوم ان ذلك لا يكاد ينفك عن الوضع للأعم، كما هو
واضح. وحينئذ فبمقتضى تلك البيانات لا باس بالالتزام بالوضع للأعم من الصحيح و
الفاسد.
بقى الكلام فيما استدل به الفريقان لا ثبات الوضع للصحيح أو الأعم، فنقول:
اما ما استدل به للوضع للصحيح فأمور:
منها: التبادر بمعنى انسباق الصحيح عند اطلاق الصلاة.
ومنها: صحة سلبها عن الفاسدة حقيقة وان صح اطلاقها عليها بالعناية والمشاكلة.
وفيه: اما التبادر فلو أريد تبادر خصوص الصحيح ولو بمعونة القرائن الخارجية كما هو
الغالب ولو بمثل عدم اقدام المسلم على العمل الفاسد في قولك: فلان يصلي، فهو مسلم و
لكنه غير مفيد حيث لا يثبت ذلك كونها موضوعة للصحيح. وان أريد تبادر خصوص
الصحيح من حاق اللفظ مهما أطلق ففي المنع عنه كمال مجال بل لنا دعوى ان المتبادر منها
عند اطلاقها هو الأعم.
واما صحة السلب ففيه انه ان أريد صحته عما هو المأمور به فهو صحيح ولكنه لا
يثبت الوضع لخصوص الصحيح. وان أريد صحته ولولا بما هي مأمور بها بل بما هي معنى
اللفظ فهو ممنوع جدا لكونه أول الدعوى.
ومنها: الآيات والاخبار المثبتة لبعض الخواص والآثار للصلاة من نحو الصلاة معراج
المؤمن، وانها قربان كل تقي، وانها تنهى عن الفحشاء والمنكر، بتقريب ان فيها الدلالة
بعكس النقيض على أن كل ما لا يكون معراج المؤمن وما لا يكون قربان كل تقى لا
تكون بصلاة، فيستفاد منها عدم كون الفاسدة صلاة حقيقة وان صح اطلاقها عليها
88

عناية.
ولكن فيه ما لا يخفى، فان الاستدلال المزبور انما هو من قبيل التمسك بعموم العام
لا خراج ما يعلم بخروجه عن حكم العام عن موضوعه، فرارا عن لزوم التخصيص على
تقدير دخوله في موضوع العام، فهو نظير ما لو ورد بأنه يجب اكرام كل عالم وقد علم من
الخارج بعدم وجوب اكرام زيد ولكنه شك في أنه هل هو من افراد العالم المحكوم بوجوبه
كي يكون عدم وجوب اكرامه من باب التخصيص، أو انه خارج عن العام موضوعا كي
يكون خروجه من باب التخصص والخروج الموضوعي، ففي المقام أيضا قد علم من
الخارج عدم كون الفاسدة مما يترتب عليها تلك الخواص والآثار وانما الشك في أنها صلاة
حقيقة ليكون تخصيصا في الاطلاق أو عموم ما دل على أن كل صلاة يترتب عليها تلك
الخواص والآثار، أو انها لا تكون بصلاة حقيقة ليكون عدم ترتب تلك الخواص والآثار
على الفاسدة من باب التخصص والخروج الموضوعي فاستدل بتلك الأدلة على خروجها
عن الموضوع. وعلى كل حال نقول تمامية الاستدلال المزبور مبني على حجية أصالة
العموم والاطلاق مطلقا حتى فيما كان الشك من جهة الشك في خروج ما هو خارج قطعا
عن حكم العام عن موضوعه، والا فبناء على اختصاص حجيته بما لو كان الشك ممحضا
في خروج ما كان داخلا في موضوع العام عن حكمه فلا مجال للتمسك بتلك الأخبار
المزبورة لا ثبات عدم كون الفاسدة بصلاة حقيقة، وسيجئ في محله انشاء الله تعالى عدم
حجية أصالة العموم والاطلاق في نحو ذلك باعتبار ان عمدة الدليل على حجية أصالة
العموم والاطلاق انما هو السيرة التي هي من الأدلة اللبية، والقدر المتيقن منها انما هو
مورد الشك في خروج فرد عن حكم العام فارغا عن أصل فرديته للعام موضوعا.
ومن العجب ان الكفاية مع بنائه على عدم حجية أصالة العموم والاطلاق الا في
مورد الشك في خروج ما هو داخل في العام موضوعا عن حكمه، بنى في المقام على التمسك
بالاخبار المزبورة المثبتة لبعض الخواص والآثار للصلاة لا ثبات عدم كون الصلاة
الفاسدة صلاة حقيقة. نعم هو (قدس سره) رجع عن ذلك في حاشيته على الكفاية و
استشكل على كلامه بما استشكلنا عليه من عدم حجية أصالة العموم والاطلاق في نحو
ذلك فراجع.
ومنها: قوله عليه السلام لا صلاة الا بفاتحة الكتاب، ولا صلاة الا بطهور. وتقريب
89

الدلالة انما هو من جهة ظهور النفي في نفى الحقيقة فيستفاد منها حينئذ ان الصلاة التي لا
تكون فيها الفاتحة أو الطهور لا تكون بصلاة حقيقة.
ولكن فيه انه وان سلم ظهور النفي في غير المقام في نفى الحقيقة ولكن ظهوره في
المقام في ذلك ممنوع، إذ نقول بظهوره في المقام في نفى الصحة ولو من جهة الانصراف أو نفى
الحقيقة عما هو المأمور به بما هو كذلك، وعليه لا يكاد يفيد في اثبات عدم كون الفاسدة
بصلاة حقيقة كما هو واضح.
ومنها: دعوى القطع بان طريقة كل واضع ومخترع للمركبات هو الوضع للمركبات
التامة الأجزاء والشرائط والمؤثرة الفعلية، والشارع أيضا غير متخطي عن تلك الطريقة
المتداولة بين العرف والعقلاء فيثبت بذلك وضعها لخصوص الصحيح المؤثر في الغرض
دون الأعم منه والفاسد.
وفيه أيضا مالا يخفى، إذ نمنع أولا كون طريقة الواضعين المخترعين للمهيات على
الوضع لخصوص الصحيح المؤثر الفعلي بل نقول باستقرار طريقتهم في مثل ذلك على الوضع
للأعم، من جهة انه كثيرا ما تقضي الحاجة وتمس إلى الاستعمال في الفاسدة ومن
المعلوم ان قضية ذلك انما هو لزوم وضعها للأعم لكي لا يحتاجوا عند استعمالهم اللفظ في
الفاسدة إلى القرينة وهو واضح. على أنه لو اغمض عن ذلك وقلنا باستقرار طريقة
العقلاء في وضع اللفظ لمخترعاتهم من المركبات لخصوص الصحيح منها، نقول: بأنه من
الممكن ان يكون للشارع في المقام طريقة خاصة على خلاف ما عليها ديدن العقلاء
تقتضي الوضع للأعم ولو من جهة تعلق الغرض على تسهيل الامر على المكلفين امتنانا
عليهم في جواز تمسكهم بالاطلاقات في نفى ما شك في اعتباره شطرا أو شرطا وعدم
رجوعهم إلى الأصول العملية من البراءة أو الاشتغال، حيث إنه من الواضح انه لا يكاد
الوصول إلى مثل هذا الغرض الا بوضع اللفظ للأعم دون الصحيح فإنه على تقدير الوضع
لخصوص الصحيح لا يبقى مجال لرجوع المكلفين عند الشك إلى الاطلاقات من جهة عدم
احرازهم المسمى حينئذ وكونه من باب التمسك بالعام مع الشك في أصل مصداقية
المشكوك للعام كما هو واضح. هذا كله فيما استدل به للقول بالصحيح.
واما ما استدل به للقول بالأعم فأمور أيضا:
منها: التبادر بمعنى انسباق الأعم من اطلاق لفظ الصلاة والصوم والحج.
90

ومنها: عدم صحة سلبها عن الفاسدة حيث يرى بالوجدان عدم صحة سلب الصلاة عن الصلاة التي
نقص منها بعض اجزائها خصوصا إذا كان الناقص من الاجزاء الغير الركنية كما هو ذلك في
المركبات العرفية، بل ولئن صح سلبها عنها فإنها هو باعتبار الصحة حيث يقال: بأنها
ليست بصلاة صحيحة لا انها لا تكون بصلاة حقيقة.
ومنها: قوله عليه السلام: (بنى الاسلام على خمس: الصلاة والزكاة والحج والصوم و
الولاية ولم يناد أحد بشئ كما نودي بالولاية فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه، يعنى
الولاية، فلو ان أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير الولاية لم يقبل منه صوم ولا صلاة)
بتقريب ان الاخذ بأربع أي الصلاة والصوم والحج والزكاة مع بطلان عبادة تاركي
الولاية انما يتم بناء على كونها أسامي للأعم والا لما كانوا آخذين بأربع فلا يصح القول
بأنهم آخذين بأربع.
وفيه مالا يخفى، فإنه لو تم البيان المزبور فغايته اثبات استعمال الأربع في قوله عليه السلام
فاخذ الناس بأربع في الفاسدة وهو غير مثبت للوضع للأعم الذي هو المدعي
باعتبار أعمية الاستعمال من الحقيقة. مع أنه نقول: بأنه بعد أن كان المراد من الأربع
التفصيلي في صدر الرواية بقرينة بناء الاسلام عليها هو الصحيح بلا اشكال فلابد وان
يحمل الأربع الاجمالي أيضا على الصحيح، ولو باعتقادهم، من جهة ما هو المعلوم من
كون المراد من الأربع الاجمالي هو ذاك الأربع التفصيلي في صدر الرواية، وعليه فلا
يكون الأربع الاجمالي أيضا الا مستعملا في الصحيح، غايته هو الصحيح باعتقادهم دون
الصحيح الواقعي النفس الأمري وهو أيضا لا يكون من المجاز كما لا يخفى. مع أنه لو سلم
استعمال الأربع الاجمالي في الفاسدة من جهة فقدانها للولاية نقول بان مجرد ذلك غير مضر
بدعوى القائل بالصحيح من جهة ان مقصودهم من الصحيح على ما تقدم انما هو
الصحيح من غير ناحية قصد التقرب كما يكشف عنه اتفاقهم على خروج مثل قصد
التقرب عن الصحة، وحينئذ فإذا كانت الولاية من شؤون القربة المصححة للعبادة
فللقائل بالصحيح دعوى خروجها أيضا كنفس قصد القربة، وعليه فلا يكون استعمال
الأربع الاجمالي الا فيما هو الصحيح عند القائل به كما هو واضح.
ومنها: قوله عليه السلام (دعي الصلاة أيام أقرائك) بتقريب انه بعد عدم امكان حمل
الرواية على إرادة الصحيح منها من جهة معلومية عدم قدرة الحائض في حال المحيض على
91

ايجاد الصحيح ومعلومية اعتبارها في صحة توجه النهى إليها، فلابد من حملها على الأعم
بإرادة الجامع مع إفادة خصوصية الفرد الفاسد منها بدال اخر.
وفيه: أيضا انه اما ان يحمل النهى الوارد في الرواية على النهى المولوي الذاتي الناشي
عن مفسدة ذاتية في متعلقه في حال الحيض، واما ان يحمل على مجرد التشريع باعتبار
مزاحمة مصلحة الصلاة في حال الحيض مع مفسدة أقوى في البين، واما ان يحمل على
الارشاد إلى مانعية الحيض عن صحة الصلاة، فعلى الأول لا دلالة لها على المطلوب من
الوضع للأعم بوجه أصلا من جهة ان كون الشئ عبادة ومنهيا عنه بالنهي المولوي الذاتي
حينئذ لا يتصور الا بكون الشئ من الآلات الموضوعة للخضوع ومن ابزار العبودية نظير
تقبيل اليد والرجل ورفع القلنسوة في العرفيات الموضوعة عندهم من ابزار العبودية ومن
آلات الخضوع، فان مثل هذا المعنى هو الذي يكون قابلا لتعلق النهى المولوي به، كما أنه
يكفي في مقربيته ووقوعه عبادة فعلا مجرد رضاء المولى به وعدم نهيه عن الاتيان به، و
بهذه الجهة أيضا صححنا النيابة في العبادات حيث قلنا بأنه يكفي في صحة العبادة و
وقوعها عن الغير مجرد رضاء ذلك الغير باتيان العبادة عن قبله كما نظيره في الخضوعات
العرفية من نحو تقبيل اليد والرجل عن قبل الغير حيث إنه مع امر ذلك الغير بتقبيل يد
الأمير مثلا عن قبله أو رضائه به يقع ذلك التقبيل الصادر عن النائب خضوعا عن ذلك
الغير ويكون ذلك مقربا له دون النائب المباشر للتقبيل، نعم عند عدم رضائه بذلك أو
نهيه عنه لا يقع ذلك خضوعا له ولا مقربا له. وعلى ذلك نقول: بأنه من الواضح حينئذ
عدم دلالة الرواية على القول بالأعم لولا دعوى دلالتها على القول بالصحيح كما هو
الظاهر، حيث إنه للقائل بالصحيح حينئذ دعوى كونها مستعملة في الراوية في خصوص
الصحيح باعتبار ان الفساد حينئذ مستند إلى قضية نهى الشارع وعدم رضائه باتيان
الحائض الصلاة في حال الحيض، لا إلى قصور في نفس العبادة في عالم اقتضائها للمقربية،
ولقد عرفت بان مثل قصد القربة خارج عن المسمى عند الصحيحي أيضا وان ما هو
المسمى عنده انما هو الصحيح من غير ناحية قصد القربة، والمفروض في المقام أيضا انه
لولا نهى الشارع لا قصور في صلاة الحائض في عالم مقربيتها. هذا كله بناء على حمل النهى
في الرواية على النهى المولوي الذاتي.
واما بناء على الاحتمال الثاني من حمله على مجرد التشريع فكذلك أيضا، حيث نقول
92

بكونها مستعملة في الرواية في خصوص الصحيح وان البطلان والفساد انما نشأ من جهة
فقد الامر وخلوها عن قصد القربة الذي هو خارج عن المسمى قطعا عند الصحيحي
أيضا.
واما بناء على الاحتمال الثالث من حمل النهى فيها على الارشاد إلى مانعية الحدث
وهو الحيض عن صحتها فعليه وان كانت للرواية دلالة على المطلوب، ولكنه أيضا مبنى
على أن يكون الاطلاق المزبور في قوله صلى الله عليه وآله (دعي الصلاة) بلحاظ حال
الحيض بنحو يتحد ظرف الجري مع ظرف النسبة الحكمية، والا فبناء على تغاير الظرفين و
كون الاطلاق المزبور بلحاظ حال قبل الحيض وهو حال الطهارة فلا تدل أيضا على
مطلوب الأعمى من الاستعمال في الأعم، إذ المعنى حينئذ ان الصلاة التي يؤتى بها في حال
الطهارة لا تأتى بها في حال الحيض، ومن المعلوم حينئذ كونها مستعملة في خصوص
الصحيح.
ومنها أي من أدلة القول بالأعم صحة تعلق النذر بترك الصلاة في مكان مكروه
كالحمام مثلا مع حصول الحنث بفعلها فيه أيضا، بتقريب ان صحة النذر وحصول
الحنث لا يكون الا بوضعها للأعم، والا فبناء على الصحيح يلزم عدم حصول الحنث
بفعلها فيه بل عدم صحة النذر رأسا، لان النذر الصحيح هو ما يجب الوفاء به يأمر الشارع
بالوفاء به، واعتبار القدرة على المتعلق تركا وايجادا مما لابد منه في صحة توجيه التكليف
بالوفاء بالايجاد أو الترك، وحينئذ فمع فرض وضعها للصحيح يلزمه كونها منهيا عنها
بمقتضي توجه التكليف بالترك إليه، ولازم كونها منهيا هو فسادها على ما برهن في
محله من اقتضاء النهى عن العبادة لفسادها، ومع فسادها لا يكون له القدرة على الحنث
بايجاد الصلاة الصحيحة، لان كل ما أوجده يقع فاسدا بمقتضى النهى المزبور، ومع عدم
قدرته على الحنث لا يكاد توجه التكليف بالوفاء به إليه، ولازمه هو عدم انعقاد نذره من
أصله، مع أن ذلك خلاف البداهة من صحة النذر وحصول الحنث، فيكون ذلك برهانا
اجماليا تاما على أن المسمى والموضوع له هو الأعم دون الصحيح، لأنه على الأعم لا يلزم
محذور في البين أصلا.
وفيه ما لا يخفى، إذ نقول: بأنه بعد معلومية اعتبارهم الرجحان الفعلي في متعلق
النذر، اما ان يحمل الكراهة في المواضع المزبورة على أقلية الثواب كما التزم به جماعة من
93

الأصحاب نظرا إلى اعتبارهم الرجحان الفعلي في العبادة، واما ان تحمل على معناها
المصطلح لكن بجعل المكروه عبارة عن خصوصية كينونة الصلاة مثلا في الحمام مع ابقاء
ذات العبادة على ما هي عليها من الرجحان والمحبوبية الفعلية.
فعلى الثاني نقول: بان النذر وان كان صحيحا في فرض تعلقه بخصوصية كينونة
الصلاة في الحمام لا بذات الصلاة ولكن لازمه أيضا هو صحة الصلاة المزبورة عند
حصول الحنث واتيانه بالصلاة في الحمام، فلا يلزم حينئذ من مجرد حصول الحنث بفعلها
فيه فسادها كي ينفع القائل بالأعم. وتوهم عدم انفكاك الخصوصية عن الذات لمكان
اتحادها معها فتسري الحرمة حينئذ إلى أصل الصلاة فتقع فاسدة، مدفوع بمنع اقتضاء هذا
المقدار من الاتحاد للسراية إلى ذات الصلاة والا لاقتضى السراية إليها ولو في غير مورد
تعلق النذر بها، فيلزمه حينئذ بطلان الصلاة في الحمام ونحوه باعتبار سراية المرجوحية من
الخصوصية على الفرض إلى ذات العبادة ولو في غير مورد تعلق النذر مع أن ذلك كما ترى
لا يظن بأحد الالتزام به. هذا بناء على فرض تعلق النذر بخصوصية كينونة الصلاة في
الحمام واما لو فرض تعلق النذر في الفرض المزبور بنفس العبادة، ففي مثل الفرض نلتزم
بعدم انعقاد النذر من رأسه وذلك لا من جهة عدم القدرة على الحنث بل من جهة انتفاء
الرجحان في المتعلق الذي هو ترك الصلاة كما هو واضح.
ومن ذلك البيان ظهر انه كذلك الامر أيضا في الفرض الأول وهو فرض حمل
الكراهة على أقلية الثواب حيث إن لازمه بعد اعتبارهم الرجحان الفعلي في متعلق النذر
هو عدم صحة النذر المزبور من رأسه لان مجرد كونها أقل ثوابا لا يوجب مرجوحيتها حتى
يكون تركها راجحا فصح النذر على تركها.
وحينئذ فالأولى في المقام هو التمثيل بباب العهد واليمين بناء على عدم اعتبار
الرجحان في متعلقهما فإنه حينئذ يسلم عن الاشكال المزبور. وعليه نقول أيضا بأنه وان
كان صح العهد واليمين ويحصل أيضا الحنث بفعل الصلاة في المكان المكروه ولكن
نقول: بان مجرد صحة العهد واليمين وحصول الحنث لا ينافي تعلقهما بالصحيح إذ نقول
بان ما تعلق به العهد واليمين حينئذ انما هو الصحيح لولا هذا العهد لا الصحيح على
الاطلاق حتى من جهة هذا العهد، وعليه كان العهد صحيحا ويقع الحنث أيضا بفعلها
لان ما أوجده انما كان هو الصحيح لولا العهد، وما الفساد من قبل العهد فهو غير
94

مناف لصحة متعلقه وصحة عهده لأنه نتيجة وجوده نعم لو كان متعلق النذر هو
الصحيح الفعلي حتى بالنظر إلى هذا العهد لما كان يتحقق الحنث بفعلها فيتوجه المحذور
المزبور، ولكن ذلك من المستحيل لاستحالة تقيد المتعلق وهو المسمى بالصحيح حتى من
قبل هذا الحكم العهدي المتأخر، كما هو واضح. على أن غاية ذلك هو عدم صحة تعلق
النذر والعهد بفعل الصحيح وأين هذا والقول بان المسمى هو الأعم دون الصحيح؟ كما
لا يخفى. وحينئذ فالأولى في اثبات الوضع للأعم دون الصحيح هو التشبث بما ذكرناه
سابقا من التبادر وصحة التقسيم ونحوهما.
بقى الكلام فيما قيل من الثمرة بين القولين، فنقول: انه قيل بظهور الثمرة بين القولين في
أمور:
منها: ظهورها من حيث مرجعية البراءة والاشتغال عند الشك في مدخلية شئ شطرا أو
شرطا في المأمور به، بتقريب انه على الصحيح كان المرجع هو الاشتغال باعتبار الشك في
تحقق ما هو المسمى بالصلاة بدون المشكوك بخلافه على الأعم فإنه عليه يكون المرجع عند
الشك هو البراءة بناء على جريانها في الارتباطيات.
وفيه ما مر سابقا من عدم ابتناء الرجوع إلى البراءة بكونه من خواص القول بالأعم،
بل هو كذلك أيضا حتى على القول بالصحيح، ولو على القول ببساطة المأمور به، حيث إن
التكليف المتعلق بالمأمور به بعد انحلاله إلى تكاليف ضمنية فبالنسبة إلى المشكوك يشك في
أصل توجه التكليف بالنسبة إليه، وحينئذ فعلى القول بجريان البراءة في الارتباطيات
يجوز للصحيحي أيضا الرجوع إليها عند الشك في شرطية شئ أو شطريته، كما هو واضح. و
لذلك أيضا ترى بناء الأكثر على الرجوع إلى البراءة عند الشك في دخل شئ في المأمور به
جزء أو شرطا مع مصيرهم في المقام إلى الصحيح.
وقد يفصل في مرجعية البراءة والاشتغال بين الصحيح الشخصي والنوعي،
بتقريب انه على الصحيح الشخصي يكون مرجع الشك في الشرطية أو الجزئية في البدل
إلى الشك في كون الفاقد بدلا أم لا، فأصالة العدم تقضي بالاحتياط والاشتغال، بخلافه
على الصحيح النوعي فان للرجوع إلى البراءة عليه كمال مجال. ولكن يدفعه ان الشك في
البدلية حيثما كان مسببا عن الشك في جزئية المشكوك أو شرطيته فلا جرم تجرى البراءة
فيه ومعه لا يبقى مجال التفرقة بينهما، كما لا يخفى.
95

ومنها: ظهورها في مسألة النذر فيما لو نذر اعطاء درهم لمن يصلي، بتقريب انه على
الأعم يتحقق البراءة باعطائه لمن يصلى الفاسدة من جهة صدق الصلاة عليها حقيقة
بخلافه على الصحيح فإنه لا يحصل الوفاء بالنذر الا في صورة احراز كونها صحيحة ولو من
جهة أصالة الصحة في فعل المسلم.
وفيه أيضا ما لا يخفى، فإنه بعد تقيده بما لو كان المنذور هو المسمى بالصلاة نمنع
كونها ثمرة للمسألة، حيث نقول بأنها حينئذ ثمرة لمسألة فرعية، لان المسألة الأصولية على ما
ذكرنا ها غير مرة هي التي يقع نتيجتها في طريق الاستنباط وتكون منتجة لحكم كلي
فرعى، كما في مسألة حجية خبر الواحد، والثمرة المفروضة في المقام لا تكون كذلك إذ لا
تكون تلك الا من باب تطبيق كبرى فرعية وهي مسألة وجوب الوفاء بالنذر على المورد، و
عليه فلا يكون جواز الاعطاء الا ثمرة لمسألة فرعية دون الأصولية، كما هو واضح.
ومنها: صحة التمسك بالاطلاقات والأصول اللفظية عند الشك في دخل بعض الأمور
في المأمور به جزء أو شرطا على القول بالأعم وعدم صحته على الصحيح، للشك في تحقق
المسمى بدونه وعدم العلم بدخوله في موضوع الاطلاق، فلابد على القول بالصحيح من
الرجوع إلى الأصول العملية براءة أو اشتغالا.
وفيه أيضا ان ذلك وان كان ثمرة للمسألة، الا انه نقول بكونه مجرد فرض لا واقع له
من جهة ابتنائها على أن يكون تلك المطلقات من مثل أقيموا الصلاة واردة مورد البيان من
جهة الاجزاء والشرائط لا في مقام الاهمال وهو أول شئ ينكر، حيث نقول: بان ورود
ها انما كان لمحض التشريع من غير أن تكون بصدد البيان من هذه الجهات، وعليه تكون
الثمرة المزبورة بحكم العدم. هذا كله بالنسبة إلى الاطلاقات اللفظية، واما الاطلاقات
المقامية ففي فرض تماميتها يصح على كلا القولين الرجوع إليها عند الشك في دخل شئ في
المأمور به. كما هو واضح. هذا كله في العبادات.
الكلام في ألفاظ المعاملات
واما المعاملات كالبيع والصلح والإجارة ونحوها فيبقى الكلام فيها في أنها
كالعبادات داخلة في محل النزاع أو خارجة عن موضوع النزاع، فنقول:
96

انه ان قلنا بان تلك العناوين أسام للأسباب كما هو المترائي من ظاهر من عبر عنها في
مقام شرحها بعقودها بقولهم البيع مثلا عقد كذا فلا اشكال في دخولها في محل النزاع
فكان للنزاع فيها في كونها أسامي للصحيح أو الأعم كمال مجال باعتبار كونها حينئذ من
الأمور القابلة للاتصاف بالصحة بمعنى ترتب الأثر عليها تارة وبالفساد بمعنى عدم ترتب
الأثر عليها أخرى. نعم لما كان هذا النزاع مخصوصا بالمخترعات الشرعية ولا يجرى في
الأمور العرفية أمكن دعوى خروج الأسباب عن مورد النزاع من هذه الجهة، نظرا إلى أن
العقد والايقاع والايجاب والقبول أمور عرفية لا تكون من المخترعات الشرعية، فبهذه
الجهة لا مجال للنزاع فيها في كونها موضوعة للصحيح أو الأعم، كما هو واضح. هذا كله
بناء على القول بكون عناوين المعاملات أسامي للأسباب.
واما على القول بكونها أسامي للمسببات كما هو التحقيق وعليه المعظم بأنها أمور
بسيطة ناشئة من قبل أسبابها الخاصة وانها مما يتوصل إلى وجودها بعقودها وان
عقودها بمنزلة الأسباب الموجدة لها لا انها نفسها، فقد يقال: بأنه لا اشكال في خروجها
عن محل النزاع، تارة من جهة انها بنفسها آثار، ومحل الكلام انما هو في المؤثرات التي
يترتب عليها الآثار تارة ولا يترتب عليها الآثار أخرى، لما مر ان معنى كون الشئ
صحيحا عبارة عن كونه بحيث يترتب عليه الأثر المقصود كما أن معنى كونه فاسدا عبارة
عن كونه بحيث لا يترتب عليه الأثر المقصود، فعلى هذا يختص النزاع المزبور بالمؤثرات و
لا يشمل الآثار نفسها، وأخرى من جهة انها أمور بسيطة دائرة أمرها بين الوجود والعدم
غير متصور فيها التمامية والنقصان، لما تقدم من اختصاص هذا النزاع بما يكون قابلا
للامرين بحيث يتصف بالصحة والتمامية تارة وبالفساد والنقصان أخرى.
ولكنه يدفع ذلك، اما الأول فبأنها وان كانت بنفسها آثارا ولكنها بالنسبة إلى
الاحكام المترتبة عليها من مثل جواز التصرف وحرمة تصرف الغير بل بالنسبة إلى مثل
السلطنة التي هي من الأحكام الوضعية مؤثرات، وحينئذ فمن هذه الجهة لا مجال
للاشكال فيها في دخولها في محل النزاع. واما الاشكال الثاني من كونها أمورا بسيطة دائرة
بين الوجود والعدم فله وجه، بناء على رجوع تخالف الشرع والعرف إلى تخطئة الشارع
للعرف في الموارد الخاصة كما في بيع المنابذة والبيع الربوي ما يرونه مصداقا للبيع مع
اتحاد البيع مفهوما ومصداقا عند العرف والشرع، والا فبناء على رجوع ذلك إلى تعدد
97

حقيقة البيع عند العرف والشرع لا مجال لهذا الاشكال، فإنه عليه أمكن قابلية البيع مع
كونه بسيطا غاية البساطة للاتصاف بالصحة والفساد.
ولتوضيح المرام نذكر المحتملات المتصورة في موارد تخالف الشرع والعرف، فنقول:
ان المحتملات المتصورة لعدم امضاء الشارع لكثير من المعاملات العرفية كبيع المنابذة و
الملامسة والبيع الربوي وغيرها ثلاثة:
الأول: ان يكون من باب تخطئة الشارع نظر العرف في عدهم غير البيع مصداقا
حقيقيا للبيع، ومرجع ذلك إلى اتحاد حقيقة البيع مفهوما ومصداقا عند العرف والشرع،
ولكن العرف لما أخطئوا في نظرهم وتخيلوا بزعمهم غير البيع بيعا حقيقيا خطاهم
الشارع بأنه لا يكون مصداقا للبيع وانه سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.
الثاني: ان يكون ذلك من باب التخصيص والاخراج الحكمي والتنبيه على أن جميع
البيوع العرفية وان كان بيعا حقيقة حتى في نظر الشارع الا ان الأثر الشرعي مرتب على
بعض مصاديق البيع لا على جميع مصاديقه، ومرجع ذلك أيضا إلى اتحاد حقيقة البيع
مفهوما ومصداقا عند العرف والشرع ولكن الشارع لم يرتب الآثار الا على بعض
مصاديقه.
الثالث: ان يكون ذلك من باب ان الأثر الشرعي مرتب على ما هو مصداق للبيع عند
الشارع لا على الجامع المنطبق على المصداق الشرعي والعرفي، ومرجع هذا الوجه إلى أن
للبيع حقيقة مصداقين: أحدهما منسوب إلى الشارع ومضاف إليه وهو الموضوع للآثار
الشرعية، والآخر منسوب إلى العرف وهو الموضوع للآثار الخاصة عندهم. والفرق بين
الوجهين الآخرين هو انه في الأول يكون جميع المصاديق من البيوع العرفية بيعا حقيقة في
نظر الشارع أيضا ولكنه مع ذلك يخص حكمه ببعض افراده ومصاديقه، بخلافه على
الأخير فإنه عليه يكون للبيع مصداقان: مصداق شرعي ومصداق عرفي، نظير مفهوم
الايجاب الذي كان له مصداقان: مصداق شرعي ومصداق عرفي، فكان الأثر الشرعي
مرتبا على ما هو مصداق للبيع عند الشارع. فهذه وجوه ثلاثة متصورة للاختلاف.
وربما يختلف هذه الوجوه بعضها مع بعض بحسب اللوازم، فان لازم الوجه الأول هو
عدم قابلية البيع للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى نظرا إلى دوران امره دائما بين
الوجود والعدم، بخلافه على الآخرين فإنه عليهما قابل لان يوجد البيع ويكون مؤثرا شرعا
98

تارة وغير مؤثر أخرى. هذا كله في مقام التصور.
واما مقام التصديق: فأبعد الوجوه هو الوجه الأوسط لمخالفته لما عليه ارتكاز
الأصحاب فان السلطنة على الملك من لوازم ملكية الشئ، فالتصديق بتحقق مصداق البيع
والملكية مع نفى السلطنة على الملك ربما يعد من التناقض، فمن هذه الجهة لا مجال للمصير
إلى الوجه الثاني بل لا مجال لتوهمه. وحينئذ فيدور الامر بين الوجه الأول والأخير وفى
مثله نقول: بأنه ان بنينا على أن البيع امر واقعي انتزاعي عن منشأة غير منوط بالجعل
يتعين المصير إلى الوجه الأول من ارجاع موارد عدم امضاء الشارع للبيوع العرفية في الموارد
الخاصة إلى تخطئة الشارع الأنظار العرفية فيما يرونه مصداقا للبيع وللنقل والانتقال، و
لازمه هو خروج المسببات من عناوين المعاملات عن مورد البحث والنزاع. واما ان
بنينا على كون تلك المسببات من الأمور الاعتبارية الجعلية يتعين المصير إلى الوجه الا خير
حيث لا يتصور حينئذ وجه لتخطئة الشارع للعرف، لان البيع المضاف إليهم والمصداق
المختص بهم متحقق لا محالة في جميع الموارد حسب اعتبارهم إياه. نعم البيع الشرعي و
المصداق المضاف إليه يكون تحققه تابع اعتبار الشارع وجعله إياه فمع عدم اعتبار الشارع
إياه في مورد لا تحقق للبيع الشرعي وانما المتحقق هو البيع العرفي والمصداق المختص بهم.
فعلى ذلك فاطلاق القول بخروج عناوين المعاملات عن حريم النزاع بتقريب انها أمور
بسيطة أمرها دائر بين الوجود والعدم مما لا وجه له، بل اللازم هو التفصيل بين المسلكين
والقول بالخروج عن مورد النزاع على أحد المسلكين دون الاخر.
ثم إن المتعين من هذين الوجهين أيضا هو الوجه الأخير فان دعوى كون تلك
المسببات من الأمور الواقعية بعيد جدا، بل هي من الأمور الاعتبارية الجعلية التي قوام
تحققها بالجعل، نعم بعد الجعل والاعتبار يصير من قبيل الأمور الواقعية نظير الارتباط
المتحقق بين اللفظ والمعنى الحاصل بالجعل والوضع أو من كثرة الاستعمال، فكما ان
أصل تلك العلاقة والارتباط تكون تابعة للجعل في أصل تحققها وبعد الجعل تصير من
الأمور الواقعية كذلك تلك المسببات، وعليه فتدخل في حريم النزاع.
ثم إن الثمرة تظهر من مقام التمسك بالاطلاق من مثل (أحل الله البيع) عند الشك في
مدخلية شئ في البيع، فإنه على الأعم لا باس بالتمسك بالاطلاق في نفى ما شك في اعتباره. و
لا كذلك الامر على الصحيح، فإنه عليه مع الشك في مدخلية شئ في صحته عرفا يشك في
99

تحقق المسمى بدونه ومعه لا يبقى مجال للتمسك بالاطلاق. نعم بعد احراز البيع العرفي بما
له من الشرائط لو شك في دخل شئ في صحته شرعا يجوز التمسك باطلاق مثل (أحل الله
البيع) في نفى ما شك في اعتباره شرعا حتى على الصحيح. هذا بناء على المسلك الأخير من
جعلية البيع ونحوه، واما بناء على المسلك الأول ففي التمسك بالاطلاقات اللفظية في نفى ما
شك في اعتباره شرعا في صحته البيع اشكال ينشأ من احتمال خطأ العرف فيما يرونه
مصداقا للبيع، حيث إنه مع هذا الاحتمال يشك لا محالة في أصل تحقق البيع بدون
المشكوك، من جهة معلومية عدم اتباع فهم العرف الا في مقام كشف المفاهيم لا في مقام
تطبيق المفهوم على المصداق الخارجي فارغا عن معلومية المفهوم. وحينئذ فمع احتمال
خطأ العرف في تطبيق مفهوم البيع على المورد لم يجز التمسك بالاطلاق، لكونه من التمسك
بالعام في الشبهة المصداقية لنفس العام، هذا.
ولكن الذي يسهل الخطب هو وجود الاطلاق المقامي في المقام، حيث إنه بعد ما
يرون العرف الفرد الغير الواجد للمشكوك بحسب ارتكازهم مصداقا حقيقيا للبيع ويرتبون
عليه الآثار من النقل والانتقال ومع ذلك لم يردعهم الشارع يكشف ذلك عن أن ما يكون
بيعا عندهم بيع شرعي أيضا، والا لكان عليه التنبيه بذلك ببيان: ان غير الواجد لا يكون
حقيقة مصداقا للبيع وانه مصداق زعمي تخيلي. وحينئذ فبهذا الاطلاق الموصوف
بالمقامي يستكشف ان جميع ما يراه العرف بيعا بيع حقيقة لذي الشارع الا ما خرج قطعا
بالردع كبيع المنابذة والبيع الربوي ونحوهما، فيكون الاطلاق المقامي حينئذ مثمرا لثمرة
الاطلاق اللفظي. ومن ذلك أيضا نتمسك به لنفى اعتبار مثل قصد القربة مع عدم جريان
في الرسائل من منعه عن التمسك بالاطلاق في مورد قائلا بأنه ليس ذلك تقييدا في دليل
العبادة حتى يدفع بالاطلاق، وتجويزه التمسك به في مورد آخر في ضمن تقريب دليل
الانسداد، حيث نقول بان نظره في المنع عن التمسك بالاطلاق إلى الاطلاق اللفظي وفى
التجويز إلى الاطلاق المقامي.
تنبيه
قد يكون الشئ مطلوبا في العبادة ومندوبا إليه فيها من جهة جزئيته ودخله
100

الشطري في المهية المخترعة كالقراءة والركوع والسجود في الصلاة، وقد يكون من جهة
دخله الشرطي على نحو يكون تقيده داخلا في المهية المطلوبة دون نفسه وهذا كالطهور و
الستر والقبلة، وقد يكون من جهة كونه من قبيل الواجب في الواجب فيكون مطلوبيته
في تلك العبادة من جهة انحصار ظرفه فيها وتوقف وجوبه على وجوبها ووجودها لامن
باب دخالته في المطلوب بنحو الشطرية أو الشرطية وهذا القسم لم أجد له مثالا في
الصلاة ولكنه متصور في الحج وقد يكون من جهة كونه مستحبا في الواجب بنحو يوجب
وجوده صيرورة الفرد من أفضل الافراد نظير القنوت وسائر الأذكار المندوبة في الصلاة،
حيث إنها لا تكون مما لها الدخل في أصل الواجب بنحو الشرطية أو الشرطية ولا يكون
الاخلال بها ولو مع العمد أيضا منافيا للامتثال، ولكنها عند وجودها توجب مزية للفرد
الواجد لها على الفاقد وتكون جزء للفرد لا للطبيعة، لأنها من قبيل اللا بشرط بالنسبة
إليها فتحقق معها وبدونها، غاية الأمران الفرد المشتمل عليها يصير من أكمل الافراد و
أفضلها. وهذا واضح. خصوصا على ما بيناه من أن الصلاة معنى تشكيكي مختلف
المراتب ولها حدود تبادلية كالنور والخط.
ثم لا يخفى ان تصوير الواجب في واجب ربما يستلزم ورود نقض على منكري
معقولية الترتب المدعين لاستحالته، بتقريب ان تعدد الامر يقتضي تعدد القدرة على
الامتثال ومع عدم القدرة على الجمع بين الضدين يستحيل توجه التكليف بهما دفعة
بالايجاد في زمان واحد، توضيح الورود انه لو تم هذا المحذور لجرى نظيره في المقام أيضا
فيلزمه الالتزام بعدم معقولية الواجب في واجب، من جهة ان مقتضى القدرة على الشئ
هو القدرة على تركه ونقيضه والا فمع فرض عدم القدرة على الترك والنقيض لا يكاد
تحقق القدرة على الفعل أيضا، وعليه نقول: بأنه لو اعتبرت القدرة الفعلية على الامتثال في
صحة توجه التكليف بالضدين يلزمه اعتبارها في المقام أيضا، وحيث انه لا يكون
للمكلف في المقام القدرة على عصيان كلا الامرين في زمان واحد يترتب عليه عدم تصور
الواجب في الواجب، لان ظرف أحد الواجبين حيثما كان هو ظرف إطاعة الواجب الاخر
فلا جرم لم يتصور القدرة الفعلية على عصيان كلا الامرين فيتوجه حينئذ النقض المزبور،
ومن ذلك كنا نورد هذا الاشكال على من ادعى استحالة الامر بالضدين ولو بنحو
الترتب.
101

واما حل الاشكال: فهو ان القدرة الفعلية على الامتثال والعصيان انما تعتبر فيما لو
كان الامر ان عرضيين، واما لو كان الامر ان طوليين فلا يعتبر فيهما الا القدرة الطولية، و
حينئذ نقول: بان القدرة الطولية على عصيان الامرين كما كانت متحققة في المقام و
مصححة للامر بايجاد شئ في واجب آخر كذلك متحققة في الامر بالضدين بنحو الترتب
فتدبر.
الامر العاشر
لا ينبغي الاشكال في امكان الاشتراك بالنسبة إلى معنيين وأزيد بل وقوعه أيضا في
لغة العرب بل وفي غيرها من اللغات كما في لفظ شير بالفارسية الذي هو اسم للأسد
الذي هو الحيوان المفترس واسم أيضا لللبن كقول الشاعر:
(آن يكى شير است اندر باديه وان يكى شيراست اندر باديه)
وحينئذ فدعوى امتناعه كما عن بعض مدعيا لاستلزامه الاخلال بالتفهيم والتفهم
المقصود من الوضع بلا نصب القرينة على المراد و
استلزامه التطويل بلا طائل معها في غير محلها، لما عرفت من الوقوع الذي هو أدل دليل
على امكانه. وحينئذ فما ذكر من المحذور على تقدير تماميته يكون من الشبهة في قبال
البداهة، خصوصا مع عدم تماميته أيضا، حيث نقول: بأنه كثيرا ما يتعلق الغرض بالاجمال
المعلوم عدم حصوله غالبا الا بذلك، فلا يكون حينئذ اخلال بالغرض. واما حديث لزوم
التطويل بلا طائل مع نصب القرينة فهو أيضا ممنوع إذا كان الاتكال على القرينة
الحالية، مع لزوم الاحتياج على المجاز إلى قرينتين: إحديهما صارفة والأخرى معينة للمراد،
بخلافه على الاشتراك فإنه لا يحتاج الا إلى قرينة واحدة معينة للمراد.
نعم هنا وجه آخر للقول بالامتناع، وهو ان قضية الوضع حيثما كان عبارة عن نحو
اختصاص خاص بين اللفظ والمعنى وكونه على نحو المرآتية والفناء لا مطلق
الاختصاص ولو على نحو الا مارية، فلا جرم يلزمه امتناع اختصاص لفظ واحد بذلك
الاختصاص الخاص بالمعنيين المتبائنين أو أزيد بنحو كان اللفظ مرآة وفانيا فيهما.
ولكن يدفع هذا الوجه أيضا بأنه انما يتوجه هذا المحذور فيما لو كان قضية الوضع
102

جعل المرآتية الفعلية للفظ على الاطلاق بنحو يلزمه ظهور اللفظ في المعنى ظهورا فعليا
بقول مطلق ولو مع وجود المانع أو المزاحم، إذ حينئذ يتوجه المحذور المزبور من امتناع ان
يكون للفظ واحد ظهور فعلى في المعنيين المتبائنين، ولكن هذا المعنى ممنوع جدا بل المقدار
الذي يقتضيه قضية الوضع من العلقة والاختصاص بينه وبين المعنى انما هو صيرورة
اللفظ ظاهرا في المعنى ظهورا فعليا لولا ما يمنعه ويزاحمه، وبعبارة أخرى ان ما يقتضيه
الوضع من العلاقة والاختصاص لا يكون الا عبارة عن كون اللفظ بنحو فيه اقتضاء
المرآتية والظهور في المعنى الموضوع له بحيث لو أطلق ينسبق منه المعنى الفلاني لولا ما
يزاحمه ويمنعه، لا ان مقتضاه هو الظهور الفعلي والمرآئية الفعلية حتى مع وجود المانع أو
المزاحم. وحينئذ نقول: بأنه على ذلك لا يكاد يتوجه المحذور المزبور فإنه من الممكن حينئذ
ان يكون للفظ واحد اقتضاء المرآتية والظهور بالنسبة إلى أزيد من معنى واحد، غايته انه
من جهة تصادم المقتضيين في مرحلة الفعلية لا يكون له ظهور فعلى في واحد من المعنيين
الا إذا كان هناك ما يمنع عن فعلية أحدهما فيؤثر الاخر حينئذ في الفعلية ويصير عند
اطلاقه ظاهرا فعليا في المعنى الآخر، كما هو واضح.
ثم إن في قبال هذا القول قولا آخر بوجوب الاشتراك بملاحظة تناهى الألفاظ وعدم
تناهى المعاني، ولكنه أيضا في غير لتناهي المعاني الكلية ولو كان جزئياتها غير
متناهية، على أن للمنع عن تناهى الألفاظ أيضا كمال مجال، لما يرى بالوجدان من
بلوغها إلى غير النهاية بتركيب الحروف بعضها مع بعض، ومع تسليم ذلك نمنع الاحتياج
إلى المعاني بأزيد من الألفاظ المستعملة في ألسنة الناس بتركيب بعض الحروف مع
بعضها، وعلى تقدير الاحتياج أحيانا بأزيد من ذلك مما لم يوضع له لفظ يمكن تفهيمه
بمعونة القرائن، فيبطل حينئذ ما ادعي من وجوب الاشتراك، كما لا يخفى.
الامر الحادي عشر
قد وقع الخلاف بين الاعلام في وجواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد على نحو الاستقلال
بنحو كان كل واحد من المعنيين أو المعاني كما إذا لم يستعمل اللفظ الا فيه على أقوال:
ثالثها عدم الجواز بنحو الحقيقة والجواز على نحو المجاز، ورابعها التفصيل بين المفرد وبين
103

التثنية والجمع بعدم الجواز في الأول والجواز في الثاني. وقبل الخوض في المرام لا بأس
من تمهيد مقدمة لبيان الأنحاء المتصورة من الاستقلال في المقام لكي يعلم ما هو المراد
من الاستقلال المأخوذ في عنوان البحث لا يختلط عليك الامر فيما هو الحق الحقيق
من هذه الأقوال.
فنقول وعليه التكلان: ان المحتملات المتصورة من الاستقلال المبحوث عنه في
المقام أمور:
الأول: إرادة استقلال ذات المعنى الملحوظ في الذهن في قبال عدم الاستقلال الذي
هو بمعنى انضمامه مع الغير فيه سواء كان مستقلا بحسب اللحاظ أيضا كما لو تعلق بكل
واحد من المعنيين لحاظ مستقل أو لم يكن مستقلا بحسب اللحاظ بان تعلق لحاظ واحد
بالمجموع، وذلك من جهة انه لا تلازم بين تعدد المعنى الملحوظ وبين تعدد اللحاظ، فيمكن
ان يكون المعنى الملحوظ مع كونه متعددا متعلقا للحاظ واحد، كما في لحاظك نقاطا متعددة
بلحاظ واحد متعلق بالمجموع، كامكان كون كل واحد منهما متعلقا للحاظ واحد مستقل،
كما أنه يمكن في طرف العكس ان يكون الملحوظ مع كونه غير مستقل بذاته مورد تعلق
لحاظات متعددة مستقلة كما في تصورك النقاط المتعددة خطا طويلا بالغاء حدوداتها
الخاصة وجعلك كل جزء منه مورد لحاظ مستقل، بحيث تحكم عليه بان هذا الطرف من
الخط أحسن من الطرف الآخر. وتوهم ان لحاظ الشئ ليس الا عبارة عن تصوره وايجاده
في الذهن فمع فرض وحدة المتصور وجودا في الذهن لا معنى لصيرورته متعلقا للحاظات
متعددة مستقلة، كما أنه في فرض تعدد المتصور لا معنى لصيرورته متعلقا للحاظ واحد،
مدفوع بان تصور الشئ كما ذكرت انما هو عبارة عن ايجاد الشئ في الذهن، واما اللحاظ
فهو عبارة عن توجه النفس إلى شئ ملحوظ بعد تصوره وايجاده في الذهن، ولذلك ترى في
تصورك الخط الواحد بأنك إذا لاحظت أوله وآخره تحكم عليه بأن أوله أحسن من اخره.
الثاني: إرادة استقلال المعنى في عالم اللحاظ بمعنى ان يكون المعنيان كل واحد منهما
مورد لحاظ مستقل في قبال ما لو كان المجموع مورد تعلق لحاظ واحد.
الثالث: إرادة استقلال المعنى بحسب إرادة التفهيم في قبال عدم استقلاله بحسبها،
كان المعنى بحسب ذاته أو بوصف كونه ملحوظا متعددا أم لا، حيث لا تلازم أيضا بين
استقلال المعنى بحسب إرادة التفهيم وبين الاستقلال بالمعنيين المتقدمين فيمكن ان يكون
104

المعنى مع كونه مستقلا في ذاته أو بوصف كونه ملحوظا غير متعلق لإرادة التفهيم رأسا
فضلا عن تبعيتها في الاستقلال والضمنية لاستقلاله بحسب اللحاظ أو بحسب ذاته.
ورابعها: إرادة الاستقلال حسب مرحلة إرادة الوجود والحكم أو الاعراض الخارجية
كما في العام الافرادي في قبال عدم استقلاله بحسبه كما في العام المجموعي. فهذه
محتملات أربعة متصورة فيما هو المراد من الاستقلال المبحوث عنه.
واما مقام التصديق: فينبغي القطع بعدم إرادة الاستقلال بالمعنيين الأخيرين بل و
خروجهما عن حريم النزاع، بداهة ان إرادة التفهيم باللفظ وكذا إرادة الحكم، انما هي
من دواعي الاستعمال، ومن هنا قد يتحقق الاستعمال ومع ذلك لا يكون في البين إرادة
ولا إرادة وجود أصلا، بل وخصوصا الأخير، حيث إنه قد يكون إرادة الوجود متحققة
بلا ذكر لفظ أصلا، وعليه فلا ينبغي توهم إرادة القائل بالامتناع مثل هذه الصورة
خصوصا بعد اجتماع هذين المعنيين مع وحدة اللحاظ المتعلق بهما تفصيلا أم اجمالا عند
تعلق إرادة الوجود بكل واحد منهما. واما ما يترائى من بعض التعابير من كون المعنيين
كل واحد منهما بحيث يقع موردا للنفي والاثبات أو الحكم بهما، فالمراد منه هو الاستقلال
في مرحلة النسبة الحكمية الكلامية الملازم مع الاستقلال بحسب اللحاظ باعتبار تفرعها
على لحاظ المنتسبين، نظرا إلى أن استقلال المعنى بالإضافة إلى مثل هذه النسبة الكلامية
فرع على لحاظ كل من المنتسبين مستقلا في مقام إرجاع المحمول إليه خصوصا مع اختلاف
المنتسبين من جهة الايجاب والسلب، فان ايقاع الايجاب والسلب حينئذ لكل واحد
منهما لا محالة يحتاج إلى لحاظ كل منهما بلحاظ مستقل بنحو يكون كل واحد منهما تمام
الملحوظ في لحاظه، لا ان المراد هو استقلال المعنيين بحسب إرادة الوجود كما هو واضح.
كيف وان لازمه هو خروج فرض استعمال اللفظ في المعنيين بنحو يكون كل واحد منهما
متعلقا للحاظ مستقل إذا اعتبر تعلق حكم واحد بالمجموع كما في العام المجموعي عن حريم
النزاع، مع أنه كما ترى، إذ لا ينبغي الاشكال في دخول مثل هذا الفرض في مورد النزاع
بينهم.
وحينئذ يدور الامر في المراد من الاستقلال بين الاحتمالين الأولين، وهو استقلال
ذات المعنى الملحوظ أو استقلاله بوصف الملحوظية الملازم مع الاستقلال بحسب اللحاظ.
وحينئذ نقول: بأنه لو كان المراد من الاستقلال عبارة عن استقلال المعنى الملحوظ
105

بذاته لا بوصف كونه ملحوظا كان الحق مع القائل بالجواز عقلا لضرورة عدم محذور عقلي
فيه بعد امكان تعلق لحاظ واحد بأمور متعددة مبائن كل واحد مع الاخر واستعمال
اللفظ فيها، كما في لحاظك النقاط المتعددة بلحاظ واحد متعلق بالمجموع، وحينئذ فلو كان
فيه كلام فلابد وأن يكون في جوازه لغة كما سيجئ لا في جوازه عقلا. واما لو كان المراد
من الاستقلال هو استقلال المعنى بحسب اللحاظ وبوصف الملحوظية بنحو يقتضي تعدد
النسبة في النسبة الكلامية لكان الحق مع يدعى الامتناع عقلا، بداهة استحالة إرادة
المعنيين المتبائنين من اللفظ الواحد بنحو يكون كل واحد منهما متعلقا للحاظ مستقل في
آن واحد فلابد حينئذ من تنقيح هذه الجهة وان المراد من الاستقلال المبحوث عنه أي
واحد من المعنيين.
وحينئذ نقول: بان الظاهر على ما يظهر من كلماتهم إرادة الاستقلال بالمعنى الثاني و
هو الاستقلال بوصف الملحوظية بنحو كان المعنيان كل واحد منهما تمام الملحوظ في مقام
اللحاظ، لا ملحوظا تمامه باللحاظ ولو ضمنا، حيث إن ذلك ظاهر جماعة منهم كصاحب
الكفاية (قدس سره) وصاحب البدايع وصاحب الفصول وغيرهم، قال في الكفاية
في بيان المراد من الاستقلال المبحوث عنه: (هو ان يراد كل واحد كما إذا لم يستعمل
اللفظ الا فيه) حيث إنه ظاهر بل صريح فيما ذكرناه من الاستقلال، نظرا إلى أن حقيقة
الاستعمال بعد أن كان عبارة عن ذكر اللفظ ولحاظ المعنى، فيكون قوله (قدس سره):
(كما إذا لم يستعمل اللفظ الا فيه) معناه كون كل واحد منهما تمام الملحوظ في مقام اللحاظ
كما لو لم يكن الا ذاك، لا كون كل واحد منهما ملحوظا تمامه ولو بلحاظ ضمني. ومثله
عبارة البدايع حيث قال: (اعلم أن لإرادة المعنيين صورا أحدها ان يطلق المشترك ويراد
به المعنيان بنحو الاستقلال) ثم فسره بقوله: (على أن يكون كل منهما مناطا للحكم ومتعلقا
للنفي والاثبات كما تقول: أقرأت الهندان، تريد حاضت هذه وطهرت تلك، على سبيل
التوزيع حتى كأنك ذكرت اللفظ مرتين) ومن المعلوم صراحة هذا الكلام أيضا منه فيما
ذكرناه في المراد من الاستقلال المبحوث عنه باعتبار اقتضاء قوله: على أن يكون كل منها
(الخ) لتعدد النسبة واختلافها الملازم ذلك مع تعدد اللحاظ أيضا. ونحوه ما عن
الفصول قال فيما حكى عنه في تحرير محل النزاع: (الرابع ان يستعمل اللفظ في كل واحد
من المعنيين على أن يكون كل واحد منهما مرادا من اللفظ بانفراده كما إذا كرر اللفظ و
106

أريد ذلك) قال: وهذا محل النزاع. وظاهره ارادته من قوله: (على أن يكون كل واحد
منهما مرادا من اللفظ بانفراده) الإرادة الاستعمالية التي هي مقومة لحقيقة الاستعمال،
لا إرادة التفهيم أو الوجود كما يشهد لذلك قوله بعد ذلك: (ولا فرق بين ان يكون كل
واحد منهما متعلقا للحكم ومناطا للنفي والاثبات أو يكون المجموع كذلك)، وعليه
فينادي كلامه بان ما هو محل النزاع انما هو صورة استقلال المعنيين في مرحلة اللحاظ لا
استقلالهما بحسب ذاتهما ولولا بوصف الملحوظية.
وربما يشهد لما ذكرنا أيضا الموارد الخاصة التي استشكلوا فيها من جهة محذور
استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد:
منها: في مثل قوله عليه السلام: كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر وكل شئ حلال
حتى تعلم أنه حرام، حيث إنهم استشكلوا على من يقول بامكان استفادة قاعدتي
الاستصحاب والطهارة في الأول واستفادة قاعدتي الاستصحاب والحلية في الثاني،
حيث قالوا بعدم امكان استفادة القاعدتين معا من الرواية واستحالتها، نظرا إلى احتياج
القاعدة إلى أن يكون النظر فيها إلى أصل ثبوت المحمول وهو الحلية والطهارة، واحتياج
الاستصحاب إلى أن يكون النظر فيها إلى حيث استمرار المحمول فارغا عن أصل ثبوته
فيلزم حينئذ من إرادة القاعدتين اجتماع النظرين فيه في آن واحد وهو محال.
ومنها: في مبحث البراءة في قوله سبحانه: (لا يكلف الله نفسا الا ما آتيها) حيث
استشكلوا فيها أيضا بعدم امكان إرادة الفعل والتكليف معا من الموصول، بتقريب انه
بناء على تقدير إرادة الحكم منه يكون نسبته إلى التكليف من قبيل نسبة الفعل إلى
المفعول المطلق، وعلى تقدير إرادة الفعل من الموصول يكون نسبته إليه من قبيل نسبة
الفعل المفعول به، فعلى فرض إرادة الحكم والفعل منه يلزم اجتماع النظرين فيه
باعتبار اقتضاء تعدد النسبة التعدد في ناحية النظر واللحاظ أيضا.
ومنها: في قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) من حيث امكان استفادة الاستصحاب
وقاعدة اليقين منه فراجع.
ومنها: غير ذلك من الموارد الاخر، حيث إنه يعلم من ذلك كله بان ما هو مورد البحث
في الجواز والامتناع انما هو صورة استعمال اللفظ في المعنيين بنحو يكون كل واحد منهما
مستقلا في مرحلة النسبة الكلامية الملازم مع استقلالهما في الملحوظية أيضا، لا صورة
107

مطلق استعمال اللفظ في المتعدد ولو بنحو كان المجموع متعلقا للحاظ واحد.
وعليه نقول: بأنه لو بنينا في وضع الألفاظ على المرآتية كما هو التحقيق أيضا فلا
ينبغي الاشكال في أن الحق مع من يدعى الامتناع العقلي من جهة ما فيه من استلزامه
لاجتماع اللحاظين في آن واحد في لفظ واحد للحاظ واحد وهو من المستحيل. واما لو
بنينا فيها على الا مارية التي لازمها سببية اللفظ لانتقال الذهن بدوا إلى المعنى الموضوع له
كما شرحناه سابقا نظير الدخان الذي هو سبب لانتقال الذهن إلى وجود النار بدوا وبلا
توسيط شئ فقد يقال فيه بالجواز واختاره الأستاذ دام ظله في درسه الشريف أيضا،
بتقريب ان مناط الاستحالة انما هو حيث اجتماع اللحاظين والنظرين في منظور واحد،
وهو غير متحقق بناء على الا مارية، لأنه عليها لا يكون اللفظ واسطة للانتقال وموردا
لتعلق اللحاظ بدوا كما على المرآتية بحيث يكون الانتقال إلى المعنى بتوسيط اللفظ ومن
باب السراية منه إليه حتى يلزمه اجتماع اللحاظين والنظرين في شئ واحد، بل وانما
اللفظ على هذا المبنى يكون سببا لانتقال الذهن بدوا وبلا واسطة إلى المعنى، نظير سببية
الدخان للانتقال إلى وجود النار وسببية شئ كذائي للانتقال إلى ملزومه ولوازمه. و
حينئذ فإذا كان المعنى متعددا ذاتا وكان اللفظ سببا للانتقال إلى المعنى لا انه كان
واسطة للانتقال وللسراية منه إلى المعنى، فلا باس بان يتعلق بكل واحد من المعنيين لحاظ
مستقل لأنه ليس من باب اجتماع اللحاظين في شئ واحد حتى يقال بامتناعه و
استحالته، ومجرد كون اللحاظين مجتمعين في آن واحد حينئذ غير ضائر بعد فرض تعدد
المتعلق فإنه ليس بأعظم من اجتماع الضدين كالحب والبغض وغيرهما من صفات
النفس مع أن اجتماعهما في الآن الواحد عند فرض تعدد المتعلق مما لا يكاد ينكر كما في
محبة الانسان لولده وبغضه لعدوه. وحينئذ فإذا أمكن اجتماع الضدين في الآن الواحد
عند فرض تعدد المتعلق فليكن كذلك في المثلين في مفروض المقام. وعليه فلا ينبغي مجال
الاشكال في امكان استعمال اللفظ الواحد في المعنيين على الا مارية بإرادة كلا المعنيين
منه المعنى الحقيقي والمجازي كما هو واضح.
أقول: ولكن الذي يقوى في النظر هو عدم الفرق في الاستحالة بين المسلكين وانه
لا يجدي في رفع الاستحالة مجرد تعدد المتعلق كما يجدي في مثل الحب والبغض والإرادة
والكراهة، إذ نقول بان النفس بعد ما توجهت إلى شئ ولاحظته بتمام التوجه واللحاظ
108

يستحيل توجهها في ذاك الآن إلى شئ آخر يغايره ويباينه على نحو توجهها بما توجهت إليه
أولا. وهذا المعنى من الوجدانيات التي لا تحتاج إلى إقامة البرهان عليه، ولذا ترى من
نفسك عند توجهك إلى أمر من الأمور العلمية أو غيرها الغفلة في ذلك الآن عن بقية الأمور و
من المعلوم انه ليس ذلك الا من جهة ما أشرنا إليه من الاستحالة. ومقايسته المقام بسائر
صفات النفس من الحب والبغض ونحوهما ممنوعة، بان مثل الحب والبغض ونحوهما
أمور قهرية عارضة على النفس بلحاظ مناشئها الخاصة، فمن ذلك أمكن اجتماعها عند
فرض تعدد المتعلق وأين ذلك واللحاظ الذي هو من الأمور الاختيارية للنفس! فعلى ذلك
لا فرق في الاستحالة بين القول بمرآتية اللفظ للمعنى أو اماريته فان مناط الاستحالة انما
هو حيث اجتماع اللحاظين في آن واحد للحاظ واحد، كان في العالم لفظ أم لا قلنا
بمرآتية اللفظ أو أماريته كما هو واضح.
اللهم الا ان يدعى بان ذلك انما يتم فيما لو كان المعنيان كل واحد منهما متعلقا لتمام
اللحاظ على معنى ان تمام اللحاظ كما تعلق بهذا المعني كذلك تعلق أيضا بذلك المعنى
الآخر، إذ حينئذ يتوجه المحذور المزبور ولو على امارية اللفظ باعتبار ان لازم تعلق تمام
اللحاظ بشئ هو الغفلة عما عداه. ولكنه ليس كذلك، بل المدار في الاستقلال بحسب
اللحاظ انما هو استقلال كل من المعنيين في عالم تعلق اللحاظ على نحو كان كل منهما
تمام الملحوظ لا تمام الملحوظ بتمام اللحاظ، والفرق بينهما واضح.
فعلى ذلك فلا بد من التفصيل بين القول بالمرآتية وبين القول بالأمارية في الجواز و
الامتناع، بالمصير إلى الجواز عقلا في الثاني والامتناع عقلا في الأول، ولكن حيث إن
التحقيق في المسلكين هو مسلك المرآتية دون الا مارية كما تقدم بيانه في محله فلا جرم
يتعين القول بالامتناع عقلا من دون فرق في الاستحالة بين الحقيقة والمجاز ولا بين المفرد
وبين التثنية والجمع فان مناط الاستحالة متحقق على جميع الصور والتقادير. واما
الانتقاض ببابي العام الاستغراقي والوضع من حيث كون كل فرد من افراد العام
محكوما بحكم شخصي مستقل وهكذا في الوضع في عام الوضع وخاص الموضوع له،
فمدفوع بما مر سابقا من خروج نحو ذلك عما هو مورد الكلام، فان مورد الكلام كما عرفت
انما هو صورة استعمال اللفظ في المتعدد بما هو متعدد بحسب اللحاظ بنحو يكون المعنيان
كل واحد منهما تمام الملحوظ باللحاظ لا بحسب إرادة الوجود خارجا، على أن الحكم في
109

مثل قوله أكرم العالم لا يكون الا حكما واحدا متعلقا بأمر واحد وهو العنوان العام، غايته
هو انحلاله بحسب التحليل إلى احكام متعددة حسب تعدد افراد العام وأين ذاك وتعدده
في مرحلة الانشاء الكلامي كما هو واضح كيف ولازمه انتهاء الامر إلى انشاءات احكام
غير متناهية عند عدم تناهي افراد العام وهو كما ترى.
وكيف كان فهذا كله بناء على كون المراد من الاستقلال المبحوث عنه هو
الاستقلال في مرحلة النسبة الكلامية الملازم مع الاستقلال بحسب اللحاظ، وعليه قد
عرفت بان التحقيق فيه هو الامتناع عقلا مطلقا بناء على ما هو التحقيق في وضع الألفاظ
من المرآتية لا الأمارية من دون فرق بين الحقيقة والمجاز ولا بين المفرد والتثنية والجمع.
واما بناء على إرادة استقلال ذات المعنى الملحوظ من الاستقلال المبحوث عنه فعليه قد
عرفت جوازه عقلا مطلقا ولو على المرآتية في الألفاظ نظرا إلى وضوح امكان تعلق لحاظ
واحد بأمور متعددة بما هي متعددة. وحينئذ فالاستعمال بهذا النحو مما لا مجال لدعوى
امتناعه عقلا بل ولا يظن من القائل بالامتناع إرادة هذه الصورة فان تمام همهم في المنع
عقلا انما هو صورة استقلال المعنيين بوصف الملحوظية.
نعم بعد ما أمكن هذا القسم من الاستعمال في نفسه ولم يقم برهان عقلي على
امتناعه يبقى الكلام في جوازه لغة وانه هل يجوز ذلك مطلقا أو لا يجوز كذلك أو يفصل بين
المفرد وغيره؟ فنقول انهم ذكروا في المنع عن صحة الاستعمال على الوجه المزبور وجوها:
منها: ما افاده بعض المحققين في بدايعه حيث قال ما حاصله: ان الاستعمال على
الوجه المزبور امر ممكن لم يقم على المنع عنه دليل عقلي، ولكنه يمنع عن صحة استعماله
عدم معهودية الاستعمال بهذا النحو في كلام العرب نظما ونثرا كما يظهر عند التتبع و
استقراء كلماتهم ممن يعتد بشأنه من الخطباء وغيرهم، فإذا فرض عدم مساعدة أهل
اللسان على مثل هذا النحو من الاستعمال وخروجه عما هو المأنوس والمتعارف عندهم
فلا جرم يكون الاستعمال غلطا غير صحيح من جهة عدم كونه من اللغة المتحاور فيها
علاوة عما نرى بالوجدان من ابائه عن التعبير عن المعاني المختلفة بلفظ واحد ولو في
الموارد المطلوب فيها الايجاز والاختصار.
أقول: ولا يخفى عليك انه لو تم هذا الدليل لكان مقتضاه عدم الفرق في المنع بين
المفرد وغيره ولا بين ان يكون الاستعمال بنحو الحقيقة أو المجاز.
110

ومنها: ما افاده صاحب المعالم (قدس سره) حيث منع عن الاستعمال المزبور في
المفرد بنحو الحقيقة لاعتباره قيد الوحدة في الموضع له، والتزم بالجواز في غيره حيث قال
بعد اختيار الجواز: لنا على الجواز انتفاء المانع بما سنبينه من بطلان ما تمسك به المانعون، و
على كونه مجازا في المفرد تبادر المعنى منه مفردا عند اطلاق اللفظ فيفتقر إرادة الجميع إلى
الغاء قيد الوحدة فيصير اللفظ مستعملا في خلاف موضوعه لكن وجود العلاقة المصححة
للتجوز أعني علاقة الكل والجزء يجوزه فيكون مجازا. واستدل أيضا على كونه بنحو
الحقيقة في التثنية والجمع بأنهما في قوة تكرار المفرد بالعطف (انتهى كلامه قدس سره)
أقول: الظاهر أن مراده (قدس سره) من الوحدة التي اعتبرها في المعنى والموضوع له هي
وحدة المعنى وانفراده عن الشريك في مرحلة الوضع لا الوحدة الذاتية التي يعتبرها العقل
من المعنى كي يرد عليه: بأنه لا شبهة في بقاء المعنى على حاله حتى في حال استعمال
اللفظ في المتعدد من دون انقلابه عما هو عليه من الوحدة الذاتية بانضمام الغير معه فكان
المعنى على وحدته ولو انضم إليه الف معنى في مقام الاستعمال حيث كان المستعمل فيه
حينئذ عبارة عن الف واحد ولا وحدة المعنى وجودا على معنى كون المعنى منفردا دائما
بحسب الوجود، كي يرد عليه: بأنه لا معنى لدعوى وضع اللفظ للمعنى بشرط انفراده في
عالم الوجود وعدم وجود معنى آخر، كيف وان مثل ذلك مما لا ينبغي ان يحتمل صدوره
عن عاقل فضلا عن مثله قدس سره الشريف وحينئذ فيتعين ان يحمل الوحدة
المذكورة في كلامه على ما ذكرناه من وحدة المعنى وانفراده عن الشريك حال الوضع.
نعم على ذلك أيضا يتوجه عليه اشكال المحقق القمي (قدس سره) بعدم امكان اخذ
مثل هذه الوحدة الناشئة من قبل قصر الوضع قيدا في ناحية المعنى والموضوع له لأنها
باعتبار نشوها من قبل قصر الوضع تكون في رتبة متأخرة عن ذات المعنى والموضوع له، و
مع فرض تأخرها عنه رتبة يستحيل اخذها قيدا له وحينئذ فلابد من تجريد المعنى عن
مثل هذه الوحدة أيضا ومع التجريد لا يبقى الا ذات المعنى عارية عن حيث التقيد
بالوحدة، وعليه فلا يكون استعمال اللفظ المفرد في المتعدد من الاستعمال المجازي، بل
امره دائر بين كونه غلطا من رأسه وبين كونه استعمالا حقيقيا. بل قد يقال بالمنع عن
صحة الاستعمال المزبور مجازا أيضا ولو مع تسليم تقيد المعنى بقيد الوحدة والانفراد،
بتقريب ان المستعمل فيه اللفظ لما كان هو المعنى الملحوظ معه آخر فلا جرم يكون
111

الاستعمال المزبور من الاستعمال في المعنى المباين نظرا إلى مباينة المعنى المقيد بالانفراد
عن الشريك مع المعنى معه الشريك وحينئذ فبعد ما لم يكن علاقة في البين تجوز
الاستعمال المزبور فلا جرم يصير الاستعمال غلطا محضا.
ومنها: ما افاده المحقق القمي (قدس سره) في وجه المنع عن صحة الاستعمال المزبور
حيث قال ما حاصله: بان الوضع انما كان في حال وحدة المعنى وانفراده ولو لم يكن
بشرط الوحدة وحينئذ يكون التعدي عن تلك الحالة إلى حالة أخرى يعنى حالة انضمام
الغير مع المعنى تعديا عما هو وظائف الوضع وخارجا عن قانونه، وكل استعمال لا
يلاحظ فيه وظائف الوضع كان خارجا عن قانون اللغة وكان من الأغلاط لعدم كونه
من الحقيقة ولا المجاز. ولقد أورد عليه بان حال الوحدة بعد ما لم تكن قيدا للوضع ولا
للموضوع له لا مانع عن جواز الاستعمال المزبور، ومن ذلك ترى انه لا مانع عنه في
الاعلام مع أن الوضع فيها كان في حال بعض الأوصاف حيث يصح استعمالها في
مسمياتها عند زوال تلك الأوصاف بل وعند طرو ما يضادها أيضا. أقول: ولا يخفى عليك
انه لا مجال لا يراد هذا الاشكال عليه (قدس سره) إذ نقول: بان الغرض من الوضع
بمقتضي صرافة الطبع بعد أن كان هو مرآتية اللفظ للمعنى في حال انفراده عن الشريك لا
مطلقا حتى في حال عدم انفراده وانضمام معنى آخر إليه، فلا جرم بمقتضي تضيق دائرة
الغرض وعدم سعته يطرء نحو ضيق أيضا على موضوع وضعه فيكون وضعه بهذا الاعتبار
مقصورا في حال وحدة المعنى وانفراده عن الشريك ويكون الموضوع له أيضا عبارة عن
نفس ذات المعنى لكن لا الذات المطلقة ولو كان معها الشريك ولا المقيدة بقيد الانفراد،
لما تقدم في جواب صاحب المعالم من امتناع اخذ مثل القيد الناشي من جهة قصر الوضع
في ناحية المعنى والموضوع له. ومن المعلوم حينئذ انه بعد عدم امكانه اخذ الوحدة و
الانفراد في ناحية الموضوع له وعدم اطلاقه أيضا حسب قصور دائرة الوضع فلا جرم لا يبقى
في البين الا ذات المعنى في حال الوحدة بنحو القضية الحينية لا الوصفية المعبر عنه في
كلامه (قدس سره) بان الموضوع له هو المعنى في حال الوحدة لا بشرط الوحدة كي تكون
قيدا للمعنى ولا لا بشرط الوحدة. وحينئذ فعلى ذلك لا يبقى مورد للاشكال المزبور، إذ
نقول: بان عدم صحة الاستعمال المزبور حينئذ انما هو من جهة عدم اطلاق المعنى الموضوع
له وتضيفه الناشي من قبل قصور الوضع إذ حينئذ يصير الاستعمال المزبور خارجا عن
112

قانون الوضع واللغة ويكون من الأغلاط.
نعم لو أن أحدا منع عن ذلك لابد له من المنع عن المقدمة الأولى بدعوى: ان الغرض
من الوضع انما هو جعل مطلق المرآتية للفظ بالنسبة إلى معناه ولو ضمنا لا جعل المرآتية
المطلقة له كي يلزمه قصور وضعه عن الشمول الا لحال انفراد المعنى عن الشريك فيترتب
عليه عدم صحته استعماله في حال انضمام الغير معه، وحينئذ فإذا لم يقتض الوضع الا
مطلق مرآتية اللفظ للمعنى ولو في ضمن الغير يترتب عليه صحة الاستعمال في المعنيين
فإذا كان اللفظ بحسب وضعه مشتركا بين المعنيين يكون استعماله فيهما استعمالا حقيقيا
وإذا لم يكن. اللفظ مشتركا يكون الاستعمال المزبور بالنسبة إلى المعنى الحقيقي استعمالا
حقيقيا لتحقق المرآتية بالنسبة إلى المعنى الآخر يكون الاستعمال استعمالا
مجازيا، هذا.
ولكن الانصاف هو بعد دعوى كون قضية الوضع هو جعل مطلق المرآتية للفظ
بالنسبة إلى معناه ولو ضمنية كيف ولازمه في مثل قوله أكرم العالم مثلا هو الحكم
بالاجمال من جهة عدم امكان استفادة ان العالم هو تمام الموضوع لهذا الحكم وذلك
لاحتمال ان يكون الاستعمال المزبور في قوله (العالم) استعمالا في المعنى الحقيقي والمجازي
الملازم في المثال لكون عنوان العالم جزء الموضوع لحكم وجوب الاكرام وجزئه الاخر معنى
آخر مجازي، ومن المعلوم انه مع هذا الاحتمال لا مجال للحكم بان تمام الموضوع للحكم
المزبور هو عنوان العالم ما لم يكن هناك ما يدفع الاحتمال المزبور، وحيث انه لا يكون في
البين ما يدفع به الاحتمال المزبور فلا جرم نفس احتماله موجب للتوقف وعدم الحكم
بأنه تمام الموضوع للحكم المزبور، مع أن ذلك كما ترى خلاف ما استقر عليه بناء أهل
المحاورة، حيث لا شبهة في حكمهم في نحو المثال المزبور بان ما هو تمام الموضوع هو نفس
عنوان العالم. وهذا بخلافه على المرآتية المطلقة فإنه عليه يكون للفظ بمقتضي وضعه ظهور
في معناه وبمقتضى أصالة الظهور يحكم في المثال بان ما هو تمام الموضوع للحكم انما هو
عنوان العالم الذي كان اللفظ حاكيا عنه ويدفع به احتمال كونه جزء الموضوع. بخلافه
على مطلق المرآتية فإنه عليه لا يكون للفظ ظهور في أن عنوان العالم هو تمام الموضوع
للحكم بوجوب الاكرام كي يقتضي أصالة الظهور فيه دفع احتمال انضمام الغير معه في
عالم الموضوعية للحكم، بل أقصى ما يقتضيه الوضع حينئذ انما هو ظهور اللفظ في دخل
113

عنوان العالم في الموضوع، واما كونه تمام الموضع فلا، وحينئذ فبعد احتمال إرادة المعنى
الحقيقي والمعنى المجازي من لفظ العالم فلا جرم لابد من سد باب هذا الاحتمال، وحيث
انه لا يكون في البين ما يدفع به الاحتمال المزبور فلا جرم لابد من التوقف والحكم
بالاجمال. واما أصالة عدم القرينة فهي أيضا غير مثمرة، لان أقصى ما تقتضيه انما هو
نفى وجود الامارة على إرادة المجاز لا نفى احتمال إرادة المجاز واقعا، نعم هي مثمرة بناء
على المرآتية المطلقة لأنه عليه يكون وجود الامارة على المجاز مانعا عن التمسك بأصالة
الحقيقة والظهور، فبعد جريان أصالة العدم تجرى أصالة الظهور ويثبت بها ان ما هو
تمام الموضوع هو نفس عنوان العالم. وحينئذ فنفس بناء أهل المحاورة وارتكازهم على
عدم الاعتناء باحتمال إرادة المعنى المجازي في نحو المثال المزبور واستفادتهم ان ما هو تمام
الموضوع هو نفس عنوان العالم ربما يساعد على المرآتية المطلقة وعليه يتوجه الاشكال
المتقدم حيث إنه في فرض الاستعمال في المتعدد يدور امر ذلك الاستعمال بين كونه غلطا
رأسا باعتبار خروجه عما عليه قانون الوضع واللغة كما افاده المحقق القمي (قدس سره)
حتى بالنسبة إلى معناه الحقيقي وبين كونه مجازا بناء على فرض وجود العلائق المجوزة
للاستعمال فعلى كل حال يخرج الاستعمال المزبور عن كونه استعمالا حقيقيا كما هو
واضح. وكيف كان فهذا كله في المفرد.
واما التثنية والجمع: فالمصرح به في كلام جماعة منهم صاحب المعالم جوازه بنحو
الحقيقة، نظرا إلى دعوى كونهما في قوة تكرير المفرد بالعطف. ولكن التحقيق خلافه، إذ
نقول: بان ما يرى من التعدد في التثنية والجمع فإنما ذلك من جهة إفادة العلامة ذلك،
حيث كانت موضوعة بمقتضي وضعها لتقيد مدخولها بالتعدد، لا انه كان من جهة
الاستعمال في المتعدد حتى يقال بجوازه في التثنية والجمع، فالمدخول في مثل الرجلين و
العينين لا يكون إلا مستعملا في معنى واحد وهو صرف الطبيعة الا ان الهيأة فيهما دلت
بمقتضي وضعها على تقيد ما يراد من المدخول بالتعدد وكونه في ضمن الوجودين، وعليه
فلا يرتبط ذلك بمسألة استعمال اللفظ في المعنيين، كما هو واضح. هذا إذا أريد من
المدخول صرف الطبيعة التي هي معنى كلي قابل للتعدد، ومن العلامة إفادة التعدد من
المدخول، أو تقيده بالتعدد كما هو التحقيق في كلية أوضاع الهيئات ولقد عرفت انه
خروج عن كونه من الاستعمال في المتعدد. ومثله ما لو أريد التعدد من مجموع المدخول و
114

العلامة، ولو بدعوى وضع المجموع مادة وهيئة للمتعدد نظير أوضاع الجوامد كما توهم، إذ
على ذلك المسلك أيضا يخرج الاستعمال المزبور عن كونه من الاستعمال في المتعدد، كما هو
واضح. واما لو أريد من المدخول التعدد: فاما ان يراد من العلامة أيضا تعدد ما يراد من
المدخول على ما هو قضية وضعها، واما ان يجعل العلامة قرينة على إرادة التعدد من نفس
المدخول، فان كان الأول ففساده واضح، من جهة استلزامه حينئذ لان يكون مفاد التثنية
في قولك (رجلان وعينان) أربعة، وهو كما ترى، فإنه مع مخالفته للوجدان لا يلتزم به أحد،
وان كان الثاني فلازمه صحة استعمال اللفظ في المتعدد ولو في المفرد، فيبطل القول
بالتفصيل بين المفرد وبين التثنية والجمع، كما هو واضح. ولكن التحقيق في التثنية
والجمع هو ما عرفت من أن استفادة التعدد انما هو من مدلول الهيئة والعلامة باعتبار
وضعها لتقيد مدخولها بالتعدد وفي ضمن الوجودين، وعليه قد عرفت بخروجها رأسا عن
باب استعمال اللفظ في المتعدد، فإنه بعد انحلال الوضع فيهما إلى وضعين بحسب المدخول و
العلامة، فلا جرم يكون المدخول دالا على صرف الطبيعة القابلة للتعدد والعلامة على
تقيده بالتعدد.
ثم إن هذا كله في مثل أسامي الأجناس مما كان قابلا للتعدد واما ما لا يكون قابلا
للتعدد كالاعلام الشخصية وأسماء الإشارة فيشكل فيها امر التثنية الجمع إذ لا يجري فيها
ما ذكرناه في تثنية أسامي الأجناس، فلا بد فيها اما من الالتزام بان الوضع انما كان من
قبيل وضع الجوامد وان مثل زيدان وهذان مثلا وضع مادة وهيئة مجموعا لفردين على
خلاف أوضاع التثنية والجمع في أسامي الأجناس، واما من الالتزام بكفاية مجرد
الاتفاق في اللفظ فيها بلا حاجة إلى الاتفاق في اللفظ فيها بلا حاجة إلى الاتفاق في المعنى أيضا، أو الالتزام بالتأويل
بالمسمى ليصير كليا قابلا للتعدد فيرد عليه العلامة. ولكن الجميع كما ترى، اما الأول
فلبعده جدا لكونه على خلاف الارتكاز فان وضع تثنية الاعلام بحسب الارتكاز انما هو
كتثنية أسامي الأجناس وحينئذ فالتفرقة بينهما بجعل وضع التثنية والجمع في غير
الاعلام الشخصية وضعا انحلاليا وفيها من قبيل وضع الجوامد في غاية السخافة كما هو
واضح. واما الثاني فبمنع كفاية مجرد الاتفاق في اللفظ في التثنية والجمع بل يعتبر فيها
علاوة عن الاتفاق في اللفظ الاتفاق بحسب المعنى أيضا. واما الثالث فبان التأويل
بالمسمى من المجاز المحتاج إلى رعاية عناية فيه وهو مما يأبى عنه الطبع والذوق في مثل
115

زيدان وحسنان حيث لا يكاد انسباق الذهن منه إلى المسمى بزيد بوجه أصلا، نعم قد
يفضى الحاجة إلى التأويل المزبور في بعض الموارد كما في قولك جئني بمن هو مسمى بزيد،
أو اعط الدرهم من هو مسمى بمحمد لكن ذلك أيضا مع إقامة القرينة الخاصة عليه وأين
ذلك والمقام الذي لا يرى فيه قرينة على ذلك، على أنه لو سلم ذلك في مثل الاعلام
الشخصية لا يكاد يجرى الكلام المزبور في مثل أسماء الإشارة كهذين ونحوه مما له توغل
محض في التعريف. ودعوى عدم كون مثل هذين من التثنية حقيقة بل هو من باب كونه
موضوعا للإشارة إلى فردين بعيد جدا، فان الظاهر أن مثل هذين تثنية لهذا، لا انه موضوع
بمجموعة مادة وهيئة للإشارة إلى الفردين من المذكر كما هو واضح، وحينئذ فبعد بطلان
الوجوه المزبورة يتوجه الاشكال بأنه كيف المجال لتثنية الاعلام وأسماء الإشارة مع عدم
قابلية المدخول فيها للتعدد.
وحينئذ فالأولى في حل الاشكال هو ان يقال: بان التثنية والجمع في باب الاعلام
في نحو زيدان وزيدون انما هو باعتبار لفظ زيد الذي هو كلي قابل للتعدد لا باعتبار
مدلوله ومعناه، نظير باب استعمال اللفظ في نوعه، فأريد من المدخول حينئذ نفس طبيعة
اللفظ ومن العلامة تقيده بالتعدد ولكنه لا بنحو يكون اللفظ بنفسه منظورا استقلاليا في
قبال معناه بل بما انه مرآة إلى معناه بحيث كان النظر إليه نظرا عبوريا وكان المنظور
بالاستقلال هو المعنى، كما في قولك: رأيت زيد بن أي زيد بن عمرو وزيد بن بكر، في
قبال ما لو كان المنظور بالاستقلال هو اللفظ خاصة، كقولك: اكتب زيدين أو اقرأ
زيدين، حيث كان النظر الاستقلالي فيهما بتمامه إلى خصوص اللفظ بلا نظر إلى مدلوله و
معناه، وعليه فيدفع الاشكال المزبور حيث نقول: بأنه يراد من العلامة في مثل زيدين
فردان من طبيعة لفظ زيد على نحو يكون كل فرد حاكيا عن معنى خارجي. هذا بالنسبة
إلى الاعلام الشخصية.
واما أسماء الإشارة فالامر فيها أسهل بناء على ما تقدم منا في المبهمات من دعوى
كونها موضوعة للذوات المبهمة بما هي متخصصة بخصوصية الإشارة أو المعهودية ونحوهما
بنحو خروج القيد ودخول التقيد، حيث إنه على هذا المسلك يكون المدخول في مثل هذين
والذين وهما، مفاده كليا قابلا للتعدد، كما في أسامي الأجناس، فمن هذه الجهة يكون
حالها حال أسامي الأجناس بلا ورود اشكال فيها، نعم على المسلك الآخر فيها من وضعها
116

لمصداق الإشارة إلى المفرد المذكر كما ادعى لا شكل امر التثنية والجمع فيها، فمن ذلك
لابد من القول في مثل هذين بان الوضع فيه انما هو كوضع الجوامد بدعوى ان هذين وضع
مادة وهيئة وضعا واحدا للإشارة إلى الفردين من المذكر فلا يكون تثنية حقيقة، ولكنه
قد تقدم سخافة هذا المسلك، فان لازم جعلها موضوعة لنفس الإشارة انما هو
صيرورة معناها معنى حرفيا ولازمه هو عدم جواز اجراء احكام الاسم عليها من الاخبار
عنها تارة وبها أخرى مع أنه كما ترى، وحينئذ فكان صحة اجراء احكام الأسماء عليها
كاشفا عن فساد المسلك المزبور. وهذا بخلافه على ما اخترناه من المسلك في أوضاع
المبهمات من جعل الموضوع له فيها عبارة عن الذوات المبهمة المتخصصة بخصوصية الإشارة
أو المعهودية أو غيرهما، حيث إنه باعتبار اسمية مداليلها كان المجال لاجراء احكام
الاسم عليها كما أنه باعتبار كلية مداليلها يصح أيضا تثنيتها وجمعها كما في أسامي
الأجناس من دون منافاة ذلك أيضا مع كونها معرفة لما تقدم في محله بأن جهة تعرفها انما
كانت بلحاظ تقيد مداليلها بالإشارة أو المعهودية الذهنية كما لا يخفى فتدبر.
تنبيه
قد يقال: بأنه كيف منعتم عن جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد مع أنه
واقع في الكتاب العزيز على ما نطق به غير واحد من الاخبار بان للقرآن بطونا سبعة
أو سبعين، ولكنه يندفع ذلك بامكان ان يكون المراد من البطون في الاخبار ما هو من
اللوازم للمعنى المطابقي التي كان بعضها اخفى من بعض ولا يصل إليها عقولنا ولا يعلمها
الا من خوطب به، إذ عليه لا يكون ذلك مربوطا بمسألة استعمال اللفظ في المتعدد كي
ينتج للقائل بالجواز، ومع الغض عن ذلك نقول أيضا: بأنه يمكن ان يكون المراد من
البطون هي المصاديق العديدة لمعنى واحد كلي التي تتفاوت في الظهور والخفاء، وعليه
أيضا لا يرتبط ذلك بباب استعمال اللفظ في المتعدد إذ المستعمل فيه حينئذ لا يكون إلا
معنى واحدا كليا، غايته انه لذلك المعنى الكلي مصاديق عديدة بعضها اخفى من بعض
بحيث لا يصل إليها عقولنا ولا يعلمها الا النبي صلى الله عليه وآله والوصي والأئمة من
ولده عليهم السلام لكونهم هم المخاطبين به فباعتبار خفاء تلك المصاديق وعدم علمنا به
117

عبر عنها في الاخبار المروية عنهم عليهم السلام بالبطون، فتدبر.
الامر الثاني عشر في المشتقات
قد وقع الخلاف بين الاعلام في أن المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدأ في الحال، أو انه
حقيقة في الأعم منه والمنقضي عنه المبدأ، وذلك بعد وفاقهم على كونه مجازا في
الاستقبال، ولتنقيح المرام في المقام لابد من ذكر أمور:
الأول في بيان الحال المتنازع فيه في المقام وانه عبارة عن حال تلبس الذات بالمبدأ و
تلبسه بها؟ أو انها عبارة عن حال الجري والتطبيق على المصداق الخارجي كما هو ظاهر
بعضهم حسب اقتضاء تحريرهم عنوان البحث، أو انه عبارة عن حال النسبة الكلامية، و
توضيح المقال في ذلك يحتاج إلى بيان ما هو مورد النزاع وانه هل هو في مدلول الكلمة و
المفرد أو في مدلول الهيئة؟ فنقول: لا ينبغي الاشكال في أن ما هو مورد البحث والكلام
بين الاعلام وما يرجع إليه لب النزاع انما هو مدلول الكلمة وان ما هو المدلول لكلمة
الضارب والعالم ونحوهما مع قطع النظر عن مرحلة جريه وتطبيقه على المصداق
الخارجي أو ورود حكم عليه ووقوعه في حيز الهيئة الكلامية هل هو عبارة عن الذات
المتلبسة بالمبدأ بقول مطلق أو المبدأ القائم بالذات مطلقا (على اختلاف المسلكين في
المشتق من مأخوذية الذات فيه أو عدم مأخوذية الذات فيه وكونه عبارة عن نفس المبدأ
لا بشرط) أو انه عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة منها متحققة في
سابق الزمان؟ حيث كان القائل بالتلبس في الحال يدعى وضع المشتق للذات المتلبسة
بالمبدأ على الاطلاق الملازم لعدم انطباقه خارجا الاعلى المتلبس بالمبدأ في الحال، والقائل
بالأعم يدعى الوضع للذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة من الذات مما مضى
الملازم لصحة جريه وتطبيقه خارجا ولو على المتلبس بالمبدأ سابقا المنقضي عنه في
الحال.
ولئن شئت فاستوضح ذلك بقولك زيد الضارب حيث ترى في ذلك نسبا طويلة مترتبة
بعضها على بعض:
الأولى: نسبة تلبس الذات بالمبدأ واتصافها به مع قطع النظر عن مقام جريه وتطبيقه
118

على المصداق الخارجي كما لو كنا نحن ونفس مفهوم الضارب بما هو هذا المفهوم حيث
يرى من ذلك ذات لها نسبة إلى المبدأ أو مبدأ له نسبة إلى الذات بنسبة قيامية مثلا، كان
في العالم لهذا المفهوم مصداق أو لم يكن.
الثانية: نسبة انطباق تلك المتلبس والمتصف بالمبدأ على المصداق الخارجي وهو زيد
مثلا في مثل قولك: زيد الضارب والشجرة المثمرة فان مثل هذه النسبة كان ظرفها متأخرا
عن ظرف نسبة تلبس الذات بالمبدأ.
الثالثة: النسبة الحكمية في مثل قولك: أكرم زيدا الضارب حيث نسبت الاكرام إلى
زيد المنطبق عليه الذات المتلبسة بالمبدأ فبهذه الجهة كان ظرف هذه النسبة متأخرا عن
الأوليين.
وبعد ذلك نقول: بأنه لا شبهة في أن ما هو مورد البحث والنزاع انما هو النسبة بالمعنى
الأول وهي نسبة تلبس الذات بالمبدأ أو نسبة قيام المبدأ بالذات، على اختلاف
المسلكين، دون نسبة انطباق الذات المتلبسة على المصداق، كيف وانك في وقولك: زيد
الضارب والشجرة المثمرة ترى ان المشتق بما له من المدلول ينطبق على زيد ويجري عليه،
وحينئذ فلا محيص مما ذكرنا من جعل مورد البحث والنزاع في مدلول الكلمة، أعني
كلمة الضارب والعالم، مع قطع النظر عن مقام جريه وانطباقه على المصداق أو ورود
حكمه عليه، فينازع بان مدلول هذه الكلمة عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ على نحو
الاطلاق بنحو يلازم عدم صحة جريه وتطبيقه الا على المتلبس بالمبدأ في الحال، أو انه
عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة منها مما مضى الملازم لصحة انطباقها
خارجا ولو على المتلبس بالمبدأ خارجا المنقضي عنه في الحال، وعليه يكون النزاع في
صحة اطلاق المشتق وجريه على الذات المنقضي عنها المبدأ في الحال وعدم صحته من
لوازم النزاع في مدلول الكلمة وتبعاته، لا انه بنفسه مورد البحث والنزاع كما هو واضح.
ومن ذلك البيان ظهران الحال المتنازع فيه في المقام لابد وأن يكون عبارة عن حال تلبس
الذات بالمبدأ، دون حال الجري والتطبيق كما يقتضيه ظاهر بعضهم، ودون حال
النسبة الكلامية، كيف وانه على الآخرين لا يرجع النزاع في الحقيقة والمجاز إلى المجاز في
الكلمة والحقيقة فيها، بل مرجعه حينئذ إلى المجاز في الاسناد والحقيقة فيه الذي هو
خارج عن مدلول الكلمة، وهو المشتق، كما هو واضح.
119

ومن ذلك نقول: بان حق تحرير عنوان المسألة في المقام هو تحريره بان المشتق، أي
كلمة ضارب مثلا، هل موضوع للذات المتلبسة بالمبدأ بقول مطلق، أو انه موضوع للذات
المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة منها مما مضى بالغاء عنوان الحال رأسا، كي لا
يختلط بحال الجري والتطبيق أو حال النسبة الكلامية أو تحريره بان المشتق موضوع
للذات المتلبسة بالمبدأ حال تلبسها به، أو انه موضوع له يعمه وغيره من حالات خلو الذات
عن المبدأ لكي ينطبق على ما ذكرناه.
الامر الثاني قد عرفت بأنه على القول بالأعم كما يصح اطلاق المشتق على المتلبس
بالمبدأ فعلا كذلك يصح اطلاقه وجريه على المنقضي عنه المبدأ فعلا بمحض تلبس الذات
به في سابق الزمان، ولو كان حال الجري متلبسا بما يضاد الوصف السابق. واما على
القول بالتلبس الفعلي فلابد في صحة اطلاق المشتق وجريه من فعلية تلبس الذات بالمبدأ
في الظرف الذي لو حظ فيه الجري، فإذا كان زيد غير متلبس بالقيام في الحال وقد كان
تلبسه به في سابق الزمان لا يصح اطلاق القائم عليه في الحال بقولك زيد قائم الآن، نعم
لو كان جرى المشتق لا بلحاظ الحال بل بلحاظ ظرف تلبسه به ماضيا أو مضارعا صح
الجري المزبور أيضا وكان بنحو الحقيقة، ففي مثل زيد كان قائما بالأمس أو زيد يكون
قائما في الغد يكون بنحو الحقيقة إذا كان التلبس بالقيام أيضا في الأمس في الأول وفي
الغد في الثاني، وإذا كان التلبس في أمس الأمس يكون مجازا على هذا القول، كما أنه في
الثاني إذا كان التلبس في غد الغد يكون مجازا على القولين، وحينئذ فلابد على القول
باعتبار التلبس الفعلي من ملاحظة فعلية التلبس في الزمان الذي لو حظ فيه الجري
ماضيا أو مضارعا أو حالا.
بل ولئن دققت النظر ترى ان العبرة كلها على زمان المجرى عليه لا على زمان الجري
والتطبيق فإذا كان المجرى عليه بالجري الفعلي هو القطعة المتلبسة بالمبدأ من الذات
سابقا، أو كان هو القطعة المتلبسة به لا حقا صح الجري وكان بنحو الحقيقة ولو كان
الجري فعليا وحينئذ فلا يحتاج على القول بالتلبس الفعلي في صحة الجري حقيقة إلى
اتحاد ظرف الجري مع ظرف المجرى عليه كما في الأمثلة المتقدمة كي يحتاج إلى جعل
الجري أيضا بلحاظ حال التلبس ماضيا أو مضارعا فنقول: زيد كان قائما بالأمس أو
يكون قائما في الغد أو الآن، وعمدة النكتة في ذلك انما هو تساوى تلك القطعات الثلاث
120

في المصداقية لهذا المفهوم الكلي الذي هو مدلول كلمة القائم وهو الذات المتلبسة بالمبدأ
بقول مطلق فإنه كما أن القطعة المتلبسة بالقيام فعلا مصداق حقيقي للقائم فيصدق عليه
هذا المفهوم كذلك أيضا القطعة المتلبسة به سابقا فإنه بمجرد تلبسها بالقيام يصير تلك
القطعة فردا ومصداقا حقيقيا للقائم ويصدق عليه هذا المفهوم كصدقه على المتلبس
الحالي بالمبدأ من دون ان يخرج تلك القطعة عن الفردية بوجه أصلا، وهكذا الكلام
بالنسبة إلى القطعة المتلبسة بالقيام لا حقا فإنه بعد ما يرى العقل تلبسها بالقيام في الغد
يرى كونها مما ينطبق عليها مفهوم القائم فيحكم فعلا بكونها فردا ومصداقا له وان لم يكن
لها وجود في الخارج فعلا، لان مصداقية شئ وفرديته لعنوان كلي غير منوط بوجوده فعلا
في الخارج لان الخارج دائما ظرف وجود الفرد فارغا عن مصداقيته وفرديته، ومن ذلك لو
وقع مثل هذا العنوان موضوعا لحكم الشرعي في لسان الدليل كقوله أكرم العالم مع كون
المطلوب هو صرف وجود الاكرام المضاف إلى طبيعة العالم المنطبق على أول وجود منه
ترى حكم العقل في مثله بالتخيير بين اكرام الفرد الفعلي الموجود حال الخطاب وبين
اكرام غيره من الافراد التدريجية التي توجد بعد ذلك، نظير حكمه بالتخيير بين الافراد
التدريجية من الصلاة من أول الظهر إلى الغروب في الفرائض اليومية فلو لا مصداقية
الموجود المتأخر للعام فعلا لما كان وجه لحكمه بالتخيير بين الاتيان بالفرد الفعلي وبين
الاتيان بالفرد الاستقبالي في موطنه كما هو واضح فتدبر. وحينئذ نقول: بأنه إذا كانت
تلك القطعات الثلاث من الذات أي القطعة المتلبسة بالمبدأ سابقا والقطعة المتلبسة به
حالا والمتلبسة به لاحقا كل واحدة منها مصداقا لمفهوم القائم وينطبق عليها هذا المفهوم
الكلي بنحو الحقيقة فلا جرم يلزمه صحة جرى مفهوم القائم فعلا على القطعة السابقة و
اللاحقة كصحة جريه على القطعة المتلبسة بالقيام فعلا فيصح حينئذ ان يجرى المشتق
فعلا ويطبقه على تلك القطعة من الذات التي تلبست سابقا بالقيام أو التي تتلبس به في
المستقبل كما هو واضح.
ومن ذلك البيان ظهر نكتة أخرى وهي عدم كفاية مجرد هذا النزاع في مدلول كلمة
المشتق بأنه حقيقة في المتلبس الفعلي أو الأعم منه والمنقضي عنه المبدأ في استنتاج
النتيجة المعروفة من وجوب الاكرام وعدم وجوبه في مثل قوله: يحب اكرام العالم، و
كراهة البول تحت الشجرة المثمرة في قوله: يكره البول تحت الشجرة المثمرة ما لم ينضم إليه
121

دعوى ظهور الهيئة الكلامية في اتحاد ظرف الاكرام خارجا مع ظرف وجود المصداق
الذي هو ظرف التلبس، ولو للانصراف، إذ لولا دعوى مثل هذا الظهور للهيئة الكلامية
في اتحاد الظرفين أمكن في أمثال تلك الموارد دعوى ان الجري الفعلي فيها كان على المجرى
عليه السابق لا على المصداق الفعلي، ولقد عرفت كون الجري المزبور حينئذ على نحو
الحقيقة ولو على القول بالتلبس الفعلي ولازمه حينئذ هو وجوب الاكرام وكراهة البول
على كلا القولين ولو مع عدم تلبس الذات بالمبدأ فعلا بان كان تلبسها به في سابق
الزمان، وعليه فتنتفي الثمرة المزبورة التي جعلوها ثمرة البحث بين القولين في المسألة. نعم لو
ورد في لسان الدليل: بأنه أكرم من كان عالما بالأمس أو أكرم العالم الفعلي بنحو يستفاد
منه كون ظرف الجري فيه بعينه هو ظرف المجرى عليه لكان المجال لاستنتاج النتيجة
المزبورة فإنه على القول بالأعم يجب الاكرام في المثالين المزبورين ولو لم يكن التلبس
بالمبدأ متحققا بالأمس في المثال الأول وبالفعل في الثاني، بخلافه على القول بالتلبس
الفعلي فإنه عليه لا يجب الاكرام في المثالين إلا إذا كان التلبس بالمبدأ متحققا في ظرف
الجري الذي هو الأمس أو الآن كما هو واضح، ولكن مثل هذا اللسان لعدم وجوده في
الأدلة أو لندرته يحلق بالعدم ومعه يتوجه الاشكال المزبور في استنتاجهم الثمرة المزبورة
بين القولين في المسألة بقول مطلق. وحينئذ فلا محيص في استنتاج النتيجة المزبورة على
الاطلاق من نزاع آخر في مدلول الهيئة الكلامية من نحو قوله: أكرم العالم واهن الفاسق و
يكره البول تحت الشجرة المثمرة علاوة عن النزاع في مدلول كلمة المشتق وهي العالم و
الفاسق ونحوهما، من دعوى ظهور الهيئة في الكلام في اتحاد ظرف الاكرام المضاف إلى
العالم مع ظرف وجود المصداق الذي هو ظرف التلبس كما هو الظاهر أيضا، كي بعد
اثبات هذا الظهور للهيئة في نحو تلك القضايا في اتحاد الظرفين ولو من جهة الانصراف
يترتب النتيجة المزبورة فتدبر.
الامر الثالث لا يخفى عليك خروج المصادر والافعال عن حريم هذا النزاع لان المشتق
المبحوث عنه في المقام انما هو المفاهيم الجارية على الذوات المنتزعة عنها بلحاظ اتصافها
بالمبدأ واتحادها معه وجودا، وعليه فيخرج قهرا المصادر المجردة والمزيدة، وكذا الافعال
ماضيها ومضارعها وأمرها ونهيها، نظرا إلى انها غير جارية على الذوات، من جهة ان
المصادر وكذا الافعال لا دلالة فيها بمقتضي وضعها الا على مجرد المبدأ ونسبة له إلى ذات
122

ما بنسبة تصورية كما في المصدر، أو نسبة تصديقية كما في الافعال، وحينئذ فلا يكون فيها
ما يكون وجهة وعنوانا للذات وجاريا عليها، ومجرد الاسناد بين الفعل والفاعل في قولك:
زيد ضرب غير الحمل والاتحاد كما لا يخفى. ومن ذلك البيان ظهر أيضا نكتة الفرق بين
المشتق ومبدئه من حيث اباء الثاني عن الجري على الذات والحمل عليها دون الأول،
حيث كان السر في امتناع الأول عن الجري على الذات من جهة اخذه بنحو يرى كونه في
قبال الذات فمن هذه الجهة يأبى ويعصى عن الجري عليها، بخلاف المشتق فإنه باعتبار
اخذه وجهة وعنوانا للذات وطورا من أطوارها لا يأبى عن الجري على الذات والحمل
عليها، وسيجئ مزيد بيان لذلك في تنبيهات المسألة إن شاء الله تعالى، فالمهم والمقصود في
هذا المقام انما هو اخراج المصادر والافعال عن حريم النزاع وتخصيص مورد النزاع بما
يكون جاريا على الذات.
على أن هذا النزاع انما يختص بمورد يتصور فيه الانقضاء والبقاء وهذا المعنى غير
متصور في المصادر والافعال فان المصادر وكذا الفعل الماضي لا يتصور فيهما الذات
القابلة للتلبس بالمبدأ تارة والخلو عنه أخرى وكذا فعل المضارع فإنه لا يتصور فيه أيضا
الانقضاء كما لا يخفى.
ثم انه لما انجر الكلام إلى هنا ينبغي عطف البيان إلى ذكر شطر من المباحث الراجعة
إلى المشتقات وكيفية أوضاعها من المصادر والافعال والأسماء وبيان الفارق بين
الافعال والأسماء وان كان الأنسب هو ذكر هذه الجهة في التنبيهات عند التعرض
لبيان مفهوم المشتق من حيث التركيب والبساطة فنقول: ان هنا جهتين من الكلام
الجهة الأولى: اعلم أن كل باب من أبواب المشتقات من مصادرها وأفعالها مثل
الضرب (بالسكون) وضرب (بالفتح) وضارب ومضروب ونحوها كان كل واحد
منها مشتملا على هيئة مخصوصة ومادة مشتركة بينه وبين غيره من الصيغ سارية في
جميعها بحيث لا يكاد يمكن التلفظ بها باعتبار اندكاكها الا في ضمن هيئة مخصوصة ولو
كانت تلك الهيئة هيئة ضاد وراء وباء، ولهذه المادة السارية المحفوظة في جميع تلك الصيغ
أيضا معنى هو مثلها في التجرد بنحو لا يمكن تصوره واخطاره في الذهن الا بتعين خاص
كان ذلك التعين هو المعنى الاسم المصدري أو غيرهما، وحينئذ فكانت
تلك المادة المحفوظة في جميع تلك الصيغ من المصادر والافعال والأسماء بما لها من المعنى
123

الساري فيها هو الأصل المحفوظ في المشتقات، دون غيرها كالمصدر أو الفعل، كما اشتهر
ان الأصل في المشتقات هو المصدر كما عن جماعة من علماء الصرف أو هو الفعل كما عن
جماعة أخرى منهم، إذ من الواضح انه لا أصل لهذا الأصل بعد وضوح المباينة التامة بين
المعنى المصدري بما له من الحدود مع غيره من المشتقات كوضوح البينونة بين بعضها و
بعضها الاخر، ومعه كيف يمكن ان يكون المصدر أو الفعل هو الأصل المحفوظ في
المشتقات ومادة سارية فيها، كيف وان المصدر أيضا كغيره من الصيغ من الماضي و
المضارع وأسماء الفاعلين والمفعولين، فكان له أيضا هيئة خاصة ومادة مشتركة بينه و
بين غيره، تدل المادة فيه على معنى حدثي والهيئة على إضافة هذا المبدأ إلى ذات ما و
نسبته إليها بنسبة تصورية، وحينئذ فما هو الأصل المحفوظ والساري في جميع المشتقات لا
يكون الا ذلك المعنى الحدثي المجرد عن جميع التعينات وان لم يمكن تصوره واخطاره في
الذهن الا في ضمن تعين خاص، نعم لما كان الأقرب إلى ذلك المعنى المجرد هو المصدر من
بين سائر المشتقات باعتبار دلالته على مجرد المبدأ وهو الحدث المضاف إلى ذات ما و
عرائه عن خصوصية الزمان، وبعده كان الأقرب إليه الفعل الماضي والمضارع بالنسبة
إلى أسماء الفاعلين والمفعولين نظرا إلى تقدمهما الرتبي عليها من جهة اشتمالهما على النسب
التامة كما هو الشأن في كلية المركبات التامة بالقياس إلى القضايا التقييدية والمركبات
الناقصة فبهذا الاعتبار أمكن دعوى ان ما هو أقرب إلى ذلك المعنى المجرد، من جهة قلة
وجدانه للخصوصيات بحسب اللفظ والمعنى، يكون أصلا بالنسبة إلى ما كثر فيه
الخصوصية بحسب المعنى أو اللفظ، فنجعل مدار الأصلية والفرعية على مثل هذه الأقربية
الاعتبارية، وندعي ان المصدر أصل بالنسبة إلى الفعل الماضي والمضارع وغيرهما من
المشتقات، وان فعل الماضي أصل بالنسبة إلى المضارع لمكان اشتمال فعل المضارع على
خصوصية زائدة ولو بحسب اللفظ، وان فعل مضارع أصل بالنسبة إلى أسماء الفاعلين
والمفعولين باعتبار تقدمه الرتبي عليها.
وعلى ذلك أيضا أمكن توجيه كلامهم في أصلية المصدر بالنسبة إلى سائر المشتقات
بجعل مدار الأصلية على الأقربية إلى ذلك المعنى المجرد الساري في جميع المشتقات بتقريب
ان المصدر حيثما كان أقرب إلى ذلك المعنى المجرد من سائر المشتقات أوجب ذلك كونه
أصلا لسائر المشتقات ومادة سارية فيها بالنظر العرفي المسامحي فأطلقوا عليه بأنه هو
124

الأصل في المشتقات. لا يقال: على ذلك لم لا يجعل الأصل فيها المعنى الاسم المصدري مع أنه
من جهة تجرده عن خصوصية النسبة أيضا يكون أقرب من المعنى المصدري، فإنه
يقال: نعم، ولكنه باعتبار تجرده عن النسبة بل وعدم كون الوضع فيه وضعا انحلاليا و
كونه من قبيل وضع الجوامد عد كونه مبائنا مع سائر المشتقات وخارجا عنها فلذلك لم
يعتنوا بجهة أقر بيته فجعل الأصل فيها ما كان من سنخ المشتقات مما يكون واجدا للنسبة
ويكون وضعه انحلاليا، ومن المعلوم ان الأقرب منها حينئذ لا يكون الا المصدر كما هو
واضح.
واما ما يظهر من بعضهم: من أن الأصل فيها هو الفعل الماضي أو المضارع فلعل
الوجه فيه هو جهة تقدم الفعل رتبة باعتبار اشتماله على النسب التامة على المصدر واسم
الفاعل والمفعول لأنهما أي المصدر والوصف لاشتمالهما على النسب الناقصة يكونان من
القضايا التقيدية المتأخرة رتبة عن القضايا التامة كما عرفت بيانه في مبحث الحروف،
هذا، ولكن لا يخفى عليك ان ذلك كله انما هو لمحض المماشاة مع القائلين بان المصدر أو
الفعل هو الأصل في المشتقات وإلا فقد عرفت ان حديث الأصلية والفرعية مما لا أصل
له وان كلا من المصدر والفعل أصل برأسه في قبال البقية كما هو واضح.
وكيف كان فمما ذكرنا ظهر لك حال الوضع في المشتقات من كونه وضعا انحلاليا
باعتبار المادة والهيئة لا وضعا جامديا كي يكون مجموع المادة والهيئة في كل واحد من
الصيغ موضوعا لمعنى خاص، فكانت المادة السارية في كل واحد من المصدر وغيره من
كل باب موضوعة بوضع نوعي للدلالة على نفس الحدث وهو المعنى المجرد المحفوظ فيها، و
كانت الهيئة أيضا في كل واحد من الصيغ موضوعة بوضع شخصي للدلالة على نسبة
الحدث إلى الذات فوضع من الهيئة مثلا ما كان على زنة فعل (بالسكون) للدلالة على
نسبة الحدث إلى الذات وهكذا ما كانت على زنة فعل (بالتحريك) ويفعل وفاعل و
مفعول وفعيل ومفعل ومفعال ونحو ذلك كل ذلك للدلالة على النسبة على اختلاف
أنحائها من الصدور والايجاد والوقوع والحلول والظرفية وغيرها كما هو واضح.
الجهة الثانية: قد اشتهر في كلماتهم دلالة الفعل على زمان حتى أنهم أخذوا الاقتران
بالزمان في تعريفه وجعلوه فارقا بينه وبين الأسماء، فعرفوا الاسم بأنه كلمة تدل على
معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، والفعل بأنه كلمة تدل على معنى في نفسه
125

مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، قال شارح الجامي: (الفعل ما كان دالا على معنى في نفسه
مقترن بأحد الأزمنة باعتبار معناه التضمني أعني الحدث) ونحوه كلام ابن مالك في
منظومته قال:
(المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كامن من امن)
وظاهر كلامهما هو كون الزمان مدلولا تضمنيا للفعل. وأصرح من ذلك عبارة نجم الأئمة حيث
قال فيما حكى عنه، في شرح قول ابن الحاجب: الاسم ما دل على معنى غير مقترن بأحد
الأزمنة، ما لفظه المحكى عنه: (قوله غير مقترن صفة بعد الصفة لقوله معنى، ويبين معنى
قوله غير مقترن ببيان قوله في حد الفعل: بأنه ما دل على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة
الثلاثة، أي على معنى واقع في أحد الأزمنة الثلاثة معينا بحيث يكون ذلك الزمان المعين
أيضا مدلول ذلك اللفظ الدال على ذلك المعنى بوضعه له أولا، فيكون الظرف والمظروف
مدلولي لفظ واحد بالوضع الأصلي) إنتهى، ومثله أو ما يقرب منه عبائر غيره من
النحويين فراجع حيث ترى اطباقهم ظاهرا على دلالة الفعل على الزمان بمقتضى وضعه هذا.
ولكن الذي يقتضيه التحقيق هو خلافه كما يظهر وجهه بالتأمل فيما ذكرنا من
انحلال الوضع في المشتقات إلى وضع نوعي للمادة فيها ووضع شخصي للهيئة في كل
واحد من الصيغ، إذ نقول: بان الدلالة المزبورة لو كانت فاما ان تكون من طرف المادة أو
من طرف الهيئة مع أنه لا يكون في شئ منهما الدلالة وضعه على ذلك، وذلك اما
المادة فلما تقدم بان وضعهما انما هو للدلالة على نفس المعنى الحدثي خاصة ولذلك لا ينسبق
في الذهن جهة خصوصية الزمان في مثل المصدر والوصف، واما الهيئة فكذلك أيضا لأنها
انما وضعت للدلالة على مجرد النسبة بين المبدأ والفاعل وحينئذ فأين الزمان الذي ادعى
كونه جزء من مدلولي الفعل؟ وأين الدال عليه بعد عدم دلالة شئ من المادة والهيئة
عليه؟ نعم لو قيل: بان الوضع في المشتقات أو في خصوص الافعال كان من قبيل الوضع
في الجوامد كان لما ذكروه كمال مجال حيث أمكن حينئذ دعوى وضع مجموع المادة و
الهيئة للمعنى المقيد بالزمان، ولكنه خلاف التحقيق وخلاف ما عليه المحققون من
انحلال الوضع في المشتقات طرا إلى وضعين: وضع للمادة نوعيا ووضع للهيئة شخصيا، بل
وخلاف ما هو المنساق المتبادر في الذهن أيضا من مثل قوله: ضرب زيد من جهة وضوح
انه لا يجئ ولا ينسبق في الذهن منه الا الحدث المرتبط بالذات لا المعنى التركيبي من
126

الحدث والزمان. هذا كله مضافا إلى ما أورد عليه أيضا بلزوم الالتزام بالمجاز أو تعدد
الوضع في الافعال المنسوبة إلى المجردات مثل (كان الله ولم يكن معه شئ) و (كان الله على
كل شئ قدير) وفى الافعال المنتسبة إلى نفس الزمان كقولك: مضى الزمان وانقضى
الدهر، فإنه بعد وضوح عدم مأخوذية الزمان في نحو هذه الأفعال في الأمثلة المزبورة، فلا بد
على تقدير اخذ الزمان جزء لمدلول الفعل اما من التجريد عن خصوصية الزمان والالتزام
بالمجاز واما الالتزام بتعدد الوضع وكلاهما فاسدان كما هو واضح.
نعم: حيثما ان في الافعال في مثل الفعل الماضي والمضارع خصوصية زائدة عن المعنى
الحدثي الذي هو مبدء الاشتقاق بنحو ينسبق منها في الذهن جهة السبق في الماضي و
اللحوق في المضارع أمكن دعوى الدلالة عليه بنحو الالتزام، بتقريب انه كما أن للمبدأ نحو
خصوصية وربط خاص بالنسبة إلى ما يقوم به وهو الفاعل كذلك له نحو خصوصية و
ربط بالنسبة إلى الظرف الذي يقع فيه بنحو ينتزع عنه مفهوم السبق في الماضي واللحوق
في المضارع وذلك أيضا لا بمعنى خصوص السبق واللحوق الزمانيين بل الأعم منه ومن
غيره، فيكون السبق زمانيا فيما لو انتسب إلى الزمانيات، وذاتيا فيما لو انتسب إلى نفس
الزمان، ورتبيا فيما لو انتسب إلى المجردات كقولك وجد العلة فوجد المعلول مع وضوح عدم
تأخر المعلول عن علته بحسب الزمان. وحينئذ فيقال: بان المادة في الافعال موضوعة
للدلالة على نفس الحدث والهيئة فيها لتلك الخصوصية والربط الخاص القائم به بنحو
ينحل ذلك الربط بالتحليل إلى نحوين من الربط: ربط له بالنسبة إلى ما يقوم به وهو
الفاعل والذات وربط له بالنسبة إلى الظرف الذي يقع فيه من حيث السبق واللحوق،
وحينئذ فبهذا الاعتبار تكون الهيئة في الافعال دالة على الزمان ولكنه لا بالمطابقة ولا
بالتضمن بل بنحو الالتزام نظير دلالتها على الفاعل والذات حيث كانت تلك أيضا بنحو
الالتزام كما لا يخفى. ولعله إلى ذلك أيضا نظر صاحب الكفاية (قدس سره) من قوله: نعم
لا يبعد ان يكون لكل من الماضي والمضارع خصوصية موجبة للدلالة على وقوع النسبة في
الزمان الماضي في الماضي وفى الحال أو الاستقبال في المضارع. ثم انه بمثل هذا البيان
أيضا أمكن ان يوجه كلامهم بدلالة الفعل على الزمان وذلك بحمل الدلالة في كلامهم
على الدلالة بنحو الالتزام بالبيان الذي ذكرنا ودخول الزمان فيه على الدخول بنحو
خروج القيد ودخول التقيد وان كان لا يساعد لهذا الحمل كلام بعضهم فتدبر.
127

الامر الرابع لا يخفى عليك اختصاص هذا النزاع بخصوص الأوصاف التي تنتزع من
امر خارج عن الذات بنحو أمكن تخلف الذات عنها ويتصور فيها الانقضاء فيخرج
حينئذ الأوصاف المنتزعة عن حاق ذات الشئ التي لا يكاد يتصور تخلف الذات عنها
كالمحمولات بالضميمة كالحيوانية والانسانية والناطقية والصاهلية، فإنها بملاحظة عدم
تخلف الذات عنها لا يكاد يتصور فيها الانقضاء حتى تكون مطرحا للنزاع كما لا يخفى.
نعم قد يشكل الامر حينئذ بالنسبة إلى بعض المفاهيم كأسماء الزمان ونحوها من
الأمور التدريجية الغير القارة فإنه لما لم يكن فيها ذات ممتدة قارة قابلة للتلبس بالمبدأ تارة
والخلو عنه أخرى أشكل عليهم بلزوم خروجها عن موارد النزاع فمن ذلك وقعوا في حيص و
بيص وصاروا بصدد دفع الاشكال بوجوه:
منها: ما افاده صاحب الكفاية (قدس سره) حيث أجاب عن الاشكال بان انحصار
مصداق مفهوم عام كلي بفرد كما في المقام لا يكون موجبا لوضع اللفظ بإزاء الفرد دون
المفهوم العام فلا غرو في مثل أسماء الزمان بالمصير فيها إلى الوضع للأعم غايته انحصار مصداق
هذا المفهوم في الخارج في فرد خاص كانحصار فرد واجب الوجود بالذات فيه تعالى مع
كونه كليا قابلا للانطباق على الكثير بمعنى انه لو فرض محالا مصداق آخر له لكان ينطبق
عليه هذا المفهوم بلا كلام.
أقول: ولا يخفى عليك انه لما كان الاشكال في المقام بعينه هو الاشكال المعروف في
استصحابات الأمور التدريجية الغير القارة من حيث عدم بقاء الموضوع وعدم اتحاد القضية
المتيقنة والمشكوكة كان الحري عليه (قدس سره) ان يجيب عنه في المقام بما أجاب عنه
في ذلك المقام فإنه (قدس سره) فصل في ذلك المقام بين الحركة القطعية والحركة
التوسطية فقال: بان الانصرام والتدرج انما هو في الحركة القطعية وهي كون الشئ في
كل آن في حد أو مكان لا التوسطية وهي كونه بين المبدء والمنتهى لأنه بهذا المعنى يكون
قارا مستمرا، إذ لا يحقى عليك انه لو تم ذلك هناك أمكنه أيضا في هذا المقام تصوير الامر
القار بين حالتي التلبس والانقضاء فلا وجه حينئذ لالتزامه في المقام بأصل الاشكال ثم
الجواب بمثل البيان المزبور بان انحصار مفهوم عام بفرد (الخ).
ولكن أصل هذا الجواب أيضا غير مجد لدفع الاشكال المزبور هناك أيضا، إذ قلنا في
ذلك البحث بان مثل هذه الوحدة المنتزعة عما بين المبدأ والمنتهى انما هي وحدة اعتبارية
128

عرضية منتزعة عن تعاقب الافراد وتلاحقها والا ففي الخارج لا يكون الا اشخاص تلك
الحصص المتبادلة المتعاقبة لا انه كان في الخارج جهة وحدة شخصية ذاتية حقيقية. و
حينئذ فإذا لا يكون في الخارج الا الافراد المتعددة المتعاقبة فلا جرم يبقى الاشكال على
حاله ولا يكاد يجدي في دفعه مجرد اعتبار مثل تلك الوحدة العرفية وانتزاعها عن تعاقب
تلك الحصص والافراد بعد أن لا قرار لنفس تلك الحصص في الخارج.
وحينئذ فالعمدة في الجواب عن الاشكال هو ما ذكرناه هناك بان الأزمنة والآنات
وان كانت وجودات متعددة متعاقبة متحدة بالسنخ ولكنه حيثما لا يتخلل بينهما سكون
يكون المجموع يعد عند العرف موجودا واحدا مستمرا نظير الخط الطويل من نقطة إلى نقطة
كذائية فبهذا الاعتبار يكون أمرا واحدا شخصيا مستمرا من أوله إلى اخره، فيصدق عليه
كلما شك فيه (انه شك في بقاء ما علم بحدوثه) فيشمله دليل حرمة النقض. وحينئذ فبعين
هذا الجواب نجيب عن اشكال المقام أيضا حيث أمكن لنا تصور امر قار وحداني يتصور
فيه الانقضاء بمثل البيان المزبور وان بلغ تلك الافراد المتعاقبة ما بلغ إلى انقضاء الدهر
فان مناط الوحدانية حينئذ انما هو بعدم تخلل سكون في البين فيما بين تلك الافراد فما لم
يتخلل عدم بينهما يكون المجموع موجودا واحدا شخصيا مستمرا. نعم ذلك انما هو فيما لم يكن
تلك القطعات المتعاقبة من الزمان مأخوذة موضوعا للأثر في لسان الدليل معنونة بعنوان
خاص كالسنة والشهر واليوم والساعة ونحوها والا فلا بد من لحاظ جهة الوحدانية في
خصوص ما عنون بعنوان خاص من القطعات فيلاحظ جهة المقتلية مثلا في السنة أو
الشهر أو اليوم أو الساعة بجعل مجموع الآنات التي فيما بين طلوع الشمس مثلا وغروبها
أمرا واحدا مستمرا فيضاف المقتلية إلى اليوم والشهر والسنة فتدبر.
الامر الخامس الظاهر أنه لا اختصاص لهذا النزاع بخصوص اسمى الفاعل و
المفعول وما بمعنا هما من الصفات المشبهة بالفعل وما يلحق بها بل يعم كل ما كان
جاريا على الذات وان كان من الجوامد كالرقية والزوجية ونحوهما، كما يشهد له ما
عن فخر المحققين في الايضاح في باب الرضاع فيمن كان له زوجتان كبيرتان أرضعتا
زوجة صغيرة له، حيث قال فيما حكى عنه: انه تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع
الدخول بالكبيرة الأولى واما المرضعة الأخرى ففي تحريمها خلاف فاختار الوالد المصنف
(رحمه الله) وابن إدريس تحريمها لان هذه يصدق عليها أم زوجته لأنه لا يشترط في المشتق
129

بقاء المشتق منه (انتهى) ومن الواضح صراحة كلامه (قدس سره) في دخول مثل هذا
النحو من الجوامد أيضا في محل النزاع ومن ذلك بنى الحرمة في المرضعة الثانية على عدم
اشتراط التلبس الفعلي في المشتق، وربما يشهد لذلك أيضا بل يدل عليه ما رواه في
الوسائل عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر عليه السلام ففيه قيل له عليه السلام: ان رجلا
تزوج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته ثم أرضعتها امرأة له أخرى فقال ابن شبرمة: حرمت
عليه الجارية وامرأتاه فقال أبو جعفر عليه السلام: أخطأ ابن شبرمة تحرم عليه الجارية و
امرأته التي أرضعتها أولا فاما الأخيرة فلم تحرم عليه كأنها أرضعت ابنته (الخبر) (1) فان
تعليله عليه السلام لعدم حرمة الكبيرة الثانية بقوله: لأنها أرضعت ابنته ظاهر في أنه لا
يكون الحكم المزبور تعبديا وانه على طبق القواعد، وفيه أيضا تخطئة لابن شبرمة لما تخيله
من كون المشتق حقيقة في الأعم ودلالة على أن المشتق حقيقة في المتلبس الفعلي هذا.
نعم قد يشكل تحريم المرضعة الأولى أيضا بمقتضي القواعد بتقريب ان السبب
الموجب لنشر الحرمة وهو عشر رضعات أو خمس عشرة رضعة كما كان موجبا لاتصاف
المرضعة بالأمومة فتحرم كذلك موجب أيضا لخروج الصغيرة عن الزوجة واتصافها
بالبنتية فيكون العنوانان أي الأمومة والبنتية كلا هما معلولين عرضيين للرضاع يترتب
فاء واحد بينه وبينهما من دون تقدم لأحدهما على الاخر ولو بحسب المرتبة، وحينئذ
فيشكل بأنه كيف الحكم بتحريم الأمومة مع أنه لا يكون في البين زمان
بصدق فيه عليها انها أم الزوجة لأنه قبل كمال الرضعة الأخيرة وان كان يصدق الزوجة
على الصغيرة الا ان الكبيرة في ذلك الآن لم تكن بأم لها وبعد اكمال الرضعة الأخيرة و
ان تحققت الأمومة لها ولكنه في رتبة تحقق هذا العنوان خرجت الصغيرة عن الزوجية و
تعنونت بالبنتية، فلابد حينئذ وأن يكون حرمة الكبيرة الأولى أيضا مبنية على عدم اعتبار
بقاء المشتق منه في صدق المشتق، مع أن ظاهر الايضاح بل ظاهر الرواية هو كون الحكم
بالتحريم بالنسبة إلى المرضعة بمقتضي القواعد.
واما توهم ان التحريم حينئذ في الرواية انما هو بلحاظ جرى الزوجية للصغيرة بحال
تلبسها الذي هو آن قبل تحقق عشر رضعات لا بلحاظ الحال الفعلي الذي هو ظرف تلبس

(1) الوسائل، الباب 14 مما يحرم بالرضاع، الحديث 1.
130

المرضعة بالأمومة، فمدفوع بأنه مناف للحكم بعدم تحريم المرضعة الثانية معللا بأنها
أرضعت ابنته والا فبهذا الاعتبار يصدق على الثانية أيضا انها أم زوجته فلا وجه حينئذ
للتفكيك بينهما كما لا يخفى.
كما أن توهم عدم تكفل الرواية الا لبيان عدم تحريم الثانية التي أفتى بحرمتها ابن
شبرمة وسكوتها عن حكم المرضعة الأولى ولو من جهة كونه مطابقا للواقع وان لم يكن
بمقتضى القواعد بل من جهة التعبد المحض، يدفعه ظهور الرواية في كون الحكم في
الفقرتين على طبق مقتضى القواعد هذا.
وحينئذ فالتفصي عن الاشكال المزبور لا يكون الا بالتشبث بفهم العرف بدعوى
ان المعيار في اتحاد الظرفين انما هو على الأنظار العرفية لا على النظر الدقى العقلي وان
العرف في مثل الفرض يرى ظرف الأمومة متحدا مع ظرف الزوجية بملاحظة شدة اتصال
أحد الظرفين بالآخر فيرون المرضعة الأولى من هذه الجهة اما لزوجته الفعلية وان لم يكن
كذلك بحسب الدقة العقلية، بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك بحسب الدقة أيضا نظرا
إلى أن الأمومة وان كانت في رتبة متأخرة عن علتها التي هي الرضعة الأخيرة لكنها
متقارنة معها زمانا كما هو شأن كل معلول مع علته. وحينئذ فإذا كانت الأمومة متحدة
ظرفها زمانا مع ظرف علتها وكانت الزوجية أيضا متحققة للصغيرة في ذلك الظرف فلا
جرم يلزمه اتحاد ظرفي الأمومة والزوجية أيضا بحسب الزمان على نحو الدقة العقلية، و
حينئذ فإذا لم يكن المعيار في اتحاد الظرفين على الاتحاد بحسب المرتبة بل على الاتحاد
بحسب الزمان وكان الظرفان أيضا متحدين بحسب الزمان فقهرا يندفع الاشكال المزبور
من رأسه بلا حاجة أيضا إلى التشبث بفهم العرف والمصير إلى تسامحهم في مدلول الكلام
كما هو واضح فتدبر.
الامر السادس قال في الكفاية: (ان اختلاف المشتقات حسب اختلاف مباديها
من كون المبدأ حرفة في بعضها أو صنعة وبعضها القوة أو الملكة أو الاعداد لا يوجب
تفاوتا واختلافا في الهيئة التي هي الجهة المبحوث عنها في المقام إذ لا يتفاوت حالها
باختلاف ما يراد من مباديها من الأمور المذكورة) ومقصوده (قدس سره) من ايراد
هذا التنبيه انما هو منع القائل بالأعم عن التشبث بمثل التاجر والقاضي والكاسب و
المجتهد ونحوها مما يصح اطلاقها على غير المتلبس الفعلي بالمبدأ وانه ليس للقائل بالأعم
131

الاستدلال بالأمثلة المزبورة لاثبات الوضع للأعم باعتبار انه في الأمثلة المزبورة أريد من
المبدأ فيها الحرفة أو الصناعة أو الملكة أو الاعداد، فلا يضر حينئذ تلك الأمثلة بالقائل
بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي بوجه أصلا هذا محصل مرامه (قدس سره).
أقول: ولا يخفى ان ما افاده (قدس سره) بحسب الكبرى وان كان تاما الا ان تمام
الاشكال في تحقق صغرياتها، إذ نمنع كون الأمثلة المزبورة مما أريد من المبدأ فيها الحرفة أو
الصناعة أو الملكة وإلا يلزم كونه كذلك في غير الأسماء من المصادر والافعال أيضا لأنه
بعد انحلال الوضع في المشتقات إلى وضعين: وضع المادة ووضع الهيئة لا يكاد يفرق بين
الأسماء والمصادر والافعال، مع أنه كما ترى! حيث لا يكاد ينسبق الذهن من اطلاق
لفظ اتجر يتجر واتجار والتجارة وكذا لفظ قضى يقضى قضاء واقض (بصيغة الامر)
واجتهد يجتهد اجتهادا ونحو ذلك الا المبدأ الفعلي المنسوب إلى الذات دون الحرفة أو
الصناعة أو الملكة، وحينئذ فعلى ما سلكه (قدس سره) لابد اما من الالتزام بتعدد
الوضع في المواد بدعوى وضع المادة في غير الأوصاف للمبدأ الفعلي أعني الحدث الخاص و
في الأوصاف للحرفة أو الصناعة أو الملكة، أو الالتزام بالمجاز في خصوص الأوصاف،
وهما كما ترى، ضرورة بعد أن يكون للمواد وضعان في الأمثلة المزبورة وضع في خصوص
الأوصاف ووضع في غير الأوصاف من المصادر والافعال كبعد المجازية أيضا في
خصوص الأوصاف، لعدم مساعدة العرف والوجدان عليه كما لا يخفى.
وحينئذ فالذي يقتضه التحقيق هو ان يقال: بان ما يرى من صحة اطلاق التاجر و
القاضي والمجتهد والبقال والنجار ونحوها حتى في حال عدم الاشتغال الفعلي بالتجارة
والقضاوة والاستنباط بل وفي حال الاشتغال بما يضادها كالأكل والشرب والنوم
انما هو من جهة ان في الذات اقتضاء وجود المبدأ وفعليته الناشي ذلك الاقتضاء من جهة
تكرر المبدأ منه في الخارج وجعله حرفة أو صنعة له كما في الكاسب والتاجر والبقال و
نحوها، أو من جهة جعل جاعل كالحاكم والقاضي ونحوهما، أو من جهة تحقق الملكة له
كما في المجتهد والمستنبط والمهندس ونحوها أو من جهة أخرى غير ذلك، ففي الحقيقة لما
كان قضية الحرفة والصناعة والملكة ونحوها تحقق المبدأ في الخارج أوجب ذلك اعتبار
العرف بل العقلاء وجود المقتضى (بالفتح) أيضا عند تحقق مقتضيه (بالكسر) فمن هذه
الجهة يحكمون بوجوده فيطلقون عليه الكاسب والتاجر والقاضي والمجتهد ولو في حال
132

الاشتغال بما يضاد التجارة والقضاوة كما هو الشأن أيضا في غير المقام حيث كان بنائهم
على الحكم بوجود المقتضى (بالفتح) وترتيب آثار الوجود عليه عند تحقق مقتضيه
(بالكسر) ومن ذلك مسألة اشتراط سقوط الخيار في حين العقد مع أنه لا وجود له بعد و
اسقاطه من قبل اسقاط ما لم يجب، ومسألة إجارة الدار والدكاكين وتمليك منافعها
فعلا بعد السنة والسنتين مع أنه لا وجود للمنفعة فعلا حال الانشاء والتمليك. وحينئذ
فعلى ذلك يكفي هذا المقدار في صحة اطلاق التاجر والقاضي والمجتهد على الذات حتى في
حال الاشتغال بما يضاد التجارة والقضاوة بلا اضراره بالقائل بالوضع لخصوص المتلبس
الفعلي، بلا احتياج أيضا إلى رفع اليد عما يقتضيه قضية وضع المادة من الفعلية في
الأوصاف على خلاف المصادر والافعال بالحمل على إرادة الملكة أو الحرفة والصنعة فيها
في الأوصاف بل تبقى المادة حينئذ على حالها كما في المصادر والافعال ويصار إلى صحة
الاطلاق بما ذكرناه من البيان كما لا يخفى.
الامر السابع قد عرفت في بعض الأمور المتقدمة ان مجرد هذا النزاع في مدلول كلمة
المشتق بأنه للأعم أو المتلبس الفعلي لا يثمر في استنتاج النتيجة المعروفة الا بانضمام
دعوى ظهور الهيئة الكلامية في القضايا في اتحاد ظرف النسبة مع ظرف التلبس الذي هو
ظرف وجود المصداق. ولقد عرفت ظهور الهيئة الكلامية في القضايا طرا في ذلك ولو من
جهة الانصراف، ولكن نقول: بان هذا الظهور انما يكون ويتبع فيما لو يكن في البين قرينة
حالية أو مقالية أو عقلية على الخلاف والا فلا مجال لهذا الظهور ولا لاتباعه على فرض
الظهور أيضا مثل ما لو فرض كون المبدأ أو اتصاف الذات به آنيا غير قابل للدوام و
الاستمرار كالضرب والقتل ونحوهما، فإنه في تلك الموارد من جهة عدم قابلية المبدأ للدوام
والاستمرار لا يكون للقضايا ذلك الظهور بل ربما يكون فيها الظهور على الخلاف من
مغايرة الظرفين، وكذا الامر في الموارد التي كان للمبدأ قرار واستمرار ولكنه قامت في
البين قرينة حالية أو مقالية على اختلاف الظرفين كما لو كان الحكم المترتب في البين
استقباليا بالنسبة إلى عنوان المبدأ فإنه في تلك الموارد يستفاد ان تلبس الذات بالمبدأ و
اتصافها به في آن علة لترتب الحكم عليه إلى الأبد بلا حاجة في ابقاء الحكم عليه إلى
بقاء تلبسه بالمبدأ كما في مثل (السارق والسارقة فاقطعوا الخ) وعلى ذلك نقول: بأنه
ليس للقائل بالأعم التمسك ببعض الأمثلة لاثبات مطلوبه من نحو قوله: اقتل القاتل أو
133

الضارب، وقوله سبحانه (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (والزانية والزاني فاجلدوا كل
واحد منهما الخ) إذ نقول: بان هذه كلها من الموارد التي قامت القرينة العقلية أو غيرها
على مغايرة ظرف الحكم مع ظرف وجود المصداق وان الجري والتطبيق فيها كان على
المجري عليه السابق أي القطعة المتلبسة بالمبدأ في السابق لا على القطعة الفعلية كي يلزمه
اتحاد الظرفين فيكون تلبس الذات في تلك الموارد علة لترتب حكم الجلد أو القطع عليه إلى
الأبد ولو بعد انقضاء المبدأ عنه، كما يشهد لذلك قضية التفريع أيضا في قوله سبحانه:
السارق والسارقة فاقطعوا، والزانية والزاني فاجلدوا، وحينئذ فلا ينافي قضية وجوب
الجلد وقطع اليد عدم صحة اطلاق السارق والزاني الفعلي عليه كي يشكل بأنه كيف
ذلك مع فرض عدم صدق السارق الفعلي عليه فتدبر.
الثامن من الأمور: لا يخفى عليك انه لا أصل في المسألة يحرز به أحد الاحتمالين من
الوضع للأعم أو المتلبس الفعلي، وأصالة عدم ملاحظة الخصوصية معارضة بأصالة عدم
ملاحظة العمومية، ومع تسليم عدم احتياج الثانية إلى ملاحظة العمومية وانها يكفيها
عدم ملاحظة الخصوصية، نقول بأنه لا يكاد يثبت بها الوضع للأعم، من جهة عدم الدليل
على اعتبار مثل هذا الأصل في مقام تعيين الأوضاع، ولا سيرة من العقلاء أيضا على ذلك
كي بمعونة عدم الردع يستكشف الامضاء، وانما القدر الذي عليه سيرة العقلاء انما هو في
الشكوك المرادية وأين ذلك ومقام تعيين الأوضاع! كما لا يخفى. وحينئذ فلو ورد دليل على
وجوب اكرام العالم أو إهانة الفاسق فينتهى الامر إلى الأصول العلمية من استصحاب
وجوب أو حرمة إذا كان في البين حالة سابقة، كما لو رود دليل على وجوب اكرام زيد
العادل حال تلبسه بالعدالة فانقضى عنه العدالة بعد ذلك واتصف بما هو ضدها فإنه
حينئذ يشك في وجوب اكرامه فيستصحب حكمه السابق وهو وجوب الاكرام، وأما إذا لم
يكن في البين حالة سابقة فيرجع إلى البراءة للشك في أصل التكليف بالاكرام بالنسبة
إليه، ويفرض ذلك فيما لو كان ورود الدليل على وجوب اكرام العادل بعد انقضاء العدالة
عن زيد. وبالجملة فبعد انتهاء الامر إلى الأصول العلمية يختلف مجاريها بحسب اختلاف
الموارد استصحابا أو براءة واشتغالا فلابد من لحاظ خصوصيات الموارد باعطاء كل
حكمه.
وإذا عرفت هذه الأمور فلنشرع فيما هو المهم والمقصود من الوضع للأعم أو
134

لخصوص المتلبس الفعلي، فنقول: ان الأقوال في المسألة وان كثرت من القول بالوضع
لخصوص المتلبس الفعلي، والقول بالوضع للأعم، والتفصيل بين المحكوم والمحكوم عليه،
وغيره من التفاصيل المذكورة في المطولات الا انا نكتفي بذكر القولين الأولين لكونهما هما
العمدة في الباب.
فنقول: ان المختار من القولين المزبورين هو الأول من الوضع لخصوص المتلبس الفعلي.
لنا على ذلك أولا: التبادر حيث كان المتبادر من اطلاق قولك زيد قائم أو عادل هو
خصوص المتلبس الفعلي بالمبدأ دون الأعم منه وما انقضى عنه المبدأ، بل وصحة سلب
القائم والعادل عن المنقضي عنه القيام والعدالة حقيقة، فإنه يصح ان يقال: انه ليس
بقائم أو عادل فعلا حقيقة بل هو قاعد وفاسق فعلا، فان من الواضح انه لو كان المشتق
حقيقة في الأعم لما صح السلب المزبور عمن كان سابقا متلبسا بالقيام والعدالة، مع أن
صحة سلب القائم والعادل عنه في الوضوح كالنار على المنار والشمس في رابعة النهار،
كيف وقد عرفت بأنه يصدق عليه فعلا ما يضاده بحسب الارتكاز لضرورة صدق القاعد
الفعلي عليه بعد انقضاء القيام عنه وصدق الجاهل والفقير عليه فعلا بعد انقضاء العلم و
الغنى عنه، وهكذا في مثل الاكل والفارغ عن الاكل والمشتغل به فإنه بعد فراغه عن
الاكل لا يكاد يصدق عليه عنوان المشتغل بالاكل بل يصدق عليه بالضرورة عنوان
الفارغ، والمشتغل والفارغ أيضا من المشتقات.
بل ولئن تدبرت ترى كون هذا الوجه برهانا تاما مستقلا على عدم كون المشتق
حقيقة الا في خصوص المتلبس الفعلي كما قرب أيضا بتقريب انه لا ريب في مضادة
الأوصاف المتقابلة المأخوذة من المبادي المتضادة بحسب الارتكاز كالأبيض والأسود و
العالم والجاهل ونحوها بنحو يأبى الارتكاز عن صدقها على موضع واحد في زمان واحد،
ومن المعلوم ان مثل هذه المضادة الارتكازية انما يتم على مسلك من اعتبر التلبس الفعلي
لان لازمه حينئذ كون شخص واحد في زمان واحد مصداقا فعليا للأبيض والأسود
والعالم والجاهل والقائم والقاعد والمشتغل والفارغ ونحوها وهو مما يكذبه الوجدان
السليم بحسب ما له من الارتكاز بالمضادة بين تلك الأوصاف. واما بناء على القول بالأعم
فلا يتم ذلك لان لازمه ان لا يكون مضادة بين الأوصاف المزبورة بل كان بينها المخالفة
التي لازمها عدم الاباء عن الاجتماع في موضوع واحد، كما هو الشأن في كلية المتخالفين
135

كالسواد والحلاوة، مع أنه ليس كذلك قطعا لقضاء الوجدان حسب ما له من الارتكاز
بالمضادة التامة بين القائم والقاعد وبين العالم والجاهل والصحيح والمريض و
الأبيض والأسود، كالمضادة بين مبدئيها. وحينئذ فكان نفس تلك المضادة الارتكازية بين
الأوصاف المزبورة أقوى شاهد وأعظم برهان على بطلان القول بالأعم.
ولا يخفى عليك بأنه هذا التقريب لا يبقى موقع للاشكال عليه بما أفيد من منع
المضادة بين نفس الأوصاف لكون التلبس بالوجود المطلق أعم من التلبس الفعلي،
فيمكن ان يكون جسم واحد مثلا يصدق عليه مفهوم الأبيض بمعنى اتصافه بالبياض
الذي وجد فيه فانقضى عنه حال النسبة ويصدق عليه مفهوم الأسود أيضا على معنى
اتصافه بالسواد المتلبس به في الحال فهذان العنوانان مما لا تضاد بينهما أصلا وانما
التضاد بين مبدئيهما ولا يلزم من ذلك اجتماعهما في موضوع واحد بوجه أصلا. إذ فيه ما لا
يخفى فإنه بعدان كان مراد القائل بالأعم هو صدق المشتق حقيقة فعلا على المنقضى عنه
المبدأ في الحال كصدقة على المتلبس الفعلي نظرا إلى دعوى كونه من المصاديق الحقيقية
لمفهوم الأبيض والأسود بحيث يصح اطلاقه عليه فعلا بقولك هذا الجسم ابيض فعلا
بمحض تلبسه بالبياض سابقا، فلا جرم لا موقع لهذا الاشكال لأنه بعد تحقق المضادة
الارتكازية بينهما كما فيما بين مبدئيهما واباء الوجدان عن صدق القائم والمشتغل عليه فعلا
في حال تلبسه بالقعود وفراغه عن المبدأ يتم المطلوب ويبطل به دعوى القائل بالأعم، و
اما المنع عن أصل تلك المضادة حتى بحسب الارتكاز فليس الا المكابرة مع الوجدان.
ثم انه من هذا البيان ظهر أيضا اندفاع ما أورد من الاشكال على صحة السلب
المزبور كما عن الفصول (قدس سره) فيما حكى عنه: من تقريب انه ان أريد من صحة
السلب صحته مطلقا فغير سديد إذ لا يصدق على من انقضى عنه القيام انه ليس بقائم
مطلقا لا في الحال ولا في الماضي بل يصدق عليه انه قائم في الجملة ولو في الماضي، وان
أريد به صحته مقيدا فغير مفيد لان علامة المجاز انما هو صحة السلب مطلقا وفيما انقضى
عنه المبدأ انما يصح السلب مقيدا بالحال لا مطلقا ومثل ذلك لا يكون من علائم المجاز كما
لا يخفى. وجه الاندفاع هو ما عرفت من أن هم القائل بالأعم إنما هو صدق المشتق حقيقة
فعلا على المنقضي عنه المبدأ كصدقه على المتلبس الفعلي، نظرا إلى كونه من الافراد
الحقيقية لهذا العنوان بمحض التلبس السابق، ومن المعلوم انه يكفي في ابطاله صحة سلب
136

القائم الفعلي عنه إذ عدم صدق القائم الفعلي عن المنقضي عنه القيام يكفي في عدم كونه
من المصاديق الحقيقية للعنوان كما هو واضح. نعم لو اعتبر التقيد المزبور في طرف المادة لا
في طرف الاتصاف بالعنوان كما في قولك في زيد الذي انقضى عنه القيام فعلا: انه ليس
بقائم بالقيام الفعلي بل هو قاعد بالقعود الفعلي لاتجه الاشكال المزبور بان سلب القائم
بالقيام الفعلي عن زيد لا يقتضي سلبه عنه بمطلق القيام ولو في الماضي. ولكن نقول
أيضا: بان سلب القائم بالقيام الحالي عن زيد لما كان يلازم صحة سلب الاتصاف بالقائم
الفعلي فبهذا لاعتبار يتم السلب المزبور في ابطال قول مدعى الوضع للأعم، وذلك لما تقدم
من أن هم القائل بالأعم انما هو صدق المشتق بما له من المعنى فعلا وفى الحال على
المنقضى عنه المبدأ كصدقه على المتلبس الفعلي بالمبدأ. وحينئذ فيكون صحة السلب
المزبور كاشفا عن عدم كون المنقضى عنه القيام حالا من المصاديق الحقيقة لعنوان
القائم والا لما كاد يصح السلب المزبور كما في المتلبس الفعلي من جهة منافاة هذا المعنى
بالضرورة مع صحة سلب العنوان الحالي عنه كما هو واضح.
ثم إن هذا كله بناء على جعل التقيد بالحال معتبرا في ناحية المسلوب الذي هو
المحمول أي الوصف أو المبدأ ولقد عرفت بأنه على التقديرين يتم السلب المزبور لا ثبات
المطلوب بلا ورود اشكال عليه. واما بناء على اعتباره في ناحية السلب أو الموضوع فالامر
أوضح، فإنه على الأول قد سلب معنى القائم بقول مطلق عن الموضوع المطلق غايته
بالسلب المقيد كونه بلحاظ الحال الفعلي وهو حال الانقضاء، وعلى الثاني قد سلب معنى
القائم أيضا بقول مطلق بالسلب المطلق عن الذات المقيدة بكونها في حال انقضاء المبدأ
عنها وعلى التقديرين يكون صحة السلب المزبور وافيا لاثبات المطلوب فلا يفرق حينئذ
بين السلب المقيد (بالإضافة) والسلب المقيد (بالتوصيف) والسلب عن المقيد فتدبر. و
لكن الأستاذ (دام ظله) لم يتعرض لفرض صورة ارجاع القيد إلى السلب أو إلى الموضوع
وانما تعرضه كان لصورة ارجاعه إلى المسلوب الذي هو المحمول.
ثم انه من التأمل فيما ذكرنا ظهر لك أيضا اندفاع ما أورد أيضا على التبادر المدعى: من
دعوى ان مثل هذا التبادر لا يكون مستندا إلى حاق اللفظ وانما هو من جهة قضية
الاطلاق الناشي من جهة غلبة الاطلاق على المتلبس الفعلي، ولا أقل من احتمال ذلك
فلا يكون دليلا على المدعى لان التبادر الذي يثبت به الوضع انما هو التبادر المستند إلى
137

حاق اللفظ لا مطلقا ولو المستند إلى قضية الاطلاق. توضيح الدفع: انه لو كان الامر كما
ذكر من استناد التبادر إلى قضية الاطلاق الناشي من جهة الغلبة يلزمه لا محالة صحة
اطلاقه أيضا على المنقضى عنه المبدأ بلا رعاية عناية في البين كما في اطلاقه على المتلبس
الفعلي، من جهة بداهة انه لا يمنع مجرد الغلبة وكثرة الاطلاق عن صحة الاطلاق على
الفرد النادر، ومن ذلك ترى صحة اطلاق الانسان على من له رأسان وأياد أربع مع أنه
من الندرة ما لا يخفى، مع أنه بشهادة الارتكاز نرى عدم صحة اطلاق المشتق على من
انقضى عنه المبدأ فعلا بل وصحة سلبه عنه كما عرفت وحينئذ فيتم دعوى القائل
بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي بالمبدأ.
ثم لا يخفى عليك انه على ما ذكرناه من التقريب لا ثبات الحقيقة في خصوص
المتلبس الفعلي لا يكاد يفرق في أنحاء المشتقات بين كونه محكوما أو محكوما عليه وبين
اسم الفاعل والمفعول وبين المأخوذ من المبادئ اللازمة أو المتعدية إلى غير ذلك من
التفاصيل، فلا بد من المصير إلى كونه حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي بقول مطلق كما
هو واضح.
بقى الكلام في ذكر أدلة القول بالأعم، فنقول: انه استدل للأعم أيضا بوجوه:
منها: التبادر الذي قد عرفت خلافه وان التبادر لا يكون الا خصوص المتلبس الفعلي
بالمبدأ.
ومنها: صحة الاطلاق وعدم صحة السلب كما في نحو مظلوم ومقتول وشهيد ونحو ذلك
وفيه ان ما يرى من صحة الاطلاق فإنما هو بلحاظ حال التلبس لا بلحاظ حال
النسبة وحال الجري والتعليق، ولقد عرفت كونه بنحو الحقيقة حتى عند القائل
بالتلبس الفعلي نظرا إلى أن المجري عليه بهذا الجري انما كان عبارة عن قطعة خاصة من
الذات التي تلبست سابقا بالمبدأ ولكنه لا يجدي ذلك للخصم. نعم انما يجدي ذلك له فيما
لو كان المجري عليه أيضا عبارة عن القطعة الفعلية من الذات ولكن نحن نمنع حينئذ عن
صحة الاطلاق المزبور بل نقول بصحة سلبه عنه وانه لا يصح ان يقال لزيد المضروب
سابقا انه مضروب فعلا كما يصح ذلك في المضروب الفعلي، واما اطلاق مقتل الحسين
عليه السلام على اليوم العاشر من المحرم فهو من باب التشبيه لا من باب انه حقيقة في
الأعم.
138

ومنها: صحة الاطلاق في مثل التاجر والقاضي والمجتهد حتى في حال النوم ونحوه. و
الجواب عنه قد تقدم في الامر السادس فراجع.
ومنها: استدلال الإمام عليه السلام بقوله سبحانه (لا ينال عهدي الضالمين) لا ثبات
عدم لياقة عابد الصنم والوثن لمنصب الخلافة والإمامة بتقريب: انه لولا الوضع للأعم
لما تم الاستدلال بالآية المباركة لعدم اللياقة لمنصب الإمامة. وفيه ما تقدم بان الجري فيه
انما هو بلحاظ حال التلبس السابق لا بلحاظ الحال الفعلي فيكون مبني استدلاله
عليه السلام على أن التلبس بعبادة الصنم (التي هي أعظم أنحاء الظلم ولو في زمان) علة
لعدم النيل بمنصب الخلافة والإمامة إلى الأبد وعليه لا يكاد يفيد ذلك للقول بالأعم كما
هو واضح. نعم غاية ما هناك انما هو لزوم رفع اليد عما يقتضيه ظاهر الهيئة الكلامية من
اتحاد ظرف النسبة والحكم مع ظرف وجود المصداق الذي هو ظرف التلبس فإنه على ذلك
يختلف الظرفان حيث كان ظرف الحكم بعدم النيل بالخلافة فعليا وظرف وجود
المصداق فيما مضى من الزمان المتقدم، ولكنه نقول: بأنه لا ضير في ذلك بعد قيام القرينة
الخارجية أو الداخلية على المغايرة بين الظرفين وكون الشرك بالله عز وجل علة لحدوث
الحكم بعدم النيل بمنصب الخلافة وبقائه إلى الأبد خصوصا بعد عدم كون الظهور المزبور
ظهورا وضعيا بل ظهور اطلاقيا، مع أنه لو فرض كونه ظهورا وضعيا لا اطلاقيا وقلنا
بجريان أصالة الظهور فيه حتى مع وجود القرينة على الخلاف نقول بأنه لا يقتضي ذلك
أيضا اثبات الوضع في مدلول الكلمة وهي المشتق، كما هو واضح.
ومنها: آيتا حد السارق والزاني من قوله سبحانه السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما (1)
و (الزانية والزاني فاجلدوا الخ) (2) والجواب عن ذلك أيضا هو ما تقدم في الامر السادس
ومحصله في جميع ذلك كله: هو ان تلك الموارد التي يكون الاتصاف
بالعنوان ولو في آن علة لحدوث الحكم وبقائه إلى الأبد من دون احتياج في بقاء الحكم
إلى بقاء الاتصاف بالعنوان أصلا، كما هو واضح.
هذا كله فيما استدل به للقول بالأعم، ولقد عرفت عدم تمامية شئ من الوجوه

(1) سورة المائدة، الآية 38.
(2) سورة النور، الآية 2.
139

المزبورة لا ثبات كون المشتق حقيقة في الأعم وان التحقيق هو كونه حقيقة في خصوص
المتلبس الفعلي، لما ذكرنا من التبادر وصحة السلب عن المنقضي عند المبدأ وارتكاز
المضادة، من غير فرق بين وقوعه محكوما أو محكوما عليه وبين كونه مأخوذا من المبادئ
المتعدية أو اللازمة وبين اسم الفاعل والمفعول كما مرت الإشارة إليه.
نعم في المقام قول آخر بالتفصيل بين القول بتركيب المشتق من المبدأ والذات
وبساطته وجعله عبارة عن نفس المبدأ لا بشرط: من دعوى كونه حقيقة في الأعم على
الأول وفي خصوص المتلبس الفعل على الثاني، نظرا إلى عدم تصور الانقضاء عليه، و
سيجئ الكلام فيه وفي عدم صحته أيضا في تنبيهات المسألة عند التعرض لبيان بساطة
المشتق وتركبه إن شاء الله تعالى.
وينبغي التنبيه على أمور
الامر الأول: انه قد وقع الكلام بين الاعلام في أن المشتق بسيط أم مركب من المبدأ و
الذات. ولتنقيح المرام لابد من بيان المتحملات المتصورة في التركب والبساطة في المقام.
اما تركبه فله صورتان: الأولى تركب المشتق بحسب المفهوم على معنى ان يكون مفهوم
المشتق عبارة عن معنى تركيبي، وهو الذات التي تثبت لها المبدأ وفي قباله بساطة مفهومه
وعدم تركبه. الثانية تركبه بحقيقته وبمنشأ انتزاعه مع بساطة أصل مفهومه كما نظيره في
مثل الانسان، حيث إنه مع بساطة مفهومه وعدم تركبه يكون حقيقته مركبة من الامرين
عند التحليل: الحيوان والناطق فيقال فيه: انه حيوان ناطق، من دون ان يكون مثل هذا
التركيب التحليلي العقلي في منشأه موجبا لتركب مفهومه وفي قبال ذلك بساطته حتى
بحقيقته ومنشأ انتزاعه علاوة عن بساطة مفهومه هذا. ولكن الظاهر هو عدم إرادة القائل
بالتركيب التركب بالمعنى الأول، كيف وانه من البعيد كله دعويهم كون المفهوم من
المشتق هو المعنى التركي أي الذات الثابت لها المبدأ بل الظاهر هو ارادتهم من التركب
تركبه بحقيقته وما هو منشأ انتزاع هذا المفهوم مع بساطة أصل مفهومه وتسليم انه لا يكاد
ينسبق في الذهن من مثل القائم والقاعد الا الشكل الخاص على النحو الذي كان في
الخارج. وعليه فيكون مركز النزاع في المشتق من جهة التركب والبساطة في أصل
140

حقيقته لا في مفهومه، فحيث ان المنسبق من مثل القائم والقاعد ونحوهما في الذهن
كان هو الشكل الخاص على النحو الذي كان في الخارج من الهيئة الخاصة وكان ذلك
الشكل والصورة الخاصة منحلا بحسب التحليل إلى ذات ومبدأ قائم بها، وقع الخلاف
بينهم في أن كلمة المشتق، وهو القائم مثلا، موضوع لمجموع هذه الأمور الثلاثة بحيث كان
جهة الذات أيضا جزء للمدلول؟ أم لا بل تكون جهة الذات خارجة عن المدلول رأسا؟ ثم
على فرض خروج الذات عن المدلول فهل المشتق عبارة عن المبدأ وجهة قيامه بالذات؟ أم
لا بل يكون المشتق عبارة عن نفس المبدء محضا بحيث كان جهة قيامه بالذات كنفس
الذات خارجة عن المدلول؟
وعلى هذا ربما تكون المحتملات المتصورة على البساطة أيضا ثلاثة: الأول كونه أي
المشتق عبارة عن المبدأ وجهة قيامه بالذات التي هي معنى حرفي مع خروج الذات عن
مدلوله، فبساطته على هذا المعنى انما هي بالإضافة إلى الذات والا ففي الحقيقة يكون أيضا
مركبا من الامرين، الثاني كونه عبارة عن امر وحداني وهو المبدأ محضا مع خروج جهة
قيامه بالذات أيضا كنفس الذات عن المدلول. وهذا أيضا يتصور على وجهين: الأول
كونه عبارة عن المبدأ محضا لكن لا مطلقا بل في حال قيامه بالذات واتحاده معها بنحو
القضية الحينية لا التقييدية، الثاني كونه عبارة عن نفس المبدأ محضا قبالا للذات لكن بما
هو مأخوذ بعنوان اللابشرطي فيكون الفرق بينه وبين المصدر - كما أفادوه كالفرق بين
الجنس والفصل والهيولي والصورة من جهة اللابشرطية والبشرط لائية.
فهذه الصور المتصورة من التركب والبساطة في المقام. وربما يختلف بعضها مع بعض
آخر منها بحسب اللوازم، فان من لوازم المعنى الأول وكذلك المعنى الثاني من البساطة
عدم جواز حمل المشتق على الذات من جهة انتفاء شرط الحمل الذي هو الاثنينية بحسب
المفهوم في الذهن، فان المبدأ على المعنيين بعد ما لا يرى في الذهن منفكا عن الذات بل
يرى متحدا معها فلا جرم لا يكون مثل هذا الصقع من صقع الحمل على الذات كي
يصح فيه الحمل، نعم في مقام الحمل على المصداق كما في قولك: زيد عالم أو ضارب صح
الحمل لتحقق أركانه التي هي اثنينية الموضوع والمحمول في الذهن واتحادهما بنحو من
الاتحاد في الخارج، ولكنه أجنبي عن مقام حمل المبدأ على الذات في مدلول الكلمة. و
هذا بخلافه على البساطة بالمعنى الأخير، فإنه عليه باعتبار اخذ المشتق عبارة عن مجرد
141

المبدأ المقابل للذات كان لصحة الحمل على الذات كمال مجال وذلك من جهة تحقق
ركنية وهما اثنينية الموضوع والمحمول في الذهن واتحادهما في الخارج.
ومن جملة اللوازم أيضا انه على المعنيين الأولين من البساطة ربما صح جعل العناوين
الاشتقاقية كالعالم والعادل ونحوهما موضوعا للأحكام من نحو الاطعام والاكرام كما في
قولك: أطعم العالم وأكرم العادل وقبل يد العالم ورجله، فإنه بعد ما كان المشتق اخذ
وجهة وعنوانا للذات بنحو كان النظر إلى الذات استقلاليا والى العنوان تبعيا كما في
النظر إلى زيد الذي يتبعه النظر إلى لباسه كما سيجئ، فلا جرم من هذه الجهة صح
جعلها موضوعا للأحكام المزبورة، ولا يتوجه الاشكال عليه بأنه كيف يصح إضافة
الاكرام والاطعام وتقبيل اليد والرجل إلى عنوان العالم مع أنه لا يد للمبدأ ولا بطن له
حتى يصح تعلق التكليف باطعامه وتقبيل يده، فإنه على ما ذكرنا يكون ما أضيف إليه
الاكرام والاطعام هو نفس الذات خاصة غايته لا مطلقا بل بما هي متجلية بجلوة العلم و
العدالة. وذلك بخلافه على المعنى الأخير من البساطة من جعله عبارة عن نفس المبدأ
قبالا للذات، إذ عليه لا مجال لإضافة الاحكام المزبورة إلى العناوين المزبورة ولو اعتبر
كونها لا بشرط الف مرة، فان لازمها كونها منظورة بالنظر الاستقلالي من دون نظر إلى
الذات في عالم من العوالم الا تبعا للعنوان، ولازمه هو توقف الحكم في مقام إضافة
الاكرام والاطعام على نفس العنوان وهو المبدأ فيتوجه حينئذ الاشكال المزبور.
ومن ذلك البيان ظهر الحال بناء على القول بالتركيب أيضا، حيث إن الاشكال
يتوجه بالنسبة إلى جزئه الذي هو المبدأ.
كما أنه من البيان المزبور ظهر أيضا نكتة الفرق بين البساطة بالمعنى الثاني وبين
البساطة بالمعنى الأخير، فإنهما وان اشتركا في بساطة العنوان وكونه عبارة عن نفس
المبدأ خاصة الا انهما يفترقان من تلك الجهة، فان المبدأ على البساطة بالمعنى الثاني لما اخذ
كونه متحدا مع الذات بنحو القضية الحينية لا التقييدية فلا جرم بهذا الاعتبار يكون
ملحوظا وجهة وعنوانا للذات وبهذا الاعتبار يكون النظر إلى الذات استقلاليا والى
العنوان المتحد معها تبعيا، فيصح حينئذ إضافة الاكرام والاطعام إليه في قولك: أكرم العالم
واطعم العادل ولكن مثل هذا الاعتبار لا يتأتى على البساطة بالمعنى الأخير كما شرحناه
فتدبر.
142

وكيف كان فبعد ان ظهر لك هذه الجهة فلنذكر ما يقتضيه التحقيق في المقام من
المحتملات المزبورة للتركب والبساطة.
فنقول: اما احتمال تركب المشتق من المبدأ والذات فلا شبهة في كونه بمعزل عن
التحقيق ويظهر وجهه مما قدمناه سابقا في كيفية أوضاع المشتقات وانحلال الوضع في
كل واحد منها إلى وضعين: وضع المادة ووضع الهيئة، إذ نقول: بأنه لو كان الذات مأخوذة
في الأوصاف فلا جرم الدال عليها اما ان يكون هي المادة أو الهيئة، مع أنه ليس في شئ
منها الدلالة عليها أصلا، إذ لمادة لا تدل حسب وضعها النوعي الساري في جميع الصيغ
الا على نفس الحدث، واما الهيئة الخاصة فيها ففي أيضا لا تدل الا على قيام هذا المبدأ
بالذات الذي هو معنى حرفي وحينئذ فأين الدال على الذات؟ نعم لو قيل بان الوضع في
خصوص الأوصاف من بين المشتقات من قبيل الوضع في الجوامد من دعوى وضع المادة و
الهيئة فيها مجموعا للذات المتلبسة بالمبدأ لكان لدعوى تركب المشتق من المبدأ والنسبة و
الذات كمال مجال، ولكنه كما عرفت خلاف التحقيق وخلاف ما عليه المحققون في
كلية المشتقات التي منها الأوصاف من انحلال الوضع فيها كما هو واضح.
وحينئذ فبعد بطلان القول بالتركيب من المبدأ والذات يدور الامر بين المحتملات
الثلاثة المتصورة على البساطة من الوضع لامرين: المبدأ وإضافة قيامه بالذات كي يكون
دلالته على الذات من جهة الملازمة، أو الوضع لأمر واحد وهو المبدأ خاصة لكنه في حال
كونه متحدا مع الذات بنحو القضية الحينية لا التقييدية فتكون الإضافة أيضا كنفس
الذات خارجة عن المدلول، أو الوضع للمبدأ قبالا للذات لكنه بما هو ملحوظ بعنوان اللا
بشرطي كما تقدم بيانه، وفي مثله لا ينبغي الاشكال في أن المتعين منها هو المعنى الأول
من البساطة: من جعله عبارة عن المبدأ القائم بالذات غايته بما انه ملحوظ وجها وعنوانا
للذات وطورا من أطوارها، فان هذا المعنى هو الذي تقتضيه قاعدة انحلال أوضاع
المشتقات بحسب المادة والهيئة، حيث نقول: بان المادة في الأوصاف وضعت للدلالة على
نفس الحدث، والهيئة فيها وضعت للدلالة على إضافة قيام المبدأ بالذات، وهذا بخلافه
على المعنى الثاني والثالث فإنه عليها لابد من اخراج الأوصاف عما يقتضيه قاعدة انحلال
الوضع في المشتقات المصير إلى دعوى كون الوضع في خصوص الأوصاف من قبيل
الوضع في الجوامد من وضع مجموع المادة والهيئة فيما بوضع وحداني لمعنى حدثي خال عن
143

الإضافة والنسبة على خلاف بقية الصيغ من المصادر والافعال وهو كما ترى، و
خصوصا مع ما في المعنى الثالث من استلزامه لبعض التوالي الفاسدة التي منها ما ذكر، و
منها عدم صحة جعل تلك الأوصاف موضوعات للأحكام الخاصة من مثل الاكرام و
الاطعام وتقبيل اليد والرجل كما مرت الإشارة إليه، فان لحاظ المبدأ بالعنوان اللابشرطي
لو كان يجدي فإنما هو بالنسبة إلى مقام الحمل لا في مقام إضافة الاحكام المزبورة إليه من
نحو قولك: أكرم العالم واطعم العالم والنظر إلى وجه العالم عبادة والى باب داره عبادة،
وذلك من جهة وضوح ان ما هو الموضوع للأحكام المزبورة في مقام النسبة الحكمية ليس
الأنفس الذات دون المبدأ وان لو حظ كونه بالعنوان اللابشرطي الف مرة كما هو واضح،
ومنها عدم تصور جريان النزاع المعروف في المشتق في أنه للأعم أو المتلبس الفعلي على
هذا القول من جهة عدم تصور الانقضاء فيه كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ومنها غير
ذلك من التوالي الفاسدة.
ومن ذلك نقول: بان أردأ المباني والمسالك في المقام هو المسلك الأخير بملاحظة ما فيه
من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بواحد منها، بخلافه على المسلك الأول من
البساطة الذي اخترناه وسلكناه فإنه عليه لا يتوجه شئ من التوالي الفاسدة بل عليه
يجمع بين ما يقتضيه ظواهر القضايا من مثل قوله (أكرم العالم) من إناطة الاكرام إلى نفس
العنوان وبين كون المتعلق وما أضيف إليه الاكرام هو نفس الذات دون المبدأ ودونها و
المبدأ معا، مع الالتزام أيضا ببساطة المشتق وعدم تركبه من المبدأ والذات كما هو قضية
القول بالتركيب وعدم الخروج أيضا عن قاعدة انحلالية الأوضاع في المشتقات في
خصوص الأوصاف، فان الجمع بين الأمور المزبورة لا يكاد يمكن الا بالمصير إلى ما ذكرنا
من جعل مفاد الأوصاف عبارة عن المبدأ القائم بالذات غايته لا بما ان المبدأ يكون
ملحوظا استقلالا في قبال الذات بل بما انه وجه وعنوان للذات بنحو لا يرى من مثل
العالم والقائم والقاعد الا الذات المتجلية بجلوة العلم والقيام والقعود. وربما يؤيد ذلك
بل يشهد عليه أيضا ما وقع منهم من الصدر الأول إلى الآن من التعبير عن المشتق في مقام
تحرير أصل عنوان المسألة وغيره بالذات المتلبسة بالمبدأ فان في تعبيرهم بالتلبس بالمبدأ
شهادة على أن المبدأ في الأوصاف لا يكون الا مأخوذا كونه لباسا للذات ووجها لها
بنحو كان النظر إلى الذات في مقام الحكم على العنوان استقلاليا والى نفس المبدأ تبعيا
144

نظير النظر الذي إلى زيد الذي يتبعه النظر إلى لباسه أيضا كما هو ذلك أيضا في مقام الخارج.
وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا ظهر لك أيضا وجه صحة جعل الأوصاف
محمولات في القضايا في مثل قولك: زيد قائم أو عالم، إذ نقول: بان لحاظ المبدء بالعنوان
اللابشرطي أعني لحاظه لا في قبال الغير وان كان مصححا للحمل كما أفادوه في مقام
الفرق بين الأوصاف والمصادر من حيث اباء الثاني وعصيانه عن الحمل دون الأول
وكذا في اجزاء المركب في المركبات الخارجية والتحليلية في نحو الجنس الفصل و
الهيولي الصورة لكن ما هو المصحح للحمل في الحقيقة بعينه هو المصحح في صورة وقوع
الأوصاف موضوعا للأحكام، وذلك لما يرى بالوجودان من عدم الفرق بين صورة جعل تلك
الأوصاف موضوعا للأحكام في القضايا وبين صورة جعلها محمولا فيها، وان ما هو
المحمول في مثل زيد ضارب بعينه هو الموضوع للحكم في مثل قوله: أطعم الضارب، من
دون رعاية عناية في البين أصلا، فيكون يكشف ذلك عما ذكرناه من المناط وانه انما هو
باعتبار اخذ المبدء ولحاظه وجها وعنوانا للذات وطورا من أطوارها لا من جهة اعتباره
بعنوان اللابشرطية والا يلزمه الاحتياج إلى رعاية عناية في البين في صورة جعل الأوصاف
موضوعا في القضايا. وحينئذ ففي ذلك أيضا شهادة على بطلان المسلك الثالث في البساطة،
لأنه على ذلك المسلك لا يكون المشتق الا عبارة عن صرف المبدء المقابل للذات فليس هناك
ذات حينئذ كي يصح ان يجعل المبدء وجها وعنوانا لها كما لا يخفى.
لا يقال: بأنه على المعنيين الأولين من البساطة كما يمكن ان يكون المبدء ملحوظا تبعا
للذات ووجها لها كذلك يمكن ان يكون ملحوظا استقلالا لا تبعا للذات وعليه فلا
يختص الاشكال بالمسلك الأخير.
فإنه يقال: نعم انه وان أمكن ذلك أيضا الا ان المعين لتبعيته للذات في مقام اللحاظ
انما هو وقوعها موضوعا لبعض الاحكام الخاصة من نحو وجوب الاكرام والاطعام وتقبيل
اليد والرجل ونحوهما مما لا يصح الا بنفس الذات فكان مثل هذا المعنى قابلا
للسريان في جميع الموارد بخلافه على المعنى الآخر كما هو واضح.
اخطار: قد تقدم في أصل المسألة قول لبعض الاعلام بالتفصيل في كون المشتق
حقيقة في الأعم أو المتلبس الفعلي بين كون المشتق مركبا أو بسيطا وانه على الأول
يتعين القول بكونه حقيقة في الأعم وعلى الثاني يكون حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي
145

نظرا إلى أن الحمل لا يكون الا بملاك الاتحاد في الوجود والاتحاد لا يكون الا في ظرف
الوجود. ولكن التحقيق يقتضي خلافه، إذ نقول: بأنه اما على القول بالتركب سواء كان
ثلاثيا أو ثنائيا فلا شبهة في أنه قابل في نفسه للاختصاص بالمتلبس الفعلي أيضا ولا
يتعين القول به للقول بالحقيقة في الأعم، كما عرفت شرحه مفصلا، بل قد عرفت فيما
سبق بمقتضي الأدلة المتقدمة تعين القول بالمتلبس الفعلي، واما على القول بالبساطة فعلى
البساطة بالمعنى الثاني أيضا يكون قابلا للامرين إذ مرجع النزاع حينئذ إلى أن المشتق
حقيقة في المبدأ بمقدار اتحاده مع الذات وتطابقه معها كي يختص بالمتلبس الفعلي، أو
انه حقيقة فيه لا بهذا النحو بل مع تجويز كون الذات أوسع منه كي يعم حال التلبس و
غيره. نعم على المعنى الثالث في البساطة لما كان لم يؤخذ فيه ذات ولم تلحظ الأنفس
المبدأ في قبال الذات يتعين عليه القول بخصوص المتلبس الفعلي لكن ذلك أيضا لا من
جهة انه هو المختار في المسألة بل من جهة عدم تصور جريان هذا النزاع فيه لعدم تصور
الانقضاء فيه. وهذا بخلافه على المعاني الاخر فإنه فيها تكون الذات ملحوظة اجمالا اما
ضمنا أو استقلالا بلحاظ المبدأ تبعا لها فتكون قابلة بهذه الجهة لجريان النزاع فيها في
كونه للأعم أو المتلبس الفعلي. وعليه فالتفصيل المزبور بين القول بالتركب وبين القول
بالبساطة خال عن التحصيل كما لا يخفى.
بقى الكلام فيما استدل به الشريف
على بساطة المشتق وعدم تركبه من الوجوه العقلية.
فنقول: انه استدل على البساطة فيما حكى عنه بما مفاده انه لو كان المشتق مركبا من
الذات والمبدأ فلا يخلو: اما ان يكون المأخوذ هو مفهوم الذات والشيئية المطلقة أو
مصداقها والشيئية الخاصة، وعلى التقديرين لا يمكن دعوى اخذ الذات في مفهومه و
معناه لعدم خلوه عن المحذور، وذلك اما على الأول (من فرض اخذ مفهوم الذات فيه) فمن
جهة لزوم دخول العرض العام في الفصل فيما لو كان المشتق من الذاتيات كالناطق
وبطلان هذا المحذور انما هو من جهة استلزامه لعدم كون الناطق ذاتيا للانسان وفصلا
له، لأنه على هذا التقدير اما ان يكون جزئه الاخر ذاتيا أو لا وعلى التقديرين يصير
146

الناطق خارجا لان المركب من الخارجين كما يكون خارجا ولا يكون فصلا ومقوما
للانسان كذلك المركب من الخارج والداخل، فهو أيضا يكون خارجا ولا يكون فصلا و
مقوما للانسان، مع لزومه أيضا دخول العرض في النوع بنفس دخوله في الفصل
وهو الناطق، وهو واضح. واما على الثاني (وهو ان يكون المأخوذ فيه مصداق
الذات والشيئية الخاصة) فمن جهة لزومه محذور انقلاب القضايا الممكنة في مثل الانسان
ضاحك ضرورية، لان مصداق الذات حينئذ لا يكون الا الانسان وثبوته لنفسه
ضروري، بل ولزومه أيضا دخول النوع في الفصل في مثل الناطق. هذا ملخص ما أفيد
من البرهان على بساطة المشتق وعدم تركبه.
ولكن لا يخفى عليك ان هذا البرهان لو تم فإنما هو على احتمال تركب المشتق من
حيث المفهوم فإنه على هذا الاحتمال ربما يرد عليه هذه المحاذير: من لزوم دخول العرض في
الفصل والنوع تارة ولزوم انقلاب القضايا الممكنة ضرورية أخرى، ولكنك قد عرفت
مفروغية بساطة مفهوم المشتق وحقيقته باصطلاح أهل المعاني والبيان عند الجميع وانه
لا يكون مفهوم العالم والضارب ونحوهما الا معنى بسيطا، وان ما هو محل البحث و
النزاع بينهم من حيث التركب والبساطة انما هو حقيقة المشتق بما هو مصطلح أهل
المعقول بأنه علاوة عن بساطة أصل المفهوم هل هو بسيط أيضا بحسب الحقيقة عند الحكيم
ومنشأ انتزاع هذا المفهوم؟ أم لا؟ بل هو بحسب الحقيقة مركب بحيث في مقام الانحلال
ينحل إلى جهة مبدأ وذات، كما في الانسان فإنه مع بساطة أصل مفهومه مركب بحسب
الحقيقة عند التحليل، ومن المعلوم بداهة انه على ذلك لو قلنا فيه بالتركب من المبدأ و
الذات والنسبة لا يترتب عليه شئ من المحاذير من جهة ان القول بذلك لا يقتضي
دخول مفهوم الذات ولا مصداقه في طرف المفهوم. ثم على فرض الاغماض عن ذلك و
البناء على جريان هذا الترديد في حقيقة المشتق وما هو منشأ انتزاع مفهومه نقول: بان ما
أفيد من الاشكال من محذور دخول العرض العام في الفصل في فرض كون المأخوذ هو
مفهوم الذات انما يرد بناء على إرادة القائل بالتركب دخول مفهوم الذات بما هي هذا
المفهوم من دون كونها عبرة ومرآة إلى ما هو المعروض الحقيقي والا فبناء على إرادة دخولها
بما هي مرآة جمالية لما هو المعروض الحقيقي الذي تارة يكون جوهرا وأخرى عرضا وثالثة
جسما في قولك النامي ورابعة حيوانا كما في الماشي وخامسة انسانا وسادسة غير ذلك
147

على حسب اختلاف المبادي وما يناسبها من المعروضات، فلا يتوجه هذا المحذور إذ يمكن
ان يقال حينئذ: بان ما هو المحمول والمعروض الحقيقي في مثل الناطق الذي يحكى عنه
الذات انما هو النفس الناطقة ونحو الوجود الخاص وعليه فلا يلزم محذور دخول العرض
العام في الذاتي والفصل بوجه أصلا كما لا يخفى. ومن ذلك البيان أيضا نقول: بان ما
افاده الشريف من الترديد بين الشقين بناء على التركب من كون المأخوذ تارة مفهوم
الذات وأخرى مصداقها ليس على ما ينبغي، وانما الحري حينئذ هو الترديد بين الشقوق
الثلاثة: من كون المأخوذ تارة مفهوم الذات بما هي هذا المفهوم، وأخرى هذا المفهوم بما
هي مرآة اجمالية لما هو المعروض الحقيقي الذي يختلف باختلاف المبادي حسب ما
يناسبها، وثالثة مصداق الذات، ولقد عرفت انه على القول بالتركب كان المتعين هو
الشق الأوسط من الشقوق الثلاثة.
وعليه قد عرفت اندفاع الاشكالات بأسرها كما هو واضح من دون احتياج إلى
التفصي عن الاشكال المزبور بما في الفصول بان كون الناطق فصلا مبني على عرف
المنطقيين حيث اعتبروه مجردا عن الذات فلا ينافي حينئذ مع وضعه لغة لذلك كي يتوجه
عليه اشكال الكفاية (قدس سره) بأنه من المقطوع ان الناطق قد اعتبر فصلا بما له من
المعنى دون تصرف فيه، ولا إلى سلب الفصلية عن الناطق حقيقة والمصير إلى كونه
من أظهر الخواص وانه فصل مشهوري كما في الكفاية ولا إلى التفصي عنه بوجه ثالث
من دعوى ان المراد من النطق في الناطق انما هو النطق الجوهري كما افاده بعض الاعلام،
كيف وانه على الأخير يعود المحذور المزبور أيضا بأنه بناء على التركب فهل المأخوذ هو
مفهوم الذات أو مصداقها؟ وعلى مقالة الكفاية من سلب الفصلية عن الناطق وجعله
فصلا مشهوريا ومن أظهر الخواص يتوجه عليه محذور لزوم دخول الخارج المحمول في
الخاصة التي هي من المحمولات بالضميمة من جهة ان مفهوم الذات لا يكون الا أمرا
اعتباريا منتزعا عن منشئه من دون ان يكون له ما بإزاء في الخارج أصلا ومعلوم أيضا ان
محذور دخول الخارج المحمول في الخاصة لا يكون بأقل من محذور دخول العرض في
الذاتي. وهذا بخلافه على ما ذكرنا إذ عليه أمكن لنا ان نقول: بان الناطق فصل حقيقي
للانسان ومع ذلك لا يتوجه الاشكال لزوم دخول العرض في الذاتي وذلك بجعل المأخوذ هو
منشأ انتزاع مفهوم الذات والشئ الذي تارة يكون جوهرا وأخرى عرضا وثالثة جسما و
148

رابعة حيوانا وخامسة غير ذلك حسب ما شرحناه آنفا فتدبر. هذا كله فيما افاده من
الاشكال الأول من لزوم دخول العرض في الذاتي في مثل الناطق.
واما ما افاده من الاشكال الثاني من لزوم محذور انقلاب القضايا الممكنة ضرورية
في مثل الضاحك بناء على كون المأخوذ هو مصداق الذات والشيئية الخاصة، فيمكن
دفعه على هذا الفرض أيضا بما في الفصول: من أن المحمول إذا كان هو الذات المقيدة
بالوصف دون الذات المطلقة فلا يلزم الانقلاب لأنه إذا لم يكن ثبوت القيد ضروريا
فكذلك المقيد أيضا فلا يكون ثبوته أيضا للموضوع ضروريا، وعليه فقضية زيد كاتب
أوضاحك قضية ممكنة لا ضرورية.
ولا يرد عليه ما في الكفاية: من عدم اضرار ذلك بدعوى الانقلاب من تقريب ان
المحمول حينئذ اما ان يكون هو الذات المقيدة بنحو خروج القيد ودخول التقيد بما هو
معنى حرفي فالقضية تكون ضرورية لضرورة ثبوت الانسان المقيد بالضحك
للانسان، واما ان يكون هو المقيد بنحو دخول القيد أيضا فكذلك أيضا لان قضية
الانسان ضاحك تنحل بحسب عقد الوضع والحمل إلى قضيتين: قضية الانسان انسان
وهي ضرورية وقضية الانسان له الضحك وهي ممكنة، وذلك من جهة ان الأوصاف
قبل العلم بها اخبار والاخبار بعد العلم بها أوصاف. وتوضيح هذه الجملة التي أفادها هو
ان النسبة كما تقدم سابقا على صنفين: ايقاعية ووقوعية والمراد من الأول هو حصول
النسبة وتحققها خارجا من العدم إلى الوجود ومن الثاني هو وقوع النسبة وثبوتها فارغا عن
أصل ثبوتها وتحققها، فكانت النسبة الوقوعية دائما في رتبة متأخرة عن النسبة الايقاعية
التي هي مفاد القضايا التامة بملاحظة ترتب الوقوع دائما على الايقاع، وكانت القضايا
المشتملة على النسبة الايقاعية مسماة بالقضايا التامة كزيد قائم وضرب زيد والقضايا
المشتملة على النسب الثانية مسماة بالقضايا الناقصة والمركبات التقييدية كزيد القائم،
فعلى ذلك لو قيل (الانسان ضاحك أو كاتب) يتولد من هذه القضية الايقاعية قضية
تقييدية وهي الانسان الذي له الضحك فإذا جعل ما هو الموضوع في هذه القضية محمولا
في القضية الأولى يصير الحاصل الانسان انسان له الضحك فيعود محذور الانقلاب من جهة
ضرورية ثبوت الانسان لنفسه ولو كان بلحاظ الاتصاف بالضحك فلا يجدي حينئذ تقيد
المحمول بوصف امكاني في رفع غائلة الانقلاب هذا.
149

أقول: ولا يخفى عليك انه لا مجال لا يراد هذا الاشكال على الفصول لان المحمول بعد أن
كان عبارة عن المقيد بالوصف بما هو مقيد يلزمه لا محالة كونه أخص وأضيق من
الموضوع ومعه لا يكون ثبوت الخاص للعام ضروريا بل انما هو يكون بالامكان، هذا بناء
على فرض دخول التقيد. واما على فرض دخول القيد فكذلك أيضا من جهة ان دائرة
المحمول لا محالة تكون أخص وأضيق من الموضوع ومعه يكون ثبوته له بالامكان لا
بالضرورة. واما قضية الانحلال فأجنبية عن المقام إذ لا يكاد يجدي تلك في المقام بعد عدم
اقتضائه لجملتين مستقلتين في الحمل كما هو واضح. بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك
ولو بناء على خروج القيد والتقيد جميعا من جهة وضوح ان ما هو المحمول حينئذ انما يكون
أيضا عبارة عن الانسان التوأم مع القيد الامكاني دون الانسان المطلق وثبوت هذا المعنى
التوأم للانسان أيضا يكون بالامكان لا بالضرورة. وحينئذ فما افاده في الفصول في اثبات
عدم الانقلاب في غاية المتانة والصواب وان كان قد شطر هو قدس سره فيه ويا ليته
لم يشطر في كلام نفسه.
تذييل (وفيه إشارة إلى ما سبق)
وهو انه قد عرفت فيما تقدم اختيار المعنى الثاني من المعاني الأربعة المتصورة في
المشتق وهو الانحلال إلى المبدأ ونسبة ناقصة مع وحدة أصل المفهوم وبساطته. وحينئذ
نقول: بأنه كما على القائل بالتركب من المبدء والنسبة والذات تعين ان المأخوذ هو مفهوم
الذات أو مصداقها، كذلك علينا أيضا تعين ذلك وان الذات التي هي طرف هذه الإضافة
والنسبة هل هو مفهوم الذات والشئ أو مصداقها؟ بل ولابد أيضا ذلك على المعنى الثالث.
نعم القائل بالمعنى الرابع في فسحة عن ذلك فإنه على ذلك المسلك لم يؤخذ الذات في المشتق
ولم تلحظ أصلا إذا المشتق عليه عبارة عن صرف المبدء المقابل للذات ولذا التجأ في مقام
الفرق بين المشتق والمصدر بالتفرقة بينهما باعتبار اللابشرطية والبشرط لائية.
وحينئذ نقول مقدمة: بان العناوين المأخوذة في لسان الدليل موضوعا للحكم تارة
تكون مأخوذة في نفسها وبنحو الاستقلال بلا كونها مرآة لشئ آخر وأخرى تكون
مأخوذة مرآة إلى الغير كما في قولك: أكرم من في الصحن مشيرا به إلى الأشخاص الخاصة
150

من زيد وعمرو وبكر وعلى الثاني فتارة يجعل ذلك مرآة إلى الأشخاص والمصاديق
الخاصة على كثرتها وأخرى لا بل يجعل ذلك مرآة إلى الأنواع والأصناف. والفرق بينهما
واضح كوضوح الفرق بينهما وبين الأول حيث تظهر الثمرة في عالم قصد الامتثال
بالخصوصية من حيث التشريع وعدمه كما في صورة اكرام زيد العالم بقصد الخصوصية
الزيدية لا بعنوان انه فرد من افراد العالم في مثل خطاب أكرم العالم فإنه على بعض
التقادير فعل تشريعا محرما وعلى بعضها الاخر تحقق منه الامتثال بذلك.
وبعد ما عرفت ذلك نقول: بان تلك المحتملات الثلاثة وان كانت جارية في الذات و
لكن المتعين منها هو الاحتمال الأخير من كونها مرآة إلى الأنواع والأصناف، فان
الاحتمال الأول مما لا يمكن الالتزام به من جهة عدم خلوه عن المحاذير التي منها لزوم
دخول العرض في الفصل في مثل الناطق، ومنها عدم المناسبة لإضافة بعض الأحكام إليه
كما في قوله: أكرم العالم، ومنها غير ذلك. وكذا الاحتمال الثاني فإنه أيضا بعيد في نفسه
غاية البعد لما يلزمه من محذور دخول جميع المصاديق بخصوصياتها في المشتق الواحد كالعالم
والضاحك، مع أنه ليس كذلك قطعا. وحينئذ فبعد بطلان الوجهين الأولين يتعين الوجه
الثالث من كونه مأخوذا مرآة إلى الأنواع والأصناف بما يناسب في كل مشتق حسب
اختلاف المبادي المأخوذة فيها وما يناسبها، وبذلك نجمع بين اتحاد المشتقات من وجه و
اختلافها من وجه فنقول: بأنها في عين اتحاد وضعها تنسبق من كل مشتق خصوصية دون
الأخرى. وحينئذ فما هو الموضوع للأحكام من نحو وجوب الاكرام والاطعام في كل مشتق
كالعالم والقائم والضارب ونحوها عبارة عن نفس المرئي بهذا العنوان غايته بما هو موجه
بوجه المبدء المأخوذ فيه، كما أنه هو المحمول أيضا في كلية القضايا، ولذلك أيضا دفعنا ما
أورده المحقق الشريف من الاشكال في مثل الناطق فقلنا: بان ما هو الفصل الحقيقي في
مثل الناطق عبارة عن النفس الناطقة الانسانية لكونها هي الموجهة والمتصفة بوجه المبدأ
دون نفس المبدأ كي نحتاج إلى جعله عبارة عن النطق الجوهري فتدبر.
الامر الثاني:
لا يخفى عليك انه لا فرق فيما ذكرنا في المشتقات بين الأوصاف الجارية على الممكنات
151

وبين الأوصاف الجارية على الواجب سبحانه، فكما انه في الأوصاف الجارية على غيره
سبحانه تجرى المحتملات المتصورة الأربعة في التركب الانحلالي والبساطة، كذلك تجري
في الأوصاف الجارية عليه سبحانه كالعالم والقادر والحي، إذ لا وجه لتخصيص النزاع
المزبور بالأوصاف الجارية على الممكن الا ملاحظة عدم تصور المغايرة في الواجب بين
الذات والوصف نظرا إلى رجوع جميع الصفات الثبوتية الكمالية إلى ذاته تعالى وكون
علمه سبحانه عين ذاته وذاته المقدسة عين قدرته وارادته وهكذا بلا ان يكون فيه
سبحانه حيث وحيث، فإنه من اجل ملاحظة هذه الجهة ربما يتوهم تعين القول الرابع
بالنسبة إلى الأوصاف الجارية عليه سبحانه، بل ولعل مثل هذه الجهة أيضا ألجأ أهل
المعقول في مصيرهم إلى بساطة المشتق مطلقا وجعلهم إياه عبارة عن صرف المبدأ المقابل
للذات. ولكنه توهم فاسد إذ نقول بأنه في الواجب سبحانه وان لم يكن حيثية دون
حيثية ولا مغايرة بين علمه وقدرته وارادته وذاته فكان هو سبحانه بحتا بسيطا من جميع
الجهات وكان علمه بين ذاته وذاته عين قدرته وارادته لرجوع جميع الكمالات إلى ذاته و
وجوده، ولكن نقول بان عقول الممكنات طرا لما كانت قاصرة على الإحاطة بذلك الواحد
الأحد ولم تدرك منه سبحانه الا بقدر قابليتها واستعدادها فلا جرم إذا كان هم عقول
الممكن جهة دون جهة وقصر النظر على علمه أو قدرته أو حياته أو ارادته سبحانه يصير
مدركه لا محالة محدودا في نظره بحيث ينتزع من حد ما أدركه حيثية الذات تارة، والعلم
أخرى، وحيثية الإرادة والقدرة ثالثة، وهكذا، من دون ان يكون تلك الحيثيات
الانتزاعية الناشئة من جهة قصور النظر راجعة إليه سبحانه. وحينئذ فإذا كانت تلك
المغايرة والحيثيات ناشئة من جهة قصور درك عقول الممكن لذلك الواحد الأحد، فلا جرم
المحتملات الأربعة المزبورة تجري في الأوصاف الجارية عليه سبحانه من كونه موضوعا
للمبدء مع الذات والتلبس بأجمعها كما هو قضية القول بالتركب الانحلالي أو موضوعا
للمبدء والنسبة، أو لنفس المبدأ فقط. كما أن المصحح للحمل فيها أيضا هو المغايرة
المزبورة ذهنا الناشئة من جهة قصور درك العقل إذ لا يحتاج في صحة الحمل إلى أزيد من
المغايرة بين المفهومين من وجه واتحادهما خارجا. نعم غاية ما هناك هو كون الاتحاد
بالنسبة إلى الأوصاف الجارية عليه سبحانه عينيا وبالنسبة إلى الأوصاف الجارية على
غيره سبحانه اينيا فتدبر.
152

الامر الثالث
قد علم مما سبق ان الهيئة في المشتق تدل على قيام المبدء بالذات على اختلاف أنحاء
القيام حسب اختلاف المبادي صدورا أو حلولا أو وقوعا، ففي المبادئ اللازمة تدل الهيئة
على قيام المبدأ بالذات بنحو الحلول كالميت والقائم والذاهب ونحوها وفي المبادي
المتعدية كالضارب ونحوه تدل الهيئة على قيام المبدأ بالذات بنحو الصدور وفي مثل
المقتول والمضروب والمقتل تدل الهيئة على قيام المبدء بالذات بنحو الوقوع عليه أو فيه، و
في مثل العالم الجاري على الممكن تدل على القيام بنحو الحلول، وفى الجاري عليه سبحانه
تدل على القيام بنحو الاتحاد العيني لكونه منتزعا عن بعض الجهات المدركة من الذات،
والجامع في الكل هو القيام بذات المجري عليه بنحو من أنحائه.
نعم في مثل المولم والمقيم ربما يقع الاشكال بلحاظ ان المبدأ وهو الأعم والقيام فيهما لا
يكون له قيام بذات المجري عليه بل قيامهما انما كان بالغير وجهة ايجادهما واصدارهما
كان قائما بذات المجري عليه، نعم هذا الاشكال لا يتوجه في مثل الضارب فان الايجاد
فيه مستفاد من نفس المبدء وقيام الايجاد والاصدار كاف فيه، بخلافه في مثل المؤلم و
المقيم إذا المبدأ فيهما كان لازما ولا يكون باصداري وحينئذ فجعل مثل الضارب في عداد
المؤلم والمقيم في الاشكال كما في الكفاية مما لا وجه له. وعلى كل حال فلابد حينئذ في
التفصي عن الاشكال من الالتزام بأحد الامرين اما رفع اليد عما ذكرناه من لزوم قيام
المبدء في المشتقات بنفس ذات المجري عليه والاكتفاء بمطلق القيام ولو بالغير، أو الالتزام
باختلاف الهيئات وان الهيئة في بعضها تدل على صرف قيام المبدء بالذات وبعضها على
قيام ايجاد المبدء كما في المؤلم والمقيم.
واما توهم ان المبدأ في المؤلم والمقيم انما كان هو الايلام والإقامة وهما دالان على
الايجاد فالهيئة فيهما تدل على قيام هذا الايجاد بالذات من دون احتياج إلى دلالة الهيئة
عليه كي يلتزم باختلاف الهيئات، فمدفوع بما تقدم بان المبدأ في المشتقات لا يكون هو
المصدر بل وانما المبدأ في الجميع هو المعنى الساري في جميع الصيغ من الافعال والمصادر و
الأسماء والمزيد وغيره، وارجاع علماء الأدب صيغ كل باب من المزيد وغيره إلى
153

مصدره وجعلهم المصدر من كل باب أصلا ومبدأ لسائر الصيغ استحساني محض، والا
ففي الحقيقة ما هو المبدأ والأصل في جميع الهيئات من كل باب لا يكون الا المعنى
المحفوظ الساري في ضمن الجميع، وعليه فألف اكرام مثلا لا يكون جزء للمادة بل وانما
هي مقوم للهيئة نظير الف ضارب وميم مقتول ومضروب.
كما أن توهم ان الهيئة الطارية على المادة في نحو المؤلم والمقيم هيئتان طوليتان دالة
إحديهما على الايجاد والأخرى على القيام بالذات، مدفوع بأنه من المستحيل، لكونه أشبه
شئ بطرو الصورتين على مادة واحدة في زمان واحد، وبطلان هذا المعنى واضح لا يحتاج
إلى البيان.
وحينئذ فلا محيص الا من الالتزام بأحد الامرين المزبورين اما الالتزام باختلاف
الهيئات أو رفع اليد عما ذكرناه من دلالة الهيئة على قيام المبدأ بالذات والاكتفاء في
هيئات المشتقات بمطلق القيام بالذات ولولا بذات المجري عليه، وفي مثله ربما كان
المتعين هو الأول فنلتزم باختلاف الهيئات في المشتقات باختلاف الأبواب الثلاثي و
المزيد ولكنه لا بنحو التباين بل بنحو القلة والكثرة فكان هيئة اسم الفاعل في أبواب
الثلاثي المجرد مثلا تدل على قيام المبدء وتزداد في مثل باب الافعال فتدل هيئة اسم
الفاعل فيها على قيام ايجاد المبدأ بالذات المجري عليها، وكذا في باب الانفعال و
الافتعال فتدل الهيئة على قيام القبول والتطوع بالذات، وقد تزيد أيضا فتدل على قيام
المضاعفة كما في باب التفعيل، وهكذا فتدبر.
دفع وهم: قد يقال بعدم دلالة المشتق على النسبة التي هي معنى حرفي نظرا إلى
اقتضائه حينئذ تضمن المعنى الحرفي فيلزمه لا محالة كونه مبنيا لا معربا، بل ومن هذه
الجهة أنكر دلالة سائر الصيغ على النسبة الناقصة حتى المصدر أيضا. ولكنه مدفوع حيث
نقول بان ما دل على النسبة الناقصة انما هي الهيئة القائمة بالمادة العارية عن النسبة وانه
لا يكاد يقتضي مجرد ذلك بناء الاسم إذ الأسماء المبنية هي التي وضعت بوضع واحد لما
اشتمل على النسبة وأين ذلك والمقام الذي كان الدال على النسبة نفس الهيئة! كيف و
ان لازم هذا المعنى هو الغاء الهيئة عن الوضع المستقل رأسا والمصير إلى كون وضع
المشتقات من قبيل وضع الجوامد وهو كما ترى.
الامر الرابع: لا يخفى عليك انه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات تلبس
154

الذات بالمبدأ حقيقة، بل يكفي فيه مطلق تلبسها به ولو عناية أو ادعاء كما في الميزاب
جار بأي نحو فرض من العنايات، اما بتصرف في مدلول الكلمة واستعمالها في غير
معناها الحقيقي، واما بتصرف في الاسناد مع ابقاء الكلمة على معناها الحقيقي بان كان
الاسناد أي اسناد الجريان إلى غير ما هو له، واما بتصرف في الامر العقلي بمعنى التصرف
في موضوع الجريان بادعاء كون الميزاب من مصاديق ما هو موضوع الجريان ثم اسناد
الجريان إليه مع ابقاء الكلمة والاسناد على حالهما نظير قولك رأيت أسدا مريدا به الرجل
الشجاع بعد ادعائك كونه هو الأسد، فإنه على كل تقدير يصح جرى المشتق على الذات،
وان كان المتعين من بين المحتملات المزبورة هو الأخير لكونه أقل عناية من غيره وأقرب
إلى الاعتبار وما يقتضيه الوجدان، فعلى ذلك لا وجه لما في الكفاية من المصير إلى المجاز في
الاسناد في مقام الرد على الفصول، وان كان لا مجال أيضا لما افاده الفصول من الالتزام
باعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة كما لا يخفى. هذا تمام الكلام في
المشتقات.
155

الكلام في المقاصد فنقول:
المقصد الأول في الأوامر
وفيه مباحث: المبحث الأول فيما يتعلق بمادة الامر، ويقع الكلام فيه في جهات:
الجهة الأولى في معنى الامر فنقول وبه نستعين ان الامر يطلق على معان: منها
الطلب كما يقال امره بكذا أي طلب منه كذا.
ومنها الشأن ومنه شغلني امر كذا أي
شأن كذا. ومنها الفعل ومنه وما امر فرعون برشيد أي فعله. ومنها الشئ كقولك رأيت
اليوم أمرا عجبا. ومنها الحادثة والغرض كقولك وقع اليوم امر كذا وجئتك لأمر كذا. و
منها غير ذلك. ولكن التحقيق كونه حقيقة في خصوص الشئ الذي هو من الأمور العامة
العرضية لجميع الأشياء الشامل للفعل والشأن والحادثة والشغل ونحو ذلك فكان اطلاقه
في تلك الموارد المختلفة بمعناه غايته من باب الدالين والمدلولين حيث أريد تلك
الخصوصيات بدوال أخر من غير أن يكون الامر مستعملا في تلك الموارد في مفهوم الغرض
والتعجب والفعل ولا في مصداقها بوجه أصلا. نعم ذلك كله بالنسبة إلى غير المعنى
الأول وهو الطلب واما بالنسبة إليه فهو وان كان أيضا أمرا من الأمور وشيئا من
الأشياء فكان من مصاديق ذلك العنوان العام العرضي، ولكن الظاهر كونه موضوعا
بإزائه بالخصوص أيضا قبالا لوضعه لذلك المعنى العام العرضي، كما أن الظاهر هو كونه
من باب الاشتراك اللفظي دون الاشتراك المعنوي بملاحظة عدم جامع قريب بينهما، كما
يشهد لذلك قضية اختلافهما من حيث الاشتقاق وعدمه فإنه بمعنى الطلب يكون معناه
اشتقاقيا فيشتق منه صيغ كثيرة من المصدر والفعل الماضي والمضارع واسمى الفاعل و
156

المفعول كما يقال: امر يأمر آمر مأمور بخلافه على كونه بمعنى الشئ فإنه عليه يكون من
الجوامد. وربما يشهد لذلك أيضا قضية الجمع فيهما، من مجيئه على الأول على الأوامر وان
كان على غير القياس، وعلى الثاني على الأمور، والجمع يرد الأشياء إلى أصولها وحينئذ
فلا ينبغي الاشكال في كونه موضوعا بالخصوص للطلب أيضا.
ثم إن محل الكلام في المقام انما هو الامر بمعنى الطلب دونه بمعنى الشئ فلابد
حينئذ من بيان انه هل هو موضوع للطلب الحقيقي والإرادة القائمة بالنفس بحيث كان
القول أو الإشارة مبرزا لها وكاشفا عنها؟ أو انه موضوع للطلب المبرز بالقول أي مفهومه
المبرز بالقول أو بالأعم منه ومن الإشارة ونحوها؟ أو انه موضوع لنفس ابراز الطلب
بالقول أو الإشارة؟ حيث إن فيه وجوها، أبعدها الأول، لما يرى من عدم صدق الامر على
مجرد الإرادة النفسانية الغير البالغة إلى مرحلة الابراز حيث لا يصدق على من كان طالبا
لشئ من عبده ومريدا له منه بلا ابراز ارادته بالقول أو نحوه أنه آمر به، بل الصادق
عليه انه طالب ومريد غير آمر، على أن لازم ذلك هو ان يكون استعماله دائما في غير معناه
الموضوع له لان ما يجئ في الذهن عند الاستعمال لا يكون الا صورة الإرادة ومفهومها لا
حقيقتها وعليه فلا يكون استعماله في معناه الحقيقي الذي هو الإرادة القائمة بالنفس.
وحينئذ فبعد بطلان هذا المعنى يدور الامر بين كونه حقيقة في الطلب المبرز بما هو
مبرز بالقول أو الإشارة بنحو خروج القيد ودخول التقيد أو كونه حقيقة في ابراز الطلب و
هو القول الحاكي عنه، ولكل منهما وجه وجيه، وان كان قد يقال بتعين الأخير نظرا إلى
ظهور العنوان وهو الامر في الاختيارية وكونه على الأخير اختياريا بتمامه من الابراز و
التقيد بالطلب، بخلافه على الأول، فإنه من جهة جزئه الركني وهو الطلب غير
اختياري. ولكنه توهم فاسد، فان ما ذكر مجرد استحسان لا يثبت به الوضع خصوصا
مع استلزام الأخير لعدم صحة الاشتقاقات منه باعتبار عدم كون معناه حينئذ معنى حدثيا
قابلا للاشتقاق، لان ما هو المبرز حينئذ انما كان هو الهيئة ومعناه لا يكون الا معنى
جامديا غير حدثي بخلافه على الأول فان المعنى عليه بنفسه يكون معنا حدثيا قابلا
للاشتقاق منه. وما قيل من أنه على الأول أيضا يلزمه خروج الصيغ كلها عن المصداقية
للامر من جهة عدم كونها عبارة عن نفس الطلب وانما هي مبرزات عنه، مدفوع بأنه لو
سلم ذلك فإنما يرد هذا المحذور لولا كونها وجوها للطلب ولو من جهة شدة حكايتها عنه و
157

الا فبهذا الاعتبار تكون عين الطلب ويحمل عليها الطلب بالحمل الشايع.
وبالجملة نقول: بأنه بعد لم يقم دليل معتد به على تعين أحد الاحتمالين بالخصوص
حتى يؤخذ به، وما ذكر من الوجوه تقريبات استحسانية محضة خصوصا مع عدم ترتب
ثمرة في البين على كونه حقيقة في الطلب المبرز أو في ابراز الطلب، من جهة ان القائل
بكونه حقيقة في ابراز الطلب انما يدعى كونه حقيقة فيه بما انه حاك عن الطلب وبما هو
وجه له لا بما انه نفس الابراز ولو مع عدم الحكاية عن الطلب، وحينئذ فالأولى هو صرف
الكلام عن تلك الجهة.
نعم ينبغي ان يعلم بأنه على كلا التقديرين لا خصوصية لخصوص الابراز بالقول في
صدق الامر بل الابراز بما انه يعم القول والإشارة ونحوها، واما ما يرى في بعض
الكلمات من التعبير عنه بالطلب بالقول فإنما هو لمكان الغلبة لا من جهة خصوصية في
الابراز القولي، كما هو واضح.
نعم يبقى الكلام في جهة أخرى وهي ان الامر هل هو عبارة عن نفس الطلب أي
المفهوم المتنزع عن حقيقته غايته بما انه يرى عين الخارج لا بما انه مفهوم ذهني و لا بما هو
كما في كلية مداليل الألفاظ كي يكون لازمه عدم انطباقه على مجرد الطلب الانشائي؟
أو أنه عبارة عن هذا المفهوم لكنه بما هو موقع باستعمال اللفظ فيه بقصد الايقاع المعبر عنه
بالطلب الانشائي؟ حيث إن فيه وجهين اختار ثانيهما في الكفاية حيث قال: بان لفظ الامر
حقيقة في الطلب الانشائي الذي لا يكون طلبا بالحمل الشايع بل طلب انشائي سواء
أنشأ بمادة الامر أو بمادة الطلب، مثل آمرك واطلب منك كذا، أو بصيغة افعل. ولكن
التحقيق يقتضي خلافه وانه لا يكون الامر حقيقة الا في نفس المفهوم بما هو حاك عن
الطلب الحقيقي الخارجي، فما هو المستعمل فيه في مثل اطلب منك بداعي الانشاء لا يكون
الأنفس المعنى وصرف المفهوم، غايته ان استعماله فيه مكيف باستعمال انشائي بمعنى
كونه بداعي موقعية المفهوم وموجديته، فكان حيث الانشائية من شؤون نحو الاستعمال
وكيفياته القائمة به لا انه مأخوذ في ناحية المستعمل فيه ولو بنحو خروج القيد ودخول
التقيد، لأنه من المستحيل اخذ مثل هذه الجهة ولو تقيدا في ناحية المستعمل فيه، وهذا
واضح بعد وضوح تأخر الاستعمال عن المستعمل فيه تأخر الحكم عن موضوعه. وحينئذ
فلا محيص من دعوى ان المعنى انما كان عبارة عن صرف المفهوم بما انه حاك عن الطلب
158

الحقيقي الخارجي الذي بوجه عينه دون الطلب الانشائي، على أن لازم هذا القول هو
صدق الامر والطلب ولو لم يكن في البين في الواقع طلب ولا إرادة كما في الأوامر
الامتحانية والأوامر المنشأة بداعي السخرية، مع أنه كما ترى، إذ المتبادر من قوله: امر
بكذا، انما هو البعث نحو الشئ عن إرادة جدية دون البعث بغيرها من الدواعي. واما
احتمال ان المراد من الطلب المذكور في عبارته هو الطلب الموقع بالاستعمال بما هو
موصوف بوصف الموجدية ولو باعتبار كاشفية المستعمل فيه اللفظ عن الإرادة الجدية دون
الطلب الانشائي بما هو طلب انشائي، فمدفوع بأنه وان أمكن هذا الحمل فيرتفع به المحاذير
ويصدق عليه أيضا الطلب الانشائي باعتبار كونه موقعا باستعمال اللفظ في مفهومه
بعنوان مرآتية المفهوم عن الطلب الحقيقي ويصدق عليه أيضا بهذا الاعتبار الطلب
الحقيقي بنحو الحمل الشايع، ولكنه يبعده ما صرح به هو (قدس سره) بان مدلول الامر
ليس هو الطلب الذي يصدق عليه الطلب بالحمل الشايع، وعليه فيتجه الاشكال المزبور
من لزوم صدق الامر عند الخلو عن الإرادة. فتلخص ان الامر على مسلك الكفاية (قدس
سره) عبارة عن الطلب بما هو منشأ وموقع، فكان الانشاء الذي هو من شؤون نحو
الاستعمال ومن كيفياته مقوما لتحقق الامر، ومن هذه الجهة يكون الامر على مسلكه
منتزعا عن الرتبة التي بعد الانشاء المتأخر عن الاستعمال، فيكون تأخره عن نفس مفهوم
الطلب المستعمل فيه اللفظ بمرتبتين من دون دخل للإرادة الجدية أيضا في صدق الامر و
تحققه. واما على ما سلكناه فيكون الامر عبارة عن نفس الطلب أي مفهومه بما هو حاك
عن الطلب الحقيقي القائم بالنفس، فبهذا الاعتبار يصدق عليه الطلب الحقيقي ويحمل عليه
بالحمل الشايع.
الجهة الثانية:
بعد ما عرفت من أن الامر حقيقة في الطلب المبرز أو في ابراز الطلب، فهل يعتبر فيه
أيضا العلو؟ أو انه لا يعتبر فيه ذلك فيصدق الامر على مطلق الطلب الصادر ولو كان صدوره
من المساوي أو السافل؟ فيه وجهان: أقويهما الأول لصحة سلبه عن الطلب الصادر عن
السافل والمساوي حيث يصح ان يقال: انه ليس بأمر حقيقة بل هو سؤال والتماس،
159

كيف وان الامر انما هو مساوق ل‍ (فرمان) بالفارسية، وهو يختص بما لو كان الطالب
هو العالي دون السافل أو المساوي إذ لا يصدق (فرمان) على الطلب الصادر عن غير
العالي. واما ما يرى من تقبيح السافل المستعلى فيما لو امر سيده بأنك لم أمرت سيدك و
مولاك فإنما هو على استعلائه وتنزيل نفسه عاليا الموجب لصدور الامر منه، لا ان التقبيح
على امره، لصدق الامر عليه حقيقة بعد استعلائه. ومن ذلك البيان ظهر أيضا بطلان توهم
كفاية أحد الامرين في تحقق حقيقة الامر: اما العلو والاستعلاء، وذلك فان غير العالي
لا يكاد يصدق على طلبه الامر الذي هو مساوق (فرمان) ولو استعلى غاية الاستعلاء،
كما أن العالي بمحض صدور الامر منه يصدق على طلبه وأمره، الامر و (فرمان) وان لم
يكن مستعليا في امره بل كان مستخفضا لجناحه. وعليه فما هو المعتبر في حقيقة الامر انما
كان هو العلو خاصة، واما الاستعلاء زائدا عن جهة العلو فلا يعتبر فيه بوجه من الوجوه،
كما هو واضح.
الجهة الثالثة:
في أن الامر هل هو حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي؟ أو انه حقيقة في مطلق الطلب
الجامع بين الوجوبي والاستحبابي؟ فيه وجهان: أظهر هما الثاني، لصدق الامر حقيقة على
الطلب الصادر من العالي إذا كان طلبه استحبابيا حيث يقال له: انه امر وبالفارسية
(فرمان) من دون احتياج في صحة اطلاق الامر عليه إلى رعاية عناية في البين، حيث إن
ذلك كاشف عن كونه حقيقة في مطلق الطلب والا لكان يحتاج في صدق الامر وصحة
اطلاقه على الطلب الاستحبابي إلى رعاية عناية في البين، كما هو واضح. ومما يشهد لذلك
بل يدل عليه أيضا صحة التقسيم إلى الوجوب والاستحباب في قولك: الامر اما وجوبي و
اما استحبابي، وهو أيضا علامة كونه حقيقة في الجامع بينهما.
نعم لا اشكال في ظهوره عند اطلاقه في خصوص الطلب الوجوبي بحيث لو أطلق و
أريد منه الاستحباب لاحتاج إلى نصب قرينة على الرخصة في الترك، ومن ذلك أيضا
ترى ديدن الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) في الفقه في الأوامر الواردة عن النبي
صلى الله عليه وآله أو الأئمة عليهم السلام، حيث كانوا يحملون الأوامر الواردة عنهم على
160

الوجوب عند خلو المورد عن القرينة على الاستحباب والرخصة في الترك حتى أنه لو ورد
في رواية واحدة أوامر متعددة بعدة أشياء كقوله: اغتسل للجمعة والجنابة ومس الميت، و
نحوه، فقامت القرينة المنفصلة على إرادة الاستحباب في الجميع إلا واحدا منها تريهم
يأخذون بالوجوب فيما لو تقم عليه قرينة على الاستحباب، بل وتريهم كذلك أيضا في أمر
واحد كقوله: إمسح ناصيتك، حيث إنهم أخذوا بالوجوب بالنسبة إلى أصل المسح وحملوه
على الاستحباب بالنسبة إلى الناصية مع أنه امر واحد، وهكذا غير ذلك من الموارد التي
يطلع عليها الفقيه، ومن المعلوم أنه لا يكون الوجه في ذلك الا حيث ظهور الامر في نفسه
في الوجوب عند اطلاقه، وحينئذ فلا اشكال في أصل هذا الظهور.
نعم انما الكلام والاشكال في منشأ هذا الظهور وانه هل هو الوضع أو هو غلبة
الاطلاق أو هو قضية الاطلاق ومقدمات الحكمة؟
فنقول: اما توهم كون المنشأ فيه هو الوضع فقد عرفت فساده وأنه يكون حقيقة في
مطلق الطلب الجامع بين الإلزامي وغيره بشهادة صحة التقسيم وصحة الاطلاق على
الطلب الغير الإلزامي. واما ما استدل به من الآيات والأخبار الكثيرة لاثبات الوضع
للوجوب، من نحو قوله: سبحانه (فليحذر الذين يخالفون عن امره) وقوله عز من قائل
مخاطبا لإبليس: (ما منعك ان تسجد إذ أمرتك) وقوله صلى الله عليه وآله: (لولا أن
أشق على أمتي لامرتهم بالسواك) وقوله صلى الله عليه وآله أيضا لبريرة حين قال له
أتأمرني يا رسول الله: (لا بل أنا شافع) من تقريب انه جعل المخالفة للامر
في الأول ملزوما لوجوب لحذر، وفى الثاني للتوبيخ، وفى الثالث للمشقة،
وحيث لا يجب الحذر من مخالفة الامر الاستحبابي ولا يصح التوبيخ عليه ولا كان
مشقة يترتب على الامر الاستحبابي بعد جواز الترك شرعا، فلا جرم يستفاد من ذلك كونه
حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي، فان التقيد بالوجوب في تلك الأوامر خلاف ظاهر تلك
الأدلة من جهة قوة ظهورها في ترتب هذه اللوازم على طبيعة الامر لا على خصوص فرد
منه، وحينئذ فتدل تلك الأدلة بعكس النقيض على عدم كون الامر الاستحبابي أمرا
حقيقة بلحاظ عدم ترتب تلك اللوازم عليه. فنقول: بأنه يرد على الجميع بابتناء صحة
الاستدلال المزبور على جواز التمسك بعموم العام للحكم بخروج ما هو خارج عن حكم
العام عن موضوعه، إذ بعد أن كان من المقطوع عدم ترتب تلك اللوازم من وجوب الحذر
161

والتوبيخ والمشقة على الامر الاستحبابي أريد التمسك به لا ثبات عدم كون الامر
الاستحبابي من المصاديق الحقيقية للامر ليكون عدم ترتب اللوازم المزبورة عليه من باب
التخصص والخروج الموضوعي لا من باب التخصيص، نظير ما لو ورد خطاب على
وجوب اكرام كل عالم وقد علم من الخارج بعدم وجوب اكرام زيد لكنه يشك في أنه
مصداق للعالم حقيقة كي يكون خروجه عن الحكم من باب التخصيص أو انه لا يكون
مصداقا للعالم كي يكون خروجه من باب التخصص، ولكنه نقول بقصور أصالة العموم
والاطلاق عن إفادة اثبات ذلك فان عمدة الدليل على حجيته انما كان هو السيرة وبناء
العرف والعقلاء، والقدر المسلم منه إنما هو في خصوص المشكوك المرادية وهو لا يكون
الا في موارد كان الشك في خروج ما هو المعلوم الفردية للعام عن حكمه، وحينئذ فلا يمكننا
التمسك بالأدلة المزبورة لاثبات الوضع لخصوص الطلب الإلزامي خصوصا بعد ما يرى من
صدقه أيضا على الطلب الاستحبابي، كما هو واضح. هذا كله بالنسبة إلى الوضع.
واما الغلبة فدعواها أيضا ساقطة بعد وضوح كثرة استعماله في الاستحباب. ومن
ذلك ترى صاحب المعالم (قدس سره) فإنه بعدان اختار كون الامر حقيقة في خصوص
الوجوب قال: بأنه يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة (عليهم السلام) ان
استعمال الامر في الندب كان شايعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي
احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي، فمن ذلك استشكل
أيضا وقال: بأنه يشكل التعلق في اثبات وجوب امر بمجرد ورود الامر به منهم عليهم
السلام. وحينئذ فلا يبقى مجال لدعوى استناد الظهور المزبور إلى غلبة الاستعمال في
خصوص الوجوب، كما هو واضح.
وحينئذ فلابد وأن يكون الوجه في ذلك هو قضية الاطلاق ومقدمات الحكمة و
تقريبه من وجهين:
أحدهما: ان الطلب الوجوبي لما كان أكمل بالنسبة إلى الطلب الاستحبابي لما في
الثاني من جهة نقص لا يقتضي المنع عن الترك، فلا جرم عند الدوران مقتضي الاطلاق
هو الحمل على الطلب الوجوبي، إذ الطلب الاستحبابي باعتبار ما فيه من النقص يحتاج إلى
نحو تحديد وتقييد، بخلاف الطلب الوجوبي فإنه لا تحديد فيه حتى يحتاج إلى التقييد، و
حينئذ فكان مقتضى الاطلاق بعد كون الآمر بصدد البيان هو كون طلبه طلبا وجوبيا لا
162

استحبابيا.
وثانيهما: ولعله أدق من الأول تقريب الاطلاق من جهة الأتمية في مرحلة التحريك
للامتثال، بتقريب أن الامر بعد أن كان فيه اقتضاء وجود متعلقه في مرحلة الخارج ولو
باعتبار منشئيته لحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال، فتارة يكون اقتضائه بنحو يوجب
خروج العمل عن اللا اقتضائية للوجود بنظر العقل بحيث كان حكم العقل بالايجاد من
جهة الرغبة لما يترتب عليه من الأجر والثواب، وأخرى يكون اقتضائه لتحريك العبد
بالايجاد بنحو أتم بحيث يوجب سد باب عدمه حتى من طرف العقوبة على المخالفة علاوة
عما يترتب على ايجاده من المثوبة الموعودة، وفي مثل ذلك نقول: بأن قضية اطلاق الامر
يقتضي كونه على النحو الثاني من كونه بالنحو الأتم في عالم الاقتضاء للوجود بحيث يقتضي
سد باب عدم العمل حتى من ناحية ترتب العقوبة على المخالفة، لان غير ذلك فيه جهة
نقص فيحتاج ارادته إلى مؤنة بيان من وقوف اقتضائه على الدرجة الأولى الموجب لعدم
ترتب العقوبة على المخالفة. وبالجملة نقول: بأن الامر بعد أن كان فيه اقتضاء التحريك
للايجاد وكان لاقتضائه مراتب، فعند الشك في وقوف اقتضائه على المرتبة النازلة أو عبوره
إلى مرتبة السببية لحكم العقل بالايجاد كان مقتضي الاطلاق كونه على النحو الأتم و
الأكمل الموجب لحكم العقل بلزوم الايجاد فرارا عن تبعة ما يترتب على مخالفته من
العقاب علاوة عما يترتب على موافقته من الأجر والثواب، فتدبر.
الجهة الرابعة:
في أنه هل الطلب عين الإرادة أو غيرها؟ حيث إنه وقع فيه الخلاف بين المعتزلة و
العدلية وبين الأشاعرة، فذهبت الأشاعرة إلى المغايرة بينهما، والباقون إلى اتحادهما
مستدلين لذلك: بانا لا نجد في أنفسنا عند الامر بشئ وطلبه غير العلم بالمصلحة والإرادة و
الحب والبغض صفة أخرى قائمة بالنفس نسميها بالطلب، فمن ذلك صاروا بصدد توجيه
القول بالمغايرة وحملوه على وجوه يرتفع بها النزاع في البين.
منها: ما أفاده في الكفاية، حيث إنه لما بنى على اتحاد الطلب والإرادة مصداقا ومفهوما
وجه كلام القائلين بالمغايرة، حيث قال ما ملخصه: الحق كما عليه أهله اتحاد الطلب و
163

الإرادة مفهوما وانشاء وخارجا بمعنى ان ما يسمى بالطلب بالحمل الشايع هو عين
الإرادة بهذا الحمل وما ينتزع عنه هذا المفهوم أي مفهوم الطلب عين ما ينتزع عنه مفهوم
الإرادة، وانشاء الطلب الذي هو عبارة عن استعمال اللفظ في المفهوم بقصد الايقاع هو
عين انشاء الإرادة، فكان الطلب والإرادة متحدين في جميع تلك المراحل الثلاث، ولكنه
لما كان المنصرف إليه الطلب عند اطلاقه هو الطلب الانشائي وكان في الإرادة بعكس
ذلك حيث كان المنصرف إليه عند اطلاقها هو الإرادة الحقيقية الخارجية دون الانشائي
منها كان مثل هذا الانصراف أوجب القول بالمغايرة بينهما فتوهم أن الطلب غير الإرادة،
ولكنه ليس كذلك من جهة ان ذلك انما كان من جهة ما يستفاد من قضية اطلاقهما حسب
الانصراف ومثل ذلك مما لا ينكره القائل بالاتحاد، بل عليه يرتفع النزاع من البين رأسا
لرجوع النزاع حينئذ إلى ما هو المستفاد من قضية اطلاق لفظ الطلب بان المستفاد منه هل
هو عين ما يستفاد من لفظ الإرادة عند اطلاقها أو ان المستفاد منه هو غيره؟.
ومنها: أي من التوجيهات جعل المراد من الطلب عبارة عن الاشتياق التام الحاصل
عقيب تصور الشئ والتصديق بفائدته، والإرادة عبارة عن حملة النفس وهيجانها نحو
المطلوب والمراد الذي يستتبع الفعل والعمل، أو العكس بجعل الطلب عبارة عن حملة
النفس والإرادة عن الاشتياق التام.
ومنها: جعل الطلب عبارة عما ينتزع عن مقام ابراز الإرادة من البعث والايجاب و
الوجوب واللزوم، فيغاير حينئذ الإرادة حيث كانت الإرادة من الأمور الحقيقية القائمة
بالنفس بخلاف الطلب حيث إنه كان من الأمور الاعتبارية الانتزاعية عن مقام ابراز
الإرادة بالامر نحو الشئ بالايجاد.
ومنها: غير ذلك من التوجيهات المذكورة في كلماتهم.
أقول: ولا يخفى عليك ما في هذه المحامل والتوجيهات، إذ نقول وان كان يتضح بها
المغايرة بينهما بل ويرتفع معها النزاع من البين، ولكن لا يساعد شئ منها كلام القائلين
بالمغايرة حيث نقول: بأن الطلب وما يحكى عنه الامر عندهم عبارة عن معنى قابل
للتعلق بالمحال وللتخلف عن المراد وللموضوعية لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال،
كما يشهد عليه قضية استدلالهم بالأوامر الامتحانية الخالية عن الإرادة في مواردها، كما في
امر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده إسماعيل عليه السلام، واستدلالهم أيضا بتكليف الله
164

سبحانه الكفار بالايمان وأهل الفسوق والعصيان بالعمل بالأركان فان الله سبحانه امر
الكفار بالايمان ولم يرد منهم الايمان لامتناع صدور الايمان منهم بعد علمه سبحانه بذلك،
إذ حينئذ يستحيل تعلق ارادته سبحانه بالايمان المستحيل منهم. وأيضا لازم تعلق ارادته
سبحانه بذلك هو قهرية صدور الايمان منهم لأنه سبحانه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون
فيستحيل تخلف ارادته سبحانه عن المراد، وحينئذ فمن جهة عدم صدور الايمان منهما لابد
وان يستكشف عن عدم تعلق ارادته الأزلية بصدور الايمان منهم ومعه يثبت المطلوب من
المغايرة بين الطلب والإرادة. وأيضا استدلالهم على كون العباد مجبورين في أفعالهم على
ما هو مقتضى مذهبهم وانكارهم التحسين والتقبيح العقليين بأنه من الممكن امر الله
سبحانه العباد بأمور ليس فيها مصلحة أصلا، حيث إنه يستفاد من أدلتهم ان ما يحكى
عنه الامر وهو الطلب عندهم عبارة عن معنى كان ممكن التعلق بالمحال وقابلا للتخلف
عن المراد ولأن يكون تابعا لمصلحة في نفسه لا في متعلقه مع كونه موضوعا أيضا لحكم
العقل بوجوب الإطاعة والامتثال ويقابله الإرادة عندهم فإنها معنى لا يجوز تخلفها عن
المراد ولا كانت قابلة للتعلق بالمحال ولا للتبعية لمصلحة في نفسها لكونها تابعة لمقدماتها
التي منها التصديق بفائدة الشئ والميل والمحبة له.
وكان عمدة ما دعاهم إلى المصير إلى المغايرة تلك الاشكالات الفاسدة الواردة
بنظرهم بناء على القول باتحاد الطلب مع الإرادة: منها لزوم عدم تحقق العصيان من
العباد لعدم جواز تخلف ارادته سبحانه عن المراد، ومنها لزوم تعلق الإرادة بالمحال بناء
على الاتحاد كما في موارد الامر بما انتفي شرط تحققه، ومنها ما بنوا عليه من المبنى الفاسد
من انكار التحسين والتقبيح العقليين وتجويزهم الامر بالشئ مع خلوه عن المصلحة كما
في الأوامر الامتحانية، ومنها غير ذلك من المباني الفاسدة، حيث إنه من جهة الفرار عن تلك
الاشكالات التزموا بالمغايرة بين الطلب والإرادة فقالوا بان الطلب وما يحكى عنه الامر
عبارة عن معنى قابل لتلك اللوازم.
ومما يشهد لذلك أيضا انكار القائلين بالاتحاد عليهم بأنا لا نجد في أنفسنا عند طلب
شئ والامر به غير العلم بالمصلحة والإرادة والحب والبغض صفة أخرى قائمة بالنفس
نسميها بالطلب، وهذا هو العلامة (قدس سره) حيث أنكر عليهم بانا لم نجد عند الامر
بشئ أمرا مغايرا لإرادة الفعل حيث لا يكون المفهوم من الامر إلا إرادة الفعل من المأمور
165

به ولو كان هناك شئ آخر لا ندركه فلا شك في كونه أمرا خفيا غاية الخفاء بحيث
لا يتعقله إلا الأوحدي من الناس، ومع ذلك كيف يجوز وضع لفظ الامر المتعارف في
الاستعمال بإزائه، إذ من الواضح حينئذ انه لولا إرادتهم من الطلب والامر ما ذكرنا لما
كان وجه لانكار القائل بالاتحاد عليهم، كما هو واضح.
وعليه نقول أيضا بأنه لا يكاد يلائم شئ من التوجيهات المزبورة كلامهم بوجه
أصلا، حيث إن الطلب بمعنى الانشائي منه كما هو توجيه الكفاية وان يساعد عليه اللازم
الأول من قابلية تعلقه بالمحال لعدم استلزامه لإرادة الايجاد من المكلف، ولكنه لا يساعد
عليه جهة موضوعيته لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال. واما كونه بمعنى حملة
النفس وهيجانها نحو المطلوب فهو أيضا غير قابل للتعلق بالمحال ولا يصحح أيضا كونه
لصلاح في نفسه فبقى بعد الاشكالات بحالها. وأما كونه بمعنى الاشتياق فهو وان يصحح
جواز تعلقه بالمحال كما في اشتياق المريض إلى شفاء مرضه والمحبوس إلى الفرار من
السجن والتخلص منه واشتياق الانسان إلى عود شبابه ويمكن أيضا وقوعه موضوعا
لحكم العقل بوجوب الامتثال فيما لو أحرز العبد اشتياق مولاه إلى شئ ولكنه أيضا لا
يصحح كونه لصلاح في نفسه. وحينئذ فبقرينة استدلالهم بمثل الأوامر الامتحانية يعلم
بعدم إرادتهم من الطلب الاشتياق نحو الشئ ولا من الإرادة حملة النفس وهيجانها نحو
المطلوب. واما كونه بمعنى البعث والتحريك والوجوب واللزوم ونحوها فهو أيضا غير
محكى بالامر لما عرفت من كونها أمورا انتزاعية متأخرة عن الامر يعتبرها العقل عن مقام
ابراز الإرادة فلا يمكن ان يكون محكيا للامر، كما هو واضح.
نعم هنا معنى آخر غير المذكورات وغير العلم والإرادة والحب والبغض يمكن بعيدا
ان يوجه به كلام القائل بالمغايرة، وهو البناء والقصد، المعبر عنه بعقد القلب في باب
الاعتقادات، حيث إنه كان من جملة أفعال النفس، ولذا قد يكون يؤمر به كما في البناء
على وجود الشئ كالبناء في باب الاستصحاب وفى الشكوك المعتبرة في الصلاة، وقد
يكون ينهى عنه كما في التشريع المحرم ويسمى بأسام مختلفة حسب اختلاف متعلقه،
ويكون كالإرادة في كونه ذا إضافة وان خالفها في أنها من مقولة الكيف وهذا من
مقولة الفعل للنفس، فكما ان الحب قد يتعلق بأمر موجود مفروغ التحقق فيقال له العشق
والشعف، وقد يتعلق بايجاد الشئ أو ايجاد الغير إياه فيقال له الإرادة، كذلك هذا البناء
166

فإنه قد يتعلق بالأول وقد يتعلق بالثاني، فيسمى بالاعتبار الأول تنزيلا كالبناء على كون
الشك يقينا أو العدم وجودا وكالبناء على كون الأكثر موجودا أو الموجود هو الأكثر، و
بالاعتبار الثاني قصدا، وعند تعلقه بما ليس في الشرع تشريعا ونحو ذلك ويشهد لما ذكرنا
ملاحظة كلماتهم في باب التصديق المعتبر في الايمان بأنه ليس مجرد العلم والمعرفة بل هو
فعل جناني معبر عنه بالفارسية ب‍ (گردن دادن) و (گرويدن) و (باور كردن) فراجع
كلماتهم.
وحينئذ نقول بان مثل هذا البناء والقصد لما كان قابلا للتعلق كما في بناء الغاصب
على ملكية مال المغصوب في مقام البيع وكالبناء على ربوبية بعض المخلوقين وكالبناء
على جزئية شئ للواجب في باب التشريع، ومن جهة اختياريته كان قابلا لان يكون
لصلاح في نفسه، وأمكن أيضا ان يكون محكيا للامر موضوعا لحكم العقل بوجوب
الامتثال، فلا محالة أمكن توجيه كلماتهم الفاسدة بحمل الطلب في كلماتهم على مثل هذا
البناء والقصد، والإرادة على تلك الكيفية النفسانية بل عليه لا مجال للانكار عليهم أيضا
بانا لا نجد في أنفسنا عند طلب شئ غير العلم بالمصلحة والإرادة والحب والبغض لما
عرفت من وجود امر آخر في النفس يكون هو البناء والقصد. وحينئذ فلو ادعى القائل
بالمغايرة بان ما هو المسمى بالطلب عبارة عن مثل هذا القصد الذي هو بالضرورة غير
الإرادة لا يمكننا المسارعة في الرد عليهم بعدم وجدان امر وراء الإرادة والعلم والحب و
البغض بل ولئن سلم مبانيهم الفاسدة لا مفر عن الالتزام بمقالتهم من المغايرة بين الطلب
والإرادة. وحينئذ فاللازم هو إبطال أصل تلك المباني الفاسدة التي هي عبارة عن انكار
التحسين والتقبيح العقليين، وعدم جواز انفكاك الإرادة عن المراد، وعن شبهة الأوامر
الامتحانية التي أوجب مصيرهم إلى كون الامر لصلاح في نفسه لا في متعلقه، وشبهة
كون العباد مجبورين في أفعالهم الموجب لعدم امكان تعلق الإرادة بفعلهم.
فنقول: اما الأول فابطاله لا يحتاج إلى البرهان بعد ثبوته بالوجدان وان كان ايكال
من لا وجدان له إلى الوجدان غير خال عن المصادرة لكن تفصيله موكول إلى محله، و
نتيجة ابطال هذه المقدمة انما هو نفى كون الامر حاكيا عن البناء والقصد كما وجهنا به
كلامهم، وذلك انما هو لوضوح انه لا يرى العقل حسن العقوبة على المخالفة بمحض كون
المحكى بالامر هو البناء والقصد الخالي عن الإرادة، بل في مثله عند فرض الخلو عن
167

الإرادة ترى حكم العقل بقبح العقوبة. وبالجملة فالمقصود من هذا البيان انما هو حصر
موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وحسن العقوبة على المخالفة بنفس
الإرادة الواقعية بما انها مبرزة بالامر، فعند خلو المورد حينئذ عن الإرادة لا حكم للعقل
بوجوب الإطاعة ولا يرى حسن العقوبة على المخالفة. واما دعواهم بانعزال العقل عن
التحسين والتقبيح فغير مسموعة منهم، كما هو واضح.
واما الثاني: فبطلانه أيضا واضح حيث إنه قد خلط بين الإرادة التشريعية و
التكوينية، فان ما يستحيل تخلفه انما هو الإرادة التكوينية دون الإرادة التشريعية، وما
في الكتاب العزيز من قوله سبحانه (انما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون) انما
هو الأول دون الثاني، على أن لنا أيضا المنع عن لزوم تخلف ارادته سبحانه عن المراد
حتى في الإرادة التشريعية، وبيانه يحتاج إلى مقدمة بها أيضا يتضح الجهة الفارقة بين
الإرادة التكوينية والتشريعية، وهي ان كل آمر ومريد لفعل من الغير تارة يتعلق ارادته
بحفظ وجود العمل على الاطلاق بنحو تقتضي سد جميع أبواب عدمه حتى من ناحية
شهوة العبد والمأمور ولو بايجاد الإرادة له تكوينا، وأخرى تتعلق بحفظ وجوده لا على نحو
الاطلاق بل في الجملة ومن ناحية ما هو مبادي حكم عقله بوجوب الإطاعة والامتثال و
هو طلبه وأمره. وحينئذ فإذا كانت الإرادة المتعلقة بفعل العبد من قبيل الأول فلا جرم
لابد لا من سد جميع أبواب عدمه المتصورة حتى من جهة شهوة العبد، وأما إذا كانت من
قبيل الثاني فالمقدار اللازم انما هو حفظ وجوده بمقدار تقتضيه الإرادة، فإذا فرض ان المقدار
الذي تعلق الإرادة والغرض بالحفظ انما هو حفظ المرام من ناحية مبادي حكم عقل
المأمور بالإطاعة والامتثال وما يرجع إلى نفس المولى من ابراز ارادته والبعث، فالمقدار
اللازم في الحفظ حينئذ انما هو ايجاد ما هو من مبادي حكم العقل بالامتثال لا ايجاد
مطلق ما كان له الدخل في الحفظ حتى مثل شهوة العبد والمأمور، كما هو واضح.
وبعد ما عرفت هذه الجهة نقول بان ما كانت منها من قبيل الأول فهي المسماة
بالإرادة التكوينية وهي كما ذكر يستحيل تخلفها عن المراد إذ هي بعد تعلقها بحفظ
الوجود بقول مطلق حتى من ناحية الأضداد والمزاحمات فلا جرم يكون ترتب وجود المراد
عليها قهريا فيستحيل تخلفها عنه والا لزم الخلف، واما ما كانت من قبيل الثاني فهي
المسماة بالإرادة التشريعية، ولكن نقول بان تلك أيضا غير متخلفة عن المراد فان
168

المفروض ان المقدار الذي تعلق الإرادة بحفظه انما هو حفظ المرام في الجملة بسد باب
عدمه من ناحية مبادي حكم عقل المأمور بالإطاعة والامتثال لا حفظه بقول مطلق وهو
يتحقق بابراز ارادته واظهارها بأمره وطلبه وبعثه بقوله افعل كذا، ومن المعلوم بداهة
انه على هذا أيضا لا تخلف لها عن المراد من جهة انه بابراز ارادته تحقق ما هو موضوع
حكم العقل بوجوب الإطاعة وانسد المقدار الذي كان المولى بصدد حفظه من جهته، و
حينئذ فلا يكاد يضر مخالفة الكفار وأهل العصيان في الواجبات والمحرمات، إذ لا يستلزم
مخالفتهم تخلف ارادته سبحانه عن مراده، كما هو واضح.
وحينئذ فتمام الخلط والاشتباه نشأ عن الخلط بين الإرادة التكوينية والإرادة
التشريعية ومقايسة إحداهما بالأخرى، فحيث ان الإرادة التكوينية يكون ترتب المراد عليها
قهريا نظرا إلى تعلقها بحفظ وجوده بقول مطلق حتى من ناحية الأضداد والمزاحمات،
تخيل ان الإرادة التشريعية أيضا مثلها في عدم الانفكاك عن المراد، وحينئذ فمن
جهة مخالفة الكفار وأهل العصيان استشكل عليه الامر فالتزم فرارا عن الاشكال
بالمغايرة بين الطلب والإرادة وان الله سبحانه وان أمر الكفار بالايمان وطلبه منهم و
لكنه لم يرد منهم الايمان. ولكنك قد عرفت وضوح الفرق بينهما وانه لا مجال لمقايسة
إحديهما بالأخرى، فتأمل تعرف حقيقة الحال في إرادتك صدور حمل من عبدك من
حيث كونك تارة بصدد حفظ مرامك وسد جميع أبواب عدمه حتى من ناحية شهوة عبدك
ولو بضربك إياه وجبره على الايجاد ولو بأخذ يده ونحو ذلك، وأخرى في مقام حفظه من
ناحية امرك إياه وابراز إرادتك باعتبار قيام المصلحة بالوجود في ظرف صدوره عن العبد
عن إرادته واختياره لا مطلقا مع صحة مؤاخذتك إياه لو أمرته فخالف ولم يطع، وهذا
واضح لا سترة عليه.
واما صحة طلبه سبحانه الايمان والعمل بالأركان منهم حينئذ مع علمه الفعلي بعدم
صدور الايمان منهم لعدم اختيارهم الايمان وإرادتهم العمل بالأركان، فلأجل إعلامهم بما
في الفعل من الصلاح الراجع إلى أنفسهم ولكي يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي
عن بينة، ولئلا يكون للناس على الله حجة بل كان له سبحانه عليهم حجة بالغة وانه
سبحانه لم يكن ليظلمهم بل هم باختيارهم عدم الإطاعة يظلمون، وفى الحديث (ان أظلم
الناس من يظلم على نفسه).
169

واما الجواب عن شبهة الجبر فلم يتعرض الأستاذ له تفصيلا خوفا على بعض
الطلاب من دخول بعض الشبهات في أذهانهم القاصرة بل وانما أحال الجواب إلى وقت
آخر يقتضيه المقام، نعم أفاد في دفع الشبهة وفسادها بنحو الاجمال محيلا ذلك إلى قضاء
الوجدان بالفرق الواضح بين حركة يد المرتعش وحركة يد المختار، وهو كما أفاد (دام
ظله) حيث نرى ونشاهد بالوجدان والعيان كوننا مختارين فيما يصدر عنا من الافعال وفى
مقام الإطاعة العصيان وان مجرد علمه سبحانه بالنظام الأكمل غير موجب لسلب
قدرتنا واختيارنا فيما يصدر عنا من الافعال والأعمال كما يقول به الجبرية (خذلهم الله
سبحانه) بل كنا بعد مختارين فيما يصدر عنا من الافعال وان عدم صدور العمل منا في
مقام الإطاعة انما هو باختيارنا وعدم إرادتنا الايجاد لترجيحنا ما نتخيل من بعض الفوائد
العاجلة على ما في الإطاعة من المنافع المحققة الآجلة الأخروية من غير أن نكون مجبورين
في ايجاد الفعل المأمور به أو تركه بوجه أصلا، كما لا يخفى.
والى ذلك أيضا يشير بعض ما ورد من النصوص عن الأئمة المهديين صلوات الله عليهم
أجمعين بان كل مولود يولد على الفطرة الا ان أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه (1) وان
كل انسان في قلبه حين ولادته نقطة بيضاء ونقطة سوداء (2) وكان لقلبه أذنان ينفث في
أحدهما الملك وفى الآخر الشيطان (3) وان لكل نفس مكانا في الجنة هو له إذا سلك سبل
الخير ومكانا في النار إذا سلك سبل الشر. حيث إن افراد الانسان بأجمعها خلقت من
نطفة أمشاج ومن رقائق العوالم العلوية والسفلية وخمرت طينته منهما، فبعضهم
باختيارهم لما لا حظ المنافع الأخروية ورجحها على ما يترائى في نظره من اللذائذ
الدنيوية الفانية فسلك من هذه الجهة سبيل التوحيد كان سلوكه لسبيل التوحيد منشأ

(1) الحديث منقول بالمعنى ولفظه على ما في صحيح فضل بن عثمان الأعورعن أبي عبد الله عليه السلام
هكذا: " ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه " " الحديث ". رواه في الوسائل،
الباب 48 من أبواب الجهاد، الحديث 3.
(2) في خبر زرارة، قال أبو جعفر عليه السلام: ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في
النكتة نكتة سوداء " الحديث " أصول الكافي، ج 2، ص 273 - الوسائل الباب 40 من جهاد النفس، الحديث 14.
(3) أصول الكافي: طبعة الآخوندي، ج 2، ص 266.
170

لغلبة تلك النقطة البيضاء التي كانت في قلبه إلى أن بلغت حدا أحاطت بتمامه و
انعدمت النقطة السوداء، وبعضهم بالعكس فسلك سبيل الشر ترجيحا لما يترائى في نظره
من اللذائذ والمشتهيات النفسانية على المنافع الجليلة الأخروية باختيار منه فصار سلوكه
مسلك الشر منشأ لغلبة تلك النقطة السوداء التي كانت في قلبه إلى أن بلغت حدا أحاطت
بتمامه، فصار الأول من أهل التوحيد والايمان والثاني من أهل الفسوق والعصيان من غير أن
يكون واحد منهم مجبورا في الإطاعة والمعصية بوجه أصلا، كما لا يخفى.
والى ما ذكرنا أيضا لابد وان يحمل الخبر المعروف بان السعيد سعيد في بطن أمه و
الشقي شقي في بطن أمه (1) حيث إنه على فرض صدوره عن الإمام عليه السلام وعدم كونه
من الموضوعات، محمول على تقدم علم سبحانه قبل ولادة افراد الانسان بما يصيرون إليه
في عاقبة أمرهم بسبب سعيهم الاختياري في ترجيحات بعضهم المنافع الأخروية على
الفوائد الدنيوية واللذائذ الشهوانية وترجيحات بعضهم الآخر اللذائذ الدنيوية على
الفوائد الجليلة الأخروية، والا فلابد من طرحه لمخالفته لما يحكم به بداهة العقل و
الوجدان ولما نطق به الكتاب السنة المتواترة.
وحينئذ فإذا ظهر لك عدم مجبورية العباد فيما يصدر منهم عن الافعال في مقام الإطاعة
والعصيان، ظهر أيضا صحة تعلق الإرادة التشريعية بالايمان من الكفار وبالعمل
بالأركان من أهل الفسوق والعصيان من دون ان يكون ذلك من الامر بالمحال وبما لا يقدر
عليه العباد، من جهة ما عرفت من كون العبد بعد على ارادته واختياره في ايجاد الفعل
المأمور به وان عدم صدوره منه انما هو لأجل عدم تحقق علته التي هي ارادته للايجاد بسوء
اختياره وترجيحه جانب المشتهيات النفسانية على المنافع الأخروية. واما صحة طلبه
سبحانه منه حينئذ مع علمه بعدم صدور الفعل منه من جهة عدم ارادته، فهو كما تقدم
لأجل الاعلام بما في الفعل من الصلاح الراجع إلى أنفسهم ولكي يهلك من هلك عن بينة
ويحيى من حي عن بينة ولئلا يكون لهم على الله سبحانه الحجة بل كان له سبحانه
عليهم حجة بالغة من جهة اعلامهم بما فيه الصلاح والفساد، فتدبر.

(1) توحيد الصدوق، الباب 58 (باب السعادة والشقاء) الحديث 3 وفيه عنه صلى الله عليه وآله: " الشقي من
شقى في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه ".
171

واما شبهة الأوامر الامتحانية فنقول في الجواب عنها: بان الأوامر الامتحانية على
قسمين: الأول ما لا يكون في متعلقه مصلحة بوجه من الوجوه لا بعنوانه الأولى ولا
بعنوانه الثانوي وهذا نظير ما لو كان الامر بالايجاد لمحض امتحان العبد وفهم انه هل
كان بصدد الإطاعة والامتثال أم لا، الثاني ما يكون مصلحة في متعلقه بالعنوان الثانوي
وان لم يكن فيه مصلحة بالعنوان الأولى وهذا نظير ما لو كان الغرض هو امتحان العبد
فيما يصدر منه من العمل كما في امر العبد بصنع الغليان والشاي مثلا لاختباره في أنه
ماهر في ذلك لكي ينتفع به عند ورود الضيف عليه أو انه لا يكون له المهارة فيه فإنه في هذا
الفرض وان لم يكن في متعلق امره وهو الغليان مصلحة بعنوانه الأولى بل ولعله كان فيه
مفسدة لما كان للمولى من وجع الصدر بنحو يضربه شرب الغليان والشاي ولكنه
بالعنوان الثانوي كان فيه المصلحة وبذلك صار متعلقا لغرضه.
وبعد ذلك نقول: بان الأوامر الامتحانية ما كان منها من قبيل الثاني فنلتزم فيها بعدم
انفكاكها عن إرادة العمل حيث نقول في مثلها بتعلق الإرادة الحقيقية من المولى بايجاد
العمل من المأمور وانه أي المأمور يستحق العقوبة على المخالفة فيما لو خالف. واما ما كان
منها من قبيل الأول الذي فرضنا خلو المتعلق عنه المصلحة بقول مطلق حتى بالعنوان
الثانوي فمثلها وان كان خاليا عن الإرادة الحقيقية ولكنه نحن نمنع كونها طلبا وامرا
حقيقيا أيضا حيث نقول بكونها حينئذ طلبا وامرا صوريا لا حقيقيا، ومن ذلك أيضا
نمنع موضوعية مثل هذه الأوامر لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وانه لا يكاد
يحكم العقل فيها بوجوب الإطاعة، ولذلك أيضا ترى ان المولى كان في كمال الجهد بان
لا يطلع العبد بواقع قصده وكون امره لمحض امتحانه، واما نفس الامتحان الذي هو
الغرض من هذا البعث فهو أيضا غير متوقف على الامر الحقيقي بل هو يترتب بمحض تخيل
العبد كونه أمرا حقيقيا ناشئا عن إرادة جدية متعلقة بالعمل وان لم يكن كذلك بحسب
الواقع ونفس الامر بل كان أمرا صوريا، كما هو واضح. وعلى هذا فما تخلف الطلب عن
الإرادة في شئ من الأوامر الامتحانية كما توهمه الأشعري، فإنه في مورد كان الطلب طلبا
حقيقيا قد عرفت عدم انفكاكه أيضا عن الإرادة الحقيقية المتعلقة بايجاد العمل، وفي
مورد لا يكون فيه إرادة حقيقية متعلقة بالعمل فلا يكون الطلب أيضا طلبا حقيقيا بل
طلبا صوريا، فيبطل حينئذ دعوى الأشعري من مغايرة الطلب مع الإرادة وكان التحقيق
172

هو الذي عليه الجمهور من اتحاد الطلب والإرادة.
بقى شئ: وهو ان الطلب والإرادة بناء على اتحادهما كما هو التحقيق هل يمكن في
مقام تعلقه بشئ ان يكون لمصلحة في نفسه أم لا بل لابد وأن يكون تعلقه بالشئ لمصلحة
في ذلك الشئ؟ حيث إن فيه وجهين، وربما يترتب عليه ثمرات مهمة، منها في مسألة
الملازمة المعروفة بين حكم العقل والشرع، حيث إنه بناء على امكان ان يكون الإرادة
لمصلحة في نفسها يسقط النزاع المزبور إذ حينئذ بمجرد درك العقل حسن شئ أو قبحه لا
يمكننا كشف حكم الشارع فيه بالوجوب أو الحرمة، كما أنه كذلك أيضا في طرف
العكس فإذا حكم الشارع بوجوب شئ أو حرمته لا يمكن الكشف به عن حسن ذلك
الشئ الذي امر به الشارع أو قبحه، من جهة احتمال ان يكون حكم الشارع فيه بالوجوب
أو الحرمة لمصلحة في نفس حكمه وطلبه. وهذا بخلافه على الثاني من كونه لمصلحة في
متعلقه، فإنه حينئذ يكون كمال المجال لدعوى الملازمة خصوصا من طرف حكم الشرع،
فيتم ما بنوا عليه من أن الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية، إذ حينئذ بمجرد
حكم الشارع في شئ بالوجوب أو الحرمة يستكشف منه لا محالة كشفا قطعيا عن حسن
ذلك الشئ أو قبحه. نعم في تمامية تلك الملازمة من طرف حكم العقل فيما لو أدرك
حسن شئ أو قبحه اشكال كما سيأتي ينشأ من عدم كون مجرد الصلاح في شئ علة لحكم
الشارع فيه بالوجوب بل وانما غايته كونه مقتضيا لذلك فيمكن حينئذ ان يمنع عن تأثيره
مانع أو مزاحم.
وعلى كل حال: فالذي يقتضيه التحقيق في أصل المسألة هو الوجه الثاني وهو لزوم
كون الإرادة في مقام تعلقه بشئ لمصلحة في ذلك الشئ لا لمصلحة في نفسها، والعمدة في
ذلك انما هي الوجدان حيث يرى الانسان بالوجدان وماله من الجبلة والارتكاز في تعلق
حبه أو بغضه بشئ انه انما يكون لما يجد في ذلك الشئ من الخصوصية الموجبة لملائمة
النفس وانبساطها أو الخصوصية الموجبة لمنافرة النفس واشمئزازها، وانه بدون تلك
الخصوصية المستتبعة للانبساط أو الاشمئزاز لا يكاد يوجد للنفس ميل ولا محبة إلى ذلك
الشئ بوجه أصلا، كيف وانه لولا ذلك لاتجه عليه اشكال الترجيح بلا مرجح في
الامرين المتساويين في جميع الخصوصيات بل في أمر واحد بأنه لم صار ذلك الشئ محبوبا
لا مبغوضا؟ إذ حينئذ لا محيص الا من دعوى ان تعلق الحب والبغض بشئ انما هو
173

لخصوصية في ذلك الشئ أوجبت تلك الخصوصية انبساط النفس فتعلق به الميل والمحبة
أو اشمئزازها فتعلق به المبغوضية. وعلى ذلك نقول بأنه إذا كان ذلك شأن الحب و
البغض فلا جرم يتبعهما الإرادة والكراهة أيضا فإنهما تابعتان لمقدماتهما
التي منها التصديق بفائدة الشئ والميل والمحبة له فلا تكون الإرادة أيضا في تعلقها بشئ
الا لصلاح في نفس ذلك الشئ لا لصلاح في نفسها. وحينئذ ففي مثل هذا الوجدان و
الارتكاز غنى وكفاية في اثبات لزوم كون الإرادة لمصلحة في خصوص متعلقها وبطلان
توهم كونها لصلاح في نفسها بلا احتياج إلى اتعاب النفس في إقامة البرهان عليه أيضا
كما هو واضح.
ثم إن الظاهر أن عمدة المنشأ لتوهم امكان كون الإرادة لمصلحة في نفسها انما هو
ملاحظة موارد الإقامة فيما لو كان قصد الإقامة لأجل ترتب حكم وجوب الصوم والتمام،
حيث إنه بعد أن يرى عدم ترتب حكم وجوب التمام على إقامة عشرة أيام خارجا ولا
عليها مع القصد المزبور بشهادة ترتب حكم وجوب التمام بمحض تحقق قصد إقامة عشرة
أيام منه في مكان مع اتيان صلاة أربع ركعات وان لم يتحقق منه في الخارج إقامة عشرة
أيام بل زال قصده ونوى الخروج من محل الإقامة فخرج منه إلى مكان آخر تخيل من هذه
الجهة ان ترتب حكم وجوب التمام ووجوب الصوم انما كان على مجرد قصد إقامة عشرة
أيام وارادته ذلك لا على نفس الإقامة الخارجية ولا عليها والقصد المزبور، فمن تلك الجهة
استظهر حينئذ انه إذا أمكن في مورد تعلق الإرادة والقصد لا لصلاح في ذلك الشئ بل
لصلاح مترتب على نفس القصد والإرادة كما في ناوي الإقامة عشرة أيام لأجل وجوب
التمام فليكن كذلك في غير ذلك المورد أيضا، لان الأمثال سواء فيما يجوز وفيما لا يجوز، فإذا
جاز وأمكن في مورد يجوز ويمكن في جميع الموارد، هذا.
ولكن نقول في دفع تلك الشبهة: بان ترتب وجوب التمام انما كان على نفس الإقامة
الخارجية غايته لا على وجودها المنحفظ بقول مطلق حتى من غير ناحية القصد والإرادة بل
على وجودها المنحفظ من ناحية القصد المزبور فهو الذي كان موضوعا لحكم الشرع
بوجوب الصوم والتمام، فإذا انحفظ وجودها من الجهة المزبورة يترتب عليها الحكم بالتمام
لتحقق ما هو الموضوع للحكم المزبور، وعلى ذلك فلا يرتبط ذلك بمقام ترتب وجوب التمام
على صرف القصد المزبور بوجه أصلا بل هو كما عرفت مترتب على نفس الإقامة
174

الخارجية، وحينئذ فتعلق القصد بها من ناوي الإقامة انما هو جهة ما يرى بنظره من
ترتب وجوب التمام على الإقامة، فإنه بعد أن يرى ذلك يتعلق بها قصده وتتمشى منه
الإرادة إلى وجودها وبمجرد تعلق قصده بها يتحقق ما هو موضوع حكم الشارع بوجوب
التمام. نعم غاية ما هناك انه لابد حينئذ من جزم المكلف بانحفاظ وجود الإقامة عشرة
أيام خارجا من سائر الجهات لكي يتحقق منه القصد إليها ويتمشى منه الإرادة إلى
وجودها، والا فبدون الجزم المزبور فضلا عن الجزم بالخلاف وخروجه في الأثناء عن
محل الإقامة يستحيل تمشى القصد والإرادة منه إليها بوجه أصلا كما لا يخفى، وحينئذ
فصح لنا ان نقول بقول مطلق: بان الإرادة لا تكاد تكون الا لمصلحة في متعلقها.
بقى شئ لا يخفى عليك ان ما ذكرنا من لزوم تبعية الإرادة لمصلحة في متعلقها وامتناع
كونها لصلاح في نفسها ليس المقصود منه هو عليه مجرد الصلاح في الشئ لتعلق الإرادة به
كي يلزمه انه مهما وجد صلاح في فعل أو شئ لابد ان يكون هناك إرادة أيضا متعلقة
بذلك الشئ كما لعله مبنى القائل بالملازمة، بل المقصود من ذلك هو كون الصلاح في الشئ
مقتضيا لتعلق الإرادة بذلك الشئ على معنى مؤثرية ذلك الصلاح الكائن في الفعل في توجه
الإرادة الفعلية بذلك الفعل لولا وجود المانع أو المزاحم في البين.
فحينئذ فإذا كان الصلاح المزبور يتوقف تأثيره الفعلي في الإرادة بعدم وجود المانع أو
المزاحم نقول: بان مانعية الشئ قد تكون في أصل تأثير المصلحة في الإرادة الفعلية بل وفي
مباديها من الرجحان والمحبوبية أيضا وقد تكون في تأثيرها في مقام ابراز الإرادة بالامر و
البعث نحو المراد لا في أصل الإرادة الفعلية، ويفرض الثاني فيما لو كان القصور من طرف
المولى في عدم تمكنه من ابراز مقصده إلى المكلف والمأمور خوفا على نفسه أو على
غيره، كما يفرض ذلك فيما لو كان عنده عدو بحيث لو أبرز إرادته لعرض عليه الحسد وقتله
في الحال، ونحو ذلك من الأمور المانعة عن ابراز المقاصد، كما أنه من هذا القبيل مسألة
الدلالة على ولى الله على ما ورد من الأخبار الكثيرة بان النبي صلى الله عليه وآله كان
مأمورا من قبل على نصب ولى الله بالخلافة من بعده لكنه صلى الله عليه وآله خوفا عن
خروج الناس عن دينهم لم يظهر ذلك إلى أن نزلت قوله سبحانه يا أيها الرسول بلغ ما انزل
الخ. وعلى كل حال نقول: بأنه في مثل هذا الفرض لما كانت الإرادة الفعلية متحققة
يجب على المكلف والمأمور عند علمه بإرادة المولى وفعليتها المبادرة باتيان ما هو مطلوب
175

المولى من جهة استقلال العقل حينئذ بلزوم الاتيان والإطاعة وعدم جواز المخالفة بمحض
عدم ابراز المولى ارادته وعدم امره وبعثه نحو المراد، كما هو واضح. فتمام المقصود من هذا
الاطناب انما هو لزوم عدم الاعتناء بمثل هذا المانع وان وجوده كعدمه بنظر العقل فيما هو
همه من لزوم الإطاعة وحرمة المخالفة.
نعم ما كان منها أي من الموانع من قبيل الأول الذي كان مانع عن تأثير المصلحة في
أصل الإرادة خاصة أو فيها وفي ما هو من مباديها من الرجحان والمحبوبية، كما في مسألة
الضد المبتلى بالأهم ومسألة الاجتماع بناء على الامتناع وتغليب جانب النهى، حيث إنه
في الأول يؤثر المانع في عدم تعلق الإرادة بالهم وفى الثاني في عدم الرجحان و
المحبوبية الفعلية، ففيها لا مجال لوجوب الاتيان وحرمة المخالفة، من دون فرق بين ان
يكون المانع راجعا إلى المكلف والمأمور كما في المثال حيث كان المانع عن توجه الإرادة
الفعلية نحو الضدين هو عدم قدرة المأمور على الامتثال، أو كان المانع راجعا إلى المولى. كما
لولا حظ المولى في عدم إرادة الفعل الذي فيه صلاح مصلحة أهم كانت في نظره من مثل
مصلحة التسهيل على العباد على ما ينبئ عنه مثل قوله صلى الله عليه وآله (لولا أن أشق
على أمتي لامرتهم بالسواك) حيث إنه يستفاد منه ان المصلحة الكائنة في السواك مصلحة
ملزمة ولكنها لمزاحمتها لمصلحة التسهيل رخص الشارع في تركه وما أوجبه على المكلفين.
وعلى ذلك ربما يترتب أيضا مبنى انكار قاعدة الملازمة المدعاة بين حكم العقل و
الشرع، إذ على هذا البيان يتوجه على القاعدة المزبورة ان مجرد درك العقل حسن الشئ أو
قبحه لا يوجب كشف حكم شرعي على طبقه بالوجوب أو الحرمة من جهة احتمال
مزاحمة تلك المصلحة بمصلحة أخرى في نظر الشارع أهم ولو كانت هي مصلحة التسهيل
أوجبت تلك المصلحة الترخيص على خلاف ما يقتضيه مصلحة الفعل. وحينئذ فمع هذا
الاحتمال كيف يمكن كشف الحكم الشرعي من الوجوب أو الحرمة على طبق ما أدركه
العقل والحكم بوجوبه وحرمته، كما هو واضح. نعم في مقام العمل أمكن لنا دعوى
وجوبه عملا من جهة قاعدة المقتضى والمزاحم على ما تقرر في محله: بأن العقلاء
بعد احرازهم وجود المقتضى للشئ في مقام يجرون عملا على طبق ذلك المقتضى من دون
اعتنائهم باحتمال وجود المانع أو المزاحم في البين ولو في مورد لم يكن هناك أصل يقتضى
التعبد بعدمه كما هو واضح، فتدبر.
176

المبحث الثاني
فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه أيضا جهات من البحث.
الجهة الأولى: في بيان مدلول صيغة الامر
فنقول: انهم ذكروا لصيغة الامر معاني متعددة: منها الطلب. ومنها الترجي والتمني
كما في قول الشاعر:
الا يا أيها الليل الطويل الا انجلى * بصبح وما الاصباح منك بأمثل
ومنها التهديد كقوله سبحانه: اعملوا ما شئتم (1). ومنها الانذار ومنه قوله تعالى: قل تمتع
بكفرك قليلا (2)، وتمتعوا في داركم ثلاثة أيام (3). ومنها التسخير والإهانة والتسوية كقوله
سبحانه: كونوا قردة خاسئين (4)، وقوله تعالى: اخسئوا فيها ولا تكلمون (5)، وقوله عز من
قائل: فاصبروا أو لا تصبروا (6). ومنها غير ذلك من المعاني الاخر كالاستعانة والتكذيب و
المشورة والتعجب ونحوها مما هو مذكور في المطولات.
ولكن التحقيق خلافه وأنه لا يكون دلالة للصيغة بنفسها على شئ من المعاني
المزبورة ما عدا المعنى الأول وهو الطلب، بل ولا كانت الصيغة مستعملة في شئ منها
بوجه أصلا، بل ما هو مدلول الصيغة لا يكون الا معنى وحدانيا وهو الطلب الانشائي أو

(1) سورة فصلت، الآية 40.
(2) سورة الزمر، الآية 8.
(3) سورة هود، الآية 65.
(4) سورة الأعراف، الآية 166.
(5) سورة المؤمنون، الآية 108.
(6) سورة الطور، الآية 16.
177

النسبة الارسالية كما سنحققه وان استفادة تلك المعاني في الموارد المزبورة انما هي من جهة
القرائن الخارجية المقتضية لها لا من جهة ان الصيغة قد استعملت فيها، كما هو واضح. و
لقد أجاد في الكفاية وجاء بما فوق المراد في تحقيق وحدة المعنى وتفرده بلا مدخلية لتلك
المعاني فيما يستعمل فيه اللفظ، فان تلك على ما أفاده هو (قدس سره) من الدواعي من
حيث كون الداعي على الاستعمال تارة هو التهديد وأخرى الانذار وثالثة التمني ورابعة
التعجيز وخامسة غير ذلك، ومن البداهة ان ذلك غير الاستعمال فيها ولو مجازا، كما هو
واضح.
نعم انما الكلام حينئذ في كيفية دلالتها على الطلب وانها هل هي موضوعة للطلب
أي الانشائي الايقاعي منه كما عليه الكفاية؟ أو انها موضوعة للنسبة الارسالية الايقاعية و
ان دلالتها على الطلب انما هي من جهة الملازمة؟ كما سنبينها إن شاء الله.
ولكن الذي يقتضيه التحقيق هو الثاني، ووجهه يظهر مما تقدم في مبحث المشتق
من انحلال الوضع في المشتقات بأسرها من المصادر والافعال وأسماء الفاعلين والمفعولين
ونحوها إلى وضعين: وضع المادة ووضع الهيئة، إذ عليه نقول: بان صيغة اضرب مثلا لما
كانت مشتملة على مادة وهيئة خاصة فمادتها تدل حسب الوضع النوعي على نفس
الحدث واما هيئتها الخاصة فهي أيضا لا تدل الا على النسبة الارسالية والمحركية بين
المبدء والفاعل، لكن لا مفهوم هذه النسبة لأنه معنى اسمي، بل مصداقه وصورة ذلك
الربط الخاص الحاصل من تحريك المأمور نحو العمل على طبق الارسال الخارجي، وحينئذ
فلا يكون المستعمل فيه في الصيغة الا النسبة الارسالية لا مفهوم الطلب كما عليه الكفاية
(قدس سره) وعليه فلابد وأن يكون دلالتها على الطلب من جهة الملازمة خاصة
الناشي هذا التلازم من جهة كون المتكلم في مقام الجد بالارسال، إذ حينئذ ينتقل الذهن
من تلك النسبة الارسالية إلى مفهوم الطلب بانتقال تصوري، ففي الحقيقة منشأ هذا التلازم
انما هو التلازم الخارجي بين منشئيهما وهما البعث والارسال الخارجي والإرادة الخارجية
وعدم انفكاك أحد الامرين عن الآخر، وحينئذ فحيث ان اللفظ كان وجها للمفهوم و
كان المفهوم وجها لمنشأه وكان بين المنشأين وهما البعث والارسال الخارجي والإرادة
الحقيقية ملازمة في مرحلة الخارج فينتقل الذهن عند تصور أحد المفهومين من جهة كونه
وجها لمنشئه إلى مفهوم الآخر كذلك (يعني من حيث كونه أيضا وجها لمنشئه) بانتقال
178

تصوري ولو لم يكن للمنشأ وجود في الخارج أصلا بل كان المنشأ مما يقطع بعدم وجوده
خارجا، نعم في مقام التصديق لابد من احراز كون المتكلم في مقام الجد بالارسال ولو
بالأصل ليحرز به وجود الإرادة وتحققها فيصدق عليه الطلب والامر حقيقة. فعلى ذلك
فدلالة الصيغة على الطلب انما هي باعتبار كونه من لوازم ما هو المدلول لا انها من جهة
كونه بنفسه هو المدلول للصيغة، وبين الامرين بون بعيد.
نعم جعل الطلب مدلولا بنفسه للصيغة يتم على مسلك الكفاية (قدس سره) في
المعاني الحرفية من وحدة المعنى والموضوع له في الحروف والأسماء وجعل الفارق بينهما
بلحاظ الآلية والاستقلالية، والا فبناء على تغاير المعنى والموضوع له فيهما كما سلكناه
بجعل معاني الحروف والهيئات النسب والإضافات الخاصة المتقومة بالطرفين لا محيص
من دعوى ان المدلول في الصيغة هو النسبة الارسالية الايقاعية، وعليه فكان دلالتها على
الطلب باعتبار كونه من لوازم المدلول كما شرحناه لا من جهة كونه هو المدلول لها كما لا
يخفى. نعم في مقام التصديق كما ذكرناه يحتاج في صدق الامر الحقيقي إلى احراز كون
المتكلم في مقام الجد بالارسال ولو بالأصل: وهو أصالة كون المتكلم في مقام الجد
بالارسال وكون الداعي عليه هو الإرادة الحقيقة للفعل دون غيرها من الدواعي، كما هو
واضح.
الجهة الثانية
انه بعد الفراغ عن دلالة الصيغة على الطلب إما بدوا أو بالملازمة، فهل هي حقيقة في
خصوص الطلب الإلزامي؟ أو انها حقيقة في مطلق الجامع بين الإلزامي و
الاستحبابي؟ أو انها حقيقة في خصوص الطلب الاستحبابي ومجاز في غيره؟ فيه وجوه:
أضعفها الأخير. فيدور الامر حينئذ بين كونها حقيقة في مطلق الطلب أو في خصوص
الطلب الإلزامي. وقد استدل على كونها حقيقة في الطلب الوجوبي بما تقدم سابقا في مادة
الامر من نحو آيتي الحذر والنبوي المعروف من قوله صلى الله عليه وآله لولا أن أشق على
أمتي لامرتهم بالسواك ونحو هما. ولكن الجواب عنها هو الجواب هناك فلا نعيده. نعم
ظهورها في خصوص الوجوب عند اطلاقها لا ينكر ظاهرا حيث لا تأمل لاحد من
179

الأصحاب في حملها على الوجوب عند اطلاقها وحينئذ فبعد ثبوت هذا الظهور للصيغة و
تسلمه عندهم لا يهمنا البحث عن منشئه وانه هو الوضع أو قضية الاطلاق بأحد
التقريبين المتقدمين أو غيرهما من الغلبة وغيرها، إذ لا يترتب عليه فائدة مهمة بوجه
أصلا، وان لم يبعد دعوى استناد الظهور المزبور إلى قضية الاطلاق بما تقدم تقريبه سابقا
وذلك من جهة ان دعوى الاستناد إلى قضية الوضع بعيدة جدا خصوصا بعد ما يرى من
صحة استعمالها في موارد الاستحباب بلا رعاية عناية تقتضيه.
واما التشبث بأصالة عدم القرينة لا ثبات الوضع في خصوص الوجوب فقد عرفت
الجواب عنها بأنها انما تكون حجة ومتبعة عند العقلاء في كشف المرادات لا في تعيين
الأوضاع، حيث إنه لا دليل لفظي على حجيتها حتى يؤخذ باطلاقها حتى في تعيين
الأوضاع.
لكن مع ذلك كله ربما يميل النفس إلى كونها حقيقة في خصوص الوجوب نظرا إلى ما
هو المتبادر منها مؤيدا ذلك بأصالة تشابه الأزمان المقتضي لكون وضعها لخصوص
الطلب الإلزامي، فتدبر.
الجهة الثالثة
إذا وردت جملة خبرية في مقام بيان الحكم الشرعي من نحو قوله: تغتسل، وتعيد
الصلاة، ويتوضأ، وقوله عليه السلام: إذا حال الحول اخرج زكاته، ونحو ذلك فلا
اشكال في أنه ليس المراد منها هو الاخبار عن وقوع الفعل من المكلف كما في غيره من
موارد الاخبار، بل وان المراد منها انما هو الطلب والبعث نحو الفعل والعمل، وانما
الكلام والاشكال في أنها هل كانت مستعملة في الطلب أو الارسال بما هو مفاد الصيغة
مجازا؟ أو انها مستعملة في معناها الذي تستعمل فيه في مقام الاخبار وهو النسبة
الايقاعية لكنه بداعي إفادة ملزومه وهو الطلب والبعث؟ نظير باب الكنايات كما في
قولك: زيد كثير الرماد، مريدا به إفادة ملزومة الذي هو جوده وسخائه، حيث إن استعمالك
ذلك كان في معناه الحقيقي لكن الداعي على هذا الاستعمال هو الاعلام بملزومه الذي
هو جوده وسخائه ففي المقام أيضا كانت الجملة الخبرية مستعملة في معناها الذي تستعمل
180

في مقام الاخبار ولكن الداعي على الاستعمال المزبور هو إفادة ملزومه الذي هو العبث و
الطلب، أو لا هذا ولا ذاك؟ بل كان استعمالها في معناها الحقيقي الاخباري وكان
الغرض والداعي من الاستعمال أيضا هو الاعلام والاخبار دون الطلب والبعث و
الارسال كما هو قضية الوجه الثاني، ولكن اعلامه بتحقق الفعل من المكلف انما كان
بلحاظ تحقق مقتضيه وعلته وهو الإرادة والطلب كما هو الشأن في غير المقام من موارد
الاخبار بوجود المقتضي (بالفتح) عند تحقق مقتضيه، ومنها باب اخبار علماء النجوم بمجئ
المطرو برودة الهواء أو حرارته فيما بعد حسب ما عندهم من الامارات الخاصة من نحو
تقابل الكوكبين وتقارنهما الذي يرونه سببا لتلك الانقلابات. ففي المقام أيضا نقول: بان
المولى لما كان مريدا للفعل من المكلف والمأمور وكان طلبه وارادته للفعل علة لصدوره
من المكلف ولو بمعونة حكم عقله بوجوب الإطاعة والامتثال، فلا جرم فيما يرى طلبه
متحققا يرى كأنه وجود المقتضي (بالفتح) وهو العمل في الخارج، فمن هذه الجهة يخبر
بوقوعه من المكلف بمثل قوله: تعيد الصلاة وتغتسل. فهذه وجوه ثلاثة:
لكن أضعفها أولها من جهة بعد انسلاخها عن معناها الاخباري واستعمالها في
الطلب والنسبة الارسالية بل وعدم مساعدته أيضا لما يقتضيه الطبع والوجدان في
استعمالاتنا الجمل الاخبارية في مقام الطلب والبعث والارسال، كما هو واضح.
وحينئذ فيدور الامر بعد بطلان الوجه الأول بين الوجهين الأخيرين.
وعند ذلك نقول: انه وان كان لكل منهما وجه وجيه ولكن الأوجه هو الوجه الأخير
بملاحظة أقر بيته إلى الاعتبار والوجدان وشيوعه أيضا عند العرف والعقلاء من ترتيبهم
الآثار على الأشياء التي منها الاخبار بوقوعها بمحض العلم بوجود عللها ومقتضياتها، كما
كان من ذلك أيضا اخبار أهل النجوم بتحقق أمورات فيما بعد لعلمهم بتحقق عللها، كما هو
واضح. وعلى هذا البيان أيضا ربما كان دلالتها على الوجوب آكد من الصيغة نظرا إلى
اقتضاء الاخبار بوجود الشئ وتحققه وجوبه أيضا، بلحاظ ان الشئ ما لم يجب لم يوجد.
فمن هذه الجهة كان الوجوب هو المناسب مع الاخبار دون الاستحباب فإنه لم يكن بتلك
المثابة من المناسبة مع الاخبار، وهذا بخلافه في الصيغة فإنها ليست بتلك المثابة من
الآكدية في الوجوب من جهة ملائمتها مع الاستحباب أيضا.
نعم ربما يورد على هذا الوجه بعدم مصححية مجرد وجود الإرادة وتحققها للاخبار
181

بوجود الفعل من المأمور والمكلف، وذلك بتقريب ان الإرادة الواقعية لا تكون مما لها
الدخل ولو بنحو الاقتضاء لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال كي بهذه العناية
كانت مصححة للاخبار بوجود العمل والمقتضي وتحققه من المكلف، بل وانما تمام
العلة لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال انما هو علم المأمور بالإرادة حيث إنه
بمحض علمه بإرادة المولى يتبعه حكم العقل بالإطاعة ولو لم يكن في الواقع إرادة للمولى
أصلا بان فرض تخلف علمه عن الواقع وكونه جهلا مركبا، وبدون علمه بإرادة المولى لا
يكاد حكم عقله بالإطاعة بوجه أصلا ولو فرض ان إرادة المولى كانت متحققة في الواقع و
نفس الامر. وعلى هذا فإذا كان تمام العلة لحكم العقل بالإطاعة هو الإرادة بوجودها
العلمي لا الواقعي يتوجه عليه: بأنه حين الاخبار حيثما لا يكون للمكلف علم بالإرادة كما
هو المفروض فأين المصحح لاخباره بعد فرض عدم مدخلية للإرادة الواقعية ولو بنحو
الاقتضاء في حكم العقل بالإطاعة؟ هكذا أورد عليه الأستاذ.
ولكن نقول: بان إرادة الفعل من المكلف واقعا لما كانت سببا لاعلام المكلف و
المأمور به، وكان الاعلام سببا لحكم عقله بالإطاعة، وحكم عقله بالإطاعة سببا لتحقق
العمل منه في الخارج، فقهرا بهذه السلسلة الطولية تكون الإرادة سببا ومقتضيا لوجود
العمل وتحققه، ومعه نقول بأنه يكفي هذا المقدار من الدخل في مصححية الاخبار، كما هو
واضح.
وعلى كل حال ففي المقام وجه رابع لاستفادة الطلب من الجمل الخبرية ولعله أوجه
من الوجوه المتقدمة، وهو ان يقال: بان استفادة الطلب من مثل هذه الجمل الواردة في مقام
بيان الحكم الشرعي انما هو من جهة كونه من لوازم قضية الجد بايقاع النسبة التي هي
مدلول الجمل، وذلك أيضا بمقتضى التلازم الثابت بين الايقاع الخارجي والإرادة،
بتقريب: انه كما أن اخراج المبدء من كمون الفاعل خارجا وايقاع النسبة بينه وبين
الفاعل في الخارج ملازم مع إرادة الوجود ولا يمكن انفكاكه عنها كذلك هذه النسبة
الايقاعية الذهنية، فإذا كان المتكلم في مقام الجد بهذا الايقاع فقضية جده بذلك تقتضي
ملازمته مع إرادة الوجود من المكلف، فعليه فكان ما هو المستعمل فيه في تلك الجمل هو
النسبة الايقاعية التي تستعمل فيها في مقام الاخبار الا انه لم يقصد بايقاع تلك النسبة
الايقاعية في مقام استعمال الجملة الحكاية عن الواقع الثابت كما في سائر الجمل
182

الاخبارية، نعم لازمه هو عدم انفكاك قضية الجد بايقاع النسبة أيضا عن قصد الانشاء
بعد عدم قصد الحكاية بها عن واقع ثابت، كما لا يخفى. ولقد مر منا توضيح هذه الجهة في
مبحث الحروف عند الفرق بين الجمل الاخبارية والانشائية فراجع.
الجهة الرابعة
هل اطلاق الصيغة يقتضي التوصلية بمعنى كفاية مجرد وجود الواجب كيفما اتفق في
سقوط الغرض الداعي على الامر به؟ أم يقتضى التعبدية بمعنى عدم كفاية مجرد وجوده في
سقوط الغرض الداعي على الامر به الا إذا اتى عن داع قربى؟ وعلى فرض عدم اقتضائه
لشئ من الامرين فهل الأصل العملي يقتضي التعبدية بمعنى عدم سقوط الامر به
الا باتيانه عن داع قربى أم لا؟ فهنا مقامان:
المقام الأول: فيما يقتضيه الاطلاقات والأصول اللفظية، وتوضيح المرام في هذا المقام
يقتضي رسم أمور:
الأول: فنقول: انه قد ظهر من عنوان البحث معنى الواجب التعبدي والتوصلي وان
الواجب التعبدي هو الذي لا يكاد حصول الغرض الداعي على الامر به الا باتيانه على
وجه قربى، والواجب التوصلي بخلافه وهو الذي يحصل الغرض الداعي على الامر به
بمجرد وجوده وتحققه كيفما اتفق ولولا يكون الاتيان به عن داع قربى بل ولو كان حصوله
من غير إرادة المكلف واختياره، كما في مثل غسل الثوب من الخبث حيث إنه بمحض
تحققه يحصل الغرض الداعي على الامر به ويسقط الامر به أيضا ولو كان ذلك بمثل اطارة
الريح إياه في الماء. نعم في مقام ترتب المثوبة ولو في التوصليات لابد من إتيان العمل عن
داعي أمره سبحانه، بلحاظ ان المثوبة انما كان ترتبها على عنوان الإطاعة وهذا العنوان
مما لا يكاد تحققه الا إذا كان الاتيان بالواجب بداعي أمر المولى، لكن مجرد ذلك
لا يقتضي تعبديته، حيث إن المدار في التعبدية والتوصلية على امر آخر قد ذكرناه.
ثم إن ما ذكرناه من التعريف للتعبدي والتوصلي هو أجود التعاريف وأحسنها، لا
ما قيل في تعريفهما: بان الواجب التعبدي هو مالا يعلم انحصار المصلحة فيه في شئ
والتوصلي بخلافه، وذلك لما يرد على هذا التعريف بما يرى كثيرا من التوصليات التي
183

لا يعلم انحصار الغرض والمصلحة فيها في شئ، على أن التعبدي بهذا المعنى غير مجد فيما
هو المهم في مثل المقام، حيث إن المهم والمقصود من التعبدي في المقام هو الذي لا يحصل
الغرض الداعي على الامر به ولا يسقط امره الا باتيانه على وجه قربى، ويقابله التوصلي
الذي يحصل الغرض ويسقط الامر بمجرد وجوده كيفما اتفق، كما هو واضح.
الامر الثاني: لا يخفى عليك ان المهم في المقام على ما ستعرف من امكان اخذ القربة
قيدا للمأمور به أو عدم امكانه انما هو مجرد اثبات امكان التمسك بالاطلاقات، لا فعلية
التمسك به كي يستلزم ذلك تسليم ورود الاطلاقات في مقام البيان فينافي ذلك مع ما
ذكرناه سابقا في مسألة الصحيح والأعم من نفى الثمرة بين القولين من جهة عدم صحة
التمسك بالاطلاقات نظرا إلى المنع عن ورود تلك المطلقات في مقام البيان بل في مقام
أصل تشريع المركب، ففي الحقيقة الجهة المبحوث عنها في المقام من صحة التمسك
بالمطلقات انما كانت مبنية بفرض ثبوت ورود المطلقات في مقام البيان، فتدبر.
الامر الثالث: وهو العمدة في الباب ان عبادية الشئ وما به قوام كون الشئ
عبادة عبارة عن كون الشئ من وظائف العبودية ومما يتقرب به إلى المولى، ومرجعه إلى
كون الشئ بنحو يظهر العبد والمأمور به خضوعه وعبوديته لمولاه. وحينئذ نقول: بان
مثل هذا المعنى تارة يكون جعليا وأخرى ذاتيا، ومن قبيل الأول الأمور الموضوعة ابزارا
للعبودية ومنها بعض الحركات المجعولة عند العقلاء لان تكون آلات للتعظيم وللخضوع
والعبودية كالركوع والسجود وتقبيل اليد والرجل وكرفع القلنسوة من الرأس عند بعض
الطوائف ورفع اليد إلى الاذن عند طائفة أخرى والقيام بنحو الاستقامة وتحريك اليد
عند طائفة ثالثة، وهكذا غير ذلك من الأمور المجعولة عند العرف والعقلاء آلات للتعظيم
وللخضوع والعبودية، ومن المعلوم انه يكفي في عبادية مثل هذه الأمور وكونها آلات
للعبودية مجرد اتيانها بقصد كونها خضوعا وتعظيما، أو قصد عنوان آخر بجعل ذلك العنوان
تعظيما وخضوعا، نظير الصلاة مثلا، حيث إنه بمجرد اتيانها بقصد الخضوع والتعظيم يعد
كونها تعظيما، كما في القيام للغير بقصد التعظيم، أو السجود له بقصد التذلل والخضوع،
كما أنه يكفي أيضا في مقربية مثل هذه الأمور مجرد اتيانها للمولى وتخصيصها له بلام
الصلة بجعل خضوعه له دون غيره، من دون احتياج في مقربيتها إلى توجه الامر بها ولا إلى
اتيانها بداعي أمرها وجعل الله سبحانه غاية عمله، من جهة ان فيها حينئذ اقتضاء المقربية
184

بنفس اتيانها لمولاه من دون اعتبار قصد كونها بداعي امره، كما هو واضح. نعم يحتاج في
مقربية هذه الأمور فعلا ان لا يكون مخلا بغرض المولى من جهة أخرى ومبغوضا فعليا
للمولى والا فلا يكاد يصلح مثلها للمقربية بوجه أصلا وان لم تخرج بعد أيضا من جهة
عباديتها، إذ كان مثل هذه الأمور يجتمع حيث عباديتها مع مبغوضيتها عند المولى، ومن ذلك أيضا
نقول بامكان حرمة العبادة ذاتا من غير أن تكون جهة حرمتها ومبغوضيتها منافية مع
عباديتها وان كانت مانعة عن مقربيتها باعتبار انه لابد في مقربيتها ان لا تكون مبغوضة
للمولى. نعم كما عرفت لا يحتاج جهة مقربيتها إلى توجه الامر بها من المولى، من جهة ان
مقربية مثل هذه الأعمال كانت مستندة إلى اقتضاء ذاتها بحيث لولا منع المولى ونهيه عن
ايجادها لكانت من جهة كونها خضوعا للمولى مقربة للعبد وان لم يأمر المولى باتيانها، كما
هو واضح.
ثم إن في قبال هذه الوظائف الجعلية للعبودية وظائف أخرى ذاتية غير جعلية وهي
مطلق ما امر به بداعي امره فان كون مثل هذه الأعمال من وظائف العبودية انما هو ذاتي
لا جعلي كما في القسم الأول وكان مقربيتها أيضا ذاتية غير قابلة للمبعدية ولا المبغوضية
بوجه أصلا، لأنه من المستحيل حينئذ توجه النهى إلى مثل هذا العنوان الذي اخذ في
حقيقته تعلق الامر بذاته وحينئذ فلا يمكن انفكاك عباديتها عن جهة مقربيتها. بخلاف
الوظائف الجعلية، فان انفكاك جهة المقربية عن جهة العبادية فيها بمكان من الامكان،
ولذلك قلنا بامكان الالتزام بحرمة العبادة ذاتا كما في صلاة الحائض بلا احتياج إلى
ارجاع النهى الوارد فيها إلى حيث التشريع.
ثم انه من الجهات الفارقة بين هاتين الوظيفتين هو انه في الوظائف الجعلية يكفي في
مقربيتها مجرد اتيانها لله بلام الصلة، واما في الوظائف الغير الجعلية فلا يكفي هذا المقدار في
مقربيتها بل لابد في مقربيتها من اتيانها بداعي أمرها وجعل الله سبحانه غاية عمله
الراجع إلى كون عمله راجحا ومحبوبا عند المولى، وحينئذ فكم فرق بين هذين النحوين
من القرب! من حيث كفاية مجرد الاتيان بالعمل بلام الصلة للمولى في أحدهما وعدم
كفايته في الآخر ولزوم الاتيان به بداعي امره.
ومن الجهات الفارقة أيضا بينهما انه على الأول يختص بخصوص بعض الأعمال
المجعولة آلات للخضوع وللعبودية ولا يجري في جميع الأعمال، بخلافه على الثاني، فإنه عليه
185

لا اختصاص له بعمل دون عمل بل يجري في جميع الأعمال التي أمر المولى بها، فكل عمل
أو فعل أمر المولى به إذا اتى به بداعي أمره كان مقربا ولو كان من الافعال العادية من
نحو الأكل والشرب وغيرها ويحكم العقل أيضا باستحقاق المثوبة عليه كما هو واضح.
ومن الجهات الفارقة بين الخضوعين أيضا تصحيح باب النيابة في العبادات بمثل
الخضوعات الجعلية نظرا إلى كونها قابلة للنيابة والتسبيب فإنه حينئذ بنفس نسبتها إلى
الغير يقع الخضوع لذلك الغير لا له ويكون الغير هو المتقرب بهذا العمل كما هو المشاهد
بالوجدان في الخضوعات الجعلية العرفية من تقبيل اليد ونحوه فيما إذا أمر الغير بتقبيل يد
زيد عن قبله أو بخضوعه عنه بنحو آخر، فإنه لا شبهة حينئذ في أنه إذا خضع المأمور لزيد
أو قبل يده عن قبل الآمر يقع خضوعه ذلك لذلك الغير الذي امره به لا لنفسه وكان ذلك
الغير أيضا هو المتقرب بعمله، بل ربما لا يحتاج إلى الامر أيضا فيتقرب بعمل غيره عنه
بمحض رضائه بذلك وان لم يكن بتسبيب منه كما لو خضع أحد لزيد وقبل يده عن قبل
الغير فإنه بمحض رضاء ذلك الغير بهذا الخضوع عن قبله يقع ذلك خضوعا له لا للفاعل
فكان الفاعل بمنزلة الآلة لايجاد ما هو خضوع الغير من دون استناد لهذا الخضوع إلى
شخص الفاعل بوجه أصلا.
وحينئذ نقول: بأنه إذا كان ذلك حال الخضوعات العرفية، فليكن كذلك في
العبادات أيضا، فكان النائب إذا اتى بما هو آلة الخضوع ولو بجعل الشارع كالصلاة و
الصوم والحج والزيارة والطواف بالبيت لوجهه سبحانه عن بقل الغير يقع هذه
الخضوعات حقيقة لذلك الغير وكان هو المتقرب بعمل النائب لكن مع تسبيبه إياه في
ايجاد تلك الخضوعات عن قبله ولا أقل من رضائه بذلك، ففي الحقيقة مقربية هذه
الخضوعات للغير منوطة بأمرين: أحدهما خضوع الغير لله سبحانه عن قبله، وثانيهما
رضاء ذلك الغير وطيب خاطرة به بحيث لو كان مكرها فيه لما كان العمل عبادة له و
لما كان متقربا به، فإذا تحقق الأمران المزبوران يقع القرب لا محالة لذلك الغير، و
عليه فلا يرد اشكال في باب النيابة في العبادات. وهذا بخلافه في العبادة بداعي الامر
إذ عليه كان امر تصحيح النيابة في العبادات في غاية الاشكال نظرا إلى استحالة
صدور مثل هذا المعنى عن النائب، إذ الامر المتعلق بالعبادة على الفرض انما هو
متوجه إلى المنوب عنه دون النائب، ومعه كيف يمكن صدورها عن النائب بداعي
186

أمرها؟ وهل يصلح الامر للداعوية بالنسبة إلى غير من يتوجه إليه؟.
لا يقال: هذا كذلك لولا دليل التنزيل والا فبملاحظة دليل التنزيل لا اشكال
في البين لأنه بتنزيل نفسه منزلة المنوب عنه يتوجه امره إليه من جهة صيرورته هو إياه
بهذا لاعتبار، وحينئذ فيأتي بالعبادة بدعوة هذا الامر المتوجه إليه ويكون عمله مقربا
للمنوب عنه.
فإنه يقال: كلا، وان مجرد التنزيل لا يوجب توجه امره إليه حقيقة وان نزل نفسه
منزلته الف مرة بل وانما غايته هو توجه مماثل الامر المتوجه إلى المنوب عنه إليه، و
في مثل ذلك نقول: بان اتيانه بداعي هذا الامر لا محالة لو اثر لكان مؤثرا في مقربية
نفس النائب دون المنوب عنه، لأنه في الحقيقة يكون هو المكلف بالعبادة، وفي مثله
يستحيل مقربية عمله للمنوب عنه حقيقة، كما هو واضح. وتنقيح المرام بأزيد من ذلك
موكول إلى محله، والمقصود في المقام انما هو بيان الجهات الفارقة بين نحوي العبادة
من الخضوعات الجعلية والخضوعات الغير الجعلية والإشارة إلى امكان تصحيح النيابة
في العبادة في الأمور المجعولة لان تكون آلات للخضوع دونه في الخضوعات الغير
الجعلية وهي العبادة بداعي الامر.
ثم هنا شئ، وهو ان العبادات الشرعية يحتاج في كفاية مجرد الاتيان بها لله بلام
الصلة لا الغاية إلى احراز كونها من قبيل القسم الأول، والا فمع الشك فيها في أنها من
قبيل القسم الأول الذي فيه اقتضاء المقربية بنفس اتيانها لمولاه من دون قصد كونها
بداعي أمره أو من قبيل القسم الثاني الذي قوام عباديته بتعلق الامر بذاته، يشكل جواز
الاكتفاء بها باتيانها لمولاه من دون قصد كونها بداعي أمر مولاه، نعم غاية ما هناك
حينئذ في احراز كونها من قبيل الأول انما هو التشبث بمثل أدلة النيابة في موارد ثبوت
مشروعيتها في أبواب العبادات وذلك بالكشف منها بنحو الان عن كونها من الوظائف
المجعولة ولو بجعل الشارع آلات الخضوع والعبودية، فتأمل.
ثم إن هنا جهات أخر من القرب أيضا، وهو الاتيان بالعمل بداعي حسنه ورجحانه
الذاتي الذي هو ملاك الامر به، فان الظاهر كما سيأتي في مبحث الضد هو كفاية مجرد
الاتيان بالعبادة بداعي رجحانها الذاتي ومحبوبيتها في تحقق القرب المعتبر في صحتها بلا
احتياج إلى الامر الفعلي بها.
187

وبعد ما عرفت ذلك نقول: انه لا اشكال في جواز اخذ القرب بغير معنى دعوة الامر
في المأمور به وهو القرب بمعنى الاتيان بما هو آلة الخضوع لله سبحانه بلام الصلة أو القرب
بمعنى الاتيان بالعمل بداعي ملاكه ورجحانه الذاتي، إذ لا بأس بأمر الشارع بالصلاة
القربية الناشئ قربها من جهة دعوة الملاك أو الحسن أو من جهة اتيانها لوجهه الاعلى. و
انما الكلام والاشكال في امكان اخذ القرب الناشئ عن دعوة الامر في المأمور به بنحو
القيدية أو الجزئية. ومن التعرض في جواز اخذ مثل القرب الناشي عن داعي الامر في
المأمور به وعدم جوازه يظهر أيضا حال اخذ الجامع بين هذا القرب والقرب الناشي عن
اتيان العمل لوجهه الاعلى أو القرب الناشي من دعوة الملاك والمصلحة، من حيث جواز
اخذه بنحو الشرطية أو الشطرية في المأمور به وفي متعلق الامر، لأنه إذا لا يجوز اخذ القرب
الناشئ من دعوة الامر في المأمور به لا يجوز اخذ جامع القرب الناشي من دعوة الامر
ومن دعوة الرجحان والمصلحة، كما هو واضح.
وبعد ذلك نقول: بان التحقيق كما عليه أهله هو عدم جواز اخذ القرب الناشي من
دعوة الامر في المأمور به بنحو الشرطية أو الشطرية وامتناعه. ووجه الامتناع ظاهر، لان
القرب الناشئ من دعوة هذا الامر انما هو معلول شخص هذا الامر ومترتب عليه، ولازمه
هو كونه في رتبة متأخرة عن الامر، بحيث يصح ان يقال في شخص هذا اللحاظ ويحكم
عليه: بأنه عقيب الامر ومترتب عليه ترتب المعلول على علته، وحينئذ فمع كونه مرئيا
في هذا اللحاظ عقيب الامر وفي رتبة متأخرة عنه فكيف يمكن ان يؤخذ مثله في موضوع
هذا الامر في هذا اللحاظ وفي رتبة متقدمة عليه؟ وهل هو الا من المستحيل؟.
ولا مجال أيضا لتنظير المقام بمثل معلوم الخمرية أو البولية المأخوذة جهة المعلومية أيضا
جزء للموضوع مع معلومية تأخر العلم عن الذات نحو تأخر الحكم عن موضوعه فيقال بأنه
حيث يجوز ذلك بلا اشكال يجوز أيضا في المقام بلا كلام. وذلك لما هو المعلوم من وضوح
الفرق بين البابين، من جهة ان اخذ العلم جزء للموضوع انما هو بلحاظ امر آخر وهو حكم
وجوب الاجتناب أو حرمة الارتكاب، وأين ذلك والمقام المفروض فيه اخذ الدعوة
الناشئة عن قبل الامر في موضوع شخص هذا الامر! فان ذلك هو الذي قلنا بامتناعه
واستحالته.
واما ما يتوهم من امكان تصحيح ذلك بنحو اخذ الطبيعي في متعلقة القابل
188

للانطباق عليه خارجا من تقريب انه يمكن للمولى ان يتصور مثلا الصلاة المقيدة بطبيعة
الدعوة كما أنه يمكن له أيضا ان يأمر بما تصوره من الصلاة المقيدة بطبيعة الامر، وحينئذ
فإذا أمر بما هو متصورة يتحقق مصداق الامر خارجا فينطبق عليه الطبيعي المزبور لأنه من
افراده ومصاديقه، وحينئذ فلا يرد محذور في البين لامن طرف المأمور ولا من طرف
الآمر، اما عدم محذور فيه من طرف المأمور فواضح من جهة تمكنه حينئذ بعد الامر من
الاتيان بالمأمور بداعي شخص الامر المتعلق به، واما من طرف الآمر فكذلك لما ذكرنا
من امكان لحاظه الصلاة المتقيدة بطبيعة القرب والدعوة وامكان الامر أيضا بما تصوره
من الموضوع المقيد، واما شبهة محذور كون الشئ في رتبتين فيدفعه أيضا اختلاف الظرفين
والوجودين، فان ما هو معلول الامر ومترتب عليه انما هي الدعوة بحسب الوجود الخارجي
وما هو مأخوذ في متعلق الامر وفي رتبة سابقة بنحو الجزئية أو القيدية انما هي الدعوة
بوجودها ذهنا ولحاظا، وحينئذ فمع اختلاف الوجودين يرتفع المحذور المزبور أيضا.
فمدفوع بما عرفت فان الدعوة الناشئة عن شخص هذا الامر بعد أن كانت مرئية
بحقيقتها في هذا اللحاظ في رتبة متأخرة عن شخص هذا الامر المتعلق بالمقيد، فلا جرم يرى
كونها في هذا اللحاظ خارجة عن دائرة الطبيعي المزبور المأخوذ في رتبة سابقة عن الامر
المزبور، ومع خروجها عن دائرة الطبيعي في هذا اللحاظ يستحيل شمول الطبيعي لهذا
المصداق وانطباقه عليه خارجا، إذ ذلك حينئذ بمنزلة ما لو قيد الامر وحدد دائرة الطبيعي
بحد خاص غير شامل لمثل هذا الفرد الناشي عن الامر به، كما في قوله: يجب الصلاة المتقيدة
بدعوة طبيعة الامر غير الدعوة الناشئة عن شخص هذا الوجوب، فكما انه بالتحديد المزبور
تضيق دائرة الطبيعي بحد لا يعقل شموله لمثل هذا الفرد وانطباقه عليه خارجا كذلك
أيضا بتحديد العقل إياه ولو من جهة اقتضاء اختلاف الرتبة المزبورة، فان قضية ذلك أيضا
توجب ضيقا قهريا في دائرة الطبيعي المزبور على وجه يستحيل شموله لمثل هذا الفرد و
انطباقه عليه خارجا. ولعل عمدة المنشأ لتوهم الجواز في المقام انما هو بلحاظ مقايسة المقام
بباب الاغراض والغايات الداعية على الأعمال من حيث كونها متقدمة على الإرادة
لحاظا وتصورا ومترتبة عليها خارجا، ولكن الغفلة عن وضوح الفرق بين المقامين، فإنه في
باب الاغراض والغايات انما يكون ترتبها على موضوع الإرادة لا على نفسها، كما هو
الحال بالنسبة إلى المقدمة وذيها من حيث ترتبه على المقدمة خارجا وترشح الإرادة من
189

تعلقها به إلى المقدمة. وهذا بخلاف المقام المفروض فيه ترتب الدعوة ولو بحسب هذا
اللحاظ على شخص الامر، وهذا هو الذي قلنا باستحالة اخذ مثله قيدا في موضوع
شخص الامر المزبور بلحاظ اقتضاء الامر بالمقيد لان يكون الامر بحقيقته قائما بالمقيد بنحو
يكون المقيد بقيده في رتبة سابقة عن الامر المزبور، فإنه في مثله يستحيل شمول القيد
المزبور ولو بلحاظه بنحو الطبيعي لمثل هذا الفرد الناشي عن قبل الامر المزبور، كما هو
واضح. وعلى ذلك نقول: بأنه إذا لم يشمل الطبيعي المزبور لمثل هذا الفرد يتوجه عليه
محذور عدم قدرة المأمور على الامتثال نظرا إلى أنه لا امر آخر في البين كي يتمكن المأمور
من الاتيان بالمأمور به بدعوة الامر، واما شخص دعوة هذا الامر المتعلق به فهو على الفرض
غير قابل لانطباق الطبيعي المزبور عليه. وعليه فلا محيص بناء على اخذ الدعوة في المأمور
به في تصحيحه من الالتزام بأمرين طوليين: يكون أحدهما متعلقا بذات المأمور به والآخر
في طول الامر الأول باتيانه بداعي أمره، والا ففي فرض وحدة الامر يستحيل اخذ دعوة
الامر في المأمور به بنحو القيدية أو الجزئية، كما هو واضح.
نعم لو اغمض عما ذكرناه من الاشكال لا يرد عليه محذور لزوم داعوية الامر إلى
شخص نفسه، كما قيل، بتقريب: ان المأمور به بعد أن كان عبارة عن الذات المتقيدة
بدعوة الامر فلا محالة الامر المتعلق بهذا المقيد كما يدعوا إلى ذات المقيد وهي الصلاة مثلا
كذلك يدعوا إلى قيد ها الذي هي دعوة شخص نفسه ومعه يلزم داعوية الامر إلى دعوة
شخصه وهو كما ترى من المستحيل. إذ نقول: بأنه يمكن دفع هذا المحذور من جهة انحلال
الامر إلى أمرين وتقطيعه في الذهن بقطعة فقطعة: متعلقة إحديهما بذات المقيد والأخرى
بقيد الدعوة، حيث نقول حينئذ: بان الامر الضمني المتعلق بالدعوة انما يكون داعيا إلى
دعوة تلك القطعة الأخرى من الامر الضمني المتعلق بذات المقيد لا إلى دعوة شخص نفسه
حتى يتوجه المحذور المزبور. نعم انما يرد هذا الاشكال بناء على عدم انحلال الامر بالمقيد
إلى أمرين ضمنيين والا فبناء على انحلاله ذهنا يكون حاله حال الامرين المستقلين، فكما
انه لا يرد هذا المحذور في صورة الالتزام بتعدد الامر فأمكن تعلق أحد الامرين بذات
المقيد والآخر بقيد الدعوة الراجع إلى داعويته لاتيان المقيد عن دعوة الامر المتعلق به بلا
كلام، كذلك بناء على الانحلال، لان لام انحلال الامر بالمقيد انما هو تعلق أمر ضمني
بذات المقيد وتعلق امر ضمني آخر إلى قيد الدعوة كما في صورة استقلال الامرين، فكان
190

الامر المتعلق بالدعوة داعيا إلى ايجاد ذات المقيد عن داعي الامر الضمني المتعلق به، و
معه لا يلزم محذور داعوية الامر إلى دعوة شخصه، كما هو واضح.
وحينئذ فإذا لم تكن الدعوة المأخوذة قيدا أو جزء كذات المقيد تعبدية محتاجة إلى
قصد الامتثال بل كانت توصلية صرفة فباتيان ذات الصلاة عن دعوة الامر الضمني
المتعلق بها يتحقق المقيد والمأمور به أيضا، فيرتفع به محذور عدم تمكن المكلف من
الامتثال أيضا كما ادعى من عدم قدرة المكلف على الاتيان بالذات المقيدة بالدعوة
بداعي الامر لان المقدور منه انما هو الاتيان بذات المقيد بداعي أمرها إذ نقول: بان مثل
هذا المحذور انما يرد إذا كان القيد وهو الدعوة كذات المقيد تعبديا محتاجا في سقوط
الامر عنه إلى قصد الامتثال، والا فبناء على كونه توصليا فلا جرم يكفي نحققه كيفما
اتفق، وفي مثله نقول: بان الاتيان بالذات المقيدة بالدعوة بمكان من المقدورية للمكلف
بلحاظ ان الآتي بذات المقيد بداعي أمرها كان آتيا بالدعوة أيضا نظرا إلى توصليتها و
تحققها بنفس الاتيان بذات المقيد بداعي أمرها. نعم غاية ما يلزم حينئذ انما هو كون
الامر المتعلق بالمقيد ببعض منه تعبديا وببعضه الآخر توصليا ولكن نقول: بأنه لا ضير في
الالتزام بمثله، فتأمل. وحينئذ فالعمدة في الاشكال عليه هو ما ذكرناه من عدم امكان
أخذ دعوة الامر قيدا في موضوع هذا الامر.
ثم إن ما ذكرناه من الاشكال جار في الإرادة أيضا حرفا بحرف، ففي لب الإرادة أيضا
لا يمكن اخذ دعوة الإرادة في موضوعها بنحو القيدية أو الجزئية، كما هو الحال بالنسبة إلى
مرحلة الرجحان والمصلحة أيضا حرفا بحرف.
ثم لا يخفى عليك انه على ما ذكرنا من عدم امكان اخذ الدعوة قيدا في المأمور به لا
يلزم منه تعلق الامر والإرادة بنفس ذات العمل مطلقا ولو منفردة عن الدعوة كما توهم
بخيال انه إذا لم يكن المأمور به هو المقيد فلا جرم يكون هو الذات المطلقة ولازمه هو
سقوط الامر بالاتيان بنفس ذات العمل الا انه في صورة انفرادها عن الدعوة لما كان
الغرض بعد على حاله يحدث امر آخر متعلقا بالعمل وهكذا إلى أن يؤتى بداعي امره
فيحصل الغرض ويسقط الامر، إذ نقول: بأنه بعد فرض عدم قيام الغرض والمصلحة في
العبادات بنفس الذات ولو مجردة عن الدعوة، بل قيامه بالذات مع الدعوة، فلا جرم في
مثله يستحيل أوسعية دائرة الإرادة والامر عن دائرة قيام الغرض والمصلحة، بل في مثله
191

بمقتضي تبعية الإرادة لقيام المصلحة يتضيق دائرة الإرادة والامر أيضا حسب تضيق
دائرة الغرض والمصلحة بنحو لا يكاد تعلقها الا بالذات التوئمة مع الدعوة، وعلى ذلك
فموضوع الإرادة والامر وان لم يكن مقيدا بالدعوة ولكنه لا يكون مطلقا أيضا بل هو انما
يكون عبارة عن حصة من ذات العمل تكون توأما وملازمة مع الدعوة، ومنشأ هذا
الضيق كما عرفت انما هو من جهة تضيق دائرة الغرض والمصلحة وعدم سعته للشمول
لحال خلو المتعلق عن الدعوة، حيث إنه لأجل تضيق دائرة الغرض يقع ضيق أيضا في
ناحية الإرادة والامر بنحو يقصر عن الشمول لحال خلو الذات عن الدعوة من دون ان
يكون ذلك الضيق منشأ لتقيد الموضوع، كما هو واضح. وحينئذ فاذن لا يكون موضوع
الامر والإرادة مطلقا، فلا جرم باتيان ذات العمل مجردة عن الدعوة لا يسقط أيضا أمره، إذ
سقوطه حينئذ انما هو باتيان العمل مقرونا بالدعوة فما دام عدم الاتيان به كذلك كان
الامر والإرادة على حاله، لا انه يسقط هذا الامر ومن جهة بقاء الغرض يحدث امر
جديد، كما هو واضح.
نعم هنا تقريب آخر لعدم اطلاق دائرة المأمور به، ولكنه يختص بخصوص الامر ولا
يتأتى بالنسبة إلى الإرادة ومباديها من الرجحان والمحبوبية، وبيان ذلك انما هو بدعوى ان
الغرض من الامر المولوي والبعث الذي هو ابراز للإرادة حيثما كان هو داعوية امره و
محركيته للمكلف نحو المطلوب بنحو يكون المحرك له على الاتيان هو دعوة امره دون غيرها
من الدواعي فلا جرم بمقتضي تضيق دائرة هذا الغرض يتضيق دائرة معلوله الذي هو
الامر أيضا فلا يكون له سعة اطلاق أزيد من دائرة الغرض، ولازمه قصوره عن الشمول
للعمل المأتى عن غير دعوة الامر، وحينئذ فمع قصور الامر قهرا يصير موضوعه أيضا عبارة عن
الحصة المقرونة بالدعوة، فلا يكون مطلقا ولا مقيدا بالدعوة أيضا.
بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك في التوصليات أيضا، حيث إنه بالتقريب المزبور
نثبت عدم انفكاك الامر فيها أيضا عن الدعوة كما في العبادات ونقول بعدم انطباق
عنوان الواجب والمأمور به على العمل المأتي به عن غير دعوة الامر، ولذا لا يستحق المثوبة
على الاتيان به عن مثل دعوة الشهوة ونحوها ولا يكاد يصدق عليه عنوان الإطاعة، و
مجرد حصول الغرض الأصلي وسقوط الامر بمجرد تحقق العمل في الخارج كيفما اتفق ولو
في فرض وجوده باختيار الناشي عن دعوة شهوته لا يقتضي تعلق امره بوجود المطلق و
192

لذا يسقط الامر ويحصل الغرض ولو في فرض وجوده لا باختيار المكلف، كما هو واضح.
نعم مثل هذا التقريب لا يجري بالنسبة إلى لب الإرادة وكذا مباديها من الشوق و
المحبة، ووجهه ظاهر من جهة ان الإرادة وكذا مباديها امر قهري ناش عن قيام الغرض و
المصلحة في المتعلق، فإذا كان الغرض والصلاح قائما بمطلق وجود العمل ولو فرض وجوده
لا باختيار المكلف وباختياره الناشي عن دعوة شهوته يتبعه الإرادة أيضا قهرا كما في
الواجبات التوصلية، فان الغرض والصلاح فيها لما كان قائما بمطلق وجود المتعلق كانت
الإرادة أيضا بتبعه قائمة بمطلق وجوده. وهذا بخلاف الامر فإنه لما كان فعلا اختياريا
لا يكون تابعا للغرض القائم بالمتعلق كالإرادة ومباديها، بل تبعيته انما كانت للغرض
المترتب على نفسه وهو الداعوية والمحركية، ومن هذه الجهة قلنا باستلزامه في مطلق
الواجبات حتى التوصليات، لتضيق دائرة المأمور به بالحصة المقرونة مع الداعي ولولا
مقيدا بها، كما عرفت.
وحينئذ فتمام الفرق بين العباديات والتوصليات بعد اشتراكهما في كون المأمور به
بالامر الفعلي هو الحصة الملازمة لداعوية الامر انما هو بالنسبة إلى مرحلة لب الإرادة و
مباديها، فان ما هو الوافي بالمصلحة في العبادات لما كان هو الحصة المقرونة مع الداعي لا
مطلقا كانت الإرادة وكذا مباديها أيضا غير متعدية عن تلك الحصة الوافية لا مطلقها،
بخلاف التوصليات فان الوافي بالمصلحة فيها كان مطلق وجود العمل فمن هذه الجهة
كانت الإرادة وكذا مباديها حسب تبعيتها للمصلحة أيضا متعلقة بمطلق وجوده، لكن
بالنسبة إلى مقام فعلية الإرادة ومرحلة الامر كانت العبادات والتوصليات مشتركين في
عدم تعلق الامر الا بالحصة الملازمة لداعوية الامر حسب ما بيناه من أن غرض الآمر من
الامر انما هو التوصل بأمره إلى وجود مرامه واقتضاء هذا الغرض قهرا التضيق في دائرة
متعلق الامر وتخصيصه بالحصة الناشئة عن قبل داعوية امره لا مطلقا ولو الناشي عن
شهوته، من جهة عدم كون ذلك مقصودا للامر في مقام امره، فتدبر.
فكيف كان فهذا كله بناء على وحدة الامر وشخصيته، ولقد عرفت في مثله لزوم
تجريد متعلق الأوامر كلية عن عنوان نشوه عن داعي الامر شخصيا أم طبيعيا، من جهة
امتناع اخذ ما هو ناش عن قبل الامر في متعلقه بنحو القيدية أو الجزئية.
واما بناء على تعدد الامر والإرادة فلا مانع من أخذ عنوان الدعوة شطرا أو شرطا في
193

المأمور به بأن يكون أحد الامرين متعلقا بذات العمل والامر الآخر في طول الامر الأول
باتيانها بداعي أمرها، حيث إنه لا يرد عليه حينئذ ما ذكرناه من الاشكال في صورة
وحدة الامر، فإذا يرى المولى بان الحصة من الذات الملازمة مع داعي الامر فيها الغرض و
المصلحة، يترشح نحوها الإرادة قهرا من قبله، ثم بعد ما يرى أن لداعويته أيضا دخلا في
الغرض يترشح إرادة أخرى في طول الإرادة الأولى نحو هذا الداعي، بل مثل هذا المعنى مما
لا محيص عن الالتزام به في فرض البناء على كون الدعوة قيدا حيث إنه لا يمكن
تصحيحه الا بالتزام بتعدد الإرادة في مقام اللب.
نعم هنا اشكال آخر بالنسبة إلى مقام الامر من جهة لغوية الامر الثاني، ببيان ان
الامر الأول اما ان يسقط بمجرد الاتيان بذات العبادة ولو مع عدم قصد امتثاله كما هو
قضية الامر الثاني من فرض توصليته واما ان لا يسقط بمجرد الموافقة والآتيان بذات
العبادة بدون قصد امتثاله، وعلى التقديرين لا مجال لا عمال المولوية في الامر الثاني، و
ذلك اما على الأول فواضح من جهة انه بعد سقوط الامر الأول لا يبقى مجال لموافقة الامر
الثاني نظرا إلى عدم امكان الاتيان بالدعوة حينئذ مستقلا لكونها من الكيفيات القائمة
بنفس العمل وحينئذ فيلزم من تعلق الامر بها لغوية الامر المزبور، واما على الثاني
فكذلك أيضا وذلك لان عدم سقوط امره حينئذ ليس الا من جهة عدم حصول غرضه
الداعي على الامر به، والا ففي ظرف سقوط غرضه يستحيل بقاء امره وعدم سقوطه. و
حينئذ نقول: بأنه إذا كان الوجه في عدم سقوط الامر الأول هو عدم سقوط غرضه فلا جرم
في مثله يستقل العقل في مقام حكمه بلزوم تحصيل الفراغ بلزوم الاتيان به عن قصد
الامتثال بنحو يحصل معه غرضه، ومع فرض استقلال العقل بذلك في مقام حكمه بالفراغ
لا حاجة للمولى إلى وسيلة تعدد الامر في الوصلة إلى تحصيل غرضه باعمال جهات
المولوية في امره، لان الامر المولوي انما يتعلق بشئ لا يكون في البين داع عقلي على
تحصيله والا فمع وجود داع عقلي في البين لا يبقى مجال لأعمال المولوية، كما هو واضح.
أقول: ولا يخفى عليك ما في هذا الاشكال، إذ نقول، بأنه لو تم هذا الاشكال فإنما هو
على مبنى مرجعية قاعدة الاشتغال في نحو هذه القيود عند الشك في اعتبارها، والا فبناء
على مبنى البراءة كما هو التحقيق على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى فلا موقع لهذا
الاشكال، وذلك لأنه في فرض استقلال العقل بمرجعية البراءة عند الشك لا محيص للمولى
194

من بيان مدخلية قصد الامتثال في غرضه على فرض دخله فيه واقعا، وبيانه انما هو بأمره به
مستقلا لكي لا يذهب المكلف ويستريح في بيته وينام متكلا على حكم عقله بالبرائة و
قبح العقاب بلا بيان، والا فمع عدم أمره بذلك لكان قد أخل بما هو مرامه وغرضه، ومن
المعلوم بداهة ان كمال المجال حينئذ لأعمال المولوية بأمره، إذ لا نعني من الامر المولوي
الا ما كان رافعا لموضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لقلب عدم البيان بالبيان، كما
هو الشأن أيضا في الامر الأول المتعلق بذات العبادة، فكما ان الامر الأول امر مولوي و
رافع لموضوع حكم العقل بالبرائة بلا كلام، كذلك الامر الثاني المتعلق بقصد الامتثال
فهو أيضا امر مولوي قد أعمل فيه جهة المولوية لرفع موضوع حكم العقل بالبرائة.
نعم بناء على مبنى مرجعية الاشتغال عند الشك في اعتبار هذه القيود ربما يتوجه
الاشكال المزبور، إذ يمكن أن يقال حينئذ بأنه بعد حكم العقل واستقلاله بالاشتغال
لا يلزم على المولى بيان دخل قصد الامتثال في تحقق غرضه، من جهة إمكان اتكاله حينئذ
على قضية حكم العقل بالاشتغال، ومعه لا يلزم من عدم بيانه اخلال منه بغرضه كي
يجب عليه البيان، هذا.
ولكن يمكن دفع الاشكال المزبور على هذا المسلك أيضا، إذ نقول حينئذ: بأنه على
هذا البيان وان لم يجب على المولى الامر المولوي بداعي الامر، من جهة جواز اتكاله على
حكم العقل بالاشتغال، الا انه لو أمر بها حينئذ لا يلزم منه اللغوية، كيف وان للمولى
حينئذ بيان كل ما له الدخل في تحقق غرضه بالامر به، ويكفي في فائدته ارتفاع موضوع
حكم العقل بالاشتغال، من جهة ان حكم العقل بالاشتغال كحكمه بالبرائة انما هو في
ظرف الشك بالواقع وبعد بيان المولى ما له المدخلية في تحقق غرضه واقعا يرتفع موضوع
حكم عقله بالاشتغال كارتفاع موضوع حكمه بالبرائة. نعم لو انحصر فائدة الامر المولوي
باحداث الداعي للمكلف نحو المطلوب لأمكن دعوى لغوية امره مولويا مع حكم العقل
الجزمي بالاحتياط ولكنه ليس كذلك، بل نقول: بان من الفوائد أيضا اعلام المكلف بما
له المدخلية في حصول غرضه واقعا لكي يرتفع به موضوع حكم عقله بالاحتياط كما هو
واضح. وحينئذ فعلى كل حال يكون الامر المتعلق بداعي الامر أمرا مولويا لا ارشاديا.
نعم انما يتوجه هذا المحذور في مورد علم من الخارج بعبادية المأمور به، فإنه في هذا الفرض
يصير أمره الثاني لغوا محضا، ولكن الشأن كله في حصول هذا العلم من الخارج خصوصا
195

في الصدر الأول وغفلتهم عن دخل مثل دعوة الامر في عبادية الشئ، فإنه في مثله يكون
طريق العلم بدخل داعي الامر هو أمر الشارع دون غيره، كما هو واضح، فعلى هذا فلا
بأس بدعوى تقيد المأمور به بداعي الامر بالالتزام بأمرين طوليين: أحدهما متعلق بذات
العبادة والاخر في طول الامر الأول باتيانها بداعي الامر المتعلق بها، كما هو واضح.
ثم إن لنا تقريبا آخر لتصحيح امكان تقيد المأمور به بالقرب الناشي عن دعوة الامر
ولو مع وحدة الانشاء والامر، لا مع تعددهما كي يرد عليه اشكال الكفاية أخيرا: بأنه من
المقطوع بأنه ليس في العبادات الا امر واحد، وبيانه انما هو بدعوى انه في مقام الامر
يكون ما هو المنشأ بهذا الانشاء الشخصي في قوله: صل أو يجب الصلاة، عبارة عن طبيعة
الوجوب والطلب بنحو قابل للسريان في ضمن فردين من الطلب: أحدهما متعلق بذات
العبادة والاخر في طول الامر الأول بعنوان داعي الامر، كما نظيره في مثل قوله عليه
السلام (إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة) فان من المعلوم بداهة ان المستعمل فيه في
قوله (وجب) ليس هو شخص الوجوب والطلب بل وانما هو عبارة عن طبيعة الوجوب
الساري في ضمن فردين من الوجوب متعلقين بموضوعين طوليين: أحدهما الوجوب النفسي
المتعلق بالصلاة والاخر الوجوب الغيري المقدمي المتعلق بالطهور.
ونظيره أيضا في مسألة حجية الاخبار مع الواسطة، حيث نقول فيها أيضا: بان الأثر
الذي هو مأخوذ في موضوع وجوب التصديق انما هو عبارة عن طبيعة الأثر بنحو قابل
للسريان في ضمن أفراد متعددة طولية لا انه عبارة عن شخص الأثر، كيف وانه على
هذا المعنى يبقى الاشكال المعروف في شمول دليل الحجية للاخبار مع الواسطة على حاله
إلى أبد الدهر إذ يقال حينئذ في تقريب ذلك الاشكال: بان شمول الحجية لمثل خبر زرارة
الذي ينقل عن محمد بن مسلم عن الصفار عن الإمام عليه السلام انما يكون في ظرف
يكون مؤداه الذي هو خبر ابن مسلم ذا اثر شرعي، لان معنى حجيته انما هو عبارة عن
وجوب ترتيب اثر المؤدى، وصيرورة مؤداه ذا اثر شرعي انما تكون في فرض شمول دليل
التعبد لخبر ابن مسلم، والا فمع عدم شمول دليل التعبد بالأثر لخبر ابن مسلم لا يصير
مؤدى خبر زرارة ذا اثر شرعي. وعليه فإذا كان الأثر المفروض عبارة عن نفس وجوب
التصديق مثلا وكان ذلك وجوبا واحدا شخصيا يتوجه الاشكال: بأنه كيف يمكن
شمول دليل وجوب التصديق لمثل خبر زرارة الذي منشأ صيرورته ذا اثر شرعي من قبل
196

شمول هذا الوجوب لخبر ابن مسلم؟ ومن المعلوم حينئذ انه لا يجدي في دفع الاشكال
حينئذ مجرد اعتبار الموضوع بنحو القضية الطبيعية، إذ نقول: بأنه بعد ما كان مثل هذا الفرد
من الموضوع مترتبا على هذا الأثر وفي رتبة متأخرة عنه فقهرا في هذا اللحاظ يرى ضيق في
دائرة الطبيعي المزبور بحد موجب لخروج هذا الفرد عنها بنحو يستحيل انطباقه عليه، ومن
ذلك تريهم ملجئين في التفصي عن هذا الاشكال بمصيرهم إلى دعوى تنقيح المناط. وهذا
بخلافه على ما ذكرنا من أخذ الأثر عبارة عن طبيعة الأثر وطبيعة الوجوب بنحو
السريان في ضمن افراد متعددة، إذ عليه لا محالة ينحل ذلك بحسب تعدد الموضوعات إلى
آثار متعددة ووجوبات عديدة متعلقة بموضوعات متعددة طولية بعضها في رتبة متأخرة عن
شمول الأثر لموضوع آخر، حيث إنه من شمول الأثر لموضوع يتولد موضوع آخر لاثر آخر و
هكذا، وعليه يرتفع أصل الاشكال المزبور من رأسه.
وعلى ذلك نقول: بأنه بعد أن كان مناط الاشكال في المقام بعينه هو مناط الاشكال
في ذلك المقام، فبعين ذلك التقريب أيضا نجيب في المقام ونقول: بأنه بعد امكان تعدد
الإرادة بحسب اللب ففي مقام الامر أيضا يمكن ان نجعل ما هو المنشأ بالانشاء طبيعة
الطلب والوجوب بنحو قابل للسريان في ضمن فردين من الطلب: متعلق أحدهما بنفس
ذات العبادة والآخر في طول الأول باتيانها بداعي أمرها. واما توهم عدم تحمل انشاء
واحد شخصي إلا لوجوب واحد شخصي فيدفعه مثل قوله عليه السلام: اغتسل للجمعة و
الجنابة ومس الميت، وقوله عليه السلام: إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة، من
جهة وضوح ان ما هو المنشأ في قوله وجب الطهور والصلاة ليس هو شخص الوجوب بل
هو طبيعة الوجوب بنحو السريان في ضمن فردين: أحدهما الوجوب النفسي المتعلق
بالصلاة والآخر الوجوب الغيري المتعلق بالطهور. وحينئذ فبعد ما أمكن ان يكون المنشأ
هو طبيعة الوجوب بنحو قابل للانحلال إلى وجوبين، كما في قوله: وجب الطهور والصلاة
فلا جرم يترتب عليه ارتفاع المحذور المزبور وصحة تقيد المأمور به بالقرب الناشي عن
دعوة الامر في امر واحد وانشاء فارد. وعليه أيضا يسلم عما أورده المحقق الخراساني
(قدس سره) في كفايته من دعوى القطع بأنه لا يكون في العبادات الا امر واحد، إذ ذلك
انما يرد بناء، على القول بالاحتياج إلى تعدد الامر في الخارج، والا فبناء على ما ذكرنا من
التعدد بحسب الانحلال فلا يرد هذا المحذور، إذ ما في الخارج حينئذ لا يكون الا انشاء
197

واحدا وامرا واحدا، فتدبر.
وكيف كان فبعد ان ظهر لك امكان اخذ القربة قيدا في المأمور به بالبيان الذي
ذكرناه، فلنرجع إلى أصل المسألة من أن ظواهر الأوامر هل تقتضي تعين التعبدية أو
التوصلية أم لا تقتضي شيئا منهما وانه على الأخير فمقتضى الأصول العملية أي شئ منهما.
فنقول: بعد البناء على امكان تقيد المأمور به ولو بالقرب الناشي عن دعوة امره فضلا
عن التقيد بمطلق القرب كما تقدم بيانه بما لا مزيد عليه اما بالالتزام بتعدد الامر والطلب
خارجا أو بتعدده انحلالا، ففي فرض كون الخطاب مسوفا في مقام البيان لا في مقام
الاهمال والاجمال لا مانع من التمسك باطلاق الخطاب والامر ولو من جهة كشفه عن
الإرادة لا ثبات توصلية الواجب واستكشاف قيام المصلحة والغرض بذات العمل المجرد
عن حيث دعوة الامر. وحينئذ فإذا ورد خطاب من الشارع تعلق بعنوان مثل عنوان
الخمس أو الجماعة في الصلاة وشك في توصليته أو تعبديته فيؤخذ باطلاق الخطاب في
فرض كونه في مقام البيان ويثبت به اطلاق متعلق الإرادة وقيام المصلحة بوجوده بقول
مطلق ولو مع خلوه عن نشو كونه عن داعي الامر والإرادة والا لكان الواجب على المولى
إقامة البيان على التقيد.
نعم مثل هذا التقريب لا يجري بالنسبة إلى عنوان المأمور به بما هو كذلك نظرا إلى ما
تقدم منا من عدم اطلاق فيه حتى في التوصليات يشمل غير صورة داعوية الامر إذ عليه
نقطع بعدم اطلاق دائرة المأمور به حتى في التوصليات وتخصيصه بالذات المقرونة بداعي
الامر، كما هو واضح. ومن ذلك نقول أيضا: بان التمسك باطلاق الامر واطلاق الخطاب في
الجهة الأولى انما هو باعتبار جهة كشف الخطاب عن الإرادة، والا فباعتبار نفسه وجهة
عليته لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وانتزاع عناوين الوجوب واللزوم لا يكاد
يكون له اطلاق كي يمكن التمسك به، كما هو واضح، ولكن الذي يسهل الخطب هو
كفاية اطلاق الامر من الجهة الأولى أي جهة كشفه عن الإرادة لا ثبات التوصلية و
كشف قيام المصلحة والغرض بمطلق وجود المتعلق لعدم استلزام تضيق دائرة المأمور به و
عدم شموله لغير صورة داعوية الامر لتضيق دائرة المراد والمصلحة كما في التوصليات
حيث كان دائرة المصلحة ودائرة المصلحة ودائرة المراد فيها أوسع من دائرة المأمور به، وحينئذ فلا باس
بالتمسك باطلاق الخطاب من تلك الجهة لا ثبات التوصلية من دون احتياج إلى قضية
198

الاطلاق المقامي كي يحتاج إلى كلفة اثبات كون القيد من القيود المغفول عنها عند عامة
الناس، وان كان ذلك أيضا تاما في نفسه من جهة امكان اثبات كون مثل الدعوة مما
يغفل عنها عامة الناس، كما هو الشأن أيضا في مثل قصد الوجه والتميز، إذ مجرد ارتكازية
داعوية الامر ومحركيته للاتيان بالمأمور به لا يقتضي ارتكازية دخلها في مقام المصلحة و
مرحلة لب الإرادة حتى لا يلزم من عدم بيانه اخلال بغرضه كما هو واضح.
ثم إن ذلك كله بناء على ما اخترناه من امكان اخذ داعي الامر والإرادة قيدا في
المأمور به بالالتزام بتعدد لب الإرادة، واما بناء على القول بعدم امكانه واستحالته ولو
من جهة عدم تصور الطبيعي الساري في الامر لتوهم عدم تكفل الانشاء الشخصي الا
لأمر واحد شخصي، فقد يقال حينئذ بعدم اقتضاء اطلاق الخطابات ولو بموادها شيئا
لأنه فرع امكان التقيد، فمع امتناعه كما هو المفروض لا مجال للتشبث بها لا ثبات التوصلية
كما هو واضح. لكن فيه ان مجرد عدم التمكن من اخذه قيدا في المأمور به لا يمنع عن
اطلاقه حتى في فرض تمكنه من الاتيان بأمر مستقل متصل بالكلام، كيف وان للمولى
حينئذ بيان مثل هذه القيود التي لها الدخل في تحقق غرضه ومرامه خصوصا على مبني
مرجعية البراءة العقلية في مثلها إذ في مثله يجب على المولى لو فرض دخل القرب في تحقق
غرضه واقعا بيانه ولولا بنحو التقيد بل بأمر آخر متصل بالكلام، والا لتحقق الاخلال
منه بغرضه. وحينئذ فإذا لم يكن إشكال في جهة كون الخطابات في مقام البيان لا بأس
بالتمسك باطلاقها لكشف قيام الغرض والمصلحة بمطلق وجود المتعلق ولو لم يكن نشوه عن
داع قربى من جهة ما تقدم من تمكن المولى حينئذ من بيان ماله الدخل في غرضه ومرامه
حينئذ ولو بأمر آخر بالقيد المزبور متصلا بكلامه. واما توهم لغوية الامر الثاني حينئذ،
فمدفوع بما تقدم بأنه كذلك في فرض العلم بعبادية المأمور به من الخارج لا مع الغفلة و
الشك في عباديته ودخل مثله في تحقق غرضه ومرامه، مع أنه لو اغمض عن ذلك يكفينا
حينئذ الاطلاقات المقامية بناء على كون مثل تلك القيود من القيود المغفول عنها عند عامة
الناس، إذ يستكشف بها أيضا عن عدم دخل داعي القرب في ما هو مرامه وغرضه، نعم
العمدة على ذلك حينئذ هو اثبات هذه الجهة وأن هذا القيد من القيود المغفول عنها عند
عامه الناس، والا فبعد الفراغ عن اثبات هذه الجهة لا اشكال في اقتضاء اطلاق المقام
لعدم دخله في تحقق غرضه ومرامه، فتدبر. هذا كله في المقام الأول.
199

واما المقام الثاني: فالكلام فيه انما هو فيما اقتضته الأصول العملية من البراءة أو
الاحتياط فنقول:
اما العقلية منها فقد يقال كما في الكفاية بالاشتغال ولو مع القول بالبرائة في الأقل و
الأكثر الارتباطيين، نظرا إلى رجوع الشك في المقام إلى الشك في الخروج عن عهدة امتثال
الامر المتعلق بذات العمل، فإنه بعد احتمال عبادية المأمور به فلا محالة يشك في مدخلية
قصد امتثال أمره في حصول الغرض وسقوط الامر المتعلق به ومعه يشك في الخروج عن
العهدة بمجرد الاتيان بذات العمل الغير المقرون بقصد امتثال امره، وحينئذ فلا بد بحكم
العقل الجزمي باقتضاء الاشتغال اليقيني بالشئ للفراغ اليقيني عنه من الاحتياط و
تحصيل الجزم بالفراغ، ولا يكون ذلك الا باتيان العمل عن قصد امتثال امره، دون البراءة
لأنها انما تكون في مورد كان الشك في أصل التكليف لا في سقوطه فارغا عن أصل ثبوته
وتنجزه على المكلف، والمقام انما كان من قبيل الثاني حيث كان الشك في سقوط
التكليف المتعلق بالعمل والخروج عن عهدة امتثاله باتيانه بدون قصد امتثال امره، وفي
مثله كان المرجع هو الاشتغال دون البراءة كما هو واضح.
أقول: ولا يخفى عليك ان هذا الاشكال بعينه هو الاشكال المعروف في الأقل و
الأكثر الارتباطيين، حيث إنه أو رد هذا الاشكال بعينه هناك على القائل بالبرائة و
انحلال العلم الاجمالي بتقريب: ان العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر وان انحل إلى
العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في الأكثر وكان الأكثر من تلك الجهة
تحت البراءة الا ان لازم اليقين بوجوب الأقل بحكم العقل هو الخروج عن عهدته
بتحصيل الجزم بالفراغ عنه وتحصيل هذا الجزم بعد احتمال وجوب الأكثر مع فرض
ارتباطية الواجب لا يكون الا بالاتيان بالأكثر من جهة انه معه الاقتصار بالأقل حينئذ لا
يعلم بالخروج عن عهدته نظرا إلى احتمال وجوب الأكثر في الواقع وحينئذ فلابد من
الاحتياط باتيان الأكثر مقدمة لتحصيل الجزم بالفراغ عن عهدة التكليف الثابت المعلوم
تعلقه بالأقل، وعلى ذلك فكان هذا الاشكال مشترك الورود بين المقام وبين تلك المسألة
ولا خصيصة له بالمقام حتى يقال باقتضاء الأصل في المقام الاشتغال ولو مع القول بالبرائة
في الأقل والأكثر الارتباطيين فلو بنينا حينئذ بان هم العقل بالنسبة إلى ما تم عليه البيان
هو الجزم بسقوط التكليف والامر عنه فلابد من الاحتياط في المقامين، كما أنه لو بنينا
200

على أن المهم عند العقل هو تحصيل الفراغ عن تبعات الامر المعلوم المحقق من العقوبة على
المخالفة كما هو التحقيق فلازمه هو البراءة العقلية في المقامين.
وبعد ذلك نقول: بأنه وان كان قد مر منا ما يوضح البراءة في مبحث الأقل والأكثر
الا ان الحوالة عليه لما كانت غير خالية عن المحذور، فلا بأس بالتعرض لدفع الاشكال و
ايضاح جريان البراءة في المقامين بنحو الاجمال والاختصار، فنقول: انه بعد الجزم بعدم
كون مجرد التكليف بشئ واقعا وفي نفس الامر مع قطع النظر عن تمامية البيان عليه منشأ
لاعتبار اشتغال العهدة بثقل التكليف عند العقل بشهادة موارد الشبهات البدوية
الوجوبية والتحريمية، وان تمام المنشأ لاعتبار ثقل التكليف في العهدة الذي هو عبارة
عن حكم العقل بالاشتغال انما هو تمامية البيان على التكليف ووصوله إلى المكلف،
نقول بأنه لا شبهة في أن هم العقل في حكمه بالفراغ في فرض ثبوت الاشتغال بالتكليف
انما هو تحصيل الجزم بالخروج عن تبعات التكليف المعلوم من العقوبة على المخالفة، و
حينئذ فإذا كان المفروض هو عدم تمامية البيان على التكليف الا بمقدار الأقل نظرا إلى
فرض انحلال العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل فلا
جرم هذا المقدار من الاشتغال لا يقتضي الا الاتيان بذات الأقل ولولا في ضمن الأكثر
لأنه باتيانه يحصل الجزم بالخروج عن تبعة ما يترتب على مخالفته من العقوبة، واما عدم
اتصاف المأتى به وهو الأقل حينئذ بكونه مأمورا به وعدم سقوط أمره في فرض وجوب
الأكثر واقعا نظرا إلى ارتباطية التكليف فهو لا يقتضي أيضا اتيانه في ضمن الأكثر إذ
ذلك انما يكون كذلك فيما لو كان قضية عدم سقوط أمره وعدم وقوعه مأمورا به من جهة
القصور في المأتي به وهو الأقل، وهو ممنوع جدا، بل نقول بان عدم سقوط امره وعدم
اتصافه بكونه مأمورا به انما هو من جهة القصور في نفس الامر والتكليف الضمني المتعلق
بالأقل عن الشمول لحال وجوده لا في ضمن الأكثر لا من جهة قصور في طرف الأقل المأتى
به، كما هو واضح. وحينئذ فإذا كان الأكثر في نفسه تحت البراءة العقلية لقاعدة قبح
العقاب بلا بيان نقول: بأنه لا يقتضي قضية الاشتغال بالأقل أيضا بحكم العقل الا
الاتيان بما هو متعلقه فرارا عن تبعات ما يترتب من العقوبة على مخالفته وبالاتيان بالأقل
يحصل الجزم بالخروج عن العهدة من طرف العقوبة على مخالفة الامر المعلوم وان لم يقطع
بوقوعه على صفة الوجوب ولا سقوط الامر عنه واقعا من جهة احتمال وجوب الأكثر
201

واقعا، وذلك لما تقدم من أن هم العقل في نحو ذلك انما هو رفع الشك عن جهة وجود ما هو
متصف بالوجوب لا رفع الشك عن جهة الاتصاف أيضا، فتدبر.
وعلى ذلك فبعين هذا التقريب نجيب عن الاشكال المزبور في المقام أيضا ونقول
بجريان البراءة عن قيد دعوة الامر عند الشك في التعبدية والتوصلية وجواز الاكتفاء
في الخروج عن عهدة التكليف بمجرد الاتيان بذات المأمور به ولو منفكا عن قصد دعوة
الامر، وحينئذ فلا فرق في جريان البراءة بين مثل المقام وبين الأقل والأكثر
الارتباطيين.
بل ولئن تأملت ترى امر جريان البراءة في المقام أوضح من جريانها في الأقل
والأكثر، إذ دوران الامر في المقام بعد أن كان بين التكليف الواحد أو التكليفين
المستقل المتلازمين ثبوتا وسقوطا فمن الأول يقطع تفصيلا بتعلق تكليف مستقل بذات
المأمور به وانما الشك في تعلق تكليف وإرادة أخرى بعنوان دعوة الامر، فمن هذه الجهة
تجرى البراءة بالنسبة إلى التكليف المشكوك من دون علم اجمالي في البين. وهذا بخلافه
في الأقل والأكثر الارتباطيين، إذ فيه لا دوران بين التكليف الواحد أو التكليفين
المستقلين ولو متلازمين في مقام الثبوت والسقوط، فمن هذه الجهة لم يعلم باستقلالية
التكليف المعلوم المتعلق بالأقل بل يحتمل فيه الضمنية أيضا، وفي مثله ربما كان المجال
للخدشة في جريان البراءة عن الأكثر من جهة توهم عدم انحلال العلم الاجمالي، وان
كان مثل هذه الدعوى ضعيفة أيضا في نفسها، كما أوضحنا فسادها في محله بما لا مزيد
عليه.
وكيف كان فهذا كله حال البراءة العقلية ولقد عرفت جريانها في المقام بلا اشكال
فيها.
واما البراءة النقلية كحديث الرفع ونحوه فان بنينا على جريان البراءة عقلا
فلا اشكال في جريان البراءة النقلية أيضا، واما لو بنينا على الاشتغال والاحتياط عقلا
نظرا إلى الشبهة المزبورة من لزوم تحصيل القطع بالامتثال والخروج عن عهدة التكليف
المعلوم ففي جريان البراءة النقلية حينئذ نحو خفاء، ولكن الظاهر هو جريان البراءة النقلية
في هذا الفرض أيضا نظرا إلى عدم كون حكم العقل بالاحتياط حينئذ حكما تنجزيا
كما في موارد العلم الاجمالي حتى ينافيه الترخيص الشرعي، بل نقول بان حكمه ذلك
202

كان حكما تعليقيا بعدم ورود الرخص الشرعي على خلافه، وحينئذ فبجريان مثل
حديث الرفع يرتفع حكمه بالاحتياط، فتأمل. هذا بناء على أن يكون مفاده رفع مطلق
الآثار التي منها المؤاخذة أو خصوص المؤاخذة على الترك، إذ نقول بان رفعها حينئذ انما هو
برفع منشئها الذي هو ايجاب الاحتياط في ظرف الشك أو بجعل الترخيص على خلاف ما
يقتضيه حكم العقل بالاحتياط، إذ لا مانع عنه بعد فرض تعليقية حكم العقل بذلك،
كما هو واضح.
نعم لو قيل بكون مفاده هو رفع خصوص الآثار الشرعية ففيه اشكال ينشأ من عدم
كون دخل مثل دعوة الامر في الغرض من الآثار الشرعية المجعولة كالشرطية والجزئية
والمانعية حتى يرفع به، فيكون اللازم حينئذ التفصيل بين مثل المقام وبين الأقل والأكثر
بدعوى عدم جريانها في المقام وجريانها في تلك المسألة، نعم بناء على ما ذكرنا سابقا من
إمكان أخذ دعوة الامر قيدا في المأمور به ولو بالالتزام بتعدد لب الإرادة ربما لا يفرق
في جريانها بين المقام وبين الأقل والأكثر، فتدبر. لكن لا يخفى عليك ان الأستاذ لم
يتعرض لحال جريان البراءة النقلية في المقام وانما تعرضته لتعرضه دام ظله لها في الدورة
السابقة. *

* قالوا ان التعبدي قد يطلق على ما يعتبر فيه ماشرة المكلف أو صدوره عن ارادته
أو اتيانه في مصداق غير محرم ومقابلة التوصلي الذي لا يعتبر فيه شئ من ذلك. وحيث إن
المؤلف المقرر لم يعترض لما افاده أستاذه المحقق (قدس سرهما) هيهنا وتعرض له العلامة
آية الله الآملي دامت بركاته في تقريره لبحث الأستاذ فلذا تأتى بما افاده تتميما للفائدة.
(المصحح)
فال هنا ما لفظة:
تتميم
هل اطلاق الخطاب يقتضى صدور الفعل من المأمور مباشرة أو يقتضى
الأعم من المباشرة والتسبيب أو لا يقتضى شيئا من ذلك وأيضا هل يقتضى اطلاقه
صدور الفعل من اختيار أو لا يقتضى ذلك وأيضا هل يقتضى اطلاقه كون الفعل المأمور
به غير محرم حين صدوره من الفاعل أو لا يقتضى ذلك وتوضيح جميع ذلك يتم في ثلاثة
مواضع
الموضع الأول
فالتحقيق يقضي ان اطلاق الخطاب يقتضي صدور الفعل من المكلف مباشرة وعليه
لا يكفي صدور الفعل بالتسبيب أو الاستنابة به فضلا عن صدوره من غيره بلا تسبيب أو
استنابة وبيان ذلك يتوقف على تمهيد (مقدمة) وهي ان التخيير مطلقا بين فعلين أو
أفعال لابد ان يكون بلحاظ الجامع بين الفعلين أو الافعال الذي يحصل به غرض المكلف
فلا محالة تكون خصوصيات الافعال المخير بينها خارجة عن حيز الإرادة ومباديها من
المصلحة والحب ونحوهما وعليه يكون كل فعل من الفعلين أو الافعال المخير بينها مخاطبا
ومأمورا به حين عدم الآخر لا مقيدا أو مشروطا بعدمه ليلزم الدور ولا مطلقا ليلزم كون
الوجوب في كل منهما تعيينيا وان شئت فعبر عن الوجوب المزبور بالإرادة الناقصة أعني بها
إرادة الفعل في جميع أحوال الامكان إلا في حال الاتيان بالفعل المعادل له. هذا كله فيما
لو كان كل من الفعلين أو الافعال مقدورا للمكلف، وأما إذا خرج أحدهما عن قدرته
وبقى أحدهما مقدورا له أو كان كذلك حين جعل الحكم فالمشهور انه يصير المقدور منهما
واجبا تعيينيا لانحصار الخطاب فيه (ولكن التحقيق) يقضي ببقاء ذلك الفعل المقدور على
وجوبه التخييري كما كان عليه قبل امتناع عدله فيما لو كان كل منهما مقدورا حين
الخطاب أو كما لو كان كل منهما مقدورا حين الخطاب فيما لو كان أحدهما ممتنعا حين
جعل الحكم وذلك لان الوجوب عبارة عن الإرادة التشريعية التي أظهرها الشارع بما
يدل عليها للمكلف ولا ريب في أن الإرادة تتبع في مقام تعلقها بالمراد المصلحة القائمة فيه
ولا شبهة أيضا في أن المصلحة الداعية إلى ايجابه تخييرا حين القدرة على كلا الفعلين
لا تتغير عما هي عليه حين امتناع أحدهما وإذا كانت لم تتغير عما هي عليه من الخصوصية
المقتضية للوجوب التخييري لا يعقل ان يكون مقتضاها حين امتناع أحد الفعلين هو
الوجوب التعييني إذ هو سنخ آخر من الوجوب لا ينشأ إلا عن مصلحة أخرى تسانخه.
ومما ذكرنا في بيان ملاك الوجوب التخييري يتضح لك السر في بعض الواجبات
التوصلية بل التعبدية التي يسقط وجوبها عن المكلف بفعل غيره كتطهير ثوب المكلف
بالصلاة والقضاء عن الميت على القول بصحة عمل المتبرع فإنه عليه يسقط وجوب
القضاء عن الولي كما يسقط وجوب تطهير الثوب عن المكلف بالصلاة وذلك لان ملاك
هذا النحو من الوجوب هو حصول الغرض بوجود الفعل في الخارج بلا دخل لخصوصية
فاعله فيه غاية الامر ان المورد اقتضى توجيه الخطاب إلى مكلف خاص كما يظهر ذلك
من المثالين المزبور وعليه يكون فعل غير المكلف كفعله في تحصيل الغرض الداعي
إلى وجوب ذلك الفعل على المكلف به فكما ان ملاك الوجوب التخييري هو حصول
الغرض بكل من فعلى المكلف أو أفعاله المقتضي ذلك لتخييره شرعا أو عقلا بينهما كذلك
يكون ملاك الوجوب الذي يسقط عن المكلف بفعل غيره توصليا كان أم تعبديا كما
أشرنا إليه وبما ان فعل غير المكلف خارج عن قدرة المكلف واختياره لا يصح ان يخاطب
به بنحو التخيير بين فعله وفعل غيره ولكن لما كان المكلف يعلم أن هذا التكليف يسقط
عنه بفعل غيره يخيره العقل بين ان يفعله هو بنفسه وبين ان يتسبب إلى فعل غيره فان
فعله سقط عن المكلف التكليف وإلا بقى مخاطبا به لان الخطاب بمثل هذا الفعل متوجه
إلى المكلف في حين عدم فعل غيره إياه كما هو الشأن في الواجب التخييري حيث علمت أن
الخطاب بكل من الفعلين أو الافعال متوجه إلى المكلف حين عدم الآخر، ومن هذا
البيان ظهر ان خطاب المكلف بالفعل الذي يسقط وجوبه عنه بفعل غيره لا يكون
مشروطا بعدم فعل الغير كما توهم بل هو خطاب توجه إليه في حين عدم فعل الغير كما هو
شأن الواجب التخييري كما أشرنا إليه، كما ظهر ان الخطاب في مثل هذا الواجب لم يتعلق
بالجامع بين فعل المكلف وفعل غيره كما يتعلق به في الواجب التخييري وذلك لخروج
فعل الغير عن قدرته واختياره، كما ظهر أيضا ان الخطاب لم يتعلق به بنحو التخيير بينه
وبين التسبيب، إلى فعل غيره لان الجامع الذي يحصل به الغرض ليس مشتركا بين فعل
المكلف وبين التسبيب إلى فعل غيره بل بين فعل المكلف وبين نفس فعل الغير كما لا
يخفى وانما العقل يرشد المكلف إلى ما يسقط به التكليف عنه وهو فعل الغير فيتسبب إليه
بما يراه سببا لصدور الفعل من الغير ومما ذكرنا اتضح لك ما في كلام بعض الأعاظم (قده)
في المقام من الوهن كما هو محرر في تقريراته.
(إذا عرفت هذه المقدمة) تعرف ان اطلاق الخطاب يقتضي كون الوجوب مطلقا في
جميع الأحوال وازمان الامكان لا انه قضية حينية اي انه ثابت في حين دون حين وحال
دون حال ونتيجة ذلك هو عدم سقوط الوجوب عن المكلف وعدم حصول الغرض بفعل
غيره (ان قلت) ان مقتضي اطلاق المادة قيام المصلحة والغرض بها وان صدرت من الغير
(ولا يتوهم) تقييده بتقيد اطلاق الهيئة بخصوص الصادر من المأمور لخروج فعل الغير عن
قدرته (لان ذلك) بسبب حكم العقل الغير الموجب لانقلاب اطلاقها إلا من جهة الحجية
لا في أصل الظهور حتى يسرى إلى المادة (قلت) الامر كما ذكر ان فرضنا التمسك بحكم
العقل في اختصاص الهيئة ولكن نحن نعتمد على ظاهر توجيه الخطاب والطلب المقتضي
لحصرة في فعل المأمور فيمنع عن تمامية اطلاق المادة بحيث يستكشف قيام المصلحة حتى في
ما صدر عن الغير لكي يزاحم مع اطلاق الهيأة في مطلوبية فعل المأمور وان صدر من الغير.
هذا مقتضى الاطلاق، ومع عدمه فمقتضى الأصل العملي هي البراءة عن
التكليف بالفعل المزبور حين صدوره من الغير ولو قلنا بالاحتياط في مقام دوران
الامر بين التعيين والتخيير وذلك لان منشأ القول بالاحتياط في مقام الدوران
المزبور هو وجود العلم الاجمالي باشتغال ذمة المكلف اما بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة
مثلا مطلقا أي ولو مع صلاة الجمعة واما بوجوب الجمعة في حال ترك الظهر ونتيجة هذا
العلم هو الاحتياط بفعل ما يحصل به اليقين بفراغ الذمة من التكليف المعلوم وهي صلاة
الظهر وهذا العلم الاجمالي غير موجود في محل الكلام لأنه يعلم تفصيلا بأنه مخاطب بهذا
203



الفعل لخروج فعل غيره عن قدرته واختياره فلا يكون عدلا لفعله في مقام التكليف
ليحتمل كونه مكلفا تخييرا بأحد الامرين وبما ان المكلف يعلم أنه مخاطب بالفعل المزبور
في حال ترك غيره له ويشك بوجوبه عليه في حال اتيان الغير به يصح له الرجوع إلى
البراءة في مقام الشك المذكور ولا مجال لجريان أصالة الاشتغال بتوهم ان اشتغال الذمة
بالتكليف متيقن وانما يشك بسقوطه بفعل الغير والأصل يقتضي عدم كونه مسقطا وذلك
لأنه يكون هو بنفسه مجرى لأصالة البراءة فيكون هذا الأصل حاكما على أصل عدم كون
فعل الغير مسقطا.
(ومن هنا) يظهر لك الجواب عن توهم بعض الأعاظم (قده) في المقام لصحة جريان
أصالة الاشتغال في محل الكلام بتقريب ان المكلف يعلم باشتغال ذمته بالتكليف
في حال ترك غيره لمتعلق ذلك التكليف وبعد فعل الغير له يشك بسقوط
التكليف عنه وحينئذ يصح جريان أصالة الاشتغال أو استصحاب بقاء التكليف بذلك
الفعل (وذلك) لما قد بينا ان الشك في المقام يكون في طور التكليف هل هو تام أو ناقص
ومعه لا مجال للاستصحاب إذ ما هو مقطوع من الأول هو وجوب الاتيان في ظرف عدم
صدور الفعل من غيره واما لزوم الاتيان في ظرف صدوره من الغير فيكون مشكوكا من
الأول فلا تتم فيه أركان الاستصحاب وحينئذ يصح ان يرجع فيه إلى البراءة ولا مجال
للاشتغال ومن هنا يتضح انه لا مجال لتوهم جريان الاستصحاب في القدر الجامع بين
الوجوب التام والناقص لحكومة البراءة عليه كما هو الشأن في جميع موارد الشك في الأقل
والأكثر.
الموضع الثاني
في أن اطلاق الخطاب هل يقتضي صدور الفعل عن اختيار أو لا يقتضي ذلك وغاية
ما يمكن ان يقال هو ان التكليف لما كان مشروطا بالقدرة والاختيار عقلا امتنع الاطلاق
في كل من الهيئة والمادة اما الهيئة فلان مفادها على الفرض مشروط بالاختيار عقلا واما
المادة فلسراية تقييد الهيئة إليها ومعه لم يبق مجال لتوهم الاطلاق فضلا عن صحة التمسك
به إلا أنه يمكن النظر في ذلك بما أشرنا إليه فيما سبق من أنه قد تكون للكلام دلالات
وظهورات متعددة فإذا سقط بعضها عن الحجية فلا موجب لسقوط الآخر بل القاعدة
تقضي ببقائه على الحجية وما نحن فيه من هذا القبيل فان اطلاق الهيئة ببعض ظهوره وان
كان مقيدا عقلا بالاختيار فظهورها في الاطلاق وان سقط عن الحجية للقرينة العقلية إلا
ان ظهورها في كون المادة ذات مصلحة ملزمة لا موجب لسقوطه عن الحجية وعليه يكشف
اطلاقها عن اطلاق المصلحة القائمة فيها.
(ولكن قد يستشكل) في ذلك بان اطلاق المادة وان كان يقضي بحصول
الغرض من الامر وان صدرت من المكلف بلا اختيار ولازم ذلك سقوط
التكليف حين صدورها من المكلف بلا اختيار لحصول الغرض الداعي إليه ولكن
ذلك ينافي مقتضي اطلاق الهيئة إذ بعد تقييد الهيئة بالقدرة ولو بحكم العقل يكون مفادها
لزوم الاتيان بالمادة في حال الاختيار ومقتضي اطلاقها لزوم الاتيان بالمادة في حال
الاختيار وان صدرت من المكلف في حال بلا اختيار وعليه يقع التهافت بين اطلاقي
الكلام الواحد (ويمكن الجواب) عن ذلك بان الخطاب مع قطع النظر عن تقييده عقلا
بحال الاختيار مطلق بالإضافة إلى حالتي الاختيار والاضطرار وبعد تقيده عقلا بحال
الاختيار يسقط ظهوره في الاطلاق المزبور عن الحجية ولكن لا ينعقد للمقيد ظهور في
الاطلاق الأحوالي بالإضافة إلى الاتيان ببعض افراد غير المقيد كما هو الشأن في التقييد
بالمنفصل فان التقييد بالمنفصل لا يوجب إلا سقوط ظهور المطلق في الاطلاق عن الحجية
ولا ينعقد معه ظهور للمقيد في التقييد بخلاف التقييد بالمتصل فإنه ينعقد معه للمقيد
ظهور في الاطلاق الأحوالي بالإضافة إلى الاتيان بغير افراده وعدمه وبما ان التقيد
بحال الاختيار في المقام انما حصل بدليل منفصل وهو دليل العقل لم ينعقد للمقيد المزبور
ظهور في الاطلاق بالإضافة إلى الاتيان بالفرد الاضطراري.
ومن هنا يظهر الجواب عن اشكال آخر وهو ان مدلول الهيئة محصور بصورة الاختيار لان
الداعي إليه هو البعث واحداث الداعي في نفس المأمور وذلك يختص بصورة صدور الفعل عن
اختيار المأمور فيزاحم حينئذ مقتضى اطلاق المادة بل يمنع عن استفادة الاطلاق في ناحية المادة،
وملخص الجواب ان اختصاص الهيئة بما ذكر بحكم العقل الذي هو من التقييد المنفصل
فلا ينافي ظهور الهيئة في تحقق مبادي الطلب من الإرادة والمصلحة مطلقا وان قيدت
حجية الهيئة في فعلية الإرادة بصورة صدور الفعل عن اختيار وعليه يبقى ظهور المادة في
الاطلاق بلا معارض فيصح الاخذ به ويكون دليلا على سقوط التكليف حين الاتيان
بالفرد الاضطراري.
وبهذا يتضح لك عدم تمامية ما ذهب إليه بعض الأعاظم في المقام حيث
أفاد ان التكليف لابد ان يتعلق بالفعل الاختياري فلو كان الفعل غير الاختياري
مسقطا له لكان التكليف مشروطا بقاء بعدم وجود الفعل غير الاختياري وحيث يشك
بكونه مسقطا يشك بكون التكليف مطلقا أو مشروطا ومقتضي أصالة الاطلاق هو عدم
الاشتراط ومع عدم الاطلاق يكون المرجع استصحاب بقاء التكليف هذا حاصل تحقيقه
في محل الكلام ولا يخفى ما فيه، لما عرفت آنفا من أن الخطاب مطلق بالإضافة إلى الفعل
الاختياري والاضطراري وتقييده بالدليل المنفصل العقلي لا يوجب الا سقوط ظهوره في
الاطلاق عن الحجية ولا ينعقد معه للمقيد المزبور ظهور في الاطلاق الأحوالي بالإضافة إلى
الاتيان بالفرد الاضطراري، وعدمه ليجعل دليلا على وجوب الاتيان بالفعل الاختياري
بعد الاتيان بالفرد الاضطراري، هذا كله فيما لو كان هناك اطلاق، وأما إذا لم يكن في
المقام اطلاق فالمرجع عند الشك في بقاء التكليف بعد الاتيان بالفرد الاضطراري هي
البراءة لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين ولا شبهة في أن
المرجع في الشك المزبور هي البراءة ومعه لا مجال للرجوع إلى استصحاب التكليف
لحكومة أصالة البراءة عليه.
الموضع الثالث
في أن اطلاق الخطاب هل يقتضي كفاية الامتثال بالفرد المحرم أو لا يقتضي ذلك
والتحقيق يقتضي بالأول مطلقا سواء كان بين متعلق الامر ومتعلق النهى عموم من وجه
أم عموم مطلق وسواء قلنا بجواز الاجتماع أم بامتناعه وذلك لان اطلاق الخطاب يكشف
عن وجود المصلحة الملزمة في متعلقة مطلقا ولو كان بعض افراده محرما غاية الامر ان
ملاك النهى لغلبته على ملاك الامر يوجب فعلية النهى عن الفرد الذي اجتمعا فيه وتنتفي
فعلية الامر وذلك لا يستلزم انتفاء ملاك الامر ومعه يحصل بالفرد المحرم الغرض الداعي
إلى أصل الخطاب فيسقط بانتفاء الموضوع لا بالامتثال، وعند عدم الاطلاق يكون المرجع
حين الشك البراءة كما تقدم في الموضع الثاني، ومما ذكرنا في هذا الموضوع يظهر لك ما في
كلام بعض الأعاظم من النظر وقد أشرنا إليه فيما سبق فراجع.
203

الجهة الخامسة
لا يخفى عليك ان اطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا، من جهة
احتياج غيره من الغيري والتخييري والكفائي إلى مؤنة زائدة غير مناسبة مع قضية
الاطلاق، إذ يحتاج الغيري إلى تقيد وجوبه بتقدير دون تقدير وهو تقدير وجوب أمر آخر،
والتخييري إلى بيان انه واجب على تقدير عدم الاتيان ببدله فيحتاج إلى بيان لفظ (أو)
مثلا بقوله: يجب هذا أو ذاك، والكفائي إلى التقيد بصورة عدم اقدام الغير. وهذا
بخلافه في النفسي التعييني العيني، فإنه واجب على كل تقدير، فكان هذه القيود كلها
يدفعها قضية اطلاق الصيغة.
الجهة السادسة
إذا ورد أمر عقيب الحظر أو توهمه، فهل هو ظاهر في الوجوب؟ كما لو لم يكن في
البين حظر ولا توهمه، أو لا؟ وعلى الثاني فهل هو ظاهر في الاستحباب؟ أو في الإباحة؟
كما ينسب إلى المشهور، أو انه تابع لما قبل النهى لو علق الامر على زوال علة النهى؟ أو
مطلقا؟ وجوه بل أقوال. والظاهر أن مورد النزاع ومحل الكلام بينهم انما هو في مورد
كان متعلق الامر بعينه هو المتعلق للنهي من حيث العموم والخصوص كما في قوله: لا
تكرم النحويين، أو لا تكرم زيدا، وقوله بعد ذلك: أكرم النحويين، أو أكرم زيدا،
والا فمع اختلاف متعلق الأمر والنهي من جهة العموم والخصوص كان خارجا عن
موضوع هذا النزاع نظير قوله: لا تكرم النحويين، وقوله: أكرم الكوفيين منهم، فإنه في
مثله لابد من التخصيص أو التقييد الكاشف عن عدم تعلق النهى بالخاص من أول
الامر، كما يشهد لذلك بناء العرف في نحو ذلك بحمل العام والمطلق فيها على الخاص و
المقيد.
وحينئذ فبعد أن اتضح مورد النزاع بينهم، نقول: بأنه ان بنينا على حجية أصالة
الحقيقة من باب التعبد العقلائي فلا شبهة في أن لازمه هو الحمل على الوجوب ما لم يكن
209

في البين قرينة قطعية على الخلاف، حيث إن مجرد وقوعه عقيب الحظر أو توهمه لا يمنع عن
الحمل على الحقيقة، وأما لو بنينا على حجيتها من باب الظهور التصديقي كما هو التحقيق
ففي ذلك لا مجال للحمل على الوجوب، لأنه بمحض اقترانه بما تصلح للقرينية ينتفي ظهوره
فيما كان ظاهرا فيه، فلا يبقى له ظهور في الوجوب بل ولا في الاستحباب أيضا بحيث
لو قام بعد ذلك دليل على الخلاف يحكم بالمعارضة بينهما، ضرورة انه بعد ارتفاع ظهوره
في الوجوب لا مقتضي في تعين ظهوره في غيره من الاستحباب أو الإباحة بالمعنى الأخص
بل هو يصير حينئذ مجملا من تلك الجهة غير ظاهر في شئ مما ذكر الا مع قيام القرينة
في البين على إرادة الندب أو الإباحة أو على حكم ما قبل النهى، والا فمع خلو المقام عن
القرينة لا يكون فيه ظهور لا في الوجوب ولا في الندب ولا في الإباحة بالمعنى الأخص،
نعم يستفاد من هذا الامر عدم الحرج في الفعل واباحته بالمعنى الأعم الذي هو جامع
بين الوجوب والندب والإباحة بالمعنى الأخص، ومن ذلك يحتاج في تعيين إحدى
الخصوصيات إلى ملاحظة خصوصيات الموارد وقيام القرينة على التعيين. نعم يمكن ان
يقال باستفادة الاستحباب في خصوص العبادات نظرا إلى إلى اقتضاء الامر فيها لمحبوبية
المتعلق ورجحانه، إذ حينئذ بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب من جهة وقوعه عقيب الحظر
أو توهمه يمكن الحكم باستحبابه نظرا إلى قضية ظهوره في محبوبية المتعلق ورجحانه،
ففي الحقيقة استفادة الاستحباب حينئذ في العبادات انما هو لمناسبة خصوصية المورد لا من
جهة ظهور الامر في الاستحباب بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب، كما هو واضح.
ثم انه مما ذكرنا ظهر لك حال النهى الواقع عقيب الوجوب أو توهمه، حيث نقول
فيه أيضا بعدم ظهوره لا في الحرمة ولا في الكراهة.
الجهة السابعة:
هل الصيغة تقتضي المرة أو التكرار أو لا تقتضي الا صرف وجود الطبيعي الذي
يتحقق بأول وجوده؟ فيه وجوه وأقوال: أقواها الأخير كما ستعرف.
وقبل الخوض في المرام ينبغي تعيين المراد من القول بالمرة والتكرار، حيث إن فيها
وجوها ثلاثة:
210

الأول: ان يكون المراد من المرة هو الفرد فيقابلها التكرار بمعنى الافراد.
الثاني: ان يكون المراد منها الوجود الواحد وفي قبالها التكرار بمعنى الوجودات، والفرق
بينهما هو انه على الأول يكون الفرد بخصوصية الفردية تحت الطلب والامر بخلافه على
الثاني فإنه عليه يكون مطلوبية الفرد بما أنه وجود للطبيعي فتكون خصوصية الفردية
خارجة عن دائرة الطلب، وربما يثمر ذلك في مقام الامتثال عند الاتيان بالفرد بقصد
الخصوصية لا بما انه وجود الطبيعي، حيث إنه على الأول يقع الامتثال بالخصوصية
بخلافه على الثاني، فإنه علاوة عن عدم تحقق الامتثال بالخصوصية ربما صدق التشريع
المحرم أيضا في قصده الخصوصية نظرا إلى ما هو المفروض من خروج الخصوصية عن دائرة
الطلب والامر، كما هو واضح.
الثالث: ان يكون المراد من المرة الدفعة ومن التكرار ما يقابلها وهو الدفعات و
الفرق بين ذلك والوجهين المتقدمين واضح، إذ على هذا المعنى ربما يتحقق الامتثال
بالمتعدد فيما لو أوجد دفعة افرادا متعددة فإنه حينئذ يتحقق الامتثال بالمجموع، بخلافه على
المرة بمعنى الفرد أو الوجود الواحد فإنه عليهما يقع الامتثال بواحد منها. وحينئذ فهذه
محتملات ثلاثة في المراد من المرة والتكرار.
ولكن الاحتمال الأول بعيد غايته عن مصب كلماتهم بقرينة النزاع الآتي في تعلق
الامر بالطبيعة أو الفرد، فإنه لو كان المراد من المرة في المقام هو الفرد لكان اللازم هو
ذكرهم ذلك في طي المقام الآتي: في أنه بعد فرض تعلق الامر بالفرد لا بالطبيعة فهل
الامر يدل على فرد واحد أو على افراد متعددة؟ لا جعلهم ذلك بحثا مستقلا في قبال
البحث الآتي، وحينئذ فنفس تعرضهم لهذا البحث مستقلا في قبال البحث الآتي قرينة
قطعية على عدم ارادتهم من المرة في المقام الفرد والافراد، كما هو واضح. وحينئذ فيدور
الامر بين الوجهين الآخرين، وعند ذلك ربما كان المتعين منهما هو الأخير نظرا إلى كونه
هو المنساق منها في الذهن عند العرف، ومن ذلك لو أتى بالماء مثلا في ظروف متعددة
دفعة واحدة لا يقال: بأنه أتى بالماء مرات أو أتى به متكررا، بل يقال: انه أتى بالماء مرة
واحدة. هكذا أفاده الأستاذ. ولكن أقول: بان عدم صدق التكرار والمرات في المثال انما
هو باعتبار اضافته إلى الاتيان لا بلحاظ اضافته إلى المأتي به وهو الماء، فحيث ان
الاتيان لم يكن الا اتيانا واحدا أضيف إليه المرة فقيل: بأنه أتى بالماء مرة واحدة، والا
211

فباعتبار اضافتها إلى نفس المأتى به وهو الماء ربما يصدق عليه التكرار في المثال المزبور،
كما هو واضح.
وكيف كان فهل المراد من المرة على كلا المعنيين بمعنى الدفعة أو الوجود هو المرة
بنحو بشرط لا عن الزيادة في مرحلة الوجود الخارجي؟ أو المرة بنحو لا بشرط على معنى
وقوع الامتثال بواحد من الوجودات وبأول وجود على المرة بمعنى الدفعة وصيرورة الزائد
لغوا فيه وجهان: أظهر هما الثاني على ما يستفاد من كلماتهم، فان ظاهر هم انما هو على
صيرورة الزائد على المرة (بأي معنى فرضناها) لغوا محضا، في قبال القائل بالتكرار الذي
يقول بتحقق الامتثال بالزائد أيضا لا انه كان مخلا أيضا بالامتثال بالنسبة إلى أول
وجود، كما هو واضح، هذا بالنسبة إلى القول بالمرة. واما القول بالتكرار فيحتمل فيه
أيضا وجهان، فإنه على المعنيين من الوجودات أو الدفعات تارة يراد تكرر الوجود بنحو
الارتباط كما في العام المجموعي، وأخرى يراد تكرره بنحو الاستقلال والسريان على نحو
كان كل فرد ووجود موردا لتكليف مستقل كما نظيره في العام الاستغراقي، والفرق بينهما
واضح مثل الفرق بينهما والطبيعة الصرفة، فإنه على الثاني يكون كل فرد وكل وجود
موردا لتكليف مستقل حسب انحلال التكليف المتعلق بالطبيعة ويكون لكل واحد منها
امتثال مستقل غير مرتبط بامتثال الآخر، بخلافه على الأول فإنه عليه وان لو حظ
الطبيعي بنحو السريان في ضمن الافراد الا انه بنحو كان المجموع موضوعا وحدانيا في
مقام تعلق الطلب والامر، فمن هذه الجهة لا يكاد تحقق الامتثال الا باتيان الطبيعي
خارجا متكررا ولا يكاد يكون لاتيان المجموع الا امتثال واحد ولا على مخالفتها الأعقاب
واحد، كما هو واضح.
وبعد ما عرفت ذلك فلنرجع إلى ما كنا بصدده من المختار في المسألة، فنقول: قد
عرفت في صدر البحث ان المختار من الوجوه الثلاثة هو الوجه الأخير من عدم دلالة
الصيغة الا على صرف الطبيعي المتحقق بأول وجود بلا اقتضائها للمرة أو التكرار بوجه
أصلا، كيف وان المادة فيها حسب وضعها النوعي على ما تقدم من انحلال أوضاع
المشتقات مادة وهيئة لا تدل الا على صرف الطبيعي، كما هو ذلك أيضا في ساير الصيغ
من المصدر وغيره، إذ حينئذ من انتفاء دلالة المادة فيها على المرة أو التكرار يستكشف
212

انتفائها أيضا في الصيغة. ولعله إلى ذلك أيضا نظر الفصول في انكاره دلالة الصيغة على
المرة والتكرار بانتفائها في ناحية المصدر المجرد عن اللام والتنوين باجماع من علماء
الأدب، فكان تمام نظره في النقض بمثل المصدر المجرد عن اللام والتنوين إلى تلك المادة
المأخوذة فيه التي هي جهة مشتركة سارية فيه وفي سائر الصيغ من الماضي والمضارع و
غيرهما، لا ان نظره إلى أن المصدر هو الأصل والمادة لسائر المشتقات كي يتوجه عليه
اشكال الكفاية: بان المصدر ليس أصلا ومادة لسائر المشتقات بل يكون صيغة مثلها وفي
قبالها، فلا يلزم حينئذ من عدم دلالة المصدر المجرد عليهما عدم دلالة الصيغة أيضا عليهما.
نعم لو قيل بعدم انحلال الوضع في المشتقات إلى وضعين: وضع المادة المشتركة في الجميع
وضعا نوعيا ووضع الهيئة في كل واحدة من الصيغ وضعا شخصيا وان الوضع في كل
واحدة من الصيغ من قبيل الوضع في الجوامد في كون كل واحد منها مادة وهيئة موضوعا
لمعنى خاص، لأمكن المجال لما في الكفاية من المناقشة بان عدم دلالة المصدر على المرة و
التكرار لا يقتضي عدم دلالة الصيغة عليهما، ولكن الكلام حينئذ في أصل هذا المبني
فإنه خلاف ما عليه المحققون في أوضاع المشتقات، إذ بنائهم فيها على انحلال الوضع فيها
إلى وضعين: وضع نوعي للمادة السارية فيها ووضع شخصي لكل واحدة من الهيئات
الخاصة، وعلى ذلك فيتجه الاستدلال لعدم دلالة المبدء في الصيغة على المرة والتكرار
بانتفائها في طرف المصدر المجرد عن اللام والتنوين، كما هو واضح.
وحينئذ فبعد ما ظهر من عدم دلالة المادة على أحد الامرين في الصيغة فلا جرم يبقى
الكلام فيها في الهيئة وهي أيضا كما عرفت غير مرة لا تدل الا على طلب ايجاد الطبيعة أو
النسبة الارسالية الملازمة لطلب الطبيعة فلا يكون فيها أيضا اقتضاء المرة أو التكرار بوجه
أصلا، كما لا يخفى. واما ما يرى من الاكتفاء بالمرة والفرد الواحد فإنما هو من جهة تحقق
صرف الوجود بأول وجوده وتحقق الامتثال بذلك لا من جهة ان الامر يقتضي المرة كما
هو واضح. كما أن تحقق الامتثال باتيان أفراد عرضية دفعة انما هو من جهة انطباق
الطبيعي المأمور به على الجميع كانطباقه في الأول على وجود واحد لا من جهة اقتضاء
الامر للتكرار كما توهم.
ومن ذلك البيان ربما أمكن ارجاع القول بالمرة أيضا إلى القول بالطبيعة الذي هو
المشهور نظرا إلى سقوط الامر عن الطبيعة وتحقق الامتثال بايجاد المأمور به دفعة ولو في
213

ضمن فرد واحد وعدم المقتضى بعد للامتثال باتيان ثاني الوجود وثالثه، كما هو واضح
فتدبر.
بقى الكلام فيما استدل به للقول بالتكرار وهي أمور:
منها قوله صلى الله عليه وآله (إذا أمرتكم بشئ فاتوا منه ما استطعتم) وفيه ما
لا يخفى، إذ بعد الغض عما يرد عليه من لزوم تخصيص الأكثر في مثل الصلاة اليومية و
صوم شهر رمضان وسائر الواجبات من الصلوات وغيرها، نقول بأنه ينافي ذلك ما في
ذيل تلك الرواية من الظهور بل الصراحة في عدم لزوم التكرار وهو قوله صلى الله عليه و
آله وسلم: (ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجب) الخ (1) فان ما هو
المستفاد من هذا الذيل انما هو خلاف ما يقوله القائل بالتكرار كما هو واضح.
ومنها استدلالهم بمثل الصوم والصلوات اليومية المتكررة في كل سنة ويوم. وفيه ما
لا يخفى حيث إن تكرر الصلاة في كل يوم والصوم في كل سنة انما هو من جهة اقتضاء
قضية الشرط لتعدد الوجود عند تكرره حسب إناطة وجوب الصوم بدخول شهر رمضان و
إناطة وجوب الصلاة بدخول الوقت وأين ذلك واقتضاء الامر للتكرار كما لا يخفى.
ومنها ولعله هو العمدة مقايسة باب الأوامر بباب النواهي التي من المعلوم انها للدوام
والاستمرار، بتقريب: انه كما أن قضية اطلاق الهيئة في النواهي هي الدوام والاستمرار
بملاحظة اقتضاء اطلاقها لسعة دائرة الطلب وشموله للوجودات العرضية والطولية و
مبغوضية الطبيعة بوجودها الساري في جميع الافراد. وتحكيمه على قضية اطلاق المادة فيها
في اقتضائه لكون تمام المبغوض هو صرف وجود الطبيعي المتحقق بأول وجود ولو من

(1) لم أجد الحديث في مجامع أخبارنا وألفاظه على ما أخرجه في التاج هكذا: " عن أبي هريرة قال: خطبنا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أكل عام يا
رسول الله فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال:
ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه
ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه " رواه مسلم والنسائي والترمذي " انتهى " التاج / ج 2 ص 108، الباب 2 من
كتاب الحج " المصحح ".
214

جهة عليه الهيئة لتحقق المادة خارجا، كذلك في الأوامر أيضا، حيث إنه بعين هذا
التقريب أي تقريب اطلاق الهيئة وتحكيمه على اطلاق المادة يستكشف في الأوامر أيضا
عن أن المطلوب فيها هو الطبيعة بوجودها الساري في ضمن جميع الافراد لا صرف
وجودها المتحقق بأول وجودها كما هو واضح، وبذلك يثبت المطلوب الذي هو اقتضاء
الامر للتكرار هذا.
ولكن فيه أيضا ما لا يخفى، إذ نقول: بان ما أفيد وان تم لا ثبات الدوام والاستمرار
في باب النواهي الا انه يمنع عن جريان التقريب المزبور في باب الأوامر من جهة وضوح
الفرق بين المقامين، وحاصل الفرق بين المقامين في جريان اطلاق الهيئة وصحة تحكيمه
على اطلاق المادة في باب النواهي وعدم جريانها في باب الأوامر هو ان صحة تحكيم
اطلاق الهيئة في باب النواهي واستفادة الدوام الاستمرار منه انما هو من جهة عدم
ترتب محذور العسر والحرج في الترك على الدوام والاستمرار، بخلافه في الأوامر فإنه فيها
يلزم من تحكيم قضية اطلاق الهيئة على اطلاق المادة محذور العسر والحرج الشديد، فمن
هذه الجهة ربما يمنع مثل هذا المحذور في باب الأوامر عن جريان اطلاق الهيئة فيها والاخذ
بها، ومع عدم جريان الاطلاق فيها لا جرم يبقى اطلاق المادة فيها على حاله سليما عن
المزاحم، ومقتضاه كما عرفت هو كون تمام المطلوب عبارة عن صرف الطبيعي المتحقق
بأول وجوده دون الطبيعة السارية، وعليه فلا مجال للتشبث بمثل هذا البيان أيضا
لا ثبات التكرار في الأوامر وان صح ذلك في باب النواهي، كما هو واضح. (1)
ثم انه يبقى الكلام حينئذ في بيان الثمرة بين الأقوال المزبورة فنقول: أما الثمرة بين
القول بالطبيعة وبين القول بالمرة بمعنى الفرد أو الوجود الواحد فظاهرة فيما لو أتى دفعة

(1) أقول ولا يخفى عليك انه لا يتم هذا التقريب في باب النواهي أيضا ويظهر وجه من جهة تبعية الهيئة
ثبوتا اطلاقا وتقييدا للمادة حسب تقدمها عليها وكيفية قيام المصلحة بها بصرف وجودها أو بوجودها الساري، إذ
حينئذ تكون الهيئة تابعة للمادة ومن شؤونها، وحينئذ فمع جريان الاطلاق في المادة لا يبقى مجال لجريان الاطلاق في
طرف الهيئة حتى يقع بينهما التزاحم باعتبار كون قضية اطلاقها حاكما على اطلاقها، ومعه كيف المجال لدعوى
تقديم اطلاق الهيئة على اطلاقها وتحكيمها عليها وان كان الأستاذ دام ظله مصرا بذلك في مقام ابداء الفرق بين
الأوامر والنواهي فتأمل. " المؤلف، قدس سره ".
215

واحدة بأفراد متعددة، فإنه على القول بالطبيعة يقع الامتثال بالمجموع ويكون المجموع
امتثالا واحدا، ولكنه لا بمناط الترجيح بلا مرجح بل بمناط انطباق الطبيعي المأمور به
على الجميع باعتبار كونها وجودا لها، وأما على القول بالمرة فلا يقع الامتثال الا بواحد
منها لا بعينه، هذا إذا لم يؤخذ الفرد مقيدا بعدم الزيادة، والا فلا يقع الامتثال بواحد
منها أصلا، ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم إرادة القائل بالمرة مثل هذا المعنى لما تقدم
بان المراد منها إنما هو المرة على نحو اللابشرطية وعليه فيقع الامتثال بواحد منها ويصير
الزائد لغوا محضا لا مخلا بأصل الامتثال، هذا إذا اتى المكلف بأفراد متعددة دفعة واحدة.
وأما لو أتى بها دفعات فالثمرة أيضا تظهر من جهة قصد الامتثال بالخصوصية وعدم قصدها
فإنه على القول بالطبيعة يقع قصده ذلك تشريعا محرما بخلافه على المرة بمعنى الفرد فإنه
حينئذ لابد من قصد الخصوصية ويقع الامتثال به أيضا. نعم على تفسير المرة بالوجود
الواحد من الطبيعة لا ثمرة في هذا الفرض بينها وبين الطبيعة بل تختص الثمرة بينهما
بالفرض الأول وهو صورة الاتيان بأفراد متعددة دفعة واحدة. هذا كله بناء على تفسير
المرة بالفرد أو الوجود الواحد، واما بناء على تفسيرها بالدفعة كما استظهرناه فلا ثمرة بينها
وبين القول بالطبيعة، ومن ذلك أرجعنا القول بالمرة أيضا إلى القول بالطبيعة هذا كله في
الثمرة بين القول بالمرة وبين القول بالطبيعة.
وأما الثمرة بين الطبيعة وبين القول بالتكرار فعلى تفسيره بالافراد والوجودات فتظهر
أيضا في صورة الاتيان بالطبيعة في ضمن فرد واحد فإنه على القول بالطبيعة يتحقق
الامتثال ويسقط الامر والتكليف من جهة انطباق الطبيعي على المأتى به بخلافه على
القول بالتكرار إذ عليه كان التكليف بعد على حاله فيجب الاتيان ثانيا وثالثا وهكذا،
بل وتظهر الثمرة أيضا عند الاتيان بأفراد متعددة دفعة، إذ على القول بالطبيعة من جهة
انطباق الطبيعي على الجميع يكون المجموع امتثالا واحدا دونه على القول بالتكرار فإنه
عليه يكون تلك امتثالات متعددة كما في صورة ايجاد الطبيعة ثانيا وثالثا ورابعا. هذا على
التكرار بمعنى الوجودات، وأما على التكرار بمعنى الدفعات فتظهر عند الايجاد ثانيا وثالثا
حيث إنه على التكرار يقع الامتثال بثاني الوجود وثالث الوجود أيضا بخلافه على الطبيعة
فإنه عليه يكون ثاني الوجود من الامتثال عقيب الامتثال، كما يأتي الكلام فيه في مبحث
الاجزاء انشاء الله تعالى.
216

واما الثمرة بين القول بالمرة وبين القول بالتكرار فواضحة غير محتاجة إلى البيان.
بقى شئ وهو انه على التكرار هل يعتبر تعدد الوجود مطلقا حتى في الأمور القابلة
للدوام والاستمرار كالقيام والقعود ونحوهما فيجب في تكرر القيام انهدامه ثم قيام آخر
كي يتحقق التعدد؟ أو ان اعتبار تعدد الوجود انما هو الأمور الآنية غير القابلة للدوام و
الاستمرار كالضرب مثلا والا ففي الأمور القابلة للاستمرار يكفي في تكرارها استمرارها
بنحو لا يتخلل فصل في البين بان يقصد بها في كل آن امتثال الامر المتعلق بالطبيعة بلا
احتياج إلى تخلل فصل في البين؟ فيه وجهان: مقتضي ظاهر العنوان هو الأول من لزوم
تكرر الوجود في صدق التكرار وتحققه حتى في مثل القيام والقعود الذي يتصور فيه
القرار والاستمرار، لكن مقتضي استدلالهم بباب النواهي هو الثاني وهو عدم اعتبار
تكرر الوجود، كما هو ذلك في باب النواهي حيث كان المطلوب فيها هو الدوام و
الاستمرار. وعليه ربما تظهر الثمرة أيضا بين القول بالتكرار وبين القول بالطبيعة في صورة
استمرار القيام من جهة وحدة الامتثال على القول بالطبيعة وتعدده على القول بالتكرار
فيما لو قصد كون القيام في كل آن امتثال للامر به كما هو الشأن أيضا في باب النواهي فيما
لو ترك شرب الخمر قاصدا كونه في كل آن امتثالا لقوله: لا تشرب الخمر فيكون هذا
القيام الشخصي المستمر حينئذ امتثالات متعددة للامر بالقيام، وهكذا الأمور التدريجية
كالحركة والتكلم والقرائة فان حالها حال الأمور القابلة للدوام والاستمرار، فبناء على
القول بالطبيعة يكون مجموع الحركة والتكلم والقرائة من أولها إلى آخرها وجودا واحد
للطبيعة ما لم يتخلل فصل في البين فيحتاج في كونه ثاني الوجود إلى طرو فصل في البين
بان يتحرك ثم يسكن ثم يتحرك، وهكذا في التكلم والقرائة فما دام كان مشغولا بالتكلم
والقرائة كان ذلك يعد وجودا واحدا للقرائة ولا يتحقق ثاني الوجود الا بتخلل سكون في
البين بنحو يعد الكلام الثاني وجودا آخر. واما على التكرار على النحو المزبور يتحقق
التكرار وتعدد الامتثال بقصده القراءة في كل آن امتثالا للامر بها. نعم لو كان الامر
متعلقا لا بعنوان القراءة بقول مطلق بل بعنوان قرائة الحمد مثلا ففي ذلك يكون تحقق
الطبيعة بمجرد الفراغ عن الحمد ولو لم يقطع قرائته بل اتصل قرائته بقرائة حمد آخر وحينئذ
فيكون الحمد الثاني الذي اشتغل به بدون تخلل فصل وسكون من ثاني الوجود للطبيعة و
يكون من باب الامتثال عقيب الامتثال كما هو واضح.
217

الجهة الثامنة:
هل الصيغة تقتضي الفور أو التراخي أو لا تقتضي شيئا منهما الا طلب ايجاد الطبيعة
الجامعة بين الفور والتراخي؟ فيه وجوه وأقوال: أقواها الأخير، نظرا إلى عدم اقتضاء وضع
المادة وكذا الهيئة لشئ من ذلك، اما المادة فلما عرفت من عدم دلالتها الا على صرف
الطبيعي، واما الهيئة فلعدم دلالتها أيضا الا على طلب الطبيعة المجامع مع الفور و
التراخي، بل ومع الشك أيضا ربما كان قضية اطلاق المادة هو سقوط الغرض وتحقق
الامتثال بالاستعجال الملازم لزمان الحال والتأخير الملازم لزمان الاستقبال بل كان امر
التمسك بقضية اطلاق المادة في المقام أهون من المقام السابق نظرا إلى سلامته عن المزاحمة
مع اطلاق الهيئة كما هناك وذلك لعدم اقتضاء لاطلاق الهيئة للاستعجال والفورية في
المقام كي يقع بينهما المزاحمة كما هو واضح، وحينئذ فمقتضى اطلاق المادة هو تحقق
الامتثال باتيان الطبيعة وايجادها بنحو الاستعجال أو التراخي.
نعم لو اغمض عما ذكرنا لا يتوجه على القول بالفور بعدم مأخوذية الزمان في
المشتقات، وذلك من جهة وضوح ان نظر القائل بمطلوبية الفور انما هو إلى مجرد
الاستعجال والمسارعة في ايجاد المأمور به المنطبق في الزمانيات على أول الأزمنة بعد الامر
بلا مدخلية للزمان فيه بنحو القيدية أصلا، كما أن نظر القائل بالتراخي انما هو إلى ما
يقابل ذلك، ومعه لا يتوجه عليه الاشكال المزبور كما هو واضح.
وكيف كان فاستدل للفور بأمور:
منها: ما قيل في وجه ابطال الواجب المعلق من استحالة انفكاك الإرادة عن المراد و
ذلك بتقريب: ان الإرادة التشريعية انما هي كالإرادة التكوينية بلا فرق بينهما الا من جهة
الاقتضاء والعلية حيث كانت الإرادة التكوينية علة لتحقق المراد في الخارج وكانت
الإرادة التشريعية مقتضية له، وحينئذ فكما ان الإرادة التكوينية لا يمكن تخلفها عن
المراد في الخارج ولو آنا ما كذلك الإرادة التشريعية حيث إن مقتضاها أيضا لزوم اتصال
حركة العبد بأمر المولى وطلبه من جهة ان حركة العبد في الإرادات التشريعية بمنزلة
حركة المريد في الإرادة التكوينية ولا نعني من الفور الا قضية اتصال حركة المأمور نحو
218

المأمور به متصلا بطلب الآمر. وفيه ان قضية الامر بشئ ليست الا البعث نحوه بالايجاد
فإذا كان المتعلق هو الطبيعي الجامع بين الفرد الحالي والفرد الاستقبالي فلا جرم
لا يقتضي الامر به أيضا الا ايجاد تلك الطبيعة بما انها جامعة بين الفرد الحالي والاستقبالي،
وما ذكر من امتناع تخلف الإرادة ولو التشريعية عن المراد متصلا بها كلام شعري و
سيأتي بطلانه أيضا في مبحث المعلق والمشروط بما لا مزيد عليه إن شاء الله تعالى.
ومنها: قوله سبحانه: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) بتقريب الدلالة فيه على
وجوب الاستباق والمسارعة نحو المأمور به بالايجاد على ما هو قضية ظهور الامر في
الوجوب. وفيه أيضا انه بعد الغض عما يرد عليه من لزوم تخصيص الأكثر لخروج
المندوبات طرا وخروج كثير من الواجبات أيضا كالصلاة اليومية ونحوها، نقول: بأنه انما
يتم ذلك لولا قضية الارتكاز العقلي بحسن المسارعة والاستباق إلى ايجاد المأمور به والا
فمع هذا الارتكاز لا جرم يكون الامر بالمسارعة ارشادا محضا ومعه لا مجال لجعله دليلا على
وجوب الفور والمسارعة، كما لا يخفى.
بقى الكلام في أنه على هذا القول من وجوب المبادرة والاستعجال، هل الواجب هو
الاتيان بالمأمور به فورا ففورا بحيث لو لم يأت المكلف بالمأمور به في الآن الأول بعد الامر
يجب عليه الاتيان به في الآن الثاني ولا يجوز التراخي؟ أم لا بل يجوز له التراخي في الآن
الثاني كما لو لم يجب عليه الفور في الآن الأول؟ أو ان قضية ذلك هو سقوط التكليف عن
المأمور به في الآن الثاني رأسا عند الاخلال بالفور في الآن الأول ولو من جهة كونه من
قبيل وحدة المطلوب؟ فيه وجوه: أظهرها أولها، كما هو قضية استدلالهم بآية المسارعة و
الاستباق حيث إن من المعلوم ان الآية انما هو في مقام بيان المسارعة إلى الخيرات فورا
ففورا، بل ذلك أيضا مما تقتضيه قضية استدلالهم بذلك البرهان العقلي المزبور إذ مقتضاه
أيضا هو لزوم الاتيان بالمأمور به فورا ففورا، كما هو واضح.
وأما الاحتمال الأخير وهو احتمال سقوط التكليف في ثاني الحال عن المأمور به لو
لم يأت المكلف به في الآن الأول فهو أبعد الوجوه ولا يساعد عليه استدلالهم بل ولا
كلماتهم أيضا، إذ لا يستفاد من كلماتهم تقيد المأمور به بالفور والاستعجال كي يلزمه
سقوط التكليف في ثاني الحال، وحينئذ فيكون هذا الاحتمال مما يقطع بعدم ارادته
القائل بالفور، ومعه يدور الامر بين الوجهين الأولين وعند ذلك قد عرفت تعين الوجه
219

الأول منهما دون الثاني، كما هو واضح.
وأما القول بالتراخي فاستدل عليه أيضا بتحقق الامتثال مع التراخي الملازم
لزمان الاستقبال. ولكنه كما ترى بأنه لا يقتضي مجرد ذلك كون الصيغة والامر
للتراخي، وذلك لامكان ان يكون ذلك من جهة ان المأمور به هو الطبيعة الجامعة بين
الفرد الحالي والفرد الاستقبالي، ولذلك أيضا ترى تحقق الامتثال باتيانه في الآن الأول
بعد الامر والطلب، نعم لو فرض عدم تحقق الامتثال الا بايجاد المأمور به في الآن الثاني و
الثالث كان للاستدلال المزبور كمال مجال، ولكنه لا يكون كذلك قطعا بل ولا يدعيه
أيضا القائل بالتراخي، لان أقصى ما يدعيه انما هو جواز التراخي وعدم وجوب الفور
فيقابل القائل بالفور، واما وجوبه فلا.
وأما ما يظهر من السيد (قدس سره) في استدلاله بان الصيغة قد استعملت تارة في
الفور وأخرى في التراخي والأصل في الاستعمال الحقيقة، فإنما هو على حسب ما هو
ديدنه من ارجاع المشتركات المعنوية إلى الاشتراك اللفظي بالأصل الذي كان عنده من
كون الاستعمال علامة الحقيقة وان كان قد شاع الجواب عنه أيضا بأعمية الاستعمال
من الحقيقة، مع أن كلامه (قدس سره) انما هو في بيان رد القائل بالفور بأنه كما
استعمل الصيغة في الفور استعملت أيضا في التراخي فلا تكون الصيغة حينئذ لخصوص
الفور. وعليه فلا ثمرة بين القول بالطبيعة وبين القول بالتراخي، إذ بعد عدم التزامهم
بوجوب التراخي ينطبق هذا القول على القول بالطبيعة بل هو بعينه، ومن ذلك أيضا
يمكن المنع عن تثليث الأقوال في هذه المسألة وانه لا يكون فيها الا قولان: قول بالفور وقول
بالطبيعة فتدبر، هذا.
ولكن أقول: بان ما ذكرنا من عدم وجوب الفور انما هو بالنسبة إلى دلالة الصيغة و
الا فقد يجب الفور مع قيام القرينة عليه، ومن ذلك ما لو قام قرينة قطعية على عدم تمكنه
من الاتيان بالواجب في ثاني الحال وثالثه ان لم يأت به في الآن الأول بعد الامر فإنه
حينئذ يجب بحكم العقل المبادرة إلى الاتيان بالواجب في الآن الأول بحيث لو لم يأت به
ففات منه الواجب لعدم تمكنه منه فيما بعد يستحق عليه العقوبة، بل ولعل الامر كذلك
مع الظن بالفوت إذا كان اطمينانيا، كما في الأزمنة التي كثر فيها الأمراض من نحو
الطاعون والوباء ونحوهما أعاذنا الله منها إن شاء الله تعالى، فإنه في نحو ذلك أيضا ربما
220

كان يحكم العقل أيضا بوجوب المبادرة والاستعجال باتيان الواجب في أول وقته وأول
أزمنة تمكنه منه. واما مع الظن غير الاطميناني أو الشك فالظاهر هو جواز التأخير
للاستصحاب فتدبر. هذا كله فيما يتعلق بمسألة الفور والتراخي، ولكن الأستاذ دام ظله
لم يتعرض لهذا الفرع الأخير فافهم.
221

المبحث الثالث: في الاجزاء
قد وقع الخلاف والكلام بين الأصحاب في اقتضاء الاتيان بالمأمور به على وجهه
للاجزاء وعدمه. وقبل الخوض في المرام، ينبغي تمهيد مقدمة لبيان عناوين الألفاظ
الواقعة في حيز البحث.
فنقول: ان من العناوين الواقعة في حيز موضوع البحث كلمة (على وجهه) و
الظاهر أن المراد منها كما قربة في الكفاية هو النهج الذي ينبغي ان يؤتى المأمور به على
ذلك النهج شرعا وعقلا كقصد الامتثال مثلا، لا الاتيان بالمأمور به على وجه وجوبه أو
استحبابه وكونه متميزا عن غيره كما يدعيه القائل بوجوب قصد الوجه والتميز كما يشهد
لذلك تعرضهم طرا لهذا البحث بهذه العناوين المزبورة مع ذهاب كثير منهم بل أكثرهم
على عدم اعتبار قصد الوجه والتميز في المأمور به لا شرعا ولا عقلا ولا الكيفية الخاصة
المعتبرة في المأمور به شرعا مثل عنوان الظهرية والعصرية ونحوهما من العناوين الخاصة
التي بها صار المأمور به متعلقا للامر والطلب، كيف وانه مضافا إلى بعد ذلك في نفسه
يلزمه لغوية القيد المزبور إذ عليه كان في ذكر المأمور به غنى وكفاية عن ذكر كلمة (على
وجهه) نظرا إلى عدم خلو المأمور به عن مثل هذه الكيفيات فيكون القيد المزبور حينئذ
توضيحيا محضا. وحينئذ فيتعين ما ذكرناه من كون المراد منها النهج الذي ينبغي ان يؤتى
المأمور به على ذلك النهج شرعا وعقلا كقصد التقرب والامتثال، وعليه يكون القيد
المزبور احترازيا لا توضيحيا، لكن ذلك أيضا بناء على تجريد متعلق الامر في العبادات
عن قصد التقرب وجعله من الكيفيات المعتبرة في المأمور به عقلا لا شرعا كما هو مسلك
222

الكفاية، والا فبناء على القول باعتباره في المأمور به شرعا يكون توضيحيا محضا، كما أنه
كذلك أيضا بناء على جعل المأمور به عبارة عن الحصة الملازمة مع قصد التقرب الناشي
عن دعوة الامر بنحو القضية الحينية لا التقييدية بالتقرب الذي ذكرناه في مبحث
التعبدي والتوصلي من عدم انفكاك المأمور به بما هو مأمور به عن قصد دعوة الامر حتى في
التوصليات، إذ عليه أيضا يكون كلمة (على وجهه) لمحض التوضيح، لأنه بعد عدم
اتصاف الذات غير المقرونة بقصد التقرب بكونها مأمورا بها يكون في ذكر كلمة المأمور به
غنى وكفاية عن ذكر كلمة (على وجهه) كما هو واضح.
ومن العناوين كلمة (الاجزاء) والظاهر أن المراد منه انما هو معناه اللغوي أعني
الكفاية كما في الكفاية وان اختلف ما يكفي عنه من حيث سقوط التعبد به ثانيا تارة، و
سقوط القضاء أخرى فالمراد منه انما هو كفاية الاتيان بالمأمور به على وجهه في عدم التعبد
باتيانه ثانيا في الوقت أو في خارجه، كان قضية عدم التعبد به بنحو العزيمة أو بنحو
الرخصة.
ومن العناوين كلمة (الاقتضاء) والظاهر أن المراد منها أيضا هو الاقتضاء بحو العلية
والتأثير بحسب مقام الثبوت لا الاقتضاء بنحو الكشف والدلالة بحسب مقام الاثبات،
ومن ذلك أيضا نسب الاجزاء في عنوان البحث إلى الاتيان دون مدلول الصيغة. نعم في
الاجزاء بالنسبة إلى المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري يمكن ان يقال: بان الاقتضاء
فيهما هو الاقتضاء بنحو الكشف والدلالة، نظرا إلى رجوع جهة البحث حينئذ إلى مدلول
الصيغة من جهة الدلالة على وفاء المأتى به الاضطراري بمصلحة المأمور به الاختياري.
وعلى كل حال فلا يرتبط هذا البحث بالبحث المتقدم من دلالة الصيغة على المرة أو
التكرار كما توهم بخيال ان القول بعدم الاجزاء هو عين القول بالتكرار في المسألة السابقة
كعينية القول بالاجزاء مع القول بالمرة، إذ نقول: بان البحث في المسألة المتقدمة انما هو في
تعين ما هو المأمور به بأنه هل هو مجرد الطبيعة؟ أو المرة بمعنى الفرد أو الدفعة؟ أو التكرار
بمعنى الموجودات أو الدفعات؟ بخلافه في المقام فان البحث فيه انما هو في ذاك المأمور به
المتعين هناك بان الاتيان به على وجهه يجزي عن التعبد به ثانيا أم لا ومعه لا يرتبط
إحدى المسئلتين بالأخرى كما هو واضح، خصوصا إذا جعلنا الاقتضاء في المقام بمعنى
العلية والتأثير لسقوط الامر ثبوتا إذ عليه يكون الفرق بين المقامين أوضح، نظرا إلى رجوع
223

البحث في تلك المسألة إلى دلالة الصيغة على المرة أو التكرار، ورجوعه في المقام إلى
اقتضاء الاتيان بالمأمور به ثبوتا لسقوط الامر.
ومما ذكرنا ظهر أيضا جهة الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة تبعية القضاء للأداء
وعدم ارتباط إحديهما بالأخرى، كما توهم أيضا بخيال أن التعبية بعينها عبارة عن القول
بعدم الاجزاء كعينية القول بالاجزاء مع القول بكونه بأمر جديد، وتوضيح الفرق هو ان
البحث هو تلك المسألة انما هو في مورد عدم الاتيان بالمأمور به على وجهه اما لعدم الاتيان
به رأسا أو الاتيان به على غير وجهه المعتبر فيه شرعا، بخلاف المقام فان البحث فيه انما
هو في مورد الاتيان بالمأمور به على وجهه، فهما متقابلان حينئذ كما هو واضح.
وإذ تمهدت هذه الجهة فلنرجع إلى هو المهم والمقصود فنقول: ان الكلام في
الاجزاء وعدمه يقع تارة في اجزاء الاتيان بالمأمور به الواقعي الاختياري عن الاتيان به
ثانيا وكذا الاتيان بالمأمور به الاضطراري والمأمور به بالامر الظاهري عن مثله، وأخرى
في اجزاء الاتيان بالمأمور به الاضطراري عن المأمور به الاختياري في عدم التعبد به بعد
رفع الاضطرار، وثالثة في اجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري عن المأمور به بالامر
الواقعي في سقوط التعبد به بعد انكشاف الخلاف، فهنا مقامات ثلاثة وينبغي اشباع
الكلام في كل واحد من المقامات المزبورة، فنقول:
اما المقام الأول فيقع الكلام فيه في اجزاء الاتيان بالمأمور به الواقعي الاختياري
عن التعبد به ثانيا، فنقول لا ينبغي الاشكال في أن الاتيان بالمأمور به الواقعي بجميع ما
اعتبر فيه شرعا وعقلا كان موجبا لسقوط الامر عن الطبيعة المأمور بها ومجزيا عن التعبد
به ثانيا من جهة انه بمجرد الاتيان بالطبيعي في الخارج في فرض مطلوبية صرف الوجود
لا الوجود الساري يتحقق الامتثال وينطبق عليه عنوان الإطاعة ومعه يسقط الامر و
التكليف عنه لا محالة ولا يبقي مقتض للاتيان به ثانيا بوجه أصلا، كما لا يخفى. هذا إذا
كان قضية الاتيان بالمأمور به في الخارج علة تامة لحصول الغرض الداعي على الامر به و
لقد عرفت ان الاجزاء في مثله عقلي محض لاستقلال العقل حينئذ بسقوط الغرض و
سقوط الامر بسقوطه بمجرد الموافقة وإيجاد المأمور به، واما لو لم يكن مجرد الاتيان بالمأمور
به علة تامة لحصول الغرض وتحققه بل كان لاختيار المولى أيضا دخل في حصول غرضه
كما نظيره في العرفيات في مثل أمر المولى عبده باتيان الماء واحضاره عنده لأجل الغرض
224

الذي هو رفع عطشه بشر به إياه حيث إنه في مثل هذا الفرض لا يكون مجرد الاتيان بالماء
واحضاره عند المولى علة لحصول غرضه الذي هو رفع عطشه بل كان لاختيار المولى و
ارادته إياه للشرب أيضا دخل في تحققه لكونه هو الجزء الأخير من العلة لحصول غرضه
الذي هو رفع عطشه، ففي مثل حيثما كان الإرادة المتعلقة بايجاد الماء بحسب اللب إرادة
غيرية وتكون الإرادة النفسية لبا هي المتعلقة بحيث رفع العطش، فلا جرم يبتنى جواز
الاتيان بالمأمور به ثانيا وعدم جوازه على القولين في باب مقدمة الواجب: بان الواجب هل
هو مطلق المقدمة ولو لم توصل أو ان الواجب هو خصوص الموصلة منها؟ فعلى القول بوجوب
مطلق المقدمة يكون حال هذا الغرض حال الفرض السابق من علية الاتيان بالمأمور به
لسقوط الامر وحصول الغرض، فكما انه في ذلك الفرض باتيان المأمور به يسقط الامر و
التكليف ولا يجب على المكلف بل لا يجوز عليه الاتيان به ثانيا بعنوان امتثال الامر
بالطبيعة، كذلك في هذا الفرض فباتيان المأمور به في هذا الفرض أيضا يسقط الامر به
فلا يجوز له الاتيان به ثانيا بعنوان امتثال الامر الأول فضلا عن وجوبه. واما على القول
بوجوب خصوص المقدمة الموصلة لا مطلقها فلازمه هو جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا بعنوان
امتثال الامر بالطبيعة مع عدم اختيار المولى إياه، إذ ما دام عدم اختيار المولى للمأتي به
الأول حيثما كان الغرض الداعي على الامر بعد بحاله كان الامر بالايجاد والآتيان أيضا
على حاله من الفعلية، غايته ان ليس له الفاعلية والمحركية بعد الاتيان بالمأمور به أولا
بملاحظة صلاحية المأتي به للوفاء بالغرض لا انه يسقط رأسا بمجرد الاتيان بالمأمور به، و
نتيجة ذلك التفكيك بين فعلية الامر وفاعليته هو جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا ما دام بقاء
الماتى به الأول على صلاحيته للوفاء بغرض المولى ووجوب الاتيان به في فرض خروجه
عن القابلية المسطورة كما في المثال من فرض إراقة الماء المأتى به لغرض الشرب قبل
اختيار المولى إياه إذ حينئذ ربما يجب على العبد والمأمور مع علمه بذلك الاتيان بفرد آخر
من الطبيعي المأمور به كما لا يخفى، ونتيجة ذلك في فرض تعدد الاتيان بالمأمور به هو
وقوع الامتثال بخصوص ما اختاره المولى منهما لا بهما معا وصيرورة الفرد الآخر غير المختار
لغوا محضا لا انه يتحقق به الامتثال أيضا كي يكون قضية الاتيان بالمأمور به متعددا من
باب الامتثال عقيب الامتثال، فعلى ذلك فما وقع في كلماتهم من التعبير عن المأتى به ثانيا
بكونه من الامتثال بعد الامتثال لا يخلو عن تسامح واضح كما هو واضح، لأنه على كل
225

تقدير لا يكاد يكون قضية الاتيان بثاني الوجود حقيقة من باب الامتثال بعد الامتثال.
ثم إن ما ذكرناه من التشقيق بين كون الاتيان بالمأمور به تارة علة لحصول الغرض و
أخرى مقتضيا لذلك على معنى مدخلية اختيار المولى إياه في تحقق غرضه انما هو بحسب
مقام الثبوت. واما بحسب مقام الاثبات فربما أمكن دعوى ظهور الأدلة في علية الاتيان
بالمأمور به لحصول الغرض وسقوط الامر نظرا إلى تحقق الامتثال بمحض ايجاد المأمور به في
الخارج، وعليه فلا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا بعنوان إطاعة الامر الأول الا إذا قام
دليل بالخصوص على جوازه ومشروعيته، كما في باب إعادة من صلى فرادى جماعة حيث
ورد الامر فيه بالخصوص على إعادة الصلاة جماعة معللا فيه بان الله يختار أحبهما
فيستكشف منه حينئذ عدم كون مجرد الاتيان بالمأمور به علة لحصول الغرض بل وان
لاختيار المولى أيضا دخلا في حصول غرضه، كما نظيره في مثال الامر بالماء لأجل غرض رفع
العطش، اللهم الا ان يقال: بان الامر بإعادة من صلى منفردا جماعة انما هو لأجل تحصيل
المصلحة القائمة بخصوصية الجماعة حيث إنه لما كان لا يمكن استيفاء تلك المصلحة الا بإعادة
الصلاة امر جديدا استحبابا بإعادة أصل الصلاة على الكيفية الخاصة، وعليه فلا مجال
لاستكشاف عدم علية مجرد الاتيان بالمأمور به لحصول الغرض الداعي على الامر به و
مدخلية اختيار المولى أيضا في ذلك، ولكن مثل هذا المعنى ينافيه قضية التعليل الوارد في
الخبر (بان الله سبحانه يختار أحبهما إليه) فان مقتضي التعليل المزبور هو مدخلية اختيار المولى
أيضا في حصول غرضه ومرامه ولازمه وقوع الامتثال بخصوص ما اختاره المولى وأحبه
منهما وصيرورة الآخر لغوا محضا فتدبر.
وعلى ذلك أيضا يمكن ان يحمل عليه كلام الجبائي من مصيره إلى عدم الاجزاء،
وذلك بارجاع كلامه إلى عدم الاجزاء بالمعنى الذي ذكرناه امكانا، نظرا إلى احتمال
عدم كون المأتى به علة تامة لحصول الغرض وسقوط الامر بشهادة التعليل الوارد في الامر
بإعادة من صلى فرادى جماعة، وعلى كل فهذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول.
وأما المقام الثاني فيقع البحث فيه في اجزاء المأتى به الاضطراري عن المأمور به
الواقعي الاختياري، على معنى عدم وجوب الإعادة بعد طرو الاختيار في الوقت وعدم
وجوب القضاء في خارج الوقت، في قبال عدم اجزائه ولزوم الاتيان بالمأمور به
الاختياري بعد طرو الاختيار إعادة في الوقت وقضاء في خارجه، فنقول:
226

ان الكلام في هذا المقام تارة يكون بالنسبة إلى الإعادة في الوقت فيما لو طرء الاختيار
قبل انقضاء الوقت وأخرى بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت.
اما الأول فتنقيح الكلام فيه يحتاج إلى بيان ما يمكن أن يقع عليه الفعل
الاضطراري ثبوتا أولا ثم في تعيين ما وقع عليه اثباتا، فنقول: اما الأول فالامر فيه كما
افاده في الكفاية: من أن الفعل الاضطراري تارة يكون وافيا بتمام مراتب المصلحة التي
تكون في الفعل الاختياري وأخرى لا يكون كذلك بل يبقى مقدار من المصلحة و
الغرض، وعلى الثاني فتارة يكون المقدار الباقي مما يمكن استيفائه وأخرى لا يمكن
استيفائه مع استيفاء مرتبة منها بالفعل الاضطراري، وعلى الأول من فرض قابلية المقدار
الباقي للاستيفاء فتارة يكون مما يجب استيفائه باعتبار كونه لازم التحصيل في نفسه و
أخرى لا يجب استيفائه بل يستحب. فهذه الشقوق المتصورة فيما يمكن ان يقع عليه الفعل
الاضطراري.
وربما يختلف هذه الشقوق بحسب اللوازم من حيث الاجزاء وعدمه، فان من لوازم
الشق الأول الاجزاء وعدم وجوب الإعادة نظرا إلى سقوط الامر حينئذ بسقوط
الغرض الداعي عليه ولو مع كون الاضطرار ناشئا عن سوء اختيار المكلف فان لازم وفائه
بتمام الغرض والمصلحة هو قيام الغرض والجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري كما
في الواجب المخير غايته ان ظرف أحد الفردين هو ظرف عدم التمكن من الفرد الآخر، و
لازم ذلك هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة عقلا بملاحظة سقوط الامر بسقوط أصل
الغرض والمصلحة: واما جواز البدار في هذا الفرض ولو مع القطع بطرو الاختيار بعد
ساعة فيبنى على أن الاضطرار الموضوع لهذا الحكم هو مطلق الاضطرار أو هو الاضطرار
الباقي إلى آخر الوقت فعلى الأول يجوز له البدار وباتيانه للفعل الاضطراري يسقط الامر و
التكليف ولا يجب عليه الاتيان بالفعل الاختياري بعد رفع الاضطرار وعلى الثاني
لا يجوز له البدار لعدم الموضوع حينئذ للفعل الاضطراري.
كما أن من لوازم الشق الثالث أيضا الاجزاء وعدم وجوب الإعادة بلحاظ عدم
التمكن حينئذ من استيفاء المقدار الباقي من المصلحة مع استيفاء مرتبة منها بالفعل
الاضطراري، نعم في هذا الفرض ربما يلزم عدم جواز البدار مع العلم بطرو الاختيار فيما
بعد، من جهة ما يلزمه حينئذ من تفويت مقدار من المصلحة الملزمة بلا وجه يقتضيه، نعم
227

مع العلم ببقاء الاضطرار أو الاطمينان بذلك يجوز له البدار باتيان الفعل الاضطراري بل
وكذلك أيضا مع الشك في ذلك للاستصحاب أي استصحاب اضطراره إلى آخر الوقت
فإذا انكشف الخلاف وارتفع اضطراره قبل خروج الوقت يجزيه ما اتى به من الفعل
الاضطراري، لكن ذلك أيضا مبنى على أن يكون موضوع الحكم هو مطلق الاضطرار لا
الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت والا فلا مجال للاجزاء، كما هو واضح.
واما الشق الثاني فمن لوازمه هو عدم الاجزاء وجواز البدار بلا كلام والوجه فيه
واضح بعد ملاحظة بقاء مقدار من المصلحة الملزمة الممكنة الاستيفاء.
واما على الشق الرابع فمن لوازمه أيضا هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة كما في
الشق الأول والثالث، نعم يستحب حينئذ الإعادة تحصيلا لذلك المقدار الباقي من
المصلحة غير الملزمة الممكنة الاستيفاء، واما جواز البدار في هذا القسم وعدم جوازه
فيبتنى على التفصيل: من أن الموضوع هو مطلق الاضطرار أو هو الاضطرار الباقي إلى آخر
الوقت.
واما تنقيح هذه الجهة فيحتاج إلى المراجعة إلى كيفية السنة أدلة الاضطرار من
عمومات نفى الحرج وأدلة الاضطرار وقاعدة الميسور ونحوها، وفي مثله أمكن دعوى ان
المستفاد من نحو تلك العمومات التي مصبها الاضطرار إلى الطبيعة هو خصوص الاضطرار
الباقي إلى آخر الوقت نظرا إلى قضية ظهورها في الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق، إذ
حينئذ لا يكاد تحقق الاضطرار إلى الطبيعة كك الا بعدم التمكن من شئ من الافراد
التدريجية للمأمور به الاختياري، وهذا لا يكون الا في صورة بقاء الاضطرار إلى آخر
الوقت والا ففي فرض طرأ عليه الاختيار قبل خروج الوقت بمقدار يمكنه الاتيان بالمأمور
به الاختياري لا يكاد يصدق الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق كما هو واضح. وعلى
ذلك ربما يسقط النزاع المزبور في الاجزاء وعدمه بالنسبة إلى الإعادة كما لا يخفى.
نعم بالنسبة إلى مثل أدلة التيمم كقوله سبحانه (إذا أقمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم) إلى قوله سبحانه: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) (1) أمكن استفادة
ان الموضوع هو مطلق الاضطرار لا الاضطرار إلى الطبيعة إلى آخر الوقت نظرا إلى دعوى

(1) سورة المائدة، الآية 6.
228

ظهورها بقرينة صدر الآية وهو قوله: (إذا أقمتم إلى الصلاة فاغسلوا الخ) في كفاية مجرد
عدم القدرة على الطهارة المائية في أول الوقت وعند القيام إلى الصلاة في مشروعية الطهارة
الترابية وجواز الدخول معها في الصلاة، كما ربما يؤيد ذلك أيضا ملاحظة الصدر الأول في
زمن النبي صل الله عليه وآله من تفكيكهم بين الصلوات واتيان كل صلاة في وقت
فضيلتها وعدم تأخيرها إلى ما بعد وقت فضلها، حيث إنه يستفاد من ذلك حينئذ ان
الاضطرار المسوغ للطهارة الترابية هو مطلق الاضطرار لا الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت.
ومثل ذلك أيضا الأدلة الآمرة بالتقية بايجاد العبادات على وفق مذهبهم بالحضور في
جماعاتهم والصلاة معهم والوضوء على كيفية وضوئهم، حيث إنه يستفاد من تلك الأدلة
أيضا كفاية مجرد الابتلاء بهم ولو في جزء من الوقت في جواز الاتيان بالمأمور به تقية وعلى
وفق مذهبهم من دون احتياج إلى بقاء الابتلاء بهم إلى آخر الوقت خصوصا بعد ملاحظة
ما هو الغالب من عدم ابتلاء الانسان بهؤلاء الفسقة الفجرة (خذلهم الله تعالى) في تمام
أوقات الصلوات من أول وقتها إلى آخره، إذ حينئذ من الامر بايجاد العبادة تقية يستفاد
ان الاضطرار الموضوع لهذا الحكم هو مطلق الاضطرار. وعليه ففي مثله ربما كان كمال
المجال البحث في اجزاء المأتى به الاضطراري عن الإعادة بالنسبة إلى المأمور به
الاختياري.
وحينئذ فلابد في الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة من لحاظ الموارد ودليل الاضطرار
الجاري فيها بأنه من قبيل أدلة التيمم وأدلة التقية؟ أو من قبيل عمومات نفى الحرج و
عمومات الاضطرار من نحو حديث الرفع وغيره؟ ففي الأول يكون المجال للبحث عن
اجزاء المأتي به الاضطراري عن الإعادة في الوقت، بخلافه في الثاني فإنه عليه لا مجال
للبحث عن اجزاء الفعل الاضطراري الا بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت كما هو
واضح.
وعلى كل حال فهذا كله فيما يمكن ان يقع عليه الفعل الاضطراري ثبوتا: من الوفاء
بتمام مصلحة الفعل الاختياري، أو الوفاء ببعضها مع كون البعض الباقي ممكن
التحصيل في نفسه ولو بفعل آخر في الوقت أو في خارجه وذلك أيضا بنحو اللزوم أو
الاستحباب، أو غير ممكن التحصيل.
واما تعيين ما وقع عليه الفعل الاضطراري من الوجوه المزبورة فيحتاج إلى المراجعة
229

إلى أدلة الاضطرار وملاحظة كيفية ألسنتها.
وقبل الخوض في هذه الجهة ينبغي بيان ما يقتضيه الأصل في المسألة عند الشك في
وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري وعدم وفائه بتمامه وعند الشك
في مفوتية المأتى به الاضطراري لمصلحة الفعل الاختياري وعدم مفوتيته في فرض احراز
عدم وفائه الا ببعض مراتب مصلحة الفعل الاختياري فنقول:
اما لو كان الشك من الجهة الثانية فلا ينبغي الاشكال في أن المرجع فيه هو حكم
العقل بعدم الاجزاء ووجوب الاحتياط كما هو الشأن في جميع الموارد الراجعة إلى الشك
في القدرة على الامتثال وتحصيل الغرض، حيث إنه بالفرض قد علم ببقاء مقدار من
المصلحة الملزمة من جهة عدم وفاء الفعل الاضطراري بتمام مراتب مصلحة الفعل
الاختياري، وانما الشك في القدرة على استيفاء تلك المرتبة من المصلحة باعتبار الشك في
مفوتية المأتى به الاضطراري لتلك المرتبة الباقية ولو من جهة مضادته معها وفي مثله يكون
المرجع هو الاحتياط عقلا لا غير، كما هو واضح.
واما لو كان الشك من الجهة الأولى بان كان الشك في وفاء المأتى به الاضطراري
بتمام مصلحة الفعل الاختياري أو عدم وفائه الا ببعض مراتب مصلحته، فالمرجع فيه
أيضا هو الاحتياط، لاندارجه حينئذ في باب التعيين والتخيير باعتبار رجوع الشك حينئذ
إلى قيام تلك المرتبة من المصلحة المحتملة للبقاء بخصوص الفعل الاختياري أو بالجامع بين
الفعل الاختياري والاضطراري، كي يكون لازمه عدم وفاء الفعل الاضطراري بتمام
مصلحة الفعل الاختياري على الأول ووفائه به على الثاني، فيندرج حينئذ في تلك المسألة
ويكون من صغريات ذلك الباب وفي مثله لابد من الاحتياط بناء على ما هو التحقيق في
تلك المسألة من مرجعية الاحتياط فيها دون البراءة.
نعم لو اغمض عن ذلك لابد من البراءة في مثل هذا الفرض ولا ينتهى المجال إلى
اثبات عدم الاجزاء ووجوب الإعادة ببعض الاستصحابات كاستصحاب بقاء المصلحة
واستصحاب بقاء التكليف بالفعل الاختياري واستصحاب عدم مسقطية المأتي به
الاضطراري للتكليف بالفعل الاختياري ونحوها، إذ نقول:
اما الأول وهو أصالة بقاء المصلحة فلما فيه من عدم اقتضائه لا ثبات التكليف
بالفعل الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار الا على المثبت باعتبار عدم كون ترتب الوجوب
230

والتكليف على بقاء المصلحة الا عقليا محضا لا شرعيا من جهة انه من لوازم بقاء
المصلحة والغرض على حاله وحينئذ فالاستصحاب المزبور لا يكاد يجدي شيئا حيث
لا يكون المستصحب بنفسه اثرا شرعيا بل ولا موضوعا أيضا لاثر شرعي، واما نفس هذا
الوجوب فهو وان كان اثرا شرعيا الا ان لا يكون ترتبه على بقاء المصلحة شرعيا كما هو
واضح.
واما أصالة بقاء الاشتغال بالتكليف الاختياري فهو أيضا غير جارية من جهة القطع
بانتقاض الحالة السابقة حال طرو الاضطرار والقطع بارتفاع التكليف الاختياري عند
الاضطرار، وحينئذ فبعد ارتفاع الاضطرار كان الشك في أصل التكليف بالفعل
الاختياري.
ومن ذلك البيان ظهر أيضا حال أصالة عدم مسقطية الفعل الاضطراري إذ ذلك
أيضا مما لا مجال لتوهمه بعد فرض القطع بارتفاع التكليف الاختياري حال الاضطرار، و
من ذلك البيان ظهر فساد مقايسة المقام بباب الماليات فيما يثبت اشتغال الذمة بعين
مخصوص ولم يتمكن من أدائها فدفع ما هو بدل عنها ثم تمكن من أداء تلك العين حيث
تجري فيها أصالة عدم المسقطية ويحكم بوجوب أداء تلك العين، إذ نقول: بان جريان
أصالة عدم المسقطية في المثال انما هو باعتبار ثبوت الاشتغال بالمبدل حين أداء البدل و
هذا المعنى لا يتحقق في مثل المقام المفروض ارتفاع التكليف الاختياري حال طرو
الاضطرار فتدبر.
واما الاستصحاب التعليقي وهو أصالة وجوب الفعل الاختياري على فرض طرو
الاختيار بتقريب: انه قبل الاتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية مثلا يقطع بأنه لو طرأ
الاختيار لوجب عليه الاتيان بالصلاة مع الطهارة المائية وبعد الاتيان بها مع الطهارة
الترابية يشك في ذلك والأصل يقتضي بقائه، وحينئذ فبعد زوال الاضطرار يحكم
بمقتضى الاستصحاب المزبور بوجوب الإعادة ففيه أيضا ما لا يخفى، إذ نقول: بأنه من
المعلوم اجمالا حينئذ عدم جريان هذا الاستصحاب اما من جهة عدم الموضوع له واما
لعدم كون البقاء مستندا إلى حيث الاختيار، فإنه على تقدير وفاء الفعل الاضطراري
بتمام مصلحة الفعل الاختياري يقطع بسقوط الوجوب والتكليف فلا موضوع حينئذ
للاستصحاب المزبور، وعلى تقدير عدم وفائه بتمام مصلحته لا يكون الوجوب المزبور
231

بقائه مستندا إلى حيث الاختيار بل وانما هو مستند إلى ذاته باعتبار اقتضاء تلك المرتبة
من المصلحة الملزمة الباقية، وفي مثله حيثما شك في بقائه من جهة الشك في وفاء الفعل
الاضطراري بتمام المصلحة أو ببعضها لا مجال لا ثبات الوجوب بمقتضي الاستصحاب
المزبور.
وحينئذ فلو اغمض عما ذكرناه من اندراج المسألة عند الشك في صغريات مسألة
التعيين والتخيير الجاري فيها الاحتياط لا محيص في المسألة الا من البراءة باعتبار رجوع
الشك حينئذ بعد الاتيان بالفعل الاضطراري في أصل فوت مصلحة الفعل الاختياري و
في أصل التكليف به، وحينئذ فكان العمدة في تقريب عدم الاجزاء بمقتضي الأصول
عند الشك هو ما ذكرنا من الاندراج في مسألة التعيين والتخيير بالتقريب الذي قربناه
فتدبر.
هذا كله بالنسبة إلى الإعادة في الوقت ولقد عرفت بان مقتضي الأصل في ذلك عند
الشك في كلا الفرضين هو عدم الاجزاء ووجوب الإعادة.
واما بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت في فرض بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت
فان كان الشك في أصل وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري وعدم
وفائه الا ببعض مراتب مصلحته فمقتضى الأصل فيه أيضا كما تقدم بالنسبة إلى الإعادة
من جهة رجوع الشك حينئذ أيضا إلى قيام تلك المرتبة من المصلحة الملزمة المشكوك وفاء
الفعل الاضطراري بها بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري في الوقت أو
بخصوص الفرد الاختياري ولو في خارج الوقت فيندرج في مسألة التعيين والتخيير
والمختار فيها هو الاحتياط، كما عرفت.
واما ان كان الشك في قابلية المقدار الباقي من المصلحة للاستيفاء في خارج الوقت
مع القطع بعدم وفاء الفعل الاضطراري الا ببعض مراتب مصلحة الفعل الاختياري، فان
احتمل ان يكون تلك المرتبة من المصلحة الباقية لخصوصية وقوع الفرد الاختياري في
الوقت ولو لخصوصية في نفس الوقت تقتضيه، فلا اشكال في أن مقتضي الأصل حينئذ
هو البراءة عن القضاء باعتبار رجوع الشك حينئذ في أصل وجود المصلحة في خارج الوقت
كي يترتب عليه وجوب التدارك بالقضاء، من غير فرق في ذلك بين القول: بان القضاء
بالامر الأول وانه من باب تعدد المطلوب، أو القول: بكونه بأمر جديد اما بمناط الجبران أو
232

بمناط آخر غير ذلك أو بمناط اقتضاء فوت المصلحة في الوقت لحدوث مصلحة ملزمة في
خارج الوقت أو غير ذلك، واما ان لم يحتمل ذلك بل أحرز ولو من جهة قضية الاطلاق
ان تلك المرتبة من المصلحة غير المستوفاة مترتبة على الجامع بين الفعل الاختياري في الوقت
وخارجه بحيث كان الشك ممحضا في القدرة على استيفائها من جهة الشك في مفوتية
الفعل الاضطراري لها، ففي هذا الفرض لابد من الاحتياط بمناط قاعدة الشك في القدرة
من دون فرق أيضا بين القول بتبعية القضاء للأداء أو القول بكونه بأمر جديد.
ثم إن ذلك أيضا مع قطع النظر عن أدلة القضاء بان يمنع شمولها لصورة فوت بعض
المصلحة في الوقت اما لانصرافها إلى صورة فوت التمام من رأس كما لعله هو التحقيق أيضا
أو لا أقل من كون فرض فوت التمام هو القدر المتيقن منها في مقام التخاطب والا فمع
فرض اطلاق تلك الأدلة حتى لصورة فوت بعض المصلحة أيضا فلا ينتهي الامر إلى تلك
الأصول من جهة وجود دليل اجتهادي حينئذ على عدم الاجزاء ووجوب القضاء بمحض
فوت المصلحة في الوقت ولو ببعض مراتبها. واما توهم عدم تكفل أدلة القضاء لا ثبات
قابلية المحل للوجود فمع الشك في القابلية المزبورة حينئذ لا مجال للتمسك بأدلة القضاء
لا ثبات الوجوب الفعلي، فمدفوع بان شأن أدلة القضاء دائما انما هو رفع الشك عن هذه
الجهة واثبات قابلية المحل للوجود ففي كل مورد امر فيه بالقضاء لا محالة من نفس الامر به
يستكشف قابلية المحل للتحقق كما هو واضح. وحينئذ فالعمدة في الاشكال عليها انما
هو الاشكال عليها من الجهة الأولى: من منع اطلاقها لصورة فوت بعض المصلحة و
انصرافها إلى صورة فوت التمام أو مانعية ذلك عن الاخذ باطلاقها باعتبار كون فرض فوت
التمام هو القدر المتيقن منها في مقام التخاطب، وعليه فينتهى الامر عند الشك إلى الأصول
العلمية العقلية ولقد عرفت بان مقتضاها عند القطع بفوت بعض المصلحة والشك في
القدرة على استيفائه هو البراءة في فرض والاحتياط في فرض آخر فتدبر.
وكيف كان فهذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الفعل الاضطراري ثبوتا من الوفاء
بتمام الغرض أو بعضه وكون البعض الباقي ممكن الاستيفاء أو غير ممكن الاستيفاء.
وأما تعيين ما وقع عليه الفعل الاضطراري إثباتا فيحتاج استفادته إلى ملاحظة
كيفية الأدلة المتكلفة للفعل الاضطراري، من نحو قوله: التراب أحد الطهورين يكفيك
عشر سنين، وقوله عليه السلام: رب الصعيد رب الماء. ونحو أوامر التقية المتكلفة لا ثبات
233

الاتيان بالمأمور به على وفق مذهبهم تقية، ونحو قاعدة الميسور، وعمومات أدلة الحرج و
الاضطرار من نحو قوله سبحانه: ما جعل الله عليكم في الدين من حرج، وقوله
صلى الله عليه وآله: كل شئ اضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله، وحديث الرفع من
قوله صلى الله عليه وآله (وما اضطروا إليه) ونحو ذلك من الأدلة والعمومات فنقول:
أما الأدلة الواردة في التيمم عند عدم التمكن من استعمال الماء في الوضوء و
الغسل، من نحو قوله صلى الله عليه وآله: التراب أحد الطهورين فلا شبهة في ظهوره في
نفسه في قيام المصلحة بالجامع بين الطهارة المائية والترابية نظرا إلى ظهوره في فردية
التيمم حقيقة أو جعلا وتنزيلا لما هو الطهور المأمور به في مثل قوله: لا صلاة الا بطهور فان
لازم فرديته للطهور حينئذ هو وفائه بجميع ما يفي به الطهارة المائية من المصلحة، ولازمه
هو الاجزاء عقلا وعدم وجوب الإعادة في الوقت ولا القضاء في خارج الوقت، كما أن
لازمه أيضا هو جواز البدار وجواز تفويت الفرد الاختياري بإراقة الماء عمدا ولو بعد
دخول الوقت وجعل نفسه غير واجد للماء كما نظيره في مثل الحاضر والمسافر.
نعم ربما يعارض هذا الظهور ظهور قوله سبحانه: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم الخ) فان ظاهره هو كون الطهارة المائية بخصوصيتها دخيلا في المطلوب لا بما
انها مصداق لجامع الطهور وان ما هو الشرط هو الجامع بين الطهارة المائية والطهارة
الترابية كي يكون الامر بالخصوصية في حال وجدان الماء ارشادا إلى حصر مصداق
الجامع في هذا الحال بهذا المصداق، ضرورة ان ذلك كله خلاف ما يقتضيه ظاهر الامر
بالخصوصية، وحينئذ فإذا كان كذلك يلزمه لا محالة أيضا قيام المصلحة بالخصوصية لا
بالجامع بين الفردين، وإلا فيستحيل تعلق الإرادة والطلب بالخصوصية مع فرض قيام
المصلحة بالجامع. وعلى هذا فيتحقق التنافي بين هذا الظهور وبين ظهور مثل قوله
صلى الله عليه وآله: التراب أحد الطهورين، بناء على ما قربناه من ظهوره ولو
بالاطلاق في فردية التيمم لما هو الطهور المأمور به في الصلاة ووفائه بجميع ما يفي به
الطهارة المائية من المصلحة، وفي مثله لابد من تقديم ظهور قوله سبحانه من الامر بالغسل
على ظهور دليل التيمم لمكان اقوائية ظهوره من ظهوره لكونه ظهورا وضعيا وهذا ظهور
اطلاقي ناش من مقدمات الحكمة، وحينئذ فيرفع اليد عن حجية ظهور دليل التيمم في
حيث وفائه بتمام المصلحة بدليل الامر بالغسل، لاعن أصل ظهوره كما قد يتوهم بان
234

الظهور الاطلاقي منوط ومتعلق بعدم ورود البيان على خلافه والظهور الوضعي صالح
للبيانية وللقرينية عليه وبمجرد تحقق الظهور الوضعي يرتفع أصل ظهوره الاطلاقي، إذ قد
مر منا مكررا بطلان هذا التوهم بتقريب: ان عدم البيان الذي هو من جملة مقدمات
الاطلاق انما هو عدم البيان متصلا بالكلام الذي يقع به التخاطب لا عدم البيان على
الاطلاق ولو إلى آخر الدهر، وحينئذ فإذا لم يقم المتكلم في كلامه الذي أوقع به
التخاطب قرينة متصلة به كما في المقام فلا جرم يستقر الظهور الاطلاقي لكلامه ومع
استقرار هذا الظهور يتحقق التنافي والتعارض لا محالة بينه وبين ما ينافيه في كلام آخر
منفصل عنه ومعه لابد في تقديم أحدهما على الآخر من لحاظ اقوائية أحد الظهورين على
الآخر ونتيجة ذلك هو الاخذ بما هو الأقوى منهما في مقام الحجية ورفع اليد عن حجية
ظهور الآخر لاعن أصل ظهوره كما في المقام - حسب ما قررناه من لزوم رفع اليد عن
حجية ظهور قوله: (التراب أحد الطهورين) في قيام المصلحة بالجامع ووفاء التيمم
بجميع ما يفي به الطهارة المائية من المصلحة.
ثم إن هذا كله بالنسبة إلى حيث ظهور دليل التيمم بمدلوله المطابقي في قيام المصلحة
بالجامع، واما بالنسبة إلى حيث ظهوره بمدلوله الالتزامي في الاجزاء وعدم وجوب
الإعادة والقضاء بعد ارتفاع الاضطرار والتمكن من استعمال الماء فيؤخذ بظهوره ذلك
نظرا إلى عدم ظهور لدليل وجوب الوضوء على خلاف ظهوره يقتضي عدم الاجزاء و
وجوب الإعادة، وذلك من جهة سكوته من جهة قابلية المقدار الباقي من المصلحة
للاستيفاء وعدمه، وحينئذ فيكون ظهور دليل التيمم في الاجزاء ونفى الإعادة بمدلوله
الالتزامي على حاله سليما من المعارض فيجب الاخذ حينئذ بظهوره ذلك ونتيجة ذلك
حينئذ بعد هذا الجمع هو الحكم بالاجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء ولكن بمناط
المفوتية للمصلحة القائمة بالخصوصية، لا بمناط الوفاء بجميع ما يفي به الطهارة المائية من المصلحة.
ومن ذلك أيضا يترتب عليه حرمة التفويت بمقتضي قضية الامر بالخصوصية،
فلا يجوز عليه حينئذ إراقة الماء عند دخول الوقت وجعل نفسه غير واجد للماء بإراقته وان
كان لو فعل ذلك يجزي ما أتى به من التيمم عن الطهارة المائية ولا يجب عليه إعادة
الصلاة بعد ارتفاع الاضطرار ووجدان الماء، كما يشهد عليه أيضا اجماعهم على عدم جواز
اتلاف الماء واراقته بعد دخول الوقت. خصوصا في فرض استمرار الاضطرار إلى آخر
235

الوقت، إذ لولا ما ذكرنا: من قيام المصلحة بالخصوصية لا بالجامع ومفوتية المأتى به
الاضطراري لمصلحة الخصوصية لما كان وجه لاجماعهم على عدم جواز التفويت كما هو
واضح.
وأما توهم عدم امكان الجمع بين قيام المصلحة بالخصوصية وحرمة التفويت وبين
الاجزاء بمناط الوفاء ببعض الغرض فلابد اما من القول بعدم الاجزاء رأسا بناء على
فرض قيام المصلحة بالخصوصية أو القول بالاجزاء بمناط الوفاء بتمام الغرض ولازمه هو
عدم حرمة التفويت أيضا فالجمع بين الامرين مما لا وجه له، فمدفوع بأنه كذلك إذا
كانت المصلحة المزبورة مرتبة واحدة تدور أمرها بين قيامها بالجامع أو الخصوصية وليس
كذلك بل نقول: بأن لها مراتب مرتبة منها كانت قائمة بالجامع بين الفعل الاختياري و
الاضطراري ومرتبة أخرى ملزمة منها كانت قائمة بالخصوصية، وحينئذ فبإتيان الفعل
الاضطراري تتحقق تلك المرتبة من المصلحة القائمة بالجامع وتبقى تلك المرتبة الأخرى
القائمة بالخصوصية فحيث انها بعد استيفاء المرتبة القائمة بالجامع غير قابلة للتحصيل يحكم
بالاجزاء مع حرمة التفويت فتدبر.
ومن ذلك البيان ظهر أيضا حال الأدلة المتكلفة للتقية مما كان مصبها الوضع مثل
الأدلة الدالة على اتيان العبادة على وفق مذهبهم كالصلاة مع التكتف والافطار حين
غروب الشمس لا ما كان منها مصبها التكليف خاصة كالافطار في سلخ شهر رمضان
المبارك، إذ نقول فيها أيضا: بأن المستفاد من أدلتها بقرينة ما في بعض تلك الأخبار من
امر الإمام عليه السلام باتيان الصلاة أولا في الدار ثم الحضور في جماعتهم انما هو اجزاء
الفعل الاضطراري تقية عن الفعل الاختياري بنحو لا يجب مع اتيانه الإعادة في الوقت
فضلا عن القضاء في خارجه، لكن الاجزاء المزبور لا بمناط الوفاء بجميع ما يفي به الفعل
الاختياري من المصلحة بل بمناط الوفاء ببعض مراتب المصلحة ومفوتيته للمراتب الاخر.
وعمدة النكتة في استفادة هذين الامرين منها انما هي من جهة قضية الامر باتيان
الصلاة في الدار أولا والحضور بعد ذلك في جماعتهم، وذلك لما فيه من الدلالة ولو بالالتزام
على نقصان الفرد الاضطراري بحسب الغرض والمصلحة عن الفرد الاختياري، كدلالته
أيضا على عدم امكان تحصيل المقدار الباقي من المصلحة بعد الاتيان بالفرد الاضطراري،
والا فمع فرض وفائه بجميع مراتب المصلحة المترتبة على الفعل الاختياري الذي لازمه
236

قيامها بالجامع بينهما لا مجال للامر بالاتيان بالصلاة أولا في الدار. كما أنه في فرض عدم
اجزائه وعدم مفوتيته للمقدار من المصلحة الملزمة لا مجال أيضا للامر بالاتيان بها
أولا في الدار نظرا إلى تمكن المكلف حينئذ من اعادتها بعد ارتفاع التقية خصوصا بعد
ملاحظة ما هو الغالب من عدم كون الابتلاء بالتقية في تمام الوقت فيكون نفس الامر
بالاتيان بها في الدار كاشفا قطعيا عن أن الفرد المأتى به تقية غير واف بتمام ما في الفرد
الاختياري من الغرض والمصلحة وانه يبقى بعد مرتبة منها ملزمة في نفسها غير قابلة
للاستيفاء بعد استيفائها ببعض مراتبها بالفرد الاضطراري، من غير فرق في هذه الجهة بين
القول ببدلية الفعل الاضطراري أو فرديته للطبيعة، إذ على الفردية أيضا يمكن القول
بالاجزاء بمناط المفوتية من جهة كون الطبيعي من التشكيكيات وكون الفرد
الاضطراري مرتبة ضعيفة منها والفرد الاختياري مرتبة شديدة منها، كما في مثل النور
والبياض والحمرة ونحوها، فمن هذه الجهة كان التكليف أولا متعلقا بمرتبة شديدة من
الطبيعة وهو الفرد الاختياري ثم بعد تعذر ذلك كان التكليف متعلقا بالمرتبة الضعيفة
منها التي هي الفرد الاضطراري لما فيه أيضا من الوفاء ببعض مراتب الغرض والمصلحة.
ومن ذلك أيضا نقول: بأنه لا مجال لاستفادة الاجزاء بمجرد احراز فردية الفعل
الاضطراري للطبيعة المأمور بها الا باحراز أحد الامرين: اما احراز قيام تمام المصلحة
الملزمة بما لها من المراتب بالجامع بينهما كي يلزمه وفائه بتمام المصلحة الملزمة، أو احراز
مفوتية الفعل الاضطراري للمقدار الباقي من المصلحة الملزمة القائمة بالخصوصية، كما
استفدناها من قضية الجمع بين الامر بالخصوصية والامر بالفعل الاضطراري في باب
التيمم وباب التقية.
هذا كله بالنسبة إلى أدلة التقية ولقد عرفت ان المستفاد منها جمعا بينها وبين الأدلة
المثبتة للتكليف بالخصوصية هو الاجزاء مطلقا حتى بالنسبة إلى الإعادة فضلا عن القضاء
لكن لا بمناط الوفاء بتمام الغرض والمصلحة بل بمناط الوفاء ببعض مراتبها مع مفوتيته
لبعض المراتب الباقية.
واما مثل قاعدة الميسور وعمومات الاضطرار كحديث الرفع وقوله: كل شئ
اضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله، فمحل الكلام في البحث عن الاجزاء وعدمه فيها كما
عرفت يختص بالاجزاء بالنسبة إلى خصوص القضاء دون الإعادة، من جهة ما تقدم من
237

ان المستفاد منها هو كون مصبها مورد الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق، إذ عليه
لا يكاد يتحقق موضوع لهذا البحث بالنسبة إلى الإعادة باعتبار اقتضاء الاضطرار إلى
الطبيعة بقول مطلق للاضطرار إليها في تمام الوقت، وعلى ذلك نقول:
اما مثل قاعدة الميسور فلا شبهة في أن فيها اقتضاء عدم وفاء المأتي به الاضطراري
بتمام الغرض والمصلحة، لوضوح ان الميسور من الشئ الذي هو نصفه أو ربعه لا يكون
تمام الشئ حتى في مرحلة الوفاء بالمصلحة، وحينئذ فباب احتمال الاجزاء عن القضاء
فيها بمناط الوفاء بتمام الغرض والمصلحة مسدود قطعا، وحينئذ فلو كان هناك إجزاء
لابد وأن يكون بمناط المفوتية لمصلحة الخصوصية وفي مثله أمكن دعوى عدم استفادة
الاجزاء من مثلها نظرا إلى عدم اقتضاء مجرد الامر بالميسور من الطبيعة في الوقت لعدم
وجوب القضاء في خارج الوقت ولو من جهة عدم قابلية المقدار الفائت من المصلحة
للاستيفاء. وحينئذ فإذا شك في قابليته للاستيفاء وعدم قابليته لذلك يرجع إلى الأصول
على التفصيل المتقدم، وذلك أيضا بعد الفراغ عن عدم شمول دليل القضاء لصورة فوت
بعض المصلحة واختصاصه صرفا أو انصرافا بفرض فوت تمام المصلحة كما هو التحقيق
أيضا، والا فلا تنتهي النوبة إلى مقام الأصول بل يحكم بعدم الاجزاء ووجوب القضاء
بنفس أدلة القضاء، كما هو واضح. هذا إذا كان مصب القاعدة هو الطبيعة كما في
الاضطرار الطاري قبل الاشتغال بالعمل.
واما لو كان مصبها هو الفرد كما في الاضطرار الطاري في حال الاشتغال بالعمل
فيمكن استفادة الاجزاء من القاعدة المزبورة حتى بالنسبة إلى الإعادة بناء على جريانها
حينئذ حتى مع القطع بطرو الاختيار فيما بعد بتقريب: ان قضية قاعدة الميسور حينئذ انما
هو لزوم الاتيان بالميسور من هذا الفرد الذي اقتضى وجوب اتمامه دليل الامر بالطبيعة و
قضية لزوم اتيانه بالميسور منه انما هو اتيانه بعنوان الفردية للطبيعة كما لو كم يطرء في البين
اضطرار، وقضية ذلك هو الاجزاء لا محالة وعدم وجوب الإعادة والقضاء. ولكن
الأستاذ دام ظله لم يفرق بين الاضطرار الطاري قبل الاشتغال بالعمل وبين الاضطرار
الطاري بعد الاشتغال بالعمل، ولكن عمدة نظره إلى انكار متعلق الامر بالاتمام بالنسبة
إلى مثل هذا الفرد الذي طرأ الاضطرار بترك بعض اجزائه وشرائطه ولو مع العلم بالتمكن
من الاتيان بالطبيعة في ضمن فرد آخر.
238

واما عمومات الاضطرار كحديث الرفع وقوله (كل شئ اضطر إليه ابن آدم فقد
أحله الله) بناء على كونها جملة مستقلة كما ادعاه بعض الاعلام بان الموجود في بعض
النسخ الصحيحة هكذا (التقية في كل شئ وكل شئ اضطر إليه ابن آدم فقد أحله
الله) لا مربوطا بقضية الصدر كما في أكثر النسخ بأن (التقية في كل شئ اضطر إليه ابن
آدم) الخ (1) إذ عليه لا يرتبط بمطلق الاضطرار بل تختص بالاضطرار في التقية الذي
عرفت الحال فيه مفصلا، فتطبيقها تارة يكون على نفس الجزء أو الشرط أو المانع المضطر
إليه، وأخرى على نفس المركب والمقيد باعتبار ان الاضطرار إلى الجزء أو الشرط يوجب
الاضطرار إلى نفس المركب والمقيد، فعلى الثاني لا اشكال في أنه لا مقتضى للاجزاء،
لان مفاد دليل الاضطرار بعد تطبيقه على المركب والمشروط انما هو جواز ترك المركب و
المشروط تكليفا عند تعذر جزئه وشرطه وحينئذ فبعد طرو الاختيار يجب القضاء
بلا كلام، واما على الأول من فرض تطبيقه على نفس الجزء أو الشرط المتعذر فمقتضاه هو
الاجزاء لا محالة من جهة اقتضاء تطبيقه حينئذ على الجزء أو الشرط المتعذر لرفع جزئية ما
كان جزء وشرطية ما كان شرطا في حال الاختيار وقضية ذلك لا محالة كانت هو
الاجزاء.
وهكذا الحال في عمومات الحرج من نحو قوله سبحانه (ما جعل الله عليكم في
الدين من حرج) حيث إنه بتطبيقها على الجزء أو الشرط الحرجي يستفاد الاجزاء
بلحاظ اقتضائها لتحديد دائرة الشرطية والجزئية والمانعية بغير صورة الحرج كما يشهد له
أيضا ما في خبر عبد الاعلى مولى آل سام من تطبيقه عليه السلام تلك القاعدة على شرطية
المباشرة في المسح بقوله عليه السلام: (يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل، قال
الله تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج امسح على المرارة)، حيث إنه عليه السلام
اخذ بأصل المسح والقى قيد مباشرة البشرة بنفس تلك القاعدة فأمر بايجاد المسح على
المرارة هذا.
ولكن الأستاذ دام ظله منع عن تطبيق تلك العمومات على الجزء والشرط والمانع
ببيان ان مفاد تلك العمومات انما كان أحكاما امتنانية ولابد في تطبيقها على مورد ان لا

(1) الوسائل، ج 11، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 2.
239

يلزم منها خلاف امتنان على المكلف من جهة أخرى فمن هذه الجهة لا مجال
لتطبيقها على الجزء أو الشرط المتعذر باعتبار ما يلزمها حينئذ من
اثبات التكليف بما عدا الجزء أو الشرط المتعذر وهو بنفسه خلاف الارفاق على المكلف
لأنه لو لاها لكان المكلف في الراحة عن مشقة التكليف بالفاقد للجزء أو الشرط المتعذر
نظرا إلى قضية انتفاء المركب والمقيد بانتفاء اجزائه وقيده فينحصر حينئذ تطبيقها على
نفس المركب والمقيد كي لازمه سقوط التكليف بالمرة عن المكلف بالنسبة إلى الفاقد
للجزء أو الشرط المتعذر. ثم انه لما كان يرد عليه اشكال تطبيق الإمام عليه السلام قاعدة
نفى الحرج على الشرط المتعذر كما في رواية عبد الاعلى المتقدمة أجاب عنه بان قضية
التطبيق على الشرط المتعذر في تلك الرواية انما هي باعتبار وقوع المكلف على كل تقدير في
مشقة التكليف: اما التكليف بالتيمم في فرض سقوط التكليف بالوضوء من جهة تعذر
المسح على البشرة واما التكليف بالوضوء بالغاء شرطية المباشرة على ما هو قضية التطبيق
على شرطية مباشرة الماسح للبشرة فمن هذه الجهة لم يلزم من التطبيق على الشرط المتعذر
خلاف امتنان على المكلف، بخلافه في غير ذلك المقام مما كان المكلف في الراحة عن
مشقة التكليف بالفاقد للجزء أو الشرط المتعذر فإنه في أمثال تلك المقامات لو طبق تلك
العمومات على الجزء أو الشرط المتعذر يلزم منها اثبات التكليف بالفاقد فيلزم من تطبيقها
خلاف الامتنان على المكلف هذا.
ولكن أقول: بأنه يتوجه عليه انه في غير ذلك المورد أيضا لا يخلوا المكلف عن مشقة
التكليف: اما التكليف بالقضاء بناء على فرض تطبيقها على نفس المركب والمقيد واما التكليف
بالفاقد للجزء أو الشرط المتعذر على فرض تطبيقها على الجزء أو الشرط المتعذر وحينئذ
فإذا كان المكلف في كلفة التكليف على كل تقدير لا بأس بتطبيقها على الجزء أو الشرط
المتعذر في سائر المقامات أيضا. ولئن قيل: بان ثبوت التكليف بالقضاء في خارج الوقت
انما هو من لوازم عدم الاتيان بالمأمور به خارجا في الوقت لامن لوازم تطبيق دليل الحرج
أو الاضطرار على المركب والمقيد، نقول: بأنه يكفي لنا حينئذ في اثبات التكليف بالبقية
كما في باب الصلاة ما دل على انها لا تترك بحال، من دون احتياج إلى اثبات وجوب
البقية بأدلة الحرج والاضطرار حتى يرد عليه اشكال خلاف الارفاق في فرض تطبيقها
على الجزء والشرط المتعذر فتدبر.
240

وكيف كان فقد تلخص من جميع ما ذكرنا في الفعل الاضطراري ان مقتضي
القاعدة الأولية المستفادة من الأدلة المثبتة للاجزاء والشرائط هو عدم الاجزاء ووجوب
الإعادة في الوقت بعد ارتفاع الاضطرار أو القضاء في خارج الوقت، ولكن مقتضي
القاعدة الثانوية المستفادة من أدلة الاضطرار في باب التقية وباب التيمم حسب الجمع
بين أدلتها وبين الامر بخصوصية الفرد الاختياري هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة
فضلا عن القضاء في خارج الوقت مع حرمة التفويت أيضا بالاختيار بلحاظ مفوتية
المأتى به الاضطراري لمصلحة الخصوصية، ولذلك قلنا بان الاجزاء فيها كان بمناط التفويت للمقدار
الباقي من المصلحة لا بمناط الوفاء بتمام الغرض والمصلحة واما في مطلق الاضطرار في غير باب
التقية والتيمم مما كان دليله قاعدة الميسور وعمومات الاضطرار والحرج فعدم الاجزاء
بالنسبة إلى الإعادة قطعا لعدم الموضوع له في فرض طرو الاختيار في الوقت، وعلى
اشكال أيضا في الاجزاء بالنسبة إلى القضاء ينشأ مما عرفت من عدم استفادة المفوتية
لمصلحة الخصوصية من العمومات المزبورة فلابد حينئذ من الرجوع إلى اما يقتضيه الأصل
العملي، ولقد تقدم ان مقتضي الأصل مع احتمال قيام المصلحة الباقية الفائتة بالفرد
الاختياري الواقع في الوقت ولو لخصوصية في نفس الوقت موجبة لكون الفرد الاختياري
الواقع فيه ذا مزية زائدة على الفرد الاضطراري الواقع فيه والفرد الاختياري الواقع في
خارج الوقت هو البراءة عن وجوب القضاء في خارج الوقت، لعدم احراز بقاء مصلحة
ملزمة حينئذ في خارج الوقت كي يكون الشك في القدرة على استيفائها. واما مع احراز
قيام المصلحة الفائتة بالجامع بين الفرد الاختياري في الوقت والفرد الاختياري في
خارجه وتمحض الشك في القدرة على استيفائها فمقتضى الأصل هو الاحتياط لا غير
فتدبر.
ثم انه من التأمل فيما ذكرنا ظهر لك الحال في الحكم بجواز بدار أولى الاعذار وعدم
جوازه، فإنه فيما كان موضوعه مطلق الاضطرار إلى الطبيعة كما في باب التقية بل وباب
التيمم أيضا على ما استفدناه من الآية الشريفة كان الحكم فيه هو جواز البدار ولو مع
القطع بزوال الاضطرار وطرو الاختيار عليه في الوقت فضلا عن فرض الشك في زوال
اضطراره فيه، وذلك انما هو من جهة اقتضاء قضية الامر باتيان الفعل الاضطراري عند
تحقق موضوعه الذي هو مطلق الاضطرار، فإنه من ذلك ربما يستفاد الترخيص فيما يستتبعه
241

الفعل الاضطراري من تفويت مصلحة الخصوصية، ولا ينافي ذلك ما ذكرناه آنفا من
حرمة التفويت، لان ذلك انما هو بلحاظ قبل حال طرو الاضطرار لا بلحاظ حال طرو
الاضطرار الذي هو مورد البحث في هذا المقام. فلا تنافي حينئذ بين حرمة اتلاف الماء مثلا
في الوقت وادخال نفسه في موضوع (من لم يجد) وبين جوازه بداره باتيان الصلاة مع التيمم
في فرض تحقق الاضطرار وان استلزم ذلك تفويت مقدار من المصلحة الملزمة من جهة
امكان ابتلائها في هذا الحال بمصلحة أخرى أهم وهي مصلحة التسهيل مثلا. نعم لو لم
يكن في البين حينئذ امر من الشارع باتيان الفعل الاضطراري عند تحقق موضوعه أمكن
لنا دعوى عدم الجواز بلحاظ مقدمية المأتى به الاضطراري لتفويت مصلحة الخصوصية
بناءا على القول بها لكن لازمه أيضا هو عدم الاجزاء بلحاظ وقوعه حينئذ حراما ومنهيا
عنه وإلا فبناء على القول بمنع المقدمية وكونه مجرد التلازم الخارجي كما هو التحقيق على
ما يأتي بيانه في مبحث الضد إن شاء الله تعالى لا مقتضي لعدم الجواز أيضا فيجوز له البدار
وان عصى بتفويته لمصلحة الخصوصية. هذا كله فيما إذا كان موضوع التكليف هو مطلق
الاضطرار بالطبيعة.
وأما ما كان موضوعه هو الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق كما استفدناه من نحو
قاعدة الميسور وعمومات الحرج والاضطرار ففيها لا مقتضي لعدم جواز البدار إلا من
جهة التشريع، من جهة وضوح عدم استلزام البدار باتيان الفعل الاضطراري حينئذ
لتفويت مصلحة الفعل الاختياري وحينئذ فلابد من ملاحظة شقوق المسألة، فمع العلم
بطرو الاختيار في الوقت لا يجوز له البدار باتيان الفعل الاضطراري بعنوان الامر به من
جهة كونه حينئذ تشريعا محرما. واما مع عدم العلم بطرو الاختيار في الوقت واحتمال
بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت، فان بنينا على كفاية احتمال الامر في صحة العبادة مع
الامكان، فلا اشكال في أن لازمه هو جواز بداره فيجوز له حينئذ البدار باتيان الفعل
الاضطراري بداعي احتمال الامر، فإذا بقى اضطراره من باب الاتفاق إلى آخر الوقت
يجزيه عن القضاء في خارج الوقت على التفصيل المتقدم وإذا لم يبق اضطراره إلى آخر
الوقت يجب عليه الإعادة في الوقت، من جهة كشف اختياره في الوقت عن عدم الامر
بالفعل الاضطراري وعدم رجحانه حين الاتيان به. وأما ان بنينا على إعتبار الجزم بالامر
في صحة العبادة ومشروعية الدخول فيها، فلازمه هو عدم جواز البدار ووجوب تأخيره إلى
242

وقت يقطع قطعا عاديا بعدم زوال اضطراره. نعم لو انتهى الامر إلى هذه المرحلة أمكن
دعوى جواز البدار بمقتضي أصالة بقاء الاضطرار، حيث إنه علي يقين منه فعلا وقد شك في
زواله في الآنات المتأخرة قبل خروج الوقت فيستصحب بقائه ويترتب على استصحابه
جواز بداره كما في صورة القطع ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت. واما توهم عدم اليقين
الفعلي بالاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق حتى بالنسبة إلى افرادها التدريجية، فمدفوع بأنه
حين تحقق الاضطرار كما يصدق الاضطرار إلى الطبيعة بالنسبة إلى فردها الفعلي كذلك
يصدق الاضطرار أيضا في ذلك الآن بالنسبة إلى بقية افرادها التدريجية في الآنات المتأخرة
من جهة وضوح عدم تمكنه فعلا من الاتيان بافرادها التدريجية، فيصدق حينئذ انه كان
مضطرا إلى ترك الطبيعة بقول مطلق فعلا، وحيث انه يشك في بقائه إلى آخر الوقت
يستصحب بقائه ويترتب على استصحابه جواز بداره فعلا حتى مع الظن بزوال اضطراره
فيما بعد بل ومع الاطمينان به أيضا.
وحينئذ فعلى كل تقدير التفصيل في جواز بدار أولى الاعذار وعدم جوازه بين صورة
رجاء زوال العذر في الوقت والظن ببقاء العذر إلى آخر الوقت أو الشك به مما لا يقتضيه
القواعد، بل فيما كان موضوعه مطلق الاضطرار كباب التقية بل التيمم على اشكال في
الأخير يجوز البدار ولو مع القطع بزوال الاضطرار في الوقت فضلا عن الظن أو الشك في
بقاء اضطراره إلى آخر الوقت. وفيما كان موضوعه الاضطرار إلى الطبيعة بقول مطلق
لا يجوز البدار مع القطع بزوال العذر لمكان التشريع، ومع عدم القطع بذلك يجوز البدار
للاستصحاب المزبور، فتدبر.
هذا كله في المقام الثاني.
واما المقام الثالث
فمحل الكلام فيه في اجزاء الاتيان بالمأمور به الظاهري من الواقع عند كشف
الخلاف إعادة وقضاء فنقول:
ان الكلام في هذا المقام يقع تارة في الامارات وأخرى في الأصول.
اما الأولى (وهي الامارات)، فان بنينا فيها على الطريقية كما هو التحقيق فلا ينبغي
الاشكال في عدم اقتضائها للاجزاء وانه يجب الإعادة في الوقت عند انكشاف الخلاف
أو القضاء في خارج الوقت، ووجه عدم الاجزاء فيها على هذا القول واضح، لأنه لم يحدث
243

حينئذ بسبب قيام الامارة مصلحة في المتعلق كي أمكن القول فيها بالاجزاء اما بمناط
الوفاء بتمام المصلحة الواقعية أو بمناط المفوتية لها، بل ولو كان هناك مصلحة فإنما هي في
أصل الجعل والترخيص على خلاف الواقع وهي غير مرتبطة بالمتعلق كي يجئ فيه
احتمال المفوتية أو الوفاء بالتمام. ولا مجال أيضا لتوهم كفاية المصلحة في الجعل عن
المصلحة القائمة بالمتعلق، والا يلزمه الاجزاء ولو مع عدم الاتيان المكلف بما هو مؤدى الامارة
نظرا إلى تحقق الغرض الذي هو التسهيل على العباد وعدم وقوعهم في كلفة تحصيل
الواقعيات بنفس جعل الامارة حجة ولو لم يأت المكلف بما هو مؤدى الامارة، مع أن
ذلك كما ترى لا يتوهمه ذو مسكة.
وحينئذ فإذا لم يحدث بسبب قيام الامارة مصلحة في المتعلق كما على الموضوعية ولا
يكون قضية الامر بسلوك الامارة في ظرف المخالفة الا أمرا صوريا منتجا للمعذورية عن
تبعة مخالفة الواقع فلا جرم يلزمه عدم الاجزاء ووجوب الإعادة أو القضاء عند انكشاف
الخلاف من غير فرق في ذلك بين ان يكون دليل حجية الامارة بلسان تنزيل المؤدى منزلة
الواقع أو بلسان ايجاب العمل على طبق مؤدى الامارة أو بلسان تتميم الكشف والغاء
احتمال الخلاف، فان تلك الألسنة كما تجري على الموضوعية تجرى أيضا على الطريقية من
جهة ان المناط في الموضوعية والطريقية انما هو كون الامر بالعمل على طبق المؤدى أمرا
حقيقيا ناشئا عن مصلحة مستقلة في المتعلق في صورة المخالفة أو كونه أمرا صوريا في فرض
المخالفة، من دون اثمار لتلك الألسنة في الطريقية والموضوعية بوجه أصلا. نعم كون دليل
الامارة بلسان تتميم الكشف أو بلسان تنزيل المؤدى انما يثمر في جهة أخرى أجنبية عن
تلك الجهة وهي مقام تحكيم الامارة على الأصول وعدم تحكيمها، لا بالنسبة إلى مقام
الطريقية والموضوعية. فالمقصود من هذا البيان انما هو بيان عدم اثمار اختلاف تلك
الألسنة في الطريقية والموضوعية كما توهم كي يقال: بأنه إذا كان بلسان تتميم الكشف
لابد من القول بالطريقية وإذا كان بلسان تنزيل المؤدى لابد من الموضوعية، فتدبر. و
كيف كان فهذا كله على القول بالطريقية كما هو المختار، ولقد عرفت بأنه على هذا المبنى
لا محيص من عدم الاجزاء بمقتضي القواعد كان دليل الامارة بلسان تتميم الكشف أو
بلسان تنزيل المؤدى أو بلسان آخر غير هذين.
واما على الموضوعية والسببية على معنى صيرورة المؤدى ذا مصلحة مستقلة بسبب
244

قيام الامارة اقتضت تلك المصلحة ايجاب العمل على طبقه وان خالفت الواقع لا على
معناها المستحيل الذي يوجب انقلاب الواقع عما عليه إلى التكليف بمؤدى الامارة كما
يقوله القائل بالتصويب ففيها تفصيل من جهة اختلاف الحال حينئذ في الحكم بالاجزاء
حسب اختلاف كيفية السنة دليل الامارة من كونه بلسان تتميم الكشف واثبات العلم
بالواقع تعبدا أو بلسان تنزيل المؤدى أو بلسان ثالث غير هذين، فنقول:
أما إذا كان دليل الحجية بلسان تتميم الكشف واثبات العلم بالواقع تعبدا فلازمه
قهرا هو عدم الاجزاء ووجوب الإعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف، ضرورة ان
المصلحة الواقعية حينئذ على ما هي عليها وهي تقتضي لزوم تحصيلها باتيان المأمور به
إعادة في الوقت وقضاء في خارجه وحينئذ لا وجه لتوهم الاجزاء في مثل هذا الفرض
الا من جهة دعوى المضادة بين المصلحتين وعدم التمكن من استيفاء المصلحة الواقعية مع
استيفاء هذه المصلحة فلا بد في الحكم بالاجزاء حينئذ من اثبات هذه المضادة، والا فمع
عدم اثبات هذه الجهة لا محيص من وجوب الإعادة ولو من جهة الشك في القدرة، كامر
تفصيله سابقا.
ومن ذلك يظهر الكلام أيضا فيما لو كان مفاد دليل الحجية مجرد ايجاب العمل على
طبق المؤدى كما لو كان في لسان الدليل: انه إذا أخبر العادل بوجوب شئ أو حرمته يجب
ذلك الشئ أو يحرم، إذ نقول في هذا الفرض أيضا بعدم اقتضاء مثل هذا اللسان للاجزاء
وعدم وجوب الإعادة الا بمناط المضادة والمفوتية فمع عدم احراز هذه الجهة لابد من
الإعادة أو القضاء ولو بمناط الشك في القدرة.
وأما إذا كان بلسان تنزيل المؤدى منزلة الواقع فمقتضى القاعدة فيه أيضا هو عدم
الاجزاء فيما لو كان بلسان التعبد بترتب آثار الواقع على المؤدى، إذ حينئذ من حين كشف
الخلاف يرتفع التعبد المزبور أيضا فيجب من حين كشف الخلاف ترتيب آثار الواقع التي
منها وجوب الإعادة والقضاء: نعم في هذا الفرض لو كان بلسان اثبات التوسعة الحقيقية
في الأثر الواقعي بما يعم الواقع والظاهر كما لو كان بلسان: أن ما هو الشرط في لباس المصلي
مثلا أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، فمقتضى القاعدة فيه قهرا هو الاجزاء و
عدم وجوب الإعادة بل على هذا الفرض لا مجال لكشف الخلاف نظرا إلى وقوع المأمور به
حينئذ في ظرف ايقاعه واجدا لما هو شرطه حقيقة.
245

وحينئذ فصار متحصل الكلام في الامارات هو عدم الاجزاء ووجوب الإعادة و
القضاء على الطريقية مطلقا وعلى الموضوعية أيضا كذلك الا في صورة واحدة وهي صورة
كون مفاد دليل الامارة بلسان تنزيل المؤدى مع اقتضائه أيضا لتوسعة الأثر الذي هو
موضوع التكليف الواقعي حقيقة لا عناية وتعبدا. هذا كله على الطريقية والموضوعية
بمعناها الممكن منه، وأما على الموضوعية بمعناها المستحيل كما يدعيه القائل بالتصويب
فالاجزاء فيها واضح نظرا إلى عدم تصور كشف الخلاف حينئذ.
واما الأصول العملية فهي على أنحاء حسب اختلاف ألسنتها من كونها تارة بلسان
التنزيل كالاستصحاب وأخرى بلسان رفع المشكوك فيه كما في حديث الرفع ودليل
الحجب ونحوهما وثالثة بلسان اثبات الصغرى لما هي الكبرى الكلية المستفادة من
الأدلة الواقعية كما في قاعدتي الحلية والطهارة فلابد من افراز كل واحد منها بالبحث مستقلا
في استفادة الاجزاء وعدمه فنقول:
اما الاستصحاب فإن بنينا على رجوع التنزيل فيه في لا تنقض اليقين إلى نفس
اليقين، على معنى اخذ اليقين فيه استقلالا لامرآة إلى المتيقن كما هو التحقيق أيضا على
ما حقق في محله فلا ينبغي الاشكال في عدم اقتضائه للاجزاء بل لا مجال لتوهمه من
جهة ان قضية النهى عن نقض اليقين حينئذ ليست الا المعاملة مع اليقين الزائل معاملة
الباقي في لزوم الحركة على طبقه من دون اقتضائه لمصلحة حينئذ في نفس العمل كي
أمكن تصور الاجزاء فيه بأحد المناطين المزبورين سابقا وحينئذ فعند انكشاف الخلاف
لما كانت المصلحة الواقعية على حالها بلا استيفاء تماما أو بعضا فلا جرم تقتضي وجوب
الإعادة في الوقت أو القضاء في خارج الوقت وهو واضح.
واما ان بنينا على رجوع التنزيل فيه إلى المتيقن وان اليقين في دليله لو حظ مرآة إلى
المتيقن لا استقلالا كما هو مختار الكفاية (قدس سره) فان قلنا: بان مفاد لا تنقض عبارة
عن جعل مما ثل الأثر للمشكوك في ظرف الشك كما اختاره في الكفاية في مبحث
الاستصحاب فلا اجزاء أيضا فإنه إذا كان الشرط في الصلاة مثلا بحسب ظواهر الأدلة
هو الطهارة الواقعية الثابتة للشئ بعنوانه الأولى فلا جرم لا يكاد يفيد مثل هذه الطهارة
الظاهرية الاستصحابية في الحكم بالاجزاء بل لا يكاد يجدي أيضا في أصل جواز الاتيان
بالصلاة مع مثل هذه الطهارة الا إذا فرض ان ما هو الشرط في دليل الكبرى هو الأعم
246

من الطهارة الواقعية والظاهرية الاستصحابية فيجوز له الدخول معها حينئذ في الصلاة و
يجزى المأتى به معها أيضا عن الإعادة والقضاء باعتبار اتيانه حينئذ بما هو المأمور به واجدا
لما هو شرطه وهو الطهارة.
واما ان قلنا: بأنه ليس مفاد لا تنقض عبارة عن جعل المماثل وانه ليس مفاده الا
مجرد التعبد بالطهارة في ظرف الشك بمحض اليقين بالطهارة سابقا فحينئذ القول بالاجزاء
وعدمه مبني على إفادة مثل هذا التنزيل لا ثبات التوسعة الحقيقية لدائرة الشرطية في
كبرى الدليل بما يعم الطهارة الحقيقية الواقعية والطهارة التعبدية التنزيلية فبناء على
استفادة هذه الجهة كما اختاره في الكفاية في مبحث الاجزاء لا جرم يلزمه الاجزاء قهرا و
عدم وجوب الإعادة، بل على هذا المسلك لا معنى لانكشاف الخلاف أيضا لأنه بعد
استفادة التوسعة لدائرة الشرطية من دليل حرمة النقض يكون المأتى به مع الطهارة
التعبدية الاستصحابية واجدا لما هو شرطه بحسب الواقع ومعه لا معنى لانكشاف الخلاف
كما لا يخفى، والا فبناء على عدم إفادة مثل هذا التنزيل الا مجرد التعبد بوجود ما هو الشرط
الواقعي في المورد بلا نظر له إلى اثبات التوسعة الحقيقية في الأثر فلا مجال أيضا للاجزاء
بوجه أصلا كما لا يخفى، إذ حينئذ بعد انكشاف الخلاف تقتضي الشرطية والجزئية
الواقعية لوجوب الإعادة أو القضاء.
وحينئذ فاستفادة الاجزاء في المأتى به بالامر الاستصحابي الجاري في تنقيح ما هو
موضوع التكليف بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره منوط بأحد الامرين: اما استفادة
إفادة مثل هذا التنزيل للتوسعة الحقيقية في دائرة ما هو شرط المأمور به في كبرى الدليل
بما يعم الطهارة الواقعية الحقيقية التعبدية التنزيلية، واما استفادة إفادته لجعل مماثل
الأثر حقيقة للمشكوك مع الالتزام أيضا بان ما هو الشرط في كبرى الدليل أعم من
الواقع والظاهر ليكون دليل حرمة النقض من باب الورود دون الحكومة كما على الأول، و
لكن مسلك الكفاية في باب الاستصحاب حيث كان على استفادة جعل مماثل الأثر
كان الحري عليه في المقام تقريب الاجزاء بمناط الأخير وهو الورود دون الحكومة.
ولكن الذي يسهل الخطب في المقام هو كون مثل هذا المسلك بل وسابقه خلاف
التحقيق، فان التحقيق على ما حققناه في محله هو رجوع التنزيل في حرمة النقض إلى
نفس اليقين ملحوظا كونه استقلالا لامرآة إلى المتيقن كما هو مسلك الكفاية، ومن ذلك
247

أيضا نلتزم بقيام الاستصحاب مقام الامارات والقطع الطريقي كما في باب الشهادة، و
نلتزم أيضا بتقديم مثل الاستصحاب على قاعدة الحلية والطهارة بمناط الحكومة دون
الورود ودون التخصيص، وعليه كما عرفت لابد من القول بعدم الاجزاء ووجوب
الإعادة والقضاء عند انكشاف الخلاف. بل وعلى فرض تسليم اخذ اليقين في دليل
حرمة النقض مرآة إلى المتيقن وعبور التنزيل من اليقين إليه نقول: بان غاية ما يقتضيه
التنزيل المزبور حينئذ انما هو مجرد التعبد بوجود الأثر وتحققه عند الشك لا التوسعة
الحقيقية لدائرة الأثر والشرطية الواقعية ولا اقتضاء جعل مماثل الأثر للمشكوك حقيقة
كي يحتاج إلى التصرف في ظاهر دليل كبرى الأثر بجعله عبارة عن الأعم من الطهارة
الواقعية والظاهرية حتى يترتب عليه الاجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء
بعد انكشاف الخلاف، وعليه لا محيص من القول بعدم الاجزاء، من جهة انه بانكشاف
الخلاف وحصول العلم بالنجاسة يرتفع التعبد المزبور ومع ارتفاعه لابد بمقتضي شرطية
الطهارة الواقعية والحلية الواقعية من الإعادة والقضاء الا إذا كان هناك دليل بالخصوص
على عدم وجوب الإعادة والقضاء كما في الطهارة الخبثية.
كيف وان نفس الالتزام بجعل مماثل الأثر حقيقة أو التوسعة الحقيقية في دائرة
كبرى الأثر لا يخلو عن محذور شديد بلحاظ ما يترتب عليهما من التوالي الفاسدة: فإنه مما
يترتب على الأول لزوم عدم جريان استصحاب الطهارة في ماء تالف فعلا قد غسل به
ثوب نجس أو توضأ به سابقا باعتقاد الطهارة، من جهة انه في ظرف الشك الذي هو ظرف
جريان الاستصحاب لا وجود للماء المغسول به الثوب النجس حتى أمكن جعل الطهارة
الحقيقية ولو ظاهرية له، فلابد حينئذ اما من القول بجواز جعل الطهارة الحقيقية حينئذ
للماء التالف أو الالتزام بعدم جريان الاستصحاب في مثل الفرض عند الشك في طهارة
الماء التالف الذي غسل به الثوب النجس سابقا، مع أنهما كما ترى، فان الأول منهما
مستحيل في نفسه والثاني منهما خلاف الاجماع فإنه جماع منهم يجرى استصحاب الطهارة
بالنسبة إلى الماء التالف ويحكم بطهارة الثوب المغسول به وبصحة الوضوء السابق وصحة
الصلاة المأتى بها مع ذلك الوضوء بلا كلام. ومما يترتب عليه بل وعلى الأخير أيضا من
التوالي الفاسدة في نحو قوله: كل ثوب نجس غسل بماء طاهر يطهر، فإنه بناء على أعمية
الطهارة في الماء في كبرى الأثر من الطهارة الحقيقية الواقعية والطهارة الظاهرية
248

الاستصحابية يلزمه الحكم بطهارة الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة حتى بعد
انكشاف الخلاف، فيلزمه الحكم أيضا بطهارة ملاقيه وجواز الدخول معه في الصلاة
بمحض انغساله سابقا بماء محكوم بالطهارة شرعا بمقتضي الاستصحاب، لكونه مما صدق
عليه انه ثوب نجس وقد غسل في زمان غسله بماء طاهر مع أنه كما ترى لا يكاد التزام
أحد به.
فلا محيص حينئذ من اجل هذه المحاذير والتوالي الفاسدة من المصير إلى أن الطهارة
المعتبرة في ناحية الماء في دليل كبرى الأثر عبارة عن خصوص الطهارة الواقعية، وان ما
هو مفاد دليل حرمة النقض في فرض رجوع التنزيل فيه إلى المتيقن عبارة عن مجرد التعبد
بوجود الأثر وتحقق الطهارة في المورد الراجع إلى الامر بالمعاملة مع المشكوك معاملة
الطهارة الواقعية ما دام الشك بلا نظر له إلى اثبات التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر
ولا اقتضاء لجعل مماثل الأثر حقيقة للمشكوك، وعليه فلا محيص من القول بعدم
الاجزاء ووجوب الإعادة والقضاء عند انكشاف الخلاف، كما هو واضح.
واما ما كان منها بلسان رفع المشكوك فيه كحديث الرفع والحجب فتوهم
الاجزاء فيها انها هو من جهة خيال اقتضاء مثل هذا اللسان لرفع الجزئية والشرطية
الواقعية واقتضائها بالملازمة لتحديد دائرة المأمور به بما عدا الجزء أو الشرط المشكوك
الجزئية والشرطية، ولكنه من الغفلة عن استحالة اقتضاء اللسان المزبور لرفع الجزئية
الواقعية نظرا إلى أن العلة للرفع حينئذ انما كان هو الجهل والشك بالجزئية وهو من جهة
تأخره الرتبي عن الجزئية الواقعية لا يكاد يقتضي رفع ما هو في الرتبة السابقة بوجه أصلا
بل ما هو المرفوع حينئذ لا يكون الا ما هو نقيض هذا الرفع المتأخر عن الشك وهو
لا يكون الا الوجود في تلك المرتبة المتأخرة عن الشك لا الوجود في الرتبة السابقة عن الشك و
هو الجزئية الواقعية لأنه لا يكون نقيضا لهذا الرفع المتأخر، فيستحيل حينئذ تعلق الرفع في
المرتبة المتأخرة حقيقة بالوجود في المرتبة السابقة على الشك أعني الجزئية الواقعية. وحينئذ
فبعد عدم اقتضاء اللسان المزبور لرفع الجزئية الواقعية حقيقة فلا بد وأن يكون الرفع رفعا
تعبديا تنزيليا بلحاظ عدم وجوب الاحتياط في مقام العمل وعليه نقول: بأنه بعد انكشاف
الخلاف لابد من الإعادة، لاقتضاء الجزئية الواقعية حينئذ وجوب الإعادة والقضاء عند
انكشاف الخلاف، هذا.
249

على أن مثل هذا اللسان باعتبار سوقه قي مقام الامتنان لا يكاد يرفع الا ما يكون في
وجوده ضيق على المكلف وهو لا يكون الا ايجاب الاحتياط لأنه هو الذي يكون المكلف
في ضيق من جهته وهو الذي في رفعه امتنان على المكلف دون التكليف الواقعي أو
الجزئية الواقعية، لعدم كونهما بوجود هما الواقعي ضيقا على المكلف حال الجهل حتى
يقتضى الامتنان رفعه، كما هو واضح. و معلوم حينئذ في مثله انه لا مجال لتوهم الاجزاء
بعد انكشاف الخلاف كما لا يخفى، هذا. ولكن الأستاذ دام ظله اقتصر في بحثه على
الاشكال الأول ولم يتعرض لهذا الاشكال ولعله من جهة عدم جريان هذا الاشكال في
مثل حديث الحجب لعدم كونه كحديث الرفع مسوقا في مقام الامتنان.
وكيف كان قد يورد عليه اشكال آخر في أصل اقتضاء اللسان المزبور لا ثبات
التكليف بالبقية، بتقريب: ان ثبوت التكليف بما عدا الجزء المشكوك الجزئية انما هو من
لوازم عدم كونه جزء واقعيا، وبعد عدم اقتضاء مثل هذا اللسان لرفع الجزئية الواقعية
حقيقة لا مجال أيضا لا ثبات التكليف بالبقية بمحض جريان دليل الرفع واقتضائه لنفى
الجزئية ظاهرا الا على القول بالمثبت، وذلك أيضا بعد الفراغ عن عدم اقتضاء أدلة نفس
الاجزاء والشرائط المعلومة أيضا لاثبات وجوب الاتيان بها مطلقا حتى في فرض عدم
انضمام بقية الاجزاء لعدم اطلاق لها يقتضى التكليف بها حتى في حال عدم انضمام
بقية الاجزاء الاخر، كما يكشف عنه عدم تمسكهم باطلاق أدلة الاجزاء المعلومة
لا ثبات التكليف بها في مبحث الأقل والأكثر، هذا. ولكنه يمكن التفصي عن هذا
الاشكال بان ثبوت التكليف بما عدا المشكوك الجزئية حينئذ وان كان مبنيا على المثبت
ولكنه من جهة جلاء الواسطة فيه لا يضر به جهة المثبتية، إذ هو حينئذ نظير الأبوة والبنوة
من حيث فهم العرف من جهة شدة الملازمة بينهما عدم انفكاك تنزيل أحدهما عن تنزيل
الآخر، فتأمل.
واما قاعدة الحلية المستفادة من قوله عليه السلام: كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه
حرام) فيتصور فيها وجوه: فإنه تارة يكون المراد من تلك الحلية خصوص الحلية
الاقتضائية الناشئة من مثل مصلحة التسهيل أو غيرها، وأخرى يكون المراد ما يعمها و
الحلية اللا اقتضائية الناشئة من جهة عدم اقتضاء الحرمة فيه.
فان كان الأول فلازمه عدم صحة تطبيقها على شرط المأمور به في كبرى الأثر من
250

نحو قوله: يجوز الصلاة فيما يحل اكله، لان موضوع الأثر في هذا الدليل عبارة عن خصوص
الحلية اللااقتضائية فمع الشك في كون الوبر من حلال الاكل بالحلية اللااقتضائية لا يفيد
تلك القاعدة في تطبيق كبرى الأثر على المورد حتى يترتب عليه جواز الدخول في الصلاة
كما هو واضح.
وان كان الثاني فتارة نقول بان القاعدة من الأصول التنزيلية المحرزة للواقع كما هو
الشأن في قاعدة الطهارة أيضا وان مفادها عبارة عن اثبات الحلية الواقعية في المورد تعبدا
وتنزيلا لا اثبات الحلية الحقيقية الظاهرية للشئ بعنوان كونه مجهول الحكم، وأخرى
نقول بأنها من القواعد المتكلفة لا ثبات الحلية الظاهرية للشئ حقيقة بعنوان كونه مجهول
الحكم في طول الحلية الواقعية، وعلى الأول فمفاد القاعدة تارة يكون هو التوسعة الحقيقية
في دائرة كبرى الأثر وهو الشرطية نظير الاستصحاب بناء على القول باقتضاء دليل حرمة
النقض لجعل المماثل للأثر حقيقة، وأخرى يكون مفادها مجرد التعبد بوجود الشرط و
البناء على كون المشكوك حلالا واقعيا بلا اقتضائها للتوسعة الحقيقية في دائرة كبرى
الأثر وهي الشرطية فضلا عن اقتضائها للتوسعة الحقيقية في دائرة نفس الشرط وهي
الحلية. فهذه وجوه متصورة في تلك القاعدة.
وربما يختلف هذه الوجوه بعضها مع بعض بحسب اللوازم، فإنه بناء على اقتضائها
لجعل الحلية الظاهرية الحقيقية في المورد لا اشكال في أنه لا يكاد يثمر في تطبيق كبرى
الأثر على المورد، لان الأثر في كبرى الدليل في نحو قوله: يجوز الصلاة في ما يحل اكله، انما
هو مترتب على محلل الاكل الواقعي لا على ما يعمه والحلية الظاهرية، وحينئذ فمع الشك
في كون الوبر من محلل الاكل الواقعي لا يثمر في التطبيق مجرد كون المورد محللا ظاهريا و
معه لا يكاد يترتب عليه جواز الدخول في الصلاة حتى ينتهى الامر بعد ذلك إلى البحث
عن الاجزاء وعدمه، كما هو واضح. نعم إنما يثمر ذلك في مقام التطبيق فيما إذا استفيد من
دليل كبرى الأثر تعميم الحلية بما يعم الواقع والظاهر، إذ حينئذ بجريان القاعدة المزبورة
يصير المورد من المصاديق الحقيقية لما هو شرط المأمور به ولازمه قهرا حينئذ هو الاجزاء و
عدم وجوب الإعادة باعتبار وقوع العمل حينئذ واجدا حقيقة لما هو شرطه وعدم تصور
انكشاف الخلاف معه.
ومن ذلك البيان يظهر انه كذلك الامر أيضا في فرض اقتضائها للتوسعة الحقيقية في
251

دائرة كبرى الأثر وهو الشرطية، إذ لازم هذا المعنى أيضا قهرا يكون هو الاجزاء. واما
توهم امتناع الحكومة بهذا المعنى من التوسعة الحقيقية باعتبار عدم كون الدليل الحاكم
حينئذ في رتبة المحكوم وامتناع ان يكون للحلية الواقعية سعة اطلاق يشمل المرتبة المتأخرة
عن نفسها، فمدفوع بان ذلك كذلك بالنسبة إلى نفس الشرط وهو الحلية الواقعية، فإنه بعد
امتناع سعة الدائرة فيها بنحو تشمل المرتبة المتأخرة عن الشك بها يستحيل اقتضاء القاعدة
المزبورة للتوسعة الحقيقية فيها حتى بالنسبة إلى مرتبة الشك المتأخر عنها، واما بالنسبة إلى
اثرها الذي هو الإناطة والشرطية فلا وجه لدعوى استحالته بل هو امر ممكن في نفسه فإنه
من الممكن جدا التوسعة الحقيقية في دائرة الشرطية على معنى قيامها بما يعم الحلية الواقعية
الحقيقية والحلية التعبدية التنزيلية، لأنها مما أمرها بيد الشارع والجاعل فكما ان للشارع
جعل الإناطة لخصوص الحلية الواقعية كذلك له جعلها لما يعمها والحلية التعبدية
التنزيلية. وحينئذ فإذا عبدنا الشارع في مورد بأنه حلال الاكل واقعا وكان لسان دليل
التعبد بلسان التوسعة الحقيقية لدائرة كبرى الأثر، فلا جرم يلزمه جواز الدخول معه في
الصلاة، كما أن لازمه القهري هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة عند انكشاف الخلاف و
تبين كونه من محرم الاكل. هذا بناء على اقتضاء القاعدة للتوسعة الحقيقية في دائرة كبرى
الأثر.
واما بناء على عدم اقتضائها الا مجرد التعبد بالبناء على الحلية الواقعية فعليه وان
كان يثمر أيضا في تطبيق كبرى الأثر على المورد فيجوز الدخول معه في الصلاة ولكن
لا يلزمه حينئذ نفى وجوب الإعادة والاجزاء عند انكشاف الخلاف بل مقتضي دليل
شرطية الحلية الواقعية انما هو عدم الاجزاء وجوب الإعادة والقضاء عند تبين الخلاف و
انكشاف كونه غير حلال الاكل، من جهة انه من حين انكشاف الخلاف يرتفع التعبد
المزبور فيقتضي قضية الشرطية الواقعية من ذاك الحين وجوب الإعادة، كما هو واضح.
هذا كله حسب مقام التصور.
وأما بحسب مقامين التصديق فلا ينبغي الارتياب في أن المتعين من الوجوه المزبورة هو
الوجه الأخير، فان دعوى كون القاعدة مسوقة لا ثبات الحقيقية الظاهرية للشئ
المشكوك الحكم بعيدة غايته لاستلزامه عدم جواز تطبيق كبرى الأثر على الموارد
المشكوكة الا بالالتزام بترتب كبرى الأثر في الخطاب الواقعي في نحو قوله: يجوز الصلاة فيما
252

يحل اكله، على الأعم من الحلال الواقعي والظاهري، وهو كما ترى خلاف ظاهر
الخطاب، من جهة وضوح ظهورها في خصوص الحلال الواقعي دون الأعم، كما هو واضح.
كما أن مثلها في البعد أيضا دعوى كونها مسوقة للتوسعة الحقيقية في دليل كبرى الأثر، إذ
نقول حينئذ: بأنه على ذلك وإن لم يلزم رفع اليد عن ظهور الأدلة المتكلفة لكبري الأثر، و
لكنه أيضا خلاف الظاهر جدا، فان القدر الذي يقتضيه هذا اللسان في القاعدة من
التنزيل المزبور انما هو مجرد التعبد بالبناء على وجود الشرط وتحققه وكون المشكوك
حلالا واقعيا، واما اقتضائه للتوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر فلا، وعليه كما عرفت
كان مقتضي القاعدة هو وجوب الإعادة وعدم الاجزاء، من جهة اقتضاء دليل الشرطية
الواقعية حينئذ بعد تبين الخلاف وارتفاع التعبد المزبور وجوب الإعادة. هذا كله في
تطبيق دليل الحلية على شرط المأمور به.
واما تطبيقها على نفس ترك الجزء أو الشرط المشكوك الجزئية أو الشرطية فتقريبه
انما هو باعتبار تأدية ترك المشكوك على تقدير اعتباره إلى ترك المركب، حيث إنه حينئذ
يشك في حرمة ترك المركب من جهة ترك المشكوك الجزئية والشرطية، فيقال بمقتضي
القاعدة بحليته ويستفاد منها بنحو الان أيضا كون المأمور به عبارة عن ما عدا الجزء
المشكوك الجزئية فيترتب عليها جواز الاقتصار على ما عدا الجزء أو الشرط المشكوك
الجزئية والشرطية، هذا. ولكن فيه أيضا ان مجرد تكفل القاعدة لحلية ترك الكل و
المركب من جهة ترك مشكوك الجزئية والشرطية ظاهرا لا يقتضي نفى الجزئية الواقعية
حتى يترتب عليه تحديد المأمور به بالبقية، وعلى فرض اقتضائها لذلك لا يكاد يترتب عليه
تحديد دائرة الوجوب بما عدا المشكوك الجزئية، إذ تعلق الوجوب حينئذ بالبقية ليس من
الآثار الشرعية لعدم جزئية المشكوك فيه بل هو من اللوازم العقلية لعدم مدخلية الجزء
المشكوك في المركب، فان من لازمه العقلي حينئذ محدودية دائرة الوجوب بحد أقل، فحينئذ
اثبات الوجوب للبقية بمقتضي القاعدة المزبورة لا يخلو عن مثبت واضح. هذا كله في
قاعدة الحلية.
واما قاعدة الطهارة فيأتي فيها أيضا المحتملات المتصورة في قاعدة الحلية و
تقريب الاجزاء فيها أيضا بأحد الامرين: اما بدعوى ترتب الأثر في كبرى الخطاب
الواقعي على مطلق الطهارة أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية مع الالتزام بأن مفاد
253

قاعدة الطهارة اثبات الطهارة الظاهرية الحقيقية، أو بدعوى كون مفاد القاعدة مع كونها
بلسان التنزيل لا بلسان جعل الطهارة الظاهرية هو اثبات التوسعة الحقيقية في دائرة
كبرى الأثر بما يعم الطهارة التعبدية التنزيلية أيضا مع الالتزام بظهور الأدلة في خصوص
الطهارة الواقعية، فإنه على هذين التقريبين لا محالة يلزمها الاجزاء وعدم وجوب الإعادة
من جهة واجدية المأمور به حينئذ لما هو مصداق الشرط حقيقة، والا فبناء على فرض
اختصاص دليل كبرى الأثر بخصوص الطهارة الواقعية وعدم تكفل القاعدة أيضا أزيد
من التعبد بثبوت الطهارة الواقعية في المورد والمعاملة مع المشكوك معاملة الطهارة الواقعية
فلا مجال لتوهم الاجزاء فيها بوجه من الوجوه، من جهة انه بانكشاف الخلاف يرتفع التعبد
المزبور من حينه فبقى دليل اشتراط الطهارة الواقعية حينئذ على حاله فيقتضي وجوب
الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه.
ولقد عرفت ان التحقيق حينئذ من الوجوه المزبورة هو الوجه الأخير من كون القاعدة
ممحضة لمحض اثبات الطهارة تعبدا وتنزيلا بلحاظ المعاملة مع المشكوك معاملة
الواقع بلا اقتضائها لا ثبات التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر ولا لا ثبات جعل
الطهارة الظاهرية للمشكوك كي يحتاج في صحة التطبيق على شرط المأمور به إلى
التصرف في دليل كبرى الأثر بارتكاب خلاف الظاهر فيه، وذلك لما عرفت آنفا من بعد
هذين غاية البعد خصوصا مع استلزامهما لبعض التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام به
من نحو لزوم القول بطهارة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة والنجاسة حتى بعد
انكشاف الخلاف وتبين نجاسة الماء، وذلك انما هو من جهة انغسال الثوب حينئذ بماء
طاهر حقيقي بمقتضى القاعدة وعدم ورود نجاسة عليه بعد ذلك فكان انكشاف الخلاف
على هذين المسلكين من قبيل ما لو ورد نجاسة على الماء بعد غسل الثوب به، فكما ان ورود
النجاسة على الماء لا يوجب نجاسة الثوب المغسول به في الزمان السابق كذلك انكشاف
الخلاف، فإذا كان الماء بمقتضى القاعدة محكوما بالطهارة الحقيقية وغسل به الثوب
المزبور في حال محكوميته بالطهارة يلزمه لا محالة طهارة الثوب بمقتضي ما دل على: ان
الثوب النجس إذا غسل بماء طاهر يطهر، ولازمه عدم مؤثرية انكشاف الخلاف البعدى
في زوال الحكم بالطهارة في طرف الثوب، فيلزمه حينئذ جواز لبسه في الصلاة بعد ذلك على
هذين المسلكين وكذا الكلام فيما لو توضأ من الماء المزبور في زمان محكوميته بالطهارة، فإنه
254

على المسلكين المزبورين يلزم القول بجواز الدخول في الصلاة مع ذلك الوضوء حتى بعد
انكشاف نجاسة الماء، وكذا نظائر ذلك، مع أن ذلك كما ترى لا يمكن الالتزام به
لاستلزامه تأسيس فقه جديد. وحينئذ كان مثل هذه التوالي الفاسدة مما يكشف بها كشفا
قطعيا عن بطلان الوجهين الأولين ومعه يتعين الوجه الأخير، فإنه على هذا المسلك لا يكاد
يتوجه شئ من تلك المحاذير، لان الماء المزبور على هذا المسلك انما كان محكوما بالطهارة
تعبدا وتنزيلا، وحينئذ فبانكشاف الخلاف يرتفع التعبد بالطهارة من حينه وبعد ارتفاعه
يبقى دليل شرطية الطهارة الواقعية على حاله، فيقتضي هذا الدليل بطلان الوضوء المزبور و
عدم طهارة الثوب المزبور، كما يقتضي أيضا وجوب إعادة الصلاة المأتية بذلك الوضوء وفي
ذلك الثوب.
هذا كله مضافا إلى ما يرد على الوجه الأول أيضا إذ نقول فيه مضافا إلى ما فيه من
مخالفته لظاهر الأدلة من الاختصاص بالطهارة الواقعية انه من المستحيل أيضا إرادة
الطهارة الواقعية والظاهرية من لفظ واحد في نحو قوله: كل ثوب غسل بماء طاهر فقد طهر
ووجهه يظهر بعد ملاحظة طولية المحكيين وهما الحكمان في كون أحدهما في رتبة متأخرة
عن الشك بالآخر الموجب لعدم امكان اجتماعهما في لحاظ واحد وامتناع حكاية قوله
(طاهر) عنهما، إذ حينئذ في حكايته عن الطهارة الواقعية لم يلحظ الا نفس الحكم الواقعي
بخلافه في حكايته عن الطهارة الظاهرية فإنها باعتبار كونها في رتبة متأخرة عن الشك
بالواقع يحتاج إلى لحاظ الواقع ولحاظ الشك به أيضا وهو كما ترى ولعل ذلك هو السر
أيضا في عدم ذهابهم إلى استفادة التعميم من الأدلة المتكلفة لكبري الأثر كما لا يخفى.
بقى أمور لم يتعرض لها الأستاذ دام ظله
الأول: لا اشكال في عدم جريان هذا النزاع في موارد القطع بالامر مع انكشاف
الخلاف بعده، ووجهه واضح، من جهة أنه حينئذ لا امر شرعي في البين حتى يجرى فيه
النزاع المزبور، بل وانما هو امر زعمي تخيلي من المكلف ومعه كان الامر الواقعي باقيا
على حاله بلا موافقة فيجب الإعادة حينئذ إطاعة للامر الواقعي. نعم لو كان القطع
مأخوذا شرعا بنحو الموضوعية كما في ذوي الأعذار بناء على جواز البدار لهم بمجرد القطع
ببقاء العذر إلى آخر الوقت يدخل في محل البحث فيجري فيه النزاع المزبور من حيث
الاجزاء وعدمه بعد انكشاف الخلاف.
255

الثاني: ان انكشاف الخلاف قد يكون بالقطع وأخرى بأمارة ظنية معتبرة وعلى
التقديرين: تارة يقطع أو ظن بالخطأ في اجتهاده الأول وأخرى يقطع أو يظن بخطأ الامارة
عن الواقع لا في اجتهاده، والأول كما لو قام عنده امارة على عدم وجوب السورة مثلا فبان
بعد ذلك عدم جامعية الامارة المزبورة لشرائط الحجية، والثاني كما لو قطع بخطأ الامارة
عن الواقع أو ظن بذلك مع القطع في الحال بكونها واجدة لشرائط الحجية وبعد ذلك
نقول:
اما في فرض كشف الخطأ في اجتهاده فسواء كان ذلك بالقطع أو بالظن المعتبر فلا
ينبغي الاشكال في أن لازمه هو عدم الاجزاء بل لا مجال لتوهمه خصوصا في فرض
كشف الخلاف بالقطع، من جهة كشفه حينئذ عن عدم امر ظاهري في البين، لان الامارة
الغير الجامعة لشرائط الحجية وجودها كعدمها، فلابد حينئذ من الإعادة، هو واضح.
واما في الصورة الثانية من فرض الكشف عن خطأ الامارة عن الواقع، فان كان
كشف الخلاف قطعيا فالاجزاء أو عدمه مبني على ما تقدم من حجية الامارة على
الكشف والطريقية أو على نحو السببية والموضوعية، واما ان كان كشف الخلاف
أيضا ظنيا من جهة قيام أمارة ظنية أخرى على خلاف الامارة الأولى ففي هذا الفرض
تارة يكون في البين ما يوجب ترجيح الامارة الثانية بحسب السند أو الدلالة من نحو موافقة
الكتاب ومخالفة العامة ونحوهما من المرجحات، وأخرى لا يكون في البين ما يوجب
ترجيحها عليها لا بحسب السند ولا بحسب الدلالة بل كانتا متساويتين من تمام
الجهات، فعلى الأول حكمه حكم صورة انكشاف الخلاف بالقطع فيبتني على ما تقدم من
الموضوعية أو الطريقية في الامارات، وعلى الثاني ينتهي الامر إلى التخيير في الاخذ بين
الخبرين، فان اخذ بالامارة الأولى فلا اشكال، وان اخذ بالامارة الثانية فلابد من إعادة
الأعمال الواقعية على طبق الامارة الأولى على الطريقية كما هو المختار، من جهة انه بالأخذ
بالامارة الثانية يصير مدلولها حجة عليه وحيث إن مفادها عبارة عن وجوب السورة مثلا
يجب عليه إعادة ما صلى من الصلوات بدونها، وهذا واضح. نعم على الموضوعية لا يجب
عليه الإعادة على التفصيل المتقدم سابقا.
الثالث: قد تبين مما قدمناه في الاجزاء في الامارات أنه لا تلازم بين القول بالاجزاء
وبين القول بالتصويب الباطل وانه يمكن القول بالاجزاء فيها ولو على الموضوعية و
256

السببية من دون استلزامه للقول بالتصويب كما في الاجزاء بمناط المفوتية أو الوفاء بتمام
الغرض، ضرورة ان الاجزاء بأحد المناطين المزبورين غير ملازم للقول بالتصويب المحال،
فان التصويب الباطل انما هو الذي يدور التكليف معه مدار قيام الامارة أو الذي يوجب
قيام الامارة انقلاب الواقع عما هو عليه حتى بمرتبة اقتضائه إلى التكليف بالمؤدى، ومثل
هذا المعنى كما عرفت غير ملازم مع القول بالاجزاء، كما لا يخفى.
هذا تمام الكلام في الأصول والامارات.
257

المبحث الرابع: في مقدمة الواجب
قد وقع الكلام بين الاعلام في أن ايجاب الشئ يقتضي ايجاب مقدماته أم لا وذلك
بعد الفراغ عن وجوبها عقلا بمناط اللابدية، فمحل الكلام انما هو وجوبها شرعا بالوجوب
الغيري نظرا إلى دعوى الملازمة بين إرادة الشئ وإرادة مقدماته، واما وجوبها بالوجوب
الشرعي النفسي فهو أيضا مما لو يتوهمه أحد كالوجوب الشرعي الطريقي وكيف كان
فتحقيق المرام في المقام يحتاج إلى بيان أمور:
الامر الأول:
قد عرفت أن مورد الكلام في المقام بين الاعلام انما هو وجوب المقدمة بالوجوب
الشرعي الغيري، لا مطلق وجوبها ولو عقليا بمناط اللابدية، ولا وجوبها الشرعي النفسي
أو الطريقي، من جهة ان الأول منها كما عرفت مورد اطباق الفريقين والأخيرين أيضا مورد
اطباقهم بالعدم خصوصا الأخير منها وهو الطريقي باعتبار عدم تصور الوجوب الطريقي
بالنسبة إلى المقدمة، فمرجع هذا البحث في الحقيقة عندهم إلى البحث عن الملازمة بين
إرادة الشئ وإرادة مقدماته. ومن ذلك أيضا لا يختص هذا النزاع بخصوص مقدمة
الواجب بل يجري في مقدمة الحرام والمكروه والمستحب كما هو واضح. كما أن الظاهر هو
عدم اختصاص النزاع بخصوص المقدمات التبعية غير الواقعة تحت الخطاب المستقل كما
لعله يظهر من بعضهم حسب جعلهم مورد النزاع الوجوب التبعي الغيري الشرعي بل يعم
البحث هذه وما وقع منها مورد الامر في حيز خطاب مستقل كالوضوء والغسل ونحوهما
258

لان مجرد وقوعها تحت خطاب اصلى مستقل لا يقتضي وجوبها شرعا بالوجوب الغيري
لامكان كون الامر بها في تلك الخطابات ارشاديا إلى وجوبها العقلي بمناط اللابدية، فتأمل.
الامر الثاني:
هل المسألة من المسائل الفرعية، أو هي من المسائل الأصولية العقلية، أو من المبادي
الاحكامية الراجعة إلى البحث عن لوازم وجوب الشئ، أو من المسائل الكلامية باعتبار
رجوعها إلى البحث عن استحقاق المثوبة على الموافقة والعقوبة على المخالفة؟ فيه وجوه
أبعدها الأخير من جهة وضوح أن المقدمة على القول بوجوبها ليست مما يترتب عليها المثوبة
والعقوبة عند الموافقة والمخالفة فان المثوبة والعقوبة كانتا من تبعات موافقة الواجب
النفسي ومخالفته لا من تبعات مطلق الواجب ولو غيريا، وما يرى من استحقاق العقوبة
عند ترك المقدمة فإنما هو من جهة تأدية تركها إلى ترك ذيها الذي هو الواجب النفسي
لامن جهة انما مما يقتضي مخالفتها في نفسها مع قطع النظر عن ترتب ترك ذيها استحقاق
العقوبة عليها، كما لا يخفى. ومعه لا مجال لعد المسألة من المسائل الكلامية، وحينئذ يدور
الامر بين كونها من المسائل الفرعية أو من المسائل الأصولية أو المبادي الاحكامية.
نعم قد يقال حينئذ بتعين كونها من المسائل الفرعية نظرا إلى ظاهر عنوان البحث
وكون المقدمة أيضا فعلا من أفعال المكلف، فيكون البحث عن وجوبها حينئذ كالبحث
عن حكم سائر أفعال المكلف في كونه فرعيا محضا لا أصوليا، وعليه فكان ذكرها في
المقام حينئذ لمحض الاستطراد.
ولكن فيه أن عنوان البحث وان كان هو البحث عن وجوب المقدمة وعدم وجوبها
ولكن المهم المبحوث عنه كما عرفت لما كان ثبوت الملازمة بين حكم شئ بواحد من
الأحكام الأربعة وبين حكم مقدماته بلا نظر إلى خصوص الوجوب، فلا جرم لا تكون من
المسائل الفرعية غير المناسبة لتعرض الأصولي إياها في الأصول، بل عليه تكون المسألة
أصولية محضة، إذ البحث عن الملازمة حينئذ كالبحث عن سائر الأحكام العقلية غير
المستقلة فلا ترتبط حينئذ بالمسألة الفرعية.
ومع الغض عن ذلك والاخذ بظاهر عنوان البحث نقول بعدم ارتباطها أيضا بالمسألة
الفرعية لان الملاك في المسألة الفرعية، على ما يقتضيه الاستقراء في مواردها انما هو
259

وحدة الملاك والحكم والموضوع، فكان المحمول فيها دائما حكما شخصيا متعلقا بموضوع
وحداني بملاك خاص كما في مثل الصلاة واجبة في قبال الصوم واجب والحج واجب، و
مثل هذا الملاك غير موجود في المقام فلا يكون تعلق الوجوب بعنوان المقدمة من باب تعلق
شخص حكم بموضوع وحداني بمناط وحداني خاص، بل بعد أن كان عنوان المقدمية
من الجهات التعليلية لا التقييدية لا جرم الحكم المحمول على العنوان المزبور يكون حاكيا عن
وجوبات متعددة مختلفة شدة وضعفا بموضوعات عديدة بملاكات متعددة، فكان حال
المقدمة حينئذ بعد كون وجوبها بمناط دخلها في ذيها حال كل واجب يترشح إليه الوجوب
من جهة دخله في ترتب المصلحة الخاصة عليه، فيختلف الوجوب فيها حينئذ حقيقة و
ملاكا باختلاف ما يترتب على المقدمات نظير اختلاف الوجوبات باختلاف المصالح
المترتبة عليها، وعليه فلا يكون هذا العنوان في المقام حاكيا عن محمول واحد متعلق بموضوع
واحد بملاك واحد كما في الصلاة واجبة، والصوم واجب بل هو يكون حاكيا ومرآة
موضوعا ومحمولا عن موضوعات متعددة محكومة بأحكام متعددة بمناطات مختلفة، ومن
المعلوم حينئذ أنه لا يكون في البين حينئذ جهة وحدة في البحث المزبور الا حيثية الملازمة
التي عرفت كونها محط النظر والبحث، وعليه لا يكاد ارتباطها بالمسألة الفرعية بوجه
أصلا، مضافا إلى ما عرفت أيضا من عدم اختصاص مورد البحث بخصوص مقدمة
الواجب بل عمومه في مقدمات الحرام والمكروه والمستحب أيضا مع مالها من الاختلاف
بحسب المراتب والمناط، فكان المقام من هذه الجهة من قبيل البحث عن أن فعل المكلف
هل يكون محكوما بالأحكام الخمسة أم لا ومعلوم حينئذ عدم ارتباطها بالمسألة الفرعية، كما
هو واضح.
على أنه ينطبق عليه أيضا ميزان المسألة الأصولية، فان ميزان كون المسألة أصولية كما
أفادوه هو ما يكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الحكم الفرعي على معنى وقوع نتيجتها
كبرى في القياس لصغرى يقيد الحكم الفرعي، ومثل هذا الميزان ينطبق على المسألة كما
في قولك: (هذه مقدمة الواجب وكل مقدمة الواجب واجبة فهذه واجبة) كما ينطبق في
فرض جعل النزاع في ثبوت الملازمة، غايته انه على ذلك يحتاج إلى تشكيل قياسين في انتاج
الحكم الفرعي، بخلافه على ظاهر عنوان البحث، فإنه لا يحتاج الا إلى تشكيل قياس
واحد. واما توهم انتقاضه بمثل الشرط المخالف للكتاب والسنة لوقوع نتيجتها أيضا كبرى
260

في القياس في قولك: (هذا شرط مخالف للكتاب وكل ما هو كذلك فاسد فهذا فاسد)
مع وضوح كونها من أجلي المسائل الفرعية، فيدفعه شخصية الحكم المحمول فيها، بخلاف
الحكم المحمول في المقام على عنوان المقدمية، ومعه لا وجه لجعل المسألة من المسائل الفرعية
غير المناسبة لتعرض الأصولي إياه في الأصول لمحض الاستطراد.
ثم إن ذلك كله بناء على الاخذ بظاهر عنوان البحث وهو وجوب المقدمة، والا فبناء
على الاخذ بما هو المهم في المقام من ثبوت الملازمة وعدمها فعدم ارتباطها بالمسألة الفرعية
أوضح.
وعلى ذلك فهل هي من المسائل العقلية كالبحث عن غيرها من الملازمات أم هي
من المبادئ الاحكامية باعتبار كونها بحثا عن لوازم وجوب الشئ وانه هل من لوازم
وجوب الشئ وجوب مقدماته أم لا كالبحث عن أن من لوازم الشئ حرمة ضده، فيه
وجهان: حيث تناسب المسألة كلا منهما، فإنه بعد فراغ من دلالة الصيغة على الوجوب
كما يناسب البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته كذلك يناسب
البحث عن لوازم وجوب الشئ وان كان الأنسب هو الأول، وعليه تكون المسألة من
المسائل العقلية الأصولية حيث كانت من الاحكام العقلية غير الاستقلالية وكان
ذكرها في المقام للمناسبة المزبورة لا انها كانت لفظية كما ربما يظهر من بعض كصاحب
المعالم (قدس سره) حسب استدلاله على النفي بانتفاء الدلالات، اللهم الا ان يقال في
وجه ذلك: بأنه من جهة كشف الدلالة عن ثبوت الملازمة وعدم الدلالة عن عدم
ثبوتها، بتقريب أنه على فرض الثبوت لا محالة يكون اللفظ دالا عليها بنحو الالتزام فكان
البحث حينئذ في دلالة الصيغة على الوجوب وهو بهذا الاعتبار عين البحث عن ثبوت
الملازمة بين الإرادتين. ولا يخفى أنه على ذلك لا يتوجه عليه اشكال الكفاية: بأنه إذا كان
نفس الملازمة ثبوتا محل الاشكال لا مجال لتحرير النزاع في مرحلة الكشف والاثبات و
مقام الدلالة بإحدى الدلالات، لان مقام الدلالة فرع ثبوت أصل المعنى. إذ نقول: بان ما
أفيد من عدم المجال لا يراد البحث في مقام الدلالة مع الاشكال في أصل ثبوت المعنى انما
يتم بالنسبة إلى المدلول المطابقي الذي يمكن فيه تخلف الدلالة واما بالنسبة إلى المدلول
الالتزامي فحيث انه لا ينفك ثبوت الملازمة عن دلالة اللفظ عليها بنحو الالتزام فلا يتم
هذا الاشكال، إذ عليه يكون البحث عن دلالة الصيغة عين البحث عين ثبوت الملازمة و
261

يستكشف بنحو الان من دلالة الصيغة عن ثبوت الملازمة ومن عدم دلالتها عن عدم
ثبوت الملازمة بين المعنيين. نعم يرد عليه حينئذ أن مجرد ثبوت الملازمة بين معنيين ما لم
يكن اللزوم بنحو البين بالمعنى الأخص لا يرتبط بمقام الدلالة اللفظية حتى تكون المسألة
لفظية وداخلة في مباحث الألفاظ، وعليه ينحصر الامر في المسألة في كونها عقلية محضة و
كان ذكرها في مباحث الألفاظ للمناسبة المزبورة، فتأمل.
الامر الثالث:
انهم قسموا المقدمة إلى تقسيمات:
منها تقسيمها بالداخلية والخارجية
وذكروا ان الداخلية هي الأمور المأخوذة في ماهية المأمور به وحقيقته المعبر عنها
بالاجزاء، واما الخارجية فهي الأمور الدخيلة في تحقق المأمور به الخارجة عن حقيقته و
ماهيته، كما في السبب والشرط والمانع والمعد، على ما يأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
فنقول: اما المقدمات الخارجية فسيأتي الكلام فيها في كونها مورد البحث اثباتا ونفيا. اما
المقدمات الداخلية فلا اشكال في وجوبها بالوجوب النفسي الضمني، وانما الكلام في
وجوبها بالوجوب الغيري، ومنشأه انما هو الاشكال في أصل مقدمية الاجزاء وتحقق ملاك
المقدمية فيها، وغاية ما قيل أو يمكن ان يقال في وجه مقدمية اجزاء المركب دعوى ان
المقدمة هي نفس ذوات الافعال بلا شرط وذا المقدمة هو الكل الذي عبارة عن ذوات
الافعال بشرط الاجتماع بنحو كان للهيئة الاجتماعية أيضا دخل فيه، نظير الهيئة
السريرية الحاصلة من اتصال الأخشاب بعضها ببعض، فان من المعلوم حينئذ ان تلك
الذوات بملاحظة معروضيتها للهيئة متقدمة على الكل طبعا، فتحقق فيها ملاك المقدمية،
هذا.
ولكن التحقيق خلافه وانه لا مجال لاعتبار المقدمية في اجزاء المركب من جهة
وضوح ان الملاك في مقدمية شئ لشئ انما هو كون الشئ مما يتوقف عليه وجود الشئ وفى
رتبة سابقة عليه، إذ لا يكاد انتزاع هذا العنوان الا عما تقدم على الشئ رتبة بنحو يتخلل
بينهما الفاء كما في قولك: (وجد فوجد) وقضية ذلك لا محالة هي المغايرة والاثنينية في
262

الوجود بين المقدمة وذيها، والكاشف عن ذلك كان هو الفاء المزبور في قولك: وجد فوجد و
من المعلوم حينئذ انتفاء مثل هذا الملاك بالنسبة إلى اجزاء المركب نظرا إلى أن المركب
لا يكون في الحقيقة الا نفس الاجزاء بالأسر وفي ذلك لا يكون بينها وبين الاجزاء
المغايرة والا ثنينية بحسب الهوية أو الوجود بوجه أصلا، ومن هذه الجهة أيضا نقول بعدم
المجال لاعتبار المقدمية بين الطبيعي وافراده كما توهم، لان الطبيعي بعد اتحاده مع فرده
خارجا لا مغايرة ولا اثنينية بينهما حتى يجئ فيه ملاك المقدمية وصح تخلل الفاء
الكاشف عن اختلاف الرتبة بينهما، كما هو واضح.
نعم لا يعتبر في صحة تخلل الفاء المزبور لزوم المؤثرية والمتأثرية بين الوجودين كما بين
العلة والمعلول، بل يجري ذلك في مثل العارض والمعروض أيضا كما في الصورة السريرية
العارضة على الأخشاب المتعددة المتصل بعضها ببعض بالكيفية الخاصة، ولكن ذلك أيضا
غير مرتبط بعنوان الاجتماع والانضمام في المركبات الاعتبارية من جهة ان عنوان
الاجتماع وكذا الترتب والانضمام انما كان انتزاعها في المركبات الشرعية عن جهة
وحدة الامر المتعلق بالمتكثرات الخارجية كما أن عنوان الانفراد والاستقلال أيضا كان
انتزاعهما عن تعدد الامر المتعلق بالمتكثرات، حيث إنه من تعلق تكليف واحد بعدة أمور
يطرء عليها وحدة اعتبارية ينتزع بها عنها عنوان الاجتماع والتركب والانضمام فيقال
بأنها مجتمعات تحت وجوب واحد، ومن تعلق تكاليف متعددة بها ينتزع عنها عنوان
الانفراد والاستقلال في مقام عروض الوجوب فيقال بأنها واجبات متعددة مستقلة وان
فرض كونها في الخارج متلازمات الوجود لملازمتها مع هيئة خارجية كما في اجزاء السرير
وبهذه الجهة أيضا يمتاز العمومات المجموعية والاستغراقية حيث إن تمام الميز بينهما انما هو
في وحدة الإرادة القائمة بالمجموع وتعددها، كما هو واضح.
وعلى ذلك فبعد ما لا يمكن اخذ مثل هذه الوحدة الاعتبارية الطارية على المتكثرات
الخارجية من قبل وحدة التكليف والوجوب في متعلق هذا التكليف وموضوعه، فلا جرم
في رتبة تعلق الوجوب لا يبقى الا الذوات المتكثرة الخارجة ولا يكون متعلق الوجوب و
معروضة الا نفس الذوات المتكثرة، ومعه لا يبقى مجال لاعتبار الكلية والجزئية للواجب
إذ لا يكون في هذه المرحلة امر وحداني تعلق به الوجوب حتى ينتهى الامر إلى مقدمية
الاجزاء بوجه أصلا، ولئن شئت فاستوضح ذلك بذوات أمور متعددة في الخارج حيث
263

ترى انها مما لا اقتضاء في ذاتها للتركب والانضمام لولا طر وجهة وحدة عليها من وحدة
اللحاظ والمصلحة أو التكليف، نظرا إلى قابليتها لكونها مستقلات في عالم اللحاظ و
المصلحة والتكليف بصيرورة كل واحد منها معروضا للحاظ مستقل ومصلحة مستقلة و
تكليف مستقل، وقابليتها أيضا لكونها منضمات ومجتمعات في عالم اللحاظ والمصلحة و
الوجوب بتعلق لحاظ واحد ومصلحة واحدة وتكليف واحد بالجميع، إذ حينئذ بتعلق
اللحاظ الواحد أو المصلحة الواحدة والتكليف الواحد يطرء عليها جهة وحدة اعتبارية في
تلك المرتبة المتأخرة ينتزع بها عنها عنوان الاجتماع والارتباط والانضمام ونحوها من
العناوين، كالكلية للمجموع والجزئية لكل واحد من الذوات، فاعتبار الكلية انما هو
بلحاظ ملاحظة اجتماع الذوات بأسرها تحت تكليف واحد، واعتبار الجزئية بلحاظ
ملاحظة كل واحد منها بشرط لا لكن في عالم العروض لا بحسب الخارج، وعلى ذلك
فدائما كان العنوانان المزبوران وهما الكلية والجزئية اعتبارين عرضيين منتزعين عن
مرحلة تعلق الإرادة الواحدة بالأمور المتعددة المتكثرة بلا طولية بينهما أصلا.
ومن ذلك البيان يظهر الكلام في الذوات المعروضة للهيئة الخارجية كما في اجزاء
السرير، إذ نقول فيها أيضا بعدم كون مناط التركب في الواجبات واستقلاله على مثل هذه
الهيئة الخارجية العارضة على ذوات الأخشاب المتعددة، نظرا إلى إمكان كون كل واحدة
من ذوات الأخشاب المزبورة حينئذ تحت مصلحة مستقلة وتكليف مستقل بنحو كان
كل واحدة منها واجبة بوجوب نفسي مستقل في قبال الأخرى، غايته كونها حينئذ
متلازمات الوجود في الخارج، كامكان كون الجميع حينئذ تحت مصلحة واحدة و
تكليف واحد، وربما ينتج ذلك في كيفية التقرب بالامر من جهة الضمنية و
الاستقلالية وفي وحدة العقوبة والمثوبة وتعددهما في صورة الموافقة والمخالفة، فان ذلك
حينئذ برهان تام على عدم كون مناط التركب والاستقلال في الواجب على مثل هذه
الوحدات الخارجية وان تمام المناط في التركب والاستقلال في الواجب على وحدة
الوجوب المتعلق بالمتكثرات وتعدده وانه من تعلق وجوب واحد على المتكثرات ينتزع
عنوان الكلية للمجموع والجزئية للآحاد وان فرض عدم اجتماعها في الخارج تحت هيئة
خارجية، كما أنه بتعلق وجوبات متعددة بها ينتزع عنها استقلال كل واحد منها في عالم
الوجوب وان فرض كونها في الخارج مجتمعات تحت هيئة خارجية.
264

وحينئذ فبعد ان كان مناط التركب في الواجب واستقلاله على وحدة الامر وتعدده
ولا يمكن أيضا اخذ مثل تلك الوحدة الاعتبارية الناشئة من قبل وحدة الامر في موضوعه
ومتعلقه فكان متعلق الامر عبارة عن ذوات المتفرقات الخارجية، فلا جرم يبطل القول
بمقدمية الاجزاء، من جهة انه حينئذ لم يكن في البين امر وحداني تعلق به الوجوب و
التكليف حتى يجئ توهم المقدمية للاجزاء، إذ لا يكون الواجب وما تعلق به الوجوب
حينئذ الا الذوات المتعددة المتكثرة ولا كان في هذه المرحلة الكلية ولا الجزئية بوجه
أصلا.
ثم إن هذا كله بناء على فرض خروج وصف الاجتماع عن الدخل في الملاك و
المصلحة. واما بناء على مدخلية حيث وصف الاجتماع أيضا في المصلحة فقد يتوهم
حينئذ تحقق مناط المقدمية في الاجزاء، بتقريب: ان هذه الهيئة الاجتماعية حينئذ نظير
الصورة السريرية الحاصلة من الأخشاب العديدة، فتكون الذوات بملاحظة معروضيتها
للهيئة الاجتماعية مقدمة عليها طبعا فتحقق فيها ملاك المقدمية. ولكنه مدفوع مضافا
إلى ما ذكر من عدم كون مناط التركب على مثل هذه الهيئة الخارجية باعتبار امكان
كون كل واحد من الذوات والهيئة واجبا بوجوب مستقل بان غاية ذلك انما هي
مقدمية ذوات الاجزاء بالنسبة إلى الهيئة هي جزء المركب لا بالنسبة إلى نفس
المركب الذي فرضناه عبارة عن ذوات الاجزاء والهيئة الاجتماعية، ففي هذا الفرض
أيضا لا يكون معروض الوجوب الا الأمور المتكثرة التي منها الهيئة الاجتماعية. وبالجملة
نقول: بأنه اما ان يجعل الواجب في الفرض عبارة عن خصوص الهيئة الاجتماعية واما ان
يجعل الواجب عبارة عن الذوات والهيئة الاجتماعية، فعلى الأول وان كان يلزمه مقدمية
الذوات للواجب من جهة كونها مما يتوقف عليها الهيئة الاجتماعية كما في ذوات
الأخشاب بالنسبة إلى الصورة السريرية، ولكنه حينئذ خارج عن مفروض البحث، من
جهة صيرورة الذوات حينئذ من المقدمات الخارجية لا الداخلية، وعلى الثاني يكون
الواجب عبارة عن الأمور المتكثرة الخارجية التي منها الهيئة إذ حينئذ وان يطرأ من قبل
الهيئة المزبورة وحدة اعتبارية على الذوات المزبورة، ولكنه بعد أن كان معروض الوجوب
عبارة عن منشأ هذا الاعتبار وهو الذوات المزبورة والهيئة الخارجية العارضة عليها لكونها
هي التي تقوم بها المصلحة دون هذا الامر الاعتباري، فلا جرم يكون معروض الوجوب
265

عبارة عن المتكثرات الخارجية لا انه عبارة عن امر وحداني مركب حتى ينتهى الامر إلى
مقدمية الاجزاء للواجب المركب، فينتهى الامر إلى البحث عن كونها واجبة بالوجوب
الغيري للكل والمركب. نعم على هذا الفرض يتصور لذوات الاجزاء مناط المقدمية و
لكنه لا بالنسبة إلى المركب كما هو مفروض البحث بل بالنسبة إلى الهيئة التي هي جزء
الواجب، وبالنسبة إليها أيضا تكون الاجزاء من المقدمات الخارجية لا الداخلية كما هو
مفروض البحث.
وحينئذ فبمقتضى ما ذكرنا صح لنا بقول مطلق نفى المقدمة في اجزاء المركب
الارتباطي سواء على فرض مدخلية الهيئة الخارجية في الغرض والمصلحة أو عدم مدخليتها
نظرا إلى ما ذكرنا من كون مناط التركب والاستقلال في الواجب على وحدة الوجوب
المتعلق بالمتكثرات وتعدده وخلو معروض الوجوب عن مثل تلك الوحدات الاعتبارية
المصلحة لاعتبار الكلية والجزئية والتركب والانضمام وكونه عبارة عن ذوات
المتكثرات الخارجية، إذ حينئذ لا يكون في رتبة سابقة عن تعلق الوجوب والتكليف جهة
وحدة تقتضي تعلق الوجوب بأمر وحداني مركب بما هو مركب بوجه أصلا، لما عرفت من أن
هذه الجهة من الوحدة المصححة لاعتبار التركب والانضمام والكلية والجزئية
للواجب انما هي ناشئة من قبل وحدة التكليف المتعلق بالأمور المتكثرة وهي مضافا إلى
اعتباريتها من جهة معلوليتها للتكليف وتأخرها الرتبي عنه من الممتنع اخذها في موضوع
التكليف ومتعلقه.
لا يقال: بان ذلك كذلك بالنسبة إلى الوحدة الطارية من قبل الوجوب والتكليف، و
اما بالنسبة إلى الوحدة الناشئة من قبل وحدة اللحاظ والمصلحة فلا بأس بأخذها في
موضوع التكليف ومتعلقه، وحينئذ فأمكن اعتبار التركب في الواجب بهذا الاعتبار.
فإنه يقال: نعم وان أمكن ذلك ولا يلزم منه المحذور المتقدم من اخذ الشئ المتأخر
عن الشئ في رتبة سابقة عليه، ولكن من الواضح حينئذ ان ما تعلق به الوجوب لا يكون
الا عبارة عن ما تقوم به المصلحة واللحاظ وهو لا يكون الا الذوات المتكثرة الخارجية
لكونها هي المؤثرة في الغرض والمصلحة دون العنوان الطاري عليها من قبل وحدة اللحاظ
والمصلحة، فلابد حينئذ من الغاء هذه الوحدات طرا وتجريد المتعلق منها حتى الوحدة
الاعتبارية الناشئة من قبل وحدة المصلحة واللحاظ بجعله عبارة عن الذوات المتكثرة
266

الخارجية التي تعلق بها اللحاظ والمصلحة، ولازمه لا محالة حينئذ هو بطلان القول بمقدمية
الاجزاء، لعدم امر وحداني حينئذ في البين تعلق به الوجوب وعدم كون هذا الموطن موطن
اعتبار الكلية والجزئية للواجب لما تقدم من كونهما اعتبارين عرضيين منتزعين عن مرحلة
تعلق إرادة واحدة بالأمور المتكثرة الخارجية باعتبار اللحاظ بشرط لا تارة وبشرط شئ
أخرى، أي لحاظ كل جزء تارة في حيال نفسه وفي قبال الغير بنحو لو انضم إليه شئ
كان خارجا عنه في عالم عروض الوجوب من جهة قصر اللحاظ عليه فقط، ولحاظه بشرط
شئ أخرى أي لحاظه منضما مع غيره، والا ففي رتبة قبل الامر والوجوب لا كلية ولا
جزئية ولا تركب ولا انضمام في البين بوجه أصلا.
ومن هذا البيان ظهر أيضا ان مجرد اعتبار الكلية والجزئية في موطن بعد الامر لا
يكون أيضا مصححا لمقدمية الاجزاء للمركب بعد فرض عينية المركب والاجزاء، من
جهة ان المقدمية كما عرفت تقتضي الاثنينية والمغايرة مع ذيها في الوجود والطولية بينهما
بحسب المرتبة بنحو يصح تخلل الفاء بينهما وتلك المغايرة الاعتبارية بينهما باعتبار اللحاظ لا
بشرط وبشرط لا لا تقتضي المغايرة والطولية بينهما، كما لا يخفى.
وعليه فاصل هذا التقسيم أي تقسيم المقدمية بالداخلية والخارجية مما لا مجال له
بوجه من الوجوه. نعم انما يتصور المقدمية بالنسبة إلى الاجزاء في المركبات الحقيقية
العقلية التي لها وجود مستقل وصورة مستقلة غير صور الاجزاء كالأجسام الملتئمة من
العناصر الخاصة، فإنها باعتبار انقلاب الاجزاء فيها عما لها من الصور العنصري الخاص إلى
الصور الجسمية أو النباتية وصيرورتها مواد لها أمكن دعوى مقدمية الاجزاء المادية
للمركب باعتبار تقدمها عليه وكونها من علل قوامه، واما بالنسبة إلى المركبات
الارتباطية الجعلية فلا مجال لهذا الكلام حتى فيما كان منها تحت هيئة خارجية
كالأخشاب العديدة المعروضة للهيئة السريرية حتى مع كون الهيئة أيضا مما لا لها الدخل في
الغرض والمصلحة، كما في الصلاة حسب ما يستفاد من أدلة القواطع، حيث يستفاد منها
ان للصلاة هيئة إتصالية وانها أيضا مما لها الدخل في غرض النهى عن الفحشاء، فإنه في
هذا النحو من المركبات التي لا يكون لها وجود وحداني حقيقي في الخارج لا يكاد يكون
معروض الوجوب فيها الا الذوات المتكثرة الخارجية التي منها الهيئة العارضة عليها، ومعه
كيف يمكن اتصاف ذوات الاجزاء فيها بالمقدمية للمركب، ولعمري
267

ان تمام المنشأ في مصير من صار إلى مقدمية الاجزاء انما هو من جهة الخلط بين المركبات
الحقيقية العقلية التي انقلب فيها الاجزاء حال تركبها عما لها من الصور الخاصة إلى صورة
أخرى ثالثة وبين هذا النحو من المركبات الاعتبارية الجعلية ومقايسة إحديهما
بالأخرى، ولكنك بعد ما أحطت خبرا بما ذكرنا تعرف وضوح الفرق بينهما وعدم صحة
مقايسة أحدهما بالآخر.
ثم انه لو بنينا على تحقق مناط المقدمية في اجزاء المركب اما مطلقا أو في خصوص ما
كان منها تحت هيئة خارجية مع كون الهيئة أيضا مما لها الدخل في الغرض والمصلحة
حيث قلنا في تلك الصورة بتحقق مناط المقدمية في الاجزاء بالنسبة إلى الهيئة العارضة
عليها، نقول بامتناع اتصافها بالوجوب الغيري بعد فرض ثبوت الوجوب النفسي الضمني
لها نظرا إلى محذور اجتماع المثلين في موضوع واحد الذي هو من المستحيل. واما توهم
تأكد الوجوب فيها حينئذ واشتداده فمدفوع بامتناع ذلك مع طولية الحكمين، كما أن توهم
اجداء مثل هذه الطولية حينئذ في رفع المحذور المزبور مدفوع بان الطولية الموجبة لرفع
محذور اجتماع المثلين أو الضدين انما هي الطولية في ناحية الموضوع كما في موارد الجمع
بين الحكم الواقعي والظاهري، حيث كان متعلق أحد الحكمين عبارة عن ذات الشئ و
متعلق الاخر هي الذات في الرتبة المتأخرة عن الشك بحكمه، واما في فرض وحدة الموضوع
وعدم تعدد الرتبة فيه فلا يكاد يفيد مجرد الطولية بين الحكمين في رفع محذور اجتماع
الحكمين المتضادين أو المثلين، لان العقل كما يأبى عن ورود حكمين عرضيين على موضوع
وحداني كذلك يأبى عن ورود الحكمين الطوليين أيضا كما هو واضح فتأمل.
لا يقال: بأنه انما يتوجه المحذور المزبور بناء على تعلق الاحكام بالخارج اما بدوا أو
بتوسيط العناوين والصور، واما بناء على تعلقها بالعناوين والصور الذهنية ولو بالنظر
الذي ترى خارجية بلا سرايتها منها إلى الخارج، فلا جرم يرتفع المحذور المزبور، من جهة
تغاير المتعلقين حينئذ، لان لحاظ الجزء منفردا لا في ضمن الغير ولحاظه في ظرف
الانضمام بالجزء الآخر صورتان متغايرتان في الذهن غير صادقة إحداهما على الأخرى، ومعه فلا
بأس بتعلق الوجوب النفسي بإحدى الصورتين والوجوب الغيري بالأخرى.
فإنه يقال: نعم وان كان المتعلق في الاحكام والإرادات هي العناوين والصور
الذهنية فأمكن تعلق الحكمين بالعنوانين المتغايرين ولو مع اتحادهما بحسب المعنون
268

الخارجي، ولكن نقول: بأنه انما يجدي ذلك في رفع محذور اجتماع المثلين في ظرف اختلاف
العنوانين بحسب المحكى والمنشأ أيضا بنحو كان كل عنوان حاكيا عن منشأ غير ما
يحكى عنه الاخر لا في مثل المقام الذي كان المحكى فيها واحدا بحسب المنشأ أيضا. نعم
لو كان المراد من اعتبار الاجزاء بشرط لا اعتبارها بشرط لاعن الانضمام في الخارج
لكان لما أفيد كمال مجال من جهة اختلاف العنوانين حينئذ بحسب المحكى والمنشأ، و
لكن الالتزام بذلك مشكل جدا، من جهة رجوعه حينئذ إلى وجوب المقدمة بشرط عدم
الايصال إلى ذيها، لان اعتبارها بشرط لاعن الانضمام في الخارج عبارة عن اعتبارها
بشرط عدم الايصال وهو كما ترى لا يمكن الالتزام به، والا فبناء على إرادة اعتبارها
بشرط لا في عالم عروض الوجوب، فلا جرم يلزمه اتحاد العنوانين بحسب المحكى والمنشأ
علاوة عن اتحادهما بحسب المعنون الخارجي، وعليه يلزمه في صورة الانضمام في الخارج
اجتماع الوجوبين في نفس تلك الأجزاء باعتبارين وهو كما ترى من المستحيل وانه لا
يجدي في دفع المحذور مجرد تلك المغايرة الاعتبارية، كما هو واضح.
وحينئذ فعلى كل تقدير الاجزاء المعبر عنها بالمقدمات الداخلية تكون خارجة عن محل
النزاع اما لعدم ملاك المقدمية فيها كما هو التحقيق أو لامتناع اتصافها بالوجوب الغيري
بعد وجوبها بالوجوب النفسي.
ثم إن الثمرة بين القولين تظهر في باب الأقل والأكثر الارتباطيين من جهة مرجعية
البراءة أو الاشتغال، فإنه على القول بالوجوب الغيري للاجزاء ربما يتعين الامر في تلك
المسألة في المصير إلى الاشتغال نظرا إلى وجود العلم الاجمالي بالتكليف وعدم صلاحية
العلم التفصيلي بمطلق وجوب الأقل أعم من الغيري والنفسي، للانحلال، لمكان تولده من
العلم الاجمالي السابق عليه وتحقق التنجز في الرتبة السابقة. واما على القول بعدم وجوب
الاجزاء بالوجوب الغيري اما من جهة انتفاء ملاك المقدمية فيها أو من جهة محذور
اجتماع المثلين فأمكن القول بمرجعية البراءة في تلك المسألة نظرا إلى رجوع الامر حينئذ إلى
علم تفصيلي بتعلق إرادة الشارع بذات الأقل ولولا بحده وهو الخمسة مثلا والشك
البدوي في تعلقها بالزائد، واما العلم الاجمالي فإنما هو متعلق بحد التكليف وانه الأقل أو
الأكثر كالخط الذي تردد حده بين الذراع أو الذراعين، ومثل هذا العلم لا اثر له في التنجز
لان المؤثر منه انما هو العلم الاجمالي بذات التكيف لا بحده، وتنقيح الكلام بأزيد من
269

ذلك موكول إلى محله، فالمقصود في المقام مجرد الإشارة إلى ثمرة البحث.
ومن التقسيمات تقسيمها
إلى العقلية والشرعية والعادية
فالعقلية هي التي يتوقف عليها الشئ عقلا بنحو يستحيل تحققه بدونها. واما الشرعية
فهي التي يتوقف عليها وجود الشئ شرعا لا عقلا كالطهارة للصلاة. والعادية هي التي
يتوقف عليها وجود الشئ عادة وان لم يتوقف عليها عقلا ولا شرعا، كتحصيل العلم في
الأزمنة المتمادية للبلوغ إلى مرتبة الاجتهاد ونصب السلم للصعود على السطح. نعم في
الكفاية أورد على التقسيم المزبور وادعى برجوع الجميع إلى العقلية، بتقريب: انه بعد
اعتبار الشارع شرطية شئ لشئ كالطهارة للصلاة أو بعد اقتضاء العادة توقف شئ على
شئ، لا محالة يصير التوقف عقليا، من جهة استقلال العقل بعد توسيط الشارع أو قضاء
العادة باستحالة تحقق المشروط بدون شرطه واستحالة الصعود على السطح لغير الطائر
بدون نصب السلم مثلا هذا. ولكن نقول: بأنه بعد توسيط جعل الشارع واعتباره أو قضاء
العادة وان كان الامر كما ذكر من صيرورة التوقف عقليا، الا ان هذا المقدار لا يقتضي
رجوع الشرعية والعادية إلى العقلية، من جهة ان حكم العقل بالتوقف حكم وارد على
المقدمة فارغا عن الإناطة التي هي مناط مقدمية الشئ.
وحينئذ نقول: بان محط النظر في هذا التقسيم انما هو في أصل تلك الإناطة من كونها
تارة ذاتية محضة بلا توسيط شئ من جعل شرعي أو قضاء عادى وأخرى شرعية محتاجة
إلى اعتبار الشارع إياها كالصلاة في ظرف الطهارة فان الإناطة بين الصلاة والطهارة
حينئذ لم تكن ذاتية وانما هي من جهة توسيط جعل الشارع إياها من جهة انه لولا جعل
الشارع لم يكن إناطة بين الطهور والصلاة بل كان العقل يجوز تحقق الصلاة بدون
الطهارة، ومجرد دخلها في المصلحة أيضا لا يقتضي إناطة الصلاة بها قهرا لامكان ان لا
يعتبرها الشارع فيها في مقام الامر بها ولو من جهة مصلحة أخرى كمصلحة التسهيل على
المكلفين. وهكذا الامر في العاديات فإنه لولا قضاء العادة لما كان إناطة بنظر العقل
بينهما بوجه أصلا لتجويزه تحقق ذيها بدونها كما في علوم المعصومين عليهم السلام حيث
270

انها كانت حاصلة لهم من غير اشتغالهم بتحصيل العلم في مرور الزمان. نعم بعد تحقق
الإناطة بتوسيط جعل الشارع أو بتوسيط قضاء العادة يكون التوقف عقليا، لكن عرفت
عدم كون محط النظر من التقسيم المزبور على ذلك وانما محطه في أصل الإناطة بين الوجود،
وعليه فالتقسيم المزبور يكون في محله، كما هو واضح.
ومن التقسيمات تقسيمها
إلى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ومقدمة العلم
فالأولى هي ما يتوقف عليه وجود الشئ. والثانية ما يتوقف عليه صحة الشئ بنحو
يستحيل اتصاف الذات بها بدونها. والثالثة ما يتوقف عليه العلم بالشئ كالصلاة إلى
أربع جهات عند اشتباه القبلة. ولكن الظاهر عدم كون مقدمة الصحة قسما برأسه
لكونها اما راجعة إلى مقدمة الوجوب أو إلى مقدمة الواجب، من جهة ان دخل الشئ اما
ان يكون في اتصاف الذات بالوصف العنواني واما ان يكون دخله في وجود المتصف
فارغا عن أصل الاتصاف فعلى الأول يرجع إلى مقدمة الوجوب وسيأتي إن شاء الله تعالى
خروجها عن حريم النزاع وعلى الثاني يرجع إلى مقدمة الواجب. واما مقدمة العلم فقد
يقال بخروجها أيضا عن حريم النزاع، لأنه ليس لنا مورد يكون تحصيل العلم واجبا شرعا
حتى ينازع في وجوب مقدماته، وهو كذلك في غير المعارف الاعتقادية المطلوب فيها المعرفة
نفسيا كالعلم بوجود الصانع وصفاته الثبوتية والسلبية ومعرفة النبي صلى الله عليه وآله و
الأئمة عليهم السلام وعقد القلب والانقياد لهم، واما في الأحكام الشرعية فالامر كما
ذكر من خروج مقدمات العلم عن حريم النزاع بناء على التحقيق من عدم وجوب قصد
الوجه والتميز شرعا في الواجبات، إذ حينئذ لا يكون لنا مورد في الأحكام الشرعية كان
العلم واجبا شرعا حتى ينازع في وجوب مقدماته.
وذلك اما في مقام فراغ الذمة عند العلم الاجمالي بالتكليف فواضح، لان وجوبه
حينئذ لا يكون الا عقليا محضا ارشادا منه إلى عدم الوقوع في محذور مخالفة التكليف
الثابت المنجز بمقتضى العلم الاجمالي.
271

واما وجوب الفحص في الشبهات البدوية الحكمية فكذلك أيضا، فان وجوبه أيضا لا
يكون الا عقليا محضا، اما من جهة عدم تحقق موضوع حكمه بالقبح لاختصاصه بالشك
المستقر غير الزائل بالفحص عن وجود التكليف، أو من جهة منجزية احتمال التكليف
للواقع على تقدير وجوده وعدم معذورية المكلف لولا الفحص في رجوعه إلى الأصول
النافية، بل حينئذ لو ورد من الشارع حكم فيه بالوجوب لا يكون حكمه الا ارشادا محضا
كما هو واضح.
ومن ذلك أيضا يظهر الحال فيما ورد من الامر بوجوب التعلم كقوله: (هلا تعلمت)
فإنه أيضا لا يكون الا ارشاديا محضا إلى ما يحكم به العقل من وجوب التعرض للأحكام
الصادرة من الشارع والفحص عنها بالمقدار اللازم وعدم جواز الرجوع إلى البراءة والا
يتوجه الجواب عنه أيضا بأنه: (ما علمت بوجوب التحصيل العلم بالأحكام الشرعية) كما
أجيب عن عدم العمل بالأحكام الشرعية، فان انقطاع الجواب حينئذ كاشف عن أن
وجوب تحصيل العلم من الارتكازات العقلية، وعليه فلا يكون الامر به الا ارشاديا محضا
لا شرعيا مولويا.
وهكذا الكلام في بعض الشبهات الموضوعية الواجب فيها الفحص كما في باب
الزكاة ومسألة الاختبار عند اشتباه الدم وتردده بين العذرة والحيض، فان الفحص في
الثاني انما هو من جهة العلم الاجمالي حينئذ بإحدى الوظيفتين: اما وجوب الصلاة والصوم
عليها أو حرمتها وحرمة الدخول في المسجد، إذ حينئذ يكون وجوب الفحص أيضا واجبا
ارشاديا لا مولويا. واما الفحص في الأول فهو وان كان على خلاف القواعد الجارية في
كلية الشبهات الموضوعية، ولكن نقول بان الامر بالتسبيك حينئذ انما هو من جهة رفع
احتمال التكليف نظرا إلى منجزية الاحتمال المزبور حينئذ للواقع وعدم معذورية
المكلف حينئذ لولاه في الرجوع إلى الأصول النافية، كما ذكرنا تحقيق الكلام في ذلك في
شبهات البراءة عند التعرض لوجوب الفحص عن الاحكام في صحة الرجوع إلى البراءة، و
عليه أيضا لا يكون وجوب الفحص الا ارشاديا محضا. وهكذا الكلام في الأوامر الواردة
في الفحص عن الماء غلوة أو غلوتين في جواز التيمم، فان ذلك أيضا لا يكون الا ارشاديا
محضا إلى حكم العقل باعتبار حكمه بمقتضي قاعدة الاشتغال بلزوم الفحص لرفع احتمال
وجود الماء في الانتقال إلى التيمم.
272

وحينئذ فبعد ما لا يكون في الشرعيات مورد يكون العلم واجبا شرعيا بالوجوب
المولوي، فلا جرم لا يبقى مجال للنزاع في مقدمة العلم والبحث عن وجوبها شرعا. نعم لو
بنينا على وجوب نية الوجه والتميز في الواجبات فباعتبار توقف الوجه والتميز على العلم
بوجه المأمور به ربما يدخل مقدماته حينئذ في حريم النزاع، ولكن بعد أن كان التحقيق هو
عدم وجوبها شرعا فلا محالة يخرج مقدمات العلم بقول مطلق عن حريم النزاع، كما لا
يخفى.
ومن التقسيمات: تقسيمها
إلى المقتضى والشرط والمانع
وقد عرفوا المقتضى وهو السبب والعلة في لسان الحكم بما يلزم من وجوده الوجود
دائما ذاتا، والشرط بما يلزم من عدمه العدم، والمانع بما يلزم من وجوده العدم. وهذا
التعبير يقتضى اختلاف المقتضى مع الشرط والمانع في كيفية الدخل في وجود المعلول و
تحققه وعدم كون الجميع على وزان واحد في ذلك وان مناط دخل كل غير ما هو المناط
في الاخر، والا لما كان وجه للعدول في الشرط والمانع عن التعريف المزبور للمقتضي و
هو كك، فان ملاك المقدمية في المقتضي عبارة عن حيثية المؤثرية، إذ هو في الحقيقة عبارة
عن معطى الوجود لأنه هو الذي يخرج المعلول من كمونه ويستند إليه وجوده، كما في مثل
النار والاحراق، حيث يرى أن ما ينشأ ويتولد منه الاحراق انما هو النار خاصة. وهذا
بخلافه في مثل الشرط والمانع، فان دخلهما فيه لا يكون على نحو دخل المقتضي في كونه
بنحو المؤثرية والمتأثرية بل وانما كان بمناط آخر غير المؤثرية كما ستعرف، كيف ولا
اشكال بينهم في أن عدم المانع من المقدمات ومن اجزاء العلة التامة حسب تفسيرهم
إياها بالأمور الثلاثة: المقتضي والشرط وعدم المانع، ويكشف عنه أيضا التزامهم بترشح
الحرمة الغيرية نحو المانع في مثل الصلاة في غير المأكول وبنائهم على جريان (كل شئ لك
حلال) في مشكوك المانعية عند الشك في كون اللباس من المأكول أو غيره، بتقريب اقتضاء
القاعدة حلية المشكوك ولو غيريا والترخيص في ايجاد الصلاة فيه.
مع أنه من المستحيل ان يكون دخل عدم المانع في تحقق المعلول بنحو المؤثرية كما في
273

المقتضى، لضرورة انه لا سنخية بين الوجود والعدم، فكيف يمكن دخل العدم المزبور في
وجود المعلول بنحو المؤثرية فلا محيص حينئذ اما من اخراج عدم المانع من المقدمات ومن
اجزاء العلة التامة واما من الالتزام بوجه آخر في مناط مقدمية عدم المانع غير مناط
المؤثرية، بدعوى مدخلية في قابلية المعلول والأثر بلحاظ اضافته إليه لتحقق والانوجاد
من قبل موجده ومؤثره، والأول كما ترى خلاف ما أطبقوا عليه من كون عدم المانع من
اجزاء العلة ومن مقدمات وجود المعلول، فتعين الثاني بعد بطلان المؤثرية فيه.
واما توهم ان ذلك انما هو بالنسبة إلى العدم المطلق لا مطلقا حتى بالنسبة إلى العدم
المضاف فان الثاني مما له شائبة من الوجود ومن ذلك يتميز أحدهما عن الآخر كعدم زيد
في قبال عدم عمرو والا فلا ميز بين الاعدام فمدفوع بان مجرد إضافة العدم إلى المهية لا
يصير العدم المزبور وجودا كيف وان المضاف وهو العدم بنفسه نقيض الوجود واما
المضاف إليه وهو المهية فايضا غير مقتض للوجود لان حيثيتها حيثية عدم الاقتضاء للوجود
والعدم، ولذا قيل: بان المهية من حيث هي ليس الا هي لا موجودة ولا معدومة، وحينئذ
لا يبقى في البين الا نفس الإضافة التي هي من الأمور الاعتبارية وهي أيضا غير مقتضية
للوجود. وبالجملة ان إضافة العدم إلى المهية ليس الا كإضافة ماهية إلى ماهية أخرى
فكما ان إضافة ماهية إلى ماهية لا تقتضي وجودا كذلك في إضافة العدم إليها، بل في
إضافة المهية إلى المهية ربما يكون الامر أهون، لكون الماهية بنفسها غير آبية عن الوجود
بخلافه في العدم فإنه بنفسه نقيض الوجود وطارد له، نعم الإضافة المزبورة كما ذكر
موجبة لتميز الاعدام بعضها عن بعض كقولك: عدم زيد غير عدم عمرو، ولكن مجرد ذلك لا
يقتضى موجوديته ومؤثريته في الوجود، كما هو واضح.
ومن ذلك وقعوا في حيص وبيص في وجه دخل عدم المانع، فأفاد بعضهم ان مناط
الدخل فيه انما هو من جهة منافاة وجوده مع تأثير المقتضي وحيلولته بينه وبين اثره، كما
في رطوبة الخشب المانعة عن تأثير النار في الاحراق الفعلي. ولكن فيه ما لا يخفى، إذ نقول
بان مرجع ذلك إلى جعل المانع من اضداد تأثير المقتضى الذي هو الأثر المترتب عليه، من
جهة ان تأثير الشئ عبارة عن عين اثره كالايجاد والوجود وانما الفرق بينهما بالاعتبار
بلحاظ اضافته إلى الفاعل تارة والى القابل أخرى، ومثل هذا المعنى كما ترى مناف مع
مقدمية العدم المزبور، لان لازم مضادة وجوده مع تأثير المقتضى واثره هو صيرورة وجوده في
274

رتبة تأثير المقتضي الذي هو اثره، ولازمه بمقتضي انحفاظ الرتبة بين النقيضين هو
صيرورة عدمه أيضا في تلك الرتبة وهو كما ترى مناف مع مقدمية العدم المزبور للأثر و
كونه من اجزاء العلة التامة، فلا بد حينئذ في حفظ المضادة المزبورة من اخراج عدم المانع
عن المقدمات والا فمع حفظ المقدمية فيه يستحيل ان يكون وجه دخله بمناط المضادة و
المنافاة المزبورة، كما هو واضح.
واضعف من ذلك جعل مناط دخل عدم المانع جهة منافاة وجوده مع مناط المطلوب
ومصلحته، إذ نقول: بان مرجع ذلك أيضا إلى جعل وجود المانع من اضداد المصلحة المترتبة
على المطلوب، ولازمه بمقتضى انحفاظ الرتبة بين النقيضين ان يكون عدمه في رتبة لا حقة
عن المطلوب، وهو كما ترى من المستحيل اجتماعه مع فرض مقدمية عدم المانع للمطلوب
لان مقتضى مقدمية العدم المزبور هو كونه في رتبة سابقة على المطلوب بنحو يتخلل بينهما
الفاء المزبور، فكيف يمكن حينئذ جعله من اضداد مصلحة المطلوب نعم لهذا الكلام مجال
بناء على عدم مقدمية عدم المانع، ولكن الالتزام بذلك أيضا كما عرفت مناف لما تسالموا
عليه من مقدميته وكونه من اجزاء العلة التامة بل ولاستدلالهم بدليل الحلية في
مشكوك المانعية في مسألة غير المأكول لا ثبات الحلية الغيرية والترخيص في ايجاد الصلاة
فيه حتى من القائل المزبور.
وحينئذ نقول: بأنه بعد ما لا يمكن ان يكون دخل عدم المانع في المطلوب بمناط
المؤثرية والمتأثرية لاختصاص مثل هذا الدخل بخصوص السبب والمقتضى وعدم
تصوره في الاعدام، ولا بمناط المنافاة والمزاحمة مع المطلوب أو مصلحته، فلا محيص وأن يكون
مناط الدخل فيه وكذا الشرائط بوجه آخر، وليس ذلك الا دعوى دخله في قابلية
المعلول والأثر للتحقق والانوجاد من قبل موجده ومؤثره على معنى دخله في تحدد
الطبيعة بحد خاص يكون بذلك الحد قابلا للتحقق، بحيث لولا ذلك الحد الخاص الناشي
من إضافة الطبيعة إلى العدم المزبور ككون الشئ في ظرف عدم كذا لما كان قابلا
للتحقق من قبل موجده ومقتضيه، ومرجع هذا الدخل في الحقيقة إلى دخل طرف
الإضافة في الإضافة ودخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري، ومن المعلوم أيضا كفاية
هذا المقدار من الدخل في مقدمية عدم المانع بنظر العقل للمطلوب وتقدمه الرتبي عليه و
صحة تخلل الفاء بينهما في قولك: وجد المانع فعدم المطلوب، وذلك لما تقدم سابقا بأنه لا
275

يحتاج في صحة تخلل الفاء المزبور بين الشيئين اعتبار المؤثرية والمتأثرية بينهما، ولذلك
يصح هذا التخلل فيما بين العارض والمعروض أيضا مع أنه لا يكون بينهما اعتبار المؤثرية و
المتأثرية، بل وفيما بين عدم العلة وعدم المعلول في قولك: عدم العلة فعدم المعلول بل
يكفي فيه مجرد التقدم الرتبي لاحد الامرين على الآخر ولو كان ذلك بمناط انحفاظ الرتبة
بين النقيضين كما في العلة والمعلول، فان وجود العلة لما كان في رتبة سابقة على وجود
المعلول يكون عدمها أيضا بمقتضي انحفاظ الرتبة بين النقيضين في رتبة سابقة على عدمه
فصح تخلل الفاء بينهما مع أنه لا تأثير بين الاعدام.
وحينئذ نقول في المقام أيضا: بان العدم المزبور من حيث وقوعه طرفا للإضافة و
منشئيته لتحدد الشئ بحد خاص ينال العقل جهة المقدمية منه ويرى كونه في رتبة سابقة
على الحد المزبور بنحو يفصل الفاء المزبور بينهما الكاشف عن اختلاف الرتبة بينهما، كما
كان ذلك أيضا بالقياس إلى بعض الأمور الوجودية ككون الشئ مثلا في ظرف وجود
كذا وفي مكان كذا فإنه قد يكون الشئ لا يكون فيه القابلية للوجود والتحقق ولو مع
وجود مقتضيه وتماميته في مرحلة اقتضائه الا إذا كان محدودا بحدود خاصة ناشئة تلك
الحدود من اضافته إلى بعض الأمور الوجودية والعدمية، واما دخل مثل هذا الحدود في
القابلية المسطورة فهو لا يكون إلا ذاتيا فلا يعلل بأنه لم وبم، لان مرجع ذلك إلى أن ما هو
القابل للتحقق من الأول هو الشئ المحدود.
ومن ذلك أيضا يندفع بعض الاشكالات المتوهمة بالنسبة إلى تأخر وجود الممكنات
مع سعة فيض الباري عز اسمه وقدرته على كل شئ، إذ نقول: بان عمدة الوجه فيه انما هو
من جهة عدم قابليته للوجود والتحقق باعتبار مدخلية بعض الأمور في قابليته للوجود
كمرور الزمان ونحوه.
ومن ذلك البيان أيضا ظهر وجه دخل الشرائط وانه لا يكون دخلها الا كدخل عدم
المانع في كونه من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري الراجع إلى دخلها في
قابلية الأثر للتحقق باعتبار كونها مما تقوم به الحدود الخاصة التي بها يكون الأثر قابلا
للتحقق لا بدونها، لا ان دخلها كان من قبيل دخل المقتضى بنحو المؤثرية والمتأثرية، و
لذلك أيضا لم يعرفوا الشرائط بما عرفوا به المقتضي بل عرفوه بما يلزم من عدمه العدم، قبال
المقتضى الذي يلزم من وجوده الوجود ولو لذاته
276

ثم انه لا يفرق فيما ذكرنا بين ان يكون الشرائط راجعة إلى مقام التأثير الفعلي وبين
رجوعها إلى مقام أصل الاقتضاء، فإنه على كل تقدير لا دخل لها الا في حدود الشئ غايته
انه على الأول يرجع دخلها إلى قابلية الأثر والمقتضى (بالفتح) للتحقق، وعلى الثاني
يرجع دخلها إلى قابلية المقتضى في اقتضائه للتأثير باعتبار ان ما هو المؤثر من الأول هو
الوجود المحدود بالحدود الخاصة، واما دخل هذه الحدود في القابلية المزبورة في المقتضى
فهو كما عرفت لا يكون الا ذاتيا غير معلل بلم وبم.
وعلى ذلك فدخل الشرائط وكذا الموانع لا يكون الا كونها طرفا للإضافة ومحدده
للشئ بحدود خاصة، وهذا المقدار من الدخل أيضا كما عرفت يكفي في نيل العقل جهة
المقدمية منها وكونها في رتبة سابقة على المحدود كما هو واضح، ولئن شئت فاستوضح ذلك
بمثل الصلاة التي ورد انها قربان كل تقى وتنهى عن الفحشاء وما اعتبر الشارع فيها من
القيود الوجودية والعدمية ككونها عن طهور وكونها إلى القبلة وفي حال الستر وكونها في
ظرف عدم امر كذائي، إذ لا اشكال حينئذ في أن ما يترتب عليه النهى عن الفحشاء و
الكمال والقرب ليس الا ذات الصلاة التي هي موضوع الامر في خطاب أقيموا الصلاة و
ان دخل تلك القيود المعتبرة فيها من الطهور والقبلة والستر وعدم التكتف ونحوها لا
يكون الا في حدود تلك الطبيعة الناشئة تلك الحدود من إضافة الصلاة إلى الأمور المزبورة
ولو من جهة ان ما هو المؤثر في كمال العبد من الأول هي الطبيعة المحدودة بالحدودات
الخاصة والذات الواجدة للتقيد بالأمور الخاصة لا مطلق الطبيعة ولو فاقدة عن التقيدات
والإضافات المزبورة، إذ حينئذ يكون مرجع تلك القيود المعتبرة فيها إلى تضيق في دائرة
الطبيعة المزبورة واخراجها عما لها من الاطلاق ثبوتا في عالم مؤثريتها في القرب والكمال
باعتبار تلك التقيدات الحاصلة للطبيعة من اضافتها إليها، ومن ذلك تكون التقيدات و
الإضافات طرا داخلة في المطلوب، والقيود نفسها خارجة عنه ومقدمة للمطلوب باعتبار
كونها مما تقوم به تلك التقيدات والإضافات كما اشتهر بان التقيد جزء والقيد خارج، من
دون فرق فيما ذكرنا بين الشرائط والموانع، من جهة انه لا نعنى بالمانع الا ما اعتبر عدمه
قيدا للمطلوب حسب ما عرفت آنفا.
فعلى ذلك فجميع القيود من الشرائط والموانع سواء كانت راجعة إلى أصل اقتضاء
الشئ أو إلى تأثيره الفعلي واثره يكون مناط دخلها من باب دخل منشأ الاعتبار في
277

الامر الاعتباري ودخل ما به الإضافة والتقيد في التقيد، لا من باب المؤثرية والمتأثرية
كما في المقتضى، ولا من باب المنافاة والمزاحمة مع المطلوب أو مناطه.
نعم في العلل الخارجية قد يشتبه الامر بين الملازمات والشرائط وبين الأضداد و
الموانع كما لعله هو العمدة في ذهاب من ذهب إلى كون دخل عدم المانع من باب منافاة
وجوده مع المطلوب ولكنه بعد التأمل فيما ذكرنا في العلل والمعلولات الشرعية كالصلاة
وما اعتبر فيها من القيود الوجودية والعدمية بالنسبة إلى حيث القرب والنهى عن
الفحشاء لا مجال لهذه التجشمات إذ حينئذ يقطع بان دخل الشرائط والموانع لا يكون الا
في الحدود والتقيدات وان ما هو المؤثر لا يكون الا المقتضى خاصة، غايته بما انه محدود
بحدود خاصة، ولكن لا يلزم من ذلك أي من اخذ التقيدات جزء تأثيرها في المعلول وفى
الصلاح والفساد، كي يشكل بأنها من جهة كونها أمورا اعتبارية غير صالحة للمؤثرية في
الوجود فلابد وأن يكون المؤثر هو منشأ اعتبارها، إذ حينئذ نقول: بان ما هو المؤثر والمعطى
للوجود انما هو عبارة عن وجود المحدود، فمن قبل وجوده ينشأ وجود الأثر ومن قبل حده
ينشأ حد الأثر، فتدبر.
وقد يقرب وجه دخل الشرائط بأنه اما متمم للفاعل في فاعليته أو متمم للقابل. و
لكن نقول: بأنه على الأول من متمميته للفاعل ان أريد دخله في حدود الفاعل وفي أصل
الاقتضاء والفاعلية ولو باعتبار انه لولا تلك الحدود الخاصة للشئ لا يكون تاما في
اقتضائه في التأثير فهو وان كان صحيحا، ولكنه يرجع إلى ما ذكرناه في وجه دخل
الشرائط، فلا يكون ذلك البيان تقريبا آخر في وجه دخل الشرائط. وان أريد من المتممية
للفاعل دخلها في ترتب الأثر وبعبارة أخرى أريد من ذلك كونها من اجزاء المقتضى
بحيث عند وجودها يترتب الأثر عليها وعلى المقتضى معا، فعليه وان كان دخلها حينئذ
بنحو المؤثرية الا انه يلزمه وقوعها في عرض المقتضي لا من مقدماته وفي رتبة سابقة عليه
فيلزمه حينئذ نفى المقدمية عن مثل الطهور والستر والقبلة ونحوها بالنسبة إلى الصلاة
التي هي مقتضيه للنهي عن الفحشاء ونفى الوجوب الغيري لها من جهة ان مقدمية
الأمور المزبورة للصلاة تقتضي كونها في رتبة سابقة عن الصلاة، وهو كما ترى مناف لما
عليه عامة الأصحاب من مقدمية الأمور المزبورة للصلاة بل مناف أيضا لما يقتضيه لسان
أدلة اعتبارها من نحو قوله عليه السلام: لا صلاة الا بطهور، ولا صلاة الا إلى القبلة ونحو
278

ذلك، فان مثل هذه الأدلة ينادى بان ما هو الواجب والمأمور به هو الصلاة المتقيدة بكونها
عن طهور والى القبلة وفي حال الستر ونحو ذلك وان اعتبار الأمور المزبورة انما هو من
جهة كونها مما تقوم به تلك التقيدات، كما هو واضح.
واما على الثاني من متممية الشرائط للقابل، فنقول أيضا: بأنه ان أريد من القابل
نفس ماهية الأثر فلا ريب في أنه يرجع حينئذ إلى ما ذكرنا، من جهة ان قضية دخلها فيه
حينئذ ليس الا في استعداده وقابليته للتحقق عند وجود علته، فلا يكون دخلها حينئذ
دخلا تأثيرها بل انما هو من قبيل دخل طرف الإضافة في الإضافة كما حققناه، وان أريد
من القابل المحل الذي يوجد فيه الأثر كالخشب الذي هو محل الاحراق والنفس التي هي
معروضة الكمال بدعوى ان اليبوسة مثلا موجبة لاستعداد الخشب وقابليته لورود
الاحراق عليه وكذا الطهور مثلا موجب لاستعداد النفس وقابليتها لورود الكمال عليها
من قبل الصلاة، فعليه وان أمكن دعوى كون الشرائط مؤثرات في الاستعداد والقابلية
المزبورة نظرا إلى كون القابلية حينئذ أمرا وجوديا لكونها مرتبة من كمال الشئ، ولكنه
حينئذ ينقل الكلام في دخل القابلية المزبورة في تحقق الأثر وانه هل هو بنحو المؤثرية أو
بنحو الدخل في حدوده، إذ حينئذ ما له دخل في الأثر لا يكون الا القابلية المزبورة، واما
الشرائط الخارجية فإنما هي مقدمة للقابلية التي هي الشرط في الحقيقة في تحقق الأثر، فلا
محيص حينئذ بعد اللتيا والتي من المصير إلى كون دخل الشرائط في المعلول من قبيل دخل
منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري ودخل ما تقوم به الحدود في المحدود لا من باب المؤثرية
والمتأثرية، كما لا يخفى.
ثم انه مما ذكرنا من المناط في مقدمية الشرائط والموانع يظهر لك اندفاع الاشكال
المعروف في الشرائط المتأخرة وعدم لزوم انحزام قاعدة عقلية: من لزوم تحقق المعلول قبل
وجود علته، إذ نقول: بان ذلك يرد إذا كان دخل الشرائط أيضا كالمقتضي بنحو المؤثرية
إذ حينئذ يتوجه الاشكال المزبور في شرطية الوجودات المتأخرة، والا فبناء على ما قررناه
من كون دخلها من باب دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري لا يكاد مجال للاشكال
المزبور، حيث أمكن حينئذ تصوير الشرطية للوجودات المتأخرة بعين تصويرها للوجودات
المقارنة والمتقدمة، إذ حينئذ كما يمكن ان يكون الشئ بوجوده المقارن محددا للماهية بحد
خاص تكون بذلك الحد قابلة للتحقق عند وجود مقتضيها كذلك يمكن ذلك في الوجود
279

السابق المعدوم حال وجود الأثر وفى الوجود المتأخر، فيمكن ان يكون الشئ بوجوده
السابق المعدوم حين الأثر دخيلا في قابلية الأثر للتحقق أو في تمامية المقتضى في
اقتضائه في التأثير، كامكان ان يكون الشئ بوجوده المتأخر دخيلا في القابلية المزبورة نظرا
إلى مدخلية الحدود الخاصة للشئ الحاصلة من اضافته إلى الامر المتقدم أو المتأخر في
قابليته لتحقق وترتب الغرض والمصلحة عليه. واما دخل تلك الحدود في القابلية
المزبورة فهو كما عرفت لا يكون الا ذاتيا، لان مرجع ذلك إلى أن ما له القابلية للتحقق من
الأزل هي الطبيعة المحدودة بالحدود الخاصة الناشئة من اضافتها إلى امر كذائي مقارن أو
سابق أو لا حق.
وحينئذ فلو ورد في لسان الدليل إناطة الشئ بأمر متأخر زمانا عن الشئ كإناطة
صحة الصوم للمستحاضة بغسل الليلة المتأخرة وإناطة صحة العقد والملكية في عقد
الفضولي بإجازة المالك في الأزمنة المتأخرة وإناطة الصحة في الصلاة بعدم العجب فيما
بعد مثلا لما كان مجال للاشكال عليه ورفع اليد عما يقتضيه ظاهر القضية من مدخلية
الأمور المتأخرة في صحة الامر السابق حين وجوده وترتب الغرض والمصلحة عليه، مدعيا
لاستحالة ذلك نظرا إلى تلك القاعدة العقلية الفطرية: من توقف المعلول على وجود علته
التامة التي منها الشرائط وعدم الموانع واستحالة تحقق المعلول قبل وجود علته التامة من
المقتضى والشرط وعدم المانع.
فتمام المنشأ في الاشكال المزبور حينئذ انما هو من جهة تخيل كون الشرائط أيضا
مؤثرات في عالم دخلها في الأثر وجعل مناط المقدمية فيها بعينه هو المناط المتحقق في طرف
المقتضى، ولقد عرفت انه على هذا التوهم يستحيل تصور الشرطية للوجودات المتأخرة بل
المتقدمة المعدومة أيضا، والا فبناء على ما عرفت من المناط في مقدمية الشرائط في مرحلة
دخلها في المطلوب من كونه من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري كما في عدم
المانع فلا باس بتصوير الشرطية للوجودات المتأخرة، إذ حينئذ كما يمكن ان يكون الشئ
بإضافته إلى امر مقارن محدودا بحد خاص قابلا للتحقق بذاك الحد كذلك في اضافته إلى
امر سابق معدوم حين وجوده أو اضافته إلى امر لاحق موجود في موطنه والجامع هو
مدخلية وجود الشئ في موطنه مقارنا كان أو سابقا أو لا حقا في حدود الأثر حسب
اضافته إليه في قابليته للتحقق وترتب الغرض والمصلحة عليه، ومن المعلوم انه على ذلك
280

لا يكاد يلزم انخرام قاعدة عقلية أصلا من لزوم تحقق المعلول والأثر قبل وجود علته و
مؤثره، إذ لا مؤثرية ولا متأثرية حينئذ في البين حتى يتوجه المحذور المزبور وانما غايته هو
تأخر ما به الحدود زمانا عن الحدود وهو مما لا ضير فيه بوجه أصلا، كما لا يخفى.
ومن ذلك البيان يظهر لك ضعف ما أفيد أيضا على بطلان الشرط المتأخر كما عن
بعض الاعلام، من تقريب: ان تعلق التكاليف بمتعلقاتها في القضايا الطلبية انما هو على
نحو القضايا الحقيقية التي يلزم في فعليتها فعلية متعلقاتها بما لها من الاجزاء والقيود التي لها
دخل في تحققها، وحينئذ فلابد أولا من تحقق تلك القيود التي لها دخل في الموضوع حتى
يتحقق الموضوع بما له من الحدود والخصوصيات فيترتب عليه الوجوب والحرمة ومثل هذا
المعنى مناف عقلا مع تأخر القيود المفروض دخلها فيه لضرورة اقتضائه لزوم مجئ الحكم
قبل وجود موضوعه ومتعلقه، لما ذكرنا من عدم تحقق الموضوع خارجا الا بعد تحقق القيود
التي لها دخل فيه، وهو كما ترى من المستحيل.
إذ نقول: بان ما أفيد من لزوم تحقق الموضوع بما له من الاجزاء والتقييدات والحدود
قبل مجئ الحكم وان كان صحيحا، ولكن المدعي هو تحقق بجميع ما يعتبر فيه من
الحدود والتقييدات فعلا بمحض تحقق القيود في مواطنها مقارنا أو سابقا أو لا حقا نظرا إلى
كشف تحقق القيد في موطنه المتأخر في الواقع عن كون الامر السابق محدودا بالحدود التي
بها يترتب عليه الأثر. واما دعوى لزوم تحقق تلك القيود وما به الحدود المزبورة أيضا في
فعلية الحكم فلا دليل يساعد عليه من جهة ان الذي يقتضيه البرهان المزبور انما هو توقف
الحكم في فعليته على فعلية وجود موضوعه بما له من الحدود والإضافات المأخوذة فيه. واما
توقفه على فعلية الموضوع بماله من الحدودات وما به الإضافات والقيود فلا، لان ما هو
الداخل في الموضوع لا يكون الا الحدود والتقيدات واما ما به الحدود والتقيد فهي
خارجة عن الموضوع ومع خروجها عنه لا يكاد يقتضي البرهان المزبور لزوم تحققها أيضا
في فعلية الحكم، كما هو واضح.
وحينئذ نقول: بأنه بعد ما أمكن ثبوتا شرطية الامر المتأخر للسابق على ما ذكرنا من
وقوعه طرفا للإضافة للامر المتقدم فلو ورد دليل يقتضي بظاهره إناطة شئ بأمر متأخر لا
مجال للاستيحاش وصرف الدليل عن ظاهره إلى شرطية التعقب بالامر المتأخر بجعل
التعقب نفسه الذي هو من الأمور المقارنة شرطا كما عن بعض الاعلام تبعا للفصول إذ
281

مثل هذا التكلف ليس منشأه الا تخيل انحصار ملاك المقدمية بما في المقتضي من المؤثرية
والغفلة عن أن في البين ملاكا آخر متصورا في المقدمية وهو كون الشئ طرفا للإضافة و
الحدود، كما كان ذلك قطعا في مثل عدم المانع الذي يستحيل دخله بملاك المؤثرية، على أن
في الالتزام بكون الشرط هو التعقب بالامر المتأخر لا نفس الامر المتأخر في موطنه ما
لا يخفى فإنه مضافا إلى منافاة ذلك لما عليه القائل المزبور من كون التقيدات باعتبار كونها
أمورا اعتبارية غير قابلة للمؤثرية في الغرض ولتعلق الامر بها وان الامر والتكليف لابد
من تعلقه بما هو منشأ اعتبارها وهو الامر المتأخر، نسئل عنه بان دخل ذلك الامر المتأخر
في موطنه في التقيد المزبور المعبر عنه بالتعقب هل هو بنحو المؤثرية أو على نحو دخل منشأ
الاعتبار في الامر الاعتباري فعلى الأول يعود محذور انخرام القاعدة العقلية من لزوم تحقق
الأثر قبل وجود المؤثر وعلى الثاني نقول بأنه لا داعي حينئذ إلى ارتكاب خلاف الظاهر
في تلك القضايا، بل بعد ما أمكن ان يكون الشئ بوجوده المتأخر في موطنه منشأ لتحقق
الإضافة والتقيد المزبور فمن الأول لم لا تجعل الشرط نفس الامر المتأخر في موطنه وتجعل
ظواهر الأدلة على حالها في اقتضائها لكون المنوط به للامر الفعلي هو الشئ بوجوده المتأخر
وهل الالتزام بالتعقب المزبور حينئذ الا من قبيل الفرار من المطر إلى الميزاب؟.
وحينئذ فلا محيص في حل الأعضال المزبور عن الشرائط المتأخرة في الواجبات
الشرعية من المصير إلى ما ذكرنا بجعل الشروط طرا طرفا للإضافات وجعل دخلها في
المشروط من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري، كما افاده في الكفاية بأحسن
بيان في شرح شرائط الواجب وان خالف في شرائط الوضع والتكليف فجعل الشرط
فيهما عبارة عن الشئ بوجوده علمي اللحاظي الذي هو امر مقارن دائما مع المشروط.
ثم انه مما ذكرنا ظهر حال شرائط الوجوب والتكليف وقيوده أيضا، فان قيود
الوجوب بعد أن كانت راجعة إلى مقام الدخل في أصل الاحتياج إلى الشئ واتصاف
الذات بوصفه العنواني بكونه صلاحا ومحتاجا إليه كما يأتي بيانه في المبحث الآتي في
شرح الواجب المشروط في مثال قيود الواجب الراجعة إلى كون دخلها في تحقق المحتاج
إليه ووجودها هو المتصف بالمصلحة والصلاح فارغا عن أصل الاتصاف بالوصف
العنواني فلا جرم يكون قضية دخلها أيضا من باب دخل طرف الإضافة في الإضافة و
دخل ما به التقيد في التقيد ومعه أمكن فيها أيضا تصوير الشرطية للامر المتأخر بالنسبة
282

إلى التكليف، بداهة ان قضية كون الشئ شرطا له حينئذ ليس الا كونه بحيث يحصل
للشئ بالإضافة إليه خصوصية يكون بتلك الخصوصية متصفا بكونه صلاحا ومصلحة و
هذا كما أنه قد يكون بالنسبة إلى المقارن كذلك قد يكون بالنسبة إلى المتقدم والمتأخر
فيمكن ان يكون الشئ بوجوده المتأخر منشأ لإضافة وخصوصية خاصة في الامر السابق
توجب اتصافه بتلك الخصوصية بكونه مصلحة وصلاحا بحيث لولا حدوث المتأخر في
موطنه لما كان للسابق تلك الإضافة الموجبة لتعنونه بالوصف العنواني المزبور ومع امكان
ذلك فلا بأس في تصوير الشرطية في الامر المتأخر بالنسبة إلى الوجوب والتكليف غايته
انه يحتاج حينئذ في فعلية الإرادة والتكليف من القطع بتحقق المنوط به في موطنه حيث إنه
مع القطع المزبور يرى كون المتعلق متصفا فعلا بالصلاح ومحتاجا إليه فيتوجه إليه
الإرادة فعلا من دون ان تخرج عن الإناطة أيضا إلى الاطلاق، كما نظيره في العرفيات في
مثال شراء اللحم اليوم للضيافة لمن يرد عليه الضيف في الغد حيث إنه ترى من نفسك مع
العلم بورود الضيف عليك في الغد احتياجك فعلا إلى شراء اللحم واتصافه بكونه محتاجا
إليه، ومن ذلك تصير بصرافة طبعك بصدد شرائه وهكذا في اكرامك اليوم من يكرمك في
الغد فيما لو كان اكرامه إياك في الغد منشأ لاتصاف اكرامك اليوم إياه بالمصلحة و
الصلاح حيث إنه مع العلم بصدور الاكرام منه في الغد ترى احتياجك اليوم إلى اكرامه
لما ترى فيه حينئذ مع الصلاح والمصلحة فمن ذلك يتوجه منك الإرادة والاشتياق فعلا إلى
اكرامه منوطا باكرامه الآتي الذي تعلم بتحققه في موطنه.
وعلى ذلك فيمكن المصير في شرائط التكليف أيضا من المقارن والمتقدم والمتأخر إلى
كون المنوط به هو نفس الشرط بوجوده في موطنه مقارنا أو متقدما أو متقدما أو متأخرا من دون
احتياج إلى جعل الشرط عبارة عن الشئ بوجوده العلمي اللحاظي كما افاده في الكفاية
في التفصي عن الاشكال المعروف حيث جعل الشرط في المتقدم والمتأخر مجرد لحاظه إذ
نقول: بان ذلك انما يتم بالنسبة إلى مرحلة تعلق الإرادة وفعليتها حيث كان ما له الدخل
فيها هو الشئ بوجوده العلمي لا بوجوده الخارجي، كما هو الشأن أيضا في كلية الغايات. و
اما بالنسبة إلى مقتضيات الاحكام من المصالح والاغراض فلا شبهة في أن ماله الدخل
فيها في اتصاف الشئ بالصلاح والمصلحة بنحو الشرطية أو غيرها انما كان هو الشئ
بوجوده الخارجي لا بوجوده العلمي واللحاظي، بل العلم واللحاظ في ذلك لا يكون الا
283

طريقا محضا ولذلك قد يتخطى عن الواقع فيكشف عدم تحققه عن فقد العمل المشروط
للمصالح، ولذلك ترى المولى الذي يتصور في حقه الخطأ كالموالي العرفية قد يحصل له
الندم على فعله وطلبه بأنه لم امر به مع كونه في الواقع غير ذي المصلحة، فلو انه كان
الدخيل فيها أيضا هو الشئ بوجوده العلمي كما في الإرادة والاشتياق لما كان وجه
لانكشاف الخلاف وكشف فقد الشرط في موطنه المتأخر عن فقد العمل للمصلحة و
حينئذ فكان ذلك برهانا تاما على أن ماله الدخل في مقام المصالح والاغراض هو الشئ
بوجوده الخارجي وكون العلم واللحاظ فيه طريقا محضا، ومعه لا محيص في حل
الأعضال المزبور من المصير إلى ما ذكرناه بجعل الشرائط طرا طرفا للإضافات وجعل
دخلها من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري.
ولعله إلى ذلك أيضا يرجع ما أفاده في شرح شرائط الواجب والمأمور به في مقام
التفصي عن الاشكال المزبور، حيث إن كلامه ظاهر بل صريح في أن دخل الشروط انما
هو باعتبار وقوعها طرفا للإضافات. ولكن الأستاذ دام ظله نسب إليه القول بشرطية
اللحاظ في جميع القيود حتى الراجعة إلى الواجب والمأمور به ولعله من جهة ما سمعه مه
مشافهة في درسه الشريف، والا فكلامه في الكفاية ينادي بظاهره بالتفصيل بين شرائط
الوجوب والوضع وبين شرائط الواجب فلاحظ كلامه تعرف ما ذكرناه.
ثم إن هذا كله بناء على عدم ارجاع مثل هذه القيود أيضا إلى المتعلق كما يأتي بيانه
إن شاء الله تعالى في مبحث الواجب المشروط واما بناء على رجوعها أيضا إلى المتعلق كما
هو مبنى القول برجوع المشروطات إلى المطلقات فالامر أوضح، من جهة رجوعه حينئذ إلى
ما تقدم من دخل الامر المتأخر في حدود الموضوع وخصوصياته التي بها يكون منشأ للآثار و
متعلقا للغرض بنحو يكشف عدم وجوده في موطنه المتأخر عن عدم كون السابق محدودا
بالحدود التي بها يكون منشأ للآثار. واما توهم استلزام ذلك لوجود الحكم وفعليته قبل
وجود موضوعه بما له من الحدود فقد عرفت الجواب عنه بمنع الاستلزام المزبور نظرا إلى
تحقق الموضوع حينئذ بماله من الحدود والإضافات والتقيدات فعلا بمحض تحقق ما به
الحدود في موطنه المتأخر. وما افاده من كون التكاليف الشرعية بنحو القضايا الحقيقية
أيضا لا يقتضي أزيد من لزوم فعلية الموضوع بما له من الحدود والإضافات في فعلية
الحكم وتحققه.
284

واما لزوم تحقق ما به الحدود والإضافات أيضا في فعلية الحكم، فلا
يقتضيه البرهان المزبور بعد فرض خروج القيود بنفسها عن الموضوع وكون الداخل فيه
هو التقيد بها، ولذلك لا شبهة في صحة التكليف الفعلي باكرام من يقوم في الغد أو يموت
في العام البعد بنحو خروج القيد ودخول التقيد ولو بنحو القضية الحقيقية وانه يجب على
المأمور والمكلف فعلا اكرامه إذا علم ولو باخبار المعصوم عليه السلام إياه بان زيدا يقوم
في الغد أو يموت في العام البعد وليس ذلك الا من جهة فعلية الموضوع حينئذ بما له من
الإضافة والتقيد الخاص بمحض تحقق القيد في الموطن المتأخر.
وحينئذ فالذي يقتضيه التحقيق في حل الاعضال الوارد على الشرائط المتأخرة سواء
في شرائط التكليف أو شرائط الواجب والمأمور به هو ما ذكرنا من اخراج الشرائط طرا
عن كونها معطيات الوجود ومؤثرات وجعلها طرفا للإضافات والتقيدات والمصير إلى
كون دخلها من قبيل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري، فإنه على ما ذكرنا يندفع
الاشكال المزبور من رأسه فيما ورد من الأدلة المقتضية لشرطية الامر المتأخر للتكليف أو
الواجب والمأمور به، فأمكن الاخذ حينئذ بظاهرها من الإناطة بالامر المتأخر من دون
احتياج إلى صرف تلك الأدلة عن ظاهرها والتكلف فيها بارجاعها إلى الشرط المقارن
تارة بالالتزام بان الشرط في الحقيقة عبارة عن تعقب الشئ الحالي بالامر المتأخر لا نفس
الامر المتأخر بوجوده في موطنه المتأخر، وأخرى بان الشرط عبارة عن امر واقعي مقارن
مع المشروط حقيقة وكان الكاشف عنه الامر المتأخر، وثالثة بان الشرط هو الامر
المتأخر لكن لا بوجوده الخارجي المتأخر بل بوجوده العلمي اللحاظي، ورابعة بان الشرط
هو الامر المتأخر لكن بوجوده الدهري دون الزماني والالتزام بان تلك المتفرقات بحسب
الزمان مجتمعات في وعاء الدهر، كما هو المنسوب إلى العلامة الشيرازي (قدس سره) وان
كان نفى هذه النسبة عنه بعض الاعلام مدعيا باني كنت سألته عن هذه النسبة شفاها
فأنكرها وبالغ في الانكار ثم قال بأني انما ذكرت ذلك في أثناء البحث احتمالا لا
مختارا. وعلى كل حال فهذا كله في شرائط التكليف والواجب ولقد عرفت بان تصوير
شرط المتأخر فيها بمكان من الامكان.
285

تصوير الشرط المتأخر في الأحكام الوضعية
واما الأحكام الوضعية فهي باعتبار كونها من الاعتبارات الجعلية يكون امر تصوير
الشرط المتأخر فيها أوضح مما في باب التكاليف. ولتوضيح المرام في المقام لابد من
الإشارة الاجمالية إلى حقيقة الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية ونحوهما، فنقول:
اعلم أن الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية وان كانت من سنخ الإضافات و
الاعتبارات ولكنها لا تكون من سنخ الإضافات الخارجية المقولية المحدثة لهيئة في الخارج
التي قيل بان لها حظا من الوجود وان الخارج ظرف لوجودها، كالفوقية والتحتية و
التقابل ونحوها من الإضافات والهيئات القائمة بالأمور الخارجية كالإضافة الخاصة بين
ذوات أخشاب السرير المحدثة للهيئة السريرية في الخارج وذلك لما نرى بالعيان و
الوجدان من عدم كون الملكية كذلك وانه لا يوجب ملكية شئ لشخص احداث هيئة
خارجية بينه وبين الشخص كما يوجبه الإضافات الخارجية، إذ يرى أن المال المشتري بعد
صيرورته ملكا للمشتري بواسطة البيع كان على ما له من الإضافة الخارجية بينه وبين
البايع قبل ورود الشراء عليه من دون ان يكون صيرورته ملكا للمشتري منشأ لتغير وضع
أو هيئة بينهما في الخارج أصلا. نعم لا تكون أيضا من سنخ الاعتباريات المحضة التي لا
صقع لها الا الذهن ولا كان لها واقعية في الخارج، كالنسب بين الاجزاء التحليلية في
المركبات العقلية كالانسان والحيوان الناطق وكالكلية والجزئية وكالوجودات
الا دعائية التنزيلية التي لا واقعية لها في الخارج وكان واقعيتها بلحاظها واعتبارها.
بل وانما تلك الأحكام سنخها متوسطة بين هاتين فكانت من الإضافات التي لها
واقعية في نفسها مع قطع النظر عن لحاظ لا حظ واعتبار معتبر في العالم وكان الخارج
تبعا لطرفها ظرفا لنفسها ولولا لوجودها، نظير كلية الملازمات، فكما ان الملازمة بين النار و
الحرارة مما لها واقعية في نفسها بحيث كان اللحاظ طريقا إليها لا مقوما لها كما في
الاعتباريات المحضة ولذا لو لم يكن في العالم لا حظ كانت الملازمة المزبورة متحققة
كذلك الملكية والزوجية ونحوهما أيضا فإنها أيضا بعد تحقق منشأ اعتبارها الذي هو
الجعل مما لها واقعية في نفسها حيث كانت مما يعتبرها العقل عند تحقق منشأ اعتبارها
286

بنحو كان اللحاظ طريقا محضا إليها لا مقوما لها، كما هو الشأن في العلقة الوضعية
الحاصلة بين اللفظ والمعنى من جهة تخصيص الواضع أو كثرة الاستعمال فإنها أيضا مما
لها واقعية في نفسها غير منوطة بلحاظ لا حظ واعتبار معتبر بل كان اللحاظ والاعتبار بعد
تحقق منشأ اعتبارها الذي هو الوضع طريقا إليها، ومع ابائك عن تسميتك هذه بالإضافة
وتقول بان المصطلح منها هي الإضافات الخارجية، فسمها بالإضافة النحوية أو بغيرها مما
شئت، حيث لا مشاحة في الاسم بعد وضوح المعنى.
وبعد ذلك نقول: بان مثل هذه الإضافات النحوية لكونها خفيف المؤنة جدا يكفي في
اعتبارها وتحققها تحقق منشأ اعتبارها فيتحقق بمجرد جعل الجاعل واعتباره من دون
احتياج إلى مؤنة زائدة بوجه أصلا، كما في قولك: المال لزيد، فإنه بهذا التخصيص يتحقق
الملكية له، كما كان هو الشأن أيضا في العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى حيث كان
تحققها بتحقق منشأ اعتبارها الذي هو وضع الواضع أو كثرة الاستعمال. وحينئذ فإذا
كانت هذه الإضافات من الاعتباريات الجعلية التي قوام تحققها بالجعل، نقول: بأنها لا
محالة تكون تابعة لكيفية جعل الجاعل واعتباره، وحينئذ فمتى اعتبر الجاعل بجعله الملكية
السابقة أو المتأخرة أو المقارنة يلزمه تحقق الملكية واعتبارها على نحو كيفية جعله ولا
يمكن اعتبارها بوجه آخر غير ما يقتضيه الجعل.
فعلى ذلك نقول: بأنه لو أنيط أصل جعل الملكية برضا المالك واجازته بمقتضي قضية
(تجارة عن تراض) لا يلزمه ان يكون المجعول والمحكوم به وهو الملكية أيضا من حين
تحقق الرضا، نظرا إلى وضوح كون المحكوم به حينئذ عاريا عن القيد المزبور كما هو الشأن
في كلية شرائط الوجوب في الواجبات المشروطة - كما سنحققه من امتناع رجوعها إلى
الموضوع بل لابد حينئذ من لحاظ ان المجعول والمحكوم به في هذا الجعل هو الملكية المقارنة
أو الملكية المتأخرة أو المتقدمة، فإذا كان المحكوم به هو الملكية من حين العقد ولو من جهة
اقتضاء الاطلاق لا جرم يلزمه اعتبار الملكية من الحين بمعنى الحكم في ظرف الإجازة
بتحقق الملكية حقيقة من حين العقد، ولا يكون فيه محذور، من جهة ان غاية ما في
الباب حينئذ انما هو اختلاف ظرف منشأ الاعتبار وهو الجعل مع ظرف المعتبر وهو
الملكية زمانا، ومثل ذلك مما لا ضير فيه بعد عدم جريان المؤثرية والمتأثرية في الأمور
الاعتبارية بالنسبة إلى مناشئها.
287

وعلى ذلك فيمكن لنا الالتزام بالكشف الحقيقي المشهوري من دون لزوم انخرام
قاعدة عقلية أصلا، فان مبنى الانخرام انما هو جعل دخل الشرائط دخلا تأثيرها، والا فعلى
ما ذكرنا من رجوعها إلى مقام الدخل في القابلية ولو من جهة محدديتها لدائرة الماهيات
المنوط بها القابلية المزبورة، فلا مجال لدعوى انخرام القاعدة أصلا، خصوصا في
الاعتباريات الجعلية التي عرفت خروج شرائطها وأسبابها عن حيز المؤثرية وامكان
اختلاف ظرف الجعل زمانا مع ظرف المجعول، كما في المقام، حيث كان الكاشف فيه
كما عرفت من باب تقدم المجعول زمانا على الجعل الذي هو منشأ اعتباره.
ثم لا يخفى عليك ان هذا المعنى من الكشف غير مرتبط بالكشف على مذاق الفصول
الذاهب إلى شرطية التعقب بالإجازة المتأخرة، إذ على ما ذكرنا يكون أصل الجعل حسب
اقتضاء إناطة التجارة بالرضا في ظرف الإجازة، ولكن المجعول والمحكوم به انما هو الملكية
من حين العقد، على معنى انه في ظرف الإجازة يتعلق الجعل بالملكية من حين العقد
فيتحقق من حين الرضا حقيقة الملكية من حين العقد، والا فقبل الإجازة حيثما لا تحقق
للجعل كان المال باقيا على ملك البايع حقيقة، فكان الإجازة من حين وجودها موجبة
لقلب الملكية السابقة التي كان للبايع إلى ملكية أخرى للمشتري، لكن ذلك بخلافه على
مشرب الفصول، إذ على مسلكه (قدس سره) كان أصل الجعل واعتبار التجارة والمجعول
الذي هو الملكية متحققة للمشتري من حين العقد على تقدير تحقق الإجازة فيما بعد، ومن
ذلك على مسلكه لو علم بتحقق الإجازة من المالك فيما بعد يجوز للمشتري التصرف و
المبيع باعتبار كونه ملكا له حقيقة دون البايع، بخلافه على ما ذكرنا، فإنه لا يجوز له ذلك
ولو مع القطع بتحقق الإجازة من المالك في الموطن المتأخر نظرا إلى كونه بعد ملكا للبايع.
ومن ذلك البيان ظهر الفرق بين ما ذكرنا وبين الكشف الحكمي الذي هو مسلك
الشيخ (قدس سره) فإنه على الكشف الحكمي يكون كل من الجعل والمجعول وهو الملكية
من حين الإجازة كما على النقل الا انه تعبدا يترتب عليه احكام الملكية من حين العقد،
بخلافه على ما ذكرنا، فإنه عليه يكون ترتيب آثار الملكية من حين العقد، من جهة تحقق
الملكية حقيقة بهذا الجعل المتأخر من حينه لا من جهة التعبد الشرعي وتنزيل ما لا يكون
ملكا بمنزلة الملك.
نعم على ما ذكرنا ربما يتوجه اشكال، وحاصله: هو لزوم ملكية العين المبيعة في الأزمنة
288

المتخللة بين العقد والإجازة على هذا المعنى من الكشف الحقيقي لمالكين وهما البايع و
المشتري، بخلافه على الكشف الحكمي أو الكشف الحقيقي بمذاق الفصول حيث لا يلزم
منه هذا المحذور. ولكنه يندفع هذا المحذور أيضا باختلاف الرتبة بين الملكيتين، حيث
كان ملكية البايع للمبيع في رتبة قبل الإجازة وملكية المشتري لها في الرتبة المتأخرة عنها،
ومع هذا الاختلاف بحسب الرتبة لا مانع من ذلك كما لا يخفى.
ثم إن ذلك كله انما هو بحسب مقام الثبوت ونفس الامر، ولقد عرفت ان كون
الشئ شرطا متأخرا للشئ سواء في الأحكام التكليفية أو الوضعية بمكان من الامكان
بعد اخراج الشرائط عن حيز المؤثرية.
واما بحسب مقام الاثبات والدلالة: ففيما لم يكن في البين قرينة واضحة على مدخلية
الشئ منوط به بوجوده المتأخر أمكن استفادة الشرط المقارن بمقتضي ظهور الهيئة
الكلامية في اتحاد ظرف وجود المنوط به مع ظرف الإناطة، كما هو كذلك في كلية
العناوين الاشتقاقية وغيرها، ولذلك قلنا في مبحث المشتق، بأنه لابد في استنتاج النتيجة
المعروفة في مثل كراهة البول تحت الشجرة المثمرة ووجوب اكرام العالم من اثبات ظهور
الهيئة الكلامية في اتحاد ظرف النسبة وهي إضافة البول إلى الشجرة والاكرام إلى العالم
مع ظرف جرى العنوان وتطبيقه على الذات الملازم لاتصاف الشجرة فعلا بالمثمرية في
حال إضافة البول إليه، والا فمع قطع النظر عن ظهور الهيئة الكلامية في ذلك لا مجال
لانتاج النتيجة المعروفة بين القولين في النزاع المعروف في مدلول كلمة المشتق، من جهة
احتمال كون الجري في الحكم بالكراهة فعلا على المصداق المتلبس بالمبدء سابقا أو
المصداق المتلبس به فيما يأتي من الزمان أو المصداق الحالي. وحينئذ ففي المقام أيضا نقول
بان طبع الإناطة بشئ وان كان يلائم ثبوتا مع التقدم والتقارن والتأخر من جهة ما
ذكرنا من عدم اقتضائها الا تقدم المنوط به على المنوط رتبة لا زمانا، الا انه في مرحلة
الاثبات ظهور الهيئة الكلامية في اتحاد ظرف المنوط به مع ظرف الإناطة التي هي عبارة
عن نسبة المنوط به إلى الشئ يقتضى كون المنوط به شرطا مقارنا، فبمقتضى هذا الظهور
لابد في جميع الموارد من المصير إلى استفادة كون المنوط به شرطا مقارنا الا إذا كان هناك
قرينة على خلاف الظهور المزبور تقتضي كونه شرطا متقدما أو متأخرا.
نعم في مثل الرضا والإجازة في بيع الفضولي يمكن ان يقال بعدم اقتضاء البيان المزبور
289

في إناطة التجارة بالرضا في قوله تجارة عن تراض الا كون الإجازة شرطا مقارنا في
أصل الجعل واعتبار المبادلة بثبوت التجارة التي هي مضمون عقده، واما
اقتضائه لكون المحكوم به وهو الملكية أيضا من حين الإجازة والرضا، فلا، وحينئذ فإذا
اقتضى العقد ثبوتها من حينه ولو من جهة اعتبار العقد علة لوجودها المستتبع لتوجه
القصد إلى الملكية من الحين فلازمه ليس الا الحكم في ظرف الرضا بثبوت الملكية و
تحققها من حين العقد لا من حين الإجازة كما ذكرنا، ولازمه هو المصير في مثله إلى
الكشف الحقيقي دون النقل ودون الكشف الحكمي أو الكشف الحقيقي بمذاق الفصول.
نعم لو كان القيد وهو الرضا في قوله: تجارة عن تراض راجعا إلى المحكوم به وهو
الملكية لا إلى أصل اعتبار المبادلة والحكم بثبوت التجارة، يتعين بمقتضي الظهور المزبور
في الجملة الكلامية القول بالنقل إذا لم يكن في البين دليل على التنزيل في لزوم ترتب
آثار الملكية من حين العقد، والا فالقول بالكشف حكما بمقتضي دليل التعبد. ولكنك
عرفت عدم رجوعه الا إلى أصل الجعل وان المجعول وهو الملكية كان عاريا عن القيد
المزبور كما هو شأن جميع الواجبات المشروطة، ومعه لا بد من القول بالكشف الحقيقي عند
المشهور لا غير، فتدبر.
تذييل
قد يظهر مما قدمناه سابقا من اختلاف المقدمات في كيفية دخلها في المطلوب من
حيث كونها مؤثرات ومعطيات الوجود تارة كما في المقتضي، ومعطيات القابلية أخرى
باعتبار محدديتها للماهية المنوط به القابلية المزبورة كما في الشرائط والموانع طرا اختلافها
لا محالة في مناط ترشح الوجوب الغيري إليها أيضا، فإذا كان للمطلوب حينئذ مقدمات
عديدة راجعة بعضها إلى مقام الدخل في التأثير وبعضها إلى مقام الدخل في حدود الماهية
والمطلوب على اختلاف أنحاء الحدود والإضافات التي بها يكون المطلوب قابلا
للتحقق فلا جرم يلزمها حينئذ اختلافها بحسب مناط الوجوب الغيري الملازم لاختلافها
بحسب الوجوب الغيري المترشح إليها أيضا، فيكون من تعلق الوجوب النفسي بالمطلوب
يترشح وجوبات غيرية متعددة بالنسبة إلى كل مقدمة وجوب مستقل بلحاظ ما فيها من
290

المناط الخاص في قبال المقدمة الأخرى. نعم لو فرض تركب مقدمة من تلك المقدمات من
اجزاء متعددة كالوضوء والغسل فحينئذ تكون اجزاء هذه المقدمة واجبة بوجوب ضمني
غيري لا بوجوبات غيرية مستقلة، نظرا إلى أن دخل الجميع حينئذ نحو دخل واحد في
المطلوب، فمن ذلك لا يترشح إليها وجوب واحد غيري، ولازمه صيرورة كل واحد من
الاجزاء واجبا بوجوب ضمني غيري لا بوجوب غيري استقلالي، كما هو واضح.
ولا يخفى انه على ذلك البيان يندفع الاشكال المعروف على وجوب المقدمات من
تقريب: ان مناط ترشح الوجب الغيري على المقدمة ان كان هو ترتب الوجود عليه
مستقلا يلزمه في فرض تعدد المقدمة عدم وجوب شئ منها باعتبار عدم كون هذه
المقدمات شئ منها مما يترتب عليه الوجود، وان كان مناط الوجوب الغيري هو ترتب
الوجود ولو على مجموع المقدمات في صورة تعددها فحينئذ يلزمه تعلق وجوب واحد بمجموع
المقدمات ولازمه هو اتصاف كل واحد منها بوجوب ضمني غيري لا بوجوب غيري
مستقل، وهو أيضا مما لا يمكن الالتزام به - لان كل من قال بوجوب المقدمة قال بوجوب
كل مقدمة في صورة تعددها مستقلا لا ضمنا وان كان المناط الوجوب الغيري من جهة
لزوم الانتفاء عند الانتفاء فعليه وان يصحح هذا اللازم ولكنه يترتب عليه محذور
آخر وهو لزوم وجوب كل واحد من اجزاء المقدمة بوجوب غيري مستقل، لان الاجزاء
كل واحد منها مما فيه المناط المزبور وهو الانتفاء عند الانتفاء مع أن ذلك أيضا كما ترى،
فإنه مضافا إلى عدم التزامهم به لعله يكون من المستحيل باعتبار استلزامه حينئذ لاجتماع
المثلين فيها: أحدهما الوجوب الضمني الغيري باعتبار تعلق الوجوب الغيري بالمجموع، و
الآخر الوجوب الغيري المستقل باعتبار ما في كل واحد منها من الملاك المزبور.
وتوضيح الدفع يظهر مما ذكرنا، فإنه على ما ذكرنا من اختلاف المقدمات في مناط
الدخل في المطلوب لا يكاد مجال لتوجه الاشكال المزبور، إذ نقول حينئذ: بان وجوب كل
واحد من هذه المقدمات بوجوب غيري مستقل انما هو باعتبار ما يخصه من الملاك الخاص
المغاير مع الملاك الخاص في المقدمة الأخرى، لأنه باختلاف تلك المناطات يختلف تلك
الوجوبات الترشحية أيضا فيتعلق بكل مقدمة وجوب مغاير مع الوجوب المتعلق بالمقدمة
الأخرى، واما عدم وجوب اجزاء المقدمة الا بوجوب ضمني غيري فإنما هو باعتبار قيام
مناط خاص وحداني بالمجموع وعدم تصور نحو دخل على حدة للاجزاء يوجب ترشح
291

الوجوب الغيري المستقل إليها، فتمام المنشأ حينئذ لتوهم الاشكال المزبور انما هو من جهة
عدم التفرقة بين المقدمات في مناط دخلها في المطلوب وتخيل اتحاد الجميع في كيفية
الدخل في المطلوب الذي هو مناط ترشح الوجوب الغيري إليها، والا فبناء على ما ذكرنا
من اختلافها في مناط الدخل لا يكاد مجال لأصل الاشكال كما لا يخفى، كيف وانه لو
اغمض عما ذكرنا لا يكاد يجدي أيضا ما أفيد في التفصي عنه كما في التقريرات من
دعوى المغايرة باعتبار لحاظ الاجزاء منضما تارة ومستقلا أخرى، ووجهه يظهر مما
قدمناه سابقا في بيان امتناع اتصاف الاجزاء في الواجبات النفسية بالوجوب الغيري ولو
مع تسليم ملاك المقدمية فيها، فراجع هناك تعرف.
ومن التقسيمات: تقسيمها إلى مقدمة الوجوب
ومقدمة الواجب وتقسيم الثاني إلى المعلق والمنجز
ولا اشكال بينهم في خروج مقدمات الوجوب عن حريم النزاع وعدم وجوبها، وهو
كذلك من جهة خروج مثل هذه القيود عن حيز الطلب بمباديه من الميل والمحبة أيضا، كما
ستطلع عليه.
ولتنقيح المرام في المقام لابد من بيان مقدمة في شرح اختلاف القيود في كيفية
دخلها في المصلحة وعدم كونها على نمط واحد، فنقول: اعلم بان القيود في دخلها في
المصلحة على ضربين: منها ما يكون راجعا إلى مقام الدخل في أصل الاحتياج إلى الشئ و
اتصاف الذات بكونها صلاحا ومحتاجا إليها بحيث لو لاه لما كاد اتصاف الذات بكونه
مصلحة وصلاحا، ومنها ما يكون راجعا إلى مقام الدخل في وجود المحتاج إليه وتحقق ما
هو المتصف بالمصلحة والصلاح فارغا عن أصل اتصافه بالوصف العنواني، كما يوضح
ذلك ملاحظة الاسهال بالقياس إلى وجود المرض وشرب الدواء والمسهل، حيث ترى ان
دخل المرض فيه انما هو في أصل اتصاف الاسهال بكونه صلاحا ومصلحة بملاحظة ان
اتصافه بكونه صلاحا ومحتاجا إليه انما هو في ظرف تحقق المرض وفوران الأخلاط والا
ففي ظرف صحة المزاج وتعادل الأخلاط لا يكاد يكون فيه المصلحة بل ربما كان فيه
كمال المفسدة من جهة أوله إلى تلف النفس، وهذا بخلافه في شرب الدواء والمسهل
292

فان دخله في ظرف المرض لا يكون الا في وجود ما هو المتصف بكونه مصلحة ومحتاجا
إليه فارغا عن أصل الاتصاف بالوصف العنواني، وحينئذ فكل واحد من المرض و
شرب الدواء والمسهل وان كان دخيلا في مصلحة الاسهال الا ان دخل كل على نحو
يغاير دخل الآخر، من حيث كون دخل أحدهما في أصل الاحتياج واتصاف الأثر
بكونه صلاحا ومصلحة مع قطع النظر عن تحققه في الخارج، وكون دخل الآخر في وجود
ما هو المتصف بالمصلحة والصلاح وتحققه فارغا عن أصل اتصافه بالوصف العنواني
المزبور.
ومن ذلك البيان ظهر اختلاف مثل هذين القيدين بحسب المرتبة أيضا باعتبار دخل
الأول في اتصاف الذات بالوصف العنواني والثاني في تحقق ما هو المتصف خارجا فان
في مثل ذلك لا محالة ما هو من قبيل الأول يكون في رتبة سابقة على ما كان من قبيل
الثاني، من جهة انه بدونه لا يكاد يتحقق موضوع المتصف كي ينتهى إلى مقام دخل
قيود وجود المتصف، ولذلك أيضا بدون قيود الاتصاف لا يكاد الانتفاء الا بنحو
السلب بانتفاء الموضوع، بخلافه في فرض تحقق قيود الاتصاف، إذ حينئذ يكون انتفاء
المصلحة بانتفاء قيود المحتاج إليه من قبيل السلب بانتفاء المحمول، نظرا إلى تحقق
الاتصاف بالوصف العنواني بمجرد تحقق قيود الاتصاف، كما هو واضح.
وبعد ما عرفت ذلك نقول: بأنه بعد أن كان قيود الوجوب والتكليف من القيود
الراجعة إلى أصل اتصاف الذات بالوصف العنواني وبكونها صلاحا ومصلحة قبال قيود
الواجب الراجعة إلى وجود ما هو المتصف فارغا عن أصل الاتصاف بالوصف العنواني
فلا محالة يلزمه عدم وجوب تحصيلها أيضا نظرا إلى خروجها حينئذ عن حيز الطلب
والإرادة بل وعن مباديها من الاشتياق والمحبوبية أيضا وصيرورة الإرادة بمباديها منوطة
بفرض تحققها من باب الاتفاق، نظرا إلى ما يقتضيه حينئذ جبلة النفس وفطرته من عدم
كون الانسان بصدد تحصيل الاحتياج إلى الشئ وجعل نفسه محتاجا إليه، بل وعدم
اشتياقه إليه أيضا الا لأجل رفع احتياج أعظم وصيرورته من مقدمات وجود محتاج إليه
آخر، كما يشهد لذلك المثال المزبور حيث ترى ان الانسان بمقتضي جبلته لا يكون بصدد
تحصيل المرض كي به يتصف الاسهال بالوصف العنواني ويصير في حقه ذا مصلحة و
صلاح، بل ولا كان له اشتياق ولا ميل إليه، بل ولعله يكون مبغوضا عنده فضلا عن
293

الميل والاشتياق إليه، كما نظيره أيضا في مثال العصيان بالنسبة إلى الكفارة وعدم
الاتيان بالصلاة في الوقت بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت بناء على كونه بأمر جديد،
وهكذا نظائره في الشرعيات والعرفيات. وهذا بخلافه في قيود المحتاج إليه فارغا عن أصل
تحقق الاحتياج واتصاف الذات بكونها صلاحا ومصلحة فان الانسان بمقتضي جبلته،
كان بصدد تحصيلها، الا إذا كان القيد من القيود غير الاختيارية أو من القيود التي اعتبر
في مقدميتها وجودها من باب الاتفاق كما سنذكرها إن شاء الله تعالى فان مثل تلك
القيود حينئذ وان كانت خارجة عن حيز الإرادة الا انها غير خارجة بالنسبة إلى مبادي
الإرادة من الاشتياق والميل والمحبة كما هو واضح.
ومن هذا البيان ظهر أيضا فساد توهم رجوع جميع القيود إلى المتعلق وارجاع جميع
المشروطات إلى المعلقات كما عن التقريرات بجعل منشأ الاختلاف في القيود في
الخروج عن حيز الإرادة اختلاف أنحاء وجودها: من اخذ بعضها بنحو يترشح إليها
الإرادة واخذ بعضها بنحو لا يترشح إليها الإرادة اما لخروجها عن تحت الاختيار أو من
جهة دخلها بوجودها من باب الاتفاق أو وجودها الناشئ عن سائر الدواعي غير دعوة
الامر مع اتحاد الجميع في كيفية الدخل في الغرض والمطلوب، توضيح الفساد يظهر مما
قدمنا من اختلاف أنحاء القيود في كيفية دخلها في الغرض والمصلحة، من حيث رجوع
بعضها إلى الدخل في أصل الاحتياج واتصاف الذات بكونها مصلحة وصلاحا، ورجوع
بعضها وهو قيود الواجب إلى الدخل في تحقق المحتاج إليه والمتصف بالمصلحة والصلاح
فارغا عن أصل اتصاف الذات بالوصف العنواني، إذ في مثله يكون قيود الواجب باعتبار
دخلها في وجود المحتاج إليه وتحقق ما هو المتصف بالوصف العنواني في رتبة متأخرة عن
قيود الأصل الاتصاف.
ومعه كيف يمكن اخذ ما هو راجع إلى أصل الاتصاف في ناحية الموضوع في عرض
قيود المحتاج إليه، مع انك عرفت بخروج قيود الاحتياج والاتصاف عن دائرة الإرادة
بمباديها من الميل والمحبة والاشتياق باعتبار ما يقتضيه جبلة الانسان من عدم كونه بصدد
تحصيل الاحتياج لولا وجود احتياج أعظم في البين، بل وعدم تعلق الميل والاشتياق
إليه أيضا، بل وصيرورته مبغوضا عنده، كما في مثال المرض وفي النذر المترتب عليه
وجوب الوفاء بالمنذور حيث كان أصل النذر الذي هو سبب للوجوب مكروها وكذا في
294

العصيان المترتب عليه وجوب الكفارة. وهذا بخلافه في قيود المحتاج إليه والمتصف
بالمصلحة والصلاح فإنها وان أمكن خروجها عن تحت الإرادة اما لعدم كونها اختيارية
أو من جهة ان الدخيل في المطلوب هو وجودها من باب الاتفاق أو وجودها الناشي عن
سائر الدواعي غير دعوة الامر والإرادة، الا انها غير خارجة عن مباديها من الميل والمحبة و
الاشتياق نظرا إلى ما هو قضية الوجدان من اشتياق الانسان بمقتضي جبلته وفطرته بعد
احتياجه إلى الشئ وصيرورته في حقه ذا مصلحة وصلاح إلى مقدمات وجوده وان
فرض كونها خارجة عن الاختيار، ومن ذلك ترى انه يتمنى وجودها في الليل والنهار
لكي ينال بها إلى ما احتاج إليه واتصف في حقه بالمصلحة والصلاح، وحينئذ فبعد هذا
الاختلاف التام بين هذين القسمين من القيود كيف يمكن دعوى رجوع الجميع حتى ما
كان منها دخيلا في أصل اتصاف الذات بالمصلحة والصلاح إلى الموضوع؟ كما لا يخفى.
في تصوير الواجب المشروط على المختار
ثم انه بعد ما اتضح وجه عدم وجوب تحصيل قيود الوجوب والتكليف لخروجها عن
حيز الطلب والإرادة بنحو كان الطلب والإرادة بمباديها منوطة بها يبقى الكلام في أن
إناطة الطلب والإرادة بها هل تكون بوجودها خارجا بحيث لا طلب ولا إرادة الا في
ظرف وجود تلك القيود في الخارج، كما عليه المشهور، من حيث مصيرهم إلى انتفاء
الإرادة حقيقة عند انتفاء تلك القيود خارجا؟ أو ان إناطة الطلب والإرادة فيها كانت
بوجودها لحاظا على نحو الطريقية للخارج وان لم تكن متحققه في الخارج في الواقع؟ فيه
وجهان. وفي مثله نقول: بان الذي يقتضيه التحقيق هو الثاني من كونها تابعة فرض وجود
تلك القيود في لحاظه وتصوره على نحو الطريقية إلى الخارج بنحو يلزمه فعلية الطلب و
تحققه قبل تحقق المنوط به في الخارج غايته لا مطلقا بل منوطا بفرض وجوده ولحاظه، لا
تابعة وجود تلك القيود في الخارج حتى لا يكون للطلب وجود الا في ظرف وجود القيود في
الخارج. وتنقيح المرام يحتاج إلى بيان مقدمتين:
الأولى: ما شرحناه آنفا من اختلاف القيود في كيفية دخلها في الغرض والمصلحة،
من رجوع بعضها إلى مقام الدخل في أصل اتصاف الذات بالوصف العنواني وكونها
صلاحا ومصلحة مع قطع النظر عن مقام تحقق الموضوع المتصف في الخارج، ورجوع
295

بعضها إلى مقام الدخل في تحقق الموضوع المتصف في الخارج فارغا عن أصل الاتصاف
بالمصلحة، ولقد عرفت أيضا بان كل ما كان من قبيل الأول يكون خارجا عن حيز
الإرادة بمباديها من الميل والمحبة والاشتياق ويكون الطلب بمباديه منوطا بوجوده وان
كل ما كان من قبيل الثاني يكون تحت الطلب بمباديه الا إذا كان القيد من القيود غير
الاختيارية أو كان الدخيل هو وجوده الاتفاقي فيخرج حينئذ عن حيز الطلب والإرادة
لا عن مباديها من الميل والمحبة والاشتياق.
المقدمة الثانية: لا يخفى عليك ان قيود الاتصاف وان كان دخلها بالنسبة إلى المصلحة
بوجودها الخارجي حيث يستحيل اتصاف الذات بالمصلحة والصلاح الا في ظرف تحقق
هذا القيود في الخارج، إلا ان دخلها بالنسبة إلى الإرادة ومباديها من الميل والمحبة و
الاشتياق لا يكون الا بوجودها العلمي اللحاظي لا بوجودها الخارجي، حيث إن الميل
والمحبة وكذا الاشتياق والإرادة انما تكون تابعة للعلم بكون المتعلق ذا مصلحة وصلاح،
فمع العلم بكونه ذا صلاح ولو من جهة العلم بوجود قيود الاتصاف في الخارج لا محالة
يتوجه نحوه الميل والاشتياق والإرادة فيحدث في النفس تلك الحالة الانقداحية الموجبة
لطلبه وبعثه وان لم يكن كذلك في الواقع ونفس الامر ولا يكون ذلك الشئ الا ذا
مفسدة محضة، كما أنه في صورة العكس والعلم بكونه غير ذي المصلحة أو ذا مفسدة محضة
لا محالة لا يكاد يتعلق به الميل والمحبة والشوق والإرادة وان فرض كونه في الواقع ذا
مصلحة محضة، وعلى ذلك فكم فرق بين المصلحة وبين الإرادة والاشتياق، فان المصلحة
باعتبار كونها من الاعراض التي ظرف عروضها واتصافها هو الخارج تحتاج في عروضها
إلى تحقق قيود الاتصاف في الخارج بخلاف الاشتياق والإرادة ونحوهما مما كان ظرف
عروضها هو الذهن حيث لا يكون دخل تلك القيود فيها الا بوجودها اللحاظي دون
الخارجي.
كما كان ذلك هو الشأن أيضا بالنسبة إلى معروض الإرادة كما سيجئ
إن شاء الله تعالى حيث لا يكون المعروض لها أيضا الا العناوين والصور الذهنية دون
الخارج، نظرا إلى أن الخارج انما كان ظرفا لسقوط الإرادة لا لثبوتها، غايته انه لا بنحو
يلتفت إلى ذهنية تلك الصورة ومغايرتها مع الخارج بل بنحو يرى كونها في لحاظها ذلك
عين الخارج بلحاظ طريقية لحاظها إلى الخارج من دون سرايتها منه إلى الخارج، وبهذه
296

الجهة من الاتحاد والعينية بين تلك الصورة الذهنية وبين الخارج أيضا ربما تكتسب تلك
الصورة الذهنية لون المصلحة من الخارج فتتصف بكونها ذات مصلحة فيتعلق بها الإرادة
والشوق، وكذا بالعكس فيكتسب الخارج لون المطلوبية والمرادية من تلك الصورة
فيتصف بكونه مرادا ومطلوبا، والا فالمصلحة لا يكاد تقوم الا بالخارج، وكذا الإرادة
لا تكاد تتعلق الا بالصور الذهنية، كما هو واضح.
وحينئذ فبعد ان كان ذلك شأن الاشتياق والإرادة من كونها تابعة للعلم بالمصلحة
في المتعلق وكونه ذا صلاح لا تابعة لكونه كذلك في نفس الامر فكان العلم واللحاظ مع
كونه طريقا إلى الخارج له موضوعية بالنسبة إلى مرحلة تعلق الاشتياق والإرادة نقول:
بأنه لابد من لحاظ كيفية العلم بالمصلحة من حيث الإناطة والاطلاق.
وفي ذلك نقول: بأنه لا شبهة حينئذ في فرض إناطة المصلحة بشئ في اختلاف كيفية
العلم بالمصلحة من حيث الإناطة والاطلاق وانه كما أنه مع العلم بوجود المنوط به و
تحققه في الخارج وفي موطنه يتحقق العلم الفعلي المطلق بالمصلحة في المتعلق ويتبعه أيضا
الميل والمحبة والاشتياق والإرادة، كذلك يتحقق العلم الفعلي أيضا في فرض لحاظ المنوط
به طريقا إلى الخارج حيث إنه بعد احراز أصل الملازمة والإناطة يلزمه في فرض لحاظ
المنوط به العلم بالمصلحة في المتعلق بنحو لو كان في مقام تشكيل القضية يشكلها بنحو
القضية الشرطية فيحكم بالحكم التصديقي في فرض لحاظ المنوط به بتحقق المصلحة في
المتعلق ولو مع القطع بعدم تحقق المنوط به إلى الأبد الملازم للقطع بعدم تحقق التالي إلى
الأبد، من دون ان يكون هذا القطع المنوط بفرض وجود القيد منافيا مع القطع المطلق
فعلا بالعدم كما في مثال فساد العالم على تقدير تعدد الآلهة وتحقق النهار على تقدير طلوع
الشمس، حيث إنه بمقتضي الملازمة بين الوجودين يتحقق قطع منوط بوجود التالي في
فرض وجود المقدم وتحققه، بنحو يوجب تشكيل القضية بنحو الشرطية، كما في قولك:
لو كان فيهما آلهة لفسدتا ولو كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، فتحكم فعلا بالحكم
الجزمي بفساد العالم وبوجود النهار لكن لا مطلقا بل منوطا بفرض تحقق المنوط به و
وجوده في الخارج ولو مع القطع الفعلي بعدم تحقق المنوط به للتالي من جهة ان هذا العلم
المنوط لا يلازم العلم بتحقق المنوط به في الخارج بل يجتمع ولو مع القطع بعدمه للتالي
الملازم للقطع بعدم تحقق المنوط إلى الأبد ومن ذلك قلنا بعدم المضادة والمنافاة بين هذا
297

العلم المنوط بفرض وجود المنوط به وبين العلم الفعلي المطلق بعدم تحقق المنوط في الخارج
كما لا يخفى.
نعم قد يتصور في هذا الفرض أيضا العلم الفعلي الغير المنوط بوجود المصلحة في الامر
الاستقبالي بنحو يتشكل القضية على نحو القضية الحملية، لكن مثل هذا العلم لابد وأن يكون
في فرض القطع بتحقق المنوط به في الخارج وفي موطنه، إذ حينئذ يقطع بالقطع
المطلق فعلا بتحقق المصلحة في الامر الاستقبالي، كما في القطع بوجود الحرارة في الغد
الناشي من جهة القطع بتحقق النار فيه، ومن ذلك كان له ان يخبر بوجود الحرارة في الغد
من دون الإناطة بشئ بنحو القضية الحملية كما كان له ان يخبر بوجوده منوطا بنحو
القضية الشرطية نظرا إلى عدم اقتضاء القطع بتحقق المنوط به في الخارج لخروج القضية
عن الإناطة كي لا يتصور فيه العلم المنوط. وهذا بخلافه في صورة عدم القطع بالانطباق
في الخارج أو القطع بالعدم فإنه في هذا الفرض لا يكاد يتصور الا العلم المنوط ولازمه
انحصار القضية بالقضية الشرطية، كما هو واضح.
وحينئذ فبعد ما اتضح لك هذه الجهة من تبعية الاشتياق والإرادة للعلم بالمصلحة في
المتعلق وفعلية العلم بالمصلحة أيضا منوطا بفرض القيد ولحاظه في الذهن على نحو
الطريقية إلى الخارج نقول: بأنه لا مانع حينئذ من الالتزام بفعلية الاشتياق والإرادة في
الواجبات المشروطة قبل حصول شرطها في الخارج فإنه بعد ما علم منوطا بفرض القيد و
لحاظه في الذهن بوجود المصلحة في المتعلق فقهرا بمقتضى التبعية المزبورة منوطا بفرض
القيد ولحاظه يتوجه نحوه الاشتياق والإرادة أيضا من دون حالة منتظرة في البين أصلا
كما لا يخفى. نعم فاعلية مثل هذه الإرادة المنوطة ومحركيتها نحو المراد لا تكون الا في
ظرف تحقق القيد خارجا الذي هو ظرف اتصاف المتعلق بالمصلحة، فيفكك بين فعلية
الإرادة وفاعليتها بجعل فعليتها في ظرف الانشاء وفاعليتها في ظرف تحقق القيد في
الخارج الذي هو ظرف الاتصاف بالمصلحة، ونتيجة فعلية الإرادة حال الانشاء انما هي
لزوم تحصيل بعض المقدمات المفوتة التي لا يمكن تحصيلها في ظرف تحقق قيد المصلحة في
الخارج. نعم لابد في هذه المرحلة أي مرحلة فعلية الإرادة وفاعليتها بالنسبة إلى مقدماته
المفوتة من القطع بتحقق القيد في موطن الخارج والا فمع قطعه بعدم تحققه للتالي لا يكاد
مجال لتحقق الإرادة ولو منوطا، من جهة انه في فرض القطع بالعدم يقطع بعدم اتصاف
298

الذات في الخارج بالمصلحة ومع قطعه ذلك يستحيل تحقق تلك الحالة الانقداحية الموجبة
لطلبه وبعثه.
نعم لو كانت الإرادة عبارة عن مجرد الاشتياق إلى الشئ ولو لم يكن بالغا إلى حد
الانقداح أو كان لفرض القيد ولحاظه في الذهن موضوعية محضة ولم يكن طريقا إلى
الخارج كما في قول الشاعر بالفارسية:
اگر عقلت منم بگذر از أين كار * كه كار عاشقي كاريست دشوار
وبعبارة أخرى: ان كنت مولاك فافعل ذلك حيث جعل المنوط به في المثال نفس
الفرض لأمكن دعوى فعلية الإرادة المنوطة حتى مع القطع بعدم حصول القيد في موطن
الخارج، ولكنهما كما ترى مخالف للوجدان، وذلك اما الأول فواضح، واما الثاني فكذلك
أيضا لان ما له الدخل في المصلحة بعد أن كان هو الوجود الخارجي لا محالة يكون
الفرض واللحاظ أيضا طريقا إلى الخارج ومعه لا يكاد تعلق الإرادة الفعلية بالشئ ولو
منوطا مع القطع بعدم تحقق المنوط به والقيد في موطن الخارج. نعم مع الشك في ذلك
أمكن تعلق الإرادة به رجاء تحقق المنوط به في الخارج ولكن مثل هذا الفرض غير متصور
في الأحكام الشرعية بالنسبة إلى الشارع الذي لا يكاد يتصور في حقه الجهل.
وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا يظهر لك عدم تمامية ما عليه المشهور من المشروط
في القضايا الشرعية الطلبية من عدم فعلية الإرادة والطلب الا في ظرف تحقق المنوط به
في الخارج.
واما قياس الاحكام الطلبية بالاعراض الخارجية في مثل النار حارة في إناطة فعلية
الحرارة بوجود النار وتحققها في الخارج فمدفوع بالفرق الواضح بين المقامين من حيث كون
الخارج في القضايا الخارجية ظرف العروض والاتصاف بخلافه في القضايا الطلبية فإنه
باعتبار كون المحمول فيها من الأوصاف الذهنية لا يكاد يكون ظرف العروض بل
الاتصاف فيها الا الذهن وانما كان الخارج ظرفا لتطبيق ما هو المعروض والمتصف على
الموجود الخارجي، وعلى ذلك فلا يرتبط القضايا الطلبية بالقضايا الخارجية كي يتم
المقايسة المزبورة ويصير المنوط به للطلب هو الشئ بوجود الخارجي.
وعليه فلا محيص بمقتضي ما ذكرنا من المصير إلى كون المنوط به للطلب والإرادة
عبارة عن فرض القيد ولحاظه والالتزام بفعلية الإرادة والطلب في ظرف فرض القيد و
299

لحاظه قبل تحقه في الخارج من دون حالة منتظرة في البين إلى ظرف تحقق القيد في
الخارج، وبه أيضا يجمع بين ظهور القضايا الشرطية الطلبية في رجوع القيد إلى الهيئة و
بين ظهور الهيئة فيها في الدلالة على فعلية الطلب. نعم محركية هذه الإرادة وفاعليتها نحو
المراد لا تكون الا في ظرف حصول القيد والمنوط به في الخارج الذي هو ظرف اتصاف
الذات بالمصلحة، ولكن مثل هذه الجهة أجنبية عما هو مفاد الانشاء في الخطابات لأنها
عبارة عن مرتبة تأثير الخطاب بوجوده عند العقل في وجوب الامتثال لا مرتبة نفس
الخطاب بمضمونه، كما هو واضح.
ومما ذكرنا أيضا ظهر عدم صحة ما أفيد كما عن بعض الاعلام في تقريب عدم
فعلية الإرادة والطلب في الواجبات المشروطة الا بعد حصول شرطها خارجا بأن
الأحكام الشرعية في القضايا الطلبية سواء كان على نحو القضية الشرطية أو الحملية انما
هي من سنخ القضايا الحقيقية المترتب فيها الحكم على العناوين المقدرة وجوداتها فيحتاج
حينئذ في فعلية الحكم فيها إلى فعلية موضوعها بما له من القيود والا فقبل وجود موضوعها لا يكاد يكون
الا فرض الحكم لا حقيقته كما كان ذلك هو الشأن أيضا في الأحكام الوضعية كالملكية مثلا. كما
في العقود التمليكية كالوصية حيث إن حقيقة الملكية انما يكون تحققها وفعليتها بعد تحقق
الموت والا فقبل موت الموصى لا يكون الا فرض الملكية ففي المقام أيضا كذلك فلا يكون
مفاد الخطابات في القضايا المشروطة وغيرها من نحو الحج وغيره الا مجعولا فرضيا بفرض
وجود موضوعه الذي هو المستطيع، ولازمه هو إناطة الحكم في فعليته بفعلية وجود موضوعه
خارجا بما له من القيود كإناطة فرضه بفرضه.
إذ نقول: بان القضايا الحقيقية بالمعنى المصطلح الذي يلزم من فرض وجود الموضوع
فرض الحكم ومن فعلية الموضوع خارجا فعلية الحكم أجنبية عن القضايا الطلبية، حيث
نقول: بان القضية بالمعنى المصطلح انما تتصور بالنسبة إلى الاعراض الخارجية التي كان
الخارج ظرفا لعروضها واتصافها كما في النار حارة وكما في الأحكام الوضعية كالملكية و
نحوها، فإنها باعتبار كونها من الأمور التي كان الخارج ظرفا لعروضها يوجب لا محالة
فرض وجود الموضوع فيها فرض محموله وفعلية الموضوع فعلية محموله، واما بالنسبة إلى
الإرادة ونحوها من الصفات الذهنية التي كان ظرف عروضها الذهن والخارج ظرف
اتصافها، فلا يتصور فيها القضية الحقيقية بوجه أصلا حتى يناط فعلية الإرادة فيها بفعلية
300

موضوعها، من جهة ان المنوط به والموضوع كما ذكرنا لا يكون الا لحاظ الموضوع وفرضه
لا وجوده الخارجي، غايته انه لابد وأن يكون الملحوظ الذهني بنحو يرى خارجيا على
وجه لا يلتفت إلى ذهنيته، كما هو الشأن أيضا في مثل القطع والظن في تعلقهما بالموضوع
وما أنيط به. وحينئذ فبعد ان كان الموضوع للإرادة والاشتياق هو فرض وجود الموضوع و
لحاظه طريقا إلى الخارج فلا جرم في ظرف فرض وجود الموضوع وفرض وجود المنوط به
يتحقق حقيقة الاشتياق والإرادة، لا انه يتحقق من فرضه فرض الاشتياق وفرض
الإرادة، كما هو الشأن أيضا في العلم بالمصلحة على ما بيناه.
ومن ذلك البيان ظهر انه لا يفرق في ذلك بين اخذ القيود في الواجبات المشروطة في
ناحية الموضوع أيضا وبين عدم اخذها فيه كما هو المختار، فإنه على الأول أيضا نقول بأنه
في ظرف فرض وجود الموضوع ولحاظه حيثما يعلم بوجود المصلحة فيه يتحقق حقيقة
الاشتياق والإرادة لا فرضه، غاية ما هناك انه لا يكون الاشتياق وإرادة على نحو
الاطلاق كما في الواجبات المطلقة بل كان الاشتياق منوطا بالفرض المزبور، كما في مثال
الحج فإنه إذا لا حظ الشارع الحج في ظرف لحاظ الاستطاعة طريقا إلى الخارج يقطع
منوطا بالفرض المزبور بكونه ذا مصلحة محضة ومع قطعه ذلك بمقتضي تبعية الإرادة للعلم
بالمصلحة يتوجه نحوه الميل والمحبة والاشتياق فعلا فيطلبه ويريده منوطا بالفرض المزبور،
كيف وان الغرض من الانشاء بعد أن كان هو التوصل إلى وجود المراد لا جهة مطلوبيته
نفسا يكون نفس الانشاء الفعلي في الواجبات المشروطة كاشفا قطعيا عن فعلية اشتياقه و
ارادته للمطلوب بلحاظ تبعية الإرادة الغيرية للإرادة النفسية في الفعلية والشأنية وعدم
امكان التفكيك بينهما، وحينئذ فكان ذلك أقوى شاهد وأعظم برهان على ما ذكرنا من
عدم إناطة الطلب في فعليته في القضايا المشروطة بوجود المناط به وهو الشرط خارجا
وأجنبية القضايا الطلبية شرطية كانت أم حملية عن القضايا الحقيقية التي يلزم من فرض
الموضوع فرض الحكم فيها ومن فعليته فعلية وجود الحكم، والا فعلى القول بعدم فعلية
الطلب الا بعد حصول المنوط به في الخارج يلزم اما الالتزام بمطلوبية الانشاء المزبور
نفسيا واما الالتزام بالتفكيك بين الإرادة الغيرية في المقدمات وبين إرادة ذيها في
الفعلية، وهو كما ترى! فان الأول منهما مخالف للوجدان وكذا الثاني لان تبعية الإرادة
الغيرية للإرادة النفسية في الفعلية والشأنية في الوضوح كالنار على المنار وكالشمس في
301

رابعة النهار وانه لا يمكن فعلية الإرادة الغيرية بدون فعلية الإرادة النفسية لذيها باعتبار
رجوعه إلى تحقق المعلول بدون تحقق علته.
فلا محيص حينئذ بمقتضى ما ذكرنا من الالتزام في جميع الواجبات المشروطة بفعلية
الطلب فيها قبل حصول شرطها، غايته انه يفكك فيها كما ذكرنا بين الفعلية وبين
الفاعلية فيجعل فاعلية الطلب في ظرف حصول المنوط به في الخارج الذي هو ظرف
اتصاف الذات بالمصلحة.
فتمام المنشأ حينئذ لتوهم عدم فعلية الطلب في المشروطات قبل حصول
الشرط في موطن الخارج وجعل القضايا الطلبية من سنخ القضايا الحقيقية
بالمعنى المصطلح انما هو من جهة خلط هذه الصفات الذهنية من الإرادة والاشتياق و
المحبة وغيرها بالاعراض الخارجية التي ظرف عروضها الخارج كالحرارة والبرودة و
الاحكام المجعولة كالملكية ونحوها مما ظرف عروضها واتصافها هو الخارج ومقايسة
أحدهما بالآخر، ولكنك بعد التأمل فيما ذكرنا في هذه الصفات من عدم احتياجها في فعليتها
إلى وجود المتعلق خارجا لكونها مما ظرف عروضها الذهن وان الخارج ظرف اتصافها
ترى أجنبية القضايا الطلبية بقول مطلق عن القضايا الحقيقية وانها ليست مما يوجب
فرض وجود الموضوع فيها فرض الحكم كما في الأحكام الوضعية من نحو الملكية.
نعم لو قيل بان الأحكام التكليفية مجعولة بحقايقها كالأحكام الوضعية في المعاملات
لأمكن دعوى كونها من سنخ القضايا الحقيقية التي كان فرض وجود الموضوع موجبا
لفرض محموله وفعلية وجود الموضوع لفعلية محموله، ولكن ذلك أيضا فاسد جدا من جهة
وضوح ان لب الأحكام التكليفية وروحها ليس الا عبارة عن الإرادة الفعلية وابرازها
بانشاء أو اخبار، وشئ منهما لا يكون مجعولا، من جهة كون أحدهما من مقولة الكيف و
الآخر من مقولة الفعل، فلم يكن حينئذ شئ يكون من الاعتبارات الجعلية حتى يتعلق به
الجعل حتى يحتاج في فعليته إلى فعلية وجود موضوعه في الخارج كما في الأحكام الوضعية
في المعاملات من نحو الملكية ونحوها كما هو واضح. نعم الذي تحتاج إلى فعلية وجود
الموضوع خارجا انما هو مرتبة فاعلية هذه الإرادة المبرزة ومحركيتها بحيث يحتاج إلى تطبيق
الموضوع في الخارج، ولكن هذه المرتبة كما ذكرنا مرتبة تأثير الخطاب في حكم العقل
بلزوم الامتثال لا مرتبة نفس الخطاب بمضمونه فلا يقتضي حينئذ احتياج الإرادة في مقام
302

محركيتها إلى تطبيق الموضوع خارجا إناطة أصل وجودها وفعليتها بوجوده في الخارج.
ثم إن الثمرة بين القولين تظهر في المقدمات الوجودية للواجب فإنه على ما اخترناه من
فعلية الإرادة والتكليف في المشروطات يترتب عليه وجوب الاتيان بالمقدمات الوجودية
المفوتة حالا عند العلم بحصول المنوط به والشرط في الخارج فيما بعد، لان الوجوب
النفسي بعد أن كان فعليا بالنسبة إلى ذيها لا جرم يقتضي على الملازمة ترشح الوجوب
الغيري إلى مقدماته فيصير مقدماته الوجودية حينئذ واجبة من الحين بالوجوب الغيري
فيجب الاتيان بها مع العلم بحصول المنوط به والشرط في الخارج. وهذا بخلافه على
مسلك المشهور في المشروط فأنه على هذا المسلك لما كان لا يكون التكليف بالنسبة إلى ذيها
فعليا الا بعد حصول المنوط به والشرط في الخارج فلا مجال لدعوى وجوب مقدماته
الوجودية من الحين بالوجوب الغيري، فلابد حينئذ اما من الالتزام بعدم وجوبها رأسا أو
الالتزام بكونها واجبة بالوجوب النفسي التهيئي العقلي، وهذا وان التزم به المشهور
المنكرون لفعلية التكليف في المشروطات قبل حصول شرطها نظرا إلى دعوى استقلال
العقل في نحو هذه المقدمات بوجوب تحصيلها فرارا عن تفويت الواجب في ظرفه، ولكنه
مع كونه التزاما بما لا يلزم لا يخلو عن اشكال واضح، كما سيجئ إن شاء الله تعالى في
تنبيهات المسألة.
في تصوير المعلق
ثم انه من التأمل فيما ذكرنا في الواجب المشروط على المختار يظهر لك امكان تصوير
الواجب المعلق أيضا وهو الذي يكون الوجوب فيه فعليا مطلقا غير منوط بشئ ولكن
الواجب فيه مقيد بأمر استقبالي غير اختياري حتى في ظرفه ولو لكونه قهري الحصول و
التحقق في موطنه كالوقت مثلا، كما في الحج في الموسم، أو مقيدا بأمر اختياري لكن لا
بمطلق وجوده بل بوجوده الاتفاقي الناشي من جهة غير اختيار المكلف، أو بوجوده الناشي
من قبل سائر الدواعي غير دعوة الامر والتكليف، إذ نقول حينئذ بان مثل هذه القيود
بعد أن كانت راجعة إلى مقام الدخل في وجود المحتاج إليه والمتصف بالصلاح والمفسدة
لا في أصل الاحتياج واتصاف الذات بالمصلحة والصلاح كما في قيود التكليف
كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج فلا جرم تبعا للعلم الفعلي بقيام المصلحة التامة المطلقة
303

بالمقيد المزبور يتعلق به الاشتياق الفعلي المطلق البالغ إلى حد الانقداح المعبر عنه بالإرادة
أيضا بلا حالة منتظرة في البين ولا إناطة لها في فعليتها بحصول القيود المزبورة في الخارج،
بل ولا بفرضها ولحاظها أيضا بوجه أصلا.
نعم غاية ما هناك هو خروج القيود المزبورة من جهة عدم قابليتها لتعلق الإرادة بها
عن حيز التكليف بالايجاد محضا لا عن مباديها أيضا فكان جميع مبادئ الإرادة من الميل و
المحبة والاشتياق متحققة بالنسبة إليها، ولكنها من جهة عدم قابليتها لتعلق الإرادة بها
كانت خارجة عن حيز التكليف بالايجاد، ولكن مجرد خروجها عن حيز التكليف أيضا
غير مقتض لإناطة أصل التكليف في فعليته بحصولها في الخارج كما في قيود الوجوب في
المشروطات على مسلك المشهور بل ولا بفرضها ولحاظها أيضا، كيف وان قضية كونها
قيودا للواجب ليست الا دخل تقيداتها في المطلوب بنحو الجزئية، وحينئذ فكما ان الامر بالمركب
من الاجزاء الخارجي لا يكون في فعليته بكل جزء منوطا بوجود الجزء الآخر بل ولا بفرضه و
لحاظه أيضا بل كانت الاجزاء في عرض واحد في كونها متعلقا للامر والتكليف، غاية
الامر انه لا يكون للتكليف المتعلق بها اطلاق يقتضي مطلوبية المركب حتى في ظرف
فقد بعض الاجزاء، وذلك أيضا لمكان توئمية الاجزاء في مشموليتها للطلب ثبوتا وسقوطا
أيضا، كذلك المركب من الاجزاء التحليلية وهي التقيدات ففيها أيضا لا يكون الامر
بالمقيد ببعض القيود منوطا في فعليته بحصول قيوده في الخارج ولا بفرضها ولحاظها أيضا
من غير فرق في ذلك بين أن يكون القيد من القيود الاختيارية أو من القيود الغير
الاختيارية، غاية الامر في فرض عدم اختيارية القيد أو فرض كون الدخيل في الغرض
هو وجوده الاتفاقي ولو مع اختياريته يخرج القيد حينئذ عن حيز نفس التكليف
بالايجاد، فلا يكون التكليف بالمقيد حينئذ مطلقا بنحو يقتضي حفظ وجود المقيد على
الاطلاق حتى من ناحية ما هو خارج عن اختيار المكلف أو من ناحية ما كان دخله
بوجوده من باب الاتفاق، لا أنه يوجب نفى التكليف الفعلي بالمقيد بقول مطلق قبل
حصول قيده كما هو واضح، فيكون مرجع التكليف الفعلي بالمقيد بقول مطلق قبل
خارجا عن الاختيار إلى التكليف بسد باب عدمه فعلا من ناحية ما هو تحت قدرة
المكلف واختياره من المقدمات الوجودية والأضداد في ظرف العلم بانسداد عدمه من
ناحية القيود الخارجة عن الاختيار ونتيجة ذلك انما هي لزوم حفظ المقيد فعلا من قبل
304

مقدماته الوجودية الاختيارية عند العلم بانحفاظه من ناحية القيود الخارجة عن الاختيار
كما هو واضح.
وعلى ذلك فحيثما أمكن تصور الواجب المعلق أيضا في قبال المشروط منه فلا جرم
يكون الأقسام في الواجب ثلاثة لا انه ينحصر بالقسمين المطلق والمشروط كما قيل من
امتناع المعلق واستحالته، وذلك لما عرفت بما لا مزيد عليه من امكان تصور قسم ثالث للواجب
أيضا، وراء المطلق المنجز والمشروط، وهو الذي يكون الواجب أمرا استقباليا مقيدا
بزمان الاستقبال وكان الوجوب فيه فعليا مطلقا غير منوط بشئ حتى في الفرض و
اللحاظ، في قبال المشروط المشهور الذي يكون الوجوب فيه منوطا بوجوب الشرط والمنوط
به في موطن الخارج الملازم لعدم فعليته أيضا قبل حصول شرطه في الخارج، وفي قبال
المشروط لدى المختار الذي يكون الوجوب فيه فعليا لكن منوطا بفرض الشئ ولحاظه لا
مطلقا كما هو واضح.
ثم انه قد يقرب وجه ابطال المعلق واستحالته وامتناع تعلق التكليف الفعلي
بالامر الاستقبالي قبل حصول ظرفه بان حقيقة الإرادة بعد أن لم تكن عبارة عن مجرد
الميل والمحبة والاشتياق نحو الشئ بل كانت عبارة من تلك الحالة الانقداحية الحاصلة في
النفس المستتبعة لتحريك العضلات نحو المراد فلا جرم تحتاج في فعليتها وتحققها إلى أن
تكون في ظرف الاشراف على المراد الذي هو ظرف القدرة عليه من جهة انه بدونه
يستحيل تحقق تلك الحالة الانقداحية الخاصة الموجبة لتحريك العضلات، من غير فرق في
ذلك بين الإرادة التكوينية والتشريعية، فكما انه في الإرادة التكوينية لا يتحقق حقيقة
تلك الحالة الانقداحية المحركة للعضلات الا في ظرف اشراف المريد على العمل وفي
ظرف القدرة عليه كذلك أيضا في الإرادة و
فعليتها من كونها في ظرف اشراف المأمور والمكلف على المراد وفي ظرف القدرة عليه.
ومحصل هذا التقريب انما هو دعوى احتياج الإرادة في فعليتها وتحققها إلى كون
المراد مقدورا بلا واسطة في ظرف الإرادة وانه بدونه لا يكاد تحقق تلك الحالة الانقداحية
المعبر عنها بالإرادة بوجه أصلا، فيقال حينئذ بان الامر الاستقبالي لما كان غير مقدور
للمكلف قبل حصول قيده أو ظرفه فلا جرم يمتنع توجيه التكليف الفعلي أيضا نحوه
بالايجاد، فمن ذلك لابد من جعل التكليف الفعلي به منوطا بحصول قيده الخارج عن
305

الاختيار في الخارج، ومعه يرجع تلك المعلقات إلى المشروط إذ لا نعنى من المشروط الا ما
كان الوجوب فيه منوطا بوجود قيده في الخارج فيبطل حينئذ القول بالمعلق بواسطة امتناع
تعلق الوجوب الفعلي بالامر الاستقبالي والمقيد ببعض القيود الغير الاختيارية، ومن أجل
هذا البيان أيضا قيل بلزوم المصير إلى تدريجية فعلية التكليف بالاجزاء في المركبات
التدريجية كالصلاة ونحوها وان فعلية التكليف بكل جزء من المركب انما هو في ظرف
الاشراف عليه الذي هو ظرف الفراغ عن الاتيان بالجزء السابق عليه، لا ان التكيف
بالجميع كان فعليا من الأول، هذا
ولكنك خبير بما في هذا التقريب، إذ نقول بأنه وان كان لابد في صحة توجيه
التكليف الفعلي نحو الشئ من كونه مقدورا للمكلف وبدون القدرة عليه لا يصح الطلب
والبعث إليه فعلا، ولكنه نمنع اعتبار كونه مقدورا له بلا واسطة في ظرف الإرادة، بل
نقول بأنه يكفي في فعلية الإرادة والتكليف بالعمل مطلق القدرة على ايجاده في ظرفه ولو
بتوسيط مقدماته، لان قدرته الفعلية على المقدمات هي عين القدرة على ايجاد العمل في
ظرفه، حيث إنه كان له فعلا حفظ المطلوب الاستقبالي بايجاد مقدماته الوجودية
الاختيارية كما كان له عدم حفظه وتفويته بعدم ايجاد مقدماته الوجودية فعلا، ومن
المعلوم حينئذ انه يكفي هذا المقدار من القدرة الفعلية على المطلوب الاستقبالي في صحة
توجيه البعث والتكليف الفعلي نحوه
كيف وان لازم البيان المزبور من اعتبار القدرة بلا واسطة على العمل في صحة
البعث الفعلي هو الالتزام بعدم فعلية التكليف في الواجبات المطلقة أيضا فيما كان منها
يحتاج إلى مقدمات عديدة لأنها أيضا غير مقدورة قبل حصول مقدماتها في الخارج، فلابد
وأن يكون فعلية التكليف فيها أيضا في ظرف حصول مقدماتها الذي هو ظرف الاشراف
على المطلوب وظرف القدرة عليه، ولازمه هو انكار الإرادة الغيرية رأسا في كلية
الواجبات بالنسبة إلى المقدمات الوجودية لأنه في ظرف عدم حصول المقدمات إذا لم تكن
الإرادة النفسية متحققة بالنسبة إلى ذيها بملاحظة عدم امكان الانبعاث نحوه فلا جرم
يمتنع تصور الإرادة الغيرية أيضا بالنسبة إلى مقدماته الوجودية، وحينئذ فلابد من نفى
الوجوب الغيري عن تلك المقدمات رأسا والالتزام بكونها واجبة بالوجوب النفسي
التهيئي، وهذا وان التزم به بعض من سلك مثل هذا المسلك كصاحب تشريح الأصول
306

فيما حكاه الأستاذ دام ظله ولكن مثل هذا الالتزام كما ترى لا يمكن المصير إليه وذلك
لما فيه من مخالفته لما عليه اطباق العقلاء بل وبداهة الوجدان القاضي بغيرية تلك الإرادة
المتعلقة بالمقدمات الوجودية كما في إراداتنا التكوينية المتعلقة بمثل المشي إلى السوق
لشراء اللحم والى الحمام للغسل من الجنابة والى مسجد الكوفة للصلاة فيه ونحو ذلك،
وعليه فيتوجه عليهم الاشكال بأنه إذا كانت تلك الإرادة المتعلقة بالمقدمات الوجودية
إرادة غيرية توصلية بالوجدان لا نفسية ولو تهيئية فيستحيل انفكاكها عن فعلية الإرادة
بذيها لان تبعية الإرادة الغيرية للإرادة النفسية في الفعلية والشأنية في الوضوح كالنار
على المنار وكالشمس في رابعة النهار.
وحينئذ فبمقتضى هذا البرهان بعد قضاء الوجدان بكون الإرادة المتعلقة بالمقدمات
إرادة غيرية توصيلة لا محيص من الالتزام بفعلية الإرادة النفسية بالنسبة إلى ذيها أيضا
قبل حصول مقدماته، كي منها يترشح إرادة غيرية نحو مقدماته والمصير إلى كفاية مطلق
مقدورية العمل ولو بالواسطة في صحة توجيه التكليف الفعلي نحوه وعدم احتياجها أي
الإرادة في فعليتها إلى اعتبار كون المتعلق مقدورا بلا واسطة في ظرف الإرادة والتكليف
كي تحتاج إلى لزوم كونها في ظرف الاشراف على العمل، كما هو واضح.
وعلى ذلك نقول بأنه إذا كان ذلك شأن الإرادة في الواجبات المطلقة المنجزة وفي
الإرادات التكوينية فأمكن فعلية الإرادة فيها قبل حصول المقدمات الوجودية فليكن
كذلك في الواجبات المعلقة أيضا، فأمكن فيها تعلق الإرادة الفعلية حالا بالمقيد بالقيد
الاستقبالي كالزمان قبل حصوله، فلا تحتاج إلى كونها في ظرف الاشراف على الواجب
الذي هو ظرف حصول قيده، كما كان يشهد لذلك أيضا نفس الانشاء الصادر من المولى
حيث إنه بعد أن كان ذلك لأجل التوصل به إلى وجود المراد البعدي لامن جهة مطلوبية
الانشاء نفسا فلا محالة تكون الإرادة المتعلقة به إرادة غيرية توصلية، ومعه بمقتضي عدم
انفكاكها عن إرادة ذيها لابد من الالتزام بكون الإرادة المتعلقة بالفعل البعدي فعلية حال
الانشاء كي منها يترشح إرادة غيرية إلى الانشاء المزبور، نعم غاية ما في الباب ان محركية
هذه الإرادة لنفس المطلوب كانت في ظرف الاشراف عليه الذي هو ظرف حصول قيده،
واما قبل ذلك فلا تكون محركيتها الا لمقدماتها الوجودية كما هو الشأن أيضا في الواجبات
المطلقة المنجزة التي تحتاج إلى مقدمات عديدة، حيث كانت الإرادة بحدوثها محركة و
307

باعثة نحو مقدمات المطلوب وببقائها إلى حين حصول المقدمات محركة نحو نفس
المطلوب، لا انه عند حصول المقدمات يحدث في النفس حالة أخرى توجب البعث نحو
المطلوب، كما هو واضح.
وقد يقرب ابطال المعلق واستحالته بوجه آخر ولو مع تسليم كفاية مطلق المقدورية
ولو بالواسطة في صحة التكليف الفعلي بالعمل وذلك بتقريب ان المقيد بالقيد الغير
الاختياري كالزمان مثلا تبعا لعدم اختيارية قيده قبل حصول قيده غير مقدور للمكلف
بقول مطلق لا بالواسطة ولا بدونها، من جهة وضوح عدم قدرة المكلف والمأمور على
الاتيان بالعمل البعدي قبل حصول قيده وظرفه لا بالواسطة ولا بدونها، فان ما هو مقدور
له حينئذ انما كان ذات المقيد لا بوصف كونه مقيدا، وذات المقيد لم تكن مما يترتب
عليه الغرض والمصلحة، بل المترتب عليه الغرض والمصلحة هو المقيد بوصف كونه مقيدا
فإذا كان ذلك غير مقدور له قبل حصول قيده في الخارج فلا جرم يستحيل تعلق التكليف
الفعلي بايجاده ومعه فلا محيص وأن يكون التكليف الفعلي به منوطا بحصول قيده في
الخارج. ومن هذه الجهة أيضا يندفع شبهة الانتقاض المزبور بالواجبات المطلقة التي لها
مقدمات وجودية حيث نقول بان صحة التكليف الفعلي في الواجبات المطلقة قبل حصول
مقدماتها الوجودية مع كونه في الحقيقة من البعث إلى امر متأخر انما هو من جهة كونه
مقدورا للمكلف ولو بواسطة القدرة على مقدماته، حيث إنه من اجل ذلك يصير البعث
الفعل والانبعاث إليه متصفا بصفة الامكان بخلافه في الفعل المتقيد بأمر غير مقدور
كالمتقيد بالزمان المتأخر، حيث إنه باعتبار امتناع تحققه قبل حضور وقته وحصول قيده
غير مقدور للمكلف على الاطلاق حتى بالواسطة، فمن ذلك لا يكاد يصح البعث الفعلي
نحوه الا بعد حضور وقته وحصول قيده، بجعل فعلية التكليف منوطة بوجود القيد في موطن
الخارج ولا نعنى من المشروط الا هذا.
وقد يقرب ذلك بعبارة أخرى وهي ان المعتبر في صحة البعث الفعلي نحو الشئ انما هو
امكان انبعاث المكلف إليه وقوعيا علاوة عن الامكان الذاتي فيقال حينئذ بأنه لا ريب
في تحقق هذا المعنى حينئذ في فعل له مقدمات اختيارية غير حاصلة بالفعل، وذلك انما هو من
جهة كونه في نفسه أمرا ممكنا قابلا للوقوع في كل آن ولو في زمان عدم وجود علته، كما في
الاحراق، حيث إنه امر ممكن قابل للتحقق في كل زمان حتى في زمان عدم حصول علته غير أن عدم
308

تحققه وامتناعه كان من جهة عدم حصول علته لا من جهة امتناعه في نفسه بالامتناع
الوقوعي، وحينئذ فإذا كان الامكان الذاتي والوقوعي محفوظا فيه مع عدم حصول علته و
امتناعه بالغير فلا جرم أمكن البعث الفعلي نحوه أيضا، من جهة المعيار في صحة البعث
الفعلي انما كان هو امكان الانبعاث إليه بالامكان الوقوعي، فإذا أمكن الانبعاث إليه
بالامكان الوقوعي أمكن البعث الفعلي نحوه أيضا، وهذا بخلافه في الفعل المتقيد بالزمان
المتأخر فإنه لما كان يمتنع تحققه في نفسه قبل حضور وقته وحصول قيده فلا يكاد اتصاف
الانبعاث إليه بوصف الامكان الوقوعي ومعه لا يكاد يصح البعث الفعلي نحوه أيضا من
جهة ما عرفت من الملاك في صحة البعث الفعلي نحو الشئ وانه امكان الانبعاث إليه
بالامكان الوقوعي، فعلى ذلك الفرق بين فعل له مقدمات وجودية اختيارية غير حاصلة و
بين الفعل المتقيد بأمر غير مقدور كالمتقيد بالزمان المتأخر من حيث صحة البعث الفعلي
في الأول وعدم صحته في الثاني الا بعد حصول الواجب انما هو من جهة محفوظية
الامكان الوقوعي في الأول وعدم محفوظيته في الثاني، باعتبار امتناع تحققه في نفسه قبل
حضور وقته وحصول قيده، فمن ذلك لا محيص من جعل الطلب في نحو هذه الأمور منوطا
بحصول قيده في الخارج كما في المشروطات. هذا غاية ما أفيد في وجه بطلان المعلق وفى
الفرق بينه وبين المطلق الذي له مقدمات اختيارية غير حاصلة بالفعل.
ولكنه كما ترى لا يكاد يجدي شيئا، إذ نقول أولا: بان ما أفيد من الفرق المزبور
بالملاك المسطور انما يفيد في مثل الاحراق ونحوه من الأمور التي لم يكن لها ما يمنع عن
قابلية وقوعها في زمان علتها، لا في فعل كل ما له مقدمات اختيارية غير حاصلة بالفعل
كالصلاة ونحوها مما اعتبر فيها الهيئة الخاصة المعهودة التي ينافيها ويضادها بعض الأمور
فان مثل الصلاة باعتبار ما لها من الهيئة الاتصالية المعهودة لا اشكال في كونها مضادة
مع فعل مثل الوضوء والغسل ونحوهما كمضادتها مع سائر المنافيات من الافعال التي
يوجب وقوعها في أثنائها خروج تلك الهيئة عن كونها هيئة صلاتية، وعلى ذلك نقول بأنه
من الواضح انه مع تلك المضادة لا يكاد اتصاف الصلاة بالامكان الوقوعي في كل زمان
حتى في زمان عدم وجود مقدمتها التي عبارة عن الوضوء والغسل، وحينئذ يتوجه شبهة
الانتقاض بالواجبات المطلقة إذ يقال حينئذ بأنه يكفي في امتناعها الوقوعي تلك المضادة
الجائية من قبل ما اعتبر فيها من الهيئة الخاصة وان كان في الفعل المتقيد بالزمان المتأخر
309

جهة أخرى زائدة وهي امتناع تحققه بذاته قبل حضور وقته.
وثانيا نقول: بان امكان الانبعاث نحو المطلوب وان كان مما لابد منه عقلا في صحة
البعث الفعلي ولكن نقول: بان لا دليل على اعتباره في ظرف التكليف بل يكفي فيه
امكانه في ظرف العمل لان الذي يحكم العقل باستحالته من التكليف بما لا يقدر عليه
المكلف انما هو في مورد خروج الفعل عن المقدورية بقول مطلق حتى في ظرفه لا مطلقا
كما هو واضح.
ومع الغض عن ذلك نقول: بأنه انما يجدي ذلك في ابطال المعلق إذا كان المقصود من
اثبات المعلق اقتضاء البعث الفعلي نحو الفعل المتقيد بالزمان المتأخر لحافظية وجود المقيد
بقول مطلق حتى من ناحية قيوده الخارجة عن الاختيار ولكنه ليس كذلك، والا
لاقتضى هذا البيان عدم صحة البعث الفعلي نحوه حتى في ظرف حصول قيده من باب
الاتفاق من جهة ان مجرد حصول القيد غير الاختياري لا يوجب صيرورة المقيد بما هو
مقيد اختياريا بقول مطلق، بل المقصود اقتضاء التكليف المزبور للامر بسد باب عدمه
من قبل ما هو تحت اختيار المكلف من المقدمات في ظرف انسداد عدمه من ناحية القيود
الخارجة عن الاختيار، وعليه نقول: بان ذلك كما أنه يوجب صحة التكليف بالمقيد بعد
حصول قيده في الخارج وكان مرجع التكليف به حينئذ إلى التكليف بسد باب عدمه
من ناحية بقية القيود الاخر الاختيارية كذلك يوجب صحة التكليف الفعلي نحوه أيضا
قبل حصول قيده في الخارج نظرا إلى تمكنه فعلا من هذا المقدار من الحفظ كتمكنه من
عدم حفظه أيضا بتفويت تلك المقدمات وعدم ابقاء قدرته إلى ظرف حصول القيد الذي
هو ظرف الواجب، وحينئذ فإذا فرض تمكنه فعلا من حفظ المقيد بالوقت الاستقبالي
من قبل المقدمات الاختيارية وكانت المصلحة أيضا تامة في قيامها بالمقيد فعلا فلا جرم
قضية الاشتياق الفعلي إلى المقيد المزبور البعث الفعلي نحوه يوجب ذلك وجوب الاتيان
بما له من المقدمات الاختيارية التي لولا تحصيلها في الحال لما كان له القدرة على تحصيلها
في ظرف الواجب من جهة ترشح الوجوب الغيري حينئذ إلى تلك المقدمات ولا نعنى من
فعلية الوجوب في المعلق قبل حصول قيده الا هذه المقدار
فعلى ذلك لا يبقى مجال لانكار المعلق والمصير إلى رجوعه إلى المشروط ونفى التكليف
الفعلي فيه قبل حصول قيده بمثل البيانات المزبورة، كيف وان نفس صدور الانشاء من
310

المولى في هذه الموارد بعد معلومية كونه لأجل التوصل إلى وجود المراد البعدي لا من جهة
مطلوبية نفسا بمقتضي تبعية الإرادة الغيرية للإرادة النفسية في الفعلية والشأنية و
استحالة الانفكاك بينهما أقوى شاهد وأعظم برهان على فعلية إرادة المطلوب وتحققها
أيضا، كيف وان كثيرا ما لا يكون للمولى إرادة فعلية في ظرف حصول قيد الواجب و
ذلك لما يعرض عليه من الحالات المنافية معها كالنوم والغشوة والغفلة ونحو ذلك كما لو
قال افعل غدا كذا مع كونه في الغد نائما أو مغشيا عليه، فعلى هذا المسلك يلزم القول بخلو
هذا الانشاء عن الطلب والمصير إلى عدم وجوب شئ على المأمور في ظرف الغد، مع أنه
كما ترى، فإنه لا شبهة في أنه يجب عليه الاتيان بما امره المولى به في الغد وانه لو تركه
يصح للمولى ان يعاقبه، ولا يصح له الاعتذار بأنه لم يصدر من المولى طلب ولا بعث
فعلى، لان الانشاء منه غير متكفل للبعث الفعلي وفي ظرف الغد كان المولى نائما غير مريد
للفعل بإرادة فعلية، وهكذا فيما لو علق المولى طلبه بما هو ضده كالنوم والغشوة بقوله:
(ان نمت فافعل كذا في حال نومي وان غشي على فاصنع كذا واعط زيدا كذا وان
مت فافعل كذا) فإنه على ما ذكرنا من عدم فعلية الإرادة في ظرف الانشاء يلزم عدم
وجوب شئ على العبد في الأمثلة المزبورة من جهة عدم ملزم عليه في البين يقتضي وجوب
الاتيان بالمأمور به بعد فرض خلو الانشاء المزبور عن الطلب وانتفائه أيضا بالوجدان في
حال النوم والغشوة، مع أنه كما ترى، فان بداهة الوجدان قاض بوجوب الاتيان عليه بما
هو المأمور به في ظرف واستحقاقه للعقوبة على الترك فيما لو خالف، ومعلوم ان لا يكون
له وجه الا انشائه المتكفل لفعلية طلبه ومن ذلك يصح للمولى ان يحتج عليه بذلك بقوله:
(اني بعثتك نحو العمل وطلبته منك بقولي افعل كذا في الغد ان نمت أو غشي على) كما
هو واضح وحينئذ فكان ذلك كله من الموهنات للقول بانكار المعلق وارجاعه إلى المشروط
فتدبر.
نعم لو كان لابد من انكاره وارجاعه إلى المشروط، فكان الحري حينئذ ارجاعه إلى
المختار من المشروط الذي لا ينافي مع فعلية الإرادة كما صنعه بعض الاعلام في درره
فيلتزم حينئذ بفعلية الإرادة المنوطة بالفرض واللحاظ كما حققناه المستتبعة لعدم محركيتها
نحو المطلوب الا في ظرف تحقق الشرط والمنوط به في الخارج مع تأثيرها أيضا في نفس
المكلف فعلا بالنسبة إلى المقدمات المفوتة، وان كان ذلك أيضا خلاف التحقيق، كما مر
311

سابقا عند بيان اختلاف أنحاء القيود في كيفية دخلها في المطلوب وعدم كونها على نمط
واحد، بان قيود المحتاج إليه غير راجعة إلى الطلب كي يكون الطلب بمباديه منوطا
بوجودها ولو في الفرض واللحاظ، وانما كان ذلك شأن قيود الاحتياج حيث إنها كانت
راجعة إلى الطلب دون المتعلق، من غير فرق في ذلك بين أنحاء القيود من حيث
الاختيارية وغير الاختيارية غايته انه في فرض عدم اختيارية القيد أو دخله بوجوده
الاتفاقي تكون خارجة عن الطلب نفسه لا عن مباديه أيضا، ومجرد هذا المقدار من
الخروج أيضا عن حيز الطلب غير مقتض لإناطة الطلب بوجوده ولو في الفرض واللحاظ
فضلا عن الخارج، كما هو واضح.
وحينئذ فعلى التحقيق تكون الأقسام في الواجب ثلاثة: أحدها الواجب المنجز، و
ثانيها المعلق الذي يكون الوجوب فيه فعليا مطلقا غير منوط بشئ ولو في الفرض واللحاظ
والواجب مقيدا استقباليا، وثالثها المشروط الذي يكون الوجوب فيه لدى المختار فعليا
منوطا بفرض القيد ولحاظه وغير فعلى لدى المشهور الا بعد حصول الشرط في الخارج في
قبال المعلق الذي عرفت فعلية الوجوب فيه واطلاقه، فكان الفرق حينئذ بين المعلق وبين
المختار من المشروط من جهة اطلاق الإرادة وإناطته والا فهما مشتركان لدى المختار في
فعلية الوجوب والتكليف.
ثم انه بعد أن ظهر امكان كل من المعلق والمشروط ثبوتا يبقى الكلام في مقام
الاثبات في امكان كون القيد في حيز الخطاب من قيود الطلب والهيئة أو قيود
المتعلق وعدم امكانه.
فنقول: الذي يظهر من جماعة منهم الشيخ قدس سره على ما في التقريرات هو المنع
عن جواز كون الشرط من قيود الهيئة والطلب، حيث منع عن جواز كونه من قيود الطلب
والتزم بتعين رجوعه إلى المادة والمتعلق ولو مع اقتضاء القواعد العربية خلافه، ولكن
الظاهر بقرينة الاستدلالي الآتي اختصاص المنع المزبور بما إذا كان الطلب منشأ لا بمادة
الوجوب والطلب بل بالهيئة محضا كقوله ان جاءك زيد فأكرمه والا ففي فرض
انشائه بمادة الوجوب كقوله ان جاءك زيد يجب عليك اكرامه أو اطلب منك كذا لا
يتوجه المنع المزبور، كما هو واضح.
وعلى كل حال فعمدة ما أفيد في تقريب امتناع كون الشرط من قيود الهيئة و
312

الطلب ولزوم كونه من قيود المادة وجهان: تارة بما اختاره الكفاية من المسلك في
الحروف والهيئات: من جعل معانيها معاني آلية لمتعلقاتها وجعل الفارق بينها وبين
الأسماء من جهة اللحاظ الآلي والاستقلالي بتقريب ان لازم آلية المعنى فيها ومرآتيته
هو عدم جوازه تقييده نظرا إلى اقتضاء التقييد لكونه ملحوظا استقلالا واستلزام ذلك
لانقلاب المعنى عن كونه معنى حرفيا إلى المعنى الأسمى بل واستلزامه لاجتماع
النظرين أيضا النظر الآلي والاستقلالي، وأخرى بان معاني الهيئات كالحروف معان
جزئية لكونها من قبيل الوضع العام وخاص الموضوع له، فلا اطلاق للفرد الموجود من
الطلب المتعلق بالفعل المنشأ بالهيئة حتى يصح تقييده، مع أن تفرع تقيد الشئ على اطلاقه
كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار هذا.
ولكن يرد على الوجهين المزبورين المنع عن أصل المبني فإنه قد تقدم في محله ان
الحروف وكذا الهيئات معانيها عبارة عن الإضافات الخاصة والارتباطات القائمة
بالطرفين، فكان الفرق حينئذ بينها وبين الأسماء من جهة نفس المعنى والملحوظ لامن
جهة اللحاظ الآلي والاستقلالي كما عليه مسلك الكفاية، كما أنه قد تقدم أيضا عموم
الموضوع له فيها كالوضع نظرا إلى تحقق القدر المشترك بين الإضافات الخاصة من كل
سنخ منها، وعليه فلا مانع عن ورود القيد على الهيئة بوجه أصلا، على أنه لو سلم كون
المعنى فيها جزئيا وخاصا فإنما هو باعتبار الخصوصيات الذاتية، وهذا المقدار لا يقتضي
خروج المعنى فيها عن الاطلاق وعن قابلية التقييد بالنظر إلى الطواري والعوارض
اللاحقة، ولذلك ترى ان زيدا مع كونه جزئيا وخاصا كان مطلقا بالنظر إلى الحالات و
الطوارئ العارضة عليه من نحو القيام والقعود ونحوهما.
نعم لو أريد من خصوصية المعنى فيه وجزئيته كونه خاصا وجزئيا بقول مطلق على
معنى اشتماله على جميع ما بفرض من الخصوصيات حتى الناشئة من الطوارئ الخارجية
بحيث كان انشاء مدلول الهيئة مساوق انشاء الطلب المقيد لكان لما ذكر من عدم قابلية
المعنى في الهيئة للتقييد كمال مجال، وعليه أيضا لا يكاد يتوجه الاشكال الكفاية
(قدس سره) بأنه انما يمنع عن التقييد فيما لو أنشأ أولا غير مقيد لا ما إذا أنشأ من الأول
مقيدا بنحو الدالين والمدلولين فإنه غير انشائه أولا ثم تقييده ثانيا، إذ نقول بأنه على هذا
الفرض لا محالة يكون القيد المزبور من خصوصيات الطلب المدلول بالهيئة حيث كان
313

انشاء مدلول الهيئة مساوق انشاء الطلب المقيد ومعه لا يبقى مجال لتقيده بالقيد المزبور،
كيف وانه على فرض عدم كون ذلك من خصوصياته لابد وأن يكون المدلول في الهيئة
هو الطلب المجامع مع الخصوصية تارة وغير الجامع معها أخرى فيلزم كونه مطلقا من هذه
الجهة وهو خلف بالفرض، لأن المفروض هو كونه جزئيا غير قابل للتقييد. ومن ذلك
ظهر عدم المجال لما افاده أيضا من حديث تعدد الدال والمدلول لان ذلك انما يكون في
فرض تجريد الهيئة عن تلك الخصوصية بجعلها عبارة عن الطلب المجامع معها تارة والمفارق
عنها أخرى كي يكون الدال على ذات الطلب الهيئة وعلى الخصوصية القيد الخارجي و
الا فمع عدم تجريد ها عنها كما هو الفرض من اخذ الخصوصية فيها لا جرم يكون الدال
على الذات والخصوصية هو الهيئة فقط، كما هو واضح.
ولكن الذي يسهل الخطب هو بطلان أصل الفرض فان جزئية المعنى في الحروف و
الهيئات لو قيل بها فإنما هي باعتبار الخصوصيات الذاتية لا مطلقا حتى بالنظر إلى
الخصوصيات الناشئة من الطوارئ والعوارض الخارجية خصوصا الناشئة منها من الجهات
التعليلية كالعلة والشرط فإنها مما لا يكاد يمكن اخذها في ذات المعنى، ومن ذلك ترى
الفرق الواضح بين مثل قوله: أكرم زيدا لعلمه أو ان كان عالما وبين قوله أكرم زيدا
العالم من حيث كون تمام الموضوع للحكم في الأول هو زيدا وفى الثاني زيدا المتقيد
بالخصوصية بنحو خروج القيد ودخول التقيد بحيث كان زيد جزء الموضوع والجزء الآخر
هو التقيد بالعلم والخصوصية، وعليه فلا يمنع مجرد جزئية المعنى في الهيئة عن تقيدها و
ارجاع الشرط إليها فأمكن اثباتا أيضا كل من المعلق والمشروط.
واما ما افاده (قدس سره) من البرهان الآخر في امتناع كون الشرط من قيود
الطلب ولزوم كونه من قيود المتعلق فقد عرفت الجواب عنه سابقا بأنه من الخلط بين
أنحاء القيود بجعل دخلها في المطلوب على نمط واحد وليس كذلك فراجع هناك تعرف.
نعم لو اغمض عن ذلك لا يتوجه عليه اشكال الكفاية بان الشئ المقيد مع العلم بقيام
الغرض به كما يمكن ان يبعث إليه فعلا ويطلبه حالا كذلك يمكن ان يبعث إليه ويطلبه
استقبالا وعلى تقدير تحقق شرط متوقع الحصول ولو لأجل مانع في البين عن الطلب و
البعث إليه فعلا قبل حصوله وحينئذ فلا يكون طلبه وبعثه الفعلي الا في ظرف حصول
ذلك القيد الملازم لارتفاع المانع، إذ مضافا إلى منافاته مع ما يقتضيه ظهور القضايا
314

الشرطية في كون المنوط به للطلب هو نفس القيد والشرط لا أمرا آخر ملازما لوجوده كما
يقتضي البيان المزبور من جعل الطلب من تبعات عدم المانع الذي هو ملازم لوجود
القيد، نقول بأنه مع تمامية المصلحة في المتعلق وهو المقيد وعدم مزاحمتها مع مفسدة أهم
وجودا لا محالة يكون مجرد الالتفات إلى تلك المصلحة غير المزاحمة مع المفسدة علة تامة
للاشتياق التام البالغ إلى حد الإرادة، وفي مثله لا يكاد يمنع عنه ما ذكر من المانع و
المفسدة المزبورة بعد عدم مزاحمتها وجودا مع مصلحة المطلوب، وذلك من جهة ان تلك
المفسدة حسب ترتبها على الإرادة والطلب تكون معلولة للطلب وفى رتبة متأخرة عنه
فيستحيل حينئذ مانعيتها عن نفس الطلب فضلا عن ممانعتها عن مصلحة المطلوب و
المتعلق. وتوهم ان المانع حينئذ عن الطلب حقيقة هو العلم بترتب المفسدة على الطلب لا
نفس المفسدة فلا محذور مدفوع بان مانعية العلم انما تكون باعتبار كشفه عن معلومه فكان
ما هو المانع بنظر العقل هو نفس المعلوم والمنكشف دون العلم وحينئذ يتوجه المحذور
المزبور بأنه كيف يمكن مانعية ما هو معلول الشئ وفي رتبة متأخرة عنه عن ذلك الشئ؟
ومن ذلك أيضا نقول بامتناع تبعية الاحكام لمصالح في نفسها وانها لابد من كونها تابعة
لمصالح في متعلقاتها فتصح الكلية المدعاة بان الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات
العقلية وان كل ما حكم الشرع بوجوبه يحكم العقل بحسنه.
ومن ذلك البيان ظهر أيضا عدم صحة ما افاده من المقايسة المزبورة بما في موارد
الأصول والامارات المؤدية إلى خلاف الواقع وفى الاحكام التي لم يكشف عنها النبي
صلى الله عليه وآله ولا الأئمة عليهم السلام فبقيت إلى زمان القائم عجل الله فرجه الشريف
إذ نقول بان عدم فعلية تلك الأحكام في الموارد المزبورة يمكن ان يكون من جهة مزاحمة
مصالحها لمصالح أخرى أهم ولو كانت هي مصلحة التسهيل أو لمفسدة كذلك بحسب
الوجود، فلا يرتبط حينئذ بالمقام المفروض خلو المتعلق فيه عن المفسدة، وحينئذ نقول:
بان المولى بعد أن لاحظ المقيد وعلم بان فيه مصلحة غير مزاحمة مع المفسدة لا جرم
يحدث في نفسه الاشتياق التام فيريده فعلا من دون حالة منتظرة أصلا.
نعم ابراز تلك الإرادة واظهارها ربما يحتاج إلى عدم المانع إذ لا يكفي فيه مجرد العلم
بالمصلحة ولا الاشتياق التام نحوه، ومن ذلك نرى بالوجدان ان الانسان ربما يشتاق إلى
الشئ بل يريده أيضا من عبده بإرادة فعلية ولكن مع ذلك لا يتمكن من ابراز الإرادة و
315

اظهارها خوفا عما يترتب عليه من المفاسد في نظره، كما لو فرض انه كان هناك عدو له
يقتله بمحض اظهاره للإرادة أو يحسد عليه فيضره ونحو ذلك من المفاسد، كما لعله من هذا
القبيل ولاية ولى الله عليه السلام حيث كان عدم اظهار النبي صلى الله عليه وآله
للولاية للناس من أول الامر لمكان خوفه صلى الله عليه وآله من أن يرتد الناس عن
دينهم لما يرى صلى الله عليه وآله وسلم من ثقل الولاية عليهم، فمن ذلك أخر اظهارها مدة
متمادية مع ما فيها من المصالح أعلاها إلى أن شدد عليه ونزل الآية المباركة: (يا
أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك)
نعم إذا كان عدم اظهار الإرادة علة تامة لعدم تحقق الوجود في الخارج مع فرض قيام
المصلحة به فحينئذ يستكشف من عدم اظهار الإرادة عدم بلوغها إلى مرتبة الفعلية من
جهة كشفه إنا عن ابتلاء المصلحة المزبورة فيه بمفسدة أخرى أهم وجودا كما في الاحكام
التي لم يكشف عنها النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومون عليهم السلام وكما في موارد
الامارات والأصول المؤدية إلى خلاف الواقع. ولكن مثل ذلك كما عرفت غير مرتبط
بالمقام المفروض خلو مصلحة المتعلق عن الابتلاء بالمفسدة وجودا خصوصا مع تحقق
الانشاء الفعلي أيضا من المولى. وحينئذ فلا يكاد يجدي ذلك لدفع ما أورده
الشيخ (قدس سره) في لزوم صرف القيود عن الهيئة وارجاع المشروطات إلى المعلقات
ثبوتا واثبات كون الطلب في القضايا الشرطية منوطا بحصول الشرط وتحققه في الخارج
بحيث لا طلب ولا إرادة قبل حصول الشرط خارجا، بل العمدة في الجواب عنه هو الذي
ذكرناه من الفرق بين أنحاء القيود في مقام دخلها في المطلوب وعدم كونها على نمط واحد
فراجع تعرف.
وحينئذ فعلى التحقيق بعد ما أمكن كل من المعلق والمشروط ثبوتا واثباتا أيضا
برجوع القيد الواقع في القضية إلى الهيئة تارة والمادة أخرى فلا جرم يكون المتبع في
استفادة انه من أي القبيل هو لسان الدليل، وفي مثله يفرق بين مثل قوله: ان جاءك زيد
فأكرمه أو يجب اكرامه أو قوله: أكرم زيدا ان جاءك الظاهر في إناطة الوجوب بمادته
بالمجئ وبين قوله: أكرم زيدا الجائي بنحو القضية الوصفية الظاهر في اطلاق الوجوب وفي
كون الموضوع هو الذات المتقيدة والمتصفة بالوصف العنواني في قبال القضايا الشرطية
الظاهرة في أن تمام الموضوع للحكم في القضية هو نفس الذات محضا.
316

ثم انه يظهر من بعض الاعلام عدم صحة ما في التقريرات من لزوم صرف القيود
عن الهيئة وارجاعها إلى المادة لدى الشيخ (قدس سره) حيث قال نقلا عن أستاذه السيد
العلامة الشيرازي (قدس سره) بأنه ليس المراد من تقييد المادة لدى الشيخ (قدس سره)
ما يقتضيه ظاهر التقريرات بل المراد هو تقييد المادة من حيث ورود النسبة عليها وبعبارة
أخرى المادة المنتسبة، لان الشئ قد يكون متعلقا للنسبة الطلبية مطلقا من غير تقييد وقد
يكون متعلقا لها حين اتصافه بقيد في الخارج، كما في الحج مثلا فإنه مطلقا غير متصف
بالوجوب بل المتصف بالوجوب هو الحج المقيد بالاستطاعة الخارجية فما لم يجد هذا القيد
يستحيل تعلق الطلب الفعلي به وكونه طرفا للنسبة الطلبية (انتهى)
أقول: وأنت خبير بعدم اجداء مثل هذا الحمل أيضا لدفع ما أورده من الاشكال
على المشروط، فإنه ان أريد بالمادة المنتسبة المادة المتقيدة بمفهوم الانتساب الذي هو معنى
اسمى لا حرفي فهو كما عرفت خارج عن محل الكلام ومن ذلك خصصنا الاشكال من
الأول بما إذا كان الطلب منشأ لا بمادة الوجوب والطلب بل منشأ بالهيئة وان أريد بها
المادة المتقيدة بالنسبة بما هي معنى حرفي ولو بنحو خروج القيد ودخول التقيد فلا شبهة
حينئذ في أنه غير واف حينئذ بدفع ما ذكر من الاشكال من حيث جزئية المعنى أو
مرآتيته فان النسبة بما هي معنى حرفي حيثما يكون جزئيا ومغفولا عنه بالفرض تمنع عن
جواز ارجاع القيد إلى المادة المنتسبة والا فمن الأول أيضا يجوز ارجاعه إلى نفس الهيئة فلا
يحتاج إلى التجشم المزبور كما هو واضح وان أريد بها المادة في حال كونها منسوبة إلى
الهيئة لا بما هي متقيدة بالانتساب إليها بنحو دخول التقيد وخروج القيد فهذا غير ما
ذكره التقريرات من جهة وضوح انه ليس المراد من تقيد المادة في كلامه تقيدها بما هي
مطلقة وعارية عن ورود النسبة عليها بل المراد هو تقيدها في حال كونها تحت الهيئة لا
مطلقة ولا مقيدة بالانتساب، كما لا يخفى.
تنبيهان:
الأول: لا ينبغي الاشكال في عدم وجوب تحصيل مقدمات الوجوب وقيوده في
المشروط وخروجها عن حريم النزاع، وهكذا الحال في القيود الوجودية للواجب في المعلق
317

مما اخذ وجودها فيه من باب الاتفاق، فإنها أيضا غير واجبة التحصيل ولو كانت مقدورة
للمكلف، والسر في ذلك واضح. وذلك اما بالنسبة إلى قيود الوجوب في المشروط، فلما
تقدم من خروجها عن حيز الإرادة والطلب بمباديه من الاشتياق والمحبوبية أيضا، واما
بالنسبة إلى القيود الوجودية للواجب في العلق مما اخذ وجودها فيه من باب الاتفاق ولو
مع مقدوريتها فكذلك أيضا، وذلك اما على القول برجوعه أيضا إلى المشروط فظاهر، و
اما على المختار فلأنها حسب دخلها في وجود المتصف والمحتاج إليه وان كانت غير
خارجة عن حيز مبادئ الإرادة من المحبوبية والاشتياق حتى مع عدم مقدوريتها ولكن
قضية اخذها بوجودها من باب الاتفاق توجب خروجها حينئذ عن حيز الطلب بنحو
يستحيل ترشح التكليف. إليها.
واما سائر القيود الوجودية للواجب من المقدمات المفوتة التي لا يقدر على تحصيلها فيما
بعد في زمان الواجب في المعلق وفي ظرف حصول المنوط به والشرط في المشروط، فلا
اشكال فيها أيضا في ثبوت الوجوب لها في الحال بحيث يجب على المكلف تحصيلها في
الحال قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج. وهذا بناء على ما اخترنا سابقا من
فعلية الإرادة والتكليف في المعلق والمشروط قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج
في غاية الوضوح، لان مقتضي فعلية الوجوب والتكليف فيهما حينئذ هو ترشح الوجوب
الغيري إلى تلك المقدمات فتصير حينئذ واجبة بالوجوب الغيري المقدمي. واما بناء على
القول بعدم فعلية الإرادة والتكليف بهما قبل حصول القيد في الخارج ففيه اشكال، من
جهة انه من المستحيل حينئذ ثبوت الوجوب الغيري لتلك المقدمات في الحال مع عدم
فعلية الوجوب بالنسبة إلى ذيها، فعلى ذلك لو قيل بوجوبها في الحال فلابد وأن يكون
بوجوب نفسي ولو تهيئي لا غيري مقدمة، وهو أيضا مما يحتاج إلى قيام دليل عليه
بالخصوص من اجماع أو غيره يقتضي وجوب تحصيلها بوجوب نفسي تهيئي، وحينئذ فان
قام في البين نص أو اجماع على وجوب تحصيل تلك المقدمات تعبدا فهو والا فمقتضى
القاعدة بعد عدم فعلية الوجوب والتكليف بالنسبة إلى ذيها هو عدم وجوبها وان كان
أدى تركها في الحال إلى ترك الواجب في ظرفه عند حصول قيده وشرطه من جهة امتناع
تحققه في ظرفه حينئذ بعد ترك تلك المقدمات في الحال.
واما ما أفيد كما عن بعض الاعلام من ثبوت الوجوب العقلي لها حينئذ بمناط تلك
318

القاعدة العقلية المسلمة، وهي قاعدة ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا كما
في السقوط إلى الأرض لمن ألقى نفسه بالاختيار من شاهق، بتقريب انه وان كان بترك
تحصيل مقدمات الواجب قبل حصول شرط الوجوب يمتنع حصول الواجب في ظرفه وعند
تحقق شرائط الوجوب، ولكن هذا الامتناع حيثما كان مستندا إلى سوء اختياره لتركه
تحصيل مقدماته الوجودية في أول أزمنة الامكان لا محالة يعاقب على ترك الواجب في
ظرفه، فمن ذلك يحكم بداهة العقل بوجوب تحصيل المقدمات في أول أزمنة الامكان
لتحصيل القدرة حتى لا يترتب على تركها فوت الواجب والملاك في ظرفه، فمدفوع بان
قضية الامتناع بالاختيار انما لا ينافي العقاب إذا كان الامتناع ناشيا عن سوء الاختيار لا
مطلقا ولو كان ناشيا عن حسن الاختيار بواسطة ترخيص شرعي أو عقلي في البين على
الترك، إذ حينئذ لا ينبغي الاشكال في أنه ينافيه العقاب، كما يكشف ذلك موارد
القطع بعدم حصول المنوط به والشرط في الخارج مع مخالفة قطعة للواقع وحصول الشرط
والمنوط به في الخارج، فإنه حينئذ لا اشكال في أنه ترك الاتيان بالمقدمات الوجودية
المفوتة للواجب فامتنع بذلك الاتيان بالواجب في ظرفه لا يكاد يترتب عليه العقوبة بوجه
أصلا، وهكذا في موارد الجهل بأصل وجوب الامر البعدي حيث لا يترتب العقوبة على
تركه في موطنه بمجرد عدم اتيانه في الحال بالمقدمات الوجودية المفوتة، كما هو واضح.
وحينئذ فإذا كان موضوع العقاب في القاعدة المزبورة عبارة عن الامتناع الناشئ عن
سوء الاختيار لا مطلق الامتناع ولولا عن سوء الاختيار نقول بأنه لابد حينئذ مع قطع
النظر عن تلك القاعدة من اثبات وجوب تلك المقدمات عقلا أو شرعا في الحال كي
يترتب على ترك تحصيلها كون الامتناع امتناعا عن سوء الاختيار فيترتب عليه الحكم
باستحقاق العقوبة عليه بمقتضي القاعدة المزبورة، والا فلا يمكن اثبات وجوبها وكونه
امتناعا عن سوء الاختيار بمقتضي تلك القاعدة من جهة ما فيه من الدور الواضح. و
حينئذ نقول بأنه إذا لم يقم دليل خاص من اجماع أو غيره على كونها واجبة بالوجوب
النفسي ولو التهيئي وامتنع أيضا كونها واجبة بالوجوب الغيري الترشحي من جهة ما هو
الفرض من انتفاء التكليف الفعلي بذيها قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج فلا
جرم تبقى المقدمات تحت الترخيص العقلي، وحينئذ فإذا ترك المقدمات المزبورة فامتنع
الواجب في ظرفه لأجل تركه تحصيل المقدمات من الأول فلا جرم لا يكاد يكون الامتناع
319

المزبور امتناعا عن سوء الاختيار حتى يترتب عليه بمقتضي القاعدة المزبورة الحكم
باستحقاق العقوبة عن التفويت، كما هو واضح. وحينئذ فمن أين يمكن اثبات وجوب
المقدمات المزبورة بمقتضي القاعدة المزبورة حتى أمكن استكشاف وجوبها الشرعي أيضا
ولو بنحو متمم الجعل؟
واما توهم كفاية العلم بتوجه التكليف الفعلي إليه فيما بعد وابتلائه بغرض المولى
بعد حصول الشرط في حكم العقل بلزوم تحصيل المقدمات من الحين واستحقاقه للعقوبة
على تفويته بترك تحصيل مقدماته الوجودية من الحين، من جهة انتهاء امتناعه في ظرفه إلى
اختياره، كما يشهد عليه ضرورة الوجدان فيمن يعلم ابتلائه بعد ساعة بعطش شديد في بر
لا يكون فيه ماء مع كونه قادرا في الحال على تحصيل الماء وحفظه لوقت احتياجه إلى
الشرب لرفع عطشه، فإنه لا شبهة في أنه يجب عليه تحصيل الماء في وقته وحفظه إلى وقت
احتياجه بحيث لو لم يحصل الماء ولم يحفظه فأصابه من العطش ما أصاب يكون مذموما
عند العقلاء على ما اصابه من العطش بواسطة عدم تحفظه وعدم تحصيله الماء عند تمكنه
منه، ومن المعلوم انه لا يكون له وجه الا وجوبه عليه من الأول
فمدفوع أيضا بأنه ان أريد بذلك كونه مكلفا من الحين بحفظ الواجب فيما بعد من قبل
مقدماته الوجودية الاختيارية فهو صحيح، ولكنه يرجع إلى ما ذكرناه من فعلية الوجوب
والتكليف في المعلق والمشروط قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج، من جهة انه
لا نعنى من فعلية الوجوب والتكليف فيهما قبل حصول الشرط الا هذا المقدار وعليه أيضا
يكون وجوب المقدمات الوجودية وجوبا غيريا ترشحيا لا نفسيا تهيئيا، وان أريد انه لا
يكون في الحال تكليف فعلى بالنسبة إلى ذيها ولو بهذا المقدار وان فعلية التكليف بقول
مطلق انما يكون فيما بعد وفي ظرف حصول المنوط به والشرط في الخارج الا ان مجرد العلم
بحصول الشرط في الخارج وثبوت التكليف فيما بعد موجب لوجوب تحصيل مقدماته
الوجودية من الحين واستحقاق العقوبة على تفويت الواجب في ظرفه بترك تحصيل
مقدماته الوجودية بلحاظ انتهاء فوت الواجب في ظرفه إلى اختياره، فهو ممنوع جدا،
حيث نقول بان ما هو المصحح للعقوبة على تفويت الواجب انما هو البيان في ظرف التكليف
لا مطلقه ولو في القبل، كما هو الشأن أيضا في طرف العكس حيث كان اللابيان
الموضوع لقبح العقوبة هو خصوص اللابيان في ظرف التكليف لا مطلق عدم البيان ولو
320

مع انقلابه بالنقيض في ظرف التكليف، ومن ذلك لو علم في الحال بأنه يتوجه إليه
تكليف من المولى في الغد لابتلائه بغرض كذا وكذا ولكنه غفل في الغد عن التكليف
فلم يأت بالمأمور به أو انقلب علمه شكا فأجرى البراءة عن التكليف لا يكاد يستحق
العقوبة عليه، كما أنه في فرض العكس لو قطع بعدم التكليف في الغد ثم انقلب قطعه في
الغد إلى القطع بالوجود يستحق العقوبة عليه لو خالفه. وحينئذ نقول بأنه إذا كان المدار
في البيان وكذا اللابيان على البيان في ظرف التكليف فلا جرم بعد فرض عدم التكليف
الفعلي بذيها قبل حصول الشرط والمنوط به خارجا لا يكاد يجدي مجرد العلم بحصول
المنوط به والشرط وفعلية التكليف والغرض بذيها بعد ذلك في وجوب تحصيل مقدماته
الوجودية واستحقاق العقوبة على تفويت الواجب بوجه أصلا الا باثبات كونه مكلفا من
الحين بحفظ الواجب البعدي من قبل مقدماته الاختيارية ومعه يرجع لا محالة إلى ما
ذكرناه، كما هو واضح.
ثم إن هذا كله في غير المعرفة من المقدمات، واما هي فقد يقال كما عن بعض
الاعلام بأنها تكون واجبة بالوجوب الطريقي لتنجيز الواقع عند الإصابة كما في سائر
الطرق بحيث كان العقاب على نفس المخالفة لا على ترك التعلم، ولكن التحقيق خلافه
إذ نقول بان التعلم لا يخلوا امره اما ان يكون تركه يؤدى إلى الغفلة عن أصل التكليف في
ظرفه، واما ان لا يكون كذلك بل كان بعد يحتمل وجود التكليف، وعلى الثاني اما ان
يتمكن من الاحتياط في ظرفه بالجمع بين المحتملات واما ان لا يتمكن من الاحتياط
كما لو دار الامر بين الوجوب والحرمة في فعل شخصي. فعلى الأول يكون حال التعلم
حال المقدمات المعدة التي يلزم من عدم تحصيلها عدم القدرة على الواجب في ظرفه لأنه
بعد تأدية تركه إلى الغفلة عن التكليف يكون غير قادر على الاتيان بالواجب ومعه يكون
حكمه حكم سائر المقدمات المفوتة، طابق النعل بالنعل. واما على الثاني فلا وجه لوجوبه
رأسا مع فرض تمكنه من الاحتياط البناء على صحة عمل المحتاط التارك لطريقي
الاجتهاد والتقليد الا إذا فرض كونه غير معذور في هذا الجهل تكليفا، وعليه يكون
وجوبه ارشاديا محضا لا طريقيا. واما على الثالث فكذلك أيضا حيث إنه لا يكون وجوبه
الا ارشاديا محضا لأجل الفرار عن تبعة مخالفة التكليف الواقعي كما في موارد العلم
الاجمالي بالتكليف في الجمع بين المحتملات. فعلى كل تقدير حينئذ لا معنى لدعوى
321

وجوب التعلم بالوجوب الطريقي كما في الطرق بل هو مما يدور امره بين كونه واجبا
بملاك المقدمات المعدة التي يترتب على تركها عدم القدرة على الواجب في ظرفه وبين
كونه بملاك الارشاد العقلي لأجل الفرار عن تبعة مخالفة التكليف كما في الجمع بين
المحتملات في موارد العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة كما هو واضح.
وكيف كان فعلى ما اخترناه في المشروط والمعلق من فعلية الوجوب فيهما قبل المنوط
به والقيد في الخارج ووجوب المقدمات الوجودية قد يتوجه الاشكال بالنسبة إلى بعض
المقدمات الوجودية للواجب كالوضوء والغسل قبل دخول وقت الصلاة حيث يقال بان
لازم القول بفعلية الوجوب والتكليف في المشروطات والمعلقات قبل حصول قيودها في
الخارج هو لزوم اتصاف مثل هذه المقدمات بالوجوب الغيري إما على التخيير فيما لو علم
بتمكنه من تحصيل الوضوء والغسل بعد دخول الوقت وإما على التعيين إذا يعلم بعدم
تمكنه من تحصيلهما في ظرف الواجب لولا تحصيلهما في الحال، ولازمه هو الالتزام
بوجوب تحصيل الوضوء أو الغسل قبل دخول وقت الصلاة بل ولزوم ابقائهما إلى ما بعد
دخول الوقت إذا فرض كونه متطهرا قبل دخول الوقت، مع أنه لا يكون كذلك من جهة
قيام الاجماع منهم على عدم وجوب تحصيل الطهارة الحدثية قبل الوقت حتى مع العلم بعدم
تمكنه من تحصيلها في الوقت وعدم وجوب ابقائها أيضا إلى ما بعد دخول الوقت. ولكن
الجواب عن ذلك انما هو بدعوى ان أصل وجوب الطهور كالصلاة كان منوطا بدخول
الوقت بمقتضى قوله عليه السلام: (إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور) فكان عدم
وجوب التحصيل الوضوء والغسل قبل دخول الوقت من جهة التعليق المزبور الظاهر في أن
ما فيه ملاك المقدمية للصلاة هو الطهور بعد الوقت فلا اشكال حينئذ يرد على ما ذكرنا.
واما ما قد يقال: من اقتضاء ذلك حينئذ لعدم جواز الاكتفاء بالطهارة الحاصلة قبل
الوقت لأجل غاية أخرى من الغايات إذا فرض بقائها من باب الاتفاق إلى ما بعد دخول
الوقت مع أنه ليس كذلك قطعا، فمدفوع بان ما هو المقدمة انما هو الطهارة بعد الوقت ولو
بوجودها البقائي فلا يعتبر فيها كونها حادثة أيضا بعد الوقت وحينئذ فإذا فرض انه كان
متطهرا قبل الوقت فبقيت من باب الاتفاق إلى أن دخل الوقت يجوز الاكتفاء بها في
الدخول في الصلاة، وبعبارة أخرى ما هو المقدمة هو الطهارة بعد الوقت بما هي جامعة
بين وجودها الحدوثي أو وجودها البقائي فيه من باب الاتفاق، ومن ذلك لو فرض بقائها
322

إلى حين دخول الوقت يجب عليه تخييرا أو تعيينا في فرض الانحصار ابقائها وحفظها إلى أن
يأتي بالصلاة معها وحينئذ فلا اشكال يرد في البين من هذه الجهة أيضا.
هذا بالنسبة إلى نفس الوضوء والغسل ولقد عرفت ان عدم وجوبها قبل الوقت انما
هو على قواعد التعليق المستفاد من ظاهر قوله عليه السلام: (إذا دخل الوقت وجب
الصلاة والطهور) ومن قوله سبحانه: (فإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) الظاهر في إناطة
الوجوب في الطهور كأصل الصلاة بدخول الوقت. واما سائر مقدماته كتحصيل الماء و
حفظه ونحوهما فلابد من تحصيلها تخييرا أو تعيينا إذا فرض العلم بعدم التمكن منه في
الوقت لولا تحصيلها في الحال، وذلك أيضا على القواعد التي ذكرناها في كلية المقدمات
الوجودية، وعليه أيضا يكون ما ورد على وجوب حفظ الماء قبل الوقت من النصوص على
طبق القواعد، لا انه كان ذلك حكما تعبديا من الشارع، كما هو واضح.
الامر الثاني: لو شك بالشك البدوي في قيديه شئ للوجوب أو الواجب
بنحو التعليق أو التنجيز، فان كان القيد حاصلا بالفعل فلا اشكال حيث لا ثمرة في
البين يترتب عليه، وأما إذا كان غير حاصل بالفعل فمقتضى الاطلاق في جميع الصور هو
ثبوت الوجوب، وفى الثالثة عدم وجوب تحصيل المشكوك القيدية. ومع عدم الاطلاق
فالبرائة نتيجتها التقييد في الأول ونتيجتها الاطلاق في الأخيرين. هذا إذا كان الشك في
أصل تقيد الوجوب أو الواجب.
وأما إذا علم بأصل التقييد ولكنه دار الامر بين كونه قيدا للوجوب أو الواجب،
فأصالة الاطلاق تجرى في كل من الهيئة والمادة وبعد التساقط يكون المرجع هو الأصل
العملي. ولا ينظر حينئذ في ترجيح أحد الاطلاقين على الاخر إلى حيث الأقوائية كما
توهم، لان ذلك انما يكون فيما لو كان التعارض بين الاطلاقين في نفسهما لا في مثال المقام
الذي كان التعارض بينهما لأجل العلم الاجمالي بعروض التقييد على أحدهما، إذ حينئذ لا
يكون مجرد اقوائية أحدهما موجبا لارجاع القيد إلى الآخر فتأمل. هذا إذا كان التقييد في
دليل منفصل، واما لو كان ذلك في دليل متصل فالامر أظهر، إذ حينئذ باتصال الكلام
بذلك وصلاحيته للعروض على كل واحد منهما لا ينعقد الظهور الاطلاقي لواحد منهما،
فلا بد حينئذ من الرجوع إلى الأصل العملي، ومقتضاه هو البراءة عن وجوب تحصيل القيد
فيما إذا كان الدوران بين المشروط وبين المطلق المعلق أو المنجز. وأما إذا كان الدوران
323

بين المشروط وبين المعلق فلا ثمرة بالنسبة إلى القيد لأنه غير واجب التحصيل على كل
تقدير. وكذلك الامر بالنسبة إلى نفس الواجب وذلك اما في فرض حصول القيد في
الخارج فواضح من جهة وجوب الاتيان بالمأمور به والواجب حينئذ على كل تقدير، واما
في فرض عدم حصوله فللعلم بعد الفائدة. في الاتيان حينئذ إما لعدم وجوبه رأسا لو
فرض رجوعه إلى الهيئة والوجوب واقعا وإما من جهة انتفاء قيده على فرض رجوعه إلى
المادة والواجب، فعلى كل تقدير يقطع بعدم الفائدة في ايجاده حينئذ، كما هو واضح. و
لعله إلى ذلك أيضا نظرا القائل بالعلم بتقييد المادة على كل تقدير من جهة استلزام تقييد
الهيئة أيضا لبطلان محل الاطلاق في المادة، لعدم انفكاكها حينئذ عن وجود قيد الهيئة
فتدبر.
ومن التقسيمات تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري
فالغيري هو الذي يكون الغرض من ايجابه التوصل به إلى وجود واجب آخر، و
النفسي ما لا يكون كذلك كالمعرفة بالله سبحانه والصلاة والصوم والحج ونحوها من
العباديات والتوصليات.
ثم إن وجود هذين القسمين في الواجبات وان كان وجدانيا غير قابل للانكار و
لكن الظاهر هو كون الغرض من ذلك دفع ما يتوهم وروده من الاشكال من لزوم ترتب
مثوبات وعقوبات كذلك على فعل واجب واحد له مقدمات عديدة نظرا إلى تخيل ان
المثوبة والعقوبة تابعتان لفعل مطلق الواجب وتركه، إذ يستشكل حينئذ بأنه على
الملازمة من وجوب المقدمة أيضا يلزم ترتب مثوبات متعددة على فعل واجب واحد له
مقدمات متعددة وعقوبات كذلك على تركه بما له من المقدمات، لأنه ترك واجبات
متعددة، فمن اجل ذلك صاروا بصدد هذا التقسيم فقسموا الواجب إلى الغيري والنفسي
للتنبيه على أنه ليس مطلق الواجب مما يترتب عليه فعلا وتركا استحقاق المثوبة و
العقوبة حتى يتوجه الاشكال المزبور وان الذي يترتب عليه ذلك انما هو خصوص
الواجب النفسي واما الواجب الغيري فحيث انه كان وجوبه لأجل التوصل به إلى
وجود واجب آخر فلا يكاد يترتب عليه فعلا أو تركا استحقاق المثوبة والعقوبة بوجه
324

أصلا وحينئذ فلا ينافي القول بوجوب المقدمة شرعا وحدة المثوبة والعقوبة على فعل
الواجب وتركه كي يكون مجال للاشكال المزبور، هذا.
أقول: ولكن لا يخفى عليك ما في هذا الجواب والاشكال المزبور، حيث إنه مبني
على كون مدار استحقاق المثوبة والعقوبة على عنوان الإطاعة والمعصية بموافقة الامر
النفسي ومخالفته، والا فبناء على كونهما من تبعات عنوان التسليم للمولى وعنوان
الطغيان عليه بما انه ابراز للجرئة عليه والتمرد عن امره ونهيه الجامعين بين الانقياد و
الإطاعة والتجري والعصيان كما هو التحقيق على ما حققناه في مبحث التجري فلا
مجال لهذا الجواب ولا موقع أيضا للاشكال المزبور، نظرا إلى امكان الحكم حينئذ بترتب
المثوبة والعقوبة على موافقة الامر الغيري ومخالفته أيضا مع الالتزام بعدم تعدد المثوبة و
العقوبة عند تعدد المقدمات بلحاظ كونهما تابعتين في الوحدة والتعدد لتعدد التسليم و
الطغيان ووحدتيهما التابعين لوحدة الغرض وتعدده، وذلك انما هو من جهة وضوح انه كما
يتحقق عنوان التسليم والطغيان بموافقة الأوامر النفسية ومخالفتها كذلك يتحقق أيضا
بموافقة الأوامر الغيرية ومخالفتها، ومن ذلك بمجرد كونه في صراط الإطاعة وشروعه في
مقدمات المأمور به ترى انه يمدحونه العقلاء ويحكمون باستحقاقه الأجر والثواب من دون
انتظار منهم في المدح وحكمهم باستحقاق الأجر والثواب إلى وقت اتيانه بما هو المطلوب
النفسي للمولى كما لا يخفى، ومعلوم انه لا يكون له وجه الا ما ذكرنا من تحقق عنوان
التسليم بموافقة الامر الغيري أيضا كتحققه بموافقة الامر النفسي، والا لكان اللازم عدم
الحكم باستحقاق الأجر والثواب فعلا الا بعد اتيانه بما هو المطلوب النفسي. وهكذا
الامر في طرف الطغيان فإنه أيضا مما يتحقق بمجرد شروعه في مقدمات الحرام أو تركه لما
هو مقدمة الواجب حيث إنه يصدق عليه بأنه ممن أبرز الجرئة على المولى وصار بصدد
التمرد عن امره ونهيه، ومن اجل ذلك يصير موردا للتوبيخ والذم من العقلاء بلا حالة
منتظرة أيضا في ذلك إلى وقت فوت الواجب النفسي، كما فيمن رمى سهما لقتل مؤمن
مع كون السهم يبلغ إليه بعد ساعة فإنه من الحين يصير هذا الرمي موردا للذم عند
العقلاء، كما هو واضح.
وعلى ذلك نقول: بأنه إذا كان مدار المئوية والعقوبة على عنوان التسليم والطغيان
لا على عنوان الإطاعة والمعصية بموافقة الامر النفسي ومخالفته وكان التسليم أيضا
325

يتحقق بموافقة الامر الغيري ومخالفته كتحققهما بموافقة الامر النفسي ومخالفته، فلا قصور
في الحكم بترتب المثوبة والعقوبة على الواجبات الغيرية التوصلية أيضا بل وترتب
القرب عليها أيضا فيما لو كان الاتيان بها بداعي أمرها، ومن ذلك قلنا سابقا في مبحث
قصد القربة باشتراك الواجبات التوصلية مع التعبدية من جهة المقربية نظرا إلى عدم
انفكاك الامر بها عن القربة وعدم اتصاف المأتى به فيها بعنوان المأمور به الا باتيانها عن
دعوة أمرها، وان تمام الفرق بين التوصلي والتعبدي انما كان من جهة مدخلية حيث
القرب في سقوط الامر وسقوط الغرض في العبادات وعدم مدخلية في التوصليات، من جهة
سقوط أمرها وحصول الغرض فيها بمحض حصول العمل وتحققه كيفما اتفق ولولا عن
داع قربى، كما هو واضح.
واما اشكال لزوم تعدد المثوبة والعقوبة في فعل واجب واحد له مقدمات وتركه
بترك ما له من المقدمات، فغير وارد، من جهة ما عرفت من أن وحدة المثوبة والعقوبة
تابعة وحدة التسليم والطغيان وتعددهما التابعين لوحدة الغرض وتعدده، فإذا لا يكون
الغرض حينئذ الا واحدا لا يكون له الا تسليم واحد وطغيان كذلك، ومعه لا يكاد
يترتب عليه الا مثوبة واحدة وعقوبة كذلك وان كان له مقدمات عديدة لا تحصى، و
على ذلك فالتسليم وان كان يتحقق بمجرد شروع العبد في المقدمة ويستحق عليه المثوبة، و
لكنه لما كان الغرض واحدا فلا محالة يكون التسليم أيضا واحدا ويمتد هذا التسليم الواحد
إلى زمان الاتيان بذيها الذي هو المطلوب النفسي، كما أنه كذلك أيضا في طرف
الطغيان حيث إنه يتحقق بمجرد الشروع في المقدمة ويمتد إلى زمان تحقق الحرام في
الخارج، لا انه يتعدد التسليم والطغيان بتعدد المقدمات حتى يلزمه تعدد المثوبة والعقوبة
أيضا كما هو واضح، كوضوح ان استحقاقه للمثوبة والعقوبة على التسليم والطغيان
بشروعه في مقدمات الواجب أو الحرام أيضا انما يكون فيما إذا استمر على ذلك ولم يحصل
له البداء بعد ذلك في العصيان أو الإطاعة، والا فلو حصل له البداء بعد ذلك وحصل
منه الطغيان بترك الواجب يكون طغيانه ذلك بعكس التوبة من الحين رافعا لما استحقه
على تسليمه السابق بحيث كأنه لم يفعل شيئا ولم يتحقق منه التسليم أصلا مع صدور هذا
الطغيان منه، كما أنه في صورة العكس يكون الامر بالعكس. فإذا كان بصدد ترك
الواجب أو فعل الحرام وأتى ببعض المقدمات ثم ندم واتى بالواجب أو ترك الحرام
326

يكون تسليمه ذلك باتيان الواجب وترك الحرام رافعا لما استحقه على طغيانه من الحين
بحيث كأنه لم يتحقق منه الطغيان أبدا، نعم لو كان عدم حصول الواجب والمأمور به
لا من جهة حصول البداء له وطغيانه بل من جهة عدم تمكنه منه خارجا لموت أو مرض
أو غير ذلك مع كونه بصدد الامتثال واتيان المأمور به يدخل ذلك حينئذ في الانقياد
فيستحق المثوبة حينئذ على انقياده، كما أنه في فرض العكس يكون الامر بالعكس
فيندرج في التجري، كما هو واضح.
وعلى كل حال فعلى ما ذكرنا من تبعية المثوبة والعقوبة ودورانهما مدار عنوان
التسليم والانقياد للمولى وتبعيتهما أيضا في الوحدة والتعدد مدار تعدد التسليم و
الطغيان ووحدتهما التابعين لوحدة الغرض وتعدده يظهر لك عدم المجال أيضا لما أفيد في
دفع الاشكال المزبور من تخصيص المثوبة والعقوبة بموافقة الامر النفسي ومخالفته، إذ
نقول بأنه لا وجه حينئذ لهذا التخصيص بعد صدق عنوان التسليم والطغيان على موافقة
الامر الغيري ومخالفته أيضا وان مجرد وحدة المثوبة والعقوبة أيضا على فعل واجب
واحد وتركه غير مقتض للالتزام بكونهما من تبعات خصوص موافقة الامر النفسي و
مخالفته، بل يلتزم حينئذ بترتبهما أيضا على موافقة الامر الغيري ومخالفته لمكان تحقق
عنوان التسليم والانقياد بذلك، ويدفع الاشكال المزبور من جهة وحدة التسليم و
الطغيان ووحدة الغرض بما ذكرناه من البيان ويقال بعدم استحقاقه على فعل واجب له
مقدمات الا مثوبة واحدة ولا على تركه بترك ما له من المقدمات ما لا تحصى الا عقوبة
واحدة، كما لا يخفى. وعلى ذلك فلو فرض انه يعطى على فعل كل مقدمة ثوابا مستقلا فلابد
وأن يكون ذلك من باب التفضل لا من باب الاستحقاق، كما أنه من ذلك أيضا ما ورد في
فضل زيارة مولانا أبي عبد الله الحسين روحي وارواح العالمين فداه بأنه لكل قدم ثواب
حج وعمرة، وان الامر بقصر الاقدام أيضا انما هو من جهة ان تكثر المقدمات فيزداد
بذلك مقام التفضل عليه باعطائه ذلك الأجر والثواب العظيم الذي وعد الله زائريه، نسأل
الله سبحانه ان يكتبنا من زوار قبره الشريف ويحشرنا معه ولا يسلب عنا مجاورة قبر أبيه
عليه السلام.
وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا من قابلية الأوامر الغيرية لترتب المثوبة والعقوبة
وقابليتها أيضا للمقربية باتيان متعلقها بداعي أمرها، يظهر لك اندفاع الاشكال المعروف
327

على الطهارات الثلاث التي ثبت عباديتها من بين المقدمات، من تقريب انه كيف المجال
لمقربيتها ولترتب المثوبة عليها مع أن الامر الغيري بما هو امر غيري من جهة توصليته لا
إطاعة له ولا قرب في موافقته ولا مثوبة على امتثاله، إذ نقول بان ذلك كله مبني على
تخصيص المثوبة والعقوبة والقرب والبعد بموافقة الامر النفسي ومخالفته والا فعلى ما
ذكرنا من المدار في استحقاق المثوبة والعقوبة بكونه على عنوان التسليم للمولى و
بالفارسي (فرمانبردارى از مولى وتن زير بار مولى دادن) فلا جرم يندفع تلك
الاشكالات وذلك: اما اشكال ترتب المثوبة فمن جهة تحقق موضوعه وهو عنوان التسليم
كما أوضحناه، واما اشكال المقربية فكذلك أيضا من جهة تحقق القرب حينئذ باتيانها
بداعي محبوبيتها ومراديتها للمولى ولو بإرادة غيرية.
وعلى ذلك لا يحتاج في التفصي عن الاشكال إلى الجواب عنه تارة بما
أفيد في الكفاية من كشف رجحان نفسي في هذه الطهارات بدعوى ان مقربيتها حينئذ
انما هي لكونها في نفسها أمورا عبادية ومستحبات نفسية لا لكونها مطلوبات غيرية وان
الاكتفاء بأمرها الغيري لمكان أنه لا يدعو الا إلى ما هو عبادة في نفسه، وأخرى بكشف
عنوان بسيط يكون هو المأمور به كما عن الشيخ بدعوى انه ربما لا تكون تلك الحركات و
السكنات محصلة لما هو المقصود منها من العنوان الذي صارت بهذا العنوان مقدمة وموقوفا
عليها، فلابد حينئذ في اتيانها بذلك العنوان من حيلة وهي قصد ذلك الامر المقدمي و
ذلك أيضا لا من جهة اقتضاء الامر الغيري لذلك بل من جهة الإشارة إلى ذلك العنوان
نظرا إلى عدم دعوة هذا الامر الا إلى ما هو الموقوف عليه فالاتيان بالطهارات حينئذ
بقصد أمرها كان من جهة احراز العنوان الذي لأجله صارت تلك الحركات والسكنات
مقدمة وموقوفا عليها، كي يورد عليه بما في الكفاية من امكان الإشارة الاجمالية حينئذ إلى
ذلك العنوان البسيط بوجه آخر ولو بقصد أمرها وصفا لا غاية وداعيا مع كون الداعي
إليها شيئا آخر من شهوة أو غيرها، وعدم وفائه أيضا بدفع اشكال ترتب المثوبة بلحاظ
ان قصد الامر لأجل احراز عنوان المقدمة لا لكون المأمور به مطلوبا على جهة التعبد به غير
موجب لاستحقاق المثوبة عليه من جهة، وثالثة بغير ذلك مما هو مذكور في التقريرات و
غيره.
وبالجملة فهذه الأجوبة كلها كما ترى مبنية على عدم قابلية الأوامر الغيرية من جهة
328

توصليتها للمقربية ولاستحقاق المثوبة على موافقتها، والا فعلى ما ذكرنا من قابليتها
كالأوامر النفسية لكلا الامرين لا يتوجه أصلا هذا الاشكال حتى يحتاج إلى تلك
الأجوبة.
نعم قد يتوجه هنا اشكال آخر على الطهارات ولو مع البناء على قابلية الامر الغيري
كالنفسي للمقربية ولاستحقاق المثوبة على موافقته وذلك انما هو بتقريب ان الامر
الغيري انما يتعلق بالمقدمة فارغا عن كونها مقدمة وموقوفا عليها، والمقدمة في مثل الوضوء
والغسل بعد أن كانت عبادة لابد من عباديتها في رتبة سابقة على الامر حتى يتعلق بها
الامر الغيري، وحينئذ فإذا كانت مقدميتها بما هي عبادة متوقفة خارجا على هذا الامر
الغيري يلزم الدور وهو محال. ولكن يدفع هذا الاشكال أيضا بما دفعنا به في مبحث
قصد القربة عن كلية العبادات بالالتزام بأمرين يتعلق هذا الامر الغيري بذات الوضوء
وذات الغسل باعتبار كونها مما لها الدخل في تحقق ذيها ومما يتوقف عليها وجود الواجب
ولو بنحو الضمنية لأنها أيضا مما يلزم من عدمها العدم مع الكشف أيضا عن تعلق امر
غيري آخر بوصفها وهو اتيانها بداعي أمرها المتعلق بها، فإذا اتى المكلف حينئذ بالوضوء
في الخارج بداعي امره الغيري يتحقق الوضوء القربى الذي جعل مقدمة للصلاة. وعليه
أيضا لا يحتاج في الجواب عنه إلى كشف رجحان نفسي في نفس هذه الطهارات كما
صنعه في الكفاية كما لا يخفى. خصوصا مع ما يرد عليه على مسلكه من عدم اجداء تعدد
الرتبة لمحذور اجتماع الحكمين المتماثلين أحدهما الرجحان النفسي القائم بذات المقدمة في
رتبة سابقة على الامر الغيري وثانيهما رجحانه الثابت في رتبة متأخرة عن الامر الغيري
فتأمل.
وكيف كان فقد يشكل على التقسيم المزبور بلزوم خروج أكثر الواجبات النفسية في
الشرعيات بل العرفيات أيضا نظرا إلى غيريتها بحيث لب الإرادة من جهة انتهائها
بالآخرة إلى امر واحد هو غرض الاغراض الذي هو في الشرعيات تكميل العباد وقربهم
إلى المبدء الاعلى وفى العرفيات استراحة النفس، كما يتضح ذلك في امرك بشراء اللحم
المعلوم كونه لأجل الطبخ الذي هو لغرض الاكل الذي هو لرفع الجوع الذي هو لغرض
استراحة النفس، وهكذا سائر الواجبات العرفية حيث إنها من جهة انتهائها بالآخرة إلى
استراحة النفس التي هي غرض الاغراض تكون الإرادة المتعلقة بها إرادة غيرية.
329

وقد تصدى في الكفاية لدفع الاشكال، وقال ما حاصله: ان الفرق بينهما من جهة
الداعي والباعث فإذا كان الداعي والباعث على طلب شئ وارادته المصلحة الكائنة
في نفس العمل فالواجب نفسي وان كان فيه أيضا ملاك المقدمية، واما لو كان
الداعي والباعث على طلبه المصلحة المقدمية فالواجب غيري وان كان فيه أيضا
مصلحة مستقلة فإنه يخرج حينئذ عن كونه نفسيا ويكون واجبا غيريا. ولكنه كما ترى
فإنه لو فرض تصوره في الشرعيات غير جار في الواجبات العرفية المتداولة بين أنفسنا، و
ذلك من جهة وضوح ان الداعي والباعث في جميع الواجبات العرفية هو حيث مقدميتها و
من ذلك ترى انه لو أمرت عبدك باتيان الماء فسألك عن انك لأي غرض أمرت باتيان الماء
تقول بأنه لغرض الشرب ولو سأل عن ذلك أيضا تقول بأنه أريد الشرب لغرض رفع
العطش وهو لغرض استراحة النفس التي هي غرض الاغراض، وحينئذ فإذا كان لب
الإرادة في جميع الواجبات العرفية غيريا يتوجه الاشكال المزبور بأنه كيف الحال لهذا
التقسيم.
وقد أجيب أيضا عن الاشكال بان حقيقة الإرادة التشريعية بعد ما كانت عبارة
عن إرادة الفعل من الغير يكون الواجب النفسي عبارة عما كان مرادا من المكلف لا
لأجل مراد آخر منه، والواجب الغيري ما كان مرادا لأجل مراد آخر منه أيضا، فإذا أراد
شراء اللحم من زيد لغرض الطبخ فان كان طبخه أيضا مرادا منه يكون ذلك واجبا
غيريا وان لم يكن طبخه مرادا منه يكون واجبا نفسيا، وعليه فمثل الصلاة والصوم و
الحج ونحوها مما لم يرد من المكلف مصالحها يكون من الواجب النفسي، فيرتفع حينئذ
الاشكال المزبور، ولكن فيه ان الإرادة التشريعية ليست الا عبارة عن إرادة وجود العمل
بما انه فعل اختياري للمكلف وان إضافة نشو كونه منه انما هو من جهة اقتضاء توجيه
التكليف بالايجاد إليه، وذلك أيضا بلحاظ انه من جهة كونه فعلا الاختياري غير قابل
للتحقق الا من قبله والا فلا يكون المراد بالإرادة التشريعية الا نفس فعل الغير. وعليه
نقول: بأنه إذا لا يكون الامر بشراء اللحم من جهة مطلوبية الشراء نفسا مع قطع النظر عن
الطبخ بل كان ذلك من جهة مقدميته لغرض الطبخ الذي هو لغرض الاكل فلا جرم لا
تكون هذه الإرادة الا غيرية، ومعه يتوجه الاشكال المزبور من لزوم خروج أكثر
الواجبات النفسية كما لا يخفى.
330

وحينئذ فالأولى في الجواب انما هو بجعل التقسيم المزبور بلحاظ مقام التحميل و
مرحلة البعث والا لزام لا بلحاظ لب الإرادة وعليه يكون الواجب الغيري هو الذي امر
به لأجل التوصل به إلى وجود واجب آخر ثبت وجوبه بتحميل مستقل، والواجب
النفسي ما لا يكون كذلك، فيرتفع حينئذ الاشكال المزبور في الواجبات النفسية في مثل
الصوم والصلاة والحج ونحوها في الشرعيات، ومثل شراء اللحم وسقى الماء في
العرفيات، لأنه فيما لما لم يثبت تحميل وايجاب على ما يترتب عليها من الاغراض كان
ايجابها ايجابا نفسيا بحسب مقام التحميل، وان كان غيريا بحسب لب الإرادة على ما
عرفت. ولا منافاة أيضا بين غيرية الشئ ومقدميته بحسب لب الإرادة وبين نفسيته
بحسب مرحلة التحميل والايجاب، إذ يمكن ان يكون الشئ مع كونه غيريا بحسب لب
الإرادة نفسيا بحسب مقام التحميل. ثم انه مما يشهد على ما ذكرنا أيضا من كون التقسيم
بلحاظ مقام التحميل لا بلحاظ لب الإرادة تعريفهم الواجب الغيري بما ذكرنا، بأنه ما
امر به لأجل التوصل إلى وجود واجب آخر لا ما امر به لأجل التوصل به إلى امر آخر ولو
لم يرد تحميل بالنسبة إليه، كما هو واضح.
ومن التقسيمات تقسيمه أيضا إلى النفسي والتهيئي
والمراد من الواجب التهيئي هو ما كان المقصود من ايجابه التوصل به إلى ايجاب شئ آخر. وعمدة
الغرض من هذا التقسيم انما هو الفرار عن شبهة المقدمات المفوتة للواجبات الموقتة قبل وقتها، فإنهم بعد أن
بنوا على عدم فعلية التكليف بالموقت قبل حصول وقته أشكل عليهم وجوب مقدماته الوجودية قبل
حصول الوقت، فمن ذلك التزموا بوجوبها وجوبا تهيئيا فرارا عن محذور وجوب المقدمة قبل
وجوب ذيها، فصاروا في مقام هذا التقسيم، والا فعلى ما ذكرنا من فعلية الوجوب في
الموقتات والمشروطات قبل حصول وقتها وشرائطها لا يحتاج إلى مثل هذا التقسيم، ومن
ذلك أيضا لم يكن لهذا القسم من الواجب عين ولا اثر في كلمات القدماء، وانما حدث
ذلك في زمان المتأخرين من جهة شبهة وجوب المقدمات المفوتة في الموقتات والمشروطات
قبل حصول وقتها وشرائطها. وعلى كل حال نقول: بان هذا التقسيم أيضا كسابقه كان
بلحاظ مقام التحميل والايجاب المنتزع عن مرحلة ابراز الإرادة واظهارها، لا بلحاظ
لب الإرادة والاشتياق، والا فبحسب لب الإرادة لا تخلو إرادة الشئ عن النفسية و
الغيرية، كما لا يخفى.
331

ومن التقسيمات أيضا تقسيمه إلى الأصلي والتبعي
فالأصلي هو ما كان ايجابه مقصودا بخطاب مستقل كالصلاة والوضوء في مثل قوله عليه السلام: (إذا
دخل الوقت وجب الصلاة والطهور) والتبعي ما كان ايجابه لا بخطاب مستقل بل بتبع خطاب
متعلق بأمر آخر. والغرض من هذا التقسيم أيضا انما هو الفرار عما يورد على القول بوجوب
المقدمة بأنه كيف ذلك مع أنه كثيرا ما تكون المقدمة غير ملتفت إليها بل وكثيرا ما يكون
الآمر قاطعا من باب الاتفاق بعدم مقدمية الشئ لمطلوبه، كما نظيره كثيرا في العرفيات
في مثل الامر بشراء اللحم مع الغفلة عن مقدمية المشي إلى السوق لذلك، ومع هذه
الغفلة كيف يمكن دعوى وجوب المقدمة بقول مطلق، فمن ذلك صاروا بصدد هذا التقسيم
لبيان انه لا يلزم في وجوب الشئ غيريا أم نفسيا ان يكون بايجاب أصلي وخطاب
مستقل بل يكفي فيه كونه تبعا لايجاب امر آخر عند ثبوت الملازمة بينهما، كما في
المتلازمين في الحكم، حيث إنه بعد ثبوت الملازمة بين الشيئين في الحكم يكون ايجاب
أحدهما كافيا عن ايجاب الاخر وصيرورته موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال، بلا
احتياجه إلى خطاب على حدة. ففي المقام أيضا نقول: بأنه بعد التلازم بين إرادة الشئ و
إرادة مقدماته يكون نفس ايجاب الشئ قهرا مستتبعا لايجاب جميع ما يتوقف عليه الشئ
من المقدمات بنحو الاجمال، فتكون كل واحدة من المقدمات حينئذ واجبة بعين ايجاب
ذيها وان لم يكن الآمر ملتفتا إليها بنحو التفصيل ولا أوجبها بخطاب أصلي مستقل، و
عليه فيرتفع الاشكال على وجوب المقدمات التي لم تقع بالاستقلال تحت خطاب اصلى مستقل.
ومن ذلك ظهر أيضا ان هذا التقسيم كسابقه انما كان بلحاظ مقام التحميل ومرحلة
الايجاب المنتزع عن مقام ابراز الإرادة لا بلحاظ لب الإرادة ولذلك يجرى القسمان في
الواجب النفسي أيضا من كون ايجابه وطلبه تارة أصليا كالصلاة والصوم والحج
ونحوها، وأخرى تبعيا كما في المتلازمين في الحكم، والا فبحسب لب الإرادة لا مجال
للتبعية والأصلية بهذا المعنى، كما هو واضح.
هل الواجب مطلق المقدمة أم لا
وكيف كان فبعد ان ظهر لك هذه الأمور يبقى الكلام في أن المقدمة بناء على وجوبها
هل هي واجبة على الاطلاق بلا دخل لحيث قصد الايصال إلى ذيها ولا إلى حيث
ايصالها إليه خارجا، أو انها واجبة بشرط قصد التوصل بها إلى ذيها اما بكون القصد
332

المزبور قيدا للوجوب أو قيد للواجب كما هو ظاهر التقريرات اما مطلقا أو في فرض
انحصار المقدمة بالفرد المحرم كما في انقاذ الغريق المتوقف على التصرف في مال الغير و
ارضه فيعتبر فيه قصد التوصل إلى الواجب في وجوبها ووقوعها على صفة الوجوب دون
غيره، أو انها واجبة بشرط الايصال خارجا إلى ذيها كما عليه الفصول وذلك أيضا اما
بكونه أي الايصال قيدا للوجوب أو للواجب، فيه وجوه وأقوال: أقواها في النظر الوجه
الأول وسيظهر وجهه من ابطال التفاصيل المزبورة إن شاء الله تعالى.
فنقول: اما عدم اعتبار حيث قصد التوصل ودخله في اتصافها
بالوجوب فظاهر، بلحاظ ان ملاك الحكم الغيري انما كان ثابتا لذات المقدمة وحيثية
القصد المزبور كانت أجنبية عن ذلك بالمرة، ومن ذلك لو أتى بالمقدمة لا بقصد التوصل
كان اتيانه ذلك محصلا لما هو غرض الآمر بلا كلام، وحينئذ فمع أجنبية القصد المزبور عن
ذلك لا يكاد يترشح الوجوب الغيري أيضا الا على نفس ذات المقدمة وهو واضح، هذا
إذا أريد من دخل قصد التوصل في الواجب دخل التقيد به في موضوع الوجوب، واما ان
أريد به إناطة موضوع الوجوب بكونه في ظرف القصد إلى ذي المقدمة، نظير إناطة التجارة
بكونها عن تراض الملازم ذلك لاعتبار الموضوع في عالم الجعل في رتبة متأخرة عن القيد و
المنوط به ففساده أفحش بلحاظ استلزامه لكون المقدمة التي هي موضوع الوجوب الغيري
في الرتبة المتأخرة عن القصد المزبور التي هي رتبة وجود ذيها، وهو كما ترى من
المستحيل، فان المقدمة لابد من كونها في رتبة سابقة عن وجود ذيها فيستحيل حينئذ
اخذها في رتبة وجود ذيها كما هو واضح، هذا كله، مضافا إلى ما عرفت من أجنبية القصد
المزبور عن ذلك هذا كله فيما لو أريد كونه قيدا وشرطا للواجب، واما لو أريد كونه قيدا
للوجوب فبطلانه أظهر من جهة استلزامه حينئذ لتوجه الايجاب نحو الشئ في ظرف أرادته
للتوصل الملازم لإرادة المقدمة، ومرجعه إلى تعلق الايجاب بالشئ في ظرف وجوده
تكوينا لأنه في ظرف إرادة المقدمة يكون الوجود قهري الحصول والتحقق، وهو كما
ترى من المستحيل، من جهة وضوح أن مثل هذا الظرف ظرف لسقوط الوجوب عنه،
فيستحيل كونه ظرفا لثبوته وهو أيضا واضح.
وحينئذ فعلى كل تقدير لا مجال لاخذ قصد التوصل قيدا وشرطا لا للواجب ولا
للوجوب، خصوصا بعد ملاحظة سائر الواجبات الشرعية والعرفية التي تكون ارادتها
333

بحسب اللب غيرية للتوصل بها إلى وجود ما هو المراد والمطلوب النفسي الذي هو غرض
الاغراض وغاية الغايات، مع بداهة عدم اعتبار قصد التوصل فيها حتى في العباديات
منها وكفاية الاتيان بها بداعي أمرها في وقوعها على صفة الوجوب وفي مقربيتها.
ومن ذلك اندفع ما قيل في تقريب اعتبار القصد المزبور في الواجب في وقوعه على
صفة الوجوب، بأن ذلك لا يكون من جهة تقيد موضوع الوجوب بذلك بل وانما هو من
جهة اقتضاء الغرض الداعي إلى ايجابه، بتقريب ان الغرض من الامر بالمقدمة بعد أن
كان هو التوصل بها إلى ذيها لا مطلوبيتها في ذاتها فالمطلوب الجدي الحقيقي قهرا بحكم
العقل يكون عبارة عن نفس التوصل، وحينئذ فلابد في وقوعها على صفة الوجوب و
صيرورتها مصداقا للواجب بما هو واجب من الاتيان بها عن قصد التوصل بها إلى ذيها، و
الا فمع عدم الاتيان بها كذلك لا يكاد وقوعها على صفة الوجوب ومصداقا له وان كان
يجتزى بها حينئذ وكانت محصلة لغرضه، ففي الحقيقة كان قضية اعتبار القصد المزبور
من جهة قصور الوجوب المتعلق بالمقدمة عن الشمول لها في حال عدم اقترانها بقصد التوصل
لا من جهة تقيد موضوع الوجوب بالقصد المزبور.
وجه الاندفاع يظهر مما عرفت في أكثر الواجبات الشرعية والعرفية التي لا تكون
إراداتها بحسب اللب الا غيرية مع وضوح عدم اعتبار قصد التوصل فيها، لا في وقوعها على صفة
الوجوب ولا في مقربيتها، على أن كون الغرض من المقدمة هو التوصل لا يقتضي اعتبار
قصده فيها في وقوعها على صفة الوجوب، وان حصول القرب باتيانها عن قصد التوصل بها إلى
ذيها غير موجب لانحصار القرب بذلك، بل هو كما يتحقق بذلك يتحقق أيضا باتيانها
بداعي أمرها ومراديتها للمولى، ومن ذلك نقول بان شأن الأوامر الغيرية كلية انما كان
هو التوسعة في مقام التقرب باتيان متعلقه عن دعوته، وعليه فلا مجال أيضا لاثبات
اعتبار قصد التوصل في المقدمة في وقوعها على صفة الوجوب بمثل هذا البيان أيضا كما هو
واضح.
ثم انه من هذا البيان ظهر أيضا حال ما إذا كانت المقدمة منحصرة بالفرد المحرم مع
تقديم جانب الوجوب بمقتضي أهمية مصلحة الوجوب من مفسدة الحرمة كانقاذ الغريق
المتوقف على المشي في الأرض المغصوبة حيث نقول فيه أيضا بان الواجب حينئذ لا
يكون الا ذات المقدمة قصد بها التوصل إلى ذيها أم لم يقصد لعدم دخل حيث قصد
334

التوصل في وقوعها على صفة الوجوب وصيرورتها مصداقا للواجب بما هو واجب، وحينئذ
(فما أفيد) كما عن بعض الاعلام من لزوم قصد التوصل في مثل هذا الفرض مع بناءه
على عدم لزومه في غيره بتقريب أن اذن الشارع حينئذ في الغصب مع كونه مبغوضا ذاتا
من جهة أهمية مصلحة الانقاذ من مفسدة فعل الغصب انما يوجب الاذن في الغصب على
الاطلاق ولولا بدون قصد التوصل إذا لم تكن في البين مزية راجحة في الفرد المشتمل
على الخصوصية بالنسبة إلى الفرد الفاقد لها، والا فلابد من الاقتصار في مقام الضرورة
على خصوص ما فيه المزية الراجحة من جهة ان الضرورة انما تتقدر بقدرها فإذا كانت
الضرورة تدفع بما فيه تلك المزية الخاصة لا مجال لاختيار الفرد الآخر الذي لا يكون فيه
تلك المزية، وحينئذ ففي المقام الغصب المقصود به التوصل إلى الانقاذ والغصب غير
المقصود به التوصل إليه وان كانا متساويين من جهة ملاك المقدمية للانقاذ الواجب، و
لكن القسم الأول لاشتماله على الخصوصية لما كان فيه مزية زائدة على القسم الثاني
فقهرا بحكم العقل يكون هو المتعين في مقام دفع الضرورة ويكون غيره على حرمته
(منظور فيه) إذ نقول بان ذلك لو تم فإنما هو في مثل الكلي المتواطئ الذي يشتمل كل فرد
منه على حصة من الطبيعي غير الحصة المأخوذة في الفرد الآخر كما قيل بان الطبيعي مع
الافراد كالآباء مع الأولاد في أنه مع كل فرد أب من الطبيعي غير الأب الذي يكون مع
الفرد الآخر إذ حينئذ بانضمام الخصوصيات يتعدد الحصص والافراد حقيقة ومع
تعددها يتوجه الاشكال بان أهمية مصلحة الانقاذ لا تقتضي الا مطلوبية الجامع بين
الفردين والحصتين وهو انما يقتضي تخيير المكلف بين الفردين إذا لم تكن هناك لاحد
الفردين باعتبار الخصوصية المأخوذة فيه مزية راجحة على الفرد الاخر والا يتعين
خصوص ما فيه المزية الراجحة، لا في مثل المقام الذي هو من قبيل التشكيكيات إذ في
مثله لا يكاد اقتضاء الخصوصية لتغير في الذات بحيث تباين الذات في حال عدم وجدانها
للخصوصية فتكون هناك حصتان وفردان أحدهما واجد للخصوصية والآخر فاقد لها كما
في افراد المتواطئ بل الذات حينئذ حال وجدانها للخصوصية بعينها هي تلك الذات حال
فقدانها لها وانما كان الاختلاف ممحضا في الوجدان والفقدان
وعلى ذلك نقول بأنه إذا اقتضى أهمية الانقاذ في المثال مطلوبية شخص هذه الذات
المحفوظة بين الحالتين وهو الغصب ومغلوبية مفسدته فلا جرم بعد هذه المغلوبية لا يفرق
335

بين حال وجدانها لخصوصية قصد التوصل وبين حال فقدانها لها، ومعه فلا يتعين عليه قصد
التوصل بها إلى الواجب، بل كان له الخيار حينئذ بين الاتيان بها مقرونة بقصد التوصل و
بين الاتيان بها غير مقرونة بذلك كما هو واضح، على أنه مع الاغماض عن ذلك وتسليم
كون المقام من قبيل الكلي والجامع المتواطي لامن قبيل الجامع التشكيكي نقول بأنه انما
يتعين ويجب عليه قصد التوصل إذا كان تلك المزية القائمة بالخصوصية في نفسها بنحو من
الاهتمام بحيث تمنع عن النقيض وتمنع عن تأثير المفسدة في المبغوضية إذ حينئذ يتعين
عليه اختيار الفرد الواجد للخصوصية بحكم العقل جمعا بين الغرض القائم بالجامع وبين
الغرض القائم بالخصوصية وإلا فإذا لم تكن المزية بالغة إلى مرتبة المنع عن النقيض وعن
تأثير المفسدة في المبغوضية فلا جرم كان مقتضى أهمية مصلحة الانقاذ وتأثيرها في
مطلوبية الجامع بين الفردين هو التخيير بينهما، نعم غاية ما هناك حينئذ هو استحباب
اختيار الفرد الواجد للخصوصية لا انه يتعين عليه ذلك.
ومن هذا البيان ظهر بطلان مقايسة المقام بصورة وجود فرد مباح وعدم انحصار
المقدمة بالحرام في لزوم اختيار الفرد المباح، إذ نقول بان لزوم اختيار الفرد المباح هناك
انما كان من جهة اقتضاء تلك المفسدة غير المزاحمة القائمة بالخصوصية فإنها من جهة خلوها
عن المزاحم لما كانت مؤثرة في المبغوضية الفعلية في الخصوصية كان العقل يحكم بمقتضي
الجمع بين الغرضين بتعين خصوص الفرد المباح وتطبيق الجامع عليه، وهذا بخلاف
المقام الذي لا يوجد فيه فرد مباح، إذ فيه بعد لا بدية الاتيان بأحد الفردين بمقتضي أهمية
الانقاذ فقهرا يكون نتيجة الامر بالجامع فيهما بعد عدم بلوغ رجحان الخصوصية إلى مرتبة
المنع عن النقيض هو التخيير بينهما، كما هو واضح.
كما أنه من ذلك البيان ظهر أيضا عدم صحة المقايسة بمسألة المتوسط في الأرض
المغصوبة التي لها طريقان للخروج عنها أحدهما أقرب من الآخر من حيث تعين اختيار
الأقرب منهما بحكم العقل، إذ نقول بان حكم العقل هناك بلزوم اختيار سلوك الأقرب
منهما في مقام الخروج انما هو من جهة استلزام غيره لزيادة التصرف في مال الغير التي هي
محرمة شرعا فلا يرتبط حينئذ بالمقام الذي لا يكون الامر فيه كذلك كما لا يخفى.
فلا محيص حينئذ ولو على البناء بكون المقام من قبيل الجامع المتواطي من المصير إلى
التخيير بين الفردين وعدم تعين الفرد الواجد للخصوصية فيسقط القول باعتبار قصد
336

التوصل ولزومه على كل تقدير، هذا كله بالنسبة إلى قصد التوصل.
واما نفس الايصال الخارجي فعدم اعتباره أيضا واضح لو أريد دخله بنحو القيدية
للوجوب أو الواجب كما هو ظاهر الفصول، وذلك اما عدم اعتباره ودخله في الوجوب
فظاهر من جهة ان حيثية الايصال والترتب نظير عنوان الموضوعية انما كانت منتزعة عن
رتبة متأخرة عن وجود ذي المقدمة، وحينئذ فإناطة الوجوب المتعلق بها بالوصف المزبور
تكون ملازمة لإناطته بوجود موضوعه، وهو من المستحيل، من جهة كونه حينئذ من
تحصيل الحاصل، من دون فرق في ذلك بين ان نقول بمقالة المشهور في الواجب المشروط أو
بما ذكرنا بجعل المنوط به هو الشئ بوجوده العلمي اللحاظي طريقا إلى الخارج، فإنه بعد ما
لابد في مقام الايجاب والإناطة من لحاظه في ظرف لحاظ قيده فقهرا في هذا الظرف أي
في ظرف القيد يرى كون الوجود متحققا إذ يرى كونه ظرفا لوجود المقدمة الذي هو ظرف
سقوط الامر عنها، ومعه يستحيل كونه ظرفا لثبوت الامر بها كي أمكن البعث
نحوها بالايجاد، كما هو واضح، هذا كله بناء على احتمال كونه قيدا للوجوب
واما بناء على احتمال كونه قيدا للواجب لا للوجوب كما لعله ظاهر الفصول فلا
يخلو اما ان يراد من اعتبار الايصال ودخله كونه على نحو الظرفية للواجب، بجعل موضوع
الوجوب الغيري عبارة عن ذات المقدمة لكن في ظرف الايصال وترتب ذيها عليها الملازم
لاعتبار الذات في عالم معروضيتها للوجوب في رتبة متأخرة عن القيد المزبور نظير قوله تجارة
عن تراض الظاهر في أن موضوع الحكم في جواز التصرف ونحوه هو التجارة الناشئة عن
تراضي الطرفين، واما ان يراد من اعتبار الايصال دخله في موضوع الوجوب بنحو
خروج القيد ودخول التقيد كما في سائر المقيدات، بحيث كان معروض الوجوب و
موضوعه عند التحليل مركبا من أمرين أحدهما ذات الموضوع والاخر حيثية التقيد بقيد
الايصال إلى ذيها، فكان الفرق حينئذ بين ذلك وسابقه انه على الأول يكون معروض
الوجوب الغيري عبارة عن نفس الذات محضة وكان حيث الايصال والترتب المزبور من
جهة اخذه ظرفا مقدمة لنفس الذات بلحاظ انه بدونه لا يكاد يتحقق ما هو موضوع
الحكم أعني الذات الخاصة بخلافه على الوجه الأخير فإنه عليه كان موضوع الوجوب
الغيري عبارة عن الذات مع وصف التقيد فكان حيث الترتب والايصال مقدمة بالنسبة
إلى اجزاء الموضوع وهو التقيد لا بالنسبة إلى تمام الموضوع حتى حيثية الذات أيضا.
337

وعلى أي حال نقول: بأنه كان المراد من اعتبار حيث الايصال ودخله في
الواجب بنحو القيدية اعتباره فيه على الوجه الأول فبطلانه ظاهر من جهة استلزامه لاخذ
موضوع الوجوب الغيري في رتبة متأخرة عن وجود ذيها، وهو كما ترى من المستحيل،
حيث إنه ينافي جدا مقدمية الذات لوجود ذيها، وترتب مثل هذا المحذور عليه انما هو من
جهة اقتضاء الترتب المزبور بنحو الظرفية للذات تقدمه عليها الملازم لتأخر المقدمة رتبة عنه
وعن وجود ذيها أيضا وهذا كما عرفت مناف لمقدمية الذات لوجود ذيها وكونها في رتبة
سابقة عليه كما هو واضح، وان كان المراد من اعتبار الايصال دخله في الواجب على
الوجه الثاني فعليه وان يسلم عن هذا الاشكال بلحاظ عدم اقتضائه حينئذ الا تقدمه على
حيث وصف التقيد لا على نفس الذات، فكانت الذات حينئذ محفوظة في رتبة سابقة
على ذي المقدمة وعلى حيثية وصف الايصال والترتب، الا انه يتوجه عليه كونه مخالفا لما
يقتضيه الوجدان إذ بداهة الوجدان قاض بأنه لا مدخلية لعنوان الايصال والترتب فيما
هو معروض الوجوب الغيري وان ما هو المعروض للوجوب الغيري لا يكون الا ذات
المقدمة لا هي مع التقيد بوصف الايصال إلى ذيها وان حيثية الايصال انما كانت من
الاغراض الداعية إلى ايجابها فكانت من الجهات التعليلية لا من الجهات التقييدية كما لا
يخفى.
ثم انه أورد عليه أيضا بوجوه آخر لم يتعرض لها الأستاذ:
منها استلزامه لمحذور اتصاف ذي المقدمة مع كونه واجبا نفسيا بالوجوب الغيري
ببيان ان اخذ التقيد بالايصال المنتزع عن مرحلة ترتب ذي المقدمة على المقدمة في موضوع
الوجوب يقتضي كونه مشمولا للوجوب الغيري فيجب حينئذ تحصيله كوجوب تحصيل
ذات المقدمة، ولازمه هو صيرورة ذي المقدمة بلحاظ مقدمية التقيد المزبور متصفا
بالوجوب الغيري، فيلزمه اجتماع الوجوبين فيه: أحدهما الوجوب النفسي والاخر
الوجوب الغيري بملاك مقدميته للمقدمة، وهو كما ترى من المستحيل، خصوصا في مثل
المقام الذي يستلزم سراية الوجوب من ذي المقدمة بتوسيط مقدمته إلى نفسه.
ومنها لزوم اتصاف المقدمة بالوجوب بعد وجود ذيها وهو من المحال، من جهة ان
مثل هذا الصقع هو صقع سقوط الامر عن ذيها الملازم لسقوطه عنها أيضا فلا يمكن ان
يكون صقعا لثبوته
338

ومنها استلزامه لمحذور تقدم الشئ على نفسه وتأخره عنه رتبة نظرا إلى ما هو
المفروض من مقدمية المقيد لوجود ذي المقدمة ومقدمية ذي المقدمة لتحقق التقيد المزبور.
ولكن يمكن ان يدفع هذه المحاذير، وذلك: اما المحذور الأول فبدعوى قصور الوجوب
الغيري حينئذ في سرايته وعوده إلى ذي المقدمة بعد سرايته منه إلى المقدمة إذ حينئذ وان
كان ملاك المقدمية متحققا في ذي المقدمة ولكنه بعد قصور الوجوب الغيري وعدم
قابليته لا يكاد اتصاف ذي المقدمة الا بوجوب واحد وهو الوجوب النفسي.
واما المحذور الثاني فدفعه انما هو بدعوى ان معروض الوجوب الغيري، انما كان
المقيد لكن بالنظر التصوري الذي لا يقتضي المفروغية في الوجود الخارجي كما في
القضايا التقييدية في المركبات الناقصة كزيد القائم الذي يحمل عليه الوجود تارة والعدم
أخرى، كقولك زيد القائم موجود أو معدوم، لا بالنظر التصديقي الذي يقتضي مفروغية
موضوعه في الخارج كما في القضايا التصديقية في المركبات التامة كزيد قائم وعمر و
قاعد، والاشكال المزبور انما يتوجه على الوجه الثاني دون الأول فإنه بعد عدم اقتضائه
مفروغية الموضوع في الخارج في لحاظه بشهادة صحة حمل الوجود عليه تارة والعدم أخرى
لا يترتب عليه كون صقعه صقع وجود ذي المقدمة الذي هو صقع سقوط الامر عن المقدمة
حتى يتجه الاشكال المزبور، ومن ذلك أيضا يتضح الفرق بين هذا الفرض وبين فرض
كونه قيدا للوجوب الذي قلنا باستحالته لمثل هذا المحذور فان عدم امكان اخذه قيدا
لأصل الوجوب انما هو من جهة احتياج شرائط الوجوب وقيوده لدخلها في اتصاف
الموضوع بالمصلحة والصلاح إلى لحاظها بالنظر التصديقي الذي يقتضي مفروغية وجودها
في الخارج في مقام البعث والتكليف نظرا إلى أنه لولا لحاظها كذلك لا يرى اتصاف
الموضوع بكونه صلاحا ومصلحة كي يطلبه ويريده، وهذا بخلافه في قيود الواجب التي
لا يكون دخلها الا في وجود المتصف فارغا عن أصل الاتصاف فإنها حينئذ لا تحتاج في
مقام معروضيتها للوجوب الا إلى اللحاظ التصوري
اما الاشكال الثالث فله وجه بل لا محيص عنه لو قيل بمقدمية التقيد أيضا كذات
المقدمة لما هو الواجب والمطلوب النفسي، ولكنه ليس كذلك بل ولا يظن أيضا التزام
القائل بدخل حيث الايصال والترتب في الواجب به، وذلك من جهة وضوح ان تمام
همه من اخذ الايصال قيدا في الواجب انما هو اثبات ان موضوع الوجوب الغيري و
339

معروضه هي الذات الخاصة دون الذات المجردة عن القيد المزبور مع تسليمه لان ما هو
المقدمة وما فيه ملاك الوجوب الغيري عبارة عن ذات المقدمة، لا هي مع وصف التقيد
بالايصال بحيث كان للوصف المزبور دخل في تحقق الواجب كما هو واضح.
وحينئذ فالعمدة في الاشكال عليه هو الذي ذكرنا من مخالفته لمقتضي الوجدان
باعتبار ان ترشح الوجوب الغيري انما يكون على ما فيه ملاك المقدمية والتوقف، وما فيه
الملاك المزبور بعد، لا يكون الا ذات المقدمة لا هي مع وصف التقيد بالايصال فلا جرم
لا يترشح الوجوب أيضا الا على الذات المقدمة كما لا يخفى.
ثم انه قد يقرب القول المزبور أيضا بوجه آخر، وهو ان الغرض من مطلوبية المقدمة و
ايجابها حيثما كان هو التوصل بها إلى وجود ذيها في الخارج فلا جرم يقتضي ذلك تخصيص
الوجوب بخصوص المقدمة الموصلة ولا نعنى من اعتبار الايصال إلى الواجب في المقدمة و
في موضوع الوجوب الغيري الا هذا المعنى من عدم تعدي الوجوب عن المقدمة الموصلة إلى
غيرها، ولكن فيه ما لا يخفى، إذ نقول بان الغرض من الامر بكل مقدمة ليس الا ما
يترتب على وجودها من الملاك وحينئذ فإذا كان دخل كل مقدمة من حيث كونها سادة
لباب من أبواب عدم ذيها في الخارج فلا جرم لا يكاد يكون الغرض من ايجاب كل
مقدمة الا ذلك، وفي مثله يستحيل كونه هو التوصل إلى الوجود وترتب الواجب عليها،
كيف وانه بعد مدخلية الإرادة أيضا في تحقق الواجب يستحيل كون الترتب المزبور من
آثار مجموع المقدمات فضلا عن كل واحدة منها، وحينئذ فإذا لم يكن دخل كل مقدمة
الا كونها سادة لباب من أبواب عدم ذيها ولا كان الغرض من ايجاب كل مقدمة أيضا
الا ما يترتب عليها من الحفظ من جهتها لا ترتب الوجود، فلا محيص بمقتضي البيان
المزبور من الالتزام بان الواجب هو نفس ذات المقدمة لا هي بما انما موصلة نظرا إلى
وضوح ترتب مثل هذا الغرض حينئذ بمحض تحقق المقدمة في الخارج وان لم يتحقق بقية
المقدمات ولم يترتب عليها ذوها في الخارج أصلا كما لا يخفى.
نعم لنا مسلك آخر في تخصيص الوجوب الغيري بخصوص المقدمة الموصلة لكن لا
بمناط تقييد الواجب بالايصال إلى ذيها، كما يقتضيه ظاهر الفصول، بل من جهة قصور
الوجوب الغيري في نفسه عن الشمول للمقدمة الا في حال الايصال إلى ذيها، نظير ما
ذكرنا غير مرة في الأوامر الضمنية المتعلقة بالاجزاء في المركبات الارتباطية في
340

اختصاص شمولها لكل جزء من المركب بحال انضمام بقية الاجزاء أيضا وقصورها
بنفسها لضمنيتها عن الشمول لجزء عند عدم انضمام بقية الاجزاء، وذلك انما هو بتقريب
ان دخل كل مقدمة وان لم يكن الأسد باب عدم ذيها من قبلها وفي ذلك أيضا لا يفرق
بين حال انفكاكها عن بقية المقدمات الملازم لعدم الايصال إلى ذيها وبين حال عدم
انفكاكها عنها، من جهة انه بتحقق كل مقدمة يترتب عليها لا محالة الحفظ من جهة و
سد باب العدم الذي هو ملاك وجوبها الغيري، انضمت إليها بقية المقدمات أم لا، ترتب
عليها وجود ذيها في الخارج أم لم يترتب، الا ان التكليف المتعلق بكل واحد من السدود
المزبورة حيثما كان تكليفا انحلاليا ضمنيا حسب انحلال التكليف بالواجب إلى
تكاليف متعددة متعلقة بالسدود المزبورة وكان من جهة ضمنيته في تعلقه بالسد من
هذا الجهة وتلك الجهة قاصر الشمول لحال عدم تحقق بقية السدود وعدم انحفاظ المطلوب
من الجهة الأخرى على ما هو شأن كلية التكاليف الضمنية في المركبات الارتباطية فلا
جرم نقصها وقصورها ذلك يوجب كون الطلب الغيري المترشح منها إلى المقدمات الموجبة
للسدود المزبورة أيضا طلبا ناقصا غير تام بنحو يقصر في تعلقه بكل مقدمة عن حال
انفرادها عن بقية المقدمات الاخر إذ لا يمكن حينئذ ان يكون هذا الطلب الغيري الناشي
من الطلب الضمني طلبا مستقلا تاما في حد نفسه وقابلا للامتثال على الاطلاق حتى في
ظرف عدم تحقق بقية المقدمات للتالي، مع كون الطلب المترشح منه هذا الطلب الغيري
طلبا ناقصا غير تام في نفسه، وفي ذلك أيضا لا يفرق بين ان نقول بكون المقدمات بأجمعها
تحت تكليف واحد أو تحت تكاليف متعددة بصيرورة كل مقدمة تحت تكليف غيري
مستقل، فإنه على كل تقدير لا يكون المترشح الا تكليفا غير يا ناقصا وذلك: اما على
الأول فظاهر لأنه بعد خروج الإرادة التي هي من المقدمات عن حيز التكليف فقهرا
يكون التكليف المتعلق ببقية المقدمات تكليفا ناقصا غير تام واما على الثاني فكذلك
لكونه مقتضي ضمنية الطلب المتعلق بالسدود المزبورة
وعلى ذلك نقول: بأنه إذا كان التكليف المتعلق بكل مقدمة تبعا للتكليف النفسي
الضمني المترشح منه ناقصا غير تام نفسه بنحو يقصر عن الشمول لحال عدم تحقق
بقية المقدمات فلا جرم يوجب نقصه وقصوره ذلك تخصيص المطلوب أيضا بما لا يكاد
انفكاكه عن بقية المقدمات التي منها الإرادة الملازم ذلك مع الايصال إلى وجود ذيها في
341

الخارج، ومعه يكون الواجب قهرا عبارة عن خصوص ما هو ملازم مع الايصال بنحو لا
يكاد انفكاكه في الخارج عن وجود الواجب لا مطلق وجود المقدمة ولو في حال
الانفكاك عن الايصال وعن ترتب الواجب عليها، وعليه فالواجب بما هو واجب وان لم
يكن مقيدا بقيد الايصال ولكنه لقصور في حكمه عن الشمول لحال انفكاك عن بقية
المقدمات لا يكون مطلقا أيضا بنحو يشمل حال عدم الايصال إلى وجود ذيه فهو أي
الواجب حينئذ عبارة عن ذات المقدمة بما انها توأمة وملازمة مع الايصال وترتب ذيها
عليها، لا بشرط الايصال كما هو مقتضي كلام الفصول ولا لا بشرط الايصال كما هو
مقتضي القول بوجوب المقدمة مطلقا كما لا يخفى.
ومن ذلك البيان ظهر ان مجرد تمامية المقدمة بذاتها فيما هو ملاك الوجوب الغيري و
هو الحفظ من جهة غير مقتض لاتصافها بالوجوب على الاطلاق ولو في حال انفكاكها
عن سائر المقدمات الاخر وعدم ايصالها إلى ذيها، إذ نقول بأنه انما يقتضي ذلك لولا ما
في حكمها من القصور الناشئ من قصور الامر الضمني عن الشمول للسد من جهة ولو مع
عدم تحقق بقية السدود والا فمع مثل هذا القصور في الحكم لا يكاد اتصافها بالوجوب
أيضا الا في ظرف اجتماع بقية المقدمات الاخر.
كما أنه من ذلك ظهر حال الغرض الداعي إلى الامر بالمقدمة أيضا فان الغرض من
الامر بكل مقدمة وان كان هو جهة وفائها بما يخصها من سد باب عدم ذيها من قبلها الا
انه من جهة ضمنيته باعتبار تعلقه بمجموع السدود يكون قاصر الشمول في تعلقه بالسد من
هذه الجهة عن حال عدم تحقق بقية السدود، فمن ذلك لا يكاد اقتضائه لايجاب المقدمة
الا في حال تحقق سائر المقدمات الملازم لتحقق بقية السدود من الجهات الاخر أيضا، و
الا لاقتضى وجوب الاتيان ولو بمقدمة واحدة عنه عدم التمكن من الاتيان بسائر
المقدمات نظرا إلى تمامية تلك المقدمات حينئذ ووفائها بما هو ملاك وجوبها الغيري، مع أنه
ليس كذلك قطعا فتأمل
وعلى ذلك فلا يبقى مجال لا ثبات وجوبها مطلقا كما أفيد في الكفاية من دعوى انه من
المعلوم بداهة سقوط التكليف عن المقدمة بمجرد الاتيان بها من دون انتظار ترتب ذيها
عليها في ذلك بحيث لا يبقى مع الاتيان بها الا طلبه وايجابه بالنسبة إلى ذيها كما لو لم تكن
هذه بمقدمة أو كانت حاصلة من أول الامر، وحينئذ فلو اعتبر في اتصافها بالوجوب ترتب
342

ذيها عليها خارجا لما كاد يسقط عنها التكليف بمجرد الاتيان بها، مع أن سقوط التكليف
عنها حينئذ في الوضوح كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار، كوضوح ان سقوطه
عنها أيضا انما كان من جهة الموافقة لا من جهة ارتفاع الموضوع أو العصيان والمخالفة
فسقوط التكليف عنها حينئذ وعدم الامر بها ثانيا بعد الاتيان بها كاشف قطعي عن
وقوعها على صفة الوجوب وعدم دخل حيث الايصال إلى ذيها في ذلك
إذ نقول: مضافا بالنقض باجزاء المركبات الارتباطية والمشروطات بالشرط المتأخر
المعلوم فيها أيضا عدم وجوب الاتيان ثانيا بالجزء المأتي به من المركب ما دام على
صلاحيته للانضمام ببقية الاجزاء مع معلومية عدم سقوط الامر عنه الا بعد لحوق الجزء
الأخير من المركب بلحاظ توأمية الأوامر الضمنية المتعلقة بالاجزاء ثبوتا وسقوطا ان عدم
وجوب الاتيان بالجزء المأتى به هناك وبالمقدمة في المقام انما هو من جهة سقوط الامر
حينئذ عن المحركية والفاعلية لا من جهة سقوطه بالمرة، فحيث انه لم يكن قصور في طرف
المأتى به أوجب اتيانه سقوط امره عن الفاعلية والمحركية نحو الاتيان ثانيا وثالثا ولكن
الامر والتكليف لقصور فيه قد بقى على فعليته إلى حين لحوق بقية الاجزاء في المركبات و
تحقق بقية المقدمات في المقام، ومن ذلك لو فرض خروج المأتى به عن القابلية بالمرة يجب
الاتيان به ثانيا بنفس التكليف الأول، وليس ذلك الا من جهة بقاء التكليف به بعد
ذلك على فعليته وكون الساقط مع الاتيان هو مرتبة محركيتها لا مرتبة فعليته، ولا تنافي
أيضا بين فعلية الامر والتكليف وعدم فاعليته حيث أمكن التفكيك بينهما ومن ذلك
أيضا فككنا نحن بين التكليف وفاعليته فيما تصورناه من الواجب المشروط، وعليه
فلا مجال للكشف عن وجوب المقدمة على الاطلاق بمحض سقوط الامر بها عن المحركية و
الفاعلية باتيان ذات المقدمة.
بل لا محيص، بمقتضي ما ذكرنا من المصير إلى أن الواجب من المقدمات هو خصوص
ما يلازم خارجا مع الايصال وترتب ذيها في الخارج عليها، فيكون حيثية الايصال على
ذلك حينئذ من قبيل العناوين المشيرة إلى ما هو الواجب بأنه عبارة عن الذات الخاصة
التوأمة مع الايصال بنحو لا يكاد انفكاكها في ظرف التطبيق على الخارج عن وجود ذيها
وكان اخذه في الموضوع أيضا في قولنا: (الواجب هو المقدمة الموصلة) لمحض كونه معرفا
لما هو الواجب لا من جهة كونه قيدا له كما يقتضيه ظاهر كلام الفصول (قدس سره) كما
343

هو واضح.
نعم قد يقال حينئذ بعدم انفكاك هذا القول عن القول باعتبار قصد التوصل نظرا إلى
دعوى احتياج امتثال الامر الغيري حينئذ إلى تطبيق عنوان الواجب على المأتى به و
احتياج التطبيق المزبور إلى قصد التوصل بالمقدمة إلى ذيها أو قصد ذيها، من جهة انه
بدون القصد المزبور لا يكاد تطبيق عنوان الواجب على المأتى به حتى يصح اتيانها بداعي
أمرها، فمن ذلك لا يكاد انفكاك القول بوجوب المقدمة الموصلة عن القول باعتبار قصد
التوصل، ولكنه مدفوع إذ نقول بان المحتاج إليه في مقام تطبيق عنوان الواجب على
المقدمة انما هو العلم بترتب ذيها عليها خارجا فيكفي حينئذ مجرد العلم بتحقق الواجب فيما
بعد في تطبيق الواجب على المأتى به وان لم يكن من قصده التوصل بالمقدمة إلى ذيها ولا
كان أيضا قاصدا ومريدا لذيها حال الاتيان بها بوجه أصلا كما لا يخفى.
بقى الكلام في بيان الثمرة بين القولين
فنقول: قد يقال كما في الفصول: بظهور الثمرة بين القولين في الضد العبادي الذي
يتوقف على تركه فعل الواجب بناء على مقدمية ترك الضد لفعل الضد الواجب كما في
الصلاة بالنسبة إلى الا زالة، فإنه على القول بوجوب مطلق المقدمة تقع العبادة فاسدة لا
محالة من جهة كون فعلها حينئذ نقيضا للترك الواجب وصيرورتها حراما ومبغوضا
بمقتضى النهى عن النقيض، واما على القول بوجوب المقدمة الموصلة فلا تبطل بل تصح
من جهة خروج فعلها حينئذ عن كونه نقيضا للترك الواجب، نظرا إلى أن الواجب بعد
كونه عبارة عن الترك الخاص فنقيضه لا يكون الا رفعه الذي هو ترك الترك الخاص دون
الفعل المطلق، بشهادة امكان ارتفاع كل من الفعل المطلق والترك الموصل بالترك المجرد
غير الموصل كامكان ارتفاع كل من الترك الموصل والترك المجرد بالفعل المطلق، مع
وضوح امتناع ارتفاع النقيضين كاجتماعهما، وحينئذ فإذا لم يكن الفعل المطلق نقيضا
للترك الموصل بل كان مما يقارن ما هو النقيض، من رفع الترك الخاص المجامع معه تارة و
مع الترك المجرد أخرى، فلا جرم لا يحرم أيضا بمقتضي وجوب الترك الموصل، ومعه تقع
صحيحة لا محالة بلحاظ عدم سراية حرمة الشئ إلى ما يلازمه ويقارنه، هذا.
344

وقد أورد عليه بأنه يكفي في فساد العبادة وبطلانها حينئذ مقدمية فعلها لترك الضد
الواجب، فان مقتضى مبغوضية الترك المزبور حينئذ انما هو مبغوضية ما هو عليه، فإذا
فرض ان العبادة كانت مقدمة وعلة لترك الواجب فلا جرم تقع مبغوضة ومعه تقع
فاسدة من هذه الجهة، فلا يحتاج حينئذ إلى اثبات كون فعلها نقيضا للترك الواجب
كي يشكل بما أفيد بان الفعل المطلق لا يكون نقيضا للترك الخاص وانما كان مقارنا لما هو
النقيض من رفع الترك الخاص المجامع معه تارة ومع الترك المجرد أخرى، ولا يقتضى
حرمة شئ أيضا حرمة ما يلازمه ويقارنه إذ على كل تقدير تقع العبادة حينئذ فاسدة سواء
على القول بوجوب مطلق المقدمة أو القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة.
ولكن فيه انه مبنى على مقدمية فعل الضد لترك الضد الاخر، وهو في محل المنع،
فان القائل بمقدمية الضد انما يدعى فعلية التوقف من طرف الوجود خاصة لا مطلقا حتى
من طرف العدم أيضا، ومن ذلك يمنع استناد الترك المزبور إلى وجود ضده بل يسنده إلى
الصارف وعدم تحقق مقتضيه وهو الإرادة، وحينئذ فإذا كان الترك مستندا إلى
الصارف وعدم الإرادة لا إلى وجود ضده فلا جرم تكون الثمرة المزبورة على حالها، حيث
لا موجب في البين حينئذ يقتضي حرمة العبادة على القول بالمقدمة الموصلة حتى تقع
فاسدة، كما هو واضح.
وحينئذ فالأولى في الاشكال عليه هو المنع عن كون الفعل مما يقارن النقيض وانه
بنفسه نقيض للترك الواجب بدعوى ان نقيض المقيد بعد انحلاله إلى جزئين أحدهما
ذات الترك والاخر التقيد بالخصوص يتحقق بأحد الامرين: اما بقلب ذات الترك أو
بقلب التقيد، فنقيض الترك كان هو الفعل ونقيض القيد هو عدم التقيد، وحينئذ فإذا
تحقق أحد الامرين لا محالة ينطبق عليه النقيض ويصير مبغوضا، كما هو ذلك أيضا في
كلية المركبات، ومن ذلك اشتهر ان المركب كما ينتفي بانتفاء مجموع الاجزاء كذلك
ينتفي بانتفاء أحد اجزائه، وعلى ذلك نقول بأنه إذا تحقق الفعل الذي هو نقيض ذات
الترك فبتحققه ينطبق عليه أول نقيض وبذلك يصير مبغوضا، فيصير فاسدا لا محالة إذا
كان عبادة.
واما الاشكال عليه: بأنه بعد معلومية انه لا يكون لوجود واحد الا نقيض واحد فلابد
من اعتبار جامع في البين يكون هو النقيض حقيقة، وهو غير متصور في المقام، نظرا إلى
345

عدم تصور الجامع بين الوجود والعدم، فلابد حينئذ من جعل النقيض عبارة عن رفع
الترك الخاص الملازم للوجود والغاء الفعل بالمرة عن كونه نقيضا للترك الخاص ومعه تتم
الثمرة المزبورة، فمدفوع بأنه كذلك إذا كان وحدة الموضوع ذاتية والا فلو كانت اعتبارية
كما في المقام وفي كلية المركبات فلا جرم حسب تكثر الوجودات يتكثر النقيض أيضا
حقيقة، غايته انه من جهة ان المجموع تحت امر واحد لا يتصف بالمبغوضية الا أحد
النقائض المنطبق عليه أول نقيض، من جهة خروج البقية بعد ذلك عن دائرة المحبوبية
الضمنية بقلب وجود واحد منها بالنقيض.
ولئن شئت قلت: بان المركبات كما أن وحدتها ليست الا بالاعتبار والا فهي
متكثرات حقيقة كذلك الامر في نقيضها فوحدتها أيضا لا تكون الا بالاعتبار، وقضية
ذلك كما عرفت هي مبغوضية أحد النقائض المنطبق عليه أول نقبض من جهة خروج
البقية بعد ذلك عن دائرة المبغوضية من غير فرق في ذلك بين المركبات الخارجية كالصلاة
والحج والوضوء والغسل وبين المركبات التحليلية كالمقيدات من جهة انه وان لم يكن
للمقيد في الخارج الا وجود واحد ولا كان لحيثية التقيد ما بإزاء في الخارج الا ان تعدد
الجهات والحيثيات فيه لما كانت توجب انحلال الامر به إلى الأوامر المتعددة تكون لا
محالة كالمتكثرات الخارجية فيكون لكل حيثية نقيض مستقل غير أنه كان المتصف
بالمبغوضية هو أول نقيض من جهة خروج بقية الحيثيات الاخر بعد ذلك عن دائرة
المطلوبية، وعليه نقول في المقام أيضا بان نقيض ذات الترك الذي هو إحدى الحيثيات
المأخوذة في الموضوع بعد أن كان رفعه المساوق للوجود الذي هو الفعل فقهرا يصير الفعل
بمقتضى النهى عن النقيض مبغوضا ومنهيا عنه، ومعه يقع لا محالة باطلا إذا كان عبادة،
فيرتفع حينئذ الثمرة المزبورة، من جهة بطلان الضد العبادي حينئذ على كل تقدير
ثم إن هذا كله مسلك اخذ الايصال قيدا للواجب كما عليه ظاهر
الفصول (قدس سره) واما على ما سلكناه في تخصيص الوجوب المقدمة الموصلة من جعل
الموضوع عبارة عمالا يكاد انفكاكه عن بقية المقدمات الاخر الملازم قهرا مع الايصال و
ترتب وجود ذيها في الخارج فلا بأس باستنتاج النتيجة المزبورة في تصحيح الضد
العبادي، إذ نقول حينئذ بان الوجوب المتعلق بالمقدمة بعد كونه ناقصا غير تام بنحو لا
يكاد يشمل الا الترك في حال إرادة الضد الواجب فلا محالة يكون البغض الناشئ من
346

هذا الوجوب الناقص بالنسبة إلى النقيض وهو الفعل أيضا بغضا ناقصا غير تام بحيث
لنقصه وقصوره لا يشمل الا الفعل في حال إرادة الضد، لا مطلق وجوده ولو في ظرف
الصارف وعدم إرادة الواجب، وحينئذ فإذا خرج الفعل في ظرف الصارف وعدم
الإرادة عن دائرة المبغوضية لاختصاص البغض بالفعل في حال إرادة الواجب ولم يتمكن
أيضا من الفعل الا في ظرف الصارف وعدم إرادة الضد الواجب من جهة امتناع
اجتماع إرادة الواجب مع فعل ضده وهو الصلاة فلا جرم يقع الفعل منه غير مبغوض فيقع
صحيحا، ومعه يتجه النتيجة المزبورة
نعم لو كان نتيجة تعلق الوجوب الناقص بالمقدمة هو البغض التام في طرف النقيض
بحيث يقتضي مبغوضية النقيض على الاطلاق لاتجه الاشكال المزبور فتنتفى الثمرة
المزبورة، ولكنه في محل المنع جدا، فإنه كما عرفت لا يكاد اقتضاء تعلق الوجوب
الناقص بشئ بالنسبة إلى النقيض الا البغض الناقص، وحينئذ فلا يبقى في البين الا
جهة مقدمية الوجود لترك الضد الواجب الذي هو مبغوض بالبغض التام، وهذا أيضا مما
قد عرفت الجواب عنه باستناد الترك حينئذ دائما إلى الصارف وعدم وجود المقتضي وهو
الإرادة لا إلى وجود الفعل، فان صحة استناد عدم شئ إلى عدم وجود الشرط أو إلى وجود
المانع انما يكون في ظرف وجود مقتضيه وتحققه، والا ففي ظرف عدم تحقق المقتضي لا يكاد
استناد العدم الا إلى عدم المقتضي، ومن ذلك ترى انه مع أنه عدم وجود النار لا يكاد صحة
استناد عدم الاحراق إلى وجود المانع وهو الرطوبة مثلا أو إلى عدم تحقق شرطه، بل وانما
الصحيح استناده إلى عدم وجود المقتضي وهو النار وليس ذلك الا من جهة سبق
المقتضى رتبة على بقية اجزاء العلة من الشرط والمانع، كما سيجئ زيادة تحقيق لذلك
إن شاء الله تعالى في مبحث الضد، وحينئذ فحيث ان الفعل مسبوق دائما بالصارف وعدم
إرادة الضد الواجب فلا جرم يكون عدم الضد مستندا إلى الصارف دون الفعل ومع يقع
الفعل العبادي قهرا غير مبغوض فيقع صحيحا، هذا.
وقد تظهر الثمرة أيضا بين القولين في ضمان الأجرة على المقدمة فيما لو امر بالحج أو
الزيارة عنه واخذ المأمور بالمشي فمات قبل الوصول إلى المقصد، فإنه على القول بوجوب
مطلق المقدمة يستحق المأمور الأجرة على ما اتى به من المقدمات من جهة أن الامر بالحج
عنه امر بمقدماته التي منها المشي وطي الطريق وبذلك يستحق عليه الأجرة على المقدمة،
347

واما على القول بوجوب المقدمة الموصلة فلا استحقاق له للأجرة على المقدمة نظرا إلى عدم
كون المأتي به من المقدمات مأمورا به حتى يقتضي ذلك تضمين الآمر للأجرة عليه، وذلك
من جهة فرض اختصاص امره بخصوص المقدمة الموصلة ومجرد تخيل المأمور واعتقاده
بكون المقدمة المأتي بها واجبة ومأمورا بها أيضا غير مقتض لضمان الامر، والا لاقتضى
تضمينه في غيره من الموارد الاخر كما لو اعتقد بان زيدا امره بكنس داره فكنس داره
بموجب هذا الامر الزعمي، مع أنه كما ترى لا يظن من أحد الالتزام به.
وتظهر الثمرة أيضا في فرض انحصار المقدمة بالفرد المحرم كالمشي في الأرض المغصوبة
لانقاذ الغريق، فإنه على القول بوجوب مطلق المقدمة يكون المشي المزبور واجبا وان لم
يترتب عليه الانقاذ، واما على المقدمة الموصلة يقع المشي المزبور حراما مع عدم الايصال،
سواء قصد به الايصال أيضا أم لم يقصد، غايته انه مع قصد الايصال يكون منقادا كما أنه
مع عدم قصد الايصال يكون واجبا إذا كان ترتب عليه الانقاذ الواجب غايته انه يكون
متجريا حينئذ في فعله كما هو واضح..
ثمرة أصل المسألة
واما ثمرة الصل المسألة فقد يقال بظهورها في موارد: منها في مسألة النذر فيما لو نذر ان يأتي
بواجب من الواجبات فإنه على القول بالملازمة ووجوب المقدمة يحصل البرء باتيان المقدمة
بخلافه على القول بعدم وجوبها. ومنها حصول الفسق بترك واجب له مقدمات متعددة نظرا
إلى صدق الاصرار على الحرام الموجب للفسق. ومنها عدم جواز اخذ الأجرة على المقدمة بناء
على الملازمة بلحاظ خروجها حينئذ عن ملكه وعن حيطة سلطانه من حيث الفعل و
الترك فكان اخذ الأجرة عليها اكلا للمال بالباطل.
ولكن لا يخفى عليك ما في الوجوه، وذلك:
اما الأول فلمنع كونه ثمرة أصولية، إذ هو انما يكون ثمرة لمسألة فرعية لأنه من تطبيق
كبرى فرعية وهي كبرى وجوب الوفاء على المورد وأين ذلك والمسألة الأصولية التي من
شأنها وقوع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي الكلي؟ وبالجملة نقول بان المسألة
الأصولية عبارة عما وقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي الكلي لا في طريق
348

تطبيق الحكم الشرعي الكلي على المورد ومسألة بر النذر انما كانت من قبيل الثاني لا من
قبيل الأول فلا تكون حينئذ ثمرة لمسألة أصولية كما هو واضح.
واما الثاني فلانه بترك مقدمة واحدة يحصل العصيان للواجب، إذ لا يتمكن معه
بعد من الواجب، ومعه يخرج بقية المقدمات عن حيز الوجوب كي يكون تركها حراما
فيتحقق الاصرار الموجب لحصول الفسق، مضافا إلى ما عرفت سابقا بأن تعدد العصيان
انما يكون تابعا لتعدد الغرض، فإذا لا يتحقق من ترك الواجب بما له من المقدمات
العديدة الا فوت غرض واحد لا يكاد ترتب عليه إلا عصيان واحد.
واما الثالث فلوضوح عدم اقتضاء مجرد وجوب شئ على المكلف عينا أم كفاية
لخروجه عن المالية بحيث لا يجوز له أخذ الأجرة بإزائه ما لم يعتبر كونه على نحو المجانية، و
من ذلك ترى جواز اخذ الأجرة على كثير من الواجبات كالصناعات الواجبة عينا أم
كفاية وكموارد المخمصة التي امر فيها ببذل الأموال، فان ذلك كله شاهد عدم اقتضاء
مجرد الامر ببذلك الأعمال والأموال ووجوب اتلافها لخروجها عن المالية رأسا بحيث كان
اخذ العوض بإزائه من اكل المال بالباطل، وحينئذ فيحتاج حرمة أخذ الأجرة عليه إلى
قيام دليل بالخصوص يقتضي ايجاب بذله على نحو المجان كما ورد في مثل الاذان و
القضاء ونحوهما، والا فلو كنا نحن ومجرد وجوب العمل عليه عينا أم كفاية فلا يقتضي
هذا المقدار خروجه عن المالية حتى يحرم عليه اخذ الأجرة بإزائه كما هو واضح.
وحينئذ فالأولى جعلها أي الثمرة التوسعة في التقرب، فإنه بناء على الملازمة كما
يتحقق القرب باتيان المقدمة بقصد التوصل بها إلى ذيها كذلك يتحقق باتيانها بداعي
أمرها ومطلوبيتها لدى المولى ولو غيريا بناء على ما عرفت من صلاحية الامر الغيري أيضا
للمقربية، واما على القول بعدم الملازمة فلا يكاد يصح التقرب بالمقدمة الا باتيانها بقصد
التوصل بها إلى ذيها.
وربما يجعل من الثمرة أيضا اجتماع الوجوب والحرمة عند كون المقدمة محرمة مع عدم
الانحصار نظرا إلى اندراجه على الملازمة حينئذ في مسألة اجتماع الأمر والنهي، فيبتني
على الخلاف في تلك المسألة، فعلى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي له الاتيان بالمقدمة
بداعي كونها مرادة للمولى بخلافه على القول بالعدم فإنه لا يندرج في باب الاجتماع حتى
يبتني على الخلاف في تلك المسألة. وأورد عليه في الكفاية بالمنع عن اندراجه في مسألة
349

الاجتماع على الملازمة بدعوى ان الواجب بعد كون عنوان المقدمية من الجهات التعليلية
لا التقييدية عبارة عما هو بالحمل الشايع مقدمة لا عنوانها، وحينئذ فعلى الملازمة يكون
المقام من باب النهى عن العبادة أو المعاملة لا من باب الاجتماع كي يكون مبنيا عليه.
ولكن فيه أن المقدمية وان كانت من الجهات التعليلية لا التقييدية ولكن الواجب بعد
كونه في المقام عبارة عن الجامع بين الفردين والخصوصيتين، فلا محالة يندرج في مسألة
الاجتماع حيث يصير الفرد المحرم حينئذ مجمع العنوانين فكان بأحد العنوانين وهو الجامع
المنطبق عليه متعلقا للحكم الوجوبي وبالعنوان الآخر متعلقا للحكم التحريمي، لا في
مسألة النهى عن العبادة أو المعاملة الذي ملاكه توارد الحكمين على موضوع واحد من جهة
واحدة، وهذا واضح بعد معلومية عدم سراية مصلحة الجامع إلى الخصوصية ولا مفسدة
الخصوصية إلى الجامع المزبور ووقوف كل منهما على نفس متعلقه، فإنه في مثله ينحصر
التزاحم بين الملاكين في عالم الوجود محضا والا ففي مقام التأثير في الحب والبغض لا
يكون بينهما مزاحمة أصلا كما لا يخفى.
تأسيس الأصل في المسألة
بقى الكلام في تأسيس الأصل في المسألة عند الشك في الملازمة ووجوب المقدمة
وليعلم بأن الشك في وجوب المقدمة وان كان يتصور على وجوه: تارة من جهة الشك
في أصل مقدمية شئ للواجب، وأخرى من جهة الشك في وجوب ذيها مع العلم بأصل
المقدمية واصل الملازمة، وثالثة من جهة الشك في أصل ثبوت الملازمة بين وجوب شئ و
وجوب مقدمته، الا ان الجهة المبحوث عنها في المقام انما هي خصوص الجهة الأخيرة التي
يكون الشك ممحضا في أصل ثبوت الملازمة نظرا إلى خروج ما عداها عن مفروض الكلام
في المقام فنقول حينئذ:
اما نفس الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها فلا اشكال في أنه لا أصل فيها،
فإنها من جهة كونها أزلية وجودا وعدما لا حالة سابقة لها حتى يجرى فيها الاستصحاب، و
حديث الرفع أيضا غير جار فيها لعدم كونها أمرا شرعيا ولا موضوعا أيضا لاثر شرعي،
لان ترتب فعلية الوجوب عليها حينئذ ترتب عقلي لا شرعي، كما هو واضح.
واما نفس وجوب المقدمة فهو وان كان مسبوقا بالعدم حيث يكون حادثا بحدوث
350

وجوب ذي المقدمة الا انه من جهة عدم قابلية المورد لا يجري فيه الأصل أيضا، لان
جريان مثل هذه الأصول انما كان في مورد قابل للوضع الرفع، ومع كون فعلية الوجوب
على الملازمة من اللوازم القهرية لوجوب ذي المقدمة لا يكون المحل قابلا للرفع كي يجرى
فيه الأصل فيقتضي عدم فعلية وجوبها، ولئن شئت قلت بالعلم التفصيلي حينئذ بعدم
جريان الأصل فيه، اما لعدم وجوبها واقعا على تقدير عدم ثبوت الملازمة واما لعدم قابلية
المورد للرفع على تقدير ثبوت الملازمة كما هو واضح، نعم لو اغمض عن ذلك وقلنا بجريان
الأصل في طرف الوجوب فلا مجال للاشكال عليه من جهة انتفاء الأثر العملي بدعوى انه
بعد حكم العقل بلا بدية الاتيان بالمقدمة لا يترتب على نفى وجوبها ثمرة أصلا من حيث
الحركة والسكون، وذلك لامكان الجواب عنه بعدم الانحصار الأثر حينئذ بحيث الحركة و
السكون وانه يكفي فيه التوسعة في التقرب باتيان المقدمة بداعي مراديتها حيث إنه بنفي
وجوبها حينئذ يترتب نفى هذا الأثر فيتضيق بذلك دائرة التقرب. وأما توهم عدم كون
مثل هذا الأثر حينئذ شرعيا لأنه من كيفيات الإطاعة التي هي من الآثار العقلية فلا
يكاد يمكن اثباتها بمثل هذه الأصول التعبدية، فمدفوع بأنه كنفس الإطاعة من لوازم مطلق
وجوب الشئ ولو ظاهرا، هذا.
ولكن مع ذلك كله يشكل الاكتفاء بمثل هذا الأثر في جريان الاستصحاب ينشأ
من عدم كونه اثرا للمستصحب حتى يجري الاستصحاب بلحاظه وكونه من آثار نفس
الحكم الاستصحابي، إذ حينئذ جريان الاستصحاب بلحاظ مثل هذا الأثر لعله من
المستحيل، فلابد حينئذ من التماس اثر في البين للمستصحب حتى يكون جريان
الاستصحاب بلحاظه، وحيثما لا يكون في البين اثر عملي يترتب على المستصحب فلا
مجال لجريانه بوجه أصلا كما لا يخفى.
أدلة الأقوال في وجوب المقدمة
وإذ عرفت ذلك فلنشرع في الاستدلال على وجوب المقدمة، فنقول:
انه يكفي دليلا على وجوبها الوجدان بان من يريد شيئا ويطلبه يريد بالجبلة مقدماته
أيضا بحيث لو التفت إلى المقدمية تفصيلا يجعلها في قالب الطلب ويطلبها أيضا بطلب
مستقل مولوي بقوله ادخل السوق واشتر اللحم، كما أنه يوضح ذلك أيضا لحاظه الإرادات
351

التكوينية حيث ترى انه متى تريد شيئا تريد بالجبلة مقدماته أيضا فمتى تعلق إرادتك
بشرب الماء لغرض هو رفع العطش تقصد تحصيله فتصير بصدد تحصيله بشراء ونحوه وإذا
كان تحصيله يتوقف على المشي إلى مكان تقصد المشي إلى ذلك المكان، وهكذا غيره من
المقدمات، بخلاف ما لا يكون مقدمة من الملازمات القهرية كالمشي تحت السماء ونحوه
فإنها وان كانت مما لابد منه عقلا الا انها غير مقصودة ولا مرادة في مشيك بوجه أصلا،
وحينئذ فإذا كان ذلك شأن الإرادات التكوينية المتعلقة بالاغراض كذلك تكون مثلها
الإرادات التشريعية، حيث لا فرق بينهما الا في كون الأولى محركة لنفس المريد والثانية
للمأمور نحو المراد، ففي الإرادات التشريعية أيضا يلازم إرادة الشئ والبعث نحوه البعث
نحو مقدماته بحيث مع الالتفات إلى مقدميتها يجعلها في قالب طلب مثله فيبطلها ويأمر
بايجادها، بل قد عرفت سابقا بان ذلك مقتضي أكثر الواجبات في العرفيات والشرعيات
حيث كان وجوبها بحسب اللب وجوبا غيريا من جهة انتهائها بالآخرة إلى امر واحد
يكون هو المراد والمطلوب النفسي، وعليه ففي نفس هذا الوجدان والارتكاز غنى و
كفاية في اثبات الوجوب الغيري للمقدمات عن الاستدلال على وجوبها بل ولعله هو
العمدة في الباب.
والا فمع الغض عنه لا يكاد يتم الاستدلال على وجوبها بالبرهان المعروف عن البصري
بأنه لو لم تجب لجاز تركها وحينئذ فان بقى الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق
والاخراج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا.
وذلك لما فيه بأنه ان أريد من التالي في الشرطية الأولى الإباحة الشرعية فعليه وان
صدق الشرطية الثانية حيث لا يمكن بقاء الواجب على وجوبه مع ترخيص الشارع في
ترك مقدمته الا ان الملازمة حينئذ ممنوعة نظرا إلى عدم اقتضاء مجرد عدم وجوب المقدمة
للترخيص في تركها، وان أريد به مجرد عدم المنع الشرعي عن الترك من جهة عدم اقتضاء
فيه للالزام فهو وان كان صحيحا ولكنه نمنع حينئذ صدق إحدى الشرطيتين وهو لزوم
التكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا، فأنه بعد عدم
اقتضاء مجرد عدم المنع الشرعي عن الترك لخروج الواجب عن القدرة نقول ببقاء الواجب
حينئذ على وجوبه ولزوم الاتيان به بايجاد مقدماته بمقتضي اللابدية العقلية هذا بناء على
إرادة الجواز وعدم المنع الشرعي عما أضيف إليه الظرف في قوله (وحينئذ)، واما لو
352

أريد منه نفس الترك فعليه بعد تقييده بما إذا كان الترك في آخر الوقت بحيث لا يتمكن
معه من الواجب نقول بان الواجب وان لم يبق على وجوبه حينئذ الا انه حيثما كان ذلك
بالعصيان وسوء الاختيار فلا محالة يستحق عليه العقوبة من جهة تمكنه من الاتيان
بالواجب وحكم عقله بلزوم اتيان المقدمة من باب اللابدية ارشادا إلى ما في تركها من
العصيان المستتبع للعقوبة.
نعم لو أريد من الجواز اللاحرجية في الفعل والترك شرعا وعقلا يترتب عليه أحد
المحذورين وهو لزوم خروج الواجب عن وجوبه ولكنك عرفت بالمنع حينئذ عن الملازمة
من جهة عدم اقتضاء مجرد عدم الوجوب شرعا جواز تركها شرعا حتى ينافي مع التكليف
بالواجب بل وانما غايته هو عدم كونها محكومة بحكم شرعي وحينئذ فيكفي في لزوم
الاتيان بها حكم العقل باللابدية كما هو واضح.
ومن ذلك البيان ظهر الجواب أيضا عما افاده بعض لاثبات وجوبها بأنها لو لم تجب
بايجابه يلزم ان لا يكون تارك الواجب المطلق عاصيا ومستحقا للعقوبة مع أن التالي
باطل قطعا فالمقدم مثله، إذ نقول بأنه كذلك لولا كون الترك عن سوء اختياره وحكم
عقله بلابدية الاتيان ارشادا إلى ما في الترك من العصيان المتتبع للعقوبة كما لا يخفى.
وحينئذ فالعمدة في اثبات وجوبها هو ما ذكرناه من قضية الوجدان والارتكاز في
الواجبات العرفية وفى الإرادات التكوينية للانسان المتعلقة بما له مقدمات، وعليه أيضا
لا يفرق في المقدمات بين السبب وغيره من جهة ان ملاك ترشح الوجوب الغيري انما هو
كونها مما لها الدخل في المطلوب وفى حصول الغرض، فإذا كان الشئ مما له الدخل في
حصوله وتحققه سواء كان بنحو المؤثرية كما في المقتضى أو بنحو الدخل في القابلية أو غير
ذلك يترشح إليه الإرادة الغيرية فيصير واجبا بالوجوب الغيري.
وعليه فلا وجه لما ذكروه من التفصيل تارة: بين السبب وغيره بتقريبين تارة بان
القدرة لما كانت غير حاصلة على المسببات وحدها الا في حال انضمام أسبابها إليها فلا
جرم لابد وأن يكون الأسباب أيضا ملحوظة للآمر حال التكليف بالمسببات، من جهة
بعد اختصاص التكليف حينئذ بالمسببات وخروج الأسباب بالمرة عن حيز التكليف، و
أخرى بان التكليف لما كان لا يمكن تعلقه الا بأمر مقدور للمكلف ولا يكون المقدور
الا الأسباب دون المسببات لأنها من الآثار المترتبة على الأسباب فلابد من صرفه عنها
353

إلى الأسباب. وأخرى: بين الشرائط الشرعية وغيرها بدعوى وجوب الشرايط الشرعية
دون غيرها من تقريب انه لولا وجوبه شرعا لما كان شرطا حيث إنه ليس مما لابد منه
عقلا أو عادة.
إذ فيه ما لا يخفى، اما التفصيل الأول: فان أريد من عدم اختصاص التكليف
بالمسبب في التقريب الأول تعلق التكليف بمجموع المسبب والسبب ففساده واضح
حيث لا يقتضي مجرد عدم القدرة على الشئ الا في حال انضمام أسبابه كون أسبابه
أيضا ملحوظة للآمر حال التكليف بحيث يكون تكليفه بمجموع السبب والمسبب، مع أنه
على ذلك يكون السبب واجبا بالوجوب النفسي الضمني لا بالوجوب الغيري الذي هو
محل البحث. وان أريد به اقتضاء التكليف بالمسبب حينئذ لتعلق تكليف غيري أيضا
بسببه لكونه مما يتوقف عليه وجود المسبب وبدونه لا يكاد تحققه في الخارج فهو مما لا
يفرق فيه بين السبب وغيره، فيجري في جميع المقدمات كانت من معطيات الوجود أو
من معطيات القابلية واما التقريب الثاني للتفصيل المزبور فهو مع كونه انكارا التفصيل
حقيقة من جهة رجوعه إلى تعلق الامر النفسي بدوا في هذه الموارد بالسبب، نقول بان
المسبب حيثما كان مقدورا للمكلف ولو بسببه يكفي هذا المقدار في صحة التكليف به،
فإنه لا يعتبر في صحة التكليف بالشئ أزيد من القدرة عليه، كانت بلا واسطة أو معها،
ومعه لا وجه لصرف التكليف عن المسبب وارجاعه إلى سببه كما هو واضح.
واما ما قيل بان العلة والمعلول اما ان يكون لكل منهما وجود ممتاز عن الاخر في
الخارج كما في شرب الماء ورفع العطش حيث كانا أمرين ممتازين وجودا في الخارج و
اما ان يكونا عنوانين لفعل واحد غايته طوليا لا عرضيا، كالالقاء والاحراق المتصف بهما
فعل المكلف في الخارج حيث كان صدق عنوان الالقاء متقدما على صدق عنوان
الاحراق. فان كانا من قبيل الأول ففي مثله يتعلق الإرادة الفاعلية بالمعلول أولا لقيام
المصلحة به ثم تتعلق بعلته وسببه لتوقفه عليها، ونحوه الإرادة التشريعية الامرية فأنها
أيضا تتعلق أولا بالمعلول والمسبب ثم بعلته وسببه فيصير سببه واجبا بالوجوب الغيري
المقدمي. واما ان كانا من قبيل الثاني كما في الالقاء والاحراق وعنوان الغسل و
التطهير ونحوهما فيلزمه كون الامر بالمسبب والمعلول عين الامر بسببه وعلته والامر
بالسبب عين الامر بالمسبب، لأنه في تعلق الامر بالمسبب يكون السبب مأخوذا فيه لا
354

محالة كما أنه في تعلقه بالسبب يكون معنونا بالمسبب، فعلى كل تقدير يكون الامر بكل
منهما أمرا بالآخر وفى مثله لا يكاد اتصاف السبب بالوجوب الغيري بوجه أصلا
كما لا يخفى، فمدفوع بان مثل عنوان الالقاء والاحراق عنوانان ممتازان وجودا كل منهما عن الآخر
حيث كان الالقاء الذي هو فعل المكلف سببا لملاصقة الخشب مع النار التي هي سبب
لتحقق الحرقة في الخارج، فالحرقة حينئذ لها وجود مستقل في قبال الالقاء الذي هو من
فعل المكلف، نظير حركة اليد وحركة المفتاح اللتين هما وجود ان من الحركة إحديهما
معلولة للأخرى، نعم غاية ما هناك انه ينتزع من وجود المعلول عنوانان: أحدهما عنوان
الاحراق بالإضافة إلى الفاعل والآخر عنوان الحرقة بالإضافة إلى نفسه، نظير الايجاد و
الوجود، ولكن مجرد ذلك لا يقتضي صدق عنوان الاحراق وانطباقه حقيقة على الالقاء
الذي هو فعل المكلف. وعليه فإذا كان العنوانان كل منهما وجودا عن الاخر في
الخارج فلا محالة يكون حالهما حال شرب الماء ورفع العطش في اتصاف الالقاء
بالوجوب الغيري عند تعلق الامر بالاحراق وعدم كون الامر بالاحراق أمرا حقيقة
بالالقاء كما هو واضح.
ثم إن هذا كله إذا كان المسبب والمعلول من آثار فعل المكلف خاصة على معنى
كون فعله علة تامة لتحققه بحيث لا يكون لفعل الغير أيضا واختياره دخل في ترتب
المسبب والمعلول وتحققه.
وأما إذا كان لفعل الغير واختياره أيضا دخل في تحققه كعنوان حقيقة البيع مثلا
الذي هو مترتب على مجموع ايجاب البايع وقبول المشتري فقد يقال حينئذ بأن التكليف
بالمسبب وهو البيع حقيقة تكليف بسببه وهو الايجاب من جهة خروج المسبب
حينئذ بعد مدخلية قبول المشتري عن حيز قدرة البايع حتى بالواسطة، فمن ذلك لو ورد امر
بشخص ببيع داره لا جرم لابد بعد خروجه عن حيز قدرته من صرفه إلى سببه وهو ايجابه
الناشي منه من جهة امتناع بقائه على ظاهره في التعلق بعنوان البيع، ولكنه أيضا مدفوع بأنه
كذلك إذا كان قضية الامر بالبيع أمرا بايجاده على الاطلاق وأما إذا كان أمرا بحفظ
وجوده من قبل ما هو تحت قدرته واختياره فلا يلزم ارجاعه وصرفه عنه إلى سببه، بل
يجعل الامر في تعلقه بالمسبب على حاله حينئذ ويقال بأن والواجب هو حفظ وجوده من قبل
ما هو تحت اختياره، كما هو الشأن أيضا في كلية المقيدات ببعض القيود غير الاختيارية،
355

إذ كان مرجع التكليف بها أيضا إلى التكليف بسد باب عدمه وحفظه من قبل ما هو
تحت الاختيار في ظرف انحفاظه من قبل سائر القيود غير الاختيارية وحينئذ فإذا كان
الواجب هو حفظ وجود المعلول والمسبب من قبل ما هو فعل اختياري للمكلف وهو
ايجابه وكان هذا المقدار من الحفظ بتوسيط القدرة على الايجاب تحت قدرته واختياره
فلا جرم يكون الايجاب الذي هو مسبب لهذا المقدار من الحفظ متصفا بالوجوب الغيري لا
بالوجوب النفسي كما توهم فتدبر هذا كله في التفصيل الأول.
واما التفصيل الثاني بين الشرائط الشرعية وغيرها: بدعوى انه لولا وجوبها لما كان
شرطا، ففيه أيضا انه ان أريد كون التكليف والامر من قبيل الواسطة في الثبوت بالنسبة
إلى الشرطية والمقدمية بحيث لولا امر الشارع لما كان مقدمة وشرطا ففساده واضح من
جهة بداهة ان الامر الغيري انما يتعلق بما هو مقدمة الواجب وشرطه فلو كان مقدميته
متوقفة على الامر الغيري بها لدار. وان أريد كون التكليف والامر من قبيل الواسطة في
الاثبات بالنسبة إلى المقدمية والشرطية بحيث يكشف امر الشارع به عن كونه مقدمة و
شرطا في الواقع، ففيه مع أنه كثيرا ما يكون دليل الشرطية بغير لسان التكليف كما في قوله:
(لا صلاة الا بطهور، ولا صلاة الا إلى القبلة) نقول بأنه لا يكون ذلك تفصيلا في
المسألة لان مقتضاه حينئذ هو وجوب كل ما يتوقف عليه الواجب بالوجوب الغيري ولو
كان الطريق إلى المقدمية غير امر الشارع كما هو واضح. ثم إن هذا كله في مقدمة الواجب
مقدمة المستحب والمكروه والحرام
واما مقدمة المستحب: فحكمها حكم مقدمة الواجب، طابق النعل بالنعل، كما أن
مقدمة المكروه حكمها حكم مقدمة الحرام كما سنحرره.
واما المقدمة الحرام: فلا اشكال بينهم في أنه على الملازمة لا يكون وزانها وزان
مقدمة الواجب في اتصاف كل مقدمة من المقدمات بالحرمة الفعلية.
كما في مقدمة الواجب، وان ما هو المحرم لا يكون الا العلة التامة أو الجزء الأخير منها
الذي لا يبقى معه الاختيار على ترك الحرام، ولعل هذا التفكيك بين مقدمة الواجب و
الحرام انما هو من جهة ان المطلوب في الواجب انما كان هو الوجود وهو مما يتوقف تحققه
على حصول جميع المقدمات بحيث بانعدام واحدة منها ينتفي المطلوب فمن ذلك يسرى
356

المحبوبية إلى كل واحدة من المقدمات، بخلافه في طرف الحرام، فإنه بعد أن كان
المبغوض فيه هو الوجود يكون المطلوب فيه هو الترك وحيث إن الترك يتحقق بترك
إحدى المقدمات فلا يكون الواجب الا أحد التروك تخييرا، فيتعين ذلك حينئذ في المقدمة
الأخيرة التي لا يبقى معها اختيار ترك الحرام، فإذا وجب ترك المقدمة الأخيرة حينئذ فقد
حرم فعلها بمقتضى النهى عن النقيض، ولكن ذلك أيضا في مثل الافعال التوليدية التي
لا يحتاج في اختياريتها الا إلى إرادة سابقة على المتولد منه، والا ففي غيرها مما يحتاج بعد
تمامية المقدمات إلى إرادة محركة للعضلات نحوه كالصلاة مثلا فلا محالة تكون المقدمة
الأخيرة فيها هي تلك الإرادة التي هي خارجة عن حيز التكليف، إذ تكون العلة التامة
للحرام حينئذ مركبة من الإرادة وغيرها، وفي مثلها لا يكاد اتصاف شئ من المقدمات
بالحرمة بمقتضى البيان المزبور إذ كان استناد الحرام حينئذ إلى الإرادة وعدم الصارف
عنه التي هي أسبق رتبة من غيرها. ومن ذلك نقول أيضا بعدم حرمة ترك مقدمات
الواجب بمقتضي النهى عن النقيض نظرا إلى استناد ترك الواجب دائما ولو في ظرف ترك
بقية المقدمات إلى وجود الصارف وعدم الإرادة من جهة سبقها رتبة على غيره كما
سنحققه إن شاء الله تعالى.
ثم إن هذا كله بناء على مسلك المشهور من وجوب مطلق المقدمة. واما على ما
ذكرنا من تخصيص الوجوب بالمقدمة الموصلة اما بنحو التقييد كما عليه ظاهر الفصول واما
على ما اخترناه من جعل الواجب ولو بلحاظ قصور في امره عبارة عن الذات التوامة مع
وجود بقية المقدمات الملازمة للايصال قهرا فلا اشكال في البين في مثل المقام إذ حينئذ
تكون مقدمات الحرام حالها كحال مقدمات الواجب فتكون كل مقدمة من مقدماته
متصفة بالحرمة الغيرية في ظرف انضمامها ببقية المقدمات الملازم لترتب الحرام عليها. و
من ذلك أيضا نقول بأنه لو أتى بمقدمة الحرام ولولا بقصد التوصل بها إلى المحرم بل بقصد
التوصل بها إلى امر واجب واتفق بعد ذلك ترتب الحرام عليها كان ما اتى به حراما فعليا
في الواقع، كما أنه لو اتفق عدم ترتب الحرام عليها لا يكون ما اتى به حراما وان كان من
قصده التوصل به إلى الحرام. فالمدار حينئذ في اتصاف المقدمة بالحرمة وعدم اتصافها بها
على ترتب الحرام عليها وعدمه
ثم إن الثمرة بين المسلكين تظهر في التوضي في المصب الغصبي بالماء المباح مع تمكنه
357

من المنع عن وصول ماء الوضوء إلى المصب ولو بجعل كفه مانعا عنه، فإنه على المشهور من
تخصيص الحرمة بالجزء الأخير يقع وضوئه صحيحا من جهة ان الجزء الأخير من العلة حينئذ
انما هو عدم ايجاد الحائل عن وصول الماء إلى المصب الغصبي الذي هو امر أجنبي عن
وضوئه فيكون هو المحرم والمنهي عنه دون وضوئه، فمن ذلك يقع وضوئه صحيحا من غير
فرق بين علمه بذلك من الأول وبين صورة عدم علمه به، ولكن ذلك بخلافه على
ما اخترناه، إذ عليه في ظرف عدم منعه عن وصول الماء إلى المصب يقع أصل وضوئه حراما و
منهيا عنه فيقع باطلا إذا كان من نيته عدم ايجاد المانع عن وصول الماء إلى المصب. نعم
لو لم يعلم بذلك من الأول كما لو كان بانيا من الأول على احداث المانع عن وصول ماء
وضوئه إليه فاتفق بعد ذلك وصول الماء إليه ولو من جهة حصول البداء له عن احداث
المانع يقع وضوئه صحيحا وان كان حراما في الواقع، نظرا إلى وضوح عدم اقتضاء مجرد
وقوع وضوئه على وجه الحرمة في الواقع لفساد وضوئه وبطلانه كما هو واضح فتدبر
358

المبحث الخامس في الضد
قد اختلفوا في أن الامر بالشئ هل يقتضي النهى عن ضده أم لا؟ وقبل الخوض في
المرام ينبغي بيان أمرين:
الأول: الظاهر أن المسألة انما هي من المسائل الأصولية من جهة رجوعها إلى البحث
عن الملازمة بين وجوب الشئ وحرمة ضده فتكون كالبحث عن سائر الملازمات فكان
ذكرها حينئذ في مباحث الألفاظ مع كونها من المسائل العقلية لمحض المناسبة، و
يمكن أيضا ان تكون من المبادي الاحكامية الراجعة إلى البحث عن لوازم وجوب الشئ و
انه هل من لوازمه هو حرمة ضده أم لا، فإنه بعد الفراغ عن دلالة الصيغة على الوجوب
اقتضت المناسبة البحث عن لوازمه بأنه هل من لوازم وجوب الشئ هو حرمة ضده أم لا
أو وجوب مقدمته أم لا كما تقدم. واما احتمال كونها من المسائل الفرعية نظير ما قيل في
مقدمة الواجب فبعيد جدا، حيث إنه لا يكاد يناسب ذلك عنوان البحث المزبور،
بخلاف مسألة وجوب المقدمة فإنه يتطرق فيها احتمال كونها مسألة فرعية بمقتضي عنوان
البحث، مضافا إلى ما عرفت في المسألة السابقة من عدم انطباق ميزان المسألة الفرعية
عليها وحينئذ فيدور الامر بين كونها من المبادي الاحكامية أو من المسائل الأصولية
العقلية ولكل منهما وجه، وان كان الا وجه هو الثاني
الامر الثاني: في تحرير مفردات عنوان البحث من الأمر والنهي والشئ والاقتضاء
والضد، فنقول: اما الأمر والنهي فالظاهر أن المراد بهما يعم النفسي والغيري والأصلي
والتبعي، كم ان المراد بالشئ أيضا هو ما يعم الفعل والترك كما في تروك الصوم لا انه
359

عبارة عن خصوص الفعل كما ربما يتوهم. واما الثالث فالمراد به هو الاقتضاء في مرحلة
أصل الثبوت لا الاقتضاء في مقام الكشف والدلالة والاثبات، ولذلك يجري هذا
النزاع في الأوامر المستكشفة من الاجماع والعقل أيضا. واما الرابع وهو الضد فالظاهر أن
المراد به هو مطلق المعاند الشامل للنقيض أيضا فإنه تارة يطلق ويراد به معناه الأخص
وهو المعاندة بين الشيئين على نحو لا يمكن اجتماعهما في محل واحد مع جواز ارتفاعهما
كالسواد والبياض، وأخرى يطلق ويراد به مطلق المعاند الشامل للنقيض أيضا بنحو لا
يجوز ارتفاعهما أيضا، فكان اطلاقه في المقام بمعناه الأعم الشامل للنقيض لا بمعناه
الأخص، نعم ذلك بمعناه الأخص أيضا لا يختص بالوجوديين كما توهم بل يعمه وما لو
كان أحدهما أمرا عدميا كالترك الخاص بالنسبة إلى الفعل المطلق بل وأما إذا كانا معا
عدميين كما في صوم يومين مع فرض عدم قدرة المكلف خارجا الا على أحد الصومين
وإذ عرفت ذلك فاعلم بان الكلام يقع في مقامين: تارة في الضد الخاص، وأخرى
في الضد العام بمعنى الترك
اما المقام الثاني فسيجئ انه لا اشكال فيه في اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده
بمعنى الترك والنقيض، وانما الكلام فيه بأنه أي الاقتضاء بنحو العينية أو التضمن أو
الالتزام، وسيجئ تحقيق الكلام فيه إن شاء الله تعالى
و اما المقام الأول ففي اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده الخاص اشكال بين
الاعلام، والبحث فيه في الاقتضاء وعدمه يقع من جهتين:
الأولى: من جهة مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر كما عليه مبنى كثير منهم
حيث بنوا على حرمة الضد المأمور به بمناط مقدمية تركه لفعل الضد الواجب.
الثانية: من جهة مجرد التلازم بين وجود أحد الضدين وترك الآخر بدعوى اقتضاء
هذا التلازم للتلازم بين حكميهما وصيرورة ترك الضد واجبا أيضا واقتضاء وجوب الترك
بمقتضى النهى عن النقيض لحرمة فعله.
ولا يخفى عليك حينئذ ان النزاع من الجهة الأولى يكون صغرويا محضا، فإنه بعد
الفراغ عن الكبرى وهي التلازم بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته كان الكلام في
اثبات الصغرى وهي مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الاخر، بخلافه في النزاع من
الجهة الثانية فإنه يكون في أصل كبرى لزوم اتحاد المتلازمين في الحكم، والا فاصل
360

الصغرى وهو التلازم بين وجود أحد الضدين وترك الآخر مما لا كلام فيه، فهاتان
الجهتان حينئذ متعاكستان في الجهة المبحوث عنها، وبعد ذلك نقول:
اما الجهة الأولى فتقريب الاقتضاء انما هو من جهة قضية المنافرة والمعاندة بين
الوجودين وعدم اجتماعهما في التحقق، بدعوى اقتضاء تلك المنافرة والمعاندة لمقدمية عدم
الضد لوجود الضد الآخر نظرا إلى وضوح كون عدم المانع من المقدمات ومن اجزاء العلة
التامة للشئ، فإذا ثبت حينئذ مقدمية عدمه لوجود الضد الواجب فلا جرم يجب بوجوب
مقدمي غيري بمقتضى كبرى التلازم بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته ومع وجوبه
يقع فعله لا محالة بمقتضى النهى عن النقيض حراما ومنهيا عنه، هذا
وقد أورد عليه بمنع المقدمية نظرا إلى انتفاء السنخية بين الوجود والعدم واستحالة
كون العدم من مقدمات وجود الشئ ومن اجزاء علته، ولكن فيه ما تقدم سابقا من
ابتناء هذا الاشكال على اتحاد المقدمات طرا في كيفية الدخل في وجود المعلول ورجوع
دخل الجميع إلى المؤثرية والمتأثرية كما في المقتضى، فإنه على هذا المبني لا محيص من
اخراج عدم المانع بقول مطلق عن المقدمات وعن كونه من اجزاء العلة التامة نظرا إلى
انتفاء السنخية بين الوجود والعدم وامتناع تأثير العدم في الوجود، والا فبناء على
اختلاف المقدمات في كيفية الدخل في المعلول ورجوع بعضها إلى كونها معطيات الوجود
كما في المقتضي ورجوع بعضها الاخر إلى كونها معطيات الحدود للوجود والقابلية كما في
الشرط وعدم المانع على ما شرحناه سابقا فلا مجال للمنع عن مقدمية عدم الضد
بالبيان المزبور.
وحينئذ فالأولى هو المنع عن المقدمية بما في الكفاية: من دعوى عدم اقتضاء مجرد
المعاندة والمنافرة بين الضدين وعدم الاجتماع في الوجود لمقدمية عدم أحدهما لوجود
الاخر وللتوقف الموجب لتخلل الفاء بينهما الكاشف عن اختلافهما بحسب الرتبة بل وان
غاية ما يقتضيه ذلك انما هو التلازم بين وجود أحدهما مع عدم الآخر، كما هو الشأن أيضا
في النقيضين، حيث لا يكاد اقتضاء بينهما لمقدمية ارتفاع أحدهما لثبوت الآخر،
كيف وانه لو اقتضى مجرد هذه المنافرة والمعاندة التوقف الموجب لمقدمية عدم أحد
الضدين لوجود الضد الاخر لاقتضى مقدمية عدم الضد الاخر أيضا لوجود هذا الضد، من
جهة ان المعاندة والمنافرة كانت من الطرفين، فكما ان هذا الضد لا يكاد يتحقق الا في
361

ظرف عدم ضده كذلك ذلك أيضا لا يتحقق الا في ظرف عدم ذلك، وهو واضح
الاستحالة، من جهة استلزامه لكون الشئ في رتبتين، وبيان ذلك انا لو فرضنا في مثل
الصلاة والإزالة مثلا توقف الإزالة على عدم الصلاة توقف الشئ على عدم مانعه، فلازم
التوقف والمقدمية هو تقدم العدم المزبور على وجود الإزالة، ولازم ذلك بمقتضي حفظ
الرتبة بين النقيضين تقدم وجود الصلاة أيضا على الإزالة، نظرا إلى كونها في رتبة عدمها
الذي هو مقدم رتبة على وجود الإزالة، فإذا فرضنا حينئذ بمقتضي المعاندة المزبورة توقف
الصلاة أيضا على عدم الإزالة توقف الشئ على عدم مانعه يلزمه لا محالة بمقتضي حفظ
الرتبة بين النقيضين تقدم الإزالة أيضا وجودا وعدما على وجود الصلاة، ولازمه حينئذ
صيرورة كل من الصلاة والإزالة في رتبة متأخرة عن الاخر الملازمة لكون كل منهما في
رتبتين، وهو كما ترى مقطوع استحالته، وحينئذ فكان ذلك برهانا قطعيا على استحالة ما
ادعى من المقدمية بين الضدين كما هو واضح، هذا.
وقد أورد على المقدمية أيضا من جهة محذور الدور، بتقريب انه كما يتوقف وجود
أحد الضدين على عدم الضد الاخر توقف الشئ على عدم مانعه كذلك يتوقف العدم
المزبور أيضا على وجود هذا الضد توقف عدم الشئ على وجود مانعه، لبداهة ثبوت
المعاندة من الطرفين والمطاردة من الجانبين، وهو دور واضح، من جهة توقف كل منهما
حينئذ على الاخر.
وأجيب عن الدور المزبور بان فعلية التوقف انما كانت من طرف الوجود خاصة لا
من طرف العدم، بدعوى ان عدم الشئ انما يستند إلى وجود المانع في ظرف ثبوت
المقتضي له مع شراشر شرائطه، والا ففي ظرف عدم وجود المقتضي لا يكاد استناده الا
إلى عدم ثبوت المقتضي له لا إلى وجود المانع، ومن ذلك ترى عدم صحة استناد عدم
الاحراق إلى وجود الرطوبة مع عدم وجود النار أو عدم تحقق شرطه الذي هو المماسة و
المحاذاة الخاصة، بخلافه في ظرف وجود أصل النار وتحقق المحاذاة الخاصة ومماسة الجسم
مع النار إذ صح حينئذ استناد عدم الاحراق إلى وجود المانع والرطوبة، وعلى ذلك فحيث
أنه تحقق الصارف في المقام عن الوجود فلا جرم في مثله يكون عدم الضد مستندا إلى عدم
الإرادة والصارف الذي هو أسبق رتبة من المانع لا إلى وجود الضد حتى يلزم الدور، كما
هو واضح، هذا.
362

وقد أورد عليه الأستاذ في الدورة السابقة بأنه بعد أن كان المعلول استناده في طرف
الوجود إلى مجموع اجزاء العلة من المقتضي والشرط وعدم المانع في عرض واحد بتخلل
فاء واحد بينهما في قولك: (وجدت العلة بأجزائه فوجد المعلول) لا بتخلل فائين بقولك:
(وجد فوجد فوجد المعلول) والا يلزمه خروج مثل عدم المانع عن كونه من أجزاء العلة التامة في
التأثير في تحقق المعلول، فلا جرم بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين لابد وأن يكون عدمه
أيضا عند انتفاء العلة باجزائها مستندا إلى انتفاء الجميع في عرض واحد بنحو تخلل فاء
واحد على نحو استناد وجوده إلى مجموع اجزاء العلة لا إلى خصوص بعض اجزائها وهو
عدم المقتضي، فيبطل حينئذ ما ادعى من الترتب والطولية بين اجزاء العلة التامة من
المقتضي والشرط والمانع في مقام التأثير الفعلي في وجود المعلول، وان ما يرى من عدم
صحة استناد عدم الاحراق في المثال المزبور عند عدم وجود النار وتحقق المحاذاة الخاصة
إلى الرطوبة ووجود المانع فإنما هو فيما إذا أريد استناده إلى خصوص المانع، والا فصحة
استناده حينئذ إلى عدم المجموع مما لا ريب فيه، كما هو واضح. واما صحة استناده إلى
خصوص عدم المقتضي مع انتفاء الشرط ووجود المانع أيضا فلعله من جهة اقوائية
المقتضي حينئذ من بين اجزاء العلة عند العرف في استناد العدم إليه، والا فبحسب
الدقة لا يكون العدم الا مستندا إلى عدم وجود علته التامة التي من اجزائها الشرط و
المانع، ومن ذلك ربما يكون الامر بالعكس في استناد العدم عرفا إلى شئ كما في الخشبة
التي تحت البحر، حيث صح استناد عدم احراقه إلى وجود الماء عند كونه تحت البحر
عرفا، ولا يصح استناده إلى عدم وجود النار، بل ولئن علل عدم احراقه إلى عدم وجود
النار والحال هذه ترى بأنه يضحك عليه العرف.
وحينئذ فإذا لا يكون اجزاء العلة التامة في عالم التأثير في المعلول الا في عرض واحد
ومرتبة واحدة بنحو لا يتخلل بينه وبين المجموع إلا فاء واحد نقول في المقام أيضا بان العلة
التامة لوجود الصلاة إذا كانت هي الإرادة وترك ضدها الذي هو الإزالة حسب ما هو
المفروض من مقدمية الترك للوجود ولم يكن بينهما في مقام التأثير في الأثر ترتب وطولية،
بل كان استناده إلى مجموع الامرين في عرض واحد بتخلل فاء واحد كقولك: (وجدت
الإرادة وترك الإزالة فوجدت الصلاة) فلا جرم في طرف العدم أيضا بمقتضي حفظ
الرتبة بين النقيضين لا يكونان الا في رتبة واحدة، فإذا قلب حينئذ كل من الإرادة و
363

الترك إلى النقيض بقلب الإرادة إلى عدمها والترك إلى الفعل فقهرا يكون العدم مستندا
إلى مجموع الامرين من وجود الصارف وفعل الضد الذي هو المانع، لا انه مستند إلى
خصوص الصارف وعدم الإرادة، وعليه يتوجه محذور الدور المزبور نظرا إلى فعلية
التوقف حينئذ من الطرفين، كما هو واضح، هذا.
ولكن الأستاذ (دام ظله) أجاب عن ذلك أخيرا، وبنى على الترتب والطولية بين
اجزاء العلة التامة من المقتضي والشرط والمانع، والتزم بتقدم المقتضي على الشرط و
المانع رتبة بمقتضي ما بنى عليه من اختلاف اجزاء العلة في كيفية الدخل في وجود المعلول
برجوع بعضها كالمقتضي إلى كونها مؤثرات ومعطيات الوجود، ورجوع بعضها إلى كونها
معطيات الحدود للوجود كالشرط وعدم المانع، فإنه عليه يكون المقتضي باعتبار كونه
مؤثرا ومعطيا لأصل الوجود مقدما رتبة على ما يكون دخله في حدود ولو بنحو دخل منشأ
الاعتبار في الامر الاعتباري، كتقدم ذات الوجود على حده العارض عليه رتبة، وحينئذ
فعند انتفاء المقتضي ووجود المانع لا جرم يكون العدم مستندا إلى عدم ثبوت المقتضي، و
لا مجال لاستناده إلى وجود المانع أو عدم شرطه الا في ظرف ثبوت أصل المقتضي للوجود،
وحينئذ ففي المقام أيضا حيثما كان عدم الإرادة والصارف أسبق رتبة من الشرط والمانع
بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين فقهرا يكون العدم عند عدم الإرادة مستندا إلى
الصارف لا إلى وجود المانع وهو الضد حتى يتوجه محذور الدور المزبور، وهو واضح.
وحينئذ فالعمدة في الاشكال على المقدمية هو ما ذكرنا من لزوم كون الشئ في
رتبتين نظرا إلى مقدمية ترك كل واحد من الضدين بعد كون المطاردة من الطرفين لوجود
الضد الاخر، بل ذلك أيضا لازم للاشكال الثاني أيضا نظرا إلى بقاء غائلة الدور وهو
لزوم كون الشئ في رتبتين بعد على حاله وان اندفع فعلية التوقف بالبيان المزبور، كما هو
واضح.
وحينئذ فبعد ان ظهر بطلان مقدمية ترك الضد الاخر فلا جرم لا يبقى
في البين الا مجرد التلازم بين وجود أحد الضدين وترك الاخر، وفي مثله نقول بان من
الواضح أيضا عدم اقتضاء مجرد التلازم بين الشيئين التلازم بين حكميهما أيضا بحيث لابد و
ان يكون محكوما بحكم ملازمه كي بعد اثبات وجوب الترك بالمناط المزبور يحكم بحرمة
نقيضه وهو الفعل بمقتضي النهى عن النقيض، وذلك لان غاية ما يقتضيه الملازمة
364

المزبورة انما هو عدم كون أحدهما محكوما بما يضاد حكم الاخر لا وجوب كونه محكوما
بحكمه، كيف وان دعوى سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الاخر مما يحكم بخلافها
بداهة الوجدان والارتكاز عند طلب شئ والامر به، من حيث وضوح وقوف الطلب و
الامر والحب والبغض على نفس متعلقه وعدم سرايتها منه إلى ما يلازمه من الأمور الاخر
بوجه أصلا.
وعليه فلا مجال لاثبات حرمة فعل الضد حتى يترتب عليه فساده إذا كان عبادة، لا
بمناط التلازم ولا بمناط المقدمية، خصوصا على ما تقدم منافي المبحث المتقدم من
تخصيص الوجوب بالمقدمة الموصلة، فإنه على المقدمية أيضا حينئذ لا يكاد اتصاف فعل
الضد المقرون بوجود الصارف بالحرمة الفعلية من جهة خروجه حينئذ عن دائرة ما هو
نقيض الواجب، من غير فرق في ذلك بين ان يكون الضدان مما لهما ثالث بحيث أمكن
تركهما معا أم لا كما هو واضح.
وحينئذ فبعد ان ظهر عدم اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده الخاص لا بمناط
الملازمة وجدانا ولا بمناط المقدمية برهانا نقول:
فاعلم أن الضدين اما ان يكونا متساويين بحسب الملاك والمصلحة واما لا، بل
يكون أحدهما مزية على الاخر بحسب الملاك وعلى التقديرين لا يخلوان من كونهما
مضيقين أو موسعين أو مختلفين فهذه صور عديدة وينبغي التعرض لكل واحدة من الصور
بما يخصها من الحكم فنقول:
أما إذا كانا متساويين في الملاك والمصلحة وكانا أيضا مضيقين، فان لم يكن لهما
ثالث كما في الحركة والسكون والنوم واليقطة فلا اشكال في أن الحكم فيهما هو التخيير
عملا بمعنى اللاحرجية نظير التخيير بين الفعل والترك في النقيضين، لا التخيير الشرعي
بمعنى الالزام بأحد الفعلين فإنه بعد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما ولا من تركهما
معا فقهرا في مثله بعد تساوى الملاكين يحكم العقل فيهما بالتخيير وعدم الحرج في الفعل
والترك، ومعه لا يكاد مجال لالزام شرعي في البين ولو تخييري بوجه أصلا لأنه في
ظرف ترك أحد الضدين يكون الضد الاخر قهري الحصول ومعه لا يبقى مجال اعمال
الجهة المولوية بالامر بهما تخييرا، كما هو واضح. ولئن شئت قلت بان الامر التخييري
بشيئين بعد أن كان مرجعه إلى المنع عن ترك المجموع فلا جرم يختص بما إذا تمكن
365

المكلف من ترك كلا الامرين كما في ضدين لهما ثالث، والا ففي مثل المقام المفروض
عدم تمكن المكلف من ترك كلا الامرين لا يكاد مجال للامر التخييري واعمال الجهة
المولوية لا بالنسبة إلى ترك المجموع ولا بالنسبة إلى أحد الفعلين نظرا إلى امتناع الأول في
نفسه وقهرية حصول أحد الفعلين، كما هو واضح. هذا إذا كان الضد ان مما ليس لهما
ثالث.
وأما إذا كان الضدان مما لهما ثالث بحيث يتمكن المكلف من ترك كلا الامرين
معا كما في الامر بانقاذ الغريقين وكما في مثل الصلاة والإزالة ففي مثله لا اشكال في أنه
ليس له ترك كلا الامرين معا وانه يجب عليه الاتيان بأحد الامرين مخيرا بينهما لا مجرد
التخيير بينهما عملا كما في الصورة الأولى بلا الزام شرعي أو عقلي في البين، وذلك من
جهة ان الممنوع حينئذ انما هو وجوب كل واحد منهما عليه بالزام تعييني على الاطلاق
بنحو يقتضي المنع عن جميع أنحاء تروكه حتى الترك في حال وجود الاخر، واما وجوب
كل واحد منهما عليه تخييرا فلا مانع يمنع عنه بعد فرض تمكن المكلف من اتيان أحد
الامرين وتمكنه أيضا من ترك الجميع، فإنه حينئذ يكون كمال المجال لأعمال الجهة
المولوية بالامر بهما تخييرا، وهذا بخلافه في الصورة الأولى فإنه فيها من جهة عدم تمكن
المكلف من ترك كلا الامرين وقهرية حصول أحد الامرين عند ترك الاخر الا جرم لا
يبقى في مثله مجال الامر المولوي بأحد الامرين ولو بنحو التخيير بوجه أصلا فهذا مما لا
اشكال فيه ولا كلام، وانما الكلام فيها ينتهي إليه مرجع هذا التخيير وانه هل هو راجع
إلى تقييد الطلب في كل من الامرين بعدم الاخر وعصيانه؟ أو راجع إلى غير ذلك؟ بل مثل
هذا الكلام لا يختص بالمقام فيجري في كلية التخييرات الشرعية.
فنقول: ان المتصور في ذلك هو أمور:
أحدها: رجوعه إلى تقييد الطلب في كل من الواجبين بعدم الاخر اما بعدمه المحفوظ
قبل الامر واما بعدمه المتأخر عن الامر المنتزع عنه عنوان العصيان الذي هو نقيض
الإطاعة.
وثانيها: رجوعه إلى تقييد الواجب في كل منهما بعدم الاخر مع اطلاق الطلب فيهما، و
ذلك أيضا اما بأخذ القيد في كل منهما مطلق عدم الاخر بنحو يقتضي وجوب تحصيله و
اما بأخذه عبارة عن العدم الناشي من قبل سائر الدواعي غير دعوة الامر والطلب بحيث
366

لا يقتضي الطلب وجوب تحصيله.
وثالثها: رجوعه إلى وجوب كل واحد منهما على التعيين ولكنه لا بايجاب تام بنحو
يقتضي المنع عن جميع أنحاء تروكه حتى الترك الملازم مع وجوده ضده بل بايجاب ناقص
مقتضاه عدم المنع الا عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك الاخر الراجع إلى
ايجاب حفظ الوجود في كل منهما من قبل سائر الجهات في ظرف انحفاظ وجوده من قبل
بديله وعدم ضده من باب الاتفاق، إذ الشئ بعد أن كان له أنحاء من العدم بالإضافة
إلى فوت كل مقدمة من مقدماته ووجود كل ضد من أضداده تبعا لحدود وجوده الحاصلة
بالقياس إلى وجود مقدماته وعدم اضداده، فلا جرم بعد خروج أحد تلك الاعدام من
حيز التكليف اما لعدم القدرة أو لغير ذلك كما في المقام من فرض عدم تمكن المكلف من
الجمع بين الوجودين لا يكون قضية التكليف بالايجاد حينئذ الا وجوب سد بقية الاعدام
في ظرف انسداد عدمه من باب الاتفاق من قبل بديله وضده، ومرجعه إلى كونه أمرا
بمتمم الوجود لا بالوجود على الاطلاق بنحو يقتضي وجوب سد جميع الاعدام حتى العدم
الملازم مع وجود ضده، ومرجع ذلك بالآخرة إلى تخصيص الواجب في كل منهما بما يكون
ملازما مع عدم الآخر من دون ان يكون ذلك من جهة تقييد في الواجب ولا في الوجوب،
بل من جهة قصور الوجوب في نفسه حينئذ عن الشمول لغير ذلك، هذا كله بحسب مقام
التصور.
واما بحسب مقام التصديق فلا ينبغي الاشكال في أن المتعين منها هو الوجه الأخير،
وذلك لما في غيره من عدم خلوه عن المحذور وذلك:
اما الوجه الأول من فرض تقييد الطلب في كل منهما بعصيان الاخر أو بعدمه من
باب الاتفاق المحفوظ قبل الامر فواضح، إذ الشق الثاني منه غير دافع لمحذور المطاردة بين
الامرين، من جهة بقاء المطاردة بينهما بعد على حاله، بملاحظة تحقق ما هو الشرط فيهما قبل
الاتيان بواحد منهما، واما الشق الأول فهو وان اندفع به محذور المطاردة، نظرا إلى وقوع
تأثير كل منهما في رتبة الآخر الا انه يتوجه عليه حينئذ محذور طولية الامرين وتأخر
كل منهما عن الاخر برتبتين حسب إناطة كل منهما بعصيان الاخر.
واما الوجه الثاني من فرض تقييد الواجب في كل منهما بعدم الاخر فهو أيضا بشقيه
كذلك، لان مقتضي الإناطة حينئذ هو تأخر كل من الواجبين رتبة عن عدم الاخر، و
367

لازمه بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين هو تأخر كل من الوجودين عن الاخر وهو
ملازم لكون كل منهما في رتبتين، وهو كما ترى من المستحيل، خصوصا مع ما يرد على
الشق الأول منه من لزوم وقوع المطاردة بين الامرين، بلحاظ اقتضاء اطلاق الامر في كل
منهما لزوم ترك الضد الاخر من باب المقدمة واقتضاء الامر به عدم تركه ولزوم ايجاده،
إذ حينئذ يصير كل واحد منهما وجودا وعدما موردا للتكليف الإلزامي وهو محال.
وعليه فبعد بطلان الوجوه المزبورة يتعين الوجه الأخير الذي عرفت رجوعه إلى وجوب
كل واحد منهما على التعيين، لكنه لا بايجاب تام كي يقتضي النهى عن جميع أنحاء
تروكه حتى الترك الملازم مع وجود الاخر بل بايجاب ناقص بنحو لا يقتضي الا المنع عن
بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال الترك الراجع في الحقيقة إلى ايجاب متمم الوجود
لا ايجاب الوجود على الاطلاق، وفي مثله يرتفع المطاردة بين الامرين، حيث لا تنافي بين
هذين الامرين بالضدين بعد كونهما من قبيل متمم الوجود وعدم اقتضائهما لوجوب
الحفظ على الاطلاق كما في الامر التأمين كما هو واضح. وعليه أيضا لا داعي إلى رفع
اليد عن الامرين على الاطلاق والمصير إلى الزام عقلي تخييري فيهما بل يؤخذ حينئذ
بوجوب كل منهما على التعيين غايته انه من جهة محذور المطاردة والوقوع في ما لا يطاق
يرفع اليد عن اطلاق الامرين واقتضائهما للحفظ على الاطلاق ويصار إلى وجوب كل
منها بايجاب ناقص راجع إلى ايجاب حفظ المرام من سائر الجهات في ظرف انحفاظه من
قبل ضده من باب الاتفاق، من دون ان يكون ذلك من جهة تقييد في الطلب أو المتعلق
بوجه أصلا كما لا يخفى.
ومن ذلك البيان ظهر الحال في كلية التخييرات الشرعية أيضا إذ نقول برجوع الامر
التخييري في جميع الموارد إلى ايجاب كل واحد من الفردين أو الافراد لكن بايجاب ناقص
بنحو لا يقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك الاخر مع كون
الترك في حال وجود الاخر تحت الترخيص كما صنعه صاحب الحاشية قدس سره في
تعريف الواجب التخييري حيث عرفة بأنه طلب الشئ مع المنع عن بعض أنحاء تروكه
في قبال الواجب التعييني الذي مرجعه إلى ايجابه وطلبه مع المنع عن جميع أنحاء تروكه
الراجع في الحقيقة إلى كون الواجب في كل واحد من الفردين التخييريين هي الحصة
الملازمة مع عدم الاخر لا مطلق وجودهما على الاطلاق، لا إلى وجوب الجامع بين الفردين
368

كما افاده بعضهم، ولا إلى وجوب أحد الفردين بلا عنوان أو أحدهما المعين عند الله وهو
الذي يختاره المكلف لعلمه سبحانه أزلا بما يختاره في مقام الايجاد، وذلك لان الأول مع أنه
غير متصور في كثير من الموارد كما في فرض الدوران بين فعل شئ وترك الاخر وفي
الضدين كالصلاة والإزالة مثلا مخالف لظواهر الأدلة الآمرة بكل واحد من الفردين،
من جهة وضوح ظهورها في وجوب كل واحد من الفردين بخصوصيتهما لا بما ان الوجودين
كل منهما مصداق لما هو الواجب وهو الجامع كما هو واضح. واما الثاني فلما فيه أيضا بان
عنوان أحد الفردين بلا عنوان امر عرضي انتزاعي لا يكون له ما بإزاء في الخارج ولا
كان قابلا لقيام المصلحة به فلا يمكن ان يكون موردا للالزام واما مصداق أحد الفردين
والخصوصيتين على نحو النكرة فهو وان كان قابلا لان يقوم به المصلحة ويصير موردا
للالزام ولكنه أيضا مناف لما يقتضيه ظواهر الأدلة الآمرة بكل واحد من الوجودين. و
اما الثالث فهو أيضا كذلك إذ يكون منافيا لما اقتضه الأدلة الآمرة بكل واحد من
الوجودين من جهة ظهورها في وجوبها كل واحد من الوجودين بخصوصيته، نعم لا يرد
عليه حينئذ محذور لزوم عدم اتصاف الوجودين بالوجوب في ظرف عصيان المكلف وعدم
اختياره لواحد منهما، وذلك من جهة وضوح ان اختيار المكلف حينئذ طريق إلى ما هو
الواجب عند الله لا انه يكون له موضوعية وهو واضح.
وحينئذ فبعد بطلان الوجوه المزبورة يتعين قهرا ما ذكرنا، إذ عليه تبقى الأدلة على
ظاهرها في وجوب كل واحد من الفردين بخصوصيته غايته انه رفع لليد عما يقتضيه ظهور
الوجوب في كل منهما في الوجوب التام وايجاب حفظ الوجود على الاطلاق بارجاع
الوجوب فيهما إلى ايجابين ناقصين على نحو لا يقتضي كل منهما بمقتضي النهى عن النقيض
الا المنع عن تركه في حال ترك الآخر وذلك أيضا لا من جهة تقييد في الطلب أو المتعلق
بل من جهة قصور في نفس الوجوبين حينئذ في اقتضاء حفظ الوجودين على الاطلاق
حتى في حال وجود الاخر وهذا القصور أيضا ناش من جهة ما بين ملاكهما من التضاد
الموجب لخروج أحد الوجودين عن كونه ذا مصلحة عند تحقق الاخر، ونتيجة ذلك كما
عرفت هو حرمة ترك كلا الوجودين ووجوب الاتيان بأحدهما كما هو واضح.
وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا في الضدين المتساويين ظهر أيضا حال ما ذا
كان أحدهما أهم والاخر مهما فإنه فيهما أيضا أمكن بالتقريب المزبور الجمع بين
369

الامرين في رتبة واحدة، امر تام بالأهم وأمر ناقص بالمهم على نحو كان مقتضاه لزوم
حفظ المهم من سائر الجهات في ظرف انحفاظه من باب الاتفاق من قبل ضده الأهم، إذ
نقول بان عمدة المحذور في عدم جواز الامر بالضدين كما عرفت انما هو محذور لزوم ايقاع
المكلف فيما لا يطاق بلحاظ اقتضاء كل واحد من الامرين ولو بتوسيط حكم العقل
بلا بدية الإطاعة والامتثال لصرف القدرة نحو متعلقه، إذ حينئذ بعد أن لا يكون للمكلف
الا قدرة واحدة ولا يتمكن من الجمع بين الإطاعتين ربما يقع المكلف من ناحية اقتضاء
الامرين في محذور ما لا يطاق وحيث إن ذلك ينتهى بالآخرة إلى الشارع والمولى ربما
يصدق ان المولى هو الذي أوقع المكلف في ما لا يطاق، ولكن نقول بأنه من المعلوم ان
هذا المحذور انما يكون إذا كان الامر ان كل واحد منهما تاما بنحو يقتضي حفظ متعلقه على
الاطلاق حتى من ناحية ضده، والا فإذا لم يكونا كذلك بل كانا ناقصين كما تصورناه في
المتساويين أو كان أحدهما تاما والاخر ناقصا غير تام بنحو لا يقتضي الا حفظ متعلقه من
قبل مقدماته وسائر أضداده غير هذا الضد فلا محذور أصلا، حيث لا يكون مطاردة بين
الامرين في مرحلة اقتضائهما حتى يكون منشأ لتحير العقل ويصدق ان المولى من جهة
امره أوقع المكلف في ما لا يطاق، وذلك لان الامر بالأهم حسب كونه تاما وان اقتضى
حفظ متعلقه على الاطلاق حتى من ناحية ضده فيقتضي حينئذ افناء المهم أيضا، ولكن
اقتضائه لافناء المهم انما هو بالقياس إلى حده الذي يضاف عدمه إليه لا مطلقا حتى
بالقياس إلى بقية حدوده الاخر التي لا تضاد وجود الأهم وحينئذ فإذا لا يكون الامر
بالمهم حسب نقصه مقتضيا لحفظ متعلقه على الاطلاق حتى من الجهة المضافة إلى الأهم
بل كان اقتضائه للحفظ مختصا بسائر الجهات والحدود الاخر غير المنافية مع الأهم في
ظرف انحفاظه من باب الاتفاق من قبل الأهم. وبعبارة أخرى كان قضية الامر بالمهم
من قبيل متمم الوجود الراجع إلى ايجاب حفظ المهم من قبل مقدماته وسائر أضداده في
ظرف انحفاظه من قبل الضد الأهم من باب الاتفاق فلا جرم يرتفع المطاردة بينهما،
حيث إن الذي يقتضيه الامر بالأهم من افناء المهم بالقياس إلى الحد المضاف عدمه إليه
لا يقتضي الامر بالمهم خلافه، وما اقتضاه الامر بالمهم من ايجاب حفظ متعلقه من سائر
الجهات الاخر لا يقتضي الامر بالأهم افنائه من تلك الجهات فأمكن حينئذ الجمع بين
الامرين في مرتبة واحدة من دون احتياج إلى الترتب المعروف، كما هو واضح.
370

ولئن شئت فاستوضح ذلك بما إذا ألم يكن في البين الا امر واحد بشئ لكن في ظرف
تحقق بعض مقدماته أو انعدام بعض أضداده من باب الاتفاق، كما لو امر بايجاد شئ
كذائي في ظرف تحقق المقدمة الكذائية، فإنه لا شبهة حينئذ في أن ما اقتضاه مثل هذا
الامر انما هو لزوم حفظ الشئ من قبل سائر المقدمات والأضداد غير تلك المقدمة
الكذائية، لا لزوم حفظه على الاطلاق، ومن ذلك لا يكاد يكون مثل هذا الامر الا أمرا
بمتمم الوجود ولازمه قهرا هو خروج الواجب ببعض حدود وجوده عن حيز الالزام و
صيرورته بالقياس إلى الحد المضاف إلى المقدمة الكذائية تحت الترخيص الفعلي بحيث يجوز
له تفويت المأمور به من قبل تلك المقدمة كما لو أنيط وجوبه بتحقق تلك المقدمة، وعليه
نقول: بأنه كما لا منافاة بين هذا الالزام وبين الترخيص في الترك بالقياس إلى الحد
المضاف إلى المقدمة الكذائية مثلا وأمكن ان يكون الشئ ببعض حدود وجوده تحت
الالزام وببعض حدود وجوده تحت الترخيص كذلك لا منافاة بين هذا الالزام وبين
الالزام على الترك بالقياس إلى الحد المضاف إلى ضده بتبديل الجواز هنا بالالزام فأمكن
حينئذ ان يكون المهم بالقياس إلى حده الملازم مع عدم الأهم تحت الالزام بالترك، و
بالقياس إلى سائر حدود وجوده الحاصلة بقياسه إلى سائر المقدمات وعدم بقية الأضداد
تحت الالزام، بالفعل في ظرف انحفاظ وجوده من قبل عدم الأهم من باب الاتفاق، إذ في
مثل ذلك لا يكاد مجال المطاردة بين الامرين في مرحلة اقتضائهما في صرف القدرة نحو
متعلقه، بل ولا المطاردة أيضا بين الإطاعتين، بلحاظ انه في ظرف إطاعة الأهم لا
موضوع لإطاعة الامر بالمهم إذ كان اطاعته خارجا رافعة لعنوان الإطاعة عن المهم لا لوجودها
فارغا عن الاتصاف، وفي ظرف إطاعة المهم كان إطاعة الامر بالأهم منطردا لمانع سابق
كالشهوة مثلا لا ان إطاعة المهم كانت طاردة لإطاعة الامر بالأهم، ومعه لا وجه
لدعوى سقوط الامر عن المهم بقول مطلق في ظرف ثبوته للأهم بمحض اقتضاء الامر
بالأهم افناء المهم، بصرف القدرة نحو متعلقه، كي نحتاج في اثبات الامر بالمهم إلى
الترتب المعروف والطولية بين الامرين، بل لنا حينئذ بمقتضى البيان المزبور اثبات الامر
بالمهم في عرض ثبوت الامر بالأهم وفي رتبته.
نعم لو كان قضية الامر بالأهم حينئذ هو لزوم افناء المهم بقول مطلق حتى من قبل
حدوده المضافة إلى سائر المقدمات وعدم سائر الأضداد كان اللازم هو المصير إلى سقوط
371

الامر عن المهم على الاطلاق وعدم الامر به ولو ناقصا، ولكنه ليس كذلك قطعا لما
عرفت بان القدر الذي يقتضيه الامر بالأهم من طرد المهم وافنائه انما هو طرده بالقياس
إلى الحد الذي يضاف عدمه إليه لا مطلقا حتى بالنظر إلى بقية الحدود المضافة إلى مقدماته و
عدم سائر أضداده، لأنه بالقياس إلى بقية حدوده الاخر لا يكون مزاحما مع الأهم حتى
يقتضي طرده وافنائه، وحينئذ فإذا فرضنا خروج المهم بحده المضاف إلى عدم الأهم عن
حيز التكليف بالحفظ ولا يقتضي أمره الناقص الا حفظه وسد باب عدمه بالقياس إلى
بقية حدوده الاخر غير المزاحمة للأهم فلا جرم لا يبقى مجال المطاردة بين مقتضي الامرين
كي بالجمع بينهما يصدق بأن المولى أوقع المكلف بأمره في ما لا يطاق، فصح حينئذ
الالتزام بثبوت الامر بالمهم في رتبة الامر بالأهم.
لا يقال بأنه كذلك إذا كان قضية الامر بالمهم هو مجرد سد باب عدمه المضاف إلى
مقدماته وسائر أضداده ولو لم ينضم إلى تلك السدود السد من قبل الضد الأهم، وليس
كذلك قطعا من جهة وضوح عدم انتاج هذا المقدار لوجود المهم فان المهم لابد في تحققه و
وجوده وان ينسد جميع أبواب عدمه حتى عدمه الملازم مع وجود ضده والا فبدونه لا يكاد
انتهاء مجرد السد من بقية الجهات إلى وجوده بوجه أصلا، وعليه فلابد وأن يكون
مقتضى الامر بالمهم على نحو يوجب وصل بقية السدود بالسد المضاف إلى الأهم كي
بذلك يتحقق الوجود، وحيث أن ذلك يلازم قهرا الحفظ من قبل الحد المضاف إلى
الأهم، فقهرا يعود محذور المطاردة بين الامرين إذ يكون قضية الامر بالمهم حسب اقتضائه
لتحقق صفة الوصل المزبور هو حفظه من ناحية حده الملازم للأهم، وقصية الامر
بالأهم حينئذ هو عدم حفظه بالقياس إلى ذلك الحد بل وجوب افنائه فيقع بينهما المطاردة.
فإنه يقال نعم ان المطلوب بالمهم وان كان هو الحفظ من بقية الحدود الملازم مع
الحفظ من جهة الأهم، ولكنه بعد خروج الحفظ من تلك الجهة عن حيز أمر المهم لرجوع
امره إلى الامر بمتمم الوجود الراجع إلى ايجاب الحفظ من تلك الحفظ من بقية الجهات في ظرف انحفاظه
من الجهة المزبورة من باب الاتفاق فقهرا يرتفع بينهما المطاردة والمزاحمة إذ حينئذ يصير
المطلوب بالمهم هو الذات الواجدة للملازمة مع عدم الأهم من باب الاتفاق، وفي مثله
أيضا ربما يكون وصف الوصل بالملزم به من قبل المهم قهري الحصول في ظرف فعلية
الامر، من جهة كونه حينئذ من اللوازم القهرية للحفظ من قبل بقية الحدود كما هو واضح
372

وعليه فلا بأس بالجمع بين الامرين في الضدين على نحو ما عرفت أمر ناقص بالمهم وأمر
تام بالأهم، حيث نقول بأن القدر الذي يقتضيه الأهم من عدم الامر بالمهم بمقتضى
المطاردة انما هو عدم الامر به مطلقا على نحو يقتضي حفظ المهم على الاطلاق ومن جميع
الحدود لا عدم الامر به بقول مطلق ولو ناقصا كما هو واضح.
ومن ذلك البيان ظهر أيضا عدم الحاجة إلى التشبث بالترتب والطولية في اثبات
الامر التام بالمهم بإناطة امره بعصيان الأهم، وذلك لأنه وان كان هذا التقريب أيضا
بنفسه تقريبا تاما نفيسا ويرتفع به محذور المطاردة بين الامرين بلحاظ صيرورة الامر
بالمهم حسب اناطته بعصيان الأهم في رتبة متأخرة عن سقوط امر الأهم الا أنه غير محتاج
إليه بعد امكان الجمع بين الامرين في مرتبة واحدة واندفاع محذور المطاردة بينهما بجعل
الامر بالمهم أمرا ناقصا غير تام، بل ولئن تدبرت ترى كون مثل هذا التقريب في طول
التقريب الذي ذكرناه وعدم وصول النوبة إلى الامر التام بمقتضى الترتب الا في فرض
عدم امكان تأثير مصلحة المهم في الامر الناقص في رتبة الامر بالأهم، وذلك من جهة أنه
بعد تأثير المصلحة في الامر الناقص وصيرورة امره في رتبة الامر بالأهم قهرا يلزمه كون
سقوطه أيضا في رتبة سقوط الأهم، وحينئذ فإذا سقط الأهم بالعصيان يلزمه سقوطه عن
المهم أيضا ومع سقوطه لا يبقى مجال للامر التام بالمهم من جهة عدم المقتضى له في هذه
الرتبة، فمن ذلك لابد اما من تأثير المصلحة في رتبة سابقة في الامر الناقص فقط أو بقائه
بلا تأثير في الرتبة السابقة وتأثيره في الامر التام في رتبة متأخرة عن العصيان، وفي مثله
من المعلوم أنه عند الدوران يكون المتعين هو الأول، فان عدم تأثير المصلحة في الامر
الناقص في رتبة الأهم وبقائها إلى المرتبة المتأخرة مما لا وجه يقتضيه بعد قابلية المحل و
عدم المانع عن التأثير، بخلافه في تأثيره في الامر التام فان عدم تأثيره فيه اما في مرتبة
الأهم فمن جهة المحذور العقلي واما في مرتبة عصيانه فمن جهة عدم المقتضى له مع فرض
تأثيره سابقا في الامر الناقص الساقط في مرتبة سقوط الأهم، ففي الحقيقة يكون مرجع
الدوران بينهما من قبيل الدوران بين التخصيص والتخصص، إذ كان عدم تأثير المصلحة
في الامر الناقص من باب التخصيص وفى الامر التام في الرتبة المتأخرة بعد تأثيره أولا
في الامر الناقص من باب التخصص، وفي مثله من المعلوم ان المتعين هو الثاني من جهة
أولوية التخصص من التخصيص.
373

الكلام في الترتب
نعم لو اغمض عن ذلك كان هذا التقريب في نفسه تقريبا نفسيا تاما في اثبات
الامر التام بالمهم وفي رفع محذور المطاردة بين الامرين، وتوضيح ذلك يحتاج إلى ذكر أمور:
الأول ان النسبة الواقعة في القضايا على ما مر منا غير مرة على ضربين، فإنه تارة
تلاحظ النسبة من حيث خروجها من كتم العدم إلى الوجود وأخرى تلاحظ من حيث
ثبوتها ووقوعها فارغا عن أصل ايقاعها، فهي بالاعتبار الأول تعبر عنها بالنسبة الايقاعية
وبالاعتبار الثاني بالنسبة الوقوعية، كما أن القضية باعتبار اشتمالها على النسبة الأولى
تكون من القضايا التامة الملحوظ فيها ايقاع النسبة بين الموضوع والمحمول أو بين المبدء و
الفاعل، كقولك زيد قائم وزيد ضرب، وباعتبار اشتمالها على النسبة بالمعنى الثاني تكون
من القضايا التقييدية والمركبات الناقصة، وحيث إن النسبة بالمعنى الأول تكون مقدمة
على النسبة بالمعنى الثاني بملاحظة تفرع الثبوت والوقوع دائما على الايقاع كانت القضايا
التقييدية التوصيفية باعتبار اشتمالها على النسبة الثابتة الوقوعية في رتبة متأخرة عن
القضايا التامة ونتيجة لها.
الامر الثاني لا اشكال في أن مقام عروض الإرادة وتأثيرها، انما هو مرحلة النسبة
الايقاعية، حيث إنه كان طلب الشئ بعثا نحو الشئ وارسالا للفاعل نحو المبدء بايجاده و
اخراجه من كتم العدم إلى الوجود لا مرحلة النسبة الثابتة الوقوعية، لوضوح ان مثل
هذه المرحلة مرحلة وجود المراد الذي هو مرحلة سقوطه فلا يمكن ان يكون ذلك ظرفا لعروض
طلبه وثبوته، كيف وانه مضافا إلى كونه حينئذ من طلب الحاصل يلزمه كون طلبه في
مرتبة وجود مراده، وهو كما ترى من المستحيل، من جهة استحالة أن يكون للشئ سعة و
اطلاق يشمل مرتبة وجود معلوله وبالعكس، بل بعد أن يكون نسبة الإرادة إلى المراد نسبة
العلية والمعلولية فقهرا مقتضى تخلل الفاء بينهما هو محدودية كل منهما بحد خاص غير
متجاوز عن ذلك الحد، فيكون مرتبة الإرادة في رتبة قبل الفاء والمراد في رتبة بعد الفاء، و
في مثله لا يكاد يكون اقتضاء الإرادة وتأثيرها إلا في مرتبة ذاتها التي هي رتبة قبل الفاء
دون مرتبة بعد الفاء التي هي رتبة وجود المراد بل كان مثل هذه الرتبة رتبة سقوطها عن
التأثير كما هو واضح.
الامر الثالث لا اشكال في أن عنوان الإطاعة انما كان منتزعا عن مرتبة وجود المراد
374

والمقتضى بالفتح المتأخر عن رتبة الامر والإرادة، ومثله أيضا عنوان العصيان حيث إن
انتزاعه أيضا انما كان عن مرتبة وجود المقتضى بالفتح لأنه نقيض للإطاعة فيكون
ذلك أيضا في رتبة متأخرة عن الامر والإرادة، ولازم ذلك كما عرفت هو عدم شمول
الامر والإرادة لمرتبة اطاعته التي هي مرتبة وجود المراد ولا لمرتبة عصيانه، من جهة تأخر
رتبتيهما عن رتبته، ومن ذلك يكون اقتضائه للتأثير دائما في مرتبة قبل العصيان، نعم قضية
تقارن العلة زمانا مع المعلول انما هو وجود الامر في زمان الإطاعة والعصيان، ولكن مع
ذلك كل في رتبة نفسه، كما في حركة اليد وحركة المفتاح، حيث أنهما مع تقارنهما زمانا
يكون كل منهما في رتبة نفسه إحديهما قبل الفاء والأخرى بعده، وهو واضح.
وإذ عرفت ذلك نقول: بان مقتضى إناطة امر المهم بعصيان الأهم قهرا وقوع امره
حسب الإناطة المزبورة في رتبة متأخرة عن العصيان المتأخر عن الامر بالأهم، ومعه
يرتفع لا محالة محذور المطاردة بين الامرين حيث إنه في مرتبة اقتضاء امر الأهم لا امر
بالمهم حتى يزاحم مع الأهم في اقتضائه، من جهة أن أمره انما كان في رتبة متأخرة عن
العصيان الذي هو متأخر عن الامر بالأهم، وفي مرتبة ثبوت الامر للمهم واقتضائه في
التأثير لا وجود للامر ولا اقتضاء له في التأثير حيث كان مثل هذه المرتبة مرتبة سقوطه عن
التأثير دون ثبوته، وعليه فما اجتمع الأمران في مرتبة واحدة حتى يقع بينهما المطاردة و
المزاحمة في مرحلة اقتضائهما في التأثير.
واما ما قيل كما في الكفاية بأن طلب المهم وان لم يكن في مرتبة طلب الأهم فلا
يلزم في تلك المرتبة اجتماع طلبهما الا أنه في مرتبة طلب المهم كان اجتماع لطلبهما من
جهة فعلية الامر بالأهم أيضا في تلك المرتبة بملاحظة عدم سقوطه بعد ما لم يتحقق
المعصية، ومعه يتوجه محذور المطاردة والمزاحمة في تلك المرتبة، فمدفوع بما عرفت في المقدمة
الثالثة من استحالة أن يكون لكل امر اطلاق وسعة يشمل مرتبة إطاعة نفسه وعصيانه،
كيف وأنه إذا فرض انه لا يكون الامر بالمهم في مرتبة الامر بالأهم لكونه في رتبة
متأخرة عن العصيان المتأخر عن الامر بالأهم فكيف يمكن ان يكون الامر بالأهم في
مرتبة الامر بالمهم، ومجرد وجود أمر الأهم وفعليته في زمان العصيان أيضا لا يقتضى
وجوده وفعليته في مرتبته، فضلا عن كونه في المرتبة المتأخرة عن العصيان التي هي رتبة
الامر بالمهم، كما عرفت نظيره في مثل حركة اليد والمفتاح، حيث أنهما مع كونهما
375

متقارنتين زمانا متفاوتتان بحسب المرتبة بنحو يتخلل بينهما الفاء في قولك وجدت فوجدت،
وعليه فلا يبقى في البين الا مجرد مقارنة الامرين زمانا واجتماعهما في زمان واحد، و
لكنه بعد اختلافهما بحسب الرتبة وكون المدار في التأثير على الرتبة لا الزمان كما في كلية
العلل والمعلولات لا يكاد يضر حيث اجتماع طلبهما بحسب الزمان، إذ كان اقتضاء كل
واحد من الامرين وتأثيره حينئذ في مرتبة نفسه، فكان تأثير الامر الأهم في رتبة قبل
العصيان وتأثير المهم في رتبة بعد العصيان، فتدبر.
ثم إنه مما ذكرنا ظهر لك حال بقية الشقوق والصور من فرض كونهما موسعين أو
مختلفين أيضا، فعلى ما ذكرنا من امكان الجمع بين الامرين بالضدين إما بنحو ما ذكرنا
أو بنحو الترتب لا بأس باتيان ما هو الموسع منهما بداعي أمره، فإذا كان الموسع عبادة
كان للمكلف التقرب بها باتيانها بداعي أمرها بلا احتياج في تصحيحها إلى حيث
رجحانها الذاتي، نعم لو بنينا على مسلك من يقول باستحالة الجمع بين الامر بهما ولو في
رتبتين أيضا لكان المتعين حينئذ في تصحيحها هو حيث رجحانها الذاتي، من جهة انه
بمزاحمة هذا الفرد مع المضيق فقهرا بحكم العقل يخرج عن دائرة الطبيعة المأمور بها، ومع
خروجه عنها لا جرم يختص الامر أيضا بغيره من الافراد الاخر، فلا يبقى مجال تصحيحها
حينئذ باتيانها بداعي أمرها.
واما توهم أن الفرد المزاحم مع المضيق بعد كونه كالأفراد الباقية في الوفاء بالغرض
وعدم كون خروجه من باب التخصيص الكاشف عن خلوه عن المصلحة والوفاء
بالغرض رأسا فأمكن التقرب به باتيانه بقصد الامر بالمتعلق بالطبيعة والجامع، فمدفوع
بأن داعوية الامر في التكاليف بعد أن كانت عبارة عن كون الامر علة فاعلية للايجاد
فلا جرم بخروج هذا الفرد عن دائرة الطبيعة المأمور بها يتضيق دائرة الطبيعي المأمور به بما
عدا هذا الفرد، ومعه لا يكاد اقتضاء للامر المتعلق بالطبيعة بالنسبة إليه في الداعوية
حتى يصح جعله داعيا ومحركا نحوه بالايجاد، وهذا هو الذي اشتهر بينهم بأن الامر لا
يدعو الا إلى متعلقه من جهة أن داعوية الامر انما هي باقتضائه للايجاد فمع عدم اقتضاء
فيه بالنسبة إلى هذا الفرد يستحيل داعويته نحوه كما هو واضح.
ثم إن هذا كله فيما يتعلق بالضد الخاص.
واما الضد العام بمعنى الترك فلا إشكال فيه في اقتضاء الامر بالشئ للنهي عنه
376

كما تقدم، وانما الكلام والاشكال في أنه هل هو بنحو العينية أو التضمن أو من جهة
الالتزام حيث إن فيه وجوها، وفي مثله كان المتعين هو الأخير من كونه على نحو الالتزام
دون العينية والتضمن.
وذلك اما عدم كونه بنحو العينية فواضح، فإنه لا وجه له الا توهم ان
حقيقة النهى عبارة عن طلب الترك قبال الامر الذي هو عبارة عن طلب الوجود و
ان ترك الترك في المقام بعد أن كان عبارة أخرى عن الوجود الذي هو طارد العدم قهرا
كان طلب الوجود أيضا عبارة أخرى عن النهى عن النقيض الذي هو عبارة عن طلب
ترك الترك ومقتضاه حينئذ هو عينية الامر بالشئ مع النهى عن النقيض بحسب المنشأ
وان لم يكن كذلك بحسب المفهوم، ولكنه فاسد جدا، وذلك لما سيجئ من أن حقيقة النهى
عن الشئ ليس الا عبارة عن الزجر عن الوجود في قبال الامر الذي هو الارسال والبعث
نحو الوجود لا أنه عبارة عن طلب الترك كي يلزمه اشتراكه مع الامر في جزء المدلول وهو
الطلب فيلزمه عينيتهما في المقام بحسب المنشأ، وعليه فمن الواضح المغايرة التامة بين
مدلوليهما علاوة عما كان بين مفهوميهما من المغايرة، كما هو واضح.
واما عدم كونه بنحو التضمن والجزئية فظاهر أيضا، من جهة ابتناء القول بالجزئية
على تركب الوجوب من طلب الفعل مع المنع عن الترك، والا فعلى التحقيق من بساطة
حقيقة الوجوب وعدم تركبه لا يبقى مجال دعوى كون الاقتضاء المزبور من جهة
التضمن.
وحينئذ يتعين الامر بكونه على نحو الالتزام، نظرا إلى ما هو الواضح من
الملازمة التامة بين إرادة الشئ وكراهة تركه بحسب الارتكاز بحيث لو التفت إلى الترك
ليبغضه ويمنع عنه، نعم لا بأس بدعوى العينية بينهما بحسب الانشاء بلحاظ كونه مبرزا
عن مبغوضية الترك كابرازه عن محبوبية الوجود ومطلوبيته فتدبر.
377

المبحث السادس
قد اختلفوا في جواز امر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه وعدم جوازه على قولين، وقد
نسب القول بالجواز إلى الأشاعرة، ولكن الظاهر أن المراد من الشرط المنتفى انما هو شرط
وجود المأمور به لا شرط نفس الامر، لان ذلك مما لا مجال للنزاع فيه، إذ لا ينبغي
الاشكال في عدم جوازه حتى من الأشاعرة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين، نظرا
إلى رجوعه حينئذ إلى البحث عن جواز تحقق المعلول بدون علته التامة، وهو كما ترى لا يتوهمه
من له أدنى شعور، هذا إذا أريد من الانتفاء الانتفاء بقول مطلق، واما لو أريد انتفاء
شرط بعض مراتب الامر فهو أيضا مما لا ينبغي الاشكال في جوازه، فإنه إذا كان للامر
مراتب من حيث الانشاء والفعلية والتنجز أمكن لا محالة الامر به بمرتبة انشائه مع انتفاء
شرطه بالنسبة إلى مرتبة فعليته أو مرتبة تنجزه أو الامر به بمرتبة فعليته مع انتفاء شرط مرتبة
تنجزه، إذ لا محذور عقلا يترتب عليه كي يصار لأجله إلى عدم جوازه وامتناعه، كيف و
ان الدليل على امكانه حينئذ هو وقوعه في العرفيات والشرعيات كما في موارد الأصول و
الامارات المؤدية إلى خلاف الواقع، بل ولعل كثيرا من الاحكام بعد واقفة على مرتبة
انشائها ولم تصل إلى مرتبة فعليتها إلى أن يقوم الحجة عجل الله تعالى فرجه كما لعله من
ذلك أيضا قوله عليه السلام: (ان الله سبحانه سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا
الخ) وحينئذ فيتعين إرادة انتفاء شرط وجود المأمور به، وعليه أيضا ينبغي تخصيص
مورد النزاع بالانتفاء الموجب لسلب قدرة المأمور على الامتثال واتيانه واجدا لشرطه لا
مطلق الانتفاء ولو المستند إلى اختيار المكلف مع تمكنه من تحصيله، فان ذلك أيضا مما لا
378

مجال للنزاع فيه، إذ لا اشكال في جواز ذلك كما في تكليف الجنب بالصلاة عند دخول
الوقت مع تمكنه من تحصيل الطهارة، ومن ذلك كان الواجب عليه حينئذ تحصيل
شرطها الذي هي الطهارة، فإنه لولا وجوب الصلاة عليه لما كان الواجب عليه تحصيل
الطهارة، وهو واضح بعد وضوح كون وجوب الطهارة عليه وجوبا غيريا ترشحيا من
وجوب ذيها.
وعليه فيرجع هذا النزاع إلى النزاع المعروف بين الأشاعرة وغيرهم من جواز تعلق
التكليف بالمحال وعدم جوازه من جهة رجوع التكليف بالمشروط حينئذ مع انتفاء شرط
المأمور به وعدم تمكن المكلف من تحصيله إلى التكليف بالمحال وبما لا يقدر عليه
المكلف، فيندرج حينئذ في ذلك النزاع الذي أثبته الأشاعرة حسب زعمهم الفاسد من
انكار التحسين والتقبيح العقليين وتجويزهم على الله سبحانه تكليف عباده بما لا
يقدرون عليه. وربما يبتني ذلك أيضا على النزاع المتقدم في مسألة وحدة الطلب والإرادة و
تغايرهما، بجعل الطلب عبارة عن معنى قابل للتعلق بالمحال مع كونه موضوعا لحكم العقل
بوجوب الامتثال، كما هو ظاهر استدلالهم بالمغايرة، إذ حينئذ على القول بالاتحاد كما هو
التحقيق يكون عدم جوازه من جهة كون التكليف بنفسه محالا لا من جهة انه تكليف
بالمحال، نظرا إلى وضوح استحالة تعلق الإرادة الفعلية بالممتنع، بخلافه على القول
بالمغايرة فان المحذور فيه انما هو من حيث كونه تكليفا بالمحال وبما لا يقدر عليه المكلف،
وفي مثله نقول بأنه على القول بالمغايرة وتسليم هذا المبنى الفاسد لا باس بالقول بالجواز في
المقام، ولكن الذي يسهل الخطب هو فساد أصل المبني لما عرفت في محله من اتحاد حقيقة
الطلب والإرادة وانه لا يتصور معنى آخر يكون هو الطلب في قبال الإرادة بحيث كان
موضوعا للحكم بوجوب الامتثال وكان قابلا أيضا للتعلق بالمحال، وعليه فكان
التحقيق في المقام هو عدم جوازه من جهة ما عرفت من كون مثل هذا التكليف بنفسه
محالا، كما هو واضح.
379

المبحث السابع
(في أنه هل الامر والطلب متعلق بالوجود أو الطبيعي)
وقبل الخوض في المرام ينبغي بيان ما هو مركز التشاجر والكلام بتمهيد مقدمتين:
فنقول:
المقدمة الأولى: لا اشكال في أنه على كلا القولين في المسألة لابد عند طلب شئ و
الامر به من لحاظ موضوع الطلب وتصوره واحضاره في الذهن، كي بذلك يتمكن من
طلبه والبعث إليه والا فبدونه يستحيل تحقق الطلب والبعث إليه وهو واضح.
الثانية: ان من المعلوم ان لحاظ الطبيعة يتصور على وجوه: منها لحاظها بما هي في
الذهن ومحلاة بالوجود الذهني، ومنها لحاظها بما هي شئ في حد ذاتها، ومنها لحاظها بما
هي خارجية بحيث لا يلتفت إلى مغايرتها واثنينيتها مع الخارج ولا يرى في هذا اللحاظ
التصوري الا كونها عين الخارج ومتحدة معه بحيث لو سئل بأنه أي شئ ترى في هذا
اللحاظ يقول بأنه ما أرى الا الخارج وان كان بالنظر التصديقي يقطع بخلافه فيرى
كونها غير موجودة في الخارج.
وفي ذلك نقول: بان من الواضح أيضا انه ليس المقصود من تعلق الامر بالطبيعي
عند القائل به هو الطبيعي بما هو موجود في الذهن من جهة وضوح انه بهذا الاعتبار مع
كونه كليا عقليا غير قابل للصدق على الخارج لا يكون مما تقوم به المصلحة حتى يتعلق به
الامر والطلب، فلا يتوهم أحد حينئذ تعلق الطلب والامر به بهذا الاعتبار كما لا يخفى،
كوضوح عدم كون المقصود أيضا هو الطبيعي بالاعتبار الثاني من جهة وضوح ان الطبيعة
بهذا الاعتبار ليست الا هي فلا تكون هي أيضا مركب المصلحة حتى يتعلق بها الامر و
الطلب، بل وانما المقصود من ذلك عند القائل به هو الطبيعي بالاعتبار الثالث الذي يرى
كونها عين الخارج.
وعليه فمركز النزاع بين الفريقين في أن معروض الطلب وموضوعه هو الطبيعة أو
الوجود انما هو في الطبيعي بالاعتبار الثالث فالقائل بالطبيعي يدعي تعلق الطلب والامر
بنفس الطبيعي والعناوين بما هي ملحوظة كونها خارجية لا بمنشأ انتزاعها وهو الوجود
380

لا بدوا ولا بالسراية، والقائل بالوجود يدعي عدم تعلقه الا بالمعنون الخارجي الذي هو
منشأ انتزاع العناوين والصور الذهنية.
وإذ عرفت ذلك نقول: ان الذي يقتضيه التحقيق هو الأول من تعلق الامر والطلب
بنفس الطبيعة لكن بما هي مرآة إلى الخارج وملحوظة بحسب اللحاظ التصوري عين
الخارج لا بالوجود الخارجي كما كان ذلك هو الشأن في سائر الكيفيات النفسية من المحبة
والاشتياق بل العلم والظن ونحوها أيضا، كما يشهد لذلك ملاحظة الجاهل المركب
الذي يعتقد بوجود شئ بالقطع المخالف للواقع فيطلبه ويريده أو يخبر بوجوده وتحققه في
الخارج، إذ نقول بأنه لولا ما ذكرنا من تعلق الصفات المزبورة بالعناوين والصور
الذهنية بما هي ملحوظة خارجية يلزم خلو الصفات المزبورة عن المتعلق في مثل الفرض
المزبور، فإنه بعد مخالفة قطعه للواقع لا يكون في البين شئ تعلق به تلك الصفات، مع أن
ذلك كما ترى من المستحيل جدا، لوضوح أن هذه الصفات من العلم والظن والمحبة و
الاشتياق والإرادة كما كان لها إضافة إلى النفس من حيث قيامها بها كذلك لها إضافة
أيضا إلى متعلقاتها بحيث يستحيل تحققها بدونها، بل وقد يقطع الانسان ويذعن بعدم
تحقق شئ كذائي في الخارج إلى الأبد ومع ذلك يشتاق إليه غاية الاشتياق ويتمنى
وجوده كقولك (يا ليت الشباب لنا يعود) فان ذلك كله كاشف تام عن تعلق تلك
الصفات المزبورة بنفس العناوين والصور الذهنية لا بمنشأ انتزاعها والمعنون الخارجي و
هو الوجود، غايته بما هي ملحوظة بحسب النظر التصوري عين الخارج لا بما انما شئ في
حيال ذاتها بحيث يلتفت عند لحاظها إلى مغايرتها مع الخارج، ولئن شئت فاستوضح ما ذكرنا
بالرجوع إلى الأكاذيب المتعارفة بين الناس في ألسنتهم ليلا ونهارا فإنه لا شبهة في أن
الذي يخبر كذبا بثبوت القيام لزيد في قوله زيد قائم مثلا لا يلاحظ ولا يري من زيد و
القيام والنسبة بينهما في لحاظه ونظره الأزيد أو القيام الخارجيين والنسبة الخارجية بينهما، لا
المفهوم منها بما انه شئ في قبال الخارج، ولا الوجود الحقيقي الخارجي، لأنه حسب
اذعانه وتصديقه مما يقطع بخلافه والا يخرج اخباره بقيامه عن كونه كذبا كما هو واضح.
وعلى ذلك فلا محيص من المصير في كلية تلك الصفات من العلم والظن والحب و
البغض والاشتياق والإرادة ونحوها إلى تعلقها بنفس العناوين والصور الذهنية، غايته
بما هي حاكية عن الخارج كما شرحناه، لا بمنشأ انتزاعها والمعنون الخارجي لا بدوا ولا
381

بالسراية بتوسيط العناوين والصور، كيف وان الخارج بعد كونه ظرفا لسقوط الإرادة و
الطلب يستحيل كونه ظرفا لثبوتها، فيستحيل حينئذ تعلق الإرادة والطلب بالمعنون
الخارجي ولو بالسراية بتوسيط العناوين والصور، من جهة رجوعه حينئذ إلى طلب
الحاصل المحال كما هو واضح. وارجاعه كما في الكفاية إلى إرادة صدور الوجود من
المكلف وجعله بسيطا بنحو مفاد كان التامة الذي هو عبارة عن ايجاده وإفاضته لا إلى
طلب ما هو صادر وثابت في الخارج حتى يكون من طلب الحاصل المحال، كما ترى، فإنه
بعد أن كان الايجاد وجعل الشئ بسيطا معلولا للطلب وفي رتبة متأخرة عنه بنحو يتخلل
بينهما الفاء الكاشف عن اختلافهما بحسب الرتبة كقولك أردت ايجاد الشئ فأوجدته
يستحيل وقوعه موضوعا للطلب ومتعلقا له
فعلى ذلك لا يبقى مجال جعل المتعلق للطلب في الأوامر عبارة عن الوجود أو صرف
الايجاد وإفاضته بمعنى جعله بسيطا كما في الكفاية والفصول من اشراب الوجود في
مدلول الهيئة مع جعلهم المادة عبارة عن نفس الطبيعة من حيث هي، وذلك لما عرفت ما
فيه من امتناع تعلق الطلب بالخارج وبالوجود ولو بمعنى جعله بسيطا لا بدوا ولا بالسراية
بتوسيط العناوين والصور، خصوصا مع ما يلزمه من لزوم تجريد الهيئة عن الوجود في نحو
قوله أوجد الصلاة نظرا إلى ما هو الواضح من عدم انسباق الوجود في المثال مرتين في الذهن
تارة من جهة المادة وأخرى من جهة الهيئة، والالتزام فيه بالمجاز أيضا كما ترى
ولعمري ان عمدة ما دعاهم إلى مثل هذا الالتزام انما هو لحاظهم الطبيعي بما أنه
شئ في حيال ذاته وفى الخارج وعدم تصورهم إياه مرآة إلى الخارج بنحو ما ذكرنا، فمن
ذلك أشكل عليهم بان الطبيعة من حيث هي ليست الا هي فلا يمكن ان يتعلق بها الامر و
الطلب ولأن الطلب انما يتعلق بما يقوم به الأثر والمصلحة والأثر والمصلحة بعد أن لم
تكن قائمة الا بالوجود والماهية الخارجية لا يتعلق الطلب أيضا الا بالوجود والماهية
الخارجية فالتجأوا من هذه الجهة إلى اشراب الوجود في مدلول الهيئة وجعلوه متعلقا
للطلب فرارا عن الاشكال المزبور، والا فعلى ما ذكرنا من الاعتبار الثالث للطبيعة وهو
لحاظها خارجية لا يكاد مجال لهذا الاشكال حتى يحتاج في التفصي عنه إلى اشراب
الوجود في الهيئة، إذ عليه نقول بأن المصلحة حسب كونها من الاعراض الخارجية وان لم
تكن قائمة الا بالخارج الا ان الطبيعي بهذا الاعتبار بعد ما لم يكن مغايرا مع الخارج بل
382

كان بينهما الاتحاد والعينية بالاعتبار المزبور يلزمه قهرا صيرورة كل من الخارج والصور
الذهنية متلونا بلون الآخر في مرحلة الاتصاف، فمن ذلك تتصف الصور الذهنية بلحاظ
الاتحاد المزبور بكونها ذات مصلحة، كاتصاف الخارج أيضا بالمرادية والمطلوبية، نظير
باب الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من حيث سراية صفات كل منهما إلى الآخر لأجل ما
كان بينهما من الاتحاد، ففي الحقيقة كان هذا الاتحاد موجبا لنحو توسعة في دائرة النسبة في
مقام الاتصاف في صدق المطلوبية والمرادية على الخارج وصدق ذي الأثر والمصلحة
على الصور الذهنية، والا ففي مرحلة العروض لا يكون المعروض للطلب الا العناوين و
الصور الذهنية كما أنه في طرف المصلحة أيضا لا يكون المعروض لها الا الوجود والماهية
الخارجية
بل وعلى هذا البيان أيضا أمكن المصالحة بين الفريقين بارجاع القول بالوجود إلى
الطبيعة بالاعتبار الثالث الملحوظة خارجية في قبال الاعتبار الثاني لها وهو لحاظها بما هي
شئ في حيال ذاتها، إذ على هذا الاعتبار لما كان لا يرى من الطبيعة في ذلك اللحاظ الا
الوجود ولا يرى بينهما المغايرة صح ان يقال بان الامر متعلق بالوجود لا بالمهية من حيث
هي بإرادة هذا الوجود الزعمي التخيلي لا الوجود الخارجي ولو بجعله بسيطا، فيتحد
القولان من جهة رجوعهما حينئذ إلى امر واحد ولكن ذلك أيضا بالنسبة إلى كلمات
السابقين الذين لم يتعرضوا لتفصيل المسألة وأو كلوها إلى ما هو المرتكز في الأذهان، والا
ففي كلمات المتأخرين المتعرضين لتفصيل المسألة كصاحب الفصول
والكفاية (قدس سرهما) على ما عرفت من مصيرهم إلى اشراب الوجود في مدلول الهيئة في
الأوامر لا يجري هذا التوجيه، ولكن قد عرفت أيضا سخافة أصل المبني في نفسه وعدم
امكان المصير إلى تعلق الطلب بالوجود الخارجي الذي هو نتيجة الطلب ولو بمعنى جعله
بسيطا بنحو مفاد كان التامة الذي هو عبارة عن ايجاده وإفاضته على حسب ما تقدم بيانه
مفصلا.
نعم لو كان المقصود من الوجود الذي جعلوه متعلقا للطلب في الأوامر هو مفهوم
الوجود مرآة إلى الخارج على نحو ما قلناه في الطبيعي لا مصداقه وحقيقته الخارجية لكان
يسلم عن هذه الاشكال، إذ لا يترتب عليه حينئذ محذور طلب الحاصل ولا محذور تعلق
الطلب والامر بأمر متأخر عنه رتبة، ولكن نقول بأنه مع بعد ذلك في نفسه لا داعي
383

حينئذ إلى مثل هذا الالتزام بل من الأول يصار إلى أن المتعلق هو الطبيعي غايته بما هو مرآة
إلى الخارج، كيف وانه ليس في البين ما يقتضي المصير إلى الالتزام المزبور لا من طرف
المادة، كما هو واضح، ولا من طرف الهيئة أيضا لأنها على ما تقرر في محله لا تدل الا على
نسبة ارسالية بين المبدء والفاعل أو طلب ما تدل عليه المادة فأين حينئذ مفهوم الوجود و
أين الدال عليه؟ خصوصا مع ما يرد عليه من لزوم تكرر الوجود وانسباقه مرتين في الذهن
في مثل قوله أوجد الصلاة تارة من جهة المادة وأخرى من ناحية الهيئة، مع أنه كما ترى!
والالتزام في مثل ذلك بالتجريد أوهن، لوضوح انه لا يكاد يرى فرق في مدلول الهيئة بين
قوله صل وبين قوله أوجد الصلاة، على أنه كثيرا ما يكون العنوان المأخوذ في حيز الطلب
من العناوين العرفية الانتزاعية كما في المثال من قوله أوجد الصلاة وقوله أعدم الطبيعة و
نحو ذلك مما لا يمكن فيها اشراب حيث الوجود من الهيئة، كما هو واضح
وعليه فلا محيص من الغاء الوجود عن البين بالمرة والمصير إلى أن المتعلق للطلب و
الامر هي نفس العناوين والصور الذهنية بما انها ملحوظة خارجية دون المعنونات
الخارجية، من غير فرق في ذلك بين كون العنوان من العناوين الانتزاعية أو من الطبايع
المتأصلة كالصلاة والصوم ونحوهما
ومن ذلك نقول أيضا بأن حق تحرير عنوان البحث هو تحريره بأنه إذا تعلق الامر
بعنوان هل يسري منه إلى منشأ انتزاعه الذي هو المعنون الخارجي أو انه يقف الطلب و
الامر على نفس العنوان ولا يتعدى عنه إلى المعنون الخارجي، لا تحريره بما هو الشايع بان
الطلب متعلق بالوجود أو الطبيعي من جهة ما عرفت بأنه كثيرا ما يكون المتعلق من
العناوين الانتزاعية التي لا يمكن فيها اشراب الوجود في الهيئة كما في الطبايع المتأصلة،
كما هو واضح.
المبحث الثامن
في أنه إذا تعلق الامر بعنوان فهل يسري إلى افراده ومصاديقه على نحو يكون الافراد
بما لها من الحدود الفردية والخصوصيات الشخصية تحت الطلب والامر أم لا وعلى
الثاني من عدم سرايته إلى الخصوصيات الفردية فهل يسرى إلى الحصص المقارنة لخواص
384

الافراد كما في الطبيعة السارية أم لا بل الطلب والامر يقف على نفس الطبيعي والقدر
المشترك بين الحصص؟
وتوضيح المرام هو أنه لا اشكال في أن الطبيعي إذا كان له افراد يكون كل فرد منه
مشتملا على مرتبة من الطبيعي غير المرتبة التي يشتمل عليها الفرد الآخر ومن ذلك يتصور
للطبيعي مراتب عديدة حسب تعدد الافراد مغايرة كل مرتبة منه باعتبار محدوديتها
بالحدودات الفردية مع المرتبة الأخرى، كما في الانسان حيث أنه كان الانسانية الموجودة
في ضمن زيد بملاحظة محدوديتها وتقارنها لخواصه غير الانسانية الموجودة في ضمن عمرو
المقارنة لخواصه، فهما حصتان ومرتبتان من الانسانية انسانية قارنت خواص زيد و
انسانية قارنت خواص عمرو، وهكذا، من غير أن ينافي ذلك أيضا اتحاد تلك الحصص
بحسب الذات والحقيقة وكون الجميع تحت جنس واحد وفصل فارد من حيث صدق
حيوان ناطق على الجميع وعلى كل واحدة من الحصص من الحصص كما لا يخفى، ومن ذلك أيضا
قيل واشتهر بأن الطبيعي مع الافراد كنسبة الآباء مع الأولاد، لا كنسبة الأب الواحد
مع الأولاد وان مع كل فرد أبا من الطبيعي غير ما يكون مع الابن الآخر مع اتحاد تلك
الآباء على اختلافها وتباينها بحسب المرتبة بحسب الحقيقة والذات واندراج الجميع تحت
جنس واحد وفصل وبهذه الجهة أيضا ترى اشتمال هذه الحصص كل واحدة منها
على جهات وحيثيات شتى ينتزع بها منها عناوين مقوماتها العالية كالجوهرية والجسمية
والنامية والحساسية والحيوانية، كما في زيد الذي هو فرد الانسان حيث يشتمل على
جميع حدود مقوماته العالية من الجوهرية والجسمية إلى أن يبلغ إلى جهة الانسانية التي
هي جهة مشتركة بينه وبين عمرو وخالد مع زيادة جهة أخرى فيه التي بها امتيازه عن
عمرو وخالد، وكذلك الانسان بالنسبة إلى الحيوان والجسم النامي والمطلق والجوهر، و
هكذا كل سافل بالنسبة إلى عالية فأنه لابد من اشتماله على جميع مقوماته العالية مع
زيادة جهة فيه بها امتياز عن سائر الحصص المشاركة معه في جنسه وفصله القريبين، و
هو معنى قولهم بان كل ما هو مقوم للسافل أيضا ولا عكس، وعليه أيضا
اعتبارهم في التعريف الحقيقي للشئ بلزوم الاخذ بجميع مقوماته من الداني والعالي و
الاعلى.
وإذ عرفت ذلك فلنرجع إلى المقصود من سراية الامر من الطبيعي الملحوظ فيه صرف
385

الوجود إلى أفراده ومصاديقه وعدم سرايته، وفي ذلك نقول بان التحقيق في المقام هو
القول الثاني من وقوف الطلب على نفس الطبيعي وعدم سرايته لا إلى الخصوصيات
الفردية ولا إلى الحصص الموجودة في ضمن الافراد المقارنة لخواصها، إذ نقول بأنه يكفي
في الدليل لذلك الوجدان عند طلب شئ والامر به كما في طلبك الماء للشرب، فإنه
قاض بداهة بأنه لا يكون المطلوب الا صرف الطبيعي والقدر المشترك بين الحصص من
دون مدخلية في ذلك للحصص، فضلا عن الخصوصيات الفردية كماء الكوز والجرة و
الحب ونحو ذلك، ولذلك لو عرض عليك تلك الحصص وهذه الخصوصيات لكنت تنفى
الجميع وتقول بأن المطلوب انما كان صرف الطبيعي والقدر المشترك دون الحصص و
دون خصوصيات الافراد، كيف وأن الطلب حسب معلوليته للمصلحة لا يتعلق الا بما
تقوم به المصلحة فمع قيام بصرف الطبيعي والجامع وعدم سرايتها إلى الحدود
الفردية ولا إلى الحصص المقارنة لخواصها يستحيل سراية الطلب إلى الحدود الفردية أو
الحصص المقارنة لخواصها، على أن لازم ذلك هو صيرورة كل واحد من الافراد و
الحصص واجبا تعيينيا لكونه مقتضي سراية الطلب إليها، وهو كما ترى، لا يظن توهمه من أحد و
حينئذ فيكون ذلك كله برهانا تاما على وقوف الطلب حسب تبعيته للمصلحة على نفس
الجامع وعدم سرايته إلى الحصص الفردية فضلا عن سرايته إلى الحدود الفردية، كما هو
واضح.
ثم إن ما ذكر من عدم سراية الطلب إلى الحصص وخروجها عن دائرة المطلوبية انما
هو خروجها بالقياس إلى الحيثية التي بها امتياز هذه الحصص الفردية بعضها عن البعض
الاخر المشارك معها في الجنس والفصل القريبين، واما بالنسبة إلى الحيثية الأخرى التي
بها اشتراك هذه الحصص وامتيازها عن افراد النوع الآخر المشاركة معها في جنسها
القريب، وهي الحثيثة التي بها قوام نوعيتها، فلا بأس بدعوى السراية إليها، بل ولعله لا
محيص عنه، من جهة ان الحصص بالقياس إلى تلك الحيثية واشتمالها على مقومها العالي
ليست الأعين الطبيعي والقدر المشترك، ومعه لا وجه لدعوى خروجها عن المطلوبية كما
لا يخفى، فعلى ذلك تكون الحصص المزبورة كل واحدة منها بالقياس إلى بعض حدودها و
هي حدودها الطبيعية تحت الطلب والامر وبالقياس إلى حدودها الخاصة تحت
الترخيص وخارجة عن دائرة المطلوبية، لا أنها على الاطلاق تحت الطلب والامر كما في
386

الطبيعة السارية ولا خارجة كذلك عن دائرة الطلب ونتيجة ذلك هو رجوع التخيير بين
الحصص والافراد أيضا إلى التخيير الشرعي لا العقلي كما قيل، إذ بعد أن لم تكن قضية
عدم السراية على ما بيناه الا خروج الحصص عن دائرة الطلب بالقياس إلى حدودها
الخاصة والجهة التي بها امتياز بعض هذه الحصص عن البعض الاخر المشارك معها في
جنسها وفصلها القريبين، لا مطلقا حتى بالقياس إلى حدودها الطبيعية التي هي القدر
المشترك بينها، بل كانت الحصص بالقياس إلى هذه الجهة تحت الطلب والامر، فقهرا
يلزمه صيرورتها موردا للوجوب التخييري، حيث أنه كانت الحصص حينئذ ببعض
حدودها تحت الالزام الشرعي وببعض حدودها الأخرى تحت الترخيص، ومرجع ذلك
على ما بيناه مرارا إلى وجوب كل واحدة منها بايجاب ناقص بنحو لا يقتضي الا المنع عن
بعض أنحاء تروكه، وهو الترك في حال ترك البقية، مع كون الترك في حال الوجود
تحت الترخيص، ومقتضاه هو تحقق الإطاعة والامتثال بايجاد فرد واحد منها والعصيان
بترك الجميع.
وعلى ذلك فلا يبقى مجال للالتزام بخروج الافراد عن تحت الالزام الشرعي والمصير
فيها إلى التخيير العقلي كما في الكفاية وغيرها، بل لابد من ارجاع التخيير فيها إلى التخيير
الشرعي، نعم لو قلنا بوقوف الطلب في تلك الواجبات على نفس الطبيعي وصرف الجامع
وعدم سرايته إلى الحصص الفردية حتى بالقياس إلى حدودها الطبيعية التي هي القدر
المشترك بينها لاتجه القول فيها بالتخيير العقلي إذ لا يبقى مجال حينئذ لدعوى وجوب
الحصص والافراد بالوجوب الشرعي، ولكن عمدة الكلام فيه حينئذ في أصل المبني، و
الوجه فيه هو ما عرفت من أن الحصص من حيث حدودها الطبيعية لا تكون الا عين
الطبيعي والقدر المشترك بينها، غايته انها كانت محفوظة في ضمن الافراد نظير ما تصورناه
في مبحث الوضع من القسم الآخر في تصور عموم الوضع والموضوع له، ومعه لا وجه
لدعوى خروجها عن حيز الطلب، كما لا يخفى.
واما ما قيل بأن الطلب بعد تعلقه بالعناوين والصور الذهنية لا بالمعنونات
الخارجية يستحيل سرايته إلى الحصص الفردية من جهة ان الحصص بصورها الذهنية
حينئذ مبائنة مع الطبيعي ولو كانتا ملحوظتين خارجيتين فهما حينئذ صورتان متباينتان في
الذهن ومع تباينهما يستحيل سراية الطلب من إحديهما إلى الأخرى، فمدفوع بأنه كذلك
387

إذا لا يكون الطبيعي مأخوذا لا بشرط والا فقضيته بعد لحاظهما خارجيتين واتحادهما
خارجا بحسب المعنون والمنشأ كانت هي السراية لا محالة.
كاندفاع ما قيل أيضا بان صرف الطبيعي بعد ما كان انطباقه على خصوص أول
وجود فلا جرم في ظرف الانطباق لا مجال لدعوى السراية بلحاظ كونه ظرف سقوط
الطلب لا ثبوته، واما في طرف قبل الانطباق فكذلك أيضا من جهة انه حينئذ كما يكون
قابلا للانطباق على أول وجود كذلك يكون قابلا أيضا للانطباق على ثاني الوجود وثالثه،
وفي مثله لا مجال لدعوى السراية إلى واحد منهما. وجه الاندفاع: هو انا نفرض الكلام في
ظرف قبل الانطباق ونقول بان كل واحد من هذه الافراد إذا فرضناه غير مسبوق في
وجوده بفرد آخر فقهرا ينطبق عليه أول وجود وفي مثله يسرى إليه الطلب من جهة
انطباق الطبيعي عليه حينئذ من دون احتياج في سراية الطلب إلى الانطباق الفعلي عليه
في الخارج حتى يتوجه المحذور المزبور، وعليه لا يبقى مجال التشكيك في سراية الطلب إلى
الحصص من حيث حدودها الطبيعية بمثل هذه البيانات، كما هو واضح.
واما الانتقاض حينئذ بمورد العلم الاجمالي من حيث وقوف العلم مع كونه أيضا من
صفات النفس كالإرادة على نفس الجامع وعدم سرايته إلى الخصوصيات، بشهادة الشك
التفصيلي الوجداني بالنسبة إلى كل واحد من الطرفين، فمدفوع أيضا بأنه ان أريد بذلك
عدم سرايته إلى الطرفين بخصوصيتهما فهو مسلم ولكنه غير ضائر بما نحن بصدده، إذ نحن
أيضا نسلم ونقول بخروج الحصص الفردية بحدودها الخاصة التي بها امتياز بعض تلك
الحصص عن البعض الآخر، فلا يتوجه حينئذ الانتقاض المزبور، وان أريد بذلك عدم
سراية العلم إلى الطرفين على الاطلاق حتى بحدودهما الجامعي فهو ممنوع جدا، بل نقول
فيه أيضا بالسراية إلى الطرفين لكن بحدودهما الجامعي على نحو ما عرفت في الطبيعي و
افراده، فتأمل.
وعلى ذلك فالطلب المتعلق بالطبيعة ان لو حظ بالقياس إلى نفس الطبيعة
اللابشرطية التي هي القدر المشترك بين الحصص يكون طلبا تعيينيا، وان لو حظ بالقياس
إلى الحصص المقارنة مع الخصوصيات يكون طلبا تخييريا ومرجعه على ما عرفت إلى تعلق
طلب ناقص بكل واحدة من الحصص الفردية بنحو لا يقتضى الا المنع عن بعض أنحاء
تروكه، وهو الترك من ناحية حدودها الطبيعية التي بها اشتراك هذه الحصص بعضها مع
388

بعض آخر، وحيث إن الترك من هذه الجهة ملازم مع ترك بقية الحصص صح ان يقال
بان ترك كل واحدة من الحصص في ظرف ترك البقية كان تحت المنع وفي ظرف وجود
حصة منها كان تحت الترخيص، ونتيجته على ما عرفت هو تحقق الإطاعة والامتثال
بايجاد فرد واحد وتحقق العصيان بترك جميع الافراد
بل وعلى ما ذكرنا أيضا أمكن المصالحة بين الفريقين بارجاع القول بالسراية إلى
الحصص إلى السراية إليها بحدودها المقومة لنوعها، لا مطلقا حتى بحدودها الخاصة التي بها
امتياز حصة عن أخرى، وارجاع القول بعدم السراية أيضا عدم السراية إلى الحصص
لكن بحدودها الخاصة، لا مطلقا حتى بالقياس إلى حدودها المقومة لنوعها إذ عليه يتوافق
القولان ويرتفع النزاع من البين، كما هو واضح، فتأمل.
المبحث التاسع
في أنه إذا نسخ الوجوب يبقى الجوازم لا
والظاهر أن المراد بالجواز المتنازع فيه هو خصوص الجواز الاقتضائي الذي هو في
ضمن الوجوب والاستحباب والإباحة لا الأعم منه والجواز اللا اقتضائي الناشي من
عدم المقتضي للشئ فعلا أم تركا، من جهة وضوح أن مثل هذا المعنى من الجواز بعد
ورود الدليل على وجوبه مما يقطع بارتفاعه فلا معنى حينئذ للنزاع في بقائه بعد نسخ
الوجوب، كما هو واضح، وإذ عرفت ذلك نقول بأن الكلام في المقام في بقاء الجواز وعدمه
يقع تارة في أصل امكان بقائه ثبوتا، وأخرى فيما يقتضيه الأدلة اثباتا فهنا مقامان:
اما المقام الأول: فلا ينبغي الاشكال في أنه لا ملازمة بين ارتفاع الوجوب وبين
ارتفاع جوازه، وذلك من جهة انه بعد أن كان له مراتب عديدة من حيث أصل الجواز و
الرجحان الفعلي وحيث الالزام والمنع عن النقيض فلا جرم أمكن ان يكون المرتفع
لأجل دليل النسخ هو خصوص جهة الزامه ومنعه عن النقيض مع بقاء رجحانه الفعلي
غير المانع عن النقيض على حاله، كامكان ارتفاعه حتى بمرتبة رجحانه الفعلي أيضا مع
بقائه على الجواز بمعنى تساوي فعله وتركه، كامكان ارتفاعه حتى بمرتبة جوازه أيضا، و
حينئذ فأمكن ثبوتا بقاء كل واحد من هذه المراتب بعد ارتفاع الوجوب بدليل النسخ من
389

غير أن يكون برهان عقلي على امتناعه بوجه أصلا، وعلى هذا البيان أيضا لا يحتاج في
اثبات الرجحان الفعلي عند ارتفاع حيث المنع عن النقيض إلى تكلف إقامة الدليل على
قيام الفصل الاستحبابي مقامه، من جهة أنه بعد كونه من قبيل التشكيكيات فلا جرم
بذهاب مرتبة منه يلزمه تحدده قهرا بالمراتب الباقية نظير مرتبة خاصة من الحمرة الشديدة
التي إذا زالت مرتبة منها باجراء الماء عليها تبقى مرتبة أخرى منها محدودة بحد خاص، و
عليه فيكفي ذهاب خصوص جهة منعه عن النقيض في الحكم ببقاء رجحانه واستحبابه
من دون احتياج إلى قيام دليل عليه بالخصوص بوجه أصلا، كما لا يخفى.
وحينئذ فإذا أمكن ثبوتا بقاء أصل جوازه ورجحانه الفعلي ولم يقم دليل عقلي على امتناعه
يبقى الكلام في المقام الثاني في أنه هل قضية دليل النسخ رفع الوجوب بجميع مراتبه أو
بخصوص مرتبة الزامه وجهة منعه عن النقيض كي يلزمه بقائه بمرتبة رجحانه الفعلي غير
المانع عن النقيض؟
وفي مثله قد يقرب الثاني بدعوى ان القدر المتيقن الذي يقتضيه دليل الناسخ انما هو
رفع خصوص جهة الزامه ففيما عداه يؤخذ حينئذ بدليل المنسوخ ويحكم بمقتضاه
باستحبابه، نظير ما إذا ورد دليل على وجوب شئ ودليل آخر على عدم وجوبه فكما انه
هناك يجمع بينهما فيؤخذ بظهور دليل الوجوب في مطلق الرجحان ويرفع اليد عن ظهوره
في الالزام وجهة المنع عن النقيض كذلك في المقام أيضا فإذا لم يكن لدليل النسخ دلالة
على أزيد من رفع الوجوب فلا جرم يؤخذ بظهور دليل المنسوخ في مطلق رجحانه وبذلك
يثبت استحبابه، حيث لا نعنى من الاستحباب الا ذلك.
ولكن فيه ان هذا الجمع انما يصح في غير الحاكم والمحكوم واما فيهما فلا يتأتى مثل
هذا الجمع بل لابد من الاخذ بدليل الحاكم ورفع اليد عن دليل المحكوم وان كان
ظهوره أقوى بمراتب من دليل الحاكم. وفى المقام بعد أن كان دليل النسخ ناظرا بمدلوله
اللفظي إلى مدلول دليل المنسوخ بلحاظ تعرضه لرفع الحكم الثابت بدليله فلا جرم
بمقتضي نظره وحكومته هذه لا يبقى مجال لملاحظة دليل المنسوخ وأقوائية ظهوره من ظهوره
بل في مثله لابد من الاخذ بدليل الناسخ ورفع اليد عما يقتضيه دليل المنسوخ وان كان
ظهوره أقوى بمراتب من ظهوره، وعليه أيضا لا يبقى مجال استفادة الاستحباب بمثل البيان
المزبور بل لابد حينئذ من التماس دليل آخر في البين، كما هو واضح. ولعل مثل ذلك هو
390

العمدة أيضا في عدم ملاحظتهم لقاعدة الجمع المزبور في المقام مع بنائهم على أعمالها
كثيرا في الفقه بنحو صار من الجموع المتعارفة، هذا.
اللهم الا ان يقال بمزاحمة المحكوم في المقام مع أصل حكومة دليل الناسخ ومقدار
نظره حيث يصرفه إلى خصوص جهة الالزام وحيث المنع عن الترك وفي مثله لا يتأتى ما
ذكر من لزوم تقديم دليل الحاكم ولو كان أضعف ظهورا، من جهة ان ذلك انما هو في
ظرف ثبوت أصل حكومته وقوة نظره، بل لابد حينئذ من لحاظ التعارض بينهما وحينئذ
إذا فرضنا اقوائية دليل المنسوخ في مطلق الرجحان من ظهور دليل الناسخ في النظر إلى
جميع المراتب فلا جرم توجب مثل هذه الأقوائية لصرف دليل الناسخ إلى خصوص مرتبة
الالزام وجهة المنع عن النقيض.
وحينئذ فلئن خودش في ذلك فلابد من الخدشة في أصل المطلب بدعوى قوة ظهور
دليل الناسخ في نظره إلى رفع جميع مراتب الحكم، كما لعله ليس ببعيد أيضا لظهوره في رفعه
لأصل الحكم الثابت بدليل المنسوخ بما له من المراتب، وعليه لا يبقى مجال للاخذ بظهور
دليل المنسوخ في مطلق الرجحان لاثبات الاستحباب، نعم لو فرضنا اجمال دليل الناسخ
في نفسه وتردده بين رفع خصوص جهة الزامه أو رفعه حتى بمرتبة رجحانه وجوازه ففي
مثله لا بأس بدعوى الرجوع إلى دليل المنسوخ لاثبات مطلق الرجحان لولا دعوى سراية
اجماله إليه أيضا، فتدبر.
واما الاستصحاب فيبتنى جريانه على أن يكون المشكوك عرفا من مراتب ما هو
المتيقن سابقا بحيث على تقدير بقائه يعد كونه عرفا بقاء لما علم بتحققه سابقا لا كونه أمرا
مبائنا معه وحادثا غيره، والا فلا مجال لجريان الاستصحاب أيضا من جهة عدم اتحاد
القضية المتيقنة مع المشكوكة عرفا، فتدبر.
المبحث العاشر
إذا تعلق الامر بأحد الشيئين أو الأشياء على وجه التخيير فالمرجع فيه كما عرفت إلى
وجوب كل واحد منها لكن بايجاب ناقص بنحو لا يقتضي الا المنع عن بعض أنحاء
تروكه وهو الترك في حال ترك البقية، من غير فرق في ذلك بين ان يكون هناك غرض
391

واحد يقوم به كل واحد منهما ولو بملاحظة ما هو القدر الجامع بينهما أو اغراض متعددة
بحيث كان كل واحد منهما تحت غرض مستقل وتكليف مستقل وكان التخيير بينهما من
جهة عدم امكان الجمع بين الغرضين اما من جهة التضاد بين متعلقيهما كما في المتزاحمين،
أو من جهة التضاد بين نفس الغرضين في عالم الوجود بحيث مع استيفاء أحد الغرضين في
الخارج لا يبقى مجال لاستيفاء الآخر، أو في مرحلة أصل الاتصاف بحيث مع تحقق واحد
الوجودات واتصافه بالمصلحة لا تتصف البقية بالغرض والمصلحة، حيث أن مرجع
الجميع إلى تعلق وجوب ناقص بكل واحد من الوجودات بنحو لا يقتضي الا المنع عن
بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك البقية، لا تعلق الوجوب التام بكل واحد
منها مشروطا بعدم الآخر، ولا وجوب أحد الوجودات لا بعينه، أو أحدها المعين عند الله
نعم غاية ما هناك من الفرق بين الصور المزبورة انما هو من جهة وحدة العقوبة و
تعددها عند ترك الجميع، حيث إنه في بعضها كالصورة الأولى والأخيرة لا يترتب على
ترك الجميع الا عقوبة واحدة، وفي بعضها الآخر كالصورة الثانية والثالثة تترتب
عقوبات متعددة حسب وحدة الغرض وتعدده.
لا يقال بأنه مع المضادة المزبورة لا يكاد يستند إلى المكلف عند تركه للجميع الأفوت
أحد الاغراض، من جهة فوات البقية عليه على كل تقدير، ومعه كيف يمكن استحقاقه
للعقوبات المتعددة، وبعبارة أخرى ان استحقاق العقوبة لابد وأن يكون على ما هو تحت
قدرة المكلف واختياره فإذا لم يكن للمكلف حينئذ بمقتضي المضادة المزبورة بين
المتعلقين أو الغرضين في عالم الوجود الا القدرة على تحصيل أحد الغرضين لا جرم لا
يترتب على تركه للجميع أيضا الا عقوبة واحدة
فإنه يقال نعم وان كان لا قدرة للمكلف على الجمع بين الغرضين ولكن مجرد ذلك
لا يمنع عن استحقاقه للعقوبات المتعددة عند ترك الجميع، من جهة تمكنه حينئذ من
الاتيان بأحد الوجودين واخراج البقية عن حيز الوجوب الفعلي، فتأمل.
لا يقال على ذلك في الصورة الأخيرة أيضا لابد من الالتزام بتعدد العقوبة فما وجه
التفرقة بينها وبين غيرها؟.
إذ يقال بان عدم الالتزام فيها بتعدد العقوبة انما هو من جهة عدم صدق ترك
المتصف بالمصلحة الا على أحد التروك نظرا إلى ما كان بينها من المضادة في أصل
392

الاتصاف بالمصلحة، وبالجملة ان ترتب العقوبة انما هو ترك الشئ في ظرف الفراغ
عن اتصافه بكونه تركا لما فيه الغرض والمصلحة، ومثل هذا المعنى انما يصدق في الصورة
الثانية والثالثة، واما في الصورة الأخيرة فلا يكاد صدق ترك المتصف الاعلى أحد
التروك فمن ذلك لا يكاد يترتب على تركه للجميع الا عقوبة واحدة، فتأمل.
بقى الكلام في التخيير بين الأقل والأكثر حيث إنه قد يقال بامتناعه واستحالته
نظرا إلى أنه باتيان الأقل ووجوده ولو في ضمن الأكثر يتحقق الواجب لا محالة ويحصل
الغرض ومع حصول الغرض وتحقق الواجب به يكون الزائد عليه لا محالة زائدا عن
الواجب فيكون خارجا عن دائرة الوجوب فلا يمكن حينئذ تعلق الوجوب به، ولكن فيه
انه كذلك إذا كان الأقل مأخوذا بنحو اللابشرط من جهة الزيادة وليس كذلك بل نقول
بأنه مأخوذ على نحو بشرط لا بحيث كان لحده أيضا دخل في الواجب وفى حصول
الغرض، وعليه فيرتفع الاشكال المزبور حيث لا يكون الآتي بالأكثر حينئذ آتيا بالأقل
بحده في ضمنه حتى يتوجه الاشكال المزبور، من غير فرق في ذلك بين ان يكون للأقل
الكائن في ضمن الأكثر وجود مستقل بحيث كان هناك تخلل سكون في البين كما في
التسبيحات أم لا كما في مثل الخط الطويل الذي رسم دفعة، وذلك من جهة أنه
بالتجاوز عن حد الأقل الذي فرض كونه تسبيحة واحدة أو نصف ذراع من الخط مثلا
ينتفى الأقل ويكون المأتى به من أوله إلى آخره امتثالا للامر بالأكثر دون الأقل، كما هو
واضح.
نعم قد يشكل على ما ذكرنا أيضا بأن الأكثر بعد أن أخذ لا بشرط من طرف الزيادة
وقد وجب الاتيان بذات الأقل أيضا على كل تقدير فلا جرم لا يبقى طرف التخيير الا
نفس الحدين وهما الوقوف على الأقل أو التعدي والتجاوز عنه وحينئذ فحيث أنه مع
الاتيان بذات الأقل لا محيص له من أحد الحدين ولا يمكنه ترك كليهما يندرج لا محالة
في التخيير العملي العقلي بمناط اللاحرجية نظير التخيير بين النقيضين أو الضدين اللذين
ليس لهما ثالث لا في التخيير الشرعي من جهة عدم المجال حينئذ لأعمال المولوية بالامر
التخييري نحو الحدين، لما ذكرنا غير مرة بان مرجع الامر التخييري بأحد الامرين انما هو
إلى النهى عن تركهما معا وهو انما يصح في مورد يتمكن المكلف من ترك كلا الامرين و
الا فمع عدم تمكنه من ذلك ولا بدية اتيانه بأحد الامرين عقلا يكون الامر باتيان أحد
393

الفردين لغوا محضا، فعلى ذلك حينئذ يتسجل الاشكال بأنه كيف المجال للتخيير الشرعي
بين الأقل والأكثر مع كون ذات الأقل واجبة الاتيان على كل تقدير وكون التخيير بين
الحدين أيضا عقليا محضا بمناط اللاحرجية، هذا.
ولكن يمكن التفصي عن هذا الاشكال أيضا بان ما هو طرف التخيير حينئذ انما
كان هو الأقل بما هو متقيد بحد الأقلية، فكان لحيث التقيد أيضا دخل في موضوع
الوجوب وفي مثله معلوم بداهة كمال المجال لتعلق الامر المولوي التخييري بأحد الامرين
اما الأقل أو الأكثر، وحينئذ فتمام الخلط انما هو من جهة الغاء حيث التقيد بحد الأقلية
عن موضوع الوجوب ولحاظ ذات الأقل عارية عن التقيد المزبور فمن ذلك استشكل بان
ذات الأقل حينئذ بعد أن كانت واجبة الاتيان على كل تقدير لا على تقدير دون تقدير
فلا جرم لا يبقى في البين الا نفس الحدين الذين عرفت بأنه لا يكون التخيير فيهما الا
تخييرا عقليا بمناط اللاحرجية، والا فبناء على ملاحظة مجموع الذات مع التقيد المزبور لا
يبقى مجال الاشكال المزبور أصلا، من جهة وضوح ان الأقل حينئذ بوصفه لا يكون
واجب الاتيان على كل تقدير، كما هو واضح. وعلى ذلك فمن اخذ الأقل بشرط لا
محددا بحد الأقلية يرتفع تلك الاشكالات بأجمعها على التخيير بين الأقل والأكثر، نعم على
ذلك يكون مرجع التخيير المزبور إلى التخيير بين المتبائنين نظرا لأي مبائنة الأقل حينئذ ولو
بحده مع الأكثر، فتدبر.
المبحث الحادي عشر في الواجب الكفائي
وهو سنخ من الوجوب متعلق بفعل كل واحد من آحاد المكلفين، ومرجعه كما في
الواجب التخييري إلى تعلق وجوب ناقص بفعل كل واحد من المكلفين بنحو لا يقتضي
الا المنع عن بعض أنحاء تروكه، وهو تروكه في حال ترك بقية المكلفين، غير أن الفرق
بينهما هو توجه التكليف هناك إلى المكلف بكلا شقي التخيير من جهة كونه نتيجة
التكليف التعييني بالجامع بخلافه في المقام حيث إنه بعد عدم قدرة شخص مكلف واحد
على كل الشقين لا يكاد يصح توجيه التكليف التعييني إليه بالجامع بمعناه الاطلاقي
القابل للانطباق على فعل نفسه وفعل غيره، ومن ذلك لا يكون التكليف المتوجه إلى
394

كل مكلف الا تكليفا ناقصا متعلقا بشق واحد ولا يكون امره الناقص الا أمرا واحدا
بل ولئن تأملت ترى جريان الشقوق المتصورة في الواجب التخييري في المقام أيضا من
حيث تعلق غرض وحداني تارة بجامع فعل المكلفين القابل للانطباق على فعل كل واحد
من آحادهم، وأخرى تعلق اغراض متعددة بفعل كل واحد من المكلفين مع كونها بنحو
لا يكاد حصول الغرض في واحد مع حصوله وتحققه في الاخر نظرا إلى ما كان بين تلك
الاغراض حينئذ من المضادة اما في مرحلة الوجود والتحقق واما ما في مرحلة أصل
الاتصاف بالغرض والمصلحة، حيث إن مرجع الجميع كما عرفت إلى تعلق وجوب
ناقص بفعل كل واحد من المكلفين، ففي جميع الصور كان المكلفون كل واحد منهم مكلفا
بالايجاد ولكن بتكليف ناقص بنحو لا يقتضي الا المنع عن الترك في حال ترك البقية و
نتيجة ذلك انما هو سقوط التكليف بفعل بعضهم عن الجميع واستحقاقهم جميعا للعقوبة
عند اخلالهم بالامتثال مع امتثال الجميع أيضا واستحقاقهم للمثوبة لو أتوا بالمأمور به
دفعة واحدة، نعم هذا الأخير مخصوص بالفرض الأول وهو فرض قيام الغرض الوحداني
بالجامع فان قضيته حينئذ هو تحقق الامتثال بفعل الجميع فلا يجري في بقية الفروض لأنه
فيها حسب مضادة تلك الاغراض القائمة بأفعالهم اما بحسب الوجود أو الاتصاف لا يكاد
انتهاء النوبة إلى امتثال الجميع مع اتيانهم دفعة واحدة حتى يترتب عليه استحقاقهم أجمع
أيضا للمثوبة بل ومقتضي بطلان الترجيح بلا مرجح حينئذ هو عدم حصول الغرض و
عدم تحقق الامتثال من واحد منهم أيضا، كما لا يخفى، هذا.
ولكن الذي يسهل الخطب هو ان ما ذكرناه من الفروض الاخر في الواجب الكفائي
مجرد فرض وبيان امكان جريان فروض الواجب التخييري في الكفائي أيضا، والا فما هو
الواقع في الواجبات الكفائية طرا انما هو خصوص الفرض الأول، وعليه فكما أنه
باخلالهم بالامتثال يستحق الجميع العقوبة كذلك باتيانهم جميعا للمأمور به دفعة واحدة
يتحقق الامتثال من الجميع ويستحق الجميع المثوبة، نعم على فرض وقوع ما عدا الفرض
الأول فيها أيضا يبقى الكلام في أنه هل يمكن فيها تصوير إناطة التكليف بكل واحد منهم
بعدم اتيان البقية كي يلزمه المصير إلى كون التكليف المتوجه إلى كل مكلف تكليفا تاما
منوطا بعدم اتيان البقية أم لا يمكن فينحصر تكليفهم كما في الواجب التخييري بالتكليف
الناقص حسب ما عرفت، وفي ذلك كان التحقيق هو الثاني، وذلك فإنه ان أريد من
395

الإناطة إناطة كل واحد من التكاليف بعصيان البقية فعدم امكانه واضح، من جهة ما
يلزمه حينئذ من تأخر كل واحد من هذه التكاليف عن الآخر برتبتين، وهو من
المستحيل كما عرفت، وان أريد إناطة كل واحد منها بعدم البقية أي العدم السابق على
الامر والتكليف فكذلك أيضا، إذ حينئذ وان لم يرد عليه المحذور المتقدم من جهة وقوع
التكاليف حينئذ في رتبة واحدة الا انه بعد تحقق المنوط به بالنسبة إلى الجميع يلزمه ان
يكون كل واجد منهم مكلفا بتكليف فعلى تام بالايجاد، ومثل هذا المعنى بعد فرض
مضادة تلك المصالح والاغراض وامتناع اجتماعها في الوجود والتحقق يكون من
المستحيل، لاستحالة البعث الفعلي التام نحو أمور يمتنع اجتماعها في التحقق، فمن ذلك لا
محيص في المقام أيضا كما في الواجب التخييري من ارجاع تلك التكاليف إلى التكليف
الناقص بجعل التكليف المتوجه إلى كل مكلف تكليفا ناقصا على نحو لا يقتضي الا المنع
عن الترك في حال ترك بقية المكلفين ونتيجة ذلك كما عرفت انما هو سقوط التكليف
عن الجميع بفعل البعض منهم مع استحقاق الجميع للعقوبة عند اخلالهم جميعا بالواجب
والمأمور به، كما هو واضح.
المبحث الثاني عشر، في الواجب الموقت
وهو الذي كان للزمان دخل فيه شرعا، وفي قباله غير الموقت وهو الذي لا يكون
للزمان دخل فيه شرعا وان كان مما لابد منه فيه عقلا
ثم إن قضية دخله فيه شرعا تارة تكون من جهة كونه قيدا للهيئة وللطلب وأخرى
من جهة كونه قيدا للمادة وللمتعلق الراجع إلى مقام الدخل في وجود المحتاج إليه و
المتصف فارغا عن أصل الاتصاف والاحتياج، حيث إنه يجري فيه كلا الاحتمالين كما
في غيره من القيود الاخر، نعم لو بنينا على عدم امكان المعلق واستحالته في نفسه لكان
المتعين في المقام هو ارجاعه عقلا بقول مطلق إلى الهيئة والطلب ولو كان بحسب ظاهر
القضية راجعا إلى المتعلق والمادة حتى في ما لو كان دخله في المصلحة من قبيل الدخل في
وجود المتصف والمحتاج إليه، غير أن الفرق حينئذ بينه وبين سائر المشروطات من جهة
الإناطة حيث كان إناطة الطلب به في المقام عقلية وفي سائر المشروطات شرعية. وأما
396

بناء على المختار من امكان المعلق أيضا كالمشروط فيجرى فيه كلا الاحتمالين كما في غيره
من القيود، فيكون قيدا للهيئة وللطلب تارة وللمتعلق أخرى
ثم إن الزمان المأخوذ في الواجب ظرفا ان كان بقدر الواجب لا أوسع فمضيق
كالصوم مثلا، وان كان أوسع منه فموسع وأمثلته كثيرة كالصلوات اليومية وصلاة
الكسوف والخسوف ونحوها. واما كونه أضيق من الواجب فغير ممكن من جهة امتناع
التكليف بما لا يسعه وقته وظرفه مع إرادة ايجاد الواجب بتمامه في ذلك الوقت وهو
واضح، نعم لا باس به لو أريد ايجاده فيه ولو ببعض اجزائه لا بتمامه ولكن ذلك حينئذ
خارج عن الفرض نظرا إلى أن الموقت حينئذ انما هو الواجب ببعض اجزائه لا بتمامه ومن أوله إلى آخره.
واما الاشكال في امكان الموسع أيضا فمدفوع بما عرفت من وقوعه الذي هو أدل على
امكانه، كالأمثلة المزبورة، ومرجعه إلى مطلوبية الكلي الجامع بين الافراد
التدريجية المنتجة للتخيير بين الافراد المزبورة. وفي كون مثل هذا التخيير عقليا أو شرعيا و
جهان أوجههما الثاني، كما تقدم بيانه مفصلا، فراجع.
نعم يبقى الكلام حينئذ في اقتضاء الامر بالموقت مع الاخلال به في الوقت لوجوبه في
خارج الوقت وعدمه، وفي ذلك نقول: ان مجمل الكلام فيه ان قضية دليل الموقت اما ان
تكون على نحو وحدة المطلوب بحيث يستفاد منه كون التقييد بالوقت بلحاظ أصل المطلوب
لا بلحاظ تمامه، واما ان تكون على نحو تعدد المطلوب بحيث يستفاد منه كون التقييد به
بلحاظ تمام المطلوب لا أصله، واما ان لا يستفاد منه شئ من الوجهين بل كان مجملا
من هذه الجهة ومرددا بين التقييد في أصل المطلوب أو تمامه.
فان كان من قبيل الأول فلا اشكال في عدم اقتضاء الامر بالموقت لوجوب الاتيان
به في خارج الوقت مع الاخلال به في الوقت، لولا دعوى اقتضائه لعدم وجوبه.
كما أنه على الثاني أيضا لا اشكال في اقتضائه وجوب الاتيان به في خارج الوقت
بعكس القسم الأول من غير فرق في ذلك بين ان يكون التوقيت بدليل متصل أو منفصل
واما ان كان من قبيل الثالث فان كان بدليل متصل بالكلام فلا اشكال أيضا في
عدم اقتضاء دليل الواجب لوجوبه في خارج الوقت، من جهة انه باتصاله به يوجب
اجماله اجمالا لدليل الموقت أيضا، ومعه لا يبقى له ظهور حتى يصح التمسك به لاثبات
الوجوب بعد انقضاء الوقت، نعم لو كان التوقيت حينئذ بدليل منفصل وكان لدليل
397

الواجب أيضا اطلاق بان فرض كونه في مقام البيان من هذه الجهة لا في مقام أصل
المشروعية لكان قضية اطلاقه حينئذ هو ثبوت الوجوب في خارج الوقت أيضا ولكن ذلك
أيضا مجرد فرض، إذ نقول أولا بظهور دليل التوقيت في وحدة المطلوب وفي كون التقييد
به بلحاظ أصل المطلوب لا بلحاظ تمامه وعلى فرض عدم ظهوره واجماله من تلك الجهة
لا يكون لدليل العبادة في تلك الموقتات من نحو قوله: (أقيموا الصلاة) اطلاق يصح
التمسك به لاثبات الوجوب في خارج الوقت لأنها طرا على ما حقق في محله في مبحث
الصحيح والأعم كانت واردة في مقام أصل المشروعية لا في مقام البيان من تلك
الجهات، وعليه فلا يبقى مجال التمسك بدليل الموقتات في العبادات لاثبات الوجوب في
خارج الوقت، بل لابد حينئذ من قيام دليل عليه بالخصوص والا فلا كنا نحن ونفس
تلك الأدلة لا يمكننا اثبات الوجوب به بعد انقضاء الوقت كما هو واضح.
نعم لو شك ولو يعلم من دليل الموقت بان التقييد بالوقت كان بلحاظ أصل المطلوب أو بلحاظ تمام
المطلوب ربما كان مقتضى الأصل وهو الاستصحاب بقائه في خارج الوقت أيضا إذ
حينئذ يشك عند ذهاب الوقت في ذهاب أصل المطلوبية أو ذهاب مرتبة منه مع بقائه
ببعض مراتبه الاخر فيستصحب حينئذ بقائه ولو ببعض مراتبه، نظير الاستصحاب
الجاري في اللون الخاص إذا شك في ذهابه من رأسه أو ذهابه ببعض مراتبه مع بقائه
ببعض مراتبه الاخر، ومعه فلا يجرى فيه أصالة البراءة عن الوجوب، هذا.
ولكن الذي يسهل الخطب هو ما عرفت من ظهور الأدلة في وحدة المطلوب وفى
كون التقيد بالوقت بلحاظ أصل المطلوب لاتمامه وحينئذ فلابد في اثبات وجوب
القضاء في خارج الوقت وفاقا للمحققين من قيام دليل عليه بالخصوص والا فلا يكفيه
نفس الامر الأول، كما هو واضح.
نعم ربما ينافي ما ذكرنا ظهور مادة القضاء في التدارك المقتضي لوفاء المأتى به في
خارج الوقت ببعض مراتب مصلحة الموقت، حيث إن لازمه هو قيام المصلحة من الأول
بالجامع بين الفرد الواقع في الوقت والفرد الواقع في خارجه، ولازمه هو تعلق الامر الأول
أيضا من الأول بالجامع بين الفردين لا بخصوص الفرد الواقع في الوقت، ولازمه أيضا ان
يكون وجوب الاتيان به في خارج الوقت بنفس الامر الأول لا بأمر جديد، ولكنه يندفع
ذلك بأنه وان كان الامر كذلك انه انه نقول بان فردية المأتي به في خارج الوقت للجامع
398

لما كانت في طول الافراد الواقعة في الوقت وفي رتبة متأخرة عن سقوط الامر والتكليف
عنها، فقهرا مثل هذه الطولية توجب تضيقا في دائرة الطبيعة المأمور بها بالامر الأول بنحو
يخرج عنها مثل هذا الفرد، فمن ذلك يحتاج في اثبات وجوبه بعد عدم شمول الامر الأول
له إلى امر آخر يقتضي وجوبه في خارج الوقت، وعليه فلا تنافي بين القول بان القضاء
بأمر جديد وبين ما يقتضيه ظهور مادة القضاء في الوفاء ببعض مراتب مصلحة الموقت، كما
لا يخفى.
المبحث الثالث عشر
في أنه هل الامر بالامر بشئ امر بذلك الشئ حقيقة أم لا
وتحقيقه ان يقال بان كلا الوجهين ثبوتا امر ممكن، حيث إنه يمكن ان يكون الامر
بالامر بشئ لا لأجل التوصل به إلى وجود ذلك الشئ في الخارج بل لأجل مطلوبية امر
الآمر الثاني نفسيا كما أنه يمكن ان يكون ذلك لأجل التوصل إلى وجود الشئ في
الخارج فحيث انه كان ذلك الشئ مطلوبا له أمر بالامر به، الا انه في مقام الاثبات كان
الظاهر من نحو تلك القضايا ولو بملاحظة قضية الارتكاز هو الثاني من كون الامر بالامر
بشئ لمحض التوصل إلى الوجود، لا من جهة مطلوبية أمر الآمر الثاني نفسيا وان لم يترتب
عليه الوجود في الخارج.
وعلى ذلك فلا بأس باستفادة شرعية عبادة الصبي مما ورد من أمر الأولياء بأمر
الصبيان باتيان العبادات، نعم هذا المقدار من الشرعية أيضا لا يفي باثبات وفاء المأتي به
حال الصغر بمصلحة الواجب كي يلزمه الاجتزاء به عن فعل الواجب فيما لو كان بلوغه
بعد الفراغ عن العبادة أو في أثنائها، من جهة ان القدر الذي يستفاد من قضية الامر
بالامر انما هو كون فعلهم في حال عدم البلوغ مشروعا وواجدا للمصلحة، واما كون هذه
المصلحة من سنخ تلك المصلحة الملزمة الثابتة في حال البلوغ فلا، ومن هذه الجهة أيضا
تشبث بعضهم للاجتزاء به وعدم الإعادة بعد البلوغ باثبات المشروعية من جهة
نفس الخطابات الأولية، وحاصله انما هو دعوى شمول اطلاق الخطابات في التكاليف
مثل أقيموا الصلاة ونحوه للصبي الذي يبلغ بعد يوم أو نصف يوم أو ساعة، حيث إن
399

دعوى انصرافها عن مثل هذا الصبي أيضا كما ترى بعيدة غايته، إذ لا يكاد يفرق العرف
في شمول تلك الخطابات بين البالغ سنه إلى خمس عشرة سنة كاملة وبين من نقص سنة
من ذلك بيوم أو نصف يوم أو ساعة واحدة، بل كان العرف يرى شمول تلك الخطابات
لكل منهما وحينئذ فإذا شمل تلك الخطابات لمثل هذا الصبي يتعدى عنه بمقتضي عدم
الفصل إلى من هو دون ذلك في العمر إلى أن يبلغ في طرف القلة إلى ست أو سبع سنين
فيستفاد من ذلك حينئذ ان الصبي المميز والمراهق كالبالغ في كونه ممن شرع في حقه
العبادة على نحو مشروعيتها في حق البالغين من حيث اشتمال عباداته على المصالح
الملزمة، غاية الامر بمقتضي دليل رفع القلم يرفع اليد عن جهة الزام التكليف ويقال
بأنه غير مكلف بالايجاد بتكليف لزومي في حال عدم بلوغه، ونتيجة ذلك انما هو سقوط
التكليف عنه بالايجاد لو فرض بلوغه في أثناء العبادة أو بعد الفراغ عنها، نظرا لأي استيفائه
بفعله حينئذ قبل البلوغ لتلك المرتبة من المصلحة الملزمة الداعية على الامر والتكليف
هذا. ولكن فيه انه لا قصور في هذا التقريب لاثبات المشروعية بالمعنى المزبور لولا
دعوى كون اعتبار البلوغ في أذهان المتشرعة بمقتضى دليل (رفع القلم) ونحوه في الارتكاز
بمثابة يكون من القرائن الخاصة الموجبة لصرف الخطابات إلى خصوص البالغين، كما لعله
ليس ببعيد أيضا والا فلا مجال لاثبات مثل هذا النحو من الشرعية أيضا حتى يترتب
عليه الاجتزاء به عن فعل الواجب بعد البلوغ فيما لو كان بلوغه في أثناء العبادة أو بعد
الفراغ عنها، كما لا يخفى.
المبحث الرابع عشر
إذا ورد امر بشئ بعد الامر به قبل امتثاله كقوله: صل، صل، ففي كون الامر الثاني
تأكيدا للامر الأول فلا يجب الا الاتيان بالشئ مرة واحدة أو تأسيسا فيجب الاتيان به
متكررا وجهان، بل قولان، مقتضي اطلاق المادة في صرف الطبيعي هو الحمل على
التأكيد فإنه من جهة عدم قابليته للتكثر غير قابل لتعلق الطلب التأسيسي به مرتين الا مع
التقيد بوجود ثم وجود، كما أن مقتضي اطلاق الهيئة هو كونه للتأسيس الموجب للاتيان
به متكررا، فيدور الامر حينئذ بين رفع اليد عن أحد الاطلاقين اما عن اطلاق المادة في
400

صرف الطبيعي بحمله على الطبيعة المهملة أو وجود ووجود واما من رفع اليد عن اطلاق
الهيئة وظهورها في التأسيس مع ابقاء اطلاق المادة في صرف الطبيعي على حاله، وفى
مثله قد يقال بلزوم الحمل على التأكيد ترجيحا لاطلاق المادة على الهيئة باعتبار كونها
معروضة للهيئة وفي رتبة سابقة عليها، إذ يقال حينئذ بجريان أصالة الاطلاق فيها في رتبة
سابقة بلا معارض. ولكن يدفعه ان المادة كما كانت معروضة للهيئة وفي رتبة سابقة
عليها كذلك الهيئة أيضا باعتبار كونها علة لوجود المادة في الخارج كانت في رتبة سابقة
عليها فمقتضى تقدمها الرتبي عليها حينئذ هو ترجيح اطلاقها على اطلاق المادة. وبالجملة
نقول: بأنه بعد أن كان لكل من الهيئة والمادة نحو تقدم على الآخر فلا وجه لملاحظة حيث
تقدم المادة عروضا وترجيح اطلاقها على اطلاق الهيئة، بل لنا حينئذ دعوى تعين
العكس بحسب أنظار العرف نظرا إلى عدم اعتنائهم بحيث تقدم المادة على الهيئة في مقام
العروض بعد ما يرون كون الهيئة علة لوجود المادة في الخارج وفي رتبة سابقة عليها، إذ
حينئذ يجرى فيها أصالة الاطلاق في رتبة سابقة فلابد معه حينئذ من التصرف في المادة
برفع اليد عما هو قضية اطلاقها في الطبيعة الصرفة، هذا. ولكن مع ذلك لا تخلو المسألة من
اشكال ينشأ من جهة ما عرفت من وجود ملاك التقدم حينئذ في كل واحدة منهما نعم مع
الشك وعدم ترجيح أحد الاطلاقين على الآخر كان مقتضي الأصل هو التأكيد لأصالة
البراءة عن التكليف الزائد.
ثم إن هذا كله إذا لم يكن هناك ذكر شرط أو سبب في البين والا فمقتضى قوة ظهور
الشرط في السببية التامة على الاستقلال ربما كان هو لزوم الاتيان بالشئ مكررا، كما
سيجئ إن شاء الله تعالى في مبحث المفاهيم.
401

المقصد الثاني في النواهي
وفيه أيضا مباحث
المبحث الأول
الظاهر أن مفاد الهيئة في النهى عبارة عن الزجر عن الطبيعة المعبر
عنه بالفارسية ب‍ (بازداشتن) قبال الامر الذي يكون مفاد الهيئة فيه عبارة عن البعث
إلى الطبيعة والارسال نحوها، مع كون مفاد المادة فيهما عبارة عن صرف الطبيعة لكنه بما
هي ملحوظ كونها خارجية لا بما هي هي ولا بما هي موجودة في الذهن كما عرفت بيانه
مفصلا وبهذا الاعتبار أي: اعتبار الطبيعة خارجية أيضا صح إضافة كل منهما إلى
الوجود بجعل الامر عبارة عن الارسال والبعث إلى الوجود والنهى عبارة عن الزجر
عن الوجود، والا فمتعلقهما في الحقيقة لا يكون الا الطبيعة، كما تقدم بيانه. وعليه تكون
الهيئة في كل من الأمر والنهي مغايرا مع الآخر بتمام المدلول حيث كان مدلول الهيئة
في الامر عبارة عن البعث والارسال إلى الوجود وفى النهى عبارة عن الزجر عن الوجود، لا
انه كان التغاير بينهما في بعض المدلول وجزئه، كما يقتضيه كلام الفصول حسب
اشرابه الوجود في مدلول الهيئة في الامر والترك في مدلول الهيئة في النهى، وجعله مدلول
الهيئة في الامر عبارة عن طلب وجود الطبيعة وفى النهى عبارة عن طلب ترك الطبيعة. إذ
ذلك مضافا إلى ما عرفت سابقا من عراء الهيئة في الأوامر أيضا عن هذه الجهة
وعدم دلالتها الا على النسبة الارسالية بين المبدء والفاعل، نقول بان ذلك مخالف لما هو
مقتضى الوجدان والارتكاز أيضا فان في مثل قوله: (لا تضرب) لا يكاد ينسبق من
الهيئة فيه الا الزجر والمنع عن الضرب وايجاده في الخارج، لا انه ينسبق منها طلب ترك
402

طبيعة الضرب، كما هو واضح.
وعليه أيضا لا يبقى مجال للاشكال المعروف في الترك: بان الترك ومجرد ان لا يفعل
لكونه أمرا عدميا خارج عن تحت قدرة المكلف واختياره فلا يصح ان يتعلق به البعث
والطلب وان كان فيه ما فيه أيضا يظهر وجهه من جهة ان كون الترك كك أزلا لا يوجب
خروجه عن تحت المقدورية بقول مطلق حتى بحسب البقاء والاستمرار الذي عليه مدار
التكليف وحينئذ فإذا كان الترك بحسب البقاء تحت قدرته حيث كان له في كل آن
قلبه بالنقيض وهو الفعل فأمكن لا محالة تعلق الطلب والبعث به، كما هو واضح.
ثم لا يخفى عليك انه كما أن لحاظ الطبيعي في الأوامر يتصور على وجهين: تارة على
نحو السريان في ضمن الافراد المنتج لمطلوبية الحصص الفردية كلها وانحلال التكليف
المتعلق بالطبيعي إلى التكاليف المتعددة حسب تعدد الحصص وأخرى لحاظه بنحو
صرف الوجود المنتج لمطلوبية أول وجود الطبيعي، كك تصورا يتأتى هذان الوجهان
في النواهي أيضا ففيها أيضا قد يكون المأخوذ في حيز النهى الطبيعة بما هي سارية في ضمن
الافراد وقد يكون المأخوذ فيه هو صرف وجودها المنطبق على أول وجودها كما يتصور ذلك
في العرفيات في مثل النهى عن اكل الفوم لأجل ما فيه من الرائحة الكريهة الموجبة لتنفر
طباع العامة واشمئزازهم حيث إنه في مثله ربما يتحقق تمام المبغوض في الوقعة الواحدة
بصرف الوجود منه المنطبق على أول وجود الاكل منه ويخرج ثاني وجود الاكل منه في تلك
الوقعة عن تحت المبغوضية إذا فرض عدم كونه سببا لازدياد تلك الرائحة الكريهة، نعم
قل ما يتفق وجود هذا القسم في النواهي النفسية في الشرعيات بل العرفيات أيضا ولئن لوحظ
وتأمل يرى عدم وجود هذا القسم في النواهي خصوصا في الشرعيات حيث إن المبغوض
فيها طرا انما كان من قبيل الوجود الساري لا صرف الوجود، ومن ذلك لا يسقط التكليف
بعصيان واحد أو بالاضطرار إلى المخالفة مرة واحدة ولو عند اطلاقها حتى أنه أوجبت
هذه الجهة ظهورا ثانويا لها في الحمل عليها عند اطلاقها بخلافه في الأوامر فان المنصرف
منها عند اطلاقها انما كان هو صرف الطبيعي دون الوجود الساري منه.
ومن اجل ذلك وقعوا في حيص وبيص بأنه كيف هذا التفكيك بين الأوامر والنواهي
وانه ان كان الحمل على صرف الوجود كما في الأوامر من جهة اقتضاء مقدمات الحكمة
فكيف لا توجبه في النواهي أيضا حيث يحمل فيها على الوجود الساري ولو مع اطلاقها؟
403

وان كان الحمل على الوجود الساري من جهة خصوصية في النواهي تقتضي الحمل على
ذلك على خلاف ما اقتضته الحكمة، فهي منفية بالفرض من جهة وضوح ان قضية النهى
لا تكون الا الزجر عن تلك الطبيعة التي تعلق بها الامر مقيدة كانت أو مطلقة ومجرد
الاختلاف بينهما بالايجاب والسلب أيضا غير موجب للتفرقة المزبورة، كما لا يخفى.
وقد أجيب عن ذلك بوجوه غير نقية عن الاشكال: منها ان منشأ الحمل على الوجود
الساري في النواهي من جهة كون طبع المفسدة في القيام بالشئ كلية قيامها به بوجوده
الساري في ضمن تمام الافراد بخلافه في الأوامر حيث إن طبع المصحلة في قيامها بالشئ
قد يكون بصرف وجوده وقد يكون بوجوده الساري، وفيه ما لا يخفى فإنه بعد ما يتصور
في العرفيات قيام المفسدة أيضا بصرف وجود الشئ كما في اكل الفوم واكل الأشياء
المضرة التي لا يفرق فيها بين القليل والكثير والدفعة والدفعات لا مجال لدعوى هذه الكلية
حيث أمكن في النواهي الشرعية ان تكون المفسدة فيها على نحو صرف الوجود.
ومنها: دعوى كونه من جهة الغلبة حيث إن كل ما يرى من النواهي يرى كونه من
قبيل الوجود الساري دون صرف الوجود، وفيه أيضا انه وان كان لا سبيل إلى انكار
ذلك الا ان الكلام في ذلك النهى الصادر في بدو الشريعة بأنه ما وجه حمله عند الاطلاق
وعدم القرينة على الوجود الساري على خلاف الأوامر.
ومنها: ان الحمل على الوجود الساري في النواهي انما هو من جهة اقتضاء الاطلاق
ومقدمات الحكمة، نظرا إلى دعوى اختلاف نتيجة مقدمات الحكمة باختلاف
خصوصيات الموارد وعدم كونها على حد سواء في الجميع، وان من الخصوصيات الموجبة
لاختلاف نتيجة الاطلاق خصوصية المورد بحسب الايجاب والسلب فتوجب هذه
الخصوصية للحمل على صرف الوجود في الأوامر وعلى الوجود الساري في النواهي.
وفيه ان ما ذكر من اختلاف نتيجة الاطلاق والحكمة بحسب اختلاف خصوصيات
الموارد متين جدا ولكنه ليس منه الاختلاف بحسب الايجاب والسلب جدا، فان مثل
هذه الجهة لا توجب اختلافا بينهما فيما هو قضية الاطلاق في المتعلق الواحد في مثل قوله
اضرب وقوله لا تضرب، كما هو واضح.
ومنها: ان الحمل على الوجود الساري في النواهي انما هو جهة كونه مقتضي اطلاق
الهيئة والطلب فيها، بدعوى ان مقتضي اطلاق الهيئة والطلب في كل من الأمر والنهي
404

انما كان هو الارسال الموجب لبقاء الطلب بعد الايجاد أيضا الا ان الاكتفاء بايجاد واحد
في الأوامر انما كان من جهة تقديم اطلاق المادة فيها في صرف الوجود على قضية اطلاقها
وذلك أيضا بملاحظة ما يلزمه من فرض العكس بعد عدم تعين مرتبة خاصة من التكرار
الموجب للوقوع في محذور العسر والحرج، وهذا بخلافه في النواهي فإنه فيها لما لا يلزم
هذا المحذور قدم فيها اطلاق الهيئة ولو بملاحظة كونها علة لوجود المادة في الخارج على
اطلاق المادة في صرف الوجود، وفيه ان مجرد لزوم العسر والحرج لا يقتضي تقديم اطلاق
المادة على اطلاق الهيئة في الأوامر والاكتفاء بايجاد واحد في تحقق الامتثال وسقوط
التكليف وذلك من جهة امكان التحديد حينئذ بما يرتفع معه العسر والحرج المزبوران
وحينئذ فإذا فرض تقدم اطلاق الهيئة على الطلاق المادة من جهة قضية عليتها لوجود المادة
في الخارج يلزمه تقديم اطلاقها على اطلاقها في الأوامر أيضا والمصير إلى لزوم الايجاد
متكررا إلى أن يبلغ حد العسر والحرج.
ومنها: ان لزوم التكرار والدوام والاستمرار في النهى انما هو من جهة انه لا يكاد يصدق
ترك الطبيعي عقلا والانزجار عنه الا بترك جميع أفراده الدفعية والتدريجية، إذ حينئذ
لابد في مقام الإطاعة وامتثال النهى من ترك الطبيعي بما له من الافراد الدفعية
والتدريجية والا فمع تحقق فرد واحد لا يكاد يصدق الامتثال والطاعة بل يصدق العصيان
والمخالفة وهذا بخلافه في الأوامر فإنه بعد ما كان وجود الطبيعي بوجود فرد واحد يكتفى
في مقام الإطاعة بايجاد فرد واحد من جهة تحقق تمام المطلوب وهو الطبيعي بوجود واحد.
وفيه انه ليس الكلام في مقام الإطاعة إذ لا شبهة في أنه لابد في مقام امتثال النهى
عن الطبيعي من ترك جميع أفراده الدفعية والتدريجية، بل وانما الكلام في طرف العصيان
والمخالفة في اقتضاء النهى لزوم ترك بقية الافراد حتى بعد العصيان نظرا إلى اقتضائه لكون
المبغوض هو الوجود الساري دون صرف الوجود وحينئذ فلا يفيد ما ذكر لدفع الاشكال
المزبور كما هو واضح، هذا.
وقد تصدي شيخنا الأستاذ دام ظله لدفع الاشكال بوجه آخر حيث أفاد بما حاصله
ان مبني الاشكال وأصله انما نشأ من جهة توهم كون مقتضي الاطلاق وقرينة الحكمة
هو الطبيعة الساذجة الصرفة الغير القابلة للانطباق الا على أول وجود، إذ حينئذ يتوجه
الاشكال بأنه إذا كان طبع الاطلاق في الأوامر عند عدم التقيد بالسريان ونحوه يقتضي
405

مطلوبية صرف الطبيعي المنطبق على أول وجود وبذلك يكتفى في مقام الإطاعة وسقوط
الامر بايجاد فرد واحد من جهة انطباق تمام المطلوب وهو الطبيعي الصرف عليه كك طبع
الاطلاق في النهى عند عدم التقيد بالسريان ونحوه يقتضي أيضا كون المبغوض هو صرف
الطبيعي المنطبق على أول وجود، ولازم ذلك هو عدم لزوم ترك بقية الافراد عند العصيان
والمخالفة بايجاد فرد واحد بلحاظ انطباق ما هو تمام المبغوض عليه مع أنه ليس كك
فما وجه التفرقة حينئذ بين الأمر والنهي؟ والا فبناء على كون مقتضي الاطلاق وقرينة
الحكمة عند عدم التقيد في كل من الأمر والنهي هو الحمل على الطبيعة المهملة التي هي
مدلول اللفظ بما هي جامعة بين الطبيعة الصرفة والطبيعة السارية لا يكاد يتوجه
الاشكال المزبور، إذ حينئذ يكون الفرق بين الأمر والنهي في اقتضاء الأول للاكتفاء
بايجاد فرد واحد واقتضاء الثاني لعدم ايجاد شئ من الافراد واضحا، حيث إن الاكتفاء
بفرد واحد في الأوامر انما هو من جهة تحقق ما هو تمام المطلوب وهو الطبيعة المهملة بوجود
فرد واحد فمن ذلك يسقط الامر ويتحقق الامتثال بذلك.
واما في النواهي فعدم الاكتفاء بذلك انما هو من جهة اقتضاء طبع الاطلاق المزبور
لعدم ايجاد الطبيعة المهملة مطلقا ولو في ضمن ثاني الوجود وثالثه. ومن ذلك حينئذ
يستفاد ان ما هو المبغوض وما فيه المفسدة هو الطبيعي بوجوده الساري لا بصرف وجوده
المنطبق على أول وجود ولازم ذلك أيضا هو لزوم الانزجار عن جميع افراد الطبيعي ولو مع
العصيان والمخالفة.
أقول: وفيه نظر ينشأ من أن الاكتفاء في الأوامر بايجاد فرد واحد في سقوط الامر وتحقق
الامتثال ان كان من جهة انطباق ما هو المطلوب وهو الطبيعة المهملة عليه يلزمه القول به
في طرف النهى أيضا فلابد فيه أيضا من المصير إلى عدم لزوم ترك بقية الوجودات
عند المخالفة بلحاظ تحقق ما هو تمام المبغوض وهو الطبيعة المهملة بمجرد الاتيان والمخالفة
بايجاد فرد واحد، والا فلا وجه للاكتفاء بايجاد فرد واحد في الأوامر أيضا بل لابد فيه أيضا
كما في النواهي من دعوى مطلوبية الطبيعة المهملة على الاطلاق ولو في ضمن ثاني الوجود و
ثالثه، فتأمل.
406

المبحث الثاني: في اجتماع الأمر والنهي
قد اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في وجود واحد بجهتين ولكونه مجمع
العنوانين على أقوال ثالثها الجواز عقلا والامتناع عرفا وتوضيح المقصد يقتضى رسم أمور:
الأول: لا يخفى عليك ان المسألة حيث كانت نتيجتها مما تقع في طريق الاستنباط
تكون من المسائل العقلية الأصولية، لا من مباديها الاحكامية، فإنه مضافا إلى بعده
لا يناسب أيضا ظهور عنوان البحث وهو جواز الاجتماع وعدم جوازه والا لاقتضى
تحرير عنوانه بالبحث عن لوازم الوجوب والحرمة، ولا من المسائل الكلامية أيضا،
إذ ذلك مضافا إلى ما عرفت من النتيجة نقول بان المهم عند الفريقين بعد أن كان في
سراية النهى إلى متعلق الامر وموضوعه عند وحدة المجمع وجودا وعدمه يكون مرجع
البحث إلى البحث عن أصل اجتماع الحكمين المتضادين وعدمه في موضوع واحد ومن
المعلوم حينئذ عدم ارتباط ذلك بمسألة التكليف بالمحال كي يندرج بذلك في المسائل
الكلامية المتنازع فيها بين الأشاعرة وغيرهم، إذ حينئذ على السراية يكون التكليف بنفسه
محالا حتى بمبادئه من الاشتياق والمحبوبية باعتبار كونه من اجتماع الضدين في موضوع
واحد لا انه تكليف بالمحال وبما لا يقدر عليه المكلف، كما لا يخفى، واما احتمال كونها
من المسائل الفرعية فبعيد غايته عن ظاهر عنوان البحث المزبور حيث لا يكاد مناسبته
مع كونها مسألة فرعية. وهذا بخلاف مسألة مقدمة الواجب فان الجهة المبحوث عنها في
تلك المسألة حيث كانت وجوب مقدمة الواجب شرعا أمكن فيها اندراجها في المسألة
الفرعية وان كان التحقيق في ذلك المقام أيضا خلافه كما عرفت.
ثم انه مما ذكرنا ظهر أيضا كون المسألة عقلية محضة حيث كانت من الملازمات العقلية
الغير المستقلة فكان ذكرها في المقام حينئذ لمحض المناسبة لا انها لفظية كما ربما يوهمه التعبير
بالامر والنهى الظاهرين في الطلب بالقول ولذلك يجري هذا لنزاع فيما لو كان ثبوت
الوجوب والحرمة بغير اللفظ من اجماع ونحو أيضا، واما القول بالامتناع العرفي فليس
المقصود منه دلالة اللفظ على الامتناع بل المقصود منه هو كون الواحد ذي الوجهين واحدا
بنظر العرف وان كان اثنين بحسب الدقة العقلية كما هو واضح.
407

الثاني من الأمور
المراد من الواحد المبحوث عنه في العنوان هو مطلق ما هو مندرج تحت العنوانين
اللذين تعلق بأحدهما الامر وبالآخر النهى وان كان كليا كالصلاة في المغصوب حيث إنها
باعتبار صدقها على كثيرين تكون كليا ومع ذلك يكون ذا وجهين ومجمعا للعنوانين
لا الواحد السنخي الذي لا يكون مجمعا للعنوانين كما في السجود لله وللشمس والقمر ونحو
ذلك مما تعدد فيه متعلق الأمر والنهي وجودا.
بل ولئن تأملت ترى اختصاصه أيضا بالواحد الكلي وعدم شموله لما يعمه والشخصي
كشخص الصلاة الواقعة في هذا الغصب، إذ ذلك أيضا وان كان مجمعا للعنوانين ولو
بتوسيط كلي عنوان الصلاة في الغصب الا ان المناسب للمسألة بعد كونها أصولية لا فقهية
هو خصوص الكلي دون ما يعمه والشخصي، كما هو واضح. نعم لو قيل بكونها أي
المسألة من المبادي الاحكامية لا من المسائل الأصولية لأمكن دعوى تعميم المراد لما يعم
الكلي والشخصي، ولكن ذلك أيضا لولا دعوى انصراف العنوان إلى ما هو مجمع العنوانين
ومصداق لهما بلا واسطة، فان مصداقية شخص هذه الصلاة الواقعة في الغصب للكليين
بعد أن كان بتوسيط كلي الصلاة في الغصب فقهرا بمقتضي الانصراف المزبور يختص
الواحد المبحوث عنه في العنوان بالواحد الكلي ولا يكاد يعمه والواحد الشخصي كما
لا يخفى، بل قد يقال حينئذ بعدم امكان شمول العنوان ولو مع قطع النظر عن الانصراف لما
يعم الكلي والشخصي نظرا إلى عدم امكان كون الواحد الشخصي مصداقا للجامع في
عرض الكلي فتدبر.
الثالث من الأمور
لا يخفى عليك ان عمدة النزاع بين الفريقين في هذه المسألة انما هو في سراية النهى إلى
موضوع الامر ومتعلقه عند وحدة المجمع وجودا أو عدمه، فكان القائل بالجواز يدعى عدم
السراية والقائل بالامتناع يدعى السراية، ومن هذه الجهة يكون تمام البحث بين
408

الفريقين صغرويا محضا والا فعلى فرض السراية المزبورة لا يكاد يظن من أحد الالتزام
بالجواز، كما أنه في فرض عدم السراية وتعدد المتعلقين في المجمع لا يظن من أحد الالتزام
بالامتناع، ومن ذلك ترى ان القائل بالجواز تمام همه اتمام عدم السراية اما بنحو
مكثرية الجهات أو من جهة تعدد حدود الشئ أو غير ذلك، وحيث كان كك نقول: ان
مدرك القول بالجواز على ما يأتي بيانه مفصلا تارة يكون من حيث مكثرية الجهات بنحو
يكون الوجود الواحد مجمع الجهتين ومركز الحيثين فيكون إحدى الجهتين معروض الامر
والأخرى معروض النهى غايته انه كان المركزان موجودين بوجود واحد من غير فرق عنده
بين كون متعلق الامر صرف وجود الشئ أو الوجود الساري ولا بين كون متعلقه
هو الطبيعي أو الافراد بدوا أو بتوسيط السراية إليها من الطبيعي.
وأخرى يكون مبنى الجواز من جهة وقوف الامر على نفس الطبيعي وعدم سرايته إلى
الفرد ولا إلى الوجود خارجا وان لم يكن اختلاف بين العنوانين بحسب المنشأ ولا كان
تكثر جهة في البين أصلا كما عن المسلك المتقدم.
وثالثة يكون من جهة اختلاف أنحاء حدود الشئ الواحد بنحو ينتزع من مراتب
وجود الشئ واحد من كل حد ومرتبة عنوان غير ما ينتزع من المرتبة الأخرى منه كما عرفت تحقيقه في
مبحث الواجب التخييري حيث قلنا فيه بامكان ان يكون الشئ الواحد مع وحدته
وجودا ومهية ببعض حدوده تحت الالزام وببعض حدوده تحت الترخيص فيكون الشئ
على هذا المسلك مع وحدته وجودا وجهة ببعض حدوده تحت الامر وببعض حدوده الآخر
تحت النهى.
وإذ عرفت ذلك نقول بأنه بعد هذا الاختلاف في مسالك الجواز وتعدد المشارب
المزبورة فيه، لا وجه لتحديد مركز النزاع في عنوان المسألة بصورة اختلاف العنوانين حقيقة
وتباينهما منشأ.
كما أنه لا وجه أيضا لتحرير المسألة باجتماع الأمر والنهي الظاهرين في الفعلية في
وجود واحد ولو بجهتين، حيث إن ذلك مما لا يكاد يصح على شئ من المشارب المزبورة.
وذلك: اما على مشرب مكثرية الجهات فظاهر لوضوح ان تكثر الجهة انما كان يجدي
في رفع محذور اجتماع الضدين لا في رفع محذور التكليف بالمحال ومالا يطاق فلا يكاد
يمكن حينئذ اجتماع الامر الفعلي ولو بجهة مع النهى الفعلي بجهة أخرى في المجمع مع كون
409

الجهتين متلازمتين وجودا، وذلك من غير فرق بين كون متعلق الامر هو الوجود الساري
المنتج لوجوب الحصص الفردية كل واحدة منها على التعيين أو صرف الوجود المنتج
للوجوب التخييري في الافراد، إذ كما أنه لا يمكن الامر التعييني بالمجمع ولو بجهة مع النهى
عنه بجهة أخرى ملازمة معها وجودا من جهة كونه من التكليف بالمحال وبما لا يطاق كك
أيضا لا يمكن الامر التخييري به مع النهى المزبور الموجب لمبغوضية الوجود من جهة ان
مرجع التخيير كما عرفت انما هو إلى كون ترك هذا المجمع بلا بدل منهيا عنه ومثل هذا المعنى
لا يكاد يجامع النهى عنه الموجب لمبغوضية وجوده المستتبع لمحبوبية تركه ولو، لا إلى
بدل، واما الالتزام باشتراط المندوحة حينئذ في تصحيح فعلية الأمر والنهي فهو كما ترى
حيث لا يكاد يجدي وجود المندوحة حينئذ في تصحيحها على مثل هذا المسلك بل انما
يجدي ذلك على مسلك من سلك الجواز من جهة عدم سراية الامر من الطبيعي إلى الفرد.
ومن هذا البيان ظهر لك الحال أيضا على مسلك مكثرية حدود الشئ واختلاف أنحاء
حفظ وجوده فإنه على هذا المسلك أيضا لا يكاد يمكن اجتماع الأمر والنهي الفعليين في
شئ واحد باختلاف أنحاء حدوده من جهة استلزامه للتكليف بالمحال وان كان
معروض التكليفيين مختلفين من جهة ما عرفت من أن مثل هذا الاختلاف في الحدود انما
كان يجدي في رفع محذور اجتماع الضدين لا في محذور التكليف بما لا يطاق.
واما اشتراط المندوحة فلقد عرفت عدم اجدائه على هذا المسلك أيضا في رفع غائلة
التكليف بالمحال.
نعم انما يجدي ذلك على مسلك من سلك الجواز من جهة عدم سراية الامر من الطبايع
إلى الافراد والتزامه بعدم وجوب الفرد بالوجوب التخييري الشرعي ولكنه على هذا
المسلك أيضا لا يكاد انتهاء النوبة إلى اجتماع الأمر والنهي الفعليين في المجمع. إذ لم
يتعلق حينئذ امر شرعي بالمجمع ولو تخييرا لا بدوا ولا بتوسيط السراية من الطبيعي حتى
يكون فيه اجتماع الأمر والنهي كما هو واضح.
وحينئذ فعلى جميع هذه المسالك والمشارب المزبورة في الجواز لا يصح تحرير عنوان
المسألة باجتماع الأمر والنهي الظاهرين في الفعلية بوجه أصلا كما لا يخفى، هذا.
ولكن الذي يسهل الخطب في المقام هو كون المهم عند القائل بالجواز على جميع
المسالك والمشارك المزبورة عبارة عن تصحيح العبادة في المجمع، وحيث انه أي التصحيح
410

المزبور غير مبتن على فعلية الامر والتكليف في المجمع بل يكفي فيه مجرد رجحانه الغير المنوط
بالقدرة كما هو كذلك أيضا في مثل الضد العبادي المبتلى بالأهم فلا يحتاج إلى اثبات
فعلية الامر والتكليف في المجمع كي يتوجه الاشكال المزبور ويبتنى على بعض المسالك
وهو مسلك عدم السراية، مع أنه على فرض الاحتياج إلى الامر الفعلي أيضا في تصحيح
العبادة أمكن اثباته بنحو الترتب، كما لا يخفى.
الرابع من الأمور
في الفرق بين المسألة وبين مسألة النهى في العبادات
فنقول: قد يقال كما في الفصول في الفرق بين المسئلتين ما هذا لفظه وعبارته: أعم
ان الفرق بين المقام والمقام المتقدم وهو ان الأمر والنهي هل يجتمعان في شئ واحد أو لا
اما في المعاملات فظاهر واما في العبادات فهو ان النزاع هناك فيما إذا تعلق الأمر والنهي
بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة ولو كان بينهما العموم المطلق وهنا فيما إذا اتحدتا حقيقة
وتغايرتا بمجرد الاطلاق والتقييد بان تعلق الامر بالمطلق والنهى بالمقيد (انتهى)
ولكنه فاسد لما عرفت من اختلاف المباني والمشارب في الجواز إذ نقول حينئذ بعدم
تماميته على جميع المشارب المزبورة حتى مشرب مكثرية الحدود إذ عليه يجرى هذا النزاع
ولو مع اتحاد المتعلقين حقيقة كقوله صل ولا تصل في مكان كذا حيث تكون الصلاة
حينئذ ببعض حدودها تحت الامر وببعض حدودها الأخرى تحت النهى ومن ذلك قلنا
بعدم احتياج مثل هذا المسلك إلى اختلاف العنوانين بحسب الجهة والمنشأ كما في مسلك
تعدد الجهة وانه يكتفى فيه بمجرد اختلاف أنحاء حدود شئ واحد وجهة فاردة.
وفى الكفاية: ان الفرق بين المسئلتين هو ان الجهة المبحوث عنها في المقام في أصل
سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر لاتحاد متعلقيهما وجودا وعدم سرايته من
جهة تعددهما جهة، بخلاف مسألة النهى في العبادات، فان الجهة المبحوث عنها في تلك
المسألة انما هي في اقتضاء النهى لفساد العبادة بعد الفراغ عن تعلقه بها والتوجه إليها فلا
يرتبط حينئذ إحدى المسئلتين بالأخرى، نعم على القول بالسراية والامتناع وتقديم جانب
النهى يكون المقام من صغريات المسألة الآتية حيث يبحث فيها حينئذ عن اقتضاء ذلك
النهى لفساد العبادة وعدمه هذا، ولكن فيه مالا يخفى إذ نقول بأنه لا وجه لجعل المسألة
411

على الامتناع وتقديم جانب النهى من صغريات تلك المسألة الآتية لضرورة وضوح الفرق
مع ذلك بين المسئلتين حيث إن الفساد في المقام على الامتناع وتقديم النهى انما كان مستندا
إلى العلم بالنهي لا إلى النهى بوجوده الواقعي بل في الحقيقة يكون الفساد في المقام حينئذ
من جهة انتفاء قصد القربة من جهة انه مع العلم بالنهي لا يكاد يتحقق القرب المعتبر في
صحة العبادة، بخلافه في المسألة الآتية حيث إن الفساد فيها انما كان مستندا إلى نفس
النهى بوجوده الواقعي ومن ذلك لا يكاد يفرق فيها بين العلم بالنهي أو الجهل به فتفسد
العبادة على كل حال ومن المعلوم انه لا يكون الوجه فيه الا من جهة انتفاء الملاك
والمصلحة فيها وكشف النهى عنها عن تخصيص الملاك والمصلحة من الأول بما عدا
هذا الفرد المنهى عنه من الافراد الاخر ومن ذلك يندرج تلك المسألة في مسألة تعارض
الدليلين وتكاذبهما، من جهة تكاذب الدليلين حينئذ وتمانعهما في أصل الملاك والمصلحة
أيضا مضافا عن تمانعهما في مقام الحكم فلابد حينئذ من اعمال قواعد التعارض فيهما
بالرجوع إلى المرجحات السندية، وهذا بخلاف المقام حيث إنه باعتبار وجود الملاكين
فيهما يندرج في صغريات مسألة التزاحم ولو على الامتناع أيضا نظرا إلى تحقق المزاحمة
حينئذ بين الملاكين في عالم التأثير في الرجحان والمرجوحية كما يكشف عنه حكمهم بصحة
العبادة في الغصب مع الغفلة أو الجهل بالموضوع أو الحكم عن قصور لا عن تقصير ولو
مع البناء على تقديم جانب النهى حيث إنه لولا ذلك لما كان وجه لحكمهم بالصحة
مع الجهل بالموضوع أو الحكم بل لابد من الحكم بالبطلان وفساد العبادة مطلقا كما هو
واضح، ومن ذلك نقول أيضا في المقام بلزوم الرجوع فيه إلى قواعد باب التزاحم فيقدم ما
هو الأقوى من الملاكين في مقام التأثير في الرجحان والمرجوحية وان كان أضعف سندا من
غيره، لا إلى قواعد باب التعارض والترجيح بالمرجحات السندية من حيث العدالة
والوثوق، كما هو واضح.
ومن ذلك البيان ظهر فساد ما أفيد كما عن بعض الاعلام (دام ظله) (1) على ما قرر
من اندراج مورد التصادق في المقام على الامتناع في صغرى باب التعارض نظير العامين من

(1) قد توفي ره يوم السبت عند ارتفاع النهار في السادس والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة 1355.
" المؤلف " ومراد المؤلف " قدس سره " من هذا البعض هو المحقق النائيني قدس سره الشريف " المصحح ".
412

وجه كالعالم والفاسق فيما لو ورد الامر باكرام العالم والنهى عن اكرام الفاسق، بدعوى ان
التزاحم انما يكون بين الحكمين في عالم صرف قدرة المكلف على الامتثال بعد الفراغ عن
أصل تشريع الاحكام حسب ما تقتضيه الملاكات، كما في الضدين مثلا، وفي مورد
اتفاق اتحاد متعلق الحكمين في الوجود مع كون المتعلقين متغايرين بالذات ومختلفين
بالهوية، واما التزاحم بين الملاكين في عالم تشريع الاحكام وجعلها فهو غير مرتبط بباب
التزاحم بل هو مندرج في صغرى باب التعارض الذي ملاكه تنافى الدليلين باعتبار
مدلوليهما في مقام الجعل والتشريع.
إذ فيه مالا يخفى، إذ نقول: بأنه لاوجه لما أفيد الا الجمود بظاهر لفظ تزاحم الحكمين
والا فلا نعنى نحن من باب التزاحم الا صورة الجزم بوجود الملاكين والغرضين في المورد مع
ضيق خناق المولى من تحصيلهما الذي من نتائجه لزوم تقديم أقوى الملاكين منهما وان كان
أضعف سندا من الآخر، ومنها لزوم تقديم مالا بدل له بحكم العقل في التأثير في فعلية
حكمه وتشريعه على ماله البدل، ومنها تقديم المطلق منهما بحكم العقل على المشروط
بالقدرة، ومنها غير ذلك من نتائج باب التزاحم، كما أنه لا نعنى من باب التعارض الا
صورة عدم احراز الملاكين والغرضين في المورد بل صورة العلم بعدم وجود الغرض في
أحد الموردين الذي من نتائجه أيضا الرجوع إلى قواعد التعارض من الترجيح بالمرجحات
السندية بالأعدلية والأوثقية ونحوهما والتخيير في الاخذ بأحد الخبرين عند فقد المرجحات أو
تساوى الخبرين فيها بمقتضي اخبار العلاج، وعلى ذلك فكل مورد أحرز فيه وجود الغرضين
كان ذلك داخلا في باب التزاحم ويجري عليه احكامه من غير فرق في ذلك بين ان يكون
تزاحم الغرضين والملاكين في عالم تأثيرهما في الرجحان والمرجوحية كما في المقام
على الامتناع، أو كان التزاحم بينهما في عالم الوجود ومقام التأثير في فعلية الحكمين. وكل
مورد لم يحرز فيه وجود الملاكين والغرضين على الاطلاق بل أحرز عدم وجود الملاك
والغرض في أحد الموردين يكون ذلك من باب التعارض الذي من حكمه الاخذ بالأرجح
سندا من حيث العدالة والوثوق.
وعليه نقول: بأنه بعد أن أحرز في المقام وجود الملاكين والغرضين على الاطلاق في
المجمع ولو على القول بالامتناع بشهادة أعمالهم فيه
نتائج باب التزاحم وحكمهم بصحة الصلاة مع الجهل بالغصبية أو بحرمته فلا وجه لاخراج
413

مورد التصادق على الامتناع عن باب التزاحم وادراجه في صغريات باب التعارض على
خلاف مشى القوم في ذلك، الا إذا كان لك اصطلاح خاص في ذلك، هذا.
مع أنه نقول بان ما أفيد من الضابط في بيان الفرق بين البابين وجعله التزاحم
باعتبار تنافي الحكمين في مقام الامتثال وفي عالم صرف قدرة المكلف على الامتثال بعد
تشريع الاحكام وجعلها على طبق ما اقتضته الملاكات انما يتم بناء على كون القدرة
أيضا كالعلم من شرائط تنجز الخطابات والتكاليف، والا فبناء على ما هو التحقيق
وعليه أيضا بناء الأصحاب من الفرق بين القدرة والعلم من رجوع القدرة ولو بحكم
العقل إلى كونها شرطا لأصل فعلية الخطاب والتكليف في مرحلة سابقة عن تنجزه،
بخلاف العلم فإنه باعتبار كونه في رتبة لاحقة عن الخطاب غير صالح لتقييد أصل
مضمون الخطاب فلابد فيه من رجوعه إلى كونه من شرائط تنجزه لا من شرائط نفسه،
فلا جرم عند عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما لا تنتهي النوبة إلى مقام تشريع الحكمين
على الاطلاق حتى في مثل الضدين نظير عدم تشريع اطلاق الحكمين في مجمع العامين من
وجه ولازمه حينئذ هو المصير إلى دعوى اندراجه أيضا في صغرى باب التعارض مع أنه
كما ترى لا يكاد التزامه به.
واما دعوى الالتزام حينئذ بكون القدرة أيضا كالعلم من شرائط تنجز التكليف لا
من شرائط أصل التكليف وفعليته فمدفوعة بأنه مع كونه خلاف التحقيق مناف أيضا لما
ذهب إليه هو (قدس سره) في مبحث الضد من الالتزام بالترتب في تصحيح الامر
بالضدين فإنه لولا كونها شرطا ولو بحكم العقل في أصل توجيه التكليف الفعلي
إلى المكلف لما يحتاج في اثبات فعلية الامر بالضدين إلى تكلف الترتب بجعل أحد الامرين
منوطا بعصيان الامر بالأهم وفى الرتبة المتأخرة عن سقوطه كما هو واضح وحينئذ فيتجه
عليه الاشكال المزبور من لزوم مصيره في مثل الضدين والمتلازمين اللذين يلازم امتثال
أحدهما مخالفة الاخر إلى الاندراج في صغرى باب التعارض من جهة امتناع تشريع
حكمين فعليين يلزم من امتثال أحدهما مخالفة الآخر ولزوم كون الحكم الفعلي في مقام
الجعل والتشريع على طبق أحد الملاكين

(1) كذا في الأصل والصحيح: " تنتهي النوبة " كما يظهر للمتأمل [المصحح].
414

واما دعوى الالتزام بذلك حينئذ في فرض كون التلازم دائميا كاستقبال القبلة
واستدبار الجدي في قطر العراق دون ما لو كان التلازم اتفاقيا فيدفعها منع الفارق بينهما
حيث إنه لو كانت القدرة من شرائط نفس التكليف السابق عن مرحلة تنجزه لا يكاد
يفرق في الاستحالة بين العجز الدائم أو الحاصل من باب الاتفاق فكما انه يمتنع أصل
تشريع الحكمين في فرض كون العجز دائميا، كك يمتنع اطلاق تشريع الحكمين على الثاني
أيضا بنحو يشمل مورد العجز من باب الاتفاق نظير امتناع تشريع الحكمين على الاطلاق
في العامين من وجه الشامل للمجمع، إذ لا فرق بينهما حينئذ الا من جهة كون الممتنع على
الأول أصل تشريع الحكمين وفي الثاني اطلاق تشريعهما، وحينئذ فلابد من ادراج
مورد العجز الحاصل من باب الاتفاق أيضا في باب التعارض بين الاطلاقين، لا التفكيك
بينهما بادراج العجز الدائمي في صغرى باب التعارض والعجز الاتفاقي في صغرى باب
التزاحم،
وتوهم ان التفكيك المزبور حينئذ من جهة لغوية أصل التشريع في العجز الدائمي
بخلافه في العجز الاتفاقي حيث يحسن معه أصل تشريع الحكمين ويحسن معه الخطابان
أيضا يدفعه ان لازم ذلك هو الالتزام بمثله في الجهل أيضا فلابد فيه من الفرق بين الجهل
بالخطاب وعدم العلم به للتالي وبين غيره لا بالتزام تقييد الخطاب به في الأول دون الثاني
مع أنه كما ترى حيث إن العلم والجهل باعتبار كونهما في رتبة متأخرة عن الخطاب
غير صالحين لتقيد مضمون الخطاب بهما، كما هو واضح. وسيأتي مزيد بيان لذلك في
تنبيهات المسألة إن شاء الله تعالى.
الخامس من الأمور
ان العناوين المنتزعة عن وجود واحد تارة يكون اختلافها في صرف كيفية النظر بلا
اختلاف فيها بحسب المنظور والمنشأ نظير الاختلاف من حيث الاجمال والتفصيل
كالانسان وحيوان ناطق حيث كان الاختلاف بينهما ممحضا بصرف كيفية النظر من
حيث الاجمال والتفصيل والا وفى الحقيقة لا يكون المنظور فيهما الا شيئا واحدا،
ونظير الاختلاف بنحو اللابشرطية والبشرط لائية كما بين الهيولي والجنس بناء على
انتزاعهما عن جهة واحدة إذ حينئذ يكون تمام الفرق بينهما من جهة كيفية النطر من
415

حيث اللا بشرطية والبشرط لائية فإذا لوحظ تلك الجهة بشرط لا بنحو يرى كونها في
قبال الغير يكون مفهوم الهيولي، وإذا لوحظت لا بشرط - بأن لوحظ ذاتها المحفوظة
بين الحدين بلا لحاظ حد في الملحوظ بنحو يرى كونها في قبال الغير يكون مفهوم الحيوان.
وأخرى: يكون اختلافها من جهة اختلاف في منظورها لا انه كان الاختلاف بينها
ممحضا بصرف كيفية النظر وذلك أيضا تارة بنحو يحكى كل عنوان عن جهة خارجية
متأصلة ولو كانت من المحمولات بالضميمة كعناوين الأوصاف الحاكية عن الكم
والكيف والفعل والأين ونحو ذلك، وأخرى بنحو يحكى كل عنوان عن جهة غير متأصلة
في الخارج وذلك أيضا على قسمين: فان المحكى حينئذ تارة يكون عبارة عن الإضافات
والنسب الخارجية التي كان لها أيضا نحو خارجية اما بالالتزام بحظ من الوجود لها كما قيل،
واما بان الخارج كان ظرفا لنفسها ولولا لوجودها وبالجملة كانت من الأمور التي لها
واقعية ولا تنوط في واقعيتها بلحاظ لا حظ واعتبار معتبر بل لو لم يكن في العالم لاحظ ومعتبر
كان لمثل تلك الأمور جهة واقعية كما في الفوقية والتحتية وأمثالهما، وأخرى عبارة عن
الأمور الاعتبارية المتأصلة ولو في عالم الاعتبار وبالجملة كانت من الاعتباريات التي لها
واقعية عند تحقق مناشئها بحيث كان اللحاظ طريقا إليها كالملكية والزوجية ونحوهما لا
انها متقومة باللحاظ والاعتبار كي تنوط واقعيتها بلحاظ لاحظ واعتبار معتبر
كالاعتبارات المحضة.
ثم إن العنوانين المختلفين في المنشأ المنتزعين من مجمع واحد مع امكان انفكاكهما في
غير المنشأ تارة: يكون اختلافهما في تمام المنشأ، على وجه يكون منشأ انتزاع كل عنوان
بتمامه غير المنشأ في الآخر، كما لو كانا من مقولتين أحدهما من مقولة الفعل والآخر من
مقولة الأين مثلا، نظير الصلاة والغصب بناء على كون الصلاة من مقولة الفعل والغصب
من مقولة الأين بجعله عبارة عن اشغال المحل بالفعل لا عبارة عن الفعل الشاغل للمحل،
ونظير عناوين المشتقات بناء على عدم اخذ الذات فيها وكونها عبارة عن نفس المبدء
الملحوظ لا بشرط كالعالم والفاسق ونحوهما
وأخرى: يكون اختلافهما في جزء المنشأ مع اشتراكهما في الجزء الآخر نظير عناوين
المشتقات بناء على اخذ الذات فيها بنحو يكون مصب الحكم مجموع المبدأ والذات، إذ
حينئذ يكون اختلاف العنوانين كالعالم والفاسق في جزء المنشأ والا فهما مشتركان في
416

جهة الذات الحاكية عن جهة واحدة، ومثل ذلك كل مورد لا يكون الجامع في العنوانين
بسيطا ومأخوذا من مقولة واحدة بل كان مركبا من الذات مع عارضها أو من مقولتين
أحدهما الفعل مثلا والآخر من مقولة أخرى كالأين أو غيره من الإضافات فإنه في مثله
يكون المجمع باعتبار ذاته وجهة فعله واجدا للحدين وباعتبار النسبيات الاخر واجدا
للإضافتين أحدهما مقوم أحد الجامعين والآخر مقوم الجامع الآخر كما في مثل الغصب
والصلاة بناء على كونهما من مقولة الفعل المنضم ببعض الإضافات الاخر بجعل الصلاة
عبارة عن الافعال الخاصة المقرونة بالإضافات المعهودة من الترتيب والموالاة ونشؤها عن
قصد الصلاتية، والغصب عبارة عن الفعل الشاغل لمحل الغير في حال عدم رضاه الجامع
بين الركوع والسجود وبين غيره من الافعال الاخر الأجنبية عن الصلاة فإنه في مثله يكون
الغصب والصلاة لا محالة من قبيل العنوانين المشتركين في جزء المنشأ الممتازين في الجزء
الآخر حيث كانا مشتركين في مقولة ومختلفين في مقولة أخرى من الإضافات والنسبيات
الأخرى.
وثالثة: يكون اختلافهما في صرف الحد المأخوذ فيهما مع اتحادهما ذاتا بل ومرتبة أيضا
في خصوص المجمع وان اختلفا مرتبة في غيره نظير الجامع المأخوذ بين زيد وعمرو المنتزع
من تحديد الانسان في عالم الاعتبار بحد خاص لا يكاد انطباقه الا عليهما وجامع آخر بين
زيد وخالد المنتزع من تحديد الانسان بحد لا يكون انطباقه الا عليهما فحينئذ يكون زيد مع
وحدته ذاتا وجهة ومرتبة مجمع الجامعين بمعنى وقوعه بين الحدين الشامل أحدهما لعمرو
بلا شموله لخالد والآخر لخالد بلا شموله لعمرو مع كون النسبة بين الجامعين المزبورين
بنحو العموم من وجه. ومن ذلك ظهر ان مجرد اختلاف العنوانين المنتزعين من مجمع واحد
مع امكان انفكاك أحدهما عن الآخر في غير المجمع لا يقتضي لزوم كونهما من مقولتين
وكون التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا، وذلك من جهة ما عرفت من امكان كونهما
من مقولة واحدة حينئذ وكان الاختلاف بينهما من جهة لحد محضا كما مثلنا بالجامع
المأخوذ بين زيد وعمرو من تحديد الانسان بحد خاص لا ينطبق الا عليهما وجامع آخر بين
زيد وخالد منتزع من تحديد الانسان بحد آخر لا ينطبق الا عليهما، فان زيدا حينئذ مع
وحدته ذاتا يكون مجمع الجامعين من جهة وقوعه بين الحدين الشامل أحدهما لعمرو
بلا شموله لخالد والآخر لخالد بلا شموله لعمرو، وهكذا لو فرض جامع بين الضرب
417

والاكل منتزع من تحديد الفعل بحد لا ينطبق الا عليهما وجامع آخر كك بين الأكل والشرب
حيث كان الاكل حينئذ مجمع الجامعين بمعنى كونه واجدا للحدين المأخوذين
من مقولة الفعل الشامل أحدهما للضرب دون الشرب والآخر للشرب دون الضرب مع
كونهما من مقولة واحدة وكون التركيب فيه اتحاديا لا انضماميا، كامكان كون العنوانين
أيضا مشتركين في مقولة ومختلفين في مقولة أخرى كما في العالم والفاسق بناء على
اخذ الذات في المشتق وتركب حقيقته من المبدأ والذات حيث إن العنوانين حينئذ
في المجمع وان اختلفا ببعض الجهات الا انهما اشتركا في جهة الذات الحاكية عن جهة
واحدة وحيثية فاردة.
وعليه فلا يبقى مجال المصير في مثل الصلاة والغصب المنتزعين من فعل المكلف إلى
لزوم كونهما من مقولتين متغايرتين بمحض اختلاف العنوانين وتعدد حقيقتهما كما عن
بعض الاعلام (قدس سره) فيما أسسه في مقدمات مرامه من دعوى ان العنوانين
العرضيين بينهما العموم من وجه المنتزعين من وجود واحد لا يمكن ان يكونا من مقولة
واحدة بل لابد وان يكونا من مقولتين مختلفين أحدهما من مقولة الفعل مثلا والآخر من
مقولة أخرى كالاين ونحوه مستنتجا من ذلك أن الصلاة بعد أن كانت من مقولة الفعل
فلابد وأن يكون الغصب من مقولة الأين وكونه عبارة عن اشغال المحل بالفعل لا الفعل
الشاغل للمحل ليكون كلاهما من مقولة واحدة ويكون التركيب بينهما اتحاديا. وذلك لما
عرفت من الاشكال فيه بان مجرد اختلاف العنوانين العرضيين المنتزعين من مجمع واحد
مع امكان انفكاكهما عن الآخر في غير المجمع لا يقتضي كونهما من مقولتين متغايرتين وكون
التركيب بينهما انضماميا، بل حينئذ كما يمكن كونهما من مقولتين مختلفين كك يمكن
أيضا كونهما من مقولة واحدة بحيث كان التركيب بينهما اتحاديا في المجمع وكان
الاختلاف بينهما في الحد محضا كما في المثال المتقدم من فرض الجامعين أحدهما بين زيد
وعمرو المنتزع من تحديد الانسان بحد لا يكاد انطباقه الا عليهما وجامع آخر بين زيد وخالد
منتزع من تحديد الانسان بحد لا يكاد انطباقه الا عليهما خاصة كامكان كونهما مشتركين
في بعض المنشأ وفي مقولة ومختلفين في مقولة أخرى أيضا، إذ حينئذ نقول بأنه من الممكن
حينئذ ان يكون كل من الصلاة والغصب من مقولة الفعل غايته منضما ببعض النسبيات
الاخر فتكون الصلاة مثلا عبارة عن الافعال المخصوصة المقترنة بالإضافات المعهودة من
418

الترتيب والموالاة ونشؤها عن قصد الصلاتية الجامعة بين كونها في الدار المغصوبة أو في
غيرها والغصب عبارة عن الفعل الشاغل لمحل الغير بدون اذنه ورضاه الجامع بين أفعال
الصلاة وغيرها من الافعال الاخر. ومن المعلوم حينئذ انه مع امكان ذلك لا محالة لا
يكون برهان عقلي يقتضي كون الغصب من مقولة الأين، وعبارة عن اشغال المحل
بالفعل في فرض كون الغصب من مقولة الفعل، كما هو واضح. نعم يمكن أيضا ان يكون
الغصب بحسب العرف أو اللغة عبارة عن اشغال المحل بالفعل ومن مقولة الأين، ولكن
مثل هذا النزاع راجع إلى الوضع اللغوي فلا يرتبط بمقام اللابدية العقلية المدعاة، كما
لا يخفى.
وبالجملة فالمقصود من هذا التطويل هو بيان عدم اقتضاء مجرد اختلاف العنوانين
المنتزعين من وجود واحد بحسب المنشأ لكونهما من مقولتين بحيث كان المحكى من كل
عنوان مقولة غير ما يحكى عنه العنوان الاخر نظرا إلى ما عرفت من امكان اشتراكهما في
مقولة واختلافهما في مقولة أخرى، بل وامكان كونهما من مقولة واحدة وحقيقة فاردة مع
كون الاختلاف بينهما ممحضا بصرف الحد المأخوذ فيهما أو بحسب المرتبة كما في الأجناس
بالقياس إلى فصولها والقرائة بالقياس إلى الجهر بها الذي هو منتزع عن مرتبة من الصوت
الزائد عن أصل القراءة.
ومن هذا البيان ظهر أيضا عدم صحة ابتناء القول بجواز الاجتماع على كون
التركيب بين العنوانين في المجمع انضماميا لا اتحاديا بل وانما المدار كله في ذلك - كما
سيجئ إن شاء الله تعالى على اختلاف العنوانين وتغايرهما بتمام المنشأ على معنى كون
المحكى في كل عنوان غير المحكى في العنوان الآخر وعدم اختلافهما كك، فإذا كان
العنوانان متغايرين بتمام المنشأ نقول فيه بالجواز من غير فرق بين كونهما من مقولتين
ممتازتين الملازم لكون التركيب بينهما في المجمع انضماميا أو من مقولة واحدة كما
في الأجناس بالقياس إلى فصولها والقرائة بالقياس إلى الجهر بها، حيث نقول بأنه
من الممكن حينئذ كون إحدى الجهتين من هذا الوجود الوحداني وهي الجهة الحيوانية تبعا
لقيام المصلحة بها محبوبة والجهة الأخرى منه وهي الجهة الناطقية مبغوضة ومتعلقة للنهي
من دون سراية الحكم من إحدى الحيثيتين إلى الحيثية الأخرى، وهكذا في مثال القراءة
وحيثية الجهر بها حيث يمكن الالتزام فيه بجواز الاجتماع من جهة امكان كون أصل
419

القراءة تبعا لقيام المصلحة بها محبوبا وحيثية الجهر المنتزع عن مرتبة من الصوت الزائد عن
أصل القراءة مبغوضة ومنهيا عنها مع وضوح كون التركيب بين العنوانين في أمثال ذلك
اتحاديا لا انضماميا.
السادس من الأمور
لا يخفى عليك ان العناوين المأخوذة في حيز الخطابات تارة: تكون من قبيل الجهات
التعليلية وأخرى تكون من قبيل الجهات التقييدية ومرجع الأولى إلى خروج العنوان
المزبور بنفسه عن كونه موضوعا للحكم وكونه من العناوين المشيرة إلى ما هو موضوع
الحكم ومتعلقه وسببا لطرو الحكم عليه نظير عنوان المقدمية الذي هو من العناوين المشيرة
إلى الدوات الخاصة الخارجية الموقوف عليها فعل الواجب كالطهارة والستر والقبلة ونحوها
ومن ذلك أيضا كلية العناوين الاعتبارية المحضة التي من جهة اعتباريتها غير قابلة لتعلق
الطلب بها وكان الطلب تبعا لقيام المصلحة متعلقا بمنشأ اعتبارها، كما أن مرجع الثانية
إلى كون ذلك العنوان المأخوذ في حيز الخطاب موضوعا بنفسه في القضية للحكم اما تماما
أو جزء لا كونه مرآة إلى امر آخر يكون هو الموضوع حقيقة للحكم في القضية ومن ذلك
كلية القضايا التوصيفية من نحو قوله: أكرم زيدا الجائي الظاهر في مدخلية عنوان المجئ
أيضا بنحو القيدية في موضوع الحكم ومتعلقه، قبال القضايا الشرطية من نحو قوله: أكرم
زيد ان جائك، أو إن جائك زيد فأكرمه، الظاهر في أن تمام الموضوع للاكرام الواجب
هو ذات زيد من غير مدخلية لعنوان المجئ في الموضوع ولو بنحو القيدية وانه انما كان علة و
سببا لوجوب اكرامه وحينئذ فتمام المعيار في كون العنوان المأخوذ في حيز الخطاب من
قبيل الجهات التعليلية أو التقييدية على ما ذكرناه، لا ان المعيار فيه على كون التركيب
بين العنوانين في المجمع اتحاديا أو انضماميا، وذلك لوضوح انه لا تلازم بين كون العنوانين
من قبيل الجهات التعليلية وبين كون التركيب بينهما في المجمع اتحاديا ولا بين كونها من
قبيل الجهات التقييدية وبين كون التركيب بينهما انضماميا، وذلك من جهة انه
من الممكن حينئذ ان يكون العنوانان من قبيل الجهات التعليلية، ومع ذلك يكون
التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا، كامكان كونهما من الجهات التقييدية ومع ذلك يكون
420

التركيب بينهما اتحاديا كما عرفت في مثال الجنس والفصل بل القراءة بالقياس إلى الجهر
بها. وعليه فما أفيد كما عن بعض الاعلام (قدس سره) كما في التقرير من أن العنوانين
المنتزعين من وجود واحد إذا كانا من قبيل الجهات التعليلية لابد وأن يكون التركيب
بينهما اتحاديا، وإذا كانا من الجهات التقييدية لابد وأن يكون التركيب بينهما انضماميا
لا اتحاديا منظور فيه.
السابع من الأمور
لا يخفى ان الطبيعي والفرد وان كانا متغايرين مفهوما وفي عالم التصور حيث كانا
صورتين متبائنتين في الذهن بحيث لا يكاد انتقال الذهن في مقام لحاظ الطبيعي وتصوره
إلى الفرد، وبهذه الجهة أيضا لا يكاد سراية الحكم المتعلق بالطبيعي والكلي إلى الفرد، الا
على مبنى سخيف: من تعلق الاحكام بالخارجيات، والا فعلى المذهب الحق كما حققناه
في محله: من تعلق الاحكام بالعناوين وبالصور الذهنية يستحيل سراية الحكم من كل
صورة في نظر إلى الصورة الموجودة في نظر وتصور آخر، الا ان الفرد لما كان يحكى عما
يحكى عنه عنوان الكلي وزيادة مفقودة في الكلي فكانا متحدين في جهة ومختلفين في
زيادة الفرد لخصوصية زائدة عن الطبيعي وكانت الصور أيضا في مقام تعلق الاحكام بها
مأخوذة بنحو لا ترى الا خارجية، فقهرا تلك الجهة الواحدة الخارجية فيهما بعد قيام
المصلحة بها بأي صورة تتصور أو شكل يتشكل توجب التلازم بين الصورتين المتحدتين
في الجهة الخارجية في تعلق الإرادة والكراهة أيضا، فيتعلق الحكم المتعلق بالطبيعي بالفرد
أيضا لكن من حيث الطبيعي المحفوظ في ضمنه لا بتمامه حتى بمشخصاته الفردية وحينئذ
فإذا كان الامر متعلقا بالطبيعة السارية كالنهي فقهرا يسرى الحكم المزبور من الطبيعي
إلى الحصص المحفوظة في ضمن الافراد من الطبيعي دون الخصوصيات الزائدة عنها، بمعنى
ان كل فرد إذا لوحظ كان الطبيعي المحفوظ في ضمنه متعلقا للإرادة أو الكراهة بالتقريب
المزبور، لا انه بمحض النظر إلى الطبيعي والكلي يسرى حكمه إلى الفرد أيضا وذلك لما
عرفت من أن الطبيعي والفرد مفهومان متغايران في الذهن، فيستحيل في هذا النظر سراية
الحكم من أحد المفهومين إلى الاخر، هذا إذا كان الامر متعلقا بالطبيعة السارية.
421

وأما إذا كان متعلقا بصرف وجود الطبيعي الغير القابل للانطباق الاعلى أول وجود
فكذلك أيضا، غاية الامر انه في فرض تعلق الحكم بالطبيعة السارية يكون الحصص
المحفوظة في ضمن كل فرد بتمام حدودها مشمولة للحكم، ومن ذلك يصير كل فرد بما انه
مصداق للطبيعي واجبا تعيينا، بخلافه في فرض تعلقه بصرف وجود الطبيعي الجامع بين
الافراد فان مشمولية الحصص الفردية حينئذ للوجوب انما يكون ببعض حدودها أعني
حدودها المقومة لطبيعتها واما الحدود المقومة لشخصية الحصة المحفوظة في كل فرد التي هي
مقسمة للطبيعي لا مقومة له فهي خارجة عن حيز الوجوب ومرجع ذلك كما عرفت في
مبحث الواجب التخييري إلى لزوم سد باب العدم في كل حصة وفرد من قبل حدود
عاليها المقومة لطبيعتها دون حدودها المقومة لشخصيتها المقسمة لطبيعتها الراجع ذلك إلى
وجوب كل فرد من الافراد لكن بوجوب ناقص بنحو لا يقتضي المنع الا عن بعض أنحاء
تروكه وهو الترك الملازم لترك بقية الحصص الأخرى، ونتيجة ذلك كما عرفت سابقا هي
صيرورة الافراد المزبورة واجبة بوجوب تخييري شرعي لا بوجوب تخييري عقلي محض كما
هو مبنى القول بوقوف الطلب على نفس الطبيعي والجامع وعدم سرايته منه إلى الافراد
أصلا، فتدبر.
الثامن من الأمور
التزاحم بين المصلحة في الشئ ومفسدته تارة يكون في مقام التأثير في الرجحان
والمرجوحية ومن حيث ايراث الحب والبغض، وأخرى يكون التزاحم بينهما في عالم
الوجود والتحقق بحيث يدور الامر بين وجود المفسدة وفوت المصلحة وبالعكس، فعلى
الأول لا ينبغي الاشكال في أن الأثر للأقوى منهما ولا يلاحظ في هذه المرحلة مقام
مزاحمتهما في عالم الوجود، وان فرض امكان دركهما معا ولو في ضمن فردين، وحينئذ فلو
فرض قيام مصلحة أهم بصرف الطبيعي والجامع فقهرا بمقتضي ما عرفت في المقدمة
السابقة من سراية المحبوبية من الجامع إلى الفرد ولو ببعض حدوده يصير الفرد بحدوده
المقومة لعاليه تحت المحبوبية الفعلية وتلغو المفسدة المزبورة عن التأثير في المبغوضية فيه
بالقياس إلى هذا الحد لمكان أهمية المصلحة المزبورة واما بالقياس إلى حدوده المقومة
422

لشخصيته فحيث انه لا تزاحمها المصلحة تبقى المفسدة القائمة بالفرد بجميع حدوده على
حالها فتؤثر في مبغوضية الفرد في حدوده المقومة لشخصيته فيصير الفرد المزبور حينئذ
ببعض أنحاء حدوده وهو الحد الجامعي المستلزم لحفظه في ظرف عدم بديله بمقتضى أهمية
المصلحة تحت المحبوبية الفعلية وببعض حدوده الاخر وهو الحد المقوم لشخصية الحصة تحت
المبغوضية الفعلية هذا بالنسبة إلى مقام مزاحمة الملاكين في عالم التأثير في الحب والبغض.
واما بالنسبة إلى مقام مزاحمتها في عالم الوجود فحيث انه أمكن حفظ كلا الغرضين
ولو في ضمن وجودين فلا جرم يرجح العقل جانب المفسدة المهمة ومبغوضية الفرد من
ناحية حدوده المشخصة على المصلحة الا هم المؤثرة في محبوبيته من ناحية حدوده الجامعي
جمعا بين الغرضين، وبهذه الجهة تصير الإرادة الفعلية على وفق المفسدة المهمة ولو كانت في
أدنى درجة الضعف والمصلحة في أعلى درجة القوة من غير أن يلاحظ في ذلك درجات
المصلحة والمفسدة وتأثيراتهما في المحبوبية والمبغوضية بوجه أصلا، الا إذا فرض وقوع المزاحمة
بينهما في عالم الوجود أيضا بحيث لا يتمكن من الجمع بين الغرضين فيؤثر الأقوى درجة منهما
ويكون الإرادة الفعلية أيضا بحكم العقل على وفقه، والا فمع عدم صدق المزاحمة بينهما
حقيقة في هذه المرحلة وامكان الجمع بينهما ولو في ضمن وجودين فلا محالة يكون الترجيح
بحكم العقل في لزوم الجمع بين الغرضين مهما أمكن للمفسدة المهمة وتكون الإرادة
الفعلية أيضا على وفقها وان كانت في أدنى درجة الضعف حتى البالغة إلى حد الكراهة.
ومن هذا البيان ظهر حل الاعضال في العبادات المكروهة أيضا فإنه بمقتضى ما
ذكرنا أمكن الالتزام فيها بالكراهة المصطلحة فيما لو كان الامر متعلقا بالجامع المنتج
لوجوب كل فرد تخييرا، والنهى متعلقا بالطبيعة السارية، كالأمر بالصلاة الجامعة
بين الصلاة في الحمام وبين الصلاة في غيره من الأمكنة مع النهى التنزيهي عن الصلاة
في الحمام أو في موضع التهمة مثلا، وذلك انما هو بالتفكيك بين حدود الفرد من حيث
حدوده الجامعة وحدوده المشخصة له بالتقريب المتقدم من دون حاجة إلى الالتزام فيها
بأقلية الثواب أو غيرها من المحامل الاخر، كما هو واضح.
ثم إن هذا كله فيما لو كان الامر متعلقا بصرف الطبيعي الجامع بين الافراد.
واما لو كان الامر متعلقا بالطبيعة السارية كالنهي بحيث يقتضي مطلوبية كل واحدة
من الحصص على نحو التعيين، فلا جرم لا يكاد يتم التفكيك المزبور بين مقام تأثير الملاكين
423

في الرجحان والمرجوحية وبين مقام تأثيرهما في الايجاد، نظرا إلى أن المفسدة حينئذ
كما تقتضي مبغوضية الفرد بتمام حدوده كك المصلحة أيضا تقتضي محبوبية الفرد بتمام
حدوده وفي مثله لا محالة يكون الأثر للأقوى منهما حتى في عالم الوجود أيضا مصلحة كانت
أو مفسدة، والوجه فيه واضح، لان المزاحمة حينئذ كما تكون بينهما في عالم التأثير في الحب
والبغض، كك تكون المزاحمة بينهما في عالم الوجود أيضا، وفي مثله يكون الأثر لما هو الغالب
منهما، ومن ذلك أيضا لا يجري ما ذكرنا في النواهي التنزيهية في موارد يكون الامر
بنحو الطبيعة السارية إذ لا يمكن الالتزام فيها بالكراهة المصطلحة بالتقريب المتقدم، بل
بعد الفراغ عن صحة العبادة لابد من المصير إلى محامل أخر: اما بصرف النهى عن ظاهره
والحمل على أقلية الثواب، أو بصرفه عن نفس العبادة إلى حيثية ايقاعها وكينونتها في
وقت كذا ومكان كذا نظير النهى عن جعل الماء للشرب في كأس كثيف، أو غير ذلك
من المحامل الاخر.
في بيان ما هو الحق في المسألة
وحيث اتضح لك هذه الأمور فنقول: ان اختلاف العنوانين لو كان في صرف كيفية
النظر لا في المنظور فلا ينبغي الاشكال فيه في عدم جواز الاجتماع، وذلك لوضوح ان
المنظور بعد ما كان فيهما واحدا ذاتا وجهة لا يكاد يتحمل طرو الصفتين المتضادتين
المحبوبية والمبغوضية، من غير فرق في ذلك بين ان نقول بتعلق الاحكام بالخارجيات أو
بالعناوين والصور الذهنية، وذلك لان الصور وان كانت متغايرة ولكنها بعد ما كانت
مأخوذة بنحو لا ترى الا خارجية وكان المنظور فيهما واحدا ذاتا وجهة فقهرا يرى المنظور
فيهما غير قابل لطرو الصفتين المتضادتين عليه وهما المحبوبية والمبغوضية، ومن ذلك
أيضا نقول بامتناع اتصاف اجزاء المركب بالوجوب الغيري مع فرض كونها واجبة بوجوب
الكل نفسيا، وعدم اجداء مجرد الاختلاف في النظر فيها من حيث اللابشرطية
والبشرط لائية في رفع محذور اجتماع المثلين بعد اتحاد الذات الملحوظة في ضمن
الاعتبارين.
ومثله في عدم الجواز ما لو كان العنوانان من العناوين الاعتبارية المحضة الغير القابلة
لقيام المصالح بها فإنه في مثل ذلك أيضا يكون مركب المصالح والحب والبغض
هي الذات المعروضة لها، وانها في ظرف وجود منشأها كانت من الجهات التعليلية
424

لمصلحة الذات المعروضة لها وحينئذ فإذا كانت الذات المعروضة لها واحدة ذاتا وجهة
فقهرا تأبى عن ورود الصفتين المتضادتين عليها من الحب والبغض والإرادة والكراهة.
واما لو كان اختلاف العنوانين في المنظور لا في صرف كيفية النظر، فان كان
الاختلاف بينهما بتمام المنشأ على وجه يكون منشأ انتزاع كل بتمامه غير المنشأ في الآخر
ففي مثل ذلك لا باس بالالتزام بجواز الاجتماع، من غير فرق في ذلك بين كون العنوانين من
مقولتين مختلفين أو من مقولة واحدة، كما في الأجناس بالقياس إلى فصولها، وكذا القراءة
بالقياس إلى الجهر بها، إذ حينئذ بعد تغاير الجهتين أمكن تعلق الحكمين المتضادين بوجود
واحد على وجه يكون مركب كل حكم جهة غير الأخرى، ومجرد وحدة الوجود في الخارج
وعدم قابليته للتقسيم وللإشارة الحسية خارجا غير مانع عن ورود الحكمين المتضادين
عليه، بعد حل العقل إياه في مقام التحليل بجهة دون جهة ومرتبة دون أخرى، إذ حينئذ
من جهة هذا التحليل العقلي يتميز معروض الحكمين بنحو يرتفع التضاد من البين، فكان
معروض أحد الحكمين جهة ومرتبة غير معروض الحكم الآخر. ومن غير فرق أيضا
بين كون التركيب في المجمع انضماميا أو اتحاديا، ولا بين كون العنوانين
من قبيل الجهة التعليلة أو التقييدية، ولا بين القول بوقوف الطلب على الصور أو
سرايته إلى الخارجيات، ولا بين كون الامر متعلقا بصرف الطبيعة أو بالطبيعة السارية،
فإنه على جميع تلك التقادير مهما اختلف معروض الحكمين ذاتا أو جهة أو مرتبة كما
لو كان معروض أحد الحكمين هو حدوث الشئ ومعروض الآخر بقائه يصار فيه بالجواز
على جميع التقادير حتى على القول بتعلق الاحكام بالخارجيات، من جهة انه باختلاف
المعروضين يرتفع غائلة محذور التضاد من البين، كما هو واضح. هذا كله فيما لو كان
اختلاف العنوانين بتمام المنشأ.
واما لو كان اختلافهما ببعض المنشأ بان كانا مشتركين في جهة أو مقولة وممتازين في
جهة أو مقولة أخرى ففي مثله لابد من المصير إلى عدم الجواز بالنسبة إلى الجهة المشتركة
بينهما، من جهة عدم تحملها لطرو الصفتين المتضادتين عليها، المحبوبية والمبغوضية، فمن ذلك
لابد وأن يكون الأثر لما هو الأقوى منهما مناطا مصلحة أو مفسدة، من غير فرق بين ان
يكون الامر كالنهي متعلقا بالطبيعة السارية أو بالجامع وبصرف وجودها.
الا على مسلك من يقول بوقوف الطلب على نفس الطبيعي والجامع وعدم سرايته إلى
425

الافراد بوجه أصلا ولو من حيث حدودها الطبيعية، بخيال ان الطبيعي والفرد صورتان
مبتائنتان في الذهن والامر بعد تعلقه بالصور لا بالخارجيات لا يتعدى بوجه من الوجوه
إلى الافراد، وان الافراد حينئذ انما كانت واجبة بوجوب تخييري عقلي لا بوجوب تخييري
شرعي، وأيضا إن صرف الطبيعي والجامع بعد ما كان غير قابل للانطباق الا على أول
وجود فلا جرم قبل الانطباق لا يكون هناك أول وجود حتى يسرى إليه الحكم وكك
بعد الانطباق، نظرا إلى أن مثل هذا الظرف لسقوط الطلب عن الطبيعي فلا يمكن
كونه ظرفا لثبوته فمن ذلك يستحيل سراية الطلب إلى الفرد، فإنه على هذا المسلك لا بأس
بالالتزام بصحة العبادة باتيان هذا الفرد بداعي الامر بالطبيعي، بل على هذا المسلك
يخرج المسألة عن فرض اجتماع الأمر والنهي في وجود واحد من جهة ان الوجود والفرد
على ذلك لا يكون الا مبغوضا محضا، كما هو واضح.
ولكنك قد عرفت في المقدمة السابقة فساد المسلك المزبور وان التحقيق هو سراية
الحكم من الطبيعي والجامع إلى الافراد بالتقريب المتقدم في شرح السراية، وعليه فلابد
من المصير إلى عدم جواز الاجتماع بالنسبة إلى الجهة المشتركة بينهما نظرا إلى عدم قابليتها
لطرو الصفتين المتضادتين عليها سواء فيه بين ان يكون الامر أيضا كالنهي متعلقا بالطبيعة
السارية أو كان متعلقا بصرف وجود المنتج لمحبوبية الافراد تخييرا إذ كما أن مبغوضية
الشئ بجميع حدوده تنافى محبوبيته التعيينية كك تنافى أيضا محبوبيته التخييرية فان
مرجع كون الشئ محبوبا تخييريا إلى كون تركه لا إلى بدل مبغوضا ومنهيا عنه وهو مما
ينافي بداهة مبغوضية التعيينية الملازمة لمحبوبية تركه ولولا إلى بدل، كما هو واضح.
وحينئذ فبعد ما امتنع الاجتماع بالنسبة إلى الجهة المشتركة بين العنوانين ولم تتحمل
لطرو الصفتين المتضادتين عليها من المحبوبية والمبغوضية، فلا جرم في مقام التأثير كان الأثر
لما هو الأقوى منهما ملاكا مصلحة أو مفسدة، وحينئذ لو كان الأقوى هو النهى فقهرا
تصير الجهة المشتركة بجميع حدودها بمقتضي المفسدة الغالبة مبغوضة محضا لا محبوبة.
واما لو كان الأقوى هو الامر، فان كان متعلقا بالطبيعة السارية فكذلك أيضا حيث إنه
تصير الجهة المشتركة حينئذ بجميع حدودها بمقتضي المصلحة الغالبة محبوبة محضا
لا مبغوضة عكس الصورة الأولى وان كان متعلقا بصرف الطبيعي والجامع ففي
هذا الفرض يمكن الجمع بين الرجحان الفعلي والمرجوحية الفعلية بالنسبة إلى الجهة
426

المشتركة وذلك لما تقدم في المقدمة الثامنة من أن مقتضى المصلحة الأهم في الجامع المستتبع
للسراية إلى الفرد حينئذ انما هو التأثير في رجحان الفرد ومحبوبيته بالقياس إلى بعض أنحاء
حدوده وهو حدوده الجامعي لا مطلقا حتى بالقياس إلى حدوده المشخصة. وحينئذ فإذا
فرض قيام المفسدة المغلوبة بالفرد بجميع حدوده حسب تعينها فلا جرم المقدار الذي
تزاحمها المصلحة الأهم في الجامع في عالم التأثير انما هو بالقياس إلى حدوده الجامعي المقومة
لعاليه. واما بالقياس إلى حدوده المشخصة المقومة لسافله فحيث انه لا تزاحمها المصلحة
الأهم فقهرا تبقى المفسدة المهمة على حالها فتؤثر في مبغوضية الفرد من حيث حدوده
المشخصة فيصير الفرد والجهة المشتركة حينئذ ببعض أنحاء حدوده وهو حده الجامعي
المستتبع لحفظه في ظرف عدم بديله بمقتضى المصلحة الأهم في الجامع تحت الرجحان
والمحبوبية الفعلية، وببعض حدوده الاخر وهو حده المشخص له المقوم لسافله تحت
المرجوحية والمبغوضية الفعلية، بمقتضى خلو المفسدة المهمة عن المزاحم بالقياس إلى مثل
هذه الحدود ويخرج عن كونه محبوبا فعليا على الاطلاق ومبغوضا فعليا كك، كما هو
واضح.
ثم إن ذلك كما عرفت بالنسبة إلى مقام تزاحم الملاكين في عالم التأثير في الرجحان
والمرجوحية.
واما بالنسبة إلى مقام التزاحم في عالم الوجود فحيث انه أمكن استيفاء كلا
الغرضين ولو بايجاد المأمور به في ضمن فرد آخر فلا جرم كان التأثير بحكم العقل للمفسدة
المهمة المغلوبة ويقيد بحكم العقل دائرة فعلية إرادة الطبيعة بما عدا هذا الفرد وان لم يكن
كك في عالم التأثير في الرجحان والمحبوبية، فيصير الفرد المزبور حراما فعليا ويجب الاتيان
بالطبيعي في ضمن فرد آخر، جمعا بين الحقين وحفظا للغرضين، وان كان لو اتى
بالطبيعي في ضمن هذا الفرد بداعي رجحانه الفعلي من حيث حده الجامعي كان ممتثلا
ومطيعا من تلك الجهة وعاصيا من جهة أخرى.
وبالجملة فالمقصود هو عدم ملاحظة حيثية أهمية مصلحة الجامع في هذا المقام
عند التمكن من استيفائها في ضمن فرد آخر وانه يقدم حينئذ تلك المفسدة المهمة المغلوبة
القائمة بالخصوصية على المصلحة الأهم في الجامع، ولو كانت في أدنى درجة الضعف حتى
البالغة إلى درجة الكراهة وكانت المصلحة في أعلى درجة القوة. وعمدة النكتة في ذلك
427

انما هي عدم صدق المزاحمة والدوران حينئذ بين الغرضين في الوجود بلحاظ امكان الجمع
بينهما باتيان الطبيعي والجامع في ضمن غير هذا الفرد والا فمع صدق المزاحمة في هذا المقام
أيضا لا اشكال في أن التأثير للأقوى منهما كما في فرض انحصار الطبيعي بهذا الفرد وكذا في
فرض قيام المصلحة أيضا كالمفسدة بالطبيعة السارية.
ومن ذلك البيان ظهر أيضا حل الاشكال في الكراهة في العبادات فيما كان لها
البدل، حيث إنه بمقتضي البيان المزبور أمكن الالتزام بفعلية الكراهة المصطلحة في الفرد
ولو من حيث حدوده المشخصة مع الالتزام أيضا بصحة العبادة بلحاظ رجحانها ذاتا بمقدار
يقتضي رجحان حفظ الفرد المزبور من ناحية حدود الطبيعي. نعم فيما لا بدل لها من
العبادات لا يجري البيان المزبور من جهة وقوع المزاحمة حينئذ بين الأمر والنهي في الفرد
بجميع حدوده، فلابد فيها اما من الحمل على أقلية الثواب والرجحان، أو صرف النهى
عن ظاهره إلى ايقاع العبادة في الأوقات المخصوصة، نظير النهى عن ايقاع جوهر نفيس في
مكان قذر، بجعل المبغوض كينونة العبادة في وقت كذا لا نفسها، حتى لا ينافي المبغوضية
مع محبوبية العمل ورجحانه المقوم لعباديته.
وعلى ذلك فكم فرق بين الجواز بهذا المعنى وبين الجواز بالمعنى المتقدم بمسلك مكثرية
الجهات، حيث إنه على الأول يكفي في جواز الاجتماع مجرد تغاير العنوانين بتمام المنشأ
على نحو يكون منشأ انتزاع كل عنوان بتمامه مغايرا مع منشأ انتزاع الآخر من غير فرق بين
ان يكون الامر متعلقا بالطبيعة السارية أو بصرف وجودها ولا بين اقوائية ملاك الامر في
نفسه أو اقوائية ملاك النهى، بخلافه على مسلك اختلاف أنحاء حدود الشئ فان الجواز
بهذا المعنى يحتاج أولا إلى عدم كون الامر متعلقا بالطبيعة السارية بل بصرف الطبيعي
والجامع المنتج للوجوب التخييري في الافراد بالتقريب المتقدم في المقدمة السابعة. وثانيا
إلى أهمية مصلحة الجامع من المفسدة التعيينية في الفرد.
ثم انه مما ذكرنا ظهر الحال في المفاهيم الاشتقاقية المأخوذة في حيز الحكم بنفسها أو
بعنوان ايجادها، حيث إنه يختلف مصب الحكم حسب الاختلاف في مفهوم المشتق،
فعلى القول بأخذ الذات فيه وتركبه من المبدء والذات فلا جرم يكون العنوانان في المجمع
من قبيل العنوانين المختلفين في بعض المنشأ والمشتركين في البعض الآخر، من جهة
اشتراك عنوان العالم والفاسق حينئذ في جهة الذات الحاكية عن جهة واحدة وحيثية
428

فاردة، وفي مثله لابد من المصير إلى الامتناع بمقتضي ما تقدم، لا الجواز، الا في فرض
تعلق الامر بصرف الطبيعي والجامع مع فرض أهمية المصلحة الجامعية أيضا من المفسدة
التعيينية في الفرد، فيصار حينئذ إلى الجواز بمقتضي البيان المتقدم.
واما على القول ببساطة المشتق وعدم اخذ الذات فيه فان قلنا بالفرق بين المشتق
ومبدئه باعتبار اللابشرطية والبشرط لائية وجعلنا مصب الحكم بهذا الاعتبار نفس
المبدئين فالعنوانان من قبيل العنوانين المختلفين بتمام المنشأ وفي مثله كان الحكم هو الجواز
من جهة اختلاف المتعلقين بتمام الحقيقة، واما ان قلنا بعدم كفاية مجرد اعتبار
اللابشرطية في كون مصب الحكم هو المبدء بشهادة عدم صحة جعله مصب الحكم في
مثل أطعم العالم وقبل يد العالم وأكرم العالم، ولو مع اعتبار اللابشرطية الف مرة وان
مصب الحكم ومحطه انما كان عبارة عن نفس الذات غايته بما هي متجلية بجلوة العلم
والقيام والقعود ونحو ذلك على نحو كان المبدء ملحوظا في مقام الحكم تبعا للذات وان
كان بحسب اللب من الجهات التعليلية لمصلحة الذات فلا جرم يكون العنوانان في مقام
الحكاية عن محط الحكم من قبيل حكاية المفهومين عن جهة واحدة وحيثية فاردة وفي
مثله لابد من المصير إلى الامتناع من جهة استحالة طرو الصفتين المتضادتين على جهة
واحدة وحيثية فاردة، كما هو واضح.
مسألة الصلاة في محل مغصوب
بقى الكلام في مسألة الغصب والصلاة التي هي معركة الآراء بين الأصحاب بعد
الفراغ عن اختلافهما حقيقة، في أنه هل هما حاكيان عن الجهتين الخارجيتين الممتازتين
بتمامهما في المجمع على نحو كان منشأ انتزاع كل بتمامه جهة غير الجهة التي ينتزع عنها
الاخر؟ أم هما مشتركان في جهة خارجية وممتازان في جهة أخرى كك نظير العالم
والفاسق بناء على القول بتركب المشتق من المبدء والذات؟ ومبني الخلاف انما هو
الخلاف في خروج الأكوان عن حقيقة الصلاة والغصب وعدم خروجها عن حقيقتهما.
فعلى المختار من عدم خروج الأكوان عن حقيقة الصلاة والغصب وان الصلاة عبارة
عن الافعال الخاصة من القيام والركوع والسجود المقرونة ببعض الإضافات والنسبيات
429

الاخر من الترتيب والموالاة ونشؤها عن قصد الصلاتية، وكذا الغصب عبارة عن الفعل
الشاغل لمحل الغير في حال عدم رضاه الجامع بين الركوع والسجود وبين غيرهما
من الافعال الاخر الأجنبية عن الصلاة فالعنوانان مشتركان في جهة وممتازان في جهة
أخرى من جهة اشتراكهما حينئذ في نفس الأكوان وامتيازهما في الخصوصيات الزائدة
من الإضافات المقومة للصلاتية والإضافات المقومة للغصبية، ومقتضي ذلك كما تقدم
هو المصير إلى عدم الجواز الاجتماع في المجمع في تمام العنوانين في الجهة المشتركة بينهما وهي
نفس الأكوان، مع الالتزام بجواز الاجتماع بالنسبة إلى الجهتين الممتازتين القائمتين
بالأكوان المقومة إحديهما للصلاتية والأخرى للغصبية.
واما على القول بخروج الأكوان عن حقيقة الصلاة أو الغصب اما بجعل الصلاة عبارة
عن الأوضاع الواردة على الأكوان الخاصة بجعلها عبارة عن مقولة الوضع، مع جعل
الغصب عبارة عن الفعل الشاغل لمحل الغير بدونه اذنه ورضاه، أو عن مقولة الأين بجعله
عبارة عن اشغال المحل بالفعل مع جعل الصلاة من مقولة الفعل فالعنوانان ممتازان
في المجمع بتمام حقيقتهما، ومقتضاه كما تقدم هو المصير إلى جواز الاجتماع.
وحينئذ فلابد من تنقيح هذه الجهة فنقول: والتحقيق حينئذ هو ما عرفت من عدم خروج الأكوان
عن حقيقة الصلاة والغصب وذلك فان القول بكون الصلاة من مقولة الوضع وانها عبارة عن
الأوضاع الواردة على الأكوان من الاستقامة والتقوس والانحناء مع خروج نفس الأكوان
عن حقيقة الصلاة بعيد جدا، فإنه مع الاغماض عن أن القراءة عبارة عن نفس الحركة
لاعن الخصوصيات الواردة عليها نقول: بان ظاهر المنساق من العناوين المزبورة من
نحو القيام والركوع والسجود هو كونها عبارة عن نفس الأكوان الخاصة دون الأوضاع
الواردة، عليها، ومن ذلك أيضا لا يكتفي في القيام الواجب في الصلاة بصرف احداث هيئة
القيام من دون وقوع ثقله على الأرض ونحوها في حال الاختيار فتأمل، كبعد القول بان
الغصب من مقولة الأين وانه عبارة عن اشغال المحل بالفعل لا الفعل الشاغل لمحل الغير
فان الظاهر هو عدم فهم العرف من الغصب الأنفس التصرفات الشاغلة لا مجرد اشغال
المحل بها كيف ومع الاغماض عن ذلك وتسليم كون الغصب عبارة عن نفس الحيطة
على الشئ نقول: بأنه يكفينا حينئذ العمومات الناهية عن التصرف في مال الغير بدون
اذنه ورضاه المعلوم انصرافه في الأذهان إلى نفس التصرفات الشاغلة حركة وسكونا من
430

جهة انطباق عنوان التصرف المنهي عنه في عموم عدم جواز التصرف حينئذ على نفس
الأكوان الخاصة من القيام والقعود والركوع والسجود وحينئذ فإذا كانت الصلاة أيضا
عبارة عن نفس الأكوان الخاصة غايته مقرونة ببعض الإضافات والنسبيات الاخر
من الترتيب والموالاة ونشو كونها عن قصد الصلاتية، فلا جرم تصير الصلاة والغصب من
قبيل العنوانين المشتركين في بعض الجهة دون بعض، من جهة اشتراكهما حينئذ في نفس
الأكوان التي هي جهة واحدة ومقولة فاردة، وفي مثله لابد كما عرفت من المصير إلى عدم
الاجتماع بالنسبة إلى نفس الأكوان مع الالتزام بالجواز في الجهات الزائدة عن الأكوان
من الخصوصيات والإضافات القائمة بها المقومة بعضها للصلاتية وبعضها للغصبية.
على أن مجرد الالتزام بان الغصب من مقولة الأين مع الالتزام بان الصلاة من مقولة الفعل
لا يجدي أيضا فيما هو المهم من تصحيح الصلاة، فان الأكوان على ذلك تصير سببا
للغصب المنهي عنه في عموم لا يجوز التصرف في مال الغير الا باذنه فكانت محرمة
حينئذ بالحرمة الغيرية ومع حرمتها تقع فاسدة من هذه الجهة من جهة اندراجها في باب
النهى عن العبادة وان كان بينهما فرق من حيث تحقق ملاك الأمر والنهي في المقام دونه في
ذلك المقام، كما هو واضح. ولكن التحقيق في المقام هو ما عرفت من عدم خروج
الأكوان عن حقيقة الصلاة ولا عن حقيقة الغصب وانه كما أن الصلاة عبارة
عن الأكوان الخاصة بضميمة بعض الإضافات الخاصة كذلك الغصب أيضا حسب ما
هو المنصرف منه لدى العرف من العمومات الناهية عن التصرف في مال الغير بدون رضاه
عبارة عن نفس الافعال الشاغلة حركة وسكونا المنطبقة على الأكوان الخاصة فيكونان
حينئذ مشتركين في نفس الأكوان التي هي جهة واحدة وحيثية فاردة وممتازين
في الخصوصيات الزائدة من الإضافات الخاصة المقومة بعضها للصلاتية وبعضها للغصبية.
ومقتضى ذلك هو لزوم المصير إلى عدم الجواز بالنسبة إلى نفس الأكوان التي هي
جهة مشتركة بينهما في المجمع مع الجواز بالنسبة إلى الجهتين الزائدتين القائمتين بالأكوان
المقومة إحديهما للصلاة والأخرى للغصب، نعم لما كان المفروض حينئذ أهمية مفسدة
الغصبية من مصلحة الصلاة باعتبار كونها من حقوق الناس فلا جرم يقع الأكوان الخاصة
من القيام والركوع والسجود موردا لتأثير المفسدة الأهم في المبغوضية الفعلية فتقع مبغوضا
صرفا لا محبوبا ومعه تبطل الصلاة لا محالة لعدم المجال حينئذ للتقرب بها بايجادها.
431

اللهم الا ان يقال حينئذ بأنه يكفي في تصحيحها التقرب بالجهات الزائدة
عن الأكوان فيتقرب حينئذ بجعل الأكوان صلاة لان ما هو المبغوض حينئذ انما كان تلك
الأكوان بعناوينها الأولية وبما هي قيام وركوع وسجود لا بما انها صلاة بهذا العنوان
الطاري عليها الناشي من قصد الصلاتية بها. وحينئذ فبعد ان كانت هذه الخصوصيات
القائمة بالأكوان موردا لتأثير المصلحة المهمة في المحبوبية الفعلية بمقتضى خلوها عن المزاحم
فيها فلا جرم أمكن التقرب بحيثية كونها صلاة فيتقرب بحيثية صلاتية الأكوان لا بنفسها
وإيجاد تمام حقيقة الصلاة ويكتفي أيضا في التقرب بمثلها في العبادة من دون احتياج في
صحتها إلى التقرب بتمام حقيقتها كي يشكل من جهة مبغوضية نفس الأكوان،
ومع الشك في احتياج العبادة في القرب إلى أزيد من هذا المقدار فالأصل هو البراءة
عن المقدار الزائد، بناء على ما هو التحقيق من جريانها في الشك في أصل قربية العمل
وتعبديته أو توصليته نعم بناء على مرجعية الاحتياط في أصل المسألة عند الشك في التعبدية
والتوصلية بالتقريبات المذكورة في محله لابد من الاحتياط في المقام أيضا والمصير إلى عدم
كفاية القرب بالمقدار المزبور في صحة العبادة، هذا.
ولكن مع ذلك لا تخلوا لمسألة عن اشكال فان الظاهر هو تسالم الأصحاب على عدم
كفاية القرب بالمقدار المزبور في صحة العبادة واحتياجها إلى التقرب بتمام حقيقتها
وحينئذ فإذا فرضنا مبغوضية الأكوان المزبورة من جهة أهمية مفسدة الغصب لكونه من
حقوق الناس فلا جرم لا يبقى مجال للتقرب بتمام حقيقة الصلاة فتفسد العبادة حينئذ
لا محالة، كما هو واضح، نعم لو اغمض عن ذلك وقلنا بكفاية التقرب بحيثية صلاتية
الأكوان والجهات الزائدة عنها لما كان مجال للاشكال عليه بان تلك الجهات الزائدة
من الإضافات الخاصة المقومة للصلوتية والغصبية انما هي من الاعتباريات المحضة الخارجة
عن حيز المصلحة والمفسدة وان ما هو مركب المصلحة والمفسدة انما هو الصادر الخارجي
الذي هو نفس الكون ومعه يكون ما في الخارج مبغوضا محضا بتمامه لا ببعضه، إذ يمكن
دفعه بما عرفت في المقدمة الخامسة من عدم كون هذا النحو من الإضافات المقولية من قبيل
الإضافات الاعتبارية المحضة التي لا يكون لها واقعية بل هي بلحاظ خارجيتها في نفسها
حينئذ كانت قابلة لان تكون مركب المصالح والمفاسد ضمنا أو استقلالا من غير فرق في
ذلك بين ان نقول بحظ من الوجود لها أيضا كما قيل أم لا، لأنها حينئذ كانت من قبيل
432

حدود وجود الشئ الذي بحده الخاص تقوم به المصالح والمفاسد ومعه لا يبقى مجال
الغائها عن التأثير في الصلاح والفساد بالمرة والحاقها بالأمور الاعتبارية المحضة التي لا
يكون لها واقعية في الخروج عن حيز الصلاح والفساد، وحينئذ فلو لا الاجماع المزبور على
عدم كفاية هذا المقدار من القرب من صحة العبادة واحتياجها إلى التقرب بتمام حقيقتها
أمكن تصحيح العبادة بمقتضى القاعدة بالمقدار المزبور من القرب، كما هو واضح،
وكيف كان فهذا كله في اجتماع الأمر والنهي وتميز موارد الجواز والامتناع
على المسالك المزبورة.
وقد تلخص من جميع ما ذكرنا ان المختار هو جواز الاجتماع في فرض اختلاف
العنوانين وتغايرهما بتمام المنشأ على نحو كان منشأ انتزاع كل عنوان بتمامه غير ما ينتزع
عنه العنوان الاخر، من غير فرق بين كون العنوانين من مقولتين كعناوين الأوصاف
الحاكية عن الكم والكيف والأين أو من مقولة واحدة، كان التركيب بينهما في المجمع
اتحاديا أو انضماميا، ومن غير فرق بين كون الامر كالنهي متعلقا بالطبيعة السارية أو
بصرف وجودها، ولا بين تعلق الامر بالعناوين والصور الذهنية أو بالمعنونات الخارجية،
ولا بين وقوف الطلب على نفس الطبيعي أو السراية إلى الافراد، وعدم جواز الاجتماع
فيما لم يكن تغاير العنوانين بهذا النحو سواء كان اختلافهما في صرف كيفية النظر دون
المنظور، أو كان اختلافهما في المنشأ وفى المنظور أيضا لكن لا بتمامه بل بجزء منه، إذ
حينئذ بالنسبة إلى الجهة المشتركة بينهما يتوجه محذور اجتماع الضدين وهما الحب والبغض
في امر وحداني، ولقد عرفت أيضا ان مثل الصلاة والغصب الذي هو معركة الآراء من
هذا القبيل حيث إنه بعد عدم خروج الأكوان عن حقيقتهما كان اختلافهما في جزء المنشأ
خاصة، لا في تمامه كما هو مقتضي القول بخروج الأكوان عن حقيقة الغصب أو القول
بخروجها عن حقيقة الصلاة بجعلها عبارة عن الأوضاع الواردة على الأكوان، ولا كان
اختلافهما أيضا بالاعتبار مع اتحادهما حقيقة في تمام المنشأ كما يظهر من الكفاية من
حيث عدة الصلاتية والغصبية من الاعتباريات الصرفة الخارجة عن حيز المصلحة
والمفسدة هذا كله على مسلك مكثرية الجهات جوازا ومنعا.

(1) ج 1 ص 249.
433

كما أنه على مسلك عدم سراية الامر من الطبيعي إلى الفرد كان المتجه هو المصير
إلى الجواز في كل مورد كان الامر متعلقا بالطبيعي والجامع والنهى بفرد من افراده وان
كان المبنى خلاف التحقيق، كما مر بيانه وشرح السراية في المقدمة السابعة.
واما على المسلك اختلاف أنحاء حدود وجود الشئ الوحداني الجاري حتى في صورة
وحدة عنوان المتعلق في الأمر والنهي كقوله: صل وقوله: لا تصل في الدار المغصوبة أو
في الحمام فقد عرفت ان المختار على هذا المسلك أيضا هو الجواز في كل مورد كان المطلوب
من الامر هو صرف الطبيعي والجامع دون الطبيعة السارية مع اقوائية المصلحة الجامعية
من المفسدة التعيينية في الفرد والا فالمتجه هو عدم جواز الاجتماع، ومن ذلك لا يكاد
يجدي هذا المسلك أيضا للجواز في مثال الغصب والصلاة الذي هو معركة الآراء وذلك
انما هو من جهة ما يعلم من مذاق الشرع من أهمية مفسدة الغصب ولو من جهة كونه من
حقوق الناس إذ حينئذ يخصص دائرة رجحان الطبيعي والجامع عقلا بما عدا هذا الفرد
فيصير الفرد الغصبي بتمام حدوده مورد تأثير المفسدة الأهم التعيينية في المبغوضية الفعلية
وهذا بخلافه في فرض أهمية مصلحة الجامع فإنه في هذا الفرض يكون التأثير للمصلحة
الأهم فيمكن حينئذ الالتزام بجواز الاجتماع بالتفكيك بين أنحاء حدود الفرد المزبورة
بالتقريب المتقدم.
بل وعلى هذا التقريب أيضا عرفت حل الاعضال في العبادات المكروهة أيضا، حيث
جمعنا بين صحة العبادة وبين ظهور النواهي المتعلقة بها في الكراهة المصطلحة بالالتزام
بفعلية الكراهة في الفرد ولو ببعض حدوده مع الالتزام بصحة العبادة أيضا لمكان رجحانها
ذاتا بمقدار يقتضي حفظ وجودها من قبل حدودها الطبيعي لا مطلقا حتى من قبل حدودها
الشخصية، ولكن مثل ذلك كما عرفت انما هو في العبادات المكروهة التي لها بدل
كالصلاة في الحمام مثلا، واما ما لا بدل لها منها كصوم يوم عاشورا والصلوات المبتدئة
في الأوقات المخصوصة في أول طلوع الشمس وعند غروبها ونحو ذلك مما كان امره من قبيل
الوجود الساري فلا يتم هذا التقريب، إذ في مثل ذلك يقع التزاحم قهرا بين الأمر والنهي
في الفرد بجميع حدوده، ومن ذلك لابد فيها اما من صرف تلك النواهي عن ظاهرها إلى
حيث ايقاع العبادة في الأوقات الخاصة، نظير النهى عن ايقاع جوهر نفيس في مكان قذر،
فكان المبغوض حينئذ هو كينونة الصلاة في أوقات خاصة لأنفسها، واما من حمل الكراهة
434

فيها على أقلية الثواب والرجحان، وان كان المتعين هو الوجه الأول نظرا إلى عدم ملائمة
أقلية الرجحان مع مداومة الأئمة عليهم السلام على الترك.
نعم هنا وجهان آخر ان تفصى بكل منهما في الكفاية (1) لدفع الاشكال: أحدهما
دعوى قيام مصلحة أخرى أقوى على عنوان منطبق على الترك فكان رجحان تركها حينئذ
لمكان ما في نفس الترك حينئذ من المصلحة الأهم بملاحظة ذاك العنوان المنطبق عليه و
ثانيهما دعوى قيام مصلحة أقوى على عنوان وجودي ملازم مع تركها، فكان النهى عن
ايجادها حينئذ في الحقيقة كناية عن الامر بذلك العنوان الملازم مع الترك، حيث اكتفى
في الامر به بالنهي عما هو نقيض ملزومه.
ولكن لا يخفى ما في كلا الوجهين: اما الأول فلان مقتضى أرجحية الترك بعد
فرض انطباق العنوان المزبور عليه واتحاده معه هو ان يكون نقيضه وهو الفعل بمقتضي
اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن نقيضه مرجوحا فعليا ومع صيرورة الفعل الذي هو
نقيض الترك مرجوحا يتوجه الاشكال المزبور بأنه كيف المجال لصحة العبادة مع
مرجوحيتها الفعلية؟ واما الثاني فلكونه مخالفا لما يقتضيه ظهور النهى من التعلق بنفس
العمل لا بما يلازمه من امر آخر، كما هو واضح.
بقى التنبيه على أمور
الامر الأول: لا يخفى عليك انه لا اختصاص لنتيجة هذه المسألة بالعبادات بل كما
انها تجرى في العبادات كك تجرى في المعاملات أيضا، كما لو آجر نفسه على خياطة ثوب أو
طحن حنطة بمعناهما المصدري فخاطه أو طحنها في مكان مغصوب حيث إنه تقع الخياطة
وكذا الطحن بملاحظة كونهما أداء لحق الغير مأمورا بالايجاد، وبملاحظة كونه غصبا
وتصرفا في مال الغير بدون رضاه كان منهيا عن الايجاد. وحينئذ فبناء على جواز الاجتماع
كان له ايجاد الخياطة والطحن في مكان مغصوب وباتيانه يقع العمل وفاء لعقد الإجارة
نظرا إلى خروج محل الإجارة حينئذ عن المبغوضية وبقائه على ماليته فيصير حينئذ وفاء

(1) ج 1 ص 256.
435

قهرا بعقد الإجارة، نعم على ذلك لابد في صحة أصل الإجارة من وجود المندوحة من جهة
انه بدون المندوحة لا قدرة له على الوفاء وهي شرط صحة الإجارة فمن ذلك يبطل الإجارة
حينئذ لانتفاء شرط صحتها الذي هو القدرة على الوفاء، ومن هذه الجهة يفرق العبادات
عن المعاملات، حيث إنه في العبادات لا يحتاج إلى اعتبار قيد المندوحة الا من جهة رفع
غائلة محذور التكليف بما لا يطاق الذي هو غير مهم أيضا عند القائل بالجواز من جهة ما
عرفت من أن المهم عنده انما هو محذور اجتماع الضدين الذي هو بنفسه من التكليف المحال،
بخلافه في المعاملات حيث إن الاحتياج إلى قيد المندوحة من جهة أصل صحة المعاملة.
واما بناء على الامتناع وتغليب جانب النهى فحيث انه تسرى المبغوضية إلى الخياطة
فقهرا تصير مبغوضة ومحرمة ومعه تخرج شرعا عن المالية فلا يصلح مثلها للوقوع وفاء
بعقد الإجارة وحينئذ فلو كان المحل باقيا بعد ذلك فلا اشكال، حيث يجب الاتيان
بالخياطة في غير المكان المغصوب والا فيبطل الإجارة لعدم بقاء المحل للوفاء.
هذا إذا كانت الإجارة على نفس الخياطة والطحن بما انهما عمل له واما لو كانت
الإجارة عليهما بما انهما نتيجة عمله وفعله ففي هذا الفرض صحت الإجارة مع المندوحة و
يقع الطحن والخياطة أيضا وفاء للمعاملة بلا اشكال، نظرا إلى عدم سراية المبغوضية حينئذ
إليهما وبقائهما على ماليتهما لخروجهما حينئذ حقيقة عن فرض اجتماع الأمر والنهي في
وجود واحد كما هو واضح.
الامر الثاني: قد عرفت سابقا ان المسألة كانت من صغريات باب التزاحم دون
التعارض ولو على الامتناع ومن ذلك لابد من احراز الملاك والمقتضي لكل واحد
من الحكمين على الاطلاق حتى في المجمع كي يحكم عليه على الجواز بكونه محكوما بحكمين
من المحبوبية والمبغوضية والإرادة والكراهة، وعلى الامتناع بأقوى الملاكين لو كان أحدهما
أقوى والا فبحكم آخر غيرهما مثلا. ولقد عرفت أيضا بيان الفرق بين باب التزاحم
والتعارض وان المدار في باب التزاحم انما هو على تزاحم الملاكين في مقام التأثير
في الرجحان والمرجوحية أو في عالم الوجود ومرحلة فعلية الإرادة والكراهة كما في المتضادين
وجودا، ومنه باب الاجتماع بناء على الجواز خصوصا مع عدم المندوحة، لا على تزاحم
الحكمين في مقام الامتثال كما توهم والا فكما عرفت لا يكاد ينتهى النوبة إلى مقام تزاحم
الحكمين حتى في المتضادين اللذين يلازم امتثال أحدهما عصيان الآخر الا على فرض
436

جعل القدرة من شرائط تنجز التكليف لا من شرائط أصل التكليف وفعليته، والا فعلى
فرض كونها من شرائط أصل التكليف وفعليته كما هو التحقيق لا يكاد يكون مجال لوقوع
المزاحمة بين الحكمين الفعليين حتى في المتضادين وجودا من جهة وضوح استحالة تشريع
الحكمين حينئذ على الاطلاق في المتضادين، نظير امتناع تشريع اطلاق الحكمين في
مجمع العامين من وجه فلابد على هذا الملاك حينئذ من ادراج جميع هذه الموارد في باب
التعارض مع أنه كما ترى. وحينئذ فلا محيص من الالتزام بما ذكرناه من المعيار بجعل
المناط في باب التزاحم على تزاحم الملاكين من المفسدة والمصلحة في عالم التأثير في ايراث
الحب والبغض كما في باب الاجتماع على الامتناع، أو تزاحمهما في عالم الوجود ومقام
فعلية الإرادة والكراهة كما في المتضادين وجودا، ومنه باب الاجتماع على الجواز، وان
كان الحكم الفعلي دائما على طبق أحد الملاكين في قبال باب التعارض الذي ملاكه
تكاذب الدليلين في مرحلة أصل الاقتضاء.
وعليه فكل مورد أحرز ولو من الخارج وجود الملاك والمقتضي لكل واحد من الحكمين
كان ذلك من باب التزاحم الذي من لوازمه هو الاخذ بما هو الأقوى والاهم منهما ملاكا
وان كان أضعف سندا من الآخر نعم يخرج عن ذلك صورة إناطة المصلحة في قيامها
بالشئ بعدم تأثير المفسدة في المرجوحية، كما في كلية التكاليف المشروطة بالقدرة شرعا
عند مزاحمتها مع ما لا يكون القدرة فيه الا شرطا عقليا، كما في الحج الواجب في فرض
انحصار المركوب بالدابة المغصوبة مثلا حيث إنه في هذا القسم لا يلاحظ جهة اقوائية
المفسدة في مقام تقديمها على المصلحة، بل حينئذ يقدم المفسدة على المصلحة في مقام التأثير
في المرجوحية الفعلية ولو كانت أضعف بمراتب من المصلحة، وذلك من جهة استحالة
مزاحمة المصلحة التعليقية مع المفسدة التنجيزية، لان مانعيتها دورية فتبقى المفسدة المزبورة
في رتبة تأثيرها بلا مزاحم فتؤثر في المبغوضية ولو كانت في أدنى درجة الضعف وكانت
المصلحة في أعلى درجة القوة وحينئذ فينحصر باب التمانع الذي يكون جهة تأثير كل
من الملاكين تابع الأهمية والأقوائية بما عدا تلك الصورة، كما هو واضح.
كما أن كل مورد لم يحرز وجود المقتضي والملاك لكل من الحكمين كان من باب
التعارض الذي من حكمه هو الرجوع بعد العجز عن الجمع بينهما إلى المرجحات السندية.
ثم انه بعد ما اتضح لك ما هو كبرى المسألة وتميز ثبوتا عن كبرى باب التعارض
437

يبقى الكلام في تشخيص صغريات باب التزاحم عن صغريات باب التعارض، وان
مقتضي ظهور الخطابين عند عدم قيام قرينة قطعية من اجماع أو غيره على وجود الملاكين
في المجمع هل هو كونه من باب التزاحم مطلقا؟ أو من باب التعارض كك؟ أو يفصل
بين صورة تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه وبين صورة وحدة عنوان المأمور به والمنهى
عنه؟ كما في اكرام العالم والهاشمي فيما لو تعلق الامر مثلا باكرام العالم والنهى باكرام
الهاشمي.
فنقول: اما فرض تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه حقيقة كالغصب والصلاة
قضية اطلاق الخطابين حينئذ الكاشف عن وجود الملاك والمصلحة في موضوعيهما
على الاطلاق حتى في المجمع بل وفي حال العجز عن موضوعهما وجدانا أيضا، كما كان
ذلك هو الشأن أيضا في كلية الخطابات. ومن ذلك أيضا ترى بنائهم على كشف قيام
المصلحة بمتعلق التكاليف على الاطلاق حتى في حال العجز عن امتثالها من مثل تلك
الخطابات مع الجزم باختصاص فعلية التكليف بحال القدرة، من غير تخصيص للمصلحة
أيضا بحالها الا في فرض اخذ القدرة أيضا قيدا في حيز الخطاب كما في الحج، وحينئذ فإذا
كان قضية اطلاق الخطابين هو الكشف عن وجود الملاك في موضوعهما على الاطلاق حتى
في المجمع، فقهرا يندرج في باب التزاحم الذي من حكمه هو الاخذ بأقوى الملاكين منهما.
نعم هنا اشكال معروف وهو ان طريق كشف المصلحة في المتعلق انما كان حيث
ظهور الخطاب في فعلية التكليف والا فلا دلالة له على وجود المصلحة في المتعلق أو قيام
الرجحان به في قبال دلالته على فعلية التكليف، وحينئذ فإذا فرض سقوط دلالته على
فعلية التكليف بمقتضي حكم العقل بتخصيص فعلية التكليف بحال القدرة وعدم العجز
فلا جرم مع سقوط دلالته هذه لا يبقى مجال الكشف عن قيام المصلحة في المتعلق
على الاطلاق حتى في حال العجز وعدم القدرة، ومعه أين الطريق بعد لكشف المناط
والمصلحة في المتعلق على الاطلاق؟ ولكن يدفع هذا الاشكال بأنه انما يتم ذلك فيما
لو كان حكم العقل باشتراط القدرة في الارتكاز بمثابة يكون من القرائن الحافة بالكلام
الكاسرة لظهور اللفظ نظير قرينة الحكمة فإنه حينئذ كما أفيد لا يبقى مجال الكشف عن
وجود الملاك والمصلحة من اطلاق الخطاب، لان دلالة الخطاب والهيئة على قيام المصلحة
في المتعلق لما كانت بالالتزام كانت فرع دلالته على فعلية التكليف وبعد سقوط دلالته
438

على فعلية التكليف بمقتضي القرينة العقلية فقهرا لا يبقى له الدلالة على قيام المصلحة
أيضا الا في حال القدر، ولكن ذلك في محل المنع جدا، بل نقول: بأنه من قبيل القرائن
المنفصلة الغير الكاسرة لظهور اللفظ وان ما نعيته انما هو عن حجيته لاعن أصل ظهوره،
وعليه نقول: بان القدر الممنوع بحكم العقل حينئذ انما هو حجية الخطاب بهيئته في فعلية
التكليف في حال العجز وعدم القدرة، فيبقى ظهوره في الدلالة على قيام المصلحة في المتعلق
على الاطلاق على حاله، فيؤخذ بظهوره ذلك ويحكم بوجود الملاك في متعلق الخطابين على
الاطلاق حتى في المجمع، من دون احتياج حينئذ إلى التشبث باطلاق المادة والمتعلق
لكشف المصلحة حتى في حال العجز عن الامتثال كي يقال بان المادة بعد ما اخذت
موضوعة للهيأة في الخطاب فمقتضى طبع الموضوعية هو كونها سعة وضيقا بمقدار سعة الهيأة
وضيقها، وحينئذ فمع تضيق دائرة الهيأة واختصاصها بحال القدرة وعدم العجز لا يكون
للمادة سعة اطلاق في قبال الهيأة العارضة لها حتى يتشبث باطلاقها، كما هو واضح.
ومما ذكرنا ظهر أيضا عدم صحة مقايسة هذا الحكم العقلي في المقام بمثل قرينة الحكمة
التي هي من الارتكازيات في مقام المخاطبات في كونها موجبة لانصراف الهيأة إلى صورة
القدرة وعدم العجز وذلك فان قرينة الحكمة بملاحظة كونها من شؤون اللفظ في مقام
المخاطبات تعد من قبيل القرائن اللفظية الحافة بالكلام، وهذا بخلافه في حكم العقل
باشتراط القدرة في فعلية التكليف، حيث إنه لا يكون بمثابة قرينة الحكمة حتى يكون ذلك
أيضا من شؤون الألفاظ كالحكمة، بل ولا كان في الارتكاز أيضا بمثابة لا يحتاج إلى تأمل
من العقل حتى يعد بذلك من القرائن الحافة الكاسرة لظهور الهيأة، بل هو من جهة
احتياجه إلى نحو تأمل من العقل يكون من القرائن المنفصلة الغير المانعة الا عن حجية
الظهور لاعن أصل الظهور، وعليه فبعد عدم انثلام ظهور الهيأة بمقتضي حكم العقل
باشتراط القدرة في التكليف الفعلي فلا محالة يؤخذ بظهورها في الدلالة على قيام المصلحة
في المتعلق على الاطلاق حتى في حال العجز.
هذا كله فيما لو تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه، ومثله بل أوضح منه ما لو تباينا
وجودا أيضا مع تلازمهما خارجا فإنه أيضا مندرج في باب التزاحم بالبيان المزبور.
واما لو اتحد عنوان المأمور به والمنهى عنه كاكرام العالم والهاشمي حيث كان متعلق
الأمر والنهي عنوانا واحدا وهو الاكرام فمقتضى ما ذكرنا وان كان هو اعمال قواعد
439

التزاحم فيه أيضا الا ان ظاهر الأصحاب في مثله على اعمال قواعد التعارض، ولعل
النكتة في الفرق بين الفرضين هو ان في فرض تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه لا يكون
العقل مانعا بدوا عن فعلية التكليف بالعنوانين بل وانما الممنوع فيه هو فعلية التكليفين
في ظرف التطبيق في المجمع، حيث يرى بعد التطبيق كونهما من التكليف بما لا يطاق، فمن
ذلك يخرج عن كونه من القرائن الحافة الكاسرة لظهور الهيأة. وهذا بخلافه في صورة
وحدة عنوان المأمور به والمنهى عنه كما في العامين من وجه كاكرام العالم والهاشمي فإنه في
هذا الفرض يكون العقل بدوا مانعا عن فعلية التكليفين بعنوان وحداني وعن اجتماع
المحبوبية والمبغوضية فيه، إذ يرى كون أصل التكليف به بالفعل تارة وبالترك أخرى
من التناقض، ومن هذه الجهة يكون من قبيل القرائن المتصلة الحافة، فيوجب كسر صولة
ظهور الخطابين في الفعلية، ومعلوم انه مع انثلام الظهور المزبور لا يبقى مجال كشف المناطين
فيه، فمن ذلك لابد فيه من اعمال قواعد التعارض، إذ يكفي في اجراء قواعد التعارض فيه
مجرد عدم احراز كونه من باب التزاحم كما هو واضح، هذا.
وقد يوجه نكتة الفرق بين الفرضين بوجه آخر وحاصله: دعوى ان اعمال قواعد
التعارض في فرض وحدة عنوان المأمور به والمنهى عنه انما هو من جهة ما يقتضيه العقد
السلبي في كل من الخطابين، بتقريب ان كل واحد من الخطابين في الفرض المزبور
كما يكشف عن وجود مناطه فيه أي في متعلقه كك يكشف عن عدم وجود مناط آخر
فيه غير مناطه، وحينئذ فحيث ان متعلق الخطابين عنوان واحد فقهرا يقع التكاذب
بين العقد الايجابي في كل منهما مع العقد السلبي في الخطاب الآخر بنحو يوجب تقديم كل
خطاب الغاء الآخر بالمرة حتى من جهة دلالته على وجود مناط فيه، فمن ذلك لابد فيه
من اعمال قواعد التعارض بينهما، وهذا بخلافه في فرض تعدد عنوان المأمور به والمنهى
عنه، فإنه في هذا الفرض لا ينتهى النوبة إلى مقام معارضة الخطابين حيث لا يقتضي
تقديم شئ من الخطابين حينئذ الغاء الآخر عن الدلالة على وجود المناط في متعلقه بوجه
أصلا، فمن هذه الجهة يؤخذ بظهور كل من الخطابين في الدلالة على وجود الملاك والمصلحة
في متعلقه حتى في المجمع ويجري عليه بعد ذلك قواعد باب التزاحم، هذا.
ولكن يمكن الخدشة في هذا التقريب بمنع التنافي بين الخطابين في فرض وحدة
عنوان المأمور به والمنهى عنه أيضا وذلك من جهة امكان ان يكون الشئ الوحداني
440

بجهتين تعليليتين واجدا للمصلحة والمفسدة، فيكون ذا مصلحة من جهة وذا مفسدة
من جهة أخرى، وأمثلته كثيرة جدا، ومعلوم حينئذ انه مع امكان ذلك ثبوتا لا يبقى مجال
دعوى العقد السلبي للخطابين حتى ينتهى الامر إلى معارضته مع العقد الايجابي في الآخر. و
حينئذ فالعمدة في الفرق بين الفرضين هو ما ذكرنا من كون منع العقل بدويا في فرض
وحدة عنوان لمأمور به والمنهى عنه بخلافه في فرض تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه، فان
منعه انما يكون بملاحظة مقام تطبيق العنوانين على المجمع الوحداني لا ان منعه يكون بدويا
كما في الفرض الأول.
وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا في العامين من وجه مع وحدة عنوان المأمور به ظهر
لك الحال في صورة الامر بالمطلق والنهى عن المقيد كقوله: صل، وقوله: لا تصل
في الدار المغصوبة، حيث إنه ثبوتا وان أمكن كونه من باب التزاحم الا انه اثباتا لابد فيه
من اعمال قواعد التعارض نظرا إلى كشف دليل الخاص حينئذ في فرض اقوائية عن
تضيق دائرة التكليف في طرف العام بغير المقيد بجميع مراتبه، فتدبر.
واما لوازم البابين: فمنها كما عرفت هو الرجوع في باب التعارض بعد الياس
عن الجمع إلى قواعد التعادل والترجيح بخلافه على التزاحم فإنه فيه لابد من ملاحظة ما
هو الأهم مصلحة كانت أو مفسدة فيقدم الأقوى ملاكا على غيره وان أضعف سندا
من غير أن يلاحظ فيه جهة اقوائية السند بل ولا الدلالة أيضا الا إذا فرض كون الأقوى
دلالة أقوى ملاكا أيضا فيقدم حينئذ ما هو الأقوى دلالة على غيره لمكان كشف قوة
دلالته حينئذ عن قوة ملاكه، فتدبر.
ومن لوازم التعارض والتخصيص أيضا هو عدم قيام المصلحة واقعا الا بالمقيد ويتبعه
أيضا فساد العمل الفاقد لقيد واقعا من دون إناطة بالعلم بالمصلحة أو الجهل بها،
بخلافه على التزاحم فان من لوازمه قيام المصلحة واقعا بنفس المطلق وان كان حكمه
الفعلي مقيدا بعدم وجود المزاحم الأهم، ومن لوازم هذا المعنى هو عدم تبعية الفساد واقعا
مدار فقد قيد الحكم الفعلي بل يكون تبعيته حينئذ مدار العلم به وعدمه، فمع الجهل يكون
المأتى به صحيحا واقعا من جهة وجدانه لما هو الملاك والمصلحة ووفائه بغرض المولى، ومن
ذلك أيضا بنوا في مثل الغصب والصلاة ولو على الامتناع وتغليب النهى على صحة العبادة
مع الجهل بالغصبية مطلقا أو الجهل بالحرمة إذا كان عن قصور، ومعلوم انه لا يكون ذلك
441

الا من جهة واجدية المأتي به حينئذ للملاك والمصلحة إذا المانع عن صحته حينئذ انما كان
هو فعلية نهيه وتنجزه عليه وتأثيره في مبعدية الفاعل وبعد فرض معذورية المكلف من
جهة جهله يقع العمل صحيحا قهرا،
لا يقال: هذا كك في غير العبادات واما فيها فبملاحظة احتياج صحتها إلى
قصد القربة المنوط بوجود الامر الفعلي القائم بالعمل المأتي به بداعية ومحبوبيته فلا يتم ذلك
حتى في ظرف الجهل المزبور، وذلك لان الجهل المزبور حينئذ غير رافع لتأثير المفسدة الأهم
في المبغوضية الفعلية ومع هذه الجهة من التأثير لا يبقى مجال تأثير المصلحة المهمة المغلوبة في
رجحان العمل ومحبوبيته وفعلية الامر المتعلق به، ومعه فأين امر فعلي قائم بالمأتى به
يوجب التقرب به كي يصير العمل لأجله صحيحا؟ ففي الحقيقة تمام المنشأ للفساد
حينئذ انما هو من جهة انتفاء مقتضي الصحة وهو التقرب لا من جهة وجود المانع وهو فعلية
النهى وتنجزه حتى يقال: بأنه في ظرف الجهل المزبور لا تأثير للنهي في المنجزية ومبعدية
الفاعل عن ساحة القرب إلى المبدء الاعلى عز شانه.
فإنه يقال: نعم ان ذات العمل حينئذ وان كان مبغوضا فعلا بمقتضي تأثير المفسدة
الأهم ومع هذه الجهة من التأثير لا يبقى مجال تأثير المصلحة المهمة المغلوبة فيه في المحبوبية
الفعلية، الا انه نقول: بأنه لا باس حينئذ في تأثير المصلحة المهمة في حسنه من حيث
صدوره عن الفاعل، إذا المانع عن تأثيره في حسنه حتى من حيث صدوره عن الفاعل انما
كان هو حيث تنجز نهيه وبعد سقوط تنجزه لمكان جهله فقهرا تؤثر المصلحة في حسنه من
تلك الجهة ويتبعه أيضا الامر الفعلي فيتقرب حينئذ بداعي امره ولو من حيث إضافة
صدوره إلى الفاعل. ولئن خودش فيه أيضا بامتناع موردية العمل ولو بلحاظ إضافة
صدوره إلى الفاعل لتأثير المصلحة في الرجحان والمحبوبية الفعلية مع كونه مبغوضا بالبغض
الفعلي بمقتضي تأثير المفسدة الأهم الغالبة، نظرا إلى استلزامه لاجتماع الضدين فيه من
المحبوبية والمبغوضية بملاحظة اتحاد الوجود والايجاد حقيقة، وان ما هو الصالح لان يكون
موردا لتأثير المصلحة في الرجحان والمحبوبية انما هو حيث إضافة العمل إلى الفاعل فقط مع
خروج المضاف عن مورديته لتأثير المصلحة، ومثل هذا المقدار غير واف بالتقرب المعتبر في
صحة العبادة من جهة ان ظاهرهم هو احتياج العبادة في صحتها إلى التقرب بذات العمل
لا بحيث اضافته إلى الفاعل، نقول: بأنه نمنع توقف القرب على فعلية الامر بالمأتى به و
442

رجحانه الفعلي، إذ نقول بان من أنحاء القرب أيضا اتيان العمل بقصد التوصل به إلى
غرض المولى. ومن المعلوم حينئذ ان مثل هذا المعنى مما يتمشى من المكلف حتى مع الجزم بعدم
الامر الفعلي بل ومع الجزم بكونه مبغوضا فعلا ما لم يكن العمل مبعدا له، كما في المضطر
بالغصب لاعن سوء الاختيار، وحينئذ فإذا اتى بالعمل في ظرف الجهل المزبور بداعي
التوصل به إلى غرض المولى وكان العمل أيضا من جهة وجدانه للمصلحة وافيا بغرض
المولى فقهرا بنفس اتيانه بالقيد المزبور يتحقق القرب ويصح منه العبادة. مع أنه على
فرض الاحتياج إلى الامر الفعلي أيضا نقول: بأنه بعد احتمال فعلية الامر ومطلوبيته
يكفي في التقرب بالعمل اتيانه برجاء كونه مأمورا به بالايجاد من دون احتياج إلى الجزم
بالامر أصلا، كما هو واضح. هذا في الجهل البسيط.
واما في مورد الجهل المركب فيكفي أيضا في الداعوية وفي تحقق القرب اعتقاد الامر
الفعلي وان لم يكن في الواقع امر أصلا فان ماله الدخل بتمامه في الداعوية والمحركية انما
كان هو العلم بالامر لا هو بوجوده الواقعي، وحينئذ فإذا علم بالامر وجدانا أو تعبدا لقيام
امارة عليه كان علمه ذلك تمام العلة لتحقق الدعوة، ومع اتيانه بالعمل بداعية يتحقق
القرب المتوقف عليه صحة العبادة قهرا، من جهة تحقق ما هو علته وهي الدعوة، فيترتب
عليه حينئذ صحة العبادة وان لم يكن هناك امر فعلي متعلق بالعمل في الواقع.
لا يقال: كيف ذلك مع أنه خلاف ما بنوا عليه من احتياج العبادة في صحتها إلى قيام الامر الفعلي
بها في الواقع كما يشهد عليه حكمهم بفساد العبادة عند خلوها عن الامر واقعا.
فإنه يقال: كلا، وان اعتبارهم لوجود الامر انما هو باعتبار كشفه عن وجود المصلحة
في متعلقه وبلوغه إلى مرحلة الوفاء بالغرض الفعلي نظرا إلى عدم طريق آخر إلى كشف
المناط والمصلحة فيه الا امره وبعثه لا من جهة دخله في التقرب المعتبر في صحة العبادة،
كما هو واضح.
الامر الثالث في الاضطرار إلى الغصب فنقول: الاضطرار إلى الغصب تارة يكون
لاعن سوء اختيار وأخرى يكون عن سوء اختياره، وعلى التقديرين تارة يقطع
بزوال العذر قبل خروج الوقت وأخرى يقطع ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت وثالثة يشك
في ذلك، وعلى التقادير تارة يكون الغصب مجموع الفضاء والأرض وأخرى يكون الغصب
443

هو خصوص الأرض دون الفضاء وثالثة بالعكس، فهذه صور متصورة في الاضطرار إلى
الغصب، وبعد ذلك نقول:
اما الصورة الأولى وهي ما لو كان الاضطرار إلى الغصب لاعن سوء اختياره، فبناء
على جواز الاجتماع لا اشكال، حيث إن له حينئذ الاتيان بالصلاة التامة الاجزاء
والشرائط مطلقا، سواء فيه بين علمه ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت أو علمه بزواله قبل
خروج الوقت، وسواء فيه بين كون الغصب مجموع الفضاء والأرض أو الأرض خاصة دون
الفضاء أو العكس،
واما على الامتناع وتقديم جانب النهى ولو لكونه من حقوق الناس فان كان
الغصب مجموع الأرض والفضاء وقد علم أيضا ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت فلا اشكال
أيضا حيث إن له حينئذ الاتيان بالصلاة في الغصب بما لها من الاجزاء والشرائط نظرا إلى
معلومية عدم استلزام صلاته حينئذ لزيادة تصرف في الغصب غير ما اضطر إليه وهذا
واضح بعد وضوح عدم التفاوت في شاغليته للمكان بين حالة سكونه وحركته وقيامه
وقعوده، نعم قد يناقش في المقام أيضا في أصل صحة الصلاة بنحو ما مر في صورة الجهل
بالغصبية ولكنك عرفت الجواب عنه بما لا مزيد عليه هذا إذا كان الغصب هو مجموع
الفضاء والأرض.
واما لو كان الغصب هو خصوص الأرض دون الفضاء فمقتضى القاعدة في
هذا الفرض هو تقليل الغصب مهما أمكن ولازمه هو وجوب الاتيان بالصلاة حينئذ قائما
موميا لسجوده نظرا إلى ما يلزم من وضع جبهته على الأرض من الغصب الزائد، بل ذلك
أيضا هو الذي يقتضيه الجمع بين ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال وبين ما دل على
حرمة التصرف في مال الغير، بل ولولا استلزام العسر والحرج لكان اللازم هو الاقتصار في
قيامه على رجل واحد من جهة كونه أقل تصرفا من القيام على رجلين.
ومن ذلك ظهر الحال في فرض كون الغصب هو خصوص الفضاء دون الأرض حيث إن
اللازم بمقتضي القاعدة هو وجوب الاتيان بصلاته مستلقيا على ظهره جمعا بين ما دل
على أن الصلاة لا تترك بحال وبين عموم حرمة التصرف في مال الغير، هذا.
ولكن ظاهر الأصحاب رضوان الله عليهم هو وجوب الاتيان بصلاة المختار عند كون
الاضطرار لاعن سوء اختياره حيث إن ظاهرهم هو عدم الفرق بين فرض كون الغصب
444

مجموع الفضاء والأرض وبين كونه خصوص الأرض أو الفضاء وان له في جميع الفروض
المزبورة الاتيان بالصلاة التامة الاجزاء والشرائط من القيام والركوع والسجود والتشهد،
ولعل ذلك منهم لمكان قيام السيرة على كونه مختارا حينئذ في قيامه وقعوده واضطجاعه
واستلقائه خصوصا مع ما يلزم من العسر والحرج من بقائه على كيفية واحدة من القيام
أو القعود، كما أنه يشهد لذلك أيضا خلو كلمات الأصحاب عن التعرض حينئذ لمقدار
الجائز من الحركات والسكنات والا لكان اللازم عليهم الغرض لذلك وبيان مقدار الجائز
من الحركات والسكنات، خصوصا في فرض كون الغصب هو الأرض خاصة دون الفضاء
أو العكس، هذا. ولكن مع ذلك في غير صورة الحرجية يشكل الحكم بجواز الاتيان بصلاة
المختار حتى في فرض غصبية الأرض وإباحة المكان في قبال عموم حرمة التصرف في مال
الغير، خصوصا مع امكان حمل كلامهم على ما هو الغالب من فرض غصبية الأرض
والفضاء معا، كامكان منع قيام السيرة أيضا على الاطلاق على كونه مختارا في الحركات
والسكنات حتى في غير صورة الحرجية، فتأمل. ثم إن هذا كله في فرض العلم ببقاء
اضطراره إلى آخر الوقت.
واما لو فرض علمه بزوال اضطراره قبل خروج الوقت وتمكنه من الاتيان بالصلاة
في مكان مباح ففي جواز بداره بالصلاة حينئذ والاكتفاء بها وعدم جوازه اشكال، أقواه
العدم، نظرا إلى تمكنه حينئذ من الاتيان بصلاة المختار التامة الاجزاء والشرائط في
غير الغصب. نعم في فرض غصبية مجموع الفضاء والأرض لا باس بجواز بداره واتيانه
بصلاة المختار قاصدا التقرب به بقصد التوصل به إلى غرض المولى بناء على كفاية ذلك
في القرب المعتبر في العبادة، وهذا بخلافه في فرض غصبية خصوص الأرض أو الفضاء
حيث إنه حينئذ لا مجال لاتيانه بصلاة المختار في مكان مغصوب، لما عرفت من استلزامه
لازدياد التصرف في مال الغير. واما الاجماع المدعى سابقا فغير جار في الفرض أيضا من
جهة اختصاصه بفرض عدم تمكنه من الاتيان بالصلاة في غير الغصب، ولا أقل من
كونه هو القدر المتيقن منه فيبقى الفرض تحت القواعد التي مقتضاها وجوب الاتيان مهما
أمكن بصلاة المختار التامة الاجزاء والشرائط، وحينئذ فإذا فرض عدم تمكنه من الاتيان
بصلاة المختار في الغصب يجب عليه الصبر والآتيان بها في غير الغصب.
بل ومن ذلك البيان ظهر الاشكال في فرض غصبية مجموع الفضاء والأرض أيضا
445

بناء على عدم كفاية مجرد الاتيان بالعمل بقصد التوصل به إلى غرض المولى في القرب
المعتبر في العبادة واحتياجه إلى التقرب بالعمل بقصد الامر الفعلي أو رجحانه الفعلي، إذ
حينئذ من جهة خروج الأكوان عن دائرة المحبوبية بمقتضى أهمية مفسدة الغصب لا يكاد
تمكنه من التقرب بتمام العمل فمن ذلك لابد له من الصبر إلى أن يزول اضطراره فيتمكن
من التقرب بالعمل بداعي امره ورجحانه الفعلي، كما هو واضح.
واما صورة الشك في زوال اضطراره قبل الوقت فيلحق بالعلم ببقائه إلى آخر الوقت
بمقتضي الاستصحاب فيما لو كان اضطراره الموجب لسقوط التكليف عنه شرعيا بمقتضي
حديث الرفع لا عقليا محضا، والا فلا مجال للاستصحاب لانتفاء الأثر الشرعي حينئذ،
كما هو واضح.
بقى الكلام فيما لو تمكن من الخروج وقد كان الوقت مضيقا أيضا بنحو لا يتمكن من
ايجاد الصلاة في خارج الغصب في أنه هل يجب عليه الاتيان بصلاته حينئذ في حال
الخروج بحيث لو ترك الخروج واتى بصلاته في حال استقراره تبطل صلاته، أو لا، بل
كان له الاتيان بصلاته أيضا في غير حال الخروج وان اثم بتركه للخروج بملاحظة ما
يترتب عليه من الغصب الزائد عن المقدار المضطر إليه؟ فيه وجهان: أقربه الثاني، وذلك
انما هو لوجود المقتضي لصحة صلاته وانتفاء المانع، اما الأول فواضح من جهة فرض
وجدان المأتي به حينئذ للملاك والمصلحة، واما الثاني فكك أيضا إذ المانع المتصور حينئذ
لا يكون الا فعلية نهيه وتنجزه وهو بالفرض ساقط حسب اضطراره في تلك الساعة سواء
على تقدير اختيار الخروج في تلك الساعة أو البقاء في الغصب، وبالجملة نقول بأنه بعد
اضطراره في تلك الساعة إلى ارتكاب الغصب وعدم التفاوت في شاغليته للمكان في تلك
الساعة بين حال سكونه وبقائه وبين حال حركته وخروجه كان له اختيار البقاء في
تلك الساعة وجعل كونه كونا صلاتيا. نعم في فرض اختيار البقاء يلازم بقائه فيه
الغصب الزائد في الساعة الثانية، ولكن مجرد ذلك غير مقتض للنهي عن كونه البقائي
في الساعة الأولى كي يقع بذلك مبعدا له، الا على القول باقتضاء الامر بالشئ للنهي عن
ضده:
واما توهم مقدمية البقاء حينئذ لارتكاب الغصب الزائد فمدفوع بمنع المقدمية فان
البقاء انما هو ملازم للغصب الزائد بلحاظ المضادة بين الكونين أي الكون في الغصب
446

والكون في خارجه لا انه مقدمة له، وعليه فلا يكون استتباع البقاء للغصب الزائد الا
بصرف الملازمة الخارجية، وإذا فرضنا حينئذ عدم اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده
وملازمه فقهرا لا يقع الكون البقائي منه حراما ولا مبعدا له.
واما توهم ان البقاء وان لم يكن مقدمة للغصب الزائد الا ان له نحو تقدم عليه ولو
ذاتا نظير تقدم حدوث الشئ على بقائه وهذا المقدار كان يكفي في المقدمية وفي نيل العقل
الحرمة بالنسبة إليه، فمدفوع بأنه لو سلم ذلك نمنع كفايته في ترشح الحرمة إليه حيث لا
عموم لكبري الملازمة يعم مطلق ما هو مقدم على الشئ ولولا يكون من علل وجوده.
وعليه فلا مانع عن صحة صلاته فيما لو ترك الخروج واتى بالصلاة في حال الاستقرار
وان اثم على ما يلزمه من الغصب الزائد في الساعة الثانية.
اللهم الا ان يمنع عما ذكرنا بالمنع عن أصل جواز تطبيق اضطراره على الكون البقائي،
بدعوى انه انما يكون له الخيار في تطبيق اضطراره على أي فرد شاء فيما لم يكن هناك ما
يقتضي تعين تطبيقه على فرد خاص والا فلا مجال لتطبيقه الا على ما تعين تطبيقه عليه،
وفى المقام حيث ما كان يستتبع الكون البقائي لازدياد الغصب فقهرا مثل هذا المعنى
موجب لترجيح الكون الخروجي عليه بحكم العقل ومعه يتعين تطبيق اضطراره عليه لا
على الكون البقائي، ولكنه أيضا مدفوع، بان مجرد وجوب اختيار الكون الخروجي بحكم
العقل أيضا غير موجب لحرمة ضده الذي هو الكون البقائي بل ولا لكونه أزيد مفسدة من
غيره كي يقال بلزوم ترك ما فيه المفسدة الزائدة، نعم غاية ما هناك ان يستتبع البقاء
ارتكاب الغصب في الساعة الأخرى وهو أيضا على ما عرفت غير موجب لكونه بقائه
وسكونه أزيد مفسدة من خروجه، كما هو واضح.
وكيف كان فهذا كله فيما لو كان اضطراره إلى الغصب لاعن سوء اختياره.
واما لو كان اضطراره عن سوء اختياره كما لو دخل ارض الغير من غير رضاه فتعذر
عليه الخروج ففيه أيضا يتأتى الصور المزبورة:
ففيما لو علم بزوال اضطراره قبل خروج الوقت بحيث يتمكن من اتيان الصلاة في
غير الغصب فلا اشكال، حيث إنه يتعين عليه الاتيان بالصلاة في خارج الغصب
ولا يجوز له البدار بالصلاة في الغصب، بل ولئن صلى فيه كانت صلاته فاسدة، بملاحظة
مبغوضية الأكوان ومبعديتها له من جهة تنجز النهى السابق، من غير فرق في ذلك بين ان
447

يكون الغصب مجموع الفضاء والأرض أو كان الغصب خصوص الفضاء دون الأرض أو
بالعكس.
كما أنه لو علم ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت فلا اشكال أيضا في وجوب الصلاة عليه
في الغصب بمقتضي ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال.
وانما الكلام في أن صلاته حينئذ هل هي صلاة المختار التامة المشتملة على الركوع
والسجود والقيام والقرائة أو ان تكليفه حينئذ هو صلاة الغرقي بإشارات قلبية في فرض
غصبية مجموع الفضاء والأرض؟ فنقول: قد يقال حينئذ بالثاني نظرا إلى دعوى كونه
مقتضى الجمع بين ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال وبين ما دل على حرمة التصرف
في مال الغير، فان مقتضي عموم حرمة التصرف في مال الغير حينئذ هو خروج الأكوان
عن الجزئية ومقتضاه هو انتهاء صلاته إلى إشارات قلبية كما في صلاة الغريق بناء على
كون قرائته أيضا تصرفا في الغصب، ولكن نقول بأنه حسن جدا لولا قيام الشهرة على
خلافه، حيث إن ظاهر الأصحاب هو كون تكليفه حينئذ هي الصلاة التامة للمختار
المشتملة على القيام والركوع والسجود والقرائة خصوصا في فرض كون الغصب مجموع
الفضاء والأرض. ولعل ذلك منهم من جهة دعوى خروج هذا الكون البقائي حينئذ
من الأول عن تحت النهى، بتقريب ان ما يجب عليه اختياره الموجب لتنجز نهيه من الأول
انما هو ترك الغصب بترك الدخول فيه لأنه هو الذي كان مقدورا له، واما تركه من غير
جهة ترك الدخول كالطيران إلى السماء في ظرف الدخول فحيث انه كان مضطرا إليه
من الأزل في علم الباري عز اسمه فلا يكون منهيا عنه من جهة ان النهى انما يتعلق بما هو
تحت قدرة المكلف واختياره لا بما هو خارج عن تحت قدرته واختياره، ومن هذه الجهة
أيضا قلنا سابقا بأنه إذا كان للشئ حدود بالإضافة إلى مقدماته وعدم اضداده لا يكاد
يصح توجيه التكليف إليه بالايجاد أو الترك على الاطلاق بنحو يقتضي حفظ الوجود من
جميع الجهات ومن ناحية جميع المقدمات والأضداد الا في فرض تمكنه من الحفظ من جميع
الجهات، والا فمع خروج بعض المقدمات أو الأضداد عن تحت قدرته لا يكاد يكون
التكليف بالايجاد بالنسبة إليه الا تكليفا ناقصا يوجب الحفظ من ناحية ما هو تحت
قدرته واختياره في ظرف انحفاظه من قبل الأمور الخارجة عن تحت الاختيار. وعلى ذلك
يقال في المقام بأنه بعد أن كان للغصب نحو ان من الترك أحدهما الترك بترك الدخول فيه
448

وثانيهما تركه من غير جهة الدخول كالطيران في السماء في ظرف الدخول وكان
الثاني مما اضطر إليه من الأزل في علم الباري عز اسمه فقهرا ما هو المنهى عنه لا يكون الا
ذاك النحو من الترك الاختياري والا فالترك الآخر من جهة اضطراره إليه أزلا لا يكون
منهيا عنه أصلا وحينئذ فإذا دخل الغصب بسوء اختياره فقد سقط نهيه المنجز عليه
بالعصيان وبدخوله فيه صار مستحقا للعقاب، واما بعد دخوله فيه لا يكون له تكليف
بترك الغصب من الأزل لاضطراره إليه فإذا لم يكن مكلفا بترك الغصب حينئذ من غير
جهة ترك الدخول فلا يكون صدوره عنه مبعدا أيضا ومع عدم كونه مبعدا فله الاتيان
بالصلاة التامة المشتملة على القيام والركوع والسجود كما في الاضطرار لاعن سوء الاختيار
حرفا بحرف، هذا.
ولكن مع ذلك لا تخلو المسألة عن اشكال ينشأ من كفاية مطلق المقدورية ولو
بالواسطة في توجيه التكليف بشئ إلى المكلف فيقال حينئذ بأنه بعد أن كان له القدرة
على ترك البقاء في الغصب ولو بتركه للدخول فيه كان هذا المقدار كافيا في توجه النهى
عن الكون البقائي إليه وتنجزه عليه فيكون البقاء فيه حينئذ كالدخول منهيا عنه من الأزل
قبل الدخول فيه، وعليه فبالدخول وان سقط نهيه المنجز عليه الا انه حيثما كان بالعصيان
يبقى تبعته فيوجب كون ما يصدر عنه من الأكوان مبغوضا ومبعدا له ولازمه هو خروج
تلك الأكوان عن الجزئية للصلاة فينتهى امر صلاته حينئذ إلى إشارات قلبية في فرض
غصبية مجموع الفضاء والأرض دون الصلاة التامة للمختار، وحينئذ فان تمت السيرة
والاجماع المدعى في المقام على كون تكليفه صلاة المختار التامة فهو والا فلابد بمقتضي
القواعد كما عرفت من المصير إلى كون وظيفته نظير صلاة الغرقى بإشارات قلبية في ركوعه
وسجوده.
نعم لو تاب حينئذ أمكن دعوى وجوب صلاة المختار التامة نظرا إلى أن التوبة كانت
مزيلة لاثر العصيان السابق وتجعله كان لم يكن فكان كمن اضطر إلى الغصب لاعن
سوء الاختيار. ولكن الأستاذ دام ظله استشكل في ذلك أيضا مدعيا لان التوبة انما تجدي
في رفع اثر العصيان إذا لم يكن المكلف في حال التوبة مشغولا بالعصيان، وفى المقام لما
كان مشغولا بارتكاب الغصب حال التوبة فلا تجديه في الخروج عما تقتضيه القواعد.
وكيف كان فمما ذكرنا ظهر الحال أيضا فيما لو ضاق الوقت وتمكن من الخروج حيث
449

انه يتعين عليه حينئذ الاتيان بصلاته في حال الخروج بإشارات قلبية، لولا السيرة
المزبورة، والا فبما لا تزاحم مع خروجه فيقرء ويركع ماشيا موميا بسجوده ولا ينتهى النوبة
في هذا الفرض إلى الصلاة في حال السكون والاستقرار.
واما نفس خروجه فهو كما عرفت لا يكون الا منهيا عنه بالنهي السابق كالبقاء فيه
لا انه يكون مأمورا به. إذ لا وجه لدعوى كونه مأمورا به الا توهم مقدميته للتخلص عن
الغصب الزائد، وهو كما عرفت في غير محله، فان الحركة لا تكون الا عبارة عن تبدل كون
بكون آخر فهي حينئذ عبارة عن ضد البقاء المستتبع للغصب الزائد وهو غير موجب
لمحبوبية الحركة التي هي ضد السكون والبقاء. نعم لو كانت الحركة عبارة عما به تبدل
أحد الكونين بالآخر لا نفس تبدل كون بكون لكان لما ذكر من المقدمية كمال مجال إذ
كانت الحركة حينئذ علة لافراغ الكون في الغصب وتبدله بالكون في خارجه ولكنه محل
منع جدا بل هي لا تكون الا عبارة عن نفس تبدل كون بكون آخر وعليه فلا تكون
الحركة الا ضد السكون والبقاء الملازم للغصب الزائد ومثله أيضا غير موجب لسراية
المحبوبية إليها وحينئذ فلا يبقى في البين الا لزوم الخروج عقلا ارشادا منه إلى اختيار ما هو
أقل القبيحين، كما هو واضح.
هذا تمام الكلام في اجتماع الأمر والنهي.
المبحث الثالث في اقتضاء النهى للفساد
قد وقع الخلاف بين الاعلام في أن النهى عن الشئ يقتضي فساد ذلك الشئ أم
لا وقبل الشروع في المقصود ينبغي تقديم أمور:
الأول: قد مر سابقا وجه الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة ومحصل الفرق بينهما
هو رجوع البحث في المقام حسب ما هو ظاهر العنوان إلى اقتضاء النهى بوجوده الواقعي
للفساد بملاحظة كشفه ولو بالملازمة العرفية عن عدم الملاك والمصلحة في متعلقة، ومن
ذلك يدور الفساد وعدمه على الاقتضاء مدار وجود النهى واقعا وعدمه، كان المكلف عالما
بالنهي أم جاهلا به، وهذا بخلافه في تلك المسألة حيث إن الفساد فيها على الامتناع انما
450

يدور مدار العلم بالنهي لا مدار النهى بوجوده الواقعي النفس الأمري، ومن ذلك أيضا
عرفت بنائهم على صحة عبادة الجاهل القاصر أو الناسي إذا اتى بها في مكان مغصوب،
وعليه فلا تكون لإحدى المسئلتين مساس بالأخرى بوجه من الوجوه، ومعه لا يبقى مجال لما
أفيد كما في الكفاية (1) من جعل نتيجة المسألة السابقة على الامتناع وتقديم جانب النهى
من صغريات هذه المسألة، كيف وقد عرفت ان الفساد في تلك المسألة انما هو من جهة
خلو المتعلق عن الملاك والمصلحة ومن ذلك لو قام دليل على الصحة في قبال النهى لوقع
بينهما التكاذيب ويرجع فيهما إلى قواعد باب التعارض، ومثل ذلك ينافي جدا بنائهم
على صحة صلاة الجاهل بالغصبية، كما هو واضح.
الامر الثاني قد يقال كما عن القوانين على ما حكى بتخصيص محل النزاع بما إذا
كان هناك ما يقتضي الصحة من عموم أو اطلاق بحيث لولا النهى يحكم بصحته،
بتقريب انه لولا ذلك لما كان وجه للنزاع في اقتضاء النهى للفساد، لان الفساد حينئذ غير
مربوط باقتضاء النهى، من جهة انه لولا النهى كان محكوما أيضا بالفساد، ولكنه غير
وجيه، إذ نقول بان الجهة المبحوث عنها في المقام على ما يقتضيه ظاهر العنوان هو الحكم
بالفساد من جهة دلالة النهى وكشفه عن عدم الملاك والمصلحة في متعلقه، وقضية ذلك
هو عدم الحكم بالفساد واقعا عند عدم النهى لا الحكم بالصحة كي يحتاج إلى احراز
المقتضي للصحة من عموم أو اطلاق أو غيرهما.
واما ما أفيد من عدم الثمرة حينئذ نظرا إلى لزوم الحكم بالفساد حينئذ ولو على تقدير
عدم النهى بمقتضي أصالة عدم المشروعية.
فمدفوع بظهورها فيما إذا قام دليل بالخصوص على الصحة فإنه على الأول يتعين
الاخذ بدليل الصحة من جهة حكومته على أصالته بخلافه على الثاني حيث إنه يقع بينهما
المعارضة فيرجع فيهما إلى قواعد باب التعارض.
الامر الثالث لا يخفى عليك ان المراد بالشئ في عنوان المسألة يعم العبادات
والمعاملات لا انه مخصوص بالعبادات، والمراد من المعاملة هو ما في قبال العبادات مطلق
مالا يلزم في صحته قصد القربة الشامل للمعاملات بالمعنى الأخص ولغيرها، كالنهي عن

(1) ج 1 ص 235.
451

اكل الثمن والمثمن، نعم يختص ذلك بالأمور القابلة للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد
أخرى فيخرج حينئذ ما لا يكون كك كعناوين المسببات ونحوها مما كان أمرها يدور
بين الوجود والعدم فتأمل فان الفساد حينئذ انما كان في قبال الصحة التي هي بمعنى
التمامية وترتب الأثر المقصود عليه فهو عبارة عن نقصان الشئ بمعنى عدم ترتب
الأثر المقصود منه عليه فلا يجري حينئذ بالنسبة إلى نفس الآثار ونحوها مما يدور امره بين
الوجود والعدم وكذا يخرج أيضا من الأسباب ما لا يكاد ينفك الأثر عنها كبعض أسباب
الضمان.
واما المراد من العبادة فهي التي لو امر بها لكان أمرها أمرا عباديا بحيث لا يكاد
سقوطه الا باتيان متعلقه على نحو قربى، لا ما هو عبادة ذاتا كالسجود والركوع ونحوهما
مما جعل كونه آلة للخضوع والتذلل، نظرا إلى عدم كون العبادات كلها من هذا القبيل،
ولا ما امر به فعلا لأجل التعبد به من جهة استحالة تعلق النهى الفعلي بما هو عبادة ومأمور
به فعلا، ولا ما لا يعلم انحصار الغرض منه في شئ كي ينتقض طردا وعكسا بأنه رب
واجب توصلي لا يعلم انحصار الغرض منه في شئ ورب واجب تعبدي قد علم انحصار
الغرض منه.
واما الاقتضاء في المقام فهو كما عرفت عبارة عن الاقتضاء بحسب مقام الاثبات
باعتبار كشف النهي عن عدم ملاك الامر والمصلحة في متعلقه لا الاقتضاء بحسب مقام
الثبوت والا فمن الواضح عدم الملازمة عقلا بين حرمة الشئ وانتفاء ملاك الامر
والمصلحة في متعلقه، وعليه تكون المسألة من المسائل اللفظية لا من المسائل العقلية، كما هو
واضح.
واما النهى فظاهرهم اختصاصه بالنهي المولوي التحريمي، دون ما يعمه والنهى
التنزيهي، باعتبار ان غاية ما يقتضيه النهى التنزيهي انما هو الدلالة على وجود حزازة
في الشئ وهذا المقدار غير موجب لفساده، ولكن ذلك انما هو بناء على ما اخترناه سابقا
من جواز اجتماع المحبوبية والمبغوضية في عنوان واحد بالتفكيك بين أنحاء حدود شئ
واحد، واما بناء على غير ما اخترناه من عدم امكان اجتماع المحبوبية والمبغوضية ولو تنزيها
في عنوان واحد فيشكل جدا تخصيص النزاع بالنواهي التحريمية واما النهى
التحريمي الغيري فالظاهر منهم هو دخوله أيضا في محل النزاع كما يشهد
452

لذلك جعلهم فساد العبادة ثمرة النزاع في مسألة اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده
الخاص على المقدمية.
نعم هذا الثمرة تختص بخصوص العبادات فلا تجرى في المعاملات ولكنه أيضا غير
ضائر بعموم النزاع كما لا يخفى، هذا،
ولكن الأستاذ دام ظله منع عن أصل دخول النواهي التحريمية في محل النزاع وبنى
على خروجه عن مورد الكلام بين الاعلام، وقد أفاد في وجه ذلك بوجهين:
الأول: عدم المجال لتوهم دلالته واقتضائه للفساد مطلقا سواء في المعاملات
أو العبادات، اما المعاملات فواضح، من جهة وضوح عدم اقتضاء مجرد النهى المولوي عن
معاملة وحرمتها تكليفا لفسادها وضعا، ومن ذلك لم يتوهم أحد فساد المعاملة في مورد
نهى الوالد أو الحلف على عدم البيع ونحوه واما العبادات فكك أيضا وذلك فان الفساد
المتصور فيها لا يخلوا اما ان يكون من جهة انتفاء الملاك والمصلحة فيها وعدم ترتب الغرض
عليها واما ان يكون من جهة الخلل في القربة الموجب لعدم سقوط الامر عنها، اما الفساد
من الجهة الأولى فواضح انه غير مترتب على النهى حيث لا اشعار فيه فضلا عن الدلالة على
عدم المصلحة في متعلقه، بل غاية ما يقتضيه انما هي الدلالة على وجود المفسدة في متعلقه،
واما الدلالة على عدم المصلحة فيه ولو من جهة أخرى فلا، وهو واضح بعد وضوح عدم
الملازمة بين مجرد حرمة الشئ وبين عدم ملاك الامر والمصلحة فيه، نعم لو كان بين
المصلحة والمفسدة أيضا مضادة كما بين المحبوبية والمبغوضية بحيث لا يمكن اجتماعهما في
موضوع واحد ولو بجهتين تعليليتين لكان المجال لدعوى دلالة النهى ولو بالالتزام على عدم
وجود المصلحة في متعلقه ولكنه لم يكن كك لما عرفت من امكان اجتماعهما في عنوان
واحد بجهتين تعليليتين، ونظيره في العرفيات كما في مثل وضع العمامة على الرأس لمن
كان له وجع الرأس في مجلس فيه جماعة من المؤمنين الأخيار، حيث إن كون العمامة
على الرأس مع كونه فيه كمال المفسدة بلحاظ وجع الرأس كان فيه أيضا كمال المصلحة
بلحاظ كونه نحو اعزاز واكرام للمؤمنين وكون تركه هتكا وإهانة لهم، وعليه فلا يبقى مجال
دعوى دلالة النهى واقتضائه للفساد من هذه الجهة، واما الفساد من الجهة الثانية فهو وان
كان لا محيص عنه مع النهى ولكنه أيضا مترتب على العلم بالنهي لا على نفس وجود النهى
ولو لم يعلم به المكلف، فتمام العبرة في الفساد في هذه المرحلة على مجرد العلم بالنهي، فإذا
453

علم بالنهي كان علمه ذلك موجبا لعدم تمشى القربة منه الموجب لفساد عبادته وان لم
يكن في الواقع نهى أصلا، كما أنه مع عدم العلم به يتمشى منه القربة وتصح من العبادة
وان كان في الواقع نهى كما عرفت في مثال الجهل بالغصب أو الجهل بالحرمة عن قصور،
مع أن قضية ظاهر العنوان هو ترتب الفساد على نفس النهى الواقعي.
الوجه الثاني: انه لو سلم كون الفساد المفروض في محل الكلام هو الفساد من تلك
الجهة الأخيرة لما كان معنى لانكاره من أحد في العبادات بعد تسلمهم على لزوم
قصد القربة فيها، وعلى ذلك، فلا مجال لإرادة النهى المولوي التحريمي من لفظ النهى في
عنوان البحث، كما أنه لا مجال أيضا لإرادة النهى الارشادي منه لأنه أيضا مما لا اشكال
في دلالته على الفساد في العبادات والمعاملات بل لابد وأن يكون المراد منه في العنوان
طبيعة النهى في نفسه فيكون مرجع النزاع حينئذ إلى النزاع في أن النهى المتعلق بالشئ
عبادة كانت أم معاملة مولوي تحريمي كي لا يقتضي الفساد أم نهى ارشادي إلى خلل
فيه حتى يوجب الفساد هذا.
ولكن قد يناقش على البيان المزبور بان ما أفيد من خروج النهى المولوي التحريمي
عن محل النزاع وارجاع محل البحث إلى النزاع الصغروي خلاف ظاهر الكلمات، فان
الظاهر من كلماتهم بل المصرح به في كلام بعضهم تخصيص النزاع بخصوص النهى
المولوي التحريمي كما يشهد لذلك تفصيل بعضهم في الاقتضاء للفساد وعدمه بين العبادات
والمعاملات، حيث إنه لولا ذلك لما كان وجه للتفصيل المزبور، بل ويشهد له أيضا
استدلالهم كثيرا في الفقه على فساد العبادة بكونها حراما ومنهيا عنها، وهكذا في مسألة
اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده الخاص على مبني مقدمية ترك الضد لفعل ضده،
فان ذلك كله كاشف عن كون المراد من النهى في العنوان هو خصوص النهى المولوي
التحريمي، وعليه لابد وأن يكون النزاع في الاقتضاء وعدمه في اقتضاء النهى اثباتا،
ودلالته ولو بالالتزام عرفا على عدم ملاك الامر والمصلحة في متعلقه بدعوى انه وان لم
يكن ملازمة عقلا بين حرمة الشئ ووجود المفسدة فيه وبين فقدانه لملاك الامر والمصلحة
نظرا إلى ما تقدم من امكان اجتماع المصلحة والمفسدة في عنوان واحد بجهتين تعليليتين
الا انه مع ذلك يرى العرف بينهما الملازمة فيرى من النهى كونه ذا مفسدة محضة، ومن
ذلك لو ورد في القبال امر يقتضي الصحة يقع بينهما التكاذب ويرجع فيها إلى قواعد باب
454

التعارض، والا فلولا ذلك لما كان وجه للمعارضة بينهما والرجوع إلى قواعد التعادل
والترجيح، بل لابد وأن يكون بينهما المزاحمة بملاحظة اقتضاء كل من الأمر والنهي بمدلولهما
الالتزامي لقيام المصلحة والمفسدة فيه، مع أنه ليس كك قطعا، وحينئذ فنفس هذا
التعارض والتكاذب بينهما كاشف عن اقتضاء كل من الأمر والنهي عرفا بالالتزام لعدم
قيام ملاك آخر فيه غير ملاكه، كما هو واضح.
ولكن يدفع ذلك اما الاشكال الأول فبان ما يرى من حكم الأصحاب بفساد
العبادة مع النهى فإنما هو من جهة الخلل في القرب المعتبر في صحة العبادة كما يكشف عنه
استدلالهم كثيرا على الفساد بانتفاء التقرب وعليه أيضا جرى تفصيلهم بين العبادات
والمعاملات، فحيث ان قصد القربة مما لابد منه في صحة العبادة ومع النهى لا يكاد تمشي
القربة من المكلف، بخلافه في المعاملة، اقتضى ذلك التفصيل المزبور، ولكنه كما عرفت
غير مرتبط باقتضاء النهى المولوي في نفسه للفساد من جهة عدم الملاك.
واما الاشكال الثاني فبما مر في البحث المتقدم بان ما يرى من التعارض بينهما
عند ورود امر في القبال فإنما كان ذلك من جهة ذاك الارتكاز العقلي بعدم جواز اجتماع
المحبوبية والمبغوضية في عنوان واحد حيث إنه بمقتضي هذا الارتكاز يرى العرف بينهما
التكاذب في تمام مدلوليهما حتى في دلالتهما على المصلحة والمفسدة فيعامل معهما معاملة التعارض
لامن جهة اقتضاء النهى المولوي لعدم قيام ملاك الامر والمصلحة في متعلقه رأسا ولو مع
قطع النظر عن المعارض فتأمل.
نعم في الفرض المزبور كما سيجئ لابد أيضا من الحكم بالفساد ولكنه لامن جهة
اقتضاء النهى المولوي لذلك بل من جهة عدم احراز الملاك والمصلحة فيه لأنه في العبادات
لابد في صحتها من احراز الملاك والمصلحة فيها فمع الشك فيها في الملاك يشك قهرا في
مشروعيتها فتنفي بأصالة عدم المشروعية.
وعليه فلا محيص من اخراج النهى المولوي التحريمي كالارشادي عن حريم النزاع
وارجاع البحث المزبور في دلالة النهى على الفساد وعدم دلالته عليه إلى البحث الصغروي
بان النهى المتعلق بعنوان عبادة كانت أم معاملة مولوي تحريمي كي لا يقتضي الفساد أم
ارشادي إلى خلل فيه حتى يقتضي الفساد فتدبر.
الامر الرابع: لا يخفى عليك انه لا أصل في المسألة يعول عليه عند الشك وحينئذ لو كان
455

هناك ظهور عرفي فهو والا يبقى المدعى بلا دليل. نعم الأصل في المسألة الفرعية كما
عرفت كان هو الفساد، سواء فيه العبادات أو المعاملات، حيث كان الأصل في
المعاملات عدم ترتب النقل والانتقال، وفى العبادات عدم المشروعية عند الشك في
الملاك فيها.
وإذ تمهد هذه الأمور فاعلم أن الكلام يقع في مقامين:
الأول في العبادات فنقول: النهى متعلق تارة بعنوان العبادة كالنهي عن الصلاة
والصوم للحائض وأخرى بجزئها كالنهي عن قرائة السور العزائم في الصلاة، وثالثة
بشرطها كالنهي عن التستر بالحرير ونحوه مثلا، ورابعة بوصفها الملازم كالجهر
والاخفات في القراءة، وخامسة بوصفها المفارق كالغصبية لأكوان الصلاة المنفكة
عنها، وعلى التقادير فالنهي اما ان يكون مولويا، واما ارشاديا إلى خلل في العبادة، اما
لعدم الملاك فيها أو من جهة اقتران ملاكها بالمانع كالنهي عن التكتف في الصلاة أو من
جهة كونه مخلا بغيره كالنهي عن الصلاة في الصلاة مثلا. واما ان يكون في مقام دفع
توهم الوجوب الفعلي أو المشروعية الفعلية أو الاقتضائية فهذه أنحاء صور النهى المتعلق
بالعبادة، وربما يختلف النتيجة حسب اختلاف الصور، فلابد حينئذ من بيان ما للصور
المزبورة من اللوازم والآثار.
فنقول: أما إذا كان النهى متعلقا بعنوان المادة وكان مولويا محضا فهو كان عرفت
غير مقتض لفساد العبادة الا من جهة قضية الاخلال بالقربة الموقوفة على العلم به، والا
فمن جهة فقد انها للملاك والمصلحة لا دلالة عليه بوجه من الوجوه، لان غاية ما يقتضيه
النهى المزبور بما انه نهى مولوي تحريمي انما هو الدلالة على قيام المفسدة في متعلقه،
واما الدلالة على عدم وجود ملاك والمصلحة فيه ولو من جهة أخرى فلا. نعم مع
الشك في الملاك كان مقتضي الأصل هو الفساد، ولكنه غير مرتبط باقتضاء النهى المولوي
لذلك، كما هو واضح.
وأوضح من ذلك ما لو كان النهى في مقام دفع توهم الوجب الفعلي، وذلك من جهة
وضوح ان غاية ما يقتضيه مثل هذا النهى انما هي الدلالة على عدم وجوبه، واما دلالته على
عدم استحبابه ورجحانه فلا، فضلا عن الدلالة على عدم الملاك والمصلحة فيه أو الدلالة
على وجود المفسدة في متعلقه، وحينئذ لو كان في البين عموم أو اطلاق يثبت رجحانه
456

واستحبابه فهو، والا فالأصل يقتضي الفساد، لما عرفت من أنه لابد في صحة العبادة من
احراز رجحانها، فمع الشك في رجحانها ومشروعيتها كان مقتضي الأصل هو عدم
مشروعيتها.
وكذلك الكلام فيما لو كان النهى في مقام دفع توهم المشروعية الفعلية كما في النهى
عن النافلة في وقت الفريضة، فإنه أيضا لا يقتضي فساد العبادة من جهة عدم الملاك إذ
لا يقتضي أزيد من عدم المشروعية الفعلية وعدم الرجحان والمحبوبية الفعلية في العمل، ولا
ملازمة بين عدم المشروعية الفعلية وبين عدم الملاك والمصلحة فيه، وعليه فلو قام دليل
على وجدان العمل للملاك في هذا الفرض يندرج في صغريات المسألة السابقة، واما لو لم
يقم دليل على ذلك كان الأصل فيه هو الفساد بالبيان المتقدم.
واما لو كان النهى في مقام دفع توهم المشروعية الاقتضائية، ففي هذا الفرض كان
النهى يقتضي الفساد من جهة دلالته حينئذ على انتفاء الملاك والمصلحة فيه.
ومثل ذلك ما لو كان النهى ارشاديا إلى خلل في العبادة لانتفاء الملاك رأسا، أو
اقترانه بالمانع كالصلاة متكتفا، حيث إنه كان النهى أيضا موجبا لفسادها من دون
اقتضائه للحرمة والمبغوضية، نعم لو كان قضية النهى المزبور هو الارشاد إلى كونه مخلا بغيره
كالنهي عن الصلاة في الصلاة ففي هذا الفرض بالنسبة إلى العمل الذي وقع فيه العمل
المنهى كان النهى دالا على فساده، واما بالنسبة إلى نفس هذا العمل الذي نهى عن اتيانه
فلا دلالة على فساده، وحينئذ فلابد ان يلاحظ العمل الذي أخل به باتيان العبادة في
أثنائه، فان كان غير الفريضة فلا اشكال، إذ لا يكون ابطاله حينئذ حراما حتى يحرم ما
أوجد في أثنائه، واما ان كان من الفرائض التي يحرم ابطالها فيحرم قهرا ما أوجد في أثنائه
بالحرمة الغيرية فيندرج حينئذ في صغريات المسألة السابقة، فيفسد مع العلم بالنهي بناء
على الامتناع وتقديم جانب النهى.
هذا كله حال النهى المتعلق بعنوان العبادة، وقد تلخص بان مجرد تعلق النهى بعنوان
العبادة غير موجب لفسادها ما لم يكن فيه جهة ارشاد إلى خلل فيها اما من جهة عدم
الملاك فيها أو من جهة اقتران ملاكها بالمانع.
واما النهى المتعلق بجزء العبادة ففيه أيضا الصور المزبورة من كونه تارة ممحضا
في المولوية، وأخرى ارشادا إلى خلل في الجزء، وثالثة في مقام دفع توهم الوجب الفعلي،
457

أو المشروعية الفعلية، أو الاقتضائية.
فالنهي المولوي فيه أيضا غير مقتض لفساد الجزء الا من جهة الخلل في القربة الذي
عرفت انه مترتب على العلم بالنهي لاعلى النهى الواقعي.
واما النهى الارشادي أو الواقع في مقام دفع توهم المشروعية الاقتضائية فهو موجب
لفساده ولكنه بمعنى عدم وقوعه جزء للعبادة والا فلا يقتضي بطلان أصل العبادة، بل ولو
قلنا حينئذ بفساد العبادة لابد وأن يكون من جهة النقيصة عند الاقتصار عليه، أو يكون
من جهة الزيادة العمدية بناء على استفادة مبطلية مطلق الزيادة العمدية. نعم لو كان
النهى في مقام الارشاد إلى كونه مخلا بأصل العبادة أيضا كما في النهى عن قرائة العزائم في
الفريضة على ما هو قضية التعليل في قوله عليه السلام: بأنها زيادة في المكتوبة كان
مقتضيا لبطلان العبادة.
واما النهى المتعلق بالشرط ففيه أيضا الصور المزبورة، فالنهي المولوي فيه أيضا غير
مقتض لفساده الا إذا كان فيه جهة ارشاد إلى خلل فيه فيفسد وبفساده يفسد المشروط
أيضا في فرض الاقتصار على الشرط المنهى بلحاظ انتفاء المشروط بانتفاء شرطه.
واما النهى المتعلق بوصفها المقارن كالجهر في القراءة مثلا فهو أيضا غير مقتض
لفسادها ما لم يكن فيه جهة ارشاد إلى كونه مخلا بالعبادة.
وعلى ذلك لابد للفقيه من ملاحظة خصوصيات الموارد والقرائن الخاصة لاحراز
ان النهى مولوي محض أو ارشادي، والا فمع خلو المورد عن القرينة كان النهى ظاهرا
في المولوية، ولكن ظاهر الأصحاب في غير النواهي النفسية عند عدم القرينة على بعض
المحتملات هو الحمل على الارشاد إلى المخلية والمانعية من غير فرق بين الجزء أو الشرط
أو الوصف، ولعله من جهة ظهور ثانوي في النواهي الغيرية في الارشاد إلى المانعية والمخلية
بلحاظ ورودها في مقام بيان كيفية العبادة وحدودها، كما كان ذلك هو الشأن أيضا
في الأوامر المتعلقة بالاجزاء والشرائط فتدبر.
واما لو تعلق النهى بالوصف المفارق، فان كان النهى متعلقا بعنوان والامر بعنوان
آخر كالنهي عن الغصب وعن النظر إلى الأجنبية والامر بالصلاة فأوجدهما المكلف في
وجود واحد فهو يندرج في المسألة السابقة، واما لو كان النهى عن الوصف من قبيل قوله:
لا تغصب في صلاتك، ففيه أيضا يجري ما ذكر في الجزء والشرط من لزوم الحمل
458

على الارشاد إلى المخلية، الا إذا قام هناك ما يقتضي الخلاف كما في المثال، حيث إنه
بملاحظة ارتكاز مبغوضية الغصب والتصرف في مال الغير ولو في غير حال الصلاة لابد من
حمل النهى على المولوية ومبغوضية الغصب بالبغض النفسي، بصرفه عما هو ظاهره
من الظهور الثانوي إلى ما يقتضيه طبع النهى من الظهور في الحرمة المولوية، وعليه يندرج
أيضا في المسألة السابقة كما أوردناه هناك وقلنا بأنه لا وجه لاخراجه عن محل النزاع
بتخصيص مورد النزاع بما لو كان بين المتعلقين العموم من وجه.
هذا كله في المقام الأول.
واما المقام الثاني فالكلام فيه في النهى المتعلق بالمعاملة
وملخص الكلام فيه هو عدم اقتضاء مجرد النهى عنها للفساد ما لم يكن في مقام
الارشاد إلى خلل فيها، وذلك من جهة وضوح عدم الملازمة بين حرمة المعاملة ومبغوضيتها
وبين فسادها وعدم ترتب النقل والانتقال، حيث إنه بعد عدم توقف صحة المعاملة
ومؤثريتها في النقل والانتقال على رجحانها أو عدم مبغوضيتها فقهرا يمكن صحة المعاملة
ومؤثريتها في النقل والانتقال ولو مع كونها مبغوضة ومحرمة، من غير فرق في ذلك بين ان
يكون النهى متعلقا بالسبب وهو العقد، أو بالمسبب وهو النقل والانتقال، أو بالتسبب إلى
المسبب بالسبب، فعلى جميع التقادير لا دلالة للنهي بما انه نهى مولوي على الفساد خصوصا
على الأخيرين حيث إنه يمكن دعوى اقتضائهما للصحة نظرا إلى معلومية انه لولا ترتب
المسبب وتحققه لما كان مجال للنهي عنه، وحينئذ ينحصر وجه الفساد بما إذا كان
للارشاد إلى خلل فيها. نعم لو كان النهى التحريمي عن لوازم المعاملة كالنهي عن اكل
الثمن والمثمن والتصرف فيهما ففي مثل ذلك كان النهى مستلزما للفساد من جهة استلزام
حرمة التصرف في العوضين لعدم نفوذ المعاملة والا ففي غير تلك الصورة لا اقتضاء للنهي
التحريمي للفساد بوجه أصلا.
واما توهم منافاة حرمة المعاملة ومبغوضيتها مع الجعل تأسيسا أو امضاء لما
بيد العرف، فمدفوع بمنع التنافي بينهما، من جهة امكان ان تكون المعاملة ممضاة ومؤثرة
في النقل والانتقال على تقدير تحققها ومع ذلك كانت محرمة. وحينئذ فلا يستلزم مجرد
تخصيص الجواز التكليفي أو تقييده تخصيص دليل الجواز الوضعي المثبت لصحة المعاملة،
ولو كانا ثابتين بدليل واحد، كما لو قلنا بان مثل عموم (الناس مسلطون) مثبت للجواز
459

الوضعي والتكليفي حيث إنه بدليل النهى يخصص عمومه من جهة الجواز التكليفي دونه
من جهة الجواز الوضعي أيضا، كما هو واضح. نعم لو كان قضية النهى هو مبغوضية
المعاملة بشر أشر وجودها حتى بالقياس إلى حدودها الراجعة إلى الجعل والامضاء لكان
لدعوى التنافي المزبور كمال مجال، ولكن من الواضح عدم قابلية مثل هذا المعنى لتعلق
النهى المولوي به، فان المعاملة بهذا المعنى خارج عن تحت قدرة المكلف فعلا وتركا،
فلا يمكن حينئذ تعلق النهى المولوي بها، بل وانما القابل لتعلق النهى به انما هو التوصل إلى
وجود المعاملة من ناحية سببه في ظرف تحقق أصل الجعل من الشارع، لأنه هو الذي يكون
تحت قدرته واختياره فعلا وتركا، ومعلوم حينئذ ان مبغوضية المعاملة من تلك الجهة غير
منافية مع إرادة الجعل والامضاء، من جهة امكان ان تكون المعاملة مبغوضة ومحرمة
ايجادها من المكلف، ومع ذلك كانت صحيحة ومؤثرة فيما هو الأثر المقصود منها،
وهو النقل والانتقال، نعم قد يكون النهى دالا على الارشاد إلى عدم الامضاء وعدم النفوذ
في بعض الموارد، ولكن ذلك أيضا بمقتضي بعض القرائن الخارجية كما في البيع الربوي
مثلا وفي بيع المصحف بالكافر. وحينئذ فعلى ذلك لابد في قمام الحكم بفساد المعاملة من
جهة النهى من احراز كونه في مقام الارشاد إلى عدم الجعل والامضاء والا فطبع النهى
لا يقتضي الا المولوي التحريمي الذي عرفت عدم اقتضائه للفساد.
هذا إذا كان النهى متعلقا بعنوان المعاملة، أو بالسبب، أو بالتسبب بالسبب إلى
وجود المعاملة.
واما لو كان النهى متعلقا باجزاء السبب وشرائطه فيكون كما في العبادات محمولا
على الارشاد لبيان الكيفية اللازمة في السبب وما هو المانع والمخل بالمعاملة، الا ان الفرق
بينهما وبين العبادات حينئذ كان في الأصل الجاري فيها عند الشك في مولوية النهى
وارشاديته، فإنه في العبادات يفصل بين صورة تعلق النهى بعنوان العبادة وبين صورة
تعلقه باجزائه وشرائطه، فكان الأصل في الأول عند الشك في المشروعية عدمها، وفى الثاني
المحتمل المانعية فيه كان الأصل هو البراءة عنها والصحة، بخلافه في المعاملات، فإنه على
كل تقدير كان الأصل هو عدم المشروعية وعدم النفوذ نظرا إلى عدم جريان البراءة فيها
حينئذ لا عقلا ولا نقلا حتى يصبح الحكم بنفوذ المعاملة وصحتها، وذلك من جهة ان
البراءة العقلية مجريها العقوبة، ولا الزام في المعاملة حتى تنفى العقوبة المحتملة من
جهة الشئ المشكوك المانعية والمخلية، واما البراءة النقلية فمجريها الامتنان، ولا امتنان
460

في المقام في اثبات الصحة برفع المشكوك المانعية، من جهة استلزامه لوجوب الوفاء الذي
هو خلاف الامتنان في حقه. لا يقال: ان ذلك كك في مثل دليل الرفع ونحوه مما كان
مسوقا في مقا الامتنان لا في مثل دليل الحلية مما لا يكون كك وحينئذ لولا دعوى
اختصاصه بالحلية التكليفية لا بأس بدعوى جريانه واقتضائه لنفوذ المعاملة باجرائه في
نفس المعاملة حيث إنه باقتران المعاملة بمشكوك المانعية والمخلية يشك في حليتها وضعا
ونفوذها في النقل والانتقال فبدليل الحلية يثبت كونها حلالا وضعا ومؤثرا في النقل
والانتقال، فإنه يقال: نعم ولكنه من جهة اختصاصه بخصوص الحلية التكليفية غير جار
في المعاملات حتى يقتضي صحة المعاملة ونفوذها، ومن ذلك أيضا لم يتوهم أحد
من الأصحاب جريان هذه الأدلة في أبواب المعاملات لاثبات الصحة فيها، بل و
مع الشك اطبقوا على جريان أصالة الفساد ومن المعلوم انه لا يكون ذلك الا من جهة
اختصاصه بالحلية التكليفية، كما هو واضح.
هذا كله حسب ما تقتضيه القواعد، ولقد عرفت عدم اقتضاء النهى المولوي التحريمي
للفساد مطلقا، سواء بين تعلقه بالمسبب أو السبب أو بالتسبب به إلى المسبب، وان
المقتضى له انما هو النهى الارشادي.
واما حسب النصوص الخاصة فقد يقال: بدلالتها على ملازمة النهى للفساد كالخبر
المروي في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر عليه السلام قال: سئلته عن مملوك تزوج بغير
اذن سيده فقال: عليه السلام ذاك إلى سيده، ان شاء اجازه وان شاء فرق بينهما، قلت:
أصلحك الله ان الحكم بن عيينة (عتيبة) وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: ان أصل
النكاح فاسد ولا تحل إجازة السيد له، فقال عليه السلام: انه لم يعص الله سبحانه وانما
عصى سيده، فإذا إجازة فهو له جائز (1) بتقريب دلالة الرواية على أن النكاح لم يكن مما
حرمه الله حتى يقع فاسدا ولا يصلحه إجازة السيد، فتدل حينئذ على ملازمة النهى والمولوي
للفساد في المعاملات،
ولكن فيه ان الظاهر من المعصية المنفية بقرينة المقابلة انما هو عدم كونه مما لم يمضه الله
ولم يشرعه له كما كان ذلك هو المراد أيضا من معصية السيد حيث أريد منها عدم إجازة

(1) وسائل الشيعة، ج 14 ص 523 الباب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء، الحديث 1. والكافي ج 5 ص
478 الحديث 3.
461

السيد له وعدم اعطائه السلطنة في النكاح في قبال اذنه بذلك، فان مقتضي المولوية
والعبدية هو عدم نفوذ تصرفات العبد في شئ الا بإجازة واذن من سيده ومولاه، فكان
المراد حينئذ من قوله عليه السلام: انه لم يعص الله سبحانه الخ، هو ان النكاح ليس مما لم
يشرعه الله في حقه بحسب أصل الشرع حتى يقع باطلا وانما كان عدم التشريع والامضاء
من قبل سيده فإذا جاز ونحن نقول أيضا باستتباع مثل هذا النحو من المعصية للفساد
بلا مجال لانكاره من أحد،
ومما يؤيد ذلك بل يشهد عليه أيضا من عدم كون المراد من المعصية هو مخالفة النهى
التحريمي قضية عدم انفكاك معصية السيد عن معصية الله من حيث وجوب اطاعته
على العبد شرعا وجوبا تكليفيا كما في إطاعة الوالد، فإنه لولا ما ذكرنا كان اللازم
في المقام هو فساد النكاح المزبور مع أنه خلاف ما تضمنه الرواية من الحكم بالصحة.
ومن هذه الجهة أيضا استدل بعضهم بهذه الرواية على عدم دلالة النهى التحريمي
على الفساد بتقريب ما عرفت من الملازمة بين معصية السيد وبين معصية الله، وان كان
لا يخلو ذلك أيضا عن اشكال، لامكان دعوى ان صحة النكاح ونفوذه بعد إجازة السيد
انما هو من جهة ارتفاع معصية الله حسب تبعيتها لمعصية سيده عنه إجازة السيد له، والا
فقبل إجازة السيد له بمقتضى كونه عصيانا للنهي التكليفي لا يكون النكاح صحيحا فعليا
ومؤثرا في تحقق علقة الزوجية بل وانما غايته حينئذ كونه صحيحا شأنيا، وعليه فلا مجال
للاستدلال بهذه الرواية على عدم دلالة النهى التحريمي على الفساد هذا.
ولئن قيل بان المقصود من اقتضاء النهى التكليفي للفساد وعدم صحة المعاملة انما هو
فسادها وعدم صحتها ولو شأنا وحينئذ فبمقتضى الملازمة بين معصية السيد وبين معصية
الله تكليفا تكون الرواية لا محالة حسب تضمنها للصحة دالة على عدم اقتضاء النهى
التكليفي للفساد، ومن ذلك لابد وأن يكون المراد من عصيان الله الموجب لفساد النكاح
بعد عدم انفكاك معصية السيد عن معصية الله تبارك وتعالى هو العصيان الوضعي دون
العصيان التكليفي، نقول: بأنه كك إذا كان العصيان المتحقق في الفرض راجعا إليه
سبحانه من جهة كونه مخالفة لتكليف من تكاليفه بحيث يستحق العقوبة من قبله، وليس
الامر كك بل العصيان في المقام انما هو راجع إلى مخالفته لمقتضي حق المولوية المجعول من
قبله سبحانه لسيده، من جهة ان مقتضي المولوية هو عدم جواز تصرف العبد في شئ الا
462

باذنه ورضاه، فلا يكون مثل هذا العصيان حينئذ راجعا سبحانه كعصيانه لتكاليفه
كالصلاة والصوم ونحوهما، حتى يوجب استحقاق العقوبة ويوجب فساد المعاملة. وحينئذ
فلو ادعى أحد اقتضاء النهى المولوي التحريمي لفساد المعاملة لا مجال للاستدلال بالرواية
المزبورة في القبال على عدم دلالة النهى التكليفي للفساد كما لا يخفى، فتأمل. نعم كما
لا دلالة لها على عدم اقتضاء النهى للفساد لا دلالة لها أيضا على اقتضائه للفساد من جهة
ما عرفت من ظهورها في إرادة العصيان الوضعي بمعنى عدم المشروعية، فتدبر.
ومن الاخبار التي استدل بها للفساد رواية ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله
عليه السلام قال من طلق ثلاثا في مجلس فليس بشئ، من خالف كتاب الله عز وجل
رد إلى كتاب الله عز وجل (1)، وبمضمونه أيضا روايات كثيرة (2) ولكن الجواب عنها يظهر
مما سبق حيث إن مخالفة الطلاق ثلاثا في مجلس واحد لكتاب الله والسنة انما هي من
جهة كونه مما ردع الله عنه ولم يشرعه في كتابه، ونحن نقول بالفساد فيما كان من
هذا القبيل.
ثم إن المحكي عن أبي حنيفة والشيباني انما هو دلالة النهى التكليفي على الصحة، وقد
حكى عن الفخر موافقتهما في ذلك.
وهو كك في المعاملات فيما لو كان النهى عنها بلحاظ الآثار، من جهة وضوح اعتبار
القدرة على المتعلق في النهى كما في الامر، فإذا كانت المعاملة فاسدة من جهة النهى يلزم
عدم كونها مقدورا للمكلف، ومعه لا يكاد يصح توجيه النهى إليه عن ايجادها وحينئذ
فوجود النهى عن المعاملة بالفرض يقتضي كونها مقدورة له، ومقدوريتها له تقضي
صحتها وهو المطلوب، هذا إذا كان النهى عن المعاملة بلحاظ المسبب أو بلحاظ التسبب
بها إليه، واما لو كان النهى عنها بلحاظ السبب فهو غير مقتض لصحتها وترتب الآثار عليها
إذ لا يلزم من مجرد مقدورية السبب ترتب الأثر عليه، كما هو واضح.
واما في العبادات فما كان منها عبادة ذاتية كالركوع والسجود ونحوهما من الأمور
الموضوعة لان تكون آلات للخضوع فكذلك أيضا فإنها كانت مقدورة وكانت مع النهى
باقية على وصفها العبادي، فيتمكن من الاتيان بها صحيحة مع النهى، حيث كان صحتها
عبارة أخرى عن تحقق ذواتها، نعم غاية ما هناك هو عدم وقوعها مقربة له من جهة

(1) الوسائل، ج 15 ص 313، الباب 29 من مقدمات الطلاق الحديث 8 و...
(2) الوسائل، ج 15 ص 313، الباب 29 من مقدمات الطلاق الحديث 8 و...
463

احتياج مثل هذا النحو من العبادة في مقربيتها إلى عدم كونها مبغوضة للمعبود له.
واما ما كان منها عبادة من جهة قصد القربة المتوقفة عباديتها على الامر بها أو رجحانها
فلا يلزم من النهى عنها صحتها، بل في مثله يستحيل تعلق النهى بها يوصف كونها عبادة
فعلا، فالنهي حينئذ انما يكون متعلقا بذات الشئ بما له من الاجزاء والشرائط
غير الوصف الناشي من قبل الامر به نعم لو أريد من الصحة حينئذ الصحة التي يدعيها
القائل بالوضع للصحيح: من كون الشئ واجدا لجميع الاجزاء والشرائط وكونه وافيا
بالغرض على تقدير الامر به، لكان لدعواه كمال مجال، ولكنه لا ينتج ما هو المطلوب
من الصحة الفعلية، كما هو واضح.
بقى الكلام في النهى التشريعي، في أنه هل يوجب فساد العبادة أو المعاملة أم لا؟
ولتوضيح المرام ينبغي بيان حقيقة التشريع في الاحكام فنقول: ان حقيقة التشريع بعد أن
كانت من سنخ البناء القلبي الذي هو من أفعال الجوانح دون الفعل الخارجي الذي هو
من أفعال الجوارح فتارة في مقام التشريع يبنى الانسان على وجوب الشئ أو حرمته لكن
لا بما انه من الدين، نظير القوانين المجعولة من طرف السلطان بين الرعية وأخرى
يبنى على وجوب شئ أو حرمته في الدين بما انه مشرع، وذلك بان يدعى
نفسه شارعا كالنبي صلى الله عليه وآله ثم في مقام شارعيته يجعل الشئ الفلاني واجبا
أو حراما أو غير ذلك، وثالثة يبني على وجوب شئ أو حرمته في الدين بما انه هو الحكم
المنزل من الله سبحانه بتوسيط رسوله من دون ادعائه الشارعية لنفسه، وعلى التقادير تارة
يخبر أو يعمل على طبق تشريعه، وأخرى لا يخبر ولا يفتى بذلك ولا كان له عمل على طبق
ما شرعه، كما لو كان تشريعه في حكم عمل غيره الذي هو أجنبي عنه، ثم على التقدير
الأخير تارة يكون تشريعه في أصل الحكم الشرعي وأخرى في تطبيقه على المصداق
الخارجي، فهذه صور متصورة في التشريع.
وبعد ذلك نقول: اما القسم الأول فلا مجال لدعوى كونه قبيحا عقلا ومحرما شرعا فان
مجرد البناء والالتزام على وجوب شئ لا بما انه من الدين والشرع لا يقتضي كونه قبيحا
عقلا ومحرما شرعا بوجه أصلا وان كان قد عمل على طبق ما شرعه فضلا عما لو لم يكن له
عمل على طبقه.
واما القسم الثاني فكذلك أيضا من حيث تشريعه وبنائه على وجوب شئ أو حرمته
464

نعم انما يكون المحرم في هذا القسم هو حيث ادعائه الشارعية لنفسه، حيث إنه من أكبر
المعاصي وكان العقل أيضا مستقلا بقبحه.
كما أنه لا ينبغي الاشكال أيضا في قبح القسم الثالث وحرمته إذ كان فضوليا في
امر المولى وكان اخباره بذلك أيضا افتراء عليه. نعم يبقى الكلام حينئذ في أن حكم العقل
بالقبح في المقام هل هو بنحو يستتبع حكمه أيضا باستحقاق العقوبة كما في حكمه بقبح
المعصية لكونها ظلما على المولى. حتى لا يكون المورد قابلا للحكم المولوي الشرعي، أو انه
بنحو لا يستتبع للحكم باستحقاق العقوبة كما في حكمه بقبح الظلم حتى يكون المورد قابلا
للحكم المولوي الشرعي وكان المجال أيضا لاستكشاف الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة
بناء على تماميتها؟ وفي مثله لا يبعد دعوى كونه من قبيل الثاني إذ نقول: بان التشريع
وان كان نحو ظلم على المولى لكونه تصرفا في سلطانه بحيث يستقل العقل بقبحه، الا انه لا
يكون بمثابة يستتبع الحكم باستحقاق العقوبة كما في العصيان، بل هو من هذه الجهة
نظير الظلم على النفس الذي يحكم العقل فيه بالقبح من دون حكمه باستحقاق العقوبة
عليه، وعليه فكان كمال المجال لدعوى كونه محكوما بالحرمة المولوية الشرعية بمقتضي
الملازمة، ولكن حيث إن روح التشريع وحقيقته من سنخ البناء آت القلبية من غير
دخل فيه للاخبار أو الفتوى على طبقه بل ولا للفعل الخارجي الجوارحي، بشهادة تعلق
التشريع بحكم فعل الغير كالتشريع في ايجاب الصلاة والصوم على الحائض والنفساء،
فلا جرم ما هو المحرم بالحرمة التشريعية أيضا لا يكون الا نفس البناء القلبي الذي هو من
فعل الجوانح دون العمل الخارجي أو الافتاء بشئ، كما هو واضح.
وحينئذ فما أفيد من حرمة الافتاء والعمل الخارجي بالحرمة التشريعية أيضا بتخيل
ان التشريع عبارة عن الفعل الصادر عن البناء المزبور كان الفعل هو الافتاء بشئ
أو العمل الخارجي دون نفس البناء القلبي مجردا عن العمل والافتاء ودون الفعل
الخارجي مجردا عن كون نشوه عن البناء المزبور، وان الفعل الناشي عن البناء القلبي هو
مصداق التشريع المحرم، منظور فيه، لما عرفت من أن روح التشريع وحقيقته ليس الا
عبارة عن نفس البناء القلبي، وان العمل والافتاء كالاخبار به خارج عن
حقيقة التشريع، حيث كان مرجع الافتاء إلى كونه اظهارا وابرازا لذلك البناء القلبي
كالاخبار، ومرجع العمل إلى كونه امتثالا لما شرعه بحسب بنائه على الوجوب أو الحرمة،
465

وعليه فلا يكاد يوجب حرمة التشريع حرمة الافتاء والعمل الخارجي الجوانحي، حتى
يوجب فساده إذا كان عبارة، ولو مع فرض انكشاف مشروعية المأتي به واقعا وتبين كون
ما بنى على وجوبه أو جزئيته باعتقاد حرمته وما نعيته واجبا شرعا وجزء للمأمور به واقعا
وفرض كون تشريعه في تطبيق المأمور به على المصداق لا في مقام الامر الشرعي.
ومن ذلك البيان ظهر أيضا بطلان ما أفيد بان ذات العمل وان لم يكن قبيحا
ومبغوضا حينئذ الا انه من حيث صدوره من المكلف كان قبيحا ومبغوضا، ومعه لا يكون
قابلا للتقرب به، وجه البطلان يظهر ما سبق من كون المحرم هو البناء القلبي الذي هو من
فعل الجوانح وخروج العمل بقول مطلق عن موضوع التشريع المحرم، كيف ومع الغض
عن ذلك نقول: بان ما هو القبيح حينئذ انما كان حيث إضافة العمل إلى الفاعل دون
نفسه، وفي مثله لا بأس بالتقرب بذات العمل بعد فرض كونه راجحا واقعا وكون
تشريعه أيضا في تطبيق ما هو المأمور به على المصداق الخارجي لا في ناحية الامر الشرعي
فتأمل، وعلى فرض سراية القبح والمبغوضية إلى ذات العمل ولو بدعوى اتحاد الوجود
والايجاد وكون الاختلاف بينهما بالاعتبار، نقول انه وان كان يلزمه حينئذ فساد العبادة،
لكن يلزمه أيضا المصير إلى الفساد في المعاملة أيضا بناء على ما سلكه القائل المزبور من
اقتضاء النهى عن المعاملة لفسادها، من جهة اقتضاء النهى لخروج المعاملة عن حيطة قدرة
المكلف وسلطانه، إذ حينئذ بمقتضي هذا النهى التشريعي يخرج العمل عن حيطة قدرته
وسلطانه بنحو كان له الفعل والترك، ومع خروجه عن حيطة قدرته وكونه أجنبيا عنه
لا جرم يبطل المعاملة، فلا يصح حينئذ التفكيك بين العبادات والمعاملات في اقتضاء النهى
التشريعي للفساد، هكذا افاده الأستاذ دام ظله في بحثه،
ولكن أقول: بان التأمل في كلمات القائل المزبور يقتضي عدم ورود هذا الاشكال
عليه حيث إنه قدس سره انما يدعى خروج النقل أو العمل عن حيطة قدرة المكلف
وسلطانه بالنهي أو الامر فيما لو كان النهى أو الامر متعلقا بالشئ بمعناه الاسم المصدري
لا مطلقا ولو كان المنهى عنه هو الشئ بمعناه المصدري، وعليه فإذا كان المنهى عنه
في المقام على ما صرح به في التقرير حيث إضافة اصدار العمل من المكلف
بهذا العنوان لا نفس الصادر فلا يكون فيه جهة مبغوضية أصلا، فلا جرم يلزمه الالتزام
بعد الفساد في المعاملة، واما التزامه بالفساد في العبادات فإنما هو من جهة اعتباره في
466

صحة العبادة رجحان العمل في نفسه وعدم اتصافه بالقبح الفاعلي، فحيث ان الفعل
المشرع به في المقام يصدر عنه مبغوضا وقبيحا بالقبح الفاعلي ولم يكن قابلا للتقرب من
هذه الجهة التزم فيها بالفساد، هذا.
ولكن الذي يهون الامر هو فساد أصل هذا المبني لما تقدم من أن ما هو القبيح والمبغوض
انما كان هو البناء القلبي لأنه حقيقة التشريع، وروحه وان الافتاء وكذا العمل على طبق
هذا البناء فخارج عن حقيقة التشريع، وفي مثله لا يكاد سراية الحرمة والمبغوضية منه إلى
نفس العمل بوجه أصلا، ولو بحيث إضافة اصداره من الفاعل. وعلى ذلك نقول: بأنه لو
شرع وبنى على وجوب شئ أو جزئيته أو شرطيته في العبادة جهلا أو معتقدا بالخلاف،
وعمل أيضا على طبق ما شرع جزء أو شرطا أو مانعا، فتبين بعد، كون المشرع به مطابقا
للواقع بحيث لم يقع منه اخلال في عمله بما هو الواجب والمأمور به في حقه، فلا جرم تصح
عبادته ما لم يكن هناك اخلال بالقربة من جهة الامر، بان كان تمام داعيه على الاتيان
هو الامر الشرعي الحقيقي وكان تشريعه ممحضا في تطبيق المأمور به على المأتي، والا فتبطل
من جهة اخلال بالتقرب، هذا ذا تبين كون العمل المشرع به مطابقا للواقع.
واما تبين الخلاف ففيه صور: فعلى فرض مانعية الجزء أو الشرط المشرع به في الواقع
فلا محالة تبطل العبادة لمكان ايجاد المانع فيها، كما أنه كك أيضا فيما لو بنى على مانعية شئ
للصلاة ولم يأت به فتبين كونه جزء أو شرطا في الواقع فإنه تبطل العبادة في هذا الفرض
أيضا لمكان النقيصة، واما على فرض عدم جزئية ما بنى على جزئيته أو شرطيته واقعا
فيبنى البطلان وعدمه على مبطلية الزيادة.
وعلى أي حال فمجرد التشريع في العبادة لا يقتضي البطلان، بل الفساد والبطلان
لابد وأن يكون من جهة أخرى كمحذور الزيادة أو النقيصة أو غير ذلك، هذا في
العبادات، وهكذا في المعاملات فيدور الفساد فيها مدار الاخلال خارجا بما هو المعتبر فيها
شرطا أو شطرا أو مانعا، وهو واضح.
467

المقصد الثالث في المفاهيم
اعلم أنه قد عرف المفهوم بتعاريف: منها انه ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق
باعتبار كونه مدلولا التزاميا للفظ، ولتنقيح المقال لابد من بيان ما لللازم من الأقسام
كي به يتضح ما هو المراد منها من المفهوم المصطلح في المقام فنقول: ان اللزوم على مراتب
وأقسام: منها ان تكون الملازمة بين الامرين بمرتبة من الخفاء، بحيث يحتاج الانتقال إلى
اللازم إلى الالتفات التفصيلي بأصل الملازمة بينهما كي ينتقل الذهن بعده إلى اللازم، و
بعبارة أخرى كانت الملازمة في الخفاء بنحو تحتاج في الانتقال إليها إلى تدقيق النظر، ومن
ذلك جميع ما يصدر من أرباب العلوم من الاشكالات العلمية في اخذ بعضهم بعضا بما
يقتضيه لازم كلامه من التوالي الفاسدة، حيث إنه لولا خفاء الملازمة على صاحب
الكلام لما يصدر منه ما يلزم من التوالي الفاسدة من كذا وكذا. ومنها ان تكون الملازمة
واضحة في الجملة بنحو يكفي في الانتقال إلى اللازم مجرد تصور الملزوم والملازمة، من دون
احتياج إلى دقيق النظر في أصل الانتقال إلى الملازمة، ومن ذلك دلالة الآيتين على كون أقل الحمل
ستة أشهر. ومنها ان تكون الملازمة في الوضوح بمثابة كانت ارتكازية ومألوفة في الأذهان، بحيث
يكفي في الانتقال إلى اللازم مجرد تصور الملزوم بلا احتياج إلى الالتفات بالملازمة تفصيلا
أم اجمالا، ومن ذلك أكثر الكنايات كالحاتم والجود، وانو شيروان والعدالة، ونحو ذلك،
فهذه اقسام ومراتب للزوم، ولئن شئت فعبر عن الأول باللزوم الغير البين، وعن الثاني
بالبين بالمعنى الأعم، وعن الثالث بالبين بالمعنى الأخص.
468

وبعد ذلك نقول: ان التعريف المزبور وان كان يشمل جميع الأقسام المزبورة، حيث
ينطبق على الجميع التعريف المزبور بأنه ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، الا انه نقول
بان المراد من المفهوم المصطلح في المقام ما هو من قبيل القسم الأخير الذي كانت الملازمة
في غاية الوضوح بنحو يكفي في الانتقال إلى اللازم مجرد تصور الملزوم من دون احتياج
في الانتقال إليه إلى الانتقال إلى الملازمة بينهما والالتفات إليها تفصيلا أو اجمالا، لا مطلق
ما يلازم الشئ ويستتبعه، وعليه فيخرج من المفهوم المصطلح ما يكون من قبيل الأولين
كالآيتين ونحوهما مما لم يكن اللزوم فيه من البين الأخص، بحيث يحتاج في الانتقال إليه
إلى الالتفات بالملازمة تفصيلا أم اجمالا ولا يكفيه مجرد تصور الملزوم.
نعم على ذلك يدخل في التعريف المزبور باب الكنايات كالحاتم والجود ونحوه مما كان
اللزوم فيه من البين الأخص ومع ذلك لا يكون من المفهوم المصطلح، فمن ذلك عرفوه بوجه
آخر، تارة بأنه حكم لغير مذكور، وأخرى بأنه حكم غير مذكور لازم لحكم مذكور، حيث إن
الغرض من العدول إلى هذا التعريف انما هو اخراج المفردات كالحاتم والجود،
وتخصيص المفهوم المصطلح بالقضايا وان كان الأولى حينئذ تعريفه بأنه قضية غير مذكورة
اما بحكمها أو بموضوعها لازمة لقضية مذكورة، ووجه أولوية ذلك سلامته عما أورد
على التعريفين المزبورين، حيث أورد على الأول بلزوم خروج مفهوم الشرط الذي هو من
اجل المفاهيم عن التعريف، نظرا إلى كون الموضوع فيه مذكورا، في القضية اللفظية حيث
كان الموضوع في طرف المفهوم في قوله (ان جائك زيد فأكرمه) هو زيد المذكور في القضية،
وعلى الثاني بلزوم خروج مفهوم الموافقة في نحو قوله (لا تهن عبد زيد) الدال على حرمة
إهانة زيد بالأولوية، وهذا بخلافه على ما ذكرنا من التعريف حيث إن فيه جمعا
بين الجهات.
وعلى أي حال فيعتبر في المفهوم المصطلح ان يكون الحكم المعلق في القضية اللفظية هو
سنخ الحكم والطبيعة المطلقة دون شخص الحكم، والا فيخرج عن المفهوم المصطلح
المتنازع فيه، ومن ذلك أيضا بنوا على خروج القضايا المتكفلة لاثبات شخص الحكم عن
حريم النزاع، معللين بان انتفاء شخص الحكم المذكور في القضية عند انتفاء بعض القيود
المعتبرة فيه يكون عقليا، فلا مجال للنزاع فيها في ثبوت المفهوم وعدمه، كما لا يخفى،
ومن هذا البيان ظهر أيضا ان مركز التشاجر والنزاع في المقام في ثبوت المفهوم وعدمه
469

لابد وأن يكون ممحضا في ناحية عقد الحمل في القضية، في أن الحكم المنشأ في القضية
الشرطية أو الوصفية أو غيرهما هل هو سنخ الحكم والطبيعة المطلقة منه كي يلزمه انتفائه
رأسا عن غير مورد وجود القيد أو انه شخص الحكم أو الطبيعة المهملة كي لا ينافي
ثبوت شخص حكم آخر في غير مورد وجود القيد؟ فكان القائل بثبوت المفهوم للقضية
يدعى ان الحكم المعلق في القضية اللفظية هو سنخ الحكم والطبيعة المطلقة والقائل بعدم
المفهوم يدعى خلافه وانه لا يدل عقد الحمل في القضية الا على الطبيعة المهملة، مع تسالم
الفريقين في ظهور عقد الوضع في القضايا - اسمية كانت أم فعلية أو غيرهما في كون
القيود المأخوذة فيها بخصوصياتها دخيلة في ترتب الحكم كما هو ديدنهم في كلية العناوين
المأخوذة في الخطابات، حيث كان بنائهم على دخلها بخصوصياتها في ترتب الحكم لا بما
أنها مرآة إلى امر آخر، ولا بما انها مصداق للجامع بينها وبين غيرها،
لا انه كان مورد النزاع في ناحية عقد الوضع كما يظهر من الكفاية (1) وغيرها، من جعل
مركز التشاجر في ناحية عقد الوضع في القضية حيث قال: بان من يقول بالمفهوم في مثل
الجملة الشرطية لابد له من اثبات دلالة الجملة الشرطية على ترتب الجزاء على الشرط بنحو
ترتب المعلول على علته المنحصرة واما القائل بعدم المفهوم فهو في فسحة من ذلك، لان له
منع دلالتها على اللزوم تارة بل على مجرد الثبوت عند الثبوت ولو من باب الاتفاق، ومنع
دلالتها على الترتب أو على نحو الترتب على العلة ثانيا، أو على العلة المنحصرة ثالثا، بعد
تسليم اللزوم والعلية.
وذلك لما عرفت من أن ظهور القضايا في مدخلية العنوان المأخوذ فيها لترتب الحكم
بخصوصيته مما لا يكاد ينكر عند أحد منهم أصلا، فلا يمكن ان يكون النزاع بينهم حينئذ
في المقام في ناحية عقد الوضع في الدلالة على العلية أو بنحو الانحصار، بل لابد وأن يكون
النزاع ممحضا في المقام في ناحية عقد الحمل خاصة كيف وانه لولا مفروغية الظهور المزبور
عندهم لما كان وجه لفهمهم التنافي عند احراز وحدة المطلوب بين قوله: أعتق رقبة، و
بين قوله: أعتق رقبة مؤمنة، وحملهم المطلق على المقيد، وذلك من جهة امكان ان يكون موضوع
الحكم بوجوب العتق حينئذ هو مطلق الرقبة الجامع بين المؤمنة وغيرها وان ذكر الايمان

(1) ج 1 ص 302.
470

من جهة كونه أحد المصاديق أو أفضلها، وحينئذ فنفس فهمهم التنافي بينهما في المثال
شاهد ما بيناه من التسالم في ظهور عقد الوضع في القضايا كلية على أن العنوان المأخوذ فيها مما
له الدخل بخصوصيته الشخصية في ترتب الحكم، إذ حينئذ بعد ظهور دليل المقيد في
دخل الايمان بخصوصيته في وجوب العتق واحراز وحدة المطلوب ولو من الخارج، يقع بينهما
التعارض فيحتاج إلى حمل المطلق منهما على المقيد، وهكذا في قوله: أكرم زيدا، وقوله:
أكرم عمرا، حيث إنه مع العلم بوحدة المطلوب يقع بينهما التعارض، ومعلوم انه لا يكون
له وجه الا ظهور كل من الدليلين في مدخلية خصوصية العنوان، وان كل عنوان
بخصوصيته تمام الموضوع للحكم، لا بما انه مصداق للجامع وان الواجب انما هو اكرام
الانسان، وعلى ذلك نقول: بأنه بعد تسلم هذا الظهور في عقد الوضع في كلية القضايا
فلا جرم لا يبقى مجال النزاع في المقام في المفهوم وعدمه الا في طرف عقد الحمل في القضية،
في أنه هل هو السنخ والطبيعة المطلقة أو الشخص والطبيعة المهملة؟ فمع احراز كون المحمول
هو الحكم السنخي فلا جرم بمقتضى الظهور المزبور في عقد الوضع في دخل الخصوصية
يستفاد انتفاء الحكم بانتفاء الخصوصية.
ومما يشهد لما ذكرنا أيضا تصريحاتهم كما سيجئ بخروج القضايا المتكفلة لشخص
الحكم عن حريم النزاع وعن المفهوم المصطلح، وتعليلهم لذلك بان انتفاء شخص الحكم
بانتفاء موضوعه أو بعض قيوده عقلي غير قابل للنزاع فيه في البقاء وعدمه. إذ نقول: بأنه
لولا الظهور المزبور في دخل الخصوصية لكان من المحتمل ان يكون هناك فرد علة أخرى
توجب بقاء ذلك الحكم الشخصي، بان كان العلة في الحقيقة للحكم الشخصي هو الجامع
بينهما وان المذكور في القضية أحد فردي الجامع، ومن المعلوم انه مع تطرق هذا الاحتمال
لا مجال لجعل الانتفاء فيه عقليا عند الانتفاء الا بتسلم الظهور المزبور في عقد الوضع.
وعليه نقول: بأنه إذا كان ذلك يوجب انتفاء الحكم الشخصي عند الانتفاء فليكن
الامر كك في الحكم السنخي أيضا، فمع احراز الحكم السنخي فقهرا بمقتضي الظهور
المزبور في دخل الخصوصية يلزمه عقلا انتفاء الحكم بانتفاء الخصوصية من دون احتياج
إلى اثبات العلية المنحصرة، واما توهم عدم كفاية هذا المقدار في الحكم بانتفاء الحكم
السنخي لولا اثبات انحصار العلة، بدعوى انه بدونه يحتمل ان يكون هناك علة أخرى
توجب شخصا آخر من الحكم مثله، ومعه فلا يمكن الحكم بانتفاء السنخ بهذا المقدار الا
471

باثبات انحصار العلة، فمدفوع بان ذلك كك فيما لو كان الحكم المحمول في القضية
بنحو الطبيعة المهملة والا ففي فرض كونه بنحو الطبيعة المطلقة فلا جرم لا يفرق بينهما بل
توجب قضية الظهور المزبور حينئذ في دخل الخصوصية لزوم انتفاء الحكم السنخي عند
انتفاء الخصوصية،
وعلى ذلك فلا محيص حينئذ من صرف النزاع في المقام في ثبوت المفهوم وعدمه عن
عقد الوضع في القضية وارجاعه إلى طرف عقد الحمل، بان المحمول هو الطبيعة المهملة حتى
لا يلزمه الانتفاء عند الانتفاء أو هو السنخ والطبيعة المطلقة حتى يلزم الانتفاء عند الانتفاء؟
من دون احتياج إلى اثبات العلية المنحصرة.
ومن ذلك نقول: بأنه لابد للقائل بالمفهوم في كل قضية شرطية أو وصفية أو غائية أو
غيرها من اثبات كون المحمول في تلك القضية هو السنخ، اما من جهة دلالة القضية عليه
ولو بالاطلاق أو من جهة القرائن الخارجية، كي يستفاد المفهوم بضم ظهور عقد الوضع
في القضية في دخل الخصوصية، والا فبدون اثبات هذه الجهة لا يكاد يصح له الاخذ
بالمفهوم والحكم بالانتفاء عند الانتفاء ولو مع اثباته انحصار العلة، هذا،
ولكن أقول: بأنه لا يخفى عليك ان مجرد ظهور عقد الوضع في دخل العنوان بخصوصيته
في ترتب الحكم السنخي غير مجد أيضا في استفادة الانتفاء عند الانتفاء الا بضم قضية
اطلاق ترتب الحكم والجزء عليه في الترتب عليه بالخصوص بنحو الاستقلال، والا فبدونه
يحتمل ان يكون هناك علة أخرى تقوم مقامه عند انتفائه، ومع هذا الاحتمال لا يمكن
الاخذ بالمفهوم في القضية، كما هو واضح. وحينئذ فإذا احتجنا إلى قضية اطلاق ترتب
الجزاء في الحكم بالانتفاء عند الانتفاء - كما اعترف به الأستاذ أيضا نقول بأنه ملازم
قهرا مع انحصار العلة فلا يستغني حينئذ في الحكم بانتفاء السنخ عن اثبات انحصار العلة،
كما لا يخفى.
ثم اعلم بان السنخ والطبيعة المطلقة تارة يراد به المعنى القابل للانطباق على الافراد
المتكثرة، كالانسان مثلا بالقياس إلى افراده ومصاديقه المتكثرة، حيث إن اطلاقه انما
هو بمعنى قابلية انطباقه وصدقه في الخارج على افراده من زيد وعمرو وبكر وخالد وغير
ذلك من الافراد، وأخرى يراد به ما يقتضي حصر الكلي والطبيعي بفرده ومصداقه الخاص
نظير قولك: انما العالم زيد، مريدا به حصر تلك الطبيعة لزيد وعدم ثبوت مصداق آخر
472

لغيره. وإذ عرفت ذلك نقول: ان المراد من السنخ والطبيعة المطلقة في المقام انما هو السنخ
بالمعنى الثاني لا هو بالمعنى الأول، فالمراد هو ان المتكلم في قوله: ان جاء زيد فأكرمه،
مثلا بصدد حصر هذا السنخ من الحكم بفرده الخاص والا فهو باعتبار المعنى الأول غير
معقول لأنه من المستحيل اطلاق الحكم في المثال المزبور بنحو يشمل وجوب الاكرام
الثابت لعمرو وخالد، ضرورة ان شخص الحكم الثابت لموضوع غير قابل للثبوت لموضوع
آخر، وهو واضح.
ارشاد في طريق استخراج المفهوم
اعلم أن الحكم إذا كان له إضافات متعددة بالقياس إلى موضوعه وقيده وشرطه
وغايته ونحو ذلك، فطريق استخراج المفهوم من كل جهة شرطا أو وصفا أو غاية انما هو
باعتبار لحاظ الحكم سنخا بالإضافة إلى تلك الجهة لا باعتبار لحاظه سنخا على الطلاق،
حيث إنه من الممكن ان يكون المتكلم في مقام تعليق السنخ ومقام الاطلاق بالإضافة إلى
قيد، مع كونه في مقام الاهمال بالقياس إلى قيد آخر، وعلى ذلك فلو ورد حكم معلق على
شرط، ومرتب على لقب، ومنوط على وصف، ومغيى بغاية خاصة، كقوله: ان جاء زيد
راكبا إلى يوم الجمعة يجب اكرامه، ففي مثله كان لهذا الحكم إضافات متعددة: إضافة إلى
شرطه وهو المجئ، وإضافة باللقب وهو زيد، وإضافة إلى قيده ووصفه، وإضافة إلى الغاية
الخاصة،
وحينئذ فإذا فرضنا ان المتكلم كان في مقام اطلاق الحكم وإناطته من حيث السنخ
بالإضافة إلى كل واحد من الشرط واللقب والوصف والغاية فلا جرم يلزمه استخراج
مفاهيم متعددة حسب تعدد الإضافات، فمن اضافته إلى المجئ يستفاد مفهوم الشرط
فيحكم بانتفاء سنخ وجوب الاكرام عن زيد عند عدم المجئ وان كان راكبا، ومن
اضافته إلى موضوعه يستفاد مفهوم اللقب ويحكم بانتفاء سنخ وجوب الاكرام عن غير زيد ولو
كان غيره جائيا راكبا إلى يوم الجمعة، ومن اضافته إلى قيده يستفاد مفهوم الوصف
ويحكم بانتفاء سنخ الوجوب عن زيد عند انتفاء الوصف ولو كان جائيا إلى يوم الجمعة،
ومن اضافته إلى الغاية يستفاد مفهوم الغاية ويحكم بانتفاء سنخ وجوب الاكرام عنه عند
473

عدم مجيئه إلى يوم الجمعة، ولو كان جائيا راكبا بعد يوم الجمعة،
وأما إذا لم يكن المتكلم في مقام الاطلاق وإناطة الحكم من حيث السنخ الا
بالإضافة إلى بعض تلك القيود، مع كونه في مقام الاهمال بالإضافة إلى بعضها الآخر،
ففي مثله يلاحظ المفهوم بالقياس إلى ما اعتبر كونه سنخا بالإضافة إليه شرطا أو وصفا أو
غاية، فإذا كان المتكلم في مقام تعليق السنخ بالإضافة إلى المجئ وهو الشرط مثلا كان
المستفاد منه هو انتفاء سنخ وجوب الاكرام عن زيد عند انتفاء المجئ، ولكنه حيث لم
يعتبر الحكم من حيث السنخ بالإضافة إلى موضوعه ووصفه وغايته فلا تدل القضية على
انتفاء حكم وجوب الاكرام عن غير زيد ولا عنه عند انتفاء وصفه أو غايته، كي لو ورد
دليل على وجوب اكرامه عند انتفاء وصفه أو غايته يقع بينهما التعارض. نعم ذلك الحكم
الشخصي ينتفي بانتفاء كل واحد من القيود، ولكنه غير المفهوم المصطلح، فان المصطلح
من المفهوم انما هو انتفاء سنخ هذا الحكم وعدم ثبوت شخص حكم آخر في غير مورد
الوصف والغاية. وعلى كل حال فلابد في طرف المفهوم من حفظ القضية المنطوقية
وتجريدها من خصوص ما أنيط به الحكم السنخي دون غيره.
نعم قد يقع الاشكال في أصل تصور الحكم السنخي واستفادته من القضايا وتنقيح
المرام في ذلك هو ان الحكم المنشأ في القضايا الشرطية أو غيرها اما ان يكون بمادة
الوجوب، كقوله: ان جاء زيد يجب اكرامه، واما ان يكون بصيغة الوجوب.
فعلى الأول لا ينبغي الاشكال في امكان تصور الحكم السنخي بل واستفادته من تلك القضايا.
واما الاشكال عليه بان الحكم المنشأ بهذا الانشاء الخاص حينئذ انما كان حكما شخصيا
حقيقتا ومن خصوصياته حصوله وتحققه بهذا الانشاء الخاص وتعلقه بالشرط الخاص،
وعليه فلا يتصور جهة سنخية للحكم حتى يكون من حيث السنخ معلقا على الشرط
أو الوصف، فيلزمه انتفاء الحكم السنخي عند الانتفاء فمندفع بان مثل هذه الخصوصيات
بعد ما كان نشوها من قبل الاستعمال المتأخر عن المعنى والمنشأ، فلا جرم غير موجب
لخصوصية المعنى المنشأ وعليه فكان المعنى المنشأ حينئذ معنى كليا، وقد علق على الشرط
أو الوصف، وكانت الخصوصيات الناشئة من قبل الاستعمال من لوازم وجوده، لا انها
تكون مأخوذة فيه يصير المعنى لأجلها جزئيا، كما هو واضح.
واما على الثاني فقد يشكل في أصل استفادة الحكم السنخي من الهيأة، ومنشأه
474

هو الاشكال المعروف في الحروف والهيئات من حيث خصوص الموضوع له فيها، بتقريب
ان الحروف وكذا الهيئات لما كانت غير مستقلة بالمفهومية لكون معانيها من سنخ النسب
والارتباطات الذهنية المتقومة بالطرفين، فلا محالة كانت جزئية وغير قابلة للاطلاق
الفردي والصدق على الكثيرين، ومعه فلا يتصور الحكم السنخي في مفاد الهيأة في الصيغة
حتى يعلق على الشرط أو الوصف فيترتب عليه الحكم بانتفاء السنخ عند الانتفاء.
بل ومن ذلك قد يشكل أيضا في صحة أصل الإناطة والتعليق وارجاع القيد
في القضايا الطلبية إلى الهيأة في نحو قوله: ان جاء زيد فأكرمه، بدعوى ان صحة الإناطة
والتقييد فرع امكان اطلاق الهيأة، ومع فرض خصوصية المعنى في الحروف والهيئات
يستحيل التقييد أيضا، فمن ذلك لابد من ارجاع تلك القيود في نحو هذه القضايا إلى
المادة، هذا.
ولكن الاشكال الثاني كما ترى واضح الدفع ولو على القول بخصوص الموضوع له
في الحروف والهيئات، وذلك من جهة وضوح ان المقصود من خصوص الموضوع له وجزئية
المعنى في الحروف والهيئات انما هو جزئيته باعتبار الخصوصيات الذاتية التي بها امتياز افراد
نوع واحد بعضها من بعض، لا مطلقا حتى بالقياس إلى الحالات والخصوصيات الطارية
عليه من اضافته إلى مثل المجئ والقيام والقعود، فكان المراد من عدم كلية المعنى
في الحروف هو عدم كليته من جهة الافراد، وانها موضوعة لاشخاص الارتباطات الذهنية
المتقومة بالمفهومين، وكونها من قبيل المتكثر المعنى، ومن المعلوم بداهة ان عدم كلية المعنى
في الحروف والهيئات وجزئية الموضوع له فيها من هذه الجهة غير مناف مع اطلاقه بحسب
الحالات، وعليه فكما ان للمتكلم ايقاع النسبة الارسالية في استعمال الهيأة مطلقة وغير
منوطة بشئ من مثل المجئ وغيره بقوله أكرم زيدا كك كان له ايقاعها من الأول منوطة
بالمجئ ونحوه بقوله ان جاء زيد فأكرمه. ومن ذلك أيضا أوردنا على الشيخ قدس سره
في مبحث الواجب المشروط وقلنا بان مجرد خصوصية الموضوع له في الحروف والهيئات لا
يقتضي تعين ارجاع القيود الواقعة في القضايا الشرطية إلى المادة وصرفها عما تقتضيه
القواعد العربية من الرجوع إلى الهيأة.
نعم انما كان لهذه الاشكال مجال بناء على مسلك آلية معاني الحروف وجعل الفارق
بينها وبين الأسماء من جهة اللحاظ من حيث الآلية والاستقلالية، كما افاده في الكفاية،
475

حيث إن لازم آلية المعنى فيها حينئذ هو كونه غير ملتفت إليه عند الاستعمال، من جهة
كونه ملحوظا باللحاظ العبوري المرآتي، ولازم ذلك لا محالة هو امتناع التقييد رأسا،
بلحاظ ان صحة التقييد فرع الالتفات إلى المعنى، فمع فرض عدم الالتفات إليه
عند الاستعمال فلا جرم يمتنع تقييده أيضا، ولكن عمدة الاشكال على ذلك في أصل
هذا المبنى لما ذكرنا فساده في محله وقلنا بان معاني الحروف وكذا الهيئات انما هي من
سنخ الارتباطات الذهنية المتقومة بالطرفين وان الفرق بينها وبين الأسماء انما هو من جهة
ذات المعنى والملحوظ لا من جهة كيفية اللحاظ فقط، وعليه فلا مجال لهذا الاشكال من
هذه الجهة أيضا، كما هو واضح.
وحينئذ يبقى الكلام في الاشكال الأول في أصل استفادة الحكم السنخي بل
وتصوره ثبوتا بملاحظة جزئية الموضوع له في الحروف والهيئات، وفي ذلك نقول: بانا وان
أجبنا عن ذلك سابقا بكلية المعنى فيها، من جهة ما تصورناه في مبحث الحروف من القسم
الآخر من عموم الوضع والموضوع له في الحروف غير عام الوضع والموضوع له المشهوري،
ولكن التأمل التام فيه يقتضي عدم اجداء هذا النحو من الكلية لدفع هذا الاشكال،
والوجه فيه هو ان ذلك المعنى العام والقدر المشترك الذي تصورناه لما لا يمكن تصوره
واحضاره في الذهن الا في ضمن إحدى الخصوصيات فلا جرم لا يكاد يمكن ان يوجد في
ذهن المتكلم عند استعمالها، بمثل قوله: الماء في الكوز أو زيد على السطح وسرت
من البصرة إلى الكوفة، الا اشخاص النسب الخاصة والارتباطات المخصوصة كما هو ذلك
على القول بخصوص الموضوع له فيها أيضا، وفي مثله يتوجه الاشكال المزبور بان الموجود في
ذهن المتكلم عند استعمال الهيأة بقوله: أكرم زيدا ان جائك، بعد أن لم يكن الا شخص
نسبة وربط خاص قائم بالطرفين فلا جرم لا يتصور له الاطلاق الفردي حتى يتصور فيه
السنخ فيكون هو المعلق على الشرط أو الوصف المذكور في القضية فينتج الانتفاء
عند الانتفاء، وحينئذ فهذا النحو من عموم الوضع والموضوع له في الحروف غير مجد لدفع
الاشكال في المقام لأنه بحسب النتيجة كالقول بخصوص الموضوع له فيها.
فعلى ذلك فلابد من التصدي لدفعه بوجه آخر غير ذلك فنقول: ان قصارى ما يمكن
ان يقال في دفع الاشكال وجهان:
أحدهما: ما افاده الأستاذ دام ظله في الدورة السابقة، وحاصله هو ان دلالة الهيأة
476

على الطلب في قوله (افعل) بعد ما كانت بالملازمة، من جهة كونه أي الطلب ملزوما
للنسبة الارسالية التي هي مدلول الهيأة، لا مدلولا لها بالمطابقة، كما هو مختار الكفاية،
وكان المهم أيضا اثبات السنخ والاطلاق في طرف الحكم والطلب، فلا بأس حينئذ
بلحاظ الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى ذلك الطلب الملازم مع الارسال، ولو على القول
بخصوص الموضوع له في الحروف والهيئات، من جهة انه لا ملازمة بين خصوصية المدلول
في الهيأة مع خصوصية ما يلازمه، فأمكن ان يكون المدلول في الهيأة جزئيا وخاصا، و
مع ذلك يكون ملزومه وهو الطلب كليا، وحينئذ فإذا كان المهم في المقام هو اثبات السنخ
في طرف الحكم والطلب فأمكن اثبات السنخ من غير طريق الهيأة ولو بمثل الاطلاق
المقامي ونحوه.
الوجه الثاني: ما افاده دام ظله أخيرا، وتقريبه انما هو بدعوى ان مفاد الحروف وكذا
الهيئات وان كان جزئيا، لكونها عبارة عن اشخاص الارتباطات الذهنية المخصوصة
المتقومة بالطرفين، الا انها تبعا لكلية طرفيها أو أحد طرفيها قابلة للاتصاف بالكلية، كما
في قولك: الانسان على السطح والماء في الكوز والسير من البصرة إلى الكوفة، في قبال قولك:
زيد على السطح وهذا الماء في هذا الكوز وسرت من النقطة الكذائية من البصرة إلى النقطة
الكذائية من الكوفة، فان السير وكذا البصرة في قولك: السير من البصرة لما كان كليا
وقابلا للانطباق في الخارج على الكثيرين كالسير من أول البصرة ووسطها وآخرها فقهرا
تبعا لكلية هذين المفهومين تتصف تلك الإضافة والربط الواقع بينهما أيضا بالكلية،
وهكذا في قولك: الانسان على السطح أو الماء في الكوز، حيث إنه تبعا لكلية الطرفين
تتصف تلك النسبة والربط والاستعلائية أو الظرفية بالكلية، فينحل إلى الروابط المتعددة،
فيصدق في الخارج على زيد الكائن على السطح، وعلى عمرو الكائن على السطح وهكذا،
ولا نعني من كلية المعنى الا كونه قابلا للانطباق في الخارج على الكثيرين، ويقابله قولك:
زيد على السطح، حيث إن ذلك الربط الخاص حينئذ تبعا لجزئية المتعلق غير قابل
للانطباق في الخارج على الكثيرين. وحينئذ فعلى هذا البيان صح ان يقال: بان تلك
النسب والروابط التي هي مفاد الحروف والهيئات بنفسها لا تتصف بالكلية والجزئية،
بل وانما اتصافها بالكلية والجزئية تابع كلية طرفيها أو أحدهما، فمتى كان أحد طرفيها كليا
قابلا للصدق في الخارج على الكثيرين فلا جرم تبعا لكليته تلك الإضافة والربط القائم به
477

أيضا تتصف بالكلية، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في التكاليف الكلية الانحلالية،
كقوله: يجب اكرام العالم ويحرم شرب الخمر، حيث إن كلية التكليف حينئذ انما هي
باعتبار كلية متعلقه، فإذا كان متعلقه كليا فلا جرم تبعا لكلية متعلقه يتصف الحكم
أيضا بالكلية، وينحل حسب تعدد افراد متعلقه في الخارج إلى تكاليف متعددة، والا
فالحكم المنشأ في مثل قوله: أكرم العالم ويحرم شرب الخمر، لا يكون الا شخص حكم
وشخص إرادة متعلقة بموضوعه، وهو الاكرام المضاف إلى العالم والشرب المضاف إلى
الخمر. وعلى ذلك ففي المقام أمكن استكشاف الحكم السنخي من الهيأة في الصيغة باجراء
الاطلاق في ناحية المادة المنتسبة بما هي معروضة للهيئة، إذ حينئذ من اطلاقها
يستكشف الحكم السنخي، فإذا أنيط الحكم النسخي حينئذ بمثل الشرط أو الوصف
في القضية بقوله ان جاء زيد فأكرمه أو أكرم زيدا العادل، فقهرا بانتفاء القيد بعد فرض
ظهوره في الدخل بخصوصيته واقتضاء اطلاق ترتب الجزاء عليه في ترتبه عليه بالاستقلال
يلزمه انتفاء الحكم السنخي، كما هو واضح.
وكيف كان فبعد ان ظهر لك طريق استكشاف المفهوم في القضايا بحسب الكبرى
يبقى الكلام في صغريات المفاهيم.
مفهوم الشرط
فنقول ان من المفاهيم مفهوم الشرط في نحو قوله ان جاء زيد يجب اكرامه حيث إنهم اختلفوا في دلالة
إن وأخواتها من أدوات الشرط على الانتفاء عند الانتفاء وعدم دلالتها عليه ونقول في تنقيح المرام انه
لا ينبغي الارتياب في أن القضية الحملية في مثل قوله: أكرم زيدا، مع قطع النظر عن
ورود أداة الشرط عليها بطبعها لا تقتضي أزيد من كون المتكلم في مقام اثبات حكم
وجوب الاكرام لزيد بنحو الطبيعة المهملة، واما اقتضائها لكونه بصدد اثبات سنخ الحكم
والطبيعة المطلقة وفي مقام حصر الطبيعي في هذا الفرد في تلك القضية فلا، لان ذلك مما
يحتاج إلى عناية زائدة عما يقتضيه طبع القضية، ومن ذلك يحتاج إلى قيام قرينة عليه
بالخصوص، والا فمع عدم القرينة عليه فلا يقتضي طبع القضية الحملية الا مجرد ثبوت
المحمول مهملا للموضوع.
ولذلك أيضا ترى بنائهم على عدم المفهوم في القضايا اللقبية وعدم اقتضائها انتفاء
478

سنخ الحكم المحمول على الاطلاق عن غير الموضوع المذكور في القضية، كي لو ورد دليل
آخر على ثبوت شخص حكم آخر لعمرو لوقع بينهما المعارضة، ومن المعلوم انه لا يكون
ذلك الا من جهة ما ذكرناه من عدم اقتضاء القضية الحملية بطبعها في نحو قوله: أكرم
زيدا مع قطع النظر عن القرائن الخارجية الا مجرد ثبوت الحكم والمحمول لزيد بنحو الطبيعة
المهملة الغير المنافي مع ثبوت شخص حكم آخر من هذا السنخ للعمر والبكر.
نعم لما كان مقتضاه حينئذ هو ثبوت هذا الحكم والمحمول على الاطلاق لزيد، فلا جرم
يلزمه اطلاق الحكم المزبور من جهة حالات الموضوع من القيام والعقود ونحو ذلك، فكان
مقتضي اطلاقه هو ثبوته له على الاطلاق وفي جميع الحالات الطارية عليه من القيام والقعود
والمجئ ونحوه، ولئن شئت قلت إنه لما كان لموضوعه اطلاق بحسب الحالات من المجئ
وغيره يلزمه قهرا اطلاق في طرف الحكم المترتب عليه أيضا بحسب تلك الحالات بحيث
يلزمه عدم جواز ثبوت وجوب آخر أيضا لذلك الموضوع في حال القيام أو القعود من جهة ما
يلزمه حينئذ بعد هذا الاطلاق من لزوم محذور اجتماع المثلين، من غير أن ينافي اطلاق
الحكم والمحمول من تلك الجهة مع اهماله المفروض من الجهة المزبورة، إذ مثل هذا النحو
من الاطلاق في الحكم يجتمع مع اهماله من جهة الافراد بل ومع شخصيته أيضا، كما هو واضح.
وحينئذ فإذا كان ذلك مقتضي طبع القضية الحملية فكان قضية اطلاقها في
ثبوت الحكم المحدود الشخصي لموضوعه على الاطلاق وفي جميع الحالات هو حصر الطبيعي
بهذا الفرد المحمول في القضية، بلحاظ ما عرفت من استلزام اطلاق هذا الحكم الشخصي
لجميع الحالات عدم ثبوت فرد آخر منه لموضوعه في بعض الحالات نقول: بان طبع أداة
الشرط الوارد عليها أيضا في نحو قوله: ان جاء زيد يجب اكرامه
لا يقتضي الا مجرد إناطة النسبة الحكمية بما لها من المعنى الاطلاقي بالشرط وهو المجئ لان
ما هو شأن الأداة انما هو مجرد إناطة الجملة الجزائية بما لها من المعنى الذي يقتضيه
طبع القضية الحملية بالشرط وحينئذ فإذا كان مقتضي طبع القضية الحملية أو الانشائية
في مثل قوله أكرم زيدا، هو ثبوت حكم شخصي محدود لزيد على الاطلاق الملازم
لانحصاره وعدم فرد آخر منه في بعض الحالات وكان قضية الأداة على ما هو شأنها إناطة
تلك الجملة بما لها من المعنى بالشرط وهو المجئ في وقوله: ان جاء زيد فأكرمه، فلا جرم بعد
ظهور الشرط في دخل الخصوصية بمقتضي ما بيناه يلزمه قهرا انتفاء وجوب الاكرام عن
479

زيد عند انتفاء المجئ وعدم ثبوت وجوب شخص آخر له في غير حال المجئ من جهة ان
احتمال ذلك مما ينافي ما تقتضيه طبع الجملة من ثبوت ذلك الوجوب الشخصي لزيد
على الاطلاق وفي جميع الحالات التي منها عدم المجئ من جهة ما يلزمه من محذور اجتماع
المثلين. واما احتمال التأكد حينئذ فيدفعه أيضا ظهور القضية في محدودية الحكم بحد
شخصي مستقل، فإذا فرضنا حينئذ انحصار الوجوب بهذا الفرد من الحكم الشخصي
الثابت في القضية المنطوقية فقهرا بمقتضي الإناطة يلزمه عقلا انتفاء سنخ وجوب الاكرام
عن زيد عند انتفاء المجئ، ولا نعنى من المفهوم الا ذلك. نعم لو كان قضية الأداة مضافا
إلى إناطة الجزاء بالشرط هو اخراجه عما تقتضيه طبع الجملة الحملية من الاطلاق بحسب
الحالات لكان للاشكال في الانتفاء عند الانتفاء كمال مجال، ولكنه كما ترى بعيد جدا،
فان شأن الأداة على ما عرفت لا يكون الا مجرد ربط إحدى الجملتين وإناطتها بما لها
من المعنى والمدلول بجملة أخرى، بلا اقتضائها لا همال القضية واخراجها عما يقتضيه
طبعها من الظهور الاطلاقي الموجب لانحصار الطبيعي في الشخص، كما لا يخفى.
ولا يخفى عليك انه على هذا البيان لا يحتاج في اثبات المفهوم في القضايا الشرطية إلى
اتعاب النفس لاثبات العلية المنحصرة، كي يمنع تارة بمنع اقتضاء الشرط العلية بل
مجرد الثبوت عند الثبوت، وأخرى بمنع العلية المنحصرة على فرض تسليم اقتضاء أصل
العلية، فان ذلك كله منهم ناش عن عدم التفطن بوجه استفادة المفهوم في القضايا
الشرطية وعدم ملاحظة ما يقتضيه طبع القضايا الانشائية والحملية من الظهور الاطلاقي
الموجب لحصر الطبيعي في قوله: أكرم زيدا في حكم شخصي محدود بحد خاص،
والا فنفس ذلك كاف في استفادة المفهوم، من جهة ان لازم إناطة مثل هذا الحكم
الشخصي حينئذ هو لزوم انتفاء ذلك عند الانتفاء، وحيث إن فرض انحصار الطبيعي أيضا
بهذا الشخص بمقتضي الظهور الاطلاقي، فقهرا يلزمه انتفاء الحكم السنخي بانتفائه، من
دون احتياج إلى اثبات العلية المنحصرة، وهو واضح.
ثم انه لو أغمضنا عن ذلك البيان وبنينا على مقالة المشهور في استفادة المفهوم
في القضايا الشرطية فهل للقضية الشرطية دلالة على التلازم بين المقدم والتالي أم لا؟ وعلى
تقدير الدلالة فهل تدل على الترتب بينهما بنحو العلية أو العلية المنحصرة أم لا؟.
فنقول: انه وان لم يتعرض الأستاذ لذكر هذا البحث بل اكتفى في اثبات المفهوم
480

بما حررناه من البيان المتقدم ولكنه لا باس بالتعرض لبيان هذه الجهة جريا على طبق
ممشى القوم
فنقول: اما دلالة القضية الشرطية على التلازم بين المقدم والتالي، بل وعلى
كون اللزوم بينهما بنحو العلية والمعلولية، فالظاهر هو كونها في غاية الوضوح، كما يشهد به
الوجدان ويوضحه المراجعة إلى العرف وأهل المحاورة واللسان في نحو هذه القضايا، حيث
ترى انهم يفهمون منها الترتب بين المقدم والتالي بنحو العلية فضلا عن اللزوم بينهما، وعليه
فدعوى المنع عن الدلالة على اللزوم أو الترتب بنحو العلية في غاية السقوط.
نعم لدعوى المنع عن اقتضائها للترتب بنحو العلية المنحصرة كمال مجال، من جهة
احتمال فرد علة أخرى تقوم مقامها عند انتفائها، وحينئذ فللقائل بالمفهوم اثبات هذه
الجهة وسد باب الاحتمال المزبور كي يصح له الحكم بالانتفاء عند الانتفاء.
فنقول: انه قد استدل للدلالة على ذلك بأمور: منها انصراف اطلاق العلاقة اللزومية
إلى أكمل افرادها وهو اللزوم بين المقدم والتالي بنحو العلية المنحصرة، وأورد عليه
في الكفاية (1) تارة بمنع كون الأكملية منشأ للانصراف، وأخرى بمنع كون اللزوم بينهما
أكمل مما إذا لم يكن بانحصار، من جهة ان الملازمة لا تكون الا عبارة عن إضافة خاصة
بين الشيئين، ومن المعلوم انه لا يكاد يختلف تلك الإضافة بالشدة والضعف في صورة
الانحصار وعدمه، بل هي على ما هي عليها، كان بينه وبين شئ آخر أيضا ملازمة أم لا.
ولكن يمكن ان يقال بان أشدية الملازمة حينئذ مع الانحصار انما هي من جهة ما يلزمه أيضا
من الانتفاء عند الانتفاء، بخلافه مع عدم الانحصار، فان الملازمة حينئذ كانت بينهما من
طرف الوجود الخاصة، ومعلوم حينئذ ان العرف يرون الملازمة بينهما على النحو الأول أشد
من الملازمة على النحو الثاني، وحينئذ لو فرضنا الاغماض عن عدم منشئية هذه الأكملية
للانصراف فلا جرم يصح الاستدلال بهذا الوجه لاثبات الانحصار.
بل ومن ذلك أيضا ظهر صحة التمسك باطلاق الملازمة بمقدمات الحكمة، نظير التمسك
باطلاق الطلب لاثبات الوجوب لكونه أكمل افراد الطلب، بدعوى ان مقتضي الحكمة
حينئذ هو الحمل على أكمل افراد اللزوم وهو اللزوم بين المعلول والعلة المنحصرة، فتأمل.

(1) ج 1 ص 304.
481

ومنها اطلاق الشرط بتقريب اقتضائه لانحصاره في مقام التأثير، وانه تمام المؤثر
في الجزاء، سبقه أو قارنه امر آخر أم لا، من جهة انه مع عدم الانحصار لا يكون التأثير
مستندا إليه خاصة فيما لو سبقه أو قارنه امر آخر، بل التأثير على الأول كان مستندا إلى
الامر السابق، وعلى الثاني إلى المجموع لا إليه فقط أو الجامع بينهما، فكان اللازم حينئذ
تقييده بان لا يسبقه أو يقارنه آخر، فاطلاقه حينئذ وعدم تقييده بذلك كاشف عن
انحصاره في مقام التأثير وهو المطلوب. وقد أورد عليه أيضا في الكفاية (1) بمنع الاطلاق
كك نظرا إلى دعوى ندرة تحققه بل عدم تحققه، ولكن فيه تأمل واضح.
ومنها: اطلاق الشرط أيضا بتقريب اقتضائه كونه بنحو التعين وانه لا يكون له بديل
يقوم مقامه عند انتفائه، والا كان اللازم تقييده بمثل (أو كذا) فعدم تقييده كاشف عن
اطلاقه من هذه الجهة، ومقتضاه هو كونه بنحو التعين، نظير اقتضاء اطلاق الوجوب كونه
تعيينا لا تخييريا وبذلك يثبت المطلوب وهو الانحصار في العلية. وأورد عليه أيضا
في الكفاية بان التعين في الشرط ليس يغاير نحو فيما لو كان متعددا، كما كان في الوجوب
حيث إنه يغاير نحوا فيما لو كان له عدل فيحتاج في الوجوب التخييري إلى العدل، ومقتضي
اطلاقه هو كونه بنحو لا يكون له عدل، وهذا بخلافه في الشرط واحدا كان أم متعددا
حيث إن دخله في المشروط على نحو واحد لا يتفاوت الحال فيه ثبوتا كي يتفاوت
عند الاطلاق اثباتا، وكان الاطلاق مثبتا لنحو لا يكون له عدل، واما ما يرى من
الاحتياج إلى ذكر العدل مع التعدد فإنما هو من جهة بيان التعدد لا من جهة نحو الشرطية
وكونه مع الانحصار بنحو يغاير كونه مع التعدد وبينهما فرق واضح. ولكن فيه انه لا وجه
لهذا الاشكال بعد تسليم أصل الاطلاق فان معنى تعين الشرط انما هو كونه مؤثرا
بالاستقلال بخصوصيته الشخصية في المشروط، ولازم ذلك هو ترتب الانتفاء عند انتفائه
على الاطلاق، كان هناك امر آخر لا، فإذا أثبت ذلك حينئذ قضية الاطلاق وكان
الحكم أيضا سنخيا، فقهرا يلزمه الانتفاء عند الانتفاء، نعم لو كان الحكم شخصيا أو
ملحوظا بنحو الطبيعة المهملة لم يلزمه انتفاء الحكم بقول مطلق عند انتفائه، من جهة
امكان ان يكون هناك علة أخرى توجب شخص حكم آخر مثله عند انتفائه فتدبر.

(1) ج 1 ص 305.
482

بقى التنبيه على أمور
الأول: انهم ذكروا ان المفهوم المصطلح انما هو انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشئ شرطا
كان أو وصفا أو غاية عند انتفاء ذلك الشئ لا انتفاء شخص الحكم، لان انتفاء
شخص الحكم عند انتفاء موضوعه أو بعض قيوده عقلي، فلا يتمشى الكلام في مثل ذلك
بان للقضية الشرطية دلالة على الانتفاء عند الانتفاء، ولا ربط له بالمفهوم المصطلح،
وغرضهم من ذلك انما هو دفع ما ربما يورد عليهم من الاشكال في باب الوصايا والأقارير
والأوقاف والنذر ونحو ذلك، بأنه كيف المجال لدعوى انكار المفهوم مع أنه لا اشكال في
دلالة هذه القضايا على الانتفاء عند الانتفاء، فدفعوا الاشكال بان الحكم المعلق في مثل
هذه القضايا انما يكون حكما شخصيا لا سنخيا فمن ذلك لا يرتبط بالمفهوم المصطلح الذي
هو معركة الآراء. ولكن نقول: بان هذا التفصي انما يتم فيما لو كان الوجه في انكار المفهوم
عند منكريه من جهة عقد الحمل في القضية: من دعوى عدم كون الحكم المعلق هو السنخ
والطبيعة المطلقة بل هو الطبيعة المهملة، والا فإذا كان انكارهم ذلك راجعا إلى طرف عقد
وضع القضية، كما صنعه في الكفاية وغيرها، من حيث جعل مركز النزاع في طرف
عقد الوضع ومنع اقتضاء القضية لانحصار العلة، فكان الاشكال كمال مجال كما بيناه
سابقا، إذ يقال حينئذ بأنه كما أنه في موارد الحكم السنخي يحتمل وجود علة أخرى
غير المذكور في القضية، ومن اجل هذا الاحتمال لا يحكم بانتفاء السنخ عند الانتفاء، كك
في موارد شخص الحكم أيضا يحتمل فرد علة أخرى في البين بحيث كانت العلة للحكم
الشخصي هو الجامع بينهما، ومعلوم انه حينئذ لا مجال للحكم بلزوم الانتفاء عند الانتفاء
وجعل الانتفاء فيه عقليا كما هو واضح، فتأمل.
الامر الثاني: انه يعتبر في المفهوم في القضايا الشرطية بل الغائية والوصفية أيضا حفظ
الموضوع في طرف المفهوم وتجريده عن خصوص الشرط في القضايا الشرطية وعن الوصف
في الوصفية، ففي مثل قوله: ان جاء زيد يجب اكرامه، لابد من حفظ زيد في طرف المفهوم
وتجريده عن خصوص الشرط وهو المجئ، كي يكون الحاصل على المفهوم هو عدم وجوب
اكرام زيد عند انتفاء المجئ، والا فمع عدم بقاء الموضوع عند انتفاء المنوط به لا يكون
483

انتفاء الحكم من المفهوم المصطلح، فمن ذلك تخرج القضايا المسوقة لبيان تحقق الموضوع
عن المفهوم المصطلح كقوله: ان وجد زيد فأطعمه، وان ركب الأمير فخذ ركابه، وان رزقت
ولدا فاختنه، ونحو ذلك من القضايا التي كان انتفاء الحكم فيها عند الانتفاء من السالبة بانتفاء الموضوع
الامر الثالث فيما لو تعدد الشرط واتحد الجزاء وتنقيح الكلام فيه يقع فيه مقامين:
الأول: ما لو كان الجزاء واحدا غير قابل للتعدد بتعدد الشرط لا وجودا ولا مرتبة، كما في
وجوب القصر المترتب على خفاء الاذان والجدران في قوله: إذا خفى الاذان فقصر، وإذا
خفى الجدران فقصر، حيث إن الجزاء في مثل هذا الفرض ليس قابلا للتكرر وجودا بل ولا
للتأكد أيضا عند خفائهما. ونحوه قوله: إذا نمت فتوضأ، وإذا بلت فتوضأ بناء على عدم
قابليته للتأكد وجوبا.
الثاني: ما لو كان الجزاء واحدا بحسب الحقيقة ولكنه كان قابلا للتعدد والتكرر وجودا
كما في الكفاية المترتبة على الافطار وعلى الظهار في قوله: ان ظاهرت فكفر وان أفطرت
فكفر.
اما المقام الأول: فملخص الكلام فيه هو ان الجزاء في مثل قوله إذا خفى الاذان
فقصر وإذا خفى الجداران فقصر، لما كان واحدا شخصيا غير قابل للتكرر وجودا ولا مرتبة
لقيام الاجماع والضرورة على عدم تعدد القصر عند تعدد الأسباب وخفائهما بل وعدم تأكد
وجوبه فلا جرم يقع المعارضة بين الشرطين، حيث لا يمكن ابقاء ظهور كل منهما على
حاله في الاقتضاء لترتب الجزاء عليه بالاستقلال، فيعلم اجمالا بمخالفة ظهورهما للواقع
فمن ذلك لابد من التصرف في ناحية عقد الوضع في الشرطين، اما برفع اليد عن قضية
اطلاقهما في الاستقلال في التأثير بتقييد كل منهما بحال وجود الاخر وجعل الشرط هو مجموع
خفاء الاذان والجدران، واما برفع اليد عن ظهورهما في الانحصار وفى الدخل بعنوانهما
الخاص، اما بجعل الشرط هو الجامع والقدر المشترك بينهما أو تقييد كل منهما في اقتضائه
لترتب الجزاء عليه بعدم كونه مسبوقا بوجود الآخر لو فرض عدم جامع بينهما، كي يكون
لازمه وجوب القصر بخفاء أول الامرين وانتفائه بانتفائهما معا.
واما احتمال تقييد المفهوم في كل منهما بمنطوق الآخر كما في الكفاية فهو (1) مع أنه

(1) ج 1 ص 313.
484

راجع بحسب النتيجة إلى ما ذكرنا كما ترى، لضرورة ان المفهوم في نفسه غير قابل
للتقييد، لأنه من اللوازم العقلية للقضية اللفظية حسب مالها من الخصوصيات الموجبة
لذلك، فكان مرجع تقييده حينئذ مع ابقاء القضية اللفظية المنطوقية على حالها بما لها
من الخصوصية إلى نحو تفكيك بين الملزوم ولازمه، وهو كما ترى من المستحيل جدا.
وحينئذ ففي مقام التوفيق يدور الامر بين رفع اليد عن أحد الظهورين، اما عن
ظهور الشرطين في الاستقلال بجعل الشرط مجموع خفاء الاذان والجدران، كي يكون لازمه
وجوب القصر عند خفاء الامرين معا وانتفاء وجوبه عند خفاء أحدهما، واما عن ظهورهما
في الدخل بعنوانهما الخاص بجعل الشرط الجامع بينهما، أو عن قضية ظهور اطلاقهما في الانحصار
المقتضي لترتب الوجوب عليه وان سبقه آخر، كي يلزمه وجوب القصر بمجرد خفاء
أحدهما، وفي مثله نقول: بأنه وان كان الظهور ان كلاهما بمقتضي الاطلاق، ولكن أمكن
دعوى تعين الثاني وترجيح ظهور الشرطين في الاستقلال على ظهورهما في الدخل بعنوانهما
الخاص وفى الانحصار، إذ على هذا الفرض كان ظهور كل واحد من الشرطين
في الاستقلال في التأثير على حاله، بخلاف العكس، فإنه علاوة عما يلزمه من رفع اليد عن
ظهور الشرطين في الاستقلال يلزمه أيضا رفع اليد عن ظهورهما في الانحصار، وواضح حينئذ
انه عند الدوران كان المتعين هو الأول، لان الضرورة تتقدر بقدرها، وعليه فكان المدار
في وجوب القصر على خفاء أول الامرين منهما. نعم لو خودش في ذلك ولم يرجح
أحد الظهورين على الآخر فلا جرم يسقطان عن الحجية، للعلم بمخالفة أحدهما للواقع، وبعد
تساقطهما كان المرجع هو الأصل، وهو أصالة التمام إلى حد يعلم بخفائهما معا، كما أنه في
طرف الإياب كان الأصل مقتضاه وجوب القصر إلى حد لا يخفى عليه واحد منهما وهو
واضح. هذا كله في المقام الأول.
واما المقام الثاني: وهو ما لو تعدد الشرط واتحد الجزاء سنخا بحيث كان قابلا
للتكرر وجودا كقوله: ان بلت فتوضأ وان نمت فتوضأ، بناء على كونه من المثال، وكقوله:
ان أفطرت فكفر وان ظاهرت فكفر، ففي عدم التداخل ووجوب الاتيان بالوضوء
والكفارة متكررا حسب تعدد الشرط مطلقا، أو التداخل وعدم وجوب الاتيان الا دفعة
واحدة كك، أو التفصيل بين صورة تحقق الشرط الثاني بعد امتثال الأول أو قبله فعدم
التداخل على الأول والتداخل على الثاني، أو التفصيل بين فرض اتحاد الشروط في الجنس
485

وبين فرض اختلافها فالتداخل على الأول وعدمه على الثاني وجوه، بل أقوال.
وتحقيقه ان يقال: ان ظاهر الجملة الشرطية فيهما لما كان هو حدوث الجزاء عند كل
شرط، ومقتضاه كان هو لزوم تعدد الوضوء والكفارة وجودا عند تعدد الشروط، وكان
الاخذ بما يقتضيه ظاهر الشرطين مع ظهور المتعلق في الجزاء في صرف الوجود
الغير القابل للتعدد والتكرر غير ممكن جدا، لاستلزامه لاجتماع الوجودين في وجود واحد،
فلا جرم يقع بينهما التنافي، حيث يعلم اجمالا بمخالفة أحد الظهورين للواقع اما
ظهور المتعلق في صرف الوجود أو ظهور الشرطين، وفي مثله لابد من التصرف في
أحد الظهورين، ورفع اليد اما عن ظهور المتعلق في الصرف وحمله على وجود ووجود، أو عن
ظاهر الشرطين في اقتضائهما الاستقلال في التأثير في الجزاء، نعم لما كان طرف المعارضة
لظهور الجزاء بدوا بمقتضى العلم الاجمالي هو مجموع الشرطين فلا جرم لا يكاد يبقى مجال
انتهاء الامر في هذا المقام إلى ملاحظة التعارض بين الشرطين والتصرف فيهما بإحدى
الوجوه المتقدمة، كما يظهر من الكفاية، لضرورة انه انما ينتهى الامر إلى ذلك في فرض
تحكيم ظهور الجزاء في الوحدة وصرف الوجود على ظهور الشرطين، حيث إنه بعد
هذا التحكيم يقع تعارض بالعرض بين نفس الشرطين، فيحتاج إلى رفع التعارض من البين
بالتصرف فيهما إحدى الوجوه المتقدمة، والا ففي عدم تحكيم ظهور الجزاء وحمله
على الطبيعة المهملة القابلة لتعدد فلا يكاد يتصور تعارض بينهما حتى يحتاج إلى التصرف
فيهما، كما في المقام الأول، من جهة وضوح امكان ابقاء كلا الشرطين حينئذ على ظاهرهما
في الاستقلال واقتضائهما التعدد في الجزاء كما هو واضح، وعليه نقول: ان التعارض بعد
ما كان بدوا بين ظهور الجزاء في الصرف وبين مجموع الشرطين بمقتضي العلم الاجمالي
فلا جرم في مقام التوفيق لابد من رفع اليد عن أحد الظهورين اما عن ظهور الجزاء في صرف
الوجود أو عن ظهور الشرطين في الاستقلال، وفي مثله نقول: ان الذي يقتضيه التحقيق هو
لزوم تحكيم ظهور الشرطين في الاستقلال على ظهور الجزاء في صرف الوجود ولزوم التصرف
فيه بحمله على التعدد ووجود بعد وجود، وذلك لما يلزمه من كونه أقل محذورا من العكس،
حيث إنه على تقدير تحكيم ظهوره على ظهور الشرطين يلزمه رفع اليد عن ظهور كل واحد
من الشرطين في الاستقلال، فيحتاج إلى ارتكاب خلاف ظاهرين، وهذا بخلافه في
طرف العكس، حيث إنه لا يلزمه الا ارتكاب خلاف الظاهر واحد، ومن المعلوم أيضا انه
486

عند الدوران يتعين ما هو أقل محذورا من الآخر، فان ارتكاب خلاف الظاهر بنفسه
محذور، وهو يتقدر بقدره، هذا كله، خصوصا بعد ملاحظة تبعية الجزاء ثبوتا للشرط
بلحاظ كونه من علل وجوده، فان هذه التعبية توجب تبعيته له عرفا أيضا في مقام الاثبات
والدلالة، فتوجب أولوية التصرف في الجزاء عند الدوران على التصرف في ناحية سببه
وعلته، من جهة اقتضائه اقوائية ظهوره من ظهوره، كما هو واضح،
وعليه فيبطل القول بالتداخل على الاطلاق وجواز الاكتفاء بوجود واحد، فان مبناه
انما هو من جهة تحكيم ظهور الجزاء في صرف الوجود على ما يقتضيه ظهور الشرطين، وبعد
تعين التصرف في ظهوره بمقتضي تحكيم ظهور الشرطين عليه لا يبقى مجال توهم التداخل
وجواز الاكتفاء بوجود واحد على الاطلاق.
نعم بعد ما ظهر من لزوم تحكيم قضية الشرطين ولزوم التصرف في الجزاء بحمله
على التعدد يبقى الكلام في أن قضية ذلك هل هو لزوم التصرف في خصوص الحكم
وهو الوجوب مع ابقاء موضوعه ومتعلقه وهو الوضوء أو الكفارة - كما في المثال - على حاله
من الظهور في صرف الوجود؟ كي يلزمه المصير إلى التفصيل المزبور بين ما قبل الامتثال
وما بعده بالتداخل في الأول وعدمه في الثاني، نظرا إلى أنه بعد الاخذ بظهور المتعلق في
صرف الوجود لا يكاد يكون قضية تعدد الشرط قبل الامتثال الا تأكد الطلب بالنسبة إلى
المتعلق، بخلافه فيما بعد الامتثال، فإنه يوجب قهرا تعدد الوجوب، أو ان قضية ذلك هو
لزوم التصرف في المتعلق أيضا وحمله على وجود فوجود حسب تعدد الشروط؟ كي يلزمه
المصير إلى عدم التداخل على الاطلاق ولزوم الاتيان بالكفارة متعددا حسب
تعدد الشروط، من جهة اقتضاء كل شرط وجودا للكفارة، أو ان مقتضاه هو لزوم التعدد
في ناحية متعلق المتعلق أيضا؟ فكان الواجب في مثل قوله: ان جاء زيد يجب اكرام
العالم وان جاء عمر ويجب اكرام العالم، هو اكرام العالمين، ولا يكتفي باكرامين لعالم
واحد، بخلاف سابقه، فإنه عليه يكتفى باكرامين لعالم واحد في نحو المثال فيه وجوه:
ولكن الأقوى أوسطها، وذلك لا لما أفيد كما عن بعض الأعاظم (1) في تقريب
ذلك باقتضاء كل شرط وجودا للمتعلق وان تعدد الوجوب انما هو من جهة كونه مقتضي

(1) هذا البعض حضرة السيد محمد الأصفهاني قدس سره " المؤلف، قدس سره ".
487

تعدد الوجود، لكي يورد عليه بان اقتضاء الشرط للوجود بعد ما لم يكن بنحو التكوين بل
بنحو التشريع فمرجعه لا محالة إلى كونه منشأ لقيام المصلحة بالوجود واتصافه بكونه ذا
مصلحة، وحينئذ فبعد امكان قيام مصالح متعددة بوجود واحد شخصي بجهات مختلفه
فلا مجال لاستفادة تعدد الوجود خارجا بمحض تعدد الشروط، من جهة امكان ان يكون
كل شرط حينئذ مؤثرا في قيام شخص من المصلحة بوجود المتعلق، بل ذلك من جهة
ظهور كل شرط في ترتب حكم محدود مستقل عليه، حيث إن قضية تعدد الشرط حينئذ
انما هو تعدد الحكم بحسب تعدده، ولازمه بعد امتناع اجتماع المثلين في موضوع واحد هو
لزوم المصير إلى تعدد الوجود في الموضوع والمتعلق أيضا، فتعدد الوجود حينئذ في الحقيقة انما
هو لكونه من لوازم تعدد الوجوب واستقلاله الناشي ذلك من جهة تعدد الشرط، نظرا إلى
اقتضاء كل شرط لوجوب خاص محدود بحد مستقل، لا من جهة اقتضاء كل شرط بدوا
وجودا وان تعدد الوجوب من جهة كونه من تبعات تعدد الوجود كما على المسلك الأول.
وعلى ذلك فيبطل القول بالتفصيل في التداخل وعدمه بين ما قبل الامتثال وما بعده،
من جهة ان القول بالتداخل وتأكد الوجوب فيما قبل الامتثال مما ينافي لا محالة ما
يقتضيه ظهور كل شرط في ترتب حكم خاص محدود مستقل على الاطلاق، فقضية الاخذ
بظهورهما في استقلال الحكم حينئذ كما عرفت هو وجوب المصير إلى عدم التداخل ولزوم
الاتيان بالجزاء متكررا حسب تعدد الشرط وتكرره، واما جواز الاكتفاء باكرامين لعالم
واحد في مثل قوله: ان جاء زيد يجب اكرام العالم وان جاء عمرو يجب اكرام العالم،
وعدم لزوم التعدد في متعلق المتعلق واكرام العالمين، فإنما هو من جهة عدم الدليل على
ذلك، من جهة ان غاية ما يقتضيه قضية تعدد الحكم انما هو التعدد في ناحية موضوعه و
متعلقه، نظرا إلى ما يقتضيه امتناع اجتماع الحكمين المتماثلين في موضوع واحد، واما
اقتضائه التعدد في متعلق متعلقه أيضا فلا، خصوصا بعد كونه كثيرا ما غير محتاج إلى
المتعلق، كما في قوله: ان أفطرت فكفر وان ظاهرت فكفر، نعم قد يتفق الاحتياج إلى
لزوم التعدد في متعلق المتعلق أيضا فيما لو كان الواجب من قبيل الاطعام ونحوه، فإنه في
مثل هذا الفرض ربما يحتاج إلى التعدد في طرف المتعلق أيضا، نظرا إلى توقف صدق
التعدد في الاطعام عرضيا لا طوليا على تعدد الشخص، كما هو واضح.
فتلخص مما ذكرنا ان التحقيق في المسألة بحسب القواعد هو ما عليه المشهور من عدم
488

التداخل مطلقا ولزوم الاتيان بالجزاء متكررا حسب تعدد الشروط وتكرره، دون القول
بالتداخل الذي مبناه هو التصرف في ناحية الشرط وعقد الوضع في القضية، ودون القول
بالتفصيل بين ما قبل الامتثال وما بعده الذي مبناه على التصرف في ناحية الحكم
والطلب ورفع اليد عن ظهور كل شرط في اقتضائه ترتب حكم محدود مستقل عليه،
وذلك لما عرفت بما لا مزيد عليه من هدم المبني فيهما، من جهة قوة ظهور كل شرط
في الاستقلال في العلية لترتب الاجزاء واقتضاء كل لجزاء مستقل، حيث إن مقتضاه
حينئذ هو عدم التداخل ووجوب الاتيان بالجزاء متكررا حسب تكرر الشرط، من غير
فرق بين حدوث الشرط الثاني قبل امتثال الأول أو بعده، بل ولا بين فرض اتحاد الشروط
في الجنس أو اختلافها أيضا.
حيث إنه لا وجه لمثل هذا التفصيل الا توهم ظهور القضية
الشرطية في كون المؤثر في الجزاء هو الشرط بصرف وجوده المنطبق على أول وجود دونه
بوجوده الساري، بدعوى ان الشروط المتعددة حينئذ ان كانت من نوع واحد كما لو بال
مكررا أو أفطر كك فالتأثير لا محالة كان مستندا إلى الجامع والقدر المشترك المنطبق على
أول وجود، ويلزمه كون الوجود الثاني منعزلا عن فعلية التأثير فيترتب عليه القول
بالتداخل وعدم وجوب الاتيان بالجزاء متكررا وأما إذا لم تكن من نوع واحد فيلزمه عدم
التداخل وجوب الاتيان بالجزاء متعددا، من جهة اقتضاء كل شرط حينئذ حسب ما
يقتضيه ظاهر القضية لجزاء مستقل، ولكنه مدفوع بمنع الظهور المزبور في باب العلل
والأسباب، كما في المقام، لولا دعوى ظهورها في التأثير بنحو الوجود الساري، كيف
وان حال العلل والأسباب الشرعية من هذه الجهة انما هو كالعلل والأسباب التكوينية
العقلية، فكما ان قضية السببية والمؤثرية الفعلية في العلل التكوينية لا تختص بصرف
الوجود المنطبق على أول وجود، بل جار في الوجود الساري في ضمن الافراد المتعاقبة، و
مع فرض قابلية المحل يكون كل وجود منه مؤثرا فعليا، كما في النار، حيث إن كل وجود
منها كانت مؤثرة في الاحراق، كك الامر في العلل الشرعية، فكانت تلك أيضا مؤثرة
بوجودها الساري في ضمن الافراد المتعاقبة، ومن المعلوم أيضا ان قضية ذلك عند قابلية
المحل للتعدد هو تعدد المسبب بتعدد أسبابه، كما في فرض اختلاف الأسباب في الجنس،
وعليه فلا محيص من المصير بمقتضي القواعد إلى ما عليه المشهور من عدم التداخل
489

على الاطلاق، كما هو واضح.
هذا كله فيما لو كان الجزاء واحدا سنخا وكان قابلا للتعدد والتكرر بتعدد شرطه و
سببه، وقد عرفت ان رجوع التداخل وعدمه فيه إلى التداخل في الأسباب وعدمه من
حيث اقتضاء كل سبب لجزاء مستقل وعدمه، وعرفت أيضا ان التحقيق فيه هو عدم
التداخل ولزوم الاتيان بالجزاء متعددا.
واما لو كان الشرط واحدا والجزاء أيضا واحدا سنخا لا شخصا، كقوله: ان أفطرت
فكفر، فهل قضية ذلك أيضا هو كون الشرطية بنحو الوجود الساري في ضمن الافراد كي
يلزمه تعدد الجزاء وجودا حسب تعدد افراد الشرط خارجا؟ أو بنحو صرف الوجود حتى
لا يلزمه الا وجود واحد وان تعدد افراد الشرط؟ فيه وجهان: أظهرهما الأول كما تقدم
وجهه آنفا.
واما لو تعدد الشرط وتعدد الجزاء أيضا اما عنوانا كالاكرام والاطعام، أو من ناحية
ما تعلق به موضوع الخطاب كاكرام العالم والهاشمي، حيث كان الاكرام في ذاته حقيقة
واحدة، وانما الاختلاف فيه باعتبار اضافته إلى عنوان العالم والهاشمي، ففي مثله
يقع الكلام في أنه في مورد تصادق العنوانين هل يتداخل الامر ان؟ فيجوز الاكتفاء باكرام
واحد في المجمع بداعي الامرين، أم لا يتداخلان؟ فيجب تعدد الاكرام، وهكذا في مثال
الاكرام والاطعام، فلا يجوز الاكتفاء بالاطعام الواحد وان صدق عليه الاكرام أيضا. و
مرجع التداخل في هذه المسألة إلى التداخل في المسبب، بعد الفراغ عن عدم التداخل
في الأسباب، واقتضاء كل سبب لجزاء، بخلاف التداخل في المسألة السابقة، فان
التداخل فيها انما كان في الأسباب وعدم اقتضاء الأسباب المتعددة الا جزاء واحدا.
ثم إن منشأ الاشكال في المقام انما هو من جهة محذور اجتماع المثلين، حيث إنه بعد
تحكيم ظهور الشرطين في اقتضاء كل منهما لترتب جزاء مستقل ووجوب محدود بحد خاص،
يتوجه الاشكال بأنه على التداخل في المجمع، يلزمه اجتماع الوجوبين فيه وصيرورة ذاك
الاكرام الشخصي محكوما بوجوبين مستقلين.
نعم قد يتوهم اشكال آخر عليه وهو لزوم التنافي بين مفهوم أحد الشرطين ومنطوق
الاخر فيما لو تحقق أحد الشرطين وانتفى الآخر، من حيث اقتضاء كل منهما بمفهومه انتفاء
490

سنخ الحكم بقول مطلق حتى في المجمع عند الانتفاء ولو مع تحقق الآخر. ولكنه كما ترى،
إذ مضافا إلى عدم ابتناء المسألة في المقام بالمفهوم وجريانه في شخص الحكم أيضا نمنع
التنافي بينهما، إذ نقول: بان غاية ما يقتضيه قوله: ان جاء زيد فأكرم عالما، انما هو انتفاء
سنخ وجوب الاكرام في المجمع عند الانتفاء من حيث العالمية لا مطلقا ولو بلحاظ كونه
هاشميا، ولا منافاة بين ان يكون زيد مثلا واجب الاكرام من حيث كونه هاشميا وبين
كونه غير واجب الاكرام من حيث كونه عالما.
وحينئذ فكان العمدة هو الاشكال الأول، وفي مثله نقول: بان العنوانين المتصادقين
على مجمع واحد تارة من قبيل الجنس والفصل كالحيوان والناطق، وأخرى من قبيل
العامين من وجه المتصادقين في مجمع واحد عنه الاجتماع، فان كانا من قبيل الجنس
والفصل فلا اشكال في التداخل وفي انه لا يلزم منه محذور أصلا، إذ حينئذ بعد اختلاف
العنوانين بحسب الحقيقة والمنشأ فقهرا يكون مركب كل حكم جهة غير الجهة الأخرى
التي هي مركب الحكم الآخر، ومعه فلا يلزم من القول بالتداخل محذور أصلا، كما هو
واضح. واما ان كانا من قبيل العامين من وجه كما في مثال اكرام العالم والهاشمي
فيبتنى على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه، فعلى القول بالجواز في مثله ولو
بدعوى كفاية هذا المقدار من المغايرة في رفع المحذور فلا اشكال في التداخل في المقام،
واما على القول بعدم الجواز كما هو التحقيق في نحو المثال، بلحاظ وحدة الحقيقة في الجهة
المشتركة وهو الاكرام، ففيه اشكال جدا، لاستلزامه اجتماع الحكمين المتماثلين في ذات
الاكرام الذي هو مجمع الإضافتين، مع كونه حقيقة واحدة وحيثية فاردة، واما الحمل على
التأكد حينئذ ورفع اليد عن استقلال الحكمين فهو ان يرتفع به المحذور المزبور ولكنه
مخالف لما يقتضيه ظاهر الشرطين في اقتضاء كل لوجوب مستقل، والا لما كان وجه
للمصير إلى عدم التداخل في المسألة السابقة، وحينئذ فبعد تحكيم ظهور الشرطين لابد فرارا
عن المحذور والمزبور من المصير إلى عدم التداخل حتى في مورد التصاديق أيضا هذا.
ولكن مع ذلك بناء الأصحاب في مثله على التداخل وجواز الاكتفاء باكرام واحد
في المجمع في سقوط الخطابين. اللهم الا ان يقال حينئذ بكفاية التعدد في الحكم في المجمع
في الجملة في حفظ ظهور الشرطين في الاستقلال، بدعوى ان الواجب في قوله: أكرم عالما
وأكرم هاشميا وان كان هو الاكرام المضاف إلى عنوان العالم والهاشمي بحيث كان
491

لحيثية الإضافة أيضا دخل في موضوع الحكم، الا ان قضية الحكم في تعلقه بالاكرام
المضاف هو مشمولية الإضافة المزبورة أيضا للحكم ولو ضمنا، فلا باس في مثله بالمصير
إلى التأكد برفع اليد عن استقلال الحكمين وتعددهما في المجمع بالإضافة إلى ذات
الاكرام التي هي جهة مشتركة بين الإضافتين مع حفظ استقلالهما بالقياس إلى
الإضافتين المزبورتين، فان الذي ينافيه قضية الظهور المزبور انما هو رفع اليد عن تعدد
الحكمين واستقلالهما في المجمع على الاطلاق، حتى بالقياس إلى الإضافتين، واما رفع اليد
عن ذلك في الجملة في خصوص ذات الاكرام التي هي جهة مشتركة بين الإضافتين فلا،
وعلى ذلك فيتم قول المشهور من جواز الاكتفاء بايجاد واحد في المجمع ومورد التصادق في
سقوط الامرين وعدم وجوب تعدد الاكرام في سقوطهما وامتثالهما، نعم لابد حينئذ في
سقوط الامرين من أن يكون الايجاد الواحد بداعي كلا الامرين، والا يكون الساقط
خصوص ما قصد منهما، ما لم يكن الآخر توصليا والا فيسقطان معا.
ثم انه مما ذكرنا ظهر الحال فيما لو كان الجزاء واحدا بحسب الصورة ومتعددا بحسب
الحقيقة، كما في الغسل على ما يظهر من بعض النصوص من قوله عليه السلام: إذا
اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد (1) الظاهر في أنها أي الأغسال مع
اتحادها صورة مختلفات بحسب الحقيقة وقابلية التصادق على الواحد، الواحد، حيث إن قضية
الاجتزاء بغسل واحد عن المتعدد حينئذ انما هو جهة تصادفها على الواحد، نعم ربما
كان قضية اطلاقه حينئذ هو جواز الاكتفاء بالواحد عن المتعدد، ولو مع عدم قصد البقية.
ومن هذه الجهة ينافي ما ذكرنا من لزوم قصد الجميع في جواز الاكتفاء بالواحد وعدم
سقوط الامر عن البقية مع عدم قصد امتثال الجميع. ولكنه يمكن دفع ذلك أيضا بدعوى
تقييد تلك المطلقات بخصوص غسل الجنابة، كما في خبر حريز ونحوه (2) فيقال حينئذ بان

(1) الوسائل، الباب 43 من أبواب الجنابة، الحديث 1.
(2) ليس في ما رأينا من اخبار الباب ما كان الراوي فيه عن المعصوم عليه السلام حريزا، نعم هو واقع في جملة من
اسناد اخبار الباب. كما في موثق حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا حاضت المرأة وهي جنب
أجزأها غسل واحد. ونحوه مرسل جميل بن دراج. فراجع الوسائل، الباب 43 من أبواب الجنابة [المصحح].
492

جواز الاكتفاء بغسل الجنابة عن ما عداه من غسل الحيض والنفاس ومس الميت ونحوها
انما هو من جهة ان الجنابة من أكبر الاحداث التي تندك في ضمنها سائر الاحداث نظير
اندكاك السواد الضعيف في ضمن السواد الشديد، فإنه حينئذ مع زوالها بغسلها لا يبقى
حدث حتى ينتهى بعد الغسل منها إلى الامر بالغسل لسائر الاحداث، ففي الحقيقة سقوط
الامر بالغسل عن الحيض والنفاس ونحوهما مع غسل الجنابة انما هو من جهة عدم بقاء المحل
والموضوع وهو الحدث مع غسل الجنابة، لامن جهة وقوع غسل الجنابة امتثالا للامر
بسائر الأغسال تعبدا مع عدم قصد عنوانها حتى يتوجه الاشكال المزبور، فتأمل. وهذا
بخلاف غسل غير الجنابة، فإنه من جهة عدم وفائه بزوال الحدث بجميع مراتبه لا يكتفى
به في سقوط غسل الجنابة الا بقصدها أيضا، كما يشهد له أيضا ما في الصحيح عن أبي
عبد الله وأبى الحسن عليهما السلام في رجل يجامع المرأة فتحيض قبل ان تغتسل من الجنابة
قال (ع) غسل الجنابة عليها واجب (1) الظاهر في عدم كفاية ما تأتى به من غسل الحيض
عن غسل الجنابة ولزوم الاتيان بغسلها أيضا ليرتفع به تمام مراتب الحدث، فتأمل، و
تمام الكلام في هذا المقام موكول إلى محله في الفقه.
ثم إن هذا كله فيما لو أحرز تعدد الجزاء عنوانا واختلافه بحسب الحقيقة ولو بمعونة
قرينة خارجية كما في الأغسال. واما لو لم يحرز ذلك واحتمل تعدده بحسب الحقيقة، كما
في الكفارة المترتبة على الافطار والظهار، فهل مقتضي القواعد في هذه الصورة هو الحمل
على تعدد العنوان والحقيقة كي يندرج في موضوع البحث المتقدم عند التصادق، ويقال
فيه بالتداخل، أو الحمل على وحدة الحقيقة؟ فيه وجهان: أظهرهما الثاني، إذ نقول: بان
اختلاف الحقيقة في الجزاء لابد وأن يكون بأحد الامرين، اما من جهة الاختلاف ذاتا
كالظهرية والعصرية أو من جهة الإضافة إلى الشروط. اما الجهة الأولى: فهي منتفية
في المقام من جهة عدم الطريق إلى اختلاف الحقيقة ذاتا فيه وكون الكفارة المترتبة
على الافطار بذاتها غير الكفارة المترتبة على الظهار، واما الجهة الثانية: فكذلك أيضا من جهة
ظهور مثل هذه القضايا الشرطية في كون المشروط من الجهات التعليلية للحكم
لا من الجهات التقييدية للموضوع، كي يكون لإضافتها دخل في الموضوع. ومن ذلك نفرق

(1) الوسائل، الباب 43 من أبواب الجنابة، الحديث 8.
493

بين القضايا التوصيفية في نحو قوله: أكرم زيد الجائي، وبين القضايا الشرطية في نحو قوله:
أكرم زيدا ان جائك، حيث نقول بدخول التقييد بالمجئ على الأول في الموضوع حيث
كان الموضوع لوجوب الاكرام هو زيد المتقيد بالمجئ، بخلافه على الثاني حيث كان تمام
الموضوع لوجوب الاكرام هو ذات زيد بلا اخذ جهة زائدة فيه في موضوعيته للحكم، وانما
المجئ كان علة للحكم بوجوب اكرامه، وعلى ذلك فحيث انه كان الظاهر من القضايا
الشرطية في مثل قوله: ان ظاهرت فكفر وان أفطرت فكفر، هو كون الظهار والافطار
من الجهات التعليلية لوجوب الكفارة لا من الجهات التقييدية للموضوع فلا جرم لا يبقى
مجال اخذ الإضافات المزبورة في طرف الموضوع، وهو الكفارة، ومعه فلا يبقى مجال الحمل
على تعدد الحقيقة واختلافها بمحض قابلية الجزاء لذلك، كما هو واضح، وعليه ففي نحو
هذه القضايا لابد من القول بعدم التداخل ولزوم الاتيان بالجزاء متعددا على حسب
تعدد الشرط.
فتلخص مما ذكرنا ان لنا صورا ثلاثا: الأولى: ما تكرر الشرط واتحد الجزاء شخصا
بحيث لم يكن قابلا للتكرر كما في القصر في قوله: إذا خفى الاذان فقصر وإذا خفى الجدران
فقصر، وقد عرفت انه لابد فيه من التداخل في السبب ولزوم التصرف في عقد الشرط
بأحد الوجهين المتقدمين، الثانية: ما لو تكرر الشرط ولكنه اتحد الجزاء سنخا لا شخصا بحيث
كان قابلا للتعدد وجودا، وقد عرفت رجوع القول بالتداخل المطلق في هذا القسم أيضا إلى
التداخل في الأسباب وان التحقيق فيه هو عدم التداخل ولزوم الاتيان بالجزاء متعددا
حسب تعدد الشرط، الثالثة: ما لو تعدد الشرط وتعدد الجزاء أيضا عنوانا وحقيقة وان اتحد
صورة مع قابليتها للتصادق على وجود واحد، وقد عرفت رجوع التداخل في هذا القسم إلى
التداخل في المسبب فارغا عن عدم التداخل في السبب واقتضاء كل سبب الجزاء مستقل
وان التحقيق فيه هو التداخل عند التصادق وفى المجمع وجواز الاكتفاء بايجاد واحد
في المجمع وسقوط الامرين فيما لو كان الايجاد بداعيهما، والا فالساقط هو خصوص ما
قصد الاتيان بداعية لولا اقتضائه لافناء موضوع آخر كما في غسل الجنابة أو كون الآخر
توصليا يسقط بمجرد الانطباق القهري ولولا عن قصد الامتثال فتدبر.
بقى الكلام فيما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في التداخل وعدمه فنقول: قد عرفت
ان الشك في التداخل وعدمه تارة يكون من جهة احتمال التداخل في الأسباب واحتمال
494

كون المؤثر هو الجامع بينهما المنطبق على أول وجود، وأخرى من جهة احتمال
تأكد الوجوب، كما هو قضية القول بالتفصيل المتقدم، وثالثة من جهة احتمال تصادق
العناوين المتعددة على مجمع واحد. فان كان الأول فلا اشكال في أن مقتضي الأصل هو
جواز الاكتفاء بوجود واحد وعدم وجوب الزائد عن وجود أحد لأصالة البراءة
عن التكليف الزائد، واما على الثاني فقد يقال بان مقتضي الأصل فيه أيضا هو البراءة
عن الزائد لعدم العلم بالتكليف بالنسبة إلى الوجود الثاني بعد احتمال تأكد الوجوب
بالنسبة إلى وجود الأول، ولكن التحقيق خلافه، إذ نقول بأنه انما يرجع إلى البراءة فيما
لو كان الشك في أصل التكليف الزائد، وفى المقام لا يكون كك، حيث إنه يعلم تفصيلا
بتأثير كل شرط في مرتبة من التكليف، وانما الشك في تعلقهما بوجود واحد أو بوجودين، و
بعبارة أخرى يعلم تفصيلا بأنه من قبل كل شرط توجه الزام إلى المكلف، وانما الشك في
تعلقهما بوجود واحد فيلزمه تأكد الوجوب فيه أو بوجودين مستقلين، وفي مثله لا محيص الا
من الاحتياط من جهة انه في الاكتفاء بايجاد واحد يشك في الخروج عن عهدة ذاك
التكليف الناشي من قبل الشرط الثاني، لاحتمال تعلقه بوجود آخر، فلابد حينئذ
من الاحتياط، تحصيلا للقطع بالفراغ عما ثبت الاشتغال به، وهذا بخلافه في الصورة
الأولى حيث إنه بعد احتمال كون التأثير مستندا إلى الجامع المنطبق على أول وجود يشك
في أصل توجه الالزام والتكليف من قبل الشرط الثاني، فيندرج في الأقل والأكثر،
ويرجع فيه إلى البراءة، ومن ذلك البيان ظهر الحال في الصورة الثالثة أيضا فان المرجع فيه
أيضا عند الشك في التداخل من جهة احتمال تصادق العنوانين على الواحد هو الاشتغال
لاغير، كما هو واضح.
الامر الرابع: لا اشكال في أنه تعتبر في مقام اخذ المفهوم مراعاة جميع ما اعتبر في المنطوق
من القيود المأخوذة في الشرط والجزاء في المفهوم أيضا، ومن ذلك يكون المفهوم في مثل قوله:
ان جاء زيد راكبا فأكرمه يوم الجمعة، هو انتفاء هذا الحكم الخاص، وهو وجوب الاكرام
يوم الجمعة عن زيد عند انتفاء الشرط المزبور بما له من القيود، إذ كان المفهوم ان لم يجئ
زيد راكبا فلا تكرمه يوم الجمعة، كما أن المفهوم في قوله: ان جاء زيد زيد فأكرم مجموع
الجماعة، هو انتفاء وجوب اكرام الجماعة من حيث المجموع عند انتفاء المجئ الغير المنافي
لوجوب اكرام بعضهم، وهذا مما لا كلام فيه. وانما الكلام فيما لو كان الجزاء حكما عاما
495

أصوليا ثابتا لافراد الطبيعة بنحو الاستغراق، كقوله: ان جاء زيد فأكرم كل عالم، وقوله
إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شئ، في أن قضية المفهوم هل هو السلب الكلي في الأول
والايجاب الكلي في الثاني، أو هو السلب الجزئي والايجاب الجزئي؟ ومبني الخلاف
في المسألة ان قضية إناطة هذا الحكم العالم وتعليقه بالشرط في قوله: الماء إذا بلغ قدر كر
الخ، هل هو تعليق وإناطة شخصي غير قابل للانحلال إلى تعليقات متعددة بتعدد افراد
النجاسات، أو هو تعليق سنخي منحل إلى تعليقات متعدده؟ حيث إنه على الأول يلزمه
كون المفهوم منه هو الايجاب الجزئي الغير المنافي مع عدم منجسية بعض النجاسات عند
عدم بلوغه كرا، بخلافه على الثاني فإنه يلزمه كون مفهومه بنحو الايجاب الكلي، من جهة
ان لازم انحلال التعليق هو انحلال التعليق هو انحلال القضية الشرطية إلى قضايا متعددة حسب
تعدد النجاسات، ولازمه عقلا هو استخراج مفاهيم متعددة عند عدم بلوغه كرا.
وربما يبتنى الخلاف في المسألة على أن المعلق على الشرط في نحو المثال هو الحكم العام
أو عموم الحكم، بدعوى لزوم كون المفهوم على الأول هو الايجاب الكلي، بخلافه
على الثاني، فإنه لا يكون الا بنحو الايجاب الجزئي، ولكنه كما ترى، إذ نقول: انه على الثاني
من تعليق العمومية وان لم يكن المجال الا للايجاب الجزئي، بلحاظ عدم اقتضائه حينئذ في
طرف المفهوم الا انتفاء هذه العمومية الغير المنافي مع عدم منجسية بعض النجاسات،
الا انه نقول: بأنه على الأول لا يتعين كونه بنحو الايجاب الكلي، بل هو بمقتضي ما بيناه
قابل لإفادة الايجاب الجزئي أيضا، ومع قابليته لذلك في فرض كون المعلق هو الحكم العام
فلا يصح ابتناء الخلاف المزبور على تعليق الحكم العام أو عموم الحكم، بل ولعل التأمل
التام يقتضي أيضا بكون النزاع المزبور في فرض تعليق الحكم العام ولو بملاحظة كونه
مقتضي طبع مثل هذه القضايا من حيث ظهورها في كون المناط هو النسبة الحكمية
في القضية في قوله: أكرم كل عالم، دون حيث العمومية والاستيعاب الذي هو من شؤون
موضوع العام ومن كيفياته القائمة به، حيث إن تعليق هذه الجهة يحتاج إلى نحو عناية زائدة
وتعقل ثانوي بلحاظ نحو العمومية،
وعليه فلابد من لحاظ هذه الجهة في أن إضافة الحكم العام بشرطه في قوله: الماء إذا
بلغ قدر كر الخ، هل هو من قبيل اضافته إلى موضوعه، فكانت بتعليق سنخي حتى يلزمه
انحلاله إلى تعليقات متعددة وقضايا شرطية عديدة حسب تعدد افراد الموضوع، من مثل
496

إذا كان الماء قدر كر لا ينجسه بول، وإذا كان قدر كر لا ينجسه غائط، ولا دم، وهكذا...
فيلزمه استخراج مفاهيم متعددة من كل قضية مفهوما؟ أو بإناطة وتعليق شخصي غير
منحل إلى تعليقات متعددة كي يلزمه كون مفهومه هو انتفاء هذا الحكم، وهو عدم
منجسية كل شئ له، عند عدم بلوغه كرا الغير المنافي مع عدم منجسية بعض
النجاسات؟ وفي مثله لا يبعد ان يقال بالأول، نظرا إلى دعوى ظهور القضية حينئذ في كون
نسبة الحكم المزبور إلى شرطه بعينه على نحو كيفية تعلقه بموضوعه الملازم لكونه بتعليق
سنخي منحل إلى تعليقات متعددة، وعليه وعليه فقهرا تكون النتيجة في طرف المفهوم
بنحو الايجاب الكلي لا الايجاب الجزئي، فتدبر، هذا تمام الكلام فيما فيما يتعلق بمفهوم
الشرط.
مفهوم الغاية
ومن المفاهيم الغاية وقد اختلف كلماتهم في أنه هل التقييد بالغاية يقتضي انتفاء سنخ الحكم
عما بعد الغاية، بل وعن الغاية أيضا بناء على خروجها عن المغني، كي لو ورد دليل على ثبوت
الحكم فيما بعد الغاية يلاحظ بينهما التعارض؟ أو انه لا يقتضي ذلك؟ ولكن الذي يقتضيه
التحقيق هو الأول، وذلك لعين ما ذكرنا في مفهوم الشرط، إذ بعد ما يستفاد
انحصار الحكم بمقتضي الاطلاق الجاري فيه في نحو قوله: أكرم زيدا، بذلك الطلب
الشخصي المنشأ في القضية وعدم ثبوت شخص طلب آخر عند مجئ الليل أو قدوم
الحاج، فقهرا في فرض إناطة تلك النسبة الحكمية في القضية بالغاية، بقوله: أكرم زيدا إلى
الليل أو حتى يقدم الحاج كما هو ظاهر طبع القضية من رجوع الغاية فيها إلى النسبة
الحكمية لا إلى خصوص الموضوع أو المحمول يلزمه ارتفاع سنخ الحكم عند تحقق الغاية،
ولا نعنى من المفهوم الا هذا.
نعم لو كانت الغاية في القضية قيدا للموضوع أو للحكم لكان للمنع عن الدلالة على ارتفاع
سنخ الحكم عما بعد الغاية كمال مجال، وذلك اما على الأول فلما يأتي إن شاء الله تعالى
في الوصف. واما على الثاني فلان مرجعه إلى ثبوت حكم خاص محدود بحد مخصوص من الأول
لزيد، ومن المعلوم بداهة عدم منع ذلك عن ثبوت شخص حكم آخر له بعد انتهاء
497

أمد الحكم الأول، كما هو واضح، ولكن الذي يسهل الخطب هو ظهور القضايا الغائية
كلية في نفسها في رجوع الغاية فيها إلى النسبة الحكمية وان وجوب اكرام زيد في قوله:
أكرم زيدا إلى أن يقدم الحاج، هو المغيى بالغاية التي هي قدوم الحاج، وعليه فلا جرم
تكون القضية دالة على انتفاء سنخ وجوب الاكرام عن زيد عند الغاية، من جهة ان
احتمال ثبوت شخص وجوب آخر له فيما بعد الغاية مما يدفعه قضية الاطلاق المثبت
لانحصاره في ذلك الفرد من الطلب الشخصي، وهو واضح.
بقى الكلام في أن الغاية هل هي داخلة في المغيى أم خارجة عنه؟ حيث إنه
قد اختلف فيه كلماتهم، وربما ينسب الثاني إلى المشهور. وقد يظهر من بعضهم التفصيل
بين الغاية المدلول عليها بحتى ونحوه وبين الغاية المدلول عليها بالي، فالدخول في الأول دون
الثاني، بل ربما يظهر منهم أيضا تخصيص الخلاف بالغاية المدلول عليها بالى ونحوه مع
جعل الغاية في نحو حتى مفروغ الدخول، كما في قولك: اكلت السمكة حتى رأسها.
ولكن التحقيق هو خروجها عن المغيى مطلقا، والوجه فيه ظاهر إذا الغاية للشئ
عبارة عما ينتهى إليه وجود الشئ ولا يتعدى عنه فيستحيل حينئذ دخولها في الشئ.
وبالجملة نقول: بان مفاد الحروف لما كان عبارة عن النسب والارتباطات المتقومة
بالطرفين، فلا جرم في قولك: سرت من البصرة إلى محل كذا، ما هو طرف تلك الإضافة الغائية
المدلول عليها بالى انما كان هو الجزء الأخير من السير الذي هو منتهى وجوده والجزء الأول
من ذلك المحل الذي هو في الحقيقة حد وجوده، وفي مثله من المستحيل دخول الغاية
في المغيى، كما هو واضح.
بقى الكلام في أنه هل يعتبر في المفهوم ان يكون الحكم المعلق بالشرط أو الغاية بنحو
أمكن ثبوته للموضوع عند انتفاء القيد كي يكون قضية اعتباره بنحو السنخ لدفع توهم
ثبوت فرد آخر منه في غير مورد وجود القيد، أو انه لا يعتبر ذلك بل يكفي في المفهوم اعتباره
بنحو السنخ وان لم يمكن ثبوته في غير مورد القيد لمكان انحصاره بفرد خاص، فيكون مثل
قوله (ع) كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام، وكل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر،
من المفهوم المصطلح؟ فيه وجهان، أظهرهما الثاني، ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم
ترتب فائدة على هذا النزاع من جهة انتفاء الحكم على أي تقدير في نحو هذه الموارد عند
498

تحقق الغاية، كان ذلك من باب المفهوم المصطلح أو غيره، وهو واضح.
مفهوم الوصف
ومن المفاهيم مفهوم الوصف حيث اختلف فيه كلماتهم في ثبوت المفهوم وعدمه، والظاهر
هو اختصاص النزاع بالوصف الأخص من موصوفه بحيث كان قابلا للافتراق من طرف
الموصوف، كالعلم والعدالة والفسق ونحو ذلك، دون الوصف المساوي والأعم، كما هو واضح،
وعلى كل حال فالظاهر هو عدم ثبوت المفهوم لنحو هذه القضايا الوصفية بحسب طبعها ما لم
يكن في البين قرينة عليه من حال أو مقال، إذ لا دلالة للقضية بطبعها على كون الحكم المعلق
على الوصف هو السنخ كي يقتضي انتفائه عند انتفاء القيد، بل وانما غايتها الدلالة على
مجرد ثبوت الحكم للمقيد بنحو الطبيعة المهملة الغير المنافي لثبوت فرد آخر مثله في غير
مورد القيد، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في القضايا اللقبية حيث لا فرق بينهما من هذه
الجهة الا من جهة كون الموضوع في القضايا الوصفية عبارة عن امر خاص مقيد بقيد
خاص.
واما ما ذكرنا من قضية الاطلاق في الحكم المثبت لانحصاره في شخص الفرد المنشأ
في الشرط والغاية فغير جار في المقام، من جهة القطع بعدم اطلاقه كك في المقام وفى القضايا
اللقبية، إذ من الممتنع حينئذ اطلاق الحكم في قوله: يجب اكرام زيد أو زيد القائم، بنحو
يشمل جميع افراد وجوب الاكرام حتى الثابت لعمرو، ومع امتناع اطلاقه كك ثبوتا لا مجال
لكشفه اثباتا، وهذا بخلافه في الشرط والغاية، فان اطلاق الحكم فيهما انما هو بحسب
الحالات دون الافراد، فإذا اقتضى قضية الاطلاق في الحكم ثبوت ذلك الحكم الشخصي
للموضوع في جميع الحالات من القيام والقعود والمجئ ونحوه وأنيط ذلك الحكم أيضا
بالشرط أو الغاية، فقهرا يلزمه عقلا انتفائه بانتفاء المنوط به شرطا أو غاية، وهذا بخلافه
في القضايا الوصفية واللقبية، حيث إنه بعد اخذ الوصف قيدا في الموضوع لا مجال للاطلاق
الحالي للحكم، فلابد حينئذ وأن يكون السنخ والاطلاق فيه بلحاظ الافراد، فإذا فرض
حينئذ امتناع اطلاقه من هذه الجهة، فلا جرم لا يبقى مجال لدعوى دلالة القضية الوصفية
على المفهوم والانتفاء عند الانتفاء، بل لابد حينئذ في اثباته من قيام قرينة خارجية عليه.
499

من حال أو مقال تقتضي كونه في مقام التحديد ومقام حصر الحكم، والا فلو كنا نحن
ونفس القضية الوصفية لا يكاد اقتضائها بحسب طبعها الا مجرد ثبوت المحمول للمقيد
بنحو الطبيعة المهملة الغير المنافي لثبوت شخص حكم آخر لذات المقيد عند ارتفاع القيد.
واما توهم ان ذلك مقتضي قضية التقيد بالوصف من جهة ظهوره في دخله في
اختصاص الحكم بمورده والا يلزم لغوية ذكره في القضية، فمدفوع بمنع اللغوية، إذ
فائدته حينئذ تضيق دائرة الموضوع في القضية وبيان انه هو الذات المتقيدة بقيد كذائي،
وحينئذ فإذا فرض عدم كون الحكم المحمول في القضية الا بنحو الطبيعة المهملة فلا يمكن
الحكم بانتفاء الحكم على الاطلاق عند انتفاء القيد وعدم ثبوت شخص حكم آخر مثله
للذات. نعم انما كان لهذا الكلام مجال فيما لو كان القيد والوصف بحسب اللب
من الجهات التعليلية لثبوت الحكم اللذات، ولكنه أيضا خلاف ما تقتضيه القضايا
الوصفية من الظهور في كون الوصف من الجهات التقييدية الراجعة إلى اخذ التقيد بها في
ناحية موضوع الحكم.
لا يقال: انه وان كان الامر كك الا ان إناطة الحكم وتعليقه بالوصف الذي هو امر
عرضي في نحو قوله: أكرم زيد العادل، دون ذات الموصوف ودخل العنوان العرضي في
موضوع الحكم تكشف عن أن ماله الدخل في ترتب الحكم على الذات انما هو ذلك
العنوان العرضي، ولازم ذلك لا محالة هو انتفاء سنخ الحكم المحمول في القضية عند انتفاء
الوصف، والا فلو فرض ثبوت شخص حكم آخر مثله للذات في مورد فقد الوصف يلزمه ان
يكون ماله الدخل في ترتب الحكم هو ذات الموصوف، وفي مثله يلزم لغوية ذكر القيد،
فإنه يقال: بأنه لو تم هذا التقريب فإنما هو في نحو المثال المزبور حيث إنه بعد عدم مناسبة
حكم وجوب الاكرام لعنوان الفسق يتوجه الكلام بأنه لولا دخل الوصف في اختصاص
الحكم بمورده يلزم ان يكون المقتضي لثبوته هو ذات الموصوف، من جهة فرض عدم
مناسبة الحكم بوجوب الاكرام لعنوان فسقه، فيتجه حينئذ دعوى عدم صحة الاستناد إلى
العنوان العرضي، كما هو الشأن أيضا في آية النبأ حيث أمكن بالتقريب المزبور استفادة
المفهوم من جهة الوصف نظرا إلى ما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع من اختصاص
وجوب التبين بالنبأ المضاف إلى الفاسق وعدم ملائمته مع عدالة الراوي، لا مطلقا حتى
فيما لا يكون كك مما كان الوصف من قبيل القيام والقعود ونحوهما كما في قوله: أكرم زيدا
500

القائم أو القاعد، فإنه في أمثال ذلك لا يكاد مجال للتقريب المزبور لاستفادة المفهوم، كما
هو واضح.
مفهوم الاستثناء
ومن المفاهيم مفهوم الاستثناء فيما لو استثنى بالا ونحوها، كقوله: أكرم القول الا زيدا وجائني
القوم الا زيدا، ولا ينبغي الاشكال في دلالته على انحصار سنخ الحكم الثابت في القضية بالمستثنى منه
وخروج المستثنى من ذلك، ومن ذلك اشتهر بينهم بان الاستثناء من النفي اثبات ومن
الاثبات نفى، حتى أنه من شدة وضوحه اشتبه على بعض فتوهم ان الدلالة المزبورة
كانت من جهة المنطوق، ولكنه فاسد قطعا، من جهة ان القدر الذي يتكفله القضية
المنطوقية انما هو مجرد اثبات الحكم سلبا أو ايجابا للمستثنى منه، واما اثبات نقيض ذلك
الحكم الثابت للمستثنى فهو انما يكون بالمفهوم، من جهة كونه من لوازم انحصار سنخ
الحكم بالمستثنى منه. وعلى كل حال فلا اشكال في دلالة القضية على خروج المستثنى
عن حكم المستثنى منه. ومن ذلك لو ورد دليل في القبال على اثبات الحكم للمستثنى يقع
بينهما التعارض، كما في قوله: أكرم القوم الا زيدا مع قوله: أكرم زيدا. وحينئذ فلا
يصغى لما حكى عن أبي حنيفة من منع الدلالة محتجا بمثل قوله: لا صلاة الا بطهور، من
دعوى لزوم صدق الصلاة على الواجد للطهور ولو كان فاقدا لبقية شرائطها من الستر والقبلة
ونحوهما، مع أنه يمكن ان يقال: بان الملحوظ في هذا التركيب انما هو الصلاة الواجدة
لجميع ما اعتبر فيها من الاجزاء والشرائط عدا الطهور، وقضية ذلك في طرف المفهوم هو
تحقق حقيقة الصلاة الواجدة لجميع ما اعتبر فيها في مورد تحقق الطهور، فلا اشكال حينئذ
في البين.
بقى شئ تعرض له في الكفاية (1) وغيرها، وهو الاشكال المعروف في كلمة التوحيد،
وحاصله ان خبر (لا) في قول (لا إله إلا الله) اما ان يقدر ممكن واما ان يقدر موجود،
وعلى أي تقدير لا دلالة لها على التوحيد، فإنها على الأول لا تدل على وجوده سبحانه من

(1) ج 1 ص 327.
501

جهة أعمية الامكان، وعلى الثاني لا تنفى امكان غيره سبحانه، ولكنه مندفع بان المراد
من (اله) في قول (لا إله إلا الله) بعد أن كان الواجب الذي يجب وجوده بذاته
فلا جرم يتم دلالتها على المطلوب وهو التوحيد على كل تقدير، اما في فرض تقدير ممكن
فظاهر نظرا إلى الملازمة العقلية بين امكانه ووجوده سبحانه، واما في فرض تقدير موجود
فكك أيضا من جهة دلالتها أيضا بالملازمة العقلية على نفى غيره ولو امكانا، لان امكان
غير مساوق لوجوب وجوده، فعدم وجود غيره سبحانه دليل عدم امكانه، كما هو واضح.
مفهوم الحصر
ومن المفاهيم مفهوم الحصر فيما جئ بأنما ونحوه من أداة الحصر، كقوله: انما زيد قائم
وانما يجب اكرام زيد، ولا اشكال في دلالتها على المفهوم من جهة اقتضائها حصر سنخ الحكم
المحمول في القضية بالموضوع.
ومثل ذلك في الدلالة على المفهوم كلمة بل الاضرابية فيما جئ للاعراض عن حكم
ما سبق لا غلطا أو سهوا، إذ يستفاد منها اختصاص سنخ الحكم بما يتلوها.
واما تعريف المسند كقوله: زيد الصديق، وتقديم ما حقه التأخير كقوله: الصديق
زيد والعالم زيد، فقد يقال بدلالته أيضا على المفهوم كما عن جماعة نظرا إلى دعوى
ظهوره في الحصر، ولكن الظاهر هو اختلافه بحسب الموارد من حيث الدلالة على الحصر في
مورد وعدم دلالته في الآخر، خصوصا الأول من جهة امكان ان يكون التعريف للعهد،
فلابد حينئذ في استفادة الحصر من ملاحظة الموارد والمقامات الخاصة، فان كان هناك
قرينة على ذلك من حال أو مقال أو غيرهما فهو، والا فلا.
مفهوم اللقب
ومن المفاهيم مفهوم اللقب، والحق فيه عدم المفهوم، لما تقدم وجهه سابقا بان غاية ما يقتضيه
تلك القضايا انما هو مجرد اثبات المحمول بنحو الطبيعة المهملة للموضوع، فيحتاج حينئذ في
استفادة المفهوم إلى قيام قرينة على كون المتكلم في مقام التحديد والحصر في قوله: أكرم زيدا.
502

مفهوم العدد
ومن المفاهيم مفهوم العدد، والحق فيه أيضا عدم الدلالة على المفهوم، الا إذا أحرز من
الخارج ان المتكلم كان في مقام التحديد، وحيث انه لم يكن في البين قرينة نوعية عامة على ذلك
فلا جرم يحتاج في استفادة المفهوم إلى القرائن الخاصة، فلابد حينئذ من لحاظ الموارد الخاصة
والمقامات المخصوصة المقتضية لذلك، هذا تمام الكلام في المفهوم والمنطوق.
503

المقصد الرابع في العموم والخصوص
وفيه جهات من البحث:
الجهة الأولى
لا يخفى عليك ان العموم والخصوص كالاطلاق والتقييد انما كان من
صفات المعنى ومن العوارض الطارية عليه وان اتصاف اللفظ بهما انما كان بتبع المعنى، من
جهة ما كان بينهما من العلاقة والارتباط الخاص. ثم إن حقيقة العموم عبارة عن الإحاطة
والاستيعاب للافراد بنحو العرضية أو البدلية، لكن لا مفهوم الإحاطة بل ما هو واقع
الإحاطة ومصداقها الذي هو منشأ انتزاع هذا المفهوم الذي هو في الحقيقة معنى حرفي.
واما الاشكال عليه حينئذ بلزوم عدم جواز اجراء احكام الاسم على الألفاظ الموضوعة
للعموم كلفظ كل وجميع ومجموع ونحوها، من الاخبار عنها وبها ونحوهما من الاحكام
المختصة بالأسماء، مع أنه لا يكون الامر كك قطعا، حيث نرى صحة اجراء الاحكام
المزبورة عليها بالاخبار عنها وبها وجعلها فاعلا ومفعولا ونحو ذلك فمدفوع، فإنه انما يتجه
الاشكال المزبور فيما لو كان المدلول المطابقي للفظ كل وتمام وجميع هو نفس الإحاطة
والاستيعاب، ولكنه ليس كك، بل نقول بان مدلولها المطابقي عبارة عن معنى اسمى
يلزمها الإحاطة والاستيعاب والشمول، وهو مقدار كم المدخول وتحدده بأعلى المراتب
الذي لازمه الاستيعاب. فالمدلول في لفظ كل وتمام وجميع من قبيل مداليل الأسامي
الموضوعة للكميات والمقادير، نظير باقي الكسور كالنصف والربع والثلث، فكان لفظ
الكل مثلا يبين مقدار كم المدخول بكونه أعلى المراتب في قبال البعض المحدد لدائرته
بالبعض، ولازم ذلك، كما عرفت، عقلا هو الإحاطة والاستيعاب لجميع الافراد المندرجة
504

تحته. وحينئذ فصحة اجراء احكام الأسماء عليها انما هو من جهة ما ذكرنا، لا من جهة
ان المدلول فيها هو مفهوم الإحاطة والشمول أو مصداقها، كي يتوجه عليه على الأول بلزوم
الترادف بين لفظ الكل ولفظ الإحاطة، وعلى الثاني بلزوم عدم جواز اجراء احكام
الأسماء عليها، كما هو واضح.
وعلى كل حال فلا ينبغي الارتياب في أن حقيقة العموم - وهو الإحاطة والاستيعاب
للافراد بنفسها من المعاني الواقعية التي لا تحتاج في تصورها إلى تحقق شئ آخر
من الجهات الخارجة عن هذا المعنى من حكم أو مصلحة أو غير ذلك، بل لو لم تكن تلك
الجهات الخارجية أيضا كان المجال لتصور هذا المعنى وهو الإحاطة والشمول للافراد، ومن
هذه الجهة نقول أيضا بعدم اقتضاء مجرد الاستيعاب للافراد والإحاطة والشمول لشئ
من الاستغراقية والمجموعية، وان مثل هذين الامرين انما هو من الاعتباريات الطارية
على العموم بنحو العرضية المقابل للبدلية بملاحظة امر خارجي في البين من مثل الحكم
والمصلحة، وان الاستغراقية انما هي بملاحظة كون الملحوظ بنحو الاستيعاب متعلقا لاحكام
متعددة ومصالح كك حسب تعدد الافراد، في قبال المجموعية التي هي أيضا بملاحظة كون
الملحوظ بنحو الاستيعاب متعلقا لحكم واحد شخصي غير قابل للانحلال ومصلحة كك،
ففي الحقيقة اعتبار المجموعية والاستغراقية انما هو بلحاظ كيفية تعلق الحكم بالعموم، والا
فمع قطع النظر عن ذلك لا يكاد يكون الفرق بينهما في عالم المفهوم ومقام تصوره أصلا
ولقد أجاد في الكفاية (1) حيث فرق بين نحوي العموم من جهة كيفية تعلق الحكم
بالعموم، وجعل التقسيم بالاستغراقي والمجموعي بلحاظ كيفية تعلق الحكم بالعموم من
كونه تارة بنحو يكون كل فرد موضوعا على حدة للحكم، وأخرى بنحو يكون الجميع
موضوعا لحكم واحد مع كون العموم فيهما بمعنى واحد وهو إحاطة المفهوم بجميع ما يصلح
لان ينطبق عليه.
نعم ما افاده (قدس سره) من الحاق العام البدلي أيضا بهما في كونه أيضا من جهة
كيفية تعلق الحكم بالعموم، غير وجيه، فان الظاهر هو ان الفرق بين البدلي وبين
الاستغراقي والمجموعي من جهة كيفية العموم ولحاظه تارة بنحو الاستيعاب للافراد

(1) ج 1 ص 232.
505

بنحو العرضية وأخرى بنحو البدلية، لامن جهة كيفية الحكم كما في الاستغراقي والمجموعي،
كما أفيد، حيث إنه فيهما انما يلاحظ سير الطبيعي وشموله للافراد بنحو العرضية في مقام
التطبيق، بحيث لو عبر عنها تفصيلا لكان يعطف بعضها على بعض بقوله هذا وذاك
وذاك الآخر. بخلافه في العام البدلي، فإنه فيه أيضا وان كان يرى في مقام اللحاظ
سريان الطبيعي وشموله للافراد، الا انه لا بنحو العرضية بل على نحو البدلية، كقولك: رجل
أي رجل، في قبال قولك: كل الرجال وجميع الرجال، ومن ذلك لو عبر عنه تفصيلا لكان
ذلك بمثل قوله: هذا أو ذاك، وعلى ذلك فنفس العام البدلي أيضا قبال الاستيعاب
بنحو العرضية من المعاني الواقعية الغير المحتاجة إلى تحقق امر خارجي من حكم أو مصلحة،
بل لو لم يكن حكم أيضا كان له الواقعية. وعليه فتقابل العموم البدلي مع ذين العمومين
وهما الاستغراقي والمجموعي انما هو بلحاظ تقابل مقسمها معه، لا بلحاظ تقابل كل واحد
منهما، حتى يكون ما به الامتياز فيه أيضا من سنخ ما به الامتياز فيهما، كما لا يخفى.
ومما ذكرنا انقدح أيضا فساد ما أفيد كما عن بعض الاعلام فيما حكى عنه من أن
اطلاق العموم على العام البدلي انما هو باب المسامحة، والا فلا يكون ذلك بعام حقيقة،
حيث لا يكون متعلق الحكم فيه الا واحدا وان العمومية فيه انما هي في البدلية، وتوضيح
الفساد هو ان البدلية في مثل هذا العام انما كان في مقام التطبيق، والا ففي عالم العموم
والشمول كانت الافراد بأجمعها تحت اللحاظ في عرض واحد، كما هو مفاد قولك: جئني
برجل أي رجل، حيث إن لفظة أي تدل على استيعاب جميع الافراد عرضا، غايته على نحو
يكون التطبيق فيه تبادليا لا عرضيا، كما في العام الاستغراقي والمجموعي، ومن المعلوم ان
مجرد كون التطبيق فيه تبادليا لا عرضيا لا يقتضي خروجه عن العمومية والاستيعاب
لجميع الافراد. كما لا يخفى.
وعلى كل حال فلا ريب في عدم ارتباط أسامي العدد من مثل العشرة ونحوها بالعموم
والشمول، بل مثل هذه المعاني انما هي من الاعتباريات الطارية على مداليل الاعداد وان
أسامي العدد من هذه الجهة نظير الطبايع الصرفة في كونها مركز طرو هذه الاعتبارات
ومورد هذه الأطوار، غير أن الفرق بينها وبين الطبايع هو ان نسبة الطبايع إلى الآحاد
المعروضة للعموم في دائرتها في نحو قوله: أكرم كل عالم من قبيل نسبة الكلي إلى الفرد،
بخلافه في أسامي الاعداد فإنها لكونها عبارة عن مراتب الكم المنفصل للشئ يكون
506

نسبتها إلى الآحاد المندرجة فيها المعروضة لهذه الطواري في مثل قولك: كل العشرة، من
قبيل نسبة الكل إلى الجزء دون الكلي والفرد نعم انما يكون فيما لو كان نظر العموم فيها إلى
مصاديق العشرة الراجع إلى إفادة كل عشرة عشرة، حيث إن نسبتها حينئذ إلى المصاديق
كانت من قبيل نسبة الكلي إلى الفرد، من جهة انها بهذا الاعتبار كأحد الطبايع الصادقة
على القليل والكثير، فكان طروا لعموم عليها حينئذ بعين طروه على الطبايع.
ومن ذلك البيان ظهر الكلام في التثنية والجمع أيضا، حيث إن مدلوليهما عبارة عن
مرتبة خاصة من الكم القائم بالطبيعي اما بتحديد حديها كما في التثنية وجمع القلة، أو
بتحديد حدها الأقل كما في جمع الكثرة، فكانت كأسامي الاعداد في نسبتها إلى الآحاد
المندرجة فيها المعروضة للعموم والخصوص، وفي مركزيتها لطرو هذه الطواري، حيث
كانت قابلة لطرو الخصوص والعموم عليها بنحو المجموعية والاستغراقية والبدلية، من غير
فرق في ذلك بين التثنية والجمع.
نعم الفرق بينهما انما هو من جهة أخرى وهي ان التثنية لما كان لا ابهام فيها في مرتبة
كمها ففي طرو العموم عليها في مثل أكرم كلا من الرجلين أو جميع الرجلين لا يحتاج إلى
تعين آخر في مدلولهما. بخلافه في طروه على الجمع فإنه بملاحظة ما فيه من الابهام بين
مراتب الجمع المختلفة آحادها لابد من اعتبار تعين بين هذه المراتب حتى يقتضي العموم
الاستيعاب في الآحاد المندرجة تحتها، ومن ذلك نحتاج في فرض كون نظر العموم إلى
الآحاد المندرجة تحت مصاديق الجمع لا إلى نفس مصاديق الجمع إلى الحمل ولو بقرينة
الحكمة على الفرد الاعلى من افراد الجمع والمرتبة القصوى من مراتبه، من جهة ان هذه
المرتبة مما لها نحو تعين بالذات بخلاف بقية المراتب الاخر، ولازم ذلك اقتضاء العموم
الاستيعاب في الآحاد المندرجة تحت أقصى الافراد وأعلى المراتب لا الآحاد المندرجة
تحت بقية المراتب، من جهة ان قرينة الحكمة انما تقتضي الحمل على ما لاحد فيها من
مراتب الكم، ولا يكون ذلك الا على المصاديق وأقصى المراتب، من دون ان يكون ذلك
أيضا من باب انسلاخ الجمع عن مدلوله ومعناه، بل من باب إرادة العموم بالنسبة إلى
الآحاد المندرجة تحت الفرد الاعلى من افراد الجمع وأقصى مراتبه، هذا كله إذا كان
العموم ناظرا إلى الآحاد المندرجة تحت مصاديق الجمع، واما لو كان العموم ناظرا إلى
نفس مصاديق الجمع لا إلى الآحاد المندرجة تحتها، كما في قوله: أكرم كل جماعة، الناظر
507

إلى كل جماعة جماعة، فان أريد من المصاديق ما هو القابل للتكرر بنحو لا يلزم التداخل
في الحكم يؤخذ بأقل الافراد القابل للتكرر في جميع الدوائر، فيحمل قوله: أكرم كل
جماعة، على كل ثلاثة ثلاثة منها من جهة ان هذا المعنى مما له نحو تعين بالذات، بخلاف
بقية المصاديق كالأربعة والخمسة والستة وما فوقها، فإنها أيضا وان كانت قابلة للتكرر
الا انه لا تعين في واحد منها حتى يحمل عليها، بخلاف أقل الافراد من الجمع وهو الثلاثة
فان له نحو تعين بالذات، واما ان أريد من المصاديق ما هو القابل للتداخل في الحكم أيضا
ففي مثله يؤخذ بجميع المراتب من الثلاثة والأربعة والخمسة وما فوقها، ويحكم بالتداخل
في الحكم.
ومن هذه الجهة ظهر جهة فرق آخر بين التثنية والجمع، حيث إنه في التثنية لا
يتصور العموم باعتبار الوجه الأخير، بل العموم المتصور فيها كما في أسامي الاعداد
يتصور بأحد الوجهين الأولين من الوجوه الثلاثة المتصورة في الجمع، بخلاف الجمع، فان
العموم فيه باعتبار كون مفهومه معنى تشكيكيا محفوظا بين جميع المراتب من الأقل والأكثر
يتصور على وجوه ثلاثة: من حيث كون العموم تارة ناظرا إلى الآحاد المندرجة تحت
مصاديق الجمع، وأخرى إلى نفس مصاديق الجمع، مع كونه على الثاني تارة بإرادته
من المصداق ما هو القابل للتكرر كي لا يلزم التداخل، وأخرى بإرادته من المصداق ما
هو القابل للتداخل والتأكد في الحكم، وان كان مثل هذا الفرض بعيدا في نفسه بل غير
واقع من جهة بعده عن أذهان العرف وأهل اللسان.
ثم إن هذا كله فيما لو أحرز كون نظر العموم إلى الآحاد المندرجة تحت المصاديق، أو
إلى نفس مصاديق الجمع، واما ان لم يحرز كون العموم بلحاظ المصاديق، فيحمل على
إرادة العموم بلحاظ الآحاد المندرجة تحتها، ويدفع احتمال كونه بلحاظ نفس المصاديق،
بشمول اطلاق الجمع لصورة انحصار افراده بأقلها وهو الثلاثة، من جهة ان شمول اطلاقه
لصورة انحصار الافراد والآحاد بالثلاثة ينافي لا محالة مع احتمال كون العموم بلحاظ نفس
المصاديق، حيث إنه لا يبقى مجال للعموم الا بلحاظ المندرجة تحت
المصاديق، غاية الامر بما ذكرنا يحمل على أقصى الافراد وأعلى المراتب أقل كانت أم
أكثر من جهة تعينه بالذات، كما هو واضح.
508

الجهة الثانية
لا شبهة في أن للعام صيغة تخصه، كلفظ كل وتمام وجميع وأي وما يرادفها في أي لغة
ك‍ (همه) و (هر) بالفارسية. وذلك للتبادر حيث إن من الواضح تبادر العموم
والاستيعاب منها. وكون التخصيص شايعا حتى قيل بأنه ما من عام الا وقد خص
لا يستلزم الوضع للخصوص أو القدر المشترك بينهما كما لا يخفى. بل ولئن تأملت ترى بان
نفس الاحتياج إلى التخصيص في قولك: كل عالم، قرينة وضعها للعموم وانها بحيث
يستفاد منها الاستيعاب والشمول لولا التخصيص، وعليه فلا يصغى إلى ما قيل
من الوضع للخصوص في الألفاظ المدعى كونها موضوعة للعموم، حيث إن في وضوح
المسألة غنى وكفاية عن إقامة البرهان على العموم وابطال ما أقيم على كونها للخصوص، و
حينئذ فلا اشكال من هذه الجهة ولا كلام.
وانما الكلام في أن قضية هذه الأداة المدعي دلالتها على العموم وضعا كلفظ كل
وتمام وجميع هل هو الاستيعاب والشمول لجميع ما يصلح انطباق المدخول عليه
من الافراد، أم لا، بل كان قضية عمومها تابعا لما يراد من المدخول فيها من حيث الاطلاق
والتقييد ونحوهما؟ قال في الكفاية ما محصله: ان دلالة لفظ كل ونحوه على العموم وان
كانت بالوضع لكن دائرة شمول العام بالنسبة إلى قلة الافراد وكثرته تابعة لما يراد
من المدخول من حيث الاطلاق والتقييد، فإذا كان المدخول مأخوذا بنحو الاطلاق
والسريان فالشمول والعموم كان بلحاظ افراد المطلق، كما أنه لو كان المدخول مقيدا
ببعض القيود كما لو أراد من العالم في قوله: أكرم كل عالم، العالم العادل أو العالم النجفي
فلا جرم يكون العموم بالنسبة إلى الافراد في دائرة المقيد لا المطلق، فعلى كل حال ما
هو المدلول للفظ كل ونحوه من الألفاظ العموم انما هو الاستيعاب والشمول في دائرة ما يراد
من المدخول، وعلى ذلك ففي مثل قوله: أكرم كل عالم، فلابد في الحكم بالاستيعاب
بالنسبة إلى جميع ما يصلح انطباق المدخول عليه من الافراد بناء على مسلك السلطان
من الوضع للطبيعة المهملة القابلة للاطلاق والتقييد من احراز كون المراد من المدخول
هو الطبيعة بنحو الاطلاق والارسال، ولو كان ذلك من جهة قرينة الحكمة، والا فمع عدم
احراز هذه الجهة واحتمال كون المراد من المدخول وهو العالم الطبيعة المقيدة لا يبقى مجال
509

الحكم بالاستيعاب بالنسبة إلى جميع ما ينطبق عليه المدخول من الافراد، بل ربما كان
اللازم حينئذ الاخذ بالقدر المتيقن وهو الاستيعاب بالنسبة إلى آحاد المقيد لا المطلق، هذا.
ولكن لا يخفى عليك ان المدخول في مثل قوله: كل عالم، وان لم يدل على مسلك
السلطان الا على الطبيعة المهملة، فيحتاج استفادة الارسال والاطلاق منه إلى قرينة
الحكمة، الا انه بعد دلالة الكل بالوضع حسب الفرض على الإحاطة والاستيعاب
في الافراد ربما يستغنى به عن مقدمات الحكمة من جهة قيامه حينئذ مقامها، حيث إنه
بوروده على مفهوم العالم في قوله: أكرم كل عالم، يثبت به ما يفي به مقدمات الحكمة
من الاستيعاب لجميع ما يصلح انطباق المدخول عليه من الافراد، من دون احتياج معه
إلى جهة زائدة من قرينة الحكمة أو غيرها،
نعم ما أفيد من الاحتياج إلى الحكمة انما يتم بالنسبة إلى النكرة الواقعة في حيز النهى
أو النفي، نظرا إلى عدم كون مفاد النفي في مثل قوله: لا رجل في الدار، الا سلب النسبة،
وعدم كون مفاد المدخول أيضا على مسلك السلطان الا الطبيعة المهملة، ولا مفاد الهيأة
التركيبية الا ايقاع النسبة بين الموضوع والمحمول، فيحتاج استفادة العموم حينئذ منه إلى
قرينة الحكمة في المدخول لاثبات ان المدخول بنحو الارسال والاطلاق كان موردا للنفي.
وهكذا الكلام في الجمع المحلى باللام كقوله: أكرم العلماء، حيث إن استفادة العموم
بالنسبة إلى جميع الافراد في مثله منوطة بقرينة الحكمة، من جهة ان القدر المستفاد من
الهيأة العارضة على المادة، وهي هيأة الجمع، انما هو تقييد الطبيعي بما فوق الاثنين، واما انه
أي مرتبة من مراتب الجمع وانه الأربعة أو الخمسة أو العشرة أو العشرون أو غير ذلك من
مراتب الجمع فيحتاج تعينها إلى قرينة، ولو كانت هي مقدمات الحكمة، فيرفع بها ما فيه
من الابهام بالنسبة إلى تلك المراتب المختلفة آحادها، وتعينه بأعلى المراتب وأقصاها التي لا
تكون فوقها مرتبة، وهذا بخلافه عند ورود لفظ الكل على الجمع كقوله: أكرم كل العلماء
أو جميع العلماء، حيث إنه بلفظ الكل أو الجميع يستغنى عن مقدمات الحكمة من جهة
وفائه بما تفي به مقدمات الحكمة.
ومن ذلك البيان ظهر الحال في المفرد المحلي باللام حيث إن استفادة العموم منه لابد وأن تكون
بقرينة تقتضي كون المدخول فيه بنحو السريان في
ضمن الافراد، والا فمع قطع النظر عن القرينة الخارجية لا يكاد يصح استفادة العموم
510

والسريان منه، من جهة ان اللام فيه لا تقتضي حسب وضعها الا الإشارة إلى المدخول،
واما كونه بنحو السريان في ضمن الافراد فلا، كما هو واضح.
ثم إن الظاهر هو اختلاف الألفاظ الحاكية وعدم كونها على وزان واحد من حيث
حكاية بعضها عن نفس العموم والاستيعاب المحفوظ في رتبة الذات السابقة عن الحكم
كما في لفظ العام بل ولفظ الكل بشهادة صحة استعمالها في مورد العموم الاستغراقي
والمجموعي بلا عناية أصلا، وحكاية بعضها عن الاستيعاب للافراد بملاحظة تعلق الحكم
بها كما (في الجميع) الحاكي عن خصوصية الاستغراقية قبال (المجموع) الحاكي عن
خصوصية المجموعية، حيث إن مثل هذه الألفاظ كانت حاكية عن خصوصية الموضوعية
المتأخرة رتبة عن الحكم وعن كيفية تعلق الحكم بالافراد، نعم لا يبعد دعوى ظهور لفظ
الكل أيضا في الحكاية عن خصوصية الاستغراقية مضافا إلى حكايتها عن نفس العموم
والاستيعاب المحفوظ في رتبة الذات السابقة عن الحكم، حيث يستفاد من قوله: أكرم كل
عالم، استقلال كل واحد من الافراد في الموضوعية لحكم مستقل. واما أي فهو كما
عرفت في قبال هذه الألفاظ يحكى عن العموم البدلي المحفوظ في مرتبة الذات السابقة
عن الحكم.
ثم إن الكل يدخل على الفرد والجمع المنكرين والمعرفين كما في قولك: كل رجل
وكل الرجل وكل رجال وكل الرجال، فيفيد الاستغراق بحسب الافراد عند دخوله
على المفرد والجمع المنكرين، والاستغراق بحسب المرتبة في دخوله على المفرد والجمع
المعرفين كقوله: كل العالم وكل العلماء، ففي الأول يتحدد دائرة المدخول وهو الطبيعي من
بين المراتب، ويخرجه عما كان له من الابهام في المراتب، ويعينه بأعلى المراتب التي لازمها
الشمول لجميع الآحاد المندرجة تحتها، كما كان ذلك أيضا على الثاني، حيث إنه على
ما عرفت يخرجه عما له من الابهام في المراتب ويعينه بأعلى مراتب الجمع وأقصى المصاديق
التي لها التعين بالذات وتفيدها قرينة الحكمة، ولازمه هو الشمول لجميع الآحاد المندرجة
تحت المرتبة العليا.
واما الجميع والمجموع والتمام فهي انما تدخل على المفرد والجمع المحلى باللام ولا تدخل
على غير المحلي باللام مفردا أو جمعا، حيث لا يقال: جميع رجل وجميع رجال ولا مجموع
رجل ومجموع رجال ولا تمام رجل وتمام رجال، بل وانما يقال ذلك في هذه الألفاظ
511

مع اللام وهو واضح.
الجهة الثالثة
قد اختلف كلماتهم في حجية العام المخصص في الزائد عن المقدار المعلوم
من التخصيص وعدم حجيته، وتوضيح المقال يستدعى بيان اقسام صور التخصيص لكي
يعلم ما هو محل الكلام وانه في أي قسم من اقسام فنقول:
اعلم أن صور التخصيص على أنحاء، من جهة ان المخصص اما ان يكون متصلا أو
منفصلا، وعلى التقديرين تارة يكون مبينا بحسب المفهوم والمصداق كليهما، وأخرى مجملا
بحسب المفهوم، وثالثة يكون مبينا بحسب المفهوم دون المصداق، ورابعة بعكس ذلك.
ثم انه على تقدير الاجمال تارة يكون اجماله وتردده بين الأقل والأكثر، وأخرى بين
المتبائنين، ثم المخصص أيضا تارة يكون لفظيا وأخرى لبيا، فهذه اقسام صور التخصيص
وأنحائه. وبعد ذلك نقول:
أما إذا كان المخصص متصلا وكان مبينا بحسب المفهوم والمصداق أيضا كقوله:
أكرم جميعا العلماء أو كل عالم الا زيدا، فلا ينبغي الاشكال في حجية العام وجواز التمسك
به في البقية، وذلك اما على القول بوضع هذه الأسامي لاستيعاب افراد ما يراد
من المدخول فظاهر، فإنه عليه لا يلزم المجازية أيضا في العموم بمقتضي التخصيص، حتى
يقال بتردد الامر في المجازين بقية المراتب ولا تعين لمرتبة خاصة منها واما على القول
الآخر من وضعها لاستيعاب المدخول لجميع ما يصلح للانطباق عليه
من الافراد فكك أيضا، من جهة ان قضية التخصيص بالمتصل حينئذ وان كان
هو الكاسرية لظهوره في الاستيعاب في جميع المراتب، فلا يكون له ظهور معه مع الاستيعاب
لجميع ما ينطبق عليه المدخول من الافراد، ولكن نقول ببقاء ظهوره حينئذ على حاله
بالنسبة إلى بقية المراتب الاخر، من جهة ان الخاص انما يمنع عن ظهور العام حينئذ بمقدار
اقتضائه، وهو لا يكون الا المرتبة العالية، واما غيرها من بقية المراتب فتبقى على حالها
من الظهور الذي يقتضيه العام. ولا نعنى بذلك ان هناك ظهورات متعددة بحسب المراتب،
حتى يشكل بأنه كيف ذلك مع أنه لا يكون للفظ واحد الا ظهور واحد وإرائة واحدة،
512

ومع ارتفاعه بمقتضي احتفافه بالقرينة لا يبقى له ظهور آخر في بقية المراتب، بل وانما
المقصود هو ان هذه الدلالة والظهور في استيعاب الافراد له مراتب عديدة وحدود كثيرة
حسب التحليل العقلي ومن دون مدخلية لجهة الانضمام فيها، وان القدر الذي يقتضيه
القرينة المتصلة من الكاسرية لظهوره انما هو كسر صولة ظهوره بالنسبة إلى تلك المرتبة
العالية لا مطلقا حتى بالنسبة إلى بقية المراتب الاخر المندكة في ضمنها. ومن المعلوم
حينئذ انه بعد عدم مدخلية حيثية الانضمام في إرائته عن المراتب الاخر يتعين بقية المراتب
الاخر بمقتضي ظهوره الوضعي أو الاطلاقي، فهو نظير الخط الطويل الذي قطع منه قطعة
من حيث بقاء البقية بعد على حالها، على ما كانت عليها قبل قطع تلك القطعة، وان كان
قد تبدل حده بحد آخر أقصر من الحد الأول، ونظيره المرآة التي وضعت لإرائة جماعة فوجد
حائل في البين يمنع عن ارائتها لبعض منها، من حيث بقاء ارائتها على حالها بالنسبة إلى
البقية، ففي المقام أيضا كك، حيث إن لفظ الكل مثلا بمقتضي وضعه كان له الظهور
في الاستيعاب بالنسبة إلى كل مرتبة مرتبة ولو في ضمن المرتبة العالية، وبعد انعدام ظهوره
في المرتبة العالية بمقتضي القرينة المتصلة يتحدد ظهوره بمرتبة أخرى دون تلك المرتبة، لا انه
ينعدم ظهوره من رأس حتى بالنسبة إلى بقية المراتب أيضا، وعليه فبعد بقاء ظهوره في بقية
المراتب فلا مانع من التمسك بأصالة العموم في البقية فيما شك فيه في الخروج زائدا عن المقدار
المتيقن، من دون احتياج حينئذ إلى اثبات تعين الباقي من باب أقرب المجازات، حتى
يشكل بان المدار في الأقربية إلى المعنى الحقيقي ليس هو الأقربية بحسب الكم والمقدار وانما
هو بحسب زيادة الانس، والا إلى اثباته أيضا من جهة اقتضاء عقد الاستثناء لذلك كما
ادعى من دعوى ان الاستثناء، كما تكون قرينة صارفة عن إرادة المعنى الحقيقي، كك
تكون قرينة معينة لتعين ما دون المرتبة العالية من بين المراتب، فان ذلك أيضا مبني
على الالتزام بانعدام أصل الظهور بمجرد قيام القرينة المتصلة على العدم بالنسبة إلى المرتبة
العالية، وهو كما ترى مما لا وجه له.
ثم انه بعد ما عرفت من ظهور العام، بعد التخصيص بالمتصل، في البقية فلا يهمنا
البحث في أن استعمال العام حينئذ هل كان من معناه الحقيقي وهو الشمول لتمام افراد
المدخول أم لا؟ وان أمكن أيضا دعوى كونه على نحو الحقيقة، بالفرق بين الإرادة الجدية
والإرادة الاستعمالية، بتقريب كونه مستعملا أيضا حينئذ في معناه الحقيقي، وهو الشمول
513

لتمام افراد المدخول، ولكنه في مقام الجد أريد منه ما عدا الفرد الخارج، ولكن الذي يسهل
الخطب هو عدم الطريق لاثبات هذه الجهة، كعدم الطريق أيضا لاثبات المجازية.
واما أصالة الحقيقة فهي أيضا غير جارية، لعدم ترتب اثر عملي عليها بعد العلم بعدم كون
المراد الجدي هو المعنى، كما هو واضح. هذا كله فيما لو كان المخصص متصلا وكان مبينا
بحسب المفهوم والمصداق كليهما.
واما لو كان مجملا بحسب المفهوم أو المصداق كقوله: أكرم العلماء الا الفساق منهم،
وتردد الفاسق من جهة الشبهة في المفهوم بين المرتكب للكبائر أو عمومه لمرتكب الصغائر
أيضا، أو من جهة الشبهة في المصداق بان تردد مصاديق الفاسق المبين المفهوم مثلا
بين الخمسة والعشرة، فلا ينبغي الاشكال فيه أيضا في سقوط العام عن الحجية وعدم
جواز التمسك به في المشتبه مفهوما أو مصداقا، من دون فرق في ذلك بين ان يكون التردد
والاجمال بين الأقل والأكثر كما في المثال المزبور، أو بين المتبائنين كما في قوله: أكرم كل
عالم الا زيدا، مع تردد الخارج من جهة الشبهة في المفهوم بين زيد بن عمرو بين زيد بن
بكر، أو من جهة الشبهة في المصداق بين كونه هذا الشخص أو ذاك الشخص الآخر ولو
مع تبين المفهوم فيه، كما لو علم بان الخارج هو زيد بن عمرو ولكنه تردد بين كونه
هذا الشخص أو ذاك الآخر، حيث إنه في جميع هذه الصور لا مجال للتمسك بالعام
في المشتبه. وعمدة الوجه في ذلك انما هو من جهة سراية اجمال المخصص حينئذ إلى عموم
العام، حيث إنه باتصاله به يوجب كسر صولة ظهوره في العموم وتحديد دائرته بمقدار
اقتضائه، وحينئذ فإذا فرض اجماله وتردده بين الأقل والأكثر أو المتبائنين فقهرا يسري
اجماله إلى العام أيضا من جهة كونه من قبيل اتصاله بما يصلح للقرينية عليه، ومعه فلا
يبقى له ظهور حتى يتمسك به فيما يشك كونه من افراد المخصص. نعم لا بأس بالتمسك به
بالنسبة إلى ما يعلم خروجه عن دائرة الخاص من الافراد الاخر، فإذا شك في خروجها من
جهة مخصص آخر يؤخذ بعموم العام بالنسبة إليها، هذا كله فيما لو كان الخاص متصلا
بالعام.
واما لو كان منفصلا عن العام ففيه أيضا يتأتى الصور المزبورة: فإذا كان الخاص مبينا
بحسب المفهوم والمصداق كليهما فالحكم فيه كما في الخاص المتصل المبين بحسب المفهوم
والمصداق، من حجية العام وجواز التمسك به في الباقي، بل الحكم فيه أوضح من فرض
514

اتصال المخصص، وذلك من جهة استقرار الظهور حينئذ للعام وعدم انثلامه بقيام القرينة
المنفصلة على الخلاف كما في الخاص المتصل، حيث إن غاية ما يقتضيه التخصيص
بالمنفصل انما هو المانعية عن حجية ظهوره المستقر في العموم لاعن أصل ظهوره، وذلك
بملاك أقوى الحجتين، ومن ذلك ربما يقدم ظهور العام على ظهوره فيما لو كان العام أقوى
ظهورا منه. وعلى ذلك فكان اللازم هو اتباع ظهوره في العموم في غير مورد قيام الحجة
على الخلاف، وهو واضح.
واما لو كان الخاص حينئذ مجملا بحسب المفهوم، فان كان الاجمال والتردد بين الأقل
والأكثر، كما لو ورد انه يجب اكرام كل عالم، وورد بدليل منفصل انه لا يجب اكرام
الفساق من العلماء ويحرم اكرامهم، وتردد الفاسق من جهة اجمال المفهوم بين المرتكب
للكبائر أو الصغاير أيضا، ففي مثله يقتصر في الخروج عن العموم على المتيقن وهو المرتكب
للكبائر، واما بالنسبة إلى المرتكب للصغاير فيؤخذ بالعموم، والسر فيه، واضح، حيث إنه
بعد استقرار ظهور العام وعدم انثلامه بقيام القرينة المنفصلة على الخلاف لابد من الاخذ
بظهور العام في المقدار الزائد عن المتيقن من التخصيص، من جهة رجوع الشك فيه حينئذ
إلى الشك في أصل التخصيص، فان رفع اليد عن أصالة العموم حينئذ مع فرض اجمال
المخصص طرح للحجة المعتبرة بلا وجه، هذا إذا كان الشك في خروج المشكوك
وهو المرتكب للصغاير عن حكم العام ممحضا من جهة الشك في اندراجه تحت عنوان
المخصص وهو الفاسق واقعا بحيث على تقدير عدم اندراجه تحته وفرض وضعه لخصوص
المرتكب للكبائر يقطع بمشموليته لحكم العام.
واما لو لم يكن الشك فيه ممحضا بذلك بل كان مما يشك فيه في مشموليته لحكم العام
ولو على تقدير خروجه عن تحت عنوان المخصص واقعا، بحيث كان الشك في وجوب
اكرامه من جهتين: تارة من جهة الشبهة الحكمية وانه على تقدير عدم كون المرتكب
للصغاير مندرجا تحت عنوان الفاسق هل يشمله حكم العام أم لا بل كان خارجا أيضا
عن حكمه، وأخرى من جهة الشبهة المصداقية (1) وانه هل المرتكب للصغيرة فاسق أم

(1) مراده " قدس سره " بحسب الظاهر من الشبهة المصداقية هي الشبهة المفهومية في المخصص - كما يشهد به
تفسيره لها بقوله وانه هل المرتكب للصغيرة فاسق أم آه وحيث كان مرجع هذه الشبهة أن يشك في مصداقية
المرتكب للصغيرة لعنوان الفاسق عبر عنه بالشبهة المصداقية وكيف كان فهو على خلاف الاصطلاح الشايع
[المصحح عفى عنه].
515

لابل الفاسق بحسب وضعه موضوع لخصوص مرتكب الكبيرة؟ ففي مثله بالنسبة إلى
الشبهة الحكمية وهي الشبهة من الجهة الأولى لا اشكال في الاخذ بالعموم، نعم انما الكلام
في جواز الاخذ به بالنسبة إلى الشبهة المصداقية، وهي الشبهة من الجهة الثانية، حيث إنه
قد يشكل في جواز التمسك بالعام من هذه الجهة، بتقريب ان الشبهة من تلك الجهة لما كانت
في طول الشبهة من الجهة الأولى، فمع تطبيق أصالة العموم من الجهة الأولى ورفع الشك به
من جهة الكبرى لا مجال لتطبيقها ثانيا من الجهة الثانية لرفع الشك به من جهة الصغرى،
نظرا إلى أن الظهور الواحد لا يتحمل لتطبيقين طوليين، وحينئذ فمع فرض تطبيقه على
أصل الكبرى يستحيل تطبيقه ثانيا على الصغرى. وهذا بخلافه في فرض تمحض الشك
بالجهة الثانية وفرض العلم باندراجه في العام على تقدير كون الفاسق هو خصوص
المرتكب للكبيرة فإنه حينئذ كان لتطبيقه على تلك الجهة كمال مجال لأنه حينئذ لا يحتاج
إلى تطبيقه في كبرى المسألة حتى يتوجه الاشكال المزبور، هذا، ولكن يمكن دفع
الاشكال المزبور بما دفعناه به الاشكال المعروف في حجية الاخبار مع الواسطة، حيث إن
الاشكال في المقامين واحد، والجواب عنه أيضا واحد، فراجع تلك المسألة وعليه فلا مجال
للاشكال فيه من هذه الجهة فكان المتبع حينئذ هو أصالة العموم في غير مورد قيام الحجة
الأقوى على الخلاف. هذا كله إذا كان اجمال المفهوم من جهة تردده بين الأقل والأكثر.
واما لو كان اجماله من جهة تردده بين المتبائنين، ففي مثله يسقط العام عن الحجية
بالنسبة إلى كل واحد من الخصوصيتين فلا يكون بحجة في واحدة منهما، وذلك فان العام
حينئذ وان كان على ظهوره من دون سراية الاجمال إليه من الخاص المنفصل، الا انه لما
كان يساوى ظهوره بالنسبة إلى كل واحد من زيدين اللذين يعلم بخروج أحدهما عن
تحته بمقتضي دليل المخصص، لا يكون بحجة فعلية في واحد منهما، فيصير بحكم المجمل من
حيث السقوط عن الحجية نعم لا بأس بالأخذ بالعموم بالنسبة إلى ما عدا الفرد الخارج،
وهو الفرد الآخر المعين في الواقع، لكن بشرط ان يكون مما يحتمل دخوله في العام وخروجه
عنه من جهة احتمال مخصص آخر لا نعلمه، والا فمع العلم بدخوله تحت العام وعدم
516

مخصص آخر لا مجال لأصالة العموم بالنسبة إليه، من جهة انتفاء الشك الذي به قوام
جريان دليل التعبد بالظهور، واما ثمرة ذلك فإنما هي دخول تلك الفرد الآخر باجراء
أصالة العموم فيه في العلم الاجمالي، فيحكم عليه بقواعده المقررة في محله.
نعم قد يتوهم جواز التمسك بأصالة العموم حينئذ بالنسبة إلى كل واحد من الفردين
المعلوم خروج أحدهما بمقتضي الخاص المجمل، في مورد كان مفاد دليل الخاص هو نفى
الالزام، كما لو كان مفاد العام هو وجوب الاكرام لكل واحد من العلماء وكان مفاد
الخاص هو عدم وجوب الاكرام بالنسبة إلى زيد المردد بين زيد بن عمرو وزيد بن بكر،
نظير جريان الأصلين المثبتين في الطرفين في مورد العلم الاجمالي بنفي الالزام في أحدهما،
بتقريب ان مانعية العلم الاجمالي عن جريان الأصول في الطرفين انما هو من جهة
استلزامها المخالفة العلمية للتكليف الفعلي المعلوم، والا فالعلم الاجمالي بنفسه لا يكاد يمنع
عن جريان الأصول في الأطراف، من جهة ما تقرر في محله من اختلاف المتعلق فيهما،
وكون المتعلق للعلم الاجمالي هو العنوان الاجمالي المعبر عنه بأحد الفردين واحدي
الخصوصيتين، ومتعلق الشك هو كل واحد من العناوين التفصيلية، وحينئذ فبعد ان
فرض عدم استلزامه لمحذور العلمية في المقام فلا جرم يجري أصالة العموم بالنسبة
إلى كل واحد من زيدين وبمقتضاها يحكم بوجوب اكرام كل واحد منهما، كما كان
هو الشأن أيضا في الأصلين المثبتين في مورد العلم الاجمالي بنفي التكليف.
ولكنه توهم فاسد نظرا إلى الفرق الواضح بين المقامين حيث إن الامارات باعتبار
حجيتها في مداليلها الالتزامية يمنع عن جريانها في أطراف العلم الاجمالي، بملاحظة انتهاء
الامر فيها بهذه الجهة إلى التعارض كما في الخبرين القائمين أحدهما على وجوب صلاة
الجمعة يوم الجمعة والاخر على وجوب صلاة الظهر فيه، مع العلم بعدم وجوب الصلاتين
على المكلف. وهذا بخلافه في الأصول فإنها من جهة عدم حجية مثبتاتها لا يكاد انتهاء
الامر فيها من نفس جريانها في أطراف العلم الاجمالي إلى التعارض كما في الامارات، فمن
ذلك لا بأس بجريانها والتعبد بها في كل واحد من أطراف العلم الاجمالي عند عدم
استلزامه للمخالفة العملية للتكليف المعلوم. هذا مما افاده الأستاذ في ابداء الفرق
بين المقامين.
ولكن أقول: بأنه لا يحتاج في المنع عن جريان أصالة العموم في الطرفين إلى التشبث
517

بمسألة المدلول الالتزامي في الامارات، إذ مع الغض عن ذلك كان المجال أيضا للمنع عن
جريان أصالة العموم في الطرفين، وذلك انما هو بدعوى ان عدم جريان أصالة العموم
في الطرفين انما هو من جهة منافاة العلم الاجمالي عقلا مع قضية طريقية الامارات
وكاشفيتها عن الواقع، من جهة انه مع العلم الاجمالي المزبور يقطع بمخالفة أحد الطريقين
للواقع، ومع هذا القطع يستحيل التعبد بهما في الطرفين للاستطراق إلى الواقع.
وهذا بخلافه في الأصول فان حجيتها لما لم تكن من باب الطريقية والكاشفية عن الواقع،
بل من باب التعبد المحض في ظرف الجهل واستتار الواقع، فأمكن حينئذ التعبد بها
في الطرفين في مورد العلم الاجمالي بالخلاف ما لم يلزم من جريانها المخالفة العملية للتكليف
المعلوم في البين، فتدبر. هذا كله فيما لو كان الخاص مجملا بحسب المفهوم
واما لو كان اجماله بحسب المصداق مع تردده بين الأقل والأكثر ففي جواز التمسك
بالعام فيما يحتمل كونه من افراد الخاص وعدم جوازه خلاف بين الاعلام، والأول
وهو الجواز هو المنسوب إلى المشهور من قدماء الأصحاب، وربما فصل بين المخصص اللفظي
واللبي بالجواز في الثاني دون الأول ولعله هو المشهور بين المتأخرين. ولكن التحقيق كما
ستعرف هو عدم الجواز مطلقا.
ثم إن غاية ما قيل في تقريب القول بالجواز هو دعوى وجود المقتضي وعدم المانع عنه.
اما الأول فمن جهة شمول العام وانطباقه على المشكوك نظرا إلى استقراره ظهوره وعدم
انثلامه بالتخصيص بالمنفصل.
واما الثاني فمن جهة ان ما نعيه الخاص ومزاحمته للعام انما كانت بمقدار حجيته،
وحينئذ فإذا فرض عدم حجيته الا بالنسبة إلى ما علم كونه من افراده ومصاديقه دونه
بالنسبة إلى ما شك كونه من افراده، فقهرا فيما اشتبه كونه من افراده يرجع إلى العموم
فيحكم عليه بحكمه لعدم قيام حجة فيه على خلافه.
وقد أورد عليه بان العام وان لم يرتفع ظهوره في العموم بواسطة الخاص المنفصل، ولا
كان الخاص أيضا حجة فيما اشتبه كونه من افراده، فلا يكون خطاب لا تكرم الفساق
دليلا على حرمة اكرام من شك في فسقه من العلماء من جهة الشك في أصل تطبيقه
على المشكوك الا ان عدم جواز الاخذ بالعام حينئذ انما كان من جهة اقتضاء قضية
التخصيص حتى في المنفصل لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في ناحية الافراد الباقية تحت
518

العام الموجب لانقلاب العنوان المأخوذ في العام وهو العالم مثلا في قوله: أكرم كل عالم،
عن كونه تمام الموضوع لوجوب الاكرام إلى كونه جزء الموضوع، من جهة صيرورة الموضوع
حينئذ بعد ورود الدليل على حرمة اكرام الفساق من العلماء عبارة عن العالم المقيد بكونه
عادلا أو غير فاسق، ومن الواضح على ذلك عدم جواز التمسك بالعموم في المشتبه كونه من
افراد الخاص، لأن الشك في كونه من افراد الفساق يلازم الشك في ذلك العنوان الايجابي
أو السلبي المأخوذ في موضوع حكم العام، ومع هذا الشك فلا يكاد يصح التمسك فيه بالعام،
من جهة كونه من التمسك بالعام مع الشك في أصل تطبيق عنوان العام على المورد هذا.
ولكن فيه منع اقتضاء التخصيص كالتقييد لاحداث عنوان سلبي أو ايجابي في ناحية
الافراد الباقية تحت العام، وقياسه بباب التقييد والاشتراط الموجب لتعنون الموضوع
بوصف وجودي أم عدمي مع الفارق جدا، فان شأن التخصيص سواء في المتصل
أو المنفصل في قوله: أكرم العلماء الا زيدا أو عمرا، مثلا انما هو مجرد اخراج بعض الافراد
أو الأصناف عن تحت حكم العام وتخصيصه بالافراد الباقية، من دون اقتضائه لاحداث
عنوان ايجابي أو سلبي في ناحية الافراد الباقية في مقام موضوعيتها للحكم، بل هذه الافراد
الباقية بعد التخصيص كانت على ما كانت عليها قبل التخصيص في الموضوعية للحكم
العام بخصوصياتها الذاتية، فهو أي التخصيص في الحقيقة بمنزلة انعدام بعض الافراد
أو الأصناف بموت ونحوه، فكما ان خروج من مات منها لا يوجب تعنون الافراد الباقية
بعنوان وجودي أو سلبي بل كانت الافراد الباقية على ما هي عليها قبل خروج من خرج
بالموت من كونها تمام الموضوع للحكم، كك أيضا في التخصيص فلا يوجب ذلك أيضا
احداث عنوان سلبي أو ايجابي في الافراد الباقية ولا تغيرا فيها في موضوعيتها للحكم
بالانقلاب عن كونها تمام الموضوع إلى جزئه، ومجرد اختصاص حكم العام حينئذ في
قوله: أكرم العلماء، بعد التخصيص، بغير دائرة الخاص من بقية الافراد أو الأصناف لا
يكون من جهة تعنوان الافراد الباقية بعنوان خاص في مقام موضوعيتها للحكم، بل وانما ذلك من جهة ما في نفس الحكم من القصور الناشي من جهة تضيق دائرة الغرض
والمصلحة عن الشمول ثبوتا لغير الافراد الباقية، وهذا بخلافه في باب التقييد والاشتراط،
حيث إن قضية التقييد بشئ تعنون موضوع الحكم بوصف وجودي أم عدمي غير
حاصل قبل توصيفه به، كما في قوله: أكرم العالم وقوله أعتق الرقبة، حيث إنه بورود دليل
519

التقييد بكونها مؤمنة ينقلب الذات عن كونها تمام الموضوع إلى جزء الموضوع، فيصير
الموضوع عبارة عن الرقبة المقيدة بالايمان، بنحو خروج القيد ودخول التقيد.
وبالجملة فرق واضح بين باب التخصيص والتقييد حيث إنه في الأول لا يكاد يكون
قضية التخصيص الا مجرد اخراج بعض الافراد أو الأصناف عن دائرة موضوع العام
الموجب لحصر حكم العام ببقية الافراد أو الأصناف من دون اقتضائه لتغيير في ناحية
الافراد الباقية في مقام موضوعيتها للحكم، بخلاف الثاني حيث إن شأن دليل التقييد
والاشتراط انما هو توصيف الموضوع بوصف خاص وجودي أم عدمي، وبذلك يوجب
اخراجه عما عليه قبل التقييد من التمامية في الموضوع إلى جزئه، وعليه فنقول بأنه لا مجال
بعد هذا الفرق لمقايسة أحد البابين بالآخر بوجه أصلا.
ثم انه مما يشهد لما ذكرنا من الفرق بين البابين اطباقهم على عدم التمسك بدليل
المطلق في موارد الشك في مصداق القيد، كالشك في طهارة الماء واطلاقه، حيث لم يتوهم
أحد جواز التمسك حينئذ باطلاق ما دل على جواز التوضي بالماء لاثبات جواز الوضوء بما
شك في طهارته أو اطلاقه، بخلاف موارد الشك في مصداق المخصص في العام، حيث إن
فيها خلافا بين الاعلام بل المشهور من القدماء كما قيل على جواز التمسك
بالعام. ومن المعلوم انه لا يكون الوجه في ذلك الا ما أشرنا إليه من الفرق بين البابين، والا
فلو كان مرجع التخصيص أيضا كالتقييد إلى احداث عنوان سلبي أو ايجابي في ناحية
الافراد الباقية تحت العام لما كان وجه لاختلافهم في جواز الرجوع إلى العام في المقام مع
اطباقهم على عدم جواز الرجوع إلى دليل المطلق عند الشك في مصداق القيد، كما لا يخفى.
ثم إن هذا كله في بيان الفرق بين كبرى البابين بحسب مقام الثبوت. واما بحسب
مقام الاثبات واستظهار انه أي مورد من باب التخصيص وأي مورد من باب التقييد
والاشتراط فلابد في استفادة أحد الامرين من المراجعة إلى كيفية السنة الأدلة. وفي مثله
نقول: بان ما كان منها بلسان الاستثناء كقوله: أكرم العلماء الا زيدا، فلا اشكال في أنه
من باب التخصيص حيث إنه لا يستفاد من نحو هذا اللسان أزيد من تكفله لاخراج زيد
عن العموم المزبور وحصر حكم العام بما عدا زيد من الافراد الاخر، كما أن ما كان منها
بلسان الاشتراط كقوله: يشترط ان يكون كذا وان لا يكون كذا، أو بلسان نفى الحقيقة
عند فقدان امر كذائي كقوله: لا صلاة الا بطهور ولا رهن الا مبغوضا، فلا اشكال أيضا
520

في كونها من باب التقييد، واما ما كان منها بلسان لا تكرم الفساق من العلماء أو لا يجب
اكرام الفساق منهم كما هو الغالب في التخصيصات بالمنفصل فهو قابل لكلا الامرين
حيث يصلح لان يكون من باب التقييد، فيقيد به العنوان المأخوذ في العام في قوله: أكرم
العلماء، بكونهم عادلين أو غير فاسقين، كصلاحيته أيضا لان يكون من باب التخصيص
الغير الواجب الا لحصر الحكم في قوله: أكرم العلماء بما عدا الفساق من الافراد الاخر، من
دون اقتضائه لتعنون الافراد الباقية بكونهم عادلين أو غير فاسقين، وان كانوا في الواقع
ملازمين مع العدالة قهرا، وحينئذ فقد يقال في مثله بدوران الامر بين رفع اليد عن
أحد الظهورين اما ظهور عنوان الموضوع في الاطلاق واما ظهور العام في العموم، وان المتعين
في مثله هو رفع اليد عن ظهوره في الاطلاق مع الاخذ بظهوره في العموم بالنسبة إلى كل فرد
من افراد العالم، ولا أقل من تصادم الظهورين، فتكون النتيجة حينئذ كالتقييد في عدم
جواز التمسك بالعام عند الشك في مصداق المخصص. ولكنه مدفوع بمنع الدوران بينهما،
فإنه بعد القطع بخروج افراد الفساق عن دائرة حكم العام، وهو وجوب الاكرام، اما
رأسا على التخصيص واما من جهة انتفاء القيد على التقييد، فلا جرم لا يترتب اثر عملي
على أصالة العموم بالنسبة إليهم، حتى يجري العموم بلحاظه، ومعه فلا مجرى لأصالة
العموم بالنسبة إلى كل فرد من العلماء حتى الفساق منهم، وحينئذ فمع عدم جريان أصالة
العموم وسقوطها عن الحجية فقهرا تبقى أصالة الاطلاق فيه بلا معارض، ونتيجة ذلك قهرا
هو التخصيص لاغير، كما هو واضح.
وعلى كل حال فبعد ما اتضح وجه الفرق بين باب التخصيص وبين باب
التقييد والاشتراط بحسب الكبرى، وكون التخصيص من قبيل انعدام بعض الافراد
أو الأصناف بموت ونحوه في عدم اقتضائه لاحداث عنوان سلبي أو ايجابي في ناحية الافراد
الباقية لكي ينقلب عن كونها تمام الموضوع للحكم إلى جزئه، ظهر لك عدم صحة ما أفيد
من التقريب المزبور في وجه عدم جواز التمسك بالعام في المشتبه كونه من افراد المخصص
ومصاديقه، من دعوى عدم الجزم بانطباق عنوان الموضوع بعد تقييده على المورد، نظرا إلى
الشك الوجداني حينئذ في جزئه الآخر وعدم صلاحية أصالة العموم لاحراز ذلك الجزء
المشكوك، إذ نقول بان هذا التقريب يتم في فرض ان يكون التخصيص أيضا كالتقييد
موجبا لتعنون عنوان العام بأمر وجودي أو عدمي، والا فعلى ما عرفت من الفرق
521

بين البابين لا يكاد مجال لهذا الاشكال أصلا، حيث إنه بعد عدم انقلاب عنوان العام عن
كونه تمام الموضوع للحكم إلى جزء الموضوع فلا جرم أصل تطبيق العنوان على المورد
عند الشك جزميا، وفي مثله يتجه الاستدلال المزبور للقول بالجواز، بتقريب انه بعد الجزم
بانطباق عنوان العام على المورد واحتمال مطابقة ظهوره للواقع في الزائد عن الافراد المعلومة
الفسق، ولو من جهة احتمال كونهم عدولا، يشمله دليل التعبد بالظهور الآمر بالغاء
احتمال الخلاف، فان المدار في التعبد بالظهور انما هو على مجرد احتمال مطابقة الظهور
للواقع، وحينئذ فكما انه عند احتمال مطابقة الظهور للواقع في زيد العالم المشكوك فسقه
وعدالته من جهة الشبهة الحكمية واحتمال خروج الفساق الداخل فيهم زيد على تقدير
فسقه عن تحت حكم العام لأجل مخصص خارجي لا يعلمه المكلف تجري أصالة الظهور،
وبمقتضاها يحكم بوجوب اكرام زيد المشكوك فسقه وعدالته، كك الامر فيما لو كان
احتمال مطابقة الظهور للواقع من جهة الشبهة المصداقية واحتمال كون المشتبه عادلا
في الواقع، فإنه في مثله أيضا يشمله دليل التعبد بالظهور الآمر بالغاء احتمال الخلاف.
نعم في المقام بالنسبة إلى الشبهة الحكمية لما قام حجة أقوى على الخلاف يرفع اليد عن
حجية ظهوره، واما بالنسبة إلى الشبهة المصداقية فحيث انه لم يعلم بمخالفة ظهوره للواقع
من جهة احتمال كون المشتبه عدلا ولم تقم حجة أيضا على الخلاف من جهة فرض الشك
في انطباق دليل الخاص على المورد فيؤخذ بظهوره ويحكم عليه بحكمه.
واما توهم اختصاص حجية الظهور بما لو كان الشك في مخالفة الظهور للواقع من جهة
الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعية، بدعوى ان الرجوع إلى أصالة الظهور انما هو
في الشبهات التي كان رفعها وازالتها من شأن المتكلم دون غيرها مما ليس من شأن المتكلم
ازالتها، وبذلك ينحصر حجية الظهور في موارد الشبهات الحكمية، لأنها هي التي كان إزالة
الشبهة فيها من وظائف المتكلم، ولا تعم الشبهات المصداقية، نظرا إلى عدم كون مثل هذه
الشكوك مما ازالتها من شأن المتكلم حتى يصح الرجوع إلى الظهور في رفع الشبهة فيها،
فمدفوع بأنه وان كان الامر كك بالنسبة إلى كل شبهة شخصية على التفصيل،
ولكنه لا مانع من جعل امارة كلية لتميز الموارد وتشخيص حكم الصغريات، فان ذلك
أيضا من شأن الشارع ووظائفه، كما في موارد اليد والبينة والسوق وغيرها.
وبالجملة نقول بان ما أفيد من عدم كون إزالة الشبهة في الصغريات
522

من شأن الشارع ووظائفه، ان أريد ذلك بالنسبة إلى كل شبهة شخصية
بنحو التفصيل فهو مسلم، ولكنه لا ينتج المطلوب من سقوط أصالة الظهور
عن الحجية في الشبهات المصداقية، من جهة عدم كون أصالة الظهور
من هذا القبيل، وانما هي من قبيل جعل امارة كلية لتشخيص الصغريات
وان أريد به خروج الشبهات الموضوعية كلية على الاطلاق عن موارد التمسك بالظهور،
بدعوى عدم كون إزالة الاشتباه فيها من شأن الشارع ووظائفه على الاطلاق، ولو بنصب
امارة كلية عليها للمكلف لكي يرجع إليها عند جهله وتحيره فهو ممنوع جدا بشهادة
جعل البينة واليد والسوق ونحوها حجة عند اشتباه الموارد في الموضوعات، وعليه نقول:
بان من الامارات الكلية أيضا لتميز الوارد وتشخيص حكم الصغريات عند الجهل
والاشتباه أصالة العموم، فمتى تحتمل مطابقتها للواقع ولو من جهة الشبهة في المصداق، ولم
تقم حجة أقوى على خلافها يجب التعبد بظهوره والغاء احتمال الخلاف، هذا.
ولكن مع ذلك فالتحقيق في المقام هو عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية،
إذ نقول: بان ما ذكر من التقريب المزبور للجواز مبنى على أن يكون مدار الحجية
في الظهورات على الدلالة التصورية المحضة التي هي عبارة عن مجرد تبادر المعنى وانسباقه إلى
الذهن من اللفظ عند سماعه الناشي من جهة العلم بالوضع المجامعة مع القطع بعدم كون
المتكلم في مقام الإفادة والجد بالمراد أيضا، كما في الألفاظ الصادرة عن الساهي والنائم،
حيث إنه مع القطع بعدم كون الألفاظ في مقام الإفادة والجد بالمراد يتبادر المعنى وينسبق
إلى الذهن بمجرد سماع اللفظ، فعلى هذا المسلك يتجه التقريب المزبور للجواز من جهة
تحقق موضوع الحجية وهو الظهور التصوري مع احتمال المطابقة للواقع، والا فعلى ما
هو التحقيق من كون مدارا الحجية في أصالة الظهور على الدلالة التصديقية والكشف
النوعي عن المراد فلا يكون مجال لدعوى حجية أصالة العموم والظهور الا في
موارد الشبهات الحكمية الناشئة من جهة احتمال مخالفة الظهور للواقع من جهة الشك في
أصل التخصيص واصل القرينية، والوجه فيه واضح بعد معلومية تبعية حصول التصديق
بالمراد من اللفظ قطعا أو ظنا لاحراز كون المتكلم بكلامه في مقام الإفادة ومقام الجد
بالمرام المتوقف ذلك على التفاته بجهات مرامه وخصوصياته، إذ حينئذ يختص حصول
التصديق النوعي بالمراد من اللفظ بما إذا كان هناك غلبة نوعية على التفات المتكلم
523

بجهات مرامه وخصوصياته، فيختص ذلك حينئذ بخصوص ما كان الشك في مخالفة
الظهور للواقع من جهة الشبهة في الحكم الراجعة إلى الشك في التوسعة وتضييق دائرة مراد
المتكلم. واما فيما عدا ذلك من موارد كون الشك في المخالفة من جهة الشك في مصداق
المخصص فحيثما لا يكون هناك غلبة نوعية فيها على التفات المتكلم، بل ربما كان الامر
بالعكس من حيث كون الغالب هو غفلة المتكلم وجهله بالحال، بشهادة ما نرى من
وقوع التردد والاشتباه كثيرا للمتكلم في تطبيق مرامه على الصغريات، فلا يكاد حصول
التصديق النوعي بالمراد حتى يكون مشمولا لدليل التعبد، فتكون نتيجته جواز الرجوع إلى
العام في الشبهات المصداقية للمخصص، بل ولو قلنا بان مدار الحجية في الظهورات
على الظهور الفعلي والدلالة التصديقية الفعلية كان الامر في عدم جواز التمسك بأصالة
العموم عند الشك في مصداق المخصص أظهر، من جهة وضوح انتفاء الدلالة والتصديق
الفعلي بالمراد مع تلك الغلبة النوعية على غفلة المتكلم وعدم التفاته في مقام التطبيق
على الصغريات، وان كان أصل المبني مما يبعد الالتزام به، من جهة ما يلزمه من عدم
حجية الظهورات في موارد قيام الظن الفعلي الغير المعتبر على الخلاف، وهو مما لا يمكن
الالتزام به.
وحينئذ فلابد من تنقيح هذه الجهة بان حجية أصالة العموم ونحوها هل هي من باب
الظهور التصوري المساوق لتبادر المعنى من اللفظ وانسباقه إلى الذهن المجامع ولو مع الجزم
بعدم كون المتكلم في مقام الإفادة ومقام الجد بالمراد الواقعي، أو انه من باب الظهور
التصديقي المفيد للظن بالمراد ولو نوعا وان لم يفده فعلا لمانع خارجي؟ وذلك بعد القطع
بعدم كونه من جهة التعبد المحض، بشهادة بنائهم على عدم حجية الظهورات مع الاتصال
بما يصلح للقرينية، بل ولا من باب الظن الفعلي بالمراد كما عليه بعضهم، بشهادة ما
عرفت من بنائهم على عدم اضرار قيام الظن الغير المعتبر على الخلاف.
فعلى الأول من كون مدار الحجية على الظهور التصوري المساوق لانسباق المعنى
إلى الذهن، فلا محيص كما عرفت من القول بجواز التمسك بالعام فيما شك كونه من
افراد المخصص ومصاديقه، نظرا إلى وجود المقتضي حينئذ للحجية وعدم المانع عنها،
حيث إنه بعد انطباق عنوان العام على المورد وعدم قيام حجة على الخلاف، نظرا إلى
فرض عدم حجية الخاص بالنسبة إليه بلحاظ الشك في انطباق عنوانه عليه، فلا جرم
524

يشمله دليل التعبد بالظهور الآمر بالغاء احتمال الخلاف، من غير فرق في ذلك بين كون
المخصص لفظيا أو لبيا.
واما على الثاني: فلازمه كما عرفت هو المصير إلى عدم الجواز من جهة ما عرفت من
اختصاص هذا المعنى أي إفادة الظهور للتصديق النوعي بالمراد بما إذا كان هناك غلبة
نوعية على التفات المتكلم وعدم غفلته عن جهات مرامه الملازم ذلك للاختصاص بما إذا
كان الشك في مخالفة الظهور للواقع من جهة الشبهة الحكمية الراجع إلى الشك في التوسعة
والتضييق في دائرة المراد الواقعي في كبرى الحكم، دون ما لو كان الشك في المخالفة
والمطابقة من جهة الشبهة الموضوعية الراجعة إلى الشك في تطبيق الكبرى وما هو المراد
الواقعي على المصاديق والصغريات، وذلك من جهة انتفاء تلك الغلبة النوعية في
هذا المقام، لوضوح انه لا غلبة نوعية على التفات المتكلم بتطبيق مرامه على المصاديق
والصغريات لولا دعوى كون الغلبة بالعكس، على ما نرى ونشاهد بالوجدان من غفلة
المتكلم وجهله وتردده كثيرا في تطبيق ما هو المرام على المصاديق والصغريات، إذ حينئذ
لا يكون مجال لدعوى جواز الاخذ بأصالة العموم فيما شك كونه من افراد المخصص
ومصاديقه، حيث إنه لا يكون اللفظ ظهور تصديقي ودلالة تصديقية ولو نوعية بالنسبة إلى
الصغريات ومقام التطبيق على المصاديق، حتى يشمله دليل التعبد من هذه الجهة، ففي
الحقيقة عدم حجية أصالة العموم فيما شك كونه من افراد المخصص كان من جهة عدم
المقتضي للتعبد، وهو الظهور التصديقي، لا من جهة وجود المانع، حتى يدفع بان دليل
المخصص لما كان تطبيقه على المورد مشكوكا لا يكون له صلاحية للمانعية عن التمسك
بالعموم، ولئن شئت قلت بان عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية انما هو من
جهة الشك في انطباق عنوان العام بما هو حجة على المورد، حيث إنه بعد اقتضاء الدليل
المخرج لقصر حكم العام في قوله: أكرم العلماء على ما عدا الفساق مثلا،
فقهرا عند الشك في كون المورد من مصاديق الفساق الخارج عن
دائرة موضوع حكم العام يشك في انطباق ما هو المراد الواقعي على المورد، وفي مثله لا يبقى
مجال لتوهم جواز الرجوع إلى العام في المشتبه كما هو واضح،
وحيث إن التحقيق في المسألة كما حقق في محله هو الثاني من كون مدار الحجية
في الظهورات على الدلالة التصديقية لا الدلالة التصورية المساوقة لانسباق المعنى إلى
525

الذهن، فلا جرم كان الأقوى هو عدم جواز التمسك بالعام فيما شك في كونه من افراد
المخصص ومصاديقه، بل وكك الامر فيما لو شك في ذلك ولم يحرز من طريقة العقلاء ان
مدار الحجية على الظهور التصوري أو الظهور التصديقي، حيث إنه بعد ما لم يكن في البين
اطلاق لفظي، نظرا إلى كون الدليل عليه هو السيرة وبناء العقلاء، فلابد من الاخذ بما
هو الأخص وهو الدلالة التصديقية المعبر عنها بالظهور النوعي، من جهة كونه هو القدر
المتيقن من بناء العقلاء على الاخذ بالظهورات،
ومقتضاه كما عرفت هو لزوم المصير إلى عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات
المصداقية، من غير فرق في ذلك بين كون المخصص لفظيا أم لبيا، لان مناط عدم الجواز
انما هو انتفاء الدلالة التصديقية، وعليه لا يفرق بين كون الخاص لفظيا أم لبيا، كما أنه
على المسلك الأول في حجية أصالة الظهور أيضا لا يفرق بين لفظية المخصص ولبيته، من
جهة ما عرفت من جواز التمسك بالعام على هذا المسلك ولو مع كون المخصص لفظيا. وحينئذ
فالتفصيل بين فرض كون المخصص لفظيا وبين كونه لبيا كما عن بعض ساقط على
كل حال. بل اللازم على المسلك الأول في حجية أصالة الظهور هو المصير إلى الجواز مطلقا
حتى في المخصص اللفظي، كما أن اللازم على المسلك الثاني هو المصير إلى عدم الجواز كك
حتى في المخصص اللبي.
ثم انه مما ذكرنا ظهر أيضا عدم صحة التشبث بقاعدة المقتضي والمانع لاثبات
حكم العام في المشكوك، بتقريب ان العام المنفصل عنه المخصص من جهة ظهوره
واستقرار دلالته النوعية على المراد كان فيه اقتضاء الحجية وان الخاص المنفصل انما كان
يزاحم حجيته في مقدار دلالته لا أصل ظهوره وحينئذ فعند الشك في فرد في كونه من
مصاديق الخاص وعدمه يؤل إلى الشك في جود المزاحم وعدمه مع القطع بوجود المقتضي
للحجية، وهو الظهور، وفي مثله لابد بحكم العقل من الجري على طبق
المقتضي إلى أن يظهر الخلاف، كما كان هو الشأن أيضا في كل واجب احتمل مزاحمته
مع أهم منه كالصلاة والإزالة مثلا، فكما انه هناك لا يعتنى باحتمال وجود المزاحم بل
يجري على طبق المهم ويحكم بوجوب الاتيان به كك في المقام أيضا، ففي المقام أيضا
كان المقتضي للحجية وهو الظهور والدلالة النوعية متحققا وانما الشك في وجود المزاحم
بالنسبة إلى المشكوك، فلابد من الجري على طبق المقتضي والحكم على المشكوك بحكم
526

العام إلى أن ينكشف الخلاف، حيث لا فرق بين المقامين، غير أن المزاحمة هناك كانت
في الحكم الفرعي وفى المقام في الحكم الأصولي وفي مرحلة الحجية.
وجه الفساد يظهر مما عرفت من المسلكين في وجه حجية أصالة الظهور، إذ نقول: بأنه
على المسلك الأول من كفاية مجرد الظهور التصوري في التعبد والحجية فان المقتضي للحجية
وهو الظهور وان كان متحققا، ولكنه بعد عدم حجية الخاص في المشكوك من جهة الشك
في انطباق عنوانه عليه يقطع بعدم المزاحم له، ومع القطع بعدم المزاحم لا يكاد ينتهى
النوبة إلى القاعدة المزبورة بوجه أصلا، كما لا يخفى. واما على المسلك الثاني من عدم كفاية
مجرد الظهور التصوري في التعبد والحجية واحتياجها إلى الظهور التصديقي ولو نوعا فلا تحقق
للمقتضي حينئذ حتى ينتهى الامر إلى القاعدة، من جهة ما عرفت من أنه لا يكون حينئذ
للعام ظهور ودلالة تصديقية بالنسبة إلى مقام التطبيق على المصاديق والصغريات حتى
يشملها دليل التعبد والحجية، فعلى كل من المسلكين لا مجال للقاعدة المزبورة بوجه أصلا،
كما لا يخفى.
تنبيه
لا يخفى عليك ان المرجع بعد سقوط العام عن الحجية فيما شك كونه من مصاديق
الخاص لفظيا أو لبيا انما هو الأصول العملية وحينئذ لو كان هناك أصل حكمي من
استصحاب وجوب أو حرمة ونحوه فلا اشكال، واما الأصل الموضوعي فيبتنى جريانه
على ما تقدم من المسلكين في التخصيصات من أن قضية التخصيص هل هي كالتقييد في
اقتضائه لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في الافراد الباقية بعد التخصيص الموجب لتقيد
موضوع الحكم في نحو قوله: أكرم كل عالم، بالعالم العادل أو العالم الغير الفاسق، أم لا؟
بل وان قضيته مجرد اخراج بعض الافراد أو الأصناف عن تحت حكم العام الموجب لقصر
حكم العام ببقية الافراد أو الأصناف من دون اقتضائه لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في
موضوع حكم العام في الافراد أو الأصناف الباقية، وان فرض ملازمة تلك الافراد الباقية
بعد خروج الفساق مثلا من باب الاتفاق مع العدالة أو عدم الفسق.
فعلى المسلك الأول لا بأس بجريان الأصل الموضوعي في المشتبه حيث يجرز به كونه
من افراد العام، فيحكم عليه بحكمه بعد احراز جزئه الآخر وهو العالمية بالوجدان، نظير
527

سائر الموضوعات المركبة التي يحرز بعضها بالأصل وبعضها بالوجدان، ففي المقام أيضا إذا
جرى استصحاب العدالة أو عدم الفسق في الفرد المشكوك فبانضمام الاحراز الوجداني
للجزء الآخر وهو العالمية يحرز ما هو موضوع حكم العام وهو العالم العادل أو العالم الذي لم
يكن فاسقا فيحكم عليه بحكمه.
واما على المسلك الثاني الذي هو المختار فلا مجال لجريان الأصل الموضوعي
المزبور من جهة عدم ترتب اثر شرعي عليه حينئذ فإنه على هذا المسلك
لا يكون لمثل هذه العناوين دخل في موضوع الحكم والأثر ولو على نحو القيدية حتى يجري
فيها استصحابها، بل وانما موضوع الأثر حينئذ عبارة عن ذوات تلك الافراد الباقية
بخصوصياتها الذاتية من دون طرو لون عليها من قبل دليل المخصص، غاية الامر هو
اقتضاء خروج افراد الفساق مثلا لملازمة الافراد الباقية بعد التخصيص عقلا مع العدالة أو
عدم الفسق، ومن المعلوم في مثله حينئذ عدم اجداء قضية استصحاب العدالة أو عدم
الفسق للمشكوك لاثبات كونه من الافراد الباقية الملازمة مع عدم الفسق، الا على القول
بالمثبت، وحينئذ فعلى هذا المسلك لابد من الرجوع في المشكوك إلى الأصول الحكمية الجارية
فيه من استصحاب وجوب أو حرمة أو غيرهما، والا فلا مجال للتشبث بالأصول الموضوعية
لاندراج المشكوك فيه من موضوع العام والحكم عليه بحكمه نعم لو كان مفاد الدليل الخاص
نقيضا لحكم العام كما لو كان مفاد العام وجوب اكرام العلماء
وكان مفاد الخاص عدم وجوب اكرام الفساق من العلماء ففي مثله أمكن
اثبات وجوب الاكرام الذي هو حكم العام بمقتضي استصحاب عدم الفسق، من جهة انه
باستصحابه يترتب عليه نقيض اللا وجوب الذي هو عبارة عن وجوب الاكرام. وهذا
بخلافه في فرض كون مفاد الخاص عبارة عن حرمة الاكرام التي هي ضد لحكم العام،
حيث إنه في مثله لا يكاد يمكن اثبات وجوب الاكرام باستصحاب العدالة أو عدم الفسق
لان غاية ما يقتضيه الأصل المزبور حينئذ انما هو عدم حرمة اكرام الفرد المشكوك لا
وجوب اكرامه الا على النحو المثبت كما هو واضح.
بقى الكلام جواز التمسك بعموم العام لاخراج ما شك في كونه من مصاديق العام
عن تحت العام مع القطع بخروجه عن حكمه وعدم جوازه واختصاصه بما لو كان الشك في
خروج فرد عن حكم العام بعد القطع بفرديته له، حيث إن فيه خلافا بين الاعلام،
528

ولكن التحقيق هو عدم الجواز، نظرا إلى أنه لا يكون لنا دليل لفظي على الحجية حتى
يصح الاخذ باطلاقه في مثل المقام، حيث إن العمدة في الباب انما هي السيرة وبناء
العقلاء، وبعد عدم العلم باستقرار بنائهم على حجية أصالة العموم في مثل المقام لابد من
الاقتصار على ما هو المتيقن منها، وهو لا يكون الا في موارد الشك في خروج ما هو من
افراد العام ومصاديقه قطعا عن حكم العام، ومن العجب ان صاحب الكفاية
(قدس سره) مع اشكاله في المقام (1) ومنعه عن جواز التمسك بالعام فيما شك في كونه من
افراد العام بمنع قيام السيرة على التمسك بأصالة العموم مطلقا تمسك به في مسألة الصحيح
والأعم (2) حيث استدل لاثبات الوضع لخصوص الصحيح بعموم الدلالة المثبتة للآثار
من نحو قوله عليه السلام: الصلاة معراج المؤمن، وانها قربان كل تقي، وانها تنهى
عن الفحشاء والمنكر، بتقريب دلالتها بعكس النقيض على أن كل ما لا يكون معراج
المؤمن وناهيا عن الفحشاء والمنكر فليس بصلاة، فراجع. وعلى كل حال فالتحقيق
في المسألة كما عرفت هو ما افاده (قدس سره) في المقام من عدم الحجية الا في موارد الشك
في الخروج عن العام حكما مع اليقين بدخوله فيه موضوعا.
الجهة الرابعة
لا اشكال في عدم الاخذ بأصالة العموم والاطلاق الا بعد الفحص التام عن المخصص
والمقيد واليأس عن الظفر بهما والوجه في ذلك أمران: أحدهما: وهو العمدة حيث
المعرضية للتخصيص، كما هو كذلك في العمومات الواردة في الكتاب والسنة، فإنه لابد
حينئذ في كل عام من الفحص التام عن مخصصاته بحيث يخرج المورد عن المعرضية
للتخصيص وتطمئن النفس بأنه غير مخصص، بل ذلك غير مختص بباب العمومات
والمطلقات فيجري في كل ظاهر كان في معرض إرادة خلافه بإقامة القرينة على الخلاف،
كما في الظواهر الصادرة عن المعصومين عليهم السلام، ففيها أيضا لابد من الفحص التام

(1) ج 1 ص 350.
(2) ج 1 ص 45.
529

عن القرينة بمقدار يخرج المورد عن المعرضية لإرادة الخلاف، والا فقبل الفحص لا يجوز
الاخذ بها، لعدم قيام السيرة على الحجية حينئذ قبل الخروج عن المعرضية، ولدليل (هلا
تعلمت)؟ (1) المقتضي لعدم معذورية المكلف التارك للفحص.
وثانيهما: من جهة العلم الاجمالي بتقريب انه يعلم اجمالا بورود مخصصات كثيرة فيما
بأيدينا من الاخبار لهذه العمومات الواردة في الكتاب والسنة، فيجب الفحص حينئذ عن
مخصصات تلك العمومات بمقتضى العلم الاجمالي المزبور. ولكن يرد عليه ان لازم ذلك
هو جواز الرجوع إلى العمومات الباقية بعد الظفر بمقدار يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه
نظرا إلى صيرورة الشك في البقية حينئذ بدويا، كما أن لازمه أيضا في فرض عدم الظفر
بمقدار المعلوم بالاجمال هو عدم جواز الاخذ بالعمومات ولو بعد الفحص التام عن مخصصاتها
من جهة بقاء المانع وهو العلم الاجمالي حينئذ على حاله، مع أنهما كما ترى لا يكاد يلتزمون
بشئ منهما، فان ظاهرهم هو وجوب الفحص عن المخصص بالنسبة إلى كل واحد
من العمومات، مع تخصيص المنع عن الاخذ بالعمومات بما قبل الفحص عن المخصص، و
حينئذ فالأولى في التشبث بهذا التقريب لاثبات المدعى وهو وجوب الفحص والمنع
عن الاخذ بالعمومات الا بعد الفحص التام عن مخصصاتها هو تقييد العلم الاجمالي المزبور
بقيد خاص وهو كون المخصص المعلوم بالاجمالي على نحو لو تفحصنا عنه لظفرنا به، بدعوى
ان العلم الاجمالي وان كان بمخصصات كثيرة لتلك العمومات فيما بأيدينا من الاخبار،
ولكنه لا على نحو الاطلاق بل على نحو لو تفحصنا عنها بالمقدار المتعارف فيما بأيدينا من
كتب الاخبار لظفرنا بها، فإنه على هذا التقريب يتم المدعى ويسلم عن الاشكال المزبور،
من جهة ان عدم الظفر بالمخصص على هذا التقريب بالفحص يكشف عن خروج العام
المتفحص عنه من الأول عن الطرفية للعلم الاجمالي، وحينئذ فلابد على هذا التقريب أولا
من الفحص التام عن المخصص بالنسبة إلى كل واحد من العمومات حتى يظفر بالمخصص
أو يخرج بواسطة الفحص وعدم الظفر عن الطرفية للعلم الاجمالي، هكذا افاده الأستاذ
دام ظله في بحثه.
ولكن أقول: بأنه غير خفى عدم اجداء مثل هذا التقريب أيضا لدفع الاشكال الأول

(1) البحار ج 1 ص 177 ح 58.
530

وهو لزوم جواز الاخذ ببقية العمومات بلا فحص مع الظفر بمقدار المعلوم بالاجمال
من المخصصات، وذلك من جهة وضوح ان المعلوم بالاجمال بعد ما كان محدودا كمه
ومقداره بالضرورة بحد خاص لا يتجاوز عنه كما في كلية الأقل والأكثر، فلا جرم الظفر
بذلك المقدار يوجب قهرا ارتفاع العلم الاجمالي من البين وصيرورة الشك في الزايد بدويا، و
معه يلزم جواز الاخذ ببقية العمومات بلا فحص، نعم انما يجدي هذا التقريب لدفع
الاشكال الثاني وهو لزوم عدم جواز الاخذ بالعمومات ولو بعد الفحص عند عدم الظفر
بمقدار المعلوم بالاجمال، والا فهو غير دافع للاشكال الأول، وحينئذ فالعمدة في اثبات
وجوب الفحص على الاطلاق والمنع عن الرجوع إلى أصالة العموم الا بعد الفحص التام
هو الوجه الأول وهو المعرضية للتخصيص.
ثم إن هذا كله في أصل وجوب الفحص، واما المقدار اللازم منه فهو على الوجه
الأول كما عرفت بمقدار يخرج المورد عن المعرضية بحيث تطمئن النفس بأنه غير مخصص،
والظاهر هو تحقق الوثوق بالخروج عن المعرضية بالفحص عن المخصص بالمقدار المتعارف
فيما بأيدينا من الكتب، حيث إنه بهذا المقدار من الفحص يحصل الوثوق بل العلم العادي
بأنه غير مخصص، كما أن مقداره على مسلك مانعية العلم الاجمالي أيضا هو الفحص بالمقدار
المتعارف عما هو من دائرة العلم المزبور من كتب الاخبار، فإنه بهذا المقدار من الفحص
يحصل الوثوق والعلم العادي بخروجه عن الطرفية للعلم الاجمالي، فيجوز الاخذ معه حينئذ
بأصالة العموم، من دون احتياج إلى تحصيل القطع بالخروج عن الطرفية للعلم الاجمالي
فتدبر.
الجهة الخامسة
في أنه هل الخطابات الشفاهية تختص بالحاضرين المشافهين أو انها تعم الغائبين
بل المعدومين أيضا؟ فيه خلاف بين الاعلام، وتنقيح المرام في المقام هو ان الخطابات
الواردة في الكتاب والسنة على أنحاء:
منها: ما كان من قبيل: قوله: يجب على الحاضر كذا وعلى المسافر كذا وعلى المستطيع
كذا ونحو ذلك مما كان المخاطبة بنفس المواجهة من دون توسيط أداة خطاب في البين.
531

ومنها: ما كان من قبيل قوله: يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا ونحو ذلك، مما كان
الخطاب بأداة النداء وكان موضوع الخطاب عنوانا عاما قابلا للانطباق على الموجود
والمعدوم.
ومنها: ما كان من قبيل قوله: يجب عليكم كذا وقوله: كتب عليكم الصيام ونحو
ذلك، مما كان التخاطب بأداة الخطاب وكان المكلف بالتكليف نفس المخاطب.
اما القسم الأول منها فلا ينبغي الاشكال في شمولها للغائبين بل المعدومين،
بل الظاهر هو خروج مثل هذا القسم عن حريم النزاع وعن مورد النفي والاثبات بينهم،
كيف وانه لا وجه لتوهم اختصاص مثل هذا القسم من الخطابات بخصوص المشافهين
وعدم شموله للغائبين والمعدومين بعد عموم العنوان وعدم ما يوجب الاختصاص
بالحاضرين، ومن ذلك ترى انه قد يكون المكلف والمقصود بالخطاب غير المخاطب في
مجلس الخطاب، كما في قولك لمن حضرك من الرجال: يجب على النساء كذا.
واما الاشكال في أصل شمول التكاليف المستفادة التكاليف المستفادة من الخطابات للمعدومين في زمن
الخطاب، نظرا إلى لا بدية وجود المكلف عقلا في صحة توجيه التكليف إليه، فمدفوع بأنه
كك في التكاليف الفعلية المستتبعة للبعث والزجر، فإنها هي التي يحكم العقل باستحالة
توجيهها نحو المعدوم فعلا، واما الغير البالغة إلى تلك المرتبة فلا محذور فيها، ضرورة انه لا مانع
من توجيه التكليف على وفق ما تقتضيه الحكمة والمصلحة قانونا نحو الموجود والمعدوم حين
الخطاب، ليصير فعليا منجزا عند اجتماع الشرائط وفقد الموانع، كقوله: يجب على المستطيع
كذا وعلى المسافر كذا، كما هو واضح.
واما القسم الثالث فالظاهر أنه لا اشكال أيضا في خروجه عن محل النزاع، وعدم
شموله الا لخصوص الموجودين الحاضرين حال الخطاب، وذلك من جهة وضوح ان
الخطاب الحقيقي يستدعى وجود المخاطب فعلا، لعدم صحة المخاطبة مع غير الموجود حال
الخطاب بل ومع الغائب عن مجلس الخطاب أيضا، وحينئذ فإذا فرضنا ان المكلف
هو المخاطب بالخطاب، فقهرا يلازم ذلك اختصاص التكليف الذي هو مضمون الخطاب
أيضا بخصوص الحاضرين وعدم شموله للغائبين، فضلا عن المعدومين حال الخطاب،
واما توهم انه في الخطاب الحقيقي يكفي وجود المخاطب ولو ادعاء ولا يعتبر فيه وجود المخاطب
حقيقة، فمدفوع بأنه في الموجود الا دعائي لا يكون الخطاب أيضا الا ادعائيا، من جهة ما
532

عرفت من عدم صحة الخطاب الحقيقي بقصد التفهيم الا إلى الموجود الحقيقي، كما هو
واضح.
وحينئذ فينحصر محل النزاع ومورد النفي والاثبات بالقسم الثاني الذي يكون
موضوع الخطاب فيه من العناوين العامة القابلة للانطباق على الموجود والمعدوم حين
الخطاب، كقوله: يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا، حيث إن مقتضي عموم المتلو
هو الشمول للغائبين والمعدومين أيضا كما أن مقتضي ظهور الأداة في الخطاب الحقيقي
هو الاختصاص بخصوص الحاضرين المشافهين، فيدور الامر حينئذ بين الاخذ
بظهور الأداة في الخطاب الحقيقي وتخصيص عموم ما في التلو بخصوص الحاضرين، و
بين الاخذ بعموم ما وقع في التلو وحمل الأداة على الخطاب الايقاعي، وفي مثله قد يقال في
تعميم الحكم المتكفل له الخطاب للغائبين والمعدومين بوجوه:
منها: ما افاده في الكفاية (1) من دعوى ان ظهور تلك الأدوات في الخطاب الحقيقي
انما كان من جهة الانصراف، والا فهي موضوعة للخطاب الايقاعي الانشائي، وان
الاختلاف انما كان ممن جهة الدواعي، فالمتكلم ربما يوقع النداء لكن لا بداعي الخطاب
الحقيقي، بل بدواع أخرى كالتحسر والتأسف كقوله أيا كوكبا ما كان أقصر عمره، وربما
يوقعه بداعي الخطاب الحقيقي كما كان ذلك هو الشأن أيضا في التمني والترجي ونحوهما،
فإنها أيضا موضوعة للايقاعي منها لا لخصوص الحقيقي منها، وحينئذ فإذا كان ظهورها
في الخطاب الحقيقي من جهة الانصراف دون الوضع نقول: بان الانصراف إلى الخطاب
الحقيقي انما يكون إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه كما في المقام، حيث يكفي في المانعية
عمومية ما وقع في التلو، خصوصا بعد ملاحظة عدم اختصاص الاحكام الملقى من الشارع
غالبا في نحو هذه الخطابات من نحو قوله: يا أيها الناس اتقوا، ويا أيها الذين آمنوا،
بخصوص من حضر مجلس الخطاب، وعليه فيؤخذ في مثل هذه الخطابات بعموم العنوان
المتلو للموجود والمعدوم حال الخطاب، ويحمل الخطاب على الخطاب الايقاعي الانشائي
من دون استلزام قضية العمومية أيضا لاستعمال كلمة (يا) في غير معناها الحقيقي. ولكن
فيه ان ظهور الياء في الخطاب الحقيقي بمقتضي الانصراف أو الغلبة أو غير ذلك انما كان

(1) ج 1 ص 357.
533

ظهورا مستقرا، فيزاحم حينئذ مع ظهور المتلو في العموم، فيوجب تخصيصه بالحاضرين،
خصوصا مع احتمال مدخلية قيد الحضور في التكليف المتكفل له الخطاب، حيث يكفي
في القرينية عليه نفس الخطاب.
ومنها: ان الياء وان كان ظاهرا في الخطاب الحقيقي وضعا أو انصرافا ويحتاج إلى
وجود المخاطب حين الخطاب، الا انه يكفي في صحة الخطاب مطلق الموجودية ولو ادعاء،
بادعاء المعدوم بمنزلة الموجود، فان ذلك امر متداول عند أهل اللسان في محاوراتهم
واستعمالاتهم، ومن ذلك ترى كثيرا انهم يدعون ما لا شعور له بمنزلة ذي الشعور ويخاطبون
معه، كقوله: (أيا جبلي نعمان بالله خليا) بل يثبتون للوجود الا دعائي آثار الوجود الحقيقي
كما في (انشبت المنية أظفارها) ونحو ذلك من الاستعمالات المتداولة ففي المقام أيضا إذا
ادعى المعدوم منزلة الموجود يصلح معه المخاطبة، فلا محذور حينئذ في شمول الخطابات
للمعدومين. ولكن فيه انه وان لم ينكر وقوع مثل هذه الادعاءات في نحو تلك
الاستعمالات ولكنه بعد عدم صلاحية المعدوم للخطاب الحقيقي فلا محالة يكون الخطاب
أيضا ادعائيا من جهة ان الخطاب الحقيقي بقصد التفهيم يستحيل توجيهه نحو المعدوم حال
الخطاب. على أنه لو اغمض عن ذلك وقلنا بصحة الخطاب الحقيقي نحو الموجود الادعائي
لا يكاد يفيد أيضا في المطلوب من شمول الخطابات للمعدومين في زمان الخطاب، من جهة
ان ذلك كما ذكر يحتاج إلى ادعاء المعدوم بمنزلة الموجود الحقيقي، ومثل ذلك مما لا طريق
إلى احرازه، إذ لم يعلم بان الشارع في خطابه ادعى المعدومين بمنزلة الموجود، ومعه يشك
لا محالة في شمول الحكم المتكفل له الخطاب للمعدومين، خصوصا بعد احتمال مدخلية
قيد الحضور أيضا في التكليف، كما في وجوب صلاة الجمعة والعيدين ونحوهما، واما قضية
اطلاق الخطاب فهو أيضا غير منتج لاثبات ذلك، من جهة عدم تكفله لاحراز موضوعه،
وعليه فكيف يمكن دعوى التعميم للغائبين والمعدومين؟
ومنها: دعوى تساوى الموجود والمعدوم في خطاباته سبحانه، لإحاطته سبحانه
بالموجود حال الخطاب والموجود في الاستقبال إلى يوم القيمة، وفيه أيضا ما افاده
في الكفاية (1) بان احاطته سبحانه وتعالى بالموجود في الحال والاستقبال لا يقتضي

(1) ج 1 ص 358.
534

صلاحية المعدوم للمخاطبة، وعدم صحة المخاطبة الحقيقية معهم أيضا لا يقتضي نقصا في
ناحيته سبحانه بوجه أصلا، كما لا يخفى.
ثم انه من التأمل فيما ذكرنا أيضا من احتمال مدخلية قيد الحضور ظهر عدم اجداء
قاعدة الاشتراك أيضا في اثبات التعميم للمعدومين، وذلك من جهة ان الذي تقتضيه
القاعدة المزبورة انما هو من مدخلية الخصوصيات الذاتية، كخصوصية الزيدية والعمروية
والبكرية. واما الخصوصيات العرضية الصنفية كخصوصية الحضور وكونهم موجودين في
زمان الخطاب فلا يكون من شأن القاعدة الغائها ونفيها، ومن ذلك ترى اختصاص
بعض الأحكام كوجوب صلاة الجمعة بل وصلاة العيدين وإقامة الحدود على قول بحال
الحضور، وحينئذ فمع احتمال مدخلية خصوصية الحضور في تكليف الحاضرين الموجودين
في زمان صدور الخطاب، فلا مجال للتشبث بقاعدة الاشتراك لاثبات الحكم المتكفل له
الخطاب في حق المعدومين أيضا، كما هو واضح.
وحينئذ فالأولى في اثبات تعميم الحكم المتكفل له الخطابات للمعدومين هو التشبث
بعموم الناس أو المؤمنون الواقع في حيز الخطاب، بدعوى ان الخطاب من جهة ظهوره
في الخطاب الحقيقي وان كان غير شامل عقلا لغير الحاضرين في مجلس الخطاب
الا ان مقتضي عموم العنوان الواقع في التلو هو شمول الحكم المتكفل له الخطاب
لغير الحاضرين أيضا من الغائبين والمعدومين، حيث لا منافاة بين اختصاص الخطاب
بخصوص الحاضرين في مجلس الخطاب وبين عموم الحكم المكفل له الخطاب
لغير الحاضرين، بل قد عرفت امكان الحكم والتكليف بغير الحاضرين المخاطبين
بالخطاب، كما في قوله مخاطبا لجماعة من الرجال: يجب على الحائض من النساء كذا
وكذا.
واما ما ذكرنا من احتمال مدخلية قيد الحضور في التكليف فيدفعه قضية الاطلاق
حيث إن مقتضاه هو عدم مدخلية قيد الحضور في التكليف المستفاد من الخطاب.
واما توهم ان الاخذ بالاطلاق في نفى مدخلية القيد انما يصح فيما لو كان القيد
المحتمل دخله من القيود المفارقة كالقيام ونحو ذلك، لا في مثل القيود الملازمة الغير
المفارقة كما في المقام.
وذلك لأنه في نحو هذه القيود لا يلزم من عدم بيانها اخلال للمتكلم بغرضه، كي
535

بعدم بيان دخلها في الغرض يتم الاطلاق، بخلاف القسم الأول فإنها من جهة قابليتها
للانفكاك ففي فرض دخلها في الغرض يجب إقامة البيان على دخلها في الغرض، والا يلزم
الاخلال بالغرض الذي هو مستحيل من الحكيم، فيستكشف من عدم بيانه عدم دخلها
في المطلوب، وعليه فإذا كان قيد الحضور المحتمل دخله من القيود اللازمة الغير المفارقة
عن الموجودين الحاضرين في زمن الخطاب، بحيث لا يلزم من عدم ذكره وبيانه على تقدير
دخله اخلال بالغرض، فلا جرم لا يتم امر الاطلاق كما لا يخفى.
فمدفوع بأنه كك إذا لم يكن القيد المحتمل دخله من القيود الخفية المغفول عنها غالبا،
والا فمع فرض كونه غير ملتفت إليه بحسب الغالب فلا يكاد يفيد مجرد وجدان القيد
في الاكتفاء به عن ذكره وبيانه، بل لابد من إقامة البيان على دخله في غرضه ومطلوبه
لئلا يأخذ المكلف باطلاق كلامه حتى في غير مورد وجود القيد، والا لأخل بغرضه ومرامه.
وبهذه الجهة أيضا قلنا بصحة التمسك بالاطلاق لنفى دخل مثل قصد القربة والوجه
والتميز في العبادة، بملاحظة كونها من القيود الخفية المغفول عنها غالبا. ففي المقام أيضا
نقول: بان قيد الحضور وان كان من القيود الملازمة الغير المنفكة عن الموجودين في زمان
الخطاب، ولكن لما كان مغفولا عنه وغير ملتفت إليه غالبا فعلى تقدير دخله في التكليف
لابد للمولى من بيانه والتصريح بدخله في مرامه ومطلوبه، كي لا يأخذ المكلفون باطلاق
الحكم والتكليف الذي هو مفاد الخطاب، ولا يصح له الاكتفاء عن ذكره وبيانه
بوجدان المخاطبين في مجلس الخطاب للخصوصية، والا لأخل بغرضه ومرامه. وحينئذ فعلى
ذلك فنفس الخطاب وان كان غير قابل للشمول لغير الحاضرين في مجلس الخطاب الا ان
الحكم المتكفل له الخطاب بمقتضي عموم العنوان الواقع في التلو يعم الغائبين والمعدومين
أيضا.
بل ومن ذلك البيان ظهر صحة التمسك بقاعدة الاشتراك أيضا في اثبات التعميم
وذلك انما هو باجراء أصالة الاطلاق أولا في حق الموجودين المخاطبين في نفى احتمال
مدخلية خصوصية قيد الحضور ثم تسرية الحكم بقاعدة الاشتراك القاضية بعدم مدخلية
الخصوصيات الذاتية في حق غيرهم من الغائبين، حيث إنه بمقتضي هاتين القاعدتين
يثبت التكليف المستفاد من الخطابات في حق غير المشافهين ولو كان الخطاب بمثل قوله:
يجب عليكم كذا وكذا.
536

ويمكن استفادة التعميم من وجه آخر، وهو استفادته من جهة نفس الخطاب وظهوره
في الكشف عن المصلحة المطلقة وعن فعلية التكليف بالنسبة إلى كل من وجد وبلغ من
افراد المكلفين، بتقريب ان عدم صحة توجيه الخطاب الحقيقي إلى المعدوم لما لم يكن من
جهة وضع الأداة، بل ولا من جهة قرينة متصلة لفظية أو عقلية ارتكازية بل كان ذلك
من جهة قرينة عقلية غير مرتكزة، بلحاظ ان حكمه بعدم صحة توجيه الخطاب الحقيقي
نحو المعدوم انما هو بعد التفاته إلى أن المواجهة بالخطاب الحقيقي لابد لها من طرف موجود
ذي شعور، فلا جرم يكون من قبيل القرائن المنفصلة الغير الكاسرة لظهور الخطاب، نظير
حكمه باشتراط القدرة في صحة توجيه التكليف، وفي مثله فيؤخذ بظهور الخطاب
في الكشف عن المصلحة المطلقة في الفعل وعن فعلية التكليف بالنسبة إلى كل من وجد
وبلغ من افراد المكلفين، كما يؤخذ بظهور الهيأة في الكشف عن المصلحة في المتعلق حتى في
حال العجز وعدم القدرة، وبهذا التقريب أيضا أمكن استفادة التعميم لغير المشافهين
في الحكم الذي هو مفاد الخطاب وان كان نفس الخطاب بمقتضي تلك القرينة العقلية
لا يعم غير المشافهين، ولكن الأستاذ لم يتعرض لبيان هذا التقريب بل اقتصر على بيان
التقريب الأول.
ثم إن الفرق بين التقريبين هو انه على التقريب الأول يختص استفادة التعميم بما
لو كان الخطاب مصدرا بأداة النداء، مثل قوله: يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا،
بخلاف التقريب الأخير الذي ذكرناه، فإنه عليه أمكن استفادة التعميم ولو كان
التخاطب بأداة الخطاب، كقوله: كتب عليكم الصيام ونحوه، كما هو واضح.
ثم إن لو أبيت عن ذلك كله نقول بأنه يكفي في تعميم الحكم المتكفل له الخطاب
القرينة النوعية العرفية على الغاء مثل هذه الخصوصيات في التكاليف الشرعية، حيث إنه
من جهتها يقطع بأنه لا مدخلية لخصوصية الحضور في التكليف وان توجيه التكليف إلى
الحاضرين انما هو من جهة كونهم من افراد المكلفين لا من جهة خصوصية حضورهم.
ومن ذلك أيضا ترى بناء الأصحاب رضوان الله عليهم على الغاء مثل تلك
الخصوصيات في التكاليف الشرعية المستفادة من الخطابات الواردة في الكتاب والسنة،
حيث لم يتوهم أحد اختصاص حرمة النقض في مثل عليه السلام لزرارة: (لا ينبغي
لك ان تنقض اليقين بالشك) بخصوص زرارة، وكذا في قوله عليه السلام لزينب بنت
537

جحش (تغتسل) في الاختصاص بها دون غيرها، وهكذا غير ذلك من الخطابات
المتكفلة للأحكام الشرعية، بل ولعل مثل تلك القرينة النوعية السارية في جميع
الخطابات هي المدرك أيضا لقاعدة الاشتراك المعروفة، والا فلا دليل عليها بالخصوص
فتأمل. واما الاجماع فمدركه أيضا تلك القرينة النوعية وعليه فلا ينبغي الاشكال في عدم
اختصاص الاحكام المتكفلة لها الخطابات بخصوص المشافهين وشمولها للغائبين
والمعدوم أيضا، وان كان نفس الخطاب الحقيقي يقصر عن الشمول لغير الحاضرين من
جهة تلك القرينة العقلية المتقدم ذكرها، كما لا يخفى.
بقى الكلام فيما قيل من الثمرة بين القولين وهي ثمرتان:
الأولى: حجية ظهور الخطابات لغير المشافهين من الغائبين كالمشافهين بناء
على الشمول وعدم حجيته بناء على الاختصاص بالمشافهين، نظرا إلى دعوى احتمال إرادة
المتكلم خلاف الظاهر واتكاله في تفهيم مرامه على قرينة حالية أو مقالية معهودة بينه و
بين المخاطب.
الثانية: صحة التمسك بالاطلاقات وظهورا الخطابات القرآنية لكل من وجد وبلغ
من المعدومين على التعميم وعدم صحته على الاختصاص بالمشافهين حيث إنه
على اختصاص الحكم بالمشافهين يحتاج اثبات تعميمه للمعدومين بمقتضي
الاطلاق إلى احراز الاتحاد مع المشافهين في الصنف حتى يحكم بقاعدة الاشتراك
بالاشتراك معهم في الحكم، والا فمع عدم اثبات الاتحاد لا يكاد يفيد التشبث
بالاطلاقات وظهور الخطابات في التعميم للمعدومين، وحيث انه لا دليل على ذلك
ولا تقتضيه أيضا قاعدة الاشتراك من جهة ما تقدم من عدم اقتضائها الأنفى مدخلية
الخصوصيات الذاتية دون الخصوصيات العرضية كخصوصية الحضور ونحوه، فلا جرم بعد
احتمال عدم الاتحاد مع المشافهين لا مجال لاثبات الحكم وتعميمه للمعدومين.
والفرق بين الثمرتين واضح، فان الكلام في الأولى في صحة التمسك بظواهر الخطابات
وجوازه بالنسبة إلى غير المشافهين والمخاطبين بالخطاب وعدم صحته، نظرا إلى احتمال
إرادة المتكلم خلاف الظاهر واتكاله في تفهيم مرامه من خطابه على قرينة معهودة بينه
وبين المخاطبين، من غير نطر إلى اشتراك غير المشافهين مع المشافهين في الحكم والتكليف
أو اختصاصه بخصوص المخاطبين، ومن ذلك يجرى هذا الكلام حتى في موارد عدم الاتحاد
538

في الصنف كما في تمسك المجتهد بالظاهر لاثبات حكم صنف غير شامل له كتمسكه
بظهور ما دل على الحكم المتعلق بالنساء لاثبات الاحكام المختصة بهن. ففي الحقيقة يكون
البحث من الجهة الأولى، وحجية ظهور الخطابات كلية لغير المخاطبين المقصودين
بالافهام، من جملة المقدمات في البحث للثمرة الثانية حيث إنه يحتاج في الثمرة الثانية
إلى اثبات حجية الظهورات للمعدومين كي يتمسكوا بالظاهر لاثبات حكمه للموجودين
ثم اثباته لنفسهم بمقتضي قاعدة الاشتراك بعد احراز الاتحاد في الصنف، وهذا بخلافه
في الثمرة الثانية، فان الكلام فيها في صحة التمسك لكل من وجد وبلغ من المعدومين
بالظواهر على التعميم، وعدم صحته على الاختصاص، واحتياج التعميم إلى قاعدة
الاشتراك واحراز الاتحاد في الصنف.
وعلى كل حال فالثمرة الأولى منهما مبنية على القول بحجية الظهورات لخصوص من
قصد افهامه، والا فبناء على عدم الاختصاص بمن قصد افهامه كما هو التحقيق أيضا
فلا مجال لهذه الثمرة، حيث إنه كان لغير المشافهين أيضا الاخذ بظهور الخطابات في استفادة
مرام المتكلم من خطابه، خصوصا مع ما عرفت من منع كون المشافهين مخصوصين بكونهم
مقصودين بالافهام من الخطابات المتكفلة للأحكام الشرعية، بل وان جميع الناس إلى
يوم القيمة كانوا كذلك وان لم يعمهم الخطابات.
واما الثمرة الثانية: فهي أيضا غير ظاهرة من جهة ما بينا سابقا من اقتضاء
الاطلاقات نفى مدخلية قيد الحضور في التكليف الحاضرين باعتبار كونه من القيود المغفول
عنها غالبا، واما ما قيل: من عدم الاحتياج إلى ذكره والتنبيه عليه بعد كونه من القيود
اللازمة للمشافهين، فلا يلزم من عدم ذكره في دخله في التكليف اخلال منه بغرضه
فمدفوع بان مجرد ذلك غير مجد في دفع محذور نقض الغرض بعد كونه من القيود المغفول عنها
غالبا، خصوصا بعد فرض كون المتكلم في مقام بيان مرامه على الاطلاق، حتى بالنسبة
إلى غير المشافهين، بل لابد حينئذ من بيانه والتصريح بمدخلية قيد الحضور في تكليف
الحاضرين لئلا يأخذ غير الحاضرين باطلاق تكليف الحاضرين ويستكشفوا من الخطاب
المتوجه إليهم تكليف أنفسهم، هذا كله مع امكان منع كون خصوصية الحضور
من القيود اللازمة غير المنفكة عن الحاضرين من جهة وضوح
عدم كون قيد الحضور في زمان الخطاب أو النبي مثلا من القيود اللازمة
539

الغير المفارقة عن اشخاص الحاضرين مجلس الخطاب، بل وانما ذلك من قبيل الأوصاف
المفارقة، من جهة جواز كون المخاطبين فاقدين للحضور في أثناء عمرهم. وحينئذ فإذا
جرى أصالة الاطلاق في نفى اعتبار قيد الحضور في تكليف الحاضرين فصح تمسك
المعدومين لا محالة بظهور الخطابات لاثبات تعميم الحكم، حيث إنه باجراء أصالة
الاطلاق في حق المشافهين ينفى احتمال مدخلية خصوصية الحضور ثم ينفى احتمال دخل
الخصوصيات الذاتية بقاعدة الاشتراك، فيستفاد من اجل هاتين القاعدتين
تعميم التكليف المستفاد من الخطاب لكل من وجود وبلغ من المعدومين، ومعه فينتفي
الثمرة المزبورة أيضا، من جهة انه على كل تقدير يصح تمسك المعدومين باطلاقات
الخطابات القرآنية وغيرها.
ومن ذلك كان الحري هو اسقاط هذا البحث من رأسه
حيث إنه لا يزيد الا اغتشاشا في الأذهان الصافية، والا فلا اشكال في جواز التمسك
بالاطلاق الواردة في الكتاب والسنة للمعدومين كالمشافهين، كما عليه أيضا ديدن
الأصحاب من الصدر الأول إلى زماننا هذا، حيث لا يزال يتمسكون عند الشك في مدخلية
شئ في التكليف بالاطلاقات الواردة في الكتاب والسنة، فكان مثل هذه التشكيكات
تشكيكات في البديهيات، كما هو واضح.
الجهة السادسة
اختلفوا في أن الاستثناء الواقع عقيب الجمل المتعددة هل هو راجع إلى الجميع أو إلى
خصوص الأخيرة؟ وذلك بعد الفراغ منهم على مرجعية الأخيرة لكونها القدر المتيقن
في المرجعية، وظاهر عنوان البحث يقتضي تخصيص النزاع بما لو كان المخصص متصلا،
بان كان الخاص والجمل المتعددة في كلام واحد، والا ففي فرض انفصاله وكونهما في
كلامين مستقلين لا مجال لعنوان البحث بالاستثناء ولا لدعوى القطع بمرجعية الأخيرة
بكونها القدر المتيقن من التخصيص، إذ حينئذ يكون نسبة المخصص إلى الأخيرة والى غيرها
على حد سواء، فيحتاج تعين الأخيرة كغيرها إلى قرينة معينة، والا فيسقط الجميع
عن الحجية من جهة العلم الاجمالي بتخصيص الجميع أو احديها المرددة بين الأخيرة
وغيرها، فلابد حينئذ من الحكم عليها بالاجمال.
540

ولكن محل الكلام كما عرفت حسب عنوانهم البحث بالاستثناء انما هو في فرض
اتصال المخصص، وعليه فلا كلام في مرجعية الأخيرة لكونها القدر المتيقن من التخصيص
وانما الكلام في رجوعه إلى غيرها من الجمل الاخر، والكلام فيه أيضا يقع تارة في أصل
امكان رجوعه إلى الجميع ثبوتا، وأخرى عن في وقوعه وترجيح احتمال الرجوع إلى الجميع على
احتمال عدمه بعد الفراغ عن أصل امكان رجوعه إلى الجميع، فهنا مقامان:
اما المقام الأول: فقد يقال بعدم امكان رجوعه إلى الجميع باعتبار استلزامه لمحذور
استعمال الا في اخراجات متعددة باستعمال واحد، ولزوم هذا المحذور انما هو من جهة
خصوصية الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف والهيئات. ولكن فيه انه مضافا إلى منع
أصل المبني كما قررناه في محله من عموم الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف كالوضع
لا يكاد يتم فيما لو كان الاستثناء بغير الحروف من الأسماء الموضوعة للاخراج كغير وسوى
وعدا وخلا ونحو ذلك، حيث إنها باعتبار عمومية الموضوع له فيها يمكن رجوعهما إلى الجميع
باستعمالها في طبيعة الاخراج غايته احتياجه في إرادة الخصوصيات إلى تعدد الدال
والمدلول.
وعلى فرض كون الاستثناء بمثل الا وتسليم خصوص الموضوع له فيها نقول: بان
ما ذكر من المحذور انما يتوجه إذا أريد كل واحدة من الإضافات الخروجية من اللفظ
بالاستقلال والا ففي فرض لحاظ المجموع بلحاظ واحد فلا محذور يرد عليه، وبيان ذلك
هو ان المعاني الحرفية بعد ما كانت من سنخ النسب والإضافات المتقومة بالطرفين ففي
مثل الفرض تارة يلاحظ في مقام الاستعمال الإضافة الخروجية بين شئ وبين أمور
متعددة بنحو يكون كل واحد من تلك الأمور طرفا للإضافة في لحاظه بالاستقلال ويلزمه
استقلال كل واحد من تلك الإضافات الاخراجية في مقام اللحاظ وأخرى
يلاحظ الإضافة الاخراجية بينه وبين مجموع أمور متعددة بجعل المجموع طرفا
للإضافة في لحاظه، نظير ملاحظة نسبة التقابل بين الشئ وصف من العسكر من حيث
لحاظ نسبة التقابل تارة بينه وبين كل واحد من افراد داك الصف بالاستقلال، وأخرى
لحاظها بينه وبين مجموع الصف.
وبعد ذلك نقول: بان الاشكال المزبور انما يتوجه على الفرض الأول من لحاظ
اخراجات متعددة على الاستقلال، والا فعلى الفرض الثاني من لحاظ الجمل المتعددة
541

بمجموعها طرفا للإضافة الاخراجية فلا يتوجه الاشكال، حيث إنه عليه لا يكون في البين
الا إضافة واحدة شخصية قائمة بالمخرج ومجموع الجمل، ولا يكون الأداة أيضا الا
مستعملة في اخراج واحد شخصي ومجرد تعدد المخرج منه والمخرج مثلا خارجا حينئذ لا
يوجب تعددا في الإضافة الاخراجية القائمة بالمجموع، كما هو واضح. وعليه فلا مجال
للاشكال في امكان رجوع الاستثناء إلى الجميع بمثل البيان المزبور.
وحينئذ فالأولى في الاشكال في المقام هو الاشكال عليه من جهة المستثنى في مثل
قوله: أكرم العلماء والشعراء والتجار الا زيدا، مريدا به خروج زيد عن كل واحد
من العمومات، حيث إنه يلزمه حينئذ إرادة معان متعددة من لفظ واحد وهو زيد، ومن
هذه الجهة يتعين رجوعه إلى الأخيرة لا غيرها، هذا.
ولكن يمكن ان يدفع ذلك أيضا بإرادة المسمى بزيد من اللفظ المزبور ولو كان بعيدا
في نفسه، حيث إنه عليه يكون زيد مستعملا في معنى كلي له مصاديق متعددة، غايته انه
يحتاج إلى توسيط دوال أخر على إرادة الخصوصيات، ولكن مع ذلك كله يبعد جدا
الحمل على المسمى، فلا محيص في مثله بعد بعد الحمل المزبور من تعين رجوعه إلى خصوص
الأخيرة.
ثم إن ذلك أيضا إذا لم يكن في البين من هو مجمع العناوين الثلاث، والا فمع وجوده
فلا بأس باخراجه من الجميع، كما لو فرض كون المسمى بزيد منحصرا في زيد بن عمرو
وكان ذلك مجمعا للعناوين الثلاث، حيث إن في هذا الفرض يصح اخراجه من الجمل
المتعددة، من دون استلزامه لمحذور أصلا ولا احتياج إلى التأويل بالمسمى، كما هو
واضح.
ومن ذلك ظهر الحال أيضا فيما لو كان الاستثناء من قبيل الصنف كالفساق مثلا
حيث يجوز رجوعه حينئذ إلى الجميع أيضا من غير استلزامه لمحذور استعمال اللفظ في أكثر
من واحد.
ثم انه بعد الفراغ عن أصل امكان رجوع الاستثناء المتعقب لجمل متعددة إلى الجميع
يبقى الكلام في المقام الثاني في مقام اثبات ذلك واستظهاره، وفي ذلك نقول: انه قد
عرفت ان الأخيرة هي القدر المتيقن في المرجعية لأنه على كل تقدير يعلم بتخصيصها، واما
غير الأخيرة فلا ظهور للكلام يقتضى رجوعه إليه، وفي مثله لو بنينا على حجية أصالة
542

العموم من باب التعبد فلا اشكال في أن لازمه جريان أصالة العموم بالنسبة إلى ما عدا
الأخيرة، من جهة الشك في أصل التخصيص بالنسبة إليها. واما لو بنينا على حجيتها من
باب الظهور فيشكل جريان أصالة العموم فيها، من جهة ان اتصالها بما يصلح للقرينية
يوجب اجمالا فيها فلا يبقى لها ظهور حتى يتمسك بها عند الشك في تخصيصها، فلابد حينئذ
من الحكم عليها بالاجمال والرجوع فيها إلى ما تقتضيه الأصول العملية من استصحاب
ونحوه، فيما لم تكن الدلالة في طرف العام بالوضع وفى المستثنى بالاطلاق ومقدمات
الحكمة، والا فيؤخذ فيها بأصالة العموم ولا يعتنى إلى احتمال تخصيصها برجوع الاستثناء
إلى الجميع.
وتوضيح ذلك هو ان الدلالة في كل من العمومات والاستثناء المتصل بها اما ان
تكون بالوضع، واما بالاطلاق ومقدمات الحكمة، وثالثة تكون الدلالة في العام بالوضع
وفى الاستثناء بالاطلاق، ورابعة بعكس ذلك.
فعلى الأولين تسقط العمومات عن الحجية، لتصادم الظهورات، ولابد من الرجوع إلى
الأصول العملية من استصحاب ونحوه، من جهة اختلاف الحال حينئذ حسب اختلاف
الحالة السابقة، من حيث العلم بكونه محكوما بحكم العام تارة وبحكم الخاص أخرى
والجهل بالحالة السابقة ثالثة.
وعلى الثالث لابد من الاخذ بالعام وعدم الاعتناء باحتمال رجوع الخاص إليه،
ولا مجال حينئذ أيضا لتوهم اجمال العام باتصاله بالخاص المحتمل رجوعه إليه، من جهة
ان ذلك انما هو في فرض صلاحية الخاص المتصل للقرينية عليه، وبعد فرض كون الدلالة
فيه من جهة الاطلاق لا يكاد صلاحيته للقرينية على العام، بل الامر حينئذ بالعكس،
فان العام من جهة كون الدلالة فيه بالوضع يصلح للبيانية عليه، فينفي موضوع الاطلاق
في طرف الخاص، لكونه من قبيل الدليل بالنسبة إليه، كما هو واضح.
ولئن شئت قلت بان ظهور العام في العموم بعد كونه بالوضع ظهور تنجيزي غير معلق
على شئ بخلاف الخاص، فان ظهوره لما كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة يكون تعليقيا
منوطا بعدم ورود بيان على خلافه، وفي مثله يكون الأثر قهرا للظهور التنجيزي، فيقدم
على الظهور التعليقي من جهة صلاحيته للبيانية عليه، بخلاف العكس فان صلاحية
هذا الظهور التعليقي للقرينية على الظهور التنجيزي دوري، ففي مثله لا يكاد تصل النوبة مع
543

هذا العام إلى الظهور الاطلاقي في طرف الخاص، حتى يجئ فيه احتمال الصلاحية
للقرينية على العام، وهو ظاهر.
وعلى الرابع يجئ فيه احتمال صلاحية الخاص للقرينية والبيانية للعمومات عند
عدم ظهوره في الرجوع إلى الجميع، فلابد من الحكم في غير الأخيرة من سائر الجمل
بالاجمال والرجوع فيها إلى الأصول العملية من استصحاب ونحوه، هذا كله في الخاص
المتصل بالجمل المتعددة.
واما الخاص المنفصل عنها فقد عرفت عدم تعين مرجعية الأخيرة في مثله، من جهة
تساوي الأخيرة وغيرها في المرجعية، وعليه فعند الدوران في رجوعه إلى بعضها أو إلى
الجميع يسقط الجميع عن الحجية، من جهة العلم الاجمالي، ولابد من الحكم عليها أي
على الجميع بحكم الاجمال والرجوع إلى الأصول العملية، من غير فرق في ذلك بين كون
الدلالة في كل واحد من العمومات والخاص المنفصل بالوضع، أو بالاطلاق، أو كون
الدلالة في طرف العمومات بالوضع وفي طرف الخاص بالاطلاق، أو بالعكس، وذلك
لما سيجئ انشاء الله تعالى من أن عدم البيان الذي هو مقوم الاطلاق انما هو عدم البيان
في الكلام الذي وقع به التخاطب لا عدم البيان على الاطلاق ولو في كلام آخر منفصل
عن الكلام الذي وقع به التخاطب، فإذا فرض حينئذ وقوع العام والخاص في كلامين
مستقلين فقهرا يستقر الظهور الاطلاقي للمطلق منهما، من غير صلاحية ما كان الوضع منهما
للقرينية والبيانية عليه، ومع استقرار الظهور فيه فقهرا بمقتضي العلم الاجمالي يتصادم
الظهوران ويتساقطان عن الحجية، ومعه لابد من الرجوع إلى ما يقتضيها الأصول العملية فتدبر.
الجهة السابعة
إذا تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده فهل يوجب ذلك تخصيصه به أم لا؟ فيه
خلاف بين الاعلام. وليكن الكلام فيما لو كان العام مستقلا فيما حكم عليه في الكلام
كقوله سبحانه: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إلى قوله: وبعولتهن أحق
بردهن) والا فإذا لم يكن كك بان كان العام قد ذكر توطئة لحكم الضمير كقوله:
والمطلقات أزواجهن أحق بردهن، فلا شبهة في تخصيصه به، كما أنه لابد وأن يكون محل
544

الكلام فيما لو كان العام والكلام الذي يتصل به الضمير في كلام واحد، على نحو كان
الكلام المشتمل على الضمير من توابع ما اشتمل على العام، من جهة عدم تصور فرض
استقلال كل من العام والضمير الراجع إليه في الكلام، على معنى كونهما في كلامين
مستقلين، نعم لا بأس بذلك في مثل أسماء الإشارة حيث أمكن فرض كونهما في كلامين
مستقلين كامكان فرضهما في كلام واحد وقع به التخاطب.
وعلى أي حال فحيثما لا يمكن ابقاء العام على ظهوره في العموم مع حفظ ظهور الضمير
في المطابقة مع المرجع من جهة العلم بمخالفة أحد الظهورين للواقع يدور الامر بين التصرف
في العام وتخصيصه بما أريد من الضمير الراجع إليه، بحمله على خصوص الرجعيات
لا الأعم منها ومن الباينات، وبين التصرف في الضمير: اما بنحو الاستخدام بارجاعه إلى بعض
ما هو المراد من المرجع، واما بنحو المجاز في الاسناد بارجاعه إلى تمام المرجع توسعا.
وفي مثله قد يقال كما في الكفاية وغيرها بتقديم أصالة الظهور في العام على أصالة
الظهور في الضمير في التطابق مع لمرجع، لكونه أي العام مما شك فيه في المراد مع العلم
بأصل الوضع، حيث يحتمل فيه كون المراد منه هو خصوص الرجعيات أو الأعم منها ومن
الباينات، فيجرى فيه أصالة الظهور، بخلافه في الضمير، فإنه لاشك فيه في المراد من
جهة العلم بإرادة خصوص الرجعيات، وانما الشك في كيفية الاستعمال، وفي مثله لا مجرى
فيه لأصالة الظهور والحقيقة، فان القدر المتيقن من السيرة وبناء العقلاء على الحجية انما
هو في صورة الشك في المراد لا في صورة الشك في كيفية الاستعمال مع القطع بالمراد، ومن
ذلك أيضا قلنا بعدم جريان أصالة الظهور والعموم لاخراج ما يقطع بخروجه عن حكم
العام عن موضوعه، اقتصارا على المتيقن من السيرة وبناء العقلاء على الحجية، وحينئذ فإذا
لا يجري أصالة الظهور في طرف الضمير، بملاحظة معلومية المراد منه بالإرادة الجدية من
كونه خصوص الرجعيات، فلا دوران في البين بين أصالة الظهورين، فتجري أصالة
الظهور حينئذ في طرف العام، ويتصرف في الضمير اما بنحو الاستخدام أو بنحو المجاز
في الاسناد. ولئن شئت قلت: ان عدم جريان أصالة الظهور في طرف الضمير انما هو من
جهة انتفاء الأثر عليه بخلافه في طرف العام فإنه مما يترتب عليه الأثر فتجري أصالة
الظهور فيه دون الضمير.
ولكن يدفع ذلك بأنه وان كان لا مجرى لأصالة الظهور في طرف الضمير، فلا دوران
545

بين أصالة الظهور في الضمير في التطابق وبين أصالة الظهور في العام، الا ان مجرد ذلك
لا يقتضي جريانها في طرف العام، فإنه لا أقل من صلاحية الضمير باعتبار اتصاله
بالكلام للقرينية على العام، من جهة احتمال كون استعماله على طبق وضعه، وفي مثله
من المعلوم انه لا يبقى مجال ظهور للعام في العموم، حتى يجري فيه دليل التعبد بالظهور، نعم
لو كان العام والضمير في كلامين مستقلين كما قلنا بتصويره في مثل أسماء الإشارة، أو قلنا
بحجية أصالة العموم من باب التعبد المحض لكان للقول بجريان أصالة الظهور في العام
كمال مجال، ولكنك عرفت عدم تصور فرض استقلال العام والضمير في الكلام، وعدم
كون مدار الحجية في أصالة الحقيقة على التعبد، بل على الظهور التصديقي النوعي، وعليه
فالضمير حسب اقترانه بالعام يكون مما يصلح للقرينية على العام، ومعه فلا يكون له ظهور
في العموم حتى يشمله دليل التعبد الآمر بالغاء احتمال الخلاف، كما لا يخفى.
الجهة الثامنة
اختلفوا في جواز تخصيص العام بالمفهوم المخالف وعدم جوازه، كقوله عليه السلام:
(خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ) وقوله عليه السلام: (إذا كان الماء قدر كر لم
ينجسه شئ) وذلك بعد الوفاق منهم ظاهرا على تخصيصه بالمفهوم الموافق.
ولكن التحقيق القول فيه هو ان العام وما له المفهوم مطلقا تارة يكونان في كلام واحد
وقع به التخاطب وأخرى في كلامين مستقلين، وعلى التقديرين فالدلالة فيهما تارة تكون
بالوضع وأخرى بالاطلاق وقرينة الحكمة، وثالثة بالوضع في العام وبالاطلاق في المفهوم،
ورابعة بعكس ذلك.
فعلى الأولين لابد من الحكم عليهما بالاجمال والرجوع إلى الأصول العملية، الا إذا
كان أحدهما أقوى من الآخر فيقدم على الآخر، من غير فرق في ذلك بين كون العام وماله
المفهوم في كلام واحد وفي كلامين مستقلين، إذ على الأول فظاهر، لعدم استقرار الظهور في
واحد منهما حينئذ بعد صلاحية كل منهما للقرينية على الآخر وتساويهما في الوضع

(1) الوسائل ج 1، الباب 1 من الماء المطلق، ص 101 ح 8 والباب 9 منه ص 117 ح 1.
(2) الوسائل ج 1، الباب 1 من الماء المطلق، ص 101 ح 8 والباب 9 منه ص 117 ح 2.
546

والاطلاق، وعلى الثاني أيضا كك من جهة تصادم الظهورين وصيرورتهما بحكم المجمل في
عدم حجية واحد منهما، حيث إنه لابد حينئذ من الحكم عليهما بالاجمال والرجوع إلى
الأصول العملية، الا إذا كان في البين ما يوجب قوة في أحدهما فيوجب استقرار ظهوره
لو كانا في كلام واحد أو اقوائيته لو كانا في كلامين مستقلين. ولكن في مثل ذلك حيث
لا ضابط كلي كذلك، من جهة اختلافه باختلاف خصوصيات المقامات والمناسبات بين
الاحكام وموضوعاتها، لا يمكن تأسيس قاعدة كلية سارية في جميع الموارد في تقديم
أحدهما على الآخر، بل لابد من لحاظ القرائن الخاصة وخصوصيات الموارد الخاصة من
مناسبات الحكم والموضوع ونحوها، فربما توجب قوة في العام، وأخرى في المفهوم سواء في
ذلك أيضا بين الموافق والمخالف.
وعلى الثالث من فرض كون الدلالة في العام بالوضع وفى المفهوم بالاطلاق: فان
كانا في كلام واحد فلا اشكال في الاخذ بالعام ورفع اليد عن المفهوم، بل لا دوران
حينئذ حيث إنه مع الظهور الوضعي للعام لا يبقى مجال للظهور الاطلاقي في المفهوم، حتى يجئ
فيه احتمال التخصيص، فان الظهور الاطلاقي من جملة مقدماته عدم البيان على خلافه،
والعام بعد كون الدلالة فيه بالوضع صالح للبيانية، فيرتفع به موضوع الاطلاق.
واما لو كانا في كلامين مستقلين فقد يقال: بأنه أيضا كذلك وانه يقدم العام الوضعي عليه
نظرا إلى تنجيزية الظهور الوضعي في العام وتعليقيته في الخاص والمفهوم، وإناطته بعدم
البيان على خلافه.
ولكنه فاسد لما تقدم، وسيجئ بان عدم البيان الذي هو مقوم الاطلاق انما
هو في الكلام الذي وقع به التخاطب لا عدم البيان بقول مطلق ولو إلى الأبد بكلام
منفصل آخر عن الكلام الملقى إلى المخاطب في مقام تخاطبه، ومن ذلك ترى اخذ العرف
وأهل المحاورة بظهور الكلام الملقى إليهم عند عدم نصب المتكلم قرينة على الخلاف في
تخاطبه، من غير حالة منتظرة منهم في الاخذ بالظهور الاطلاقي بأنه لعله يأتي البيان من قبله
في الأزمنة الآتية بعد شهر أو شهرين أو سنة أو غير ذلك، ومن المعلوم انه لا يكون ذلك الا
من جهة استقرار الظهور الاطلاقي للمطلق عند عدم نصب المتكلم قرينة على المراد في
كلامه الذي أوقع به التخاطب. وعليه فإذا فرض كون العام وماله المفهوم في كلامين
مستقلين فقهرا يستقر الظهور الاطلاقي للمطلق في قبال الظهور الوضعي للعام، من غير
547

صلاحية الظهور الوضعي في العام للقرينية والبيانية عليه بنحو يرتفع موضوع الاطلاق،
وفي مثله لا مجال لتقديم ظهور العام عليه بمقتضي البيان المزبور، بل بعد استقرار الظهور
في الطرفين يقع بينهما المزاحمة فلابد من الحكم عليهما بحكم الاجمال والرجوع إلى الأصول
العملية ان لم يكن اقوائية في إحداهما، والا فيؤخذ بما هو الأقوى والا ظهر منهما، ويرفع اليد
عن ظهور الآخر كما هو واضح.
ومن ذلك البيان ظهر حكم الفرض الرابع أعني فرض كون الدلالة في المفهوم
بالوضع وفى العام بالاطلاق فإنه في فرض كونهما في كلام واحد يقدم المفهوم على العام،
من جهة تنجيزية ظهوره وتعليقية ظهور العام، وفي فرض كونهما في كلامين مستقلين،
يحكم عليهما بحكم الاجمال بمقتضي البيان المتقدم، الا إذا كان أحدهما أقوى من الآخر
فيؤخذ به ويرفع اليد عن ظهور الآخر، فتدبر.
الجهة التاسعة
اختلفوا في جواز تخصيص العموم الكتابي بالخبر الواحد وعدم جوازه بعد الاتفاق منهم
على تخصيصه بالخبر المتواتر. ولكن التحقيق هو الجواز، للسيرة المستمرة من الأصحاب من
قديم الأزمان إلى زمانا هذا على تخصيص العمومات الكتابية بالخبر الواحد الغير المحفوف
بالقرائن القطعية كتخصيص غيرها به، وعدم صلاحية ما تمسك به المانعون للمانعية،
تارة بقطعية العام الكتابي سندا وظنية سند الخبر فلا دوران بينهما من جهة عدم مقاومة
الظني مع القطعي، وأخرى بما ورد من الأخبار الكثيرة القطعية على طرح ما لا يوافق
الكتاب أو يخالفه من نحو قوله عليه السلام: (ما خالف قول ربنا لم أقله، (1) أو فاضربه على
الجدار، (2) أو زخرف (3)) على اختلاف ألسنتها، بدعوى ان المخالفة تعم المخالفة بنحو العموم
من وجه والمطلق، فيجب حينئذ طرح ما يخالف العموم الكتابي من الاخبار الآحاد، إذ فيه

(1) أصول الكافي ج 1 ح 5. وسائل الشيعة، ج 18 الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 15.
(2) لم نعثر عليه في كتب الحديث.
(3) أصول الكافي ج 1 ص 69 ح 3 و 4 وسائل الشيعة، ج 18 الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 12 و 14.
548

ما لا يخفى.
اما الأول فبأنه لا دوران بين سند العام الكتابي وسند الخاص الظني حتى يقال بعدم
مقاومة الظني للمعارضة مع القطعي، بل ولا دوران أيضا بين دلالتهما، من جهة معلومية
اقوائية الدلالة في الخاص من العام في العموم، كيف وان لازمه عدم جواز تخصيص العام
المتواتر السند بالخبر الواحد، مع أنه ليس كك قطعا، بل وانما الدوران انما كان بين دلالة
العام الكتابي وسند الخاص الظني، وفي مثله يكون الدوران والمعارضة بين الظنيين من
جهة ظنية دلالة العام أيضا، لا بين القطعي والظني، فكان الخاص حينئذ بسنده يعارض
دلالة العام الكتابي لا سنده حتى يتوجه الاشكال المزبور، ولا بدلالته من جهة ما عرفت
من اقوائية ظهوره من ظهور العام، ومن ذلك يقدم عليه بلا كلام مع القطع بصدوره، كما
يكشف عنه اطباقهم على جواز تخصيصه بالمتواتر أو المحفوف بالقرينة القطعية.
واما الوجه الثاني ففيه أيضا منع اطلاق تلك النصوص وشمولها للمخالفة بنحو العموم
المطلق بل ومن وجه أيضا، بل نقول باختصاصهما بمقتضي الانصراف بخصوص المخالفة
بنحو التباين الكلي، كيف وانه من المقطوع صدور اخبار كثيرة مخالفة للكتاب بنحو العموم
المطلق ومن وجه، فلابد حينئذ من الالتزام بالتخصيص بما صدر عنهم عليهم السلام من
الاخبار المخالفة بنحو العموم المطلق ومن وجه، وهو كما ترى! من اباء هذه الأخبار
بملاحظة ما اشتمل عليها من التعبيرات عن التخصيص، فان قوله عليه السلام: (ما خالف
قول ربنا لم أقله، أو زخرف، أو فاضربه على الجدار) ونحوها مما لا يكاد يتحمل
التخصيص، فلا محيص حينئذ بقرينة صدور مثل هذه الأخبار المخالفة بنحو العموم من
وجه والمطلق عنهم عليهم السلام من حملها على خصوص المخالفة بنحو التباين الكلي لو
فرض اطلاق فيها.
كما أن ما دل منها على طرح ما لا يوافق أيضا لابد من الحمل على ذلك، لو لم نقل
باختصاصها بمورد تعارض الخبرين ومقام ترجيح أحدهما على الآخر.
ثم إن كل ذلك أيضا في فرض صدق المخالفة عرفا على المخالفة بنحو العموم المطلق،
والا فمع عدم صدق المخالفة على مثل ذلك عرفا يخرج موضوعا عن تلك الأخبار.
وحينئذ فعلى كل حال لا مجال للتشكيك في جواز تخصيص العام الكتابي بالخبر الواحد
بمثل البيانات المزبورة بل لابد بمقتضي القواعد المقررة في محله من تخصيصه به كتخصيصه
549

بالخبر المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية.
نعم بعد ما ظهر ان الدوران في المقام كان بين سند الخاص الظني وبين دلالة العام
الكتابي لابين سنديهما ولا بين دلالتيهما يبقى الكلام في ترجيح أصالة التعبد بالسند
في الخاص على أصالة التعبد بالدلالة في طرف العام القطعي، ووجه تقديمه عليه بأنه من
جهة الحكومة كما قيل بدعوى مسببية الشك في حجية الظهور في العام عن الشك في
صدور الخاص الا ظهر في قباله، باعتبار ان موضوع الحجية في أصالة الظهور هو الظهور
الذي لم يرد أظهر في قباله أو من جهة الورود بمناط المزاحمة وتقديم أقوى الحجتين أو بمناط
آخر. وقد أشبعنا الكلام في ذلك مفصلا في مبحث التعادل والترجيح فراجع هناك
تعرف.
الجهة العاشرة
إذا ورد عام وخاص متخالفان، ففي كون الخاص ناسخا أو منسوخا أو مخصصا للعام
وجوه.
وقد يقرب قاعدة كلية في تنقيح ذلك وتعيين كونه ناسخا للعام أو منسوخا به أو
مخصصا له، وهي اعتبار كون الخاص واردا قبل حضور وقت العمل بالعام واعتبار
كون الناسخ واردا بعد حضور وقت العمل بالعام لاقبله حيث يقال حينئذ بان الخاص
ان كان مقارنا مع العام أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل بالعام يتعين كونه مخصصا
للعام وبيانا له، لا ناسخا له، من جهة انه يعتبر في النسخ ان يكون رافعا لحكم ثابت
فعلى من جميع الجهات، وقبل حضور وقت العمل بالعام لا يكون حكم فعلى في البين حتى
يكون قضيته رفع الحكم الثابت، فمن ذلك يتعين فيه كونه مخصصا للعام وبيانا له لا
ناسخا. واما ان كان وروده بعد حضور وقت العمل بالعام يتعين كونه ناسخا له،
لا مخصصا وبيانا له، فان مقتضى كونه بيانا هو لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة،
وهو قبيح بل محال، لأنه نقض للغرض الذي هو محال من الحكيم واما لو كان ورود
الخاص قبل ورود العام ففيه يحتمل الأمران، حيث يحتمل كونه مخصصا للعام ويحتمل
كونه منسوخا به. هذا ملخص ما أفيد في وجه التفصيل بين صورة ورود الخاص قبل
550

حضور وقت العمل بالعام أو بعده.
وقد عرفت ابتنائه على تسليم مقدمتين: الأولى قبح تأخير البيان عن وقت حضور
عمل المكلف بالعام، والثانية اعتبار كون السنخ رفعا للحكم الفعلي على الاطلاق،
حيث إنه على تقدير تمامية هاتين المقدمتين لابد من التفضيل المزبور وملاحظة كون
الخاص واردا قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعده، بالالتزام بالتخصيص في الأول و
بالسنخ في الثاني.
ولكن كلتا المقدمتين ممنوعة وذلك: اما المقدمة أولى وهي قبح تأخير البيان عن
وقت الحاجة فان أريد من وقت الحاجة وقت حاجة المولى إلى بيان مرامه فقبحه مسلم
لا اشكال فيه بل هو محال، من جهة استلزامه نقض الغرض الذي هو من المستحيل في
حق الحكيم، ولكن صغراه في المقام ممنوعه، حيث نمنع تعلق غرض الشارع في مثل تلك
العمومات ببيان المرام الواقعي، ومجرد احتياج المكلف إلى العمل لا يقتضي كون وقت
حاجته هو وقت حاجة المولى، من جهة جواز التفكيك بينهما. وان أريد بذلك وقت حاجة
المأمور والمكلف ولو لم يكن وقتا لحاجة المولى إلى البيان فقبحه غير معلوم بل معلوم العدم،
حيث إنه من الممكن كون المصلحة في القاء ظهور العام إلى المكلف عن خلاف المرام
الواقعي ليأخذ به ويتكل عليه حجة وبيانا إلى أن يقتضى المصلحة بيان المرام الواقعي،
كيف وانه كفاك في ذلك ما في موارد التعبد بالأصول والامارات المؤدية على خلاف
الواقعيات مع تمكن المكلف من تحصيلها بالاحتياط أو بالسؤال عن الأئمة عليهم السلام
بل وكثير من الاحكام التي بقيت تحت الحجاب إلى قيام الحجة عجل الله فرجه مع
احتياج العباد إليها، ومن المعلوم حينئذ انه مع امكان ذلك واحتمال وجود المانع عن ابراز
المرام النفس الأمري اما مطلقا أو إلى وقت خاص أو قيام المصلحة الأهم في عدم الابراز
لا مجال لاثبات كون الخاص المتأخر عن وقت العمل بالعام ناسخا لا مخصصا، بل حينئذ
كما يحتمل فيه كونه ناسخا يحتمل أيضا كونه مخصصا. نعم لو قيل بان وقت حاجة
المأمور ووقت العمل بالعام هو بعينه وقت حاجة المولى إلى بيان المرام النفس الأمري
وهو الخصوص لاتجه الحمل على النسخ في الخاص المتأخر، ولكن ودن اثباته خرط
القتاد، لما عرفت من عدم السبيل إلى هذه الدعوى بعد احتمال وجود مانع أو مزاحم
أقوى في البين اقتضى اخفاء الواقعيات بالقاء الظهور إلى المكلف على خلافها اما إلى
551

الأبد أو إلى وقت خاص بعد العمل بالعام.
واما المقدمة الثانية ففيها أيضا ان كون النسخ رفعا للحكم الثابت وان كان لا سبيل
إلى انكاره، ولكن نقول بأنه لا يلزمه كون ذلك الحكم الثابت فعليا على الاطلاق، بل
يكفي في صحته كونه رفعا لحكم ثابت في الجملة ولو بمرتبة انشائه الحاصل بجعل الملازمة
بينه وبين شرطه وسببه، كما في الواجبات المشروطة، كيف وان النسخ في الشرعيات
كالبداء في التكوينيات المتصور في الموقتات والمشروطات بالنسبة إلى المخلوقين، وحينئذ
فكما انه يصح في الاحكام العرفية نسخ الحكم في الموقتات والمشروطات قبل حصول
شرطها، ويكفي في صحته مجرد كونه رفعا لما هو المنشأ بالانشاء السابق، ولو كان ذلك مجرد
احداث الملازمة بين الامرين، كك في الأحكام الشرعية، فيكفي في صحته أيضا مجرد
كونه رفعا لما تحقق بالانشاء السابق ولو لم يكن حكما فعليا على الاطلاق، بل كان عبارة
عن صرف قضية تعليقية ومحض الملازمة بين وجود شئ ووجوب امر كذا، إذ لا فرق
بينهما الا من جهة انه في العرفيات عبارة عن ظهور الواقع بعد خفائه من جهة ما يبدو لهم لما
يرون فيه من المفاسد أو المزاحمة لما هو الأهم بخلافه في الشرعيات فإنه من جهة علمه
سبحانه بعواقب الأمور واحاطته بالواقعيات عبارة عن اظهار الواقع بعد اختفائه لمصلحة
تقتضيه. ومن ذلك نقول: بان باب النسخ أشبه شئ بباب التورية والتقية، في كونه من
باب التصرف في الجهة، من حيث اظهاره سبحانه حكما بنحو الدوام والاستمرار لمصلحة
تقتضيه، مع علمه سبحانه بنسخه فيما بعد حسب ما يرى في علمه من المصالح المقتضية
لذلك، وعليه فصح ان يقول: ان جاء وقت كذا يجب كذا، ثم يقول بعد حين قبل مجئ
الوقت: نسخت ذلك الحكم، فكان المرفوع هو تلك الملازمة الثابتة بين وجوب شئ و
مجئ وقت كذائي، ونتيجة ذلك هو عدم وجوب ذلك الشئ عليه عند تحقق الوقت
الكذائي. ثم إن ذلك أيضا بناء على المشهور في المشروطات من عدم فعلية التكليف فيها
الا بعد حصول المنوط به والشرط خارجا، والا فبناء على ما اخترناه من فعلية الإرادة
والتكليف فيها بجعل المنوط به هو الشئ في فرضه ولحاظه طريقا إلى الخارج فلا يحتاج إلى
جعل المرفوع هو الملازمة، حيث كان المرفوع حينئذ هو الحكم الفعلي المنوط، بل لو قلنا
برجوع المشروطات إلى المعلقات بارجاع القيود الواقعة في الاحكام إلى الواجب والمأمور به
كان الامر أظهر، من جهة فعلية الإرادة المطلقة الغير المنوطة بشئ حتى في فرضه ولحاظه
552

فتأمل.
وعلى ذلك فلا يبقى مجال للتفصيل المزبور بين فرض ورود الخاص قبل حضور وقت
العمل بالعام أو بعده، فإنه على كل تقدير يتأتى فيه احتمال النسخ والتخصيص كما
في الفرض الثالث، فلابد حينئذ بعد جريان احتمال النسخ والتخصيص في كل
من الفروض الثلاثة من ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.
وقبل الشروع في بيان ترجيح أحد الامرين نذكر ما يقتضيه الأصل العملي في المسألة
عند الشك فنقول: أما إذا كان الخاص مقدما على العام بحيث يحتمل كونه منسوخا بالعام
الوارد بعده أو مخصصا وبيانا له، فمع الدوران يجري استصحاب حكم الخاص، من جهة
الشك في ارتفاعه لاحتمال كونه مخصصا للعام لا منسوخا به، فيستصحب، وأما إذا كان
الخاص واردا بعد العام، بحيث يحتمل فيه الناسخية والمخصصية، فتارة يكون حكم
الخاص المتأخر نقيضا لحكم العام، كما لو كان حكم العام هو وجوب اكرام العلماء،
وكان حكم الخاص عدم وجوب اكرام الفساق منهم، وأخرى يكون حكمه ضدا لحكم
العام، كان كان حكم الخاص في الفرض المزبور حرمة اكرام الفساق منهم أو كراهته.
فعلى الأولى يجرى فيه أيضا حكم التخصيص بمقتضي الأصل العدمي قبل ورود العام،
من جهة انه قبل ورود العام يعلم بعدم وجوب اكرام الفساق من العلماء، وبورود العام
وهو قوله: اكرام العلماء يشك في وجوب اكرامهم، من جهة احتمال كون الخاص المتأخر
مخصصا للعام وبيانا له في عدم دخول الفساق منهم من الأول تحت حكم وجوب
الاكرام، فيستصحب الحالة السابقة وهي عدم وجوب اكرامهم فينتج حكم التخصيص
دون النسخ. واما على الثاني فلا أصل يجرى في البين من جهة القطع التفصيلي بانتقاض
الحالة السابقة على كل تقدير اما بوجوب الاكرام بمقتضي العام على فرض الناسخية واما
بحرمة الاكرام الثابت للخاص على فرض المخصصية، فعلى كل تقدير فلا شك فيه في البقاء
حتى يجرى استصحاب العدم السابق على العام، كما أنه بالنسبة إلى حكمه الفعلي أيضا
مقطوع بحرمته على تقدير المخصصية والناسخية. نعم لو كان مفاد العام هو وجوب الاكرام أو
حرمته وكان مفاد الخاص المتأخر استحباب الاكرام أو كراهته أمكن دعوى جريان
حكم التخصيص بمقتضي استصحاب عدم المنع السابق، حيث إنه بالأصل المزبور مع
ضميمة رجحانه الفعلي أو المرجوحية الفعلية أمكن اثبات الكراهة أو الاستحباب، فتأمل.
553

هذا هو مقتضي الأصول العملية عند الشك وعدم ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر، ولقد
عرفت ان مقتضاها جريان حكم التخصيص في جميع صور المسألة عدا فرض تضاد الحكم
الثابت للخاص مع الحكم الثابت للعام.
واما مقام الترجيح فقد يقال: بترجيح احتمال التخصيص على احتمال النسخ،
بتقريب ان التخصيص أكثر وأشيع من النسخ حتى قيل من جهة كثرته وشيوعه: بأنه
ما من عام الا وقد خص، وبان النسخ في الحقيقة تخصيص في الأزمان قبال التخصيص
في الافراد، ومع الدوران يقدم الثاني على الأول لكونه كثيرا من تخصيص الأزمان. ولكن
فيه ما لا يخفى، فإنه أولا نمنع كون النسخ من باب التخصيص في الأزمان الراجع إلى باب
التصرف في الدلالة، بل هو كما عرفت أشبه شئ بباب التقية الراجع إلى التصرف
في الجهة قبال التخصيص الراجع إلى مقام التصرف في الدلالة، كما يكشف عنه أيضا
صحة النسخ بزمان يسير عقيب قوله: أكرم زيدا في كل زمان، مصرحا بعمومه الأزماني،
حيث يرى بالوجدان انه يصح له نسخ ذلك الحكم بعد يوم أو ساعة، بقوله: نسخت ذلك
الحكم، من دون استهجان أصلا، مع عدم صحة ذلك بنحو التخصيص من جهة
كونه من تخصيص الأكثر المستهجن، حيث إن نفس ذلك أقوى شاهد وأعظم بيان على عدم
ارتباط النسخ بباب التخصيص في الأزمان وكونه من سنخ الأكاذيب والتقية الراجعة إلى
مقام التصرف في الجهة دون الدلالة، وثانيا منع اقتضاء مجرد الشيوع والأكثرية لترجيح
التخصيص والتصرف الدلالي على النسخ والتصرف الجهتي، والا لاقتضى ذلك تقديم
التقية على غيرها عند الدوران بينها وبين غيرها، نظرا إلى شيوع التقية في زمان صدور هذه الأخبار
، مع أنه لا يكون كك، حيث إن بنائهم على عدم الاعتناء باحتمال
صدور الخطاب تقية الا في بعض الموارد الخاصة التي كان الأصل الجهتي فيها موهونا في
نفسه، كما في مسألة طهارة الكتابي، ومسألة حلية اكل ذبائحهم وطهارتهم، ومسألة
عدم تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة، بل ومنع أصل أكثرية التخصيص من غيره
أيضا، فان لنا فرض الكلام في الخصوصيات الواردة في صدر الشريعة وبدوها، ولئن قيل
بان الأكثرية والأشيعية انما هي بلحاظ الاحكام العرفية لا بلحاظ خصوص الخطابات
الشرعية حتى يتوجه الاشكال المزبور، يقال انه من الممنوع أيضا أكثرية التخصيص
في الاحكام العرفية من السنخ لولا دعوى أكثرية السنخ فيها بلحاظ جهلهم بالموانع
554

والمزاحمات الواقعية النفس الامرية، ولا أقل من عدم كون التخصيص فيها في الكثرة بمثابة
يوجب انس الذهن به كي يوجب الحمل عليه في الخطابات الشرعية عند الدوران
والترديد. وبالجملة فالمقصود من هذا البيان انما هو المنع عن كون وجه تقديم التخصيص
على النسخ من باب الأكثرية والأشيعية، والا فربما نحن نساعد أيضا على أصل المدعى
من تقديم التخصيص على النسخ عند العرف والعقلاء بحسب ارتكازاتهم في الخطابات
الشرعية والاحكام العرفية الجارية بنياتهم.
وقد يقرب وجه تقديم التخصيص على النسخ بما قرب في وجه تقديم أصالة السند
والجهة على أصالة الظهور والدلالة، من دعوى ان الأصل الجاري في السند كما كان في
رتبة سابقة على أصالة التعبد بالظهور لكونها منقحة موضوعها، كك الأصل الجاري
في الجهة أيضا، بلحاظ ان موضوع الجهة في الظهور هو الكلام الصادر عن المعصوم
عليه السلام عن داعي الجد لبيان حكم الله الواقعي، لا للتقية ونحوها، وانه لولا احراز
أصل صدور الكلام عن الإمام عليه السلام واحراز جهة صدوره وكونه لبيان الحكم
الواقعي لا ينتهى النوبة إلى مقام التعبد بظهوره، ودلالته، فبذلك يكون أصالة التعبد
بالصدور والجهة في رتبة سابقة على أصالة التعبد بالظهور والدلالة، لكونهما منقحتي
موضوعها، باعتبار كون الأول مثبتا لأصل الموضوع وهو كون الكلام صادرا عن الإمام
عليه السلام، والثاني لكيفية صدوره وكونه لبيان الحكم الواقعي لا للتقية ونحوها، وعليه
فعند الدوران بين التصرف الدلالي والتصرف الجهتي يقدم الأصل الجهتي على الأصل
الدلالي، من جهة تقدمه عليه رتبة في المشمولية لدليل الاعتبار. وبذلك يقال في المقام
أيضا بان النسخ بعد أن كان سنخه من باب التقية الراجع إلى التصرف في الجهة، لامن
باب التخصيص في الأزمان الراجع إلى التصرف الدلالي، فمع الدوران في العام بين كونه
منسوخا بالخاص المتأخر أو مخصصا به يقدم الأصل الجاري في جهته على الأصل الجاري
في ظهوره ودلالته، من جهة جريان أصالة الجهة فيه حينئذ في الرتبة السابقة بلا مزاحم،
ومعه لابد من رفع اليد عن ظهوره ودلالته في العموم بمقتضي ما في القبال من الخاص
الأظهر، من غير فرق في ذلك بين ظهور الخاص في ثبوت حكمه على فرض المخصصية من
بدو الشريعة أو عدم ظهوره فيه بل ظهوره في ثبوت حكمه في زمان صدوره، وان كان على
الأخير لا ثمرة عملية في البين، من جهة القطع بحجية العام على كل تقدير إلى زمان
555

صدور الخاص ولزوم الاخذ بالخاص من حينه ورفع اليد عن العام على كل تقدير أيضا
سواء على الناسخية أو المخصصية، هذا.
ولكن قد يورد على هذا التقريب بعدم اجداء هذا المقدار من الترتب والطولية لتقديم
الأصل الجهتي على الأصل الدلالي عند الدوران، بدعوى انه كما لا مجال للتعبد
بظهور الكلام بدون احراز أصل صدوره وجهته كك لا مجال أيضا للتعبد بسنده وجهته مع
عدم ظهوره، واجماله، حيث لا يترتب عليهما اثر عملي في البين حتى يجري فيهما أصالة التعبد،
بل وانما ترتبه على ظهور الكلام الصادر عن الإمام عليه السلام لأجل بيان الحكم الواقعي،
وعلى ذلك فكان كل من السند والجهة والدلالة مما له الدخل في ترتب الأثر على الخبر في
عرض واحد، حيث كان ترتب الأثر عليه ووجوب المعاملة معه معاملة الواقع منوطا بسد
أمور ثلاثة: أحدها احتمال عدم صدوره، وثانيها احتمال صدوره لا لأجل بيان حكم
الله الواقعي بل لأجل التقية ونحوها، وثالثها احتمال كون المراد غير ما هو ظاهره، وفي
ذلك يكون مجموع الأمور الثلاثة من قبيل العلة المركبة لترتب الأثر وهو وجوب العمل،
بحيث بانتفاء أحدها ينتفى الأثر المقصود من التعبد بالبقية، وحينئذ فإذا كان كل من
أصالة السند والجهة والدلالة في عرض واحد بالنسبة إلى ترتب الأثر والنتيجة فقهرا
لا يبقى مجال تقديم أحدها على الآخر في المشمولية لدليل الاعتبار بمحض تقدمها الطبعي.
ولكن يمكن دفع ذلك بان الامر وان كان كما ذكر من احتياج كل من التعبد بالسند
والجهة والدلالة في الجريان التعبد بالآخر، ولكن نقول: بان ذلك غير قادح في
تقدم الأصل الجهتي على أصالة الظهور بعد اختلاف نحوي التوقف والاحتياج فيهما،
وكون التوقف والاحتياج في بعضها من جهة عدم احراز الموضوع، وفى البعض الآخر من
جهة عدم الأثر ولغوية التعبد بدونه، حيث إن من المعلوم حينئذ ان الأصل الجهتي لكونه
منقح موضوع الأصل الدلالي وفي رتبة سابقة عليه مقدم لا محالة على الأصل الدلالي في
مقام الدوران في المشمولية لدليل الاعتبار، فلابد حينئذ من رفع اليد عن أصالة الظهور
والدلالة، وذلك أيضا ينطبق على ما عليه ديدن الأصحاب من تقديم التصرف الدلالي
على التصرف الجهتي ولو بنحو التقية مع كثرتها وشيوعها في زمن الأئمة عليهم السلام.
وعليه فحيث ان باب النسخ كان من سنخ التورية والتقية في كونه من قبيل التصرف
في الجهة لامن قبيل التصرف في الدلالة فعند الدوران بين كون الخاص مخصصا للعام أو ناسخا
556

له يقدم التخصيص على النسخ ويحكم بكونه مخصصا له لا ناسخا، هذا.
ولكن مع ذلك كله فالتحقيق هو عدم اثمار هذا الترتب والطولية بين الأصل الجهتي
والدلالي لشئ بوجه أصلا، وذلك:
اما في مقام الدوران بين التصرف الدلالي والتقية: فمع استلزام الأصل الجهتي لطرح
الدلالة رأسا فظاهر، من جهة لغوية التعبد بالجهة حينئذ مع انتفاء أصل الدلالة، واما مع
عدم استلزامه لذلك وامكان الاخذ بالعام ولو ببعض مدلوله فبأنه وان كان يجري الأصل
الجهتي ويؤخذ بالعام مثلا في بعض مدلوله بلا كلام لكنه لا يتوقف هذا المقدار على ما
ذكر من الترتب والطولية بينهما، من جهة وضوح كون الامر كك ولو على القول بالعرضية،
من جهة العلم التفصيلي حينئذ بخروج مقدار من المدلول عن تحت الحجية سواء على
تقدير التخصيص أو التقية، واما فيما عدا هذا المقدار من المدلول فحيثما لا تنافي بين الأصلين
يؤخذ بهما، فيترتب عليهما وجوب العمل على طبقه سواء فيه بين طولية الأصلين أو عرضيتهما
هذا إذا كان الدوران بين التقية والتخصيص.
وأما إذا كان الدوران بين النسخ والتخصيص كما في المقام، فان كان الخاص
مقدما على العام وقد احتمل فيه كونه مخصصا للعام أو منسوخا به، ففي ذلك يقع
التعارض بين الأصل الجهتي في الخاص وبين الأصل في العام المتأخر،
وحيث انه لا يكون لأحدهما تقدم رتبي على الآخر كما في فرض اعتبارهما في دليل واحد
فلا جرم ينتهي الامر فيهما بعد المعارضة إلى التساقط، وفي مثله يكون المرجع هو استصحاب
حكم الخاص. واما ان كان الخاص متأخرا عن العام فان كان ذلك قبل حضور وقت
العمل بالعام فلا ثمرة تترتب على كونه ناسخا أو مخصصا، من جهة انه على كل تقدير
يكون العمل على طبق الخاص المتأخر من حين صدوره، وأما إذا كان صدوره بعد حضور
وقت العمل بالعام بمدة فتارة لا يكون له ظهور في ثبوت مدلوله من الأول من حين ورود
العام وأخرى كان له هذا الظهور، فعلى الأول فلا دوران في البين بين الأصلين إذا كما أنه
يجري فيه الأصل الجهتي كك يجري فيه الأصل الدلالي أيضا إلى حين ورود الخاص، ومعه
يكون المتبع هو أصالة العموم إلى حين ورود الخاص، ومن حين ورود الخاص يكون العمل
على طبق الخاص المتأخر سواء كان ناسخا أو مخصصا، واما على الثاني من فرض اقتضاء
الخاص المتأخر على تقدير كونه مخصصا ولو من جهة اطلاقه لثبوت حكمه من حين ورود
557

العام، كما كان ذلك شأن أغلب الخصوصات، ففي مثله وان دار الامر بين التصرف في
ظهور العام وبين التصرف في جهته وكان يثمر أيضا فيما قبل ورود الخاص منه الأزمنة
المتقدمة من جهة القضاء والكفارة لو كان الواجب مما يترتب على تركه ذلك، الا ان
طرف المعارضة بدوا لما كان هو اطلاق الخاص المتأخر في ثبوت مفاده من أول الامر، من
جهة منافاته بالضرورة مع قضية ظهور العام في العموم، فلا جرم ينتهى الامر فيهما إلى
التساقط، ومع سقوط أصل الظهور في العام عن الحجية في العموم يجرى عليه قهرا حكم
التخصيص. ولئن شئت قلت بان أصل الجهة في العام في مثل الفرض من جهة اناطته
بجريان أصالة الظهور في العام وشمول عمومه لزيد أيضا في نحو قوله: أكرم كل عالم إناطة
الشئ بموضوعه كان غير جار على كل تقدير من جهة وضوح عدم المجال للتعبد بالجهة
بالنسبة إلى زيد مع عدم التعبد بعموم العام وشموله له، فيكون حينئذ طرف المعارضة
قضية اطلاق الخاص المتأخر في ثبوت حكمه على تقدير التخصيص من حين ورود العام، و
مع التعارض وسقوط أصالة الظهور في العام عن الحجية فقهرا يجرى عليه حكم
التخصيص، ولابد فيه من الرجوع إلى الأصول التي توافق بحسب النتيجة مع التخصيص
تارة كما في فرض كون مفاد العام هو وجوب اكرام العلماء ومفاد الخاص عدم وجوب
اكرام زيد العالم، وأخرى مع النسخ، كما في فرض كون مفاد العام عدم وجوب اكرام
العلماء ومفاد الخاص وجوب اكرام زيد حيث إن قضية البراءة عن القضاء مثلا حينئذ
توافق النسخ، هذا.
ولكن الذي يسهل الخطب عدم ترتب اثر عملي على مثل هذا الفرض
بالنسبة إلينا بعد تأخر زماننا عن زمان العام والخاص، من جهة وضوح انه على كل تقدير
كان الواجب علينا الاخذ بالخاص والعمل على طبقه ناسخا كان أو مخصصا. نعم
في الخاص المتقدم كان له ثمرة مهمة من حيث كونه مخصصا للعام المتأخر أو منسوخا به،
ولكنك عرفت فيه أيضا ان اللازم فيه هو الرجوع إلى استصحاب حكم الخاص من جهة
معارضة الأصل الجهتي في الخاص حينئذ مع الأصل الدلالي في العام المتأخر وتساقطهما
فتدبر. هذا تمام الكلام في العام والخاص.
558

المقصد الخامس في المطلق والمقيد
وقد عرفت المطلق بأنه ما دل على شايع في جنسه، والظاهر أن المراد من الجنس
في المقام هو السنخ، لا الجنس المصطلح عند المنطقيين: أي الكلي المقول على كثيرين مختلفين
في الحقيقة في جواب ما هو، قبال النوع، ولا ما هو المصطلح منه عند النحويين: أي
الماهيات الكلية المقصورة بأسامي الأجناس، كيف وان من المعلوم صحة اطلاقه
على الافراد المعينة الشخصية بلحاظ الحالات الطارية عليها، كما في زيد، حيث إنه مع
شخصيته يكون مطلقا بلحاظ حال القيام والقعود والمجئ وغيرها من الحالات، فكان
ذلك حينئذ شاهدا على أن المراد من الجنس المأخوذ في تعريفه هو مطلق السنخ الصادق
على الذوات الشخصية الخارجية ولو بلحاظ تحليل الذوات الشخصية إلى حصص سارية
في ضمن الحالات المتبادلة، وعلى الحصص السارية في ضمن افراد الطبيعي كالحيوان
والانسان مثلا، غير أن الفرق بينهما هو استقلال كل حصة من حصص الطبيعي في
عالم الوجود، بخلافه في الحصص السارية من الذوات الشخصية بلحاظ الحالات المتبادلة
حيث إنها موجودات بوجود واحد ومجتمعات تحت حد واحد في الخارج، ولا يكون التعدد
فيها الا بحسب التحليل، ولكن مجرد هذا المقدار من الفرق لا يضر بما هو المطلوب من شمول
تعريف المطلق لمثله، كما لا يخفى، فكان المراد من المطلق حينئذ في المقام ما هو المعبر عنه
بالفارسية ب‍ (رهاى در مقام انطباق) الغير الممنوع عن الصدق على ما هو من سنخه، في
قبال المقيد المعبر عنه بالفارسية ب‍ (بسته در مقام انطباق) الممنوع على الصدق على هو من
سنخه، فان تقيد الشئ ببعض القيود كتقيد زيد بالقيام يمنع عن شيوع الحصة المحفوظة
559

في ضمنه بالنسبة إلى ما كان من سنخه من بقية الحصص، ومن ذلك لا يصدق زيد القائم
بلحاظ توصيفه بالقيام على زيد القاعد، وان كان هو أيضا مطلقا باعتبار ما في ضمنه
من الحصص بلحاظ الحالات المتبادلة الطارية كالضحك والتكلم والكتابة وغيرها، وهو واضح.
واما الشياع فالمراد به تارة هو سريان الطبيعة في ضمن جميع الافراد، وهو المعبر عنه في
اصطلاح بعضهم بالعموم السرياني، وأخرى قابلية الطبيعي للانطباق على القليل والكثير
انطباقا عرضيا. والمطلق بالمعنى الأول يطلق غالبا على المواد المأخوذة في طي
النواهي النفسية، كقوله: لا تشرب الخمر، وفي طي الأحكام الوضعية، كقوله: أحل
الله البيع ونحوه، حيث إنه وان كان نحو ضيق في الطبيعة حينئذ باعتبار عدم الانطباق
الا على الكثير، والا انه من جهة لحاظ سريانها في ضمن الافراد كان له اطلاق، في قبال
المقيد بقيد خاص غير قابل للانطباق الا على المقيد. وبالمعنى الثاني يطلق غالبا على المواد
المأخوذة في طي كثير من الأوامر، والمطلق بهذا المعنى أوسع دائرة من المطلق بمعنى السريان،
من جهة عدم اعتبار تقيده بشئ من الخصوصيات حتى خصوصية السريان، فكان من
جهة ارساله وعدم تقيده بشئ من الخصوصيات الوجودية والعدمية مجامعا مع كل
خصوصية ونقيضها وقابلا للانطباق على القليل والكثير، ومثل هذا المعنى هو المعروف
عندهم باللابشرط المقسمي.
ثم انه بعد ما اتضح لك هذه الجهة، يبقى الكلام فيما هو مركز التشاجر والنزاع في
مداليل أسماء الأجناس بين المشهور من القدماء وبين السلطان في أنها هل هي
الطبيعة المطلقة المأخوذة لا بشرط وعلى وجه الارسال؟ أو هي الطبيعة المهملة المجامعة
مع التقيد والاطلاق كما عليه السلطان؟ وفى ان المراد من الطبيعة المهملة ما هو؟ وقبل
الخوض في المقصود ينبغي بيان أمرين لكي ينكشف بهما الحجاب عن وجه المرام:
الأول انه لا شبهة في أن للماهية تصورات بحسب التعقل الأولى: منها: تعلقها مقيدة و
مع الضميمة والشرط، كالانسان الملحوظ معه خصوصية الزيدية وكالرقبة الملحوظ معها
خصوصية الايمان مثلا ونحو ذلك من الخصوصيات والضمائم، وقد شاع التعبير عن ذلك
بالمهية بشرط شئ، وربما عبر عنه أيضا بالمخلوطة قبال المجردة. ومنها: تعلقها مجردة و
بلا شرط وضميمة، وهذا على قسمين: تارة اعتبارها بقيد التجرد عن جميع القيود
والخصوصيات، وأخرى اعتبارها بنفسها مجردة من غير اعتبار قيد التجرد عن الخصوصيات
560

فيها، فكان تجردها حينئذ من جهة عدم تعدى اللحاظ عن ذات المهية إلى شئ آخر
معها، وبعبارة أخرى: الملحوظ في هذا القسم عبارة عما هو مصداق المجرد لا الطبيعة
متقيدة بقيد التجرد عن الخصوصيات، بخلاف سابقه فإنه قد اعتبر فيه قيد التجرد
عن الخصوصيات، وقد عبروا عن الأول باللابشرط القسمي وعن الثاني باللابشرط
المقسمي، وقالوا بامتناع صدق الأول وانطباقه على الخارجيات لكونه كليا عقليا لا موطن
له الا في الذهن، بخلاف الثاني فإنه من جهة عدم اعتباره مقيدا بقيد التجرد كان قابلا
للانطباق على الخارج وللصدق على القليل والكثير. ومنها اعتبارها بنحو السريان في ضمن
جميع الافراد الملازم لعدم انطباقها الا على الكثير دون القليل.
ولكن من الواضح أيضا لزوم ان يكون في البين امر واحد في هذه الاعتبارات يكون
هو الجامع، والمقسم لهذه الأقسام في قولك: الماهية اما ان تكون كذا واما ان تكون كذا،
وان لم يكن تصوره مستقلا، وذلك من جهة وضوح مبائنة كل واحدة من هذه
الاعتبارات في الذهن مع الاعتبار الآخر حتى المهية المجردة على النحو الثاني، فإنها أيضا في
ظرف اعتبارها كك تباين المهية المقيدة والمأخوذة بنحو السريان بحيث لا يكاد انطباقها
في ظرف اعتبارها كك على المقيدة، وان كانت تنطبق على مصداقها وما بإزائها خارجا،
ومن ذلك أيضا ترى بناء المشهور على كون استعمال لفظ المطلق في المقيد مجازا، وليس
ذلك الا من جهة ما ذكرنا من تبائن كل من المطلق والمقيد بحسب الاعتبار مع الآخر،
وعليه فلا يمكن ان تكون المهية المجردة المعبر عنها في مصطلحهم باللابشرط المقسمي
هي المقسم حقيقة في هذه الاعتبارات، بل لابد وأن يكون ما هو المقسم لها عبارة عن القدر
المشترك بين تلك الاعتبارات. والمرجع للضمير في التقسيم في قولك المهية اما ان تكون كذا
واما ان تكون كذا، وان لا يمكن تعلقه مستقلا ولا كان له وجود في الذهن بحسب التعقل
الأولى الا في ضمن تلك الاعتبارات المختلفة، نظير المادة المأخوذة في المشتقات المحفوظة في
ضمن الصيغ الخاصة والهيئات المخصوصة، وذلك لان كلما يتصور ويوجد في الذهن
من الصور حسب التعقل الأولى لا يخلو من كونها اما صورة واجدة للقيد والخصوصية أو
فاقدة لها، فلا صورة ثالثة في البين مستقلا في ذلك الوعاء تكون هي الجامع والقدر المشترك
بين الواجد والفاقد الا بالتحليل العقلي حسب التعقل الثانوي، بتحليل كل صورة إلى
ذات وخصوصية، ولو كانت الخصوصية هي خصوصية التجرد والفقدان.
561

ولئن شئت فاستوضح ذلك بالطبيعي في الخارج، فإنه كما لا يكون للطبيعي وجود
مستقل في الخارج، بل كان وجوده في ضمن افراده، كك الجامع في المقام، فلا يكون له
في الذهن أيضا وجودا الا في ضمن الصور الخاصة، ولا يكون له وجود مستقل الا بالتحليل
العقلي حسب التعقل الثانوي، بتحليل كل صورة إلى ذات وخصوصية، كتحليل الموجود
الخارجي إلى ذات وهو الطبيعي وخصوصية، غايته ان الفرق بينهما هو ان التحليل
في الموجود الخارجي كان بحسب التعقل الأولى وفى الصور الذهنية بحسب التعقل
الثانوي، كما هو واضح.
وعلى ذلك فما أفادوه في الطبيعة المجردة المطلقة من التعبير عنها باللابشرط المقسمي،
بجعلها مقسما لهذه الاعتبارات، وجعل القسمي هي الطبيعة المتقيدة بقيد التجرد عن جميع
الخصوصيات منظور فيه، من جهة ما عرفت من عدم كون المجردة مقسما حقيقة لتلك
الاعتبارات، وان المقسم لها حقيقة انما هو القدر المشترك المحفوظ في ضمن المجردة وغيرها
الذي لا يكون له في الذهن وجود منحاز مستقل الا بحسب التعقل الثانوي.
الامر الثاني لا اشكال ظاهرا في أن المراد من المهية المطلقة لدى المشهور في نحو مداليل
أسامي الأجناس انما هو القدر المشترك بين المهية المجردة المعبر عنها عندهم باللابشرط
المقسمي وبين الطبيعة المأخوذة بنحو السريان في ضمن جميع الافراد كالمواد المأخوذة في
طي النواهي، لا ان المراد هو خصوص الطبيعة المجردة التي من شأنها قابلية الانطباق
على القليل والكثير، كيف ولازم ذلك هو المصير إلى المجاز في موارد إرادة الساري منها، مع أنه
كما ترى لا يظن منهم الالتزام به، فان المشهور كما بنوا على كونها حقيقة في الطبيعة المطلقة
المعبر عنها باللابشرط المقسمي كك بنوا على كونها حقيقة في المأخوذة بنحو السريان في ضمن
جميع الافراد، وانما خصصوا المجازية في خصوص المقيدة ببعض الخصوصيات، في قبال
السلطان القائل بوضعها للطبيعة المهملة وكونها حقيقة مطلقا حتى في المقيدة. وعلى ذلك
فبعد اختلاف الاعتبارين: اعتبار المجردة والسارية وبطلان الاشتراك اللفظي لابد لهم من
الالتزام بوضعها للقدر المشترك بينهما، كما لا يخفى.
وإذا عرفت ذلك نقول: ان المراد من المهية المهملة لدى السلطان ومن تبعه انما
هو القدر المشترك بين ما يقبل الانطباق على القليل والكثير كالطبيعة المطلقة وبين ما
لا يقبل الانطباق الاعلى الكثير أو القليل كالطبيعة السارية والمقيدة، فكان دعوى السلطان
562

على أن أسامي الأجناس كالرقبة مثلا كانت موضوعة للقدر المشترك المحفوظ في جميع تلك
الاعتبارات المختلفة الذي هو المقسم الحقيقي لها من دون دخل شئ من تلك
الخصوصيات حتى خصوصية التجرد والاطلاق في الموضوع له فيها أصلا وان استفادة
الخصوصيات انما كانت بدوال أخر، في قبال المشهور القائلين بوضعها للطبيعة المجردة القابلة
للانطباق على القليل والكثير أو للقدر الجامع بينها وبين الطبيعة السارية. ومن ذلك
يحتاج مثل السلطان ومن تبعه في هذا المسلك إلى التشبث بقرينة الحكمة في استفادة معنى
الشياع والاطلاق عند الاطلاق، باعتبار ملائمة قضية الوضع مع إرادة كل من المطلق
والمقيد، بخلاف المشهور فإنهم يغنيهم قضية وضع اللفظ للمعنى الاطلاقي عن التشبث
بقرينة الحكمة.
وحينئذ فحيث اتضح ذلك نقول بأنه لا ينبغي التأمل في أن التحقيق هو ما عليه
السلطان من الوضع لنفس المهية المهملة والقدر الجامع المحفوظ بين جميع تلك الصور المختلفة
من المجردة والمقيدة والمأخوذة على نحو السريان، كما يشهد له قضية الارتكاز والوجدان في
كونها على نحو الحقيقة في جميع الموارد، عند إرادة الخصوصيات بدوال أخر لا من نفس
اللفظ باستعماله في الخصوصية، حيث يرى أن استعمال الرقبة مثلا في الرقبة المؤمنة مع
إرادة الخصوصية بدال آخر، بعينه كاستعمالها في المجردة عن قيد الايمان، من دون احتياج
إلى رعاية عناية في البين أصلا، وان المقصود من الرقبة في قولك: أعتق رقبة، هو المراد والمقصود
منها في استعمالها في المقيدة في قولك الرقبة المؤمنة، بلا ارتكاب تجوز وعناية في البين،
حيث إن ذلك كاشف ان الموضوع له هو المعنى الجامع والقدر المشترك بين المطلقة والمقيدة،
كيف وقد عرفت ان المشهور لابد لهم أيضا من الالتزام بالوضع للقدر المشترك بين الطبيعة
الشايعة بنحو السريان وبين الطبيعة الصرفة القابلة للانطباق على القليل والكثير، من جهة
ما عرفت من مباينة المهية بكل واحد من الاعتبارين في عالم اعتبارها مع الآخر. وعليه
فبعد لا بدية الالتزام بالقدر الجامع بين نحوي الاعتبارين المزبورين: أي اعتبار الشياع،
بمعنى السريان، والشياع بمعنى القابلية للانطباق على القليل والكثير، يتوجه الاشكال بأنه لم
لم يحدد دائرة الجامع بما يعم المقيد بل يقتصر في تحديده بما هو في ضمن الشياعين فتدبر.
فلابد حينئذ بعد عدم وجه وجيه للتخصيص بذلك من الالتزام بما عليه السلطان (قدس
سره) من الوضع للمهية المبهمة والقدر المحفوظ بين المقيدة وبين الشياعين. هذا كله في
563

أسامي الأجناس كالانسان والأسد.
واما علم الجنس كأسامة فهو أيضا من هذه الجهة كاسم الجنس، فعند المشهور كان
موضوعا للطبيعة المطلقة، وعند السلطان ومن تبعه للطبيعة المهملة، وانما الكلام في أنه
هل فيه مزية زائدة على اسم الجنس من حيث التعين بالإشارة الذهنية كما عليه
المشهور أيضا، بشهادة المعاملة معها معاملة التعريف ولو بدون أداته؟ أم لا، بل
كان كاسم الجنس وكان التعريف فيه لفظيا لا معنويا؟ فيه وجهان ثانيهما مختار
الكفاية، حيث قال (1) ما محصله: ان التحقيق انه موضوع لصرف المعنى بلا لحاظ كونه
متعينا بالتعين الذهني، وان التعريف فيه كان لفظيا، محضا لا معنويا، كالتأنيث اللفظي
في غيره، والا لما صح حمله على الافراد وانطباقه على الخارجيات، من جهة رجوع التقيد
المزبور حينئذ إلى التقيد بالوجود الذهني المانع عن الصدق على الخارجيات، فيحتاج حينئذ
إلى التجريد في مقام الحمل على الافراد عن تلك الخصوصية والمصير إلى المجاز، مع أنه كما
ترى، حيث يرى بالوجدان صحة حمله على الافراد وصدقه على الخارجيات من دون تجريد و
رعاية عناية مجاز أصلا، خصوصا مع بعد الوضع لمعنى يحتاج إلى التجريد عن الخصوصية
دائما عند الاستعمال، فان مثل هذه الجهة مما لا ينبغي صدوره عن جاهل فضلا
عن الواضع الحكيم، هذا.
ولكن فيه انه بعد كون الإشارة الذهنية إلى الشئ غير وجوده في الذهن لكون
الإشارة الذهنية إلى الشئ عبارة عن توجه النفس إليه في ظرف الفراغ عن وجوده
في الذهن، بشهادة صحة تصور أمور متعددة في الذهن والإشارة إلى بعضها بأنه أحسن من
ذلك نقول بأنه من الممكن حينئذ الفرق بين اسم الجنس وبين علم الجنس بحسب
المعنى، بدعوى ان الأول موضوع لنفس الطبيعة المطلقة أو المهملة على اختلاف المسكين،
والثاني موضوع للطبيعة بما انها معروضة للإشارة الذهنية ولو؟ متقيدة بها، وبعبارة أخرى
الموضوع له في علم الجنس هو حصة من الطبيعي تعلقت بها الإشارة الذهنية بلا اخذ
جهة التقيد بها في مدلوله ومعناه، وعليه فالفرق بين اسم الجنس وعلمه كان بحسب
المعنى حيث إنه كان لاسم الجنس سعة اطلاق يشمل ما يشار إليه من الحصص وما

(1) ج 1 ص 378.
564

لا يشار إليه منها، بخلافه في علم الجنس، فإنه لما اعتبر فيه كونه حصة من الطبيعي
وقعت معروضة للإشارة فقهرا لم يكن له تلك السعة من الاطلاق بنحو يشمل مالا يشار
إليه من الحصص، بل يختص بالحصص المعروضة للإشارة، كما أنه من جهة عدم
اخذ التقيد بالإشارة فيه كان قابلا للحمل على الافراد وللانطباق على الخارجيات. و
بالجملة فعلى هذا البيان أمكن دعوى الفرق بين علم الجنس واسمه بالمصير إلى ما عليه
المشهور من أهل العربية من كون التعريف في علم الجنس معنويا. ثم إن ذلك كله بحسب
مقام أصل الثبوت.
واما في مقام الاثبات والتصديق بأحد المسلكين فهو راجع إلى اللغة ويتبع التبادر
ونحوه، مع أنه لا يكون البحث فيه بمهم أيضا في كون التعريف فيه لفظيا أو معنويا، من
جهة عدم ترتب ثمرة مهمة عليه، كما هو واضح.
ثم انه مما ذكرنا ظهر الحال في الجنس المحلى باللام أيضا، حيث إنه يمكن دعوى كون
اللام فيه موضوعا للتعريف ومفيدا للتعين من دون اقتضائه للمنع عن صحة انطباقه
على الخارج كي يلزمه التجريد في مقام الحمل على الافراد، كما لا يخفى. نعم في مثل (هذا
الرجل) لا باس بدعوى كون اللام فيه للزينة، كما في الحسن والحسين، وذلك أيضا انما هو
من جهة ما يلزمه من لزوم تحقق الإشارتين في آن واحد إلى الطبيعة، الذي هو
من المستحيل، بملاك استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، فتأمل. فلابد حينئذ من
جعل اللام لمحض الزينة، ولكن لا يلزمها كونها للزينة على الاطلاق حتى في غير مورد
تعين المدخول بمثل هذا ونحوه، حيث إنه من الممكن حينئذ الالتزام بكونها مفيدة للتعريف
وتعين المدخول عند عدم تعينه من جهة أخرى. وحينئذ فاللازم هو اثبات هذه الجهة
من وضع اللام لغة للتعريف وتعين المدخول، ولا يبعد دعوى كونه كك بحسب اللغة
من جهة ما هو المتبادر والمنساق منه في مثل قولك: الرجل، والأسد، والحيوان. والامر
سهل.
ومن مصاديق المطلق النكرة، وهي عبارة عن الطبيعة المتقيدة بإحدى
الخصوصيات، على أن يكون الأحد بيانا ومقدرا لكم القيد، وانه إحدى الحصص قبال
التمام والبعض والعشرة والعشرين ونحوها، من دون ان يكون عنوان الأحد بنفسه قيدا
للطبيعة بوجه أصلا، و إلى ذلك أيضا نظر من عبر عنها بالفرد المنتشر حيث كان المقصود
565

منه هو الطبيعة المتقيدة بخصوصية كمها ومقدرها الواحد، لا ان القيد هو هذا العنوان
كما يظهر من الكفاية (1)، من حيث ارجاعه النكرة إلى الطبيعة المتقيدة بعنوان الواحد بما هو
هذا المفهوم، كيف وان لازمه هو عدم خروجها عن قابلية الانطباق بانطباق عرضي
على القليل والكثير، لان مثل هذا العنوان أيضا عنوان كلي كأسامي الأجناس، وتقيده
بمفهوم الواحد لا يوجب خروجه عن القابلية للانطباق عرضا على القليل والكثير، وان كان
قضية التقيد المزبور تضيق دائرته من جهة أخرى، مع أنه كما ترى، فان شان النكرة انما
هو عدم الانطباق على المتكثرات الا بانطباق تبادلي. وهذا بخلاف ما لو كان الأحد بيانا
ومقدرا لما هو كم القيد، وانه إحدى الحصص، وكان القيد نفس الحصص
والخصوصيات، فان لازم ذلك هو عدم صلاحيتها للانطباق على المتكثر الا بنحو البدلية
دون العرضية. وبالجملة فرق واضح بين ان يكون عنوان الواحد بنفسه قيدا للطبيعة وبين
ان يكون مقدرا لكم القيد وكان القيد هي الخصوصيات، حيث إنه على الأول يصدق
الطبيعة المتقيدة بالواحد على الكثيرين بانطباق عرضي، بخلافه على الثاني من فرض
كونه مقدرا لكم القيد، فإنه عليه لا يصدق على الكثيرين الا بانطباق تبادلي، والنكرة
المعبر عنها بالفرد المنتشر في قوله (رجل) بنحو التنكير انما كانت من قبيل الثاني دون الأول
كما هو واضح.
ثم انه مما يترتب على المسلكين هو تحقق الامتثال على مسلك اخذ عنوان الوحدة قيدا
للطبيعة بأزيد من واحد فيما لو أتى في مقام الامتثال بعشر واحدات دفعة واحدة، فإنه على
هذا المسلك يتحقق الامتثال بالجميع، بخلافه على مسلك اخذ عنوان الواحد مقدرا لكم
ما هو القيد، فإنه عليه لا يتحقق الامتثال الا بواحد منها.
ومن لوازم ذلك أيضا هو دخول الخصوصيات طرا تحت الطلب دونه على المسلك
الأول حيث كانت الخصوصيات عليه من لوازم المطلوب وخارجة عنه. وربما يثمر
هذه الجهة فيما لو قصد الخصوصية في مقام الامتثال، فإنه على المسلك الأول يكون تشريعا
في قصده من جهة خروجها عن جيز المطلوبية، بخلافه على المسك الثاني، فإنه لا يكون فيه
تشريع، بل ويتحقق القرب به أيضا
وعلى كل حال فالنكرة التي قلنا برجوعها إلى الطبيعة المتقيدة بخصوصية كمها

(1) ج 1 ص 382.
566

ومقدرها الواحد لا يفرق فيها ولا يختلف مدلولها بين وقوعها في حيز الطلب كقوله: جئني
برجل وبين وقوعها في حيز الاخبار كقوله: جاء رجل من أقصى المدينة، بل هي
في الموردين كانت مستعملة في معناها الحقيقي، غايته انه في الثاني قد علم المراد منها بدال
آخر خارجي، وانه حبيب النجار مثلا.
ثم اعلم أن الحمل على الاطلاق لا يختص بالألفاظ المطلقة الغير المقيدة بشئ
من الخصوصيات، بل يجرى في كل ما يمكن ان يفرض لها الاطلاق والارسال ولو بجهة
من الجهات، وعليه فيجرى مقدمات الاطلاق في النكرة أيضا، فإنها وان كانت مقيدة
بإحدى الخصوصيات، ولكنها من غير تلك الجهة لما كانت يمكن ان يفرض لها الاطلاق
والارسال، فعند الشك في مدخلية بعض الخصوصيات الاخر فيها تجرى فيها مقدمات
الاطلاق، بل وقد عرفت جريان اطلاقات حتى في نحو الاعلام الشخصية أيضا بلحاظ ما
يفرض لها من الاطلاق والارسال بلحاظ الحالات، كما لا يخفى.
وكيف كان فبعد ان اتضح وجه الفرق بين المسكين نقول بأنه على مسلك
المشهور من وضع الألفاظ للطبيعة المطلقة لابد بمقتضى الوضع من الحمل على الاطلاق
والارسال عند عدم القرينة على التقييد، من دون احتياج إلى التمسك بقضية مقدمات
الحكمة، واما على مسلك السلطان ومن تبعه من الوضع للطبيعة المهملة والجامع المحفوظ بين
تلك الصور المجردة الفاقدة للخصوصية والواجدة لها، فحيث ان وضع اللفظ بنفسه غير
مقتض للحمل على الاطلاق والارسال من جهة ملائمته مع التقيد أيضا بنحو تعدد الدال
والمدلول، فيحتاج في استفادة الاطلاق والشياع إلى ضم قرينة الحكمة التي هي مؤلفة على
التحقيق كما سنذكرها إن شاء الله من أمور:
منها: كون المتكلم بمدلول لفظه في مقام البيان على مرامه لا في مقام الاهمال
والاجمال.
ومنها: عدم نصبه قرينة على التقييد وإرادة الخصوصية.
ومنها: عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب أو مطلقا ولو من الخارج على وجه
يأتي إن شاء الله تعالى.
حيث إنه باجتماع هذه الأمور يتم امر الاطلاق ويستكشف منها
عدم تقيد موضوع طلبه بشئ من الخصوصيات وانه مأخوذ في اعتباره على نحو الاطلاق
567

والارسال، وبانتفاء بعضها ينتفى امر الاطلاق.
نعم ربما يختلف تلك المقدمات بحسب اللوازم أيضا فان المقدمة الأولى مما ينتفى
بانتفائها موضوع الاطلاق بحيث لا يكاد وقوع المعارضة بينه وبين ما في القبال من مطلق
آخر ولو مع احراز وحدة المطلوب، بل يقدم ذلك المطلق الاخر عليه بلا كلام، بخلاف
المقدمة الثانية، فان انتفائها موجب لوقوع المعارضة بينه وبين ما في القبال من مطلق آخر،
فينتهى الامر فيهما إلى مقام الجمع أو الترجيح.
وكيف كان فقبل الشروع في شرح مقدمات الاطلاق ينبغي بيان ان نتيجة تلك
المقدمات هل هي الحمل على الطبيعة المطلقة الصرفة التي من شانها عدم قابلية انطباقها
الا على أول وجود الطبيعي، كما قيل؟ أو الحمل على الطبيعة المهملة وما هو المقسم للطبيعة
الصرفة والمقيدة والمأخوذة بنحو السريان في ضمن جميع الافراد التي من شانها سعة قابلية الانطباق
على القليل والكثير من الافراد العرضية والطولية؟ حيث إن فيه وجهين أظهر هما الثاني،
فان غاية ما يمكن ان يقال في تقريب الوجه الأول هو دعوى ان كون المتكلم في
مقام بيان المراد وعدم نصبه للقرينة على الخصوصية والتقييد يقتضى ان ما اعتبره في لحاظه
هو تلك الصورة المجردة الفاقدة لجميع القيود والخصوصيات حتى خصوصية السريان في
ضمن الافراد أعني الطبيعة الصرفة التي من شانها قابلية الانطباق على القليل والكثير
عرضيا، ومن لوازمها سقوط الطلب والامر عنها بأول وجودها كما في أغلب المواد المأخوذة
في حيز الأوامر، من غير مدخلية في ذلك في مقام طلبه أيضا لشئ من الخصوصيات، والا
كان اللازم عليه البيان على مدخلية الخصوصية بمقتضى برهان استحالة نقض الغرض.
ولكن يدفعه ان كينونة المتكلم في مقام بيان مراده بعد أن كانت بتوسيط لفظه واظهار
ان مدلوله تمام مراده، فلا جرم قضية ذلك بعد عدم نصب القرينة على دخل الخصوصية
هو الاخذ بما هو مدلول لفظه الذي هو عبارة على هذا المسلك عن الطبيعة المهملة والمعنى
اللابشرط المقسمي المحفوظ في ضمن جميع الأقسام من الصور والاعتبارات المتقدمة التي
من شأنها سعة الانطباق على الافراد العرضية والطولية، لا الحمل على الطبيعة المطلقة الصرفة
التي من شانها عدم قابلية الانطباق الا على أول وجود كما هو واضح، كيف وان لازم
ذلك هو المصير إلى اختلاف نتيجة الحكمة بوقوع الطبيعي في حيز الامر أو النهى، والالتزام
بكونها منتجة في الأوامر لصرف الطبيعي المنطبق على أول وجوده وفي النواهي للطبيعة
568

السارية من جهة ما هو المعلوم من انحلالية التكليف غالبا فيها خصوصا في النواهي
النفسية الشرعية فإنه لم يوجد فيها مورد يكون النهى فيه من قبيل صرف الوجود مع أنه كما
ترى يبعد الالتزام به جدا. وهذا بخلافه على ما ذكرنا فإنه لا يلزمه اختلاف نتيجة الحكمة
بوقوع الطبيعي في حيز الامر أو النهى، بل النتيجة على هذا المسلك في جميع الموارد عبارة عن
معنى وحداني، وهو ذلك المعنى اللابشرط المقسمي المحفوظ في ضمن جميع الأقسام والصور
المتقدمة الذي من شانه الانطباق على الافراد العرضية والطولية ولو بتوسيط انطباقه
على الطبيعة الصرفة والمأخوذة بنحو السريان.
غاية ما هناك ان الفرق حينئذ بين الأوامر والنواهي من حيث سقوط التكليف بأول
وجود في الأول، وعدم سقوطه وانحلالية التكليف إلى تكاليف متعددة في الثاني واقتضائه
لامتثالات متعددة انما كان من جهة المصلحة والمفسدة القائمة بالطبيعي من حيث
الشخصية والسنخية، فحيث ان الغالب في الأوامر هو كون المصلحة فيها على
نحو الشخص، وكان من لوازم شخصيتها عقلا حصولها وتحققها بتمامها بأول
وجود الافراد، بخلافه في طرف النواهي، فان الغالب في المفاسد فيها هو كونها على
نحو السنخ الموجب لمبغوضية الطبيعي مهما وجد وفي ضمن أي فرد تحقق من الافراد
العرضية والطولية بالبغض المستقل، أوجب ذلك الفرق المزبور بين الأوامر والنواهي.
وبالجملة فتمام الفرق على هذا المسلك انما هو من جهة المصلحة والمفسدة القائمة
بالطبيعي من حيث الشخصية والسنخية، والا ففي طرف معروض المصلحة والمفسدة
لا يكاد اختلاف نتيجة الحكمة بحسب الموارد، فإنه على كل تقدير وفي جميع الموارد عبارة
عن ذاك المعنى اللابشرط المقسمي المحفوظ في جميع الأقسام من الاعتبارات المتقدمة الذي
عرفت انطباقه على القليل والكثير وعلى الافراد العرضية والطولية، غاية الامر في فرض
كون المصلحة والمفسدة على نحو الشخص يسقط التكليف عن الطبيعي بامتثال واحد فعلا
أو تركا، من جهة تحقق تمام المصلحة حينئذ بايجاد واحد. واما في فرض قيام سنخ
المصلحة والمفسدة بالطبيعي فلا يسقط التكليف عن الطبيعي رأسا بامتثال واحد، بل لابد
من امتثالات متعددة، من جهة اقتضاء المصلحة السنخية لمطلوبية الطبيعي مهما وجدت ولو
في ضمن الافراد الطولية. ففي الحقيقة الاكتفاء بأول وجود في موارد قيام شخص المصلحة
أو المفسدة انما هو من جهة القصور في التكليف والمصلحة عن الشمول للوجود بعد الوجود،
569

لامن جهة القصور في ناحية المتعلق في قابلية الانطباق على ثاني الوجود وثالثه ورابعه،
وبينهما فرق واضح. وهذا بخلافه على المسلك الأول فإنه عليه لا مجال للتفرقة بين الأوامر
والنواهي من جهة المصلحة والمفسدة من حيث الشخصية والسنخية، وذلك لان مقتضى
الطبيعة الصرفة بعد أن كان هو الانطباق على خصوص أول وجود فلازمه انما هو سقوط
التكليف رأسا باتيان أول وجود، من غير فرق فيه بين كون المصلحة والمفسدة على
نحو الشخص أو السنخ، من جهة حصول تمام السنخ حينئذ تبعا للمتعلق بأول وجود،
فلابد حينئذ من المصير في الفرق المزبور بين الأوامر والنواهي إلى اختلاف نتيجة الحكمة
وانها في الأوامر هي الطبيعة الصرفة وفي النواهي بملاحظة القرينة النوعية هي الطبيعة
السارية كما هو واضح، فتدبر.
وحيثما اتضح هذه الجهة فلنشرع في شرح مقدمات الاطلاق فنقول:
اما المقدمة الأولى التي هي عمدتها وهي كون المتكلم في مقام البيان فتارة يراد به
كون المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بوصف التمامية بأعم من كلام به التخاطب و
بكلام آخر له ولو منفصلا عن ذلك، في مقابل السلب الكلي، وهو ما إذا لم يكن في
مقام البيان رأسا بل في مقام الاهمال والاجمال، وبعبارة أخرى كون المتكلم في مقام
بيان مرامه الواقعي بلفظه أو به وبكلام آخر منفصل عن هذا الكلام، وأخرى يراد به
كون المتكلم في مقام بيان مراده باعطاء الحجة إلى المخاطب على المراد بلفظ به التخاطب
أو به وبما يتصل به من كلام آخر على نحو يعد المجموع عرفا كلاما واحدا، لا مجرد كونه في
مقام الجد لبيان المرام الواقعي النفس الأمري، في قبال اهماله من رأس ولو لم يكن في
مقام اعطاء الحجة والظهور على المراد إلى المكلف.
وربما يختلف هذان المعنيان بحسب اللوازم أيضا، فإنه على الأول لو ورد في قباله عام
وضعي منفصل يلزمه تقديم ذلك العام الوضعي عليه بلا كلام ورفع اليد به عن أصل
ظهوره الاطلاقي وذلك بلحاظ ان أصل ظهوره في الاطلاق وفي كونه تمام المراد حينئذ
منوط ومعلق بعدم بيان المتكلم جزء مرامه بكلام آخر فيما بعد، والا فمع وجود البيان على
بعض مرامه فيما بعد لا يكاد يكون له هذا الظهور الاطلاقي، فكان أصل ظهوره في الاطلاق
وكونه تمام المراد حينئذ من لوازم عدم مجئ القيد ولو بالأصل، وفي مثله من المعلوم انه
بالظفر بكل بيان وحجة على القيد يرتفع هذا الأصل بالمرة، كارتفاع اللابيان الذي هو
570

موضوع حكم العقل بالقبح بوجود البيان على التكليف، وعليه فلا يبقى مجال توهم المعارضة
بينهما بوجه أصلا، وهذا بخلافه على الثاني فان قضية كون المتكلم في مقام اعطاء الحجة
حينئذ انما كان ملازما مع ظهور لفظه في الاطلاق الكاشف عن كونه تمام المراد، بظهور
فعلى تنجيزي، من جهة ان اعطاء الحجة على المراد حينئذ لا يكون الا باعطاء
الظهور الكاشف عنه، والا فلا يكون في البين حجة غيره، وحينئذ فمتى لم ينصب في كلام
به التخاطب قرينة على القيد والخصوصية، فلا جرم يلزمه استقرار الاطلاقي للفظه،
ومع استقرار الظهور الاطلاقي فيه يقع لا محالة التعارض بينه وبين ما في القبال من
المقيدات المنفصلة، وفي مثله لا يلاحظ قضية وضعية الظهور اللفظي في المقيدات المنفصلة
في تقديمها على ظهوره الاطلاقي، بل بعد استقرار الظهور الاطلاقي فيها أيضا لابد من
ملاحظة أقوى الظهورين منهما وتقديمه على الاخر، وهذا بخلافه على الأول فإنه عليه
لا مجال لتوهم المعارضة بينهما بل لابد من تقديم الظهورات الوضعية في المقيدات المنفصلة
على ظهوره الاطلاقي من جهة صلاحيتها للبيانية عليه ورافعيتها لأصل ظهوره الاطلاقي،
والوجه فيه ما عرفت بان عدم البيان على القيد فيما بعد على ذلك كان مقوم أصل انعقاد
الظهور الاطلاقي فيه، فمع مجئ البيان بالوجدان والظفر بالحجة على القيد يرتفع
هذا الأصل بالمرة، وبارتفاعه لا يكاد يكون ظهور الاطلاقي لكلامه بوجه أصلا حتى يلاحظ
التعارض بينهما، كما لا يخفى.
لا يقال بان ذلك كك لولا ظهور حال المتكلم في المشي على طبق ما اقتضته الجبلة
الأولية والفطرة الارتكازية من ابرازه تمام مقاصده بلفظ به التخاطب لا به وبكلام آخر
منفصل عن هذا الكلام، فإنه لا اشكال في أن الجبلة والفطرة في كل متكلم بكلام به
التخاطب تقتضي كونه بصدد ابراز تمام مرامه الواقعي بمدلول لفظه الملقى إلى المخاطب
على نحو كان مدلول لفظه تمام مراده بوصف التمامية، لا في مقام الاهمال رأسا، ولا في
مقام بيان مجرد ان المدلول هو المراد ولو لم يكن تمام المراد بوصف التمامية بل كان ذلك جزء
مراده، وجزئه الآخر شئ يذكره فيما بعد بكلام آخر غير هذا الكلام، فان ذلك كله وان
أمكن في نفسه، حيث لا محذور في ذكر المتكلم جزء مرامه بهذا الكلام وجزئه الآخر بكلام
منفصل آخر فيما بعد، وبعبارة أخرى لا محذور في كينونة المتكلم في بيان تمام مرامه لكن بأعم
من هذا الكلام وكلام آخر فيما بعد، الا انه خلاف ما تقتضيه الجبلة الأولية والارتكاز
571

الفطري، ومن ذلك ترى بأنه لا يرتاب أحد في الخطابات الشفاهية في الحمل على
الاطلاق في قوله: ادخل السوق واشتر اللحم ونحو ذلك، والكشف عن كون مدلول اللفظ
تمام المراد، من دون اعتناء باحتمال كون المدلول جزء المراد في حكمه وان جزئه الآخر
شئ يذكره فيما بعد بكلام آخر، وعلى ذلك فإذا كان الظاهر من حال المتكلم كونه على
طبق تلك الجبلة من كونه بصدد بيان تمام مراده بكلام به التخاطب في قوله: أعتق رقبة
مثلا، ولم متصلا بكلامه ذلك ما يدل على اعتبار قيد فيها من الايمان أو الكتابة أو
غيرها، فلا جرم في مثله الجبلة المسطورة تقتضي ظهور لفظه في الاطلاق الكاشف عن
كونه تمام المراد، من دون احتياج في ذلك إلى التشبث بأصالة عدم مجئ القيد فيما بعد،
بل نفس ظهور الحال يكفي في اطلاق المرام، وحينئذ فمع استقرار الظهور الاطلاقي لكلامه
بمقتضى المقدمات المزبورة عن الجبلة المسطورة قهرا يلزمه التعارض بينه وبين ما في القبال
من المقيدات المنفصلة، من جهة كشف ذلك حينئذ عن كون المدلول تمام المرام وكشف
المقيدات المنفصلة عن كون المدلول من الأول جزء المرام لاتمامه الملازم لعدم كون
المتكلم من أول الامر على طبق الجبلة من بيان مرامه بلفظ به التخاطب، وعليه
فلا فرق بين التقريبين من جهة انه على كل تقدير يستقر الظهور الاطلاقي للفظه، ولا ينثلم
ظهوره بقيام دليل منفصل فيما بعد على القيد، سواء فيه على تفسير البيان باعطاء الحجة
والظهور على المراد أو تفسيره ببيان المرام الواقعي النفس الأمري بلفظ به التخاطب.
فإنه يقال بعد الفرق الواضح في المقام بين مسلك المشهور من وضع اللفظ للاطلاق
كسائر الحقائق، وبين مسلك السلطان (قدس سره) من حيث استتباع المقدمة المزبورة
بالجبلة المسطورة على الأول لمطابقة اللفظ الظاهر في نفسه لواقع مرامه لا لأصل انعقاد
الظهور، من جهة اقتضاء الوضع فيه لأصل انعقاد الظهور، بخلافه على مسلك السلطان
حيث كانت الجبلة المزبورة مقومة لأصل انعقاد الظهور الاطلاقي للفظ. نقول بان
من المعلوم حينئذ ان احراز هذا الظهور وجدانا فرع أحرا الجبلة المسطورة
كذلك، والا فمع عدم احراز الجبلة واحتمال عدم كون المتكلم فعلا في مقام بيان تمام
مرامه بهذا الكلام واحتمال مجئ القيد فيما بعد لا مجال لانعقاد الظهور الاطلاقي على
هذا المسلك، وعليه فمرجع احراز تلك الجبلة بظهور حال المتكلم، مع احتمال كونه على
خلاف الجبلة والارتكاز وجدانا، بعد أن كان إلى أصالة عدم المانع عن الجبلة، الراجعة
572

إلى أصالة عدم كونه في مقام بيان تمام مرامه بكلام آخر غير هذا الكلام فلا جرم بمجرد
مجئ البيان على القيد يلزمه لا محالة ارتفاع هذا الأصل بالمرة، لان مرجع أصالة عدم
البيان على القيد التي يناط بها ظهور اللفظ انما هو إلى عدم الحجة عليه ولو بلفظ آخر
منفصل عن هذا اللفظ، فمع الظفر بكل بيان وحجة على القيد فيما بعد يرتفع لا محالة
هذا الأصل الحاكم بكون المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بهذا اللفظ، ومع ارتفاعه لا يبقى
مجال للظهور الاطلاقي في طرف المطلق حتى يعارض الظهور التنجيزي في طرف
المقيدات المنفصلة، وذلك أيضا من غير فرق بين فرض احراز القيد بالكشف القطعي أو
احرازه بالكشف الظني، فإنه على كل تقدير يكون الظفر بكل بيان وحجة على القيد رافعا
حقيقة للأصل المزبور الذي به قوام الظهور المزبور. نعم لو كان الارتكاز والجبلة المزبورة
في المقام كسائر الحقايق وعلى مسلك المشهور مستتبعا لمطابقة اللفظ الظاهر في نفسه لواقع
مرامه ورافعا لاحتمال إرادة خلاف الظاهر لا مقوما لأصل الظهور، أو كان ظهور اللفظ
في مقام اناطته منوطا بعدم وجود القيد واقعا لا بعدم الحجة والبيان عليه الذي هو موضوع
قبح العقاب بلا بيان لكان لدعوى المعارضة بين ظهور حال المتكلم الكاشف عن عدمه
واقعا مع دليل القيد الكاشف عن وجوده كك كمال مجال، والا فمع فرض تسليم إناطة
أصل ظهوره بعدم الحجة وبيان القيد ولو فيما بعد فلا يبقى مجال دعوى المعارضة بين
ظهور الحال مع دليل القيد، بل مهما ظفر بالحجة على القيد فيما بعد يقطع بمخالفة الظهور
للواقع.
وبالجملة نقول: ان موضوع حكم العقل بعدم نقض الغرض الذي هو مفاد مقدمات
الحكمة انما هو كون المتكلم في مقام البيان وعدم إقامة حجة على مدخلية قيد في مرامه، إذ
لو أقام حجة عليه لا يلزم عليه نقض غرض بوجه أصلا، وحينئذ فمهما ظفرنا بحجة
على القيد فيما بعد يلزمه ارتفاع موضوع حكم العقل، من جهة انقلاب اللابيان
بوجود البيان، كما هو واضح. وعليه فلابد من تنقيح هذه الجهة بان البيان الذي هو عمدة
تلك المقدمات عبارة عن اعطاء الحجة والظهور على المراد، كي يلزمه المعارضة مع المقيدات
المنفصلة بالتقريب المتقدم، أو هو عبارة عن كون المتكلم في مقام الجد لبيان تمام مرامه
الواقعي بلفظ به التخاطب حتى يلزمه تقديم المقيدات المنفصلة عليه.
ثم إن من لوازم هذين المعنيين أيضا هو عدم اضرار القدر المتيقن الخارجي بالاطلاق
573

على الأول واضراره به على الثاني، من جهة عدم محذور نقض غرض عليه في فرض إرادة
التقييد واتكاله عليه بيانا وحجة على القيد، بخلافه على الأول فإنه لما كان لا يوجب مثله
انثلاما لظهور اللفظ كما في كلية القرائن المنفصلة لا يكاد يصح له الاكتفاء بذلك القدر
المتيقن الخارجي في فرض عدم إرادة الاطلاق من لفظه، كما هو واضح.
وحيث إن بنائهم طرا على عدم الاعتناء بوجود القدر المتيقن الخارجي في المضربة
بالاطلاق. فالأقوى منهما هو المعنى الأول، مضافا إلى كونه هو الغالب في هذه الخطابات خصوصا
الخطابات الشرعية المتكفلة للأحكام الشرعية، فإنها طرا بصدد اعطاء الحجة على المراد إلى
المكلف ليكون له بيانا وحجة في الموارد المشكوكة في نفى ما شك في اعتباره وجودا أم
عدما في المأمور به إلى أن يظهر الخلاف، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في القاء العمومات
اللفظية وسائر الحقايق، فان المقصود منها طرا انما هو مجرد اعطاء الحجة على المراد إلى
المكلف، لان يتكل بها بيانا على التكليف وجودا وعدما في مقام العمل عند الشك
في القرينة أو التخصيص فتدبر.
واما المقدمة الثالثة وهي انتفاء القدر المتيقن مطلقا ولو من الخارج أو في خصوص
مقام التخاطب فالاحتياج إليها في صحة الاخذ بالاطلاق وعدمه أيضا مبني على أن
المراد من البيان في المقدمة الأولى هو كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده على وجه يعلم
المخاطب أيضا بان المدلول تمام المراد، أو مجرد كونه في مقام بيان تمام مراده بنحو لا يشذ
عنه شئ، بلا نظر إلى فهم المخاطب بأنه تمام المراد، فعلى الأولى لا يحتاج إلى تلك المقدمة
ولا يكاد يضر وجود القدر المتيقن ولو في مقام التخاطب بقضية الاطلاق، ما لم يصل إلى
حد الانصراف الكاشف عن دخل الخصوصية في المطلوب، فان مجرد القطع بكونه مرادا
لا يقتضى عدم كون غيره مرادا أيضا، بل على فرض إرادة المتكلم للقيد لابد بمقتضى
برهان نقض الغرض من نصب البيان على مدخلية الخصوصية، والا فليس له الاكتفاء
بمحض كونه القدر المتيقن في مقام التخاطب، واما على الثاني من كونه في مقام بيان تمام
مرامه من دون تعلق غرضه بفهم المخاطب أيضا بان مدلول اللفظ تمام المراد بوصف
التمامية فلازمه الاحتياج إلى عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وعدم جواز
التعدي عنه مع وجوده إلى غيره، فإنه على تقدير إرادة المقيد حينئذ لا يلزم من عدم بيانه
نقض غرض في البين كما يلزم في الصورة الأولى، ومعه لا طريق إلى احراز الاطلاق حتى
574

يتعدى عن القدر المتيقن إلى غيره، كما هو واضح.
ولكن التحقيق حينئذ هو الثاني، ذلك من جهة ان غاية ما تقتضيه تلك المقدمات
بمقتضى برهان نقض الغرض انما هو عدم اخلال المتكلم بما هو واقع مرامه في خطابه،
واما من حيث فهم المخاطب أيضا بأنه تمام المراد فلا، لان ذلك امر زائد قلما يتفق تعلق
الغرض به، وعليه فمع احتمال إرادة المتكلم للمقيد وهو المتيقن واتكاله في ذلك على
حكم العقل بلزوم الاخذ به لا مجال للاخذ بالاطلاق، حيث لا يلزم من ارادته بالخصوص
محذور نقض غرض في البين، وهذا بخلافه في الفرض الأول فإنه بعد فرض تعلق غرضه
بمعرفة المخاطب أيضا بكون المدلول تمام المراد لابد له في فرض ارادته للمقيد من نصب
بيان عليه، والا فمجرد القطع بدخول القدر المتيقن في المطلوب وكونه مرادا للمتكلم لا
يقتضى القطع بكونه تمام المراد بوصف التمامية الا مع بلوغه إلى حد الانصراف الكاشف
عن دخل الخصوصية، فعلى ذلك فلا اشكال في الاحتياج إلى المقدمة الثالثة، وهي انتفاء
القدر المتيقن في مقام التخاطب.
واما اضرار القدر المتيقن الخارجي وعدم اضراره فقد عرفت ابتنائه أيضا على كون
البيان في المقام بمعنى اعطاء الحجة على المراد أو بمعنى كون المتكلم في مقام الجد بابراز
مرامه الواقعي. وقد عرفت أيضا ان التحقيق هو الأول وانه لا يضر مجرد وجود القدر
المتيقن ولو من الخارج بالأخذ بالاطلاق.
ثم لا يخفى عليك انه مع وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وان كان لا مجال
للاخذ بالاطلاق، بل كان اللازم هو الاقتصار عليه وعدم التعدي عنه إلى غيره، الا انه
لا يوجب التقيد بالخصوص حتى يلزمه معارضته مع مطلق آخر في قباله، بل وانما غايته هو
مانعيته عن الاخذ باطلاق ذلك، وهو واضح.
ثم إن من القرائن المانعة عن الاخذ بالاطلاق كما عرفت هو الانصراف، ولكنه
لا مطلقا بل البالغ منه إلى حد مبين العدم أو المضر الاجمالي دون ما يوجب التشكيك
البدوي، وتوضيح ذلك هو ان للانصراف مراتب متفاوتة شدة وضعفا، حسب زيادة ما
يوجبه من انس الذهن الناشئ من كثرة الاطلاق وغلبة الاستعمال وغير ذلك.
فمن تلك المراتب ما يوجب التشكيك البدوي الزائل بالتأمل والتدقيق كما في
انصراف الماء في الكوفة مثلا إلى الفرات، فإنه لا يوجب الا مجرد التشكيك البدوي الذي
575

يزول بأدنى تأمل وتدبر.
ومنها: ما يكون انس الذهن بمرتبه يوجب الشك المستقر بنحو لا يزول بالتأمل والتدبر
أيضا، كما في القدر المتيقن.
ومنها: ما يكون انس الذهن بمثابة يكون كالتقيد اللفظي، فهذه مراتب ثلاثة:
فالمرتبة الأولى: منها هي المعبر عنها بالتشكيك البدوي وهي لا توجب شيئا ولا تمنع
عن الاخذ بالاطلاق.
والثانية: هي المضرة الاجمالية فتمنع عن الاخذ بالاطلاق خاصة كما في القدر المتيقن
في مقام التخاطب.
والثالثة: هي المعبر عنها بمبين العدم، باعتبار اقتضائها لتحديد دائرة المطلوب وتقيده
بالخصوصية الموجبة لصلاحيته للمعارضة مع ما في القبال من مطلق آخر، فيفترق حينئذ
هذه المرتبة مع المرتبة السابقة وهي المضرة الاجمالية، من حيث عدم اقتضاء المضر الاجمالي
الا مجرد الاضرار بالاطلاق والمنع عن التمسك به، بخلاف هذه المرتبة، فإنها مضافا إلى
منعها عن الاطلاق توجب تحديد دائرة المراد والمطلوب وتقيده بالخصوصية كالتقييدات
اللفظة.
ثم إن الانصراف إلى الخصوصية أيضا تارة يكون على الاطلاق من دون اختصاصه
بحال دون حال، وأخرى يكون مخصوصا بحال دون حال آخر كحال الاختيار والاضطرار
وغير ذلك، كما لو كان من عادة المولى مثلا اكل البطيخ في الحضر واكل ماء اللحم
في السفر، فان المنصرف من امره حينئذ باحضار الطعام في حضره شئ وفي سفره شئ
آخر، لا انه كان المنصرف إليه شيئا واحدا في جميع تلك الأحوال.
ومن ذلك أيضا انصراف وضع اليد مثلا على الأرض، حيث إن المنصرف منه في
حال الاختيار والتمكن ربما كان هو الوضع بباطن الكف لا بظاهرها، وفي حال الاضطرار
وعدم التمكن من وضع باطن الكف كان المنصرف منه الوضع بظاهر الكف، ومع عدم
التمكن من ذلك هو الوضع بالساعد، وهكذا، كل ذلك بملاحظة ما هو قضية الجبلة والفطرة
من وضع الانسان باطن كفيه على الأرض في حال القدرة في مقام الوصول إلى مقاصده، و
بظاهرهما عند العجز وعدم التمكن من ذلك، وبالساعدين عند العجز من ذلك أيضا.
وعليه فلا بأس بالتمسك باطلاقات أوامر المسح باليد في وجوب المسح بظاهر الكفين مع
576

عدم التمكن عن المسح بباطنها، بل وجوبه ببقية اليدين عند تعذر المسح بظاهر الكفين أيضا
كما هو المشهور.
فلا يرد عليه حينئذ ان المنصرف من الامر بالمسح باليد لو كان هو المسح
بباطن الكفين بحيث كان بمنزلة التقييد اللفظي لما كان وجه لدعوى وجوبه بظاهرهما
مع العجز عن المسح بباطنهما، من جهة ان مقتضى الانصراف المزبور بعد كونه بمنزلة
التقييد اللفظي حينئذ انما كان سقوط وجوب المسح رأسا، فيحتاج اثبات وجوبه
بظاهر الكفين إلى دليل خاص، والا فلا يجديه اطلاقات أوامر المسح باليد.
إذ نقول بان ذلك انما يتم فيما لو كان الانصراف المزبور أولا بنحو الاطلاق، والا فمع
فرض اختصاصه بحال القدرة وعدم العجز لا مجال لهذا الاشكال، بل حينئذ كما يتمسك
باطلاق أوامر المسح عند التمكن لوجوب المسح بباطن الكفين، كذلك يتمسك به أيضا
لوجوبه بظاهرهما في حال عدم التمكن من المسح بباطنهما، من دون احتياج في اثبات
وجوبه بظاهر الكفين إلى قيام دليل خاص عليه، كما لا يخفى.
ثم اعلم أنه إذا كان للمطلق جهات فلابد في الاخذ بالاطلاق من كل جهة من احراز
كون المتكلم في مقام البيان من تلك الجهة والا فلا يكفي مجرد كون المتكلم في مقام البيان
من جهة من الجهات في الاخذ بالاطلاق مطلقا ولو من غير تلك الجهة، بل بعد امكان
كونه في مقام الاهمال لابد من الاقتصار في الاخذ بالاطلاق على الجهة المعلومة التي كان
المتكلم بالنسبة إليها في مقام البيان وعدم التعدي عنها إلى غيرها، الا إذا كانت
الجهة المهملة من اللوازم الغالبية للجهة المعلومة التي كان المتكلم
بالنسبة إليها في مقام البيان، بحيث يوجب الحكم بالاهمال فيها من هذه الجهة صرف
الاطلاق إلى الموارد النادرة، فإنه في مثل ذلك ربما يلازم الاطلاق من هذه الجهة
الاطلاق من غير تلك الجهة أيضا فيؤخذ حينئذ باطلاقه من الجهتين، وعلى ذلك فيمكن
الاخذ باطلاق ما دل على طهارة سؤر الهرة حتى من جهة الحالات من حيث طهارة فم
الهرة وعدم طهارة فمها وتلطخها بالنجاسة، بدعوى ان سوق الكلام وان كان من جهة
افراد السؤر دون الحالات ولكنه لما كان الاهمال من جهة نجاسة فم الهرة وطهارته موجبا
لحمل اطلاق طهارة سؤرها على المورد النادر، بملاحظة انه قلما يتفق خلو في الهرة
عن النجاسة ولو في زمان، فيوجب حينئذ حمل اطلاق طهارة سؤرها على الموارد النادرة
577

التي لم يتلطخ فمها بالنجاسة أو تلطخ بها ولكنه صار طاهرا بالماء الكر أو الجاري ونحوهما،
فقهرا في مثله يلازم الاطلاق من تلك الجهة الاطلاق في الجهة المهملة فيؤخذ حينئذ
باطلاق الطهارة من الجهتين.
وحينئذ فلابد أولا من ملاحظة جهات القضية وان الكلام مسوق لبيان أي واحدة
من الجهات، ثم بعد ذلك ملاحظة تلك الجهات المهملة التي لم يحرز كون المتكلم بالنسبة
إليها في مقام البيان بأنها من اللوازم الغير المنفكة العقلية أو الغالبية للجهات المطلقة أم لا،
هذا كله في أصل كبرى المسألة.
واما تشخيص صغريات ذلك فموكول إلى نظر الفقيه حيث لا ضابط كلي لذلك يؤخذ
به في جميع الموارد، وانما ذلك يختلف باختلاف خصوصيات الموارد حسب ما تقتضيه
القرائن الخاصة ومناسبات الحكم والموضوع ونحو ذلك، فمن ذلك لابد للفقيه من بذل
الجهد في تشخيص صغريات ذلك بملاحظة خصوصيات الموارد أو القرائن الخاصة فيها من
مناسبات الحكم والموضوع ونحو ذلك، فتدبر.
تتمة
إذا ورد مطلق و مقيد فاما ان يكونا متوافقين في الايجاب والسلب أو متخالفين. أما إذا
كانا متوافقين وكانا مثبتين كقوله: أعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة فاما ان يحرز
ولو من الخارج كونهما بنحو وحدة المطلوب أو تعدده، واما ان لا يحرز
شئ منهما.
فعلى الأول فان أحرز كونهما على نحو وحدة المطلوب فلا اشكال في المعارضة بينهما،
فلابد حينئذ اما من حمل المطلق على المقيد واما من حمل المقيد على بيان أفضل الافراد برفع
اليد عن ظهوره في دخل الخصوصية، وان أحرز كونهما على نحو تعدد المطلوب على معنى
كون مطلق الرقبة الجامع بين الواجدة للايمان والفاقدة له مطلوبا، والرقبة المتقيدة
بقيد الايمان مطلوبا آخر فلا تعارض بينهما، حيث يؤخذ بكل واحد منهما، ونتيجة ذلك هو
سقوط كلا التكليفين بايجاد المقيد في مقام الامتثال، وبقاء التكليف بالمقيد في صورة
الاقتصار على المطلق.
واما على الثاني من عدم احراز أحد الامرين من وحدة المطلوب وتعدده والشك في
578

ذلك فلا اشكال أيضا في أن مقتضى الأصل هو الحمل على تعدد المطلوب، لأنه مع
احتمال كونهما بنحو تعدد المطلوب لم يحرز التنافي بينهما حتى يحتاج في مقام العلاج إلى حمل
المطلق على المقيد، فكان نفس الشك في كونهما على نحو وحدة المطلوب واحتمال كونهما
بنحو تعدد المطلوب كافيا في عدم ترتيب آثار وحدة المطلوب بينهما، وهذا مما لا اشكال
فيه ظاهرا.
وانما الكلام في أن طبع ظهور القضية في مثله يقتضى أي الامرين منهما؟ وفي مثله
نقول: بان كل واحد من الامرين في قوله: أعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة، لما كان له
ظهور في إرادة مستقلة محدودة بحد خاص متعلقة بصرف وجود الشئ الذي هو غير قابل
للتعدد والتكرر، وكان الجمع بين ظهور الامرين في الاستقلال وبين ظهور المتعلق في
صرف الوجود غير ممكن عقلا، من جهة استحالة توارد الحكمين المتماثلين كالضدين على
موضوع واحد، فلابد في مقام العلاج من رفع اليد عن أحد الأمور الثلاثة:
اما عن ظهور المتعلق في الصرف بحمله على وجود ووجود ليختلف متعلق الحكمين.
واما عن ظهور الامرين في الاستقلال والتعدد بجعل المنكشف منهما إرادة واحدة لا
إرادتين، ليكون النتيجة وحدة المطلوب، فيجمع بينهما اما بحمل المطلق
على المقيد أو حمل المقيد على أفضل الافراد، فيكون المنكشف في الامر
بالمطلق على الأول عين الإرادة الضمنية في طرف الامر بالمقيد، وعلى الثاني يكون
المنكشف في الامر بالمقيد عين الإرادة المكشوفة في طرف المطلق مع زيادة الندبية مثلا.
واما من رفع اليد عن استقلال الامرين في الحد خاصة مع حفظ أصل ظهورهما في
تعدد الإرادة والطلب، فيحمل بعد الغاء الحدود الخاصة فيهما على التأكد في المجمع.
ولكن في مقام الترجيح لا ينبغي اشكال في أن أردأ الوجوه هو الوجه الأول، حيث إن
رفع اليد عن ظهور المتعلق فيهما في صرف الوجود والمصير إلى لزوم تعدد الوجود في مقام
الامتثال بعيد جدا، وحينئذ فيدور الامر بين الوجهين الآخرين: من رفع اليد اما عن
أصل ظهور الامرين في الاستقلال ذاتا والمصير إلى كون المنكشف من الانشائين إرادة
واحدة فينتج وحدة المطلوب، واما من رفع اليد عن خصوص الحدود مع ابقاء أصل ظهور
الامرين في الاستقلال على حاله كي ينتج تعدد المطلوب والتأكد في المجمع،
وفي مثله لا يبعد دعوى تعين الأخير من جهة أهونية التصرف في الحد من التصرف
579

في ظهور الامرين في تعدد الإرادة، خصوصا مع امكان منع أصل ظهور الامرين في
استقلالهما في الحد من جهة ان غاية ما يقتضيه الظهور المزبور انما هو الكشف عن تعدد
أصل الإرادة والطلب واما محدوديتهما بحدين مستقلين فلا.
وبالجملة نقول بان التصرف في ظهور الامرين في تعدد الإرادة وان كان ممكنا في نفسه، من حيث إنه
يكون الانشاء في باب التكاليف كالانشاء في باب العقود في اقتضائه السببية لتحصل مضمونه
في الخارج حتى يلزمه تعدد المسبب عند تعدد السبب، بل وانما ذلك كان من قبيل الاخبار كاشفا
عن الإرادة وحاكيا عنها، فأمكن ان يقال حينئذ بعدم كشف الانشائين في المقام عن أزيد
من إرادة واحدة. ولكنه مع ذلك كله عند الدوران بين التصرفين كان التصرف الأخير
وهو التصرف في الحد أهون من التصرف في ظهور الامرين في تعدد الإرادة.
ثم إن ما ذكرنا من الدوران بين الوجوه المزبورة انما هو على المبنى المختار من استقرار
الظهور للمطلق وعدم انثلامه بقيام القرينة المنفصلة على الخلاف، والا فبناء على المبنى
الآخر الذي تقدم شرحه فلا محالة يكون دليل المقيد حاكما عليه، فلابد من التقييد، ومعه
فلا ينتهي النوبة إلى مقام الدوران بين الوجوه المتقدمة، اللهم الا ان يقال بأنه كك فيما
لو كانت الدلالة في المقيد المنفصل وضعيا الا فبناء على كون الدلالة فيه أيضا من جهة
الاطلاق وقرينة الحكمة فلا، من جهة ان التعليق حينئذ كان من الطرفين ومعه لا وجه
لتقديم دليل المقيد وتحكيمه على المطلق، والمقام انما كان من قبيل الثاني، حيث إنه كما
كان ظهور المطلق في استقلال الطلب من جهة مقدمات الحكمة كذلك ظهور دليل المقيد
أيضا: في قوله أعتق رقبة مؤمنة، في أول مرتبة الإرادة كان من جهة الاطلاق، بحيث لو تم
ظهور الأول لابد من حمل الثاني على المرتبة الأكيدة من الإرادة، ومعه لا وجه لتقديم دليل
المقيد وتحكيمه على ظهور المطلق وحمل الامر المتعلق به على الامر الضمني.
اللهم الا ان يدفع ذلك ويقال بان ظهور كل امر في أول مرتبة الطلب ظهور وضعي
لا اطلاقي، فتدبر.
ثم إن هذا كله بناء على عدم ثبوت المفهوم للمقيد واما بناء على ثبوت المفهوم له
فقد يقال بأنه لا اشكال حينئذ في التقييد. ولكن فيه اشكال: إذ نقول بأنه انما يلزم التقييد
فيما لو كان القيد بحسب ظهور القضية راجعا إلى أصل الوجوب، والا فبناء على ظهور رجوعه
إلى المرتبة الأكيدة من الوجوب أو احتمال رجوعه إليها فلا يلزم التقيد، من غير فرق في
580

ذلك بين القول بثبوت المفهوم والقول بعدمه.
وبالجملة نقول: بأنه على فرض ظهوره في رجوع القيد إلى أصل الحكم لابد من
التقييد، قلنا بالمفهوم أم لم نقل، وعلى فرض عدم ظهوره في ذلك ورجوعه إلى المرتبة
الأكيدة من الحكم أو تردده بين الامرين فلا يحكم بالتقييد وان قلنا بالمفهوم، فعلى كل
تقدير لا ينفع قضية القول بالمفهوم في اثبات التقييد، كما هو واضح. وعلى كل حال فهذا
كله فيما لو كان لسان دليل المقيد بنحو قوله: أعتق رقبة مؤمنة.
واما لو كان لسانه بنحو قوله: يجب ان تكون الرقبة مؤمنة أو ما يفيد ذلك، فلا يبعد في
مثله دعوى ظهوره في مطلوبية الايمان فيها مستقلا من باب المطلوب في المطلوب.
كما أنه لو كان بلسان الاشتراط كقوله: فليكن الرقبة مؤمنة، لابد من التقييد من
جهة ظهوره حينئذ في مدخلية قيد الايمان في المطلوب.
وعلى ذلك لابد حينئذ من ملاحظة كيفية لسان دليل المقيد في أنه
بنحو قوله: أعتق رقبة مؤمنة، أو بنحو قوله: يجب ان تكون الرقبة مؤمنة،
الظاهرة في كونه من باب المطلوب في المطلوب، أو بنحو الارشاد إلى الاشتراط، فعلى الأول
يتأتى فيه الوجوه المتقدمة، وعلى الثاني يؤخذ بظهور كل واحد من المطلق والمقيد ولا
تعارض ولا تنافى بينهما، وعلى الثالث لابد من التقييد وحمل المطلق على المقيد فتدبر. هذا
كله في المثبتين.
واما المنفيان كقوله: لا تعتق الرقبة ولا تعتق الرقبة المؤمنة، فلا اشكال في عدم
التنافي بينهما بل في مثله ربما كان ذلك مؤكدا في الحقيقة للاطلاق لا منافيا له، الا على
فرض القول فيه بالمفهوم، فيلحق حينئذ بالمتخالفين من جهة اقتضائه حينئذ بمفهومه لعدم
حرمة المطلق، ومثله ما لو كانا بنحو قوله: لا يجب عتق الرقبة ولا يجب عتق الرقبة المؤمنة،
فان ذلك أيضا على فرض المفهوم كان ملحقا بالمتخالفين، وعلى فرض عدم المفهوم كان
مؤكدا للاطلاق لا منافيا له، هذا، ولكن في عد المثال الأول مثالا للمنفيين نحو خفاء
ينشأ من كونه أشبه بالمثبتين، كما هو ظاهر. وعلى كل حال فهذا كله في المتوافقين
في الايجاب والسلب.
واما المتخالفان فهو يتصور على وجهين: الأول ما كان التخالف بينهما على وجه
التناقض بنحو الايجاب والسلب كقوله: أعتق رقبة ولا يجب عتق الرقبة المؤمنة، وذلك
581

أيضا بأحد النحوين: اما بنحو كان الحكم في طرف المطلق اثباتا وفي طرف المقيد نفيا
كما في المثال المزبور، واما بعكس ذلك كقوله: لا يجب عتق الرقبة ويجب عتق الرقبة
المؤمنة. فان كان الأول ففيه احتمالات: احتمال التقييد كما هو الظاهر وعليه العرف،
واحتمال نفى الوجوب الأكيد لا نفي أصل الوجوب، واحتمال رجوع النفي إلى خصوص
القيد، ومع الدوران وعدم الترجيح قد عرفت ان الحكم هو عدم التقييد، وان كان
الثاني فالمتعين كان هو التقييد.
الثاني ان يكون التخالف على وجه التضاد كقوله: أعتق رقبة ويحرم عتق الرقبة
الكافرة، أو بالعكس كقوله: يحرم عتق الرقبة ويجب عتق الرقبة المؤمنة، وحكم
هذا القسم في الصورتين أيضا هو التقييد وتخصيص الوجوب في الصورة الأولى بما عدا الافراد
الكافرة والحرمة في الصورة الثانية بما عدا الافراد المؤمنة.
نعم يحتمل أيضا رجوع الحكم في هذا القسم في الصورتين إلى ذات القيد على معنى
اختصاص الحكم في طرف المقيد بذات القيد، نظير الامر بالجامع مع النهى عن بعض
الخصوصيات أو بالعكس، وعليه فيبتنى على مسألة الاجتماع، فعلى القول بالجواز
خصوصا في الفرض فلا تنافى بينهما أصلا، من جهة اختلاف المتعلق حقيقة حينئذ في الأمر والنهي
وكونه في أحدهما هو الطبيعي والجامع وفى الآخر هو القيد والخصوصية، واما
على القول بعدم الجواز حتى في مثل الفرض يقع بينهما التنافي. ولكن قد عرفت ان الجمع
العرفي في نحوه هو التقييد لاغير. هذا تمام الكلام في المطلق والمقيد. والحمد لله رب العالمين.
582

المقصد السادس في المجمل والمبين
وقد عرف المجمل بتعاريف: منها: ان المجمل عبارة عما لا يكون بحجة ولا يستطرق به
إلى الواقع فيقابله المبين وهو الذي يستطرق به إلى الواقع.
ومنها: ولعله هو الظاهر أنه عبارة عما لا يكون له الدلالة والظهور في معنى خاص
والمبين في قباله وهو الكلام الذي كان له الدلالة والظهور على المعنى. والمراد من الدلالة
والظهور انما هو الدلالة التصورية التي هي بمعنى انسباق المعنى من اللفظ في الذهن عند
اطلاقه، لا الدلالة التصديقية التي هي موضوع الحجية، ولعله إليه أيضا يرجع ما
في الفصول من تعريفه بأنه عبارة عما دل على معنى لم يتضح دلالته. وعليه فيخرج
المهملات طرا لأنها ليس لها معنى أصلا، والظهور والدلالة فرع أصل وجود المعنى للفظ،
كما أنه يخرج أيضا عن هذا التعريف الألفاظ الظاهرة التي قام على خلافها القرينة
الخارجية المنفصلة، كالعمومات المخصصة بالمنفصل، وموارد تعارض الظهورين
المنفصلين، ويدخل ذلك كله في المبين، من جهة ان مجرد قيام القرينة الخارجية على عدم
إرادة الظاهر منه على هذا التعريف لا يخرجه عن المبين. وهذا بخلافه على التعريف الأول
فإنه عليه يدخل الموارد المزبورة في المجملات نعم يدخل فيه المشتركات اللفظية بل المعنوية
والكلام المحفوف بالقرينة المجملة ونحوها مما لا يكون له ظهور في معنى وان علم من الخارج
ما أريد منه، هذا.
ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم ترتب ثمرة مهمة على هذا النزاع، لان موضوع
الحجية بعد ما كان عبارة عن الظهور التصديقي الملازم لاحراز كون المتكلم في مقام الإفادة
583

والاستفادة، فلا جرم كان تمام العبرة في مقام الحجية والاستطراق وجودا وعدما على هذا
الظهور، قلنا بكون المجمل عبارة عما لا يستطرق به إلى الواقع وكون موارد تعارض
الظهورين المنفصلين من المجملات حقيقة، أو بكونه عبارة عما لا يكون له ظهور ودلالة
على المعنى المراد بالظهور التصوري وان الموارد المزبورة مبينات حقيقة ولكنها محكومة بحكم
الاجمال، من جهة انه ليس لنا حكم في آية أو رواية كان مترتبا على العنوانين المزبورين
حتى يصح لأجله النزاع والنقض والابرام في تعريفهما، كما هو واضح.
ومن ذلك ظهر عدم المجال أيضا لما أفادوه من النقض والابرام في بعض الألفاظ
الواردة في الكتاب والسنة في أنها من المجملات أو المبينات كآية السرقة، وآية تحريم
الأمهات، وقوله: لا صلاة الا بطهور، ونحو ذلك، من حيث حكم بعضهم باجمال اليد
في الآية وترددها بين الكف والزند والمرفق، وحكم بعض آخر بعدم الاجمال فيها، وهكذا
في آية تحريم الأمهات، وقوله: لا صلاة الا بطهور، وذلك لما عرفت من عدم
ترتب ثمرة مهمة على ذلك بعد كون مدار الحجية في باب
الظهورات وجودا وعدما على الظهور التصديقي، هذا، مع امكان دعوى كون الأمثلة
المزبورة أيضا من المبينات بالمعنى الذي شرحناه، نظرا إلى ظهور اليد في المجموع حسب
الظهور التصوري الذي بمعنى الانسباق، وظهور استناد تحريم الأمهات والأخوات إلى
خصوص وطيها، وحلية البهيمة إلى اكلها، وظهور النفي في لا صلاة الا بطهور في
نفى الحقيقة، وعليه فكانت الأمثلة المزبورة من قبيل المبينات من غير أن يضر بذلك قيام
القرينة في بعضها على الخلاف كما في آية السرقة، حيث علم من الخارج بعدم إرادة مجموع
اليد في الآية المباركة، وعدم إرادة نفى الحقيقة مثلا في تركيب لا صلاة الا بطهور ونحوه،
وذلك من جهة ما عرفت مرارا من عدم اقتضاء القرائن المنفصلة كلية لكسر صولة
الظهورات رأسا وجعلها حقيقة من المجملات بل وانما غايتها اقتضائها لعدم حجيتها.
تنبيه: لا يخفى عليك ان الاجمال والتبيين في الكلام أمران إضافيان بالنسبة إلى
الاشخاص فربما يكون الكلام مجملا بالإضافة إلى شخص لمكان جهله وعدم معرفته
بالوضع أو من جهة تصادم ظهوره عنده بما يصلح للقرينية عليه من الأمور المحفوفة
بالكلام، ومبينا عند شخص آخر لعلمه ومعرفته بالوضع وعدم تصادم ظهوره بما حف به
بنظره، وهو واضح.
584

هذا تمام الكلام في مباحث الألفاظ على ما تيسر لنا من تحرير ما استفدناه بفهمنا
القاصر. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
وقد وقع الفراغ عن تسويده في التاسع عشر من ربيع المولود على يد الأقل محمد تقي
البروجردي ابن عبد الكريم عفى الله عنهما انشاء الله تعالى بجاه محمد وآل محمد سنة 1356. * *
بسمه تعالى
لقد فوض إلي امر تصحيح النسخة الأصل
من حيث رعاية أصول اللغة العربية فأجلت
النظر فيها وصححت ما وجدت منها غير موافق
لتلك الأصول، الا ما زاغ عنه البصر، مراعيا
لكمال الأمانة وربما غيرت بعضا طفيفا من
الألفاظ بما لا يخرج عن حد الاصلاح أو التزيين.
ومن اليقين رضي المؤلف قدس سره وابتهاجه به
رزقنا الله تعالى الاخلاص في القول والعمل
بمحمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم
أجمعين.
قم المشرفة - محمد مؤمن
20 / 9 / 1362.
585