الكتاب: وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول
المؤلف: تقرير بحث الأصفهاني ، للسبزواري
الجزء:
الوفاة: ١٣٦١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: صفر المظفر ١٤١٩
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك: ٩٦٤-٤٧٠-٢٣٠-١
ملاحظات: تقرير أبحاث السيد أبو الحسن الأصفهاني ، تأليف الميرزا حسن السيادتي السبزواري المتوفي سنة ١٣٨٥

609
وسيلة الوصول
إلى
حقائق الأصول
تقرير أبحاث العالم الرباني
آية الله العظمى السيد أبو الحسن الإصفهاني أعلى الله مقامه
للفقيه المحقق والأصولي المدقق
آية الله الحاج الميرزا حسن السيادتي السبزواري قدس سره
المتوفى 1385 ه‍. ق
الجزء الاول
- * * * -
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
1

شابك 1 - 230 - 470 - 964
- - - - - - - - - - - - - -
ISBN 964 - 470 - 230 - 1
وسيلة الوصول
إلى
حقائق الأصول
للفقيه المحقق والأصولي المدقق
تقرير أبحاث: العالم الرباني آية الله العظمى السيد أبو الحسن الإصفهاني قدس سره
تأليف: آية الله الحاج الميرزا حسن السيادتي قدس سره
الموضوع: الأصول
تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: الأولى
المطبوع: 1000 نسخة
التاريخ: صفر المظفر 1419
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا إلى أصول الفروع وفروع الأصول وأرشدنا إلى شرائع
الأحكام بمتابعة الكتاب وسنة الرسول وقفاهما ببيان أهل الذكر ومعادن التنزيل
الذين هم الخلفاء من آل الرسول صلى الله عليه وعليهم صلاة كثيرة متتالية مقترنة
بالكرامة متلقاة بالقبول ما دامت عقد المشكلات منحلة بأنامل الدلائل وظلم
الشبهات منجلية بأنوار العقول.
أما بعد، لا يخفى على من له مساس بالتفقه في الدين الحنيف أنه لا يتيسر له
الوصول إليه إلا بالتعرف بعلم الأصول، الفن الذي له دور كبير في معرفة الأحكام
ووظائف العباد، فلذا عكف علماؤنا - رضوان الله عليهم - على تحقيق مسائله
وتدقيق مطالبه إلى أن أصبح هذا الفن مبتنيا على أسس متقنة وقوانين محكمة.
ومن الجهود المبذولة في تنقيح مطالب هذا الفن وتوضيح مآربه ما ألقاه فقيه
الطائفة الإمامية ومرجعها الأعلى في وقته آية الله العظمى السيد أبو الحسن
الإصفهاني (قدس سره) وقرره أحد أعلام تلامذته، حافظ دقائق أنظاره وحامل نتائج
أفكاره آية الله الحاج الميرزا حسن السيادتي تغمده الله برحمته.
ونظرا لأهمية هذه التقريرات وعمق مبانيها الأصولية، ووفاء للعهد الذي
اتخذته مؤسستنا على عاتقها في إحياء آثار علماء الدين المتقدمين منهم
3

والمتأخرين - رضوان الله عليهم أجمعين - قررنا طبع هذا الأثر القيم ونشره بهذه
الحلة القشيبة الحاضرة، وبما أن المؤلف (قدس سره) لم يسم له اسما سميناه " وسيلة
الوصول إلى حقائق الأصول " راجيا منه تعالى أن يتقبله بأحسن القبول.
وينبغي أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى مهمتين:
1 - قد يعثر في خلال الكتاب على عبارات فيها مسامحات محاورية أو خلل
أدبية، والعذر في ذلك هو الولوع على فهم مراد الأستاذ حين البحث والانغمار في
المعنى والذهول عن اللفظ عند الكتابة، مضافا إلى عدم خروج الكتاب إلى
المبيضة حتى يحصل فيه تجديد نظر؛ وقد أشرنا إلى بعض تلك المسامحات في
الهامش، ولم نغير الألفاظ والجملات - إلا في بعض ما لا يقبل التوجيه - حفظا
للأمانة بقدر الإمكان واعتمادا على ظهور المراد للعالم اللبيب عند المراجعة
وللمشتغل الذكي عند المطالعة.
2 - مع أن هذا الكتاب أشمل أثر وصل إلينا من تقرير أبحاث السيد
الإصفهاني (قدس سره) في الأصول، لا يوجد فيه البحوث التالية: مقدمة الواجب، مباحث
النواهي من أولها إلى مبحث اجتماع الأمر والنهي، أوائل مباحث المفاهيم،
التعادل والتراجيح غير الفصل الأول، الاجتهاد والتقليد. والسبب في ذلك - على
الظاهر - عدم حضور المقرر في مجلس الدرس لسفر أو لعارض آخر.
وفي الختام، لا ننسى أن نتقدم بالشكر الجزيل والثناء الجميل لكل من ساهمنا
في إنجاز هذا المشروع، ونخص بالذكر نجل المؤلف سماحة حجة الإسلام الحاج
السيد مصطفى السيادتي - دامت بركاته - على ما تفضل به من إعطاء نسخة الأصل
مع ما كتبه من مقدمة حاوية لنبذة من حياة والده المؤلف (قدس سره)، سائلين الله عز وجل
له ولنا المزيد من التوفيق في خدمة الشريعة المقدسة، على مشرعها آلاف التحية
والثناء.
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
4

ترجمة المؤلف:
بسم الله الرحمن الرحيم
اسمه وولادته:
العالم الجليل، جامع المعقول والمنقول، حجة الإسلام والمسلمين، آية الله
الحاج الميرزا حسن سيادتي ابن المرحوم الميرزا إسماعيل ابن المرحوم الميرزا
محمد على ابن المرحوم مير محمد من سلالة السادة الحسينية الجليلة، المولود في
أواخر عام 1299 ه‍. ق في قرية " ايزى " الواقعة على بعد (5) كيلومترات شرق
مدينة دارالمؤمنين " سبزوار " في بيت عرف بالتقوى ومن السلالة المحمدية
الشريفة.
قبس من حياته:
في سني صباه عكف على قراءة القرآن وحفظه، وجملة من الكتب المطبوعة
باللغة الفارسية في الخط وغيره، كجامع المقدمات وشرح القطر عند شيوخ محلته
كالآخوند ملا قاسم وملا حسن رحمة الله عليهما، ثم سافر في أوائل بلوغه إلى
" سبزوار " آنذاك من المراكز العلمية المهمة في خراسان التي يتطلع إليها طلاب
العلوم الدينية، ويشدوا إليها الرحال من مختلف نواحي خراسان لدراسة الصرف
والنحو والمعاني والبيان والفقه والأصول والكلام والحكمة وعلم الهيئة
والرياضيات القديمة.
وبعد تحصيله هذه العلوم أقبل على تدريسها، فاشتهر بالعلم والعمل والتقوى
5

من بين وجوه " سبزوار "، وبات موضع قبول واعتماد الأهالي من بين أعلام
الحوزة العلمية المباركة، مما أهله أن يصبح أحد الأساتذة المشهورين وإمام
جماعة فيها.
ثم بعد شروعه في تدريس كتاب " الرسائل " و " المكاسب " ولدورتين عكف
على قراءة " كفاية الأصول " على عمه العالم الجليل آية الله الميرزا موسى
الحسيني أعلى الله مقامه.
ثم أزمع على إكمال تحصيله العلمي ونيل درجة الاجتهاد، فشد الرحال في
عام 1337 ه‍. ق نحو مدينة النجف الأشرف، فقضى ستة عشر عاما في مدينة
مولى الموحدين وأمير المؤمنين عليه آلاف التحية والسلام وهو يرتشف من
رحيق الروضة المنورة، ويستمد من بركات هذه البقعة المشرفة، فحضر درس
المرحوم آية الله العظمى السيد أبي الحسن الموسوي الإصفهاني، والمرحوم آية
الله العظمى الميرزا محمد حسين النائيني، والمرحوم آية الله آغا ضياء العراقي،
والمرحوم آية الله الشيخ إسماعيل المحلاتي أعلى الله تعالى مقامهم الشريف،
واستفاد من مناهل علومهم ومعارفهم حتى حصل على درجة الاجتهاد المطلق،
فأجازه عليها آية الله الإصفهاني وآية الله النائيني طاب ثراهما، وكان قد عرف
بالفضل والعلم والتقوى في الحوزة العلمية في النجف الأشرف حتى أصبح من
أبرز علماء زمانه علما وتقوى.
وفي عام 1353 ه‍. ق وبناء على دعوة وجوه أهالي مدينة " سبزوار " وتنفيذا
لطلب أستاذه آية الله العظمى السيد أبي الحسن الإصفهاني أعلى الله مقامه
الشريف، عاد إلى " سبزوار " ليقيم فيها، وليحمل على عاتقه الشريف جميع المهام
الموكولة إليه من: التدريس وإمامة الجماعة وسائر الأمور الأخرى، مما جعلته أن
يكون من تلك الصفوة المحببة في قلوب الناس، وصاحب الكلمة المسموعة
عندهم، فطارت شهرته عبر البلاد في خراسان وطهران وقم وأكثر مدن إيران؛ لما
اتصف من خصال حميدة وصفات مليحة، فضلا عما صدرت منه كرامات جليلة.
6

منها: إقامته لصلاة الاستسقاء في ربيع عام 1328 ه‍. ق المصادف 1368 ه‍. ق
مع جماعة من الناس في مصلى " سبزوار " أثر حصول جفاف في مناطق إيران،
وما هي إلا بضع أيام حتى هطلت عليهم الأمطار تترى وبلا انقطاع، فاستبشر
الناس وعادت الحياة في ربوع البلاد... وغيرها من الكرامات الذي لا يسعنا بسط
الكلام فيها الآن.
ثم إنه بعد ثلاثين عاما من الإقامة في مدينة " سبزوار "، وقيامه بوظائفه
بأفضل ما يكون: من نشر العلوم والحقائق الدينية والمذهبية في أوساط الناس،
وتربية جيل فاضل من المدرسين، وإدارة الحوزة العلمية في " سبزوار "، وفي
عصر يوم الأحد المصادف لليوم الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك من
عام 1385 ه‍. ق والمطابق للسادس والعشرين من شهر دي من السنة الهجرية
الشمسية (1344)، وفي سن (86) عاما لبى نداء ربه بقلب مطمئن مفعم بالإيمان
فدفن في الحسينية التي بناها من محض ماله، والتي تدعى اليوم ب‍ " مسجد الآغا "
حشره الله تعالى مع أجداده الطاهرين، آمين.
مشايخه في سبزوار:
1 - العالم الجليل المرحوم حجة الإسلام والمسلمين الآخوند ملا محمد باقر
نواشكي، في الفقه والأصول.
2 - العالم الجليل المرحوم حجة الإسلام والمسلمين الشيخ أبو القاسم
الدامغاني، في الأصول.
3 - العالم الجليل والمجتهد المعروف آية الله الحاج الميرزا حسين علوي، في
الأصول.
4 - عمه العالم الجليل المرحوم آية الله الميرزا موسى المجتهد، في كفاية
الأصول.
5 - العالم صاحب الفنون والطبيب الشهير المرحوم الميرزا إسماعيل
7

الطالقاني الملقب ب‍ " افتخار الحكماء " من تلاميذ الحكيم الشهير الحاج ملا هادي
السبزواري، في المنطق والكلام والفلسفة والهيئة والرياضيات القديمة.
مشايخه في النجف:
1 - المرحوم آية الله العظمى السيد أبو الحسن الإصفهاني أعلى الله تعالى
مقامه، (دورتان كاملتان لخارج الأصول ولبعض كتب الفقه).
2 - المرحوم آية الله العظمى الميرزا محمد حسين النائيني أعلى الله تعالى
مقامه، (دورتان كاملتان لخارج الأصول وبعض الكتب الفقهية).
3 - المرحوم آية الله العظمى آغا ضياء الدين العراقي أعلى الله مقامه، (مقدار
من بحث خارج الأصول).
4 - المرحوم آية الله العظمى الشيخ إسماعيل المحلاتي أعلى الله تعالى مقامه
والد زوجته، (خارج الأصول ولبعض الكتب في الفقه).
تأليفاته:
طول مدة إقامته في النجف الأشرف البالغة (16) عاما لم يدع حظ التأليف
والكتابة من نفسه، فقد أبدعت ريشته ستة مجلدات خطها بيده الشريفة وبواسطة
القصبة والحبر المركب، وجميعها موجودة الآن غير مفقودة، وهي:
1 - وهو هذا الكتاب، ويحوي أصله على (682) صفحة، كل صفحة تحتوي
على (19) سطر، طول كل صفحة (22) سم وبعرض (17) سم، هو تقريرات بحث
خارج الأصول المرحوم آية الله العظمى السيد أبي الحسن الإصفهاني، وقد رتبه
وفق ترتيب كفاية الأصول.
2 - بحث في خلل الصلاة، وهو تقريرات درس المرحوم آية الله العظمى
السيد أبي الحسن الإصفهاني أعلى الله مقامه، ويقع في (279) صفحة، كل صفحة
تحتوي على (22) سطر، ولعله الآن بصدد طبعه في مدينة قم المقدسة.
8

3 - بحث في الاستصحاب والتعارض، وهو تقريرات درس خارج الأصول
لآية الله العظمى النائيني أعلى الله مقامه، والكتاب يقع في (365) صفحة، (285)
صفحة منه يقع بحث الاستصحاب والباقي لبحث التعارض، لكنه غير كامل، طول
كل صحفة (20) سم وبعرض (15) سم، وكل صفحة تحتوي على 21 - 22) سطر.
4 - كتاب من القطع الكاغذى الچاباري، يقع في (146) صفحة، كل صفحة
تحتوي ما يقرب (30) سطر، وهو تقريرات لدرس الأصول للمرحوم آية الله
العظمى ضياء الدين العراقي أعلى الله مقامه، ومن مبحث الاشتغال.
5 - كتاب يقع في (470) صفحة، كل صفحة تحتوي على (21 - 22) سطر،
طول كل سطر (15) سم، في الأصول، ولا يعرف هل هو تقريرات عن أساتذته أم
عن نفسه.
6 - كتاب بقطع أوراق بمساحة (10 × 20) سم، (99) صفحة منه بحث في
المسائل الأصولية على ترتيب الكفاية، و (88) صفحة منه بحث في التعادل
والتراجيح لآية الله العظمى السيد أبي الحسن الإصفهاني رحمه الله، وفي آخره
دون سنة كتابته 1344 ه‍. ق، و (366) صفحة منه أيضا في مباحث الفقه والأصول
وهو بحث غير كامل. وبهذا يبلغ مجموع الصفحات التي سودها قدس سره بالقصبة
والحبر المركب في مباحث الأصول والفقه في النجف الأشرف (2808) صفحة،
وفي حدود (61776) سطر، فلله دره، وعليه أجره ورفع مقامه.
والمرحوم المترجم له في أواخر عمره الشريف كان كثيرا ما يكرر لبعض
تلاميذه عند المباحثة في كتبه المخطوطة بيده ويقول: " إنني آسف أن قضيت مدة
مديدة من عمري في التدريس مع أن الكلام ينعدم ظاهرا، ولم أعط وقتي للكتابة
والتأليف، بل ظللت غافلا عنها تماما.
صفاته الخلقية:
كان رحمه الله متوسط القامة، نحيفا، أبيض اللون، وجهه يبعث على البشاشة
9

والسرور، نافذ الصوت جهوري، طليق اللسان فصيح.
صفاته الخلقية:
وأما أخلاقه فقد كان متواضعا، عطوفا، سخي الطبع، سليم النفس، عابدا،
زاهدا، حلو المنطق، صاحب نكتة ومزاح لكن في هيبة وأبهة.
كان لا ينام بعد صلاة الصبح بل يقضيها بالتعقيبات من دعاء وذكر وتسبيح
وأوراد وتلاوة القرآن الكريم بقدر ستة أجزاء، كان لا يلبس الملابس الخارجية
(المستوردة) ويفضل المخاطة بأيد محلية شعبية، فلباسه في الصيف لا يتعدى
الأقمشة المنسوجة من الخيوط البيضاء، وفي الشتاء المنسوجة من الصوف
العادي وعموما كان لا يحب الملابس المنسوجة في المصانع الحكومية.
كان رحمه الله قليل الأكل والنوم، وكان إذا أزمع الوضوء توجه نحو حوض
الماء، فيجلس بجانبه فينظر كأنه ينتظر شيئا، لم يكن ينتظر شيئا لكنه كان يحدق
ما فوق سطح ماء الحوض، لعل حشرة سقطت في الماء وهي تلهث لطلب النجاة
لنفسها، فيحاول أن ينجيها فيرفعها من فوق سطح الماء ليضعها على الأرض
فتسرع لتختبأ أو لتطير. هكذا كان حاله كل يوم قبل أن يشرع في وضوئه.
وكان قدس سره مخلصا لولاية أهل البيت (عليهم السلام) كل الإخلاص، فقد كان يقيم
مجالس العزاء في مناسبات الوفيات ومصائب أهل البيت (عليهم السلام)، ومجالس الفرح
والسرور في مناسبات الولادات والأعياد، فقد كان يفرح لفرحهم ويحزن
لحزنهم (عليهم السلام) ليس للمعصومين (عليهم السلام) فحسب، بل أيام وفاة زينب الكبرى (عليها السلام)
وشهادة حمزة عم النبي (عليه السلام) ويوم عرفة (شهادة مسلم بن عقيل (عليه السلام))، وأيام الرابع
والعشرين والخامس والعشرين من ذي الحجة يوم المباهلة ويوم إعطاء
أمير المؤمنين (عليه السلام) خاتمه... وحتى يوم العاشر من ربيع الثاني وهو اليوم الذي شن
فيه الروس حملتهم الشعواء على الحرم المطهر والقبة الرضوية الشريفة إرادة
تخريبه، حيث يفتح أبواب بيته لاستقبال المعزين والضيوف وهم يصدحون بذكر
10

مصائب وفضائل ومناقب أهل بيت النبوة (عليه السلام)، كما كان يقيم مجالس العزاء
الدائرة في أيام الخميس المباركة، في أيام المحرم الحرام من ليلة الأول وحتى
ليلة الخامس عشر منه.
وفي أواخر عمره الشريف وفي أيام مرضه - الذي كان غالبا مريضا مطروح
الفراش في بيته - كان يطالع كتب الشعر الحسيني والمصائب الحسينية، وقلما
كانت هذه الكتب تنفقد من جنبه، وحينما يتفق أن يخلو لوحده كثير ما كان يدندن
ببعض من تلك الأشعار.
كان رحمه الله يعشق المطالعة والدرس ويحبذ عليهما، إذ إنه منذ دخوله مدينة
" سبزوار " عام 1354 ه‍. ق وحتى نهاية عمره الشريف عام 1385 ه‍. ق لم يدع
مجلس درسه إلا لضرورة سفر أو مرض أو لمناسبات دينية معظمة، وإذا ما ازدهم
بيته من الطلبة ذهب بالباقين إلى القسم البراني من بيته ليواصل درسه، كما أنه لو
ضج بيته بالزائرين والضيوف نقل بعضهم إلى مكان آخر للضيافة خارج بيته.
وفي أيام أعياد الغدير ونوروز كان يفتح باب بيته لاستقبال الناس، وكان
يعطي لكل فرد سكة بقيمة ريال واحد تيمنا وتبركا.
عاش رحمه الله زاهدا في دنياه، لم يترك من مال الدنيا سوى بضع أثاث
منزلية لازمة، وبعض اللوازم البسيطة الضرورية لحياته وحياة عائلته، وبعض
الكتب لا غير، وفي يوم وفاته لم يترك من المال إلا مبلغا قدره (700) تومان أو
أكثر بقليل داخل فوطة في صندوقه لاغير.
ولا يفوتني ذكر هذه الحكاية على سبيل الترحم عليه، إذ إن الوالد قدس سره
كان مسؤولا على الموقوفات لسنين عديدة، ومن حق العشر الذي له في تصرفه
أصررت أنا على أن آخذ مبلغ (30) ألف تومان للمنافع التجارية وتحويل ريعها
إلى الوالد، وبعد الإصرار أخذت المبلغ وأعطيته الحاج علي أكبر حسن زاده
شامكاني التاجر في بيع وشراء الأجناس، وبعد سنوات وصل ربح المبلغ إلى
(60) ألف تومان، وهو مبلغ كبير آنذاك، فأخذه أبي رحمه الله وصرفه في تأسيس
11

وبناء المسجد والحسينية المعروف بمسجد الآغا الذي أصبح مقر اجتماع الناس
ومحل تجمعهم وجماعتهم والحمد لله.
وفاته ودفنه:
وهكذا بعد عمر قضاه بالعلم والعمل والاجتهاد امتدت إليه يد القدر لتطرحه
الفراش والمرض لسنوات طويلة حتى استسلم لنداء الحق المتعال عن سن
يناهز (86) عاما ويرحل إلى مقر سكناه الأبدي.
وفي يوم دفنه ومواراة جسده الطاهر الذي صادف (24) من شهر رمضان قد
تعطلت الأسواق، وأغلقت الدكاكين أبوابها، وعم الحزن في أرجاء البلاد، وقلما
ترى وجها في المدينة لم تطفح عيناه بالدموع، وكان مظهر التشييع للجنازة بدون
سابقة؛ لما حوى من التجليل المنقطع النظير، وبموته انطوت إحدى الصفحات
المشرقة من صفحات أعاظم هذه الأمة وعلمائها.
وأخيرا أختم كلامي بمقولة كان يرددها دائما جدي (جد والدتي) العالم
الجليل آية الله الشيخ محمد إسماعيل المحلاتي أعلى الله تعالى مقامه في أذكاره،
يقول: " الحمد لله على الفتح والختم ".
حرره العبد الراجي لرحمة ربه مصطفى بن حسن الحسيني السيادتي نجل
المترجم له المغفور له، عفا الله عنهما.
مصطفى الحسيني السيادتي
الرابع من ربيع الأول 1418 ه‍. ق
12

صورة إجازة العالم الرباني
السيد أبو الحسن الإصفهاني للمؤلف قدس سرهما
13

صورة إجازة المحقق النائيني للمؤلف قدس سرهما
14

بسم الله الرحمن الرحيم
15

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين،
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
أما بعد، فاعلم أن هذه الوجيزة مرتبة على ترتيب الكفاية مشتملة على مقدمة
ومقاصد وخاتمة.
أما المقدمة: ففي بيان أمور:
الأول:
أنه قد جرت عادة المصنفين على تقديم مقدمة في أول تصانيفهم ويذكرون
فيها أمورا ثلاثة: الأول: تعريف العلم، والثاني: بيان موضوعه، والثالث: بيان فائدته.
ويتعبون أنفسهم في الأمر الأول بذكر تعريف العلم بالحد أو الرسم التامين أو
الناقصين، وذكر النقوض الواردة عليه طردا وعكسا، وذكر أجوبة النقوض وحلها،
وبالآخرة لا يمكنهم غالبا إصلاح التعريف بحيث يكون مطردا ومنعكسا، وكذلك
يتعبون أنفسهم في الأمر الثاني بذكر كلي الموضوع أولا، ويعرفونه بأن موضوع
كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، ويعرفون العرض الذاتي بأنه ما يعرض
الشيء أولا وبالذات، والعرض القريب بأنه ما لا يعرضه أولا وبالذات، ويبينون
أقسامهما، وقد يصير بعض الأعراض عندهم محل الخلاف والإشكال في أنه من
الأعراض الذاتية أو من الأعراض القريبة.
ثم يعرفون ويبينون موضوع العلم الذي يريدون أن يبحثوا عنه، وإذا رأوا
17

ذلك الموضوع مشتركا بين هذا العلم وعلم آخر ولا يحصل بينهما تمايز من جهة
الموضوع يجعلون تمايز الموضوع بتمايز الحيثيات، وإذا رأوا أن التمايز لا يحصل
بذلك يجعلون التمايز بجهات البحث، ويكتبون أوراقا في بيان هذين الأمرين كما
يظهر بالمراجعة إلى شرح المطالع (1) والشوارق (2) وحاشية الشيخ محمد تقي (3)
والفصول (4) وغيرها من الكتب المبسوطة.
والحال أن أتعاب النفس في كلا الأمرين لا فائدة له في الجهة المبحوثة،
وذلك لأن أتعاب النفس في الأمر الأول إن كان لحصول المعرفة التفصيلية للمتعلم
الطالب لذلك العلم فمعلوم أنه لا تحصل المعرفة التفصيلية له بذلك التعريف، بل
يتوقف حصولها على الاطلاع على مسائل ذلك العلم، وإن كان لحصول المعرفة
الإجمالية فمعلوم أيضا أن المعرفة الاجمالية لا تتوقف على هذا التعريف، بل هي
حاصلة لطالب كل علم مع قطع النظر عن هذا التعريف، فإن المعرفة الإجمالية
حاصلة بعلم الفقه والأصول والمعاني والبيان والمنطق والنحو والصرف واللغة
والطب والعروض وغيرها من العلوم لطالبيها ولو مع عدم اطلاعهم على تعاريفها،
بل نفس تلك العلوم أعرف عندهم من هذه التعاريف حيث يجعلون نفس هذه
العلوم معيارا لاطراد هذه التعاريف وانعكاسها وعدمهما، فأتعاب النفس في هذا
الأمر لا يترتب عليه فائدة مهمة في الجهة المبحوثة عنها، وإنما الفائدة التي تترتب
عليه مثل ما تترتب على حل اللغز والمعمى.
وأما أتعاب النفس في الأمر الثاني والالتزام بأنه لابد لكل علم من أن يكون
له موضوع يبحث فيه عن عوارضه الذاتية التزام بلا ملزم في كلي العلوم المدونة
المستقلة فضلا عن علم الأصول الذي ليس علما مستقلا، بل هو عبارة عن طائفة
من مسائل العلوم المتشتة التي لها دخل في الاستنباط، وذلك لأن الحكمة وإن

(1) شرح المطالع: ص 18.
(2) شوارق الالهام: ص 3.
(3) هداية المسترشدين: ص 18.
(4) الفصول: ص 10.
18

اقتضت تميز المسائل والمطالب بعضها عن بعض، وطائفة منها عن طائفة أخرى،
تسهيلا للتناول والتعليم والتعلم والتصنيف والتأليف.
وتسمية ما كانت له جهة جامعة من تلك المسائل باسم خاص وتدوينها في
كتاب مخصوص تحصيلا للغرض المذكور وهو سهولة التناول كما أنها هي الباعثة
إلى تبويب الكتب إلى الأبواب والفصول، وذكر كل طائفة من المسائل التي لها
جهة جامعة في باب مخصوص وفصل معين على ما هو طريقة المصنفين من
الفقهاء حيث يقسمون الفقه إلى العبادات والمعاملات من العقود والإيقاعات
والأحكام، ويقسمون العبادات إلى كتب متعددة من الطهارة والصلاة إلى آخر
العبادات، وكذلك باقي الفقه من العقود والإيقاعات والأحكام، وكذلك يقسمون
كل كتاب إلى أبواب وفصول وكذلك غيرهم من العلماء المصنفين.
إلا أن الالتزام بأن ما به الامتياز بين المسائل لابد وأن يكون هو الموضوع
حتى يتصور في بعض المقامات والمسائل في الإشكال من جهة أنهم يرون بعض
المسائل من مسائل العلم، والحال أن البحث عنها ليس بحثا عن عوارض ذاتية
ما جعلوه موضوعا لذلك العلم، ويتكلفون في إدراجه فيها بتكلفات بعيدة، بل قد
يمكن أن يكون ما به الامتياز هو الموضوع كما إذا كان مطمح نظر الشخص
موضوعا معينا ويدور وراء المحمولات المنتسبة إلى الموضوع.
وقد يكون ما به الامتياز هو المحمول كما إذا كان مطمح نظره محمولا معينا
ويدور وراء موضوعاته، مثل ما إذا كان الشخص بصدد تعيين الأمور التي يحمل
عليها نافع أو واجب، أو معرب أو مبني، وأمثالها. وقد يكون ما به الامتياز لا هذا
ولا ذاك بل يكون هو الغرض، كما إذا كان مطمح نظر الشخص إلى جمع القضايا
والمسائل التي لها دخل في غرض خاص مثل الاستئناس والاستنباط وتشحيذ
الذهن وأمثالها، فيجمع القضايا والمسائل التي لها دخل في ذلك الغرض وإن لم
يكن لها جهة جامعة من حيث الموضوع ولا من حيث المحمول.
والحاصل: أن الغرض من الأمر الأول إن كان حصول المعرفة الاجمالية
19

وكانت هذه التعاريف من قبيل شرح الاسم وتبديل لفظ بلفظ آخر كالتعاريف
اللغوية ففيه:
أولا: أن هذه المعرفة حاصلة مع قطع النظر عن هذه التعاريف، بل نفس
المعرفات أعرف من هذه التعاريف.
وثانيا: أنه لا موقع لهذه النقوض والابرامات بالنسبة إلى التعاريف اللفظية.
وأيضا الغرض من الأمر الثاني والتزام أنه لابد لكل علم من موضوع يبحث
فيه عن عوارضه الذاتية بحصول الامتياز لبعض المسائل عن بعضها بمقتضى
الحكمة الباعثة على التمايز، وهي سهولة الأخذ والتعليم والتعلم، كما أنها الباعثة
إلى تبويب الكتب إلى الأبواب والفصول.
ففيه: أن هذا مسلم، وإنما الإشكال في أن التمايز لابد وأن يكون بالموضوع
كما ذكروه حيث قالوا: تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، أو يمكن التمايز بغير
الموضوع، وقد تقدم أن الالتزام بأن تمايز العلوم لابد وأن يكون بتمايز
الموضوعات التزام بلا ملزم ولا داعي إلى هذا الالتزام، مع أنه يقع الإشكال من
جهة هذا الالتزام بالنسبة إلى بعض المسائل التي كونه من مسائل ذلك العلم
المبحوث عنه مسلم ويلزم خروجه عن مسائله بمقتضى هذا الالتزام، ويحتاج
ادخاله إلى التكلفات البعيدة، مع أنه قد يبحث عن مسائل علم مع عدم العلم
بالنسبة إلى موضوعه، والحال أنه بناء على هذا الالتزام من قبيل التصديق بلا
تصور، بل يمكن أن يكون التمايز بالموضوع بأن تكون الجهة الجامعة الموجبة
لامتياز طائفة من المسائل عن طائفة أخرى هو اتحادها في الموضوع، وكون
البحث في جميع تلك الطائفة عن الجهات الراجعة إلى هذا الموضوع وإن لم يكن
بحثا عن عوارضه الذاتية، بل عن أمر يرجع بالأخرة إليه كما إذا كان مطمح نظر
المخترع لعلم موضوعا معينا وكان بصدد تعرف أحواله ومحمولاته.
وقد يكون التمايز بالمحمول بأن تكون الجهة الجامعة الموجبة لامتياز طائفة
من المسائل عن طائفة أخرى هو اتحادها في المحمول، وكون البحث في جميع
20

تلك الطائفة عن الجهات الراجعة إلى ذلك المحمول كما إذا كان مطمح نظر مخترع
العلم إلى تعرف أحوال موضوعات ذلك المحمول وأي شيء يثبت له ذلك
المحمول وجدانا أو برهانا.
وقد يكون التمايز بالغرض بأن تكون الجهة الجامعة بين تلك الطائفة من
المسائل اتحادها في الغرض الخاص الذي وضع هذا العلم له.
فإن قلت: إن الغرض الواحد كيف يمكن أن يحصل من المسائل التي [هي]
مختلفة موضوعا ومحمولا والحال أن الواحد لا يصدر إلا عن واحد كما أن
الواحد لا يصدر عنه إلا واحد؟
قلت فيه أولا: أن الغرض المطلوب من العلم لا يترتب على وجوده الواقعي
مع قطع النظر عن تعلق الإذعان به، فإن الغرض من علم النحو وهي صيانة اللسان
عن الخطأ في المقال لا يحصل بمجرد وجود المسائل النحوية في الواقع ونفس
الأمر مع قطع النظر عن تعلق الإذعان بها، وكذلك المنطق فإن الغرض المطلوب
منه وهي العصمة عن الخطأ في الفكر لا يحصل إلا بالإذعان بمسائله. فالغرض
المترتب على هذا العلم ليس مرتبا على نفس مسائله المختلفة الموضوع
والمحمول، بل على الإذعان، ويمكن أن تكون لتلك الإذعانات جهة جامعة
يكون الغرض مترتبا على تلك الجهة الجامعة.
وثانيا: أن الغرض المترتب على كل واحد من هذه الإذعانات مغاير للغرض
المرتب على الاذعان الآخر فإن الغرض المترتب على " كل فاعل مرفوع " - [و]
هو حفظ اللسان عن الخطأ في المقال بنصب الفاعل أو جره - مغاير للغرض
المترتب على " كل مفعول منصوب " وهو حفظ اللسان عن الخطأ في المقال برفع
المفعول أو جره، وكذا الغرض المترتب على " أن الأمر للوجوب " مغاير للغرض
المترتب على " أن النهي للحرمة "، أو " أن مفهوم الشرط حجة " فإن لكل واحدة
من المسائل غرض يختص بها وهو استنباط الحكم الفرعي المترتب على كل
21

واحدة منها، وهكذا بالنسبة إلى سائر المسائل وسائر العلوم.
ثم إن صاحب الكفاية (1) (قدس سره) بعد ما تفطن أن تمايز العلوم بتمايز الاغراض
التزم بأن موضوع العلم عنوان كلي نسبته إلى موضوعات المسائل نسبة الكلي إلى
المصاديق والطبيعي إلى الأفراد، وإن لم نعرف ذلك باسمه ورسمه.
وفيه: أنه بعد كون التمايز بالأغراض فالالتزام بوجود الموضوع التزام بلا
ملزم، مع أنه إذا كان التمايز بالموضوع كما قلنا: إنه يمكن أن يكون بأحد الأمور
الثلاثة ولا ينحصر التمايز بأحدها لا يلزم أن يكون موضوع كل مسألة من مسائله
جزئيا من جزئياته، بل يمكن أن يكون موضوع المسألة عين موضوع العلم،
ويمكن أن يكون جزئيا من جزئياته، ويمكن أن يكون جزءا من أجزائه إذا كان
موضوع العلم مركبا، ويمكن أن يكون من أعراضه الذاتية كما ذكره أهل المنطق
فلا يتعين أن يكون موضوع المسألة من جزئيات موضوع العلم، فالتزامه في
صورة كون التمايز بالموضوع التزام بلا ملزم أيضا.
هذا تمام الكلام بالنسبة إلى كلي العلوم المدونة، وظهر أنه لا ينحصر تمايزها
بتمايز الموضوعات ولا المحمولات ولا الأغراض، بل يمكن أن يكون التمايز
بأحد هذه الأمور الثلاثة.
ومع التنزل وتسليم أن لكل واحد من العلوم المدونة لابد أن يكون موضوعا
يمتاز به عن غيره من العلوم، لا نسلم أن أصول الفقه علم مستقل على حدة في
قبال العلوم الأخر حتى يحتاج إلى موضوع معين، بل هو عبارة عن مجموع مسائل
متشتتة من العلوم التي يتوقف الاجتهاد والاستنباط على معرفتها، كالنحو والصرف
واللغة والمنطق والمعاني والبيان والكلام، وغيرها من العلوم التي تبلغ إلى أربعة
عشر - على ما ذكروا - العلوم التي يتوقف الاجتهاد عليها، فإن علماء الأصول جمعوا
أمهات مسائل هذه العلوم التي يتوقف الاجتهاد عليها على حسب اختلاف أنظارهم
وأمذقتهم من حيث التكثير والتنقيص، إما من جهة سهولة تناول ما يتوقف عليه

(1) كفاية الأصول: ص 22.
22

الاجتهاد من مسائل تلك العلوم، وإما من جهة عدم تنقيح تلك المسائل المهمة
المحتاج إليها في تلك العلوم كما هو حقه، وسموها باسم أصول الفقه.
ولفظ الأصول باق على معناه اللغوي أي ما يبتني عليه الفقه أو قواعد الفقه،
فحال هذا العلم كحال كشكول شيخ البهاء ومشكلات علوم النراقي وأمثالهما من
المجموعات من العلوم المتشتة لغرض دعاهم إلى تصنيفها وتأليفها، فكما أنه ليس
لها موضوع معين فكذلك ليس لعلم الأصول موضوع معين.
وعلى فرض التنزل والمماشاة وتسليم أنه علم مستقل ويحتاج إلى موضوع
معين يمتاز به عن سائر العلوم فموضوعه أي شيء؟
قيل: إن موضوعه الأدلة الأربعة التي عبارة عن الكتاب والسنة والإجماع
والعقل. ولا إشكال في أن هذه الأمور الأربعة متغايرة متباينة، فلو كان الموضوع
جميع هذه الأمور لزم أن يكون علم الأصول علوما أربعة بناء على كون تغاير
العلوم بتغاير الموضوعات، إلا أن يكون الموضوع هو القدر الجامع بين هذه
الأمور وهو ليس إلا عنوان الدليل.
فإذا كان الموضوع هو الدليل فإن قلنا بمقالة صاحب الفصول (1) من أن
الموضوع ذوات الأدلة مع قطع النظر عن دليليتها، فلا ريب أن البحث عن دليلية
الأدلة وحجية الحجج يدخل في مسائل الأصول، إلا أنه يلزم الإشكال المذكور
وهو لزوم كون علم الأصول علوما أربعة، لأن ذوات الأدلة أمور متباينة متغايرة.
وإن قلنا: بمقالة صاحب القوانين (2) من أن الموضوع هو الدليل بوصف الدليلية
وبعد الفراغ عنها يلزم خروج البحث عن حجية الأدلة جميعا عن مسائل الأصول،
وكذا يلزم خروج مباحث الألفاظ - مثل البحث عن كون الأمر للوجوب والنهي
للحرمة وغيرهما من مباحث الألفاظ - عن مسائل الأصول، لأن البحث عن كون
الأمر للوجوب مثلا بحث عن حال كلي الأمر لا خصوص الأوامر الواردة في
الكتاب والسنة، وإن كان الغرض من البحث هو معرفة حال الأمر الوارد فيها، وكذا

(1) الفصول في الأصول: 12 س 10.
(2) قوانين الأصول: ج 1، ص 9 س 22.
23

باقي مباحث الألفاظ.
وأما البحث عن حجية خبر الواحد: فقد يكون نظر الباحث إلى معرفة أحوال
الحاكي وهو الخبر، وقد يكون نظره إلى معرفة أحوال المحكي وهي السنة
المحكية بالخبر التي هي عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره، وإن كان الحاكي
والمحكي من الأمور النسبية التي تلازم معرفة كل منهما للآخر لكن نظر الباحث
أولا وبالذات قد يكون إلى الحاكي وقد يكون إلى المحكي، فانه فرق بين النزاع
في أن الخبر الواحد هل يثبت السنة كما يثبت بعض الأشياء الأخر أم لا؟ وبين
النزاع في أن السنة هل تثبت بخبر الواحد كما تثبت بالخبر المتواتر أم لا؟ كما في
الأمور الخارجية النزاع في أن هذا السكين هل يقطع الخشب أم لا؟ غير النزاع في
أن هذا الخشب هل يقطعه هذا السكين أم لا؟
فإن الغرض من النزاع على الوجه الأول هو تعرف حال السكين من حدته
وعدم حدته، بخلاف الوجه الثاني فإن الغرض منه معرفة حال الخشب من الصلابة
وعدمها، فكذلك في المقام فإن النزاع في أن الخبر الواحد هل يثبت السنة أم لا؟
الغرض منه تعرف حال الخبر بخلاف النزاع في أن السنة هل تثبت بخبر الواحد أم
لا؟ الغرض منه تعرف حال السنة، فإن كان النزاع في حجية الخبر الواحد على
الوجه الأول فلا تدخل تلك المسألة في مسائل الأصول، وإن كان النزاع فيها على
الوجه الثاني فتدخل في المسائل الأصولية، لأن البحث عنها بحث عن الحجة بعد
الفراغ عن حجيتها وعن الدليل بعد الفراغ عن دليليتها كما لا يخفى إذ هو أوضح
من أن يخفى.
والحاصل: أن القائل بأن تمايز العلوم ليس منحصرا بتمايز الموضوع، بل
يمكن أن يكون بتمايز المحمول أو الغرض، وتمايز علم الأصول عن غيره إنما هو
من جهة الغرض - كما هو المختار بالنسبة إلى علم الأصول بل الأغلب من العلوم -
فلا يرد عليه إشكال خروج بعض المسائل التي يذكرونها في الكتب الأصولية عن
كونها مسألة أصولية، ولا يلزمه التفصي عنه بذكره استطرادا، وذلك لأن المسائل
24

- بناء على هذا القول - عبارة عن كل ما له دخل في الاستنباط ويترتب على
الإذعان به هذا الغرض سواء كانت موضوعها متحدة أم لا، فلا يلزم الإشكال حتى
يحتاج إلى الجواب.
وأما بناء على القول بأن تمايز العلوم منحصر بتمايز الموضوعات وأن علم
الأصول علم من العلوم لا أنه مسائل متشتة من علوم متعددة فلابد أن يكون لهذا
العلم من موضوع يبحث فيه عن عوارضه الذاتية كما قالوا: إن موضوع كل علم ما
يبحث فيه عن عوارضه الذاتية (1) وموضوعه ليس إلا الأدلة الأربعة على ما هو
المشهور. وقيل: " إن الموضوع هذه الأدلة والاستصحاب (2)، والعامة زادوا
القياس (3) أيضا.
وقد عرفت أن الموضوع لو كان ذوات هذه الأدلة لصارت الموضوعات
متعددة وبتعددها يتعدد العلم، وخرج علم الأصول عن كونه علما واحدا، بل يصير
علوما أربعة. فلابد أن يكون الموضوع أمرا جامعا بين هذه الأربعة، وهو ليس إلا
عنوان الدليل الصادق على كل واحد منها المتحد معها صدق الكلي على الأفراد
واتحاد الطبيعي مع المصاديق.
وحينئذ يرد الإشكال بأن البحث عن عوارض أنواع الكلي وأصنافه كالبحث
عن عوارض الكتاب أو السنة - مثلا - في هذا العلم، أو البحث عن عوارض الاسم
والفعل في علم النحو ليس بحثا عن عوارض ذاتية ما هو الموضوع وهو كلي
الدليل في هذا العلم والكلمة في علم النحو، ولسنا بصدد حل ذلك الإشكال الآن،
وهو موكول إلى محله.
ومع قطع النظر عن هذا الإشكال نقول: " أنه يلزم بناء على هذا خروج كثير
من المسائل المدونة في الكتب الأصولية المسلمة كونها من مسائل علم الأصول
عن كونها مسأله أصولية، إما من جهة أن موضوعها ليس موضوع علم الأصول،

(1) بدائع الأفكار: ص 27 س 30.
(2) قاله صاحب القوانين: ج 1 ص 9 س 21.
(3) المستصفى: ص 5 س 8.
25

أو محمولها ليس من عوارض ذاتية ما يكون موضوعا، أما مباحث الألفاظ فيلزم
خروج جميعها عن المسائل الأصولية، لأن البحث عن كون صيغة الأمر للوجوب
أو النهي للتحريم وهكذا غيرهما من مباحثها بحث عن حال كلي هذه الألفاظ لا
بقيد كونها واردة في الكتاب أو السنة. ولا إشكال في أن كلي هذه الألفاظ ليس
دليلا، وإنما الدليل ما وقع من هذه الألفاظ في الكتاب أو السنة، فهذه المباحث
خارجة عن المسائل الأصولية من جهة الموضوع، وكذا يخرج البحث عن حجية
الأدلة مثل البحث عن أن ظاهر الكتاب حجة أم لا؟ أو الإجماع حجة أم لا؟
وأمثالهما، فإن الموضوع في هذه المسائل التي يبحث فيها عن دليلية الأدلة وإن
كان من مصاديق موضوع العلم - أعني الدليل - إلا أن المحمول ليس من عوارض
ذاتية الدليل بما هو دليل وبعد الفراغ عن دليليته، لما عرفت من أنه لو كان
الموضوع ذوات الأدلة مع قطع النظر عن دليليتها لكان الأمر كذلك.
ولكن يلزم الإشكال بصيرورة علم الأصول علوما أربعة لا علما واحدا، ولو
كان الموضوع هو القدر الجامع - وهو عنوان الدليل - فلابد أن تكون الدليلية
محرزة ويكون البحث عن عوارضها حتى تصير المسألة من المسائل الأصولية.
والبحث عن الدليلية ليس بحثا عن أعراض ذاتية الدليل بوصف كونه دليلا، بل من
عوارض ذات الدليل، فالبحث عن هذه الطائفة من المسائل خارج عن المسائل
الأصولية من جهة المحمول.
وأما البحث عن الأحكام العقلية فالبحث عن الأحكام العقلية المستقلة
كمسألة التحسين والتقبيح العقليين وكذا باب الاستلزامات كاستلزام الأمر بالشيء
لوجوب مقدمته أو لحرمة ضده خارج عن المسائل، لأن البحث فيها عن وجود
الموضوع وهو حكم العقل، إذ ذات العقل ليس أحد الأدلة الأربعة، وإنما الدليل هو
حكمه، وفي هذه المسائل يبحث أن هذا الحكم هل متحقق أم لا؟
وأما باب الملازمة بين حكم العقل والشرع فمقتضى النظر البدوي وإن كان
عدم كون البحث فيها عن وجود الموضوع بل الحكم العقلي الموجود في المقام
26

يبحث عن أحواله وعوارضه التي من جملتها هو أن حكم العقل هل يكون طريقا
ومثبتا للحكم الشرعي أم لا؟ إلا أن مقتضى النظر الدقيق خلافه، وأن البحث فيها
أيضا بحث عن وجود الموضوع، لأن مرجع البحث فيها إلى أنه هل الدليل
الشرعي على الحكم موجود أم لا؟ فالأحكام العقلية التي [هي] شطر وافر من
المسائل الأصولية تخرج عنها أيضا.
وأما البحث عن حجية خبر الواحد فقد تقدم أنه يمكن أن يكون بلحاظين:
أحدهما: أن يكون البحث في تلك المسألة بلحاظ حال السنة التي هي
أحد الأدلة الأربعة بأن يكون البحث في أن السنة هل تثبت بالخبر الواحد أم
لها خصوصية لا تثبت إلا بالخبر المتواتر كما أن لأصول الدين خصوصية لا تثبت
إلا بالعلم بخلاف فروع الدين؟ فعلى هذا يكون البحث فيها بحثا عن المسألة
الأصولية.
وثانيهما: أن يكون البحث فيها بلحاظ حال الخبر الحاكي عن السنة بأن
يكون البحث فيها عن أن الخبر الواحد هل يثبت السنة كما يثبت بعض الأمور
الأخر أم لا يثبت السنة إلا الخبر المتواتر مثلا؟ كما أن نظير هذا البحث في
الأحكام والمسائل الفرعية أيضا موجود كمسألة إثبات السرقة بالشاهد واليمين،
فإنه بعد ما ثبت أن الشاهد واليمين يثبت بهما بعض الأمور كحقوق الناس مثلا
يبحث عن أن الشاهد واليمين هل يثبتان السرقة أيضا أم لا؟
فعلى هذا لا يكون البحث فيها بحثا عن المسائل الأصول (1)، لأن البحث
فيها ليس بحثا عن أحوال الدليل وهو المحكي، بل عن أحوال الخبر الحاكي، إلا
أن تعمم السنة للخبر الحاكي عنها كما عممت من قول النبي (صلى الله عليه وآله) وفعله وتقريره
إلى الإمام (عليه السلام).
وأما البحث عن التعادل والترجيح اللذين موضوعهما الدليلان المتعارضان
والتعارض ليس إلا بين الخبرين الحاكيين عن السنة الواقعية، وإلا فنفس السنة لا

(1) هكذا في الأصل، والصحيح إما مسائل الأصول، أو المسائل الأصولية.
27

تعارض فيها فلا يكون البحث عنهما بحثا عن المسألة الأصولية، فتأمل.
فيلزم بناء على أن يكون تمايز العلوم بتمايز الموضوعات والالتزام بأنه لابد
لكل علم من موضوع يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، والتزام أن علم الأصول من
تلك العلوم المحتاجة إلى موضوع معين خروج غالب المسائل المهمة المسلمة
عندهم كونها من المسائل الأصولية عن كونها مسألة أصولية.
والتزام كون ذكرها من باب الاستطراد - مع أنه في غاية البعد - ولذا التجأ في
الكفاية (1) إلى التزام أن موضوع علم الأصول عنوان كلي منطبق على موضوعات
مسائله ومتحد معها نحو اتحاد الطبيعي وأفراده وإن لم نعرفه باسمه ورسمه، ولا
يمكن لنا تحديده لعدم معرفته إلا أنه نعلم إجمالا أن موضوعه منطبق على
موضوعات المسائل بحيث لا يخرج شيء من موضوع هذه المسائل عن كونه
مصداقا لذلك العنوان، ولا يدخل شيء من موضوع غير هذه المسائل في كونه
مصداقا له.
وقد عرفت أنه التزام بما لا يلزم فلم يلتزم الإنسان باحتياج العلم إلى
الموضوع حتى يقع في هذه التكلفات مع أنه بناء على القول باحتياج كل علم إلى
موضوع يبحث فيه عن عوارضه الذاتية كيف يبحث عن عوارض شيء مع عدم
معرفته؟ ومن أين يعلم أن هذه العوارض عوارض ذاتية له مع عدم العلم به؟ ولا
يحصل العلم به إلا بعد العلم بالمسائل، إذ هو عنوان كلي منطبق على موضوعات
المسائل وينتزع عنها، والحال أنه لابد أن يكون الموضوع أمرا معينا يبحث في
العلم عن عوارضه، فتأمل.
الثاني: في الوضع
لا إشكال في أن دلالة الألفاظ على معانيها ليست من جهة المناسبة الذاتية
وإنما هي بالوضع.

(1) كفاية الأصول: ص 22.
28

وقد عرف الوضع بتعاريف:
منها: إنه تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه.
ومنها: إنه تخصيص اللفظ بالمعنى.
ومنها: إنه التزام الواضع بأن لا يستعمل اللفظ إلا مريدا به هذا المعنى.
ومنها: إنه علقة جعلية بين اللفظ والمعنى.
لا إشكال في إمكان كونه إلتزاما من الواضع الأول بأن لا يستعمل اللفظ إلا
مريدا به المعنى فإن هذا الالتزام كسائر الالتزامات التي تقع عن الشخص على
نفسه أو بينه وبين غيره كالالتزامات والشرائط الواقعة في ضمن العقود أو بينه
وبين الله كالأيمان والنذور.
ولا إشكال في أنه في صورة إحراز ذلك الالتزام منه بالعلم الذي هو القدر
المسلم لا بالأمارة أو الأصل، وإحراز أنه باق على التزامه إذا استعمل اللفظ
يحصل العلم بإرادة المعنى منه، هذا بالنسبة إلى الواضع الأول، وأما باقي أهل اللغة
فكذلك أيضا، لأنهم تابعون للواضع الأول.
كما لا إشكال في إمكان كونه علقة جعلية بين اللفظ والمعنى بجعل من بيده
الجعل والاعتبار هذا اللفظ لذلك المعنى بحيث لو تجاوز عنه لكان مستعملا في
غير ما جعل له أو انجعاله لذلك المعنى من جهة كثرة استعماله فيه، فتكون تلك
العلاقة كعلاقة الملكية حدوثا وبقاء، فإن علاقة الملكية كما قد تحصل بأسباب
اختيارية مجعولة بجعل من بيده أمر الجعل كالبيع والصلح والهبة وغيرها وقد
تحصل بأسباب قهرية غير اختيارية كذلك هذه العلاقة قد تحصل بأمر اختياري
وهو جعل الواضع هذا اللفظ لذلك المعنى، وقد تحصل بأمر غير اختياري كانجعاله
له من كثرة استعماله فيه.
وكما أن علاقة الملكية باقية إلى أن يحصل نقل اختياري أو إعراض - مثلا -
فكذلك تلك العلاقة باقية إلى أن يحصل نقل من المعنى الأول إلى الثاني أو الجر (1)

(1) كذا في الأصل، والظاهر: الهجر.
29

بالنسبة إلى المعنى الأول. فبحسب التصور والإمكان كلا النحوين يمكن وإنما
الكلام في أن ما وقع في الخارج هو النحو الأول، وأن ما صدر منه أولا هو الالتزام
والتعهد المذكور والعلقة الجعلية تنتزع منه، أو أن ما صدر منه أولا هو جعل العلقة
والالتزام المذكور من أحكام وآثار جعل العلقة كجواز تصرف الشخص في ملكه
وعدم جواز تصرف غيره فيه اللذين هما من أحكام وآثار علقة الملكية كالكلام
في أن الأحكام التكليفية منتزعة عن الأحكام الوضعية، أو بالعكس. والحق أن ما
يقع في الخارج هو النحو الثاني، لأنا إذا رجعنا إلى وجداننا في مقام تسمية
أولادنا لا نرى في أنفسنا إلا جعل هذا الاسم كلفظ مصطفى مثلا لذلك الولد
المخصوص واختصاصه به، فتأمل.
فتحصل: أن الوضع عبارة عن نحو اختصاص للفظ بالمعنى، وعلقة خاصة
وربط مخصوص بينهما نظير العلاقة التي بين الملك ومالكه في كونه من الأمور
الاعتبارية التي قد توجد بسبب اختياري كإنشائها بالعقود المملكة، وقد توجد
بسبب غير اختياري كالانتقالات القهرية، وعلاقة الوضعية التي بين اللفظ والمعنى
قد تحدث بسبب اختياري كإنشاء الواضع بأني وضعت هذا اللفظ لذلك وجعلته له
وقد تحدث بسبب غير اختياري ككثرة استعماله إلى أن وصلت إلى حد لا يحتاج
انفهام المعنى منه إلى القرينة بحيث صار هذا اللفظ لباسا لذلك.
لكن اختلف في أن كثرة الاستعمال الموجبة لصيرورة اللفظ حقيقة في المعنى
المستعمل فيه هل تشترط أن تكون مقرونة بالقرينة المنفصلة بأن يستعمل اللفظ
في المعنى المجازي اعتمادا على القرينة الخارجية ويفهم ذلك المعنى المجازي
من جهة تلك القرينة إلى أن وصل إلى حد ينسبق ذلك المعنى منه إلى الذهن مع
قطع النظر عن تلك القرينة أو لا يشترط ذلك، بل يمكن أن تكون مقرونة بقرينة
متصلة ووصلت كثرة الاستعمال إلى ذلك؟
والحق هو الأخير وإن قيل بأنه إذا كان الاستعمال مقرونا بالقرينة المتصلة
30

لا يكون الانفهام مستندا إلى اللفظ فقط، بل كان للقرينة دخل فيه وتكون
جزءا للمقتضي.
ولكن فيه: أنه قبيل الوصول إلى ذلك الحد للقرينة دخل في الانفهام، ولا مانع
منه، لأنه ما صار حقيقة فيه بعد وبعد الوصول إلى ذلك لا دخل لها فيه، لأنه مع
قطع النظر عنها يسبق هذا المعنى إلى الذهن كما إذا كانت القرينة منفصلة، هذا
بالنسبة إلى حدوث تلك العلاقة.
وكذا بالنسبة إلى زوالها أيضا حالها حال علاقة الملكية، فكما أن العلقة
الملكية تزول بأمر اختياري كالنقل الاختياري وبأمر غير اختياري كالانتقالات
القهرية المخرجة عن الملك كذلك تلك العلاقة قد تزول بأمر اختياري كالنقل عن
المعنى الأول إلى معنى آخر، وقد تزول بأمر غير اختياري كالهجر.
فظهر أنه لا إشكال في أن الوضع كما يحصل بإنشاء الواضع بأن يقول: إني
وضعت هذا اللفظ لذلك، كذلك يحصل بكثرة استعماله فيه إلى أن وصل إلى الحد
المذكور، ويسمى الأول بالوضع التعييني والثاني بالوضع التعيني.
ولا إشكال فيه كما ظهر من مقايسة تلك العلاقة بعلاقة الملكية، وإنما
الإشكال في أن حصول الوضع التعيينى موقوف على الإنشاء اللفظي بأن يقول:
وضعت هذا لذاك، أو يمكن حصوله بالفعل كأن يستعمل اللفظ في المعنى من غير
كونه مسبوقا بوضع سابق وكان غرضه من ذلك الاستعمال وضعه له كأن يقال: خذ
المصطفى مثلا واستعمل لفظ المصطفى في الولد المخصوص، وكان من هذا
الاستعمال وضع هذا اللفظ له. ولا يلزم الجمع بين الإرادة الوضعية والإرادة
الاستعمالية، لأن الإرادة تعلقت باستعماله فيه أولا وإرادته منه. والمقصود من هذا
الاستعمال في هذا المعنى هو الوضع ثانيا، وحصول العلقة بين اللفظ والمعنى بهذا
الاستعمال كحصول علاقة الملكية بين المالك والملك بالمعاطاة فكما أن الملكية
يمكن إنشاؤها بالقول كالإنشاء بالعقود ويمكن انشاؤها بالفعل كالإعطاء
والتسليط بقصد التمليك، ويوجد بهذا الفعل مصداق للتمليك كما يوجد بالإنشاء
31

القولي وكالإباحة فإنها كما تحصل بالإنشاء القولي تحصل بالفعل الخارجي
كإحضار الطعام عنده وكالإذن في دخول الدار مثلا، فانه كما يحصل بالقول
يحصل بالفعل كفك الباب مثلا، وهكذا.
والحاصل: أنه كما تحصل هذه العناوين بالإنشاء القولي كذلك تحصل بالفعل
الخارجي ما يكون مصداقا ولا يكون إنشاء قوليا وعقدا، ولذا لم يتمسك القائلون
بصحة المعاطاة ب‍ " أوفوا بالعقود " (1) وتمسكوا ب‍ " أحل الله البيع " (2) ومن تمسك
منهم: ب‍ " أوفوا بالعقود " فكأنه لم تظهر له معنى المعاطاة كما ينبغي.
فعلى هذا لا إشكال في حصول مصداق للوضع بهذا الفعل والاستعمال، وإنما
الإشكال في أن نفس هذا الاستعمال هل هو استعمال حقيقي أو مجازي أو خارج
منهما وليس بحقيقة ولا مجاز؟
يمكن أن يقال: بأن هذا استعمال في المعنى الحقيقي، لأنه عبارة عن
الاستعمال في ما وضع له، فلو اعتبر فيه أن يكون الوضع سابقا على الاستعمال لا
يمكن أن يكون استعمالا حقيقيا، ولكن إن اكتفينا في الوضع بصرف هذا
الاستعمال وقلنا: " إن الحقيقة عبارة عن استعمال اللفظ في الموضوع " ولو كانت
صيرورته موضوعا بنفس هذا الاستعمال فلا مانع من كونه حقيقة.
كما يمكن أن يقال: بأنه مجاز، لأنه عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع
له وهذا استعمال في غير ما وضع له وإنما يصير ما وضع له بعد الاستعمال.
كما يمكن أن يقال: إنه ليس بحقيقة ولا مجاز: أما أنه ليس بحقيقة فلاعتبار
الوضع فيها في الرتبة السابقة على الاستعمال، وهنا ليس كذلك، وأما أنه ليس
بمجاز فلاعتبار كون الاستعمال في غير ما وضع له فيه، وهنا ليس كذلك.
ولسنا الآن بصدد كون هذا الاستعمال استعمالا حقيقيا أو مجازيا أو ليس
بحقيقي ولا مجازي، وإنما الآن بصدد بيان إمكان حصول مصداق الوضع بالفعل
كما يحصل بالقول. وعلى الظاهر لا إشكال فيه.

(1) المائدة: 1.
(2) البقرة: 275.
32

وعلى هذا يندفع الإشكال الذي أورد على القائلين بكون ألفاظ العبادات
حقائق شرعية في هذه المعاني المخترعة وصيرورتها حقائق إنما هي بالوضع
التعييني وهو أنه لو كان لهذه الألفاظ وضع تعييني بالنسبة إلى هذه المعاني وكان
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وضع هذه الألفاظ لهذه بأن قال: إني وضعت الصلاة مثلا لكذا
والصوم لكذا إلى آخرها لنقل ذلك إلينا كما نقل سائر الأحكام، والمعلوم خلافه.
وحاصل الدفع ما عرفت من أن حصول الوضع التعييني ليس منحصرا بالإنشاء
القولي حتى يقال: إن المعلوم خلافه، بل يمكن حصول الوضع التعييني بصرف
الاستعمال، وهو موجود.
وإذا عرفت حقيقة الوضع وإمكان حصوله بالتعيين قولا وفعلا وبالتعين من
جهة كثرة الاستعمال فاعلم أنه بلحاظ نفس الوضع وبلحاظ الموضوع له وبلحاظ
كيفية الوضع ينقسم إلى أقسام منها: انقسام الوضع التعييني بلحاظ الوضع
والموضوع له إلى أقسام أربعة، وذلك لأن الملحوظ حين الوضع إما معنى كلي أو
جزئي، فإن كان الملحوظ معنى كليا فتارة يوضع اللفظ بإزائه وتارة يوضع بإزاء
جزئياته، فإن وضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الكلي يكون الوضع عاما والموضوع
له أيضا عاما، وإن وضع اللفظ بإزاء جزئيات ذلك الكلي يكون الوضع عاما، لكون
الملحوظ حين الوضع معنى كليا والموضوع له خاصا، لأن الموضوع له جزئيات
ذلك المعنى الكلي لا نفسه وإن كان الملحوظ حين الوضع معنى جزئيا، فتارة
يوضع اللفظ بإزاء نفسه وأخرى بإزاء كلي ذلك الجزئي، فإن وضع اللفظ بإزاء
نفس ذلك الجزئي يكون الوضع خاصا والموضوع له أيضا خاصا، وإن وضع بإزاء
كلي ذلك الجزئي يكون الوضع خاصا والموضوع له عاما، هذا بحسب التصور.
وأما بحسب الإمكان والوقوع فلا إشكال في إمكان الوضع والموضوع له
العامين أو الخاصين، فإن وضع أسماء الأجناس من قبيل الأول، ووضع الأعلام
الشخصية من قبيل الثاني، وأما كون الوضع عاما والموضوع له خاصا فهو أيضا
ممكن، وذلك لأن الكلي كما يمكن أن يلاحظ لأن يرد الحكم عليه بلحاظ نفسه
33

وبما هو كلي كما في بيع الكلي الثابت في الذمة حيث إن متعلق البيع هو نفس
الكلي من دون سرايته إلى الأفراد الخارجية، كذلك يمكن أن يلاحظ بما هو مرآة
للأفراد والمصاديق الخارجية، فيلاحظ الكلي بما هو وجه ومرآة للأشخاص
والأفراد ويعلق الحكم عليه بهذا اللحاظ.
وحينئذ فالحكم المعلق عليه معلق في الواقع على المصاديق كما في:
لا تشرب الخمر - مثلا - فإن عنوان الخمر كلي علق عليه الحكم بالحرمة بلحاظ
الأفراد والمصاديق، فإذا كان هذان النحوان ممكنين في الأحكام المعلقة على
الكليات ففي الوضع أيضا كذلك، لأن الوضع أيضا حكم من الأحكام، والظاهر أنه
لا إشكال في إمكانه، وإنما الإشكال في أنه يصير من باب متعدد المعنى
والمشترك، لا من باب متحد المعنى.
وما قيل (1) في مقام التفصي وهو أنه لا بد في المشترك من تعدد الوضع،
والوضع هنا ليس بمتعدد.
فيه: أنه يمكن تصور الوضع الواحد في المشترك كما إذا كان لشخص أولاد
متعددون وقال: سميت أولادي مصطفى مثلا - والتمثيل بهذا المثال لا يخفى وجهه
ولطفه، لأن هذه التسمية صدرت مني اليوم لولدي المسمى بهذا الاسم الميمون
المبارك، ونسأل الله تعالى بحق سميه صلى الله عليه وآله الطاهرين أن يباركه لنا
ويجعله ولدا عالما صالحا تقيا نقيا زكيا مليا ويصطفيه وليا - فإنه إشكال في
صيرورة هذا اللفظ مشتركا بينهم، مع أن الوضع واحد.
فبهذا لا يمكن التفصي عن الإشكال، ولكن يمكن التفصي عنه بوجه آخر:
وهو أن الوضع للمتعددين إن كان بلحاظ العنوان الكلي، وبما أنهم متحدون في
ذلك العنوان وأنهم مصاديقه وأفراده كان من متحد المعنى، وإن كان بلحاظ أنهم
ذوات متغايرة متخالفة والعنوان الكلي الذي جعل مرآة للحاظها كان من باب
صرف المشيرية إلى الذوات المتغايرة كعنوان من في الصحن الشريف أو في

(1) قاله صاحب الفصول في الوضع: ص 16 سطر الأخير.
34

النجف الأشرف، وهكذا من دون أن يكون الوضع لها باعتبار اتحادها في ذلك
العنوان كان من متعدد المعنى.
فتحصل: أنه لا إشكال في إمكان كون الوضع عاما والموضوع له أيضا، بل في
وقوعه كأسماء الأجناس مثل الإنسان والفرس والبقر والغنم وأمثالها كما أنه
لا إشكال في الوضع الخاص والموضوع له الخاص إمكانا ووقوعا كالأعلام
الشخصية.
وأما الوضع العام والموضوع له الخاص فالظاهر أنه ممكن، بل ادعي وقوعه،
وأن مثل وضع الحروف وأسماء الإشارة والموصولات من هذا القبيل، وذلك لأنه
كما يمكن لحاظ الكلي في حد نفسه ووضع لفظ بإزائه كذلك يمكن لحاظه بما أنه
مرآة للمصاديق والأفراد ووجه لها، فإذا أريد وضع لفظ للجزئيات فالجزئيات
لعدم كونها محصورة أو متناهية لا يمكن تصورها تفصيلا حتى يوضع اللفظ
بإزائها، فيتصورها إجمالا بوجهها وعنوانها ويوضع اللفظ بإزائها، بل يمكن القول
بأن وضع أسماء الأجناس من هذا القبيل، فكما أن الحكم في مثل: لا تشرب
الخمر تعلق بالخمر بلحاظ المرآتية للخمور الخارجية، وأن الحكم متعلق بكل
واحد من الأفراد فكذلك الوضع في مثل لفظ الإنسان تعلق به بلحاظ الأفراد.
والفرق بين ما إذا لوحظ الكلي بنفسه وبين ما إذا لوحظ بنحو المرآتية للأفراد
هو أنه في الأول: متعلق الحكم هو نفس الكلي بلا سراية إلى الأفراد كالبيع الواقع
على الكلي في الذمة، فإنه لا يسري إلى الأفراد وإبراء الذمة بإعطاء الفرد من
حيث إنه أيضا للكلي، وإلا فالأفراد الخارجية ليست متعلقة للبيع، بل البيع تعلق
بنفس الكلي، وإعطاء الفرد إنما هو من باب صرف التطبيق والإيفاء، وفي الثاني:
متعلق الحكم نفس الأفراد الخارجية، ولما كان الأفراد غير محصورة أو غير
متناهية ولا يمكن تعلق ال 4 حكم بها إلا بعد تصورها وهو متعذر تفصيلا فاكتفي
بتصورها الإجمالي في ضمن تصور الكلي، وعلق الحكم على الكلي ليسري إلى
الأفراد كما في مثل: لا تشرب الخمر.
35

والحاصل أنه كما في تعلق سائر الأحكام بالكلي يمكن لحاظه في حد نفسه
ومستقلا، ويمكن لحاظه على وجه المرآتية للأفراد، كذلك في تعلق الوضع به
يمكن لحاظه مستقلا ويمكن لحاظه مرآة.
وأما الوضع الخاص والموضوع له العام فقد قيل بإمكانه بأن يكون تصور
الشخص الناشئ من رؤيته موجبا لوضع اللفظ لكلي ذلك الشخص، فيكون
الملحوظ حين الوضع معنى خاصا والموضوع له عاما، بل قد قيل: أن وضع أسماء
الأجناس كلها من هذا القبيل، فإن الواضع لو لم ير الفرد من الجنس أولا من أين
يعلم به حتى يضع اللفظ بإزائه؟! فلحاظ الفرد إنما هو المنشأ لوضع اللفظ للكلي
فإنه إذا رأى الفرد الخارجي من الفرس فتصوره يصير منشأ لوضع لفظ الفرس
لكلي ذلك، لأن تصور الكلي قد حصل بتصور الفرد، فكما أن تصور الكلي تصور
للفرد بوجهه فكذلك تصور الفرد تصور للكلي بوجهه.
وفيه: أن لحاظ الفرد إن كان بإلغاء الخصوصيات الفردية، فيكون الملحوظ
حين الوضع أمرا كليا والموضوع له أيضا كليا فيدخل في الوضع العام والموضوع
له العام، وإن لم يكن بالغاء الخصوصيات الفردية فلا يكون لحاظه لحاظ الكلي،
لأن الفرد مع الخصوصية مباين للكلي، ويكون لحاظه لحاظ الكلي ولو بوجهه،
لأن الفرد من جهة تلك المباينة لا يكون وجها له بخلاف الكلي، فإنه بما هو كلي
يكون وجها للفرد، لأن تصور الكلي تصور للفرد من ذلك وإن لم يكن تصوره
تصور الفرد من سائر الوجوه.
وربما قيل في مقام تصور إمكان هذا القسم من الوضع بأنه إذا رأينا شبحا من
البعيد ولا نعرفه بشخصه وأنه من أي جنس من الأجناس فنضع اللفظ بإزاء جنس
ذلك الشبح.
وفيه أيضا: أنه على هذا لا يخلو عن تصور الجنس إجمالا، ومجرد رؤيته
الشبح وتصوره لا يكفي في وضع اللفظ لجنسه ما لم يتصور الجنس، غاية الأمر
أن تصوره إجمالي بخلاف الفرض الأول فإن تصوره تفصيلي.
36

والحاصل: أن تصور الفرد لا يكفي لوضع اللفظ للجنس ما لم يتصور الجنس
تفصيلا كما في الفرض أو إجمالا كما في الفرض الثاني. وإذا صار الجنس ملحوظا
حال الوضع فيخرج عن كون الوضع خاصا والموضوع له عاما، ويدخل في
الوضع العام والموضوع له العام.
فظهر أن هذا القسم من أقسام (1) المتصورة للوضع غير معقول، وأما الأقسام
الثلاثة الأخر فلا إشكال في معقوليتها، ووقوع القسمين الأولين منها.
وإنما الإشكال والكلام في وقوع القسم الثالث فقيل بأن وضع الحروف وما
يشابهها من الموصولات وأسماء الإشارات من هذا القبيل، وإنما التجأوا إلى القول
بأن الوضع فيها من هذا القسم من جهة أن المعنى الحرفي لا يكون إلا جزئيا، لأنه
ليس إلا الربط بين الشيئين، ومفهوم الربط معنى كلي اسمي مستقل بالمفهومية،
فالمعنى الحرفي هو مصاديق الربط لا مفهوم الربط ولا مانع من كون المفهوم معنى
اسميا كليا والمصداق معنى حرفيا جزئيا، كما أن الجزئي مفهومه كلي ومصداقه
جزئي، وهكذا في النسب والإضافات مفاهيمها مفاهيم اسمية ومصاديقها (2)
حرفية، وكما في المعدوم المطلق الذي يتصور في الذهن ويحكم عليه.
والحال أن تصوره في الذهن نحو وجود له، فإن مفهومه مفهوم المعدوم
المطلق ومصداقه مصداق الموجود المطلق، والجزئيات لعدم انحصارها أو
عدم تناهيها لا يمكن لحاظها وتصورها حتى يوضع اللفظ لها، وبدون اللحاظ
والتصور لا يمكن وضع اللفظ لها، ولا يلزم في الوضع من تصور الموضوع له
تفصيلا، بل يكفي التصور الإجمالي، فالجزئيات لوحظت بنحو الإجمال في ضمن
لحاظ الكلي على وجه كونه مرآة لها ووضع اللفظ بإزائها، فالوضع عام، لأن
الملحوظ حين الوضع أمر كلي والموضوع له خاص، لأنه عبارة عن الجزئيات
وامتياز هذا القسم من الوضع عن المشترك إنما هو بما ذكرناه لا بتعدد الوضع

(1) هكذا في الأصل والصحيح: الأقسام.
(2) في الأصل: مصداقيها.
37

في المشترك ووحدته هنا، لما مر من أن المشترك أيضا يمكن تصور وحدة الوضع
فيه كما مثلنا.
وقيل (1): بأن الوضع في الحروف وما يشابهها عام والموضوع له عام أيضا
والمستعمل فيه خاص، فالخصوصية والجزئية المعتبرة في الحروف إنما هي في
ناحية المستعمل فيه لا الموضوع له، فالموضوع له فيها أمر كلي كالأسماء
والمستعمل فيه هي الجزئيات.
والتزم صاحب الكفاية (2) (قدس سره) بأن الوضع والموضوع له والمستعمل فيه كلها في
الحروف كلي كما في الأسماء والخصوصية إنما نشأت من قبل خصوصية
الاستعمال، وذلك لأن المفاهيم مختلفة في الاستقلالية وعدم الاستقلالية، فمثل
الجواهر وبعض الأعراض كالسواد والبياض وأمثالهما مفاهيم مستقلة غير قابلة
للربطية ومثل الفوقية والتحتية وأمثالهما أمور قابلة للنظر الاستقلالي وللنظر الآلي
كليهما، كما أن الأجسام الخارجية مختلفة فبعضها لا يقبل لأن ينظر فيها إلا بالنظر
الاستقلالي كالأجسام الغير الصيقلية (3) كالحجر والمدر وبعضها قابل لأن ينظر إليها
بالنظر الآلي كما أنه قابل لا ن ينظر إليها بالنظر الاستقلالي كالأجسام الصيقلية (4)
مثل المرآة.
وإذا عرفت اختلاف المفاهيم بالاستقلالية وعدمها فاعلم أن مثل الابتداء
والانتهاء وأمثالهما من المعاني الحرفية الربطية قابلة لأن ينظر إليها بالنظر
الاستقلالي ويحكم عليها وبها، ولأن ينظر إليها بالنظر الآلي الحرفي الربطي.
وحينئذ لا يمكن الحكم عليها وبها، بل تكون آلة وحالة لملاحظة الغير، فإذا نظر
إليها باللحاظ الأول تكون معان اسمية مستقلة بالمفهومية وإذا نظر إليها باللحاظ
الثاني تكون معان حرفية غير مستقلة، فكما لا يمكن النظر إلى المرآة بالنظر
الاستقلالي والآلي كليهما بالنظر الواحد كذلك لا يمكن الجمع بين اللحاظين في

(1) معالم الدين: ما يتعلق بالمخصص، ص 124.
(2) كفاية الأصول: ص 25.
(3 و 4) هكذا في الأصل والصحيح: الصقيلة.
38

المقام فلفظة " من " موضوعة لمفهوم الابتداء والموضوع له هو المفهوم الكلي
واستعملت في هذا المفهوم الكلي أيضا، لكن لا بما أنه ملحوظ بالنظر الاستقلالي،
بل بما أنه ملحوظ بالنظر الآلي.
فالخصوصية إنما نشأت من ناحية الاستعمال حيث إنها استعملت لتعرف
حال الغير، وبما أنها حالة وآلة لملاحظة حال الغير كما قيل: إن الحرف تدل على
معنى في غيره (1)، وذلك لأن في مثل: سرت من البصرة إلى الكوفة السير لم تلاحظ
مطلقا بل مقيدة ومتكيفة بما أنه من البصرة، وكذلك البصرة لم تلاحظ مطلقا بل بما
أنها ابتداء السير، وكذلك الكوفة لم تلاحظ مطلقا بل بما أنها منتها للسير. فلفظة
البصرة والكوفة تدلان على نفس مدلولهما وهما البلدان المعينان، وأما تكيفهما
بكيفية كونهما مبدأ ومنتها للسير، فلا تفهم إلا من لفظة من وإلى، وهذا معنى قولهم
الحرف تدل على معنى في غيره، وهكذا غيرهما من الحروف، فالوضع والموضوع
له والمستعمل فيه في الحروف عام، والخصوصية إنما نشأت من قبل الاستعمال.
والحاصل: أنه كما في الخارج أمور موجودة لا في الموضوع كالجواهر
وأمور موجودة في الموضوع كالأعراض المتأصلة مثل السواد والبياض وأمور
لا وجود لها إلا بوجود منشأ انتزاعها كالفوقية وأمثالها فكل من القسمين الأولين
موجود خارجي وله ما بحذاء في الخارج إلا أن القسم الأول مستقل في وجوده
بلا حاجة له إلى موضوع، والقسم الثاني محتاج إلى الموضوع في وجوده بخلاف
القسم الثالث فإنه لا وجود له أصلا وليس له ما بحذاء في الخارج، وإنما الموجود
فيه هو منشأ انتزاعه.
كذلك في الذهن بعض الأمور ليس لها وجود أصل في الذهن وليست لها
لحاظ مستقل، وإنما هي ملحوظة تبعا للغير وآلة وحالة لتعرف حال الغير،
ولا وجود لها إلا بوجود منشأ انتزاعها فيه، والمعاني الحرفية من هذا القبيل

(1) شرح شذور الذهب: ص 14.
39

فإن في مثل: الماء في الكوز مفهوم الماء ملحوظ في الذهن مستقلا، ومفهوم الكوز
أيضا كذلك.
ولكن لفظة " في " ليس لها مفهوم مستقل في الذهن في عرضهما، وإلا لزم أن
يكون معنى اسميا مستقلا بالمفهومية، بل لا وجود له فيه إلا بوجود منشأ انتزاعه
وهو الماء والكوز المتخصصين بخصوصية كون أحدهما ظرفا والآخر مظروفا،
فلفظة " في " تدل على تلك الخصوصية المتقومة بهما، وليست هذه الخصوصية
تحت لفظة " في " بحيث تكون تحت كل واحد من الألفاظ الثلاثة معنى مستقلا
مغايرا لما في تحت الآخر، بل تلك الخصوصية في تحت لفظ الماء والكوز والدال
على كون تلك الخصوصية في تحتهما إنما هو لفظ " في " فيكون حال الحرف على
هذا حال الاعراب، فكما أن الرفع والنصب يدلان على معنى في تحت مدخولهما
وهي الفاعلية والمفعولية لا على معنى " في " تحتهما فكذلك الحرف.
فعلى هذا يكون الحرف دالا على الدال كالاعراب لا أنه دال بنفسه، وهذا
معنى قولهم: إن الحرف يدل على معنى في غيره، والمراد أن الحروف كالأعاريب
علامات على دلالة متعلقاتها على خصوصيات معينة من الابتدائية والانتهائية
والظرفية وأمثالها، كما أن الأعاريب علامات على دلالة مدخولها على
خصوصيات متعينة من الفاعلية والمفعولية وغيرهما.
إن قيل: على هذا يلزم أن تكون الحروف مهملة ولا يكون لها معنى.
قلت: إنه يكفي في خروجها عن الاهمال وكونها دالة على المعنى وموضوعة
له هذا القدر من الدلالة، وهو كونها دالة على الدال، وكون معانيها تحت لفظ آخر
ومن خصوصيات مفهوم آخر بحيث لو لم يكن الحرف لما استفيد منه تلك
الخصوصية.
وعلى هذا فتكون الحروف موضوعة لا مهملة، ويصح النزاع في أن الموضوع
له فيها عام أو خاص أو المستعمل فيه عام أو خاص بخلاف ما لو كانت مهملة،
فإنه لا يصح هذا النزاع.
40

فإن قيل: على هذا يلزم أن يكون استعمال متعلقاتها دائما مجازا، وذلك لأن
لفظ الماء مثلا أو الكوز في قولنا: الماء في الكوز لم يستعمل في طبيعة الماء
وكذلك لفظ الكوز، وإنما استعمل في الطبيعة المتخصصة بالخصوصية، واستعمال
اللفظ الموضوع للطبيعة المطلقة في الطبيعة المتخصصة بالخصوصية مجاز.
قلت فيه: أولا: أنه لا ضير في الالتزام بمجازيتها، ولذا قيل: أن أغلب
الاستعمالات مجازية، بل قيل: أن استعمال (1) الحقيقي لا يوجد.
وثانيا: أن المجازية إنما تلزم لو قلنا: إن أسماء الأجناس موضوعة لنفس
الطبائع الكلية، ويكون الوضع والموضوع له فيها عاما وتكون العلقة الوضعية بين
اللفظ ونفس الطبيعة، كما أن العلقة الملكية بين المالك ونفس الكلي الذي فيما إذا
كان المملوك كليا وبين الملك الشخصي وبين كلي المالك إذا كان المالك كليا كما
في مالكية السادات أو الفقراء للخمس أو الزكاة. وأما لو قلنا بأنها موضوعة
للطبائع المتخصصة بالخصوصيات وأن وضعها عام والموضوع له فيها خاص،
والحكم تعلق بالكلي بلحاظ كونه مرآة للأفراد الخارجية مثل: لا تشرب الخمر
كما احتملناه سابقا فلا يلزم المجازية.
فظهر أن المعاني الحرفية في عالم الذهن مثل العرضيات التي ليس لها وجود
في عالم الخارج وليس لها ما بحذاء فيه، وإنما هي موجودة بوجود منشأ انتزاعها
وتبع له فلا تكون تحت لفظة " في " في الذهن معنى في قبال ما يكون تحت لفظ
الماء والكوز، وإلا لكانت الحروف مستقلة بالمفهومية كالأسماء.
وإن أبيت إلا عن كون الحروف تحتها معنى فنقول: إن المعنى الذي تحت
الحروف ليس إلا معنى ايقاعيا يوجده المستعمل بإيجاد اللفظ لا معنى حكائيا
مثل الأسماء، فالحروف على هذا موضوعة لايجاد الربط واحداثه بنفس
الاستعمال، ومعنى الاستعمال إعمالها في ايجاد الربط، وهذا المعنى الايقاعي إن
كان في مقام كان الربط الواقعي موجودا كان صادقا، وإلا كان كاذبا، فقول القائل:

(1) هكذا في الأصل والظاهر أن الصحيح: الاستعمال.
41

الماء في الكوز إن كان في مقام كان بين الماء والكوز علاقة الظرفية والمظروفية
كان إيجاد الربط بينهما صادقا، وإلا كان كاذبا.
فتكون الحروف كالنسب، فكما أنها معان إيقاعية وبمجرد الإنشاء توجد،
سواء كانت النسبة في الواقع متحققة أم لا، فإن قول القائل: زيد قائم ايجاد لنسبة
القيام سواء كان كذلك واقعا أم لا، ولكن صدقها متوقف على ثبوت تلك النسبة
في الواقع فكذلك في الحروف معانيها معان إيجادية ايقاعية، بنفس استعمال
اللفظ تحصل تلك المعاني وهي الارتباطات الخاصة من الظرفية وأمثالها سواء
كانت هذه الارتباطات حاصلة بين متعلقاتها واقعا أم لا، إلا أن صدقها موقوف
على حصولها واقعا، فلو لم تكن هذه الارتباطات لما كان إيجاد الربط صادقا،
لا أنه ما أوجد.
ثم إن الاستعمال قد يكون حقيقيا وقد يكون مجازيا، وانكار وقوع
الاستعمال الحقيقي كعكسه مما لا وجه له. ويحتمل أن يكون بعض الاستعمالات
واسطة بين الاستعمال الحقيقي والمجازي بأن لا يكون حقيقيا ولا مجازيا كما
ذكرنا سابقا، وهو أن يستعمل اللفظ في المعنى بقصد وضعه له بهذا الاستعمال، بل
لا يبعد أن يكون غالب الأوضاع من هذا القبيل. وبه يمكن تصحيح القول بكون
ألفاظ العبادات حقائق شرعية في المعاني المخترعة، وبه يجاب عن الإشكال
الوارد عليه بأنه لو قال الشارع: وضعت لفظ الصلاة أو غيرها لنقل إلينا.
وحاصله: أن الوضع كما يمكن ايجاده باللفظ كأن: وضعت هذا لذاك يمكن
إيجاده بالفعل، وهو الاستعمال نظير الملكية فإنه كما يمكن إيجادها بالعقد كذلك
يمكن إيجادها بالفعل وهو التعاطي، فهذا الاستعمال لا إشكال في أنه استعمال
صحيح، وليس استعمالا حقيقيا وفي الموضوع له، لأن الفرض أن صيرورة المعنى
موضوعا له متأخرة عن الاستعمال إلا أن يكتفى في كونه موضوعا ولو بهذا
الاستعمال، وليس استعمالا مجازيا، لأن الاستعمال المجازي فرع على
الاستعمال، أو الوضع للمعنى الحقيقي، لأن المجاز بلا حقيقة أو بلا وضع لا يمكن
42

فهو استعمال ليس بحقيقة ولا مجاز.
الثالث:
في أن صحة استعمال اللفظ فيما يناسب الموضوع له هو بالوضع أو بالطبع.
ولا بأس بذكر كلام وهو: أنه كما قيل [عن] السكاكي (1) في الاستعارة التي هي
أحد أقسام المجاز مثل قوله: " رأيت أسدا " وأراد من الأسد أن الأسد ما استعمل
إلا في معناه الحقيقي وهو الحيوان المفترس، إلا أن تطبيقه على الرجل إنما هو
بالإدعاء، ولذا تفيد المبالغة والتأكيد بخلاف ما لو قال: رأيت رجلا
شجاعا، ولو كان لفظ الأسد مستعملا في الرجل الشجاع بأن كان قوله: رأيت أسدا
أي رجلا شجاعا لما يفيد الفوائد التي تترتب على الاستعارة، وهذا في الواقع
كذب، لأنه قال: رأيت أسدا واستعمل لفظ الأسد في معناه الحقيقي وطبقه على
الرجل الشجاع، إلا أنه ليس كذبا مستهجنا، بل يكون مستحسنا واستعمال لفظ
الأسد في الاستعارة في معناه الحقيقي كاستعماله فيه كذبا بلا استعارة، فإنه لو قال:
رأيت أسدا وفي الواقع كان كاذبا لا إشكال في أنه استعمل لفظ الأسد في معناه
الحقيقي كذلك في صورة الاستعارة، والفرق بينهما بقبح الكذب وحسنه، وهذا
القول في الاستعارة صحيح، ولا ينبغي الإشكال فيه ولو فتح أحد باب هذا
الاحتمال في باقي أقسام مجاز المرسل كما فتحه السكاكي (2) بالنسبة إلى
الاستعارة لا بعد فيه ولا مانع منه، فتدبر.
ثم إن صحة هذا النوع من الاستعمال سواء قلنا بأنه استعمال في غير ما وضع
له أو قلنا بأنه استعمال في ما وضع له وطبق على غير ما وضع له ادعاء كما يقوله
السكاكي في الاستعارة (3) هل هي متوقفة على ترخيص الواضع شخصا كما نسب
إلى بعض أن وضع المجازات شخصي كالحقائق، أو نوعا كما هو المشهور؟ فإنه لو

(1) مفتاح العلوم: في الاستعارة، ص 156.
(2) المصدر السابق.
(3) مفتاح العلوم: في الاستعارة ص 163.
43

لم يرد الرخصة من الواضع في استعمال اللفظ في غير ما وضع له شخصا كما
قيل، أو نوعا كما هو المشهور، لكان الاستعمال فيه غير صحيح، بل غلطا، بخلاف
استعماله في ما وضع له، فإن نفس وضع اللفظ له كاف في صحة الاستعمال، ولا
يحتاج إلى ترخيص آخر، أم ليست صحة الاستعمال فيه متوقفة على ترخيص
الواضع، بل يكفي في الصحة حسن الاستعمال بحسب الطبع، ولذا يستعملون
البلغاء الألفاظ في غير معانيها الحقيقية بمجرد المناسبة ومن الاستعمال طبعا، ولا
يتوقفون عن الاستعمال حتى يطلعوا على ترخيص الواضع، بل لو كان الاستعمال
مستحسنا ومنع الواضع عنه لا يعتنى بمنعه، ويجوز الاستعمال ولو مع منعه الظاهر
هو الثاني.
نعم، لابد من ضابط لحسن الاستعمال بحسب الطبع كما أنه لابد منه بناء على
القول بأن صحة الاستعمال متوقفة على ترخيص الواضع نوعا وهو الترخيص في
استعمال اللفظ في غير ما وضع له إذا كان بينه وبين الموضوع مناسبة التي انحصر
مصاديقها بحسب ما ذكروها بما إذا كان بينهما إحدى العلائق المعتبرة المذكورة
في محلها التي ترتقي إلى خمسة وعشرين فإن الأمور التي يختلف حسنها وقبحها
بحسب طبائع الاشخاص والطوائف، فتكون حسنة عند شخص دون آخر أو عند
طائفة دون أخرى أو الأغذية التي تكون لذيذة عند شخص دون آخر أو عند
طائفة دون أخرى وهكذا سائر الأمور والأشياء التي تختلف حالها حسنا وقبحا
ولذة وبشاعة بحسب الأمذقة والسلق، يبعد القول بأنها عارية بحسب الواقع
ونفس الأمر عن تمام هذه الصفات المتقابلة.
وهذه الصفات أمور اعتبارية تختلف بحسب الأشخاص والطوائف، بل
الظاهر أن لها واقع من الحسن أو قبح أو اللذة أو البشاعة، والمعيار في أن واقعها
ما هو هو الرجوع إلى ما وافق طبع الشخص المعتدل إن كان كما في معرفة حسن
الاستعمال وقبحه وفصاحة الكلام وبلاغته وعدمهما، فانه يمكن الرجوع إلى
القرآن ويكون هو المعيار وإن لم يكن شخص معتدل، فيكون المعيار في تشخيص
44

الواقع هو الغالب، فإن كان طعام - مثلا - لذيذا عند غالب الناس وبشعا عند
شخص، ففي الواقع يتصف هذا الطعام بكونه لذيذا، وهذا الشخص الذي يكون هذا
الطعام عنده بشعا يكون طبعه منحرفا وخارجا عن الاعتدال وهكذا في سائر
الأمور التي تختلف بحسب الأمذقة والسلق المعيار في تشخيص واقعها هو
الرجوع إلى الشخص المعتدل إن كان، وإلا فالرجوع إلى الغالب، فما وافق طبع
الشخص المعتدل أو الغالب فهو الواقع، وما كان مخالفا لهما فهو خلاف الواقع،
فتأمل.
والحاصل: أنه كما على القول بأن صحة استعمال اللفظ في غير ما وضع إنما
هي بالوضع وترخيص الواضع لابد من ضابط يمتاز به ما رخص الواضع
الاستعمال فيه عما لم يرخص، وهو ما كانت بينه وبين المعنى الحقيقي مناسبة
بإحدى العلائق المعتبرة المذكورة، فكذلك على القول بعدم توقفها على ترخيص
الواضع، وليس هذا شغل الواضع، بل شغله وضع اللفظ للمعنى الحقيقي، فإذا وضع
اللفظ له فيجوز استعماله في كل ما كان استعماله فيه مستحسنا طبعا ولو منع
الواضع عن استعماله فيه، ولا يجوز استعماله فيه إذا لم يكن كذلك.
وإن رخص الواضع لا بد أيضا من ضابط وهو حسن الاستعمال، سواء كان
في مورد العلائق المعتبرة أو لم يكن، بل تفحص شخص ووجد موردا يحسن
الاستعمال فيه، وليس فيه إحدى العلائق المذكورة، ولما كانت الأشياء تختلف
حسنا وقبحا بحسب الأشخاص والطوائف من جهة اختلافهم في الأمذقة والسلق
كاختلاف المطعومات والمبصرات والمسموعات والمشمومات والملموسات
بحسب الأشخاص والطوائف، فربما يكون طعام لذيذا عند شخص وبشعا عند
آخر وهكذا غيره من المحسوسات، فإن كان هذا الشيء الذي أدرك شخص
حسنه والآخر قبحه، أو أدرك شخص لذته والآخر بشاعته وهكذا عاريا في حد
ذاته عن تلك الصفات المتقابلة كان حسنه وقبحه ولذته وبشاعته وهكذا غيرها
أمورا إضافية لا واقع لها، فلا كلام لأنه حسن عند هذا الشخص وقبيح عند ذاك،
45

ولذيذ عند هذا وبشع عند ذاك، وهكذا.
وإن كان له واقع من الحسن والقبح أو اللذة والبشاعة كما هو الظاهر، فلابد له
من معيار يميز به الحسن الواقعي عن القبيح الواقعي، وكذلك اللذيذ عن البشيع
وهكذا، وهو الرجوع إلى الشخص المعتدل إن كان وإلا فالرجوع إلى الغالب، فإن
أدرك الغالب حسنه أو لذته وهكذا فيحكم بأن هذا الشيء متصف بما وافق مذاق
الغالب، ومن كان على خلاف الغالب فهو خارج عن الاعتدال إما لعيب فيه، أو
لإخفاء بعض مناشىء الحسن أو القبح وأمثالهما عليه.
الرابع:
في صحة استعمال اللفظ وإرادة نوعه ومثله وشخصه.
اعلم أنه كما يتعلق المقاصد والأغراض بغير الألفاظ من الأمور الواقعية من
جهة الحكم عليها أو بها كذلك قد تتعلق بالألفاظ كذلك، فإن تعلق الغرض والقصد
بغير الألفاظ فيعبر عنه باللفظ في مقام الحكم عليه وبه، وأما إن تعلق الغرض
بالألفاظ بأن كان المقصود هو الحكم عليها وبها فلا شيء يعبر به عن الألفاظ فلابد
من التعبير بها في مقام الحكم عليها وبها.
والحاصل: أن الألفاظ عبرة إلى الأمور الواقعية في ما كان الحكم عليها وبها،
وأما إذا كان الحكم على نفس الألفاظ فلا عبرة غيرها.
وحينئذ الحكم إما أن يتعلق باللفظ بطبيعته السارية في جميع الأنواع
والأصناف والأفراد كما في مثل: ضرب فعل ماض فإن الحكم معلق على طبيعة
ضرب، أعني ما كان على وزن فعل سواء كان مفردا أو مركبا، وإذا كان مركبا في
أي تركيب كان، أو يتعلق الحكم به لا بطبيعته السارية في تمام الأنواع والأفراد،
بل بما أنه سار في بعض الأنواع والأصناف كما في قولك: " زيد " في: " ضرب
زيد " فاعل فإنه حكم على لفظ بأنه فاعل بما أنه سار في هذا النوع من التركيب،
وقد يتعلق الحكم به بما هو عبارة عن شخص آخر من اللفظ مثله كما في قولك:
46

" زيد - في: قولك: ضرب زيد - فاعل، وقد يتعلق الحكم به بما هو لا بما عبارة
عن جنسه ونوعه وصنفه ومثله، كما في قولك: زيد لفظ إذا كان المراد شخص
هذا اللفظ.
والحاصل: أنه قد يراد من اللفظ جنسه كما في: ضرب فعل ماض، وقد يراد
منه نوعه وصنفه كما في قولك: زيد - في: ضرب زيد - فاعل، وقد يراد به شخص
آخر غيره كما في قولك: زيد - في قولك: ضرب زيد - فاعل، وقد يراد به نفسه كما
في قولك: زيد لفظ تريد به هذا اللفظ.
فالصور أربع: لا إشكال في الصور الثلاثة، إنما الإشكال في الأخير ة على ما
حكي عن الفصول، وحاصله: أن لفظ زيد في: زيد لفظ إما أن يراد منه شخصه
فيلزم اتحاد الدال والمدلول، وإلا يلزم تركب القضيه العقلية من جزءين (1) وهو (2)
المحمول والنسبة، أقول: بل من جزء واحد وهو المحمول، لأن النسبة فرع وجود
المنتسبين.
فلابد أولا في المقام من ملاحظة أنه كما إذا كان المقصود أمرا غير اللفظ
يستعمل اللفظ فيه ويعبر به عنه كذلك إذا كان المقصود هو اللفظ فيستعمل اللفظ
فيه كما يستعمل في الأمور الواقعية، بلا فرق بين أن يراد من اللفظ جنسه أو نوعه
أو مثله أو شخصه، أو أنه إذا كان المقصود كان هو اللفظ ليس في البين استعمال،
بل هو ايجاد للموضوع في الخارج واثبات المحمول له، فإن كان الممكن من
هذين الاحتمالين أحدهما فهو متعين، وإن كان كليهما فلابد من النظر في أن ما في
الخارج من أي القبيل.
والحاصل: أنه لا إشكال في إمكان الصور الثلاثة المتقدمة، بل في وقوعها في
الخارج، وإنما الإشكال في أنها من باب الاستعمال والحكاية كما فيما إذا تعلق
القصد باستعمال اللفظ في الأمور الواقعية وحكايتها بالألفاظ ويجعل الألفاظ قالبا

(1) الفصول الغروية: ص 22 س 39.
(2) هكذا في الأصل والصحيح: وهما.
47

لها، فإن الألفاظ أيضا من الأمور الواقعية، فإنه يصلح أن يجعل اللفظ قالبا للفظ
ويعبر به عنه كما في غيره، أو أنها من باب ايجاد الموضوع في الخارج والحكم
عليه بلا استعمال وحكاية عن مفهوم ذهني وفرق بين الألفاظ وسائر الأمور
الواقعية، فإن غيرها من الأمور الواقعية لما لم يمكن ايجادها في الخارج والحكم
عليها لابد فيها من الحكاية عنها بالألفاظ والقائها بها، بخلاف الألفاظ فإنه يمكن
ايجادها في الخارج والحكم، فلا تحتاج إلى حكاية واستعمال لفظ في المعنى.
وهذا القول نسب إلى شارح الرضي.
فإن قلنا بأنها من باب الاستعمال والحكاية وباللفظ يحكى عن نوعه وصنفه
ومثله كما يحكى به عن غيرها من الأمور الواقعية، فيصير الصورة الرابعة ممتنعة
إذا لم تكن بتأويل لما ذكره في الفصول (1).
ولا يمكن دفع الإشكال بما ذكره في الكفاية من تعدد الدال والمدلول
اعتبارا (2)، وهو يكفي في عدم لزوم اتحاد الدال والمدلول، لأنه يلزم على هذا
لحاظ اللفظ بما أنه دال باللحاظ الآلي وبما أنه مدلول باللحاظ الاستقلالي،
والحال أنه لا يمكن الجمع بين اللحاظين. وأما إذا قلنا بأنها من باب ايجاد
الموضوع في الخارج والحكم عليه بلا حكاية واستعمال فتصير الصورة الرابعة
أيضا ممكنة كالصور الثلاثة المتقدمة.
فلابد من ملاحظة أنه يمكن أن تكون هذه الصور من باب ايجاد الموضوع
في الخارج والحكم عليه، أو أنه لابد من كونها من باب الاستعمال. والحق هو
الثاني، لأنه قد عرفت أن النسبة المعتبرة في القضايا أمر ايقاعي إحداثي يوجده
المتكلم بين المنتسبين، كما أن المعاني الحرفية أيضا كذلك، وهذه النسبة التي
يوجدها المتكلم بينهما إن كانت مطابقة للنسبة الواقعية التي بينهما ايجابا أو سلبا
فتكون القضية صادقة، وإن كانت غير مطابقة لها تكون القضية كاذبة (3) فايجاد

(1) الفصول: ص 22 س 39.
(2) كفاية الأصول: ص 29.
(3) في الأصل: كان كاذبة.
48

النسبة وربط المحمول بالموضوع من طرف المتكلم في القضية الصادقة والكاذبة
على حد سواء، وإنما الفرق بين القضيتين باعتبار مطابقة تلك النسبة الايقاعية
الايجادية وعدم مطابقتها للواقع.
وإذا تحقق أن النسبة أمر ايقاعي ايجادي فاعلم أن ايجاد النسبة وربط
المحمول بالموضوع لا يمكن في الأمور العينية الخارجية كما لا يمكن ورود
التقييد عليها، بل ايقاع الربط بين الشيئين وتقييد شيء بشيء مخصوصان
بالمفاهيم الذهنية، ومعلوم أن وجود عيني اللفظ إنما هو بنفس اللفظ، والمغايرة
بين الوجود العيني والوجود اللفظي إنما هي في غير الألفاظ.
وإذا اتضح أن النسبة ربط المحمول بالموضوع ولا يمكن للمتكلم احداث
الربط بين الموجودين الخارجيين سواء كانت بينهما نسبة واقعية أم لا، واتضح أن
وجود خارجي اللفظ إنما هو بالتلفظ به، ظهر أن إطلاق اللفظ وإرادة نوعه وصنفه
ومثله لابد أن يكون من الاستعمال، ولا يمكن أن يكون من باب ايجاد الموضوع
في الخارج والحكم عليه، إذ الموجود الخارجي لا يمكن ايجاد الربط بينه وبين
شيء خارجي آخر، لأنه إذا كان من هذا الباب ففيما إذا أطلق اللفظ وأريد منه
نوعه أو جنسه يلزم محذور واحد، وهو ايجاد الربط بين الموجودين الخارجيين،
وقد عرفت امتناعه.
وإذا أطلق وأريد منه صنفه أو مثله يلزم محذوران: أحدهما: المحذور الأول،
والثاني: تقييد الأمر الخارجي الذي هو هذا اللفظ بالقيود المصنفة أو المشخصة،
وقد عرفت امتناعه أيضا.
مع أنه لو سلمنا أن إحداث الربط بين الأمور العينية ممكن ويمكن ايجاد
الموضوع في الخارج والحكم عليه، فهو إنما ينفع فيما إذا أطلق اللفظ وأريد منه
جنسه أو نوعه، إذ ذلك اللفظ الموجود الخارجي بعد إلغاء الخصوصيات الشخصية
هو عين الجنس أو النوع، وهذا الفرد مصداق لهما فيوجد النوع مثلا أو الجنس
49

بايجاد الفرد كما يقال: ضرب على وزن فعل، فإن بالتلفظ بهذا اللفظ الشخصي
أوجد طبيعة ضرب وحكم عليها بأنها على وزن فعل، وأما إذا أريد منه صنفه أو
مثله فلا، فإن اللفظ الخارجي الذي تلفظ به لا يكون مصداقا لصنفه أو مثله، مثلا
إذا قال: زيد في " ضرب زيد " فإن المحكوم عليه الذي أوجده المتكلم هو زيد
الأول وهو ليس مصداقا لزيد في " ضرب زيد " سواء أريد لضرب زيد الصنف أو
الشخص، أي لا يكون زيد في قول القائل: زيد في " ضرب زيد " مصداقا لصنفه
كما إذا كان المراد بضرب زيد مطلق هذا الكلام الصادر من كل أحد ولا مصداقا
لمثله كما إذا كان المراد بضرب زيد خصوص ما إذا كان صادرا عن شخص خاص
في وقت خاص، هذا بالنسبة إلى الصور الثلاثة المتقدمة.
وأما الصورة الرابعة: فقد ظهر امتناعها، لأنه قد عرفت أن امكانها كان متوقفا
على القول بامكان ايجاد الموضوع في الخارج والحكم عليه، وقد عرفت امتناعه.
وأما على القول بالاستعمال فلا يمكن، لما ذكره في الفصول من الاشكال. ولا
يمكن دفعه بما ذكره في الكفاية من كفاية المغايرة الاعتبارية بين الدال
والمدلول (1)، لما ذكرناه سابقا، مع أن هذه المغايرة الاعتبارية إنما تحصل بعد
الاستعمال وهي غير كافية، فتأمل في المقام.
فتحصل: أن اطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه إن كان من
باب ايجاد الموضوع في الخارج وحمل المحمول عليه فالصور الأربع كلها
ممكنة، ولكن قد عرفت عدم إمكان إحداث الربط بين الموجودين الخارجيين،
وإن كان من باب الحكاية والاستعمال فلا يمكن الصورة الرابعة، وأما باقي الصور
فلا إشكال في إمكانها إنما الكلام في كونها حقيقة أو مجاز، ونقل عن السكاكي
القول بكونها حقيقة من باب الوضع النوعي (2) وترخيص الواضع استعمال الألفاظ

(1) كفاية الأصول: في أحكام الوضع، ص 29.
(2) مفتاح العلوم: في علم البيان ص 157 س 6.
50

في نوعها وصنفها ومثلها. ولكن الحق أنها مجاز، لأن لفظ ضرب مثلا وضع لنفس
الحدث المقترن بالزمان الماضي، واستعماله في المذكورات مجاز من باب علاقة
الدالية والمدلولية، فإن لفظ ضرب لما كان دالا على الحدث فاستعمل ما وضع
للحدث في الدال على الحدث وهو النوع أو الصنف أو المثل، هذا في الألفاظ
الموضوعة. وأما المهملات فيمكن أن تكون العلاقة في استعمالها في المذكورات
أمرا آخر، فتأمل.
الخامس:
في أن الألفاظ هل هي موضوعة لذوات المعاني الكلية أو الجزئية مع قطع
النظر عن تعلق الإرادة بها، أو أنها موضوعة لها بما أنها مرادة؟ وبعبارة أخرى: هل
الإرادة معتبرة في الموضوع له شرطا أو شطرا، أم لا؟
والكلام هنا في جهات:
الأولى: في أن المقصود من دخل الإرادة في الموضوع له هل هو دخل مفهوم
الإرادة أو المصاديق؟ أعني الإرادات الجزئية وهي إرادة اللافظين الظاهر من
استدلال القائلين بكونها موضوعة للمعاني بما أنها مرادة حيث يتمسكون بتبادر
المعاني بما أنها مرادة إلى الذهن هو دخل خصوص إرادة اللافظين لا مفهوم
الإرادة، فإن قولهم المتبادر إلى الذهن من اللفظ المسموع من شخص هو أنه أراد
معناه، فمقتضى هذا الاستدلال هو دخل إرادات اللافظين لا مفهوم الإرادة في
الموضوع له لا الوضع. إذ كما يمكن دخل شيء في الموضوع له يمكن دخله في
الوضع كما أشار إليه المحقق القمي في مقام اعتبار الوحدة بأن اللفظ موضوع
للمعنى في حال الوحدة (1). والرخصة ثبتت من الواضع في تلك الحالة لا في
غيرها، لا أنه موضوع للمعنى بشرط الوحدة. فالوضع كالحكم، فإنه كما يمكن أن
يكون شيء قيدا لمتعلقه يمكن أن يكون قيدا لنفسه أيضا، وعلى هذا يلزم كون

(1) قوانين الأصول: ج 1 ص 64 س 1.
51

الموضوع له في تمام الألفاظ خاصا، بل الوضع أيضا، لأن الواضع تصور كل واحد
من الألفاظ الصادرة عن اللافظين بعنوان عام ووضعها للمعنى المراد لهم شرطا أو
شطرا. وفيه ما لا يخفى.
الجهة الثانية: في إمكان أخذ الإرادة بهذا المعنى، أي الإرادات الخاصة في
الموضوع له، والظاهر أنه لا يمكن، لأن المراد بأخذ إرادة اللافظ في الموضوع له
هي إرادة المعنى في اللفظ لا إرادة خارجية. ومعلوم أن إرادة المعنى في اللفظ
متأخرة عن الاستعمال المتأخر عن الوضع فلا يمكن أن يكون دخيلا في
الموضوع له.
الجهة الثالثة: في وقوع أخذ الإرادة بالمعنى المذكور في الموضوع له، ولا
موقع للنزاع في الوقوع وعدم الوقوع بعد ما عرفت من عدم إمكانه، فظهر أن الحق
هو أن الألفاظ موضوعة لذوات المعاني والمفاهيم بلا دخل لإرادة اللافظين
لا شرطا ولا شطرا. وما ذكر من التبادر وأنه يتبادر من اللفظ المسموع من اللافظ
المعنى المراد أي المعنى مع كونه مرادا له فهو ليس من جهة الوضع بأن كان اللفظ
موضوعا للمعنى المراد، بل من جهة أخرى وهو أن الغرض من الوضع لما كان هو
افهام المعنى، فإذا استعمل اللافظ لفظا واضعا كان اللافظ أو غيره على طبق قانون
الوضع، كما هو معنى الاستعمال، أي إعمال الوضع ومطاوعته حال كونه غير فاسخ
عن ذلك الغرض يتبادر منه كون المعنى مرادا له، ولكن تبادر كونه مرادا له ليس
مستندا إلى الوضع والظهور الوضعي، ليدل على أن اللفظ موضوع للمعنى المراد،
بل مستند إلى أصول عقلائية مثل أصالة عدم الخطأ، والغفلة والهزل وغيرها.
ولذا لا يتبادر كون المعنى مرادا في بعض الموارد التي لا تجري تلك الأصول
مثل ما إذا صدر اللفظ عن بعض الأشخاص مثل الهازل والسرسام (1) وغيرهما،
ولو كان مستندا إلى الوضع اللفظي لما كان بين الموارد فرق.

(1) الكلمة فارسية ويقصد بها المريض الذي يصاب بورم في الرأس أو الدماغ مما يجعله في
حالة اضطراب تشبه الجنون.
52

ولا يخفى أن هذا إنما هو على القول بكون الوضع عبارة عن الاختصاص
الحاصل عن الانشاء القولي تارة وعن كثرة الاستعمال أخرى. وأما بناء على
القول بأنه عبارة عن العلقة الحاصلة من تعهد الواضع والتزامه بأن لا يستعمل
اللفظ إلا مريدا به المعنى، فلا محيص عن الالتزام بأخذ الإرادة في الموضوع له،
إذ الالتزام لا يتعلق إلا بفعل اختياري وهو ليس إلا الإرادة.
فعلى هذا القول، الواضع التزم بأنه لا يتلفظ بهذا اللفظ إلا مريدا معناه. وما
نقل عن العلمين (1) من تبعية الدلالة للإرادة ليس في هذا المقام، لأن الدلالة التي
هي عبارة عن كون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى أو فهم المعنى من اللفظ لا يتوقف
على الإرادة، فإن لفظ زيد - مثلا - يكون بحيث يفهم منه معناه إذا استعمل، سواء
أريد معناه أم لا، وهكذا فهم المخاطب المعنى من اللفظ لا يتوقف على الإرادة،
فإن الدلالة التصورية لكل واحد من المعنيين يحصل بلا توقف على الإرادة، نعم
الدلالة التصديقية أي الحكم بأن هذا المعنى مراد اللافظ متوقفة على الإرادة، بل
بالفعل في مقام حل إشكال انتقاض حدود الدلالات الثلاث بعضها ببعض.
وحاصل الإشكال: أنه عرفت الدلالة المطابقية - مثلا - بدلالة اللفظ على تمام
ما وضع له، ودلالة التضمن بدلالة اللفظ على جزء ما وضع له، ودلالة الالتزام
بدلالته على الخارج اللازم، فإذا كان اللفظ مشتركا بين الكل والجزء - مثلا -
واستعمل وأريد منه الجزء فلا شك في أن دلالته عليه دلالة بالمطابقة مع أنه يصدق
عليها تعريف دلالة التضمن، لأنها عبارة عن دلالة اللفظ على جزء ما وضع له،
وهذا اللفظ في هذا الاستعمال دال على جزء ما وضع له ولو بحسب وضع آخر
وهكذا بالنسبة إلى الدلالة الالتزامية فيما كان اللفظ مشتركا بين الملزوم واللازم.
وأجاب بعض عن هذا الاشكال باعتبار قيد الحيثية فإن دلالة اللفظ على تمام

(1) الشفاء: قسم المنطق المقالة الأولى من الفن الأول، ج 1 ص 42، والإشارات والتنبيهات
وبحاشيته الشرح لنصير الدين الطوسي: ج 1 ص 32.
53

ما وضع له من حيث إنه تمام [ما] (1) وضع له مطابقة ودلالته على جزء ما وضع
له من حيث إنه جزء ما وضع له تضمن وهكذا الالتزام فلا تنتقض الحدود
المذكورة (2).
وأجاب العلمان عن هذا الإشكال بتبعية الدلالة للإرادة (3)، وحاصل الجواب:
أنه إذا أطلق اللفظ وأريد منه الجزء فيدل عليه بالمطابقة، ومع إرادة الجزء لا يمكن
إرادة الكل حتى يصدق على هذه الدلالة أنها دلالة اللفظ على جزء ما وضع له.
وينتقض حد الدلالة المطابقية بالتضمن، وهكذا بالنسبة إلى الالتزام، فتدبر.
السادس:
في أنه هل للمركبات وضع على حدة غير وضع مفرداتها أم لا؟ ولابد أولا
من تحرير محل النزاع بين المثبتين والنافين ليظهر أن الحق مع المثبتين أو النافين،
فنقول: يحتمل أن يكون النزاع في أن بعد وضع مواد الألفاظ شخصا أو نوعا، وبعد
وضع الهيئات نوعا، هل يحتاج إلى وضع آخر للمركب ليدل على المعنى التركيبي
أم لا يحتاج، بل بعد وضع المفردات يحصل المعاني التركيبية بضم المفردات
بعضها إلى بعض بلا حاجة إلى دال آخر ووضع غير وضع المفردات؟ ويحتمل أن
يكون النزاع في أنه بعد وضع المفردات مادة وهيئة ووضع للمعنى التركيبي، هل
يكون للمجموع المركب وضع آخر أم لا؟
وبعبارة أخرى يمكن أن يكون النزاع في أن مثل: زيد قائم هل يكفي في
إفادة المعنى التركيبي وارتباط القيام بزيد وضع كل واحد من زيد والقيام لمعناهما
أم لابد من دال على النسبة الايقاعية، فكما أن لكل من المنتسبين دال وضعي وهو
لفظ: زيد وقائم فلابد أن يكون للنسبة - أيضا - دالا وضعيا مثل ضمير الفصل أو
الأعاريب وغيرهما، إذ لا يحصل ذلك الارتباط بينهما بالطبع أو العقل، فلابد أن

(1) أضفناها لمقتضى السياق.
(2) الفصول الغروية: ص 19 س 7.
(3) الشفاء: قسم المنطق المقالة الأولى من الفن الأول ج 1 ص 42، والإشارات والتنبيهات
وبحاشيته الشرح لنصير الدين الطوسي: ج 1 ص 32.
54

ينتهي إلى الوضع، ولو لم يكن دال وضعي بالنسبة إليها لكان قولنا: " زيد قائم " من
قبيل الأسماء المعدودة التي لا ارتباط بينها.
ويمكن أن يكون النزاع في أنه بعد وضع المفردات ووضع ما يدل على
الارتباط والنسبة الايقاعية لابد من وضع آخر للمجموع لمعان أخر مثل: أن
الجملة الخبرية موضوعة للاعلام والإخبار بحيث يكون استعمالها في غيره
مجازا، وكذلك في الجمل الإنشائية مثل: الجملة الطلبية، فإنه بعد وضع مفرداتها
لمعانيها يكون للمجموع وضع لمعان أخر مثل: البعث بحيث لو استعمل في التهديد
وغيره من المعاني المذكورة الأخر كان مجازا، فإن كان النزاع في الأول فالحق
مع المثبتين، لما قد عرفت أن وضع المفردات لا يفي بإفادة النسبة الايقاعية التي
لابد منها في تحقق الكلام والجملة، وليست هي أمرا يحصل بالطبع أو العقل، بل
لابد لها من دال وضعي، وهو إما ضمير الفصل أو الأعاريب أو غيرهما، مثلا وضع
زيد للذات المعينة ووضع ضرب - مادة وهيئة للحدث المقترن بأحد الأزمنة وهو
الزمان الماضي لا يكفي في الربط بينهما في جملة ضرب زيد أو زيد ضرب، فلابد
للربط بينهما من دال وضعي.
وإن كان النزاع في الثاني فالحق مع النافين، لأن بعد وضع المفردات للمعاني
المفردة ووضع ما يدل على النسبة الايقاعية يتألف الكلام المشتمل على النسبة
الايقاعية، فلا حاجة إلى وضع آخر للمجموع من المفردات. وما يدل على النسبة
الايقاعية لمعنى آخر مثل الإعلام في الجمل الإخبارية بحيث يكون استعمالها في
غيره - مثل ما إذا كان المقصود من الخبر لازم فائدته كما في: حفظت التوراة، أو
كان المقصود منه التحسر أو التفجع وأمثالها - مجازا كما هو لازم قول من قال: إن
استعمال الجملة الخبرية في الطلب أو غيره من المذكورات سوى الإعلام
والإخبار مجاز (1).
فان القول بالمجازية فيها لا يصح إلا على القول بأن للجملة الخبرية

(1) مفاتيح الأصول: ص 117 س 7.
55

لمجموعها وضع للإعلام ومثل البعث في الجملة الإنشائية، بحيث يكون استعمالها
في غيره مثل التهديد وأمثاله من المعاني المذكورة لها مجازا، بل هذه المعاني
المذكورة في الإخبار والإنشاء كلها أغراض للوضع.
والحاصل: أن النزاع إن كان في الثاني فبحسب التصور، وإن كان ممكنا، بل
قد قال بعض (1) بأن للمركبات وضع على حدة غير وضع مفرداتها بالمعنى
المذكور، إلا أن الواقع خلافه، لأن هذه المعاني أغراض للوضع، فإن الواضع إذا
وضع المفردات ووضع الدال على النسبة الايقاعية الإخبارية أو الإنشائية فتتم
الجملة الخبرية والانشائية ولا حاجة إلى وضع آخر للمجموع بإزاء المعاني
المذكورة، لكونها أغراضا للوضع. فلو استعملت الجملة الخبرية في مقام الإخبار
تصير مصداقا للإعلام، ولو استعملت في مقام التحسر أو التفجع تصير مصداقا
لهما، فالجملة الخبرية في الجميع ما استعملت إلا في معنى واحد وهو ايقاع النسبة
بين الطرفين، إلا أنه إن كان الغرض منها الحكاية كانت مصداقا للإعلام والإخبار
والإفهام، وإن كان الغرض منها التحسر والتفجع كانت مصداقا لهما.
وهكذا الكلام في الجملة الانشائية فإنها ما استعملت إلا في البعث إلى
المتعلق فإن كان الغرض من البعث حصول المبعوث إليه في الخارج فتصير
مصداقا للطلب، وإن كان الغرض تحذير المخاطب عما يترتب على المبعوث إليه
من المضار يصير مصداقا للتهديد، كما أنه إذا كان الغرض من البعث عدم الحرج
في الفعل تصير مصداقا للإباحة فصيغة افعل ما استعملت في تمام هذه الموارد إلا
في البعث، إلا أن الغرض من البعث في كل مقام شيء غير ما كان غرضا في مقام
آخر، كما أن الجملة الخبرية ما استعملت إلا في معنى واحد، إلا أن الغرض يختلف
بحسب المقامات.
ولا يخفى أنه بناء على القول بوضع مجموع الجملة الخبرية للإخبار - وكونها

(1) نقله صاحب الفصول: ص 21 س 39.
56

حقيقة فيه ومجازا في غيره - وكذا الجملة الإنشائية بالنسبة إلى الطلب لا إشكال،
لأنه إذا استعملت الجملة الخبرية فإن كانت قرينة تدل على أنها استعملت في غير
الإخبار من التحسر والتفجع وغيرهما فتحمل عليه، وإلا فتحمل على معناها
الحقيقي وهو الإخبار بمقتضى الوضع لها، وكذلك إذا كانت قرينة تدل على أن
الجملة الإنشائية استعملت في التهديد أو الإباحة أو غيرهما من المعاني فتحمل
عليه، وإلا فتحمل على الطلب بمقتضى الوضع.
وأما بناء على عدم القول بوضع مجموع الجملة لشيء من المعاني المذكورة،
بل هذه المعاني أغراض للوضع فيشكل تعيين شيء منها لكون تمامها في غرض
واحد، فإذا استعملت الجملة الخبرية ولم يعلم أن الغرض منها الإعلام أو التحسر
أو استعملت الجملة الإنشائية ولم يعلم أن الغرض منها الطلب أو التهديد - مثلا -
فلا يمكن تعيين شيء منها بدال قانوني ينتهي إلى الوضع.
نعم لو كان بعض المعاني أخف مؤنة من غيره بحيث كان عدم بيان غيره كافيا
في بيانه لأمكن تعيينه بمقدمات الحكمة نظير المطلق والمقيد بناء على المختار من
مذهب السلطان من أن الوضع بالنسبة إليهما على حد سواء (1)، لأن اللفظ موضوع
للطبيعة اللا بشرط، واستعماله في كل واحد منهما حقيقة، ومع ذلك إذا استعمل ولم
يعلم أنه أريد منه المطلق أو المقيد حمل على المطلق، لأنه أخف مؤنة ويكفي في
بيانه عدم بيان غيره كذلك في المقام إذا كان واحد من المعاني المذكورة في الجمل
الإخبارية أو الإنشائية أخف مؤنة من غيره تحمل عليه، ولذا تحمل صيغة الأمر
على الوجوب التعييني النفسي العيني لاحتياج الحمل على كل واحد من الوجوب
التخييري الغيري الكفائي إلى مؤنة زائدة ولو لم يكن بعض تلك المعاني أخف
مؤنة من غيره لوجب التوقف وعدم الحمل على شيء منها، فتأمل.
السابع:
في الأمارات والعلائم والأصول الجارية في الوضع وباب الألفاظ التي قد

(1) حاشية السلطان (شرح معالم الدين) ص 306.
57

تجري في مقام تشخيص المراد وقد تجري في مقام تشخيص الوضع: وهذه
الأمور بعضها معتبر وبعضها غير معتبر. والنزاع في بعضها صغروي مثل التبادر،
فإنه لا إشكال في كونه علامة الحقيقة إذا كان مستندا إلى حاق اللفظ مع قطع النظر
عن القرائن الحالية والمقالية المكتنفة باللفظ، وكذلك عدم صحة السلب. وفي
بعضها كبروي مثل تنصيص أهل اللغة، فإنه بعد إحراز الصغرى يقع النزاع في أن
بهذا التنصيص يثبت الوضع أم لا؟ فإن حصل من التنصيص علم بالوضع أو وثوق
واطمئنان فهو، وإلا فيشكل الاعتماد على قول الواحد من باب كونه رجوعا إلى
أهل الخبرة، واعتبار قول كل ذي صنعة بالنسبة إلى ما يتعلق بصنعته وكل ذي
خبرة بالنسبة إلى ما يتعلق بخبرويته.
كما قيل: إن رجوع المقلد إلى المقلد من هذا الباب (1)، لأنه لا دليل على
اعتباره ما لم يتحقق فيه شرائط الشهادة من التعدد والعدالة، ولذا اعتبروا في
المقوم وأمثاله كليهما، هذا فيما لو ثبت التنصيص على الوضع. وأما الكتب اللغوية
فليست معدة إلا لبيان موارد الاستعمال، وأما أن أي واحد من المعاني معنى
حقيقي وأيها معنى مجازي فلا يظهر منها. وإن قيل (2) بأن المعنى المذكور أولا
معنى حقيقي وغيره معنى مجازي لكنه غير معلوم. نعم يمكن أن يكون المعنى
المذكور أولا به شدة اهتمام من جهة كونه أشهر، أو لوقوعه في الكتاب والسنة
بالنسبة إلى الكتب اللغوية المعدة لبيان الألفاظ الواقعة فيها.
فتحصل: أن من جملة علائم الوضع: التنصيص بأن قال بعض أهل اللغة بأن
هذا اللفظ موضوع لذلك المعنى، وقد عرفت الاشكال في ثبوت الوضع به فيما لم
يجتمع فيه شروط الشهادة، إلا إذا حصل الوثوق والاطمئنان. وأما الكتب اللغوية
فلا يثبت بها إلا موارد الاستعمال، وأما أن أيها موضوع له وأيها غير موضوع له فلا
يثبت بها.

(1) تقريرات الميرزا الشيرازي: القول في الصحيح والأعم ج 1 ص 399.
(2) زيدة الأصول: ص 23.
58

ومن جملتها: التبادر فقد قيل بأن التبادر علامة الحقيقة، وعدم التبادر علامة
المجاز (1)، ولكنه أشكل بالمشترك فإن الوضع موجود بالنسبة إلى المعاني
المتعددة، ولا تبادر بالنسبة إليها. فلذا قال بعضهم بأن عدم تبادر الغير علامة
الحقيقة (2) حتى لا يرد هذا الإشكال، وإن أمكن دفعه بأن التبادر بالنسبة إليها
موجود في قبال غيرها، وإن لم يتعين ما هو المتبادر، بل مردد بينها، بل جميعها
يتبادر إلى الذهن. وقد أورد عليه باستلزامه الدور، من جهة أن يعلم بكون اللفظ
موضوعا لذلك المعنى موقوف على التبادر، وهو موقوف على العلم بالوضع فيلزم
الدور.
ولكن يمكن دفعه باختلاف الموقوف والموقوف عليه. أما بناء على ما هو
المنساق من كلام المحقق من أن التبادر عند العالمين بالوضع علامة عند الجاهل
به (3) فواضح، لأن العلم الحاصل للجاهل بالوضع موقوف على التبادر، وهو لا
يتوقف على علمه بالوضع، بل على علم العالمين به، فيختلف الطرفان: وأما بناء
على توقف التبادر على علم الجاهل المستعلم فلاختلاف العلم المتوقف عليه
التبادر، مع العلم الحاصل من التبادر المتوقف عليه بالإجمال والتفصيل، كما
أجيب به عن الإشكال الذي أورده بعض العرفاء على الشكل الأول، فتدبر.
ثم إن التبادر قد يكون من جهة العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى، وقد يكون
من جهة القرائن الخارجية المكتنفة به من حال أو مقال، فهل هناك أصل يحرز به
أنه من حاق اللفظ أو من القرائن الخارجية، أم لا؟ وبعبارة أخرى هل يمكن
إحراز الوضع بأصالة عدم القرينة في مورد يتبادر المعنى إلى الذهن ويشك في أنه
مستند إلى الوضع أو إلى القرينة، أم لا؟ الظاهر أنه لا يمكن، لأن القدر المسلم من

(1) قاله صاحب الفصول ص 32 س 36 وفيه: تبادر الغير علامة المجاز.
(2) قاله صاحب قوانين الأصول: في تعريف الحقيقة والمجاز ص 17 س 24، وفيه (كون تبادر
الغير علامة للمجاز).
(3) تقريرات المجدد الشيرازي: ج 1 ص 76، نقله عن العميدي (قدس سره).
59

اعتبار أصالة عدم القرينة في مورد الشك في المراد مع العلم بالوضع إن قلنا بأن
أصالة الحقيقة ليست أصلا وجوديا، بل مرجعها إلى أصالة عدم القرينة كما نسب
إلى الشيخ (قدس سره)، وإلا ففي هذا المورد أيضا لا يتمسك بأصالة عدم القرينة التي هي
من الأصول العدمية، بل بأصالة الحقيقة التي هي من الأصول الوجودية التي بناء
العقلاء على الأخذ بها كسائر الأمور الارتكازية التي أودعها الله تعالى فيهم وإن
لم يكن منشؤه معلوما لنا.
والحاصل: أنه بعد أن دلالة الألفاظ على المعاني ليست ذاتية كما قيل، لأن
نسبة اللفظ إلى جميع المعاني على حد سواء، بل لا يعقل أن يكون الدلالة من هذه
الجهة بالنسبة إلى الألفاظ المشتركة بين الضدين، ولذا وجهوا كلام هذا القائل بأن
مراده أن الدلالة من جهة المناسبة الذاتية التي بين اللفظ والمعنى، فالواضع وضع
للمعنى الذي له شدة اللفظ الذي له شدة أيضا كالقصم للكسر الذي له صوت،
وللمعنى الذي ليس له شدة اللفظ الذي هو كذلك كالقضم للكسر الذي ليس له
صوت، فلابد من الانتهاء إلى الوضع، وإذا يتبادر المعنى إلى الذهن من حاق اللفظ
مع قطع النظر عن الأمور الخارجية الحالية أو المقالية فلابد أن يكون من جهة
العلقة الوضعية، وإلا فلم لا يتبادر غيره مع تساوي نسبته إليهما؟
ومن جملتها: صحة السلب وعدمها، وبعبارة أخرى صحة النفي وعدمها،
ومرجع صحة السلب أو النفي إلى عدم صحة الحمل، ومرجع عدم صحة السلب أو
النفي إلى صحة الحمل، فالأول علامة المجاز والثاني علامة الحقيقة.
ثم إن الشك قد يكون في المصداق مع تبين المفهوم بحدوده، كما إذا شك في
مائع مخصوص أنه ماء أو جلاب (1) مثلا، وقد يكون في الصدق وهو يرجع إلى
الشك في سعة المفهوم وضيقه كما إذا شك في صدق الماء على ما امتزج بالتراب
مثلا بحيث يشك في صدق الماء عليه، وقد يكون الشك في المفهوم كما إذا شك
في أن اللفظ موضوع لهذا المعنى أم لا؟

(1) ويقصد به ماء الورد.
60

وإذا ظهر ذلك فاعلم أنه يظهر من بعض أن بصحة السلب وعدمها يمتاز
المعنى الحقيقي عن المعنى المجازي فيما كان الشك في المصداق، ومن بعض آخر
التعميم إلى غيره وهو الحق، إذ كما أن بصحة السلب يمكن تشخيص أن المستعمل
فيه ليس من أفراد المعنى الحقيقي وبعدمها تشخيص أنه منها فيما إذا كان الشك
في المصداق. كذلك يمكن تشخيص الحقيقة والمجاز بهما فيما إذا كان الشك في
الصدق أو المفهوم أيضا.
وقد أورد أيضا باستلزامهما الدور، وقد اختلف في أن الدور مصرح أو مضمر،
وعلى تقدير كونه مضمرا هل هو بواسطة واحدة أو بواسطتين؟ وهل يلزم الدور
مطلقا، أو بناء على جريانهما في غير الشك في المصداق، وعلى تقدير الاختصاص
به لا يلزم؟ الظاهر أن لزوم الدور إنما هو فيما إذا أريد إعمالهما في مورد الشك في
الصدق أو المفهوم لا الشك في المصداق وإن قيل برفعه أيضا، وأن الدور مصرح لا
مضمر. وبقرينة أن يقال: إن العلم بالمجازية موقوف على العلم بصحة سلب جميع
المعاني الحقيقية، والعلم بصحة سلب جميع المعاني الحقيقية موقوف على معرفتها،
وأن المورد ليس منها، وهو موقوف على العلم بمجازيته، وكذلك في طرف الحقيقة
فإن العلم بكونه معنى حقيقيا موقوف على عدم صحة سلب بعض المعاني
الحقيقية، وهو موقوف على العلم بكونه معنى حقيقيا، فيلزم الدور.
والجواب: هو ما ذكرنا في التبادر من اختلاف طرفي الدور إما من جهة
الإضافة إلى المستعلم والعالمين بالوضع، أو من جهة الإجمال والتفصيل.
ثم إن تقييد صحة سلب المعاني الحقيقية بقولهم: حقيقية أو من غير تأويل
لا يحتاج إليه، لأن الظاهر من صحة السلب صحة السلب حقيقة، نعم لا بأس به
للتوضيح.
ومن جملتها: الاطراد وعدم الاطراد، فالأول علامة الحقيقة، والثاني علامة
61

المجاز كما قيل (1) أو أن عدم الاطراد علامة المجاز، ولكن الاطراد ليس علامة
الحقيقة، لأنه يمكن أن يكون من جهة المناسبة والعلاقة لا العلقة الوضعية (2). أو أن
عدم الاطراد ليس علامة المجاز أيضا كما قيل (3): والكلمات في بيان الاطراد
وعدمه مضطربة.
والحق هو أن يقال: إن الاطراد عبارة عن صحة استعمال اللفظ والتعبير به عن
المعنى في كل مورد تعلق الغرض بإفادة ذلك المعنى، وعدم الاطراد عبارة عن
صحة استعماله فيه، والتعبير به عنه في بعض الموارد دون بعض، مثلا يصح التعبير
عن الحيوان المفترس بلفظ في كل مقام تعلق الغرض بإفادته مثل: رأيت أسدا،
جاءني أسد، قلت أسدا، ضربت أسدا، وهكذا. ولا يصح التعبير عن الرجل
الشجاع إلا في بعض المقامات، وهو ما إذا كان في مقام المبالغة، وكذلك استعمال
الإنسان في البليد واستعمال الحمار فيه، فإن الأول يصح في جميع المقامات دون
الثاني، وعلى هذا يصح جعل الأول علامة الحقيقية والثاني علامة المجاز.
الثامن: في تعارض الأحوال
فنقول: أما الأصول الجارية في باب الألفاظ فهي أصالة عدم التجوز والنقل
والاشتراك والإضمار والتخصيص. وربما زاد بعضهم أصالة عدم التقييد والنسخ،
ويعبرون عن معارضة هذه الأصول بعضها مع بعض بتعارض الأحوال. وربما
يذكر لترجيح بعضها على بعض وجوه.
لا إشكال في أن بناء العقلاء على أصالة عدم التجوز فيما إذا كان الشك في
المراد بأن علم المعنى الحقيقي والمعنى المجازي وشك في أن المراد هل هو أو
ذاك؟ إما من جهة أن أصالة الحقيقة أصل وجودي معتبر عند العقلاء، ويحملون

(1) قاله صاحب القوانين: في الحقيقة والمجاز ص 22 س 19.
(2) نقله صاحب مفاتيح الأصول: في الحقيقة والمجاز ص 75 س 18.
(3) نقله الميرزا حبيب الله ملكي في تلخيص الأصول: ص 17.
62

اللفظ على المعنى الحقيقي عند دوران الأمر بين إرادته وإرادة المعنى، لأن
الغرض من الوضع هو الحمل عليه عند التجرد، وإما من جهة أن الحمل على
المعنى المجازي يحتاج إلى القرينة والأصل عدمها، فعلى هذا يكون مرجع أصالة
الحقيقة إلى الأصول العدمية، وعلى أي حال لا إشكال في اعتبارها عند الشك
في المراد.
وإنما الكلام في اعتبارها فيما إذا كان الشك في الوضع، وفي هذا المقام قد لا
يكون استعمال في البين كما إذا شككنا في أن هذا اللفظ لو استعمل في ذلك المعنى
يكون حقيقة أم لا؟ فالظاهر أنه لا يمكن إثبات الوضع هنا بأصالة عدم التجوز، إذ
كما أن الأصل عدم التجوز كذلك الأصل عدم الوضع، فلا يمكن إحراز الوضع
بأصالة عدم التجوز، وقد يكون استعمال في البين فإن كان الاستعمال في معنى
واحد ولا نعلم أنه حقيقة فيه أو أنه موضوع لغيره واستعمل فيه مجازا فمع العلم
بوحدة الاستعمال لابد من الالتزام بكونه حقيقة في المستعمل فيه، حذرا من لزوم
المجاز بلا حقيقة أو بلا وضع فيما إذا شك في وضعه لمعنى آخر، بحيث يكون
استعماله في ذلك المعنى مجازا.
والحاصل: أنه إذا علم بوحدة المستعمل فيه بأن علم باستعمال اللفظ في معنى
واحد وعلم بأنه ما استعمل في غيره أو شك في استعماله في غيره لابد من الالتزام
بكونه حقيقة فيه، حذرا من لزوم المجاز بلا حقيقة أو بلا وضع، فتأمل.
وأما مع تعدد الاستعمال فهل هو علامة الحقيقة كما هو مختار السيد (1) حيث
جعل استعمال اللفظ في الشيئين أو الأشياء كاستعماله في الواحد، فكما أنه إذا
استعمل في معنى واحد يكون حقيقة حذرا من المحذور المذكور فكذلك إذا
استعمل في معنيين يكون حقيقة فيهما، أو هو أعم من الحقيقة والمجاز كما هو
المشهور، إذ استعماله في المعنى المشكوك كونه حقيقة أو مجازا كما يمكن أن
يكون مجازا من المعنى المعلوم كونه حقيقة من جهة العلاقة والمناسبة كذلك

(1) الذريعة إلى أصول الشريعة: في الحقيقة والمجاز ص 17.
63

يمكن أن يكون حقيقة من جهة وضع على حدة له، فلابد من تشخيص الحقيقة عن
المجاز بإعمال علائمها؟
ولكن الظاهر أن فيما علم أن اللفظ موضوع لمعنى معين معلوم واستعمل في
غيره أيضا، ولم يعلم أنه موضوع له أيضا أم لا يمكن الالتزام بأصالة التجوز
لا عكسها، بناء على أن وضع اللفظ لمعنى مستلزم لوضع تبعي بالنسبة إلى
مناسباته وتوابعه التي يكون بينه وبينها إحدى العلائق المعتبرة، فإن الأصل وبناء
العقلاء في هذا المقام على التجوز، لأنه كما أن الوضع مصحح للاستعمال كذلك
الوضع التبعي مصحح له، وهو معلوم، والوضع الأصلي مشكوك والأصل عدمه،
مثلا: إذا كان بيد شخص آلة صالحة للذبح وكان عنده مذبوح، وشككنا في أنه
ذبحه بتلك الآلة التي كانت بيده أو بآلة أخرى، لا إشكال في البناء على أنه ذبحه
بتلك الآلة، ولو شك في أن الذبح هل كان بآلة أخرى أم لا؟ بني على عدمه وعدم
وقوع الذبح به.
فتبين مما ذكرنا لا اعتبار بأصالة عدم التجوز إلا إذا كان الشك في المراد مع
العلم بالمعنى الحقيقي والمعنى المجازي، أو في صورة العلم بوحدة المستعمل فيه.
وأما في صورة التعدد فلا، بل الأصل فيها التجوز بالبيان المذكور، مضافا إلى
ما ذكر من ترجيح المجاز على الاشتراك من الوجوه المذكورة في الكتب
المبسوطة، كما نقل عن ابن جني (1) قبالا للسيد بأن الأصل التجوز.
وأما أصالة عدم الاشتراك: فقد ظهر من ذلك أنه لا إشكال فيها حيث إن
الاشتراك يحتاج إلى تعدد الوضع، والأصل عدمه.
وأما أصالة عدم النقل: فكذلك أيضا حيث إنه يحتاج إلى كونه موضوعا لمعنى
آخر أولا، ثم استعماله في هذا المعنى وهجر المعنى الأول، وهما خلاف الأصل.
وأما أصالة عدم الإضمار: فلا شك في أن التقدير خلاف الأصل، وأصالة عدم
الإضمار إنما تعتبر في مقام لم تتوقف صحة الكلام عقلا أو شرعا عليه، وإلا كان

(1) نقله صاحب مفاتيح الأصول في تعارض المجاز والاشتراك: ص 94، س 15.
64

المضمر مدلولا عليه بدلالة الاقتضاء، ولا تجري أصالة عدمه، وفيما كان المعنى
المراد يختلف بالإضمار وعدمه، وإلا فالإضمار وعدمه سيان، ولا حاجة إلى
الإضمار، ولا موقع لأصالة عدمه، إذ لا يترتب عليها أثر.
وأما أصالة عدم التخصيص: فمرجعها إلى أصالة عدم التجوز إن قلنا بأن
التخصيص عبارة عن استعمال اللفظ الموضوع للعام في الخاص، بخلاف ما إذا
قلنا بأن العام ما استعمل إلا في معناه الحقيقي وهو العموم، ولكن الحكم الذي علق
على العموم الذي هو الموضوع ظاهرا قصر على بعض أفراد العموم. وعلى أي
حال فلا إشكال في أن الأصل عدمه.
وأما أصالة عدم التقييد: فحالها كحال أصالة عدم التخصيص.
وأما أصالة عدم النسخ: فإن قلنا بأن النسخ تخصيص بحسب الأزمان
فمرجعها إلى أصالة عدم التخصيص، ولكن الحق أنه ليس كذلك، وإنما هو نظير
الفسخ بالنسبة إلى العقد، أو الطلاق بالنسبة إلى إزالة قيد النكاح، فيرفع به الحكم
المستمر بحسب الظاهر ولو كانت مصلحة في الواقع إلى الآن، كما أن الطلاق يرفع
العقد الدائم الذي أوقعه الشخص لمصلحة في إيجاده مع بنائه على الطلاق بعد
ايقاعه، وعلى هذا فأصالة عدم النسخ من الأصول العملية كأصالة عدم الفسخ لا
من الأصول اللفظية.
وإذا عرفت هذه الأصول الجارية في باب الألفاظ وعرفت أنها عبارة عن
بناء العقلاء والجري العملي على طبقها بحسب ما ارتكز في أذهانهم كسائر
الأمور الارتكازية التي أودعها الله فيهم فاعلم أن هذه الأصول بعضها مرادية
تعمل في مقام تشخيص المراد، مثل أصالة عدم التجوز - على بعض الصور
المتقدمة - وأصالة عدم الإضمار، وأصالة عدم التخصيص، وبعضها وضعية تعمل
في مقام تشخيص الوضع. والتعارض إما بين الأصول المرادية، أو بين الأصول
الوضعية، أو بين الأصول المرادية مع الأصول الوضعية. وعلى أي حال التعارض
إما ثنائية أو ثلاثية أو أزيد.
65

لا إشكال في أنه إذا كان التعارض بين الأصول المرادية كما إذا دار الأمر بين
التجوز والإضمار أو التخصيص أو الإضمار والتخصيص أو بين الثلاثة: أن المناط
هو الظهور العرفي فإذا وقع التعارض بينها بحيث يختلف المعنى المراد باختلافها
فيحمل على ما يكون اللفظ ظاهرا فيه بحسب مساعدة الفهم العرفي، وهذا يختلف
باختلاف المقامات فربما يحمل على التجوز في مقام، وعلى الإضمار في مقام
آخر، وعلى التخصيص في ثالث. وما ذكره (قدس سره) في الكفاية من جعل المدار على
الظهور العرفي والأخذ به إنما هو في هذا القسم لا في القسمين الأخيرين.
وأما إذا كان التعارض بين الأصول الوضعية فيؤخذ بما كان أقل مؤنة من
الآخر كدوران الأمر (1) فيما بين المجاز والاشتراك، حيث إن المجاز أقل مؤنة من
الاشتراك كما قيل (2) وهكذا حيث إنه يكفي في حمل اللفظ على ما كان أقل مؤنة
عدم لحاظ العناية الزائدة التي يحتاج إليها الأكثر مؤنة.
وأما الأصول المرادية مع الأصول الوضعية فليس بينها تعارض أصلا،
لاختلاف رتبتهما، وعدم ارتباط بينهما.
الأمر التاسع:
- من الأمور التي ذكرها المصنف (قدس سره) (3) في المقدمة - في ثبوت الحقيقة
الشرعية وعدمه. وقد اختلفوا فيه على أقوال: الثبوت مطلقا، وعدمه مطلقا،
والتفصيل في الألفاظ والأزمان.
اعلم أن الحقيقة تنقسم إلى أقسام عديدة حسب تعدد الواضعين، وينسب كل
قسم منها إلى واضعه، فالحقيقة اللغوية ما صار اللفظ حقيقة منه بوضع واضع اللغة
واستعماله فيه، والعرفية العامة ما صار كذلك باستعمال العرف العام هذا اللفظ في
ذلك المعنى وبنائهم على ذلك، والعرفية الخاصة ما صار كذلك ببناء طائفة خاصة

(1) في الأصل زيادة كلمة (بين).
(2) قاله صاحب هداية المسترشدين: ص 42، س 19.
(3) كفاية الأصول: في بحث أحوال اللفظ الخمسة 35.
66

من أهل العلوم كالنحوي والمنطقي وأمثالهما، أو الصنائع كالحداد والنجار
وغيرهما، والشرعية ما صار كذلك في اصطلاح الشارع. ولا يخفى أن جعل
العرف العام في مقابل اللغة لاوجه [له]، بل هو داخل في اللغة، فإن كون الدابة
- مثلا - حقيقة في ذات القوائم الأربع بحسب العرف العام ليس المراد أن الدابة
حقيقة عند تمام أهل الدنيا من العرب والعجم والترك وغيرهم في هذا المعنى، بل
المراد أنها كذلك عند عامة العرب.
ومعلوم أن الحقائق اللغوية في لغة العرب وغيرها لم يحصل جميعها بوضع
الواضع الأول، بل حصل بعضها به وبعضها باستعمال أهل اللغة نقلا عن لغة أخرى
كما في الألفاظ المشتركة بين اللغات كالصابون والتنور وغيرهما من الألفاظ
المشتركة بين لغة العرب والعجم، أو إحداثا واختراعا من عند أنفسهم بلا نقل عن
لغة أخرى، ولا إشكال في أن هذه الألفاظ التي صارت حقائق عرفية عند كل أهل
لغة ليست إلا حقائق لغوية بناء على ما ذكرنا من عدم حصول الوضع بالنسبة إلى
تمام الألفاظ من الواضع الأول.
وعلى هذا إذا استعمل أهل العرف العام لفظا في غير معناه الأولي الذي كان له
بحسب وضع الواضع الأول، فإن صار معناه الأول مهجورا كان منقولا، وإلا كان
مشتركا.
ثم إن المراد بالحقيقة الشرعية ما صار اللفظ حقيقة فيه في لسان الشارع، وهو
النبي (صلى الله عليه وآله) بناء على مذهب العامة الذين هم الأصل في الأصول من تمامية
الأحكام في زمانه، وأما بناء على مذهب الخاصة من صدور بيان بعض الأحكام،
بل أكثرها من الأئمة (عليهم السلام)، فالشارع أعم منه (صلى الله عليه وآله) ومن الأئمة (عليهم السلام).
فعلى هذا، الألفاظ التي صارت حقائق في المعاني الشرعية في زمان
الصادقين حقائق شرعية لا متشرعة، وتخصيص الخاصة الحقائق الشرعية بما
صارت حقائق في لسانه (صلى الله عليه وآله) إنما هو لتبعية العامة الذين هم الواضعون للأصول
كتبعيتهم في إطلاق لفظ الإجماع على اتفاق الكل الذي هو معتبر عندهم، وإن لم
67

يكشف عن رضا المعصوم.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه إنما هو في
السلب الكلي والايجاب الجزئي، بمعنى أن المنكر يقول: لم تثبت الحقيقة الشرعية
في شيء من الألفاظ وفي شيء من الأزمنة، والمدعي يقول بثبوته في الجملة،
وجعل النزاع في السلب الكلي والإيجاب الكلي بضم بعض القيود إلى محل النزاع
بأن يجعل النزاع في الألفاظ الكثيرة الدوران في بعض الأزمنة مثلا تعسف
لا حاجة إليه.
ثم إنهم جعلوا النزاع في الثبوت وعدمه إنما هو في الوضع التعيني الحاصل
من كثرة الاستعمال لا الوضع التعييني بداهة القطع بدعوى فساد القول بثبوت
الحقيقة الشرعية الحاصلة من الوضع التعييني، إذ لو صدر الوضع التعييني من
الشارع بأن قال: وضعت لفظ الصلاة للأركان المخصوصة والصوم للإمساك
المخصوص وهكذا لوصل إلينا، لأنه من الأمور التي تعم بها البلوى فمن عدم
الوصول نستكشف بطريق القطع أنه ما صدر الوضع التعييني منه (صلى الله عليه وآله) بأن صعد
المنبر يوما وقال: وضعت هذا لذاك وهكذا، فالنزاع ليس في الوضع التعييني، بل
إنما هو في الوضع التعيني.
وفيه: أما أولا: فلأن دعوى القطع بعدم صدور الوضع التعييني منه (صلى الله عليه وآله) يمكن
منعه بالنسبة إلى بعض الألفاظ، بل يمكن أن يكون قوله: " الوضوء غسلتان
ومسحتان " (1) في مقام الوضع، وهكذا أمثاله.
وثانيا: أنه لو سلمنا ذلك فإنما يلزم انحصار محل النزاع في الوضع التعييني لو
كان الوضع التعييني منحصرا بالإنشاء القولي، وأما لو قلنا بأن الوضع التعييني كما
يحصل بالإنشاء القولي كذلك يحصل بالفعل، بأن يستعمل اللفظ في المعنى قاصدا
وضعه له بذلك وأقام القرينة على أن المراد من ذلك وضعه له كما قلنا في المعاطاة:
إن النزاع في مسألة المعاطاة في أنه كما يمكن ايجاد البيع بإنشاء مفهومه بالصيغة

(1) تهذيب الأحكام: الباب 4 في صفة الوضوء ج 1 ص 63 ح 25.
68

كذلك يمكن ايجاد مصداقه في الخارج، وكذلك الإباحة يمكن إنشاء مفهومها
بقوله: أبحت هذا، كذلك يمكن ايجاد مصداقها بالتسليط على الشئ، كذلك
العلقة الوضعية كما يمكن ايجادها بالإنشاء القولي كذلك يمكن ايجاد مصداقها
في الخارج.
فعلى هذا يمكن جعل النزاع في الوضع التعييني بهذا النحو، وعلى أى حال
سواء كان النزاع في الوضع التعيني أو في الوضع التعييني، فالمنكر مستظهر بأصالة
عدم ثبوت العلقة الوضعية بأحد النحوين وعلى المدعي إثباتها، وليس له برهان
عقلي أو نقلي تطمئن به النفس ويلزم به الخصم في مقابل أصالة العدم.
وغاية ما يمكن أن يتمسك به المدعي بعض الأمور الوجدانية الإنصافية مثل
أن يقال: كما أن لكل فن من الفنون وعلم من العلوم اصطلاحات خاصة بأهلها، بل
بعض الأشخاص المتفننين في علم كالشيخ الرئيس والميرداماد وغيرهما بالنسبة
إلى فن الحكمة، وهكذا من العلماء العظام المتفننين في سائر العلوم بحيث لا يشك
أحد ممن راجع كلماتهم في أن مرادهم بهذه الألفاظ المعاني التي اصطلحوا عليها
بعد تكرر استعمالها فيها، ولو لم يصرحوا بأن المراد من هذه الألفاظ هو المعاني
المصطلح عليها، ولم يقيموا القرينة على إرادتها، فالشارع - بلا تشبيه - يمكن أن
يكون كأرباب الفنون له اصطلاحات خاصة بأن يريد بالصلاة مثلا كلما يطلق
الأركان المخصوصة وبالصوم الإمساك، وهكذا بأن يكون استعمالها فيها ايجادا
للعلقة الوضعية بين هذه الألفاظ وتلك المعاني بنفس الاستعمال، إلا أن استكشاف
هذا المطلب يتوقف على تكرر الاستعمال لهذه الألفاظ في تلك المعاني الموجب
لحصول القطع بالوضع الذي يختلف فيه الناس، فربما يدعي أحد أن قدرا خاصا
من الاستعمال يوجب القطع بثبوت العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى، والمنكر
يمنع إما عن حصول هذا القدر من الاستعمال أو لا يقطع بثبوت العلقة الوضعية به،
هذا بناء على القول بإمكان جريان النزاع على القول بالوضع التعييني.
وكذلك بناء على القول بأن النزاع إنما هو في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه
69

بالوضع التعيني، يمكن أن يدعي القائل بالثبوت بأن كثرة استعمال هذه الألفاظ في
هذه المعاني وصلت في لسان الشارع إلى حد حصلت العلقة الوضعية من نفس
كثرة الاستعمال بين هذه الألفاظ وتلك المعاني المحدثة، وللمنكر أن يمنع عن
وصول الكثرة إلى ذلك الحد أو عن ملازمته لحصول العلقة الوضعية.
ولكن الإنصاف أن منع حصول العلقة بأحد الوجهين مكابرة، بل الظاهر أنها
حصلت في ابتداء الشريعة بالنسبة إلى الألفاظ الكثيرة الدوران كالوضوء والغسل
والصلاة والزكاة والجهاد والحج وأمثالها بالوضع التعييني على النحو المزبور لا
بالوضع التعيني، واستعمالها في تلك المعاني مجازا إلى أن وصل إلى ذلك الحد،
لأنه لو كان استعمالها فيها مجازا لما كان بناؤه على استعمال هذه الألفاظ فيها
دائما، فإنه لو كان استعمال لفظ الصلاة في الأركان المخصوصة مجازا وبالعلاقة
لكان مستعملا فيها لفظا آخر يفيد ذلك المعنى أحيانا، بل كان استعمال لفظ الدعاء
فيها أحسن من استعمال لفظ الصلاة، ولو منع عن ذلك في أوائل الشريعة ففي
أواخر زمانه (صلى الله عليه وآله) يمكن دعوى القطع بحصولها ولو منع عن ذلك أيضا فمنعه في
زمان الأئمة سيما خصوص الصادقين ومن بعدهم مكابرة واضحة.
وحصول تلك العلاقة في زمان الأئمة (عليهم السلام) يكفي في ترتب الثمرة التي
ذكروها لهذا النزاع، وهو أنه على القول بثبوت الحقيقة الشرعية تحمل تلك
الألفاظ على هذه المعاني لو صدرت بعد صيرورتها حقيقة، وعلى القول بالعدم لا
تحمل عليها لو صدرت مجردة عن القرائن، بل تحمل على معانيها اللغوية بناء
على عدم اختصاص صدور تمام الأحكام من النبي (صلى الله عليه وآله)، فيكون الشارع على
هذا أعم من النبي والأئمة (عليهم السلام) كما هو الحق عند أهله.
وأما بناء على مذهب العامة القائلين باختصاص صدور الأحكام بالنبي (صلى الله عليه وآله)
فصيرورتها حقائق شرعية متوقفة على حصول العلقة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، وإلا فلو
لم يحصل في زمانه، بل حصلت بعده كانت حقيقة متشرعية لا شرعية.
والحاصل: أن في ترتب الثمرة المذكورة على فرض ترتبها لا فرق في
70

حصول العلقة الوضعية بين أن يكون في زمانه (صلى الله عليه وآله)، فتحمل الألفاظ المستعملة بعد
حصولها على المعاني وبين أن يكون في زمان الأئمة فيحمل الألفاظ الصادرة
عنهم في مقام بيان الأحكام عليها، سواء سميناها حقيقة شرعية بأن قلنا بأن
الشارع أعم كما هو الحق عندنا، وقلنا بأنها حقيقة متشرعة كما هو مختار العامة،
إذ ليس الأمر دائرا مدار التسمية، بل المناط صدور اللفظ الصادر في مقام بيان
الحكم عن صيرورتها حقيقة في تلك المعاني المحدثة المخترعة، فتأمل.
ولا فرق في ذلك بين القول بثبوت العلقة الوضعية بالوضع التعييني بالمعنى
المذكور وبين القول بثبوتها بالوضع التعيني الناشى من كثرة الاستعمال.
والحاصل: أنه لا يبعد القول بصيرورة الألفاظ الكثيرة الدوران حقائق في
تلك المعاني المحدثة بالوضع التعييني بالنحو المذكور، كصيرورة الألفاظ التي
اصطلحوا عليها أرباب الفنون والعلوم، بل الأشخاص المعينين منهم بأن استعملوا
تلك الألفاظ في المعاني المصطلحة عليها بقصد ايجاد العلقة الوضعية بينها وبين
هذه المعاني، ولكن كون هذا الاستعمال ايجادا للعلقة الوضعية خارجا يحتاج إلى
قرينة فقد تكون القرينة حالية أو مقالية متصلة بهذا الاستعمال، فيفهم منها أن هذا
الاستعمال استعمال حقيقي وفي الموضوع له، ويفهم المعنى من نفس اللفظ لا من
القرينة كما في قرينة المجاز.
وقد تكون القرينة منفصلة كتكرر الاستعمال الدال على أن الاستعمال الأول
كان ايجادا للوضع المتأخر عنه. ولا يخفى ما فيه، وعلى تقدير تماميته فرق في
ترتب الثمرة بينه وبين الوضع التعيني كالفرق بين الكشف والنقل.
ولو أغمضنا عن صيرورتها حقائق بالوضع التعييني، فالظاهر أنه لا إشكال
في حصول الوضع التعيني في الألفاظ الكثيرة الدوران بعد مضي مدة قليلة من
أوائل البعثة فضلا عن حصوله في أواخر زمانه (صلى الله عليه وآله) فضلا عن زمن الأئمة سيما
الصادقين، وهو يكفي في ترتب الثمرة المذكورة سواء سمينا ما حصل الوضع فيه
في زمن الأئمة حقيقة شرعية - كما هو الحق عندنا - أو خصصنا الحقيقة الشرعية
71

بما حصل في زمان النبي، كما اختاره العامة لبنائهم على اختصاص مصدرية
الأحكام به (صلى الله عليه وآله)، وهذا النزاع إنما هو على القول بأن هذه المعاني محدثة لم تكن
سابقا، وأما على القول بثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة واختلافها مع
شرعنا إنما هو في الخصوصيات والكيفيات فلا يجري هذا النزاع، بل تكون هذه
الألفاظ على هذا حقائق لغوية.
واحتمال أن تكون الألفاظ الدالة على تلك الحقائق في الشرائع السابقة غير
هذه الألفاظ. فثبوت تلك الحقائق فيها لا يستلزم كون ألفاظها تلك الألفاظ حتى
يلزم كونها حقائق لغوية، ولا يجري فيها النزاع.
مدفوع، بأن طائفة العرب المتدينين بشرع موسى أو عيسى إن كان تعبيرهم
عن هذه المعاني بتلك الألفاظ فيثبت المدعى، وإن كان بغيرها لنقل إلينا ولاطلع
عليها المتتبعون في اللغة، والحال أنه لم يدع أحد من أهل اللغة ان لهذه المعاني
ألفاظا موضوعة بإزائها غير هذه الألفاظ.
والحاصل: أنه لا إشكال في أن طائفة من العرب كانوا متشرعين بغير هذه
الشريعة من الشرائع السابقة. وهذه الحقائق كانت في تلك الشرائع فإن كان الدال
عليها عندهم عين هذه الألفاظ ثبت المدعى، وإن كان غيرها فلابد من اطلاع
المتتبعين في اللغة ونقلها إلينا، والحال أنه ليس في المقام نقل بأن للأركان
المخصوصة لفظا آخر، وهو اللفظ الفلاني وهكذا بالنسبة إلى غيرها.
ثم إن الثمرة التي ذكروها لهذا النزاع هي حمل تلك الألفاظ على المعاني
الشرعية لو صدرت مجردة عن القرينة بناء على القول بالثبوت، وعدمه على القول
بعدمه. وهذه الثمرة يختلف ترتبها على القول بالثبوت بين القول بالوضع التعييني
وبين القول بالوضع التعيني، أما بناء على القول بالوضع التعييني سواء كان بإنشاء
قولي أو بالاستعمال بقصد الوضع لو صدر اللفظ بعد صيرورتها حقائق شرعية
فيحمل على معناه الشرعي ولو صدر قبله يحمل على معناه اللغوي، وأما بناء على
القول بالوضع التعيني الناشئ من كثرة الاستعمال فلا إشكال في أنه على هذا
72

صيرورة اللفظ حقيقة متوقفة على تكرر الاستعمال حتى يصير اللفظ حقيقة، وهو
إنما يحصل بالتدريج، فقبل صيرورة اللفظ حقيقة أو مجازا مشهورا بالنسبة إلى
المعنى الشرعي لو استعمل يحمل على المعنى اللغوي، كما لو استعمل بعد وصوله
إلى حد الوضع يحمل على المعنى الشرعي، ولا إشكال في هاتين الصورتين،
وإنما الإشكال فيما إذا اشتهر استعمالها في المعاني الجديدة ولم يصل إلى حد
الوضع، ويصير من دوران الأمر بين الحقيقة والمجاز الراجح، فقيل (1) بتقديم
الحقيقة بناء على أن أصالة الحقيقة معتبرة عند العقلاء تعبدا لا من باب الظهور
العرفي، لأن فائدة الوضع حمل اللفظ على الموضوع له عند عدم القرينة على
خلافه، وقيل (2) بتقديم المجاز الراجح بظهور اللفظ فيه وغلبة استعماله فيه، وقيل
بالتوقف كما ربما يظهر من صاحب [الفصول] حيث قال: يظهر من تضاعيف
الأخبار المروية عن الأئمة (عليهم السلام) أن استعمال صيغة الأمر في الندب كان من
المجازات الراحجة المساوية احتمالها لاحتمال الحقيقة... إلى آخره.
والظاهر أن مراتب الشهرة مختلفة فرب مرتبة لا توجب التوقف في حمله
على المعنى الحقيقي أو المجازي، ورب مرتبة توجبه، فلا يمكن دعوى الكلية في
شيء من الطرفين، كما لا يخفى.
ثم إنه إذا حصل الوضع التعيني بكثرة الاستعمال، واستعمل اللفظ أيضا
فإما أن يكون الاستعمال وحصول العلقة الوضعية معلومي التاريخ، أو مجهولي
التاريخ، أو أحدهما معلوما والآخر مجهولا، فالصور أربعة، فإن كانا معلومي
التاريخ فلا إشكال في أنه إن كان تاريخ الاستعمال متأخرا عن الوضع يحمل على
المعنى الشرعي، وإن كان تاريخ الوضع متأخرا يحمل على المعنى اللغوي، وإن
كان أحدهما معلوم التاريخ: فإن كان تاريخ الاستعمال معلوما وتاريخ الوضع غير
معلوم فيحمل على المعنى اللغوي، لأن عدم العلم بالوضع في حال الاستعمال

(1) بدائع الأفكار: في الطرق الظنية لتشخيص المراد ص 90 س 24.
(2) نقله الميرزا الشيرازي في تقريراته: في الحقيقة والمجاز ج 1 ص 136.
73

يكفي في الحمل على المعنى اللغوي، وأما لو انعكس الأمر بأن كان تاريخ الوضع
معلوما وتاريخ الاستعمال غير معلوم لا يمكن حمله على المعنى الشرعي، لأن
أصالة عدم الاستعمال إلى زمان الوضع لا تثبت تأخر الاستعمال عن الوضع الذي
هو موضوع ذلك الأثر، أي الحمل على المعنى الشرعي بخلاف الصورة السابقة،
فإن أصالة عدم الوضع إلى زمان الاستعمال تكفي في الحمل على المعنى اللغوي،
ولا يحتاج ترتب ذلك الأثر إلى إثبات كون الوضع بعد الاستعمال حتى يلزم كون
الأصل مثبتا.
وأما إذا كانا مجهولي التاريخ فيمكن أن يقال بأنهما من قبيل أصلين عمليين:
أحدهما له أثر والآخر بلا أثر، فيجري ما له الأثر ويسقط الآخر، فإن أصالة عدم
الوضع إلى زمان الواقعي الذي وقع فيه الاستعمال لها أثر وهو الحمل على المعنى
اللغوي بخلاف العكس وهو أصالة عدم الاستعمال إلى زمان الوضع، فإنه لا يثبت
ما هو موضوع الأثر وتأخر الاستعمال عن الوضع إلا على القول بالأصل المثبت.
فتحصل: أنه بناء على عدم القول بالوضع والحقيقة الشرعية إذا صدر اللفظ
من الشارع لابد من حمله على معناه اللغوي إلا أن يقيم القرينة على إرادة المعنى
الشرعي.
وأما بناء على القول بالوضع والحقيقة الشرعية، فإن قلنا بصيرورة تلك
الألفاظ حقائق في هذه المعاني الشرعية المخترعة بالوضع التعيني الناشئ من
كثرة الاستعمال فلا إشكال في حملها على معانيها اللغوية لو استعملت قبل شهرة
استعمالها في هذه المعاني، إلا أن يقوم قرينة على إرادة المعاني الشرعية، وأما لو
كان استعمالها بعد حصول الشهرة فهل تحمل على المعاني اللغوية، أو على المجاز
المشهور وهو المعنى الشرعي، أو يتوقف؟
ففيه خلاف، وقد عرفت منشأ الأقوال والخلاف، وقد عرفت أيضا حكم
صورة العلم بتاريخ الوضع والاستعمال، والجهل بتاريخ كليهما والجهل بأحدهما
دون الآخر، وإن قلنا بصيرورتها حقائق في تلك المعاني بالوضع التعييني لا
74

خلاف عندهم في حملها على المعاني الشرعية، ولم يفصلوا التفصيل الذي ذكروه
في الوضع التعيني، والحال أنه جار هنا ذلك، لأن الوضع التعييني والاستعمال
كليهما حادثان.
فيمكن أن يكون تاريخ الوضع مقدما على تاريخ الاستعمال، ويمكن أن
يكون الأمر بالعكس، ويمكن أن يكون عالما بتاريخهما، ويمكن أن يكون
جاهلا، فالصور والشقوق المتقدمة تجري هنا أيضا، ولعل وجه عدم إجرائها - بناء
على الوضع التعيني والاتفاق على حملها على معانيها اللغوية - هو أن الحكمة لو
اقتضت وضعها لها لاقتضت وضعها لها من أول الأمر، فلا محالة يكون الوضع قبل
الاستعمال، مثلا لو كانت الحكمة في وضع هذه الألفاظ هو فهم المخاطبين هذه
المعاني المحدثة من تلك الألفاظ وعدم تحيرهم في فهم مراده، فهذه الحكمة
موجودة من أول الأمر، فلابد من وضعها أولا ثم استعمالها في مقام إفهام هذه
المعاني، فلهذا لم يذكروا التفصيل المذكور في الوضع التعيني هنا. واحتمال أن
تكون الحكمة مقتضية لتأخير الوضع عن الاستعمال صرف احتمال عقلي لا منشأ
له، وإلا فلو كان احتمال معتد به لجرى التفصيل المذكور سابقا بناء على هذا
القول أيضا.
بقي هنا إشكال آخر وهو: أنه بناء على الوضع التعيني أو الوضع التعييني ما
وجه حمل تلك الألفاظ الواقعة في كلام الشارع على المعاني الشرعية؟ والحال
أنها تصير من قبيل المشترك، ولا يمكن حمله على أحد المعاني إلا بقرينة معينة،
لأن الشارع بشارعيته له وضع بالنسبة إلى هذه الألفاظ، ومن حيث إنه من أهل لغة
العرب مطاوع لواضع اللغة، ويمكن أن يكون معناها اللغوي متعلقا لغرضه من
حيث شارعيته أيضا، مثلا المعنى الشرعي الذي للصلاة - وهو الأركان
المخصوصة - كما يكون متعلقا لمقاصده وأغراضه كذلك المعنى اللغوي الذي لها
وهو الدعاء أيضا يمكن أن يكون متعلقا لغرضه.
فعلى هذا لا يمكن القول بما أنه شارع لا يتعلق غرضه إلا بالمعاني الشرعية
75

المجعولة عنده، فإذا كان المعنيان كلاهما قابلين لتعلق غرضه بهما بما أنه شارع،
والفرض أنه بشارعيته وثبوت اصطلاح خاص له بالنسبة إلى هذه الألفاظ لم
يخرج عن كونه تابعا لواضع لغة العرب ومطاوعا لوضعه، فيصير اللفظ بالنسبة إليه
بل بالنسبة إلى تابعيه من الألفاظ المشتركة، ولا وجه لحملها على المعاني الشرعية
بلا قرينة.
ويمكن أن يجاب بأن الحكمة كما اقتضت وضع هذه الألفاظ لهذه المعاني من
جهة تفهيم المخاطبين وعدم تحيرهم في فهم مراداته كذلك اقتضت أن تكون
المعاني اللغوية مهجورة عنده لئلا يلزم الإخلال بالحكمة المقتضية للوضع، فكأنه
لوضعه هذه الألفاظ لتلك المعاني صار عادلا عن مطاوعة الوضع اللغوي، سيما
على القول بالوضع عبارة عن التعهد والالتزام من الواضع بأن لا يستعمل هذا
اللفظ إلا مريدا به ذلك المعنى، فإنه على هذا القول نفس وضعه هذه الألفاظ لتلك
المعاني لازمه العدول عن مطاوعة الوضع اللغوي، فصار المعنى اللغوي مهجورا،
والحقيقة المهجورة لا توجب التوقف في حمل اللفظ على المعنى المنقول إليه.
ثم إنه لا يخفى أن النزاع في هذه قليل الجدوي، إذ لا إشكال في حمل
الأخبار الصادرة عن الأئمة (عليهم السلام) سيما الصادقين على المعاني الشرعية سواء قلنا
بأنها حقيقة شرعية أو حقيقة متشرعة فان لسنا دائر مدار التسمية، والعمدة في
بيان الأحكام إنما هي الأخبار الصادرة عنهم، وإنما تظهر الثمرة في الأحاديث
المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) وهي مع قطع النظر عن اعتبارها من حيث السند وقلتها في
نفسها محفوفة بالقرائن الدالة على المراد، بل الأخبار الصادرة عن الائمة محفوفة
بالقرائن الدالة على المعاني الشرعية.
فعلى هذا لا يبقى لهذا النزاع ثمرة، ولذا لم يبتنوا على هذا النزاع فرعا من
الفروع الفقهية كما فرعوا على النزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي ومسألة أن
الأمر بالشيء نهي عن ضده وأمثالهما من المسائل الأصولية التي المختلف فيها،
76

ولم تقع مخالفة بين المنكرين للحقيقة الشرعية كصاحب المعالم (1) والمثبتين لها
في الأحكام الفرعية من تلك الجهة، فهذه المسألة لا برهان على أحد طرفي
إثباتها ونفيها، ولا ثمرة ترتب عليها.
العاشر:
في أن ألفاظ العبادات موضوعة للصحيحة منها أو الأعم: لا يخفى أن هذه
المسألة لم تكن معنونة في كلمات القدماء، وإنما عنونها الوحيد البهبهاني (2) ومن
تأخر عنه، ولا ينافي عدم تعنونها في كلماتهم الأقوال التي ذكروها في المسألة من
القول بكونها موضوعة للصحيحة أو الأعم أو الفرق بين الأجزاء والشرائط،
وهكذا غيرها من التفاصيل، لأن هذه الأقوال إنما استفيدت من ذكر هذه المسألة
في ذيل بعض المسائل الأصولية كما في المعالم (3) فإنه في مبحث المبين والمجمل
يمثل للمجمل بمثل آية السرقة و: لا صلاة إلا بطهور فمن يقول بإجمال: " لا صلاة
إلا بطهور " لازمه القول بأن وضعها للأعم، ومن يقول بعدم الإجمال لازمة القول
- وكما حكي عن الشهيد - أن الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود لا
تطلق على الفاسد إلا الحج، لوجوب المضي فيه (4).
والحاصل: أن عدم تعنون هذه المسألة في كلماتهم مستقلة لا ينافي ثبوت
تلك الأقوال الكثيرة التي نقلوها عنهم في الكتب المبسوطة كحاشية الشيخ محمد
تقي (5) والقوانين الشرعية (6) وغيرهما (7) إذ يمكن استفادتهم هذه الأقوال من

(1) معالم الدين: في الحقيقة الشرعية ص 38.
(2) الفوائد الحائرية: الفائدة 3 في عدم ثبوت الاجزاء الواجبة... ص 103.
(3) معالم الدين: في المجمل المبين ص 153 - 155.
(4) الفوائد والقوائد: ج 1 ص 158.
(5) هداية المسترشدين: في الصحيح والأعم ص 100 س 16.
(6) القوانين: في الحقيقة والمجاز ص 40 س 8.
(7) منها مفاتيح الأصول: في الصحيح والأعم ص 44 س 22. وكفاية الأصول: في الصحيح
والأعم ص 38.
77

تعرضهم لتلك المسألة في طي المسائل الأصولية كما عرفت.
ثم إن الكلام الآن في جريان هذا النزاع في العبادات، وأما المعاملات
فسيأتي الكلام في أن هذا النزاع يجري فيها أم لا؟ فهنا أمور:
الأول: هو أنه هل جريان هذا النزاع في العبادات مبني على القول بثبوت
الحقيقة الشرعية، أم يجري مطلقا ولو على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية؟
والكلام تارة في إمكان جريان هذا النزاع على هذا القول، وأخرى في
وقوعه. الظاهر من عنواناتهم بأن ألفاظ العبادات أسامي للصحيحة أو الأعم، أو أن
ألفاظ العبادات موضوعة للصحيحة أو الأعم، وكذا استدلالاتهم بالتبادر وصحة
السلب وأمثالهما هو اختصاص النزاع بالقائلين بثبوت الحقيقة، إذ ما لم يثبت
وضع بالنسبة إلى المعاني الشرعية لا يصح النزاع في أن هذا الوضع والتسمية
لخصوص الصحيحة أو للأعم منها، وهكذا لو لم يثبت وضع بالنسبة إليها كيف
يمكن التمسك بالتبادر وغيره من علائم الحقيقة؟
ولكن الحق هو جريان النزاع على القولين، لا لما ذكره في التقريرات (1) من
أن الظاهر من العنوان والاستدلال هو عدم جريان النزاع بناء على القول بعدم ثبوت
الحقيقة الشرعية، لكن هذا لا ينافي جريان النزاع بناء على القول بالعدم، لأن
عنوان هذا البحث والاستدلال عليه إنما وقع من المثبتين للحقيقة. والنافون إنما
سلكوا على منوالهم ولم يغيروا عنوان البحث حفظا لبعض الجهات والخصوصيات،
وذلك لأن هذا التوجيه وإن كان حسنا بالنسبة إلى أصل عنوان النزاع.
ولكن بالنسبة إلى الاستدلال بمثل التبادر وصحة السلب لا يتم، لأن القائلين
بثبوت الحقيقة الشرعية يمكنهم التمسك بالتبادر وأمثالهم لمدعاهم من القول
بالصحيح أو الأعم، وأما المنكرون فلا يمكنهم ذلك، بل الوجه في تعميم النزاع
على القولين، مع أن أصل العنوان إنما كان من المثبتين، والأمر في عدم تغيير

(1) مطارح الأنظار: القول في الصحيح والأعم ص 3 س 10.
78

النافين له من صحة سلوكهم على منوالهم سهل إنما هو أحد الأمرين:
الأول: هو أن المنكرين للحقيقة الشرعية لا ينكرون الحقيقة المتشرعة في هذه
الأزمنة المتأخرة، ومن المعلوم أنه لو كانت هذه الألفاظ حقائق في تلك المعاني
في هذه الأزمنة أنها كانت حقائق في زمن الأئمة (عليهم السلام) سيما الصادقين، إذ نعلم
قطعا فساد القول بأنها ما كانت حقائق في زمنهم وصارت حقائق فيها بعدهم وهذا
القدر يكفي في ترتب الثمرة على النزاع فيها، وأنها هل هي موضوعة للصحيحة
حتى تحمل هذه الألفاظ الصادرة عنهم عليها، أو للأعم حتى تحمل عليه؟
ولا يهمنا المناقشة في تسميتها حقيقة شرعية أو حقيقة متشرعة، وعلى تقدير
العدم لا إشكال في أن ما كانت هذه الألفاظ حقائق فيها في هذه الأزمنة كان
مجازا مشهورا في الأزمنة السابقة حتى زمان النبي (صلى الله عليه وآله)، فالنزاع في أن هذه
الألفاظ حقائق في الصحيحة في هذا الزمان حتى يستكشف كونها مجازات
مشهورة في أزمنتهم، وتحمل الألفاظ الصادرة عنهم عليها أو حقائق في الأعم
حتى الألفاظ الصادرة عنهم عليه.
والحاصل أن كونها حقائق في هذه الأزمنة في الصحيح أو الأعم هو محل
النزاع، وهو يكفي في ترتب الثمرة المقصودة، وهو حمل الألفاظ الصادرة
عنهم (عليهم السلام) على ما هو معنى حقيقي الآن، لأن ما هو حقيقي ملازم إما للوضع في
أزمنتهم، أو كونها من المجازات المشهورة في تلك المعاني وأيهما كان يكفي في
حمل الألفاظ الصادرة عنهم (عليهم السلام) على هذه المعاني التي حقيقة عند المتشرعة
فعلا، فتأمل.
إذ على تقدير كونها حقيقة شرعية في زمنهم يكفي في ترتب الثمرة
المقصودة، وأما على تقدير المجازية فأولا كونها مجازا مشهورا غير معلوم،
وعلى تقدير كونها مجازا مشهورا لا يكفي في ترتب الثمرة إلا على القول بالحمل
عليه عند دوران الأمر بينه وبين الحقيقة المرجوحة وهو غير معلوم، وقد عرفت
أن الأقوال في تلك المسألة ثلاثة.
79

الثاني: هو أن المنكرين للحقيقة الشرعية لا ينكرون استعمال هذه الألفاظ في
هذه المعاني المخترعة مجازا، فالنزاع بناء على قولهم إنما هو في أن هذه الألفاظ
استعملت مجازا في الصحيحة من جهة العلاقة المعتبرة بينها وبين المعاني الحقيقة
اللغوية بالأصالة، وثم بتبعها استعملت في الأعم، أو أنها استعملت في الأعم من
جهة اعتبار العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية، ثم استعملت في الصحيح بتبعه.
والحاصل: أنه بناء على قول المنكرين وكون هذه الألفاظ حقائق في المعاني
اللغوية ومجازات في المعاني الشرعية النزاع في الصحيح والأعم في أن العلاقة
المعتبرة في المجاز هل اعتبرت بين المعاني اللغوية وبين المعاني الشرعية
الصحيحة، ويكون استعمالها في الأعم بتبع الصحيحة، أو أن العلاقة اعتبرت بين
المعاني اللغوية وبين الأعم، ويكون استعمالها في الصحيحة بالتبع؟ وعلى
الأول استعمال هذه الألفاظ في الفاسدة تعميما، وعلى الثاني استعمالها في
الصحيحة تخصيصا للمعنى المجازي الأصلي الأولي حتى لا يلزم سبك المجاز
عن المجاز، إلا أنه لا يبعد أنه يكون مجازا عن مجاز، إذ المجاز لا ينفك عن
التوسعة أو التضييق.
فعلى هذا لا يمكن دفع إشكال سبك المجاز عن المجاز كما ذكر في التقرير (1)
والكفاية (2)، إلا أن يقال بأن سبك المجاز عن المجاز إنما هو بأن يعتبر العلاقة بين
شيء وبين المعنى الحقيقي الأولى واستعمل اللفظ فيه، ثم تعتبر العلاقة بين المعنى
المجازي وبين المعنى المجازي الثانوي واستعمل اللفظ فيه، والأمر في المقام
ليس كذلك، فتأمل.
وعلى أي حال يكون المجاز الأولي الذي اعتبرت العلاقة بينه وبين المعنى
من باب أقرب المجازات التي إذا تعذرت الحقيقة فيحمل اللفظ عليها، فإذا قامت
قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي اللغوي فيحمل اللفظ على المعنى الصحيح بلا

(1) مطارح الأنظار: القول في الصحيح والأعم ص 3 ص 20.
(2) كفاية الأصول: القول في الصحيح والأعم ص 38.
80

حاجة إلى قرينة أخرى، بناء على القول بأن العلاقة اعتبرت أولا بينه وبين المعنى
اللغوي، ويحمل على الأعم بناء على القول الآخر.
وتوجيه جريان النزاع بناء على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية بهذا الوجه
يتوقف على تسالم المنكرين بأن أحد هذين المجازين هو الأصل والآخر بالتبع،
ولكن وقع النزاع في أن الأصل هو الصحيح أو الأعم، ولم يعلم هذا التسالم، لأنه
من الممكن أن يكونان في رتبة واحدة كما في سائر المجازات، فإنه لو كان للفظ
معاني متعددة مجازية فكلها في رتبة واحدة مجازات عن المعنى الحقيقي، لا أن
بعضها أصل وبعضها تبع فتأمل.
وعلى هذا فالأحسن ما ذكرناه من التوجيه الأول، وإن عرفت ما فيه أيضا.
فقد تبين أن جريان هذا النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعية واضح، لأنه بناء
عليه يمكن أن ينازع في أنها حقيقة في خصوص الصحيح أو الأعم منه ومن
الفاسد، وتبين إمكان جريانه بناء على القول بعدم ثبوت الحقيقة، وأنها مجازات
في المعاني المخترعة بأحد الوجهين أيضا، إنما الكلام في جريانه على قول
الباقلاني (1) القائل بأنها باقية على معانيها اللغوية، وما استعملت في المعاني
الجديدة لا في لسان الشارع ولا في لسان المتشرعة، بل إنما استعملت في معانيها
اللغوية وانضمت إلى المعاني اللغوية قيودا وشرائط من باب تعدد المطلوب بتعدد
الدال والمدلول فالصلاة مثلا ما استعملت في لسان الشارع ولا المتشرعة إلا في
معناه اللغوي وهو الدعاء فإذا قال الشارع، صل فكأنه قال: ادع، وباقي القيود
والشرائط أمور خارجية اعتبرها الشارع، بأن يكون الدعاء مع هذا الشرط، أو في
هذا الحال، أو في ذلك الزمان أو المكان، وهكذا سائر القيود. والشرائط فهل يعقل
ويمكن جريانه أم لا يمكن؟

(1) قال سلطان العلماء (رحمه الله) " وقد ينسب اختيار هذا الاحتمال، إلى القاضي أبي بكر الباقلاني
من المخالفين " راجع الحاشية ضمن شرح معالم الدين للمولى المازندراني ص 266 س 6.
81

فيه وجهان:
الأول: هو العدم، وذلك لأن الأمور البسيطة التي لها آثار مترقبة تترتب عليها
تارة ولا تترتب عليها أخرى لا تتصف بالصحة والفساد، بل بالوجود والعدم
فيقال: هذا الشيء موجود أو ليس بموجود، ولا يقال: إنه صحيح أو فاسد إلا في
المركبات التي لها آثار مترقبة يترتب عليها تارة من جهة اجتماعها للخصوصيات
المعتبرة في ترتب تلك الآثار، ولا تترتب عليها آثار أخرى من جهة فقد بعض
تلك الخصوصيات.
فبناء على هذا القول ما استعملت هذه الألفاظ إلا في معانيها اللغوية لا في
لسان الشارع ولا في لسان المتشرعة، فلفظ الصلاة والصوم والحج وغيرها ما
استعملت إلا في الدعاء والامساك والقصد، وهي أمور بسيطة لا يمكن اتصافها
بالصحة والفساد، بل بالوجود والعدم بخلاف القولين الأولين، فإن هذه الألفاظ
استعملت في تلك المعاني المخترعة إما حقيقة أو مجازا فيمكن أن يقع النزاع في
أنها استعملت حقيقة أو مجازا في خصوص الصحيح أو الأعم، بل الظاهر عدم
جريان هذا النزاع حتى على القولين الأولين فضلا عن هذا القول، لما عرفت من
أن هذا النزاع إنما هو في مورد يمكن أن يكون له فرد صحيح يترتب عليه الأثر
وفرد فاسد لا يترتب عليه بحيث يصدق على ذلك الفاسد أنه فاسد هذا الشيء، إذ
ليس كل ما لا يترتب عليه أثر شيء أنه فاسد ذلك الشيء مثلا الأثر المقصود من
العنب لا يترتب على الرمان، مع ذلك لا يقال: إنه فاسد العنب.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن يكون الجامع هو المسمى بذلك الاسم حتى
يكون له فرد صحيح وفرد فاسد، فكيف يمكن النزاع في أنه اسم للصحيح
أو للأعم.
وبعبارة أخرى اتصاف الشيء بالصحة تارة وبالفساد أخرى لا يعقل إلا مع
كون ذلك الشيء إسما للأعم حتى يكون الفاسد فاسد ذلك الشيء، ومع هذا فكيف
يتصور النزاع في أنه اسم للصحيح أو للأعم.
82

والثاني (1): هو الجريان وتقريبه على ما تكلف به في الكفاية: هو أنه لما أريد
من الصلاة مثلا - ولو من باب تعدد الدال والمدلول - المعنى اللغوي المتقيد
بالقيود، فيمكن أن يقع النزاع في أن مقتضى القرينة العامة هو إرادة المقيدة بتمام
القيود المعتبرة في الصحة، أو أن مقتضاها إرادة المقيدة بالقيود في الجملة.
وعليه تترتب الثمرة التي ذكروها في هذا النزاع من إجمال الخطابات
والمطلقات بناء على أحدهما كسائر المطلقات التي قيدت بمقيد مجمل دون
الآخر فتدبر.
مثلا لو قال: صل متطهرا فهذا القيد يكون قرينة عامة على أن المراد بالدعاء
هو المتقيد بتمام ما يعتبر فيه من الاستقبال والستر وأمثالهما من الشروط والقيود،
أو يكون قرينة عامة على أن المراد هو المتقيد بها في الجملة.
وعلى هذا لابد من تغيير عنوان النزاع بما يناسب هذا القول، فإنه على القولين
الأولين هذا العنوان يصح، أما القول الأول فواضح، وأما على القول الثاني فيمكن
أن ينازع في أنها أسامي للصحيحة أو الأعم، ويكون محل النزاع كونها أسامي
للصحيحة أو الأعم عند المتشرعة، وبكونها حقيقة في الصحيحة أو الأعم عندهم
يترتب الثمرة المقصودة، لأن كونها حقيقة في الصحيحة أو الأعم عند المتشرعة
ملازم لكونها حقيقة شرعية أو مجازا مشهورا عند الشارع.
وعلى أي حال لابد من حمل اللفظ عليه عند عدم القرينة، فإن كان الصحيح
هو المعنى الحقيقي والمسمى عند المتشرعة فيكشف عن كونه معنى حقيقيا عند
الشارع أو مجازا فيحمل اللفظ عليه، وإن كان الأعم هو المعنى الحقيقي والمسمى
عند المتشرعة فكذلك.
الثاني (2): في أنه لا إشكال في أن الصحة عبارة عن تمامية الشيء المركب من
حيث الأجزاء والشرائط، بحيث يترتب عليه الآثار المطلوبة منه عليه، والفاسد
عبارة عن عدم تماميته بذلك المعنى، لما عرفت من أن البسيط الذي له آثار

(1) أي الوجه الثاني.
(2) من الأمور في جريان النزاع في العبادات.
83

مطلوبة لا يوصف بالصحة والفساد، بل بالوجود تارة وبالعدم أخرى، فهما عند
الكل عبارة عن ما ذكرنا، فليست للصحة عند الفقيه معنى مغايرا للصحة عند
المتكلم، بل عند كليهما عبارة عن تمامية الشيء، لكنها تختلف بحسب الآثار
المطلوبة من الشيء.
فلما كان المطلوب من الشيء - مثل الصلاة - عند الفقيه الخروج عن عهدة
التكليف فلذا عرفت الصحة باصطلاح الفقيه بإسقاط الإعادة والقضاء، ولما كان
الأثر المطلوب المهم عند المتكلم هو شكر المنعم وموافقة أوامره عرفت
- باصطلاح المتكلم - بموافقة الشريعة فهي عند الكل بمعنى واحد، وهو ما ذكرنا
وقد عرفت عند كل واحد منهما بما هو المهم من آثارها ولوازمها.
ولما كان الأثر المهم عند كل منهما غير الأثر المهم عند الآخر فوقع الاختلاف
في تعريفها، فالأثر المطلوب عند الفقيه متلازم مع الأثر المطلوب عند المتكلم،
فلو فرض أن الأثر المطلوب من شيء عند شخص غير الأثر المطلوب عند شخص
آخر وفرض ترتب أحدهما عليه دون الآخر فيتصف ذلك الشيء بالصحة عنده
دون الآخر، فلو كان الأثر المطلوب من البطيخ عند شخص حلاوته وعند شخص
آخر عطره مثلا، فإن كان بطيخ متصفا بالحلاوة دون العطر يتصف بالصحة عند هذا
الشخص الذي مطلوبه منه الحلاوة دون الآخر.
فعلى هذا الصحة والفساد أمران إضافيان يختلفان باختلاف الأشخاص
والطوائف، فرب شيء صحيح عند شخص أو طائفة وفاسد عند شخص أو طائفة
أخرى وبالعكس، وهكذا بالنسبة إلى الأحوال فلا يمكن أن يقال: أنه صحيح
مطلقا أو فاسد مطلقا، بل لابد من الإضافة، نعم لو كان الأثر المطلوب لغالب الناس
يترتب عليه، ولكن الأثر المطلوب لفرد نادر لا يترتب يطلق عليه عرفا أنه صحيح
من دون إضافة، لعدم الاعتناء بالفرد النادر، وكذا بالنسبة إلى الأحوال أيضا.
ثم إن الصحة المتنازع فيها هي الصحة المعتبرة في المأمور به مع قطع النظر
عن تعلق الأمر، أعني تمامية الأجزاء والشرائط بحيث لو تعلق الأمر بها وأتى بها
84

بداعي أمرها لصار صحيحا فعليا وبعبارة أخرى أن الصحة المتنازع فيها هي
الصحة التأهلية لا الصحة الفعلية، إذ لا يعقل أن تكون الصحة الناشئة من قبل الأمر
معتبرة في متعلق الأمر في الرتبة السابقة على الأمر.
الثالث: لابد على كل من القول بالصحيحي والأعمي من تصوير جامع بين
الأفراد الصحيحة أو الأعم ليكون هو الموضوع له، إذا القول بالاشتراك اللفظي
على كل من القولين، مع أن الجزئيات غير محصورة، والقول بكون الموضوع له
هي الجزئيات من باب الوضع العام والموضوع له الخاص وإن أمكن إلا أنه
مشترك مع القول بكون الوضع والموضوع له كلاهما عاملين في الاحتياج إلى تصوير
الجامع، إلا أن الجامع هو نفس الموضوع له على أحدهما وجزئياته على الآخر.
فكل من القائلين بالصحيحي أو الأعمي ملتزمين (1) بأنه لابد من تصوير
الجامع، إلا أن الصحيحي يتصور الجامع بين الافراد الصحيحة ويتأبى عن تصويره
على القول الأخر، والأعمي بالعكس، وصاحب الكفاية (قدس سره) مال إلى القول بكون
الألفاظ موضوعة للصحيحة، وقال: لا إشكال في تصوير الجامع على هذا القول،
وإمكان الإشارة إليه بخواصه وآثاره، فإن الأفراد الصحيحة كلها مشتركة في
كونها ناهية عن الفحشاء، وكونها معراج المؤمن. والاشتراك في الأثر كاشف
بالبرهان الإني عن الاشتراك في المؤثر، فالجامع بينهما ما يكون ناهيا عن
الفحشاء ومعراجا للمؤمن وإن لم نعرفه بحقيقته وماهيته، وتكفي معرفته بخواصه
وآثاره التي من جملتها الناهية عن الفحشاء ومعراج المؤمن.
فيصح أن يقال: إن الموضوع له للفظ الصلاة ما يكون ناهيا عن الفحشاء، أو
معراجا للمؤمن وهو وإن لم يكن معلوما لنا بكنهه لكنه معلوم بآثاره ولوازمه.
ثم تصدى لدفع الإشكال الوارد على تصوير الجامع الذي حاصله: أن الجامع
إما أن يكون أمرا مركبا أو بسيطا. فإن كان مركبا فكل ما يفرض يمكن أن يكون
صحيحا بالنسبة إلى شخص وفاسدا بالنسبة إلى شخص آخر.

(1) كذا وفي العبارة ما لا يخفى.
85

وإن كان بسيطا، فإما أن يكون عنوانا مطلوبا، أو ملزوما مساويا له، والأول
غير معقول، لأنه يلزم أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الطلب في متعلقة، منع أنه يلزم
الترادف بين الصلاة والمطلوب، مضافا إلى أنه يلزم عدم جواز الرجوع إلى البراءة
عند الشك في الأجزاء والشرائط حينئذ، لعدم الإجمال في المأمور به، وإنما
الإجمال فيما يحصل به، والحال أن القائلين بكونها موضوعة للصحيحة ليس كلهم
أو جلهم قائلين بأن المرجع هو الاشتغال والاحتياط، بل يقولون بجواز الرجوع
إلى البراءة لنفي جزئية المشكوك أو شرطيته، وهذا الإشكال جار فيما لو كان
الجامع ملزوما مساويا للمطلوب.
وقد تصدى بعض الأعاظم من القائلين بكون الموضوع له هو الصحيح بما
حاصله: أن الجامع الذي هو له الموضوع في مثل لفظ الصلاة هي صلاة القادر
المختار الحاضر وغيرها من الصلوات ليست صلاة حقيقة عند الشارع، وإنما هي
أبدال عنها، ولكن المتشرعة توسعوا في تسميتها صلاة فصارت حقيقة عندهم لا
عند الشارع.
ولا يخفى أن التوسعة في المصداق وتطبيق المفهوم عليه يتصور على نحوين:
أحدهما: ما كان بلا تصرف في المفهوم، بل ابقاؤه على حاله كتطبيق الحقة
وغيرها من المقادير والأوزان على ما يزيد عليها أو ينقص عنها بقليل، فإن العرف
يتسامحون في اطلاق الحقة على ما ينقص أو يزيد عليها بمثقال مثلا، ويقولون:
إنه حقة مع أنه لو سئل (1) عنهم عن مقدار الحقة لا يقولون: إنها موضوعة للأعم فما
كان واجدا لهذا المثقال أو فاقدا له، بل يقولون: إنها موضوعة للواجد لها.
والثاني: ما كان بتصرف في المفهوم بتوسعته وعدم ابقائه بحاله كالمعاجين،
فإن العرف يطلقون لفظ ال‍ " ترشي (2) " مثلا الموضوع لمعجون مركب من عدة
أجزاء على ما نقص بعض أجزائه، بل تبدل بعض أجزائه، بل غالب أجزائه بحيث
ربما صار مباينا لما كان الموضوع له أولا لما يترتب عليه من الأثر المقصود منه،

(1) كذا في الأصل، والصواب لو سئلوا.
(2) فارسية بمعنى المخلل.
86

والظاهر أن تطبيق الصلاة التي وضعت لصلاة القادر المختار الحاضر على غيرها
من الصلاة الصحيحة من قبيل الثاني، وإطلاقهم لفظ الصلاة عليها إنما هو بتوسعة
في المفهوم وكأن الموضوع لها أولا هو ما يترتب عليه ذلك الأثر وعلى هذا يكون
اطلاقها عليها من باب الاشتراك المعنوي نظير الوضع العام والموضوع له الخاص.
والحاصل: أنه (قدس سره) لما اختار القول بالوضع للصحيح والحال أنه لابد من
تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة، ولم يتمكن من تصوير الجامع أمرا بسيطا،
لما يرد عليه من الإشكال بعدم إمكان الرجوع إلى البراءة والحال أنه يرجع إليها
عند الشك في الأجزاء والشرائط عند الصحيحي، فلذا قال: إن الصلاة موضوعة
لصلاة القادر المختار الحاضر، فما هو الموضوع له للفظ الصلاة هو الأفعال
والأقوال المعتبرة في صلاة القادر المختار الحاضر وهو الجامع بين الأفراد
الصحيحة وغيرها من الصلوات الصحيحة.
إن قلنا: إنها أبدال عن الصلاة الصحيحة فلا يلزم إشكال، وإن قلنا بأن هذا
القول وإن لم يلزم منه محذور إلا أنه لبعده قلنا بأن غيرها من الصلوات الصحيحة
صلاة حقيقة أيضا، فنقول: إن كونها صلاة حقيقة إنما هو عند المتشرعة لا الشارع
من جهة التوسعة التي عرفتها، فهم لما رأوا غيرها من الصلوات الصحيحة واجدة
للآثار التي تترتب على الصلاة الصحيحة التي اخترعها الشارع وهي صلاة القادر
المختار الحاضر التامة الأجزاء والشرائط وسعوا مفهوم الصلاة وطبقوها على
هذه الصلاة.
وعليه أيضا يرتفع الإشكال فإن هذه الصلوات ليست صلوات عند الشارع
حتى لابد من تصوير الجامع بين أفرادها، وإنما هي صلوات حقيقة عند المتشرعة،
وما هو الموضوع له عند الشارع هي صلاة القادر المختار، والجامع بين أفرادها
هي تلك الأفعال الخاصة، فالصحيح على مختاره صحيح شخصي لا صحيح نوعي
وإنما ألجأه إلى هذا التكلف عدم تمكنه من تصوير الجامع البسيط بين الأفراد
الصحيحة، فلذا ارتكب بأن الصلاة موضوعة لأمر مركب، وهو مجموع أفعال
87

صلاة القادر المختار، وهو الموضوع له، والبقية ليست صلوات عند الشارع، وإنما
هي أبدال أو صلوات حقيقة عند المتشرعة.
وهذا في الحقيقة ليس تصويرا للجامع بين الأفراد الصحيحة ودفعا للإشكال،
بل في الحقيقة التزام بالإشكال المذكور، وهو أن الجامع لا يمكن أن يكون مركبا
ولا بسيطا، لما ذكرناه. وهو (قدس سره) لو أمكنه تصوير الجامع البسيط لما ارتكب هذا
التكلف.
والحق هو إمكان تصوير الجامع البسيط وعدم ورود الإشكال الذي ذكر من
أن لازمه عدم جواز الرجوع إلى البراءة عند الشك في الأجزاء والشرائط، لرجوع
الشك إلى الشك في المحصل بعد كون التكليف معلوما بحدوده وقيوده. وعدم
دورانه بين الأقل والأكثر فإنه لو كان الشك في التكليف أو في المكلف به المردد
بين الأقل والأكثر فيرجع في نفي المشكوك - سواء كان أصل التكليف أو الزائد
من المقدار المعلوم - إلى البراءة إما البراءة الشرعية أو العقلية أيضا، وأما إذا كان
التكليف معلوما والمكلف به أيضا معلوما وشك في محصله فلابد من الاحتياط
بإتيان ما يقطع معه بالفراغ، وحصول ما هو المأمور به وهو العنوان البسيط.
ولكن فيه: أن عنوان البسيط الذي هو المأمور به قد يكون له وجود مستقل
في قبال وجود محصله كالمسببات التوليدية مثل الإحراق المسبب عن الإلقاء في
النار والطهارة الحاصلة من الغسلات وهكذا، وقد لا يكون له وجود مستقل، بل
وجوده فان في وجوده، وله اتحاد معه كالتعظيم بالنسبة إلى الأمور المحصلة له
كالقيام وأمثاله حيث إن التعظيم وجوده بوجود هذه الأفعال المحصلة له، وهو
متحد معها نحو اتحاد، وهو فان فيها.
ففي القسم الأول من الشك في المحصل لا يمكن الرجوع إلى البراءة، وأما
في القسم الثاني لو شك في الزائد عن القدر المعلوم لا مانع من الرجوع إليها، مثلا
لو دار الأمر بين أن يكون المطلوب من التعظيم هو ما يتحقق بمجرد القيام أو مع
شيء آخر فيكتفي بمجرد القيام ويرجع بالنسبة إلى الشيء الآخر إلى البراءة، لأن
88

التكليف في هذا القسم وإن تعلق بعنوان بسيط إلا أنه لما كان متحدا مع الأفعال
الخارجية المحصلة له، فكأن التكليف تعلق بها ابتداء.
ولا إشكال في الرجوع إلى البراءة لو كان التكليف متعلقا بها ابتداء، وإن كان
بينهما فرق من حيث إن التكليف لو كان متعلقا بها لما كنا دائرا مدار صدق عنوان
أصلا، ونرجع إلى البراءة عند الشك مطلقا، بخلاف ما لو كان متعلقا بالعنوان، فإنه
يرجع إليها بعد تحقق العنوان في الجملة، هذا غاية ما ذكر. ولكنه لا يخلو عن
إشكال بل منع، فتأمل.
إذ يمكن أن يقال: إن الشك في القسم الثاني ليس شكا في المحصل، لليقين
بحصول طبيعة التعظيم بمجرد القيام، والشك في أن الزائد على طبيعته هل هو
مطلوب حتى يحتاج إلى أمر آخر وراء القيام أم لا؟ ولا شك أن مقتضى إطلاق
الأمر بالتعظيم جواز الاكتفاء بما يتحقق به الطبيعة، ومع قطع النظر عن الإطلاق
الأصل يقتضي البراءة عن الزائد، هذا تمام الكلام في تصوير الجامع على القول
بكونها موضوعة للصحيحة.
وأما تصوير الجامع بناء على القول بكونها موضوعة للأعم من الصحيحة
والفاسدة ففي غاية الإشكال. وما قيل، أو يمكن أن يقال وجوه:
الأول: أن يكون الجامع الذي هو الموضوع له عبارة عن جملة من الأجزاء
كالأركان، بحيث يكون الزائد عليها دخيلا في المأمور به لا في التسمية بمعنى أن
غير الأركان لا تعتبر في التسمية لا وجودا ولا عدما، بل التسمية بالنسبة إليها
لا بشرط، إما بالنسبة إلى الشرائط فقط لو قلنا بالأعمية من حيث الشرائط فقط، أو
بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط لو قلنا بالأعمية من الجهتين.
وفيه - مضافا إلى أن استعمال لفظ الصلاة مثلا حينئذ في الواجد لجميع
الأجزاء والشرائط يصير من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، وهو
مشروط بكون الجزء من الأجزاء الرئيسة التي ينتفي الكل بانتفائه، ويكون للكل
تركب حقيقي، وهو مفقود في المقام -: أنه يلزم على هذا أن يكون انطباق الصلاة
89

على المجموع المركب من الأركان وغيرها انطباقا على ما هو صلاة، وهي
الأركان وعلى ما ليس بصلاة وهي غير الأركان، والحال أنه واضح الفساد إذ
الصلاة المشتملة على الأركان وغيرها لا شبهة في أن المجموع صلاة، لا أن
الصلاة هي خصوص الأركان مع أن هذا لا مطرد ولا منعكس، إذ يمكن صدق
الصلاة مع الاخلال ببعض هذه الأركان ومنع صدقها مع وجود هذه الأركان
والإخلال بسائر الأجزاء.
الثاني: أن الجامع هو معظم الأجزاء بحيث تكون التسمية دائرة مدار معظم
الأجزاء وجودا وعدما، وتكون بالنسبة إلى غيره لا بشرط كما ذكرنا.
وفيه: أنه إن أريد بمعظم الأجزاء مفهومه فلا معنى له، لأن الصلاة لم توضع
لمفهوم معظم الأجزاء قطعا. وإن أريد مصداق معظم الأجزاء، فإن أريد به أجزاء
معينة كالسبعة المعينة من أجزاء الصلاة، فيرجع الوجه الثاني إلى الوجه الأول، إلا
أنه على الوجه الثاني تكون الأركان أعم من الوجه الأول، إذ على الأول الأركان
عبارة عن الخمسة، وعلى الوجه الثاني تكون سبعة - مثلا - فعلى هذا يرد عليه ما
يرد على الوجه الأول غير الاطراد والانعكاس. وإن أريد به أجزاء غير معينة
كسبعة أجزاء من أجزاء الصلاة - مثلا - لزم أن يتبادل ما هو المعتبر في المسمى
عند الافتراق، لأن المدار في التسمية على تحقق سبعة أجزاء أيما فرض؟ وعدم
دخل ما فرض دخله فيه عند الاجتماع، وفيهما ما لا يخفى، فتأمل.
الثالث: أن يكون وضعها كوضع الأعلام الشخصية، فكما أنه لا يضر زيادة
بعض الأجزاء ونقيصتها بالتسمية فكذلك في المقام.
وفيه: أن التسمية في الأعلام الشخصية دائرة مدار الوجود الشخصي، فما دام
هذا الشخص من الوجود باق فالتسمية باقية سواء زيد بعض الاجزاء أو نقص،
بخلاف المقام فإن الوجود الشخصي ليس في البين، بل الموضوع له كلي.
الرابع: أن يكون الوضع فيها من قبيل أسماء المعاجين، فكما أن لفظ
ال‍ " ترشي " مثلا موضوع للمجموع المركب من عشرين جزء الذي يترتب عليه
90

أثر خاص، ولكن يتسامح في إطلاق هذا اللفظ على ما كان مشتملا على تلك
الخاصية أو المرتبة الضعيفة منها، ولو كان فاقدا لبعض الأجزاء، بل ولو تبدل
بعضها بشيء آخر، بل ولو كان مباينا مع [ما] وضع له اللفظ أولا من حيث الأجزاء
بأن كان ما وضع له اللفظ المركب من أجزاء مخصوصة تترتب عليها تلك
الخاصية، ثم أطلق على المركب من أجزاء أخر يترتب عليه هذه الخاصية بتسامح
من العرف، بل يمكن أن يقال: إن الواضع من أول الأمر وضع هذا اللفظ لكل ما
اشتمل على تلك الخصوصية، فالتوسعة إنما كانت من الواضع لا من العرف.
وعلى أي حال فكما أن اللفظ في مثل أسماء المعاجين موضوع لمركب
مخصوص مشتمل على خاصية ويتوسع في إطلاقه من الواضع الأولي أو من أهل
العرف على كل ما اشتمل على تلك الخاصية فكذلك ألفاظ العبادات موضوعة
ابتداء لمركبات مخصوصة، ثم أطلقت على غيرها بتوسع وتسامح من الشارع أو
المتشرعة من جهة المشابهة والمشاكلة.
وفيه: أن ما ذكر إنما يتم في المركبات التي لها آثار مخصوصة كالمعاجين
وسائر المركبات الخارجية التي وضعت ألفاظها ابتداء لمركبات خاصة واجدة
لتلك الآثار ثم أطلقت على غيرها، فما كان واجدا لآثارها توسعا من الواضع أو
غيره من أهل العرف حتى صارت حقيقة في غيرها أيضا بعد كثرة استعمالها فيها
أو قبل كثرة الاستعمال، بل بالدفعة أو الدفعات للأنس الحاصل من جهة المشابهة
في الصورة أو المشاكلة في الأثر، ولكن لا يجري في مثل ألفاظ العبادات التي
ليس الموضوع له فيها أولا مركبا خاصا، إذ الصحيح الواجد للأثر الذي يمكن أن
يقال: إنه الموضوع له الأولي الذي بمشابهته أطلق اللفظ على غيره ليس أمرا
خاصا، بل يختلف بحسب الأشخاص والحالات، فربما يكون الصحيح في حق
شخص فاسدا في حق غيره، وكذا الصحيح في حال يكون فاسدا في حال آخر،
مع أن الفاسد ليس له أثر حتى يصح استعمال اللفظ فيه، من جهة مشابهته مع
الصحيح في الواجدية للأثر، فتدبر.
91

الخامس: أن يكون حال ألفاظ العبادات كحال الألفاظ الموضوعة للمقادير،
فكما أنها وضعت لمقادير مخصوصة ثم صارت حقائق فيما كان زائدا أو ناقصا
عنها بمقدار يتسامح، أو أنها وضعت من أول الأمر لما كان بذلك المقدار الخاص،
ولما كان زائدا أو ناقصا عنه بمقدار يتسامح عرفا.
وإن كان الملحوظ حين الوضع هو المقدار الخاص إلا أن اللفظ لم يوضع
لخصوصه بل للأعم منه ومن الزائد والناقص بمقدار يتسامح.
والفرق بين هذا الوجه وسابقه أن تطبيق المفهوم على المصداق بناء على
الوجه السابق إنما هو بتوسعة في المفهوم حتى يشمل ذلك المورد، فإن لفظ
ال‍ " ترشي " الذي هو موضوع لمركب خاص واجد لأثر خاص إنما وسع مفهومه
بإرادة ما كان واجدا لذلك الأثر من باب الاستعارة على مذهب السكاكي (1).
ولأجل هذا طبق على ذلك المركب الخاص من جهة كونه واجدا لذلك الأثر،
ولكن في هذا الوجه لم يوسع المفهوم، بل نزل الفاقد منزلة الواجد بناء على أن
يكون الوضع فيها من أول الأمر لخصوص المقدار المخصوص، وأما لو كان الوضع
فيها للأعم من الواجد والفاقد فهو من قبيل الوجه السابق.
والحاصل: أن تطبيق المفهوم على ما ليس مصداقه حقيقة لابد أن يكون إما
بتوسعة في المفهوم، أو بتنزيل المصداق الفاقد لما اعتبر في المفهوم منزلة الواجد.
وفيه: أن في المقادير لما كان الموضوع له مقدارا معينا أو ما يقرب منه في
طرف الزيادة والنقيصة يمكن ذلك فيها بأن ينزل الفاقد منزلة الواجد، ويطلق اللفظ
بناء على القول بأن الموضوع له فيها مقدار معين. وأما على القول بأن الموضوع له
فيها من أول الأمر هو ما يقرب منه في طرف الزيادة فليس إطلاقه على الزائد أو
الناقص بذلك المقدار من باب تنزيل الفاقد للواجد أو تنزيل الواجد لما زاد بمنزلة
الفاقد، بل اللفظ موضوع للأعم مما بين الحدين كما إذا قلنا: إن لفظ الربع - مثلا -

(1) مفتاح العلوم: علم البيان في الاستعارة ص 156.
92

موضوع لما لم يكن ناقصا عن خمسة عشر مثقالا، ولم يكن زائدا على عشرين
مثقالا، فحينئذ إطلاقه على ما بين الحدين إطلاق على معناه الحقيقي بلا عناية
وتنزيل، وإنما التنزيل والعناية فيما إذا قلنا بأنه موضوع - مثلا - لسبعة عشر مثقالا.
وعلى هذا فالموضوع له فيها أمر منضبط معين يتسامح في إطلاقه على ما زاد
وما نقص عنه بالمقدار الذي يتسامح، وهذا بخلاف العبادات التي قد عرفت أن
الصحيح منها له عرض عريض، وأمر غير مضبوط فضلا عن الأعم من الصحيح
والفاسد، فلا يمكن تنظير العبادات بالمقادير أيضا، فتدبر.
هذا تمام الكلام فيما قيل في مقام إمكان تصوير الجامع بناء على القول
بالأعم، ولكن الحق والإنصاف هو إمكانه، وذلك لبداهة صحة تقسيم الصلاة
- مثلا - إلى الصحيحة والفاسدة، وهذا التقسيم موقوف على تصوير الجامع الذي
هو المقسم، ولو قلنا بكونه معنى مجازيا وأن التقسيم أعم مما كان المقسم حقيقة
بالنسبة إلى الأقسام كما هو معنى التقسيم، أو مجازا بأن يكون القسم هو ما يطلق
عليه هذا اللفظ أعم من أن يكون حقيقة أو مجازا.
وعلى أي حال فيما لم يتصور الجامع لم يصح التقسيم، مضافا إلى ما ارتكز
في الأذهان من أن للعبادات صحيحة وفاسدة وفاسد الشيء ليس كل ما لا يترتب
عليه أثر ذلك الشيء، فإن الماء لا يترتب عليه أثر الخل، والحال أنه لا يمكن
أن يقال: أنه فاسد الخل، بل فاسد الشيء عبارة عما كان من حقيقة ذلك
الشيء، ولا يترتب عليه أثره المرغوب عنه، فلو لم يكن جامع بين صحيح
الشيء وفاسده لما ارتكز هذا في الأذهان، وهذا الأرتكاز كاف في إمكان
تصوير الجامع ولو لم نقدر على إثباته تفصيلا والحال أنه يمكن أن يقال في
مثل الصلاة إنها عبارة عن عنوان قصدي كعنوان التعظيم، وهو التذلل والخضوع
والتواضع من العبد للمولى عند حضوره لديه والتوجه إلى حضرته، كما في حضور
العبيد الظاهرية عند مواليهم وكحضور الرعايا عند السلاطين، وهذا العنوان
القصدي لابد له من مظهر، وإلا فمجرد القصد بلا مظهر لا أثر له كما في التعظيم،
93

فإنه لو لم يصدر فعل خارجي من المعظم بالنسبة إلى المعظم إليه، بل كان مجرد
الأمر والعنوان القصدي لا يترتب عليه أثر، ولا يصدق عنوان التعظيم، كذلك
الصلاة عنوان قصدي وهو التذلل والخضوع من العبد بالنسبة إلى المولى عند
حضوره لديه.
ولكن هذا العنوان القصدي لابد له من مظهر خارجي، وهو يختلف بحسب
أنظار الأشخاص والطوائف، بل بحسب نظر العرف والشرع فرب فعل، لا يكون
مظهرا لهذا العنوان عند أحد كالنوم وأمثاله عند المولى، فإنه ليس فعلا مناسبا لذلك
العنوان القصدي عند أحد، وربما يكون فعلا مناسبا لذلك العنوان عند شخص أو
طائفة دون شخص أو طائفة أخرى، كالقيام عند المولى أو رفع اليد أو رفع العمامة
وأمثالها. وربما يكون فعلا مناسبا لذلك العنوان عرفا، وليس مناسبا له عند الشارع
كما في التكتف.
وربما تكون الشرائع أيضا مختلفة في اعتبار الأفعال المناسبة لذلك العنوان،
مثل الاكتفاء في إظهار هذا العنوان بالقيام فقط أو القنوت وأمثالهما، ولما كان
شرعنا أكمل الشرائع اعتبر في مقام إظهار هذا العنوان تمام الأفعال المناسبة لذلك
العنوان القصدي الذي هو عبارة عن التذلل والخضوع من القيام والركوع والسجود
وغيرها من الأفعال والأقوال.
فعلى هذا الصلاة عنوان قصدي يظهره العبد عند حضور المولى بفعل خارجي
مناسب له، فإن كان اظهاره بالأفعال والأقوال والكيفيات التي اعتبرها الشارع
كانت صلاة صحيحة، وإلا كانت فاسدة.
فعلى ما ذكرنا يمكن أن يخترع كل شخص صلاة من عند نفسه بأن يجعل فعلا
خاصا مظهرا لذلك العنوان بجعله واختراعه، ويكون صلاة حقيقة إلا أنها صلاة
فاسدة من جهة عدم كونها بالكيفية التي أمر بها الشارع، وحينئذ فيمكن أن يكون
الصلاة محرمة ذاتا فإن صلاة الحائض صلاة حقيقة، إلا أنها لما لم تكن في حال
94

أمر بها الشارع كانت فاسدة، بل محرمة لكونها منهيا عنها في تلك الحالة، ومع ذلك
لا تخرج عن كونها صلاة حقيقة، كما لا تخرج التحية عن كونها تحية لو نهى عنها
المولى والمحيى في حال، وكذا التعظيم لا يخرج عن كونه تعظيما لو نهى عنه
المعظم إليه في حال لغرض، وهكذا الكلام في الحج فإنه عبارة عن الوفود إلى
فناء المولى والقصد إلى بيته الذي اتخذه لنفسه وأضافه إلى جنابه فإن كان هذا
الوفود بالكيفيات المقررة من الشارع كان حجا صحيحا، وإلا كان حجا فاسدا لا
أنه ليس بحج.
فعلى هذا ما يصدر عنهم في زمان الجاهلية من الحج بالكيفيات المخصوصة
كانت متداولة عندهم كان حجا حقيقة، كما أن ما يصدر من الأفعال التي يعتقدون
أنه من الكيفيات التي يناسب أن يظهر منها التذلل والخضوع عند المصلي له صلاة
حقيقة وإن كانت فاسدة من جهة مخالفتها مع الكيفية التي اعتبرها الشارع.
الرابع: أن الظاهر أن الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات كلاهما عامان
لا أن الوضع والموضوع له خاصان، أو الوضع عام والموضوع له خاص حتى
يمكن أن يقال: إنه لا حاجة إلى تصوير الجامع سواء قلنا بأن الوضع للصحيح أو
للأعم، وإنما الحاجة إليه على تقدير كون الوضع والموضوع له عامين، وأما على
تقدير كونهما خاصين فكل واحد من الأفراد الصحيحة على قول الصحيحي، أو
الأعم على قول الأعمي، موضوع له بوضع مستقل شخصي بناء على الاشتراك
اللفظي، أو بوضع واحد لجميع الأفراد بناء على القول بكون الوضع عاما
والموضوع له خاصا فلا حاجة إلى تصوره.
ولكن لا يخفى أنه بناء على القول بالاشتراك اللفظي لا حاجة إلى تصوره
وأما بناء على القول بأن الوضع عام والموضوع له خاص، فنحتاج إليه أيضا.
الخامس: أن ثمرة هذا النزاع هو عدم جواز التمسك بالإطلاقات بناء على
القول بأنها موضوعة للصحيحة وجوازه بناء على القول بأنها موضوعة للأعم فيما
شك في جزئية شيء أو شرطيته بعد إحراز الصدق وإطلاق الاسم، وذلك لأنها لو
95

كانت موضوعة للصحيحة فكل ما يحتمل دخله في الصحة فلا بد من اتيانه، إذ لو
لم يأت به فيشك في الصحة والشك في الصحة شك في التسمية، بخلاف ما لو
كانت موضوعة للأعم، فإنه بعد الاتيان بما يصدق عليه الاسم لو شككنا في جزئية
شيء أو شرطيته يمكن التمسك بالإطلاق لو كان إطلاق وشرائط التمسك به
موجودة بأن يكون إطلاق في مقام البيان، ولم يكن قدر متيقن في البين.
والحاصل: أنه بناء على القول الصحيحي الخطابات مجملة، وبناء على القول
الأعمي ليست مجملة لو كان لها إطلاق وكان في مقام البيان ولم يكن له قدر
متيقن. فالفرق بينهما إنما هو في إمكان التمسك وعدم إمكانه.
ولا يخفى أن هذه الثمرة فرضيه لا تحقق لها في الخارج، إذ تحققها فرع كون
الإطلاقات في مقام البيان، والحال أنها ليست كذلك، بل في مقام التشريع والحث
والترغيب إلى هذه العبادات فمثل: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (1) و (لله على
الناس حج البيت) (2) و (كتب عليكم الصيام) (3) وغيرها ليست إلا في مقام
تشريعها وجعلها، وأما تفصيلها من حيث الأجزاء والشرائط فلابد أن يثبت من
دليل خارج.
وربما أشكل في المقام بأنه على القول الأعمي أيضا لا يمكن التمسك
بالاطلاق، لوجهين:
أحدهما: أنه لا إشكال في أن المطلوب لا يكون إلا صحيحا، لأن تعلق الأمر
قرينة على إرادة الصحيحة، ففي مثل قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) كأنه قيل:
أقيموا الصلاة الصحيحة، فيكون حال قوله: (أقيموا الصلاة) بناء على القول
بالأعم حاله فيما إذا قلنا بأن الصلاة موضوعة للصحيحة فكما لا يمكن التمسك
بالاطلاق على القول بكونها موضوعة للصحيحة فكذلك على القول بكونها
موضوعة للأعم.

(1) البقرة: 43.
(2) آل عمران: 97.
(3) البقرة: 183.
96

وفيه: أنه من باب اشتباه المفهوم بالمصداق وهذه المناقشة نشأت من هذه
الجهة، إذ الصلاة على هذا القول لم تقيد بمفهوم الصحيحة حتى يكون من التقييد
بالمجمل الذي يسري إجماله إلى المطلق، بل قيدت بمصداق الصحيحة.
فعلى هذا الصحيحة التي هي مطلوبة ليست إلا ما كانت واجدة لتمام الأجزاء
والشرائط التي ثبت اعتبارها في المأمور به بالموازين اللفظية، فبعد الإتيان بما
يعتبر دخله في التسمية. وما ثبت اعتباره بالأدلة الخارجية نشك في أنه هل شيء
آخر دخيل في المأمور به أم لا؟ فنتمسك بالإطلاق وبأصالة عدم دخل شيء آخر
على أن الصحيحة عبارة عما اشتملت على ما يقتضيها الإطلاق والأدلة الخارجية
المثبتة لبعض الأجزاء والشرائط، وأما غيرها من الأجزاء والشرائط المشكوكة
فليست معتبرة في الصحة.
الثاني: أن التمسك بالإطلاق في المقام بناء على قول الأعمي من قبيل
التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية كما أنه لو قال المولى، أكرم العلماء ولا
تكرم الفساق، وشككنا في أن " زيد " الذي هو من أفراد العلماء فاسق أم لا لا
يمكن التمسك بالعموم، بناء على القول بعدم جوازه كما هو مختار المحققين،
فكذلك في المقام بعد العلم بأن الفاسد خارج عن الإطلاق وهو ليس بمطلوب لا
يمكن التمسك بالإطلاق مع الشك في أنه صحيح أو فاسد.
وفيه: ما عرفت في الجواب عن الوجه الأول، وحاصله: أن الفاسد الذي هو
خارج عن الاطلاق هو مصداق الفاسد، وهو ليس إلا ما كان فاقدا لما ثبت
اعتباره في المأمور به بالموازين اللفظية من أصالة الاطلاق وأصالة عدم دخل
شيء آخر فيه، فتدبر.
ثم إنه ربما قيل في المقام بأن الثمرة تظهر بين القولين في جواز الرجوع إلى
البراءة بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط المشكوكة بناء على القول بكونها موضوعة
للأعم وعدم جواز الرجوع إليها بناء على القول بكونها وضعها للصحيح.
وفيه ما لا يخفى، فإن النزاع في الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال فيما إذا شك
97

في دخل شيء في المأمور به يجري على كل من القولين فيمكن للأعمي أن يقول
بأن المرجع هو الاشتغال، وللصحيحي أن يقول بأن المرجع هي البراءة ولذا
المشهور قائلون بأنها موضوعة للصحيحة ومع ذلك يرجعون إلى البراءة عند
الشك، وذلك لأنه لو كان التكليف بحدوده معلوما وكان الشك في الامتثال
والخروج عن عهدة هذا التكليف المعلوم فالمرجع هو الاحتياط والاشتغال، وإن
لم يكن التكليف بحدوده معلوما سواء كان من جهة فقد النص أو اجماله أو
تعارضه فالمرجع هي البراءة فالنزاع في الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال بالنسبة
إلى الجزء أو الشرط المشكوكين في الأقل والأكثر الارتباطي في أن التكليف
بحدوده معلوم، ولابد من الخروج عن عهدة هذا التكليف كما هو مختار القائل
بالاشتغال، أو أنه بالنسبة إلى الجزء أو الشرط المشكوكين التكليف ليس بمعلوم،
ويرجع إلى البراءة الشرعية أو العقلية أيضا في نفي التكليف بالنسبة إليهما كما هو
مختار القائل بالبراءة.
وهو الحق كما حققنا في محله من جريان البراءة الشرعية، بل العقلية أيضا،
وأن العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر ينحل إلى علم تفصيلي
بوجوب الاقل وشك بدوي بالنسبة إلى [الأكثر] وأجبنا عن الإشكال الوارد على
الانحلال بتقريبين، فراجع. وربما قيل بظهور الثمرة في النذر، فلو نذر أحد أن
يعطي شيئا لمن يصلي لا يجوز اعطاؤه إلا بعد إحراز صحة صلاته بناء على القول
بأنها موضوعة للصحيحة، ويجوز اعطاؤه وإن لم تحرز صحتها بعد صدق الاسم،
بناء على القول بكون وضعها للأعم.
وفيه: - مع أن النذر لو كان لمن يصلي صلاة صحيحة لا يجوز أعطاؤه إلا بعد
إحراز صحة صلاته، ولو قلنا بأنها موضوعة للأعم، ولو كان للأعم فمن كانت
صلاته صحيحة أو يأتي بصورة الصلاة كما هو الغالب يجوز اعطاؤه له، ولو قلنا
بأنها موضوعة للصحيحة فالمدار على قصد الناذر، سواء قلنا بأن الوضع للصحيح
أو للأعم - أن هذه ليست ثمرة المسألة الأصولية، إذ ثمرة المسألة الأصولية أن
98

تكون نتيجتها واقعة في طريق الاستنباط، وهنا ليست كذلك، لأن الحكم الكلي
الإلهي - وهو أن الوفاء بالنذر لابد أن يكون بايجاد متعلقه - معلوم.
وهذا النزاع لا يترتب عليه أثر إلا تشخيص صغرى من صغريات هذا
الحكم الكلي، فالصحيحي يقول: إن مصداق الوفاء بالنذر إنما يتحقق باعطائه
بمن أحرزت صحة صلاته والأعمي يقول: إنه يتحقق بصدق الاسم، ولو لم
تحرز صحتها.
وكيف كان فقد استدل لكل من القولين بوجوه: بعضها مشترك بينهما، وبعضها
مختص بالصحيحي، وبعضها بالأعمي. أما المشترك كالتبادر فإنه استدل به
الصحيحي والأعمي، وكذلك صحة السلب وعدمها فإن الصحيحي يقول بأن
المتبادر من الصلاة هو الصحيح، والأعمي يقول بأن المتبادر هو الأعم، وكذلك
الصحيحي يقول بأن الصلاة يصح سلبها عن الفاسدة والأعمي يقول بعدم صحة
سلبها عنها.
والكلام هنا تارة في مقام التصور وأخرى في مقام التصديق.
أما المقام الأول: فقد أشكل على القائلين بأن المتبادر هو الصحيح الواجد
لجميع الأجزاء والشرائط بأن المتبادر من الصلاة إما يكون مفهوم الجامع لجميع
الأجزاء والشرائط أو مصداقه.
لا سبيل إلى الأول، لأنه مستلزم لكون الصلاة مع الجامع للأجزاء والشرائط
مترادفين، ولا شك في بطلانه.
ولا سبيل إلى الثاني أيضا، لأن مصداق الصحيح أي الواجد لجميع الأجزاء
والشرائط مجمل، فكيف يمكن دعوى التبادر بالنسبة إليه؟
والجواب: أنه نختار الشق الثاني وهو أن المتبادر هو مصداق الصحيح الجامع
للأجزاء والشرائط لا مفهومه ولا يضر إجماله بكونه هو الموضوع له بعد تبينه
بعنوان من العناوين، ككونه مطلوبا أو مأمورا به، أو الناهي عن الفحشاء وغيرها
من العناوين المنتزعة من الصحيح التي من جملتها عنوان الجامع للأجزاء
99

والشرائط. وهذا المقدار من التبين كاف فيما نحن بصددة وهو إثبات الوضع
بالنسبة إليه وإن لم يكف في تعيين حقيقة الموضوع له وأنه أي شيء، نعم لو لم
يكن مبينا بوجه من الوجوه لا يمكن دعوى التبادر بالنسبة إليه.
والحاصل: أنه يكفي في دعوى التبادر وانسباق الصحيح إلى الذهن من لفظ
الصلاة وأمثالها مع كون المقصود هو مصداق الصحيح لا مفهومه تبين المصداق
وإمكان الإشارة إليه بأحد العناوين المذكورة وإن لم يكن بحقيقته معلوما، فلا
يشكل بأن دعوى تبادر الصحيح تتناقض مع الإجمال الذي [هو] لازم القول بأن
الموضوع له هو الصحيح، فكيف يمكن دعوى التبادر بالنسبة إلى أمر غير معلوم؟
لأن التناقض إنما يلزم لو لم يكن المعنى الموضوع له مبينا لا بحقيقته ولا بوجه من
وجوهه، وأما إذا كان مبينا بوجه من الوجوه فلا يلزم، وهنا الموضوع له مبين
بأزيد من وجه واحد كما عرفت.
فعلى هذا لا مانع من دعوى تبادر الصلاة الصحيحة من لفظ الصلاة المجردة
عن القرينية، إما في لسان الشارع بناء على القول بثبوت الحقيقة الشرعية أو في
لسان المتشرعة في هذه الأزمنة المتأخرة الملازم للوضع في كلام الشارع، أو
كونها مجازا مشهورا خصوصا في زمان الصادقين، للعلم بأنه لا اختلاف بين هذه
الأزمنة المتأخرة وزمان الصادقين، فلو كان لها وضع ناش من كثرة الاستعمال في
هذه الأزمنة لكان في زمن الصادقين أيضا كذلك. فإذا تبادر الصحيح من لفظ
الصلاة في هذا الزمان وأثبتنا بالتبادر كونها موضوعة للصحيحة في هذا الزمان
نعلم بأنه كان الأمر كذلك في زمان الصادقين، لأن كثرة الاستعمال الموجبة
لحصول الوضع التعيني في زمانهما يقينا تحققت بواسطة كثرة الحاجة إلى
استعمالها في مقام بيان أحكامها، والحث والترغيب إليها وبيان آثارها وآدابها،
فكونها حقيقة في المصححة في هذه الأزمنة مستلزم لكونها حقيقة في زمانهما،
وأما بالنسبة إلى الزمان السابق عليهما وإن لم يستلزم كونها حقيقة إلا أنه يستلزم
كونها مجازا مشهور.
100

وعلى أي حال هذا القدر يكفي في حملها على الصحيح لو صدرت مجردة
عن القرينة، فتأمل.
وقد أشكل على الأعمي بأنه كيف يمكن دعوى تبادر الأعم، والحال أنه لا
يمكن فرض الجامع وتصويره بناء على القول بالأعم؟
والجواب عنه: تارة بمثل ما ذكرنا في دعوى تبادر الصحيح، وهو أن الجامع
بين الصحيح والفاسد وإن لم نتعقله بحقيقته وكنهه إلا أنا تعقلناه بوجه من الوجوه،
ويمكن لنا الإشارة إليه بعناوينه ككونه قابلا للتقسيم إلى الصحيح والفاسد وأمثاله،
وأخرى بما ذكرنا من تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة.
والحاصل: أنه إما أن نقول بكفاية التصور الإجمالي للجامع في دعوى التبادر
ولا يحتاج إلى تصوره بكنهه وحقيقته، بل يكفي التصور بالوجه، أو نقول بأن
الجامع متصور تفصيلا كما ذكرنا سابقا من أن الصلاة عبارة عن حضور خاص
وإقبال مخصوص. وهي عنوان عرفي قصدي يختلف الشرع والعرف في كيفيته،
بل الشرائع أيضا مختلفة، فالصحيح منه ما كان واجدا لتمام الأمور التي اعتبرها
الشارع، والفاسد ما كان فاقدا لها، هذا بحسب التصور.
وأما بحسب التصديق: فالظاهر أن المتبادر من لفظ الصلاة المجرد عن
القرائن الخارجية الحالية والمقالية هو الأعم من الصحيح والفاسد، إذ المرتكز في
الأذهان أن الصلاة عبارة عن أمر قابل لأن يتنوع إلى نوعين، ولهذا ينقسم إلى
القسمين. فصحة التقسيم التي جعلوها دليلا على كونها موضوعة للأعم ليست إلا
من جهة هذا الارتكاز، لا أنها دليل مستقل.
وقد استدل الصحيحي بصحة سلب الصلاة عن الفاسدة والأعمي بعدم صحة
سلبها عنها. فالصحيحي يقول بعدم صدق الصلاة بالنسبة إلى الفاسدة، وصحة
سلبها عنها، وعدم صحة حملها عليها. والأعمي يقول بعدم صحة سلبها عنها،
وصحة حملها عليها، وصدقها عليها. فالشبهة هنا شبهة في الصدق لا المصداق.
ولا يخفى أن كلتا الطائفتين متسالمتان على أن الصلاة يصح سلبها عن
101

الفاسدة، ويصح حملها عليها أيضا، فإن إطلاق الصلاة على الصلاة الفاسدة عند
الصحيحي ليس كإطلاقها على الجدار مثلا، وكذلك إطلاقها على الفاسدة عند
الأعمي ليس كإطلاقها على الصحيحة. وبعبارة أخرى يصح سلبها عن الفاسدة
عند الأعمي، ويصح حملها على الفاسدة عند الصحيحي، فكلتا الطائفتين متفقتان
على صحة الحمل وعدم صحة الحمل، ولكن النزاع في أن الحمل إنما هو بالعناية
كما يقول الصحيحي ويكون إطلاق الصلاة عليها من جهة المشابهة في الصورة
كإطلاقها على صلاة من يستهزئ بالمسلمين ويقلدهم بإيجاد صورة الصلاة، أو أن
السلب وعدم صحة الحمل إنما هو بالعناية كما يقول الأعمي، ويكون سلب الصلاة
عن الفاسدة إنما هو بلحاظ عدم ترتب الأثر المقصود عليها، كسلب الانسانية عن
البليد، وسلب الخلية عن خل لا يترتب عليه أثره المقصود منه مثلا.
والإنصاف أن السلب إنما هو من جهة العناية لا الحمل، فإن سلب الصلاة
- مثلا - عن صلاة المخالف إنما هو من جهة عدم ترتب الأثر المقصود، فليس
سلبها عنها كسلبها عن صلاة المستهزئ بالمسلمين، ولا حملها عليها كحملها
عليها. فإن سلبها عن صلاة المستهزئ حقيقة، وحملها عليها مجاز، بخلاف صلاة
المخالف فإنها على العكس، فتأمل.
وأما الاستدلالات الخاصة بكل واحد من الطرفين: فقد استدل للصحيحي
بالأخبار الدالة على ثبوت بعض الآثار والخواص لهذه الماهيات، كقوله: الصلاة
عمود الدين (1)، أو: معراج المؤمن (2) أو: تنهى عن الفحشاء (3)، و: الصوم جنة من
النار (4)، وأمثالها.
فلو كانت الصلاة - مثلا - إسما للأعم فلا بد إما من تقييد الصلاة في هذه
الأخبار بالصلاة الصحيحة، وهو خلاف ظاهر القضية اللفظية، أو الالتزام بوجود

(1) عوالي اللآلي: ج 1 ص 322 ح 55.
(2) الاعتقادات للمجلسي: ص 39.
(3) بحارالأنوار: ج 82 ص 198.
(4) الفروع من الكافي: كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل الصوم والصائم ح 1 ج 4 ص 62.
102

تلك الآثار والخواص في الفاسدة، وهو خلاف القضية العقلية حيث إن العقل حاكم
بعدم ترتب تلك الآثار على الفاسدة، ولا ينبغي المصير إلى شيء منهما.
وأما لو كانت إسما للصحيحة فلا يلزم شيء من الأمرين، فيؤخذ بظاهر
القضية اللفظية وإطلاقها الدالة على وجود تلك الخواص والآثار لمطلق الطبيعة،
ولا يكون الأخذ بإطلاقها منافيا لحكم العقل.
ولكن فيه أن هذه القضايا ليست إلا قضايا اقتضائية مثل القضايا الدالة على
اثبات بعض الخواص والآثار لبعض المعاجين، كقولنا: المعجون الفلاني مسهل
للصفراء أو مقو أو مفيد لأثر كذا، فإن قولنا: المعجون الفلاني مسهل للصفراء معناه
أنه مقتض لهذا الأثر لو أجمعت فيه شرائط التأثير وارتفعت موانعه، فكذا قولنا:
" الصلاة معراج المؤمن " (1) معناه أنها مقتضية لهذا الأثر، ويترتب عليها لو أجمعت
الشرائط وارتفعت الموانع حتى على القول الصحيحي أيضا، إذ تلك الآثار قد
لا تترتب على الصحيحة أيضا، بل لابد في ترتبها من اجتماع بعض الأمور
وارتفاع بعض الأمور. وإذا كان الأمر كذلك أي لابد من حملها على الاقتضائية
فلا مانع من الالتزام بأنها اسم للأعم، ويكون معنى قوله: " الصلاة معراج المؤمن "
أو: " تنهى عن الفحشاء " (2) أنها مقتضية لهما. والاقتضاء كما يكون في الصحيحة
فكذلك في الفاسدة أيضا، فكما أن النهي عن الفحشاء يترتب على الصحيحة إذا
أجمعت الشرائط وارتفعت الموانع فكذلك يترتب على الفاسدة أيضا إذا أجمعت
فيها الشرائط وارتفعت الموانع.
والحاصل: أنه لا يسلم كون هذه القضايا قضايا مطلقة، بل لا يبعد القول
بكونها مهملة كقوله: (أقيموا الصلاة) (3) وغيره مما هو في مقام أصل الجعل
والتشريع. وعلى فرض تسليم كونها مطلقة لا نسلم كونها قضايا فعلية، بل الظاهر
أنها قضايا اقتضائية حتى على القول الصحيحي أيضا، إذ لا ملازمة بين الصحة

(1) الاعتقادات للمجلسي: ص 29.
(2) بحارالأنوار: ج 82 ص 198.
(3) النور: 56.
103

بالمعنى المتنازع فيها وترتب الآثار المذكورة، لأن درجة القبول غير درجة
الصحة، فيمكن أن يكون عمل صحيحا أي مسقطا للقضاء والإعادة، ولم يكن
مقبولا كما يظهر بالمراجعة إلى الأخبار والآثار. وأيضا استدل للقول الصحيحي
بالأخبار الدالة على نفي طبيعة العبادة وماهيتها بمجرد فقد جزء من أجزائها أو
شرط من شروطها، كقوله: " لا صلاة إلا بفاتحة " (1)، و: " لا صلاة إلا بطهور "، (2)
وأمثالهما بتقريب أن كلمة " لا " موضوعة لنفي الجنس لا الأعم منه ومن نفي صفة
من صفاته أو لخصوص نفي الصفات كالصحة والكمال وأمثالهما، ولا يصار إلى
غير معناها الحقيقي وهو نفي الجنس والماهية إلا بدليل، والمقصود أن كلمة " لا "
موضوعة لنفي الحقيقة، والأصل في الاستعمال الحقيقة.
فالاستدلال بهذه الأخبار إنما يتم بأمرين:
أحدهما: أن المستعمل فيه لكلمة " لا " هو نفي الحقيقة لا نفي الصفة.
والثاني: أنها استعملت فيه حقيقة لا ادعاء وبعناية.
ولكن يشكل هذا الاستدلال بهذه الأخبار مع قطع النظر عن الإشكال الذي
أورده المحقق عليه، لغلبة استعمال هذا التركيب في نفي الصفة (3)، فلا يمكن حمله
على نفي الحقيقة، لأن الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب، إذ فيه ما لا يخفى.
وكذا الاستدلال بالأخبار السابقة المثبتة لبعض الآثار والخواص لتلك
الماهيات الذين مرجعهما إلى التمسك بأصالة الحقيقة عند الشك بأن أصالة
الحقيقة إنما هي معتبرة من جهة بناء العقلاء، وبناؤهم على التمسك بها عند الشك
في المراد.
وأما إذا كان المراد معلوما وشك في أنه هل أريد بنحو الحقيقة أو المجاز كما
في المقام؟ فإن المراد هو الصحيح في كلتا الطائفتين، وإنما الشك في أنه أريد

(1) مستدرك وسائل الشيعة: ب 1 من أبواب القراءة في الصلاة ح 5 ج 4 ص 158.
(2) وسائل الشيعة: ب 1 من أبواب الوضوء ح 1 ج 1 ص 256.
(3) قوانين الأصول: ج 1 ص 47 س 4.
104

بنحو الحقيقة أو المجاز، فليس بناء العقلاء على التمسك بها، ولا يمكن إثبات
الوضع بها إلا على قول السيد (1) ومن تبعه، فتأمل.
وأيضا قد استدل للصحيحي بدعوى القطع بأن كل من اخترع مركبا يخترعه
صحيحا، إذ الحكمة الباعثة على الاختراع إنما هي باعثة على اختراعه صحيحا
بحيث يترتب عليه الأثر المقصود منه لا الأعم منه ومن الفاسد، وكما أن الحكمة
باعثة على اختراعه صحيحا، كذلك تقتضي وضع اللفظ لخصوصه لا للأعم منه
ومن الفاسد، لأن الغرض من الوضع إنما هو تفهيم المعنى المخترع في مقام بيان
أجزائه وآثاره وكيفية استعماله ونحوها، والشارع غير مستقل عن طريقة أهل
العرف في ذلك. وهذا الوجه جعله في التقريرات أحسن الوجوه وأمتنها ومطابقا
للوجدان والبرهان.
ولكن فيه أن الحكمة في مقام اختراع المركب تقتضي اختراعه صحيحا، لأنه
الذي يترتب عليه الأثر دون الفاسد، وأما الحكمة الباعثة على وضع اللفظ له وهو
التفهيم فلا تقتضي وضع اللفظ لخصوصه، إذ كما أن الغرض يتعلق بتفهيم الصحيح
قد يتعلق بتفهيم الأعم أو خصوص الفاسد، فبين الحكمتين فرق واضح.
وأما استدلالات الأعمي: فمنها مشتركة كالتبادر، وعدم صحة السلب، وقد
مضى الكلام فيهما.
وأما الاستدلالات الخاصة: فمنها الاستدلال بصحة تقسيم الصلاة إلى
الصحيحة والفاسدة. ولا ريب أن المقسم لابد أن يكون في تمام الأقسام، إذ
التقسيم عبارة عن ضم قيود متخالفة إلى مورد القسمة ليحصل بانضمام كل قيد
قسم. والإيراد عليه بما قيل من أن التقسيم يدل على كون اللفظ موضوعا للأعم لو
لم يدل دليل على كونه موضوعا للصحيح، وقد عرفت قيام الدليل على كونه
موضوعا له مدفوع، بأن عمدة أدلة الصحيحي أمران: التبادر وصحة السلب، وقد
عرفت ما فيهما.

(1) نقله عنه في مفاتيح الأصول: ص 15 س 17.
105

نعم، يمكن الايراد عليه بأنه يحتمل أن يكون المراد بالمقسم المعنى الحقيقي،
وحينئذ يدل [على] المدعى، ويحتمل أن يكون المراد به ما استعمل فيه اللفظ أعم
من أن يكون معنى حقيقيا أو مجازيا، وحينئذ لا يدل على المدعى.
والجواب: بأن الأصل في الاستعمال الحقيقة مدفوع بما عرفت سابقا من أن
بناء العقلاء على التمسك بأصالة الحقيقة عند الشك في المراد، وأما إذا كان المراد
معلوما وشك في أنه هل أريد بنحو الحقيقة أو المجاز؟ فليس بناؤهم على التمسك
بها، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأن الصلاة التي تنقسم إلى الصحيحة والفاسدة
معلوم أن المراد بها الأعم، والشك في أن استعمالها في الأعم هل هو بنحو الحقيقة
أو المجاز؟ فتدبر.
ولكن الإنصاف أن تقسيم الصلاة إلى الصحيحة والفاسدة إنما هو من جهة
أن المرتكز في الأذهان منها امر يتنوع إلى النوعين، ولذا ينقسم إلى القسمين.
فمرجع الاستدلال بصحة التقسيم إلى ذلك لا أنها بنفسها دليل مستقل، والظاهر أنه
لا ريب فيه.
ومنها: الاستدلال ببعض الأخبار التي استعملت الصلاة وغيرها في الأعم من
الصحيحة والفاسدة، بل في خصوص الفاسدة كقوله عليه الصلاة والسلام: بني
الإسلام على خمس الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ولم يناد أحد بشيء
كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه، فلو أن أحدا صام نهاره وقام
ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صلاة ولا صوم (1).
فإن استعمال الصلاة وغيرها في قوله: بني الاسلام: الظاهر منه الأعم من
الإيمان، إنما هو في الأعم من الصحيحة والفاسدة على ما قيل (2)، ولكن [لا] يخفى
ما فيه من التأمل.
وأما في قوله: " فأخذ الناس بأربع " يعني بالصلاة والزكاة والحج والصوم، لأن

(1) الكافي: باب دعائم الاسلام ح 3 ج 2 ص 18 وذيل ح 5 ص 19 " نقلا بالمعنى ".
(2) قاله في مطارح الأنظار: ص 15، س 9.
106

المراد بالأربع الأربع من الخمس المذكورة سابقا لا مطلق الأربع. وفي قوله: فلو
أن أحدا صام نهاره وقام ليله... إلى آخره استعملت هذه الألفاظ في خصوص
الفاسدة بناء على ما هو المشهور من بطلان عبادة تاركي الولاية.
وفيه أن ما بني عليه الإسلام هو خصوص الصحيحة منها، والمراد من أخذ
الناس بأربع منها هو التسليم والقبول ولو لم يكن عمل على طبق القبول، لا الأخذ
الفعلي والعمل على طبقه. وعليه لا مانع من حمل قوله: فأخذ [الناس] بأربع على
الصحيح، فكأن المقصود من الرواية الشريفة هو أن الإسلام بني على أمور خمسة
فأخذ تمام الناس - أي المسلمين - بأربع منها بمعنى تسلموها وتقبلوها وترك
بعضهم الأمر الخامس وهي الولاية، فالأخذ بمعنى التسليم والقبول إنما تعلق بما
بني عليه الا سلام، وهو خصوص الصحيح، وهو لا يستلزم العمل فضلا عن
الصحيح منه، فكما أن أخذ الآخذين بالولاية إنما تعلق بالصحيح منها ولو لم يكن
فعلهم إياها صحيحا، بل ولو لم يكن لهم فعل على طبق أخذهم، فكذلك أخذ
التاركين للولاية إنما تعلق بالصحيح منها الذي بني عليه الإسلام، هذا بناء على أن
يكون المراد من الأخذ التسليم والانقياد والقبول كما هو الظاهر.
وعلى تقدير تسليم أن يكون المراد منه هو الأخذ الفعلي والعمل لا مجرد
التسليم، فيمكن أن يكون المراد منها هو الصحيح أيضا بناء على ما يظهر من
الأخبار الكثيرة، وقال به بعض وهو: أن الولاية شرط للقبول وحصول الثواب لا
الصحة، فيكون أخذهم وعملهم بها صحيحا وإن لم يترتب عليه الثواب والأثر، إذ
درجة القبول وحصول الثواب غير درجة الصحة بمعنى إسقاط القضاء والإعادة.
ويدل على كون عبادات تاركي الولاية صحيحة ما ورد في بعض الأخبار من
أن المخالف إذا استبصر يعيد زكاته بخلاف سائر عباداته (1)، فإعادته للزكاة من
جهة أنه وقع في غير محله، فتكون فاسدة ويجب إعادتها بخلاف باقي العبادات،

(1) وسائل الشيعة: ب 3 من أبواب المستحقين للزكاة ج 6 ص 148.
107

ولو كانت عباداتها كلها فاسدة فلا وجه للفرق بين الزكاة وغيرها، فالفرق إنما
هو من جهة أن اعطاءه الزكاة كان للمخالفين، وهم غير مستحقين لها فكان مثل
ما إذا أعطاها الغني، فلذا يجب عليه الإعادة كما أن المؤمن إذا صرف الزكاة
في غير مصرفه يجب عليه الإعادة، وأما باقي العبادات فلوقوعها صحيحة
لا يحتاج إلى الإعادة.
وتوهم كونهم كالكفار في سقوط الإعادة عنهم مدفوع، بأنهم فرقوا في سقوط
القضاء والإعادة بين ما إذا أتى المخالف بتلك العبادات على وجه الصحة على
مذهبهم فيسقطان عنه وبين ما إذا لم يأت بها أصلا أو أتى بها فاسدة على مذهبهم
فيجبان عليه، فلو كانوا مثل الكفار لكان اللازم سقوطهما عنه مطلقا، وعلى تقدير
تسليم فساد عباداتهم مطلقا يمكن أن يقال: إن المراد من أخذهم وعملهم هو
الأخذ بالصحيح وإن كان بحسب اعتقادهم ويكون من باب الخطأ في التطبيق،
فإنهم بحسب عقيدتهم الفاسدة إنما يأتون بما هو الصحيح الذي بني عليه الإسلام،
ولكنهم أخطأوا في التطبيق.
ويمكن أن يقال: إن محل النزاع بين الصحيحي والأعمي إنما هو بالنسبة إلى
الأجزاء والشرائط المعتبرة في المأمور به، وأن التسمية إنما وقعت بالنسبة إلى
الواجد لجميع الأجزاء والشرائط، أو الأعم منه ومن الفاقد لا بالنسبة إلى الشرائط
المعتبرة في المأمور والمكلف، فتدبر. هذا بالنسبة إلى الفقرة الأولى من الرواية
وهو قوله: فأخذ الناس بأربع... إلى آخره.
وأما بالنسبة إلى الفقرة الثانية فلا يتأتى بعض هذه الأجوبة، ولكن بعضها
الآخر كاف في دفع الاشكال:
ومنها: الاستدلال بقوله (عليه السلام): " دعي الصلاة أيام أقرائك " (1) فإنه قد أمر
الحائض بترك الصلاة في أيام الحيض، فإن كانت الصلاة اسما للأعم من الصحيح
والفاسد يمكن تعلق الأمر بفعلها وتركها لقدرتها على كلا الطرفين، بخلاف ما لو

(1) وسائل الشيعة: ب 3 من أبواب الحيض ح 4 ج 2 ص 529.
108

كانت إسما لخصوص الصحيح فإنه كما لا يمكن أمرها بفعلها كذلك لا يمكن أمرها
بتركها، إذ القدرة على الفعل والترك على حد سواء فما لا يكون فعله مقدورا لا
يكون تركه مقدورا أيضا، فكما أن الأمر بفعله تكليف بغير مقدور أمره بتركه أيضا
تكليف بغير مقدور.
وفيه: أولا: أن المراد من قوله: " دعي الصلاة " إنما هو الإرشاد إلى عدم
إمكانها منها في الخارج كقولك لمن أراد الطيران إلى السماء: لا تطر إلى السماء
فإنه كناية عن أنه لا تطر فإنك لا تقدر على الطيران إلى السماء. فعلى هذا المراد
من الصلاة في قوله: دعي الصلاة أيام أقرائك هو خصوص الصحيح وأمره بترك
الحائض إياها كناية عن عدم قدرتها عليها في تلك الحالة.
وثانيا: على فرض تسليم عدم كونه إرشاديا يمكن أن يقال: إن الأوامر
والنواهي في باب العبادات غيرية لبيان الجزئية والشرطية والمانعية، فالأمر بترك
الحائض للصلاة في حال الحيض الذي هو في معنى النهي عن فعلها في تلك
الحالة إنما هو لبيان مانعية الحيض بالنسبة إلى الصلاة.
فعلى هذا يكون المنهي عنه هي الصلاة الصحيحة من غير تلك الجهة أي من
غير جهة الحيض، فيستفاد منه أن الحيض مانع عن الصلاة فكأنه قال: أيها
الحائض اترك في حال حيضك ما لو وقعت في غير حال الحيض تكون صلاة
صحيحة، فلولا هذا النهي لما كان دليل على مانعية الحيض كما في قوله: لا تصل
فيما لا يؤكل لحمه (1)، وأمثاله مما يكون النهي لبيان المانعية، فتدبر.
مع أنه يمكن أن يقال: كما عرفت أن محل النزاع بين الصحيحي والأعمي هي
الصحة المعتبرة في ناحية المأمور به لا المأمور، فكما أنه يمكن أن لا يتعلق الأمر
والتكليف بالصلاة الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة في المأمور به
بالنسبة إلى شخص كالصبي بناء على عدم شرعية عباداته أو المجنون فكذلك

(1) وسائل الشيعة: ب 2 من أبواب لباس المصلي ح 6 ج 3 ص 251.
109

يمكن أن يتعلق النهي بها بالنسبة إلى بعض المكلفين، كالحائض من جهة عدم
قابليتها في تلك الحالة للعبادة وحضورها عند السلطان الحقيقي لا أن ما تفعله في
تلك الحالة ليست بصلاة أو ليس بصوم، بل ما تفعله من الصلاة والصوم في تلك
الحالة صلاة وصوم حقيقة إلا أنها غير لائقة للعبادة في تلك الحالة.
وعلى هذا يمكن القول بالحرمة الذاتية في العبادات من جهة أنه كما يمكن
أن لا تكون العبادة مطلوبة من بعض الأشخاص كالصبي والمجنون ولا مبغوضا
كذلك يمكن أن تكون العبادة مبغوضة ذاتا من بعض الأشخاص كالحائض
ونحوها، هذا.
مع أن الاستدلال بالأخبار المذكورة - على فرض تمامية الاستدلال - لا
يثبت إلا استعمال هذه الألفاظ في الأعم أو الفاسد، وهو لا يثبت كونها موضوعة
للأعم إلا على قول السيد ومن تبعه من أن الأصل في الاستعمال الحقيقة، وهو كما
ترى. فالمقصود من ذكر الأجوبة المذكورة إنما هو لبيان منع الاستعمال أيضا، وإلا
فأصل الاستدلال لا يضر بما هو مقصود الصحيحي، ولا نحتاج إلى الأجوبة
المذكورة على فرض تمامية الاستدلال، إذ هو لا يثبت إلا الاستعمال، وهو أعم.
ومنها: الاستدلال بصحة تعلق النذر وأخواته بترك الصلاة في الأمكنة
المخصوصة كالحمام وأمثاله، فلو كانت الصلاة إسما للأعم فلا إشكال في الصحة
ولزوم الحنث بفعلها في مكان تعلق النذر وأخواته بتركها فيه، وأما لو كانت إسما
للصحيحة فيشكل من جهة عدم القدرة عليها، لفساد الصلاة المنذور، فلا يلزم
الحنث أصلا، بل يلزم المحال، وذلك لأن صحة تعلق النذر متوقفة على كون فعل
متعلقه مقدورا للناذر، إذ لو لم يكن فعله مقدورا لم يكن تركه أيضا مقدورا، فلو
تعلق النذر بترك الصحيح لزم من صحة نذره عدم القدرة على فعله، لأنه لا يقع
- حينئذ - إلا فاسدة. وإذا صار فعله غير مقدور فيصير تركه الذي هو متعلق النذر
غير مقدور، وإذا صار تركه غير مقدور فيفسد النذر، لتعلقه بغير المقدور. فيلزم من
صحة النذر عدم القدرة على المنذور، ومن عدم القدرة على المنذور عدم صحة
110

النذر، فيلزم من صحة النذر عدم صحته.
وبعبارة أخرى صحة النذر متوقفة على كون متعلقه مقدورا، فإذا تعلق النذر
بترك صلاة الصحيح فيصير فعله غير مقدور من جهة صيرورته منهيا عنه، وإذا
صار منهيا يصير فاسدا، وإذا صار فاسدا يخرج عن كونه مقدورا، وإذا صار فعله
غير مقدور فيصير تركه - الذي [هو] متعلق النذر - غير مقدور، وإذا صار الترك غير
مقدور خرج عن قابلية تعلق النذر به، وإذا خرج عن قابلية تعلق النذر به فلا يتعلق
به النذر وإذا لم يتعلق به النذر يصير صحيحا، وإذا صار صحيحا يصح تعلق النذر
به، وإذا تعلق به النذر يصير غير مقدور، وإذا صار غير مقدور فلا يتعلق به النذر،
وهكذا فيلزم من وجود الشيء وهو صحة تعلق النذر عدمه، أي عدم صحة تعلق
النذر، وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال.
هذا تقريب المحالية واستلزام وجود الشيء لعدمه بالنسبة إلى صحة النذر،
وظهر أنه يلزم من صحة النذر عدم صحته ومن تعلقه عدم تعلقه ومن وجوده عدم
وجوده على اختلاف العبارات.
ويمكن تقريب الاستحالة واستلزام وجود الشيء لعدمه بالنسبة إلى صحة
الصلاة فإنه لو لم تكن الصلاة صحيحة لم يتعلق بها النذر، فلابد أن تكون صحيحة
حتى يتعلق النذر بتركها، وإذا كانت صحيحة وتعلق النذر بتركها يصير فعلها منهيا
عنها، وإذا صارت منهيا عنها فتكون فاسدة، وإذا صارت فاسدة لا يتعلق بها النذر،
وإذا لم يتعلق بها النذر فتكون صحيحة، وإذا كانت صحيحة فيتعلق بها النذر، وإذا
تعلق بها النذر فيصير فعلها فاسدا، وإذا صار فعلها فاسدا لكونه منهيا عنه لا يتعلق
به النذر، وهكذا فيلزم من فرض صحة الصلاة عدم صحتها، بل يمكن هذا التقريب
بالنسبة إلى الحنث أيضا، فإنه عبارة عن ايجاد ما تعلق النذر بتركه، فإذا تعلق
النذر بترك الصحيح فحنث النذر إنما هو بايجاد المنذور تركه، وايجاده منهي عنه
فيكون فاسدا، وإذا كان فاسدا فلا يكون ايجاده حنثا، فيلزم من وجود الحنث
عدمه، فتأمل.
111

ولكن فيه: أن الصحة المعتبرة في متعلق النذر وأخواته هو أن يكون المتعلق
واجدا لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة فيه مع قطع النظر عن الطوارىء
والعوارض الخارجية، فلو حلف أن لا يصلي في مكان تكره الصلاة فيه فإذا أوجد
الصلاة فيه جامعة لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة في الصلاة وعارية عن
الموانع فقد حنث النذر من جهة ايجاده ما تعلق النذر بتركه، وهي الصلا ة
الصحيحة أي الواجدة لتمام الأمور المعتبرة فيها في حد ذاتها، ومن حيث كونها
مأمورا بها وإن كانت فاسدة بملاحظة تعلق النذر بتركها وصيرورتها فاسدة من
تلك الجهة.
والحاصل: أن متعلق النذر هو الصحيح لا الأعم منه ومن الفاسد، ولكن المراد
به هو الواجد لتمام الأمور المعتبرة في حد نفسها والصلاة الصحيحة بهذا المعنى
مقدورة للناذر فعلا وتركا ولا يلزم من تعلق النذر بها محال.
ولا وجه على هذا للجواب عن الإشكال بما ذكر من أن الصحة المعتبرة
في متعلق النذر هي الصحة قبل تعلق النذر لابعده (1)، لأنه بناء على ما ذكرنا من
معنى الصحة لا فرق بين قبل تعلق النذر وبعده، إذ الصحة بمعنى واجدية الصلاة
لتمام الأمور المعتبرة فيها في حد ذاتها، ومن حيث كونها مأمورا بها لا الأمور
المعتبرة فيها من جهة الأمر أو المأمور حاصلة لها قبل النذر وبعده بلا تفاوت
بينهما، إلا أن يكون المراد به ما ذكرنا، كما أن المراد بكفاية الصحة التعليقية في
تعلق النذر هو ما ذكرنا.
ومن هنا ظهر أنه لو كان مراد الناذر ترك الصلاة الصحيحة الفعلية من حيث
نفسها ومن حيث الطوارىء لكان النذر باطلا، لعدم القدرة على متعلقه. مع أنه لو
تم هذا الاستدلال لدل على أن الصحيحة لا تكون متعلقا للنذر، وهو لا يدل على
أن الموضوع له لا يكون الصحيح كما هو المدعى.
فتحصل: أن الاستدلالات الخاصة من الطرفين غير وافية بإثبات المدعى،

(1) بدائع الأفكار: ص 153 س 8.
112

وإنما العمدة الدليلين المشتركين اللذين تمسك بهما كل من الطائفتين، وظهر منهما
أن الحق مع الأعمي بالتقريب الذي ذكرنا، فتأمل.
بقي هنا أمور:
الأول: أن أسامي المعاملات هل هي موضوعة للصحيحة أو للأعم؟ ولا يخفى
أن المراد بها ليس خصوص العقود، بل تعم الايقاعات، بل ما كان له سبب مركب
أيضا، فتعم التذكية ونحوها. وأن محل النزاع فيما إذا أريد منها الأسباب التي هي
أمور مركبة لا ما إذا أريد بها المسببات، فإنه لو كان المراد بها المسببات التي هي
أمور بسيطة لا تتصف بالصحة والفساد، بل بالوجود تارة وبالعدم أخرى.
ثم إن العبادات لما كانت أمورا مخترعة وألفاظها ألفاظا محدثة - بناء على
القول به - فالنزاع فيها في أن هذه الألفاظ موضوعة لخصوص الصحيحة.
أو للأعم منها ومن الفاسدة، على ما ذكر سابقا.
وأما المعاملات لما كانت أمورا عرفية معتبرة عند تمام الناس من أهل الملل
وغيرهم وألفاظها أيضا عرفية فالنزاع في أنها موضوعة للصحيحة أو الأعم ليس
في أنها عند الشارع موضوعة للصحيحة أو الأعم، إذ ليست المعاملات أمورا
شرعية، بل في أنها عند العرف موضوعة للصحيحة أو للأعم، ومعلوم أن الصحة
وإن كانت بمعنى التمامية إلا أنها تختلف بنظر الشرع والعرف، فربما تكون معاملة
صحيحة بنظر العرف وتكون غير صحيحة بنظر الشرع، وربما تكون أنظار أهل
العرف مختلفة فيها، ويكون شيء شرطا للصحة بنظر طائفة - كالصفقة عند العرب
مثلا - ولا يكون شرطا عند طائفة أخرى، بل ربما تكون الشرائع أيضا مختلفة في
الصحة بالنسبة إليها.
فعلى هذا لابد لمن يدعي أنها موضوعة للأعم أن للبيع - مثلا - بما أنه اسم
للسبب لا بما أنه اسم للمسبب نوعين عند أهل العرف بما هم أهل العرف لا بما هم
أهل الشرع أن يثبت هذا المعنى بالتبادر ونحوه، كما أنه لابد لمن يدعي أنها
موضوعة للصحيح إثبات مدعاه كذلك. والاستدلال بكونها موضوعة للصحيحة
113

بعدم سماع دعوى الفساد في الأقارير والوصايا ونحوهما لا يفيد بإثبات المدعى،
من جهة أن يكون ذلك لا بما أنها اسم للأسباب أو لا بما أنهم من أهل العرف، فتدبر.
الثاني: أنه قد ظهر أن الصحة في المعاملات لا تمنع من التمسك بالإطلاقات
لو كانت في مقام البيان بخلاف العبادات فإن الشك في شرطية شيء أو جزئيته في
العبادات يوجب الشك في الصحة والشك فيها يوجب الشك في التسمية، فيصير
المسمى مجملا بخلاف المعاملات، فإن الشك في اعتبار شيء فيها شرعا لا يوجب
الشك في التسمية، لأن الغرض أن التسمية فيها عرفية، وإذا شككنا في اعتبار
شيء فيها يمكن التمسك بالإطلاق فيما إذا صدق الاسم عرفا بدون الشيء
المشكوك اعتباره.
نعم لو أوجب الشك في شرطية شيء فيها الشك في صدق الاسم عرفا أيضا،
فلا يمكن التمسك بالإطلاق فيها أيضا.
الثالث: إن دخل شيء في المأمور به:
تارة: يكون بالنسبة إلى أصل الماهية كجعل شيء جزء لها ركنيا كان أو غير
ركني، أو شرطا لها سواء كان سابقا أو لا حقا أو مقارنا، والفرق بين الجزء
والشرط هو أن ما اعتبر دخله فيه أن القيد والتقيد إن كانا داخلين فيه فهو جزء،
وإن كان التقيد داخلا والقيد خارجا فهو شرط بأقسامه.
وأخرى: يكون له دخل في تشخص الماهية وخصوصيتها لا في ماهيتها،
فيكون الشيء من مشخصاتها الفردية وهي قد توجب مزية في الماهية المأمور
بها، وقد توجب منقصة فيها، وقد لا توجب شيئا منهما كالمكان بالنسبة إلى
الصلاة، فإن الصلاة في المسجد يوجب مزيتها، والصلاة في الحمام توجب
منقصتها، والصلاة في البيت لا توجب شيئا منهما، وما يوجب المزية والمنقصة قد
يكون بواسطة انطباق عنوان راجح أو مرجوح كالصلاة في المسجد، فإن نفس
الكون في المسجد من العناوين الراجحة وكالصلاة في بعض المواضع الذي يكون
نفس الكون فيها مرجوحا كمواضع التهمة وغيرها مثلا، وقد يكون بواسطة مناسبة
114

لذلك الشيء وعدم مناسبته لماهية المأمور به وإن لم يكن في نفسه راجحا أو
مرجوحا كالمسجد والحمام مثلا - فإن ماهية الصلاة يناسب وقوعها في المسجد
الذي هو المعد للعبادة، ولو فرض أن نفس الكون فيه ليس أمرا راجحا، ولا
يناسب وقوعها في الحمام الذي هو المعد للتنظيف وإن لم يكن الكون في الحمام
في نفسه مرجوحا، بل راجحا كما هو كذلك.
وفي الحقيقة ما يكون من المشخصات الفردية التي قد توجب المزية وقد
توجب المنقصة هو ما يكون من جهة مناسبة الماهية لتلك الخصوصية وعدم
مناسبته لها، لا ما كان الرجحان أو المرجوحية بواسطة انطباق عنوان راجح أو
مرجوح في نفسه.
وثالثة: يكون الشيء مما ندب إليه في المأمور به، واجبا كان أو مندوبا بحيث
يكون المأمور به ظرفا له بلا دخل له لا في ماهية المأمور به ولا في خصوصية.
إذا عرفت هذه الأقسام فاعلم أن القسم الثالث، وهو أن يكون الشيء مما
ندب اليه في المأمور به، والقسم الثاني، وهو أن يكون الشيء من مشخصات
الفردية للمأمور به ليسا من محل النزاع بين الصحيحي والأعمي، أو لا مدخلية
لهما في التسمية.
وإنما الكلام في القسم الأول: وهو ما كان دخيلا في الماهية شطرا أو شرطا،
فبعضهم صار صحيحيا بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط وقال باعتبارهما في
التسمية مطلقا.
ولا يخفى ما فيه من الإشكال. وبعضهم من جهة عدم تصوير الجامع بين
الأفراد الصحيحة والفاسدة بالنسبة إلى الأجزاء صار صحيحيا، وقال باعتبارها
في التسمية، وأما بالنسبة إلى الشرائط فصار أعميا، وقال: أن التسمية بالنسبة إليها
لا بشرط فلا تعتبر الشرائط في التسمية لا وجودا ولا عدما (1).

(1) نقله في بدائع الأفكار: ص 144 - 145.
115

وبعد ما عرفت من تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة فالحق هو
القول بالأعمية من حيث الأجزاء والشرائط جميعا كما هو المختار، فتأمل.
الحادي عشر:
في إمكان الاشتراك في اللغة سواء كان الاشتراك بوضع واحد لمعاني متعددة،
أو بأوضاع متعددة، لما عرفت سابقا من أن الاشتراك كما يمكن أن يحصل
بأوضاع عديدة كذلك يحصل بوضع واحد، وإذا كان بأوضاع متعددة سواء كانت
تلك الأوضاع من واضع واحد أو من متعدد، لأن المناط في الاشتراك هو كون
الكثرات بما هي كثرات موضوعة لها بلا توسط عنوان جامع يكون هو مرآة
لملاحظة الكثرات كما في الوضع العام والموضوع له الخاص، ولا أن يكون
العنوان الجامع بنفسه موضوعا له كما في الوضع والموضوع له العام، بلا فرق بين
أن يكون الوضع للمتعدد بانشاء متعدد، وبين أن يكون الوضع للمتعدد بإنشاء
واحد، كما لو قال الواضع: سميت هؤلاء بفلان، فحال العلقة الوضعية كحال العلقة
الملكية، فكما أن الملكية قد تتعلق بالعنوان الكلي بلا سراية إلى المصاديق
والأفراد الخارجية، بحيث لا يكون تمليك الكلي تمليكا لشيء من المصاديق لا
أولا وبالذات ولا ثانيا وبالعرض، وإنما يكون إيفاء الكلي بأداء الفرد كما في
تمليك الكليات الذمية.
وقد يتعلق به بما أنه مرآة للمصاديق الخارجية بحيث تسري الملكية إليها
ويكون تمليك الكلي تمليكا للمصداق والفرد الخارجي ثانيا وبالعرض كما في
تمليك الكلي في المعين.
وقد تتعلق بالمصداق والفرد الخارجي أولا وبالذات كما في تمليك الأعيان
الخارجية فكذلك العلقة الوضعية قد تتعلق وتحدث بين اللفظ والمعنى الكلي
والعنوان الجامع بلا سراية إلى الأفراد والمصاديق كما في الوضع العام والموضوع
له العام، وقد تتعلق وتحدث بين اللفظ والمعنى الكلي بما أنه مرآة للمصاديق،
116

بحيث يسري الوضع إليها كما في الوضع والموضوع له الخاص، وقد تحدث بين
اللفظ والمعنى الشخصي كما في الوضع والموضوع له الخاص، وهو قد يكون
بالنسبة إلى المعنى الواحد فيكون من متحد المعنى، وقد يكون بالنسبة إلى أكثر من
معنى واحد، فيكون من متعدد المعنى.
فعلى هذا المشترك ما وضع لأكثر من معنى واحد على نحو يكون كل واحد
من المعاني موضوعا له بالخصوص بلا توسط عنوان جامع يكون ملحوظا حين
الوضع، ويكون مرآة للخصوصيات بلا فرق بين أن يكون الوضع للأكثر بإنشاء
واحد أو متعدد، وبلا فرق بين أن يكون الواضع واحدا أو متعددا، وبلا فرق بين أن
يكون الاشتراك في لغة واحدة أو لغتين إلا أن الظاهر أن الآثار المترتبة على
الاشتراك مثل الاجمال وعدم امكان حمله على أحد معانيه إلا بالقرينة لا يترتب
إلا على ما كان مشتركا في لغة واحدة.
ثم إن الأقوال في المسألة ثلاثة:
أحدها: القول بوجوب الاشتراك، إما من جهة عدم تناهي المعاني وتناهي
الألفاظ المركبة من الحروف المتناهية والمركب من المتناهي متناه فلا تفي
الألفاظ بالمعاني إلا بالاشتراك كما قيل (1) وإن كان لا يخلو عن منع، وإما من جهة
أن الحكمة قد تقتضي الاشتراك ليحصل الإجمال الذي قد يتعلق به الغرض.
ثانيها: القول بامتناع الاشتراك من جهة إخلاله بالغرض الداعي إلى الوضع،
وهو التفهيم.
ثالثها: القول بإمكانه، فعلى هذا المراد بالإمكان هو الإمكان الخاص، وهو
سلب الضرورة عن الطرفين لا إمكان العام الذي هو سلب الضرورة عن أحد
الطرفين بناء على القول بعدم وجوبه وامتناعه. ويمكن أن يكون المراد به الإمكان
العام بناء على القول بالوجوب أو الامتناع.
والحاصل: أن القول بالإمكان إن كان في مقابل كل من قولي الوجوب

(1) المصباح المنير: فصل الجمع ص 695.
117

والامتناع فالمراد به الإمكان الخاص، وإن كان في مقابل أحدهما فالمراد به
الإمكان العام.
ثم إن المراد بإمكانه هو الإمكان الذاتي أو الوقوعي، بمعنى أنه لا يترتب
على وجوده وعدمه في الخارج محذور.
وأما الوجوب والامتناع: فالمراد بهما الوجوب والامتناع الغيري، أما
الوجوب فواضح، وأما الامتناع فكون المراد به الامتناع الذاتي مبني على أن
يكون بين العلقة الوضعية وتعددها تناف بحيث لا يمكن اجتماعهما كالضدين
والنقيضين، وهو ممنوع، وذلك لأن الوضع إن قلنا بأنه التزام من الواضع بحيث
لا يستعمل اللفظ إلا مريدا به هذا المعنى، فهو إنما ينافي التعدد فيما إذا كان الواضع
واحدا وكان التزامه مطلقا، وأما مطلق الالتزام فلا ينافيه، ويكون التزامه الثاني
عدولا عن الالتزام الأول، بمعنى أنه لو كان الالتزام الأول فقط ولم يكن الالتزام
الثاني كان مقتضاه أنه كل ما استعمل لا يريد إلا المعنى الأول، وأما لو انضم إليه
الالتزام الثاني كان مقتضاه أنه كلما استعمل اللفظ ففي بعض الأوقات لا يريد به
إلا المعنى الأول وفي بعضها لا يريد به إلا المعنى الثاني.
والحاصل أنه بناء على القول بأن الوضع عبارة عن الالتزام مع أنه لا يخلو
عن نظر فهو إنما ينافي التعدد بالنسبة إلى الالتزام المطلق الصادر من واضع واحد
لا في مطلق الالتزام.
وإن قلنا بأنه علقة وضعية تحدث بين اللفظ والمعنى من تخصيصه به نظير
العلقة الملكية الحاصلة بين المالك والمملوك، فكما أنه إذا حدثت العلقة بين
الملك والمالك بأحد الأسباب المملكة لا يمكن حدوثها بينه وبين مالك آخر في
عرضه، ولذا لا يجوز اجتماع الملاك المتعددة المستقلة على ملك واحد شخصي
فكذلك العلقة الوضعية إذا حدثت بين اللفظ والمعنى من جهة تخصيصه به لا يمكن
حدوثها بينه وبين معنى آخر.
وفيه: أن العلائق الاعتبارية مختلفة، لأن بعضها غير قابل للتعدد كعلقة الملكية
118

من طرف المملوك، فإن الملك الواحد لا يمكن أن يكون له مالكان مستقلان في
عرض واحد وأما من طرف المالك فلا ينافي التعدد، إذ يمكن أن يكون الشخص
الواحد مالكا لأملاك متعددة، وكعلقة الزوجية من طرف الزوجة، لأن الزوجة
الواحدة لا يمكن أن تكون لها علقة الزوجية إلا لزوج واحد بخلاف العكس،
وكعلقة البنوة فإنه لا يمكن أن يكون الشخص ابنا إلا لأب واحد بخلاف العكس،
وبعضها قابل للتعدد كما ذكروا (1) كعلقة الأخوة وأمثالها.
وكون العلقة الوضعية من العلائق الغير القابلة للتعدد من جهة أن التخصيص
الذي هو عبارة عن الوضع معناه حصر اللفظ على ذلك المعنى الموضوع له،
فوضعه لغيره ينافي ذلك التخصيص، والحصر ممنوع من جهة أن مطلق تخصيص
شيء بشيء لا ينافي تخصيصه بغيره، ولا يوجب حصره عليه، فيكون تخصيصه
بالثاني عدولا عن التخصيص الأول وانحصاره به، وتصير نتيجة التخصيص الأول
والثاني اختصاصه بهما وحصره عليهما، فيصيران بمنزلة ما لو قال ابتداء: هذا
الجل للفرس والحمار.
فظهر مما ذكرنا أن دعوى الامتناع الذاتي متوقفة على تنافي العلقة الوضعية
مع التعدد، وهو ممنوع. فلابد أن يكون مراد القائل بوجوب الاشتراك أو امتناعه
هو الوجوب والامتناع بالغير.
وكيف كان فقد استدل للقول بالوجوب: بأن الا لفاظ لما كانت مركبة من
الحروف وهي متناهية والمركب من المتناهي متناه والمعاني غير متناهية فلابد من
الاشتراك (2)، وإلا لم تف الألفاظ المتناهية بالمعاني الغير المتناهية.
وفيه: أن الحروف وإن كانت متناهية إلا أن المركب منها غير متناهية، لإمكان
التركيبات الغير المتناهية من الأمور المتناهية كما في الأعداد، فإنها غير متناهية
مع أنها مركبة من الواحد، وهو متناه. نعم لو أريد التركيبات التي لم يتكرر

(1) بدائع الأفكار: في أقسام الوضع ص 39 س 35.
(2) نقله في كفاية الأصول: في وقوع الاشتراك ص 52.
119

الحروف فيها أو التركيبات المتعارفة، فهي وإن كانت متناهية، إلا أن المعاني التي
يدركها البشر من المحسوسات والمعقولات ويحتاج في مقام التعبير عنها إلى
اللفظ أيضا متناهية.
ولو استدل لهذا القول بأن الحكمة كما تقتضي أصل الوضع فقد تقتضي تعدده
لبعض المقاصد والأغراض التي قد تدعو الحاحة إليها كالإجمال ونحوه لكان
أحسن من الاستدلال السابق وإن كان لا يخلو عن منع أيضا.
واستدل للقول بامتناعه بأن الاشتراك وتعدد الوضع موجب للإخلال بالغرض
المقصود من الوضع وهو التفهيم (1)، وهو قبيح، فيتنمع صدوره عن الحكيم.
وفيه: أولا: ما عرفت من أن الحكمة قد تقتضي الاشتراك وتعدد الوضع بحيث
يحتاج إفهام المعنى المراد إلى نصب قرينة.
وثانيا: أنه إنما يتم فيما إذا كان الواضع حكيما على الاطلاق كالباري تعالى،
بحيث يمتنع صدور القبيح عنه، وأما إذا لم يكن حكيما أو كان حكيما ولكن لا
يمتنع صدور القبيح عنه فلا يتم.
فتحصل: أن الحق من الأقوال الثلاثة هو القول بالإمكان لا القول بوجوبه
وامتناعه، لعدم تمامية شيء مما ذكر دليلا لكل واحد من القولين.
أما القول بوجوبه فلأنه لو استدل له بما ذكر من أن الألفاظ لتركبها من
الحروف المتناهية متناهية والمعاني غير متناهية فلابد من الاشتراك لتفي الالفاظ
بإفادة المعاني.
ففيه: أولا: أن الألفاظ المركبة أيضا غير متناهية، ولا ينافي عدم تناهيها مع
تناهي الحروف التي هي مركبة عنها كما في الأعداد، فإنها مركبة من الواحد مع
أنها غير متناهية إلا أن يكون المراد من تناهي الألفاظ الألفاظ التي لم يتكرر
الحروف فيها.

(1) مفاتيح الأصول: في الاشتراك ص 23 س 18.
120

وثانيا: أن المعاني التي يدركها البشر من المحسوسات والمعقولات أيضا
متناهية.
وثالثا: أنه على فرض تسليم تناهي الألفاظ وعدم تناهي المعاني أن
الغير المتناهي إنما هي جزئيات المعاني لا كلياتها، فإذا كانت كلياتها متناهية
فتوضع الألفاظ المتناهية بإزاء تلك المعاني الكلية المتناهية، وتستعمل تلك
الألفاظ في الجزئيات الغير المتناهية من باب إطلاق الكلي على الفرد، مع أن
المجاز باب واسع.
والحاصل: أنه بعد انفتاح باب إطلاق الكلي على الفرد وباب المجاز لا وجه
للقول بوجوب الاشتراك، ولو قلنا بتناهي الألفاظ وعدم تناهي جزئيات المعاني
أو كلياتها أيضا، فإنه بانفتاح هذين البابين يندفع المحذور.
نعم لو استدل له باقتضاء الحكمة له أحيانا كما ذكرنا سابقا لكان له وجه،
وإن كان لا يخلو عن منع. وأما القول بامتناعه فلأنه - كما عرفت - مبني على
منافاة العلقة الوضعية أو تعهد الواضع لإرادة المعنى عند ذكر اللفظ للتعدد، وقد
عرفت ما فيه.
فظهر أن الحق من هذه الأقوال الثلاثة هو القول بالإمكان، ويكفي فيه الوقوع
الذي هو أدل دليل على الإمكان فإن بعض الألفاظ قد استعمل في معنيين بحيث
لا يمكن الاستعمال فيهما إلا على نحو الاشتراك فإن لفظ " شير " في لغة الفرس قد
استعمل في الحليب وفي الحيوان المفترس، ولا جامع بين المعنيين، وعلاقة
المجازية أيضا منتفية فليس استعماله فيهما إلا من باب الاشتراك، ولا فرق
بين اللغات عند القائل بامتناع الاشتراك. ولعل في لغة العرب ما يكون من هذا
القبيل كثيرا.
فدعوى امتناع الاشتراك وإرجاع ما يكون بحسب الظاهر من باب الاشتراك
إلى متحد المعنى بدعوى الوضع للقدر الجامع كما قيل (1) في مثل لفظ " العين " أنه

(1) قاله صاحب نهاية النهاية: ص 59 س 24.
121

موضوع للقدر الجامع بين المعاني المذكورة لها، وهو ما يكون له تعين وإن كان
لا مانع عنها بالنسبة إلى بعض الألفاظ التي يدعى اشتراكها كما في لفظ الجن
والجنين والجنة والمجنون وأمثالها، إلا أن هذه الدعوى بالنسبة إلى بعضها - كما
في لفظ العين - في غاية المجازفة والتكلف، فالقول بعدم وقوع الاشتراك في اللغة
في غاية البعد، فضلا عن امتناعه وعدم إمكانه، كما أن القول بامتناع وقوع
الاشتراك في القرآن أيضا كذلك:
أما أولا: فلأنه تبارك وتعالى قد أخبر بوقوعه فيه بقوله: (منه آيات
محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) (1).
وثانيا: أن الحكمة قد تقتضي الإجمال لئلا يستغني الناس عن الرجوع إلى
أهل بيت الوحي في معرفة القرآن.
وما ذكر في وجه امتناعه فيه من أنه لو وقع لفظ المشترك فيه فإن كان بدون
القرينة يلزم منه الإخلال بالمقصود وهو التفهيم، وإن كان مع القرينة يلزم التطويل
بلا طائل (2).
ففيه: أنه يمكن أن يقال: إنا نختار الشق الأول، وما ذكر من أنه يلزم الإخلال
بالغرض المقصود من الوضع فيه أن الحكمة المذكورة قد تقتضي الإجمال.
ويمكن أن يقال: إنا نختار الشق الثاني.
وما ذكر من أنه يلزم التطويل بلا طائل
فيه أولا: أن القرينة يمكن أن يكون لفظا مسوقا لمعنى آخر.
وثانيا: أنه يمكن أن تكون القرينة من الأمور الحالية والمقامية، كما إذا كان
المتكلم في مقام مدح بستان وقال: أن فيها عين، فإنه يفهم من لفظ " العين " أن
المراد به العين الجارية لا سائر معانيه.
وثالثا: أنه يمكن أن يقال بأن ذكر القرينة ولو كانت ألف كلمة إذا كان لتعيين

(1) آل عمران: 7.
(2) مفاتيح الأصول: في الاشتراك ص 23 س 18.
122

معنى المشترك المتوقف تعينه عليه ليس تطويلا بلا طائل بل هو تطويل مع الطائل
وكيف يكون تطويلا طائل والحال أن تفهيم المعنى موقوف عليه فتأمل.
الثاني عشر:
أنه اختلفوا في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد وعدم جوازه،
وليعلم أن محل الخلاف هو ما إذا أريد المعنيان أو أريد من اللفظ في استعمال
واحد على سبيل الاستقلال والانفراد، كما إذا كان الاستعمال متعددا بحيث يكون
كل واحد من المعنيين أو المعاني متعلقا للحكم وموردا للاثبات والنفي مع قطع
النظر عن الآخر، كما أن الأمر في الاستعمال المتعدد كذلك فإنه إذا استعمل لفظ
العين وأريد منه الجارية ثم استعمل ثانيا وأريد منه معنى آخر كل واحد من
المعنيين قد أريد مع قطع النظر عن الآخر، كما إذا لم يكن له إلا هذا المعنى فكذلك
في الاستعمال الواحد محل النزاع هو ما إذا أريد الزائد على المعنى الواحد بهذه
الكيفية أي متعلق الإرادة الاستعمالية لكل واحد مع قطع النظر عن إرادة المعنى
الآخر، بل عن وجوده.
والحاصل: أن النزاع إنما هو في أنه هل يمكن أن يراد من لفظ العين - مثلا -
في استعمال واحد هذا المعنى وذاك المعنى مثل ما يراد المعنيان في استعمالين، أم
لا؟ لا أن النزاع في أنه هل يجوز إرادة مجموع المعنيين أو المعاني في استعمال
واحد أم لا يجوز؟ بحيث يكون كل واحد من المعنيين جزء المعنى المراد وتكون
دلالة اللفظ على كل واحد دلالة تضمنية لا مطابقية. وبعبارة أخرى محل النزاع ما
كان كل واحد من المعنيين مدلولا بالدلالة المطابقية لا ما كان مدلولا بالدلالة
التضمنية، بأن استعمل اللفظ وأريد منه مجموع المعنيين اللذين كل واحد منهما
جزؤه، فإنه إذا استعمل وأريد منه المجموع فلا إشكال في صحته إذا كان موضوعا
للمجموع، كما أنه موضوع لكل واحد من الجزءين وإلا كان من باب استعمال
اللفظ الموضوع للجزء في الكل، فإن كان مستحسنا عند الطباع فيصح استعماله
123

فيه مجازا، وإلا فلا.
فتحصل: أن هذا النحو من الاستعمال في الأكثر، وهو أن يستعمل اللفظ ويراد
منه مجموع المعنيين مثلا ليس محلا للنزاع، كما أن استعماله في الجامع بين
المعنيين المعبر عنه بعموم الاشتراك بأن يستعمل اللفظ ويراد منه القدر الجامع
ليس أيضا محلا للنزاع، فإنه لا إشكال في صحته إذا كان موضوعا للجامع، كما أنه
موضوع للمصاديق ويكون استعمالا حقيقيا وإن لم يكن له وضع إلا للمصاديق،
فصحة استعماله فيه موقوفة على حسنة عند الطباع الذي هو المناط في صحة
استعمال اللفظ في غير معناه الموضوع له، كما تقدم سابقا.
فتحصل: أن النزاع إنما هو في استعمال اللفظ في المعنيين أو أزيد وإرادة
المعنيين أو أزيد منه في استعمال واحد على نحو إرادتهما منه في استعمالين، فكما
أن اللفظ قالب لمعنى واحد إذا أريد منه المعنى الواحد كذلك يكون اللفظ الواحد
قالبا لمعنيين أو أزيد إذا أريدا منه، فلو أنكر جواز هذا أحد وقال آخر بجواز غيره
كما إذا قال بجواز استعماله في مجموع المعنيين أو في الجامع كان النزاع لفظيا،
ولم يكن النفي والاثبات واردين على محل واحد.
ثم إن النزاع في هذه المسألة في جواز الاستعمال وعدم جوازه عقلا فلو
فرض عدم مانع عن الاستعمال عقلا لكان استعمالا حقيقيا لا مجازيا كما يظهر
عن المعالم (1)، ولكان استعمالا صحيحا لا غلطا كما يظهر عن بعض آخر (2) وذلك،
لأن وجه ما ذكره في المعالم من كون استعماله في المعنيين أو أزيد يكون مجازيا،
واستعمالا في غير الموضوع له هو أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة، فإذا
استعمل في أزيد من معنى واحد فقد استعمل اللفظ الموضوع للكل وهو المعنى
المقيد بقيد الوحدة في الجزء، وهو ذات المعنى. ومراده بكون قيد الوحدة جزء
للموضوع له هو كونها جزء عقليا بمعنى كون التقيد بالوحدة دخيلا في الموضوع
له، لا أنها جزء خارجي بحيث يكون المعنى الموضوع له مركبا وله جزءان

(1) معالم الدين: ص 39.
(2) نهاية الأفكار: ج 1 ص 113.
124

أحدهما: ذات المعنى، والآخر هي الواحدة.
وفيه: أن المراد بالوحدة المعتبرة في الموضوع له إن كان الوحدة الذاتية التي
للأشياء فهي محفوظة في تمام الأحوال سواء استعمل اللفظ في معنى واحد أو
أزيد، لأن المراد بها أن كل شيء عبارة عن نفسها وحدها لا عنها مع شيء آخر،
وهذه الوحدة محفوظة لكل واحد من المعنيين في حال استعمال اللفظ فيهما،
لأنهما لا ينفكان عن هذه الوحدة في ذاك الحال، بل كل واحد منهما باق على تلك
الوحدة، لأن كل واحد منهما هو ذاته لا ذاته وشئ آخر.
وإن كان الوحدة في مقام الإرادة الاستعمالية بأن يكون الواضع وضع اللفظ
للمعنى الذي يراد منفردا عند الاستعمال، فيكون الموضوع له مقيدا بقيد الوحدة
في الإرادة الاستعمالية.
ففيه: إن أصل الإرادة الاستعمالية التي هي متأخرة عن الاستعمال المتأخر
عن الوضع لا يمكن اعتباره وأخذه في الموضوع له، كما عرفت سابقا، فضلا عن
الوحدة في الإرادة. وبعبارة أخرى اللفظ لا يمكن أن يكون موضوعا للمعنى
المراد عند الاستعمال فضلا عن كونه موضوعا للمعنى المراد منفردا عند الاستعمال.
ووجه كونه استعمالا غلطا وغير جائز هو ما يظهر من المحقق، وهو أن اللفظ
وإن لم يوضع للمعنى بقيد الوحدة حتى تكون الوحدة جزء للموضوع له إلا أنه
وضع له في حال الوحدة، والأوضاع توقيفية، فالرخصة من الواضع ثبتت في حال
الوحدة، وفي غير تلك الحالة ما ثبتت الرخصة، فلا يجوز التعدي عن موردها (1).
وهذا الكلام منه (قدس سره) مجمل. والظاهر أن المراد بالوحدة التي في كلامه هي
الوحدة بحسب الإرادة الاستعمالية كما في كلام صاحب المعالم (2)، والفرق بينهما
هو أن صاحب المعالم أخذ تلك الوحدة قيدا للموضوع له والمحقق القمي أخذها
قيدا للوضع الذي لازمه تضييق دائرة الوضع لا الموضوع له، فيكون الفرق بينهما
كالفرق بين الواجب المشروط والمعلق، وكالفرق بين المملوك المقيد الذي له

(1) قوانين الأصول: ج 1 ص 63 - 64.
(2) معالم الدين: ص 39.
125

اعتبار بالنسبة إلى المنافع كمنفعة سنة كذا أو شهر كذا، وإن كان اعتباره بالنسبة إلى
الأعيان محل إشكال، إذ في المنافع يمكن تعلق التمليك المطلق بالمملوك المقيد
بالوقت بخلاف الأعيان فإن المملوك لا يمكن أن يكون مقيدا فيها بأن يقال:
ملكت العين في سنة كذا أو شهر كذا والملكية المقيدة كما في الوصية فإن ملكية
العين أو المنفعة فيها مقيدة ببعد الوفاة لا المملوك، وقوله بأن اللفظ وضع للمعنى في
حال الانفراد يحتمل أن يكون مراده أن المعنى في غير حال الانفراد ليس له وضع
يقينا، ويحتمل أن يكون مراده أن الوضع له في غير تلك الحالة مشكوك، والأصل
عدمه. والظاهر هو الأخير بقرينة قوله: والأوضاع توقيفية... إلى آخره، فتأمل.
ففيه أن قيد الوحدة كما لا يمكن أن يعتبر في الموضوع له - كما اختاره
صاحب المعالم - لأنه لا يمكن أن يعتبر فيه ما هو متأخر عن الاستعمال المتأخر
عن الوضع كما في أخذ قصد القربة المتأخر عن الأمر في المأمور به كذلك لا
يمكن أخذ قيد الوحدة في الوضع كما هو الظاهر من المحقق كما في أخذ قصد
القربة المتأخر عن الأمر في الأمر.
ولا يخفى أنه وإن كان هذان القولان في نفسهما لا مانع منهما بالنسبة إلى
القيود التي ليست رتبتها متأخرة عن الوضع، إذ يمكن للحاكم والمنشي تقييد
موضوع حكمه وإنشائه، وتقييد نفس حكمه وإنشائه سواء كان في الأحكام
التكليفية أو الوضعية، والوضع حاله كسائر الانشاءات، لأنه من الأحكام
والانشاءات الوضعية لكن بالنسبة إلى القيود التي رتبتهما متأخرة عن الوضع لا
يمكن اعتبارها لا في الموضوع له ولا في الوضع، كما لا يمكن أخذ قصد القربة
المتأخرة عن الأمر لا في ناحية المأمور به ولا في ناحية الأمر، وإن كان تقييد كل
منهما بغير القيود المتأخرة رتبة ممكنا، كما لا يخفى.
فتحصل: أن المانع الوضعي من استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى لو
كان لكان إما اعتبار قيد الوحدة في الموضوع له، أو اعتباره في الوضع، أو اشتراط
الواضع أن لا يستعمل اللفظ إلا في معنى واحد، أما اعتبارها في الموضوع له أو
126

الوضع فقد عرفت ما فيهما. وأما اشتراط الواضع بأن لا يستعمل إلا في معنى واحد
ففيه - مع كونه خلاف الوجدان، لأنه إذا وضعنا الأعلام الشخصية كوضع الألفاظ
لأولادنا لا يخطر ببالنا هذا الشرط، ولا فرق بين واضع الاعلام وواضع اللغات،
كما لا فرق بين اللغات في الجواز والامتناع - أنه لو كان عدم الجواز من جهة
الاشتراط فلابد من تقييد العنوان بما اشترط الواضع عدم استعماله في الأكثر أن
يطلق بحيث يشمل تمام اللغات والأعلام الشخصية، وصورة الاشتراط وغيرها.
ومنه يظهر أن المانع أمر عقلي موجود في الجميع لا أنه أمر وضعي ومن
ناحية الواضع، وإلا لما أطلقوا عنوان البحث. فعلى هذا لو تم الوجه العقلي الذي
يذكر دليلا لعدم الجواز فلا يجوز استعمال اللفظ في أكثر من معنى في استعمال
واحد مطلقا، وإلا فيجوز ويكون استعمالا صحيحا حقيقيا لا غلطا، بتوهم أنه على
خلاف جعل الواضع وفي غير مورد ترخيصه، لما عرفت من عدم إمكان تضيق
دائرة الوضع بما هو متأخر عن الوضع وهي وحدة الا رادة الاستعمالية، بل
لا تتوقف صحته على استحسانه عند الطباع، لأنه استعمال اللفظ وهو ليس
مشروطا به، بل يكفي فيه العلقة الوضعية وإنما شرط في استعمال اللفظ في غير
ما وضع له.
ولذا قلنا - فيما تقدم -: إن الاطراد ليس علامة الحقيقة، إذ يمكن أن تكون
بين المعنى الموضوع له وغير الموضوع له مناسبة بحيث يصح استعمال اللفظ
الموضوع له فيه في كل مقام تعلق الغرض بذكره، بخلاف عدم الاطراد فإنه علامة
المجاز فإنه لو كانت علقة وضعية بين اللفظ والمعنى لا يمكن أن يصح استعماله في
بعض المقامات دون بعض، فمن عدم صحته في بعضها يستكشف عدم الوضع.
وإنما استعماله في بعضها استعمال مجازي ولعلاقة ولا استعمالا مجازيا بتوهم أن
الوحدة التي اعتبرت في الموضوع له قد ألقيت فاستعمل اللفظ الموضوع للكل في
الجزء فيكون مجازا، لما عرفت - أيضا - من عدم إمكان اعتبار الوحدة بحسب
الإرادة الاستعمالية في الموضوع له، فبناء على عدم تمامية الوجه العقلي الآتي
127

يمكن استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى استعمالا صحيحا حقيقيا وإن
كان في وقوعه محل الكلام. وإن قيل بأن الايهامات والكنايات من هذا القبيل (1)،
ولكن فيه تأمل.
وإنما الكلام في إمكانه عقلا، والحق عدم الإمكان، وذلك لما عرفت من أن
محل النزاع في الجواز وعدم الجواز هو استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى
واحد وإرادتهما منه على نحو إرادتهما من لفظين، فكما أن كل واحد من المعنيين
مراد بالإرادة التفصيلية فيما إذا أريدا من لفظين، فلابد أن يكون كل واحد منهما
- أيضا - مرادا بالإرادة التفصيلية عند إرادتهما من لفظ واحد، ولا ريب أنه لا
يمكن ذلك في استعمال واحد، لأن اللفظ واحد والاستعمال واحد والإرادة
الاستعمالية واحدة، فكيف يمكن أن يراد من اللفظ الواحد في الاستعمال الواحد
الذي تعلقت إرادة واحدة تفصيلية استعمالية به معنيان بإرادتين تفصيليتين؟
والحال أن إرادة اللفظ إذا كانت إرادة واحدة تفصيلية لابد أن تكون إرادة
المعنى أيضا كذلك لأنها تابعة لها بل عينها، لأن الاستعمال عبارة عن إرادة المعنى
من لفظ والقائه بقالبه، فالإرادة المتعلقة بالمعنى لابد أن تكون على نحو الإرادة
المتعلقة باللفظ، فإذا كانت الإرادة المتعلقة باللفظ إرادة واحدة تفصيلية فلابد أن
تكون الإرادة المتعلقة بالمعنى أيضا إرادة واحدة تفصيلية، لما عرفت من التبعية
بل العينية، فلا يمكن إرادة معنيين من اللفظ الواحد في الاستعمال الواحد
بإرادتين تفصيليتين، لأن الإرادة الاستعمالية المتعلقة باللفظ إرادة واحدة
تفصيلية.
نعم لو فرض إمكان التلفظ في آن واحد بلفظين وتعلق إرادة واحدة استعمالية
بها بحيث يكون كل واحد من اللفظين مرادا بتلك الإرادة أمكن إرادة المعنيين من
هذين اللفظين اللذين تعلقت إرادة استعمالية واحدة بهما على نحو إرادة اللفظين،
فكما يكون كل واحد من اللفظين جزء المراد بالإرادة الاستعمالية المتعلقة

(1) هداية المسترشدين: في المشترك ص 126 س 34 " وفيه أن بعض الكنايات من هذا القبيل ".
128

باللفظين فكذلك كل واحد من المعنيين، فهما مرادان ولكن بنحو إرادة اللفظين.
وإن كنت في ريب مما قلنا فاستوضح الحال بتشبيه المعقول بالمحسوس وهو
أنه كما لا يمكن - مثلا - أن يكون المنظور بالنظر الواحد التفصيلي متعددا تفصيلا
بحيث يكون تمام النظر إلى كل واحد من المتعددين مع قطع النظر عن الغير كما هو
معنى كون كل واحد منظورا تفصيلا، فإذا كان النظر واحدا تفصيلا فلابد أن يكون
المنظور أيضا كذلك.
نعم يمكن أن يتعلق نظر واحد إجمالي بمتعدد يكون كل واحد منهم منظورا
إجمالا، كما إذا نظر إلى جماعة بنظر واحد ولكن هذا النظر الواحد الإجمالي
ينحل إلى نظرات متعددة حسب تعدد المنظور إليهم، وكما لا يمكن أن يتعدد
الضربات بضرب واحد بآلة واحدة كالسوط الواحد، بل لابد في تعددها إما بتعدد
الضرب أو بتعدد الآلة، ولو بوجه ما كالضرب بالعصا الواحد مرارا، أو الضرب
بمثل الضغث الذي هو وإن كان واحدا من جهة إلا أنه متعدد من جهة أيضا.
فكذلك في المقام لا يمكن في استعمال واحد للفظ واحد مع تعلق إرادة
تفصيلية واحدة باللفظ أن يكون المراد بتلك الإرادة الاستعمالية الواحدة
التفصيلية معنيين على وجه يكون كل واحد منهما مرادا تفصيلا. والحال أن إرادة
المعنى تبع إرادة اللفظ، بل هي عينها، فإذا كانت الإرادة التفصيلية الاستعمالية في
طرف اللفظ واحدة ففي طرف المعنى - أيضا - لابد أن تكون واحدة فالعمدة في
عدم الجواز هو هذا.
ومنه يظهر أن الحق في تحرير محل النزاع هو أنه هل يجوز استعمال اللفظ
الواحد في أكثر من معنى وإرادة الأكثر منه على نحو يراد كل واحد منه في
استعمال واحد أم لا؟ ولا حاجة بل لا وجه لأخذ قولهم بحيث يكون كل واحد
متعلقا للحكم وموردا للإثبات والنفي، وذلك لأن الحكم تابع لكيفية الإرادة فبأي
وجه تعلقت الإرادة الحكم يتبعها، فالمدار في محل النزاع على الإرادة، وأن مع
تعلق الإرادة الواحدة الاستعمالية التفصيلية باللفظ لا يمكن إرادة معنيين بإرادتين
129

تفصيليتين كما هو محل النزاع. فمقتضى هذا الوجه العقلي هو عدم الجواز، إلا أن
يقال بأن محل النزاع ليس ما ذكر، أو أن الاستعمال ليس إلا كون اللفظ علامة
المعنى، وهو كما يمكن [أن يكون] علامة لمعنى واحد يمكن أن يكون علامة
للأكثر، فتدبر.
ثم بناء على تمامية هذا الوجه لا يجوز بل لا يمكن استعمال اللفظ في أكثر
من معنى مطلقا، كما هو المختار. وأما بناء على عدم تماميته فالحق جوازه على
نحو الحقيقة مطلقا، ولا وجه لما ذكر من التفصيل في المقام من جوازه في المفرد
على وجه المجاز، لإلغاء قيد الوحدة المعتبرة في الموضوع له، فيصير مجازا بخلاف
التثنية والجمع فإنهما بمنزلة تكرار المفرد، وذلك لأنه بناء على ما هو الحق من أن
علامة التثنية والجمع إنما تدلان على تعدد مدخولهما لا على مجرد تعدد اللفظ،
كما هو احتمال ضعيف. فإذا كان المراد بالعينين فردان من أفراد طبيعة واحدة من
المسميات بالعين لم يكن هذا استعمالا في أكثر من معنى واحد، بل هو استعمال
في معنى واحد، بل استعماله في أكثر من معنى واحد إنما هو إذا أريد بالعينين
أربعة - مثلا - أو أزيد، وهو لا يمكن إلا بالتجوز في المدخول وإرادة المعنيين منه
حتى يصير بسبب علامة التثنية أربعة كل فردين منها من طبيعة غير طبيعة الفردين
الآخرين، فالتجوز في المفرد لا ينفك عن التجوز فيهما على ما هو الحق.
نعم بناء على الاحتمال الضعيف المذكور يمكن ولا لما ذكر من التفصيل بين
الإثبات والنفي بعدم الجواز في الأول والجواز في الثاني، وذلك لأن حرف السلب
إنما يدل على نفي مدخوله، فإذا لم يجز إرادة المعنيين منه في الاثبات فلا يمكن
إرادتهما منه في النفي، لأن العموم المستفاد من حرف السلب ليس إلا بالنسبة إلى
أفراد ما أريد من مدخوله.
والحاصل: أن التفاصيل المذكورة في المقام لا وجه لها. ومما ذكر في هذه
المسألة يعرف الحال في المسألة الأخرى، وهو استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي
والمجازي، فإن مقتضى الوجه العقلي المذكور هو عدم الجواز هنا أيضا، والمدار
130

في عدم الجواز في هذه المسألة عليه لا على ما ذكروه من أن المجاز ملزوم بقرينة
معاندة للمعنى الحقيقي، وبه فرقوا بين المعنى المجازي والكنائي.
وذلك لأن فيه:
أولا: أنه ليس قوام المعنى المجازي على ذكر القرينة بل على وجود المناسبة
بين المعنى الحقيقي وبينه، وإنما ذكر القرينة لإفهام المراد، فتأمل.
وثانيا: أنه لابد في المجاز من ذكر قرينة معاندة له فيما إذا أريد باللفظ معناه
المجازي منفردا، وأما إذا أريد به المعنى الحقيقي والمجازي كلاهما فلابد من ذكر
قرينة ملائمة معهما لا معاندة للمعنى الحقيقي، إذ القرينة إنما تذكر لإفهام المراد،
فلو كانت القرينة معاندة في هذه الصورة للمعنى لم يفهم المراد كما أنها لو لم يكن
معاندة له في الصورة الأولى لم يفهم المراد أيضا، فالظاهر أن ما ذكروه غير تام.
وإنما الدليل على عدم الجواز هو الوجه العقلي المذكور الدال على عدم
إمكان إرادة معنيين من لفظ واحد في استعمال واحد مطلقا.
ويمكن أن يقال في المقام بأن المعنى المجازي الذي استعمل اللفظ فيه وفي
المعنى الحقيقي إن كان معنى مجازيا بمناسبة غير ذلك المعنى الحقيقي الذي أريد
مع المعنى المجازي كان الوجه في عدم الجواز هو الوجه العقلي المذكور، وإن كان
بمناسبة ذلك المعنى الحقيقي فيحتمل عدم الجواز من جهة أخرى أيضا، وذلك لأن
استعمال اللفظ في معناه الحقيقي يكون بلا عناية وملاحظة مناسبة ورعاية علاقة،
واستعماله في معناه المجازي لابد أن يكون برعاية المناسبة والعلاقة ولا يمكن
في استعمال واحد رعاية المناسبة والتوسعة وعدمها كما إذا استعمل اللفظ في
المعنى الآلي والاستقلالي كليهما، فتأمل.
فتحصل: أن الوجه العقلي المذكور لو تم مقتضاه عدم استعمال اللفظ في أكثر
من معنى مطلقا، سواء كانا حقيقيين أو مجازيين أو مختلفين، مع أنه يمكن
الاستدلال على عدم الجواز في الأخير فيما إذا كان المعنى المجازي مجازا
بواسطة مناسبته مع المعنى الحقيقي الذي أريد معه من اللفظ، مضافا إلى الوجه
131

العقلي بما ذكر من أن استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي لابد أن تكون بلا رعاية
مناسبة وعلاقة وتوسعة وتنزيل، وفي المعنى المجازي لابد أن تكون مع الرعاية
ولا يمكن في استعمال واحد الجمع بينهما.
وقد يشكل على القول بعدم الجواز بأنه لو لم يكن استعمال اللفظ في أكثر من
معنى جائزا لما وقع، والحال أنه وقع، والوقوع أدل دليل على الإمكان، إذ
الكنايات كلها من هذا القبيل، لأنها عبارة عن ذكر اللفظ للدلالة على الملزوم مع
جواز إرادة اللازم أو بالعكس، والحال أن مقتضى الوجه العقلي عدم جواز إرادة
معنيين من لفظ واحد مطلقا، حقيقيين كانا أو مجازيين أو مختلفين.
ولكن يدفع الإشكال في الكناية ما استعمل اللفظ إلا في المعنى الحقيقي وهو
الملزوم، ولكن الغرض من استعمال اللفظ في معناه قد يكون إفهام نفس ذلك
المعنى، وقد يكون إفهام لازمه، والكناية من هذا القبيل، فإن المقصود من استعمال
اللفظ في الملزوم ليس إفهامه بنفسه، بل هو عبرة وقنطرة للانتقال إلى اللازم.
ولذا يكون المناط في الصدق والكذب مطابقة اللازم للخارج وعدم مطابقته
له، فلو قيل بأن زيد طويل النجاد لو كان طويل القامة لكان صادقا، وإلا يكون
كاذبا. ولا عبرة في الصدق والكذب بالمعنى الحقيقي، فلو كان طويل النجاد بمعناه
الحقيقي ولم يكن طويل القامة لكان كاذبا، كما أنه لو كان طويل القامة ولم يكن
طويل النجاد بمعناه الحقيقي لكان صادقا. فاللفظ في الكنايات والاستعارات
والاغراقات إنما استعمل في المعنى الحقيقي ولكن للانتقال إلى اللازم كما في:
زيد أسد، أو: وجهه شمس أو قمر، أو: زيد حمار، وأمثالها، والمدار في الصدق
والكذب إنما هو بمطابقه اللازم للخارج وعدمه، فلو كانت لزيد مرتبة معتد بها من
الشجاعة أو لوجهه مرتبة معتد بها من التلألؤ واللمعان يصح أن يقال: إنه أسد أو:
وجهه شمس أو قمر، وكذا لو كانت له مرتبة معتد بها من البلادة لا أول مرتبتها.
ثم إنه لا يخفى أنه لا يجوز الاستدلال على جواز استعمال اللفظ في أكثر من
132

معنى بما ورد في الأخبار من أن للقرآن بطونا سبعة (1) أو سبعين كما حكي أن كلام
النبي (صلى الله عليه وآله) كذلك، وذلك لأن هذه الأخبار من المتشابهات، ولا يعرف المراد من
البطون فيها، فلعل المراد بها ما لا ينافي ما ذكرنا من عدم جواز استعمال اللفظ في
أكثر من معنى إما بما ذكره في الكفاية من احتمال كون تلك المعاني مرادة حال
استعمال اللفظ في معناه بنفسها لا أنها مرادة من اللفظ، أو أنها من قبيل اللوازم
للمعنى الحقيقي (2).
ولا يمكن الاستدلال بالأمر المتشابه على جواز استعمال اللفظ في أكثر من
معنى في قبال الدليل العقلي الدال على عدم الجواز، مع أنه لو كان إرادة البطون
من باب استعمال اللفظ فيها لابد أن يكون المراد من البطون أعم من أن يكون
اللفظ فيها مشتركا أو حقيقة ومجازا، إذ لا شبهة في أن من أول القرآن إلى آخره
كل كلمة ليست مشتركة بين سبعة معان أو سبعين، فتأمل مع أنه لو كان المراد منها
المعاني المشترك فيها لم تكن للقرآن مزية، إذ يمكن لكل أحد أن يستعمل اللفظ
في أكثر من معنى بأن يريد سبعة معاني أو سبعين، فيكون لكلامه سبعة أبطن أو
سبعين، فالمراد منها غير معلوم لنا، ولا يمكن الاستدلال بالأمر الغير المعلوم في
مقابل الدليل العقلي ورفع اليد عنه به، فتأمل في المقام جيدا.
الثالث عشر:
أنه اختلفوا في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدأ أو في يعمه
وما انقضى عنه على أقوال، بعد الاتفاق على كونه مجازا فيما يتلبس به في
الاستقبال.
وروح النزاع في هذا المقام في أن المفهوم الذي ينتزع من الذات باعتبار
الاتصاف بالحدث أو من الحدث باعتبار انتسابه إلى الذات على الاختلاف فيما

(1) وسائل الشيعة: ب 13 من أبواب صفات القاضي ح 50 ج 18 ص 145.
(2) كفاية الأصول: ص 55.
133

انتزع عنه كما يأتي إن شاء الله هل له توسعة بحيث يشمل المتلبس به في الحال
وما انقضى عنه، ويكون كل واحد منهما مفهوما له كأن يكون مفهوم الضارب
- مثلا - من تحقق منه الضرب الذي يصدق على من تلبس به في الحال وعلى من
تلبس به في الماضي وانقضى عنه في الحال، أو أن له تضييق بحيث لا يشمل إلا
المتلبس به في الحال كأن يكون مفهومه المشتغل بالضرب الذي لا يصدق حقيقة
إلا على المتلبس به في الحال وإطلاقه عليه يكون مجازا من قبيل المجاز في
الإسناد، كما أن اطلاقه على ما يتلبس به في الاستقبال كذلك اتفاقا؟
ومنه يظهر أن تعبير صاحب الكفاية في هذا المقام أحسن من تعبير صاحب
الفصول (قدس سره) فإنه عبر باللازم وقال: اطلاق المشتق... إلى آخره (1) - على ما حكي -
فإن كون الإطلاق حقيقة أو مجازا لازم توسعة المفهوم وتضييقه.
إذا عرفت محل النزاع فينبغي قبل الخوض في المقصود وبيان الاستدلال
عليه تقديم أمور:
الأول: أن المراد بالمشتق في محل النزاع ليس تمام المشتقات، بل المشتقات
الجارية على الذات المتحدة معها نحو اتحاد، التي يمكن حملها على الذات. فعلى
هذا يخرج عن محل النزاع الأفعال كلها، وكذا المصادر المزيد فيها، لأنها أيضا
مشتقة من المصادر المجردة، وكذا المصادر المجردة أيضا بناء على القول بكونها
مشتقة، فالمشتق وإن كان عبارة عن كل لفظ مأخوذ عن لفظ آخر بحسب
الاصطلاح، ويقسم إلى المشتق بالاشتقاق الصغير والكبير والأكبر وغيره من
التقسيمات من جهات أخرى باعتبار زيادة الحروف في المشتق واختلاف البنية
وغيرهما كما ذكرت في علم الاشتقاق، ولسنا في المقام بصدد بيانها.
لكن ليس المشتق بهذا العموم موردا للنزاع في هذا المبحث، بل مورد النزاع
هو خصوص ما كان منتزعا عن الذات باعتبار اتصافه بالحدث أو من الحدث

(1) الفصول الغروية: في بحث المشتق ص 59 س 38.
134

باعتبار انتسابه إلى الذات على الخلاف المذكور. فعلى هذا تخرج المذكورات عن
مورد النزاع وينحصر بما جاريا على الذات كأسماء الفاعلين والمفعولين
والصفات المشبهة وأسماء الزمان والمكان والآلة وصيغ المبالغة وأفعل التفضيل.
فعلى هذا لا وجه لجعل صاحب الفصول (1) محل النزاع منحصرا بأسماء
الفاعلين والصفات المشبهة وما يلحق بها، ولعل مراده بما يلحق صيغ المبالغة
وخروج غيرها عن محل النزاع إلا توهم أن ما ذكره من المعاني لها اتفاقيا، إذ كون
المعاني التي ذكرها لها اتفاقيا بحيث يخرج غير ما ذكره في محل النزاع عن محل
البحث ممنوع. نعم لا يبعد أن يكون ما ذكر لها من المعاني مختارا للأكثر، ولا
يخرج يكونها مختارا عن مورد النزاع، كما أن في ما هو محل النزاع مسلما لا يبعد
أن يكون مختار الأكثر أحد الأقوال، إذ الاختيار غير كونه ليس محلا للأنظار.
والحاصل: أنه (قدس سره) جعل محل النزاع أسماء الفاعلين والصفات المشبهة وما
يلحق بها، ثم ذكر ما أخرجها من المشتقات عن محل النزاع، وذكر لها معاني،
وتخيل أن ما ذكر لها من المعاني اتفاقي بحيث لا يجري النزاع فيها.
ولكن فيه: أن كون ما ذكر لها من المعاني اتفاقيا بحيث لم يكن محل النزاع
ممنوع وإن سلمنا كونها مختارا للأكثر.
ثم إن هذا النزاع هل يجري في خصوص المشتقات المذكورة. أو يجري فيها
وفي الجوامد أيضا؟ الظاهر أن الجوامد التي ينتزع مفاهيمها عن ذات الشيء أو
ذاتياته خارجة عن محل النزاع كالإنسان والحجر والمدر وأمثالها. وأما إن كانت
مفاهيمها منتزعة عن اتصاف الذات بعرض أو عرضي فداخلة في محل النزاع
كالحر والرق والزوج والزوجة وأمثالها، وذلك لأن المناط في محل البحث هو كون
المفهوم منتزعا عن الذات باعتبار اتصافه بالعرض والعرضي، وأما كونه مشتقا
فلا دخل له، ألا ترى أن النزاع يجري في مثل الضارب ولو لم يكن مشتقا

(1) الفصول: في بحث المشتق ص 60 س 2.
135

اصطلاحا، ولم يكن لفظه مأخوذا من لفظ آخر وفرعا له، ولم يكن وصفه نوعيا
كما في المشتقات، بل كان جامدا، ولم يكن لفظه مأخوذا من لفظ آخر، وكان
وصفه شخصيا.
فمنه يعلم أن المناط في جريان النزاع هو كون المفهوم منتزعا عن الذات
باعتبار اتصافه بعرض أو عرضي، وهذا المناط موجود في تلك الطائفة من
الجوامد. فعلى هذا لابد إما أن يجعل المراد بالمشتق في محل النزاع مطلق ما كان
مفهومه منتزعا عن الذات باعتبار اتصافها بعرض أو عرضي ولو لم يكن مشتقا
بحسب الاصطلاح، أو يجعل محل أعم من المشتق وما يضاهيه، لجريان النزاع
فيه أيضا.
ولذا فرعوا الحكم في مسألة ما لو كانت لشخص زوجتان كبيرتان وزوجة
صغيرة وأرضعت الكبيرتان الزوجة الصغيرة على كون المشتق حقيقة في
خصوص ما تلبس بالمبدأ في الحال، أو في الأعم منه وما انقضى عنه المبدأ.
وتفصيل القول في هذه المسألة هو أن الكبيرتين إن أرضعتا الصغيرة على
الترتيب إما أن ترضعانها بلبن هذا الشخص أو بلبن غيره، فإن أرضعتاها بلبن هذا
الشخص على الترتيب فأرضعتها الأولى، فبمجرد كمال الرضعة الأخيرة تترتب
أمور ثلاثة: صيرورة المرضعة أما لزوجته، وصيرورة المرتضعة بنتا لزوجته،
وزوال الزوجية وهو مترتب على الأولين وإن لم يتأخر عنهما زمانا، لأن بمجرد
تحقق الأمومة والبنتية تزول الزوجية بلا تخلل زمان، إلا أنه بحسب الرتبة متأخر
عنهما. ففي هذه الصورة تحرم المرضعة الأولى والمرتضعة بلا حاجة إلى اشتراط
الدخول بالكبيرة، أما المرضعة فلصيرورتها أما لزوجته وإن كانت الزوجية تزول
بالأمومة إلا أنه لما كان زوالها متأخرا بحسب الرتبة عن تحقق الأمومة، فيصدق
عرفا أنها زوجة وتدخل في أمهات النساء فعلا حقيقة. ولا يتوقف الحكم
بتحريمها على كون المشتق حقيقة في الأعم من المتلبس الفعلي وما انقضى عنه
المبدأ، وأما المرتضعة فلصيرورتها بنتا رضاعيا للزوج.
136

وهكذا الكلام فيما لو أرضعت الأولى الصغيرة بلبن غيره بشرط الدخول
بالكبيرة تحرم المرضعة والمرتضعة أيضا، أما المرضعة فلصيرورتها أما لزوجته
وإنما كانت الأمومة مزيلة للزوجية. وأما المرتضعة فلصيرورتها بنتا لزوجته
المدخول بها، ففي هذه الصورة تحرمان بشرط الدخول بالكبيرة بلا توقف على
كون المشتق حقيقة في الأعم، هذا حال المرضعة الأولى والمرتضعة.
وأما المرضعة الثانية فتحريمها في صورة كون ارضاعها بلبن هذه الشخص أو
غيره مطلقا مبني على القول بكون المشتق حقيقة في الأعم، وذلك لأنها ما
أرضعت إلا بنت زوجها أو ربيبتها فعلا، وإنما كانت هذه المرتضعة زوجته فيما
انقضى، فإن قلنا بأن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدأ في الحال فلا
تحرم، وإن قلنا بأنه حقيقة في الأعم فتحرم.
هذا حكم المسألة بحسب القواعد مع قطع النظر عن الدليل الخاص والرواية
التي وردت في خصوص هذا عن علي بن مهزيار، عن أبى جعفر (عليه السلام) في رد ابن
شبرمة على ما نقل حيث أفتى بتحريم الثلاثة فرده (عليه السلام) بأن المرضعة الثانية ليست
محرمة، لأنها ما أرضعت إلا بنته أو ربيبته، فراجعها (1).
ولعل عدم اعتناء جماعة بهذه الرواية وابتناءهم لهذه المسألة على طبق القواعد
كان من جهة ضعف هذه الرواية بواسطة إرسالها، أو بواسطة أن المراد بأبي جعفر
في هذه الرواية هو الجواد (عليه السلام)، بقرينة رواية علي بن مهزيار عنه، وهو لم يكن في
عصر ابن شبرمة أو بغيرهما من الجهات الموجبة للضعف، وإلا فلا معنى لطرحها.
فتحصل: أن النزاع ليس منحصرا في خصوص المشتقات الاصطلاحية
الجارية على الذوات، بل يعم هذا القسم من الجوامد، وأما الجوامد التي تنتزع
مفاهيمها عن مقام الذات أو الذاتيات لا باعتبار الاتصاف بعرض أو عرضي فإنها
خارجة عن محل النزاع، ولا خلاف في أنها حقيقة في خصوص المتلبس فلا
يطلق الحجر إلا على ما كانت الذات باقية حقيقة، وإطلاقه على ما كان حجرا

(1) وسائل الشيعة: ب 14 من أبواب ما يحرم بالرضاع ج 14 ص 305 ح 1.
137

سابقا والآن زال عنه صورة الحجرية مجاز اتفاقا.
الثاني: أنه قد عرفت أن النزاع يجري في تمام ما ذكر من المشتقات الجارية
على الذوات، وليس مخصوصا ببعضها، إلا أنه قد أشكل في جريانه في اسم
الزمان، فإنه لا يمكن أن يجري النزاع فيه، وذلك لأن النزاع في أن المشتق أو
ما يشابهه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ أو في الأعم منه، وما انقضى عنه
المبدأ إنما يتصور فيما إذا أمكن بقاء الذات بعد زمان تلبسه بالمبدأ كإطلاق اسم
الفاعل مثل ضارب على زيد، فإنه يمكن بقاء ذات زيد بعد انقضاء الضرب.
وأما في اسم الزمان فلا يمكن ذلك، ففيه ما دام الذات وهو الزمان باقيا كان
التلبس باقيا حقيقة، وإذا انقضى التلبس بالمبدأ فيه كان الزمان أيضا غير باق
- مثلا - في مثل الموعد الذي هو عبارة عن زمان الوعد لو كان التلبس فعليا كان
الذات وهو الزمان باق وكان إطلاقه عليه حقيقيا. وأما بعد التلبس فالذات ليست
باقية حتى ينازع في أن الذات التي انقضى عنها المبدأ إطلاق المشتق عليها حقيقة
أو مجازا، هذا محصل الإشكال.
وأجاب عنه في الكفاية (1) بما حاصله: أن انحصار مصداق مفهوم كلي بفرد لا
ينافي كلية ذلك المفهوم كما في واجب الوجود فإنه مفهوم كلي لو فرض إمكان
وجود أفراد كثيرة له لصدق عليها، ولكن مصداقه في الخارج منحصر بالفرد،
فكذلك يمكن أن يقال في المقام بأن الموعد - مثلا - موضوع للزمان الذي تحقق
فيه الوعد أعم من المتلبس فعلا وما انقضى عنه المبدأ وإن كان مصداقه منحصرا
في الخارج بالمتلبس فعلا، فاسم الزمان كإسم المكان، فكما أنه يمكن أن ينازع
في أنه موضوع للأعم فكذلك في اسم الزمان، والفرق بينهما أن مصداق اسم
المكان لا ينحصر بالمتلبس الفعلي بخلاف اسم الزمان.
ويمكن أن يجاب بوجه آخر، وحاصله: أن الزمان وإن كان من أوله إلى آخره

(1) كفاية الأصول: في بحث المشتق ص 58.
138

شيئا واحدا ولكن يتعدد باعتبار تقطيعه بالقطعات الاعتبارية كاليوم والأسبوع
والشهر والسنة، فكل قطعة من تلك القطعات الاعتبارية قبل دخول جزئها الأول
وبعد خروج جزئها الآخر تتصف بالعدم وفيما بين الحدين تتصف بالوجود،
فاليوم - مثلا - قبل طلوع الفجر أو الشمس معدوم كما أنه كذلك بعد غروب
الشمس أو ذهاب الحمرة وفيما بينهما موجود، فإذا حدث الوعد - مثلا - في ساعة
أو دقيقة من اليوم وانقضى فالذات - وهو اليوم - باقية، وتلبسهما بالمبدأ قد انقضى
فيصير اسم الزمان كإسم المكان في إمكان بقاء الذات مع انقضاء التلبس بالمبدأ.
وفيه: أن اليوم إن لوحظ من أوله إلى آخره شيئا واحدا فبهذا اللحاظ كما أن
الذات باقية ما دام اليوم باقيا كذلك التلبس أيضا فعلي، وإن لوحظ كل ساعة أو
دقيقة غير الساعة أو الدقيقة الأخرى، فكما أن التلبس بعد الساعة التي كان فيها
فعليا قد انقضى وليس فعليا، فالذات أيضا ليست باقية لمغايرة هذه الساعة مع
الساعة الأولى كما أن اسم المكان في تلك الجهة كإسم الزمان، فإذا قيل: إن المسجد
الفلاني مصلى لزيد فإن لوحظ مجموع المسجد شيئا واحدا يصح هذا الكلام، وإن
لوحظ كل نقطة منه غير النقطة الأخرى لا يصح هذا الكلام، بل لابد أن يقال: النقطة
الفلانية من المسجد الفلاني مصلى له، مع أنه لو تم هذا الوجه لصح فيما كانت
القطعة المفروضة من الزمان أوسع من الفعل الواقع فيها لا مطلقا، كما لا يخفى.
الثالث: أنه قد عرفت أن دائرة النزاع ليست أضيق من المشتقات الجارية على
الذوات وما يضاهيها من الجوامد بحيث يكون النزاع مختصا ببعض المشتقات
الجارية على الذوات كما توهم بعض (1) ولا أوسع منها بحيث النزاع في المشتقات
مطلقا سواء كانت جارية على الذوات أم لا، فالمشتقات الجارية على الذوات
كلها داخلة في محل النزاع، والمشتقات الغير الجارية على الذوات كلها خارجة
عن محل النزاع. والمناط في الدخول والخروج هو الجري على الذات وعدمه.

(1) كفاية الأصول: في بحث المشتق ص 58.
139

فعلى هذا تخرج المصادر مطلقا، مجردة كانت أو مزيدة - عن محل النزاع،
لأن مفهومها عبارة عن نفس الحدث الغير الجاري على الذات، وكذلك الأفعال
أيضا خارجة عن محل النزاع في هذا البحث لعدم جريها على الذات أيضا، وإن
كانت مفاهيمها مشتملة على النسبة المستفادة من هيآتها زيادة على معانيها
الحدثية المستفادة من موادها، لكن مجرد اشتمالها على النسبة لا يوجب دخولها
في هذا النزاع لعدم جريها على الذات.
نعم تعرضوا للبحث عن مفاد هيئة بعضها في بعض المباحث الآتية مثل هيئة
صيغة الأمر والنهي، وأن مفادهما أي شيء؟ وهو لا ربط له بهذا النزاع، ولما كان
هنا توهم من بعض بأن خروج الأفعال عن هذا البحث من جهة أن الزمان مأخوذ
في مفهومها، فإذا كان مفهوم الفعل الماضي - مثلا - الحدث المقترن بالزمان
الماضي، ومفهوم الفعل المضارع الحدث المقترن بزمان الحال أو الاستقبال،
فكيف يقع النزاع في أن الفعل الماضي مفهومه مخصوص بالمتلبس الفعلي أو أعم
منه ومما انقضى عنه المبدأ؟ وهكذا في المضارع إذا كان مفهومه عبارة عن الحدث
المقترن بالحال أو الاستقبال، فكيف يقع فيه هذا النزاع؟
فلذا تصدى صاحب الكفاية (قدس سره) لدفع هذا التوهم بما حاصله أن ما اشتهر بين
النحاة من دلالة الفعل على الزمان حتى أخذوا الاقتران به مأخوذا في تعريفه
اشتباه ضرورة عدم دلالة الأمر والنهي عليه، بل على مجرد إنشاء طلب الفعل أو
الترك (1)، فإن مفهوم " اضرب ولا تضرب " هو إنشاء طلب الضرب وطلب تركه لا
أن مفهومها طلب الضرب أو تركه في الحال، نعم نفس هذا الإنشاء والإيقاع لكونه
من الزمانيات لابد أن يقع في الزمان، كما أن الأخبار أيضا كذلك. وأما كون
الزمان مأخوذا في مفهومهما فلا، بل يمكن منع دلالة غيرهما من الأفعال على
الزمان إلا بالإطلاق والإسناد إلى الزمانيات، وإلا لزم القول بالمجاز والتجريد
عند الإسناد إلى نفس الزمان أو المجردات كما التزموا به وقالوا بانسلاخ بعض

(1) كفاية الأصول: في بحث المشتق ص 59.
140

الأفعال من الزمان كالأفعال التي تسند إلى الزمان أو المجردات.
والحال أنه لا نرى تفاوتا بين الأفعال المستندة إلى الزمان أو المجردات
وبين غيرها من الأفعال، فإن جاء - مثلا - بما له من المفهوم كما يسند إلى زيد
ويقال: جاء زيد، كذلك يسند إلى الزمان ويقال: جاء اليوم الفلاني أو الشهر الفلاني
من دون إلقاء خصوصية معتبرة في مفهومه فيما إذا أسند إلى الزمان، بل بما له من
الخصوصيته يسند إلى الزمان وغيره.
فلا وجه للالتزام باعتبار الزمان فيها والالتزام بانسلاخها منه إذا أسندت إلى
الزمان أو المجردات، والحال أن اسنادها إليهما والى غيرهما بنهج واحد ومفهوم
واحد، بل الوجه هو الالتزام بعدم اعتباره فيها مطلقا.
نعم لا يبعد أن تكون لكل واحد من الفعل الماضي أو المضارع خصوصية
تستفاد منها زمان الماضي في فعله وزمان الحال أو الاستقبال في المضارع فيما
إذا أسندا إلى الزمانيات، وذلك لأن المفهوم من فعل الماضي هو تحقق الحدث،
وهذا المفهوم إذا أسند إلى الزماني يلائم الماضوية، والمفهوم من فعل المضارع
ترقب الحدث، وهذا المفهوم إذا أسند إلى الزماني يلائم الحالية العرفية التي هي
عبارة عن الزمان القريب إلى زمان النطق والإسناد والاستقبالية التي هي عبارة
عن الزمان البعيد عن زمان النطق والإسناد، كما أن المفهوم من اسم الفاعل معنى
يلائم كل واحد من الأزمنة الثلاثة مثلا لو صرحنا بالزمان وقلنا: جاء زيد أمس،
أو: يجي غدا يصح.
ولو عكسنا الأمر لا يصح، وذلك ليس إلا من جهة اعتبار خصوصية في الفعل
الماضي والمضارع بحيث لا يلائم انطباق الفعل الماضي فيما إذا أسند إلى الزماني
إلا على الزمان الماضي والفعل المضارع فيما إذا أسند إلى الزماني إلا على الزمان
الحال أو الاستقبال، لما عرفت من أن تحقق الحدث من الفاعل الزماني يلائم
الماضوية، وترقب الحدث من الفاعل الزماني يلائم الحالية والاستقبالية، وترقب
الحدث فيما إذا أريد من المضارع الحال الحقيقي وحال التشاغل بالعمل إنما هو
141

باعتبار أجزائه التي لم تقع بعد في الخارج، بخلاف ما لو أريد بالحال الزمان
المتصل بزمان النطق الذي هو حال عرفا لا حقيقة.
وفي الجملة الإسمية خصوصية تلائم انطباقها على كل واحد من الأزمنة
الثلاثة، فيصح أن يقال: زيد ضارب أمس، أو في الحال، أو غدا. ويؤيد ما ذكرنا
من أن للفعل الماضي خصوصية لا يلائم إلا مع الزمان الماضي فيما إذا أسند إلى
الزماني، لأن مفهومه تحقق النسبة، وهو لا يلائم انطباقه على غير الماضي إلا فيما
فرض متحققا كما في: (إذا وقعت الواقعة) (1) و (فإذا نفخ في الصور) (2)
وأمثالهما، وللفعل المضارع خصوصية لا تلائم إلا مع الزمان الحال أو الاستقبال،
لأن مفهومه ترقب الحدث، وهو لا يلائم انطباقه على غير الحال أو الاستقبال
قولهم بأن المضارع مشترك بين الحال والاستقبال، ولا معنى له إلا ما ذكرنا من أن
له خصوصية يصح انطباقه عليهما، إذ لو لم يكن المراد ذلك فلابد إما أن يكون
مرادهم الاشتراك اللفظي وأن المضارع وضع لكل واحد من الحال والاستقبال
بوضع على حدة غير وضع الآخر، وهو إن كان ممكنا لكنه بعيد في الغاية، ولو
التزم به أحد لا مانع منه إلا بعده أو الاشتراك المعنوي، والحال أنه لا جامع بين
الحال والاستقبال حتى يكون هو الموضوع ويكون كل واحد منهما مصداقا له.
ويؤيده أيضا أن الزمان الماضي في فعله وزمان الحال أو الاستقبال في
المضارع لا يكون ماضيا أو مستقبلا حقيقة، بل بالإضافة كما في قوله: يجيئني
زيد بعد عام وقد ضرب قبله بأيام، وقوله: جاء زيد في شهر كذا وهو يضرب في
ذلك الوقت أو فيما بعده. ولا يصح ذلك إلا بناء على ما ذكرنا فتأمل.
ثم إنه لما اتضح مما ذكرنا في هذا المقام معاني الأسماء والأفعال فلا بأس
بالإشارة إلى معاني الحروف استطرادا وإن تقدم الكلام في بيانها تفصيلا.
وملخصه، أن المعاني الحرفية في عالم الذهن كالعرضيات الخارجية مثل الفوقية
وأمثالها، فكما لا وجود لتلك العرضيات إلا بوجود منشأ انتزاعها بخلاف الجواهر

(1) الواقعة: 1.
(2) المؤمنون: 101.
142

والأعراض المتأصلة كالسواد والبياض وأمثالهما، فإنهما موجودان في الخارج،
إلا أن الجواهر موجودة فيه لا في الموضوع بخلاف الأعراض فإنها موجودة في
الموضوع، فكذلك المعاني الحرفية لا وجود لها في الذهن مستقلة وإنما هي
موجودة فيه بوجود منشأ انتزاعها، لأنها من خصوصيات الغير وحالاته، فالمفهوم
من لفظة " في " في: " الماء في الكوز " ليس إلا خصوصية في الماء، وهو كونه
مظروفا للكوز وخصوصية في الكوز وهو كونه ظرفا للماء وجود تلك الخصوصية
ليس إلا بوجود الغير الذي له تلك الخصوصية وهي متعلقاتها.
فمفاهيم الحروف لا وجود لها في الذهن إلا تبعا لمفاهيم متعلقاتها كما لا
وجود للفوقية في الخارج إلا تبعا لوجود منشأ انتزاعها، فإذا لم تكن مفاهيمها
مستقلة في الذهن في عالم المفهومية فهل يعقل أن تكون تلك المعاني تحت ألفاظ
مستقلة في عالم اللفظية بأن يكون تحت لفظة " في " في المثال المذكور معنى، كما
أن تحت لفظ " الماء " معنى وتحت لفظ " الكوز " معنى آخر، أو لا يعقل أن يكون
المعنى الغير المستقل الذي هو من توابع معنى آخر أن يكون تحت لفظ مستقل
بحيث يوضع لذلك المعنى ويلقى إلى الخارج بالقاء هذا اللفظ؟
الحق أنه لا يعقل، لأن المعنى لابد أن يلا حظ أولا حتى يوضع له اللفظ وإذا
لم يمكن لحاظه مستقلا فكيف يمكن وضع لفظ مستقل بإزائه والقائه به؟! فتأمل.
فعلى هذا ليست تحت الحروف معان في قبال المعاني التي تحت متعلقاتها
بحيث تكون الحروف حاكية عنها كما أن متعلقاتها كذلك، وإنما الحروف تدل على
الخصوصيات التي في متعلقاتها، وهذا هو المراد بقولهم: الحرف ما دل على معنى
في غيره أي غير ما دل يعني أن الحرف يدل على خصوصية ثابتة لمتعلقه لا أن
معنى الحرف في غير لفظه، وتكون حال الحروف بل الهيئات كالأعاريب، فكما
أن الرفع والنصب يدلان على فاعلية ومفعولية مدخولهما ولا يكون تحت الرفع
والنصب شيء وإنما هما علامتان للفاعلية والمفعولية اللتين هما من خصوصيات
مدخوليهما ففي الحروف والهيئات أيضا الأمر كذلك. فعلى هذا كلها تكون من
143

قبيل الدال على الدال، فتدبر.
وإن أبيت إلا عن أن تحتها معاني فليست إلا معاني ايقاعية انشائية،
فالحروف وضعت لايقاع الربط وإيجاده بين الطرفين لا للحكاية، فكما أن الربط
يمكن ايجاده بغير الألفاظ المستقلة فكذلك يمكن إيجاده بها.
الرابع: في أن اختلاف مبادئ المشتقات في كونها صناعة وحرفة وقوة وملكة
وفعليا لا يوجب إختلافا في دلالتها بحسب الهيئة، ولا يوجب تفاوتا في الجهة
المبحوث عنها، فإن هيئة المشتق في مثل " الكاتب " بمعنى المتشاغل بالكتابة لا
يختلف بحسب الدلالة مع هيئة " الكاتب " بمعنى من له ملكة الكتابة، والخلاف في
أنها حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ أو للأعم منه ومما انقضى عنه المبدأ جار
في كلتيهما وإن كان التلبس بالمبدأ في الا ول هو في خصوص زمان التشاغل،
وفي الثاني هو تمام زمان وجوده.
فمحل الخلاف في الأول هو بعد انقضاء التشاغل الفعلي وفي الثاني بعد زوال
الملكة، وهذا الفرق إنما نشأ من طرف المادة لا الهيئة، لأن المادة في الأول أخذت
فعليا، وفي الثاني ملكة وقوة، فالكاتب إن أخذ من الأول كما يجري فيه النزاع
بأنه حقيقة في المتلبس بالمبدأ فعلا وهو المتشاغل بالكتابة أو للأعم منه ومما
انقضى، كذلك إن أخذ من الثاني يجري فيه النزاع بأنه حقيقة في المتلبس بالمبدأ
فعلا وهو من له ملكة الكتابة فعلا أو للأعم منه ومما انقضى وهو من كانت له تلك
الملكة وزالت عنه. وهكذا الكلام في غير الكاتب كالمتكلم والضاحك والتاجر
وأمثالها من المشتقات التي يمكن أخذ مبادئها فعلا وملكة.
والمقصود من تقديم هذا الأمر إنما هو الرد على من فصل في محل النزاع بين
ما إذا كان اتصاف الذات بالمبدأ أكثريا فيكون المشتق فيه حقيقة في الأعم وبين
ما لم يكن كذلك فلا، فإنه لما يخيل أن الكاتب بمعنى من له ملكة الكتابة مأخوذ
من الكتابة بمعنى التشاغل بالكتابة وفعلية الكتابة، وهكذا أمثاله من المشتقات
المذكورة فصل التفصيل المزبور، والحال أنه توهم فاسد، بل لابد في كل مشتق
144

من ملاحظة مبدئه: فإن كان مبدؤه فعليا فيعتبر التلبس والانقضاء بالنسبة إليه، وإن
كان ملكة فيعتبر التلبس والانقضاء بالنسبة إليها، لا أن يعتبر في ناحية المشتق
الملكة والقوة وفي ناحية المبدأ الفعلية.
فعلى هذا لا تفاوت بينها في الجهة المبحوث عنها، والنزاع في أن الهيئة هل
هي موضوعة لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلا أو للأعم؟ جار فيها فالكاتب بمعنى
المتشاغل بالكتابة كما يمكن أن ينازع فيه بأنه موضوع لخصوص المتشاغل
الفعلي أو للأعم منه ومما انقضى عنه التشاغل، كذلك الكاتب بمعنى من له ملكة
الكتابة يمكن أن ينازع فيه بأنه موضوع لخصوص واجد الملكة فعلا أو للأعم منه
وممن زالت عنه الملكة.
الخامس: في أنه ما المراد من الحال في العنوان؟ فنقول: لا يخفى أن
الماضوية والحالية والاستقبالية من الأمور الإضافية التي يتصف بها كل من الزمان
والزمانيات، ويختلف اتصافها بها بالإضافة، فرب زمان أو زماني يكون ماضيا
بالنسبة إلى زمان أو زماني آخر، ويكون حالا أو مستقبلا بالقياس إلى نفسه، أو
زمان أو زماني آخر، فان اليوم حال بملاحظته في حد نفسه وبالقياس إليها،
وماض بالنسبة إلى الغد، ومستقبل بالنسبة إلى الأمس. وكذا الزمانيات فإن وجود
زيد بالنسبة إلى وجود عمرو ماض، لتقدم زمان وجوده على زمان وجود عمرو،
وحال بالقياس إلى نفسه، ومستقبل بالقياس إلى وجود بكر المتقدم عليه زمانا.
ومنه يظهر وجه التأمل في تأييد عدم اعتبار الزمان في الفعل الماضي
والمضارع بما ذكر سابقا من أن الماضي قد يكون مستقبلا حقيقة وبالعكس كما
في المثال المذكور فإنه إذا كانت الماضوية والاستقبالية والحالية من الأمور
الاضافية لا يرد إشكال على اعتبار الزمان الماضي في فعله أو الحال والاستقبال
في الفعل المضارع من هذه الجهة فتدبر.
إذا عرفت هذا فاعلم أن في حمل المشتق على الذات واتصافها به أمور ثلاثة
زمانية لابد من وقوعها في الزمان: تلبس الذات بالمبدأ، والنطق، والجري، فإن
145

تلبس الذات بالمبدأ سواء كان بنحو القيام به أو الصدور منه أو الحلول فيه أو
الوقوع عليه أو فيه لابد أن يكون في زمان، كما أن النطق والتكلم بأنها متلبس به
أيضا لابد أن يكون في زمان، وكذا جري المشتق وحمله على الذات والحكم
باتحاده معها سواء كالحمل والاتحاد صريحا، كما في مثل: زيد ضارب، أو ضمنيا
كما في مثل: أكرم العالم، فإنه بمنزلة أن يقال: أكرم الشخص الذي هو عالم.
والحاصل: أن هنا أزمنة ثلاثة: زمان التلبس وزمان النطق وزمان الجري
والاتحاد، فهل يقاس زمان التلبس إلى زمان النطق، فإن كان زمان التلبس ماضيا
بالنسبة إليه كان محل الخلاف في كونه حقيقة أو مجازا، وإن كان حالا بالنسبة إليه
كان حقيقة اتفاقا، وإن كان مستقبلا كان مجازا اتفاقا، فإذا قال: " زيد ضارب " فإن
كان متلبسا بالضرب قبل حال النطق كان محل الخلاف، وإن كان متلبسا به حال
النطق كان حقيقة اتفاقا، كما أنه لو كان متلبسا به بعد حال النطق يكون مجازا
اتفاقا، أو يقاس زمان التلبس إلى زمان الجرى والحمل، فإن كان زمان التلبس
ماضيا بالنسبة إليه كان محل الخلاف، وإن كان حالا بالنسبة إليه كان حقيقة اتفاقا،
وإن كان مستقبلا بالنسبة إليه كان مجازا اتفاقا؟
والظاهر هو الأخير كما يظهر من كلمات بعض المحققين (1)، بل كثير منهم، وإن
كان في عبارتهم نوع تشويش واضطراب وقصور عن إفادة المراد، لكن بعد
التأمل يظهر أنه المراد، وإلا لزم أن يقال في مثل " زيد ضارب أمس أو غدا " فيما
كان الأمس والغد ظرفا للجري والحمل، إن الأول محل للخلاف، والثاني مجاز
بلا خلاف، والحال أن الالتزام به بعيد جدا.
نعم، لو كان الأمس أو الغد ظرفا للتلبس وكان الجري والحمل في الحال كان
الأمر كما ذكر. وحينئذ فلا بد من تعيين زمان الجري والاتحاد أولا ثم مقايسة
زمان التلبس به، فإن كان هناك قرينة على تعينه في الزمان الماضي أو المستقبل
كما لو قال: زيد ضارب أمس أو غدا بأن يكون الأمس والغد ظرفا للجري

(1) كفاية الأصول: في بحث المشتق، ص 63.
146

والحمل لا التلبس فهو، وإلا فمقتضى الاطلاق ومقدمات الحكمة يحكم بأن زمان
الجري والحمل هو حال النطق، وإلا لكان على المتكلم بيانه.
وعلى أى حال سواء تعين زمان الجري بالقرينة أو بمقتضى مقدمات الحكمة،
فإذا قال: زيد ضارب أمس أو اليوم أو غدا، أو أطلقه وقلنا: إن الاطلاق يحمل
على زمان النطق فكأنه قال: زيد ضارب اليوم، فإن كان متلبسا بالضرب في
الزمان الذي حمل الضارب على زيد، وحكم باتحادهما سواء كان الأمس أو
اليوم أو الغد كان حقيقة، وإن كان متلبسا به في الزمان السابق على زمان الجري
وانقضى عنه كان محلا للخلاف في كونه حقيقة أو مجازا، وإن كان متلبسا به بعد
زمان الجري كان مجازا بلا خلاف وإن كان تلبسه به في زمان النطق - مثلا - إذا
قال: زيد ضارب أمس، وكان الظرف ظرفا للجري والاتحاد فقد حكم باتحاد
عنوان الضارب ومفهومه في الأمس.
وأما أن مفهومه أي شيء وأنه عبارة عن المتشاغل بالضرب، أو من صدر عنه
الضرب ليعم المتشاغل وغيره. فلابد من استفادته من الخارج، وأن وضع المشتق
لمن تلبس بالمبدأ فعلا، أو للأعم منه وممن صدر عنه المبدأ فعلى القول بكونه
موضوعا لخصوص من تلبس بالمبدأ وتشاغل به كان زمان الجري والتلبس
متحدا، فكأنه قال: زيد متحد في الأمس مع المتشاغل بالضرب، وعلى القول بكونه
موضوعا للأعم كأنه قال: زيد متحد في الأمس مع عنوان من صدر عنه الضرب.
وعلى أي حال فلو كان تلبسه بالضرب في الأمس كان حقيقة اتفاقا، للقطع
بكونه موضوعا له إما بخصوصه أو في ضمن الوضع للأعم، ولو كان تلبسه به قبل
الأمس كان داخلا في محل الخلاف أو أن الضارب هل وضع للأعم من المتشاغل
ومن صدر عنه حتى يكون إطلاقه وجريه على الذات بلحاظ صدور الضرب عنه
سابقا حقيقة، أو لخصوص المتشاغل حتى يكون إطلاقه عليها بهذا اللحاظ
مجازا؟ ولو كان تلبسه به بعد الأمس كان مجازا اتفاقا، لأن المتكلم قد حكم
باتحاد عنوان الضارب ومفهومه مع زيد في الأمس، والحال أنه لم يكن متشاغلا
147

به فيه، ولم يصدر عنه قبله، وكذا لو قال: زيد ضارب اليوم وكان اليوم ظرفا
للجري، أو قال: زيد ضارب وأطلقه وقلنا: إن الاطلاق يحمل على أن زمان
الجري هو زمان النطق، فإن كان متلبسا به فيه كان حقيقة اتفاقا، وإن كان متلبسا
به قبله كان محلا للخلاف، وإن كان متلبسا به بعده كان مجازا بلا خلاف. وكذا
- أيضا - لو قال زيد ضارب غدا، وكان الغد ظرفا للجري والحمل، فإن كان متلبسا
به في الغد كان حقيقة، وإن كان متلبسا به قبله كان محل الخلاف، وإن كان متلبسا
به بعده كان مجازا اتفاقا.
والحاصل: أن تعيين زمان الجري والاتحاد بالقرينة أو بمقدمات الحكمة لا
يفيد، إلا أن الذات متحدة مع هذا العنوان في ذلك الزمان. وأما أن مفهوم ذلك
العنوان أي شيء، وأنه المتشاغل بالضرب أو الأعم؟ فلا يستفاد منه، بل لا بد من
استفادته من الخارج، فتأمل.
هذا فيما كان الحمل صريحا، وكذا فيما لو كان الحمل ضمنيا كأكرم العالم،
غير أنه لابد فيه - مضافا إلى ما في الحمل الصريح - من تعيين طرف الحكم إما
بالقرينة أو الإطلاق أيضا، فلو قال: أكرم عالم الأمس، أو عالم اليوم، أو عالم الغد
حيث يكون الظرف ظرفا للجري والحكم باتحاد العنوان مع الذات، فإنه يجب
إكرام من كان عالما في الأمس في المثال الأول، وفي اليوم في المثال الثاني، وفي
الغد في المثال الثالث، وإن لم يكن عالما في غير الزمان الذي حكم باتحاد
العنوان مع الذات حتى زمان صدور الحكم بوجوب الإكرام، ففي المثال الأول لما
كان الحكم بالاتحاد في الأمس فلو كان متلبسا بالمبدأ فيه كان حقيقة بلا خلاف
وكان إكرامه واجبا وأما إن كان متلبسا به قبل الأمس كان محلا للخلاف، فإن قلنا
بأنه حقيقة في الأعم كان اكرامه واجبا أيضا، وإلا فلا، وإن كان متلبسا به بعد
الأمس كان مجازا ولا يجب اكرامه. وكذا الحكم في المثالين الأخيرين، فتأمل.
وملخص الكلام: أن الماضوية والحالية والاستقبالية التي هي من الأمور
الإضافية هل تعتبر بمقايسة زمان التلبس إلى زمان الجري والاتحاد، فإن كان
148

متلبسا به حال الجري كان حقيقة، وإن كان متلبسا به قبل زمان الجري كان محل
الخلاف، وإن كان متلبسا به بعد زمان الجري كان مجازا بلا خلاف، أو بمقايسته
إلى زمان النطق، فإن كان التلبس في حاله كان حقيقة وإن كان سابقا عليه كان
محل الخلاف، وإن كان لا حقا كان مجازا اتفافا؟
والحق هو الأول، لما عرفت من لزوم المجاز على هذا فيما لو قال: زيد
ضارب أمس أو غدا، فيما كان الأمس والغد ظرفا للجري والاتحاد. والحال أنه
ليس كذلك، ولزوم امتثال العبد للمولى فيما إذا قال له: " جئني بالشخص الضارب "
إذا أتاه بمن كان ضاربا حين النطق وإن لم يكن ضاربا حين المجيء، والحال أن
الأمر بالعكس. وكذا لو قال: جئني بعالم، لزم امتثاله بإتيان من كان عالما حين
[النطق] وإن لم يكن عالما حين الإتيان، فتأمل ولو قيس زمان الجري أو النطق
إلى زمان التلبس وقيل بأنه إن كان الجري قبل التلبس كان مجازا اتفاقا، وإن كان
بعده كان محلا للخلاف، وإن كان في حاله كان حقيقة اتفاقا وهكذا زمان النطق
بالنسبة إلى زمان التلبس يصير المستقبل ماضيا وبالعكس، ومحل الخلاف محل
الوفاق وبالعكس.
ولعله إلى ذلك أشار من قال: إن الأزمنة الثلاثة يمكن اعتبارها بالنسبة إلى
النطق وبالنسبة إلى النسبة، والمراد بها الجري والاتحاد، ورد احتمال الأول بما
ذكرناه، واختار أن الأزمنة الثلاثة إنما تلاحظ بالقياس إلى النسبة، ثم ذكر احتمال
ملاحظتها بالقياس إلى التلبس، ورده بأنه يصير بناء على هذا ما لم يتلبس بالمبدأ
الذي اتفقوا على مجازيته ماضيا، وما تلبس بالمبدأ وانقضى عنه الذي اختلفوا في
مجازيته مستقبلا.
السادس: في أنه لا أصل في نفس هذه المسألة بحيث يكون هو المعول
والمرجع عند الشك في أن الموضوع له هو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلا أو
الأعم منه ومما انقضى عنه المبدأ. وكون الأصل عدم ملاحظة الخصوصية - مع أنه
لا يثبت الوضع لأنه توقيفي، ولا يثبت بالأصل - معارض بأصالة عدم ملاحظة
149

العموم. والحال أنه لابد من ملاحظة أحدهما حين الوضع، فإثبات الوضع للأعم
من المتلبس وما انقضى عنه المبدأ بهذا الأصل لا يمكن من جهة توقيفيته، وعدم
دليل على اعتباره في إثباته، مع أنه معارض بمثله، كما أنه لا يمكن إثباته للأعم
بما ذكر من ترجيح الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز عند دوران الأمر
بينهما من جهة الغلبة، لمنع الغلبة أولا، وعدم دليل على اعتبارها في إثبات الوضع
ثانيا، وإن قلنا باعتبارها في بعض المقامات. والحاصل: أنه ليس أصلا عقلائيا
يكون هو المرجع في نفس هذه المسألة عند الشك.
فعلى هذا لابد من الرجوع إلى الأصول العملية الجارية في الأبواب والفروع
المترتبة على هذه المسألة، ومن جملة الأبواب المتفرعة على هذه المسألة: النذور
والوقوف والوصايا، فإذا نذر أو أوصى لكل عالم بشيء أو وقف عليه، فإن كان
شخص عالما عند النذر والوصية والوقف ثم صار جاهلا فيرجع إلى
الاستصحاب، وإن كان عالما سابقا ولكن انقضى عنه المبدأ حين النذر والوصية
والوقف وصار جاهلا يرجع إلى البراءة، هذا ما قيل في المقام.
ولكن فيه: أنه لا يمكن الرجوع إلى الاستصحاب أصلا لا الاستصحاب
الحكمي ولا الموضوعي، أما الاستصحاب الحكمي سواء كان الحكم شرعيا
كالايجاب والتحريم وغيرهما من الأحكام الشرعية أو غيره، فلأنه لا يجري مع
الشك في الموضوع - مثلا - إذا وقف شيئا على العالم، فالوقف ليس على الذات
المتلبس بالعلم حتى يستصحب كون هذا الشخص موقوفا عليه الذي هو من
أحكام وآثار كونه عالما، بل الوقف كان على عنوان العالم وكون هذا الشخص
موقوفا عليه ومستحقا للوقف إنما كان من جهة انطباق هذا العنوان الكلي عليه،
فالشك في انطباقه عليه شك في الموضوع، ومعه لا مجال لاستصحاب الحكم.
نعم، لو كان الشخص من حيث هو مع قطع النظر عن انطباق عنوان كلي عليه
موقوفا عليه لأمكن استصحاب كونه موقوفا عليه وغيره من الأحكام المترتبة
عليه عند الشك، وأما الاستصحاب الموضوعي فلأنه إنما يجري فيما إذا كان شيء
150

موضوعا لأثر وحكم، ثم شك في بقائه وارتفاعه من جهة الشك في بقاء
الخصوصيات المعتبرة فيه كما إذا علمنا بأن مفهوم العالم عبارة عن المتلبس
بالمبدأ فعلا وشككنا في بقاء التلبس وعدمه، أو علمنا بأن الكر عبارة عن ألف
ومائتي رطل بالعراقي وشككنا في أنه نقص الماء عن هذا المقدار الخاص أم لا،
أو علمنا بأن العدالة عبارة عن ملكة اجتناب الكبائر وعدم الاصرار على الصغائر
ومنافيات المروءة وشككنا في زوالها عن الشخص المتصف بها وعدمه.
ففي هذه المقامات وأمثالها يجري الاستصحاب الموضوعي، وأما إذا كان
شخص عالما ومتلبسا بالمبدأ فعلا ثم زال عنه المبدأ وصار جاهلا يقينا وشككنا
في بقاء الموضوع من جهة الشك في أن العالم هل هو موضوع للأعم من المتلبس
بالمبدأ حتى يكون باقيا الآن، أو أنه موضوع لخصوص المتلبس به فعلا حتى
يكون زائلا، وكذا إذا كان ماء متصفا بالكرية من جهة كونه بمقدار ألف ومائتي
رطل بالمدني أو المكي - مثلا - ونقص عنه مقدار بحيث نعلم أنه ليس بمقدار ألف
ومائتي رطل بالمدني أو المكي يقينا وشككنا في بقاء الكرية من جهة الشك في
أن الكر عبارة عن ألف ومائتي رطل بالمدني أو المكي حتى يكون زائلا وناقصا
عنه يقينا، أو أنه عبارة عن ألف ومائتي رطل بالعراقي حتى يكون باقيا.
وكذا إذا كان شخص متصفا بالعدالة من جهة كونه واجدا لملكة الاجتناب عن
الكبائر والاصرار على الصغائر ومنافيات المروءة ثم زالت عنه ملكة الاجتناب
عن منافيات المروءة وشككنا في بقاء العدالة من جهة الشك في أن مفهوم العدالة
عبارة عن الاجتناب عن الكبائر والاصرار على الصغائر ومنافيات المرؤه حتى
تكون مرتفعة يقينا، أو أنه عبارة عن ملكة اجتناب الكبائر والاصرار على الصغائر
فقط حتى تكون باقية يقينا فلا يجري الاستصحاب الموضوعي أيضا، من جهة أن
المراد من استصحاب الموضوع كالعالم والكر والعدالة ليس باعتبار استصحاب
نفس هذه المفاهيم بما أنها مفاهيم حتى يقال: إن هذه المفاهيم كانت صادقة سابقا
والآن نشك في بقائها فنستصحب، بل باعتبار مصاديقها وهو أن هذا الشخص كان
151

عالما أو عادلا أو هذا الماء كان كرا فنستصحب، وهذا الشخص أو هذا الماء لم
يكن حاله مشكوكا لا في الزمان السابق ولا في هذا الزمان حتى يكون الشك في
بقاء الموضوع من جهة تغيير في بعض الخصوصيات المعتبرة فيه ويجري فيه
الاستصحاب.
بل الشك في بقاء الموضوع من جهة الشك في أن مفهوم العالم هو خصوص
المتلبس بالمبدأ حتى يكون الموضوع غير باق قطعا أو الأعم حتى يكون باقيا
قطعا، وكذا مفهوم العدالة عبارة عن ملكة الاجتناب عن الأمور الثلاثة حتى تكون
مرتفعة يقينا، أو الاجتناب عن الكبائر والاصرار على الصغائر حتى تكون باقية
يقينا، وكذا مفهوم الكر عبارة عن ألف ومائتي رطل بالعراقي حتى يكون باقيا، أو
بالمدني أو المكي حتى يكون غير باق يقينا، وهذا الشك ليس شكا في بقاء
الموضوع حقيقة ولو عبر بأنه شك في الموضوع كان مغالطة، لأن خصوصياته في
الحالين معلومة فالشك هنا في الحقيقة ليس شكا في مرحلة البقاء، بل في مرحلة
الحدوث، لأنه لو كان هذا الشخص من أول الأمر كذلك أي كان مما انقضى عنه
المبدأ حين الوقف - مثلا - لكان شمول الوقف له مشكوكا وكذا في المثالين
الأخيرين.
والحاصل: أن الاستصحاب الموضوعي إنما يجري فيما إذا كان الشك في
بقائه من جهة الشبهة الموضوعية والشك في الخصوصيات المعتبرة فيه وعدم
العلم بحاله في حال الشك، وأما إذا كان الشك في بقائه من جهة الشبهة المفهومية
مع العلم بحاله وخصوصياته في حال الشك فلا يجري فيه الاستصحاب
الموضوعي، لأنه لو كان من أول الأمر بهذه الخصوصية لكان مشكوكا أيضا،
فالشك في الحقيقة ليس شكا في البقاء.
وإذا لم يكن المقام مجرى الاستصحاب الحكمي ولا الاستصحاب
الموضوعي فلا بد من الرجوع إلى أصل آخر من البراءة أو الاحتياط أو التخيير
على حسب اختلاف الموارد إن أمكن، وإلا فإلى شيء آخر من حكم الحاكم أو
152

القرعة أو الصلح القهري كما إذا وقف مالا على العلماء من أولاده طبقة بعد طبقة
- مثلا - فإن كان في الطبقة الأولى اثنان أحدهما متلبس بالمبدأ فعلا والآخر غير
متلبس به فعلا ولكن كان عالما وانقضى عنه المبدأ فنصف هذا المال لمن تلبس
بالمبدأ يقينا ونصفه الآخر مردد بينه وبين من انقضى عنه المبدأ، فلابد من أن
يكون تصرف كل منهما فيه برضاء الآخر فإن وقعت بينهما مراضاة فهو، وإلا فلابد
من الرجوع إلى الصلح القهري من باب السياسة، وكذا إذا كان في الطبقة الأولى
واحد كان عالما ولكن انقضى عنه المبدأ فعلا وكان في الطبقة الثانية من كان
متلبسا بالمبدأ فعلا فمجموع هذا المال مردد بينهما فإن وقعت بينهما مراضاة في
التصرف فهو وإن تشاحا فلابد من الصلح القهري حسما لمادة النزاع، وهكذا
الحكم في أمثال هذه الفروض، فتأمل جيدا.
وحيث انتهى الأمر في المقام إلى الوضع وأن الموضوع له هو خصوص
المتلبس بالمبدأ في الحال أو الأعم منه ومما انقضى عنه المبدأ، وبعبارة أخرى:
هل الموضوع له للفظ المشتق مفهوم مضيق وهو المتلبس الفعلي أو مفهوم موسع
وهو الأعم منه ومما انقضى، وبعبارة ثالثة: أن مفهوم المشتق هل ينتزع من
خصوص الذوات المتلبسة بالمبدأ فعلا أو من الأعم منها ومما كانت متلبسة
وانقضى عنها إذا المفاهيم إنما تنتزع من الخارجيات؟
فالنزاع في أن مفهوم المشتق هل هو منتزع من الذات المتلبس بالمبدأ فعلا،
أو من الأعم منه وهو ما تحقق منه المبدأ إما في الحال أو فيما مضى؟ كما أنه لو
قيل بكونه حقيقة في المستقبل أيضا لابد من القول بأنه منتزع من الذات التي
يوجد ويتحقق منه المبدأ في أحد الأزمنة الثلاثة، فلابد في تشخيص الموضوع له
من الرجوع إلى العلامات والأمارات التي يمتاز بها المعنى الحقيقي عن المعنى
المجازي والموضوع له عن غيره، ومن جملتها التبادر وعدم صحة السلب فإنها
من علائم الحقيقة، كما أن تبادر الغير وصحة السلب من علائم المجاز، وقد تقدم
الكلام في أن عدم صحه السلب الذي هو من علائم الحقيقة مخصوص بما إذا كان
153

الشك في المصداق فيعين بعدم صحة السلب أن المورد من المصاديق الحقيقية أو
يعم ما إذا كان الشك في الصدق أو المفهوم أيضا، فراجع.
فعلى الثاني كما أنه يعين الموضوع له بالتبادر إذا كان الشك في الصدق أو
المفهوم كذلك يمكن أن يعين بعدم صحة السلب أيضا إذا كان الشك في المفهوم أو
الصدق، بخلاف الأول فإن عدم صحة السلب عليه مخصوص بما إذا كان الشك في
المصداق مع تبين المفهوم فتكون العلامتان مختلفتين.
وكيف كان، فهما من الأمور الوجدانية الانصافية، إذ يمكن أن يدعي شخص
تبادر خصوص المتلبس بالمبدأ فعلا من لفظ المشتق وصحة سلبه عما انقضى عنه
المبدأ وينكره خصمه، بل يدعي العكس. ولذا استدل كل من القائلين بأن
الموضوع له هو خصوص المتلبس الفعلي والقائلين بأن الموضوع له هو الأعم
بهما، إذ يمكن أن يقول القائل بأن الموضوع له هو المتلبس الفعلي لو خلي الذهن
يتبادر من لفظ المشتق خصوص حال التلبس، ويقول الخصم بأنا خلينا أذهاننا
ويتبادر منه إلى أذهاننا الأعم منه، وكذلك بالنسبة إلى صحة السلب وعدمها.
إذا عرفت هذا فأعلم أن الأقوال في المسألة وإن تكثرت إلا أنها حدثت بين
المتأخرين بعد ما كانت ذات قولين عند القدماء، وهذه الأقوال إنما حدثت من
جهة توهم اختلاف مفهوم المشتق باختلاف مبادئه أو تفاوت ما يعتريه من
الحالات، وإذ قد عرفت أن مفهوم المشتق لا يختلف باختلاف مبادئه فيما هو
المهم يظهر أن الأقوال المفصلة كلها باطلة من جهة أنها حدثت من جهة الخلط بين
مفهوم المشتق ومبدئه.
مثلا من جملة الأقوال المفصلة: القول بأن المبدأ إذا كان من الأمور السيالة
الغير القارة كالتكلم والمشي وأمثالهما فالمشتق فيها حقيقة في الأعم من المتلبس
الفعلي ومما انقضى، وإذا كان المبدأ من غيرها فهو حقيقة في خصوص المتلبس
الفعلي، من جهة أن المبدأ إذا كان من الأمور المتصرمة المنقضية، ففي الحقيقة
الذات المتلبس به بين العدمين، لأن جزءا من المبدأ انعدم وجزءا منه لم يوجد،
154

ففيها المشتق يكون حقيقة في الأعم. وأما إذا كان المبدأ من غيرها فهو حقيقة في
خصوص المتلبس الفعلي، وأنت خبير بأن هذا ليس تفصيلا في مفهوم المشتق،
وإنما هو تفصيل بين المبادئ، فإن التلبس في الأمور السيالة إنما هو بهذا النحو
فهو عين الالتزام بعدم التفصيل، وإنما التفصيل بينها في مفهوم المشتق هو ما لو قال
المفصل: إن المشتق في المبادئ السيالة حقيقة في الذات التي تلبست بها وانقضى
عنها المبدأ بالكلية كما إذا صار المتكلم ساكتا أو الماشي ساكنا، وهو غير مستفاد
من كلامه، وما يستفاد من كلامه ليس قولا بالتفصيل في مفهوم المشتق، بل هو
عين الالتزام بعدم التفصيل.
ومن جملتها أيضا: التفصيل بين ما كان التلبس بالمبدأ أكثريا كالكاتب
والتاجر وأمثالهما، فيكون المشتق حقيقة في الأعم وبين غيره، فيكون حقيقة في
خصوص المتلبس الفعلي، من جهة أنه يصح إطلاق الكاتب والتاجر على من لم
يشتغل فعلا بالكتابة والتجارة بخلاف الضارب وأمثاله، فإنه لا يصح إطلاقه على
غير المشتغل بالمبدأ.
وفيه أيضا: أنه اشتباه نشأ من جهة الخلط بين مفهوم المشتق ومبدئه، من جهة
أن صحة إطلاق الكاتب والتاجر على من لم يشتغل فعلا بالكتابة والتجارة إنما
هو من جهة أن المراد بالمبدأ فيهما هي الملكة لا الفعل، فيصح إطلاقهما
على الذات الواجدة للملكة ويكون من باب الإطلاق على المتلبس الفعلي لبقاء
التلبس ما دامت الملكة باقية، كما أنه لو أريد من المبدأ فيهما الفعل يصح الإطلاق
حقيقة ما دام متشاغلا بالفعل، فالمفصل توهم أن الكاتب والتاجر بمعنى المشتغل
بالكتابة والتجارة مأخوذان من الكتابة والتجارة بمعنى الملكة، والحال أن الأمر
ليس كذلك.
والحاصل: أنه لا فرق في محل النزاع بين أن يكون تلبس الذات بالمبدأ
اكثريا أم لا، فإنه كما يمكن النزاع في مثل الضارب مما لا يكون التلبس أكثريا
كذلك يمكن في مثل الكاتب والتاجر، سواء كانا بمعنى المشتغل بالكتابة والتجارة
155

أو بمعنى من له ملكتيهما. غاية الأمر أن التلبس بالمبدأ بناء على الأول ما دام
الاشتغال بالفعل باقيا، وبناء على الثاني ما دامت الملكة باقية، والمفصل توهم
أن الكاتب والتاجر بمعنى المشتغل بالكتابة والتجارة مأخوذان من الكتابة
والتجارة بمعنى الملكة، وهو توهم فاسد، وهكذا الحال في سائر التفاصيل
المذكورة في هذا المقام.
فظهر أن النزاع في المسألة ثنائي لا أزيد. والحق من هذين القولين هو القول
بكونه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ فعلا وفاقا لمتأخري الأصحاب (1)
والمعتزلة (2) وخلافا لمتأخريهم والأشاعرة (3)، للتبادر وصحة سلب المشتق عما
انقضى عنه المبدأ كالمتلبس به في الاستقبال، وذلك لوضوح أن مثل القائم
والضارب والعالم وما يرادفها من سائر اللغات لا يصدق على من لم يكن متلبسا
بالمبادئ وإن كان متلبسا بها قبل الجري والانتساب ويصح سلبها عنه. كيف؟ وما
يضادها من الصفات بحسب ما ارتكز من معناها في الأذهان يصدق عليه ضرورة
صدق القاعد عليه في حال تلبسه بالقعود بعد انقضاء تلبسه بالقيام مع وضوح
التضاد بين القائم والقاعد بحسب ما ارتكز لهما من المعنى كما لا يخفى.
وقد يجعل هذا وجها على حدة من غير أن يكون متمما للوجه الثاني وهو
صحة السلب بأن يقال: لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ
المتضادة على ما ارتكز لها من المعاني. فلو كان المشتق حقيقة في الأعم لما كانت
بينها مضادة، بل مخالفة لتصادقهما فيما انقضى عنه المبدأ وتلبس بضده، والحال
أن بين المبدأين تضاد بحسب المعنى المرتكز منهما والتضاد بين المبدأين مستلزم
للتضاد بين مشتقيهما، بل لا معنى للتضاد بين المبدأين إلا عدم صحة حمل المشتق
من أحدهما على ما يصح حمل المشتق من الآخر عليه، فإن معنى تضاد السواد

(1) هداية المسترشدين: في بحث المشتق ص 82 س 36 والفصول الغروية: في بحث المشتق
ص 59 س 39.
(2) كما في مفاتيح الأصول: في بحث المشتق ص 14 س 28.
(3) كما نقله صاحب مفاتيح الأصول: في بحث المشتق ص 14 س 28.
156

والبياض هو عدم صحة حمل الأسود على ما يصح حمل الأبيض عليه.
ولا يرد على هذا التقرير ما أورده بعض الأجلة من المعاصرين (1) من عدم
التضاد بناء على القول بعدم الاشتراط، لما عرفت من ارتكازه بينهما كما في
مبادئها، فتأمل. إذ المستحيل هو عدم جواز اجتماع المتضادين أو المتناقضين في
محل واحد في زمان واحد، وبناء على القول بعدم اشتراط التلبس بالمبدأ في
صدق المشتق وكفاية تلبسه به فيما مضى لا يلزم هذا المحذور من صدق
المشتقين من المتضادين أو المتناقضين، لاختلاف زمان التلبس بمبدأيهما، إلا أن
يقال بأن التضاد بين المشتقين ارتكازي ضروري.
ويستنتج من هذا المطلب الضروري مطلب نظري وهو اشتراط التلبس
بالمبدأ في صدق المشتق، وإلا لزم إما عدم التضاد بينهما وهو خلاف الارتكاز
والضرورة، وإما عدم استحالة اجتماع المتضادين والمتناقضين، وهو ضروري
البطلان، فتدبر.
ثم لا يخفى أن عبارة الكفاية في هذا المقام مشوشة غاية التشويش، ولعل
المراد هو أنه (قدس سره) لما استدل على القول المختار بالتبادر وصحة السلب (2) صار
بصدد بيان الجواب عن الايراد الوارد على التبادر اولا، ثم الجواب عن الايراد
الوارد على صحة السلب.
وحاصل الايراد الأول هو: أن التبادر إنما يكون علامة للحقيقة إذا كان
مستندا إلى الوضع وحاق اللفظ، لا ما إذا كان مستندا إلى الاطلاق أو القرينة
والتبادر هنا مستند إلى الاطلاق.
وحاصل الجواب هو: أنه تارة يمنع أصل التبادر ويقال: ليس المتبادر من
المشتق هو خصوص المتلبس بالمبدأ، بل الأعم منه ومما انقضى عنه المبدأ كما
استدل به القائلون بكونه موضوعا للأعم فله وجه، وأما بعد تسليم أن المتبادر منه

(1) بدائع الأفكار: في بحث المشتق ص 181 س 26.
(2) كفاية الأصول: في بحث المشتق ص 64.
157

خصوص المتلبس بالمبدأ فلا وجه للمنع عن كونه من جهة الوضع وادعاء أنه من
جهة الاطلاق، وذلك لأن التبادر يمكن أن يكون من جهة الاطلاق فيما إذا كان
استعمال المشتق في المتلبس الفعلي أكثر من استعماله فيما انقضى عنه المبدأ،
والحال أن الأمر بالعكس.
ولما ذكر (قدس سره) هذه المقدمة لإثبات مطلبه وهو أن التبادر ليس من جهة
الاطلاق وحاصلها أكثرية استعمال المشتق في موارد الانقضاء تنبه لما يتوجه
عليه من الإيراد، وهو أنه يلزم على هذا - أي كون المشتق حقيقة في خصوص
المتلبس مع أكثرية استعماله في موارد الانقضاء - أن يكون أغلب لغات العرب بل
غير لغة العرب مجازا، وهو بعيد ربما لا يلائمه حكمة الوضع.
فأجاب عنه بما ذكره من قوله: قلت مضافا إلى أن مجرد الاستبعاد غير ضائر
بالمراد... إلى آخره (1) بعد ما اعترض في البين بقوله: لا يقال: كيف؟ وقد قيل... إلى
آخره (2) وجوابه وهو قوله: فإن ذلك لو سلم... إلى آخره (3) إلى أن وصل إلى أصل
المطلب وهو قوله: وبالجملة كثرة الاستعمال في حال الانقضاء... إلى آخره (4).
وحاصله: أنه بناء على القول بكون الوضع للأعم لا يمكن أن يكون التبادر
مستندا إلى الإطلاق بعد ما بينا من أكثرية استعماله في موارد الانقضاء، وذلك لأنه
بناء على المختار من كونه موضوعا لخصوص المتلبس الفعلي مع أكثرية استعماله
في موارد الانقضاء يمكن أن يقال: إن استعماله في موارد الانقضاء بلحاظ حال
التلبس كما ذكرنا واجبنا به عن إشكال أكثرية المجازات.
وأما بناء على كون الوضع للأعم فلا يمكن أن تكون كثرة استعماله في موارد
الانقضاء بلحاظ حال التلبس، إذ بعد إمكان استعماله في موارد الانقضاء حقيقة
ولو من باب التطبيق لاوجه بملاحظة حالة أخرى واستعمالها فيها بملاحظة تلك
الحالة، وذلك لأنه لو لم يصح استعمال لفظ في معنى حقيقة لابد أن يكون استعماله

(1 و 2 و 3) كفاية الأصول: في بحث المشتق ص 65.
(4) كفاية الأصول: في بحث المشتق ص 66.
158

فيه بملاحظة علاقة ومناسبة للمعنى الحقيقي كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع،
وأما إذا فرضنا أن الأسد موضوع لمطلق الشجاع ويكون الرجل الشجاع من
أفراده الحقيقية فلا وجه لاستعماله فيه بلحاظ العلاقة والمناسبة بينه وبين الحيوان
المفترس، بل بما أنه فرد من المعنى الحقيقي.
فتحصل: أن دعوى انسباق المتلبس الفعلي من الاطلاق الذي لابد أن يكون
من جهة كثرة الاستعمال، مع أن كثرة الاستعمال إنما هو في موارد الانقضاء لا
يمكن إلا على القول بكون استعماله في موارد الانقضاء إنما هو بلحاظ حال
التلبس، وهو لا يجامع القول بكونه موضوعا للأعم، لما عرفت من أنه لو كان
موضوعا للأعم لصح استعماله في موارد الانقضاء بما أنها من الأفراد ومصاديق
الحقيقة، ولا حاجة لاستعمالها فيها إلى ملاحظة حالة أخرى.
ولكن يمكن أن يقال: أن المراد من انسباق المتلبس الفعلي من إطلاق لفظ
المشتق هو أنه لما كان تلبس الذات بالمبدأ منشأ لانتزاع مفهوم المشتق فصدقه
عليها وإن لم يتوقف على بقاء التلبس، إلا أن صدقه عليها في تلك الحالة أولى من
صدقه عليها في غير تلك الحالة، ويسمى هذا تشكيكا أصوليا على ما حكي،
لانسباق حال التلبس منه عند الإطلاق وإن كان الموضوع له أعم منه نظير
التشكيك بالأولوية والأشدية والأقدمية على ما ذكر في محله.
وإن كان بينهما فرق وهو أنه لا ينسبق من إطلاق اللفظ إلى الذهن إلا
المتلبس الفعلي - مثلا - في التشكيك الأصولي بخلاف التشكيك المصطلح عليه
عند أهله، إذ لا يتبادر من إطلاق لفظ السواد السواد الشديد - مثلا - فيكون ما
نحن فيه من قبيل حمل اللفظ على أقرب المجازات بعد تعذر الحقيقة، فكما أنه إذا
دار الأمر بين حمل اللفظ على المجاز القريب والبعيد حمله على المجاز القريب
أولى، فكذا إذا دار الأمر بين حمل المشتق على المتلبس الفعلي أو ما انقضى عنه
المبدأ، فحمله على المتلبس الفعلي أولى وأقرب، وليس المراد من الإطلاق ما هو
المتبادر منه وهو الإطلاق المصطلح حتى يحتاج إلى استعمال لفظ في معنى،
159

وكون المطلق في مقام البيان ولم ينصب قرينة وغيرهما من مقدمات الاطلاق،
بل المراد منه هو أنه ينسبق إلى الذهن من تصور لفظ المشتق خصوص المتلبس
الفعلي.
وعلى أي حال فالمسألة غير خالية عن الإشكال وإن كان المختار عند
متأخري الأصحاب (1) والمعتزلة (2) الذين هم محققون بالنسبة إلى الأشاعرة هو
القول بكونه موضوعا لخصوص المتلبس الفعلي، بل نسب هذا القول إلى الشيخ
الرئيس (3) أيضا، فتأمل.
وحاصل الايراد الثاني وهو: أنه إن أريد بصحة السلب صحته مطلقا فغير
سديد، وإن أريد مقيدا فغير مفيد، لأن علامة المجاز هي صحة السلب المطلق.
وحاصل الجواب هو: أنه إن أريد بالتقييد تقييد المسلوب الذي يكون سلبه
أعم من سلب المطلق ضرورة أنه يصح سلب الكلي المقيد بقيد عن شيء مع عدم
صحة سلب الكلي عنه، كما في الحيوان الأبيض فإنه يصح سلبه عن الحيوان
الأسود مع عدم صحة سلب الحيوان عنه، فصحة سلبه وإن لم تكن علامة على كون
المطلق مجازا فيه إلا أن يقيد ممنوع، وإن أريد تقييد السلب فغير ضائر بكونه علامة
ضرورة صدق المطلق على أفراده على كل حال، فيصير المعنى أنه ليس الآن زيد
ضاربا مطلقا، فيكون مجازا في هذا المورد وهو حال الانقضاء مع إمكان منع
التقييد أيضا بأن يلاحظ حال الانقضاء في طرف الذات الجاري عليها المشتق بأن
يكون السلب والمسلوب كليهما باقيين على اطلاقهما بأن يكون المعنى أن زيدا
في هذا الآن ليس بضارب مطلقا بلا تقييد لا في السلب ولا في المسلوب، فتدبر.
ثم إنه لا يخفى عدم الفرق فيما ذكرنا من تبادر المتلبس الفعلي من لفظ
المشتق وصحة سلبه عما انقضى عنه المبدأ بين كونه لازما أو متعديا، كما هو أحد

(1) نهاية الأفكار: في بحث المشتق ج 1 ص 135، فوائد الأصول: في بحث المشتق ص 122.
(2) كما نقله صاحب مفاتيح الأصول: في بحث المشتق ص 14 س 28.
(3) كما نقله صاحب مفاتيح الأصول: في بحث المشتق ص 14 س 29.
160

التفاصيل في المسألة. كما لا فرق بين كون المشتق محكوما عليه ومحكوما به ولا
بين طريان ضد الوجودي على المحل وعدمه، لأن هذه التفاضيل إنما نشأت من
جهة ورود الإشكال على القول بكونه حقيقة في المتلبس الفعلي، أو الأعم ببعض
المصاديق الخارجية، وعجز المفصل عن التفصي عنه فاختار تفصيلا - مثلا -
أشكل على القول بكونه حقيقة في المتلبس الفعلي بآية السرقة (1) بأنه لو كان
السارق موضوعا لخصوص المتلبس الفعلي لما وجب قطع يده بعد انقضاء المبدأ
عنه، وهو فاسد، لأنه يجب قطعه ولو بعد حين، فاختار التفصيل بين كونه محكوما
عليه ومحكوما به.
ولو أشكل عليه في بعض الموارد الأخر لربما يفصل تفصيلا آخر غير هذا
التفصيل، أو أشكل على القول بكونه حقيقة في الأعم بأنه يلزم صدق المتضادين
في زمان واحد على شيء واحد فإنه إذا كان الأبيض موضوعا للأعم من المتلبس
بالبياض فعلا وما انقضى عنه المبدأ يلزم صدق الأبيض والأسود على الشيء
الذي كان أبيض سابقا وكان أسود فعلا، فيلزم اجتماع المتضادين. وعجز المفصل
عن جواب هذا الإشكال فاختار التفصيل بين طريان ضد الوجودي على المحل،
فحقيقة في خصوص المتلبس الفعلي وغيره فحقيقة في الأعم وهكذا غيرهما من
التفاصيل.
والحاصل: أنه لو سلم تبادر المتلبس الفعلي من المشتق وصحة سلبه عما
انقضى عنه المبدأ كما هو المختار، فلا وجه لشيء من هذه التفاصيل، إذ هذه
التفاصيل إنما نشأت من جهة الإشكال في بعض الموارد التي يتوهم فيها صدق
المشتق مع عدم التلبس الفعلي كصدق الكاتب على من كانت له ملكة الكتابة وإن
لم يكن مشتغلا بها فعلا وصدق المقتول والمضروب على من انقضى عنه المبدأ
وصدق السارق والزاني على من انقضى عنه السرقة والزنا وهكذا.
والحال أن المشتق في جميعها حقيقة في المتلبس الفعلي وصدقه في الموارد

(1) المائدة: 38.
161

المذكورة ليس إلا من جهة كون المبدأ أريد به معنى حقيقيا يكون باقيا فعلا حقيقة
لا أنه أريد به معنى لا يكون باقيا، ومع ذلك يصدق المشتق حقيقة كما هو لازم
القول بكونه حقيقة في الأعم إذا كان التلبس بالمبدأ أكثريا كالكاتب والتاجر
وأمثالهما فإنه أريد من المبدأ فيهما من له ملكة الكتابة والتجارة فصدق الكاتب
والتاجر على من لم يكن مشتغلا فعلا بالكتابة والتجارة إنما هو من جهة أنه أريد
من المبدأ معنى حقيقيا بكون باقيا في حال عدم الاستعمال الفعلي، ولذا يصدق
الكاتب والتاجر لا أنه أريد بهما المشتغل الفعلي بالكتابة والتجارة ومع ذلك
يصدق الكاتب والتاجر حتى يوجب التفصيل المزبور، أو أنه أريد من المبدأ معنى
مجازيا يكون التلبس باقيا، ولذا يصدق المشتق في حال عدم بقاء التلبس بالمعنى
الحقيقي كما في مثل مقتول ومضروب ومكسور وأمثالها، فإنه لا مانع من كون
الهيئة مستعملة في معناها الحقيقي، ويكون المبدأ مستعملا في معنى مجازي كما
توهمه بعض أو أن المشتق أطلق على غير المتلبس الفعلي بلحاظ حال التلبس كما
في مثل السارق والزاني أو اطلق عليه مجازا فإنا لا نسد باب الاستعمال المجازي.
فتلخص: أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدأ فعلا بمقتضى التبادر
وصحة السلب عما انقضى عنه المبدأ، وصدقه في موارد الانقضاء إما من جهة أنه
أريد من المبدأ معنى حقيقيا أو مجازيا يكون باقيا فعلا، أو أنه أطلق فيه بلحاظ
حال التلبس أو مجازا، فلابد من تنبيه الخصم على هذه الجهات فلعله اشتبه عليه
الأمر من تلك الجهات، والحال أنها لا توجب تفاوتا فيما هو المهم في محل النزاع،
لما عرفت من أن اختلاف مبادئ المشتقات بالفعلية والملكة والحرفة والصناعة
والحقيقية والمجازية لا يوجب تفاوتا في الجهة المبحوث عنها كما لا يخفى.
وبعد الالتفات إلى هذه الجهات إن رجع عن إنكاره فهو، وإلا فلا يمكن
إلزامه، لأنه ليس في المقام دليل يمكن إلزام الخصم به، إذ التبادر وصحة السلب
ليسا إلا من الأمور الوجدانية الانصافية فيمكن أن يدعي شخص تبادر معنى من
لفظ أو عدم صحة سلبه عنه، ويدعي آخر تبادر غيره منه وصحة سلبه عنه.
162

فلذا استدل من قال بأن المشتق حقيقة في الأعم بوجوه.
أحدها: التبادر، وفيه ما عرفت من أن المتبادر هو خصوص حال التلبس،
وأن دعوى تبادر الأعم إنما نشأت من الجهات المذكورة التي لا ربط لها بمحل
النزاع.
ثانيها: عدم صحة سلب مقتول ومضروب عمن انقضى عنه القتل والضرب،
وفيه: أن القتل والضرب أريد بهما معنى مجازيا يكون باقيا فعلا، ولذا يصدقان
على من انقضى عنه المبدأ بمعناه الحقيقي لا أنه أريد بهما المعنى الحقيقي ومع ذلك
يصدقان على من انقضى عنه المبدأ فإنه ممنوع فالمقتول والمضروب لا يصح
سلبهما عمن انقضى عنه القتل والضرب، من جهة أنه أريد بالقتل الموت وزهوق
الروح بغير حتف الأنف وبالضرب الأثر والألم الحاصل منه، كما أنه أريد بالكسر
أثره الذي هو عبارة عن الانشقاق وانفصال الأجزاء بعضها عن بعض، ولذا يطلق
المكسور على الشيء بعد انقضاء الكسر لا أنه أريد منهما المعنى الحقيقي، ومع
ذلك لا يصح السلب في حال الانقضاء.
ثالثها: استدلال الإمام (عليه السلام) تأسيا بالنبي (صلى الله عليه وآله) كما في كثير من الأخبار (1) بقوله
تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) (2) على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب
الإمامة تعريضا لمن تصدى لها ممن عبد الصنم مدة مديدة.
ومن الواضح توقف الاستدلال بهذه الآية الشريفة على كون المشتق حقيقة
في الأعم، وإلا لما صح التعريض لانقضاء تلبسهم بالظلم وعبادتهم الصنم (3) فلو لم
يكن المشتق حقيقة في الأعم لكان للخصم منع كونهم ظالمين حين التصدي، بل
كانوا ظالمين، فلم يتم الاستدلال بزعمه إلا على هذا القول، وإن كان الاستدلال
بها تماما عندنا ولو على القول بكونه حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي، لأنهم

(1) الكافي: باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام) ج 1 ص 175.
(2) البقرة: 124.
(3) فوائد الأصول للآخوند: في بحث المشتق 71.
163

كانوا ظالمين ومشركين حين التصدي لها، ولا ريب أن الشرك من أعظم مراتب
الظلم، لقوله تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم) (1).
والحاصل أن القائل بكون المشتق حقيقة في الأعم استدل باستدلال
الإمام (عليه السلام) المركب من صغرى وهي أن المتصدين للإمامة ظالمون وكبرى وهي
قوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) (2) ولا ريب انهم لم يكونوا ظالمين
باعتقادهم حين التصدي لها، فلو لم يكن المشتق حقيقة في الأعم لكان لهم منع
كونهم ظالمين حين التصدي، فعدم منعهم عنه يكشف عن مسلمية كون المشتق
حقيقة في الأعم، ولا ريب أنهم كانوا من أهل الاصطلاح، ومع ذلك لم يمنعوا
الاستدلال.
والجواب عنه: أن الأوصاف العنوانية التي تؤخذ في موضوعات الأحكام
على أقسام:
أحدها: أن يكون أخذ العنوان بمجرد الإشارة وتعرف ما هو موضوع الحكم
من دون أن يكون له دخل في الموضوع كأكرم من في الصحن الشريف أو من في
المسجد، فإن موضوع الحكم هو الأشخاص المخصوصة من دون أن يكون
لوصف كونهم في الصحن أو المسجد دخل فيه، وإنما أخذ الوصف في الموضوع
للإشارة إلى الذوات الخارجية لتعرفهم بهذا الوصف.
ثانيها: أن يكون لأجل الإشارة إلى علية المبدأ للحكم مع كفاية مجرد صحة
جري المشتق عليه ولو فيما مضى، بأن يكون العلة هو صرف وجود المبدأ
وصدوره عن الذات ولو آنا ما من دون أن يكون لبقائه دخل فيه.
ثالثها: أن يكون لأجل الإشارة إلى علية المبدأ للحكم مع عدم كفاية صرف
وجود المبدأ وصدوره، بل كان الحكم دائرا مداره وجودا وعدما.
إذا عرفت هذا فاعلم أن استدلال الإمام (عليه السلام) بالآية الشريفة (3) على عدم

(1) لقمان: 13.
(2) البقرة: 124.
(3) البقرة: 124.
164

لياقتهم للإمامة يتم سواء أخذ الوصف في الآية الشريفة على النحو الثاني أو
الثالث. وأما استدلال الأعمي باستدلال الإمام (عليه السلام) فلا يتم إلا بأن يكون الوصف
مأخوذا على الوجه الثالث، وهو غير معلوم، لاحتمال أخذه على النحو الثاني لو
لم نقل بظهوره فيه، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، مع أنه يمكن دعوى
ظهوره في الوجه الثاني بمقتضى الاعتبار العقلي والذوق السليم، حيث إن الآية
الشريفة في مقام بيان جلالة منصب الإمامة وعظم شأنها ورفعة محلها، وأن لها
خصوصية من بين المناصب الإلهية والمناسب لها أن لا يكون المتقمص لها ظالما
أصلا ولو في آن من الزمان الماضي فكيف يليق من كان مشركا في برهة من
الزمان أن يكون داعيا إلى توحيد الله وحافظا لشرعه؟ وكيف يثق به الناس
ويميلون إليه مع ما هو المعروف عندهم من حاله؟
فلا بد من أن يكون الإمام (عليه السلام) ممن لم يصدر عنه الظلم والمعصية في شيء
من الأزمنة، فلو صدر عنه الظلم في آن ليس قابلا لمنصب الإمامة، فكما أن في
العرف وعند السلاطين بعض الأوصاف موجب لعدم إعطاء المنصب وسلبه عمن
كان متصفا به حال اتصافه، فلو زال عنه هذا الوصف لربما يعطون له المنصب
وبعض الأوصاف والجنايات موجب لعدم إعطاء المنصب بمن كان متصفا به ولو
زال عنه الوصف فكذلك في الشرعيات يتحقق هذان القسمان، فمثل عدم جواز
الصلاة خلف الفاسق وعدم قبول شهادته والطلاق عنده من القسم الأول، وأما مثل
الإمامة والخلافة من القسم الثاني، فيكون معنى الآية - والله العالم - أن من صدر
وتحقق منه الظلم ولو في آن لا يليق لهذا المنصب العظيم فتكون من القضايا
الحقيقية التي يتحقق حكمها بتحقق موضوعها ولو في آن ما كالمستطيع يحج لا
مما كان الحكم دائرا مداره وجودا وعدما كصل خلف العادل، ولا تصل خلف
الفاسق، وأعط الفقير الزكاة وأمثالها، ومن المعلوم أنهم كانوا ظالمين ولو حال
عبادتهم الصنم، فليسوا قابلين لهذا المنصب.
فعلى هذا يتم استدلال الإمام (عليه السلام) ولا يتم استدلال المستدل به.
165

ومما ذكرنا في الآية الشريفة ظهر ما في الاستدلال بآية (السارق
والسارقة) (1) و (الزاني والزانية) (2) على التفصيل بين كون المشتق محكوما عليه
فيكون حقيقة في الأعم، وكونه محكوما به فيكون حقيقة في خصوص المتلبس
الفعلي، وذلك لأن الكلام في الآيتين عين الكلام في الآية السابقة، وأن المقصود
أن من صدر عنه السرقة والزنا ولو في آن يصير محكوما بالقطع والجلد، وهذا
الحكم باق وإن زال عنه الوصف مع ما في هذا التفصيل من تعدد الوضع حسب
وقوعه محكوما عليه ومحكوما به، وهو واضح البطلان. وعجز المفصل عن مثل
هذا الجواب عن الإشكال بأنه لو لم يكن وضع المشتق للأعم لما وجب قطع يد
السارق بعد انقضاء تلبسه بالسرقة ولما وجب جلد الزاني بعد انقضاء تلبسه بالزنا
أوجب ارتكاب هذا التفصيل.
بقي في المقام أمور:
الأول: أن مفهوم المشتق هل هو بسيط أو مركب؟ والمراد بالبساطة والتركيب
البساطة والتركيب بحسب المفهوم لا بحسب الذات، إذ قد يكون الشيء مركبا ذاتا
من الجنس والفصل والمادة والصورة، ويكون بسيطا مفهوما كالانسان - مثلا -
فإن مفهومه بسيط وهو النوع الخاص الذي يعبر عنه بالبشر وفي لغة الفارسي يعبر
عنه ب‍ " آدم " وإن كان ذاته وحقيقته مركبة من الجنس والفصل.
والحاصل أن الكلام في المقام في بساطة وتركيب ما يقع في جواب ما
الشارحة لا ما يقع في جواب ما الحقيقية، فالنزاع في أن مفهوم الكاتب والضاحك
والناطق وأمثالها بسيط كمفهوم الانسان والبقر والحجر وأمثالها، أو أنه مركب،
والحق أنه بسيط، للتبادر والوجدان، فإنا لا نجد في أنفسنا ولا نتعقل من لفظ
الكاتب والناطق والأبيض إلا شيئا واحدا، وهذا في لغة الفارسي في غاية الوضوح،
فإنه يعبر عن الكاتب ب‍ " نويسنده " وعن الأبيض ب‍ " سفيد " وعن الأسود ب‍ " سياه "

(1) المائدة: 38.
(2) النور: 2.
166

وإن كان فيه خفاء في لغة العرب، إلا أنه لا فرق في محل النزاع بين اللغات.
وقد استدل المحقق الشريف مضافا إلى ما ذكرنا من التبادر والوجدان على
البساطة كما نقل عن حاشية شرح المطالع (1) حيث أجاب الشارح عن الإشكال
الوارد على تعريف النظر بأنه ترتيب أمور معلومة للتوصل إلى أمر مجهول،
وحاصله: أن الأمور جمع ولا أقل لابد من كون المعرف أمرين فصاعدا، والحال
أنه قد يحصل التعريف بمثل الناطق والضاحك مما لا تعدد فيه.
وحاصل الجواب: أن الناطق والضاحك من المشتقات ومفهوم المشتق،
فالتعريف بهما تعريف بأمور لا بأمر واحد، فلا يرد الأشكال.
ورد عليه المحقق الشريف (2) وأختار أن مفهوم المشتق بسيط لا مركب،
وحاصل استدلاله: أنه لو اعتبر في مفهومه الشيء بأن يكون مفهوم الناطق شيء
ثبت له النطق، فإما أن يكون المراد بالشيء الشيء العام أو الشيء الخاص الذي
هو مصداق الشيء العام، فإن كان المأخوذ فيه الشيء العام يلزم أخذ العرض العام
في الفصل وهو ممتنع، لأن الفصل ذاتي للماهية النوعية وتقوم الماهية به، فلو كان
العرض العام مأخوذا فيه - والحال أنه مأخوذ في الماهية - يلزم تقوم المعروض
بالعرض، وهو محال، لأن العرض يحتاج في وجوده إلى المعروض فكيف يمكن
أن يكون مقوما له؟ وإن اعتبر فيه الشيء الخاص بأن يكون مفهوم الناطق الأشياء
والذوات الخارجية التي ثبت لها النطق يلزم انقلاب القضية الممكنة الخاصة إلى
الضرورية فإن قولنا: الانسان ضاحك قضية ممكنة خاصة وعلى تقدير أخذ
الشيء الخاص وهو ما صدق عليه الشيء العام تصير قضية [ضرورية] لأنه في
قوة أن يقال: الإنسان إنسان له الضحك، وحمل الشيء على نفسه ضروري.
وقد أورد عليه صاحب الفصول بأنه يمكن لنا أن نختار الشق الأول ونجيب
عن الإشكال بأن كون الناطق فصلا مبني على عرف المنطقيين حيث اعتبروه

(1) شرح المطالع: ص 11 س 13 في شرح قوله إلا أن معناه شيء له المشتق منه.
(2) شرح المطالع: ص 11 س 13 في شرح قوله إلا أن معناه شيء له المشتق منه.
167

مجردا عن مفهوم الذات، وذلك لا يوجب وضعه لغة وعرفا (1)، فلعل الذات كانت
معتبرة في مفهومه لغة وهم جردوه عنها وجعلوه فصلا.
والأولى أن يقال: إن مفهوم المشتق كان بسيطا عند قدماء المنطقيين، فلذا
جعلوا الناطق وأمثاله فصلا والمتأخرون تابعوهم في هذا الاصطلاح وإن كان
مفهومه مركبا عنه، إذ يرد على التقريب الذي ذكره في الفصول ما أورده عليه في
الكفاية وهو: أن من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في معناه
اللغوي والعرفي، بل بما له من المعنى (2) اعتبر فصلا، أو يقال كما ذكره (قدس سره) في
الكفاية (3) وحاصله: أن الناطق ليس فصلا حقيقيا للإنسان وإنما هو فصل مشهوري
منطقي لازم لما هو الفصل الحقيقي وأظهر خواصه يوضع مكانه حيث لم يعلم
حقيقته، ولذا ربما يجعل لازمان مكانه إذا كانا متساويي النسبة إليه كالحساس
والمتحرك بالإرادة في تعريف الحيوان.
والحال أن الفصل الحقيقي في مرتبة واحدة لا يمكن أن يكون متعددا كما
حقق في محله، بل لا يمكن معرفة ما هو الفصل الحقيقي كما حقق فيه أيضا، لأن
فصله الحقيقي هو ما يكون به قوام ذاته وتكون الجهة المميزة له، كما أن جنسه هو
ما يكون الجهة المشتركة له، وهما غير معلومين (4)، وإنما الحيوان والناطق لازمان
لهما جعلا مكانهما، فصار المجموع خاصة مركبة عرف الانسان بها، فلا الحيوان
جنس له ولا الناطق فصل له، فلو أخذ فيه الشيء العام لم يلزم أخذ العرض في
الفصل الذي هو ذاتي وإنما يلزم أخذه في الخاصة التي هي من العرض ولا
استحالة فيه. وهذا الذي ذكره (قدس سره) هو ما يقتضيه التحقيق في المقام.
ثم قال: إنه يمكن لنا أن نختار الشق الثاني ونجيب بأن المحمول ليس مصداق

(1) الفصول: في بحث المشتق ص 61 س 35.
(2) كفاية الأصول: في بحث المشتق ص 71.
(3) كفاية الأصول: في بحث المشتق ص 71.
(4) في الأصل: معلومان.
168

الشيء والذات مطلقا بل مقيدا بالوصف وليس ثبوته حينئذ للموضوع بالضرورة
لجواز ان لا يكون القيد ضروريا. انتهى كلامه (1).
وقد أورد على هذا الجواب صاحب الكفاية (2) (قدس سره) مضافا إلى الايراد الذي
أشار إليه صاحب الفصول نفسه بقوله: وفيه نظر (3)، أما الايراد الذي أورده صاحب
[الكفاية] فهو: إنه يمكن أن يقال: إن عدم كون ثبوت القيد ضروريا لا يضر بدعوى
الانقلاب فإن المحمول إن كان ذات المقيد كان القيد خارجا، وإن كان التقييد بما
هو معنى حرفي أي غير مستقل باللحاظ، بل لوحظ لتعرف حال المقيد، فالقضية لا
محالة تكون ضرورية ضرورة ضرورية ثبوت الإنسان الذي يكون مقيدا بالنطق
للإنسان، وإن كان المقيد به بما هو مقيد على أن يكون القيد داخلا ممكنا، فقضية
الإنسان ناطق [تنحل] في الحقيقة إلى قضيتين إحداهما: قضية " الإنسان إنسان "
وهي ضرورية، والأخرى: قضية " الإنسان له النطق " وهي ممكنة، وذلك لأن
الأوصاف قبل العلم بها أخبار، كما أن الأخبار بعد العلم بها أوصاف، فعقد الحمل
ينحل إلى القضية كما أن عقد الوضع ينحل إلى قضية مطلقة عامة عند الشيخ وقضية
ممكنة عند الفارابي، فتأمل. انتهى كلامه (قدس سره) (4).
وحاصل مراده: أن قضية " الإنسان ناطق " وإن كانت قضية واحدة إلا أنها
تنحل إلى قضيتين: إحداهما: " الإنسان إنسان " والأخرى: " الإنسان له النطق "
وقد جعل مجموع الموضوع والمحمول في القضية الثانية محمولا على ما هو
الموضوع في القضية الأولى كما في " زيد قائم أبوه " وهاتان القضيتان مشتملتان
على نسبتين إحداهما: النسبة التي بين الموضوع والمحمول في القضية الأولى
وهي نسبة الإنسانية إلى الانسان، وهي ضرورية، والأخرى: النسبة التي بين

(1) الفصول: في بحث المشتق ص 61 س 37.
(2) كفاية الأصول: في بحث المشتق ص 72.
(3) الفصول: في بحث المشتق ص 61 س 38.
(4) كفاية الأصول: في بحث المشتق ص 72.
169

الموضوع والمحمول في القضية الثانية وهي نسبة الناطقية إلى الإنسان، وهي
ممكنة. ولا يضر كون النسبة الثانية موجهة بالإمكان كون النسبة الأولى موجهة
بالضرورة، لأن المدار في الانقلاب وعدمه إنما هي النسبة الأولى التي هي مستقلة
باللحاظ لا النسبة الثانية التي لم تلحظ إلا تبعا وبما هي حالة لتعرف حال الغير،
هذا حاصل الايراد الذي أورده صاحب الكفاية.
ولا يخفى أن الأولى أن يمثل بمثل: " الإنسان ضاحك " مما لا يكون ثبوته
ضروريا لا بمثل: " الإنسان ناطق " مما يكون ثبوته ضروريا، فإنه لا يلزم
الانقلاب فيه إلا أن يكون المراد بالنطق النطق الظاهري لا ادراك الكليات الذي
هو ضروري للإنسان.
وحاصل الجواب: أن المحمول على الذات هو مجموع الذات المقيدة
بالوصف لا الذات وحدها، والمجموع ثبوته ليس ضروريا، لعدم كون القيد
ضروريا، والنتيجة تابعة لأخس المقدمتين بل يمكن أن يقال: إن المقصود من
حمل الذات المقيدة بقيد في الحقيقة هو حمل القيد لا الذات، لأنه حمل الشيء
على نفسه، وهو غير مفيد.
وأما الإيراد الذي أورده صاحب الفصول على نفسه بقوله: " فيه نظر " (1) فهو
أن الذات المأخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا إن كانت مقيدة به واقعا صدق
الايجاب بالضرورة، وإلا صدق السلب بالضرورة، مثلا لا يصدق زيد كاتب
بالضرورة، لكن يصدق زيد زيد الكاتب بالقوة أو بالفعل بالضرورة. ففيه: أن
الظاهر من هذا الكلام ارجاع تمام القضايا إلى الضرورية بشرط المحمول، وهو
سخيف، لأن المدار في الضرورية والإمكان وغيرهما من الجهات هو ملاحظة أن
ثبوت نسبة المحمول إلى الموضوع متكيف بأي كيفية واقعا، وفي نفس الأمر مع
قطع النظر عن الثبوت واللاثبوت فإن ثبوت النطق للإنسان مع قطع النظر عن ثبوته
ولا ثبوته له ضروري، بخلاف الضحك فإنه ليس كذلك، ولكن لو لوحظ بشرط

(1) الفصول: في بحث المشتق ص 61 س 38.
170

ثبوته له لما كان بينهما فرق.
لا يناسب مقامه أن يكون مراده بهذا الكلام هذا المطلب السخيف الذي لا
يصدر عمن دونه في الفضل بمراتب، مع أنه لا ربط بما نحن فيه، وهو كون مفهوم
المشتق بسيطا أو مركبا، لأن هذا جار في تمام القضايا سواء كان المحمول فيها من
المشتقات أو غيرها.
فلابد من توجيه كلامه بأن مراده أن ثبوت المحمول للموضوع ولو كان
بالإمكان كالكاتب بالفعل أو بالقوة فإن ثبوته للإنسان بالإمكان، إلا أن ثبوت هذا
الوصف له بالإمكان ضروري، كما أن الإمكان للإنسان ضروري، فإذا قيل: " زيد
كاتب " يلزم الانقلاب لو كان المأخوذ في المشتق مصداق الشيء، لأنه يصير مفاد
هذا الكلام زيد زيد الكاتب بالفعل أو بالقوة بالضرورة. وفيه: أنه مسلم فيما إذا
ذكرت الجهة في القضية كما إذا قيل: زيد زيد الكاتب بالفعل أو بالقوة بالإمكان
بالضرورة ليصير مفاد القضية أن ثبوت الكتابة بالفعل أو بالقوة بالإمكان ضروري
له، وأما إذا لم تذكر الجهة كما إذا قيل: زيد زيد الكاتب بالفعل أو بالقوة فلا.
فتحصل: أن ما ذكر في مقام إثبات كون مفهوم المشتق بسيطا من لزوم أخذ
العرض في الذاتي على تقدير أخذ مفهوم الشيء فيه ولزوم انقلاب القضية الممكنة
الخاصة إلى الضرورية على تقدير أخذ مصداق الشيء فيه، بل على تقدير أخذ
المفهوم أيضا كما قيل بأن صدق مفهوم الشيء على مصاديقه ضروري لا يفي باثبات
المدعى بل العمدة في اثباته هو ما ذكرنا من التبادر والوجدان، بل يمكن أن يقيم
البرهان عليه بوجه آخر، وهو أن المعنى إذا كان مركبا تفصيلا لم يلاحظ فيه اتحاد
ولم يجعل المجموع شيئا واحدا لا يمكن أن يكون اللفظ الدال عليه لفظا واحدا لم
يكن فيه تكثر ولو من جهة، فإنه إذا كان فيه تكثر ولو بالجهة كالمادة والهيئة يمكن
أن يدل اللفظ باعتبار مادته على شيء وباعتبار هيئته على شيء آخر.
ولا وجه لمنعه كما نسب إلى بعض وأما إذا لم يكن له تكثر أصلا فلا يمكن أن
يراد به معنيان تفصيليان، بل لابد من توزيع اللفظ على المعنى كما في: " غلام
171

زيد " وإلا فيصير نظير استعمال اللفظ في أكثر من معنى، مع أنه لو كان المأخوذ في
مفهوم المشتق هو مصداق الشيء يلزم أن يكون وضع المشتقات من باب الوضع
العام والموضوع له الخاص، بل أدون منه، لأنه يلزم تعدد الذات المأخوذة فيه
على حسب تعدد القضايا، فيكون ما أخذ فيه في مثل: " الإنسان كاتب " هو الكلي،
وهو الإنسان، وفي مثل: " زيد كاتب " هو زيد، وفي: " عمرو كاتب " هو عمرو،
وهكذا، وهو بعيد في الغاية.
وقد استدل على البساطة بلزوم تكرر الموصوف لو أخذ في مفهومه الشيء
مفهوما أو مصداقا (1).
وفيه: أنه لو أخذ مصداق الشيء يلزم التكرر، لأنه يصير المعنى في: " زيد
كاتب " زيد زيد كاتب، وأما لو أخذ فيه مفهوم الشيء فلا يلزم التكرر، لأنه يصير
المعنى حينئذ زيد شيء له الكتابة، وليس فيه تكرر.
ثم إنه قد تقدم أن المراد بالبساطة والتركيب البساطة والتركيب بحسب
المفهوم، فإن كان المفهوم من الشيء معنى واحدا بحسب التصور والإدراك فهو
بسيط، وإن كان مركبا بحسب حقيقته من الجنس والفصل ويحلله العقل إليهما
كالإنسان فإن مفهومه أمر بسيط، وهو هذا النوع المخصوص وإن كان العقل يحلله
إلى الحيوان والناطق، وكالشجر والحجر فإن مفهومهما بسيط وإن كان العقل
يحللهما إلى شيء له الشجرية أو الحجرية.
الثاني: أن الفرق بين المشتق ومبدئه ليس بمجرد اعتبار المشتق لا بشرط
والمبدأ بشرط لا مع كون المفهوم فيهما واحد كما توهمه صاحب الفصول (2).
ولذا أشكل بأنه لا يصح حمل العلم والحركة وإن أخذا لا بشرط، بل الفرق
بينهما بالتغاير بحسب المفهوم، فإن مفهوم المشتق غير مفهوم المبدأ، ولذا يجري
مفهوم المشتق على الذات ولا يجري مفهوم المبدأ عليها، ومرادهم بقولهم: إن

(1) فوائد الأصول للآخوند: في بحث المشتق ص 75.
(2) الفصول: في بحث المشتقص 62 س 2.
172

الفرق بينهما باللا بشرطية وبشرط اللائية هو أن مفهوم المشتق أخذ من الذات
المتلبسة بالمبدأ أو من المبدأ باعتبار قيامه بالذات على اختلاف بلا اعتبار مغايرة
وانفكاك بينهما بخلاف مفهوم المبدأ فإنه أخذ باعتبار المغايرة والانفكاك. ولذا
يحمل الأول دون الثاني، فهما مفهومان متغايران أخذ أحدهما من الذات المتلبسة
بالمبدأ بلا اعتبار مغايرة بينهما، والآخر باعتبار المغايرة لا أنهما متحدان بحسب
المفهوم، وإنما الفرق بينهما بلحاظ اللا بشرطية وبشرط اللائية كما توهم.
الثالث: أن ملاك الحمل هو الإتحاد من وجه، وإلا لزم حمل المباين على
المباين والمغايرة من وجه، وإلا لزم حمل الشيء على نفسه، وهذا الملاك موجود
بين المشتقات والذوات المتلبسة بها، ولا يعتبر معه ملاحظة التركيب بين
المتغايرين واعتبار كون مجموعهما شيئا واحدا، بل يكون ذلك اللحاظ مخلا
بالحمل، لاستلزامه المغايرة بالكلية والجزئية، ومعها لا يصح الحمل. وهذا الكلام
إشارة إلى رد ما جعله صاحب الفصول (1) تحقيقا في المقام، فلابد من مراجعته.
الرابع: في أنه هل يعتبر في صدق المشتق حقيقة على الذات المتلبسة بها كون
المبدأ مغايرا للذات أو لا يعتبر، بل يصدق المشتق حقيقة على ما كان المبدأ عين
الذات كما يصدق على ما كان المبدأ غير الذات بلا تفاوت؟ وبعبارة أخرى يكفي
في صدق المشتق حقيقة مغايرة المبدأ مع ما يجري عليه المشتق مفهوما وإن
اتحدا عينا وخارجا، فعلى الأول لابد من التزام النقل أو التجوز في الصفات
الجارية كالعالم والرحيم والكريم وأمثالها بخلاف الثاني.
والحق هو الثاني، وذلك لأن مفهوم المشتق لا يختلف باختلاف كون المبدأ
عين الذات أو غيرها، فإن مفهوم العالم هو من انكشف له الأشياء الذي يعبر عنه
في اللغة الفارسية بأمر بسيط وهو: " دانا " وهذا كما يصدق على من كان علمه غير
ذاته يصدق على من كان علمه عين ذاته، بل صدقه عليه أولى من صدقه على من
كان علمه غير ذاته، فالمغايرة المفهومية كافية في الصدق وهي حاصلة والمغايرة

(1) الفصول: في بحث المشتق ص 62 س 10.
173

الخارجية غير معتبرة.
الخامس: في أنه هل يعتبر في صدق المشتق حقيقة على الذات المتلبسة
بالمبدأ قيام المبدأ بها كما نسب إلى الأشاعرة (1) وأنهم لأجل اعتبار قيام المبدأ
بالذات في صدق المشتق حقيقة التزموا بالكلام النفسي لله تعالى، لأنه لا شك في
أنه متكلم، والمتكلم من قام به الكلام، والكلام اللفظي هو قائم بالهواء، لأنه كيفية
الصوت القائم بالهواء، فلابد أن يكون كلامه كلاما نفسيا وذكر المتكلم في هذا
المقام من باب المثال، إذ باقي الصفات أيضا كذلك، أو أنه يعتبر في صدقه على
الذات صدور المبدأ عن الذات كما نسب إلى بعض (2). واستدل (3) عليه بصدق
الضارب والمؤلم على الشخص مع قيام الضرب والألم بالمضروب والمؤلم
- بالفتح - أو لا يعتبر لا هذا ولا ذاك، بل كما يصدق المشتق حقيقة على الذات
التي قام بها المبدأ والذات التي صدر عنها المبدأ كذلك يصدق على الذات التي
كان تلبسها بالمبدأ بغير هذين النحوين.
والحق هو الأخير، إذ لا يرتاب أحد في أنه يعتبر في صدق المشتق على
الذات من تلبسها بالمبدأ بنحو خاص من أنحائه المختلفة باختلاف الموارد تارة،
كما في مثل قائم وضارب حيث إن المبدأ في الأول لما كان من الأفعال اللازمة
كان تلبسه بالذات بالقيام، وفي الثاني لما كان من الأفعال المتعدية كان تلبسه بها
بالصدور والهيئات أخرى كما في مثل ضارب ومضروب، فإن اختلاف تلبس
الذات بالمبدأ فيهما حيث إنه كان بنحو الصدور عن الذات في الأول وبنحو الوقوع
عليها في الثاني إنما كان من جهة الاختلاف بين هيئة فاعل ومفعول. ويمكن أن
يقال: إن الاختلاف هنا أيضا من جهة المبدأ والمشتق منه، حيث إن المشتق منه
للفظ ضارب هو لفظ يضرب بالبناء للمعلوم وللفظ مضروب هو يضرب بالبناء

(1) كما نقله الميرزا الشيرازي في تقريراته: في بحث المشتق ج 1 ص 256.
(2) نهاية الافكار: في بحث المشتق ج 1 ص 153.
(3) الفصول: في بحث المشتق ص 62 س 23.
174

للمجهول، والحاصل أنه لابد في صدق المشتق وجريه على الذات تلبس الذات
بالمبدأ بنحو من أنحاء التلبس، سواء كان بالقيام بالذات، أو بالصدور عنها، أو
بالحلول فيها، أو بالوقوع عليها، أو بالانتزاع عنها مفهوما مع اتحاده معها خارجا
كما في صفاته تعالى، أو مع عدم تحقق إلا للمنتزع منه كما في الإضافات
والاعتبارات.
ولا ريب أن اختلاف التلبسات قد ينشأ من ناحية المبدأ وقد ينشأ من ناحية
الهيئة، وكما يختلف التلبس باختلاف المبدأ من حيث كونه لازما أو متعديا كذلك
يختلف باختلاف المبدأ بين كونه من المبادئ المجردة أو المزيد فيها على اختلاف
فيه أيضا من جهة الفرق بين المشتق من باب الأفعال والافتعال والتفعل والتفعيل
والاستفعال.
فعلى هذا لا وجه لإلزام الأشاعرة بأنه لابد من كون المبدأ قائما بالذات
المتلبسة به في صدق المشتق حقيقة حتى يقعوا في محذور التزام الكلام النفسي
الذي هو أمر غير معقول كما بين في محله إن كان التزامهم به من هذه الجهة. ولكن
الظاهر أن التزامهم به إنما كان من جهة تصحيح فعل الثالث كما لا يخفى، مع أن
المتكلم بمعنى موجد الكلام معنى قائم به، ولو كان المراد بالكلام الكلام اللفظي
فهو كالخالق وغيره من الأوصاف، فلا فرق في إطلاق متكلم عليه تعالى وعلينا
إلا بأنه يوجد الكلام في الجسم الخارجي كالشجر وأمثالها بلا آلة، ونحن نوجده
بآلة خاصة وجارحة مخصوصة.
وكذلك لا وجه للقول الآخر وهو القول بأنه لابد أن يكون التلبس بنحو
الصدور لاستدلالهم بصدق الضارب والمؤلم على الشخص مع قيام الضرب والألم
بالمضروب والمؤلم - بالفتح - مع أن الضرب إن أريد به معناه الحقيقي يمكن أن
يقال: إنه قائم بالضارب وأن الذي قائم بالمضروب إنما هو أثره، وكذلك مبدأ مؤلم
وهو الإيلام قائم بالمؤلم - بالكسر - وإنما القائم بالمؤلم - بالفتح - هو الألم وهو
ليس مبدأ المؤلم.
175

فتحصل: أنه لابد في صدق المشتق على الذات تلبسها بالمبدأ، وكيفية تلبسها
به يختلف صدورا وقياما وحلولا ووقوعا عليها وفيها وانتزاعا عنها بقسميه
باختلاف المبادئ والهيئات والزنات، فلا بد من التأمل فيما يرد من الأمثلة ليعلم
أنه من أي واحد من أنحاء التلبس، فتأمل.
السادس: الظاهر أنه لا فرق في صدق مفهوم المشتق حقيقة بين أن يراد
بالمبدأ معناه الحقيقي أو أريد منه معناه المجازي، فإذا أطلق القاتل على الضارب
ضربا شديدا كان كإطلاقه على من صدر عنه القتل في صدق المشتق حقيقة وإن
كان بينهما فرق من حيث استعمال المبدأ في معناه الحقيقي وعدمه، وهو لا يوجب
تفاوتا في صدق المشتق، وأما إذا أريد منه معناه الحقيقي ولكن أسند إلى غير ما
هو له كالميزاب جار، فهل يصدق المشتق حقيقة أم لا؟ الظاهر عدم صدقه حقيقة،
لأن معنى صدقه حقيقة هو أن يكون ما أسند إليه متلبسا بالمبدأ، وهنا ليس كذلك
فلا يمكن أن يكون الاسناد إلى غير ما هو له، ومع ذلك يصدق المشتق حقيقة.
وما قيل من أنه لا فرق في صدق المشتق حقيقة بين أن يكون تلبس الذات
بالمبدأ حقيقة وبلا واسطة في العروض كما في الماء الجاري، أو مجازا ومع هذا
الواسطة كما في الميزاب جار، وأن المجاز إنما هو في الاسناد لا في الكلمة.
فقد ظهر ما فيه، إذ المجاز في الإسناد وإن لم يستلزم المجاز في الكلمة بأن
استعمل لفظ في غير معناه الحقيقي، إلا أنه مستلزم لمجازية المشتق، إذ مجازيته
عبارة عن جريه وتطبيقه على ذات لم يكن متلبسا بالمبدأ، وهنا كذلك، إلا أن
يقال: إن الذات متلبسة به بواسطة وبالعرض، وفيه ما لا يخفى.
فعلى هذا الحق في هذا المقام مع صاحب الفصول (1) القائل باعتبار الإسناد
الحقيقي في صدق المشتق حقيقة، فتأمل.
هذا تمام الكلام في الأمور التي ذكرت في المقدمة، والحمد لله رب العالمين،
والصلاة على محمد وآله الطاهرين.

(1) الفصول: في بحث المشتق ص 62، س 18.
176

المقصد الأول: في الأوامر
وفيه فصول:
الأول:
ما يتعلق بمادة الأمر من الجهات
وهي عديدة:
الأولى: في أن للفظ الأمر معنى حدثي يشتق منه أمر ويأمر وآمر ومأمور
وأمثالها من المشتقات الحقيقية والاشتقاقات الحقيقية لا يمكن إلا عن المعنى
الحدثي الذي تعتريه الحالات ليشتق منه باعتبار كل واحدة منها أحد المشتقات
والاشتقاقات الجعلية وإن أمكنت من المعاني الاسمية كالبسملة والحوقلة أو
الحولقة، إلا أن المشتقات من لفظ الأمر مشتقات حقيقية لا جعلية، مع أن في
المشتقات الجعلية أيضا ما لم يشرب الاسم معنى الحدثي لا يمكن الاشتقاق منه،
فإن معنى البسملة أي التكلم ببسم الله الرحمن الرحيم، ولما كانت هذه المشتقات
مشتقات حقيقة فلابد أن يكون للفظ الأمر معنى حدثي وهو الطلب، أي الطلب
الإنشائي حتى يشتق منه هذه المشتقات وله معنى اسمي، وهم بالنسبة إلى المعنى
الاسمي بين مكثر ومقل.
والحق أنه لا بهذه الكثرة ولا بهذه القلة، فإن استعمال لفظ الأمر في بعض
الموارد ربما كان من باب أنه من مصاديق ما هو المعنى الحقيقي، لا أنه من باب
177

كونه معنى حقيقيا في عرض المعنى الحقيقي الكلي كما في استعماله في الغرض
مثلا، فإنه استعمل في قول القائل جئتك لأمر كذا بمعنى الغرض لا لأنه موضوع له
بالخصوص، بل بما أنه مصداق للشيء الذي هو موضوع له وهكذا.
وفي بعض الموارد الأخر ربما كان مجازا من باب المناسبة والعلاقة من دون
أن يكون له وضع بالخصوص. نعم في بعض الموارد التي استعمل في معنى لا يكون
بينه وبين المعنى الحقيقي الآخر جامع حتى يكون مشتركا معنويا، ويكون استعماله
فيه من باب أنه مصداق المعنى الحقيقي - ولا علاقة حتى يكون من باب الاستعمال
المجازي - لابد من الالتزام بالاشتراك اللفظي وأنه موضوع له بالخصوص.
وكيف كان فالبحث عن معناه الاسمي لا يهمنا، وإنما هو موكول إلى اللغة،
وإنما المهم في هذا العلم هو معناه الحدثي الذي عرفت أنه عبارة عن الطلب
الإنشائي الذي هو عبارة عن البعث والتحريك نحو المطلوب بأي نحو كان، سواء
كان باللفظ أو بالإشارة أو الكتابة.
فعلى هذا الطلب بالقول المخصوص يكون من مصاديق الأمر بمعناه الحدثي،
إذ الطلب والبعث كما يحصل بالكتابة والإشارة وغيرهما كذلك يحصل بالقول
المخصوص، فالكلام في مقامين:
أحدهما: في مفهوم الأمر بمعناه الحدثي.
والآخر: في مصداقه، وهو القول المخصوص.
والكلام الآن في المقام الأول، وأما الكلام في المقام الثاني فسيأتي إن شاء الله.
الجهة الثانية: في أنه لا ريب في اعتبار البعث والتحريك في تحقق مفهوم
الأمر بمعناها الحدثي وهو الطلب الإنشائي الذي عبارة عن البعث والتحريك، سواء
كان باللفظ أو بغيره، فإذا لم يكن بعث وتحريك فليس أمر. وهل يعتبر في الأمر أن
يكون الطالب عاليا أو مستعليا، أو يكفي فيه أحدهما أو لابد فيه من تحقق كليهما؟
وجوه، والأقوى هو اعتبار العلو، لصحة سلب الأمر عن طلب السافل ولو كان
مستعليا وعدم صحة سلب الأمر عن طلب العالي ولو كان مستخفضا، فإن العالي
178

إذا طلب شيئا سواء كان طلبه باللفظ أو الإشارة أو الكتابة يصح أن يقال: أمر فلان،
وأما السافل إذا طلب فلا يصح أن يقال: أمر فلان إلا على سبيل الاستهزاء، إذ
الأمر في لغة العرب بمعنى " فرمان دادن " في لغة العجم وهو لا يطلق إلا على
طلب العالي.
نعم يمكن أن ينزل الداني منزلة العالي ويستعمل الأمر في طلبه بأن يقال ما
أمرك مثلا، وهو خارج عن محل الكلام كما لا يخفى، إذا المقصود أن الطلب من
السافل ليس أمرا حقيقة ولو كان مستعليا، لا أنه لا يمكن استعمال لفظ الأمر في
طلبه تنزيلا له منزلة العالي واثبات ما هو من لوازم طلب العالي له كما في أنشبت
المنية أظفارها.
فتحصل: أن المعتبر في تحقق مفهوم الأمر هو علو الطالب فقط، لا استعلائه
فقط، ولا كليهما، ولا أحدهما الغير المعين، وبهما تحقق مفهوم الأمر، ولا دلالة
على كفاية أحدهما في تحقق مفهوم الأمر اطلاق المقبح والموبخ لفظ الأمر على
طلب السافل من العالي المستعلى عليه وتقبيحه وتوبيخه بأنك لم تأمره أو أمرته،
لأن التقبيح والتوبيخ إنما هو على استعلائه لا على طلبه، وكيف يمكن أن يكون
التقبيح والتوبيخ على طلبه من العالي، والحال أن الطلب من الله لا قبح فيه، بل
حسن فكيف الطلب من غيره وإطلاق الأمر على طلبه يكون مجازا، والمصحح
لهذا الإطلاق المجازي هو استعلائه، فكأنه باستعلائه صار عاليا وكما يصح إطلاق
الأمر على طلب العالي فكذلك يصح اطلاقه على طلب السافل المستعلي، ولكن
إطلاقه عليه اطلاق مجازي يصح سلبه عنه حقيقة.
ثم إن العلو قد يلاحظ بالقرب عن الله فكل من كان أقرب إليه تعالى يكون
عاليا بالنسبة إلى من كان دونه في القرب، وقد يلاحظ بالنسبة إلى جعل الله تعالى
فكل من جعله الله تعالى مطاعا بالنسبة إلى شخص فهو عال بالنسبة وإن كان
أقرب منه إليه تعالى كما في الموالي بالنسبة إلى العبيد، وهل ينحصر العلو بهاتين
الجهتين، أو تكون جهة أخرى موجبة للعلو أيضا؟
179

الظاهر عدم انحصار العلو بهما، بل الجهات الآخر العرفية أيضا موجبة لصدق
العلو كالسلطنة والرئاسة والحسب والنسب والشيخوخة وأمثالها، فيكفي في
صدق الأمر العلو بإحدى هذه الجهات العرفية كما يكفي إحدى الجهتين الأوليين.
وإذا وقع تزاحم بين الجهات العرفية فتقدم ما هو الأقوى بنظر العرف. وقد
يختلف العرف فيما هو الأقوى من هذه الجهات، والظاهر أن الشيخوخة متأخرة
عن الكل وقد يقع التزاحم بين الجهات العرفية والشرعية كما إذا صار العبد - مثلا -
سلطانا والمولى رعية فهل هنا تقدم الجهة الشرعية أو العرفية؟ ففيه إشكال لو قلنا
بتحقق العلو بالجهات العرفية أيضا، وكذا لو وقع التزاحم بين الجهتين الشرعيتين
كالعبد الأقرب إلى الله من مولاه، والظاهر هنا تقديم الجهة المطاعية، لأن قربه إلى
الله تعالى بواسطة إطاعته له تعالى لا ينافي علو المولى عليه ظاهرا، وعلى فرض
الشك في تزاحم الجهتين الشرعيتين أو العرفيتين أو المختلفتين فحكمهما حكم
المتساويتين.
الثالثة: في أن مادة الأمر حقيقة في الوجوب أو في القدر المشترك بينه وبين
الندب.
واستدلوا للأول بالتبادر وآية: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره)
وقوله (صلى الله عليه وآله): " لولا أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك "، وقوله (صلى الله عليه وآله) لبريرة بعد قوله
أتأمرني يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟: " لا بل إنما أنا شافع " وصحة الاحتجاج على العبد
ومؤاخذته بمجرد المخالفة للأمر وتوبيخه عليها كقوله تعالى: (ما منعك أن لا
تسجد إذ أمرتك) (1).
واستدلوا للقول الثاني بصحة الأمر إلى الايجابي والندبي، وبأنه لو لم يكن
موضوعا للقدر المشترك لزم الاشتراك أو المجاز (2) وهما خلاف الأصل. وإذا دار
الأمر بين الاشتراك المعنوي وبينهما فيقدم الاشتراك المعنوي عليهما، وبقولهم: إن

(1) كفاية الأصول: في الأوامر ص 83.
(2) معالم الدين: في الأوامر ص 50.
180

فعل المندوب طاعة وكل طاعة فهو فعل المأمور به (1).
وقد أورد على استدلال الطرفين كما سيأتي.
والحق في المقام أن يقال: إن الأمر موضوع للطلب وينصرف إلى الذهن من
إطلاقه الالزام كما هو الحال في مادة الطلب وصيغة إفعل وما بمعناها أيضا، وذلك
لأن الطلب ليست له مرتبتان مختلفتان بالسنخية أو بالمرتبة حتى يكون الطلب
الشديد والمرتبة الشديدة منه عبارة عن الوجوب والمرتبة الضعيفة منه عبارة عن
الندب من جهة أنه لا فرق بينهما في البعث والتحريك.
فكما أن البعث والتحريك موجودان في الطلب الوجوبي فكذلك في الطلب
الندبي وهما ليسا قابلين للشدة والضعف، إذ البعث بعث فيهما، والشدة والضعف
من جهة العلم بالصلاح أو الشوق المؤكد على اختلاف في معنى الإرادة أيضا
كذلك، لأن للعلم بالصلاح والشوق المؤكد مراتب مختلفة بالشدة والضعف
والزيادة والنقيصة باعتبار المصلحة الكامنة في الفعل، فأي مرتبة منها تكون ملاك
الايجاب وأي مرتبة منها ملاك الندب؟ لأن من أول مرتبة تحقق الصلاح فيه إلى
أن ينتهي إلى ما شاء الله مراتب مختلفة، فكل مرتبة شديدة بالنسبة إلى ما دونها
وضعيفة بالنسبة إلى ما فوقها، فلا يمكن تحديد مرتبة خاصة منها بالايجاب
ومرتبة منها بالندب.
فالفرق بين الايجاب والندب ليس شدة الطلب وضعفه كما قيل (2)، لما عرفت
من أنهما من حيث البعث الإنشائي والتحريك الخارجي سيان، ومن حيث العلم
بالصلاح والشوق المؤكد أيضا لا يمكن الفرق بينهما لوجود مراتب كثيرة وعدم
إمكان تحديد الوجوب بمرتبة خاصة منها وتحديد الندب بمادونها، وإنما الفرق
بينهما من جهة أن المصلحة في الشيء المأمورية قد تكون على نحو لا يمكن أن
يزاحمها شيء، وقد تكون على نحو يزاحمها شيء آخر، ولو كان مثل تسهيل
الأمر على العباد.

(1) الفصول الغروية: ص 64 س 4.
(2) قاله صاحب نهاية النهاية: ص 91.
181

فإن كانت المصلحة من القسم الأول فلا يمكن أن يأذن الشارع ويرخص في
ترك الفعل المشتمل عليها، وإن كانت من القسم الثاني يمكن الترخيص في تركه
فإن لم يرد الترخيص كان مقتضى الأمر المتعلق به هو الالزام من جهة اطلاقه وإن
ورد الترخيص في تركه من الخارج يصير ندبا، لأنه عبارة عن طلب شيء رخص
في تركه، وهنا قد تحقق الأمر أن الطلب بالأمر والترخيص في الترك من جهة
الدليل الخارجي، وبتحققهما يتحقق الندب.
والحاصل: أن مادة الأمر والطلب وصيغة افعل وما بمعناها كلها مفيدة للبعث
والتحريك الناشئين عن العلم بالصلاح أو الشوق المؤكد الناشئ عن العلم
بالصلاح فإن ضم إليه من الخارج ترخيص في الترك يكون ندبا لتحقق حده، وهو
طلب الفعل مع الرخصة في تركه وإلا فيكون واجبا، لأن الأمر للبعث ولم يرد
ترخيص في تركه، فتحقق حد الوجوب وهو طلب الفعل مع عدم الرخصة في تركه.
فعلى هذا حمل الأمر على الندب يحتاج إلى مؤنه زائدة خارجية وهي
الرخصة في الترك، وأما الوجوب فلا يحتاج إلى شيء، لأن البعث إلى شيء مع
عدم الرخصة في تركه هو الوجوب. كما قالوا: إن صيغة افعل ظاهرة في الوجوب
النفسي العيني التعييني. وغيرها من الوجوب الغيري الكفائي التخييري تحتاج
إلى مؤنة زائدة (1).
ولأجل ما ذكرنا من أن الأمر لنفس الطلب فإن لم يرد الترخيص في تركه
يكون واجبا وإلا ندبا لا حاجة لنا إلى رفع اليد عن ظاهر الأمر في مقام ورد
الترخيص في تركه والجمع بينهما بهذا النحو، وذلك لأن حد الندب هنا قد تحقق
من جهة أن الطلب قد استفيد من الأمر والرخصة في الترك من الخارج، لا أن الأمر
ظاهر في الوجوب وبواسطة الجمع رفع اليد عن ظاهره، كما قيل.
فتلخص أن لفظ الأمر والطلب وصيغة افعل يحمل على الوجوب باطلاقها، إذ
الطلب المطلق الذي لم يرد ترخيص في تركه هو الوجوب لا أنها موضوعة

(1) نهاية الأفكار: ج 1 ص 209.
182

للوجوب فقط، لما عرفت من أنها موضوعة للبعث والتحريك المذكورين بلا فرق
بين الوجوب والندب فيما ذكر، وإنما الفرق بينهما بما عرفت، فلو كانت مطلقة
تحمل على الوجوب، من جهة أن البعث بلا رخصة في الترك هو الوجوب، وإن لم
تكن مطلقة بل قيدت بالرخصة في الترك فهو الندب.
ولذا لو قال أحد: أمر فلان عبيده بكذا لا يمكن استفادة الوجوب من ذلك
الأمر، لأن المخبر ليس إلا في مقام الحكاية والإخبار، فليس هنا إطلاق لكلامه
بخلاف ما لو قال: أمرتك بكذا، أو: أنت مأمور بكذا أو: أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بأن الله
أمركم بكذا أو: أخبر الإمام بأن النبي (صلى الله عليه وآله) أمركم بكذا فإنه يحمل الأمر على
الوجوب بواسطة الاطلاق.
ومن هنا ظهر أنه يمكن الجواب عن الاستدلال بآية: (فليحذر الذين
يخالفون عن أمره) (1) بأن الأمر المطلق لما كان محمولا على الوجوب فلذا أمر
بالحذر عن مخالفته مع ما في هذا الاستدلال من المناقشات.
ويمكن الجواب أيضا عن الاستدلال بقوله (صلى الله عليه وآله): لو لا أشق على أمتي
لأمرتهم بالسواك بأن المراد لولا المشقة لطلبت منهم السواك لا لأوجبت عليهم.
ولو قيل بأن الطلب الاستحبابي موجود ومع ذلك نفي النبي (صلى الله عليه وآله) الأمر
بالسواك فهو يدل على أن الأمر للوجوب.
قلنا: ليس طلب بالنسبة إلى السواك لا بمادة الأمر والطلب ولا بصيغة افعل
وإنما الموجود في الأخبار الترغيب إليه بذكر خواصه وآثاره: مثل كونه مطهرا
للفم، وأن الصلاة معه كذا، وأمثالهما على ما يظهر بالمراجعة إليها فتأمل.
وعن الاستدلال بقوله (صلى الله عليه وآله) لبريرة بعد قولها: أتأمرني؟ إلى آخره، بأن
النبي (صلى الله عليه وآله) ما طلب منها المراجعة لا أنه ما أوجب، لأن الشفاعة عبارة عن تحصيل
التئام وائتلاف بين الشخصين بلا أن يكون طلب وأمر من الشفيع كما هو المتعارف
من معناها عرفا، فتدبر، هذا ما في استدلال القائلين بكونه حقيقة في الوجوب.

(1) النور: 63.
183

وأما ما في استدلال القائلين بكونه حقيقة في الأعم إما في استدلالهم
بصحة تقسيمه إلى الايجابي والندبي وأنها تدل على كونه موضوعا للأعم بأن
التقسيم قرينة على إرادة الأعم وصحة الاستعمال في معنى أعم من كونه حقيقة
فيه أو مجازا.
ولكن فيه: أنا نرى صحة تقسيم الأمر إلى الإيجابى والندبى بلا تجوز في
معناه وكذا في تقييد الأمر بالايجابي نرى أن القيد ليس توضيحيا.
وأما في الاستدلال بأن المندوب طاعة وكل طاعة فهو فعل المأمور به
فالمندوب فعل المأمور به بأنه إن أريد من المأمور به معناه الحقيقي فنمنع كون
المندوب طاعة بهذا المعنى، وإن أريد غيره فهو غير مفيد.
وفيه: أن المندوب فعل المأمور به بمعناه الحقيقي، لأن الطاعة عبارة عن
الاتيان بمطلوب المولى والمندوب أيضا مطلوب ومأمور به.
الجهة الرابعة: في اتحاد الطلب والإرادة.
ولا يخفى ما في هذا التعبير من المسامحة، لأن اختلاف الطلب والإرادة
اتفاقي بيننا وبين الأشاعرة، وذلك لأن الأشاعرة (1) من جهة اعتبارهم في صدق
المشتق على الذات حقيقة قيام المبدأ بالذات لما رأوا من أنه لا يصدق المتحرك
على شخص بمجرد ايجاده الحركة في جسم آخر، بل المتحرك هو الجسم وإنما
يتصف هذا الشخص بأنه محرك لا أنه متحرك، وقد ثبت بالضرورة أن الله تعالى
متكلم وهو لا يصدق عليه بايجاده الكلام في جسم آخر من شجر ونحوه، فلا بد
أن يكون المراد بالكلام شيئا يصح قيامه به تعالى ويكون مغايرا للعلم والإرادة
والكراهة، وسموه بالكلام النفسي الذي يعم الإخبارات والإنشاءات، وفي
الإخبارات لما لم يجدوا لفظا خاصا يعبرون عن ذلك المعنى به عبروا عنه بالكلام
النفسي وفي الإنشاءات وجدوا له لفظا آخر وهو الطلب عبروا به عنه، وإلا فلا
فرق بين الكلام النفسي في الإخبارات والإنشاءات.

(1) نقله عنهم في بدائع الأفكار: في المشتق ص 172 س 30.
184

وقد تقدم أنه لا يعتبر في صدق المشتق قيام المبدأ بالذات فقد يكون التلبس
المعتبر في الاتصاف بالقيام، وقد يكون بالصدور، وقد يكون بغيرهما من انحاء
التلبسات المختلفة باختلاف المبادئ والهيئات كما عرفت، وأن ما ذكروا من أنه
لا يصدق عليه المتكلم عليه بإيجاده الكلام في جسم آخر كما لا يصدق المتحرك
على الشخص بمجرد ايجاده الحركة في جسم فهو مسلم فيما لو أوجد الكلام في
جسم آخر، إذ حينئذ ذلك الجسم يتصف بأنه متكلم لا الموجد وأما لو أوجد
الكلام - أي الصوت المشتمل على هذه التقطيعات المخصوصة - الصادر منا
بتوسط الجارحة المخصوصة بلا آلة ولا في جسم آخر نمنع عدم صدق المتكلم
عليه، لأن المراد بالمتكلم موجد الكلام وهو يصدق عليه ولو كان الكلام بمعناه
الذي يصدر عنا، ولا حاجة إلى الالتزام بل إلى القول بالكلام النفسي بالقيود التي
اعتبروها من مغايرته مع العلم والإرادة والكراهة. والحال أنه غير معقول بهذه
القيود التي اعتبروها فيه كما حقق في محله.
بل يمكن أن يقال: إنهم أيضا لم يتعقلوا ذلك المعنى، وإنما أثبتوا له تعالى هذا
المعنى من جهة الالجاء وضيق الخناق لما ثبت من أنه تعالى متكلم بالضرورة، ولا
يمكن إنكار هذه الصفة، وزعموا أنه لا يمكن أن يتصف بالمتكلمية إلا من قام به
الكلام، وأن الكلام بمعناه الذي يقوم بنا لا يمكن قيامه به، فلابد أن يكون المراد به
امرا نفسيا يمكن قيامه به، ويكون مغايرا للصفات المعروفة، فكأنهم بنظرهم
بالبرهان الإني أثبتوا الكلام النفسي له، وإلا في الحقيقة لم يتعقلوه فليس التزامهم
بالكلام النفسي إلا من باب الإلجاء والاضطرار، وإلا لو أمكنهم اتصافه تعالى
بالمتكلم بلا التزام به لما ألزموا به.
وعلى أي حال لا إشكال في أن الطلب عندهم مغاير للإرادة، لأن الطلب
عندهم عبارة عن المعنى القائم بالنفسي المغاير للعلم والإرادة والكراهة، إذ هو
عبارة عن الكلام النفسي في الإنشاءات، ومعلوم أنه مغاير للصفات المعروفة
عندهم وأما عندنا فلانا لا نتعقل معنى قائما بالنفس غير الصفات المعروفة حتى
185

ينازع في أنه مغاير مع الإرادة أو متحد معها، بل ينفي ذلك المعنى، فكيف يمكن
النزاع في أن الأمر المنفي والمعدوم متحد مع الأمر الموجود أم لا؟ وإنما الطلب
عندنا عبارة عن معنى إحداثي إيقاعي يحدثه المتكلم في الخارج، ولا شك في أنه
مغاير للإرادة التي هي عبارة عن الصفة القائمة بالنفس، سواء قلنا بأنها عبارة عن
العلم بالصلاح مطلقا، أو الشوق المؤكد مطلقا، أو قلنا بأنها بالنسبة إلى الله تعالى
عبارة عن العلم بالصلاح وفي غيره عبارة عن الشوق المؤكد المحرك للعضلات
نحو الفعل فيما كان المراد فعلا مباشريا أو الأمر به فيما كان فعلا تسبيبيا.
وكيف كان فلا شك في مغايرة الإرادة بأي معنى كانت مع الطلب الإيقاعي
الإحداثي. نعم هنا مطلب آخر وهو أنه هل يكون تلازم بين الإرادة والطلب
بالمعنى المذكور بحيث لا يمكن الانفكاك بينهما، أو يمكن الانفكاك كما في
الأوامر الاعتذارية والامتحانية؟ ولكنه لا ربط له بمسألة اتحاد الطلب والإرادة
فتأمل في المقام فإنه دقيق وبالتأمل حقيق.
فعلى هذا ينبغي حمل النزاع في أن الطلب معنى قائم بنفس المتكلم كما يقول
به الأشعري، أو امر إحداثي إيقاعي خارجي ليس له قيام بالنفس كما قال به
أهل الحق.
وصاحب الكفاية (قدس سره) قد حاكم بين الفريقين وجعلهما متحدين مفهوما وحقيقة
وخارجا وإنشاء (1)، إلا أن المنصرف إليه من الإرادة هي الإرادة الحقيقية
والمنصرف إليه من الطلب هو الطلب الانشائي، فراجع كلامه.
فتحصل أن النزاع هنا في أمرين.
أحدهما: في أمر لبي، وهو أن غير الصفات المعروفة من العلم والإرادة
والكراهة وغيرها هل في النفس صفة أخرى تكون هي (2) الكلام النفسي أم لا؟
فالأشاعرة قالوا بثبوتها من جهة أنه لا ريب في أن الله تعالى يتصف بأنه متكلم،
ولا ريب في أن صفة القديم لابد أن تكون قديمة، والكلام اللفظي أمر حادث لا

(1) كفاية الأصول: في الأوامر ص 85.
(2) في الأصل: هو.
186

يمكن اتصاف القديم به (1) مع أنه لابد في صدق المشتق على الذات قيام المبدأ بها،
فلا يمكن اتصافه تعالى بأنه متكلم بإيجاده الكلام في جسم آخر كالشجر
وأمثاله، كما لا يمكن اتصاف شخص بأنه متحرك بإيجاده الحركة في جسم آخر،
بل المتصف بالمتحركية هو ذلك الجسم الآخر.
وفي هذا الاستدلال ما لا يخفى فإنا لا نتعقل في النفس صفة أخرى غير
الصفات المعروفة وكونه تعالى متصفا بالمتكلمية لا يقتضي الالتزام بوجودها مع
عدم تعقلها كما التزموا بها الأشاعرة مع عدم تعقلهم اياها من جهة ما توهموه من
البرهان الإني على وجودها، لأنه يمكن اتصافه بالمتكلمية مع كون الكلام عبارة
عن الكلام اللفظي، فمعنى كونه متكلم أي موجد للكلام.
وما قيل من أن صفة القديم لابد أن تكون قديمة فإنما هو في صفات الذات لا
في صفات الأفعال، وكذا ما قيل (2) من أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات قيام
المبدأ بها ممنوع، لما عرفت من أن أنحاء التلبسات مختلفة، فقد يكون بالقيام وقد
يكون بالصدور وقد يكون بغيرهما، وقياس المتكلم بالمتحرك ليس في محله، إذ
التحرك - وهو الانتقال من مكان إلى مكان آخر - صفة للجسم الذي أوجد فيه
الحركة لا المحرك وهو الذي أوجد الحركة، بخلاف المتكلم فإنه عبارة عن
الموجد للكلام.
ولا يعتبر في صدق المتكلم إلا ايجاده الصوت المشتمل على التقطيعات
المخصوصة، سواء كان ايجاده باللسان أو بغيره من الجوارح، أو كان ايجاده
بمجرد الإرادة بلا آلة ولا جارحة. نعم لو كان ايجاده في جسم آخر فالمتصف
بالمتكلمية هو ذلك الجسم، وأما لو لم يكن ايجاده في جسم، بل أوجد هذا
الصوت المخصوص لا في جسم فيتصف بالمتكلمية حقيقة، ولا داعي إلى الالتزام
بوجود صفة في النفس غير الصفات المعروفة مع أنها غير معقولة لتصحيح اطلاق

(1) نقله عنهم في الملل والنحل: ج 1 ص 95.
(2) كفاية الأصول: في المشتق ص 77.
187

المتكلم عليه تعالى. والحال أنه يصح إطلاقه عليه ولو لم نقل بالكلام النفسي.
والثاني: في أمر لفظي وهو أن المدلول بالكلام اللفظي هو هذا المعنى القائم
بالنفسي المغاير للصفات المعروفة بناء على ثبوته أم لا؟ والنزاع في هذا الأمر
متفرع على الأمر الأول ولا ملازمة في حد نفسه بين القول بثبوت معنى في النفس
مغاير للصفات المعروفة، وكونه مدلولا للكلام النفسي إذ يمكن القول بثبوته مع
المنع عن كونه مدلولا للكلام اللفظي، لكن الأشاعرة لما كان إلتزامهم بالمعنى
المذكور من جهة الجائهم إلى القول بثبوته وكونه مناطا في صدق المتكلمية وكونه
كلاما حقيقة كما قيل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما * جعل اللسان على الفؤاد دليلا (1)
واطلاق الكلام على اللفظ الدال عليه إنما هو بالعناية ومن جهة العلاقة فلابد
من أن يكون ذلك المعنى هو مدلول الكلام اللفظي عندهم.
فإن قيل: إذا لم يكن ذلك المعنى مدلولا للكلام اللفظي فما مدلوله.
فنقول: أما المفردات فلا إشكال في أن معانيها عبارة عما وضعت لها وأما
الجمل فالخبرية منها مدلولها عبارة عن النسب الإيقاعية الإحداثية يحدثها المتكلم
بين الطرفين، فإن كانت تلك النسبة الايقاعية مطابقة للنسبة الإعتقادية، وهي
مطابقة للنسبة الخارجية يصير صادقا، وإلا كاذبا. فالمدلول في صورتي الصدق
والكذب شيء واحد، وهو ايقاع الربط وإحداثه بين الطرفين. والتفاوت بالصدق
والكذب إنما هو من جهة مطابقة هذه النسبة الربطية الايقاعية مع النسبة الاعتقادية
والخارجية أو إحداهما على الخلاف في مسألة الصدق والكذب وعدم مطابقتها.
والحاصل: أن مدلول الجمل الخبرية عبارة عن النسب الايقاعية ومن
موازنتها مع النسب الاعتقادية واستكشاف أن ما أوقعها المتكلم من النسب مطابق
لاعتقاده بما يكون طريقا لهذا الاستكشاف، وموازنة النسب الاعتقادية مع النسب

(1) قاله الأخطل نقله في شوارق الالهام: في مبحث تكلمه (تعالى شأنه) ص 555 س 24.
188

الخارجية، وإحراز أن اعتقاد هذا المتكلم لا يخطئ عن الواقع بما يكون طريقا
لهذا الإحراز يستكشف أن هذا الخبر صادق، ومن عدم الموازنة بين هذه النسب
الثلاث يستكشف أنه كاذب فالمدلول في كلتا صورتي الصدق والكذب شيء
واحد وهو إيقاع النسبة الثبوتية أو السلبية، وبعبارة أخرى إيجاد الربط أو سلب
الربط، وبعبارة ثالثة الحكم بالوقوع أو اللا وقوع، وبعبارة رابعة الإيقاع والانتزاع
والصدق والكذب خارجان عن مدلول الجمل الخبرية، وإنما يتصف الخبر بهما من
جهة المطابقة والموازنة بين النسب الثلاث وعدم الموازنة والمطابقة.
وأما الجمل الإنشائية فحالها كحال الجمل الخبرية في أن مدلولها أمر إيقاعي
إحداثي، وهو إنشاء تلك المعاني وايجادها، فالمدلول بالأمر والنهي والاستفهام
والتمني والترجي هو إنشاء هذه المعاني وايجادها، سواء كان الداعي إلى ايجادها
ثبوت تلك المعاني في النفس أو شيء آخر. ولا يتفاوت مدلولها في الصورتين
فإن مدلول اضرب - مثلا - أمر إيجادي ايقاعي، وهو البعث والتحريك نحو المادة
والمطلوب، إذ البعث نحو المطلوب كما يمكن أن يقع بالتحريك الخارجي فإذا
حرك الشخص شخصا آخر نحو مطلوبه فقد أوجد البعث في الخارج كذلك يقع
بالتحريك القولي، فإذا قال له: اضرب زيدا فقد حركه نحو مطلوبه وقد أوجد
البعث في الخارج بهذا القول وهكذا الحال في سائر الانشاءات، فالمدلول في
جميعها أمر ايقاعي إحداثي بلا فرق بين أن يكون الداعي إلى ايجادها ثبوت هذه
المعاني في النفس أو غيره.
نعم لا مضايقة من دلالتها إلتزاما على ثبوت تلك المعاني في النفس، وأنها
ظاهرة في مورد كان استعمالها بداعي ثبوت تلك المعاني في النفس إما وضعا كما
قيل (1)، أو انصرافا على ما هو المختار، كما سنشير إن شاء الله إلى هذا في صيغة
أفعل وما بمعناها.
والحاصل: أنه لا إشكال في أن مداليل الجمل الإنشائية أمور إيقاعية إيجادية

(1) نقله صاحب هداية المسترشدين: في مادة الأمر، ص 136، س 18.
189

لا يتأمل فيه أحد إذا راجع وجدانه، ولا حاجة إلى إقامة البرهان، بل ربما يكون
إقامة البرهان في كثير من المطالب الوجدانية موجبة لخفاء المطلب، فإنه ربما
يكون أصل المطلب أمرا واضحا ومقصود الطرفين بيانه، فيكون بيان أحدهما
وافيا وبيان الآخر قاصرا، فيتوهم أن بينهما اختلافا بحسب المعنى والمراد.
والحال أنه ليس بينهما اختلاف فيه، بل مقصودهما شيء واحد، فلو أبقى
المطلب على حاله ولم يجعل في قالب العبارة ربما كان أوضح وأجلى، مثلا
المعاني الحرفية لا إشكال ولا خفاء في أنها معان ربطية يوجدها المتكلم بين
المعاني الاسمية المستقلة التي لا ارتباط بينها في نفسها، وربما يعرفها كل أحد إذا
راجع وجدانه، ولكن لما صاروا بصدد إثباتها بالصناعات العلمية صار ذلك سببا
لخفائها، وهكذا الحال في المطالب والمقامات كما لا يخفى.
ثم إن الأشاعرة (1) استدلوا على مغايرة الطلب والإرادة بوجوه:
منها: أن الآمر قد يريد اظهار عذره في عدم طاعة المأمور فيأمره ولا يريد
وقوعه منه، بل قد يكون منافيا لغرضه.
ومنها: صحة قولنا: أريد منك الفعل ولا آمرك به.
ومنها: أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان ولم يرده منه لامتناعه في حقه، لأنه
يلزم تعلق إرادته تعالى بغير المقدور، وهو ممتنع وإن جاز تعلق الطلب بغير
المقدور. وبيان هذا الوجه هو: أنه تعالى لو أمر الكافر بالإيمان وأراد منه الإيمان
إما أن يعلم بأنه لا يؤمن أو لا، والثاني مستلزم للجهل تعالى الله عن ذلك، وإن علم
بأنه لا يؤمن فإما يمكن مع ذلك إيمانه أو لا، والأول مستلزم لانقلاب علمه
بالجهل تعالى عن ذلك، والثاني مستلزم لأن لا يكون قادرا على الإيمان، وإذا لم
يكن قادرا عليه فلا يمكن تعلق إرادته تعالى بإيمانه، لأن تعلق الإرادة بغير
المقدور محال، ولكن تعلق الطلب بغير المقدور ليس بمحال.

(1) نقله عنهم صاحب الفصول الغروية: في الأوامر ص 68، س 27.
190

وصاحب الفصول (قدس سره) (1) بعد أن ذكر هذه الوجوه السخيفة عن طرف الأشاعرة
على مغايرة الطلب والإرادة وأجاب عنها، ثم قال: يمكن تقرير الدليل بوجه آخر،
وهو الذي ذكره في الكفاية بقوله: إشكال ودفع: وحاصل الإشكال أنه بناء على
اتحاد الطلب والإرادة يلزم في تكليف الكفار بالإيمان، بل مطلق العصاة بالعمل
بالأركان إما أن لا يكون طلب جدي وإرادة جدية، وهو باطل بالضرورة، وإما أن
يتخلف مراده تعالى عن إرادته لو كان طلب جدي وإرادة جدية، وهو أيضا باطل
بالضرورة، لأن مراده تعالى لا يتخلف عن إرادته بالبديهة.
وحاصل الدفع: أن المحال هو تخلف مراده تعالى عن إرادته التكوينية التي
هي عبارة عن العلم بالنظام الأحسن على الوجه الكامل التام لا الإرادة التشريعية
التي هي عبارة عن العلم بالمصلحة في فعل المكلف.
وما لا محيص عنه في التكليف إنما هو هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية،
فإذا توافقنا فلابد من الطاعة والإيمان، وإذا تخالفنا فلابد من أن يختار الكفر
والعصيان ومع ذلك لا يلزم أن يكون الكفر والعصيان خارجين عن الاختيار،
والعقاب عليهما عقابا على ما لا ينتهي بالأخرة إلى الاختيار، إذ يكفي في
اختيارية الفعل أن تكون إحدى مقدماته ناشئة عن الاختيار.
والأمر هنا كذلك، لأنه بعد تهيئة الله تعالى أسباب الطاعة والمعصية للعبد من
خلقه وإقداره عليهما يخلق الآلات القابلة لصرفها واستعمالها في الطاعة
والمعصية جميعا، وأودع فيه العقل الباعث على الطاعة والزاجر عن المعصية، ومع
ذلك رغبه إلى الطاعة بالمرغبات وزجره عن المعصية بالزواجر، فلو اختار الكفر
على الإيمان والمعصية على الطاعة لما كان صدورهما عنه بلا اختيار، إذ معلوم أن
حركته إلى الكفر والعصيان ليست كحركة المرتعش صادرة عنه بلا عزم وإرادة،
فإذا كان صدورهما عنه باختياره فيصح عقابه عليهما، لأنه عقاب على أمر صادر
عنه بالاختيار، إذ ليسا مستندين إلى الله تعالى إلا بخلقه وإقداره وتهيئة أسباب

(1) الفصول الغروية: في الأوامر ص 68 س 23.
191

الطاعة والمعصية له.
وهذا المقدار من الاستناد لا يوجب استناد كفره وعصيانه إليه تعالى بعد أن
كان صدورهما عنه بعزم منه واختيار، إذ الفرض أن صدورهما عنه ليس كحركة
المرتعش، فإقدار الله تعالى العبد على الطاعة والمعصية وترغيبه إلى الطاعة
وزجره عن المعصية كإعطاء السيف بيد أحد القابل لأن يستعمله في جهاد الكفار
وأن يستعمله في قتل نفس محترمة، وترغيبه في استعماله في الجهاد ونهيه عن
استعماله في قتل النفس المحترمة، فلو استعمله في قتل النفس هل يستند قتله إلى
من أعطاه السيف ولا يصح مؤاخذة من صدر عنه القتل، ولا يصح عقابه عليه.
فكما يصح مؤاخذته وعقابه على صدور القتل عنه فكذلك يصح العقاب على
الكفر والعصيان الصادر عن العبد القادر على اختيارهما واختيار الإيمان والطاعة.
وتعلق الإرادة التكوينية بكفره وعصيانه لا يوجب جبره على الكفر والعصيان
وقبح العقاب عليهما، إذ هي إنما تعلقت بكفره وعصيانه الناشئين عن اختياره لا
مطلقا، فيصح العقاب عليهما، لصدورهما عنه اختيارا مع كونهما مرادين لله تعالى
بالإرادة التكوينية.
فتحصل: أنه بناء على القول باتحاد الطلب والإرادة لا يلزم شيء من
المحذورين لا عدم الطلب الجدي في تكليف الكفار والعصاة بالإيمان والطاعة،
ولا تخلف إرادته عن مراده الذي هو محال، لأن المحال هو تخلف مراده تعالى
عن إرادته التكوينية لا الإرادة التشريعية، والمعتبر في التكليف إنما هي الإرادة
التشريعية لا التكوينية، فإذا توافقتا فلابد من اختيار الإيمان والطاعة، وإذا تخالفتا
فلا محيص من أن يختار الكفر والعصيان ومع ذلك لا يسند الكفر والعصيان إليه
تعالى حتى لا يصح عقابه عليهما، لأنه أرادهما بالإرادة التكوينية أن يصدرا عنه
بالاختيار، وهو كاف في عدم استنادهما إليه تعالى وصحة عقابه عليهما إذ بعد
خلقه وإقداره وتهيئة الأسباب له لو لم يكن مختارا في صرفها في الطاعة
والمعصية، بل كان مجبورا على المعصية وكانت المعصية الصادرة منه كحركة
192

المرتعش لكانت معصيته مستندة إلى الله تعالى، ولا يصح مؤاخذته وعقابه عليها،
وإذا لم يكن كذلك فلا تستند إلا إلى نفسه والى سوء اختياره فيصح عقابه عليها.
ولا يرد في المقام إلا إشكال واحد وهو: أنه لم خلق الله تعالى هذا الشخص
القابل لاختيار الإيمان والطاعة والكفر والعصيان مع علمه بأنه يختار الكفر
والعصيان؟
وهذا هو الإشكال الذي أورده إبليس اللعين على الله تعالى.
وجوابه: هو الجواب الذي قال الله تعالى له: أتعلم أني حكيم أم لا؟ فبعد
الاعتراف بحكمته قال ما حاصله: أنه لا موقع للاعتراض على الحكيم، فسكت
اللعين.
وهذا الإشكال وأن الحكمة في خلق الكافر والعاصي أي شي؟ راجع إلى
عالم القضاء والقدر الذي هو بحر مظلم كما ورد في الخبر (1)، والإحاطة بكنهه
خارج عن طوق البشر فلابد لنا عن التكلم في هذا المقام من صرف النظر، فكما
أنه لا موقع لسؤالنا عن الحكماء والأطباء الذين لهم مهارة في فنهم عن أدوية التي
يستعملونها في معالجة المريض ولا نسأل (2) عنهم لم عالجته بكذا وكذا؟ فكذلك لا
موقع للسؤال عن فعل الحكيم على الاطلاق بلم؟ وبم؟ فلا موقع لسؤالنا عن أن الله
تعالى لم خلق هذا الكافر الذي يبتلى في الدنيا بأنواع الأمراض والبليات وفي
الآخرة بعذاب النار بعد علمنا بأنه حكيم لا يصدر عنه فعل مخالف للحكمة، بل
لابد من تسليم الأمر إليه والاعتقاد بأن أفعاله كلها صادرة عنه بمقتضى الحكمة.

(1) بحار الأنوار: باب القضاء والقدر ج 5 ص 97 ح 22.
(2) كذا في الأصل، والصواب لا نسألهم.
193

الفصل الثاني
فيما يتعلق بصيغة الامر
وفيه مباحث:
المبحث الأول:
أنه قد ذكر لصيغة افعل وما بمعناها معان عديدة قد استعملت فيها وربما
أنهاها بعضهم إلى أربعة عشر أو خمسه عشر، وقد اختلفوا في معانيها الحقيقية على
أقوال بعد اتفاقهم على أنها ليست حقيقية في تمام ما ذكر لها من المعاني التي
استعملت فيها. فقيل (1) بأنها حقيقة في الوجوب، وقيل (2) بأنها حقيقة في الندب،
وقيل (3) بأنها حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهنا أقوال (4) أخر أيضا. ثم اختلفوا
فيما هي حقيقة فيها من المعاني المتعددة على القول بتعدد المعاني الحقيقية أنها
حقيقة فيها من باب الاشتراك اللفظي أو المعنوي.
ولكن الحق في المقام أن يقال: إن الصيغة موضوعة لإيجاد البعث وإنشائه
وما استعملت في شيء من المقامات إلا في هذا المعنى وهو البعث والتحريك نحو
المادة، غاية الأمر أنه إن كان الداعي على البعث هو وجود غرض في المبعوث
إليه يصير مصداقا للطلب لا أن الصيغة استعملت في الطلب، بل إنما استعملت في

(1 - 4) معالم الدين: في الأوامر ص 46.
194

البعث والبعث إلى الشيء فيما إذا كان الداعي على البعث هو وجود غرض في
المبعوث إليه يكون مصداقا للطلب، وإذا كان الداعي عليه هو وجود غرض في
نفس البعث لا المبعوث إليه فيصير مصداقا للامتحان والابتلاء والاختبار، وإذا
كان الداعي عليه هو إظهار ما يترتب على فعل المبعوث إليه من المنافع فيصير
مصداقا للإرشاد، وإذا كان الداعي عليه هو اظهار ما يترتب عليه من المضار يصير
مصداقا للتهديد، وإذا كان الداعي عليه رفع المنع عن الفعل كان مصداقا للإباحة،
وهكذا بالنسبة إلى سائر المعاني التي ذكرت لها.
ومع ذلك إطلاق الصيغة يقتضي حمله على الطلب لا سائر المعاني، لأن طبع
البعث إلى شيء هو أن يكون الغرض في المبعوث إليه، كما أن طبع الحركة إلى
الشيء أن يكون الغرض في المتحرك إليه فيحمل اطلاقه عليه، إذ الحمل على غيره
يحتاج إلى مؤنة زائدة وبيان زائد، وأما الحمل عليه فلا يحتاج إلى مؤنة زائدة، بل
يكفي في الحمل عدم بيان غيره، فإذا كان المتكلم في مقام البيان ولم يبين أن
الغرض من البعث في المبعوث إليه أو في غيره يحمل على أن الغرض في
المبعوث، ومع وجود الغرض في المبعوث إليه تصير الصيغة مصداقا للطلب، ولا
ينافي انصراف إطلاقها إلى الطلب مع كونها حقيقة في البعث الذي هو متحقق في
كل واحد من المعاني المذكورة الذي لازمه أن تكون الصيغة حقيقة في جميعها من
باب الاشتراك المعنوي، فتأمل.
وكذلك الكلام في الأسماء والأدوات الموضوعة للاستفهام فإنها موضوعة
للاستخبار وما استعملت في شيء من المقامات والموارد إلا فيه، إلا أن الغرض
من الاستخبار إن كان الاستعلام والاطلاع على الخبر والغرض من الاطلاع على
الخبر هو الاطلاع على الواقع كانت تلك الأسماء والأدوات مصاديق الاستفهام،
وإن كان الغرض من الاستخبار هو معرفة حال المخبر وأنه هل يعلم هذا الخبر أم
لا؟ لا الاطلاع على الواقع من خبره يكون مصاديق الاختبار. وإن كان الغرض
من الاستخبار هو الإخبار ليقره عليه أو ينكره عليه تكون مصاديق التقرير
195

والانكار، وهكذا المعاني الأخر التي ذكروا لأدوات الاستفهام وأسمائه.
ولكن - مع أنها لم تستعمل في شيء من الموارد إلا في الاستخبار الذي هو
معناها الحقيقي - هو متحقق في جميع موارد استعمالها، وينطبق عليه في كل مورد
بحسب الغرض الداعي على الاستخبار عنوان ثانوي من الاستفهام والاختبار،
وغيرهما ينصرف اطلاقها إلى الاستفهام، لأن طبع الاستخبار عن الشيء أن يكون
الداعي إليه الإخبار، وطبع الإخبار أن يكون الداعي إليه هو اطلاع المخاطب على
الواقع ولذا لا يستخبرون غالبا عن شيء إلا من كان أهل العلم والاطلاع على
ذلك، فإن الناس لا يستخبرون عن المسائل العلمية إلا عن العلماء، ولا يستخبرون
عن قيمة شيء إلا من أهل الخبرة وهكذا.
كما أن اطلاق صيغة افعل ينصرف إلى الطلب وإن كان باقي المعاني المذكورة
لها معان حقيقية لها، لما ذكرنا من أنها ما استعملت إلا في البعث وطبع البعث إلى
الشيء أن يكون الغرض في المبعوث إليه، كما أن طبع الحركة إلى مكان أن يكون
الداعي إلى الحركة هو الوصول إلى ذلك المكان لا نفس الحركة وإذا كان طبع
البعث ذلك فتصير الصيغة مصداقا حقيقيا للطلب، كما أنه لو كان الغرض من البعث
هو حصول غرض في نفس البعث تصير مصداقا حقيقيا للاختبار، وهكذا بالنسبة
إلى المعاني الأخر.
ومما ذكرنا ظهر أن التعبير بأن هذه الأدوات والأسماء إنما استعملت في تمام
الموارد في الاستفهام لا يخلو عن مسامحة، والأحسن أن يعبر بأن هذه الأدوات
والأسماء إنما استعملت في الاستخبار، فإن كان استعمالها في الاستخبار بداعي
الإعلام كانت مصاديق حقيقية للاستفهام ولا يحتاج إلى التقييد بأن يقال للاستفهام
الحقيقي، لأن الاستفهام ليس له فردان.
نعم لو قيل: إنها استعملت في تمام الموارد في الاستفهام فإن كان الغرض من
استعمالها فيه هو إعلام الغير إياه وكان الغرض من الإعلام هو اطلاعه على الواقع
كان مصاديق حقيقية للاستفهام الحقيقي، وإن كان الغرض شيء آخر كالتقرير
196

والانكار وغيرهما تكون مصاديق حقيقية لتلك العناوين كان التقييد في محله.
ولكن الواقع ليس كذلك، إذ القدر المشترك بين تلك المعاني الذي استعملت
هذه الأدوات والأسماء فيه في تمام الموارد هو الاستخبار لا الاستفهام. فتسمية
هذه الأدوات والأسماء بأدوات الاستفهام وأسماء الاستفهام لا تخلو عن
مسامحة، كما أن تقييد الاستفهام بالحقيقي أيضا لا يخلو عن مسامحة، وإن كانت
المسامحة الأولى أسهل، من جهة أنه لما كان انصراف اطلاقها إلى الاستفهام، فلذا
سموها بأدوات الاستفهام وأسمائه.
والكلام في التمني والترجي كالاستفهام في جميع ما ذكر فلا يحتاج
إلى الإعادة.
المبحث الثاني:
في أن الصيغة حقيقة في الوجوب، أو في الندب، أو فيهما، أو في القدر
المشترك بينهما؟ وجوه، بل أقوال.
لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة. ويؤيده عدم صحة الاعتذار
عن المخالفة باحتمال إرادة الندب مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو مقال.
وكثرة الاستعمال في الندب في الكتاب والسنة وغيرهما لا يوجب نقلها إليه أو
حملها عليه، لكثرة استعمالها في الوجوب أيضا، مع أن كثرة الاستعمال في الندب
مع القرينة المصحوبة لا يوجب صيرورتها من المجازات المشهورة فيه حتى
يترحج على المعنى الحقيقي أو يتوقف على الخلاف في المجاز المشهور كيف؟
وقد كثر استعمال العام في الخاص حتى قيل ما من عام، إلا وقد خص، ولم يثلم به
ظهوره في العموم، بل تحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة
الخصوص. انتهى كلام صاحب الكفاية (1) باختلاف يسير في النقل.
لا يخفى أن ما ذكره في هذا المبحث وهو قوله: لا يبعد تبادر الوجوب من

(1) كفاية الأصول: في الأوامر ص 92.
197

الصيغة إن كان مراده بتبادر الوجوب من الصيغة التبادر الوضعي كما هو الظاهر لا
يوافق ما اختاره في المبحث الأول، وهو أن الصيغة موضوعة لإنشاء البعث وما
استعملت في شئ من الموارد إلا في هذا المعنى إلا أنه إن كان الداعي إلى البعث
غرض في المبعوث إليه تصير مصداقا للطلب، وإن كان الداعي إلى البعث غرض
في نفس البعث تصير مصداقا للاختبار وهكذا، لأنه (قدس سره) لم يقل بأنها موضوعة
لخصوص الطلب ولا حقيقة في خصوصه فكيف يقول بأنها موضوعة للوجوب
وحقيقة في خصوصه، مع أنه أخص من الطلب ونفي الأعم مستلزم لنفي الأخص؟
فلابد أن يكون هذا الكلام منه بمذاق القوم، وإن كان مراده بالتبادر التبادر
الاطلاقي، فالظاهر أنه لا ينافي ما اختاره، وذلك لأن الصيغة وإن وضعت لإنشاء
البعث وما استعملت إلا فيه في تمام الموارد ولكن المتبادر من اطلاقها هو الطلب
كما عرفت، والمتبادر من الطلب هو الطلب الالزامي كما مرت الإشارة إليه،
وسيأتي أيضا.
وعلى أي حال الكلام تارة في أصل التبادر والظهور، وأخرى في كيفيته وأنه
مستند إلى الوضع أو الاطلاق.
أما أصل الظهور في الوجوب فيدل عليه عدم صحة الاعتذار عن المخالفة
باحتمال إرادة الندب مع عدم قيام قرينة حالية أو مقالية، وأما أن الظهور مستند
إلى الوضع أو إلى الاطلاق فغير معلوم، إذ يحتمل أن يكون مستندا إلى الاطلاق
كما تأتي الإشارة إليه.
فإن قيل - على فرض تسليم كون الصيغة موضوعة للوجوب -: كثرة
استعمالها في الندب في الكتاب والسنة وغيرهما تمنع عن حملها على الوجوب
عند الإطلاق، لصيرورتها من المجازات الراجحة في المعنى الندبي كما قال
صاحب المعالم: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة (عليهم السلام) أن
استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم بحيث صار من المجازات
الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح
198

الخارجي، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد تعلق الأمر به عنهم (1).
يجاب: أولا: بأن كثرة استعمالها في الندب بحيث يكون استعمالها في الندب
أكثر من استعمالها في الوجوب غير معلومة.
وثانيا: أن كثرة استعمالها فيه إنما كانت مع القرينة وكثرة الاستعمال فيه مع
القرينة لا توجب صيرورتها من المجازات المشهورة التي قد اختلفوا في تقديم
الحقيقة عليها لتقديم جانب الوضع. وكون أصالة الحقيقة معتبرة من باب التعبد أو
تقديمها على الحقيقة لظهور اللفظ فيها الناشئ من كثرة الاستعمال، وكون الأصالة
معتبرة من باب الظهور، وهنا الظهور على خلافها أو التوقف من جهة مساواة
احتمالها من اللفظ، لاحتمال الحقيقة عند انتفاء القرينة كما هو محل النزاع وإن
كان استعمال اللفظ فيها راجحا على استعماله في المعنى الحقيقي ومشهورا فيها
فتتعارض الجهتان ووجب التوقف.
ولكن يرد عليه أولا: أن كثرة استعمالها في الندب لم تعلم أنها كانت مع
القرينة الدالة على إرادة الندب منها، فلعله استفيدت إرادة الندب من الخارج.
وثانيا: أن المجاز المشهور الذي اختلفوا في تقديمه على الحقيقة أو تقديم
الحقيقة عليه على أقوال ثلاثة غير مختص بما إذا كان الاستعمال فيه بلا قرينة، لأن
المدار فيه على شهرة استعمال اللفظ فيه وكثرته، سواء كان مع القرينة المصحوبة،
أو كان استعماله فيه بلا قرينه واستفيدت إرادة المعنى المجازي من الخارج.
ثم لا يخفى أن النزاع في أن الصيغة حقيقة في الوجوب أو في الندب متفرع
على تغاير الندب مع الوجوب وبيان أن المائز بينهما أي شيء؟
فنقول: لا ريب أن اختلافهما ليس بالسنخية ولا بالمرتبة. أما أن اختلافهما
ليس بالسنخية فواضح، لأن الوجوب والندب ليسا كالإرادة والكراهة من الأمور
المتباينة المختلفة بالسنخ، وأما اختلافهما بالمرتبة بأن يكون الندب عبارة عن
المرتبة الضعيفة من الطلب، والوجوب عبارة عن المرتبة الشديدة منه فلم تتعقله،

(1) معالم الدين: في الأوامر ص 53.
199

لأن اختلافهما مرتبة من حيث الطلب إما بأن يكون بينهما اختلاف بالشدة
والضعف في البعث الذي هو عبارة عن الطلب، وهو باطل، لأن البعث الوجوبي
والندبي متساويان في أصل البعث وتحريك المبعوث نحو المبعوث إليه، وإما بأن
يكون بينهما اختلاف فيما يوجب البعث، وهي الإرادة، وهي إما عبارة عن العلم
بالمصلحة كما في الباري جل شأنه، إذ لم نتعقل من الإرادة بالنسبة إليه غير العلم
بالصلاح، أو هي عبارة عن صفة نفسانية منشؤها العلم بالصلاح ويعبر عنها
بالشوق المؤكد كما في المخلوق.
وعلى كل حال فنفس العلم بالصلاح ليس قابلا للشدة والضعف، إذ العلم
علم، وأما نفس الصلاح وإن كان قابلا للشدة والضعف إلا أن مراتب الصلاح
كثيرة متفاوتة بالشدة والضعف إلى ما شاء الله، فأي مرتبة منه مستحب وأي مرتبه
منه واجب؟
واحتمال أن يكون المستحب عبارة عن أول مرتبة الصلاح ورجحان الشيء
بما يخرج عن حد الاستواء والوجوب عبارة عن غيره من المراتب مدفوع، بأنه
يلزم على هذا أن لا تكون المستحبات والواجبات مختلفة بالتأكد وعدمه.
وربما يقال: إن المائز بين الوجوب والاستحباب بجعل الثواب والعقاب فإن
جعل الثواب على فعل شيء والعقاب على تركه كان واجبا وأن جعل الثواب على
فعله من دون أن يجعل العقاب على تركه كان مستحبا.
ولكن هذا مبني على أن يكون استحقاق الثواب والعقاب أمرا جعليا، وبناء
على تسليم هذا المبنى لا إشكال ثبوتا وإثباتا.
أما ثبوتا فلأنه يمكن أن يجعل الثواب على فعل شيء والعقاب على تركه
فيكون واجبا، وباختلاف مراتب الثواب والعقاب تختلف مراتب الوجوب شدة
وضعفا، إذ الوجوب على هذا ما جعل الثواب والعقاب على فعله وتركه، فكل ما
كان ثوابه أكثر أو العقاب على تركه أكثر كان وجوبه آكد. ويمكن أن يجعل الثواب
على فعله من دون أن يجعل العقاب على تركه، فيكون مستحبا وباختلاف مراتب
200

الاستحباب، فكل ما كان ثوابه أكثر كان استحبابه آكد، هذا بحسب الثبوت.
وأما بحسب الإثبات والاستظهار من الصيغة، وأنه هل يستفاد منه، الوجوب
أو الاستحباب؟ فالظاهر أنه يمكن استظهار الوجوب منها، وأن ما تعلق الأمر به
يترتب الثواب على فعله والعقاب على تركه.
وبيانه: أنه لا ريب في أنه إذا تعلقت الإرادة الفعلية من الشخص بفعل نفسه
بأن أراد ذلك الفعل على كل تقدير فلا محالة يهيء جميع المقدمات التي لها دخل
في حصول ذلك الفعل منه في الخارج، مثلا لو أراد الذهاب إلى كربلاء فإن أمكنه
الذهاب ماشيا يذهب، وإن لم يقدر على المشي يستأجر دابة، وإن لم يمكن له
الاستئجار يستعير أو يشتري، وهكذا يهيء تمام المقدمات التي لها دخل في
غرضه وكذلك إذا تعلقت الإرادة الفعلية بفعل صادر عن الغير اختيارا، فإن
الفعل الاختيار [ي] الصادر عن الغير لما لم يكن داخلا في تحت قدرة الآمر فلابد
فيما إذا أراده منه على كل تقدير أن يوجد فيه دواعي اختيار الفعل حتى يفعله
عن اختيار.
فربما يكون نفس بيان أن هذا الفعل له مصلحة يصير داعيا إلى الفعل، وربما لا
يكون نفس كونه ذا مصلحة داعيا، ولكن لو فهم أن المولى أراده منه يصير داعيا له
إليه، وربما لا يكون ذلك داعيا له أيضا ولكن لو جعل الثواب على فعله ربما يكون
داعيا له، وربما لا يكون جعل الثواب داعيا ولكن لو جعل العقاب على تركه ربما
يكون داعيا، إذ حينئذ يلزمه العقل بفعله فرارا من الوقوع في العقاب على تركه.
فعلى هذا ورود الأمر المطلق الكاشف عن الإرادة الفعلية المطلقة كاشف عن
تحقق تمام ما له دخل في حصول المأمور به في الخارج من كون الفعل ذا صلاح
إرادة الآمر منه وجعل الثواب على فعله والعقاب على تركه، وإلا يلزم الاخلال
بغرضه ومراده.
ولكن فيه: أن أصل المبنى - وهو كون استحقاق الثواب والعقاب أمرا جعليا -
فاسد، وذلك لأن استحقاق الثواب والعقاب بمعنى أهلية العبد لأن يثاب أو يعاقب
201

لا بمعنى كونه ذي حق على المولى مترتب على عنوان الطاعة والمعصية، وهما
مترتبان على الأمر، فإذا أتى العبد بما أمره المولى يحكم العقل باستحقاقه الثواب،
وإذا لم يأت بما أمره المولى يحكم العقل باستحقاقه العقاب فاستحقاق الثواب
والعقاب من لوازم الطاعة والمعصية، وهما من لوازم موافقة الأمر ومخالفته وليس
أمر جعليا كما لا يخفى.
والحق في مقام المائز بين الوجوب والاستحباب هو أن يقال: إنه إذا بعث
المولى إلى شيء فإن ورد ترخيص في تركه فهو مستحب، وإلا فهو واجب. فعلى
هذا مجرد البعث دليل على الوجوب وظاهر فيه بمقتضى إطلاقه، إذ الاستحباب
يحتاج إلى مؤنة زائدة وبيان زائد وهو الترخيص في الترك، وأما الوجوب فلا
يحتاج إلى شيء آخر غير البعث. وعدم بيان الاستحباب بالترخيص في الترك
يكفي في بيان الوجوب.
وإذا ثبت الترخيص في الترك ولو من الخارج فيضم إلى البعث إلى الفعل
فيصير مستحبا، لحصول حده وهو البعث إلى الفعل مع الرخصة في الترك، البعث
إلى الفعل من الأمر والرخصة في الترك من الدليل الخارج، فلو فعله دخل في
عنوان المطيع ويحكم العقل باستحقاقه الثواب بمعنى أهليته له، وإن تركه لم يدخل
في عنوان العاصي لترخيصه في الترك. فعلى هذا لا يرد الإشكال في مثل:
" اغتسل للجمعة والجنابة " بأن الصيغة استعملت في معنيين، لأن الصيغة ما
استعملت إلا في صرف البعث ففي كل ما لم يثبت الرخصة في تركه يحمل على
الوجوب، وفي كل ما ثبتت الرخصة في تركه يحمل على الاستحباب من جهة
حده بانضمام الرخصة في الترك الحاصلة من الخارج إلى البعث إلى الفعل.
وكذا لا يرد الطعن الذي أورده صاحب الحدائق على الفقهاء حيث إنه لو كان
أمر ظاهره الوجوب وجاء دليل بأنه لا بأس بتركه يحملون الأمر على
الاستحباب، وكذا لو كان نهي ظاهر في الحرمة وجاء دليل بأنه لا بأس بفعله
202

يحملون النهي على الكراهة فقال (1) بأن الاستحباب والكراهة حكمان شرعيان،
وبمجرد وجود دليل ظاهره الوجوب ودليل ظاهره نفي البأس في تركه يحكمون
بثبوت الاستحباب، وكذا بمجرد وجود دليل ظاهره الحرمة ودليل ظاهره نفي
البأس يحكمون بثبوت الكراهة، والحال أنهما حكمان شرعيان لا يثبتان إلا بدليل
وكلا الحكمين حكمان بلا دليل، إذ على ما ذكرنا الحكم بالاستحباب من جهة
تحقق حده وهو البعث إلى الفعل المستفاد من الأمر والرخصة في الترك المستفادة
من الدليل الآخر، وكذا الحكم بالكراهة من جهة تحقق حده وهو الزجر عن الفعل
المستفاد عن النهي والرخصة فيه المستفادة من الدليل الآخر.
وبهذا يندفع طعنه، وإن أمكن دفعه بوجه آخر أشار إليه الشيخ (قدس سره) وهو: أن
الحكم بالاستحباب والكراهة في الصورتين المذكورتين من جهة الجمع بين
الدليلين برفع اليد عن ظاهر كل منهما بنص الآخر، فراجع كلامه (قدس سره) (2).
فتحصل أن البعث إلى الشيء إن لم ينضم إليه الترخيص في الترك من الخارج
عبارة عن الوجوب لتحقق حد الوجوب وهو البعث إلى الشيء بلا رخصة في
تركه، وإن انضم إليه الترخيص في الترك فهو عبارة عن المستحب، لتحقق حده
وهو البعث إلى الشيء مع الرخصة في الترك، وكذا الكلام بالنسبة إلى الحرمة
والكراهة فإن الزجر عن الشيء إن لم ينضم إليه الترخيص في الفعل فهو عبارة عن
الحرمة وإن انضم إليه الترخيص في الفعل فهي الكراهة. فاطلاق البعث والزجر
يقتضي الحمل على الوجوب والحرمة، لأن الاستحباب والكراهة محتاجان إلى
تقييد وبيان زائد، فإذا شك فيه فالأصل عدمه. ولا فرق بين أن يكون البعث
والزجر مستفادين من صيغة الأمر والنهي، أو من مادتهما، أو من الجمل الخبرية
التي تستعمل في مقام الطلب والزجر، ففي الجميع لو انضم الترخيص في الترك إلى

(1) انظر الحدائق الناضرة: المقدمة السابعة ج 1 ص 112، والدرر النجفية: الفائدة الحادية
عشر، ص 60 س 21.
(2) فرائد الأصول: في الجمع بين المتنافيين ج 2 ص 756.
203

البعث يتحقق حد الاستحباب ولو انضم الترخيص في الفعل إلى الزجر يتحقق حد
الكراهة كما لا يخفى.
المبحث الثالث:
في أن الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام البعث والطلب ك‍ " يغتسل
ويتوضأ " وأمثالهما هل هي ظاهرة في الوجوب أو لا؟
الحق أنها ظاهرة فيه، بل الوجوب المستفاد منها آكد من الوجوب المستفاد
من الصيغة، ودلالتها على الوجوب أظهر من دلالة الصيغة، حيث إن الأمر في مقام
البعث والطلب إخبار بوقوع مطلوبه في الخارج، فكأنه جعل ملازمة بين بعثه
وانبعاث المخاطب والمأمور وملازمة بين انبعاث المأمور وحصول المأمور به في
الخارج، فالطلب بها آكد من الطلب بالصيغة، وليعلم أن هذه الجمل إنما استعملت
في معانيها ولكن الداعي على استعمالها ليس هو الاعلام بل البعث، ولذا يكون
الطلب بها آكد بالبيان المتقدم. ومع ذلك لا يلزم الكذب، لأن الكذب إنما يلزم إذا
كان استعمالها في معانيها بداعي الإعلام والحكاية لا بداعي البعث، فإن الصدق
والكذب في الكناية باعتبار المكنى عنه، فإذا قيل: زيد كثير الرماد فإن كان جوادا
فهذا الكلام صادق وإن لم يكن له رماد أصلا، وإن لم يكن جوادا فهو كاذب وإن
كان له رماد كثير، وكذا في مهزول الفصيل وطويل النجاد.
المبحث الرابع:
في أنه لو سلم عدم كون الصيغة حقيقة في الوجوب من جهة وضعها له هل
لا تكون ظاهرة فيه من جهة انسباقه من اطلاقها، أو تكون ظاهرة فيه؟
والحق أنها ظاهرة فيه لا لما ذكر من غلبة استعمالها فيه، أو لغلبة وجوده
لمنعهما، ولا لأكملية الوجوب، لمنعه أولا، لأن الطلب في الواجب والندب ليس
الطلب في أحدهما أكمل من الآخر، فتدبر. ومنع كون الأكملية موجبة للانصراف
ثانيا، وإلا لزم الانصراف إلى الفرد الأكمل فيما لو قال المولى: " جئني بإنسان "
ونحوه.
204

بل لما ذكرنا من أن الاستحباب يحتاج إلى مؤنة زائدة وبيان زائد وهو
الترخيص في الترك، وعدم بيانه يكفي في بيان الوجوب، فلا يحتاج الوجوب إلى
قيد زائد على أصل البعث المستفاد من الصيغة كما ذكره في الكفاية بقوله: فإن
المندوب كأنه محتاج إلى مؤنة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك، بخلاف
الوجوب فإنه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد (1). وإن كان في عبارته (قدس سره) ما لا يخفى:
أولا: أن عدم المنع من الترك ليس قيدا، إذ هو أمر عدمي ولو كان هو قيد
للاستحباب، فالمنع من الترك الذي هو امر وجودي أولى بأن يكون قيدا للوجوب
فيلزم أن يكون مؤنة الوجوب أشد من مؤنة الاستحباب.
وثانيا: أن قيد الاستحباب هو الترخيص في الترك كما عرفت لا عدم المنع
عن الترك.
المبحث الخامس:
في أن اطلاق البعث والطلب سواء كان الطلب إلزاميا أو ندبيا يقتضي كون
المطلوب توصليا فيجزي إتيانه ولو بدون قصد القربة أو لا؟ فلابد من الرجوع فيما
شك في تعبديته وتوصليته إلى الأصل، ولابد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات:
الأولى: إن المراد بالتوصلي ما يسقط طلبه بإتيانه ولو بدون قصد القربة، لأن
المطلوب هو نفس ايجاده في الخارج بلا دخل لشيء آخر فيه، وبالتعبدي ما
لا يسقط طلبه إلا بإتيانه بداعي القربة.
الثانية: أنه لا يمكن الفرق بين المطلوب التوصلي والتعبدي في أن طلب
الأول يسقط بمجرد ايجاد متعلقه في الخارج ولو بدون قصد القربة وطلب الثاني
لا يسقط إلا بإتيان متعلقه إلا بقصد القربة إلا بأن تكون خصوصية معتبرة في
الثاني دون الأول، وإلا لم يعقل الفرق. فتلك الخصوصية لابد إما أن تكون من جهة
اعتبار قصد القربة في متعلق الطلب فيه، أو من جهة آخر.

(1) كفاية الأصول: في الأوامر ص 94.
205

فإن قلنا - كما قيل - بأن تلك الخصوصية ناشئة من اعتبار قصد القربة جزء أو
شرطا في متعلق الطلب فربما يرد عليه الإشكال بوجوه:
الأول: أن قصد القربة الذي هو عبارة عن قصد الأمر متأخر عن الأمر فلا
يمكن اعتباره في متعلق الأمر الذي لابد أن يكون متقدما على الأمر، وإلا لزم
تقدم الشيء على نفسه، وهو باطل. وهذا الإشكال لا يختص باعتبار قصد القربة
المعتبر عند الكل في صحة العبادة في متعلق الأمر، بل يجري في اعتبار قصد
الوجه من الوجوب والندب المعتبر عند المشهور وفي قصد التميز المعتبر عند
بعض، لأن الجميع مشترك في اعتبار ما لا يتأتي إلا من قبل الأمر في متعلق الأمر،
كما لا يخفى.
ويمكن الجواب عنه بأن قصد الأمر وإن كان متأخرا عن الأمر خارجا إلا
[أنه] لا مانع من اعتباره في المأمور به، إذ لا يلزم منه إلا تقدم ما هو متأخر
خارجا بحسب اللحاظ، ولا مانع من لحاظ ما هو متأخر بحسب الوجود
الخارجي، فكما أنه يمكن تصور الأمر ولحاظه قبل وجوده، فكذلك يمكن اعتبار
قصد الأمر في متعلق الأمر قبل وجود الأمر خارجا ثم تعلق الأمر به.
الثاني: أنه لابد أن يكون متعلق الطلب مقدورا للمكلف قبل تعلق الأمر، وإلا
لزم التكليف بغير المقدور، وهو ممتنع والصلاة بقصد القربة - مثلا - غير مقدور له
قبل تعلق [الأمر] وإن كانت ذات الصلاة مقدورة له، لأن المأمور به هي الصلاة
بداعي القربة وهي غير مقدورة لا ذات الصلاة التي هي مقدورة له.
ويمكن الجواب عنه بأن القدرة المعتبرة في متعلق الطلب هي القدرة في حال
الامتثال لا قبله وهي هنا حاصلة بنفس الطلب، فيكون المقام مثل ما إذا أمر
العاجز عن القيام بالقيام مع حصول القدرة له على القيام بنفس الأمر بالقيام.
الثالث: أن قصد القربة وداعي الأمر لو اعتبر في متعلق الأمر في العبادة لزم
تقدم ما هو متأخر لحاظا بحسب اللحاظ أيضا لا تقدم الشيء الذي هو متأخر في
الوجود الخارجي لحاظا حتى يلتزم به ويقال: لا مانع عنه.
206

كما أجيب به عن الإشكال على الوجه الأول، وحاصله: أن قصد الأمر من
حيث إنه معتبر في متعلق الأمر لابد من لحاظه أولا ثم تعلق الأمر به ومن حيث إن
الأمر الذي اعتبر قصده في المتعلق ليس إلا الأمر الذي تعلق به بعد لحاظ المتعلق،
فيكون لحاظ هذا الأمر في رتبة متأخرة عن متعلقة، فلزم تقدم الشيء على نفسه
بحسب اللحاظ. وبعبارة أخرى الأمر المتعلق بالصلاة - مثلا - من حيث إنه معتبر
في المتعلق وهي الصلاة، لأن المأمور به هي الصلاة بداعي الأمر فيكون متقدما
بحسب اللحاظ، ومن حيث إنه حكم معلق على الصلاة بداعي الأمر يكون متأخرا
بحسب اللحاظ أيضا، وهو دور.
ويمكن الجواب عنه أيضا بأن الأمر الذي اعتبر قصده في المتعلق هي طبيعة
الأمر لا شخص هذا الأمر المتعلق بهذا المتعلق الذي اعتبر فيه قصد الأمر وإن
انحصر أفراد طبيعة الأمر بهذا الأمر الشخصي فإنه لو كان هذا الأمر الشخصي
ملحوظا في طرف المتعلق لزم تقدم الشيء على نفسه لحاظا، لأنه من حيث كونه
حكما لابد أن يلاحظ بلحاظ متأخر، ومن حيث كونه معتبرا في المتعلق لابد أن
يلاحظ بلحاظ متقدم، وأما لو كان الملحوظ في طرف المتعلق طبيعة الأمر لا نفس
هذا الأمر الشخصي. وإن كان أفرادها منحصرا به فلا يلزم المحذور المذكور، لأن
ما هو متقدم بحسب اللحاظ هو طبيعة الأمر، وما هو متأخر بحسب اللحاظ هو
شخص هذا الأمر فالأمر تعلق بالصلاة بداعي الأمر الكلي الذي مصداقه منحصر
بهذا الأمر الذي تعلق به، إذ الأمر المتعلق بغيرها لا يكون داعيا إليها، وما يكون
داعيا إليها ليس إلا هذا الأمر المتعلق بها.
فيكون ما نحن فيه نظير كل خبري صادق في شمول الحكم المذكور في هذه
القضية الشخصية، وهو صادق لنفس هذه القضية الشخصية التي قوامها به، لأنه
محمول فيها، فقولنا: صادق من حيث إنه دخيل في تحقق تلك القضية الشخصية
لابد من لحاظه متقدما، ومن حيث إنه حكم شامل لها ولغيرها من الأخبار لابد من
لحاظه متأخرا، فلا يمكن شموله لنفس هذه القضية إلا بأن يكون الحكم معلقا على
207

طبيعة الخبر كما في القضايا الحقيقية، فكلما تحققت طبيعة الخبر يشمله هذا الحكم
سواء كان تحققه سابقا أو لاحقا، أو بنفس هذا الخبر، بل ولو انحصر صدور الخبر
منه بشخص هذا الخبر، فتدبر.
الرابع: وهو العمدة في عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، وحاصله:
أنه لو اعتبر قصد القربة في متعلق الأمر يلزم أحد المحذورين: إما الخلف أو عدم
قدرة المكلف على الامتثال، وذلك لأن الأمر إذا تعلق بالصلاة بداعي الأمر مثلا
فذات الصلاة وحدها إن لم تكن مأمورا بها فيلزم عدم قدرة المكلف على اتيانها
بداعي الأمر، إذ لا أمر لها، وإن كانت بذاتها مأمورا بها فيلزم الخلف، لأن الأمر
حسب الفرض تعلق بمجموع الصلاة بداعي الأمر لا بالصلاة وحدها.
لا يقال: هذا إنما يتم بناء على اعتبار داعي الأمر على نحو القيدية حيث لا
أمر بذات المقيد بدون قيده، لأن مجموع المقيد والقيد لو حظ شيئا واحدا وتعلق به
أمر واحد، وتحليله في الذهن إلى مقيد وقيد لا يوجب تعدد الأمر بأن تكون ذات
المقيد مأمورا بها والقيد أيضا مأمورا به، ويكون من باب تعدد المطلوب.
لأن ذلك خلاف مقتضى الأمر بالمقيد كما في: " اعتق رقبة مؤمنة، فإن مقتضاه
أن المطلوب شيء واحد وهو عتق رقبة مؤمنة، بحيث إذا انتفى قيد الإيمان لا
يكون أصل عتق الرقبة ولو كانت كافرة مطلوبا، وأما بناء على اعتبار داعي الأمر
في متعلق الأمر على نحو التركيب والجزئية فلا يتم، لأن الأمر بالمركب أمر
بأجزائه، بل ليس الأمر بالمركب في الحقيقة إلا الأمر بأجزائه.
فعلى هذا إذا تعلق الأمر بالصلاة بداعي الأمر فتكون الصلاة وحدها مأمورا
بها بالأمر الضمني الذي تعلق بها في ضمن الأمر بالكل، وهو مجموع الصلاة
وداعي الأمر.
لأنا نقول: إن الأمر بالجزء حيث إنه ليس أمرا على حدة، وإنما هو عبارة عن
الأمر بالكل المنبسط على الأجزاء والمنحل إلى أوامر متعددة حسب تعدد
الأجزاء لا يكون داعيا إلى الجزء إلا في ضمن دعاء الأمر بالكل إلى متعلقه، فلا
208

يصح أن يأتي بجزء الواجب بداعي وجوبه إلا في ضمن اتيان الواجب بهذا
الداعي، فيلزم الاتيان بالواجب المركب من داعي الامتثال وغيره، وهي ذات
الصلاة بداعي الامتثال، وهو كما ترى.
مع أن تعلق التكليف بالمركب من داعي الامتثال وغيره غير معقول،
لاستلزامه التكليف بغير المقدور وهو داعي الامتثال وإرادته، لأن الفعل بالإرادة
وإن كان اختياريا إلا أن إرادته ليست باختيارية، وإلا تسلسلت الإرادات مضافا
إلى أنه يمكن أن يقال: إن الأمر المتعلق بالفعل بداعي الامتثال إن كان داعيا إلى
ذات الفعل فتقييده بهذا القيد واعتبار داعي الأمر في المتعلق وجعله جزءا للمأمور
به لغو، إذ يحصل الغرض وهو اتيان الفعل بداعي أمره من دون حاجة إلى اعتباره
في المتعلق وإن لم يكن داعيا بنفسه، فلا يمكن أن يصير داعيا ولو اعتبر فيه، لأنه
حينئذ يصير من باب الداعي على الداعي وهو غير معقول، لأن الشيء الذي لا
يكون داعيا بنفسه على شيء لا يمكن أن يحصل له صفة الداعوية بواسطة أمر
خارج، بل يكون الداعي على ذلك الشيء هو الأمر الخارجي في الحقيقة لا أنه
صار داعيا على الداعي، إذ داعوية الشيء نظير حب الشيء، فكما أنه لا يمكن أن
يحصل حب شيء أو شخص بأمر خارج كالأمر بحبه من دون كونه محبوبا ذاتا،
لجهة من الجهات الراجعة إليه كعلمه وحسبه ونسبه وأمثالها، كذلك صفة الداعوية.
نعم يمكن أن يصير الأمر بحبه منشأ لتنبهه على بعض الخصوصيات والجهات
الموجودة فيه، وحينئذ فيحبه ذاتا لا من جهة أمره بحبه كما أن الأمر باتيان شيء
بداعي أمره قد يصير منشأ لتنبهه على الفوائد والخواص المترتبة على ذلك الشيء
فيما إذا أتى به بداعي أمره، فيصير أمره حينئذ داعيا على اتيانه لا أن أمره باتيانه
بداعي أمره صار داعيا على أن يأتي بالفعل بداعي أمره.
والحاصل: أنه كما لا يمكن أن يصير شيء أو شخص محبوبا لشخص بمجرد
أمر غيره به من دون أن تكون جهات الحب موجودة فيه إلا بأن يكون أمره بحبه
موجبا لتنبهه على خصوصياته الموجبة لحبه ذاتا، وحينئذ يكون حبه ذاتيا لا من
209

جهة أمره وإنما صار أمره موجبا للتنبه فقط كذلك الأمر بإتيان شيء بداعي أمره.
فتحصل: أن تركيب الداعي بأن يكون أمران فصاعدا داعيا على شيء أمر
معقول، وكذا الداعي على الداعي بأن يكون شيء داعيا على شيء وهو داعيا على
شيء آخر، وهكذا إلى أن ينتهي إلى الغرض الأصلي كليهما معقولان، وأما الداعي
على الداعي بأن يكون الشيء داعيا على داعوية شيء بحيث لو لم يكن ذلك
الشيء لما كان داعيا بنفسه، ولكن بعد وجود هذا الشيء أو هذا الأمر صار داعيا
بنفسه لم نتعقله.
ولعله من جهة هذه الاشكالات الواردة على اعتبار قصد الأمر في متعلق
الأمر التجأ بعض المحققين (1) في تصحيح العبادة المعتبرة فيها نية القربة وقصد
الأمر إلى تعدد الأمر فيها بأن تعلق الأمر أولا بذات الفعل، ثم تعلق أمر ثانيا باتيانه
بداعي أمره.
وفيه: أولا: أنه من باب الداعي على الداعي، وقد عرفت ما فيه.
وثانيا: أن هذا الأمر المتعلق بذات العبادة هل هو أمر صوري أو جدي نشأ
من مصلحة في المتعلق أو بدون مصلحة فيه كما قال صاحب الفصول (2): إن
العبادات لا مصلحة لها في حد أنفسها، وإنما المصلحة في إتيانها بداعي أمرها،
وعلى تقدير كونه جديا هل هو أمر مقدمي أو نفسي؟
فلو كان هذا الأمر صوريا فالأمر الصوري ليس أمرا حقيقة وإنما يكون
صورة أمر.
ولو كان أمرا جديا فإن كان أمرا مقدميا فيلزم أن لا تكون له موافقة ومخالفة
وثواب وعقاب، ولا يمكن الالتزام به، وإن كان أمرا نفسيا فلا بد من أن يحصل
المطلوب بإتيان متعلقه، إلا أن يلتزم هذا القائل بأنه أمر نفسي تهيئي فيكون توطئة
للأمر الثاني والمطلوب منه هو التوسل به إلى الأمر الثاني، فيكون واجبا نفسيا

(1) منهم صاحب نهاية الافكار: في مبحث الأوامر ج 1 ص 190.
(2) لم نعثر عليه في الفصول الغروية.
210

للغير لا واجبا مقدميا بالغير كما في تحصيل العلم ونحوه من المقدمات التي لو لم
يحصلها المكلف قبل وجوب ذي المقدمة لفاته في وقته على قول بعض كالمحقق
الأردبيلي (1) ومن تبعه حيث التزموا بوجوبها النفسي التهيئي.
ويترتب العقاب على تركها بنفسها، ونظيره في العرفيات موجود كما في امر
المولى عبده بالالتفات إليه ليأمر بعد الالتفات بأمر آخر فإن الالتفات واجب
نفسي ويعاقب العبد على تركه، وإن كان الغرض منه التوطئة للأمر الثاني، فيكون
الأمر بذات العبادة في ما نحن فيه للوجوب النفسي التهيئي الذي يعاقب المكلف
على تركه، ولكن المطلوب منه التوسل إلى الأمر الثاني. وحينئذ يسأل من هذا
القائل: أن المكلف إذا أتى بمتعلق الأمر الأول وهي ذات العبادة بدون قصد الأمر
هل يسقط الأمر الأول أم لا؟ فإن قال بسقوطه فلا يبقى مجال لموافقة الأمر
الثاني، لفواته بفوات متعلقه فلا يمكن للآمر التوسل بهذه الوسيلة إلى غرضه، إذ
للمكلف أن يأتي بمتعلق الأمر الأول بدون قصد الأمر حتى لا يبقى مجال للأمر
الثاني إلا أن يقول بأنه سقط بالعصيان لا بالامتثال.
وعلى أي حال لازمه القول بعدم الحاجة إلى الإعادة أو القضاء فيما لو أتى
ذات العبادة بدون قصد الأمر، والحال أنه لا يلتزم به أحد، بل لو أتى بذات العبادة
ألف مرة بدون قصد القربة لابد من اعادتها أو قضائها.
وإن قال بعدم سقوطه فلابد أن يكون الوجه في عدم سقوطه هو عدم حصول
غرضه به، إذ العقل مستقل بعدم سقوط أمر المولى، وعدم تحقق إطاعته ما دام
غرضه باق، إذ هو موجب لحدوثه فيكون باقيا ببقائه.
وحينئذ نقول: لا حاجة إلى تعدد الأمر للتوسل إلى هذا الغرض، بل لا فائدة
فيه بعد استقلال العقل بتحصيل غرض المولى، وهو مع إتيان المأمور به بقصد الأمر
معلوم، وبدونه مشكوك أو مقطوع العدم، فإن الغرض قد يكون أخص من المأمور

(1) لاحظ مجمع الفائدة والبرهان: كتاب الصلاة ج 2 ص 54 - 55.
211

به كما في العبادات، وقد يكون أعم كما في التوصليات المطلوب فيها وقوع الفعل
في الخارج ولو من غير المكلف، فلذا يسقط عنه بفعل غيره، وقد يكون مساويا
للمأمور به كما في التوصليات المطلوب فيها الفعل من مباشر خاص، فإذا استقل
العقل - الذي هو المرجع في باب الطاعة والعصيان - بعدم إطاعة المولى مع عدم
سقوط غرضه فلابد من الإتيان بالمأمور به على وجه يحصل به غرضه، فلا حاجة
إلى الأمر الثاني بل لا فائدة فيه، مضافا إلى القطع بأنه ليس في العبادات كغيرها
من الواجبات والمستحبات إلا أمر واحد.
والحاصل: أن عدم سقوط الأمر الأول لابد أن يكون لعلة عقلية وهو عدم
حصول الغرض الذي يدور الأمر معه حدوثا وبقاء، لكونه أخص من المأمور به
فيجب بحكم العقل تحصيله حتى يسقط الأمر، وهو لا يحصل إلا بإتيان العمل
بداعي الأمر فلا يحتاج إلى أمر مولوي آخر لتحصيل هذا الغرض بعد استقلال
العقل بوجوب تحصيله كما قال هذا القائل.
نعم لا مانع من الأمر الإرشادي كما في: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) (1)
هذا الذي ذكرنا من عدم إمكان أخذ التقرب في متعلق الأمر فيما إذا كان المراد به
قصد الأمر وامتثال الأمر ونحوهما من الأمور المترتبة على الأمر والمتأخرة عنه.
ولذا قلنا: إن قصد الوجه المعتبر عند جماعة وقصد التميز المعتبر في العبادة
عند بعض لا يمكن اعتبارهما في متعلق الأمر لتأخرهما عن الأمر، فلا يمكن أن
يؤخذا في متعلقه، وأما إذا كان المراد به كون الفعل راجحا ذاتا أو حسنا أو ذا
مصلحة ونحوها من العناوين السابقة على الأمر فلا مانع من اعتبارها في متعلق
الامر ولكن لما كان قصد الأمر كافيا في العبادية والتقرب وهو ليس قابلا لأن
يؤخذ في المتعلق لتأخره عنه فلابد أن يكون العبادية والتقرب المعتبر في العبادة
من منشأ آخر غير الأخذ في المتعلق، وإلا لما اكتفى بقصد الأمر الممتنع أخذه

(1) النساء: 59.
212

في المتعلق كما عرفت، والحال أنه كاف بلا خلاف ولا إشكال، فافهم وتأمل
في المقام.
الثالثة: (1) أنه إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنه لا إشكال فيما إذا علمنا من
الخارج أن هذا الواجب توصلي أو تعبدي، وإنما الإشكال في صورة الشك في
التوصلية والتعبدية فلابد حينئذ من ملاحظة أن مقتضى الأصول اللفظية أي شيء؟
فإن أمكن إثبات أحد الأمرين بها فهو، وإلا فلابد من ملاحظة أن مقتضى الأصول
العملية أي شيء؟
فنقول: لا إشكال في أنه لو كان المناط في التعبدية بأخذ قصد الأمر في
متعلقه وكان اعتباره فيه ممكنا لم يكن مانع من التمسك بالإطلاق عند الشك في
اثبات التوصلية وأما بعد ما عرفت أنه لا يمكن اعتباره فيه فلا يمكن التمسك
بإطلاقه على عدم اعتباره، لأن التمسك بالإطلاق إنما هو بالنسبة إلى الأمور
القابلة للتقييد لا مطلقا وكذا لو كان المناط في التعبدية بتعدد الأمر، إذ الأمر الثاني
وجوده مشكوك أو مقطوع العدم فكيف يتمسك باطلاقه؟ مع أنه - على فرض
وجوده وتعلقه باتيان متعلق الأمر الأول بداعي الأمر - لا شك في التعبدية
والتوصلية بالنسبة إلى متعلق الأمر الأول.
وأما لو كان المناط في التعبدية هو تحصيل الغرض يمكن التمسك بالإطلاق
في عدم دخل قصد الأمر في حصول الغرض فيما لو كان المولى في مقام بيان تمام
ماله دخل في غرضه، سواء أمكن اعتباره في متعلق أمره أم لا. ومع ذلك سكت
في مقام البيان ولم يبين أن لقصد الأمر دخل في غرضه نستكشف عدم دخله فيه،
وإلا لزم اخلاله لغرضه فتحصل ان التمسك بالاطلاق اللفظي إما باطلاق الهيئة
فلأن مفادها البعث والتحريك وهو فيهما على حد سواء ووضعها حرفي وما يكون
وضعها كوضع الحروف ليس بقابل للاطلاق والتقييد مثلها على ما سيجئ في

(1) أي المقدمة الثالثة.
213

مسألة الواجب المشروط وإما اطلاق المادة فلأن قصد الأمر ان كان قابلا لأن
يؤخذ في المتعلق فمن اطلاقه يستكشف عدم دخله فيه واما إذا لم يكن قابلا
لأخذه فيه فلا يمكن التمسك باطلاقه لعدم دخله فيه والمفروض انه ليس بقابل
لأخذه فيه واما التمسك باطلاق المقامي الذي لا ربط له باطلاق اللفظي فلا مانع
منه والحاصل ان المتكلم إذا كان في مقام بيان تمام ماله دخل في غرضه ولم يبين
دخله في غرضه مع امكان بيانه باي نحو كان كما في المقام فيفهم انه ليس دخيلا
في غرضه ومن هنا قلنا ان للقائل ربما يكون له مقام وذلك فيما إذا كان المتكلم
في بيان تمام من يجب إكرامه ومع ذلك اقتصر على زيد وقال أكرم زيدا فانه يفهم
ان الإكرام منحصر بزيد، هذا بالنسبة إلى الأصول اللفظية.
وأما الأصول العملية فيمكن أن يقال: إن المرجع في المقام هو الاشتغال وإن
قلنا بالرجوع إلى البراءة في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، لأن
التكليف هنا معلوم وحدود المكلف به أيضا كذلك، وإنما الشك في الخروج عن
عهدة التكليف المعلوم فيما لو أتى المأمور به بدون قصد أمره، فيحكم العقل بلزوم
إتيانه بداعي الأمر، لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ولا يعذره العقل لو
أتى به بدون قصد الأمر واتفق مخالفته مع الواقع، بل يحكم باستحقاقه العقاب، إذ
العقاب عليه ليس عقابا بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان بعد استقلال العقل بلزوم
الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، وهكذا الحال في كل ما شك دخله في الطاعة
والخروج عن عهدة التكليف كقصد الوجه والتميز.
نعم لما كان الرجوع إلى الأصول مطلقا سواء كانت البراءة أو الاشتغال أو
غيرهما إنما هو في مورد الالتفات والشك، ولذا قيدوا المكلف في أول البحث عن
الأدلة العقلية بالملتفت، وقالوا: إن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي إما أن يحصل
له القطع أو الظن أو الشك... إلى آخره فيمكن أن يفصل في المقام بين كون الأمر
المشكوك دخله في الطاعة مما يكون مغفولا عنه عند العامة فلا يعتبر دخله فيها،
وإلا لكان على المولى بيانه، والا لزم إخلاله بغرضه فيقطع من عدم بيانه عدم دخله
214

فيها وبين ما لم يكن كذلك فيعتبر دخله فيها، لأنه لو لم يكن مغفولا عنها لو كان
معتبرا في الطاعة ولم يبينه لا يلزم إخلاله بغرضه لإمكان الايكال إلى حكم العقل،
ولكن هذا في الحقيقة ليس تفصيلا في المقام، بل تسليم لكون المرجع عند الشك
هو الاشتغال، إلا أنه لو كان الأمر المشكوك دخله في تحقق الطاعة مغفولا عنه
عند العامة ومع ذلك لم يبين المولى دخله في الطاعة يحصل القطع بعدم دخله فيها.
ولكن الحق في المقام هو الرجوع إلى البراءة، لأنه لا اختصاص لأدلة البراءة
من قبح العقاب بلا بيان وغيره بما إذا كان الشك في التكليف أو في حدود المكلف
به، بل يمكن التمسك لنفي العقاب على أمر كان بيانه بيد الشارع ولم يبين، سواء
كان الشك في التكليف أو في حدود المكلف به أو فيما يرجع إلى الطاعة، إذ لا
إشكال في أنه لو كان قصد الأمر معتبرا في الطاعة لكان بيانه على الشارع، وإذا لم
يبين كان العقاب عليه عقابا بلا بيان، فتأمل.
فتحصل: أن الاشتغال هو المرجع بلا حاجة إلى إقامة دليل عليه في الشك في
أصل التكليف فضلا عن الشك في المكلف به أو في حدوده، لحكم العقل بوجوب
دفع الضرر المحتمل، فلو قام دليل على البراءة وصار مؤمنا فهو، وإلا فلابد من
الرجوع إلى الاشتغال، وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان (1)، فلا تجري البراءة في
المقام، لعدم الانحلال، لأن قصد الأمر ليس كسائر الأجزاء والشرائط قابلا لأخذه
في متعلق الأمر حتى يوجب انحلال التكليف بالنسبة إليه وإن كان من جهة أن كل
شيء لابد من بيانه على المولى ولم يبين يقبح العقاب على تركه لو كان دخيلا في
المكلف به، والأجزاء والشرائط أيضا من هذه الجهة يرجع فيها إلى البراءة لا
لخصوصية في الانحلال، ففي المقام يرجع إليها، لأن قصد الأمر لو كان دخيلا
لكان دخله شرعيا، ويمكن للشارع بيانه كما بين بالنسبة إلى العبادات المعلومة، إذ
لم نعلم عباديتها إلا من بيان الشارع، فإذا أخذ بحكم العقل بقبح العقاب على تركه
- والظاهر هو الأخذ - وأنه لا إشكال بأنه إن كان دخيلا في الغرض فلا يحصل

(1) كذا، ولا يخفى ما في العبارة.
215

الغرض بدونه، ومع الشك في حصول الغرض كيف يسقط الأمر، والحال أنه تابع
للغرض حدوثا وبقاء مشترك الورود بينه وبين الأجزاء والشرائط في التكاليف
الارتباطية، فإنه لو كان لها دخل فيه لما حصل بدونها.
وحله في المقامين هو أنا لسنا دائرين مدار الغرض الغير المنجز علينا
تحصيله. وإذا كانت أدلة البراءة جارية في المقام فتكون واردة على أصالة
الاشتغال والاحتياط، لأن موضوع الاحتياط يرتفع بأدلة البراءة وذلك لأن حكم
العقل بالاشتغال والاحتياط إنما هو من جهة وجوب دفع الضرر والعقاب
المحتمل، إذ لا كبرى لوجوب الاحتياط إلا قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل،
وأدلة البراءة مؤمنة من الضرر، فيرفع موضوع الاحتياط، ولا مجال للعكس كما
توهمه بعض (1)، فافهم.
المبحث السادس:
في أن قضية إطلاق الصيغة، بل مطلق ما يدل على الوجوب سواء كانت صيغة
افعل أو غيرها هو كون الوجوب نفسيا تعينيا عينيا أم لا؟
لا يخفى أن الواجب ينقسم إلى أقسام كثيرة باعتبارات متعددة ينقسم إلى
النفسي والغيري باعتبار، والى التعييني والتخييري باعتبار، والى العيني والكفائي
باعتبار، والى المطلق والمشروط والمعلق باعتبار، وهكذا الانقسامات الأخر التي
تكون للواجب كما سيأتي الكلام في بعضها الآخر فيما بعد.
والكلام في هذا المقام في هذه الأقسام، وأن ما يدل على الوجوب هل
يقتضي الوجوب النفسي التعييني العيني أم لا؟ والمراد بالواجب النفسي هو ما كان
مطلوبا في نفسه لا للتوصل به إلى مطلوب وواجب آخر، بخلاف الواجب الغيري
المقدمي، فإن المطلوب منه التوصل إلى مطلوب وواجب آخر.
فعلى هذا لا يرد الإشكال بأن تمام الواجبات ما عدا معرفة الله تعالى يلزم

(1) منهم صاحب كفاية الأصول: في الأوامر المبحث الخامس ص 99.
216

كونها واجبات غيرية فإن المطلوب منها ليس إلا معرفة الله تعالى، وذلك لأن
الواجب الغيري هو ما كان المطلوب منه التوصل إلى واجب آخر لا مطلق الغرض،
والواجب التعييني هو ما لم يكن له بدل بخلاف الواجب التخييري، والواجب
العيني هو ما لم يسقط عن بعض المكلفين بإتيان بعض آخر بخلاف الكفائي.
ولا إشكال في أن الصيغة بل مطلق ما يدل على الوجوب لا دلالة له بالوضع
على شيء من هذه الأقسام، ولو كانت له دلالة لكان بالاطلاق، وهو أن في كل
واحد مما يقابل الوجوب النفسي التعييني العيني تضييق لدائرة الوجوب، فإذا كان
المتكلم في مقام البيان ولم ينصب قرينة فالحكمة تقتضي كون المأمور به واجبا
مطلقا، وجب هناك شيء آخر أم لا؟ أتى المكلف بشيء آخر أم لا؟ أتى به مكلف
آخر أم لا؟ فمن جهة الاطلاق ومقدمات الحكمة لابد من حمل الواجب على
الواجب النفسي التعييني العيني.
ولو نوقش في الإطلاق من هذه الجهات يمكن تقريب الاستدلال بوجه آخر
وهو: أنه قد تقدم سابقا أن الصيغة بل مطلق ما يدل على الطلب إنما هو موضوع
لصرف البعث والتحريك، فإن كان الغرض من البعث إلى الشيء في المبعوث إليه
يصير مصداقا للطلب، وإن كان الغرض في نفس البعث يصير مصداقا للامتحان
والاختبار، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأغراض الأخر التي ذكرناها ولكن إطلاق
البعث يقتضي أن يكون الغرض في المبعوث إليه، كما أن طبع الحركة إلى مكان
يقتضي أن يكون الغرض هو الوصول إلى ذلك المكان، ففي المقام أيضا نقول: إن
إطلاق البعث إلى الشيء أن يكون الغرض في نفس المبعوث إليه لا في غيره حتى
يكون واجبا غيريا أو فيه وفي غيره حتى يكون واجبا تخييريا أو في فعله وفعل
غيره حتى يكون كفائيا.
هذا بناء على كون مرجع الوجوب الكفائي إلى جعل البدل كما في الواجب
التخييري إلا أن البدل في الواجب التخييري في طرف المكلف به وفي الواجب
الكفائي في طرف المكلف، وأما إن قلنا بأنه كالواجب العيني في الوجوب على
217

عامة المكلفين - كما هو الظاهر - وأن الفرق بينه وبين الواجب العيني هو أن الغرض
في الواجب الكفائي أمر غير قابل للتعدد والتكرر، فإذا حصل بفعل بعض المكلفين
سقط الواجب من جهة حصول غرضه، بخلاف الواجب العيني فلا يمكن تقريب
الاستدلال على اقتضاء الوجوب كونه عينيا بهذا الوجه، بل مطلقا، كما لا يخفى.
نعم يمكن أن يقال: بعد إتيان الغير نشك في سقوطه وعدم سقوطه والأصل
عدم سقوطه، فيحمل الوجوب على العيني من هذه الجهة، فتأمل.
المبحث السابع:
اختلف القائلون بظهور الصيغة في الوجوب وضعا أو اطلاقا فيما إذا وقع
عقيب الحظر أو في موقع توهمه على أقوال:
أحدها: وهو ما نسب إلى المشهور من ظهورها في الإباحة.
وثانيها: وهو ما نسب إلى بعض العامة من ظهورها في الوجوب.
ثالثها: ما نسب إلى بعض من تبعيته لما قبل النهي إن علق بزوال علة النهي إلى
غير ذلك من الأقوال (1).
والتحقيق هو أن يقال: أنه بناء على القول بدلالة الصيغة على الوجوب وضعا
لابد من حملها عليه فيما إذا وقع عقيب الحظر أو في موقع توهمه، لأنه لابد من
رفع اليد عن المعنى الحقيقي فيما إذا قامت قرينة معاندة على خلافه. ونفس وقوع
الصيغة عقيب الحظر أو في موقع توهمه ليس من القرائن المعاندة للمعنى الحقيقي،
وأما بناء على القول بظهورها في الوجوب إطلاقا فلابد من حملها على الإباحة
بالمعنى الأعم الشاملة للأحكام الأربعة، وذلك لما عرفت سابقا من أن الصيغة بل
مطلق ما يدل على الطلب ما استعمل إلا في صرف البعث إلى الإعادة، فإن كان
الغرض من البعث والداعي عليه هو وجود غرض في نفس المبعوث إليه تصير
مصداقا للطلب، وإن كان الغرض في نفس البعث تصير مصداقا للامتحان، وإن كان

(1) راجع بدائع الأفكار: ص 294، فإنه قد ذكر الأقوال والقائلين بها بالتفصيل.
218

الغرض رفع المنع والترخيص في الفعل تصير مصداقا للإباحة، وهكذا سائر
المعاني الأخر.
فعلى هذا الصيغة لو لم تكن واقعة عقيب الحظر أو في موقع توهمه تحمل على
الطلب، لأن طبع البعث إلى الشيء يقتضي أن يكون الغرض في المبعوث إليه، كما
أن طبع الحركة إلى مكان يقتضي أن يكون الغرض هو الوصول إلى ذلك المكان،
فلهذا الغرض تعين بالنسبة إلى سائر الأغراض ولذا يحمل على الطلب.
وأما إذا وقعت الصيغة عقيب الحظر أو في موقع توهمه وكان المتكلم في مقام
البيان من هذه الجهة فتحمل على الإباحة بالمعنى الأعم، لتعين هذا الغرض وهو
رفع المنع والحظر عن الفعل في هذا المقام من بين الأغراض. ولذا نقول: إنها لو
وقعت في موقع توهم الحظر لكانت أظهر في هذا المعنى مما لو وقعت في عقيب
الحظر.
نعم لو كان المتكلم في مقام البيان من غير جهة رفع الحظر المتوهم أو
الموجود، إذ لا تنافي بين كونه في مقام البيان من هذه الجهة وجهة أخرى أيضا
وأطلق ولم يبين فتحمل على الوجوب، لتعينه من بين الأغراض الأخر.
ومن هنا ظهر أنه لا وجه لسائر الأقوال كالقول بحملها على الإباحة بالمعنى
الأخص أو الوجوب أو الحكم السابق على النهي، لأنه إذا كان وقوعها عقيب
الحظر أو توهمه موجبا لتعين أن الباعث والغرض من الأمر هو رفع المنع، وهو
يحصل بالإباحة بالمعنى الأعم. فلا معين لشيء من الخصوصيات كالإباحة
بالمعنى الأخص أو الوجوب، وإن كان الغرض يحصل بكل واحد منها ولا وجه
للعود إلى الحكم السابق، لأنه بعد زواله حاله كحال سائر الأحكام وعود الحكم
السابق في الموارد التي يرجع إليه كرجوع الحائض إلى وجوب الصلاة بعد انقضاء
حيضها أو رجوع المحرم إلى إباحة الصيد بعد انقضاء احرامه ليس من جهة أن
الأمر الواقع عقيب الحظر يدل عليه، بل من جهة اطلاق دليل وجوب الصلاة على
كل مكلف خرج منه الحائض في زمان حيضها، وبعد انقضاء زمان حيضها لابد من
219

الرجوع إلى الاطلاق أو العموم، وكذا رجوع المحرم بعد انقضاء احرامه إلى إباحة
الصيد إنما هو من جهة اطلاق دليل إباحة الصيد خرج منه المحرم في زمان
احرامه، وبعد انقضائه يرجع إليه.
المبحث الثامن:
في أن الصيغة هل تدل على المرة أو التكرار أو لا تدل على شيء منهما إلا
بقرينة خارجية، وإلا فالصيغة المطلقة لا تدل إلا على طلب الماهية المعراة عن قيد
المرة أو التكرار.
والمراد بالمرة والتكرار إما الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد، وبين الدفعة
والفرد عموم مطلق، إذ الدفعة يمكن تحققها في ضمن الفرد أو الأفراد كما أن بين
الدفعات والأفراد أيضا عموم مطلق، إذ يمكن تحقق الدفعات باتيان فرد واحد في
كل دفعة كما تتحقق باتيان أفراد في كل دفعة.
والثمرة بين هذه الأقوال تظهر في أنه بناء على القول بدلالتها على المرة
بمعنى الدفعة يحصل الامتثال بايجاد الطبيعة دفعة واحدة، سواء كان ايجادها في
ضمن فرد واحد أو أفراد متعددة. والزائد على الدفعة إما لغو، لأنه لا معنى
للامتثال عقيب الامتثال، أو محرم إما من جهة اعتبار الدفعة بشرط لا، أو من جهة
التشريع لو قيل بهما كما هو المحتمل بالنسبة إلى الأول، وإن كان فيه أنه لو
اعتبرت الدفعة بشرط لا للزم أن لا يحصل الامتثال بالمرة الأولى لو أتى دفعة
ثانية، والحال أنهم لا يلتزمون بذلك، بل يلزم عليه أن لا يمكن الامتثال بعد
الاتيان بالمرة الثانية أبدا كما لا يخفى، إذ بعد الاتيان بالمرة الثانية غير قادر على
المرة بشرط لا والمشهور بالنسبة إلى الثاني، وبناء على القول بدلالتها على
التكرار بمعنى الدفعات لابد من تعدد الدفعات، سواء كان كل دفعة بايجاد فرد
واحد أو أفراد متعددة بقدر ما أمكنه من الدفعات عقلا وشرعا ما دام الحياة، إذ
تحديده بغيره تخرص، ولا إشكال فيه.
وإنما الإشكال في أنه لو أتى ببعض ما أمكنه وترك البعض هل هو عاص
220

مطلقا، أو عاص بالنسبة إلى ما تركه ومطيع بالنسبة إلى ما فعله؟ فيكون التكليف
بالدفعات المستفاد من الصيغة كالعام الأفرادي مثل أكرم العلماء حيث إنه لو أكرم
البعض ولم يكرم الباقي كان ممتثلا بالنسبة إلى اكرام البعض وغير ممتثل بالنسبة
إلى ترك اكرام الباقي لا العام المجموعي حيث يكون امتثاله بإكرام الجميع، فلو
ترك ولو واحدا لكان غير ممتثل أصلا، إذ لا يلتزمون بذلك، ولا يساعد عليه
أدلتهم كما يظهر بالمراجعة.
والكلام في الثمرة بين القول بدلالتها على المرة بمعنى الفرد والتكرار بمعنى
الأفراد كالكلام في الثمرة بين القول بدلالتها على المرة بمعنى الدفعة والتكرار
بمعنى الدفعات.
أما الثمرة بين القول بالدفعة والقول بالفرد فتظهر فيما لو أتى بأفراد دفعة فإنه
على القول بدلالتها على الدفعة فقد حصل الامتثال، وأما بناء على القول بدلالتها
على الفرد فالزائد عليه إما لغو أو محرم، ويصير من باب الاجتماع أو ما امتثل
أصلا أو امتثل بالجميع، أما احتمال كون الزائد على الفرد الواحد لغوا فيمكن
الالتزام به لو كان الفرد المطلوب معينا في الواقع، ولكن لا يعلم به المكلف.
وأما في المقام حيث إنه ليس الواقع أيضا معينا، إذ الفرد ليصدق على كل
واحد منها، فلا يمكن الالتزام به، لأنه ترجيح بلا مرجح وأما احتمال كون الزائد
محرما فهو مبني إما على القول بكون المطلوب هو الواحد بشرط لا، ولازمه أن
يكون الاتيان بالفرد الثاني متدرجا مضرا بالامتثال بالفرد الأول ولا يمكن الالتزام
به، وإما على القول بكون الزائد تشريعا محرما لا مانع من التزامه في صورة
الاتيان بالأفراد متدرجا، وأما في صورة ايجاد الاتيان بها مجتمعا فيلزم الترجيح
بلا مرجح، وأما القول بعدم الامتثال أصلا فلا وجه له بعد عدم تقييد المطلوب
بالفرد بشرط، فحال صورة الاجتماع كصورة الانفراد. فلابد من الالتزام بأن
الامتثال حصل بالمجموع.
وأما الثمرة بين القول بدلالتها على الدفعات والأفراد ففيما لو أتى بأفراد
221

متعددة دفعة واحدة فإنه على القول بدلالتها على الدفعات ما سقط التكليف
بالكلية بخلاف القول بدلالتها على الأفراد.
وأما الثمرة بين القول بأن المطلوب بالصيغة الدفعة أو الفرد والقول بأن
المطلوب بها الطبيعة فالظاهر أنها غير متحققة، فتأمل.
وأما بين القول بالدفعات أو الأفراد والقول بالطبيعة فواضحة.
وكيف كان فلا يهمنا بيان الثمرة بين الأقوال فإنها مذكورة في الكتب المطولة
وإنما المهم بيان أن المطلوب بالصيغة أي شيء؟ والحق أن المطلوب بها صرف
الطبيعة المجردة، وذلك لأن المادة موضوعة لصرف الطبيعة كسائر أسماء
الأجناس بحكم اللغة والعرف، ولا نحتاج في اثبات ذلك إلى الإجماع الذي ادعاه
السكاكي (1)، مع أن حجية الإجماع في مثل هذه المسألة التي مرجعها إلى اللغة
والعرف غير مسلمة، بل ممنوعة والهيئة موضوعة لنفس البعث إلى المادة فمن أين
تجيء المرة والتكرار لخروجهما عن مدلول المادة والهيئة؟ ففي مرحلة اثبات
التكليف بعد ما كان مفاد المادة صرف الطبيعة ومفاد الهيئة البعث إليها لا يثبت
علينا إلا وجوب ايجاد الطبيعة. وفي مرحلة الامتثال بعد ايجاد الطبيعة يحكم
العقل بسقوط التكليف وحصول الامتثال، وإلا لابد إما من القول بأن المطلوب لم
يكن صرف الطبيعة، بل هي وشئ زائد، وهو خلاف الفرض. وإما من القول بأن
التكليف بايجادها لم يكن تكليفا واحدا بل كان متعددا، وهو أيضا خلاف الفرض.
والحاصل: أنه لا حاجة إلى الإجماع الذي ادعاه السكاكي على أن المصدر
المجرد موضوع للطبيعة اللا بشرط، لأن مادة المشتقات ليس هو المصدر، إذ هو
أيضا كسائر المشتقات ومغاير لها لفظا ومعنى، والمادة السارية لا يمكن أن تكون
كذلك، بل المادة عبارة عن المعنى البسيط الذي يعبر عنه باسم المصدر، إذ هو
الساري في جميع المشتقات كما أن لفظه الساري في جميع المشتقات مطابق له
من حيث عدم تقيده بهيئة، مثلا المادة السارية في تمام المشتقات من الضرب

(1) مفتاح العلوم: الباب الثالث في الأمر ص 137 س 7.
222

كضرب ويضرب وضارب وأمثالها ليس هو المصدر. بل معنى هو أبسط من
المصدر، وهو الذي يعبر عنه باسم المصدر، كما أن لفظه الساري في جميع
المشتقات ليس هو لفظ المصدر، أعني ضرب بسكون الوسط، بل الساري في تمام
المشتقات هو (ض) و (راء) و (ب)، ولذا في بعض كتب اللغة إذا أرادوا بيان المعنى
الذي وضع له اللفظ باعتبار مادته السارية في تمام المشتقات منه يكتبون أولا
ذلك اللفظ بالحروف المقطعة، مثلا إذا أرادوا أن يبينوا معنى الأسد يكتبون أولا
الهمزة، والسين، والدال ويبينون معناها في ضمن أي هيئة كانت تلك الحروف.
والحاصل: أنه كما أن لفظ ضرب بسكون الوسط ليس ساريا في المشتقات
كضرب ويضرب وأمثالهما، لأن هيئة ضرب بسكون الوسط غير محفوظة في
ضمنها، فكذلك معناه أيضا ليس ساريا في المشتقات، بل ما هو الساري في
المشتقات لفظه في ألفاظ المشتقات، ومعناه في معناها هو اسم المصدر، لأن
المصدر أيضا كسائر المشتقات، وهو مباين معها لفظا ومعنا، فكيف يمكن أن
يكون مادة للمشتقات وساريا فيها لفظا ومعنى؟
فإذا عرفت أن مادة المشتقات هو اسم المصدر الساري معناه في تمام
المشتقات ولفظه أعني الحروف الغير المتهيئة بهيئة خاصة في ألفاظها ومعلوم من
اللغة والعرف أنها موضوعة لنفس الطبيعة المجردة فلا حاجة إلى الإجماع الذي
ادعاه السكاكي على أن المصادر موضوعة للماهية من حيث هي، لا نه على فرض
عدم هذا الإجماع يتم الاستدلال على أن الأمر لا يفيد إلا طلب الماهية من حيث
هي، لأنه لو كان مادة المشتقات هو المصدر لزم من عدم هذا الإجماع عدم تمامية
الاستدلال. وأما بناء على ما عرفت من أن المصدر ليس مادة المشتقات فلا يلزم
من عدم الإجماع المذكور عدم تمامية الاستدلال كما لا يخفى.
ثم إن صاحب الفصول من جهة قيام الإجماع المذكور جعل النزاع في أن
الأمر يفيد المرة أو التكرار في الهيئة (1)، لأنه بعد قيام الإجماع على أن المادة

(1) الفصول: في الأوامر ص 71 س 17.
223

موضوعة للماهية من حيث هي لا يمكن أن يكون النزاع في إفادة الأمر المرة أو
التكرار إلا في أن الهيئة تفيد المرة أو التكرار أو لا يفيد شيئا منهما.
وفي الكفاية أورد عليه بأن الاتفاق والاجماع المذكور لا يوجب كون النزاع
في الهيئة (1)، إذ لو كان المصدر مادة للمشتقات لزم من جهة قيام هذا الإجماع أن
يكون النزاع في المادة. ولكنه ممنوع، بل المصدر أيضا مشتق كسائر المشتقات،
فلا ينافي كون المصدر موضوعا للماهية من حيث هي ولكن مادة المشتقات لم
تكن كذلك، بل كان أمرا قابلا للنزاع في أنها تفيد المرة أو التكرار.
ولكن لا يخفى ما في هذا الايراد وذلك لأنه بعد ما كان المصدر الذي هو
مشتق من المشتقات موضوعا للماهية من حيث هي فكيف يمكن أن لا تكون
مادة المشتقات السارية في ضمن المصدر وغيره موضوعة للماهية من حيث هي؟
كيف؟ ولو لم تكن المادة موضوعة للماهية من حيث هي لا يمكن أن تكون سارية
في ضمن المشتق وغيره. فالاجماع على أن المصدر المجرد موضوع للماهية من
حيث هي يستلزم أن تكون المادة التي هي أبسط من المصدر موضوعة للماهية
من حيث هي بطريق أولى كما لا يخفى.
ثم إنه توهم بعض (2) أن المراد بالمرة والتكرار في هذه المسألة هي الدفعة
والدفعات لا الفرد والأفراد، وجعل إفرادهم هذه المسألة عن مسألة تعلق الأمر
بالطبائع أو الأفراد دليلا. على أن المراد بالمرة والتكرار هنا هي الدفعة والدفعات،
وإلا فلو كان المراد بهما الفرد والأفراد لكان الأنسب بل اللازم جعل هذه المسألة
من تتمة المسألة الآتية وهي أن الأوامر هل تتعلق بالطبائع أو الأفراد؟ بأن نعنون
المسألة الآتية بأن الأوامر هل تتعلق بالطبائع أو الأفراد؟ وعلى تقدير تعلقها
بالأفراد هل المطلوب بها فرد واحد أو أفراد متعددة؟

(1) كفاية الأصول: في الأوامر ص 100.
(2) نقله صاحب الفصول: ص 74 س 6 حيث قال: " وعلى تقدير تفسيرهما بالدفعة
والدفعات... ".
224

فمن عدم جعلهم هذه المسألة تتمة لتلك المسألة يظهر أن المراد بالمرة
والتكرار الدفعة والدفعات القابلتان للنزاع في دلالة الأمر عليهما على كل من
تقديري الأمر بالطبائع أو الأفراد، أما بناء على تعلقه بالطبائع فينازع في أن
المطلوب هي الطبيعة دفعة واحدة أو دفعات؟ وأما بناء على تعلقه بالأفراد فينازع
في أن المطلوب هو الفرد دفعة واحدة أو دفعات.
وعلى هذا تكون هذه المسألة مباينة مع المسألة الآتية، ولا علقة بين
المسألتين بجريان النزاع في هذه المسألة بناء على كلا القولين في تلك المسألة
بخلاف ما لو كان المراد بالمرة والتكرار الفرد والأفراد، فإن النزاع في هذه المسألة
في أن الأمر يدل على الفرد أو الأفراد لا يجري على كلا القولين في تلك المسألة،
بل على أحد القولين فيها، وهو القول بأن المطلوب بالأمر هو الفرد لا الطبيعة،
فحينئذ ينازع في أن المطلوب فرد واحد أو أفراد متعددة. أما على القول الآخر
وهو أن المطلوب هي الطبيعة فلا يجري النزاع في أن المطلوب فرد واحد أو أفراد
متعددة، فلا تكون هذه المسألة على هذا متباينة وبلا علقة مع المسألة الآتية.
والحاصل: أنه لو كان المراد بالمرة والتكرار اللذين صارا محل النزاع في
هذه المسألة الدفعة والدفعات لكانت هذه المسألة مباينة مع المسألة الآتية ولا
علقة بين المسألتين، لجريان النزاع حينئذ على كلا القولين في تلك المسألة ولو
كان المراد من المرة والتكرار الفرد والأفراد لم تكن هذه المسألة متباينة مع تلك
المسألة وبلا علاقة لجريان النزاع حينئذ على أحد القولين في تلك، وهو القول بأن
المطلوب بالأمر هو الفرد دون الطبيعة فلابد حينئذ من التعرض عن هذه المسألة
في ذيل المسألة بأن تعنون المسألة هكذا: وهو أن المطلوب بالأوامر هل هو
الطبيعة أو الأفراد؟ وعلى تقدير كون المطلوب بها هو الأفراد هل المطلوب فرد
واحد أو أفراد متعددة؟ فعدم تعرضهم لهذه المسألة في ذيل المسألة الآتية يكشف
عن أن المراد بالمرة والتكرار الدفعة والدفعات القابلتان للنزاع فيهما في تلك على
كلا القولين في المسألة الآتية.
225

ولكن لا يخفى ما في هذا التوهم فإنه لا علقة بين المسألتين سواء أريد بالمرة
والتكرار الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد، والنزاع في هذه المسألة يجري على
كلا القولين في تلك المسألة سواء أريد بالمرة والتكرار الدفعة والدفعات أو الفرد
والأفراد، وذلك لأن الطبيعة من حيث هي ليست إلا هي لا مطلوبة ولا غير
مطلوبة، والطلب إنما يتعلق بها باعتبار وجودها، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين
المرة والتكرار بالمعنيين.
فعلى هذا يصح النزاع في هذه المسألة على القولين في تلك المسألة بكلا
المعنيين من المرة والتكرار، أما على القول بتعلق الأوامر بالطبيعة في تلك المسألة
فيمكن النزاع في هذه المسألة في أن المطلوب هل هي الطبيعة دفعة واحدة أو
دفعات؟ كما يمكن النزاع في أن المطلوب هل هو ايجاد واحد للطبيعة أو ايجادات
وأما على القول بتعلق الأوامر بالأفراد في المسألة فيمكن النزاع في هذه المسألة
في أن المطلوب هل هو الفرد دفعة واحدة أو دفعات؟ كما يمكن النزاع في أن
المطلوب هل هو فرد واحد أو أفراد متعددة؟ غاية الأمر بناء على القول بتعلق
الأوامر بالطبيعة والنزاع في هذه المسألة في المرة والتكرار بمعنى الفرد والأفراد
يعبر بايجاد واحد وايجادات، وأما بناء على القول بتعلقها بالأفراد يعبر بالفرد
والأفراد.
والفرق بين تعلق الطلب بالطبيعة وتعلقه بالفرد هو أن الخصوصيات الشخصية
بناء على الأول خارجة عن المطلوب ملازمة للمطلوب، وبناء على الثاني داخلة
في المطلوب ومقومة له، فتأمل.
وأما الثمرة بين الأقوال فقد أشرنا إليها وملخصها أنه بناء على القول بكون
المطلوب بها المرة بمعنى الدفعة أو الفرد أن الامتثال يحصل بالدفعة أو الفرد،
والزائد عليهما لا مدخلية له في الامتثال، بل لو أتي به بعنوان المطلوبية والتشريع
لكان حراما، وأما بناء على القول بكون المطلوب بها التكرار بمعنى الدفعات أو
الأفراد فالظاهر أن المراد بالتكرار هو الإتيان به ما دام العمر إن كان ممكنا عقلا
226

وشرعا، لأن تحديد التكرار بغيره تخرص لا وجه له، وأن المطلوب هو الإتيان
بالدفعات أو الأفراد على وجه الاستقلالية، بمعنى أن المكلف بالنسبة إلى القدر
الذي أتى به مطيع وبالنسبة إلى القدر الذي لم يأت به عاص كما في التكليف بالعام
الأفرادي مثل: " أكرم العلماء " لا على وجه الارتباطية، بمعنى أنه إذا لم يأت ولو
بدفعة واحدة أو فرد واحد لم يكن ممتثلا أصلا، ولو بالنسبة إلى ما أتى به كما في
التكليف بالعام المجموعي، إذ لا يظن بالقائلين بالتكرار أن يكون مرادهم مطلوبية
الدفعات أو الأفراد على وجه الارتباطية، ولا تساعد عليه أدلتهم أيضا مثل
قوله (صلى الله عليه وآله): إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم (1). ومثل قولهم: أنه لو لم يكن
الأمر للتكرار لما تكرر الصلاة والصوم.
ولا إشكال بناء على القول بأن المطلوب هو الفرد أو الدفعة، أو أن المطلوب
الأفراد والدفعات فيما إذا أتي بفرد واحد أو دفعة واحدة، أو أتي بالأفراد أو
الدفعات، وإنما الإشكال فيما لو قلنا بأن المطلوب هو الفرد وأتي بأفراد متعددة
دفعة واحدة فيحتمل هنا وجوه:
أحدها: أن يقال بأنه لا يحصل الامتثال أصلا. وفيه: أنه مبني على أن يكون
المطلوب هو الواحد بشرط لا، ولازمه أن لا يحصل الامتثال بالفرد الأول فيما إذا
أتي بأفراد متعددة متدرجا، بل لازمه عدم إمكان حصول الامتثال بعد الاتيان
بأفراد متعددة دفعة أو تدريجا أصلا، والحال أنهم لا يلتزمون بذلك.
الثاني: أن يقال: إن الامتثال يحصل بواحد غير معين، والباقي إما لغو أو محرم
تشريعا أو ذاتا، وعلى الأخيرين يكون من باب اجتماع الأمر والنهي. وفيه: أنه
ترجيح بلا مرجح.
والثالث: أن يقال: إن الامتثال يحصل بواحد معين يعلمه الله تعالى. وفيه: أن
المطلوب لو كان شيء واحد معين في الواقع وفي علم الله وكان مرددا بين أمور

(1) عوالي اللئالي: ج 4 ص 58 ح 206.
227

كما لو اشتبه عبده بين عبيد غيره وقال: هؤلاء العبيد أحرار لوجه الله لا مانع من
القول بعتق الواحد المعين وحصول الامتثال به، وأما فيما نحن فيه الذي واقعه
أيضا غير معين فلا يمكن القول به.
الرابع: أن يقال يحصل الامتثال بالجميع، لأنه بعد بطلان كون المطلوب هو
الواحد بشرط لا وكونه واحدا معينا وغير معين فلا مجال إلا للقول بأن الامتثال
يحصل بالجميع، لأن كل واحد من الأفراد صالح لأن يقع به الامتثال فيحصل
الامتثال بالجميع، والظاهر أنه لا مانع من الالتزام به، فتأمل.
الخامس: أن يقال: كما في أفراد الواجب التخييري سواء كان التخيير شرعيا
أو عقليا تعيين المكلف به باختيار المكلف فأي فرد من الأفراد اختاره المكلف
يتعين الواجب فيه فكذلك إذا أتى المكلف بأفراد يصلح كل واحد منهما لأن يقع به
الامتثال، وأدى المكلف ما عليه من التكليف وخرج عن عهدته تعيين استقرار
الامتثال يكون بتخيير المكلف - بالكسر - فأي واحد من الأفراد اختاره يستقر
امتثال الأمر به، كما إذا أمر عبده بمجيء ماء وأحضر عنده كأسين من الماء دفعة
فأيهما اختار المولى يحصل به الامتثال ويستقر اسقاط التكليف به، وهذا الوجه
مشترك مع الوجه السابق في خروج العبد عن عهدة التكليف باتيان الجميع وإن
اختص هذا الوجه باستقرار الامتثال بما يختاره المولى بخلاف الوجه السابق.
والظاهر أن هذا الوجه أحسن من سائر الوجوه.
وأما بناء على كون المطلوب بالأمر هو ايجاد الطبيعة فلا إشكال في حصول
الامتثال بايجادها دفعة، سواء كان في ضمن فرد واحد أو أفراد متعددة، وفي
خروج المكلف عن عهدة التكليف بحيث لو اقتصر عليه ولم يأت بشيء آخر لم
يكن عليه شيء، وإلا لزم إما كون البعث إلى الطبيعة متعددا أو عدم كون الطبيعة
بنفسها مأمورا بها، بل الطبيعة بشرط شيء آخر، وكلاهما خلاف الفرض، وإنما
الإشكال في أنه هل للمكلف أن لا يقتصر على ما أتى به أم لا؟ وبعبارة آخرى هل
له الامتثال ثانيا بعد الامتثال والخروج عن عهدة التكليف أم لا؟
228

والحق هو الجواز وإمكان الامتثال بعد الامتثال عقلا وعدم لزوم محذور منه
حتى يوجب رفع اليد عن ظاهر دليل يدل على جوازه شرعا كما في الصلاة
المعادة جماعة، وأن الله يختار أحبهما إليه بأحد التقريبين.
الأول: هو أن المكلف كما كان مخيرا في مقام الامتثال بإتيان الطبيعة
وايجادها في ضمن كل واحد من الأفراد فكذا بعد الاتيان ببعض الأفراد وايجاد
الطبيعة في ضمنه هذا التخيير باق أيضا ونتيجة بقائه هو جواز الامتثال بعد
الامتثال ورفع اليد عما امتثل به أولا، كما أن نتيجة التخيير بدوا هو جواز الاتيان
بما شاء من الأفراد.
فعلى هذا لو امتثل المكلف الأمر المتعلق بايجاد الطبيعة بإتيان فرد منها ثم
أراد أن يبدل امتثاله بامتثال آخر باتيان فرد آخر من الفرد الأول، بل مطلقا كان له
ذلك إذا لم يكن ايجاد الطبيعة في ضمن الفرد الأول علة تامة لحصول الغرض، كما
لو أمر المولى بإتيان الماء لأن يتوضأ فأحضر العبد ماء عنده فيجوز له قبل أن
يتوضأ أن يرفع هذا الماء من عنده ويأتي بماء آخر أحسن منه أو مساو له، كما
يحتمل أن تكون الأوامر الشرعية كلها من هذا القبيل، إذ لا نعلم أن ايجاد متعلقاتها
علة تامة لحصول الغرض بحيث لم يكن موقع لتبديل الامتثال بامتثال آخر، فتدبر.
وبناء على هذا التقريب يأتي بالفرد الثاني بداعي الوجوب أيضا كما أتى
بالفرد الأول، لأنه رفع اليد عن الامتثال الأول فصار كاختياره هذا الفرد من أول
الأمر والفرد الأول صار كأن لم يكن.
الثاني: أنه لو تعلق الأمر بطبيعة قابلة للتعدد والتكرر كالصلاة مثلا لا ما كانت
غير قابلة للتكرر كالقتل والذبح ونحوهما، وتعلق أمر ايجابي أو ندبي لخصوصية
في تلك الطبيعة من باب تعدد المطلوب وكان ظرف المطلوب الثاني نفس الطبيعة
لا امتثال الأمر بالطبيعة، فأتى بالطبيعة مجردة عن تلك الخصوصية، ثم أراد امتثال
الأمر الثاني وتحصيل تلك الخصوصية فيجوز له الإتيان بالطبيعة ثانيا مقدمة
لتحصيل تلك الخصوصية المأمور بها التي ظرفها نفس الطبيعة لا امتثال الأمر بها
229

حتى لم يبق محل لامتثال الأمر الثاني بواسطة فوات محله، والفرض أن الطبيعة
قابلة للتكرر فيكررها بتلك الخصوصية تحصيلا لمصلحة تلك الخصوصية وامتثالا
لأمرها وإن حصلت له مصلحة أصل الطبيعة بايجاده الأول مجردا عن الخصوصية
وحصل امتثال الأمر بأصل الطبيعة به كما في الصلاة، فإنه تعلق أمر بأصل الصلاة
وأمر آخر بايجادها جماعة مثلا، فالمكلف من أول الأمر مخير بين ايجادها
جماعة حتى يمتثل كلا الأمرين ويحصل المصلحتين وفرادى حتى يمتثل الأمر
بأصل الطبيعة دون الأمر بالجماعة، فإن صلى جماعة من أول الأمر فقد أتى بالفرد
الأفضل وامتثل كلا الأمرين وأدرك المصلحتين، وإن صلى فرادى فقد أتى بالفرد
الغير الأفضل وامتثل الأمر بأصل الطبيعة دون الأمر بالجماعة فله أن يأتي حينئذ
بأصل الطبيعة في ضمن الجماعة تحصيلا لفضيلة الجماعة وامتثالا لأمرها وإن
امتثل أمر المتعلق بأصل الطبيعة بإتيان الصلاة فرادى، ولكن بناء على هذا
التقريب لا يأتي الصلاة الثانية أعني الصلاة مع الجماعة مثلا بداعي الوجوب، بل
لابد من اتيانها بداعي القربة أو الندب.
المبحث التاسع:
في دلالة الصيغة على الفور وعدم دلالتها عليه:
لا خلاف ولا إشكال في أن الصيغة لا تدل على التراخي بنفسها، وإنما
الخلاف والإشكال في دلالتها على الفور، فقيل بدلالتها على الفور وضعا (1) كما هو
ظاهر من استدل بتبادر الوجوب الفوري من قول المولى لعبده: اسقني الماء. وفيه:
أن القرينة قائمة على الفورية، فكما أن أصل اتيان الماء مطلوب فمبادرته أيضا
مطلوب بواسطة القرينة الدالة عليها، كما لا يخفى.
وقيل (2) بدلالتها على الفورية لا وضعا، بل من جهة الأدلة الخارجية كقوله

(1) نقله صاحب هداية المسترشدين: في الأوامر ص 182 س الأخير.
(2) نقله صاحب هداية المسترشدين: في الأوامر ص 183 س 1.
230

تعالى: (فاستبقوا الخيرات) (1) (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) (2) والإشكال
على دلالة الآيتين على وجوب الفورية في المأمور به بأنهما إنما تدلان على
الفورية في الأوامر الشرعية لا مطلقا على تقدير تمامية دلالتهما غير وارد، لأن
المقصود بالبحث إنما هو اثبات فورية الأوامر الشرعية، وإنما الإشكال في
دلالتهما وأن الأمر في الآيتين مولوي يدل على لزوم الاستباق والمسارعة إلى
الخيرات والمغفرة بحيث يوجب ترك الاستباق والمسارعة استحقاق العقاب، أو
أن الأمر فيهما إرشادي كأوامر الإطاعة.
والظاهر أن الأمر فيهما إرشادي تابع للمرشد إليه، وليس الغرض من
الاستباق إلى الخير إلا الوصول إليه ومن المسارعة إلى المغفرة إلا الوصول إليها
والى أسبابها كما في الأمر بالاتقاء من الهلكة فإنه أمر إرشادي ليس الغرض منه
إلا عدم الوقوع في التهلكة، ولا يترتب على عدم الاستباق والمسارعة عقاب
على حدة غير العقاب المترتب على ترك المأمور به على تقدير تركه كأوامر
الإطاعة مثل: (أطيعوا الله ورسوله) (3) حيث لا يترتب على تركها إلا ما يترتب
على ترك الواجبات وفعل المحرمات.
والحق عدم استفادة الفورية من الأمر بشيء من هذين الوجهين، أما وضعا
فلأن صيغة الأمر مادتها موضوعة للطبيعة من حيث هي بلا اعتبار شيء فيها من
الفورية والتراخي وسائر القيود، وهيئتها موضوعة لنفس البعث إلى المادة من غير
اعتبار شيء أيضا، فمفاد الصيغة ليس إلا البعث إلى المادة، واطلاقها يقتضي
حصول الامتثال بكل واحد من الفور والتراخي، وأما الأدلة الخارجية فقد عرفت
الكلام فيها.
نعم يمكن الحكم بالفورية ولزوم المبادرة بوجه آخر وهو: أن المكلف لو أخر
الامتثال ولم يأت بالمأمور به فورا واتفق عدم تمكنه منه بموت ونحوه يستحق

(1) البقرة: 148.
(2) آل عمران: 123.
(3) الأنفال: 20.
231

العقوبة على الترك ولم يعذره العقل، لأنه كان متمكنا من الاتيان بالمأمور به وتركه
اختيارا فيندرج في وجوب دفع الضرر المحتمل كسائر موارد لزوم الاحتياط مثل
الاجتناب عن أحد طرفي الشبهة المحصورة، حيث إن المكلف لو ارتكبه واتفق
كونه الحرام الواقعي يستحق العقاب على مخالفته ولم يعذره العقل، لأن تمام
موارد الاحتياطات اللازمة مندرجة تحت كبرى كلية واحدة وهي وجوب دفع
الضرر المحتمل.
والحاصل: أنه لو كان للمكلف به أفراد طولية أو عرضية بعضها مقدور
للمكلف فعلا وبعضها الآخر غير مقدور فعلا فأخر المكلف امتثال التكليف ولم
يأت بالفرد المقدور له فعلا برجاء الإتيان بغيره في الزمان الثاني واتفق عدم
تمكنه من إتيانه كان مستحقا للعقاب وغير معذور بحكم العقل، إذ بعد تمامية
التكليف وقدرة المكلف على الامتثال والخروج عن عهدته يحكم العقل بلزوم
المبادرة إلى الامتثال من باب وجوب دفع الضرر المحتمل، فإن أخر ولم يأت به
في الزمان الأول ولكن أتى به في الزمان الثاني لم يكن عليه شيء غير ما على
المتجري، لمساواة ما أتى به في الزمان الثاني مع ما تمكن من إتيانه في الزمان
الأول في الغرض المقصود.
وأما لو اتفق عدم تمكنه منه في الزمان الثاني فيستحق العقاب على ترك
المأمور به، لأنه تركه اختيارا بلا عذر شرعي أو عقلي في تركه برجاء اتيانه في
الزمان الثاني، وهو ليس بعذر شرعا وعقلا حتى يوجب رفع اليد به عن وجوب
دفع الضرر المحتمل فيجب المبادرة إلى اتيان المأمور به. إلا أن يكون ترخيص
من الشارع في التأخير، سواء استفيد ذلك الترخيص من دليل خارج أو من نفس
دليل الحكم كما في الواجبات المؤقتة الموسعة، فإن نفس جعل زمان الفعل أوسع
من مقدار الفعل ترخيص للمكلف في تأخيره إلى الزمان الثاني والثالث وهكذا إلى
زمان لا يتمكن بعده من الإتيان من جهة انقضاء الوقت، فيتعين عليه الإتيان في
ذلك الزمان.
232

وأما في الواجبات المؤقتة المضيقة وفي الواجبات الغير المؤقتة كصلاة
الزلزلة وصلاة القضاء فتجب المبادرة، أما في الواجبات المضيقة فلإستفادة
الفورية من دليلها، وأما في الواجبات الغير المؤقتة فلحكم العقل بلزوم المبادرة
من جهة وجوب دفع الضرر المحتمل.
ولعله من هذه الجهة قال بعض (1) بالمضايقة في قضاء الصلوات وعدم جواز
التأخير إلا بالمقدار الضروري من أكل وشرب ونحوهما.
نعم لو كان أصل عقلائي يكون عذرا عند العقل والعقلاء وأخر اعتمادا على
ذلك الأصل واتفق عدم تمكنه من الإتيان بالمأمور به في الزمان الثاني وما بعده
كان هذا بحكم ترخيص الشارع في التأخير، إذ الغرض أن يكون تأخيره للمأمور
به عن أول زمان الإمكان إلى ما بعده مستندا إلى عذر شرعي كترخيص الشارع
في التأخير، أو عقلي كأصالة بقاء الحياة في الزمان الثاني وأصالة بقاء القدرة
وأصالة عدم المانع وأمثالها وأي واحد من الترخيص الشرعي والأصل العقلائي
كان في المقام يرتفع موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل، لأنه يكون مؤمنا.
فتحصل: أن الأمر المطلق تجب المبادرة إلى امتثاله بحكم العقل من باب دفع
الضرر المحتمل، إلا أن يكون ترخيص من الشارع في تأخيره حتى يكون مؤمنا
أو أصل عقلائي كالأصول المذكورة ففي الموارد التي يكون ترخيص شرعي أو
أصل عقلائي بحيث لا يعتني العقلاء باحتمال خلافه يجوز التأخير، ولو اتفق عدم
تمكنه من إتيانه بعد الزمان الأول يكون معذورا، وأما لو لم يكن ترخيص شرعي
في التأخير وصار الأصل العقلائي ضعيفا بحيث يحتمل العقلاء باحتمال خلافه
كما في أوقات الأمراض العامة أو في معركة القتال أو في زمان الشيخوخة والهرم
ونحوها من الموارد التي صارت الأصول العقلائية ضعيفة بحيث يعتني العقلاء
باحتمال خلافها فتجب المبادرة إلى إتيان المأمور به، ولا يجوز تأخيره لحكم
العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، وهو لا يحصل إلا بالمبادرة، والفرض أنه

(1) نقله في جواهر الكلام: ج 13 ص 77.
233

ليس مؤمن شرعي ولا عقلي حتى يكون عذرا للمكلف لو أخر وفات الواجب ولم
يتمكن منه في الزمان الثاني.
ولعل الحكم بوجوب المبادرة إلى الحج في أول عام الاستطاعة إنما هو من
جهة ضعف الأصول العقلائية، لأن موسم الحج في كل سنة مرة واحدة واحتمال
طرو الحوادث من سنة إلى سنة أخرى احتمال معتنى به عند العقلاء بخلاف الآنات
والساعات بل الأيام أيضا، فيجب المبادرة إليه من هذه الجهة لا من جهة الأخبار
التي استدلوا بها على فوريته، بل على كون تأخيره كبيرة موبقة - كما قالوا -
لقصورها عن إفادة هذا المطلب كما ذكرنا في محله. فعلى هذا لو اخر الحج عن
العام الأول وأتى به بعده فلا شيء عليه غير ما على المتجري، وإن أخر ولم يتمكن
من اتيانه فيما بعد كانت عليه عقوبة تارك الحج، وكان في صف اليهود والنصارى
كما ورد في الأخبار (1).
لا يخفى أن الواجب إما مؤقت أو غير مؤقت، والمؤقت إما مضيق أو موسع.
ولا إشكال في وجوب المبادرة في الواجب المضيق وعدم وجوب المبادرة في
الواجب الموسع، لأن نفس جعل زمان الفعل أوسع من مقدار زمان الفعل ترخيص
من الشارع في التأخير وإنما الإشكال في الواجب الغير المؤقت الذي لم يرد
ترخيص من الشارع في تأخيره ولا أصل عقلائي يكون عذرا للمكلف، فإن
الأصل العقلائي كالترخيص الشرعي في كونه عذرا في التأخير، وإلا لوجب
الردع عن الركون إليه، وعدم الردع يكفي في جواز الركون إليه.
فتحصل: أن مقصود القائل بدلالة الأمر على الفور يتم بالأعم من دلالة
الصيغة بنفسها أو بواسطة الآيات الدالة على لزوم الاستباق والمسارعة إلى
المأمور به أو بواسطة حكم العقل كما عرفت، والقائل بعدم الدلالة على الفور لابد
أن ينكر جميع ذلك كما في حجية الاستصحاب حيث إن مدعى القائل بالحجية

(1) وسائل الشيعة: ب 7 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ج 8 ص 20.
234

يثبت بالأعم من كونه حجة من باب بناء العقلاء، أو من باب الظن أو من باب التعبد
والأخبار الدالة على عدم نقض اليقين بالشك، والمنكر لابد أن ينكر جميع ذلك.
ثم إنه بناء على دلالة الصيغة على الفور بأحد الوجوه الثلاثة لو عصى المكلف
ولم يأت بالمأمور به فورا فهل يجب المبادرة في الزمان الثاني أم لا يجب
المبادرة في الزمان الثاني؟
الحق هو التفصيل في لزوم المبادرة في الزمان الثاني بين الوجوه الثلاثة
المذكورة، لدلالة الصيغة على الفور، وذلك لأن استفادة الفورية إن كانت من جهة
آية الاستباق والمسارعة فيمكن أن يقال: إن هذين العنوانين إنما يتحققان فيما إذا
بادر إلى المأمور به وآتاه في أول زمان إمكانه، فيكون الأمر بهما كالأمر بإتيان
المأمور به في أول زمان إمكانه، والا مر بالشروع في اتيان المأمور به متصلا
بالأمر ونحوهما من العناوين التي ينتفي موضوعها في الزمان الثاني والثالث وما
بعدهما، ولازمه سقوط الأمر بالفورية والمبادرة في الزمان الثاني عصيانا أو لعذر،
وبقاء الأمر بأصل الفعل من دون اعتبار فور وتراخ فيه بحاله، فالمطلوب بالصيغة
هو ايجاد الفعل بلا فرق في حصول الامتثال بين ايجاده في الزمان الأول وما
بعده، والمطلوب من الأمر بالاستباق والمسارعة والاتيان به في أول زمان
الإمكان هو إتيانه فورا وفي أول أزمنة الامكان، فإذا عصى ولم يأت به أول زمان
الإمكان سقط الأمر بالاستباق والمسارعة والإتيان في أول زمان الإمكان
بالعصيان وبقي أصل الأمر بايجاد الطبيعة بحاله.
ولكن الحق هو الفرق بين عنوان الاستباق والمسارعة وبين عنوان أول أزمنة
الإمكان والشروع في الفعل متصلا بالأمر ونحوهما، فإن الأمر بإتيان الفعل أول
زمان إمكانه أو الشروع فيه متصلا بالأمر لا إشكال في أنه ينتفي موضوعهما
بانقضاء أول زمان الإمكان والزمان المتصل بالأمر وليس بعد انقضائهما أمر
بالمبادرة والفورية وإن كان الأمر بأصل الفعل باقيا بحاله، ولعل الأمر بقضاء
رمضان قبل دخول رمضان الثاني من هذا القبيل فإنه ورد أمر بقضاء رمضان كقوله
235

تعالى: (فعدة من أيام آخر) (1) وأمر بتعجيل القضاء وفوريته قبل دخول رمضان،
فإذا دخل رمضان فالأمر بالفورية والتعجيل يسقط ويبقى الأمر بأصل القضاء
بحاله بلا أمر بالفورية، ولو مضى عليه سنين.
وتوهم كون رد السلام من هذا القبيل أيضا مدفوع بأن مقدارا من الفورية
والمبادرة معتبرة في صدق رد التحية، فلو أخر عن هذا المقدار يخرج عن التحية،
بل ربما يكون استهزاء فبالنسبة إلى هذا المقدار فوريته مسلمة، وأما بالنسبة إلى
أزيد من هذا المقدار فلا دليل على فوريته حتى يكون مثالا لما نحن فيه، وهو
الأمر بإتيان المأمور به أول زمان إمكانه بحيث لو خالف ولم يأت به في أول زمان
الإمكان يسقط الأمر باتيانه فورا، ويبقى الأمر بأصل الفعل، إذ يجوز تأخير
جواب السلام عن أول زمان الإمكان إلى زمان لا يخرج عن صدق رد التحية.
وكلامنا في ما نحن فيه فيما لم يجز التأخير، ولكن لو أخر عن أول زمان الإمكان
لكان عاصيا وأمره بالفورية ساقطا بالعصيان.
وأما الأمر بالاستباق والمسارعة فالظاهر بقاؤهما ما دام الأمر بأصل الطبيعة
باقيا منه، فيكون الأمر بهما كالأمر بالكلي المشكك، لأن الاستباق والمسارعة
أمران إضافيان، فالإتيان بالمأمور به في كل آن استباق ومسارعة بالنسبة إلى
الزمان اللاحق وإن كان تأخيرا بالنسبة إلى الزمان السابق، فإذا تعلق الأمر
بالطبيعة وتعلق الأمر بالاستباق والمسارعة إلى اتيان تلك الطبيعة فإن أتى
بالمأمور به في الزمان الأول فقد امتثل الأمر وسقط كلاهما بالامتثال، وإن لم يأت
به في الزمان الأول فقد عصى الأمر بالاستباق والمسارعة، ولكن لم يسقط ذلك
الأمر بالعصيان كما فيما لو أمر المولى بإتيان المأمور به في أول زمان الإمكان،
لما عرفت من الفرق بين العنوانين وإذا لم يسقط الأمر بالعصيان فلازمه وجوب
الإتيان بالمأمور به فورا ففورا، ولا يسقط الأمر بالاستباق والمبادرة في الزمان
الثاني بترك الاستباق والمبادرة في الزمان الأول، بل بتركهما يكون عاصيا ولكن

(1) البقرة: 184.
236

الأمر بهما يكون باقيا.
فتحصل: أن الدليل على الفورية لو كان آية الاستباق والمسارعة لو عصى
المكلف ولم يأت بالمأمور به فورا وفي الزمان الأول يجب عليه الفورية
والمبادرة في الزمان الثاني وهكذا، والأمر بالفورية باق ما دام الأمر بأصل الطبيعة
باق. وكذا لو كان الدليل على الفورية حكم العقل بلزوم المبادرة إلى إتيان المأمور
به من جهة دفع الضرر المحتمل، فإن هذا الحكم العقلي باق ما دام الأمر بأصل
الطبيعة باق أيضا.
وأما لو كان دليل الفورية نفس وضع الصيغة كما هو ظاهر من استدل على
الفورية بالتبادر من مثل قول المولى لعبده جئني بالماء، فإن كانت الفورية معتبرة
في المادة بأن كان المطلوب هي المادة المقيدة بالفورية فالظاهر أنه يصير من باب
وحدة المطلوب، فلو أتى به في الزمان الأول فهو، وإلا فيسقط الطلب بأصل
الطبيعة والفورية جميعا، وإن لم يكن الفورية معتبرة في طرف المادة على وجه
يصير من باب وحدة المطلوب، بل كان أصل الطبيعة مطلوبا وإتيانه فورا أيضا
مطلوبا آخر، فلو عصى في الزمان الأول ولم يأت به فورا فيحتمل أن يقال بأنه
تسقط الفورية ويبقى طلب أصل الطبيعة، ويحتمل أن يقال: إنه لا تسقط الفورية
مطلقا، بل تجب فورا ففورا، فلابد من أن يسأل عن القائل بدلالة نفس الصيغة على
الفور أنه بأي نحو من هذه الأنحاء يقول بدلالتها.
ثم إن الغرض من هذا الذي ذكرنا من اختلاف الفورية في السقوط وعدم
السقوط في الزمان الثاني بحسب الوجوه الثلاثة هو التنبيه على هذا المطلب، لأنه
يترتب عليه الأثر في كثير من المقامات ولابد في كل مقام من ملاحظة لسان
الدليل وأنه يستفاد منه الفورية بأي نحو من الأنحاء المذكورة حتى لا يختلط
الأمر، فتأمل.
237

الفصل الثالث
إتيان المأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء في الجملة.
وقبل الخوض في المقام والنقض والابرام ينبغي تقديم أمور:
أحدها: أن المراد من (وجهه) في عنوان النزاع ليس الوجه الذي اختلف في
اعتبار قصده في العبادات وعدمه، للقطع بعدم إرادته هنا، فلابد من أن يكون
المراد منه إما تمام ما اعتبر في المأمور به شرعا من كونه واجدا لجميع الأجزاء
والشرائط وفاقدا للموانع كما عن التقريرات (1)، أو تمام ما اعتبر في المأمور به
شرعا وعقلا حتى يشمل الأجزاء والشرائط وعدم الموانع المعتبرة في المأمور به
شرعا وقصد الأمر المعتبرة فيه عقلا بناء على عدم إمكان اعتباره في المأمور به
شرعا كما عن الكفاية، ولذا قال: المراد بالوجه في محل النزاع هو النهج الذي
ينبغي أن يؤتى المأمور به على ذلك النهج شرعا وعقلا (2)، والظاهر أن المراد
بوجهه في عنوان النزاع هو ما ذكره في الكفاية.
ثانيها: أن المراد من الاقتضاء في عنوان النزاع هل الاقتضاء بنحو الكشف
والدلالة أو بنحو العلية والسببية؟
فنقول: لا يخفى أن العمدة في عقد البحث في تلك المسألة هو اقتضاء الأمر
الظاهري عن الأمر الواقعي الذي هو باب واسع يجري في العبادات والمعاملات،

(1) مطارح الأنظار: ص 20 س 1 - 2.
(2) كفاية الأصول: في الأجزاء ص 105.
238

بل في تبدل الرأي والاجتهاد والتقليد والأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي
الأولي الذي هو أيضا باب واسع يجري في العبادات كالوضوء مع الجبيرة أو التقية
وأمثالهما، وفي المعاملات كالعقد بالإشارة للأخرس ونحوه.
والعمدة في محل البحث وهو الأمر الظاهري والاضطراري هي دلالة
دليلهما، وأن أدلة الأوامر الظاهرية أي الأمارات والأصول كصدق العادل ولا
تنقض اليقين بالشك هل تدل على الأمر بالعمل بهما على وجه الطريقية والكاشفية
والمعذرية حتى لا تقتضي الإجزاء عند انكشاف الخلاف وتخلفها عن الواقع
وعدم اصابتها الواقع، أو على وجه السببية والموضوعية وجعل البدل حتى تقتضي
الإجزاء؟ وأن أدلة الأوامر الاضطرارية هل تدل على البدلية المطلقة حتى تقتضي
الإجزاء، أو البدلية ما دام العذر حتى لا تقتضي الإجزاء؟
فعلى هذا المراد من الاقتضاء في محل النزاع هو الاقتضاء بنحو الكشف
والدلالة لا بنحو السببية والعلية. وعليه لابد من جعل عنوان النزاع في الأمر كما
فعله كثير منهم حيث جعل عنوان النزاع في الأمر وهو أن الأمر هل يقتضي
الإجزاء كما في كثير من المباحث الأخر مثل أن الأمر بالشيء هل يقتضي ايجاب
مقدماته أو النهي عن ضده أم لا؟ وأمثالهما.
والحاصل: أنه لو كان البحث في الإجزاء وعدمه في خصوص ما هو العمدة
في محل البحث وهو باب الأوامر الظاهرية والأوامر الاضطرارية وكانت جهة
البحث فيهما ما هو العمدة فيهما وهي دلالة أدلتها وأنها بأي نحو من الطريقية
والسببية والبدلية المطلقة والمقيدة كان المراد من الاقتضاء هو الاقتضاء بنحو
الكشف والدلالة، ولابد على هذا من جعل عنوان النزاع في الأمر.
وأما لو كان البحث في الإجزاء وعدمه في الأعم من الأمر الظاهري
والاضطراري عن الواقع والأمر العقلي كالقطع عن الواقع لو قيل بإجزائه عن
الواقع، وكل أمر بالنسبة إلى نفسه كالأمر الواقعي عن الواقع لو قيل بعدم إجزائه
عنه كما عن بعض العامة على ما حكي وكالأمر الظاهري والاضطراري بالنسبة
239

إلى التكليف الظاهري والاضطراري كان المراد من الاقتضاء هو الاقتضاء بنحو
السببية والعلية، إذ ليس في اقتضاء الأمر العقلي عن الواقع أو الأمر الواقعي عن
الواقع أو الأمر الظاهري عن التكليف الظاهر المستفاد من الأمر الظاهري وكذلك
الأمر الاضطراري دليل حتى يكون المراد من الاقتضاء هو الاقتضاء بنحو
الكشف والدلالة، فلابد أن يكون المراد من الاقتضاء هو الاقتضاء بنحو العلية
والسببية ولابد على هذا من جعل عنوان النزاع في إتيان المأمور به كما جعله في
الكفاية وأنه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟ أي يكون إتيان المأمور به سببا وعلة
للإجزاء أم لا؟
نعم على هذا الاقتضاء بمعنى الدلالة في اتيان المأمور به بالأمر الظاهري
والاضطراري عن الأمر الواقعي يصير من مبادئ التصديقية للاقتضاء بمعنى
السببية والعلية فنقول: إن اتيان المأمور به بالأمر الظاهري والاضطراري سبب
وعلة للإجزاء، لأن أدلتهما تدل على أن الأمر بالعمل بهما على نحو السببية
والبدلية المطلقة، أو أنه ليس بسبب وعلة للإجزاء، لأن أدلتهما تدل على أن الأمر
بالعمل بهما على نحو الطريقية والبدلية المقيدة، فتأمل.
ثالثها: الظاهر أن المراد بالإجزاء هنا معناه اللغوي وهو الكفاية، إلا أنه لما
كان المعتبر في مفهوم الكفاية وجود ما يكتفى به وما يكتفي عنه، فبتعدد الدال
والمدلول أريد اسقاط التعبد بإتيان المأمور به بالأمر الواقعي ثانيا، بل المأمور به
بالأمر الظاهري والاضطراري والعقلي بالنسبة إلى أمرها أيضا واسقاط الإعادة
والقضاء في إتيان المأمور به بالأمر الظاهري أو الاضطراري بالنسبة إلى الأمر
الواقعي، لا أن الإجزاء له معنى اصطلاحي مغاير للمعنى اللغوي وهو اسقاط
التعبد ثانيا، كما في اتيان كل مأمور به بالنسبة إلى أمره سواء كان الأمر واقعيا أو
ظاهريا أو اضطراريا أو عقليا، واسقاط الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه
كما في اتيان المأمور به بالأمر الظاهري أو الاضطراري بالنسبة إلى الأمر الواقعي
كما توهم.
240

رابعها: أن الفرق بين هذه المسألة ومسألة دلالة الأمر على المرة أو التكرار
و مسألة تبعية القضاء للأداء لا يكاد يخفى، فإن النزاع في مسألة دلالة الأمر على
المرة أو التكرار في أمر لفظي، وهو أن الصيغة هل تدل بنفسها أو بدلالة أخرى
على أن المطلوب ايجاد الطبيعة المأمور بها مرة أو مرارا؟ والنزاع في هذه المسألة
في امر عقلي، وهو أن إتيان المأمور به هل يقتضي الإجزاء بمعنى اسقاط التعبد به
ثانيا كما في كل مأمور به بالنسبة إلى أمره، أو اسقاط الإعادة والقضاء كما في
المأمور به بالأمر الظاهري والاضطراري بالنسبة إلى الأمر الواقعي.
وبعبارة أخرى النزاع في مسألة دلالة الأمر على المرة أو التكرار في تعيين
المأمور به شرعا والنزاع في هذه المسألة بعد الفراغ عن ما هو المأمور به شرعا في
أن إتيانه يجزي عن التعبد به ثانيا أو يسقط القضاء والإعادة أم لا؟ ولذا جعل
عنوان النزاع في تلك المسألة في الأمر وأن الأمر هل يقتضي المرة أو التكرار؟
وفي هذه المسألة في إتيان المأمور به وأنه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟ فلا ربط بين
المسألتين أصلا لا مضمونا ولا مصداقا، فأي ربط بين دلالة الأمر على المرة أو
التكرار وبين اقتضاء إتيان المأمور به بكل أمر اسقاط التعبد به ثانيا أو المأمور به
بالأمر الظاهري أو الاضطراري لإسقاط الإعادة والقضاء وعدمه.
نعم لو قيل في هذه المسألة بأن إتيان المأمور به بكل أمر يقتضي عدم الإجزاء
عن أمره لا أنه لا يقتضي الإجزاء كان هذا عين القول بالتكرار، وكذلك مسألة
تبعية القضاء للأداء فإن النزاع فيها أيضا في دلالة الصيغة، وأن الأمر بفعل في وقت
هل يدل على كونه مطلوبا بعد انقضاء الوقت أو لا يدل؟ وبعبارة أخرى هل يستفاد
من الأمر بفعل في وقت أن نفس الفعل مطلوب، وكونه في الوقت مطلوب آخر
فيبقى مطلوبية أصل الفعل بعد انقضاء الوقت حتى يكون القضاء تابعا للأداء، أو أن
المطلوب شيء واحد وهو الفعل في الوقت فإذا انقضى الوقت فأصل الفعل أيضا
ليس مطلوبا إلا أن يدل دليل آخر على كونه مطلوبا حتى لم يكن القضاء تابعا
للأداء، بل كان بأمر جديد.
241

والحق التفصيل بين ما إذا ثبت التوقيت بدليل متصل كصم يوم الخميس فلا
يدل على مطلوبية الفعل في خارج الوقت وبين إذا ثبت التوقيت بدليل منفصل كما
إذا قال: صم، ثم قال: وليكن الصوم يوم الخميس فإنه يدل على مطلوبية أصل
الفعل في خارج الوقت، ولكن النزاع في هذه المسألة ليس في دلالة الصيغة كما
عرفت، بل بعد الفراغ عن دلالة الصيغة وعن تعيين المأمور به يقع النزاع في أن
إتيانه هل يسقط التعبد به ثانيا أو يسقط الإعادة والقضاء ثانيا، أم لا؟ وكيف يتوهم
اتحاد هذه المسألة مع مسألة تبعية القضاء للأداء؟ والحال أن النزاع في هذه
المسألة في أن اتيان المأمور به هل يقتضي الإجزاء أم لا؟ والنزاع في تلك المسألة
في أن الأمر بالشيء في الوقت هل يقتضي لزوم الاتيان به في خارج الوقت لو لم
يأت به في الوقت؟ وبعبارة أخرى النزاع في هذه المسألة في صورة الاتيان
بالمأمور به وفي تلك المسألة في صورة عدم الإتيان.
إذا عرفت هذه الأمور فاعلم أن الأمر قد يتعلق بشيء مع قطع النظر عن طرو
الطوارىء والعوارض من الجهل والاضطرار ونحوهما، وقد يتعلق به بملاحظة
الطوارىء والعوارض، فإن تعلق بالشيء بملاحظة الطوارىء، فإما أن يكون
الطارىء هو الجهل بالحكم الواقعي، أو موضوعه، أو بهما، أو العجز عن اتيان
المأمور به الواقعي من جهة اضطرار وتقية ونحوهما، وما كان الطارىء هو الجهل
قد يكون هو الجهل البسيط وقد يكون هو الجهل المركب، فالأمر الذي تعلق
بالشيء مع قطع النظر عن العوارض يسمى أمرا واقعيا، وما تعلق بالشيء بملاحظة
طرو العجز عن الواقع يسمى أمرا اضطراريا وواقعيا ثانويا، وما تعلق بالشيء مع
طرو الجهل البسيط يسمى أمرا شرعيا ظاهريا كالأمارات والأصول، وما تعلق به
مع طرو الجهل المركب يسمى أمرا عقليا ظاهريا وفي الحقيقة هو ليس بأمر، بل
تخيل أمر.
والكلام هنا في موضعين:
أحدهما في أن إتيان المأمور به بكل أمر هل يقتضي الإجزاء عن أمره ولا
242

يحتاج إلى التعبد به ثانيا أم لا؟
والثاني: في أن إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري والأمر الظاهري هل يقتضي
الإجزاء عن المأمور به بالأمر الواقعي ولا يحتاج إلى الإعادة والقضاء، أم لا؟
أما الكلام في الموضع الأول: فالحق هو الاجزاء لاستقلال العقل الذي هو
المرجع في باب الإطاعة والمعصية بأنه إذا أتى العبد ما أمره الله تعالى على الوجه
الذي لابد أن يأتي به من الكيفيات المعتبرة فيه شرعا وعقلا لا مجال لإتيانه
والتعبد به ثانيا بأن يكون حاله بعد الإتيان كحاله قبل الإتيان، لأنه لو لم يكن
إتيانه مقتضيا للإجزاء وكان عليه التعبد به ثانيا لابد أن يكون إما من جهة عدم
إتيانه على النحو المقرر وهو خلاف الفرض، وإما أن يكون أمره بايجاد الشيء
منحلا إلى أوامر متعددة بايجادات متعددة وهو أيضا خلاف الفرض، مع أنه على
هذا التقدير إتيانه وايجاده في كل مرة يجزي عن أمرها ولو بقي عليه أمر آخر
بإيجاده بعدها.
والحاصل: أنه بعد إتيان المأمور به على النحو المقرر العقل حاكم بحصول
الامتثال وعدم الحاجة إلى التعبد به ثانيا، ولا يعقل القول بعدم الإجراء. نعم يجوز
للعبد تبديل الامتثال بامتثال آخر، ورفع اليد عن الامتثال الأول بأحد تقريبين:
الأول: هو أنه إذا لم يكن إتيان المأمور به علة تامة لحصول الغرض كما إذا
أمر المولى عبده بإتيان الماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به العبد وأحضره عند المولى
فقبل أن يشربه المولى أو يتوضأ به يجوز للعبد أن يأتي بماء آخر أحسن من الأول
أو مساو له ويرفع الأول من عنده، لأن الغرض من الأمر لما لم يحصل بعد فالأمر
بملاكه باق، ولذا لو أهرق الماء وعلم به العبد وجب إتيانه ثانيا تحصيلا لغرض
المولى، فكما أن العبد قبل الإتيان كان مخيرا في إتيان الطبيعة المأمور بها
وايجادها في ضمن كل ما أراده من الأفراد فهذا التخيير بعد الإتيان أيضا باق
ونتيجته أن له أن يكتفي بهذا الفرد المأتي به حتى يستقر الامتثال به أو يأتي بفرد
آخر. نعم فيما إذا كان الإتيان بالمأمور به علة تامة لحصول الغرض كما إذا
243

أمر المولى بإهراق الماء في حلقه لرفع عطشه، فلا موقع للامتثال عقيب الامتثال
وتبديله.
الثاني: أنه إذا تعلق الأمر بايجاد طبيعة وتعلق أمر آخر بايجادها مع
خصوصية، ولا فرق بين أن تكون تلك الخصوصية خصوصية واجبة أو مستحبة
على ما بيناه في محله، ولكن نفرض الكلام فيما إذا كانت الخصوصية مستحبة
وكان الأمر الثاني ظرف امتثاله نفس الطبيعة لا امتثال أمرها وكانت الطبيعة قابلة
للتكرر كالصلاة مثلا، بخلاف ما لم تكن قابلة للتكرر كالقتل والذبح فإنه إذا أتى
المكلف من أول الأمر هذه الطبيعة مع تلك الخصوصية فقد امتثل الأمرين وحاز
المصلحتين، ولو أتى بها بدون الخصوصية فقد امتثل أمر المتعلق بأصل الطبيعة
وبقي الأمر المتعلق بتلك الخصوصية فله أن يأتي بالطبيعة مع تلك الخصوصية من
جهة إدراك مصلحة الخصوصية لا أصل الطبيعة فإنه أدركها بايجادها بدون تلك
الخصوصية، وإنما يأتي بالطبيعة مقدمة لإيجاد الخصوصية، إذ الفرض أن
الخصوصية لا يمكن ايجادها بنفسها ويكون من الامتثال عقيب الامتثال، وتبديله
بامتثال آخر صورة وإن لم يكن منه واقعا، إذ إتيان الطبيعة ثانيا ليس من جهة
امتثال أمرها، بل من جهة مقدميتها لامتثال الأمر بالخصوصية كما لا يخفى.
وهذا ليس من الامتثال عقيب الامتثال وتبديله بامتثال آخر حقيقة ففي
صورة اجتماع هذه القيود وهو ما إذا تعلق الأمر بطبيعة وأمر آخر بايجادها مع
الخصوصية، وكان طرف امتثال الأمر الثاني نفس الطبيعة لا امتثال أمرها وكانت
الطبيعة قابلة للتكرر والتعدد وأوجد المكلف الطبيعة المأمور بها بدون الخصوصية
يجوز له، بل يستحب ايجادها ثانيا مع تلك الخصوصية تحصيلا لتلك الخصوصية
المستحبة كما فرضناها، ويجب إيجاد الطبيعة ثانيا فيما كانت الخصوصية واجبة
فيما إذا أتى بأصل الطبيعة مجردة عن الخصوصية وامتثال أمرها كما في بعض
الفروض والتقادير على ما أشرنا إليه في محله، ويكون إتيانه من قبيل الامتثال بعد
الامتثال صورة.
244

وأما لو اختل أحد هذه القيود إما بأن لم يكن الأمر بالطبيعة والخصوصية
متعددا حتى يكون من باب تعدد المطلوب، بل تعلق أمر واحد بالطبيعة
والخصوصية فليس من هذا القبيل، لأنه إن أتى بالطبيعة مع تلك الخصوصية فقد
امتثل أمرها ولا مجال لامتثاله ثانيا، وإن أتى بها بدون الخصوصية فما امتثل
أمرها أصلا ويجب إتيانها ثانيا مع الخصوصية.
وإن كان الأمر بالطبيعة والخصوصية متعددا ولكن كان ظرف امتثال الأمر
الثاني امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة فليس من هذا القبيل أيضا، لأنه إذا أتى
بالطبيعة وامتثل أمرها فقد انتفى موضوع الأمر الثاني وهو امتثال الأمر المتعلق
بالطبيعة ومثاله في العرفيات ما إذا كان مطلوب الشخص شرب الماء لرفع العطش
وكان له مطلوب آخر وهو أن يكون الماء باردا أو حلوا ليلتذ في حال شربه ورفع
عطشه فإنه إذا شرب الماء الغير البارد أو الماء الغير الحلو وارتفع عطشه فلا مجال
للمطلوب الثاني.
وإن كان الأمر بالطبيعة والخصوصية متعددا وكان ظرف امتثال الأمر الثاني
نفس الطبيعة ولكن الطبيعة لم تكن قابلة للتكرر كما في القتل والذبح لو أمر بهما
وأمر بايجادهما لخصوصية فأوجدهما بدون الخصوصية فإنه لا مجال لإيجادهما
ثانيا مع الخصوصية.
ويمكن أن يكون في الشرعيات ما يكون أيضا من هذا القبيل كما في حجة
الإسلام مثلا فإنه إذا كان المطلوب في حجة الاسلام خصوصية مثلا كالذهاب
راكبا ونحوه وأتى بها بدون تلك الخصوصية فقد فات محلها، لأن ظرف تلك
الخصوصية المطلوبة وإن كان نفس الطبيعة إلا أن طبيعة حجة الا سلام غير قابلة
للتكرر والتعدد وإن كان أصل الحج قابلا للتكرر.
فعلى هذا إذا تعلق الأمر بأصل الصلاة مثلا وتعلق أمر آخر بايجادها مع
خصوصية كالجماعة ونحوها من الخصوصيات المطلوبة فيها بأمر مستقل فإذا أتى
المكلف بها جماعة فقد امتثل الأمرين، وإن أتى بها بدون الجماعة فيجوز له أن
245

يعيدها جماعة، بل يستحب إدراكا لتلك الخصوصية وإن وافق أصل الأمر
بالطبيعة، فعلى هذا لا اختصاص بخصوصية الجماعة كما هو مورد الخبر، بل
يستحب الإعادة لأجل كل خصوصية مطلوبة يكون ظرف إتيانها نفس الطبيعة،
فإذا أتى بالصلاة بدون التحنك يستحب إعادتها معه، وكذا إذا صلى في مكان
كالحمام أو البيت يستحب إعادتها في المسجد، وإذا صلى في المسجد وتمكن من
إعادتها في مسجد أو مكان أفضل منه يستحب إعادتها، وهكذا سائر
الخصوصيات التي تكون من هذا القبيل.
وعليه يحمل تمام الموارد التي حكم الشارع باستحباب الإعادة أو أفتى
الفقهاء بها من جهة الجمع بين الأدلة، فإنه لو كان الأمر بأصل الطبيعة باقيا فلا معنى
لاستحباب الإعادة، بل تجب، ولو كان أمرها ساقطا وكان ما يأتي به ثانيا غير ما
أتى به أولا فليس إعادة له، بل تكون نافلة مستقلة، فلا يمكن توجيه الحكم
باستحباب الإعادة إلا بما ذكرنا.
ولا اختصاص للاستشكال باستحباب إعادة الصلاة التي أتاها المكلف
فرادى بالجماعة، بل الإشكال يجرى في تمام موارد استحباب الإعادة.
وحله يمكن بما ذكرنا، والفرق بين التقريبين أنه بناء على التقريب [الأول]
يأتي المأمور به ثانيا بقصد الوجوب بناء على اعتبار قصد الوجه بخلاف الثاني
فإن الإتيان بأصل الطبيعة مستحب لتحصيل الخصوصية المستحبة، وإلا فوجوبها
سقط بواسطة امتثال أمرها أولا مجردة عن الخصوصية، والمقصود من هذين
التقريبين بيان إمكان الامتثال عقيب الامتثال بأحد هذين التقريبين حتى لو ورد
في الشرع ما يكون من هذا القبيل كما في إعادة الصلاة جماعة ونحوها لم نطرح
الخبر من جهة توهم عدم معقولية الامتثال عقيب الامتثال.
وأما الموضع الثاني: فالكلام فيه في مقامين:
أحدهما: في أن إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري هل يجزي عن المأمور به
246

بالأمر الواقعي أم لا، والكلام فيه في جهات:
الأولى في إمكانه، والثاني: في وقوعه، والثالثة: في أن مقتضى الأصول
العملية أي شيء.
أما الكلام في الجهة الأولى: فهو أنه يمكن أن يكون المأمور به بالأمر
الاضطراري لشخص المضطر وافيا بتمام المصلحة التي تكون للمأمور به بالأمر
الاختياري لشخص المختار، بل ربما يكون مصلحته أزيد منه، إذ ليست المصالح
الشرعية بيدنا يحتمل أن تكون المصلحة التي في صلاة العاجز عن القيام جلوسا
أعظم من المصلحة التي في صلاة القادر على القيام قياما، والمصلحة التي في
الصلاة مع التقية أعظم من المصلحة - التي في الصلاة بدون التقية، كما ورد في
بعض بأن ثواب الصلاة خلفهم تقية يضاعف بخمسة وعشرين صلاة (1) أو أن
الصلاة معهم كالصلاة خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
فموضوع التكليف الاضطراري وإن كان في طول موضوع التكليف
الاختياري إلا أن مصلحته يمكن أن تكون في عرض مصلحته ومساوية لها، بل
أزيد وأعظم ولا استبعاد فيه بحسب الاعتبار، إذ أقصى ما يمكن للمضطر من
التعبد والتخضع للمولى هو ما يأتيه من التكليف الاضطراري، ويمكن ان لا يكون
وافيا بتمام مصلحة الفعل والتكليف الاختياري، بل يفوت منه مقدارا من مصلحته،
وهذا المقدار الفائت تارة يمكن استيفاؤه بعد الاتيان بالتكليف الاضطراري،
وأخرى يستحب، فإن كان التكليف الاضطراري واقيا بتمام المصلحة فلابد من
ملاحظة أن العذر المسوغ للانتقال من التكليف الاختياري إليه هو العذر في
الجملة، كما لعل التقية تكون من هذا القبيل وفي كل آن من زمان التكليف، أو
العذر المستوعب لتمام الوقت في الواجبات المؤقتة التي [مضى] قبلا كلامنا فيها
لا في الواجبات الغير المؤقتة التي وقتها ما دام العمر ولا يكون فيها قضاء، فإن كان

(1) وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب صلاة الجماعة ح 4 ج 5 ص 384.
(2) وسائل الشيعة: ب 5 من أبواب صلاة الجماعة ح 1 ج 5 ص 381.
247

المسوغ هو العذر في الجملة فلازمه جواز البدار، بل استحبابه إدراكا لفضيلة أول
الوقت في الصلاة، بل في تمام الواجبات، لأنه يمكن القول بأن أوائل الأوقات
أفضل في تمام الواجبات ولا اختصاص بالصلاة، ويكون الإتيان بالتكليف
الاضطراري مجزيا عن التكليف الواقعي إعادة وقضاء، إلا أن يدل دليل على لزوم
التأخر أو استحبابه.
وإن كان المسوغ هو العذر المستوعب، فلازمه جواز البدار رجاء، وباحتمال
أن يكون عذره باقيا في تمام الوقت ويكون تكليفه تكليف اضطراري بناء على
القول بجواز امتثال الاحتمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي، لأنه تمكن من
التأخير إلى آخر الوقت والإتيان بالفعل الاختياري أو الاضطراري مع الجزم في
النية ويكون إتيانه مجزيا عن القضاء لا الإعادة، لأنه لو أرتفع العذر في الوقت
يكشف عن تكليف اضطراري بالنسبة اليه حتى يكون اتيانه مجزيا.
وأما بناء على القول بعدم جوازه واعتبار الجزم في النية مع إمكانه فلا يجوز
له البدار، بل يجب عليه الانتظار، إلا أن تكون أمارة أو أصل موضوعي على بقاء
العذر إلى آخر الوقت، والأصل الموضوعي الذي يمكن إحراز بقاء العذر إلى آخر
الوقت به ليس إلا الاستصحاب، فإن العذر إذا كان موجودا فعلا وشك في بقائه
إلى آخر الوقت فلا مانع من استصحابه من جهة إتحاد زمان الشك واليقين وعدم
تأخر زمان الشك عن زمان اليقين، لأن المعتبر في الاستصحاب هو تأخر
المشكوك عن المتيقن، وهو هنا كذلك كما في عكسه، وهو ما إذا كان شيء
موجودا سابقا وشك في بقائه فعلا فإن زمان الشك واليقين فيه أيضا متحد وإنما
المتأخر هو المشكوك والمتقدم هو المتيقن.
والحاصل: كما لا مانع من جريانه بالنسبة إلى الماضي كذلك لا مانع من
جريانه بالنسبة إلى المستقبل، لتحقق أركانه وهو المتيقن السابق والمشكوك
اللاحق. نعم يشكل جريانه بناء على القول بعدم جريانه فيما إذا كان الشك في
248

المقتضي كما اختاره الشيخ (1) (قدس سره)، وقويناه في محله إذا كان العذر من الأعذار التي
لم يحرز مقدار استعداد بقاءها، كما إذا كان وجع في مواضع الوضوء مثلا مانع عنه
ولم يعلم مقدار استعداد بقائه، أو كان من يتقى منه حاضرا ولم يعلم أن إرادته
البقاء في هذا المكان مقدار ساعة أو إلى آخر الوقت.
نعم بناء على القول بجريانه حتى مع الشك في المقتضي - كما هو مختار
صاحب الكفاية - أو فيما إذا أحرز مقدار استعداد بقاء العذر إلى آخر الوقت ولكن
شك في بقائه من جهة احتمال طرو الرافع والمانع فلا مانع من جريانه كما هو
الحال في تمام موارد الاستصحابات العدمية.
وأما إذا لم يكن التكليف الاضطراري وافيا بتمام المصلحة، فإن لم يمكن
تدارك الفائت فلا يجوز له البدار مطلقا، بل ربما يمكن أن يقال: إن العذر في
الجملة لا يكون مسوغا للانتقال في هذه الصورة كما هو الظاهر، لأنه ربما يوجب
تفويت مقدار مصلحة الواقع إلا أن يكون غرض أهم في تقديمه، إلا أن يكون
أمارة أو أصل موضوعي على بقائه أيضا.
والإشكال بأنه ربما لا مجال لتشريع التكليف الاضطراري في هذه الصورة
ولو مع الانتظار لإمكان استيفاء الغرض بالقضاء مدفوع، بأن الأمر كذلك لو لم
يكن مزاحمة مصلحة الوقت في البين وإن أمكن تدارك الفائت في الوقت أو مطلقا
ولو بالقضاء خارج الوقت فإن كان مما يجب تداركه فلا يجزي، فلابد من إيجاب
الإعادة أو القضاء، وإلا فإستحبابه.
ولا مانع من البدار في الصورتين، غاية الأمر يتخير في الصورة الأولى بين
البدار والإتيان بعملين العمل الاضطراري في هذا الحال وبين الانتظار والإتيان
بما هو وظيفة المختار، وفي الصورة الثانية يتعين عليه استحباب البدار من جهة
تحصيل فضيلة أول الوقت واعادته بعد طرو الاختيار تحصيلا لما فات من المصلحة.
فتلخص: أن التكليف الاضطراري يمكن بحسب التصور أن يكون في حق

(1) فرائد الأصول: ج 2 في الاستصحاب ص 559.
249

المضطر وافيا بتمام المصلحة التي في التكليف الاختياري في حق المختار، بل
تكون أزيد، ويمكن أن لا يكون وافيا بتمام مصلحته، وعلى تقدير عدم وفائه
ونقصان مصلحته عنه تارة لا يمكن استيفاء ما فات من مصلحته وأخرى يمكن.
وعلى كلا التقديرين المصلحة الفائتة إما تكون واجبة الاستيفاء أو مستحبة،
فكما أن أصل المصلحة يمكن أن يكون على أحد النحوين فكذلك القدر الفائت
من المصلحة أيضا، فإن كان التكليف الاضطراري وافيا بتمام المصلحة التي في
التكليف الاختياري، فإن كان العذر في الجملة موجبا للانتقال إلى التكليف
الاضطراري فلا مانع من تسويغ البدار، بل استحبابه لما فيه من إدراك فضيلة أول
الوقت، ويكون مجزيا عن التكليف الاختياري إعادة وقضاء، لعدم فوت شيء من
مصلحته وإن كان العذر المستوعب موجبا للانتقال فلا يمكن تسويغ البدار، فلو
أراد المكلف المبادرة إليه في أول الوقت فإن كان برجاء مطلوبية هذا الفعل
الاضطراري منه باحتمال بقاء عذره إلى آخر الوقت فلا بأس به بناء على عدم
اعتبار الجزم في النية مع التمكن منه، وكون الامتثال الاحتمالي في عرض الامتثال
الجزمي، وأما بناء على كونه في طوله وعند عدم التمكن منه فلا يجوز له المبادرة
ولو رجاء، وأما لو أراد المبادرة إليه بداعي كونه مطلوبا منه جزما أي بداعي التعبد
به فإن كان هنا أمارة أو أصل موضوعي يحرز به بقاء العذر إلى آخر الوقت على
ما عرفت تفصيله، فلا مانع منه، وإلا فلا، ويكون مجزيا عن القضاء في هذه
الصورة لا الإعادة، لما تقدم وإن لم يكن وافيا بتمام المصلحة، بل يبقى منها شيء.
فإن لم يمكن تداركه فإن كان الفائت من المصلحة واجب الاستيفاء فلا يمكن
تسويغ البدار وتشريعه، لأنه لا يمكن أن يكون الموجب للانتقال إلى التكليف
الاضطراري في هذه الصورة العذر في الجملة، لأنه ربما يوجب تفويت مقدار من
مصلحة التكليف الاختياري، بل لابد أن يكون الموجب للانتقال هو العذر
المستوعب، ولازمه عدم تسويغ البدار، بل وجوب الانتظار، فلو أخر إلى آخر
الوقت وأتى به فقد أجزأ ولا قضاء عليه أيضا، لأن أصل المصلحة قد أدركها
250

بالفعل الاضطراري، وما فات من المصلحة غير قابل للتدارك فلا موجب للقضاء،
لأن القضاء إنما يجب لإدراك أصل المصلحة أو لما نقص من مصلحة التكليف
الاضطراري عن التكليف الاختياري، والفرض أن أصل المصلحة قد أدركها وما
نقص غير ممكن الإرداك.
لا يقال كيف يمكن تشريع هذا التكليف الاضطراري مع أنه ربما يوجب
تفويت مقدار من المصلحة، والحال أنه يمكن إدراكه ولو بالقضاء خارج الوقت؟
لأنا نقول: الأمر كذلك لو لا مزاحمته بمصلحة الوقت التي ربما تكون أهم من
المقدار الفائت من مصلحة الفعل الاختياري، وإن كان الفائت من المصلحة الذي
لا يمكن استيفاؤه بعد استيفاء أصل المصلحة بالتكليف الاضطراري مستحب
الاستيفاء فيمكن تسويغ البدار، بل استحبابه فيما إذا كان إدراك فضيلة أول الوقت
أهم من مقدار المصلحة التي تفوت بالفعل الاضطراري.
وعلى كل حال يكون مجزيا عن الإعادة والقضاء في صورة جواز المبادرة،
وعن القضاء في صورة عدم جواز المبادرة وإن أمكن استيفاء الفائت من
المصلحة، فإن وجب استيفاؤه فلا مانع من تسويغ البدار، لأنه يمكن أن يكون
العذر في الجملة موجبا للانتقال أو العذر المستوعب فيتخير بين البدار والإتيان
بالفعل الاضطراري في هذا الحال والفعل الاختياري بعد رفع الاضطرار وبين
الانتظار والإتيان بما هو تكليف المختار، ولا يكون ما أتى به من التكليف
الاضطراري مجزيا لا عن الإعادة ولا عن القضاء كما لا يخفى.
وإن استحب استيفاؤه فلا مانع أيضا من تسويغ البدار كالصورة السابقة، ولا
يكون مجزيا بالنسبة إلى المقدار الفائت من المصلحة فيستحب إعادته أو قضاؤه،
لتحصيل هذا المقدار الفائت من المصلحة، بل يمكن أن يقال: إن البدار في هذه
الصورة مستحب والإعادة أو القضاء أيضا كذلك، أما البدار فلإدراك فضيلة أول
الوقت، وأما الإعادة أو القضاء فلإدراك ما فات من المصلحة، فلو أراد المكلف أن
يحوز المصلحتين فيأتي بالفعل الاضطراري في أول الوقت وبالفعل الاختياري
251

بعد رفع الاضطرار. هذا تمام الكلام في الانحاء المتصورة في وقوع الفعل
الاضطراري في عالم الثبوت.
وأما في عالم الاثبات والاستظهار من الأدلة وأن ما وقع على أي نحو؟ فلا بد
أولا من تنقيح موضوع التكاليف الاضطرارية وأنه العذر في الجملة أو العذر
المستوعب؟ وفي الحقيقة يكون النزاع في الإجزاء وعدمه بالنسبة إليه صغرويا
بالرجوع إلى أدلتهما، فإن كان لدليل التكليف الاختياري اطلاق - كما هو كذلك -
نوعا كقوله: " لا صلاة إلا بطهور " (1) و: " لا صلاة إلا بفاتحة " (2) و: " لا صلاة لمن لم
يقم صلبه " (3) وأمثالها وكان لدليل التكليف الاضطراري أيضا إطلاق كما في قوله
تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) (4) وقوله (عليه السلام): " التراب أحد الطهورين " (5)
وأمثالهما فيحكم إطلاقه على إطلاق دليل التكليف الاختياري، لأنه مخصص أو
مقيد بالنسبة إليه فيقدم إطلاقه على إطلاقه، ويصير المتحصل من الإطلاقين بعد
التحكيم والجمع تنويع المكلف إلى القادر والعاجز والواجد للماء والفاقد له، وأن
القادر وظيفته التكليف الاختياري والعاجز وظيفته التكليف الاضطراري،
والواجد للماء وظيفته الغسل أو الوضوء، والفاقد وظيفته التيمم، وأن العذر في
الجملة ولو في زمان من أزمنة التكليف يكفي في الانتقال من التكليف الاختياري
إلى التكليف الاضطراري.
وظاهره أنه واف بتمام المصلحة التي تكون للتكليف الاختياري الذي لازمه
الإجزاء عن الإعادة والقضاء وجواز البدار في أول الوقت، إلا أن يقوم دليل على
خلافه فنستكشف منه عدم وفاء التكليف الاضطراري بتمام الغرض، ولا ينافي

(1) وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب الوضوء ح 1 ج 1 ص 256.
(2) عوالي اللئالي: ح 13 ج 2 ص 218.
(3) وسائل الشيعة: ب 16 من أبواب الركوع ح 2 ج 4 ص 939.
(4) النساء: 43.
(5) وسائل الشيعة: ب 23 من أبواب التيمم ح 5 ج 4 ص 595 وفيه: " أن التيمم أحد الطهورين ".
252

ذلك كون الموضوع للتكليف الاضطراري هو العذر في الجملة الذي لازمه جواز
البدار، لأنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري وافيا ببعض الغرض فأمر به
الشارع تحصيلا له وأمر بالإعادة أو القضاء تحصيلا لما فات منه، فيكون من باب
تحصيل تمام الغرض، والمطلوب بأمرين فيما يمكن تدارك ما فات من الغرض
بالأمر الثاني وإن لم يكن لدليل التكليف الاضطراري إطلاق، سواء كان لدليل
التكليف الاختياري إطلاق أم لا، فإن المناط هو إطلاق دليل التكليف
الاضطراري وعدمه، فلابد من الأخذ بالقدر المتيقن وأن العذر الموجب للانتقال
من التكليف الاختياري إلى التكليف الاضطراري هو العذر المستوعب.
وعليه فلا مجال للنزاع في كونه مجزيا بالنسبة إلى الإعادة أم لا؟ لأنه لو
ارتفع العذر بعد الإتيان بالتكليف الاضطراري وكان الوقت باقيا يستكشف منه أن
التكليف الاضطراري لم يكن في الواقع حتى ينازع في إجزائه وعدم إجزائه، لأن
موضوعه العذر المستوعب والعذر لم يكن مستوعبا وإتيانه كان بتخيل أن الأمر
الاضطراري متحقق لتحقق موضوعة، والحال أنه لم يكن متحققا. نعم يمكن
النزاع في إجزائه بالنسبة إلى القضاء وعدم إجزائه، هذا بحسب الأصول اللفظية.
وحاصله: أنه يمكن تصورا أن يكون دليل التكليف الاختياري والتكليف
الاضطراري كلاهما مطلقين، أو كلاهما غير مطلقين، أو دليل التكليف الاختياري
مطلقا، ودليل التكليف الاضطراري غير مطلق أو بالعكس، فالأقسام المتصورة
أربعة فإن كان كلاهما مطلقين فإطلاق دليل التكليف الاضطراري يحكم على
إطلاق دليل التكليف الاختياري، ومقتضاه أن الموضوع للتكليف الاضطراري هو
العذر في الجملة، ولازمه مشروعية الفعل الاضطراري وجواز البدار وكونه وافيا
بتمام الغرض إن كان إطلاقه في مقام بيان الفعل من هذه الجهة، إذ يمكن أن يكون
إطلاقه في مقام البيان من جهة أصل مشروعية الفعل الاضطراري مع العذر في
الجملة، ويكون مجملا بالنسبة إلى وفائه بالغرض حتى يكون المرجع عند الشك
وعدم الدليل على وجوب الإعادة أو القضاء هو الأصل العملي ومجزيا عن
253

الإعادة والقضاء إلا أن يدل دليل على وجوب الإعادة أو القضاء.
إذ يمكن أن يكون العذر في الجملة الذي هو موضوع للتكليف الاضطراري
متحققا وكان الفعل الاضطراري مشروعا، ومع ذلك قام دليل على وجوب الإعادة
أو القضاء فيكشف هذا الدليل أن العذر في الجملة كان موضوعا لأصل شرعية
التكليف الاضطراري لا للوفاء بتمام الغرض المقصود من الفعل الاختياري وإن
كان كلاهما غير معلقين، فلازم عدم إطلاقهما أن يؤخذ بالقدر المتيقن من كل
منهما، فالقدر المتيقن من دليل التكليف الاختياري هو صورة عدم العذر في جزء
من أجزاء الوقت، والقدر المتيقن من دليل التكليف الاضطراري هو صورة
استيعاب العذر لتمام الوقت، فتبقى صورة العذر في الجملة غير مشمولة لا لدليل
التكليف الاختياري ولا لدليل التكليف الاضطراري، فيرجع فيها إلى الأصول
العملية والأصل العملي في المقام ليس إلا أصالة البراءة التي لازمها نفي التكليف
الاختياري والاضطراري كليهما.
لكن هذا مجرد فرض لا واقع له، إذ أدلة التكاليف الاختيارية إما مطلقة - كما
أنها نوعا كذلك - أو ثبت من دليل خارجي أنها ثابتة في تمام الوقت على تمام
المكلفين إلا ما أخرجه الدليل، ففرض صورة غير مشمولة لأحد التكليفين
والرجوع فيها إلى البراءة ونفي التكليفين فرض لا واقع له ظاهرا، وأما إن كان
دليل التكليف الاختياري مطلقا ودليل التكليف الاضطراري غير مطلق فيؤخذ
بالقدر المتيقن، وهو أن التكليف الاضطراري موضوعه القدر المستوعب، ومعه
لا مجال للنزاع في أنه مقتض للإجزاء بالنسبة إلى الإعادة وعدمه كما عرفت، وأما
العكس فلازمه كون العذر في الجملة موضوعا للتكليف الاضطراري وكونه مجزيا
ووافيا بتمام الغرض إن كان إطلاقه في مقام البيان من هذه الجهة، ومع الشك في
كونه في مقام البيان من هذه الجهة ولو كان في مقام البيان من حيث مشروعية
الفعل الاضطراري مع العذر في الجملة يكون المرجع هو الأصل العملي.
والمقصود من ذكر هذه الأقسام والصور المتصورة - وإن كان بعضها مجرد
254

فرض لا واقع له - هو أنه يمكن أن يكون دليل التكليف الاضطراري مطلقا، ومع
ذلك يقع النزاع في الإجزاء وعدمه، والحال أنه لو كان مطلقا لكان موضوعه العذر
في الجملة، وإذا كان الموضوع هو العذر في الجملة لابد أن يكون مجزيا، لما
عرفت من أن النزاع في الإجزاء وعدمه بالنسبة إلى هذه الجهة صغروي، بمعنى أنه
لو لم يكن نزاع في أن موضوع التكليف الاضطراري هو العذر في الجملة أو العذر
في تمام الوقت لم يكن مجال للنزاع في الإجزاء وعدمه.
وأما بحسب الأصول العملية في موارد الشك في إجزاء المأمور به بالأمر
الاضطراري عن المأمور به بالأمر الاختياري بالنسبة إلى القضاء والإعادة، فأما
بالنسبة إلى القضاء فالظاهر أنه لا إشكال في جواز الرجوع إلى البراءة، لأنه شك
في التكليف الزائد ويرجع فيه إلى البراءة لو لم يكن أصل موضوعي يحرز به
موضوعه وهو فوت الواقع، كما إذا شككنا بعد خروج الوقت في إتيان المأمور به
وعدم إتيانه، فإنه يحرز بأصالة عدم إتيان الفعل في الوقت لو لم يكن خروج
الوقت حائلا والشك بعده غير معتنى به، مثلا موضوع القضاء وهو الفوت فيحكم
بوجوب القضاء، لتحقق موضوعه بالأصل الموضوعي.
كما يحتمل أن يكون نظر من قال بوجوب قضاء الفوائت التي لا يعلم مقدارها
حتى يعلم بفراغ الذمة أو قال بالاكتفاء بمقدار يظن بحصول الفراغ دفعا للعسر
والحرج على تقدير لزوم تحصيل العلم بالفراغ إلى هذا، أعني إحراز موضوع
القضاء بالأصل الموضوعي وهي أصالة عدم الإتيان وعدم الاعتناء بخروج
الوقت وكونه حائلا في هذه الصورة وإن كان لا يخلو عن إشكال، وفي المقام ليس
أصل موضوعي يحرز به موضوع القضاء، لأنه بالنسبة إلى المأمور به بالأمر
الاضطراري لا شك في إتيانه وبالنسبة إلى المأمور به الواقعي لا شك في عدم
إتيانه، فليس في البين شيء يشك في إتيانه وعدم إتيانه حتى يحرز عدم إتيانه
بالأصل الموضوعي، وأما بالنسبة إلى الإعادة فيرجع فيها إلى البراءة أيضا لو كان
255

الشك في لزومها شكا في التكليف كما ذكره في الكفاية (1).
وفيه تأمل، إذ التكليف في أول الوقت لو كان بخصوص الفعل الاضطراري
لكان لما ذكر وجه، لأنه على هذا يكون الشك في لزوم إتيان المأمور به الواقعي
بعد الإتيان بالمأمور به الاضطراري شكا في التكليف، وأما لو كان التكليف بالقدر
المشترك بينه وبين الفعل الاختياري بأن كان العذر في الجملة موجبا لأصل
مشروعية الفعل وجواز البدار إليه في أول الوقت، والاقتصار عليه لو لم يرتفع
العذر إلى آخر الوقت، وإعادته فيه لو ارتفع العذر، أو الانتظار إلى آخر الوقت
والإتيان بالفعل الاختياري بعد رفع العذر، فالشك ليس في التكليف، بل في
المسقط ودورانه بين التخيير والتعيين، لأن سقوط التكليف بإتيان الفعل
الاختياري في آخر الوقت بعد رفع العذر يقيني على كل حال، وسقوطه بإتيان
الفعل الاضطراري مشكوك والمرجع فيه الاحتياط، هذا على تقدير الشك في أن
العذر في الجملة هل هو موجب لتعين التكليف الاضطراري وواف بتمام الغرض
أم لا؟ وانتهاء الأمر إلى الأصول العملية.
ولكن الظاهر من الأدلة كقوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) (2) وأمثاله هو
كفاية العذر في الجملة للانتقال من التكليف الاختياري إلى التكليف الاضطراري
وكونه وافيا بتمام الغرض وتنويع المكلفين إلى النوعين وأن المختارين تكليفهم
الفعل الاختياري وأن المضطرين تكليفهم الفعل الاضطراري، فعلى هذا لا تصل
النوبة إلى الأصول العملية.
المقام الثاني: في إجزاء إتيان المأمور به بالأمر الظاهري وعدمه.
لا يخفى أن النزاع في هذا المقام في أنه إذا قامت أمارة أو أصل على حكم أو
موضوع وعمل المكلف على طبقهما ثم انكشف خطؤهما عن الواقع بالقطع بمخالفة
مؤداهما للواقع هل يجزي ما أتى به المكلف عن الواقع أم لا؟ فبين هذه المسألة
ومسألة تبدل الاجتهاد أو التقليد عموم مطلق كما قيل، لاختصاص النزاع في هذه

(1) كفاية الأصول: في الأوامر ص 110.
(2) النساء: 43.
256

المسألة بالعبادات أو التكاليف مطلقا، وعموم النزاع في تلك المسألة للعقود
والإيقاعات. وأيضا تبين الخلاف في هذه المسألة مخصوص بالقطعي على ما قيل،
وتبدل الاجتهاد أعم من أن يكون بواسطة القطع أو بواسطة أمارة ظنية، فتأمل.
وإذا عرفت محل النزاع في هذا المقام يظهر لك أن ما جعله صاحب الكفاية
تفصيلا في هذا المقام ليس تفصيلا في محل النزاع، بل هو خروج عن محل النزاع
وذلك لأنه (قدس سره) قال: والتحقيق أن ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع
التكليف ومتعلقه وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة أو
الحلية يجزئ، فإن دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط ومبينا لدائرة الشرط
وأنه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا
لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين
ارتفاع الجهل، وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعا؟ كما هو
لسان الأمارات فلا يجزئ... إلى آخر كلامه (1) زيد في علو مقامه ومقصوده
التفصيل في الإجزاء وعدمه بين الأوامر الظاهرية التي لسانها لسان جعل
المشكوك في مرحلة الشك كما في أصالة الطهارة والحلية فيجزىء، وبين ما كان
لسانها لسان التعبد بالواقع كالأمارات فلا يجزئ، والاستصحاب مثل الأمارات
على الأقوى، فالإجزاء في القسم الأول موقوف على ثلاثة مقدمات:
أحدها: كون المورد قابلة للجعل كما في الحلية والحرمة، وأما الطهارة
والنجاسة فبناء على كونهما منتزعتين من الحكم التكليفي فكذلك أيضا، وأما بناء
على كونهما أمرين واقعيين أو أمرين اعتباريين فليستا قابلتين للجعل، لأنه يلزم
من جعل شيء يكون نجسا واقعا طاهرا في مرحلة الشك اجتماع المتضادين
كالسواد والبياض.
ثانيها: أن يكون لسان الأمر الظاهري لسان الجعل كما في الأصلين المذكورين.

(1) كفاية الأصول: في الاجزاء ص 110.
257

ثالثها: أن يثبت من الخارج أن ما هو الشرط أو الشطر أعم من الواقعي أو
الظاهري الجعلي كما في الطهارة من الخبث بالنسبة إلى الصلاة حيث استفيد من
الأدلة الخارجية أن ما هو الشرط أعم من الواقعية والظاهرية، فمع اجتماع الأمور
الثلاثة لا إشكال في الإجزاء، ولكنه خارج عن محل النزاع، لما عرفت من أن
محل النزاع فيما إذا قامت الأمارة أو الأصل على شيء وأتى به المكلف ثم تبين
الخلاف وفي الفرض المزبور ليس في البين تبين خلاف، بل كان العمل واجدا لما
هو الشرط أو الشطر واقعا، لأنهما أعم من الواقعي والظاهري ومن حين ارتفاع
الجهل تبدل الموضوع فهذا التفصيل الذي ذكره (قدس سره) خروج عن محل النزاع إلا أن
يكون مراده (قدس سره) التنبيه على ذلك لا التفصيل.
فرع: لو شك في طهارة ماء ونجاسته مع عدم العلم بحالته السابقة وبنى على
طهارته بمقتضى أصالة الطهارة وتوضأ به ثم انكشف أنه كان نجسا يلزم أن يكون
الوضوء صحيحا لو كانت الطهارة المعتبرة في ماء الوضوء أعم من الطهارة الواقعية
والظاهرية المجعولة بقاعدة الطهارة وعدم جواز الوضوء حال الشك لو كانت
الطهارة المعتبرة فيه خصوص الطهارة الواقعية، لأنه على هذا لابد من إحراز
الطهارة الواقعية إما بالوجدان أو بأمارة أو أصل يكون لسانه إحراز الطهارة
الواقعية، وكلاهما مفقودان حسب الفرض.
ولا محيص عن هذا الإشكال إلا بالالتزام بأن مفاد أصالة الطهارة
كاستصحابها هو التعبد بالطهارة الواقعية، ولذا يحكم ببطلان الوضوء عند انكشاف
الخلاف وجواز الوضوء بالماء المشكوك، وأما عدم لزوم إعادة الصلاة مع الجهل
بالنجاسة فإنما هو من جهة أن المعتبر في صحة الصلاة من الطهارة الخبثية هو
إحرازها لا نفس الطهارة الواقعية.
إذا عرفت أن التفصيل الذي ذكره (قدس سره) خروج عن محل النزاع وأن محل النزاع
فيما إذا قامت أمارة أو أصل على موضوع أو حكم ثم انكشف الخلاف بعد ما أتى
المكلف ما هو المكلف به بمقتضاهما فاعلم أنه بناء على القول بكون الأمارات
مجعولة من باب السببية فبحسب الإمكان يحتمل تمام الوجوه المتصورة في الأمر
258

الاضطراري، فيجزىء إتيان المأمور به بالأمر الظاهري لو كانت السببية سببية
تامة بأن كان المأمور به بالأمر الظاهري وافيا بتمام المصلحة التي في المأمور به
الواقعي أو كانت سببية ناقصة، ولكن لم يمكن تدارك ما فاتت من المصلحة بعد
إتيان المأمور به بالأمر الظاهري وإدراك بعض المصلحة به ولا يجزئ إن كانت
السببية ناقصة وكان الباقي ممكن الاستيفاء وكان لازم التحصيل على التفصيل
الذي تقدم في الأمر الاضطراري، هذا بحسب الإمكان.
وأما بحسب الوقوع فالظاهر من أدلة الأوامر الظاهرية بناء على السببية هو
السببية التامة ووفائها بتمام الغرض، وأما بناء على القول بكونها مجعولة من باب
الطريقية - كما هو الحق - فلا يجزئ، لأن الأمر الظاهري ليس فيه مصلحة إلا
الطريقية وإراءة الواقع وقد انكشف خطؤه عن الواقع.
نعم يمكن الإجزاء على القول بالطريقية فيما إذا كانت في نفس ما قامت عليه
الأمارة مصلحة في تلك الحال أو على مقدار من المصلحة غير ممكن استيفاء
الباقي منها بعد استيفائه كما في مسألة الجهر والإخفات، والقصر والإتمام، ولكنه
ليس من جهة أن الأمر الظاهري مقتض للإجزاء، بل من جهة خصوصية المورد،
وكونه مشتملا على المصلحة في هذا الحال ولذا نقول بالإجزاء في صورة القطع
بالأمر في هذا المورد مع أنه ليس أمر ظاهري في البين حتى يكون الإجزاء
مستندا إليه.
ويمكن القول بالإجزاء من جهة أخرى وهي أن يكون أمر تعلق بطبيعة، وأمر
آخر تعلق بإيجادها بخصوصية، وكان ظرف الأمر الثاني امتثال الأمر الأول، فبعد
امتثال الأمر الأول وايجاد الطبيعة فاقدة لتلك الخصوصية يجزئ، لأنه لا موقع
لايجادها مع الخصوصية ثانيا، هذا فيما إذا علم أن جعل الأمارات من باب
السببية أو الطريقية.
وأما إذا شك ولم يعلم أنها من باب السببية أو الطريقية أو علم أنها من باب
السببية، ولكن لم يعلم أنها مجعولة من باب السببية التامة أو السببية الناقصة،
فأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للإعادة في الوقت،
259

واستصحاب عدم التكليف بالواقع فعليا لا يجدي ولا يثبت كون ما أتى به مسقطا
إلا على القول بالأصل المثبت، وقد علم اشتغال ذمته بما يشك في فراغها عنه
بذلك المأتي.
وهذا بخلاف ما إذا علم أنه مأمور به واقعا وشك في أنه يجزئ عما هو
المأمور به الواقعي الأولي كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية بناء على أن
تكون الحجية على نحو السببية، فقضية الأصل فيها كما أشار إليه (قدس سره) هو عدم
وجوب الإعادة وإن ناقشنا فيه، وأما القضاء فلا يجب بناء على كونه بأمر جديد
وكان الفوت المعلق عليه وجوبه لا يثبت بأصالة عدم الإتيان إلا على القول
بالأصل المثبت، من جهة أن الفوت ليس مجرد عدم الإتيان بشيء، بل عدم
الإتيان بشيء من شأنه الإتيان به كالعمى فإنه ليس مجرد عدم البصر، بل عدم
البصر عما من شأنه البصر، وبأصالة عدم الإتيان لا يثبت الأمر الوجودي وهو
شأنية الإتيان به، كما أن بأصالة عدم البصر لا يثبت الأمر الوجودي وهو شأنية
البصر إلا على القول بالأصل المثبت.
وعلى فرض تسليم أن الفوت عبارة عن نفس عدم الإتيان أو أنه وإن كان
غيره إلا أن الواسطة خفية ويمكن إثبات الفوت الذي هو موضوع القضاء بأصالة
عدم الإتيان الذي هو أصل موضوعي فيما إذا شك في إتيان فعل في وقته بناء
على أن لا يكون خروج الوقت حائلا مع ذلك لا يمكن ذلك في المقام، وذلك لأن
المأمور به بالأمر الظاهري قد أتى به يقينا والمأمور به بالأمر الواقعي لم يأت به
يقينا، فلا أصل موضوعي هنا يحرز به موضوع القضاء، فتأمل.
تذنيبان:
الأول: أنه لا ينبغي توهم الإجزاء في القطع بالأمر فإن ما أتى به غير مأمور
به، والمأمور به لم يأت، فليس في البين أمر شرعي بما أتى به لا واقعا ولا ظاهرا
حتى يتوهم الإجزاء وإنما هو تخيل أمره.
نعم يمكن الإجزاء فيما إذا كان المأتي به مشتملا على المصلحة في هذا الحال
أو على مقدار من المصلحة ولو في غير هذا الحال غير ممكن مع استيفائه استيفاء
260

الباقي، ولكن الإجزاء ليس من جهة اقتضاء الأمر القطعي، بل من جهة خصوصية
المتعلق كما في القصر والإتمام والجهر والإخفات، كما أنه لو تعلق الأمر الشرعي
الظاهري بكل من القصر والإتمام أو الجهر والإخفات في موضع الآخر لكان
إتيانه مجزيا ولكن من جهة خصوصية المتعلق لا من جهة أن الأمر الظاهري
مقتضى الإجزاء كما تقدم.
الثاني: أنه لا يذهب عليك أن الإجزاء في بعض موارد الأصول والأمارات
على ما عرفت لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه، فإن القائلين بالتصويب
إنما قالوا به في موارد الاجتهادات والترجيحات والاستحسانات لا في موارد
الأصول والأمارات التي قد أخذ الجهل بالحكم الواقعي مأخوذا فيها موضوعا أو
موردا فلا يمكن القول بالتصويب وخلو الواقعة عن الحكم الواقعي فيها كما لا
يخفى. هذا تمام الكلام في باب الأمر الظاهري.
وأما الكلام في باب تبدل الاجتهاد باجتهاد آخر، أو بالتقليد، أو تبدل التقليد
بالاجتهاد، أو بتقليد آخر، فمحل الكلام فيما إذا لم ينكشف فساد الاجتهاد الأول
من أصله كأن اعتمد على خبر باعتقاد أنه خبر عدل ثم تبين أنه خبر فاسق مثلا،
أو التقليد الأول كأن قلد شخصا بزعم أنه مجتهد عادل ثم تبين الخلاف، وبعبارة
أخرى محل الكلام فيما إذا ظفر المكلف بحجة أقوى من الحجة الأولى، مع كون
الأولى حجة في ظرفها وعدم فسادها في نفسها، ولا إشكال في وجوب العمل
على طبق الحجة الثانية بعد الظفر بها، وإنما الإشكال بالنسبة إلى الأعمال السابقة
التي وقعت على طبق الحجة الأولى التي كانت حجة معتبرة قبل الظفر بالحجة
الثانية فمقتضى حجية الأولى صحة الأعمال السابقة، ومقتضى حجية الثانية
فسادها فيتعارضان بالنسبة إليها.
والحق أن الحجة الثانية من قبيل الناسخ لحجية الأولى من حين الظفر بها لا
لأصلها، فمن حين الاطلاع على الثانية ترتفع حجية الأولى لا من أصلها، فتأمل.
هذا مجمل القول في باب تبدل الإجتهاد أو التقليد. وتفصيله موكول إلى محله إن
شاء الله تعالى.
261

فصل في مقدمة الواجب
وقبل الخوض في المقصود ينبغي رسم أمور:
الأول: أن المبحوث عنه في تلك المسألة هو أن بين وجوب الشيء ووجوب
مقدمته ملازمة بحيث يستلزم ايجابه ايجابها أم لا؟ فعلى هذا تكون المسألة
أصولية لا أن المبحوث عنه هو نفس وجوبها كي تكون فرعية كما هو المتوهم من
بعض العناوين.
ولا وجه لتوهم كونها فرعية إلا جعل عنوان البحث في وجوبها وعدم وجوبها
في كلام بعضهم (1)، وهو لا يوجب كونها مسألة فرعية، لأنه جعل النتيجة عنوانا
للبحث، فإن نتيجة ثبوت الملازمة وجوب المقدمة ونتيجة عدم ثبوتها عدم
وجوب المقدمة، فلا إشكال في كونها أصولية، وإنما الإشكال في أنها من المسائل
الأصولية اللفظية، أو أنها من المسائل الأصولية العقلية وبعبارة أخرى أنها من
مباحث الألفاظ أو من الأدلة العقلية. لا يخفى أن بعض الكتب الأصولية كما كان
مشتملا على المبادئ اللغوية والمنطقية كذلك كان مشتملا على المبادئ
الأحكامية، والمراد بها لوازم الأحكام كاستلزام وجوب الشيء لوجوب مقدمته
وحرمة ضده وأمثالهما من اللوازم.
والمسائل العقلية الأصولية على قسمين: أحدهما: وجدانيات العقل

(1) نقله في بدائع الأفكار عن الفاضل الجواد في شرح الزبدة، بدائع: ص 295 س 28.
262

كالتحسين والتقبيح العقليين، والثاني: إدراكيات العقل كحكمه بوجوب المقدمة
بعد ايجاب ذي المقدمة وامتثاله مما يدرك العقل حكمه بعد ملاحظة الخطاب
الشرعي. وبعبارة أخرى الأدلة العقلية تنقسم إلى قسمين: المستقلات العقلية
والملازمات العقلية، والمراد بمبادىء الأحكامية هو باب الملازمات، فمن كان
في كتابه مبادئ الأحكامية فينبغي إدراج هذه المسألة فيها، ومن لم يكن في
كتابه باب مبادئ الأحكام فيمكن إدراجها في مباحث الألفاظ، من جهة أن
البحث في هذه المسألة في الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته وعدمها.
والوجوب غالبا يستفاد من اللفظ فيناسب إدراجها في مباحث الألفاظ ويمكن
إدراجها في الأدلة العقلية، لأنها من المسائل العقلية أي من ملازماتها، وهي على
قسمين: ملازم لخطاب واحد كوجوب المقدمة وحرمة الضد، وملازم لخطابين
مثل مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم جوازه.
والحاصل أن هذه المسألة من المسائل العقلية الأصولية لا من المسائل
الفرعية كما هو المتوهم من بعض العناوين (1).
ثم إنه لما كان البحث عن هذه المسألة موقوفا على تحرير محل النزاع وأن
المقدمة التي يبحث عن الملازمة بينها وبين ذي المقدمة أي مقدمة؟ وأن الواجب
الذي تكون بينه وبين مقدمته الملازمة أي واجب؟ وأن الوجوب الذي محل النزاع
أي وجوب؟ فصار صاحب الكفاية بصدد تقسيم المقدمة أولا إلى الأقسام التي
ذكرها ثم تقسيم الواجب إلى الأقسام التي ذكرها أيضا، ثم تقسيم الوجوب أيضا
كذلك، فقال:
الأمر الثاني: أنه ربما تقسم المقدمة إلى أقسام: منها: تقسيمها إلى داخلية
- وهي الأجزاء المأخوذة في ماهية المأمور بها - وخارجية وهي الأمور الخارجة
عن ماهيته مما لا يكاد يوجد بدونه وربما يشكل كون الأجزاء مقدمة وسابقة على
المركب بأن المركب ليس إلا نفس الأجزاء بالأسر. والحال أن المقدمة هي نفس

(1) المصدر السابق.
263

الأجزاء بالأسر وذو المقدمة هي الأجزاء بشرط الاجتماع فيحصل المغايرة
بينهما (1).
ولكن الحق هو أن يقال: إن المقدمية إن كانت بمعنى اللابدية فالأجزاء أولى
بالمقدمية من الأمور الخارجة وإن كانت بمعنى توقف وجود على وجود آخر،
فالأجزاء خارجة عن المقدمة بهذا المعنى، لأنها ليست مغايرة بحسب الوجود
للمركب فإن وجود المركب عين وجودات الاجزاء.
وعلى أي حال فالأجزاء خارجة عن محل النزاع، سواء قلنا بأنها مقدمة
للكل أم لا؛ لأن النزاع في أنه هل يترشح من الوجوب النفسي العارض لذي
المقدمة وجوب آخر غيري إلى المقدمة أم لا؟ وترشح الوجوب الغيري إلى
الأجزاء مع كونها واجبة بالوجوب النفسي في ضمن الكل لا معنى له، بل ملاك
الوجوب الغيري ليس فيها أيضا بعد كونها مبعوثا إليها بنفس البعث النفسي المتعلق
بالكل، فليست الأجزاء معروضة للوجوب النفسي والغيري ولو مع قطع النظر عن
امتناع اجتماع المثلين.
وأما المقدمة الخارجية فقد قسمت إلى أقسام:
منها: تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية، فالمقدمة العقلية ما كانت إناطة
وجود ذي المقدمة بها عقليا، والشرعية ما كانت الإناطة شرعيا، وهي راجعة إلى
العقلية بعد جعلها مقدمة وإناطة ذي المقدمة بها تصير عقليا بعد ذلك الجعل، وأما
العادية فإن كان المراد بها ما كان التوقف عليها بحسب العادة وإن كان وجود ذي
المقدمة بدونها ممكنا، إلا أنه جرت العادة بإتيانه بتوسط تلك المقدمة فهي غير
راجعة إلى العقلية، وإن كان المراد بها ما كان التوقف عليها فعلا واقعيا، إلا أنه
يمكن عقلا ايجاد ذي المقدمة بدونها بخرق العادة كالوصول إلى مكان المتوقف
على قطع المسافة فعلا واقعا، وإن أمكن بدونه بخرق العادة فهي راجعة إلى العقلية
لغير المتمكن من خرق العادة، فالمقدمة العقلية والشرعية كلتاهما محل النزاع، ولا

(1) كفاية الأصول: في مقدمة الواجب ص 114.
264

وجه لتوهم خروج المقدمة الشرعية عن محل النزاع كما حكي عن بعض.
وأما المقدمة العادية فبالمعنى الأول لا إشكال في خروجها عن محل النزاع،
بل ليست مقدمة في الحقيقة، وأما بالمعنى الثاني فهي راجعة إلى العقلية وداخلة
في محل النزاع.
ومنها: تقسيمها إلى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ومقدمة الوجوب ومقدمة
العلم.
لا يخفى دخول مقدمة الوجود في محل النزاع، وكذلك مقدمة الصحة، سواء
قلنا برجوعها إلى مقدمة الوجود بأن اعتبرناها بالقياس إلى المأمور به بوصف
كونه مأمورا به، فإن وجود المأمور به بذلك الوصف متوقف عليها، إذ لا يكون
المأمور به إلا صحيحا، ووجود الصحيح موقوف عليها، أو قلنا بعدم رجوعها إليها
بأن اعتبرناها بالقياس إلى ذات المأمور به مع قطع النظر عن كونه مأمورا به وأما
مقدمة الوجوب فلا إشكال في خروجها عن محل النزاع، لأنه ما لم توجد المقدمة
الوجوبية لا يحدث الوجوب لذي المقدمة، فلا يمكن أن يترشح من وجوب ذي
المقدمة وجوب غيري إليها، لأنه يكون من باب تحصيل الحاصل، إذ وجوب
المقدمة موقوف على وجوب ذي المقدمة ووجوب ذي المقدمة موقوف على
وجود المقدمة فيتوقف وجوب المقدمة على وجودها. وتعلق الطلب بالأمر
الموجود تحصيل للحاصل.
وأما مقدمة العلم فلا إشكال في رجوعها إلى مقدمة الوجود ودخولها في
محل النزاع فيما إذا كان تحصيل العلم واجبا شرعا، وكذلك إذا كان واجبا بحكم
العقل من باب الخروج عن عهدة التكليف المنجز، إلا أنه كان الإتيان بذي المقدمة
غير ممكن بحسب الدقة العقلية إلا بإتيان المقدمة كإدخال جزء من فوق المرفق،
أو من قصاص الشعر في غسل الوجه واليد ليخرج عن عهدة الغسل المأمور به
وهكذا أمثالهما، وأما لو لم يكن كذلك كالصلاة إلى أربع جهات فلا يرجع إلى
مقدمة الوجود لو لم يكن تحصيل العلم واجبا.
265

ومنها: تقسيمها إلى المتقدم والمقارن والمتأخر. ولا إشكال في جريان النزاع
في تمام هذه الأقسام بعد تصوير مقدميتها للوجود، وإنما الإشكال في تصوير
المقدمية فإنه كيف يمكن أن يؤثر الأمر المتأخر في المتقدم؟ والحال أنه في زمانه
معدوم والمعدوم لا يؤثر وبعد وجوده صار المتقدم معدوما.
والحاصل: أن الشرط من أجزاء العلة ولابد في وجود المعلول من تحقق العلة
بتمام أجزائها وشرائطها ليحقق المعلول، وعلى هذا لا اختصاص للاشكال
بالشرط المتأخر، بل يجزي في المتقدم أيضا كما ذكره في الكفاية.
وقد أفاد (قدس سره) في دفع الإشكال بقوله: والتحقيق أن الموارد التي يتوهم انخرام
القاعدة فيها لا يخلو إما أن يكون المتقدم أو المتأخر شرطا للتكليف أو الوضع أو
المأمور به، أما الأول فكون أحدهما شرطا له ليس إلا للحاظه دخلا في تكليف
الأمر كالشرط المقارن بعينه، فكما أن اشتراطه بما يقارنه ليس إلا لتصوره دخلا
في أمره بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر كذلك المتقدم أو المتأخر
إلى آخر كلامه (قدس سره) (1).
وحاصله: أن المتقدم والمتأخر بوجودهما اللحاظي معتبران في التكليف
وكذلك الوضع، وفي عالم اللحاظ ليس تقدم وتأخر، وإنما التقدم والتأخر في
الوجود العيني الخارجي لا في الوجود اللحاظي، فإنه إذا كان لتصور المتقدم أو
المتأخر دخل في التكليف أو الوضع فما هو الدخيل فيهما هو تصورهما وهو
مقارن كالمقارن حيث إنه بتصوره أيضا دخيل فيهما.
ولكن فيه: أن الإشكال لو كان في التكليف من حيث إنه فعل اختياري للمكلف
- بالكسر - لصح ما ذكره (قدس سره) في دفع الإشكال، لأن ما يصير داعيا له على التكليف
هو تصور المتقدم أو المتأخر، وتصورهما ليس إلا كتصور المقارن. والحال أن
الإشكال ليس فيه من هذه الحيثية، بل من حيث تنجز هذا التكليف على المكلف
- بالفتح - فإن ما هو الشرط فيه هو المتقدم أو المتأخر بوجودهما العيني

(1) كفاية الأصول: مقدمة الواجب ص 118.
266

الخارجي، وهما معدومان في حال وجود المشروط فلا يعقل تأثيرهما فيه،
وكذلك بالنسبة إلى الوضع.
فلا محيص في دفع هذا الإشكال عن الالتزام بأن الشرط هو العنوان الانتزاعي
المقارن ولو كان منشأ انتزاعه متقدما أو متأخرا في الوجود الخارجي كتعقب
الصوم بالغسل في الليلة الآتية في المستحاضة مثلا، فتأمل. وكتعقب عقد الفضولي
بالإجازة، ومن جهة عدم معقولية تأثير المتأخر في حال عدمه في المتقدم لم يذكر
الشيخ (قدس سره) هذا الاحتمال في المكاسب في باب الإجازة على ما حكي عنه، بل
التزم بالكشف الحكمي (1) بأن تكون الإجارة بناء على كونها شرطا كما هو ظاهر
الأدلة مؤثرة من حين وجودها في المتقدم بأن توجب قلب العنوان، وأن المال
الذي كان واقعا ملكا للمالك إلى زمان الإجازة بالإجازة صار محكوما بملكية
المشتري من حين العقد كما في مسألة العدول من الصلاة اللاحقة إلى السابقة، أو
الالتزام بأن الشرط هو تعقب العقد بالإجازة، وبها يستكشف مقارنة الشرط مع
المشروط، إلا أنه خلاف ظاهر الأدلة، ولا مانع من رفع اليد عن ظواهر الأدلة إذا
كان الأخذ بها ممتنعا، فلابد من مراجعة المكاسب في ما حكي عن الشيخ حتى
يظهر أن الحكاية مطابقة للمحكي أم لا، هذا تمام الكلام في أقسام المقدمة.
[الأمر الثالث]: وأما الواجب فينقسم أيضا إلى أقسام منها: تقسيمه إلى
المطلق والمشروط، وقد عرف الواجب المطلق بأنه ما لا يتوقف وجوبه على ما
يتوقف عليه وجوده كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة، والواجب المشروط ما يتوقف
وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده كالحج بالنسبة إلى الاستطاعة.
ثم إن هذا التقسيم هل هو تقسيم حقيقي أو إضافي؟ والتحقيق أنه إن لوحظ
الواجب بعد استجماعه الشرائط العامة التي عمدتها البلوغ والعقل كما حكي عن
صاحب الفصول (2) فيكون التقسيم حقيقيا وإن لوحظ قبل استجماعه لها كما عن

(1) مطارح الأنظار: ص 58 س 10.
(2) الفصول الغروية: ص 79 س 21.
267

صاحب الكفاية فيكون اضافيا (1). ثم إنه أشكل على الواجب المشروط إشكالان
أحدهما لفظي والآخر لبي، أما الأول فمن جهتين الأولى أن الطلب والبعث
مستفاد من الهيئة، ووضعها كوضع الحروف وهي من جهة عدم استقلالها غير قابلة
للتقييد لأنه إنما يرد على المعاني المستقلة باللحاظ الثانية أنها من جهة جزئيتها
غير قابلة للتقييد لأنه إنما يرد على المعاني الكلية.
ويمكن دفع هذا الإشكال من كلتا الجهتين بأن الهيئة من جهة عدم استقلالها
وجزئيتها غير قابلة للتقييد لو قيدت مستقلة ومنفردة عن المادة، وأما تبعا للمادة
فلا مانع منه، فإذا قيدت المادة المتهيئة بالهيئة المخصوصة فلا محالة تتقيد الهيئة
قهرا، فكل من الهيئة والقيد من عوارض المادة، فإن قيدت المادة أولا ووردت
عليها الهيئة فلا تصير الهيئة مقيدة بهذا القيد، ويكون مفادها البعث المطلق إلى
المادة المقيدة وإن قيدت المادة بعد ما وردت عليها الهيئة وصارت متهيئة بهيئة
مخصوصة فتصير الهيئة أيضا مقيدة بهذا القيد، والفرق بين هذين النحوين إنما هو
بالاعتبار كما في مسألة سلب العموم وعموم السلب فإن العموم والسلب كلاهما
كيفيتان للنسبة، فان اعتبر ورود العموم على النسبة بعد تكيفها بالسلب فيصير مفاد
القضية عموم السلب وإن انعكس فيصير مفادها سلب العموم.
والحاصل أن الهيئة وإن لم تكن قابلة للتقييد مستقلة، إلا أنها قابلة له
تبعا للمادة، وإن المادة إذا قيدت بعد اعتبار تهيئها بالهيئة، فلا محالة
يسري تقييد المادة إلى الهيئة تبعا وإن لم يسر إليها لو قيدت بدون اعتبارها
متهيئة بهيئة، مع أن هذا الإشكال إنما يرد على الواجب المشروط الذي استفيد
وجوبه من الهيئة لا مطلقا، فإنه لو استفيد الوجوب المشروط من مادة الطلب أو
الوجوب ونحوهما، كما إذا قال يجب عليك كذا بشرط كذا، وهكذا لا يلزم هذا
الإشكال.

(1) كفاية الأصول: في تقسيم الواجب... ص 121.
268

وأما الثاني فهو أنه كما في الإرادة التكوينية المتعلقة بفعل إما أن تتعلق
الإرادة به على كل تقدير أو على تقدير خاص، وعلى كلا التقديرين فالإرادة
منجزة لا تعليق فيها، إذ على الأول يتعلق به على جميع التقادير، وعلى الثاني
تتعلق به عند حصول ذلك التقدير الخاص، كذلك في الإرادة التشريعية التي هي
عبارة عن تحريك إرادة المكلف وبعثه إلى المكلف به فإن تحريكه إلى المكلف به
إما على جميع التقادير أو على تقدير خاص، وعلى كلا التقديرين ليس تعليق في
الإرادة.
وفيه: أنه فيما إذا كان الفعل مطلوبا ومتعلقا للغرض على تقدير خاص، كما
يمكن أن يحرك المكلف إليه عنه حصول ذلك التقدير كذلك يمكن أن يحركه إليه
قبله على تقدير حصوله ومعلقا عليه بإحدى أدوات الشرط بحيث لا يكون قبله
تحريك.
ويكفي في إمكان هذا القسم من التحريك وقوعه في العرفيات والشرعيات
فوق حد الإحصاء، بل ربما يكون عند حصول المعلق عليه مانع عن إنشاء
التحريك فيحركه قبله معلقا عليه، فلا يكون هذا التحريك بلا فائدة، مع أنه ربما
تكون الفائدة فيه فعليته بالنسبة إلى من حصل له المعلق عليه وشأنيته بالنسبة إلى
غيره، ولا يلزم منه تخلف المنشأ عن الإنشاء، لأن الإنشاء لو كان فعليا ولم يكن
المنشأ كذلك يلزم ما ذكر وأما لو كان الإنشاء معلقا فلا يلزم التخلف، بل لو كان
المنشأ فعليا يلزم التخلف.
وإذا عرفت إمكان الواجب المشروط بحيث يكون الشرط قيدا للهيئة ويكون
القيد راجعا إلى الطلب لا المطلوب، ولا يكون طلب فعلي قبل حصول الشرط فهل
النزاع في وجوب المقدمة كما يجري في مقدمات الواجب المطلق يجري في
مقدمات الواجب المشروط أيضا أم لا؟
فنقول: لا إشكال في خروج مقدماته الوجوبية التي علق الوجوب عليها عن
محل النزاع، لأنها لو لم تفرض موجودة فلا يتعلق الوجوب بذي المقدمة، ومعه
269

كيف يترشح الوجوب الغيري من ذي المقدمة الذي هو محل النزاع إليها؟ والحال
أنه من قبيل تحصيل الحاصل وطلب ايجاد الموجود.
وأما مقدماته الوجودية، فهي على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما لا يمكن ايجادها إلا بعد حصول المقدمة الوجوبية مثل السير إلى
الحج مثلا المتوقف على الاستطاعة التي هي مقدمة وجوبية له، فهذا القسم لا
إشكال في دخوله في محل النزاع كما لا يخفى، لفعلية الوجوب بعد حصول شرط
الوجوب، فيكون حاله كحال الواجب المطلق في جريان النزاع في مقدماته
الوجودية.
ثانيها: ما يمكن ايجادها قبل حصول المقدمة الوجوبية وبعده مثل الطهارة
بالنسبة إلى الصلاة المشروطة بدخول الوقت مثلا، فهذا القسم أيضا داخل في
محل النزاع إلا أنه تابع لذي المقدمة في الاشتراط على القول بالوجوب.
ثالثها: ما لا يمكن إيجادها إلا قبله مثل غسل قبل الفجر بالنسبة إلى الصوم
المشروط بدخول الوقت وطلوع الفجر، وهذا القسم لا يمكن أن يكون داخلا
في محل النزاع ويعرضه الوجوب الغيري الناشئ من قبل ذي المقدمة، لعدم
اتصافه بالوجوب قبل حصول الشرط فلا وجوب لذي المقدمة قبله حتى يترشح
منه الوجوب إلى مقدمته التي ظرف ايجادها قبله. نعم يمكن أن يكون واجبا
بالوجوب النفسي التهيئي أي الوجوب الذي يكون الغرض منه التوصل إلى
واجب آخر.
وبعبارة أخرى يمكن أن يكون واجبا للغير ولا يمكن أن يكون واجبا بالغير،
هذا بناء على ما هو مختار المشهور في الواجب المشروط من كون القيد راجعا
إلى الهيئة، كما هو مقتضى قواعد العربية.
وأما بناء على مختار الشيخ (قدس سره) من كون القيد راجعا إلى المادة (1) وإن كان

(1) مطارح الانظار: ص 48. س 8 - 9.
270

مخالفا لظاهر القواعد العربية، لعدم إمكان تقييد الهيئة بالبيان الذي تقدم مع جوابه،
فالمقدمة التي علق عليها الوجوب خارجة عن محل النزاع لأنها أخذت على نحو
لا يمكن أن يترشح الوجوب منه إليها فإنه جعل الشيء واجبا على تقدير
حصولها، ومعه كيف يترشح منه الوجوب إليها، لأنه من باب طلب الحاصل.
وأما المقدمات الوجودية التي لم يعلق عليها الوجوب فكلها داخلة في محل
النزاع، لأن الوجوب فعلي على تقدير حصول الشرط في المستقبل وإن كان
الواجب استقباليا فإن أخرز بالقطع أو بأمارة معتبرة أو أصل تحقق الشرط في
المستقبل يجب فعلا تحصيل المقدمات الوجودية التي لا يمكن من تحصيلها بعده،
أو يمكن من تحصيلها بعده أيضا كما في الواجب المعلق، لأن الواجب المشروط
على مختاره (قدس سره) عين الواجب المعلق على مختار صاحب الفصول (1)، فهو (قدس سره) أنكر
الواجب المشروط بمذاق المشهور والتزم بالواجب المعلق الذي التزم به صاحب
الفصول وسماه الواجب المشروط (2)، فصاحب الفصول جعل الأقسام ثلاثة وهو
جعلها اثنين، هذا في غير المعرفة والتعلم.
وأما المعرفة فلا يبعد القول بوجوبها حتى في الواجب المشروط بالمعنى
المشهور قبل حصول الشرط لكنه لا من باب الملازمة، بل من باب استقلال
[العقل] بتنجز الأحكام على الأنام بمجرد احتمالها واستحقاق العقاب على
مخالفتها إلا مع الفحص واليأس عن الظفر بها.
ثم إن إطلاق الواجب على الواجب المشروط حقيقة إن كان متلبسا
بالوجوب في حال النسبة وإن لم يكن متلبسا به في حال النطق وإن لم يكن
متلبسا به في حال النسبة، بل كان متلبسا به سابقا على حال النسبة، فيكون محل
الخلاف في كونه حقيقة أو مجازا فتأمل وإن لم يكن متلبسا به في حال النسبة، بل
يصير متلبسا به في المستقبل، فيكون مجازا. هذا بناء على مختار المشهور من أنه
لا وجوب بالنسبة إلى الواجب المشروط قبل حصول شرطه. وأما بناء على مختار

(1) الفصول الغروية: ص 79 س 21.
(2) مطارح الأنظار: ص 43 س 5.
271

الشيخ (قدس سره) (1) من أن الوجوب فعلي له قبل حصول شرطه، والشرط إنما هو للواجب
لا للوجوب، فإطلاق الواجب عليه قبل حصول الشرط حقيقة لتلبسه بالوجوب
فعلا، وإن لم يحصل شرط الواجب.
ومنها: تقسيمه إلى المنجز والمعلق، ولا يخفى أن الاحتمالات المتصورة من
حيث إطلاق الوجوب والواجب وتقييدهما أربعة: فإنه يمكن أن يكون كلاهما
مطلقين، أو مقيدين، أو الوجوب مطلقا والواجب مقيدا، أو بالعكس، فإن قلنا بأنه
لا مانع من تقييد الوجوب المستفاد من الهيئة كما هو الحق وعليه المشهور، فإن
ورد في لسان الدليل ما يكون ظاهره تقييد الوجوب كما هو مقتضى القواعد
العربية فيؤخذ به ونحكم بأن الوجوب مشروط بهذا القيد، وإن قلنا بامتناع تقييد
الوجوب لبا كما اختاره الشيخ فلابد من ارجاع القيد إلى الواجب والحكم بأن
الواجب مقيد به لا الوجوب بناء على إمكان التعليق في الواجب دون الوجوب
وتصوير الواجب المعلق.
وإن قلنا بامتناعه أيضا فلابد من تصحيح الخطابات التي ظاهرها التعليق بأمر
آخر، فإن كان القيد راجعا إلى الهيئة بناء على إمكانه فهو الواجب المشروط وإن
لم يكن القيد راجعا إليها فهو الواجب المطلق، وهو على قسمين منجز إن لم يكن
فيه تقييد أصلا ومعلق إن كان الواجب معلقا، سواء كان معلقا على أمر غير
اختياري - كما جعل صاحب الفصول في أول كلامه عنوان الواجب المعلق فيه -
أو أمر اختياري كما يظهر من آخر كلامه (2) التعميم بالنسبة إليه أيضا، فالمنجز
والمعلق كلاهما من أقسام الواجب المطلق، لأن القيد إن كان راجعا إلى الهيئة
والوجوب بحيث لا يكون وجوب قبل حصوله فهو الواجب المشروط، وإن كان
راجعا إلى المادة والواجب بحيث يكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا فهو
الواجب المعلق، والشيخ (قدس سره) لما ادعى امتناع تقييد الهيئة أنكر الواجب المشروط

(1) مطارح الأنظار: ص 53 س 26.
(2) الفصول الغروية: ص 79 س 36.
272

بمذاق المشهور وأرجع الواجبات المشروطة إلى الواجبات المعلقة (1) على خلاف
القواعد العربية، وجعل الأقسام الثلاثة قسمين، وصاحب الفصول لما ادعى إمكانه
كما هو مقتضى القواعد العربية جعل الأقسام ثلاثة كما هو المختار.
والفرق بين الواجب المشروط والواجب المعلق بكلا قسميه واضح، وأما
الفرق بين الواجب المنجز والمعلق، مع أن الوجوب في كليهما حالي هو أن
الواجب في الأول أيضا حالي، ويجب تحصيل مقدماته الوجودية، بخلاف الثاني
فإن الواجب فيه استقبالي، ويجب فيه أيضا تحصيل مقدماته الوجودية، لكن إذا
علم بحصول المعلق عليه في المستقبل، ولا يجب عليه تحصيل ما علق عليه
الواجب ولو كان أمرا اختياريا يمكن المكلف من تحصيله كالاستطاعة وأمثالها لا
أمرا غير اختياري كدخول الوقت وأمثاله.
فعلى هذا فرق بين أن يقول: صل متطهرا أو: إن كنت متطهرا وقوله: حج
مستطيعا أو: إن كنت مستطيعا، مع أن التطهر والاستطاعة كليهما من الأمور
الاختيارية، فإنه في الأول أخذ على نحو يكون داخلا تحت التكليف بخلاف
الثاني، ولكن استفادة هذا إنما هو من دليل خارج، ولا يخفى أن ما ذكر من أن
الوجوب في الواجب المعلق غير مشروط بشيء، بل هو حالي، والواجب إنما هو
مشروط واستقبالي وأن القيد راجعا إلى المادة لا إلى الهيئة (2) لا يخلو عن إشكال،
لأن القيد إذا كان راجعا إلى مادة وصارت المادة المقيدة مطلوبة كما إذا قال: صل
في الوقت وكان الوقت قيدا للمادة لا الهيئة بأن كانت الصلاة المقيدة بالوقت
مطلوبة مطلقا كما هو معنى الواجب المعلق، فالوجوب المستفاد من الهيئة وإن لم
يكن مقيدا بما علق عليه الواجب إلا أنه مقيد بالأمر المنتزع منه وهو كونه ممن
يدرك الوقت، إذ لم يدركه لما كان واجبا عليه، فلو علم بحصول المعلق عليه في
المستقبل كان الوجوب حاليا لحصول شرطه، وهو العنوان الانتزاعي وكونه ممن
يدرك الوقت ويترتب عليه آثار الوجوب الفعلي وإن لم يعلم بحصوله في

(1) مطارح الأنظار: ص 52 س 26.
(2) مطارح الانظار: ص 51 س 8.
273

المستقبل لا يترتب عليه آثار الوجوب الفعلي.
والحاصل أن الوجوب في الواجب المعلق وإن لم يكن مشروطا بما علق
عليه الواجب وجعل قيدا للمادة إلا أنه مشروط بالأمر الانتزاعي، فالواجب
المعلق لا يخلو عن شوب الاشتراط، فتأمل.
ثم إنه أشكل على الواجب المعلق بما حاصله أن الايجاب الذي هو عبارة
عن الإرادة التشريعية، المتعلقة بفعل الغير كالإرادة التكوينية المتعلقة بفعل نفسه،
فكما لا يمكن أن تتعلق الإرادة التكوينية بأمر متأخر، لأنه يلزم انفكاك المراد عن
الإرادة فكذلك لا يمكن أن يتعلق الإيجاب بأمر متأخر (1).
وحاصل الجواب: منع عدم تعلق الإرادة التكوينية - بأي معنى فسرت
الإرادة - بالأمر المتأخر فإنها كما تتعلق بأمر حالي كذلك تتعلق بأمر استقبالي.
ولذا ربما يمهد مقدماته مع أنها ليست متعلقة للإرادة بنفسها، فلو لم يكن الأمر
المتأخر كالحج في الموسم مثلا متعلقا للإرادة فعلا كيف يمهد مقدماته قبله؟
والحال أنها بنفسها ليست متعلقة للإرادة، بل الإرادة المتعلقة بها غيرية ناشئة من
الإرادة المتعلقة بذي المقدمة. وإذا ثبت إمكان تعلق الإرادة التكوينية بالأمر
الاستقبالي فكذلك الإرادة التشريعية فإنها يمكن أيضا تعلقها بأمر استقبالي.
وقد أشكل عليه أيضا بأن القدرة على المكلف به شرط في التكليف وفي
الواجب المعلق لما كان الواجب استقباليا لا يقدر عليه المكلف فعلا (2).
والجواب عنه: أن القدرة المعتبرة في التكليف إنما هي القدرة في زمان
الواجب وحال الامتثال لا في زمان الايجاب وتعلق التكليف والقدرة على
المكلف به في الواجب المعلق متحققة في ظرف الامتثال، وإن لم تكن متحققة في
حال الايجاب والتكليف، فإن تحقق القدرة في حال الايجاب غير معتبر، إذ
اعتبارها في التكليف إنما هو من جهة أن لا يلزم التكليف بما لا يطاق، وهذا لا

(1) نقله عنه صاحب كفاية الأصول عن بعض أهل النظر: ص 128 والظاهر أنه المحقق
النهاوندي صاحب تشريح الأصول.
(2) الفصول الغروية: ص 79 س 38 - 39.
274

يقتضي أزيد من اعتبارها في حال الامتثال واتيان الواجب.
ثم إنه لا وجه لتخصيص الواجب المعلق بما يتوقف حصوله على أمر غير
مقدور للمكلف كما نسب ذلك إلى صاحب الفصول من جهة ظهور صدر كلامه فيه،
ولكن الحق خلافه كما يظهر من آخر كلامه بالمراجعة إليه حيث صرح بالتعميم
للمقدور أيضا، ومثل له بالحج الواجب على تقدير ركوب الدابة المغصوبة (1).
وتخصيص المثال بالمقدمة المحرمة لا يقتضي تخصيص الممثل، كما لا يخفى.
والإشكال عليه بأن الأمر الاختياري الذي يمكن أن يكون الواجب بالنسبة
إليه معلقا إن كان له دخل في مصلحة الواجب فلابد أن يكون موردا للتكليف
كغيره من القيود الاختيارية وإن لم يكن له دخل فيها فلابد أن يكون الواجب
منجزا لا معلقا.
مدفوع: بأن له دخل في مصلحة الواجب ولكن لم يتعلق به التكليف لمانع عنه
من الحرج وغيره.
وأيضا الإشكال بأن القيد إن أخذ في متعلق التكليف مطلقا فيلزم سراية
الطلب إليه وإن أخذ مقيدا بعدم الالزام به فلا شيء يميزه عن غيره إلا بتقييده بعدم
الإلزام وهو مستلزم للدور.
مدفوع، بأنه لو قيد بعدم الإلزام الشخصي الناشئ من قبل هذا الطلب يلزم
الدور، ولكن لو قيد بعدم طبيعة الالزام فلا يلزم الدور. وكذلك لو كان مأخوذا في
طرف المكلف فتأمل.
وقد أشكل على المصنف (قدس سره) بأن المراد بالمقدورية التي في محل الكلام إن
كانت المقدورية الذاتية فصاحب الفصول عمم في آخر كلامه المعلق عليه إليها فلا
إشكال عليه، وإن كانت المقدورية المطلقة فلا إشكال في أن المعلق عليه إن كان
أمرا مقدورا حاليا كان الواجب بالنسبة إليه منجزا لا معلقا، وإن كان أمرا استقباليا

(1) الفصول الغروية: ص 80 س 17.
275

كان الواجب بالنسبة إليه معلقا، ولكن المعلق عليه ليس أمرا مقدورا للمكلف، لأنه
وإن كان بنفسه مقدورا، إلا أنه بقيده - وهو مجيىء زمانه - خارج عن قدرة
المكلف.
وعلى أي تقدير لا يرد الإشكال على صاحب الفصول فتحصل أنه كما يمكن
تعلق الإرادة التكوينية بأمر استقبالي كذلك يمكن تعلق الإرادة التشريعية به أيضا
والمقدورية المعتبرة في متعلق التكليف معتبرة في حال الامتثال لا في حال
التكليف ولا فرق في المعلق عليه بين كونه غير مقدور أصلا كما إذا كان المعلق
عليه نفس الزمان الآتي، أو كان مقدورا ذاتا وغير مقدور من جهة قيده، كما إذا
كان المعلق عليه هو الفعل الاختياري الواقع في الزمان الآتي، وأما لو كان المعلق
عليه هو الفعل الاختياري الواقع في زمان الحال، فالواجب بالنسبة إليه منجز لا
معلق، ولكن يمكن أن يقال بأن الفعل الاختياري الحالي إن كان متعلقا للتكليف
فيلزم خروج الواجب عن كونه معلقا، وأما لو لم يكن متعلقا للتكليف بل تعلق
التكليف بالواجب على تقدير ايجاد هذا الفعل المعلق عليه باختياره فلا يلزم
خروج الواجب المعلق عن كونه معلقا، فتأمل.
وظهر مما ذكر الفرق بين الواجب المعلق والمشروط وأن الوجوب في الاول
حالي فتجب مقدماته قبل زمانه بناء على القول بوجوب المقدمات الوجودية عند
وجوب ذيها بخلاف الثاني فإنه لا وجوب فيه إلا بعد حصول الشرط، فلا تجب
مقدماته الوجودية قبله، لأن وجوبها إنما يترشح من وجوبه فلا يمكن عروض
الوجوب لها قبل عروضه له.
نعم لو كان الواجب المشروط مشروطا بالشرط المتأخر وفرض وجوده في
المستقبل كان وجوبه أيضا حاليا فتجب مقدماته الوجودية، لأن مناط وجوب
المقدمة الوجودية وجوب ذيها وهو حاصل في الحال، فتجب مقدمته أيضا في
الحال، ولا فرق بين المعلق وهذا القسم من المشروط إلا بارتباط الواجب
بالشرط في المعلق وارتباط الوجوب به في المشروط.
276

ثم اعلم أنه قد جعل بعضهم جميع الواجبات معلقة لا مشروطة ولا مطلقة (1)
بتقريب أن ما ذكروه من الملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوبها بناء على
وجوبها الذي هو قاض بتوقف وجوبها على وجوبه عقلا بحيث لا يعقل أن تجب
المقدمة بالوجوب الغيري إلا بعد وجوب ذي المقدمة - ولذا أشكل عليهم الأمر في
الواجبات المضيقة التي لها مقدمات يجب تحصيلها قبل وقته، واحتاجوا إلى
التفصي عنه إلى وجوه: منها جعلها من باب الواجب المعلق - جار في الواجبات
الموسعة أيضا، وذلك لأن أول الوقت إما أن يكون وقتا للصلاة مثلا أو لا، لا سبيل
إلى الثاني بداهة أنه بدخول الجزء الأول من الوقت تجب الصلاة، فلو أراد
المكلف امتثال هذا التكليف فلابد من وقوع مقدماته قبل الوقت. والحال أنه لا
تجب المقدمات قبل وجوب ذيها.
وحينئذ لابد إما من القول بأن الوجوب تعلق بالصلاة قبل الوقت، أو القول بأن
الوجوب تعلق أول الوقت بالصلاة بعد أن يمضي منه مقدار فعل المقدمة، أو القول
بوجوب الصلاة أول الوقت وعدم وجوب مقدماتها. ولا رابع لهذه الوجوه،
والأولان عين المطلوب، والثالث خلاف الفرض، لأن المفروض وجوب مقدمة
الواجب وحيث ثبت عقلا أن في وجوب كل فعل لابد وأن يكون ذلك الفعل
متأخرا عن حال وجوبه بمقدار من الزمان الذي يسع المقدمة، فلازمه تقدم
الوجوب في الموسع على أول الوقت لمن أراد الفعل في أول الوقت.
وهذا يكشف عن أن الطلب في جميع الواجبات سابق على وقت ايجادها،
فإذا كان الطلب سابقا على وقت الايجاد الذي يمكن أن يكون هو أول الوقت
فيكون من باب الواجب المعلق، وتجب مقدماته قبل زمان ايجاده وعليه ينطبق
صحة الوضوء المأتي به قبل الوقت بنية الوجوب للتأهب للفرض، وهذا القول مع
القول بامتناع الواجب المعلق - كما حكي عن بعض آخر - في طرفي النقيض
والافراط والتفريط، وللتأمل في كليهما مجال واسع.

(1) نقله عنهم في فوائد الأصول: في الأوامر ص 185.
277

وقد اتضح مما ذكر أن المناط في فعلية وجوب المقدمة فعلية ذيها سواء كان
الواجب حاليا أو استقباليا، موسعا أو مضيقا، مشروطا بشرط متأخر معلوم
وجوده فيما بعد أو مطلقا، منجزا أو معلقا وإنما تجب المقدمة الوجودية بعد فعلية
وجوب ذي المقدمة، ويترشح الوجوب منه إليها إذا لم تكن المقدمة الوجودية
مقدمة للوجوب أيضا، فإنه لو كانت المقدمة الوجودية مقدمة للوجوب أيضا لا
يمكن ترشح الوجوب منه إليها، إذ لو لم توجد المقدمة لما وجب ذو المقدمة، وبعد
وجودها لو ترشح الوجوب إليها يلزم طلب الحاصل وهو محال، وإذا لم تكن
المقدمة مأخوذة في الواجب على نحو يستحيل أن يكون موردا للتكليف كما إذا
كان عنوانا للمكلف كالحاضر والمسافر والحائض والطاهر والمستطيع ونحوها، إذ
لو لم يتحقق هذا العنوان فلا وجوب، وبعد تحققه طلبه طلب للحاصل وإذا لم تكن
المقدمة مما قيد التكليف بالواجب باتفاق وجوده باختيار المكلف وهو المعلق على
الأمر المقدور أو لغير اختياره وهو المعلق على الأمر الغير المقدور، فإنه لا وجوب
للواجب إلا بعد اتفاق وجودها، فتعلق الطلب بها يعد طلب للحاصل أيضا.
فعلى هذا لا إشكال في لزوم الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب فيما لم
يمكن الإتيان بها في زمانه إذا كان وجوبه حاليا، سواء كان معلقا أو مشروطا
بشرط متأخر علم وجوده فيما بعد، لما عرفت من أن المدار في فعلية وجوب
المقدمة فعلية وجوب ذيها كما لا يخفى.
ولا يلزم محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها وإنما يلزم الإتيان
بالمقدمة قبل إتيان ذيها، وهو لازم عقلا، ولو لم نقل بوجوب المقدمة فيكون حالها
كحال المقدمات التي تأتي بها في زمان الواجب قبل إتيانه.
فانقدح مما ذكره (قدس سره) أنه لا ينحصر التفصي عن إشكال لزوم الإتيان بالمقدمة
قبل زمان ذي المقدمة بالالتزام بالواجب المعلق أو إرجاع القيد إلى المادة، إذ كما
يمكن التفصي بهما يمكن التفصي عن الإشكال بالالتزام بالوجوب المشروط
بالشرط المتأخر المعلوم وجوده فيما بعد.
278

وعلى أي حال لا إشكال في لزوم الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب
كالغسل في الليل في شهر رمضان وغيره ممن يجب عليه صوم الغد، إذ يستكشف
من أمر الشارع بالغسل في الليل عن سبق وجوب الصوم عليه بطريق الإن، لما
عرفت من أن وجوب المقدمة فرع وجوب ذي المقدمة ولا يمكن وجوبها قبل
وجوبه وإذا فرض العلم بعدم سبق الوجوب ومع ذلك كانت المقدمة واجبة فلابد
من الالتزام بوجوبها النفسي التهيئي.
والإشكال بأن وجوب المقدمة في زمان لو كان كاشفا عن وجوب ذي
المقدمة يجب الإتيان بتمام مقدماته ولو موسعا، وليس كذلك بحيث يجب الإتيان
بها والمبادرة إليها لو فرض عدم تمكنه منها لو لم يبادر ليس بإشكال، إذ لابد من
الالتزام بذلك إلا إذا أخذ في الواجب قدرة خاصة من قبل سائر مقدماته وهي
القدرة عليه بعد مجئي زمانه لا القدرة عليه في زمان من أزمنة وجوبه.
ثم إنه قد عرفت حال القيود واختلافها في كونها موردا للتكليف ووجوب
تحصيلها وعدمه فإن علم حال قيد فلا إشكال، وإن دار أمره ثبوتا بين رجوعه إلى
الهيئة على نحو الشرط المتأخر أو المقارن ورجوعه إلى المادة على نحو يجب
تحصيله أو لا يجب تحصيله فإن كان في مقام الإثبات ما يعين حاله وأنه راجع
إلى أيهما من القواعد العربية فهو، وإلا فالمرجع هي الأصول العملية، فإن كان
الأمر دائرا بين جميع أقسام الواجب من المشروط بالشرط المتقدم والمتأخر
ومن المطلق الشامل للمعلق والمنجز فالمرجع هي البراءة عن التكليف عقلا ونقلا
قبل حصول الشرط وإن علم بحصوله بعد ذلك، ولازمه الحمل على المشروط
بالشرط المتقدم، وإن كان دائرا بين المشروط بالشرط المتأخر والمعلق والمنجز،
فالمرجع هي البراءة عند عدم العلم بحصول القيد المشكوك كيفيته ولازمه الحمل
على أحد الأولين وإن كان دائرا بين المشروط بالشرط المتقدم والمتأخر بعد
العلم بعدم رجوع القيد إلى المادة، فالمرجع هي البراءة قبل حصول الشرط
ولازمه الحمل على المشروط بالشرط المتقدم، وإن كان دائرا بين المعلق والمنجز
279

فالمرجع هي البراءة أيضا عند عدم العلم بحصول الشرط في الخارج، ولازمه
الحمل على المعلق.
وربما قيل في دوران الأمر بين رجوع القيد إلى المادة والهيئة بترجيح
الإطلاق في طرف الهيئة وتقييد المادة بوجهين:
أحدهما: أن إطلاق الهيئة يكون شموليا كما في شمول العام لأفراده فإن
وجوب الإكرام على تقدير الإطلاق يشمل جميع التقادير التي يمكن أن يكون
تقديرا له وإطلاق المادة يكون بدليا غير شامل لفردين في حالة واحدة، ففي مثل:
" أكرم زيدا " إطلاق الوجوب المستفاد من الهيئة يشمل جميع التقادير التي يمكن
كونها تقديرا له ككونه عالما أو غير عالم وجائيا أو غير جاء ونحوهما، وأما
إطلاق الإكرام المستفاد من المادة فلا يشمل لفردين في حالة واحدة.
ثانيهما: أن تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة ويرتفع به
مورده بخلاف العكس، وكلما دار الأمر بين تقييدين كذلك كان التقييد الذي لا
يوجب بطلان الآخر أولى.
أما الصغرى: وهي إيجاب تقييد الهيئة بطلان إطلاق المادة، فلأجل أنه لا
يبقى مع تقييد الهيئة محل حاجة وبيان لإطلاق المادة، لأنها لا محالة لا تنفك عن
وجود قيد الهيئة بخلاف تقييد المادة فإن محل الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله
فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه. ففي مثل: " أكرم زيدا إن
جاءك " لو كان قيد المجيء راجعا إلى الهيئة فانتفاؤه يوجب انتفاء الوجوب، ومع
انتفاء الوجوب لا حاجة إلى إطلاق المادة، لأن الإكرام إذا لم يكن واجبا فأي
حاجة إلى اطلاقه أو كونه مقيدا بالمجيء؟ وأما إن كان راجعا إلى المادة فمحل
الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله، لأن الإكرام المقيد بالمجيء يمكن أن يكون
وجوبه مطلقا أو مقيدا وكلما دار الأمر بين تقييدين كذلك كان التقييد الذي لا
يوجب بطلان الآخر أولى.
وأما الكبرى: فلأن التقييد وإن لم يكن مجازا على ما هو الحق إلا أنه خلاف
280

الأصل، ولا فرق بين التقييد والعمل الذي يكون أثره أثر التقييد وهو إبطال
العمل بالإطلاق، فلو كان التقييد راجعا إلى الهيئة ففي الحقيقة يلزم إبطال
الإطلاق في الهيئة والمادة كما عرفت، بخلاف ما لو كان راجعا إلى المادة فإنه لا
يلزم منه إبطال إطلاق الهيئة، ولا ريب أن الثاني أولى، لأن أثر ارتكاب خلاف
الأصل فيه أقل.
وهذان الوجهان نقلا عن بعض مقرري بحث الشيخ الأنصاري (قدس سره) (1)، وأورد
عليهما في الكفاية:
أما على الأول: فلأن إطلاق الهيئة وإن كان شموليا بخلاف المادة فإن اطلاقها
بدلي إلا أنه لا يوجب ترجيح إطلاقها على إطلاق الهيئة، لأنه أيضا بمقدمات
الحكمة، فإذا كان إطلاق كلتيهما بمقدمات الحكمة فلا ترجيح لأحدهما على
الآخر فإنها قد تقتضي الإطلاق الشمولي، وقد تقتضي الإطلاق البدلي، وقد
تقتضي التعيين أحيانا. وترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنما هو من جهة
أن عموم العام بالوضع وإطلاق المطلق بمقدمات الحكمة، فلو فرض أن عاما
بالوضع دل على العموم البدلي ومطلق بالإطلاق ومقدمات الحكمة دل على
العموم الشمولي لكان العام مقدما يقدم بلا كلام (2).
ولكن فيه: أن تقديم عموم العام على إطلاق المطلق إنما يسلم فيما إذا كانا
متصلين، وأما إذا كانا منفصلين بأن كان كل منهما في كلام فالمدار في التقديم على
الأظهرية، فربما كان ظهور العام في العموم أظهر، وربما كان الأمر بالعكس، فتدبر.
وأما على الثاني: فلأن التقييد وإن كان خلاف الأصل إلا أن العمل الذي
يوجب انتفاء بعض مقدمات الحكمة لا يكون خلاف الأصل، إذ مع انتفاء مقدمات
الحكمة وعدم جريانها لا يكون هناك إطلاق حتى يكون بطلان العمل به كالتقييد
خلاف الأصل. وبالجملة لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلا كونه خلاف
الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة، ومع انتفائها لا ينعقد له ظهور حتى

(1) مطارح الانظار: ص 49 س 19 - 24.
(2) كفاية الأصول: في تقسيم الواجب ص 134.
281

يكون ذلك العمل الذي يشارك التقييد في الأثر وبطلان العمل بإطلاق المطلق
مشاركا مع التقييد في كونه خلاف الأصل.
وكأنه توهم أن إطلاق المطلق ثابت كعموم العام ورفع اليد عنه تارة بالتقييد
وأخرى بالعمل المبطل للعمل به.
وهو فاسد، لأنه لا يكون إطلاق هناك إلا فيما جرت المقدمات. نعم لو كان
التقييد بمنفصل ودار الأمر بين رجوعه إلى المادة أو الهيئة كان لهذا التوهم مجال
حيث انعقد للمطلق إطلاق، وقد استقر له ظهور ولو بقرينة الحكمة فتأمل (1).
ولعل وجهه: أنه لا فرق بين التقييد بالمتصل والمنفصل، وذلك لأن كلا من
المادة والهيئة مطلق لولا القيد، يعني أن في كل منهما جهة الاقتضاء، للإطلاق
ووجود القيد المانع عن الإطلاق، لإجماله أسقطهما عن الحجية في موردهما كما
هي قضية التقييد بالمجمل، لأن واحدا من الإطلاقين مقيد قطعا والآخر مطلق
قطعا، ومع الاشتباه يسقطان معا عن الحجية، ولولا ثبوت مقتضى الإطلاق فيهما
معا لما كان للتقييد معنى ولما كان للدوران محل كما لا يخفى.
فإذا دار الأمر بين إرجاع القيد إلى المادة أو الهيئة فلا شك في أن الإرجاع
إلى المادة أولى، لبقاء إطلاق الهيئة - حينئذ - على حاله بخلاف العكس فإنه
يوجب ابطال إطلاق المادة أيضا كما لا يخفى.
والحاصل: أنه لا فرق بين التقييد بالمتصل والمنفصل في أنه إذا دار الأمر بين
رجوع القيد إلى المادة أو الهيئة: إن قلنا برجوعه إلى الهيئة يلزم مخالفة الأصل من
جهتين: من جهة إطلاق الهيئة، ومن جهة إطلاق المادة. وإن قلنا برجوعه إلى
المادة يلزم مخالفته من جهة واحدة، لأن تقييد المادة لا يستلزم تقييد الهيئة، فكما
إذا دار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق منعقد أو إطلاقين منعقدين كما في التقييد
بالمنفصل فلا ريب في أن الأول أولى من الثاني، لأن مخالفة الأصل فيه وهو رفع

(1) المصدر السابق.
282

اليد عن الظهور المنعقد أقل من الثاني: فكذلك إذا دار الأمر بين رفع اليد عن
مقتضى إطلاق واحد أو مقتضى إطلاقين كما في التقييد بالمتصل، فلا ريب في
أولوية الأول، لأن مخالفة الأصل فيه أقل.
وبالجملة لو كان دوران الأمر بين مخالفة الأصل أو الأصلين منحصرا
بالظهور الفعلي المنعقد فللفرق بين المتصل والمنفصل وجه وليس الأمر كذلك،
لأن رفع اليد عن مقتضى الإطلاق خلاف الأصل. فإذا دار الأمر بين رفع اليد عن
أحد المقتضيين أو كليهما فالأول أولى ويمكن أن يقال: إن تقييد المادة مسلم على
كل، لأنه إن كان القيد راجعا إليه يلزم ارتفاع إطلاقها موضوعا، وإن رجع إلى
الهيئة يلزم ارتفاع إطلاقها حكما، فالعلم الإجمالي بارتفاع أحد الإطلاقين ينحل
إلى علم تفصيلي بارتفاع إطلاق المادة وشك بدوي بالنسبة إلى ارتفاع إطلاق
الهيئة، فترفع اليد عن إطلاق المادة ويؤخذ بإطلاق الهيئة، فتدبر.
ومنها: تقسيمه إلى النفسي والغيري: لا يخفى أنه لا بد في كل واجب من
مصلحة داعية إلى ايجابه، فإن كانت المصلحة الداعية إلى ايجابه التوصل به إلى
فعل واجب آخر فهو واجب غيري وإلا فهو واجب نفسي، سواء كان مطلوبا لنفسه
كمعرفة الله تعالى أو لما تترتب عليه من الفوائد والخواص المترتبة على الأفعال
التي هي مقدورة بواسطة القدرة على أسبابها كالصلاة والزكاة ونحوهما من
الأفعال التي أمر بها لأصل الفوائد المترتبة عليها.
فعلى هذا لا يرد الإشكال بأنه يلزم أن يكون كل الواجبات سوى معرفة الله
واجبا غيريا، لأنه لم يؤمر بها إلا لما فيها من الفوائد والخواص المترتبة عليهما،
لما عرفت من أن الواجب الغيري ما أمر به لأجل التوصل إلى فعل واجب آخر
كالوضوء فإنه أمر به لأجل التوصل به إلى الصلاة التي هي فعل واجب لا ما أمر به
لأجل التوصل إلى فائدة كالصلاة التي أمر بها لأجل كونها معراجا للمؤمن وناهية
عن الفحشاء والمنكر، فإن تلك الفوائد والخواص وإن كانت مطلوبة لذاتها أنه لم
يؤمر بها وإنما أمر بأسبابها.
283

وعليه فيمكن أن يكون الواجب نفسيا من جهة، وغيريا من جهة كالختان فإنه
واجب نفسي لتعلق الأمر به من جهة كونه ذا مصلحة، وواجب غيري من جهة كونه
شرطا للواجب الآخر وهو الطواف والحج. والواجب الغيري وهو الذي أمر به
لأجل التوصل إلى الغير أعم من أن يكون واجبا بالغير وهو الذي كان الأمر به
متولدا من الأمر بالغير، فيكون واجبا للغير وبالغير، أو كان الأمر به غير متولد من
الأمر بالآخر فيكون واجبا للغير لا بالغير.
فتحصل: أنه لو قلنا بأن الواجب الغيري هو الذي أمر به لأجل الغير يرد عليه
الإشكال بأنه يلزم أن يكون كل الواجبات سوى معرفة الله واجبا غيريا، لأنه أمر
بها لأجل الفوائد والخواص المترتبة عليها، وأما لو قلنا بأن الواجب الغيري هو
الذي أمر به لأجل التوصل إلى فعل واجب آخر فلا يرد الإشكال المذكور.
فما قيل في المقام من أنه لافرق بين العبارتين في لزوم الإشكال، لأن
الواجب أعم من المباشري والتسبيبي، والمقدور بالواسطة مقدور والمطلوب
لأجل شيء لا ينفك عن طلب ذلك الشيء الظاهر أنه اشتباه، لأنا لا ننكر أن
الواجب أعم من المباشري والتسبيبي والمقدور بالواسطة مقدور والمطلوب
لأجل شيء لا ينفك عن طلب ذلك الشيء. ومع هذا لا نلتزم بالإشكال، لأن تلك
الفوائد المترتبة وإن كانت واجبة تسببيا ومطلوبة ومقدورة بالواسطة إلا أنها ليست
أفعالا واجبة كما لا يخفى فتأمل.
وما قيل في دفع الإشكال بأن الواجب النفسي ما كان له رجحان ذاتي وإن
ترتبت عليه فوائد أخر. واحتمل أن يكون الرجحان الذاتي والمحبوبية النفسية فيه
كالرجحان الذاتي الذي في معرفة الله ومثل له بالصلاة وقال: بأنه يمكن أن تكون
المصلحة الذاتية فيها من سنخ مصلحة معرفة الله المحبوبة ذاتا، حيث إن حسنها
لكونها إظهارا لتذلل النفس وإظهار عظمة الله، وهو كما يحصل بالمعرفة كذلك
يحصل بهيئة الصلاة وطبيعة التذلل والخضوع لله أينما تحققت تكون حسنة بذاتها
وإن كانت بعض مراتبها - كالخضوع الخارجي الذي يحصل بفعل الصلاة مقدمة
284

للخضوع الجانحي، ولكن لما كانت الجهة النفسية في كل مرتبة سابقة على
الجهة الغيرية فيها فتكون موجبة بالوجوب النفسي قبل تأثير جهة الغيرية في
إيجابها الغيري.
ففيه: أولا: أن المقصود في المقام رفع الإشكال الوارد على تعريف الواجب
الغيري بأنه ما أمر به لأجل التوصل إلى الغير وهو لزوم كون كل الواجبات سوى
معرفة الله واجبا غيريا، وهذا الإشكال لا يندفع بما ذكر، إذ غايته أن الواجبات
النفسية مشتملة على الرجحان الذاتي وأنها من قبيل معرفة الله، فهو على تقدير
تسليمه في الصلاة ونحوها في غيرهما غير معلوم، إذ لا نسلم أن تمام الواجبات
النفسية حالها كحال الصلاة ونحوها في كونها إظهارا لعظمة الله وخضوعا له.
وعلى تقدير تسليم أن الواجبات النفسية كلها كذلك فالإشكال باق بحاله كما
لا يخفى.
وثانيا: أن الفرق بين الوضوء والغسل ونحوهما من الواجبات الغيرية وبين
الصلاة ونحوها من الواجبات النفسية غير معلوم.
وثالثا: الامتياز بين الواجب النفسي والغيري وأن أي واجب نفسي؟ وأي
واجب غيري؟ أيضا غير معلوم، والحال أن المقصود بيان ضابط وتعريف يمتاز به
الواجب الغيري عن النفسي.
فكيف كان لا إشكال فيما إذا علم بأن الواجب نفسي أو غيري، وإنما
الإشكال في صورة الشك في كونه نفسيا أو غيريا، والتحقيق الذي ذكره في
الكفاية هو أن الهيئة وإن كانت موضوعة لمطلق الطلب الأعم من النفسي والغيري
إلا أن إطلاقها يقتضي كونه نفسيا، وإلا لو كان شرطا لغيره لوجب على المتكلم
الحكيم التنبيه عليه (1).
والحاصل: أنه لو سلمنا أن هيئة الصيغة موضوعة لمطلق الطلب إلا أنها
منصرفة إلى الطلب النفسي كما أنها منصرفة إلى الطلب العيني التعييني لاشتراكه

(1) كفاية الأصول: في تقسيم الواجب... ص 136.
285

معهما في احتياج تقييد الهيئة، فإنه لو كان واجبا غيريا لوجب أن يذكر القيد بأن
يقول المتكلم - مثلا - إذا أردت الصلاة فتوضأ، وبمجرد عدم ذكر القيد يعلم أنه
مطلوب مطلقا سواء وجب الغير أم لا. كما أنه لو كان الواجب كفائيا كان على
المتكلم ذكر القيد بأن يقول: هذا الفعل يجب عليك إن لم يفعل آخر، وكذا لو كان
الواجب تخييريا لوجب عليه أن يقول: إفعل هذا أو غيره، فمن عدم ذكر أحد
القيود يستكشف الوجوب النفسي العيني التعييني، هذا بحسب عالم الاثبات، وإن
كانت بحسب عالم الثبوت بين الوجوب النفسي والغيري وكذا بين الوجوب العيني
والكفائي والتعييني والتخييري مباينة كلية وليست بينهما نسبة الإطلاق والتقييد
ثبوتا. هذا فيما إذا تمت مقدمات الحكمة المقتضية للحمل على الإطلاق، وأما
إذا قلنا بعدم تماميتها فيصير اللفظ مجملا، فلابد من التوقف إلا أن يدعى
الانصراف، فتأمل.
وعن صاحب تقريرات بحث الشيخ الأنصاري (قدس سره) أن وضع الهيئة حرفي،
فهي موضوعة لجزئيات الطلب (1) والجزئي ليس قابلا للإطلاق، إذ الإطلاق
والتقييد متضايفان ومتقابلان، فما ليس قابلا للتقييد ليس قابلا للإطلاق.
ولكن أورد عليه، بأن وضع الهيئة ولو قلنا بكونه حرفيا - كما هو الحق - ولكن
الحروف ليست موضوعه للمعاني الجزئية، بل وضع الحروف كالأسماء وأنها
موضوعة للمعاني الكلية، بل المستعمل فيه فيها أيضا معان كلية والتشخص إنما
جاء من ناحية الاستعمال، فالوضع والموضوع له والمستعمل فيه فيها كلي
كالأسماء، وإنما الاختلاف في كيفية الاستعمال فإن الأسماء وضعت لتستعمل
ويراد منها المعنى في نفسها، والحروف إنما وضعت ليراد منها المعنى في غيرها،
كما مر بأن الحروف إنما وضعت ويراد بها المعنى في غيرها، يعني أن معانيها من
خصوصيات الغير مثل: الماء في الكوز، فإن الماء والكوز معناهما في تحت

(1) مطارح الانظار: ص 67 س 15.
286

أنفسهما، وما في معناه من خصوصيات الماء والكوز يعمل مظروفية الماء وظرفية
الكوز، فالهيئة وإن كان وضعها حرفيا إلا أن المعاني الحرفية لما كانت كالمعاني
الاسمية في كونها كلية قابلة للإطلاق والتقييد.
وعلى تقدير تسليم كونها جزئية وكونها موضوعة لخصوصيات الاستعمالات
الخارجية إنما يمتنع تقييد [ها] إذا أنشأت ثم أريد لا إذا أنشأت أولا مقيدة.
فإن قلت على هذا يلزم انفكاك المنشأ عن الإنشاء، حيث إن المتكلم أنشأ
الوجوب فعلا ولا وجوب إلا بعد حصول الشرط في الخارج (1).

(1) وهنا أبحاث لم يقررها المؤلف (قدس سره).
287

[المقصد الثاني: في النواهي]
[اجتماع الأمر والنهي] (1)
فصل
اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وعدمه على أقوال:
ثالثها جوازه عقلا وامتناعه عرفا، وقيل الخوض في المقصود لابد من تقديم أمور:
الأول: أن النزاع في هذه المسألة هل هو صغروي كما يظهر عن بعض بأن
يكون النزاع بعد الفراغ عن امتناع الاجتماع في أنه إذا تعلق الأمر بعنوان والنهي
بعنوان آخر واجتمع العنوانان في شيء واحد، هل يلزم من اجتماعهما اجتماع
الأمر والنهي في شيء واحد، أو لا يلزم؟ أو يمكن أن يكون كبرويا بأن يكون النزاع
في أن الشيء الواحد المعنون بعنوانين: أحدهما يكون مأمورا به والآخر منهيا عنه
هل يمكن أن يكون مصداقا حقيقيا للمأمور به والمنهي عنه كليهما أو لا يمكن؟
والحق هو إمكان كون النزاع كبرويا.
الثاني: أن المراد بالواحد في عنوان البحث هل هو الواحد الشخصي الحقيقي
أو يعم الواحد الإضافي الذي هو جزئي بالقياس إلى ما فوقه وكلي بالقياس إلى
ما تحته؟
الحق اختصاص النزاع بالواحد الحقيقي، إذ هو الذي يمكن أن يصير متعلقا
لحكمين باعتبار صدق العنوانين عليه بلا لزوم محذور من الشارع، لأن متعلق

(1) من أول مباحث النواهي إلى هنا أبحاث فات عن المؤلف (قدس سره) تقريرها.
289

أمره ونهيه مختلفان، والمكلف إنما جمعهما في شيء واحد بسوء اختياره، وأما
الواحد الإضافي فهو كلي وإن كانت دائرته ضيقة بالنسبة إلى ما فوقه والكلي لا
يمكن إلا أن يكون متعلقا لحكم واحد، وإلا لزم اجتماع الحكمين المتضادين من
طرف الشارع، وهو محال.
والحاصل: أنه يمكن أن يتعلق الأمر بكلي الصلاة والنهي بكلي الغصب،
ويجمعهما المكلف في شيء واحد بسوء اختياره، فيكون من اجتماع الأمر والنهي
المأموري. ولا يمكن أن يتعلق الأمر والنهي بكلي الصلاة في الدار المغصوبة التي
هي جزئي إضافي لأنها كلي كسائر الكليات، ولا تكون إلا متعلقة لحكم واحد،
وإلا يلزم اجتماع الأمر والنهي الآمري، وهو تكليف محال فضلا عن كونه تكليفا
بالمحال.
الثالث: أن الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي عن العبادة واضح، إذ هما
مختلفتان موضوعا ومحمولا، ولا ربط لإحداهما بالأخرى، فإن الموضوع في
هذه المسألة اجتماع الأمر والنهي في الشيء الواحد المعنون بعنوانين، والمحمول
هو الجواز وعدم الجواز بخلاف تلك المسألة، فإن الموضوع فيها تعلق النهي
بالعبادة والمحمول هو اقتضاء الفساد وعدمه. نعم مسألة الاجتماع بناء على
امتناعه وتغليب جانب النهي تكون من صغريات مسألة النهي في العبادة.
الرابع: أن هذه المسألة فقهية أو كلامية أو أصولية، وعلى تقدير كونها أصولية
هل هي من المبادئ الأحكامية، أو من المسائل الأصولية؟
لا إشكال في عدم كونها فقهية بهذا العنوان الذي عنونت هذه المسألة في
كلماتهم، لأن المسألة الفقهية ما يبحث فيها عن عوارض أفعال المكلفين والبحث
في هذه المسألة ليس كذلك، ولكن يمكن جعلها فقهية بتغيير العنوان.
وأما كونها مسألة كلامية فيمكن منع كونها كلامية:
أولا: من جهة أن المسألة الكلامية ما كان البحث فيها عن ذات الواجب
وصفاته، وهذه المسألة ليست كذلك. وعلى تقدير تسليم كونها كلامية وأن البحث
فيها راجع إلى البحث عن ما يصح على الواجب وعن ما لا يصح عليه منع منافاة
290

كونها كلامية مع كونها أصولية.
ثانيا: لما عرفت من أن علم الأصول ليس كسائر العلوم المدونة، بل هو عبارة
عن عده من المسائل المأخوذة عن العلوم المتشتتة التي لها دخل في استنباط
الحكم الشرعي، فلا منافاة بين كونها كلامية وكونها [أصولية] كما لا منافاة بين كون
مسألة العام والخاص مثلا من مسائل علم المعاني وكونها من مسائل علم
الأصول، وأما كونها من مبادئ الأحكامية أو من نفس المسائل الأصولية فالحق
أن كل مصنف جعل لتصنيفه مبادئ أحكامية كبعض من سبق على صاحب
المعالم أن يذكر هذه المسألة في المبادئ الأحكامية التي هي عبارة عن بيان
الحكم الشرعي، وأن حقيقته أي شيء؟ وتقسيمه إلى الحكم التكليفي والوضعي
بأقسامهما وبيان آثاره ولوازمه كمسألة مقدمة الواجب ومسألة أن الأمر بالشيء
هل يقتضي النهي عن ضده؟ وهذه المسألة؟
وكل مصنف لم يجعل لتصنيفه مبادئ أحكامية كصاحب المعالم ومن تأخر
عنه لابد أن يذكر هذه المسألة وأمثالها في نفس المسائل الأصولية وأنظار
الأصوليين وسلقهم في تصانيفهم مختلفة، فربما شخص يقتضي نظره وسليقته أن
يجعل لتصنيفه مبادئ أحكامية وذكر هذه المسائل فيها، وربما شخص آخر
يقتضي نظره وسليقته أن لا يجعل لتصنيفه مبادئ أحكامية فلابد من ذكر هذه
المسائل في نفس المسائل الأصولية، كما أن انظار الفقهاء في تصانيفهم أيضا
مختلفة فرب شخص يقتضي نظره ذكر الشفعة في باب المعاملات من جهة كونها
من توابع البيع وكونها مخصوصة به، ورب شخص يقتضي نظره ذكرها في الأحكام
من جهة عدم كونها من العبادات والمعاملات أعني العقود والايقاعات، وكذلك
اللقطة أيضا.
الخامس: بناء على كونها من المسائل الأصولية هل هي من المسائل اللفظية
أو المسائل العقلية؟
الحق أنها من المسائل العقلية، إذ النزاع ليس في دلالة اللفظ وإنما هو في
حكم العقل، وأنه يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد أم لا؟ بلا فرق بين كونهما
291

مستفادين من الدليل اللفظي أو العقلي، وظهور الأمر والنهي في القولي لا يوجب
اختصاص النزاع به، وصيرورة المسألة لفظية وتعرضهم لهذه المسألة في مباحث
الألفاظ من جهة أن الايجاب والتحريم مستفادان غالبا من اللفظ، والتفصيل في
المسألة بين العقل والعرف وأنه يجوز عقلا ولا يجوز عرفا ليس بمعنى أنه يجوز
عقلا ولا يجوز لفظا، بل معناه أنه بالنظر إلى العقل الدقيق الغير المبني على
المسامحة يجوز، وبالنظر إلى العقل العرفي المبني على المسامحة لا يجوز، لأن
الواحد المعنون بعنوانين بناء على الأول بمنزلة شيئين أحدهما متعلق للأمر
والآخر متعلق للنهي. وبناء على الثاني ليس كذلك، فتعلق الأمر والنهي به كتعلقهما
بالواحد الغير المعنون بالعنوانين في عدم الجواز.
السادس: أن النزاع في هذه المسألة هل يعم جميع أقسام الايجاب والتحريم،
أو يختص ببعضها؟
الظاهر هو الأخير، وذلك لأن القدر المتيقن والمنصرف إليه لفظ الإيجاب
والتحريم - وإن كان الإيجاب والتحريم التعيينيين إلا أن القدر المتيقن - هو
خروجهما عن محل النزاع فيما لم يكن فيهما تخيير أصلا لا عقلا ولا شرعا بأن
كان الفرد المعين مأمورا به ومنهيا عنه، من جهة أن محل النزاع فيما إذا كان
الاجتماع مأموريا وكان بسوء اختياره، وهذا لا يتصور إلا فيما كانت هناك
مندوحة بأن أمكن من ايجاد المأمور به بغير الفرد المنهي عنه، وهذا لا يمكن إلا
فيما كان المأمور به تخييريا عقلا كصل ولا تغصب، أو شرعا كالأمر بالصوم أو
الصلاة والنهي عن التصرف في الدار أو مجالسة الأغيار.
نعم يمكن جعل الايجاب والتحريم التعييني في محل النزاع لو كان النزاع في
الأعم من الاجتماع الآمري والمأموري، وأما إذا كان الايجاب تخييريا عقليا أو
شرعيا والتحريم تعيينيا فلا إشكال في الدخول في محل النزاع، كما أنه إذا كانا
تخييريين لا إشكال أيضا في الدخول في محل النزاع، والمثال الذي نقل عن
الشيخ في التقريرات لاجتماع الأمر التخييري ونهيه الأمر بتزويج إحدى الأختين
292

والنهي عن تزويج الأخرى، ولكنه لا يخفى ما فيه، من جهة أن المرجع في الحقيقة
إلى النهي عن الجمع بينهما. والمثال المناسب للأمر التخييري ونهيه هو ما ذكرناه،
وهو الأمر بالصلاة أو الصوم تخييرا والنهي عن التصرف في الدار أو مجالسة
الأغيار أيضا تخييرا، ومورد الاجتماع هو ما إذا صلى في الدار مع مجالسة
الأغيار، فإنه جمع بين المأمور به بالأمر التخييري وكلا شقي المنهي عنه
بالنهي التخييري.
وهذا هو المثال الذي ذكره في الكفاية، وإن كان هذا أيضا لا يخلو عن
مناقشة من جهة أخرى وهو: أن هذا المثال وإن كان صحيحا من جهة فرض
اجتماع أحد فردي المأمور به بالأمر التخييري مع كلا فردي المنهي عنه بالنهي
التخييري، إلا أنه يرد عليه أن مجالسة الأغيار لو كانت مثل التصرف في الدار في
اتحاده مع الصلاة بحسب الصدق لكان هذا المثال صحيحا إلا أنها ليست كذلك،
بل اجتماعها معها إنما هو بحسب المورد فلو أبدلت مجالسة الأغيار في المثال
المذكور بما يكون مثل التصرف في الدار في اجتماعه مع الصلاة بحسب الصدق
لصح المثال المذكور.
السابع: في اعتبار قيد المندوحة في محل النزاع وعدم اعتباره.
والحق عدم اعتباره، لأن النزاع في أن الشيء الواحد المعنون بعنوانين:
أحدهما يكون موردا للأمر والآخر للنهي بمنزلة شيئين يكون أحدهما: مأمورا به
والآخر منهيا عنه في عدم لزوم اجتماع المتضادين في شيء واحد حتى يلزم
التكليف المحال، أو أن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون، فلو كان الشيء
الواحد المعنون بعنوانين محكوما بحكمين من جهة العنوانين يلزم اجتماع
المتضادين وهو تكليف محال ولا فرق في ذلك بين وجود المندوحة وعدمها نعم
اعتبار قيد المندوحة في مقام الامتثال من جهة أنه يلزم من عدم اعتبارها
التكليف بالمحال وهو محذور آخر غير تكليف المحال فتأمل.
الثامن: في أن هذا النزاع يجري على كلا القولين في تعلق الأحكام بالطبائع
293

والأفراد، أو أنه مخصوص بالقول بتعلقها بالطبائع؟
وأما على القول بتعلقها بالأفراد فلا شبهة في الامتناع، أو أن القول بالجواز
مبني على القول بتعلقها بالطبائع والقول بالامتناع على القول بتعلقها بالأفراد.
والحق جريان النزاع على كلا القولين أما على القول بتعلق الأحكام بالطبائع
فلا إشكال في جريانه، إذ يمكن القول بالجواز من جهة تعدد متعلق الأمر والنهي
ماهية، والقول بعدم الجواز من جهة اتحادهما وجودا، وأما على القول بتعلق
الأحكام بالأفراد فيمكن القول بالجواز أيضا من جهة ان تعدد الوجه والعنوان إن
كان مجديا في تعلق الأمر والنهي بشيء واحد على القول بتعلق الأحكام بالطبائع
فكذلك على القول بتعلقها بالأفراد، فيمكن أن يكون الفرد الموجود بالوجود
الخاص بملاحظة صدق بعض العناوين عليه مأمورا به، وبملاحظة صدق بعض
العناوين الأخر عليه منهيا عنه، فإن الخصوصية الفردية لو لم يكن لحاظ عنوان
في البين لا يمكن أن تكون محكومة بحكمين، وأما لو كان لحاظ عنوان في البين
ولو لم يكن ذلك العنوان متعلقا للحكم، بل كان المتعلق هو الفرد وكان ذلك العنوان
منظرة له فيمكن أن تكون محكومة بحكمين بحيث تكون قطعة من ذلك الوجود
الخاص متعلقة لأحد الحكمين والأخرى متعلقة للآخر، فتدبر.
ويمكن القول بعدم الجواز، وذلك واضح لأن الفرد الواحد لا يمكن أن يكون
متعلقا للحكمين وإلا يلزم اجتماع الضدين.
والحاصل: أن ما توهم في المقام تارة بأن النزاع في المسألة مبني على القول
بتعلق الأحكام بالطبائع، وأما بناء على القول بتعلقها بالأفراد فلا إشكال في
الامتناع، وأخرى بأن القول بالجواز مبني على القول بتعلقها بالطبائع، والقول
بالامتناع مبني على القول بتعلقها بالأفراد فاسد، لأن النزاع في هذه المسألة
يجري على كلا القولين في تلك المسألة والقول بالجواز في هذه المسألة ليس
متفرعا على القول بتعلق الأحكام بالطبائع في تلك المسألة كما عرفت، بل يجري
على كلا القولين فيها. والقول بالامتناع أيضا ليس متفرعا على القول بتعلق
294

الأحكام بالأفراد في تلك المسألة، بل يجري على كلا القولين، ولذا ذهب الأكثر
إلى القول بالامتناع مع أنهم قائلون بتعلق الأحكام بالطبائع.
التاسع: في أنه لا يخفى أن الحكم قد يكون اقتضائيا وقد يكون فعليا. والمراد
بالحكم الاقتضائي في المقام ما جعل للشيء في حد نفسه مع قطع النظر عن
الطوارىء والعوارض وصار المولى بصدد تحصيله.
والمراد بالحكم الفعلي ما جعل للشيء بملاحظة جميع الطوارىء والعوارض
وصار المولى أيضا بصدد تحصيله وبلغه إلى العباد، بخلاف مقام الجمع بين الحكم
الظاهري والواقعي حيث يقولون: إن الحكم الواقعي اقتضائي والحكم الظاهري
فعلي، فإن المراد من الاقتضاء في ذلك المقام هو كون الشيء ذا مصلحة موجبة
لجعل الحكم على طبقها وتحصيله من العباد لو لا الموانع، ولكن من جهة الموانع
ما حصله وما بلغه إلى العباد والمراد بالفعلي ما حصله منهم وبلغه إليهم،
فالاقتضائية والفعلية في هذا المقام غير الاقتضائية والفعلية في ذلك المقام.
إذا عرفت هذا، فاعلم أنه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلا إذا كان في كل
واحد من متعلقي الايجاب والتحريم مناط حكمه مطلقا حتى في مورد التصادق
كي يحكم على الجواز بكونه محكوما فعلا بحكمين، وعلى الامتناع كونه محكوما
بأقوى المناطين، أو بحكم آخر لو لم يكن أحدهما أقوى، وأما إذا لم يكن
للمتعلقين مناط كذلك فلا يكون من باب الاجتماع ولا يكون مورد الاجتماع إلا
محكوما بأحد الحكمين إذا كان مناطه أو بحكم آخر غيرهما لو لم يكن لأحدهما
مناط قيل بالجواز أو الامتناع، هذا بحسب مقام الثبوت.
وأما بحسب الدلالة ومقام الاثبات فالروايتان الدالتان على الحكمين
متعارضتان، إذا أحرز أن المناط من قبيل الثاني فلابد من عمل المعارضة حينئذ
بينهما من الترجيح أو التخيير، وإلا فلا تعارض في البين، بل كان من باب التزاحم
بين المقتضيين، فربما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلا، لكونه أقوى مناطا. فلا
مجال حينئذ لمرجحات باب الرواية، بل لابد من ملاحظة مرجحات باب
التزاحم. نعم لو كان كل منهما متكفلا للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض، فلابد
295

من ملاحظة مرجحات باب المعارضة لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على
الحكم الاقتضائي.
والحاصل: أنه إذا أحرز وجود المناط في أحدهما وكان الحكم اقتضائيا
بالمعنى المذكور في المقام أو أحرز المناط فيهما وكان الحكم المستفاد منهما فعليا
بالمعنى المذكور لوقع التعارض بين الروايتين الدالتين عليهما إذا علم إجمالا
بكذب أحدهما، ولابد حينئذ من إعمال مرجحات باب التعارض.
وإن أحرز المناط فيهما وكان الحكم المستفاد من كل واحد منهما اقتضائيا
لوقع بينهما التزاحم، ولابد حينئذ من ملاحظة مرجحات باب التزاحم، فتأمل.
العاشر: أنه قد عرفت أن المعتبر في هذا الباب أن يكون كل واحد من الطبيعة
المأمور بها والمنهي عنها مشتملة على مناط الحكم مطلقا حتى في حال
الاجتماع، فلو كان هناك ما دل على ذلك من إجماع أو غيره فلا إشكال، ولو لم
يكن إطلاق الدليلين ففيه تفصيل: وهو أن الإطلاق لو كان في مقام بيان الحكم
الاقتضائي بالمعنى المذكور لكان دليلا على ثبوت المقتضي والمناط في مورد
الاجتماع فيكون من هذا الباب. ولو كان في مقام بيان الحكم الفعلي بالمعنى
المذكور فلا إشكال في كونه من هذا.
ولا ريب في استكشاف ثبوت المقتضيين للحكمين الفعليين على القول
بالجواز إلا إذا علم إجمالا بكذب أحد الدليلين فلا يكون من هذا الباب. ويعامل
معهما معاملة التعارض، وأما على القول بالامتناع فالاطلاقان متنافيان من غير
دلالة على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلا، فإن انتفاء أحد
المتنافيين كما يمكن أن يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضي له يمكن أن يكون
لأجل انتفائه، إلا أن يقال: قضية التوفيق بينهما هو حمل كل منهما على الحكم
الاقتضائي لو لم يكن أحدهما أظهر، وإلا فخصوص الظاهر منهما.
فتلخص: أنه كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين كان من
مسألة الاجتماع، وكلما لم يكن هناك دلالة عليه فهو من باب التعارض مطلقا إذا
296

كانت هناك دلالة على انتفائه في أحدهما بلا تعيين ولو على الجواز، وإلا فعلى
الامتناع. انتهى كلامه زيد في علو مقامه (1).
الحادي عشر: في بيان الثمرة الأصولية والفقهية المترتبة على النزاع في
هذه المسألة.
أما الثمرة الأصولية: فهي أن هذه المسألة على القول بالامتناع وكذلك على
القول بالجواز إذا كانت هناك دلالة على انتفاء المقتضي في أحدهما بلا تعيين على
التفصيل المتقدم من صغريات باب التعارض وعلى القول بالتفصيل المذكور من
صغريات التزاحم.
وأما الثمرة الفقهية: فهي أنه لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال
بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز مطلقا ولو في العبادات وإن كان معصية
للنهي أيضا، وكذلك بناء على الامتناع وترجيح جانب الأمر إلا لا معصية عليه.
وأما عليه وترجيح جانب النهي فيسقط به الأمر مطلقا في غير العبادات، لحصول
الغرض الموجب. وأما فيها فلا مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه تقصيرا، فإنه وإن
كان متمكنا مع عدم الالتفات من قصد القربة وقد قصدها إلا أنه مع التقصير
لا يصلح لأن يتقرب به أصلا، فلا يقع مقربا. وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض
الموجب للأمر به عبادة كما لا يخفى. وأما إذا لم يلتفت إليها قصورا وقد قصد
القربة بإتيانه فالأمر يسقط بقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به، لاشتماله على
المصلحة مع صدوره حسنا لأجل الجهل بحرمته قصورا، فيحصل به الغرض من
الأمر فيسقط به قطعا وإن لم يكن امتثالا له، بناء على تبعية الأحكام لما هو
الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعا لا لما هو المؤثر منها فعلا للحسن أو
القبح لكونهما تابعين لما علم منهما كما حقق في محله.
مع أنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك، فإن العقل لا يرى تفاوتا بينه
وبين سائر الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها وإن لم تعمه بما هي مأمور

(1) كفاية الأصول: في النواهي، ص 190.
297

بها، لكنه لوجود المانع لا لعدم المقتضي.
ومن هنا انقدح أنه يجري ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة
وعدم كفاية الاتيان بمجرد المحبوبية الذاتية.
وقد انقدح بذلك الفرق بين ما إذا كان دليل الحرمة والوجوب متعارضين
وقدم دليل الحرمة ترجيحا أو تخييرا حيث لا مجال معه للصحة أصلا وبين ما إذا
كان من باب الاجتماع وقيل بالامتناع، وتقديم جانب النهي حيث يقع صحيحا في
غير مورد من موارد الجهل والنسيان بموافقة الغرض، بل للأمر.
وقد ظهر بما ذكرنا وجه حكم الأصحاب لصحة الصلاة في الدار المغصوبة مع
النسيان أو الجهل بالموضوع، بل الحكم إذا كان عن قصور، مع أن الجل لو لا الكل
قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر، فليكن
على ذكر منك.
إذا عرفت هذه الأمور فالحق هو القول بالامتناع كما ذهب إليه المشهور
وتحقيقه على وجه يتضح به فساد ما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه الاستدلال
لسائر الأقوال يتوقف على تمهيد مقدمات:
أحدها: أنه لا ريب في أن الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها وبلوغها
إلى مرتبة البعث والزجر، فلا يجوز البعث نحو شيء والزجر عنه في زمان واحد،
لأنه جمع بين الضدين، وهو محال.
ثانيها: أنه لا شبهة في أن متعلق الأحكام هو فعل المكلف وما يصدر عنه
في الخارج لا اسمه وعنوانه، ضرورة أن البعث والزجر ليس بالنسبة إليه إلا
من جهة كونه آلة للحاظ المعنون الخارجي الذي هو فعل المكلف لا بما هو هو
وعلى استقلاله.
ثالثها: أن تعدد الوجه والعنوان لا يوجب تعدد المعنون، ضرورة صدق
المفاهيم والعناوين المتعددة على الواحد الحقيقي لا تكثر فيه بوجه من الوجوه،
بل هو بسيط من جميع الجهات كالواجب تعالى.
298

رابعها: أنه لا يكون للموجود بوجود واحد إلا ماهية واحدة وحقيقة فاردة لا
يقع في جواب السؤال عن ماهيته بما هو إلا تلك الماهية. فالمفهومان المتصادقان
على ذلك لا يكاد يكون كل منهما ماهية وحقيقة وكانت عينه في الخارج كما هو
شأن الطبيعي وأفراده، فيكون الواحد وجودا واحدا ماهية وذاتا.
إذا عرفت ما مهدناه عرفت أن المجمع حيث كان واحدا وجودا وماهية كان
تعلق الأمر والنهي به محالا، للزوم اجتماع الضدين ولو كان تعلقهما به بعنوانين،
لما عرفت من كون فعل المكلف بحقيقته وواقعيته الصادرة عنه متعلقا للأحكام لا
بعناوينها الطارئة عليه، وأن غائلة اجتماع الضدين فيه لا تكاد ترتفع بكون
الأحكام تتعلق بالطبائع لا الأفراد. فإن غاية تقريبه أن يقال: أن الطبائع من حيث
هي وإن ليست إلا هي، ولا يتعلق بها الأحكام الشرعية كالآثار العقلية والعادية إلا
أنها مقيدة بالوجود بحيث كان القيد خارجا والتقييد داخلا صالحة لتعلق الأحكام
ومتعلق الأمر والنهي - على هذا - لا يكون متحدا أصلا لا في مقام البعث والزجر
ولا في مقام الإطاعة والعصيان بإتيان المجمع بسوء الاختيار.
أما في المقام الأول: فلتعددهما بما هما متعلقان لهما وإن كانا متحدين فيما
هو خارج عنهما بما هما كذلك.
وأما في المقام الثاني: فلسقوط أحدهما بالإطاعة والآخر بالعصيان، ففي أي
مقام اجتمع الحكمان؟ وأنت خبير بأنه لا يكاد يجدي بعد ما عرفت من أن تعدد
العنوان لا يوجب تعدد المعنون لا وجودا ولا ماهية ولا تنثلم به وحدته أصلا،
وأن الأحكام إنما تتعلق بالمعنون والعنوان إنما يؤخذ بما هو معرف وحاكي عن
المعنون. هذا ملخص ما أفاده (قدس سره) في الكفاية (1). فظهر أن مختاره عدم جواز
الاجتماع كما يظهر من المشهور أيضا.
وقد استدل على الجواز بأمور:
منها: أنه لو لم يجز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد لما وقع نظيره في

(1) كفاية الأصول: في بحث النواهي ص 192 - 194.
299

الشرع وقد وقع كما في العبادات المكروهة فإن عدم جواز اجتماع الأمر والنهي
ليس إلا من جهة تضاد الايجاب والتحريم، وهو ليس مختصا بهما، بل الأحكام
الخمسة كلها متضادة ولا يجوز اجتماع الشيئين منها في الشيء الواحد، والحال
أنه قد وقع، والوقوع أدل دليل على الإمكان، ومعه لا حاجة إلى إقامة البرهان.
والجواب عن هذا الاستدلال إجمالا هو: أن ما وقع في الشريعة من هذا
القبيل لابد من التصرف والتأويل بعد إقامة البرهان على الامتناع، ضرورة أن
الظهور لا يصادم البرهان، مع أن قضية ظهور تلك الموارد اجتماع الحكمين فيها
بعنوان واحد، ولا يقول الخصم بجوازه فلابد له من التفصي عن الإشكال، وكل ما
أجاب به عن الإشكال فهو الجواب من طرفنا أيضا.
وأما تفصيلا: فقد أجيب بوجوه لا يخلو عن النقض والإبرام.
والتحقيق في الجواب: أن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته ولا بدل له كصوم عاشوراء والنوافل
المبتدأة في بعض الأوقات.
ثانيها: ما تعلق به النهي كذلك ويكون له البدل كالنهي عن الصلاة في الحمام.
ثالثها: ما تعلق به النهي لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجودا أو ملازم له
خارجا كالصلاة في مواضع التهمة، بناء على كون النهي عنها لأجل اتحادها مع
الكون في مواضعها.
أما القسم الأول: فالنهي عنها تنزيها بعد الإجماع على وقوعها، ومع ذلك
يكون تركها أرجح إما لأجل انطباق عنوان على الترك يكون ذلك العنوان راجحا
في حد نفسه بحيث يكون مصلحته أكثر من مصلحة فعل العبادة، كالصوم الذي
يطلب المؤمن إفطاره، فإن نفس الصوم في حد نفسه راجح وتركه وإفطاره من
حيث إنه إجابة المؤمن أيضا راجح، ورجحان الترك أكثر من رجحان الفعل، فلذا
يكون الفعل والترك من قبيل المستحبين المتزاحمين اللذين يكون أحدهما أهم
من الآخر، وإن كان الآخر يقع صحيحا لو اختاره لموافقته للغرض كما في سائر
300

المستحبات المتزاحمات، بل الواجبات أيضا.
وأرجحية الترك من الفعل لا يوجب حزازة ومنقصة فيه أصلا كما يوجبها ما
إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته، ولذا لا يقع صحيحا على الامتناع، فإن
الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحيته للتقرب به بخلاف المقام فإنه على ما هو
عليه من الرجحان وموافقته الغرض كما إذا لم يكن تركه راجحا بلا حدوث
حزازة فيه أصلا، وإما لأجل ملازمة الترك لعنوان كذلك من دون انطباقه عليه،
وذلك كصوم عاشوراء، فإن الصوم فيه من حيث كونه تشبيها بمن يتبرك بصومه
يكون تركه راجحا من جهة ملازمته مع عنوان راجح وهو عدم التشبه بهم، فيكون
كما إذا انطبق عنوان الراجح على الترك بلا تفاوت بينهما إلا في أن النهي في
صورة انطباق العنوان الراجح على الترك يكون متعلقا بالترك حقيقة، وفي صورة
ملازمته مع العنوان الراجح يكون متعلقا بذلك العنوان الملازم حقيقة وتعلقه
بالترك بالعرض والمجاز.
ويمكن أن يحمل النهي في كلتا الصورتين على الإرشاد إلى الترك الذي هو
أرجح من الفعل أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثوابا لذلك، وعليه يكون النهي
على نحو الحقيقة لا بالعرض والمجاز.
وأما القسم الثاني: فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأول
طابق النعل بالنعل، كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور
بها لأجل تشخصها في هذا القسم بمشخص غير ملائم لها كما في الحمام، فإن
تشخصها بتشخص وقوعها فيه لا يناسب كونها معراجا إن لم يكن نفس الكون في
الحمام بمكروه ولا حزازة فيه أصلا، بل ربما كان في حد نفسه أو لبعض الأغراض
وربما يحصل لها لأجل تشخصها لخصوصية شديدة الملائمة معها مزية كما في
الصلاة في المسجد والأمكنة الشريفة، وربما لا يحصل لأجل الخصوصية مزية ولا
منقصة كالصلاة.
والحاصل: أن للطبيعة مقدار من المصلحة والثواب في حد نفسها مع قطع
301

النظر عن المشخصات الفردية، فربما يحصل لها منقصة بواسطة الخصوصية
الفردية كالصلاة في الحمام، وقد يحصل لها مزية كما في الصلاة في المسجد وقد
لا يحصل شيء منهما كما في الصلاة في البيت، والنهي في هذا القسم للارشاد إلى
ترك الفرد الذي فيه المنقصة واختيار الفرد الذي ليس فيه الحزازة.
ونظر من قال بأن الكراهة في العبادة عبارة عن كونها أقل ثوابا إلى هذا
القسم، والمراد بكونها أقل ثوابا بالنسبة إلى ثواب أصل الطبيعة المعراة عن ما
توجب المزية أو المنقصة. فلا يرد الإشكال بأنه يلزم أن تكون العبادة في بعض
الأمكنة الراجحة التي يكون ثوابها أقل من بعض الآخر مكروهة كالصلاة في
مسجد الكوفة مثلا، حيث إن ثوابها أقل من ثواب الصلاة عند علي (عليه السلام).
وأما القسم الثالث: فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة بالعرض والمجاز
ويكون المنهي عنه حقيقة هو العنوان المتحد معها أو الملازم لها، ويمكن أن يكون
النهي إرشادا إلى غيرها من سائر الأفراد التي لا تكون متحدة ولا ملازمة له.
والمفروض التمكن من استيفاء مزية العبادة بلا ابتلاء لحزازة ذلك العنوان أصلا،
هذا على القول بجواز الاجتماع.
وأما على القول بالامتناع فكذلك في صورة الملازمة، وأما في صورة
الاتحاد وترجيح جانب الأمر كما هو المفروض حيث إنه صحت العبادة فيكون
حال النهي فيه حاله في القسم الثاني فيحمل على ما حمل عليه فيه، حيث إنه
بالدقة يرجع إليه، إذ على الامتناع ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلا من
مشخصاته التي تختلف الطبيعة المأمور بها من حيث الثواب باختلافها.
ومما ذكرنا انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب كالصلاة مع الجماعة
أو في المسجد، أو غيرهما من المزايا والخصوصيات الراجحة، وأن الأمر
الاستحبابي يكون على نحو الإرشاد إلى أفضل الأفراد مطلقا على نحو الحقيقة،
ومولويا اقتضائيا كذلك، وفعليا بالعرض والمجاز فيما كان ملاكه ملازمتها لما هو
مستحب أو متحد معه على القول بالجواز.
302

ولا يخفى أنه لا يكاد يأتي القسم الأول هنا فإن انطباق عنوان راجح على
الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد ايجابه لا أنه يوجب استحبابه أصلا ولو
بالعرض والمجاز إلا على القول بالجواز، وكذا فيما إذا لازم مثل هذا العنوان فإنه
لو لم يؤكد الايجاب لما يصحح الاستحباب إلا اقتضائيا وبالعرض والمجاز.
فتحصل: أن الحق عدم جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء ولو كان بعنوانين،
وأن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون الذي هو متعلق فعل المكلف لا عنوانه
ضرورة أن البعث والزجر لا يصح إلا بالنسبة إلى المعنون لا العنوان والعنوان إنما
يؤخذ في متعلقات الأحكام آلة للحاظ المعنون لا مستقلا. فلو اجتمع الأمر والنهي
في شيء واحد ولو بعنوانين لزم اجتماع الضدين، لما عرفت من تضاد الأحكام
وعدم إمكان اجتماعها في موضوع واحد، والاستدلال على جوازه بوقوع
العبادات المكروهة في الشريعة، والوقوع أدل دليل على الإمكان قد عرفت
فساده بما نقلنا من كلامه (قدس سره).
وحاصله: أن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته ولا بدل له كصوم العاشوراء والنوافل
المبتدأة في بعض الأوقات.
وثانيها: ما تعلق به النهي كذلك ويكون له البدل كالصلاة في الحمام.
وثالثها: ما تعلق به النهي لا بعنوانه وذاته، بل بما هو مجامع معه وجودا أو
ملازم له خارجا كالصلاة في مواضع التهمة (1).
وقد عرفت أن النهي في القسم الأول من جهة انطباق عنوان راجح على الترك
أو ملازم له، ويكون فعل العبادة وتركها من قبيل المستحبين المتزاحمين اللذين
يتخير المكلف بينهما لو لم يكن أحدهما أهم وإلا يتعين الأهم لو اختار الإتيان
بالأفضل لكن لو أتى بغير الأهم لاستحق الثواب عليه بخلاف الواجبين
المتزاحمين، فإنه لو ترك الأهم وأتى بغيره لم يصح، ولا يستحق الثواب إلا بناء

(1) كفاية الأصول: في النواهي ص 197.
303

على القول بصحة العبادية بداعي المحبوبية الذاتية وملاك الأمر وإن لم يكن أمر
فعلي، أو على القول بصحة الخطاب الترتبي وتعقله، فتأمل.
ولا فرق بين العنوان المنطبق والملازم إلا في أن النهي على الأول متعلق
بالترك حقيقة وعلى الثاني متعلق بالعنوان الملازم كذلك وتعلقه بالترك بالعرض
والمجاز.
فعلى هذا يكون النهي فيهما مولويا. ويمكن أن يكون النهي فيهما إرشادا إلى
الترك الذي هو أفضل من الفعل الملازم لما هو الأفضل، وعليه يكون النهي على
نحو الحقيقة لا بالعرض والمجاز، وفي القسم الثاني يمكن أن يكون النهي لأجل ما
ذكر في القسم الأول طابق النعل بالنعل، كما يمكن أن يكون لأجل منقصة في
الطبيعة المأمور بها لأجل تشخصها بمشخص غير ملائم لها كما في الصلاة في
الحمام، لما عرفت من المشخصات والخصوصيات الفردية قد توجب المنقصة في
الطبيعة المأمور بها كما في المثال المذكور، وقد توجب المزية كما في الصلاة في
المسجد، وقد لا توجب شيئا منهما كما في الصلاة في البيت، والنهي في هذا القسم
ليس إلا للارشاد إلى ترك هذا الفرد، واختيار الفرد الخالي عن هذه المنقصة الذي
هو أكثر ثوابا من هذا الفرد.
ونظر من قال: بأن الكراهة في العبادة عبارة عن أقلية الثواب (1) إلى هذا
القسم، والمراد الأقلية بالنسبة إلى أصل الطبيعة فلا يلزم الاشكال بأنه لو كان
المراد من الكراهة أقلية الثواب يلزم أن تكون الصلاة في بعض الأماكن الشريفة
مكروهة، لكونها أقل ثوابا من البعض الآخر، وفي القسم الثالث يمكن أن يكون
النهي فيه عن العبادة المتحدة مع ذلك العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز
وكان المنهي عنه به حقيقة ذلك العنوان، ويمكن أن يكون على الحقيقة إرشادا إلى
غيرها من سائر الأفراد مما يكون متحدا معه أو ملازما له... إلى آخر ما نقلناه.
ولكن يمكن أن يقال: إن النهي المتعلق بالعبادة إن كان تحريميا سواء كان

(1) نقله في الوافية: في بحث النواهي ص 96.
304

نفسيا أو غيريا مقدميا كالنهي عن ضد الواجب، بناء على أن الأمر بالشيء يقتضي
النهي عن ضده وإن ترك أحد الضدين مقدمة لوجود ضد الآخر يقتضي الفساد،
وإن كان تنزيهيا سواء كان نفسيا أو غيريا كما في الأمر بالمستحب الأهم، حيث
إنه يقتضي النهي عن ضده تنزيهيا من جهة المقدمية لا يقتضي الفساد، من جهة أن
النهي إن كان تحريميا ليس ترخيص في الفعل أصلا، بخلاف ما إذا كان النهي
تنزيهيا فإن الترخيص في الفعل متحقق فيه، فتأمل.
ومن جملة الاستدلالات على جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد هو:
أن أهل العرف يعدون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم مطيعا وعاصيا
كما لو أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص، فلو
خاط في ذلك المكان لعد مطيعا وعاصيا من وجهين.
وفيه - مع قطع النظر عن المناقشة في المثال وإنه ليس من باب الاجتماع لأن
الكون المنهي عنه متحد مع الخياطة - أن صدق كونه مطيعا وعاصيا أول الكلام،
فهو إما مطيع فقط إن غلب جانب الأمر، وإما عاص فقط إن غلب جانب النهي، لما
تقدم من البرهان على الامتناع.
نعم لا بأس لصدق الطاعة بمعنى حصول الغرض والعصيان في التوصليات،
وأما في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها إلا فيما صدر من المكلف فعلا
غير محرم وغير مبغوض، وأما التفصيل في المسألة بالجواز عقلا والامتناع فقد
عرفت أنه لا محصل له إلا أن العقل بالنظر الدقي يرى الشيء الواحد المعنون
بعنوانين شيئين فيحكم بالجواز، وأن العرف بالنظر المسامحي يراه شيئا واحدا
فيحكم بالامتناع.
وفيه: أنه لا عبرة في هذا الباب بفهم العرف بعد تبين خطئهم بالنظر الدقي
الغير المبني على المسامحة كما لا يخفى.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: أنه اضطر إلى ارتكاب الحرام كمن دخل مكانا مغصوبا، فإن كان بلا
305

سوء اختيار منه كما إذا حبسه ظالم في دار مغصوبة فالظاهر أنه لا إشكال في
سقوط النهي عن التصرف في مال الغير بواسطة الاضطرار، وعدم كونه حراما
وصيرورة الأمر بالعبادة التي يكون الكون في المكان جزء منها أو معتبرا فيها
كالصلاة وأمثالها بلا مزاحم وتصح، ولا إشكال فيه من حيث الكبرى.
وإنما الإشكال من حيث الصغرى، فقيل بأن المضطر إليه هي الهيئة التي
أدخلوه بها في الدار المغصوبة، فلو صدرت منه عبادة بتلك الكيفية تصح من جهة
سقوط النهي بالاضطرار وصيرورة الأمر بلا مزاحم فعلي، ولو صدرت منه بغير
تلك الهيئة لم تصح، لأنها غير مضطر إليها. وقيل بأن المضطر إليه هي الصلاة
القعودي بل الإيمائي.
وفيه: مضافا إلى ما ذكرنا في بحث مكان المصلي من أن الكون الصلاتي لا
يتحد مع الكون الغصبي إلا في السجود، وذلك لأن الصلاة عبارة عن الأقوال
والأفعال، أما الأقوال فواضح عدم اتحادها مع الكون في المكان المغصوب، أما
الأفعال كالقيام والركوع والسجود والقعود أما القيام فهو عبارة عن الانتصاب
ووضع الرجلين على ما يستقر عليه من الأرض ونحوها إن كان جزءا من ماهية
القيام فيلزم الاتحاد، لكنه ليس كذلك بل هو مما يتوقف عليه القيام عادة فلم يتحد
القيام الذي هو جزءا من الصلاة مع الكون الغصبي، بل اتحد معه ما يتوقف عليه
القيام لا نفسه، ولا بأس باتحاده معه لأن مقدمة الواجب يمكن اجتماعها مع
الحرام بمعنى سقوط الواجب الذي أتى به بتوسط المقدمة المحرمة، هذا إذا كان ما
يستقر عليه مغصوبا كما إذا فرش المكان المباح بفراش مغصوب، أو كان ما يستقر
عليه وما يشغله من الفضاء كليهما مغصوبين.
وأما إذا كان الفضاء فقط مغصوبا فكذلك لم يتحد الكون الصلاتي مع الكون
في المكان الغصبي، لأن الكون الصلاتي هو الانتصاب وهو غير متحد مع الكون
في المكان المغصوب، والكون المتحد معه هو الكون بمعنى التحيز وهو غير الكون
الصلاتي وأما الركوع فإن قلنا بأن الهوي من القيام إلى الركوع جزء من ماهية
306

الركوع فيلزم الاتحاد فيما لو كان الفضاء مغصوبا، وأما لو قلنا بأن الركوع عبارة
عن نفس الهيئة المخصوصة، والهوي من مقدماته فحاله كحال القيام، كما أن القعود
أيضا حاله حال القيام فيما ذكرناه. نعم السجود بمعنى وضع الجبهة على ما يصح
السجود عليه إذا كان ما يسجد عليه مغصوبا يتحد الكون الصلاتي مع الكون
الغصبي، فتأمل.
فإذا قلنا بعدم اتحاد الكون الصلاتي مع الكون الغصبي وصحة الصلاة فيه فيما
لم يلزم الاتحاد كما إذا كان موضع سجوده مباحا ولو في حال الاختيار، ففي هذا
الحال - أعني حال الاضطرار - نقول بصحة الصلاة بطريق أولى أن الاضطرار إلى
الجامع يكفي في إباحة تمام الكيفيات من القيام والقعود وغيرهما من الهيئات
والأطوار، ولا يلزم زيادة التصرف في المكان المغصوب بأي كيفية صلى فيما إذا
كان المغصوب هو الفضاء، إذ إشغاله للفضاء بمقدار جثته لا يختلف باختلاف
الهيئات. نعم لو كان ما يستقر عليه مغصوبا إذا صلى قائما كان التصرف في
المغصوب اقل من الصلاة قاعدا أو نحو القعود من الكيفيات كما لا يخفى.
والحاصل: أن الدخول في المكان المغصوب إن كان بلا سوء اختيار منه
يسقط النهي لمكان الاضطرار، ويصير الأمر بلا مزاحم فعلي. فتصح العبادة
المأمور بها منه في هذا المكان إذا لم تستلزم تصرفا زائدا على ما يقتضيه كونه فيه
على ما عرفت من التفصيل بين كون المغصوب هو الفضاء أو ما يستقر عليه دون
الفضاء، مضافا إلى ما ذكرنا من إمكان صحة الصلاة في المكان المغصوب في حال
الاختيار أيضا لعدم اتحاد الكون الصلاتي مع الكون في المكان الغصبي إلا في
حال السجود، فلو كان سجوده على مكان مباح ولو كان سائر أفعال صلاته في
المكان المغصوب يمكن القول بالصحة فتأمل.
وأما لو كان الدخول فيه بسوء اختياره فإن انحبس فيه بحيث لم يكن له
مخلص، فيحتمل أن يقال بأن حاله كحال ما لم يكن الدخول بسوء اختياره في
صحة عباداته الواقعة منه فيه كالوضوء والغسل والصلاة إذا لم يستلزم تصرفا
307

زائدا على ما يقتضيه الكون فيه على التفصيل المذكور، بناء على أن الاضطرار
يوجب رفع الحرمة وإن كان الاضطرار بسوء الاختيار.
وما قيل من أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار (1) فإنما هو في مقام الرد
على الأشاعرة لا في هذا المقام، لأن التكليف بغير المقدور قبيح ولو كان سببه
المكلف فإن صدور القبيح من العبد لا يوجب صدوره عن الله تعالى وإن لم ينحبس
فيه، بل كان له مخلص منه، فبالمقدار الذي لا يمكنه عدم التصرف في المغصوب
بحيث لو أراد الخروج لابد من مضيه كدقيقة أو أزيد مثلا يكون مضطرا إليه، فلو
صرف هذا المقدار من الزمان في البقاء أو في الحركة الغير الخروجية فلا إشكال
في حرمته، وكونه معصية لخطاب " لا تغصب " حيث إنهما زيادة في الغصب.
فلو عصى وبقي أو تحرك في غير الخروج ففي الزمان الثاني أيضا بالمقدار
الذي لابد منه في الخروج مضطر إليه.
فلو صرف هذا المقدار في البقاء أو في الحركة الغير الخروجية لكان عاصيا
لخطاب " لا تغصب " وهكذا في الزمان الثالث والرابع وما بعدهما.
ولو صرف هذا المقدار من الزمان في الخروج عن المكان المغصوب
فالأنظار هنا مختلفة، فبناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي أن الخروج
مأمور به ومنهي عنه كليهما كما حكي عن المحقق القمي ناسبا له إلى أكثر
الأصحاب والفقهاء (2).
وبناء على القول بالامتناع قيل: إنه مأمور به فعلا حيث إنه تخلص عن
الغصب وهو واجب، ومنهي عنه بالنهي السابق وهو: " لا تغصب " المتوجه إليه قبل
دخوله فيه، حيث إنه يشمل تمام تصرفاته فيه التي من جملتها الخروج الساقط
بواسطة الاضطرار، فالنهي ساقط خطابا، لكن أثر النهي وهو العقاب باق، حيث إنه
باختياره خالف النهي ودخل في المكان المغصوب وإن سقط النهي بعد الدخول

(1) مطارح الأنظار: ص 154 س 4.
(2) القوانين: في بحث النواهي ج 1 ص 153 س 22.
308

بواسطة الاضطرار، إلا أنه ساقط خطابا لا عقابا.
وهذا القول حكي عن صاحب الفصول (1) (قدس سره) وقيل: إنه مأمور به وليس منهيا
عنه أصلا وهذا القول حكي عن الشيخ (2) (قدس سره) إما أنه مأمور به إما من جهة انطباق
عنوان نفسي وهو التخلص عن الغصب الذي هو حسن عقلا وشرعا على الخروج
فيكون واجبا نفسيا أو من جهة المقدمية، حيث إن الخروج مقدمة للكون خارج
المكان الذي هو واجب نفسا - والمحكي عن الشيخ هو الأول - وإما أنه ليس
منهي عنه أصلا من جهة أن النهي عن الغصب لا يشمل الخروج عن المكان
المغصوب أصلا، لأن الخروج تخلص عن الغصب وهو عنوان مضاد للغصب
فكيف يشمله النهي عن الغصب؟
فاولا كونه غصبا ممنوع، لأن الغصب عبارة عن التصرف في مال الغير عدوانا،
وهذا التصرف الخروجي ليس عدوانا، بل هو رفع العدوان. فيكون مأذونا فيه من
طرف العقل والشرع، بل المالك أيضا، إذ لو سئل عن المالك بأنك راض بخروج
الغاصب عن ملكك أم لا؟ فلا محالة يقول بأني راض بذلك، بل ملزم له بالخروج.
وثانيا: على تقدير كونه غصبا - أي الاستيلاء على مال الغير بغير إذنه - كونه
محرما ممنوع، إذ الاستيلاء على مال الغير بغير إذنه لا ينحصر حكمه بالحرمة، بل
يجري عليه الأحكام الخمسة، فقد يكون حراما، وقد يكون واجبا، وقد يكون
غيرهما، والشاهد على أنه ليس بمنهي عنه أنه لا يمكن أن يصرح بالنهي عن
الخروج بخصوصه لا مطلقا كأن يقول: لا تخرج عن المكان المغصوب، كما يصح
أن يقول: لا تدخل المكان المغصوب ولا معلقا على الدخول كأن يقول: إذا دخلت
المكان المغصوب فلا تخرج كما يصح أن يقول: إذا دخلت المكان المغصوب فلا
تبق فيه، أو لا تتحرك في الجهة المخصوصة منه، وعدم إمكان تعلق النهي به لا
مطلقا ولا معلقا دليل على عدم شمول: " لا تغصب " له، وإلا لصلح التصريح به

(1) الفصول: في بحث النواهي ص 138 س 25.
(2) مطارح الانظار: ص 153 س 33.
309

بأحد النحوين.
وأجيب عن الاستدلال (1) على هذا القول إما عن كونه مأمورا به من جهة
ملاك الوجوب النفسي فبأن التخلص عن الغصب والتجنب عنه هو ترك الغصب،
والخروج ليس تركا للغصب، بل هو عين الغصب، إذ لا فرق بينه وبين الدخول
وبين البقاء في أن كلها تصرف في مال الغير بغير إذنه وعن كونه مأمورا به من جهة
الملاك المقدمي والغيري فبان الخروج ليس مقدمة للواجب حتى يقال بوجوبه
بناء على وجوب مقدمة الواجب، بل هو مقدمة اعدادية للكون خارج المكان
المغصوب الذي هو مباح.
فإن قلنا بأن النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضده فيكون النهي عن الغصب
مقتضيا للأمر بضده، وهو الكون في خارج مكان المغصوب، وحينئذ يكون مقدمته
وهو الخروج واجبا.
وإن قلنا بأن النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضده، من جهة أنه يلزم عليه
ورود شبهة الكعبي وانتفاء المباح وانحصار الأحكام بالأربعة، بل الاثنين، فتأمل.
ولو قلنا بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده فلا يكون الخروج واجبا
من جهة المقدمية أيضا، وأما عن كونه غير منهي فبأن ما ذكر في وجهه مغالطة، إذ
لا فرق بين الخروج وغيره من التصرفات الواقعة فيه في كونها تصرفا في مال الغير
بغير إذنه الذي هو عبارة عن الغصب فلا قصور ل‍ " لا تغصب " في شموله لهذا الفرد،
وكونه حسنا عقلا وشرعا بل كونه مرضيا للمالك بل ملزما من طرفه أول الكلام، إذ
يمكن أن يكون الخروج كسائر التصرفات عند العقل والشرع، بل المالك، ويكون
منهيا عنه، إلا أن العقل يحكم بلزوم الخروج من جهة أنه أقل القبيحين وأخف
المحذورين لا من جهة حسنه، كما أن رضا المالك بل إلزامه بالخروج يمكن أن
يكون لذلك، لا من جهة حسنه. فلا مانع عن شمول النهي الفعلي لهذا الفرد من
التصرف إلا الاضطرار الذي هو موجب لسقوط النهي عن الفعلية وبقاء أثره وهو

(1) راجع كفاية الأصول: في بحث النواهي ص 206.
310

العقاب على مخالفة النهي السابق الساقط بالاضطرار فتأمل.
ولعله لذلك قيل بأن الخروج ليس مأمورا به أصلا لا من جهة الملاك ولا من
جهة الملاك الغيري وليس أيضا منهيا عنه بالنهي الفعلي، بل بالنهي السابق الساقط
بالاضطرار الباقي أثره وهو العقاب لكن العقل يلزمه بالخروج من باب أنه أقل
القبيحين وأخف المحذورين، وهذا القول يظهر من صاحب الكفاية (1) (قدس سره).
والحق أن المسألة في غاية الإشكال، ولابد فيها من التأمل التام ليظهر الحق
بعون الملك العلام وعلى الله التوكل وبه الاعتصام من زلل الأقدام والأقلام فإنه
خير ختام. وحاصل الكلام في مسألة التوسط في الأرض المغصوبة أن التوسط
تارة يكون بلا سوء الاختيار، وأخرى يكون بسوء الاختيار، وعلى كلا التقديرين
إما يتمكن من التخلص والخروج أو لا يتمكن منه، وعلى التقدير الأخير إما أن
يكون من أول الأمر عالما بأنه إن دخل الأرض المغصوبة لا يتمكن من الخروج،
أو يكون عالما بالتمكن منه، أو يكون محتملا للأمرين. وعلى أي حال الكلام تارة
في جواز تصرفه بالحركة الخروجية، وأخرى في صحة عبادته المتحدة مع الكون
فيها فهاهنا صور لابد من التعرض لها وبيان أحكامها:
أما الصورة الأولى: وهي صورة دخولها في الأرض المغصوبة بلا سوء اختيار
منه فقد عرفت أنه لا إشكال فيها لا في الدخول ولا في الخروج ولا في البقاء
ما دام الاضطرار باقيا ولا في صحة عباداته المتحدة مع الكون فيها إذا لم يوجب
تصرفا زائدا على ما اضطر عليه من الكون فيها، وقد عرفت أن هذا يختلف بين ما
كان الفضاء مغصوبا، أو ما استقر عليه، أو كليهما، والكلام الآن فيما لو كان
المغصوب كليهما وحكم الصورتين الأوليين يعرف بالتأمل.
ولا فرق في هذه الصورة بين الصلاة عن قيام أو قعود أو غيرهما من
الكيفيات في عدم لزوم تصرف زائد على ما اضطر إليه، وهو اشغاله لهذه الأرض
والاضطرار إلى الجامع أباح تمام الخصوصيات والكيفيات فيجوز له، بل يجب

(1) كفاية الأصول: في بحث النواهي ص 206.
311

عليه الصلاة عن قيام كالمختار، لرفع الاضطرار حرمة جميع التصرفات المضطر
إليها الغير المستلزمة لتصرف زائد عليها، وأما لو رفع الاضطرار وتمكن من
الخروج فبالمقدار من الزمان الذي يمكنه الخروج كدقيقة، مثلا لو خرج وصرف
هذا المقدار من الزمان في الحركة الخروجية فلا حرج عليه، وإن صرفه في البقاء
أو في الحركة الغير الخروجية كان عاصيا بتصرفه فيها زائدا على ما اضطر إليه،
وهكذا الحال في الدقيقة الثانية والثالثة وما بعدهما.
الحاصل: أنه لو صرف الزمان الذي يمكنه الخروج فيه في الخروج فلا بأس،
وإن صرفه في البقاء أو في الحركة الغير الخروجية كان عاصيا لتصرفه في الأرض
المغصوبة زائدا على ما اضطر إليه، فلو عصى النهي عن البقاء أو الحركة الغير
[الخروجية] في الدقيقة الأولى كان حاله في الدقيقة الثانية كالدقيقة الأولى في أنه
لو صرفها في الحركة الخروجية فلا بأس وإلا كان عاصيا وهكذا، فتأمل.
وأما لو لم يرفع الاضطرار فقد ظهر أنه لا إشكال في بقائه وتصرفاته الغير
المستلزمة لتصرف زائد على ما اضطر إليه وصحة عباداته الواقعة فيها المتحدة مع
الكون فيها، لأن الاضطرار يرفع المحذور عن جميعها. هذا تمام الكلام في
الصورة الأولى بكلا شقيه أعني صورة التمكن من الخروج وصورة عدم التمكن.
وبقي الكلام فيما لو كان الدخول بسوء اختياره فلو دخل الأرض المغصوبة
بسوء اختياره وتمكن من الخروج فبالمقدار الذي يمكنه الخروج فيه كدقيقة مثلا
يكون التصرف مضطرا إليه، فلو لم يصرفه في الخروج بل صرفه في البقاء أو في
الحركة الغير الخروجية لا إشكال في حرمته واستحقاقه العقاب لاستلزامه تصرفا
زائدا عما اضطر إليه، فلو عصى ولم يخرج كان الحال في الدقيقة الثانية والثالثة
وما بعدهما كذلك. ولو صرف هذا المقدار من الزمان في الخروج فهل هذا الخروج
مأمور به، أو منهي عنه، أو كليهما، أو لا هذا ولا ذاك؟
الأنظار فيه مختلفة كما عرفت، فقيل بأن هذه الحركة الخروجية مأمور بها
ومنهيا عنها، أما أنها مأمور بها فمن جهة أنها تخلص من الغصب أو مقدمة له، وأما
312

أنها منهيا عنها فمن جهة أنها تصرف في مال الغير بغير إذنه، فحاله كحال الدخول
والبقاء من هذه الجهة، وهذا القول نسبه المحقق القمي (1) إلى الفقهاء وأكثر
الأصحاب، واختاره (قدس سره) بناء على ما اختاره من جواز اجتماع الأمر والنهي.
وقيل (2) بأنها منهيا عنها بالنهي السابق الساقط ومأمورا بالأمر الفعلي، أما أنها
منهيا عنها بالنهي السابق فمن جهة أن النهي عن الغصب قبل الدخول كان متوجها
إليه وشاملا لجميع أنحاء التصرفات من الدخول والبقاء والخروج، فبعد الدخول
سقط النهي من جهة الاضطرار إلى التصرف فيها بمقدار زمان الخروج بناء على
قبح التكليف بالمضطر إليه وإن كان الاضطرار ناشئا عن سوء اختيار المكلف.
وما قيل (3) من أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، ليس في هذا المقام،
بل في مقام الرد على الأشاعرة حيث قالوا: إنه تعالى فاعل بالإيجاب فقالوا في
ردهم: إن الايجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار، والامتناع بالاختيار لا ينافي
الاختيار، وهذا لا ربط له بما نحن فيه، لأن العقاب على المضطر اليه قبيح، سواء
كان بلا سوء اختيار المكلف أو كان بسوء اختياره، وصدور القبيح من العبد لا
يوجب صدوره عن الله تعالى، فالنهي السابق سقط بواسطة الاضطرار ولكن
خطابا لا عقابا، فتبعاته باقية، فهذه الحركة الخروجية وإن لم يكن منهيا عنها فعلا
لكن تقع معصية النهي السابق ويستحق عليها العقاب.
وأما أنها مأمور بها فمن جهة أنها تخلص عن الغصب الزائد أو مقدمة له، وهذا
القول نسب إلى صاحب الفصول (4) (قدس سره).
وقيل (5) بأنها مأمورا بها وليس بمنهي عنها أصلا لا بالنهي الفعلي ولا بالنهي

(1) القوانين: في بحث النواهي ج 1 ص 152 س 21.
(2) نسبه مطارح الانظار إلى بعض الأجلة ص 153 س 32.
(3) كما نقله صاحب كفاية الأصول: في بحث النواهي ص 209.
(4) الفصول: في بحث النواهي ص 138، س 25.
(5) مطارح الأنظار: ص 153 س 33.
313

السابق، فلابد في كونها مأمورا بها من وجود المقتضي والملاك وعدم مزاحم
أقوى، وما قيل في مقام وجود الملاك أمران: أحدهما: ملاك الايجاب النفسي
والآخر: ملاك الايجاب الغيري المقدمي، أما ملاك الايجاب النفسي فلأن هذه
الحركة الخروجية تخلص عن الغصب، وهو عنوان مضاد للغصب فلا يشمله النهي
عن الغصب أزلا وأبدا، لأن الغصب هو التصرف في مال الغير عدوانا، وهذا
التصرف بعد كونه مأمورا به من ناحية الشارع ليس تصرفا عدوانيا، فيكون كأكل
المارة من الحق الممرور به.
ولو قيل بأن الغصب هو التصرف في مال الغير بغير إذنه فيشمله، لأنه تصرف
في مال المالك بدون إذنه فنقول: إن التصرف في مال الغير بغير إذنه إن كان عنوانا
ملازما للقبح والحرمة كالظلم لتم ما ذكر، ولكنه ممنوع، بل يحتمل أن يكون
كالكذب مقتضيا للحرمة لو لم يمنع مانع ولم يطرأ عليه عنوان راجح كالكذب
النافع. ويحتمل أن يكون في حد نفسه غير مقتض لشيء من القبح والحسن
وينقسم إلى الأقسام الخمسة من الوجوب والاستحباب وغيرهما من الأحكام
الثلاثة الباقية.
والشاهد على عدم كونه مشمولا للنهي هو أنه لا يمكن تعلق النهي بالخروج
لا مطلقا ولا معلقا على الدخول، فلو كان مشمولا له باطلاقه لأمكن التصريح به
بالخصوص كما يمكن التصريح بالنهي عن الدخول والبقاء وسائر التصرفات غير
الحركة الخروجية.
هذا هو المقتضي والملاك للايجاب النفسي، وحاصله: أن الخروج تخلص
عن الغصب وهو عنوان مضاد للغصب والمزاحم الذي يتوهم هو النهي السابق وهو
من جهة سقوطه بالاضطرار لا يصلح للمزاحمة، فهذه الحركة الخروجية الغصب
الذي هو ملاك الايجاب، ونسب هذا القول بهذا الملاك إلى الشيخ (1) (قدس سره).
وقيل (2): إن الملاك في كونها مأمورا بها هو كونها مقدمة لترك الغصب الزائد

(1) مطارح الانظار: ص 153 س الأخير.
(2) قوانين الأصول: ص 154 س 6.
314

عما اضطر إليه.
وقيل: إن الحركة الخروجية ليست مأمورا بها ولا منهيا عنها وإنما يحكم
العقل بلزومها إرشادا إلى ارتكاب أقل المحذورين وأخف القبيحين عند الدوران،
وهذا القول اختاره في الكفاية (1).
ووجه عدم كونها مأمورا بها من جهة الملاك النفسي هو أن التخلص عن
الغصب هو التجنب عنه وتركه وهذه الحركة الخروجية عين الغصب لا ترك
الغصب، إذ لا فرق بينها وبين الحركة الغير الخروجية في كونها تصرفا في مال الغير
بغير إذنه الذي هو عبارة عن الغصب وما ذكر في وجه كونه عنوانا مضادا للغصب
وغير مشمول ل‍ " لا تغصب " مغالطة.
والحاصل: أن الغصب هو التصرف في مال الغير بغير إذنه، وهو محرم إلا أن
يرد الترخيص كما في حق المارة والبيوت الثمانية المذكورة في الآية (2)، فليس
الخروج عنوانا مضادا للغصب وتخلصا عن الغصب حتى يكون مأمورا به من جهة
الملاك النفسي ولو كان ملاك، لكونه مأمورا به، فإنما هو الملاك الغيري بتقريب أن
يقال: إن الخروج مقدمة لترك الغصب الزائد عما اضطر إليه، فترك الغصب واجب
ويجب مقدمته.
وفيه: أن الخروج مقدمة للكون في خارج الأرض المغصوبة، وهو مباح لا أنه
مقدمة لترك الغصب حتى يكون واجبا. فإن قلنا بأن النهي عن الشيء يقتضي الأمر
بضده، فيكون النهي عن الغصب أمرا بضده، وهو الكون في خارج الأرض،
ويكون مقدمته وهو الخروج واجبا. وإن قلنا بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن
ضده، ولكن النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضده، وإلا لزم قول الكعبي (3) وهو
انتفاء المباح، فلا يمكن الالتزام بوجوبه من جهة المقدمية كما التزم به صاحب

(1) كفاية الأصول: في بحث النواهي ص 206.
(2) النور: 61.
(3) لا يوجد لدينا كتابه.
315

الفصول (1) من هذه الجهة لا من جهة الملاك النفسي كما التزم به الشيخ (2) (قدس سره).
نعم الجزء الأخير من الحركة الخروجية ملازم لترك الغصب الذي هو واجب،
فإن قلنا بأن المتلازمين في الوجود متلازمان في الحكم فيمكن القول بوجوبه من
هذه الجهة لا من جهة المقدمية، وإن قلنا بعدم تلازمهما في الحكم فلا يجب من
هذه الجهة أيضا، ويحتمل بناء على كون الجزء الأخير ملازما لترك الغصب
وواجبا من جهة الملازمة أن غير الجزء الأخير مقدمة له فيجب لأنه مقدمة لما هو
واجب بالملازمة، وأما عدم كونها منهيا عنها فلسقوط النهي عنها بالاضطرار وإن
بقي أثره وهو العقاب.
فقد ظهر مما ذكر حكم التصرف فيها بالحركة الخروجية حسب الأقوال في
المسألة بل حكم صحة عباداته الواقعة منه في حال الخروج المتحدة مع الغصب،
وأما لو دخل الأرض المغصوبة بسوء الاختيار ولم يتمكن من الخروج فإن كان
من أول الأمر عالما بأنه لو دخلها لم يتمكن من الخروج أو كان محتملا لعدم
التمكن من الخروج فيكون تمام تصرفاته منهيا بالنهي السابق الساقط بواسطة
الاضطرار، ولو كان بسوء الاختيار إلا الحركة الخروجية على تقدير حصول
التمكن منها فإنها كما عرفت محل الخلاف.
وأما صحة عباداته الواقعة في غير حال الخروج فمبني على القول بأن النهي
السابق الساقط بواسطة الاضطرار الباقي أثره وهو العقاب يزاحم الأمر الفعلي أم
لا؟ فإن قلنا بعدم المزاحمة فلا إشكال في الصحة، وإن قلنا بالمزاحمة فلا إشكال
في الفساد بناء على المختار، وهو امتناع الاجتماع وتقديم جانب النهي. ولو قلنا
بالامتناع ولكن قدمنا جانب الأمر من جهة أهميته كما في الصلاة حيث إنه لا
يترك على كل حال فيحكم بصحتها فيما إذا لم يستلزم تصرفا زائدا عما اضطر
إليه، وأما العبادات الواقعة منه في حال الخروج فصحتها مبنية على القول بكون

(1) الفصول: في بحث النواهي ص 138 س 35.
(2) مطارح الانظار: في النواهي ص 153 س 33.
316

الخروج مأمورا به، أو ليس بمأمور به ولا منهيا عنه، أو على القول بأنه منهي عنه
بالنهي السابق الساقط، ولكن النهي السابق الساقط لا يزاحم الأمر الفعلي، أو قلنا
بالمزاحمة ولكن قدمنا جانب الأمر من جهة الأهمية.
وأما لو قلنا بأنه منهي عنه فعلا ولم نجوز اجتماع الأمر والنهي، بل على القول
بالجواز أيضا في بعض الصور وعلى بعض الاحتمالات وقدمنا جانب النهي، أو
قلنا بأنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط ولكنه قلنا بمزاحمته مع الأمر الفعلي من
جهة بقاء أثره وقدمنا جانب النهي فلا تصح.
وأما لو كان عالما بأنه لو دخل الأرض المغصوبة بسوء اختياره متمكن من
الخروج وبعد ما دخل لم يحصل له التمكن ففي حرمة تصرفه فيها بالبقاء فيها
زائدا على المقدار الذي كان بناؤه على المكث فيها وجهان، من جهة أن دخوله لما
كان بسوء الاختيار فيكون تمام تصرفاته منهي عنها ولو بقي على الدوام، ومن
جهة أنه لم يكن مقدما على المعصية في المقدار الزائد على ما قصده، فيكون هذا
كالاضطرار بلا سوء الاختيار، هذا بالنسبة إلى أصل التصرف.
وأما بالنسبة إلى صحة عباداته فهي مبنية على جواز هذه التصرفات وعدمه،
فإن قلنا بأنها ليست منهيا عنها فعباداته أيضا صحيحة، وإن قلنا بأنها منهي عنها
فلا، إلا على القول بالمزاحمة وتقديم جانب الأمر من جهة الأهمية، فتأمل.
فتلخص: أن الدخول في الأرض المغصوبة تارة يكون بلا سوء اختيار منه،
وأخرى يكون بسوء اختياره. وعلى كلا التقديرين إما أن لا يتمكن من الخروج
وإما أن يتمكن منه، وعلى جميع التقادير الكلام تارة في جواز أصل تصرفاته من
البقاء والخروج، وأخرى في صحة عباداته المتحدة مع الكون فيها كالصلاة
وأمثالها، أما إذا كان الدخول بلا سوء اختياره كما إذا حبسه الظالم في الأرض
المغصوبة ولم يتمكن من الخروج فقد عرفت أن تمام تصرفات التي تقع مضطرا
إليها جائزة لرفع الاضطرار حكم حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه، وصحة
عباداته المتحدة مع الكون في الأرض المغصوبة إذا لم يستلزم تصرفا زائدا عما
317

اضطر إليه، لأن الإشكال في هذه العبادات من جهة اتحادها مع الكون المنهي،
وإذا لم يكن الكون منهيا عنه من جهة الاضطرار فيكون هذا الكون كسائر الأكوان
المباحة في جواز اجتماعها مع الكون الذي هو جزء العبادة.
وأما إذا تمكن من الخروج فالظاهر أنه لا إشكال في جواز تصرفه بالحركة
الخروجية وعدم جواز تصرفه بغيرها كالبقاء والحركات الغير الخروجية، لأن
الدخول لما لم يكن بسوء اختياره فلم يكن النهي في السابق عن جميع التصرفات
حتى يشمل التصرف بالخروج، ويكون التصرف الخروجي منهيا بالنهي الفعلي أو
بالنهي السابق الساقط على بعض الأقوال، فلا وجه لعدم جواز الحركة الخروجية
مع أنها مضطر إليها، فهي وإن كانت تصرفا في مال الغير بغير إذنه إلا أنها جائزة
لمكان الاضطرار، وإذا صارت هذه الحركة الخروجية جائزة فالعبادة الواقعة منه
في تلك الحالة كالصلاة إن لم يكن معتبرا فيها الاستقرار، وتصح في حال المشي
كالنافلة أو الفريضة إذا كان في ضيق الوقت بحيث لا يتمكن من ادراكها في
خارجها في الوقت فيجوز. وإن كان الاستقرار معتبرا فيها وكان في سعة الوقت
بحيث يتمكن من إدراكها في الخارج في الوقت فلا يجوز.
وأما جواز فعل الفريضة في حال المشي في سعة الوقت إذا علم بأنه لا يتمكن
من فعلها في الخارج فهو مبني على عدم جواز البدار على أولى الأعذار تعبدا وإن
علم ببقاء العذر إلى آخر الوقت. وأما إذا لم نقل به فلا مانع منه في السعة إذا علم
عدم التمكن من فعل الفريضة في الخارج أو مطلقا على قول. وأما فعل الفريضة
في حال الاستقرار فلا يجوز لا في الضيق ولا في السعة، لوجوب الخروج عليه
المنافي للاستقرار على ما هو المفروض، فتأمل.
وأما إذا كان الدخول في الأرض المغصوبة بسوء اختياره فإن لم يتمكن من
الخروج على تفصيل بين صورة العلم بعدم التمكن من الخروج أو احتماله وبين
صورة العلم بالتمكن منه ثم صار غير متمكن، أو مطلقا على أحد الوجهين وهو
عدم الفرق بينهما في حرمة تمام تصرفاته لإقدامه على الدخول في الأرض
318

المغصوبة بسوء اختياره، فتمام التصرفات المترتبة على الدخول تكون منهيا
[عنها] ومبغوضة وإن علم بعدم ترتبها عليه، وعلمه بعدم الترتب لا يؤثر في رفع
الحرمة والمعصية، فيكون الدخول في الأرض المغصوبة من قبيل: من سن سنة
سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، سواء علم بوجود العامل بها وعدمه،
وسواء علم بكثرة العامل بها وعدمها.
ولكن لما كان مضطرا إلى التصرف من جهة عدم التمكن من الخروج فيمكن
أن يقال بأن هذه التصرفات وإن كانت منهية بالنهي السابق ومعصية له إلا [أن] هذا
النهي سقط بواسطة الاضطرار فيكون حاله كحال من دخل الأرض بلا سوء
الاختيار في جواز هذه التصرفات، وصحة العبادة المتحدة معها وإن كان بينهما
فرق من حيث إنه إذا كان بلا سوء الاختيار لا يكون معصية أصلا لا للنهي الفعلي
ولا للنهي السابق الساقط، وأما إذا كان بسوء الاختيار يكون معصية للنهي السابق
الساقط، فقد ظهر جواز أصل تصرفاته من جهة الاضطرار وإن كانت معصية للنهي
السابق ومعاقبا عليها من تلك الجهة.
وأما صحة عباداته فلا يخفى أنها مبنية على عدم منافاة بين كونها منهيا عنها
بالنهي السابق الساقط وكونها مأمورا بها بالأمر الفعلي، لأن المنافاة إنما هي بين
الأمر والنهي الفعليين، وهنا ليس كذلك، وملاك أحدهما وهي المبغوضية لا يزاحم
فعلية الآخر فتأمل.
وأما إن تمكن من الخروج كما هو محل الكلام، وإنما ذكرنا باقي الصور
المذكورة من جهة استيفاء الصور والشقوق فالأنظار والأقوال في جواز الخروج
وعدمه هنا مختلفة. فعلى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي كما حكي عن
المحقق (1) ناسبا إلى الفقهاء والأكثر هو كون الخروج مأمورا به ومنهيا [عنه] (2) أما
كونه مأمورا به إما من جهة الملاك النفسي وهو كونه تخلصا عن الغصب، أو من

(1) القوانين: في بحث النواهي ج 1 ص 153 س 21.
(2) أضفناها لمقتضى السياق.
319

جهة الملاك الغيري وهو كونه مقدمة للتخلص عنه، وأما كونه منهيا عنه فلكونه
تصرفا في مال الغير بغير إذنه.
وأما على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي فقيل (1) بأن الخروج مأمور به
وليس منهيا عنه أصلا لا بالنهي الفعلي ولا بالنهي السابق، أما من جهة الملاك
النفسي لكونه مأمورا به، وهو أن الخروج تخلص عن الغصب وهو عنوان مضاد
للغصب فلا يشمله النهي عن الغصب كما نسب إلى الشيخ (2) (قدس سره)، وأما من جهة
الملاك الغيري وهو أن الخروج مقدمة للتخلص عن الغصب فيكون مأمورا به من
جهة المقدمية لترك الغصب الذي هو مأمورا به.
وقيل: إن الخروج منهي عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار ومأمور به
فعلا، وهذا القول منسوب إلى صاحب الفصول (3).
وقيل: أن الخروج منهي عنه بالنهي السابق الساقط بواسطة الاضطرار وليس
بمأمور به، وهذا القول هو مختار صاحب الكفاية (4).
والحق هو هذا، لأن كونه منهيا عنه بالنهي السابق فلشمول " لا تغصب " جميع
تصرفاته من الدخول والبقاء والخروج، فلا قصور في شموله له بعد كونه مثل
الدخول والبقاء في كونه تصرفا في مال الغير بغير إذنه، إلا أن النهي سقط من جهة
الاضطرار، ولكن أثره وهو العقاب باق، فالنهي ساقط خطابا لا عقابا، وكونه غير
مأمور به من جهة عدم شيء من الوجهين اللذين ذكروهما لإثبات كونه مأمورا به.
أما الوجه الذي حكي عن الشيخ (5) (قدس سره) وهو أن الخروج واجب من جهة
الملاك النفسي وهو أن الخروج تخلص عن الغصب، وهو عنوان مغاير للغصب
ومضاد له فلا يشمله النهي عنه ففيه: أن التخلص عن الغصب هو ترك الغصب

(1) مطارح الانظار: ص 153 س 33.
(2) مطارح الانظار: ص 153 س الأخير.
(3) الفصول: في بحث النواهي ص 138 س 25.
(4) كفاية الأصول: في بحث النواهي ص 204.
(5) مطارح الانظار: ص 153 س الأخير.
320

والتجنب عنه وهو عبارة عن عدم ارتكاب الغصب لا الخروج عن المغصوب
الذي هو عين الغصب كبقائه كما عرفت في شمول النهي عن الغصب له.
أما الوجه الذي ذكر للوجوب وهو كونه واجبا من جهة الملاك الغيري، ففيه
أيضا ما عرفت من أن الخروج ليس مقدمة لترك الغصب، بل هو مقدمة للكون في
خارج الدار الذي هو مباح على التفصيل المتقدم لم يحكم العقل بلزوم الخروج
من باب ارتكاب أخف المحذورين وأقل القبيحين عند دوران الأمر بينهما، إذ كما
أن العقل يحكم بالتحرز عن الضرر فيما لو دار الأمر بين الضرر وعدمه كذلك
يحكم بتحمل أقل الضررين والتحرز عن الآخر عند دوران الأمر بينهما. هذا تمام
الكلام في جواز أصل الخروج وعدمه.
وأما الكلام في صحة عباداته الواقعة في حال الخروج كالنافلة أو الفريضة
في ضيق الوقت وعدم صحتها فهو أن صحة عباداته الواقعة في حال الخروج
المتحدة مع الكون الخروجي فمبنية على القول بجواز الخروج وعدمه. أما على
القول بجواز اجتماع الأمر والنهي كون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه، فحال
الصلاة الواقعة في حال الخروج كحال نفس الخروج في كونه مأمورا بها ومنهيا
عنها بالاعتبارين، فإن قلنا بصحة العبادة التي مأمور بها من وجه ومنهيا عنها من
وجه آخر حتى في صورة العلم والالتفات ووجود المندوحة وعدمها والظاهر
عدم التزامهم بالصحة في صورة عدم المندوحة وان التزموا بها في صورة وجود
المندوحة ولو مع العلم.
من جهة أن هذا الفعل وإن كان معصية للنهي إلا أنه إطاعة بالنسبة إلى الأمر
ولا منافاة بين الجهتين فنقول هاهنا بالصحة، والظاهر عدم التزامهم بالصحة في
صورة العلم وعدم المندوحة، وإن قلنا بأن في صورة الجهل أو النسيان أو كليهما
صحيحة، ولكن في صورة العلم والالتفات وعدم المندوحة ليست بصحيحة.
وإن قلنا بجواز الاجتماع فلا بد في المقام من القول بالبطلان، لعدم التمكن
من فرد آخر من الصلاة غير الصلاة في حال الخروج وسقوط الأمر بالصلاة أو
321

القول بالصحة وسقوط النهي عن التصرف في مال الغير.
وأما في صورة السعة والتمكن من الصلاة في خارجها فيمكن القول بالصحة
كما قالوا، ويمكن القول بالبطلان إما من جهة اعتبار الحسن الفاعلي في صحة
العبادة مضافا إلى الحسن الفعلي، وهنا ليس كذلك، لأنه لا يطاع الله من حيث
يعصى، فهذا الفعل وإن كان إطاعة للآمر إلا أنه معصية للنهي، وأما من جهة أن
الصلاة التي ليست موردا للاجتماع أهم بالنسبة إلى الصلاة التي مورد للاجتماع،
لاشتمالها على المصلحة وخلوها عن المفسدة، وهذه الصلاة وإن اشتملت على
المصلحة إلا أنها ليست بخالية عن المفسدة، فيدور الأمر بين الأهم والمهم، فإن
قلنا بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده فالأمر بالأهم - وهي الصلاة التي
ليست موردا للاجتماع - يقتضي النهي عن المهم وهي الصلاة التي مورد
للاجتماع، مع ذلك يمكن القول بالصحة في المقام، من جهة أن القول بالفساد في
صورة العلم بأحد الوجهين إنما هو في صورة وجود المندوحة وإمكان ايجاد
الصلاة في ضمن غير هذا الفرد، والمفروض هنا صورة ضيق الوقت وعدم إمكان
الصلاة في غير المكان المغصوب، وبعبارة أخرى المفروض هنا صورة عدم
التمكن من البدل.
أما بالنسبة إلى النافلة فمن جهة أن الفرد الذي يمكنه الايجاد في خارج
المكان المغصوب ليس بدلا عن هذا الفرد.
وأما بالنسبة إلى الفريضة فلفرض ضيق الوقت وعدم إمكان ايجاد الصلاة
في خارج المكان المغصوب فلابد لمن لا يقول بصحة الصلاة في صورة العلم
مع وجود المندوحة والتمكن من غير هذا الفرد من جهة أحد الوجهين، كما هو
الظاهر إما من القول بسقوط الصلاة في هذا الحال - أي حال ضيق الوقت -
أو بعدم حرمة الغصب.
والالتزام بسقوط الصلاة بعيد، لأنها لا تترك على كل حال، وأما الالتزام بعدم
حرمة التصرف في مال الغير بهذا المقدار من التصرف بالصلاة، فلا مانع خصوصا
322

مع ملاحظة أهمية الصلاة وورود بعض الأخبار على ما حكي بثبوت الرخصة في
الأراضي بالنسبة إلى الصلاة كحق الشرب والوضوء والغسل من الأنهار وورود
الإذن في الصلاة في الأراضي المتسعة ولو مع عدم احراز رضا المالك، بل ولو
كان المالك صغيرا ونحوه.
والحاصل: أنه بناء على القول بأن الخروج مأمور به ومنهي عنه فالصلاة
الواقعة في حال الخروج كالنافلة أو الفريضة إذا كان في ضيق الوقت لا مانع من
صحتها، أما على القول بصحة الصلاة التي [هي] مورد الاجتماع ولو مع العلم
والالتفات مع وجود المندوحة فواضح، وأما على القول بتخصيص الصحة بصورة
الجهل والنسيان وعدم الصحة في صورة العلم لما ذكر من الوجهين فلأن الفساد
في صورة العلم، إنما هو فيما كانت هناك مندوحة بأن يتمكن من فرد آخر وهنا
لما لم يتمكن من فرد آخر لابد إما من القول بسقوط الصلاة في تلك الحال كما هو
لازم قول من قال بصحة الصلاة في صورة العلم مع وجود المندوحة، أو بعدم
حرمة التصرف في مال الغير بمقدار الصلاة.
والالتزام بالأول بعيد، بل يمكن أن يقال بأنه لم يلتزم به أحد.
وأما الثاني فلا استبعاد فيه بأن يكون المالك الحقيقي أذن في التصرف في
أرض الغير بالتصرف الصلاتي كما وردت الرواية به على ما حكي، وكما ورد
الإذن في الأراضي المتسعة ولو لم يحرز إذن المالك، بل ولو كان المالك صغيرا أو
مجنونا وأمثالهما.
فعلى هذا تكون الأراضي بالنسبة إلى الصلاة كمياه الأنهار في إذن الشارع في
استعمالها في الشرب والوضوء والغسل وأما على القول بامتناع الاجتماع فإن قلنا
بأن الخروج مأمور به فعلا ومنهي عنه بالنهي السابق الساقط فلا مانع من القول
بصحة الصلاة في حال الخروج لكونه جائزا بل مأمورا به، فيكون بناء على هذا
كما إذا قلنا بجواز الاجتماع في صحة الصلاة بل يمكن القول بالصحة ولو لم نقل
بها بناء على القول بجواز الاجتماع، لأن النهي بناء على القول بجواز الاجتماع
323

فعلي ومع ذلك نقول بصحة العبادة، وبناء على الامتناع وكون الأمر بالخروج فعليا
والنهي ساقطا لابد أن نقول بها بطريق أولى.
نعم يمكن منع صحة الصلاة في الصورة المفروضة - أعني الصلاة في ضيق
الوقت في حال الخروج - على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي. وعلى القول
بالامتناع وكون الخروج مأمورا به فعلا ومنهيا بالنهي السابق الساقط، أما على
القول بجواز الاجتماع فلأنه يمكن دعوى صحة الصلاة على هذا القول في صورة
العلم - مع ما فيه كما عرفت من الوجهين - فيما إذا كانت هناك مندوحة حتى لا
يلزم التكليف بالمحال. وأما لو لم يكن مندوحة فلا يمكن دعوى الصحة، لعدم
الأمر بها في تلك الحالة وأما على القول بالامتناع وكون الخروج مأمورا به ومنهيا
عنه بالنهي السابق الساقط، فلعدم إمكان قصد التقرب المعتبر في العبادة بهذا الفعل
الذي يقع مبغوضا وإن سقط نهيه الفعلي من جهة الاضطرار.
ولكن المنع عن صحة الصلاة على القولين على الظاهر لا وجه له.
أما على القول بجواز الاجتماع فلأنه لو لم نقل بالصحة في الصورة المفروضة
بل قلنا بالبطلان من جهة عدم الأمر يلزم سقوط الصلاة في تلك الحالة، والحال
أنها لا تترك على كل حال فيمكن أن يرخص الشارع في ارتكاب الغصب في
تلك الحال لأهمية الصلاة، فتأمل.
وأما على القول بالامتناع وكون الخروج مأمورا به فعلا ومنهيا عنه بالنهي
السابق الساقط، فلأن قصد التقرب ليس إلا قصد امتثال الأمر، وبعد كون الخروج
مأمورا به فالصلاة المتحدة مع الحركة الخروجية التي هي مأمور بها بالأمر
التوصلي لا مانع من قصد التقرب بها، كما أنه لا مانع من قصد التقرب بنفس
الحركة الخروجية، إذ يمكن قصد التقرب بالأمر التوصلي كالتعبدي وإن لم يعتبر
في صحته بخلاف الأمر التعبدي.
والحاصل: أن قصد التقرب ليس إلا قصد الأمر وبعد كونها مأمورا بها لا مانع
من قصد امتثال أمرها. وكون ذلك الفعل مبغوضا من جهة مع عدم النهي الفعلي
لا ينافي كونه محبوبا من جهة أخرى فالمنافي للأمر الفعلي - بناء على القول
324

بالامتناع - هو النهي الفعلي لا آثار النهي من المعصية والمبغوضية. وإن قلنا بأن
الخروج مأمور به وليس منهيا عنه أصلا لا بالنهي الفعلي ولا بالنهي السابق
فلا إشكال في صحة الصلاة الواقعة في حال الخروج. وإن قلنا بأنه ليس مأمورا به
ولا منهيا عنه فكذلك أيضا، إذ المناط في صحة الصلاة الواقعة في حال الخروج
إباحة الحركة الخروجية المتحدة معها، سواء كانت مأمورا بها أم لا، وسواء كانت
الإباحة بحكم الشارع أو بإذن المالك، فتأمل.
ثم لا يخفى أن الاضطرار إلى شرب الخمر وسائر المحرمات من جهة العلاج
ودفع الضرر ليس كالاضطرار إلى الخروج من الأرض المغصوبة، إذ في الاضطرار
إلى شرب الخمر يمكن للشارع منع المكلف عن شربها ولو كان في تركه ضرر
على المكلف بخلاف الاضطرار إلى الخروج فإنه لا يمكن منعه عنه. وبعبارة
أخرى أن الاضطرار إلى شرب الخمر عبارة عن دفع الضرر به باختياره فيمكن
انقسامه إلى الأحكام الخمسة، إذ يمكن للشارع منع المكلف عن شرب الخمر ولو
أدى تركه إلى الضرر كما قيل أو احتمل بعض أنه لا يجوز التداوي بشرب الخمر
ولو مع انحصار العلاج به، وأما الاضطرار إلى التصرف في الأرض المغصوبة
بمقدار الخروج عبارة عن عدم القدرة على تركه فيكون كمن ألقى نفسه من شاهق
في عدم قدرته في أثناء الوقوع على عدم الوقوع، فالاضطرار في الأول بمعنى
دفع الضرر، وفي الثاني بمعنى عدم القدرة.
[الأمر] الثاني: (1) أنه قد مر في بعض المقدمات أنه لا تعارض بين خطاب
" صل " و " لا تغصب " - بناء على الامتناع - تعارض الدليلين بما هما دليلان
حاكيان كي يقدم الأقوى منهما دلالة أو سندا، بل هما من باب تزاحم المقتضيين،
فيقدم الغالب منهما على الآخر وإن كان الدليل الدال على مقتضى الآخر أقوى من
الدليل الدال على مقتضاه. هذا فيما إذا أحرز الغالب منهما، وإلا كان بين الخطابين
تعارض، فيقدم الأقوى منهما دلالة أو سندا. وبطريق الإن يحرز به أن مدلوله

(1) أي الأمر الثاني من تنبيهات مسألة الاجتماع.
325

أقوى مقتضيا، هذا لو كان كل من الخطابين متكفلا لحكم فعلي، وإلا فلابد من
الأخذ بالمتكفل منهما لذلك لو كان، وإلا فلابد من الانتهاء إلى ما يقتضيه الأصول
العملية (1). انتهى كلامه (قدس سره).
ولعل المراد كما أشار إليه سابقا هو أنه لابد في باب الاجتماع من وجود
المناط لكل واحد من الحكمين مطلقا حتى في مورد التصادق ليحكم بناء على
القول بالجواز بكونه محكوما بحكمين. وعلى القول بالامتناع بأقوى المناطين لو
كان، وإلا فبحكم آخر.
وأما إذا لم يكن للمتعلقين مناط كذلك فلا يكون من باب الاجتماع، ولا
يكون مورد الاجتماع إلا محكوما بأحد الحكمين منهما إذا كان مناطه، وإلا
فبحكم آخر قيل بالجواز، أو الامتناع.
وإذا تحقق أنه لابد في باب الاجتماع من وجود المناط لكلا الحكمين حتى
في مورد الاجتماع والتصادق فاعلم أن الدليلين الدالين على الحكمين قد يكونان
في مقام بيان الحكم الاقتضائي أي بيان حكم الشيء في حد نفسه مع قطع النظر
عن طرو العوارض والموانع وقد يكونان في مقام بيان الحكم الفعلي أي بيان حكم
الشيء مع ملاحظة الطوارىء والموانع، وقد يكون أحدهما في مقام بيان الحكم
الاقتضائي والآخر في مقام بيان الحكم الفعلي، فإن كانا في مقام بيان الحكم
الاقتضائي فيلاحظ ما هو الأقوى منهما مناطا فيقدم على الآخر، وإن كان الدليل
الدال على الآخر أقوى من الدليل الدال عليه، لما عرفت من أن باب الاجتماع
باب تزاحم المقتضيين ولابد فيه من ترجيح أقوى المناطين - ولو كان أضعف
دليلا - على الآخر ولو كان أقوى دليلا لا باب التعارض الذي لابد فيه من
الترجيح بأقوائية الدلالة وغيرها من مرجحات باب التعارض.
وإن لم يكن أحدهما أقوى فلابد أن يكون مورد الاجتماع محكوما بحكم
آخر غير الحكمين ولو بمقتضى الأصول العملية، لأنه بناء على امتناع الاجتماع

(1) كفاية الأصول: في النواهي ص 211.
326

وكون الدليلين في مقام بيان الحكم الاقتضائي لابد من الأخذ بأقوى المناطين ولو
كان أضعف دليلا لو أحرز أن أحدهما أقوى من الآخر ولو إنا من جهة أقوائية
دليله، فإن أقوائية الدليل وإن لم تكن بنفسها مرجحا في باب التزاحم - إذ هي من
باب التعارض - إلا أنه من جهة كشفها عن أقوائية المناط لو كانت كاشفة عنهما
ظاهرا لا مانع من الأخذ بها فيكون أقوائية الدليل من طرق احراز أقوائية المناط
الذي يجب الأخذ به فلو لم يحرز أقوائية أحدهما بوجه من الوجوه فلابد أن
يكون مورد الاجتماع محكوما بحكم آخر غير الحكمين.
وإن كانا في مقام بيان الحكم الفعلي فإن كان أحدهما أقوى مناطا من الآخر
فيقدم عليه وإن كان أقوى دليلا منه وإن لم يحرز أقوائية المناط في أحدهما كان
بين الدليلين تعارض فيقدم الأقوى دلالة أو سندا، وبطريق الإن يحرز أن مدلوله
أقوى مقتضيا من الآخر.
وإن كان أحدهما في مقام بيان الحكم الاقتضائي والآخر في مقام بيان الحكم
الفعلي فلابد من الأخذ بما هو في مقام بيان الحكم الفعلي، إذ لا تزاحم للحكم
الاقتضائي مع الحكم الفعلي.
ثم لا يخفى أن ترجيح أحد الدليلين وتخصيص الآخر به لا يوجب خروج
مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأسا كما هو الحال في سائر موارد التخصيص
والتقييد في غير باب الاجتماع، فما لم يحرز المقتضي لكلا الحكمين بل قضية
التخصيص في باب الاجتماع ليس إلا خروج مورد الاجتماع عن تحت الدليل
المرجوح فيما إذا كان الحكم المستفاد من الدليل الراجح فعليا، فلو لم يكن الحكم
المستفاد من الدليل الراجح فعليا من جهة جهل أو نسيان لا مانع من فعلية الحكم
المستفاد من الدليل المرجوح، فإن المانع عن فعليته وتأثيره مع وجود المقتضي
فيه هو فعلية الراجح المزاحم له، فإذا زالت فعليته بواسطة الجهل أو النسيان فلا
مانع من فعلية الآخر.
فانقدح بذلك فساد الإشكال في صحة الصلاة في صورة الجهل والنسيان بناء
على القول بالامتناع وتقديم خطاب " لا تغصب " على خطاب " صل " إذ المقتضي
327

لكلا الخطابين في مورد الاجتماع حسب الفرض موجود، وإنما المانع عن تأثير
مقتضي الأمر فعلية النهي، فإذا ارتفع النهي بواسطة الجهل والنسيان فيؤثر أثره
بخلاف ما إذا لم يكن المقتضي إلا لأحدهما كما في سائر موارد التخصيص
والتقييد، فإنه لا فرق فيها بين صورة العلم والجهل والنسيان.
والحاصل: أنه فرق بين باب التعارض والتزاحم فإذا كان بين الدليلين كما في
" صل " و " لا تصل في الدار المغصوبة " مثلا تعارض وخصصنا الأمر بالصلاة بما
عدا الصلاة في الدار المغصوبة لأخصيته، فالصلاة في الدار المغصوبة خارجة عن
دائرة متعلق الأمر وليست من أفراد الطبيعة المأمور بها، فهي فاسدة سواء أتى بها
علما أو جهلا أو نسيانا، وأما إذا كان بينهما تزاحم كما في " صل " و " لاتغصب "
كما هو المفروض من أن باب الاجتماع من باب التزاحم لثبوت المقتضي في كل
واحد من الحكمين، فإذا خصصنا الأمر بالنهي وقدمنا جانب النهي على الأمر بناء
على الامتناع لا يخرج مورد الإجماع - وهي الصلاة في الدار المغصوبة - عن
الطبيعة المأمور بها بالكلية، لأن الموجب لخروجها عنها فعلية النهي، فإذا زالت
فعليته بواسطة الجهل والنسيان فلا مانع من فعلية الأمر بالنسبة إليها.
بل يمكن أن يقال: إن ثمرة النزاع في أن باب الاجتماع من باب التعارض أو
التزاحم هي صحة الصلاة في الدار المغصوبة جهلا أو نسيانا، وعدم صحتها معهما،
وإلا ففي صورة العلم ظاهرا لا إشكال في فساد الصلاة على القول بالامتناع، بل
يمكن أن يقال ولو على القول بالجواز، إذ يعتبر في صحة العبادة مضافا إلى
الحسن الفعلي من الحسن الفاعلي وفي الصلاة في الدار المغصوبة مع العلم
بالغصب ليس حسن فاعلي، لأنه أطاع بما يلازم المعصية.
والحاصل: أنه إن قلنا بأن باب الاجتماع من باب التعارض فالصلاة في الدار
المغصوبة فاسدة مطلقا بناء على تخصيص الأمر بالصلاة بما عدا الصلاة في المكان
المغصوب، وإن قلنا بأنه من باب التزاحم ففي صورة الجهل والنسيان تصح،
وأما في صورة العلم فلا تصح بناء على الجواز فضلا عن الامتناع إما لما ذكرنا
من انتفاء الحسن الفاعلي، أو لما ذكر من أن الصلاة في غيرها أهم منها والأمر
328

بالأهم يقتضي النهي عن المهم بناء على القول باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن
ضده، فتأمل.
وكيف كان فقد ذكروا لترجيح النهي على الأمر وجوها: بعضها راجع إلى جهة
الاثبات كالوجه الأول، وبعضها راجع إلى جهة الثبوت كالوجه الثاني، بل الوجه
الثالث على احتمال.
الأول: أقوائية دلالة النهي بالنسبة إلى الأمر، حيث إن المطلوب بالأمر صرف
وجود الطبيعة، وهو يتحقق بتحقق فرد ما، وتعميمه إلى تمام الأفراد إنما هو
بالإطلاق ومقدمات الحكمة، بخلاف النهي فإن المطلوب به ترك الطبيعة، وهو لا
يتحقق إلا بترك جميع الأفراد.
والحاصل: أن نفس الأمر بالطبيعة حيث إن المطلوب به صرف الوجود لا
يقتضي مطلوبية كل واحد من الأفراد على البدل، إلا بالاطلاق وجريان مقدمات
الحكمة، بخلاف النهي حيث إن المطلوب به ترك الطبيعة أو الزجر عن الطبيعة
نفس النهي عنها كاف في شمول الحكم لكل واحد من الأفراد بلا حاجة إلى شيء
غير عدم تقييد الطبيعة فقوله: " صل " لا يشمل كل فرد من أفراد الصلاة على البدل
إلا بمقدمات الحكمة، وأما " لاتغصب " فيشمل كل فرد من أفراد الغصب بنفسه بلا
حاجة إلى شيء آخر، فتأمل.
وبعبارة أخرى إطلاق الأمر بدلي، وإطلاق النهي شمولي، والثاني يصلح بيانا
للأول فيقدم عليه بخلاف العكس، كما أن العام يقدم على الاطلاق الشمولي كذلك
الاطلاق الشمولي يقدم على الإطلاق البدلي. والوجه فيهما واحد.
ويمكن تقديم النهي على الأمر بوجه آخر، وهو أنه إذا تزاحم ما له بدل مع ما
ليس له البدل فيقدم ما ليس له البدل على ماله البدل، وهنا لما كان النهي عن
الغصب شاملا لتمام أفراده حتى الفرد المجامع للصلاة والأمر بالصلاة حيث إن
المطلوب به صرف الطبيعة لا يشمل تمام أفرادها إلا على البدل، فيمكن ايجاد
الصلاة في غير المكان المغصوب حتى يمتثل الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب،
وأما لو أتى بالصلاة في المكان المغصوب فهو وإن امتثل الأمر بالصلاة، إلا أنه
329

خالف النهي عن الغصب.
والحاصل: أنه بإيجاد الصلاة في غير المكان المغصوب يمتثل الأمر بالصلاة
والنهي عن الغصب بخلاف ايجادها في المكان المغصوب فإنه امتثال للأمر
ومخالفة للنهي، فالصلاة في المكان المغصوب لها بدل وهي الصلاة في غيره،
بخلاف التصرف في المكان المغصوب.
ومنشأ هذا الوجه هو الوجه الأول، وهو كون عموم الأمر بدليا، وعموم النهي
استيعابيا، أي المطلوب بالأمر صرف الوجود والمطلوب بالنهي ترك جميع
الأفراد، فلذا يحتاج الأمر في التعميم إلى مقدمات الحكمة، والنهي لا يحتاج إلى
شيء غير عدم تقييد الطبيعة المزجورة عنها، فتأمل في المقام.
الثاني: أن الأمر ناش عن المصلحة والنهي ناش عن المفسدة، فكما أنه إذا دار
أمر الشخص بين جلب المنفعة ودفع المفسدة فدفع المفسدة أولى من جلب
المنفعة، ولا يصير بصدد جلب المنفعة ما لم يدفع المفسدة عن نفسه، فكذلك أمر
الشارع إذا دار بين ايصال المنفعة إلى المكلف ودفع المفسدة عنه يختار دفع
المفسدة دون ايصال المنفعة.
وأورد عليه في القوانين (1) بأنه على اطلاقه ممنوع، لأن في ترك الواجب إذا
تعين أيضا مفسدة.
وفيه: أن ملاك الوجوب هي المصلحة فقط، وملاك الحرمة هي المفسدة فقط،
فليس ملاك الوجوب مركبا عن المصلحة في الفعل والمفسدة في الترك ولا ملاك
الحرمة مركبا من المصلحة في الترك والمفسدة في الفعل، كما أن نفس الوجوب
والحرمة ليسا مركبين فتأمل.
ولكن يرد عليه أن الأولوية مطلقا ممنوعة، بل ربما يكون العكس أولى كما
يشهد به مقايسة فعل بعض المحرمات مع ترك بعض الواجبات مخصوصا مثل
الصلاة وما يتلو تلوها، فإنه إذا دار الأمر بين فعل بعض المحرمات وترك الصلاة لا

(1) القوانين: في بحث النواهي ج 1 ص 153 س 8.
330

يمكن أن يقال: إن في فعل الصلاة جلب منفعة وفي ترك الحرام دفع مفسدة، فهو
أولى من جلب المنفعة، فيترك الصلاة ولا يفعل المحرم، بل ربما يكون الأمر
بالعكس فيفعل المحرم ولا يترك الصلاة ولو سلم فهو أجنبي عن المقام، فإنه فيما
إذا دار الأمر بين الواجب والحرام في مرحلة الامتثال لا فيما إذا دار الأمر بين
احتمال الوجوب والحرمة في مرحلة جعل الحكم كما في المقام.
ولو سلم بأنه لا فرق بين دوران الأمر بين الواجب والحرام في مرحلة
الامتثال وبين دورانه بين احتمال الوجوب والحرمة في مرحلة الجعل كما هو
الظاهر فهو إنما يكون في مورد لا تجري هناك أصالة البراءة أو الاشتغال كما في
دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعيينيين لا فيما تجري كما في محل
الاجتماع لأصالة البراءة عن الحرمة فيحكم بصحة الصلاة ولو قيل بقاعدة
الاشتغال في الأجزاء والشرائط فإنه لا مانع عقلا إلا فعلية الحرمة المرفوعة
باصالة البراءة عنها عقلا ونقلا.
الثالث: الاستقراء، فإنه يقتضي تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب
كحرمة الصلاة في أيام الاستظهار وعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين.
وفيه: أن الاستقراء ليس بمعتبر ما لم يفد القطع، ولو سلم أن الاستقراء الظني
أيضا معتبر فهو لا يتحقق بهذا المقدار. ولو سلم تحققه بهذا المقدار - أي لوجود
موردين - قدم فيهما احتمال الحرمة على احتمال الوجوب، فنقول: ليست حرمة
الصلاة في أيام الاستظهار ولا عدم جواز الوضوء بالماءين مربوطا بالمقام.
توضيحه: هو أن المراد بأيام الاستظهار إما أن يكون أول ما تراه المرأة من
الدم قبل انقضاء ثلاثة أيام كالمبتدأة والمضطربة التي لم تستقر لها عادة، وإما أن
يكون ما بين العادة والعشرة فيما إذا تجاوز عن العادة في ذات العادة. فإن كان
المراد هو الأول فإن قلنا: إن حرمة الصلاة على الحائض تشريعية وليست بذاتية
فلا ربط له بالمقام، لأن الكلام في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة الذاتيين،
فحينئذ تجمع بين تروك الحائض وأفعال المستحاضة وتأتي بالصلاة برجاء
المطلوبية، وإن قلنا بأن حرمة الصلاة عليها ذاتية كما هو الظاهر من النهي عن
331

الصلاة في أيام الأقراء، فترك الصلاة ليس من جهة تقديم احتمال الحرمة على
احتمال الوجوب، بل لقاعدة الإمكان بضميمة استصحاب بقاء الدم إلى الثلاثة
وما زاد لتحصيل الامكان المستقر الذي هو المعتبر في جريان تلك القاعدة، فتأمل.
وإن كان المراد هو الثاني فكذلك الحكم بترك الصلاة ليس من جهة تقديم
احتمال الحرمة على احتمال الوجوب، بل من جهة قاعدة الإمكان والاستصحاب
المثبتين لكون الدم حيضا. وربما يشكل بأن هناك استصحاب موضوعي حاكم (1)
وهو استصحاب بقاء الدم إلى ما فوق العشرة فلا مجرى معه لقاعدة الإمكان، لأن
المراد بالإمكان الإمكان المستقر الموقوف على عدم تجاوز الدم عن العشرة ولا
استصحاب استصحاب (2) الحيضة السابقة لا حكما ولا موضوعا، فتأمل في المقام.
وأما عدم جواز التوضي بالماءين المشتبهين فقد ظهر أنه خارج عن محل
الكلام، لأن الكلام في الوجوب والحرمة الذاتيين وحرمة التوضي بالماءين
المشتبهين، ليست ذاتية، بل تشريعية، ولا تشريع فيما إذا توضأ بهما احتياطا،
فيكون حال الماء الطاهر المشتبه بالنجس حال الماء المطلق المشتبه بالمضاف،
فكما أنه لو توضأ بهما احتياطا صح وضوءه ولم يكن عليه معصية، فكذلك إذا
توضأ بالماءين المشتبهين احتياطا صح وضوءه ولم يكن عليه شيء. وعليه
فالنهي عن استعمالهما في الوضوء والأمر باهراقهما والتيمم إما من جهة التعبد أو
من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهرا بحكم الاستصحاب، للقطع بحصول النجاسة
حال ملاقاة المتوضي من الإناء الثانية إما بملاقاتها أو بملاقاة الأولى، وعدم
استعمال مطهر بعده ولو طهر بالثانية مواضع الملاقاة بالأولى.
نعم لو طهرت على تقدير نجاستها بمجرد ملاقاتها من دون حاجة إلى التعدد
أو انفصال الغسالة كما إذا كانت الثانية كرا فلا يعلم تفصيلا بنجاستها وإن علم
بنجاستها حين ملاقاة الأولى أو الثانية إجمالا فلا مجال لاستصحاب النجاسة، بل

(1) هكذا في الأصل والصحيح: استصحابا موضوعيا حاكما.
(2) هكذا في الأصل والصحيح ولا لاستصحاب الحيضة
332

كانت قاعدة الطهارة محكمة، هذا ما أفاده (قدس سره) في الكفاية (1).
ولكن للنظر فيه مجال، أما ما ذكره من أن الاستقراء ليس بمعتبر ما لم يفد
القطع ولو سلم أن الظني منه معتبر فهو لا يتحقق بهذا المقدار ففيه:
أن الموارد التي قدم فيها جانب الحرمة على جانب الوجوب كثيرة في
الشريعة بحيث ربما توجب القطع بتقديم جهة الحرمة على الوجوب فضلا عن
الظن كما في كثير من الواجبات التي لم يتمكن منها المكلف إلا بإضرار نفسه أو
غيره أو التصرف في مال غيره كركوب الدابة المغصوبة للرواح إلى الحج.
نعم ربما يقدم الواجب فيما إذا كان له أهمية في نظر الشارع كحفظ النفس
المحترمة عن الهلاك فيما إذا توقف على التصرف في مال الغير فإنه يقدم فيه
الواجب على الحرام، ولكنه نادر بالنسبة إلى عكسه، والنادر كالمعدوم، والظن
يلحق المورد المشكوك بالغالب لا بالنادر. وأما ما ذكره من أن ترك الصلاة في
أيام الاستظهار - بناء على كونها محرمة على الحائض ذاتا - ليس من جهة تغليب
جهة الحرمة على الوجوب، بل من جهة قاعدة الإمكان، فهو حق بالنسبة إلى أول
ما تراه المرأة من الدم، فإنها بضميمة استصحاب بقاء الدم إلى الثلاثة فما زاد تثبت
كونه حيضا، وأما بالنسبة إلى ما تراه بعد العادة وقبل العشرة فلا، لما عرفت من أن
المراد بالإمكان هو المستقر، والاستصحاب الموضوعي وهو بقاء الدم إلى ما فوق
العشرة ينفيه، فلا وجه لترك الصلاة فيها إلا تغليب جهة الحرمة على جهة الوجوب.
وأما ما ذكره من أن عدم جواز التوضي بالماءين المشتبهين خارج عن محل
الكلام، إذ الكلام في اجتماع الحرمة الذاتية مع الوجوب الذاتي وحرمة استعمال
الماء المتنجس في الوضوء ليست ذاتية بل تشريعية، ولا تشريع فيما إذا توضأ
بهما احتياطا، فلا حرمة في البين غلب جانبها، فعدم جواز الوضوء منهما ولو
كذلك، بل اراقتهما كما في النص (2) ليس إلا من باب التعبد أو من جهة الابتلاء

(1) كفاية الأصول: في النواهي ص 216.
(2) وسائل الشيعة: ب 8 من أبواب الماء المطلق ح 2 ج 1 ص 113.
333

بنجاسة البدن ظاهرا بحكم الاستصحاب إلى آخره.
ففيه: أنه لا يبعد أن يكون استعمال الماء المتنجس في الوضوء محرما ذاتا
كما هو ظاهر النص، سواء قلنا بأن الإراقة واجبة، أو قلنا بأنها كناية عن
استعمالهما والانتفاع بهما. وعليه فيكون عدم جواز التوضي بهما من باب اجتماع
الحرمة الذاتية والوجوب الذاتي الذي هو محل الكلام، وعلى تقدير كون حرمته
تشريعية لا يكون عدم جواز الوضوء منهما إلا من باب التعبد لا الابتلاء بنجاسة
البدن، فإنه لا يوجب التنزل من الوضوء إلى التيمم، إذ يمكن للمكلف أن يتوضأ
منهما ويصلي مع الطهارة المائية بلا حدث ولا خبث، بأن يتوضأ من أحدهما أولا
ويصلي ثم يطهر مواضع ملاقاة الأول بالثاني ويتوضأ ببقيته، هذا مع التمكن من
تكرار الصلاة.
وأما مع عدم التمكن فيلزم ذلك من جهة القطع بنجاسة البدن حال ملاقاة
الثاني إما به أو بالأول، وعدم استعمال مطهر بعده فيجري الاستصحاب ولا مجال
معه لقاعدة الطهارة إلا بأن يطهر مواضع ملاقاة الثاني ببقية الأول فيقطع باستعمال
منجس ومطهر ويشك في المتقدم والمتأخر وتصل النوبة إلى قاعدة الطهارة كما
في صورة كون الثاني كرا فتأمل.
الأمر الثالث: الظاهر لحوق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات والجهات
إلى آخره.
والحق هو التفصيل بين كون النزاع في المسألة صغرويا وإن تعلق الأمر
بعنوان والنهي بعنوان آخر جمعهما المكلف بسوء اختياره في فعل واحد خارجي
كالصلاة والغصب هل يوجب سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر أم لا؟
وبين كونه كبرويا وتسليم السراية هل يجوز كون الشيء الواحد الشخصي مأمورا
به من جهة ومنهي عنه من جهة أخرى أم لا؟ بأن يكون الآتي به مطيعا وعاصيا
فيكون مطيعا بناء على القول بتقديم جانب الأمر وعاصيا على القول بتقديم
جانب النهي، فعلى الأول لا يلحق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات لاتحاد
المتعلق وتسليم السراية هنا، وعلى الثاني يلحق، فتأمل.
334

فصل
في أن النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا؟
وليقدم أمور:
الأول: أنه قد عرفت في المسألة أن الفرق بينها وبين هذه المسألة هو أن
النزاع في المسألة السابقة في أن تعدد الجهة مجد في رفع غائلة اجتماع الأمر
والنهي في شيء واحد وبتعدد الجهة يتعدد متعلق الأمر والنهي أم لا والنزاع في
هذه المسألة في أن النهي هل يقتضي فساد ما تعلق به عبادة كانت أو معاملة؟
وبعبارة أخرى النزاع في تلك المسألة في صحة اجتماعهما في شيء واحد متعدد
الجهة وفي هذه المسألة في فساد ما تعلق به النهي والملازمة بين الحرمة والفساد
ومسألة الاجتماع بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي تصير من صغريات هذه
المسألة.
الثاني: أنه لا يخفى أن مفاد النهي وهو التحريم في العبادات يستلزم فسادها،
لأن به يرتفع الأمر، والعبادة التي لا تكون مأمورا بها تكون فاسدة من جهة عدم
الأمر لا من جهة المفسدة الذاتية، ولذا تكون حرمتها تشريعية لا ذاتية. ولكن في
المعاملات لا يستلزم حرمتها الفساد، لعدم توقف صحتها على الأمر، فيمكن أن
تكون المعاملة المنهي عنها صحيحة مع كونها محرمة، فإذا كانت الحرمة ملازمة
للفساد في العبادات والمعاملات لما ينبغي عد هذه المسألة من مباحث الألفاظ، إذ
الحرمة بأي شيء ثبتت يستلزم الفساد ولما كان في الأقوال قول بدلالته على
335

الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بين الحرمة والفساد فيها، فلذا عدوها في
مباحث الألفاظ، فتدبر.
الثالث: ظاهر لفظ النهي في عنوان المسألة وإن كان هو التحريمي إلا أن
ملاك البحث وهو المبغوضية عدم صلاحية المبغوض لأن يتقرب به يجري في
النهي التنزيهي والغيري أيضا، فالنهي بجميع أقسامه داخل في محل النزاع في
العبادات، إذ العبادة لابد لها من رجحان ذاتي، فلا تجتمع مع الإباحة فضلا عن
الكراهة والحرمة الغيرية بخلاف المعاملات فإن النهي التنزيهي والغيري فيها
لا يدل على الفساد بلا كلام، وإنما الكلام فيها في النهي التحريمي وأنه هل يقتضي
الفساد فيها أم لا؟ (1).

(1) هنا أبحاث فات عن المؤلف (قدس سره) تقريرها.
336

[المقصد الثالث: في المفاهيم]
الأمر الثالث: (1) إذا تعدد الشرط كما إذا قال: إذا بلت فتوضأ وإذا نمت فتوضأ، أو
مصداق شرط واحد كما إذا قال: إذا بلت فتوضأ وإذا بلت فتوضأ وكان الجزاء
حكما تكليفيا متعلقا بأمر قابل للتكرر كالوضوء وأمثاله، فهل يتكرر الجزاء
حسب تعدد الشرط أو تكرر مصداقه أم لا يتكرر؟ بل يتداخل ويكتفي بايجاد
واحد، والتداخل إما في ناحية الأسباب بأن يكون المؤثر في وجود الجزاء لصرف
وجود الشرط أو مصداقه المتحقق بأول وجوده، وأما في ناحية المسببات بأن
يكتفي في مقام الامتثال عن التكاليف المتعددة بايجاد واحد ولا شك في أن
مقتضى الأصول العملية فيما كان الشك في التداخل وعدمه في ناحية الأسباب
الأصل هو التداخل، لأن التكليف بايجاد واحد متيقن، والزائد عليه مشكوك
فيرجع إلى أصالة البراءة، وأما إذا شك في التداخل وعدمه في ناحية المسببات
فالأصل عدم التداخل، لأن التكليف بالايجادات المتعددة قد ثبت، والشك إنما هو
في الخروج عن عهدتها بايجاد واحد، فالاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية
وهي لا تحصل إلا بايجادات متعددة حسب تعدد الشرط أو مصداقه.
فإذا ثبت من الخارج تعدد الجزاء بتعدد الشرط أو عدم تعدده به فلا كلام،
وإذا شك فهل الأصل يقتضي التداخل أو عدمه؟ وقد عرفت أن الأصل العملي

(1) من أول مباحث المفاهيم إلى هنا أبحاث فات عن المؤلف قدس سره وتقريرها.
337

يختلف بين ما إذا كان الشك في التداخل في ناحية الأسباب، وأما إذا كان الشك
في ناحية المسببات وأن الأصل العملي في الأول مقتضاه التداخل وفي الثاني
عدم التداخل وأما الأصل اللفظي فلا إشكال في أن الجملة الشرطية ظاهرة في أن
كل وجود من وجودات الشرط أو مصداق من مصاديقه يستتبع ايجادا واحدا من
الجزاء، لأن القضية إما حقيقية أو خارجية والحكم في كل منهما على الطبيعة
بلحاظ الوجود، واحتمال كون الحكم معلقا على الطبيعة المتحققة بأول وجودها
فيفصل بين ما إذا تعدد الشروط من أجناس مختلفة فيتعدد الجزاء، لأن كل طبيعة
تحققت بأول وجودها تقتضي ايجادا واحدا من الجزاء وبين ما إذا تعدد مصداق
الشرط من جنس واحد فلا يتعدد كما اختاره الحلي (1)، لأن الطبيعة بأول وجودها
قد أثرت في وجوب الجزاء، فوجودها الثاني لا أثر له خلاف الظاهر كما عرفت.
ومع ظهور الجملة الشرطية في أن كل شرط أو مصداق شرط مستتبع لإيجاد
واحد من الجزاء لا يبقى مجال لظهور الجزاء في الاتحاد لو كان له ظهور فيه، لأن
ظهور الجملة الشرطية حاكم على ظهوره.
فحينئذ الحكم بالتداخل وكفاية ايجاد واحد موقوف على أمرين.
أحدهما: أن يكون الجزاء في كل قضية شرطية عنوانا مغايرا لعنوان الآخر لا
ايجادا مغايرا لايجاد الآخر، إذ لو كان ايجادا فلا إشكال في أنه إذا كان المطلوب
ايجادين كما هو ظاهر القضية الشرطية فلا يكتفى بايجاد واحد فهل يعقل أن
يكون المأمور به إتيان شيئين ويكتفى بإتيان أحدهما في مقام الامتثال.
الثاني: أن يكون العنوانان مما يمكن اجتماعهما كعنوان العالم والهاشمي لا
مما لا يمكن اجتماعهما كعنوان العالم والجاهل، فلو تحقق هذان الأمران كما في
الأغسال حيث إنها عناوين متغايرة وإن كانت مشتركة في اسم الغسل، فإن غسل
الجنابة عنوان غير عنوان غسل الحيض مثلا، كما أن صلاة الظهر عنوان غير عنوان
صلاة العصر وإن اشتركتا في اسم الصلاة وعدد الركعات، واجتماعها أيضا ممكن،

(1) السرائر: كتاب الصلاة باب أحكام الصلاة الشك ج 1 ص 258.
338

كما ورد أنه إذا اجتمع لله عليك حقوق يجزيك غسل واحد، فيمكن القول
بالتداخل في ناحية المسبب. وأما بالنسبة إلى الوضوء فلم يعلم أن الوضوء مثل
الغسل، والوضوء من حدث البول عنوان مغاير للوضوء من حدث النوم أم لا؟ بل
اختلافهما بحسب الايجاد لا العنوان. فلا يمكن الحكم بالتداخل في ناحية
المسبب في باب الوضوء بمقتضى القاعدة، بل لابد من الدليل الخاص عليه.
والحاصل: أنه لابد للقول بالتداخل في ناحية الأسباب إما من القول بأن المؤثر
في وجود الجزاء هو صرف وجود الشرط المتحقق بأول وجوده لا طبيعته السارية
في ضمن كل وجود من وجوداتها، وأما من عدم قبول الجزاء للتعدد والتكرر.
والأول خلاف الظاهر، لأن الظاهر من الجملة الشرطية هو الحدوث عند
الحدوث والثاني خلاف الفرض، لأن المفروض فيما إذا كان الجزاء قابلا للتكرر،
فصرف الجملة الشرطية من ظاهرها وهو الحدوث عند الحدوث إلى الثبوت عند
الثبوت، أو أن الحادث بالشرط الثاني تأكد ما حدث بالشرط الا ول لا وجه له بعد
فرض إمكان الأخذ بظاهرها من الحدوث عند الحدوث. نعم لو يكن الجزاء قابلا
للتكرر فإن كان قابلا للتأكد فتحقق الشرط الثاني بعد الأول يوجب تأكد الجزاء،
وإن لم يكن قابلا للتأكد أيضا فإن حدث الشرطان دفعة كان الجزاء مستندا إلى
كليهما، وكل واحد منهما يكون جزءا من العلة، وإن سبق أحدهما كان الآخر لغوا.
فتحصل: أن ظاهر الجملة الشرطية هو حدوث الجزاء عند حدوث كل شرط
لا الثبوت عند الثبوت وكون الجزاء مترتبا على صرف وجود الشرط المتحقق
بأول وجوده، فيجب الأخذ بهذا الظهور إن لم يقم دليل على خلافه وكان الجزاء
قابلا للتكرر حسب تكرر الشرط أو مصداقه كما في الوضوء والغسل والكفارة
وسجود السهو بالنسبة إلى موجباتها، نعم في الكفارة لما كان الحكم بوجوبها على
من أفسد صومه معلقا على الإفطار، وهو يتحقق بأول ما يصدر منه كان من قبيل
تعليق الحكم على صرف الوجود الذي ليس بقابل للتكرر، فلا تتكرر الكفارة
بتكرر المفطر فيما إذا كان معلقا على الافطار لا على الأكل والشرب وأمثالهما من
339

الأمور القابلة للتكرر، فلو كان العنوان من أفطر في شهر رمضان بالأكل، أو أفطر
في شهر رمضان بالشرب لا تتكرر الكفارة وإن كان العنوان من أكل في شهر
رمضان أو شرب فيه تتكرر الكفارة بتكرر الموجب.
والتفصيل بين الجماع وسائر المفطرات لعله من هذه الجهة، لأن الكفارة فيه
معلقة على الايقاع في شهر رمضان، وهو قابل للتكرر بخلاف سائر المفطرات فإن
الكفارة فيها معلقة على الإفطار، وهو غير قابل للتكرر.
وإن لم يكن الجزاء قابلا للتكرار فإن كان قابلا للتأكد كالضوء مثلا فإن المحل
الواحد إذا صار مستضيئا بسراج ثم وجد فيه سراج آخر فلا يحدث فيه ضوء
آخر، لأن المكان الواحد لا يقبل ضوئين إلا أن الضوء الأول يمكن أن يتأكد
ويشتد بالضوء الثاني فيوجب حدوث السراج الثاني تأكد الضوء لا حدوثه. وكذا
إذا ورد دليل بأنه يجب إكرام العالم وورد دليل آخر بأنه يجب إكرام الهاشمي ففي
مورد تصادق العنوانين يتأكد الحكم، فتأمل.
وإن لم يكن الجزاء قابلا للتأكد كالقتل مثلا، حيث إنه غير قابل له، فإذا اجتمع
له سببان فإن كان أحدهما سابقا والآخر لاحقا كان الثاني لغوا، وإن وجدا دفعة
كان القتل مستندا إلى كليهما، وكان كل واحد جزءا من العلة التامة. هذا بالنسبة إلى
التداخل في ناحية السبب وأنه لا يمكن الالتزام به ورفع اليد عن ظهور الجملة
الشرطية وهو الحدوث عند الحدوث، إلا إذا كان الشرط صرف وجود الطبيعة، أو
كون الجزاء غير قابل للتكرر.
وأما التداخل في ناحية المسبب فقد عرفت أنه لا تصل النوبة إليه مع التداخل
في ناحية السبب، وإذا لم يمكن التداخل في ناحية السبب فينتهي الأمر إلى
التداخل في ناحية المسبب، وقد عرفت أن التداخل فيه موقوف على أمرين.
أحدهما: أن يكون الجزاء في كل قضية شرطية عنوانا مغايرا لعنوان الجزاء في
شرطية الآخر، وإن كانا بحسب الاسم مشتركين كالغسل مثلا حيث إن غسل
الجنابة والحيض وإن كانا مشتركين في اسم الغسل إلا أن عنوانيهما متغايران من
340

جهة أن الأول لا يحتاج إلى الوضوء والثاني يحتاج، فيكشف هذا عن اختلاف
حقيقتهما، وإلا لو كان الجزاء في كليهما عنوانا واحدا وكان تغايرهما بحسب
الايجاد أي كان الجزاء في كل واحدة منهما ايجادا مغايرا لايجاد الآخر فلا مجال
للتداخل إذ لا يمكن الاكتفاء عن الايجادين بايجاد واحد.
والثاني: أن يكون العنوانان مما يمكن تصادقهما على شيء كالعالم والهاشمي
لا مما لا يمكن تصادقهما على شيء واحد كالعالم والجاهل، وهذان الأمران لابد
من إحرازهما حتى يمكن الالتزام بالتداخل في ناحية المسبب، ففي مثل الغسل
هذان الأمران متحققان فنقول بالتداخل فيه، وأما في مثل الوضوء فلم يعلم أن
الوضوء الذي يجب بالبول عنوان مغاير للوضوء الذي يجب بالنوم. ويحتمل أن
يكون ايجادا مغايرا لايجاده لا عنوانا مغايرا.
وعلى فرض التغاير بحسب العنوان لم يعلم إمكان تصادقهما على شيء واحد
فلا يمكن التداخل في ناحية المسبب فيه من هذه الجهة. نعم نقول بالتداخل فيه
من جهة أن البول والنوم مثلا ليسا موجبين للوضوء بما هما نوم وبول، بل من
كونهما حدثا والحدث لا يتكرر، فكان الموجب للوضوء هو الحدث وهو لا يتكرر
وأن الحدث الأصغر إذا تكرر كان الثاني لغوا، فظهر أن الأصل اللفظي وهو ظهور
الجملة الشرطية في الحدوث عند الحدوث يقتضي عدم التداخل في ناحية
السبب، وإن لم يكن أصل لفظي وانتهى الأمر إلى الأصل العملي فهو يقتضي
التداخل، وأما في ناحية المسبب فلا أصل يقتضي التداخل لا الأصل اللفظي ولا
الأصل العملي.
ثم إنه لا يخفى أن صاحب الكفاية (1) خلط التداخل في ناحية السبب مع
التداخل في ناحية المسبب ولم يفرق بينهما كما هو حقه. وحكي عن الحلي (2)
التفصيل بين اختلاف جنس الشروط كالبول والنوم وبين اتحاده كفردين من

(1) كفاية الأصول: المفاهيم في مفهوم الشرط ص 240.
(2) السرائر: كتاب الصلاة في باب أحكام السهو والشك ج 1 ص 258.
341

البول، فقال في الأول بعدم التداخل وفي الثاني بالتداخل، من جهة أن الطبيعة
بصرف وجودها هو الموجب للجزاء لا بوجودها الساري في كل فرد، وهو لا
يخلو عن وجه، إذ كما يحتمل أن تكون الطبيعة بوجودها الساري موجبا كذلك
يحتمل أن تكون بصرف وجودها موجبا، أي ليس وجود الطبيعة وعدمها على
السواء بالنسبة إلى الجزاء وأن الجزاء يترتب على وجودها وأما ترتبه على كل
وجود وجود منها فلا.
وأما التفصيل بين كون أسباب الشرعية عللا حقيقية أو معرفات فإن قلنا بأنها
علل حقيقية فلا يمكن القول بالتداخل، لاستلزامه اجتماع العلل المتعددة على
معلول واحد، وإن قلنا بأنها معرفات فلا مانع منه، لأن اجتماع المعرفات لا مانع،
إذ يمكن أن يكون لمعرف واحد معرفات متعددة كما لا يخفى.
ففيه: أنه لا وجه لهذا التفصيل، لأنه لو كان ظهور الجملة الشرطية هو الحدوث
عند الحدوث فلا فرق بين أن يكون الشرط علة بنفسه أو كاشفا عن العلة، وإن لم
يكن لها ظهور في الحدوث عند الحدوث، بل كانت ظاهرة في الثبوت عند
الثبوت. فلا فرق أيضا بين كون الشرط علة أو كاشفا عن العلة.
ثم لا يخفى أنه لابد أن تكون القضية المفهومية متحدة مع القضية المنطوقية
موضوعا ومحمولا ومختلفة معها في الإيجاب والسلب فقط، فلذا ربما تختلف
الأنظار في كيفية أخذ المفهوم من جهة بعض القيود التي أخذت في طرف المنطوق
كما في قوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (1) حيث إنه استدل بعض (2) لهذه
الآية على حجية خبر العادل من جهة مفهوم الشرط.
وأورد عليه بأن القضية الشرطية هنا مسوقة لإحراز الموضوع مثل إن رزقت
ولدا فاختنه، وإن ركب الأمير فخذ ركابه، لأن مفهومها إن لم يجئكم الفاسق بنبأ
فلا تتبينوا، وهي سالبة بانتفاء الموضوع كما في المثالين، وكون مفهومها إن جاءكم

(1) الحجرات: 6.
(2) مفاتيح الأصول: في اخبار الآحاد ص 475 س 20.
342

عادل بنبأ فلا تتبينوا خروجا عن التمسك بمفهوم الشرط إلى التمسك بمفهوم
الوصف.
نعم لو كان مفاد الآية الشريفة أن النبأ إن كان الجائي به فاسقا فتبينوا كان
التمسك بمفهوم الشرط في محله، لأن مفهومها حينئذ هو أن النبأ إن لم يكن الجائي
به فاسقا فلا تبينوا، سواء كان الجائي به عادلا أو لم يكن لا عادلا ولا فاسقا بناء
على وجود الواسطة بينهما، فتأمل.
ومن جملة المقامات التي اختلفت الأنظار في أخذ المفهوم الرواية الشريفة
وهو قوله (عليه السلام): الماء إذا كان قدر كر لا ينجسه شيء (1)، وأن مفهومها هل هو أنه إذا
لم يكن الماء قدر كر ينجسه كل شيء من الأشياء النجسة، أو أنه ينجسه بعض
الأشياء النجسة، ولا ينافي عدم تنجسها ببعضها الآخر؟
ومنشأ الاختلاف هو أن المعلق على وجود الشرط هو الحكم العام الذي
لازمه تنجس غير الكر بكل واحد من الأشياء النجسة كما اختاره الشيخ
الأنصاري (2)، أو عموم الحكم الذي لازمه تنجس غير الكر ببعض الأشياء النجسة
كما اختاره المحقق الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية (3) على ما حكي عنه.
لا ريب أن لفظ الشيء كناية عن الأعيان النجسة ومرآة لها فكأنه قيل: إن
الماء إذا كان قدر كر لا ينجسه البول والغائط والدم إلى آخر النجاسات، وحينئذ
يصير المفهوم كما اختاره الشيخ أنه إذا لم يكن قدر كر ينجسه البول والغائط والدم
إلى آخر النجاسات، فلفظ الشيء وإن كان له عموم إلا أنه لما كان مرآة للنجاسات
المعلومة فلا عبرة بعمومه من حيث التعليق على الشرط بأن كان المعلق على
الشرط هو العموم كما اختاره صاحب الحاشية حتى يصير مفاد الرواية أن الماء
إذا كان قدر كر لا ينجسه جميع هذه الأشياء ومفهومها أنه إذا لم يكن قدر كر

(1) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1 ج 1 ص 117.
(2) مطارح الانظار: في المفاهيم ص 174 س 29.
(3) هداية المسترشدين: في المفاهيم ص 291 س 30.
343

ينجسه بعض هذه الأشياء حيث إن نقيض السالبة الكلية هو الايجاب الجزئي لا
الإيجاب الكلي.
والحاصل: أن الشيخ (قدس سره) جعل عموم الشيء مرآتيا صرفا ومقدرا لكمية
الموضوع كما في لفظ " كل " في أكرم كل العلماء، حيث إنه مقدر لكمية الموضوع
وصاحب الحاشية جعل عمومه مرآتيا من حيث الحكم العام وموضوعيا من
حيث التعليق على الشرط، بمعنى أن المعلق على الشرط هو عموم الحكم.
وفيه: أولا أنه لا يمكن الجمع بين لحاظ العموم مرآتيا وموضوعيا، وثانيأ:
على فرض إمكانه - أنه تفكيك لا موجب له.
فظهر مما ذكرنا أن الحق هو ما اختاره الشيخ (قدس سره)، وهذا الذي ذكرنا لا يختص
بالقضية الشرطية، بل تجري في القضايا الحملية التي دخل عليها السلب، فإنه
يمكن أن يكون الحكم فيها من باب عموم السلب كما في (إن الله لا يحب كل
مختال فخور) (1) وأن يكون من باب سلب العموم فكلا القسمين ممكن وواقع
أيضا في الشرعيات والعرفيات فإن ظهر من القرائن الحالية أو المقالية أو من
مناسبات الحكم والموضوع أنه من باب عموم السلب أو سلب العموم فهو، وإلا
فالظاهر حمله على عموم السلب، فتأمل.

(1) لقمان: 18.
344

[مفهوم الوصف]
فصل
هل الحكم المعلق على الوصف أو الموضوع المقيد بالوصف ينتفي عند انتفاء
ذلك الوصف أم لا؟
والمراد من انتفائه انتفاء سنخه لا انتفاء شخصه، فإنه معلوم الانتفاء.
استدل القائلون بالانتفاء تارة باللغوية، وهذا مما يتم فيما إذا علق الحكم
على الموضوع المقيد بالوصف كما في: " أكرم الرجل العالم "، فإنه لو لم يكن لصفة
العلم دخل في وجوب الإكرام لكان التقييد به لغوا.
وفيه: أولا: أن اللغوية بنفسها ليست من التوالي الفاسدة إلا في كلام الحكيم
وكلامنا ليس في خصوص كلام الحكيم بل في الأعم منه، فتأمل.
وثانيا: أن الفائدة لا تنحصر بانتفاء الحكم عن غير مورد الوصف، إذ لعل
مورد الوصف هو مورد الحاجة أو حكم غيره كان معلوما، وهكذا غيرهما من
الفوائد فلا يدل تعليق الحكم على الموضوع المقيد بالوصف على انتفاء سنخ هذا
الحكم عن غير مورد الوصف إذ دفع اللغوية - على تقدير تسليم كونها من التوالي
الفاسدة وأن أصالة عدم اللغوية من الأصول العقلائية - لا ينحصر بانتفاء الحكم
عن غير مورد الوصف، وأخرى بأن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية. وهذا
345

الوجه على الظاهر يجري فيما إذا علق الحكم على الوصف أو على الموضوع
المقيد بالوصف، ولا اختصاص له بأحدهما.
وفيه: أنه على تقدير تسليم الإشعار بالعلية وتسليم أن الاشعار بالعلية
كالدلالة على العلية أن غايته أن هذا الوصف علة للحكم وأن وجودها وعدمها
ليسا متساويين بالنسبة إلى الحكم، فإنه إذا قيل: أكرم العالم أو الرجل العالم نفهم
أن وجود العلم وعدمه ليسا سيان في الحكم، بل لوجوده دخل في الحكم فهو
مسلم، وأما أن دخله فيه بنحو العلية المنحصرة بحيث لو دل دليل على ثبوت
الحكم في غير مورد الوصف لكان معارضا له فهو ممنوع.
والحاصل: أنه بعد تسليم كون تعليق الحكم على الوصف دليل على علية
مأخذ الاشتقاق كون عليته بنحو الانحصار، بحيث لو دل دليل على ثبوت الحكم
في غير مورد الوصف ممنوع، مثلا لو قال: " أكرم العالم " نفس تعليق الحكم عليه
يدل على أن العلم له دخل في الإكرام بحيث لو قال: أكرم الجاهل لكان معارضا
له، فلو كان مراد القائل بالمفهوم هذا المقدار فهو مسلم، إلا أنه ليس من باب
المفهوم، بل من جهة عدم المقتضي للحكم، ولو كان مراده أنه لو قال: " أكرم
الشاعر " وانطبق عنوان الشاعر على الجاهل كان معارضا ل‍: " أكرم العالم " فهو
ممنوع، ففي المثال المذكور نقول بعدم وجوب إكرام الجاهل لا من جهة المفهوم،
بل من جهة عدم ثبوت المقتضي لوجوب إكرامه، ولا نقول بعدم وجوب إكرام
الجاهل الشاعر لو كان دليل على وجوب إكرام الشاعر وبمعارضته مع أكرم العالم
كما هو لازم قول من يدعي المفهوم، وأما التمسك للقول بالمفهوم بأن الأصل في
القيد الاحترازية فهو أصل لا أصل له، إذ القيد يمكن أن يكون احترازيا وغير
احترازي، وما وردت آية ولا رواية على أن الأصل في القيد الاحترازية.
ثم إنه أشكل على القول بعدم ثبوت المفهوم للوصف بأن القول بحمل المطلق
على المقيد الذي هو المتسالم عليه بينهم ينافي ذلك، فإنه إذا ورد " اعتق رقبة "
وورد أيضا: " اعتق رقبة مؤمنة " فإنهم يحملون الرقبة المطلقة على الرقبة المؤمنة
346

فيما إذا كان الحكمان مثبتين وكان موجبهما واحدا كما هو مورد حمل المطلق
على المقيد، فلو لم يكن للوصف مفهوم فلا وجه لحمل المطلق على المقيد.
وفيه: أن المراد من حمل المطلق على المقيد فيما إذا ثبت التقييد بدليل
منفصل كما في المثال المذكور الذي هو مورد حمل المطلق على المقيد لا ما إذا
ثبت التقييد بدليل متصل هو أن المطلوب الفعلي هو المقيد من باب تعدد المطلوب،
فيصير من باب الواجب في واجب، فأصل عتق الرقبة واجب، وكونها مؤمنة أيضا
واجب، والمطلوب الفعلي هو المقيد فإذا انتفى وجوب من جهة عذر ونحوه تبقي
مطلوبية أصل عتق الرقبة بحاله ولا نحتاج في إثبات أصل مطلوبيته بقاعدة
الميسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله، وأمثالهما مع ورود المناقشات على
الاستدلال بها، وهذا المعنى من حمل المطلق على المقيد لا يتنافى مع القول بعدم
ثبوت المفهوم للوصف كما لا يخفى. وأما حمل المطلق على المقيد بالمعنى الذي
ذكرنا فيما إذا كان التقييد بدليل متصل كما في: " صل عند الدلوك " ونحوه كما هو
لازم قول من يدعي أن القضاء بالأمر الأول فهو افراط.
والحاصل: أنه إن أريد بحمل المطلق على المقيد المعنى الذي ذكرنا فهو لا
ينافي القول بعدم ثبوت المفهوم للوصف، لأنه لو لم يكن المطلق مطلوبا مع كون
القيد مطلوبا لكان لهذا التوهم مجال، وأما لو كان المطلق مطلوبا أيضا ولكن كان
المطلوب الفعلي هو المقيد من باب تعدد المطلوب فلا مجال لهذا التوهم أصلا،
وهذا النحو من الجمع بين المطلق والمقيد وإن كان خلاف المشهور إلا أنه لو تم
لكان بابا واسعا يسهل الأمر في كثير من الموارد التي ثبت التقييد بدليل منفصل
فيما إذا سقط التكليف بهذا القيد من جهة التعذر ونحوه، فإنه بناء على هذا النحو
من حمل المطلق على المقيد، وكونهما من باب تعدد المطلوب لا نحتاج إلى قاعدة
الميسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله مع ما فيهما من المناقشات، بل نقول: إن
المطلق مطلوب والمقيد مطلوب آخر، والمقيد لما كان واحدا للمطلق وللقيد
فيكون هو المطلوب الفعلي، ومع ذلك لا يخرج المطلق عن أصل المطلوبية، فإذا
347

سقط التكليف بالمقيد لتعذر ونحوه يبقى مطلوبية المطلق بحاله بلا حاجة إلى شيء
آخر، فتأمل.
ويؤيد ما ذكرنا من حمل المطلق على المقيد أنه بهذا المعنى يجري في
الواجبات والمستحبات فإنه لا فرق بين أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة وبين زر
الحسين (عليه السلام) وزره مع الغسل أو بخصوصية أخرى في أن المطلق في كليهما
مطلوب والمقيد أيضا مطلوب في مطلوب، فإذا أتى بالمقيد فقد أتى بكليهما، وإذا
أتى بالمطلق فقد أتى بالمطلوب الأصلي ولم يأت بالخصوصية التي هي مطلوب
في مطلوب، فإن كان التكليف ايجابيا وكان استيفاء الخصوصية ممكنا يجب
الاتيان بتلك الخصوصية استيفاء لتلك الخصوصية، وإن لم يمكن استيفاء
الخصوصية بعد الاتيان بالمطلوب الأولي وهو أصل الطبيعة كما في مسألة القصر
والاتمام والجهر والاخفات فقد فاتت تلك الخصوصية.
وأما إن كان التكليف استحبابيا حيث إنه يجوز ترك المطلق والمقيد جميعا لو
أتى بالمطلق بدون الخصوصية أتى بأصل المطلوب، ولا يجب عليه إتيان الطبيعة
بتلك الخصوصية استيفاء لتلك الخصوصية، لأنها غير لازمة الاستيفاء، ولكن لو
أراد استيفاء الخصوصية وكانت ممكنة الاستيفاء كان له إتيان الطبيعة بتلك
الخصوصية تحصيلا لها، وعليه لا حاجة إلى تخصيص حمل المطلق على المقيد
بالواجبات دون المستحبات كما ذهب إليه المشهور، والحال أنه لا فرق بينهما
فإنه لو قال، زر الحسين (عليه السلام) وقال في كلام منفصل آخر: زره مع الخصوصية
الكذائية فأي فرق بين القول بوجوب الزيارة واستحبابها في حمل المطلق على
المقيد على الأول دون الثاني.
وإن أريد من حمل المطلق على المقيد المعنى الذي ذكره المشهور، وهو أن
المطلوب واحد وهو المقيد، والمطلق ليس بمطلوب أصلا أيضا لا ينافي القول
بعدم ثبوت المفهوم للوصف، لأن حمل المطلق على المقيد بهذا المعنى ليس من
جهة أن المقيد بمفهومه ينفي المطلق حتى ينافي القول بعدم ثبوت المفهوم
348

للوصف، بل من جهة أن المقيد بمنطوقه ينفي المطلق.
توضيحه: أن قوله: " أعتق رقبة " ظاهر في أن الواجب عتق مطلق الرقبة
مؤمنة كانت أو كافرة، وقوله: " أعتق رقبة مؤمنة " ظاهر في أن الواجب هو عتق
الرقبة المؤمنة، فظهور " أعتق رقبة "، في وجوب عتق مطلق الرقبة ينافي مع ظهور
أعتق رقبة في وجوب عتق الرقبة المؤمنة على التعيين، فلابد إما من إبقاء المطلق
على إطلاقه ورفع اليد عن ظهور: " اعتق رقبة مؤمنة " في وجوب عتق الرقبة
المؤمنة على التعيين إما من ظهور الأمر فيه في الوجوب، وحمله على الاستحباب
ليكون عتق الرقبة المؤمنة أفضل الأفراد، أو عن ظهوره في التعيينية وحمله على
التخييرية، وأنه أحد أفراد الواجب التخييري العقلي الذي هو لازم الأمر بالمطلق،
وإما من رفع اليد عن إطلاق المطلق وحمله على المقيد. وإذا دار الأمر بين رفع
اليد عن ظهور الأمر بالمقيد في الوجوب التعييني بأحد الوجهين أو عن ظهور
المطلق فرفع اليد عن ظهور المطلق في الاطلاق وحمله على المقيد أولى،
لمساعدة العرف عليه.
ولكن يمكن أن يقال بأنه لو كان ظهور الأمر بالمقيد في الوجوب التعييني من
جهة الوضع وكان ظهور المطلق في الاطلاق بمقدمات الحكمة لكان لما ذكر وجه،
ولكن ليس كذلك، بل ظهور أمر المقيد في الوجوب والتعيينية كليهما من جهة
الاطلاق ومقدمات الحكمة،.
فعلى هذا لا وجه لرفع اليد عن إطلاق المطلق وابقاء أمر المقيد على ظهوره
في الوجوب والتعيينية، بل يمكن العكس لو لم يكن العرف مساعدا على رفع اليد
عن ظهور المطلق، وترجيحه على رفع اليد عن أحد ظهوري الأمر بالقيد في
الوجوب والتعيينية.
ثم لا يخفى أنه فيما إذا علق الحكم على الموضوع المقيد بالوصف أنه لابد
من أن يكون بين الموصوف والصفة إحدى النسب الأربع، ولا يمكن أن يكون
بينهما التباين وإلا لما اجتمعا، فلابد إما من التساوي بينهما كالانسان الناطق أو
349

الضاحك، أو العموم المطلق إما بأن يكون الموصوف أعم من الوصف كما في
الرجل العالم، أو بأن يكون الوصف أعم كما في الإنسان الماشي أو العموم من
وجه كما في الحيوان الأبيض.
إذا عرفت هذا فاعلم أن النزاع في ثبوت المفهوم للوصف وعدمه هو أنه إذا
كان الموضوع بدون الوصف القائل بثبوت المفهوم يقول بأن تعليق الحكم على
الموضوع الواجد للوصف يدل على انتفاء الحكم عن هذا الموضوع الفاقد للوصف
والقائل بعدم ثبوت المفهوم يقول بعدم دلالة تعليق الحكم على الموضوع الواجد
للوصف على انتفائه عن الموضوع الفاقد له، وأما إذا انتفى الموضوع فثبوت
الحكم في غيره أو انتفائه عنه خارج عن باب المفهوم ولا ربط لثبوته وانتفائه
بثبوت المفهوم وانتفائه.
فعلى هذا لا إشكال في الخروج عن محل النزاع ما إذا كان بين الموصوف
والوصف التساوي بحيث لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، إذ ليس للموصوف
افتراق عن الوصف حتى ينازع في أن تعليق الحكم على الموضوع الواجد
للوصف يدل على انتفائه عن هذا الموضوع الفاقد للوصف أم لا؟
وأما إذا كان بينهما العموم المطلق فإن كان الوصف أعم فكذلك أيضا
كالإنسان الماشي، وأما إذا كان الوصف أخص كالرجل العالم فلا شبهة في دخوله
في محل النزاع.
وأما إذا كان بينهما العموم من وجه فلا شبهة في الدخول في محل النزاع ما إذا
كان الافتراق من جانب الموصوف كما في مثل " أكرم الإنسان الأبيض " إذا انتفى
الوصف وكان إنسانا أسودا، وأما إذا كان الافتراق من جانب الوصف فهو خارج
عن محل النزاع، مثلا الغنم السائمة فيه الزكاة بناء على ثبوت المفهوم للوصف يدل
على انتفائها عن الغنم المعلوفة الذي هو مورد الافتراق عن جانب الموصوف،
وبناء على عدم ثبوت المفهوم لا يدل على انتفاء الزكاة عنه، فهو داخل في محل
النزاع، وأما مورد الافتراق من جانب الوصف فالظاهر أن مثاله السائمة من غير
350

الغنم كالإبل لا معلوفة الإبل كما ذكروه.
وعلى أي حال فهو خارج عن محل النزاع، لعدم بقاء الموصوف وهو الغنم
فيهما، وما ذكره بعض الشافعية (1) من دلالة قوله في الغنم السائمة على انتفاء الزكاة
في الإبل المعلوفة ليس من جهة المفهوم، بل لعله من جهة استفادة العلية المنحصرة،
وكون وجوب الزكاة دائرا مدار السوم وجودا وعدما. ولا بأس به إن لم يرجع إلى
الاعتبارات العقلية والاستحسانات، بل كان من باب منصوص العلة، فتأمل.

(1) نقله في مطارح الأنظار: في المفاهيم ص 182 س 22.
351

فصل
إثبات الحكم للموضوع المغيى بغاية هل يقتضي انتفاؤه عما بعد الغاية بحيث
لو دل دليل على ثبوته فيما بعد الغاية يكون معارضا مع هذا المفهوم أو لا يدل، بل
يكون ما بعد الغاية مسكوتا عنه؟ وإذا دل دليل على ثبوته فيه يجب الأخذ به، ولا
مانع عنه فهنا مقامان:
أحدهما: تشخيص المنطوق وهو أن الغاية هل هي داخلة في المغيى ويشمله
الحكم الثابت للمغيى أم لا؟
والثاني: في تشخيص المفهوم وهو أن الحكم الثابت للمغيى هل ينتفي عما بعد
الغاية أم لا؟
أما المقام الأول: وهو أن الغاية داخلة في المغيى أم لا، والظاهر أن هذا النزاع
لا يختص بالغاية، بل يجري في المبتدأ أيضا، فكما يمكن النزاع في مثل: سر من
الكوفة إلى البصرة في أن البصرة داخلة في المغيى أم لا، فكذلك يمكن النزاع في
أن الكوفة داخلة أم لا. ولكن لا يخفى أن النزاع في دخول الغاية أو المبتدأ وعدم
دخولهما إنما هو فيما إذا كانت الغاية أو البداية مركبا ذا أجزاء، وإلا فلا معنى
للنزاع كما لو قال: " صم من الطلوع إلى الغروب " فإنه لا معنى للنزاع في أن
الطلوع أو الغروب داخل أو خارج، إذ هو أمر آني، ولا فرق فيما إذا كانت الغاية
أو البداية ذات أجزاء بين كونها زمانا: كصم من يوم الجمعة إلى يوم كذا أو شهر كذا
أو مكانا كسر من البصرة إلى الكوفة أو غيرهما.
352

وكيف كان فقد قيل (1) بدخول الغاية في المغيى مطلقا، وقيل (2) بعدم دخولها
مطلقا، وقيل (3) بالتفصيل بين حتى فتدخل الغاية في المغيى وبين إلى فلا تدخل.
والظاهر أنه نشأ من عدم التفرقة بين حتى العاطفة وحتى التي للغاية.
والمقصود من هذا النزاع أن الحكم المغيي بغاية هل له ظهور في دخول الغاية
بحيث لا يمكن رفع اليد عنه إلا بدليل، أو له ظهور في عدم دخولها كذلك، أو
يكون في حد نفسه مجملا لا ظهور له في أحدهما؟
ولابد في إثبات أحدهما من القرائن الخارجية، ويختلف ذلك باختلاف
المقامات والأفعال، وبناء على دخول الغاية والبداية هل هما داخلتان بتمام
أجزائهما، أو يكتفي بدخول جزء واحد منهما، أو تختلف باختلاف المقامات
والأفعال، ففي مثل: سر من البصرة إلى الكوفة يكفي دخول جزء يسير من البداية
والنهاية في السير، وفي مثل: صم من يوم الجمعة إلى يوم السبت لابد من دخول
اليومين بتمام أجزائهما، إذ الصوم لا يمكن أن يكون في بعض اليوم؟
والحق هو إلإجمال وعدم الظهور في الدخول وعدم الدخول للجملة بنفسها،
بل بواسطة الأمور الخارجية قد تكون ظاهرة في الدخول، وقد تكون ظاهرة في
عدم الدخول، وفيما كانت ظاهرة في الدخول لابد أيضا من القرينة الخارجية
على أن الداخل هو تمام البداية والنهاية أو يكفي جزء منهما.
والحاصل: أن الجملة المغياة بغاية ليس لها في حد نفسها ظهور نوعي يكون
هو المرجع عند الشك بحيث لا يمكن رفع اليد عنه إلا بدليل. فعلى هذا لابد في
باب التكاليف المغياة بغاية الرجوع إلى الأصول العملية عند الشك، وهي تختلف
باعتبار كون الغاية للحكم أو غاية للموضوع الذي ورد عليه الحكم، فإن كانت
الغاية غاية للحكم المرجع هو الاستصحاب إن لم يناقش فيه من جهة الشك في
المقتضي، وإن كانت غاية للموضوع فالمرجع هي البراءة برجوع الشك إلى الشك
في التكليف المردد بين الأقل والأكثر. والمرجع فيه البراءة اتفاقا إن كانا غير

(1 و 2 و 3) نقل الأقوال في مطارح الانظار: في المفاهيم ص 185 س 33.
353

ارتباطيين، وإن كانا ارتباطيين فعلى الخلاف فيه، وأما في الوضعيات كجعل شهر
كذا أو سنة كذائية مبدأ للإجارة أو غاية لها ونحوها فلابد من التعيين لئلا يوجب
الغرر، ولعل بناء العرف أيضا على التعيين فلذا يعينون من أول شهر كذا أو إلى أول
شهر كذا، ولا يكتفون لجعل مبدأ الإجارة أو منتهاها شهر الفلاني من دون تعيين
بأوله أو آخره ونحوهما، وهو مؤيد لما قلنا من أن الجملة ليس لها ظهور بنفسها
في أحدهما وإن أمكن أن يقال: إن بناءهم على التعيين ليس من جهة عدم الظهور
على الدخول أو الخروج، بل من جهة صيرورتها نصا بحيث لا يقبل النزاع فتعينهم
لا يدل على إجمال الجملة في حد نفسها.
فتحصل: أن الكلام في الجملة المغياة بغاية تارة يقع بالنسبة إلى الغاية وأنها
داخلة في المغيى أم لا، وأخرى بالنسبة إلى ما بعد الغاية. والبحث من الجهة الأولى
في تنقيح المنطوق، والثانية في تنقيح المفهوم.
وقد تبين أن محل النزاع في دخول الغاية وعدم دخولها إنما هو فيما إذا كانت
الغاية مركبة ذات أجزاء كاليوم والشهر والسورة وغيرها من الأمور المركبة لا مثل
الطلوع والغروب من الأمور الآنية.
وتبين أن الجملة بنفسها ليس لها ظهور في الدخول وعدم الدخول، بل هي
مجملة من هذه الجهة، وظهورها في بعض المقامات في الدخول وفي بعضها في
عدم الدخول إنما هو بالقرينة ومناسبة الحكم والموضوع لا بواسطة ظهور الجملة
في حد نفسها.
والبحث من الجهة الثانية في أن هذه الجملة المغياة بغاية بكلمة إلى وحتى وما
يرادفهما هل لها ظهور في انتفاء هذا الحكم عن الغاية وما بعدها بناء على خروج
الغاية عن المغيى أو عن ما بعد الغاية، بناء على دخول الغاية في المغيى بحيث لو
دل دليل على ثبوته لكان معارضا مع هذا المفهوم أم لا؟
فصل صاحب الكفاية (1) بين لو كانت الغاية غاية للحكم أو غاية للموضوع،

(1) كفاية الأصول: في مفهوم الغاية ص 246.
354

فالأول كقوله: تحرم الصلاة أو الصوم على الحائض - مثلا - إلى أن تطهر، والثاني
كقوله: يجب الصوم من الطلوع إلى الغروب، والظاهر امكان كليهما وإن كان يظهر
من كلام الشيخ عدم إمكان تقييد الحكم بالغاية وغيرها من القيود، ولا بد من
إرجاع القيود كلها إلى الموضوع والمادة لا الحكم.
وحاصل تفصيله: هو أن الغاية لو كانت غاية للحكم فتدل على انتفاء الحكم
عما بعد الغاية، وإلا لم يكن ما جعل غاية للحكم غاية له، وأما لو كانت غاية
للموضوع فلا تدل على انتفائه عما بعد الغاية، لأن غاية ما يستفاد من هذه الجملة
بناء على كون الغاية غاية للموضوع هو أن هذا الموضوع الذي مبدؤه كذا ومنتهاه
كذا محكوم بهذا الحكم، ولا يدل على انتفائه عما بعد الغاية، لأنه يحتمل أن يكون
لهذا الحكم موضوع آخر مبدؤه منتهى الموضوع الآخر، وكان هذا الحكم ثابتا
له أيضا.
وفيه: أنه لابد من تشخيص أن الأدات الدالة على الغاية ك‍ " إلى وحتى " هل
تدل على مجرد إنهاء المغيى إلى ذلك الحد واستمراره إليه فقط بلا دلالة على
انقطاعه عنده - كما لا يبعد - أو تدل على استمراره إلى ذلك الحد وانقطاعه عنده
بلا فرق بين أن تكون الغاية زمانا أو مكانا أو غيرهما؟ فإن قلنا بأنها تدل على
مجرد إنهاء الحكم أو الموضوع إلى ذلك الحد من دون دلالة على انقطاعهما عنده
فهذه الأبحاث كلها ساقطة. وإن قلنا بأنها تدل على انقطاع الحكم أو الموضوع
بمجرد وصول أول جزء من الغاية بناء على خروج الغاية عن المغيى أو بآخر
جزئها بناء على دخولها فيه، فيكون لها موقع.
ومع ذلك فالحق عدم الفرق بين كونها غاية للحكم أو الموضوع، وذلك لأن
الحكم كالوجوب - مثلا - لابد له [من] موجب، لأنه لا يمكن أن يكون بلا مصلحة
وبلا علة، فكما يمكن أن يكون للحكم موضوع آخر غير الموضوع المذكور في
القضية ويكون مبدؤه منتهى ذلك الموضوع المذكور، وإثباته للموضوع لا يدل
على انتفائه عن غيره يمكن أن تكون مصلحة مقتضية لجعل حكم إلى ذلك
355

الحد المذكور في القضية ومصلحة أخرى أيضا مقتضية لجعل حكم آخر مماثل
للحكم الأول لما بعد ذلك الحد، فكما يمكن تعدد الموضوعات يمكن تعدد
الوجوبات.
ولو قيل بأنه يستفاد من الجملة أو من الخارج انحصار علة الوجوب بما قبل
الغاية يمكن أن يقال مثله بالنسبة إلى الموضوع، وأنه يستفاد أن الموضوع منحصر
به. وبعبارة أخرى إن استفيدت العلية المنحصرة ففي كليهما يقتضي انتفاؤه عما بعد
الغاية، وإلا ففي كليهما لا يقتضي انتفاؤه، فالتفصيل بين ما لو كانت الغاية غاية
للحكم أو الموضوع لا وجه له فتأمل.
356

فصل
ومما تدل على انتفاء الحكم المذكور في القضية ايجابا أو سلبا من غير
الموضوع المذكور فيها أدوات الحصر. ودلالتها على المفهوم وهو انتفاء الحكم
المذكور في القضية عن غير الموضوع المذكور فيها من القضايا التي قياساتها معها
إن كان المراد من الحصر قصر الحكم على الموضوع المذكور وسلبه عن غيره،
لأن الحصر بهذا المعنى هو عين المفهوم ولا يمكن إنكار المفهوم بناء على تسليم
دلالة الأداة على الحصر بهذا المعنى. نعم يمكن المنع عن دلالتها على الحصر
بهذا المعنى.
منها: أداة الاستثناء ك‍ " إلا " ونحوها مثل جاء القوم إلا زيدا، وما جاء القوم
إلا زيد فإنها من جهة دلالتها على قصر الحكم المذكور في القضية بالمستثنى منه
إيجابا كان أو سلبا يكون الاستثناء من الايجاب سلبا ومن السلب ايجابا فإنها لو
لم تدل على انتفاء الحكم المذكور في القضية عن غير المستثنى منه لما كان
الاستثناء عن الايجاب سلبا وعن السلب ايجابا، ولا خلاف في دلالة إلا على
الحصر بمعنى قصر الحكم المذكور في القضية بالمستثنى منه وسلبه عن غيره الذي
هو عبارة عن المفهوم إلا عن أبي حنيفة (1) فإنه أنكر المفهوم وهو سلب الحكم عن
غير المستثنى منه، وجعل ما جاء القوم إلا زيدا بمنزلة أن يقال: جاء ما عدا زيد،

(1) نقله في مطارح الانظار: ص 187 س 25.
357

فكما أنه لو قال: جاء ما عدا زيد كان زيد مسكوتا عنه ايجابا وسلبا، كذلك جاء
القوم إلا زيدا فلا ينافي ثبوت هذا الحكم له بدليل آخر ولا يكون بينهما تعارض.
فعلى هذا تكون " إلا " الاستثنائية ك‍ " إلا " الصفتية التي هي بمعنى الغير وبناء
على قوله يكون حال أداة الاستثناء في الدلالة على المفهوم كدلالة اللقب عليه،
فإن قلنا بدلالته عليه نقول بدلالتها أيضا، وإلا فلا. ولا يمكن رد قوله إلا بأن
المنسبق من إطلاق جاء القوم إلا زيد وأمثاله هو ثبوت الحكم للمستثنى منه
وسلبه عن غيره لا مجرد إثبات الحكم للمستثنى منه.
وأما استدلاله على مدعاه بقوله: لا صلاة إلا بطهور (1) بتقريب أن يقال: إنه لو
دلت أداة الاستثناء على حصر الحكم المذكور في القضية وقصره بالمستثنى منه
بحيث يكون الاستثناء من الايجاب نفيا ومن النفي إثباتا لكان معنى لا صلاة إلا
بطهور هو وجود الصلاة وتحققها بمجرد تحقق الطهور، والحال أنه ليس كذلك.
فضعيف جدا، وذلك لأن الشيء إذا كان له ركنية بالنسبة إلى المركب يتعارف
استعمال مثل هذا التركيب فيه والمقصود منه أنه بانتفاء هذا الجزء ينتفي المركب
بخلاف سائر الأجزاء، فإنه يمكن أن لا ينتفي المركب بانتفائها لا أن المقصود منه
أنه بانتفائه ينتفي المركب، وبتحققه يتحقق المركب حتى يرد الإشكال.
ويتم الاستدلال وكذلك استدلال المثبتين بقبول رسول الله (صلى الله عليه وآله) إسلام من
قال كلمة التوحيد، ولو لا دلالتها على نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها له تعالى
لما كان وجه للقبول.
وفيه: أن دلالتها على نفي ألوهية غير الله مستندة إلى اللفظ، وأما دلالتها على
إثبات ألوهية الله تعالى، فبالقرائن المقامية. وهنا إشكال آخر وهو أن خبر لا إما
موجود أو ممكن، فإن كان الأول فمعنى هذه الكلمة هو أنه لا إله موجود غير الله،
فهذه الكلمة تدل على نفي وجود إله غير الله، ولا تدل على نفي إمكانه الذي هو
المطلوب في التوحيد، وإن كان الثاني فلا تدل على وجود الله تعالى، لأن معناها

(1) وسائل الشيعة: ب 1 من أبواب الوضوء ح 1 و 6 ج 1 ص 256.
358

أنه لا إله ممكن إلا الله، فتدل على صرف إمكانه تعالى لا على وجوده، وعلى أي
حال يلزم عدم دلالة كلمة التوحيد عليه.
والجواب عنه: أن المقصود من هذه الكلمة هو التوحيد العبادي لا التوحيد
الذاتي، لأنهم كانوا قائلين به كما في الآية الشريفة: (ولئن سألتهم من خلق
السماوات والأرض ليقولن الله) (1) وإنما كانوا منكرين للتوحيد العبادي فمعناها
أنه لا معبود بالحق موجود إلا الله، وعلى هذا لا يلزم الإشكال المتقدم.
نعم بناء على قول أبي حنيفة المنكر للمفهوم وكون الاستثناء من النفي اثباتا،
وبالعكس يلزم أن يكون القائل بهذه الكلمة نافيا لمعبودية غير الله، وساكتا عن
إثبات معبوديته تعالى، وله أن يجيب عن هذا الإشكال بأنه يمكن أن يكتفى منهم
في أول البعثة بهذا القدر، وهو نفي استحقاق العبودية عن غير الله وإن لم يثبتوه له
تعالى أو يقول: إن معبوديته تعالى كانت مسلمة وإنما كان المقصود نفي معبودية
غيره تعالى، فلذا اكتفى منهم بنفي معبودية غيره، فتأمل.
والحاصل: أن هذه الكلمة إنما تدل على التوحيد العبادي ولا تدل على
التوحيد الذاتي، وبعبارة أخرى أن مفاد هذه الكلمة هو نفي معبودية غيره تعالى
وإثبات معبوديته تعالى بناء على القول بثبوت المفهوم أو نفي معبودية غيره فقط
والسكوت عن معبوديته تعالى بناء على القول بعدم المفهوم كما قال به أبو حنيفة،
وهذا القدر يكفي في التوحيد العبادي، لأن استحقاق معبوديته تعالى كان مسلما
عند الكل وإنما المقصود نفي معبودية غيره وليس مفادها التوحيد الذاتي أي
الإقرار بأصل وجود الصانع إلا من باب الاستلزام وإنما اللفظ الدال على إقرار
الصانع أنا مقر بالصانع ونحوه، فتأمل.
فتحصل: أن من جملة المفاهيم مفهوم الحصر ولا إشكال في أن استفادة
المفهوم من الحصر فيما إذا كان الحصر حقيقيا من القضايا التي قياساتها [معها]،
لأن معنى الحصر الحقيقي انحصار الحكم بمورد ونفيه عن غيره، وهذا هو معنى

(1) لقمان: 25 و الزمر: 38.
359

المفهوم وهذا لا كلام فيه، وإنما الكلام في الأمور التي تدل على الحصر ومن
جملتها أداة الاستثناء.، وقد تبين دلالتها على الحصر وعدم خلاف فيها إلا عن
أبي حنيفة ولا إشكال في أن دلالة الجملة المشتملة على الاستثناء على حكم
المستثنى منه دلالة منطوقية.
ولكن وقع الكلام في أن دلالتها على حكم المستثنى أيضا دلالة منطوقية أو
مفهومية، لا إشكال في أنه لو كانت من باب الدلالة المنطوقية لابد أن يكون لفظ
دال عليه كما في الجملة المستثنى منها، وليس في مثل: " جاء القوم إلا زيد " غير
لفظ " إلا " ولفظ " زيد " شيء آخر ولفظ " إلا " ليس معناه إلا الاخراج، ولفظ
" زيد " ليس معناه إلا الذات المعينة، فليس في الكلام قالب لجملة المستثنى في
المثال وهو عدم مجيء زيد حتى تكون الدلالة من باب المنطوق، بل الحق أن
الدلالة من باب المفهوم، لأن لفظ " إلا زيد " يوجب خصوصية في الجملة المستثنى
منها وبواسطتها تدل على الجملة المستثنى، فاستفادة حكم المستثنى وهو عدم
مجيء زيد في المثال المذكور إنما نشأت من الخصوصية التي حدثت في الجملة
المستثنى منها من لفظ " إلا " كما أن استفادة المفهوم في الجملة الشرطية حدثت
من الخصوصية التي اعتبرت فيها من لفظ " إن " وأمثالها، فالدال على المفهوم هي
الخصوصية التي في الجملة المنطوقية لا اللفظ حتى تكون الدلالة منطوقية وإن
كان الدال على تلك الخصوصية لفظا كلفظ " إلا " في المقام ولفظ " إن " في الجملة
الشرطية فإن هذا يضر بكون الدلالة مفهومية، مع أنه لا ثمرة في النزاع في أنها من
الدلالة المنطوقية أو المفهومية بعد ما كانت من الدلالات المعتبرة.
وما يتوهم من أنها لو كانت دلالة منطوقية تعارض دلالة المنطوقية ولو كانت
مفهومية لما تعارضها، ففيه - مع الغض عن أن في كل مورد تعارض المنطوق مع
المفهوم، فبالحقيقة التعارض بين المنطوقين، لأن هذا المفهوم إنما نشأ من
الخصوصية المعتبرة في المنطوق فلابد من التصرف في المنطوق لو انجر الأمر إلى
التصرف في أحد المتعارضين لرفع التعارض، ولا يمكن التصرف في المفهوم من
دون التصرف في المنطوق فتأمل - أنه ما ورد دليل من آية أو رواية على أن
360

المنطوق مقدم على المفهوم مطلقا، وإنما المناط قوة الدلالة وضعفها، فربما يكون
مفهوم يقدم على مناطيق كثيرة كما في إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء (1) فإنه
مقدم على الأخبار الكثيرة الدالة على عدم تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة،
فالمدار على أقوائية الدلالة وإن كانت مفهومية.
ومن جملة ما يدل على الحصر كلمة " إنما " لأن المتبادر من هذه الكلمة
والمنسبق منها إلى الذهن هو ذلك وليس فهم ظهور ألفاظ لغة لأهل لغة أخرى
منحصرا بأن يلاحظ أن مرادف هذا اللفظ في هذه اللغة ظاهر في أي معنى للحكم
بأن مرادفه في تلك اللغة ظاهر في هذا المعنى ليلزم منه عدم إمكان فهم ظهور لفظ
في لغة لأهل لغة أخرى إذا لم يكن له مرادف في لغتهم كلفظ " إنما " فإنه ليس له
مرادف في لغة العجم كما قيل أو كان له مرادف ولكن لم يمكن إحراز ظهوره، بل
لنا طريق آخر وهو الرجوع إلى أهل تلك اللغة والأخذ بما ارتكز في أذهانهم من
هذا اللفظ.
والمتبادر من لفظ " إنما " في لغة العرب هو الحصر أي حصر المسند إليه
بالمسند أو بالعكس، ولابد أن يكون المحصور عليه مؤخرا فإن كان المراد حصر
المسند إليه بالمسند فلابد أن يقال: إنما زيد قائم. وإن كان بالعكس فلابد أن يقال:
إنما القائم زيد.
ومن جملة ما تدل على الحصر لفظ " بل " الاضرابية لا " بل " الترقي ولا
الاضرابية مطلقا، بل فيما إذا لم يكن الاضراب من جهة ذكر المضرب عنه غفلة، أو
من جهة سبق اللسان فإنه لا دلالة لها على الحصر حينئذ، فيكون كما لو ذكر
المضرب إليه ابتداءا، وفيما إذا لم يكن الاضراب لأجل التأكيد ويكون ذكر
المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لأجل ذكر المضرب إليه فإنها لا تدل على الحصر
حينئذ أيضا، بل فيما إذا كان في مقام الردع وإبطال ما أثبته أولا، فإنها تدل على
الحصر حينئذ فإنه لو لم يكن سنخ الحكم سواء كان إخباريا أو إنشائيا منتفيا عنه

(1) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1 ج 1 ص 117.
361

كما هو محل النزاع في باب المفاهيم على ما عرفت لا شخص هذا الحكم، فإنه لا
نزاع في انتفائه عن غير موضوعه، لما ردع وما أبطل ما أثبته للمضرب عنه.
والحاصل: أن لفظ " بل " في هذا المقام ليس لمجرد إثبات الحكم للمضرب
إليه والسكوت عن المضرب عنه، ويكون حاله كما إذا لم يذكره أصلا، بل تدل
على أمرين: إثبات الحكم للمضرب إليه، ونفيه عن المضرب عنه.
ومن جملة ما يفيد - الحصر على ما قيل - تعريف المسند إليه، بل المسند أيضا على
ما حكي عن التفتازاني (1) بتقريب أن يقال: إن اللام إما للاستغراق أو للجنس، وعلى
أي حال يفيد الحصر، فإنه إذا قيل الأمير زيد، أو زيد الأمير وحمل زيد على تمام
أفراد الأمير أو على جنسه، أو بالعكس يفيد حصر الإمارة به، لأن شخص زيد لا
يتعدى عن نفسه، فكذلك ما اتحد به بحمله عليه أو حمله عليه كما في المثالين.
وفيه: أن اللام تحتمل العهد والاستغراق والجنس، والأصل فيها حملها على
الجنس كما أن الأصل في الحمل في القضايا المتعارفة هو الحمل المتعارفي لا
الحمل المواطاتي، ومعهما لا يبقى مجال لإفادة الحصر. نعم لو أريد من اللام
الاستغراق بالقرينة أو أخذ مدخولها بنحو الإطلاق والإرسال أو كان الحمل حملا
ذاتيا لافيد الحصر.
ولعل ادعاء الحصر من تعريف المسند إليه أو المسند نشأ من ملاحظة
بعض الموارد الخاصة الواردة في الآيات والأشعار التي أريد فيها الحصر بأحد
الوجوه المذكورة لنكتة اقتضاها الحال والمقام، فتوهم أن تعريفهما مطلقا موجب
للحصر من غير التفات إلى الخصوصية التي اقتضاها الحال والمقام، كما أن أغلب
تلك القواعد اصطيادية من الموارد الخاصة، بل تكثر المعاني للفظ واحد غالبا من
هذا الباب، فربما يستعمل لفظ في معنى في مقام مجازا بواسطة خصوصية
اقتضاها الحال والمقام، فيتوهم من لا يلتفت إلى تلك الخصوصية أنه من معانيه
الحقيقية، فتأمل.

(1) حكاه في مطارح الانظار: في المفاهيم ص 190 س 27.
362

فصل
اللقب لا مفهوم له، والمراد به غير الشرط والوصف من ملابسات الفعل من
المفعول به والحال وغيرهما من الملابسات، فإن قولنا: أكرم زيدا يوم الجمعة
قائما في المسجد، مثلا لا يدل على عدم وجوب إكرام عمرو، ولا على عدم
وجوب إكرام زيد في غير يوم الجمعة ولا على عدم وجوب إكرامه قاعدا، ولا
على عدم وجوب إكرامه في غير المسجد، وهكذا في سائر القيود. فإن شخص هذا
الحكم الثابت لزيد بتمام هذه الخصوصيات ينتقي بانتفاء إحدى الخصوصيات، إلا
أنه ليس مفهوما، بل المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم واللقب لا دلالة له على
انتفاء سنخ الحكم المعلق عليه عن غيره.
وأما العدد: ففي العرفيات التي أغراضها بيدنا ويمكن لنا الاطلاع عليها قد
يكون الحكم المعلق على عدد لا بشرط في طرفي الزيادة والنقيصة، وقد يكون
بشرط لا من كلا الطرفين كما لو كان مال موقوفا أو موصى به لعشرة رجال وقال:
أعط هذا المال لهؤلاء العشرة، وقد يكون بشرط لا من أحد الطرفين، إذ يمكن
فيما لو قال: أضف عشرة رجال أن يكون مقصوده أن لا يكون الضيف أقل من
العشرة أو يكون مقصوده أن لا يكون أكثر من عشرة، فيختلف الحكم فيها
باختلاف المقامات.
وأما في الشرعيات التي ليست أغراضها بيدنا ولا يمكن لنا الاطلاع عليها
363

فبحسب التصور وإن احتمل ما ذكرنا من الشقوق الأربعة، إلا أنه إذا كان المطلوب
من الحكم المعلق على أثر خاص كما في الختوم فلابد من حمله على بشرط
اللائية من الطرفين، إذ ربما يترتب الأثر على هذا العدد المخصوص بلا زيادة
ونقيصة. وأما لو كان المطلوب صرف امتثال التكليف فبالنسبة إلى النقيصة لابد من
أن يحمل على بشرط اللائية، إذ التكليف المتعلق بالعدد المخصوص لا يمتثل بأقل
منه. وأما بالنسبة إلى الزيادة فيمكن أن يكون لا بشرط لو لم يدل دليل على
خلافه، وهذا حكم المنطوق في القضية التي علق الحكم فيها على عدد خاص، ولا
ربط له بالمفهوم، لأن الحكم المعلق على عدد لا يمتثل بأقل منه.
364

المقصد الرابع
في العام والخاص
فصل
قد عرف العام بتعاريف عديدة وقد وقع فيها من النقض والإبرام من الأعلام
بما لا يناسب المقام، لما عرفت مرارا من أن هذه التعاريف تعاريف لفظية وتبديل
لفظ بلفظ أعرف عند السؤال عن الشيء ب‍ " ما " الشارحة لا تعاريف حقيقية وبيان
حقيقة المعرف عند السؤال عنها ب‍ " ما " الحقيقية كيف لا؟ والحال أن المعنى
المرتكز من المعرف في أمثال هذه المقامات أعرف من هذه التعاريف، ولذا يجعل
صدق ذلك المعنى وعدم صدقه على فرد مقياسا للإشكال بعدم الاطراد
والانعكاس وفي التعريف الحقيقي لابد أن يكون الأمر بالعكس بأن يكون المعرف
أجلى وأوضح من المعرف فحقيقة العام ومفهومه أمر مرتكز في الأذهان بلا
اختلاف فيه ولا نزاع، وإنما الاختلاف في مقام التعبير والتعريف فربما عرفه أحد
بالنظر الدقي بلفظ يكون مطردا ومنعكسا، وربما عرفه آخر بالنظر المسامحي
أو من جهة اللفظة بلفظ لا يكون مطردا أو منعكسا، مع أن المعنى المعرف عندهما
شيء واحد ومفهوم فارد، ولذا لا يختلف الحكم المتعلق بالعام باختلاف هذه
التعاريف، ولو كانت تعاريف حقيقية لابد أن تختلف، لأن مفهوم العام لو كان عند
365

من عرفه بتعريف غير مفهومه عند من عرفه بتعريف آخر فلا محالة يختلف الحكم
أيضا كما في تعريف الغنا - مثلا - فإنه بناء على تعريفه بترجيع الصوت مع الطرب
أو نفس ترجيع الصوت بدون الطرب يختلف الحكم.
وأما الأحكام المترتبة على العام كجواز التمسك بالعام المخصص أو عدم
جواز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص أو كون العام المخصص بالمجمل
حجة أو ليس بحجة وغيرها من الأحكام فلا تختلف باختلاف هذه التعاريف،
فمنه يستكشف أن معنى العام عند الكل شيء واحد لا خلاف فيه، وهذه التعاريف
ليست تعاريف حقيقية وإلا لاختلفت حقيقة العام باختلافها، وباختلاف حقيقته
تختلف الأحكام المترتبة عليه كما في الغناء، وإنما الغرض من تعريفه بيان ما
يكون بمفهومه جامعا بين ما لا شبهة في أنها أفراد العام ليشار به إليه في المقام
لإثبات ما له من الأحكام لا بيان ما هو حقيقته وماهيته، لعدم تعلق غرض به بعد
وضوح ما هو محل الكلام من أفراده ومصاديقه التي هي المتعلقة للأحكام لا
مفهوم العام بما هو مفهوم عام فإنه ليس متعلقا للحكم (1) من الأحكام فلذا لا
يحتاج الأصولي إلى إتعاب النفس في تشخيص الصحيح من هذه التعاريف عن
سقيمها لعدم ترتب ثمرة عملية عليه، بخلاف التعاريف الحقيقية كتعريف الغناء
ونحوه فإنه يحتاج إلى هذا الأتعاب لترتب الثمرة العملية واختلاف الحكم بواسطة
اختلاف التعاريف.
ثم لا يخفى أن العموم والخصوص من صفات اللفظ وكيفياته باعتبار الدلالة،
واتصاف المعنى بهما إنما هو بتبع اللفظ عكس الكلية والجزئية باصطلاح المنطقي
فأنهما من صفات المعنى واتصاف اللفظ بهما إنما هو بتبع المعنى، فإن الكلي عبارة
عن معنى ومفهوم لا يمتنع فرض صدقه على الكثيرين والجزئي بخلافه، وأيضا
أن العموم والخصوص كالسلب والإيجاب من الكيفيات الطارئة على اللفظ

(1) هكذا في الأصل والظاهر أن الصحيح: لحكم.
366

باعتبار تعلق الحكم به فإنه مع قطع النظر عن تعلق الحكم لا معنى للعموم
والخصوص، فتأمل.
كما أن انقسام العام إلى العموم الأفرادي والمجموعي والبدلي أيضا بذلك
الاعتبار فإنه إن لوحظ كل واحد من الأفراد مستقلا في مقام تعلق الحكم به يكون
العموم أفراديا، وإن لاحظ المجموع منضما يكون العموم مجموعيا، وإن لوحظ
كل واحد بدلا عن الآخر في مقام تعلق الحكم يكون بدليا.
367

فصل
هل للعموم صيغ تخصه أم لا؟ الحق هو الأول وما ذكر في مقام الاستدلال
على المنع لا ينبغي التعرض لذكره، وذلك لأن لفظ " كل " و " جميع " وما يرادفهما
من سائر اللغات لا شبهة في إفادتها العموم، ولا إشكال فيها وإنما الإشكال في أن
إفادتها العموم إنما هو بالوضع أو أنها كسائر الألفاظ التي تدل على العموم
بمقدمات الحكمة، فقد يقال: إن دلالتها على العموم بمقدمات الحكمة، لأن لفظ
" كل " مثلا لا يدل إلا على استيعاب مدخوله، سواء كان طبيعة مطلقة أو مقيدة،
والمدخول ليس إلا الطبيعة اللا بشرط القابلة للإهمال والاطلاق والتقييد، ولا
وضع للمجموع المركب في العموم، فمن أين تجيء الدلالة على العموم ما لم يثبت
إطلاق المدخول بمقدمات الحكمة؟ وهكذا في النكرة الواقعة بعد النفي أو النهي.
ولكن الحق خلافه، وأنه لا حاجة إلى مقدمات الحكمة في إفادتها العموم،
وإن شئت قلت: إن مقدمات الحكمة حاصلة. بيان ذلك: أن من جملة مقدمات
الحكمة أن يكون المتكلم في مقام البيان لا الإهمال والإجمال بأن لا يكون
موضوع حكمه مبينا عنده وعند المخاطب أو عند المخاطب فقط كما في قول
الطبيب للمريض: " اشرب الدواء " فإنه ربما يعرف الطبيب انحراف مزاج المريض
وأنه لابد من شرب الدواء، ولكن لا يعرف دواءه أي شيء؟ أو يعرف دواءه ولكن
لا يريد بيانه فعلا، وهذه المقدمة لا نحتاج إليها في المقام، لأن المقصود منها هو أن
368

المتكلم لم يكن في مقام الإهمال والإجمال، وهذا المقصود يستفاد من ذكر لفظ
" كل " وأمثاله، لأنه لو كان المتكلم في مقام الإهمال والإجمال لا يناسب ذكر
" كل " بل لا يصح فإنه يصح أن يقول الطبيب في مقام الإهمال والإجمال: " إشرب
الدواء " ولا يصح أن يقول: " اشرب كل دواء " فلفظ " كل " مناف للإهمال
والإجمال.
وكذلك النكرة الواقعة عقيب النفي أو النهي ك‍ " لا رجل في الدار " أو " لا تقتل
أحدا " فإن النكرة المثبتة يمكن فيها الإهمال والإجمال من جهة أن الاثبات
إخراج من العدم إلى الوجود. ويمكن فيه الاكتفاء بصرف الوجود بخلاف المنفية
والمنهية فإن النفي إخراج من الوجود إلى العدم، ولا يمكن الاكتفاء فيه بصرف
العدم فهذه المقدمة أعني كون المتكلم في مقام البيان لا الإهمال والإجمال لا
نحتاج إليها في دلالة " كل " وما يرادفها على العموم ولا في دلالة النكرة المنفية أو
المنهية عليه. نعم نحتاج إلى مقدمة عدم التقييد ولابد من إحراز عدم تقييد المتعلق
إما بالوجدان أو بأصل معتبر عند الشك في التقييد وعدمه.
فلفظ " كل " من جهة كونه منافيا للإهمال والإجمال يدل على استيعاب أفراد
مدخوله بعد إحراز عدم تقييد بالوجدان أو بالأصل المعتبر مثل أكرم كل رجل أو
كل عالم بالنسبة إلى أفراد الرجل والعالم من العربي والعجمي والتركي وغيرهم،
ويعبر عنه بالعموم الأفرادي وله عموم آخر بالنسبة إلى أحوال كل فرد من كونه
شيخا أو شابا أو قائما أو قاعدا وأمثالها ويعبر عنه بالعموم الأحوالي كما ذكروا في
مثل (أوفوا بالعقود) (1) بأن له عموم أفرادي بالنسبة إلى افراد العقود وهل له عموم
أحوالي بالنسبة إلى كل فرد من أفراد العقود أم لا؟ ولفظ " كل " لا يدل على العموم
من هذه الجهة فلابد من سور يدل عليه من هذه الجهة أيضا كأن يقال: أكرم كل عالم
في كل حال، أو في أي حال، أو يثبت العموم من هذه الجهة أنه بمقدمات الحكمة.

(1) المائدة: 1.
369

فصل
لا شبهة في أن العام المخصص بالمخصص المتصل حجة فيما بقي بعد
التخصيص إذا كان المخصص متبين المفهوم والمصداق كالشرط والوصف والغاية
كما لو قال: أكرم العلماء إن كانوا عدولا، أو: أكرم العلماء العدول، أو: إلى أن
يفسقوا، وهكذا الاستثناء سواء قلنا بأنه من المخصصات المتصلة، أو قلنا بأنه من
المخصصات المنفصلة، لأن المدار ليس على اتصال المخصص وانفصالة، بل
المدار على انقياد ظهور العام فيما بقي بعد التخصيص. ومن هذه الجهة حال
الاستثناء حال المخصصات وإن قلنا بأنه ليس منها حقيقة، فكما أن قولنا: " أكرم
العلماء العدول " ظاهر في وجوب إكرام العدول من العلماء كذلك " أكرم العلماء إلا
فساقهم " ظاهر في وجوب إكرام العدول منهم.
وإنما الإشكال في المخصصات المنفصلة غير الاستثناء بناء على القول بكونه
منها كما إذا ورد في كلام عام وفي كلام آخر خاص كالمخصصات الصادرة عن
الأئمة بالنسبة إلى الكتاب والسنة أو في كلام بعضهم بالنسبة إلى الآخر أو بالنسبة
إلى كلامه السابق وأن العام هل هو حجة فيما بقي بعد التخصيص أو ليس بحجة؟
ويصير مجملا ولا يمكن التمسك به بالنسبة إلى الباقي أيضا.
ومنشأ الإشكال هو أن المخصص المنفصل من باب قرينة المجاز أو من باب
المعارض الأقوى، إذ لو كان من باب قرينة المجاز فيشكل بأن المجاز لابد له من
قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي وقرينة معينة للمعنى المجازي ولا تكفي القرينة
370

الواحدة ما لم تكن متكفلة للجهتين كما في: " أسد يرمي " والمخصص المنفصل
يصرف العام عن المعنى الحقيقي وهو العموم، ولا يعين المعنى المجازي، إذ
مراتب المجاز متعددة والباقي بعد التخصيص أحد المراتب، ولا معين له وكونه
أقرب إلى العموم لا يوجب تعينه من بين المجازات، لأن الأقربية التي توجب
تعين المعنى المجازي بين المجازات هي الأقربية الحاصلة من زيادة الأنس
الناشئة من كثرة الاستعمال لا الأقربية بحسب المقدار.
وما حكي عن تقريرات بحث الشيخ (قدس سره) من أن دلالة العام على كل فرد من
أفراده ليست منوطة بدلالته على فرد آخر ولو كانت دلالة مجازية، إذ هي بواسطة
عدم شموله للافراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله، فالمقتضي
للحمل موجود بالنسبة إلى الباقي والمانع مفقود، لأن المانع في مثل المقام ما
يوجب صرف اللفظ عن مدلوله، والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي
لاختصاص المخصص بغيره، فلو شك فالأصل عدمه. انتهى كلامه (1).
وفيه: أن دلالة العام على الباقي لم تكن مستقلة، بل في ضمن دلالته على
العموم والشمول، فإذا لم يستعمل في العموم واستعمل في الخصوص مجازا - كما
هو المفروض - وكان استعماله وإرادة كل واحد من مراتب الخصوصات مما جاز
انتهاء التخصيص إليه ممكنا كان تعيين الباقي بلا معين ترجيحا بلا مرجح.
وما ذكره من أن المقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود بالأصل
ففيه: أنه إن أريد من المقتضي والمانع المقتضي والمانع في مقام الا ثبات - كما هو
الظاهر من كلامه - وربما يقال - أو قيل - بأن تمام الأصول اللفظية كأصالة الحقيقة
وأصالة العموم وأمثالهما من باب قاعدة المقتضي والمانع في مقام الا ثبات، لأن
الوضع مقتض لحمل اللفظ على معناه الموضوع له إذا لم تكن قرينة مانعة عنه أن
المانع وإن كان مفقودا إلا أن المقتضي ليس موجودا، لأن المقتضي للحمل على
الباقي إما الوضع أو القرينة المعينة له، وكلاهما منتفيان، لأن الوضع إنما كان للعموم

(1) مطارح الانظار: في العموم والخصوص ص 192 س 17.
371

لا للباقي، والقرينة إنما صرف العام عن العموم ولم تعين شيئا من المراتب القابلة
لانتهاء التخصيص إليها، فالحمل على الباقي يكون بلا مقتضي له.
نعم لو كان للعام أوضاع متعددة حسب تعدد مراتبه لكان لما ذكره وجه، إذ
على هذا بعد رفع اليد عن الوضع بالنسبة إلى العموم من جهة التخصيص المقتضي
وهو الوضع بالنسبة إلى الباقي موجود، ولا يمكن رفع اليد عنه مع الشك في المانع
المفقود بالأصل، كما لا يمكن رفع اليد عن العموم لو كان التخصيص من أول الأمر
مشكوكا، فتأمل.
وإن أريد منهما المقتضي والمانع في مقام الثبوت كالعلم والفسق كما هو
خلاف الظاهر من كلامه هو خارج عن التمسك بالأدلة اللفظية ورجوع إلى
التمسك بالأصل العملي، إذ قاعدة المقتضي والمانع في مقام الثبوت مرجعها إلى
الأصول العملية وربما يمكن أن يعد الاستصحاب من باب قاعدة المقتضي والمانع
في ذلك المقام فإذا ورد عام مثل: " أكرم العلماء " وورد خاص منفصل مثل: " لا
تكرم الفاسق منهم " فالتمسك في وجوب إكرام من عدا الفاسق منهم بأن المقتضى
لوجوب الإكرام هو العلم وهو موجود في الباقي، والمانع عنه وهو الفسق مفقود،
فيؤثر المقتضي أثره لا ربط له بالتمسك بالعموم والدليل اللفظي، بل لو استكشفنا
من الخارج أو من دليل غير لفظي أن المقتضي لوجوب الإكرام هو العلم والمانع
عنه هو الفسق لقلنا بوجوب إكرام العالم الغير الفاسق، ولو لم يكن هناك عام ولما
كان استكشاف المقتضي لابد له من مدرك، فالعام إنما هو في هذا المقام مدرك
لاستكشاف المقتضي لا أن التمسك به لوجوب إكرام الباقي، هذا بناء على كون
التخصيص من باب قرينة المجاز.
وأما لو كان من باب المعارض الأقوى - كما هو الأقوى - فلا إشكال في حجية
العام في الباقي، لأن العام قد استعمل في معناه الحقيقي وهو العموم وهو حجة فيه،
ولابد من الأخذ به لو لم يعارضه معارض أقوى منه، وإذا وجد معارض أقوى
فلابد من رفع اليد عن العموم بمقدار المخصص، لأنه رفع اليد عن الحجة بحجة أقوى
منها، وأما رفع اليد عنه بالنسبة إلى الباقي فهو رفع اليد عن الحجة بلا حجة، فتأمل.
372

فصل
إذا خصص العام بمخصص متبين المفهوم والمصداق كما لو قال: " أكرم
العلماء إلا زيدا "، أو قال: " لا تكرم زيدا " وفرض كون زيد متبين المفهوم
والمصداق فلا إشكال في حجية العام في الباقي وجواز التمسك به بالنسبة إليه بناء
على القول بكون العام المخصص حجة في الباقي، سواء كان المخصص متصلا أو
منفصلا - كما هو المختار - وأما إذا كان المخصص مجملا فتارة يكون مجملا
مفهوما، وأخرى يكون مجملا مصداقا، وعلى الأول تارة يكون الإجمال من جهة
تردده بين الأقل والأكثر، وأخرى بين المتباينين.
وعلى كل تقدير إما أن يكون التخصيص بالمتصل أو بالمنفصل فإذا كان
التخصيص بالمتصل وكان المخصص مجملا بحسب المفهوم من جهة تردده بين
الأقل والأكثر كما إذا قال المولى: أكرم العلماء إلا فساقهم، وتردد الفاسق بين
خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة إجمال المخصص
يسري إلى العام حقيقة ويمنع عن انعقاد ظهوره بالنسبة إلى المشكوك لاحتفاف
الكلام بما يوجب احتماله لكل واحد من الأقل والأكثر، لكن الخاص حجة في
الأقل وهو مرتكب الكبيرة لكونه القدر المتيقن منه، كما أن العام حجة أيضا
بالنسبة إلى غير مرتكب الكبيرة والصغيرة من العلماء، وأما مورد الشك وهو
مرتكب الصغيرة فلا يمكن إدراجه تحت العام ولا تحت الخاص، ولابد من
الرجوع فيه إلى دليل آخر لو كان، وإلا فإلى الأصول العملية.
373

وكذا لو كان الخاص مرددا في هذه الصورة بين المتباينين كما لو قال: أكرم
العلماء إلا زيدا وتردد زيد بين زيد بن عمرو وبين زيد بن بكر، فإن إجماله يسري
إلى العام حقيقة ويمنع عن انعقاد ظهوره، ولا يمكن التمسك بالعام بالنسبة إليهما
ولابد من الرجوع إلى دليل آخر لو كان وإلا فإلى الأصول العملية، وإذا كان
التخصيص بالمنفصل وكان مجملا مفهوما من جهة تردده بين الأقل والأكثر كما لو
قال: " أكرم العلماء " وورد دليل منفصل مثل: " لا تكرم فساقهم " وتردد الفاسق
بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة فإن إجمال
المخصص لا يسري إلى العام لا حقيقة ولا حكما، لانعقاد ظهور العام ولزوم
الأخذ بعمومه إلا فيما كان حجة أقوى على خلافه، تحكيما للنص أو الأظهر على
الظاهر، وهو ليس إلا القدر المتيقن من الخاص، وهو مرتكب الكبيرة في المثال،
لأن الخاص بالنسبة إليه حجة فيزاحم العام فيه ويقدم عليه، لكونه أقوى منه.
وأما بالنسبة إلى غيره وهو مرتكب الصغيرة في المثال فليس الخاص حجة
فيه فكيف يزاحم العام؟ فالعام بالنسبة إليه حجة بلا مزاحم. فتأمل.
وأما إذا كان الخاص في هذه الصورة مرددا بين المتباينين كما إذا قال: " أكرم
العلماء " ثم ورد دليل منفصل بأنه لا تكرم زيدا وتردد زيد بين زيد بن عمرو
وزيد بن بكر فإن إجمال المخصص يسري إلى العام حكما لا حقيقة، فبالنسبة إلى
كل منهما لا يمكن التمسك بأكرم العلماء في وجوب إكرامه، كما أنه لا يمكن
التمسك بلا تكرم زيدا في حرمة إكرامه. هذا إذا كان إجمال المخصص من جهة
المفهوم بأقسامه من جهة كونه مرددا بين الأقل والأكثر أو المتباينين، ومن جهة
كونه متصلا أو منفصلا على كلا التقديرين.
وأما إذا كان من جهة المصداق فإن كان المخصص متصلا كما لو قال المولى:
" أكرم العلماء إلا فساقهم " واشتبه فرد منهم أنه فاسق أم لا؟ مع تبين مفهوم الفسق
وأنه يرتكب الكبيرة - مثلا - فلا إشكال في عدم جواز التمسك بالعموم بالنسبة إلى
الفرد المشكوك، لعدم انعقاد ظهوره إلا في الخصوص وأما إذا كان المخصص
منفصلا كما إذا قال: " أكرم العلماء " وورد دليل منفصل بأنه لا تكرم الفساق منهم
374

فهل يجوز التمسك بالعام بالنسبة إلى الفرد الذي صدق العام عليه متيقن وصدق
الخاص عليه مشكوك أم لا؟ وهذه المسألة هي معركة الآراء المعنونة في كلماتهم
بأنه هل يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية أو لا يجوز؟
والمراد الشبهات المصداقية بالنسبة إلى الخاص لا العام، فإنه لا شبهة في عدم
جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية بالنسبة إلى العام كما إذا قال: أكرم
العلماء وشككنا في أن زيدا عالم أم لا، فإنه لا إشكال في أنه لا يمكن التمسك
بأكرم العلماء لوجوب إكرام زيد المشكوك كونه عالما، إذ الحكم تابع لوجود
موضوعه، ولا يمكن إحراز الموضوع بنفس الحكم، فما لم يحرز الموضوع
بالوجدان أو بأمارة أو أصل لا يترتب عليه الحكم.
كما أنه لا إشكال في عدم جواز التمسك بالخاص بالنسبة إلى الفرد المشكوك
اندراجه تحته كما في " لا تكرم الفساق " فإنه لا يمكن التمسك بعموم " لا تكرم
الفساق " لحرمة إكرام زيد المشكوك فسقه كما لا يمكن، التمسك بعموم: " أكرم
العلماء " لوجوب إكرام زيد المشكوك كونه عالما.
وإنما الإشكال كل الإشكال في التمسك بالعام مثل: " أكرم العلماء " الذي
خصص بدليل منفصل كلا تكرم الفساق منهم لوجوب إكرام زيد المعلوم كونه
عالما والمشكوك فسقه، وغاية ما يمكن أن يستدل به على الجواز هو أن العام بعد
ما انعقد ظهوره كما هو المفروض في العام المخصص بالمنفصل يكون حجة في
العموم ولا يمكن رفع اليد عن الحجة إلا بحجة أقوى، والمخصص المنفصل إنما
يكون حجة أقوى من العام بالنسبة إلى ما علم دخوله تحت المخصص.
وأما بالنسبة إلى ما شك في كونه داخلا تحته أم لا؟ فليس لحجة فيه فعلا حتى
يزاحم العام ويوجب رفع اليد عن العام، لأنه يصير من مزاحمة الحجة مع
اللاحجة، فلابد من الأخذ بعموم العام إلا فيما علم أنه فرد من المخصص.
وفيه: أن المخصص المنفصل وإن لم يكن كالمخصص المتصل مانعا عن انعقاد
ظهور العام في العموم إلا أنه مثله في كونه مانعا عن حجيته في العموم، فإذا قال
المولى: أكرم العلماء، ثم قال: لا تكرم الفساق منهم، فقوله: لا تكرم الفساق مانع
375

عن حجية أكرم العلماء بالنسبة إلى العموم، للقطع بخروج الفساق منهم بمقتضى:
لا تكرم الفساق، فكما أنه حجة في غير الفاسق منهم فكذلك لا تكرم الفساق منهم
حجة في الفاسق والفرد المشكوك كونه فاسقا اندارجه في كل منهما مشكوك،
فكما أنه لا يمكن الحكم بكونه محرم الإكرام بمقتضى لا تكرم الفساق كذلك
لا يمكن الحكم بوجوب الاكرام بمقتضى أكرم العلماء، فلابد من الرجوع في
حكمه إلى الأصول العلمية أي الوظائف المقررة للشاك في مقام العمل، وهي
تنقسم إلى الموضوعية والحكمية، ونسبة الأصول الموضوعية التي بها تنقح
الموضوع إلى الأصول الحكمية نسبة الورود أو الحكومة.
وعلى أي حال ما دامت الأصول الموضوعية جارية لا تنتهي النوبة إلى
الأصول الحكمية، لأنها سببية ومسببية. وإذا لم يكن أصل موضوعي أو كان ولم
يكن جاريا فينتهي الأمر إلى الأصول الحكمية من الاستصحاب، إن كانت له حالة
سابقة، وإلا فالبراءة إن كان الشك في التكليف، وإلا فالاحتياط إن أمكن، وإلا
فالتخيير، فتأمل.
والأصل الموضوعي الذي به يجرز الموضوع في المقام ليس إلا الاستصحاب،
فإن كان العالم المشكوك فسقه حالته السابقة هو الفسق فلا إشكال في استصحابه
والحكم بحرمة إكرامه، وإن كان هو العدالة فلا يخلو جريان الاستصحاب وترتيب
حكم العام عن إشكال، من جهة أنه لو كانت حالته السابقة هي العدالة فإما أن
يجري الاستصحاب بالنسبة إلى الأمر الوجودي الذي هو عبارة عن العدالة، أو
بالنسبة إلى الأمر العدمي الذي هو عدم فسقه الذي هو ملازم مع العدالة.
فإن أجري الاستصحاب بالنسبة إلى العدالة فلا جدوى له بالنسبة إلى ترتب حكم
العام، لأن موضوعه العالم لا العالم العادل، فالعدالة ليست تمام الموضوع بالنسبة
إلى حكم العام ولا جزئه حتى يترتب على استصحابها أثر من هذه الجهة. نعم لو
كان للعدالة أثر يترتب على استصحابها، إلا أنه بالنسبة إلى حكم العام لا أثر له.
وإن أجري الاستصحاب بالنسبة إلى الأمر العدمي الملازم وهو عدم الفسق
فأثره إنما هو عدم ترتب حكم الخاص - وهي حرمة الإكرام - لا ترتب حكم العام
376

- وهو وجوب الإكرام - اللهم إلا أن يقال بكفاية استصحاب عدم الفسق في ترتيب
حكم العام، لأن الحكم العام علق على العام المنفي عنه وصف الفسق بعد تخصيصه
بالمنفصل، لأن المخصص المنفصل وإن لم يمنع عن انعقاد ظهور العام في العموم
إلا أنه يمنع عن حجيته فيه، فدائرة حجية العام تتضيق بالمخصص المنفصل
كالمتصل، ويصير مفاد " أكرم العلماء " بملاحظة لا تكرم فساقهم هو وجوب إكرام
العلماء الذين نفي عنهم الفسق لا بمعنى أن المخصص المنفصل يوجب تعنون العام
كالمتصل حتى يمنع ذلك، لأن هذا ليس عنوانا للعام، بل هو بيان لما هو موضوع
وجوب الإكرام بعد تخصيص العام بالمنفصل وتضيق دائرته. فإذا كان وجوب
الإكرام معلقا في الواقع على العالم الذي نفي عنه الفسق، فيكفي نفي الفسق
بالأصل في ترتب هذا الحكم عليه، كما يكفي في عدم ترتب حكم الخاص فتأمل.
بل يمكن إثبات الحكم فيما لم يكن حالته السابقة معلومة أيضا، فإن أصالة
عدم الفسق تجري في هذه الصورة أيضا ويترتب عليه حكم العام ولا تعارضها
أصالة عدم العدالة، إذ لا أثر للعدالة في ترتب حكم العام حتى تعارض أصالة عدم
الفسق، لأن الفسق يوجب الخروج عن حكم العام والدخول في حكم الخاص،
والعدالة لا توجب شيئا.
بل يمكن إثبات الحكم في الصورتين بقاعدة المقتضي والمانع بأن يقال: إنه
تستكشف من تعليق الحكم على عنوان العلماء أن العلم مقتض لوجوب الإكرام،
والفسق مانع عنه حيث خصص العام بما عدا الفاسق. فإذا شك في وجود المانع
فيدفع بالأصل. هذا فيما إذا كان المخصص لفظيا.
وأما إذا كان المخصص لبيا كما إذا قال المولى: أكرم جيراني وحكم العقل بأنه
لا يريد إكرام أعدائه، وهذا الحكم العام مخصص بما عدا الأعداء فيجوز التمسك
في مورد الشك في كونه عدوا أو ليس بعدو، بعموم " أكرم جيراني " وإثبات الحكم
العام له من جهة أن الأحكام العقلية أحكام تعليقية على موضوعاتها المقدرة،
فحكم العقل بأنه لا يريد المولى إكرام أعدائه معلق على أنه لو كان في الجيران
عدو فلا تكرمه، وأما أنه في الجيران يكون عدو أم لا؟ فليس الحكم العقلي
377

متكفلا له، فيحتمل أن لا يكون فيهم عدو ولم يتخصص حكم العام، ويحتمل أن
يكون ويتخصص حكم العام.
فحكم العام حجة ولا بد من الأخذ به إلا فيما قام على خلافه دليل أقوى ولم
يقم دليل على خلافه، إذ يحتمل أن لا يكون فيهم عدو أصلا ولم يتخصص العام
ولم يخرج عن عمومه شيء، فليس في مقابل العام حجة من طرف المولى يحتمل
دخول الفرد المشكوك تحتها، فكل فرد من الجيران قطع بكونه عدوا له لا يجوز
إكرامه، وكل ما يحتمل أن يكون عدوا له يدخل تحت العام.
والحاصل: أنه إذا ورد عام وخصص بدليل منفصل لفظي ك‍ " أكرم العلماء " و
" لا تكرم فساقهم " لا يجوز التمسك بعموم " أكرم العلماء " لوجوب إكرام من شك
في فسقه من أفراد العام، لوجود حجتين من طرف المولى وعدم العلم بدخول
المشكوك في تحت ايهما بخلاف ما لو كان المخصص هو العقل كما في " أكرم
جيراني " المخصص بحكم العقل بعدم جواز إكرام العدو فإن الفرد المشكوك
عداوته داخل تحت العام ويجوز التمسك بالعام لإثبات وجوب إكرامه، إذ ليست
من طرف المولى إلا حجة واحدة وهو العام.
وأما حكم العقل فهو ليس حجة فعلية على خلاف حكم العام، كما أن
المخصص اللفظي كذلك، لأن حكم العقل حكم كلي تعليقي على وجود موضوعه
في الخارج، ويحتمل أن لا يكون له موضوع في الخارج ولم يتخصص به حكم
العام أصلا. وأما في المخصص اللفظي فلو لم يكن له موضوع في الخارج لما ورد
من طرف المولى حجة على خلاف حكم العام.
وبعبارة أخرى في العام المخصص بالدليل المنفصل اللفظي حجتان فعليتان
من طرف المولى ولم يعلم أن الفرد المشكوك داخل في أيهما. وأما العام
المخصص بالدليل العقلي فليس من طرف المولى حجة فعلية وهو العام، وأما
حكم العقل فلكونه حكما كليا تعليقيا على تحقق موضوعه في الخارج فليست
حجة فعلية في قبال العام، إذ من الممكن أن لا يتحقق له موضوع في الخارج ولم
يتخصص به العام أصلا فلا مانع من التمسك بالعام لدخول الفرد المشكوك تحته.
378

وإذا تبين أن حكم العقل كلي تعليقي على تحقق موضوعه ومن الممكن أن لا
يكون له موضوع في الخارج حتى يخصص به العام بخلاف المخصص اللفظي فإنه
لو لم يكن له موضوع في الخارج لما ورد من طرف المولى حجة على خلاف حكم
العام تبين أيضا أنه لا وجه للتفصيل في حكم العقل بين أن يكون مما يصح أن
يتكل عليه المتكلم إذا كان في مقام البيان وغيره، إذ بعد ما عرفت أن حكم العقل
كلي تعليقي على وجود موضوعه لا يمكن التعويل عليه أصلا.
ولكن لا يخفى أن الفرق بين المخصص اللفظي والعقلي في الأحكام الشرعية
التي كلها من قبيل القضايا الحقيقية التي علق الحكم فيها على موضوعاتها المقدرة
وجودها لا وجه له إذ كما أن الحكم العقلي فيها كلي تعليقي على موضوع مقدر
الوجود فكذلك العام أيضا وكما أنه حجة بالنسبة إلى من كان داخلا في تحته
فكذلك الحكم العقلي أيضا، إذ كما أنه ألقى من طرف المولى بلسان رسوله
الظاهري حكم كلي بوجوب إكرام العلماء - مثلا - كذلك ألقى بلسان رسوله
الباطني حكم كلي بحرمة إكرام طائفة خاصة منهم - مثلا - وإدخال فرد المشكوك
تحت إحدى الحجتين ترجيح بلا مرجح. نعم بالنسبة إلى القضايا الخارجية التي
علق الحكم فيها على أشخاص خاصة له وجه، إذ العام فيها حكم فعلي تنجيزي
وحكم العقل حكم كلى تعليقي.
وكيف كان فيمكن أن يقال: إن قضية حجية العام المخصص بالدليل العقلي
بالنسبة إلى الفرد المشكوك دخوله في عنوان المخصص استكشاف عدم تحقق
عنوان المخصص في أفراد العام، وإلا لما علق الحكم على عنوان العام، ففي مثل
" لعن الله بني أمية قاطبة " مع أن العقل حاكم بعدم جواز لعن المؤمن يستكشف
العقل بأنه ليس فيهم مؤمن من جهة ترتيب القياس، وهو أن الشخص المشكوك
إيمانه يجوز لعنه بمقتضى العموم، ولو كان مؤمنا لما جاز لعنه، فينتج أنه ليس
مؤمنا، فتأمل.
ثم لا يخفى أن الفرد المشكوك دخوله في عنوان الخاص لا يمكن دخوله في
عنوان المخصص، لأن الشك في دخوله في عنوان المخصص شبهة موضوعية
379

صرفة فكما أنه لا يجوز التمسك ب‍ " أكرم العلماء " على وجوب إكرام من شك في
كونه عالما كذلك لا يجوز التمسك ب‍ " لا تكرم الفساق " على حرمة إكرام من شك
في كونه فاسقا. وكذلك لا يمكن دخوله تحت العام، لما عرفت من الوجه في عدم
جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.
وحاصله: أن المخصص المنفصل اللفظي حجة من قبل المولى كالعام، فهناك
حجتان من طرف المولى، ولا نعلم بدخول المشكوك في أيهما فلابد من الرجوع
إلى عموم الفوق لو كان، وإلا فإلى الأصول العملية. وقد عرفت أن الأصول
الموضوعية مقدمة على الأصول الحكمية، فما دامت الأصول الموضوعية جارية
لا تصل النوبة إلى جريان الأصول الحكمية، لأن نسبتها إليها نسبة الورود أو
الحكومة.
فعلى هذا إذا خصص العام بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل - إن جعلناه
من المخصص المتصل - لما لم يصر العام معنونا بعنوان خاص ولم نحتج في ترتب
حكم العام غير نفي عنوان المخصص عن العام الذي هو لازم تضييق دائرة العموم
بواسطة ورود المخصص عليه، ففي مثل " أكرم العلماء " المخصص بقوله: " لا تكرم
الفساق منهم " من يجب إكرامه هو العالم المنفي عنه الفسق، وهكذا في غيره من
الأمثلة يمكن لنا إجراء أصل موضوعي بالنسبة إلى الفرد المشكوك غالبا وإدخاله
تحت العموم وترتيب حكم العام عليه وإن لم يجز التمسك بالعموم بالنسبة إليه
بدون إجراء ذلك الأصل الموضوعي المنقح لموضوع العام، بلا فرق بين ما كانت
حالته السابقة معلومة وشك في تبدلها كما في استصحاب عدم الفسق الذي به
يحرز عنوان العام وهو العالم المنفي عنه الفسق أو لم تكن حالته السابقة على
زمان الشك بعد وجوده معلومة كما في " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء "
المخصص بماء القليل بأدلة انفعاله، وكما في الشرط جائز بين المسلمين
المخصص بالشرط المخالف للكتاب وكما في: " كل امرأة ترى الحمرة إلى
خمسين سنة " المخصص بالقرشية، فإن الماء المشكوكة القلة والكثرة التي لم تكن
مسبوقة بالقلة، وكذا الشرط المشكوك كونه مخالفا للكتاب الذي لم يكن مسبوقا
380

بالمخالفة، وكذا المرأة التي لم تعلم أنها وجدت منتسبة إلى قريش أو غير منتسبة
إليه من أول وجودها يمكن إجراء ذلك الأصل الموضوعي فيها بأن يقال: إن هذا
الماء قبل وجودها لم تكن متصفة بالقلة، وكل من وجودها ووصف قلتها حادث
فيستصحب عدم أزلي القلة السابق على وجود الماء، وأن هذا الشرط قبل
وجودها لم يكن مخالفا للكتاب فكذلك بعده، وكذلك هذه المرأة قبل وجودها لم
تكن منتسبة إلى قريش فكذلك بعد وجودها، لأن كلا من الموصوف والوصف
حادث مسبوق بالعدم الأزلي وانتقاض العدم الأزلي بالنسبة إلى الموصوف لا
يمنع عن جريان استصحابه بالنسبة إلى الوصف، فكما أن كلا من الجسم وسواده
مسبوق بالعدم الأزلي فإذا وجد الجسم وانتقض عدمه الأزلي بالوجود وشك في
سواده وبياضه لا مانع من استصحاب عدم السواد، كذلك كل من وجود المرأة
وانتسابها إلى قريشي حادث مسبوق بالعدم، فبعد وجودها والشك في تحقق
انتسابها إلى قريش يستصحب عدم الانتساب.
ولكن يرد عليه تارة بأن هذا الأصل معارض، لأن المرأة حين وجودها إما
وجدت قرشية أو غير قرشية، فاستصحاب عدم انتسابها إلى قريش الذي كان في
الأزل معارض باستصحاب عدم انتسابها إلى غير قريش الذي كان في الأزل
أيضا، وأخرى بأن الأصل يكون مثبتا من جهة أن الأثر مترتب على عدم انتساب
هذه المرأة إلى قريش الذي هو مفاد " ليس " الناقصة والمستصحب هو مفاد
" ليس " التامة، فلا يجدي استصحاب عدم تحقق الانتساب إلى قريش في الأزل
الذي هو عدم محمولي ومفاد " ليس " التامة في ترتيب الأثر على عدم انتساب
هذه المرأة إلى قريش الذي هو عدم ربطي، ومفاد " ليس " الناقصة إلا على القول
بحجية الأصل المثبت. ويمكن دفع المعارضة بأن أصالة عدم الانتساب إلى غير
قريش لا تعارض أصالة عدم الانتساب إلى قريش إذ لا يترتب على أصالة عدم
الانتساب إلى غير قريش أثر حتى تعارض مع أصالة عدم الانتساب إلى قريش.
ويمكن دفع إشكال المثبتية بأنه بعد ما عرفت أن موضوع حكم العام هو
عنوان العام المنفي عنه عنوان الخاص، فيكفي في ترتب حكم العام سلب عنوان
381

الخاص بأي نحو كان، سواء كان السلب ربطيا أو محموليا، فتأمل.
ربما يظهر من بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد لا من جهة
التخصيص، بل من جهة أخرى كما إذا شك في صحة الوضوء بمائع مضاف
فيستكشف صحته بعموم مثل: " أوفوا بالنذر " فيما إذا وقع متعلقا للنذر ونحوه بأن
يقال: يجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر وكل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون
صحيحا، لأنه لو لم يكن صحيحا لما وجب الوفاء به.
وفيه: أنه إن أراد هذا البعض أنه إذا شك في حكم كلي طبيعية من حيث
الحلية والحرمة والصحة وعدمها يمكن اثبات حكم كلي هذه الطبيعة من الحلية
والحرمة والصحة والفساد بعموم: " أوفوا بالنذر " فيما تعلق النذر بفعلها أو تركها.
فإذا تعلق بفعلها يصير حلالا، وإذا تعلق النذر بتركها فيصير حراما. فهذا القول من
السخافة بمكان لا ينبغي أن يذكر، لأنه موجب لسد باب البراءة وسائر الأصول، إذ
يمكن رفع الشك في تمام موارد الشك في الحلية والحرمة وغيرهما بتعلق النذر
بفعله فيصير واجبا أو بتركه فيصير حراما، ولأن يكون امر الحكم الشرعي بيد
المكلف فيحلل شيئا شك في حليته بتعلق النذر بفعله ويحرم شيئا شك في حرمته
بتعلق النذر بتركه وإن أراد إثبات حكم خصوص المورد الذي تعلق النذر به كما
إذا شك في جواز شيء وعدمه وقلنا بأن الخارج عن عموم الوفاء بالنذر هو ما لم
يكن بجائز.
أو إذا شك في رجحانه وعدم رجحانه وقلنا بأن الخارج عن عموم " أوفوا
بالنذر " هو لم يكن براجح، وهكذا فلا ينبغي أن ينكر هذا القول بناء على القول
بجواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية، لأنه عين التمسك بالعموم في
الشبهات المصداقية والظاهر إرادة هذا الاحتمال الأخير كما يؤيده التأييد بمسالة
نذر الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات فإنه بنذر الصوم في السفر والإحرام
قبل الميقات لا يشرع الصوم والإحرام إلا في مورد النذر لا طبيعة الصوم في السفر
والإحرام قبل الميقات.
ولكن في أصل المطلب ما تقدم في التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية
382

وفي التأييد أيضا أن جواز الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات إنما هو من
جهة دليل خاص كاشف عن رجحانهما ذاتا وإنما لم يأمر الشارع بهما وجوبا أو
استحبابا لمانع يرتفع بالنذر، وإما لصيرورتهما راجحين بتعلق النذر لو قلنا بكفاية
الرجحان الناشئ من قبل النذر في صحة تعلق النذر لو لم نقل بتخصيص أدلة
اعتبار الرجحان في متعلق النذر بهذا الدليل. ويؤيد أن الجواز في المقامين إنما هو
من جهة الدليل الخاص لا من جهة عموم الوفاء بالنذر أن التمسك بهذا العموم إنما
يجوز بناء على هذا القول فيما إذا شك في الجواز وعدمه لا فيما إذا قطع بحرمته
ولعل الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بدون النذر يكونان محرمين كما
يستظهر من بعض الأخبار (1) فراجع وتأمل.
ثم إنه إذا شك في فردية فرد للعام مع العلم بخروجه عن حكم العام كما إذا
علم أن زيدا محرم الإكرام ولا يعلم أنه خرج عن عموم " أكرم العلماء " تخصيصا
أي أنه من أفراد العلماء ولكنه خرج عن حكمهم أو تخصصا أي أنه ليس من أفراد
العلماء، فهل يجوز التمسك بأصالة العموم والحكم بأن خروجه من باب التخصص
وترتيب آثار غير العالم عليه لو كان حكم مترتبا على غير العالم غير هذا الحكم
لأن ترتيب هذا الحكم - أعني حرمة الإكرام - عليه يقيني، سواء كان خروجه من
باب التخصيص أو التخصص، وإنما فائدة التمسك بأصالة العموم وعدم التمسك به
يظهر في غير هذا الحكم، فإن كان خروجه من باب التخصيص يترتب عليه بقية
أحكام العالم، ولا يترتب عليه بقية أحكام غير العالم. وإن كان من باب التخصص
يصير الأمر بالعكس، فيه: إشكال، لأن التمسك بأصالة [العموم] إنما ثبت بالسيرة
وبناء العقلاء فيما إذا شك في خروج فرد من العام من باب التخصيص، وأما إذا
كان الشك من غير هذه الجهة فلم يثبت بناء العقلاء.

(1) وسائل الشيعة: ب 10 و 11 من أبواب من يصح منه الصوم ج 7 ص 139 - 142، ووسائل
الشيعة: ب 9 و 11 من أبواب المواقيت ج 8 ص 231 و 233.
383

فصل
هل يجوز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص أم لا؟
فيه خلاف، والبحث عن وجوب الفحص عن المخصص من جزئيات الفحص
عن المعارض الأقوى وإن عنونوه على حدة، إلا أنه لا خصوصية له.
وكيف كان الكلام أولا في وجوب الفحص وعدمه، وثانيا في مقدار الفحص
على تقدير وجوبه.
أما الكلام في وجوب الفحص وعدمه: فقد استدل على وجوبه بوجوه:
أحدها: الإجماع على لزوم الفحص وعدم جواز العمل بالعموم قبله.
وفيه أن الإجماع على تقدير تسليمه ليس إجماعا تعبديا يكشف عن رأي
المعصوم وليس اتفاقهم على لزوم الفحص من حيث إنهم متدينون حتى يكشف
عن رضا المعصوم، بل من حيث إنهم عقلاء فلا عبرة به.
ثانيها: معرضية العمومات الواردة في الكتاب والسنة للتخصيص، فكل عام
صدر من كل متكلم كان غالب عموماته في معرض التخصيص بأن يذكر عاما ثم
يذكر مخصصه في مقام آخر كما في عمومات الكتاب والسنة لا يجوز العمل به
قبل الفحص.
وأما لو لم يكن كذلك - كما في غالب العمومات الواقعة في السنة أهل
384

المحاورة - يجوز العمل به قبل الفحص والوجه في عدم الجواز في الأول قبل
الفحص وجواز العمل به قبله في الثاني هو قيام سيرة العقلاء في الموضعين، ولا
فرق في أن معرضية العام للتخصيص يوجب سقوط العام عن الحجية قبل الفحص
بين المخصص المتصل المحتمل وجوده في الكلام وسقوطه من جهة العوارض
وبين المخصص المنفصل إذا كانت المعرضية بالنسبة إلى كليهما وأمكن إخراج
العام عن المعرضية بالفحص في كليهما، إلا أن الكلام في المخصص المتصل أولا
في تحقق هذه المعرضية (1) إلى عمومات الكتاب والسنة، وثانيا في إمكان رفع
هذه الشبهة بالفحص بالكلام مثل القرائن الحالية والمقامية التي لا يمكن بالفحص
الاطلاع عليها.
والحاصل: هو أنه لما كانت بناء متكلمينا صلوات الله عليهم على ذكر العام
في مقام وذكر مخصصه في مقام آخر غالبا، فبمجرد الاطلاع على عام لا يجوز
العمل به ما لم يبحث عن مخصصه.
ثالثها: العلم الإجمالي بوجود مخصصات كثيرة لهذه العمومات الواردة في
الكتاب والسنة، وهو يمنع العمل بها قبل الفحص.
وربما أشكل عليه بأن العلم الإجمالي إن أوجب الفحص فما دام العلم
الإجمالي لم ينحل لا يجوز العمل بالعام ولو بعد الفحص، لأن أثر العلم الإجمالي
باق، وإن انحل العلم الإجمالي فلا مقتضي للفحص بعد انحلاله فأول شروع الفقيه
في الاستنباط من أول كتاب الطهارة - مثلا - إذا اطلع على عمومات وتفحص عن
مخصصاتها فما لم يطلع على المخصصات بمقدار معلومه بالإجمال لا يجوز
العمل بتلك العمومات التي تفحص عن مخصصاتها ولم يطلع عليها، وبعد اطلاعه
على المخصصات بمقداره يجوز له العمل بالعمومات ولو قبل الفحص عن
مخصصاتها، والحال أنه ليس الأمر كذلك، بل حال الفقيه من أول الفقه إلى آخره
على وتيرة واحدة كما لا يعمل بالعمومات قبل الفحص في أول الفقه كذلك في

(1) من هنا توجد بعض الكلمات الممسوحة في النسخة فلتلاحظ.
385

آخر الفقه، وكما يجوز له العمل بالعمومات بعد الفحص في آخر الفقه كذلك في
أول الفقه أيضا.
ويمكن دفع الإشكال: إما عن جواز العمل بالعمومات التي تفحص عن
مخصصاتها ولم يطلع عليها فبأنه كما يرتفع أثر العلم الإجمالي بالانحلال كذلك
يرتفع بخروج المورد المشتبه عن أطراف المعلوم بالإجمال، وذلك فيما إذا كانت
أطراف المعلوم بالإجمال معلمة بعلامة واشتبهت هذه الأطراف المعلمة المعلومة
بالإجمال بغيرها بواسطة العوارض الخارجية الموجبة لاختفاء علامتها.
فهنا شبهتان، ذاتية وهي مخصوصة بأطراف المعلوم بالإجمال المعلمة بعلامة
مخصوصة، وعرضية وهي ليست مخصوصة بها، بل تعمها وغيرها مما اشتبهت بها
بواسطة العوارض الخارجية واختفاء علامتها، لأنها مشتبهة بالمشتبه، والمشتبه
بالمشتبه مشتبه. فإذا زالت الشبهة العرضية من جهة الفحص أو غيرها وتبين أن
هذا الفرد المشتبه ليس من أطراف العلم الإجمالي المعلمة بعلامة مخصوصة فلا
يترتب عليه آثار المعلوم بالإجمال.
ولو فرض كونه مشتبها مع خروجه عن أطراف المعلوم بالإجمال يترتب
عليه آثار الشبهة البدوية لا الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، مثلا إذا علمنا إجمالا
بحرمة عشر شياة في طائفة البيض من قطيع الغنم، وكان غير البيض إما معلوم
الحلية أو مشتبها بالشبهة البدوية فالعلم الإجمالي يقتضى وجوب الاجتناب عن
البيض لا عن غيرها وإذا اشتبهت البيض من قطيع بالسود من جهة الظلمة ونحوها
يجب الاجتناب عن الجميع بواسطة هذه الشبهة العرضية، وإذا زالت هذه الشبهة
العرضية من جهة الضياء ونحوه وعلم أن هذا الفرد ليس من البيض يخرج عن
طرفية المعلوم بالإجمال، ولا يجب الاجتناب عنه وإن كان مشتبها بالشبهة
البدوية، وكذا لو كان الإناءان المعلوم نجاسة أحدهما إجمالا معلمين بعلامة
مخصوصة واشتبها بغيرهما من جهة الظلمة وصارت أطراف العلم الإجمالي
بواسطة هذه الشبهة العرضية أكثر من اثنين، فإذا زالت هذه الشبهة العرضية من
386

جهة الضياء ونحوه وعلم أن هذا الفرد ليس من الأطراف المعلوم بالإجمال
وليس معلما بعلامتها لا يجب الاجتناب عنه، سواء كان معلوم الطهارة أو مشتبها
بالشبهة البدوية.
وما نحن فيه من هذا القبيل لأنا نعلم إجمالا بأن هذه العمومات الواصلة إلينا
بعضها مخصصة بالمخصصات الواردة فيما بأيدينا من الكتب الأربعة مثلا على
اختلاف الأشخاص والأنظار في سعة دائرة العلم الإجمالي وضيقها. فربما يكون
نظر شخص على اختصاص دائرة العلم الإجمالي بخصوص الكافي الذي هو
جامع الكتب الأربعة، وربما يكون نظر آخر على تعميمها إلى الوسائل أيضا،
وثالث على تعميمها إلى البحار أيضا، وهكذا.
وربما يكون نظر آخر على تعميمها إلى غير ما بأيدينا من الكتب والأصول
التي لم تصل الينا بأن تكون نسبة المخصصات إلى ما بأيدينا وإليها على حد سواء
أو يدعى علما إجماليا بوجود المخصصات فيما بأيدينا وعلما إجماليا آخر
بوجود مخصصات أخر في غير ما بأيدينا كما في مثال قطيع الغنم فإنه تارة نعلم
إجمالا بوجود محرم في خصوص البيض منها، وحينئذ إذا تميز البيض عن السود
لا يجب الاجتناب عن السود لخروجها عن الطرفية وأخرى نعلم بوجود المحرم
في تمام القطيع بلا علامة، وحينئذ يجب الاجتناب عن الجميع. وثالثة نعلم بوجود
محرم في خصوص البيض ومحرم آخر نسبته إلى السود والبيض على السواء.
ورابعة نعلم إجمالا بوجود محرم في البيض ونعلم أيضا إجمالا بمحرم في
خصوص السود، وفي هاتين الصورتين أيضا يجب الاجتناب عن الجميع.
ولكن الانصاف أن دائرة العلم الإجمالي ليست بأوسع مما بأيدينا من الكتب
الأربعة، أو بضميمة مثل الوسائل إليها، أو البحار أيضا، أو سائر الكتب المعتبرة من
المجاميع أيضا ولا تعم ما لم تصل إلينا من الكتب والأصول، لأن هذا العلم
الإجمالي حصل من وجود المخصصات فيما بأيدينا فكيف تكون دائرته أوسع
مما بأيدينا؟! والحال أنه لو لا هذه المخصصات التي مما بأيدينا لما علمنا إجمالا
387

بوجود المخصصات فيها فضلا عن غيرها، بل ربما يمكن دعوى القطع بخروج ما
لم تصل إلينا من الكتب والأصول من أطراف العلم الإجمالي بعد التنبه والالتفات
إلى أن كثرة الأخبار ربما لا توجب تكليفا زائدا عما وصلت إلينا ولو فرض العلم
بسقوط أخبار كثيرة وعدم وصولها إلينا لأمكن أن تكون تلك الأخبار الكثيرة
الغير الواصلة إلينا مطابقة لما وصلت إلينا بأن يكون في كل باب ذكر خبران مثلا
عشرين خبر، ويشهد لذلك مراجعة الوسائل بالنسبة إلى الكتب فهل صاحب
الوسائل عقد بابا لم يكن في الكتب الأربعة؟ أو أنه ذكر في المستدرك بابا لم يكن
مذكورا في الوسائل، أو أنه صرف إضافة بعض الأخبار في كل باب زائدا على ما
ذكروه مطابقا له.
والحاصل: أنه لو كان كثرة الأخبار موجبة لزيادة التكليف ربما يمكن دعوى
العلم الاجمالي بوجود مخصصات فيما لم يصل الينا من الأخبار زائدا عما وصل
إلينا، وأما لم تكن كثرة الأخبار موجبة لزيادة التكليف - إذ يمكن أن تكون تلك
الأخبار الساقطة مطابقة لما بأيدينا - فلا يمكن دعوى العلم الإجمالي بوجود
مخصصات في غير ما بأيدينا من الكتب زائدا عما بأيدينا.
وإذا تبين أن دائرة العلم الإجمالي مخصوصة بما بأيدينا من الكتب الأربعة
- مثلا - أو بضميمة الوسائل أيضا أو بضميمة البحار أيضا على اختلاف الأنظار
فإذا شك في عام أنه مخصص أم لا، وتفحص عن مخصصه فيما كان مورد العلم
الإجمالي ولم يطلع على وجود المخصص يخرج هذا العام عن كونه من أطراف
العلم الإجمالي ويجوز العمل به وإن كان العلم الإجمالي باقيا، وأما عن عدم
جواز العمل بالعمومات بدون الفحص بعد انحلال العلم الإجمالي.
ففيه أن الانحلال إنما يتصور فيما كان المعلوم بالإجمال محدودا في
طرف القلة، بحيث يكون ما زاد عليه مشكوكا بالشك البدوي، وهنا ليس كذلك،
إذ ليس للمعلوم بالإجمال حد في طرف القلة بحيث يكون الزائد عليه مشكوكا
بدويا، فتأمل.
388

والحاصل: أنه بالعلم التفصيلي بمقدار من المخصصات لا ينحل العلم
الإجمالي في المقام حتى لا يجب الفحص بالنسبة إلى العمومات التي لم يتفحص
عن مخصصاتها.
رابعها: كون حجية الظواهر من باب الظن، ولا يحصل الظن بأن المراد من
هذه العمومات إرادة معانيها الحقيقية إلا بعد الفحص عن المخصص، هذا تمام
الكلام في أصل وجوب الفحص.
وأما مقداره فيختلف باختلاف المباني، أما بناء على كون المبنى لوجوب
الفحص هو الإجماع فبعد فساد أصل المبنى - عندنا - لا يهمنا بيان مقدار الفحص
على هذا المبنى، وإنما هو على عهدة مدعيه بأن يبين أن مقدار الفحص هو حصول
الظن بعدم المخصص أو القطع بعدمه، أو اليأس من الظفر به، أو يكفي مطلق
الفحص، وأما على كونه هو معرضية العمومات للتخصيص فمقداره خروج هذه
العمومات به عن المعرضية وصيرورتها كسائر العمومات الصادرة عن أهل
المحاورة. وأما بناء على كونه العلم الإجمالي فلا يخفى أن مقدار الفحص هو
خروج الفرد المشكوك عن كونه من أطراف العلم الإجمالي وإن لم ينحل العلم
الإجمالي بالعلم أو العلمي. وأما بناء على كونه الظن فمقداره حصول الظن بإرادة
العموم فتأمل.
ولكن سيجيء الكلام في أصل المبنى في محله إن شاء الله، وهو أن حجية
الظواهر هل هي من الظنون الخاصة أو الظنون المطلقة؟ أو فرق بين من قصد
إفهامه وغيره كما حكي عن المحقق القمي (1)، وأنه يعتبر في حجيتها إفادتها الظن
الفعلي أو يكفي عدم الظن بالخلاف.
والعمدة من الوجوه المذكورة لوجوب الفحص هو العلم الإجمالي، وحاصله:
أنا نعلم إجمالا بوجود مخصصات لهذه العمومات التي بأيدينا، وهذا العلم
الإجمالي يوجب سقوط العمومات عن الحجية بدون الفحص، ومقدار الفحص

(1) حكاه في مطارح الانظار: في العام والخاص ص 201 س 12.
389

اللازم بناء على أن يكون العلم الإجمالي هو الموجب له هو حصول أحد الأمرين:
إما خروج الفرد المشتبه عن الطرفية للعلم الإجمالي وذلك فيما إذا كانت أطراف
الشبهة معلمة بعلامة وعرضت عليها شبهة عرضية كما في الإناءين الأحمرين
الذين نعلم إجمالا بنجاسة أحدهما وطهارة الآخر واشتبها بواسطة الظلمة بإناءين
أبيضين فإن أطراف الشبهة أولا وبالذات الإناءان الأحمران وإنما صار الإناءان
الأبيضان طرفا لها بالعرض، وكما في القطيع الغنم التي نعلم إجمالا بوجود محرم
في السود منها واشتبهت السود والبيض بواسطة الظلمة، فإذا ميزنا الإناءين
الأبيضين عن الأحمرين والسود من الغنم عن البيض يخرج ما كان طرفا للعلم
الإجمالي بالعرض عن الطرفية ويرتفع أثر العلم الإجمالي، بل يرتفع نفس العلم
الإجمالي حقيقة بالنسبة إليه، ولا يجب الاجتناب عنه وإن لم يكن معلوم الحلية أو
الطهارة، بل كان مشتبها بالشبهة البدوية أو بانحلال العلم الإجمالي.
وحينئذ لابد أن يلاحظ أن مدعي العلم الإجمالي بورود المخصصات لهذه
العمومات التي بأيدينا كيف يدعي العلم؟ فإنه يمكن أن يدعي أن لنا علما إجماليا
بوجود المخصصات فيما بأيدينا من الكتب المعتبرة وعلما إجماليا آخر بوجود
مخصصات في غير ما بأيدينا أو نسبته إلى ما بأيدينا وغيره على حد سواء،
ويمكن أن يدعي العلم الإجمالي في خصوص ما بأيدينا بحيث يكون الشك في
وجود المخصصات في غير ما بأيدينا شكا بدويا.
فإن ادعى أن لنا علما إجماليا بوجود المخصصات فيما بأيدينا وعلما
إجماليا آخر في خصوص غير ما بأيدينا أو فيه وفي ما بأيدينا بحيث يكون نسبته
إلى ما بأيدينا وغيره على السواء بأن يكون علم إجمالي دائرته مخصوصة بما
بأيدينا وعلم إجمالي آخر دائرته وسيعة بحيث تشمل ما بأيدينا وغيره، أي يكون
علمان إجماليان أحدهما صغير والآخر كبير، فلا يخرج الفرد المشتبه بالفحص
عن طرفية العلم الإجمالي، لأن مورد الفحص منحصر بما بأيدينا فغايته أن
يتفحص ولم يطلع على وجود المخصص فيما بأيدينا فيحتمل أن يكون في غير ما
390

بأيدينا والفرض أنه أيضا طرف العلم الإجمالي، سواء كان علم إجمالي في
خصوصه أيضا كما في ما بأيدينا أو في الأعم منه ومما بأيدينا، وكذا لو كان علم
إجمالي واحد دائرته أعم مما بأيدينا وغيره فإن الفحص أيضا لا يفيد.
وإن ادعى أن لنا علما إجماليا بوجود المخصصات في خصوص ما بأيدينا،
ولا يكون غيره طرفا للعلم الإجمالي أصلا لا لهذا العلم الإجمالي ولا لعلم
إجمالي آخر مخصوص به - كما هو الحق الذي ينبغي أن يدعى - وأن أطراف
العلم الإجمالي منحصرة بما في أيدينا من الكتب المعتبرة، لأن هذا العلم
الإجمالي حصل من الاطلاع على وجود المخصصات فيما بأيدينا، إذ لو لم نطلع
عليها إجمالا لما حصل العلم الإجمالي بها.
ودعوى أن غير ما بأيدينا أيضا طرف للعلم الإجمالي بأحد الوجوه المذكورة
أي يكون علم إجمالي واحد أطرافه أعم مما بأيدينا وغيره أو علم إجمالي في
خصوص ما بأيدينا وعلم إجمالي آخر في خصوص غيره أو علم إجمالي آخر
في الأعم منه ومن غيره مبنية على أن تكون كثرة الأخبار موجبة لكثرة الأحكام
ويقال: إنا كما نعلم إجمالا بوجود مخصصات فيما بأيدينا من الأخبار كذلك نعلم
بوجودها في الأخبار الكثيرة التي اختفيت علينا.
ولكن قد عرفت أنه على فرض تسليم اختفاء كثير من الأخبار علينا يمكن
منع دعوى العلم الإجمالي في غير ما بأيدينا، لأن كثرة الأخبار لا توجب كثرة
الأحكام، إذ يحتمل أن تكون الأخبار التي اختفيت علينا مطابقة لما في أيدينا من
الأخبار ويحتمل أن يكون مخالفة لها، فلا علم بوجود مخصصات مخالفة لما
بأيدينا، مثلا (أوفوا بالعقود) (1) عام مخصص بقوله: " والبيعان بالخيار ما لم
يفترقا " (2) ففيما بأيدينا اطلعنا على رواية واحدة - مثلا - بهذا المضمون، ويحتمل
أن تكون عشر روايات أخر أيضا بهذا المضمون اختفيت علينا، كما يحتمل أن

(1) المائدة: 1.
(2) وسائل الشيعة: ب 1 من أبواب الخيار ح 3 ج 12 ص 346.
391

تكون بغير هذا المضمون. وهكذا في تمام الأبواب فمجرد العلم باختفاء كثير من
الأخبار لا يوجب العلم الإجمالي بوجود المخصصات في غير ما بأيدينا، من
جهة أن كثرة الأخبار لا توجب كثرة الأحكام إذ يحتمل تطابقها، ولذا لم يعقد
صاحب الوسائل بابا لم يعقده صاحب الكافي - مثلا - إلا قليلا، بل إنما زاد في كل
باب خبرا واحدا أو أكثر على ما ذكره في الكافي مطابقا له. نعم يحتمل أن يكون
في الأخبار التي لم تصل إلينا مخصص آخر غير المخصصات التي في ما بأيدينا.
ولكنه شك بدوي [غير] (1) مقرون بعلم إجمالي.
فعلى هذا إذا تفحصنا في الكتب الأربعة - مثلا - أو في غيرها من الكتب
المعتبرة أيضا وما ظفرنا بوجود مخصص للعام فيها نعمل به. والفحص فيها سهل
في هذه الأزمنة من جهة تبويب الأخبار وذكر كل خبر في بابه.
والحاصل: أن مدعي العلم الإجمالي إن ادعى أن أطرافه منحصر بما في
أيدينا من الكتب المعتبرة وليس في غيرها علم إجمالي فيمكن أن يخرج مورد
الشبهة بالفحص عن الطرفية كما هو الحق، وإن ادعى أن أطرافه أعم مما بأيدينا
وغيره بأحد الوجوه المذكورة فلا يخرج بالفحص عن الطرفية ولا يفيد الفحص.
وأما الانحلال فلا بد أن يعين أولا أن المقدار المتيقن الذي علم به من
المخصصات أي قدر؟ بحيث لا يكون الزائد عليه معلوما وإن كان محتملا فإن كان
المعلوم بالإجمال من المخصصات مثلا عشرين مخصص. فإذا وردنا على عام
فإن علمنا بأنه مخصص فنعمل به وبمخصصه، وإن لم نعلم به فلا نعمل بعمومه،
وهكذا في كل ما وردنا عليه من العمومات حتى نطلع تفصيلا على عشرين
مخصص وبعده نعمل بالعمومات التي ما عملنا بها من جهة الشك في كونها
مخصصة أم لا؟ وغيرها من العمومات التي ما وردنا عليها لانحلال العلم الإجمالي
إلى العلم التفصيلي والشك البدوي لزوال المانع عن العمل بالأصل أي في

(1) في الأصل " لا " بدل " غير ".
392

المشكوك وهو العلم الإجمالي وجريان الأصل في المشكوك البدوي بلا معارض
فيرتفع هنا أيضا أثر العلم الإجمالي، بل نفسه حقيقة سواء كان الانحلال بالعلم أو
بالعلمي كالبينة وأمثالها، فتأمل.
ثم إنه كما يجب الفحص عن المخصص في العمل بالأصول اللفظية كذلك
يجب الفحص عن الدليل في العمل بالأصول العملية، ولكن الفحص في العمل
بالأصول اللفظية إنما هو لرفع المانع من جهة أن العام في نفسه حجة ويجب العمل
به لو لم يكن معارض أقوى منه، وكذلك المطلق حجة في نفسه لو لم يكن له
معارض أقوى منه والفحص إنما هو لرفع المانع وهو المعارض الأقوى بخلاف
الفحص عن الدليل في العمل بالأصول العملية فإنه دخيل في المقتضي، لأن حجية
الأصول العملية مخصوصة بالشاك في الحكم الشرعي المأيوس عن الظفر
بالدليل، وهو لا يتحقق إلا بعد الفحص، ولذا نقول أن الرجوع إلى الأصول العملية
ليس وظيفة العامي إذ هو لا يقدر على تنقيح موضوعها فتأمل.
393

فصل
هل الخطابات الشفاهية مخصوصة بالحاضرين في مجلس التخاطب - والمراد
به إما مجلس نزول الوحي أو مجلس تبليغ النبي (صلى الله عليه وآله) ما نزل على قلبه إلى
الأصحاب كما هو الظاهر، وشموله لتمام المدينة مثلا بعيد - أو يعم الحاضرين
والغائبين الموجودين ولا يشمل المعدومين أو يشمل المعدومين أيضا؟
لا إشكال في أنه إذا كان الخطاب متوجها إلى شخص خاص ك‍ " يا أيها
النبي " (صلى الله عليه وآله وسلم) - مثلا - لا يشمل غيره، ولابد من إثبات اشتراك غيره معه إلى أدلة
الاشتراك في التكليف من الإجماع والأخبار. وإنما النزاع فيما إذا كان الخطاب
بعنوان عام ك‍ " يا أيها الناس " و " يا أيها الذين آمنوا " وأمثالهما. والنزاع في
شمول أمثال هذه الخطابات للمعدومين تارة يحرر على وجه تكون المسألة عقلية
وأخرى على وجه تكون لفظية وثالثة في أن الحكم هل يصح تعلقه بالمعدوم
كالموجود أو لا يصح؟
أما تحرير المسألة على وجه تكون عقلية بأن يقال: هل يصح مخاطبة
المعدوم عقلا، سواء كان الخطاب بأداة الخطاب أو غيرها؟ فالحق أن ما يتوقف
عليه صحة الخطاب عقلا هو الوجود في الجملة في مقابل العدم المطلق، فالمعدوم
المطلق من جميع الجهات وفي تمام الأزمنة لا يصح مخاطبته عقلا، وأما لو كان
معدوما في حال الخطاب ولكن سيصير موجودا بعده فلا مانع من صحة مخاطبته
عقلا لو لم يكن العرض من الخطاب استفادته في الحال، بل إذا وجد أو كان
394

الغرض من الخطاب دواع آخر غير استفادة المخاطب من الخطاب شيئا إذ لو كان
الغرض من الخطاب استفادة المخاطب لا يكفي صرف وجود المخاطب
وحضوره، بل يتوقف على أمور أخر من قابليته للخطاب والتفاته ومعرفته باللغة
التي يخاطب بها، ونحوها من الأمور التي تتوقف الاستفادة في الحال عليها.
وأما لو لم يكن الغرض استفادته في الحال فما هو الممتنع عقلا هو توجيه
الخطاب نحو المعدوم المطلق وأما توجيهه نحو المعدوم في الحال الموجود في
المستقبل فلا مانع عنه عقلا بأن ينزل المعدوم منزلة الموجود ويخاطبه لغرض
الاستفادة من الخطاب في حال وجوده، أو لأغراض أخر كإظهار الاشتياق
وأمثاله كما في خطاب الصادق (عليه السلام) الحجة عجل الله فرجه بقوله: سيدي غيبتك...
إلى آخر. فكما يصح تنزيل غير القابل للخطاب منزلة القابل، وتوجيه الخطاب
نحوه كما في قول الشاعر: أيا جبلي نعمان، ونحوه: كذلك يصح تنزيل المعدوم
منزلة الموجود ومخاطبته إذا لم يكن الغرض منه الاستفادة في الحال.
وأما تحرير المسألة لفظية بأن يقال: أن أداة الخطاب موضوعة لخطاب
الموجود الحاضر وظاهرة فيه، فلو فرض صحة خطاب الغائب أو المعدوم عقلا
لابد مع ذلك من صرف الخطاب إلى الموجودين الحاضرين، من جهة الأخذ
بظهور الأداة.
ففيه: أن أداة الخطاب موضوعة لخطاب من يصح مخاطبته، وإذا لم يكن مانع
عقلا من مخاطبة المعدوم فلا مانع من توجيه الخطاب بهذه الأداة نحوه.
وأما تعلق الحكم بالمعدوم فلا مانع من تعلقه به فيما إذا كان الحكم المجعول
على نحو القضايا الحقيقية التي علق الحكم فيها على موضوعات المحققة
والمقدرة كما في الإنسان حيوان وأمثاله والأحكام الشرعية جلها أو كلها من هذا
القبيل. فكما أن قولنا: " الخمر حرام " يشمل الأفراد الموجودة للخمر والأفراد
المقدرة كذلك الحرمة تعم المكلفين الموجودين فعلا وغيرهم ممن يوجد،
لأن نسبة الحكم إلى متعلقه وهي الخمر في المثال وموضوعه وهو المكلف
395

على حد سواء. فتأمل.
والحاصل: أن المخاطبة لا تقتضي عقلا ولا وضعا أن يكون المخاطب
موجودا في حال الخطاب، وإنما الذي يقتضيه العقل امتناع مخاطبة المعدوم
المطلق، فإذا لم يكن مانع عن مخاطبة المعدوم في حال الخطاب الذي يوجد بعده
فلا مانع من صحة استعمال أداة الخطاب، لأن وضعها لمخاطبة من يصح مخاطبته،
فالمخاطبة مطلقا سواء كانت بأداة الخطاب أو لا لا يعتبر فيها عقلا ولا وضعا
وجود المخاطب في الحال.
نعم لما كانت المخاطبة لأغراض مثل إفهام المخاطب واستفادته من الخطاب
وإظهار الاشتياق والتلهف والتحسر وأمثالها كما أن الإنشاء يكون لأغراض مثل
بعث المخاطب إلى فعل المبعوث إليه والتعجيز والتسخير والتحكم وأمثالها،
ويكون لإفهام المخاطب تعين بالنسبة إلى سائر الأغراض الأخر كما أن للبعث
تعين بالنسبة إلى الأغراض الأخر التي يصدر الأمر لأجلها اقتضى إطلاق
الخطاب وجود المخاطب في الحال، بل لا يكفي صرف وجوده ولابد من حضوره
أيضا، بل لا يكفي صرف حضوره ولابد من كونه ملتفتا عارفا باللغة التي تخاطب
بها وغيرها من الأمور التي يتوقف استفادة المخاطب عليها، كما أن إطلاق الأمر
يقتضي أن يكون الأمر لغرض البعث والتحريك، ويعتبر في المخاطب قدرته على
المبعوث إليه وغيرها من الأمور المعتبرة في البعث.
والحال أنه لو كان الأمر لغير البعث من سائر الأغراض لا يعتبر في المأمور
القدرة وغيرها من الأمور المعتبرة في البعث. وهذا الظهور إطلاقي حيث إنا نفهم
من إطلاق قول القائل: " يا فلان " أن المخاطب موجود حاضر قابل للإفهام عارف
باللغة وملتفت، كما أنا نفهم من إطلاق " أفعل كذا " أن فعل المأمور به هو المبعوث،
وأن الأمر صدر لغرض البعث لا لسائر الأغراض والظهور الاطلاقي يصير
محكوما ويرفع اليد عنه بأدنى ظهور على خلافه، فإذا كان اللفظ الذي أخذ في
عنوان الخطاب قابلا للموجود فعلا وللمعدوم الذي سيوجد ك‍ " يا أيها الناس " و
396

" يا أيها الذين آمنوا " وأمثالهما، فيرفع اليد عن الظهور الإطلاقي ويعم الجميع.
فتحصل: أنه لا مانع من شمول الخطاب سواء كان بأداة الخطاب أو بدونها
للمعدومين الذين يوجدون بعد الخطاب عقلا ولا وضعا، وإنما ينصرف إطلاق
الخطاب إلى الموجودين لو لم يكن مانع عن إطلاقه.
وأما الحكم فأولا: أنه لا ملازمة بين أن يكون الخطاب مخصوصا بشخص
خاص أو أشخاص خاصة، والحكم عاما بالنسبة إلى غيرهم كما هو المتعارف في
الأوامر العرفية الصادرة من الموالي إلى العبيد أو الآباء بالنسبة إلى الأولاد أو
الحكومة بالنسبة إلى الرعية، فإنهم ربما يخاطبون أشخاصا خاصة، والحال أن
الحكم الذي يوجهونه إليهم لا يخصهم، بل يعمهم وغيرهم.
وثانيا: أن الحكم المعلق على عنوان يصدق على الموجود والمعدوم عند
وجوده كما هو الحال في الأحكام الشرعية التي من قبيل القضايا الحقيقية كما
يشمل الموجودين يشمل المعدومين أيضا كما أن متعلق الخطاب في مثل: " لا
تشرب الخمر " يشمل الخمور الموجودة في حال الخطاب وغيرها مما توجد بعد،
لأن الحكم تعلق بالخمر المحققة الوجود والمقدرة الوجود كذلك بالنسبة إلى
موضوع الخطاب وهو المكلف.
ثم إنهم ذكروا لشمول الخطاب للمعدومين وعدم شموله لهم ثمرتين.
إحداهما: أنه بناء على شمول الخطاب لهم تكون الظواهر حجة لهم ويكون
المتبع هو فهمهم من تلك الخطابات، وبناء على عدم الشمول لا تكون تلك
الظواهر حجة لهم ويكون المتبع هو فهم الموجودين الحاضرين لا فهمهم. وقد
حكيت هذه الثمرة عن المحقق القمي (1) القائل بأن حجية الظواهر بالنسبة إلى من
قصد إفهامه من باب الظن الخاص وبالنسبة إلى غيره من باب الظن المطلق الثابت
اعتباره بدليل الانسداد، ويكون المدار فيه على الظن الشخصي دون الظن النوعي.
ولا يخفى أن هذه الثمرة موقوفة على كون المشافهين فقط مقصودين

(1) قوانين الأصول: ج 1 في العموم والخصوص ص 233 س 16.
397

بالإفهام، وكون حجية الظواهر مخصوصة بالمقصودين بالإفهام. والصغرى
والكبرى ممنوعتان: أما الصغرى فلأن المقصود بالإفهام ليس خصوص
المخاطبين المشافهين، بل يعمهم وغيرهم من المعدومين، وأما الكبرى فلأن
حجية الظواهر ليست مخصوصة بخصوص من قصد إفهامه، ولذا لو أقر شخص
عند شخص خفية، أو أوصى كذلك وتسمع شخص آخر غير من قصد إفهامه يشهد
عليه لظاهر إقراره ووصيته ولو لم تكن الظواهر حجة مطلقا لم يكن وجه للشهادة
عليه بإقراره عند غيره مع عدم كونه مقصودا بالإفهام.
الثانية: أنه بناء على شمول الخطابات الشفاهية للمعدومين يمكن التمسك
بإطلاق الخطابات القرآنية المتكفلة للأحكام لإثباتها للمعدومين وإن كانوا
مخالفين للموجودين في الصنف وبناء على عدم الشمول لا يمكن التمسك بتلك
الخطابات لإثبات هذه الأحكام للمعدومين، بل لابد من إثباتها لهم بدليل خارج
من الإجماع على الاشتراك في التكليف وغيره، وحيث لا إجماع على الاشتراك
في التكليف إلا مع الاتحاد في الصنف فلا يمكن تسرية تلك الأحكام إليهم إلا مع
إحراز الاتحاد في الصنف، ومع عدم إحرازه لا تثبت تلك الأحكام لهم، فيلزم أن
لا يكون غالب الأحكام أو أغلبها ثابتا لهم.
ولكن لا يخفى أن الخصوصيات الموجبة لتعدد الصنف كثيرة مثل كون
المشافهين من العرب أو من أهل المدينة أو من قبيلة مخصوصة، أو كونهم
حاضرين في خدمة النبي (صلى الله عليه وآله) وغيرها من الخصوصيات، ولا شك أن المراد من
الاتحاد في الصنف - الذي هو المعتبر في الاشتراك في التكليف - ليس الاتحاد في
تمام تلك الخصوصيات التي كان المشافهون واجدين لها، بل المراد منه هو اتحاد
المعدومين معهم في الخصوصيات التي لها ودخل في الحكم، إذ الخصوصيات
التي لا دخل لها في الحكم وجودها وعدمها سيان.
وحينئذ نقول: الخصوصية تارة نعلم أن لها دخلا في الحكم، وأخرى نعلم أنه
398

لا دخل لها فيه، وثالثة نشك في دخلها وعدم دخلها فيه، فإن كانت الخصوصية
مما نعلم بدخلها في الحكم فلا إشكال في أن المعدومين إذا وجدوا وكانوا واجدين
لتلك الخصوصية يثبت لهم هذا الحكم، سواء قلنا بشمول الخطابات للمعدومين أم
لا؟ لأنه بناء على الشمول نفس ذلك الخطاب يدل على ثبوت هذا الحكم، وبناء
عل عدم الشمول الإجماع الدال على الاشتراك في التكليف يدل على ثبوته لهم
وإن كانوا فاقدين لتلك الخصوصية فلا يثبت هذا الحكم لهم، سواء قلنا بشمول
الخطابات لهم أو عدم شمولها لهم، لأن هذا الحكم إنما ثبت لمن كان واجدا لتلك
الخصوصية وغير الواجد لا يثبت له هذا الحكم، سواء كان مشمولا للخطاب أم لا؟
مثلا وجوب الحج إنما ثبت لعنوان المكلف البالغ العاقل المستطيع فإن وجد
المعدوم وصار بالغا عاقلا مستطيعا يجب عليه الحج، سواء قلنا بشمول قوله
تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا) (1) للمعدومين أم لا؟
أما بناء على القول بالشمول فنفس الآية تدل على وجوبه عليهم، وأما بناء
على عدم الشمول فالإجماع يدل على وجوبه عليهم وإن وجد المعدوم ومن صار
بالغا عاقلا مستطيعا لا يجب عليه الحج سواء قلنا بالشمول أم لا، لأن هذا الحكم
إنما ثبت لمن اتصف بالبلوغ والعقل والاستطاعة فلا يثبت لفاقد هذه الأوصاف
ولو كان موجودا في زمن الخطاب، ويثبت لواجدها ولو كان معدوما في زمن
الخطاب وإن كانت الخصوصية مما نعلم بعدم دخلها في الحكم فلا إشكال أيضا
في ثبوت الحكم الثابت للموجودين المتخصصين بتلك الخصوصية التي نعلم بعدم
دخلها في الحكم للمعدومين، سواء قلنا بشمول الخطاب لهم أم لا، أما بناء على
الشمول فبنفس الخطاب يثبت لهم الحكم، وأما بناء على عدم الشمول فبالإجماع.
وإن كانت الخصوصية مما نشك في دخلها في الحكم وعدم دخلها فيه فإن
كان المعدومون أيضا واجدين لتلك الخصوصية فلا شبهة في ثبوت الحكم في

(1) آل عمران: 97.
399

حقهم، سواء قلنا بشمول الخطاب لهم أم لا، وإن كانوا فاقدين لها فإن أمكن
التمسك بإطلاق الخطاب لعدم دخل تلك الخصوصية في الحكم فلا شبهة أيضا في
ثبوت هذا الحكم لهم، سواء قلنا بشمول الخطاب لهم أم لا، وإن لم يمكن التمسك
بأصالة الإطلاق لعدم دخلها في الحكم فلا شبهة في عدم ثبوت هذا الحكم لفاقد
الخصوصية المشكوكة اعتبارها فيه، سواء قلنا بشمول الخطاب له أم لا.
فظهر أن هذه الثمرة أيضا ليست ثمرة لهذا النزاع، ولا يكون له ثمرة إلا على
القول باختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه وكون غير المشافهين غير
مقصودين بالإفهام، وفيه ما عرفت من منع الصغرى والكبرى.
400

فصل
إذا كان عام موضوعا لحكم في جملة وتعقبت تلك الجملة لجملة أخرى
مشتملة على ضمير يعود إلى بعض أفراد ذلك العام فهل يوجب ذلك تخصيص
العام أم لا كما في قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن) - إلى قوله -
(وبعولتهن أحق بردهن) (1) فيه خلاف.
والحق أنه إذا دار الأمر بين التصرف في العام أو تخصيصه بإرادة خصوص ما
أريد من الضمير الراجع إليه أو التصرف في الضمير إما بالاستخدام بأن يراد من
الضمير بعض ما أريد من مرجعه، أو بالتوسع في الإسناد بأن يسند الحكم الثابت
لبعض أفراد العام إلى تمامه تجوزا كانت أصالة الظهور في طرف العام سالمة عنها
في طرف الضمير، لأن المتيقن من بناء العقلاء هو اتباع الظهور في تعيين المراد لا
في كيفية الإرادة، وأنها على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الإسناد مع القطع
بما يراد.
والحاصل: أنه إذا دار الأمر بين التصرف في العام وتخصيصه ببعض أفراده
والتصرف في الضمير بأحد الوجهين السابقين التصرف في الضمير وابقاء العام
على عمومه مقدم على التصرف في العام، لوجود أصل مرادي أصيل في طرف
العام وهي اصالة العموم وعدم التخصيص المتيقن اعتبارها عند الشك في المراد

(1) البقرة: 228.
401

بخلاف الضمير فإنه لا أصل كذلك في طرف الضمير مع تيقن المراد منه والشك
في كيفية الإرادة، إذ أصالة العموم وأمثالها من الأصول المرادية إنما تجري
في مورد الشك في المراد وأما مع تيقن المراد والشك في كيفية الإرادة فجريانها
غير معلوم.
402

فصل
اتفقوا على جواز تخصيص العام بمفهوم الموافقة كما إذا قال: لا تكرم الفساق
وأكرم خدام الفساق من العلماء فإنه يستفاد من قوله: أكرم خدام الفساق من
العلماء أن إكرام أنفسهم واجب بطريق أولى فيكون قوله: أكرم خدام الفساق من
العلماء بمنزلة: أكرم الفساق من العلماء، ولا شك أنه أخص وأظهر من قوله:
لا تكرم الفساق فيكون مخصصا له، إلا أن يمنع أظهرية: أكرم خدام الفساق من
العلماء من قوله: لا تكرم الفساق مع تسليم أظهرية أكرم الفساق من العلماء بالنسبة
إلى قوله: لا تكرم الفساق.
وبعبارة أخرى يمنع كون قوله: أكرم خدام الفساق من العلماء لبيان حد الأقل
أو الأكثر، وإنما اختلفوا في جواز تخصيص العام بمفهوم المخالفة على قولين:
أحدهما: تقديم العام وعدم تخصيصه بالمفهوم من جهة أن دلالة العام على
العموم بالمنطوق وهو أقوى من الدلالة المفهومية، فلا يجوز رفع اليد عن الأقوى
بواسطة الأضعف.
وفيه: أن المفهوم إنما ينشأ من خصوصية في المنطوق وبواسطة تلك
الخصوصية المأخوذة في المنطوق يستتبعه المفهوم، ففي الحقيقة التعارض بين
المنطوقين لا بين المفهوم والمنطوق. وعلى تقدير تسليمه لا نسلم أقوائية الدلالة
المنطوقية بالنسبة إلى الدلالة المفهومية مطلقا، بل ربما يختلف باختلاف الموارد
والمقامات، ولذلك قدموا مفهوم قوله (عليه السلام): " الماء إذا كان قدر كر لا ينجسه
403

شيء " (1) على عموم قوله: " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء... إلى آخره " (2).
الثاني: تقديم المفهوم وتخصيص العام به من جهة أقوائية الخاص بالنسبة
إلى العام.
وفيه: منع أقوائية الخاص مطلقا، لأنه يمكن أن يكون العام أقوى من الخاص
في بعض الموارد فتدبر.
والحق هو أن العام والمفهوم إذا كانا في كلام واحد أو كلامين بحيث يمكن أن
يكون كل منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر ودار الأمر بين تخصيص العام
والغاء المفهوم فالدلالة على كل منهما إن كانت بالاطلاق ومعونة مقدمات الحكمة
أو بالوضع فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في
واحد منهما لأجل المزاحمة كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعا لظهور الآخر،
فلابد حينئذ من الرجوع إلى الأصول العملية. هذا إذا لم يكن أحدهما اظهر، وإلا
كان هو مانعا عن انعقاد الظهور في الآخر ويجب الأخذ به والتصرف في الآخر.
والحاصل: أن ما له المفهوم إن كان متصلا بالعام يصير حالهما كحال القرينة
وذي القرينة، ولابد من ملاحظة أن أيهما أظهر مثل " أسد يرمي " فإن لفظ " أسد "
ظاهر في الحيوان المفترس ولفظ " يرمي " ظاهر في رمي النبل، وبواسطة أظهرية
لفظ " يرمي " في رمي النبل من لفظ " أسد " في الحيوان المفترس يرفع اليد عن
ظهوره ويحمل على الرجل الشجاع، وكذا في مثل رأيت أسدا في الحمام بخلاف
رأيت أسدا في السوق، فإن ظهور القرينة ليس بمثابة ظهورها في المثالين
الأولين، فإن كان أحدهما أظهر فيوجب عدم انعقاد الظهور في الآخر، سواء كان
دلالة كل منهما بالوضع أو بمقدمات الحكمة وإن كان الظهوران متكافئين فيصيران
مجملين لاكتناف الكلام بما يصلح للقرينة بالنسبة إلى كل منهما ولابد من الرجوع
إلى الأصول العملية.

(1) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب الماء المطلق ج 1 ح 1 ص 117.
(2) وسائل الشيعة: ب 2 من أبواب الماء المطلق ج 1 ح 9 ص 101.
404

وإن كان منفصلا عن العام وانعقد الظهور في كل منهما فالتعارض إنما هو بين
الحجتين، فإن كانت إحداهما أقوى فيؤخذ بما هو الأقوى والأظهر، وإلا فيصيران
مجملين، ولابد أيضا من الرجوع إلى الأصول العملية.
والحاصل: أن المدار على الأظهرية في صورتي الاتصال والانفصال، وهي
تختلف باختلاف الموارد والخصوصيات فربما يكون العام أظهر وربما يكون
الأمر بالعكس وإن كان بين الصورتين فرق من حيث عدم انعقاد الظهور في
أحدهما أو كليهما، لو لم يكن أحدهما في الصورة الأولى أظهر، بخلاف الصورة
الثانية فإن الظهور فيهما انعقد وتم والتعارض بينهما في الحجية.
405

فصل
اختلفوا في المخصص المتعقب لجمل متعددة، سواء كان استثناء أو غيرها من
المخصصات المتصلة كالوصف والبدل وأمثالهما في أن ظاهره الرجوع إلى
الجميع، أو إلى خصوص الأخيرة، أو لا ظهور له في أحدهما، ولابد في التعيين من
قرينة خارجية بعد الاتفاق على أن الأخيرة مخصصة على كل حال. وعلى صحة
رجوعه إلى الكل والرجوع إلى الكل يحتمل أن يكون على سبيل التوزيع بأن
يخرج المخصص من جميع الجمل كما إذا قال: " أكرم العلماء وأضف الشعراء
وأعط الفقراء إلا عشرة " فتخرج العشرة من تمام الجمل، ويحتمل أن يكون على
سبيل الاستقلال بأن تخرج العشرة من كل واحدة من الجمل.
فعلى الأول يكون تمام الجمل بمنزلة العام المجموعي وأخرج المخصص من
مجموعها، وعلى الثاني يكون بمنزلة العام الاستيعابي وأخرج المخصص من كل
واحدة منها على سبيل الاستقلال مع قطع النظر عن الثاني.
والحاصل: أن الاستثناء المتعقب لجمل متعددة كما أنه ظاهر في الرجوع إلى
الأخيرة ظاهر في رجوعه إلى غيرها من الجمل المتقدمة مطلقا، أي سواء كانت
تلك الجمل متوافقة في الحكم والايجاب والسلب، أو متخالفة، أو ليس له ظهور
في رجوعه إلى غير الجملة الأخيرة.
والكلام هنا تارة في إمكانه، وأخرى في وقوعه.
أما إمكانه فيتصور على أحد الوجوه الثلاثة: أما بأن يكون المستثنى مشتركا
406

لفظيا كلفظ " زيد " مثلا وكان في كل واحد من الجمل المتعددة مسمى بزيد كأن
يقول: أكرم العلماء وأضف الشعراء وأعط الفقراء إلا زيدا، وكان في كل واحد من
الجمل مسمى بزيد، أو كان المستثنى من باب العام المنطقي أي كان المستثنى
طبيعة كلية وكانت لها مصاديق متعددة، وكان في كل من الجمل لها مصداق كما لو
قال في المثال المذكور: إلا الفاسق، أو الجاهل وأمثالهما من العناوين الكلية، أو
كان المستثنى من باب العام الأصولي كما لو قال في المثال المذكور، إلا الفساق،
أو الجهال وأمثالهما.
والظاهر أن إمكان رجوع الاستثناء إلى تمام الجمل منحصر بأحد هذه
الوجوه الثلاثة، ولا يتصور وجه آخر. والرجوع إلى الجميع بأحد هذه الوجوه
الثلاثة إن كان بإخراج المستثنى عن كل واحد من الجمل مستقلا بأن يكون هناك
إخراجات متعددة على حسب تعدد الجمل فالظاهر أنه مبني على القول بجواز
استعمال لفظ المشترك في أكثر من معنى، أما فيما كان المستثنى مشتركا لفظيا
فظاهر، وأما في الصورتين الأخيرتين فلأن الحصة التي تخرج من المستثنى عن
كل واحدة من الجمل غير الحصة التي تخرج من الجملة الأخرى، مثلا الحصة من
الفاسق التي تخرج من العلماء غير الحصة التي تخرج من الشعراء، لأن كل واحدة
منهما متخصصة بخصوصية غير خصوصية الأخرى فيصير حال العام المنطقي
والأصولي كالمشترك اللفظي في عدم جواز الرجوع إلى الجميع إلا على القول
بجواز استعماله في أكثر من معنى.
وعلى القول بعدم جوازه بل استحالته فلا يجوز الرجوع إلى الجميع وإن كان
بإخراج المستثنى عن مجموع الجمل بأن لا يكون هناك إلا إخراج واحد من
المجموع بأن ينتزع من الجمل المتعددة عنوان واحد ويرجع الاستثناء إلى ذلك
العنوان الانتزاعي.
ففيه: أن الحكم في كل واحد من الجمل معلق على كل واحد من العناوين
الخاصة، وليس حكم معلقا على العنوان المنتزع عن مجموع الجمل حتى يرجع
الاستثناء إليه.
407

والحاصل: أن الاستثناء الواحد عن مجموع الجمل بإرجاعها إلى جملة
واحدة وأخذ عنوان انتزاعي عنها بحيث يكون المستثنى منه هو ذلك العنوان
الانتزاعي مبني على أن يكون الحكم معلقا على ذلك العنوان المنتزع، وليس
كذلك، بل الحكم في كل واحد من الجمل معلق على عنوان مخصوص.
وحاصل الكلام أن كيفية إمكان رجوع الاستثناء إلى الجمل المتعددة يتصور
على وجهين: أحدهما: أن يكون الاستثناء عن الجمل المتعددة إخراجات متعددة
حسب تعدد الجمل بأن يلاحظ الموضوع في كل جملة مع حكمه مستقلا ويخرج
المستثنى منه فيما كان قابلا لإخراجه عن كل منها بأحد الوجوه الثلاثة المتقدمة،
فكأنه تعقب كل جملة منها باستثناء مستقل.
والثاني: أن يكون الاستثناء عن الجمل المتعددة إخراج واحد بأن يلاحظ
تمام الجمل بعنوان جامع انتزاعي ويجعل الاستثناء إخراجا عن هذا العنوان
الجامع، فيكون الاستثناء إخراجا واحدا والمستثنى منه أيضا واحدا، وهو مجموع
الجمل الملحوظة بعنوان جامع، والوجه الأول مبني على جواز استعمال لفظ
المشترك في أكثر من معنى فإن قلنا بجوازه فلا مانع منه، وإن قلنا بعدم جوازه
وعدم إمكان إرادة أكثر من معنى في استعمال واحد فلا يجوز. والوجه الثاني
مبني على جواز التفكيك وإمكانه بين لحاظ كل واحدة من الجمل بعناوينها
الخاصة المفصلة في حال ورود الحكم عليها، ولحاظ مجموعها بعنوان واحد
إجمالي في حال ورود الاستثناء عليها.
فإن قلنا بإمكان التفكيك بأن يلاحظ موضوعات متعددة مفصلة ويورد عليها
أحكام مفصلة كما في المثال المذكور ثم يلاحظها بعنوان إجمالي ويورد عليها
استثناء واحد كما لو قال مقام " إ لا الفاسق " مثلا في المثال المذكور: أستثني من
الجمل المذكورة الفاسق، أو: أخرج الفساق، وأمثالهما فلا مانع من رجوع
الاستثناء الواحد إلى الجمل المتعددة بهذا النحو.
وإن قلنا بعدم جواز التفكيك وأن الاستثناء لابد أن يرجع إلى ما كان موضوعا
للأحكام الخاصة وما كان موضوعا لها هي العناوين المفصلة والعنوان الجامع
408

الانتزاعي ليس موضوعا لحكم من الأحكام حتى يرجع الاستثناء إليه فلا يمكن
الرجوع إلى الجميع بهذا الوجه أيضا.
ويمكن تصوير إمكان رجوع الاستثناء إلى الجميع بوجهين آخرين:
أحدهما: أن يكون المستثنى لفظا قابلا لأن يخرج من الأخيرة فيكون المخرج
متحدا، ولأن يخرج من جميع الجمل فيكون المخرج متعددا وذلك كما إذا قال:
أكرم العلماء وأضف الشعراء وأعط الفقراء إلا واحدا، فإنه يمكن أن يرجع
الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فيكون المخرج متحدا، ويمكن أن يرجع إلى الجميع
فيكون المخرج من كل واحد من العمومات واحدا والرجوع إلى الجميع هنا لا
يمكن أن يكون بجعل الجمل المتعددة بمنزلة جملة واحدة وإرجاع الاستثناء إلى
المجموع كما يمكن في مثل: " إلا الفساق " في المثال المذكور، إذ المخرج على
تقدير رجوعه إلى الأخيرة فقط أو إلى المجموع واحدا. ولا ثمرة للنزاع في كونه
راجعا إلى الأخيرة أو الجميع بخلاف " إلا الفساق " فإنه لو رجع إلى الأخيرة
يكون المخرج هم الفساق من الفقراء ولو رجع إلى المجموع لكان الفساق من
تمام العمومات.
وتوهم إمكان رجوع إلا الواحد إلى الجملة الأخيرة والى المجموع، فلو رجع
إلى الأخيرة لكان الواحد مخرجا من خصوص الجملة الأخيرة، ولو رجع إلى
المجموع لكان خارجا عن مجموع الجمل لا خصوص الأخيرة.
مدفوع بأن تخصيص الجملة الأخيرة مسلم، ومع تخصيصه به وخروج
الواحد منها لا يمكن إرجاعه إلى الجميع بمعنى المجموع بأن يكون المخرج
واحدا من المجموع، بل لابد في إرجاعه إلى الجميع بأن يكون المخرج من كل
واحد من العمومات واحدا. ولكن لا يخفى أن استثناء الواحد ليس إلا كاستثناء
" زيد " في تمام ما ذكر بلا فرق بينهما فلو لم يمكن رجوع إلا الواحد إلى الجميع
بمعنى المجموع، بل لابد أن يكون رجوعه إلى الجميع بمعنى كل واحدة من الجمل
مستقلا لكان " إلا زيدا " أيضا كذلك، فلا وجه لما ذكر سابقا في الوجوه الثلاثة من
أن إمكان الرجوع إلى الجميع يمكن أن يكون بإخراجات متعددة. ويمكن أن
409

يكون باخراج واحد من المجموع إلا أن يقال ذلك بالنسبة إلى العام المنطقي
والأصولي لا المشترك اللفظي.
الثاني: أن يكون الرجوع إلى الجميع بمعنى التوزيع بالنسبة إلى تمام الجمل
كما لو قال في المثال المذكور: " إلا عشرة " فيحتمل أن يكون " إلا عشرة " مثل
" إلا واحدا " في أنه لو رجع إلى الأخيرة يكون المخرج عشرة واحدة من الجملة
الأخيرة، ولو رجع إلى الجميع لكان المخرج من كل واحد من العمومات عشرة لو
قلنا بعدم إمكان رجوعه إلى الجميع بمعنى المجموع، لما تقدم ويحتمل أن يكون
" إلا عشرة " راجعة إلى الأخيرة فقط فتكون مخرجة عن الأخيرة وأن تكون
راجعة إلى الجميع على سبيل التوزيع بالسوية أو الاختلاف بين الجمل.
فتحصل: أن المستثنى قد يكون قابلا للرجوع إلى الأخيرة فقط والرجوع إلى
الجميع، بمعنى كل واحدة على سبيل الاستقلال وبمعنى المجموع كما في مثل " إلا
الفاسق " أو " إلا الفساق " في المثال المذكور، وامكان رجوعه إلى الجميع بمعنى
كل واحد مستقلا مبني على إمكان استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى
واستحالته وبمعنى المجموع مبني على إمكان التفكيك المذكور، وقد يكون قابلا
للرجوع إلى الأخيرة فقط وللرجوع إلى الجميع بمعنى كل واحد لا بمعنى المجموع
كما في مثل إلا زيدا وإلا الواحد في المثال المذكور، بناء على ما ذكر من عدم
إمكان الرجوع إلى الجميع بمعنى المجموع وجواز الرجوع إلى الجميع هنا أيضا
مبني على جواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى. وقد يكون قابلا
للرجوع إلى الأخيرة والرجوع إلى الجميع بمعنى التوزيع كقوله: " إلا عشرة " في
المثال المذكور، بناء على أحد الاحتمالين.
والرجوع إلى الجميع بهذا المعنى أيضا مبني على جواز استعمال المشترك في
أكثر من معنى، فإن قلنا بجواز استعمال المشترك في أكثر من معنى فيمكن الرجوع
إلى الجميع بمعنى كل واحد في تمام هذه الأقسام، لأن جواز رجوعه إلى الجميع
بهذا المعنى مبني عليه، وإن قلنا بعدم جوازه - كما هو الحق - فلا يمكن.
وأما الرجوع إلى الجميع بمعنى المجموع فهو مبني على إمكان التفكيك
410

المذكور، فإن قلنا به فيمكن الرجوع إلى المجموع ويصح النزاع، وإلا فلا. ولا
يخفى أنه لو نوزع في القسم الأول في رجوع الاستثناء إلى الأخيرة أو إلى الجميع
كانت ثمرة النزاع بقاء ما عدا الجملة الأخيرة على عمومها، بناء على رجوعه إلى
الأخيرة وعدم بقائه على العموم بناء على رجوعه إلى الجميع والمرجع عند الشك
في رجوعه إلى الجميع هي أصالة عدم التخصيص، لأن المتيقن هو رجوعه إلى
الأخيرة ورجوعه إلى غيرها مشكوك فيرجع إلى أصالة العموم وعدم التخصيص،
فالشك فيما عدا الأخيرة هنا شك في أصل التخصيص، وكذلك في القسم الثاني
أيضا، بخلاف القسم الثالث فإن الشك فيما عدا الأخيرة وإن كان في أصل
التخصيص لاحتمال رجوعه إلى الأخيرة فقط ولكن بالنسبة إلى الأخيرة الشك
في مقدار التخصيص، إذ يحتمل أن يكون تمام العشرة مثلا في المثال المذكور
خارجا عنها، كما يحتمل أن يكون بعضها خارجا منها وبعضها خارجا عن الجمل
السابقة والقدر المتيقن خروجه منها هو الواحد والزائد عليه مشكوك، كما أن أصل
الخروج بالنسبة إلى الجمل السابقة مشكوك، وهل يمكن القول بتعارض أصالة
عدم التخصيص الجارية فيما عدا الأخيرة مع أصالة عدم تخصيص الزائد الجارية
في الأخيرة فيتساقطان. ومقتضى العلم الإجمالي بالتخصيص المردد بين رجوعه
إلى الأخيرة أو الجميع يمنع عن الرجوع إلى شيء من هذه العمومات أم لا؟ الظاهر
هو الثاني، لأن العلم الإجمالي ينحل إلى العلم التفصيلي بتخصيص الأخيرة
والشك البدوي في تخصيص غيرها، مع أن أصالة عدم تخصيص الزائد لا يجري
في الأخيرة بعد تيقن تخصيصه لأنه إنما تجري أصالة عدم تخصيص الزائد لو كان
بإخراجات متعددة، وأما لو دار الأمر في إخراج واحد أن المخرج واحد أو متعدد
فلا تجري أصالة عدم تخصيص الزائد وحينئذ تجري أصالة عدم التخصيص
الجارية فيما عدا الأولى سليمة عن المعارض.
فتحصل: أن إمكان رجوع الاستثناء إلى الجميع بمعنى كل واحد مستقلا أو
على سبيل التوزيع فيما إذا كان المستثنى قابلا لهما بأحد الوجوه المتقدمة مبني
على القول بجواز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد، وحيث قلنا بعدم
411

إمكانه فلا يجوز الرجوع إلى الجميع بهذا المعنى. وأما رجوعه إلى الجميع بمعنى
المجموع بأن يلاحظ مجموع الجمل بمنزلة جملة واحدة وينتزع منها عنوان واحد
ويرجع الاستثناء إليه فهو مبني على جواز التفكيك المذكور، وهو لحاظ كل
واحدة من الجمل مفصلة في حال ورود الحكم المذكور في طرف المستثنى منه
ولحاظ كل واحدة من الجمل مجملة في حال ورود الاستثناء. فإن قلنا بجوازه فلا
مانع من الرجوع إلى الجميع بذاك المعنى، وإن قلنا بعدم جوازه فلا يصح الرجوع
إلى الجميع. هذا بحسب عالم الثبوت والإمكان.
وأما بحسب عالم الإثبات والوقوع فهو أن تخصيص الأخيرة متيقن
وتخصيص غيرها مشكوك ومجرد الإمكان لا يوجب الظهور فيؤخذ بالقدر
المتيقن ويرجع في غيره إلى أصالة عدم التخصيص. ولا يخفى أن عدم ظهوره في
الرجوع إلى الجميع لا ينافي منع انعقاد ظهور العمومات السابقة في العموم، وكونه
من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية وموجبا لإجمال تلك العمومات.
فعلى هذا لا يمكن التمسك بحكم العام فيما عدا الجملة الأخيرة بالنسبة إلى
مصاديق الخاص، لاحتمال خروج الخاص عن الجميع، ولا بحكم الخاص لاحتمال
رجوعه إلى الأخيرة والشك في رجوعه إلى الجميع، فلابد من الرجوع في حكم
الخاص من الجمل السابقة إلى الأصول العملية، هذا فيما إذا تعقب استثناء واحد
لجمل مستقلة متعاطفة كما مر.
وأما لو تعقب استثناء واحد لمفردات متعاطفة كما لو قال: أكرم العلماء
والشعراء والفقراء إلا الفاسق، فالأمر في رجوع الاستثناء إلى الجميع بمعنى
المجموع أهون، حيث إن الحكم في الجميع واحد وانتزاع عنوان واحد إجمالي
يكون هو المستثنى منه أسهل من انتزاعه من الجمل المستقلة موضوعا ومحمولا،
هذا تمام الكلام في الاستثناء المتعقب لجمل متعددة.
وأما لو تعقب الوصف أو الغاية لجمل متعددة كما لو قال أكرم العلماء، وأكرم
الشعراء، وأكرم الفقراء عدو لهم، أو إلى أن يفسقوا، فالظاهر أنهما كالاستثناء
المتعقب لجمل متعددة فيما ذكرنا من التفصيل فتأمل.
412

فصل
هل يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد أم لا؟
وقد استدل (1) على عدم الجواز بأن الكتاب قطعي وخبر الواحد ظني، ولا
يمكن رفع اليد عن القطعي بالظني.
وفيه: أن الكتاب من حيث الدلالة ظني، وإن كان من حيث السند قطعيا، وبأن
الدليل على حجية خبر الواحد هو الإجماع، وهو مفقود فيما إذا كان العام الكتابي
على خلافه.
وفيه: أن الدليل على حجية خبر الواحد ليس منحصرا بالإجماع كما سيجيء
في محله.
وبأن الأخبار (2) الكثيرة وردت بطرح الخبر المخالف للقرآن وضربه على
الجدار، وأنه زخرف، وأنه مما لم يقل به المعصوم (عليه السلام)
والجواب عنها: أما عن الطائفة التي لسانها أن الخبر المخالف للكتاب مما لم
يقله المعصوم فهو: إما بحمل المخالفة على غير المخالفة بالعموم والخصوص، أو
بطرح تلك الطائفة للقطع بصدور الأخبار الكثيرة المخالفة للكتاب بالعموم
والخصوص، وأما عن الطائفة التي لسانها الأمر بطرح الخبر المخالف للكتاب
فالأمر فيها مشكل، وذلك لأن الجواب عنها منحصر بحمل المخالفة فيها على غير

(1) نقله صاحب الفصول: في العموم والخصوص ص 213 س 19.
(2) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب صفات القاضي ج 18 س 75.
413

المخالفة بالعموم والخصوص كالتباين، إذ المخالفة بالعموم والخصوص ليست
مخالفة بنظر العرف، والحال أنه خلاف ظاهر اللفظ، لأن المخالفة بالعموم
والخصوص أيضا مخالفة حقيقة، فتأمل.
وإذا عرفت ضعف أدلة المانعين ظهر أن الحق هو جواز تخصيص الكتاب
بالخبر الواحد كما جاز تخصيصه بالخبر المتواتر والمحفوف بالقرينة القطعية، ولا
ملازمة بين جواز التخصيص بالخبر وجواز النسخ بعد قيام الإجماع على عدم
جواز النسخ بالخبر الواحد كما ادعي، وإلا لكان مقتضى القاعدة جوازهما به.
414

فصل
لا يخفى أن العام والخاص المتخالفين يختلف حالهما ناسخا ومخصصا
ومنسوخا، فيكون الخاص مخصصا وناسخا تارة، ومنسوخا أخرى، وذلك لأن
الخاص إن كان مقارنا للعام من حيث الصدور كما إذا فرض أنه صدر من إمام عام
في مجلس ومن إمام آخر خاص في ذلك المجلس مقارنا لصدور العام بناء على
حجية قول الإمام الثاني قبل زمان إمامته - كما هو الحق - أو ورد بعده قبل حضور
وقت العمل به.
فلا محيص عن كون الخاص مخصصا للعام بناء على عدم جواز النسخ قبل
حضور وقت العمل، وإن كان ورود الخاص بعد حضور وقت العمل به كان الخاص
ناسخا لا مخصصا لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كان العام واردا
لبيان الحكم الواقعي، وإلا لكان الخاص أيضا مخصصا كما هو الحال في غالب
العمومات والخصوصات الصادرة في الآيات والروايات، وإن كان ورود العام بعد
حضور وقت العمل بالخاص، فكما يحتمل أن يكون الخاص مخصصا للعام
يحتمل أن يكون العام ناسخا، وإن كان الأظهر كون الخاص مخصصا للعام
المتأخر لا كون العام ناسخا له لغلبة التخصيص حتى قيل: ما من عام إلا وقد
خص، وندرة النسخ في الأحكام، وبذلك يصير ظهور الخاص في الدوام - ولو كان
بالإطلاق - أقوى من ظهور العام في العموم ولو كان بالوضع.
وربما يقال بأن ترجيح التخصيص على النسخ من جهة غلبة التخصيص
415

وندرة النسخ إنما هو في صورة الدوران وإمكان كل واحد منهما، والحال أنه لا
دوران بينهما، إذ الخاص المتأخر - مثلا - إن ورد قبل حضور وقت العمل بالعام
المتأخر كان مخصصا لا ناسخا لعدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل، وإن
ورد بعد حضور وقت العمل بالعام كان ناسخا لا مخصصا لعدم جواز تأخير البيان
عن وقت الحاجة. ومن هنا يقع الإشكال في الخصوصيات الصادرة عن
الأئمة (عليهم السلام) فإنه إن حملناها على التخصيص لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة،
وإن حملناها على النسخ لزم جواز النسخ بعد انقطاع الوحي، وهو ممنوع.
ولكن يمكن دفع الإشكال بأنه يمكن حملها على التخصيص، وتأخير البيان
عن وقت الحاجة إذا كانت مصلحة في التأخير لا مانع منه، إذ كما أن صدور
الأحكام وقع متدرجا مع تمامية مصلحتها في أول البعثة من جهة مصلحة في بيانها
تدريجا أو مفسدة في بيانها دفعة فكذلك يمكن أن يكون تأخير بيان المخصصات
وصدورها تدريجا من جهة وجود مصلحة في تأخير بيانها، أو وجود مفسدة في
بيانها قبل زمان الحاجة، والفرق بينهما بأن الوقوع في خلاف الواقع في الأول من
جهة عدم البيان، وفي الثاني من جهة بيان العدم ليس بفارق، ولا يوجب جواز
الأول وعدم جواز الثاني بعد وجود المصلحة في البيان التدريجي في كليهما أو
وجود المفسدة في البيان الدفعي فيهما، لأن عدم البيان لو لم يكن فيه مصلحة كان
كبيان العدم في القبح وعدم الجواز على الحكيم كما أنه يمكن حملها على النسخ
بأن أودع النبي (صلى الله عليه وآله) بيان أمد الحكم وغايته إلى خلفائه (عليهم السلام) كما أودع بيان أصل
بعض الأحكام عندهم، ولا ينافي ذلك عدم جواز النسخ بعد انقطاع الوحي، لأن
الأئمة (عليهم السلام) بينوا ما أودعه النبي (صلى الله عليه وآله) عندهم.
ثم إن النسخ حقيقة عبارة عن الرفع، ولا حاجة في رفع اليد عن ظاهره
وحمله على الدفع من جهة توهم أنه لو أبقى على معناه الحقيقي لزم البداء
المستحيل في حقه تعالى، وذلك لأنه يمكن أن يكون في جعل الحكم الأبدي
المستمر مصلحة، وفي رفعه بعد جعله أيضا مصلحة، فيجعل الحكم أولا على نحو
416

الدوام والاستمرار، ثم بعد حضور وقت العمل أو قبله ينسخه من جهة وجود
المصلحة في نسخه. كما أنه يمكن أن تكون مصلحة في ايجاد العقد الدائمي ثم
رفعه بالطلاق والفسخ، فالنسخ كالفسخ في كونه رفعا من حينه، فعلى هذا لا مانع
من جواز النسخ قبل حضور وقت العمل.
ولا يرد الإشكال بأنه لو لم يكن مصلحة في جعل الحكم امتنع جعله أولا، ولو
كانت فيه مصلحة امتنع نسخه قبل وقت العمل بل مطلقا، إذ المصالح والمفاسد
تختلف بحسب الأوقات والأزمان والوجوه والاعتبار، فيمكن أن تكون للفعل في
زمان مصلحة دون زمان آخر، وبالنسبة إلى شخص دون شخص آخر، كما يمكن
أن يكون في جعل الحكم مصلحة ولرفعه قبل حضور وقت العمل به أيضا تكون
مصلحة، هذا حال النسخ. وأما البداء فمعرفته حقيقة موقوفة على الإحاطة بعالم
القضاء والقدر، وهي خارجة عن طوق البشر، فعلمه موكول إلى أهله، ولا يترتب
عليه ثمرة أصولية كما لا يخفى.
ثم إن الثمرة بين التخصيص والنسخ فيما إذا دار الأمر بينهما في المخصص
هو خروج الخاص عن حكم العام رأسا، بناء على التخصيص وارتفاع حكمه عنه
من حين وروده على النسخ، هذا إذا كان الخاص متأخرا ودار الأمر بين كونه
مخصصا وناسخا، وأما إذا كان العام متأخرا ودار الأمر بين كون ناسخا للخاص
المتقدم أو كون الخاص المتقدم مخصصا له، فالخاص على التخصيص غير محكوم
بحكم العام أصلا، وعلى النسخ كان محكوما بحكم العام من حين صدور دليله.
ولكن لا يخفى أن هذه الثمرة إنما هي بالنسبة إلى الموجودين في زمان
الحضور وصدور الأحكام لا بالنسبة إلينا.
417

المقصد الخامس
في المطلق والمقيد والمجمل والمبين
قد عرف المطلق بأنه ما دل على شائع في جنسه.
وقد أشكل عليه بعض الأعلام (1) بعدم الاطراد والانعكاس، وأطال الكلام في
النقض والإبرام، وقد مر مرارا أن مثل هذه التعاريف التي ليست تعاريف حقيقية،
بل مجرد شرح الاسم لا يضر فيها عدم الاطراد والانعكاس، لأن المدار في التعاريف
الحقيقية في كون الشيء من أفراد المعرف وعدم كونه منها هو صدق المعرف
وعدمه، ولذا لابد فيها من الاطراد والانعكاس ليخرج عن التعريف ما سوى أفراد
المعرف، ويدخل فيه تمام أفراده، وبعبارة أخرى أن المطلوب في التعاريف
الحقيقية لما كان معرفة حقيقة المعرف فلابد أن يكون التعريف مطردا ومنعكسا
حتى يحصل المطلوب، ويجعل صدق التعريف على شيء مناطا لكونه من أفراد
المعرف، وعدم صدقه مناطا، لعدم كونه من أفراده بخلاف التعاريف اللفظية فإن
المطلوب فيها ليس معرفة حقيقة المعرف، لكونها حاصلة مع قطع النظر عن هذه
التعاريف، بل المطلوب فيها التعبير بعنوان جامع لتمام أفراد المعرف، ولذا يجعل
المعيار في اطرادها وانعكاسها شمولها لتمام أفراد المعرف وعدم شمولها لغيرها.

(1) المستشكل هو صاحب الفصول: في المطلق والمقيد ص 218 س 5.
419

والحاصل: أن في التعاريف الحقيقية المعرف لابد أن يكون أعرف وأجلى من
المعرف، وفي التعاريف اللفظية الأمر بالعكس فإن المعرف فيها أعرف وأجلى من
المعرف، فإنه لا خلاف بينهم في إطلاق المطلق على بعض الألفاظ، وإنما الخلاف
بينهم في التعبير عنها بعنوان جامع لتمام الأفراد، فربما يعرفه شخص بما يكون
بنظره جامعا لتمام أفراده ومانعا عن دخول غيرها، ولا يكون بنظر غيره جامعا
ومانعا، ويورد عليه بأن هذا التعريف ليس بمطرد أو ليس بمنعكس، من جهة عدم
صدقه على بعض أفراد المعرف أو صدقه على ما ليس من أفراده، فلو لم يكن
المعرف أجلى وأعرف عندهم من هذه التعاريف لما جعل المعيار في اطرادها
وانعكاسها هو صدقها عليه وعدم صدقها على غيره.
وكيف كان من جملة ما يطلقون عليه المطلق: اسم الجنس كرجل وإنسان
وحيوان وسواد وبياض، وأمثالها من الألفاظ الكلية الموضوعة للجواهر
والأعراض، بل العرضيات أيضا. ولا ريب في أن اسم الجنس موضوع للماهية
المبهمة اللا بشرط المقسمي المعراة عن تمام القيود والخصوصيات حتى عن قيد
الإرسال القابلة لها.
ومنها: علم الجنس، والمشهور أنه موضوع للطبيعة بقيد تعينها في الذهن لا
الطبيعة المبهمة من حيث هي كما في اسم الجنس، وذلك لأنهم لما رأوا معاملتهم
مع علم الجنس معاملة المعارف من توصيفه بالمعرفة وذكر الحال له كما في: رأيت
أسامة مقبلا، والحال أنه ليس فيه أداة التعريف قالوا بأن له تعينا في الذهن، ولما
رأوا أن اسم الجنس أيضا له تعين في الذهن قالوا: إن اسم الجنس موضوع للطبيعة
من حيث هي وعلم الجنس موضوع للطبيعة بقيد تعينها في الذهن، ولذلك يعامل
معها معاملة المعارف.
ولكن التحقيق أنه موضوع للطبيعة من حيث هي كاسم الجنس والتعريف معه
لفظي كالتأنيث اللفظي، فكما لا يحتاج في التأنيث اللفظي إلى إثبات أنوثية معنوية
فكذلك في التعريف اللفظي لا يحتاج إلى إثبات تعين وتعريف معنوي.
420

ومنها: المفرد المعرف باللام، والمشهور أنه على أقسام: المعرف بلام الجنس
والاستغراق والعهد بأقسامه. وبعد ما عرفت أن اسم الجنس المجرد عن اللام
موضوع للطبيعة المهملة المبهم القابلة لكل واحدة من الخصوصيات بواسطة
القرائن الحالية أو المقالية بلا ارتكاب تجوز كما هو مختار المحققين في استعمال
المطلق في المقيد، فالخصوصية إنما تستفاد من مدخول اللام بواسطة القرينة
الخارجية لا من اللام، إذ لو لم تكن القرينة الخارجية فلا تستفاد الخصوصية لا من
المدخول، لما عرفت من أنها موضوعة للطبيعة من حيث هي، ولا من اللام،
لاشتراكها بين تعريف الجنس والاستغراق والعهد بأقسامه. ولابد في تعيين معناها
من القرينة، ومع وجودها فلا داعي لأن نقول: إنها تدل على أن اللام دلت على
الخصوصية، لأنه من قبيل الأكل من القفاء، بل نقول: إن القرينة دلت على أن
الخصوصية إنما استفيدت من المدخول أولا وبالذات لكونه قابلا لإرادة كل
واحدة من الخصوصيات منه بلا ارتكاب تجوز وتأويل.
فعلى هذا اللام لا يكون تحتها معنى، وإنما هي لصرف التزيين كما في الحسن
والحسين (عليهما السلام) إذ كما أن للمعنى خصوصيات محسنة - كما ذكروها في علم البديع
- فكذلك للفظ أيضا محسنات، واللام إنما هي لتحسين اللفظ وتزيينه، لأن اللفظ
بدون إلحاق اللام في أوله أو التنوين أو الإضافة بآخره يكون من قبيل الشخص
العاري عن اللباس، فاللام بمنزلة الحلية والزينة، ولذلك يقال: الاسم المحلى باللام.
ولو أبيت إلا عن كون معنى تحتها فذلك المعنى ليس إلا خصوصية في الغير
وهو المدخول كما في سائر الحروف، فكما أن لفظة " من " و " في " تدلان على
معنى وخصوصية في مدخولهما كما ذكروا في تعريف الحرف من أنه كلمة تدل
على معنى في غيره فكذلك اللام تدل على خصوصية في مدخولها، فيكون حالها
كحال الأعاريب التي هي علامات على إرادة الخصوصيات من مدخولها، فكما
أن الرفع والنصب والجر علامات على تخصص مدخولها بخصوصية الفاعلية
والمفعولية والمضاف اليهية فكذلك اللام علامة على تخصص مدخولها بإحدى
421

الخصوصيات المذكورة من الجنس والاستغراق والعهد بأقسامه.
فتحصل: أن مدخول اللام وهو اسم الجنس الموضوع للطبيعة من حيث هي
القابلة لأن يلحقه تنوين التمكن ويراد منه الجنس كما في أسد علي وفي الحروب
نعامة، ولأن يلحقه تنوين التنكير ويراد منه الفرد المنكر إما مطلقا كما في جئني
برجل، أو عند المخاطب كما في جاءني رجل، ولأن يلحقه اللام ويراد منه الجنس
المتعين في الذهن، أو الجنس الساري في تمام الأفراد، أو الفرد المعهود بأقسامه
هو الدال على كل واحدة من هذه الخصوصيات بواسطة القرائن الحالية والمقالية
المختلفة باختلاف المقامات واللام إنما هي لصرف التزيين وليس تحت اللام
معنى، وعلى تقدير التنزل وتسليم وجود معنى تحتها فذلك المعنى ليس إلا
خصوصية في المدخول كما في سائر الحروف التي قد عرفت أنها كالأعاريب في
كونها من قبيل العلامات، فتأمل.
وأما دلالة الجمع المعرف باللام على العموم حيث لم يكن عهد ولا توصيف
في البين فالظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال فيه، وأن لفظ " الرجال " ليس كلفظ
" رجال " المجرد عن اللام في الدلالة على أقل مراتب الجمع، وهو ما فوق الواحد
والاثنين على الخلاف فيه، بل يدل على استيعاب تمام الأفراد.
وإنما الخلاف والإشكال في منشأ هذه الدلالة فقد نقل عن الشيخ محمد
تقي (1) (قدس سره) أن اللام للإشارة إلى الطبيعة المعينة، فإن كان لها تعين بالعهد أو
التوصيف فاللام تبعه، ولا يفيد شيئا غير الإشارة إلى ذلك المعين، وإن لم يكن لها
تعين بهما فلابد من الحمل على العموم، لأن اللام للتعيين. والتعيين الذي لا يشوبه،
إبهام وترديد بوجه من الوجوه هو كون الطبيعة في ضمن تمام الأفراد حيث لا يشذ
منها شيء. وأقل مراتب الجمع وإن كان له تعين من حيث المرتبة إلا أنه فيه إبهام
وترديد من حيث كونه قابلا للانطباق والصدق على كثيرين، فإن الثلاثة - مثلا -
وإن كان لها تعين مثل تمام الأفراد من حيث إن الثلاثة أقل مراتب الجمع ولا

(1) انظر هداية المسترشدين: في المطلق والمقيد ص 342 س 36.
422

يمكن أن يكون أقل منها، كما أن تمام الأفراد له تعين من حيث إنه لا يمكن أن
يكون أكثر منه، إذ لم يبق شيء إلا أن الثلاثة فيها إبهام من جهة صدقها على كل
ثلاثة ثلاثة على التبادل، بخلاف تمام الأفراد، فإنه ليس فيه إبهام أصلا.
فتحصل: أن اللام تدل على تعيين الطبيعة فإن كان لها تعين فاللام إشارة إلى
تلك الطبيعة المعينة، وإن لم يكن لها تعين فالتعيين الذي هو مدلول اللام يقتضي
كون الطبيعة في ضمن تمام الأفراد، لأنه التعين الذي ليس فيه إبهام، بخلاف أقل
الجمع فإن التعين فيه مشوب بالابهام، فاللام أولا وبالذات دالة على التعيين،
ولازم التعيين هو كون الطبيعة في ضمن تمام الأفراد لا أن اللام أولا وبالذات دالة
على الإستيعاب كما أشرنا في المفرد المعرف باللام أن الخصوصيات تستفاد أولا
وبالذات من مدخول اللام بواسطة القرائن واللام لصرف التزيين لا أن
الخصوصيات تستفاد من اللام بواسطة القرائن، لأنه من قبيل الأكل من القفاء،
وذلك لأن اللام لا يمكن أن يدل على الاستيعاب إلا إذا كان بمعنى الكل والجميع
والقاطبة وأمثالها من ألفاظ العموم. وليس كذلك، إذ ليس " للام " إلا معنى واحد
يجامع مع جميع الطوارئ من الجنس والعهد والاستغراق وهو التعيين، وليس لفظ
الألف واللام في الجمع المعرف مغايرا مع الألف واللام الذي في المفرد المعرف
فلا يمكن أن تكون اللام دالة على الاستيعاب إلا بتوسط دلالتها على التعيين الذي
لازمه الاستيعاب.
فالحق أن منشأ دلالة الجمع المعرف باللام على العموم هو ما ذكره المحقق
المذكور.
لا يقال إن أهل العرف يفهمون الاستيعاب من الجمع المعرف باللام، والحال
أنهم لا يعرفون تلك الدقائق، فلو كانت منشأ دلالة الجمع المعرف باللام على
العموم تلك الدقائق فلابد أن يفهموها.
لأنا نقول: هذه الدقائق والمطالب مرتكزة في أذهانهم وإن لم يلتفتوا إليها ولم
423

يقدروا على بيانها، وصاحب الكفاية (1) (قدس سره) من جهة الفرار عن كون اللام للتعيين
التزم بأن الجمع المعرف باللام موضوع للاستيعاب. والظاهر أن مراده الوضع
النوعي لا شخصي، ومعه لا يمكن الالتزام بتواليه الفاسدة، ولا أظن أن يلتزم
هو (قدس سره) بها، وذلك لأنه لو كان موضوعا للاستغراق فلو استعمل وأريد منه غير
الاستغراق من جهة العهد أو الوصف فلابد أن يكون مجازا، والحال أنه لا يمكن
الالتزام به.
وما ذكره أولا من منع كون دلالة الجمع المعرف على العموم لأجل دلالة اللام
على التعيين حيث لا تعيين إلا للمرتبة المستغرقة، وهو أن التعيين ليس منحصرا
بالاستيعاب، بل الأقل أيضا له تعيين فقد عرفت جوابه وهو: أن تعيين الأقل
مشوب بالإبهام كما أن ما ذكره أخيرا وهو أنه بعد تسليم أن الاستيعاب من جهة
اللام لم لا تكون اللام أولا وبالذات دالة عليه، بل كانت اللام أولا وبالذات دالة
على التعيين الذي لازمه الاستيعاب أيضا قد عرفت جوابه، وهو أن اللام ليس
بمعنى الكل والجميع، وليس اللام في الجميع مغايرا له مع المفرد، وليس له معنى
غير التعيين الذي يجامع مع جميع الطوارىء، فلابد في دلالة الجمع المعرف باللام
على العموم من الالتزام بما ذكره صاحب الحاشية (قدس سره) فتأمل.
ومنها: النكرة مثل " جاءني رجل " و " جئني برجل " ولا إشكال في أن
المفهوم منها في الأول هو الفرد المعين في الواقع وعند المتكلم المجهول عند
المخاطب، وفي الثاني الغير المعين في الواقع وعند كليهما، وإنما الإشكال في أن
النكرة جزئي أي طبيعة مشخصة بتشخيص غير معين بحيث تصدق على كل واحد
من التشخصات على سبيل البدل، بخلاف الأعلام فإنها لا تصدق إلا على
تشخصات معينة.
والفرق بين التشخصين أن الشخص لا يزول بزوال تشخص خاص مع قيام

(1) كفاية الأصول: في المطلق والمقيد ص 285.
424

بدله مقامه في الأول، بخلاف الثاني فإن الشخص يزول بزوال التشخص المعين،
إذ العلم تقومه بالتشخص المعين فإذا زال ذلك التشخص زال الشخص، وأما الفرد
المردد فلا يزول بزوال التشخص المعين إذا قام مقامه تشخص آخر، أو أن النكرة
كلي أي طبيعة كلية مقيدة بقيد كلي، وهي الوحدة، وضم الكلي إلى الكلي وإن
أوجب تضيق دائرته إلا أنه لا يوجب تشخصه، فالظاهر أن النكرة جزئي مردد
يصدق على تمام الجزئيات على البدل الذي قد عبر عنه بالفرد المنتشر، إذ
التشخص كما يمكن أن يكون تعينا كما في الأعلام يمكن أن يكون ترديديا، لا
أنها طبيعة كلية مقيدة بقيد كلي أي الوحدة حتى يصير حصة من الطبيعة الكلية التي
هي كلية كنفس الطبيعة، لأن التقييد بالوحدة ليس في اللفظ وليس التنوين بمعنى
لفظ واحد وليس شيء آخر موجبا له، فلا اللفظ يساعد على كونه كليا ولا المعنى،
لأن المعنى على هذا يصير مركبا، ولابد أن يكون بإزاء كل من أجزائه لفظ، وليس
اللفظ إلا واحدا، فتأمل.
والثمرة بين كونها جزئيا وكونها كليا يظهر في كون التشخص الغير المعين
متعلقا للأمر على الأول دون الثاني.
إذا عرفت هذا فاعلم أن المطلق يطلق عندهم حقيقة على الجنس والنكرة، إذ
ليس لهم في لفظ المطلق اصطلاح جديد، بل هو باق على معناه اللغوي وهو
الإرسال، وعدم التقييد بشيء حتى قيد الإرسال.
وما ذكره في الكفاية بقوله: نعم لو صح ما نسب إلى المشهور من كون المطلق
عندهم ما كان موضوعا لما قيد بالإرسال والشمول البدلي لما كان ما أريد منه
الجنس والحصة عندهم مطلقا، إلا أن الكلام في صدق النسبة (1) فيه ما لا يخفى من
المسامحة، وذلك لأن ما نسب إلى المشهور ليس في لفظ المطلق، بل هو بمعناه
اللغوي عندهم وهو غير المقيد، وإنما هو في اسم الجنس كلفظ " رجل " مثلا فإن

(1) كفاية الأصول: في المطلق والمقيد، ص 286.
425

ما نسب إلى المشهور هو أن مثل " رجل " موضوع للطبيعة المرسلة لا الطبيعة
المهملة، وعلى هذا التقدير لا يحتاجون في إثبات الشمول والسريان إلى مقدمات
الحكمة، بل نفس الوضع كاف لذلك وعلى تقدير عدم كونه موضوعا للطبيعة
المقيدة بقيد الإرسال يحتاج في إثبات الشمول والإرسال إلى مقدمات الحكمة.
وكيف كان فلا إشكال في كون اسم الجنس مطلقا ولا يختص المطلق بالنكرة
كما يظهر من التعريف المنسوب إلى الحاجبي (1) بأنه الحصة الشائعة في جنسه،
فتأمل.

(1) لا حظ هداية المسترشدين: في المطلق والمقيد ص 344 س 23.
426

فصل
قد ظهر أن الشيوع والسريان إن كان داخلا فيما وضع له اسم الجنس - كما
نسب إلى المشهور - فلا حاجة في إثباته إلى أمر خارج، بل نفس الوضع يكفي في
ذلك وإن قلنا بأنه موضوع للطبيعة المهملة القابلة لتمام اللواحق والطوارىء بلا
دخل لشيء منها في الموضوع له، فلابد في إثباته من دليل خارج من قرينة حالية
أو مقالية، ولو كانت هي مقدمات الحكمة الأولى منها، وهي العمدة أن يكون
المتكلم في مقام البيان لا الإهمال والإجمال.
والفرق بين الإهمال والإجمال هو أن الأول أن يكون المتكلم في مقام بيان
الحكم الحيثي والاقتضائي كما في الخطابات الواردة في مقام أصل التشريع مثل
قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) (1) وأمثاله، وكما في قول الطبيب للمريض، لابد لك
من شرب الدواء، فإنه بمجرد معاينته انحراف مزاجه يعلم أنه لابد له من شرب
الدواء، ولكن الآن ليس في مقام تعيين الدواء وخصوصياته، بل ربما لا يعلمه
فعلا، والثاني في أن يكون المتكلم في مقام بيان الحكم الفعلي، ولكن المصلحة
اقتضت تأديته بلفظ مجمل لئلا يفهم المخاطب منه شيئا وبيانه عند الحاجة كما في
قول الطبيب للمريض: لابد لك غدا من شرب الدواء الفلاني بلا بيان لكميته
وكيفيته فعلا لمصلحة مع علمه بهما فتأمل.

(1) البقرة: 43.
427

الثانية: انتفاء ما يوجب التعيين بأن لا يكون هناك قرينة أو عهد يوجب حمل
المطلق عليه.
الثالثة: انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب ولو كان المتيقن بملاحظة
الخارج عن ذاك المقام في البين، فإنه غير مؤثر في رفع الاخلال بالغرض لو كان
بصدد البيان كما هو الفرض، فإنه فيما تحققت هذه المقدمات بأن كان المتكلم في
مقام بيان تمام مراده لا الإهمال والإجمال، ولم يكن في البين ما يوجب التعيين،
ولم يكن قدر متيقن في مقام التخاطب لو لم يرد الشياع والسريان لكان مخلا
بغرضه، والإخلال بالغرض قبيح من العاقل فضلا عن الحكيم وبدون هذه
المقدمات لا يكون هناك إخلال بغرضه، حيث إنه لم يكن مع انتفاء الأولى إلا في
مقام الإهمال أو الإجمال، ومع انتفاء الثانية - وإن كان في مقام بيان تمام مراده إلا
أنه بينه بالقرينة ومع انتفاء الثالثة - لا إخلال بالغرض لو كان المتيقن تمام مراده.
ثم لا يخفى أن المراد بالبيان في المقام [ليس] هو البيان الواقعي كما في
مسألة قبح تأخير البيان عن وقت الخطاب أو الحاجة، بل المراد به هو البيان
الإظهاري ولو لم يكن عن جد، بل قاعدة وقانونا لتكون حجة لو لم تكن حجة
أقوى على خلافه، وبعبارة أخرى المراد بكون المتكلم في مقام البيان هو كونه في
مقام بيان مراده الإظهاري لا مراده الواقعي.
فعلى هذا لا يكون الظفر بالمقيد كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان،
ولا ينثلم به إطلاقه وصحة التمسك به، والحال أنه لو كان المراد بكونه في مقام
البيان بيان مراده الواقعي لكان الظفر بالمقيد كاشفا عن عدم كونه في مقام بيان
تمام مراده وموجبا لانثلام إطلاقه وصحة التمسك به.
والحاصل: أن المقيد المنفصل بالنسبة إلى المطلق كالمخصص المنفصل
بالنسبة إلى العام، فكما أن الظفر بالمخصص المنفصل لا يوجب عدم إرادة العموم
ولو قاعدة وقانونا بحيث لا يمكن رفع اليد منه إلا بحجة أقوى فكذلك الظفر
بالمقيد المنفصل لا يوجب عدم كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده ولو قاعدة
428

وقانونا، وإلا لانسد باب التمسك بالإطلاقات، إذ ما من مطلق إلا وقد قيد، كما أنه
ما من عام إلا وقد خص.
ثم إنه لا إشكال في صحة التمسك بالإطلاق فيما أحرز أن المتكلم كان بصدد
بيان تمام مراده، وأما إذا شك في أنه هل كان بصدد بيان تمام مراده أم لا، هل
يمكن التمسك بالإطلاق أم لا؟ فيه إشكال، لا يبعد أن يقال: إن الأصل في مورد
الشك في أن المتكلم كان في مقام البيان أم لا؟ هو كونه في مقام البيان، ولذلك
جرت سيرة العقلاء من أهل المحاورات على التمسك بالإطلاقات فيما لم يكن
هناك ما يوجب صرف وجهها إلى جهة خاصة. ولذا ترى المشهور لا يزالون
يتمسكون بالإطلاقات مع عدم إحراز كون مطلقها في مقام البيان وبعد كون
تمسكهم بها من جهة ذهابهم إلى كون المطلق موضوعا للشياع والسريان.
ثم إنه قد انقدح بما عرفت من توقف حمل المطلق على الإطلاق فيما لم تكن
هناك قرينة حالية أو مقالية على قرينة الحكمة المتوقفة على المقدمات المذكورة
أنه لا إطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد أو الأصناف،
لظهوره فيه أو كونه متيقنا منه، ولو لم يكن ظاهرا فيه بخصوصه حسب اختلاف
مراتب الانصراف، كما أن منها ما لا يوجب ذا ولا ذاك، بل يكون بدويا زائلا
بالتأمل، كما أن منها ما يوجب الاشتراك أو النقل.
لا يقال: كيف يكون ذلك وقد تقدم أن التقييد لا يوجب التجوز في المطلق
أصلا فكيف يحصل الاشتراك أو النقل قبل سبق التجوز؟
فإنه يقال: مضافا إلى أنه إنما قيل: إنه لا يستلزم ذلك لا أنه يستلزم عدمه،
فعدم تحقق التجوز إنما هو لعدم استلزامه لا عدم إمكانه، فإن استعمال المطلق في
المقيد بمكان من الإمكان -: إن كثرة إرادة المقيد من المطلق لدى إطلاقه ولو بدال
آخر ربما تبلغ بمثابة توجب له مزيد أنس كما في المجاز المشهور، أو تعينا
واختصاصا به كما في المنقول بالغلبة.
فيكون حاصل ذلك: أن الذي أوجب الاشتراك أو النقل ليس استعمال المطلق
429

في المقيد ليستلزم التجوز بل هو كثرة إرادة المقيد واقعا في حال صدور المطلق
بالدليل الدال على التقييد حتى تبلغ الحال إلى أن فهم المقيد من نفس لفظ المطلق
فلم يزل المطلق ذا معنى حقيقي غير أنه تبدل بسبب كثرة إرادة المقيد معناه
الحقيقي بمعنى حقيقي آخر من دون سبق تجوز، كذا أفيد في المقام فتأمل.
ثم إنه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة ويكون المتكلم في مقام البيان
من بعضها دون بعض فيصح التمسك بإطلاقه من الجهة التي كان المتكلم في مقام
البيان دون الجهة التي كان في مقام الإهمال أو الإجمال.
فما عن الشيخ (1) من التمسك بإطلاق قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن
عليه) (2) على طهارة موضع عض الكلب - والحال أن الآية الشريفة ليست في
مقام البيان من هذه الجهة، بل من جهة حلية ما قتله الكلب المعلم، وأنه ليس ميتة -
إفراط، كما أن عدم التمسك بالإطلاق من الجهة التي كان المتكلم في مقام البيان
بواسطة عدم كونه في مقام البيان من الجهات الأخر تفريط.

(1) المبسوط: كتاب الصيد والذبائح ج 6 ص 259.
(2) المائدة: 4.
430

فصل
إذا ورد مطلق ومقيد متنافيين فإما أن يكونا مختلفين في الإثبات والنفي،
وإما أن يكونا متوافقين، فإن كانا مختلفين كقوله: " أعتق رقبة " و " لا تعتق رقبة
كافرة " فلا إشكال في التقييد، وإن كانا متوافقين كقوله: " إذا ظاهرت فأعتق رقبه "
وقوله: " إذا ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة " فالمشهور على حمل المطلق على المقيد.
وقد استدل (1) عليه بأنه جمع بين الدليلين وهو أولى من طرح أحدهما
والأخذ بالآخر، مع أنهم لا يلتزمون بحمل المطلق على المقيد في باب
المستحبات. والحال أنه لا فرق بين الواجبات والمستحبات من هذه الجهة، فكما
أنه لا يحملون المطلق على المقيد في باب المستحبات، بل يحملون الأمر بالمقيد
على تأكد الاستحباب وأنه أفضل الأفراد فلابد في الواجبات أيضا إما من حمل
الأمر بالمقيد على الاستحباب التعييني وأنه أفضل أفراد الواجب التخييري أو من
حمل الأمر بالمقيد على الوجوب أيضا، وأنه من قبيل الواجب في الواجب بأن
يكون عتق مطلق الرقبة واجبا، وكونها مؤمنة أيضا واجبا آخر كما احتملناه في
تمام القيود الثابتة بالدليل المنفصل.
ثم إنه لا فرق فيما ذكر من حمل المطلق على المقيد في المتنافيين بين كونهما
في بيان الحكم التكليفي، أو في بيان الحكم الوضعي، فإذا ورد - مثلا - أن البيع

(1) نسب هذا الاستدلال إلى الأكثر في مطارح الانظار ص 221 س 1.
431

سبب لحصول النقل والانتقال، وأن البيع الكذائي سبب له، وعلم مراده أن السبب
إما البيع المطلق أو البيع الخاص فلابد من التقييد لو كان ظهور دليله في دخل القيد
أقوى من ظهور الإطلاق فيه كما هو ليس ببعيد.
تبصرة:
وهي أن قضية مقدمات الحكمة في المطلقات تختلف حسب اختلاف
المقامات فإنها تارة تقتضي حملها على العموم البدلي كاكرم عالما وأمثاله،
وأخرى تقتضي حملها على العموم الاستيعابي مثل أحل البيع، وثالثة تقتضي
حملها على نوع خاص كحمل إطلاق الأمر على الوجوب النفسي العيني التعييني،
لأن الوجوب الغيري والكفائي والتخييري تحتاج إلى مؤنة زائدة.
432

فصل
في المجمل والمبين
ومجمل الكلام فيهما أن المجمل والمبين لا إجمال في مفهومهما، إذ المجمل
ما لم يتضح دلالته من جهة الاشتراك ونحوه لا من جهة الجهل باللغة، وإلا لزم أن
يكون تمام ألفاظ لغة العرب مجملة بالنسبة إلى العجمي وبالعكس، وليس كذلك،
والمبين ما اتضح معناه سواء كان نصا فيه أو ظاهرا فيه، وإنما الإجمال والإشكال
في مصداقهما.
ومن جملة ما عدوها من المجمل قوله تعالى: (السارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما) (1) باعتبار اطلاقات اليد من المنكب والمرفق والزند وغيرها، وكذا القطع
باعتبار إطلاقه على الإبانة والجرح.
وفيه: أن اليد ظاهر في تمام العضو ويحمل عليه إلا أن يقوم دليل على خلافه،
وكذا القطع ظاهر في الإبانة.
ومنها: نسبة الحلية والحرمة إلى الأعيان كقوله تعالى: (حرمت عليكم
أمهاتكم...) (2).
وفيه: أنه لا معنى لحلية العين وحرمتها إلا باعتبار تعلق فعل المكلف وانتفاعه

(1) المائدة: 38.
(2) النساء: 23.
433

بها، فإن كانت لها منفعة ظاهرة فهي المتعلقة لهما، وإلا فتمام المنافع.
ومنها: " لا صلاة إلا بطهور ".
وفيه: أنه بناء على الصحيحى لا إجمال في أن المنفي حقيقة الصلاة، وبناء
على الأعمي المنفي هي الصحة، لأنه أقرب إلى المعنى الحقيقي من نفي الكمال،
فلا إجمال فتأمل.
434

المقصد السادس
في بيان الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا
وقبل الخوض في المقصود لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من
الأحكام وإن كان خارجا من الفن وأشبه بمسائل الكلام.
لا يخفى أن مباني حركات الإنسان وسكناته نحو تكاليفه الواقعية وظائف
عقلية أو شرعية، وتختلف تلك الوظائف باختلاف حالات الإنسان والحالات
الوجدانية التي تختلف الوظائف باختلافها ثلاثة، لأنه إذا توجه المكلف والتفت
إلى الحكم الشرعي إما أن يحصل له القطع به أو الظن أو الشك، وجعل الأقسام
ثلاثة - كما صنعه الشيخ (1) (قدس سره) مع ما فيه من القصور لتداخل الأقسام، حيث إن
الظن الذي لم يقم الدليل على اعتباره ملحق بالشك في كون المرجع فيه هو
الأصل العملي كما أن بعض أفراد الشك كالشك في مورد قيام الأمارة التي لم
يحصل منها ظن شخصي ملحق بالظن، حيث إن المدار على الظن النوعي لا
الشخصي، كما التفت إليه ونبه عليه في بعض كلماته بأن الظن الذي لم يقم دليل
على اعتباره ملحق بالشك.
والمدار في حجية الأمارات على الظن النوعي دون الظن الشخصي أولى من
تثنية الأقسام كما في الكفاية حيث قال: فاعلم أن البالغ الذي وضع عليه قلم

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 2.
435

التكليف إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري متعلق به أو بمقلديه فإما أن
يحصل له القطع به أو لا... إلى آخره (1) حيث إنه جعل متعلق القطع هو الحكم
الفعلي أعم من أن يكون واقعيا أو ظاهريا، ومعه لا يحصل الامتياز بين موارد
الأمارات التي هي عبارة عما اعتبرها الشارع من جهة كشفها واراءتها الواقع
وبين موارد الأصول التي هي عبارة عن الوظائف المقررة للجاهل في مقام العمل
ولذا يعبر عنها بالأصول العملية.
ولابد من البحث الصغروي في تشخيص موارد الأمارات عن الأصول،
والحال أن المقصود بالذات في المقام تميز موارد الأمارات والأصول والبحث
عن القطع استطرادي وهو يحصل بتثليث الأقسام وجعل المتعلق هو الحكم
الواقعي، وذلك لأن غير الملتفت وهو الغافل لا وظيفة له مع الغفلة، وإن أمكن أن
تكون له وظيفة بعد ارتفاع غفلته أو من جهة العقوبة أو المعذورية الأخروية،
فلذلك قيد المكلف بالملتفت.
والملتفت الذي توجه إلى الحكم الشرعي الواقعي لا يخلو إما أن يحصل له
القطع به أو الظن به أو الشك فيه، فإن حصل له القطع فلا مجرى معه لشيء من
الأمارات والأصول، وإن لم يحصل له القطع فهنا موارد الأمارات إن كان ظانا
وموارد الأصول إن كان شاكا.
وحاصله: أن غير الملتفت لا وظيفة له، والملتفت إلى الواقع إما أن يكون
قاطعا به أو لا، فإن كان قاطعا فليس له وظيفة شرعية ولا مجرى مع القطع لا
للأمارات ولا للأصول، لأن حجيتهما لغير القاطع بالخلاف وإن لم يكن قاطعا، فإن
كان ظانا فهو مجرى الأمارات فتأمل، وإن كان شاكا فهو مجرى الأصول. فتميز
مجاري الأصول كلية عن مجاري الأمارات إنما هو بما ذكره بقوله: إن يحصل له
القطع... إلى آخره، وأما غير مجاري الأصول بعضها عن بعض فهو ما ذكره بقوله:

(1) كفاية الأصول في الأمارات: ص 296.
436

الشك إما أن تكون له حالة سابقة أم لا... إلى آخره (1).
وإذا عرفت أن المقصود في المقام بيان الوظائف الشرعية التي تكون مباني
حركات الإنسان نحو تكاليفه الواقعية التي هي عبارة عن الأمارات والأصول،
وتميز موارد الأمارات عن الأصول - وإن ذكر القطع وأحكامه استطرادي - فاعلم
أن بيان أقسام القطع وأحكامه يستدعي رسم أمور:
الأول: أنه لا شبهة في وجوب العمل على طبق القطع كما أفاده (قدس سره) (2) لكن
لا يخفى أن القطع له جهات ثلاث:
الأولى: انكشاف الواقع به وهذا المعنى من اللوازم الذاتية للقطع كالحرارة للنار،
بل هو عين القطع، إذ لا معنى له إلا انكشاف الواقع وحضور المقطوع لدى القاطع.
الثانية: ترتيب الآثار الثابتة للمقطوع بمجرد القطع فإنه لو لم يجب ترتيبها
عليه لزم التناقض والإذن في المعصية، وهو محال مع عدم التصرف في الواقع
وعدم رفع اليد عنه كما هو المفروض، فإنه إذا كان وجوب الاجتناب من آثار
البول الواقعي وقطع بأن هذا المايع بول لو لم يجب الاجتناب عنه وكان مرخصا
في عدم الاجتناب لزوم المحذور المذكور.
الثالثة: كونها حجة بمعنى كونه قاطعا للعذر كما في الأمارات المعتبرة شرعا
وإن كان بينهما فرق من جهة كون حجية القطع منجعلة وحجية الأمارات جعلية لا
بمعنى الوسطية في الإثبات كما قيل، ولازم كونه حجة تحقق عنوان الإطاعة
والعصيان الموجبتين لاستحقاق الثواب والعقاب على موافقته ومخالفته، كونه
حجة بهذا المعنى غير وجوب ترتيب آثار الواقع، لأن حجيته بمعنى القاطعية
للعذر، وتحقق عنوان الإطاعة والعصيان بموافقته ومعصيته، أي كونه موضوعا
لحكم العقل بتنجز الواقع به، واستحقاق الثواب والعقاب بموافقته ومخالفته لا ربط
لها بترتيب آثار الواقع.

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 2.
(2) كفاية الأصول: في الأمارات ص 297.
437

إذ استحقاق الثواب والعقاب ليس من آثار الواقع بما هو واقع، بل من آثار
الإطاعة والعصيان المترتبين على تنجز الواقع ووصوله إلى المكلف إما بحجة
عقلية أو شرعية، وإلا فصرف ايجاد الواجب الواقعي مع عدم العلم بأنه واجب،
وعدم تنجز وجوبه عليه وصرف اجتناب الحرام الواقعي مع عدم العلم بأنه حرام،
وعدم تنجز حرمته عليه لا يوجبان الموافقة والمخالفة والإطاعة والعصيان
الموجبتين لاستحقاق الثواب والعقاب.
فتحصل: أن للقطع جهات ثلاث:
أحدها: انكشاف الواقع به وهو من لوازم ذات القطع، بل عينه.
الثانية: لزوم ترتيب آثار الواقع عل المقطوع بمجرد القطع، إذ عدم وجوب
ترتيبها عليه مستلزم للتناقض بعد فرض كون الآثار آثارا للواقع، وانكشاف
الواقع به.
الثالثة: كونه حجة أي قاطعا للعذر وموضوعا لحكم العقل بتنجز الواقع به،
وتحقق عنوان الإطاعة والعصيان الموجبين لاستحقاق الثواب والعقاب على
موافقته ومخالفته فيما لو تعلق بوجوب واجب أو حرمة حرام، فإنه يصح أن يحتج
به المولى على العبد، ويصح أن يحتج العبد به على المولى، ولا معنى للحجية إلا
صحة الاحتجاج وقاطعية العذر فيما لو تعلق بوجوب واجب أو حرمة حرام، وأما
كونه عذرا فيما لو تعلق بعدم وجوب شيء وكان واجبا واقعا، أو تعلق بعدم حرمة
شيء وكان حراما واقعا فهو ليس من آثار القطع. بل من آثار الجهل بالواقع
الملازم له، سيما مثل هذا الجهل المركب الذي هو أعظم عذر.
ولا ثمرة في النزاع في أن العذرية مستندة إلى القطع بعدم الوجوب أو الحرمة،
أو إلى الجهل بهما.
ولا يخفى أن تحقق عنوان الإطاعة والعصيان الموجبين لاستحقاق الثواب
والعقاب على موافقة القطع ومخالفته إنما هو فيما إذا تعلق القطع بالحكم الفعلي لا
بالحكم الاقتضائي الإنشائي الشأني، والمراد من الحكم الفعلي ما صار المولى
438

بصدد إجرائه وإنفاذه وأمر بتبليغه، وبعبارة أخرى المراد بفعلية الحكم إجراء
الحكم وتبليغه وتحصيله بمراتبه المختلفة من بيان كون الفعل ذو مصلحة كما هو
ذو مراتب، واشتياقه إلى ايجاده كما هو المرتبة الثانية، ووعد الثواب على فعله كما
هو المرتبة الثالثة، والعقاب على تركه بمراتب العقاب المختلفة شدة وضعفا كما
هي المرتبة الرابعة على حسب اختلاف الناس بحسب الانبعاث بهذه المراتب من
البعث، فإن بعضهم ينبعثون بالمرتبة الأولى وبعضهم بالثانية وهكذا، وهو غير نفس
الحكم، إذ المراد شيء وتحصيله شيء آخر، فكما في الإرادة التكوينية الإنسان
ربما تتعلق إرادته بشيء سواء كانت الإرادة عبارة عن الشوق المؤكد والحب أو
عن العلم بالصلاح، ولا يصير بصدد تحصيله بتهيئة مقدماته من جهة الموانع
والمزاحمات عن تحصيله إما مطلقا، أو على بعض الوجوه.
فكذلك في الإرادة التشريعية إرادة الشيء أمر وتحصيله شيء، ولكل منهما
مقتضيات ومزاحمات، فربما يكون المقتضي لجعل الحكم وتشريعه موجودا
والمانع مفقودا، ولكن بالنسبة إلى تحصيله والأمر بتبليغه إلى العباد يكون المانع
موجودا، إما من جهة عدم استعداد الناس وقابليتهم، أو من جهة أخرى، ولذا صار
بلوغ الأحكام على التدريج من أول زمان البعثة إلى زمان الأئمة (عليهما السلام) بل بعضها
لم يصر فعليا إلى الآن، ويصير فعليا في زمان ظهور الحجة (عليه السلام) كضرب عنق مانع
الزكاة وأمثاله.
إذا تحقق أن فعلية الحكم عبارة عن تحصيله وإجرائه، وهو غير نفس الحكم
فاعلم أن القطع إذا تعلق بالحكم الفعلي يصير موضوعا لحكم العقل بتنجز الواقع به
واستحقاق الثواب والعقاب على موافقته ومخالفته، لأن استحقاق الثواب والعقاب
يترتب على عنوان الإطاعة والعصيان المترتبين على موافقة الأمر ومخالفته،
والحكم إذا لم يصل مرتبة الفعلية ليس بأمر ولا نهي.
فعلى هذا لو تعلق القطع بالحكم الاقتضائي الإنشائي الشأني لا توجب
موافقته ومخالفته الثواب والعقاب، لأن غاية ما يمكن استفادته من حكم العقل
439

لقاعدة الملازمة بين كون الفعل ذا مصلحة ملزمة وبين وجوبه الشرعي هو كونه
واجبا لوجود المقتضي لجعل وجوبه وعدم المزاحم له، وأما كونه فعليا وقد صار
المولى بصدد تحصيله وأمر بتبليغه فلا، ولو حصل القطع بهذا أيضا للأوحدي من
الناس فلا مانع عن استحقاق الثواب والعقاب على موافقته ومخالفته.
ويمكن أن يقال: إن الحكم الانشائي بتعلق القطع به يصير فعليا ويكون تعلق
القطع به كقيام حجة شرعية عليه في صيرورته فعليا، لأن استحقاق الثواب
والعقاب مترتب على موافقة الحكم الواصل إلى العبد ومخالفته، سواء كان وصوله
بلسان الرسول الظاهري أو الرسول الباطني.
كما يمكن أن يقال: إنه لا فرق في نظر العقل في كون القطع موجبا لتنجز
الواقع به بين تعلقه بالحكم الفعلي والحكم الانشائي.
وعلى أي حال القطع إذا تعلق بحكم هل هو عله تامة لتنجزه لحكم العقل
باستحقاب الثواب والعقاب على موافقته ومخالفته أو مقتض له. وبعبارة أخرى إذا
تعلق القطع بوجوب شيء هل هو علة تامة للتنجز وحكم العقل باستحقاق الثواب
والعقاب على موافقته ومخالفته بحيث لا يمكن للشارع الترخيص في تركه أو
مقتض له بحيث يمكن له الترخيص في تركه؟
الظاهر أنه بنحو العلية التامة لا بنحو الاقتضاء، والكلام في إمكان الترخيص
في الترك وعدمه، وإلا فمع الترخيص الشرعي لا موقع لحكم العقل باستحقاق
العقاب على مخالفته، وهذا البحث جار في العلم الإجمالي كما سيجيء تفصيله في
محله إن شاء الله.
الأمر الثاني: أنه بعد ما عرفت أن القطع إذا تعلق بالحكم الفعلي يوجب تنجيزه
وحكم العقل باستحقاق الثواب على موافقته ومخالفته، فهل هو تمام الموضوع
لحكم العقل بتنجز الواقع به واستحقاق المثوبة والعقوبة على موافقته ومخالفته، أو
جزء الموضوع.
فان قلنا بأنه تمام الموضوع فإذا تعلق بوجوب شيء ولم يكن في الواقع
440

واجبا، أو تعلق بحرمة شيء ولم يكن في الواقع حراما يستحق الثواب على
موافقته والعقاب على مخالفته.
وإن قلنا بأنه جزء الموضوع فلا يستحق شيئا، لأن الموجب للثواب والعقاب
ليس هو موافقة القطع ومخالفته، بل هما مع مصادفة الواقع ومع التخلف عنه فلا
شيء. فعلى الأول يكون التجري حراما وموجبا لاستحقاق العقاب، وعلى الثاني
لا يكون حراما.
لا إشكال في أن حسن الأفعال وقبحها تختلف بالوجوه والاعتبار، وإنما
الإشكال في أن القطع بوجوب شيء من العناوين المحسنة له والقطع بحرمة شيء
من العناوين المقبحة له وإن لم يكن كذلك واقعا أم لا؟
ومنشأ الإشكال هو: أن قبح التجري والتمرد الذي لا إشكال فيه هل يسري
إلى الفعل المتجري به أم لا؟ وبعبارة أخرى: أن التجري هل هو عنوان متحد مع
الفعل الخارجي ويكون الفعل الخارجي هو المصداق للتجري بحيث يصح حمل
المتجري عليه بأن يقال: هذا الفعل هو التجري، أو أنه ملازم له كما ذكرنا هذين
الاحتمالين في التشريع أيضا؟
فإن قلنا بالأول فيصير الفعل الخارجي أيضا قبيحا، لأنه تجر وطغيان على
المولى، وإن قلنا بالثاني فلا يكون الفعل الخارجي الملازم له قبيحا، وبعبارة ثالثة:
لا إشكال في خبث الفاعل وسوء سريرته وقبح طينته، وإنما الإشكال في قبح
الفعل الصادر عنه باعتقاد أنه حرام مع أنه لم يكن بحرام واقعا، وهل النزاع في
مسألة التجري كلامي أو أصولي أو فرعي.
كلام الشيخ (1) (قدس سره) في هذا المقام مضطرب، فإنه من بعض كلماته يظهر أن
المسألة كلامية حيث جعل البحث في استحقاق العقاب على التجري وعدمه، ومن
بعضها يظهر أن المسألة أصولية حيث يتمسك بحكم العقل بقبحه وذم العقلاء، وكون
النزاع في حكم العقل صغرويا كما في سائر المسائل الأصولية العقلية كالتحسين

(1) فرائد الأصول: المقصد الأول في القطع ج 1 ص 8. س 13.
441

والتقبيح العقليين والملازمات العقلية مثل الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب
مقدمته وحرمة ضده وأمثالهما مما يكون النزاع صغرويا وفي أن العقل هل يحكم
بهذا أم لا؟
ومن بعضها يظهر أن المسألة فرعية حيث تمسك بالإجماع على حرمة سلوك
طريق مظنون الخطر ونحوه، وجهة أن هذه الجهات الثلاث بنظره (قدس سره) متلازمة، فلو
ثبتت إحداها ثبتت الأخيرتان، وإن انتفت إحداها انتفت الأخيرتان، لأن
استحقاق العقاب لا يكون إلا مع كون الفعل حراما وقبيحا، وهما لا يكونان إلا مع
استحقاق العقاب.
ولكن للنظر فيه مجال، وذلك لأن استحقاق العقاب إنما هو من لوازم التمرد
والطغيان على المولى والخروج عن زي عبوديته وهتك حرمته، وهذا المعنى
موجود في التجري كالعصيان فإن من ارتكب فعلا مع القطع بأنه حرام، ولكن لم
يكن حراما واقعا مثل من ارتكب فعلا مع القطع بأنه حرام، وكان حراما في كونه
متمردا وطاغيا وخارجا عن العبودية، والفرق بينهما بوصول المضار الواقعية التي
للحرام الواقعي إلى المكلف في الثاني دون الأول، لعدم الحرمة. والمضرة في الفعل
واقعا جهة خارجية لا ربط لها بما هو المناط في استحقاق العقاب وهو الطغيان
على المولى المشترك بينهما، فإن وصول المضرة الكامنة في الفعل غير العقوبة
المترتبة على الطغيان والتمرد، كما أن وجود التشفي في الثاني وعدمه في الأول لا
يوجب الفرق من حيث العقوبة على الطغيان في كليهما بالنسبة إلى مولى الموالي،
لعدم التشفي فيه، وإنما هو الموجب للفرق بينهما في الموالي الظاهرية.
فاستحقاق العقاب على فعل لا يستلزم قبحه، وعلى تقدير استلزامه لا يمكن
للعقل الحكم بحرمته بقاعدة الملازمة بين كون الشيء قبيحا عقلا ومحرما شرعا،
لأن قاعدة الملازمة إنما تجري في مورد يكون قابلا للحكم الشرعي، والمقام
ليس كذلك، لأن قبح التجري كالعصيان، فكما أن قبح العصيان عقلا لا يستلزم
حرمته شرعا، ولا يمكن أن يكون النهي عنه مولويا، بل لا بد أن يكون إرشاديا
442

كالأمر بالإطاعة فكذلك قبح التجري لا يستلزم حرمته شرعا، ولا يمكن أن يكون
النهي عنه مولويا، بل لابد أن يكون إرشاديا كالأمر بالانقياد.
توضيحه: أن النهي إذا كان ملاكه معلوما كما إذا قال المولى لعبده، لا تشرب
هذا المائع، لأنه مهلك، أو فهم بوجه آخر أن المقصود من النهي عن الفعل عدم
وصول المضرة الكامنة فيه إلى المكلف فهذا النهي إرشادي، ولا يترتب على
مخالفته شيء سوى المضرة الكامنة في الفعل، كما أن الأمر بفعل علم أن ملاك
الأمر به وصول المنفعة الكامنة فيه إلى المكلف إرشادي لا يترتب على موافقته
شيء سوى المنفعة الكامنة فيه، كما إذا قال الطبيب للمريض: اشرب هذا الدواء،
لأنه نافع. والنهي عن المعصية - كالأمر بالطاعة - من هذا القبيل، لأن ملاك النهي
في الأول هو عدم وصول العقوبة التي [هي] مترتبة على المعصية إلى المكلف كما
أن ملاك الأمر في الثاني هو وصول المثوبة المترتبة على الإطاعة إلى المكلف
فمن هذه الجهة تكون الأوامر والنواهي الشرعية الواردة في باب الإطاعة
والمعصية إرشادية لا مولوية، وبوجه آخر أن وجوب تمام الواجبات وحرمة تمام
المحرمات لابد أن تنتهي إلى واجب بالذات ومحرم بالذات دفعا للدور
والتسلسل، إذ كل ما بالغير لابد وأن ينتهي إلى ما بالذات، فوجوب الإطاعة
وحرمة المعصية ذاتيان لهما بحكم العقل وليسا عرضيين مجعولين لهما بحكم
الشرع، وإلا يلزم الدور والتسلسل.
وإذا تبين حال المعصية الحقيقية وأنه لا يمكن أن يكون النهي عنه مولويا
وحرمته شرعيا فكذلك التجري أيضا، إذ لا اشكال في قبح التجري عقلا، إلا أن
قبحه عقلا لا يستلزم حرمته شرعا بقاعدة الملازمة، لما مر من أن المورد غير قابل
للحكم المولوي الشرعي.
ولا يخفى أن التجري له مراتب مختلفة بالشدة والضعف، فإن نفس تصور فعل
القبيح ليس تجريا، ولكن الميل إليه والرغبة وهيجان النفس والعزم على فعله
والشوق إليه كلها من مراتب التجري وإن كان معفوا عنه ما لم يصدر عنه فعل
443

خارجي على طبقه، كما ورد في الأخبار (1) بأن نية السوء لا يعاقب عليها وأما إذا
صدر منه فعل خارجي على طبقه فيكون قبيحا ويستحق العقاب عليه، لما عرفت
من أن استحقاق العقاب مترتب على الطغيان المشترك بين التجري والعصيان،
فتأمل في المقام.
فتحصل: أن للقطع جهات ثلاث:
أحدها: الكاشفية عن متعلقه، وهي من لوازم ذات القطع، بل عينه.
ثانيها: ترتيب آثار المقطوع بمجرد تعلق القطع به، إذ لو لم يجب ترتيب آثار
المتعلق بمجرد القطع به يلزم التناقض.
ثالثها: الحجية بمعنى كونه قاطعا للعذر إن أصاب الواقع، كما إذا قطع بوجوب
شيء وكان واجبا واقعا، أو قطع بحرمته وكان حراما واقعا، كما هو معنى الحجية
في الطرق الشرعية من الأمارات والأصول وعذرا إن أخطأ عن الواقع كما إذا قطع
بعدم وجوب شيء أو عدم حرمته وكان واجبا أو حراما واقعا إن قلنا بأن
المعذورية مستندة إلى القطع لا إلى الجهل المركب بالنسبة إلى الواقع الذي هو
أعظم عذر، وإلا فتنحصر الحجية بالقاطعية للعذر وأما العذرية فمستندة إلى الجهل
المركب الذي في مورده لا إلى القطع، فإذا قطع بأن هذا المائع ماء وشربه وكان في
الواقع خمرا لا إشكال في أنه معذور، وإنما الإشكال في أن عذره مستند إلى القطع
أو الجهل المركب بخمريته.
وكيف كان القطع موضوع لحكم العقل باستحقاق الثواب والعقاب على
موافقته ومخالفته اللذين لا يترتبان إلا على عنوان الإطاعة والعصيان اللذين لا
يتحققان إلا مع تنجيز الواقع، فإذا قطع بوجوب شيء أو حرمته وكان واجبا أو
حراما واقعا يتنجز الواقع بواسطة تعلق القطع به وإذا تنجز الواقع يتحقق عنوان
الإطاعة والعصيان بموافقته ومخالفته، وإذا تحقق عنوان الإطاعة والعصيان يحكم

(1) وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب مقدمة العبادات ج 1 ص 36.
444

العقل باستحقاق الثواب والعقاب عليهما، لحسن الأول ذاتا وقبح الثاني كذلك.
فوجوب الإطاعة وحرمة المعصية عقلي لا شرعي.
ولا يمكن القول بوجوب الأول شرعا وحرمة الثاني كذلك، لقاعدة الملازمة،
لأن قاعدة الملازمة إنما هو في مورد يكون قابلا للحكم الشرعي، وهما ليس
كذلك، لأن الغرض من الإطاعة وهو استحقاق المثوبة المترتبة على عنوان
الإطاعة ومن المعصية وهو استحقاق العقوبة المترتبة على عنوان المعصية معلوم،
فليس الحكم الشرعي المتعلق بعنوان الإطاعة والمعصية مولويا، لعدم قبولهما
للحكم المولوي الشرعي، بل إرشادي محض، لمعلومية الغرض منهما، مع أنه لو
كان وجوب الإطاعة وحرمة المعصية شرعيا لزم التسلسل فلابد أن يكونا ذاتيين
دفعا للتسلسل ولزوم انتهاء كل ما بالغير إلى ما بالذات.
وتحقق أن القطع موجب لتنجز الواقع وتحقق عنوان الإطاعة والعصيان
بموافقته ومخالفته اللذين هما موضوعان لحكم العقل باستحقاق الثواب والعقاب
عليهما فيما إذا تعلق بالحكم الفعلي لا الحكم الإنشائي (1).
وأنه علة تامة لحكم العقل، بمعنى أنه لا يمكن للشارع الترخيص في ترك
موافقته فيما إذا تعلق بوجوب شيء والترخيص في مخالفته إذا تعلق بحرمة شيء،
وإلا فمع إمكان الترخيص وفعليته لا موقع لحكم العقل باستحقاق الثواب والعقاب
على موافقته ومخالفته، لا أنه مقتضى لحكم العقل بالاستحقاق، بمعنى أنه يمكن

(1) ولعل نظر من فصل في حجية القطع بين القطع الحاصل من الأدلة الشرعية والأدلة العقلية
وقال بحجية الأول لا الثاني إلى أن الأول لابد أن يكون متعلقا بالحكم الفعلي لصيرورة
الحكم الواقعي فعليا بمجرد قيام الدليل الشرعي عليه بخلاف الثاني إذ يمكن أن لا يكون
الحكم الشرعي ولم يصر المولى في صدد تحصيله وإن صار بصدد انشائه واستكشف العقل
حسنه بقاعدة الملازمة نعم يمكن استكشاف الفعلية لبعض العقول بقاعدة الملازمة إلا أنه
نادر في الغاية إذ غالب العقول لا يدرك إلا حسن الفعل وأما إدراكه لعدم المزاحم في إجرائه
فلا.
445

للشارع الترخيص في ترك الموافقة والمخالفة.
وتبين أيضا أنه تمام الموضوع لحكم العقل باستحقاق الثواب والعقاب، فإذا
قطع بوجوب شيء أو حرمته يستحق الثواب على موافقته الأول ومخالفته الثاني،
وإن لم يكن الواقع كذلك لا أنه جزء الموضوع، ولا يترتب الثواب والعقاب على
موافقته ومخالفته في صورة عدم المصادفة.
فعلى هذا يكون التجري موضوعا لحكم العقل باستحقاق العقاب عليه
كالمعصية الحقيقية، لاشتراكهما في التمرد والطغيان الموجبين لاستحقاق العقاب
وسراية قبحه إلى الفعل الخارجي، لانطباق عنوان التجري عليه كما ينطبق عنوان
المعصية على الفعل الخارجي وأن قبحه عقلا واستحقاق العقاب عليه لا يلازم
حرمته شرعا، لقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع، لما عرفت من المورد غير
قابل لحكم الشرع كما في المعصية الحقيقية. ولا فرق بين التجري والعصيان بما
هو الملاك لاستحقاق العقاب، أعني التمرد والطغيان وهتك حرمة المولى
والخروج عن زي عبوديته، وإن كان بينهما فرق من جهة وصول المفسدة التي في
الحرام الواقعي إلى المكلف والتشفي بعقوبته في العصيان الحقيقي دون التجري،
إلا أن وصول المفسدة لا ربط له بمسألة العقوبة المترتبة على التمرد والطغيان.
والتشفي غير متصور في المولى الحقيقي وإن كان متصورا في الموالي الظاهرية.
فالعمدة في استحقاق العقاب على التجري هو ما ذكرنا من عدم الفرق بينه
وبين المعصية الحقيقية فيما هو الملاك لاستحقاق العقاب - أعني التمرد والطغيان -
وأنه عنوان قبيح يسري قبحه إلى الفعل المتجرى به لانطباقه عليه كما في المعصية
الحقيقية وإن تعلق القطع بحرمة شيء من العناوين المقبحة له. كما أن تعلق القطع
بوجوب شيء من العناوين المحسنة له من جهة انطباق عنوان القبيح الذاتي
وعنوان الحسن الذاتي أعني التجري والانقياد على الفعل الخارجي وصيرورته
مصداقا لهما بالحمل الشائع، إذ الإشكال في استحقاق العقاب على الفعل المتجري
به إنما هو من جهة الإشكال في أن عنوان التجري - الذي لا إشكال في قبحه -
446

منطبق على الفعل الخارجي.
ويكون الفعل الخارجي أيضا قبيحا ومحرما ومستحقا للعقاب عليه، لسراية
قبح التجري إليه، أو أنه ملازم له، ولا يكون الفعل الخارجي قبيحا ومحرما
ومستحقا للعقوبة عليه، لعدم سراية قبحه إليه. فإذا قلنا بالانطباق فلا إشكال في
سراية قبحه عليه واستحقاق العقوبة عليه على اختلاف مراتب التجري من الشدة
والضعف، على ما عرفت من أنه مجرد تصور الفعل القبيح ليس تجريا، وأما ميل
النفس والرغبة إليه وهيجان القوة الشهوية كلها من التجري إلا أنها معفو عنها ما لم
يصدر عنه فعل في الخارج على طبقه، فإذا صدر منه فعل خارجي فيستحق
العقاب عليه.
وكلما كان انكشاف قبح الفعل المتجرى به عند القاطع أتم كان التجري عليه
أشد، ولذا كان التجري على اتيان ما قطع بحرمته تفصيلا أشد من التجري على ما
قطع بحرمته إجمالا كأطراف الشبهة المحصورة، والتجري على اتيان مقطوع
الحرمة أشد مما قامت الأمارة أو الأصول على حرمته كما أن التجري بالنسبة إلى
ما قطع بشدة اهتمام المولى به - كقتل النبي أو الإمام - أشد مما لم يكن بهذه المثابة
كقتل المؤمن، وهو أشد من غيره، وهكذا.
فإن ثبت بالبيان المذكور قبح الفعل المتجرى به واستحقاق العقاب عليه من
جهة انطباق عنوان التجري عليه كالعصيان الحقيقي فهو، والا فلا يمكن الاستدلال
لا بالإجماع - لأن هذه المسألة عقلية ولا مسرح لدعوى الإجماع فيها - ولا بما
ذكر من الدليل العقلي - الذي قرروه - بأنا إذا فرضنا شخصين قطع أحدهما
بخمرية مائع والآخر بخمرية مائع آخر فشربا هما، واتفق مصادفة أحدهما للواقع
ومخالفة الآخر له فإما أن يستحقا العقاب، أو لا يستحقان، أو يستحق من صادف
قطعه الواقع دون من لم يصادف، أو بالعكس، لا سبيل إلى الثاني والرابع، والثالث
مستلزم لإناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار، وهو مناف لما
يقتضيه العدل، فتعين الأول.
447

وفيه: ما ذكره الشيخ (1) (قدس سره) من أنا نختار استحقاق من صادف قطعه الواقع
دون من لم يصادف، لأن الأول عصى اختيارا دون الثاني.
قولك بأن التفاوت بالاستحقاق في الأول وعدمه في الثاني مستلزم لإناطة
العقاب بما هو خارج عن الاختيار.
ممنوع، لأن العقاب بما لا يرجع بالأخرة إلى الاختيار قبيح، إلا أن عدم
العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار قبحه غير معلوم، ومراده من عدم العقاب عدم
استحقاقه لا العقاب الفعلي، إذ عدم العقاب الفعلي على الأمر الاختياري ليس
بقبيح فضلا عن غير الاختياري، فتأمل.
وإنكار التفاوت بين من صادف قطعه الواقع ومن لم يصادف قطعه الواقع في
استحقاق العقاب وعدمه إنكار للفعل الاختياري مطلقا، إذ من قطع بأن هذا
الشخص زيد وقتله، وكان زيدا واقعا لا إشكال في أنه قتل زيدا اختيارا ويستحق
القصاص، ويترتب على هذا القتل سائر ما يترتب على القتل العمدي، والحال أن
مصادفة قطعه للواقع وكونه زيدا أمر خارج عن اختياره، فالتفاوت بين من
صادف قطعه الواقع وغيره إنما هو من جهة صدور شرب الخمر عن الأول اختيارا
وعن عمد، وعدم صدوره عن الثاني كذلك.
ولا حاجة في إثبات التفاوت بينهما إلى الأخبار (2) الواردة في أن: من سن
سنة حسنة كان له أجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة كان له وزر من عمل بها.
فإنه لو لا تلك الأخبار لقلنا بكثرة عقاب من سن سنة سيئة واتفق كثرة العامل
بسنته، وقلة عقاب من سن سنة سيئة واتفق قله العامل بسنته، فإذا فرضنا أن العامل
بسنة الأول مائة والعامل بسنة الثاني خمسون فلا إشكال في تساويهما في عقاب
الخمسين، لأن عمل الخمسين بسنتهما راجع إلى اختيارهما، وهو جعل السنة
السيئة، وأما الزائد عليه في الأول مستند إليه فيستحق دون الثاني فلا يستحق.

(1) فرائد الأصول: المقصد الأول في القطع ج 1 ص 9.
(2) وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب مقدمات العبادات ج 1 ص 35.
448

والحاصل: أن استحقاق العقاب لابد أن يرجع إلى أمر اختياري، وأما عدم
استحقاق العقاب فلا يحتاج إلى أن يرجع إلى أمر اختياري، بل يكفي عدم صدور
الفعل اختيارا، فإن صدور الفعل اختيارا بواسطة أو بلا واسطة موجب وعلة
لاستحقاق العقاب، وعدم تلك العلة علة للعدم، ولا يحتاج إلى علة وجودية فإن
من ترك قتلا أو شربا أو سائر المحرمات لعدم قدرته عليها ونحوه لا يعاقب عليها،
وإن لم يكن ذلك الترك اختياريا، فتأمل.
وأما التفصيل الذي ذكره صاحب الفصول (1) (قدس سره) من أنه لو قطع بتحريم شيء
غير محرم واقعا وارتكبه فإنه يرجح استحقاق العقاب عليه، ولو قطع بتحريم
واجب غير مشروط بقصد القربة فإنه لا يبعد عدم استحقاق العقاب عليه لو
ارتكبه، من جهة معارضة الجهة الواقعية للجهة الظاهرية، لعدم كون قبح التجري
ذاتيا واختلافه بالوجوه والاعتبار.
ففيه: ما ذكره الشيخ أولا من أن قبح التجري ذاتي، لأنه كالظلم، بل عينه ومن
أشد أفراده، لأنه ظلم في حق المولى الحقيقي بالتمرد والطغيان عليه وهتك حرمته
والخروج عن زي عبودية.
وثانيا على تقدير عدم كونه ذاتيا واختلافه بالوجوه والاعتبار فلا إشكال في
أنه مقتض للقبح كالكذب، ولا يرتفع قبحه إلا بعروض جهة محسنة له، والجهة
الواقعية المغفول عنها لا تتصف بحسن ولا قبح حتى تؤثر في رفع قبحه، لأنه كما
أن اتصاف التجري بالحسن والقبح إنما يختلف بالوجوه والاعتبار فكذلك ما
تحقق التجري بفعله أو تركه أيضا يختلف بالوجوه والاعتبار، فترك قتل المؤمن
في المثال الذي ذكره لا يتصف بحسن ولا قبح للجهل بكونه مؤمنا فكيف يوجب
رفع قبح التجري.
والحاصل: أنه إن قلنا بأن قبح التجري يختلف بالوجوه والاعتبار فلا شك أنه
لا يرتفع قبحه إلا بعروض جهة محسنة له وترك قتل المؤمن أو النبي في المثال

(1) الفصول: في أن جاهل الحكم غير معذور ص 431 س 36.
449

المذكور لا يتصف بالحسن من جهة عدم الالتفات إليه حتى يوجب رفع قبح
التجري، وكذلك ما ذكره (1) أيضا من أن التجري لو صادف المعصية الواقعية
تداخل عقابهما فيه أيضا ما ذكره الشيخ (قدس سره) (2) من أنه لو أريد بالتداخل وحدة
العقاب كما هو الظاهر من لفظ التداخل فلا وجه له، إذ هو ترجيح بلا مرجح، إذ مع
كون التجري عنوانا مستقلا لاستحقاق العقاب فلا وجه لوحدة العقاب، لأنه نظير
ما لو شرب الماء المغصوب المتنجس وإن أريد به عقاب زائد على عقاب محض
التجري فهو ليس تداخلا.
الأمر الثالث: أنه قد عرفت أن القطع بالتكليف أخطأ أو أصاب يوجب عقلا
استحقاق المدح والثواب أو الذم والعقاب من دون أن يؤخذ شرعا في خطاب
وقد يؤخذ حكم آخر يخالف متعلقه لا يماثله ولا يضاده، كما إذا ورد في خطاب
- مثلا - أنه إذا قطعت بوجوب شيء عليك التصدق بكذا تارة بنحو يكون تمام
الموضوع بأن يكون القطع بالوجوب مطلقا - ولو أخطأ - موجبا لذلك، وأخرى
بنحو يكون جزءه بأن يكون القطع به في خصوص ما أصاب موجبا له، وفي كل
منهما يؤخذ طورا بما هو كاشف وحاك عن متعلقه، وآخر بما هو صفة خاصة...
إلى آخره.
وتحقيق المقام هو أن القطع قد يكون طريقا للحكم وكاشفا عنه، وقد يكون
مأخوذا في موضوع [الحكم] القطع الذي طريق للحكم، لا فرق فيه بين
خصوصياته من حيث القاطع وأسباب القطع وأزمانه، ومن خواص القطع الطريقي
قيام الأمارات المعتبرة وبعض الأصول كالاستصحاب مقامه بنفس دليل اعتبارها
كما هو محل الكلام، إذ لا إشكال ولا كلام في قيام أمارة أو أصل مقام القطع لو قام
عليه دليل بالخصوص، وذلك لأن الأمارات المعتبرة شرعا كلها أو جلها طرق
عقلائية لها جهة كشف ناقص عن الواقع، والشارع بدليل اعتبارها تمم جهة كشفها

(1) الفصول: في مقدمة الواجب ص 87 س 34.
(2) فرائد الأصول: المقصد الأول في القطع ج 1 ص 12.
450

عن الواقع فإذا تمت جهة كشفها فيصير حالها كالقطع الذي هو كاشف تام.
وبعبارة أخرى احتمال الخلاف الذي في الأمارات موجود تكوينا نزله
الشارع منزلة العدم بنفس دليل اعتبارها، فكما أن القطع الذي لا يكون فيه احتمال
الخلاف عند القاطع ويرى الواقع بلا احتمال الخلاف تكوينا فكذلك الأمارات
المعتبرة شرعا احتمال الخلاف الموجود فيها تكوينا ملغى تشريعيا، فكما أنه إذا
قطع بخمرية مائع يجب عليه ترتيب آثار الخمر فكذلك إذا قامت البينة على
خمريته يجب ترتيب آثار الخمر عليه، والاحتمال الموجود مع قيام الأمارة غير
معتنى به شرعا بعد اعتبارها، كما أنه غير معتنى به عند العقلاء.
فعلى هذا يكون دليل الاعتبار ناظرا إلى تنزيل الأمارات منزلة القطع،
ويمكن أن يكون ناظرا إلى تنزيل مؤدياتها منزلة الواقع بأن يكون الشارع نزل ما
قامت البينة على خمريته منزلة الخمر الواقعي، فكما أنه يجب الاجتناب عن
الخمر الواقعي فكذا يجب الاجتناب عما قامت البينة على خمريته، لأنه خمر
تنزيلي بحكم الشارع، ولعل الثمرة بين الوجهين من حيث الورود والحكومة كما
ربما تأتي الإشارة إليها في محله إن شاء الله. هذا بيان قيام الأمارات المعتبرة
شرعا مقام القطع الطريقي.
وحاصله: أن الشارع نزل الأمارة بدليل اعتبارها منزلة القطع، فحصل للقطع
فردان فرد واقعي حقيقي تكويني، وفرد تنزيلي مجازي تعبدي، وأما قيام
الاستصحاب مقامه، فلأن لسان أدلة الاستصحاب إما جعل الشك بمنزلة اليقين، أو
المشكوك بمنزلة المتيقن. وعلى أي حال حاله كحال الأمارة في عدم الاعتناء
باحتمال الخلاف، وتنزيل الشك الفعلي بمنزلة اليقين، أو تنزيل المشكوك بمنزلة
المتيقن.
ولا يخفى أنه لا يختص الاستصحاب من بين الأصول بقيامه مقام القطع، بل
الاحتياط الشرعي والبراءة أيضا يقومان مقامه، غاية الأمر أن الاستصحاب إن
قلنا بأن له جهة كاشفية عن الواقع يقوم مقام القطع في المراتب الثلاثة التي له من
451

الكاشفية ووجوب ترتيب آثار الواقع والحجية، وإن لم نقل بأن له جهة كاشفية
يقوم مقامه في الأخيرتين.
وأما الاحتياط فيقوم مقامه في تنجيز الواقع.
وأما البراءة فإن قلنا في صورة القطع بعدم التكليف مع وجود التكليف واقعا
المعذورية مستندة إلى القطع بعدم التكليف لا إلى الجهل المركب الذي في مورده
فالبراءة تقوم مقامه. وإن قلنا بأنها مستندة إلى الجهل المركب كالبراءة لا تقوم
مقامه، هذا تمام الكلام في القطع الطريقي.
وأما القطع المأخوذ في الموضوع فقد قسمه الشيخ إلى المأخوذ على وجه
الطريقية، فتقوم الأمارات والأصول مقامه، والى المأخوذ على وجه الصفتية
الخاصة فلا تقوم الأمارات والأصول مقامه، والاحتمالات المتصورة في هذا
المقام مع قطع النظر عن مساعدة كلام الشيخ (1) وعدمها عديدة:
أحدها: أن القطع المأخوذ في الموضوع وإن كان بحسب ظاهر الدليل مأخوذا
فيه إلا أنه بحسب الواقع يمكن أن يكون موضوع الحكم هو الواقع المقطوع بلا
دخل فيه للقطع، ولكن لما كان ترتيب الحكم على الموضوع الواقعي موقوفا على
إحرازه فاعتبر القطع في الموضوع من حيث كون محرزا للواقع، كما إذا قال
المولى، إذا عرفت زيدا فأكرمه، ونحوه فإن وجوب الإكرام موضوعه ذات زيد
ومع ذلك علقه على معرفته، ويمكن أن يكون له دخل فيه، فإن كان على الوجه
الأول فتقوم مقامه الأمارات والأصول، وإن كان على الوجه الثاني فلا تقوم مقامه
الأمارات والأصول. فعلى هذا ليس تفصيل في القطع الموضوعي وإنما هو تفصيل
بين القطع الطريقي والموضوعي بقيام الأمارات والأصول مقام الأول لا الثاني.
ثانيها: أن القطع المأخوذ في الموضوع سواء كان تمام الموضوع بأن لا يكون
للمقطوع دخل فيه ويكون الموضوع هو القطع المتعلق به، سواء صادف الواقع أو
خالفه وسواء انكشف الخلاف أم لا؟ كما إذا قال المولى: القطع بالخمرية موجب

(1) فرائد الأصول: في حجية القطع ج 1 ص 6.
452

للاجتناب، أو كان جزء الموضوع بأن يكون لكل من القطع والواقع المقطوع دخل
فيه، بحيث لا يترتب الحكم إلا على المجموع منهما كما إذا قال: " الخمر المقطوع
يجب الاجتناب عنه " يمكن أن يكون من جهة أنه فرد ومصداق للطريق، ويمكن
أن يكون من جهة أنه طريق مخصوص.
فإن كان مأخوذا على الوجه الأول فتارة يكون تمام الموضوع، وأخرى
يكون جزء الموضوع، فإن كان تمام الموضوع كما إذا قال: " إن قطعت بخمرية
شيء يجب الاجتناب عنه، فهو كما إذا قال: " إن قام عندك طريق على خمرية
شيء يجب الاجتناب عنه " فإن كان للخمرية أثر آخر غير هذا الأثر - أعني
وجوب الاجتناب - فحينئذ تقوم الأمارات وبعض الأصول مقامه، لأن طريقيتها
مجعولة بلحاظ الأثر الآخر الذي للمتعلق، فيتحقق للطريق فردان، أحدهما: القطع
الذي فرديتة ذاتية والآخر الأمارة التي فرديتها تعبدية.
فإذا قطع بالخمرية أو قامت البينة عليها يجب الاجتناب، لأن كلا منهما طريق
والفرض أن تمام الموضوع لوجوب الاجتناب هو ما قام الطريق على خمريته،
سواء كانت طريقيته منجعلة أو مجعولة، وإن لم يكن للخمرية أثر غير هذا الأثر
- وهو وجوب الاجتناب - فلا تقوم الأمارات والأصول مقامه، لأن هذا الأثر
ترتب على ما قام الطريق على خمريته، فلابد أولا من إحراز الموضوع وهو قيام
الطريق حتى يترتب عليه هذا الأثر، والفرض أن طريقيته أيضا متوقفة على ثبوت
هذا الأثر، لأن المفروض أنه ليس لها أثر غير هذا الأثر، فيلزم الدور، إذ ترتيب هذا
الأثر متوقف على طريقية الطريق، والأمارة وطريقيته متوقفة على هذا الأثر إذ لو
لم يكن هذا الأثر يكون جعله طريقا لغوا، لأن المفروض عدم أثر آخر، فتدبر.
وكذا إذا كان جزء الموضوع كما إذا قال: يجب الاجتناب عن الخمر المقطوع،
فإن كان للخمر أثر غير هذا الأثر فيمكن جعل الأمارة بلحاظ ذلك الأثر، وإذا
صارت مجعولة فتقوم مقام القطع في ترتيب وجوب الاجتناب الذي فرض أن
القطع بما أنه فرد من الطريق جزء موضوعه، وإن لم يكن للخمر أثر غير هذا الأثر
453

- أعني وجوب الاجتناب - فلا تقوم الأمارة مقام القطع، لأن قيامها مقام القطع
متوقف على طريقيتها، وهي متوقفة على وجود الأثر، والفرض أنه لا أثر لها إلا
هذا الأثر فيلزم توقف هذا الأثر على نفسه وهو دور فتأمل وإن كان مأخوذا فيه
على الوجه الثاني فلا تقوم الأمارات والأصول مقامه.
ثالثها: أن القطع المأخوذ في الموضوع بقسميه تارة يكون أخذه فيه من جهة
أنه صفة خاصة قائمة بالنفس وكيفية من الكيفيات النفسانية، وأخرى يكون أخذه
فيه من جهة إرائته وكشفه عن الواقع، إذ القطع صفة ذات إضافة له جهة موضوعية
وجهة طريقية، فإن كان أخذه في الموضوع بلحاظ موضوعيته فلا تقوم الأمارات
والأصول بنفس دليل اعتبارها كما هو محل الكلام مقامه.
نعم لا مانع من قيامها مقامه بورود دليل خاص - مثلا - على أن قيام الأمارة
- كالبينة ونحوها - على شيء كالقطع به في وجوب ترتيب آثار الواقع عليه،
ويكون حينئذ من قبيل " الطواف بالبيت صلاة " وإن كان أخذه فيه من جهة أنه
طريق ومرآة للواقع، فإن كان اعتباره فيه من جهة أنه طريق خاص لا تقوم
الأمارات والأصول مقامه، وإن كان اعتباره من جهة أنه فرد من مطلق الطريق،
فتقوم الأمارات والأصول مقامه كما عرفت.
ومجمل الكلام في المقام هو أن القطع الطريقي تقوم الأمارات والأصول
- على ما عرفت - مقامه بنفس دليل اعتبارها سواء قلنا بأن مفاد أدلة اعتبارها هو
الغاء احتمال الخلاف أو تنزيل مؤدياتها منزلة الواقع. أما على الأول فلصيرورتها
قطعا بالتعبد الشرعي، إذ القطع ما لا يكون فيه احتمال الخلاف، فإن لم يكن فيه
احتمال الخلاف تكوينا فهو القطع الوجداني التكويني، وإن لم يكن فيه احتمال
الخلاف تشريعا فهو القطع التعبدي التنزيلي. وأما على الثاني، فلأنه بعد أن نزل
الشارع مؤدى الأمارة منزلة الواقع فهو وإن لم يكن مقطوعا به إلا أنه لا فرق بينه
وبين المقطوع في ترتيب آثار الواقع عليه، فإذا كان حكم الخمر هو وجوب
الترك، ومعلوم أن هذا الأثر لا يترتب إلا بعد الإحراز، فلا فرق بين الإحراز
454

بالوجدان أو الإحراز بما جعله الشارع محرزا في أن المحرز في كليهما خمر
غايته أنه في الأول خمر واقعي وفي الثاني خمر تنزيلي تعبدي نزلها الشارع
منزلة الخمر الواقعي في وجوب ترتيب الآثار.
وأما القطع المأخوذ في الموضوع سواء كان تمام الموضوع أو جزئه إن كان
دخله فيه من باب الكاشفية فتقوم الأمارات وبعض الأصول كالاستصحاب
وأصالة الصحة وأمثالهما مقامه عند الشيخ (1) (رحمه الله) بنفس دليل اعتبارها، وإن كان
دخله فيه من باب الصفتية الخاصة فلا يقوم شيء من الأمارات والأصول بدليل
اعتبارها مقامه. نعم لا مانع من قيامها مقامه بدليل خاص بأن دل دليل خاص أن
ما قامت الأمارة - كالبينة واليد أو الاستصحاب - على ملكيته كالعلم بالملكية في
جواز الشهادة بناء على اعتبار العلم في باب الشهادة في المشهود به من باب كونه
صفة خاصة - كما قيل به - ويحتمله قوله (صلى الله عليه وآله) مشيرا إلى الشمس: على مثل هذا
فاشهد، أودع (2).
ولكن فيه تأمل، إذ من جواز الشهادة بالبينة واليد والاستصحاب يمكن
استكشاف أن العلم المعتبر في هذا الباب إنما هو من باب الكاشفية لا الصفتية،
ولكن المناقشة في المثل لا يضر بالمطلب.
وأورد على الشيخ (قدس سره) في الكفاية (3) بأنه لا فرق في العلم المأخوذ في
الموضوع بين كونه مأخوذا فيه على وجه الكاشفية أو الصفتية في عدم قيام
الأمارات والأصول بدليل اعتبارها مقامه. وحاصل ما أفاد هو: أنه لا يمكن أن
ينزل الشارع الأمارة منزلة العلم من حيث كونه طريقا إلى الواقع ومن حيث كونه
دخيلا في الموضوع، لأنه لابد في التنزيل من لحاظ المنزل والمنزل عليه، وهو
العلم من حيث كونه طريقا إلى الواقع لحاظه آلي، ومن حيث كونه دخيلا في

(1) فرائد الأصول: في حجية القطع ج 1 ص 6.
(2) مستدرك الوسائل: ب 15 من أبواب كتاب الشهادات ح 2 ج 17 ص 422.
(3) كفاية الأصول: في حجية القطع ص 304.
455

الموضوع لحاظه استقلالي، ولا يمكن الجمع بينهما في استعمال واحد، لتنافيهما
وتضادهما، كما لا يخفى.
ويمكن الجواب بأن الشارع إنما لاحظ الأمارة والعلم من حيث كونهما
كاشفين، فجعل مؤدى الأمارة بمنزلة الواقع لأنهما الملحوظان بالاستقلال،
ويستلزم هذا الجعل جعل الأمارة بمنزلة العلم تبعا بلا حاجة إلى لحاظ على حدة
وجعل مستقل، أو بالعكس بأن لاحظ الأمارة والعلم وجعل الأمارة منزلة العلم،
ولازمه جعل المؤدى منزلة الواقع من دون حاجة إلى جعل مستقل.
والحاصل: أن الجعل في أحدهما استقلالي يحتاج إلى لحاظ المنزل والمنزل
عليه، وفي الآخر تبعي قهري لا يحتاج إلى اللحاظ حتى يشكل بأن الجمع بين
هذين اللحاظين ممتنع وبأحد الجعلين يتحقق الواقع المحرز، أو إحراز الواقع
الذي هو تمام الموضوع، أو جزئه فيما إذا كان دخل العلم في الموضوع تماما
أو جزءا بما هو فرد من الكاشف لا بما هو كاشف خاص، فإنه لا تقوم الأمارات
مقامه بدليل اعتبارها لو أخذ فيه بهذا اللحاظ، بل يحتاج إلى دليل خاص. وهذا
الجواب مبني على التلازم بين الجعلين، ولا يخفى ما فيه من التأمل.
ويمكن أن يجاب بأن الملحوظ حين الجعل هو مؤدى الأمارة والواقع،
والعلم والأمارة لوحظا من حيث كونهما طريقين إليهما وبدليل حجية الأمارة نزل
مؤداها منزلة الواقع، وهذا الجعل الواحد يكفي في قيام الأمارة مقام العلم لتحقق
الموضوع المركب بعضه بالوجدان وبعضه بالتعبد، لأن كون المؤدى هو الواقع
تعبدي، وإحرازه وجداني.
كما يمكن أن يجاب بأن الأمارة نزلت بدليل اعتبارها منزلة العلم في إحراز
الواقع في مرحلة الشك، بنفس هذا التنزيل والجعل يتحقق الموضوع، إذ الموضوع
المركب من الشيء وإحرازه ليس كسائر الموضوعات المركبة التي يحتاج كل
جزء منها إلى إحراز وجداني أو تعبدي، بل يتحقق الإحراز بتحقق كليهما بلا
حاجة إلى تعدد لحاظ وجعل أصلا حتى يلزم الإشكال.
456

وعلى هذا فالعلم المأخوذ في الموضوع سواء كان جزء الموضوع أو تمام
الموضوع إذا كان أخذه فيه من باب أنه فرد من الطريق والكاشف لا من باب أنه
طريق خاص وكاشف مخصوص، ولا من باب كونه صفة خاصة تقوم الأمارات
وبعض الأصول بدليل اعتبارها مقامه، وإن قال بعض بعدم قيام الأمارات
والأصول مقام العلم المأخوذ في الموضوع مطلقا، وبعض بقيامها مقامه مطلقا،
وبعض فصل بين كونه مأخوذا فيه على وجه الكاشفية فتقوم، وعلى وجه الصفتية
فلا تقوم كما هو مختار الشيخ (1) (رحمه الله).
فتحصل أن القطع الطريقي لا إشكال في قيام الأمارات وبعض الأصول مقامه
بنفس دليل اعتبارها، سواء كان مفاده تنزيل الأمارة منزلة العلم أو المؤدى منزلة
الواقع ويترتب عليها ما يترتب على العلم من الآثار العقلية المترتبة عليه من
تنجيز الواقع واستحقاق الثواب والعقاب على الموافقة والمخالفة. وأما القطع
الموضوعي سواء كان تمام الموضوع أو جزئه فهل تقوم الأمارات وبعض الأصول
المتقدمة بنفس دليل اعتبارها مقامه مطلقا، أو لا تقوم مطلقا، أو يفصل بين ما كان
مأخوذا فيه على وجه الصفتية فلا تقوم، وما كان مأخوذا فيه على وجه الطريقية
فتقوم، فالشيخ (2) (قدس سره) اختار التفصيل.
وفي الكفاية (3) اختار المنع واستشكل على الشيخ (رحمه الله) بأن دليل اعتبار الأمارة
الدال على تنزيلها منزلة القطع لا يمكن أن يتكفل تنزيلها منزلة القطع من جهة كونه
طريقا ومن جهة كونه موضوعا، لأن النظر إلى المنزل والمنزل عليه من الجهة
الأولى آلي، ومن الجهة الثانية استقلالي، والجمع بينهما في استعمال واحد
وإرادتهما من عبارة واحدة محال، لتضادهما.
نعم لو نزل الأمارة منزلة العلم طريقا بإنشاء مستقل ونزلها منزلته موضوعا

(1) فرائد الأصول: في حجية القطع ج 1 ص 6.
(2) فرائد الأصول: في حجية القطع ج 1 ص 6.
(3) كفاية الأصول: في حجية القطع ص 304.
457

بانشاء آخر، ثم أخبر بنحو الحكاية بأني جعلت الأمارة منزلة منزلة العلم من
الجهتين لا بأس به، أو يكون ما بمفهومه جامع بين الجهتين فكذلك، وإذ
ليس فليس.
وقد أشكل أيضا بأن تنزيل الأمارة منزلة العلم إنما هو بلحاظ الأثر، إذ لا
معنى لتنزيل شيء منزلة شيء آخر، إذا لم يكن له أثر. فإذا قال الشارع: " نزل
ما قامت البينة على خمريته منزلة الخمر الواقعي " فإنما يصح هذا التنزيل إذا كان
للخمر أثر مثل حرمة شربها، وإلا لكان هذا التنزيل لغوا، فدليل اعتبار الأمارة
وتنزيلها منزلة العلم لو فرض أنه ناظر إلى تنزيلها منزلة العلم من الجهة الأولى
- وهي جهة الطريقية حتى لا يلزم الإشكال الأول - لا يشمل المقام إذا لم يكن
للواقع أثر آخر غير هذا الأثر المترتب على المجموع المركب منه ومن العلم به،
فإنه لو كان للخمر أثر وهي النجاسة المترتبة على الخمر الواقعي وأثر آخر مترتب
على معلوم الخمرية، فيمكن جعل الأمارة وتنزيل مؤداها منزلة الخمر الواقعي
بلحاظ الأثر الأول ثم ترتيب الأثر الثاني الذي فرض كون العلم جزء موضوعه.
وأما إذا لم يكن لها أثر غير الأثر الثاني فلا يمكن جعل الأمارة وتنزيل
مؤداها منزلة الواقع بلحاظ ذلك الأثر.
إذ فيه: أولا: أن الأثر لابد أن يكون في المرتبة السابقة حتى يصح الجعل
والتنزيل بلحاظه، وهنا ليس كذلك.
وثانيا: أن هذا الأثر ليس للواقع، بل له وللعلم به، فلا يمكن ترتيبه إلا بعد
تنزيل الأمارة منزلة العلم كما نزل مؤداها منزلة الواقع حتى يحصل المركب الذي
هو موضوع الأثر.
وثالثا: أنه مستلزم للدور، لأن جعلها طريقا موقوف على ثبوت هذا الأثر،
وثبوته موقوف على طريقيتها، فتدبر.
ويمكن أن يقرر هذا الإشكال والإشكال الأول بهذا التقريب، وهو أن قيام
الأمارة بدليل اعتبارها مقام العلم الطريقي الذي أخذ في الموضوع لا يمكن، لأن
458

تنزيل مؤدي الأمارة منزلة الواقع إنما هو بلحاظ الأثر، والأثر ليس للواقع فقط،
بل للواقع بقيد المعلومية، فإن نزل الأمارة أيضا منزلة العلم تحقق الموضوع، لكن
هذين التنزيلين لا يمكن جعلهما بإنشاء واحد، وإن لم تنزل الأمارة منزلة العلم
يلزم الدور، لأن طريقيتها موقوفة على ثبوت الأثر، وهو موقوف على الطريقية.
ويمكن الجواب عنهما بأحد الوجوه المتقدمة، كما يمكن أن يجاب بأن
الأمارة إنما نزلت منزلة العلم من حيث كونها طريقا ومرآة لمتعلقها من حيث هو
لا من حيث آثاره وأحكامه، والمصحح بهذا التنزيل إنما هو لحاظ الآثار فينحل
هذا التنزيل بالتحليل العقلي إلى تنزيل الآثار، لا أنه تنزيل للآثار منزلة آثار العلم
ولا تنزيلين، ويكفي في الجواز عقلا وجود أثر، سواء كان فعليا أو تقديريا بلا
واسطة أو بواسطة، شرعية كانت الواسطة أو عقلية أو عادية.
والحاصل: أن الأمارة نزلت منزلة العلم من كونها طريقا إلى ذات المتعلق من
حيث هي لا من حيث أحكامه، والمصحح لهذا التنزيل لحاظ الأثر، ويكفي له
وجود أثر في الشرع بأي نحو كان، فتدبر.
ثم إن هذا الإشكال الذي أورده في الكفاية في قيام الأمارة مقام العلم الطريقي
الذي أخذ في الموضوع أورده في قيام الاستصحاب مقامه أيضا، وهو أن دليل
الاستصحاب لا يفي لقيامه مقامه لأن " لا تنقض اليقين بالشك " إما مسوق بلحاظ
اليقين والشك، أو المتيقن والمشكوك، وبعبارة [أخرى] إما ناظر إلى تنزيل الشك
منزلة اليقين وترتيب آثار اليقين عليه، وإما ناظر إلى تنزيل المشكوك منزلة المتيقن
وترتيب آثار المتيقن، فعلى الأول يكون دليلا على قاعدة اليقين، وعلى الثاني
دليلا على الاستصحاب ولا يمكن أن يكون ناظرا إلى الجهتين، لما عرفت من
كونهما متنافيتين، وما لم يكن تنزيل من الجهتين لا يكفي في ترتيب الأثر في
المقام لأن الأثر ليس مترتبا على اليقين فقط ولا على المتيقن فقط، بل على كليهما،
فلابد من تنزيل الشك منزلة اليقين والمشكوك منزلة المتيقن حتى يتحقق الموضوع.
459

وفي الحاشية (1) أجاب عنه بأن دليل الاستصحاب ناظر إلى تنزيل المشكوك
منزلة المتيقن وتنزيل الشك منزلة اليقين إنما هو بالملازمة العرفية، وفي الكفاية (2)
عدل عنه.
وبما ذكرنا من الوجه الأخير وبعض الوجوه السابقة يمكن أن يجاب عن
إشكاله، كما يمكن أن يجاب بأن المراد من " لا تنقض اليقين بالشك " نفس اليقين،
والمقصود من عدم نقضه ابقاء آثاره حال الشك، والآثار المحكوم بإبقائها أعم مما
كان ثابتا لنفس اليقين أو لمتعلقه، فتأمل.
الأمر الرابع: أن القطع بالحكم لا يمكن أن يؤخذ في موضوع نفسه، للزوم
الدور، ولا في موضوع مثله، لاجتماع المثلين، ولا ضده، لاجتماع الضدين. وأما
الظن بالحكم وإن لم يمكن أخذه في موضوع نفسه، لاستلزامه الدور، ولكن يمكن
أخذه في موضوع حكم آخر مثله أو ضده، لانحفاظ رتبة الحكم الظاهري مع
الظن بخلاف القطع.
والإشكال بأن الظن إن تعلق بحكم فعلي فهو كالقطع لا يمكن أخذه في
موضوع حكم آخر مثله أو ضده لما ذكر من المحذور مندفع، بأن المراد من الفعلي
هنا ما لو علم به المكلف لتنجز عليه، ومع ذلك لا يجب على الشارع رفع عذره
وإزالة جهله لغرض كالتسهيل ونحوه لا الفعلي، بمعنى كون المولى في صدد
تحصيله وإنفاذه بأي نحو أمكن، ورتبة الحكم الظاهري ليست محفوظة مع الفعلية
بهذا المعنى لا المعنى الأول، فتأمل.
الأمر الخامس: في أن التكليف المنجز هل يقتضي الموافقة الالتزامية كما
يقتضي الموافقة العملية أم لا؟ الحق هو الثاني: لأن المطلوب في الأحكام الفرعية
يحصل بمجرد اتيان متعلق التكليف في الخارج وإن لم يكن ملتزما به وجدانا،
فنفس ذلك الخطاب لا يقتضي الموافقة الالتزامية، فلابد من قيام دليل آخر عقلي

(1) حاشية فرائد الأصول: في حجية القطع ص 9.
(2) كفاية الأصول: في حجية القطع ص 306.
460

أو نقلي، وهو مفقود غير ما دل من الإجماع، بل الضرورة على وجوب التصديق
والإذعان بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) وهو لا ينفع في المقام، لأن النزاع هنا في أن
التكليف المنجز المولوي المتعلق بالفعل أو الترك هل يقتضي الموافقة الالتزامية
كالأمور الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها نفس الالتزام بحيث يكون لهذا
التكليف موافقتان ومخالفتان إحداهما من حيث العمل والأخرى من حيث
الالتزام، فقد يمتثل المكلف من حيث العمل دون الالتزام كمن يعمل لغير الله، أو
غير ملتزم بأمره وقد يمتثل من حيث الالتزام دون العمل كالفاسق المعتقد
بالتكليف التارك للعمل، وقد يمتثل من الجهتين، أو أن هذا التكليف المولوي
المتعلق بالفعل أو الترك شارعا كان أو غيره من الموالي لا يقتضي إلا وجوب
الموافقة من حيث [العمل] وبموافقته من حيث العمل. يعد مطيعا ويستحق الثواب
وإن لم يلتزم به، وبمخالفته من حيث العمل يستحق العقاب وإن التزم به.
و ما دل على وجوب تصديق النبي (صلى الله عليه وآله) فيه:
أولا: أن التصديق هو القطع بأن ما جاء به فهو من عند الله، وهو غير الالتزام.
وثانيا: على تقدير كونه عين الالتزام الكلام في أن نفس هذا التكليف هل
يقتضي الموافقة الالتزامية كالعملية، أم لا؟
وثالثا: أن الكلام في مطلق الأمر المولوي ولو لم يكن شارعا، وهذا الدليل لا
يقتضي الموافقة الالتزامية إلا في أوامر الشارع ونواهيه، فتأمل.
وعلى تقدير وجوب الموافقة الالتزامية فيجب مهما أمكن المكلف إن علم
بالتكليف تفصيلا فتفصيلا، وإن علم به إجمالا فإجمالا، وإن لم يتمكن من الموافقة
القطعية العملية ولم تحرم عليه المخالفة القطعية كما في دوران الأمر بين
المحذورين كمثل ما إذا علم بوجوب شيء أو حرمته لتمكنه من الالتزام بما هو
الواقع، وإن لم يعلم به أنه الوجوب أو الحرمة.
وإن أبيت إلا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه لما كانت الموافقة
الالتزامية حينئذ ممكنة قطعا. وعلى أي حال لا مانع من قبل لزومهما مانع عن
461

إجزاء الأصول الحكمية أو الموضوعية في أطراف العلم الإجمالي لو كانت جارية
مع قطع النظر عنه، كما لا يدفع بالأصول محذور عدم الالتزام به إلا أن يقال:
استقلال العقل بالمحذور فيه إنما يكون فيما إذا لم يكن هناك ترخيص في
الاقتحام في الأطراف، ومعه لا محذور فيه، بل ولا في الالتزام بحكم آخر إلا أن
الشأن في جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي مع عدم أثر عملي مع ما
ادعاه الشيخ (1) من لزوم التناقض في مدلولها على تقدير الشمول، فتأمل.
الأمر السادس: في أنه لا تفاوت في نظر العقل في القطع المأخوذ طريقا بين
أشخاص القاطعين وأسباب القطع وموارده في ترتيب آثاره العقلية من تنجيز
الواقع وصحة المؤاخذة عند المصادفة وكونه عذرا عند المخالفة وما نسب (2) إلى
بعض الأخباريين من عدم الاعتداد بالقطع الحاصل من المقدمات القطعية الغير
الضرورية، فهو إما في مقام منع الملازمة بين حكم العقل والشرع أو في مقام منع
حصول القطع منها، وأنها لا تفيد إلا الظن كما يظهر بالمراجعة إلى كلماتهم، وأما
القطع المأخوذ في الموضوع فربما يتفاوت، إذ المدار فيه على دلالة دليله عموما أو
خصوصا، إذ قد يدل الدليل على اختصاصه بقسم في مورد وعدم اختصاصه به في
مورد آخر حسب اختلاف الأدلة والمقامات ومناسبات الأحكام والموضوعات،
وغيرها من الأمارات، فالمتبع فيه دلالة الدليل.
[الأمر] السابع: في أن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي علة تامة لتنجز
التكليف به وصحة المؤاخذة على مخالفته وعدم إمكان وصول يد الجعل إليه لا
تكوينا ولا تشريعا، لا نفيا ولا إثباتا، أو أنه مقتض له، الحق هو الثاني، وذلك لأن
العلم التفصيلي لما كان كشفا تاما عن الواقع بلا سترة فيه ولا حجاب لا يمكن
جعل الحكم الظاهري في مورده للزوم اجتماع المثلين أو الضدين، فلا محالة

(1) فرائد الأصول: الأصول العملية في الاستصحاب ج 2 ص 44.
(2) لا حظ فرائد الأصول: في حجية القطع ج 1 ص 15، وذلك هداية المسترشدين: في العقل
وصحته الاعتقادات ص 443 س 8.
462

يكون علة تامة لتنجز التكليف. وأما العلم الإجمالي الذي هو عبارة عن علم
مشوب بجهل، إذ هو بالنسبة إلى القدر المشترك علم، وبالنسبة إلى الخصوصيات
جهل وشك، فلما كان كشفه عن الواقع ناقصا، بل ربما يلحق بالعدم بحيث لا يعتني
به لكثرة أطرافه ومحتملاته كما في الشبهات الغير المحصورة أمكن جعل حكم
ظاهري في مورده.
غاية ما يلزم هي مناقضة الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي، وما به التفصي
عن هذا الإشكال في الشبهات البدوية وغير المحصورة هو ما به التفصي في
الشبهة المحصورة التي هي محل الكلام ومورد النقض والابرام. فعلى هذا يوجب
العلم الإجمالي بتنجز التكليف لو لم يكن مانع عقلي من تنجزه كما في الشبهة الغير
المحصورة، أو مانع شرعي كما في صورة إذن الشارع في الارتكاب كما هو
مقتضى قوله (عليه السلام): " كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه (1) ومن عدم
صحة المؤاخذة على المخالفة في الصورتين، وصحتها فيما كانت الشبهة محصورة
يستكشف كونه مقتضيا للتنجز لا علة تامة أيضا.
والقول بأنه علة تامة بالنسبة إلى المخالفة القطعية ومقتض بالنسبة إلى
الموافقة القطعية فيمكن أن يأذن الشارع في ارتكاب بعض الأطراف، ولا يمكن
الإذن في ارتكاب الجميع ضعيف، لأن احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما
في الاستحالة، فبكل ما يمكن رفع الاستحالة في الثاني يمكن رفعه في الأول،
فتأمل.
ثم إن الكلام في العلم الإجمالي في المقام إنما هو من جهة كونه علة تامة
للتنجز أو مقتضيا له، وفي البراءة والاشتغال عن وجود المانع وعدمه على تقدير
الثاني. وأما على الأول فلا كلام فيه هناك، هذا بالنسبة إلى اثبات التكليف به.
أما إسقاط التكليف به أي بالاحتياط واتيان أطراف العلم الإجمالي فالظاهر

(1) وسائل الشيعة: باب 4 من أبواب ما يكتسب به ج 12 ص 59 ح 1.
463

أنه لا مانع منه بالنسبة إلى التوصليات المطلوب فيها نفس وقوع الفعل في الخارج
وكذا التعبديات إذا لم يكن الاحتياط موجبا لتكرار العمل كما في دوران الأمر
بين الأقل والأكثر. وأما إذا كان موجبا للتكرار كما في دوران الأمر بين المتباينين
فيشكل من جهة سقوط قصد الوجه والتميز وكونه لعبا بأمر المولى.
لكنه مدفوع، بأن في الإتيان بالصلاتين المشتملين على الواجب لوجوبه
لا إخلال بالوجه، نعم فيه إخلال بالتميز ولا دليل على اعتباره ولا بد في مثله مما
كان مغفولا عنه عند العامة لو كان دخيلا في الغرض من بيان اعتباره، وإلا لأخل
بالغرض.
وأما كون التكرار لعبا ففيه: أنه على تقدير عدم داع عقلائي، فاللعب في كيفية
الطاعة لا في أصلها، هذا إذا تمكن من القطع تفصيلا. وأما إذا لم يتمكن إلا من
الظن فإن كان اعتبار الظن مع عدم تمكن الاحتياط فهو مقدم على العمل بالظن،
وإن كان مطلقا فلا إشكال في الاجتزاء بالظني، كما لا إشكال في الاجتزاء
بالاحتياط في قبال الظني بالظن المعتبر بدليل الانسداد، بناء على أن يكون من
مقدماته عدم وجوب الاحتياط، وأما لو كان من مقدماته بطلانه لكونه مخلا
بالنظام أو ليس من وجوه الطاعة بل هو لعب إذا كان ما يتكرر فالمتعين هو التنزل
إلى الظن التفصيلي، ولازمه بطلان عبادة تارك الطريقين وإن احتاط هذا بعض
الكلام في القطع، ويأتي الباقي إن شاء الله الكلام في الأمارات الغير العلمية
وينبغي قبل الخوض في المقصود من تقديم أمور:
أحدها: أنه لا ريب في أن حجية القطع بنفس ذاته، وليست قابلة للجعل، وأما
ما عداه من الأمارات التي أخذ الشك موردا لها والأصول التي أخذ الشك
موضوعا لها تحتاج في حجيتها إلى تعبد من الشارع، إما بأمره بالسلوك على طبق
أمارة غير علمية بإلغاء احتمال الخلاف، أو بتنزيل مؤداها منزلة الواقع ليزول
الشك المأخوذ موردا لها تعبدا، وإن كان موجودا وجدانا، أو بالبناء على أحد
طرفي الشك مع حفظ الشك المأخوذ فيها موضوعا.
464

والحاصل: أن طريقية القطع إلى الواقع ذاتية وحجيته منجعلة، وليست قابلة
للجعل، وكذا الظن الاطمئناني الذي لا يعتني العقلاء باحتمال خلافه، بل يطلقون
عليه العلم عرفا، فإن الاحتمال وإن كان موجودا معه، إلا أنه كالعدم بنظرهم حيث
إنه لا يمنعهم عن العمل على طبقه، فحاله كحال العلم من جهة أن العمل بالعلم إنما
هو من جهة كشفه عن الواقع وعدم ما يمنع عن العمل به، فكذا الظن الاطمئناني،
لأن وجود الاحتمال الذي لا يمنع عن العمل كعدمه.
نعم بينهما فرق من جهة أخرى وهو أنه لا يمكن المنع عن العمل بالعلم فيما
إذا كان طريقا إلى الواقع بخلاف الظن الاطمئناني فإنه يمكن المنع عن العمل به،
لعدم انكشاف الواقع معه انكشافا تاما كما في العلم، وأما غير القطع فتحتاج
حجيته إلى جعل وتعبد من الشارع بلا فرق في الاحتياج إلى الجعل بين الأمارات
التي هي عبارة عن طرق أمر الشارع بالسلوك على طبقها والأصول التي هي
عبارة عن وظائف مقررة للجاهل في مقام العمل.
ولا فرق بينهما - أيضا - في أن حجيتهما في مورد الشك والجهل بالواقع، إذ
مع العلم بالواقع لا يعتبر شيء من الأمارات والأصول مطلقا وإن كان بينهما فرق
من جهة أخرى، وهو أن الشك أخذ في الأمارات موردا ولكن بقيام الأمارة
المعتبرة يزول الشك تعبدا، بخلاف الأصول فإن الشك أخذ فيها موضوعا.
والفارق بينهما أدلة اعتبارهما، فإن كان اعتبار شيء عند الشك في الواقع
بلحاظ كشفه وإرائته عن الواقع، سواء كانت له جهة كشف واقعا كما في غالب
الأمارات المعتبرة شرعا، حيث إنها طرق عقلائية لها جهة كاشفية عن الواقع ولو
ناقصا، والشارع تمم جهة نقصان كشفها بدليل اعتبارها، أو لم يكن كذلك فهي
أمارة. وإن كان اعتباره بدون لحاظ كشفه عن الواقع، سواء لم يكن كاشفا، أو كان
ولكن لم يعتبره الشارع من تلك الجهة فهو أصل.
وكيف كان لا فرق بينهما من حيث احتياجهما في الحجية إلى الجعل والتعبد
الشرعي.
465

ثانيها: أنه بعد ما عرفت أن حجية ما عدا القطع تحتاج إلى التعبد الشرعي
فاعلم أن الكلام في مقامين، أحدهما: في إمكان التعبد بما عدا القطع من الأمارات
والأصول، والثاني: في وقوعه.
والمراد من الإمكان ليس الإمكان الذاتي، إذ لا إشكال في أن التعبد بما عدا
القطع أمر ممكن ذاتا، بل المراد منه الإمكان الوقوعي بمعنى أنه لا يلزم من وقوعه
محذور، وليس الإمكان بهذا المعنى أي الإمكان الوقوعي، بل مطلقا حتى
الإمكان الذاتي أصل متبع عند العقلاء في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع لمنع
كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشك فيه ومنع حجيتها على تقدير
ثبوتها، لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها والظن به لو كان فالكلام الآن في
اعتباره وإمكان التعبد به. ومجرد الرجوع إلى الوجدان وعدم وجدان ما يوجب
الاستحالة لا يكفي في الحكم بالإمكان ما لم نجد في أنفسنا ما يوجب الإمكان،
إذ عدم الوجدان أعم من عدم الوجود.
وكلام الشيخ الرئيس (1): " كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان
ما لم يذدك عنه واضح البرهان " ليس في مقام أن الأصل في كل ما شك في
إمكانه وامتناعه هو الإمكان كما هو المدعى، بل الإمكان في كلامه بمعنى
الاحتمال العقلي، لأن هذا الكلام صدر منه في مقام الموعظة والنصيحة بأنه إذا
سمعت أنه صدر من شخص فعل خارق للعادة كالمعجزة والكرامة لا تبادر إلى
إنكاره، بل احتمل صدوره منه.
فما في كلام الشيخ (2) (قدس سره) من أن الأصل عند الشك في الإمكان والامتناع هو
الإمكان لا يخفى ما فيه، مع أنه لا حاجة لنا إلى إثبات أصالة الإمكان إلا من جهة
ترتيب آثار الإمكان عند الشك، ومعنى ترتيب أثر الإمكان على الشيء عند

(1) الإشارات والتنبيهات وشرحها: ج 3 ص 418 وفيه " فالصواب أن شرح أمثال ذلك إلى
بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان.
(2) أنظر فرائد الأصول: في إمكان التعبد بالظن عقلا ج 1 ص 40.
466

الشك هو أنه لو دل دليل على وجوده لا يطرح ذلك الدليل بمجرد احتمال
استحالته، بل يترتب عليه أثر الوجود ما لم يعلم استحالته، إذ ليس للممكن في حد
ذاته أثر قابل لأن يترتب عليه حال الشك إلا هذا الأثر - أعني أثر وجوده - عليه
عند قيام طريق معتبر عليه، ومعلوم أن ترتيب هذا الأثر لا يتوقف على أصالة
الإمكان، بل يكفي فيه احتمال الا مكان، مثلا لو أخبر عادل بأمر لا نحتاج في
تصديق المخبر بوقوع ذلك الأمر أولا من البناء على إمكان ذلك الأمر، ثم ترتيب
آثار الوجود عليه بمقتضى تصديق المخبر، بل يكفي مجرد احتمال إمكانه في
تصديقه وترتيب الآثار عليه كما في سائر موارد إخبار العادل، حيث يكفي في
تصديقه وترتيب الأثر على خبره احتمال صدقه مع أن وقوع دليل التعبد بها من
طرق إثبات الإمكان حيث يستكشف منها عدم ترتب محال من تال باطل فيمتنع
مطلقا، أو على الحكيم تعالى فلا حاجة معه في دعوى الوقوع إلى اثبات الإمكان،
وبدونه لا فائدة في اثباته.
والحاصل: أن المقصود من إثبات أصالة الإمكان هو أنه لو دل دليل على
وقوعه لم يطرح هذا الدليل، بمجرد احتمال استحالته، وهذا لا يتوقف على إمكانه
واقعا، بل يكفي فيه احتمال الإمكان. وعلى تقدير تسليمه دليل وقوع التعبد من
طرق اثباته فيكشف إنا أنه أمر ممكن، فتأمل.
والخلاف في هذا المقام حكي عن ابن قبة (1) فإنه قال باستحالة التعبد بالأمارة
الغير العلمية. واستدل على مدعاه بوجهين:
أحدهما مخصوص بخبر الواحد لا سائر الأمارات الغير العلمية.
ولكن الوجه الثاني يعم تمام الأمارات الغير العلمية.
أما الوجه الأول: فهو أنه لو جاز التعبد بالخبر الواحد في الإخبار عن النبي
لجاز في الإخبار عن الله، والتالي باطل اجماعا فالمقدم مثله.
وفيه: أولا منع الملازمة، إذ يمكن التعبد بخبر الواحد في الإخبار عن

(1) نقله صاحب فرائد الأصول: في إمكان التعبد بالظن عقلا ج 1 ص 40.
467

النبى (صلى الله عليه وآله) من جهة إمكان إحراز صدقه بالرجوع إليه بواسطة أو بلا واسطة،
واستعلام حال المخبر من حيث الصدق والكذب وعدم إمكانه بالنسبة إلى المخبر
عن الله، مع أن الإخبار عن النبي يمكن بالنسبة إلى كل أحد، والإخبار عن الله لا
يمكن إلا لمن كان ربط خاص بينه وبين الله، وهو منحصر بالنبى أو من يقوم
مقامه، فينحصر المخبر عن الله بهما، ولا إشكال في قبول خبرهما عن الله سواء
كان بالوحي أو الإلهام.
والحاصل: أن الإخبار عن الله طريقه منحصر بالوحي والإلهام، وهما
مخصوصان بمن كان بينه وبين الله ربط مخصوص وهو ليس إلا النبي أو الولي.
ولا إشكال في حجية خبرهما عن الله، وأما غيرهما فلا ربط بينه وبين الله بهذه
المثابة حتى يكون له طريق إلى الإخبار عن الله فلا يكون إخباره عنه حجة وأما
الإخبار عن النبى طريقة السماع عن النبي، وهو ممكن لكل أحد، مع أن التعبد
بالإخبار عن النبي لمكان التمكن من إحراز صدقه وكذبه يمكن أن تكون حجة
بخلاف الإخبار عن الله.
وثانيا: منع بطلان التالي. ودعوى الإجماع على بطلانه فيه أولا أنه لا مسرح
للإجماع في المقام، مع أن الإجماع على عدم الوقوع لا ينافي الإمكان، فتأمل.
وأما الوجه الثاني الذي يعم تمام الأمارات الغير العلمية هو أنه لو جاز التعبد
بخبر الواحد لزم تحليل الحرام وتحريم الحلال. بيانه أنه لو جاز التعبد بخبر
الواحد بل بمطلق الأمارة الغير العلمية يلزم أمور: بعضها محال وبعضها باطل، وإن
لم يكن بمحال، منها: أنه يلزم من التعبد به اجتماع المثلين من ايجابين أو
تحريمين - مثلا - فيما أصاب بأن أخبر العادل بوجوب شيء وكان واجبا واقعا،
أو أخبر بحرمته وكان حراما واقعا.
وذكر هذا الإشكال إنما هو من باب تعميم الإشكالات الواردة على التعبد
بغير العلم واستيفاء تمام الشقوق والصور، وإلا فهو خارج عن محط نظر المستدل
وليس بإشكال قوي.
468

وفيما أخطأ يلزم أحد الأمور على سبيل منع الخلو: من اجتماع الضدين فيما
لو أدت الأمارة إلى وجوب شيء وكان حراما واقعا، أو بالعكس. ومن اجتماع
المصلحة والمفسدة، ومن الإرادة والكراهة والمحبوبية والمبغوضية. ومن اجتماع
الترخيص والإلزام فيما لو أدت الأمارة إلى إباحة شيء وكان واجبا واقعا أو
بالعكس. أو الترخيص في الفعل مع المنع من الترك فيما لو أدت الأمارة إلى إباحة
شيء وكان حراما واقعا أو بالعكس (هذا بناء على ثبوت أحكام واقعية
لموضوعاتها، سواء أدت الأمارة إليها أم لا، وبناء على عدم ثبوت أحكام واقعية
وانحصار الأحكام بمؤديات الطرق والأمارات يلزم التصويب الباطل) ومن طلب
الضدين فيما إذا أخطأت الأمارة وأدت إلى وجوب ضد الواجب. ومن تفويت
المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيما لو أدت الأمارة إلى عدم وجوب ما هو
واجب، أو عدم حرمة ما هو حرام. هذا محصل استدلاله على عدم جواز التعبد
بالأمارة الغير العلمية.
ولا بد لمن يجوز التعبد بالأمارة الغير العلمية إما من منع الملازمة، أو منع
بطلان اللازم فنقول: بناء على أن المجعول في باب الطرق والأمارات هي الحجية
فلا يلزم شيء من الإشكالات المذكورة إلا تفويت المصلحة أو الإلقاء في
المفسدة، لأنه إذا جعل الأمارة حجة وقامت على عدم وجوب شيء وكان واجبا
واقعا فيلزم من جعلها حجة تفويت مصلحة الواجب الواقعي، وإذا قامت على عدم
حرمة شيء وكان حراما واقعا يلزم القاء المكلف في مفسدة الحرام الواقعي.
وهذا الإشكال ممكن الاندفاع على هذا التقدير - أعنى كون المجعول هي
الحجية - لكن الكلام في كون المجعول هي الحجية إمكانا ووقوعا، أما إمكانا
فيمكن أن تكون الحجية مثل الولاية والقضاوة والوصاية والزوجية وغيرها
من الأمور القابلة للجعل، ويمكن أن تكون مثل السببية ونحوها من الأمور
التكوينية الغير القابلة للجعل، إذ السببية أمر ذاتي تكويني غير قابل للجعل
التشريعي. ولا يمكن جعل ما ليس بمرشح لشيء تكوينا مرشحا له تشريعا، كما
469

هو معنى جعل السببية.
نعم لا مانع من جعل السبب، وبعد جعله تكون السببية ذاتية له كما في تمام
التكاليف الشرعية، فإنها أسباب لأحكام عقلية من وجوب الإطاعة وحرمة
المعصية وغيرهما وأحكام شرعية، وبعد جعلها تكون سببيتها لتلك الأحكام ذاتية.
ويمكن أن يقال: إن الحجية وإن كانت غير قابلة للجعل بأن يجعل الشارع ما
ليس لقاطع للعذر تكوينا قاطعا للعذر تشريعا، كما هو معنى جعل الحجية. لكن
نفس الجعل حجة. وبعبارة أخرى أن الحجية والقاطعية للعذر وإن لم يمكن أن
تكون مجعولة، لكن نفس جعله حجة وقاطع للعذر، فتأمل.
وأما وقوعا فلم يظهر من الأدلة الدالة على التعبد بالأمارات أن المجعول
الشرعي هي الحجية، وقوله (عليه السلام) " فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم " (1) فلا
دلالة له على ذلك كما لا يخفى، إذ المقصود هو أنه كما يجب الرجوع إلى
الإمام (عليه السلام) في الحوادث الواقعة ويكون حكمه حجة كذلك يجب الرجوع إلى
العلماء مع عدم حضور الإمام ويكون حكمهم حجة على الرعية، وأين هذا من
كون المجعول الشرعي في باب الأمارات هي نفس الحجية.
ومن جملة الأمور التي يشك في كونها قابله للجعل أم لا البنوة، فإنها يمكن
أن تكون مثل الزوجية قابلة للجعل، ويمكن أن تكون مثل السببية غير قابلة
للجعل، فإن قلنا بأنها قابلة للجعل فقوله (عليه السلام): " الولد للفراش وللعاهر الحجر " (2)
يكون تخطئة للعرف في اعتقادهم بأن الابن كل من ولد من ماء الشخص، وأنه
ليس بولد شرعا، ولا يترتب عليه أحكام الولدية أصلا، وإن قلنا بأنها غير قابلة،
وأنها أمر تكويني وهو التولد من ماء الشخص يكون سلبا لأحكام الولد عنه
شرعا، وإن كان ولدا واقعا. ولابد حينئذ من ملاحظة إطلاق ذلك الدليل أو عمومه،
فإن كان له إطلاق أو عموم فيكون تمام أحكام الولد مسلوبا عنه شرعا، وإلا

(1) وسائل الشيعة: ب 11 من أبواب صفات القاضي ج 9 ج 18 ص 101.
(2) وسائل الشيعة: ب 15 من نهاية الأحكام الوصايا ح 14 ج 13 ص 376.
470

فيؤخذ بالقدر المتيقن، ومن جهة هذين الاحتمالين وقع الإشكال والخلاف في
بعض فروع النكاح كما يظهر بالمراجعة إلى كتاب النكاح.
وأما وجه اندفاع الإشكال المذكور - أعني تفويت المصلحة والإلقاء في
المفسدة على تقدير جعل الحجية وعدم مصادفتها للواقع - فهو: أنه لا إشكال في
أن التكاليف والأحكام الشرعية ما لم تصل إلى المكلفين لم يكن لها محركية
للمكلف نحو الفعل أو الترك ولم تكن باعثة وزاجرة فعلا، وإن كانت لها شأنية
الباعثية والزاجرية على تقدير الوصول، فلا بد في باعثيتها وزاجريتها من
إيصالها إلى المكلفين، وما لم تصل إليهم لا تكون باعثة وزاجرة بوجودها الواقعي.
ولذا قلنا: لا يترتب على الأحكام الإنشائية الشأنية الاقتضائية ثواب وعقاب
موافقة ومخالفة لأنها ليست محركة فعلا وإذا لم تكن محركة لم تكن أمرا ولا نهيا،
وإذا لم تكن أمرا ولا نهيا لم يكن على موافقتها ثواب ولا على مخالفتها عقاب،
لأن الثواب والعقاب مترتبان على عنوان الإطاعة والعصيان وهما مترتبان على
الأمر والنهي، ولا إشكال في أن ايصالها إلى المكلفين ليس بأن يوصلها الشارع
إلى كل واحد من المكلفين بالخصوص، بل طريقة إيصالها إليهم هو النحو
المتعارف من إيصال القوانين الكلية إلى الرعية، كما في القوانين المجعولة من قبل
السلطان بالنسبة إلى الرعية، فإن المتعارف هو إعلان تلك القوانين لا إيصالها إلى
كل واحد واحد بالخصوص والنحو المتعارف من إبلاغ تلك الأحكام إلى
المكلفين هو إرسال الرسل وإنزال الكتب.
ولا إشكال أيضا في أن الإبلاغ على النحو المتعارف ربما لا يصل إلى بعض
المكلفين، وربما لا يحصل لهم العلم به فلا يكون نفس الإبلاغات والتحصيلات
الأولية كافية في المحركية والباعثية والزاجرية. ولا بد من تحصيل جديد ليحرز به
الأحكام الواقعية. والتحصيل الجديد الذي يحرز به الواقع على الوجه التام هو
جعل الاحتياط التام بأن يوجب على المكلف الاحتياط بإتيان تمام محتملات
الوجوب وترك محتملات الحرمة، كما جعله الشارع في مورد الدماء والأعراض
471

والأموال، لاهتمامه بها، وإن لم يكن له اهتمام بالواقع بهذه المثابة، وكان في جعل
الاحتياط كلية على المكلفين مخلا بالنظام، أو كان فيه حرجا عليهم، أو كان في
التسهيل عليهم مصلحة لا يجعل عليهم الاحتياط، والفرض أن نفس التحصيلات
الأولية لا تكفي في إحراز الواقعيات، لعدم وصولها إلى المكلف وعدم كونها باعثة
وزاجرة فعلا، فحينئذ لابد إما من رفع اليد عن تلك الأحكام الواقعية المجهولة، أو
من جعل الأمارة المؤدية إليها غالبا فإن كانت موارد إصابة الأمارة متميزة عن
موارد خطئها بأن كانت لها علامة بأن الأمارة الفلانية مصيبة وغيره مخطئة بأن كان
خبر العادل فيما إذا كان مخبره سيدا أو عالما أو شيخا - مثلا - مصيبا، وفيما كان
مخبره عاميا أو جاهلا أو شابا مخطئا فلابد من جعل المصيب حجة دون
المخطىء. وأما إذا لم يكن للمصيب والمخطىء علامة فالأمر يدور بين عدم
جعلها رأسا - ولازمه فوت الواقعيات المجهولة - أو جعل الأمارة الغالبة المطابقة.
ولا إشكال في تعين جعلها، إذ فيه تحصيل للواقعيات غالبا ففوت الواقعيات لا
يستند إلى جعل الأمارات، بل إلى جهل المكلف بالتحصيلات الأولية وجعل
الأمارات إدراك لها بمقدار لا أنه تفويت لها.
والحاصل: أن الحكم ما لم يصل إلى المرتبة الفعلية لا يترتب عليه باعثية
وزاجرية، ووصوله إلى المرتبة الفعلية إنما هو بأن يصير الشارع بصدد تحصيله
وإجرائه وإنفاذه بالنحو المتعارف، وتحصيله بالنحو المتعارف ربما لا يبلغ إلى
تمام المكلفين ويختفي عليهم، فلابد من تحصيله ثانيا، وتحصيله الثانوي الذي لا
يفوت معه الواقع هو جعل الاحتياط، فإن كان فيه محذور فلابد إما من رفع اليد
عن الواقع فيفوت الواقع راسا، وإما من جعل أمارة غالب المطابقة للواقع، وفي
موارد المخالفة فوت الواقع لا تفويت الواقع بجعله الأمارة، بل جعل الأمارة
إدراك وتحصيل للواقع بالمقدار الممكن. هذا بناء على كون المجعول في باب
الأمارات هي الحجية، فإنه لا يلزم منه محذور من المحاذير المذكورة إلا تفويت
المصلحة والإلقاء في المفسدة، وقد عرفت أن جعل الأمارة لا يوجب شيئا منهما
472

وإنما الموجب لهما هو جهل المكلف بالأحكام الواقعية والتحصيلات الأولية، ففي
موارد مخالفة الأمارة للواقع ليس تفويت من الشارع وإلقاء في المفسدة منه، بل
فوت الواقع والوقوع في المفسدة.
وأما بناء على كون المجعول فيه هي الأحكام التكليفية أما أولا وبالذات أو
بتبع جعل الحجية، فاجتماع حكمين وإن كان يلزم إلا أنهما ليسا بمثلين ولا
ضدين، لأن أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه، والآخر واقعي عن مصلحة في
متعلقه. هذا تمام الكلام في الأمارات.
وأما الأصول: فإن الأصول التي تكون مثبتة مرة ونافية أخرى كالاستصحاب
حالها كحال الأمارات في جميع ما تقدم. ولا إشكال ولا محذور في جعلها كما
عرفت، وكذلك أصالة الاحتياط فإنه محرز للواقع، ولا يلزم من جعله محذور.
وإنما الإشكال في الأصول النافية الصرفة كأصالة البراءة والحل والإباحة حيث
إن الترخيص الفعلي في الفعل أو الترك ينافي المنع الواقعي فلا محيص فيها عن
الالتزام باجتماع حكمين أحدهما واقعي والآخر ظاهري، إلا أنه لما كان الحكم
الواقعي غير محرك فعلا لمكان الجهل به لا مانع من التحريك على خلاف مقتضاه
كما في الحركة الخارجية، فإنه إذا اقتضت قوة حركة الجسم إلى جهة ولم يكن
مانع عن مقتضاها لو اقتضت قوة أخرى تحريكه إلى خلاف تلك الجهة لوقعت
المضادة بينهما، ولكن لو كان مانع عن التحرك بالتحريك القوة الأولى لما وقعت
المضادة بينهما، فتأمل.
فتحصل أن التعبد بالأمارات والأصول الغير العلمية أمر ممكن، حيث لا يلزم
منه محذور، وواقع، لورود الأدلة الدالة على اعتبارها.
ثالثها: أن الأصل فيما لم يعلم اعتباره بالخصوص شرعا عدم حجيته جزما.
ولا إشكال في أن الحجية بمعنى القاطعية للعذر وتنجيز الواقع متوقفة على العلم،
إذ وجود الحجة مع عدم العلم بها كعدمها، فلو قامت أمارة على وجوب شيء وكان
واجبا واقعا ولكن لم يعلم المكلف بقيام الأمارة على وجوبه لما تنجز عليه ذلك
473

الواجب، لأن الحجة إنما تكون محركة بوجودها العلمي لا الواقعي، فكما أن
التحصيل الأولي لمكان الجهل به لا يكون محركا ولا منجزا فكذلك التحصيل
الثانوي، وأما الحجة بمعنى كونها عذرا بأن قامت أمارة على عدم وجوب شيء
وكان واجبا واقعا ولم يعلم المكلف بقيام الأمارة على عدم وجوبه ففيه إشكال.
والحاصل: أن نفس الشك في الحجية موضوع لحكم العقل بعدم جواز
الاستناد إليه ولا حاجة معه إلى إحراز عدم الحجية بالأصل، إذ الأثر لو كان للواقع
المشكوك لكان محتاجا إلى إحرازه إما بالوجدان أو بالأصل، وأما لو كان الأثر
لنفس الشك - وهو حاصل بالوجدان - فلا حاجة إلى الأصل كما في قاعدتي
البراءة والاشتغال، فإن نفس الشك في التكليف والبراءة موضوع لحكم العقل بقبح
العقاب بلا بيان وتحصيل البراءة، ولا حاجة معه إلى إجراء الأصل، لأنه من قبيل
إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد.
والحاصل: أن الشك في الحجية كاف في الحكم بعدم الحجية جزما وعدم
ترتيب آثار الحجية بلا حاجة إلى إحراز عدم الحجية بالأصل، لأن الحجية لابد
من إحرازها، وأما عدم الحجية فلا يحتاج إلى الإحراز، بل عدم إحراز الحجية
كاف في إحراز عدم الحجية، مع أنه لو كان عدم الحجية محتاجا إلى إحرازه
بالأصل لا إشكال أن الأصل عدم الحجية فيما شك في حجية شيء وعدم حجيته
فإن ثبت الحجية بالدليل فهو، وإلا فمقتضى الا صل هو عدم الحجية.
وإذا عرفت أن الكلام في الأمارات والأصول الغير العلمية في مقامين:
أحدهما في إمكان التعبد بها - وقد تبين أن الحق هو إمكانه - والثاني في وقوعه،
والخروج عن الأصل الأولي - وهي أصالة عدم الحجية - فما خرج عن هذا
الأصل، أو قيل بخروجه أمور بعضها وفاقي وبعضها خلافي.
منها: الأمارات والأصول المعمولة في باب ظواهر الألفاظ فإن ما يعمل في
باب الظواهر إما أمارات كقول اللغوي في تشخيص الأوضاع، وإما أصول سواء
كان أصلا وضعيا كاصالة عدم النقل والاشتراك، أو أصلا مراديا يعين به مراد
474

المتكلم الذي يعبر عنه بأصالة الحقيقة عند احتمال التجوز، وأصالة العموم عند
احتمال التخصيص، وأصالة الاطلاق عند احتمال التقييد، وأصالة عدم الاضمار
عند احتماله، وهكذا.
والدليل على حجيتها واعتبارها هو بناء العقلاء بما هم عقلاء لا بما هم
متدينون بدين وشريعة على الأخذ بالظواهر مع عدم ردع الشارع عنه، وهذا كاف
في الإمضاء، ومعلوم أن الشارع لم يخترع طريقة خاصة لإفادة مراداته، فإذا
كانت سيرة العقلاء من كل لسان على الأخذ بالظواهر ولم يردع الشارع عنه يعلم
أنه راض في استفادة مراداته من ظواهر ألفاظه كما هي السيرة المستمرة عند
العقلاء، فإثبات حجية الظواهر موقوف على مقدمتين: إحداهما: بناء العقلاء على
الأخذ بها، والثانية: عدم ردع الشارع عنه.
لا نزاع في المقدمة الثانية، ولو كان نزاع فإنما هو في المقدمة الأولى لكن لا
كبرويا وفي أصل استقرار سيرة العقلاء على الأخذ بالظواهر، بل صغرويا وفي أن
بناءهم على الأخذ بالظواهر هل هو مطلق أو مقيد بحصول الظن منها - كما قيل -
أو بعدم الظن على الخلاف كما قيل أيضا، والفاصل للنزاع هو الرجوع إلى الأذهان
الصافية العرفية الخالية عن الشكوك والشبهات العلمية.
والحق هو حجية الظواهر مطلقا، لأخذ أهل العرف بها من دون توقف على
حصول الظن منها، أو عدم الظن بخلافها، كما أن الحق عدم اختصاص حجيتها
بمن قصد إفهامه كما حكي عن بعض (1) حيث خصص حجية الظواهر من باب
كونها من الظنون الخاصة بمن قصد إفهامه ومبنى حجيتها بالنسبة إلى غيره على
حجية الظن المطلق، ولذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما يقتضيه
ظاهر كلام المولى من تكليف يعمه أو يخصه، ويصح به الإحتجاج لدى المخاصمة
واللجاج، ويصح الشهادة بإقراره إذا سمعه ولو كان مقصودا بعدم إفهامه فضلا عما
إذا لم يقصد إفهامه. ولا فرق في ذلك بين الكتاب العزيز وأحاديث سيد المرسلين

(1) القوانين: في حجية الكتاب ص 393 س 18.
475

وغيرهما من الظواهر، وإن ذهب بعض الأصحاب إلى عدم حجية ظاهر الكتاب.
والحاصل: أنه لا شبهة في استقرار طريقة العقلاء من أهل كل لسان ولغة
بما هم عقلاء، سواء كانوا متدينين بدين وشريعة أم لا على الأخذ بالظواهر وعدم
الاعتناء مقام العمل وترتيب الآثار باحتمال خلافها، وإن كان موجودا ذاتا
وتكوينا، إلا أنه ملغى بنظرهم عملا والاحتمال الغير المعتنى به في مقام العمل
وجوده كعدمه، فلذا تسمية هذه الظواهر علما أقرب من تسميتها ظنا، لأن في الظن
احتمال الخلاف موجود ومعتنى به، إلا أن يقوم دليل خارجي على عدم الاعتناء
به، وأما في الظواهر احتمال الخلاف غير معتنى به ولو لم يكن دليل خارجي، وإن
كان بينها وبين العلم فرق من جهة احتمال الخلاف منتف في العلم ذاتا، وفي
الظواهر موجود إلا أنه غير معتنى به، وبناء العقلاء على أحد طرفي الاحتمال
وعدم الاعتناء بالطرف الآخر إنما هو بمقتضى جبلتهم وفطرتهم التي أودعها الله
فيهم كسائر فطرياتهم التي بها قوامهم ونظامهم وإن كان ذلك لمرجح من جهة
امتناع الترجيح بلا مرجح، إلا أنه يمكن أن يكون مرجح واقعي ولكن لم نعلم به
لقصورنا عن إدراك حكم الأمور التكوينية ومصالحها، والشارع لم يردع عن هذه
الطريقة فلا بد أن تكون هذه الطريقة العقلائية ممضاة عنده في تعيين مراداته من
ظواهر كلماته، وإلا لوجب عليه اختراع طريقة مخصوصة في استفادة مراده من
كلامه، وإلا لزم سد باب الإفادة والاستفادة من كلامه.
فإثبات حجية ظواهر كلام الشارع في تعيين مراداته موقوف على هاتين
المقدمتين أعني استقرار طريقة العقلاء على الأخذ بالظواهر وعدم ردع الشارع
عنها. ولا نزاع في المقدمة الثانية. وإنما النزاع في المقدمة الأولى لا في أصل
استقرار طريقة العقلاء على الأخذ بالظواهر في الجملة، بل في أن بناءهم على
الأخذ بها مطلق أو مقيد بحصول الظن بالوفاق - كما قيل (1) - أو بعدم الظن
بالخلاف - كما قيل (2) أيضا - والفاصل في هذا النزاع هو الرجوع إلى الأذهان

(1 و 2) أنظر كفاية الأصول: الأمارات في حجية الظهور اللفظي ص 324.
476

الصافية العرفية كما أن الفاصل في النزاع الآخر وهو أن حجية الظواهر مخصوصة
بمن قصد إفهامه أو مطلقة هو الرجوع إلى العرف أيضا.
والحق أن الظواهر حجة مطلقا، سواء أفادت الظن بالوفاق أم لا، وسواء
حصل الظن بالخلاف أم لا، بلا فرق بين من قصد إفهامه وغيره كما يظهر
بالمراجعة إلى العرف، كما لا فرق في ذلك بين الكتاب العزيز وأحاديث سيد
المرسلين والأئمة الطاهرين وغيرها من الظواهر، وإن ذهب بعض الأصحاب (1)
إلى عدم حجية ظاهر الكتاب إما بدعوى (2) اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله
ومن خوطب به كما يشهد به ما ورد (3) في ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به، أو
بدعوى (4) أنه لأجل احتوائه على مطالب غامضة عالية ومضامين شامخة لا تصل
إليها أيد أولي الأفكار غير الراسخين العالمين بتأويله، أو بدعوى (5) شمول
المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر لا أقل من احتماله لتشابه المتشابه وإجماله،
أو بدعوى (6) شمول الأخبار (7) الناهية عن تفسير القرآن بالرأي لحمل الكلام
الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى، أو بدعوى (8) العلم الإجمالي بعروض
التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهره، والعلم كما يوجب سقوط
الأصول العملية في أطرافه كذلك يوجب سقوط الأصول اللفظية.
ولكن في الجميع نظر، بل منع.
أما في الأول: فلأن المراد باختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن

(1) نقل عنهم المحدث البحراني في الدرر النجفية: ص 169 س 15.
(2) ذكره صاحب الفصول: ص 241 س 10.
(3) وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب صفات القاضي ج 18 ص 21 - 41.
(4) الفوائد المدنية: ص 128 س 19.
(5) حكاه الشيخ الأنصاري عن السيد الصدر في فرائد الأصول: في ظواهر الكتاب ج 1 ص 62.
(6) الدرر النجفية: ص 174 س 16.
(7) وسائل الشيعة: ب 13 من أبواب صفات القاضي ج 18 ص 129.
(8) فرائد الأصول: في ظواهر الكتاب: ج 1 ص 61.
477

خوطب به فهم تمام القرآن وفهم حقائقه ودقائقه، من ظاهره وباطنه، وتفسيره
وتأويله، ومحكمه ومتشابهه وعامه وخاصه، وناسخه ومنسوخه، لا فهم ظاهره
وإلا لانسد باب استفادة الأحكام من ظواهر الكتاب، وهو مناف لما ورد (1) من
الأئمة من تقرير أصحابهم لاستنباط الأحكام من ظواهر القرآن، وارجاعهم إلى
الأخذ بظواهره، وترجيح الأخبار (2) المتعارضة بموافقة الكتاب ورد الشرط
المخالف للكتاب. فلو لم يكن ظاهر الكتاب حجة لا معنى لشيء من ذلك. فما
ذكرناه من الحمل مع أنه ليس بعيدا في نفسه، إذ يصح أن يقال: فلان لا يعرف
القرآن، يعنى لا يعرفه بتمامه وكما ينبغي لا أنه لا يعرف شيئا منه ولو آية منه، كما
يصح أن يقال: فلان لا يعرف الكتاب الفلاني يعني لا يعرف تمام مطالبه. وكما
ينبغي لا أنه لا يعرف منه شيئا ولو بعض المطالب الواضحة حتى سطرا منه إلا أنه
لو كان بعيدا في نفسه لكنه بملاحظة تلك المعارضات يصير قريبا.
وأما في الوجه الثاني: فلأن عدم استفادة المطلب من كلام إما من جهة تعقيد
ألفاظه مع كون معناه من المعاني العرفية الواضحة كاللغز والمعمى، أو من جهة
كون المعنى من المعاني الغامضة والمطالب الشامخة العالية وظواهر القرآن
المتعلقة بالأحكام التي هي البحث والحاجة ليس فيها تعقيد في ألفاظها ولا
غموضة في مطالبها ومعانيها، فإن قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم) (3) لا تعقيد في ألفاظه ولا غموضة في معناه ومطلبه وهكذا غيره من
الآيات المتعلقة بالأحكام.
وأما في الوجه الثالث: فلمنع شمول المتشابه للظاهر، واحتمال شموله له
خلاف الظاهر، إذ المتشابه ليس متشابها، بل المراد به القدر المشترك بين المجمل
والمؤول، كما أن المحكم هو القدر المشترك بين النص والظاهر فلو كان الظاهر

(1) وسائل الشيعة: ب 39 من أبواب الوضوء ح 5 ج 1 ص 327.
(2) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب صفات القاضي ج 18 ص 75 - 89.
(3) المائدة: 6.
478

داخلا في المتشابه لزم أن يكون القرآن كله من المتشابه، إذ المراد بالمتشابه
- على هذا - ما يكون فيه احتمال الخلاف ولو احتمالا مرجوحا، وليس في
القرآن ما يكون نصا بحيث لا يحتمل فيه الخلاف ولو مرجوحا. والحال أنه مناف
للآية الشريفة: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) (1) فالمنع
عن اتباع المتشابه لا يشمل اتباع الظاهر، لأنه ليس من المتشابه.
وأما في الوجه الرابع: فلأن المنع عن تفسير القرآن بالرأي لا يشمل حمل
اللفظ على ظاهره إما لأنه ليس تفسيرا - كما قيل (2) - لأن التفسير عبارة عن كشف
القناع ولازمه أن يكون للمعنى سترة حتى يكون تفسيرا وكشفا للقناع في حمل
اللفظ عليه، أو المعنى الظاهر ليس فيه سترة وحجاب فلا يكون حمل اللفظ عليه
تفسيرا، لكنه ممنوع، لأن التفسير يشمل حمل اللفظ على معناه الظاهر، بل حمل
اللفظ على خلاف ظاهره ليس تفسيرا، بل هو تأويل، أو لأنه ليس تفسيرا بالرأي
- الذي هو المنهي عنه - لا مطلق التفسير ولو بمعونة ظواهر ألفاظه، فهذه الأخبار (3)
إنما وردت في مقام الردع عن استبداد فهم القرآن بالاعتبارات العقلية والآراء
الفاسدة بلا مراجعة إلى أهله، لا عن حمل ألفاظه على ظواهرها والأخذ بها كما
هو المدعى.
والحاصل: أن استفادة المطالب من القرآن بمعونة ألفاظه وإن كان تفسيرا إلا
أنه ليس تفسيرا بالرأي الذي هو المنهي عنه لا مطلق التفسير، ومنع كونه تفسيرا
ممنوع لشمول التفسير له، بل واختصاصه به، إذ حمل اللفظ على خلاف ظاهره
تأويل لا تفسير.
وأما في الوجه الخامس: فلأن العلم الإجمالي بطرو التخصيص والتقييد
والتجوز وإرادة خلاف الظواهر وإن كان مسلما وسقوط الأصول اللفظية في
أطراف العلم الإجمالي كالأصول العملية أيضا مسلما، إلا أنه لا يوجب عدم

(1) آل عمران: 7.
(2) كفاية الأصول: ص 327.
(3) وسائل الشيعة: ب 13 من أبواب صفات القاضي ح 62 ج 18 ص 148.
479

حجية ظواهر الكتاب، وعدم إمكان الأخذ بها مطلقا، بل قبل الفحص عن
المخصص والمقيد وقرينة المجاز، ونحن نلتزم بوجوب الفحص في العمل
بالأصول اللفظية، كالأصول العملية.
بيانه: أنه لو لم يكن المعلوم بالإجمال معنونا بعنوان ولا معلما بعلامة لا نفس
المعلوم بالإجمال ولا أطرافه، كما إذا علم إجمالا بأن واحدا من قطيع الغنم بلا
عنوان محرم فانه يجب الاجتناب عن الجميع بمقتضى العلم الإجمالي، ولا يرتفع
أثر هذا العلم الإجمالي إلا بالانحلال وحصول العلم التفصيلي، أو ما هو بمنزلة
العلم بمقدار الحرام المعلوم بالإجمال، ففي هذا القسم من المعلوم بالإجمال
لا يترتب على الفحص أثر، لأنه لو تفحص ولم يظفر بمقدار الحرام المعلوم
بالإجمال تفصيلا لم يمكن التمسك بالأصل، ولو حصل العلم التفصيلي بمقدار
الحرام المعلوم بالإجمال يمكن التمسك بالأصل ولو قبل الفحص، فالفحص إما لا
يفيد وإما لا يجب، والمدار على انحلال العلم الإجمالي.
وأما لو كان المعلوم بالإجمال معنونا بعنوان خاص ومعلما بعلامة مخصوصة
سواء كان نفس المعلوم بالإجمال معنونا بعنوان خاص كما لو فرض أن السود من
قطيع الغنم محرمة والبيض منها محللة واشتبهت السود بالبيض بواسطة ظلمة
وعمى ونحوهما، أو كانت أطراف المعلوم بالإجمال معنونة بعنوان خاص كما لو
فرض أن الحرام إنما هو في السود من القطيع لا البيض، ولكن اشتبهت السود
بالبيض بواسطة أمر عرضى كالظلمة ونحوها بحيث لو ارتفع ذلك العارض لتبين
وتميز المعلوم بالإجمال عن غيره أو أطرافه عن غيرها، فالفحص في هذا القسم
من العلم الإجمالي بقسميه له أثر وهو خروج ما عدا المعنون بهذا العنوان عن
أطراف العلم الإجمالي، وجواز الرجوع إلى الأصل فيه.
والحاصل: أن الاشتباه في العلم الإجمالي الذي هو عبارة عن علم مشوب
بالجهل أو نحو علم يكون التردد والإجمال في متعلقه قد يكون منحصرا بالاشتباه
الذاتي الذي هو لازم العلم الإجمالي كما في القسم الأول الذي لا يكون المعلوم
480

بالإجمال معنونا بعنوان خاص، وقد يكون فيه اشتباه عرضي غير الاشتباه الذاتي
في القسم الثاني الذي يكون المعلوم بالإجمال أو أطرافه معنونا بعنوان خاص،
ففي القسم الأول الفحص لا يوجب الرجوع إلى الأصل، إذ المدار فيه على الانحلال
فإن انحل العلم الإجمالي فلا حاجة إلى الفحص، وإن لم ينحل فلا فائدة فيه.
نعم يمكن أن يحصل بالفحص القطع بخروج المورد عن طرفية المعلوم
بالإجمال، إلا أنه ليس موردا لجواز الرجوع إلى الأصل، إذ الأصول اللفظية
كالأصول العملية إنما تجري مع الشك لا مع القطع، سواء كان موافقا أو مخالفا.
وأما في القسم الثاني الفحص يوجب الرجوع إلى الأصل، إذ بالفحص يخرج
المورد عن الطرفية وإن لم ينحل العلم الإجمالي ففي المثال المزبور إذا تفحص
وظهر أن هذا الغنم ليس من السود يخرج عن كونه من أطراف المعلوم بالإجمال،
ويجوز الرجوع فيه إلى الأصل لو شك في حليته وحرمته بالشك البدوي، نعم لو
فرض في المثال أن دائرة العلم الإجمالي أوسع من السود والبيض فالفحص
وظهور كونه من البيض لا يوجب الرجوع إلى الأصل، كما أنه لو فرض أن هناك
علمان إجماليان صغير دائرته مخصوصة بالسود وكبير دائرته أعم من السود
والبيض فبالفحص وظهور أن الغنم المخصوص ليس من السود وإن جاز الرجوع
إلى الأصل من حيث العلم الإجمالي الصغير، إلا أنه لا يجوز الرجوع إليه من حيث
العلم الإجمالي الكبير، لأنه بالفحص وإن خرج عن أطراف العلم الإجمالي
الصغير، إلا أنه لم يخرج عن أطراف العلم الإجمالي الكبير. والعلم الإجمالي بطرو
التخصيص والتقييد والتجوز في ظواهر الكتاب من قبيل القسم الثاني من العلم
الإجمالي، وهو ما كان المعلوم بالإجمال معلما بعلامة، أو نحن نعلم إجمالا بإرادة
خلاف الظاهر من بعض عمومات الكتاب ومطلقاته وحقائقه.
ولكن المعلوم بالاجمال معلم بعلامة وهي أن بعض العمومات التي مخصصها
فيما بأيدينا من الأخبار قد خصص إجمالا وبعض المطلقات التي مقيدها فيما
بأيدينا قد قيد إجمالا وبعض الحقائق التي قرينة التجوز فيها فيما بأيدينا قد أريد
481

منه المجاز، فإذا تفحصنا فيما بأيدينا ولم نظفر بالمخصص والمقيد وقرينة المجاز
بالنسبة إلى عام من عموماته أو مطلق من مطلقاته أو حقيقة من حقائقه يخرج عن
طرفية العلم الإجمالي، لأن المفروض أن العلم الإجمالي حاصل بورود
التخصيص على بعض عمومات الكتاب التي مخصصها فيما بأيدينا من الأخبار،
وكذا في المطلقات والحقائق. فإذا تفحصنا عن مخصص عام من عموماته أو عن
طائفة من عموماته كعمومات باب الطهارة - مثلا - ولم نظفر بمخصصها يجوز
التمسك بأصالة العموم بالنسبة إلى ما تفحصنا عن مخصصه وكذا بالنسبة إلى
المطلقات والحقائق.
ودعوى أن دائرة العلم الإجمالي أعم مما بأيدينا من الأخبار ومن غيرها من
الأخبار التي صدرت من الأئمة (عليهم السلام)، وما وصلت إلينا فالفحص عما بأيدينا من
الأخبار وعدم وجدان ما يوجب إرادة خلاف الظاهر لا يوجب الخروج عن
طرفية العلم الإجمالي، لأن المفروض أن العلم الإجمالي حاصل بإرادة خلاف
الظاهر في بعض ظواهر الكتاب بلا اختصاص بكون ما يوجب إرادة خلاف
الظاهر مما بأيدينا من الأخبار، بل في الأعم منها ومن غيرها، فالفحص على هذا
لا يفيد ولا يوجب الخروج عن الظرفية ورفع أثر العلم الإجمالي ولا يرفع أثره إلا
بالانحلال وحصول العلم التفصيلي بالمقدار المعلوم بالإجمال مجازفة، لأن العلم
الإجمالي إنما حصل بإرادة خلاف تلك الظواهر من هذه الأخبار التي بأيدينا، إذ
لو لم يكن هذه الأخبار لما حصل العلم الإجمالي فكيف يكون دائرته أعم منها
ومن غيرها من الأخبار التي لم تصل إلينا؟!
مع أن كثرة الأخبار لا توجب زيادة الأحكام، فلو قرض أن الأخبار التي لم
تصل إلينا كانت أضعاف ما وصلت الينا يمكن أن لا يحصل لنا العلم بحكم زائد
على الأحكام التي ثبتت لنا بما بأيدينا من الأخبار لجواز كون ما لم تصل إلينا
مكررات ومؤكدات لما وصلت إلينا من الأخبار، فالعلم بوجود أخبار كثيرة غير
ما وصلت إلينا لا يوجب العلم بزيادة تخصيص العمومات أو تقييد مطلقاته، مثلا
482

لو كان فيما بأيدينا من الأخبار ثلاثة أخبار في تخصيص (أوفوا بالعقود) بخيار
المجلس وكان ألف خبر في الأخبار التي ما وصلت إلينا في هذا الباب لا يوجب
زيادة تخصيص.
نعم يوجب تعاضد الأدلة وتكاثرها، ولذا ترى أن صاحب الوسائل أو
المستدرك مثلا لم يعقدا بابا غير الأبواب التي في كتب السابقين وإن زادا الأخبار
في الأبواب بأن كان في كل باب من كتب السابقين خمسة أخبار وهما ذكرا - مثلا -
عشرة أخبار. كما أن دعوى أن هناك علمان إجماليان أحدهما دائرته مخصوصة
بما بأيدينا من الأخبار والآخر دائرته أعم منها ومن غيرها أيضا مخارفة، لما
عرفت من [أن] العلم الإجمالي إنما حصل من المخصصات والمقيدات التي ثبتت
لنا بهذه الأخبار التي بأيدينا، فكيف يكون علم آخر دائرته أوسع؟ وأين مدرك
هذا العلم الثاني؟ مع ما عرفت أن كثرة الأخبار لا توجب زيادة الأحكام.
فتحصل: أن العلم الإجمالي بإرادة خلاف ظواهر الكتاب لا يوجب عدم
حجية الظواهر رأسا وبالكلية، بل يوجب الفحص، ونحن نلتزم به.
وأما سائر الوجوه التي ذكروها لعدم حجيتها فالجواب عنها هو الحمل على
ما ذكرناها من المحامل، فإنها لو فرض بعدها في نفسها إلا أنه لا بد من ارتكابها
بملاحظة معارضاتها مما دل على حجية ظواهر الكتاب كخبر الثقلين (1) وسائر
الأخبار الدالة على جواز التمسك به والعمل بما فيه، وعرض الأخبار المتعارضة
عليه، ورد الشروط المخالفة (2)، وغير ذلك مما لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى
ظواهره لا خصوص نصوصه، ضرورة أن الآيات التي يمكن أن تكون مرجعا في
باب تعارض الروايات أو الشروط، أو يمكن أن يتمسك بها ويعمل بما فيها ليست
إلا ظاهرة في معانيها، ليس فيها ما كان نصا، كما لا يخفى.

(1) وسائل الشيعة: ب 5 من أبواب صفات القاضي ح 9 ج 18 ص 19.
(2) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب صفات القاضي ج 18 ص 75.
483

فهذه الوجوه المذكورة لا توجب سقوط ظواهره عن الحجية سيما بملاحظة
معارضاتها فما دل على حجيتها كما أن دعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف
أيضا لا يوجب ذلك من جهة أن أصل وقوع التحريف في القرآن مسألة خلافية.
وقد أنكره السيد المرتضى (1) (قدس سره) مستدلا بأن شدة الاهتمام بضبط القرآن يمنع عن
ذلك، إذ الاهتمام بحفظه ليس أدون من الاهتمام بحفظ سائر الكتب والقصائد. وقد
أنكر بعض آخر تحريفه بالزيادة وجوز في النقيصة (2) مستدلا بأن الزيادة فيه
تتنافى مع كونه إعجازا ولا يمكن للبشر الاتيان بمثله ولو آية دون النقيصة.
وعلى تقدير تسليم وقوع التحريف فيه - كما يشهد به بعض الأخبار (3)
ويساعده الاعتبار - نمنع كونه مانعا عن حجية ظواهره، لعدم العلم بوقوع خلل
بذلك فيها، وعلى تقدير تسليمه فنمنع عن وقوعه في آيات الأحكام التي هي
محل الكلام، لعدم الداعي إلى تحريفها، وإنما وقع في الآيات المتعلقة بمدائح أهل
البيت ومثالب أعدائهم، لوجود الداعي بالنسبة إليها.
ولو ادعي العلم الإجمالي بوقوع التحريف المخل بالظواهر في الآيات
المتعلقة بالأحكام وغيرها فلا يمكن التمسك بظواهر الآيات المتعلقة بالأحكام.
ففيه: أن هذا العلم الإجمالي - على تقدير تسليمه - لا أثر له، لعدم حجية غير
ظواهر آيات الأحكام، لعدم اشتمالها على تكليف، والعلم بوقوع الخلل في
ظواهره إنما يمنع عن حجيتها إذا كانت كلها حجة، وأما إذا كان بعضها حجة دون
بعض فلا يمنع لجريان الأصل فيه بلا مزاحم كما في سائر الموارد التي يكون
لأحد طرفي العلم الإجمالي أثر دون الآخر.
ثم إن الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور مثل يطهرن
ويطهرن - بالتخفيف والتشديد - يوجب الإخلال بجواز التمسك والاستدلال بها،
إذ لم يثبت تواتر القراءات عن النبي (صلى الله عليه وآله) بأن يكون نزول القرآن من عند رب

(1) نقله عنه في مجمع البيان عن جواب المسائل الطربلسيان الأولى: ج 1 ص 15 س 8.
(2) المصدر السابق.
(3) بحار الأنوار: ج 92 ص 60.
484

العالمين بتوسط الروح الأمين على سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) بتمام القراءات السبع
أو العشر وقرأ النبي (صلى الله عليه وآله) بتمام هذه القراءات، لأنه مستبعد جدا، وإن نسب
إلى المشهور.
وما ورد في بعض الأخبار من نزول القرآن على سبعة أحرف (1) لا دلالة له
على ذلك، إذ المراد بالأحرف اللغات لا القراءات مع كونه معارضا بما ورد على
خلافه. ولا يبعد أن يكون اختلاف القراءات بعضها من جهة الاستحسانات
والاعتبارات كما في قراءة: " ومالي لا أعبد الذي فطرني إلى آخره " حيث قرأ
بفتح ياء المتكلم معللا بأنه لو قرأ بالسكون كان كالسكوت والوقف، وحينئذ يصير
افتتاح الكلام " لا أعبد الذي فطرني " ويصير المعنى فاسدا، وبعضها من جهة
الاختلاف في العربية، فإن خلافهم - مثلا - في نصب تابع المنادا أو رفعه كما
يوجب الاختلاف في غير القرآن كذلك يوجب الاختلاف فيه أيضا، وبعضها من
جهة اختلافهم في النقل، كما أنه لم يثبت جواز الاستدلال بتمام تلك القراءات وإن
ثبت جواز القراءة بها، لعدم الملازمة بين جواز القراءة، لقولهم (عليه السلام): " فاقرأوا كما
يقرأ الناس " (2).
ثم إن تواتر القراءات - على القول به - وكذا جواز الاستدلال بها إنما يمكن
في الظاهرين، وأما في النصين فلا يمكن، لاستلزامهما المناقضة أو المضادة في
حكم الله الواقعي وفي غير النصين المتعارضين على القول بالتواتر أو جواز
الاستدلال بكل قراءة إن أمكن الجمع بينهما بحمل الظاهر على النص، أو الأظهر،
فلا إشكال في لزوم الجمع بينهما، وإن لم يمكن ذلك فهل يمكن الرجوع إلى
المرجحات المنصوصة في علاج تعارض الخبرين المتعارضين أم لا؟ الحق عدم
الرجوع إلى تلك المرجحات، لأن الأصل في تعارض الأمارات بناء على
الطريقية هو سقوطها عن الحجية في خصوص المؤدى، وبناء على السببية هو

(1) الخصال: ج 2 ص 358 ح 43.
(2) الكافي: ج 2 ص 633 ح 23.
485

التخيير خرج منه الأخبار المتعارضة، لقيام الدليل فيها على الرجوع إلى
المرجحات المذكورة. وأما في غيرها من الأمارات فلم يثبت الرجوع إلى هذه
المرجحات، فلابد من العمل على طبق الأصل الأولي وهو سقوطها عن الحجية
بناء على كون حجيتها من باب الطريقية - كما هو الحق - وحينئذ لابد في سائر
الأمارات عند التعارض وعدم إمكان الجمع الدلالي إلى الأصل أو العموم حسب
اختلاف المقامات، ففي مورد الآية الشريفة إن قلنا بأن لفظة " أنى " في قوله
تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) (1) للعموم الزماني بأن كان
لفظ " انى " بمعنى متى، فيرجع إلى عموم حلية الوطء بعد انقطاع الدم وقبل
الاغتسال، لدلالة الآية على جواز الوطي، في جميع الأزمنة خرج من العموم
الزماني زمان وجود الدم يقينا بمقتضى قوله تعالى: (ولا تقربوهن في
المحيض...) إلى آخره (2) وبقي الباقي تحت العموم. وإن قلنا بأن لفظة " أنى "
بمعنى حيث ولا تدل على العموم الزماني كان المرجع هو الأصل في المقام، أي
الاستصحاب على اختلاف بين الرجوع إلى استصحاب حكم المخصص - كما هو
الحق - أو استصحاب حكم العام كما نقل عن بعض (3).
منها: قول اللغوي لا يخفى أنه قد عرفت أن الأمارات والأصول المعمولة في
باب الألفاظ إما تعمل في تشخيص مراد المتكلم كأصالة الحقيقة وأصالة العموم
والاطلاق ويعبر عنها بالأصول المرادية.
ولا إشكال في حجيتها فيما إذا كان الشك من جهة احتمال وجود القرينة
لاستقرار طريقة العقلاء على الأخذ بها، وإن اختلف في أن مرجع تلك الأصول
الوجودية إلى أصل عدمي وهي أصالة عدم القرينة، وأنها ليست أصولا متأصلة
في قبال الأصول العدمية، أو أنها أصول متأصلة معتبرة عند العقلاء في قبال الأصول
العدمية فيرجع إليها عند الشك، ولو مع القطع بعدم القرينة. ولعل الثمرة في هذا

(1 و 2) البقرة: 223.
(3) نقله عنهم في مطارح الأنظار: ص 192 س 32.
486

الخلاف تظهر في مسألة الحكومة والورود كما سيجئ إن شاء الله في محلها.
وأما إذا كان الشك من جهة احتمال قرينية الموجود كالشهرة في المجاز
المشهور ووقوع الأمر عقيب الحظر وأمثالهما ففيه إشكال. والحق هو التفصيل
بينما إذا اقترن محتمل القرينية بالكلام وبين ما إذا انفصل عنه بالإجمال في الأول
وعدمه في الثاني، والفاصل هو العرف وبناء العقلاء لبنائهم على الرجوع إلى أصالة
الحقيقة في الثاني دون الأول بلا فرق بين القول بحجية الظواهر من باب الظن
الشخصي أو من باب الظن النوعي أو من باب بناء العقلاء. هذا فيما إذا كان الشك
في المراد من جهة الشك في وجود القرينة أو قرينة الموجود بعد احراز الوضع.
وأما لو كان الشك فيه من جهة الشك في أصل الوضع، وأن الموضوع له لهذا
اللفظ لغة أو المفهوم منه عرفا أي شيء؟ فهل هناك أصل أو أمارة معتبرة
بالخصوص كالأصول المعتبرة في مقام الشك في تعيين المراد بعد إحراز الوضع أم
لا؟ وبعبارة أخرى كما أن العمل بالظهورات الفعلية - أعني الأصول المرادية -
خرج عن تحت أصالة حرمة العمل بالظن من جهة استقرار طريقة العقلاء على
التمسك بالظواهر في مقام تعيين المرادات، والشارع لم يردع عنها، ونفس عدم
ردعه كاف في إمضاء تلك الطريقة في تعيين مراداته من خطاباته، وإلا لابد من
اختراع طريقة أخرى غير الطريقة المتعارفة عند العرف، وإلا لزم سد باب الإفادة
والاستفادة من خطاباته، فهل العمل بالظهورات الاقتضائية - أعني الأصول
الوضعية - كأصالة عدم النقل وأصالة عدم الاشتراك وأماراتها مثل قول اللغوي في
إثبات الوضع خرج عن تحت أصالة حرمة العمل بالظن أم لا؟
نسب إلى المشهور حجية قول اللغوي في تعيين الوضع، وأنه من الظنون
الخاصة الخارجة عن تحت أصالة حرمة العمل بالظن كالأصول المرادية. واستدل
لهم باتفاق العلماء بل العقلاء على ذلك، حيث يستشهدون بقول اللغوي بلا إنكار
من أحد ولو مع المخاصمة واللجاج، وعن بعض دعوى الإجماع على ذلك (1).

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 74.
487

وفيه: أن الاتفاق - إن سلم اتفاقه - فغير مفيد، إذ لا دليل على اعتباره، مع أن
المتيقن منه هو الرجوع إليه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة،
والإجماع المحصل منه غير حاصل، والمنقول منه غير مقبول خصوصا في مثل
المسألة مما احتمل قريبا أن يكون وجه ذهاب الجل لو لا الكل هو اعتقاد أنه مما
اتفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة فيما اختص بها،
والمتيقن من ذلك إنما هو فيما إذا كان الرجوع موجبا للوثوق والاطمئنان ولا
يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع، بل لا يكون اللغوي من أهل الخبرة
بالنسبة إلى الأوضاع وإنما هو أهل الخبرة بالنسبة إلى تعيين موارد الاستعمال،
لأن همه ضبط موارده لا تعيين أن أي واحد من المعاني حقيقة وأيها مجازا، وإلا
لوضعوا لذلك علامة، ومجرد ذكر أحد المعاني أولا لا يكون علامة كونه حقيقة
والباقي مجازا، لانتقاضه بالمشترك.
والحاصل: أن اللغوي ليس أهل خبرة في تعيين الأوضاع، بل حاله كحالنا في
تلك الجهة، فكما أنا محتاجون في تعيين الوضع إلى العلائم القطعية المعتبرة كعدم
صحة السلب والاطراد ونحوهما من العلائم المذكورة لتعيين الحقيقة والمجاز
فكذلك اللغوي أيضا محتاج إليها، وإنما هو أهل الخبرة بالنسبة إلى تعيين موارد
الاستعمالات، فإن أهل اللغة كصاحب المجمع والقاموس وغيرهما ليس همهم في
كتبهم إلا بيان موارد استعمال اللفظ في الآيات والروايات والخطب وكلام
الفصحاء والبلغاء، وليسوا في مقام تعيين الموضوع له وتشخيصه عن غيره وليست
صنعتهم ذلك حتى يقال بقبول قول كل ذي صنعة فيما يتعلق بصنيعته كما حكي عن
السبزواري (1) ولو سلمنا أنهم من أهل الخبرة بالنسبة إلى تعيين الوضع فلا دليل
على اعتبار قول أهل الخبرة ما لم يجتمع فيه شرائط الشهادة من العدد والعدالة،
ولذا اعتبر في المقوم وأمثاله ذلك وقبول قول المفتي بالنسبة إلى المقلد والمستفتي

(1) كفاية الأصول: في الإمارات ص 330.
488

إنما هو بمناط آخر، وهو أن قوله أقرب إلى الواقع من سائر الطرق بالنسبة إلى
المقلد لا من باب أنه من أهل الخبرة.
فعلى هذا لو أفاد قول اللغوي وثوقا واطمئنانا بالوضع فهو معتبر، لما عرفت
أن الوثوق والاطمئنان كالعلم، وإلا فلا دليل على اعتباره ويكون باقيا تحت
الأصل الأولي أعني أصالة حرمة العمل بالظن، نعم لو فرض جريان مقدمات
الانسداد فيه نظير مقدمات الانسداد الجارية في الأحكام كما قيل في الظن بالضرر
يمكن القول باعتبار قول اللغوي من باب حجية مطلق الظن الثابتة بدليل الانسداد.
لكن فيه: أنه مع انفتاح باب العلم بالأحكام لا موجب لاعتبار قوله ولا حاجة
إليه، ومع انسداده كان قوله معتبرا من باب حجية مطلق الظن الثابتة بدليل
الإنسداد الجاري في نفس الأحكام ولا حاجة إلى اجرائه في خصوص قول
اللغوي، فتأمل.
لا يقال: فعلى هذا لا حاجة في الرجوع إلى اللغة، لأنه يقال: مع ذلك لا يخفى
فائدة الرجوع إليها، فإنه ربما يقطع بالمعنى من خصوصيات المورد، وربما يقطع
بظهور اللفظ في معنى وإن لم يقطع بكونه حقيقة أو مجازا، لأن الشخص إذا راجع
الكتب اللغوية وعلم موارد استعمال اللفظ فربما يحصل له القطع بمعنى اللفظ
أو بظهوره في معنى خاص من جهة خصوصيات المقام ومناسبات المورد، كما
هو واضح.
منها: الإجماع المنقول بخبر الواحد فإنه حجة بالخصوص وخارج عن أصالة
حرمة العمل بالظن عند كثير ممن قال باعتبار خبر الواحد بالخصوص، لأنه من
أفراده من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص، فلابد في اعتباره بالخصوص من
شمول أدلة حجية الخبر بعمومها أو إطلاقها له، فإن صار مشمولا لتلك الأدلة فهو،
وإلا فلا دليل على اعتباره.
وتحقيق القول فيه يستدعي رسم أمور:
الأول: أنه لا يخفى أن مشارب العلماء، في حجية الإجماع مختلفة فالعامة
489

يرونه حجة من جهة قوله (صلى الله عليه وآله) على ما يروون: " لن تجتمع أمتي على الخطأ " (1)
فنفس الإجماع والاتفاق بما هو حجة عندهم، بل بناء مذهبهم عليه فهو أصل لهم
وهم أصل له.
وأما الخاصة فيرونه حجة من جهة حصول القطع منه برأي المعصوم.
إما لدخوله في المجمعين بشخصه وعدم معرفته بعينه - كما هو طريقة
المتقدمين - في وجه حجية الإجماع ولذا اعتبروا وجود مجهول النسب في
المجمعين، فكل جماعة - قلت أو كثرت - علم وجود المعصوم فيهم ولو ثلاثة بل
اثنين يكون قولهم حجة عندهم - وكل جماعة لم يعلم بدخول المعصوم فيهم لا
يكون قولهم حجة وإن كثرت، إذ المدار في الحجية دخول المعصوم في المجمعين
وقوله في أقوالهم.
وإما لقاعدة اللطف على ما حكي عن الشيخ اختيار هذه الطريقة بعد موافقته
لهم في الطريقة الأولى، وحاصل ما اختاره هو أنه إذا اتفقت العلماء وأهل الحل
والعقد على حكم في عصر من الأعصار فإن كان هذا الحكم خطأ يجب لقاعدة
اللطف ردعهم عنه وإلقاء الخلاف بينهم، فنفس عدم الردع وإلقاء الخلاف يستلزم
عقلا لمطابقة قوله (عليه السلام) لأقوالهم من جهة تلك القاعدة العقلية (2) وإما للحدس
القطعي برأيه وإن لم يكن ملازمة بين قوله مع أقوالهم عقلا وعادة كما هو طريقة
المتأخرين في وجه حجية الإجماع فإنه إذا اتفقت جماعة من العلماء الذين لا
يصدرون إلا عن رأي رئيسهم على حكم يحصل القطع بأنه وصل إليهم منه (3) فيما
إذا كان الحكم مخالفا للأصل ولم يكن عليه دليل ظاهرا كما في اتفاق جماعة من
تلامذة عالم على حكم فإنه كما يمكن حصول القطع من اتفاقهم بأنه رأي
أستاذهم كذلك بالنسبة إلى رأي الإمام (عليه السلام).

(1) مجمع الزوائد: ج 5 ص 218. " وفيه على ضلالة ".
(2) حكاه عنه في قوانين الأصول: ص 350 س 8.
(3) نقله عنهم في مفاتيح الأصول: ص 496 س 9.
490

والعمدة في وجه حجية الإجماع وحصول القطع منه برأي الإمام هذه الطرق
الثلاثة وإن ذكر بعض الوجوه الأخر أيضا.
الثاني: في أنه لا يخفى اختلاف نقل الإجماع فتارة ينقل ناقل الإجماع رأي
الإمام (عليه السلام) في ضمن نقله الإجماع حدسا كما هو الغالب أو حسا، وهو نادر جدا،
إذ هو مبني على دخول الإمام (عليه السلام) في المجمعين والعلم به في زمان الغيبة بعيد في
الغاية، وفي زمان الحضور يمكن ذلك فيما إذا عرف الإمام ورأى دخوله في
مجلس جماعة ثم اشتبه عليه الإمام، ولكن سمع من تمام هذه الجماعة فتوى، ففي
هذه الصورة يكون اخباره عن رأي الإمام في ضمن نقل الإجماع عن حس. وأما
إذا لم يعرف الإمام سابقا وقطع بوجوده فيهم من جهة الحدس فإخباره عن تلك
الجماعة التي قطع بأن الإمام أحدهم وإن كان عن حس إلا أن كون الإمام فيهم
ليس إلا عن حدس، فإخباره عن الإمام في ضمن نقل الإجماع بوصف كونه إماما
ليس إلا عن حدس.
وأخرى لا ينقل الناقل إلا ما هو السبب عنده عقلا أو عادة أو اتفاقا من دون
نقل المسبب وهو رأي الإمام (عليه السلام) لا عن حدس ولا عن حس، وألفاظ نقل
الإجماع تارة تكون صريحة أو ظاهرة في نقل السبب أو المسبب وأخرى تكون
مجملة من تلك الجهة.
الثالث: أنه بعد ما عرفت من أنه لا دليل على اعتبار الإجماع المنقول
بالخصوص، وأنه لابد في اعتباره كذلك من شمول أدلة حجية خبر الواحد، وأنها
لا تدل على حجية الخبر إلا إذا كان عن حس، فإذا كان الإجماع المنقول إخبارا
عن حس فتشمله تلك الأدلة، وإلا فلا. فعلى هذا لو كان نقل الإجماع متضمنا لنقل
السبب - أعني فتاوى المجمعين - والمسبب - أعني رأي الإمام (عليه السلام) - عن حس لا
إشكال في حجيته لشمول أدلة حجية خبر الواحد له.
لكن نقله كذلك في زمان الغيبة موهون، لما عرفت من أن الإخبار عن رأي
الإمام (عليه السلام) حسا موقوف على وجود الإمام في ضمن المجمعين ودخوله فيهم مع
491

معرفته له بغير الحدس كما مر في المثال، وهو بعيد في زمان الغيبة.
وكذلك لا إشكال في حجيته فيما إذا لم يكن متضمنا لنقل المسبب، بل كان
متمحضا لنقل السبب عن حس، إلا أنه كان سببا بنظر المنقول إليه عقلا أو عادة أو
اتفاقا فيعامل - حينئذ - مع المنقول معاملة المحصل في الالتزام بمسببه بآثاره
وأحكامه، فيكون الإخبار بفتاوى العلماء المستلزمة لقول الإمام (عليه السلام) عقلا أو
عادة أو اتفاقا نظير الإخبار بالأفعال الظاهرية التي يستكشف منها العدالة
والشجاعة ونحوهما من الملكات والصفات النفسانية فيما إذا كانت تلك الأفعال
كاشفة عنها بنظر المخبر له كما أنها كاشفة بنظر المخبر، فإخباره بفتاوى العلماء لما
كان عن حس بالسماع منهم أو الوجدان في كتبهم كان حجة لشمول أدلة حجية
خبر الواحد له، فيكون المنقول بمنزلة المحصل للمنقول إليه، والفرض أنه سبب
عند المنقول إليه لاستكشاف قول الإمام (عليه السلام).
وأما إذا كان نقله للمسبب لا عن حس كما في الوجه الأول ولا بملازمة ثابتة
بين المخبر به وقول الإمام (عليه السلام) عند الناقل والمنقول إليه، بل عند الناقل فقط بوجه
من الوجوه ففيه إشكال، أظهره عدم الحجية، لعدم شمول أدلة حجية خبر الواحد
له، إذ المتيقن من بناء العقلاء والمنصرف من الآيات والروايات التي استدلوا بها
على حجية خبر الواحد هو الإخبار عن حس، سواء كان المخبر به بنفسه
محسوسا أو بلوازمه وآثاره، خصوصا فيما إذا اعتقد المنقول إليه خطأ الناقل في
اعتقاد الملازمة بين فتاوى المجمعين وبين قول الإمام (عليه السلام) هذا فيما إذا انكشف
الحال وعلم أن إخباره برأي الإمام (عليه السلام) عن حدس.
وأما لو اشتبه فلا يبعد أن يقال بالاعتبار، لأن عمدة أدلة حجية خبر الواحد
هو بناء العقلاء وهم كما يعملون بخبر الثقة فيما إذا كان عن حس كذلك فيما
يحتمل أن يكون من حدس، حيث إنه ليس بناءهم فيما إذا أخبروا بشيء على
الفحص والتفتيش عن أنه عن حس أو حدس، بل يعملون على طبقة فيما لا يكون
هناك أمارة على الحدس أو اعتقاد الملازمة فيما لا يرون ملازمة.
492

والحاصل: أنهم يعملون بخبر الثقة بمجرد احتمال مطابقته للواقع فيما لم
يحرزوا أنه إخبار عن حدس، ولم يكن هناك أمارة عليه، لكن الإجماعات
المنقولة في السنة الأصحاب غالبا مبنية على حدس الناقل، أو اعتقاد الملازمة
عقلا فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أن نقل السبب كان مستندا إلى الحس، فلابد في
الإجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة من استظهار مقدار دلالة ألفاظها ولو
بملاحظة حال الناقل من كثرة تتبعه وقلته وخصوص موضع النقل، فيؤخذ بذاك
المقدار ويعامل معه كأنه المحصل، فإن كان بمقدار تمام السبب فهو، وإلا فلا
يجدي ما لم يضم إليه مما حصله أو نقل له من سائر الأقوال أو سائر الأمارات بأنه
تم، فإذا نقل الشخص أن المسألة إجماعية واستظهر المنقول إليه أن الناقل قد اطلع
على رأي مائة من العلماء عن حس وادعى الإجماع بواسطة اعتقاده الملازمة بين
فتوى المائة ورأي الإمام (عليه السلام) فيجعل المنقول إليه هذا المقدار من فتاوى العلماء
كالمحصل، فإن كان هذا المقدار من الفتاوى ملازما لقول الإمام (عليه السلام) باعتقاد
المنقول إليه فهو، وإلا فلا يجدى ما لم يضم إليه مما حصله أو نقل إليه من سائر
الأقوال والأمارات بمقدار ما هو تمام السبب، فلو كان فتوى مائتين من العلماء
ملازما لقول الإمام (عليه السلام) بنظر المنقول إليه فلابد من ضم فتوى مأئة أخرى إلى ما
نقل له في المثال المذكور إما بتحصيل فتاويهم بنفسه أو بنقل آخر حتى يتم السبب
عنده، أو ضم أمارات أخر ليحصل له القطع الحدسي من مجموع ما نقل له من
فتاوى العلماء ومن هذه الأمارات بقول الإمام (عليه السلام).
فتلخص بما ذكرنا أن الإجماع المنقول بخبر الواحد من جهة حكايته رأي
الإمام (عليه السلام) بالتضمن أو الالتزام كخبر الواحد في الاعتبار إذا كان من نقل إليه ممن
يرى الملازمة بين رأيه وما نقل له من الأقوال بنحو الجملة والإجمال وتعمه أدلة
اعتباره وينقسم بأقسامه ويشاركه في أحكامه، وإلا لم يكن مثله. ولابد من ضم
ما يكون تمام السبب عنده وأما من جهة نقل السبب فهو في الاعتبار بالنسبة إلى
مقدار من الأقوال التي نقلت إليه على الإجمال بألفاظ نقل الإجماع مثل ما إذا
493

نقلت على التفصيل، فلو ضم إليه مما حصله أو نقل له من أقوال السائرين أو سائر
الأمارات مقدار كان المجموع منه وما نقل بلفظ الإجماع بمقدار السبب التام كان
المجموع كالمحصل، ويكون حاله كما إذا كان كله منقولا بحسب النتيجة.
فتحصل: أن الإجماع المنقول بخبر الواحد لا اعتبار له من جهة حكاية
المسبب وهو رأي الإمام (عليه السلام) إذا لم يكن ملازمة بين ما نقل من فتاوى العلماء
بلفظ الإجماع على اختلاف مقدار الاستظهار من خصوصيات أشخاص الناقلين
ومواضع النقل وبين رأي الإمام بنظر المنقول إليه، وكذا من جهة حكاية السبب إذا
لم يكن ما نقل له بمقدار تمام السبب ولم يضم إليه ما يكون به تمام السبب، ومع
ذلك ليس نقل الإجماع بلا فائدة، إذ ربما يحصل من فتوى جماعة من العلماء
سيما القدماء منهم والكبراء القطع بوجود دليل معتبر لمن كان ذهنه خاليا عن
الوسوسة وإن لم يقطع برأي الإمام (عليه السلام) ولم تكن فتواهم تمام السبب عنده،
والتعبير بأسامي أرباب الفتاوى أحسن من التعبير بلفظ الإجماع في هذه الجهة
أي استكشاف الدليل المعتبر، بل ربما يحصل القطع بوجوده من فتوى عشرة أو
خمسة من القدماء والكبراء، فنقل الإجماع لو لم يكن مخلا بهذه الجهة لما يترتب
عليه فائدة، بل نقل أشخاص المفتين أحسن، فتأمل.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: أنه قد مر أن مبنى دعوى الإجماع غالبا هو اعتقاد الملازمة عقلا
لقاعدة اللطف وهي باطلة، أو اتفاقا بحدس رأيه (عليه السلام) من فتوى جماعة وهي غالبا
غير مسلمة. وأما كون المبنى العلم بدخول الإمام (عليه السلام) بشخصه في المجمعين أو
العلم برأيه للاطلاع بما يلازمه عادة من فتاوى الجماعة فقليل في الإجماعات
المتداولة في ألسنة الأصحاب كما لا يخفى، بل لا يكاد يتفق العلم بدخوله (عليه السلام)
على نحو الإجمال في الجماعة في زمان الغيبة، وإن احتمل تشرف بعض
الأوحدي بخدمته ومعرفته أحيانا. فلا يكاد يجدى نقل الإجماع إلا من باب نقل
السبب بالمقدار الذي أحرز من لفظ الإجماع بما اكتنف به من حال أو مقال،
494

ويعامل معه معاملة المحصل على ما تقدم تفصيله.
الثاني: أنه لا يخفى أن الإجماعات المنقولة إذا تعارض اثنان منها أو أكثر فلا
يكون التعارض بينهما إلا بحسب المسبب، وأما بحسب السبب فلا تعارض في
البين، لاحتمال الصدق، فيمكن أن يحصل القطع لشخص من فتوى مائة من
العلماء برأي الإمام (عليه السلام) وادعى الإجماع، ومن فتوى مائة أخرى لشخص آخر
وادعى الإجماع، لكن نقل الفتوى على الإجمال بلفظ الإجماع - حينئذ - لا يصلح
لأن يكون سببا ولا جزء سبب، لثبوت الخلاف فيها إلا إذا كان في أحد
المتعارضين خصوصية موجبة لقطع المنقول إليه برأيه لو اطلع عليها ولو مع
اطلاعه على الخلاف، وهو وإن لم يكن مع الاطلاع على الفتاوى على اختلافها
مفصلا ببعيد، إلا أنه مع عدم الاطلاع عليها كذلك إلا مجملا بعيد، فافهم.
الثالث: أنه ينقدح مما ذكرنا في نقل الإجماع حال نقل التواتر وأنه من حيث
المسبب لابد في اعتباره من كون الإخبار إخبارا على الإجمال بمقدار يوجب
قطع المنقول إليه بما أخبر به لو علم بها ومن حيث السبب يثبت به كل مقدار كان
اخباره بالتواتر دالا عليه، كما إذا أخبر به على التفصيل فربما لا يكون إلا دون حد
التواتر، فلابد في معاملته معه معاملته من لحوق مقدار آخر من الأخبار يبلغ
المجموع ذلك الحد بنظر المنقول إليه، نعم لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في
الجملة ولو عند المخبر لوجب ترتيبه عليه ولو لم يدل على ما بحد التواتر من
المقدار.
منها: الشهرة في الفتوى ولا يساعد على اعتبارها دليل.
وتوهم دلالة أدلة حجية خبر الواحد عليها بالفحوى لكون الظن الحاصل منها
أقوى من الظن الحاصل من الخبر.
فيه ما لا يخفى ضرورة عدم دلالتها على كون مناط اعتباره إفادة الظن غايته
تنقيح ذلك بالظن وهو [ليس] إلا الظن بأنها أولى بالاعتبار ولا اعتبار به. مع أن
دعوى القطع بأنه ليس بمناط مجازفة.
495

وأضعف منه توهم دلالة المقبولة والمشهورة على حجيتها، لأن المراد بما
اشتهر في الأخيرة وبالمجمع عليه بين الأصحاب في الأولى هي الشهرة الرواية
دون الفتوى.
نعم بناء على حجية الخبر ببناء العقلاء لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم
على حجية الخبر بالخصوص، بل على حجية كل أمارة مفيدة للظن أو الاطمئنان،
لكن دون إثبات ذلك خرط القتاد، فتأمل.
وما ذكرنا من فائدة الإجماعات المنقولة من استكشاف دليل معتبر منها
تجري في الشهرات أيضا، إذ ربما يحصل القطع بوجوده من فتوى جماعة منهم،
خصوصا إذا كانوا من القدماء الذين فتاويهم بمنزلة النصوص، هذا في الشهرة
المحققة.
وأما الشهرة المنقولة بخبر الواحد فهي كالشهرة المحصلة بمقدار ما يستظهر
من فتاوى العلماء من لفظ الشهرة التي في كلام الناقل، فإن قطع منه بوجود دليل
معتبر فهو، وإلا فلا اعتبار بها، إذ ليس المنقول بأولى من المحصل.
ومنها: خبر الواحد المقابل للمتواتر الذي هو عبارة عن بلوغ المخبرين
بمرتبة من الكثرة بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة، ويكون موجبا للعلم
بوقوع المخبر به بنفسه بخلاف خبر الواحد فإنه عبارة عما لا يكون مخبره بهذه
المرتبة من الكثرة ولا يكون موجبا للعلم بوقوع المخبر به بنفسه وإن أمكن أن
يفيد العلم بواسطة انضمام القرائن الخارجية وأن يكون راويه أكثر من واحد، ولذا
يقسم الخبر الواحد في علم الدراية إلى أقسام كالمستفيض، وهو ما يكون راويه
ثلاثة وما زاد وغيره من الأقسام.
والكلام هنا في مقامين، أحدهما: في أصل اعتباره في مقابل منكري حجية
خبر الواحد كالسيد (1) وأتباعه (2)، والثاني: في مقداره وأن خبر الواحد مطلقا حجة

(1) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثالثة): ص 309.
(2) المهذب: كتاب القضاء ج 2 ص 598.
496

أو أنه حجة بشرائط مخصوصة كعدالة راويه أو وثاقته وأمثالهما من الشروط
المقررة في محلها.
ثم إن هذه المسألة هل هي من المسائل الأصولية أو أنها ليست منها وإنما
ذكرت في الأصول استطرادا؟
الحق أنه بناء على كون المسألة الأصولية ما يكون لها دخل في استنباط
الحكم الشرعي أن هذه المسألة من المسائل الأصولية، بل من أهمها، ولا وجه
للاستطراد بعد إمكان كونها من المسائل، وأما بناء على كون موضوع الأصول هي
الأدلة الأربعة، وأن البحث فيه لابد أن يكون عن عوارضها الذاتية فادراج هذه
المسألة في المسائل الأصولية لا يخلو عن تجشم، لكنه تقدم سابقا أنه ليس امتياز
العلوم منحصرا بتمايز الموضوعات حتى يحتاج كل علم إلى موضوع يبحث فيه
عن عوارضه الذاتية كما ذكروه حتى يقعوا في الإشكال من حيث إن ما يعرض
الموضوع بواسطة أمر أخص ليس من العوارض الذاتية على ما ذكروه. والحال أن
جل مسائل العلوم بل كلها من هذا القبيل، كعروض الرفع للكلمة بواسطة الفاعلية
وأمثاله، بل يمكن أن يكون بتمايز الموضوعات أو بتمايز المحمولات أو
الأغراض، وذلك لأن الحكمة العقلائية اقتضت من جهة سهولة التعليم والتعلم تميز
بعض المسائل عن بعض وتدوين كل طائفة ممتازة عن الطائفة الأخرى ليسهل
تناولها، فلابد أن يكون لكل طائفة جهة جامعة يمتاز بها عن سائر الطوائف،
والجهة الجامعة كما يمكن أن يكون هو الموضوع بأن يجعل شيئا موضوعا ويدور
وراء محمولاته يمكن أن يكون هو المحمول بأن يجعل شيئا محمولا ويدور وراء
موضوعاته، ويمكن أن يكون هو الغرض بأن يجعل شيئا غرضا ويدور وراء
محصلاته، كما أن تبويب كل علم إلى أبواب وفصول بحسب أنظار المصنفين أيضا
لذلك، ويختلفان بحسب أنظار المصنفين فربما يجعل شخص بحسب نظره وسليقته
مسألة من علم ويجعلها آخر من علم آخر، كما أنه يجعل أحدهما مسألة
في باب ويجعله آخر في باب آخر، أو يجعل أحدهما كتابه على ترتيب من
497

الأبواب والفصول ويجعل الآخر على خلافه.
وعلى تقدير احتياج العلوم المدونة إلى الموضوع لا نسلم أن علم الأصول
من تلك العلوم، بل هو عدة من مهمات مسائل العلوم المتشتة التي يحتاج الفقيه،
إليها جمعوها وسموها بعلم الأصول، فإن بعض مسائل علم الأصول من مسائل
علوم العربية، وبعضها من مسائل علم المعاني، وبعضها من مسائل الكلام جمعها
الأصوليون على اختلاف أنظارهم قلة وكثرة وسموها علم الأصول أي القواعد
التي يستنبط منها الفقيه، فهو مثل كشكول البهائي ومشكلات العلوم، فليس علما
مستقلا في قبال سائر العلوم حتى يحتاج إلى موضوع.
والعجب من صاحب الكفاية (قدس سره) مع تفطنه إلى أن الجهة الجامعة يمكن أن
يكون هو الغرض التزم بوجود موضوع لعلم الأصول وهو الجامع بين موضوعات
مسائله (1) وإن لم يعرفه باسمه ورسمه مع أنه التزام بما لا يلزم. وكيف يمكن البحث
عن عوارض الشيء مع عدم تصوره ومعرفته أصلا؟!
فتحصل: أنه لا نسلم احتياج العلوم المدونة إلى الموضوع، بل تحتاج بواسطة
الحسن العقلي والحكمة العقلائية إلى جهة جامعة لشتات المسائل، سواء كانت
الجهة الجامعة هو الموضوع أو المحمول أو الغرض. وعلى تقدير تسليم الاحتياج
إلى الموضوع في العلوم المدونة لا نسلم أن علم الأصول من العلوم المدونة، بل
هو مجموع مهمات المسائل المتشتة التي يحتاج الفقيه إليها، وعلى تقدير كونه من
العلوم المدونة، واحتياجه إلى موضوع يكون البحث عن عوارضه الذاتية، فإن قلنا
بأن موضوع علم الأصول هي الأدلة الأربعة كما هو المشهور ولابد أن يكون
البحث فيه عن عوارضها فلا إشكال في أن البحث في تلك المسألة ليس من
عوارض الكتاب والإجماع والعقل، فينحصر بأن يكون بحثا عن عوارض السنة
- أي قول المعصوم وفعله وتقريره - فإن قلنا بأن البحث عن حجية خبر الواحد
بحث عن أن السنة كما تثبت بالخبر المتواتر هل تثبت بخبر الواحد أم لا؟ فيكون

(1) كفاية الأصول: في موضوع علم الأصول ص 22.
498

البحث عن عوارض السنة التي هي أحد الأدلة الأربعة، وإن قلنا بأن البحث عنه
بحث عن الحاكي وهو خبر الواحد، وأنه هل تثبت السنة كما تثبت الأمور الأخر،
أم لا؟ فلا يكون بحثا عن عوارض السنة المحكية، عن عوارض الحاكي، وهو
ليس من الأدلة الأربعة.
فعلى تقدير أن يكون نظر الباحث إلى المحكي تكون هذه المسألة من المسائل
الأصولية، وعلى تقدير أن يكون نظره إلى الحاكي لا تكون من المسائل الأصولية،
إذ خبر الواحد حاك عن السنة والحاكية من الأمور النسبة الاضافية التي يمكن أن
يتعلق النظر إلى كل من المضاف والمضاف إليه، فإنه يمكن أن يتعلق نظر الباحث
بأن خبر الواحد كما يثبت فروع الدين مثلا هل يثبت أصول الدين أم لا؟ ويمكن
أن يتعلق النظر بأن أصول الدين هل تثبت بخبر الواحد أم لا؟ فالبحث على الأول
من أحوال خبر الواحد، وعلى الثاني من أحوال أصول الدين، كما أن البحث عن
أن البينة حجة في الأمر الفلاني أم لا؟ يمكن فيها هذان الوجهان، أو يمكن أن
يكون نظر الباحث إلى أن البينة هل تثبت هذا الأمر كما تثبت سائر الأمور.
فحينئذ يكون البحث عن أحوال البينة، ويمكن أن يكون نظره إلى أن هذا
الأمر هل يثبت بالبينة كما يثبت بالعلم، فحينئذ يكون البحث عن أحوال ذلك الأمر
كما في الأمور التي وقع النزاع في الفقه في ثبوتها بالشاهدين مثلا أو بشاهد
وامرأتين كالسرقة فإنه لا إشكال في أن البحث في الفقه عن عوارض أفعال
المكلفين، فالبحث عن ثبوت الزنا بالشاهدين بحث في أن هذا الفعل يثبت
بالشاهدين أو بشاهد وامرأتين بعد الفراغ عن حجتيهما، لا أنه بحث عن حال
الشاهدين أو عن الشاهد الواحد وامرأتين وكما في الأمور الخارجية فإنه قد
يتعلق النظر بمعرفة حال السكين - مثلا - في أنه يقطع هذا الخشب مثلا أم لا، وقد
يتعلق النظر بمعرفة حال هذا الخشب بأنه قابل أن يقطعه هذا السكين بعد الفراغ
عن كونه قاطعا، فإن كان محط البحث أن السنة هل تثبت بخبر الواحد أم لا؟
فيكون البحث عن أحوال الأدلة، وتكون المسألة من المسائل الأصولية، وإن كان
499

محط البحث أن خبر الواحد هل يثبت السنة كما يثبت غيرها، لا يكون البحث عن
أحوال السنة ولا تكون المسألة من المسائل الأصولية، وظاهر عنوان البحث وهو
أن خبر الواحد حجة أم لا هو أن البحث عن أحوال خبر الواحد لا عن أحوال
السنة فادراجها في المسائل الأصولية مشكل. نعم يمكن إدراجها مع ذلك في
المسائل الأصولية بناء على كون السنة أعم من السنة الواقعية والظاهرية - أعني
المحكي والحاكي، وكون البحث عن الحجية أيضا بحثا عن عوارض الحجة بأن
يجعل الأدلة الأربعة التي هي موضوع علم الأصول ذوات الأدلة مع قطع النظر عن
دليليتها وحجيتها، كما حكي عن صاحب الفصول (1).
فعلى هذا تدخل هذه المسألة في المسائل الأصولية كسائر مباحث الحجج
مثل البحث عن حجية ظواهر الكتاب والإجماع وأمثالهما، لا بأن يجعل الموضوع
الأدلة الأربعة بوصف دليليتها كما حكي عن صاحب القوانين (2) فإن البحث عن
الحجية - على هذا - ليس بحثا عن عوارض الأدلة، بل عن ذات الدليل، لأن
الدليلية معتبرة في الموضوع، فلا يكون البحث عن عوارض الدليل، بل عن ذات
الدليل، فلا تكون من المسائل الأصولية. كما أن البحث عن الأحكام العقلية
المستقلة كمسألة التحسين والتقبيح العقليين على هذا ليس بحثا عن عوارض
الدليل، بل عن وجوده، لأن النزاع في أصل وجود حكم العقل - الذي هو أحد
الأدلة - وعدمه لا في حجيته وعدمها (3) بعد وجوده. نعم الملازمات العقلية يمكن
إدراجها في المسائل الأصولية، لأن البحث فيها ليس عن وجود حكم العقل، بل
عن أن هذا الحكم العقلي يلازم الحكم بشيء آخر فتأمل.
إلا أن يجعل الدليل ذات القوة العاقلة لا حكم العقل، ويجعل البحث عن
الدليلية بحثا عن أحوال الدليل بأن يكون الموضوع ذوات الأدلة مع قطع النظر عن

(1) حكاه عنه في نهاية الأفكار: ج 1 ص 19.
(2) حكاه عنه في نهاية الأفكار: ج 1 ص 19.
(3) في الأصل وعدمه.
500

دليليتها، فحينئذ تدخل مسألة التحسين والتقبيح العقليين كسائر مسائل الحجج في
المسائل الأصولية.
وكيف كان فقد اختلفوا في حجية خبر الواحد الغير المحفوف بالقرائن
القطعية. وقد استدل كل من المثبتين والمنكرين بالأدلة الأربعة، مع أن المنكرين لا
يحتاجون إلى إقامة دليل على مدعاهم، بل يكفيهم منع دليل الخصم والمناقشة
فيه، وإنما أقاموا الدليل على مدعاهم من جهة معارضة أدلة الخصم، وأنه مضافا
إلى عدم الدليل على حجيته الأدلة على عدم حجيته موجودة:
الأول من أدلة النافين: دليل العقل، وهو ما استدل به ابن قبة على عدم جواز
التعبد بخبر الواحد، لأنه مستلزم لتحليل الحرام وتحريم الحلال. وقد مر الجواب
عنه سابقا، ولما فصلوا بين مرحلة إمكان التعبد بخبر الواحد وغيره من الأمارات
الغير العلمية وبين مرحلة الوقوع.
وهذا الدليل العقلي المذكور إنما هو في مرحلة الإمكان لا الوقوع، فلذا لم
يستدل المنكرون في مرحلة الوقوع إلا بالأدلة الثلاثة ما عدا دليل العقل. والحال
أنه لو تم الدليل المذكور ودل على عدم إمكان التعبد بخبر الواحد، بل مطلق
الأمارة الغير العلمية لدل على عدم وقوعه، لأنه أخص من الإمكان، ونفي الأعم
مستلزم لنفي الأخص بخلاف العكس.
الثاني: الإجماع الذي ادعاه السيد المرتضى ومن تبعه على عدم حجية خبر
الواحد، بل جعل السيد عدم جواز العمل بخبر الواحد كعدم جواز العمل بالقياس
من ضروريات مذهب الشيعة (1).
وفيه: أن هذا الإجماع لم يكن محصلا لنا، وإنما هو منقول من السيد ومن
تبعه. ونقله من السيد أو من قبله وإن لم يمكن رده بأنه مدع وقول المدعي غير
مسموع، إذ هذه الدعوى ليست كدعاوى الأملاك في عدم سماع قول مدعي

(1) المجموعة الأولى (جواب المسائل التبانيات): ص 24.
501

الملكية ولو قلنا بحجية قول العادل الواحد، بل من قبيل الإخبار بنجاسة شيء،
فإنه بناء على حجية قول العادل الواحد يسمع هذا الإخبار منه فكذلك في المقام
لو كان خبر الواحد حجة حتى في الإخبار عن الإجماع كان هذا النقل من السيد
أو من قبله حجية على خصمه، ولا يمكن له رده بأنه مدع وقوله غير مقبول إلا أنه
يمكن رده بأنه موقوف على حجية خبر الواحد وشمول أدلته للإجماع المنقول
بخبر الواحد، فيلزم نفي حجية خبر الواحد بخبر الواحد. وكما لا يمكن اثبات
حجية خبر الواحد بخبر الواحد كذلك لا يمكن نفي حجية خبر الواحد بخبر
الواحد، لأنه يلزم من وجودها عدمها، وكل ما يلزم من وجوده عدمه فهو محال.
ولذا لو سئل السيد بأن هذا الإجماع الذي تدعي على عدم حجية خبر الواحد لو
ثبت لنا بخبر الواحد هل يجوز لنا الأخذ به أم لا؟ لابد بأنه لا يجوز، لأن الملاك
الذي في سائر أخبار الآحاد موجود فيه، فهذا الإجماع المنقول لا يفيد في المقام،
مع أنه معارض بالإجماع الذي ادعاه الشيخ على خلافه (1).
الثالث: الكتاب، ومعلوم أنه ليست آية تدل على عدم حجية خبر الواحد
بالخصوص، وإنما استدلوا على عدم حجيته بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم
كقوله تعالى: (لا تقف ما ليس لك به علم) (2) و (إن الظن لا يغني من الحق
شيئا) (3) وأمثالهما.
وفيه: مضافا إلى كونها في مقام الردع عن العمل بما عدا العلم في أصول الدين
لا فروعه - أنه لا حاجة إلى التمسك بهذه العمومات، إذ لو كان دليل على حجية
خبر الواحد وكان قطعي الاعتبار لخرج خبر الواحد عن تحت تلك العمومات إما
بالتخصص أو بالتخصيص، ولو لم يكن دليل على حجيته لا حاجة أيضا إليها، لأن
الأصل عدم حجيته والحجية تحتاج إلى الدليل لا عدمها، فوجود تلك العمومات
وعدمها سيان.

(1) عدة الأصول: ص 336 - 338.
(2) الإسراء: 36.
(3) يونس: 36.
502

الرابع: الأخبار الدالة على عدم حجية خبر الواحد، ومضامين هذه الأخبار
مختلفة، فمنها ما يدل على طرح الخبر الغير المعلوم صدوره (1)، ومنها ما يدل على
طرح الخبر الذي لم يكن عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله (2)، ومنها ما يدل
على طرح الخبر الذي لم يكن موافقا له (3)، ومنها ما يدل على طرح ما كان
مخالفا (4)، فلو أريد الاستدلال بكل واحد من هذه الأخبار على عدم حجية خبر
الواحد كان استدلالا بخبر الواحد على عدم حجية خبر الواحد، ويلزم من وجوده
عدمه. ولو أريد الاستدلال بمجموع هذه الأخبار وإن لم يلزم المحذور المذكور،
لأن هذه الأخبار وإن لم تكن متواترة لفظا كقوله: " إنما الأعمال بالنيات " (5) ولا
متواترة معنى، لعدم جامع لها إلا أنها متواترة إجمالا بمعنى أنا نقطع بوجود صادر
من هذه الأخبار عن المعصوم، فلو كانت الاخبار المتواترة إجمالا متباينة لا
يمكن الأخذ بمضمون واحد منها بالخصوص، ولكن بالنسبة إلى نفي الغير لا مانع
من الأخذ بها لاشتراكها في نفيه. وأما لو كانت بين مضامينها أعميه وأخصية يجب
الأخذ بأخصها مضمونا، إذ نقطع إما بصدور الأخص أو الأعم.
وعلى كل حال مضمون الأخص قطعي، ففي المقام أعم هذه الأخبار مضمونا
هو الخبر الغير المعلوم صدوره، وأخص منه هو الخبر [الذي] لم يوافق كتاب الله،
وأخص منه الخبر الذي يكون مخالفا. فأخص تلك الطوائف الثلاث بعد إرجاع
غير الموافق إلى المخالف كما سيجيء في باب التعادل الخبر المخالف لكتاب الله،
فالتمسك بهذه الأخبار لا يدل إلا على عدم حجية خبر المخالف لكتاب الله، وهو
أخص من المدعى، مع أنه يمكن حملها على صورة تعارض الخبرين لا مطلقا كما

(1) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 36 ج 18 ص 86.
(2) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 18 ج 18 ص 80.
(3) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 19 ج 18 ص 80.
(4) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 10 ج 18 ص 78.
(5) عوالي اللئالي: ج 2 ص 190 ح 79.
503

سيجيء في باب التعارض، مضافا إلى ما فيها من أن المراد بالمخالفة هل المخالفة
بالتباين الكلي أو تعم المخالفة بالعموم والخصوص من وجه، بل المطلق أيضا.
وقد استدل المثبتون أيضا بالأدلة الأربعة: أما الكتاب فبآيات
منها: قوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا...) (1).
وتقريب الاستدلال بها على حجية خبر العادل من وجهين أحدهما: من جهة
مفهوم الوصف، والثاني من جهة مفهوم الشرط.
وحاصل الوجه الأول: أنه علق وجوب التبين على مجيء الفاسق بالخبر،
وتعليق الحكم على الوصف يدل على انتفائه عند انتفاء ذلك الوصف إما من جهة
أن مفهوم الوصف حجة مطلقا أو أنه وإن لم يكن حجة مطلقا إلا أنه قد يكون حجة
من جهة فهم العرف بواسطة مناسبة الحكم والموضوع كما في أكرم العالم، وأهن
الفاسق، وأمثالهما.
وبهذه الجهة تتقوى الدلالة الضعيفة التي كانت لتعليق الحكم على الوصف في
نفسه على أنه العلة للحكم، كما قيل: إن تعليق الحكم على الوصف مشعر بعلية
مأخذ الاشتقاق. والمراد بالإشعار الدلالة الضعيفة، وهي تتأكد بمناسبة الحكم
والموضوع. وتصير الدلالة على المفهوم وعلية الوصف للحكم وانتفاؤه عند انتفاء
الوصف قوية بنظر العرف بعد أن كانت الدلالة ضعيفة، مع قطع النظر عن هذه الجهة
والاستدلال بها على حجية خبر العادل من جهة مفهوم الوصف إنما هو مع قطع
النظر عن أداة الشرط والجملة الشرطية.
بل يمكن الاستدلال بهذا الوجه مع فرض الجملة حملية مثل أن يقال: يجب
التبين عن خبر الفاسق لا غيره، كما لو قال: يجب إكرام العالم، أو يقال: تبين عن
خبر الفاسق كما لو قال: أكرم العالم.
وحاصل الاستدلال: أن وجوب التبين قد علق على خبر الفاسق فيدل على

(1) الحجرات: 6.
504

انتفائه عند الانتفاء إما من جهة حجية مفهوم الوصف مطلقا، أو فيما إذا انضمت إليه
قرائن خارجية كعدم وجود لكنه أخرى غير الانتفاء عند الانتفاء، وكمناسبة الحكم
والموضوع كما في المقام، حيث إن الفاسق هو المناسب لأن يجب التبين عن
خبره، لعدم الرادع له عن الكذب دون العادل.
والمراد من وجوب التبين هو الوجوب الشرطي - أي شرط العمل بخبر
الفاسق هو التبين - وفي الحقيقة العمل بالتبين لا بخبر الفاسق دون العادل، فأن
العمل بخبره ليس مشروطا بالتبين. فعلى هذا لا نحتاج في الاستدلال بها على
حجية خبر العادل إلى ضم مقدمة خارجية، وهو أنه لو لم يجب التبين عن خبر
العادل بمقتضى المفهوم إما يجب العمل به بلا تبين، وهو المطلوب، أو يجب رده،
وحينئذ يلزم أن يكون العادل أسوء حالا من الفاسق، وهو باطل، لأن الاحتياج
إلى هذه المقدمة إنما هو على تقدير أن يكون وجوب التبين نفسيا لا شرطيا كما
اختاره الشيخ (قدس سره) (1)، وهو الحق.
وحاصل الوجه الثاني: أنه علق وجوب التبين على مجيء الفاسق بالخبر
بأداة الشرط، ومفهومه انه لو لم يكن الجائي بالخبر فاسقا فلا يجب التبين، لأن
تعليق الحكم على الشرط يدل على الانتفاء عند الانتفاء.
وقد أورد (2) على الاستدلال بالآية أولا بإيراد مشترك بين الوجهين، وهو أن
ذيل الآية يدل على عدم جواز العمل بغير العلم بمقتضى التعليل المشترك بين
العمل بخبر الفاسق وخبر العادل الغير العلمي، وهو قوله: " أن تصيبوا قوما بجهالة
فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " حيث إن مقتضاه عدم جواز العمل بغير العلم
مطلقا، ومقتضى صدر الآية جواز العمل بخبر العادل إما من جهة مفهوم الشرط أو
من جهة مفهوم الوصف، فلو كان كل من الصدر والذيل كلاما منفصلا عن الآخر
لبقيا على ظهورهما وصارا متعارضين، ولكن لما كانا في كلام واحد فصدره وإن

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 116.
(2) فوائد الأصول: ج 3 ص 170.
505

كان ظاهرا في حجية خبر العادل، إلا أن تعليل الذيل بعلة مشتركة بينهما يوجب
رفع اليد عن ظهور الصدر، لكونه أقوى من الدلالة المفهومية وإن لم نقل به، فلا أقل
من إجماله والشك في دلالته على الحجية، وهو كاف في عدم الحجية.
ولكن يمكن الجواب عنه بأن المراد بالجهالة ليس مطلق الجهل بل ما لا ينبغي
للعاقل أن يعمل به ويركن إليه، وخبر العادل ليس كذلك. ومعلوم أن عمل العقلاء
في أمورهم ليس منحصرا بالعلم، بل عندهم أمارات وأصول يركنون إليها في
أعمالهم، ولا يكون عملهم بها جهالة، ومن جملتها خبر العادل، فهو خارج عن
عموم التعليل بالتخصص إما من جهة كون العمل به ليس من الجهالة في حد نفسه
مع قطع النظر عن جعل الشارع، وإما بملاحظة جعل الشارع بمقتضى مفهوم صدر
الآية.
فتحصل: أن الاستدلال بالآية على حجية خبر العادل إن كان من باب مفهوم
الوصف ففيه: أن مفهوم الوصف ليس بحجة، إلا أن ينضم إليه القرائن الخارجية،
وإن كان من باب مفهوم الشرط ففيه: أن هذه القضية الشرطية إما لا مفهوم له، وإما
لا فائدة في مفهومه، وذلك لأن وجوب التبين علق على مجيء الفاسق بالخبر،
ومفهومه أنه لو لم يجي الفاسق بالخبر فلا يجب التبين، وانتفاء التبين فيما لم يجئ
الفاسق بالخبر عقلي، إذ لا شيء حينئذ حتى يجب التبين عنه، فتكون هذه الجملة
الشرطية من قبيل: إن رزقت ولدا فاختنه، وإذا ركب الأمير فخذ ركابه، وأمثالهما
من القضايا الشرطية المسوقة لإحراز الموضوع التي لا مفهوم لها أو لا فائدة فيه،
لأن انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقلي.
وبعبارة أخرى وجوب التبين علق على مجيء الفاسق بالخبر، وعند عدم
مجيء الفاسق بالخبر فلا شيء حتى يجب التبين، فيكون عدم وجوب التبين قضية
سالبة منتفية بانتفاء الموضوع.
وبعبارة ثالثة أن خبر الفاسق الذي كان الجائي به فاسقا يجب تبينه، وإذا انتفى
خبر الفاسق الذي كان الجائي به فاسقا فلا شيء حتى يجب تبينه.
506

فإن قيل وجوب التبين علق على مجيء الفاسق بالخبر فينتفي التبين عند
انتفائه، وهو أعم من أن لا يكون خبر أصلا أو يكون المخبر به عادلا.
نقول: هذا خروج عن مفهوم الشرط إلى مفهوم الوصف، إذ مفهوم الشرط هو
عدم مجيء الفاسق بالخبر، وأما مجيء العادل به فهو من باب مفهوم الوصف.
ولكن يمكن أن يقال: إن القضية الشرطية إن لم تكن مشتملة على قيد مثل إن
رزقت ولدا فاختنه فمفهومه إن لم ترزق ولدا فلا تختنه وانتفاء الحكم حينئذ من
جهة انتفاء الموضوع، وكذا إن كانت مشتملة على قيد أو قيود وكان محط التعليق
هو المجموع مثل أن يقال: إذا جاءك زيد يوم الجمعة راكبا فأكرمه مفهومه إن لم
يجئك زيد يوم الجمعة راكبا فلا تكرمه، وعدم الإكرام - حينئذ - إنما هو من جهة
انتفاء الموضوع، وهو مجموع هذه الأمور.
وأما إذا كان محط التعليق بعض هذه القيود كما في قوله: إن كان السائل في
الليل امرأة فلا تعطها شيئا، وإن كان مبلغ الخبر زيدا فلا تقبله، وأمثالهما فانتفاء
الحكم عند انتفاء القيد ليس من جهة انتفاء الموضوع، لأن الموضوع هو السائل
والمبلغ في المثالين، وكون السائل فهي المرأة والمبلغ هو زيد من حالات وعلق
الحكم عليهما وبانتفائهما ينتفي الحكم مع بقاء موضوعه، وهذا لا يكون من باب
مفهوم اللقب حتى يقال بعدم حجيته، بل من باب مفهوم الشرط، ففي الآية الشريفة
إن كان مجموع مجيء الفاسق بالنبأ محط التعليق فيكون انتفاء الحكم عند انتفائه
من باب انتفاء الموضوع.
وإن كان محط التعليق مجيء الفاسق فقط بأن يجعل طبيعة النبأ نوعين
أحدهما ما جاء به الفاسق، والآخر ما لم يجئ به الفاسق فكأنه قيل: النبأ إن كان
الجائي به فاسقا فتبينوا، وإن لم يكن الجائي به فاسقا فلا تتبينوا، فلا يكون من
باب القضيه السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، لأن الموضوع هو النبأ في كلا
النوعين، وهذا لا إشكال فيه من حيث الكبرى. وإنما الإشكال في الصغرى وأن
الآية الشريفة من هذا القبيل أو من ذاك، والمرجع عند الشك هو العرف، ولا يبعد
507

أن تكون الأذهان العرفية مساعده على الأخير. فعلى هذا تدل الآية الشريفة على
حجية خبر غير الفاسق.
فظهر مما ذكرنا اندفاع الإشكالين - أعني الإشكال المشترك بين الوجهين -:
أعني التمسك بالآية على حجية خبر العادل من باب مفهوم الوصف ومفهوم
الشرط، وهو معارضة صدر الآية الدال على حجية خبر العادل الغير المفيد للعلم
والتعليل الوارد في ذيل الآية الدال على عدم حجية غير العلم، والإشكال
المختص بالوجه الأخير، وهو أن هذه القضية الشرطية إما لا مفهوم لها، أولا فائدة
فيه بالبيان المتقدم إشكالا وجوابا.
ثم على تقدير تمامية دلالة الآية على حجية خبر العادل ربما يشكل شمولها
للأخبار الحاكية لقول الإمام (عليه السلام) بواسطة أو وسائط، فلا فائدة لنا في إثبات حجية
خبر الواحد بالنسبة إلى إثبات الأحكام الشرعية به كما هو المهم بعد وضوح أن
الإخبار بالإخبار عن الشيء ليس إخبار عن ذلك الشئ، كما أن الشهادة على
الشهادة ليست شهادة على الواقعة إذ ربما يخبر الشخص أن فلانا أخبرني أن زيدا
قال كذا والحال أنه شاك في صدور هذا القول من زيد، أو قاطع بعدمه، أو يشهد أن
فلانا شهد بكذا، والحال أنه شاك في وقوع الواقعة أو قاطع بعدمه، إذ لو كان
الإخبار بالإخبار عن الشيء إخبارا عن ذلك الشيء بأن كان الاخبار عن الشيء
من لوازم الإخبار بالإخبار لم يرد إشكال بالنسبة إلى الروايات الحاكية لقول
الإمام بواسطة أو وسائط، لأن الإخبار بالإخبار من قبيل الإخبار بالملزوم الذي
يترتب عليه لازمه، فإذا قال الشيخ: أخبرني المفيد، عن الصدوق، عن أبيه، عن
فلان، عن الإمام أنه قال كذا كان إخبار الشيخ إخبارا عن مجموع هذه السلسلة
الطولية التي من جملتها قول الإمام الذي يترتب عليه الأثر.
وأما إذا لم يكن الإخبار عن الإخبار عن الشيء إخبارا عن ذلك الشيء
بقياس المساواة كما في مشابه المشابه مشابه، والإقرار بالإقرار إقرار. وأمثالهما
فحينئذ يرد الإشكال في شمول الآية - على تقدير تمامية دلالتها - على حجية
508

خبر العادل للروايات مع الواسطة من وجهين: أحدهما من جهة أن حكم الشارع
بالتعبد بخبر الواحد لابد أن يكون بلحاظ الأثر إذ لو لم يكن له أثر لكان التعبد به
لغوا، فإن كان المخبر به حكما شرعيا أو موضوعا خارجيا يترتب عليه حكم
شرعي ولو بواسطة فلا إشكال في التعبد به، وأما إن كان المخبر به خبرا آخر كما لو
قال الشيخ أخبرني المفيد، ولو فرضنا أن إخبار الشيخ لنا كان بلا واسطة بأن سمعنا
منه مشافهة أو وجدنا في كتابه بأنه أخبره المفيد فيشكل بأن التعبد بخبر الواحد لا
يمكن إلا فيما إذا كان له أثر، والأثر المترتب على هذا الإخبار ليس إلا وجوب
تصديق الشيخ بأن المفيد أخبره، وهذا الأثر إنما ثبت له بنفس هذا الحكم، والحال
أنه لابد أن يكون الأثر ثابتا له مع قطع النظر عن هذا الحكم.
وبعبارة أخرى وجوب تصديق الشيخ بمقتضى الآية وسائر أدلة حجية خبر
الواحد في إخباره بأن المفيد أخبره إنما هو بلحاظ الأثر، ولا أثر له إلا وجوب
التصديق، فلو كان وجوب التصديق ثابتا له مع قطع النظر عن هذا الحكم فلا
إشكال في وجوب تصديقه بمقتضى الآية وسائر الأدلة لوجود الأثر وهو وجوب
التصديق الثابت له بدليل آخر غير تلك الأدلة، فكأنه قال: رتب الأثر على قول
الشيخ، فصار وجوب ترتيب الأثر عليه أثرا له، ثم قال ثانيا، رتب الأثر عليه
بلحاظ ما قال أولا، وهو رتب الأثر، إذ الأثر الذي لابد منه كان ثابتا له مع قطع
النظر عن هذا الحكم. وأما لو كان وجوب التصديق ثابتا له بنفس هذا الحكم
- أعني وجوب التصديق المستفاد من تلك الأدلة - فيشكل للزوم كون هذا الحكم
شاملا لنفسه، لأنه لا معنى لوجوب تصديقه إلا ترتيب الأثر عليه، ولا أثر له غير
وجوب التصديق الذي جاء من قبل هذا الحكم، فكأنه قال: صدق الشيخ في
وجوب التصديق الجائي من قبل نفس ذلك الخطاب، بل يمكن أن يقال: إنه يلزم
الدور، لأن وجوب التصديق موقوف على وجود الأثر، وهو موقوف على وجوب
التصديق، فتأمل.
الثاني: أن موضوع خبرية خبر المفيد لم يثبت لنا بالوجدان، وإنما ثبت
509

بالتعبد، ووجوب التصديق الذي هو الحكم في مثل صدق العادل، فكيف يشمل
هذا الحكم الموضوع الذي يتوقف وجوده على هذا الحكم؟ ففيما إذا قال: الشيخ
أخبرني المفيد عن الصدوق إلى [أن] ينتهي بوسائط عن الإمام (عليه السلام) الخبر الأول
وهو خبر الشيخ الذي فرضنا أنه محقق بالنسبة إلينا متمحض في الإشكال الأول،
وهو أن وجوب تصديقه إنما هو فيما إذا رتب عليه أثر شرعا كالإخبار بنجاسة
شيء أو طهارته، أو عدالة شخص، وأمثالها من الموضوعات التي يترتب عليها
أحكام شرعية بواسطة أو بلا واسطة، إذ لو لم يكن له أثر كان التعبد به لغوا،
والفرض أن أثر خبره ليس إلا وجوب التصديق الجائي من قبل ذلك الحكم،
والخبر الأخير وهو الذي ينقل قول الإمام متمحض في الإشكال الثاني، هو أن
خبريته متوقفة على هذا الحكم فكيف يمكن شمول هذا الحكم لخبر تكون خبريته
بنفس هذا الحكم، والحال أنه لابد من تقدم الموضوع على حكمه؟!
والأخبار المتوسطة يرد عليها كل من الإشكالين بكلا الاعتبارين،
والشيخ (قدس سره) كان الإشكال بنظره متمحضا في الإشكال الأول، وجعل الإشكال
الثاني عبارة أخرى عنه، ثم بعد التنقيح والإصلاح ضرب على العبارة التي كانت
في النسخ القديمة من الرسائل واستقر نظره على الإشكال الثاني (1) كما هو في
النسخ المتأخرة بعد الإصلاح ونقل أن الشيخ (قدس سره) تعطل في هذا المطلب أربعين
يوما، ولكن العمدة - إيرادا ودفعا - هو الإشكال الأول، فإن أمكن دفعه فلا موقع
للإشكال الثاني، وإن لم يمكن دفعه فلا فائدة في دفع الإشكال الثاني، وذلك، لأنه
إن دفعنا الإشكال الأول وقلنا: إنه يكفي في التعبد بخبر الواحد أن يكون أثره
نفس وجوب التصديق الذي يثبت له من طرف ذلك الحكم ولا مانع من شمول هذا
الحكم لنفسه إما بجعل القضية طبيعية أو بتنقيح المناط بأن يكون معنى صدق
العادل صدقه في تمام الآثار والأحكام الثابتة لقوله حتى نفس ذلك الأثر والحكم

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 122.
510

الثابت له من طرف نفسي أعني وجوب التصديق وإن لم يكن له أثر آخر ولم يثبت
هذا الأثر أيضا بدليل آخر، إذ لو كان له أثر آخر أو كان ذلك الأثر ثابتا له بدليل
آخر بأن يكون أمر آخر بوجوب تصديق العادل ثم ورد الأمر ثانيا بوجوب
تصديقه فلا إشكال.
إنما الإشكال فيما لم يكن هنا إلا أمر واحد، إذ يصير حينئذ مثل دليل واحد
كان متكفلا للحكم الواقعي والظاهري كليهما مثل كل شيء طاهر، وكل شيء
حلال، وأمثالهما كما قيل فإذا دفعنا هذا الإشكال بما مر فلا موقع للإشكال الثاني،
إذ كما لو أخبر عادل بأن فلانا عادل كان معنى وجوب تصديقه ترتيب آثار العدالة
عليه من جواز الاقتداء به وأمثاله من الأحكام الثابتة للعادل بلا حاجة إلى إحراز
العدالة أولا بالتعبد ثم ترتيب آثارها عليه، لأن العدالة التعبدية أمر منتزع من نفس
ترتيب هذه الآثار، كذلك إذا أخبر عادل بأن عادلا أخبر بكذا كان معنى وجوب
تصديقه ترتيب الأثر على خبره، والفرض أنه لا اثر لخبره إلا وجوب التصديق
المستفاد من نفس ذلك الحكم، وفرضنا أنه لا مانع من شمول هذا الحكم للخبر
الذي لا يكون له حكم آخر غير هذا الحكم، أي فرضنا شموله لنفسه ووجوب
تصديقه في إخباره بأنه أخبره عادل بكذا ترتيب آثاره الشرعية.
ومن وجوب تصديقه - الذي هو عبارة عن ترتيب الآثار - ينتزع الخبرية
التعبدية بلا حاجة إلى إحراز موضوع الخبر أولا بالتعبد ثم ترتيب آثار المخبر به،
وهكذا فيما لو كانت الوسائط متعددة، إذ الإخبار بالإخبار ولو كان بوسائط
متعددة لابد وأن ينتهي إلى أمر يكون له أثر كقول الإمام أو عدالة شخص أو طهارة
شيء أو نجاسته وأمثالها، إذ لو لم يكن لما أخبر به الأخير أثر لما شمل دليل حجية
خبر الواحد للخبر الأول الذي هو خبر محقق بالوجدان أيضا، كما لو قال عادل
بأنه أخبرني فلان عن فلان بأن هذا الشيء جدار مع فرض أنه ليس له أثر شرعي
لا معنى لوجوب تصديق خبر الأول، كما لا معنى لوجوب تصديق الأخير أيضا،
ونفس وجوب تصديق المخبر الذي جاء من قبل ذلك الحكم وإن كان كافيا في
511

وجود الأثر لذلك الحكم - أي وجوب التصديق - إلا أنه آلي لابد وأن ينتهى إلى
أمر استقلالي.
والحاصل: أنه لو دفعنا الإشكال الأول بما مر من كفاية وجود الأثر لوجوب
تصديق خبر العادل أن يكون الأثر نفس وجوب التصديق الجائي من قبل الحكم
تكون أخبار العدول ذات أثر - وهو وجوب التصديق - مثل سائر الأمور الواقعية
التي لها أحكام شرعية كعدالة زيد وطهارة شيء ونجاسته، فوجوب تصديق الخبر
الأول الذي هو خبر محقق أثره وجوب تصديقه في إخباره الثاني، ووجوب
تصديقه أيضا أثره وجوب تصديقه في الإخبار الثالث، وهكذا حتى ينتهي إلى ما
يكون أثرا بالاستقلال. ومن وجوب التصديق فيما عدا الخبر الأول ينتزع عنوان
الخبر التعبدي، ولو لم ندفع الإشكال الأول لا مدفع للإشكال الثاني.
ولو سلمنا شمول الحكم الثابت لموضوع كلي للفرد الذي تتوقف فرديته على
ثبوت ذلك الحكم لذلك الموضوع إما بجعل القضية طبيعية أو بتنقيح المناط، كما
في كل خبري صادق، لأنه على تقدير تسليم هذه الكبرى يقع الإشكال فيما نحن
فيه بالنسبة إلى الصغرى، لأن في مثل كل خبري صادق، مما اشتمل على موضوع
ومحمول ونسبة حكمية وجدانا يتكون فرد من الخبر حقيقة فيشمله نفس هذا
الحكم بأحد الوجهين، بخلاف ما نحن فيه لأن خبرية الخبر الثاني وما بعده ليست
بالوجدان، وإنما هي بالتعبد، وهو موقوف على وجوب تصديق الخبر الأول، وهو
موقوف على أن يكون له أثر، وأثره ليس إلا وجوب التصديق الجائي من قبل
ذلك الحكم، وإذا فرضنا أن هذا لا يكفي في وجوب التصديق لا يتحقق موضوع
الخبرية حتى يشمله الحكم الثابت لطبيعة خبر العادل بأحد الوجهين، فتأمل في
المقام فإنه لا يخلو عن إشكال.
ثم إنه لو كان الأثر مترتبا على إخبار شخص لشخص خاص مثل الشهادة مثلا
فإنها لابد أن تكون عند الحاكم، ففي مثل ما إذا قال الشيخ: " أخبرني المفيد " يشكل
لأنه لو قال الشيخ " أخبركم المفيد " لا إشكال، لأنه خبر عادل لنا فلابد من تصديقه،
512

وأما لو قال: " أخبرني " فهو ليس إخبارا لنا حتى يجب تصديقه وترتيب الآثار
عليه، ولعل قيام الخبر عند كل شخص موضوع لوجوب ترتيب الأثر عليه دون
غيره كما في الشهادة كما هو الظاهر من قوله: " ان جاءكم فاسق " لكن فيه أن هذه
الأخبار من قبيل تصنيف المصنفين ليس المقصود بالخطاب فيها شخص خاص.
وأما بقية الإشكالات الواردة على التمسك بالآية التي بعضها مختص بالآية
وبعضها مشترك بينها وبين سائر الأدلة الدالة على حجية خبر الواحد فلتطلب مع
أجوبتها من الكتب المطولة.
والظاهر أنه لا بأس بدلالة آية النبأ على المدعى، كما لا يخفى.
ومنها: آية النفر وهو قوله تعالى: (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا
في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (1).
وتفسير الآية بالنفر إلى الجهاد وإن ورد من بعض المفسرين (2) إلا أن المحكي
عن أهل البيت (عليهم السلام) في تفسيرها هو النفر إلى التفقه في الدين أصولا وفروعا كما
يظهر التعميم من استدلال الإمام (عليه السلام) على ما حكي بهذه الآية الشريفة على
وجوب تعيين الإمام اللاحق بعد موت الامام السابق (3).
وكيف كان سواء كان المنذرون هم النافرون أو المتخلفون تقريب الاستدلال
بالآية من وجوه:
الأول: أن كلمة " لعل " للترجي، وهي مستعملة في معناها الحقيقي وهو
الترجي الايقاعي الإنشائي، إلا أن الداعي على هذا الاستعمال ليس الترجي
الحقيقي، لاستحالته في حقه تعالى، بل محبوبية الفعل التي هي لازمة للترجي
الحقيقي، لعدم استحالتهما في حقه، وإذا ثبتت بمقتضى كلمة " لعل " محبوبية الحذر
فلابد أن يكون واجبا إما من جهة الملازمة الشرعية بين محبوبية الحذر ووجوبه،
وإما من جهة ما قيل من أنه لا معنى لندب الحذر، لأنه مع وجود مقتضيه واجب،

(1) التوبة: 122.
(2) مجمع البيان: ج 5 ص 83.
(3) فرائد الأصول: ج 1 ص 128.
513

ومع عدمه فليس بواجب ولا مندوب (1).
وقد أورد عليه بأن المتحذر منه إن كان العقوبة فما ذكر (2) من أنه لا معنى
لندب الحذر مسلم، لأنه مع قيام الحجة القطعية عليها كان الحذر واجبا لوجود
مقتضيه، ومع عدم قيامها لا ندب للحذر، لعدم احتمالها من جهة الأدلة الدالة على
قبح العقاب بلا بيان، وأما إن كان المتحذر منه غير العقوبة من المفاسد فممنوع،
لرجحان الحذر من المفسدة المحتملة كما في تمام موارد الاحتياطات الراجحة
الغير اللازمة التي رجحان الاحتياط وعدم وجوبه مسلم عند الكل.
الثاني: أن الإنذار واجب وغايته - وهو الحذر - واجبة، لأن غاية الواجب
واجبة.
الثالث: أنه لما وجب الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب كما هو قضية كلمة
" لولا " التحضيضية وجب التحذر، وإلا لغى وجوب الإنذار، فإذا ثبت بمقتضى
هذين الوجهين وجوب الحذر عند الإنذار فلابد أن يكون إنذار المنذر حجة على
المنذر، ومن جهة عدم الفصل بين الإنذار وغيره من الأخبار لابد أن يكون خبر
الواحد حجة مطلقا، لأن الطائفة لا يلزم أن تكون بعدد المتواتر، بل تشمل ما دونه
حتى الواحد على ما حكي عن بعض أهل اللغة (3).
ولكن في كلا الوجهين نظر بل منع، وذلك لأنه ليست فائدة الإنذار منحصرة
بالتحذر عند الإنذار تعبدا، لعدم إطلاق يقتضي ذلك، ضرورة أن الآية مسوقة لبيان
وجوب النفر لا لبيان غايته التحذر فليست الآية من تلك الجهة أي غايته التحذر
في مقام البيان حتى يتمسك بإطلاقها لوجوب الحذر مطلقا، ولعل وجوبه كان
مشروطا بحصول العلم.
والحاصل: أنه يمكن أن يكون الإنذار واجبا والحذر لم يكن واجبا إلا
إذا حصل العلم من الإنذار، وفائدة وجوب الإنذار حينئذ هو بلوغ المخبرين

(1) قاله في معالم الدين: ص 190.
(2) نقله في الفصول الغروية: ص 273 س 10.
(3) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 153 مادة " طيف ".
514

والمنذرين إلى حد من الكثرة بحيث يحصل العلم بقولهم، فإن النفر إنما يكون
لأجل التفقه وتعلم معالم الدين ومعرفة ما جاء به سيد المرسلين كي ينذروا بها
المتخلفين أو النافرين، لكي يحذروا إذا أنذروا بها، وقضيته إنما هو وجوب الحذر
عند إحراز أن الإنذار بها كما لا يخفى، فالآية لا تدل على وجوب الحذر عند
الإنذار مطلقا، لأنها ليست في مقام بيان غاية التحذر للإنذار حتى يتمسك
بإطلاقها، بل في مقام بيان وجوب النفر، ولعل وجوب الحذر كان مشروطا
بحصول العلم، إذ ليست فائدة وجوب الإنذار منحصرا بالتحذر تعبدا، بل يمكن أن
تكون الفائدة بلوغ عدد المخبرين إلى حد يحصل العلم بقولهم وفيما إذا حصل
العلم يجب الحذر لا مطلقا.
ثم إنه لو فرض دلالة الآية على وجوب الحذر عند الإنذار مطلقا، الإشكال
بأنه لا دلالة لها على وجوب العمل بخبر الواحد بما هو خبر واحد غير وارد عليها،
لعدم القول بالفصل بينهما، فحال الرواة في الصدر الأول كحال نقلة الفتاوى في
هذه الأزمنة، فكما يصح منهم التخويف والتحذير فكذلك من الرواة وإذا كان
انذارهم حجة وواجب القبول فكذلك إخبارهم مطلقا، لعدم القول بالفصل بين
الانذار والتخويف وغيرهما من الإخبار.
لكن الحق والإنصاف أن هذه الآية ليست في مقام حجية خبر الواحد وقول
العادل بالنسبة إلى غيره، بل في مقام حجية قول الفقيه بالنسبة إلى العامي، لأن الله
تعالى عيرهم ووبخهم بمقتضى كلمة " لولا "، التحضيضية على ترك النفر للتفقه،
والتوبيخ على تركه يستلزم الحث والترغيب على فعله، وكونه مطلوبا وتركه
مذموما فيكون النفر للتفقه واجبا، والإنذار بما هو نتيجة تفقههم واجبا، والحذر منه
واجبا، ومصاديق التفقه تختلف بحسب الأزمان ففي زمان النبي (صلى الله عليه وآله) وزمان
حضور الأئمة (عليهم السلام) إنما كان بالنفر إلى المدينة - مثلا - والتشرف بخدمتهم وأخذ
الأحكام وتعلمها منهم، وفي زمان الغيبة إنما كان بالنفر إلى المراكز العلمية، ومجرد
سماع ألفاظ الرواية ليس تفقها ولا نقلها إلى الغير إنذارا بنتيجة تفقهه ما لم يكن له
515

جهة تفقه وقوة استنباط، إذ يمكن أن يكون لشخص كلتا الجهتان جهة الرواية
وجهة الفقاهة، ويمكن أن تنفك الجهتان فإن الرواة عن الأئمة لم يكن كلهم فقهاء،
بل فقهاؤهم كانوا معدودين، فحال الرواة الذين لم تكن لهم جهة فقاهة كحال نقلة
فتاوى المجتهد في أن مجرد علمه بفتاوى الغير لا يوجب صدق الفقيه عليه.
نعم يمكن أن تكون للراوي كلتاهما، فتكون حجية قوله من جهة فقاهته لا من
جهة روايته، ولو عبر بلفظ الرواية لأنه يمكن أن يكون مؤدى اجتهاده وتفقهه
على طبق الرواية، فلذا عبر بلفظها، فكأنه اقتباس من الرواية مثل إذا سئل الفقيه
عن أن خيار المجلس فوري أم لا، فأجاب بأن البيعين بالخيار ما لم يفترقا وأمثاله
من الموارد التي تكون الفتوى بلفظ الرواية، فالرجوع إلى الرواة إنما هو من جهة
فقاهتهم لا من جهة روايتهم، ومجرد سماعهم قول المعصوم.
والحاصل: أن الآية الشريفة في مقام بيان أن الأشخاص البعيدة عن منابع
العلم المحتاجين إلى تحصيله يجب عليهم كفاية كما هو مفاد قوله: " من كل فرقة
طائفة منهم " نفر من به الكفاية على حسب اختلاف الفرق قلة وكثرة، فربما تكون
جماعة يكون الواحد كافيا لهم، وربما تكون جماعة يحتاجون إلى أزيد ليتعلموا
العلم الذي وجب عليهم تحصيله أصولا وفروعا، ثم رجوعهم إلى أهلهم وإنذارهم
بما تعلموا، وهذا تختلف مصاديقه، ففي زمان النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) إنما كان
بالتشرف إلى خدمتهم وأخذ الأحكام منهم، وفي هذه الأزمنة بالحضور إلى
المراكز العلمية، إذ لا شبهة في أن النفر إلى المراكز العلمية وتحصيل الأحكام
الشرعية عن مداركها من مصاديق هذه الآية الشريفة، كما أن النفر إلى حضور
النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) أيضا من مصاديقها، وليست في مقام بيان أن خبر العادل
ونقله حجة وإن لم يكن فقيها حتى تصير الآية دالة على حجية قول الراوي
والناقل عن المعصوم أقواله وإن كان مجرد نقل اللفظ بلا تفقه لأنه خلاف ظاهر
لفظ التفقه الذي في الآية.
فعلى هذا لا تكون الآية في مقام بيان أمر تعبدي، بل في مقام بيان أمر عادي
516

عرفي، وهو أنه كلما تحتاج جماعة إلى تعلم علم أو استعلام أمر من مكان بعيد
عنهم لابد بمقتضى عادة العقلائية أن يبعثوا إلى ذلك المكان بمقدار الكفاية ليعلموا
ذلك العلم أو يستعلموا ذلك الأمر ليحصلوا مقاصدهم بذلك. ويؤيد ذلك التعبير
ب‍ " لولا " التحضيضيه الدالة على أن ترك النفر مذموم ولو عندهم أيضا، وهذا إنما
يتم بناء على كونها في مقام بيان الأمر العرفي العادي.
فتحصل: أن الآية إنما تدل على حجية قول المجتهد والفقيه للمقلد والعامي لا
في مقام بيان حجية قول العادل بما هو عادل، لا بما هو فقيه حتى تصير الآية من
أدلة حجية خبر الواحد كما لا يخفى، فتأمل.
ومنها: آية الكتمان وهي قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا) (1) الآية.
وتقريب الاستدلال بها أن حرمة الكتمان يستلزم القبول عقلا، وإلا تكون لغوا
كما في قوله تعالى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) (2) حيث
تمسكوا بحرمة الكتمان على قبول قولهن بالنسبة إلى ما في الأرحام من الحيض
والطهر والحمل فكذلك حرمة كتمان الآيات والبينات يستلزم القبول عقلا، وإلا
لزم اللغوية.
ولا يخفى أنه على تقدير تسليم هذه الملازمة لا مجال للإيراد على هذه الآية
بما أورد على آية النفر من دعوى الإهمال أو استظهار الإختصاص بما إذا أفاد
العلم، فإنه (3) ينافيهما كما لا يخفى. لكنها ممنوعة، فإن اللغوية غير لازمة، لعدم
انحصار الفائدة بالقبول تعبدا وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحق
بسبب كثرة من أفشاه وبينه، لتتم الحجة القاطعة ولئلا تكون للناس على الله الحجة
كما هو كذلك في مورد نزول الآية، لأنها وردت في ذم أهل الكتاب ولعنهم على
كتمانهم لآيات النبوة وعلائم النبي (صلى الله عليه وآله) مع معرفتهم إياه كما يعرفون أبناءهم،
بحيث لو لم يكتموا علائمه من حسبه ونسبه وأخلاقه وأوصافه ومحل نشوئه ونمائه

(1) البقرة: 159.
(2) البقرة: 228.
(3) في الأصل: فإنها.
517

وهجرته وغيرها من العلائم لبان الحق ولم يختف على عوامهم، وهم من جهة حسب
الرئاسة وحكام الدنيا كتموها ولم يبينوها، فحرمة الكتمان لا يستلزم القبول تعبدا
في مورد نزول هذه الآية الشريفة الذي يكون المطلوب فيه اليقين والاعتقاد، لأنه
من أصول الدين وإن استلزم القبول في آية: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله
في أرحامهن) (1) مع وجود الفرق بينهما من جهة أخرى، وهو أن في هذه الآية
يمكن أن يكون المقصود من حرمة الكتمان إشاعة الخبر وإفشائه بحيث يحصل
العلم به من كثرة المخبرين بخلاف تلك الآية، فإنه لا يمكن أن يكون المقصود فيها
ذلك، فلابد أن يكون المقصود التعبد بخبرهن وإن لم يحصل العلم به.
والحاصل: أن هذه الآية لا تدل على حجية خبر الواحد ووجوب قبوله تعبدا
وإن لم يفد العلم، بل تدل على حرمة كتمان الحق ووجوب إشاعته وإفشائه
ليحصل العلم به، فيتعدى عن مورد نزول الآية - وهو كتمان علائم النبوة - إلى
كتمان علائم الوصاية، بل إلى كل حق حتى كتمان علم العالم وفضله وورعه.
ومنها: آية السؤال وهي قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (2).
وتقريب الاستدلال بها أن السؤال وجوبه طريقي، والمقصود منه هو التوصل
إلى الجواب واستعلامه، فلو لم يكن الجواب واجب القبول لزم أن يكون وجوب
السؤال لغوا.
وفيه: أنه إن كان المراد من أهل الذكر هم الأئمة (عليهم السلام) كما حكي عن بعض
التفاسير (3) فلا ربط لهذه الآية بما نحن فيه وهو وجوب العمل بخبر الواحد الغير
العلمي، لحصول العلم من قولهم (عليهم السلام).
وإن كان المراد من أهل الذكر هم الرواة الذين يصدق عليهم أنهم أهل الذكر
والعلم كزرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهما والاستدلال بهذه الآية على وجوب
قبول قولهم في مقام الجواب وتتميم المدعى وهو وجوب قبول قولهم ولو مبتدأ

(1) البقرة: 228.
(2) النحل: 43، الأنبياء: 7.
(3) تفسير البرهان: سورة الأنبياء آية 7 ج 3 ص 52.
518

ووجوب قبول قول غيرهم من الرواة بعدم القول بالفصل، فهو وإن كان مربوطا
بالمقام ومثبتا للمدعى، وهو كون خبر العادل حجة مطلقا، سواء كان من أهل الذكر
والعلم أم لا؟ وسواء كان مسبوقا بالسؤال أم لا؟
إلا أن ظاهر الآية خلافه، لأن الظاهر من قوله: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا
تعلمون) هو وجوب السؤال ليحصل العلم لا التعبد بالجواب وإن لم يحصل العلم
كما هو المدعى.
وإن كان المراد من أهل الذكر علماء أهل الكتاب، والمراد بالسؤال هو
السؤال عن آيات النبوة فالأمر أظهر، لأنه لا يمكن التعبد بالجواب، ويتعين أن
يكون المراد هو وجوب السؤال لتحصيل العلم لا التعبد بالجواب، إذ لا يمكن
التعبد بغير العلم في أصول الدين.
ومنها: آية الأذن وهي قوله تعالى: (ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن
بالله ويؤمن للمؤمنين) (1).
وتقريب الاستدلال بها أنه تعالى مدح نبيه (صلى الله عليه وآله) بأنه يصدق المؤمنين، وقرن
تصديقهم بتصديقه، فيستفاد منه أمر مطلوب.
وفيه: أولا: أنه مدحه بأنه أذن وهو سريع القطع لا الآخذ بقول الغير تعبدا، كما
هو المدعى.
وثانيا: أن المراد بتصديقه المؤمنين هو ترتيب الآثار التي تنفعهم ولا تضر
غيرهم لا التصديق بترتيب جميع الآثار، كما هو المدعى في باب حجية خبر
الواحد. ويظهر ذلك من تصديقه للنمام بأنه ما نمه وتصديقه لله بأنه نمه، كما هو
المراد من التصديق في قوله (عليه السلام) فصدقه وكذبهم، حيث قال - على ما في الخبر - يا
أبا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك فإن شهد عندك خمسون قسامة أنه قال
قولا وقال: لم أقله فصدقه وكذبهم (2).

(1) التوبة: 61.
(2) الكافي: ج 8 ص 129 ح 125، وفيه: يا محمد بدل يا أبا محمد.
519

فيكون المراد من تصديقه تصديقه بما ينفعه ولا يضرهم، وتكذيبهم فيما
يضره ولا ينفعهم، وإلا فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين؟!
هذا تمام الكلام في الآيات التي استدل بها على حجية خبر الواحد، وقد ظهر
أنه لا دلالة لشيء منها على المدعى غير آية النبأ.
وأما الأخبار فطوائف مختلفة على ما يظهر بالمراجعة إلى محلها، والاستدلال
بكل واحد على المدعى وإن لم يمكن من جهة أنه خبر واحد، ولا يمكن إثبات
حجية خبر الواحد بخبر الواحد، والتواتر اللفظي ليس في البين، لعدم ثبوته بالنسبة
إلى واحد من هذه الأخبار، وكذا التواتر المعنوي، لعدم جامع بينهما إلا أن التواتر
الإجمالي متحقق بمعنى أنا نقطع بصدور أحد هذه الأخبار عن المعصوم (عليه السلام)
ولازم هذا هو الأخذ بما هو أخص تلك الأخبار مثل الخبر الصحيح الأعلائي
مثلا، فإن دل ذلك الأخص الذي هو حجة قطعا على حجية ما هو أعم منه، فيصير
هذا الأعم حجة كما إذا دل الخبر الصحيح الأعلائي على حجية خبر الثقة فيصير
حجة، لقيام الدليل القطعي على اعتباره.
وأما الإجماع: فتقريره من وجوه:
أحدها: دعوى الإجماع القولي من تتبع فتاوى العلماء من زماننا إلى زمان
الشيخ على حجية خبر الواحد فيستكشف رضى الإمام (عليه السلام) بذلك، أو من تتبع
الإجماعات المنقولة على حجيته.
ثانيها: دعوى الإجماع العملي، أي قيام السيرة المنتهية إلى المعصوم من
العلماء بما هم متدينون ومتشرعون.
وفي هذين الوجهين أن دعوى الإجماع القولي والسيرة المنتهية إلى المعصوم
مع مخالفة السيد (1) واتباعه ودعواه الإجماع على عدم حجية خبر الواحد وكون
العمل به كالعمل بالقياس على عهدة مدعيه.

(1) الذريعة في اثبات التعبد بخبر الواحد أو نفي ذلك: ج 2 ص 529، رسائل الشريف
المرتضى (المجموعة الثالثة): ص 309.
520

ثالثها: دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على العمل
بخبر الثقة واستمرت هذه السيرة إلى زماننا ولم يردع عن العمل به نبي ولا وصي،
وهذا كاشف عن رضي الشارع بالعمل، وإلا لردع عنه.
إن قلت: إن الردع بالخصوص وإن لم يرد من الشارع إلا أنه يكفي في الردع
الآيات الناهية عن العمل بغير العلم كقوله: (لا تقف ما ليس لك به علم) (1) وقوله:
(إن يتبعون إلا الظن) (2) وقوله: (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) (3) وأمثالها.
قلت: مضافا إلى أن هذه الآيات إنما وردت في مقام النهي عن العمل بالظن
في أصول الدين لا مطلقا وعلى تقدير التسليم المتيقن من إطلاقها لو لا أنه
المنصرف إليه هو الظن الذي لم يقم عليه حجة - أن الردع عن العمل بخبر الواحد
الذي قامت السيرة عليه بالآيات الناهية لا يمكن إلا على وجه دائر، وذلك لأن
الردع بها عن السيرة يتوقف على عدم تخصيص عمومها أو تقييد إطلاقها بالسيرة
على اعتبار خبر الثقة، وعدم التخصيص والتقييد يتوقف على الردع عن السيرة
بالآيات وإلا لكانت مخصصة أو مقيدة لا يقال على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة
بالسيرة - أيضا - إلا على وجه دائر، فإن اعتباره بالسيرة فعلا يتوقف على عدم
الردع بالآيات عن السيرة وعدم الردع يتوقف على تخصيص الآيات بالسيرة،
والتخصيص يتوقف على عدم الردع بالآيات عن السيرة، وهو دور.
فإنه يقال: إنما يكفي في حجيته بها عدم ثبوت الردع عن السيرة، لعدم نهوض
ما يصلح لردعها كما يكفي في تخصيص الآيات بالسيرة عدم ثبوت الردع عن
السيرة.
والحاصل: أنه لو كان تخصيص الآيات الناهية بالسيرة أو حجية خبر الثقة بها
متوقفا على إحراز عدم الردع عن السيرة لأشكل الأمر من جهة لزوم الدور وأما
لو كان عدم إحراز الردع كافيا في تخصيص الآيات الناهية بها وفي حجية خبر

(1) الأسراء: 36.
(2) النجم: 28.
(3) النجم: 28، يونس: 36.
521

الثقة أيضا فلا يلزم الإشكال، لأن نتيجة التوقف من الجانبين بالنهاية هي (1) عدم
ثبوت الردع، وهو كاف في تخصيص الآيات وحجية خبر الثقة بها.
ولكن يمكن أن يقال: إن العمومات مقتضية لعدم جواز العمل بغير العلم وإن
قامت السيرة القطعية المنتهية إلى المعصوم على جواز العمل بخبر الواحد في
مقابل العمومات فتكون مخصصة للعمومات، ويرفع اليد عنها بواسطة هذه السيرة
التي انتهت إلى المعصوم ولم يردع عنها قطعا، وإن شك في الردع وعدمه فلابد من
الأخذ بالعمومات، لأن التخصيص مشكوك فعدم ثبوت الردع عن السيرة لا يكفي
في تخصيص الآيات، بل لابد من ثبوت عدم الردع، كما أن عدم ثبوت الردع عن
السيرة لا يكفي في حجية خبر الثقة، بل لابد من ثبوت عدم الردع والإمضاء من
قبل الشارع إذ السيرة مع قطع النظر عن إمضاء الشارع وجودها كعدمها، لأن
قوامها بإمضاء الشارع وعدم ردعه عنها ففرق بين تخصيص الآيات بالسيرة
وحجية خبر الثقة بها، لأن الشك في إمضاء السيرة وعدم الردع عنها في الأول شك
في المخصص والمانع مع وجود العام والمقتضي، ولابد عند الشك [من الرجوع]
إلى العام، وفي الثاني شك في وجود المقتضي إذ المقتضي لحجية خبر الثقة هي
السيرة التي أمضاها الشارع ولابد من الرجوع عند الشك إلى أصالة عدم الحجية،
فتأمل في المقام.
ولكن الحق أن سيرة العقلاء من تمام أولي الأديان وغيرهم استقرت على
العمل بخبر الثقة في تمام أمورهم كما يعملون بالقطع الوجداني والعلم، بل خبر
الثقة عندهم علم من جهة، لأن العلم ما كان احتمال الخلاف ملغى ذاتا، وخبر الثقة
وإن لم يكن احتمال الخلاف فيه ملغى ذاتا، إلا أنه ملغى عملا، فهو بحسب النتيجة
من أفراد العلم من حيث عدم الاعتناء باحتمال الخلاف، وإن كان إلغاء احتمال
الخلاف في أحدهما بحسب الذات وفي الآخر بحسب العمل.

(1) في الأصل: بالآخرة هو.
522

ولا يتوقف العقلاء في العمل بخبر الثقة إلا من كان من أهل الدقة والوسوسة
فإنه في الأمور المهمة ربما يتفحص استظهارا للمطلب لا وجوبا، وهو ليس محل
الكلام، وهذه السيرة المستمرة قد أمضاها الشارع، وكأن إمضاءها كان أمرا مسلما
مفروغا عنه عند أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ولذا لم يسألوا عن حجية خبر الثقة، بل
سئلوا عن صغرياته وأن فلانا ثقة آخذ منه معالم ديني أم لا، مع ما عرفت من
تواتر الأخبار إجمالا بحجية خبر الواحد في الجملة، ولازمه وجوب الأخذ بما
هو أخص منها مضمونا، وإذا دل ذلك الأخص على حجية ما هو أعم منه فيصير
حجة فإذا كان الأخص منها - وهو الخبر الصحيح مثلا - حجة وهو دل على حجية
خبر الثقة فيصير خبر الثقة حجة مثل [ما] صدر عن أبي القاسم بن روح - على ما
حكي - في جواب السؤال عن كتب العذافري فقال: لا أقول فيهما إلا ما قال
العسكري (عليه السلام) في كتب بني فضال: " خذوا ما رووا وذروا ما رأوا " (1) فإن خبر
حسين بن روح خبر صحيح دل على حجية خبر الثقة فيصير حجة، إذا المدار في
الأخذ بكتب بني فضال ليس إلا وثاقتهم، فكلما كان الخبر موثوق الصدور يجب
الأخذ به، سواء كان من جهة وثاقة الراوي وكونه متحرزا عن الكذب، أو من جهة
أخرى، لأن اعتبار الوثاقة في الراوي إنما هو من جهة صيرورة خبره موثوق
الصدور، فالعمدة في الاستدلال على حجية خبر الواحد في الجملة هي آية النبأ (2)
واستقرار سيرة العقلاء، وإلا فباقي الأدلة لا يفيد شيئا.
ثم إن هنا إشكالا وهو أن خبر الفاسق ليس بحجة بمقتضى منطوق آية النبأ،
وخبر الثقة حجة بمقتضى استقرار سيرة العقلاء على الأخذ به وإمضائها الشارع
وبينهما العموم من وجه، إذ يمكن أن يكون الفاسق ثقة وغير ثقة، كما أن الثقة
يمكن أن يكون فاسقا وغير فاسق، فحينئذ يقع التعارض في خبر الفاسق الثقة،
فبمقتضى منطوق الآية يجب التبين عنه، وبمقتضى السيرة لا يجب التبين عنه، ومع

(1) وسائل الشيعة: باب 7 من أبواب صفات القاضي ج 18 ح 7 ص 72.
(2) الحجرات: 6.
523

عدم المرجح لأحد العامين يرجع إلى أصالة عدم الحجية.
ويمكن أن يجاب عنه بأن اندراج مورد الاجتماع تحت عموم السيرة أظهر
من اندراجه تحت منطوق الآية، أو يقال بأن بين منطوق الآية ومقتضى السيرة
عموم مطلق لامن وجه، وذلك لأن مقتضى منطوق الآية ليس عدم جواز العمل
بخبر الفاسق مطلقا، بل بخبر الفاسق الذي لم يتبين عنه، والتبين أعم من تحصيل
العلم بصدقه أو الاطمئنان الذي هو كالعلم وحصول التبين الذي هو مجوز للعمل
بخبر الفاسق أعم من أن يكون من نفس الخبر أو من الخارج. وخبر الفاسق الذي
لا يجوز العمل به بمقتضى منطوق آية النبأ ليس خبر مطلق الفاسق حتى يصير
التعارض بينه وبين حجية خبر الثقة بمقتضى السيرة عموما من وجه، بل خبر
الفاسق الذي لم يكن موثوقا به وهو أخص مطلقا من عموم السيرة على حجية
خبر الثقة، فمنطوق الآية هو أنه لا يجوز العمل بخبر الفاسق الذي لم يكن متبينا أي
موثوقا به، ومقتضى السيرة أنه يجوز العمل بخبر الثقة، سواء كان فاسقا أم لا،
ولا تعارض بينهما فتأمل.
وأما دليل العقل فهو من وجوه: بعضها مختص بإثبات حجية خبر الواحد
وبعضها يثبت حجية مطلق الظن أو الظن في الجملة فيدخل فيه خبر الواحد.
أما الأول فتقريره من وجوه:
أولها: ما أعتمد عليه الشيخ (قدس سره) سابقا وهو أنه لا شك للمتتبع في أحوال الرواة
المذكورة في تراجمهم في أن أكثر الأخبار بل جلها إلا ما شذ وندر صادرة عن
الأئمة (عليهم السلام) وهذا يظهر بعد التأمل في كيفية ورودها إلينا وكيفية اهتمام أرباب
الكتب من المشايخ الثلاثة ومن تقدمهم في تنقيح ما أودعوه في كتبهم وعدم
الاكتفاء بأخذ الرواية من كتاب وايداعها في تصانيفهم حذرا من كون ذلك
مدسوسا فيه من بعض الكذابين (1). واقتصارهم على ما سمعوه من صاحب الكتاب
ولو بالواسطة، كما يشهد بذلك ما حكي عن أحمد بن محمد بن عيسى أنه جاء إلى

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 167.
524

حسن بن علي الوشاء وطلب إليه أن يخرج إليه كتابا لعلاء. بن زرين وكتابا لأبان
بن عثمان الأحمر، فلما أخرجهما قال: أحب أن أسمعهما، قال: ما أعجلك! اذهب
فاكتبهما، فقال: رحمك الله ما عليك أذهب فأكتبها وأسمع من بعدي فقال له: لا آمن
الحدثان، فقال: لو علمت أن الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه، فإني
أدركت في هذا المسجد مائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمد (عليهما السلام) (1)
وما عن حمدويه، عن أيوب بن نوح أنه وقع عنده دفاتر فيه أحاديث ابن سنان
فقال: ان تكتبوا ذلك فإني كتبت عن محمد بن سنان، ولكن لا أروي منه شيئا، فإنه
قال قبل موته: كل ما حدثتكم فليس بسماع ولا برواية، وإنما وجدته (2).
فانظر كيف احتاطوا في الرواية عمن لم يسمع من الثقات. وكفاك شاهدا أن
علي بن فضال لم يرو كتب أبيه الحسن عنه مع مقابلتها عليه، وإنما يرويها (3) عن
أخويه أحمد ومحمد عن أبيه، واعتذر عن ذلك بأنه يوم مقابلته الحديث مع أبيه
كان صغير السن ليس له كثير معرفة بالروايات فقرأها على أخويه ثانيا.
فمع هذا الاهتمام الشديد منهم في تنقيح الروايات وتمييز غثها عن سمينها،
حتى أنهم لا يروون عمن يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، ولايروون عمن
يعمل بالقياس وإن كان عمله لادخل له بروايته، ولايروون عمن كان على مذهب
الحق فعدل عنه وإن كانت روايته في حال استقامته كروايات بني فضال وابن
العذافري حتى سألوا عن الإمام وعن نائبه الخاص فأذنا لهم في العمل برواياتهم
نقطع إجمالا بصدور كثير من هذه الروايات التي بأيدينا من الأئمة (عليهم السلام) ولازم
ذلك وجوب العمل بكل خبر مظنون الصدور بحكم العقل، لأن تحصيل الواقع
الذي يجب العمل به إذا لم يمكن على وجه العلم تعين المصير إليه على وجه الظن
توصلا إلى العمل بالخبر الصادر. هذا محصل ما أفاده الشيخ (قدس سره) في تقريب حكم

(1) رجال النجاشي: باب الحسن والحسين ص 39.
(2) رجال الكشي: ما روي عن محمد بن سنان ص 506.
(3) في الأصل: يرويه.
525

العقل بحجية خبر الواحد.
وأجاب هو قدس سره عنه: أما أولا: بأن وجوب العمل بالأخبار الصادرة
إنما هو من جهة امتثال أحكام الله الواقعية المدلول عليها بتلك الأخبار، فالعمل
بالخبر الصادر عن الإمام إنما يجب من حيث كشفه عن حكم الله الواقعي.
وحينئذ نقول: إن العلم الاجمالي ليس مختصا بهذه الأخبار، بل نعلم إجمالا
بصدور أحكام كثيرة عن الأئمة (عليهم السلام) وحينئذ فاللازم أولا الاحتياط، ومع تعذره
أو تعسره أو قيام الدليل على عدم وجوبه يرجع إلى ما أفاد الظن بصدور الحكم
الشرعي التكليفي عن الحجة، سواء كان المفيد للظن خبرا أو شهرة أو غيرهما،
فهذا الدليل لا يفيد حجية خصوص الخبر، وإنما يفيد حجية كل ما ظن منه بصدور
الحكم عن الحجة وإن لم يكن خبرا.
ثم أورد على نفسه بأن المعلوم صدور كثير من هذه الأخبار التي بأيدينا، وأما
صدور الأحكام المخالفة للأصول غير مضمون هذه الأخبار فهو غير معلوم لنا
ولا مظنون.
وأجاب (قدس سره) عن هذا الإيراد بما يرجع حاصله: بأن العلم الإجمالي وإن كان
حاصلا في خصوص هذه الأخبار التي بأيدينا، إلا أنه حاصل أيضا في مجموع
ما بأيدينا من الأخبار ومن سائر الأمارات الأخر، فيكون علمان إجماليان
أحدهما دائرته مخصوصة بالأخبار والآخر دائرته أعم منها ومن سائر الأمارات،
كما إذا علمنا إجمالا بوجود شاة محرمة في خصوص السود من القطيع وعلمنا
إجمالا بوجود شاة محرمة في تمام القطيع أعم من السود والبيض، وحينئذ فاللازم
مراعاة العلم الإجمالي في تمام الأمارات والأخبار لا خصوص الأخبار، فإن
كان اللازم هو العمل بالاحتياط مراعاة للعلم الإجمالي ففي الكل، وإن كان اللازم
هو العمل بالظن لعدم وجوب الاحتياط أو لعدم جوازه ففي الكل أيضا.
وثانيا: لو سلمنا أن العلم الإجمالي منحصر بالأخبار اللازم من ذلك العلم
الإجمالي هو العمل بالظن في مضمون تلك الأخبار، لما عرفت من أن العمل
526

بالخبر الصادر من جهة كون مضمونه هو حكم الله الواقعي الذي يجب العمل به
والخبر طريق إليه، وحينئذ فكلما ظن بمضمون خبر منها ولو من جهة الشهرة
يؤخذ به وكل خبر لم يحصل الظن بكون مضمونه حكم الله لا يؤخذ به ولو كان
مظنون الصدور، فالعبرة بظن مطابقة الخبر للواقع لا بظن الصدور.
وثالثا: أن مقتضى هذا الدليل وجوب العمل بالخبر المثبت للتكليف، لأنه
الذي يجب العمل، وأما الأخبار الصادرة النافية للتكليف فلا يجب العمل بها، نعم
يجب الإذعان بها وإن لم تعرف بعينها، وكذلك لا يثبت به حجية الأخبار على وجه
مقتض لصرف ظواهر الكتاب والسنة القطعية (1). وفي الكفاية (2) وافق الشيخ (قدس سره) في
الإيراد على هذا الاستدلال بالإيراد الثالث، وهو أن مقتضى هذا الدليل وجوب
العمل بالخبر المثبت للتكليف لا النافي، وهذا ليس معنى حجية الخبر.
وأما في الإيرادين الأولين وهو قوله: بأن وجوب العمل بالخبر الصادر عن
الإمام (عليه السلام) إنما يجب من حيث كشفه عن حكم الله الواقعي... إلى آخر ما ذكره (قدس سره)
فقد خالفه بدعوى أن العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بين الأخبار وسائر
الأمارات وإن كان حاصلا إلا أن العلم الإجمالي بصدور كثير من الأخبار التي
بأيدينا من الأئمة الأطهار بمقدار واف بالمعظم يوجب انحلال العلم الإجمالي
الأول، إذ لافرق في انحلال العلم الإجمالي بين انحلاله إلى العلم التفصيلي،
والشك البدوي وبين انحلاله إلى علم إجمالي تكون دائرته أضيق من دائرة العلم
الإجمالي الأول وشك بدوي، فكما أنه لو علمنا إجمالا بوجود شاة محرمة في
القطيع من الغنم لافرق في انحلال العلم الإجمالي بين انحلاله إلى المعلوم
بالتفصيل بأن نعلم تفصيلا بأن الشاة المحرمة هذه الشاة أو تقوم البينة بأن المحرمة
هي هذه والمشكوك بالشك البدوي وبين انحلاله إلى المعلوم بالإجمال بأن نعلم
إجمالا أن الشاة المحرمة في خصوص السود من القطيع أو تقوم البينة بأن المحرمة

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 170.
(2) كفاية الأصول: في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خبر الواحد ص 352.
527

فيها والمشكوك البدوي، ولازم هذا الانحلال عدم وجوب الاحتياط فيما عدا
السود من القطيع فكذلك في المقام.
فإن قلت: كيف ينحل العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية إلى العلم الإجمالي
بصدور كثير من هذه الأخبار التي بأيدينا بمقدار واف بمعظم الفقه والشك
البدوي؟ والحال أنا نعلم بصدور كثير من الأخبار عن الأئمة (عليهم السلام) غير هذه
الأخبار التي بأيدينا وعدم وصولها إلينا، بل ما لم يصل إلينا أكثر مما وصل بمراتب.
قلت: إن كثرة الأخبار لا توجب زيادة الأحكام، لما عرفت من أنه يمكن أن
يكون مضمون تلك الأخبار التي لم تصل إلينا مطابقة لهذه الأخبار التي بأيدينا،
والشاهد على ذلك أن مثل الوسائل والمستدرك من كتب المجامع المتأخرة ليست
أبوابهما زائدة على أبواب الكتب المتقدمة وإن زادت الأخبار في كل باب منها
على الأخبار التي ذكروها في كل باب من أبواب الكتب المتقدمة، فيكون في
الكتب المتقدمة في كل باب - مثلا - خمسة أحاديث وفي كل باب منهما عشرة
أحاديث مثلا، فلو فرض وصول جميع الأخبار الصادرة منهم (عليهم السلام) إلينا لكان في
كل باب مثلا خمسون حديثا - مثلا - أو مائة ولا يلزم منه زيادة الأحكام.
ثانيها (1): ما ذكره في الوافية مستدلا على حجية الأخبار الموجودة في الكتب
المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير رد ظاهر.
وهو: أنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، سيما بالأصول الضرورية
كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أن جل أجزائها
وشرائطها وموانعها إنما يثبت بالخبر الغير القطعي بحيث نقطع بخروج حقائق هذه
الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد. ومن أنكره فإنما ينكره
باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان (2).
وأورد عليه الشيخ (قدس سره) أولا: بان العلم الإجمالي بوجود الأجزاء والشرائط

(1) أي ثاني وجه من الوجوه في تقرير الدليل.
(2) الوافية: في خبر الواحد ص 159.
528

حاصل بين جميع الاخبار لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره، ومجرد
وجود العلم الإجمالي في خصوص تلك الطائفة لا يوجب خروج غيرها من
أطراف العلم الإجمالي كما عرفت في الجواب الأول عن الوجه الأول، وإلا أمكن
إخراج بعض هذه الطائفة الخاصة ودعوى العلم الإجمالي في الباقي كأخبار
العدول مثلا، فاللازم حينئذ إما الاحتياط والعمل بكل خبر دل على جزئية شيء
أو شرطيته، وأما العمل بكل خبر ظن صدوره مما دل على الجزئية والشرطية، إلا
أن يقال: إن المظنون الصدور من الأخبار هو الجامع لما ذكر من الشروط.
وثانيا: أن مقتضى هذا الدليل وجوب العمل بالأخبار الدالة على الأجزاء
والشرائط دون الأخبار الدالة على عدمهما خصوصا إذا اقتضى الأصل الشرطية
أو الجزئية (1).
وقد أورد في الكفاية على الوجه الأول بأنه يمكن أن يقال: إن العلم
الإجمالي وإن كان حاصلا بين جميع الأخبار إلا أن العلم الإجمالي بوجود
الأخبار الصادرة عنهم (عليه السلام) بقدر الكفاية بين تلك الطائفة، أو العلم باعتبار طائفة
كذلك بينها يوجب انحلال ذلك العلم الإجمالي وصيرورة غيرها خارجة عن
طرف العلم كما مرت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأول، اللهم إلا أن يمنع ذلك
وادعي عدم الكفاية فيما علم بصدوره أو اعتباره، أو ادعي العلم بصدور أخبار
أخر بين غيرها، فتأمل (2).
وعلى الوجه الثاني بان الأولى أن يقال: إن قضية هذا الدليل إنما هو
الاحتياط بالأخبار المثبتة فيما لم تقم حجة معتبرة على نفيهما من عموم دليل أو
إطلاقه لا الحجية. بحيث يخصص أو يقيد بالمثبت منها، أو يعمل بالنافي في قبال
الحجة على الثبوت ولو كان أصلا كما لا يخفى (3).

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 172.
(2) كفاية الأصول: في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خبر الواحد ص 351.
(3) كفاية الأصول: في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خبر الواحد ص 352.
529

والحاصل: أن هذا الدليل لا يثبت حجية خبر الواحد بحيث يخصص أو يقيد
بالمثبت منه أو يعمل ينافيه في مقابل الحجة على الثبوت كما هو شأن الحجة
المعتبرة، بل مقتضاه العمل بالمثبت منه من باب الاحتياط، إذ لو لم نعمل به نقطع
بعدم الخروج عن عهدة التكاليف الباقية القطعية الضرورية كالصلاة وأمثالها، لأن
جل أجزائها وشرائطها تثبت بالخبر الواحد، فلو لم نعمل بالخبر الواحد في
إثباتهما لزم خروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور، وأن يكون الآتي بها
بدون هذه الأجزاء والشرائط قاطعا بعدم الخروج عن عهدة التكليف بها، مع أن
مرجع هذا الدليل إلى دليل الانسداد، إذ لافرق في القطع ببقاء التكليف بين
الأصول الضرورية وغيرها، كما لافرق بين التكاليف الغيرية كالأجزاء والشرائط
والتكاليف النفسية من حيث لزوم الخروج عن عهدة التكليف بهما، وإن كانت
مفسدة ترك الخروج عن عهدة التكليف بالأجزاء والشرائط هو خروج حقائق
هذه الأمور عن كونها هذه الأمور مفسدة ترك الخروج عن عهدة التكاليف النفسية
هو الخروج عن الدين إلا أن الأول مساوق للثاني كما لا يخفى، فتأمل.
ثالثها: ما أفاده بعض المحققين أعني المحقق الاصفهاني الشيخ محمد تقي في
حاشية المعالم وملخصه: أنا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى
يوم القيامة، فإن تمكنا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو
ما بحكمه فلابد من الرجوع كذلك، وإلا لا محيص عن الرجوع على نحو يحصل
الظن به في الخروج عن عهدة هذا التكليف، فلو لم يتمكن من القطع بالصدور أو
الاعتبار فلابد من التنزل إلى الظن بأحدهما (1).
وقد أورد عليه الشيخ (قدس سره) بأن هذا الدليل بظاهره عبارة عن دليل الانسداد
الذي أقاموه لإثبات حجية الظن في الجملة أو مطلقا، وذلك لأن المراد بالسنة هو
قول الحجة وفعله وتقريره، فإذا وجب علينا الرجوع إلى مدلول الكتاب والسنة
ولم نتمكن من الرجوع إلى ما علم أنه مدلول الكتاب أو السنة تعين الرجوع

(1) هداية المسترشدين: في حجية الخبر ص 397 س 28.
530

- باعتراف المستدل - إلى ما ظن كونه مدلولا لأحدهما، فإذا ظننا أن مؤدى
الشهرة أو معقد الإجماع المنقول مدلول للكتاب أو لقول الحجة أو فعله أو تقريره
وجب الأخذ به، ولا اختصاص للحجية بما يظن كونه مدلولا لأحد هذه الثلاثة من
جهة حكاية أحدها التي تسمى خبرا وحديثا في الاصطلاح.
نعم يخرج عن مقتضى هذا الدليل الظن الحاصل بحكم الله من أمارة لا يظن
كونها مدلولا لأحد هذه الثلاثة، كما إذا ظن بالأولوية العقلية أو الاستقراء أن
الحكم كذا عند الله ولم يظن بصدوره عن الحجة، أو قطعنا بعدم صدوره عنه (عليه السلام) إذ
رب حكم واقعي لم يصدر عنهم وبقي مخزونا عندهم لمصلحة من المصالح، لكن
هذا نادر جدا، للعلم العادي بأن هذه المسائل العامة البلوى قد صدر حكمها في
الكتاب أو ببيان الحجة قولا أو فعلا أو تقريرا، فكلما ظن من أمارة بحكم الله
تعالى فقد ظن بصدور ذلك الحكم عنهم (عليهم السلام).
والحاصل: أن مطلق الظن بحكم الله - ظن بالكتاب أو السنة - يدل على
اعتباره ما دل على اعتبار الكتاب والسنة الظنية.
فإن قلت: المراد بالسنة الأخبار والأحاديث، والمراد أنه يجب الرجوع إلى
الأخبار المحكية عنهم (عليهم السلام) فإن تمكن من الرجوع إليها على وجه يفيد العلم فهو،
وإلا وجب الرجوع إليها على وجه يظن منه بالحكم.
قلت: مع أن السنة في الاصطلاح عبارة عن نفس قول الحجة أو فعله أو
تقريره لا حكاية أحدها يرد عليه أن الأمر بالعمل بالأخبار المحكية المفيدة للقطع
بصدورها ثابت بما دل على الرجوع إلى قول الحجة، وهو الإجماع والضرورة
الثابتة من الدين أو المذهب، وأما الرجوع إلى الأخبار المحكية التي لا تفيد القطع
بصدورها عن الحجة فلم يثبت ذلك بالإجماع والضرورة من الدين التي ادعاها
المستدل، فإن غاية الأمر دعوى إجماع الإمامية عليه في الجملة كما ادعاه الشيخ
والعلامة (قدس سرهما) في مقابل السيد وأتباعه.
وأما دعوى الضرورة من الدين والأخبار المتواترة كما ادعاها المستدل
531

فليست في محلها. ولعل هذه الدعوى قرينة على أن مراد المستدل من السنة نفس
قول الحجة أو فعله أو تقريره لا حكايتها التي لا توصل إليها على وجه العلم.
نعم لو ادعى الضرورة على وجوب الرجوع إلى تلك الحكايات الغير العلمية
لأجل لزوم الخروج عن الدين لو طرحت بالكلية.
يرد عليه أنه إن أراد لزوم الخروج عن الدين من جهة العلم بمطابقة كثير منها
للتكاليف الواقعية التي يعلم بعدم جواز رفع اليد عنها عند الجهل بها تفصيلا، فهذا
يرجع إلى دليل الانسداد الذي ذكروه لحجية الظن، ومفاده ليس إلا حجية كل
أمارة كاشفة عن التكليف الواقعي، وإن أراد لزومه من جهة خصوص العلم
الإجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار حتى لا يثبت بها غير الخبر الظني من الظنون
ليصير دليلا عقليا على حجية خصوص الخبر، فهذا الوجه يرجع إلى الوجه الأول
الذي قدمناه وقدمنا الجواب عنه، فراجع. انتهى كلامه زيد في علو مقامه (1).
وقد أورد في الكفاية (2) والتعليقة على الشيخ (قدس سره) بأن مراد المستدل من السنة -
على ما صرح به في الجواب عن بعض ما أورده على نفسه - هي الأخبار المحكية
لا نفس ما يحكى بها من قول الحجة وفعله وتقريره، وتنزيلها عليها كما أفاده (قدس سره)
اجتهاد في مقابلة النص، وكأنه (قدس سره) ما لاحظ تمام ما أورده في المقام من النقض،
كما أن ظاهر كلامه على ما يشهد به مراجعة تمامه على طوله دعوى العلم بوجوب
الرجوع إلى الكتاب والسنة علينا فعلا، ولزوم الخروج عن عهدة هذا التكليف عقلا
بأن يرجع إليهما على نحو يحصل منهما العلم بالحكم أو الظن الخاص لو أمكن،
وإلا فعلى وجه يحصل منهما الظن بالحكم، سواء كان عدم التمكن من العلم وما
بحكمه في الدلالة وحدها كما في الكتاب والخبر المتواتر، أو فيها وفي السند كما
في السنة المحكية بخبر الواحد.
فيكون الاستدلال بهذا الوجه استقلال العقل بلزوم الخروج عن عهدة هذا

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 172 - 174.
(2) كفاية الأصول: في الوجوه التي أقيمت على حجية خبر الواحد ص 353.
532

التكليف الفعلي على قدر القدرة الموجب للرجوع إلى الكتاب والسنة على نحو
يحصل منهما الظن بالحكم دلالة أو سندا بعد فرض عدم إمكان الرجوع إليهما
على نحو يحصل منهما العلم أو ما بحكمه لا دعوى لزوم الرجوع إلى هذه الأخبار
المحكية، لاستلزام عدم الرجوع إليها الخروج من الدين من جهة العلم بمطابقة
كثير منها للتكاليف الواقعية حتى يرجع إلى دليل الانسداد، أو لأجل خصوص
العلم الإجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار حتى يرجع إلى الوجه الأول، فهو سالم
عما أورده (قدس سره) إلا أنه يرد عليه أنه لازم ذلك - أي العلم الإجمالي بوجوب الرجوع
إلى الكتاب والسنة المحكية - الاقتصار على القدر المتيقن مما يحتمل وجوب
الرجوع إليه منهما لو كان، فإن وفى بمعظم الفقه فهو، وإلا فالتعدي إلى المتيقن من
الباقي لو كان وهكذا، وإلا فالاحتياط في الرجوع إليهما ولو لم يحصل منهما الظن
بالحكم.
هذا بناء على العلم بوجود ما يجب الرجوع إليه مما يفي بمعظم الفقه من
الأخبار فيما بأيدينا، مع أن مجال المنع عنه واسع لاحتمال أن يكون المرجع منها
قسما خاصا لم يكن بينها أصلا، أو لم يكن بمقدار الكفاية. انتهى كلامه في
التعليقة (1)، وقريب من هذا المضمون أفاد في الكفاية (2) كما يظهر بالمراجعة إليها.
فتحصل: أن مراد الشيخ (قدس سره) هو أن مراد المستدل من السنة إن كانت هي السنة
الواقعية - أعني نفس قول الإمام أو فعله أو تقريره كما هي معناها المصطلح عليها -
وهي الظاهرة من مقابلتها للكتاب، فهذا الوجه يرجع إلى دليل الانسداد الآتي،
لأن مرجعه إلى أنه يجب علينا تحصيل الأحكام الواقعية من الكتاب والسنة
الواقعية فإن أمكننا تحصيلها علما فهو، وإلا فلابد من التنزل إلى الظن، ونتيجة
دليل الانسداد إما التبعيض في الاحتياط - كما اختاره (قدس سره) - أو حجية الظن في
الجملة أو مطلقا.

(1) حاشية الآخوند على الرسائل: ص 73.
(2) كفاية الأصول: في الوجوه التي أقيمت على حجية خبر الواحد ص 353.
533

وعلى أي حال فلا يكون هذا الدليل دليلا عقليا لإثبات حجية خصوص الظن
الخبري وإن كانت الظاهرية - أي أخبار الآحاد - الحاكية عن السنة الواقعية كما
هو الظاهر من ذيل كلام المستدل، فهذا الوجه يرجع إلى الوجه الأول الذي قدمناه
وقدمنا الجواب عنه، فلا يكون وجها على حدة، ومراد صاحب الكفاية (قدس سره) هو أن
مراد المستدل من السنة هي السنة الظاهرية أي الأخبار الحاكية كما هو صريح
كلام المستدل في آخر كلامه، وحمله على السنة الواقعية اجتهاد في مقابل النص.
ومع هذا لا يرجع هذا الوجه إلى الوجه الأول بالبيان المتقدم إلا أنه يرد عليه أن
لازم ذلك الاقتصار على القدر المتيقن كما تقدم.
هذا تمام الكلام في الأدلة التي أقاموها على حجية خبر الواحد، وقد عرفت
عدم دلالة بعضها ودلالة بعضها مثل آية النبأ والأخبار التي قد عرفت أنها متواترة
إجمالا، والتمسك بها على حجية خبر الواحد ليس تمسكا بخبر الواحد على
حجية خبر الواحد، واستقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على الأخذ
بأخبار الآحاد من الثقات. فهذه الأدلة الثلاثة كافيه لإثبات حجية خبر الواحد،
ولا حاجة لنا إلى سائر الأدلة النقلية والعقلية لإثبات حجية خبر الواحد ولا
لإثبات حجية مطلق الظن، لأنه بعد إثبات حجية خبر الواحد بتلك الأدلة يكون
باب العلمي بمقدار واف بمعظم الفقه مفتوحا، فلا ينتهي الأمر إلى العمل بالظن
المطلق حتى نحتاج إلى إثبات حجيته، فالبحث عن حجية مطلق الظن - على هذا -
يكون قضية فرضية على تقدير عدم حجية خبر الواحد بالخصوص.
وأما الوجوه العقلية التي أقاموها على حجية مطلق الظن من غير خصوصية
للخبر يقتضيها نفس الدليل وإن اقتضاها أمر آخر، وهو كون الخبر مطلقا أو
خصوص قسم منه متيقن الاعتبار من ذلك الدليل إذا فرض أنه لا يثبت إلا الظن
في الجملة ولا يثبته كلية، وهي أمور أربعة:
الأول: أن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة
للضرر، ودفع الضرر المظنون لازم.
534

أما الصغرى فلأن الظن بالوجوب ظن باستحقاق العقاب على الترك كما أن
الظن بالحرمة ظن باستحقاق العقاب على الفعل، أو لأن الظن بالوجوب ظن
بوجود المفسدة في الترك، كما أن الظن بالحرمة ظن بالمفسدة في الفعل بناء على
قول العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.
وأما الكبرى فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ولو لم نقل بالتحسين
والتقبيح العقليين، ولذا أطبق العقلاء على لزوم دفع الضرر المظنون مع اختلافهم
في مسألة التحسين والتقبيح العقليين، فما حكي عن الحاجبي (1) من منع الكبرى
لاوجه له.
والصواب في الجواب عن هذا الوجه هو منع الصغرى، وحاصله: أن المراد
بالضرر إن كانت العقوبة الأخروية فلا ملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة
على مخالفته، لعدم الملازمة بينه وبين العقوبة على مخالفته، وإنما الملازمة بين
خصوص معصية واستحقاق العقوبة عليها لابين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها.
ومجرد الظن به بدون دليل على اعتباره لا ينجز به كي يكون مخالفته عصيانه، إلا
أن يقال: إن العقل وإن لم يستقل بتنجزه بمجرده بحيث يحكم باستحقاق العقوبة
على مخالفته، إلا أنه لا يستقل أيضا بعدم استحقاقها معه فيحتمل العقوبة حينئذ
على المخالفة. ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدا
لا سيما إذا كان هو العقوبة الأخروية كما لا يخفى.
وإن كانت المفسدة المترتبة على فعل الحرام أو ترك الواجب، فالظن
بالتكليف وإن كان ظنا بالوقوع في المفسدة عند المخالفة، إلا أنها ليست بضرر
على كل حال، ضرورة أن ما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من
الضرر على فاعله، بل ربما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل بحيث يذم عليه فاعله
بلا ضرر عليه أصلا.
وأما تفويت المصلحة فلا شبهة في أنه ليس فيه مضرة، بل ربما يكون في

(1) كما حكاه صاحب فرائد الأصول: ج 1 ص 175.
535

استيفائها المضرة كما في الإحسان بالمال، هذا مع منع كون الأحكام تابعة
للمصالح والمفاسد الكامنة في المأمور بها والمنهي عنها، بل إنما هي تابعة للمصالح
والمفاسد التي في نفس الأمر والنهي. هذا ما أفاده في الكفاية (1).
وحاصله: أنه لا إشكال في الكبرى وهو لزوم دفع الضرر المظنون بحكم العقل
ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح العقليين، وإنما الإشكال في الصغرى وهو كون الظن
بالتكليف ظنا بالضرر، لأن المراد بالضرر إن كانت العقوبة الأخروية فلا ملازمة
بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة عند مطلق المخالفة، بل الملازمة إنما هي بين
عصيان التكليف واستحقاق العقوبة لا العقوبة الخارجية. والعصيان لا يتحقق إلا
بمخالفة التكليف المنجز، وتنجزه بمجرد الظن من دون دليل على اعتباره أول
الكلام، ومنجز آخر غير الظن منفي حسب الفرض، فاستحقاق العقاب عليه منفي
عقلا وشرعا، لأنه عقاب على المجهول.
بل يمكن أن يقال: إن العقاب مقطوع العدم، وليس بمشكوك - أيضا - حتى
يجب دفعه بحكم العقل من باب لزوم دفع الضرر المشكوك كالمظنون، لأن مع عدم
المنجز للتكليف يكون العقاب عليه عقابا على المجهول، وهو قبيح. فالعقاب
قطعي العدم وليس مشكوكا حتى نقول بوجوب دفعه على القول بلزوم دفع الضرر
المشكوك، كما لا يبعد. وإن كانت المفسدة أو المنفعة الفائتة اللتان في الأفعال
وأنيط بهما الأحكام فليستا بمضرة، وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة
أو حسن ما فيه المصلحة من الأفعال - على القول باستقلاله بذلك - هو كونه ذا
ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إليه، فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون
هاهنا أصلا، ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة أو ترك ما فيه
احتمال المصلحة.
الثاني: أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح.
وفيه: أنه لا يلزم ذلك إلا إذا كان الأخذ بالظن أو بطرفه لازما مع عدم إمكان

(1) كفاية الأصول: في حجية الظن ص 355.
536

الجمع بينهما عقلا، أو عدم وجوبه شرعا ليدور الأمر بين ترجيحه وترجيح طرفه.
ولا يكاد يدور الأمر بينهما إلا بمقدمات دليل الانسداد، وإلا كان اللازم هو
الرجوع إلى العلم أو العلمي، أو الاحتياط، أو البراءة، أو غيرهما على حسب
اختلاف الأشخاص أو الأحوال في اختلاف المقدمات.
والحاصل: أن هذا الدليل ليس دليلا عقليا مستقلا على حجية الظن، وإنما هي
عبارة عن المقدمة الأخيرة من مقدمات دليل الانسداد، ولا ينتهي الأمر إليها إلا
بعد اثبات المقدمات السابقة.
الثالث: ما عن السيد الطباطبائي (قدس سره) من أنه لا ريب في وجود واجبات
ومحرمات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بإتيان كل
ما يحتمل الوجوب ولو موهوما، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك ولكن مقتضى
قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كله، لأنه عسر أكيد وحرج شديد، فمقتضى
الجمع بين قاعدتي الاحتياط ونفي الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات دون
المشكوكات والموهومات، لأن الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض
المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل اجماعا (1).
ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد فإنه بعض مقدمات دليل الانسداد ولا ينتج
بدون سائر المقدمات، ومعه لا يكون دليل آخر، بل ذاك الدليل.
الرابع: دليل الانسداد، وهو مؤلف من مقدمات يستقل العقل مع تحققها بكفاية
الإطاعة الظنية حكومة أو كشفا على ما تعرف، ولا يكاد يستقل بها بدونها، هذا على
ما اختاره في الكفاية (2). وأما على مختار الشيخ (3) (قدس سره) فنتيجة المقدمات هو
التبعيض في الاحتياط لا حجية الظن.
وكيف كان فهي خمسة.
الأولى: العلم الإجمالي بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.

(1) كما حكاه صاحب فرائد الأصول: ج 1 ص 182.
(2) كفاية الأصول: في حجية الظن ص 356.
(3) فرائد الأصول: ج 1 ص 183.
537

الثانية: انسداد باب العلم والعلمي بالنسبة إليها.
الثالثة: عدم جواز إهمالها بالكلية.
الرابعة: عدم وجوب الاحتياط أو عدم جوازه، وعدم جواز الرجوع إلى
الأصل في كل مسألة.
الخامسة: قبح ترجيح المرجوح على الراجح.
فحينئذ يستقل العقل - على ما اختاره في الكفاية - بلزوم الإطاعة الظنية لتلك
التكاليف المعلومة، وإلا لزم بعد انسداد باب العلم والعلمي إما إهمالها وإما لزوم
الاحتياط في أطرافها، وإما الرجوع في كل مسألة إلى الأصل الجاري مع قطع
النظر عن العلم بها، أو التقليد فيها، أو الاكتفاء بالإطاعة الشكية والوهمية مع
التمكن من الظنية. والكل باطل.
أما المقدمة الأولى، فهي وإن كانت بديهية إلا أنه عرفت انحلال العلم
الإجمالي بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) التي تكون في
ما بأيدينا من الروايات في الكتب المعتبرة، ومعه لا موجب للاحتياط إلا في
خصوص ما في الروايات، وهو غير مسلتزم للعسر فضلا عن الاختلال، ولا
إجماع على عدم وجوبه لو سلم الإجماع على عدم وجوبه لو لم يكن انحلال.
والحاصل: أن العلم الإجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في الشريعة وإن كان
بديهيا إلا أنه لابد من ملاحظة أطرافه، فإن كانت أطرافه أعم مما في الأخبار
وغيرها كان اللازم مراعاة الاحتياط بإتيان محتملات الوجوب وترك محتملات
الحرمة مطلقا ولو موهوما، وهو مسلتزم للعسر والحرج، وهما منفيان، وإن كانت
أطرافه خصوص ما في الروايات كان اللازم مراعاته في خصوص الروايات،
ولا يلزم منه العسر والحرج، لأن الأخبار بعضها ناف للتكليف وبعضها مثبت،
ومثبتاتها بعضها موافقة ومؤكدة لبعض آخر، فالأحكام التي تتضمنها الأخبار
ليست من الكثرة بمكان يوجب الاحتياط فيها العسر والحرج.
والحق هو الأخير، لما عرفت من انحلال العلم الإجمالي بثبوت التكاليف إلى
538

ما في الأخبار الصادرة عن الائمة التي تكون في ما بأيدينا من الكتب المعتبرة،
وإذا انحصر مورد الاحتياط بالعمل بما في الروايات فلا يلزم من الرجوع في
غيرها إلى الأصول محذور، كما لا يلزم من الاحتياط بالعمل بما في الروايات
محذور مخالفة الإجماع واختلال النظام.
وأما المقدمة الثانية: فهي بالنسبة إلى انسداد باب العلم في أمثال زماننا بينة
وجدانية يعرف الانسداد كل من تعرض للاستنباط، وأما بالنسبة إلى انسداد باب
العلمي فالظاهر أنها غير ثابتة، لما عرفت من نهوض الأدلة على حجية خبر الثقة.
وهو واف بحمد الله بمعظم الفقه لا سيما بملاحظة انضمام ما علم تفصيلا بحيث
لا يلزم من الرجوع إلى الأصول في غير موردهما محذور.
وأما المقدمة الثالثة: فهي قطعية ولو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجزا مطلقا،
أو فيما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه كما في المقام حسب ما يأتي،
وذلك لأن إهمال معظم الأحكام وعدم الاجتناب كثيرا عن الحرام مما يقطع بأنه
مرغوب عنه شرعا ومما يلزم تركه إجماعا.
إن قلت: إذا لم يكن العلم بها منجزا لها للزوم الاقتحام في بعض الأطراف كما
أشير إليه، فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف حينئذ على تقدير
المصادفة إلا عقابا بلا بيان، والمؤاخذة عليها إلا مؤاخذة بلا برهان؟!
قلت: هذا إنما يلزم لو لم يعلم بوجوب الاحتياط، وقد علم به بنحو اللم، حيث
علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه بحيث ينافيه عدم إيجاب الاحتياط الموجب
للزوم المراعاة ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات، مع صحة دعوى الإجماع
على عدم جواز الإهمال في هذا الحال وأنه مرغوب عنه شرعا قطعا. وأما مع
استكشاف لزوم الاحتياط بالنسبة إلى غير ما علم جواز الاقتحام أو وجوبه فلا
يكون العقاب عليه على تقدير المصادفة عقابا بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان.
والحاصل: أن عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة قطعي، سواء قلنا بأن العلم
الإجمالي منجز، أو قلنا بعدم كونه منجزا مطلقا أو فيما جاز أو وجب الاقتحام في
539

بعض أطرافه، وذلك لأن العقاب على المخالفة في سائر الأطراف - على القول
بعدم كونه منجزا مطلقا أو فيما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه - إنما
يكون عقابا بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان لو لم يكشف من اهتمام الشارع بمراعاة
تكاليفه إيجابه الاحتياط، وليس الأمر كذلك، بل يستكشف ذلك. هذا بناء على ما
اختاره في الكفاية (1)، من أنه إذا جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطراف العلم
الإجمالي من جهة العسر والحرج، أو اختلال النظام، أو الاضطرار لا يجب
الاحتياط في الباقي بحكم العقل، بل لابد في وجوبه من حكم الشرع.
وأما بناء على ما اختاره الشيخ (قدس سره) (2) فلا حاجة في الاحتياط بالنسبة إلى
الباقي إلى حكم، بل العقل كما كان مستقلا بالحكم بلزوم الاحتياط بالنسبة إلى
جميع الأطراف كذلك مستقل بالحكم بلزومه بالنسبة إلى الباقي بعد جواز
الاقتحام أو وجوبه بالنسبة إلى البعض.
وأما المقدمة الرابعة: فهي بالنسبة إلى الاحتياط التام بلا كلام فيما يوجب
عسره اختلال النظام، وأما فيما لا يوجب فمحل نظر، بل منع، لعدم حكومة قاعدة
نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط، وذلك لما حققناه في معنى ما دل على
نفي الضرر والعسر من أن التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو الوضع المتعلقين
بما يعمهما هو نفيهما بلسان نفيهما، فلا تكون له حكومة على الاحتياط العسر إذا
كان بحكم العقل، لعدم العسر في متعلق التكليف وإنما هو في الجمع بين محتملاته
احتياطا، نعم لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر - كما قيل - لكانت
قاعدة نفيه محكمة على قاعدة الاحتياط، لأن العسر حينئذ يكون من قبيل
التكاليف المجهولة فتكون منتفية بنفيه.
ولا يخفى أنه - على هذا - لاوجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط
في بعض الأطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها، بل لابد من دعوى
وجوبه شرعا كما أشرنا إليه في بيان المقدمة الثالثة بناء على ما اختاره في الكفاية،

(1) كفاية الأصول: في حجية الظن ص 357. (2) فرائد الأصول: ج 1 ص 194.
540

وأما بناء على مختار الشيخ (قدس سره) فالعقل مستقل بوجوب الاحتياط بالنسبة إلى
بعض الأطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط بالنسبة إلى تمام الأطراف من جهة
العسر والحرج واختلال النظام، والظاهر أن ما اختاره الشيخ (قدس سره) هو الحق.
والحاصل: أن قاعدة الضرر والعسر لما كانتا ناظرتين إلى أدلة الأحكام
التكليفية والوضعية المتعلقتين بما يعم الموضوع الضرري والعسري كان معناهما
نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، فتكونان حاكمتين على الأحكام التكليفية
والوضعية الضررية والعسرية التي يلزم الحرج من جعل أصل الحكم الشرعي، ولا
تكونان حاكمتين على الاحتياط العسري إذا كان الاحتياط بحكم العقل فلا وجه
لرفع الاحتياط العسري الذي نشأ من ناحية حكم العقل، مع أن الحكم الشرعي
ليس بعسر، وإنما العسر لزم من حكم العقل بوجوب الاحتياط.
نعم لو كان معنى نفي الضرر والعسر نفي الحكم الناشئ من قبلهما كانت
قاعدة نفي الضرر والعسر محكمة، لأن الحكم الشرعي وإن لم يكن عسرا، إلا أن
العسر لزم من جهة مراعاته بإتيان محتملاته. ولا فرق بين أن يكون الحكم
الضرري أو العسري حكما شرعيا أو عقليا ناشئا من الحكم الشرعي في أن قاعدة
الضرر والعسر توجبان رفعهما وبعبارة [أخرى] لافرق بين أن يكون المجعول
الشرعي ضرريا وعسريا أو منشا للضرر والعسر، فتأمل.
وأما الرجوع إلى الأصول فبالنسبة إلى الأصول المثبتة من احتياط
أو استصحاب مثبت للتكليف فلا مانع عن إجرائها عقلا مع حكم العقل
وعموم النقل، هذا.
ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي، لاستلزام
شمول دليله لها التناقض في مدلوله بداهة تناقض حرمة النقض في كل منها
بمقتضى " لا تنقض " لوجوبه في البعض - كما هو قضيته - ولكن ننقضه بيقين آخر،
وذلك لأنه إنما يلزم ذلك فيما إذا كان الشك في أطرافه فعليا. وأما إذا لم يكن
كذلك، بل لم يكن الشك فعلا إلا في بعض أطرافه وكان بعض أطرافه الآخر غير
541

ملتفت إليه فعلا أصلا كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام - كما
لا يخفى - فلا يكاد يلزم ذلك فإن قضية " لا تنقض " ليس - حينئذ - إلا حرمة
النقض إلا في خصوص الطرف المشكوك وليس فيه علم بالانتقاض كي يلزم
التناقض في مدلول دليله من شموله.
ومنه انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافية أيضا،
وأنه لا يلزم منه محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها لو لم يكن هناك مانع
عقلا أو شرعا من إجرائها، ولا مانع كذلك من اجرائها لو كانت موارد الأصول
المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا أو نهض عليه علمي بمقدار المعلوم إجمالا، بل
بمقدار لا مجال معه لاستكشاف ايجاب الاحتياط وإن لم يكن بذلك المقدار، ومن
الواضح أنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.
وقد ظهر بذلك أن العلم الإجمالي بالتكاليف ربما ينحل ببركة الأصول المثبتة
وتلك الضميمة، فلا موجب للاحتياط - حينئذ - عقلا ولا شرعا أصلا، كما لا يخفى.
كما ظهر أنه لو لم ينحل بذلك كان خصوص موارد الأصول النافية مطلقا ولو
من مظنونات التكليف محلا للاحتياط فعلا، ويرفع اليد عنه فيها كلا أو بعضا
بمقدار رفع الاختلال أو العسر على ما عرفت لا محتملات التكليف مطلقا. انتهى
كلامه في الكفاية (1).
والمتحصل منه هو: أن الرجوع إلى الأصول المثبتة من الاحتياط
والاستصحاب المثبت لا مانع منه، ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف
العلم الإجمالي في غير المقام من الموارد التي يكون الشك فعليا بالنسبة إلى تمام
الأطراف، لكون تمام الأطراف ملتفتا إليها، ومع جريان الأصول المثبتة بضميمة
ما علم من التكاليف تفصيلا أو قام عليها علمي ينحل العلم الإجمالي بالتكاليف،
ولا مانع من الرجوع إلى الأصول النافية من البراءة وغيرها، فلا موجب للاحتياط
حينئذ حتى نتنزل بعد إبطاله بلزوم العسر أو اختلال النظام إلى العمل بالظن، وعلى

(1) كفاية الأصول: في حجية الظن ص 359.
542

تقدير عدم الانحلال كان خصوص موارد الأصول النافية مطلقا ولو من مظنونات
التكليف محلا للاحتياط فعلا، ويرفع اليد عنه فيها بمقدار رفع العسر أو الاختلال
لا محتملات التكليف مطلقا، ولازم هذا هو العمل بالظن في موارد الأصول النافية
وكان العمل بالاحتياط فيها موجبا للعسر أو مخلا بالنظام لا العمل بالظن، وأما
الرجوع إلى فتوى العالم فلا يكاد يجوز، ضرورة أنه وظيفة الجاهل لا الفاضل
الذي يرى خطأ من يدعي انفتاح باب العلم والعلمي.
وأما المقدمة الخامسة: فلاستقلال العقل بها، وأنه لا يجوز التنزل بعد عدم
التمكن من الإطاعة العلمية أو عدم وجوبه إلى الإطاعة الشكية والوهمية مع
التمكن من الإطاعة الظنية، لأنه ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح عقلا
لكن عرفت عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتمالية مع دوران الأمر بين
الإطاعة الظنية والشكية والوهمية حتى يرجح الإطاعة الظنية عليهما، لما تقدم في
المقدمة الأولى من انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف إلى ما في الأخبار الموجودة
في الكتب المعتبرة، ولازمه الاحتياط بالنسبة إليها، ولا محذور فيه من العسر
واختلال النظام، كما لا يخفى.
وما تقدم في المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الأصول مطلقا ولو كانت
نافية لوجود المقتضي وفقد المانع عنه لو كان التكليف في موارد الأصول المثبتة
بضميمة ما علم تفصيلا، أو قام عليه دليل علمي بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلا
فإلى الأصول المثبتة فقط. وحينئذ كان خصوص موارد الأصول النافية محلا
لحكومة العقل وترجيح مظنونات التكليف فيها على غيرها ولو بعد استكشاف
وجوب الاحتياط في الجملة شرعا بعد عدم وجوب الاحتياط التام عقلا أو
شرعا، على ما عرفت. فهذا الدليل لا يفي بإثبات حجية الظن مطلقا بحيث لا يجوز
للشارع مطالبة المكلف بأزيد من الامتثال الظني، ولا للمكلف بالاقتصار على
ما دونه كما هو معنى الحجية.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: في أن قضية المقدمات المذكورة على تقدير سلامتها هل هي حجية
543

الظن بالواقع، أو بالطريق، أو بهما؟ أقوال والحق هو الأخير، وذلك لأن هم العقل
- على كل حال - هو تحصيل الأمن من العقوبة على مخالفة التكاليف المعلومة،
وهو كما يحصل بالإتيان بالواقع أو بمؤدى الطريق عند انفتاح باب العلم كذلك
يحصل بالإتيان بما هو الواقع ظنا، أو أنه مؤدى الطريق ظنيا عند الانسداد، إذ
العقل مستقل بأن ما هو المؤمن حال الانفتاح الظن به مؤمن حال الانسداد،
والمؤمن حال الانفتاح أعم من إتيان الواقع وإتيان مؤدى الطريق، فكذلك حال
الانسداد المؤمن أعم من إتيان الواقع المظنون أو مؤدى الطريق المظنون.
ولا وجه لتوهم الاختصاص بالظن بالواقع إلا توهم أن قضية اختصاص
المقدمات بالفروع، لعدم انسداد باب العلم في الأصول وعدم إلجاء في التنزل إلى
الظن فيها، والغفلة عن أن جريانها في الفروع موجب لكفاية الظن بالطريق في
مقام تحصيل الأمن من العقوبة وإن كان باب العلم في غالب الأصول مفتوحا،
وذلك لعدم التفاوت في نظر العقل بين الظن بالواقع والظن بالطريق في تحصيل
الأمن من العقاب عند الانسداد، كما لافرق بين العلم بإتيان الواقع وبين العلم
بإتيان مؤدى الطريق عند الانفتاح.
كما أن منشأ توهم الاختصاص بالظن بالطريق وجهان:
أحدهما: ما أفاده بعض الفحول (1)، وتبعه صاحب الفصول (2) قال فيها: إنا كما
نقطع بانا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة لا سبيل لنا بحكم
العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ولا بطريق معين يقطع من
السمع بحكم الشارع بقيامه، أو قيام طريقه مقام القطع، ولو عند تعذره كذلك نقطع
بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة وكلفنا تكليفا فعليا
بالرجوع إليها في معرفتها، ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد وهو

(1) كما نقله صاحب كفاية الأصول: في حجية الظن ص 362، وقالوا هو العلامة المحقق الشيخ
أسد الله التستري (قدس سره) راجع كشف القناع: ص 460.
(2) الفصول: ص 277 س 33.
544

القطع بأنا مكلفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة، وحيث إنه لا سبيل
غالبا إلى تعينها بالقطع ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص أو قيام
طريقه كذلك ولو بعد تعذره. فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك. بحكم العقل هو
الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيته، لأنه
أقرب إلى العلم والى إصابة الواقع مما عداه.
وقد أورد عليه اولا: بإمكان منع نصب الشارع طرقا خاصة لأحكامه
الواقعية، بل أرجعهم وأوكلهم إلى طريقة العقلاء في امتثال أحكام الملوك والموالي
مع العلم بعدم نصب طريق خاص لها، فكما أن طريقة العقلاء في مقام امتثال
أحكامهم الظاهرية العرفية هو العلم الحاصل من التواتر أو عمل جماعة من
أصحاب من له الحكم، ومع عدم التمكن من العلم هو الظن الاطمئناني الذي يطلق
عليه العلم تسامحا، ومع عدم التمكن منه هو الظن الغير الاطمئناني ومع عدم
التمكن منه هو الاحتمال. فكذلك في مقام امتثال الأحكام الشرعية الشارع اكتفى
منهم بما هو طريقتهم في مقام امتثال أحكامهم العرفية من دون نصب طريق
خاص لهم، هذا بالنسبة إلى المجتهد. وأما بالنسبة إلى المقلد فقد عين طريقا خاصا
وهو فتوى المجتهد، بل يحتمل أن يقال: إن رجوع المقلد إلى المجتهد من باب
الرجوع إلى أهل الخبرة المركوز في أذهان أهل العرف، وما ورد من الشارع في
هذا الباب تقرير لما هو المركوز في أذهانهم لا أنه تأسيس منه.
وثانيا: سلمنا نصب الطريق لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم، إذ من
المحتمل أن يكون ما حكم بطريقيته قسم من الأخبار الذي ليس بأيدينا اليوم منه
إلا قليل كالخبر المفيد للاطمئنان الفعلي بالصدور، أو خبر العادل أو الثقة الثابت
عدالته أو وثاقته بالقطع أو بالبينة الشرعية أو الشياع المفيد للظن الفعلي بالحكم.
ولا ريب في قلة هذا القسم من الخبر فيما بأيدينا.
وثالثا: سلمنا نصب الطريق ووجوده فيما بأيدينا من الطرق الظنية من أقسام
الخبر والشهرة والإجماع المنقول والاستقراء والأولوية الظنية، لكن اللازم من
545

ذلك هو الأخذ بما هو المتيقن منها، فإن وفى بمعظم الفقه فيقتصر عليه، وإلا فيؤخذ
بالمتيقن من الباقي فلا ينتهي الأمر إلى تعيين الطريق بالظن بعد وجود المتيقن، نعم
لو لم يكن متيقن في البين من الأمارتين والأمارات التي يحتمل نصبها ينتهي
الأمر إلى التعيين بالظن بعد الإغماض عما سيجيء من الجواب، لكنه مجرد فرض.
ورابعا: سلمنا نصب الطريق ووجوده فيما بأيدينا وعدم وجود القدر المتيقن
لكن اللازم من ذلك وجوب الاحتياط، لما عرفت من أنه مقدم على العمل بالظن،
إلا أن يدل دليل على عدم وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الطرق كما دل على عدم
وجوبه أو عدم جوازه بالنسبة إلى الأحكام الواقعية، والحال أنه مفقود بالنسبة إلى
الطرق. وإذا لم يكن دليل على بطلان الاحتياط بالنسبة إلى الطرق المحتملة كان
اللازم هو الاحتياط فيها، ورفع اليد عن الاحتياط في غير مواردها، والرجوع إلى
الأصل، ولو كان نافيا للتكليف. وكذا فيما نهض كل الطرق المحتملة على نفي
طريقيته، وكذا فيما إذا تعارض فردان من الطرق المحتملة في طريقيته نفيا وإثباتا
مع ثبوت المرجح للنافي، بل عدم ثبوت الرجحان للمثبت في خصوص الخبر منها
ومطلقا في غيره، بناء على عدم ثبوت الترجيح في غير الأخبار على تقدير
الاعتبار، وكذا لو تعارض اثنان منها في الوجوب والتحريم فإن المرجع في جميع
ما ذكر من موارد التعارض إلى الأصل الجاري فيها ولو كان نافيا لعدم نهوض
طريق معتبر ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه، وكذا كل مورد لم يجر
الأصل المثبت للعلم بانتقاض الحالة فيه إجمالا بسبب العلم به، أو بقيام أمارة
معتبرة عليه في بعض أطرافه، بناء على عدم جريانه بذلك.
وخامسا: لو سلمنا نصب الطريق ووجوده فيما بأيدينا وعدم وجود القدر
المتيقن وعدم وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الطرق لكن اللازم من ذلك كله هو
جواز العمل بالظن في تعيين الواقع والطريق كليهما لا خصوص العمل بالظن في
تعيين الطريق فقط. ودعوى كون الظن بالطريق أقرب إلى العلم والى إصابة الواقع
فاسد قطعا، لعدم كونه أقرب إلى العلم والى إصابة الواقع من الظن بكونه مؤدى
546

طريق معتبر من دون الظن بحجية طريقه أصلا ومن الظن بالواقع، كما لا يخفى.
لا يقال: إنما لا يكون أقرب من الظن بالواقع إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه
إلى مؤديات الطرق ولو بنحو التقييد بأن يكون الحكم الفعلي هو الواقع الذي أدى
إليه الطريق لا الواقع بما هو واقع، سواء أدى إليه الطريق أم لا.
فإنه يقال: الالتزام بالتقييد بعيد، إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا فلا أقل
من كونه مجمعا على بطلانه، ضرورة أن القطع بالواقع - بما هو واقع لا بما أنه
مؤدى الطريق - مجد في الإجزاء، فلا يرد أن في صورة القطع بالواقع المقيد وهو
الواقع الذي أدى إليه الطريق حاصل، لأن القطع طريق عقلي إلى الواقع فالإجزاء
من جهة الإتيان بالواقع المقيد بالواقع فقط.
ومنه انقدح أن التقييد أيضا غير سديد، مع أن الالتزام به غير مفيد، فإن الظن
بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفك عن الظن بكونه مؤدى طريق
معتبر، فالظن بالواقع يستلزم الظن بالطريق المعتبر فيظن بالواقع المقيد، وهو
الواقع الذي أدى إليه الطريق بخلاف الظن بالطريق من دون الظن بالواقع، فإنه
لا يستلزم الظن بالواقع المقيد، هذا.
مع عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف ولا على التقييد، غايته أن العلم
الإجمالي بنصب طرق وافية يوجب انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية إلى
العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعلية والانحلال، وإن كان
يوجب عدم تنجز ما لم يؤد إليه الطريق من التكاليف، الا أنه إذا كان رعاية العلم
بالنصب لازما، والفرض عدم اللزوم بل عدم الجواز، وعليه يكون التكاليف
الواقعية كما إذا لم يكن علم بالنصب في كفاية الظن بها حال الانسداد، فهذا الوجه
لا يفي بإثبات حجية الظن في خصوص الطريق.
ثانيهما: ما اختص به بعض المحققين، وهو الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية
قال: لا ريب في كوننا مكلفين بالأحكام الشرعية ولم يسقط عنا التكليف بها، وأن
الواجب علينا أولا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف بأن يقطع معه
547

بحكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به وسقوط التكليف عنا، سواء حصل العلم معه بأداء
الواقع أو لا، حسبما مر تفصيل القول فيه، فحينئذ نقول: إن صح لنا تحصيل العلم
بتفريغ ذمتنا في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به، وإن انسد
علينا سبيل العلم كان الواجب علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه، إذ هو
الأقرب إلى العلم به فيتعين الأخذ به عند التنزل من العلم في حكم العقل بعد انسداد
سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف دون ما يحصل معه الظن بأداء الواقع كما يدعيه
القائل بأصالة حجية الظن (1). انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه.
وحاصله: أنه بعد الفراغ عن ثبوت تكليفنا بالأحكام الشرعية وعدم سقوطه
عنا يجب علينا تحصيل العلم بما حكم الشارع بكونه مفرغا، ففي صورة انفتاح
باب العلم بالواقع أو بالطريق لا إشكال في حصول تفريغ ذمتنا بإتيان كل من
الواقع ومؤدى الطريق في حكم المكلف، لأن الإتيان بالواقع إتيان بمؤدى طريق
منجعل، والإتيان بمؤدى الطريق إتيان بمؤدى الطريق المجعول، فلا فرق بينهما
في هذه الصورة في حصول التفريغ بحكم الشارع، وأما في صورة الانسداد كان
الواجب علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه والإتيان بمؤدى ما ظن كونه طريقا
موجوب للظن بحكم الشارع بتفريغ الذمة به بخلاف الإتيان بما ظن أنه الواقع،
فإنه ليس كذلك.
ولكن فيه: أولا: أن الحاكم بالاستقلال في باب تفريغ الذمة بالإطاعة
والامتثال إنما هو العقل وليس للشارع في هذا الباب حكم مولوي، ولو حكم كان
إرشادا إلى حكم العقل، وقد عرفت استقلاله بأن إتيان الواقع ومؤدى الطريق
موجبان لتفريغ الذمة بحكم العقل عند الانفتاح والتمكن من تحصيل العلم بهما، وأن
المؤمن في حال الانسداد هو الظن بما كان القطع به مؤمنا حال الانفتاح، فإذا كان
إتيان الواقع المقطوع أو مؤدى الطريق المقطوع مؤمنا في حال الانفتاح كان إتيان

(1) هداية المسترشدين في حجية الظنون: ص 391 س 19.
548

الواقع المظنون أو مؤدى الطريق المظنون مؤمنا في حال الانسداد ومفرغا للذمة.
وثانيا: على تقدير تسليم ذلك أي حصول التفريغ لابد أن يكون بما حكم
الشارع بكونه مفرغا وليس الحكم بالتفريغ عقليا يقال: إن حكمه بكون الإتيان
بمؤدى الطريق المنصوب مفرغا ليس إلا بدعوى أن نصب الطريق يستلزم كون
الإتيان بمؤداه مفرغا، مع أن دعوى أن التكليف بالواقع يستلزم كون الإتيان به
مفرغا أولى، كما لا يخفى، فيكون الظن به ظنا بالحكم بالتفريغ أيضا.
إن قلت: كيف يستلزم الظن بالواقع الظن بحكم الشارع بكون الإتيان به
مفرغا مع أنه ربما يحصل الظن من القياس بالواقع ولا يحصل الظن بكون الإتيان
بالواقع الذي أدى إليه القياس مفرغا، بل يقطع بعدم حكمه بكونه مفرغا، وهذا
بخلاف الظن بالطريق فإنه يستلزمه ولو كان من القياس قلت: الظن بهما ولو من
القياس يستلزم الظن بحكم الشارع بكونه مفرغا ولا ينافي ذلك القطع بعدم حجيته
لدى الشارع، وعدم كون المكلف معذورا إذا عمل به فيهما فيما إذا أخطأ، بل كان
مستحقا للعقاب، ولو فيما أصاب لو بنى على حجيته والاقتصار عليه لتجربه.
والحاصل: أن للقياس جهة موضوعية وجهة طريقية ولا ينافي نهي الشارع
عن العمل به من جهة موضوعية حكمه بتفريغ الذمة فيما إذا أتى المكلف بالواقع
الذي أدى اليه القياس من جهة طريقية.
وثالثا: سلمنا أن الظن بالواقع لا يستلزم الظن بحكم الشارع بكون الإتيان
مفرغا لكن قضيته ليس إلا التنزل إلى الظن بأنه مؤدى طريق معتبر لا خصوص
الظن بالطريق، وقد عرفت أن الظن بالواقع لا ينفك عن الظن بأنه مؤدى طريق
معتبر غالبا.
الثاني: في أنه بعد تمامية مقدمات الانسداد وانتهاء النوبة إلى العمل بالظن
فهل العقل مستقل بكفاية الإطاعة الظنية والخروج بها عن عهدة التكاليف المعلومة
بالإجمال في حال الانسداد كما أنه مستقل بكفاية الإطاعة القطعية والخروج بها
عن عهدة التكاليف المعلومة بالتفصيل حال الانفتاح، وتكون المقدمات المذكورة
549

موضوعة لحكم العقل بكفاية الامتثال الظني في حال الانسداد، وأن الظن حجة
منجعلة في تلك الحالة، كما أن القطع موضوع لحكم العقل بلزوم الإطاعة القطعية
وكفايتها في حال الانفتاح، وأنه حجة منجعلة في هذا الحال، أو أنه يستكشف
العقل من هذه المقدمات أن الشارع جعل الظن حجة في حال الانسداد؟
الحق هو الأول وأن الظن حجة في حال الانسداد من باب الحكومة لامن
باب الكشف، إذ ليس طريق لاستكشاف جعل الشارع إياه حجة، لأنه مع تمامية
المقدمات لو لزم من عدم جعله الظن حجة نقص وقبح عليه يستكشف العقل أن
الشارع جعله حجة، وأما لو لم يلزم عليه قبح من عدم جعله حجة لما كان طريق
إلى استكشاف العقل بأن الشارع جعله حجة، والأمر هنا كذلك، إذ من الجائز
اجتزاء الشارع بما استقل به العقل من كفاية الامتثال الظني في تلك الحالة من
دون جعله حجة شرعا.
نعم لو لم يستقل العقل بكون الظن حجة منجعلة في حال الانسداد لوصلت
النوبة إلى استكشاف العقل بأن الشارع جعله حجة فتقرير الكشف ليس في عرض
تقرير الحكومة، بل في طوله.
ولا مجال لاستكشاف جعل الشارع إياه حجة من باب قاعدة الملازمة بين
حكم العقل وحكم الشرع، لأن حكم الشرع بحجيته إن كان إرشاديا كحكمه
بحجية القطع ووجوب العمل على طبقه وحرمة مخالفته فلا بأس به، وإن كان
مولويا فالحكم المولوي الشرعي إنما يثبت بقاعدة الملازمة في المورد القابل
للحكم الشرعي، والمورد هنا غير قابل له، لأن الإطاعة الظنية التي يستقل العقل
بكفايتها حال الانسداد إنما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها
وعدم جواز اقتصار المكلف بما دونها، ومؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه.
واقتصار المكلف بما دونها لما كان بنفسه موجبا للعقاب مطلقا أو فيما
إذا أصاب الظن، كما أنها بنفسها موجبة للثواب أخطأ أو أصاب، من دون
حاجة إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها كان حكم الشارع مولويا فيها بلا ملاك
550

يوجبه، كما لا يخفى.
والحاصل: أنه إن أريد إثبات الحكم الشرعي الإرشادي بقاعدة الملازمة فلا
بأس به، لأنه ثابت في تمام موارد الحكم العقلي وإن أريد إثبات الحكم الشرعي
المولوي فلا يمكن إثباته في المقام، لأنه إنما يثبت في المورد القابل، والمورد هنا
غير قابل للحكم المولوي الشرعي، لعدم وجود ملاكه، إذ ملاك الحكم المولوي
الشرعي هو ترتب الآثار العقلية عليه من استحقاق الثواب على الموافقة والعقاب
على المخالفة وغيرهما. وهذه الآثار تترتب على نفس الحكم العقلي ولا حاجة
في ترتبها إلى الحكم الشرعي، فالحكم الشرعي المولوي يكون بلا ملاك.
وعلى أي حال سواء قلنا بالحكومة أو بالكشف فهل نتيجة دليل الانسداد
حجية ظن مخصوص، أو مطلق الظن، أو الظن في الجملة؟ وبعبارة أخرى هل
نتيجة المقدمات - حكومة أو كشفا - هي حجية الظن في الجملة، أو حجية ظن
معين من حيث السبب والمرتبة والمورد، أو الظن مطلقا بحسب الأسباب وبحسب
المراتب وبحسب الموارد؟
أما بناء على الحكومة فلا يتصور فيها الإهمال والإجمال، لأن موضوع حكم
العقل لابد أن يكون معينا، فبناء على الحكومة الأمر يدور بين التعيين والإطلاق.
والحق هو الإطلاق والتعميم من حيث الأسباب، لعدم تفاوت في نظر العقل
بين أسباب الظن، كما لافرق بنظره بين أسباب القطع. وأما من حيث المراتب فلا،
إذ العقل لا يستقل إلا بكفاية مرتبة خاصة من الظن وهو الظن الاطمئناني، إلا على
تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر. وبعبارة أخرى العقل لا يستقل بعدم
الفرق بين المرتبة القوية من الظن والمرتبة الضعيفة منه. وكذلك من حيث الموارد،
إذ العقل لا يستقل بكفاية الإطاعة الظنية إلا في الموارد التي لا يكون فيها مزيد
اهتمام من الشارع، وأما في الموارد التي يكون فيها مزيد اهتمام منه كالدماء
والفروج وسائر حقوق الناس مما لا يلزم من الاحتياط فيها العسر فيستقل
بوجوب الاحتياط.
551

كما أن لازم من قال بأن نتيجة مقدمات الانسداد ليست حجية الظن بل
التبعيض في الاحتياط كما حكي عن الشيخ (قدس سره) (1) لا ينحصر التبعيض عنده بترجيح
مظنونات التكاليف على مشكوكات التكاليف وموهوماتها لو كان العمل بتمامها
موجبا للعسر والعمل ببعضها غير موجب له، بل لابد أن يقول بالتبعيض من حيث
الموارد بتقديم الاحتياط في الموارد المهتم بها على غيرها لو كان الاحتياط في
جميعها موجبا للعسر، كما لا يخفى.
فتحصل: أنه بناء على تقرير الحكومة واستقلال العقل بحجية الظن وكفاية
الامتثال الظني حال الانسداد لا فرق بين أفراد الظن من حيث الأسباب كما
لافرق بين أفراد القطع من حيث الأسباب في حال الانفتاح، وأما من حيث
المرتبة فلا يستقل العقل بالتنزل من المرتبة القوية إلى المرتبة الضعيفة إلا على
تقدير عدم الكفاية وكذلك من حيث المورد لا يستقل بالعمل بالظن إلا في الموارد
الغير المهتم بها، إلا مع عدم اندفاع العسر بالعمل بالظن فيها.
وأما بناء على الكشف وأن الشارع جعل لنا طريقا في هذا الحال فإن قلنا: بأن
النتيجة هو نصب الطريق الواصل بنفسه، أي أن الطريق الذي نصبه الشارع لنا في
هذا الحال ما يمكن لنا تعيينه بنفسه ويصح للشارع ان يوكل تعيينه إلى مقتضى
عقولنا، لأن له تعين بمقتضى العقل، وهو ليس إلا الظن، لأنه الذي يعينه العقل
طريقا حال الانسداد وله تعين بالنسبة إلى غيره مما يحتمل طريقيته، فلا إهمال
في النتيجة بحسب الأسباب، بل يستكشف أن الكل حجة لو لم يكن بينها ما هو
المتيقن، وإلا فلا مجال لاستكشاف حجية غيره ولا بحسب الموارد، بل يحكم
بحجيته في جميعها، وإلا لزم عدم وصول الحجة ولو لأجل التردد في مواردها،
والحال أن المفروض أن النتيجة المستكشفة من المقدمات أن الشارع نصب لنا
طريقا واصلا بنفسه وأن الطريق الواصل بنفسه الذي يمكن للمكلف تعيينه
بمقتضى عقله هو الظن، فلابد أن يكون حجة في تمام الموارد. ودعوى الاجماع

(1) فرائد الأصول: في حجية الظنون ج 1 ص 172.
552

على التعميم من حيث الموارد في هذه المسألة المستحدثة مجازفة.
وأما بحسب المرتبة ففيها إهمال لاحتمال حجية خصوص الاطمئناني من
الظن إذا كان وافيا دون مطلق الظن فلابد من الاقتصار على الظن الاطمئناني، إلا
مع عدم الكفاية فيتنزل إلى غيره، ولو قلنا بأن النتيجة هو نصب الطريق الواصل ولو
بطريقه بمعنى أن الذي جعله الشارع طريقا لا يمكن لنا تعيينه بمقتضى عقولنا،
لكنه يمكن لنا تعيين الطريق إلى هذا الطريق بمقتضى عقولنا، وهو ليس إلا الظن،
فلا إهمال فيها بحسب الأسباب لو لم يكن تفاوت أصلا أو لم يكن إلا واحد، وإلا
فلابد من الاقتصار على متيقن الاعتبار أو مظنونه بإجراء مقدمات دليل الانسداد
مرة أو مرات في تعيين الطريق المنصوب حتى ينتهي إلى ظن واحد أو ظنون
متعددة لا تفاوت بينها، فيحكم بحجية كلها أو متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقن
الاعتبار فيقتصر عليه.
والحاصل: أنه لو كانت النتيجة هو نصب الطريق الواصل ولو بطريقه فهذا
الطريق الذي يمكن لنا تعيين الطريق ليس إلا الظن الحاصل من مقدمات
الانسداد، فلو كانت ظنون متعددة ولم يكن بينها تفاوت أو لم يكن إلا واحد فلا
إشكال في حجية الكل مع التعدد وعدم التفاوت وحجية الواحد مع عدم التعدد،
وأما لو كانت متعددة ومتفاوتة بأن كان بعض هذه الظنون مظنون الاعتبار وبعضها
مشكوك الاعتبار وبعضها موهوم الاعتبار، كما إذا فرضنا أن الظن الحاصل من
الخبر الواحد مظنون الاعتبار، والظن الحاصل من الشهرة مشكوك الاعتبار،
والظن الحاصل من الأولوية موهوم الاعتبار، فإن لم يحصل الاكتفاء إلا بجميعها
فالكل حجة، وإن حصل الاكتفاء ببعضها فيقدم مظنون الاعتبار على مشكوكه وهو
على موهومه، بمعنى أنه لو حصل الاكتفاء بمظنون الاعتبار فقط فيقتصر عليه،
وإلا فيتعدى إلى مشكوك الاعتبار، وإلا فإلى موهوم الاعتبار.
وإن كانت الظنون متعددة ومتساوية وكان كل واحد منها كافيا، كما لو فرض
أن الظنون الثلاثة المذكورة كلها مظنون الاعتبار وكل واحد منها كاف بمعظم الفقه،
553

فكل منها يحتمل أن يكون هو الطريق المنصوب ولا طريق لنا إلى تعيينه إلا بالظن
الحاصل من مقدمات الانسداد، فيجري دليل الانسداد مرة أو مرارا في تعيين
ذلك الطريق، فإن كان أحد هذه الظنون الثلاثة التي كلها فرض مظنون الاعتبار
مظنون اعتباره بظن مظنون اعتباره والبقية مظنونة بظن مشكوك اعتباره أو موهوم
اعتباره فيقدم الظن المظنون اعتباره بظن مظنون الاعتبار على الظن الذي مظنون
اعتباره بظن مشكوك الاعتبار أو موهوم الاعتبار.
ولو فرض تساويها في هذه الدرجة بأن كان كلها مظنون الاعتبار بظن مظنون
الاعتبار يترقى إلى درجة الفوق فيقدم الظن المظنون اعتباره بظن مظنون اعتباره
بظن مظنون الاعتبار على غيره، وهكذا حتى ينتهي إلى ظن واحد أو ظنون
لا تفاوت فيها أو متفاوتة، وكان بعضها الوافي متيقن الاعتبار فيقتصر عليه، هذا
بالنسبة إلى الأسباب.
وأما بحسب المورد والمرتبة فكما إذا كانت النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه
ولو قيل بأن النتيجة هو الطريق - ولو لم يصل أصلا - فالإهمال فيها يكون من
الجهات، ولا محيص - حينئذ - عن الاحتياط في الطريق بمراعاة أطراف
الاحتمال لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار لو لم يلزم منه محذور، وإلا لزم التنزل
إلى حكومة العقل بالاستقلال. ولكن لا يخفى أن نصب الطريق الغير الواصل
لا بنفسه ولا بطريقه بحيث لا يمكن للمكلف تعيينه بوجه من الوجوه لغو لا يترتب
عليه أثر وتعينه بالتعميم من جهة الاحتياط في الطرق إنما يتم في المثبتات منها
دون نافياتها.
وفيما لم يكن الاحتياط فيها معارضا بالاحتياط في المسألة الفرعية فما
ذكروه من تعميم النتيجة بقاعدة الاحتياط لا يخفى ما فيه، فلو قلنا بالكشف فلابد
أن نقول بأن النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه أو بطريقة بحيث يكون للمكلف
طريق إلى تعينه.
الثالث: في إشكال القطع بخروج القياس عن نتيجة دليل الانسداد بناء على
554

تقرير الحكومة واستقلال العقل بحجية الظن عند الانسداد، وأما بناء على تقرير
الكشف فلا إشكال، إذ بعد المنع عن العمل بالقياس وكونه منهيا عنه شرعا لا
نستكشف حجية الظن شرعا مطلقا، بل ما عدا الظن القياس ونحوه من الظنون
المنهية، والإشكال في القياس يقع من جهتين.
أحدهما (1): من جهة أنه كيف يمكن النهي عن العمل بالقياس في حال
الانسداد؟ والحال أنه ربما يكون مصيبا إلى الواقع والنهي عن العمل به يكون
موجبا لتفويت الواقع، والإشكال فيه من هذه الجهة كالإشكال الوارد على الأمر
بالعمل بالأمارة الغير العلمية في حال الانفتاح، والحال أنها ربما يخطئ عن
الواقع فيكون الأمر بالعمل بها موجبا لتفويت الواقع، إلا أن الإشكال في القياس
في مورد الإصابة وفي الأمارة الغير العلمية في مورد الخطأ، وما هو الجواب عن
الإشكال فيها هو الجواب عن الإشكال فيه، وقد تقدم في رد كلام ابن قبه (2) القائل
باستحالة التعبد بالأمارات العلمية ما هو الجواب عن هذا الإشكال مفصلا، وأنه
لا نحتاج في الحكم بالإمكان إلى إحرازه، بل يكفي الإمكان الاحتمالي في
تصديق أنه الدليل الدال على التعبد، لأن الوقوع أدل دليل على الإمكان، فلو لم
يكن التعبد بالأمارة الغير العلمية أمرا ممكنا لما أمر الشارع الحكيم بالتعبد بها، فلو
قطعنا باستحالة التعبد بها فلابد من تأويل هذا الدليل الدال على التعبد إن أمكن،
وإلا فلابد من طرحه، وأما لو لم نقطع باستحالته فلابد من الأخذ بهذا الدليل سواء
قطعنا بإمكان التعبد أو لم نقطع به، بل كان مجرد احتمال الإمكان، فإنه يكفي في
تصديق دليل التعبد، إذ لو لم يكن أمرا ممكنا لما صدر من الشارع الحكيم، وكذلك
بالنسبة إلى القياس الإمكان الاحتمالي بمنعه يكفي في تصديق دليل الوقوع، إذ لو
كان المنع عنه أمرا غير ممكن لما منع الشارع عن العمل به.
وما قيل (3) في هذا المقام تارة بأن المنع عن العمل بالقياس طريقي من جهة

(1) لم يذكر الجهة الأخرى.
(2) نقله عنه في فرائد الأصول: في حجية الظن ج 1 ص 40.
(3) كفاية الأصول: الامارات في حجية الظن ص 374.
555

غلبة مخالفته للواقع، وأخرى بأن النهي عنه موضوعي من جهة أن في العمل به
مفسدة غالبة على مصلحة الواقع كما يشعر بالأول ما ورد من " أن السنة إذا قيست
محق الدين " (1) وأمثاله (2)، وبالثاني ما ورد من أن " ما يفسده أكثر مما يصلحه " (3)
فهو راجع إلى هذه الجهة لا إلى الجهة الثانية التي هي عبارة عن أن حكم العقل في
حال الانسداد بكون الإطاعة الظنية كالإطاعة العلمية في حال الانفتاح، ولا يجوز
للآمر والمأمور التعدي عنها لا يجامع حكم الشارع بعدم جواز العمل بالقياس فيما
إذا حصل منه الظن أو خصوص الاطمئناني منه.
فكما لا يمكن المنع عن العمل بالعلم في حال الانفتاح كذلك لا يمكن المنع
عن العمل بالظن في حال الانسداد، لأن جواز العمل بكل منهما عقلي، وهو غير
قابل للتخصيص، ولو فرض إمكان المنع عن العمل بالقياس لجرى ذلك في غيره
من الأمارات الغير العلمية، إذ لعله نهى عن أمارة واختفى علينا ولا دافع لهذا
الاحتمال إلا قبحه على الشارع، إذ احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم
لا يرتفع الا بقبحه.
وقد أجيب عن هذا الإشكال بوجوه (4):
منها:
أن المنع عن العمل بالقياس مخصوص بحال الانفتاح فلا يعم حال الانسداد
ومنها:
أنه بعد ملاحظة حال القياس ومنع الشارع عن العمل به وأن ما يفسده أكثر
مما يصلحه منه الظن، فخروجه من باب التخصص لامن باب التخصيص،

(1) وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب صفات القاضي ج 10 ج 18 ص 25.
(2) وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب صفات القاضي ج 18 ص 21 - 41.
(3) بحار الأنوار: كتاب العلم ج 2 ص 121 ح 35 وفيه " من أفتى الناس بغير علم كان
ما يفسده من الدين أكثر مما يصلحه ".
(4) نقل الإشكال والوجوه في فرائد الأصول: في حجية الظنون ج 1 ص 253.
556

وغيرهما من الأجوبة المذكورة في الرسائل وغيرها.
ولكن لا يخفى أن الكلام والإشكال مع فرض عموم النهي لحالتي الانفتاح
والانسداد ومع فرض حصول الظن أو خصوص الاطمئناني منه. والجوابان
المذكوران كلاهما خروج عن الفرض.
والحق في الجواب هو: أن حكم العقل بالعمل بالظن في حال الانسداد ليس
كحكمه بالعمل بالعلم حال الانفتاح، فإن الثاني حكم تنجيزي بخلاف الأول فإنه
معلق على عدم نصب الشارع طريقا واصلا وعدم حكمه فيما كان هناك طريق ولو
كان أصلا بداهة أن من مقدماته عدم وجود علم أو علمي فلا موضوع لحكمه مع
وجود أحدهما، والنهي عن ظن حاصل من سبب ليس إلا كنصب شيء، بل هو
يستلزمه فيما كان في مورده أصل شرعي، فلا يكون نهيه عنه رفعا لحكمه عن
موضوعه، بل به يرتفع موضوعه.
والحاصل: أن حكم العقل بحجية الظن عند الانسداد معلق على عدم وجود
العلم والعلمي، فإذا نهى الشارع عن العمل بالظن الحاصل من سبب يرتفع موضوع
حكم العقل، لأن نهيه مستلزم لنصب شيء في مورده ولو كان أصلا، فإذا كان النهي
معلوما كان نصب ذلك الشيء معلوما، ومعه لا تتم مقدمات الانسداد، ويختص
حكم العقل بما عدا مورد النهي لتضيق دائرة موضوعه بالنهي لا لارتفاع حكمه مع
بقاء موضوعة حتى يرد الإشكال.
نعم ما ذكر من اختصاص المنع عن العمل بالقياس بحال الانفتاح لا يبعد
الالتزام فيما إذا انسد باب العلم والعلمي وكانت ضرورة ملجئة إلى العمل به بأن
لا يكون شيء أقرب إلى الواقع منه بأن دائرة الأمر بين العمل بالشك أو الوهم،
والعمل بالظن الحاصل من القياس، إذ الظاهر من الأخبار الدالة على المنع عن
العمل به إنما هو في مقام الرد على العاملين به مع انفتاح باب العلم، وإمكان
الرجوع إلى الأئمة، وضرورة المذهب على بطلان إعماله في الشريعة إنما هي من
جهة عدم الإلجاء والاضطرار إلى إعماله، لوجود الأدلة والأمارات العلمية، فلذا
557

صار بطلان العمل به ضروريا ومتسالما عليه عند الشيعة، فلو فرض عدم وجود
طريق أقرب منه فلا استبعاد في جواز العمل به، فتأمل.
الرابع: في أنه إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص كما إذا قامت
الشهرة على عدم حجية الأولوية الظنية لا ما إذا قامت الشهرة على عدم حجية
الشهرة فهل يجب العمل بالظن الممنوع أو المانع أو الأقوى منهما أو التساقط؟
وجوه، بل أقوال.
والتحقيق أن يقال - بعد تصور المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد -: إنه
لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع عنه فضلا عما إذا ظن، فلابد من
الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص، فإن كفى فهو، وإلا فبضميمة
ما لم يظن المنع عنه، وإن احتمل مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد، وإن انسد
باب هذا الاحتمال معها فيجب العمل بالظن المانع، لأنه لم يظن المنع عنه، بل لم
يحتمل بملاحظة مقدمات الانسداد، بخلاف الظن الممنوع فإنه محتمل المنع، بل
مظنون المنع حتى بملاحظة مقدمات الانسداد، فالظن المانع والممنوع وإن كانا
مشتركين في احتمال المنع مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد إلا أنهما ليسا
كذلك بملاحظة مقدمات الانسداد، فإن حجية ظن المانع ودخوله في نتيجة دليل
الانسداد لا مانع عنه بخلاف الظن الممنوع فإن الظن المانع مانع عن دخوله؟ وقد
عرفت أنه بعد تصور المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد لا يستقل العقل
بحجية ظن احتمل المنع، فضلا عن الظن به ولا فرق في ذلك بين كون النتيجة
حجية الظن في الأصول أو في الفروع، أو في كليهما، فتأمل.
الخامس: في أنه لافرق في نتيجة دليل الانسداد بين الظن بالحكم من أمارة
عليه وبين الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآية أو الرواية كقول اللغوي فيما
يورث الظن بمراد الشارع من لفظه، فمع انسداد باب العلم بالأحكام وتمامية
المقدمات فيها يكون الظن الحاصل بها حجة مطلقا، سواء كان الظن بها حاصلا من
أمارة على نفس الحكم أو من أمارة متعلقة بألفاظ الآية أو الرواية، أو من قول
558

الرجالي بأن المراد من زرارة هو زرارة بن أعين لاغيره، وإن فرض انفتاح باب
العلم باللغات في غير المورد وعدم دليل على اعتبار قول الرجالي لامن باب
الشهادة ولا من باب الرواية.
والحاصل: أن انسداد باب العلم بالأحكام يوجب حجية الظن بها وإن كان
منشؤه الظن الحاصل من قول اللغوي أو الرجالي، وفرض انفتاح باب العلم باللغة
في غير المورد، وعدم دليل على اعتبار قول الرجالي. ولا حاجة إلى جريان دليل
الانسداد في خصوص قول اللغوي أو الرجالي، بل نفس دليل الانسداد الجاري
في الأحكام كاف في حجيتهما فيما لو حصل الظن بها من الظن الحاصل من
قولهما، لكن الظن الحاصل من قولهما حجة من هذه الجهة، ولا يترتب عليه أثر
آخر من تعيين المراد في إقرار وغيره من الموضوعات الخارجية، إلا فيما كان
مطلق الظن بالخصوص أو ذلك الظن المخصوص حجة.
ثم لا يخفى أن العمل بالظن من باب الضرورة، والضرورات مقدرة بقدرها،
فإذا أمكن تحصيل العلم أو العلمي من بعض الجهات وتقليل الاحتمالات
المتطرقة من حيث السند أو الدلالة وغيرهما لا يجوز العقل إلى التنزل من العلم أو
العلمي إلى الظن، بل لو أمكن تحصيل الظن القوي لا يبعد استقلال العقل بعدم جواز
التنزل إلى الضعيف. فلا يقال: إن النتيجة تابعة لأخس المقدمات، فإذا كان تحصيل
العلم أو العلمي من بعض الجهات ممكنا ومن بعض الجهات غير ممكن، فلا فائدة
في تحصيل العلم والعلمي من الجهات الممكنة، لأن الحكم بالأخرة ظني من
الجهات الأخر إذ العمل بالظن كأكل الميتة والصلاة مع النجاسة، ولابد من التقليل
فيهما مهما أمكن.
السادس: في أن الثابت بمقدمات الانسداد في الأحكام هو حجية الظن فيها
لا في تطبيق المأتي به مع المأمور به، فإذا حصل الظن بأن الواجب يوم الجمعة هو
صلاتها لا صلاة الظهر كان الظن حجة، وأما الظن بإتيانها فلا، بل لابد من تحصيل
العلم أو العلمي بإتيانها. فلا يقال هنا أيضا: إن تحصيل العلم أو العلمي لا فائدة فيه،
559

لأن النتيجة تابعة لأخس المقدمات والامتثال بالأخرة ظني، ولو من جهة كون
الواجب هي الجمعة لا الظهر. فإذا كانت النتيجة ظنية من بعض الجهات لا فائدة في
تحصيل العلم والعلمي من الجهات الأخر، لما عرفت من أن العمل بالظن من باب
الضرورة، وهي مقدرة بقدرها، ولابد من تقليل الاحتمالات مهما أمكن.
نعم ربما يجري نظير مقدمات الانسداد الجارية في الأحكام في بعض
الموضوعات الخارجية التي تعلقت بها الأحكام الشرعية كالعدالة والاجتهاد
والأعلمية والضرر، وغيرها من الموضوعات التي انسد فيها باب العلم غالبا،
واهتمام الشارع به بحيث علم بعدم رضاه بمخالفة الواقع بإجراء الأصول فيه مهما
أمكن وعدم اهتمام الشارع به بحيث علم وجوب الاحتياط شرعا، أو عدم إمكانه
عقلا كما في موارد الضرر المردد بين الوجوب والحرمة، فلا محيص عن العمل
بالظن، مثلا العدالة متعلقة لأحكام كثيرة كجواز الطلاق وقبول الشهادة وجواز
الاقتداء وأمثالها، وباب العلم أو العلمي بالنسبة إليها منسد، والرجوع إلى الأصول
فيها مخالف لرضا الشارع، والاحتياط غير واجب أو غيرها جائز فلابد من العمل
بالظن فيها، وهكذا في غيرها من الموضوعات.
خاتمة
يذكر فيها أمران استطرادا
الأول: أن الظن كما أنه متبع عند الانسداد في الفروع العملية هل هو متبع في
الأصول الاعتقادية أم لا؟
ولا يخفى أولا أن ما يجب معرفته لابد إما أن يكون من جهة قيام دليل عقلي
أو نقلي على وجوب معرفته، وإلا كانت أصالة البراءة محكمة. ولا يمكن
الاستدلال على وجوب المعرفة مطلقا إلا ما خرج بالدليل بقوله تعالى: (وما
خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (1) ولا بقوله (صلى الله عليه وآله): " وما أعلم شيئا بعد المعرفة

(1) الذاريات: 56.
560

أفضل من هده الصلوات الخمس " (1) وغيرهما (2) من الآيات والروايات (3) الدالة على
وجوب المعرفة بالعموم، لأن المراد من " ليعبدون " هو خصوص العبادة ومعرفته،
والنبوي في مقام بيان فضيلة الصلوات الخمس، فلا إطلاق فيه من حيث ما يجب
معرفته، وآية النفر (4) في مقام بيان الطريق المتوسل به إلى التفقه الواجب، ولا
إطلاق فيها من حيث ما يجب التفقه فيه. وكذا ما دل على وجوب طلب العلم إنما
هو بصدد الحث على طلبه ولا إطلاق فيه لما (5) يجب العلم به.
إذا عرفت هذا فاعلم أن ما يجب معرفته على قسمين: أحدهما ما يجب معرفته
عقلا كمعرفة الله ومعرفة النبي ومعرفة الإمام - بناء على الوجه الحق - كما هو الحق
عند أهله من أنه من شؤون النبي لا بناء على الوجه الغير الصحيح كما هو المعول
عند غير أهله، فإن معرفته على هذا الوجه يكون شرعيا لا عقليا.
فما يجب معرفته عقلا أمور ثلاثة بناء على مذهب الحق، واثنان على مذهب
غير الحق، وبقية الأصول الخمسة من العدل والمعاد. وتفصيل أحوال المعاد من
الحشر والنشر وأحوال عالم البرزخ لابد من أن يكون وجوب معرفتها بالسمع،
فما يجب معرفته سواء كان بالعقل أو بالسمع المطلوب فيه أمران: أحدهما تحصيل
المعرفة، والثاني عقد القلب عليها. ولا إشكال في إمكان الانفكاك بينهما في
الطريق، إذ يمكن أن يحصل المعرفة بشيء ولا يعقد القلب عليه كما يدل عليه قوله
تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) (6) كما يمكن أن يعقد قلبه على شيء مع
عدم معرفته، بل مع المعرفة بخلافه.
أما بالنسبة إلى أصل المعرفة فلا دليل من العقل ولا من النقل على التنزل من

(1) الكافي: باب فضل الصلاة ج 3 ص 264 ح 1 " وفيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: ما أعلم شيئا
بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة ".
(2 و 3) راجع بحار الأنوار: باب 1 من أبواب العلم.... ج 1 ص 162.
(4) التوبة: 122.
(5) في الأصل: ما.
(6) النمل: 14.
561

المعرفة العلمية إلى الظنية، لأن تحصيل الظن ليس تحصيلا للمعرفة، إذ الظن من
أفراد الجهل لامن أفراد العلم، فبالملاك الذي يجب عقلا تحصيل المعرفة لا يمكن
الحكم بوجوب تحصيل الظن عند عدم التمكن من تحصيل العلم.
نعم يمكن أن يكون له ملاك آخر لوجوب تحصيل الظن وهو أنه كما يجب
تحصيل العلم عند التمكن منه كذلك يجب ترجيح الاعتقاد وتحصيل الظن عند
التمكن منه، وكذلك ما يدل على وجوب المعرفة شرعا لا يعم تحصيل الظن إلا أن
يكون دليل آخر على وجوب تحصيله عند عدم التمكن من العلم، وأما بالنسبة إلى
الاعتقاد وعقد القلب فلما كان عقد القلب على واقع الشيء على إجماله أمرا
ممكنا فيعقد قلبه على واقعه على إجماله، ولا حاجة إلى تحصيل الظن وعقد القلب
عليه، بل ربما لا يجوز من هذه الجهة، أي من جهة امكان عقد القلب على واقعه
على ما هو عليه، وهذا بخلاف الفروع العملية المطلوب فيها عمل الجوارح، فإن
العمل على واقع الشيء على إجماله غير ممكن، فلابد من التنزل إلى الظن عند
عدم التمكن من العلم.
فتحصل: أن في الأمور الاعتقادية التي يجب فيها المعرفة وعقد القلب
لا يتنزل إلى الظن عند عدم التمكن من العلم لا من حيث وجوب المعرفة، لأن
الظن ليس معرفة، ولا من حيث وجوب عقد القلب، لأن عقد القلب على واقع
الشيء مجملا ممكن بخلاف الأعمال الجوارحية التي لا يمكن العمل فيها على
واقع الشيء على إجماله، فلابد من التنزل إلى الظن عند عدم التمكن من تحصيل
العلم. هذا خلاصة ما ذكر في المقام، فتامل.
الثاني (1): في أن الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره هل يمكن أن يكون
جابرا لضعف الرواية سندا أو دلالة بحيث لو لم يكن هذا الجابر لما كانت الرواية
واجدة لشرائط الحجية وبواسطته تصير واجدة لها، كما هو المراد بضعف الرواية لا

(1) أي الأمر الثاني من الأمرين اللذين ذكرا استطرادا في الخاتمة، وفي الأصل " السابع " بدل
" الثاني ".
562

الضعف في مقابل القوة مع اشتمالها على شرائط الحجية فإنه لا يحتاج
إلى الجبر، أو يكون موهنا للرواية سندا أو دلالة بحيث لو لم يكن هذا الجابر
لكانت الرواية واجدة لشرائط الحجية، وبواسطة هذا الظن تصير غير واجدة
لشرائط الحجية كما هو المراد بالموهنية، أو يكون مرجحا لاحدى الروايتين على
الأخرى بحيث لو لم يكن هذا الظن لكانتا متساويتين وكان المرجع فيهما التخيير
أو التساقط، وبواسطة هذا الظن تصير الحجة الفعلية من هاتين الروايتين ما هو
المتوافق مع هذا الظن وتصير الرواية الأخرى ساقطة عن الحجية، الفعلية أو
لا يمكن أن يكون جابرا وموهنا ومرجحا؟
والحق في المقام أن يقال: إما كونه جابرا للرواية سندا فلابد أن يلاحظ
أن ملاك الحجية من حيث السند أي شيء؟ فإن كان الملاك كون الراوي
عادلا فبالظن الخارجي لا يتحقق هذا الملاك، إذ لا يمكن أن يصير خبر غير العادل
بواسطة مطابقته مع الظن الخارجي خبر العادل، فلا يكون الظن الخارجي جابرا
لسند الرواية.
وأما لو كان ملاك الحجية هو الخبر المظنون الصدور أو الموثوق الصدور
فيفصل بين أسباب الظن، فإن كان حاصلا من الشهرة الفتوائية سيما إذا كانت
الشهرة بين القدماء فيمكن أن يكون هذا الظن جابرا لسند الرواية، وتصير الرواية
بواسطة توافقها معه حجة وواجدة لما هو ملاك الحجية، وهو كونها مظنون الصدور
أو الموثوق الصدور، لأنه إذا كانت الشهرة الفتوائية على حكم مخالف للأصل ولم
يكن دليل ظاهر عليه غير هذه الرواية الضعيفة التي ليست واجدة لشرائط الحجية
في حد نفسها تكشف عن كون هذه الرواية عندهم محفوفة بقرائن توجب الظن أو
الوثوق بصدورها، بحيث لو ظفرنا بهذه القرائن لحصل الظن أو الوثوق بصدورها.
وقد تقدم أن نفس الشهرة سيما إذا كانت بين القدماء تكشف عن وجود دليل
معتبر، بحيث لو عثرنا عليه لكان معتبرا عندنا أيضا وأفتينا على طبقه، بل فتوى
جماعة من العلماء المعتد بهم ولو لم يكن شهرة يكشف عن ذلك فكما يكشف
563

فتواهم عن وجود دليل معتبر ولو لم نعثر عليه، كذلك يكشف عن احتفاف هذه
الرواية الضعيفة عندهم بما يوجب الظن أو الوثوق بصدوره، لكن هذا فيما إذا كان
ملاك الحجية عند المشهور هو الظن أو الوثوق بالصدور كما هو كذلك عندنا،
فتأمل وإن كان حاصلا من غير الشهرة فلا يجبر به ضعف سند الرواية، لأن الرواية
بواسطة مطابقة مضمونها مع هذا الظن الحاصل من غير الشهرة من أسباب الظن
لا تصير مظنون الصدور أو موثوق الصدور، ولا تدخل تحت أدلة حجية خبر
المظنون أو الموثوق صدوره الذي هو ملاك الحجية.
وأما كونه جابرا للرواية دلالة فكذلك يفصل أيضا بين الشهرة الفتوائية
وغيرها من أسباب الظن، فإن كان الظن حاصلا من الشهرة يجبر به ضعف دلالة
الرواية، وصيرورتها ظاهرة في هذا المعنى المطابق للشهرة بحيث لو لم تكن
الشهرة لما كانت ظاهرة فيه، لكشفها عن احتفافها بقرائن موجبة لظهورها عرفا
في هذا المعنى كما هو ملاك حجية ظواهر الألفاظ لا الظن الشخصي الفعلي
الحاصل من نفس اللفظ، وإن كان الظن حاصلا من غير الشهرة من الأسباب
المفيدة له كالأولوية والاستحسان ونحوهما فلا يجبر به ضعف الدلالة، لعدم تحقق
الظهور العرفي لها بواسطة هذا الظن.
وأما كونه موهنا للرواية سندا بحيث لو لم يكن هذا الظن لكانت الرواية
واجدة لشرائط الحجية وبواسطة هذا تصير فاقدة لشرائطها، فلابد أن يلاحظ أيضا
أن ملاك الحجية أي شيء؟ فإن كان الملاك كون الراوي عادلا فهذا الظن لا يوجب
خروج هذه الرواية عن تحت أدلة حجية خبر العادل، لأن وجود هذا الظن
لا يوجب أن يصير العادل غير عادل وإن كان الملاك هو كون الخبر مظنون الصدور
أو موثوق الصدور فيفصل بين الظن الحاصل من الشهرة فيوجب وهن الرواية
وسقوطها عن درجة الحجية والاعتبار، لأن انعقاد الشهرة على خلاف الرواية مع
كونها بمرآهم ومسمعهم يكشف عن وجود خلل موجب لسقوطها عن الحجية
وبين الظن الحاصل من غيرها، فلا يوجب وهن الرواية وسقوطها عن الحجية،
564

لأن الظن الخارجي على خلاف الرواية لا يوجب صيرورة الرواية غير مظنون
الصدور أو موثوق الصدور الذي هو ملاك الحجية كما لا يخفى.
وأما كونه موهنا لها دلالة فكذلك يفصل بين الظن الحاصل من شهرة فيوهن،
لأن انعقاد الشهرة على خلاف مقتضى ظاهر الرواية يكشف عن وجود قرينة
وجدها المشهور على خلافه، بخلاف الظن الحاصل من غيرها. فلو كانت الرواية
قطعية من جهة السند كالرواية المتواترة أو المحفوفة بالقرائن القطعية وكانت
ظاهرة دلالتها وكان الظن على خلاف ظاهرها، فإن كان الظن حاصلا من الشهرة
فيكشف عن وجود قرينة على خلاف الظاهر، وإن كان حاصلا من غيرها
لا يوجب، إذ لافرق من هذه الجهة بين كون الرواية قطعية من حيث السند أو ظنية،
كما لا يخفى.
وأما كونه مرجحا، فإن قلنا بالترجيح بمطلق المزية كما يظهر من كلام
الشيخ (قدس سره) فالظاهر أنه يمكن ترجيح احدى الروايتين على الأخرى بمطلق الظن
الحاصل على طبق إحداهما، وإن اقتصرنا في الترجيح على المرجحات
المنصوصة - كما هو الحق - فيفصل بين الظن الحاصل من الشهرة فيرجح به لكشفه
عن وجود المرجح المنصوص فيما إذا أحرز أن بناء المشهور على الاقتصار على
المرجحات المنصوصة بخلاف الظن الحاصل من غيرها فلا يرجح به، بل يكونان
متكافئين ولابد من الحكم التخيير أو التساقط كما قرر في محله. هذا كله في الظن
الذي لم يقم دليل على عدم اعتباره.
وأما الظن الذي قام الدليل على عدم اعتباره كالظن القياسي فلا يصلح أن
يكون لا جابرا ولا موهنا ولا مرجحا، لأن الجبر والوهن والترجيح به نوع
استعمال له في الشريعة، والحال أنه ممنوع مطلقا.
565

المقصد السابع
في الأصول العملية
التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل.
لا يخفى أنه لابد أن يكون مبنى حركات المكلف نحو تكاليفه الواقعية هو
العلم أو العلمي، ومع العجز عن تحصيلهما لابد أن تكون الوظائف الشرعية أو
العقلية المقررة للجاهل في مقام العمل وليست الوظائف العقلية في عرض
الوظائف الشرعية، بل في طولها، فإذا كانت في المسألة وظيفة شرعية لا ينتهي
الأمر إلى الوظيفة العقلية وتلك الوظائف المقررة للجاهل في مقام العمل تسمى
بالأصول العملية، وبالأدلة الفقاهتية أيضا في قبال الأدلة الاجتهادية.
والمهم منها أربعة، لأن مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية
ولو أنها من الوظائف المقررة للجاهل في مقام العمل وينتهي إليها المجتهد بعد
الفحص واليأس عن الظفر بالدليل، إلا أن البحث عنها ليس بمهم، لثبوتها بلا كلام
من دون حاجة إلى نقض ولا إبرام بخلاف الأربعة، وهي البراءة والاحتياط
والتخيير والاستصحاب، فإنها محل الخلاف بين الأصحاب مع جريانها في كل
الأبواب، واختصاص تلك القاعدة ببعضها، فتكون كسائر القواعد الفقهية مثل
قاعدة اليد وأمثالها.
وليس حصر الأصول العملية بالأربعة ولا حصر مجاريها حصرا عقليا كما هو
567

الظاهر من كلام الشيخ (قدس سره) (1) بالنسبة إلى نفس الأصول، وصريحه بالنسبة إلى
المجاري. أما عدم الحصر العقلي بالنسبة إلى الأصول، فلوضوح عدم المانع عقلا
من أن يعتبر الشارع قاعدة أخرى كقاعدة اليقين - مثلا - في بعض تلك المجاري
ويشاركها مع الأصل الجاري فيها بأن تختص هذه ببعض أحوالها وذلك ببعض
أحوالها. وأما انحصار المجاري، فلأن الحالة السابقة عند عدم اللحاظ قد لا
تلاحظ بالكلية وقد لا تلاحظ بعضها دون بعض، كما إذا كانت الحالة السابقة هو
الوجوب ولوحظ لدى الشك رجحانه دون منعه من الترك مثلا، فعند عدم اللحاظ
بالكلية يجري سائر الشقوق دون عدم لحاظه في الجملة، كما لا يخفى.
فعلى هذا لابد أن يلاحظ المجتهد في كل مسألة يرد عليها من المسائل التي
ليس فيها علم ولا علمي أن مقتضى عموم النقل أو حكم العقل فيها أي شيء؟ من
غير نظر إلى هذه الأصول الأربعة، بل يفرضها كأنه لم يسمع أساميها، وذلك
يختلف باختلاف الأشخاص والأنظار، فربما تكون بنظر شخص أربعة، وربما
تكون أزيد، وربما تكون أقل كما هو كذلك عند القائلين بعدم حجية الاستصحاب
أو عدم حجية البراءة إما مطلقا أو في الشبهات التحريمية كالاخباريين (2).
والحاصل: أن كل من حصر الأصول العملية بالأربعة فذلك الحصر إنما هو
بمقتضى عقله فكل مجتهد لابد أن يلاحظ مقتضى عقله فربما يوافقه وربما
يخالفه؟ وبالجملة كل مجتهد ترد عليه مسألة لا تكون فيها حجة منجعلة ولا حجة
مجعولة لابد أن يلاحظ أن مقتضى عموم النقل أو حكم العقل فيها أي شيء؟ فربما
تكون الأصول بنظره منحصرة بالأربعة، وربما تزيد، وربما تنقص.
وكيف كان فقد قسم الشيخ (قدس سره) (3) في هذا المقام الشك في التكليف إلى ثلاثة
أقسام، لأن الشك إما بين الحرمة وغير الوجوب، أو بين الوجوب وغير الحرمة، أو

(1) فرائد الأصول: في الأصول العملية ج 1 ص 310.
(2) نقله صاحب الحدائق الناضرة: في المقدمة الثالثة ج 1 ص 44.
(3) فرائد الأصول: ج 1 ص 2.
568

بين الحرمة والوجوب، وتعرض لكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة في طي
مسائل أربع، بملاحظة أن منشأ الشك إما فقدان النص أو إجماله أو تعارضه فيما
إذا كان متعلق التكليف المشكوك فعلا كليا متعلقا لحكم كلي كشرب التتن، أو
الدعاء عند رؤية الهلال، أو الأمور الخارجية فيما إذا كان متعلق التكليف
المشكوك فعلا جزئيا متعلقا لحكم جزئي كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمرا.
ولما لم يكن لتثليث الأقسام والتعرض لكل قسم في طي مسائل أربع كثير
فائدة، من جهة عدم الفرق بين القسمين الأولين فيما هو المهم من جريان أدلة
البراءة أو الاحتياط وعدم الفرق بين فقدان [النص] وإجماله وتعارضه بناء على
القول بالتوقف عند التعارض، إذ المقصود عدم وجود الدليل المعتبر، سواء كان من
جهة فقده أو إجماله أو تعارضه، إلا على القول بأن إجمال النص يوجب
الاحتياط، لأنه من الشك المكلف به دون فقدانه.
فلذا جعل صاحب الكفاية (قدس سره) (1) القسمين الأولين قسما واحدا وتعرض عنه
في طي مسالة واحدة، لأن ذكر الشبهة الموضوعية استطرادي فينحصر المقصود
الأصلي في كل قسم بالمسائل الثلاث وهي مسألة فقدان النص وإجماله
وتعارضه، ومن جهة عدم الفرق بين هذه المسائل الثلاث فيما هو المهم كما عرفت
ينحصر المقصود الأصلي بمسألة واحدة.
ولعل نظر الشيخ في تثليث الأقسام إلى الفرق بين القسمين الأولين عند
الأخباريين، فإنهم في الشبهة التحريمية قالوا بوجوب الاحيتاط من جهة
اختصاص بعض الأخبار الدالة على الاحتياط بها كقوله: " كل شيء حلال حتى
تعرف الحرام " (2) و " كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي " (3) بناء على أن لا يكون في
تلك الرواية " أو أمر " - على ما حكي عن بعض النسخ - وإلا فتعم تلك الرواية

(1) كفاية الأصول: في الامارات ص 296.
(2) وسائل الشيعة: باب 4 من أبواب ما يكسب به ح 4 ج 12 ص 60.
(3) وسائل الشيعة: باب 12 من أبواب صفات القاضي ح 60 ج 18 ص 127.
569

الشبهة الوجوبية أيضا، وأما الشبهة الوجوبية فالمعروف بينهم هو الرجوع إلى
البراءة كالأصوليين ونظره في جعل مسائل كل قسم من الأقسام الثلاثة أربعة إلى
الفرق بين إجمال النص وفقدانه - كما عرفت - أو إلى خصوصية أخرى غير موجبة
للفرق كهذه الخصوصية.
وعلى أي حال لو شك في وجوب شيء أو حرمته ولم يقم عليه دليل جاز
شرعا وعقلا ترك الأول وفعل الثاني وكان مأمونا عن عقوبة مخالفته، سواء كان
عدم قيام الدليل من جهة فقدان النص أو إجماله واحتماله الاستحباب والكراهة،
أو تعارضه فيما لم يكن لأحدهما ترجيح بناء على القول بالتوقف في تعارض
النصين.
وأما لو كان لأحدهما ترجيح أو قلنا بالتخيير في تعارضها فلا مجال لأصالة
البراءة وغيرها من الأصول، لوجود الحجة المعينة أو المخير فيها، ومعه لا ينتهي
الأمر إلى الأصول العملية، كما لا يخفى.
وقد استدل على ذلك بالأدلة الأربعة
أما " الكتاب " فبآيات منها: قوله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) (1).
قيل (2): دلالة هذه الآية واضحة.
وأورد عليه الشيخ (قدس سره) (3) بأنها غير ظاهرة فضلا عن كونها واضحة، وذلك لأن
حقيقة الايتاء هو الاعطاء، فإما أن يراد بالموصول المال بقرينة قوله تعالى - قبل
ذلك -: (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله) (4) فالمعنى أن الله سبحانه
لا يكلف العبد إلا دفع ما أعطاه من المال، وأما أن يراد فعل الشيء أو تركه بقرينة
ايقاع التكليف عليه، إذ التكليف لا يتعلق الا بالفعل أو الترك، ولذا لابد - على
الاحتمال الأول - من تقدير لفظ الدفع ونحوه، وإلا لم يستقم المعنى.

(1) الطلاق: 7.
(2) نقله في فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 316.
(3) المصدر السابق.
(4) الطلاق: 7.
570

وحينئذ فالايتاء كناية عن الإقدار عليه، فيدل على نفي التكليف بغير المقدور
كما ذكره الطبرسي (1).
وهذا المعنى أظهر وأشمل، لأن الانفاق من الميسور داخل فيما آتاه الله.
وكيف كان فمن المعلوم أن ترك ما يحتمل التحريم ليس غير مقدور، وإلا لم
ينازع في وقوع التكليف به أحد من المسلمين وإن نازعت الأشاعرة في إمكانه.
نعم لو أريد من الموصول نفس الحكم والتكليف كان إيتاؤه عبارة عن
الإعلام، لكن إرادته بالخصوص ينافي مورد الآية، وإرادة الأعم منه ومن المورد
يستلزم استعمال الموصول في معنيين، ولا جامع بين تعلق التكليف بنفس الحكم
والفعل المحكوم عليه، فافهم.
والحاصل: أنه إن أريد من الموصول المال - كما هو ظاهر سياق الآية -
فيكون المراد من الايتاء معناه الحقيقي وهو الاعطاء كانت الآية الشريفة دالة على
أن الله [لا] يكلف العبد إلا بدفع ما آتاه من المال دون ما لم يؤته. فعلى هذا لا دلالة
لها على المدعي.
لكن فيه: أولا: أنه محتاج إلى التقدير، والأصل عدمه.
وثانيا: أن هذا المعنى قد فهم قوله تعالى: (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما
آتاه الله) فتأمل.
وإن أريد من الموصول الفعل أو الترك بحيث يشمل مورد الآية وغيره فيكون
المراد من الايتاء هو الإقدار كانت الآية دالة على أن الله لا يكلف العبد فعلا أو
تركا لم يقدره عليه أعم من أن يكون الفعل دفع المال - كما هو مورد الآية - أو
غيره. وعلى هذا لا دلالة للآية على المدعى - أيضا - لأنها تدل على عدم التكليف
بغير المقدور لا بغير المعلوم.
وإن أريد من الموصول نفس الحكم فقط يكون المراد من الإيتاء الإعلام

(1) مجمع البيان: سورة الطلاق ج 10 ص 309.
571

كانت الآية دالة على المدعى، لأنها تدل على أن الله لا يكلف العبد بحكم إلا
الحكم الذي أعلمه، لكن إرادته بالخصوص ينافي مورد الآية، وإن أريد الأعم منه
ومن المورد يلزم استعمال الموصول في أكثر من معنى.
لا يقال: إن لفظ " ما " من ألفاظ العموم فلا مانع من أن يراد به معنى يعم
المعنيين من دون لزوم استعمال اللفظ في المعنيين.
لأنا نقول: نعم، ولكن لو أريد منه الأعم من الحكم وغيره كان تعلق الفعل به
باعتبار كونه عبارة عن الحكم تعلق الفعل بالمفعول المطلق وباعتبار كونه عبارة
عن الفعل المحكوم الذي هو غير الحكم تعلق الفعل بالمفعول به، ولا جامع بين
التعلقين إلا مفهوم التعلق، وهو غير كاف، بل لابد من اشتراكهما في حقيقة التعلق،
والحال أنهما بحسب الحقيقة متباينان، فإذا لم يكن جامع بينهما فلابد أن يراد من
لفظ " ما " معنيين لكن بين كل واحد من المعنيين موردا لواحد من التعلقين. هذا هو
بيان مراد الشيخ (قدس سره) في هذا المقام، فتأمل.
ولكن يمكن أن يقال: إنه لا يلزم من إرادة الحكم وغيره من لفظ " ما "
استعمال المشترك في المعنيين، إذ ليس في الآية مفعول مطلق حتى يقال: إن تعلق
الفعل به غير تعلقه بالمفعول به، بل ليس الا لفظ " ما " الذي هو من ألفاظ العموم
التي يمكن أن يراد منه الأعم من الحكم وغيره، وتعلق الفعل به ليس إلا تعلق
الفعل بالمفعول به، ويكون المراد من الإيتاء الإعطاء، وإعطاء كل شيء بحسبه،
فإعطاء الفعل أو الترك الأعم من دفع المال وغيره هو إقداره عليه، وإعطاء الحكم
هو إعلامه به.
فعلى هذا يصير معنى الآية لا يكلف الله العبد أي لا يدخله في مشقة شيء إلا
في مشقة ما آتاه وأعطاه من الفعل والترك والحكم، وقد عرفت أن الإعطاء في كل
بحسبه، فعلى هذا لا يلزم استعمال اللفظ في المعنيين، وتتم دلالة الآية على
المدعى. وقول الشيخ (قدس سره): " فافهم " يمكن أن يكون إشارة إلى دقة ما ذكره في وجه
لزوم استعمال اللفظ في المعنيين على ما بيناه، ويمكن أن يكون إشارة إلى ما ذكرنا
572

من عدم لزومه بالبيان المذكور.
ولكن مع ذلك في دلالة الآية نظر، لأن المراد من إيتاء الحكم وإعطائه هو
إعلامه بنحو المتعارف بتبليغ الرسل وإنزال الكتب لا إعلام آحاد المكلفين، فالآية
تدل على نفي التكليف بالأحكام التي لم يبلغها الله بتوسط الرسل والسفراء،
ويكون من قبيل " اسكتوا عما سكت الله " على نفي التكليف بالنسبة إلى الأحكام
التي بلغها السفراء وخفي على بعض المكلفين وما وصلت إليهم كما هو المدعى.
ومما ذكرنا في هذه الآية يظهر ما في الاستدلال بقوله تعالى (لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها) (1).
ومنها: قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (2) بناء على أن بعث
الرسول كناية عن بيان التكليف، لأنه يكون به غالبا كما في قولك: " لا أبرح من
هذا المكان حتى يؤذن المؤذن " كناية عن دخول الوقت أو عبارة عن البيان
النقلي، ويخصص العموم بغير المستقلات العقلية ففيها العقاب ولو لم يكن على
طبقها البيان النقلي، أو يلتزم بالعموم من دون تخصيص، لوجوب تأكيد حكم
العقل بالنقل في حسن العقاب من باب اللطف وإن لم يكن له دخل في حسن الذم،
بناء على أن منع اللطف يوجب قبح العقاب دون الذم كما صرح به بعض (3).
وعلى أي تقدير فالآية تدل على نفي العقاب قبل البيان.
وفيه - كما قال الشيخ (قدس سره) -: إن ظاهر الآية الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد
البعث، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة (4) كالمسخ وغيره من
أنواع التعذيبات الواقعة في بني إسرائيل وغيرهم من الأمم السابقة. فعلى هذا
تكون الآية في مقام الإخبار بأن تعذيبنا للأمم السابقة لم يكن إلا بعد بعث الرسول
وإتمام الحجة البالغة عليهم زائدا على ما يحتاج إليه التكليف من البيان كما في

(1) البقرة: 286.
(2) الإسراء: 15.
(3) نقل عنهم في فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 317.
(4) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 317.
573

تعذيب قوم نوح (عليه السلام) وغيرهم من الأمم الذين أمهلم الله تعالى مدة مديدة، على
هذا لا دلالة للآية على المدعى وهو عدم التكليف بالمجهول وعدم العقاب
الأخروي عليه، ومع الغض عن هذا الايراد وتسليم دلالة الآية على عدم العقاب
الأخروي على المجهول نقول: إن ظاهر الآية نفي فعلية العذاب قبل بعث الرسول
وقبل البيان فإن كان هم القائلين بالبراءة هو ذلك فالآية تدل على مدعاهم، وإن
كان همهم نفي استحقاق العقاب فالآية لا تدل عليه، لأن ظاهرها نفي التعذيب
الفعلي الخارجي لا استحقاق العقاب.
ثم إنه حكي أن الفاضل التوني تمسك بهذه الآية في هذا المقام على المدعى،
وهو عدم التكليف بالمجهول، ورد على من استدل بها في مسألة الملازمة بين
حكم العقل والشرع على عدم الملازمة بأن نفي فعلية التعذيب أعم من نفي
الاستحقاق (1).
وأورد عليه المحقق القمي بأنه تناقض (2)، لأن الإخبار بنفي التعذيب إن دل
على عدم التكليف شرعا فلا وجه للثاني، وهو الرد على من استدل بهذه الآية على
عدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وإن لم يدل على عدم التكليف شرعا
فلا وجه للأول وهو التمسك بها على عدم التكليف بالمجهول وبلا بيان.
ودفع الشيخ (قدس سره) إشكال لزوم التناقض عن كلام الفاضل بأن عدم فعلية
التعذيب في هذا المقام يكفي، لأن الخصم يدعي أن في ارتكاب الشبهة الوقوع في
العقاب والهلاك فعلا من حيث لا يعلم، كما هو مقتضى رواية خبر التثليث ونحوها
التي هي عمدة أدلتهم.
ويعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية، فيكفي في عدم
الاستحقاق نفي الفعلية بخلاف مقام التكلم في الملازمة، فإن المقصود فيه إثبات
الحكم الشرعي في مورد حكم العقل، وعدم ترتب العقاب على مخالفته لا ينافي

(1) الوافيه: الباب الرابع في الأدلة العقلية ص 172.
(2) نقل ذلك في فرائد الأصول بعنوان أنه ربما يورد التناقض في أدلة البراءة ج 1 ص 317.
574

ثبوته كما في الظهار حيث قيل: إنه محرم معفو عنه، وكما في العزم على المعصية
على احتمال. نعم لو فرض هناك إجماع على أنه لو انتفت الفعلية انتفى
الاستحقاق، كما يظهر من بعض ما فرعوا على تلك المسألة لم يجز التمسك به
هناك (1).
ولكن فيما أفاده (قدس سره) نظر، لأن اعتراف الخصم في المقام بعدم المقتضي
للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية فيكفي في عدم الاستحقاق نفي الفعلية، بخلاف
مقام التكلم في الملازمة لا يوجب دفع التناقض عنه واقعا وبرهانا، بل جدلا، وهو
غير مفيد بالنسبة إلى واقع الأمر وإن كان مفيدا بالنسبة إلى إسكات الخصم.
والإنصاف أن الآية لا تدل على المدعى في المقام، لأن غاية ما قيل أو يقال
في مقام توجيه دلالتها لا يثبت إلا إمكان دلالتها، وهو غير كاف في المقام، بل لابد
من إثبات ظهورها في المدعى ودلالتها الفعليه عليه، مضافا إلى أنه يرد على
الاستدلال بها ما أوردناه على الاستدلال بالآية السابقة أخيرا وحاصله: أن نفي
التكليف بلا بيان ونفي العذاب والعقاب بلا بعث الرسول إنما يدل على عدم العقاب
على التكاليف الواقعية التي لم يبلغها الله تعالى بتوسط سفرائه وسكت عنها، لا
على عدم العقاب على التكاليف التي بلغها الله تعالى بتوسط سفرائه وخفي على
بعض المكلفين من جهة العوارض الخارجية كما هو المدعى في المقام، كما
لا يخفى فتأمل.
وأما الاستدلال ببقية الآيات التي ذكرها الشيخ (قدس سره) (2) في المقام فيعرف
توجيهه مع جوابه بملاحظة كلامه، فراجعه.
والحق ما ذكره (قدس سره) من أن الإنصاف أن الآيات المذكورة لا تنهض على إبطال
القول بوجوب الاحتياط، لأن غاية مدلول الدال منها - لو فرض تسليم دلالته
وأغمض عما يرد عليه من المناقشة - هو عدم التكليف بما لم يعلم خصوصا أو

(1) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 317.
(2) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 318 - 319.
575

عموما بالعقل أو النقل. وهذا مما لا نزاع فيه لأحد، وإنما أوجب الاحتياط من
أوجبه بزعم قيام الدليل العقلي أو النقلي على وجوبه، فاللازم على منكره رد ذلك
الدليل أو معارضته بما يدل على الرخصة وعدم وجوب الاحتياط فيما لا نص فيه.
وأما الآيات المذكورة كبعض الأخبار الآتية لا تنهض بذلك ضرورة أنه لو
فرض أنه ورد بطريق معتبر في نفسه أنه يجب الاحتياط في كل ما يحتمل أن
يكون قد حكم الشارع بالحرمة لم يمكن يعارضه شيء من الآيات المذكورة (1).
وأما " السنة " فبروايات منها: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " رفع عن أمتي تسعة: الخطأ،
والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، ومالا يطيقون، وما اضطروا إليه... "
إلى آخر الرواية (2). فإن حرمة شرب التتن - مثلا - مما لا يعلمون، فهي مرفوعة
عنهم، ومعنى رفعها - كرفع الخطأ والنسيان - رفع آثارها، أو خصوص المؤاخذة
عليها فهو كقوله (عليه السلام): " ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (3) ".
والاستدلال بهذه الرواية وإن سلم عن المناقشة التي أوردناها على
الاستدلال بالآيتين من أن المراد بإيتاء الحكم وبعث الرسول هو إعلام الحكم
على مجاري العادة فالآيتان تدلان على عدم التكليف والعذاب على الأحكام
التي سكت الله تعالى عنها ولم يبلغها بتوسط الرسل وبإنزال الكتب كما هو العادة
في تبليغ الأحكام الكلية إلى الرعية. وهذا مما لا نزاع فيه، ولا تدلان على عدم
التكليف بالأحكام التي بلغها الله تعالى على مجاري العادة، وخفي على بعض
أفراد المكلفين من جهة العوارض الخارجية كما هو المدعى، وذلك لأن الرواية
على تقدير تمامية دلالتها مقتضاها عدم التكليف بالحكم الذي لا يعلم به
المكلفون، سواء كان عدم علمهم به من جهة عدم تبليغه على مجاري العادة أو من

(1) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 319.
(2) الخصال: باب التسعة ح 9 ص 417، ووسائل الشيعة: باب 3 من أبواب الخلل في الصلاة
ح 2 ج 5 ص 345.
(3) التوحيد ب 64 التعريف والبيان والحجة - ح 9 ص 413.
576

جهة اختفائه بعد تبليغه فتعم المدعى.
ولكن الكلام في تمامية دلالتها، وذلك لأن الموصول في قوله (صلى الله عليه وآله):
" مالا يعلمون " إن كان المراد به خصوص الحكم الشرعي الكلي الذي يكون منشأ
جهله هو اختفاؤه وعدم وصوله إلى المكلفين لا الحكم الجزئي الذي يكون الجهل
به من جهة الجهل بموضوعه. وبعبارة أخرى إن كان المراد به الشبهات الحكمية لا
الموضوعية تتم دلالتها على المدعى.
إلا أن إرادة خصوص الحكم منه خلاف ظاهر الرواية وتحتاج إلى قرينة لو لم
نقل بأن إرادة خصوص الحكم منه مقطوع العدم بقرينة سائر الفقرات التي أريد
منها الأفعال الخارجية كالخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يطيقون، إذ من
البعيد جدا أن يراد من سائر الفقرات سيما الفقرات التي فيها لفظة " ما " خصوص
الأفعال ويراد منه في هذه الفقرة خصوص الحكم.
وإن كان المراد به خصوص الأفعال بقرينة سائر الفقرات فلا دلالة لها على
المدعى، لأن الكلام في أن الحكم الغير المعلوم هل هو مرتفع أم لا؟ وهذه الرواية
- على هذا - لا تدل على رفعه وإنما تدل على رفع الفعل الخارجي الغير المعلوم
عنوانه وإن كان المراد به الأعم من الفعل الخارجي والحكم الشرعي يلزم استعمال
لفظ " ما " في أكثر من معنى لامن جهة عدم وجود الجامع بين الفعل الخارجي
والحكم الشرعي حتى يقال بإمكان تصوير الجامع بينهما فيراد منه الجامع بلا
لزوم استعمال اللفظ في المعنيين، بل من جهة أن نسبة الرفع إليه بلحاظ أن المراد
منه الفعل الخارجي بالعناية ونسبته إليه بلحاظ أن المراد منه الحكم الشرعي بلا
عناية، لأنه قابل للرفع والوضع بنفسه بخلاف الفعل الخارجي، وبعبارة أخرى
إسناد الرفع إليه بلحاظ كون المراد به الفعل الخارجي إسناد إلى غير ما هو له
وإسناده إليه بلحاظ كون المراد به الحكم الشرعي إسناد إلى ما هو له، ولا جامع بين
الاسنادين.
فلابد من أن يراد من لفظ " ما " كل واحد منهما مستقلا، ليكون إسناد الرفع إليه
577

بلحاظ كون المراد به الفعل الخارجي إسنادا إلى غير ما هو له، وبلحاظ كون المراد
به الحكم الشرعي إسنادا إلى ما هو له، كما تقدم هذا الإشكال في قوله تعالى: (
لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) بناء على أن المراد بلفظة " ما " أعم من الفعل أو
الترك، ومن الحكم الشرعي حيث قلنا: إن تعلق الفعل به بلحاظ كون المراد به
الفعل أو الترك تعلق الفعل بالمفعول به، وبلحاظ كون المراد به الحكم تعلق المفعول
المطلق، ولا جامع بين التعلقين إلا مفهوم التعلق، وهو غير كاف، بل لابد أن يكون
الجامع بين التعلقين بحسب المصداق الخارجي وهو مفقود، فلابد من أن يراد من
لفظة " ما " كل واحد من المعنيين مستقلا ليصح تعلق الفعل به بكل واحد من
اللحاظين، وإن أجبنا عنه فيما تقدم. هذا بناء على عدم التقدير.
وكذا بناء على تقدير المؤاخذة - أيضا - فإن المؤاخذة على " مالا يعلمون "
باعتبار كون المراد منه الفعل الخارجي على نفس الفعل وباعتبار كون المراد منه
الحكم الشرعي ليست على نفس الحكم، بل من آثار الحكم فلابد من أن يراد من
لفظة " ما " كل واحد من المعنيين مستقلا ليصح تعلق رفع المؤاخذة به بكلا
الاعتبارين، وهو استعمال اللفظ في المعنيين، وقد تقدم أنه غير جائز، بل غير
ممكن، مع أنه لو كان المراد ب‍ " ما " في " ما لا يعلمون " معنى الأعم من الفعل
الخارجي والحكم الشرعي، وفي سائر الفقرات خصوص الفعل الخارجي يلزم
التفكيك بين هذه الفقرة وسائر الفقرات، حيث إنه أريد من قوله: الخطأ والنسيان
وما استكرهوا وما اضطروا إليه وما لا يطيقون الموضوع الخارج ومما لا يعلمون
الحكم الشرعي، وهو بعيد.
وأما الإشكال بأن المؤاخذة ليست من الآثار الشرعية للتكليف بالمجهول
فكيف ترتفع بارتفاعه؟ والحال أن المرفوع بهذا الحديث لابد أن يكون من الآثار
الشرعية.
ففيه - مع أنه مشترك الورود سواء كان المراد ب‍ " ما لا يعلمون " خصوص
الشبهة الموضوعية أو الأعم منها ومن الشبهة الحكمية -: أن المؤاخذة وإن لم يكن
578

بنفسها من آثاره الشرعية إلا أنها مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره وهو إيجاب
الاحتياط شرعا، فالدليل على رفع التكليف بالمجهول دليل على عدم إيجاب
الاحتياط المستتبع لعدم استحقاق المؤاخذة والعقوبة على مخالفته.
فعلى هذا رفع التكليف بالمجهول عبارة عن عدم إيجاب الاحتياط مع وجود
المقتضي لايجاب الاحتياط، وهو التكليف المجهول. وعدم إيجابه مستتبع لعدم
استحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول، فالمؤاخذة وإن لم تكن قابلة
للرفع بنفسها إلا أنها قابلة له بتوسط عدم إيجاب الاحتياط، إذ إيجاب الاحتياط
لكونه حكما طريقيا مستتبع لاستحقاق العقوبة على مخالفة التكليف المجهول
ورفعه الذي عبارة عن دفعه، وعدم إيجابه مستتبع لعدم استحقاق العقوبة على
مخالفة التكليف المجهول، فتأمل.
ولكن الحق والإنصاف أنة لا مانع من أن يراد ب‍ " مالا يعلمون " ما يعم الشبهة
الموضوعية والحكمية معا، لأن لفظة " ما " من ألفاظ العموم فيمكن أن يراد به
ما يعم الشبهتين بلا لزوم محذور في البين، أما التفكيك بين هذه الفقرة وسائر
الفقرات بإرادة خصوص الشبهة الموضوعية في سائر الفقرات وإرادة الأعم منها
ومن الشبهة الحكمية في هذه الفقرة فهو من جهة خصوصية الصلة حيث إنها في
سائر الفقرات غير قابلة لأن تشمل الشبهات الموضوعية والحكمية معا، بل
مختصة بالشبهات الموضوعية، لأن ما استكرهوا وما اضطروا إليه وما لا يطيقون
ليست إلا الأفعال الخارجية بخلاف هذه الفقرة فإن " مالا يعلمون " قابل لأن
يشمل كلتيهما، والموصول تابع لصلته في العموم والخصوص فكل ما كانت صلته
أعم فيكون عمومه أشمل، فهذا المقدار من التفكيك وقع في الحديث الشريف
حيث جعل (عليه السلام) الصلة في هذه الفقرة " لا يعلمون " الذي هو يعم الشبهتين وفي
سائر الفقرات استكرهوا واضطروا إليه ولا يطيقون مما لا يشمل الشبهة الحكمية
والزائد على هذا المقدار من التفكيك لا نقول به، وليس في البين.
وأما ما ذكر من أن نسبة الرفع إلى الحكم الشرعي وإسناده إليه يكون بلا
579

عناية، وإسناده إلى ما هو له بخلاف نسبة الرفع إلى الموضوع الخارجي، وإسناد
الرفع اليه، لأنه بالعناية والى غير ما هو له.
ففيه: أولا: أن نسبة الرفع إلى الحكم الشرعي - أيضا - لابد أن تكون بالعناية،
وذلك لأن الحكم الشرعي وإن كان قابلا للرفع والوضع لأن رفعه ووضعه بيد
الشارع إلا أن المرفوع في رتبة الجهل ليس هو الحكم الواقعي حقيقة، وإلا يلزم
التصويب واختصاص الحكم الواقعي بالعالم، وهو باطل، فلابد أن يكون المرفوع
تبعات الحكم الواقعي، أو فعليته وآثاره.
وثانيا: لو سلمنا أن إسناد الرفع إلى الحكم الشرعي بلا عناية وإسناد إلى ما هو
له، وإسناده إلى الموضوع الخارجي إسناد إلى غير ما هو له وبالعناية، لكن كليهما
مشتركان في أن إسناد الفعل إليهما إسناد إلى نائب فاعله، وهو سنخ واحد من
الإسناد، وإن كان أحدهما يحتاج إلى المصحح دون الآخر بخلاف تعلق الفعل
بالمفعول المطلق وتعلقه بالمفعول، فإنهما سنخان من الإسناد والتعلق، ولا جامع
بينهما الا مفهوم التعلق، فإسناد الفعل إلى ما هو له وغيره مثل استعمال صيغة الأمر
في القدر المشترك بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري، حيث إن الصيغة لم
تستعمل إلا في إيقاع النسبة الطلبية الإنشائية، وإن كان الداعي بالنسبة إلى
الواجب النفسي هو مطلوبيته لنفسه، وبالنسبة إلى الواجب الغيري هو مطلوبيته
لغيره، كما أن اختلاف الدواعي بالنسبة إلى متعلق الأمر لا يوجب استعمال الصيغة
في أكثر من معنى فكذلك اختلاف متعلق الرفع باحتياج بعض الأفراد إلى المصحح
وعدم احتياج بعضه إلى المصحح لا يوجب استعمال اللفظ في أكثر من معنى، إذ
اللفظ لم يستعمل إلا في معنى واحد ايقاعي، وهو إسناد الفعل إلى نائب فاعله،
وهما مشتركان فيه. وإن كان الإسناد إلى أحدهما حقيقي وبلا عناية وفي الآخر
أدعائي وبالعناية فإن هذا الاختلاف من قبيل اختلاف الدواعي، وإسناد الرفع
إليهما كإسناد الإنبات إلى الله تعالى والى الربيع، فتأمل.
هذا بناء على عدم التقدير وكذلك بناء على تقدير المؤاخذة، إذ المؤاخذة كما
580

أن لها نسبة إلى الفعل الخارجي كذلك لها نسبة إلى الحكم الشرعي، لأن الفعل مع
قطع النظر عن الحكم لا مؤاخذة عليه كما أن الحكم مع قطع النظر عن الفعل
الخارجي لا مؤاخذة عليه، وليس في اللفظ كلمة " عليه " حتى يقال: إن المؤاخذة
المرفوعة بالنسبة إلى الفعل الخارجي هي المؤاخذة عليه وبالنسبة إلى الحكم
الشرعي ليست المؤاخذة المرفوعة هي المؤاخذة عليه، بل من آثاره فاسناد الرفع
إلى كليهما على حد سواء في أن المؤاخذة المنسوبة إلى كل واحد منهما مرفوعة
بلا تفكيك بينهما كا يوهمه كلام الشيخ (1) (قدس سره) وكذلك لو كان المقدر جميع الآثار أو
الآثار الظاهرة بالنسبة إلى كل واحد، فإن اختلاف آثار الحكم الشرعي مع آثار
الموضوع الخارجي لا يمنع عن إرادة كليهما من لفظ " ما " ولا يلزم من إرادتهما
استعمال اللفظ في المعنيين.
فتحصل: أن دلالة هذا الحديث على المدعى لا تتم بناء على أن يكون المراد
ب‍ " مالا يعلمون " خصوص الفعل والموضوع الخارجي كما في سائر الفقرات،
وأما لو كان المراد به خصوص الحكم الشرعي أو الأعم منه ومن الموضوع
الخارجي فتتم دلالتها وإرادة خصوص الحكم الشرعي منه وإن كان بعيدا، إلا أن
إرادة الأعم لا استبعاد فيها، إذ لفظة " ما " للعموم، وعمومه يختلف باختلاف عموم
صلته وخصوصها، ففيما عدا هذه الفقرة لا تعم الصلة الا الفعل الخارجي فلا يشمل
الموصول إلا الموضوع الخارجي بخلاف هذه الفقرة فإن الصلة تعم الموضوع
الخارجي والحكم الشرعي، فيشمل الموصول كليهما، ولا يلزم من اسناد الرفع إليه
مع كون المراد به المعنى العام محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى، سواء قلنا
بأن المجاز في الإسناد أو في التقدير كما عرفت، وإذا ثبت إمكان إرادة الفعل
الخارجي والحكم الشرعي ب‍ " مالا يعلمون " بل ظهوره في الأعم فتتم دلالة هذا
الحديث على المدعى، لأن دلالتها عليه موقوفة على تلك الجهة لا على سائر
الجهات التي وقع التكلم فيها بالنسبة إلى هذا الحديث مثل أن المقدر هل هو

(1) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 322 - 323.
581

خصوص المؤاخذة أو جميع الآثار، أو الأثر الظاهر بالنسبة إلى كل شيء؟
مع أنه لا إشكال في أن رفع المؤاخذة هو القدر المتيقن، لأنها مرفوعة على
كل حال إما بنفسها، أو في ضمن جميع الآثار، أو الآثار الظاهرة، لامن جهة ظهور
الرواية في رفعها بدعوى أن المرفوع لو كان جميع الآثار يلزم كثرة الإضمار، ولو
كان خصوص المؤاخذة يلزم قلة الإضمار، وهي أولى من كثرته، لما فيه من أنه
يمكن تقدير لفظ واحد جامع وهو الآثار، إذ لا فرق من حيث قلة الاضمار وكثرته
بين أن يقال رفع المؤاخذة على الشيء أو آثار الشيء، إذ المقدر في كليهما لفظ
واحد وإن كان أحدهما أعم.
ولا بدعوى أن حملها على رفع جميع الآثار يوجب تخصيص الأدلة المثبتة
لتلك الآثار، وحملها على رفع خصوص المؤاخذة لا يوجب تخصيصها، فالأمر
دائر بين قلة التخصيص وكثرته، وقلة التخصيص أولى. فالعمومات المثبتة لتلك
الآثار تكون موجبة لرفع الإجمال عن المخصص المجمل المردد بين الأقل
والأكثر، إذ لو كان المراد منه هو الأكثر لزم كثرة الخارج، ولو كان المراد منه الأقل
لزم قلة الخارج، وهي أولى من الأولى، لما فيه من أن تردد المخصص بين
ما يوجب كثرة الخارج وقلته يجعل العام بالنسبة إلى محل التردد مجملا، خصوصا
إذا قلنا: إن حجية الظواهر من باب الظن النوعي، لأن نوع هذا القسم من الكلام
لا يفيد الظن بالنسبة إليه لا أن العام يصير مبينا لإجماله، هذا. مع أن الشيخ (قدس سره) (1)
جعل التخصيص من باب حكم العقل للتنافي، فالعقل بعد التردد لاحكم له، فتأمل.
ولا بدعوى أن المرفوع لو كان جميع الآثار يلزم تخصيص الأكثر، لأن كثير
من الآثار، بل أكثرها لا يرتفع بالخطأ والنسيان وأخواتهما، لما في هذه الدعوى
من أنها ناشئة عن عدم تحصيل معنى الرواية.
وتحقيقه فإنه بناء على عموم الرفع لجميع الآثار ليس المراد بها الآثار

(1) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 322 - 323.
582

المترتبة على هذه العناوين بما هي هذه العناوين، لأن هذه العناوين موضوعة لها
ومقتضية لها فكيف تكون موجبة لرفعها؟ فالكفارة في قتل الخطأ أو سجدة السهو
في الفعل السهوي إذا كان موجبهما الخطأ والسهو فكيف يرتفعان برفع آثارهما؟
ولا الآثار المترتبة على الشيء بوصف عدم هذه العناوين كالقصاص المترتب
على قتل العمد فإنها بنفسها ترتفع عند تحقق هذه العناوين فإن القصاص الذي
موضوعه القتل العمدي أو الكفارة المترتبة على الإفطار العمدي ترتفعان بنفسها
عند عدم التعمد. ولا الآثار التي ينافي رفعها الامتنان، لأن هذه الرواية واردة في
مقام الامتنان، فإذا أتلف شخص مال آخر فرفع الضمان عن المتلف وإن كان
امتنانا بالنسبة إلى المتلف لكنه خلاف الامتنان بالنسبة إلى صاحب المال، فإذا
كان المراد بعموم الآثار ما عدا هذه الآثار المذكورة لا يلزم تخصيص الأكثر، فتدبر.
فلا بأس بالالتزام برفع جميع الآثار التكليفية والوضعية المترتبة على عناوين
الأفعال مع قطع النظر عن هذه العناوين بمجرد طرو هذه العناوين كما يدل عليه
استشهاد الإمام (عليه السلام) بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " رفع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لا يطيقون وما
أخطأوا " في مقام الجواب عن سؤال أن الرجل يستحلف على اليمين فحلف
بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ قال: (1) لا، واستشهد بما ذكر من
قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الحلف بالطلاق والعتق والصدقة وإن كان باطلا عندنا ولو
وقع اختيارا أيضا، الا أن استشهاد الإمام (عليه السلام) على عدم لزومها مع الإكراه على
الحلف بها بحديث الرفع شاهد على عدم اختصاص المرفوع بخصوص المؤاخذة.
وتوهم أن المحكي من كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلام الإمام (عليه السلام) هي الثلاثة من
التسعة لا جميعها، فلعل رفع جميع الآثار مخصوص بهذه الثلاثة.
مدفوع، بأن ذكر هذه الثلاثة من جهة أنها كانت محل الحاجة لامن جهة
خصوصية فيها، كما لا يخفى.

(1) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب كتاب الايمان ح 12 ج 16 ص 136.
583

ومنها: قوله (عليه السلام): " ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (1) " ودلالة
هذا الحديث الشريف على المدعى أحسن من النبوي من جهة، وإن كانت دلالة
النبوي أحسن منه من جهة أخرى.
أما جهة أحسنية هذا الحديث فلأن الموصول في هذا الحديث ظاهر في
الحكم الكلي المجهول، إذ هو القابل لأن يكون منشأ جهله حجب الله علمه عن
العباد لا الحكم الجزئي الذي يكون منشأ جهله الجهل بالموضوع الخارجي، فلا
يرد على هذا الحديث ما يورد على النبوي من أنه لو كان المراد ب‍ " مالا يعلمون "
خصوص الحكم الشرعي الكلي يلزم التفكيك بين هذه الفقرة وسائر الفقرات، وإن
أريد به الأعم منه ومن الموضوع الخارجي يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى،
كما تقدم.
وأما جهة أحسنية النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلأن الصلة فيه هو قوله: " لا يعلمون " وهو
يعم ما كان عدم العلم من جهة حجب الله علمه أو من جهة اختفائه بعد بيانه بخلاف
هذا الحديث فإن الصلة فيه مخصوصة بما كان عدم العلم من جهة حجب الله علمه
عن العباد فلا تعم ما خفي عليهم بعد بيانه.
والحاصل: أن هذا الحديث أحسن دلالة من النبوي من جهة الموصول،
والنبوي أحسن منه من جهة الصلة. وكيف كان في دلالة هذا الحديث على المدعى
إشكال، بل منع، لأن الظاهر منه أن ما حجب الله علمه عن العباد ولم يبينه لهم فهو
موضوع عنهم لاما بينه لهم واختفى عليهم من معصية من عصى الله في كتمان الحق
وسره، فيكون هذا الحديث مساوقا لقول أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن الله حدد حدودا
فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تعصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها
نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم (2) ".

(1) التوحيد: ب 64 التعريف والبيان والحجة... ح 9 ص 413، وسائل الشيعة: ب 12 من
أبواب صفات القاضي ح 27 ج 18 ص 119.
(2) نهج البلاغة: قصار الحكم 105 " صبحي الصالح ".
584

والحاصل: أن النزاع في أن ما بينه الله تعالى على مجاري العادة واختفى بيانه
علينا هل هو مرفوع، أم لا؟ وهذا الحديث يدل على أن ما لم يبينه الله تعالى فهو
مرفوع، فلا ربط له بالمدعى.
ومنها: قوله (عليه السلام): " الناس في سعة مالا يعلمون " (1).
فإن كلمة " ما " إما موصولة أضيفت إليها السعة، أو مصدرية ظرفية، وعلى كل
تقدير يثبت المطلوب أما على تقدير كونها موصولة، فلأنه يدل على أن الناس في
سعة شيء لا يعلمونه، ودلالته على المدعى واضحة. وأما على تقدير كونها
مصدرية فبعد القطع ببطلان كونهم في سعة تمام الأشياء بمجرد الجهل بشيء
مخصوص لابد أن يرجع إلى الأول، وهو أنهم في سعة من طرف الشيء المجهول
ما دام لم يعلموا لا من طرف تمام الأشياء.
ولا يخفى أن دلالة هذا الحديث على المدعى إنما تتم بناء على أن يكون
المراد ب‍ " مالا يعلمون " خصوص الحكم المجهول أو الأعم منه ومن الموضوع
الخارجي لو فرضت سلامة إرادة المعنى الأعم من الإيرادات [التي] أوردت على
النبوي السابق وأما لو كان المراد به خصوص الموضوع الخارجي فلا يدل على
المدعى، كما لا يخفى. والشيخ (قدس سره) لم يتعرض للإشكال في دلالة هذا الحديث من
هذه الجهة، ولعله أحال إلى الوضوح بعد ما أشكل هذا الإشكال على النبوي
السابق، وإنما تعرض للإشكال عليه بما تقدم في الإستدلال بالآيات، بل لا يختص
بهذا الحديث والآيات فيعم تمام الروايات إلا المرسلة الآتية، بل تمام الأدلة
العقلية والنقلية التي أقاموها على البراءة.
وحاصل ذلك الإشكال: أن نسبة تلك الأدلة إلى أدلة وجوب الاحتياط هي
نسبة الأصل إلى الدليل الاجتهادي، فكما أنه لا مجرى للأصل مع وجود الدليل
كذلك لا موقع لتلك الأدلة بعد وجود الأدلة الدالة على وجوب الاحتياط في

(1) عوالي اللئالي: ح 109 ج 1 ص 424، وفيه: " يعلموا " بدل " يعلمون ".
585

الشبهات، إذ الإخباريون (1) يقولون: نحن علمنا بمقتضى أدلة الاحتياط وجوب
التحرز عن الشبهة، فلسنا جاهلين بالحكم حتى نرجع إلى البراءة بمقتضى: " الناس
في سعة ما لا يعلمون " وغيرها من أدلة البراءة، ولا ينكرون عدم وجوب الاحتياط
على من لم يعلم بوجوب الاحتياط لا من العقل ولا من النقل بعد التتبع والتأمل.
وحاصل مقصود الشيخ (قدس سره) أنه لو لم يكن قصور في أدلة الاحتياط في حد
نفسها وكانت لها أدنى درجة الحجية لكانت مقدمة على أدلة البراءة، ولما كانت
بينهما معارضة، ولكنه (قدس سره) يناقش في أدلة الاحتياط في حد نفسها.
ولكن لا يخفى ما فيه، إذ على تقدير تمامية أدلة الاحتياط في حد نفسها
الإنصاف أنه تقع المعارضة بينها وبين تلك الأدلة، لأن مقتضى تلك الادلة هي
الرخصة في اقتحام المشتبه وارتكابه وعدم الضيق على المكلف من طرفه.
ومقتضى أدلة الاحتياط هو المنع عن الاقتحام فيه وارتكابه وعدم التوسعة على
المكلف من طرفه كما هو مفاد قوله الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في
الهلكة، فمقتضى أدلة البراءة هو كون المكلف في التوسعة من قبل التكليف
المجهول، ومقتضى أدلة الاحتياط كونه في ضيق منه، وهل هذا إلا التناقض؟ هذا
بناء على كون الاحتياط حكما طريقيا تترتب على تركه مفسدة الواقع والعقاب لو
صادف تركه ترك الواقع.
نعم بناء على كونه نفسيا يترتب العقاب على مخالفة نفسه فلا معارضة بين
تلك الأدلة وأدلة الاحتياط، إذ مقتضى تلك الأدلة هي الرخصة بالنسبة إلى الواقع
وعدم العقاب عليه، ومقتضى أدلة الاحتياط هو العقاب على ترك نفس الاحتياط
لا على الواقع المجهول.
ومنها: " رواية عبد الأعلى عن الصادق (عليه السلام) قال: سألته عمن لم يعرف شيئا
هل عليه شيء؟ قال: (2) لا "، بناء على أن المراد بالشيء الأول فرد معين مفروض

(1) نقل عنهم في فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 327.
(2) الكافي: باب حجج الله على خلقه ج 1 ص 164 ح 2.
586

في الخارج مثل شرب التتن حتى لا يفيد العموم في النفي، فيكون المراد هل عليه
شيء في خصوص ذلك الشيء، أم لا؟
وأما بناء على إرادة العموم فظاهره السؤال عن القاصر الذي لا يدرك شيئا،
فدلالة هذه الرواية على المدعى موقوفة على أن يكون المراد بالشيء هو الشيء
الخاص المشتبه حكمه، وهو غير معلوم، إذ يحتمل أن يكون المراد به الشيء
الخاص المشتبه الموضوع بأن لم يعلم أن هذا المائع المعين خمر أو خل، كما
يحتمل أن يكون المراد به الشيء العام بأن يكون السؤال عن الجاهل القاصر الذي
لا يعرف شيئا. وعلى التقديرين لا دلالة لها على المدعى.
ومنها: قوله (عليه السلام): " أيما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه (1) ".
وفيه: أن الظاهر من الرواية ونظائرها من قولك: " فلان عمل بكذا لجهالة " هو
اعتقاد الصواب والغفلة عن الواقع، فلا يعم صورة التردد في كون فعله صوابا أو
خطأ. ويؤيده أن تعميم الجهالة لصورة التردد يحوج الكلام إلى التخصيص بالشاك
الغير المقصر، وسياقه يأبى عن التخصيص. هذا ما أفاده الشيخ (قدس سره) في رد
الاستدلال بهذه الرواية، ثم أشار إلى ما فيه بقوله: فتأمل (2).
ولعل وجهه أن موارد استعمال الجهالة مختلفة، ففي بعض المقامات يشمل
الشاك أيضا كما في المحكي عن تحف العقول: " كلما أتى المحرم بجهالة أو خطأ
فلا شيء عليه إلا الصيد، فإن عليه الفداء بجهالة كان أم بعلم، بخطأ كان أم بعمد " (3).
لكن انكار الظهور فيه مشكل، كما يؤيده تعليل صحيحة عبد الرحمن (4) بعدم القدرة
على الاحيتاط، فإنه لو لم يكن معتقدا للحلية كان قادرا على الاحتياط.
ويحتمل أن يكون وجهه منع ما ادعاه (قدس سره) من آبائه عن التخصيص مع عدم

(1) تهذيب الأحكام: الباب 7 في صفة الاحرام ج 5 ص 72 ضمن ح 47.
(2) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 327.
(3) تحف العقول: باب ما روي عن الإمام الجواد (عليه السلام) ص 237.
(4) الكافي: باب المرأة التي تحرم على الرجل فلا تحل له أبدا ج 5 ص 427 ح 3.
587

اشتماله على شيء من التعليل والتأكيد وغيرهما، بل قد يقال: إن التخصيص لازم
على كل تقدير، إذ لا يستحق العقاب إلا الجاهل المقصر.
ومنها: قوله (عليه السلام): " إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم " (1).
وفيه: أن مدلوله كما عرفت في الآيات وغير واحد من الأخبار مما
لا ينكره الأخباريون، لأنهم يقولول: عرفنا الله تعالى لزوم ترك محتمل الحرمة أو
فعل محتمل الوجوب بمقتضى أدلة الاحتياط.
ومنها: قوله (عليه السلام): " كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف
الحرام منه بعينه فتدعه " (2).
وفيه: أن هذه الرواية ظاهرة في الشبهة الموضوعية التحريمية لأن الظاهر من
قوله: " فيه حلال وحرام " أن يكون القسمان موجودا فيه فعلا وخارجا، وهو ليس
إلا في الشبهة الموضوعية ومن قوله: " حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه " هي الشبهة
التحريمية. وتعميم هذه الرواية بالنسبة إلى الشبهة الحكمية مطلقا والشبهة
الموضوعية الوجوبية بأن وجود الحلال والحرام فيه أعم من أن يكون خارجيا
وفعليا أو فرضيا واحتماليا، ومعرفة الحرام أعم من معرفة فعل الحرام أو ترك
الواجب، فإن تركه أيضا حرام، و " تدعه " أعم من ترك الفعل أو الترك لا يثبت
ظهورها في الشبهة الحكمية لو سلم إمكان إرادة الأعم بهذه التكلفات، إذ إثبات
الإمكان غير الظهور، فالإنصاف أن هذه الرواية ظاهرة في الشبهات الموضوعية
ولا تعم الشبهات الحكمية خصوصا بقرينة الأمثلة التي في ذيلها وقوله: " والأشياء
كلها على هذا حتى تستبين لك أو تقوم به البينة " إذ قيام البينة ليس إلا في
الموضوعات الخارجية، فتأمل.
ومنها: قوله (عليه السلام) في مرسلة الصدوق: " كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي " كما

(1) الكافي: باب البيان والتعريف ولزوم الحجة ج 1 ص 163 ح 1.
(2) تهذيب الاحكام: باب 2 في الذبائح والأطعمة وما يحل... ج 9 ص 79 ح 72.
588

حكي عن الفقيه (1) أو: " حتى يرد فيه أمر أو نهي " كما حكي عن غيره (2).
فعلى الأول تكون الرواية دليلا على المدعى في خصوص الشبهة التحريمية،
وعلى الثاني تعم الشبهة الوجوبية أيضا.
وقد استدل الصدوق (قدس سره) بهذه الرواية على جواز القنوت بالفارسية
والشيخ (قدس سره) (3) جعل دلالة هذه الرواية على المدعى أوضح من كل ما ذكره من
الأدلة حيث قال: ظاهره عدم وجوب الاحتياط، لأن الظاهر إرادة ورود النهي في
الشيء من حيث هو لامن حيث كونه مجهول الحكم، فإن تم ما سيأتي من أدلة
الاحتياط دلالة وسندا وجب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها
مما يدل على عدم وجوب الاحتياط، ثم الرجوع إلى ما تقتضيه قاعدة التعارض (4).
ولكن يمكن أن يناقش في دلالة الرواية بأن قوله: " كل شيء مطلق " وإن كان
ظاهرا في الشبهة الحكمية بقرينة قوله: " حتى يرد فيه نهي " لأن متعلق النهي هو
الحكم الكلي لا الحكم الجزئي المتعلق بالموضوع الخارجي من جهة انطباق
العنوان الكلي عليه إلا أن دلالتها على المدعى إنما تتوقف على أن يكون المراد
بورود النهي وصوله إلى المكلف بأن يكون مفاد الرواية هو أن كل شيء مطلق
ومباح حتى يصل إلى المكلف أن الشارع نهى عنه. وأما لو كان المراد ورود النهي.
واقعا فهو لا يدل على المدعى، بل على أن الأصل في الأشياء قبل ورود الشرع
هي الإباحة لا الحظر.
والظاهر منها هو الثاني لا الأول، خصوصا بملاحظة أن الرواية نبوية وردت
في أوائل البعثة وأصالة عدم ورود النهي التي هي عبارة عن استصحاب العدم - إن
كان له مجرى ولم يكن في مورد تبادل الحالات - لكان بنفسه كافيا في إثبات

(1) من لا يحضره الفقيه: باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ج 1 ص 317 ح 937.
(2) عوالي اللئالي: ج 2 ص 44 ح 111. وفيه " حتى يرد فيه نص ".
(3) من لا يحضره الفقيه: باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ج 1 ص 317 ح 937.
(4) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 327.
589

المدعى ولا حاجة معه إلى إثبات الإطلاق والإباحة وإن لم يكن جاريا فلا يفيد
انضمامها بكل شيء مطلق في إثبات المدعى بعدما عرفت أن المراد من ورود
النهي عبارة عن صدوره واقعا، إذ عدم الصدور الواقعي لا يحرز إلا به وهو غير
جار فلا يكون محرزا.
ومنها: قوله " كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام " (1) وهذه الرواية
عكس المرسلة السابقة من حيث إن الظاهر من المرسلة أو القدر المتيقن منها هي
الشبهة الحكمية بخلاف هذه الرواية فإن الظاهر أو المتيقن منها هي الشبهة
الموضوعية، وعمومها للشبهة الموضوعية والحكمية بأن يكون المراد من كل شيء
أعم من الموضوع الكلي - المشتبه حكمه الكلي المخصوص معرفته بالمجتهد
بالرجوع إلى الأدلة، ومع فقدها فإلى الأصول - ومن الموضوع الخارجي الجزئي
المشتبه حكمه الجزئي الذي لا يختص معرفته بالمجتهد، بل يعم المقلد أيضا وإن
كان ممكنا، إلا أن مجرد الإمكان لا يثبت الظهور المعتبر في الدلالة.
ويؤيد عدم ظهورها في الشبهة الحكمية عدم استدلالهم - على ما حكي -
بقوله (عليه السلام): " كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر " (2) على الشبهة الحكمية مثل كون
عرق الجنب من الحرام طاهر أو نجس، أو عرق الجلال طاهر أو نجس، وأمثالهما،
وإنما استدلوا بها على الطهارة في الشبهات الموضوعية إما مطلقا، أو فيما إذا كان
الشك في كونه نجسا لا في كونه متنجسا، مع أنها مثل " كل شيء حلال حتى تعرف
أنه حرام " ومنشأ التفصيل احتمال كون " قذر " في الرواية بصيغة الصفة المشبهة
وكونه بصيغة فعل الماضي، كما أنه يحتمل أن يقال: إنه بناء على كونه بصيغة الفعل
الماضي تختص الرواية بالشبهة الموضوعية، وبناء على كونه بصيغة الصفة المشبهة
يمكن عمومها لكلتيهما فتأمل.

(1) وسائل الشيعة: ب 4 من أبواب ما يكتسب به ح 4 ج 12 ص 60.
(2) وسائل الشيعة: ب 4 من أبواب الماء المطلق ح 2 ج 1 ص 106، وفيه " الماء كله طاهر
حتى تعلم أنه قذر ".
590

وأما " الإجماع على البراءة " فالمحصل منها غير حاصل، والمنقول منه مع أنه
لا دليل على اعتباره إلا أدلة حجية خبر الواحد، وقد عرفت ما في شمولها له
موهون في هذه المسألة وأمثالها مما للعقل إليها سبيل ومن واضح النقل عليها دليل.
وأما " العقل " فإنه مستقل بقبح العقاب فيما لم يعلم المكلف بالتكليف تفصيلا
أو إجمالا مع تحقق شرائط تنجيز العلم الإجمالي ولم يقم عنده شيء من
الأمارات المعتبرة ولا الأصول والوظائف المقررة للجاهل في مقام العمل، ففي
هذا الموضوع الذي فرض عدم العلم التفصيلي والإجمالى بالتكليف وعدم قيام
حجة شرعية من الأمارات والأصول عليه، بل كان صرف احتمال التكليف لا ينكر
أحد من المجتهدين والأخباريين قبح العقاب، وإنما الأخباريون ذهبوا إلى
وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية، من جهة توهم قيام الدليل عليه، وهي
الأخبار (1) الدالة على الاحتياط والتوقف كما هو مذاق أكثرهم، أو من جهة العلم
الإجمالي بالتكاليف مع قطع النظر عن أخبار الاحتياط والتوقف - كما هو مذاق
بعض مدققيهم - فلو تمت أدلتهم على وجوب الاحتياط لم يكن لهذا الحكم العقلي
موضوع، لأنه حكم معلق على انتفاء العلم التفصيلي والإجمالي بالتكليف وعدم
قيام حجة عليه، ومع قيام الحجة يرتفع موضوعه.
كما أنه مع هذا الحكم العقلي لا موضوع لحكم العقل بوجوب دفع الضرر
المحتمل.
والحاصل: أن أدلة الاحتياط - لو تمت - كانت مقدمة على حكم العقل بقبح
العقاب بلا بيان، لأن هذا الحكم العقلي تعليقي لا تنجيزي، والمعلق عليه هو عدم
قيام الحجة المنجعلة أو المجعولة على التكليف، ومع قيامها يرتفع موضوع حكم
العقل، وإن لم تتم أدلة الاحتياط لا مجال لتقديم حكم العقل بوجوب دفع الضرر
المحتمل على هذا الدليل العقلي الحاكم بقبح العقاب بلا بيان، بل هذا الدليل مقدم

(1) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ج 18 ص 111.
591

على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، إذ حكم العقل بوجوب دفع الضرر
المحتمل إنما هو فيما كان الضرر محتملا، ومع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان
ليس الضرر بمحتمل إن كان المراد به العقوبة على مخالفة تكليف المجهول، فلا
يكون هنا مجال لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل حتى يتوهم أنها يكون بيانا،
كما أنه مع احتماله وتحقق صغرى الضرر المحتمل لا حاجة إلى القاعدة أو الكبرى
الكلية، وهو وجوب دفع الضرر المحتمل، بل في صورة المصادفة بأن خالف
التكليف المحتمل استحق العقاب على مخالفته ولو لم نقل بوجوب دفع الضرر
المحتمل بحكم العقل.
والحاصل: أن المراد بالضرر المحتمل إن كان العقاب فهو غير محتمل مع
استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، كما أنه مع احتماله لا حاجه إلى القاعدة، بل
في صورة المصادفة يستحق العقاب على المخالفة، ولو لم نقل بوجوب دفع الضرر
المحتمل. وإن كان غير العقاب كالمصالح والمفاسد التي هي مناطات الأحكام،
مضافا إلى ما ذكره الشيخ (قدس سره) (1) من أن الشبهة من هذه الجهة موضوعية لا يجب
الاجتناب فيها بالاتفاق، وإن أورد عليه بأن الشبهة الموضوعية ما كان رفعها
بالأمور والمميزات الخارجية، ومناطات الأحكام استعلامها لا يمكن إلا من
الأحكام بنحو الإن وعلى تقدير تسليم كونها موضوعة الاتفاق المدعى فيها ممنوع.
ففيه أن مناطات الأحكام ربما لا تكون من المنافع والمضار، بل ربما تكون
جهات راجعة إلى النوع، وعلى تقدير كونها من المنافع والمضار ربما يكون
وصولها إلى الملكف مشروطا بالعلم كما يحكي بعض الأمثلة من عدم تأثير بعض
السموم القاتلة مع عدم اعتقاد المسموم أنه ذلك السم، واعتقد أنه سم آخر
وبالعكس. وعلى تقدير عدم اشتراط تأثيره بالعلم، بل كان من قبيل إسكار الخمر
ربما لا يكون بعض المضار الدنيوية واجب الدفع لبعض الأغراض العقلائية، بل

(1) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 335.
592

ربما لا يكون متيقنه واجب الدفع فضلا عن محتمله. فإذا جاءت هذه الاحتمالات
في البين بأن كان أصل التكليف أولا إحتماليا، ثم كون مخالفته مضرة أيضا
إحتماليا، ثم كون المضرة غير مشروطة بالعلم إحتماليا وصار الضرر احتمالا في
احتمال في احتمال ربما لا يحكم العقل بوجوب دفعه، مع أنه ربما لا يكون دفع
بعض المضار اليقينية واجب الدفع، بل يحتمله العقلاء بواسطة بعض الدواعي
والاغراض فضلا عن المحتملة، كما لا يخفى.
فتحصل أن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان فيما لم تكن حجة عقلية أو
شرعية على التكليف، بل كان صرف احتماله كان مقدما على قاعدة دفع الضرر
المحتمل، ولا تصلح هذه القاعدة لأن تكون بيانا ورافعا لموضوع هذا الحكم
العقلي، وما يصلح أن يكون رافعا لموضوع هذا الحكم العقلي هو ما ذكره
الأخباريون لوجوب الاحتياط، فإن تم ما ذكروه في حد نفسه وكان له أول درجة
الحجية والاعتبار فيكون معارضا لهذا الحكم العقلي، بل رافعا لموضوعه، وإلا
فالمرجع هذا الحكم العقلي.
وقد استدلوا بالأدلة الثلاثة، أما الكتاب فبالآيات الناهية عن الإفتاء والقول
بغير العلم (1) والناهية عن الإلقاء في التهلكة (2) والآمرة بالتقوى (3).
والجواب أما عن الآيات الناهية عن الافتاء والقول بغير العلم مع الغض عن
الانتقاض بالجهة الوجوبية والموضوعية اللتين يقول الأخباريون فيهما بالبراءة
أيضا كالمجتهدين، فبأنه لو قلنا بأن محتمل الحرمة مباح واقعا كان فتوى وقولا
غير العلم، كما أن الأخباري لو قال بأنه حرام واقعا لكان كذلك أيضا، وأما لو قلنا:
بأنه مباح ظاهرا لا بمعنى أن الشارع جعل المشتبه حلالا ظاهرا، بل بمعنى كوننا
مشتركين في العقوبة على ارتكابه من جهة الاستناد إلى حكم العقل بقبح العقاب
بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان لم يكن فتوى وقولا بغير العلم، لأن استنادنا في

(1) الأعراف: 33، والاسراء: 36.
(2) البقرة: 195.
(3) آل عمران: 102، والتغابن: 16.
593

الحكم بالإباحة الظاهرية أي الاستراحة من كلفة العقوبة على ارتكابه ليس إلى
الشرع حتى يكون قولا بغير علم، بل إلى العقل وحكمه بذلك قطعي.
كما أنه لو قال الأخباري بانه حرام ظاهرا بمعنى عدم الاستراحة من العقوبة
على ارتكابه من جهة الاستناد إلى الأدلة التي أقامها على التوقف والاحتياط - لو
تمت - لم يكن فتوى وقولا بغير العلم، إلا أن الكلام في تماميتها، وإذا لم تتم هذه
الأدلة يصير الحكم العقلي التعليقي تنجيزيا، لأن حكمه بقبح العقاب على ارتكابه
كان معلقا على عدم البيان، فإذا لم تصح هذه الأدلة للبيانية - والمفروض أنه ليس
بيان آخر - فيصير حكم العقل منجزا بعدم استحقاق العقوبة على ارتكاب محتمل
الحرمة التي لم يقم عليها حجة عقلية أو شرعية.
وأما الجواب عن آية التهلكة فبأن المراد من التهلكة إن كان هي العقوبة كانت
قطعي العدم، وإن كان المراد غير العقوبة كانت الشبهة موضوعية، ولا يجب
الاجتناب فيها بالاتفاق على إشكال فيه كما أشرنا إليه في دفع الضرر المحتمل.
وحاصله: منع كون الشبهة موضوعية أولا: ومنع الاتفاق في هذا القسم منها
ثانيا، على تقدير كونها موضوعية.
وكيف كان يرد على الاستدلال بهذه الآية ما أورد على الاستدلال بوجوب
دفع الضرر المحتمل، فإن النهي عن الإلقاء في التهلكة فرع وجودها، كما أن
وجوب دفع الضرر المحتمل فرع احتماله، فإن كان المراد بها العقوبة فهي مقطوع
العدم، وإن كان غيرها ففيه ما تقدم من كون الشبهة من هذه الجهة موضوعية،
ولا يجب الاجتناب فيها بالاتفاق إلى آخر ما ذكرنا في دفع الضرر المحتمل.
وأما الجواب عن الآيات الآمرة بالتقوى فهو: أن التقوى لها مراتب، بعض
مراتبها واجب كإتيان الواجبات واجتناب المحرمات، وبعض مراتبها راجح
كالإتيان بالمندوبات واجتناب المكروهات، وكذلك الإتيان بمحتمل الوجوب
وترك محتمل الحرمة، بل المباح أيضا. والأمر بالتقوى كالأمر بالإطاعة إرشادي
تابع للمرشد إليه، فإن كان واجبا فهو واجب، وإن كان راجحا فهو راجح،
594

وارتكاب مشتبه الحرمة لا يتنافى مع الدرجة الواجبة من التقوى، كما أن ارتكاب
المباح أيضا كذلك.
وأما السنة فبأخبار:
منها: ما دل على حرمة القول والعمل بغير العلم، وقد ظهر جوابها مما ذكر في
الآيات.
ومنها (1): ما دل على وجوب التوقف عند الشبهة وعدم العلم، وهي لا تحصى
كثرة. وظاهر التوقف السكون المطلق وعدم المضي، فيكون كناية عن عدم الحركة
بارتكاب الفعل، وهو محصل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض تلك الأخبار: " الوقوف عند
الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة " (2). فلا يرد على الاستدلال أن التوقف في
الحكم الواقعي مسلم عند كلا الفريقين والافتاء بالحكم الظاهري منعا أو ترخيصا
مشترك كذلك. والتوقف في العمل لا معنى له، فتذكر بعض تلك الأخبار تيمنا.
منها: مقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها بعد ذكر المرجحات:
" إذا كان كذلك فأرجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من
الاقتحام في الهلكات " (3).
ونحوها: صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله، وزاد فيها: إن على كل حق
حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله
فدعوه (4) ".
وفي رواية الزهري (5) والسكوني (6) وعبد الأعلى (7): " الوقوف عند الشبهة خير

(1) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ج 18 ص 111.
(2) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 2 ج 18 ص 112.
(3) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1 ج 18 ص 76.
(4) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 35 ج 18 ص 86.
(5) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 2 ج 18 ص 112.
(6) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 50 ج 18 ص 126.
(7) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ذيل ح 50 ج 18 ص 126.
595

من الاقتحام في الهلكة " و " تركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه "
ورواية أبي شيبة (1) عن أحدهما (عليه السلام) وموثقة سعد بن زياد، عن جعفر، عن أبيه،
عن آبائه، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند
الشبهة - إلى أن قال -: فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة " (2).
وتوهم ظهور هذا الخبر المستفيض في الاستحباب مدفوع، بملاحظة أن
الاقتحام في الهلكة لا خير فيه أصلا، مع أن جعله تعليلا لوجوب الإرجاء في
المقبولة وتمهيدا لوجوب طرح ما خالف الكتاب في الصحيحة قرينة على
المطلوب فمساقه مساق قول القائل: ترك الأكل يوما خير من أن أمنع عنه سنة،
وقوله (عليه السلام) في مقام وجوب الصبر حتى ينقضي الوقت: " لأن أصلي بعد الوقت
أحب إلي من أن أصلي قبل الوقت " (3) وقوله (عليه السلام) في مقام التقية: " لئن أفطر يوما
من شهر رمضان فأقضيه أحب إلي من أن يضرب عنقي " (4) ونظيره في أخبار
الشبهة قول علي (عليه السلام) في وصيته لابنه: " امسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإن
الكف عنده خير من الضلال وخير من ركوب الأهوال " (5).
ومنها: موثقة حمزة بن طيار أنه عرض على أبي عبد الله بعض خطب أبيه (عليه السلام)
حتى إذا بلغ موضعا منها قال له: " كف واسكت - ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) -: إنه
لا يسعك فيما نزل بكم مما لا تعلمون الا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة
الهدى (عليه السلام) حتى يحملوكم فيه إلى القصد، ويجلوا عنكم فيه العمى، ويعرفوكم فيه
الحق قال الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (6).
ومنها: رواية جميل عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

(1) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 13 ج 18 ص 115.
(2) وسائل الشيعة: ب 157 من أبواب مقدمات النكاح ح 2 ج 14 ص 193.
(3) وسائل الشيعة: ب 13 من أبواب المواقيت ح 10 و 11 ج 3 ص 123 - 124.
(4) الكافي: باب اليوم الذي يشك فيه... ح 9 ص 83 ج 4.
(5) نهج البلاغة: 31 من وصيته (عليه السلام) للحسن (عليه السلام) ص 392.
(6) الكافي: كتاب فضل العلم في باب النوادر ح 10 ج 1 ص 50.
596

الأمور ثلاثة: أمر بين لك رشده فاتبعه، وأمر بين لك غيه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه
فرده إلى الله عز وجل " (1).
ومنها: رواية جابر عن أبي جعفر في وصيته لأصحابه: " إذا اشتبه الأمر
عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم ما شرح الله لنا " (2).
ومنها: رواية زرارة، عن أبي جعفر: " حق الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون
ويقفوا عند مالا يعلمون " (3).
وقوله (عليه السلام) في رواية المسمعي الواردة في اختلاف الحديثين: " وما لم تجدوا
في شيء من هذه الوجوه فردوه إلينا علمه فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه
بآرائكم، وعليكم الكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم
البيان من عندنا " (4) إلى غير (5) ذلك مما ظاهره وجوب التوقف.
والجواب: أن بعض هذه الأخبار مختص بما إذا كان المضي في الشبهة
اقتحاما في الهلكة، ولا يكون ذلك الا مع عدم معذورية الفاعل لأجل القدرة على
إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام أو إلى الطرق المنصوبة منه (عليه السلام) كما هو ظاهر
المقبولة، وموثقة حمزة بن طيار، ورواية جابر، ورواية المسمعي وبعضها وارد في
مقام النهي عن ذلك لاتكاله في الأمور العملية على الاستنباطات العقلية الظنية أو
كون المسألة من الاعتقاديات كصفات الله تعالى ورسوله والأئمة كما يظهر من
قوله في رواية زرارة: " لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا " (6).
والوقف في هذه المقامات واجب وبعضها ظاهر في الاستحباب مثل

(1) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 23 ج 18 ص 118.
(2) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 37 ج 18 ص 86.
(3) الكافي: باب النهي عن القول بغير العلم ح 7 ج 1 ص 43.
(4) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 21 ج 18 ص 81.
(5) وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 21 ج 18 ص 75.
(6) وسائل الشيعة: باب 12 من أبواب صاف القاضي ح 11 ج 18 ص 115.
597

قوله (عليه السلام): أورع الناس من وقف عند الشبهة (1). وقوله (عليه السلام): " لاورع كالوقوف عند
الشبهة " (2). وقول أمير المؤمنين (عليه السلام): " من ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما
استبان له اترك، والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها " (3). وفي
رواية نعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله يقول: " لكل ملك حمى وحمى الله
حلاله وحرامه، والمشتبهات بين ذلك، لو أن راعيا رعى جانب الحمى لم يثبت
غنمه أن يقع في وسطه، فدعوا المشتبهات " (4). وقوله (عليه السلام): " من اتقى الشبهات فقد
استبرأ لدينه " أو لذمته (5)، على ما في بعض النسخ.
انتهى ما أردنا نقله من الأخبار التي نقلها الشيخ (قدس سره) (6) في هذا المقام وما
أجاب به عنها.
وحاصل الجواب عن هذه الأخبار: أن كثيرا منها وارد في مقام المنع عن
التقول والرواية بغير العلم، ولا إشكال في خروجه عن محل الكلام وحرمته لكونه
تشريعا وكذبا، وبعضها في مورد التمكن من رفع الشبهة بالرجوع إلى الإمام (عليه السلام)
أو إلى الطرق المنصوبة، ولا إشكال أيضا في عدم جواز ارتكاب الشبهة في هذه
الصورة وخروجها عن محل الكلام، لأن الكلام في مورد عدم التمكن عن إزالة
الشبهة بالفحص لا في مورد التمكن، وبعضها في مقام الردع عن ذلك للاتكال في
الأمور العملية على الاستنباطات العقلية الظنية، أو لكون المسألة من الاعتقاديات
والغوامض التي لم يرد من الشارع التدين به بغير علم وبصيرة، بل نهى عن ذلك
بقوله: " إن الله سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله

(1) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 24 ج 18 ص 118.
(2) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 20 ج 18 ص 117.
(3) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 22 ج 18 ص 118.
(4) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 40 ج 18 ص 122.
(5) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 57 ج 18 ص 127.
(6) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 340 - 346.
598

لكم " (1) ولا إشكال أيضا في حرمته وخروجه عن محل النزاع.
وعلى تقدير شمولها أو بعضها لمحل النزاع لابد من تخصيصها عقلا وحملها
على أحد هذه الوجوه والصور على سبيل منع الخلو، وذلك لأن الأمر بالوقوف في
هذه الأخبار إرشادي لا مولوي، والفرق بينهما هو أن الأمر الإرشادي ما كان ناشئا
عما في متعلقه من المنفعة والمصلحة بحيث لا يترتب على موافقته سوى تلك
المنفعة وعلى مخالفته سوى عدم تلك المنفعة، فهو في الحقيقة بيان لحال المتعلق
بأن فيه هذه المنفعة لأن تصير باعثة على الفعل بخلاف الأمر المولوي فإنه وإن كان
ناشئا عن المصلحة الكامنة في الفعل بناء على مذهب العدلية من تبعية الأحكام
للمصالح والمفاسد، إلا أنه لا يترتب على موافقته ومخالفته سوى المصلحة الكامنة
في الفعل والمفسدة الكامنة في الترك التي هي عبارة عن المثوبة والعقوبة، فليس
الغرض منه بيان حال المتعلق بأن فيه المصلحة، بل الغرض منه أن يصير باعثا
للمكلف على الفعل لو لم يكن له باعث آخر.
والأمر وإن كان ظاهرا في المولوية إلا أنه مع قيام القرينة على الإرشادية
لابد من حمله عليها، والقرينة في هذه الأخبار موجودة وهو تعليل الأمر بالوقوف
بأنه خير من الاقتحام في الهلكة، فالغرض من الأمر بالوقوف عند الشبهة هو عدم
وقوع المكلف في الهلكة المحتملة، فلابد من إحراز احتمال الهلكة فإن كانت
الهلكة المحتملة عقابا كان التحرز عنه لازما، وإن كان غير العقاب من المضار
فالتحرز عنه مستحب، والهلكة المحتملة في الشبهة التحريمية ليست عقابا باتفاق
المجتهدين والأخباريين، لاعترافهم بقبح العقاب على الحرمة الواقعية المجهولة،
وإن زعموا ثبوت العقاب من جهة بيان التكليف في الشبهة بأوامر التوقف
والاحتياط. وتنحصر الهلكة المحتملة الأخروية - أعني العقاب - بالموارد
المذكورة وبالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، ونحن نقول بوجوب الاحتياط
فيها. وهذا الذي ذكرنا هو المتحصل من الجوابين اللذين ذكرهما الشيخ (قدس سره)

(1) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 61 ج 18 ص 129.
599

عن هذه الأخبار.
وملخص الجواب الأول: أن بعض هذه الأخبار يدل على ترتب الهلكة
الأخروية - أعني العقاب - على ارتكاب الشبهة على تقدير حرمة الفعل واقعا،
ولكنها لا تشمل ما نحن فيه وبعضها يدل على استحباب التحرز عن الشبهة وهو
وإن كان شاملا لما نحن فيه إلا أنه لا يفيد الخصم. وملخص الجواب الثاني حمل
الأمر في هذه الأخبار على الإرشاد.
والفرق بين الجوابين أن الأمر على الأول لا يتعين حمله على الإرشاد
لتماميته على تقدير كون الأمر فيها شرعيا أيضا، وإذا حمل الأمر على الإرشاد
إلى التحرز عن الهلكة المحتملة فلابد من إحراز احتمال الهلكة الأخروية ليكون
التحرز لازما، أو إحراز الهلكة الغير الأخروية ليكون التحرز مستحبا، وإحراز
الهلكة المحتملة الأخروية التي يجب التحرز عنها منحصر بالموارد المذكورة، وأما
فيما نحن فيه فلم تحرز الهلكة المحتملة الأخروية - أعني العقاب - بل أحرز
عدمها بمقتضى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.
ثم أورد على نفسه بقوله (1): إن قلت: إن المستفاد من هذه الأخبار احتمال
التهلكة في كل محتمل التكليف، والمتبادر من التهلكة في الأحكام الدينية
الشرعية هي الأخروية فتكشف هذه الأخبار عن عدم سقوط عقاب التكاليف
المجهولة لأجل الجهل، ولازم ذلك ايجاب الشارع للاحتياط، ليكون مصححا
للعقاب، إذ الاقتصار في العقاب على نفس التكاليف المختفية من دون تكليف
ظاهري بالاحتياط قبيح.
وأجاب عن هذا الإشكال بأن ايجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن
العقاب الواقعي فهو مستلزم لترتب العقاب على الواقع المجهول، وهو قبيح كما
اعترف به، وإن كان حكما ظاهريا نفسيا فالهلكة الأخروية مترتبة على مخالفته

(1) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 344.
600

لا مخالفة الواقع. وصريح الأخبار إرادة الهلكة الأخروية الموجودة في الواقع
على تقدير الحرمة الواقعية.
وحاصل الجواب هو أن الأمر بالاحتياط المستكشف بنحو الإن من الأمر
بالتوقف عند الشبهة إن كان أمرا إرشاديا كالأمر بالتوقف كان الكلام فيه هو الكلام
فيه، وهو أنه لابد أن تكون الهلكة محتملة ليصح تعلق الأمر الإرشادي بالتحرز
عنها، وهي بمعنى الهلكة الأخروية - أعني العقاب - غير محتملة، وإن كان دفعها
واجبا على تقدير الاحتمال، وبمعنى الهلكة الدنيوية - أعني المضار - وإن كانت
محتملة إلا أن دفعها غير واجب فالأمر الإرشادي بالنسبة إلى كلتيهما موجود
على تقدير احتمال الهلكة، إلا أن الأمر الإرشادي بالنسبة إلى الهلكة المحتملة
الأخروية وجوبي وبالنسبة إلى الهلكة الدنيوية استحبابي. ولا ضير فيه، لأنه تابع
للمرشد إليه.
لكن الكلام في حصول ذلك التقدير واحتمال الهلكة، لما عرفت من أنها
مقطوعة (1) العدم بواسطة حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فلا يخرج العقاب على
الواقع مع استكشاف هذا الأمر عن كونه عقابا على المجهول وبلا بيان، وإن كان
أمرا ظاهريا نفسيا فالهلكة الأخروية مترتبة على مخالفته لا مخالفة الواقع،
وصريح الأخبار إرادة الهلكة الأخروية الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة
الواقعية.
ولما كان هذا الجواب غير مرضي عند صاحب الكفاية (قدس سره) (2) لما ذكره من أن
ايجاب الاحتياط طريقي، وهو مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة
الشبهة عقلا كما هو الحال في أوامر الطرق والأمارات والأصول العملية أجاب
عن هذا الإشكال بأن مجرد ايجابه وا قعا ما لم يعلم به لا يصحح العقوبة
ولا يخرجها عن أنها بلا بيان وبلا برهان، فالملازمة بين الأمر بالتوقف وبين

(1) في الأصل: مقطوع.
(2) كفاية الأصول: في أدلة الأصول العملية ص 393 - 394.
601

ايجاب الاحتياط واقعا وإن كانت ثابتة إلا أنها غير نافعة في خروج العقاب عن
كونه بلا بيان والملازمة بين الأمر بالتوقف والعلم بايجاب الاحتياط وإن كانت
نافعة، إلا أنها غير ثابتة، إذ يمكن ايجاب الاحتياط مع عدم العلم به.
ولكن لا يخفى أنه يمكن أن يكون مراد الشيخ (1) من الحكم الظاهري النفسي
هو الحكم الطريقي لا النفسي المقابل للطريقي، بل النفسي بمعنى المولوي الذي هو
أعم من الطريقي وغيره، ومن كون العقاب على مخالفته أنه مصحح للعقاب على
الواقع، فكما يمكن أن يقال للمكلف التارك للواجب الواقعي: لم تركت الواقع؟
يمكن أن يقال: لم تركت العمل بالاحتياط الذي هو طريق إحراز الواقع أي
استيفائه؟ فالعقاب على مخالفته بما أن مخالفته مخالفة الواقع عند المصادفة لا بما
أن مخالفة الأمر الطريقي في حد نفسه موجبة لاستحقاق العقاب، كيف لا يكون
مراده ذلك؟ والحال أنه في تمام الأوامر الطريقية من الأمارات والأصول لا يقول
باستحقاق العقاب على مخالفتها في حد نفسها، كما لا يخفى.
فحاصل جوابه (قدس سره) هو أن الأمر بالاحتياط المستكشف إنا بأوامر التوقف إن
كان أمرا إرشاديا كأوامر التوقف، فالكلام فيه هو الكلام فيها، وإن كان أمرا
ظاهريا نفسيا أي مولويا طريقيا فالعقاب على مخالفته عند مخالفة الواقع، لأنه
عقلا مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الواقع، فلابد أن يكون للواقع
مع قطع النظر عن هذا الأمر الطريقي عقاب وهلكة حتى يترتب العقاب على
مخالفة هذا الأمر الطريقي، لأن مخالفته مخالفة الواقع، والفرض أن الواقع مع قطع
النظر عنه لا يترتب عليه عقاب، فهذا الأمر الطريقي كالأمر الإرشادي لا أثر له.
وبالجملة فهذا الأمر المستكشف إما إرشادي أو طريقي أو نفسي غير طريقي
والأولان لا أثر لهما في استحقاق العقاب بأنفسهما، بل هما تابعان للمرشد إليه،
والواقع، والثالث وإن كان موجبا لاسحتقاق العقاب، إلا أن العقاب على مخالفته لا
على مخالفة الواقع. والحال أن صريح الأخبار خلاف ذلك.

(1) انظر فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 344.
602

لكن الإنصاف أن ما ذكر بأكمله في توجيه كلام الشيخ (قدس سره) اجتهاد في مقابل
النص، لصراحة كلامه في أن العقاب على مخالفة هذا الحكم الظاهري النفسي،
وإلا لا يمكن دفع الإشكال بقوله: وصريح الأخبار إرادة الهلكة الأخروية
الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعية، لأنه لو كان طريقيا كانت هلكته
هلكة الواقع كما اعترف به في أوامر الطرق، فالأولى في مقام دفع الإشكال هو
العدول عن جواب الشيخ إلى جواب صاحب الكفاية، لأن جواب الشيخ إن أبقي
على ظاهره وإن كان وافيا بدفع الإشكال إلا أنه يرد عليه إشكال صاحب الكفاية،
وهو قوله: " إن ايجاب الاحتياط طريقي... (1) إلى آخره " وإن صرف عن ظاهره لم
يكن وافيا بدفع الإشكال، وأما جواب صاحب الكفاية (قدس سره) فهو واف بدفع الإشكال
ولا يرد عليه إشكال.
وحاصله: أن المستكشف بأخبار التوقف إن كان هو ايجاب الاحتياط فهو
لا ينفع في استحقاق العقاب، لأنه عقاب على المجهول وإن كان ايجاب الاحتياط
الواصل المعلوم فهو ليس بمستكشف، إذ لا ملازمة بين إيجاب الاحتياط وبين
العلم به، فتأمل.
فتحصل: أن أكثر أخبار التوقف واردة في مقام الردع والسكوت عن الفتوى
والحكم والرواية بغير علم، ونحن نقول بمؤداها، ولكن لا ربط لها بمحل النزاع،
وبعضها ورد في مقام المنع عن ارتكاب الشبهة في مورد التمكن عن رفع الشبهة
بالرجوع إلى الإمام (عليه السلام) أو إلى الطرق المنصوبة، ولا كلام فيه، وبعضها ورد في
مقام المنع عن ارتكابه قبل الفحص أو الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، ولا
كلام فيها أيضا، وبعضها ورد في الأمور الاعتقادية التي لم يرد الشارع فيها التدين
بغير العلم، وهو أيضا خارج عن محل الكلام.
وعلى تقدير شمولها أو بعضها لمحل النزاع لابد من تخصيصها عقلا بأحد هذه

(1) كفاية الأصول: في أدلة الأصول العملية ص 393.
603

الوجوه على سبيل منع الخلو، لما ذكرنا من أن الأمر بالتوقف فيها إرشادي
فيختص بما إذا كانت التهلكة محتملة، وليست التهلكة محتملة إلا في هذه الموارد،
وأما في محل النزاع فالهلكة - أعني العقاب الأخروي - غير محتملة من جهة
حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فتأمل وراجع الاخبار. هذا تمام الكلام في
الأخبار الواردة بالتوقف.
وأما أخبار الاحتياط فهي أيضا كثيرة منها: صحيحة عبد الرحمن الحجاج
قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان، الجزاء بينهما
أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال: بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد،
فقلت: إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه، قال: إذا أصبتم بمثل هذا
ولم تدروا فعليكم الاحتياط حتى تسألوا وتعلموا " (1).
والجواب عن هذه الصحيحة هو ما ذكره الشيخ (قدس سره) (2) من عدم دلالتها على
المدعى، وذلك لأن المشار إليه في قوله: " بمثل هذا " إما نفس واقعة الصيد وإما
السؤال عن حكمها، وعلى الأول إن جعلنا المورد من قبيل الشك في التكليف
بمعنى أن وجوب نصف الجزاء على كل واحد متيقن ويشك في وجوب النصف
الآخر عليه فيكون من قبيل وجوب أداء الدين المردد بين الأقل والأكثر، وقضاء
الفوائت المرددة والاحتياط في مثل هذا غير لازم بالاتفاق، لأنه شك في الوجوب.
وعلى تقدير قولنا بوجوب الاحتياط في مورد الرواية وأمثاله مما ثبت
التكليف فيه في الجملة لأجل هذه الصحيحة وغيرها لم يكن ما نحن فيه من الشبهة
مماثلا له، لعدم ثبوت التكليف فيه رأسا، وإن جعلنا المورد من قبيل الشك في
متعلق التكليف وهو المكلف به لكون الأقل على تقدير وجوب الأكثر غير واجب
بالاستقلال نظير وجوب التسليم في الصلاة، فالاحتياط منهما وإن كان مذهب
جماعة من المجتهدين أيضا، إلا أن ما نحن فيه من الشبهة الحكمية التحريمية ليس

(1) وسائل الشيعة: باب 12 من أبواب صفات القاضي ح 1 ج 18 ص 111.
(2) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 347.
604

مثلا لمورد الرواية، لأن الشك فيه في أصل التكليف. هذا مع أن ظاهر الرواية
التمكن من استعلام حكم الواقعة بالسؤال والتعلم فيما بعد ولا مضايقة عن القول
بوجوب الاحتياط في هذه الواقعة الشخصية حتى يتعلم المسألة بما يستقبل
من الوقائع.
ومنه يظهر إن كان المشار إليه بهذا هو السؤال عن حكم الواقعة كما هو الثاني
من شقي الترديد، فإن أريد بالاحتياط فيه الافتاء بالاحتياط لم ينفع فيما نحن
فيه، وإن أريد من الاحتياط الاحتراز عن الفتوى فيها حتى بالاحتياط فكذلك،
لأن الإفتاء بغير العلم لا إشكال في حرمته وخروجه عن محل النزاع.
ومنها: موثقة عبد الله بن وضاح - على الأقوى - قال: كتبت إلى العبد الصالح:
2 يتوارى عنا القرص، ويقبل الليل، ويزيد الليل ارتفاعا، ويستر عنا الشمس،
ويرتفع فوق الجبل حمرة، ويؤذن عندنا المؤذنون فأصلي حينئذ، وأفطر إن كنت
صائما، أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب: " أرى لك أن تنتظر
حتى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائط لدينك " (1).
فإن الظاهر أن قوله (عليه السلام): " تأخذ بالحائط " بيان مناط الحكم، كما في قولك،
للمخاطب: أرى لك أن توفي دينك وتخلص نفسك فيدل على لزوم الاحتياط.
والجواب عن هذه الموثقة أيضا هو ما ذكره الشيخ (قدس سره) (2) من أن ظاهرها هو
الاستحباب بقرينة قوله: " أرى لك أن تنتظر " مع أن الظاهر أن المراد بالاحتياط
من حيث الشبهة الموضوعية لاحتمال عدم استتار القرص وكون الحمرة المرتفعة
أمارة عليها، لأن إرادة الاحتياط في الشبهة الحكمية بعيدة عن منصب الإمام (عليه السلام)
لأنه لا يقرر الجاهل على جهله.
ولا ريب أن الانتظار مع الشك في الاستتار واجب، لأنه مقتضى استصحاب
عدم الليل والاشتغال بالصوم وقاعدة الاشتغال بالصلاة، فالمخاطب بالأخذ

(1) وسائل الشيعة: ب 16 من أبواب المواقيت ح 14 ج 3 ص 129.
(2) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 348.
605

بالحائط هو الشاك في براءة ذمته عن الصوم والصلاة ويتعدى منه إلى كل شاك في
براءة ذمته عما يجب عليه يقينا لا مطلق الشاك، لأن الشاك في الموضوع
الخارجي مع عدم تيقن التكليف لا يجب عليه الاحتياط باتفاق من الأخباريين.
هذا كله على تقدير القول بكفاية استتار القرص في الغروب، وكون الحمرة غير
الحمرة المشرقية، ويحتمل بعيدا أن يراد من الحمرة الحمرة المشرقية التي لابد من
زوالها في تحقق المغرب وتعليله بالاحتياط حينئذ وان كان بعيدا عن منصب
الإمام (عليه السلام) كما لا يخفى.
ومنها: ما عن أمالي المفيد الثاني ولد الشيخ (قدس سرهما) بسند كالصحيح، عن مولانا
أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل بن زياد: " أخوك دينك
فاحتط لدينك بما شئت " (1) وليس في السند إلا علي بن محمد الكاتب الذي يروي
عنه المفيد.
والجواب عن هذه الرواية - أيضا - هو ما ذكره الشيخ (قدس سره) (2) من عدم دلالتها
على الوجوب، إذ لو حمل الأمر فيها على الوجوب لزم تخصيص الأكثر، لخروج
الشبهة الموضوعية مطلقا والشبهة الوجوبية الحكمية، ولو حمل على الاستحباب
لزم خروج موارد وجوب الاحتياط، فلابد من حمل الأمر فيها على الإرشاد أو
على الطلب المشترك بين الوجوب والاستحباب.
وحينئذ فلا ينافي لزومه في بعض الموارد وعدم لزومه في بعضها، لأن تأكد
الطلب الإرشادي وعدمه بحسب المصلحة الموجودة في الفعل، لأن الاحتياط هو
الاحتراز عن موارد احتمال المضرة فيختلف رضا المرشد على تركه وعدمه
بحسب مراتب المضرة، كما أن الأمر في الأوامر الواردة في الإطاعة للإرشاد
المشترك بين فعل الواجبات والمندوبات، والذي يقتضيه النظر الدقيق أن الأمر
المذكور بالاحتياط لخصوص الطلب الغير الالزامي، لأن المقصود منه بيان أعلى

(1) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 41 ج 18 ص 123.
(2) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 349.
606

مراتب الاحتياط لا جميع مراتبها ولا المقدار الواجب، والمراد من قوله (عليه السلام) ليس
التعميم من حيث القلة والكثرة والتفويض إلى مشية الشخص، لأن هذا كله مناف
لجعله بمنزلة الأخ، بل المراد أن أي مرتبة من الاحتياط شئتها فهي في محلها
وليس مرتبة من الاحتياط هنا لا تستحسن بالنسبة إلى الدين، لأنه بمنزلة الأخ
الذي هو ليس بمنزلة سائر الأمور لا يستحسن فيها بعض مراتب الاحتياط كالمال
وما عدا الأخ من الرجال فهو بمنزلة قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) (1).
ومنها: الرواية التي نقلت عن خط الشهيد في حديث طويل عن عنوان
البصري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول فيه: " سل العلماء ما جهلت، وإياك أن تسألهم
تعنتا وتجربة، وإياك أن تعمل برأيك شيئا، وخذ بالاحتياط في جميع أمورك
ما تجد إليه سبيلا، واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك عتبة
للناس (2).
والجواب عنها: أن مثل عنوان البصري الذي كان من العرفاء ولم يكن يرجع
إلى الأئمة في أموره ولذا كان الإمام (عليه السلام) غير مائل بملاقاته ومجالسته وقد
استأذن الدخول عليه فلم يجبه إلا بعد الاصرار، فلما دخل عليه سأل الموعظة
منه (عليه السلام) فوعظه (عليه السلام) بما في الرواية فلا له من الاحتياط في جميع أموره، فلا دلالة
لهذه الرواية على وجوب الاحتياط في المقام.
ومما ذكرنا في الجواب عن هذه الروايات يظهر الجواب عن سائر الروايات
المذكورة في هذا الباب فلا نطيل بذكرها، ومن أراد الاطلاع عليها وعلى جوابها
فعليه بمراجعة كلام الشيخ (قدس سره) (3) فإن كل ما ذكره في مقام الجواب عنها فهو حق
وصواب مع أنها لو دلت على وجوب الاحتياط لكانت دالة عليه مطلقا. والحال
أنهم لا يقولون به في الشبهات الوجوبية والموضوعية، فتأمل.

(1) التغابن: 16.
(2) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 54 ج 18 ص 127.
(3) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 347 - 349.
607

وأما " العقل " فتقريره من وجهين:
أحدهما: هو أن العقل مستقل بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل
حرمته من جهة العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما اشتبه
وجوبه أو حرمته، ولم تكن هناك حجة على حكمه تفريغا للذمة بعد اشتغالها، ولا
خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلا عن بعض الأصحاب (1).
والجواب: أن لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي مسلم فيما إذا لم
ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي. وهنا قد انحل العلم الإجمالي،
إذ كما أنا نعلم بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في الشريعة كذلك نعلم بثبوت
الطرق والأمارات المثبتة للتكاليف بالمقدار المعلوم بالإجمال، فإن كل واحد من
هذه الأمارات والأصول وإن لم يكن معلوما بالتفصيل حتى يوجب الانحلال الا
انا نعلم بثبوت التكاليف فيها بالمقدار المعلوم بالإجمال، مثلا إذا علمنا إجمالا
بوجود ألف تكليف واقعي في المشتبهات وعلمنا بثبوت عشرة آلاف من الطرق
والأمارات، وعلمنا إجمالا أيضا بأن المصيب منها ألف أو أزيد، فحينئذ لا علم
بثبوت تكاليف غير التكاليف الفعلية التي في موارد الطرق والأمارات.
إن قلت: نعم، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقا بالعلم بالواجبات، لأنه لو كان
العلم بها مسبوقا بالعلم بها لا يوجب الانحلال، إذ يصير المقام - حينئذ - من قبيل
ما لو علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثم تنجس أحدهما المعين بسبب جديد،
وعلمنا بتنجسه تفصيلا بذلك السبب الجديد، فكما أن هذا العلم التفصيلي بنجاسة
أحدهما المعين لا يخرج الآخر عن طرفية العلم الإجمالي الأول، ولا يوجب عدم
وجوب الاجتناب عنه، بل بحاله في وجوب الاجتناب كما لو لم يكن هذا العلم
التفصيلي، وإلا لزم رفع التكليف بالاجتناب عن أحد فردي المعلوم نجاسة
أحدهما إجمالا بتنجيس الآخر، فكذلك في المقام العلم التفصيلي بوجود واجبات
ومحرمات بمقتضى الأمارات والأصول لا يوجب انحلال العلم الإجمالي بوجود

(1) راجع فرائد الأصول: في الشبهة المحصورة ج 2 ص 409.
608

الواجبات والمحرمات وخروج ما عدا مؤديات الأمارات والأصول من أطراف
الشبهة عن طرفية العلم الإجمالي في عدم وجوب الاحتياط فيها.
قلت: العلم الحادث إنما لا يوجب الانحلال إذا كان المعلوم أيضا حادثا
كالمثال المذكور أي العلم بحدوث النجاسة في أحد الإناءين المعلوم نجاسة
أحدهما إجمالا، وأما إذا كان المعلوم سابقا كما في المقام فيوجب الانحلال.
فالمدار في الانحلال وعدمه على سبق المعلوم ولحوقه لا على سبق العلم ولحوقه،
ففرق بين المثال المذكور الذي يكون المعلوم والعلم كلاهما حادثين وبين المقام
الذي يكون المعلوم سابقا وإن كان العلم حادثا وبعبارة [أخرى] أن النجاسة
المعلومة تفصيلا في المثال غير النجاسة المعلومة إجمالا، فلا يوجب انحلال العلم
الإجمالي، بخلاف الواجبات والمحرمات المعلومة بمقتضى الطرق والأمارات،
فإنها عين الواجبات والمحرمات المعلومة بالإجمال فإنها توجب الانحلال.
الثاني: ما قيل من استقلال العقل بالحظر في الأفعال الغير الضرورية قبل ورود
الشرع (1) بتوهم أنها تصرف في ملك الغير وهو الله عز وجل، وهو مما يستقل العقل
بقبحه ولا أقل من الوقف وعدم استقلاله لا به ولا بالإباحة، ولم يثبت شرعا إباحة
ما اشتبه حرمته، فإن ما دل على الإباحة معارض بما دل على وجوب التوقف
والاحتياط.
وفيه: أولا: أنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والإشكال، وإلا لصح
الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال على الإباحة (2) من جهة أن
مولى الموالي لا يقاس بغيره، فإذا كان فعل ليس فيه ضرر عاجل وآجل وكان فيه
نفع كشم الورد وأمثاله حكم العقل بإباحته وعدم المنع عنه، فاستكشاف الرخصة
كاستكشافها فيها من شاهد الحال بالنسبة إلى الموالي الظاهرية.
وثانيا: أنه تثبت الإباحة شرعا، لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على

(1) نقله في الحدائق الناضرة: ج 1 ص 44 وكذلك في فرائد الأصول: ج 1 ص 355.
(2) قاله في الحدائق الناضرة: ج 1 ص 44.
609

التوقف والاحتياط للمعارضة.
وثالثا: أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة القول بالاحتياط في هذه
المسألة، لأن الكلام في تلك المسألة قبل ورود الشرع وفي هذه المسألة بعد
وروده، لاحتمال أن يقال معه بالبراءة في هذه المسألة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان،
ففرق بين قبل ورود الشرع وبعد وروده وبيان الواجبات والمحرمات، فإنه في
الثاني لو تفحصنا وما ظفرنا بحرمة الشيء يحكم العقل بالبراءة من جهة قبح
العقاب بلا بيان، وليس كذلك الأول، فتأمل.
بقي هنا أمور مهمة، لا بأس بالإشارة إليها.
الأول: أن ما حكي عن المحقق (قدس سره) من التفصيل بين ما يعم به البلوى وغيره في
الرجوع إلى أصالة البراءة في الأول دون الثاني (1)، فهو مما لا يرجع إلى محصل
وتفصيل في محل النزاع، لأنه لو خرج المشتبه بواسطة عموم البلوى عن كونه
مشتبها فهو خارج عن موضوع النزاع، وإن لم يخرج عن كونه مشتبها فلا فرق بينه
وبين غيره فتخصيص حجية أصالة البراءة به دون غيره تخصيص بلا مخصص،
فراجع كلامه.
الثاني: أنه لا إشكال في أن الأصول ليست في رتبة واحدة، بل بينها ترتب
وطولية، فإن الأصول الموضوعية رتبتها مقدمة على الأصول الحكمية، فما دامت
الأصول الموضوعية جارية لا تنتهي النوبة إلى الأصول الحكمية، وكذلك الأصول
الحكمية بعضها مقدمة على البعض الأخر، فان الاستصحاب الحكمي مقدم على
غيره من الأصول الحكمية - مثلا - كما سيجيء الكلام في تعارض الأصول. فعلى
هذا لا تجري أصالة البراءة شرعا وعقلا فيما كان هناك أصل موضوعي مطلقا ولو
كان موافقا، فإنه مع وجود الأصل الموضوعي لا مجال لأصالة البراءة أصلا
لوروده عليها، فإذا شك في حلية حيوان وحرمته لا تجري أصالة الإباحة مع

(1) المعتبر: ج 1 ص 32.
610

الشك في قبوله التذكية، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية فأصالة
عدم التذكية تدرجها فيما لم يذك، وهو حرام إجماعا.
والحاصل: أن مع جريان أصالة عدم التذكية التي هي من الأصول الموضوعية
من جهة الشك في تحققها بواسطة الشك في شرائطها التي من جملتها قابلية
الحيوان لها لا تجري أصالة الإباحة لاندراجه بواسطة هذا الأصل الموضوعي فيما
لم يذك وهو حرام إجماعا ولا حاجة إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكى شرعا
ضرورة أن غير المذكى شرعا كالذي مات حتف أنفه في الحكم والحرمة شرعا
سواء قلنا بدخوله في عنوان الميتة موضوعا أم لا فيما إذا شك في قبوله التذكية
وعدمه، وأما إذا علم بقبوله التذكية وشك في حليته وحرمته فلا مانع من جريان
أصالة الإباحة إذا شك في حلية هذا الحيوان المذكى يقينا وحرمته كالشك في
سائر الأمور التي يشك في حليتها وحرمتها مع عدم أصل فيها غير أصالة الإباحة،
وما ذكرنا من أنه مع الشك في قبول التذكية لا تجري أصالة الإباحة، لأن أصالة
عدم التذكية مقدمة عليها إنما هو إذا لم يكن هناك أصل آخر موضوعي مثبت
لقبوله التذكية، كما إذا شك - مثلا - في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع
قابليته لها أم لا؟ فأصالة قبوله لها معه محكمة، ومعها لا مجال لأصالة عدم تحققها،
فهو قبل الجلل كان يطهر ويحل بالفري بسائر شرائطها فالأصل أنه كذلك بعده
ومما ذكرنا ظهر الحال فيما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة الموضوعية في
الحيوان وأن أصالة عدم التذكية محكمة فيما الشك فيها لأجل شك في تحقق
ما اعتبر فيها شرعا، كما أن أصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طرو ما يمنع عنه
فيحكم بها فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه، كما لا يخفى.
الثالث: أنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبية أو
التحريمية في العبادات والمعاملات بمجرد احتمال المطلوبية الذي هو موضوع
الاحتياط ولو مع قيام الحجة المعتبرة على نفي التكليف، إذ مجرد احتمال
المطلوبية كاف في حسن الاحتياط عقلا والحجة المعتبرة لا تنفي الاحتمال، كما
611

أنه لا شبهة في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الأمر
أو النهي.
وربما يشكل جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب
وغير الاستحباب من جهة أن العبادة لابد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم
بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا، وليست كالتوصليات في حصول الاحتياط فيها
بمجرد الإتيان بما احتمل وجوبه وترك ما احتمل تحريمه، بل لابد فيها من قصد
القربة وإتيانها بداعي الأمر، وهو موقوف على العلم بالأمر وهو مفقود، فلو أتى
المكلف بما احتمل وجوبه وعباديته بداعي الأمر مع عدم علمه به لكان تشريعا
محرما، ولو أتى به بلا داعي الأمر لما كان احتياطا في العبادة، لأن الاحتياط في
العبادة هو أن يأتي بها بجميع ما اعتبر فيها التي من جملتها قصد الأمر، فإتيانها
بدون داعي الأمر لغو محض مطلقا، سواء كان إتيانها مطلوبا واقعا أم لا.
وقد تصدى بعض لدفع هذا الإشكال بأن من حسن الاحتياط عقلا نستكشف
بقاعدة الملازمة الأمر الشرعي (1) بإتيان ما احتمل كونه عبادة، وهو كاف في
عباديته فيما أتى بقصده.
وفيه: أن هذا الأمر متوقف على ثبوت الاحتياط توقف العارض على
المعروض، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته. وبعبارة أخرى أن الأمر
الشرعي المستكشف من حسن الاحتياط بقاعدة الملازمة موضوعه الاحتياط،
فلابد أن يكون الموضوع متحققا حتى يتعلق به الأمر، فإذا كان الموضوع متوقفا
على الأمر - كما هو المفروض - فلا يمكن أن يكون هذا الأمر محققا للموضوع،
لاستلزامه الدور.
فلابد أن يكون أمر آخر محققا للموضوع حتى يتحقق به موضوع الاحتياط في
العبادة حتى يتعلق به الأمر المستكشف بقاعدة الملازمة، والمفروض أنه غير معلوم.
وبعض آخر تصدى لدفع هذا الإشكال بأن ترتب الثواب على فعل الاحتياط

(1) نقله في فرائد الأصول: ج 1 ص 381.
612

كاشف عن تعلق الأمر به (1)، وهو كاف في العبادية فيما أتى بقصده.
وفيه: أيضا أنه لابد اولا من تحقق عنوان الاحتياط حتى يترتب عليه الثواب
ويستكشف من ترتب الثواب الأمر به، فكيف يمكن أن يكون هذا الأمر
المستكشف من ترتب الثواب محققا لموضوع الاحتياط، والحال أنه فرع تحققه،
هذا. مع أن حسن الاحتياط لا يكون كاشفا عن تعلق الأمر به بنحو اللم، ولا ترتب
الثواب عليه كاشفا عنه بنحو الإن، بل يكون حاله في ذلك حال الإطاعة، فإنه نحو
انقياد وإطاعة، فكما لا يمكن تعلق الأمر المولوي بالإطاعة لعدم قابليتها له
فكذلك الاحتياط، فتأمل.
وبعض آخر تصدى لدفع الإشكال بما هو التزام به، وهو أن الاحتياط في
العبادات هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة (2).
وفيه: مضافا إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على حسنه بهذا المعنى فيها بداهة
أنه ليس باحتياط، بل هو أمر لو دل عليه دليل كان مطلوبا نفسيا مولويا عباديا،
والعقل لا يستقل إلا بحسن الاحتياط، والعقل لا يرشد إلا إليه. نعم لو كان هناك
دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة لما كان محيص عن دلالته
اقتضاء على أن المراد به ذلك المعنى بناء على عدم إمكانه فيها بمعناه الحقيقي، كما
لا يخفى أنه التزام بالإشكال كما ذكرنا.
ولكن الحق في دفع الإشكال هو أنه لا يتوقف الاحتياط في العبادات على
الأمر المحقق، بل يكفي الأمر المحتمل وإتيان العمل برجاء المطلوبية، بل هو آكد
في العبادية من اتيان العمل بداعي أمره المحقق، فإن كان واقعا مطلوبا فقد أتى
بالعمل بتمام ما اعتبر فيه، وإن لم يكن مطلوبا كان لغوا كما في سائر موارد
الاحتياط في التوصليات بلا فرق بين أن يكون قصد القربة المعتبرة في العبادات
من جهة أخذه في متعلق الأمر على القول بإمكان أخذه فيه، أو من جهة دخله في

(1) نقله في كفاية الأصول: في الأصول العملية ص 399.
(2) فرائد الأصول: ج 1 ص 382.
613

الفرض، إذ بناء على كفاية إتيان العمل برجاء المطلوبية واحتمال الأمر في تحقق
عنوان الاحتياط في العبادة لافرق بين أن يكون قصد القربة دخيلا في المتعلق أو
الغرض، كما أنه بناء على عدم الكفاية لافرق بينهما أيضا. فما عن الكفاية (1).
وغيرها من الفرق بينهما الظاهر أنه لا وجه له.
وقد انقدح بذلك أنه لا حاجة في جريان الاحتياط في العبادات إلى تعلق أمر
بها، بل لو فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط شيء، بل كان كسائر ما علم وجوبه
أو استحبابه منها، كما لا يخفى.
ثم إن الإشكال المذكور إنما هو في صورة عدم النص على وجوب ذلك
الشيء المحتمل كونه عبادة، وأما في صورة وجود نص ضعيف على وجوبه أو
استحبابه فقد يقال بعدم ورود الإشكال المذكور للتمكن من إتيان الفعل الذي دل
الخبر الضعيف على وجوبه أو استحبابه بقصد القربة، لصيرورته مستحبا من جهة
قاعدة التسامح في أدلة السنن التي هي من القواعد المعروفة المستدل عليها
بأخبار من بلغ (2) التي هي مستفيضة، بل لا يبعد تواترها.
ولكن في دلالة هذه الأخبار على صيرورة الفعل الذي بلغ الثواب عليه بخبر
ضعيف مستحبا شرعا كسائر المستحبات التي ثبت استحبابها بعناوينها الخاصة
حتى يتمكن المكلف من قصد الأمر والقربة جزما تأمل، إذ يحتمل أن يكون مفاد
أخبار من بلغ أن الشرائط المعتبرة في حجية خبر الواحد من الإيمان والعدالة
وغيرهما تختلف بالنسبة إلى الأحكام الإلزامية كالوجوب والحرمة وغيرها
كالاستحباب والكراهة فتكون هذه الأخبار تخصيصا للأدلة الدالة على اعتبار هذه
الشرائط في حجية خبر الواحد، فإذا دل خبر ضعيف على وجوب شيء فلا يثبت
به وجوبه، وأما لو دل على استحباب شيء فيثبت به استحبابه من جهة تلك
الأخبار الدالة على عدم اعتبار تلك الشرائط فيما كان المخبر به حكما غير إلزامي.

(1) كفاية الأصول: ص 399.
(2) وسائل الشيعة: ب 18 من أبواب مقدمة العبادات ج 1 ص 59.
614

وعلى تقدير استفادة هذا المعنى من الأخبار لاوجه للإيراد بأن الاستحباب
حكم شرعي كالوجوب، ولا يثبت إلا بدليل قوي معتبر، لما ذكرنا من إمكان
اختلاف الشرائط بالنسبة إلى الأحكام الإلزامية وغيرها، إذ يمكن أن يكتفي
الشارع في إثبات الأحكام الغير الإلزامية بأخبار من لا يعلم كذبه - مثلا - لعدم
أهميتها، ولا يكتفي في إثبات الأحكام الإلزامية إلا بإخبار المؤمن العادل - مثلا -
لأهميتها، كما ترى هذا الاختلاف في إثبات الموضوعات فإنه اكتفى في إثبات
بعضها بعدلين (1)، وفي بعضها بشاهد وامرأتين (2)، أو بشاهد ويمين (3)، وفي بعضها
أعتبر أربعة رجال (4)، لأهميتها. فلا يبعد بحسب الاعتبار والاستحسان العقلي - لو
كنا عالمين به - أن يكون حال الأحكام أيضا كالموضوعات.
فعلى هذا يصير هذا الفعل الذي دل الخبر الضعيف على استحبابه مستحبا
شرعا، ومعنى التسامح حينئذ هو عدم اعتبار الشارع في الخبر الدال على
استحباب شيء ما اعتبره في الخبر الدال على وجوب شيء، واستحباب الفعل
يثبت على هذا بهذا الخبر الضعيف لا بتلك الأخبار.
ويحتمل أن يكون مفادها استحباب الفعل الذي بلغ عليه الثواب بهذا العنوان
الثانوي وهو بلوغ الثواب عليه وإن لم يكن مستحبا بعنوانه الأولي، فيكون ترتب
الثواب عليه كاشفا عن تعلق الأمر الشرعي به كما هو مدعى القائلين بالتسامح في
أدلة السنن كما يشعر به قوله في بعض الأخبار وإن كان رسول الله لم يقله (5)
وأمثاله من العبائر التي في هذه الأخبار.
ويحتمل أن يكون مفادها إعطاء الثواب الموعود من جهة عنوان الانقياد من

(1) وسائل الشيعة: ب 5 من أبواب كيفة الحكم واحكام الدعوى ج 18 ص 173.
(2) وسائل الشيعة: ب 15 من أبواب كيفة الحكم واحكام الدعوى ج 18 ص 197.
(3) وسائل الشيعة: ب 15 من أبواب كيفة الحكم واحكام الدعوى ح 2 ج 18 ص 198.
(4) وسائل الشيعة: ب 5 من أبواب كيفة الحكم واحكام الدعوى ج 18 ص 173.
(5) وسائل الشيعة: ب 18 من أبواب مقدمة العبادة ح 1 ج 1 ص 59.
615

دون أن يصير الفعل مستحبا وراجحا شرعا كما يشعر به أيضا قوله: " أوتيه وإن لم
يكن الحديث كما بلغه " (1) وأمثاله من العبائر.
ويحتمل أن يكون مفادها أن عمل الخير الذي أحرز عدم حرمته (2) ورجحانه
إذا بلغ مقدار من الثواب عليه بخبر ضعيف كزيارة الحسين (عليه السلام) وغيرها من
الأفعال المسلمة رجحانها واستحبابها في الشرع وعمله الشخص بداعي ذلك
الثواب الموعود أعطاه الله ذلك الثواب الموعود، وإن لم يكن كذلك واقعا.
ويقرب هذا الاحتمال مثل قوله في رواية الاقبال: " من بلغه شيء من
الخير " (3) الظاهر في أن خيريته ثابتة. وبضم المحكمات من هذه الأخبار إلى
متشابهاتها يقوى في النظر أن يكون المستفاد من هذه هو ذلك الاحتمال الأخير.
وعليه لا دلالة لهذه الأخبار على التسامح في أدلة [السنن] بالمعنى المذكور،
وهو صيرورة الفعل مستحبا.
ولكن يبعد هذا الاحتمال مثل قوله: " من بلغه ثواب من الله على عمل... " (4)
فإن لفظ العمل يعم ما كان ثابتا رجحانه أم لا، وليس المقام مقام الإطلاق والتقييد
حتى يقيد إطلاقه، فتأمل.
الرابع: في أن الشبهة الموضوعية التحريمية هل يجب الاجتناب فيها أم لا؟
قد تقدم أن الشيخ (قدس سره) جعل التكلم في أصالة البراءة في مطالب ثلاثة: أحدها:
دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة. ثانيها: دوران الأمر بين الحرمة وغير
الوجوب. وثالثها: دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.
وتعرض لكل واحد من المطالب الثلاثة في طي مسائل أربع من جهة أن منشأ
الشك فيها إما فقدان النص، أو إجماله، أو تعارض النصين أو الأمور الخارجية
والاشتباه من جهة الموضوع (5) وصاحب الكفاية لما رأى عدم فائدة مهمة في

(1) وسائل الشيعة: ب 18 من أبواب مقدمة العبادات ح 7 ج 1 ص 60.
(2) في الأصل: أحرز حرمته.
(3) إقبال الاعمال: ص 627 س 4.
(4) وسائل الشيعة: ب 18 من أبواب مقدمة العبادات ح 7 ج 1 ص 60.
(5) فرائد الأصول: ج 1 ص 315 - 402.
616

تثليث المطالب وتربيع المسائل فأدرج المطلبين الأولين في ضمن مطلب واحد
ومسائله الأربع في ضمن مسألتين: إحداهما: الشبهة الحكمية التي هي المقصودة
بالبحث، والثانية: الشبهة الموضوعية (1)، قد عرفت أن ذكرها استطرادي.
أما جعل المطلبين مطلبا واحدا فلما عرفت من أن الحق عدم الفرق بين
الشبهة الوجوبية والتحريمية في جواز الرجوع إلى البراءة وعدمه، وإن قال
الأخباريون كلهم أو جلهم بالفرق بينهما (2).
أما جعل المسائل الأربع مسألتين، فلما عرفت أيضا من أنه لافرق بين فقد
النص وإجماله وتعارضه، لاشتراك الثلاثة في عدم الحجية المعتبرة على التكليف
الذي هو المناط في جواز الرجوع إلي البراءة.
والحاصل أن دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة ودوران الأمر بين
الحرمة وغير الوجوب لما لم يكن بينهما فرق من حيث الأدلة الدالة على جواز
الرجوع إلى البراءة تعرض عنهما في الكفاية في ضمن مطلب واحد (3) بخلاف
دوران الأمر بين الوجوب والحرمة، فإنه تكلم فيه على حدة من جهة الفرق بينه
وبينهما وجعل المسائل الأربع مسألتين (4)، فمن جهة عدم الفرق في الشبهة
الحكمية بين الصور الثلاثة المذكورة - أعني فقد النص واجماله وتعارضه - جعل
المسائل الثلاث مسألة واحدة.
ولما فرغ عنها تعرض للمسألة الثانية أعني الشبهة الموضوعية لا مطلقا، بل
التحريمية منها في تنبيهات المسألة الأولى فقال: إنه لا يخفى أن النهي عن شيء إذا
كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان
ولو دفعة لما امتثل أصلا كان اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرة ولو
بالأصل، فلا يجوز الإتيان بشيء يشك معه في تركه إلا إذا كان مسبوقا به
ليستصحب مع الإتيان.

(1) كفاية الأصول: ص 384.
(2) الحدائق الناضرة: ج 1 ص 43 - 44.
(3) كفاية الأصول: ص 384.
(4) كفاية الأصول: ص 385.
617

نعم لو كان بمعنى طلب ترك كل فرد منه على حدة لما وجب إلا ترك ما علم
أنه فرد، وحيث لم يعلم تعلق النهي إلا بما علم أنه مصداقه، فأصالة البراءة في
المصاديق المشتبهة محكمة... (1) إلى آخره.
ومراده (قدس سره) من هذا الكلام هو أن النهي إن تعلق بفعل له تعلق بالأعيان
والأمور الخارجية مثل: لا تشرب الخمر، ولا تقتل النفس المحترمة، ولا تصل في
أجزاء مالا يؤكل لحمه وأمثالها، فهذا التكليف الواحد ينحل إلى تكاليف عديدة
حسب تعدد الأفراد والمصاديق الخارجية، ويكون على رأس كل فرد شخص من
الحكم، لأن لازم جعل الحكم الكلي للمتعلق الكلي هو انحلال الحكم وتعدده
بتعدد أفراد المتعلق، فكل ما علم أنه فرد من المتعلق يستتبعه فرد من الحكم
ويجب تركه واجتنابه، وكل ما لم يعلم أنه فرد منه يجوز الرجوع إلى أصالة البراءة
بلا فرق بين أن نقول بأن النهي زجر عن الوجود - كما هو الظاهر - حيث إن النهي
تعلق بالطبيعة كالأمر إلا أن الأمر بعث إلى الوجود لما فيها من المصلحة، والنهي
زجر عن الوجود لما فيها من المفسدة، ولازم الزجر عن الوجود هو الانعطاف
إلى العدم، أو نقول بأن النهي بعث إلى العدم لما في العدم من المصلحة، ولازم
البعث إلى العدم هو الزجر عن الوجود - كما هو خلاف الظاهر - حيث إن الأمر
ناش عن المصلحة والنهي ناش عن المفسدة لاعن المصلحة في العدم، ولو كان
العدم في بعض الموارد ذا مصلحة وبواسطة وجود المصلحة فيه تعلق النهي
كترك الأكل والشرب وغيرهما من المفطرات في الصوم نسمي ذلك الترك واجبا
لا الفعل حراما.
وعلى أي حال إذا شك في هذا القسم في شيء أنه من مصاديق الخمر - مثلا -
يجوز الرجوع إلى أصالة البراءة، لأن العلم بالكبرى الكلية - وهي حرمة شرب
الخمر - لا يكفي في تنجز التكليف، بل لابد في تطبيقها على الصغرى الخارجية،
ومع الشك في التطبيق يرجع إلى البراءة بالنسبة إلى هذا المصداق المشتبه وإن

(1) كفاية الأصول: ص 402.
618

تعلق النهي بفعل لا يكون له متعلق من الأعيان والأمور الخارجية ك‍ " لا تكذب
ولا تفسق ولا تغصب " وأمثالها، فهذا التكليف الواحد لا ينحل إلى تكاليف عديدة
بحيث يكون لكل منها موافقة ومخالفة على حدة، بل يكون تكليفا واحدا بسيطا له
موافقة واحدة ومخالفة واحدة لو فرض كونه آنيا، ولم يكن له عموم بحسب
الأزمنة، ولو كان له عموم بحسب الأزمنة يكون له في كل زمان زمان موافقة
ومخالفة واحدة كالزمان الاول، فالشبهة الموضوعية من هذا القسم من النهي لابد
أن يتركها المكلف ويجتنبها ليخرج عن عهدة هذا التكليف الوحداني البسيط ولو
بالأصل، فلا يجوز له ارتكاب المصداق المشتبه إلا إذا كان حاله السابق ترك هذا
العنوان المنهي، ومع ارتكابه لهذا المشتبه يشك في ارتكابه له وعدم ارتكابه
فيستصحب معه بقاء العدم لو كان النهي بعثا إلى العدم، أو عدم الوجود لو كان
زجرا عن الوجود ولو لم يكن أصل به يحرز الترك كما إذا كانت حالته السابقة
مختلطة ومشتبهة، فلابد من ترك المصداق المشتبه بحكم العقل ليخرج من عهدة
هذا التكليف الوحداني. والحاصل: أنه لابد في هذا القسم من النهي من إحراز
الترك ولو بالأصل، فلو لم يحرز حتى بالأصل يجب الاجتناب عن موضوع
المشتبه بخلاف القسم الأول فإنه لا يجب الاجتناب عنه، والغالب في النواهي هو
القسم الأول، فتأمل في المقام.
الخامس: أنه قد عرفت حسن الاحتياط عقلا وشرعا بمجرد قيام الاحتمال،
سواء كانت الشبهة وجوبية أو تحريمية، وسواء كانت حجة معتبرة على نفي
التكليف أو لم تكن، وسواء كان المورد من الأمور المهتم بها من الشارع كالدماء
والفروج والأموال أو من غيرها، وسواء كان الاحتمال قويا أو ضعيفا، فإذا كان
الشخص ملتفتا من أول الأمر بأنه لو احتاط في الجميع ينجر إلى الوسواس، أو
يترتب على الاحتياط مفسدة أخرى تكون غالبة على حسن الاحتياط، فلابد من
تبعيض الاحتياط بأن يقدم في مقام الاحتياط ما هو أقوى احتمالا مثل أن يحتمل
وجوب عشرة أمور، خمسة منها بالاحتمال القوي، وخمسة منها بالاحتمال
619

الضعيف [فلو] احتاط بإتيان العشرة المحتملة ينجر إلى الوسواس، ولو احتاط
بإتيان خمسة منها لا ينجر فيحتاط بإتيان الخمسة المحتملة باحتمال قوي دون
الخمسة الأخرى أو ما هو أهم محتملا، وإن كان أضعف احتمالا بأن كان المحتمل
من الأمور الثلاثة. وقد تزاحم أقوائية الاحتمال مع أهمية المحتمل بأن كان
المحتمل باحتمال قوي من غير الأمور الثلاثة، والمحتمل بالاحتمال الضعيف من
الأمور الثلاثة، ولابد من الترجيح حينئذ مع عدم إمكان الجمع.
وأما لو لم يكن من أول الأمر ملتفتا واحتاط تدريجا حتى انجر إلى
الوسواس أو ترتب عليه محذور آخر، فلابد لهذا الشخص من سد باب الاحتياط
بالمرة، وليس له التبعيض، وهل الاحتياط مع صيرورته منهيا عنه لانجراره إلى
الوسواس أو ترتب مفسدة أخرى عليه يكون مبطلا للعمل أم لا؟ وجهان مبنيان
على أنه عنوان منطبق على العمل أو مقارن له، فإن قلنا بالأول فيكون العمل
باطلا، وإن قلنا بالثاني فلا يكون العمل باطلا، فهو من هذه الجهة كالتجري
والتشريع، فتأمل.
هذا تمام الكلام فيما لو دار الأمر بين وجوب الشيء وعدمه أو حرمة الشيء
وعدمها، سواء كان من جهة فقد النص أو إجماله أو تعارض النصين، أو من جهة
الشبهة الموضوعية التحريمية أو الوجوبية.
وأما لو دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته سواء كانت الشبهة موضوعية أو
حكمية فالكلام فيه في مقامين: أحدهما من حيث الالتزام بناء على وجوب
الالتزام بالأحكام الشرعية الفرعية، والآخر من حيث العمل.
أما الكلام في المقام الأول وهو وجوب الالتزام بالاحكام الفرعية فمع أنه
لا دليل على وجوبه في الأحكام الفرعية التي يكون المطلوب فيها العمل دون
الاعتقاد أنه على تقدير تسليم وجوبه من جهة وجوب الالتزام بما جاء به
النبي (صلى الله عليه وآله) إن أريد الالتزام بالحكم الواقعي فلابد أن يكون الالتزام به تابعا له في
الإجمال والتفصيل، فإن كان الحكم الواقعي معلوما بالتفصيل فيلزم به تفصيلا، وإن
620

كان معلوما بالإجمال فيلزم به كذلك.
وفي المقام لما كان الحكم الواقعي معلوما بالإجمال فلابد من الالتزام به
إجمالا وعلى ما هو عليه في الواقع إن واجبا فواجب وإن حراما فحرام، وهو أمر
ممكن في المقام ولا يترتب عليه محذور، وأما الزائد عليه فلا يمكن لما يترتب
عليه من المحذور، إذ لو التزم بخصوص الوجوب أو الحرمة لكان تشريعا محرما،
لعدم علمه بخصوص أحدهما فكيف يمكن الالتزام به؟! وكذلك لو التزم بأحدهما
مخيرا، لأن الحكم الواقعي هو أحدهما معينا لا مخيرا، وقياس المقام بالخبرين
المتعارضين اللذين يدل أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة باطل، إذ
التخيير في الخبرين المتعارضين بناء على حجية الأخبار من باب السببية على
القاعدة، لأن كلا منهما حجة يجب الأخذ به، ولما لم يمكن الأخذ بكليهما
لتعارضهما وتضادهما، والأخذ بأحدهما معينا ترجيح بلا مرجح فيجب الأخذ
بأحدهما مخيرا، لأنه القدر الممكن في المقام وبناء على الطريقية على خلاف
القاعدة، لأن مقتضى القاعدة بناء عى الطريقية هو الغاؤهما والرجوع إلى الأصل،
إلا أنه ثبت التخيير بينهما بمقتضى الأخبار.
ولا يمكن إثبات التخيير والالتزام به بشيء من الوجهين.
أما الأول، فلاختصاصه بموارد تعارض الحجتين لا تعارض الحق والباطل،
كما في ما نحن فيه، وبعبارة أخرى التخيير في المسألة الأصولية في تعيين الحجة
من بين الحجتين ليلتزم بها ويعمل على طبقها لتعيين المقلد أحد المجتهدين ليقلده
ويعمل بفتواه لا ربط له بالتخيير في الحكم الفرعي من بين الحكمين اللذين يعلم
بحقية أحدهما وبطلان الآخر.
وأما الثاني، فلأن التخيير حكم ورد في الخبرين المتعارضين على خلاف
القاعدة، ولا يمكن التعدي إلى غيرهما إلا إذا كان ثبوت التخيير فيهما من جهة
إبدائهما الاحتمال، وحينئذ فالقياس في محله.
وإن أريد الالتزام بالحكم الظاهري فهو فرع إمكان جعل الوظيفة الظاهرية
621

في المورد، وهو غير ممكن أما الاستصحاب، فلعدم جريانه في أطراف العلم
الإجمالي. وأما التخيير، فلما عرفت. وأما البراءة والحلية، فلان أدلة البراءة من
قبح العقاب بلا بيان وغيره مخصوصة بما كان الشك في جنس التكليف ولا تشمل
ما إذا كان جنسه معلوما وكان الشك في نوعه كما في المقام، ولذا نقول بوجوب
الاحتياط فيما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر، وأما الحلية فإن
أريد بها الحلية بالمعنى الأخص، وهي الإباحة فهي قطعية العدم، فكيف يمكن
جعل الوظيفة مع القطع بمخالفتها للحكم الواقعي؟!
وإن أريد بها الحلية بالمعنى الأعم الشاملة للوجوب والاستحباب والكراهة
فلا مانع من شمول: " كل شيء لك حلال " بهذا المعنى للمورد، إذ لا قطع بمخالفتها
للواقع إذا كان المراد بها الوجوب، ولكن لازمه أن يكون مشكوك الوجوب
والحرمة واجبا ظاهرا، والحال أنه ليس كذلك، ولم يقل به أحد.
وأما الاحتياط، فلعدم إمكانه في المقام فكيف يمكن جعل الوظيفة التي
لا يتمكن المكلف من العمل بها والجري على طبقها أصلا؟! والحال أن جعل
الوظيفة إنما يكون لأجل أن يعمل المكلف على طبقها، والمكلف هنا لا يتمكن من
العمل على طبق الاحتياط بتحصيل الموافقة القطعية، كما أنه لا يتمكن أيضا من
المخالفة القطعية، لأنه لا يخلو إما من الفعل المطابق لاحتمال الوجوب أو الترك
المطابق لاحتمال الحرمة.
وإذا عرفت أن الالتزام بالحكم الواقعي على إجماله أمر ممكن وحاصل،
والالتزام به تفصيلا غير ممكن، والالتزام بالحكم الظاهري أيضا غير ممكن، لأنه
فرع جعل الوظيفة الظاهرية، والمورد غير قابل لجعلها.
فينتهي الأمر إلى التكلم في المقام الثاني:
وهو مقام العمل، وبعد ما عرفت أن المكلف لا يخلو تكوينا وفي الخارج إما
من الفعل المطابق لاحتمال الوجوب أو الترك المطابق لاحتمال الحرمة وليست له
وظيفة مجعولة من الشارع في مقام العمل، فلابد من الرجوع إلى حكم العقل في
622

هذا المقام، فإن كان الوجوب والتحريم متساويين احتمالا ومحتملا فالعقل يحكم
بالتخيير بينهما، وإن كان أحدهما أقوى احتمالا كما إذا كان احتمال الوجوب أو
الحرمة أقوى من احتمال الآخر، أو محتملا كما إذا كان أحدهما آكد، وإن كانا
بحسب الاحتمال متساويين فلابد من ترجيح الأقوى احتمالا أو محتملا وقد
تتعارض أقوائية الاحتمال مع آكدية المحتمل، كما إذا كان الوجوب أقوى
احتمالا والحرمة آكد محتملا أو بالعكس، فلابد من ملاحظة حكم العقل فإن حكم
بترجيح أحدهما فهو، والا فالتخيير.
هذا هو الذي ينبغي أن يقال في المقام لا ما قيل من ترجيح احتمال الحرمة
على احتمال الوجوب، من جهة أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة (1)، لما فيه
من أن جلب بعض المنافع أولى من دفع بعض المضار في صورة دوران الأمر
بينهما يقينا فكيف يقدم احتمال دفع المفسدة على احتمال جلب المنفعة مطلقا في
صورة دوران الأمر بينهما احتمالا؟!
هذا تمام الكلام في الشك في التكليف بجميع أقسامه.
وأما الشك في المكلف به مع تيقن التكليف فتارة يكون الشك بين المتباينين،
وضابط الشك بين المتباينين أن لا يتمكن المكلف من الاحتياط وامتثال التكليف
الواقعي إلا بفعلين وايجادين كدوران الأمر بين الظهر والجمعة في يومها وكدوران
الأمر بين القصر والاتمام، فإنه لا يتمكن المكلف من الاحتياط بفعل واحد، بل
لابد له من فعلين وايجادين، إذ الركعتين بشرط " لا " مباين وجودا مع الركعتين
بشرط شيء وأخرى يكون الشك بين الأقل والأكثر، وضابطه أن يتمكن المكلف
من الاحتياط وامتثال التكليف الواقعي بفعل واحد كدوران الأمر بين وجوب
السورة في الصلاة واستحبابها.
والشك بين الأقل والأكثر قد يكون بين الأقل والأكثر الاستقلاليين بحيث لو
أتى بالأقل وكان الواجب هو الأكثر لكان خارجا عن عهدة التكليف بمقداره، كما

(1) قاله في كفاية الأصول: ص 406.
623

إذا تردد بين كون دينه عشرة دراهم أو عشرين، فإنه لو أدى عشرة خرج عن
عهدة التكليف بهذا المقدار، سواء كان دينه في الواقع عشرة أو عشرين.
وقد يكون بين الأقل والأكثر الارتباطيين كما لو دار الأمر بين وجوب
السورة في الصلاة وعدمه، فإنه لو أتى بالصلاة بلا سورة وكانت السورة جزءا
واقعا لما خرج عن عهدة التكليف أصلا، أما الأقل والأكثر الاستقلاليين
فإدخالهما في الشك في المكلف به مسامحة، وإلا فبحسب الحقيقة مرجع الشك
فيهما إلى الشك في التكليف، لأن الأقل معلوم التكليف والأكثر مشكوك فيرجع
فيه إلى البراءة أو الاشتغال على ما تقدم تفصيله في الشك في التكليف.
ولا إشكال فيه إلا في بعض الموارد والمسائل كمسألة دوران الأمر في الفائتة
بين الأقل والأكثر، فإنه قد اختلف فيها، فقيل بجواز الاقتصار على الأقل (1)، وقيل
بوجوب تحصيل العلم بفراغ الذمة والإتيان بالأكثر (2)، وقيل بكفاية تحصيل الظن
بالفراغ (3). والكلام في هذه المسألة موكول إلى محله.
وإنما الكلام في المقام فيما إذا دار الأمر بين المتباينين أو الأقل والأكثر
الارتباطيين ولما كان العلم الإجمالي علما مشوبا بالشك لأنه من جهة القدر
المشترك علم ومن جهة الخصوصية شك. وبعبارة أخرى كون العلم تفصيليا أو
إجماليا إنما هو باعتبار متعلقه فإن كان متعلقة متميزا ومفصلا فالعلم به علم
تفصيلي، وإن كان متعلقه غير متميز فالعلم به علم إجمالي.
فالعلم الإجمالي بالنسبة إلى القدر المشترك علم وبالنسبة إلى الخصوصية
شك، فهو علم من جهة وشك من جهة، فمن جهة كونه علما يناسب التكلم فيه في
مبحث القطع، ومن جهة كونه جهلا يناسب التكلم فيه في مباحث البراءة
والاشتغال، فلذا تكلموا فيه من جهة جواز المخالفة القطعية وعدمه في مبحث
القطع، وأحالوا الكلام فيه من جهة وجوب الموافقة القطعية وعدمه إلى هذا المقام.

(1) قاله في فرائد الأصول: ج 1 ص 392.
(2) قاله في رياض المسائل: ج 1 ص 228 - 1.
(3) قاله في تهذيب الاحكام: ج 2 ص 197 - 198 ذ ح 777.
624

وكيف كان الكلام بالنسبة إلى المخالفة القطعية قد تقدم وعرفت أن العلم
الإجمالي بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية علة تامة، وحكم العقل بالنسبة إلى
عدم جواز ترك الأمرين اللذين يعلم بوجوب أحدهما كالظهر والجمعة أو فعل
شيئين اللذين يعلم بحرمة أحدهما كشرب الإناءين اللذين يعلم يكون أحدهما
خمرا من باب وجوب دفع الضرر حكم تنجيزي لا يمكن للشارع الترخيص فيها،
لأنه مستلزم للتناقض.
وأما بالنسبة إلى الموافقة القطعية فحكمه تعليقي أي العقل يحكم بوجوب
الإتيان بكلا الأمرين اللذين يعلم بوجوب أحدهما وترك كلا الأمرين اللذين يعلم
بحرمة أحدهما، من باب وجوب دفع الضرر المتحمل. لكن حكمه معلق على عدم
ترخيص الشارع في ترك تحصيل الموافقة القطعية، وأما لو رخص الشارع في
ترك تحصيل الموافقة القطعية فلا إشكال في أن موضوع حكم العقل بدفع الضرر
المتحمل يرتفع، لأن بحكم الشارع يصير المكلف مأمونا من الضرر، وإنما
الإشكال في أنه كيف يمكن للشارع الترخيص في تركها؟
ولكن يمكن أن يقال: إنه لا مانع من الترخيص فعلا أو شرطا في بعض
أطراف الشبهة التحريمية والوجوبية إذا اقتضت المصلحة ولم يكن التكليف فعليا
من جميع الوجوه والحيثيات بحيث يكون المولى بصدد تحصيله من المكلفين بأي
نحو أمكن، إذ لو كان التكليف فعليا بهذه المرتبة من الفعلية لابد له من جعل
الاحتياط لو لم يكن العقل ملزما به كما في الشبهات البدوية في الدماء والفروج
والأموال، أو تقرير حكم العقل لو كان ملزما بالاحتياط كما في الشبهات المقرونة
بالعلم الإجمالي.
ومع الترخيص في ارتكاب بعض الأطراف فعلا في الشبهات التحريمية
وتركا في الشبهات الوجوبية يكون التكليف متوسطا في الفعلية، لأن فعلية
التكليف منتزعة عن كيفية تحصيله، فإن اكتفى الشارع في تحصيله بأمره سفراءه
بتبليغه إلى المكلفين على النحو المتعارف من تبليغ الاحكام والقوانين الكلية إلى
625

الرعية، من جهة عدم شدة اهتمامه فينتزع منه الفعلية بمعنى لو علم به المكلف
لتنجز عليه، وهذه المرتبة من الفعلية أول مراتبها، مقابل الاقتضائية والشأنية
والانشائية، إذ الأحكام الاقتضائية الشأنية الانشائية لا تصير تنجزها على
المكلف، بعلمه بها وإن لم يكتف في تحصيله بمجرد أمره سفراءه بتبليغه إلى
المكلفين على النحو المتعارف من جهة شدة اهتمامه به، بل أوجب الاحتياط
رعاية له فيما لم يكن العقل حاكما بلزوم الاحتياط كما في الشبهات البدوية في
الموارد الثلاثة، أو قرر حكم العقل بلزوم الاحتياط كما في الشبهات المقرونة
بالعلم الإجمالي فينتزع منه الفعلية أيضا.
وهذه المرتبة من الفعلية آخر مراتبها وإن لم يكتف في تحصيله بأمره سفراءه
تبليغه على النحو المتعارف، بحيث يرخص في مخالفته مع عدم العلم، ولا يلزم
بالاحتياط تأسيسا أو إمضاءا من جهة التسهيل على المكلفين، أو مصلحة أخرى
فيرخص في ارتكاب بعض الأطراف فعلا أو تركا فينتزع منه الفعلية أيضا، وهذه
المرتبة من الفعلية متوسطة بين المرتبتين المتقدمتين كالفعلية المنتزعة من الأمر
بالعمل بالأمارات، فإنها أيضا متوسطة بين المرتبتين.
وحاصل الكلام: أنه علم إجمالا بوجوب أحد الشيئين أو حرمة، أحدهما
لا يجوز ترك الأولين جميعا وفعل الآخرين كذلك، لما عرفت من أن العلم
الإجمالي بالتكليف بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية علة تامة، وحكم العقل
بعدم جوازها حكم تنجيزي، ولا يجوز للشارع الترخيص فيها، لأنه ترخيص في
المعصية ومستلزم للتناقض.
وأما بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية بأن يأتي بالشيئين اللذين يعلم
بوجوب أحدهما أو يترك الشيئين اللذين يعلم بحرمة أحدهما فهو مقتض، وحكم
العقل بلزوم تحصيلها حكم تعليقي، لأن حكمه بلزوم تحصيلها من جهة دفع الضرر
المحتمل، وهذا الحكم العقلي معلق على عدم ترخيص الشارع في ترك بعض
الأطراف في الشبهة الوجوبية وفعله في الشبهة التحريمية، إذ مع ترخيصه يصير
626

المكلف مأمونا من الضرر ويرتفع موضوع حكم العقل. ولا إشكال في عدم لزوم
تحصيلها مع ترخيص الشارع، وانما الإشكال في أنه كيف يمكن للشارع
الترخيص في ترك تحصيلها؟
وملخص ما يمكن أن يقال في مقام إمكان ترخيص الشارع هو: أنه إذا لم
يكن الحكم فعليا من جميع الجهات والحيثيات بحيث لا يزاحمه شيء ويكون
المولى بصدد تحصيله من المكلف بأي نحو أمكن ولو بجعل الاحتياط تأسيسا كما
في الشبهات البدوية في الموارد الثلاثة، أو إمضاء لحكم العقل كما في الشبهات
المقرونة بالعلم الإجمالي، بل كان فعليا من بعض الجهات بحيث يمكن أن يزاحمه
شيء، ولا يكون المولى بصدد تحصيله من المكلف بأي نحو أمكن، فكما يمكن
جعل الأمارات المؤدية إلى الواقع تارة والمخطئة عن الواقع أخرى في صورة
عدم العلم بالتكاليف الواقعية إذا اقتضى التسهيل على المكلفين عدم جعل
الاحتياط فيما لم يكن العقل ملزما بالاحتياط، كذلك يمكن الترخيص في بعض
أطراف الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي التي يحكم العقل بلزوم الاحتياط فيها
لولا الترخيص من الشارع إذا اقتضى التسهيل ونحوه من المصالح ذلك، ويكون
التكليف في مورد جعل الأمارات متوسطا في الفعلية.
فتحصل: أن الاحكام المهتم بها من الشارع التي لا يرضى الشارع بمخالفتها
في حال من الأحوال ولو مع الجهل بها بحيث يكون المطلوب من المكلف فعلها أو
تركها مطلقا، ومع ملاحظة جميع الطوارئ والعوارض ولا يعارض مصالحها
ومفاسدها بعض المصالح والمفاسد التي تعارض غيرها من الأحكام لابد فيها من
جعل الاحتياط لئلا يقع المكلف في خلاف الواقع ولو مع الجهل بالتحصيلات
الأولية، لما عرفت من عدم رضا الشارع بمخالفتها في حال من الأحوال، ولو في
حال الجهل وعدم كفاية التحصيلات الأولية للباعثية والزاجرية في حال الجهل
بها، لأن الباعثية والزاجرية متفرعتان على وجودها العلمي لا الخارجي.
وأما الاحكام التي ليس اهتمام الشارع بها بهذه المثابة ويمكن أن يعارض
627

مصالحها ومفاسدها بعض المصالح والمفاسد التي هي أهم بنظر الشارع كما إذا
كان في التسهيل على العباد بعدم جعل الاحتياط عليهم في حال الجهل مصلحة
أهم بنظر الشارع من مصلحة الحكم الواقعي التي تفوت في حال الجهل أو كان في
ايقاعهم في الضيق والحرج لجعل الاحتياط عليهم في حال الجهل مفسدة أقوى
من مصلحة الواقع أو غيرهما من المصالح والمفاسد المزاحمة للمصالح والمفاسد
التي في الأحكام الواقعية، فلا مانع من عدم جعل الاحتياط فيها إذا لم يكن العقل
ملزما به كما في الشبهات البدوية، أو ترخيصه في بعض الأطراف وترك الاحتياط
فيما كان العقل ملزما به كما في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، ويكون
التكليف الواقعي متوسطا في الفعلية كما في مورد جعل الطرق والأمارات، هذا
بحسب الثبوت واما بحسب الاثبات فيحتاج.
أما الدليل الخاص لو كان دالا على الترخيص في بعض أطراف الشبهة كما
ورد بعض الأخبار (1) الصحيحة بجواز الاقتصار على صلاة واحدة إلى إحدى
الجهات عند اشتباه القبلة وترك الاحتياط بالصلاة إلى أربع جهات، وإن كان
معرضا عنه على الظاهر، فلا إشكال.
وإنما الإشكال في أن الأدلة العامة مثل: " كل شيء لك حلال " (2) و " رفع
مالا يعلمون " (3) وأمثالهما هل تكفي في الدلالة على الترخيص في بعض أطراف
الشبهة أم لا؟ الظاهر عدم الكفاية وعدم شمولها لأطراف العلم الإجمالي، وذلك
لأن الحكم بحلية كل واحد من أفراد العلم الإجمالي مثلا مناف للعلم بحرمة
أحدهما الغير المعين والحكم بحلية أحدها المعين دون الآخر ترجيح بلا مرجح،
والحكم بحلية أحدها الغير المعين والفرد المردد لا يمكن، لأنة ليس مصداقا آخر
للعام مقابلا لكل واحد من الخصوصيات حتى يشمله العام، إذ العام لا يشمل الا

(1) وسائل الشيعة: ب 8 من أبواب القبلة ح 2 ج 3 ص 226.
(2) وسائل الشيعة: ب 4 من أبواب ما يكتسب ح 4 ج 12 ص 59.
(3) وسائل الشيعة: ب 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 2 ج 5 ص 345.
628

ما هو فرد له، فإذا لم يكن الفرد المردد فردا للعام فلا يشمله.
والحاصل أن الظاهر من قوله: " كل شيء حلال هو الحكم بحلية كل واحد من
أطراف الشبهة معينا ولما لم يمكن ذلك بالنسبة إلى الشبهات المقرونة بالعلم
الإجمالي فلا يشملها " كل شيء لك حلال " فلابد في الشبهات المقرونة بالعلم
الإجمالي من الاحتياط والإتيان بالأمرين اللذين يعلم بوجوب أحدهما، وترك
الأمرين اللذين يعلم بحرمة أحدهما، لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية
بحكم العقل.
وقد أورد الشيخ (قدس سره) (1) في هذا المقام على نفسه إشكالا، وحاصله: أن
المستفاد من قوله: " كل شيء لك حلال " حلية المشتبهات بالشبهة المجردة عن
العلم الإجمالي جميعا، وحلية المشتبهات بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي على
البدل، لأن الرخصة في كل شبهة مجردة لما لم تتناف مع الرخصة في غيرها
لاحتمال كون الجميع حلالا، فالبناء على كون هذا المشتبه بالخمر خلا لا ينافي
البناء على كون المشتبه الآخر خلا، وأما الرخصة في كل شبهة مقرونة بالعلم
الإجمالي، والبناء على كونه خلا لما يستلزم وجوب البناء على كون المحرم هو
المشتبه الآخر فلا يجوز الرخصة فيها جميعا.
نعم يجوز الرخصة فيها بمعنى جواز ارتكابها والبناء على أن المحرم غيرها.
وبعبارة أخرى أن المستفاد من قوله: " كل شيء لك حلال " هي حلية كل فرد فرد
من أفراد الشبهة، سواء كانت الشبهة بدوية أو مقرونة بالعلم الإجمالي إلا أنه لما
كان الشك في الحلية والحرمة في الشبهات البدوية متعددا حسب تعدد أفراد
الشبهة حكم الشارع بإلغاء احتمال الحرمة في كل واحد من هذه الشكوك، إذ
لا منافاة بين إلغاء احتمال الحرمة في هذه الشبهة وإلغاء احتمال الحرمة في الشبهة
الأخرى أيضا وفي الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي لما كان شك واحد فيما إذا
كان طرف الشبهة شيئين والغاء احتمال الحرمة في أحدهما يستلزم البناء على

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 410.
629

حرمة الآخر حكم الشارع بإلغاء الاحتمال في كل واحد منهما مع البناء على حرمة
الآخر. فهذه الرواية وأمثالها تشمل الشبهات المجردة والمقرونة بالعلم الإجمالي
في الحكم بحلية كل واحد من أطراف الشبهة وجواز ارتكابه، إلا أنه في الشبهة
المجردة جواز ارتكاب كل واحد لا يحتاج إلى جعل البدل وأن المحرم غيره، وفي
الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي يحتاج إلى جعل البدل والالتزام بأن المحرم
غيره، وهذا التقيد في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي إنما هو بحكم العقل، وإلا
فاللفظ استعمل في معنى واحد، وهو الحكم بحلية كل واحد من أطراف الشبهة.
وأجاب (قدس سره) عن هذا الإشكال بأن الظاهر من الأخبار المذكورة البناء على
حلية محتمل التحريم والرخصة فيه لا وجوب البناء على كونه هو الموضوع
المحلل، ولو سلم فظاهرها البناء على كون كل مشتبه كذلك، وليس الأمر بالبناء
على كون أحد المشتبهين هو الخل أمرا بالبناء على كون المشتبه الآخر هو الخمر،
فليس من البدلية عين ولا أثر، فتدبر.
إذا عرفت أنه إذا كان التكليف فعليا من جميع الجهات لا يمكن الترخيص في
ارتكاب بعض الأطراف، ولابد من جعل الاحتياط وإذا لم يكن فعليا من جميع
الجهات لا مانع من الترخيص في ارتكاب بعض الأطراف وعدم جعل الاحتياط،
فلا فرق بين كثرة الأطراف وقلتها، إلا أنه لما كانت كثرة الأطراف ملازمة لما هو
مانع عن فعلية التكليف كالحرج ونحوه بخلاف قلة الأطراف فلذا يجب الاحتياط
في الثانية دون الأولى، فالفرق بين الشبهة الغير المحصورة والمحصورة في عدم
وجوب الاجتناب عن الأطراف في الأولى وجوبه في الثانية إنما هو من جهة
التفاوت في المعلوم من حيث الفعلية وعدمها لا العلم، فلو فرض عدم ملازمة كثرة
الأطراف لما يمنع عن فعلية التكليف فلابد من الالتزام بوجوب الاحتياط ولو
كانت الشبهة غير محصورة، هذا ملخص ما أفاده في الكفاية (1).
ولكن الحق أن التفاوت فيهما إنما هو من جهة العلم لا المعلوم، وذلك لأن

(1) كفاية الأصول: في الاشتغال ص 407.
630

الاجتناب عن أطراف الشبهة ليس إلا من جهة حكم العقل بلزوم دفع الضرر
المتحمل، ففيما كانت أطراف الشبهة كثيرة يضعف هذا الاحتمال في كل واحد من
الأطراف بحيث لا يعتني به العقلاء، وفيما كانت الأطراف قليلة لا يضعف هذا
الاحتمال بهذه المرتبة من الضعف، فإذا كان السم في واحد من الألف يحتاج
إثبات كون هذا الإناء المعين سما إلى نفي ألف تقدير إلا واحدا، بخلاف ما لو كان
في واحد من الاثنين مثلا فإنه يحتاج إثبات كون هذا الإناء سما إلى نفي تقدير
واحد، فتأمل.
فتحصل: أن العلم التفصيلي علة تامة لتنجز التكليف من حيث حرمة المخالفة
القطعية ووجوب الموافقة القطعية، وأما العلم الإجمالي فهو علة تامة بالنسبة إلى
المخالفة القطعية، وأما بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية فهو مقتض، وحكم
العقل بلزوم تحصيلها معلق على عدم ترخيص الشارع في ارتكاب بعض
الأطراف، فلو لم يكن التكليف فعليا من جميع الجهات يمكن للشارع أن يرخص
بالنسبة إلى بعض الأطراف، ولو كان فعليا من جميع الجهات لا يمكن الترخيص
بالنسبة إليه، ففيما كان التكليف فعليا من جميع الجهات لافرق بين العلم التفصيلي
والعلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، فلا وجه
لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة المخالفة القطعية حينئذ، ضرورة
أن التكليف المعلوم إجمالا لو كان فعليا من جميع الجهات تجب موافقته قطعا كما
تحرم مخالفته كذلك، وإن لم يكن التكليف المعلوم إجمالا فعليا من جميع الجهات
إما من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه، أو من جهة الاضطرار إلى بعض الأطراف
معينا أو غير معين، أو من جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه إجمالا في هذا الشهر
كأيام حيض المستحاضة مثلا لما وجب موافقته، بل جاز مخالفته كما ذكره في
الكفاية (1) وإن كان في جواز مخالفته في تمام هذه الصور مطلقا إشكال.
ثم إنه لافرق فيما إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال فعليا من حيث وجوب

(1) كفاية الأصول: في الاشتغال ص 408.
631

الموافقة وحرمة المخالفة بين أن يكون أطرافه تدريجية أو غير تدريجية، إذ
التدرج لا يمنع عن الفعلية، ضرورة أن التكليف كما يصح بالنسبة إلى الأمر الحالي
كذلك يصح بالنسبة إلى الأمر الاستقبالي كالحج في الموسم للمستطيع، فافهم
تنبيهات
الأول: أنه لا إشكال في أن الاضطرار من الطوراىء التي يوجب عدم فعلية
التكليف لو كان سابقا على التكليف ويوجب رفعها لو كان حادثا بعدها مثل
الخروج عن محل الابتلاء، فكما أن الاضطرار مانع عن فعلية التكليف حدوثا
وبقاء فيما لو حدث الاضطرار بالنسبة إلى متعلق التكليف إذا كان معلوما
بالتفصيل، كذلك مانع عن الفعلية فيما لو حدث بالنسبة إلى متعلق التكليف إذا كان
معلوما بالإجمال فإن كان الاضطرار إلى جميع أطراف المعلوم بالإجمال فلا
إشكال في كونه مانعا عن فعلية التكليف، سواء كان الاضطرار قبل حدوث العلم
الإجمالي أو بعده أو مقارنا معه، وإن كان الاضطرار إلى بعض معين منها.
فإن كان قبل حدوث العلم الإجمالي أو معه فالظاهر كما أفاده الشيخ (قدس سره) (1)
وقرره في الكفاية (2) عدم وجوب الاجتناب عن الباقي لرجوعه إلى عدم تنجز
التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي، لاحتمال كون المحرم هو المضطر إليه،
وإن كان بعده فالظاهر كما أفاده الشيخ (قدس سره) وجوب الاجتناب عن الباقي، لأن
التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي قد تنجز، ولازمه الاجتناب عن تمام
الأطراف تحصيلا للعلم بالاجتناب عن الحرام الواقعي، وإذا أذن الشارع في
ارتكاب بعض الأطراف لدفع الضرورة فمرجع إذنه إلى اكتفاء الشارع في امتثال
ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض الأطراف، وإن خالفه في الكفاية (3) في هذه
الصورة وألحقها بالصورتين الأوليين في عدم وجوب الاجتناب عن الباقي،

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 425.
(2) كفاية الأصول: في الاشتغال ص 409.
(3) كفاية الأصول: في الاشتغال ص 409.
632

وقال: لافرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقا على العلم أو لاحقا له بزعم أن
التكليف المعلوم بينهما من أول الأمر كان محدودا بعدم عروض الاضطرار إلى
متعلقه، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوما، لاحتمال أن
يكون هو المضطر إليه، وأصالة عدم حدوث الاضطرار إلى الحرام التي هي من
الأصول الموضوعية لو جرت لكانت نافعة في وجوب الاجتناب عن الباقي،
لكنها لا تجري لأنها من الأصول المثبتة، لأن أصالة عدم الاضطرار إلى الحرام
الواقعي لا تثبت أن المحرم هو غير ما اضطر إليه وإن كان الاضطرار إلى بعض غير
معين منها، فالشيخ (قدس سره) (1) حكم بوجوب الاجتناب عن الباقي، سواء كان الاضطرار
قبل العلم أو بعده أو معه، لأن العلم حاصل بحرمة واحد من الأمور التي لو علم
حرمته تفصيلا وجب الاجتناب ولما جاز دفع الضرورة به وترخيص بعضها على
البدل موجب لاكتفاء الشارع بالاجتناب عن غير ما يدفع به الضرورة.
ثم أورد على نفسه إشكالا وهو: أن ترخيص ترك بعض المقدمات دليل على
عدم إرادة الحرام الواقعي ولا تكليف بما عداه، فلا مقتضى لوجوب الاجتناب
عن الباقي.
وأجاب عنه بأن المقدمة العلمية مقدمة للعلم، واللازم من الترخيص فيها عدم
وجوب تحصيل العلم لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام رأسا، وحيث إن
الحاكم بوجوب تحصيل العلم هو العقل بملاحظة تعلق الطلب الموجب للعقاب
على المخالفة الحاصلة من ترك هذا المحتمل كان الترخيص المذكور موجبا للأمن
من العقاب على المخالفة الحاصلة في ترك هذا الذي رخص في تركه فيثبت من
ذلك تكليف متوسط بين نفي التكليف رأسا وثبوته متعلقا بالواقع على ما هو عليه.
وحاصله ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخص الشارع في امتثاله
منه وهو ترك باقي المحتملات، وهذا نظير جميع الطرق المجعولة للتكاليف
الواقعية، ومرجعه إلى القناعة عن الواقع ببعض محتملاته معينا كما في الأخذ

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 425.
633

بالحالة السابقة في الاستصحاب، أو مخيرا كما في موارد التخيير، وفي الكفاية
خالف الشيخ فيما كان الاضطرار إلى الغير المعين في تمام صوره الثلاثة، وقال
بعدم وجوب الاجتناب عن الباقي بالبيان المتقدم، وهو أن التكليف المعلوم بها من
أول الامر كان محدودا بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقه، فلو عرض على بعض
أطرافه لما كان التكليف به معلوما لاحتمال أن يكون هو المضطر إليه فيما كان
الاضطرار إلى معين أو يكون هو المختار فيما كان إلى بعض الأطراف.
ثم أورد على نفسه إشكالا وهو أن الاضطرار إلى بعض الأطراف كفقد بعضها،
فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط مع الفقد في الباقي، فكذلك لا ينبغي
الإشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه
خروجا عن عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه.
وأجاب عنه بأن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به وقيوده كان
التكليف المتعلق به مطلقا، فإذا اشتغلت الذمة كان قضية الاشتغال الفراغ عنه يقينا،
وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه فإنه من حدود التكليف به وقيوده، ولا يكون
الاشتغال به من الأول إلا مقيدا بعدم عروضه، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به
إلا إلى هذا الحد، فلا يجب رعايته فيما بعده ولا يكون إلا من باب الاحتياط في
الشبهة البدوية.
وحاصل الجواب: هو الفرق بين فقد بعض الأطراف وحصول الاضطرار إليه،
فإن فقد موضوع التكليف ليس من حدود التكليف به وقيوده شرعا، بل الحكم
معلق على الموضوع بشراشره، وانتفاؤه بانتفاء الموضوع إنما هو بحكم العقل،
حيث إنه يمتنع عقلا بقاء الحكم بلا موضوع بخلاف الاضطرار بمعنى جواز
ارتكاب الشيء لدفع الضرورة أو تركه له لا بمعنى وقوع الفعل من غير إرادة
واختيار كالوقوع على الأرض بعد الإلقاء من الشاهق، فإن الكلام في الاضطرار
بالمعنى الأول لا بالمعنى الثاني، وهو بالمعنى الأول من حدود التكليف وقيوده
شرعا، وبعروضه يرتفع الحكم عن موضوعه شرعا مع بقاء الموضوع عقلا، ولمكان
634

هذا الفرق بين الاضطرار والفقد لو حصل الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف
بعد حصول العلم الإجمالي، بنجاسة أحدها أو حرمته لا يجب الاجتناب عن الباقي،
سواء كان الاضطرار إلى أحدها المعين أو المخير، لاحتمال أن يكون المضطر إليه
فيما كان الاضطرار إلى المعين أو المختار فيما كان الاضطرار إلى المخير هو
المحرم، ويكون التكليف به محدودا إلى هذا الحد، وبعده لاعلم بالتكليف.
نعم لو علم إجمالا بحرمة أحد الشيئين وعلم بحصول الاضطرار إلى أحدهما
بعد يومين - مثلا - كان الأمر مرددا بين التكليف القصير والطويل واللازم فيه
الاحتياط، وأما لو فقد بعض الأطراف بعد العلم الإجمالي فإنه يجب الاجتناب
عن الباقي، لأن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به وقيوده، وكان التكليف
المتعلق به مطلقا فإذا اشتغلت الذمة به كان قضية الاشتغال به يقينا الفراغ عنه يقينا.
والحاصل: أن الاضطرار لما كان من حدود التكليف وقيوده شرعا دون الفقد
لم يفرق في الكفاية بين ما كان الاضطرار إلى المعين أو إلى غير المعين، ولابين
كون الاضطرار حاصلا قبل العلم أو معه أو بعده، بخلاف الفقد فإنه لو كان قبل العلم
الإجمالي أو معه لا يجب الاجتناب عن الباقي، ولو كان بعده يجب الاجتناب عنه.
ولكن الحق في المقام ما أفاده الشيخ (قدس سره) وهو أن الاضطرار إن كان إلى المعين
فإن كان سابقا على العلم الإجمالي أو مقارنا له لا يجب الاجتناب عن الباقي
لرجوعه إلى عدم العلم بتنجز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي، وإن كان
لاحقا له يجب الاجتناب عن الباقي لتنجز التكليف بالاجتناب عنه، والترخيص
في ارتكاب بعض الأطراف مرجعه إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف
بالاجتناب عن بعض الأطراف وإن كان إلى غير المعين يجب الاجتناب عن
الباقي مطلقا، سواء كان الاضطرار قبل العلم أو بعده أو معه، لأن الحرام ليس
مضطرا إليه حينئذ، ولذا لو علم الحرام تفصيلا لا يجوز رفع الاضطرار به،
وترخيص الشارع في ارتكاب بعض الأطراف على البدل موجب لاكتفاءه في
امتثال التكليف الواقعي بالاجتناب عن الباقي.
635

فتحصل: أن الموافقة القطعية في المقام لا تجب من جهة الاضطرار إلى فعل
بعض الأطراف، وإنما النزاع في حرمة المخالفة القطعية وعدمها فإن قلنا بأن فعلية
التكليف ليست لها إلا مرتبة واحدة فإذا لم تجب موافقتها القطعية لم تحرم
مخالفتها القطعية، فعلى هذا يجوز ارتكاب الباقي كما أفاده في الكفاية (1). وإن
قلنا: بأن فعلية التكليف لا تنحصر بمرتبة واحدة، بل لها مرتبتان مرتبة منها تقتضي
وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية جميعا، ومرتبة منها تقتضي
حرمة المخالفة القطعية، فعلى هذا يجب الاجتناب عن الباقي كما أفاده
الشيخ (قدس سره) (2) وهو الحق فتأمل.
الثاني: أنه لا إشكال في أنه إذا كان بعض أطراف الشبهة خارجا عن محل
الابتلاء عادة قبل حصول العلم الإجمالي أو كان خروجه عنه مقارنا معه لا يجب
الاجتناب عن الباقي، وذلك لأن الاجتناب عن أطراف الشبهة إنما كان لازما من
جهة حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، وهذا الحكم العقلي موضوعه الضرر
المحتمل، فإذا ارتفع موضوع حكم العقل يرتفع حكمه، وارتفاع موضوعه إنما هو
بوجود المؤمن الشرعي ولو كان أصلا من الأصول التي كانت مؤداها الرخصة في
ارتكاب بعض الأطراف، ففيما كان جميع أطراف الشبهة محل الابتلاء عادة
لا يمكن إجراء الأصل في الجميع، لمنافاته مع العلم الإجمالي واستلزامه المخالفة
القطعية ولا في بعضها دون بعض، لأنه ترجيح بلا مرجح، فتسقط الأصول بالنسبة
إلى جميع الأطراف، وإذا سقطت الأصول فلا يكون مؤمن شرعي، وإذا لم يكن
المؤمن الشرعي فلابد من الاحتياط والاجتناب عن الجميع، من جهة حكم العقل
بلزوم دفع الضرر المحتمل.
وأما إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء فلا يجري الأصل
بالنسبة إليه، لأن الأصول العملية وظائف مقررة للشاك في مقام العمل، وما هو
خارج عن محل الابتلاء لا يكون متعلقا للعمل، وإذا لم يكن متعلقا للعمل فلا

(1) كفاية الأصول: في الاشتغال ص 409.
(2) فرائد الأصول: ج 2 ص 406.
636

وظيفة له، وإذا لم يجر الأصل بالنسبة إليه فيجري بالنسبة إلى طرفه الذي هو داخل
في محل الابتلاء بلا معارض، وهذا هو السر في جريان الأصل وعدم وجوب
الاجتناب عن بعض أطراف الشبهة فيما إذا كان بعضها الآخر خارجا عن محل
الابتلاء لا ما ذكر من أن ما هو خارج عن محل الابتلاء عادة ليس للنهي عنه موقع
أصلا، لأنه منترك بنفسه، فيكون النهي عنه بلا فائدة ومن قبيل طلب الحاصل.
فلذا يعتبر في تأثير العلم الإجمالي أن يكون جميع الأطراف محل الابتلاء،
وإلا لا يحصل العلم بالتكليف الفعلي لاحتمال تعلقه بما هو خارج عن محل
الابتلاء، وذلك لأن النواهي الشرعية لو كانت من قبيل القضايا الشخصية
الخارجية لكان لما ذكر وجه، إذ لم يصح أو لم يحسن النهي منجزا عما هو خارج
عن محل الابتلاء، بل لابد أن يكون النهي عنه معلقا بالابتلاء، ولكن الأمر ليس
كذلك، بل النواهي والأحكام الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية التي علق الحكم
فيها على الموضوعات المقدرة وجودها، فكلما تحقق فرد من الموضوع في
الخارج تحقق فرد من الحكم فيه، وهكذا بالنسبة إلى متعلقاتها، فإذا قال الشارع:
" الخمر حرام " يشمل هذا الحكم الكلي جميع أفرادها المتحققة والمقدرة، وما هو
محل الابتلاء وما هو خارج عن محل الابتلاء بوزان واحد.
ولعل السر في عدم وجوب الاجتناب عن طرف الشبهة فيما إذا كان بعض
أطرافها خارجا عن محل الابتلاء هو ما ذكرنا، وما ذكر كان بيانا للضابط بين كون
الشيء محل للابتلاء وعدمه. وحاصل الضابط: أنه لو صح تعلق النهي الفعلي
الشخصي بالشيء منجزا كان محل الابتلاء، ولو لم يصح إلا معلقا بالابتلاء كان
خارجا عن محل الابتلاء.
وكيف كان لا يجب الاجتناب عن بعض أطراف الشبهة فيما إذا كان بعضها
الآخر خارجا عن محل الابتلاء، سواء كان خروجه عن محل الابتلاء سابقا على
العلم الإجمالي أو مقارنا له. أما لو كان خروجه بعد العلم الإجمالي فلابد من
الاجتناب عن الباقي، لأنه كفقد بعض الأطراف بعد العلم الإجمالي، ولو شك في
637

خروجه عن محل الابتلاء وعدمه، ففي كون المرجع هي البراءة لعدم القطع
بالاشتغال أو إطلاق الخطاب المعلوم تقييده بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح
العرف توجيهه من غير تعليق بالابتلاء، وأما إذا شك في قبح التنجيز فالمرجع هو
إطلاق الخطاب وجهان، هذا فيما لم تكن حالته السابقة معلومة، وإلا فالظاهر
استصحابها.
الثالث: أنه قد عرفت أن التفاوت بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة بناء
على ما اختاره في الكفاية (1) إنما هو من ناحية المعلوم، حيث إن كثرة الأطراف
ربما تكون موجبة لما يمنع عن فعلية التكليف من العسر والحرج والضرر في
الاجتناب عن الجميع أو ارتكابه دون قلة الأطراف، فلابد من ملاحظة ذلك
الموجب فإن كان فلا فرق بين المحصور وغير المحصور، وإن لم يكن فكذلك
أيضا وبناء على ما اخترناه سابقا التفاوت بينهما من ناحية العلم، حيث إن كثرة
الأطراف ربما تكون موجبة لضعف الاحتمال في كل واحد من الأطراف بحيث
لا يعتني به العقلاء، بخلاف قلة الأطراف.
وليس المراد من ضعف الاحتمال مع كثرة الأطراف أن يصير احتمال الضرر
في كل واحد منها موهوما، لأن لازم كونه موهوما في بعض الأطراف أن يصير
مظنونا في البعض الآخر.
وليس كذلك، بل المراد من ضعف الاحتمال هو أن الشك في احتمال الضرر
في كل واحد من الأطراف مع كثرتها لما كان ناشئا عن منشأ غير عقلائي فهو غير
معتنى به عند العقلاء كما في تمام موارد الأصول العقلائية التي يكون الشك فيها
موجودا وجدانا، إلا أنه كالعدم عندهم، بخلاف قلة الأطراف، فإن الشك في
احتمال الضرر في كل واحد من الأطراف لما كان ناشئا عن منشأ عقلائي فهو
معتنى به عند العقلاء.
وكيف كان فلا يجب تحصيل الموافقة القطعية في الشبهة الغير المحصورة،

(1) كفاية الأصول: في الاشتغال ص 362.
638

وإنما الإشكال في حرمة المخالفة القطعية وعدمها، فإن ظاهر اطلاق القول بعدم
وجوب الاجتناب فيها هو الثاني، ولكن يحتمل أن يكون مرادهم عدم وجوب
الاجتناب والاحتياط فيها في مقابلة الشبهة المحصورة التي يجب الاجتناب عن
الكل، لا أنه يجوز فيها ارتكاب الكل حتى يلزم المخالفة القطعية.
والإشكال في حرمة المخالفة القطعية إنما هو فيما إذا لم يكن المكلف من أول
الأمر قاصدا لارتكاب جميع الأطراف، وإلا فلا إشكال في حرمتها واستحقاق
العقاب عند مصادفة الحرام الواقعي ولم يكن قصده من ارتكاب الجميع هو
التوصل إلى الحرام المعلوم في البين، وإلا فلا إشكال أيضا في الحرمة واستحقاق
العقاب من أول الأمر بناء على حرمة التجري.
ولو شك في كون الشبهة محصورة حتى يجب الاحتياط فيها أو غير محصورة
حتى لا يجب الاحتياط فيها، فالمرجع هو إطلاق دليل التكليف لو كان، وإلا
فالبراءة لأجل الشك في التكليف الفعلي، فتأمل.
الرابع: أنه قد عرفت أن وجوب الاجتناب عن كل واحد من الأطراف إنما هو
من جهة المقدمة العلمية ولزوم التحرز عن الضرر المحتمل الذي يتوقف على
التحرز عن جميع الأطراف، ولا يترتب على ارتكاب بعض الأطراف ما يترتب
على المعلوم بالإجمال من الآثار الشرعية فمن شرب أحد الإناءين المعلوم كون
أحدهما الغير المعين خمرا والآخر خلا لا يجب عليه حد شارب الخمر، وذلك
لأن ترك أحد الأطراف كما في المثال أو فعله كما في اشتباه الواجب بغيره إنما كان
من جهة المقدمة العلمية لامتثال التكليف المنجز المشتبه مصداقه بين الشيئين أو
الأشياء، فمن جهة تنجز ذلك التكليف المعلوم في البين تعلق حكم ظاهري عقلي
باجتناب جميع الأطراف أو ارتكابها من باب المقدمة العلمية.
وأما إذا كان تنجز ذلك التكليف معلقا على ارتكاب الموضوع الواقعي
المشتبه بين الشيئين أو الأشياء فلا معنى - حينئذ - لتعلق حكم ظاهري
بالمشتبهين لأجل العلم الإجمالي المفروض من باب المقدمة العلمية، لأنه فرع
639

تنجز ذلك التكليف، والفرض توقف تنجزه على ارتكاب الموضوع الواقعي
المشتبه.
فإذا كان تنجز التكليف بإقامة حد شرب الخمر - مثلا - متوقفا على شرب
الخمر الواقعي فلا تكليف بها قبل شرب أحد المشتبهين حتى تنافي فيه قضية
المقدمة العلمية، وبعد شرب أحدهما لا مقتض لها أيضا، لعدم العلم بحدوث شرب
الخمر، بل الأصل عدمه. نعم بعد شربهما يحدث العلم به، وهو خارج عن محل
الكلام.
فمن هنا يفرق بين الأحكام الوضعية والطلبية في باب الشبهة المحصورة لعدم
تأتي المقدمة العلمية في الأولى بخلاف الثانية. نعم لو كان الحكم الوضعي مترتبا
على الحكم الطلبي ترتب ذلك على المشتبهين أيضا بواسطة عروض الحكم
الطلبي لهما، كما إذا ترتب بطلان الوضوء على التوضؤ بالماء المتنجس بواسطة
وجوب الاجتناب عنه، لأنه إذا ثبت وجوب الاجتناب عن المشتبهين ترتب
عليهما البطلان على تقدير التوضؤ بأحدهما، وهو أيضا خارج عن محل الكلام،
لأن محل الكلام هي الآثار الوضعية المترتبة على الموضوعات المشتبهة من دون
توسط حكم طلبي في عروضها، لأنها هي التي لا تجري فيها المقدمة العلمية.
والحاصل: أن الاحكام الوضعية المترتبة على الموضوعات الواقعية التي
ليست مترتبة على الأحكام الطلبية كإقامة حد الشرب المترتبة على شرب الخمر
الواقعي لا تترتب على ارتكاب بعض أطراف الشبهة فيما كانت الشبهة تحريمية أو
تركه فيما إذا كانت الشبهة وجوبية، ولا إشكال في هذه الكبرى، بل لا خلاف فيها
على الظاهر أيضا، وإنما وقع الخلاف لأجل بعض الأدلة الأخر في بعض
صغرياتها، وهي مسألة تنجس ملاقي أحد المشتبهين فيما اشتبه النجس منهما
بالطاهر، وقد اختلفوا فيها على قولين:
أحدهما: تنجسه، كما حكي القول به عن العلامة في المنتهى أو المختلف (1)

(1) قاله في المنتهى لا في المختلف منتهى المطلب: كتاب الطهارة ج 1 ص 30 س 32.
640

وجماعة ممن تأخر كصاحب الحدائق (1) والمحدث الأمين الأسترآبادي في
فوائده (2).
والثاني: عدم تنجسه، كما حكي القول به في الجواهر (3) عن المشهور،
واختاره الشيخ الأنصاري (4)، وصاحب الكفاية (قدس سرهما) (5).
واستدلوا للقول الأول بوجوه:
أحدهما: دعوى الملازمة بين وجوب الاجتناب عن الشيء ووجوب
الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط ولذا استدل السيد أبو المكارم في الغنية (6) على
تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة بما دل على وجوب هجر النجاسات في قوله
تعالى: (والرجز فاهجر) (7).
ويدل عليه أيضا ما في بعض الأخبار (8) من استدلاله على حرمة الطعام الذي
ماتت فيه فأرة [بأن ا] لله سبحانه حرم الميتة فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كل
واحد من المشتبهين فقد حكم بوجوب هجر كل ما لاقاه، وهذا معنى ما استدل به
العلامة (قدس سره) في المنتهى (9) على ذلك بأن الشارع أعطاهما حكم النجس، وإلا فلم
يقل أحد أن كلا من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره.
وفيه كما ذكر الشيخ (قدس سره) منع ما في الغنية من دلالة وجوب هجر الرجز على
وجوب اجتناب ملاقيه إذا لم يكن عليه أثر من ذلك الرجز فتنجسه - حينئذ - ليس
إلا لمجرد تعبد خاص، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة
المحصورة فلا يدل على وجوب هجر ما يلاقيه.

(1) الحدائق الناضرة: كتاب الطهارة ج 1 ص 514.
(2) الفوائد المدنية: ص 170.
(3) جواهر الكلام: كتاب الطهارة ج 1 ص 302.
(4) فرائد الأصول: ج 2 ص 416.
(5) كفاية الأصول: في الاشتغال ص 412.
(6) الغنية (الجوامع الفقهية): كتاب الطهارة ص 489 س 1.
(7) المدثر: 5.
(8) وسائل الشيعة: ب 5 من أبواب الماء المضاف ج 1 ص 149.
(9) منتهى المطلب: كتاب الطهارة ص 30 س 34.
641

نعم قد يدل بواسطة بعض الأمارات الخارجية كما استفيد نجاسة البلل
المشتبه الخارج قبل الاستبراء من أمر الشارع بالطهارة عقيبه من جهة استظهار أن
الشارع جعل هذا المورد من جملة موارد تقديم الظاهر على الأصل، فحكم بكون
الخارج بولا لا أنه أوجب خصوص الوضوء بمجرد خروجه (1).
والرواية مع كونها ضعيفة السند فيها ما ذكره الشيخ (قدس سره) أيضا من أن الظاهر من
الحرمة فيها النجاسة، لأن مجرد التحريم لا يدل على النجاسة فضلا عن تنجس
ملاقيه وارتكاب التخصيص في الرواية بإخراج ما عدا النجاسات من المحرمات
- كما يرى - لكونه تخصيص أكثر مستهجن، فالملازمة بين نجاسة الشيء ونجاسة
ملاقيه لا حرمة الشيء وحرمة ملاقيه (2).
وحاصل الكلام في هذا الوجه هو أنه كما يدل دليل وجوب الاجتناب عن
النجاسات على وجوب الاجتناب عن ملاقيها كما فهمه العلماء كصاحب الغنية
وغيره، ويظهر من الرواية أيضا كذلك يدل دليل وجوب الاجتناب عن أطراف
الشبهة المحصورة على وجوب الاجتناب عن ملاقي أحدها.
وفيه: أولا: منع الحكم في المقيس عليه كما عرفت من أن دليل وجوب
الاجتناب عن النجاسات لا يدل على وجوب الاجتناب عن ملاقيها إذا لم يكن
عليه أثر منها.
وثانيا: على تقدير تسليم هذا الحكم في طرف المقيس عليه تسليمه في
الطرف المقيس ممنوع، لأن العقل الحاكم بوجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة
إنما يحكم به من باب المقدمة العلمية، لأنه لو لم يجتنب عن كل واحد منها
لا يحصل العلم بالاجتناب عن النجس المعلوم في البين، فملاك وجوب الاجتناب
عن أطراف الشبهة هو تحصيل العلم بالاجتناب عن النجس الواقعي المعلوم في
البين، وهذا الملاك مفقود في ملاقي أحدهما، لأنه لو اجتنب عن الأطراف يحصل
له العلم بالاجتناب عن النجس الواقعي ولو لم يجتنب عن الملاقي، فتأمل.

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 423.
(2) فرائد الأصول: ج 2 ص 424.
642

ثانيها: أن المقتضي لثبوت الحكم التكليفي للمشتبهين - وهو العلم الإجمالي -
موجود بالنسبة إلى الحكم الوضعي أيضا.
وفيه: أن ثبوت الحكم التكليفي لهما لأجل كونهما مقدمة علمية للتكليف
المعلوم إجمالا، وقضية المقدمة العلمية غير آتية بالنسبة إلى الآثار الوضعية، كما
عرفت.
ثالثها: ما ذكره في الحدائق (1)، وحاصله: أن استقراء الأخبار الواردة في
موارد الشبهة المحصورة يفيد اعطاء الشارع المشتبه بالنجس حكم النجس.
وفيه: أن غاية ما يفيده الاستقراء - على تسليمه - هو وجوب الاجتناب عن
أطراف الشبهة في جميع مواردها لاعن ملاقيها أيضا. نعم لو ثبت وجوب
الاجتناب عن ملاقي ما ثبت وجوب الاجتناب عنه بدليل آخر ثبت المدعى بعد
إثبات وجوب [الاجتناب] عن أطراف الشبهة المحصورة.
والحاصل: أن الدليل الدال على وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة لا يدل
على وجوب الاجتناب عن ملاقيها، بل لابد له من دليل آخر، كما أن الدليل الدال
على وجوب الاجتناب عن النجاسات لا يدل على وجوب الاجتناب عن ملاقيها،
بل لابد له من دليل آخر.
رابعها: ما نقله في الجواهر عن بعض المتأخرين (2) من أن الظاهر من الأدلة أن
المحصور يعامل معه معاملة النجس، والفرق بينه وبين ما نقلناه عن صاحب الحدائق
هو أن ظاهر هذا الوجه كون المحصور كالنجس في جميع الآثار بخلاف ما نقلناه
عنه، لأنه قال فيها: إن للمشتبه في هذه المسألة وأمثالها حالة متوسطة، فمن بعض
الجهات كالأكل والشرب والملاقاة برطوبة حكمه حكم النجس، ومن بعض الجهات
كالصلاة في الثوبين المشتبهين باعتبار تكرار الصلاة فيهما له حالة ثالثة (3).

(1) الحدائق الناضرة: كتاب الطهارة ج 1 ص 513.
(2) كالسيد في مدارك الاحكام والخراساني في ذخيرة المعاد، جواهر الكلام: كتاب الطهارة
ج 1 ص 302.
(3) الحدائق الناضرة: كتاب الطهارة ج 1 ص 514.
643

خامسها: وهي العمدة هو كون ملاقي أحد أطراف الشبهة كنفس المشتبه في
كونه طرفا للعلم الإجمالي إما بتوسعة أطراف الشبهة والعلم الإجمالي الأول كما
يظهر من كلام الشيخ (1) (قدس سره) حيث قال: إن ملاقاة شيء مع أحد أطراف الشبهة
كتقسيم أحد المشتبهين نصفين، فقبل تقسمه كان طرف الشبهة اثنين وبعده صار
ثلاثة، ومثل تقسيم أحد الإناءين المشتبهين نصفين في توسعة أطراف العلم
الإجمالي تولد حيوان من أحد الحيوانين اللذين اشتبه الطاهر منهما بالنجس، فإن
طرف الشبهة كان قبل التولد حيوانين وبعده صار ثلاثة، وأن النجس إما هذا
الحيوان أو هذين.
وإما بحصول علم إجمالي آخر بين الملاقي - بالكسر - وطرف الملاقى
- بالفتح - فإنه كما يعلم إجمالا بنجاسة الملاقى أو طرفه كذلك يعلم إجمالا
بنجاسة الملاقي - بالكسر - وطرف الملاقى فإذا صار الملاقي طرفا للعلم الإجمالي
سواء كان بتوسعة أطراف العلم الأول أو بحدوث علم إجمالي آخر يجب الاجتناب
عنه كما يجب الاجتناب عنه لو كان من أول الأمر طرفا كالملاقى وطرفه.
وفيه: أن كون الملاقي - بالكسر - طرفا للشبهة بأحد التقريبين مسلم، ومع
ذلك لا يجب الاجتناب عنه كما يجب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - وطرفه، أما
على مختار الشيخ (قدس سره) فلأن الشك في نجاسة الملاقي - بالكسر - وطهارته مسبب
عن الشك في الملاقى - بالفتح - والأصل في الشك السببي لو جرى سواء كان
موافقا للأصل في الشك المسببي أو مخالفا له لكان حاكما على الأصل في الشك
المسببي ولا تصل النوبة إليه. وأما لو لم يجر الأصل في الشك السببي لوصلت
النوبة إلى الأصل في الشك المسببي.
وهنا لما كان الأصل في الشك السببي وهي أصالة الطهارة في الملاقى
- بالفتح - غير جارية لمعارضتها بأصالة الطهارة بالنسبة إلى الطرف الآخر
فلا يمكن إجراء كلتيهما لمخالفتهما مع العلم الإجمالي، ولا أحدهما لأنه ترجيح

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 424.
644

بلا مرجح، فلا محالة تسقط كلتاهما وإذا سقط الأصل في الشك السببي ينتهي
الأمر إلى الأصل في الشك المسببي فتجري أصالة الطهارة بالنسبة إلى الملاقي
- بالكسر - بلا معارض لو لم يكن لطرف الملاقى - بالفتح - ملاق مثل ذلك
الملاقي، وإلا فيكون حال الملاقيين - بالكسر - حال الملاقيين - بالفتح - في
تعارض أصليهما، فتأمل.
ولما كان هذا الجواب الذي ذكره الشيخ (قدس سره) مبتنيا على كون الشك في نجاسة
الملاقي وطهارته مسببا عن الشك في نجاسة الملاقى - بالفتح - وطهارته والأصل
الجاري في طرف الملاقي - بالكسر - يصير بلا معارض بعد تعارض الأصل في
طرف الملاقى - بالفتح - مع الأصل الجاري في طرفه. وتساقطهما غير مرضي عند
صاحب الكفاية (1) (قدس سره) من جهة أن الضابط في الشك السببي والمسببي أن يكون
المشكوك بالشك المسببي من الآثار الشرعية للمشكوك بالشك السببي، وإلغاء
الشك فيه إلغاء للشك المسببي.
وهذا الضابط ليس في المقام، لأن نجاسة الملاقي - بالكسر - ليس من الآثار
الشرعية لنجاسة الملاقى - بالفتح - وإنما هي من آثار وجودها الخارجي
التكويني وبسبب الملاقاة توجد فرد آخر من النجس في الخارج نسبته إلى
الملاقى - بالفتح - كنسبة سائر النجاسات إليه، سواء كان دليل نجاسته هو دليل
نجاسة الملاقى - بالفتح - أو دليل آخر، فكما لا دخل لموافقة خطاب وجوب
الاجتناب عن سائر النجاسات ومخالفتها لموافقة خطاب وجوب الاجتناب عن
الملاقى - بالفتح - ومخالفته فكذلك لا دخل لموافقة خطاب وجوب الاجتناب
عن الملاقى - بالكسر - ومخالفته في موافقة خطاب وجوب الاجتناب عن
الملاقى - بالفتح - ومخالفته.
والحاصل: أن تبعية نجاسة الملاقي - بالكسر - لنجاسة الملاقى - بالفتح - في
استفادة النجاسة واكتسابها منه وصيرورته فردا آخر من النجس كسائر أفراده

(1) كفاية الأصول: في الاشتغال ص 412.
645

التي توجد بأسباب أخر لا تقتضي التبعية في الموافقة، بحيث كان الاجتناب عنهما
موافقة واحدة لوجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - بل لكل منهما موافقة
ومخالفة غير موافقة الأخرى ومخالفتها، فيمكن أن يوافق خطاب وجوب
الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - وإن خالف خطاب وجوب الاجتناب عن
الملاقي - بالكسر - على تقدير نجاسته واقعا، كما لو كان الملاقى - بالفتح - هو
النجس الواقعي أو لاقى كلا طرفي الشبهة كما يمكن أن يوافق خطاب وجوب
الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - وإن خالف خطاب وجوب الاجتناب عن فرد
آخر من النجاسات المعلومة.
أجاب بما حاصله انحلال العلم الإجمالي، وهو أنه لما كان الاجتناب عن
الملاقى - بالفتح - وطرفه مقدمة لتحصيل القطع بموافقة الخطاب بالاجتناب عن
فرد من النجس الذي تنجز التكليف بالاجتناب عنه بسبب العلم بوجوده بينهما
كان الاجتناب عنهما لازما حينئذ، بخلاف الملاقي فإن الاجتناب عنه ليس مطلقا
مقدمة تكليف منجز، إذ يمكن الاجتناب عن النجس المعلوم في البين بالاجتناب
عن الملاقى - بالفتح - وطرفه وإن لم يجتنب عن الملاقي - بالكسر - فهو وإن كان
طرفا للعلم الإجمالي بأحد التقريبين إلا أن مجرد الطرفية لا تقتضي لزوم
الاجتناب عنه، بل المدار في وجوب الاجتناب وجودا وعدما هي المقدمية، وهي
ثابتة للملاقى - بالفتح - وطرفه في بعض الفروض، فيجب الاجتناب عنهما ومنتفية
عن الملاقي - بالكسر - في بعض الفروض فلا يجب الاجتناب عنه حينئذ.
كما أنه قد يجب الاجتناب عن كليهما أحيانا وقد لا يجب الاجتناب عن
شيء منهما كذلك، وذلك لأن الملاقاة إن كانت بعد العلم الإجمالي بوجود النجس
في الأفراد المبتلى بها فعلا فلا يجب الاجتناب عما يلاقي بعضها، لعدم إحراز
نجاسته، وعدم كون الاجتناب عنه مقدمة لتحصيل القطع بالاجتناب عن النجس
الذي علم به إجمالا وتنجز التكليف بالاجتناب عنه، ضرورة أنه لادخل
للاجتناب عنه ولو علم نجاسته بسبب ملاقاته لتمام الأطراف أو سبب آخر في
646

الاجتناب عن النجس المعلوم فيهما، كما لا يخفى.
وإن كان بعد العلم الإجمالي بوجود النجس في أطراف لا يكون بتمامها مبتلى
بها فإن كان غير المبتلى به غير الملاقى - بالفتح - فلا يجب الاجتناب لا عن
الملاقي ولا عن الملاقى، كما هو واضح، وإن كان غير المبتلى به هو الملاقى
- بالفتح - فيجب الاجتناب عن ملاقيه - بالكسر - لاعنه، ولو بعد الابتلاء أما
وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - فلكون اجتنابه مقدمة علمية للاجتناب
عن النجس المعلوم بينه وطرف الملاقى - بالفتح - وأما عدم وجوب الاجتناب
عن الملاقى - بالفتح - ولو بعد الابتلاء فلعدم كون الاجتناب عنه مقدمة لتكليف
منجز فعلي مبتلى به.
وإن كان الملاقاة قبل العلم الإجمالي فيجب الاجتناب عن كل واحد من
الملاقي والملاقى، لكون الاجتناب عن كل منهما مقدمة للاجتناب عن النجس
المعلوم في البين الذي تنجز التكليف بالاجتناب عنه، ويصير الملاقي كأحد
أطراف الشبهة فكأن أطراف الشبهة من أول الأمر كانت ثلاثة مثلا.
فتحصل: أنه بناء على ما اختاره صاحب الكفاية (1) من الانحلال قد يجب
الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - دون الملاقي - بالكسر - وقد يعكس الأمر وقد
يجب الاجتناب عن كليهما، وقد لا يجب الاجتناب عن شيء منهما.
ثم إن مسلك الشيخ (قدس سره) وهذا المسلك قد يتوافقان في عدم وجوب الاجتناب
عن الملاقي - بالكسر - وقد يتخالفان، فإنه لو كان الملاقاة بعد العلم الإجمالي في
الأطراف المبتلى بها فلا يجب الاجتناب عنه بمقتضى كلا المسلكين، أما بناء على
مسلك الشيخ فلجريان الأصل فيه بلا معارض، وبناء على مسلك صاحب الكفاية
فلعدم كون الاجتناب عنه مقدمة لتكليف منجز، ولو كان الملاقاة قبل العلم
الإجمالي في الصورة المفروضة لا يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - بناء

(1) كفاية الأصول: في الاشتغال ص 411 - 412.
647

على مسلك الشيخ، لجريان الأصل فيه بلا معارض له في مرتبته، بخلاف مسلك
صاحب الكفاية فإنه يجب الاجتناب عنه لكونه مقدمة لتحصيل القطع بالاجتناب
عن النجس الواقعي الذي تنجز التكليف بالاجتناب عنه.
ولو كان الملاقاة وفقد الملاقى - بالفتح - قبل العلم الإجمالي ثم حصل العلم
الإجمالي فما دام لم يعد المفقود يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - وطرف
الملاقى - بالفتح - على كلا المسلكين، لقيام الملاقي مقام الملاقى في كونه طرفا
للعلم الإجمالي، وعدم جريان الأصل فيه، واجتنابه مقدمة علمية للاجتناب اللازم
المنجز. وبعد عود الملاقى - بالفتح - فإن قلنا: إن الأصل فيه بعد عوده يجري
ويعارض مع الأصل الجاري في طرفه ويصير الأصل في الملاقي - بالكسر - بلا
معارض بعدما كان ذا معارض فلا يجب الاجتناب عنه بناء عى مسلك الشيخ،
والظاهر أنه لا يجب الاجتناب عنه على المسلك الآخر أيضا، فتدبر.
وإن قلنا بأن الأصل يجري فيه بعد عوده ولا يعارض الأصل الجاري في
طرفه لمعارضته بالأصل الجاري في الملاقي - بالكسر - قبل عوده وانحلال العلم
الإجمالي الذي بين الملاقى - بالفتح - وطرفه إلى علم تفصيلي بوجوب الاجتناب
عن طرفه وشك بدوي بالنسبة إليه يجب الاجتناب عن طرف الملاقى - بالفتح -
والملاقي - بالكسر - ولا يجب الاجتناب عن الملاقي بعد عوده.
ولو قلنا: بأن الأصل الجاري في طرف الملاقى - بالفتح - يعارض كلا من
الأصل الجاري في الملاقي - بالكسر - والأصل الجاري في الملاقى - بالفتح -
فيجب الاجتناب عن الملاقي والملاقى وطرفه جميعا، فتأمل.
وفي المثال الذي ذكرناه وهو ما لو تولد حيوان من أحد الحيوانين المشتبهين
طاهرهما بنجسهما بعد العلم الإجمالي فإنه يجب الاجتناب عن الحيوان المتولد
بناء على مسلك الشيخ، لعدم كون نجاسة ولد الحيوان من الآثار الشرعية لنجاسة
ما ولدته كما في ولد الإنسان بالنسبة إلى الإسلام والكفر والنجاسة والطهارة، فإنه
لو كان من هذا القبيل لكان الشك في نجاسة الولد وطهارته مسببا عن الشك في
648

نجاسة ما ولدته وطهارته، وكان الأصل الجاري في الولد سليما عن المعارض بعد
تعارض الأصلين من الجانبين.
وليس الأمر كذلك، بل ولد الحيوان من الآثار التكوينية لما ولدته وتبع له في
التحقق والتكون فالتولد على تقدير نجاسة الحيوان كسائر الأسباب الخارجية
التي توجب تكون النجاسة في الخارج فلا يكون الشك في طهارة الولد ونجاسته
مسببا عن الشك في طهارة ما ولدته ونجاسته شرعا حتى يكون الأصل فيه بلا
معارض بعد تعارض الأصلين في الحيوانين المشتبهين، بل الأصل الجاري في
طرف الملاقى يعارض كلا من الأصل الجاري في الملاقى - بالفتح - والملاقي
- بالكسر - فيجب الاجتناب عن الجميع ويصير مثل ما لو كان طرف الشبهة من
أول الأمر إما هذا أو هذين، ومثل ما لو قسم أحد الإناءين المشتبهين قسمين في
وجوب الاجتناب عن الجميع بناء على هذا المسلك.
وأما بناء على مسلك صاحب الكفاية فلا يجب الاجتناب عنه، فإنه لو اجتنب
عن الحيوان لقطع بالاجتناب عن النجس المعلوم في البين، وإن لم يجتنب عن
الولد فإن نجاسته على تقدير تولده من الحيوان النجس فرد آخر من النجاسة
لادخل للاجتناب عنه وعدمه في موافقة التكليف بالاجتناب المنجز عن النجس
المعلوم في البين، فليس الاجتناب عنه مقدمة للقطع بامتثال التكليف المنجز ولا
بنفسه منجزا، لكون نجاسته مشكوكة، هذا فيما لو كان التولد بعد العلم الإجمالي.
وأما لو كان قبله فيجب الاجتناب عن الولد بناء على هذا المسلك أيضا، لأن
طرفي الشبهة على هذا إما هذا الحيوان أو هذين فيجب الاجتناب عن الجميع،
فتأمل. هذا تمام الكلام في دوران المكلف به بين المتباينين.
وأما لو دار بين الأقل والأكثر فإن كانا استقلاليين كما لو تردد الشخص بين
كون دينه عشرة دراهم أو عشرين - مثلا - فقد عرفت أن مرجعه إلى الشك في
التكليف بالنسبة إلى الأكثر وتسميته بالشك في المكلف به مسامحة.
ولا إشكال في الرجوع إلى البراءة فيه إلا في بعض صغرياته. وإن كانا
649

ارتباطيين كما لو تردد بين كون السورة - مثلا - جزءا من الصلاة أم لا، فلا إشكال
أيضا في أن مقتضى القاعدة الأولية هو الاشتغال والاحتياط لكون التكليف يقينيا،
ولابد من الخروج عن عهدته، وهو لا يحصل إلا بالإتيان بالأكثر، فإن كان مؤمن
من العقوبة على ترك الأكثر أو الجزء الزائد المشكوك عقلا أو شرعا أو كليهما
كالبراءة العقلية أو الشرعية أو كلتيهما فهي المرجع، وتكون حاكمة على أصالة
الاشتغال، لأن حكم العقل بالاحتياط إنما هو من جهة التحرز عن العقاب
المحتمل، ومع وجود المؤمن العقلي أو الشرعي يرتفع موضوع حكم العقل بلزوم
الاحتياط، وإلا فلابد من الاحتياط بإتيان الأكثر.
وإنما الإشكال في وجود المؤمن وعدمه، فالقائلون بوجوب الاحتياط
أنكروا وجوده مطلقا وقالوا: إن حال الأقل والأكثر كحال المتباينين في لزوم
الاحتياط وعدم جريان البراءة العقلية والنقلية، والقائلون بعدم وجوب الاحتياط
قالوا: إن حال الأقل والأكثر ليس كالمتباينين، لكنهم اختلفوا فبعضهم
كالشيخ (1) (قدس سره) تمسك في نفي وجوب الاحتياط بأدلة البراءة العقلية والنقلية
كلتيهما، وبعضهم كصاحب الكفاية (2) (قدس سره) تمسك في نفي وجوب الاحتياط بأدلة
البراءة النقلية فقط وأنكر جريان أدلة البراءة العقلية، لأن جريانها موقوف على
انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي بالنسبة إلى
الأكثر والجزء الزائد، والانحلال محال، لأنه يلزم من وجوده عدمه، وما يلزم من
وجوده عدمه فهو محال، فراجع كلامه.
والحق ما اختاره الشيخ (3) (قدس سره) من جريان البراءة العقلية والنقلية بالنسبة إلى
الأكثر والجزء المشكوك، أما البراءة العقلية فلانحلال العلم الإجمالي إلى العلم
التفصيلي بالنسبة إلى الأقل والشك البدوي بالنسبة إلى الأكثر والجزء المشكوك.

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 460.
(2) كفاية الأصول: في الاشتغال ص 413.
(3) فرائد الأصول: ج 2 ص 460.
650

ونجيب عن الإشكال الذي أورد على الانحلال بأحد تقريبين:
الأول: أن الأقل معلوم الوجوب، لأنه إما واجب نفسي أو واجب غيري
ضمني، إذ الطلب إما تعلق به بنفسه أو تعلق به في ضمن تعلقه بالمركب الذي ذلك
الأقل جزؤه، فالعقاب على تركه قطعي، لأنه إن كان واجبا نفسيا فاستحقاق
العقاب على تركه واضح، وإن كان واجبا ضمنيا فلأن ترك الجزء لما كان مستلزما
لترك الكل أو عين ترك الكل فبنفس تركه يستحق العقاب المترتب على ترك
الكل، وإذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي معلوما بالتفصيل فلا يجري الأصل
بالنسبة إليه، وإذا لم يجر الأصل فيه فيصير الأصل في الطرف الآخر بلا معارض.
وحاصل هذا التقريب هو: أن التكليف بالأقل منجز على كل حال، أي سواء
كان وجوبه نفسيا أو غيريا.
وما قيل من أن تنجزه على كل حال موقوف على تنجز الأكثر، إذ لو كان
وجوبه غيريا لا يمكن تنجزه إلا بتنجز الأكثر فيلزم من وجود الانحلال عدمه.
فيه: أن تنجز الأقل على كل حال وإن كان موقوفا على تنجز الأكثر، إلا أنه
يمكن التفكيك في تنجز الأكثر بين الجهة المعلومة والجهة المجهولة، فهو من الجهة
المعلومة - وهي وجوب الأقل - منجز، فلو ترك الكل بترك الأقل المعلوم وجوبه
كان عاصيا ومستحقا للعقاب على تقدير كون الواجب الواقعي هو الأكثر، وأما من
الجهة المجهولة - وهي وجوب الجزء الزائد - فغير منجز، لأن وجوبه غير معلوم،
فلو ترك الكل بترك الجزء الزائد لما كان عاصيا ومستحقا للعقاب، فإذا كان
وجوب أحد طرفي العلم الإجمالي واستحقاق العقاب على تركه معلوما بالتفصيل
فلا يجري الأصل فيه، ويكون الأصل في الطرف الآخر بلا معارض.
الثاني: أن الوجوب النفسي المردد تعلقه بالأقل أو الأكثر بالنسبة إلى الأقل
منجز، لأن أصل الخطاب بالنسبة إليه معلوم وليس في تركه عذر إلا احتمال
الغيرية وهو ليس بعذر، فنفس احتمال الوجوب النفسي بالنسبة إليه منجز كما في
أطراف الشبهة المحصورة، وأما بالنسبة إلى الأكثر فهذا الاحتمال ليس بمنجز، لأن
651

أصل الخطاب بالنسبة إليه غير معلوم.
والحاصل: أن الخطاب بالنسبة إلى الأقل لما كان معلوما والشك إنما هو في
كيفيته من كونه نفسيا أو غيريا، وهو ليس عذرا في تركه فلا يجري فيه الأصل،
وبالنسبة إلى الأكثر لما لم يكن أصل الخطاب معلوما والشك إنما هو في أصل
الخطاب وهو عذر في تركه فيجري فيه الأصل، فحال الأقل كالشبهات قبل
الفحص في أن الاحتمال منجز لها، وحال الأكثر كالشبهات بعد الفحص في أن
الاحتمال ليس بمنجز.
والثمرة بين التقريبين تظهر فيما لو ترك الأقل وكان التكليف النفسي متعلقا
بالأكثر الغير المنجز. فعلى التقريب الأول يكون عاصيا، لأن الأكثر كان منجزا من
تلك الجهة المعلومة وهي وجوب الأقل، وإن لم يكن منجزا من الجهة المجهولة
وهي وجوب الجزء الزائد، بخلاف التقريب الثاني فإنه لو ترك الأقل وكان
الواجب النفسي هو الأكثر الغير المنجز وجوبه لما كان عاصيا بل متجريا، وذلك
لأن الأكثر غير منجز على هذا التقدير أصلا، والفرض أن الواجب الواقعي هو
الأكثر فيكون الأقل - حينئذ - واجبا غيريا ومطلوبيته فيما إذا كان الغير مطلوبا،
وإذا لم يكن الغير مطلوبا فلا يكون ذلك مطلوبا واقعا حتى يستحق العقاب بتركه.
فتحصل: أن العلم الإجمالي بوجوب الأقل والأكثر الارتباطيين ينحل إلى
العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في وجوب الأكثر.
وما أورد على الانحلال من أنه يلزم من وجوده عدمه بالبيان المتقدم وهو
محال يمكن الجواب عنه بأحد التقربين:
الأول: أن تنجز الأقل على كل حال، وإن كان متوقفا على تنجز الأكثر إلا أن
التنجز له مراتب، فالأكثر متنجز لكن من جهته المعلومة وهي وجوب الأقل لا من
جهته المجهولة، فلو كان الواجب الواقعي هو الأكثر فإن ترك المركب بترك الأقل
لكان عاصيا ومعاقبا، ولو تركه بترك الجزء الزائد المشكوك لما كان عاصيا
ومعاقبا فالتكليف بالأقل - بالأعم من النفسي والغيري - منجز على المكلف
652

ومستحق للعقاب على مخالفته إما لنفسه أو لكون تركه تركا للكل الذي عرض
عليه الوجوب النفسي، ولما كان الكل عين الأجزاء فالوجوب النفسي العارض
للكل عارض لأجزائه، كما أن دلالة اللفظ على الكل بالمطابقة دلالته على
الأجزاء بالتضمن، فالأصل بالنسبة إلى الأقل لا يجري، وإذا لم يجر بالنسبة إليه
فيجري بالنسبة إلى الأكثر بلا معارض.
الثاني: أن الوجوب النفسي المحتمل تعلقه بالأقل والأكثر منجز بالنسبة إلى
الأقل بصرف احتماله كما في الشبهة المحصورة والشبهة قبل الفحص، وبالنسبة
إلى الأكثر ليس بمنجز كما في الشبهة الغير المحصورة والشبهة بعد الفحص، من
جهة أن الخطاب بالنسبة إلى الأقل والشك إنما هو في النفسية والغيرية، وهو ليس
بعذر، وبالنسبة إلى الأكثر الشك في أصل الخطاب وهو عذر، فطرف الاحتمال
بالنسبة إلى الأقل هو الوجوب الغيري لا عدم الوجوب، وبالنسبة إلى الأكثر فهو
عدم الوجوب، فالأول لا يكون عذرا بخلاف الثاني.
وأما البراءة النقلية، فلشمول الأخبار مثل قوله (عليه السلام): " ما حجب الله (1) "
وقوله (صلى الله عليه وآله): " رفع (2) " وأمثالهما للجزء الزائد المشكوك، سواء قلنا بأن المرفوع
خصوص المؤاخذة أو مطلق الآثار، فتأمل.
والإشكال على الرجوع إلى البراءة بالنسبة إلى الأكثر بأن الأوامر الشرعية
تابعة للمصالح وألطاف في الواجبات العقلية، فالغرض منها وهي المصلحة
واللطف يجب تحصيله، وهو لا يحصل يقينا إلا بالأكثر فيجب الإتيان به.
مدفوع، لا بما ذكره الشيخ (3) أولا من أن مسألة البراءة ليست مبتنية على
[ما] (4) ذهب إليه مشهور العدلية من تبعية الأوامر للمصالح الكامنة في المأمور بها،
بل تجري على مذهب الأشاعرة المنكرين لذلك، أو بعض العدلية القائلين بكفاية

(1) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 28 ج 18 ص 119.
(2) وسائل الشيعة: ب 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 2 ج 5 ص 345.
(3) فرائد الأصول: ج 2 ص 461.
(4) أضفناها لمقتضى السياق.
653

وجود المصلحة في الأمر، إذ هذا الجواب إنما يحسن في مقام الجدل والغلبة على
الخصم، ولا يرتفع به الإشكال واقعا.
ولا بما ذكره ثانيا بأن حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون
إلا بإتيانها على وجه الامتثال، وحينئذ كان الاحتمال اعتبار معرفة أجزائها
تفصيلا ليؤتى بها مع قصد الوجه محال، ومعه لا يكاد يقطع بحصول اللطف
والمصلحة الداعية إلى الأمر، فلم يبق إلا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم
تعلقه به، فإنه واجب عقلا وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأسا لتنجزه
بالعلم به إجمالا.
وحاصله: أنه كما يحتمل دخل الجزء الزائد في الغرض فيجب إتيانه ليحصل
القطع بحصول الغرض كذلك معرفة الوجه يحتمل دخله في الغرض، فيجب إتيان
العمل بقصد الوجه ليحصل القطع بحصول الغرض، فإذا أتى بالجزء المشكوك فلا
يقطع بحصول الغرض لاحتمال دخل معرفة الوجه وإذا بدون الجزء المشكوك
أيضا لا يقطع بحصول الغرض لاحتمال دخل الجزء الزائد المشكوك فيه، فتحصيل
الغرض قطعا غير ممكن، فيبقى الخروج عن عهدة ما تنجز التكليف به، وهو يحصل
بإتيان الأقل.
إذ فيه: أولا: أن قصد الوجه ليس بمعتبر رأسا.
وثانيا: على تقدير تسليمه إنما هو معتبر في نفس العمل لا في أجزائه.
وثالثا: أن قصد الوجه بناء على اعتباره إنما هو معتبر في العبادات، ومحل
الكلام في الأعم منها، بل بما حاصله أن الغرض تارة تكون دائرته أضيق من
دائرة المأمور به كما في قصد القربة والأمر في العبادات، وتارة تكون مساوية له
ومنطبقة عليه، ففي القسم الأول يجب تحصيله على وجه يحصل القطع بحصوله،
وأما في القسم الثاني فحاله كحال نفس المأمور به، فكما أنه يجوز الرجوع إلى
البراءة بالنسبة إلى الجزء الزائد المشكوك بالبيان المتقدم فكذلك بالنسبة إلى ذلك
المقدار من الغرض المنطبق على ذلك الجزء، بل بنفس الرجوع إلى البراءة بالنسبة
654

إلى الجزء المشكوك ينبغي وجوب تحصيل ذلك المقدار من الغرض، فتأمل.
هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين الخارجيين
اللذين يكون لكل منهما وجود مغاير لوجود الآخر في الخارج، ويعبر عنه بالشك
في الجزئية، وقد تبين أن مقتضى القاعدة الأولية هو الاشتغال والاحتياط، لأن
التكليف يقيني والشك إنما هو في المكلف به، والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة
اليقينية عما اشتغلت الذمة به، فإن جرت أصالة البراءة العقلية أو النقلية أو كليهما
بالنسبة إلى الأكثر فبها تعين ما اشتغلت الذمة به، وتكون مؤمنة عن العقوبة على
ترك الجزء الزائد وحاكمة على أصالة الاشتغال، بل واردة عليها، لأن مقتضى
القاعدة هو وجوب تفريغ الذمة عما اشتغلت به، وأما أن ما اشتغلت الذمة به أي
شيء؟ فلا تعرض له، وأصالة البراءة مقتضاها أن الجزء المشكوك ليس مما
اشتغلت به الذمة فلا تعارض بينهما كما في سائر موارد الحكومة والورود، وقد
عرفت أن جريان البراءة موقوف على انحلال العلم الإجمالي، فإن تم الانحلال
ولم يرد عليه إشكال لزوم الدور واستلزام وجوده عدمه فهو، وإلا فلابد من
الاحتياط كالمتباينين.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: أن صورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر التحليلي العقلي كالمشروط
وشرطه، كما لو شك في أن الواجب هل هو عتق مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة؟ أو
أن الواجب هي الصلاة أو الصلاة المشروطة بالطهارة ونحوها من الشرائط وكالعام
مع خاصه كالحيوان والانسان، كما لو شك في أن الواجب هو الإتيان بالحيوان أو
بالانسان هل هي كصورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الخارجيين في جواز
الرجوع إلى البراءة بناء على القول بجوازه في الأقل والأكثر الخارجي وعدم
جواز الرجوع إليها فيها بناء على عدم جواز الرجوع إلى البراءة؟
وفيه: أن الفرق بين الجزء والشرط - بأن الجزء له وجود مغاير للكل، والشرط
وإن كان له وجود مغاير إلا أن المعتبر منه في المشروط هو التقيد المشروط به
655

وليس له وجود مغاير لوجود المشروط، ولذا يعبر عن الشرط بالجزء التحليلي
العقلي في قبال الجزء الخارجي الذي يكون له وجود مستقل مغاير لوجود الكل -
لا يكون بفارق من حيث جواز الرجوع إلى البراءة وعدمه أم لا، أو يفرق بين
البراءة العقلية والشرعية فلا يجوز الرجوع إلى البراءة العقلية بالنسبة إلى الأجزاء
التحليلية، ولو قلنا بجواز الرجوع إليها في الاجزاء الخارجية، ويجوز الرجوع إلى
البراءة النقلية، أو يفرق بين المشروط وشرطه وبين العام وخاصه فيجوز الرجوع
إلى البراءة العقلية أو النقلية أو كلتيهما في الأول دون الثاني وجوه.
ففي الكفاية اختار عدم جواز الرجوع إلى البراءة العقلية بالنسبة إلى الأجزاء
التحليلية مطلقا، سواء كان من قبيل المشروط وشرطه، أو من قبيل العام والخاص
ولو بناء على القول بجواز الرجوع إلى البراءة في الأجزاء الخارجية وجوز
الرجوع إلى البراءة الشرعية في خصوص المشروط وشرطه لدلالة حديث
الرفع (1) على عدم شرطية ما شك في شرطيته.
والتحقيق: هو أن يقال: إن الوجه في انحلال العلم الإجمالي في الأقل والأكثر
الخارجي إن كان تيقن الأمر بالنسبة إلى الأقل أعم من كونه نفسيا أو غيريا
والشك في تعلق أصل الأمر بالنسبة إلى الأكثر فالانحلال لا يتم هنا، إذ الجزء
التحليلي ليس له وجود مغاير للكل حتى يصح تعلق الأمر به، وإذا لم يتم الانحلال
لا يجوز الرجوع إلى البراءة، لأن مبنى الرجوع إليها هو الانحلال، وإن كان الوجه
فيه هو أن الأكثر له جهة معلومة وهي وجوب الأقل، وجهة مجهولة وهي وجوب
الجزء الزائد، فهو من الجهة المعلومة منجز ومن الجهة المجهولة غير منجز، فيتم
الانحلال هنا، لأن الأكثر وهي الصلاة المقيدة بالطهارة مثلا من جهتها المعلومة
- وهي أصل الصلاة - منجز، ومن جهتها المجهولة - وهي تقيدها بالطهارة - غير
منجز، وكذا التكليف بعتق الرقبة المؤمنة من جهته المعلومة - وهي أصل عتق
الرقبة - منجز ومن جهته المجهولة - وهي تقيدها بالمؤمنة - غير منجز.

(1) وسائل الشيعة: ب 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 2 ج 5 ص 345.
656

والحق هو الأخير وأن الشك في الشرطية إلي هي من الأجزاء التحليلية
كالشك في الجزئية التي هي من الأجزاء العقلية في انحلال التكليف وجواز
الرجوع إلى البراءة العقلية والشرعية كلتيهما، وأما في صورة دوران الأمر بين
العام والخاص فيشكل، إذ يحتمل أن يكون حالهما كحال المشروط والشرط في
انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي من الجهة المعلومة والشك البدوي من
الجهة المجهولة، ويحتمل أن لا يكون حالهما كحال المشروط والشرط، إذ
التكليف المردد بين العام والخاص ليس له قدر مشترك كالمتباينين حتى يكون
التكليف به معلوما بالتفصيل، فكما أن التكليف لو كان في الواقع متعلقا بالعام
كالحيوان كان المكلف به عنوانا بسيطا في الخارج لا مركبا كالجسم النامي
المتحرك بالإرادة التي هي أجزاء حد الحيوان، كذلك لو كان متعلقا في الواقع
بالخاص كالانسان كان المكلف به عنوانا بسيطا في الخارج لا مركبا كالحيوان
الناطق اللذين هما جزءا حد الإنسان، ولا يكون التكليف بإتيان الإنسان منحلا
إلى التكليف بإتيان الحيوان والناطق اللذين هما شيئان حتى يكون في البين قدر
مشترك معلوم وكان الشك في الزائد.
وهكذا الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين سواء كانا شرعيين أو
عقليين، فإن حالهما حال العام مع خاصه من حيث الإشكال في جواز الرجوع
إلى البراءة. ولذا بنينا في الفقه على الاحتياط في موارد دوران الأمر بين العام
والخاص والتخيير والتعيين.
الثاني: أنه إذا ثبت جزئية شيء أو شرطيته وشك في ركنيته وعدم ركنيته - أي
شك في أن جزئيته أو شرطيته مطلقة أو مخصوصة بحال الذكر - فهل الأصل هي
الركنية التي لازمها فساد العمل الفاقد لذلك المشكوك، سواء كان تركه عمدا أو
نسيانا، أو الأصل عدم الركنية الذي لازمه عدم فساد العمل الفاقد له فيما إذا كان
تركه نسيانا؟ والكلام تارة في أن مقتضى القواعد الأولية أي شيء؟ وأخرى في أن
مقتضى الدلالة الثانوية أي شيء؟
657

أما الكلام من الجهة الأولى فهو: أنه لا إشكال في أن اختلاف بعض العناوين
ربما يوجب اختلاف المأمور به بحسب الأجزاء والشرائط قلة وكثرة كالحاضر
والمسافر والقادر والعاجز ونحوهما من العناوين، وإنما الإشكال في أن عنوان
الذاكر والناسي أيضا من هذا القبيل، أو من قبيل العناوين التي لا يوجب اختلافها
اختلاف المأمور به، فإن قلنا بالأول وهو إمكان أن يكون المأمور به في حق
الناسي غير ما هو المأمور به في حق الذاكر، إما بأن يتوجه خطاب يعم الذاكر
والناسي بالخالي عن الجزء والشرط المشكوكين، ويتوجه خطاب يخص الذاكر
بإيجاده مع الجزء أو الشرط المشكوكين أو بأن يتوجه خطاب بالخالي عن الجزء
والشرط المشكوكين إلى الناسي لا بعنوان الناسي حتى يتوهم استحالته، بل
بعنوان ملازم له مع عدم التفاته إلى الملازمة، وإلا لخرج أيضا عن كونه ناسيا
كعنوان البلغمي والمرطوبي، بل لا يحتاج إلى هذه التكلفات في الأحكام الشرعية
التي قد عرفت أنها من قبيل القضايا الحقيقية التي علق الحكم فيها على
موضوعاتها المقدرة وجوداتها، إذ يمكن أن يجعل بنحو القضية الحقيقية المكلف
به بعنوان الذاكر هو المركب المشتمل على الجزء والشرط المشكوكين، وبعنوان
الناسي هو الفاقد لهما. وشخص الناسي حين اشتغاله بالعمل من جهة غفلته عن
نسيانه بزعم أنه ذاكر ويأتي بما هو المأمور به في حق الذاكر، والحال أنه ناس،
ويأتي بما هو المأمور به في حق الناسي فيكون من باب الخطأ في التطبيق ولا
يضر بصحة عمله، لأنه قصد امتثال الأمر الواقعي المتوجه إليه وأتى بما هو
المأمور به في حقه واقعا، إلا أنه اعتقد أنه ذاكر ويأتي بما هو وظيفة الذاكر، ولكن
كان في الواقع ناسيا وأتى بما هو وظيفة الناسي فليس إلا من باب الخطأ في
التطبيق الذي لا يضر بقصد الامتثال وصحة العمل، فتأمل.
فبناء على إمكان اختلاف المأمور به زيادة ونقيصة باختلاف الذكر والنسيان
- كما هو الحق - فلابد من ملاحظة دليل المقيد ودليل القيد، فإن كان لدليل القيد
إطلاق يعم حالتي الذكر والنسيان مثل " لا صلاة إلا بطهور " و " لا صلاة إلا
658

بفاتحة " فيؤخذ بإطلاقه ويحكم بأنه قيد ركني تبطل الصلاة بفواته عمدا أو نسيانا،
سواء كان لدليل المقيد إطلاق أم لا.
أما إذا لم يكن له إطلاق فواضح، وأما إذا كان له إطلاق فلأن إطلاق دليل
القيد حاكم ومقدم على إطلاق دليل المقيد، وإذا لم يكن لدليل القيد إطلاق فيؤخذ
بالقدر المتيقن، وهو قيديته في حال الذكر، وفي غيره - وهو حال النسيان - يرجع
إلى البراءة والاشتغال على الخلاف في مسألة الشك في الجزئية والشرطية فإن
قلنا بأن الأصل في تلك المسألة هي البراءة، لجريان أدلة البراءة العقلية أو النقلية
أو كلتيهما - كما هو المختار - فيرجع إليها في هذه المسألة أيضا، إذ يكون الشك
في الركنية وعدم الركنية أي القيدية المطلقة والقيدية المخصوصة بحال الذكر من
صغريات الشك في أصل الجزئية والشرطية، فكما أن الأصل في تلك المسألة
عدم الجزئية والشرطية لما عرفت من انحلال العلم الإجمالي وجريان أدلة البراءة
العقلية والنقلية بالنسبة إلى الجزء والشرط المشكوكين لا الاشتغال، فكذلك
الأصل في هذه المسألة عدم الركنية وعدم القيدية المطلقة، ومع جريان البراءة
ونفي الركنية والقيدية المطلقة وكون المأمور به في حق الناسي هو الفاقد للقيد لا
الواجد له، فيكون ما أتى به فاقدا للقيد صحيحا ولو لم يكن دليل ثانوي على
الإجزاء والصحة مثل " رفع عن أمتي (1) " و " لا تعاد (2) " في خصوص الصلاة.
وإن قلنا بالثاني وهو عدم إمكان اختلاف المأمور به قلة وكثرة باختلاف
2 عنوان الذكر والنسيان وقلنا بأن ما هو الجزء أو الشرط في حق الذاكر فهو جزء
وشرط في حق الناسي، لاستحالة توجه الخطاب بالفاقد عن الجزء أو الشرط
بالنسبة إلى الناسي كما اختاره الشيخ (3) (قدس سره) فنحتاج في الحكم بصحة ما أتى به
الناسي فاقدا للجزء أو الشرط إلى الأدلة الثانوية من حديث الرفع الشامل لتمام

(1) وسائل الشيعة: ب 3 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 2 ج 5 ص 345.
(2) وسائل الشيعة: ب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 6 ج 5 ص 330.
(3) فرائد الأصول: ج 2 ص 484.
659

الموارد على تقدير تمامية دلالته، ومن " لا تعاد " المخصوص بباب الصلاة.
أما حديث الرفع فقد وقع النزاع بين الشيخ (قدس سره) وصاحب الكفاية، فاختار
الشيخ عدم تمامية دلالته على الصحة وإجزاء ما أتى به الناسي من العمل الفاقد
للجزء أو الشرط عما هو المأمور به الواقعي بعد التذكر وارتفاع النسيان (1)، بدعوى
أن مفاد حديث الرفع ليس رفع جزئية المنسي أو شرطيته، واختار صاحب
الكفاية (قدس سره) تمامية دلالة حديث الرفع على الصحة وإجزاء ما أتى به الناسي من
العمل الفاقد للجزء أو الشرط (2)، بدعوى أن حديث الرفع يدل على عدم جزئية
المنسي أو شرطيته.
والحق ما أفاده الشيخ (قدس سره) لأن جزئية الجزء وشرطية الشرط ليست من الآثار
الشرعية المجعولة لهما بلا واسطة، بل هما ككلية الكل، والمرفوع بحديث الرفع
هي الآثار الشرعية المترتبة بلا واسطة، كما أن المثبت بأخبار الاستصحاب هي
الآثار الشرعية المجعولة للمستصحب بلا واسطة لا الآثار العقلية والعادية
والشرعية المترتبة عليه بواسطتهما، والإعادة بعد التذكر من آثار الأمر الأول
لامن آثار ترك الجزء أو الشرط.
والحاصل أن المرفوع بحديث الرفع لو كان الجزئية أو الشرطية لتم ما ذكره
في الكفاية، ولكن ليس الأمر كذلك، فإن حال نسيانهما كحال نسيان الكل، فإن
من نسي عن أصل الصلاة مثلا وإن كان التكليف بها ساقطا عنه في حال النسيان،
لاستحالة تكليف الغافل ولكن بعد التذكر يجب الإتيان بها بمقتضى الأمر الاول،
كذلك لو نسي عن جزئها، لأنه لم يأت بما هو المأمور به وإن كان الأمر به ساقطا
حين النسيان من جهة النسيان والغفلة، بل المرفوع بهذا الحديث الآثار الشرعية
المترتبة على المنسي لولا النسيان التي يكون في رفعها امتنان على العباد، ولذا لو
أتلف أحد مال الغير لا يرتفع الضمان عن المتلف، لأن في رفع الضمان وإن كان منة
عليه إلا أنه خلاف الامتنان بالنسبة إلى المالك. ووجوب الإعادة ليس من الآثار

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 485.
(2) كفاية الأصول: ص 416.
660

الشرعية المترتبة على ترك الجزء بلا واسطة، بل هو من الآثار المترتبة عليه بواسطة.
وبعبارة أخرى لو كان المرفوع بحديث الرفع هو الحكم - أعني وجوب الجزء
واقعا الذي ينتزع منه الجزئية - لا الآثار الشرعية المترتبة عليه بلا واسطة لتم
ما ذكره في الكفاية، والحال أنه ليس كذلك، فكما أن النسيان عن الكل لا يوجب
رفع وجوب الكل واقعا، ولذا لو التفت وكان الوقت باقيا لوجب الاتيان به كذلك
النسيان عن الجزء لا يوجب رفع وجوب الجزء واقعا، فلو التفت يجب الإتيان
بالمركب المشتمل على الجزء، لأنه لم يأت بما هو الواجب عليه واقعا ووجوب
الإعادة من الآثار العقلية لبقاء الواجب الواقعي والأمر الأولي، وعلى تقدير كونه
أثرا شرعيا فهو من الآثار الشرعية المترتبة على ترك الجزء بواسطة، لأن ترك
الجزء سبب لترك الكل الذي هو سبب لبقاء الأمر الأول الذي هو سبب للإعادة،
فترتبها عليه إنما هو بالواسطة، والآثار الشرعية المترتبة عليه بواسطة لا ترتفع
بعموم حديث الرفع كما لا تثبت بأخبار الاستصحاب.
نعم لو قام دليل بأن حكم نسيان الجزء الفلاني مرفوع، أو أن نسيانه كعدم
نسيانه وجب حمله على رفع وجوب الإعادة صونا للكلام عن اللغوية في ما لم
يكن له أثر غير وجوب الإعادة كما لو قام دليل بالخصوص على أنه لا تنقض
اليقين بالشيء الفلاني بالشك فيه وفرضنا أنه ليس له أثر إلا الأثر المترتب عليه
بواسطة لوجب ترتيبه عليه.
وأما الدليل العام كأخبار الاستصحاب وحديث الرفع فلا يشمل المورد الذي
ليس له أثر شرعي بلا واسطة لا أنه يشمله ويثبت الأثر الشرعي مع الواسطة، إذ
لا يلزم من عدم شمولها لذلك المورد لغوية لبقاء مورد لها، فلو تمت دلالة حديث
الرفع على عدم جزئية الجزء المنسي أو شرطيته وعدم وجوبه على الناسي، وأن
الواجب عليه هو ما عداه من الأجزاء والشرائط فيعم تمام الأعمال المركبة ولا
اختصاص له بباب الصلاة فلو نسي عن بعض أعضاء الوضوء فيكتفي بهذا الوضوء
الناقص ولا يجب إعادته.
661

وأما " لا تعاد " فلا إشكال في دلالته على الإجتزاء بما فعله الناسي من الصلاة
الفاقدة لبعض الأجزاء أو الشرائط، لأنه مسوق لذلك.
وإنما الإشكال في أنه مخصوص بالناسي أو يعم الجاهل، وأنه مخصوص
بالنقيصة أو يعم الزيادة، وأنه مخصوص بالأجزاء والشرائط، أو يعم الموانع أيضا.
وتفصيل الكلام فيه من هذه الجهات موكول إلى محله، وهو باب الخلل. هذا حكم
نقصان الجزء والشرط نسيانا.
وأما نقصانهما عمدا فلا إشكال في أنه موجب للفساد، لأن المأتي به غير
مطابق للمأمور به ولا نعني بالفساد إلا عدم مطابقة المأتي به مع المأمور به مع عدم
دليل ثانوي على الاكتفاء به عن المأمور به كحديث الرفع ولاتعاد المخصوصين
بالنسيان وعدم شمولهما لصورة العمد، ولكن يمكن ثبوتا عدم بطلان العمل بنقص
بعض أجزائه وشرائطه عمدا فيما إذا تعلق الأمر بأصل العمل وتعلق أمر ثانوي
بإيجاده مع الخصوصية الكذائية بأن كانت الخصوصية مطلوبة في ظرف امتثال
الأمر الأول المتعلق بالطبيعة لا أصل الطبيعة، فحينئذ لو أتى بالطبيعة المتخصصة
بتلك الخصوصية فقد امتثل كلا الأمرين أي الأمر المتعلق بأصل الطبيعة والأمر
المتعلق بتلك الخصوصية، ولو أتى بالطبيعة بدون تلك الخصوصية فقد امتثل الأمر
المتعلق بأصل الطبيعة وعصى الأمر المتعلق بتلك الخصوصية، ولا يمكن امتثاله
فيما بعد، لأن الفرض أنها كانت مطلوبة في ظرف امتثال الأمر الأول، وقد فات
محله بامتثال الأمر الأول.
نعم لو كان ظرف امتثال الأمر الثاني أصل الطبيعة لا امتثال الأمر بها يمكن
امتثال الأمر الثاني بعد امتثال الأمر الأول بأن يوجد الطبيعة ثانيا بهذه الخصوصية
ويكون ايجاد الطبيعة - حينئذ - مقدمة لامتثال الأمر بالخصوصية، وإلا فالأمر
بالطبيعة قد سقط بامتثاله أولا، فبحسب عالم التصور والثبوت يمكن أن يكون الأمر
بالطبيعة والخصوصية بنحو تعدد المطلوب، وتكون الخصوصية مطلوبة في ظرف
امتثال الأمر بالطبيعة، فيأتي المكلف بالطبيعة بدون الخصوصية عمدا فيكون
662

ممتثلا لأمرها وعاصيا للأمر بالخصوصية، إلا أنه بحسب عالم التصديق والإثبات
لابد من قيام الدليل على أن الأمر بالطبيعة والخصوصية كان من هذا القبيل.
ويمكن أن يقال: إنه لو كان الأمر بالطبيعة والخصوصية من هذا القبيل كان من
باب الواجب في واجب، وهو خارج عن محل الكلام، فتأمل. هذا تمام الكلام في
نقصان بعض الأجزاء والشرائط نسيانا وعمدا.
الثالث: فيما لو زاد بعض الاجزاء بقصد الجزئية، إذ الإتيان بذات الجزء بدون
قصد الجزئية في المركبات الاعتبارية التي تركيبها وإئتلافها بحسب الاعتبار
لا يكون زيادة فيها، بل يكون أجنبيا عنها كسائر الحركات والسكنات الواقعة
فيها، ومع قصد الجزئية تتحقق الزيادة سواء كانت الزيادة من جنس المزيد عليه
أم لا، وفيما لم يكن الجزء أو أصل المركب مأخوذين بالنسبة إلى ذلك الزائد
بشرط " لا "، إذ لو كانا مأخوذين بالنسبة إليه بشرط " لا " كان مرجع الزيادة إلى
النقيصة، فإنه إذا اعتبر في كل ركعة من الصلاة سورة واحدة كالركوع إما بأن تكون
السورة الواحدة بشرط " لا " جزءا من الصلاة أو بأن تكون الصلاة مقيدة بعدم
أزيد من السورة الواحدة في كل ركعة تكون الزيادة على السورة الواحدة موجبة
للنقيصة وعدم الإتيان بما هو المعتبر فيها، وفيما لم يكن الجزء هي الطبيعة
اللا بشرط، إذ لو كان كذلك لا تتحقق الزيادة أيضا، فإنه لو اعتبر طبيعة الذكر في
الركوع أو السجود مثلا فكما أنه تتحقق الطبيعة بذكر واحد كذلك تتحقق بأكثر منه
فلا تتحقق الزيادة، بل فيما إذا كان الجزء هو الواحد اللا بشرط كما إذا اعتبر في
الصلاة سورة واحدة لا بشرط، فإن الزيادة التي لا تكون مرجعها إلى النقيصة
تتحقق - حينئذ - بقراءة سورتين في ركعة واحدة، والزيادة قد تكون عمدية وقد
تكون سهوية، أما الزيادة العمدية تتصور على وجوه على ما ذكر الشيخ (قدس سره):
أحدهما: أن يزيد جزءا من أجزاء الصلاة التي كان المعتبر في جزئيتها هو
الواحد لا بشرط بقصد كون الزائذ جزءا مستقلا، كما لو اعتقد شرعا أو تشريعا أن
الواجب في كل ركعة ركوعان كالسجود.
663

ثانيها: أن يقصد كون مجموع الزائد والمزيد عليه جزءا واحدا كما لو اعتقد
أن الواجب في الركوع هو الجنس الصادق على الواحد والمتعدد.
ثالثها: أن يأتي بالزائد بدلا عن المزيد عليه بعد رفع اليد عنه إما اقتراحا كما
لو قرأ سورة ثم بدا له في الأثناء أو بعد الفراغ وقرأ سورة أخرى لغرض ديني
كالفضيلة أو دنيوي كالاستعجال، وإما لإيقاع الأول على وجه فاسد بفقد بعض
الشروط كأن يأتي ببعض الأجزاء رياءا، أو مع عدم الطمأنينة المعتبرة فيها، ثم
يبدو له في إعادته على وجه صحيح (1).
فالشيخ (قدس سره) فصل بين هذه الوجوه فقال: أما الزيادة على الوجه الأول فلا
إشكال في فساد العبادة إذا نوى ذلك قبل الدخول فيها أو في الأثناء، لأن ما أتى به
وقصد الامتثال به - وهو المجموع المركب المشتمل على الزيادة - غير مأمور به
وما أمر به - وهو ما عدا تلك الزيادة - لم يقصد الامتثال به، وأما الأخيران فمقتضى
الأصل عدم بطلان العبادة، لأن مرجع الشك إلى الشك في مانعية الزيادة،
ومرجعها إلى الشك في شرطية عدمها. وقد تقدم أن مقتضى الأصل فيه البراءة.
والحق أن يقال: إن الزيادة التي لم يكن مرجعها إلى النقيصة - كما هو محل
الكلام - وهو ما إذا كان الجزء هو الواحد اللا بشرط لا الواحد بشرط " لا " لا تكون
موجبة لبطلان العمل مطلقا، ولو مع الاتيان بالزيادة تشريعا فضلا عما إذا كان
جهلا أو سهوا، لأن المفروض أنه أتى بتمام ما اعتبر فيه مع شيء زائد لم يعتبر
وجوده وعدمه فيه.
ولذا لا إشكال في صحته إذا كان توصليا، وإنما الإشكال فيما إذا كان تعبديا
من جهة قصد الامتثال المعتبر في العبادة، لأنه قصد امتثال الأمر بالصلاة المركبة
من عشرة أجزاء مثلا، والحال أن الأمر ما تعلق - حسب الفرض - إلا بالصلاة
المركبة من تسعة أجزاء فما قصد امتثال الأمر به وأتاه بهذا القصد لم يكن مأمورا
به، وما كان مأمورا به لم يقصد امتثال أمره.

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 487.
664

وهذا الإشكال مخصوص بما إذا كان للجزء الزائد الذي اعتقده جزءا
- تشريعا أو جهلا، قصورا أو تقصيرا - دخل في الامتثال بحيث لو لم يكن هذا
جزءا لما كان الأمر المتعلق ببقية الاجزاء داعيا ومحركا له، وإلا فلو كان الأمر
الواقعي محركا على كل حال فلا إشكال في صحة العبادة إلا من جهة التشريع.
فإن قلنا: إنه عنوان منطبق على العمل ويكون العمل الخارجي مصداقا له
فيسري قبح التشريع - الذي لا كلام فيه - إلى العمل الخارجي، ويصير قبيحا
وحراما شرعيا وباطلا.
وإن قلنا: إن التشريع عنوان ملازم للعمل لا منطبق عليه فلا يسري قبحه إلى
العمل، فحال التجري في هذين الاحتمالين كالتجري - كما تقدم - وكالرياء، فإن
الوجوه التي استدلوا بها على بطلان العمل المراءى به الأخبار الخاصة التي ناقش
بعض في دلالتها بأن المستفاد منها عدم قبول العمل المراءى فيه لا عدم صحته
وكونه منافيا للإخلاص المعتبر في العبادة، وكونه عنوانا محرما منطبقا على العمل
فيصير العمل باطلا، لعدم إمكان التقرب بالمحرم.
ولكن في انطباق هذه العناوين الثلاثة مع العمل وملازمتها له إشكال. وربما
تكون هذه العناوين الثلاثة متفاوتة في وضوح الإشكال وخفائه، وربما يتمسك
لاثبات الصحة بالاستصحاب، لأن العمل قبل إتيان الزيادة كان صحيحا، وبعده
نشك في صحته وفساده فنستصحب الصحة.
وفيه ما سيجيء في محله - إن شاء الله - من أنه إن أريد استصحاب صحة
جميع العمل فلا يقين سابق بالنسبة إليه، لأن الفرض أن الشك من جهة الزيادة
الواقعة في الأثناء، وإن أريد صحة الاجزاء السابقة فإن أريد صحتها التأهلية فهي
متيقنة ليست مشكوكة، وإن أريد صحتها الفعلية فهي موقوفة على انضمام باقي
الأجزاء بها على النحو المعتبر، وهو مشكوك، فصحتها الفعلية مشكوكة فكيف
تستصحب؟
وأما الزيادة السهوية فيما هو محل الكلام من الزيادة فقد ظهر مما ذكرنا أنه
665

لا توجب البطلان، لأن الإشكال في الزيادة العمدية كان في العبادات من جهة
التشريع ومنافاته مع قصد الامتثال، وهو مخصوص بصورة العمد ولا يعم السهو،
فتأمل.
الرابع: لو علم بجزئية شيء أو شرطيته وشك في أنه جزء أو شرط في حال
الاختيار فقط حتى يسقط التكليف بذلك الجزء أو الشرط مع العجز عنهما، ويكون
التكليف بباقي أجزاء المركب أو المشروط باقيا كما في تمام أجزاء الصلاة
وشرائطها إلا الطهور بالمعنى الأعم من الطهارة المائية والترابية أو أنه جزء أو
شرط مطلقا حتى يسقط التكليف بباقي أجزاء المركب أو المشروط بواسطة العجز
عنهما كمطلق الطهور الأعم من المائية والترابية بناء على ما نسب إلى المشهور من
سقوط الأمر بالصلاة مع العجز عنه إما مطلقا أو أداء فقط، كما هو مقتضى
قوله (عليه السلام): " لا صلاة إلا بطهور (1) " الظاهر في انتفاء حقيقة الصلاة بانتفاء الطهور.
ولا يشكل بقوله (عليه السلام): " لا صلاة الا بفاتحة (2) " من جهة اتحاد سياقه مع " لا صلاة
إلا بطهور " والحال أنه لا يسقط أصل الصلاة بواسطة العجز عن الفاتحة، إذ من
المحتمل أن يكون المراد من الفاتحة ما يعمها وأبدالها، فكأنه قال: " لا صلاة إلا
بفاتحة " أو أبدالها. وأما بالنسبة إلى الطهور فلا يمكن أن يكون كذلك، إذ لا بدل
لمطلق الطهور، فتأمل.
ومرجع هذا النزاع في الحقيقة إلى أن التكليف بالمركب المشتمل على هذا
الجزء المشكوك كونه جزءا في حال الاختيار أو مطلقا أو المشروط بالشرط
المشكوك كونه شرطا في حال الاختيار أو مطلقا هل هو من باب تعدد المطلوب
حتى لا يسقط التكليف بأصل المركب أو المشروط بواسطة تعذر الجزء أو
الشرط، أو من باب وحدة المطلوب حتى يسقط أصل التكليف بالمركب أو
المشروط بواسطة تعذرهما؟

(1) وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب الوضوء ح 1 ج 1 ص 256.
(2) مستدرك وسائل الشيعة: ب 1 من أبواب القراءة ح 5 ج 4 ص 158.
666

فإذا كان مرجع الشك في الجزئية أو الشرطية المخصوصة بحال التمكن أو
الأعم منه ومن حال العجز إلى الشك في تعدد المطلوب ووحدته فلابد من
ملاحظة الدليل الدال على وجوب المركب المشتمل على هذا الجزء المشكوك أو
المشروط بهذا الشرط المشكوك والدليل الدال على وجوب هذا الجزء والشرط
المشكوكين، فإن كان الدليل الدال على وجوبها غير الدليل الدال على وجوب
أصل المركب أو المشروط بأن تثبت الجزئية أو الشرطية بدليل منفصل، كما لو أمر
الشارع أولا بأصل الصلاة، ثم أمر بدليل آخر بقراءة السورة فيها كما في قوله:
(فاقرأوا ما تيسر من القرآن (1)) أو أمر بإيجادها مع الطهارة أو الاستقبال أو
الستر ونحوها، فالظاهر أنه من باب تعدد المطلوب، والجزئية والشرطية
مخصوصة بحال التمكن، ومع العجز يسقط الجزء أو الشرط لا المركب والمشروط،
ولازم تعدد المطلوب هو كون المطلوب الأقصى الفعلي هو المشتمل على الجزء أو
المتقيد بالشرط في حال التمكن منهما، ومع العجز عنهما هو الفاقد لهما.
ففي حال التمكن لو أتى بالمركب المشتمل على الجزء أو المتقيد بالشرط فقد
أتى بالمطلوبين وأمتثل كلا الطلبين بفعل واحد وإن أتى بالفاقد منهما فقد امتثل
الأمر المتعلق بأصل المركب أو المشروط، ولكنه عصى الأمر المتعلق بالجزء أو
الشرط، ففيما كانت خصوصية الجزء أو الشرط لازمة الاستيفاء أداء أو أداء
وقضاء كما في الواجبات يجب الإتيان بالفعل المشتمل على ذلك الجزء أو الشرط
ثانيا تحصيلا لتلك الخصوصية المطلوبة اللازم استيفاؤها لا لعدم امتثال الأمر
المتعلق بأصل المركب أو المشروط، لأنه امتثل الأمر المتعلق بهما أولا بإتيان
الفعل الفاقد لهما، وإن كانت الخصوصية غير لازمة الاستيفاء كما في المستحبات
فلا يجب الإتيان ثانيا بالفعل المشتمل على ذلك الجزء أو الشرط.
كما لا يجب الإتيان بأصل المستحب، ولكن لو أراد تحصيل الفضيلة العليا

(1) المزمل: 20.
667

يستحب إتيان المستحب مشتملا على ذلك الجزء أو الشرط. فإذا ورد دليل على
استحباب زيارة الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة مطلقا وورد دليل على استحباب كون
الزائر مغتسلا فلو زاره الشخص مغتسلا فقد امتثل كلا الأمرين، وإن زاره بغير
غسل فقد امتثل الأمر بأصل الزيارة، ولكن ما امتثل الأمر بكونه مغتسلا، فلو أراد
تحصيل الفضيلة العليا يستحب زيارته ثانيا مغتسلا، ولو لم يرد فقد أدرك فضيلة
أصل الزيارة، ولكنه ما أدرك فضيلة الخصوصية، والفرض أن الخصوصية ليست
لازمة الاستيفاء كأصل المستحب حتى يجب فعله ثانيا مشتملا على تلك
الخصوصية.
فعلى هذا لافرق بين الواجبات والمستحبات فيما إذا ثبتت جزئية شيء أو
شرطيته بدليل منفصل في أنه لو أتى المكلف بالفاقد فقد امتثل أصل الأمر
بالمركب أو المشروط فيهما وخالف الأمر بالخصوصية، إلا أن الخصوصية في
الواجبات لما كانت لازمة الاستيفاء يجب الإتيان ثانيا بالفعل المشتمل عليه
تحصيلا لها، بخلاف المستحبات فإنها ليست لازمة الاستيفاء فلا يجب الإتيان به
ثانيا، ولكن لو أراد تحصيل فضيلة تلك الخصوصية يستحب الإتيان به ثانيا.
ومن الغريب جدا أن يكون فتوى الفقهاء فيما لو أتى المكلف بالواجبات
فاقدة للأجزاء والشرائط بالإعادة وعدم فتواهم بها في المستحبات إنما هو من
جهة ما ذكرنا من لزوم تحصيل الخصوصية في الواجبات بخلاف المستحبات لا
من جهة حمل المطلق على المقيد في الواجبات دون المستحبات حتى يشكل بأنه
ما الفرق بين الواجبات والمستحبات في حمل المطلق على المقيد وعدمه؟ وهل
يعقل الفرق بين القول بكون زيارة الحسين (عليه السلام) واجبة ومستحبة في حمل الأمر
بالمطلق على المقيد على الأول دون الثاني؟!
وبناء على ما ذكرنا من أنه إذا ثبتت الجزئية أو الشرطية بدليل منفصل - كما
هو الغالب - لا يرد هذا الإشكال، إذ لا نقول بحمل المطلق على المقيد لا في
الواجبات ولا في المستحبات، بل نقول بتعدد المطلوب في كليهما، ولازم تعدد
668

المطلوب هو أنه لو أتى بالواجبات بدون الخصوصيات المطلوبة لوجب الإتيان
بها ثانيا بتلك الخصوصية تحصيلا لها، ولو أتى بالمستحبات بدون الخصوصيات
المطلوبة لا يجب الإتيان بها ثانيا بتلك الخصوصية تحصيلا لها، لأنها ليست لازمة
الاستيفاء كأصل المستحب، فإنه لو ترك أصل المستحب لا شئ عليه فضلا عن
خصوصيته، فتأمل.
وإن كان الدليل الدال على وجوبهما هو الدليل الدال على وجوب أصل
المركب والمشروط بأن ثبتت الجزئية أو الشرطية بدليل متصل وكان تكليف
واحد أتى بأمر مركب مشتمل على الجزء أو متقيد بالشرط كما لو قال المولى:
أوجد الصلاة مع السورة أو مع الطهارة، فمن نفس الدليل يمكن استظهار أنه من
باب وحدة المطلوب أو تعدده، ولكن بحسب عالم الثبوت يمكن أن يكون
المطلوب واحدا حتى يسقط التكليف بأصل المركب والمقيد عند تعذر الجزء أو
القيد وأن يكون متعددا حتى لا يسقط التكليف بالمركب والمقيد بتعذر الجزء أو
القيد والنزاع في أن المؤقت ينتفي بانتفاء وقته أم لا؟ إنما هو من جزئيات هذا
النزاع، إذ لافرق بين أن يكون القيد وقتا أو غيره، ففي كل مورد يثبت القيد بدليل
متصل تجري فيه هذا النزاع.
فلا إشكال في أنه مع التمكن من الجزء والشرط يجب الإتيان بما اشتمل
على الجزء والشرط، لأنه المكلف به الفعلي، سواء كان في الواقع من باب وحدة
المطلوب أو من باب تعدد المطلوب.
وإنما الإشكال في صورة عدم التمكن من الجزء والشرط في أنه يجب
الإتيان بالفاقد أم لا، فلابد - حينئذ - من ملاحظة دليل خارجي به يعين المأمور به
في الباقي في تلك الحالة، فإن كان هناك دليل خارجي كقاعدة الميسور - بناء
على تماميتها وجريانها - فيتعين بها المأمور به في تلك الحالة في الباقي بمقدار
جريانها، وتكون دليلا اجتهاديا كسائر الأدلة الاجتهادية، وإن لم يكن دليل
خارجي يعين به المأمور به في تلك الحالة فلابد من الرجوع إلى الأصول العملية.
669

ولا شك أن المرجع هنا أصالة البراءة، لأنا نشك في أصل التكليف - في تلك
الحالة - وعدمه، والمرجع هي أصالة البراءة، إلا أن يكون أصل حاكم على أصالة
البراءة كالاستصحاب، إذ عرفت أن الأصول ليست في رتبة واحدة، بل رتبة
بعضها مقدمة على بعض كالاستصحاب، فإنه مقدم على سائر الأصول، فان كان
استصحاب كما في بعض الصور وهو ما إذا طرأ العجز عن الجزء والشرط بعد
دخول الوقت وتعلق التكليف بالواجد لهما فنرفع اليد به - على تقدير جريانه
وتماميته - عن أصالة البراءة، ونحكم بوجوب الإتيان بالفاقد لهما في تلك الحالة،
وإن لم يكن أصل حاكم واستصحاب كما في بعض الصور وهو ما إذا كان عاجزا
عن الجزء والشرط قبل دخول الوقت، أو لم نقل بتماميته وجريانه فنعمل بمقتضى
أصالة البراءة، ونحكم بعدم وجوب الباقي في تلك الحالة.
فتحصل: أنه لا إشكال في أن مرجع الشك في جزئية الشيء أو شرطيته مطلقا
أو في خصوص حال التمكن إلى الشك في وحدة المطلوب وتعدده، فإن كان
الدليل الدال عليهما منفصلا بأن ثبتت الجزئية أو الشرطية بدليل آخر غير دليل
المركب أو المشروط، فالظاهر أنه لا إشكال في كونه من باب تعدد المطلوب،
ويجب الإتيان بالباقي مع تعذرهما. وإن كان الدليل عليهما متصلا بأن ثبتت
الجزئية أو الشرطية بنفس دليل المركب أو المشروط فمن نفس الدليل لا يمكن
استظهار شيء من وحدة المطلوب وتعدده، فتأمل.
فلابد عند تعذرهما من الرجوع إلى أصالة البراءة، لأن الشك في التكليف في
تلك الحال، إلا أن يكون دليل اجتهادي يعين به المأمور به في تلك الحالة كقاعدة
الميسور، أو أصل حاكم على أصالة البراءة كالاستصحاب في بعض الصور.
ولا إشكال في أن قاعدة الميسور والاستصحاب متقدمان على أصالة البراءة،
ومع جريانهما لا تصل النوبة إلى أصالة البراءة.
وإنما الإشكال في جريانهما، أما القاعدة فلأن مدركها إن كان قوله (صلى الله عليه وآله): " إذا
670

أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " (1) ففيه - مضافا إلى ضعف السند والدلالة من
جهة تطرق الاحتمالات الكثيرة الموجبة لعدم ظهوره في الدلالة على المدعى كما
ذكرها في الفصول (2) وغيره، ومضافا إلى استدلالهم به في مسألة دلالة الأمر على
الندب والوجوب، وفي مسألة دلالته على المرة والتكرار، وفي تلك المسألة
الظاهر في احتماله لكل واحدة من المسائل الثلاث الموجب لسقوطه عن قابلية
الاستدلال به - أن هذه الرواية وردت في مورد السؤال عن تكرار الحج وعدمه،
فمع ملاحظة مورد السؤال وحملها عليه لا ربط لها بالمقام، لأن التبعيض حينئذ
بلحاظ الأفراد ومع قطع النظر عنه تكون مجملة بواسطة الاحتمالات المذكورة.
وإن كان قوله (عليه السلام): " ما لا يدرك كله لا يترك كله (3) " ففيه أيضا - مضافا إلى
ضعف السند واحتمال كون الكل أفراديا لا مجموعيا هو أنه لا دلالة له إلا على
رجحان الإتيان بالباقي عند تعذر بعض أجزاء المأمور به سواء كان واجبا أو
مستحبا، لظهور الموصول فيما يعمهما، وليس ظهور " لا يترك " في الوجوب - لو
سلم - موجبا لتخصيص الموصول بالواجب لو لم يكن ظهور الموصول في الأعم
قرينة على إرادة خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحية من قوله: " لا يترك ".
وكيف كان فليس ظاهرا في اللزوم هاهنا، ولو قيل بظهوره فيه في غير المقام،
وإن كان قوله (عليه السلام): " الميسور لا يسقط بالمعسور (4) " ففيه أيضا مضافا إلى ضعف
السند وعدم دلالته على عدم السقوط لزوما لشموله للمستحبات، ولا مجال معه
لتوهم دلالته على عدم السقوط بنحو اللزوم إلا أن يراد عدم سقوط الميسور بما له
من الحكم إن واجبا فواجب، وإن مستحبا فمستحب، ويكون قضية الميسور كناية
عن عدم سقوط الميسور بحكمه، حيث إن الظاهر منه ذلك، كما أن الظاهر من
قوله: " لا ضرر ولا ضرار (5) " هو نفي ماله من الحكم تكليفا كان أو وضعا

(1) عوالي اللئالي: ج 4 ح 206 ص 58.
(2) الفصول الغروية: ص 115 س 5 - 7.
(3) عوالي اللئالي: ج 4 ح 207 ص 58.
(4) عوالي اللئالي: ج 4 ح 205 ص 58 " مع اختلاف يسير ".
(5) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب احياء الموات ح 3 ج 17 ص 341.
671

عكس قاعدة الميسور، لا أن يكون عبارة عن عدم سقوط الميسور بنفسه كي
لا يكون له دلالة على جريان القاعدة في المستحبات على وجه وهو تخصيص
الموصول بالواجبات وحمل " لا يسقط " على عدم السقوط لزوما، أو لا يكون له
دلالة على وجوب الإتيان بالميسور من الواجبات على وجه آخر وهو تعميم
الموصول للواجبات والمستحبات وحمل " لا يسقط " على رجحان عدم السقوط
لا لزومه - أنه لا ظهور له في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها،
لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من الأفراد بمعسورها.
فتحصل: أن هذه الروايات الثلاث كلها ضعيفة السند، لعدم وجودها في
الكتب المعتبرة وإن اشتهر التمسك بها بين المتأخرين في كتبهم الاستدلالية، ولكن
القدماء من الأصحاب لم يظهر منهم التمسك بها. نعم ربما يتمسكون بقاعدة
الميسور، ولكن لم يظهر منهم كون هذه القاعدة عندهم مأخوذة من الأخبار
المذكورة، ويحتمل أن يكون المأخذ لتلك القاعدة عندهم أخبار صحيحة السند
وما وصلت إلينا نظير تمسكهم بقاعدة الضرر، ومجرد اشتهار التمسك بها بين
المتأخرين لا يصلح لجبر سندها.
نعم اشتهار التمسك بالقاعدة بين القدماء مع اشتهار التمسك بهذه الأخبار بين
المتأخرين سيما ممن لا يجوز العمل بالأخبار المزكى رواتها بعدل واحد ولا
بالأخبار المنجبر ضعف سندها بالشهرة كالمقدس الأردبيلي (قدس سره) وصاحب
المدارك والشهيد الثاني (1) يصلح جابرا لها بحسب المضمون لا السند.
وتظهر الثمرة بين الجبر بحسب المضمون والسند في عدم جواز التعدي إلى
غير الموارد التي تمسكوا بها فيها على الأول بخلافه على الثاني، إذ على الثاني
تصير هذه الأخبار كسائر الأخبار المعتبرة. ولابد من التعدي إلى غيرها إلا أنه من
جهة كثرة تناول يد التخصيص إليها ككثير من القواعد العامة مثل قاعدة لا ضرر
وقاعدة لزوم الوفاء بالعقود والشروط، وحصول وهن في دلالتها، لذلك لا يجوز

(1) نقله عنهم في مفاتيح الأصول: ص 344 س 13.
672

التعدي إلى الموارد التي لم يكن عمل العلماء على طبقها، ولو قلنا بانجبار
أسنادها. هذا مضافا إلى ما في دلالة كل واحد منها على المدعى كما عرفت، بل
الظاهر أنها مسوقة لبيان معنى ارتكازي عرفي، وهو أنه لو كان المطلوب من
الشخص طبيعة كانت لها أفراد متفاوتة في الفضل ولم يتمكن من الفرد الأفضل
لا يترك الفرد الغير الأفضل بواسطة عدم تمكنه من الأفضل كزيارة الحسين (عليه السلام)
في الأوقات المخصوصة مثل عرفة والنصف من شعبان وأمثالهما، فإنه لو لم
يتمكن الشخص منهما في تلك الأوقات لا يتركها في غيرها، وكالصلاة في أول
الوقت فإنه لو لم يتمكن المكلف منها في أول الوقت لا يتركها في غيره، أو كانت
الأفراد متساوية في الفضل وكان المطلوب تمام الأفراد ولم يتمكن المكلف من
تمام الأفراد وكان متمكنا من بعضها كإكرام العلماء وإعانة الفقراء، فإنه لا يسقط
الميسور منهما بالمعسور، ولا يترك إكرام الكل واعطاؤهم بمجرد عدم تمكنه من
إكرام الكل واعطائهم، فلا دلالة لها على أنه لو تعلق التكليف بالمركب أو المقيد
وتعذر جزؤه أو قيده يجب الإتيان بالفاقد لهما حتى يعين بهما المأمور به حال
تعذر الجزء أو الشرط، ولا تصل النوبة إلى البراءة.
ثم لا يخفى أن قاعدة الميسور - على تقدير صحتها وتماميتها - إنما تجري
فيما إذا صدق على الباقي عرفا أنه ميسور ذلك الشيء سواء كان الفاقد جزءا أو
شرطا، فلو لم يصدق عليه أنه ميسور ذلك الشيء لما تجري تلك القاعدة. نعم ربما
يعد شرعا ما ليس بميسور ذلك الشيء عرفا أنه ميسوره أو بالعكس بان يعد ما
يكون ميسور ذلك الشيء عرفا أنه ليس بميسوره شرعا وهذا في الحقيقة تعيين
للمصداق أو تخطئته فيه لا تخصيص للقاعدة لابائها عنه.
وأما الاستصحاب الجاري في بعض الصور وهو ما إذا كان المكلف في أول
الوقت متمكنا من الإتيان بالمكلف به الواجد لتمام الاجزاء والشرائط وتعلق
التكليف به ثم طرأ عليه العجز عن بعض الأجزاء والشرائط، فمقتضى
الاستصحاب هو الإتيان بالبقية بأحد التقريبين: إما باستصحاب الوجوب النفسي
673

الذي كان ثابتا للمركب والمقيد بعد المسامحة في الموضوع وإطلاقهما على الفاقد
لهما مسامحة، وأنه هو الذي كان واجبا نفسيا قبل طرو العجز عن الجزء والشرط
فالآن كما كان، وإما باستصحاب القدر المشترك بين الوجوب النفسي والغيري
الضمني، وأن الباقي كان واجبا سابقا إما وجوبا نفسيا أو ضمنيا وبعد تعذر الجزء
أو الشرط نشك في بقاء أصل الوجوب له وارتفاعه عنه فنستصحب بقاءه.
والنسبة بين التقريبين عموم من وجه، ففيما كان الباقي معظم الأجزاء يجري
الاستصحاب بكلا تقريبيه، وفيما كان الباقي قليلا من الأجزاء يجري
الاستصحاب بالتقريب الثاني دون الأول، إذ لا يتسامح بإطلاق لفظ الموضوع
للمركب على قليل من أجزائه كالواحد بالنسبة إلى المركب من العشرة مثلا، وفيما
كان الباقي هو المقيد والمتعذر هو القيد والشرط لا الجزء يجري الاستصحاب
بالتقريب الأول دون الثاني، إذ ليس هنا إلا وجوب واحد نفسي وهو الوجوب
العارض للمقيد، والقيد أمر خارج عن المقيد، والتقيد به داخل في المأمور به،
وليس كالجزء في دخول القيد والتقيد فيه حتى يقال: إن المقيد كان واجبا سابقا
إما نفسا أو ضمنا، وبعد تعذر القيد نشك في بقاء وجوبه فنستصحب بقاء القدر
المشترك بين الوجوب النفسي والضمني.
والحاصل: أن الوجوب النفسي لو عرض الكل يعرض الوجوب الضمني لكل
واحد من أجزائه، فعند تعذر بعض الأجزاء والشك في أن التكليف بذلك المركب
المشتمل على ذلك الجزء الفاقد هل كان من باب وحدة المطلوب حتى يسقط
التكليف بالباقي حال التعذر، أو من باب تعدد المطلوب حتى لا يسقط التكليف
بالباقي في حال التعذر؟ يمكن استصحاب القدر المشترك بين الوجوب النفسي
والضمني بخلاف ما لو عرض الوجوب النفسي للمقيد بقيد فإنه لا يعرض الوجوب
الضمني لذات المقيد في ضمن عروض الوجوب النفسي لمجموع القيد والمقيد،
لأن ذات المقيد بلا قيد مباين لها مع القيد، فلا يمكن استصحاب القدر المشترك
بين الوجوب النفسي والضمني عند تعذر القيد، فتأمل.
674

ولكن في كلا التقريبين نظر، بل منع.
أما التقريب الأول وهو استصحاب الوجوب النفسي العارض للمجموع
المركب لمعظم الأجزاء بعد تعذر بعضها من جهة المسامحة العرفية، ففيه: أنه إنما
يتم في الموضوعات الخارجية التي تكون الوحدة المعتبرة في القضية المشكوكة
مع القضية المتيقنة محفوظة فيها بلحاظ الوجود الواحد المستمر في الحالين بحيث
يعد الاختلاف بينهما بحسب قلة الأجزاء وكثرتها وصغرها وكبرها من الطوارىء
والعوارض والحالات لذلك الموضوع الواحد المستمر في الحالين كاستصحاب
كرية الماء بعد أخذ مقدار منه، لو شك في بقاء كريته فإن الرابط بين الماء الباقي
وبين ما كان كرا سابقا هو الوجود الخاص الذي به تتحقق الوحدة المعتبرة بين
القضية المشكوكة والقضية المتيقنة والزيادة والنقيصة بحسب الأجزاء إنما تعد من
الطوارىء والحالات، وكذا استصحاب ما كان ثابتا للطفل في حال صغره بعد كبره
فإن الرابط بين الحالين الموجب لاتحاد القضية المشكوكة والقضية المتيقنة هو
الوجود الخاص. وأما في استصحاب الاحكام أو استصحاب الموضوعات بلحاظ
الأحكام الذي مرجعه إلى استصحاب الحكم، لأن معنى استصحاب الموضوع
بلحاظ الحكم هو عين استصحاب الحكم كما فيما نحن فيه فلا يتم، إذ هو إسراء
حكم ثابت لموضوع وهو الواجد لتمام الأجزاء إلى غيره، وهو الفاقد لبعض
الأجزاء.
والحاصل: أن المسامحة في أن هذه الاجزاء كانت واجبة سابقا فنستصحب
وجوبها لا تخلو عن مسامحة، لأن مرجع هذه المسامحة إلى المسامحة في اسراء
الحكم الثابت لموضوع إلى الموضوع الآخر، فتأمل.
مع أن هذا الاستصحاب - على تقدير تماميته - إنما يجري فيما لو كان الباقي
معظم الأجزاء بحيث يصدق عليها أنها كانت واجبة سابقا، وأما إذا كان الباقي
قليلا من الأجزاء فلا يجري.
وأما التقريب الثاني وهو استصحاب القدر المشترك بين الوجوب النفسي
675

[والضمني] ففيه: - مع أنه مخصوص بما إذا كان المتعذر هو الجزء وعدم جريانه
فيما إذا كان المتعذر هو الشرط كما عرفت، ومع أنه مبني على صحة استصحاب
القسم الثالث من استصحاب الكلي، وهو محل الكلام إما بكلا قسميه أو أحدهما،
لأن الكلي المتحقق في ضمن الفرد الخاص وإن كان متيقن الحدوث، إلا أنه
مقطوع الارتفاع أيضا، والمتحقق منه في ضمن فرد آخر إما مقارنا لوجود الفرد
الآخر أو لارتفاعه وإن كان مشكوك الارتفاع، إلا أنه مشكوك الحدوث أيضا - إن
استصحاب القدر المشترك بين الوجوب النفسي والضمني لو كان أثره لزوم
الإتيان بالباقي فلا بأس، ولكن ليس الأمر كذلك، بل لزوم الإتيان بالباقي أثر
الوجوب النفسي، واستصحاب القدر المشترك لا يثبت كون الباقي واجبا نفسيا إلا
على القول بالأصل المثبت، فالاستصحاب لا يجري كقاعدة الميسور ويكون
المرجع عند الشك في الجزئية أو الشرطية المطلقة أو المخصوصة بحال التمكن
هي أصالة البراءة عند تعذر الجزء أو الشرط.
ثم لا يخفى أنه لو دار الأمر بين دخل وجود شيء في المأمور به جزءا أو شرطا
ودخل عدمه فيه مانعا أو قاطعا لا يكون من قبيل دوران الأمر بين المحذورين
كدوران الأمر بين كون الشيء واجبا نفسيا وحراما نفسيا في عدم إمكان
الاحتياط، بل من قبيل دوران الأمر بين المتباينين في إمكان الاحتياط لا بفعل
واحد، بل بفعلين فيأتي تارة بالمأمور به واجدا لذلك الشيء وأخرى فاقدا له.
خاتمة في شرائط الأصول
أما الاحتياط، فلا يعتبر في جوازه وحسنه إلا تحقق موضوعه وهو احتمال
التكليف ولو مع وجود الحجة المعتبرة الغير القطعية على عدمه، إذ مع القطع بعدم
التكليف لا موضوع للاحتياط ولا موقع له، إذ الاحتياط إنما هو لإحراز مصلحة
الواقع وعدم الوقوع في مفسدته، ومع القطع بعدمهما لا موقع له فيجوز العمل
بالاحتياط قبل الفحص عن الحكم وبعده ما لم يقطع بعدمه، سواء كان أصل
أو أمارة غير مفيدة للقطع، على خلافه أم لا، وسواء كان في العبادات
676

أو المعاملات، وسواء كان الاحتياط مستلزما للتكرار أم لا، إذ التكرار ربما يكون
بداع صحيح عقلائي، ولا يكون لعبا بأمر المولى، وعلى تقديره إنما يكون اللعب
في كيفية الامتثال لا في أصله، فافهم
فلا فرق بين العبادات والمعاملات في جواز الاحتياط من هذه الجهة بعد
إمكان الاحتياط في كلتيهما. نعم قد تقدم الكلام في أصل إمكان الاحتياط في
العبادات من جهة أن الاحتياط في العبادة لا يتحقق إلا بإتيانها بجميع ما يعتبر
فيها، ومن جملة ما يعتبر فيها قصد الأمر، ومع عدم العلم بالأمر فكيف يأتي بها
بقصد الأمر؟ والحال أنه تشريع محرم. وتقدم الجواب عنه بأن احتمال الأمر يكفي
في تحقق موضوع الاحتياط وصدق عنوان الإطاعة، ولا يحتاج إلى الأمر اليقيني،
مع أنه لو كان أمر يقيني لخرج عن كونه احتياطا، والكلام الان في جوازه بعد
الفراغ عن أصل إمكانه فيها. وما ذكرنا من أنه لا يعتبر في جواز الاحتياط إلا
تحقق موضوعه إنما هو مع قطع النظر عن العوارض والطوارىء الخارجية، وإلا
فربما يصير الاحتياط مرجوحا أو محرما فيما إذا عارض مع احتياط آخر أقوى
منه، أو إذا انجر إلى الوسواس أو اختلال النظام فلابد من ملاحظة تمام الجهات
والعوارض الطارئة والأخذ بما هو الأحوط والأرجح. وأما الاستصحاب الذي
هو يكون تارة من الأصول المثبتة، وأخرى من الأصول النافية ففيما كان مثبتا
للتكليف كما إذا كانت الحالة السابقة ثبوت التكليف فلا إشكال في جواز العمل
على طبق الحالة السابقة إذا كان عمله بها من باب الاحتياط بلا اشتراطه بالفحص،
لما عرفت من جواز الاحتياط وحسنه ولو مع وجود الدليل الاجتهادي المعتبر
على خلافه ما لم يحصل القطع منه بالواقع.
والإشكال على جواز الاحتياط فيما لو قام الدليل المعتبر على خلافه بأن
الأمارة المعتبرة كالعلم، وكما أنه لا موضوع للاحتياط مع العلم بالواقع فكذلك مع
وجود الأمارة المعتبرة.
مدفوع، بأن الأمارة المعتبرة كالعلم في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على
677

الواقع على مؤداها، وعدم جواز الاحتياط مع العلم بالواقع تفصيلا إنما هو من
الآثار العقلية المترتبة على العلم بالواقع، فمع العلم بالواقع لما كان احتمال الخلاف
منسدا عند العالم لا موضوع للاحتياط، ومع قيام الأمارة لما كان الاحتمال
موجودا فيتحقق موضوع الاحتياط، وإنما الإشكال في جواز العمل على طبق
الحالة السابقة إذا لم يكن عمله بها من باب الاحتياط، بل من باب التعويل على
الاستصحاب والالتزام بأخبار " لا تنقض اليقين بالشك ". ووجه الإشكال هو أن
أدلة حجية الاستصحاب بناء على القول بكونها من باب الأخبار منصرفة عن هذا
الشك فلا يجوز التعبد بالحالة السابقة بمقتضى الأخبار إلا بعد الفحص واستقرار
الشك، وفيما كان الاستصحاب نافيا حاله كحال البراءة في عدم جواز العمل به إلا
بعد الفحص، لأن الأدلة الدالة على عدم جواز التمسك بأصالة البراءة قبل الفحص
من الإجماع والعلم الإجمالي وغيرهما جارية في الاستصحاب النافي أيضا.
وأما البراءة العقلية فلا إشكال في عدم جواز الرجوع إليها إلا بعد الفحص،
لأنه بمجرد احتمال التكليف يحتمل الضرر في مخالفته، ودفع الضرر المحتمل
واجب بحكم العقل إلا أن يكون مؤمن من العقاب والضرر، والمؤمن من العقاب
الذي هو أمر ممكن ليس إلا قبح صدوره عن الحكيم، وقبحه ليس إلا فيما لم يبين
التكليف، أو بينه وبذل المكلف جهده في تحصيله ولم يصل إليه، وأما إذا بينه على
النحو المتعارف من تبليغ الأحكام الكلية والقوانين العامة وتمت الوظيفة المولوية
وصلت النوبة إلى العبد ووظيفته أن يصير بصدد تحصيل ما أراده المولى منه،
والفحص عنه على النحو المتعارف واستعلامه عن المواضع المعدة لبيانه المختلفة
باختلاف الأزمان والأشخاص، فإذا قصر العبد في وظيفته وما صار بصدد
تحصيل مراد المولى على النحو المتعارف وكان في الواقع تكليف وخالفه من
جهة جهله كان مستحقا للعقاب، ولم يقبح من المولى عقابه، فلذا لا يجوز الرجوع
إلى البراءة العقلية إلا بعد الفحص عن التكليف عن مظانه.
والحاصل: أن العقل حاكم بقبح العقاب بلا بيان، وموضوعه وهو العقاب بلا
678

بيان لا يتحقق إلا بعد الفحص وعدم العلم بالبيان. وأما البراءة الشرعية فهل
الرجوع إليها في الشبهات الحكمية ليس مشروطا بالفحص كالشبهات الموضوعية
من جهة إطلاق الأخبار الدالة على حلية كل شيء وإباحته حتى يحصل العلم
بحرمته، أو أن الرجوع إليها مشروط بالفحص عن الأدلة الاجتهادية، كما أن
الرجوع إلى الأصول اللفظية كأصالة الحقيقة وأصالة العموم والإطلاق مشروط
بالفحص عن قرينة المجاز والمخصص والمقيد. وإطلاق الأخبار الدالة على
الحلية والإباحة إما محمولة على الشبهات الموضوعية أو الأعم منها ومن
الشبهات الحكمية، ولكن بعد الفحص عن الأدلة الاجتهادية من جهة تعارضها مع
الأخبار الدالة على التوقف والاحتياط بحمل الطائفة الأولى على ما بعد الفحص،
وهذه الطائفة على ما بعده لو لم نقل بقصور الطائفة الأولى عن شمولها للشبهات
الحكمية قبل الفصح في حد أنفسها، فالكلام هنا في مقامين: أحدهما في أصل
وجوب الفحص وعدمه، والثاني في مقداره.
أما الكلام في المقام الأول وهو وجوب الفحص وعدم جواز الرجوع إليها
قبله فالحق هو وجوبه.
واستدلوا عليه بوجوه: من الإجماع والعقل والعلم الإجمالي والآيات
والأخبار الدالة على وجوب التعلم وتحصيل العلم، والعمدة هي الآيات والأخبار؛
لأن الإجماع محصله غير حاصل لنا، وعهدته على مدعيه، ومنقوله غير مقبول
خصوصا في مثل هذه المسألة مما للعقل إليها سبيل.
وأما العقل: فلأن مدرك حكمه بوجوب الفحص هو لزوم دفع الضرر المحتمل،
وحكمه بلزوم دفعه معلق على عدم وجود المؤمن، وهو موقوف على أن لا تكون
الأخبار الدالة على حلية الأشياء ما لم يعلم بحرمتها مؤمنا قبل الفحص.
وأما العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرمات الكثيرة في الوقائع
المشتبهة فلا يجوز الرجوع فيها إلى البراءة قبل الفحص، كما لا يجوز الرجوع إلى
العمومات والإطلاقات بواسطة العلم الإجمالي بوجود مخصصات ومقيدات
679

كثيرة لها.
وقد أشكل عليه بأن أطراف العلم الإجمالي إن كانت مشمولة لأدلة الأصول
مثل كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام فلا مقتضي للفحص، وإن لم تكن
مشمولة لها فلا فائدة للفحص ما لم ينحل العلم الإجمالي بالفحص، فالفحص إما
غير واجب وإما غير مفيد.
وقد تقدم الجواب عن هذا الإشكال سابقا، وحاصله: أن المعلوم بالإجمال إن
لم يكن معلما بعلامة لا هو بنفسه ولا أطرافه لا يرتفع أثر العلم الإجمالي إلا
بانحلاله بالعلم أو ما هو بمنزلة العلم، وأما إذا كان معلما بعلامة أو كانت أطرافه
معلمة بعلامة كما إذا فرضنا أن المحرم من قطيع الغنم هي السود منها أو في السود
واشتبهت السود بالبيض بواسطة الظلمة ونحوها فإذا تفحصنا وارتفعت الشبهة
العرضية وتميزت السود من البيص تخرج البيض عن أطراف المعلوم بالإجمال
ولا يجب الاجتناب عنها وإن كانت محتملة التحريم بالشبهة البدوية، وما نحن فيه
من هذا القبيل، لأن العلم الإجمالي حاصل بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما
بأيدينا من الأخبار، ووجود واجبات ومحرمات أخرى في غير ما بأيدينا وإن
كانت محتملة إلا أنها ليست من أطراف العلم الإجمالي، فإذا تفحصنا فيما بأيدينا
ولم نعثر عليها يخرج المورد عن الطرفية، ولا مانع عن الرجوع إلى البراءة.
نعم هنا إشكال وهو أنه لو كان الدليل على لزوم الفحص هو العلم الإجمالي
بوجود الواجبات والمحرمات كان لازمه عدم وجوبه لو علم الشارع في
الاستنباط والاجتهاد تفصيلا بمقدار المعلوم له بالإجمال منهما، مثلا لو علم
إجمالا بمائة من التكاليف الواجبة والمحرمة وشرع في الاجتهاد وحصل له العلم
التفصيلي بوجود مائة من الواجبات والمحرمات فلا يجب عليه الفحص بعده، لأن
المقتضي له هو العلم الإجمالي، وقد انحل وزال، والحال أنهم لا يلتزمون به، بل
يقول بوجوبه بعده، فلابد أن المدرك أمرا آخر غير العلم الإجمالي، فالعمدة هي
الآيات والأخبار الدالة على وجوب السؤال وتحصيل العلم والتوبيخ على ترك
680

التعلم كقوله: " هلا تعلمت (1) " فإن المقصود من التعلم هو الفحص عن الحكم عن
مظانه. وعلى تقدير ورود المناقشة على دلالتها على وجوب الفحص وعدم
تماميتها فالمناقشة إنما هي في هذه الأدلة، وإلا فأصل وجوب الفحص ظاهرا مما
لا إشكال فيه، بل هو معلوم من مذاق الشارع والمتشرعة في الشبهات الحكمية، إذ
بالرجوع إلى البراءة قبله تلزم المخالفة القطعية الكثيرة، بل الخروج عن الدين
وشريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) بل ربما قالوا بوجوبه في بعض الشبهات الموضوعية
كالفحص عن بلوغ المال إلى حد النصاب وعن الاستطاعة.
وأما المقام الثاني وهو مقدار الفحص: فالظاهر أنه يختلف باختلاف الأزمان،
ولا يبعد أن يكون الفحص عن كتب المجامع كالكتب الأربعة ونحوها، بل
خصوص كتاب الوسائل كافيا في هذا الزمان، فتأمل في المقام.
وإذا عرفت أن الرجوع إلى البراءة عقلية كانت أو شرعية مشروط بالفحص
فلو رجع الشخص إليها قبل الفحص فالكلام يقع تارة من حيث الحكم التكليفي،
وأخرى من حيث الحكم الوضعي، أما من حيث الحكم التكليفي فالظاهر أنه
لا إشكال في استحقاق العقوبة فيما لو رجع إلى البراءة قبل الفحص في الشبهة
الوجوبية أو التحريمية، سواء كانت في الواقع أمارة على نفي التكليف أو إثباته، أو
لم يكن أمارة لا على نفيه ولا على إثباته، بناء على حرمة التجري واستحقاق
العقاب عليه، لأنه بمجرد احتمال الوجوب أو الحرمة العقل يلزمه بالاحتياط
وفعل ما يحتمل وجوبه وترك ما يحتمل حرمته، إلا أن يكون له مؤمن وهي البراءة
العقلية أو الشرعية، وهي لا تجري إلا بعد الفحص، فإذا رجع إليها قبل الفحص فقد
استحق العقوبة على تجريه ومخالفته لحكم العقل الملزم بالاحتياط بناء على
حرمة التجري، سواء كانت في الواقع أمارة على إثبات التكليف أو نفيه، أو لم يكن
أمارة أصلا، كما لا إشكال في استحقاقه العقاب على العصيان ومخالفة الواقع لو
رجع إلى البراءة قبل الفحص وخالف التكليف بأن ترك محتمل الوجوب أو فعل

(1) أمالي الطوسي: ج 1 ص 9.
681

محتمل الحرمة وكان واجبا أو حراما واقعا وكانت في الواقع أمارة على إثبات
التكليف وإنما الإشكال في استحقاق العقاب على العصيان ومخالفة الواقع فيما لو
رجع إلى البراءة قبل الفحص في الشبهة الوجوبية أو التحريمية وكانت في الواقع
أمارة على نفي التكليف ولكن التكليف كان ثابتا واقعا وكانت الأمارة مخطئة عن
الواقع فيحتمل هنا أن يقال بعدم استحقاقه العقاب على مخالفة الواقع، لأنه لو
تفحص لظفر بأمارة نافية، ولكن هذا إنما يتم بناء على أن يكون وجود الأمارة
مضادا مع فعلية التكليف على خلاف الأمارة لا الفعلية بمعنى التنجيز، بل بمعنى
البعث الفعلي وكون المولى بصدد تحصيله وإنفاذه إلا أن الأمر ليس كذلك إذ الفعلية
بمعنى البعث الفعلي بحيث لو علم به المكلف لتنجز ليس مضادا لوجود الأمارة في
الواقع ولو لم يعلم به المكلف، بل الأمارة النافية للتكليف مع كون التكليف ثابتا
واقعا ليست إلا عذرا للمكلف، وعذريته موقوفة على العلم بها، فمع عدم الفحص
وعدم الاطلاع على الأمارة النافية له والرجوع إلى البراءة مع ثبوت التكليف
واقعا قد خالف الواقع بلا عذر، فيستحق العقاب على مخالفته بخلاف ما لو تفحص
واطلع على الأمارة النافية له، فإنه وإن ترك الواجب أو ارتكب الحرام إلا أنه كان
عن عذر.
فتحصل أنه لو رجع إلى البراءة قبل الفحص ولم يخالف التكليف الواقعي بأن
لم يكن في الواقع تكليف لا يستحق العقاب إلا على تجريه بناء على حرمته وإن
خالف التكليف الواقعي فإن كانت في الواقع أمارة مثبتة له بحيث لو تفحص
المكلف لظفر بها فلا إشكال في استحقاقه العقاب على مخالفة الواقع، لأنه خالف
الواقع بلا عذر، وكذلك لو لم تكن أمارة لا على اثبات التكليف ولا على نفيه ولكن
كان التكليف ثابتا واقعا، وإنما الإشكال فيما لو كانت هناك أمارة على نفي
التكليف وكان التكليف ثابتا واقعا. فإن قلنا: إن وجود الأمارة النافية للتكليف
مضادا مع فعلية التكليف، ومع وجود الأمارة النافية ليس تكليف واقعا على
خلافها، فترك الواجب الواقعي كانت أمارة على عدم وجوبه، وارتكاب الحرام
682

الواقعي الذي كانت امارة على عدم حرمته لا يكون تركا للواجب الفعلي وارتكابا
للحرام الفعلي فلا يستحق عقابا. وأما لو لم نقل بذلك بل قلنا بأن وجود الأمارة
النافية للتكليف مجرد عذر للمكلف في ترك الواجب أو ارتكاب الحرام كما هو
الحق فيستحق العقاب على مخالفة الواقع، لأنه ترك الواقع وخالفه لا عن عذر،
لأن عذريته موقوفة على العلم بها، والفرض أنه لم يكن عالما بها، فحال صورة
وجود الأمارة على نفي التكليف مع عدم العلم بها كحال صورة عدم الأمارة لا
على وجوده ولا على عدمه، فكما أنه لو رجع إلى البراءة قبل الفحص وخالف
التكليف الواقعي يستحق العقاب على مخالفة الواقع في الصورة الأخيرة فكذلك
في الصورة الأولى.
فتلخص: أن بمجرد احتمال التكليف، العقل يحكم بلزوم الاحتياط إلا أن
يكون مؤمن من العقوبة على مخالفته ومجرد جهل المكلف به لا يكون مؤمنا، بل
المؤمن هي أدلة البراءة العقلية أو النقلية، وهي لا تجري إلا بعد الفحص عن الدليل
و عدم الظفر به، فلو رجع إليها قبل الفحص فيستحق العقاب على التجري بناء على
حرمته مطلقا، سواء خالف التكليف الواقعي أم لا، وسواء كان في الواقع دليل على
التكليف الواقعي على تقدير وجوده أم لا، وسواء كان دليل في الواقع على نفيه أم لا.
وإنما الكلام في استحقاق العقاب على مخالفة الواقع، لا إشكال في استحقاق
العقاب على مخالفة الواقع في الصورة الأولى، وهي صورة مخالفة الواقع مع
وجود الدليل المثبت له واقعا، لأنه ترك الواقع بلا عذر، بل مع وجود الحجة وقاطع
العذر على وجوده واقعا، وكذلك في الصورة الثالثة وهي صورة ترك الواقع مع
عدم الحجة لا على وجوده ولا على عدمه واقعا، لأنه أيضا ترك الواقع بلا عذر.
وإنما الإشكال في الصورة الثانية وهي صورة ترك الواقع مع وجود الحجة
على نفيه، إذ يمكن أن يقال: إنه لو تفحص لظفر بالأمارة النافية للتكليف ففحصه
وعدم فحصه سيان، ولكن الحق خلافه وأن الترك في الصورة التي تفحص وظفر
بالأمارة النافية يكون عن عذر وفي الصورة التي لم يتفحص يكون بلا عذر، وإن
683

كانتا مشتركتين في ترك الواقع، هذا بالنسبة إلى الحكم التكليفي.
وأما بالنسبة إلى الحكم الوضعي فإن احتمل وجوب نفسي شيء كالدعاء عند
رؤية الهلال وكصلاه الجمعة أو العيد وأمثالها ورجع إلى البراءة قبل الفحص وكان
واجبا واقعا وانكشف وجوبه، فإن لم يكن مؤقتا وجب إتيانه لبقاء التكليف
الواقعي وعدم امتثاله، وكذا إذا كان مؤقتا وانكشف وجوبه مع بقاء وقته، وأما لو
انكشف وجوبه بعد انقضاء وقته فإن شرع فيه القضاء فيجب قضاؤه في خارج
الوقت، وإلا فلا شيء عليه غير الأثر التكليفي وهو الإثم، هذا في الواجبات
النفسية.
وأما المحرمات النفسية بأن احتمل حرمة شيء نفسا ورجع إلى البراءة قبل
الفحص وكان حراما واقعا وانكشفت حرمته فالظاهر أنه لا أثر وضعي لها وإنما
أثرها الأثر التكليفي، وهو استحقاق العقاب على ارتكاب الحرام الواقعي بلا عذر،
ولكن هذا في بعض المحرمات النفسية، وفي بعضها الأثر الوضعي متحقق كما إذا
شك في حرمة قتل شخص أو أكل مال أو شرب مائع ورجع إلى البراءة ثم انكشف
الخلاف، فإن القصاص والكفارة والضمان ترتب هنا.
وأما بالنسبة إلى التكاليف الغيرية كأن احتمل وجوب شيء لشيء كالسورة
بالنسبة إلى الصلاة، أو شرطية شيء لها، أو احتمل مانعية شيء لها ورجع إلى البراءة
قبل الفحص بناء على جواز الرجوع إلى البراءة فيما لو كان الشك في الجزئية أو
الشرطية أو المانعية - كما هو الحق - وكان المشكوك جزئيته أو شرطيته أو مانعيته
جزءا أو شرطا أو مانعا واقعا فلا إشكال في فساد هذا العمل الفاقد للجزء أو
الشرط أو الواجد للمانع، سواء كان تعبديا أو توصليا، وعدم ترتب الأثر عليه.
وأما إن لم يكن جزءا أو شرطا أو مانعا فلا إشكال في صحته فيما إذا كان
توصليا، لانطباق المأتي به على المأمور [به]. وإنما الإشكال فيما إذا كان تعبديا
من جهة قصد القربة المعتبرة في العبادة، وأنه هل يتمشى قصد القربة والامتثال
حتى تصح العبادة أو لا يتمشى حتى لا تصح؟ لا إشكال في الكبرى، وهي اشتراط
684

صحة العبادة بقصد القربة، وإنما الإشكال في الصغرى وهي أن إتيان العمل المحتمل
كونه مطلوبا ومأمورا به مع كون الأمر متيقنا، إذ لو كان الأمر محتملا لا إشكال في
أن إتيان العمل برجاء الأمر يكفي في عباديته، بل أقوائيته في العبادية من قصد
الأمر المتيقن، ومع كون المكلف قادرا على تعيين المكلف به وعلى الاحتياط
بإتيان تمام المحتملات، إذ لو لم يقدر على ذلك لا إشكال أيضا في كفايته، ومع
كونه من أول الأمر بانيا على الاقتصار على هذا المحتمل، وإلا لو كان بانيا على
الإتيان بتمام المحتملات وأتى بواحد منها ثم بدا له ولم يأت بسائر المحتملات
لا يبعد كفايته على تقدير مطابقته مع الواقع. ومنشأ الإشكال هو أنه هل يكون
محركه وداعيه هو الأمر، أو ليس داعيه ومحركه الأمر، بل هو التشهي النفساني.
فيمكن أن يقال: إن داعيه هو التشهي، إذ لو كان داعيه الأمر المولوي لابد له
إما من تعيين المكلف إما بالاجتهاد أو التقليد، أو من الاحتياط التام بإتيان تمام
المحتملات.
ويمكن أن يقال: إن داعيه هو الأمر المولوي لكن على هذا التقدير، وهو أن
يكون المأمور به هذا المحتمل لا على جميع التقادير. ولا إشكال في أن حال هذا
الشخص الذي يأتي ببعض المحتملات ليس كحال الشخص الذي يأتي بتمام
المحتملات، ولا كحال الشخص الذي لا يأتي بشيء من المحتملات. فإن قلنا
بكفاية هذا القدر من قصد الأمر في العبادية فتصح العبادة، وإلا فلا.
والمسألة محل إشكال من حيث الصغرى، وأما من حيث الكبرى فلا إشكال
فيها، لأنه إن وقعت العبادة بقصد الأمر لا إشكال في صحتها إذا كانت واجدة لتمام
الأجزاء والشروط الأخر وإن وقعت بلا قصد الأمر فلا إشكال في بطلانها.
والحاصل: أنه لو احتمل جزئية شيء لشيء أو شرطيته أو مانعيته له ورجع
إلى البراءة قبل الفحص وأتى بذلك الشيء فاقدا لما احتمل جزئيته أو شرطيته له
أو واجدا لما احتمل مانعيته له، فإن قلنا بأن المرجع في الشك في الجزئية
والشرطية والمانعية هو الاحتياط فلا فرق في عدم جواز رجوعه إلى البراءة بين
685

قبل الفحص وبعده، وإن قلنا: إن المرجع هي البراءة ففرق بين قبل الفحص وبعد
الفحص، فإن رجع إليها بعد الفحص فلا إشكال في صحة العمل الفاقد للجزء أو
الشرط المحتمل أو الواجد للمانع المحتمل، سواء كان تعبديا أو توصليا، وإن رجع
إليها قبل الفحص وأتى العمل بدون الجزء أو الشرط المحتمل أو مع المانع
المحتمل فتارة تظهر المطابقة مع الواقع وأن المحتمل لم يكن جزءا أو شرطا أو
مانعا فلا إشكال في صحة هذا العمل إذا كان توصليا، لأنه أتى بما هو المأمور به،
وإنما الإشكال فيما إذا كان تعبديا من جهة تحقق قصد الأمر المعتبر في العبادة
وعدمه كما عرفت، وأخرى تظهر المخالفة وأن ما احتمل كونه جزءا أو شرطا ولم
يأت بهما كان جزءا أو شرطا وما احتمل كونه مانعا وأتى العمل واجدا له كان
مانعا فلا إشكال في فساده وعدم ترتب الأثر عليه بحسب القواعد الأولية بلا فرق
بين التوصليات والتعبديات، لأنه لم يأت بما هو مأمور به وما يترتب عليه الأثر
فإن كان مؤقتا وانكشف الخلاف في الوقت فلابد من إتيانه ثانيا في الوقت واجدا
للجزء أو الشرط وفاقدا للمانع، ولا إثم عليه، وإن انكشف الخلاف في خارج
الوقت فقد أثم بعدم إتيانه في الوقت، ويجب عليه القضاء في خارج الوقت إن كان
القضاء فيه مشروعا، وإلا فلا شيء عليه غير الإثم، وإن لم يكن مؤقتا يجب عليه
الإتيان به ثانيا واجدا للجزء أو الشرط وفاقدا للمانع متى انكشف الخلاف ولا إثم
عليه بعد إتيانه، هذا هو مقتضى القواعد الأولية، ولكن قد ثبت بالنص والفتوى في
بعض الموارد الإجتزاء بما فعله الجاهل الغير المعذور من العمل الفاقد للشرط أو
الواجد للمانع وعدم الحاجة إلى الإعادة ولو بعد انكشاف الخلاف في الوقت مع
كونه معاقبا على تركه المأمور به على النحو المعتبر كما في الجهر في موضع
الإخفات وبالعكس، وكما في الاتمام في موضع القصر، فإن الحكم بالصحة لو كان
شاملا للجاهل البسيط - وهو الذي يأتي بالعمل مع احتمال الخلاف بأن احتمل أن
يكون تكليفه الإتيان بصلاة الظهر إخفاتا ولم يعتن بهذا الاحتمال وأتى بها جهرا
كما هو محل الكلام في المقام - وللجاهل المركب - وهو الذي لا يحتمل الخلاف -
686

كما إذا اعتقد أن تكليفه الإتيان بصلاة الظهر جهرا وأتى بها كذلك، والحال أن
تكليفه واقعا هو الإخفات كانت المسألتان مثالا للمقام وهو العمل بالبراءة قبل
الفحص وإن كان الحكم بالصحة فيهما مخصوصا بالجاهل المركب كانتا تنظيرا
للمقام، إذ مقتضى القواعد أن عمل الجاهل العامل بالبراءة قبل الفحص كالمحتمل
للخلاف هو البطلان ووجوب الإعادة في الوقت لو كان مؤقتا وكان وقته باقيا بلا
استحقاق العقاب وكذا لو كان غير مؤقت أو وجوب القضاء في خارج الوقت مع
الإثم لو كان القضاء مشروعا فيه، وإلا فالإثم فقط. إلا أنه ثبت بالنص والفتوى في
نظير المقام وهي مسألة كل من الجهر والإخفات في موضع الآخر ومسألة الاتمام
في موضع الآخر صحة عمل الجاهل المركب، واستحقاقه العقاب على تركه
المأمور به الواقعي على النحو الذي أمر به، والحال أن الصحة واستحقاق العقاب
متنافيان ولا يجتمعان، إذ الصحة عبارة عن مطابقة المأتي به مع المأمور به، فلو
كان المأتي به مطابقا للمأمور به لكان العمل صحيحا فلا وجه لاستحقاق العقاب،
ولو كان غير مطابق له فيستحق العقاب على ترك المأمور به، ولا وجه للصحة.
فالجمع بينهما من قبيل الجمع بين المتناقضين، فإذا أخفت المكلف في موضع
الجهر جهلا بأن تكليفه الواقعي هو الإخفات فمقتضى القواعد أنه لو كانت الصلاة
مؤقتة كالصلوات اليومية فإن انكشف الخلاف في الوقت مثل ما إذا أخفت في
صلاة الصبح وانكشف الخلاف قبل طلوع الشمس أن يعيد الصلاة جهرا في الوقت
ولا إثم عليه، وإن انكشف الخلاف في خارج الوقت أن يقضيها جهرا إن كان
القضاء مشروعا فيه مع الإثم بتركه المأمور به الواقعي في وقته عن جهل غير
معذور به، وإن لم يكن القضاء مشروعا فيه فلا شيء عليه غير الإثم، ولو كانت
الصلاة غير مؤقتة وأخفت في موضع الجهر كما في الصلوات اليومية القضائية فإنه
بعد قضائها لا وقت لها، فإذا أخفت في صلاة قضاء الصبح مثلا يجب عليه أن
يعيدها جهرا متى انكشف الخلاف، ولا إثم عليه وكذلك في مسألة الإتمام في
موضع القصر فالحكم بالصحة في هاتين المسألتين مع كون العمل على خلاف
687

وظيفته الواقعية، لأن المفروض أنه لم يأت بما هو المأمور به الواقعي، بل على
خلاف الوظيفة الظاهرية الشرعية، لأن تكليفه الظاهري هو الفحص وعدم جواز
الرجوع إلى البراءة قبل الفحص، بل الوظيفة العقلية الظاهرية، إذ بمجرد الاحتمال
لابد من الاحتياط بإتيان المحتملات.
والحاصل: أنه لو قلنا بالإجزاء في مورد الأمر الظاهري الشرعي أو العقلي
أيضا لما أمكن الحكم بالصحة فيهما، إذ لا أمر ظاهري فيهما لا شرعا ولا عقلا
فلابد أن نمشي فيهما على طبق القواعد كما عرفت، فالحكم بالصحة وعدم الحاجة
إلى الإعادة ولو بعد انكشاف الخلاف في الوقت مع الحكم باستحقاق العقاب
بتركه المأمور به الواقعي متناقضان، ومع ذلك ورد النص بالصحة واستحقاق
العقاب في المسألتين والعلماء أفتوا على طبق النص، فإن أمكننا إثبات إمكان
الجمع بين الصحة واستحقاق العقاب فلابد من تصديق النص الدال عليهما، وإلا
فلابد من تأويله ورد علمه إلى أهله، بل يمكن أن يقال بأنه لا نحتاج إلى إثبات
الإمكان، إذ المقصود منه هو تصديق الدليل الدال على الوقوع، ويكفي فيه احتمال
الإمكان كما ذكرنا سابقا في مسألة إمكان التعبد بخبر الواحد والأمارة الغير
العلمية، فمجرد احتمال الإمكان وعدم مبرهنية الاستحالة وعدم القطع بامتناع
الجمع بينهما يكفي في تصديق دليل الوقوع، بل يمكن أن يقال: إنه يستكشف من
دليل الوقوع إنا إمكان الجمع بينهما، إذ الوقوع أدل دليل على الإمكان.
وكيف كان فما يمكن أن يقال في مقام الجمع بين الصحة واستحقاق العقاب
كسرا لسورة (1) من يدعي الاستحالة هو: أنه يمكن أن تكون المسألتان من باب
تعدد المطلوب بأن تكون أصل الطبيعة مطلوبة وإتيانها بخصوصية خاصة مطلوبا،
فإن أتى الطبيعة بتلك الخصوصية فقد امتثل الأمرين وأتى بكلا المطلوبين، وإن
أتى بالطبيعة بدون تلك الخصوصية فقد امتثل الأمر بأصل الطبيعة فيصح ويسقط
الأمر بها، وأما الأمر بإتيانها مع تلك الخصوصية فقد خالفه واستحق العقاب

(1) السورة: الشدة.
688

لمخالفته، وهذا إنما يتم فيما لو كانت الخصوصية مطلوبة في ظرف امتثال الامر
بالطبيعة وفي طول الأمر بالطبيعة أو فيما كانت الطبيعة غير قابلة للتكرار كالقتل
والذبح ونحوهما، إذ تعدد المطلوب على أنحاء:
أحدها: أن تكون الطبيعة مطلوبة والخصوصية مطلوبة والطبيعة قابلة للتكرار،
فحينئذ يتخير المكلف في امتثال الأمرين بفعل واحد بأن يوجد الطبيعة مشتملة
على تلك الخصوصية، أو امتثال الأمرين بفعلين بأن يوجد الطبيعة بدون
الخصوصية ثم ايجادها ثانيا بتلك الخصوصية، لا من جهة عدم امتثاله الأمر
المتعلق بأصل الطبيعة، بل من جهة امتثال الأمر المتعلق بالخصوصية، وفي الحقيقة
ايجاد الطبيعة ثانيا مقدمة لايجاد الخصوصية.
ثانيها: أن تكون الطبيعة مطلوبة والخصوصية أيضا مطلوبة والطبيعة غير قابلة
للتكرار، فحينئذ لو أوجد المكلف الطبيعة بتلك الخصوصية فقد امتثل كلا الأمرين،
ولو أوجد الطبيعة بدون الخصوصية فقد امتثل الأمر المتعلق بأصل الطبيعة وعصى
الأمر المتعلق بالخصوصية، ولا موقع لامتثال الأمر بها ثانيا بإيجاد الطبيعة مع تلك
الخصوصية كما في النحو الأول، لأن المفروض أن الطبيعة غير قابلة للتكرار.
ثالثها: أن تكون الطبيعة مطلوبة والخصوصية أيضا مطلوبة، لكن لا في عرض
مطلوبية الطبيعة، بل في طولها وفي ظرف امتثال الأمر المتعلق بها، فحينئذ لو أوجد
الطبيعة بتلك الخصوصية فقد امتثل كلا الأمرين، ولو أوجدها بدون الخصوصية
فقد امتثل الأمر المتعلق بأصل الطبيعة وعصى الأمر المتعلق بالخصوصية، ولا
موقع أيضا لامتثال أمرها ثانيا بتلك الخصوصية، لأن المفروض أن الخصوصية
كانت مطلوبة في ظرف امتثال الأمر بالطبيعة، وهو قد حصل بايجاد الطبيعة أولا
بدون الخصوصية، ففي النحو الأول من هذه الأنحاء الثلاثة لو أوجد الطبيعة بدون
الخصوصية يمكن استيفاء الخصوصية بإيجاد الطبيعة ثانيا متخصصة بتلك
الخصوصية، وفي النحوين الأخيرين لا يمكن استيفاء الخصوصية بايجاد الطبيعة
ثانيا بتلك الخصوصية بعد ايجادها أولا بدون تلك الخصوصية، إما من جهة أن
689

الطبيعة غير قابلة للتكرار، أو من جهة أن مطلوبية الخصوصية في ظرف امتثال
الأمر المتعلق بأصل الخصوصية، وعلى كلا التقديرين قد فات محلها، فيمكن أن
تكون الصلوات اليومية من قبيل النحو الثاني بأن تكون أصل طبيعة الصلاة كصلاة
الظهر مثلا مطلوبة، وايجادها بالخصوصية الخاصة وهو الإخفات في قراءتها
مطلوبة أيضا، والطبيعة تكون غير قابلة للتكرار، فلو أوجدها المكلف بتلك
الخصوصية فقد امتثل الأمرين وأتى بالمطلوب الأقصى، ولو أوجدها بدون تلك
الخصوصية فقد امتثل الأمر المتعلق بأصل الطبيعة وعصى الأمر المتعلق
بالخصوصية، ولا موقع لامتثال أمرها، لأن الطبيعة غير قابلة للتكرار، فلا يمكن
ايجادها ثانيا بتلك الخصوصية تحصيلا لتلك الخصوصية، لعدم قبول الطبيعة
للتكرار، إذ يمكن أن تكون الصلوات اليومية غير قابلة للتعدد والتكرار كحجة
الإسلام فإن الحج وإن كان قابلا للتكرار إلا أن حجة الإسلام وهو ما يجب على
المكلف مرة واحدة في تمام عمره بسبب الاستطاعة غير قابل للتكرار فلم
لا يجوز أن تكون الصلوات اليومية أيضا كذلك؟ إذ لا تحيط عقولنا بأن الصلوات
اليومية من قبيل ما كان قابلا للتكرار أو من قبيل ما ليس بقابل للتكرار، ويمكن أن
تكون الصلوات اليومية من قبيل النحو الثالث بأن تكون أصل طبيعة الصلاة
مطلوبة والخصوصية أيضا مطلوبة في ظرف امتثال الأمر بالطبيعة، فلو أوجدها
بتلك الخصوصية فقد امتثل الأمرين وأتى بالمطلوب الأقصى، ولو أوجدها بدون
تلك الخصوصية فقد امتثل الأمر المتعلق بأصل الطبيعة وعصى الأمر المتعلق
بالخصوصية، ولا موقع لامتثال أمرها ثانيا، لأن الطبيعة وإن كانت قابلة للتكرار
إلا أن ظرف مطلوبية الخصوصية هو امتثال الأمر بالطبيعة وقد حصل أولا، ففي
كلا النحوين الصحة من جهة مطابقة المأتي به مع المأمور به بالأمر المتعلق بأصل
الطبيعة والعصيان من جهة عصيان الأمر المتعلق بالخصوصية وعدم إمكان امتثاله
ثانيا، وهذا الوجه الذي ذكرنا لإمكان الجمع بين الصحة واستحقاق العقاب يكفي
لكسر سورة من يدعي الاستحالة، ولتصديق النص الدال على الوقوع. ويمكن أن
690

يكون له وجه آخر غير ما ذكرنا، إذ نحن لا ندعي بانحصار الوجه فيما ذكرنا.
ثم إنه حكي عن الفاضل التوني أنه ذكر لإجراء أصالة البراءة شرطين
آخرين: أحدهما أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى، الثاني أن
لا يكون موجبا للضرر على آخر (1).
أما الشرط الأول ففيه: أنه لو كان ثبوت تكليف لازما أو ملازما لنفي تكليف
فعلي آخر كوجوب الحج على المستطيع الذي لا يكون ذمته مشغولة بالحقوق
المالية فلا مانع من جريان أصالة البراءة عند الشك في اشتغال الذمة بها واثبات
وجوب الحج، لأن موضوع وجوب الحج إذا كان من لم تشتغل ذمته فعلا بتلك
الحقوق فلا مانع من جريان البراءة العقلية والنقلية عند الشك في اشتغال الذمة بها
فيما إذا كانت الشبهة بدوية ولا محيص عن ترتب وجوب الحج عليه، لأن الحكم
لا يتخلف عن موضوعه، ولو كان لازما أو ملازما لنفي تكليف آخر واقعا كما في
المثال المذكور لو فرضنا أن وجوب الحج مترتب على من لم تشتغل ذمته
بالحقوق المالية واقعا فلا مانع من جريان أصالة البراءة أيضا، إلا أن ذلك التكليف
الآخر لا يثبت، لأن أصالة البراءة لا تثبت فراغ الذمة واقعا - كما لا يثبته
الاستصحاب الذي لسانه لسان الواقع وله جهة برزخية بين الأمارات والأصول -
عن هذه الحقوق الذي هو الموضوع لوجوب الحج حسب الفرض، وإذا لم يثبت
الموضوع لا يترتب عليه حكمه، وهذا لا ربط له باشتراط جريان أصالة البراءة بأن
لا يكون موجبا لثبوت تكليف أخر.
وما ذكره (قدس سره) من الأمثلة مع أنه خلط بين أصالة البراءة وأصالة العدم.
أما المثال الأول وهو إجراء أصالة عدم وجوب الاجتناب عن أحد الإناءين
المشتبهين الموجب لثبوت الاجتناب عن الآخر ففيه: أن الأصول لا تجري في
أطراف العلم الاجمالي إما لقصور أدلتها عن شمول أطراف المعلوم بالإجمال،
وإما لأن إجراءها في أحد الطرفين ترجيح بلا مرجح، وفي كلا الطرفين موجب

(1) حكاه عنه في فرائد الأصول: ج 2 ص 529 - 532.
691

للمخالفة القطعية وطرح العلم الإجمالي، فليس عدم جريان أصالة البراءة عن
وجوب اجتناب أحد الإناءين من جهة أنها مثبتة لوجوب الاجتناب عن الآخر
وشرط جريانها أن لا تكون مثبتة للحكم الشرعي من جهة أخرى.
وأما المثال الثاني وهي أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرا ففيه: مع
أن أصالة العدم من شؤون الاستصحاب لا البراءة أنه لا مانع من إجراء أصالة عدم
بلوغ الماء كرا عند الشك في بلوغه كرا مع كون حالته السابقة هي القلة، والحكم
بنجاسته بواسطة ملاقاة النجاسة، لأن أصالة عدم بلوغه كرا يثبت موضوع الانفعال
وهي القلة، فهي كأصالة براءة الذمة عن الدين والحقوق المالية المثبتة لوجوب
الحج، فكما أنه إذا كان الشخص واجدا لمقدار من المال واف بالحج وشك في
وجوب حق مالي يمنع عن الاستطاعة تجري أصالة براءة الذمة عنه، ويحكم
بوجوب الحج لتحقق موضوعه، كذلك إذا كان مقدار من الماء المسبوق بالقلة
وشك في بلوغه كرا تجري أصالة عدم بلوغه كرا ويحكم بنجاسته بواسطة ملاقاة
النجاسة لتحقق موضوع الانفعال وهي القلة بالأصل.
وأما المثال الثالث وهي أصالة عدم تقدم الكرية حيث يعلم بحدوثها على
الملاقاة ففيه: ما ذكره الشيخ (قدس سره) فهو في نفسه ليس من الحوادث المسبوقة بالعدم
حتى يجري فيه الأصل، نعم نفس الكرية حادثة فإذا شك في تحققها حين الملاقاة
حكم بأصالة عدمها، وهذا معنى أصالة عدم تقدم الكرية على الملاقاة لكن هنا
أصالة عدم حدوث الملاقاة حين حدوث الكرية، وهو معنى عدم تقدم الملاقاة
على الكرية فيتعارضان... إلى آخر ما ذكره (قدس سره)، فعدم جريانها إنما هو من جهة
المعارضة، وهو لا يختص بأصالة البراءة، بل سائر الأصول لا تجري أيضا عند
المعارضة، فافهم.
وأما الشرط الثاني وهو أن لا يكون موجبا للضرر على آخر كما لو فتح
إنسان قفص طائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدها، أو أمسك رجلا فهربت دابته،
فإن إعمال البراءة فيها يوجب تضرر المالك.
692

ففيه: أن قاعدة الضرر من القواعد الثابتة بالأدلة الاجتهادية، ففي كل مقام
تعمه هذه القاعدة لا مجال فيه لأصالة البراءة كما لا مجال لها مع سائر القواعد
الثابتة بالأدلة الاجتهادية لورود الأدلة الاجتهادية أو حكومتها على الأصول
العملية، فكل أصل سواء كان أصالة البراءة أو الاستصحاب أو غيرهما كان في
مورده دليل اجتهادي، سواء كان موافقا أو مخالفا لا يجري ذلك الأصل.
فإن كان المراد بالاشتراط ذلك فلا يختص بأصالة البراءة، لأن جريان تمام
الأصول مشروط بعدم دليل اجتهادي في موردها، ولا يختص بقاعدة الضرر، بل
سائر القواعد والأدلة الاجتهادية أيضا حالها كحال قاعدة الضرر في كونها مانعة
عن جريانها، وإن كان المراد بالاشتراط غير ذلك فلابد من بيانه حتى ننظر فيه.
ولا بأس بصرف الكلام إلى قاعدة الضرر والضرار بنحو الاختصار، وتوضيح
مدركها ومفادها، وايضاح نسبتها مع الادلة المثبتة للأحكام الثابتة للأشياء
بعناوينها الأولية أو الثانوية، فنقول:
قد استدل على هذه القاعدة بأخبار كثيرة، بل حكي عن الفخر (1) (قدس سره) دعوى
تواترها، وهذه الدعوى وإن كانت بعيدة بالنسبة إلى التواتر اللفظي والمعنوي
لاختلاف ألفاظها ومواردها إلا أنه لا بعد فيها بالنسبة إلى التواتر الإجمالي، فتأمل.
وكيف كان ففي كثرة الأخبار الواردة في المقام واشتهار التمسك بها بين
الأعلام غنى وكفاية عن التعرض لسندها وتشخيص صحيحها عن سقيمها، مع أن
بعضها موثقة مثل رواية بكير عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أن سمرة بن جندب
كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان،
وكان سمرة يمر إلى نخلته ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء،
فأبى سمرة، فجاء الأنصاري إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فشكى إليه وأخبره بالخبر، فأرسل
رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليه وأخبره بقول الأنصاري وما شكاه، فقال: إذا أردت الدخول
فاستأذن، فأبى، فلما أبى ساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيعه،

(1) ايضاح الفوائد: كتاب الدين في الفصل السابع ج 2 ص 48.
693

فقال: لك بها عذق في الجنة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للأنصاري: اذهب
فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار (1). وهذه القضية حكيت عن أبي
جعفر (عليه السلام) بطريقين آخرين: أحدهما (2): رواية ابن مسكان عن زرارة عن أبي
جعفر (عليه السلام)، وهي مخالفة مع الأولى في بعض الألفاظ والخصوصيات التي لا يتغير
بها المعنى مع اشتمالها على قيد زائد وهو لا ضرر ولا ضرار على مؤمن. والثاني:
رواية أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) ليس فيها لفظ الضرر والضرار، بل فيها
أن رسول (صلى الله عليه وآله) قال: ما أراك يا سمرة إلا مضارا، اذهب يا فلان فاقطعها واضرب
بها (3) وجهه. فالتكلم في تلك القاعدة من جهة السند والمناقشة فيه مما لا ينبغي.
نعم لابد من التكلم فيها من جهات أخر:
الأولى: في بيان معنى الضرر والضرار: لا إشكال في أن الضرر على ما يستفاد
من كلام بعض أهل اللغة كالصحاح والمصباح هو ضد النفع وخلافه، وهو اسم
مصدر من ضر ومصدره الضر، وهو من المفاهيم العرفية المعلومة، وإجمال الضرار
- وأنه أيضا بمعنى الضرر، وإنما جيىء به تأكيدا، أو هو فعل الاثنين أو المجازات
على الضرر، أو هو الاضرار بالغير من دون أن تنتفع به، والضرر هو الاضرار
بالغير مع الانتفاع به - لا يضر بالاستدلال ب‍ " لا ضرر " في المسائل الفرعية كما هو
الحال في سائر الروايات المشتملة على فقرتين إحداهما مبينة والأخرى مجملة،
كما لا يخفى.
الثانية: في بيان مفاد هذه الهيئة: والأصل فيها بمقتضى الوضع اللغوي أن
تكون كلمة " لا " لنفي الحقيقة حقيقة وواقعا، والحمل على هذا المعنى متعذر هنا،
لأنه مستلزم للكذب وخلاف الواقع لما نشاهد من الضرر في الخارج كثيرا، فلابد
من الحمل على أقرب المجازات بعد تعذر الحقيقة.

(1) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب احياء الموات ح 3 ج 17 ص 341.
(2) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب احياء الموات ح 4 ج 17 ص 341.
(3) وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب احياء الموات ح 1 ج 17 ص 340.
694

فبعض حملها على النهي وأن المراد من " لا ضرر " حرمة الاضرار، وهذا
الحمل محكي عن البدخشي حيث قال: الضرر والضرار ممنوع عنه شرعا.
وتحقيق ذلك أن النفي هاهنا بمعنى النهي بقرينة أصل الضرر الواقع.
وفيه: مع بعده بملاحظة نظائرها مثل لا عسر ولا حرج أنه لا يمكن حمل النفي
على النهي والتحريم في رواية الشفعة، لعدم فعل يتعلق به التحريم، مع أن
الصادق (عليه السلام) إنتسب الشفعة فيها بقاعدة " لا ضرر " والعلماء استدلوا بها على ثبوت
خيار الغبن والعيب، ولا حرمة في بيع المغبون فيه والمعيب.
وآخر حملها على ضرر الغير المتدارك، بدعوى أن الضرر المتدارك ليس
بضرر أدعاءا. وفيه - مع تسليم أن الضرر المتدارك ليس بضرر - أنه إن أريد
التدارك بحسب الخارج فهو خلاف الواقع، لكثرته خارجا، وإن أريد التدارك
بحسب حكم الشارع بمعنى أنه ليس في الخارج ضرر لم يحكم الشارع بتداركه.
ففيه: أن الضرر الواقع لم يخرج عن كونه ضررا بمجرد حكم الشارع، بل الذي
يخرجه عن كونه ضررا هو التدارك الخارجي.
وثالث حملها على نفي الحقيقة ادعاءا بلحاظ نفي الحكم، وبعبارة أخرى أن
المنفي هو الحكم بلسان نفي الموضوع كما في " يا أشباه الرجال ولا رجال (1) " فإن
الموضوع الذي لاحكم له ولا أثر بمنزلة العدم.
وفيه: أن هذا المعنى إنما يصح فيما إذا كان للموضوع أثر يمكن نفيه عنه كما
في " لا رجال " و " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد (2) " وأمثالهما، حيث إن
للرجال آثار ولوازم واقعية وللصلاة أحكام ولوازم شرعية، فتعلق النفي بهما
بلحاظ تلك الآثار والأحكام والضرر ليس من هذا القبيل، إذ الأحكام التي
موضوعها الضرر لا يمكن رفعها برفعه، لأن الموضوع بمنزلة العلة التامة للحكم،
ولا يمكن رفعها عنه إلا بالنسخ فمثل الضمان الذي رتب على موضوع الاضرار

(1) نهج البلاغة: الخطبة: 27.
(2) وسائل الشيعة: ب 2 من أبواب احكام المساجد ح 1 ج 3 ص 478.
695

في قوله: " من أضر بطريق المسلمين فهو له ضامن (1) " كيف يمكن رفعه ما دام
الموضوع باقيا بدون النسخ؟! فكما لا يمكن رفع الآثار والأحكام المترتبة على
موضوع الخطأ والنسيان بقوله (صلى الله عليه وآله): " رفع عن أمتي تسعة... إلى آخره (2) " لا يمكن
رفع الأحكام المترتبة على موضوع الضرر بلا ضرر وأما الأحكام الثابتة للأشياء
بعناوينها الأولية والثانوية التي أريد رفعها برفع الضرر فليست أحكاما للضرر
حتى ترفع برفع موضوعها ادعاءا.
فإن قيل: إن قوله: " لا ضرر ولا ضرار في الاسلام " كقوله: " لا رهبانية في
الاسلام (3) " فكما أنه رفع حكم الرهبانية وهي المشروعية التي كانت ثابته لها في
الشريعة السابقة بقوله: " لا رهبانية في الاسلام " فكذلك رفع حكم الضرر وهي
الإباحة الأصلية الثابتة للأفعال والأشياء.
قلنا: مرجع هذا إلى أن المرفوع ب‍ " لا ضرر " هو الضرر المجوز شرعا،
والمأذون فيه كما هو أحد المحامل، ومرجعه إلى أن الضرر منهي عنه شرعا فيرجع
إلى المعنى الأول ولا يفيد ما هو بصدد إثباته من رفع الأحكام الثابتة للأشياء
بعناوينها الأولية به.
ورابع حملها على نفي الحقيقة لا تكوينا بل بمعنى أنه لم يجعل الشارع حكما
ينشأ منه الضرر، فكل حكم تكليفي أو وضعي ينشأ منه الضرر فهو ليس بمجعول
ولا ممضى شرعا، وهذا الحمل أحسن المحامل وأظهرها، ولا يرد عليه شيء إلا
لزوم رفع اليد عن ظاهر لفظة " في " - في الاسلام - عن الظرفية وحملها على
السببية، وهو سهل.
مع أنه يمكن أن يقال: لا يلزم ذلك المحذور أيضا، إذ لا إشكال في أن الظرفية
هنا اعتبارية، ولا مانع من كون الاسلام الذي هو عبارة عن مجموع الأحكام

(1) وسائل الشيعة: ب 8 من أبواب موجبات الضمان ح 2 ج 19 ص 179.
(2) وسائل الشيعة: ب 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 2 ج 5 ص 345.
(3) النهاية لابن الأثير: باب الراء مع الهاء ج 2 ص 280.
696

مظروفا للحكم الضرري المنفي، أي ليس حكم ضرري في أحكام الاسلام، فتأمل.
مضافا إلى أن هذا القيد ليس إلا في بعض الروايات.
الثالثة: في بيان نسبتها مع سائر الأدلة المثبتة للأحكام الأولية والثانوية، أما
النسبة بينها وبين الطائفة الأولى فالذي اختاره الشيخ (1) (قدس سره) هي الحكومة، وإن كان
تطبيقها على المورد بالمعنى الذي يستفاد من كلامه في مبحث التعادل والترجيح
محل تأمل، بل منع، إذ المستفاد من ظاهر كلامه أن الحكومة عبارة عن كون أحد
الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل
الآخر عن بعض أفراد موضوعه، فيكون مبينا لمقدار مدلوله (2).
وبعبارة أخرى الحكومة هي أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا
ومفسرا للدليل الآخر ومتفرعا عليه ومتعرضا لبيان حاله ومقدار مدلوله، والحال
أنه ليست بين دليل الضرر والأدلة المثبتة للأحكام الأولية حكومة بهذا المعنى، إذ
ليس لدليل الضرر بمدلوله اللفظي شرح وتفسير للادلة الأولية، إذ ليس كل منهما
إلا في مقام بيان مفاد نفسه واثبات مضمونه كما لا يخفى، بل لو كانت الحكومة بهذا
المعنى لما وجد لها مورد في الأخبار إلا نادرا كقوله: صلاة الليل واجب، أعني
على النبي (3).
إلا أن يقال: الحكومة ليست بهذا المعنى، أو ليست منحصرة به، بل المدار فيها
أن يكون أحد الدليلين معمما للدليل الآخر أو مخصصا له على وجه لا يكون بينهما
تناف أصلا، بأن يكون الحاكم مثبتا لشيء لا ينفيه المحكوم أو نافيا لشيء لا يثبته
المحكوم، بأن يوسع موضوع المحكوم أو يضيقه كأكرم العلماء، وولد العالم عالم،
والنحوي ليس بعالم، وعليه تتم الحكومة في المقام ونظائره من قوله: لا حرج ولا
شك لكثير الشك، ولا شك للإمام مع حفظ المأموم (4)، وفي تقدم الأمارات على

(1) فرائد الأصول: في قاعدة لا ضرر ج 1 ص 535.
(2) فرائد الأصول: في التعادل والترجيح ج 2 ص 750.
(3) وسائل الشيعة: ب 16 من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها ح 6 ج 3 ص 50 نحوه.
(4) وسائل الشيعة: باب 24 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ج 5 ص 338.
697

الأصول، وإلا فبالضابط الذي ذكره الشيخ في معنى الحكومة لا يكون تقدم
الأمارات على الأصول من باب الحكومة، بل من باب الورود كما سنبينه في
مبحث التعادل والتراجيح إن شاء الله، فتأمل.
والذي اختاره في الكفاية (1) أن النسبة بينهما هو التعارض بالعموم من وجه
ومع ذلك قدمها عليها من جهة التوفيق والجمع العرفي، بدعوى أن الأحكام الثابتة
للأشياء بعناوينها الأولية اقتضائية والأحكام الثابتة لها بملاحظة الطوارىء فعلية،
والاقتضائي لا يعارض الفعلي.
والذي اختاره بعض آخر هو التعارض بالعموم من وجه أيضا إلا أنه قدمها
عليها من جهة ورودها في مقام الامتنان كما هو الضابط في كل عامين يكون
أحدهما واردا في مقام الامتنان يقدم على الآخر للأقوائية. ولو كان بينهما عموم
من وجه، وقيل إن النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق، لجعل طرف المعارضة
مجموع الأدلة لا كل واحد، فتقدم عليها من جهة الأخصية، فتأمل جيدا.
فتحصل: أنه لا إشكال في تقدم " لا ضرر " على الأدلة المثبتة للأحكام
الأولية، وإنما الإشكال في وجه تقدمها.
وأما النسبة بينها وبين الأدلة المتكفلة للأشياء بعناوينها الثانوية كقاعدة
لا حرج فهي العموم من وجه. وفي مورد التعارض ومادة الاجتماع هل تقدم
قاعدة لا حرج أو قاعدة لا ضرر أو لا تقدم لإحداهما على الأخرى؛ بل تتساقطان
وترجع إلى قاعدة أخرى ولو كانت محكومة - على تقدير عدم تعارضها - كقاعدة
السلطنة مثلا؟
فقيل بتقديم قاعدة لا حرج، لأنه لم يقيد دليلها عقلا ونقلا بعدم الضرر على
الغير، بخلاف العكس فإن دليل " لا ضرر " مقيد بحكم العقل القاطع بعدم الحرج،
ولا يخفى ما فيه. وقيل بالتساقط والرجوع إلى قاعدة أخرى كقاعدة السلطنة، كما

(1) كفاية الأصول: في قاعدة الضرر ص 433.
698

هو المحتمل من كلام الشيخ (1) في مسألة ما لو كان تصرف المالك في ملكه ضررا
على الجار وتركه ضررا على نفسه حيث جعل ترك التصرف حرجا بالنسبة إلى
المالك، فحكم بجوازه إما لحكومة " لا حرج " ابتداءا، أو لتعارض القاعدتين
وتساقطهما والرجوع إلى عموم " الناس مسلطون على أموالهم (2) ".
وعن الكفاية (3) جعلهما من باب التعارض والرجوع إلى قواعده لو لم يكن من
باب تزاحم المقتضيين، وإلا فيقدم ما هو الأقوى، ولو كان دليل الآخر أرجح،
وجعل الغالب من باب توارد العارضين من هذا الباب.
ولا يخفى أن تشخيص الموارد الخاصة، وأن أي مورد من باب التعارض،
وأي مورد من باب التزاحم، وعلى تقدير كونه من باب التزاحم المقتضي في أيهما
أقوى من الآخر في غاية الإشكال، إذ لا طريق لنا غالبا إلى احراز المقتضي إلا
من جهة الدليل إلى احراز أقوائيته إلا من جهة أرجحيته فتأمل.
الرابعة: في بيان أن المراد بالضرر المنفي هو الضرر الواقعي أو الضرر
الاعتقادي الذي يظهر من كلام بعض هو الأول، لأن المنفي هو الضرر، ولا إشكال
في أنه موضوع للضرر الواقعي كسائر الألفاظ، والذي يظهر من كلام الشيخ (4) (قدس سره)
هو الثاني، لأن المنفي هو الحكم الضرري، والذي ينشأ منه الضرر هو الحكم
الفعلي المنجز لا الحكم الواقعي الذي لا يعلم به المكلف، فإذا اعتقد المكلف
تضرره بالوضوء فتيمم، ثم تبين الخلاف أو اعتقد عدم تضرره به فتوضأ، ثم تبين
الخلاف مقتضى القول الأول بطلان التيمم في الصورة الأولى والوضوء في الصورة
الثانية، ومقتضى القول الثاني صحتهما. والقول الأول وإن كان لا يخلو عن وجه
من جهة أن الوضوء الضرري إذا كان هو الخارج عن تحت عموم (فاغسلوا
وجوهكم... (5)) بالحكومة التي نتيجتها التخصيص، والضرر موضوع للضرر

(1) فرائد الأصول: في قاعدة لا ضرر ج 2 ص 539.
(2) عوالي اللآلي: ح 49 ج 3 ص 208.
(3) كفاية الأصول: في قاعدة لا ضرر ص 434.
(4) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 534 - 540.
(5) المائدة: 6.
699

الواقعي، ففي الصورة الأولى لما لم يكن الوضوء ضرريا فلم يكن خارجا عن
العموم، ولم يكن تكليفه التيمم، فيكون باطلا، وفي الصورة الثانية بالعكس، فيكون
وضوؤه باطلا. وهذا وإن ذهب إليه بعض إلا أنه خلاف المشهور، فإنهم حكموا
بالصحة في الصورتين ولعل الوجه في الحكم بالصحة كون ورود " لا ضرر " في
مقام الامتنان وهو يقتضي أن يكون المدار في الضرر وعدمه على اعتقاد المكلف،
فالحكم بالبطلان في الصورتين ينافي الامتنان.
ويمكن التفصيل بين الصورتين بالبطلان في الأولى والصحة في الثانية
بلحاظ أن المكلف إذا اعتقد كون الوضوء ضرريا ولم يكن في الواقع ضرريا
فالتكليف بالوضوء وإن كان منفيا عنه بلا ضرر، لأنه لو لم يكن مرفوعا يلزم
خلاف الامتنان، إلا أنه لا يثبت التكليف بالتيمم فيكون باطلا، إذ قاعدة لا ضرر
حاكمة على أدلة الأحكام ورافعة للأحكام التي يلزم من وجودها الضرر، لا مثبتة
للأحكام التي ينشأ من عدمها ضرر، بخلاف الصورة الثانية فإنه إذا اعتقد المكلف
عدم تضرره بالوضوء فلا ينفي " لا ضرر " وجوبه الواقعي، إذ لا امتنان في نفيه
فيكون وضوؤه صحيحا، فتأمل.
ولكن الأوجه هو القول الثاني كما اختاره الشيخ (1) (قدس سره) إذ الحكومة لا تقتضي
أزيد من نفي ما ينشأ منه الضرر، وبنفي فعلية الحكم يرتفع الضرر، فلا حاجة إلى
نفي أصله نظير ما إذا كان للشيء الذي يتضرر به المكلف حكمان وبرفع أحدهما
يرتفع الضرر، فإذا كان أحدهما في طول الآخر فيرتفع المتأخر، وإن كان في
عرضه فيتخير، فتدبر.
والانصاف أن للبحث في هذه الجهة وتطبيق الفروع الفقهية في العبادات
والمعاملات مجال واسع.
الخامسة: في بيان أن المراد بالضرر المنفي هو الضرر الشخصي أو النوعي،
مقتضى حكومة " لا ضرر " على الأحكام الأولية وورود هذه القاعدة في مقام

(1) فرائد الأصول: في أدلة البراءة ج 1 ص 535.
700

الامتنان هو الأول، إذ لا منة في رفع الحكم بالنسبة إلى غير المتضرر، وعليه بنوا
في العبادات، ولكن في المعاملات اعتبروا الضرر النوعي، ولعله من جهة تنزيل
الضرر النوعي منزلة الشخصي كما قيل، أو من جهة كون الضرر فيها حكمة
للتشريع، أو أن المدرك فيها غير " لا ضرر " من النص أو الإجماع وإن تمسكوا
ب‍ " لا ضرر " تأييدا، فتأمل.
السادسة: في بيان أن المراد من نفي الضرر هو النفي على نحو العزيمة أو
الرخصة: مقتضى الحكومة وخروج مورد الضرر عن تحت العمومات الأوليه هو
الأول، ولذا قالوا ببطلان العبادة المتضرر بها مع العلم بالضرر، ومقتضى كونه في
مقام الامتنان هو الثاني، إذ لا منة في الحكم بالبطلان والإعادة أو القضاء، وقد
حكم بعض بالثاني في " لا حرج " ولم يحكم به في " لا ضرر "، والحال أنه بحسب
الظاهر لافرق بينهما، فتأمل.
السابعة: في بيان حكم تعارض الضررين: لا يخفى أنه إذا تعارض الضرران
بالنسبة إلى شخص واحد فإن كان أحدهما دنيويا والآخر أخرويا فإن لم يكن
على الضرر الأخروي دليل قطعي وأمكن فيه الرجوع إلى البراءة فيقدم الدنيوي،
وإلا فيقدم الأخروي وإن [كان] كلاهما دنيويا فإن كان أحدهما أقل من الآخر
فيقدم، وإلا يتخير.
وإذا تعارض الضرران بالنسبة إلى شخصين فهل يقدم الأقل أيضا، إذ مقتضى
الامتنان وكون العباد كلهم بالنسبة إليه تعالى بمنزلة عبد واحد ذلك، ومع التساوي
ترجع إلى العمومات إن كانت، وإلا فالقرعة ولازم اعتبار الخصوصيات الأخر من
حيث الشخص فقرا وغناءا ورفعة وضعة وغيره، أم لا، إذ لا منة بالنسبة إلى
صاحب الضرر الأقل لو ألزم بتحمله، مع أن نسبة " لا ضرر " إليهما على حد سواء؟
وجهان.
هذا تمام الكلام في هذه القاعدة إجمالا، وتفصيل الكلام فيها يقتضي مجالا
واسعا رب وفقنا بحق محمد وآله الطاهرين صلواتك عليهم أجمعين.
701

الكلام في الاستصحاب
وهو من الوظائف المقررة للجاهل في مقام العمل، لما تقدم سابقا من أن غير
العالم بالواقع إن قام عنده ما يحكي عن الواقع ويكشف عنه فهو بالنسبة إلى
الموضوعات الخارجية تسمى أمارة وبالنسبة إلى الأحكام الشرعية تسمى دليلا
اجتهاديا وإن لم يقم عنده ما يحكي ويكشف عن الواقع فلابد من الرجوع إلى
الأصول التي تسمى بالنسبة إلى الموضوعات بالأصول الموضوعية، وبالنسبة إلى
الأحكام بالأدلة الفقاهتية.
والأصول العملية التي قررها الشارع وظائف للشاك في مقام العمل مع حفظ
شكه، وهي منحصرة - بحكم الاستقرار - في الأربعة المعروفة أعني البراءة
والاحتياط والتخيير والاستصحاب، ولما لم يكن ضابط لامتياز كل واحد من
الثلاثة المتقدمة عن البقية فلذا أدرجها المصنف (رحمه الله) في فصل واحد، وذلك لأنه قد
يكون الشك في التكليف ومع ذلك يكون المرجع هو الاحتياط، وقد يكون الشك
في المكلف به ومع ذلك لا يكون المرجع الاحتياط، ولما كان للاستصحاب ضابط
مخصوص به يمتاز عنها فلذا عقد له فصلا على حدة.
وهو في اللغة: استفعال من الصحب بمعنى أخذ الشيء مصاحبا له وهو فعل
المكلف، ومنه الاشتقاقات المعروفة.
وفي الاصطلاح: عبارة عن الحكم ببقاء ما كان إما من جهة بناء العقلاء عليه
في أحكامهم العرفية مطلقا أو في الجملة تعبدا أو للظن الناشئ عن ملاحظة ثبوته
سابقا، وإما من جهة دلالة النص أو دعوى الإجماع عليه.
ولا يخفى أن هذا المعنى هو القابل للنزاع وورود النفي والإثبات عليه، وإلا لو
كان المراد هو بنفس بناء العقلاء أو الظن بالبقاء الناشئ عن العلم بثبوته سابقا
لأمكن عدم ورود النفي والاثبات على محل واحد وصيرورة النزاع لفظيا، وذلك
لأنه لابد على هذا للمثبت من إثبات الصغرى، وهي كون الحالة مفيدة للظن بالبقاء
من جهة الغلبة - مثلا - وإثبات الكبرى وهي حجية هذا الظن من جهة إثبات حجية
702

مطلق الظن كما نسب إلى المحقق القمي (قدس سره) وهكذا بناء على كونه نفس بناء العقلاء
على بقاء ما كان لابد أولا من إحراز هذا البناء ثم إحراز إمضاء الشارع له حتى
يثبت مدعاه، ويكفي للمنكر منع إحداهما، وحينئذ فيمكن أن يكون النزاع بينهما
لفظيا بأن يكون مراد المثبت من حجية الاستصحاب نفس الظن الحاصل من
الوجود السابق، ومراد المنكر هو بناء العقلاء، أو كان نظر المثبت إلى حجيته من
جهة إفادة الوجود السابق للظن بالبقاء وإحراز حجية هذا الظن، وكان نظر المنكر
إلى منع الصغرى بعد تسليم الكبرى أو بالعكس، وهكذا بناء على كونه نفس بناء
العقلاء يمكن أن يكون نظر المثبت إلى الصغرى ونظر المنكر إلى الكبرى، أو
بالعكس، والمفصل أيضا من المثبتين في الجملة، فلابد له من إقامة الدليل على
الحجية واختصاصه بما اختاره من التفصيل على أنحائه.
والحاصل: أنه بناء على كون الاستصحاب عبارة عن نفس هذه الوجوه
المذكورة لا تتقابل الأقوال في النفي والاثبات فيمكن أن يكون المثبت مثبتا
لشيء والنافي نافيا لشيء أخر، ولا يرد النفي والاثبات على محل واحد ويصير
النزاع بينهما لفظيا، كأن يكون مراد المثبت من حجية الاستصحاب حجيته من
باب الظن وكان مراد المنكر من عدم حجيته من باب بناء العقلاء أو بالعكس. وأما
بناء على كونه عبارة عن الحكم بالبقاء، سواء كان منشوؤه الظن بالبقاء، أو بناء
العقلاء، أو التعبد فتتقابل الأقوال في النفي والاثبات ويكون النزاع معنويا،
فالمثبت إن كان بناؤه على كونه حجة من باب الظن من الوجود السابق لابد له من
إثبات المقدمتين الصغرى والكبرى، وكذا بناء على كونه حجة من باب بناء
العقلاء، لابد له أولا: من إثبات أن بناء العقلاء عليه، وثانيا: من إمضاء الشارع لهذا
البناء وكذا بناء على التعبد لابد من إحراز صدور الأخبار الدالة عليه ثم إحراز أن
صدورها لبيان حكم الله الواقعي واثبات دلالتها على المدعى وكذا المفصل لابد له
من إثبات ما ذكر، مضافا إلى أنه لابد من إثبات الاختصاص بما اختاره من
التفصيل كالشك في الرافع دون المقتضي، أو الشك في الموضوع الخارجي دون
703

الحكم الشرعي، وغيرهما من التفاصيل المذكورة ويكفي المنكر من منعه لاحدى
المقدمتين على كل واحد من الأقوال والاحتمالات أي القول بحجيته من باب بناء
العقلاء، أو من باب الظن، أو التعبد.
ثم إن البحث عن حجية الاستصحاب هل هو بحث عن المسائل الأصولية أو
عن المبادئ التصديقية، أو عن القواعد الفقهية؟
فبناء على كون المسألة الأصولية عبارة عما يقع نتيجتها في طريق الاستنباط
ويستمد بها في تحصيل الفرعي لا مجال للإشكال في كون مسألة حجية
الاستصحاب من المسائل الأصولية، لوقوع نتيجتها في طريق الاستنباط.
وأما بناء على كون المسألة الأصولية عبارة عما يبحث عن أحوال الأدلة بعد
إحراز دليليتها، أو عن ذوات الأدلة ولو مع عدم إحراز دليليتها بأن كان البحث عن
دليليتها أيضا منها فموقوف: أولا على صحة ما ذكروه من أن تمايز العلوم بتمايز
الموضوعات وأن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، ثم بيان أن
موضوع علم الأصول ما هو حتى يرى أن البحث عن حجية الاستصحاب بحث
عن عوارضه الذاتية أم لا؟
ولكن قد عرفت سابقا أن ما ذكروه من أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات لا
وجه [له]، ولم يقم عليه دليل، بل يمكن أن يكون بتمايز الموضوعات بأن يجعل
شيئا مخصوصا موضوعا ويبحث عن محمولاته، وأن يكون بتمايز المحمولات
بأن يجعل شيئا مخصوصا محمولا ويبحث عن موضوعاته كحفظ الصحة في علم
الطب مثلا، فإنه محمول ويبحث عن موضوعاته، وأنه بما يتحقق هذا المحمول،
وقد يكون لا بهذا ولا بذاك، بل بتمايز الأغراض بأن تكون مسائل عديدة مشتركة
في حصول غرض واحد بها، وذلك لأن كل مسألة مغايرة للمسألة الأخرى،
ولتسهيل المطلب جمعوا بعض المسائل التي لها جهة جامعة ودونوها علما
مخصوصا وسموها باسم مخصوص، والجهة الجامعة كما يمكن أن تكون باعتبار
وحدة الموضوع كذلك يمكن أن تكون باعتبار وحدة المحمول أو الغرض، هذا
704

بالنسبة إلى العلوم المدونة المستقلة فضلا عن علم الأصول الذي ليس إلا مسائل
متفرقة من العلوم المتشتة التي لها دخل في مقام الاستنباط في الجملة ولو في
بعض المسائل، فإنه ليس علما مخصوصا على حدة حتى يحتاج إلى موضوع
خاص، بل مركب من علوم متعددة، فإن بعض مسائلها من المسائل المنطقية
وبعضها من المعاني والبيان وبعضها من مسائل النحو كما في بعض كتب العلامة (قدس سره)
وغيره حيث تعرضوا لمعاني حروف الجارة.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن البحث عن حجية الاستصحاب بناء على كونه معتبرا
من باب الظن من المسائل الأصولية كالبحث عن حجية سائر الحجج مثل
الاجماع المنقول وخبر الواحد والشهرة وغيرها إن لم نقيد البحث عن المسالة بما
كان البحث عن عوارض الأدلة الأربعة بعد إحراز دليليتها أو مطلقا، حتى يكون
البحث عن دليليتها أيضا داخل فيها، وإن قيدناها به يخرج البحث عن حجية
الاستصحاب - بناء على القول. بحجيته من باب الظن - منها، إلا أن نقول بأن
البحث عن حجية الاستصحاب مرجعه إلى البحث عن أحد الأدلة الأربعة وهو
العقل، والمسألة الأصولية أعم من أن يكون البحث فيها عن الأدلة الأربعة بعد
إحراز دليليتها وحجيتها، أو يكون البحث عن نفس دليليتها وحجيتها وحكم العقل
الذي هو أحد الأدلة أعم من أن يكون على نحو القطع أو على نحو الظن، وكما أن
النزاع في حكمه القطعي على نحوين أحدهما أن يكون النزاع فيه صغرويا كمسألة
التحسين والتقبيح العقلييين، فإن النزاع في تلك المسألة في أن العقل له هذا
الادراك أم [لا]، وكذا غالب المسائل العقلية من الملازمات كملازمة الأمر بالشيء
مع النهي عن ضده، أو الأمر بالشيء لوجوب مقدمته، والمفاهيم، فإن البحث فيها
كما عرفت في أن العقل هل يحكم من جهة الأمر بالشيء بحرمة ضده أو بوجوب
مقدمته، أو من جهة تعليق الوجوب على شرط أو وصف أو غاية يحكم بانتفائه
عند انتفائها أم لا؟ والثاني ما يكون كبرويا بأن يكون النزاع في حجيته بعد الفراغ
عن أصل حكمه كما في مسألة الملازمة بين حكم العقل والشرع، فإن النزاع في
705

هذه المسألة بعد الفراغ عن حكم العقل بحسن شيء أو قبحه في أن الشرع هل
يحكم على طبقه، أم لا؟ كذلك في حكمه الظني أيضا على نحوين يتصور أحدهما:
أن يكون النزاع صغرويا وأنه هل يحكم العقل ظنا بهذا الحكم، أم لا؟ مثلا هل
يحكم من جهة وجود الشيء سابقا ببقائه لاحقا ظنا، أو لا يحكم؟
والثاني: أن يكون النزاع كبرويا بأن يكون النزاع في حجية هذا الحكم الظني
بعد الفراغ عن ثبوته وتحققه.
فعلى هذا، البحث عن حجية الاستصحاب بناء على القول باعتباره من باب
الظن من المسائل الأصولية، سواء كان البحث صغرويا أو كبرويا، كما عرفت
سابقا من أنه بناء على كون معتبرا من [باب] الظن لابد من إحراز الصغرى
والكبرى جميعا، وكذا بناء على كونه معتبرا من باب بناء العقلاء، وأما بناء على
كونه معتبرا من باب التعبد والأخبار فيكون قاعدة فقهية مستفادة من الأخبار
كقاعدة اليد والطهارة والتجاوز والفراغ ولا ضرر وأمثالها.
فبناء على كون علم الأصول علما مستقلا وامتيازه ليس بتمايز الموضوع
والمحمول، بل بتمايز الغرض كما تقدم من أن امتياز العلوم بعضها عن بعض ليس
منحصرا بتمايز الموضوعات، بل يحصل بتمايز الموضوعات أو المحمولات أو
الأغراض، إذ الامتياز لابد أن يكون بجهة جامعة، والجهة الجامعة تحصل بكل
واحد منها، كما يشعر بذلك تعريف علم الأصول بانه العلم بالقواعد الممهدة
لاستنباط الأحكام الشرعية، فلا مانع من إدخال جميع هذه القواعد المذكورة في
علم الأصول إذا كان المراد من الأحكام الشرعية أعم من الواقعية كالأحكام
المستنبطة بالأدلة الاجتهادية والظاهرية كالوظائف العملية التي جعلها الشارع
وظيفة للشاك في مقام العمل أو يلحق بالتعريف أو ينتهي إليه المجتهد في مقام
العمل كما صنعه صاحب الكفاية (1) (قدس سره)، بل جعل قاعدة لا ضرر وأمثالها مما يستفاد
منها الحكم الواقعي داخلا في المسائل الأصولية أولى من جعل الاستصحاب

(1) كفاية الأصول: في الأصول العملية ص 384.
706

الذي لا يستفاد منه إلا الحكم الظاهري والوظيفة العملية في مقام الشك داخلا فيها
كما لا يخفى. فعلى ما ذكرنا من كون جميع هذه القواعد داخلة في المسائل
الأصولية فتعرضهم في الأصول للاستصحاب دون غيره من القواعد لعله من جهة
أن الاستصحاب يعم جميع الأبواب وسائر القواعد مختصة ببعضها، إذ شأن
الأصولي، البحث عن القواعد العامة، هذا حال الاستصحاب الجاري في الأحكام
الشرعية.
وأما الاستصحاب الجاري في الموضوعات الخارجية فهو خارج عن
المسائل الأصولية، وذكره فيه إنما من باب الاستطراد.
ثم إنه لما كان الاستصحاب عبارة عن الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي
حكم شك في بقائه فلابد أن تكون القضية المتيقنة والمشكوكة متحدة موضوعا
ومحمولا ليتحقق صدق النقض على تقدير عدم الحكم بالبقاء، وعدم النقض على
تقدير الحكم بالبقاء، فلو لم يكن كذلك بل كان الموضوع أو المحمول أو كلاهما
مختلفين في القضيتين لم يصدق على الحكم بوجود البقاء، ولا على الحكم بعدمه
النقض، بل هو إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر لا يصدق عليه البقاء، أو
نفي حكم آخر عن الموضوع ولا يصدق عليه النقض. وهذا المعنى - أي اتحاد
القضيتين - في الاستصحاب الجاري في الموضوعات الخارجية متحقق في
الجملة، أي فما لم يكن مثل الشك في كرية الماء الموجود الذي أخذ منه مقدار،
فإن الموضوع في أمثاله لا يكون عين الموضوع في القضية المتيقنة إلا بالمسامحة
العرفية، لأن الماء الذي كان متيقن الكرية هو الذي لم يؤخذ منه شيء، والماء
المشكوك الكرية هو الذي أخذ منه مقدار، ولكن أهل العرف يتسامحون ويقولون:
إن هذا الماء كان كرا سابقا والآن مشكوك الكرية، والأصل بقاؤها، وهذا التسامح
إنما يحتاج إليه لو كان الموضوع هو الماء الموجود، وأما لو كان عنوان الكر بأن
نقول: إن الكر كان موجودا في هذا الحوض سابقا والآن نشك في بقائه فيه
فالأصل بقاؤه، فلا يحتاج إلى هذه المسامحة العرفية، ولكن هذا الاستصحاب
707

لا ينفع في إثبات كرية هذا الماء إلا على القول بالأصل المثبت والاستصحابات
الجارية في الأحكام الجزئية كالاستصحابات الجارية في الموضوعات الخارجية
في تحقق هذا المعنى - أي اتحاد القضيتين - وأما الاستصحابات الجارية في
الأحكام الكلية فبالنسبة إلى الشك في النسخ، لا إشكال في جريانها كما إذا شككنا
أن وجوب صلاة الجمعة - مثلا - منسوخ أم لا، أو أن حرمة الشيء الفلاني نسخت
أم لا، وأما إذا كان الشك في بقائها وارتفاعها من غير جهة النسخ، كما إذا علمنا
بنجاسة الماء المتغير حال تغيره وشككنا في بقائها بعد زوال التغير وكالمثال
المعروف وهو انتقاض التيمم بوجدان الماء قبل الدخول في الصلاة، ولكن بعد
الدخول فيها نشك في انتقاضه بوجدان الماء وعدمه فيشكل الحكم بجريان
الاستصحاب، من جهة أن الموضوع في الأحكام الكلية ليس كالأحكام الجزئية
أمرا شخصيا وموجودا خارجيا خاصا حتى يكون وجوده الخارجي الخاص
رابطا بين الحالين وموجبا لاتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة بحسب الموضوع
والمحمول الذي هو المدار في جريان الاستصحاب كما عرفت، بل الموضوع فيها
صرف المفاهيم والعناوين الكلية، ولا شك أن الماء المقيد بالتغير مغاير لغير
المتغير، وكذا عنوان المتيمم الواجد للماء قبل الصلاة مغاير للواجد في حال
الصلاة، فاستصحاب حكم أحد العنوانين والحالين في زمان تحقق العنوان والحال
الآخر إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر، ومجرد كون العنوانين مندرجين
تحت عنوان جامع وهو الماء والمتيمم في المثالين السابقين لا يوجب اتحاد
القضيتين، لما عرفت من أن الكلي المقيد بقيد مغاير للمقيد بغيره. ولكن يمكن دفع
الإشكال بأن المدار في جريان الاستصحاب وعدمه هو صدق الناقضية
والمنقوضية وعدمه، فإن كان المناط في صدقهما هو اتحاد القضيتين موضوعا
ومحمولا - وإلا لم يصدق عدم النقض في صورة جريانه ولا النقض في صوره
عدم جريانه - فهذا الإشكال وارد، وأما إذا كان المناط في صدقهما هو وجود
المقتضي وعدمه فلا يرد هذا الإشكال، لأن القضيتين وإن كانتا مختلفتين إلا أن
708

المقتضي وهو العنوان الكلي الجامع لما كان متحققا فيهما وهو المناط في صدق
الناقضية والمنقوضية فلا إشكال في جريان الاستصحاب.
ولذا لم يفصل شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في حجية الاستصحاب بين
الأحكام الكلية والجزئية، ولكن فصل بين الشك في المقتضي والرافع فهذا
التفصيل منه (قدس سره) اختيار، لأن المناط في صدقهما هو وجود المقتضي وعدمه لا
اتحاد القضيتين.
ثم إن الاستصحاب هل يجري في الأحكام العقلية أم لا؟ والكلام فيه تارة في
أن الاستصحاب هل يجري في نفس الأحكام العقلية أم لا؟ فالكلام فيه سيأتي إن
شاء الله، وأخرى أن الاستصحاب هل يجري في الأحكام الشرعية المستفادة من
الأدلة العقلية كما يجري في الأحكام الشرعية المستفادة من الأدلة اللفظية أم لا؟
والكلام الآن في الأخير فقد يقال بالفرق بين الأحكام الشرعية المستفادة من
الحكم العقلي والأحكام الشرعية المستفادة من الأدلة اللفظية وعدم جريان
الاستصحاب في الأولى دون الثانية، وذلك لأن كل حكم لابد له من موضوع
ومناط كما في " أقيموا الصلاة " فإن الموضوع فيه هي الصلاة والمناط هو النهي
عن الفحشاء، وكما في " لا تشرب الخمر " فإن الموضوع هو شرب الخمر والمناط
هو الاسكار، ففي الأحكام المستفادة من الأدلة اللفظية لما جعل الشارع موضوع
الحكم غير ما هو مناطه ولم يتعرض لما هو المناط غالبا ولا ندري أنه أي شيء،
وإن كان في بعض الأحكام علله به كما في شرب الخمر حيث علل بالإسكار أو
جعله نفس المناط وأرجع الأمر في تطبيقه إلى اعتقاد المكلف كما في باب الضرر،
فبعد إحراز الموضوع ولو بالمسامحة العرفية يجوز لنا التمسك بالاستصحاب
لإثبات الحكم في حال الشك، لأن الغرض أن الموضوع باق ولو بالمسامحة،
والمناط لما كان غير معلوم يحتمل بقاؤه في هذه الحالة فلا مانع من جريان
الاستصحاب بخلاف الأحكام الشرعية المستفادة من الأدلة العقلية، لأن
الموضوع والمناط فيهما شيء واحد، فما هو المناط فيها عين الموضوع فإن كان
709

في الحالة الثانية موجودا فيحكم العقل في هذه الحالة على سبيل القطع كالحالة
الأولى وإن لم يكن موجودا فيحكم العقل بعدمه على سبيل القطع.
والحاصل: أنه لا يعقل الشك في الأحكام العقلية، لأن العقل إن أحرز
موضوعه بتمام قيوده وشروطه كان حاكما قطعا وإن لم يحرز موضوعه وكان
شاكا فيه كان حاكما بعدمه قطعا، فلا مورد للشك في حكمه حتى يجري فيه
الاستصحاب.
وما قيل من جريانه فيها بأحد الوجهين أحدهما: أنه يمكن أن يحكم العقل
على موضوع مركب من عناوين متعددة بحكم قطعا، ولكن لا يميز أن المناط في
أي من هذه العناوين، فإذا فقد بعض هذه العناوين شك في بقاء هذا الحكم كما في
حكم العقل بقبح الكذب الضار وحسن الصدق النافع، ولكن لا يميز أن المناط في
القبح هو نفس الكذب أو كونه ضارا أو غيره من العناوين الأخر المنطبقة عليه
ككونه إغراءا بالجهل مثلا، وكذا بالنسبة إلى الصدق النافع يحكم العقل حكما
قطعيا بالحسن على الموضوع المعنون بتمام العناوين المعتبرة في الحكم بحسنه،
ولكن لا يميز أن المناط أي شيء من هذه العناوين، فيحتمل أن يكون الحكم باقيا
لاحتمال بقاء مناطه، ويحتمل أن يكون زائلا لاحتمال زواله، فلا مانع من جريان
الاستصحاب لتحقق أركانه، وهو اليقين السابق والشك اللاحق، فيكون حال حكم
العقل على هذا الموضوع المركب بالقبح أو الحسن مع عدم تميز ما هو المناط في
هذا الحكم كحال الحسن حيث إنا نرى أنه يحكم العقل حكما قطعيا، بحسن
شخص أو ملاحته مع أنه لا يميز ما هو المناط لحكمه بالحسن أو الملاحة، وأن هذا
الحكم هل هو من جهة عينه أو أنفه أو فمه أو شيء آخر منه، وكحكمه بلذة طعام
مع عدم تميز أنها من جهة أجزائه أو أدوياته أو طبخه أو سائر جهاته.
الثاني: أنه يمكن أن يكون في هذا الموضوع مناطان للحكم ولكن لم يدرك
العقل إلا أحدهما، فبارتفاع المناط الذي أدركه العقل في الحال الثاني لا يلزم
ارتفاع الحكم قطعا لجواز بقائه ببقاء الملاك الآخر.
710

فمدفوع، أما الأول، فلأن عدم تمييز العقل موضوع حكمه فيما لو كان حكمه
بالحسن أو القبح أو غيرهما من الأحكام على الموضوع المركب بأن يحكم بحسن
هذا المركب ولم يميز أن جهة حسنه أي شيء من هذه العناوين كما هو مناط
جريان الاستصحاب في حال فقد بعض تلك العناوين بواسطة احتمال بقاء ما هو
المناط، وإن كان بحسب النظر البدوي ممكنا إلا أنه بحسب النظر الثانوي والتأمل
العقلي غير معقول، وذلك لأن الموضوع لما كان الأمر المركب من العناوين الكلية
فيمكن للعقل أن يشخص موضوع الحكم ومناطه بأن يفرض الموضوع مجردا عن
أحد العناوين، فإن كان الحكم باقيا مع فرض عدمه فيكشف عن عدم دخله في
الحكم، وهكذا بالنسبة إلى سائر العناوين حتى تصل النوبة إلى عنوان لا يحكم
العقل بهذا الحكم مع فرض عدمه فيستكشف أنه المناط في حكمه، ولو فرض أن
الحكم ينتفي بفرض عدم كل واحد منها، ولا يوجد إلا بوجود جميعها فيستكشف
أن المناط هو المجموع المركب منها.
والحاصل: أن الإهمال والإجمال في موضوع حكم العقل ومناطه بعد التأمل
لا يعقل، وقياسه بالحس في عدم ادراكه وتمييزه موضوع حكمه قياس مع الفارق،
لأن في حكم العقل - كما عرفت - يمكن له تميز موضوعه بفرض عدم كل واحد
من العناوين، فمن بقاء الحكم مع فرض عدم بعضها وعدمه مع فرض عدم البعض
الآخر يستكشف أن المناط هو البعض الذي بانتفائه ينتفي الحكم، وضم البقية من
قبيل ضم الحجر إلى الانسان.
وأما بالنسبة إلى الحس فلا يمكن تميز موضوعه بهذا النحو، لأن غاية
ما يمكن في مقام التشخيص أن يفرض عدم كل واحد من أجزاء هذا المركب كأن
يفرض في الحكم بملاحة شخص عدم عينه أو أنفه أو حاجبه مثلا، أو في الحكم
بكون الطعام المخصوص لذيذا عدم كل واحد من أجزائه أو أدوياته أو سائر
كيفياته، ولكن هذا الفرض لا يفيد في مقام تشخيص الموضوع، لأن فرض العدم
لا يصيره معدوما واقعا.
711

والحاصل: أن فرض العدم هاهنا لا يكفي في تشخيص الموضوع بخلاف
حكم العقل على المجموع المركب من العناوين الكلية فإن الغرض يكفي فيه. نعم
يمكن تشخيص موضوع الحكم في الحس أيضا بفقد بعض الخصوصيات، فإن
كان الحكم بالملاحة أو اللذة باقيا مع فقده كان المناط هو البعض الآخر الذي
بانتفائه ينتفي ذلك الحكم، وإن لم يكن باقيا يستكشف أنه هو المناط.
وأما الثاني وهو احتمال أن يكون للحكم مناطان ولكن لم يدرك العقل
إلا أحدهما، فمن انتفاء ذلك المناط لا يلزم انتفاء الحكم، لجواز بقائه ببقاء
المناط الآخر.
ففيه: أنه من قبيل القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلي، وسيجئ
الكلام في حجيته وعدم حجيته مطلقا، أو على التفصيل بين القسم الأول منه - وهو
ما كان فرد من الكلي متيقن الوجود في الزمان السابق ويحتمل وجود فرد آخر
معه في ذلك الزمان، فبارتفاع الفرد المتيقن لا يقطع بارتفاع الكلي لجواز بقائه
بالفرد المحتمل الوجود - فيستصحب والقسم الثاني منه - وهو ما كان فرد من
الكلي موجودا سابقا وزال، ولكن يحتمل وجود فرد آخر منه مقارنا لزوال ذلك
الفرد، فبارتفاعه يرتفع الكلي المتحقق في ضمنه يقينا وتحققه بتحقق الفرد الآخر
الذي يحتمل وجوده وحدوثه مقارنا لزوال ذلك الفرد إنما هو شك في حدوثه لا
في بقائه بعد تيقن حدوثه - فلا يجري الاستصحاب، لعدم تحقق أركانه.
ثم إن الأقوال في حجية الاستصحاب وعدمها وإن كانت متعددة متكثرة حتى
أنهى بعضهم إلى أحد عشر أو أزيد، إلا أنها في الحقيقة راجعة إلى قولين: أحدهما
النفي مطلقا كما هو قول المنكرين، والآخر الاثبات في الجملة - على ما ذكر من
التفاصيل - كما هو قول المثبتين فلابد من ملاحظة الأدلة التي ذكروها لحجيته
حتى يظهر أن مؤداها الحجية المطلقة أو الحجية في الجملة، وعلى القول بالحجية
المطلقة لا يلزم أن تكون الحجية المطلقة مفاد دليل واحد، بل يمكن أن تكون
الحجية في الجملة كالحجية بالنسبة إلى الشك في الرافع مستفادة من دليل
712

والحجية بالنسبة إلى الشك في المقتضي مستفادة من دليل آخر، ومن مجموع
الدليلين يثبت المدعى وهي الحجية المطلقة، كما أنه يمكن أن يكون دليل واحد
بنظر شخص مثبتا لحجيته مطلقا، وبنظر شخص آخر مثبتا لحجيته في الجملة، أو
بنظر شخص مثبتا لحجيته بالنسبة إلى بعض التفاصيل، وبنظر شخص أخر مثبتا
لتفصيل آخر.
وكيف كان فقد استدل على حجيته بوجوه:
الأول: استقرار بناء العقلاء من الانسان بل ذوي الشعور من الحيوان على
العمل على طبق الحالة السابقة، وحيث كان بناء العقلاء بما هم عقلاء على شيء
ولم يردع الشارع عنه كان حجة، فلابد أولا: من إحراز هذا البناء من العقلاء،
وثانيا: عدم ردع الشارع عنه، وثالثا: مقدار هذا البناء، وأن بناءهم على العمل
على طبق الحالة السابقة مطلقا، أو فيما إذا كان الشك في البقاء من جهة الشك في
الرافع والمزيل لا فيما كان الشك في البقاء من جهة الشك في المقتضي مثلا، أما
بناء الحيوانات على العمل على طبق الحالة السابقة والرجوع إلى مراتعهم
وأوكارهم ومحالبهم، فلا ينفع في إثبات المدعى، إذ لعل بناء الحيوانات من جهة
القطع أو عدم احتمال الخلاف، وأما بناء العقلاء فالمنع عنه مطلقا - كما صنعه في
الكفاية - لاوجه له، إذ هذا البناء منهم مسلم، وإن كانوا يحتاطون في بعض الأمور
المهمة ولا يكتفون في ترتب تلك الآثار على مجرد الوجود السابق واحتمال بقائه
وهذا لا ينافي كون بنائهم على العمل على طبق الحالة السابقة، كما أن في بعض
الامور المهمة لا يعملون بخبر الثقة ولا يرتبون الأثر المهم عليه مع أنه حجة عندهم
قطعا، وبناؤهم على حجيته واعتباره بلا ريب، كما أنه لاوجه للتمسك بالردع عنه
بالآيات الناهية عن العمل بغير علم بعد تسليم هذا البناء منهم، وذلك لأن هذه
الأدلة والآيات الناهية عن العمل بغير العلم لا تشمل ما كان بمنزلة العلم في الوثوق
والاطمئنان في نظرهم، فالحالة السابقة لما كانت عندهم بمنزلة المعلوم فالأدلة
الناهية عن العمل بغير علم لا تشمل العمل بها كما ذكر ذلك في العمل بالخبر
713

الموثوق به، وأن الآيات الناهية لا تشمل خبر الثقة.
فالانصاف أن أصل بناء العقلاء وعدم ردع الشارع عنه لا إشكال فيه، وإنما
الإشكال في مقدار هذا البناء، والحق أن هذا البناء منهم إنما هو فيما إذا كان الشك
في البقاء من جهة وجود الرافع والمزيل وأنهم لا يعتنون بهذا الشك، وأما إذا كان
الشك من جهة وجود المقتضي وعدمه فهذا البناء عندهم غير معلوم.
فتحصل: أن إنكار أصل بناء العقلاء لا وجه له، وكذلك دعوى ردع الشارع
عنه بعد تسليم البناء. نعم دعوى اختصاص بناء العقلاء بما إذا كان الشك من جهة
الرافع له وجه، فتأمل.
الثاني: أن الثبوت السابق موجب للظن بالبقاء.
وفيه: أن مجرد ثبوت السابق لا يقتضي الظن بالبقاء لا شخصا ولا نوعا، فإنه
لا منشأ له إلا دعوى كون الغالب فيما ثبت هو الدوام بتقريب أن يقال: إن المقتضي
للحكم في الآن الأول إذا كان في الآن الثاني لكان باقيا، لأن احتمال عدمه في
الآن الثاني إنما هو من جهة وجود المزيل واحتمال وجوده معارض باحتمال عدمه
فيبقى الحكم الثابت في الآن الأول من جهة وجود المقتضي سليما عن المعارض.
ولكن يرد عليه:
أولا: منع كون الغالب فيما ثبت هو الدوام، بل يمكن أن يدوم وأن لا يدوم.
وثانيا: لو فرض كون الغالب فيما ثبت هو الدوام منع حجية هذا الظن الحاصل
من الغلبة، إذ الأصل عدم حجية الظن إلا ما ثبت حجيته بالخصوص، وما ذكر في
التقريب مدفوع بأنه لو كان المقتضي مقتضيا حتى في الآن الثاني، فلا معنى
للاستصحاب وإن كان مقتضيا في الآن الأول فقط، فلا معنى لاقتضائه البقاء في
الآن الثاني، وإن كان مقتضيا في الجملة فيحتمل وجوده وعدمه في الآن الثاني
فمن أين يحكم ببقائه فيه.
الثالث: دعوى الإجماع على حجية الاستصحاب كما عن المبادئ (1) وفيه:

(1) مبادئ الوصول إلى علم الأصول: ص 251.
714

أن تحصيل الإجماع في تلك المسألة التي لها مبان مختلفة في غاية الإشكال لو
فرض حصول الاتفاق فضلا عما إذا لم يكن اتفاق. ونقل الاجماع مع أن حجيته
محل الخلاف موهون هنا، من جهة ما ذكر من الاختلاف في المبنى.
الرابع: من الأدلة - وهي العمدة في الباب - الأخبار المستفيضة:
منها:
صحيحة زرارة، قال: قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة أو
الخفقتان عليه الوضوء؟ قال (عليه السلام): يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن وإذا
نامت العين والقلب والأذن فقد وجب الوضوء، قلت: فإن حرك في جنبه شيء
وهو لا يعلم به؟ قال: لا حتى يستيقن أنه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بين، وإلا
فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين بالشك أبدا وإنما تنقضه بيقين آخر (1).
وهذه الرواية وإن كانت مضمرة إلا أن إضمارها لا يضر باعتبارها، حيث كان
إضمارها من مثل زرارة وهو ممن لا يكاد أن يستفتي غير الإمام (عليه السلام) سيما مع هذا
الاهتمام، وصدر الرواية لا ربط له بمسألة حجية الاستصحاب فإنه سؤال عن
الشبهة الحكمية بأن الخفقة والخفقتان من مراتب النوم الناقضة للوضوء فيما إذا
كان النوم ذو مراتب بعضها متيقن الناقضية وبعضها مشكوك الناقضية، أو سؤال عن
تحقق موضوع النوم بالخفقة أو الخفقتين مع كون النوم ذا مرتبة واحدة، فأجابه
الامام (عليه السلام) بأن الخفقة والخفقتين ليستا من مراتب النوم الناقض للوضوء أو ليستا
من موضوع النوم الموجب له، ثم يبين (عليه السلام) بأن النوم الناقض له أو النوم مطلقا
- بناء على كونه ناقضا مطلقا وذا مرتبة واحدة - لا يتحقق بنوم العين، بل بنوم العين
والأذن، بل القلب - كما في بعض الكتب - ثم سأله عن تحريك شيء في جنبه هل
يكون من علائم النوم أم لا، فقال الإمام (عليه السلام): " لا حتى يستيقن أنه قد نام " ثم
أكده (عليه السلام) بقوله: " حتى يجيء من ذلك أمر بين " وإنما المربوط بمسألة حجية
الاستصحاب ذيل الرواية.

(1) وسائل الشيعة: ب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 1 ج 1 ص 174.
715

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية - على ما ذكره في الكفاية - هو أنه لا ريب
في ظهور قوله (عليه السلام): " وإلا فإنه على يقين من وضوئه " عرفا في النهي عن نقض
اليقين بشيء بالشك فيه، وأنه بصدد بيان علة الجزاء المستفاد من قوله (عليه السلام): " لا
في جواب فإن حرك في جنبه شيء، وهو اندراج اليقين والشك في مورد السؤال
في القضية الارتكازية الغير المختصة بباب دون باب.
واحتمال أن يكون الجزاء هو قوله: " فإنه على يقين " غير سديد، فإنه لا يصح
إلا بإرادة لزوم العمل على طبق يقينه، وهو بعيد في الغاية. وأبعد منه كون الجزاء
" لا تنقض... إلى آخر " وقد ذكر " فإنه على يقين " للتمهيد.
وإذا كان الجزاء هو قوله " لا " في جواب " فإن حرك في جنبه شيء وهو
لا يعلم " وكان قوله: " فإنه على يقين من وضوئه " علة للجزاء، وهو اندراج اليقين
والشك في هذا المورد الخاص في القضية الكلية الارتكازية العامة لجميع
الأبواب، فلا وجه لاحتمال اختصاص هذه القضية باليقين والشك في باب
الوضوء، وجعل هذه الرواية من الروايات الخاصة فإنه ينافيه ظهور التعليل في أنه
أمر ارتكازي لا تعبدي، ويؤيده تعليل الحكم بالمضي مع الشك في غير الوضوء
في غير هذه الرواية بهذه القضية وما يرادفها، مع أنه لا موجب لاحتمال اختصاصه
بالوضوء، إلا من جهة احتمال كون اللام في اليقين للعهد إشارة إلى اليقين السابق
في قوله " فإنه على يقين من وضوئه، مع أن الظاهر أنه للجنس كما هو الأصل في
اللام وسبق قوله: " فإنه على يقين من وضوئه " لا يكون قرينة على أنه للعهد مع
كمال الملائمة مع الجنس أيضا بأن يكون المراد أنه على يقين من وضوئه
ولا ينقض جنس اليقين بالشك، وعدم نقض يقين الوضوء بالشك فيه إنما هو من
جهة أنه من أفراد ذلك الجنس وجزئياته، مع أنه غير ظاهر في اليقين بالوضوء،
لاحتمال أن يكون " من وضوئه " متعلقا بالظرف لا بيقين، وكان المعنى فإنه كان
من طرف وضوئه على يقين، وعليه لا يكون الأصغر، إلا اليقين لا اليقين بالوضوء
كما لا يخفى.
716

وبالجملة لا يكاد يشك في ظهور القضية في عموم اليقين والشك خصوصا بعد
ملاحظة تطبيق هذه القضية في الأخبار على غير الوضوء، فظهر أن هذه الرواية من
الأخبار العامة الدالة على حجية الاستصحاب لامن الأخبار الخاصة.
ثم إن الكلام في أن هذه الرواية هل تختص بالشك في الرافع أم تعم الشك في
المقتضي أيضا؟
وما قيل في وجه تخصيصها بالشك في الرافع وهو أن النقض معناه الحقيقي
لما كان عبارة عن حل الأمر المبرم المستحكم كما في قوله: (نقضت غزلها) (1)
وهو متعذر هنا، وإذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى، بمعنى أنه لا يحتاج
إلى قرينة معينة من بين المجازات بعد القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي، ولا
شك أن الأمر الذي فيه مقتضي الدوام والاستمرار لولا الرافع أقرب إلى المعنى
الحقيقي - وهو الأمر المبرم المستحكم - مما ليس [فيه] مقتضي الدوام والاستمرار
بل كان الشك في بقائه من جهة الشك في اقتضائه من أول الأمر، فمن جهة ظهور
الفعل وهو قوله: " لا تنقض (2) " في هذا المعنى المجازي الذي هو أقرب المجازات
يرفع اليد عن ظهور المتعلق وهو اليقين في العموم أي مطلق اليقين بشيء، سواء
كان فيه مقتضي الدوام والثبات أم لا، ويخصص بما فيه مقتضي الدوام والثبات كما
يرفع اليد عن عموم أحد في قوله: " لا يضرب [أحدا] " عن شموله للأحياء
والأموات ويخصص بالأحياء من خصوصية الفعل وهو " لا تضرب " وظهوره في
الضرب المؤلم.
فممنوع من جهة أن اليقين لما كان أمرا مبرما مستحكما يصح إسناد النقض
إليه، سواء كان متعلقه مما يقتضي الدوام والاستمرار أم لا، وإن لم يصح إسناد
النقض إلى ما ليس فيه مقتضي الدوام بعنوان آخر لا يكون فيه إبرام واستحكام
كالظن مثلا كما في مثل " أنشبت أظفارها " حيث يصح إسناد " أنشبت " إلى

(1) النحل: 92.
(2) وسائل الشيعة: ب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 1 ج 1 ص 174.
717

" الأظفار " وإن لم يصح إسنادها إلى نفس المكنى عنها، إلا أنه لمكان التعبير بها
عنه يصح إسناد " أنشبت " إليها.
والحاصل: أنه يصح إسناد النقض إلى اليقين، سواء أريد من اليقين المتيقن
مجازا أو أريد به معناه الحقيقي، ولكن لوحظ مرآة وآلة لمتعلقه كما " لا تنقض
اليقين " - على أحد هذين الوجهين - وعلى أي تقدير لما عبر عن المتيقن مطلقا
سواء كان له مقتضي الدوام والاستمرار أم لا، بلفظ اليقين الذي له إبرام وإستحكام،
إما مجازا عن المتيقن أو بمعناه الحقيقي، ولكن لوحظ مرآة لمتعلقه يصح إسناد
النقض إليه والنهي عنه تعبدا، فبهذا الوجه لا يمكن إثبات اختصاص هذه الرواية
بالشك في الرافع.
ولكن يمكن إثبات اختصاصها به من جهة أخرى، وهي أنه لا إشكال في أنه
تعتبر في صدق الناقضية والمنقوضية ورودهما على شيء واحد، فالنهي عن نقض
اليقين بالشك إنما هو إذا كان متعلق اليقين والشك أمرا واحدا وإلا فلو كان متعلق
اليقين غير متعلق الشك فالنهي عن نقض اليقين بالشك لا يشمله، إذ لا يصدق
الناقضية والمنقوضية - حينئذ - حتى يشمله، وفي مورد الرواية اليقين لما كان
متعلقا بحدوث الوضوء والشك كان متعلقا ببقائه - كما هو ضابط الاستصحاب -
فلابد من إعمال عناية وتصرف ليصير متعلق اليقين والشك أمرا واحدا لتصدق
الناقضية والمنقوضية ويشمله " لا تنقض اليقين بالشك " وتلك العناية يمكن أن
تكون بإلغاء الزمان بأن لا تنظر إلى زمان حدوثه وبقائه، بل جرد عن الزمان وقطع
النظر عنه، فبهذه العناية يصير متعلق اليقين والشك أمرا واحدا، لأن في
الاستصحاب إنما يكون متعلق اليقين والشك متغايرين إذا لم يجرد المستصحب
عن الزمان ليكون متعلق اليقين هو الحدوث ومتعلق الشك هو البقاء اللذين هما
أمران متغايران، وأما إذا جرد عن الزمان فذات المستصحب أمر وشئ فارد تعلق
به اليقين والشك، فكأن اليقين الذي تعلق بأوله وحدوثه تعلق بآخره وبقائه
والشك الذي تعلق بآخره وبقائه تعلق بأوله وحدوثه.
718

ويمكن أن تكون تلك العناية هي أن الشيء الذي تحقق في الخارج وصار
حدوثه ووجوده يقينا وتعلق الشك ببقائه فمتعلق الشك واليقين وإن كان مختلفا
حقيقة إلا أنه يمكن اجتماعهما وتحقق الناقضية والمنقوضية، من جهة أن المتيقن
السابق في حال الشك أيضا متيقن من حيث نفسه، وإن كان مشكوكا من جهة طرو
الطوارىء والعوارض.
والحاصل: أنه يمكن أن تكون العناية موجبة لاجتماع الشك واليقين
وتواردهما على محل واحد المصححة لصدق الناقضية والمنقوضية حتى يشمله
النهي عن نقض اليقين بالشك هي أن الشيء المتيقن السابق في حال الشك من
حيث نفسه يقيني من تلك الحيثية وإن كان مشكوكا من حيثية أخرى، فبهذا
الاعتبار يكون متعلقهما شيئا واحدا ويشمله النهي عن نقض اليقين بالشك، فإن
كانت العناية الموجبة لاجتماعهما وتواردهما على محل واحد هي العناية الأولى
فتعم الرواية الشك في المقتضي والرافع كليهما، وإن كانت العناية الثانية فتختص
بالشك في الرافع، فتأمل.
ثم إن هذه الرواية على تقدير كونها مختصة بالشك في الرافع فهل تختص
بالشك في وجود الرافع أو تعم رافعيته؟ فمرجع الشك في رافعية الموجود إلى هذا
الموجود الخارجي الخاص هل هو داخل في هذا العنوان المعلوم كونه رافعا، أو
داخل في العنوان المعلوم عدم كونه رافعا، كالرطوبة المشتبهة الخارجة من
الانسان المرددة بين كونها بولا أو مذيا مثلا؟ ومرجع الشك في وجوده إلى أن هذا
العنوان المعلوم كونه رافعا هل وجد في الخارج وتحقق أو لا؟ فلابد في كون الشك
شكا في رافعية الموجود من تحقق مصداق يمكن أن يكون معنونا بهذا العنوان أو
بذاك، فإن كان معنونا بهذا العنوان فيكون رافعا يقينا، وذلك كالرطوبة الخارجة
القابلة لأن تكون معنونة بالبولية التي هي رافعة يقينا والمذيية التي هي غير رافعة
يقينا بخلاف الشك في وجود الرافع، فإن الشك فيه إنما يكون في تحقق ما هو
رافعا يقينا.
719

إذا عرفت هذا فاعلم أن ظاهر السؤال في هذه الرواية الشريفة أن الشك إنما
كان في رافعية الموجود، وذلك لأن السائل إنما سأل عن الخفقة والخفقتين
المتحققتين في الخارج أنهما من مصاديق النوم أم لا، إلا أن جواب الإمام (عليه السلام)
بأنه " لا حتى يستيقن أنه قد نام " ظاهر في أن الشك إنما كان في وجود الرافع،
وإلا كان المناسب أن يقول: إنهما نوم، أو ليستا بنوم، كما إذا سئل عن الرطوبة
المشتبهة أنها بول أو ليست ببول لابد أن يجاب بأنها بول أو ليست ببول، فلو كان
مورده الشك في رافعية الموجود فلابد من شمول " لا تنقض اليقين بالشك " له وإن
لم تشمله القضية اللفظية من جهة عدم جواز تخصيص المورد وخروجه
عن الحكم.
فتحصل: أن الكلام في هذه الرواية الشريفة في جهات:
الأولى: من حيث سندها، وقد عرفت أنها صحيحة بحسب السند، ولا يضر
إضمارها باعتبارها إذا كان المضمر من أمثال زرارة ممن لا يستفتون غير
الإمام (عليه السلام) لجلالة شأنهم عن أن يسألوا غيره، سيما مع هذا الاهتمام.
الثانية: في أنها من الأخبار العامة أو من الأخبار الخاصة الدالة على حجية
الاستصحاب في خصوص باب الوضوء، وقد عرفت أنها من الأخبار العامة
بالتقريب المذكور.
الثالثة: في أنها تختص بالشك في الرافع أو تعم الشك في المقتضي أيضا، وقد
عرفت أنها بناء على احدى العنايتين اللتين ذكرناهما مختصة بالشك في الرافع،
وعلى الأخرى تعم الشك في المقتضي أيضا.
الرابعة: في أنها هل تختص بالشك في وجود الرافع أو تعم الشك في رافعية
الموجود، وقد عرفت أن الظاهر من كلام السائل هو الشك في رافعيته، ولكن
الظاهر من كلام الإمام (عليه السلام) في مقام الجواب هو الشك في وجود الرافع، فتأمل.
ثم إنه قد تقدم أن دليل الاستصحاب إن كان بناء العقلاء، أو الإجماع فالقدر
المتيقن منه ما إذا كان الشك في وجود الرافع والمزيل، وأما في غيره فلم يعلم منهم
720

بناء على الأخذ به ولا إجماع عليه.
وإن كان الأخبار فقد عرفت أن النهي عن نقض اليقين بالشك لا يشمل مورد
الاستصحاب الذي يكون مورد اليقين هو الحدوث ومورد الشك هو البقاء، فلا
ربط لأحدهما بالآخر، ولكن يمكن أن يكون الشك ناقضا لليقين أو المتيقن
منقوضا بالشك حتى ينهى الشارع عنه إلا بإحدى العنايتين المذكورتين إما
بتجريد المستصحب عن الزمان حتى يكون اليقين الوارد على حدوثه والشك
الوارد على بقائه كلاهما واردين على شيء واحد، وإما من جهة اليقين ببقائه حين
الشك من حيث نفسه، وإن كان مشكوكا من حيث العوارض والطوارىء فإن كانت
العناية المصححة للناقضية والمنقوضية هي العناية الأولى فتعم الشك في المقتضي
والرافع كليهما، وإن كانت الثانية فتختص بالشك في الرافع، ولابد أن تكون هاتان
العنايتان مما يساعدهما العرف حتى يصحح صدق الناقضية والمنقوضية في مورد
الاستصحاب بإحداهما، ويصير مشمولا لأخبار " لا تنقض " إذ تلك العناية ليست
أمرا تعبديا بيد الشارع، فإن كانت العناية المصححة هي الأولى فتخرج قضية
" لا تنقض اليقين بالشك " عن كونها قضية كلية ارتكازية، لأن حكم الشارع بعدم
نقض اليقين بالشك في مورد الشك في الرافع والمقتضي كليهما بمناط واحد، وهو
نفس كون السابق وثبوته، وقد عرفت أن المرتكز عند العرف ليس هذا، بل هو
عدم الاعتناء بطرو المزيل والرافع فقط، وإن كان الأخذ بالكون السابق مع عدم
الاعتناء باحتمال المزيل في مورد احتماله متلازمان، لأن لازم الأخذ بالكون
السابق عدم الاعتناء باحتمال الرافع، ولازم عدم الاعتناء باحتمال الرافع الأخذ
بالكون السابق وإذا كان المرتكز عند العرف هو خصوص مورد احتمال المزيل
في عدم اعتنائهم بالشك وكان مفاد الأخبار عدم نقض اليقين بالشك بمناط ثبوت
الذي هو أعم من المرتكز العرفي فتكون حجية الاستصحاب وعدم جواز نقض
اليقين بالشك حكما تعبديا شرعيا، فلابد من ملاحظة الأخبار حتى يظهر أن
الحكم بعدم نقض اليقين بالشك إنما هو من جهة الثبوت السابق أو من جهة عدم
721

الاعتناء باحتمال المزيل، ولا ريب أن الظاهر من قوله (عليه السلام) " لا حتى يستيقن أنه
قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بين... إلى آخره " أنه لا يعتنى بالشك في المزيل
والرافع وهو النوم، لا أنه يؤخذ بالحالة السابقة والكون السابق كما هو بناء العرف
أيضا، حتى أنه لو شك في وقوع [الطلاق] بلفظ أنت خلية أو برية وأمثالهما يبنون
على بقاء النكاح من جهة عدم الاعتناء بالشك في المزيل والرافع لا أنهم يبنون
عليه من جهة الوجود السابق، وكذا في غير الطلاق.
ثم إنه أورد على من فصل في حجية الاستصحاب بين الشك في وجود الرافع
فقال بحجيته فيه، وبين الشك في رافعية الموجود فقال بعدم حجيته فيه بأن مورد
الرواية هو الشك في رافعية الموجود، وقد عرفت أن المورد لو كان هو رافعية
الموجود فلابد من حجيته فيه من جهة عدم جواز تخصيص المورد وإخراجه عن
الحكم، ولو من جهة تنقيح المناط إذا قلنا بعدم شمول القضية اللفظية له.
ولكن في ورود هذا الايراد عليه واختصاص هذه الرواية بمورد الشك في
رافعية الموجود تأمل، لأنه لا إشكال في أن صدر الرواية وهو قوله: " الرجل ينام
وهو على وضوء هل توجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ " أنه سؤال عن
الشبهة الحكمية مثل السؤال عن كون المذي ناقضا للوضوء أم لا، فلما كان السائل
شاكا في حكم الخفقة والخفقتان فسأل عن الحكم الواقعي، وأجابه الإمام (عليه السلام) بأنه
قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن إذا نامت العين والقلب والأذن فقد وجب
الوضوء، فهذه القطعة من الرواية سؤالا وجوابا في مرحلة الحكم الواقعي، ولا ربط
لها بما نحن فيه، وهو بيان حكم الشاك بوصف كونه شاكا وإنما المرتبط بما نحن
فيه هو قوله: فإن حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم، قال (عليه السلام): " لا حتى يستيقن أنه
قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بين " حيث سأل السائل أن تحريك شيء في جنبه
مع عدم علمه به هل يكون أمارة على النوم؟ فقال (عليه السلام): " لا حتى يستيقن " وقد
عرفت سابقا أن كون الشك في رافعية الموجود إنما هو فيما إذا كان شيء موجود
مردد العنوان كالرطوبة المشتبهة بين البول والمذي. والشك في وجود الرافع إنما
722

هو فيما كان الشك في تحقق ما هو رافع يقينا، فعلى هذا لو كان مطمح نظر السائل
إلى السؤال عن عنوان شيء متحقق خارجي، وهي الخفقة والخفقتان، وأنها داخلة
في عنوان النوم الناقض أم لا كالسؤال عن الرطوبة المشتبهة وأنها داخلة في
عنوان البول أو المذي كانت الرواية في مورد الشك في رافعية الموجود، وكان
الإيراد واردا على المفصل، وأما لو كان مطمح نظر السائل إلى تحقق النوم الناقض
كما يؤيده جواب الامام (عليه السلام): " لا حتى يستيقن أنه قد نام " وإلا كان المناسب أن
يقول (عليه السلام): إنه ليس بنوم، فلا تكون الرواية واردة في مورد الشك في رافعية
الموجود، ولما كان الايراد واردا عليه.
ثم إن الشك في رافعية الموجود إما من جهة الشبهة الحكمية، وإما من جهة
الشبهة المفهومية. وإما من جهة الشبهة المصداقية أما كون الشك في رافعية
الموجود من جهة الشبهة الحكمية فمرجعه إلى الشك في الحكم الكلي، وبعد
جريان الأصل فيه أو عدمه لا حاجة إلى الأصل في خصوص الجزئيات، بل
لا تصل النوبة إليها أصلا، لأن الحكم الكلي عين الحكم الجزئي، والشك فيه عين
الشك فيه، لا أنه من قبيل الشك السببي والمسببي حتى يمكن جريان الأصل في
ناحية المسبب بعد عدم إمكان جريانه في ناحية السبب، بل الأصول لما كانت
وظائف عملية للشاك في مقام العمل وجريانها إنما هو بلحاظ الأثر، فجريانها في
الاحكام الكلية إنما هو بلحاظ الجزئيات، إذ الأثر مترتب عليها، مثلا لو شككنا
في حلية شرب التتن وعدمها فالرجوع إلى أصالة الحل أو الحرمة إنما ينفع في
مقام العمل بالنسبة إلى الجزئيات الخارجية بتطبيق الكلي على جزئياته، وإلا لو
فرض أن أصالة الحل بالنسبة إلى جزئيات التتن تجري ولكن بالنسبة إلى الحكم
الكلي لا تجري، بل تجري أصالة الحرمة كان هذا الأصل الجاري بالنسبة إلى
الحكم الكلي بلا أثر.
والحاصل: أن الشك في رافعية الموجود من جهة الشبهة الحكمية لا يكون إلا
من جهة الشك في الحكم الكلي، والشك في أن هذا المذي الخاص الخارج من
723

المكلف ناقض للوضوء أو ليس بناقض إنما هو من جهة أن الشارع جعل المذي
ناقضا أم لا، فالشك فيه بعينه شك فيه، والأصل الجاري فيه بعينه جار فيه.
فتبين أن مراد من فصل في جريان الاستصحاب [بين] الأحكام الكلية
والجزئية، فقال بعدم جريانه في الأولى دون الثانية ليس أن الاستصحاب لا يجري
فيما لو شككنا في أن الشارع جعل المذي ناقضا أم لا، ولكن تجري فيما لو
شككنا في أن هذا المذي الخاص الخارج من هذا الشخص ناقض أو ليس بناقض،
إذ لا معنى لعدم جريانه في الحكم الكلي إلا عدم جريانه في جزئياته ومصاديقه
المحققة مصداقيتها، لأن جريانه في هذه المصاديق إنما هو بتطبيق الكلي عليها،
فمع عدم جريانه فيه كيف يمكن جريانه فيها؟ بل المراد أنه إذا كان الشك في
الحكم الجزئي من غير جهة تطبيق الكلي عليه كما إذا شككنا في أن هذا الوضوء
الخاص باق بعد خروج البلل المشتبه كونه بولا أو مذيا المعلوم بقاؤه لو كان مذيا
وعدم بقائه لو كان بولا، وكما لو شككنا في أن هذا الماء المتغير بالنجاسة هل صار
طاهرا بواسطة عروض حالة يشك في أنها زوال للتغير حتى يكون طاهرا، أو لا
حتى يكون نجسا.
والحاصل: أن الشك في الحكم الجزئي إن كان ناشئا من الشك في الحكم
الكلي كان الاستصحاب فيه وعدمه تابعا لجريانه في الحكم الكلي وعدمه فيه، إذ
جريانه في الحكم الكلي لا معنى له إلا أن كل واحد من مصاديقه حكمه كذا وإن
كان ناشئا من جهة أخرى، كما هو مراد من فصل بين الأحكام الكلية والجزئية،
فهو ليس تابعا في الجريان وعدمه للأحكام الكلية.
فتحصل: أن الشك إما في وجود الرافع، أو في رافعية الموجود، والشك في
رافعية الموجود إما من جهة الشبهة الحكمية، وإما من جهة الشبهة المفهومية، وإما
من جهة الشبهة المصداقية، فالشك في وجود الرافع مثاله في الأحكام منحصر
بالنسخ، وجريان الاستصحاب بالنسبة إلى عدم النسخ إجماعي، وفي
الموضوعات الخارجية أمثلته كثيرة واضحة.
724

وأما الشك في رافعية الموجود من جهة الشبهة الحكمية كالشك في أن المذي
هل جعله الشارع ناقضا مستقلا في عرض سائر النواقض أم لا، وكذا من جهة
الشبهة المفهومية كالشك في أن النوم مثلا هل يتحقق بالخفقة أو الخفقتين، أم لا؟
فليس إلا من جهة الشك في الحكم الكلي، فإن قلنا بجريانه فيجري فيهما،
وإلا فلا.
وأما الشك في رافعية الموجود من جهة الشبهة المصداقية كالشك في أن هذه
الرطوبة مثلا بول حتى تكون رافعة للطهارة، أو مذي حتى لا تكون رافعة لها،
فمرجعه إلى الشك في وجود الرافع، وقد تبين حكمه، فتأمل. هذا بالنسبة إلى
الموضوعات.
وأما بالنسبة إلى الأحكام فكالشك في أن هذا الدليل الخاص ناسخ، أو
مخصص، وقد تقدم البحث عنه في مباحث العام والخاص، فراجع.
وإذا عرفت أن جريان الاستصحاب في صورة الشك في رافعية الموجود من
جهة الشبهة الحكمية والمفهومية بالنسبة إلى المصاديق الجزئية الخارجية تابع
لجريانه في الحكم الكلي، إذ منشأ الشك فيها إنما هو الشك في الحكم الكلي، وإلا
لو كان الحكم الكلي معلوما بدليل اجتهادي أو أصل عملي لما كان شك بالنسبة
إلى الجزئيات المتحققه المصداقية، إذ بعد العلم بأن المذي جعله الشارع غير
ناقض للوضوء لاشك في بقاء هذا الوضوء الخاص الخارج بعده المذي، لأن
اليقين بالحكم الكلي يقين بالنسبة إلى جزئياته، كما أن الشك فيه شك في جزئياته
فلابد من بيان أن الاستصحاب هل يجري في الأحكام الكلية، أم لا؟
فنقول: لا إشكال في أن الحكم الكلي الذي جعله الشارع يحكم ببقائه ما لم
يتحقق ما جعله الشارع مزيلا له، فإذا قلنا بحجية الاستصحاب مطلقا سواءا كان
الشك فيه من جهة الشك في المقتضي، أو من جهة الشك في وجود الرافع، أو
رافعية الموجود فيجري الاستصحاب في الأحكام الكلية مطلقا عند الشك مطلقا،
وإن قلنا بحجيته في بعض الصور هذه فكذلك في الأحكام الكلية أيضا.
725

والحاصل: أن الأحكام الشرعية الكلية كغيرها من الأمور القابلة للبقاء
وعدمه، فيحكم ببقائها ما دام لم يعلم بتحقق المزيل الذي جعله الشارع مزيلا.
فتلخص: أن الشك في رافعية الموجود من جهة الشبهة الحكمية والمفهومية
وجريان الاستصحاب فيها وعدمه تابع لجريانه في الحكم الكلي وعدمه، فإن قلنا
بجريانه فيه فيجري فيهما، لأنهما من مصاديقه، وإن منعنا جريانه في الحكم الكلي
فلا يجري فيهما.
ثم إنه بناء على اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع وعدم
حجيته بالنسبة إلى الشك في المقتضي هل تختص بما إذا كان الشك في وجود
الرافع أو تعم الشك في رافعية الموجود؟
وقد تقدم أن الشك في الرافعية إنما يتحقق فيما إذا كان شيء متحقق الوجود
مردد العنوان كالرطوبة المشتبه بين البول والمذي مرجعه إلى قضيتين شكيتين،
وأما الشك في وجود الرافع فليس كذلك بل مرجعه إلى قضية شكية، وهو أن البول
- مثلا - هل وجد، أم لا؟ والخبر السابق محتمل أن يكون في مورد الشك في
رافعية الموجود بأن يكون السؤال عن الخفقة والخفقتين المتحقق وجودهما
المردد عنوانهما كالرطوبة المشتبهة ويحتمل أن يكون في مورد الشك في وجود
الرافع بأن يكون السؤال عن الخفقة والخفقتين من باب السؤال عن الشبهة
الحكمية وغير مرتبط بمورد الاستصحاب، وإنما المرتبط به هو قوله: " فإن حرك
في جنبه شيء... إلى آخره "، ويؤيد هذا الاحتمال جواب الامام (عليه السلام) حيث
أجاب بأنه " لا حتى يستيقن أنه قد نام " وإلا كان المناسب أن يقول: إنه نوم، أو
ليس بنوم، كما تقدم.
وعلى أي حال حيث قلنا: إن " لا تنقض " قضية كلية ارتكازية لا أنها حكم
تعبدي، فلابد من الرجوع إلى استقرار بناء العقلاء وطريقتهم، وأن بناءهم
وطريقتهم على عدم الاعتناء باحتمال المزيل إنما هو في مورد الشك في وجود
المزيل حتى تحمل الأخبار أو الأعم منه ومن الشك في مزيليته. ولا يبعد أن
726

يكون بناؤهم على عدم الاعتناء باحتمال المزيل مطلقا فإنهم كما لا يعتنون
باحتمال وجود المزيل بالنسبة إلى الوكالة السابقة أو الزوجية وغيرهما من الأمور
المتحققة، كذلك لا يعتنون بلفظ شك في مزيليته بالنسبة إلى الوكالة والنكاح:
" كانت خلية أو برية " من الألفاظ التي يشك في وقوع الطلاق بها.
ثم إنه لو عممنا الاستصحاب بالنسبة إلى الشك في المقتضي والرافع في
الأحكام الجزئية والموضوعات الخارجية فلا يمكن التعميم بالنسبة إلى الأحكام
الكلية، وذلك لأن الأحكام الكلية إنما ترد على العناوين الكلية، فما لم يتبدل
العنوان المتعلق للحكم لم يقع شك فيه، وبعد تبدل العنوان لو استصحبنا الحكم
وأجريناه فيه كان من باب القياس واسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر
بالغاء الخصوصية وأخذ الجهة الجامعة التي هي عبارة عن القدر المشترك بين
هذين العنوانين، مثلا إذا كان حكم الماء المتغير بالنجاسة هي النجاسة فبعد زوال
تغيره لو استصحبنا النجاسة كان اسراء الحكم من موضوع - وهو الماء المتغير إلى
موضوع آخر - وهو الماء الزائل التغير - بإلغاء الخصوصية وأخذ الجهة الجامعة
والقدر المشترك، وهو الماء. والحال أن هذين العنوانين متباينان، ولا جامع بينهما
إلا مفهوم الماء.
نعم لو كان الشك في ماء مخصوص كان متغيرا بالنجاسة سابقا وقد زال تغيره
فلا مانع من جريان الاستصحاب بالنسبة إلى حكمه السابق ولا يلزم منه اسراء
حكم من موضوع إلى موضوع آخر، لأن الموضوع في كلا الحالين شيء واحد
وهو الماء المخصوص، بخلاف الأحكام الكلية.
والحاصل: أن في الموضوعات الخارجية والأحكام الجزئية يمكن تعميم
الاستصحاب بالنسبة إلى الشك في المقتضي والرافع، لأن الوجود الواحد
الشخصي الذي قطع النظر عن حدوثه وبقائه وبه صارت القضية المشكوكة متحدة
مع القضية المتيقنة، وإلا فاليقين والشك لم يجتمعا في مورد حتى ينهى عن نقض
اليقين بالشك، لأن اليقين متعلق بالحدوث، والشك بالبقاء شيء واحد باق في
727

الحالين، وهو كاف في جريان الاستصحاب فيهما بخلاف الأحكام، فإنه ليس فيها
شيء واحد باق في الحالين، فلو أجري فيها الاستصحاب لزم القياس واسراء
الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، لما عرفت من أن الماء المتغير مع الماء
الزائل تغيره عنوانان متغايران ولا جامع بينهما إلا الماء الذي ليس هو موضوعا
للحكم بالنجاسة، بل الموضوع هو الماء المتغير، فلو أردنا استصحاب نجاسته
لكان إسراء الحكم من موضوع إلى غيره.
ومنها:
صحيحة أخرى لزرارة: قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء
من المني فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء، فحضرت الصلاة، ونسيت أن بثوبي
شيئا وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك، قال: تعيد الصلاة وتغسله.
قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه قد أصاب فطلبته ولم أقدر عليه،
فلما صليت وجدته، قال (عليه السلام): تغسله وتعيد.
قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر شيئا فصليت،
فرأيت فيه قال: تغلسه ولا تعيد الصلاة.
قلت: لم ذلك؟ قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت، فليس ينبغي
لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا.
قلت: فإني قد علمت أنه قد أصابه، ولم أدر أين هو، فأغسله؟ قال: تغسل من
ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك.
قلت: فهل علي إن شككت في أنه أصابه أن أنظر فيه؟
قال: لا ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك.
قلت: إن رأيت في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا
شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة
وغسلته، ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك، فليس ينبغي
لك أن تنقض اليقين بالشك (1).

(1) وسائل الشيعة: ب 37 من أبواب النجاسات ح 1 ج 2 ص 1053.
728

والفرق بين هذه الصحيحة والصحيحة السابقة هو أن الصحيحة السابقة كانت
في مورد استصحاب الطهارة الحدثية، وهذه الصحيحة في مورد استصحاب
الطهارة الخبثية، وفيها فقرات من السؤال:
أما الفقرة الأولى وهو قوله: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء
من المني - إلى قوله -: تعيد الصلاة وتغسله.
فإنما هو سؤال عن نسيان النجاسة في حال الصلاة وتذكرها بعدها
فأجاب (عليه السلام) بإعادة الصلاة وغسل الثوب، وهذا الحكم المستفاد من هذه الفقرة هو
المفتى به وإن خالف فيه بعض. ويدل عليه غير هذه الصحيحة من الأخبار الأخر
الواردة في باب نسيان الاستنجاء وغيره.
وأما الفقرة الثانية وهو قوله: قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه - إلى قوله (عليه السلام): -
تغسله وتعيد.
فهو السؤال عن صورة العلم بإصابة النجاسة وعدم معرفة موضعها والإتيان
بالصلاة ثم وجدان تلك النجاسة، فالحكم بإعادة الصلاة وغسل الثوب - حينئذ -
واضح، لوقوعها مع النجاسة التي علم بها سابقا.
فهذه الفقرة متحدة مع الفقرة الأولى في وقوع الصلاة مع النجاسة المعلومة
وفي الحكم بغسل الثوب وإعادة الصلاة، وإنما الإشكال في هذه الفقرة في أنه مع
العلم بالنجاسة ولو مع عدم معرفة موضعها وعدم القدرة عليها بعد الطلب كيف
دخل في الصلاة؟ فلابد إما من حملها على وقوع الصلاة غفلة، أو على ارتفاع
علمه بالنجاسة بعد الطلب، وعدم وجدانها، ثم وجدها بعد الصلاة.
وأما الفقرة الثالثة وهو قوله: قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه - إلى قول (عليه السلام) -:
فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا.
فهو سؤال عن صورة الظن بإصابة النجاسة وعدم التيقن بها ثم رؤيتها بعد
الصلاة وقد حكم الإمام (عليه السلام): بغسل الثوب وعدم إعادة الصلاة، فتلك النجاسة
المرئية بعد الصلاة يحتمل أن تكون غير النجاسة التي ظن إصابتها قبل الصلاة بأن
729

كانت نجاسة أخرى وقعت عليه حال الصلاة، أو بعدها مع عدم العلم بها قبل
الصلاة.
وعلى هذا، الإشكال في هذه الفقرة أصلا لا من حيث الدخول في الصلاة
ولا من حيث الحكم بغسل الثوب ولا من حيث الحكم بعدم إعادة الصلاة،
لوقوعها مع النجاسة المجهولة إن كان وقوعها في وسط الصلاة، وبلا نجاسة إن كان
وقوعها بعد الصلاة.
وعلى أي حال لا إشكال في صحة الصلاة ولا في تطبيق قوله (عليه السلام): " لأنك
كنت على يقين من طهارتك، ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك " والمراد من
اليقين هو اليقين بالطهارة التي كانت قبل ظن الإصابة، ولكن هذا الاحتمال خلاف
الظاهر من جهتين:
إحداهما: من جهة أن الظاهر من قوله: " فصليت فرأيت فيه " أن المرئي كانت
النجاسة المظنونة لا أنها نجاسة أخرى.
الثانية: من جهة استبعاد السائل وسؤال الفرق بين هذه الصورة والصورتين
السابقتين، وهذا الاستبعاد إنما هو فيما إذا كان وقوع الصلاة في هذه الصورة
مشاركا مع الصورتين في أنه كان مع النجاسة، فهذا الاحتمال لا وجه له، كما أن
احتمال أن تكون النجاسة المرئية عين النجاسة المظنونة بأن ظن بالنجاسة أولا،
ثم نظر ولم ير النجاسة، ثم قطع بعدمها، وصلى في حال القطع بعدم النجاسة ثم بعد
الصلاة قطع بوجودها لا وجه له أيضا، إذ على هذا ليس نقض يقين بالشك أصلا
لاقبل الصلاة ولا في حال الصلاة ولا بعدها، لأنه قبل الصلاة وحالها كان قاطعا
بعدمها، وبعد الصلاة صار قاطعا بوجودها، فليس نقض اليقين بالشك، بل نقض
يقين بيقين، فلابد أن يكون المراد من النجاسة المرئية بعد الصلاة النجاسة المظنونة
قبلها، وكان الدخول في الصلاة من جهة الغفلة وعدم الالتفات. وحينئذ يشكل
على الرواية بأن الإعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة ليست نقضا لليقين
بالطهارة بالشك فيها، بل باليقين بارتفاعها فكيف يصح تعليل الحكم بعدم الإعادة
730

بأنها نقض اليقين بالشك.
ودعوى أن اليقين بالطهارة السابق على الظن مقتضاه جواز الدخول في
الصلاة وعدم إعادتها، فلو حكم بإعادة الصلاة كان نقضا لليقين السابق بالشك.
مدفوعة، بأن اليقين والشك لو كانا باقيين لكان نقضا لليقين بالشك، وأما بعد
تبدل الشك في الطهارة باليقين بعدمها فليس نقض اليقين بالشك، بل نقض اليقين
باليقين، فبالنسبة إلى الإعادة لو قلنا بوجوبها لما كان نقض اليقين بالشك بعد
انكشاف الخلاف، كما أنه لو كان انقلاب الشيء عما وقع عليه ممكنا لقلنا - بعد
انكشاف الخلاف وعدم تحقق الطهارة واقعا -: إن عدم جواز الدخول في الصلاة
- حينئذ - ليس نقضا لليقين بالشك، بل باليقين. لكنه غير ممكن، إذ الشيء
لا ينقلب عما وقع عليه.
ويمكن دفع الإشكال عن الرواية بتقريبين: أحدهما أخص، والآخر أعم،
وأن كلا التقريبين مشتركين في أنهما خلاف الظاهر، وليست الإعادة نقضا لليقين
بالشك في شيء منهما.
أحدهما: أن الشرط في الصلاة بالنسبة إلى الطهارة الخبثية حين الالتفات
إليها هو إحرازها ولو بأصل أو قاعدة لا نفس الطهارة الواقعية فإذا كان الشرط هو
إحراز الطهارة ولو بالاستصحاب فكأنه قال: لا تعيد الصلاة لأنك كنت على يقين
من طهارتك، أي كنت محرزا للطهارة بالاستصحاب، فهذه صغرى كبراها مطوية،
أي كل من كان محرزا للطهارة وشك فيها ودخل في الصلاة مع هذا اليقين
فلا يحتاج إلى الإعادة، لأن الحكم بالإعادة بعد انكشاف الخلاف يكشف عن
جواز النقض وعدم حجية الاستصحاب حال الصلاة، والحال أنه ليس ينبغي لك
أن تنقض اليقين بالشك.
وهذا التقريب محصلة: أن الطهارة الخبثية إنما اعتبرت إحرازها في حال
الصلاة وعدم الإعادة مرتب على إحرازها، وهو متحقق بالاستصحاب وكونه على
يقين في الطهارة ثم وقوع الشك فيها، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك.
731

وهذا التقريب مخصوص بالطهارة الخبثية التي يكون احرازها شرطا عند
الالتفات لا وجودها الواقعي.
والثاني: أن يكون الحكم بعدم الإعادة من جهة كونه آتيا بالمأمور به بالأمر
الظاهري، لأنه كان في حال الصلاة - بمقتضى الأمر الظاهري الاستصحابي -
مكلفا بإتيان الصلاة بالطهارة المتيقنة سابقا المشكوكة لاحقا، لأنه كان على يقين
من الطهارة وشك فيها، وليس ينبغي نقض اليقين بالشك، والكبرى أيضا مطوية،
وهي أن كل من أتى بالمأمور به بالأمر الظاهري فلا يحتاج إلى الإعادة والإتيان
بالعمل ثانيا.
وهذا التقريب أعم من الأول، لأنه يجري بالنسبة إلى الطهارة الخبثية
والحدثية وسائر الشروط والأجزاء لو أتى بها المكلف على طبق الأمر الظاهري،
وعلى هذا التقريب تكون هذه الرواية دالة على إجزاء إتيان المأمور به الظاهري
عن المأمور به الواقعي.
وحاصل تقريب الأول: أن الشرط في صحة الصلاة لما كان إحراز الطهارة
الخبثية، وهو حاصل حال الصلاة بمقتضى الاستصحاب، وكونه على يقين من
الطهارة سابقا، وعلى شك منها لاحقا، وليس ينبغي نقض اليقين السابق بالشك
اللاحق، فلا يجب الإعادة، لأن الحكم بالإعادة بعد الصلاة وانكشاف الخلاف
لا يكون إلا بعدم حجية الاستصحاب، وجواز نقض اليقين بالشك في حال الصلاة،
والحال أنه ليس ينبغي ذلك، فالتعليل إنما هو بلحاظ حال الصلاة، لأنه كان في
تلك الحالة على يقين من الطهارة وشك في بقائها لا بلحاظ بعد الصلاة حتى يرد
أنه ليس نقضا لليقين بالشك، بل باليقين.
وفي الطهارة الخبثية لما كان إحرازها كافيا في صحة الصلاة ولا حاجة إلى
وجودها الواقعي، فكأنه قال: لا تجب الإعادة، لأن الشرط هو إحرازها، وهو
حاصل من جهة الاستصحاب، وكون المكلف متيقنا بها وشاكا في الخبث، وهذا هو
الصغرى لكبرى مطوية، وهو أن كل من كان كذلك لا ينبغي له نقض اليقين بالشك.
732

وحاصل تقريب الثاني: بعينه كالتقريب الأول، إلا أنه من جهة أن الأمر
الظاهري الناشئ من قبل " لا تنقض [اليقين] بالشك " يقتضي عدم الإعادة، وهذا
التقريب بمثل الطهارة الخبثية التي إحرازها كاف في حال الصلاة، بل يعم جميع
الأجزاء والشرائط فكل ما أتاه من الأجزاء والشرائط بمقتضى الأمر الظاهري، ثم
تبين خلافه كان مجزيا بناء على هذا التقريب، وعليه تكون الرواية من أدلة إجزاء
الأمر الظاهري عن الواقعي.
فبهذين التقريبين يمكن توجيه الرواية، وتعليل " لا تعيد الصلاة " بقوله:
" لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك
أبدا " ويحتمل أن يكون الحكم بعدم الإعادة مثل الحكم بعدم الإعادة فيما لو أتى
المكلف بالإتمام في موضع القصر أو بالجهر في موضع الإخفات، وبالعكس بأن
يكون الحكم فيما لو تيقن المكلف بالطهارة سابقا وشك فيها لاحقا وصلى في تلك
الحالة عدم الإعادة بلا مصلحة فيما أتى به، ولكن من جهة فوت محل تدارك
مصلحته المأمور به ما صار مكلفا بالإعادة كما في الموضعين، فتدبر.
وأما الفقرة الرابعة وهو قوله: قلت: فإني قد علمت أنه أصابه ولم أدر أين هو
فأغسله؟ قال (عليه السلام): تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها، حتى تكون
على يقين.
فهو سؤال عن صورة العلم بالنجاسة وعدم معرفة موضعها تفصيلا مع العلم بها
إجمالا، فأجابه (عليه السلام): بغسل تمام الناحية التي تعلم بوقوع النجاسة في موضع منها
حتى يحصل اليقين بالطهارة.
وأما الفقرة الخامسة وهو قوله: فهل علي إن شككت في أنه أصابه شيء أن
أنظر إليه... إلى آخره.
فهو سؤال عن صورة الشك في وقوع النجاسة، فأجابه (عليه السلام): بقوله: لا ولكنك
إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك يعني لو أردت الاحتياط فلا مانع
من الغسل، ولكن لا يجب غسله.
733

وأما الفقرة السادسة وهو قوله: قلت: إن رأيت في ثوبي وأنا في الصلاة، قال:
تنقض الصلاة وتعيد.
فهو سؤال عن صورة رؤية النجاسة في حال الصلاة، فأجابه (عليه السلام) بأنه تنقض
الصلاة وتعيدها إذا شككت في موضع منه ثم رأيته فمقتضى هذه الفقرة في الرواية
أنه إذا شككت في النجاسة قبل الصلاة وعلمت بها في أثناء الصلاة فلابد من نقض
الصلاة وإعادتها، ومقتضى الفقرة السالفة أنه إذا شك في النجاسة ثم علم بها بعد
الصلاة فلا يحتاج إلى الإعادة وحينئذ يشكل بأنه كيف يمكن الحكم بإعادة
الصلاة مع العلم بالنجاسة المشكوكة في أثناء الصلاة مع الحكم بعدم الإعادة مع
العلم بالنجاسة المشكوكة قبل الصلاة بعدها.
ولكن يمكن الجواب عنه بأنه لما كانت الإعادة في صورة العلم بالنجاسة في
أثناء الصلاة أمرا سهلا لا كلفة فيها، لاجتماع تمام الشرائط المعتبرة وارتفاع
الموانع، بخلاف الإعادة بعد الصلاة خصوصا بعد مضي زمان بحيث انتفت
الشرائط ووجدت الموانع، فإنها شاقة غالبا، فإيجابها في الصورة [الأولى]
لا ينافي في عدم إيجابها في الصورة الثانية، كما لا يخفى، وقوله: وإن لم تشك ثم
رأيته رطبا قطعت الصلاة، وغسلته، ثم بنيت على الصلاة لذلك لا تدري لعله شيء
أوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك، فالمراد صورة عدم الشك
في النجاسة في ابتداء الصلاة ثم رؤيتها في أثناء الصلاة رطبا، ونفس كونها رطبا
يوجب الظن بعروضها في أثناء الصلاة لاقبلها، فلهذا حكم (عليه السلام): بقطع الصلاة
وغسله، ثم البناء عليها، وقال: لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك، والمراد من
اليقين هو اليقين بالطهارة قبل الصلاة.
ومنها:
صحيحة ثالثة لزرارة: وإذا لم يدر في ثلاث هو أو أربع وقد أحرز الثلاث قام
فأضاف إليها أخرى، ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في
اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنه ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين
734

فيبني عليه،، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات (1).
لا يخفى أن الشك بين الثلاث والأربع عبارة عن اليقين بإتيان الثلاث والشك
في إتيان الرابعة وعدمه، فعلى هذا يكون قوله (عليه السلام): " وقد أحرز الثلاث " تأكيدا لما
سبق وتوطئة للحكم بوجوب إضافة ركعة أخرى إليها، إذ لو لم يضف إليها ركعة
أخرى لكان نقضا لليقين بعدم الاتيان بالرابعة بالشك فيه، وأدخل الشك في
اليقين، وخلط أحدهما بالآخر، كما أنه لو أضاف إليها ركعة أخرى لكان نقض
الشك في الإتيان وعدمه باليقين به والاتمام على اليقين والبناء عليه وعدم
الاعتداد بالشك في حال من الحالات، فتكون الفقرات الثلاث الأول من هذه
الرواية المشتملة على الفقرات الست أو السبع مترتبة ومتفرعة على العقد السلبي،
وبقية الفقرات على العقد الايجابي، فتأمل.
ثم إنه أشكل على التمسك بهذه الرواية على حجية الاستصحاب بأن
الاستدلال بها مبني على أن اليقين بعدم إتيان الركعة الرابعة لا ينقض بالشك في
إتيانها، كما هو ظاهر الرواية ومقتضاه لزوم الإتيان بركعة أخرى موصولة كما هو
مذهب العامة، والحال أن المذهب قد استقر على خلافه. فعلى هذا لابد أن يكون
المراد من اليقين هو اليقين بالفراغ بما علمه الإمام (عليه السلام) من الاحتياط بالبناء على
الأكثر والاتيان بالمشكوك بعد التسليم مفصولة.
والجواب عن هذا الإشكال بأن المراد من اليقين هو اليقين بعدم إتيان الركعة
المشكوكة، وتطبيق هذه الكبرى الكلية على هذه الصغرى صدر تقية، ولكن أصل
الكبرى صدر لبيان الحكم الواقعي.
مدفوع، بأنه إنما يتم هذا الجواب لو كان أصل الحكم في الكبرى ثابتا بدليل
آخر، ومفروغا عنه من الخارج وأما [لو] لم يكن كذلك فلا يتم.
ولكن يمكن الجواب عنه بوجه آخر وهو أن المراد باليقين هو اليقين بعدم

(1) وسائل الشيعة: ب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 3 ج 5 ص 321.
735

إتيان الركعة المشكوكة، والمراد من " لا تنقض اليقين بالشك " هو عدم نقض هذا
اليقين بالشك، ومقتضاه لزوم الإتيان بالركعة المشكوكة، وهو أعم من إتيانها
موصولة - كما تقول العامة - أو مفصولة - كما تقول الخاصة - فأصل الإتيان
بالركعة المشكوكة إنما هو باقتضاء اليقين بعدم الاتيان سابقا والشك فيه لاحقا،
كما هو مقتضى الاستصحاب، غاية الأمر أن إتيانها مفصولة ينافي إطلاق النقض،
ولكن لما قام الدليل على التقييد وأن الركعة الرابعة المشكوكة لابد من إتيانها
مفصولة فلا بأس به.
والحاصل: أن مقتضى إطلاق " لا تنقض " هو الاتيان بالركعة الرابعة
المشكوكة موصولة، ولكن قيد هذا الإطلاق بالدليل على إتيانها مفصولة، فتأمل.
فالعامة والخاصة متفقان على أن الركعة المشكوكة لابد من إتيانها، كما هو
مقتضى الاستصحاب، إلا أن العامة يقولون بلزوم إتيانها متصلة والخاصة يقولون
بلزوم إتيانها منفصلة لئلا تنقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين، ولا
يخلط أحدهما بالآخر، بل ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين ويبني عليه،
ولا يعتد بالشك في حال من الحالات، كما هو مفاد هذه الرواية.
وقد أشكل على هذه الرواية أيضا بأنه لو سلم دلالتها على حجية
الاستصحاب لكانت من الأخبار الخاصة الدالة عليه في خصوص المورد لا
العامة للمورد وغيرة، ضرورة ظهور الفقرات في كونها مبنية للفاعل، ومرجع
الضمير فيها هو المصلي الشاك، وإلغاء خصوصية المورد ليس بذلك الوضوح،
ولكن يمكن دفعه بأن تطبيق هذه القضية على غير المورد ربما يوجب الاطمئنان،
بل القطع بأن المناط في حرمة نقض اليقين بالشك هو ما في اليقين والشك من
الخصوصية لا ما هو في موردهما من الخصوصية، وأن مثل اليقين الذي له إبرام
واستحكام لا ينقض بالشك الذي ليس له إبرام أبدا.
ومنها:
قوله (عليه السلام) من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه، فإن الشك
736

لا ينقض اليقين (1)، أو بأن اليقين لا يرفع بالشك.
وهذه الرواية من جهة ظهورها في اختلاف زمان اليقين والشك، كما هو قضية
قوله: " من كان على يقين فأصابه شك " وإن كانت محتملة لقاعدة اليقين، لأن
اختلاف زمانهما إنما هو فيها لا في الاستصحاب، ضرورة إمكان اتحادهما فيه
بأن يحدث اليقين بالحدوث والشك في البقاء في زمان واحد، ولكن في القاعدة
لا يمكن ذلك، بل لابد من حصول اليقين بشيء أولا، ثم الشك فيه في الزمان
الثاني، كما إذا قطع بعدالة زيد يوم الجمعة ثم شك في عدالته يوم الجمعة في يوم
السبت، وبعبارة أخرى متعلق اليقين والشك في القاعدة شيء واحد، وهي عدالة
يوم الجمعة وزمانهما مختلف، وفي الاستصحاب زمان الشك واليقين ومتعلقهما
مختلف إذ متعلق اليقين هو الحدوث ومتعلق الشك هو البقاء، إلا أنه لما كان
المتداول هو التعبير بمثل هذه العبارة في مورد الاستصحاب، ولعله بملاحظة
اختلاف زمان الموصوفين وسرايته إلى الوصفين لما بين اليقين والمتيقن من نحو
من الاتحاد، فلا بأس بحملها على الاستصحاب، فتأمل.
هذا مع وضوح أن قوله: " لا ينقض اليقين بالشك " هي القضية المرتكزة
الواردة في مورد الاستصحاب في غير واحد من الأخبار، فتدبر.
ومنها:
خبر الصفار، عن علي بن محمد القاساني قال: كتبت إليه وأنا بالمدينة عن
اليوم الذي يشك أنه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: " اليقين لا يدخل فيه
الشك، صم للرؤية، وأفطر للرؤية (2) ".
حيث دل على أن اليقين بشعبان لا يكون مدخولا بالشك في بقائه وزواله
بدخول شهر رمضان، ويتفرع عليه عدم وجوب الصوم إلا باليقين بدخول شهر
رمضان، كما هو مقتضى قوله: " صم للرؤية، وأفطر للرؤية " وعدم وجوب الافطار

(1) وسائل الشيعة: ب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 6 ج 1 ص 175.
(2) وسائل الشيعة: ب 3 من أبواب احكام شهر رمضان ح 13 ج 7 ص 184.
737

إلا باليقين بدخول شوال، كما هو مقتضى " وأفطر للرؤية " فتكون الفقرة الأولى من
هذا الخبر لبيان حكم يوم الشك في أنه من شعبان أو رمضان، والفقرة الثانية لبيان
حكم يوم الشك في أنه من رمضان أو شوال، أو يوم الشك يطلق على كليهما، هذا
إذا كانت اللام بمعناها، وأما إذا كانت بمعنى " إلى " فيصير الأمر بالعكس، فتكون
الفقرة الأولى لبيان حكم يوم الشك في أنه من رمضان أو شوال، والفقرة الثانية
لبيان حكم يوم الشك في أنه من شعبان أو من رمضان.
وكيف كان فهذا الخبر يدل على حجية الاستصحاب بناء على أن لا يكون
المراد باليقين شهر رمضان، وأما لو كان المراد به شهر رمضان وأنه لا يكون كسائر
الشهور، بل لابد أن يكون دخوله وخروجه على القطع ليجب الصوم والافطار،
كما يظهر ذلك بمراجعة الأخبار الدالة على هذا المطلب، فلا يدل هذا الخبر
على حجيته.
ومنها:
قوله (عليه السلام): " كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر (1) ".
وقوله: " الماء كله طاهر حتى تعرف أنه نجس (2) ".
وقوله: " كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام (3) ".
وتقريب دلالة هذه الأخبار على حجية الاستصحاب - على ما في الكفاية -
هو أن يقال: إن الغاية فيها لبيان استمرار ما حكم على الموضوع واقعا من الطهارة
والحلية ظاهرا، ما لم يعلم بطرو ضده أو نقيضه، لا لتحديد الموضوع كي يكون
الحكم بهما قاعدة مضروبة لما شك في طهارته أو حليته، وذلك لظهور المغيى فيها

(1) مستدرك وسائل الشيعة: ب 30 من أبواب النجاسات ح 4 ج 2 ص 583.
(2) وسائل الشيعة: ب 1 من أبواب الماء المطلق ح 5 ج 1 ص 100، وفيه " الماء كله طاهر
حتى يعلم انه قذر ".
(3) وسائل الشيعة: ب 4 من أبواب ما يكتسب به ح 4 ج 12 ص 60، وفيه " كل شيء هو لك
حلال حتى تعلم انه حرام ".
738

في بيان الحكم للأشياء بعناوينها الأولية، لا بما أنها مشكوكة الحكم كما لا يخفى،
فهو بنفسه وإن لم يكن له مساس بذيل القاعدة والاستصحاب إلا أنه بغايته دل
على الاستصحاب، حيث إنها ظاهرة في استمرار ذلك الحكم الواقعي ظاهرا ما لم
يعلم بطرو ضده أو نقيضه. كما أنه لو صار مغيى بغاية مثل ملاقاة النجاسة أو
ما يوجب الحرمة، لدل على استمرار ذلك الحكم واقعا، ولم يكن حينئذ بنفسه ولا
بغايته دلالة على الاستصحاب (1). انتهى كلامه.
وحاصل ما أفاده (قدس سره) في الكفاية هو أن هذه الاخبار بنفسها تدل على أن حكم
الأشياء في حد نفسها وبعناوينها هي الطهارة والحلية وبغاياتها تدل على أن هذا
الحكم مستمر إلى زمان حصول العلم والمعرفة بالنجاسة والحرمة.
وحاصل ما أفاده في التعليقة هو أنها تدل بنفسها على أن حكم الأشياء
بعناوينها الأولية وبعنوان كونها مشكوكة الحكم هي الطهارة والحلية، وبغاياتها
تدل على استمرار هذا الحكم إلى زمان حصول العلم والمعرفة بالنجاسة والحرمة،
لأن الشيء بعنوان كونه مشكوك الحكم أيضا شيء فيشمله " كل شيء ".
والحق أن هذه الأخبار إنما تدل على القاعدة، وأن حكم مشكوك الطهارة
والحلية هي الطهارة والحلية إلى أن يحصل العلم بالنجاسة والحرمة، لا على حكم
الأشياء بعناوينها الأولية، وإلا لا معنى لجعله مغيى بالعلم ولا على الاستصحاب،
لأنه يعتبر فيه الثبوت السابق، فلا يمكن استصحاب طهارة الشيء أو حليته إلا بعد
إحرازهما سابقا، فلابد أن تقدر في مثل قوله: " كل شي طاهر أو حلال " كل شيء
طاهر طاهر حتى تعلم أنه قذر، وكل شيء حلال حلال حتى تعلم أنه حرام، حتى
يمكن الحمل على الاستصحاب، والأصل عدم التقدير.
فعلى هذا لا يستفاد من هذه الأخبار إلا طهارة الأشياء وحليتها بعنوان كونها
مشكوك الحكم كما هو معنى القاعدة ومقتضاها.
فتحصل: أن القدر المتيقن من بناء العقلاء في حجية الاستصحاب والأخذ

(1) كفاية الأصول: ص 452.
739

بالحالة السابقة هو ما إذا كان الشك في البقاء من جهة الرافع لا المقتضي، والأخبار
لا تدل على أزيد من ذلك، لما عرفت من أنها في مقام بيان ما ارتكز في الأذهان،
كما لا يخفى.
ثم إنه لما كان من جملة الأقوال في حجية الاستصحاب التفصيل بين
الأحكام التكليفية والوضعية، فلا بأس بصرف الكلام إلى بيان أن الأحكام
الوضعية هل هي مستقلة بالجعل، أو أنها منتزعة، أو بعضها مستقلة وبعضها منتزعة؟
لا يخفى أن المحمولات التي لها مساس بالشرع - كهذا واجب، أو حرام، أو
صحيح، أو فاسد لا المحمولات التي لامساس لها بالشرع، كهذا ماء أو تراب -
تنقسم إلى الأحكام التكليفية والوضعية عند من [يرى] الحكم الوضعي داخلا في
الحكم الشرعي، ولابد من تعريفه - على هذا - بما يعم الحكم التكليفي والوضعي،
مثل أن يقال: إن الحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين من حيث
الاقتضاء والتنجيز والصحة والفساد مثلا عند من يرى الحكم الشرعي منحصرا
بالحكم التكليفي لابد من تعريفه بما لا يعم الوضعي مثل أن يقال: إن الحكم
الشرعي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين من حيث الاقتضاء والتنجيز، كما
أن من جعل الإباحة خارجة عن التكليف، إذ لا كلفة فيها، وجعل الحكم الشرعي
منحصرا بما فيه كلفة كالأحكام الأربعة الباقية لابد من تعريفه بما لا يعم الإباحة
أيضا بأن يقال: إن الحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين من
حيث الاقتضاء، فالتعريف يختلف باختلاف أنظار المعرفين من حيث توسعة
الحكم الشرعي وتضييقه، فلا يمكن أن يجعل صدق التعريف دليلا على شمول
الحكم الشرعي للأحكام الوضعية أو الإباحة، لأن هذا التعريف - على نحو
يشملهما - إنما هو بمذاق من يراهما داخلين في الحكم.
ثم إن الحكم الوضعي هل هو منحصر بالخمسة أو أزيد، أو لا ينحصر بعدد
مخصوص بل ما عدا الأحكام الخمسة التكليفية مما له مساس بالشرع داخل في
الأحكام الوضعية؟
740

الحق هو الأخير.
إذا عرفت [هذا] فاعلم أن الأحكام الوضعية على أنحاء:
منها:
ما ليست بقابلة للجعل التشريعي لا استقلالا ولا تبعا كالسببية والشرطية
والمانعية والرافعية لما هو سبب التكليف أو شرطه أو مانعه أو رافعه، لأنها أمور
تكوينية فلا يمكن جعل ما ليس سببا أو شرطا تكوينا سببا أو شرطا له تشريعا
بالجعل الاستقلالي، ولا يمكن انتزاعهما عن التكليف المتأخر.
ولا يخفى أن المراد بشرط التكليف الذي لا يكون قابلا للجعل أصلا هو شرط
أصل التكليف الأعم من المطلق والمشروط، وأما شرط التكليف المشروط
كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج فهو أمر قابل للجعل التشريعي.
ومنها:
ما ليست بقابلة للجعل التشريعي إلا تبعا للتكليف كالجزئية والشرطية
والمانعية والقاطعية لما هو جزء المكلف به وشرطه ومانعه وقاطعه، إذ لو تعلق
التكليف بمركب مشتمل على أمور وجودية وعدمية ينتزع منه الجزئية بالنسبة إلى
الأمور التي [هي] داخلة في المكلف به تقييدا وقيدا، والشرطية بالنسبة إلى الأمور
التي [هي] داخلة فيه تقييدا لا قيدا، والمانعية بالنسبة إلى الأمور التي اعتبر عدمها
فيه، والقاطعية بالنسبة إلى الأمور التي يكون وجودها مفسدا من دون أن يكون
عدمها دخيلا، ولا يمكن سلب الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية عن هذه
الأمور، ولو لم يتعلق به كذلك لا يمكن إثبات الجزئية والشرطية والمانعية
والقاطعية.
ومنها:
ما يمكن فيه الجعل استقلالا بانشائه وتبعا للتكليف بانتزاعه منه كالحجية
والولاية والقضاوة والنجاسة والطهارة والزوجية والرقية والملكية وأمثالها، حيث
إنه يصح جعل شيء كالأمارات - مثلا - حجة مع قطع النظر عن الأمر بالعمل به
741

واتباعه والنهي عن مخالفته، وجعل شخص واليا وقاضيا مع قطع النظر عن أمره
بالعمل بأمور ونهيه عن أمور، ومع قطع النظر عن أمر الرعية باتباعه والنهي عن
مخالفته كما يصح انتزاعها من التكاليف التي في موردها وهكذا البقية.
ويمكن أن يقال: إنها من الأمور الواقعية التي كشف الشارع كما قيل في
النجاسة والطهارة (1) وفي مورد يرى الشرع شيئا طاهرا والعرف يراه قذرا، أو
بالعكس، أو يرى العرف شخصا ابنا لشخص آخر كالمتكون من مائه سفاحا
والشرع لا يراه ابنا يكون من باب التخطئة.
ثم إن هاهنا تنبيهات
الأول: أنه لا إشكال في أن اليقين والشك من الحالات الوجدانية المتوقفة
على الالتفات، فإن من التفت إلى شيء لابد إما أن يحصل له اليقين به أو الظن أو
الشك، ومن لم يلتفت لا تحصل له إحدى هذه الحالات فعلا، وإن حصلت على
تقدير الالتفات.
إذا عرفت هذا فاعلم أن اليقين والشك اللذين هما يعتبران في الاستصحاب
وركنان له بحيث لا يتحقق موضوعه بدونهما هل اليقين والشك الفعليين أو الأعم
منهما ومن اليقين والشك التقديريين؟
فإن قلنا بالأول فيلزم صحة صلاة من أحدث ثم غفل وصلى، ثم شك في أنه
تطهر قبل الصلاة أم لا، لقاعدة الفراغ، بخلاف من أحدث ثم شك من جهة طول
الزمان ونحوه، ثم غفل وصلى، فإنه يحكم بفساد صلاته فيما إذا قطع بعدم تطهيره
بعد الشك، لكونه محكوما بالحدث بحكم الاستصحاب، وأما إذا احتمل الطهارة
بعد الشك فانه كالأول يحكم بصحة صلاته، لقاعدة الفراغ، إذ الحدث
الاستصحابي ليس بأعظم من الحدث الواقعي، فكما أنه إذا كان محدثا واقعا
وغفل وصلى يحكم بصحة صلاته فيما إذا احتمل الطهارة كذلك إذا كان محدثا

(1) قاله في فرائد الأصول: ج 2 ص 603.
742

بالحدث الاستصحابي.
وإن قلنا بالثاني فيلزم بطلان الصلاة في الفرع الأول كالثاني، لكونه محكوما
بالحدث بحكم الاستصحاب في كلا الفرعين، وإن كان اليقين والشك المعتبرين
في تحقق موضوع الاستصحاب في الفرع الثاني فعليين وفي الأول تقديرين.
لا يقال: بناء على اعتبار اليقين والشك الفعليين، وإن لم يجر الاستصحاب في
الفرع الأول حين الصلاة، لكنه بعد الصلاة والالتفات وحصول الشك يجري
الاستصحاب فيما إذا كان أثر عملي فعلا، كما إذا كانت الصلاة التي أتى بها في
حال الغفلة مما شرع فيها القضاء كاليومية مثلا، فإنه يجب قضاؤها، لا ما لم يشرع
فيها القضاء كالجمعة والعيدين، فإنه لا يجب قضاؤهما، ولو أتى بهما مع الحدث
الواقعي فضلا عن الحدث الاستصحابي.
لأنا نقول: تحقق ركني الاستصحاب - وهما اليقين والشك الفعليين - بعد
الصلاة فيما إذا كان له أثر وإن كان كتحققهما قبل الصلاة في جريان الاستصحاب،
إلا أنه بينهما فرق من جهة أخرى، وذلك لأن بعد الصلاة تجري قاعدة الفراغ
المقتضية للصحة، ولو رفع اليد عن القاعدة بواسطة هذه الاستصحابات الجارية
بعد العمل لزم أن تكون قاعدة الفراغ بلا مورد أو قليلة المورد، بخلاف قبل الصلاة
فإنه يجري الاستصحاب بلا مانع.
الثاني: أنه لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا أحرز المستصحب
باليقين الوجداني ثم شك في بقائه، وأما إذا أحرز بأمارة شرعية كالبينة وخبر
الواحد فيما يثبت به، ثم شك فيه فهل يجري الاستصحاب أم لا؟
فيه إشكال من جهة عدم اليقين السابق، والحال أنه لابد منه، بل وعدم الشك
اللاحق، لأنه على تقدير لم يثبت، ولا اختصاص لهذا الاشكال بالقول بكون حجية
الأمارات من باب الطريقية المحضة من دون إنشاء حكم فعلي على طبق مؤدى
الأمارة، بل يعم كلا القولين.
أما على القول الأول فواضح من جهة عدم اليقين السابق بالنسبة إلى الحكم
743

الواقعي، بل وعدم الشك اللاحق في بقائه، لأنه فرع ثبوته في السابق، ولا حكم
غير الحكم الواقعي على هذا القول.
وأما على القول الثاني - وهو القول بجعل حكم ظاهري على طبق مؤدى
الأمارة - فكذلك أيضا فيما قامت الأمارة على الموضوعات الخارجية، إذ لم
يحدث بسبب قيام الأمارة موضوع فعلي ظاهري في قبال الموضوع الواقعي،
فليس إلا الموضوع الواقعي وهو مشكوك الحدوث، فلا يجري الاستصحاب. وأما
إذا قامت الأمارة على الأحكام الشرعية، فلأنه على هذا القول وإن يحدث حكم
فعلي ظاهري على طبق مؤدى الأمارة يقينا إلا أن اليقين بحدوثه بمقدار حكاية
الأمارة، وهي الحالة الأولى، ففي الحالة الثانية إن كانت الأمارة أيضا حاكية فلا
حاجة إلى الاستصحاب، بل يثبت الحكم فيها بالأمارة، وإلا فلا يجري
الاستصحاب أيضا، للقطع بارتفاعه من جهة القطع بعدم حكاية الأمارة.
ولا يمكن دفع الإشكال بأن دليل الاستصحاب يثبت الملازمة بين ثبوت
الشيء وبقائه، فإذا ثبتت الملازمة بين ثبوت الشيء وبقائه فتكون الحجة على
أحد المتلازمين حجة على الآخر، فيثبت الحكم الثابت بالأمارة في الحالة الأولى
في الحالة الثانية أيضا بواسطة إثبات الملازمة بينهما بدليل الاستصحاب، لأنه إن
أريد الملازمة الواقعية بين ثبوت الشيء وبقائه فمسلم أن الحجة على أحد
المتلازمين حجة على الآخر، ولكن المقام ليس كذلك، إذ ليست ملازمة واقعية
بين ثبوت الشيء في زمان وبقائه في زمان آخر، وإن أريد الملازمة الظاهرية وأن
ما ثبت واقعا فهو باق ظاهرا فهو وإن كان كذلك بملاحظة دليل الاستصحاب، إلا
أن إثبات الحكم في الحالة الثانية يحتاج إلى الأمارة والاستصحاب كليهما، ولا
يكفي الاستصحاب فقط، مع أنه يرد على التقديرين أن الحكم بالبقاء واقعا أو
ظاهرا إنما هو على تقدير الثبوت في السابق، والكلام في هذا التقدير وأن بقيام
الأمارة على الحكم لا يحصل اليقين به، والحال أن اليقين بالثبوت في الزمان
السابق معتبر في موضوع الاستصحاب ولو على وجه الطريقية لا الصفتية، ولذا
744

لا يجري الاستصحاب إلا مع اليقين السابق والشك اللاحق، ومجرد الوجوب
السابق مع عدم اليقين به لا يكفي في جريان الاستصحاب.
والجواب الحاسم للإشكال هو أن اليقين المعتبر في موضوع الاستصحاب هو
الأعم من اليقين الوجداني الذي لا يكون فيه احتمال الخلاف تكوينا واليقين
التعبدي الذي لا يكون احتمال الخلاف فيه منسدا تكوينا، ولكن العقلاء لا يعتنون
بهذا الاحتمال، وينزلونه منزلة العدم، وينظرون إليه النظر العدمي كما في تمام
موارد الطرق المعتبرة العقلائية التي أمضاها الشارع، فلا فرق بين أن يكون ثبوت
المستصحب في السابق باليقين الوجداني أو بالأمارة المعتبرة الشرعية، كما
لافرق في اليقين بالخلاف الذي به يرفع اليد عن الحالة السابقة بينهما أيضا.
الثالث: أنه لا إشكال في جواز استصحاب كل من الشخصي والكلي المتحقق
في ضمنه إذا كان المتيقن السابق شخصا، كما إذا علم بوجود زيد في الدار سابقا
وشك في بقائه لاحقا، ولا إشكال أيضا في عدم كفاية استصحاب الكلي في
ترتيب الآثار المترتبة على الشخص، وكفاية استصحاب الشخصي في ترتيب
الآثار المترتبة على الشخصي والكلي.
وإنما الإشكال في أن استصحاب الشخصي يغني عن استصحاب الكلي أم لا،
والثمرة تظهر في صورة الغفلة عن تيقن ثبوت الكلي سابقا والشك في بقائه لاحقا
هذا فيما إذا كان المتيقن السابق شخصا معينا، وأما إذا كان شخصا مرددا بين
مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع، أو مشكوك الارتفاع فلا يمكن استصحاب
الشخصي المعين، لعدم اليقين بحدوثه، ولا الشخصي المردد وترتيب آثار إحدى
الخصوصيتين، لأن هذا إنما يمكن في ما لا يكون قطع بارتفاع أحد الخصوصيتين
كما لو تردد الشبح المرئي سابقا بين البقر والغنم، وعلى كلا التقديرين يحتمل
بقاؤه وارتفاعه لا في مثل المقام مما إذا كان المردد هو الفرد الطويل يكون بقاؤه
متيقنا أو محتملا وإذا كان هو الفرد القصير يكون ارتفاعه متيقنا، وأما استصحاب
الكلي وترتيب آثاره فلا مانع منه لليقين بحدوثه والشك في بقائه وارتفاعه، ولا
745

فرق بين أن يكون الشك من جهة المقتضي كما إذا تردد الحيوان بين مالا يعيش
إلا سنة وبين ما يعيش مائة سنة، فإنه يجوز بعد السنة استصحاب الكلي، أو من
جهة الرافع كما إذا تردد الحدث بين الأكبر والأصغر فإنه يجوز بعد فعل احدى
الطهارتين استصحاب الكلي كما أفاده الشيخ (1) (قدس سره).
لا يقال: هذا التعميم لا يتم بناء على مختاره من تخصيص حجية الاستصحاب
بما إذا كان الشك من جهة الرافع كما إذا كان الحدث مرددا بين الأصغر والأكبر،
فإنه لما كان لكل منهما مقتضي البقاء فيجوز استصحاب الكلي، وهو القدر
المشترك بينهما بعد فعل احدى الطهارتين دون ما إذا كان الشك من جهة المقتضي
كالحيوان المردد بين ما لا يعيش إلا سنة وبين ما يعيش مائة سنة، فإنه لما لم يكن
لما يعيش سنة مقتضى البقاء بعد السنة لا يجوز استصحاب الكلي والقدر المشترك
بينهما بعدها.
فإنه يقال: هذا التعميم في كلامه في استصحاب الكلي، من حيث إنه كلي، وأنه
لافرق فيه بين كون الشك من جهة الرافع أو المقتضي، وهذا لا ينافي عدم حجية
الاستصحاب، فيما إذا كان الشك من جهة المقتضي، ولو فيما كان المستصحب
شخصا لا كليا.
وقد أشكل على استصحاب الكلي هنا تارة بأن الكلي إما أن يكون موجودا
بوجود هذا الفرد المتيقن بقاؤه على تقدير حدوثه أو الفرد المتيقن ارتفاعه، فكما
لا يجري الاستصحاب الخاصين من جهة عدم اليقين السابق الذي هو أحد ركني
الاستصحاب، بل ولا الشك اللاحق الذي هو الركن الآخر فكذلك لا يجري
الاستصحاب الكلي الذي وجوده عين وجود أحدهما، وأخرى بأن الشك في بقاء
الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد المتيقن بقاؤه على تقدير حدوثه فيجري
فيه أصالة عدم الحدوث، ومع جريان الأصل في طرف السبب لا يجري في طرف
المسبب، لزوال الشك منه.

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 638.
746

والجواب عن الأول هو أن الشك في بقاء الكلي لو كان مسببا عن الشك في
حدوث الفرد المتيقن بقاؤه على تقدير حدوثه لتم ما ذكر، ولم يكن مجال لجريان
الأصل بالنسبة إليه بعد جريان أصالة عدم الحدوث بالنسبة إلى ذلك الفرد، وزوال
الشك بالنسبة إلى بقاء الكلي وارتفاعه، ولكن الأمر ليس كذلك، لأن الشك في بقاء
الكلي وارتفاعه مسبب عن الشك في أن الفرد المتيقن حدوثه هذا أو ذاك، وأصالة
عدم الحدوث بالنسبة إلى كل واحد منهما معارضة بأصالة عدم حدوث الآخر
فيتساقطان، وتصل النوبة إلى الأصل الجاري في الكلي، ويجري بلا معارض بعد
تحقق أركانه من اليقين السابق والشك اللاحق كما لا يخفى.
وحاصل هذا الإشكال هو: أنه كما لا يمكن استصحاب أحد الخاصين من
جهة عدم تحقق ركني الاستصحاب - أعني اليقين السابق والشك اللاحق - فكذلك
الكلي الموجود بوجودهما.
وملخص الجواب: أن اختلال أركان الاستصحاب بالنسبة إليهما لا يلازم
اختلالها بالنسبة إليه لما نشاهد بالوجدان من القطع بوجود الكلي سابقا والشك في
بقائه لاحقا، والسر فيه أن الشك فيه ليس مسببا عن الشك في حدوث الفرد المتيقن
بقاؤه على تقدير حدوثه، بل عن كون الحادث المتيقن هذا أو ذاك، فاليقين السابق
بالنسبة إليه متحقق عرفا ووجدانا، وبالنسبة إلى الخاصين ليس كذلك، إذ كل واحد
منهما مشكوك الحدوث فلا يقين سابق بالنسبة إلى شيء منهما، بل ولا شك لاحق
لأنه على أحد التقديرين باق قطعا، وعلى تقدير آخر مرتفع قطعا، فتدبر.
وأما الجواب عن الإشكال الثاني فوجوده:
الأول: ما عرفت في جواب الإشكال الأول وهو أن الشك في بقاء الكلي
وعدمه ليس ناشئا عن الشك في حدوث الفرد المتيقن بقاءه على تقدير الحدوث،
بل ناشىء عن الشك في أن الحادث هذا أو ذاك.
الثاني: أنه على تقدير كونه من اللوازم ليس من اللوازم الشرعية التي تثبت
بالأصل، بل من اللوازم العقلية التي لا تثبت به.
747

الثالث: أن الشك في بقائه ليس مرتبا على حدوث ذاك الفرد وعدمه فقط
حتى ينفي الشك فيه بأصالة عدم الحدوث، بل مرتب عليه وعلى العلم بارتفاع
الآخر، إذ لو لم يعلم بارتفاعه أيضا لم يحصل العلم بالارتفاع لاحتمال بقائه
في ضمنه.
الرابع: أن حدوث الكلي وبقاءه هو عين حدوث الفرد وبقائه لامن لوازمه.
فتحصل: أنه لا إشكال في جواز استصحاب الكلي هنا، وترتيب الآثار
المترتبة عليه عقلية كانت أو شرعية فيما كان المستصحب من الأحكام كما هو
محل الكلام، وخصوص الشرعية فيما إذا كان غيرها، وأما استصحاب أحد الخاصين
بعينه فلا يجوز، لما عرفت. نعم يجب رعاية التكاليف المعلومة إجمالا المرتبة
على الخاصين فيما إذا علم تكليف في البين كما إذا علم بتعلق إلزام من المولى إما
بفعل هذا أو ترك ذاك، إذ العلم الإجمالي يؤثر على كلا التقديرين فيجب الاحتياط
بفعل الأول وترك الثاني، بخلاف ما إذا لم يعلم بتعلق إلزام مولوي كما إذا علم
بوجوب شيء أو استحبابه أو كراهة شيء وحرمته، فإن العلم الإجمالي لا يؤثر
على كلا التقديرين، فإن العلم الإجمالي بالنسبة إلى الاستحباب والكراهة لا أثر
له، وبالنسبة إلى الوجوب والحرمة يرجع إلى البراءة كما هو الحال في تمام
الموارد التي لا يكون كلا طرفي العلم الإجمالي ذا أثر، بل الأثر مترتب على
أحدهما وكذا يجب ترتيب آثار القدر المشترك فيما إذا كان المستصحب من
الموضوعات الخارجية، ورعاية العلم الإجمالي لو كان لكل من الخصوصيتين
أثر، فتدبر.
وأما استصحاب أحد الخاصين لا بعينه وإن أمكن أن يقال بجوازه بواسطة
تحقق أركانه فيه، إذ اليقين بتحقق احدى الخصوصيتين حاصل وجدانا، والشك
في بقائه أيضا كذلك بحسب النظر البدوي، إلا أن الحق خلافه، إذ المراد بأحد
الخاصين لا بعينه ليس مفهوم أحدهما الذي هو عبارة عن الكلي، بل المراد به
المصداق الخارجي - أعني الفرد المردد - وهو فيما نحن فيه إن كان هذا فباق قطعا
748

وان كان ذاك فمرتفع جزما فكيف يمكن استصحابه نعم يمكن استصحاب الفرد
المردد فيما إذا كان كل واحد من الخاصين على تقدير تحققه كان محتمل البقاء
كما ذكرنا سابقا، وأما إذا كان الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في قيام فرد
آخر مقام الفرد الذي قطع بتحقق الكلي في ضمنه، فالشك فيه تارة يكون من جهة
احتمال وجود فرد آخر مقارن معه في الوجود، وأخرى من جهة احتمال حدوث
فرد آخر مقارن لعدمه، وثالثة من جهة احتمال تبدله بفرد أشد أو أضعف، فهل
يجري الاستصحاب الكلي مطلقا، أو لا يجري مطلقا، أو يفصل بين القسم الأول
وغيره؟ فالشيخ (قدس سره) قوى الأخير (1)، وفي الكفاية اختار عدم جريان
الاستصحاب (2)، وهو الأظهر، وذلك لأنه لابد في الاستصحاب من اتحاد القضية
المتيقنة والمشكوكة، إذ لو لم يكن كذلك لم يمكن رفع اليد عن اليقين السابق
بواسطة الشك نقضا، ولم يصدق قوله: " لا تنقض اليقين بالشك " ومعلوم أن الحصة
الموجودة من الكلي في ضمن فرد الحصة الموجودة منه في ضمن فرد غير آخر،
سواء احتمل تقارنه معه في الوجود أو مقارنته مع عدمه، فالذي قطعنا بوجوده
- وهو الكلي الموجود في ضمن هذا الفرد - قد ارتفع يقينا، والذي نشك في بقائه
- وهو الكلي الموجود في ضمن فرد آخر - لم نقطع بحدوثه، فالذي قطع بحدوثه
قطع بارتفاعه أيضا، والذي شك في بقائه شك في حدوثه أيضا، فلم تتحد القضية
المتيقنة والمشكوكة. نعم لو كان التفاوت بين المتيقن حدوثه والمشكوك بقاؤه
بحسب الرتبة والشدة والضعف، مثل الوجوب والندب والحرمة والكراهة والسواد
الشديد والضعيف، بحيث يصدق الاتحاد عرفا، وإن لم يصدق عقلا لا مانع من
جريانه، ولكن الأمر في الوجوب والاستصحاب والحرمة والكراهة ليس كذلك،
للمباينة العرفية، فظهر أن استصحاب الكلي بالنسبة إلى الأحكام لا يجري في
شيء من هذه الاقسام الثلاثة من القسم الثالث، لتضادها وتباينها، وبالنسبة إلى
غيرها يجري في القسم الثالث منها مثل السواد الذي كان موجودا في ضمن

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 640.
(2) كفاية الأصول: ص 463.
749

الشديد وهو قد ارتفع يقينا، ونشك أنه ارتفع بالكلية أو بقيت مرتبة ضعيفة منه، فهنا
لا بأس باستصحاب الكلي.
الرابع: أنه لافرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون المستصحب من
الأمور القارة أو من الأمور الغير القارة كالزمان وما ينطبق على الزمان كالحركة
والتكلم وأمثالهما.
والإشكال على استصحاب الزمان بأنه يعتبر في الاستصحاب من زمان يقين
وزمان شك، فلو جرى الاستصحاب في الزمان يلزم أن يكون للزمان زمان، وهو
باطل مدفوع، بأن الاحتياج إلى الزمانين إنما هو من جهة توقف البقاء المعتبر في
تعريف الاستصحاب، ولا ريب إنما يحتاج في بقائه إلى الزمان، وهو غير الزمان،
وأما الزمان فلا يحتاج في بقائه إلى زمان آخر، وهذا الإشكال والدفع نظير
الإشكال والدفع في جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الوجود لو صار مشكوكا.
كما أن الإشكال بأنه يعتبر في الاستصحاب من اتحاد القضية المتيقنة
والمشكوكة، وفي استصحاب الزمان لا يمكن ذلك، لأن الجزء من الزمان الذي كنا
قاطعين بكونه من النهار قد تصرم وانعدم يقينا، وهذا الجزء الذي نشك في كونه
من النهار لم يكن موجودا في زمان اليقين قطعا.
مدفوع، أيضا بأن الزمان وإن كان كالمكان متصلا واحدا من مبدأ حدوثه إلى
منتهى انقطاعه موجود واحد سيال متصرم ينعدم منه جزء ويوجد جزء آخر، إلا
أنه بحسب اعتبار العرف يتقطع بقطعات كالمكان كالسنة والشهر والأسبوع
واليوم، فكل قطعة منه بنظر العرف موجود مغاير للقطعة الأخرى، فإذا تحققت
قطعة منه بتحقق أول جزء منه لا يرفع اليد عن الحكم ببقائها إلا بعد القطع بتحقق
الجزء الاول من القطعة الأخرى، وإلا لكان نقضا لليقين بالشك عرفا، كما هو
المناط في صدق " لا ينقض اليقين " مع أن التدرج في الوجود المانع من جريان
الاستصحاب في الحركة بمعنى القطع، وهو كون المتحرك في كل آن في مكان غير
المكان الأول لا في الحركة التوسطية وهو كونه بين المبدأ والمنتهى، فإنه بهذا
750

المعنى أمر قار مستمر، فظهر مما ذكرنا أنه لا إشكال في جريان الاستصحاب في
الزمان كاليوم والليل، وترتيب مالهما من الآثار فضلا عن الزمانيات المنطبقة على
الزمان إذا كان الشك فيها من جهة الشك في انتهاء حركته ووصوله إلى المنتهى،
وأما إذا كان من جهة الشك في كميته ومقداره كما في نبع الماء وجريانه وخروج
الدم وسيلانه فيما كان سبب الشك أنه هل بقي في المنبع والرحم شيء غير ما سال
وجرى منهما؟ فيشكل جريان الاستصحاب، لأن الشك ليس في جريان شخص
ما كان جاريا، بل في حدوث جريان آخر، فتدبر.
ويمكن أن يقال: لا يختل بذلك ما هو الملاك في جريانه عرفا، غايته أنه
يكون من باب استصحاب الكلي لو منع كونه من استصحاب الشخص، والأقسام
المذكورة في الاستصحاب من الشخصي والكلي بأقسامه الثلاثة جارية في
الأمور التدريجية، فتأمل. هذا بالنسبة إلى الزمان والزمانيات.
وأما الفعل المقيد بالزمان كالصوم المقيد بالنهار فإن كان الشك في بقائه من
جهة الشك في بقاء قيده فلا إشكال في استصحاب بقاء القيد وترتيب الحكم، وهو
وجوب الامساك، كما لا إشكال في استصحاب نفس المقيد وهو أن الامساك كان
قبل هذا الآن في النهار والآن كما كان لو لم يكن إشكال المثبتية كما قيل، وان كان
الشك في بقائه من جهة أخرى كما إذا شك في أن هذا الزمان دخيل في أصل
المطلوب حتى لا يكون طلب في غيره أو في مطلوب الأتم الأكمل حتى الطلب
باقيا في غيره، فهنا لا مجال لاستصحاب القيد، وأما استصحاب الحكم فلا مانع
منه إن أخذ الزمان ظرفا، وعدمه إن أخذ قيدا كما لا يخفى.
والاشكال بأن الزمان من قيود الموضوع وإن أخذ ظرفا فلا فرق بين
القسمين مندفع، بأن هذا بالنظر الدقيق العقلي لا بالنظر المسامحي العرفي، الذي
هو الملاك في هذا الباب.
والإشكال بأنه بالنظر العقلي إذا كان استصحاب العدم جاريا وبالنظر العرفي
استصحاب الوجود فيجري الاستصحابان لثبوت كلا النظرين ويتعارضان مدفوع،
751

أيضا بأنه إنما يتم ذلك لو كان في الدليل ما بمفهومه يعم كلا النظرين، والحال أنه
لا يمكن ذلك لتباينهما، فلابد أن يكون إما مسوقا بالنظر العقلي أو العرفي، والعبرة
في باب الاستصحاب هو النظر العرفي فيفرق بين كون الزمان قيدا وظرفا فيجري
استصحاب العدم في الأول واستصحاب الوجود في الثاني بلا معارض.
نعم لا يبعد أن يكون بحسبه أيضا متحدا فيما إذا كان الشك من جهة الشك في
أنه بنحو تعدد المطلوب، وأن حكمه بتلك المرتبة التي كان مع ذلك الوقت وإن لم
يكن باقيا بعده، إلا أنه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة فيستصحب فتأمل.
ثم إنه كما لا تعارض بين الاستصحابين فيما ذكر لا تعارض بينهما في باب
الطهارة الحدثية والخبثية، لأنها من الأمور التي لو حدثت لا ترتفع إلا برافع، سواء
قلنا بأنها من الأمور الخارجية أو من الأمور الاعتبارية، فبعد خروج المذي في
الأولى وغسلة واحدة في الثانية لو شك المرجع استصحاب الطهارة في الأولى
والنجاسة في الثانية. وعليه لا مجال لجريان استصحاب عدمهما أيضا بتوهم أن
سببية أسباب الطهارة إلى زمان خروج المذي وسببية ملاقاة النجاسة لها إلى ما قبل
غسلة واحدة معلومة وبعدها مشكوكة، فيرجع إلى استصحاب العدم فيتعارض
الاستصحابان، فتأمل.
الخامس: في أنه كما لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المتيقن
السابق حكما فعليا مطلقا كذلك لا إشكال في جريانه فيما إذا كان معلقا على
شرط كالعصير العنبي، فإنه محكوم بالحرمة على تقدير الغليان، فكما يجوز
استصحاب حليته المطلقة لو شك عند طرو بعض الحالات كصيرورة العنب زبيبا
- مثلا - كذلك يجوز استصحاب حرمته المعلقة على الغليان، فإذا شك في حلية
عصير الزبيب بعد الغليان وحرمته نستصحب الحرمة المعلقة، ونحكم بحرمته.
وقد أشكل عليه تارة بأنه يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون للمتيقن
ثبوت سابقا حتى يستصحب في زمان الشك، وهنا ليس كذلك، إذ لا وجود للحكم
المعلق قبل وجود المعلق عليه، وأخرى بأن استصحاب هذا الحكم التعليقي
752

معارض باستصحاب الحكم الفعلي، فإن العنب كما أنه محكوم بالحرمة - على
تقدير الغليان - كذلك محكوم بالحلية المطلقة فيجري الاستصحابان ويتعارضان.
وأجيب عن الأول بأن ثبوت كل شيء بحسبه فثبوت الحكم انما هو بتحققه
في وعاء الاعتبار، ولا ريب في أن الأحكام الشرعية والخطابات المولوية على
قسمين مطلقة ومعلقة، فكما أن القسم الأول ثابت في ذلك الوعاء ويجوز
استصحابه عند الشك كذلك الثاني.
وعن الثاني بأنه لا تنافي بين الحرمة المعلقة والحلية المطلقة، إذ كما أن الأولى
مشروطة بالغليان كذلك الثانية مغياة به، فكما أن في حال العنبية هذين الحكمين
ثابتان بالقطع، ولا تنافي بينهما، وبمجرد الغليان تزول الحلية المطلقة وتصير
الحرمة المعلقة فعلية كذلك إذا أتينا بالاستصحاب كما في حال الزبيبية بمجرد
حصول الغليان تزول الحلية وتعرض الحرمة من جهة اتحاد الشك في الحرمة
المعلقة مع الشك في الحلية المطلقة لا من جهة الحكومة، وأن استصحاب الحرمة
المعلقة حاكم على استصحاب الحلية المطلقة كما قيل.
وقد يشكل في المقام بأن الحرمة معلقة على العصير، والزبيب لا عصير له إلا
بالنقع في الماء، ولا يصدق عليه العصير وهذا لا يخلو عن وجه.
السادس: أنه لا فرق في المتيقن السابق بين أن يكون من أحكام هذه الشريعة
أو الشريعة السابقة إذا شك في بقائه وارتفاعه من جهة احتمال نسخه في هذه
الشريعة، لعموم أدلة الاستصحاب.
وتوهم اختلال أركانه في ما كان المتيقن من أحكام الشريعة السابقة إما لعدم
اليقين بثبوتها في حق أهل هذه الشريعة، وإن علم بثبوتها في حق غيرهم فلا شك
في بقائها أيضا، بل في ثبوت مثلها كما لا يخفى، وإما لليقين بارتفاعها بنسخ
الشريعة السابقة بهذه الشريعة فلا شك في بقائها حينئذ، ولو سلم اليقين بثبوتها
في حقهم.
مدفوع بأن الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية التي حكم فيها على
753

الأفراد الأعم من المحققة والمقدرة، فالحكم الثابت في الشريعة السابقة ليس
مختصا بالأشخاص الموجودة في زمانها حتى يختل أحد ركني الاستصحاب
وهو اليقين السابق، ومن جهة اختلاله يختل الركن الآخر وهو الشك اللاحق،
حيث إنه على هذا لا شك في البقاء أيضا، بل في ثبوت مثلها وأن نسخ هذه
الشريعة للشريعة السابقة لا يقتضي أن يكون تمام أحكامها منسوخة بهذه
الشريعة، بل عدم بقاء الشريعة السابقة بحالها، وأما ارتفاع تمام أحكامها فلا.
فعلى هذا لا مانع من الاستصحاب في ما لم يعلم بارتفاعه من الأحكام لا
تفضيلا ولا إجمالا بأن لا يكون نسخه معلوما لا بالعلم التفصيلي ولا بالعلم
الإجمالي، فتأمل.
والحاصل أنه يمكن اجراء الاستصحاب بالنسبة إلى أحكام الشريعة السابقة
بأحد وجهين:
أحدهما: أن تكون تلك الأحكام في مقام الجعل من قبيل القضايا الحقيقية
العامة لجميع المكلفين من وجد منهم ومن يوجد. فعلى هذا الشك في بقاء أحكام
الشريعة السابقة كالشك في بقاء أحكام هذه الشريعة بالنسبة إلى غير الموجودين
في زمان صدور الأحكام، فكما أن الاستصحاب يجري في حق هذه الأشخاص
والحال أنهم لم يكونوا موجودين في زمان صدور الأحكام كذلك يجري
استصحاب أحكام الشريعة السابقة بالنسبة إلى الموجودين في زمان الشريعة
اللاحقة وإن لم يكونوا موجودين في زمان صدور أحكام الشريعة السابقة، لما مر
من أن جعل الأحكام من قبيل القضايا الحقيقية، وهي غير مختصة بالموجودين
في ذلك الزمان حتى يكون الشك بالنسبة إلى غيرهم في مرحلة الثبوت لا البقاء،
وإذا كان جعل الأحكام على نحو يشمل الموجودين في ذلك الزمان وغيرهم، فلا
إشكال في أن الشك لا محالة يكون في البقاء، فيتحقق كلا ركني الاستصحاب، فلو
لم يكن الشك في أحكام الشريعة السابقة شكا في البقاء بهذا التقريب المذكور،
ولم يمكن جريان استصحابها بالنسبة إلى الموجودين في زمان الشريعة اللاحقة
754

لما أمكن استصحاب أحكام هذه الشريعة لمن لم يكن موجودا في زمان صدور
تلك الأحكام، ولما أمكن نسخها بالنسبة إليهم، لأن النسخ عبارة عن رفع الحكم
الثابت، فلو لم يكن ثابتا في حقهم لما أمكن نسخه عنهم.
الثاني أن يستصحب الحكم الثابت في الشريعة السابقة بالنسبة إلى من أدرك
الشريعتين، ويثبت بالنسبة إلى من لم يدرك الشريعة السابقة من جهة الاشتراك في
التكليف وأن أهل عصر واحد لا يمكن اختلافهم في الحكم.
فتحصل: أنه يمكن استصحاب أحكام الشريعة السابقة بهذين الوجهين، كما
يمكن استصحاب أحكام هذه الشريعة بالنسبة إلى المعدومين في زمان الخطاب
إما بأن نقول: إن جعل الأحكام من قبيل القضايا الحقيقية فلا تختص بالموجودين
في زمان الخطاب، بل يعم المعدومين في ظرف وجودهم - كما هو الحق - وإما
بأن نقول بجريان الاستصحاب بالنسبة إلى من كان موجودا في زمان الخطاب
وبقي إلى زمان المعدومين الذين صاروا موجودين في الزمان المتأخر، وإثباته
بالنسبة إلى غيره من الموجودين في الزمان المتأخر بأدلة الاشتراك في التكليف.
ولا يخفى أن إثبات الحكم لغير من أدرك الشريعتين، وكذا لغير الموجود في
زمان ثبوت الحكم في هذه الشريعة إنما هو بواسطة الاشتراك في التكليف،
ولا دخل للاستصحاب فيه إلا من جهة إثباته لمن أدرك الشريعتين ومن كان
موجودا في زمان ثبوت الحكم في هذه الشريعة واسرائه إلى غيرهما من جهة
الاشتراك وتسرية الحكم من موضوع إلى غيره بواسطة دليل لا ربط له بالاستصحاب
كإسراء الحكم من المشافهين - بناء على اختصاص الخطاب بهم - إلى غيرهم من
جهة قيام الإجماع على الاشتراك في التكليف، وكإسراء الحكم من أهل زمان
الحضور إلى أهل زمان الغيبة، مع أن في الأخير - مضافا إلى الاختلاف بحسب
الأشخاص المانع من الاستصحاب بعدم تيقن السابق - الاختلاف بحسب الأنواع
أيضا، فدليل الاشتراك أيضا لا يكون وافيا بإثبات الحكم الثابت لأهل زمان
الحضور على أهل زمان الغيبة لأن الاشتراك إنما هو في المكلفين المتحدين بالنوع.
755

والحاصل: أن الوجه الأول من تقريب جريان الاستصحاب لا إشكال فيه
بالنسبة إلى الشك في نسخ الشريعة السابقة بهذه الشريعة، ولا بالنسبة إلى الشك
في نسخ هذه الشريعة ويجري الاستصحاب بالتقريب الأول فيهما. وأما الوجه
الثاني من تقريب جريان الاستصحاب وهو استصحاب الحكم بالنسبة إلى مدرك
الشريعتين أو مدرك الزمانين في هذه الشريعة ثم إثباته لغيرهما من المكلفين من
جهة قيام الإجماع على الاشتراك في التكليف ففيه: إن أريد بقيام الإجماع على
الاشتراك في التكليف التكليف الظاهري - حتى يشمل التكليف الذي هو مؤدى
الاستصحاب - فالإجماع ممنوع، لأن المكلفين بحسب التكليف الظاهري
مختلفون حتى المكلفين المجتمعين في مجلس واحد فضلا عن غيرهم، وإن أريد
التكليف الواقعي فهو مسلم، إلا أن التعبد بالتكليف بمقتضى الاستصحاب بالنسبة
إلى مدرك الشريعتين ومدرك الزمانين لا يلزم منه التعبدية بالنسبة إلى غيرهما إلا
على القول بالأصل المثبت، وذلك لأنه لو كان بين ثبوت الحكم لأحد وثبوته لغيره
ملازمة - ولو شرعا - فباستصحاب الحكم في أحدهما لا يثبت إلا الآثار الشرعية
المترتبة عليه، وأما إثبات اللوازم العقلية والملازمات العقلية أو العادية أو الشرعية
المترتبة بواسطتهما فلا، لأن ترتيب هذه الآثار في مورد قيام الأمارة مع اشتهار أن
مثبتات الأمارات حجة لا يخلو عن مناقشة، بل إنما تكون المثبتات في الأمارة
معتبرة فيما إذا كان قيام الأمارة على الملزوم قياما على اللازم أو الملازم، وتكون
الأمارة عليهما معتبرة كما هي معتبرة بالنسبة إلى الملزوم، فإذا قامت بينة أو خبر
واحد على شيء يثبت له لازمه أو ملازمه اللذين يكون قيامهما عليه قياما عليهما،
ويكون قيام البينة أو خبر الواحد حجة فيهما، وإلا فلا، فضلا عن الأصول.
وثبوت الحكم في حق غيره ليس من الآثار الشرعية لثبوته له، بل من
ملازماته، فباستصحابه في حقهما وثبوته لهما بالاستصحاب لا يثبت في حق
غيرهما إلا على القول بالأصل المثبت.
والحاصل: أن بين ثبوت الحكم لهما وثبوته لغيرهما ملازمة، وباستصحاب
756

الحكم في أحد المتلازمين لا يثبت الحكم في الآخر إلا على القول بالأصل
المثبت، هذا بالنسبة إلى الطبقة الأولى، وهكذا في الطبقات المتأخرة، وبتعدد
الطبقات يتعدد المثبت، هذا على الوجه الثاني.
وأما على الوجه الأول فلا يرد إشكال إلا ما ذكر من أنه بعد نسخ الشريعة
السابقة لاشك في بقاء أحكامها وارتفاعها حتى تستصحب، وفيه أن معنى كون
هذه الشريعة ناسخة للشريعة [السابقة] أن أحكام الشريعة السابقة لم تبق بتمامها
لا أنها نسخت بتمامها، وحينئذ فيكون بالنسبة إلى غير ما نسخ أيضا من النبي
اللاحق إن قلنا بأن النبي هو الشارع والجاعل للشرع، أو أنه لابد أن يتلقى الحكم
منه حتى يصح الاستناد إلى شريعته، وإن قلنا بأن الشارع هو الله والأنبياء مبلغون
فلا حاجة إلى هذا.
وما ذكر من أنه بعد العلم الإجمالي بنسخ أحكام الشريعة السابقة لا موقع
لاستصحابها.
وفيه: أن استصحاب عدم النسخ إن كان له أثر بالنسبة إلى تمام أحكام هذه
الشريعة لكان العلم الإجمالي بنسخ بعضها مانعا عن جريان الاستصحاب فيها بناء
على عدم جريان الاستصحاب وغيره من الأصول العملية في أطراف العلم
الإجمالي، لأنه ليس نقضا لليقين بالشك، بل نقض يقين باليقين لو أجري في
جميع الأطراف، ولو أجري في بعضها دون بعض فهو ترجيح بلا مرجح وأما إذا لم
يكن له أثر إلا في خصوص ما كان حكمه في الشريعة السابقة معلوما وفي هذه
الشريعة غير معلوم، لأنه فيما كان حكمه في هذه الشريعة معلوما لا أثر
للاستصحاب بالنسبة إليه، لأن حكمه في الشريعة السابقة إما أن يكون موافقا
لحكمه في هذه الشريعة أو مخالفا على كل حال لا مورد للاستصحاب، ومثل هذا
المورد وهو ما كان حكمه في الشريعة السابقة معلوما وفي هذه الشريعة غير معلوم
قليل ليس من أطراف العلم الإجمالي، فتأمل.
وعلى تقدير كونه منها - كما لا يبعد - فلا مانع من جريان الاستصحاب
بالنسبة إليه كما في سائر الموارد التي يكون جريان الأصل بالنسبة إلى بعض
757

الأطراف بلا أثر، فيجري بالنسبة إلى البعض الآخر.
السابع: أنه لا إشكال في أن قضية أخبار الباب هو إنشاء حكم مماثل
للمستصحب في استصحاب الأحكام ولأحكامه في استصحاب الموضوعات،
كما لا شبهة في ترتيب ما للحكم المستصحب من الآثار العقلية والشرعية.
وإنما الإشكال في ترتب الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب بواسطة
غير شرعية، عقلية كانت أو عادية ومنشأوه هو أن مفاد الأخبار هل هو تنزيل
المستصحب والتعبد به وحده، بلحاظ خصوص ماله من الأثر عليه بلا واسطة، أو
تنزيله بلوازمه العقلية كما هو الحال في تنزيل مؤديات الطرق والأمارات، أو
بلحاظ مطلق ماله من الأثر ولو بالواسطة بناء على صحة التنزيل بلحاظ أثر
الواسطة أيضا، لأجل أن أثر الأثر أثر، وذلك لأن مفادها لو كان هو تنزيل الشيء
وحده بلحاظ أثر نفسه لم يرتب عليه ما كان مترتبا عليها لعدم إحرازها لا حقيقة
ولا تعبدا إذ لا يكون تنزيله إلا بلحاظ اثر نفسه بخلاف ما لو كان تنزيله بلوازمه، أو
بلحاظ ما يعم آثارها، فإنه يترتب باستصحابه ما كان بواسطتها؟
وهذا هو النزاع المعروف في حجية الأصل المثبت، ويمكن تقريبه بوجهين.
الأول: أن مقتضى الأخبار الدالة على عدم نقض اليقين بالشك بعد أن انتقاضه
به قهري هو ترتيب ما للمتيقن السابق من الأثر حال الشك أيضا. فإذا لا فرق بين
الآثار المترتبة على نفسه وبلا واسطة وبين الآثار المترتبة عليه بواسطة، لأن أثر
الأثر أثر.
ولكن فيه: أن الآثار المترتبة على المستصحب بواسطة اللوازم العقلية أو العادية
ليست آثارا للمتيقن السابق المستصحب، بل لأمر ملازم له، فبالنسبة إلى الآثار
المترتبة على المستصحب لو لم نرتبها لكان نقضا لليقين بالشك، فلابد من ترتيبها،
وأما بالنسبة إلى الآثار المترتبة على الواسطة لو كان كذلك لكانت مشمولة لأدلة
الاستصحاب بلا حاجة إلى تكلف اثبات أن أثر الأثر أثر. ولكن لما لم يكن عدم
ترتيبها نقضا لليقين بالشك، بل الترتيب نقض اليقين بالشك، فلا يمكن ترتيبها.
758

الثاني: أن التعبد بالملزوم مستلزم للتعبد باللازم فهاهنا تعبدان أحدهما
بالملزوم والآخر باللازم بخلاف الوجه الأول، فإنه تعبد واحد بالملزوم بترتيب
الآثار المترتبة عليه بلا واسطة أو معها.
وفيه: أنه لا ملازمة بين التعبد بالملزوم والتعبد بلازمه، وإن كان بينهما ملازمة
واقعا، إلا أنه لا ملازمة بين التعبدين، فيمكن أن يعبدنا الشارع بأحدهما دون
الآخر من جهة أنه لو لم نرتب الآثار على ما تعبدنا به - وهو الملزوم - يلزم نقض
اليقين بالشك، بخلاف ما لو نرتب الآثار على ما لم يتعبدنا به - هو اللازم - فإنه
لا يلزم نقض اليقين بالشك، بل على العكس.
والحاصل: أنه بالنسبة إلى اللازم لو كان يقين سابق وشك لاحق - كما كان
بالنسبة إلى الملزوم - لكان مشمولا لأدلة الاستصحاب بلا حاجة إلى اثبات
استلزام التعبد به التعبد بلازمه، وإلا فلا، إذ لا ملازمة بين التعبدين، مع أن عدم
التعبد ببقاء الأول - وهو الملزوم - نقض لليقين بالشك بخلاف الثاني، فإن التعبد
ببقائه نقض لليقين بالشك، وما استثنوه من عدم حجية الأصل المثبت من
الصورتين: إحداهما صورة خفاء الواسطة، والأخرى صورة جلاء الواسطة، فلعل
استثناء الصورة الأولى إنما هو على التقريب الأول - وهو أن أثر الأثر أثر - فكأن
الواسطة الخفية بنظر أهل العرف كعدم الواسطة والأثر المترتب عليها كأنه مترتب
على نفس المستصحب، والثانية على التقريب الثاني وهو أن التعبد بالملزوم تعبد
باللازم فكان بالملزوم فيما كانت الواسطة جلية تعبد باللازم، ولا انفكاك بينهما.
واعترض كاشف الغطاء على حجية الأصل المثبت - على ما نقل عنه - بما
حاصله: أن الاستصحاب لو اقتضى ثبوت اللازم الغير الشرعي لعارضته أصالة
عدم ذلك اللازم، فيتعارضان ويتساقطان، والحاصل: أن الحكم ببقاء اللازم من
جهة تبعيته لملزومه والحكم بعدمه من جهة نفسه، وكونه مسبوقا بالعدم يتعارضان.
وأجاب عن الشيخ (قدس سره) أنه بناء على جريان الأصل بالنسبة إلى الملزوم
لإثبات لازمه لا موقع لإجراء أصالة العدم بالنسبة إلى اللازم، لأنه حاكم عليه،
759

فكأن الشك في الثاني مسبب عن الأول، وبإجراء الأصل فيه لا يبقى شك في
الثاني حتى يجري فيه الاستصحاب، نظير الشك في طهارة الثوب ونجاسته بعد
غسله بالماء المشكوك الطهارة والنجاسة، مع كونه طاهرا سابقا فإن استصحاب
طهارته حاكم على استصحاب نجاسة الثوب ومع استصحاب طهارته لا يبقى شك
في طهارة الثوب ونجاسته حتى يستصحب نجاسته السابقة.
ولا يخفى أن دفع هذا الاعتراض بما ذكره (قدس سره) من الحكومة والسببية
والمسببية بين الاستصحابين إنما هو بناء على التقريب الثاني، وهو كون التعبد
بالملزوم مستلزما للتعبد باللازم حتى يكون أصلان أحدهما يكون حاكما على
الآخر وأما على التقريب الأول - وهو أن أثر الأثر أثر - فليس أصلان يكون
أحدهما حاكما على الآخر، بل أصل واحد وهو الأصل في طرف الملزوم.
والتحقيق: أنه إن قلنا بحجية الاستصحاب من باب الظن فالظن بالملزوم
مستلزم للظن بلازمه، فإذا كان الملزوم مظنونا من جهة غلبة بقاء ما كان فهذه الغلبة
التي صارت منشأ للظن به تصير منشأ للظن باللازم أيضا، فلا يمكن أن يحصل
الظن بالملزوم منها دون لازمه، كما أنه لا يمكن أن يحصل اليقين بالملزوم من
دون أن يحصل اليقين باللازم، لأن منشأ حصول الظن أو اليقين فيهما شيء واحد،
سواء كان هو الغلبة أو غيرها، وإن كان الظن أو اليقين بالملزوم غير الظن أو اليقين
بلازمه، إلا أنه لما كان العمل بهذا الظن - المستند إلى الغلبة من باب بناء العقلاء -
وحجيته يتوقف على إمضاء الشارع وعدم الردع عنه، فيمكن أن يمضي العمل
بالظن الناشئ من جهة الغلبة بالنسبة إلى الملزوم ويردع عنه بالنسبة إلى اللازم،
لإمكان التفكيك بينهما.
والحاصل: أنه لابد من ملاحظة ما دل على حجية الظن، فتارة يدل على
حجية مطلق الظن، وأخرى يدل على حجية ظن مخصوص فلابد من الاقتصار
على مؤدى الدليل، فكما أنه لو طلقت امرأة عند رجلين يشك في عدالتهما يحكم
بصحة الطلاق، ولكن لا يجوز للشاك في عدالتهما الاقتداء به، وكما لو شك في
760

الطهارة بعد الصلاة مع عدم كون الحالة السابقة هي الطهارة يحكم بصحة الصلاة
السابقة، ولكن لابد من تحصيل الطهارة بالنسبة إلى الصلاة المستقبلة كذلك يمكن
أن يمضي الشارع العمل بالظن بالنسبة إلى الملزوم ولا يمضيه بالنسبة إلى اللازم،
وإن كان منشؤهما أمرا واحدا، وإن كان من جهة التعبد والأخبار، فالتعبد باللازم
غير التعبد بالملزوم، فتنزيل الشك في بقاء الملزوم منزلة اليقين ببقائه مع كونه
متيقنا سابقا لا يستلزم تنزيل الشك في بقاء اللازم منزلة اليقين ببقائه، مع عدم كونه
متيقنا سابقا، إذ لو كان هو أيضا متيقنا سابقا يشمله دليل الاستصحاب، فالتعبد
ببقاء الملزوم من جهة أنه لو لم يتعبد به يلزم نقض اليقين بالشك لا يستلزم التعبد
يلازمه الذي لو تعبد ببقائه يلزم نقض اليقين بالشك في رفع اليد عن اليقين بالعدم
بالشك في الوجود.
والحاصل: أن التعبد بشيء بمنزلة اليقين به، فكما أن اليقين بحياة زيد غير
اليقين بنبات لحيته، وإن كان منشأ كليهما واحدا، وترتيب آثار الحياة إنما هو
من جهة اليقين بها، كما أن ترتيب آثار نبات لحيته أيضا من جهة اليقين به، ولذا
فرض وجود اليقين بحياة زيد بدون اليقين بنبات لحيته لرتبنا آثار الحياة، ولا
نرتب آثار نبات لحيته كذلك التعبد بالملزوم غير التعبد بلازمه، فكما أن في صورة
اليقين بملزوم له لوازم متعددة يقينات متعددة على حسب تعدد الملزوم مع
لوازمه، وترتيب آثار كل من الملزوم واللوازم إنما هو من جهة اليقين به كذلك في
صورة الشك في الملزوم ولوازمه شكوك متعددة على حسب تعدد الملزوم
ولوازمه، فترتيب الآثار على كل واحد منها وتنزيله منزلة اليقين لابد أن يكون من
جهة التعبد الثابت بالنسبة إلى كل واحد منها أي لا يكفي التعبد ببقاء الملزوم
وتنزيل شكه منزلة اليقين بالبقاء في تنزيل الشك في اللازم منزلة اليقين بالبقاء مع
عدم شمول الدليل له، لعدم كونه متيقنا سابقا وشموله للشك في الملزوم، لكونه
كذلك، فتأمل.
واما ما اشتهر من أن الأمارات حيث إنها تحكي عن الواقع فمثبتاتها تكون
761

حجة، وليست مثل الأصول التعبدية في الاقتصار على ترتيب الأثر على مورد
التعبد والتنزيل.
فيمكن المناقشة فيه كما أشرنا سابقا بأن الأمارات لما كانت حاكية عن الواقع
بالتعبد والتنزيل، وإن ما أخبر به العادل - مثلا - يحكم بأنه الواقع، فلابد من ترتيب
الآثار المترتبة على المحكي والاقتصار عليها، وهو: نفس ما أخبر به العادل.
وأما ترتيب الآثار على لوازمه، وملزوماته، وملازماته مما لا تكون الامارة
حاكية عنها فلا دليل عليه. وكون هذه الأمور غير منفكة عن المحكي واقعا،
لا يوجب عدم الانفكاك تعبدا؛ لأن بالتعبد بوجود المحكي وتنزيله منزلة الواقع، لا
يثبت وجوده الواقعي، حتى يترتب آثارها أيضا، فحال قيام الأمارة على شيء،
لا يزيد عن حال تعلق القطع به، فكما أن في صورة تعلق القطع به لا يترتب آثار
لوازمه، وملزوماته وملازماته، ما لم يتعلق القطع بها، كما لو فرض بحصول القطع
بالملزوم من دون حصوله بها، ففي صورة قيام الأمارة على شيء لا يترتب عليه
الا آثار المحكي، الذي هو مورد التعبد، والتنزيل، ما لم يقم دليل آخر من الخارج
غير هذا التعبد بالتعبد بتمام اللوازم، والملزومات، والملازمات، فإنه إذا قام دليل
على أن: ما أخبرك به العادل، أو قامت به البينة، لا يثبت وجود الواقعي للمحكي،
حتى يترتب تمام الآثار، بل الوجود التنزيلي التعبدي، فلابد من الاقتصار على
ترتيب آثار ما يكون موردا للخبر، والنبأ، وقيام البينة، ولا يجوز التجاوز بمجرد
هذا التنزيل على التعبد بها أيضا.
نعم لو اعتبرت الأمارة من باب الظن، فمن الظن بالمحكي، والملزوم، يحصل
الظن باللازم، وترتيب آثار اللازم أيضا لامن جهة الظن بالملزوم، بل من جهة
الظن بنفس اللازم، وان كان منشأ الظنين أمرا واحدا، كما في صورة القطع
بالملزوم يترتب آثار اللازم لا للقطع بالملزوم، بل للقطع بنفس الملازم كما في
حصول الظن بالقبلة من جهة الظن بالوقت فهنا نترتب آثار الوقت والقبلة لكون
كل منهما مظنونا وان كان منشأ الظن بأحدهما هو الظن بالآخر أو شيئا آخر.
762

الثامن: أنه لا تفاوت في الأثر المترتب على المستصحب بين أن يكون مترتبا
عليه بلا واسطة شيء أو بواسطة عنوان كلي ينطبق عليه، ويحمل عليه بالحمل
الشائع، ويتحد معه وجودا كان منتزعا عن مرتبة ذاته، أو بملاحظة بعض عوارضه
مما هو خارج المحمول لا المحمول بالضميمة، فان الأثر في الصورتين إنما يكون
له حقيقة، حيث إنه لا يكون بإزاء ذلك الكلي في الخارج سواه لا لغيره، مما كان
مباينا معه أو من أعراضه مما كانت محمولة عليه بالضميمة كسواده، أو بياضه -
مثلا - وذلك لأن الطبيعي إنما يوجد بعين وجود فرده، كما أن العرضي كالملكية
والغصبية لا وجود لهما إلا بوجود منشأ انتزاعهما، فالفرد أو منشأ الانتزاع في
الخارج هو عين ما رتب عليه الأثر لا شيء آخر، فاستصحابه لترتيبه لا يكون
بمثبت كما توهم انتهى (1) كلامه.
وحاصل كلام المتوهم (2): هو أنه في استصحاب الموضوعات الخارجية
التي لا تكون الآثار مترتبة على الكلي المنطبق عليها، كاستصحاب خمرية
المائع المخصوص، أو المنتزع عنها؛ كاستصحاب ملكية هذا الشيء المخصوص،
أو غصبيته يكون الاستصحاب مثبتا، وذلك: لأن وجود الكلي من اللوازم
العقلية لوجود الفرد، والفرض أن الأثر إنما هو للكلي فاستصحاب الفرد، وترتيب
الأثر المترتب على لازمه العقلي، وهو: وجود الكلي لا يمكن الا على القول
بالأصل المثبت.
ويمكن الجواب عنه بوجهين:
الأول: أن الكلي لما كان في الخارج موجودا بعين وجود أشخاصه، وبتحقق
كل شخص يتحقق حصة من الكلي، فاستصحاب الشخص عين استصحاب الكلي،
والحصة الموجودة منه بعين وجوده، وليس أمرا مغايرا للشخص. حتى يكون
استصحاب الشخص، وترتيب الآثار المترتبة على الكلي من باب أصل المثبت.

(1) الظاهر صاحب كفاية الأصول: في الاستصحاب ص 474.
(2) فرائد الأصول: في الاستصحاب ج 2 ص 661.
763

الثاني: إن جعل الحكم الكلي للعنوان الكلي لما كان مستتبعا لجعل أحكام
جزئية للأشخاص الخارجية فيمكن استصحاب الموضوع الجزئي الخارجي،
بلحاظ ماله من الأثر وهو: الحكم الجزئي الثابت له في حال تيقنه المستتبع لجعل
الحكم الكلي للكلي.
وأما الأحكام الوضعية فما كان منها قابلا أن تناله يد الجعل استقلالا فلا
اشكال في امكان استصحابه، كما لا إشكال في عدم إمكان استصحاب ما ليس
بقابل لأن تناله يد الجعل أصلا، لا استقلالا، ولا تبعا إلا إذا كان له أثر شرعي لأنه
يكون من قبيل الموضوعات التكوينية الخارجية التي يجري الاستصحاب فيها إذا
كان لها أثر شرعي.
وأما الأحكام الوضعية التي لا تنالها يد الجعل استقلالا، ولكن تنالها تبعا
كشرطية شيء، أو جزئيته، أو مانعيته، بالنسبة إلى المأمور به، فهل يجري
استصحاب وجود الشرط، أو المانع، لترتيب الشرطية، أو المانعية؟ قيل لا يجري
لأن الشرطية والمانعية ليستا من الآثار الشرعية، فاستصحاب وجود الشرط،
والمانع لترتبهما يكون مثبتا، ولكن الحق جريانه، لأنهما وإن لم تكونا من الأمور
القابلة للجعل استقلالا، لكنهما قابلتان له تبعا، لجعل منشأ انتزاعهما، وهذا المقدار
يكفي في كونهما من الأمور الشرعية القابلة للوضع، والرفع، ولا يلزم أن يكون
المستصحب أو المترتب عليه الأثر من الأمور التي يتعلق بها الجعل بها استقلالا،
حتى يمنع عن جريانه فيهما. فتأمل.
وحاصل الكلام أن الشك تارة يكون في الجزئية والشرطية، وأخرى يكون
في وجود الجزء والشرط، فإن كان الشك في الجزئية والشرطية، فلا شبهة في أن
الجزئية والشرطية منتزعتان عن الامر بمركب ذي اجزاء في انتزاع الجزئية، أو
الأمر بمقيد بشيء على نحو دخول التقيد وخروج القيد في انتزاع الجزئية، فالشك
في جزئية جزء كان سابقا جزءا، أو شرطية ما كان سابقا شرطا، مرجعه إلى بقاء
الأمر التكليفي الأولي بحاله، وعدم بقائه، وتمامية أركان الاستصحاب في الجزئية
764

والشرطية لازم تمامية أركان الاستصحاب في الأمر الأولي، واستصحاب الأمر
الأولي مغني عن استصحاب الجزئية والشرطية، وفي صورة عدم تمامية أركان
الاستصحاب بالنسبة إلى الأمر الأولي، إما من جهة عدم جريان الاستصحاب في
الأحكام الكلية على القول به، أو من جهة كونه شكا في المقتضي أو غيرهما، ففي
الشك في الجزئية أيضا لا يجري الاستصحاب، لعدم تمامية أركانه، وكونها منتزعة
عن الأمر الأولي، فلا يمكن التعبد بالأمر الانتزاعي دون منشأ انتزاعه فتأمل.
وان كان الشك في وجود الجزء أو الشرط، فالشك في وجودهما شك في
الموضوع الخارجي، والاستصحاب الجاري في الموضوعات، سواءا كان
وجوديا أو عدميا، ليس كالاستصحاب الجاري في الاحكام، وذلك: لأن
الاستصحاب الجاري في الأحكام لا يلزم أن يكون له اثر عملي آخر، بل نفس
الحكم اثر عملي، حيث إن المكلف ملزم بإتيانه، والعمل على طبقه، فاستصحابه
يوجب التضيق على المكلف إن كان وجوديا، والتوسعة إن كان عدميا، بخلاف
الاستصحاب الجاري في الموضوعات، فإنه لابد أن يكون له أثر عملي، وإلا فلا
معنى لاستصحاب وجود شيء يكون وجوده وعدمه سيان، ولا يترتب عليه أثر
عملي، كما لا معنى لاستصحاب عدم شيء لا يترتب على عدمه أثر عملي، والأثر
العملي الذي لابد منه في استصحاب وجود الجزء أو الشرط انطباق المأتي به مع
المأمور به، كما أنه الأثر في استصحاب وجود أصل الواجب أو المشروط، كما أن
الأثر العملي في استصحاب عدم الجزء أو الشرط عدم انطباق المأتي به مع
المأمور به، كما أنه الأثر في استصحاب عدم أصل الواجب أو المشروط، وتطبيق
المأتي به على المأمور به وان كان أمرا عقليا إلا أنه يمكن للشارع أن يتصرف في
كيفية التطبيق ويحكم بأن إتيان العمل بهذه الكيفية تطبيق على المأمور به، أو ليس
بتطبيق عليه، فيوجب التوسعة على المكلف بخروجه، عن عهدة التكليف أو
التضيق ببقاء التكليف في عهدته.
والحاصل: أن استصحاب وجود الجزء أو الشرط من جزئيات استصحاب
765

الموضوعات الخارجية، والأثر العملي الذي لابد منه في الاستصحاب إنما هو في
مرحلة الامتثال، وتطبيق المأتي به على المأمور به بالتعبد الشرعي، إذ له أن يتصرف
في تلك المرحلة، ويعبد المكلف في كيفية التطبيق، فإن لزوم الامتثال بإتيان
المأمور به وإن كان عقليا ليس قابلا للحكم المولوي، إلا أن كيفية الامتثال والتطبيق
كما أن تتحقق بالوجدان، كذلك يمكن أن تتحقق بالتعبد كما في جميع الأصول
الجارية في وادي الفراغ كقاعدة الفراغ، والتجاوز، وأمثالهما، بخلاف الاستصحاب
الجاري في الأحكام، فإن اثره ثبوت التكليف، وكون المكلف ملزما باتيانه.
فتحصل أن استصحاب الأحكام وجودا أو عدما أثره ثبوت التكليف أو نفيه
في مرحلة ثبوت التكليف، واستصحاب الموضوعات وجودا أو عدما اثره تطبيق
المأتي به على المأمور به، أو عدم تطبيقه في مرحلة سقوط التكليف وهذا القدر
من الأثر العملي كاف في جريان الاستصحاب، إذ يكفي في ترتب الأثر على
وجود المستصحب أن لا يكون وجوده وعدمه سيان، وكذا في استصحاب العدم،
والأمر في استصحاب وجود الجزء أو الشرط كذلك، فإنه لو لم يجر استصحاب
وجودهما لم يكن المأتي به منطبقا على المأمور به، وباستصحابهما يحصل
الانطباق وخروج المكلف عن عهدة التكليف، كما أنه لو لم يجر استصحاب
عدمهما لكان المأتي به منطبقا على المأمور به، وباستصحاب عدمهما يحصل عدم
الانطباق، ولزوم خروج المكلف عن عهدة التكليف بإتيان ما يكون منطبقا على
المأمور به إما وجدانا أو تعبدا، ومرحلة سقوط التكليف كمرحلة ثبوته أمر يمكن
أن يعبدنا الشارع في تلك المرحلة، كما يمكن أن يعبدنا في مرحلة الثبوت.
إذا عرفت هذا: ظهر أن استصحاب وجود الجزء أو الشرط لا اشكال فيه،
وإنما الإشكال في استصحاب الجزئية أو الشرطية، وحاصل: أن استصحاب
وجود الشرط أو الجزء أو المانع لا مانع منه، بعد تحقق أركانه، وكان مثل سائر
الموضوعات الأخر التي... وأثره العملي تطبيق المأتي به على المأمور به في
استصحاب وجود الجزء أو الشرط، وعدم تطبيق الماتي به في استصحاب وجود
766

المانع، وفي الاستصحاب العدمي على العكس.
وهذا المقدار من الأثر يكفي في صحة التعبد كما يكفي في استصحاب وجود
أصل الواجب أو عدمه، لأنه يكفي في صحة التعبد بشيء أن لا يكون وجوده
وعدمه سيان، فلو كان كذلك - أي كان وجوده وعدمه سيان - لا يجري
الاستصحاب حتى في الأحكام أيضا، فلو كان حكم سابقا ونشك في بقائه فعلا
فلو لم يكن لوجوده فعلا أثر عملي فلا معنى لاستصحابه، لأن وجوده وعدمه
سيان، وما ذكرنا سابقا: من أن في استصحاب الأحكام لا حاجة إلى أثر عملي
آخر، إنما هو في مورد كان الحكم المستصحب ملزما به على المكلف ويكون
نفس كونه ملزما به أثرا عمليا فلا حاجة إلى أثر آخر، فلو لم يكن ملزما به على
تقدير بقائه، ولم يكن له أثر آخر فلا معنى لاستصحابه، وكما أن للشارع جعل
الحكم كذلك يمكن له الحكم والتعبد في مقام التطبيق، بأن يحكم: بأن هذا الفعل
المأتي به مطابق للمأمور به أو ليس بمطابق، وبعبارة أخرى كما أن للشارع
التصرف في مقام جعل الحكم وثبوت التكليف، كذلك له التصرف في مقام سقوط
التكليف، بأن يحكم: بأن هذا الفعل مسقط للتكليف، أو ليس بمسقط، واستصحاب
وجود الجزء أو الشرط والتعبد ببقائهما من هذا القبيل، كما أن قاعدة الفراغ
والتجاوز وأمثالهما من هذا القبيل أيضا.
والإشكال: بأن مطابقة المأتي به مع المأمور به أمر عقلي، وليس للشارع
التصرف فيه.
مدفوع أولا: بأنه لابد في جريان الأصول من أثر عملي، بحيث لا يكون
جريانها وعدمه ووجود المستصحب وعدمه سيان، وهذا القدر من الأثر يكفي
وان كان عقليا، والأثر هنا حاصل من جهة أن استصحاب وجود الجزء أو الشرط
أو عدمهما، الذي لازمه التطبيق وعدم التطبيق الموجبين للتوسعة والتضيق،
والخروج عن عهدة التكليف وعدم الخروج عن عهدته. وثانيا: أن التطبيق وعدم
التطبيق ليسا أمرا عقليا غير قابل للتصرف الشرعي، بل هما من كيفيات الامتثال
767

الذي هو من الأمور العقلية، فأصل وجوب الامتثال ليس قابلا للتصرف الشرعي،
وأما كيفياته بأن يحكم: بأن هذا النحو من العمل امتثال أو ليس بامتثال للأمر
فقابلة للتصرف الشرعي.
والحاصل: إنه لابد في الاستصحاب وسائر الأصول من أثر عملي سواءا كان
في مرحلة الثبوت أو في مرحلة السقوط، ولم يكن ذلك الأثر حاصلا بنفس
الشك، فلو كان كذلك فلا حاجة إلى الاستصحاب أيضا، ولذا ذكره الشيخ (قدس سره) في
مسألة استصحاب البراءة أو الاشتغال الجاريين في مورد قاعدتيهما: أن
الاستصحاب لا يجري وإن تم أركانه للغويته، لأن المقصود من جريان
الاستصحاب نفي التكليف أو اثباته، وهما حاصلان بنفس الشك في اشتغال الذمة
بالتكليف وعدمه وبنفس الشك في براءة الذمة عن التكليف وعدمها، فلا حاجة
إلى استصحاب البراءة في مورد قاعدة البراءة، واستصحاب الاشتغال في مورد
قاعدته، وكذلك في مسألة الشك في الحجية وعدمها لا حاجة إلى استصحاب عدم
الحجية، لأن الشك في الحجية كاف في الحكم بعدم الحجية، ويكفي عدم إحراز
الحجية، ولا يحتاج إلى إحراز العدم بالاستصحاب.
ثم إن الشبهة الموضوعية على قسمين: أحدهما: مالا يكون للفعل الاختياري
- الذي هو متعلق التكليف أو الوضع - متعلق كالشك في أن هذا الفعل صلاة - مثلا -
أم لا؟ أو أن هذا الصوت غناء - مثلا - أم لا؟ والثاني: ما يكون لذلك الفعل
الاختياري الصادر من المكلف متعلق أيضا كشرب الخمر - مثلا - فإن الشبهة
الموضوعية - في أن هذا الشرب الخاص شرب خمر أم لا؟ - إنما هي من جهة
الشبهة في أن هذا المائع خمر أم لا؟ ففيما كان من قبيل القسم الأول فأثر
استصحاب وجود الجزء وعدمه، إنما هو من حيث التطبيق وعدمه، وفيما كان من
قبيل القسم الثاني، كالشك في أن هذا اللبس لبس مأكول اللحم أو الحرير أو
الذهب أم لا؟ مضافا إلى أنه يمكن استصحاب وجود الشرط أو المانع بلحاظ أثره
الذي هو التطبيق وعدمه، كذلك يمكن استصحاب الحكم الشخصي الثابت لكل
768

واحد من أشخاص الموضوع، بما ذكرنا سابقا: إن جعل الحكم الكلي للموضوع
الكلي مستتبع لجعل أحكام جزئية لجزئيات الموضوع، فيمكن فيه استصحاب
منشأ الانتزاع وهو الحكم التكليفي، كما يمكن استصحاب وجود الجزء أو الشرط
أو المانع فتأمل.
فتحصل: أن التعبد بشيء مطلقا سواء كان واقعيا كما هو مفاد الأدلة
الاجتهادية، أو ظاهريا كما هو مفاد الأصول العملية لابد له من أثر عملي شرعي،
- أي راجع إلى ناحية الشارع - فلا يمكن التعبد بوجود النار والحكم ببقائها،
لترتيب أثر عملي عادي - وهو الإطفاء بها - والحكم ببقاء السراج لترتيب أثر
عملي عادي - وهو الاستضاءة به وأمثالها - فكما لا يمكن استصحاب الموضوع
الخارجي إذا لم يكن له أثر عمليا شرعيا، كذلك لا يمكن استصحاب الحكم
الشرعي، إذا لم يكن له أثر عملي شرعي، فلو كان حكم سابقا والآن كان مشكوك
ولكن لم يكن لوجوده فعلا أثر، بل كان وجوده وعدمه سيان فلا معنى للتعبد ببقائه
واستصحابه، وذلك الأثر العملي الشرعي كما هو موجود في استصحاب
الموضوعات، كذلك موجود في استصحاب الأحكام أيضا، ولا يلزم بل لا يمكن
ان يكون ترتيب ذلك الأثر العملي الشرعي بحكم الشرع، بل هو أمر عقلي، بل لو
لم يكن هذا الأمر العقلي يلزم لغوية تمام التعبديات واقعية كانت أو ظاهرية، فلو
لم يكن العقل حاكما بوجوب امتثال أوامر الشارع ونواهيه لكان التعبد بها واقعية
كانت أو ظاهرية لغوا، فجميع التعبدات في الحقيقة من قبيل ايجاد الموضوع لذلك
الأمر العقلي، وبدونه يلزم كونها بلا فائدة، فإنه لو كان أمر - مثلا - فإما أن يلزم
امتثاله أو لا؟ فإن لم يلزم امتثاله فأي فائدة في هذا الأمر؟ وإن لزم امتثاله فإن كان
بأمر آخر من قبل الشارع فيلزم التسلسل، لاحتياج لزوم امتثال الأمر الآخر إلى
الأمر أيضا، وهكذا فلابد أن يكون لزوم الامتثال أمرا عقليا دفعا للتسلسل، وذلك
الأثر العملي الشرعي الذي لابد منه في جميع التعبدات بحكم العقل، لافرق أن
يكون في مرحلة ثبوت التكليف أو نفيه أو مرحلة امتثال التكليف أو نفيه.
769

ومن هنا ظهر: أنه كما يمكن أن يعبدنا الشارع ببقاء الحكم، ويكون له أثر
عملي شرعي وهو وقوع المكلف في ضيق التكليف وكلفته، كذلك يمكن أن يعبدنا
بعدم بقاء التكليف ونفيه، ويكون أثره العملي الشرعي الذي هو بحكم العقل كون
المكلف في سعة واستراحة من كلفة التكليف، وهذا المقدار من الأثر يكفي في
صحة التعبد والحكم بالبقاء كما لا يخفى، وكما أن جعل الحكم إثباتا بيد الشارع
كذلك رفعه أيضا بيده.
التاسع: أن الآثار العقلية أو الشرعية المترتبة بواسطة الآثار العقلية اللتين
لا تثبتان بواسطة الاستصحاب وسائر الأصول، إنما هو فيما كانتا من الآثار
المترتبة على المستصحب، وأما الآثار المترتبة على نفس الاستصحاب والتعبد
بالبقاء فترتب مطلقا شرعية كانت أو عقلية أو عادية، فيترتب على استصحاب
الوجوب أثره العقلي، وهو لزوم الامتثال ووجوب الموافقة وحرمة المخالفة
وسائر الآثار العقلية الأخر، فتدبر، فكما أن الوجوب الواقعي أثره العقلي الذي هو
وجوب موافقته وحرمة مخالفته يترتب عليه وإلا يلزم أن يكون جعله لغوا، كذلك
الوجوب الظاهري الذي هو مفاد الأمارات والأصول أثره العقلي الذي هو وجوب
الموافقة وحرمة المخالفة يترتب عليه، وإلا لزم أن يكون جعله والتعبد به لغوا.
والحاصل: أن وجوب الموافقة وحرمة المخالفة علة غائية للتعبد الأعم من
الواقعي والظاهري فيترتبان على كليهما، وإلا لزم أن يكون التعبد لغوا، وأما
وجوب المقدمة وحرمة الضد فهل يترتبان على الوجوب الظاهري الثابت لذي
المقدمة أو الضد الآخر؟ كما يترتبان على الوجوب الواقعي فيثبت على هذا
وجوب مقدمة الواجب الذي ثبت وجوبه بمقتضى الاستصحاب أو حرمة الضد
الذي ثبت وجوب ضده الآخر بمقتضى الاستصحاب، أم لا؟
فيمكن إثبات وجوب المقدمة وحرمة الضد بتقربين:
أحدهما: إجراء الاستصحاب في نفس وجوب المقدمة وحرمة الضد، فإنه إذا
كان أركان الاستصحاب تماما بالنسبة إلى ذي المقدمة ووجوب أحد الضدين كان
770

أركانه تماما بالنسبة إلى وجوب المقدمة وحرمة الضد فلا حاجة إلى استصحاب
وجوب ذي المقدمة، لاثبات وجوب مقدمته أو وجوب أحد الضدين لحرمة ضده
الآخر، حتى يتوهم أنه أصل مثبت، بل يستصحب وجوب المقدمة وحرمة الضد
مستقلا.
وتوهم أن الشك في وجوب المقدمة وحرمة الضد مسبب عن الشك في
وجوب ذي المقدمة ووجوب الضد، ومع جريان الأصل في ناحية السبب
لا مجرى له في ناحية المسبب.
مدفوع بأن وجوب المقدمة مع وجوب ذي المقدمة، وكذا وجوب الشيء مع
حرمة ضده متلازمان، ولا يرتفع الشك في أحدهما بارتفاعه في الآخر، لا أنهما
من الآثار الشرعية لوجوب ذي المقدمة ووجوب الضد الآخر، بحيث يكون التعبد
بالسبب تعبدا بالمسبب كالتعبد بطهارة الماء المشكوك، حيث إن أثره رفع الشك
عن نجاسة الثوب المغسول به، وهذا هو الضابط في السببية والمسببية لا التلازم.
والثاني: إجراؤه في وجوب ذي المقدمة ووجوب الضد وبثبوت الوجوب
لهما يثبت الوجوب للمقدمة والحرمة للضد الآخر، لأن وجوب المقدمة وحرمة
الضد من اللوازم العقلية للتعبد بالشيء أعم من أن يكون التعبد به واقعيا أو
ظاهريا، وإن شئت قلت: إن وجوب المقدمة وحرمة الضد في صورة التعبد
الظاهري لوجوب ذي المقدمة ووجوب الضد الآخر واقعيان، كما في صورة التعبد
الواقعي وإن شئت قلت: إن وجوب المقدمة وحرمة الضد لكونهما ترشحا من
الحكم الظاهري ظاهريان أيضا، وهذا الوجه الأخير يتعين فيما لو كان التكليف
بوجوب المقدمة أو حرمة الضد في زمان حدوث التكليف بذي المقدمة أو بأحد
الضدين غير ثابت من جهة المزاحمة، فإنه حينئذ لا يمكن إجراء الاستصحاب
فيهما بنفسهما فيتعين بهذا الوجه، وإلا لأمكن إثبات الحكم فيهما بكلا الوجهين.
العاشر: أنه لما كان الاستصحاب عبارة عن التعبد بالبقاء بلحاظ ترتب الأثر
الشرعي على المستصحب، فلو كان المستصحب في زمان حدوثه أو تيقن وجوده
771

لم يترتب عليه أثر شرعي ولكن في حال الشك كان له أثر شرعي فيجري
الاستصحاب، كما لو كان في بعض الأزمنة، الشك في وجوده بلا أثر وكان في
بعضها ذا أثر فيجري الاستصحاب أيضا في الزمان الذي لوجوده أثر.
لا يقال: إن وجوده في الآن الأول الذي كان متيقنا لا أثر له [و] وجوده في
الآن الثاني الذي يترتب عليه الأثر مشكوك.
لأنه يقال: إن المستصحب شئ واحد وهو وجود ذلك الشئ ولا يلاحظ فيه
الحدوث والبقاء، بل يلاحظ ذلك الشئ مجردا عن الحدوث والبقاء، ويقال ذلك
الشئ كان متيقنا سابقا والآن نشك في بقائه فنستصحب بقاءه، والفرض أن التعبد
ببقائه له أثر باعتبار تلك الحالة فيشمله دليل الاستصحاب، ومن جهة كفاية الأثر
الشرعي في حال الشك في جريان الاستصحاب وإن لم يكن للمستصحب أثر
شرعي باعتبار حال حدوثه أو وجوده السابق تجري الاستصحاب بالنسبة إلى
العدم الأزلي بناء على جريان الاستصحاب في العدميات، والحال أن العدم
الأزلي لا أثر له في الأزل وإنما الأثر يترتب عليه في هذا الحال، وهو حال وجود
المكلف والشك في التكليف.
الحادي عشر: أنه لابد أن يعلم أن جريان الاستصحاب هل هو مخصوص بما
إذا كان الشك في تبدل وجود الشئ بالعدم أو بالعكس؟ فلا يجري الاستصحاب
فيما إذا كان أصل التبدل مقطوعا وشك في تقدمه وتأخره، أو يجري فيه أيضا، كما
لو كان أصل التبدل مشكوكا، وهذا هو المراد باصالة تأخر الحادث. فيه خلاف
والحق: أنه لا مانع من جريانه إلى زمان اليقين بالتبدل بلا فرق بين كون
المستصحب أمرا وجوديا أو عدميا، فيما كان الأثر مترتبا على مطلق الوجود لا
على الحدوث، فإن الآثار المترتبة على الحدوث في الزمان الثاني لا يترتب
باستصحاب عدمه إلى ذلك الزمان، لأنه مثبت - مثلا - لو شككنا أن هذا الشئ
هل وجد في يوم الخميس أو يوم الجمعة مع القطع بوجوده في أحدهما
فيستصحب عدمه إلى يوم الجمعة، ويترتب عليه الآثار المترتبة على عدمه إلى
772

يوم الجمعة، والآثار المترتبة على مطلق وجوده في ذلك اليوم لو كان له اثر، وأما
الآثار المترتبة على حدوثه في يوم الجمعة فلا، لأنه مثبت، والآثار المترتبة على
مطلق وجودها إنما يترتب عليه في الزمان الثاني، فيما إذا كان باقيا في هذا
الزمان على كلا التقديرين، وأما إذا لم يكن كذلك فلا يترتب عليه آثار مطلق
الوجود أيضا - مثلا - لو شككنا في أن هذا الماء صار كرا يوم الخميس أو يوم
الجمعة، مع القطع بحصولها في أحدهما، وعلى تقدير حصولها في يوم الجمعة أخذ
منه مقدار يوجب نقصه عن الكرية، فهنا يستصحب عدم كريته في يوم الخميس
ولازمه بقاء نجاسة الثوب النجس المغسول به، بل نجاسة الماء أيضا، لكونه
محكوما بعدم الكرية بمقتضى الاستصحاب، وقد لاقاه الثوب النجس فينجس،
ولو غسل الثوب ثانيا بهذا الماء بعد الأخذ منه بمقدار ينقص عن الكرية فلازم بقاء
نجاسة الثوب نجاسة هذا الماء أيضا، وأما لو غسل به قبل أخذ المقدار المذكور،
فإن قلنا: بأن تتميم القليل النجس يوجب طهارته فلا إشكال في حصول الطهارة
للثوب، لأنه إما صار طاهرا بغسله أولا لو كان واقعا كرا، أو صار طاهرا ثانيا بهذا
الماء الكر الذي صار طاهرا بالتتميم، وأما لو لم نقل بأن التتميم مطهر فلا إشكال
في عدم حصول الطهارة له بعد غسله ثانيا به أيضا، لأن مقتضى عدم كريته أولا
نجاسته بواسطة ملاقاة النجاسة، فإذا كانت نجاسة الثوب مستصحبة فغسله ثانيا
بهذا الماء بعد تتميمه كرا لا يوجب طهارته على هذا القول، لاحتمال عدم كريته
حين الغسل الأول وتنجسه بواسطة الملاقاة، والغرض أن التتميم غير مطهر
فوجوده كعدمه فغسله به بعد التتميم كغسله به قبله، في أن حصول الطهارة مشكوك
من جهة استصحاب عدم الكرية، فاستصحاب عدم الكرية لازمه بقاء نجاسة
الثوب وتنجسه بملاقاته.
أما في التطهير بالماءين القليلين المشتبهين متعاقبا فيمكن أن يقال: بأن
التطهير من الخبث ليس حاله كالتطهير من الحدث في عدم الحصول بهما، كما هو
773

مفاد الخبر (1) الذي ورد ب‍ " أنه يهريقهما ويتيمم " بل يحصل الطهارة الخبثية
باستعمالهما، كما أفاده بحر العلوم (2) (قدس سره) في منظومته، ولكن جهة الشك في أن الماء
المستعمل أولا هل كان نجسا والثاني طاهرا حتى يكون الشيء المغسول بهما
طاهرا الآن؟ أم بالعكس؟ حتى يكون نجسا فيه إشكال: يحتمل أن يقال بعد
عروض مطهر ومنجس على المحل المغسول بهما يعارض تقدم كل منهما مع تقدم
الآخر ويتساقطان فيرجع إلى قاعدة الطهارة، ويحتمل أن يقال باستصحاب
نجاسة المحل المغسول بهما بناءا على جريان الاستصحاب في القسم الثاني من
استصحاب بقاء الكلي، ولكن فيه مالايخفى إذ النجاسة المتيقنة قد ارتفعت يقينا،
فلا معنى لاستصحابها والأخرى مشكوك الحدوث، ويحتمل أن يقال باستصحاب
الطهارة لأن حصول الطهارة له متيقن إما بالغسل الأول أو الثاني وارتفاعها
مشكوك فيستصحب، ولكن الحق هو استصحاب النجاسة في المقام لأن في الآن
الأول من الغسل بالماء الثاني متيقن النجاسة، إما من جهة كون الماء الأول نجسا
أو من جهة كون الماء الثاني نجسا، لأنه على فرض كون الماء الثاني طاهرا
والأول نجسا لا يطهر المحل بمجرد وصول الماء الثاني بل لابد من الانفصال أو
التعدد فالمحل في هذا الآن مقطوع النجاسة فتستصحب نجاسته ولا ناقض لهذا
اليقين، ومن موارد الشك في تقدم الحادث وتأخره بالقياس إلى أجزاء الزمان
ما لو شك في أن الجنابة حصلت يوم الخميس أو الجمعة، فبالنسبة إلى يوم
الخميس لا إشكال في إمكان استصحاب بقاء الطهارة وعدم الجنابة، لأن الحالة
السابقة وهي الطهارة انتقاضها يوم الخميس مشكوك فتستصحب تلك الحالة، وأما
بالنسبة إلى يوم الجمعة فانتقاضها معلوم، سواء كان حدوثه يوم الخميس أو الجمعة
فلا يمكن استصحابها، فإذا لم يقطع بارتفاع الحدث المعلوم حدوثه في أحد
اليومين في يوم الجمعة بعد حدوثه فلا مانع من ترتيب الآثار المترتبة على مطلق

(1) وسائل الشيعة: باب 12 من أبواب الماء المطلق ح 1 ج 1 ص 124.
(2) الدرة النجفية: القول في المشتبه ص 8.
774

وجوده في يوم الجمعة، وأما الآثار المترتبة على حدوثه في ذلك اليوم لو كان له
أثر فلا يمكن إلا على القول بالأصل المثبت، لأن لازم عدم وجود الحدث في يوم
الخميس أن يكون حدوثه وهو أول وجوده في يوم الجمعة، أو بأن يقال إنه من
الموضوعات المركبة التي تحرز أحد جزءيها بالوجدان والآخر بالأصل، لأن
الحدوث عبارة عن الوجود المسبوق بالعدم، فوجود الجنابة في يوم الجمعة لما
كان محرزا بالوجدان وعدمها قبله كان محرزا بالأصل فيتركب الموضوع وهو
حدوث الجنابة يوم الجمعة، ويترتب آثار حدوثه في ذلك اليوم، نعم لو قيل بأن
الحدوث عبارة عن نحو وجود خاص فلا يثبت باستصحاب عدم وجودها في
يوم الخميس حدوثها يوم الجمعة وترتيب آثار الحدوث، هذا إذا لم يقطع
بارتفاعها بعد الحدوث، كما إذا شك في كرية ماء يوم الخميس أو يوم الجمعة بعد
القطع بصيرورته كرا في أحد اليومين، فإن استصحاب عدم كريته يوم الخميس
لا مانع منه، وأما يوم الجمعة فلا لأنه فيه مقطوع الارتفاع بصيرورته كرا، إما في
يوم الخميس أو يوم الجمعة والآثار المترتبة على مطلق وجود الكر تترتب من
يوم الجمعة إلى زمان تيقن ارتفاعه، وأما إذا قطع بارتفاع الكرية على تقدير
حدوثها يوم الجمعة ففي يوم الخميس تترتب على هذا الماء آثار عدم الكرية،
فيحكم بنجاسته بملاقاة النجاسة، وبعدم رفع الحدث والخبث وغيرهما من الآثار
بعد ملاقاته النجاسة، من جهة إحراز عدم كريته بالاستصحاب، فيحكم بتنجسه
بملاقاة النجاسة وعدم جواز رفع الحدث والخبث وغيرهما من الآثار به بعد
ملاقاة النجاسة، وأما في يوم الجمعة فلا أصل في البين يحرز به عدم الكرية، فإن
قلنا: بأن القلة شرط للانفعال فلا يحكم بانفعاله، لعدم إحراز قلته، وإن قلنا: بأن
الكرية مانعة فيحكم بانفعاله، لعدم إحراز الكرية ففي يوم الخميس يحكم بانفعاله
من جهة إحراز عدم كريته بالاستصحاب، وفي يوم الجمعة يحكم بانفعاله، من
جهة عدم إحراز الكرية، فيكون كماء لم يعلم حالته السابقة لا بالكرية ولا بالقلة.
فتحصل: أن الآثار المترتبة على مطلق وجود الكر لا إشكال في ترتبها في
775

زمان المتأخر إذا لم يقطع بارتفاعه على تقدير حدوثه فيه، لا الآثار المترتبة على
حدوثه فيه، وذلك كما لو شك بين الاثنين والثلاث قبل إكمال السجدتين فإنه لو
رفع رأسه من السجدة يكون شاكا بين الاثنين والثلاث بعد الإكمال لو كان المدار
على مطلق وجود الشك بينهما في الأحكام المترتبة على الشك بين الاثنين
والثلاث بعد الإكمال، إلا أنه لما كان المدار في ترتب تلك الأحكام على حدوث
الشك بعد الإكمال لا مطلق وجوده ولو كان حدوثه قبل الإكمال، وببقائه ورفع
الرأس من السجدة على حال الشك صار شكا بينهما بعد الإكمال، لا يترتب عليه
أحكام الشك بين الاثنين والثلاث بعد الإكمال، بل تترتب عليه أحكام الشك بين
الاثنين والثلاث قبل الإكمال، لأن حدوث هذا الشك كان قبل الإكمال والمدار في
باب الشكوك على حدوث الشك لا مطلق وجوده كما أوضح من أن يخفى.
هذا تمام الكلام فيما إذا لوحظ الشك في التقدم والتأخر بالنسبة إلى أجزاء
الزمان، وأما إذا لوحظ الشك في التقدم والتأخر بالنسبة إلى حادث آخر، ففي
الحادثين اللذين يمكن حدوثهما معا الأقسام المتصورة ثلاثة، لأنه إما أن يكون
هذا متقدما على الآخر، أو بالعكس، أو كلاهما متقارنان في الوجود، كالمثل
المعروف وهو موت زيد وإسلام وارثه، حيث يحتمل تقدم كل منهما على الآخر
وتقارنهما، وأما في الحادثين اللذين لا يمكن اجتماعهما في الحدوث كالطهارة
والحدث فلا يتصور إلا قسمين تقدم أحدهما على الآخر وبالعكس، وعلى كل
حال، فالأثر الشرعي إن كان مترتبا على تقدم أحدهما على نحو - كان التامة - لا
على تقارنه أو تأخره، ولا على تقدم الآخر أو تقارنه أو تأخره، بحيث كان إجراء
الاستصحاب فيه بلا معارض، فلا مانع من إجرائه، لشمول دليل الاستصحاب له
وعدم شموله لما لا أثر له، لأن التعبد إنما هو بلحاظ الأثر وما لا أثر له لا معنى
للتعبد ببقائه فعلى هذا يكون استصحاب عدم التقدم كاستصحاب عدم البياض أو
السواد أو الكر، حيث يكون الأثر مترتبا عليها بنحو - كان التامة - لا بنحو - كان
الناقصة - ولا مانع منه، وأما إن كان الأثر مترتبا على تقدمه وتقارنه وتأخره أو
776

على تقدم الآخر أو تقارنه أو تأخره، بحيث لم يكن الأثر مختصا بواحد من
حالات أحد الحادثين فلا يجري الاستصحاب من جهة المعارضة، وكذا لو كان
الأثر مترتبا على تقدم أحدهما مثلا بنحو - كان الناقصة - لا يجري الاستصحاب
أيضا، من جهة أن عدم اتصاف أحد الحادثين بالتقدم ليس له حالة سابقة، بحيث
كان هذا الشيء سابقا ولم يكن متصفا بالتقدم حتى يستصحب عدم اتصافه به بل
من أول الأمر إما وجد موصوفا أولا، فعلى هذا يكون استصحاب عدم تقدمه
كاستصحاب عدم كون هذا الجسم أبيض أو أسود، أو عدم كون هذا الماء كرا،
حيث لم يعلم الحالة السابقة، فكما لا يجري الاستصحاب فيها فلا يجري فيه
أيضا، فإذا لم يكن لهذا الشيء حالة سابقة بكونه متصفا بالتقدم أو بعدم التقدم،
ولا يمكن إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى شيء منهما، ففي الطرف الآخر إن كان
موضوع الأثر هو كون الشيء متصفا بالتقارن أو التأخر فلا يثبت، وإن كان
موضوع الأثر عدم الاتصاف بالتقدم أو عدم التقدم لا التقارن ولا التأخر فلا مانع
من ترتيب الأثر، فعلى هذا يمكن في مسألة الشك في قرشية المرأة وأمثالها أن
يقال إن عدم قرشية هذه المرأة وإن لم يكن له حالة سابقة، لأنها إما وجدت قرشية
أو غير قرشية إلا أن الحكم في الطرف الآخر لم يكن مترتبا على المرأة المتصفة
بعدم القرشية حتى يمنع عن إجراء ذلك الحكم، من جهة عدم إحراز ذلك العنوان،
بل الحكم رتب على عدم تحقق عنوان القرشية فلا مانع من ترتيب ذلك الحكم.
والحاصل: أن الحكم بالتحيض إلى الستين مترتب على عنوان القرشية،
والحكم بالتحيض إلى الخمسين مترتب على من عدى المتصف بهذا الوصف،
فيكفي في ترتب ذلك الحكم عدم إحراز القرشية، ولا يحتاج إلى إحراز عدم
القرشية حتى يمنع عن إحرازه، ويقال: إن الحكم بالتحيض إلى الخمسين مترتب
على عنوان غير القرشي، فكما لا يثبت القرشية ولا يترتب عليها حكمها، فكذلك
لا تثبت غير القرشية ولا يترتب عليها حكمها فتدبر.
الثاني عشر: أنه هل يجري الاستصحاب في الأمور الاعتقادية التي يكون
777

المقصود منها المعرفة أو عقد القلب والالتزام والتدين بها أم لا؟
فنقول لا إشكال في أنه لو تحقق موضوع الاستصحاب بتحقق أركانه
وشرائطه في الأمور الاعتقادية يجري فيها الاستصحاب، كما يجري في غيرها
من الأحكام الفرعية والموضوعات الخارجية، وإنما لا يجري الاستصحاب
بالنسبة إلى بعضها، من جهة عدم تحقق موضوعه، وذلك لأن الأمور الاعتقادية
على قسمين:
أحدهما: ما يكون المطلوب فيه نفس المعرفة والإيقان به، إما عقلا أو شرعا
كمعرفة المنعم وما يرجع اليه من صفاته، ومعرفة النبي، بل الإمام بناء على الأصح،
ومقابل الأصح أنها من الواجبات الفرعية، كما هو قول العامة، وعلى هذا يكون
الإمامة مما تجب معرفته شرعا لا عقلا.
والثاني: ما يكون المطلوب منه عقد الطلب والالتزام إما عقلا أو شرعا
كتفاصيل البرزخ والمعاد - مثلا - وفي كلا القسمين إن أريد إجراء الاستصحاب
بالنسبة إلى الأحكام المتعلقة بهما كوجوب هذه المعرفة أو هذا الاعتقاد والالتزام
فلا مانع منه، إذا كان الدليل على الوجوب هو الشرع لتحقق موضوعه وهو اليقين
السابق والشك اللاحق، كما في الأحكام الفرعية، وإن كان الدليل على الوجوب
هو العقل فلا يجري [الاستصحاب]، كما لا يجري بالنسبة إلى الأحكام الفرعية
التي يكون الدليل عليها هو العقل، لما تقدم من أن العقل إن أحرز موضوع حكمه
فيحكم به قطعا، وإن لم يحرزه فلا يحكم به قطعا فليس مورد شك حتى يجري فيه
الاستصحاب.
وإن أريد إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى موضوعاتهما: فمنها: ما لا يكون
قابلا للزوال على تقدير الوجود - كذات الصانع تعالى وصفاته وأحوال المعاد -
ومنها: ما يكون قابلا للزوال على تقدير الوجود كالنبوة بناء على أنها منصب
جعلي الهي، وإن كان منشأ هذا الجعل والنصب هو كمال النفس ووصولها إلى
مرتبة قابلية هذا المنصب الجليل، - كما يشعر به بعض ما ورد من تهديد الأنبياء
778

بأنك لو فعلت كذا لأسقطناك عن درجة النبوة - وأما بناء على أنها عبارة عن كمال
النفس على اختلاف مراتبه، من المرتبة القابلة للإلهام التي هو أول مرتبة - إلى
المرتبة الأخيرة - وهي مرتبة الخاتمية - فهي مما لا يكون قابلا للزوال إلا إذا قيل
بأن النفس كما أنها قابلة للترقي والوصول إلى تلك المرتبة، قابلة للانحطاط عن
تلك المرتبة، فيكون على هذا المبنى أيضا من الأمور القابلة للزوال على تقدير
وجودها.
وإذا عرفت أن الأمور الاعتقادية على قسمين: فاعلم أنه بالنسبة إلى الأمور
التي ليست قابلة للزوال على تقدير الوجود فلا يجري الاستصحاب الموضوعي،
لعدم تحقق أركانه، وهو اليقين والشك، لأنها إما متحققة دائما أو ليست بمتحققه
دائما، فلا يمكن أن يتعلق الشك ببقائها على تقدير اليقين بوجودها. واما بالنسبة
إلى الأمور القابلة للزوال على تقدير الوجود - كالنبوة والإمامة - فإنه يجري
الاستصحاب الموضوعي، لتحقق أركانه - وهو اليقين بالوجود والشك في البقاء -
فبالنسبة إلى النبوة: يجري الاستصحاب الموضوعي، فيما إذا كان الشك في بقاء
النبوة وعدم بقائها من جهة الشك في نسخ شريعة النبي وعزله عن النبوة وعدمه،
بناء على القول بحجية الاستصحاب فيما إذا كان الشك من جهة الرافع، وفيما إذا
كان الشك في اقتضاء نبوته للبقاء إلى هذا الزمان بناء على القول بحجيته مطلقا،
وأما استصحاب حياته فلا تجري، لأنه لافرق في النبي من حيث كونه نبيا ما دام
دينه وشرعه باق بين كونه حيا أو ميتا، ولا يترتب على حياته من هذه الجهة أثر،
والاستصحاب أنما يجري بلحاظ الأثر.
وأما بالنسبة إلى الإمامة: فيجري الاستصحاب الموضوعي، سواء كان الشك
في إمامته من جهة الشك عن عزله عن رتبة الإمامة أو من جهة الشك في حياته
وموته، لو كانت للإمامة آثار منوطة بحياة الإمام، كبقاء وكلائه ونوابه على الوكالة
والنيابة على القول بانعزالهم بموت الامام، كما أشكل لذلك على نيابة الفقهاء بأن
ممضي هذه النيابة هو الصادق (عليه السلام) وهو قد مات، وأجيب عنه: بأن الإمام الحي
779

أمضاها بقوله " أما الحوادث الواقعة إلى آخره (1) " لا مثل بقاء أمواله على ملكيته
أو أزواجه على زوجيته لا ربط له بالإمامة، من حيث الإمامة، وأما مثل حجية
أقواله وأفعاله فلا فرق بين كون الإمام حيا أو ميتا، فلا أثر يترتب على حياة
الإمام، من حيث كونه إماما، حتى يجري استصحاب اماميته لو شككنا في بقائها
وعدم بقائها من جهة الشك في حياته وعدمها، إلا ما ذكرنا من عدم انعزال نوابه
ووكلائه وانعزالهم على القول بانعزالهم بموته، والحال أن الاستصحاب لابد أن
يكون بلحاظ الأثر، فإن فرض ترتب هذا الأثر أو مثل هذا الأثر على هذا
الاستصحاب فيجري، وإلا فلا فتأمل.
فتحصل أن الأمور الاعتقادية على قسمين:
أحدهما: ما يكون المطلوب المهم مضافا إلى عقد القلب المعرفة والايقان، إما
عقلا كمعرفة الله وما يرجع اليه من أوصافه ومعرفة أنبيائه والامام على القول
الأصح في كون الإمامة من المناصب الإلهية، أو شرعا كمعرفة الإمام على القول
الغير الأصح، كما هو قول العامة من كون الإمامة من الأحكام الفرعية، ولذا
يقولون بوجوب نصبه على الرعية.
والثاني: ما يكون المطلوب المهم عقد القلب والالتزام والتدين، إما عقلا أو
شرعا، وفي كلا القسمين لا مانع من استصحاب الأحكام المتعلقة بهما، إذا كان
دليلهما الشرع لا العقل، لما عرفت من أن الحكم الفرعي، إذا كان دليله حكم العقل
لا يجري فيه الاستصحاب، فضلا عن الحكم الاعتقادي، وأما استصحاب نفس
موضوعاتهما: فقد عرفت أن منها:
ما لا يقبل الزوال على تقدير الوجود، ففي هذا القسم لا يجري الاستصحاب
الموضوعي، لعدم تحقق أركانه - وهو اليقين السابق بالثبوت والشك اللاحق في
البقاء - بل هو إما ثابت وباق دائما أو ليس بثابت وباق دائما.
ومنها: ما يقبل الزوال على تقدير الوجود، وهذا منحصر بالنبوة والإمامة من

(1) وسائل الشيعة: ب 11 من أبواب صفات القاضي ح 9 ج 18 ص 101.
780

الأصول الخمسة الاعتقادية، بناء على أن النبوة منصب جعلي الهي، وأما بناء على
أنها عبارة عن كمال النفس فلا يكون قابلة للزوال إلا على الاحتمال المذكور في
السابق، وفي هذا القسم يجري الاستصحاب الموضوعي، لتحقق أركانه - وهو
اليقين بالحدوث والشك في البقاء -.
أما بالنسبة إلى النبوة فمن جهة عدم الفرق بين حياة النبي وموته ما دامت
نبوته باقية يجري الاستصحاب الموضوعي، إذا كان الشك في بقاء النبوة، من جهة
احتمال عزله ونسخ شريعته، وأما استصحاب حياته فمن جهة عدم الفرق بين
حياة النبي وموته ما دامت شريعته باقية، وعدم ترتب الأثر على حياته من حيث
النبوة، وإن كان لها الأثر من جهات أخر، والحال أن الاستصحاب إنما يجري
بلحاظ الأثر فلا يجري، وأما بالنسبة إلى الإمامة فيجري الاستصحاب
الموضوعي لو كان الشك في بقاء إمامته، من جهة احتمال عزله، وكذا استصحاب
حياته لو كان لحياته أثر كبقاء وكلائه على الوكالة، وكعدم وجوب معرفة الإمام
اللاحق، ولا يخفى أن الاستصحاب لما كان جريانه بلحاظ الأثر فيجري فيما إذا
كان الأثر مترتبا على وجود واقعي المستصحب، وأما إذا كان الأثر مترتبا على
العلم به، كما إذا كان وجوب الاعتقاد بالنبي أو الإمام مثلا مترتبا على العلم بنبوة
شخص أو إمامته فلا يجري الاستصحاب، لعدم الأثر له إلا إذا كان اعتبار العلم من
حيث الطريقية.
والحاصل: أن استصحاب نفس النبوة لا مانع منه، إذا قلنا: بأنها من المناصب
المجعولة الالهية كالولاية، فيترتب عليها آثارها، ولو كانت عقلية، لما عرفت من
أن الآثار المترتبة على الاستصحاب لا فرق فيها بين الآثار الشرعية والعقلية،
وإنما الفرق بين الآثار الشرعية والعقلية إنما هو بالنسبة إلى المستصحب لو كان
دليل حجية الاستصحاب غير منوط بالنبوة، بأن كانت حجية الاستصحاب من
باب حكم العقل وبناء العقلاء مع عدم احتمال الردع، لامن باب التعبد، وإلا يلزم
الدور، لأن التعبد بقوله فرع نبوته، فلا يمكن إثبات نبوته بقوله، هذا بالنسبة إلى
781

استصحاب نفس النبوة.
وأما استصحاب بعض أحكام شريعة من اتصف بها فلا مانع منه بلا إشكال،
لما عرفت من أنه لافرق بين كون المستصحب من أحكام هذه الشريعة أو الشريعة
السابقة.
ثم لا يخفى أن الدليل إما أن يكون إلزاميا للخصم، كما إذا كان مؤلفا من
مقدمات يقينية ويسمى بالبرهان، أو من مقدمات مسلمة عند الخصم وإن لم تكن
مسلمة عند المستدل، ويسمى بالجدل، وإما أن يكون إقناعيا لمن يستدل به،
كالقطع الذي هو حجة عند القاطع ولا يكون حجة على غيره لأن قطع كل أحد
حجة على نفسه لا على غيره.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الاستصحاب لا يكون دليلا إلزاميا للخصم، إلا إذا
اعترف بأنه كان على يقين فشك فيما صح هناك التعبد والتنزيل، ودل عليه الدليل،
كما لا يكون دليلا إقناعيا لشخص المستدل، إلا إذا كان يقين وشك، ودل الدليل
على تنزيل الشك منزلة اليقين.
ومن هنا انقدح أنه لا موقع لتشبث الكتابي باستصحاب نبوة موسى على نبينا
وآله وعليه السلام لا إلزاما للمسلم، لعدم الشك في بقائها قائمة بنفسه المقدسة
واليقين بنسخ شريعته، وإلا لم يكن بمسلم، مع أنه لا يلزم به إلا مع الاعتراف بأنه
على يقين سابق وشك لاحق، ولا إقناعا لنفسه عند الشك في بقاء نبوته، واحتمال
صدق النبي اللاحق، الذي يدعي نسخ شريعته، إذ بمجرد دعوة النبي اللاحق
واحتمال صدقه يجب بحكم العقل من باب وجوب دفع الضرر المحتمل النظر في
معجزته وحالاته، فلو كان مدرك حجية الاستصحاب عنده حكم العقل وبناء
العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة، فهذا الحكم والبناء محكوم ومهدوم بالحكم
العقلي بوجوب النظر في معجزات النبي اللاحق وحالاته، ولو كان مدركها حكم
النبي السابق بحجيته فالأخذ بقوله فرع بقاء نبوته وشريعته، فلا يمكن إثبات نبوته
في حال الشك بقوله، ولو كان مدركها حكم النبي اللاحق بحجيته فلا يجديه إلا
782

على نحو محال، لأنه يلزم من وجوده عدمه، ولو كان مدركها حكم النبي السابق
واللاحق، بأن كان الاستصحاب حجة في الشريعة السابقة واللاحقة لا مانع من
الاقتناع؛ للعلم بعدم نسخ هذا الحكم، سواء كان سائر أحكام النبي السابق
منسوخة بنسخ شريعته أم لا. وبالنسبة إلى غيره من الأحكام إن كان حكم النبي
السابق واللاحق متوافقين فيؤخذ بهما، وإن كانا متخالفين فإن أمكن الجمع بينهما
فيجمع، وإلا فيؤخذ بأحوطهما لو كان، وإلا فيتخير.
هذا إذا لم يعلم بالبناء على الشريعة السابقة ما لم يعلم بحقية الشريعة اللاحقة
وأما [لو] علم بذلك فلا إشكال في أخذه بالشريعة السابقة.
الثالث عشر: أنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب في مقام مع دلالة مثل
العام، لما عرفت من أن الاستصحاب من الأصول العملية المقررة للشاك في مقام
العمل المتأخرة رتبتها عن الأدلة الاجتهادية، ومع وجود الدليل الاجتهادي
لا تصل النوبة إلى الأصل العملي، لأنه يرفع موضوع الأصل وهو الشك بالنسبة إلى
الواقع تعبدا وإن لم يرفعه وجدانا، لكنه ربما يقع الإشكال والكلام فيما إذا
خصص العام في زمان في أن المورد بعد هذا الزمان مورد استصحاب حكم
الخاص أو الرجوع إلى الحكم العام، وأصل هذا الإشكال من المحقق الثاني (قدس سره) في
مسألة فورية خيار الغبن وعدم فوريته، وأن المرجع في الزمان الثاني هو
استصحاب الخيار أو عموم أوفوا بالعقود (1)، والأمثلة كثيرة: منها خروج الحائض
عن عموم أقيموا الصلاة في زمان حيضه، فإذا شككنا في أيام الاستظهار في
الخروج وعدمه هل المرجع استصحاب الحكم الخاص أو عموم العام، والشيخ (قدس سره)
قد تعرض لهذه المسألة في رسائله في تنبيهات الاستصحاب (2)، وفي مكاسبه في
مسألة خيار الغبن، وعبارته في المكاسب أوفى بإفادة مرامه من عبارة رسائله،
وملخصه أنه إن أخذ الزمان في العام بنحو الظرفية فالمرجع بعد الزمان المتيقن

(1) جامع المقاصد: ج 4 ص 38.
(2) فرائد الأصول: ج 2 ص 646.
783

تخصيصه إلى استصحاب حكم الخاص، إن كان مجرى الاستصحاب وتم أركانه،
ولا يجوز حينئذ الرجوع إلى العام، ولو لم يجر الاستصحاب بل لابد من الرجوع
إلى العمومات والقواعد الأخر، وإن أخذ الزمان فيه بنحو القيدية فالمرجع بعد ذلك
الزمان إلى عموم العام لا استصحاب حكم الخاص، حتى لو لم يكن عموم أو كان
ولكن لم يمكن التمسك به لمانع، لا يجوز الرجوع إلى استصحاب حكم الخاص
بل لابد من الرجوع إلى دليل آخر (1) ووجهه كما أفاده هو أنه فيما أخذ الزمان
بنحو الظرفية إذا خصص العام وخرج منه بعض الأفراد في بعض الأزمنة وشك في
حكمه بعده، أن خروج هذا الفرد من العموم متيقن ولا فرق بين أن يكون خروجه
منه في زمان ما أو دائما في أنه تخصيص واحد ورد على العام، ولا يلزم منه
تخصيص زائد، لو كان خارجا عن العام في غير الزمان المتيقن خروجه عن تحت
العام، فلابد من الرجوع إلى استصحاب حكم الخاص ولا يجوز هنا الرجوع إلى
العام ولو لم يكن استصحاب، لأن العام قد انقطع حكمه بالنسبة إلى هذا الفرد. وإن
أخذ الزمان فيه بنحو القيدية، فكما أن كل فرد من أفراد الموضوع يكون موضوعا
مستقلا للحكم، بكون كل فرد في كل زمان موضوعا مستقلا لا مغايرا لذلك الفرد
في غير ذلك الزمان، فإذا خرج فرد من العموم في زمان وشك في خروج ذلك
الفرد في زمان آخر فلابد هنا من الرجوع إلى عموم العام، إذ لو خرج في هذا
الزمان لكان تخصيصا زائدا والأصل عدمه.
والحاصل: أنه بناء على الظرفية ليس للعام عموم زماني، بحيث يصير كل فرد
متعددا بتعدد الأزمنة موضوعا مستقلا لحكم العام مغايرا لسائر الأفراد، وله في
سائر الأزمان، فالتخصيص الوارد عليه بناءا على هذا وإخراج فرد منه تخصيص
واحد قل زمانه أو كثر، وأما بناءا على القيدية فيصير كل فرد في كل زمان
موضوعا مستقلا للحكم ومغايرا لسائر الأفراد وله في سائر الأزمان، فإذا خرج
منه في بعض الأزمنة يؤخذ بالمتيقن منه، إذ خروجه في زمان الشك تخصيص

(1) المكاسب: ص 243 س 7.
784

زائد وارد على العام، والأصل عدمه، فلذا يرجع على الأول إلى استصحاب حكم
الخاص وعلى الثاني إلى عموم العام.
وقد أشكل عليه: بأن الزمان كما يمكن أن يكون في طرف العام ظرفا ويمكن
أن يكون قيدا، فكذلك في طرف الخاص، فعلى هذا، الاقسام المتصورة أربعة،
لأنه إما أن يكون قيدا فيهما أو ظرفا فيهما أو قيدا في العام وظرفا في الخاص أو
بالعكس.
فعلى الأول لا يجوز الرجوع إلى استصحاب حكم الخاص، لأنه من إسراء
حكم موضوع [إلى موضوع] آخر، إذ هذا الفرد في الزمان الثاني موضوع مغاير مع
الموضوع في الزمان الأول، فلابد فيه من الرجوع إلى عموم العام، لأن خروج هذا
الفرد عن العام في الزمان الأول معلوم وخروجه في الزمان الثاني مشكوك،
والفرض أنه فرد مغاير لسائر الأفراد ولهذا الفرد في الزمان الأول بالنسبة إلى العام
أيضا، فيشمله حكمه، فالرجوع إلى استصحاب حكم الخاص في هذا القسم
لا يجوز، لأنه من إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر، مع أنه موجب لزيادة
التخصيص في العام مضافا إلى أنه لا مجرى للاستصحاب مع وجود دليل
اجتهادي وهو العموم كما لا يخفى.
وعلى الثاني لا يجوز الرجوع إلى العام، لأنه قد خصص وخرج هذا الفرد من
تحته وليس خروجه في الزمان الثاني تخصيصا زائدا في العام، وليس هذا الفرد
في الزمان الثاني مغاير معه في الزمان الأول، حتى يكون استصحاب حكم
الخاص من إجراء حكم موضوع آخر، فلابد فيه من استصحاب حكم الخاص.
وعلى الثالث لا يجوز الرجوع إلى استصحاب حكم الخاص، لأن
الاستصحاب أصل عملي ومع الدليل اللفظي وهو العموم الدال لا تصل النوبة إليه،
نعم مع عدمه يجري فلابد فيه من الرجوع إلى عموم العام وإلا لزم التخصيص
الزائد على المتيقن.
وعلى الرابع لا يجوز الرجوع إلى العام لأن هذا الفرد خرج منه، ولا فرق بين
785

كونه خارجا في زمان أو دائما في كونه تخصيصا واحدا، ولا يجوز الرجوع إلى
استصحاب حكم الخاص، لأن هذا الفرد في الزمان الثاني مغاير له في الزمان،
فيكون استصحابه من باب [اسراء] حكم موضوع إلى موضوع آخر، فلابد فيه من
الرجوع إلى العمومات والقواعد الأخر. فظهر أن إطلاق كلام الشيخ (قدس سره) لا يخلو
عن إشكال.
الرابع عشر: في أنه هل يعتبر في حجية الاستصحاب عدم الظن بالخلاف أم
لا؟ ولا إشكال في أنه إذا كانت حجيته من باب إفادته الظن الشخصي كما حكى
ذلك عن ظاهر كلام شيخنا البهائي أو محتمله (1) كان الظن بالخلاف مضرا بحجيته،
بل لابد من حصول الظن به وهو لا يجتمع مع الظن بالخلاف، وإذا كانت حجيته من
باب الظن النوعي فالظاهر أن الظن الشخصي الغير المعتبر على الخلاف لا يضر
بحجيته، كما هو أنه بناء على ما هو الحق من اعتباره من باب التعبد والأخبار أيضا
لا يضر، وذلك لأن الشك الذي لا ينقض به اليقين هو خلاف اليقين، كما نسب إلى
أئمة اللغة وأرباب التفسير، وإطلاق الأصحاب له على هذا المعنى في غير باب،
ولو أنهم في بعض الأبواب أطلقوه على الاحتمال المساوي، لكن هذا الإطلاق
نادر بالنسبة إلى الأول وهو الظاهر من أخبار الباب خصوصا مثل قوله " لا تنقض
اليقين بالشك ولكن بيقين آخر (2) " حيث جعل ناقض اليقين هو اليقين بعد قوله
لا تنقض اليقين بالشك، فيفهم من المقابلة أن المراد من الشك هو خلاف اليقين.
والظاهر أنه واضح لا يحتاج إلى إقامة برهان وتكلف استدلال، ومع ذلك فقد
استدلوا عليه بوجهين:
أحدهما: الاجماع القطعي على اعتبار الاستصحاب ولو مع الظن بالخلاف
على تقدير اعتباره من باب الأخبار.
وفيه: أنه لا وجه لدعوى الإجماع لو سلم اتفاق الأصحاب على الاعتبار،

(1) انظر زبدة الأصول: ص 73.
(2) وسائل الشيعة: ب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 1 ج 1 ص 175.
786

لاحتمال أن يكون ذلك من جهة دلالة الأخبار، فلا يكشف هذا الاتفاق عن رضا
الإمام (عليه السلام) حتى يتحقق الإجماع.
الثاني: أن الظن الغير المعتبر إما أن يكون دليل على عدم اعتباره، كالظن
الحاصل من القياس والاستحسان ونحوهما، أو لم يكن دليل لا [على] اعتباره ولا
على عدم اعتباره، ويكون عدم اعتباره من جهة الأصل، فالأول بعد نهي الشارع
عن العمل به وترتيب الأثر عليه يصير وجوده كعدمه، فكما أنه لو لم يكن هذا
الظن لكنا نعمل بالاستصحاب، فكذلك مع وجوده. والثاني بعد أنه لم يكن دليل
[على] اعتباره وكان مشكوكا لو رفعنا اليد به عن الاستصحاب لكنا رفعنا اليد عن
اليقين بالشك.
وفيه: أن عدم اعتبار الظن سواءا كان من جهة الدليل على عدم الاعتبار أو
من جهة عدم الدليل على الاعتبار، هو أن هذا الظن لا يثبت مظنونه ومتعلقه تعبدا
لا أنه يترتب عليه آثار الشك ولو لم يكن شك حقيقة، فإذا قلنا: بأن الشك عبارة
عن الاحتمال المساوي، كما هو مصطلح أرباب المعقول، وجروا عليه الأصحاب
في بعض الأبواب، فالظن الحاصل من القياس - الذي دل الدليل على عدم اعتباره -
أو الحاصل من الشهرة - الذي لا دليل على اعتباره - لا يخرج بذلك عن كونه ظنا
وجدانا، فعلى هذا لا يجوز العمل لا بهذا الظن لأنه ليس بحجة، ولا بالاستصحاب،
لأنه يعمل به مع الشك في بقاء الحالة السابقة وعدمه، لا مع الظن بالعدم، فلابد من
الرجوع إلى سائر الأصول العملية، من البراءة والاشتغال والتخيير حسب اختلاف
المقامات.
ثم إنه لابد في الاستصحاب من بقاء الموضوع وعدم أمارة معتبرة هنا لاعلى
خلافه ولا على وفاقه فهنا مقامان:
الأول: أنه لا إشكال في اعتبار الموضوع في الاستصحاب، بمعنى كون القضية
المشكوكة عين القضية المتيقنة موضوعا وحكما، حتى يكون الشك في البقاء
ورفع اليد عن اليقين السابق نقضا لليقين بالشك، فبعد كون الاستصحاب عبارة
787

عن ابقاء المتيقن السابق في زمان الشك، والمتيقن السابق لم يكن إلا الحكم لهذا
الموضوع، فلابد من بقاء الموضوع بهذا المعنى حتى يصدق البقاء، وهذا أمر
واضح لا حاجة إلى تكلف الاستدلال: بأنه لو لم يكن الموضوع باقيا يلزم بقاء
العرض بلا موضوع، وانتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر، كما صدر عن
الشيخ (قدس سره) مع أن هذا الاستدلال ليس بتام، لأن استحالة بقاء العرض بلا موضوع
وانتقاله من موضوع إلى موضوع آخر حقيقة لا تستلزم استحالتهما تعبدا فتدبر.
وأما بمعنى إحراز الموضوع خارجا فلابد يعتبر في تحقق الاستصحاب وجريانه
قطعا، لتحقق أركانه بدونه.
نعم، ربما يكون مما لابد منه في ترتيب بعض الآثار، ففي استصحاب عدالة
زيد لا يحتاج إلى إحراز حياته لجواز تقليده، وإن كان محتاجا اليه في جواز
الاقتداء به، أو وجوب إكرامه، أو الإنفاق عليه، فإذا كان زيد مجتهدا حيا عادلا
جائر التقليد والاقتداء أو واجب الإكرام والإنفاق، فإن كان الشك في جواز التقليد
من جهة الشك في بقاء عدالته وعدمه فهنا يجوز استصحاب عدالته، وترتيب هذا
الأثر عليه ولو لم يحرز وجوده وحياته خارجا، لأن هذا الحكم لا يتوقف على
حياته. وأما إذا شك في جواز الاقتداء به من جهة الشك في عدالته وعدمه، فهنا
لا يجوز استصحاب عدالته لترتيب أثر جواز الاقتداء أو وجوب الإنفاق والإكرام،
لأن هذه الاحكام تتوقف على حياته ووجوده خارجا فتأمل.
والحاصل: أنة لابد في جريان الاستصحاب من اتحاد القضية المتيقنة مع
القضية المشكوكة، وإلا لكان إسراء للحكم من موضوع إلى موضوع آخر، ولم
يصدق لا تنقض اليقين بالشك، واتحادهما لا يمكن إلا بأن يكون معروض
المستصحب بتمام ماله دخل في الحكم من الخصوصيات بنظر الحاكم باقيا في
الزمان الثاني من جميع الجهات، وكان التفاوت والاختلاف بين الزمان الأول وهو
زمان اليقين وزمان الثاني وهو زمان الشك بمجرد تبدل الزمان لا سائر
الخصوصيات، والموضوع بهذا المعنى يختلف باختلاف المستصحب، ففيما إذا
788

شك في وجود زيد وعدمه بعد القطع بكونه موجودا سابقا، الموضوع مهية زيد
المعراة عن الوجود والعدم فيستصحب وجوده عند الشك، وفي ما إذا شك في
قيامه بعد القطع به في الزمان الأول الموضوع هو زيد الموجود، لأن الشك في
القيام وعدمه إنما يتصور في الموضوع المفروض الوجود، وهكذا الحال في سائر
المحمولات المترتبة بواسطة أو بوسائط، فعلى هذا إذا شك في عدالة زيد
الموضوع هو زيد المفروض وجوده، لأن الشك في العدالة لا يتصور إلا على هذا
الفرض، إلا أن المقصود من استصحاب عدالته إن كان ترتيب أثر جواز التقليد
فيكفي في استصحاب العدالة لترتيب هذا الأثر هذا الفرض، لعدم توقف هذا الأثر
على وجوده الخارجي، وإن كان المقصود منه ترتيب أثر جواز الاقتداء ووجوب
الإنفاق ونحوهما لا يكفي هذا الفرض، بل لابد من تحققه وإحرازه خارجا، لكن
إحرازه في الخارج أعم من أن يكون بالوجدان، أو بأمارة معتبرة، أو بالأصل،
ففيما إذا كان الأثر مترتبا على حياة زيد وعدالته، ولم يكن العدالة على تقدير
الحياة كافيا في ترتيبه، وكان كل منهما مشكوكا يمكن استصحاب كل منهما،
وترتيب هذا الأثر، فيكون كلا جزئي الموضوع محرزا بالأصل.
فظهر مما ذكرنا أنه لابد في جريان الاستصحاب من إحراز بقاء الموضوع،
ولا يكفي فيه عدم العلم بانتفائه ولكن الإحراز أعم من كونه بالوجدان أو بالأمارة
أو بالأصل فتأمل.
ثم إن اتحاد المعتبر بين القضية المتيقنة والمشكوكة من حيث الموضوع، هل
هو بنظر العقل أو بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل؟
وتظهر الثمرة بينهما في أنه لو كان المناط في الاتحاد هو نظر العقل لزم عدم
جريان الاستصحاب في الأحكام، إلا فيما إذا كان الشك في بقائها من جهة
النسخ، لأن تمام الخصوصيات المعتبرة فيه إن كانت باقية في زمان الثاني فلا يقع
شك في الحكم وعدمه، إلا من جهة النسخ وإن لم يكن باقية لم يكن استصحابا، بل
إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر متباين للموضوع الأول فتدبر.
789

ولو كان المناط هو الاتحاد بحسب ما يستفاد من لسان الدليل فلابد أن يفصل
في جريان الاستصحاب بين قوله الماء نجس إذا تغير، وقوله الماء المتغير نجس،
فانه في الأول ذات الماء، والتغير من الحالات، فإذا شك في بقاء النجاسة بعد
زوال التغير نستصحب، بخلاف الثاني، فإن الموضوع هو الماء المتغير وبعد زواله
لا يمكن استصحابها.
ولو كان المناط في الاتحاد نظر العرف لزم جريانه في بعض المقامات
والأحكام، دون بعض آخر، وهو الحق لأن المحاورات العرفية التي من جملتها
الخطابات الشرعية منزلة على المتفاهم العرفي، لا على الاعتبار العقلي،
والأوضاع اللغوي، فربما يفهمون الاتحاد بين القضيتين في مقام من جهة
مناسبات الحكم والموضوع، ولو لم يكن بنظر العقل أو بحسب لسان الدليل اتحاد،
فإنه في المثالين المذكورين لا يفرقون بين قوله " الماء نجس إذا تغير " وبين قوله
" الماء المتغير نجس " في بقاء الموضوع وعدمه، بل يحكمون في المثالين بالبقاء،
والحال أنه لو كان بنظر العقل لم يحكم في شيء منهما بالبقاء على وجه الجزم، بل
يحكم بالعدم من جهة دخل التغير في الموضوع، أو يتردد من جهة احتماله، ولو
كان بحسب لسان الدليل لابد من أن يفرق بين المثالين فيحكم بالبقاء في الأول
وبعدمه في الثاني كما عرفت.
والحاصل: أن أخبار الباب تدل على النهي عن نقض اليقين بالشك، فكل
مورد يكون رفع اليد عن اليقين نقضا يكون مشمولا لهذه الأخبار، وكل مورد لا
يكون نقضا لا يكون مشمولا لها.
واما تشخيص مفهوم النقض كسائر الألفاظ التي يكون مفهومها مجملا بحيث
يشك في صدقها في بعض الموارد كلفظ الماء بالنسبة إلى الماء المختلط بالتراب
- مثلا - فلابد من الرجوع فيه إلى العرف، لأنه المرجع في تشخيص المفاهيم من
حيث الصدق، وإن لم يكن مرجعا في تشخيص المصداق بعد تبين المفهوم
لا العقل، لأنه اجنبي عن هذا المقام، ولا ظاهر لسان الدليل لأنه لو كان على
790

خلاف ما ارتكز في أذهان العرف يصير المرتكز العرفي قرينه متصلة صارفة عن
ظاهر لسانه، بعد ما كان هو المدار في تشخيص المفهوم، ومن هنا يمكن أن يقال لا
وجه للمقابلة بين نظر العرف ولسان الدليل فتأمل.
الثاني: في أنه لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في
مورده، وإنما الإشكال: في أنه من جهة الورود أو الحكومة أو التوفيق العرفي
الحق أنه من باب الورود، وذلك لأن الشك المأخوذ في موضوع الأصول كما
يرتفع بالعلم كذلك يرتفع بالدليل العلمي، الذي جعله الشارع بمنزلة العلم، فرفع
اليد عن الحالة السابقة بواسطة قيام الأمارة المعتبرة على خلافها ليس نقضا لليقين
بالشك، بل باليقين، لكونها يقيني الاعتبار.
والشيخ (قدس سره) جعله من باب حكومة الأمارة عليه والحال أن الضابط الذي ذكره
للحكومة وهو كون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر
ورافعا للحكم الثابت به عن بعض أفراد موضوعه فيكون مبينا لمقدار مدلوله،
بحيث لو فرض عدم ورود ذلك الدليل كان هذا الدليل لغوا خاليا عن المورد إلى
آخره.
لأن الأمارة ليست متعرضة لحال الاستصحاب ومبينة لمقدار مدلوله، بل
متعرضة لإثبات مؤداها فقط، ولا يلزم جعلها لغوا على تقدير أن لا يكون
استصحاب، كما يلزم ذلك في لا ضرر، ولا حرج، ولا شك لكثير الشك وأمثالها،
كما لا يخفى، وسيأتي لهذا مزيد توضيح في باب التعادل إن شاء الله.
وأما الجمع العرفي فإن كان بما ذكرنا من الورود أن العمل بالأمارة في مورد
الاستصحاب ليس من نقض اليقين بالشك بل باليقين، فنعم الوفاق، وإن كان
بتخصيص دليله بدليل الأمارة.
ففيه: أن العمل بها في مورده ليس نقضا لليقين بالشك، لا أنه نقض يقين
بالشك وليس منهيا عنه فتأمل. هذا بيان النسبة بين الاستصحاب والأمارة.
وأما النسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول العملية: أما النسبة بينه وبين
791

الأصول الثلاثة الأخر أعني البراءة والاشتغال والتخيير، كالنسبة بينه وبين
الأمارات في النقلية من هذه الأصول. إذ لو رفعنا اليد عنه بها يلزم محذور
التخصيص بوجه دائر، إذ رفع اليد عنه بها موقوف على اعتبارها معه، واعتبارها
معه موقوف على عدم رفع اليد به عنها، كما تقدم بيان هذا المحذور في تقديم
الاستصحاب على الأمارة، وقلنا: إنه لا محذور في الأخذ بذيلها، بخلاف الأخذ
بدليله، فإنه يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصص، الا على وجه دائر، إذ التخصيص
به يتوقف على اعتباره معها، واعتباره معها يتوقف على التخصيص به.
وأما العقلية منها فموضوعها يرتفع بالاستصحاب، إذ موضوع أصالة البراءة
قبح العقاب بلا بيان، وموضوع أصالة الاشتغال عدم المؤمن، وموضوع أصالة
التخيير هو التحير لا إشكال في أن الاستصحاب يرفع موضوع الجميع، بل يمكن
أن يقال: إن نسبته إلى الأصول النقلية - أيضا - كنسبته إلى الأصول العقلية في أنه
يرتفع موضوعها به، فتأمل.
وأما النسبة بينه وبين استصحاب آخر: فهو أن تعارض الاستصحابين إن كان
لعدم إمكان العمل بهما، من دون العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما،
كاستصحاب وجود امرين حدث بينهما التضاد في زمان الاستصحاب فهو من
باب تزاحم الواجبين، فيتخير بينهما، إن لم يكن ترجيح لأحدهما بالنسبة إلى
الآخر بالأهمية أو غيرها، من مرجحات باب التزاحم، وإلا فيقدم، ذو المرجح
على الآخر.
والتوهم بأنه لا مجال هناك للأهمية، لأن ايجاب كل منهما من باب واحد
وهو الاستصحاب من دون مزية لأحدهما على الآخر أصلا كما لا يخفى.
مدفوع: بأن الاستصحاب إنما يتبع المستصحب، فكما يثبت به الوجوب
والاستحباب يثبت به كل مرتبة منهما.
والحاصل: أنه بالاستصحاب يثبت الوجوب السابق الذي كان لكل منهما في
الزمان اللاحق، فيمكن أن يكون المستصحب في أحدهما أهم من الآخر، بحيث
792

لو ثبت التكليف بهما بالدليل الاجتهادي لكان بينهما التزاحم ويرجح الأهم على
غيره، فكذا لو ثبت التكليف بهما بالاستصحاب فبالاستصحاب ثبت وجوب
الأهم وغير الأهم في زمان الشك، فلا إشكال في الترجيح، ولا موقع لهذا التوهم
الذي تعرض له في الحاشية، ودفعه بهذا البيان الذي نقلناه، لأن الأهمية إنما هي
في ناحية المدلول ولا اعتبار فيها بوحدة الدليل وتعدده.
وإن كان للعلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما فإن كانت النسبة بينهما
سببية ومسببية، بأن كان المستصحب في أحدهما من الآثار الشرعية للآخر،
والشك فيه ناشئا عن الشك فيه، فلا إشكال في تقديم الاستصحاب الجاري في
ناحية السبب على الاستصحاب الجاري في ناحية المسبب؛ فإنه إذا شك في
طهارة ماء قليل ونجاسته مع العلم بطهارته سابقا، وغسل به الثوب النجس على
وجه الصب عليه، لا على وجه الغمس فيه، فالشك في طهارة الثوب بعد الغسل
ونجاسته مسبب عن الشك في نجاسة الماء وطهارته، ومن آثار طهارته شرعا
زوال النجاسة عن الثوب المغسول به، فيجري الاستصحاب بالنسبة إلى الماء
ويزول به الشك في ناحية المسبب، وإن خالف فيه بعض فحكم بتعارض
الاستصحابين وتساقطهما، وبعض آخر فحكم بالجمع بينهما والعمل بكل منهما في
مورده، وثالث فحكم بالتعارض بينهما وإعمال المرجحات وإلا فالتخيير.
وهذه المسألة المعنونة في كلام الفاضل النراقي المبتدع لها بمسألة المزيل
والمزال، واستدلوا على المختار فيها، وهو تقديم الأصل الجاري في ناحية السبب
على الأصل الجاري في ناحية المسبب بوجوه، ربما تزيد على العشرة.
والعمدة منها: هو أن إجراء الاستصحاب في ناحية السبب والحكم بطهارة
الماء في المثال يوجب زوال الشك في نجاسة الثوب وطهارته، وعدم رفع اليد عن
اليقين بنجاسته بالشك في طهارته، بل باليقين بطهارته، لغسله بماء حكم الشارع
بطهارته، فيكون مثل ما لو غسل بماء متيقن الطهارة، في أن رفع اليد عن نجاسة
الثوب ليس نقضا لليقين بالشك، بل باليقين.
793

وأما إجراء الاستصحاب في ناحية المسبب والحكم ببقاء نجاسة الثوب
لا يوجب زوال الشك في طهارة الماء ونجاسته، فإنها ليس من الآثار الشرعية
للنجاسة، ويكون رفع اليد عن اليقين بطهارته نقضا لليقين بالشك بلا وجه.
والحاصل: أنه إجراء الاستصحاب في ناحية السبب يوجب خروج الشك في
ناحية المسبب عن عموم لا تنقض اليقين بالشك تخصصا، والعكس يوجب
خروجه في ناحية السبب تخصيصا بلا وجه. إلا على الوجه المحال، ولا شك في
تقديم الأول على الثاني، وفي هذا الوجه كفاية في الدلالة على المدعى، مضافا
إلى دعوى الإجماع ودلالة الأخبار وسائر الوجوه التي ذكرها الشيخ (رحمه الله)، وإن لم
تكن بينهما سببية ومسببية ولم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار الشرعية
للآخر، بل كان الشك فيهما مسببا عن أمر ثالث مثل ما لو علم بارتفاع أحد
الحادثين لا بعينه، فإنه يجري بالنسبة إلى كليهما ويعمل به، لو لم يلزم محذور
المخالفة القطعية؛ لشمول قوله (عليه السلام) " لا تنقض اليقين بالشك (1) " الغير المذيل بقوله
" ولكن انقضه بيقين آخر مثله " لكليهما لو سلم عدم شمول المذيل بهذه الفقرة لهما،
للزوم المناقضة بين الصدر والذيل، ولا مانع من الشمول إلا لزوم المخالفة
الالتزامية، وهو ليس بمانع.
ومنه انقدح عدم جريانه في أطراف العلم بالتكليف فعلا أصلا ولو في بعضها
لوجوب الموافقة القطعية له عقلا ففي جريانه يلزم المخالفة القطعية، لو أجري في
جميع الأطراف وتلزم المخالفة الاحتمالية لو أجرى في بعض الأطراف.
فظهر مما ذكرنا أنه لا مانع من جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الإناءين إذا
كان نجسين ثم علم بطهارة أحدهما لا بعينه بخلاف صورة العكس.
تذنيب
لا يخفى أن قاعدة التجاوز والفراغ وأصالة الصحة في عمل الغير وغيرها، من
القواعد المقررة في الشبهات الموضوعية إلا القرعة مقدمة على استصحاباتها

(1) وسائل الشيعة: ب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 1 ج 1 ص 174.
794

المقتضية لفساد ما نشك فيها من الموضوعات؛ لتخصيص دليلها بأدلتها فان قوله
" لا تنقض اليقين بالشك " عام قد خصص بأدلة تلك القواعد الدالة على عدم
الاعتناء بالشك بعد التجاوز والفراغ بالنسبة إلى عمل نفسه، وعلى عدم الاعتناء
بالشك في الصحة والفساد بالنسبة إلى عمل غيره.
وكون النسبة بينه وبين بعضها عموما من وجه لا يمنع عن تخصيصه بها، بعد
الإجماع على عدم الفصل بين مواردها، كقاعدة الفراغ - مثلا - فإنه: ربما يجري
الاستصحاب دون تلك القاعدة، كما لو كان الشك في الصحة والفساد في أثناء
العمل من جهة الشك في واجديته لبعض الشرائط المعتبرة فيه؛ مع كون الحالة
السابقة عدم تحققه، فهنا يجري استصحاب عدم تحقق الشرط ولا تجري القاعدة،
لأنها مخصوصة ببعد العمل، والشك هنا في أثناء العمل.
وربما تجري القاعدة دونه، كما لو شك في صحة الصلاة وفسادها - مثلا - من
جهة الشك في أنه هل صلى بلا طهارة أو معها، مع عدم العلم بالحالة السابقة، فأنه
من جهة عدم علمه بالحالة السابقة لا يجري استصحاب عدم الطهارة المقتضي
لفساد الصلاة، ولكن قاعدة الفراغ تجري، لأنه عمل شك في صحته وفساده بعده.
وربما تجريان معا، كما لو علم بأن حالته السابقة عدم الطهارة، ثم صلى غفلة،
ثم شك في أنه صلى بلا طهارة، أو تطهر وصلى، فإنه يجري الاستصحاب
والقاعدة في حد نفسها، وتكون القاعدة مقدمة على الاستصحاب فتأمل.
مع أنه لو لم تقدم تلك القواعد على الاستصحاب الجارية في موردها لزم أن
يكون جعلها لغوا، إذ قل مورد لا يكون الاستصحاب على خلافها، فإن الشك في
إتيان الشيء وعدمه في أثناء العمل بعد التجاوز عن محل ذلك المشكوك مجرى
لاستصحاب عدم الإتيان، فلو لم يكن قاعدة التجاوز مقدمة عليه لزم أن يكون
جعل القاعدة بلا فائدة.
وكذلك بالنسبة إلى قاعدة الفراغ والصحة فإن الشك في الصحة والفساد غالبا
ناشيء إما عن فقد شرط أو وجود مانع، يكون مقتضى الاستصحاب عدم ذلك
795

الشرط أو وجود ذلك المانع، فلو لم تكونا مقدمتين على الاستصحاب لزم أن
يكون جعلهما لغوا، أو قليل الفائدة.
وأما القرعة فلا إشكال في تقديمها على الاستصحاب فيما إذا ورد الأمر بها
بالخصوص، كما ورد الأمر بها كذلك في بعض الموارد، وإنما الإشكال في تقديمها
على الاستصحاب أو تقديمه عليها، فيما لو لم يرد أمر بها بالخصوص، بل كان
صرف عمومات الأمر بالقرعة كقوله " القرعة لكل أمر مشكل أو مجهول "
ونحوهما، والظاهر تقديم الاستصحاب حينئذ عليها؛ لأن الظاهر من المشكل هو
ما لم يعلم حكمه الواقعي والظاهري وبالاستصحاب يعلم حكمه الظاهري فيرتفع
موضوع القرعة، وكذلك المجهول، لو كان المراد به المجهول مطلقا، ولو كان المراد
به المجهول من بعض الوجوه فتعارض مع الاستصحاب، إلا أنه من جهة أخصية
دليله بالنسبة إلى دليلها لاعتبار الحالة السابقة فيه دونها، واختصاصها بغير الأحكام
دونه، مضافا إلى وهن دليلها بكثرة التخصيص الوارد عليه، حتى صار العمل به في
مورد محتاجا إلى الجبر بعمل الأصحاب، يقدم الاستصحاب عليها فتأمل.
هذا هو القدر المتعلق بالمقام من ذكر القواعد المذكورة وبيان حكم تعارضها
مع الاستصحاب وتحصل أن القرعة مؤخرة عن الاستصحاب ومع جريانه لا تصل
النوبة إلى القرعة، وأما قاعدة التجاوز في أثناء العمل وقاعدة الفراغ بعد العمل
التي يعبر عنها بأصالة الصحة - أيضا - وأصالة الصحة الجارية في عمل الغير كلها،
مقدمة على الاستصحاب لما مر.
أما تفصيل الكلام في قاعدة التجاوز والفراغ وأنهما قاعدة واحدة كما حكي
عن الشيخ (1) أو قاعدتان كما هو الحق وبيان مفادهما متوقف على ذكر الأخبار
التي استدلوا بها عليهما:
منها: رواية " زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) حيث سأله عن الشك بعدما أقام
قال (عليه السلام) فليمض ثم قال شك في الإقامة بعدما كبر قال فليمض ثم قال شك في

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 715.
796

التكبير بعد ما قرأ قال فليمض ثم قال شك في القراءة بعدما ركع قال فليمض ثم
قال شك في الركوع بعدما سجد قال فليمض ثم قال (عليه السلام) إذا شككت في شيء
ودخلت غيره فشكك ليس شيء " (1).
ومنها: رواية " إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن شك في الركوع
بعدما سجد فليمض وإن شك في السجود بعدما قام فليمض شيء شك فيه وقد
جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه " (2) وفي الموثقة " كل ما شككت فيه مما قد
مضى فامضه كما هو " (3) في موثقة ابن أبي يعفور " إذا شككت في شيء من الوضوء
وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه " (4)
وقوله (عليه السلام): " كلما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه (5) كما هو ".
ولا يخفى أن رواية زرارة وإسماعيل بن جابر موردهما قاعدة التجاوز التي
اعتبر فيها، أن يكون الشك في وجود جزء من أجزاء العمل المركب المرتب بعضها
على بعض بعد التجاوز عن محله المقرر له شرعا، كأجزاء الصلاة وهل هي
مخصوصة بالصلاة أو تجري في غيرها، من الأعمال المركبة المرتبة كالحج
ونحوه؟ الحق هو الأول، لأن لفظ الشيء كان قابلا لشموله بإطلاقة لغيرها من
المركبات، إلا أنه من جهة ورود الرواية في الصلاة وعدم التعرض لتمام أجزاء
الصلاة بالخصوص، لا يمكن استفادة قاعدة كلية في تمام الأعمال، فيقتصر على
المتيقن وهو خصوص الصلاة.
فعلى هذا؛ الاعتناء بالشك في بعض الأعضاء في أثناء الوضوء يكون على
القاعدة، ويكون إلحاق الغسل به - أيضا - على القاعدة، وكذلك التيمم - أيضا -
وإلا فلو كانت هذه القاعدة شاملة للوضوء - أيضا - وقلنا: بأنه خرج من هذه

(1) وسائل الشيعة: ب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 1 ج 5 ص 336.
(2) وسائل الشيعة: ب 13 من أبواب الركوع ح 4 ج 4 ص 937.
(3) وسائل الشيعة: ب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 3 ج 5 ص 336.
(4) وسائل الشيعة: ب 42 من أبواب الوضوء ح 2 ج 1 ص 330.
(5) وسائل الشيعة: ب 42 من أبواب الوضوء ح 6 ج 1 ص 331.
797

القاعدة بالخصوص. لم يكن وجه لإلحاق الغسل والتيمم به.
وأما بقية الروايات: فموردها قاعدة الفراغ التي اعتبر فيها أن يكون الشك في
صحة الشيء وفساده بعد الفراغ عنه سواء كان في العبادات أو المعاملات من
العقود والإيقاعات، بل كل عمل يترتب عليه أثر شرعي، كالتذكية بخلاف ما لو لم
يترتب عليه أثر، كالشك في صحة صلاة الجمعة أو العيد بعد خروج وقتهما، إذ
الأصول إنما تجري بلحاظ الأثر، فإذا لم يكن لها أثر فلا معنى لجريانها.
وهل يعتبر في قاعدة التجاوز الدخول في الغير؟ أم يكفي الخروج عن
الشيء؟ في عدم الاعتناء بالمشكوك، وإن ذكر الدخول في الغير إنما هو من جهة
ملازمة الخروج عن الشيء مع الدخول في غيره غالبا، وتظهر الثمرة فيما لو كان
الشك في إتيان الجزء الأخير وعدمه، إذ في غيره من الأجزاء محقق الخروج عن
محل الشيء إنما هو الدخول في غيره، وأما في الجزء الأخير كالسلام - مثلا - فإن
قلنا: بتعميم الغير بالنسبة إلى التعقيب الذي من توابع الصلاة كما لا يبعد من جهة أن
حال التعقيب كالأذان والإقامة اللذين صرح بعدم الاعتناء بالشك فيهما بعد
الدخول في الصلاة، فكذلك العكس وكان الشك بعد الدخول في التعقيب، فلا
إشكال في عدم الاعتناء بالشك. وإن قلنا: بعدم التعميم أو كان الشك قبل الدخول
فيه فيشكل الحكم بعدم الاعتناء، من جهة قاعدة التجاوز، إلا أن يمضي مقدار من
الزمان، بحيث يصدق التجاوز عن محل السلام، وإن لم يكن شاغلا بغيره فحينئذ
لا مانع من الحكم بعدم الاعتناء من جهة قاعدة التجاوز.
نعم لا بأس بعدم الاعتناء بالشك فيه من جهة قاعدة الفراغ إذ لم يعتبر فيها
الدخول في الغير، بل مجرد الفراغ عن العمل ومضيه فتدبر.
ثم إنه قد عرفت أن قاعدة التجاوز إنما تجري فيما إذا كان الشك في أصل
وجود الشيء بعد التجاوز عن محله المقرر له شرعا، كالأمثلة المذكورة في
الروايات. وقاعدة الفراغ إنما تجري فيما إذا كان الشك في كيفية العمل، من
الصحة والفساد بعد الفراغ عن العمل، سواء كان منشأ الشك في صحته وفساده فقد
798

جزء أو شرط من شرائطه المقارنة كالاستقبال في الصلاة أو الستر، أو من شرائطه
المتقدمة كالطهاره، أو وجود مانع، فإذا شك بعد الفراغ عن الصلاة في صحتها
وفسادها، من جهة احتمال فقد الطهارة، فإن كان أصل وجود الطهارة محرزا
وكان الشك في صحتها وفسادها من جهة فقد جزء أو شرط أو وجود مانع فلا
إشكال في جريان قاعدة الفراغ بالنسبة إلى نفس الطهارة وترتيب جميع الآثار،
وإن لم تكن أصل الطهارة محرزة، بل كان الشك في صحة الصلاة وفساده، من
جهة أنه تطهر وصلى أم لا؟ فبالنسبة إلى نفس الصلاة تجري قاعدة الفراغ، ولكن
بالنسبة إلى الطهارة لا تجري قاعدة الفراغ؛ لأن أصل وجودها مشكوك.
وإنما تجري بالنسبة إليها قاعدة التجاوز ولو على القول باختصاصها بالصلاة،
لأن الطهارة من مقدماتها كالأذان والإقامة بل جريان القاعدة بالنسبة إليها أولى
من جريانها بالنسبة اليهما كما لا يخفى.
فتثبت بقاعدة التجاوز الطهارة بالنسبة إلى الصلاة التي تجاوز محل طهارتها
وهي الصلاة التي أتى بها، وأما بالنسبة إلى الصلاة التي لم يأت بها فلا تثبت، إلا
على القول بالأصل المثبت الذي لا نقول به، إذ بالأصل لا تثبت الطهارة الواقعية
التي لازمها جواز الدخول في الصلاة التي لم يأت بها وغيرها، من الأمور
المشروطة بالطهارة، بل تثبت الطهارة بالنسبة إلى الصلاة التي تجاوز محل
طهارتها، إذ لو اعتنينا بالشك في وجود الطهارة بالنسبة إليها لكان اعتناءا بالشك
في وجود الشيء بعد تجاوز محله. ولكن لو اعتنينا بالشك في وجودها بالنسبة
إلى الصلاة التي لم نأت بها لم يكن اعتناءا بالشك في وجود الشيء بعد تجاوز
محله، بل قبله.
والحاصل: أن الشك في وجود الطهارة من حيث نفسها ليس محكوما بعدم
الاعتناء به، بل من حيث كونها شرطا للصلاة التي تجاوز محلها بالنسبة إليها لا
بالنسبة إلى الصلاة التي لم يتجاوز محلها بالنسبة إليها، إلا على القول بالأصل
المثبت، كما أن الشك في الجزء كالركوع لا يعتنى به بعد التجاوز عن محله وحيث
799

إنه جزء من الصلاة لامن حيث نفسه فلو كان أثر مرتب على وجوده من حيث
نفسه لا يثبت هذا الأثر كما أن الشك كما أن الشك في اتيان الظهر بعد الدخول في
العصر من حيث إنه شرط للشروع في العصر لا يعتنى به واما من حيث نفسه ولابد
من الاعتناء والإتيان به فبالنسبة إلى الصلاة التي تجاوز محلها بالنسبة إليها لو لم
نثبت الطهارة لكان اعتناءا بالشك بعد تجاوز المحل وقد أمرنا بعدم الاعتناء به،
وبالنسبة إلى غيرها، لو لم نبثت الطهارة لم يكن اعتناءا بالشك بعد تجاوز المحل
بل قبله، وقد أمرنا بالاعتناء به، بل لو أثبتنا الطهارة بالنسبة إليها لكان اعتناءا
بالشك، كما في " لا تنقض اليقين بالشك " فإنه لو لم نرتب على المستصحب آثاره
الشرعية لكان نقض اليقين بالشك.
ولو رتبنا آثاره العقلية لم يكن نقض اليقين بالشك بل ترتيبها نقض اليقين
بالشك، لأن عدم هذه الآثار كان متيقنا ونشك في وجودها، ففيما كان الشك في
وجود الطهارة بعد الصلاة لا إشكال في الحكم بثبوتها بالنسبة إليها، والحكم بعدم
ثبوتها بالنسبة إلى غيرها من الأمور التي لم يأت بها.
إنما الإشكال فيما إذا كان الشك في الطهارة في أثناء الصلاة، فهل يحكم
بثبوت الطهارة بالنسبة إلى جميع هذه الصلاة؛ لتجاوز محل الطهارة، وهو قبل
الشروع فيها؟ أو يحكم بثبوتها بالنسبة إلى الأجزاء السابقة وأما بالنسبة إلى
الأجزاء اللاحقة فلابد من تحصيل الطهارة والبناء إن أمكن، وإلا فلابد من
الاستئناف، لأنها بالنسبة إليها لم يتجاوز محلها، كالصلاة التي لم يأت بها وجهان.
ثم إنه قد عرفت أن محل قاعدة التجاوز هو الشك في وجود الشيء فلو شك
في صحته وفساده فهل تجري قاعدة التجاوز - أيضا - أم لا؟ الظاهر من الروايات
هو عدم الجريان، إذ المتبادر من الشك في الركوع أو السجود - مثلا - هو الشك
في وجودهما لا الشك في صحتهما، إلا أن يدعى الأولوية فإن الشك في أصل
الوجود إذا صار غير معتنى به، فالشك في الصحة بعد إحراز أصل الوجود بطريق
أولى كما لا يخفى. أو يدعى إمكان تصحيح العمل بإجراء قاعدة الفراغ في
800

خصوص الجزء بناء على شمول قاعدة الفراغ له لأنه عمل شك في صحته وفساده
بعد الفراغ عنه.
والإشكال بأن قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الجزء معارضة بقاعدة عدم الفراغ
من الكل.
مدفوع بأن تعارضهما من باب تعارض الاقتضاء واللا اقتضاء، وبعبارة
أخرى الشك في الفراغ وعدمه بالنسبة إلى الكل ناشيء عن الشك في الفراغ عن
الجزء، فمع إجراء قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الجزء لم يبق شك بالنسبة إلى الكل،
كما في سائر موارد الشك السببي والمسببي، فتكون قاعدة الفراغ بالنسبة إلى
الجزء حاكمة، ورافعة للشك في الفراغ وعدم الفراغ بالنسبة إلى الكل، فعلى تقدير
جريان قاعدة الفراغ في الأجزاء لا يرد هذا الإشكال.
وإنما الشأن في جريانها بالنسبة إلى الأجزاء التي لم يكن لها جهة استقلال
كأجزاء الصلاة، نعم بالنسبة إلى الاجزاء التي لها استقلال كأعمال الحج والعمرة
ونحوهما لا مانع من جريان القاعدة. فعلى هذا لو شك في صحة الطواف أو صلاته
أو السعي أو الرمي أو غيرها من أعمالهما تجري قاعدة الفراغ، ولو كان حصول
الشك في الصحة والفساد قبل تمام الحج أو العمرة.
ثم إنه لا إشكال في جريان قاعدة الفراغ فيما إذا كان الشك طارئا، كما لو كان
في يده خاتم لا يصل الماء إلى تحته إلا بتحريكه ثم توضأ وشك بعد الوضوء في
تحريكه وإيصال الماء إلى تحته وعدمه، فانه لا إشكال هنا في جريان قاعدة
الفراغ، لأن احتمال فساد العمل ناشيء عن احتمال تقصير ومسامحة عنه وهذا
الاحتمال منفي بمقتضى القاعدة.
وإنما الإشكال فيما إذا كان الشك ساريا، كما لو كان في يده خاتم أو شيء
آخر يشك في وصول الماء إلى تحته بدون التحريك، ويدري أنه حين العمل
ما حركه ويشك في وصول الماء إلى تحته وعدمه من دون تحريك، فهل تجري
قاعدة الفراغ في هذه الصورة أم لا؟ يمكن أن يقال بجريانها في هذه الصورة
801

- أيضا - من جهة إطلاق الأخبار مثل قوله (عليه السلام) " كلما ما مضى من صلاتك
وطهورك فامضه كما هو (1) " إذ لافرق في جريانها بمقتضى الأخبار بين أن يكون
الشك في الصحة والفساد ناشئا عن احتمال مسامحة وتقصير من العامل، كما في
الصورة الأولى، أو يكون الشك ناشئا عن مجرد احتمال مطابقة العمل للواقع قهرا
وعدم مطابقته له، كا في الصورة الثانية، نعم التعليل الوارد في الأخبار وهو
قوله (عليه السلام) " هو حين ما يتوضأ أذكر منه حين يشك (2) " ربما يستفاد منه أن هذه
القاعدة إنما اعتبرت من حيث الأمارية، وإن الشخص إذا كان في مقام إبراء ذمته
عن عمل يفعله على وجه الصحة، كما هو ظاهر حال كل مسلم، بل كل عاقل،
فكأنه قال كل من كان في حين العمل ذاكرا وشك في صحته وفساده بعده، من
جهة احتمال إيجاده على الوجه المعتبر وعدمه فلا يعتني بهذا الشك. فعلى هذا
تختص القاعدة بما كان العامل حين العمل ملتفتا إلى العمل، بحيث يكون احتمال
الفساد مستندا إلى تقصيره، كما في الصورة الأولى دون ما لم يكن مستندا اليه، كما
في الصورة الثانية.
والحاصل: أن مقتضى التعليل أن هذه القاعدة مخصوصة بما إذا كان احتمال
فساد العمل ناشئا عن تقصيره فلا يعتني به، لأن شخص المسلم أو العاقل الذاكر
الملتفت إذا كان بصدد عمل لا يوجده إلا صحيحا، ولا تعم ما إذا كان احتمال
الفساد ناشئا من غير جهة تقصيره فتأمل، لا أقل من الشك في شمولها لهذه الصورة
وهو كاف في الحكم بالعدم في المقام، لأن الحكم بالبناء على الصحة عند الشك
على خلاف الأصل فيقتصر فيه على المتيقن، وهو ما كان الشك في الفساد ناشئا
عن تقصيره.
مع أنه يمكن القول بأن هذه الأخبار ليست تعبديا صرفا، بل امضاء للسيرة
وبناء العقلاء على عدم الاعتناء بالشك في صحة العمل وفساده بعد مضيه في تمام

(1) وسائل الشيعة: ب 42 من أبواب الوضوء ح 6 ج 1 ص 331.
(2) وسائل الشيعة: ب 42 من أبواب الوضوء ح 7 ج 1 ص 331.
802

أمورهم، من العبادات والعقود والايقاعات وغيرها. والسيرة وبناء العقلاء من
الأدلة اللبية يؤخذ بالقدر المتيقن منها، وهو ما كان الشك في الفساد من جهة
احتمال التقصير، فالحكم بجريانها في غيره مشكل.
ولو كان الدليل على عدم الاعتناء بالشك هو العسر والحرج ففي شموله لغير
الصورة المذكورة - أيضا - إشكال، من جهة منع لزومهما على تقدير عدم الاعتناء
بالشك في الصورة المذكورة والاعتناء به في غيره، نعم لو اعتنى بالشك في جميع
الصور لزم العسر والحرج بل اختلال النظام - أيضا -.
فتحصل: أن هذا الحكم على خلاف القاعدة ولابد من الاقتصار فيه على
القدر المتيقن من أدلته اللبية من السيرة وحكم العقل وبناء العقلاء، ولزوم الحرج
واختلال النظام، وهي الصورة الأولى.
وأدلته اللفظية كالأخبار المذكورة لما كانت في مقام إمضاء بناء العقلاء
لا يمكن استظهار أزيد من ذلك فتأمل.
ثم إن الشك في الشيء بعد الدخول في غيره الذي لا يعتنى به بمقتضى قاعدة
التجاوز مخصوص بالشك في الأجزاء المبوبة الأولية كالشك في التكبير والقراءة
والركوع والسجود ونحوها، كما في مورد الرواية، أو تعم غير الأجزاء الأولية من
الأجراء الثانوية، وهكذا، كما أفتى به بعض (1) من عدم الاعتناء بالشك في أول
السورة وهو في آخرها، بل بالشك في أول الآية وهو في آخرها، بل بالشك في
أول الكلمة وهو في آخرها والظاهر هو الأول، لأن الشيء وإن كان من الألفاظ
العامة، إلا أن عمومه باعتبار ما يكنى به عنه، وهو في الرواية كناية عن أجزاء
الصلاة، كما هي مورد قاعدة التجاوز بمقتضى الرواية فمعنى قوله (عليه السلام) " إذا
خرجت من شيء ودخلت في غيره فشككت ليس بشيء (2) " إذا خرجت من
أجزاء الصلاة، وأجزاء الصلاة هي الأجزاء الأولية المبوبة، ولذا يصح أن يقال إن

(1) كما في الحدائق الناضرة: كتاب الصلاة ج 9 ص 181.
(2) وسائل الشيعة: ب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 1 ج 5 ص 336.
803

الفاتحة - مثلا - جزء من الصلاة ولا يصح أن يقال الهمزة في الحمد جزء من
الصلاة، وإن كان هو أيضا جزءا من حيث إن جزء الجزء جزء.
والحاصل: أن الشيء هنا كناية عن أجزاء الصلاة، وأجزاء الصلاة هي
الأجزاء الأولية التي لوحظت جزءا لها في حال التركيب واعتبارها شيئا واحدا لا
أجزاء أجزاءها، لا أقل من الشك بالنسبة إلى أجزاء الأجزاء فيقتصر على المتيقن
وهي الأجزاء الاولية.
نعم يقع الإشكال بالنسبة إلى الحمد والسورة في انهما جزء واحد وهي
القراءة، كما في مورد الرواية أو هما جزءان، الظاهر هو الأخير؛ لأن الحمد شيء
والسورة شيء آخر. وإن كانا مشتركين في الدخول في عنوان القراءة فيشملهما
" كلما شككت في شيء ودخلت في غيره " وذكر القراءة وعدم تعرض الحمد
والسورة بالخصوص إنما هو من باب المثال، فلا ينافي كونهما شيئين، والظاهر أن
المراد بالغير ما كان من أجزاء الصلاة فلا يشمل ما كان مقدمة لأفعال الصلاة، ومنه
تستكشف - بضميمة ما ورد في الأمر بعدم الاعتناء بالشك في الركوع بعد الهوي
إلي السجود، والاعتناء بالشك في التشهد أو السجود وبعد النهوض إلى القيام
فراجع الرواية (1) - أن الهوي إلى السجود من أفعال الصلاة، ولو أنه مقدمة للسجود
- أيضا - لأنه لا منافاة بين أن يكون شيء جزء لها ومقدمة للجزء الآخر - أيضا -
بخلاف النهوض إلى القيام فإنه ليس إلا مقدمة للقيام. وعلى هذا فلا فرق بين أن
يكون الشك في التشهد أو السجود في حال [النهوض] فإنه لابد من الاعتناء
بالشك في كليهما، ولا وجه لما حكي من العروة (2) من التفصيل بينهما فراجعها.
وأما أصالة الصحة بالنسبة إلى فعل الغير بعد الفراغ عن أصل وقوع العمل
والشك في وقوعه صحيحا وفاسدا، فهي من الأصول المعتبرة؛ المستدل عليها
بالأدلة اللفظية من الآيات والأخبار، وبالأدلة اللبية من الإجماع القولي والعملي

(1) وسائل الشيعة: ب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 1 ج 5 ص 336.
(2) العروة الوثقى: في إحكام الشكوك ج 1 ص 650.
804

والعسر والحرج واختلال النظام.
أما الأدلة اللفظية فلا يخفى ما فيها من المناقشات، مضافا إلى اختصاص
غالبها بالمسلم، مع أن أصالة الصحة الجارية بالنسبة إلى فعل الغير لا اختصاص
لها بفعل المسلم، بل تجري بالنسبة إلى فعل غيره - أيضا - فالمدار على الأدلة
اللبية التي لابد من الأخذ بالقدر المتيقن منها عند الشك، فإذا شك في وقوع الفعل
منه صحيحا أو فاسدا بعد إحراز أصل الفعل فلابد من حمله على الصحة، وهل
المراد بها الصحة الواقعية أو الصحة عند الفاعل؟ وجهان، الأظهر هو الثاني.
فعلى هذا لا إشكال في الحمل عليها لو كان الحامل موافقا للفاعل في الصحيح
والفاسد اجتهادا أو تقليدا سواء كان المراد من الصحة هي الصحة الواقعية أو
الصحة عند الفاعل، إذ لو كان المراد بها الصحة الواقعية فلابد لها من طريق إحراز
لها، واعتقاد الحامل طريق إليها، والفاعل موافق له في الاعتقاد، ولو كان المراد بها
الصحة عند الفاعل، فالحمل عليها حمل على الصحة باعتقاده - أيضا - والصحيح
باعتقاده هو الصحيح بحسب الواقع بنظره واعتقاده.
وكذا لا إشكال في الحمل عليها لو لم يعلم بالتخالف، سواء قلنا: بأنه لابد أولا
من إجراء أصالة التوافق في الاعتقاد، ثم إجراء أصالة الصحة في العمل، كما في
حمل اللفظ على معناه الحقيقي بمقتضى أصالة الحقيقة، على ما حكى عن
الشيخ (قدس سره) - من أنها من الأصول العدمية - لأن اللفظ يحمل عليها بعد إجراء أصالة
عدم القرينة، أو قلنا: بأنه لا نحتاج إلى إجراء أصالة التوافق في الاعتقاد، بل يحمل
فعله على الصحة عند عدم إحراز التخالف، سواء أحرزنا توافقه أو لم نحرز، كما
نحمل اللفظ ابتداءا على معناه الحقيقي عند الشك من دون حاجة إلى إجراء أصالة
عدم القرينة، ولا أثر بالنسبة إلى الحمل على الصحة بين إجراء أصالة التوافق
وعدمه، نعم لو كان لتوافقهما أثر لا يترتب هذا الأثر الا بعد إحرازه، إما بالوجدان
أو بالأصل، ولكن من جهة الحمل على الصحة لافرق بين إحرازه بالأصل وعدم
إحرازه، إذ النتيجة هو الحمل على الصحة عند الشك، سواء كان الحمل عليها
805

ابتداءا أو بعد إجراء أصالة التوافق في الاعتقاد.
وأما إذا كانا متخالفين في الاعتقاد، فإن كان التخالف بينهما بنحو التباين، بأن
يكون الصحيح عند الفاعل فاسدا عند الحامل وبالعكس، فلا إشكال في عدم
إمكان الحمل على الصحة الواقعية.
وإنما الإشكال فيما لو كانا متخالفين لا بنحو التباين كأن يعتقد أحدهما جواز
العقد بالعربي والفارسي كليهما، واعتقد الآخر جوازه بالعربي دون الفارسي، فلو
صدر عقد ممن يرى جواز العقد بالعربي والفارسي جميعا، وأراد من لا يرى جواز
العقد بالفارسي أن يحمله على الصحة الواقعية باعتقاده - أي على العقد العربي -
فهل يمكن أم لا؟ فيه إشكال، من جهة أن القدر المتيقن من الأدلة هو مورد اليقين
بالتوافق، أو عدم العلم بالتخالف، نعم لو كان لنا إطلاق لفظي يقتضي الحمل عند
الشك في الصحة والفساد، ولو كان احتمال الصحة من جهة وقوع الفعل مطابقا
للواقع اتفاقا فلا مانع من الحمل على الصحة في هذه الصورة، بل في الصورة
السابقة لو شك في صحته وفساده، وقد عرفت عدم دليل لفظي تكون دلالته تامة
ووافية بالمدعى، وأما العكس فلا إشكال في جواز حمله على الصحة، فإن من
يرى جواز العقد بالعربي والفارسي إذا أراد حمل فعل من لا يرى جواز العقد
الفارسي على الصحة، فلابد من حمل عقده على العقد العربي، وهو صحيح بنظره
- أيضا - هذا إذا كان التخالف بينهما بالعموم المطلق.
وأما إذا كان التخالف بينهما بالعموم من وجه فيشكل الحمل على الصحة
- أيضا -.
ثم إنه بعدما عرفت من أن العمدة في أدلة أصالة الصحة بالنسبة إلى عمل الغير
هي الأدلة اللبية، من الإجماع والسيرة، واختلال النظام لو لم يحمل على الصحة،
فلا إشكال في اعتبارها في الجملة، بمعنى أن فعله يحمل على الصحة ويترتب
عليه ما يترتب على العمل الصحيح شرعا، ولا يترتب عليه اللوازم والملزومات
العقلية والعادية والآثار الشرعية المترتبة عليهما بالواسطة أخذا بالمقدار المتيقن
806

من تلك الأدلة لإجمالها، وعدم وجود دليل واف بإثبات جميع ما ذكر، من الآثار
الشرعية والعقلية والعادية وما يترتب بواسطتهما، كما في الأمارات، بحيث لو كان
مثل هذا الدليل موجودا لقلنا بترتبها.
والحاصل: أنه يترتب بأصالة الصحة نفس الصحة، وما يترتب عليها،
لا ما يتوقف عليه الصحة، فلو طلق شخص امرأته عند رجلين لا نعلم بعدالتهما
نحمل فعله - وهو الطلاق - على الصحة، ونترتب عليه آثار طلاق الصحيح، من
جواز تزويج هذه المرأة، لاما يتوقف عليه الصحة - وهي عدالة الشاهدين - بحيث
يترتب عليهما آثار العدالة، من جواز الصلاة خلفهما وقبول شهادتهما وغيرهما
من آثار العدالة.
وحكي عن الشيخ (قدس سره) في المقام الفرق بين ما كان الفعل الصادر عن الشخص
أصاليا فيحمل على الصحة، كما لو صلى على الميت وشككنا في صحتها
وفسادها، وبين ما كان نيابيا، كما لو استأجره الولي أو الوصي للصلاة عن الميت
فصلى عنه، وشككنا في صحتها وفسادها فلا يحمل على الصحة، من حيث كونه
فعلا تسبيبيا للولي أو الوصي، ولو يحمل عليها من حيث كونه فعلا مباشريا صادرا
عن النائب.
ولكن لا يخفى ما فيه: وذلك لما عرفت من أن موضوع أصالة الصحة هو ما
كان أصل صدور الفعل عن الغير محرزا بالوجدان، أو ما يقوم مقامه من الأمارات
والأصول العقلائية، وكان الشك في كيفية صدوره من الصحة والفساد، كما أن
موضوع قاعدة الفراغ وأصالة الصحة بالنسبة إلى عمل نفسه - أيضا - هو ما كان
أصل صدور الفعل محرزا وكان الشك في كيفيته، ولذا لو صلى العصر وشك في
وقوعها مع الطهارة أو بعد صلاة الظهر التي هي مترتبة عليها يحكم بصحة العصر
من الجهتين، لأن وقوعها معلوم، والشك أنما هو في كيفيته، من الصحة والبطلان،
ولا يحكم بوقوع الطهارة، أو صلاة الظهر، لأن الشك أنما هو في وقوعهما وعدمه،
فلابد من تحصيل الطهارة لسائر ما يشترط بالطهارة وفعل صلاة الظهر بعده، لو كان
807

الشك في الوقت، ولو كان الشك [بعد الوقت] فلا يحتاج إلى إتيانها، لوجود الحائل.
فإذا كان موضوع أصالة الصحة هو الفعل الذي كان صدوره عن الغير محرزا،
وكان الشك في كيفية صدوره من الصحة والفساد، فلا فرق بين أن يكون أصاليا أو
نيابيا، لأنه بعد إحراز أصل صدور الفعل عنه في المقامين يحمل على الصحة،
وأثرها إسقاط التكليف بالصلاة على الميت، أو عن الميت، لأن الشك في بقاء
التكليف فيهما مسبب عن الشك في صحة صلاته وفسادها، فإذا حمل فعله على
الصحة فلا يبقى شك في سقوط تكليفه وعدمه، وإنما الشأن في أصل إحراز صدور
الفعل عنه ففي مثل الصلاة على الميت. يمكن أن يقال: إنه كما لابد من حمل فعل
المسلم الواحد الصادر منه الفعل المشكوك صحته وفساده [على الصحة]، تنزيها
لفعله عن الفساد، كذلك لابد من تنزيه أفعال نوع المسلمين عن الفساد. والحكم
بأنه متى توجه إليهم التكليف يقومون به، فتأمل.
وفي مثل الصلاة عن الميت إن كان ما يحرز به أصل وقوع الفعل عدالة
الفاعل، أو وثاقته - ولذا اعتبر بعض عدالة النائب، وبعض وثاقته - فإن كان اعتبار
العدالة أو الوثاقة من جهة أن العادل أو الثقة لو أخبر بإيقاع الفعل لابد من تصديقه،
بمقتضى وجوب تصديق العادل أو الثقة، فمع أن وجوب تصديقه فيما يرجع إلى
نفعه ممنوع، أن لازم ذلك هو الحكم بإيقاع الفعل فيما لو سئل عنه وأخبر بوقوعه
لا مطلقا، والحال أنه لم يعهد من الأولياء والأوصياء السؤال من النائبين، إلا أن
يقال: إن عدم السؤال إنما هو من جهة عدم الشك في إيقاعهم الفعل، والا فلو
فرض شك فيه فلا نسلم عدم سؤالهم.
والحاصل: أن مجرد كون النائب عدلا أو ثقة لا يثبت صدور أصل الفعل عنه،
لامع إخباره ولا بدونه، لما عرفت.
وإن كان ما يحرز به ما حكي عن صاحب الحدائق (1) في مقدمات كتابه من
القاعدة المسلمة التي هي عبارة عن قاعدة الائتمان، وإن من ائتمن غيره على

(1) الحدائق الناضرة: المقدمة الحادية عشرة ج 1 ص 146.
808

عمل وفوض اليه ذلك العمل فلابد أن لا يتهمه، كما لو وكل غيره في تأدية الحقوق
الواجبة عليه من الزكوات والأخماس والديون، أو في إيقاع عقد أو طلاق أو
تطهير وأمثالها، فإنه بمقتضى تلك القاعدة يحكم بصدور هذه الأعمال منه بعد
مضي زمان يمكن صدورها منه عادة، بعد التوكيل والتفويض وإن لم يسأل منه ولم
يخبر بإيقاعها، ولا إشكال في أن الأجير أمين، فيجب أن لا يتهمه المستأجر،
ويحكم بصدور الفعل الذي استؤجر عليه، ولو لم يخبر بوقوعه، فلا يختص ذلك
بما إذا كان النائب عادلا أو ثقة، لعموم تلك القاعدة، إلا أن يدعى أن هذه القاعدة
مفادها عدم اتهام الأمين، والفاسق ليس قابلا للأمانة، فمقتضى القاعدة عدم اتهام
من كان قابلا للأمانة، وهو ليس إلا العدل أو الثقة، فيخرج غيرهما عن موضوع
الأمين، وينحصر موضوعه بهما.
وإن كان ما يحرز به أصل وقوع الفعل هو الاطمئنان بصدوره، كما لا يبعد، فلا
فرق بين الصلاة على الميت وعن الميت، كما لافرق في الصلاة عن الميت بين
كون النائب عدلا أو ثقة وبين غيرهما بل المدار على الاطمئنان بصدور الفعل منه
ولو كان فاسقا.
فتحصل: أنه كما لابد في إجراء أصالة الصحة وقاعدة الفراغ بالنسبة إلى فعل
نفسه من إحراز أصل وقوع الفعل، إما بالوجدان أو بحجة شرعية من أمارة أو
أصل، كما لو شك في وقوعه وعدمه بعد الوقت، فإنه يبني على وقوعه من جهة
أصالة الوقوع ودخول الحائل، كذلك لابد في إجراء أصالة الصحة بالنسبة إلى فعل
غيره من إحراز أصل وقوع الفعل منه، لأن موضوع قاعدة الفراغ وأصالة الصحة
اللتين مقتضاهما حمل فعل نفسه أو غيره على الصحة عند الشك في صحته
وفساده هو الفعل الصادر، فإذا لم تحرز الفعل الصادر فلا موضوع لهما، فإذا كان
الفعل الصادر صحيحا من شخص أثر بالنسبة إلى شخص آخر، كما لو صلى
شخص على الميت أو عن الميت، فإنه لو كانت صلاته صحيحة ترتب عليها الأثر،
وهو سقوط الصلاة على الميت عن الغير أو إبراء ذمة الولي أو الوصي عن التكليف
809

بابراء ذمة الميت، وكما لو حج النائب عن الحي، فإنه لو كان حجه صحيحا يترتب
عليه الأثر، وهو سقوط الحج عن المنوب عنه، العاجز عن مباشرة أعمال الحج،
وكما لو أدى المورث حقوقه الواجبة عليه، من الديون والزكوات والأخماس، فإنه
لو أداها على وجه الصحة ترتب عليها الأثر، بالنسبة إلى الوارث، وهو عدم
تكليفهم بالأداء ثانيا من التركة التي انتقل إليهم، وكما لو فعل من فوض اليه فعل
من عقد أو إيقاع وغيرهما، من الافعال التي تدخل فيها الوكالة والتفويض، سواء
كان بالاستئجار أو غيره، فإنه لو فعلهما على وجه الصحة ترتب عليها الأثر،
بالنسبة إلى الموكل، والمفوض، والمستأجر، تجري أصالة الصحة في الجميع، لو
شك في الصحة والفساد، بعد إحراز أصل وقوع الفعل ولا إشكال فيه.
وإنما الإشكال في أنه باي شيء يحرز أصل وقوع الفعل عند الشك في
وقوعه. وكذا ما يعتبر في تحقق أصل عنوان الفعل من القصد، إذ ليس المراد بأصل
الفعل صورته، بل عنوانه، والصلاة بلا قصد صورة صلاة، لا عنوان الصلاة، وكذا
قصد النيابة في الفعل الصادر عن النائب، فإن عنوان الفعل النيابي لا يتحقق إلا
بقصد النيابة.
والحاصل: أن الإشكال فيما يحرز به أصل وقوع الفعل بعنوانه فتأمل. فيمكن
أن يقال: إن المدار في إحرازه على الوثوق، والاطمئنان الذي لا يعتني العقلاء
باحتمال خلافه، وينزلونه منزلة العدم، وهو حجة منجعلة بنفسه، بل وجه كون العلم
حجة بنفسه إنما هو من جهة الوثوق والاطمئنان، ولو [كان] فرق بين العلم وبينه،
من جهة أن احتمال الخلاف منسد في العلم تكوينيا، ولكن فيه موجود، إلا أنه من
جهة عدم الاعتناء بهذا الاحتمال صار كالعلم، لأن وجود الاحتمال الذي لا يعتنى
به كالعدم، فلو كان على الوثوق والاطمئنان فهو لا يختص بباب دون باب، بل
يجري في تمام الأبواب.
ويمكن أن يقال: إن المدار في إحرازه على قاعدة الائتمان، وكبرى قاعدة
الائتمان مسلمة مستفادة من الأخبار المتفرقة، كما تظهر بالمراجعة، وحاصلها أن
810

الأمين لا يتهم. وإنما الكلام في صغرى تلك القاعدة وأن كل مسلم أهل وقابل لأن
يؤتمن، كما قيل، أو احتمل، أو أنه لابد من كونه ثقة، كما قيل، أو عدلا كما يحتمل
أن يكون هو المشهور حيث اعتبروا في النائب العدالة، فاعتبار العدالة فيه إنما هو
من جهة أن يتحقق موضوع الأمين، وبعد تحقق موضوعه لابد من عدم اتهامه،
فليس اعتبار العدالة من جهة وجوب تصديق قوله بوقوع الفعل منه عند إخباره، إذ
يرد عليه ما ذكرنا سابقا، بل من جهة تحقق موضوع الأمين، فلو كان المدار على
هذا فلا يجري الا في باب الوكالات، والتفويضات، والإجارة، وأما في باب
الواجبات الكفائية التي لا تكون في البين ائتمان، كالصلاة على الميت، فإن
المصلي ليس وكيلا، وأمينا عن غيره، وإن كان لفعله أثر بالنسبة اليه، وهو سقوط
التكليف عنه فلا تجري، ولا يمكن إحراز الفعل بقاعدة الائتمان فلابد من إحرازه
إما بالوثوق والاطمئنان، أو بظاهر حال المسلم وإلا فإحرازه مشكل. فتأمل.
ثم إنه قد اختلف في تولية توضي العاجز وتغسيله في أنها من باب النيابة، أو
الإعانة، فإن كانت من باب النيابة، وشك العاجز في صحة هذا الوضوء، أو الغسل
في الأثناء، أو بعد الفراغ، يمكن له الحمل على الصحة، كما في سائر الأعمال
الصادرة عن النائب، وإن كانت من باب الإعانة، وشك في صحته وفساده فإن كان
في الأثناء فلابد من الاستئناف، كما لو صدر عنه الوضوء، أو الغسل مباشرة أو
بإعانة غير ذي شعور، وشك في الصحة والفساد في الأثناء، وإن كان بعد الفراغ
فتجري قاعدة [الفراغ]. ويتفرع على هذين القولين أو الاحتمالين تصدى النية،
فإن قلنا: بالأول فلابد من نية الموضي، وإن قلنا: بالثاني فلابد من نية العاجز،
والحق هو القول الثاني، واعتبار نية العاجز، والأحوط اعتبار نية كليهما، من جهة
احتمال كونها من باب النيابة، كما نسب إلى بعض.
وأما غسل الميت فليس من هذا القبيل، بل هو فعل مباشري من الغسال
ويجب عليه النية، ولو شك في صحته وفساده فيرجع إلى اصالة الصحة، سواء كان
الشك في الأثناء، أو بعد الفراغ، كما يرجع إلى أصالة الصحة بالنسبة إلى صلاته
811

وسائر أحكامه.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن شيئا من الأصول والاستصحابات الموضوعية
والحكمية الجارية في مورد أصالة الصحة وقاعدة الفراغ لا يتعارض معهما، لأنهما
مجعولتان في مورد هذه الأصول فلو لم تكونا متقدمتين عليها لزم أن تبقيا بلا
مورد أو قليل المورد كما لا يخفى. فما يظهر من المحكي عن كلام [بعض] في
بعض المسائل المتعلقة بهذا المقام من جعل بعض الأصول الموضوعية كأصالة
عدم البلوغ محلا لاضطراب كلمات المحققين، كالفاضلين والمحقق الثاني
وغيرهم في تقديمه على أصالة الصحة، أو تقديم أصالة الصحة عليه، لو تنازعا في
الصحة والفساد من جهة البلوغ وعدمه، فالظاهر أنه ليس من جهة الاختلاف في
أن أصالة الصحة هل هي مقدمة على الأصل الموضوعي أو الأمر بالعكس، وإلا لو
كان من هذا الجهة لابد أن يجري هذا الخلاف والنزاع فيما لو لم يكن تنازع في
البين، بأن شك شخص في أن هذا العقد الصادر منه هل صدر منه في حال البلوغ أم
لا، والحال أنه لا أظن أن يكون هذا محلا للخلاف في تقديم أصالة الصحة على
الأصل الموضوعي بل الظاهر إن هذا الاختلاف والاضطراب من جهة نزاع
صغروي، وهو أن المدعي هل هو الذي قوله يخالف الأصل بحسب تحرير
الدعوى، أو بحسب النتيجة، فإن قلنا: بالأول فيقدم قول المشتري فيما اختلفا، في
البلوغ، وعدم البلوغ - فقال البايع للمشتري - مثلا - إنك كنت بالغا حين البيع
وأنكر المشتري ذلك - لأن قول المشتري مطابق للأصل وقول البائع مخالف له،
وإن قلنا بالثاني فيصير الأمر بالعكس، لأن نتيجة هذا النزاع هو النزاع في صحة
العقد وفساده، ولا شك في أنه بحسب النتيجة قول البائع مطابق للأصل، أي أصالة
الصحة، وقول المشتري مخالف، فمن جعل المناط في تشخيص المدعي والمنكر
عل مطابقة قوله للأصل ومخالفته له، بحسب تحرير أصل الدعوى، وما جعل
مطرحا للنزاع، فلابد من تقديم قول من ينكر البلوغ، وهو المشتري في المثال
المذكور لأنه منكر وطرف مقابله مدعي، لامن جهة تقديم الأصل الموضوعي
812

على أصالة الصحة. ومن جعل المناط في تشخيصه على مطابقة قول للأصل،
ومخالفته له، بحسب نتيجة الدعوى، فلابد من تقديم قول من يدعي البلوغ، وهو
البائع في المثال المذكور، لأنه منكر وقوله مطابق للأصل، وهي أصالة الصحة
وطرف مقابله، وهو المشتري مدعي للبطلان، هذا فيما لو كان مطرح الدعوى هو
البلوغ وعدم البلوغ، واما إذا كان مطرح الدعوى هي صحة العقد وفسادها، فلا
إشكال في تقديم قول من يدعي الصحة إذ لا مغايرة بين مطرح الدعوى، ونتيجتها
كما لا يخفى.
فتحصل: أن الاضطراب والاختلاف بين كلمات هؤلاء الأعلام إنما هو من
هذه الجهة، لامن جهة الاختلاف في أن أصالة الصحة هل هي متقدمة على
الأصول الموضوعية، أو مؤخرة عنها إذ لا أظن بهم أن يقولوا بتقديم الأصول ا
لموضوعية عليها في غير مقام الدعوى وأما اليد فحالها كحال أصالة الصحة في
تقديمها على الأصول الموضوعية والحكمية الجارية في موردها، بناء على القول
بكونها أمارة على الملكية، وإن التسلط الظاهري كاشف عن الملكية الواقعية، وإلا
يلزم اختلال النظام وأن لا يكون للمسلمين سوق، والظاهر أنها بناء على القول
بكونها قاعدة تعبدية - أيضا - كذلك هذا هو القدر المناسب للمقام، وأما تنقيح
موضوع اليد وأقسامها وأحكامها فموكول إلى محله وهو كتاب القضاء.
813

[فصل]
الكلام في التعادل والتراجيح
لا يخفى أن التعادل والتراجيح يوصف بها الدليلان بعد تعارضهما، لأنه بعد
التعارض إن لم يكن لأحدهما مزية على الآخر من المزايا التي سيجيء ذكرها إن
شاء الله فهما متعادلان، وإن كان فذو المزية راجح، والآخر مرجوح، ولما كان
التعارض قدرا مشتركا بين التعادل والترجيح لأنهما قسمان منه، جعله بعض
عنوانا للبحث أولا، ثم كل واحد من قسميه، فقال: - مثلا - الكلام في التعارض.
ولما لم يكن له حكم على حدة غير حكم كل واحد من قسميه، جعل بعض آخر
نفس القسمين عنوانا للبحث، فقال: الكلام في التعادل والترجيح أو التراجيح،
وإفراد التعادل وجمع الترجيح باعتبار أن سبب التعادل أمر واحد، وهو انتفاء
المرجح لأحدهما على الآخر، وسبب الترجيح أمور متعددة ومتكثرة كما سيجيء.
وببالي أن صاحب القوانين جمع بين التعارض والتعادل والترجيح، في عنوان
البحث، وعلى كل حال التعادل والترجيح يوصف بهما الدليلان بعد تعارضهما،
وإلا فلو لم يكن تعارض بينهما فلا تعادل، حتى يجب تعيين ما هو الحجة الفعلية
بالترجيح، ولا ترجيح حتى يجب تعين الحجة الفعلية بالترجيح، بل لابد من الأخذ
بكليهما، لأن مناط الحجية وهو احتمال إصابة الواقع في كليهما موجود، ولا مانع
من الأخذ بكليهما فيجب. وأما إذا كان تعارض في البين، فمناط الحجية وإن كان
814

في كل واحد منهما في حد نفسه موجودا، إلا أنه لما لم يمكن الأخذ بكليهما من
جهة التعارض فلا يكون كلاهما حجة فعلية، بل أحدهما المعين إن كان له ترجيح،
وأحدهما الغير المعين إن لم يكن ترجيح في البين، بل كانا متعادلين، كما هو مفاد
أخبار العلاجية.
فإذا ثبت أن موضوع التعادل والترجيح هما الدليلان المتعارضان فلابد أولا
من تعريف التعارض وهو على ما ذكره الشيخ (قدس سره) تنافي مدلولي الدليلين على وجه
التناقض أو التضاد، بأن يثبت أحدهما شيئا وينفيه الآخر، كأن يكون مفاد أحدهما
وجوب شيء ومفاد الآخر عدم وجوبه، أو يثبت ضده، كأن يكون مفاد أحدهما
وجوب شيء ومفاد الآخر حرمته، وعلى ما ذكره صاحب الكفاية هو تنافي
الدليلين، أو الأدلة، بحسب الدلالة ومقام الإثبات، على وجه التناقض أو التضاد
حقيقة أو عرضا، بأن علم بكذب أحدهما إجمالا، مع عدم امتناع اجتماعهما
أصلا، كما إذا دل أحدهما على وجوب صلاة الجمعة في يومها، والآخر وجوب
الظهر فيها، وعلمنا بكذب أحدهما إجمالا، فإنه لا منافاة بين وجوب الصلاتين في
يوم الجمعة ذاتا، حتى يكون بين دليليها تعارض ذاتي، وإنما التعارض بينهما من
جهة العلم الإجمالي بكذب أحدهما الغير المعين وإن في يوم الجمعة لا تجب علينا
صلاتان، بل صلاة واحدة، إما الظهر أو الجمعة. والحق ما أفاده في الكفاية من أن
التعارض هو تنافي الدليلين، أو الأدلة، بحسب الدلالة وفي مقام الإثبات، من جهة
أن التعارض من أوصاف الدليلين أو الأدلة، وإن كان منشاؤه تنافي المدلولين أو
المداليل ذاتا أو عرضا، ومجرد تنافي المدلولين لا يوجب صدق التعارض ما لم
يكن بينهما تناف في مرحلة الإثبات ومقام الدلالة، فلابد في صدق التعارض من
تنافي الدليلين أو الأدلة في مقام الإثبات والدلالة، وإن كان منشأ هذا التنافي هو
التنافي بين المدلولين ذاتا، بأن يكون بينهما تناقض، كأن يكون أحدهما مثبتا
لحكم، والآخر نافيا له، أو أحدهما مثبتا لحكم، والآخر مثبتا لضده، على ما يظهر
من كلام الشيخ. أو أعم من أن يكون ذاتا أو عرضا، على ما صرح به في الكفاية
815

كما هو الحق، لعدم اختصاص أحكام المتعارضين بالقسم الأول، إذ لافرق بين
القسمين، إلا أن التعارض والتنافي في الأول أوجب العلم الإجمالي بكذب
أحدهما بخلاف الثاني، فإن العلم الإجمالي بكذب أحدهما أوجب التنافي
والتعارض بينهما، بل يمكن إدراج القسم الثاني في كلام الشيخ (قدس سره) - أيضا -، من
جهة أنه إذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة في يومها، وقامت أمارة
أخرى على وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة، فمن جهة العلم الخارجي بأنه
لا تجب في يوم الجمعة إلا إحدى الصلاتين، والعلم الإجمالي بكذب إحدى
الأمارتين تحصل ملازمة اتفاقية بين وجوب إحدى الصلاتين وعدم وجوب
الأخرى، فكل من الأمارتين تثبت وجوب متعلقها، وتنفي وجوب متعلق
الأخرى، فبضميمة تلك الملازمة الخارجية لكل من الصلاتين مثبت وناف،
المثبت هي الأمارة القائمة على وجوبها، والنافي هي الأمارة القائمة على وجوب
الأخرى، فيقع التعارض بين الأمارتين في كل واحدة من الصلاتين، بضميمة
المقدمة الخارجية الاتفاقية الحاصلة من العلم الإجمالي بكذب إحدى الأمارتين،
والعلم بعدم وجوب الصلاتين في يوم واحد.
فظهر مما ذكرنا أنه لا تعارض بين الدليلين إذا كان أحدهما دالا على حكم
في موضوع والآخر كان بمدلوله ناظرا اليه، وشارحا، ومفسرا له، بمدلوله اللفظي
باي لسان كان هذا الشرح والتفسير، كما إذا قال: أكرم العلماء ثم قال: هذا الحكم
ليس في النحوي، ونحوه من الالفاظ التي يفهم منها أنها شارحة ومفسرة لكلامه
الأول، وأن مراده من أكرم العلماء ما عدا النحويين، ولا إشكال في هذه الكبرى
وإنما الإشكال في صغرياتها وأنها هل يمكن إدراجها في تحت ضابط كلي أو
لا يمكن؟ بل تختلف بحسب القرائن الحالية والمقالية، فربما يكون لفظ واحد في
مقام شارحا ومفسرا للآخر ولا يكون كذلك في مقام آخر، والحق هو الأخير، لعدم
اندراجها تحت ضابط كلي إلا فيما إذا كان نفي الحكم بلسان نفي موضوعه، كما
816

في لا ضرر (1) ولا حرج (2) ولاشك لكثير الشك (3) ولا شك لكل من الإمام والمأموم
مع حفظ الآخر (4) وأمثالها، فان الحق أن هذا اللسان لسان الشرح، والتفسير،
والحكومة، مطلقا، وإن أنكر صاحب الكفاية كلية هذا الضابط - أيضا -، إلا أن
الحكومة والتفسير والشرح ليس منحصرا بهذا اللسان، بل يمكن حصولها بلسان
آخر، غير مندرج تحت ضابط كلي، بل يختلف بحسب المقامات، فان قوله
لا ضرر بناء على كونه نفيا، كما هو ظاهر، لا نهيا، يدل بدلالة الاقتضاء على ثبوت
أحكام في الشريعة تعم لمورد الضرر وغيره، ولو بوجود مقتضيها في كلا
الموردين، إذ لو كان المراد من لا ضرر نفي حقيقة الضرر ووجوده في الإسلام،
فيلزم الكذب، لوجوده كثيرا في الخارج، فلابد من حمله على نفي حكم الضرري
وأن الشارع لم يجعل حكما ضرريا، فإذا لم يكن حكم مجعول في الشريعة فيلزم
كونه لغوا، فلابد من جهة صيانة كلام الحكيم عن اللغوية من حمله على أن الحكم
الضرري ليس مجعولا في هذه الشريعة، وأن الأحكام المجعولة في هذه الشريعة
الشاملة بمقتضى أدلتها الأولية لمورد الضرر وغيره، مخصوصة، بما عدى مورد
الضرر، وأن المراد من تلك الأدلة هو ثبوت مؤدياتها في غير مورد الضرر.
والحاصل: أنه لو كان المراد من لا ضرر نفي وجود الضرر في الخارج يلزم
الكذب، ولو كان المراد نفي حكم الضرري فلابد من وجود حكم يكون له مقتضى
الثبوت في مورد الضرر وغيره، كقوله (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم
وأيديكم...) (5) إلى آخره ونحوه وحيث يعم كلا الموردين بعمومه، إذ لو لم يمكن
حكم يعم لمورد الضرر وغيره لكان قوله لا ضرر لغوا، وكذلك لا حرج، ولاشك
لكثير الشك، وأمثالها، فتكون شارحة ومفسرة للعمومات، والإطلاقات المتكفلة،

(1) وسائل الشيعة: ب 7 من أبواب احياء الموات ح 2 ج 17 ص 333.
(2) وسائل الشيعة: ب 21 من أبواب الأطعمة المباحة ح 1 ج 17 ص 36.
(3) وسائل الشيعة: ب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ج 5 ص 329.
(4) وسائل الشيعة: ب 24 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ج 5 ص 338.
(5) المائدة: 6.
817

للأحكام الأولية ويخصصها ويقيدها بما عدى مورد الضرر، والحرج، وكثير الشك
وأمثالها، فلا تكون معارضة لها، لعدم التنافي بين الشارح والمشروح، والمفسر
والمفسر، فإذا قال أحد أكرم العلماء وقال: سابقا، أو لاحقا، إن مرادي من العلماء
خصوص الفقهاء لا يقال إن بين كلاميه تعارض وتناف، بخلاف ما لو قال: أكرم
العلماء ثم قال: لا تكرمهم - مثلا - فإنه يقال: إن بين كلاميه تعارض.
فتحصل: أنه لا تعارض بين الدليلين بمجرد تنافي المدلولين، ما لم يكن
الدليلان متنافيين في مقام الدلالة، وكون أحد الدليلين ناظرا بمدلوله اللفظي إلى
الآخر، ومبينا لكمية مدلوله وشارحا له، يوجب عدم التنافي بينهما، في مقام
الدلالة من جهة عدم التنافي يبن الشارح والمشروح، وكون أحد الدليلين شارحا
بمدلوله اللفظي للآخر لا يندرج تحت ضابط كلي، إلا فيما إذا كان نفي الحكم
بلسان نفي موضوعه، ولكن في غيره لابد من استظهار الشارحية، من القرائن
الحالية والمقالية.
ومنه ظهر أنه لا تعارض بين الأمارات المعتبرة والأصول الشرعية،
كالاستصحاب - مثلا - بناء على حجيته من باب التعبد، وأما بناء على مختار
الشيخ (قدس سره) من الحكومة، فمن جهة أن دليل التعبد بالأمارة مقتضاه إلقاء احتمال
الخلاف، ولا شك أنه موجود، مع قيام الأمارة الظنية وجدانا، فلابد أن يكون
المراد من إلقائه القاء حكمه، وهي الوظيفة المقررة للشاك في مقام العمل، فيكون
حال دليل اعتبار الأمارة بالنسبة إلى الأصل كحال لا ضرر بالنسبة إلى الأدلة
المتكفلة للأحكام الأولية، في كونه نفيا للحكم بلسان نفي الموضوع فتأمل. مثلا
إذا شككنا في طهارة شيء ونجاسته، وكانت حالته السابقة هي الطهارة، بمقتضى
لا تنقض اليقين بالشك، وهو البناء على طهارته ظاهرا. فإذا قامت بينة على
نجاسته واقعا، كان مقتضى دليل اعتبار البينة وحجيتها هو إلقاء احتمال خلاف
قولها، وهو احتمال عدم نجاسته واقعا، ولا شك أن هذا الاحتمال موجود مع قيام
البينة وجدانا، فلابد أن يكون المراد من إلقاء احتمال الخلاف إلقاء حكمه، وأعني
818

الوظيفة المقررة للشاك في مقام العمل هو البناء على طهارة مشكوك الطهارة
والنجاسة، مع كون حالته السابقة هي الطهارة، فيخصص هذه الوظيفة بما عدى
مورد قيام الأمارة على خلافها، كما تخصص الأحكام الأولية بما عدى مورد
الضرر والحرج وأمثالهما، لأن نتيجة الحكومة هو التخصيص إلا أنه بلسان
الشارحية الموجبة لعدم صدق التعارض بين الدليلين، من جهة عدم التنافي بين
الشارح والمشروح.
لا يقال: كما أن دليل اعتبار الأمارة مقتضاه إلقاء احتمال الخلاف الذي هو
موجود مع قيام الأمارة وجدانا، فلابد من أن يكون المراد به إلقاء حكم احتمال
الخلاف، وهي الوظيفة المقررة للشاك في مقام العمل، فكذلك دليل اعتبار الأصل
ك‍ " لا تنقض اليقين بالشك " مقتضاه إلقاء احتمال الخلاف، لانه خبر عدل يجب
تصديقه، ومعنى وجوب تصديقه، هو إلقاء احتمال خلافه، واحتمال الخلاف لما
كان موجودا وجدانا، فلابد من أن يكون المراد إلقاء حكم احتمال الخلاف، وهو
الحكم المجعول بالأمارة، فمقتضى دليل اعتبار الأمارة هو إلقاء حكم احتمال
الخلاف، أعني الوظيفة العملية المقررة للشاك التي هي عبارة عن الأصل،
ومقتضى دليل اعتبار الأصل هو إلقاء حكم احتمال الخلاف، أعني الحكم
المجعول بالأمارة فيتعارضان.
لأنه يقال: إن الأمارة لما كان مؤداها هي النجاسة الواقعية، فمعنى إلقاء
احتمال خلافها هو إلقاء احتمال عدم النجاسة واقعا، ومعنى إلقاء احتمال عدم
النجاسة واقعا هو إلقاء حكم احتمال الخلاف الذي هو عبارة عن الحكم المجعول
بالأصل، فإلقاء احتمال الخلاف في طرف الأمارة يرفع حكم المجعول بالأصل،
إذ كما أنه لو أحرزت نجاسته واقعا بالعلم يرتفع موضوع الأصل، وهو الشك في
الطهارة والنجاسة، كذلك لو أحرزت النجاسة بالأمارة المعتبرة يرتفع حكم
الأصل، وهو البناء على طهارة ما شك في طهارته ونجاسته، مع كون حالته السابقة
هي الطهارة، ولما كان مؤدى الأصل هي الطهارة الظاهرية عند الشك في طهارة
819

شيء ونجاسته واقعا مع كون حالته السابقة هي الطهارة، فمعنى إلقاء احتمال
خلافه هو إلقاء احتمال عدم كونه طاهرا ظاهرا، عند الشك في طهارته ونجاسته،
مع كون حالته السابقة هي الطهارة، ومعنى إلقاء هذا الاحتمال إلقاء حكمه، وهو أن
لا يكون مشكوك الطهارة والنجاسة، مع كون حالته السابقة هي الطهارة حكمه
الطهارة، فإلقاء احتمال الخلاف في طرف الأصل لا يرفع الحكم المجعول بالأمارة
بخلاف العكس.
والحاصل: أن إلقاء احتمال الخلاف في طرف الأمارة، والبناء على نجاسة
ما قامت الأمارة على نجاسته واقعا، يصادم إلقاء احتمال الخلاف في طرف
الأصل، وأما إلقاء احتمال الخلاف في طرف الأصل فهو لا يصادم إلقاء احتمال
الخلاف في طرف الأمارة، وبعبارة أخرى البناء على نجاسة الشيء واقعا بمقتضى
الأمارة ينافي البناء على طهارته الظاهرية المجعولة عند الشك في الطهارة
والنجاسة، وأما البناء على طهارته الظاهرية عند الشك بمقتضى الأصل فلا ينافي
النجاسة الواقعية التي هو مؤدى الأمارة، نعم لو ورد دليل كان مؤداه هو عدم البناء
على طهارة الشيء عند الشك في طهارته ونجاسته، مع كون حالته السابقة هي
الطهارة، لكان منافيا لدليل الأصل وهو " لا تنقض اليقين بالشك " ومعارضا له،
ولابد حينئذ من معاملة المتعارضين معهما، وأما بناء على مختار صاحب الكفاية:
من عدم تمامية الحكومة إذ ليس معنى التعبد بالأمارة إلقاء احتمال خلافها، حتى
تتم الحكومة بالبيان المتقدم، بل معنى التعبد بها حجيتها، ولزوم العمل على طبقها
شرعا، المنافي عقلا للزوم العمل على خلافها، وهو مقتضى الأصل، مع احتمال أن
يقال: إنه ليس قضية الحجية شرعا إلا لزوم العمل على وفق الحجة عقلا وتنجز
الواقع مع المصادفة، وعدم تنجزه مع المخالفة، وكيف كان ليس مفاد دليل اعتبار
الأمارة هو إلقاء احتمال الخلاف تعبدا، حتى يكون ناظرا بمدلوله اللفظي إلى دليل
الأصل، ومبينا لكمية مدلوله وشارحا له، مع أنه لو كان مفاده إلقاء احتمال
الخلاف، أعني حكم احتمال الخلاف وهو حكم الأصل لاختص بالأصل المخالف،
وأما الأصل الموافق فحكمه ليس حكم احتمال خلاف الأمارة فلا تتم الحكومة
820

مطلقا، فمن جهة الورود وارتفاع الشك الذي هو موضوع الأصل بنفس التعبد
بالأمارة وجعلها حجة، وإذا لم يكن تعارض بين الحاكم والمحكوم، فبين الوارد
والمورود بطريق أولى، إذ الحاكم يرفع حكم المحكوم بالتعبد، والوارد يرفع
موضوع المورود بالتعبد، وبنفس دليليته واعتباره، وأولى منه ما إذا كان رافعا له
بصرف وجوده، مع قطع النظر عن دليليته، كما إذا كان حكم الأصل معلقا على
الظن بالوفاق، أو على عدم الظن بالخلاف، وأفادت الأمارة الظن على خلافه، إذ
ما كان رافعا لموضوع الآخر بصرف وجوده أولى بعدم التعارض، مما إذا كان
رافعا له بدليليته، كما أن ما كان رافعا له بدليليته أولى بعدم التعارض، مما إذا كان
رافعا لحكمه مع بقاء موضوعه، وكما لا تعارض بين الحاكم والمحكوم، والوارد
والمورود، كذلك لا تعارض بين الدليلين إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في
الآخر بنظر العرف، بحيث لا يبقى لهم تحير لو ألقينا إليهم بحسب ما ارتكز في
أذهانهم، من قرينية أحدهما للآخر في المحاورات العرفية، كالنص والظاهر أو
الظاهر والأظهر، كالعام والخاص، والمطلق والمقيد، وأمثالهما، مما يكون أحد
الدليلين ظاهرا والآخر نصا أو أظهر، فانهم لا يرونهما بحسب الدلالة ومقام
الإثبات متنافيين، بل يتصرفون في الظاهر بواسطة النص أو الأظهر، فإنه إذا ورد
أكرم العلماء ولا تكرم فساقهم لا يبقى أهل العرف متحيرين في العمل بهما، بل
يجمعون بينهما، بأن مراد المتكلم من العام من عدى الخاص، ويجعلون الخاص
قرينة على التصرف في العام، وهكذا في المطلق والمقيد.
والحاصل: أنه لا تعارض بين الدليلين إذا كان أحدهما قرينة على التصرف
في الآخر، بحسب ما ارتكز في أذهان أهل العرف من الجمع بينهما بالتصرف في
أحدهما، والتعارض المترائي بينهما بدوي يزول بالتأمل والالتفات. فكل دليلين
يوفق العرف بينهما بحسب مرتكزهم فلا تعارض بينهما، ومصداقه منحصر عند
الشيخ على ما حكي عنه بالنص والظاهر أو الظاهر والأظهر، كالعام والخاص،
والمطلق والمقيد، حيث إن النص والأظهر عندهم قرينة على التصرف في الظاهر،
وأن المراد منه ما عدى مورد النص أو الأظهر، ولكن يمكن أن يكون الظاهر، أن
821

مجموعهما قرينة على التصرف في كل واحد منهما أو في أحدهما المعين وهذا
- أيضا - مصداق آخر، للكبرى المسلمة التي هي عبارة عن أن كل دليلين يوفق
العرف بينهما بحسب ما ارتكز في أذهانهم فلا تعارض بينهما، سواء كان بالتصرف
في أحدهما أو كليهما كما لا تعارض بينهما، إذا كان أحدهما حاكما أو واردا
والآخر محكوما، أو مورودا فانحصر مورد التعارض المبحوث عنه بالدليلين
الظنيين بحسب السند، سواء كانتا نصين بحسب الدلالة، أو ظاهرين بحسب
الدلالة بحيث لا يمكن الجمع العرفي بينهما، لعدم قرينية أحدهما بالنسبة إلى الآخر
أو كليهما بالنسبة إلى المجموع، أو أحدهما المعين، لأن تعارض الدليلين القطعيين
لو كانا نصين بحسب الدلالة أولا لا يمكن، لأنه مستلزم لصدور المتناقضين، أو
المتضادين على فرض إمكانه ووجوده فبالتعارض يصيران مجملين، ولابد من
الرجوع إلى دليل أو أصل آخر ولا يترتب عليهما أحكام التعارض المبحوث عنها
ولو كانا ظاهرين ولم يكن جمع عرفي بينهما، وكان تأويلهما أو أحدهما ممكنا
بوجوه عديدة فحالهما حال النصين في صيرورتهما مجملين، ولزوم الرجوع إلى
دليل أو أصل آخر، وإن كان تأويلهما ممكنا بوجه واحد وجب تأويلهما، أو
تأويل أحدهما والجمع بينهما. وإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا، والجمع
العرفي لم يمكن بينهما فلا تعارض بينهما، لأن الظني لا يعارض القطعي.
فإذا عرفت أن التعارض المبحوث عنه الذي يجري على الأحكام المقررة
للمتعارضين منحصر بالدليلين الظنيين، سواء كانا نصين أو ظاهرين لا يمكن
التوفيق والجمع العرفي [بينهما].
فاعلم أنه إذا تعارض نصان ظنيا السند، فهل مقتضى الأصل والقاعدة الأولية
مع قطع النظر عن الأخبار العلاجية التي هي - أيضا - متعارضة ولابد لها من علاج
بناء على ما هو الحق من كون حجية الأخبار من باب الطريقية والكاشفية هل هو
التساقط، أو التوقف، أو التخيير؟ وجوه يحتمل الأول لأنه بعد كون المناط في
حجية المتعارضين هو الكشف عن الواقع فمع التعارض لا تبقى جهة كشف عن
الواقع لشيء منهما. تمت بعون الله
822