الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ٢٥
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركآئى قالوا ءاذناك ما منا من شهيد) *.
* (إليه يرد علم الساعة) * أي إذا سئل عنها قيل الله تعالى يعلم أو لا يعلمها إلا الله عز وجل فالمقصود من هذا الكلام إرشاد المؤمنين في التقصي عن هذا السؤال وكلا الجوابين يلزمه اختصاص علمها به تعالى.
أما الثاني فظاهر، وأما الأول فلأنك إذا سئلت عن مسألة وقلت. فلان يعلمه كان فيه نفي عنك كناية وتنبيه على أن فلانا أهل أن يسئل عنه دونك * (وما تخرج من ثمرات من أكمامها) * أي من أوعيتها جمع كم بالكسر وهو وعاء الثمرة كجف الطلعة من كمه إذا ستره وقد يضم وكم القميص بالضم وقرأ الحسن في رواية والأعمش. وطلحة. وغير واحد من السبعة * (من ثمرة) * على إرادة الجنس والجمع لاختلاف الأنواع. وقرىء * (من ثمرات) * من أكمامهن، بجميع الضمير أيضا وما نافية ومن الأولى مزيدة لتأكيد الاستغراق والنص عليه ومن الثانية ابتدائية وكذا * (ما) * في قوله تعالى: * (وما تحمل من أنثى ولا تضع) * أي حملها، وقوله تعالى: * (إلا بعلمه) * في موضع الحال والباء للملابسة أو المصاحبة والاستثناء من أعم الأحوال أي ما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع ملابسا أو مصاحبا بشيء من الأشياء إلا مصاحبا أو ملابسا بعلمه المحيط سبحانه واقعا حسب تعلقه به، وجوز في الأولى أن تكون موصولة معطوفة على الساعة أي إليه يرد علم الساعة وعلم ما يخرج ومن الأولى بيانية والجار والمجرور في موضع الحال ومن الثانية على حاله، وتأنيث * (تخرج) * باعتبار المعنى لأن ما بمعنى ثمرة قيل: ولا يجوز في ما الثانية ذلك لمكان الاستثناء المفرغ وأجاز بعضهم، ويكفي لصحة التفريغ النفي في قوله تعالى: * (ولا تضع) * وجملة لا تضع إما حال أو معطوفة على جملة * (إليه إيراد) * الخ، ولا يخفى عليك أن المتبادر في الموضعين النفي ثم إن الاستثناء متعلق بالكل وتبيين القدر المشترك بين الأفعال الثلاثة وجعله الأصل في تعلق المفرغ كما سمعت لإظهار المعنى والايماء إلى أنه لا يحتاج في مثله إلى حذف من الأولين أعني ما تخرج وما تحمل وهو قريب من أسلوب: وقد حيل بين العير والنزوان
لأن خرج زيد معناه حدث خروجه كما أن معنى ذلك فعل الحيلولة وليس ذاك من باب الاستثناء المتعقب لجمل والخلاف في متعلقه في شيء لأن ذلك في غير المفرغ فقد ذكر النحويون في باب التنازع وإن كان منفيا بالا فالحذف ليس إلا ولو كان منه لم يكن من المختلف فيه لاتحاد الجمل في المقصود وظهور قرينة الرجوع إلى الكل، والكلام على ما في شرح التأويلات متصل بأمر الساعة والبعث فإنه لا يعلم هذا كله إلا الله تعالى فذكر هذه الأمور لمناسبتها لعلم الساعة وإن الكل إيجاد بعد العدم بقدرته عز وجل فيكون كالبرهان على الحشر، وجوز أن يكون متصلا بقوله تعالى: * (ومن آياته الليل والنهار) * الخ وبقوله سبحانه: * (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة) * (فصلت: 39) الخ؛ فالمعنى من آيات ألوهيته تعالى وقدرته أن تخرج الثمرات وتحمل الحوامل وتضع حسب علمه جل وعلا، والأول أقرب.
* (ويوم يناديهم أين شركائي) * أي بزعمكم كما نص عليه بقوله سبحانه: * (أين شركائي الذين كنتم تزعمون) * (القصص: 62)
2

وفيه تهكم بهم وتفريع لهم، و * (يوم) * منصوب باذكر أو ظرف لمضمر مؤخر قد ترك إيذانا بقصور البيان عنه كما في قوله تعالى: * (يوم يجمع الله الرسل) * (المائدة: 109) وضمير * (يناديهم) * عام في كل من عبد غير الله تعالى فيندرج فيه عبدة الأوثان.
* (قالوا) * أي أولئك المنادون * (ءاذناك) * أي أعلمناك والمراد بالإعلام هنا الإخبار لأنه تعالى عالم فلا يصح إعلامه بما هو سبحانه عالم به بخلاف الأخبار فإنه يكون للعالم فكأنه قيل أخبرناك * (ما منا من شهيد) * أي بأنه ليس منا أحد يشهد لهم بالشركة فالجملة في محل نصب مفعول * (آنذاك) * وقد علق عنها وفي تعليق باب أعمل وأنبأ خلاف والصحيح أنه مسموع في الفصيح، و * (شهيد) * فعيل من الشهادة ونفي الشهادة كناية عن التبرؤ منهم لأن الكفرة يوم القيامة أنكروا عبادة غيره تعالى مرة وأقروا بها وتبرؤا عنها مرة أخرى وفسره السمرقندي بالانكار لعبادتهم غير الله تعالى وشركهم كذبا منهم وافتراء كقوله تعالى حكاية عنهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23) وظاهر * (آذناك) * يقتضي سبق الإيذان في جواب أين شركائي وإنما سئلوا ثانيا حتى أجابوا بأنه قد سبق الجواب لأنه توبيخ وفي إعادة التوبيخ من تأكيد أمر الجناية وتقبيح حال من يرتكبها ما لا يخفى، واستظهر أبو حيان أن المراد إحداث إيذان لا إخبار عن إيذان سابق على نحو طلقت وأمثاله، وجوز أن يقال: إنه إخبار باعلام سابق وذلك الإعلام السابق ما علمه تعالى من بواطنهم يوم القيامة أنهم لم يبقوا على الشرك وعلى تلك الشهادة وكأنه إعلام منهم بلسان الحال وهذا لا يقتضي سبق سؤال ولا جواب وفيه حسن أدب كأنهم يقولون أنت أعلم به ثم يأخذون في الجواب.
قال في " الكشف ": وهذا الوجه هو المختار لاشتماله على النكتة المذكورة وما في الآخرين من سوء الأدب؛ ويحتمل أن يكون المعنى آذناك بأنه ليس منا أحد يشاهدهم فشهيد من الشهود بمعنى الحضور والمشاهدة ونفي مشاهدتهم الظاهر أنه على الحقيقة وذلك في موقف وجعل بعض العبدة مقرين بمعبوداتهم في آخر فلا تنافي بينهما، وقيل: هو كناية عن نفي أن يكون له تعالى شريك نحو قولك: لا نرى لك مثلا تريد لا مثل لك لنراه، والكلام في * (آذناك) * على ما آذناك، وقيل: ضمير * (قالوا) * للشركاء أي قال الشركاء: ليس من أحد يشهد لهم بأنهم كانوا محقين فشهيد من الشهادة لا غير، والمراد التبرؤ منهم وفيه تفكيك الضمائر، ومعنى قوله تعالى:
* (وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص) *.
* (وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل) * على ما قيل: إن شركاءهم الذين كانوا يدعونهم من قبل ويرجون نفعهم غابوا عنهم على أن الضلال على معناه الحقيقي وهو الذي يقابل الوجدان أو أن شركاءهم لم ينفعوهم بشيء على أن الضلال مجاز عن عدم النفع و * (ما) * اسم موصول عبارة عن الشركاء، ويحسن جمع من يعقل ومن لا يعقل في التعبير بما في مثل هذا المقام، وجوز أن تكون ما عبارة عن القول الذي كانوا يقولونه في شأن الشركاء من أنهم آلهة وشركاء لله سبحانه وتعالى، والمعنى نسوا ما كانوا يقولونه في شأن شركائهم من نسبة الألوهية إليهم، ولك أن تجعلها مصدرية والجملة يحتمل أن تكون حالا وإن تكون اعتراضا، وذكر بعض الأجلة أنه
يتعين الأخير على القول بأن ضمير * (قالوا) * للشركاء وكون الضلال مجازا عن عدم النفع فتدبر * (وظنوا) * أي أيقنوا كما قال السدي وغيره لأنه لا احتمال لغيره هنا والظن يكون بمعنى العلم كثيرا * (ما لهم من محيص) * أي مهرب، والظاهر أن الجملة في محل نصب سادة مسد مفعولي ظن وهي معلقة عنها بحرف النفي، وقيل: تم الكلام عند قوله تعالى: * (وظنوا) * والظن
3

على ظاهره أي وترجح عندهم أن قولهم: * (ما منا من شهيد) * منجاة لهم أو أمر يموهون به، والجملة بعد مستأنفة أي لا يكون لهم منجي أو موضع روغان.
* (لا يس‍ام الانس‍ان من دعآء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط) *.
* (لا يسئم الإنسان) * لا يمل ولا يفتر * (من دعاء الخير) * من طلب السعة في النعمة وأسباب المعيشة، * (ودعاء) * مصدر مضاف للمفعول وفاعله محذوف أي من دعاء الخير هو.
وقرأ عبد الله * (من دعاء بالخير) * بباء داخلة على الخير * (وإن مسه الشر) * الضيقة والعسر * (فيؤس قنوط) * أي فهو يؤس قنوط من فضل الله تعالى ورحمته، وهذا صفة الكافر، والآية نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل: في عتبة بن ربيعة وقد بولغ في يأسه من جهة الصيغة لأن فعولا من صيغ المبالغة ومن جهة التكرار المعنوي فإن القنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر، ولما كان أثره الدال عليه لا يفارقه كان في ذكره ذكره ثانيا بطريق أبلغ، وقدم اليأس لأنه صفة القلب وهو أن يقطع رجاءه من الخير وهي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من التضاؤل والانكسار.
* (ولئن أذقن‍اه رحمة منا من بعد ضرآء مسته ليقولن ه‍اذا لى ومآ أظن الساعة قآئمة ولئن رجعت إلى ربىإن لى عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ) *.
* (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته) * أي لئن فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق أو غير ذلك * (ليقولن ه‍اذا لي) * أي حقي استحقه لما لي من الفضل والعمل لا تفضل من الله عز وجل فاللام للاستحقاق أو هو لي دائما لا يزوال فاللام للملك وهو يشعر بالدوام ولعل الأول أقرب.
* (وما أظن الساعة قائمة) * أي تقوم فيما سيأتي * (ولئن رجعت إلى ربي) * على تقدير قيامها * (إن لي عنده للحسنى) * أي للحالة الحسنى من الكرامة، والتأكيد بالقسم هنا ليس لقيام الساعة بل لكونه مجزيا بالحسنى لجزمه باستحقاقه للكرامة لاعتقاده أن ما أصابه من نعم الدنيا لاستحقاقه له وإن نعم الآخرة كذلك فلا تنافي بين أن التي الأصل فيها أن تستعمل لغير المتيقن وبين التأكيد بالقسم وإن واللام وتقديم الظرفين وصيغة التفضيل * (فلننبئن الذين كفروا بما عملوا) * لنعلمنهم بحقيقة أعمالهم ولنبصرنهم بعكس ما اعتقدوا فيها فيظهر لهم أنهم مستحقون للإهانة لا الكرامة كما توهموا * (ولنذيقنهم من عذاب غليظ) * لا يمكنهم التفصي عنه لشذته فهو كوثاق غليظ لا يمكن قطعه.
* (وإذآ أنعمنا على الإنس‍ان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعآء عريض) *.
* (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض) * عن الشكر * (ونأى بجانبه) * تكبر واختال على أن الجانب بمعنى الناحية والمكان ثم نزل مكان الشيء وجهته كناية منزلة الشيء نفسه، ومنه قوله تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه) * (الرحمان: 46) وقول الشاعر: ذعرت به القطا ونفيت عنه * مقام الذئب كالرجل اللعين
وقول الكتاب حضرة فلان ومجلسه العالي وكتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز يريد نفسه وذاته فكأنه قيل: نأى بنفسه ثم كنى بذهب بنفسه عن التكبر والخيلاء، وجوز أن يراد * (بجانبه) * عطفه ويكون عبارة عن الانحراف والازورار كما قالوا ثنى عطفه وتولى بركنه والأول مشتمل على كنايتين، وضع الجانب موضع النفس والتعبير عن التكبر البالغ بنحو ذهب بنفسه وهذا على واحدة على ما في " الكشف "، وجعل بعضهم الجانب والجنب حقيقة كالعطف في الجارحة وأحد شقي البدن مجازا في الجهة فلا تغفل، وعن أبي عبيدة نأى بجانبه أي نهض به وهو عبارة عن التكبر كشمخ بأنفه، والباء للتعدية ثم إن التعبير عن ذات الشخص بنحو المقام والمجلس كثيرا ما يكون لقصد التعظيم والاحتشام عن التصريح بالاسم وهو يتركون التصريح به عند
4

إرادة تعظيمه قال زهير: فعرض إذا ما جئت بالبان والحمى * وإياك أن تنسى فتذكر زينبا
سيكفيك من ذاك المسمى إشارة * فدعه مصونا بالجلال محجبا
ومن هنا قال الطيبي: إن ما هنا وارد على التهكم. وقرىء * (ونآ) * بإمالة الألف وكسر النون للاتباع * (وناء) * على القلب كما قالوا راء في رأى * (وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) * أي كثير مستمر مستعار مما له عرض متسع وأصله مما يوصف به الأجسام وهو أقصر الامتدادين وأطولهما هو الطول، ويفهم في العرف من العريض الاتساع وصيغة المبالغة وتنوين التكثير يقويان ذلك، ووصف الدعاء بما ذكر يستلزم عظم الطول أيضا لأنه لا بد أن يكون أزيد من العرض وإلا لم يكن طولا، والاستعارة في كل من الدعاء والعريض جائزة ولا يخفى كيفية إجرائها.
وذكر بعض الأجلة أن الآيات قد تضمنت ضربين من طغيان جنس الإنسان فالأول: في بيان شدة حرصه على الجمع وشدة جزعه على الفقد والتعريض بتظليم ربه سبحانه في قوله: * (هذا لي) * مدمجا فيه سوء اعتقاده في المعاد المستجلب لتلك المساوي كلها، والثاني: في بيان طيشه المتولد عنه إعجابه واستكباره عند وجود النعمة واستكانته عند فقدها وقد ضمن في ذلك ذمه بشغله بالنعمة عن المنعم في الحالتين، أما في الأول: فظاهر، وأما في الثاني: فلأن التضرع جزعا على الفقد ليس رجوعا إلى المنعم بل تأسف على العقد المشغل عن المنعم كل الاشغال، وذكر أن في ذكر الوصفين ما يدل على أنه عديم النهية أي العقل ضعيف المنة أي القوة فإن اليأس والقنوط ينافيان الدعاء العريض وأنه عند ذلك كالغريق المتمسك بكل شيء انتهى، ومنه يعلم جواب ما قيل: كونه يدعو دعاء عريضا متكررا ينافي وصفه بأنه يؤس قنوط
لأن الدعاء فرع الطمع والرجاء وقد اعتبر في القنوط ظهور أثر اليأس فظهور ما يدل على الرجال يأباه، وأجاب آخرون بأنه يجوز أن يقال: الحال الثاني شأن بعض غير البعض الذي حكى عنه اليأس والقنوط أو شأن الكل في بعض الأوقات، واستدل بعضهم بقوله تعالى: * (فذو دعاء عريض) * على أن الايجاز غير الاختصار وفسره لهذه الآية بحذف تكرير الكلام مع اتحاد المعنى والإيجاز بحذف طوله وهو الاطناب وهو استدلال بما لا يدل إذ ليس فيها حذف ذلك العرض فضلا عن تسميته.
* (قل أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو فى شقاق بعيد) *.
* (قل أرأيتم) * الخ رجوع لإلزام الطاعنين والملحدين وختم للسورة بما يلتفت لفت بدئها وهو من الكلام المنصف وفيه حث على التأمل واستدراج للإقرار مع ما فيه من سحر البيان وحديث الساعة وقع في البين تتميما للوعيد وتنبيها على ما هم فيه من الضلال البعيد كذا قيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام في ذلك، ومعنى * (أرأيتم) * أخبروني * (إن كان) * أي القرآن * (من عند الله ثم كفرتم به) * مع تعاضد موجبات الايمان به، و * (ثم) * كما قال النيسابوري للتراخي الرتبي * (من أضل ممن هو في شقاق) * أي خلاف * (بعيد) * غاية البعد عن الحق، والمراد ممن هو في شقاق المخاطبون، ووضع الظاهر موضع ضميرهم شرحا لحالهم بالصلة وتعليلا لمزيد ضلالهم، وجملة * (من أضل) * على ما قال ابن الشيخ سادة مسد مفعولي * (رأيتم) * وفي " البحر " المفعول الأول محذوف تقديره أرأيتم أنفسكم والثاني هو جملة الاستفهام، وأيا ما كان فجواب الشرط محذوف، قال النيسابوري: تقديره مثلا فمن أضل منكم، وقيل: إن كان من عند الله ثم كفرتم به فأخبروني من أضل منكم، ولعله الأظهر.
5

وقوله تعالى:
* (سنريهم ءاي‍اتنا فى الافاق وفىأنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد) *.
* (ستريهم آياتنا في الآفاق) * الخ مرتبط على ما اختاره " صاحب الكشاف " بقوله تعالى: * (قل أرأيتم) * الخ على وجه التتميم والإرشاد إلى ما ضمن من الحث على النظر ليؤدي إلى المقصود فيهدوا إلى إعجازه ويؤمنوا بماجاء به ويعملوا بمقتضاه ويفوزوا كل الفوز، وفسر الآيات بما أجرى الله تعالى على يد نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى أيدي خلفائه وأصحابهم رضي الله تعالى عنهم من الفتوحات الدالة على قوة الإسلام وأهله ووهن الباطل وحزبه، والآفاق النواحي الواحد أفق بضمتين وأفق بفتحتين أي سنريهم آياتنا في النواحي عموما من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها، وفيه أن هذه الإراءة كانئة لا محالة حق لا يحوم حولها ريبة * (وفي أنفسهم) * في بلاد العرب خصوصا وهو من عطف جبريل على ملائكته، وفي العدول عنها إلى المنزل ما لا يخفى من تمكين ذلك النصر وتحقيق دلالته على حقية المطلوب إثباته وإظهار أن كونه آية بالنسبة إلى الأنفس وإن كان كونه فتحا بالنسبة إلى الأرض والبلدة * (حتى يتبين) * يظهر * (لهم أنه) * أي القرآن هو * (الحق) * الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو الحق كله من عند الله تعالى المطلع على كل غيب وشهادة فلهذا نصر حاملوه وكانوا محقين، وفي التعريف من الفخامة ما لا يخفى جلالة وقدرا، وفيما ذكر إشارة إلى أنه تعالى لا يزال ينشيء فتحا بعد فتح وآية غب آية إلى أن يظهر على الدين كله ولو كره المشركون فانظر إلى هذه الآية الجامعة كيف دلت على حقية القرآن على وجه تضمن حقية أهله ونصرتهم على المخالفين وأعظم بذاك تسليا عما أشعرت به الآية السابقة من انهماكهم في الباطل إلى حد يقرب من اليأس، وقيل: الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام أو الدين أو التوحيد ولعل الأول أولى * (أو لم يكف بربك) * استئناف وارد لتوبيخهم على إنكارهم تحقق الإراءة.
والهمزة للإنكار والواو على أحد الرأيين للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة يقتضيه المقام والباءة مزيدة للتأكيد و * (ربك) * فاعل كفى وزيادة الباء في فاعلها هو القول المشهور المرضى للنحاة وتزاد في فاعل فعل التعجب أيضا نحو أحسن بزيد فإن أحسن فعل ماض جيء به على صيغة الأمر والباء زائدة وزيد فاعل عند جماعة من النحويين ولا تكاد تزاد في غيرهما، وقوله: ألم يأتيك والانباء تنمى * بما لاقت لبون بني زياد
شاذ قبيح على ما قال الشهاب، وقوله تعالى: * (أنه على كل شيء شهيد) * بدل من الفاعل بدل اشتمال، وقيل: هو بتقدير حرف الجر أي أو لم يكفهم ربك بأنه الخ، وما للنحويين في مثل هذا التركيب من الكلام شهير، أي انكروا إراءة ذلك الدالة على حقية القرآن ولم يكفهم دليلا أنه عز وجل مطلع على كل شيء عالم به ومن ذلك حالهم وحالك الموجبان حكمة نصرك عليهم وخذلانهم، وكأن ذلك لظهوره نزل منزلة المعلوم لهم.
وفي " الكشف " أي أو لم يكفهم أن ربك سبحانه مطلع على كل شيء يستوي عنده غيب الأشياء وشهادتها على معنى أو لم يكفهم هذه الإراءة دليلا قاطعا ولما كان ما وعده غيبا عنهم كيف وقد نزل وهم في حال ضعف وقلة يقاسون ما يقاسون من مشركي مكة قيل: أو لم يكفهم إطلاع من هذا الكتاب الحق من عنده على كل غيب وشهادة دليلا على كينونة الإراءة وإحضار ذلك الغيب عندهم إذ لا غيب بالنسبة إليه تعالى، وفي العدول إلى هذه العبارة فائدتان. إحداهما: تحقيق إنجاز ذلك الموعود كأنه مشاهد بذكر الدليل القاطع على الوقوع. والثانية الدلالة
6

على أن هذه الإراءة الآن وهم في ضعف وقلة قد تمت بالنسبة إلى إثبات حقية القرآن لأن من علم أنه تعالى على كل شيء شهيد وعلم أن القرآن معجز من عنده علم أن جميع ما فيه حق وصدق فعلم أن تلك النصرة كائنة.
والحاصل أنه كما يستدل من تلك الآيات على حقيقة القرآن وحقية أهله تارة يستدل من إعجاز القرآن على حقية تلك الآيات وقوعا وحقية أهل الإسلام أخرى فأدى المعنيان في عبارة جامعة تؤدي الغرضين على وجه لا يمكن أتم منه انتهى. ولا يخفى أن في الآية عليه نوعا من الألغاز، وقيل: أي ألم يغنهم عن إراءة الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء وقد أخبر بأنه من عنده عز وجل، وهو كما ترى، وقيل: المعنى ولم يكفك أنه تعالى عل كل شيء
شهيد محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة. وتعقب بأنه مع إيهامه ما لا يليق بجلالة منصبه صلى الله عليه وسلم من التردد فيما ذكر من تحقق الموعود لا يلائم قوله تعالى:
* (ألا إنهم فى مرية من لقآء ربهم ألا إنه بكل شىء محيط) *.
* (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم) * أي في شك عظيم من ذلك بالبعث لاستبعادهم إعادة الموتى بعد تبدد أجزائهم وتفرق أعضائهم فلا يلتفتون إلى أدلة ما ينفعهم عند لقائه تعالى كحقية القرآن لأنه صريح في أن عدم الكفاية معتبر بالنسبة إليهم.
وقوله تعالى: * (ألا إنه بكل شيء محيط) * لبيان ما يترت على تلك المرية بناء على أن المعنى أنه تعالى عالم بجميع الأشياء على أكمل وجه فلا يخفى عليه جل وعلاخافية منهم فيجازيهم جل جلاله على كفرهم ومريتهم لا محالة.
وقيل: دفع لمريتهم وشكهم في البعث وإعادة ما تفرق واختلط مما يتوهمون عدم إمكان تمييزه أي أنه تعالى عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها مقتدر عليها لا يفوته شيء منها فهو سبحانه يعلم الأجزاء ويقدر على البعث. هذا وما ذكر في تفسير * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * في معنى ما روى عن الحسن. ومجاهد. والسدي. وأبي المنهال. وجماعة قالوا: إن قوله سبحانه: * (سنريهم) * الخ وعيد للكفار بما يفتحه الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من الأقطار حول مكة وفي غير ذلك من الأرض كخيبر وأراد بقوله تعالى: * (في أنفسهم) * فتح مكة، وقال الضحاك. وقتادة: في الآفاق ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديما وفي أنفسهم ما كان يوم بدر فإن في ذلك دلالة على نصرة من جاء بالحق وكذب من الأنبياء عليهم السلام فيدل على حقية النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن. وأورد عليه أن * (سنريهم) * يأبى كون ما في الآفاق ما أصاب الأمم المكذبة لكونه مرئيا لهم قبل، وقال عطاء. وابن زيد: أن معنى * (سنريهم آياتنا في الآفاق) * أي أقطار السماء والأرض من الشمس والقمر وسائر الكواكب والرياح والجبال الشامخة وغير ذلك وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، وضعف ذلك الإمام بنحو ما سمعت آنفا. وأجيب بأن القوم وإن كانوا قد رأوا تلك الآيات إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى فيها مما لا نهاية لها فهو سبحانه يطلعهم عليهازمانا قريبا حالا فحالا فإن كل أحد يشاهد بنية الإنسان إلا أن العجائب المودعة في تركيبها لا تحصى وأكثر الناس غافلون عنها فمن حمل على التفكير فيها بالقوارع التنزيلية والتنبيهات الإلهية كلما ازداد تفكرا ازداد وقوفا فصح معنى الاستقبال.
واختار ذلك " صاحب الكشف " تبعا لغيره وبين وجه مناسبة الآيات لما قبلها عليه، وجعل ضمير * (أنه الحق) * لله
7

عز وجل فقال: إن في قوله تعالى: * (قل أرأيتم إن كان من عند الله) * (الأحقاف: 10) إشعارا بأن كونه من عنده سبحانه ينافي الكفر به وأنهم مسلمون ذلك لكن يطعنون في كونه من عنده عز وجل ولذا جعل نحول * (أساطير الأولين) * (الأنعام: 1) في جواب قولهم * (ماذا أنزل ربكم) * (النحل: 24) أنه إعراض عن كونه منزلا وجواب بأنه أساطير لا منزل فاريدان يبين إثبات كونه حقا من عنده تعالى على سبيل الكناية ليكون أوصل إلى الغرض ويناسب ما بني عليه الكلام من سلوك طريق الانصاف فقيل: * (سنريهم) * أي سيرى الله تعالى، والالتفات للدلالة على زيادة الاختصاص وتحقيق ثبوت الإراءة ثم قيل: * (حتى يتبين لهم أنه الحق) * أي أن الله جل جلاله هو الحق من كل وجه ذاتا وصفة وقولا وفعلا وما سواه باطل من كل وجه لا حق إلا هو سبحانه وإذا تبين لهم حقيته عز شأنه من كل وجه يلزم ثبوت القرآن وكونه من عنده تعالى بالضرورة، ثم قيل: أولم يكف بربك أي أو لم يكفك شهوده تعالى على كل شيء فمنه سبحانه تشهد كل شيء لا من آيات الآفاق والأنفس تشهده تعالى فالأول استدلال بالأثر على المؤثر والثاني من المؤثر على الأثر وهذا هو اللمي اليقيني، وفي قوله تعالى: * (برك) * مضافا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم وإيثاره على أو لم يكف به إشعار بأنه عليه الصلاة والسلام وأتباعه من كل العارفين هم الذين يكفيهم شهوده على كل شيء دليلا وأن ذلك لهم نفس عنايته تعالى وتربيته من دون مدخل لتعلمهم فيه بخلاف الأول، ثم قيل: * (ألا أنهم في مرية من لقاء ربهم) * فلهذا لا يكفيهم أنه تعالى على كل شيء شهيد لأنه لا شهود لهم ليشدوا شهوده تعالى فهو شامل لفريقي الأبرار والكفار، أما الكفار فلأنهم في شك في الأصل، وأما الأبرار فلأنهم في شك من الشهود أي لا علم لهم به إلا إيمانا متمحضا عن التقليد.
وإطلاق المرية للتغليب ولا يخفى حسن موقعه، ثم قيل: * (ألا إنه بكل شيء محيط) * تتميما لقوله تعالى: * (أو لم يكف بربك) * لأن من أحاط بكل شيء علما وقدرة لم يتخلف شيء عن شهوده فمن شهده شهد كل شيء فهذا هو الوجه في تعميم الآيات من غير تخصيص لها بالفتوح وهو أنسب من قول الحسن. ومجاهد وأجرى على قواعد الصوفية وعلماء الأصول رحمة الله تعالى عليهم أجمعين انتهى، وقد أبعد عليه الرحمة المغزى وتكلف ما تكلف، ونقل العارف الجامي قدس سره في نفحاته عن القاشاني أن قوله تعالى: * (سنريهم) * الخ يدل على وحدة الوجود، وقد رأيت في بعض كتب القوم الاستدلال به على ذلك وجعل ضمير * (أنه الحق) * إلى المرئي وتفيسر * (الحق) * بالله عز وجل، ومن هذا ونحوه قال الشيخ الأكبر قدس سره: سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها وهذه الوحدة هي التي حارت فيها الأفهام وخرجت لعدم تحقيق أمرها رقاب من ربقة الإسلام، وللشيخ إبراهيم الجوراني قدس سره النوراني عدة رسائل في تحقيق الحق فيها وتشييد مبانيها نسأل الله تعالى أن يمن علينا بصحيح الشهود ويحفظنا بجوده عما علق بأذهان الملاحدة من وحدة الوجود، وقرىء * (إنه على كل شيء شهيد) * بكسر همزة أن على إضمار القول، وقرأ السلمي. والحسن * (في مرية) * بضم الميم وهي لغة فيها كالكسر ونحوها خفية بضم الخاء وكسرها والكسر أشهر لمناسبة الياء.
ومن كلمات القوم في الآيات: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) * (فصلت: 8) فيه إشارة إلى أن أجر المؤمن الغير العامل ممنون أي منقوص بالنسبة إلى أجر المؤمن العامل وأجر هذا العامل على الأعمال البدنية كالصلاة والحج الجنة، وعلى الأعمال القلبية كالرضا والتوكل الشوق والمحبة وصدق
الطلب، وعلى الأعمال الروحانية كالتوجه إلى الله تعالى كشف الأسرار وشهود المعاني والاستئناس بالله تعالى والاستيحاش من الخلق والكرامات، وعلى أعمال الإسرار كالإعراض عن السوي بالكلية دوام التجلي * (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض) *
8

أي أرض البشرية * (في يومين) * يومي الهوى والطبيعة * (وتجعلون له أندادا) * (فصلت: 9) من الهوى والطبيعة * (وجعل فيها رواسي) * العقول الإنسانية * (وبارك فيها) * بالحواس الخمس * (وقدر فيها) * (فصلت: 10) أقواتها من القوى البشرية * (ثم استوى إلى السماء) * سماء القلب * (وهي دخان) * (فصلت: 11) هيولى إلهية * (فقضاهن سبع سموات) * هي الأطوار السبعة للقلب فالأول: محل الوسوسة والثاني: مظهر الهواجس والثالث: معدن الرؤية ويسمى الفؤاد والرابع: منبع الحكمة ويسمى القلب والخامس: مرآة الغيب ويسمى السويداء والسادس: مثوى المحبة ويسمى الشغاف والسابع: مورد التجلي ومركز الإسرار ومهبط الأنوار ويسمى الحبة * (في يومين) * يومي الروح الإنساني والإلهام * (وزينا السماء الدنيا بمصابيح) * (فصلت: 12) وهي أنوار الإذكار والطاعات * (إن الذين قالوا ربنا الله) * يوم خوطبوا بألست بربكم؟ * (ثم استقاموا) * على إقرارهم لما خرجوا إلى عالم الصور ولم ينحرفوا عن ذلك كالمنافقين والكافرين، وذكر أن الاستقامة متفاوتة فاستقامة العوام في الظاهر بالأوامر والنواهي وفي الباطن بالإيمان واستقامة الخواص في الظاهر بالرغبة عن الدنيا وفي الباطن بالرغبة عن الجنان شوقا إلى الرحمن واستقامة خواص الخواص في الظاهر برعاية حقوق المبايعة بتسليم النفس والمال وفي الباطن بالفناء والبقاء * (تتنزل عليهم الملائكة) * تنزلا متفاوتا حسب تفاوت مراتبهم، وعن بعض أئمة أهل البيت أن الملائكة لتزاحمنا بالركب أو ما هذا معناه * (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) * (فصلت: 30) هي أيضا متفاوتة فمنهم من يبشر بالجنة المعروفة ومنهم من يبشر بجنة الوصال ورؤية الملك المتعال * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) * بترك ما سواه * (وعمل صالحا) * لئلا يخالف حاله قاله * (وقال إنني من المسلمين) * (فصلت: 33) المنقادين لحكمه تعالى الراضين بقضائه وقدره، وفيه إشارة إلى صفات الشيخ المرشد وما ينبغي أن يكون عليه ويحق أن يقال في كثير من المتصدين للإرشاد في هذا الزمان المتلاطمة أمواجه بالفساد: / جسم]
خلت الرقاع من الرخاخ * وتفرزنت فيها البيادق
وتصاهلت عرج الحمير * وذاك من عدم السوابق
* (ولا تستوي الحسنة) * وهي التوجه إلى الله تعالى بصدق الطلب وخلوص المحبة * (ولا السيئة) * وهي طلب السوى والرضا بالدون * (ادفع بالتي هي أحسن) * وهي طلب الله تعالى طلب ما سواه سبحانه * (فإذا الذي بينك وبينه عداوة) * وهو النفس الأمارة بالسوء * (كأنه ولي حميم) * (فصلت: 34) لتزكي النفس عن صفاتها الذميمة وانفطامها عن المخالفات القبيحة * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) * لتميل إلى ما يهوى * (فاستعذ بالله) * (فصلت: 36) وارجع إليه سبحانه لئلا يؤثر فيك نزغه، وفيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الأمن من المكر والغفلة عن الله عز وجل: * (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا) * (فصلت: 40) فيه إشارة إلى سوء المنكرين على الأولياء فإنهم من آيات الله تعالى والإنكار من الإلحاد نسأل الله تعالى العفو والعافية * (قل هو) * أي القرآن * (للذين آمنوا هدى وشفاء) * (فصلت: 44) على حسب مراتبهم فمنهم من يهديه إلى شهود الملك العلام فعن الصادق على آبائه وعليه السلام لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * فيه إشارة إلى أن الخلق لا يرون الآيات إلا بإراءته عز وجل وهي كشف الحجب ليظهر أن الأعيان ما شمت رائحة الوجود ولا تشمه أبدا وأنه عز وجل هو الأول والآخر والظاهر والباطن كان الله ولا شيء معه وهو سبحانه الآن على ما عليه كان وإليه الإشارة عندهم بقوله تعالى: * (حتى يتبين لهم أنه الحق) * (فصلت: 53) ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره: ما آدم في الكون ما ابليس * ما ملك سليمان وما بلقيس
9

الكل إشارة وأنت المعنى * يا من هو للقلوب مغناطيس
وأكثر كلامه قدس سره من هذا القبيل بل هو أم وحدة الوجود وأبوها وابنها وأخوها، وإياك أن تقول كما قال ذلك الأجل حتى تصل بتوفيق الله تعالى إلى ما إليه وصل والله عز وجل الهادي إلى سواء السبيل، تم الكلام على السورة والحمد لله على جزيل نعمائه والصلاة والسلام على رسوله محمد مظهر أسمائه وعلى آله وأصحابه وسائر أتباعه وأحبائه وصلاة وسلاما باقيين إلى يوم لقائه.
سورة الشورى
وتسمى سورة * (حم * عسق) *. و * (عسق) * نزلت على ما روي عن ابن عباس. وابن الزبير بمكة وأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء، وفي " البحر " هي مكية إلا أربع آيات من قوله تعالى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * (الشورى: 23) إلى آخر أربع آيات، وقال مقاتل: فيها مدني قوله تعالى: * (ذلك الذي يبشر الله عباده) * - إلى - * (الصدور) * (الشورى: 23، 24) واستثنى بعضهم قوله تعالى: * (أم يقولون افترى) * (الشورى: 24) الخ، قال الجلال السيوطي: ويدل له ما أخرجه الطبراني. والحاكم في سبب نزولها فإنها نزلت في الأنصار، وقوله سبحانه: * (ولو بسط الله الرزق) * (الشورى: 27) الخ فإنها نزلت في أصحاب الصفة رضي الله تعالى عنهم، واستثنى أيضا * (الذين إذا أصابهم البغي) * إلى قوله تعالى: * (من سبيل) * (الشورى: 39 - 41) حكاه ابن الفرس، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يدل على استثناء غير ذلك على بعض الروايات، وجوز أن يكون الإطلاق باعتبار الأغلب وعدد آياتها ثلاث وخمسون في الكوفي وخمسون فيما عداه والخلاف في * (حم * عسق) * وقوله تعالى: * (كالأعلام) * كما فصله الداني. وغيره، ومناسبة أولها لآخر السورة قبلها اشتمال كل على ذكر القرآن وذب طعن الكفرة فيه وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم.
* (حم * عسق) *.
* (حم * عسق) * لعلهما اسمان للسورة وأيد بعدهما آيتين والفصل بينهما في الخط وبورود تسميتها * (عسق) * من غير ذكر * (حم) *، وقيل: هما اسم واحد وآية واحدة وحقه أن يرسم متصلا كما في * (كهيعص) * لكنه فصل ليكون مفتتح السورة على طرز مفتتح أخواتها حيث رسم في كل مستقلا وعلى الأول: هما خبران لمبتدأ محذوف، وقيل: * (حم) * مبتدأ و * (عسق) * خبره وعلى الثاني: الكل خبر واحد، وقيل: إن * (حم * عسق) * إشارة إلى هلاك مدينتين تبنيان على نهر من أنهار المشرق يشق النهر بينهما يجتمع فيهما كل جبار عنيد يبعث الله تعالى على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها ويخسف بالأخرى في الليلة الأخرى، وروي ذلك عن حذيفة، وقيل: إن * (حم) * اسم من أسماء الله تعالى و * (عين) * إشارة إلى عذاب يوم بدر و * (سين) * إشارة إلى قوله تعالى: * (سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) * (الشعراء: 26) و * (قاف) * إلى قارعة من السماء تصيب الناس، وروي ذلك بسند ضعيف عن أبي ذر، والذي يغلب على الظن عدم ثبوت شيء من الروايتين.
وفي " البحر " ذكر المفسرون في * (حم * عسق) * أقوالا مضطربة لا يصح منها شيء ضربنا عن ذكرها صفحا، وما ذكرناه أولا قد اختاره غير واحد، ومنهم من اختار أنها مقطعات جىء بها للإيقاظ، وقرأ ابن عباس. وابن مسعود (حم سق) بلا عين.
وقوله تعالى:
* (كذلك يوحىإليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم) *.
* (كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم) * كلام مستأنف وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعيف الكتب المنزلة على سائر الرسل المتقدمين في الدعوة إلى
10

التوحيد والإرشاد إلى الحق أو أن إيحاءها بعد تنويهها بذكر اسمها والتنبيه على فخامة شأنها، والكاف مفعول * (يوحى) * على الأول: أي يوحى مثل ما في هذه السورة من المعاني أو نعت لمصدر مؤكد على الثاني: أي يوحى إيحاء مثل إيحائها إليك وإلى الرسل أي بواسطة الملك، وهي في الوجهين اسم كما هو مذهب الأخفش وإن شئت فاعتبرها حرفا واعتبر الجار والمجرور مفعولا أو متعلقا بمحذوف وقع نعتا، وقول العلامة الثاني في التلويح: إن جار الله لا يجوز الابتداء بالفعل ويقدر المبتدأ في جميع ما يقع فيه الفعل ابتداء كلام غير مسلم وقد ترددوا فيه حتى قيل: إنه لم يظهر له وجه.
وجوز أبو البقاء كون * (كذلك) * مبتدأ * (ويوحى) * الخبر والعائد محذوف أي مثل ذلك يوحيه إليك الخ وحذف مثله شائع في الفصيح، نعم هذا الوجه خلاف الظاهر، والإشارة كما أشرنا إليه إلى ما في السورة أو إلى إيحائها، والدلالة على البعد لبعد منزلة المشار إليه في الفضل، وصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمراره في الأزمنة الماضية وأن إيحاء مثله عادته عز وجل، وقيل: إنها على التغليب فإن الوحي إلى من مضى مضى وإليه عليه الصلاة والسلام بعضه ماض وبعضه مستقبل، وجوز أن تكون على ظاهرها ويضمر عامل يتعلق به * (إلى الذين) * أي وأوحى إلى الذين وهو كما ترى، وفي جعل مضمون السورة أو إيحائها مشبها به من تفخيمها ما لا يخفى.
وقرأ مجاهد. وابن كثير. وعياش. ومحبوب كلاهما عن أبي عمرو * (يوحى) * مبنيا للمفعول على أن * (كذلك) * مبتدأ * (ويوحى) * خبره المسند إلى ضميره أو مصدر و * (يوحى) * مسند إلى * (إليك) * و * (الله) * مرتفع عند السكاكي على الفاعلية ليوحى الواقع في جواب من يوحى؟ نحو ما قرروه في قوله تعالى: * (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال) * على قراءة * (يسبح) * بالبناء للمفعول، وقوله: ليبك يزيد ضارع لخصومة * ومختبط مما تطيح الطوائح
وقال الزمخشري: رافعه ما دل عليه * (يوحى) * كأن قائلا قال: من الموحي؟ فقيل: الله وإنما قدر كذلك على ما قاله صاحب الكشف ليدل على أن الإيحاء مسلم معلوم وإنما الغرض من الإخبار إثبات اتصافه بأنه تعالى من شأنه الوحي لا إثبات أنه موح، ولم يرتض القول بعدم الفرق بين هذا وقوله تعالى: * (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال) * بل أوجب الفرق لأن الفعل المضارع هنالك على ظاهره لم يؤت به للدلالة على الاستمرار ولهم فيه مقال.
و * (العزيز الحكيم) * صفتان له تعالى عند الشيخين، وجوز أبو حيان كون الاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبر له وقيل: * (الله العزيز الحكيم) * إلى آخر السورة قائم مقام فاعل * (يوحي) * أي هذه الكلمات.
وقرأ أبو حيوة. والأعشى عن أبي بكر. وأبان * (نوحي) * بنون العظمة فالله مبتدأ وما بعده خبر أو * (العزيز الحكيم) * صفتان، وقوله تعالى:
* (له ما فى السم‍اوات وما فى الارض وهو العلى العظيم) *.
* (له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم) * خبر له، وعلى الأوجه السابقة استئناف مقرر لعزته تعالى وحكمته عز وجل.
* (تكاد السم‍اوات يتفطرن من فوقهن والمل‍ائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن فى الارض ألا إن الله هو الغفور الرحيم) *.
* (تكاد السماوات) * وقرىء * (يكاد) * بالياء * (يتفطرن) * يتشققن من عظمة الله تعالى وجلاله جل شأنه وروي ذلك عن قتادة. وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال: تكاد السماوات يتفطرن من الثقل، وقيل: من دعاء الشريك والولد له سبحانه كما في سورة مريم، وأيد هذا بقوله تعالى بعد: * (والذين اتخذوا من دونه أولياء) * فإيراد الغفور الرحيم بعد لأنهم استوجبوا بهذه المقالة
11

صب العذاب عليهم لكنه صرف عنهم لسبق رحمته عز وجل، والآية عليه واردة للتنزيه بعد إثبات المالكية والعظمة، والأول أولى في هذا المقام لأن الكلام مسوق لبيان عظمته تعالى وعلوه جل جلاله ويؤيده ترك العاطف، ويليه ما روي عن الحبر فإن الآية وإن تضمنت عليه الغرض المسوق له الكلام لكن دلالتها عليه بناء على القول
الأول أظهر.
وقرأ البصريان. وأبو بكر * (ينفطرن) * بالنون، والأول أبلغ لأن المطاوع والمطاوع من التفعيل والتفعل الموضوع للمبالغة بخلاف الثاني فإنه انفعال مطاوع للثلاثي، وروى يونس عن أبي عمرو أنه قرأ * (تتفطرن) * بتاءين ونون في آخره على ما في " الكشاف "، و * (تنفطرن) * بتاء واحدة ونون على ما في " البحر " عن ابن خالويه وهو على الروايتين شاذ عن القياس والاستعمال لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث فلا تقول النساء تقمن ولا الوالدات ترضعن، والوجه فيه تأكيد التأنيث كتأكيد الخطاب في أرأيتك؛ ومثله ما رواه أبو عمر الزاهد في نوادر ابن الأعرابي الإبل تتشممن.
* (من فوقهن) * أي يبتدأ التفطر من جهتهن الفوقانية، وتخصيصها على الأول في سبب التفطر لما أن أعظم الآيات وأدلها على العظمة والجلال كالعرش والكرسي والملائكة من تلك الجهة ولذا كانت قبلة الدعاء، وعلى الثالث للدلالة على التفطر من تحتهن بالطريق الأولى لأن تلك الكلمة الشنعاء الواقعة في الأرض حين أثرت من جهة الفوق فلأن تؤثر من جهة التحت أولى، وكذا على الثاني لأن العادة تفطر سطح البيت مثلا من جهة التحتانية بحصول ثقل عليه، وقيل: الضمير للأرض أي لجنسها فيشمل السبع ولذا جمع الضمير وهو خلاف الظاهر، وقال علي بن سليمان الأخفش: الضمير للكفار والمراد من فوق الفرق والجماعات الملحدة، وبهذا الاعتبار أنث الضمير، وفي ذلك إشارة إلى أن التفطر من أجل أقوال هاتيك الجماعات، وفيه ما فيه.
* (والملائكة يسبحون بحمد ربهم) * ينزهونه سبحانه عما لا يليق به جل جلاله ملتبسين بحمده عز وجل، وقيل: يصلون والظاهر العموم في الملائكة، وقال مقاتل: المراد بهم حملة العرش * (ويستغفرون لمن في الأرض) * بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وترتيب الأمور المقربة إلى الطاعة كالمعاونة في بعض أمور المعاش ودفع العوائق واستدعاء تأخير العقوبة طمعا في إيمان الكافر وتوبة الفاسق وهذا يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد، وهو فيما ذكر مجاز مرسل أو استعارة.
وقال السدي. وقتادة: المراد بمن في الأرض المؤمنون لقوله تعالى في آية أخرى: * (ويستغفرون للذين آمنوا) * والمراد بالاستغفار عليه حقيقته، وقيل: الشفاعة.
* (ألا إن الله هو الغفور الرحيم) * إذ ما من مخلوق إلا وله حظ عظيم من رحمته تعالى وأنه سبحانه لذو مغفرة للناس على ظلمهم، وفيه إشارة إلى قبول استغفار الملائكة عليهم السلام وأنه سبحانه يزيدهم على ما طلبوه من المغفرة رحمة، والآية على كون قوله تعالى: * (تكاد السموات يتفطرن) * لبيان عظمته جل شأنه مقررة لما دل عليه ذلك ومؤكدة له لأن تسبيح الملائكة وتنزيههم له تعالى لمزيد عظمته تبارك وتعالى وعظيم جلاله جل وعلا والاستغفار لغيرهم للخوف عليهم من سطوة جبروته عز وجل والتذييل بقوله تعالى: * (ألا إن الله) * الخ
12

على هذا ظاهر، وعلى كون تفطر السموات لنسبة الولد والشريك بيان لكمال قدسه تعالى عما نسب إليه عز وجل فيكون تسبيحهم عما يقوله الكفرة واستغفارهم للمؤمنين الذين تبرأوا عما صدر من هؤلاء والتذييل للإشارة إلى سبب ترك معاجلة العذاب مع استحقاقهم له وعمم بعض المستغفر لهم وأدخل استغفار الملائكة في سبب ترك المعاجلة.
* (والذين اتخذوا من دونه أوليآء الله حفيظ عليهم ومآ أنت عليهم بوكيل) *.
* (والذين اتخذوا من دونه أولياء) * شركاء وأندادا * (الله حفيظ عليهم) * رقيب على أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بها * (وما أنت عليهم بوكيل) * أي بموكل بهم أو بموكول إليك أمرهم وإنما وظيفتك البلاغ والإنذار فوكيل فعيل بمعنى مفعول من المزيد أو الثلاثي، وما في هذه الآية من الموادعة على ما في " البحر " منسوخ بآية السيف.
* (وكذلك أوحينآ إليك قرءانا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق فى الجنة وفريق فى السعير) *.
* (وكذلك أوحينا إليك قرءانا عربيا) * ذلك إشارة إلى مصدر * (أوحينا) * ومحل الكاف على ما ذهب إليه الأخفش من ورودها اسما النصب على المصدرية * (وقرآنا) * مفعول لأوحينا أي ومثل ذلك الإيحاء البديع البين المفهوم أوحينا إليك قرآنا عربيا لا لبس فيه عليك ولا على قومك، وقيل: إشارة إلى ما تقدم من * (الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل) * فالكاف مفعول لأوحينا * (وقرآنا عربيا) * حال من المفعول به أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي، وجوز نصبه على المدح أو البدلية من كذلك، وقيل: أولى من هذا أن يكون إشارة إلى معنى الآية المتقدمة من أنه تعالى هو الحفيظ عليهم وأنه عليه الصلاة والسلام نذير فحسب لأنه أتم فائدة وأشمل عائدة ولا بد عليه من التجوز في قرآنا عربيا إذ لا يصح أن يقال أوحينا ذلك المعنى وهو قرآن عربي لأن القرآنية والعربية صفة اللفظ لا المعنى لكن أمره سهل لقربه من الحقيقة لما بين اللفظ والمعنى من الملابسة القوية حتى يوصف أحدهما بما يوصف به الآخر مع ما في المجاز من البلاغة * (لتنذر أم القرى) * أي أهل أم القرى على التجوز في النسبة أو بتقدير المضاف والمراد بأم القرى مكة، وسميت بذلك على ما قال الراغب لما روي أنه دحيت الدنيا من تحتها فهي كالأصل لها والام تقال لكل ما كان أصلا لشيء، وقد يقال: هي أم لما حولها من القرى لأنها حدثت قبلها لا كل قرى الدنيا، وقد يقال لبلد: هي أم البلاد باعتبار احتياج أهالي البلاد إليها * (ومن حولها) * من العرب على ما ذهب إليه كثير وخص المذكورون بالذكر لأن السورة مكية وهم أقرب إليه عليه الصلاة والسلام وأول من أنذر أو لدفع ما يتوهم من أن أهل مكة ومن حولها لهم طمع في شفاعته صلى الله عليه وسلم وإن لم يؤمنوا لحق القرابة والمساكنة والجوار فخصهم بالإنذار لإزالة ذلك الطمع الفارغ، وقيل: * (من حولها) * جميع أهل الأرض واختاره البغوي وكذا القشيري وقال: لأن الكعبة سرة الأرض والدنيا محدقة بما هي فيه أعني مكة. وهذا عندي لا يكاد يصح مع قولهم: إن عرضها كأم وذولها عز وإن المعمور في جانب الشمال أكثر منه في جانب الجنوب * (وتنذر يوم الجمع) * أي يوم القيامة لأنه يجمع فيه الخلائق قال الله تعالى: *
(يوم يجمعكم ليوم الجمع) * وقيل: تجمع فيه الأرواح والأشباح، وقيل: الأعمال والعمال، والإنذار يتعدى إلى مفعولين وقد يستعمل ثانيهما بالباء وقد حذف ههنا ثاني مفعولي الأول وهو * (يوم الجمع) * والمراد به عذابه وأول مفعولي الثاني وهو * (أم القرى ومن حولها) * فقد حذف من الأول ما أثبت في الثاني ومن الثاني ما أثبت في الأول وذلك من الاحتباك. وقال جار الله: الأول عام في الإنذار بأمور الدنيا والآخرة ثم خص بقوله تعالى: * (وتنذر يوم الجمع) * يوم القيامة زيادة في الإنذار وبيانا لعظمة أهواله لأن الإفراد بالذكر يدل عليه وكذلك إيقاع الإنذار عليه ثانيا
13

والظاهر عليه أن حذف المفعول الثاني من الأول لإفادة العموم وإن كان حذف الأول من الثاني لذلك أيضا وتنذر كل أحد يوم الجمعة، وقيل: يوم الجمعة ظرف فيكون المفعولان محذوفين وقرىء * (لينذر) * بياء الغيبة على أن الفاعل ضمير القرآن لعدم حسن الالتفات ههنا * (لا ريب فيه) * اعتراض في آخر الكلام مقرر لما قبله ويحتمل الحالية من * (يوم الجمع) * أو الاستئناف * (فريق في الجنة وفريق في السعير) * أي بعد جمعهم في الموقف فإنهم يجمعون فيه أولا ثم يفرقون بعد الحساب، * (وفريق) * مبتدأ * (وفي الجنة) * صفته والخبر محذوف وكذا * (فريق في السعير) * أي منهم فريق كائن في الجنة ومنهم فريق كائن في النار، وضمير منهم للمجموعين لدلالة الجمع عليه، وجملة المبتدأ والخبر استئناف في جواب سؤال تقديره ثم كيف يكون حالهم؟ أو حال ولا ركاكة فيه؛ واشتراط الواو فيه غير مسلم، وجوز كون * (فريق) * فاعلا للظرف المقدر، وفيه ضعف، وكونه مبتدأ والظرف المقدر في موضع الصفة له وفي الجنة خبره أي * (فريق) * كائن منهم مستقر في الجنة، وكونه مبتدأ خبره ما بعده من غير أن يكون هناك ظرف مقدر واقع صفة، وساغ الابتداء بالنكرة لأنها في سياق التفصيل والتقسيم كما في قوله: فثوب لبست وثوب أجر
وكونه خبر مبتدأ محذوف أي المجموعون فريق الخ.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (فريقا وفريقا) * بنصبهما فقيل: هو على الحال من مقدر أي افترقوا أي المجموعون فريقا وفريقا أو من ضمير جمعهم المقدر لأن أل قامت مقامه أي وتنذر يوم جمعهم متفرقين وهو من مجاز المشارفة أي مشارفين للتفرق أو الحال مقدرة فلا يلزم كون افتراقهم في حال اجتماعهم أو يقال إن اجتماعهم في زمان واحد لا ينافي افتراق أمكنتهم كما تقول: صلوالأفي وقت واحد في مساجد متفرقة فالمراد متفرقين في داري الثواب والعقاب، وإذا أريد بالجمع جمع الأرواح بالأشباح أو الأعمال بالعمال لا يحتاج إلى توفيق أصلا، وجوز كون النصب بتنذر المقدر أو المذكور والمعنى تنذر فريقا من أهل الجنة وفريقا من أهل السعير لأن الإنذار ليس في الجنة والسعير ولا يخفى تكلفه.
* (ولو شآء الله لجعلهم أمة واحدة ول‍اكن يدخل من يشآء فى رحمته والظ‍المون ما لهم من ولى ولا نصير) *.
* (ولو شاء الله) * جعلهم أمة واحدة * (لجعلهم) * أي في الدنيا * (أمة واحدة) * مهتدين أو ضالين وهو تفصيل لما أجمله ابن عباس في قوله: على دين واحد، فمعنى قوله تعالى: * (ولاكن يدخل من يشاء في رحمته) * أنه تعالى يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها ويدخل من يشاء في عذابه أن يدخله فيه ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول ما أدخله ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب اختلاف حال الداخلين فيهما قطعا فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة بل جعلهم فريقين وإنما قيل * (والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير) * وكان الظاهر أن يقال ويدخل من يشاء في عذابه ونقمته للإيذان بأن الإدخال في العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم لا من جهته عز وجل كما في الإدخال في الرحمة، واختار الزمخشري كون المراد أمة واحدة مؤمنين وهو ما قاله مقاتل على دين الإسلام كما في قوله تعالى: * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) * (الأنعام: 35) وقوله سبحانه: * (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) * (السجدة: 13) والمعنى ولو شاء الله تعالى مشيئة قدرة لقسرهم على الإيمان ولكنه سبحانه شاء مشيئة حكمة وكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بقوله تعالى: * (من يشاء) * وترك الظالمين بغير ولي ولا نصير، والكلام متعلق بقوله تعالى: * (والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما
14

أنت عليهم بوكيل) * (الشورى: 6) كالتعليل للنهي عن شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمانهم، فالظالمون مظهر أقيم مقام ضمير المتخذين ليفيد أن ظلمهم علة لما بعده أو هو للجنس ويتناولهم تناولا أوليا، وعدل عن الظاهر إلى ما في " النظم الجليل " إذ الكلام في الإنذار وهو أبلغ في تخويفهم لإشعاره بأن كونهم في العذاب أمر مفروغ منه وإنما الكلام في أنه بعد تحتمه هل لهم من يخلصهم بالدفع أو الرفع فإذا نفى ذلك علم أنهم في عذاب لا خلاص منه.
وتعقب بأن فرض جعل الكل مؤمنين يأباه تصدير الاستدراك بإدخال بعضهم في رحمته تعالى إذ الكل حينئذ داخلون فيها فكان المناسب حينئذ تصديره بإخراج بعضهم من بينهم وإدخالهم في عذابه، وربما يقال: حيث أن الآية متعلقة بما سمعت كان المراد ولو شاء الله تعالى لجعل الجميع مؤمنين كما تريد وتحرص عليه ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك بل جعل بعضهم مؤمنا كما أردت وجعل بعضهم الآخر وهم أولئك المتخذون من دونه أولياء كفارا لا خلاص لهم من العذاب حسبما تقتضيه الحكمة وكان التصدير بما صدر به مناسبا كما لا يخفى على من له ذوق بأساليب الكلام إلا أن الظاهر على هذا أدخل من شاء دون " يدخل من يشاء " لكن عدل عنه إليه حكاية للحال الماضية، وقال شيخ الإسلام: الذي يقتضيه سباق النظم الكريم وسياقه أن يراد الاتحاد في الكفر كما في قوله تعالى: * (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين) * الآية على أحد الوجهين، فالمعنى ولو شاء الله تعالى لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولا لينذرهم ما ذكر من يوم الجمع وما فيه من ألوان الأهوال فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ولكن يدخل من يشاء في رحمته سبحانه أي شأنه عز شأنه ذلك فيرسل إلى الكل من ينذرهم ما ذكر فيتأثر بعضهم بالإنذار فيصرفون اختيارهم إلى الحق فيوفقهم الله تعالى للإيمان والطاعات ويدخلهم في رحمته عز وجل ولا يتأثر به الآخرون ويتمادون في غيهم وهم الظالمون فيبقون في الدنيا على ما هم عليه من الكفر ويصيرون في الآخرة إلى السعير من غير ولي يلي أمرهم ولا نصير يخلصهم من العذاب انتهى.
ولا يخفى أن بين قوله تعالى: * (كان الناس أمة واحدة) * الآية، وقوله سبحانه: * (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة) * بالمعنى الذي اختاره هنا فيهما نوع تناف فتدبر جميع ذلك والله تعالى الموفق.
* (أم اتخذوا من دونه أوليآء فالله هو الولى وهو يحى الموتى وهو على كل شىء قدير) *.
* (أم اتخذوا من دونه أولياء) * جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من انتفاء أن يكون للظالمين ولي أو نصير وكلام الكشاف يومىء إلى أنه متصل بقوله تعالى * (والذين اتخذوا) * الخ على معنى دع الاهتمام بشأنهم واقطع الطمع في إيمانهم وكيت وكيت أليسوا الذين اتخذوا من دون الله تعالى أولياء وهو سبحانه الولي الحقيقي القادر على كل شيء وعدلوا عنه عز وجل إلا ما لا نسبة بينه تعالى وبينه أصلا وإن قوله سبحانه: * (وكذلك أوحينا) * الآية اعتراض مؤكد لمضمون الآيتين، و * (أم) * على القولين منقطعة وهي تقدر في الأغلب ببل والهمزة، وقدرها جماعة هنا بهما إلا أن بل على القول الثاني للإضراب وعلى القول الأول للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها، والهمزة قيل: لإنكار الواقع واستقباحه، وقيل: لا بل لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه وآكده إذ المراد بيان أن ما فعلوا ليس من اتخاذ الأولياء في شيء لأن ذلك فرع كون الأصنام أولياء وهو أظهر الممتنعات أي بل اتخذوا متجاوزين الله تعالى أولياء من الأصنام وغيرها * (فالله هو الولي) * قيل: هو جواب شرط مقدر أي إن أرادوا وليا بحق فالله تعالى هو الولي بحق لا ولي بحق سواه عز وجل، وكونه جواب الشرط على معنى الإخبار ونحوه.
وقال في " البحر ": لا حاجة إلى اعتبار شرط محذوف والكلام يتم بدونه، ولعله يريد ما قيل: إنه عطف على
15

ما قبله أو أنه تعليل للإنكار المأخوذ من الاستفهام كقولك أتضرب زيدا فهو أخوك أي لا ينبغي لك ضربه فإنه أخوك.
وتعقب بأن المعروف في مثله استعماله بالواو وإنما يحسن التعليل في صريح الإنكار، ولا يناسب معنى المضي أيضا * (وهو يحيي الموتى) * أي شأنه ذلك نحو فلان يقري الضيف ويحمي الحريم * (وهو على كل شيء قدير) * فهو سبحانه الحقيق بأن يتخذ وليا فليخصوه بالاتخاذ دون من لا يقدر على شيء ما أصلا:
* (وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربى عليه توكلت وإليه أنيب) *.
* (وما اختلفتم فيه من شيء) * إلى آخره حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أي ما خالفكم الكفار فيه من أمور الدين كاتخاذ الله تعالى وحده وليا فاختلفتم أنتم وهم * (فحكمه) * راجع * (إلى الله) * وهو إثابة المحقين وعقاب المبطلين، ويجوز أن يكون كلاما من جهته تعالى متضمنا التسلية ويكون قوله تعالى: * (ذلكم) * الخ بتقدير قل، والإمام اعتبره من أول الكلام، وأيا ما كان فالإشارة إليه تعالى من حيث اتصافه بما تقدم من الصفات على ما قاله الطيبي من كونه تعالى هو يحيي الموتى وكونه سبحانه على كل شيء قدير وكونه عز وجل ما اختلفوا فيه فحكمه إليه، وقال في " الإرشاد ": أي ذلكم الحاكم العظيم الشأن * (الله ربي) * مالكي * (عليه توكلت) * في مجامع أموري خاصة لا على غيره * (وإليه أنيب) * أرجع في كل ما يعن لي من معضلات الأمور لا إلى أحد سواه وحيث كان التوكل أمرا واحدا مستمرا والإنابة متعددة متجددة حسب تجدد موادها أوثر في الأول صيغة الماضي وفي الثاني صيغة المضارع، وقيل: وما اختلفتم فيه وتنازعتم من شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره كقوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) * (النساء: 59).
وقيل: وما اختلفتم فيه من شيء من تأويل آية واشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله تعالى والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتعلق بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه فقولوا الله تعالى أعلم كمعرفة الروح. وأورد على الكل أنه مخالف للسياق لأن الكلام مسوق للمشركين وهو على ذلك مخصوص بالمؤمنين، وظاهر كلام الإمام اختيار الاختصاص فإنه قال في وجه النظم الكريم: إنه تعالى كما منع رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحمل الكفار على الإيمان كذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معه في الخصومات والمنازعات، وذكر أنه احتج نفاة القياس به فقالوا: إما أن يكون المراد منه وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه مستفاد من نص الله تعالى أو من القياس على ما نص سبحانه عليه والثاني باطل لأنه يقتضي أن تكون كل الأحكام مبنية على القياس فتعين الأول، ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون المراد فحكمه معروف من بيان الله تعالى سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس، وأجيب عنه بأن المقصود من التحاكم إلى الله تعالى قطع الاختلاف لقوله تعالى: * (وما اختلفتم) * والرجوع إلى القياس مما يقوي الاختلاف فوجب الرجوع إلى النصوص اه‍.
وأنت تعلم أن النصوص غير كافية في جميع الأحكام وأن الآية على ما سمعت أولا مما لا يكاد يصح الاستدلال بها على هذا المطلب من أول الأمر. وفي " الكشاف " لا يجوز حمل الاختلاف فيها على اختلاف المجتهدين في أحكام الشريعة لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يخفى عليك أن هذه المسألة مختلف فيها فقال الأكثرون بجواز الاجتهاد المذكور عقلا ومنهم من أحاله، ثم المجوزون منهم من منع وقوع التعبد به وهو مذهب أبي علي. وابنه أبي هاشم، وإليه ذهب صاحب الكشاف وذكر ما يخالفه نقل لمذهب الغير وإن لم يعقبه برد كما هو عادته
16

في الأكثر ومنهم من ادعى الوقوع ظنا ومنهم من جزم بالوقوع، وقيل: إنه الأصح عند الأصوليين ومنهم من توقف، والبحث فيها مستوفى في أصول الفقه، والذي نقوله هنا: إن الاستدلال بالآية على منعه لا يكاد يتم وأقل ما يقال فيه: إنه استدلال بما فيه احتمال، وقوله تعالى:
* (فاطر السم‍اوات والارض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الانع‍ام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) *.
* (فاطر السموات والأرض) * خبر آخر لذلكم أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو فاطر أو صفة لربي أو بدل منه أو مبتدأ خبره * (جعل لكم) * وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بالجر على أنه بدل من ضمير * (إليه) * أو * (عليه) * أو وصف للاسم الجليل في قوله تعالى: * (إلى الله) * وما بينهما جملة معترضة
بين الصفة والموصوف وقد تقدم معنى * (فاطر) * وجعل أي خلق * (من أنفسكم) * من جنسكم * (أزواجا) * نساء.
وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة * (ومن الأنعام أزواجا) * أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجا كما خلق لكم من أنفسكم أزواجا ففيه جملة مقدرة لدلالة القرينة أو وخلق لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا وإناثا * (يذرؤكم) * يكثركم يقال ذرأ الله تعالى الخلق بثهم وكثرهم والذرء والذر إخوان * (فيه) * أي فيما ذكر من التدبير وهو أن جعل سبحانه للناس والأنعام أزواجا يكون بينهم توالد وجعل التكثر في هذا الجعل لوقوعه في خلاله وأثنائه فهو كالمنبع له، ويجوز أن تكون في للسببية وغلب في * (يذرؤكم) * المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل فهناك تغليب واحد استمل على جهتي تغليب وذلك لأن الأنعام غائب غير عاقل فإذا ادخلت في خطاب العقلاء كان فيه تغليب العقل والخطاب معا، وهذا التغليب - أعني التغليب لأجل الخطاب والعقل - من الأحكام ذات العلتين وهما هنا الخطاب والعقل وهذا هو الذي عناه جار الله وهو مما لا بأس فيه لأن العلة ليست حقيقية، وزعم ابن المنير أن الصحيح أنهما حكمان متباينان غير متداخلين أحدهما. مجيئه على نعت ضمير العقلاء أعم من كونه مخاطبا أو غائبا. والثاني مجيئه بعد ذلك على نعت الخطاب فالأول لتغليب العقل والثاني لتغليب الخطاب ليس بشيء ولا يحتاج إليه، وكلام صاحب المفتاح يحتمل اعتبار تغليبين. أحدهما تغليب المخاطبين على الغيب. وثانيهما تغليب العقلاء على ما لا يعقل، وقال الطيبي: إن المقام يأبى ذلك لأنه يؤدي إلى أن الأصل يذرؤكم ويذرؤها ويذرؤكن ويذرؤها لكن الأصل يذرؤكم ويذرؤها لا غير لأن - كم - في * (يذرؤكم) * هو كما * (في جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * بعينه لكن غلب ههنا على الغيب فليس في يذرؤكم إلا تغليب واحد انتهى، ثم أنه لا ينبغي أن يقال: إن التذرئة حكم علل في الآية بعلتين: احداهما جعل الناس أزواجا. والثانية جعل الأنعام أزواجا ويجوز أن يكون هو الذي عناه جار الله لأن الحكم هو البث المطلق وعلته المجموع وإن جعل كل جزء منه علة فكل بث حكم أيضا فأين الحكم الواحد المتعدد علته فافهم، وعن ابن عباس أن معنى * (يذرؤكم) * فيه يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها، وقريب منه قول ابن زيد يرزقكم فيه، والظاهر عليه أن الضمير لجعل الأزواج من الأنعام.
وقال مجاهد أي يخلقكم نسلا بعد نسل وقرنا بعد قرن، ويتبادر منه أن الضمير للجعل المفهوم من * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * ويجوز أن يكون كما في الوجه الأول ويفهم منه أن الذرء أخص من الخلق وبه صرح ابن عطية قال: ولفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق معنى آخر ليس في خلق وهو توالى الطبقات على مر الزمان، وقال العتبي: ضمير * (فيه) * للبطن لأنه في حكم المذكور والمراد يخلقكم في بطون الأناث، وفي رواية عن ابن زيد أنه لما خلق من السموات والأرض، وهو كما ترى ومثله ما قبله والله تعالى أعلم * (ليس كمثله شيء) * نفى للمشابهة من كل وجه ويدخل في
17

ذلك نفى أن يكون مثله سبحانه شيء يزاوجه عز وجل وهو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها أو المراد ليس مثله تعالى شيء في الشؤون التي من جملتها التدبير البديع السابق فترتبط بما قبلها أيضا، والمراد من مثله ذاته تعالى فلا فرق بين ليس كذاته شيء وليس كمثله شيء في المعنى إلا أن الثاني كناية مشتملة على مبالغة وهي أن المماثلة منفية عمن يكون مثله وعلى صفته فكيف عن نفسه وهذا لا يستلزم وجود المثل إذ الفرض كاف في المبالغة ومثل هذا شائع في كلام العرب نحو قول أوس بن حجر: ليس كمثل الفتى زهير * خلق يوازيه في الفضائل
وقول الآخر: وقتلى كمثل جذوع النخيل * تغشاهم مسبل منهمر
وقول الآخر: سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم * ما أن كمثلهم في الناس من أحد
وقد ذكر ابن قتيبة وغيره أن العرب تقيم المثل مقام النفس فتقول مثلك لا يبخل وهي تريد أنت لا تبخل أي على سبيل الكناية وقد سمعت فائدتها. وفي الكشف أنها الدلالة على فضل إثبات لذلك الحكم المطلوب وتمكينه وذلك لوجهين. أحدهما أنه فرض جامع يقتضي ذلك فإذا قلت مثلك لا يبخل دل على أن موجب عدم البخل موجود بخلافه إذا قلت أنت لا تبخل. والثاني أنه إذا جعل من جماعة لا يبخلون يكون أدل على عدم البخل لأنه جعل معدودا من جملتهم، ومن ذلك قولهم قد أيفعت لذاته أي أترابه وأمثاله في السن، وقول رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم في سقيا عبد المطلب: إلا وفيهم الطيب الطاهر لذاته تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك، وقيل: إن مثلا بمعنى الصفة وشيئا عبارة عنها أيضا حكاه الراغب ثم قال: والمعنى ليس كصفته تعالى صفة تنبيها على أنه تعالى وإن وصف بكثير مما يوصف به البشر فليست تلك الصفات له عز وجل حسب ما يستعمل في البشر.
وذهب الطبري. وغيره إلى أن مثلا زائدة للتأكيد كالكاف في قوله: بالأمس كانوا في رخاء مأمول * فأصبحت مثل كعصف مأكول
وقول الآخر: أهل عرفت الدار بالغريين * وصاليات ككما يؤثفين
وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بجيد لأن مثلا اسم والأسماء لا تزاد بخلاف الكاف فإنها حرف فتصلح للزيادة، ونسب إلى الزجاج. وابن جنى. والأكثرين القول بأن الكاف زائدة للتأكيد، ورده ابن المنير بأن الكاف تفيد تأكيد التشبيه لا تأكيد النفي ونفي المماثلة المهملة أبلغ من نفي المماثلة المؤكدة فليست الآية نظير شطري البيتين، ويقال نحوه فيما نقل عن الطبري ومن معه، وأجيب بأنه يفيد تأكيد التشبيه إن سلبا فسلب وإن إثباتا فإثبات فيندفع ما أورد، نعم الأول هو الوجه، والمثل قال الراغب: أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة وذاك أن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط والشبه لما يشارك في الكيفية فقط والمساوي لما يشارك في الكمية فقط والشكل لما يشارك في القدر والمساحة فقط والمثل عام في جميع ذلك، ولهذا لما أراد الله تعالى نفي الشبه من كل وجه خصه سبحانه بالذكر، وذكر الإمام الرازي أن المثلين عند المتكلمين هما اللذان يقوم كل منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته وحمل المثل في الآية على ذلك أي لا يساوي الله تعالى في حقيقة الذات شيء، وقال: لا يصح أن يكون المعنى ليس كمثله تعالى في الصفات شيء لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أن الله تعالى يوصف بذلك وكذا يوصفون بكونهم معلومين مذكورين مع أن الله تعالى يوصف بذلك
، وأطال الكلام في هذا المقام وفي القلب منه شيء.
18

وفي شرح جوهرة التوحيد اعلم أن قدماء المعتزلة كالجبائي. وابنه أبي هاشم ذهبوا إلى أن المماثلة هي المشاركة في أخص صفات النفس فمماثلة زيد لعمر ومثلا عندهم مشاركته إياه في الناطقية فقط، وذهب المحققون من الماتريدية إلى أن المماثلة هي الاشتراك في الصفات النفسية كالحيوانية والناطقية لزيد وعمرو.
ومن لازم الاشتراك في الصفة النفسية أمران أحدهما: الاشتراك فيما يجب ويجوز ويمتنع. وثانيهما: أن يسد كل منهما مسد الآخر والمتماثلان وان اشتركا في الصفات النفسية لكن لا بد من اختلافهما بجهة أخرى ليتحقق التعدد والتمايز فيصح التماثل، ونسب إلى الأشعري أنه يشترط في التماثل التساوي من كل وجه.
واعترض بأنه لا تعدد حينئذ فلا تماثل، وبأن أهل اللغة مطبقون على صحة قولنا: زيد مثل عمرو في الفقه إذا كان يساويه فيه ويسد مسده وإن اختلف في كثير من الأوصاف، وفي الحديث " الحنطة بالحنطة مثلا بمثل " وأريد به الاستواء في الكيل دون الوزن وعدد الحبات وأوصافها، ويمكن أن يجاب بأن مراده التساوي في الوجه الذي به التماثل حتى أن زيدا وعمرا لو اشتركا في الفقه وكان بينهما مساواة فيه بحيث ينوب أحدهما مناب الآخر صح القول بأنهما مثلان فيه وإلا فلا فلا يخالف مذهب الماتريدية، وفيه أيضا أنه عز وجل ليس له سبحانه مماثل في ذاته فلا يسد مسد ذاته تعالى ذات ولا مسد صفته جلت صفته صفة، والمراد بالصفة الصفة الحقيقية الوجودية، ومن هنا تعلم ما في قول الإمام لا يصح أن يكون المعنى ليس كمثله تعالى في الصفات شيء لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أن الله سبحانه يوصف بذلك فإن معنى ذلك أنه تعالى ليس مثل صفته سبحانه صفة، ومن المعلوم البين أن علم العباد وقدرتهم ليسا مثل علم الله عز وجل وقدرته جل وعلا أي ليسا سادين مسدهما، وأما كونه تعالى مذكورا ونحوه فهو ليس من الصفات المعتبرة القائمة بذاته تعالى كما لا يخفى، وزعم جهم بن صفوان أن المقصود من هذه الآية بيان أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء لأن كل شيء فإنه يكون مثلا لمثل نفسه فقوله تعالى: * (ليس كمثله شيء) * معناه ليس مثل مثله شيء وذلك يقتضي أن لا يكون هو سبحانه مسمى باسم الشيء فلم يجعل المثل كناية عن الذات على ما سمعت ولا حكم بزيادته ولا بزيادة الكاف ومع هذا واغماض العين عما في كلامه لا يتم له مقصوده إذ لنا أن نجعل ليس مثل مثله شيء نفيا للمثل على سبيل الكناية أيضا لكن بوجه آخر وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه لأنه نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما يقال: ليس لأخي زيد أخ فأخو زيد ملزوم والأخ لازمه لأنه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد فنفيت هذا اللازم والمراد نفي ملزومه أي ليس لزيد أخ إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ هو زيد فكذا نفيت أن يكون لمثل الله تعالى مثل، والمراد نفي مثله سبحانه وتعالى إذ لو كان له مثل لكان هو مثل مثله إذ التقدير أنه موجود، ومغايرته لما تقدم أن مبناه إثبات اللزوم بين وجود المثل ووجود مثل المثل ليكون نفي اللازم كناية عن نفي الملزوم من غير ملاحظة والتفات إلى أن حكم الأمثال واحد وأنه يجري في النفي دون الإثبات فإن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم دون العكس بخلاف ما تقدم فإن مبناه أن حكم المتماثلين واحد وإلا لم يكونا متماثلين ولا يحتاج إلى إثبات اللزوم بين وجود المثل ومثل المثل وانه يجري في النفي والإثبات كما سمعت من الأمثلة وليس ذاك من المذهب الكلامي في شيء، أما أولا فلأنه إيراد الحجة وليس في الآية إشعار بها فضلا عن الإيراد، وأما ثانيا فلأنه حينئذ تكون الحجة قياسا استثنائيا استثنى فيه نقيض التالي هكذا لو كان له سبحانه مثل لكان هو جل شأنه مثل مثله لكنه ليس مثلا لمثله فلا بد من بيان بطلان التالي حتى تتم الحجة
19

إذ ليس بينا بنفسه بل وجود المثل ووجود مثل المثل في مرتبة واحدة في العلم والجهل لا يجوز جعل أحدهما دليلا على الآخر، لكن قيل: إن المفهوم من ليس مثل مثله شيء على ذلك التقدير نفى أن يكون مثل لمثله سواه تعالى بقرينة الإضافة كما أن المفهوم من قول المتكلم: إن دخل داري أحد فكذا غير المتكلم، وأيضا لا نسلم أنه لو وجود له سبحانه مثل لكان هو جل وعلا مثل مثله لأن وجود مثله سبحانه محال والمحال جاز أن يستلزم المحال.
وأجيب عن الأول أن اسم ليس * (شيء) * وهو نكرة في سياق النفي فتعم الآية نفي شيء يكون مثلا لمثله، ولا شك أنه على تقدير وجود المثل يصدق عليه أنه شيء مثل لمثله، والإضافة لا تقتضي خروجه عن عموم شيء بخلاف الماثال المذكور فإن القرينة العقلية دلت على تخصيص أحد بغير المتكلم لأن مقصوده المنع عن دخول الغير وعن الثاني أن وجود المثل لشيء مطلقا يستلزم المثل مع قطع النظر عن خصوصية ذلك الشيء وذلك بين فالمنع بتجويز أن يكون لذاته تعالى مثل ولا يكون هو سبحانه مثلا لمثله مكابرة، ثم إن هذا الوجه لكثرة ما فيه من القيل والقال بالنسبة إلى غيره من الأوجه السابقة لم نذكره عند ذكرها وهو على علاته أحسن من القول بالزيادة كما لا يخفى على من وفقه الله عز وجل * (وهو السميع) * المدرك إدراكا تاما لا على طريق التخيل والتوهم لجميع المسموعات ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول هواء * (البصير) * المدرك إدراكا تاما لجميع المبصرات أو الموجودات لا على سبيل التخيل والتوهم ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول شعاع فالسمع والبصر صفتان غير العلم على ما هو الظاهر وأرجعهما بعضهم إلى صفة العلم، وتمام الكلام على ذلك في الكلام، وقدم سبحانه نفي المثل على إثبات السمع والبصر لأنه أهم في نفسه وبالنظر إلى المقام.
* (له مقليد السم‍اوات والارض يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه بكل شىء عليم) *.
* (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) *.
وقرىء * (يقدر) * بالتشديد * (إنه بكل شيء عليم) * مبالغ في الإحاطة به فيفعل كل ما يفعل جل شأنه على ما ينبغي أن يفعل عليه، والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى:
* (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذىأوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبىإليه من يشآء ويهدىإليه من ينيب) *.
* (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) * وإيذان بأن ما شرع سبحانه لهم صادر عن كمال العلم والحكمة كما أن بيان نسبته إلى المذكورين عليهم الصلاة والسلام تنبيه على كونه دينا قديما أجمع عليه الرسل، والخطاب لأمته عليه الصلاة والسلام أي شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ومن بعده من أرباب الشرائع وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمرهم به أمرا مؤكدا، وتخصيص المذكورين بالذكر لما أشير إليه من علو شأنهم وعظم شهرتهم ولاستمالة قلوب الكفرة إلى الأتباع لاتفاق كل على نبوة بعضهم واختصاص اليهود بموسى عليه السلام والنصارى بعيسى عليه السلام وإلا فما من نبي إلا وهو مأمور بما أمروا به من إقامة دين الإسلام وهو التوحيد وما لا يختلف باختلاف الأمم وتبدل الإعصار من أصول الشرائع والأحكام كما بنبىء عنه التوصية فإنها معربة عن تأكيد الأمر والاعتناء بشأن المأمور به، والمراد يايحائه إليه صلى الله عليه وسلم إما ما ذكر في صدر السورة الكريمة وفي قوله تعالى: * (وكذلك أوحينا إليك) * (الشورى: 7) الآية وإما ما يعمهما وغيرهما مما وقع في سائر المواقع التي من جملتها قوله تعالى: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) * (النحل: 123) وقوله سبحانه: * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلى إنما الهكم إله واحد) * (الكهف: 110) وغير ذلك، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده م التوصية لمراعاة ما وقع في الآيات المذكورة ولما في الإيحاء من
20

التصريح برسالته عليه الصلاة والسلام القامع لإنكار الكفرة، والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بإيحائه، وفي ذلك إشعاء بأنه شريعته صلى الله عليه وسلم هي الشريعة المعتني بها غاية الاعتناء ولذا عبر فيها بالذي التي هي أصل الموصولات وذلك هو السر في تقديم الذي أوى إليه عليه الصلاة والسلام على ما بعده مع تقدمه عليه زمانا، وتقديم توصية نوح عليه السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم دينا قديما، وقد قيل: إنه عليه الصلاة والسلام أول الرسل، وتوجيه الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيه على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه صلى الله عليه وسلم * (أن أقيموا الدين) * أي دين الإسلام الذي هو توحيد الله تعالى وطاعته والإيمان بكتبه ورسله وبيوم الجزاء وسائر ما يكون العبد به مؤمناف، والمراد بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ والمواظبة عليه، و * (أن) * مصدرية وتقدم الكلام في وصلها بالأمر والنهي أو مخففة من الثقيلة لما في * (شرع) * من معنى العلم، والمصدر اما منصوب على أنه بدل من مفعول * (شرع) * والمعطوفين عليه أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والجملة جواب عن سؤال نشأ من إبهام المشروع كأنه قيل: وما ذاك؟ فقيل: هو أن أقيموا الدين، وقيل: هو مجرور على أنه بدل من ضمير * (به) * ولا يلزمه بقاء الموصول بلا عائد لأن المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة، نعم قال شيخ الإسلام: إنه ليس بذاك لما أنه مع إفضائه إلى خروجه عن حيز الإيحاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستلزم لكون الخطاب في النهي الآتي عن التفرق للأنبياء المذكورين عليهم السلام وتوجيه النهي إلى أممهم تمحل ظاهر مع أن الأظهر أنه متوجه إلى أمته صلى الله عليه وسلم وأنهم مالتفرقون، ثم بين ما استظهره وسنشير إليه إن شاء الله تعالى.
وجوز كونه بدلا من * (الدين) * ويجوز كون * (أن) * مفسرة فقد تقدمها ما يتضمن معني القول دون حروفه والخطاب في * (أقيموا) * وقوله تعالى: * (ولا تتفرقوا فيه) * على ما اختاره غير واحد من الأجلة شامل للنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه وللأنبياء والأمم قبلهم وضمير * (فيه) * للدين أي ولا تتفرقوا في الدين الذي هو عبارة عما تقدم من الأصول بأن يأتي به بعض ولا يأتي بعض ويأتي بعض ببعض منه دون بعض وهو مراد مقاتل أي لا تختلفوا فيه، ولا يشمل هذا النهي عن الاختلاف في الفروع فإنها ليست من الأصول المرادة هنا ولم يتحد بها النبيون كما يؤذن بذلك قوله تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * (المائدة: 48) وبعضهم أدخل بعض الفروع في أصول الدين المرادة هنا من الدين.
قال مجاهد: لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار بالله تعالى وطاعته سبحانه وذلك إقامة الدين، وقال الحافظ أبو بكر بن العربي: لم يكن مع آدم عليه السلام إلا بنوه ولم يفرض له الفرائض ولا شرعة له المحارم وإنما كان منبها على بعض الأمور مقتصرا على بعض ضروريات المعاش واستمر الأمر إلى نوح عليه السلام فبعثه الله تعالى بتحريم الأمهات والبنات ووظف عليه الواجبات وأوضح له الأدب في الديانات ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر الأنبياء واحدا بعد واحد وشريعة أثر شريعة حتى ختمه سبحانه بخير الملل على لسان أكرم الرسل، فمعنى الآية شرعنا لكم ما شرعنا للأنبياء دينا واحدا في الأصول وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج والتقرب بصالح الأعمال والصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإيذاء للخلق والاعتداء على الحيوان واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات فهذا كله مشروع دينا واحدا وملة متحدة لم يختلف على ألسنة الأنبياء وان اختلفت أعدادهم، ومعنى * (أقيموا الدين ولا تتفرقوا
21

فيه) * اجعلوه قائما أي دائما مستمرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب انتهى، ولعله أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج مطلقها لا ما نعرفه في شرعنا منها فإن الصلوات الخمس والزكاة المخصوصة وصيام شهر رمضان من خواص هذه الأمة على الصحيح، والظاهر أن حج البيت لم يشرع لأمة موسى وأمة عيسى عليهما السلام ولا لأكثر الأمم قبلهما على أن الآية مكية ولم تشرع الزكاة المعروفة وصيام رمضان إلا في المدينة، وبالجملة لا شك في اختلاف الأديان في الفروع، نعم لا يبعد اتفاقها فيما هو من مكارم الأخلاق واجتناب الرذائل * (كبر) * أي عظم وشق * (على المشركين معا تدعوهم إليه) * على سبيل الاستمرار التجددي من التوحيد ورفض عبادة الأصنام ويشعر بإرادته التعبير بالمشركين وهو أصل الأصول وأعظم ما شق عليهم كما تنبىء بذلك الآيات أو ما تدعوهم إليه من إقامة الدين وعدم التفرق فيه * (الله يجتبى إليه من يشاء) * تسلية له صلى الله عليه وسلم بأن منهم من يجيب، و * (يجتبى) * من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والضمير في * (إليه) * لله تعالى كما ذكر محيي السنة وغيره وكذا الضمير في قوله تعالى: * (ويهدي إليه من ينيبذ أي يصطفي إليه سبحانه من يشاء اصطفاءه ويخصصه سبحانه يفيض إلهي يتحصل له منه أنواع النعم ويهدي إليه عز وجل بالارشاد والتوفيق من يقبل إليه تعالى شأنه، وعدى الاجتباء بإلى لما فيه من الجمع على ما يفهم من كلام الراغب، وجعله جمع
من الجباية بمعنى الجمع يقال: جبيت الماء في الحوض جمعته فيه فمنهم من اختار جعل ضمير * (إليه) * في الموضعين - لما - لما فيه من اتساق الضمائر أي يجتلب ويجمع من يشاء اجتلابه وجمعه إلى ما تدعوهم إليه، ومنهم من اختار جعله للدين لمناسبة معنوية هي اتحاد المتفرق فيه والمجتمع عليه والزمخشري اختار كونه من الجباية بمعنى الجمع وعود الضمير على الدين، وما ذكره محيى السنة وغيره - قال في الكشف - أظهر وأملأ بالفائدة، أما الثاني فللدلالة على أن أهل الاجتباء غير أهل الاهتداء وكلتا الطائفتين هم أهل الدين والتوحيد الذين لم يتفرقوا فيه وعلى مختار طائفة واحدة.
وأما الأول فلأن الاجتباء بمعنى الاصطفاء أكثر استعمالا ولأنه يدل على أن أهل الدين هم صفوة الله تعالى اجتباهم إليه واصطفاهم لنفسه سبحانه، وأما الذي آثره الزمخشري فكلام ظاهري بناه على أن الكلام في عدم التفرق في الدين فناسب الجمع والانتهاء إليه، وقيل: * (ما تدعوهم إليه) * على معنى ما تدعوهم إلى الإيمان به والمراد به الرسالة أي ثقلت عليهم رسالتك وعظم لديهم تخصيصنا إياك بالرسالة والوحي دونهم وقوله تعالى: * (الله يجتبى إليه من يشاء) * رد عليهم على نحو * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * (الأنعام: 124) وما قدمنا أظهر.
* (وما تفرقوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم وإن الذين أورثوا الكت‍ابمن بعدهم لفى شك منه مريب) *.
* (وما تفرقوا) * أي أمم الأنبياء بعد وفاة أنبيائهم كما في الكشف منذ بعث نوح عليه السلام في الدين لأالذي دعوا إليه واختلفوا فيه في وقت من الأوقات * (إلا من بعد معا جاءهم العلم) * من أنبيائهم بأن الفرقة ضلال وفساد وأمر متوعد عليه؛ وهذا يؤيد ما دل عليه سابقا من أن الأمم القديمة والحديثة أمروا باتفاق الكلمة وإقامة الدين، والمراد بالعلم سببه مجازا مرسلا، ويجوز أن يكون التجوز في الاسناد، وأن يكون الكلام بتقدير مضاف أي جاءهم سبب العلم، وقد يقال جاء مجاز عن حصل، والاستثناء على ما أشرنا إليه مفرغ من أعم الأوقات، وجوز أن يكون من أعم الأحوال أي ما تفرقوا في حال من الأحوال إلا حال مجيء العلم * (بغيا بينهم) * أي عداوة على أن البغي
22

الظلم والتجاوز والعداوة سبب له وهي الداعي للتفرق أو طلبا للدنيا والرياسة على أن البغي مصدر بغى بمعنى طلب * (ولولا كلمة سبقت من ربك) * هي عدته تعالى بترك معاجلتهم بالعذاب * (إلى أجل مسمى) * معلوم له سبحانه وهو يوم القيامة أو آخر أعمارهم المقدرة لهم * (لقضي بينهم) * باستئصال المبطلين حين افترقوا لعظم ما اقترفوا * (وان الذين أورثوا الكتاب من بعدهم) * هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم وقرأ زيد ابن علي * (ورثوا) * مبنيا للمفعول مشددا لواو * (لفى شك منه) * أي من كتابهم فلم يؤمنوا به حق الإيمان * (مريب) * مقلق أو مدخل في الريبة، والجملة اعتراض يؤكد أن تفرقهم ذلك باق في أعقابهم منضما إليه الشك في كتابهم مع انتسابهم إليه فهو تفرقوا بعد العلم الحاصل لهم من النبي المبعوث إليهم المصدق لكتابهم وتفرقوا قبله شكا في كتابهم فلم يمنوا به ولم يصدقوا حقه.
* (فلذلك فادع واستقم كمآ أمرت ولا تتبع أهوآءهم وقل ءامنت بمآ أنزل الله من كت‍ابوأمرت لاعدل بينكم الله ربنا وربكم لنآ أعم‍النا ولكم أعم‍الكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) *.
* (فلذالك) * أي إذا كان الأمر كما ذكر فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر في الأمم السالفة شعبا * (فادع) * إلى الائتلاف والاتفاق على الملة الحنيفية القديمة * (واستقم كما أمرت) * أي أثبت على الدعاء كما أوحى إليك، وقيل: الإشارة إلى قوله تعالى: * (شرع لكم) * وما يتصل به ونقل عن الواحدي أي ولأجل ذلك من التوصية التي شوركت فيها مع نوح ومن بعده ولأجل ذلك الأمر بالإقامة والنهي عن التفرق فادع، وما ذكر أولى لأن قوله تعالى: * (أن أقيموا) * شمل النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه كما سمعت، ويدل عليه دكبر على مالشركين ما تدعوهم أليه) * (الشورى: 13) فقوله تعالى: * (فلذلك فادع) * (الشورى: 15) الخ لا يتسبب عنه لما يظهر من التكرار وهو تفرع الأمر عن الأمر، وأما تسببه عن تفرقهم فظاهر على معنى فلما أحدثوا من التفرق وأبدعوا فاثبت أنت على الدعاء الذي أمرت به واستقم وهذا ظاهر للمتأمل.
ومن الناس من جعل المشار إليه الشرع السابق ولم يدخل فيه الأمر بالإقامة لئلا يلزم التكرار أي فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون فادع، وقيل: هو الكتاب، وقيل: هو العلم المذكور في قوله تعالى: * (جاءهم العلم) * (الشورى: 14) وقيل: هو الشك ورجح بالقرب وليس بذاك، واللام على جميع الأقوال المذكورة للتعليل، وقيل: على بعضها هي بمعنى إلى صلة الدعاء فما بعدها هو المدعو إليه، وأنت تعلم أنه لا حاجة في إرادة ذلك إلى جعلها بمعنى إلى فإن الدعاء يتعدى بها أيضا كما في قوله: شع دعوت لما نابني مسورا
ونقل ذلك عن الفراء والزجاج، وأيا ما كان فالفاء الأولى واقعة في جواب شرط مقدر كما أشرنا إليه والفاء الثانية مؤكدة للأولى، وقيل: كان الناس بعد الطوفان أمة واحدة موحدين فاختلف أبناؤهم بعد موتهم حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين، وجعل ضمير * (تفرقوا) * لأخلاف أولئك الموحدين والذين أورثوا الكتاب باق على ما تقدم والأول أظهر. وقيل: * (ضمير) * تفرقوا لأهل الكتاب تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم فهذا كقوله تعالى: * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) * (البينة: 4) وإنما تفرقوا حسدا له عليه الصلاة والسلام لالشبهة، والمراد بالذين أورثوا الكتاب من بعدهم مشركو مكة وأحزابهم لأنهم أورثوا القرآن فالكتاب القرآن وضمير منه له وقيل للرسول وهو خلاف الظاهر، واختار كون المتفرقين أهل الكتاب
23

اليهود والنصارى والمورثين الشاكين مشركي مكة وأحزابهم شيخ الإسلام واستظهر أن الخطاب في * (أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) * (الشورى: 13) لأمته صلى الله عليه وسلم. وتعقب القول بكون المتفرق كل أمة بعد نبيها والقول بكونه اخلاف الموحدين الذين كانوا بعد الطوفان فقال: يرد ذلك قوله تعالى: * (ولولا كلمة سبقت
من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم) * (الشورى: 14) فإن مشاهير الأمم المذكورة قد أصابهم عذاب الاستئصال من غير إنظار إمهال على أن مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأمة وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء عليهم السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيد الوجوب إقامته وتشديدا للرجز عن التفرق والاختلاف فيه فالتعرض لبيان تفرق أممهم عنه ربما يوهم الاخلال بذلك المرام انتهى.
وأجيب عن الأول بأن ضمير * (بينهم) * لأولئك الذين تفرقوا وقد علمت أن المراد بهم المتفرقون بعد وفاة أنبيائهم وهو لم يصبهم عذاب الاستئصال وإنما أصاب الذين لم يؤمنوا في عهد أنبيائهم واطلاق المتفرقين ليس بذاك الظهورو، وقيل: المراد لقضي بينهم ريثما افترقوا ولم يمهلوا أعواما، وقيل: المراد لقضي بينهم باهلاك المبطين وإثابة المحقين إثابتهم في العقبى وهو كما ترى، وعن الثاني بأنا لا نسلم إيهام التعرض لبيان تفرق الأمم الإخلال بالمرام بعد بيان أنه لم يكن إلا بعد أن جاءهم العلم بأنه ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وأنه كان بغيا بينهم ولم يكن لشبهة في صحة الدين، وقيل: ضمير * (تفرقوا) * للمشركين في قوله تعالى: * (كبر على المشركين) *.
حكى في البحر عن ابن عباس أنه قال: وما تفرقوا يعني قريشا والعلم ممد صلى الله عليه وسلم وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي كما قال سبحانه: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير) * (فاطر: 42) الآية، وقد يقال عليه: المراد بالذين أورثوا الكتاب أهل الكتاب الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى من بعدهم على ما قال أبو حيان من بعد أسلافهم.
ونقل الطبرسي عن السدى ما يدل على أن المراد من بعد احبارهم وفسر الموصول بعوام أهل الكتاب، وقيل: ضمير بعدهم للمشركين أيضا والبعدية رتبية كما قيل في قوله تعالى: * (والأرض بعد ذلك دحاها) * ولا يخفى عليك أنه لا بأس بعود ضمير * (تفرقوا) * للمشركين لوجود للذين أورثوا الكتاب توجيه يقع في حيز القبول والله تعالى الموفق، وجعل متعلق * (استقم) * الدعاء لا تخفى مناسبته. وجوز جعله عاما فيكون استقم أمرا بالاستقامة في جميع أموره عليه الصلاة والسلام، والاستقامة أن يكون على خط مستقيم، وفسرها الراغب بلزوم المنهج المستقيم فلا حاجة إلى التأويل بالدوام على الاستقامة أي دم على الاستقامة * (ولا تتبع أهواءهم) * أي شيئا من أهوائهم الباطلة على أن الإضافة للجنس * (وقل ءامنت بما أنزل الله من كتاب) * أي بجميع الكتب المنزلة لأن ما من أدوات العموم، وتنكير * (كتاب) * المبين مؤيد لذلك، وفي هذا القول تحقيق لحق وبيان لاتفاق الكتب في الأصول وتأليف القلوب لأهل الكتابين وتعريض بهم حيث لم يؤمنوا بجميعها * (وأمرت لأعدل بينكم) * أي أمرني الله تعالى بما أمرني به لأعدل بينكم في تبليغ الشرائع والأحكام فلا أخص بشيء منها شخصا دون شخص وقيل: لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم، وقيل: بتبليغ الشرائع وفصل الخصومة واختاره غير واحد، وقيل: لا سوى بيني وبينكم ولا آمركم بما لا أعلمه ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ولا أفرق بين أصاغركم وأكابركم في إجراء حكم الله عز وجل، فاللام للتعليل والمأمور به محذوف، وقيل: اللام مزيدة أي أمرت أن أعدل ويحتاج
24

لتقدير الباء أي بأن أعدل، ولا يخلو عن بعد * (الله ربنا وربكم) * أي خالق الكل ومتولي أمره فليس المراد خصوص المتكلم والمخاطب * (لنا أعمالنا) * لا يتخطانا جزاؤها ثوابا كان أو عقابا * (ولكم أعمالكم) * لا يجاوزكم آثارها لننتفع بحسناتكم ونتضرر بسيئاتكم * (لا حجة بيننا وبينكم) * أي لا احتجاج ولا خصومة لأن الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة ولا للمالفة محمل سوى المكابرة والعناد، وجاءت الحجة هنا على أصله فإنها في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج كما ذكره الراغب وشاعت بمعنى الدليل وليس بمراد * (الله يجمع بيننا) * يوم القيامة * (وإليه المصير) * فيفصل سبحانه بيننا وبينكم، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسا حتى تكون منسوخة بآية السيف، وادعى أبو حيان أن ما يظهر منها الموادعة المنسوخة بتلك الآية.
* (والذين يحآجون فى الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد) *.
* (والذين يحاجون في الله) * أي يخاصمون في دينه، قال ابن عباس. ومجاهد نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم فقالوا: كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم، وفي رواية بدل فديننا الخ فنحن أولى بالله تعالى منكم، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت * (إذا جاء نصر الله والفتح) * (النصر: 1) قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجا فاخرجوا من بين أظهرنا أو اتركوا الإسلام، والمحجة فيه غير ظاهرة ولعلهم مع هذا يذكرون ما فيه ذلك * (من بعد ما استجيب له) * أي من بعدما استجاب الناس لله عز وجل أو لدينه ودخلوا فيه وأذعنوا له لظهور الحجة ووضح المحجة، والتعبير عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه * (حجتهم داحضة عند ربهم) * زائلة باطلة لا تقبل عنده عز وجل بل لا حجة لهم أصلا، وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة وهي الدليل ههنا مجاراة معهم على زعمهم الباطل.
وجوز كون ضمير * (له) * للرسول عليه الصلاة والسلام لكونه في حكم المذكور والمستجيب أهل الكتب واستجابتهم له صلى الله عليه وسلم إقرارهم بنعوته واستفتاحهم به قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام فإذا كانوا هم المحاجين كان الكلام في قوة والذين يحاجون في دين الله من بعدما استجابوا لرسوله وأقروا بنعوته حجتهم في تكذيبه باطلة لما فيها من نفي ما أقروا به قبل وصدقه العيان، وقيل: المستجيب هو الله عز وجل وضمير * (له) * لرسوله عليه الصلاة والسلام، واستجابته تعالى له صلى الله عليه وسلم بإظهار المعجزات الدالة على صدقه، وإلى نحوه ذهب الجبائي حيث قال: أي من بعدما استجاب الله تعالى دعاءه في كفار بدر حتى قتلهم بأيدي المؤمنين ودعاءه على أهل مكة حتى قحطوا ودعاءه لمستضعفين حتى خلصهم الله تعالى من أيدي قريش وغير ذلك مما يطول تعداده، وبطلان حجتهم لظهور خلاف ما تقتضيه بزعمهم بذلك، وهذا ظاهر في أن هذه الآية مدنية لأن وقعة بدر بعد الهجرة وحمل * (استجيب) * على الوعد خلاف الظاهر جدا، وكذا ما روى عن عكرمة، وقيل: إن حمل الاستجابة على استجابة أهل الكتاب يقتضي ذلك أيضا إذ لم يكن بمكة أحد منهم، وقيل: لا يقتضيه لأن خبر استجابتهم وإقرارهم بنعوته صلى الله عليه
وسلم وهو عليه الصلاة والسلام بمكة بلغ أهل مكة والمجادلون محمول عليهم فلا مانع من كونها مكية * (وعليهم غضب) * عظيم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره * (ولهم عذاب شديد) * لا يقادر قدره.
* (الله الذىأنزل الكت‍ابب الحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب) *.
25

* (الله الذي أنزل الكت‍اب) * جنس الكتاب أو الكتاب المعهود أو جميع الكتب * (بالحق) * ملتبسا بالحق بعيدا من الباطل في أحكامه وأخباره أو ملتبسا بما يحق ويجب من العقائد والأحكام * (والميزان) * أي العدل كما قال ابن عباس. ومجاهد. وقتادة. وغيرهم أو الشرع الذي يوزن به الحقوق ويسوى بين الناس، وعلى الوجهين فيه استعارة ونسبة الانزال إليه مجاز لأنه من صفات الأجسام والمنزل حقيقة من بلغه، واعتبر بعضهم الأمر أي أنزل الأمر بالميزان، وتعقب بأنه أيضا محتاج إلى التأويل، وقد يقال: نسبة الإنزال وكذا النزول إلى الأمر مشهورة جدا فالتحقت بالحقيقة، ويجوز أن يتجوز في الإنزال ويقال نحو ذلك في * (أنزل الكتاب) * وعن مجاهد أن الميزان الآلة المعروفة فعلى هذا إنزاله على حقيقته، وجوز أن يكون على سبيل الأمر به، واستظهر الأول لما نقل الزمخشري في الحديد أنه نزل إلى نوح وأمران يوزن به، وكون المراد به ميزان الأعمال بعيد هنا.
* (وما يدريك) * أي أي شيء يجعلك داريا أي عالما * (لعل الساعة) * أي إتيان الساعة الذي أخبر به الكتاب الناطق بالحق فالكلام بتقدير مضاف مذكر، وقوله تعالى: * (قريب) * خبر عنه في الحقيقة لأن المحذوف بقرينة كالملفوظ وهو وجه في تذكيره؛ وجوز أن يكون لتأويل الساعة بالبعث وأن يكون * (قريب) * من باب بامر ولابن أي ذات قرب إلى أوجه أخر تقدمت في الكلام على قوله تعالى: * (إن رحمة الله قريب) * (الأعراف: 56) وأيا ما كان فالمعنى إن الساعة على جناح الإتيان فاتبع الكتاب وواظب على العدل واعمل بالشرع قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ويوفى جزاؤها.
* (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون فى الساعة لفى ضل‍ال بعيد) *.
* (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) * استعجال إنكار واستهزاء كانوا يقولون: متى هي ليتها قامت حتى يظهر لنا أهو الذي نحن عليه أم كالذي عليه محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه.
* (والذين ءامنوا مشفقون منها) * أي خائفون منها مع اعتناء بها فإن الاشفاق عناية مختلطة بخوف فإذا عدى بمن كما هنا فمعنى الخوف فيه أظهر وإذا عدى بعلى فمعنى العناية أظهر، وعنايتهم بها لتوقع الثواب، وزعم الجلبي أن الآية من الاحتباك والأصل يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها فلا يشفقون منها والذين آمنوا مشفقون منها فلا يستعجلون بها * (ويعملون أنها الحق) * الأمر المتحقق الكائن لا محالة * (ألا أن الذين يمارون في الساعة) * أي يجادلون فيها، وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب، وإطلاق المماراة على المجادلة لأن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه، ويجوز أن يكون من المرية التردد في الأمر وهو أخص من الشك ومعنى المفاعلة غير مقصود فالمعنى أن الذين يترددون في أمر الساعة ويشكون فيه * (لفي ضلال بعيد) * عن الحق فإن البعث أقرب الغائبات بالمحسوسات لأنه يعلم من تجويزه من إحياء الأرض بعد موتها وغير ذلك فمن لم يهتد إليه فهو عن الاهتداء إلى ما وراءه أبعد وأبعد.
* (الله لطيف بعباده يرزق من يشآء وهو القوى العزيز) *.
* (الله لطيف بعباده) * برد بليغ البر بهم يفيض جل شأنه على جميعهم من صنوفه ما لا يبلغه الأفهام ويؤذن بذلك مادة اللطف وصيغة المبالغة فيها وتنكيرها الدال على المبالغة بحسب الكمية والكيفية، قال حجة الإسلام عليه الرحمة: إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها وما دق منها ولطف ثم يسلك في إيطالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك تم معنى اللطيف ولا يتصور كمال ذلك إلا في الله تعالى شأنه، فصنوف البر من المبالغة في الكم، وكونها لا تبلغها الأفهام من المادة
26

والمبالغة في الكيفية لأنه إذا دق جدا كان أخفى وأخفى، وإرادة الجميع من إضافة العباد وهو جمع إلى ضميره تعالى فيفيد الشمول والاستغراق، وبالعموم قال مقاتل إلا أنه قال: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعا.
وقال أبو حيان: لطيف بعباده أي بر بعباده المؤمنين ومن سبق له الخلود في الجنة وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف إنما هو إملاء إلا ما آل إلى رحمة ووفاة على الإسلام، وحكى الطيبي هذا التخصيص عن الواحدي ومال إلى ترجيحه وذلك أنه ادعى أن الإضافة في * (عباده) * إضافة تشريف إذ أكثر استعمال التنزيل الجليل في مقل ذلك فيختص العباد بأوليائه تعالى المؤمنين، وحمل اللطف على منح الهداية وتوفيق الطاعة وعلى الكمالات الأخروية والكرامات السنية، وحمل الرزق في قوله تعالى: * (يرزق من يشاء) * عليه أيضا وقال: إن استعماله فيما ذكر كاستعماله في قوله تعالى: * (ليجزيهم الله أحسن ماعملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب) * (النور: 38).
وجعل قوله سبحانه: * (وهو القوي العزيز) * مؤذنا بالتعليل كأنه قيل: إنما تلطف جل شأنه في حق عباده المؤمنين دون من غضب عليهم بمحض مشيئته سبحانه لأنه تعالى قوي قادر على أن يختص برحمته وكرامه من يشاء من عباده عزيز غالب لا يمنعه سبحانه عما يريده أحد، وادعى أنه يكون وزان الآية على هذا مع قوله تعالى:
* (من كان يريد حرث الاخرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له فى الاخرة من نصيب) *.
* (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه) * الآية وزان قوله عز وجل: * (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) * (الشمس: 7 - 10) وينتظم الكلام أتم انتظام وتلتئم أطرافه أشد التآم، ولا يقال حينئذ: إن قوله تعالى: * (يرزق من يشاء) * حكم مترتب على السابق
فكان ينبغي أن يعم عمومه والعموم أظهر، وحديث التخصيص في * (يرزق من يشاء) * فقد أجاب عنه " صاحب التقريب " فقال إنما خصص الرزق بمن يشاء مع أنهم كلهم بر سبحانه بهم لأنه تعالى قد يخص أحدا بنعمة وغيره بأخرى فالعموم لجنس البر والخصوص لنوعه. وأشار جار الله إلى أنه لا تخصيص بالحقيقة فإن المعنى الله تعالى بليغ البر بجميع عباده يرزق من يشاء ما يشاء سبحانه منه - فيرزق من يشاء - بيان لتوزيعه على جميعهم فليس الرزق لا النصيب الخاص لكل واحد، ولما شمل الدارين لاءم قوله تعالى: * (من كان يريد) * الخ كل الملاءمة، ولا يتوقف هذا على ما قاله الطيبي، ولعل أمر التذييل بالاسمين الجليلين على القول بالعموم أظهر والتعليل أنسب فكأنه قيل: لطيف بعباده عام الإحسان بهم لأنه تعالى القوي الباهر القدرة الذي غلب وغلبت قدرته سبحانه جميع القدر يرزق من يشاء لأنه العزيز الذي لا يغلب على ما يريد فكل من الاسمين الجليلين ناظر إلى حكم فافهم * (وقل رب زدني علما) * (طه: 114). فكم لله من لطف خفي * يدق خفاه عن فهم الذكي
والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض يطلق على الزرع الحاصل منه، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال الحاصلة من البذور المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور أي من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة نضاعف له ثوابه بالواحد عشرة إلى سبعمائة فما فوقها * (ومن كان يريد) * بأعماله * (حرث الدنيا) * وهو متاعها وطيباتها * (نؤته منها) * أي شيئا منها حسبما قدرناه له بطلبه وإرادته * (وما له في الآخرة من نصيب) * إذ كانت همته مقصورة على الدنيا وقرأ ابن مقسم. والزعفراني. ومحبوب.
27

والمنقري كلاهما عن أبي عمرو * (يزد. ويؤته) * بالياء فيهما، وقرأ سلام * (نؤته) * بضم الهاء وهي لغة أهل الحجاز وقد جاء في الآية فعل الشرط ماضيا والجواب مضارعا مجزوما قال أبو حيان: ولا نعلم خلافا في جواز الجزم في مثل ذلك وأنه فصيح مختار مطلقا إلا ما ذكره صاحب كتاب الإعراب أبو الحكم بن عذرة عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الفصيح إلا إذا كان فعل الشرط كان، وإنما يجيء معها لأنها أصل الأفعال ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص بكان بل سائر الأفعال مثلها في ذلك وأنشد سيبويه للفرزدق: دست رسولا بأن القوم إن قدروا * عليك يشفوا صدورا ذات توغير
وقال أيضا: تعش فإن عاهدتني لا تخونني * نكن مثل من ياذئب يصطحبان
* (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم وإن الظ‍المين لهم عذاب أليم) *.
* (أم لهم شركاء) * في الكفر وهم الشياطين * (شرعوا لهم) * أي لهؤلاء الكفرة المعاصرين لك بالتسويل والتزيين * (من الدين ما لم يأذن به الله) * كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا. و * (أم) * منقطعة فيها معنى بل الإضرابية والهمزة التي للتقرير والتقريع والإضراب عما سبق من قوله تعالى: * (شرع لكم من الدين) * الخ فالعطف عليه وما اعترض به بين الآيتين من تتمة الأولى، وتأخير الأضراب ليدل على أنهم في شرع يخالف ما شرعه الله تعالى من كل وجه فالشرك في مقابلة إقامة الدين والاستقامة عليه وإنكار البعث في مقابلة قوله تعالى: * (والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق) * والعمل للدنيا لقوله سبحانه: * (من كان يريد حرث الآخرة) * وهذا أظهر من جعل الأضراب عما تقدم من قوله تعالى: * (كبر على المشركين) * كما لا يخفى، وقيل: شركاؤهم أصنامهم، وإضافتها إليهم لأنهم الذين جعلوها شركاء لله سبحانه، وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم كقوله تعالى: * (إنهن أضللن كثيرا) * وجوز أن يكون الاستفهام المقدر على هذا للانكار أي ليس لهم شرع ولا شارع كما في قوله تعالى: * (أم لهم ءلهة تمنعهم من دوننا) * وأيا ما كان فضمير * (شرعوا) * للشركاء وضمير * (لهم) * للكفار.
وجوز على تفسير الشركاء بالأصنام أن يكون الأول للكفار والثاني للشركاء أي شرع الكفار لأصنامهم ورسموا من المعتقدات والأحكام ما لم يأذن به الله تعالى كاعتقاد أنهم آلهة وأن عبادتهم تقربهم إلى الله سبحانه، وكجعل البحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك، وهو كما ترى * (ولولا كلمة الفصل) * أي القضاء والحكم السابق منه تعالى بتأخير العذاب إلى يوم القيامة أو إلى آخر أعمالهم * (لقضي بينهم) * أي بين الكافرين والمؤمنين في الدنيا أو حين افترقوا بالعقاب والثواب، وجوز أن يكون المعنى لولا ما وعدهم الله تعالى به من الفصل في الآخرة لقضى بينهم فالفصل بمعنى البيان كما في قوله تعالى: * (هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين) * وقيل: ضمير بينهم للكفار وشركائهم بأي معنى كان * (وإن الظالمين) * وهم المحدث عنهم أو الأعم منهم ويدخلون دخولا أوليا * (لهم عذاب أليم) * في الآخرة. وفي " البحر " أي في الدنيا بالقتل والأسر والنهب وفي الآخرة بالنار.
وقرأ الأعرج. ومسلم بن جندب * (وأن) * بفتح الهمزة عطفا على * (كلمة الفصل) * أي لولا القضاء السابق بتأخير العذاب وتقدير أن الظالمين لهم عذاب أليم في الآخرة أو لولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة وتقدير أن الظالمين لهم الخ لقضي بينهم، والعطف على التقديرين تتميم للإيضاح لا تفسيري محض * (ترى الظالمين) * جملة مستأنفة لبيان ما قبل، والخطاب لكل أحد يصلح له للقصد إلى المبالغة في سوء حالهم أي ترى يا من يصح
28

منه الرؤيا الظالمين يوم القيامة.
* (ترى الظ‍المين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات فى روض‍ات الجن‍ات لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير) *.
* (مشفقين) * خائفين الخوف الشديد * (مما كسبوا) * في الدنيا من السيآت، والكلام قيل على تقدير مضاف.
و * (من) * صلة الإشفاق أي مشفقين من وبال ما كسبوا * (وهو) * أي الوبال * (واقع بهم) * أي حاصل لهم لاحق بهم، واختار بعضهم أن لا تقدير ومن تعليلية لأنه أدخل في الوعيد، والجملة اعتراض للإشارة إلى أن إشفاقهم لا ينفعهم، وإيثار * (واقع) * على يقع مع أن المعنى على الاستقبال لأن الخوف إنما يكون من المتوقع بخلاف الحزن للدلالة على تحققه وأنه لا بد منه، وجوز أن تكون حالا من ضمير * (مشفقين) * وظاهر ما سمعت أنه حال مقدرة.
* (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات) * أي مستقرون في أطيب بقاعها وأنزهها،
وقال الراغب: هي محاسنها وملاذها، وأصل الروضة مستنقع الماء والخضرة واللغة الكثيرة في واوها جمعا التسكين كما في المنزل ولغة هذيل بن مدركة فتحها فيقولون روضات إجراء للمعتل مجرى الصحيح نحو جفنات ولم يقر أحد فيما علمنا بلغتهم * (لهم ما يشاؤون عند ربهم) * أي ما يشتهونه من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم فالظرف متعلق بمتعلق الجار والمجرور الواقع خبرا لما أوبه واختاره جار الله ونفى أن يكون متعلقا بيشاؤن مع أنه الظاهر نحوا، وبين " صاحب الكشف " ذلك بأنه كلام في معرض المبالغة في وصف ما يكون أهل الجنة فيه من النعيم الدائم فأفيد أنهم في أنزه موضع من الجنة وأطيب مقعد منها بقوله تعالى: * (في روضات الجنات) * لأن روضة الجنة أنزه موضع منها لا سيما والإضافة في هذا المقام تنبىء عن تميزها بالشرف والطيب، والتعقيب بقوله تعالى: * (لهم ما يشاؤن) * أيضا ثم أفيد أن لهم ما يشتهون من ربهم ولا خفاء أنك إذا قلت: لي عند فلان ما شئت كان أبلغ في حصول كل مطالبك منه مما إذا قلت: لي ما شئت عند فلان بالنسبة إلى الطالب والمطلوب منه. أما الأول: فلأنه يفيد أن جميع ما تشاؤه موجود مبذول لك منه، والثاني يفيد إن ما شئت عنده مبذول لا جميع ما تشاؤه، وأما الثاني: فلأنك وصفته بأنه يبذل جميع المرادات، وفي الثاني وصفته بأن ما شئت عنده مبذول لك إما منه وإما من غيره ثم في الأول مبالغة في تحقيق ذلك وثبوته كما تقول: لي عندك وقبلك كذا، فالله تعالى شأنه أخبر بأن ذلك حق لهم ثابت مقضي في ذمة فضله سبحانه ولا كذلك في الثاني، ثم قال: ولعل الأوجه أن يجعل * (عند ربهم) * خبرا آخر أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم في روضات الجنات لهم فيها ما يشاؤن، وإنما أخر توخيا لسلوك طريق المبالغة في الترقي من الأدنى إلى الأعلى ومراعاة لترتيب الوجود أيضا فإن الوافد والضيف ينزل في أنزه موضع ثم يحضر بين يديه الذي يشتهيه؛ وملاك ذلك كله أن يختصه رب المنزل بالقرب والكرامة، وأن جعله حالا من فاعل يشاؤن أو من المجرور في * (لهم) * أفاد هذا المعنى أيضا لكنه يقصر عما آثرناه لأنه قد أتى به إتيان الفضلة وهو مقصود بذاته عمدة، ولعمري أن ما آثره حسن معنى إلا أبعد لفظا مما آثره جار الله، ولا يخفى عليك ما هو الأنسب بالتنزيل. وفي " الخبر " عن أبي ظبية قال: إن السرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول: ماأمطركم؟ فما يدعو داع من القوم إلا أمطرته حتى أن القائل منهم ليقول: أمطرينا كواعب أتراباف * (ذلك) * إشارة إلى ما ذكر من حال المؤمنين، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه * (هو الفضل الكبير) * الذي لا يقدر قدره ولا تبلغ غايته ويصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا.
* (ذلك الذى يبشر الله عباده الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات قل لا أس‍الكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور) *.
* (ذالك) *
29

الفضل الكبير أو الثواب المفهوم من السياق هو * (الذي يبشر الله عباده الذين ءامنوا وعملوا الص‍الحات) * أي يبشر به فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول كما هو عادتهم في التدريج في الحذف، ولا مانع كما قال الشهاب من حذفهما دفعة، وجوز كون ذلك إشارة إلى التبشير المفهوم من * (يبشر) * بعد والإشارة قد تكون لما يفهم بعد كما قرروه في قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * ونحوه، والعائد إلى الموصول ضمير منصوب بيبشر على أنه مفعول مطلق له لأنه ضمير المصدر أي ذلك التبشير يبشره الله عباده؛ وزعم أبو حيان أنه لا يظهر جعل الإشارة إلى التبشير لعدم تقدم لفظ البشرى ولا ما يدل عليها وهو ناشيء عن الغفلة عما سمعت فلا حاجة في الجواب عنه أن كون ما تقدم تبشيرا للمؤمنين كاف في صحة ذلك، ثم قال: ومن النحويين من جعل الذي مصدرية حكاه ابن مالك عن يونس وتأول عليه هذه الآية أي ذلك تبشير الله تعالى عباده، وليس بشيء لأنه إثبات للاشتراك بين مختلفين الحد بغير دليل وقد ثبتت اسمية الذي فلا يعدل عن ذلك بشيء لا يقوم به دليل ولا شبهة.
وقرأ عبد الله بن يعمر، وابن أبي إسحق. والجحدري. والأعمش. وطلحة في رواية. والكسائي. وحمزة * (يبشر) * ثلاثيا. ومجاهد. وحميد بن قيس بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر وهو معدي بالهمزة من بشر اللازم المكسور الين وإما بشر بفتحها فمتعد وبشر بالتشديد للتكثير لا للتعدية لأن المعدي إلى واحد وهو مخفف لا يعدي بالتضعيف إليه فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية * (قل لا أسئلكم عليه) * أي على ما اتعاطاه لكم من التبليغ والبشارة وغيرهما * (أجرا) * أي نفعا ما، ويختص في العرف بالمال * (إلا المودة) * أي إلا مودتكم أياي * (في القربى) * أي لقرابتي منكم ففي للسببية مثلها في " إن امرأة دخلت النار في هرة " فهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد. وقتادة. وجماعة. والخطاب إما لقريش على ما قيل: إنهم جمعوا له مالا وأرادوا أن يرشوه على أن يمسك عن سب آلهتهم فلم يفعل ونزلت، وله عليه الصلاة والسلام في جميعهم قرابة. أخرج أحمد والشيخان. والترمذي. وغيرهم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: * (إلا المودة في القربى) * فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس: عجلت أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة أو للأنصار بنا على ما قيل: إنهم أتوه بمال ليستعين به على ما ينوبه فنزلت فرده، وله عليه الصلاة والسلام قرابة منهم لأنهم أخواله فإن أم عبد المطلب وهي سلمى بنت زيد النجارية منهم وكذا أخوال آمنة أمه عليه الصلاة والسلام كانوا على ما في بعض التواريخ من الأنصار أيضا أو لجميع العرب لقرابته عليه الصلاة والسلام منهم جميعا في الجملة كيف لا وهم إما عدنانيون وقريش منهم وإما قحطانيون والأنصار منهم، وقرابته عليه الصلاة والسلام من كل قد علمت وذلك يستلزم قرابته من جميع العرب، وقضاعة من قحطان لا قسم برأسه على ما عليه معظم النسابين، والمعنى أن لم تعرفوا حقي لنبوتي وكوني رحمة عامة ونعمة تامة فلا أقل من مودتي لأجل حق القرابة وصلة الرحم التي تعتنون بحفظها ورعايتها.
وحاصله لا أطلب منكم إلا مودتي ورعاية حقوقي لقرابتي منكم وذلك أمر لازم عليكم، وروى نحو هذا في الصحيحين عن ابن عباس بل جاء ذلك عنه رضي الله تعالى عنه في روايات كثيرة وظاهرها أن الخطاب لقريش منها ما أخرجه سعيد بن منصور. وابن سعد. وعبد بن حميد. والحاكم. وصححه. وابن مردويه والبيهقي في
الدلائل
30

عن الشعبي قال: أكثر الناس علينا في هذه الآية * (قل لا أسئلكم) * الخ فكتبنا إلى ابن عباس نسأله فكتب رضي الله تعالى عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وسط النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولدوه قال الله تعالى: * (قل لا أسئلكم عليه أجرا) * على ما أدعوكم عليه * (إلا المودة في القربى) * تودوني لقرابني منكم وتحفظوني بها. ومنها ما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة من جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يتابعوه قال: يا قوم إذا أبيتم أن تتابعوني فاحفظوا قرابتي فيكم ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم، والظاهر من هذه الأخبار أن الآية مكية والقول بأنها في الأنصار يقتضي كونها مدنية، والاستثناء متصل بناء على ما سمعت من تعميم الأجر.
وقيل: لا حاجة إلى التعميم. وكون المودة المذكورة من أفراد الأجر إدعاء كاف لاتصال الاستثناء، وقيل: هو منقطع اما بناء على أن المودة له عليه الصلاة والسلام ليست أجرا أصلا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم أو لأنها لازمة لهم ليمدحوا بصلة الرحم فنفعها عائد عليهم والانقطاع اقطع لتوهم المنافاة بين هذه الآية والآيات المتضمنة لنفي سؤال الأجر مطلقا؛ وذهب جماعة إلى أن المعنى لا أطلب منكم أجرا إلا محبتكم أهل بيتي وقرابتي. وفي " البحر " أنه قول ابن جبير. والسدي. وعمرو بن شعيب، و * (في) * عليه للظرفية المجازية و * (القربى) * بمعنى الأقرباء، والجار والمجرور في موضع الحال أي إلا المودة ثابتة في أقربائي متمكنة فيهم، ولمكانة هذا المعنى لم يقل: إلا مودة القربى، وذكر أنه على الأول كذلك وأمر اتصال الاستثناء وانقطاعه على ما سبق، والمراد بقرابته عليه الصلاة والسلام في هذا القول قيل: ولد عبد المطلب، وقيل علي. وفاطمة. وولدها رضي الله تعالى عنه مرفوعا، أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني. وابن مردويه من طريق ابن جبير عن ابن عباس قال: " لما نزلت هذه الآية * (قل لا أسئلكم) * الخ قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت مودتهم؟ قال علي. وفاطمة. وولدها صلى الله عليه وسلم على النبي وعليهم ".
وسند هذا الخبر على ما قال السيوطي في " الدر المنثور " ضعيف، ونص على ضعفه في تخريج أحاديث الكشاف ابن حجر، وأيضا لو صح لم يقل ابن عباس ما حكى عنه في " الصحيحين " وغيرهما وقد تقدم إلا أنه روى عن جماعة من أهل البيت ما يؤيد ذلك، أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أسيرا فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم فقال له علي رضي الله تعالى عنه: أقرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أقرأت آل حم؟ قال: نعم قال: ما قرأت * (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم. وروى ذاذان عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: فينافي آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا مؤمن ثم قرأ هذه الآية، وإلى هذا أشار الكميت في قوله: وجدنا لكم في آل حم آية * تأولها منا تقي ومعرب
ولله تعالى در السيد عمر الهيتي أحد الأقارب المعاصرين حيث يقول: بأية آية يأتي يزيد * غداة صحائف الأعمال تتلى
وقام رسول رب العرش يتلو * وقد صمت جميع الخلق قل لا
والخطاب على هذا القول لجميع الأمة لا للأنصار فقد وإن ورد ما يوهم ذلك فإنهم كلهم مكلفون بمودة أهل البيت. فقد أخرج مسلم. والترمذي. والنسائي عن زيد بن أرقم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
31

قال: اذكركم الله تعالى في أهل بيتي. وأخرج الترمذي. وحسنه. والطبراني. والحاكم. والبيهقي في " الشعب " عن ابن عباس قال: قال عليه الصلاة والسلام: " أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لحب الله تعالى وأحبوا أهل بيتي لحبي " وأخرج ابن حبان. والحاكم. عن أبي سعيد قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا أدخله الله تعالى النار " إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة من الأخبار، وفي بعضها ما يدل على عموم القربى وشمولها لبني عبد المطلب. أخرج أحمد. والترمذي وصححه. والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال: دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لنخرج فنرى قريشا تحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودر عرق بين عينيه ثم قال: والله لا يدخل قلب أمرىء مسلم إيمان حتى يحبكم لله تعالى ولقرابتي، وهذا ظاهر إن خص القربى بالمؤمنين منهم وإلا فقيل: إن الحكم منسوخ، وفيه نظر، والحق وجوب محبة قرابته عليه الصلاة والسلام من حيث أنهم قرابته صلى الله عليه وسلم كيف كانوا، وما أحسن ما قيل: داريت أهلك في هواك وهم عدا * ولأجل عين ألف عين تكرم
وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودة أشد، فمودة العلويين الفاطميين الزم من محبة العباسيين على القول بعموم * (القربى) * وهي على القول بالخصوص قد تتفاوت أيضا باعتبار تفاوت الجهات والاعتبارات وآثار تلك المودة التعظيم والاحترام والقيام بأداء الحقوق أتم قيام، وقد تهاون كثير من الناس بذلك حتى عدوا من الرفض السلوك في هاتيك المسالك. وأنا أقول قول الشافعي العي: يا راكبا قف بالمحصب من منى * واهتف بساكن خيفها والناهض
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى * فيضا كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضا حب آل محمد * فليشهد الثقلان إني رافضي
ومع هذا لا أعد الخروج عما يعتقده أكابر أهل السنة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم دينا وأرى حبهم فرضا على مبينا فقد أوجبه أيضا الشارع وقامت على ذلك البراهين السواطع. ومن الظرائف ما حكاه الإمام عن بعض المذكورين قال: إنه عليه الصلاة والسلام قال: " مثل أهل بيني كسفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها هلك " وقال صلى الله عليه وسلم: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات وراكب البحر يحتاج إلى أمرين. أحدهما: السفينة الخالية عن العيوب، والثاني: الكواكب الطالعة النيرة، فإذا ركب تلك السفينة ووضع بصره على تلك الكواكب كان رجاء السلامة غالبا،
فلذلك ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمد صلى الله عليه وسلم ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة يرجون أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة انتهى، والكثير من الناس في حق كل من الآل والأصحاب في طرفي التفريط والإفراط وما بينهما هو الصراط المستقيم، ثبتنا الله تعالى على ذلك الصراط.
وقال عبد الله بن القاسم: المعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا أن يود بعضكم بعضا وتصلوا قراباتكم، وأمر * (في) * والاستثناء لا يخفى.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن المعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا التقرب إلى الله تعالى بالعمل الصالح فالقربى بمعنى القرابة وليس المراد قرابة النسب؛ قيل: ويجري في الاستثناء الاتصال والانقطاع، واستظهر
32

الخفاجي أنه منقطع وأنه على نهج قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
البيت، وأراه على القول قبله كذلك.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (إلا مودة في القربى) * هذا ومن الشيعة من أورد الآية في مقام الاستدلال على إمامة علي كرم الله تعالى وجهه قال: علي كرم الله تعالى وجهه واجب المحبة وكل واجب المحبة واجب الطاعة وكل واجب الطاعة صاحب الإمامة ينتج على رضي الله تعالى عنه صاحب الإمامة وجعلوا الآية دليل الصغرى، ولا يخفى ما في كلامهم هذا من البحث، أما أولا: فلأن الاستدلال بالآية على الصغرى لا يتم إلا على القول بأن معناها لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوا قرابتي وتحبوا أهل بيتي وقد ذهب الجمهور إلى المعنى الأول، وقيل في هذا المعنى: إنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئا ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم، وأيضا فيه منافاة ما لقوله تعالى: * (وما تسألهم عليه من أجر) * (يوسف: 104) وأما ثانيا: فلأنا لا نسلم أن كل واجب المحبة واجب الطاعة فقد ذكر ابن بابويه في كتاب الاعتقادات أن الإمامية أجمعوا على وجوب محبة العلوية مع أنه لا يجب طاعة كل منهم، وأما ثالثا: فلأنا لا نسلم أن كل واجب الطاعة صاحب الإمامة أي الزعامة الكبرى وإلا لكان كل نبي في زمنه صاحب ذلك ونص * (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) * (البقرة: 247) يأبى ذلك، وأما رابعا: فلأن الآية تقتضي أن تكون الصغرى أهل البيت وأجبو الطاعة ومتى كانت هذه صغرى قياسهم لا ينتج النتيجة التي ذكروها ولو سلمت جميع مقدماته بل ينتج أهل البيت صاحبو الإمامة وهم لا يقولون بعمومه إلى غير ذلك من الأبحاث فتأمل ولا تغفل.
* (ومن يقترف حسنة) * أي يكتسب أي حسنة كانت، والكلام تذييل، وقيل المراد بالحسنة المودة في قربى الرسول صلى الله عليه وسلم وروي ذلك عن ابن عباس. والسدي، وأن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لشدة محبته لأهل البيت، وقصة فدك. والعوالي لا تأبى ذلك عند من له قلب سليم، والكلام عليه تتميم، ولعل الأول أولى، وحب آل الرسول عليه الصلاة والسلام من أعظم الحسنات وتدخل في الحسنة هنا دخولا أوليا * (نزد له فيها) * أي في الحسنة * (حسنا) * بمضاعفة الثواب عليها فإنها يزاد بها حسن الحسنة، ففي للظرفية و * (حسنا) * مفعول به أو تمييز، وقرأ زيد بن علي. وعبد الوارث عن أبي عمرو. وأحمد بن جبير عن الكسائي * (يزد) * بالياء أي يزد الله تعالى. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو * (حسنى) * بغير تنوين وهو مصدر كبشرى أو صفة لموصوف مقدر أي صفة أو خصلة حسنى * (إن الله غفور) * ساتر ذنوب عباده * (شكور) * مجاز من أطاع منهم بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة، وقال السدي: غفور لذنوب آل محمد صلى الله عليه وسلم شكور لحسناتهم.
* (أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الب‍اطل ويحق الحق بكلم‍اته إنه عليم بذات الصدور) *.
* (أم يقولون) * بل أيقولون * (افترى) * محمد عليه الصلاة والسلام * (على الله كذبا) * بدعوى النبوة أو القرآن، والهمزة للإنكار التوبيخي وبل للإضراب من غير إبطال وهو إضراب أطم من الأول فأطم فإن إثبات ما هم عليه من الشرع وإن كان شرا وشركا أقرب من جعل الحق الأبلج المعتضد بالبرهان النير من أوسطهم فضلا ودعة وعقلا افتراء ثم افتراء على الله عز وجل فكأنه قيل: أيتما لكون التفوه بنسبة مثله عليه
33

الصلاة والسلام إلى الافتراء ثم إلى الافتراء على الله عز وجل الذي هو أعظم الفرى وأفحشها ولا تحترق ألسنتهم.
وفي ذلك أتم دلالة على بعده صلى الله عليه وسلم من الافتراء كيف وقد أردف بقوله تعالى: * (فإن يشإ الله يختم على قلبك) * فإن هذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله عليه الصلاة والسلام وأنه في البعد مثل الشرك بالله سبحانه والدخول في جملة المختوم على قلوبهم فكأنه قيل: فإن يشأ الله سبحانه يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله تعالى إلا من كان في مثل حالهم وهو في معنى فإن يشأ يجعلك منهم لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وما أحسن هذا التعريض بأنهم المفترون وأنهم في نفس هذه المقالة عن افترائهم مفترون، ونظير الآية فيما ذكر قول أمين نسب إلى الخيانة: لعل الله تعالى خذلني لعل الله تعالى أعمى قلبي وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم، فالكلام تعليل لإنكار قولهم، وأتى بإن مع أن عدم مشيئته تعالى مقطوع به قيل إرخاء للعنان، وقيل: إشعار بعظمته تعالى وأنه سبحانه غني عن العالمين، ثم ذيل بقوله تعالى: * (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته) * تأكيدا للمفهوم من السابق من أنه ليس من الافتراء في شيء أي كيف يكون افتراء ومن عادته تعالى محو الباطل ومحقه وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه وما أتى به عليه الصلاة والسلام يزداد كل يوم قوة ودحوا فلو كان مفتريا كما يزعمون لكشف الله تعالى افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه.
والفعل المضارع للاستمرار. والكلام ابتدائي فيمح مرفوع لا مجزوم بالعطف على * (يختم) * وأسقطت الواو في الرسم في أغلب المصاحف تبعا لإسقاطها في اللفظ لالتقاء الساكنين كما في * (سندع الزبانية. ويدع الإنسان بالشر) * وكان القياس إثباتها رسما لكن رسم المصحف لا يلزم جريه على القياس، ويؤيد الاستئناف دون
العطف على * (يختم) * إعادة الاسم الجليل ورفع * (يحق) * وهذا ما ذكره جار الله في الجملتين وبيان ارتباطهما بما قبلهما، وقد دقق النظر في ذلك وأتى بما استحسنه النظار حتى قال العلامة الطيبي: لو لم يكن في كتابه إلا هذا لكفاه مزية وفضلا، وجوز هو أيضا في قوله تعالى: * (ويمح) * الخ أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر أي يمحو الله تعالى باطلهم وما بهتوك به ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له، وحينئذ يكون اعتراضا يؤكد ما سبق له الكلام من كونهم مبطلين في هذه النسبة إلى من هو أصدق الناس لهجة بأصدق حديث من أصدق متكلم، وقال في إرشاد العقل السليم في الجملة الأولى: إنها استشهاد على بطلان ما قالوه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام لو افترى على الله تعالى كذبا لمنعه من ذلك قطعا، وتحقيقه أن دعوى كون القرآن افتراء عليه تعالى قول منهم إنه سبحانه لا يشاء صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم بل يشاء عدم صدوره عنه ومن ضرورياته منعه عنه قطعا فكأنه قيل: لو كان افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك وإن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه ولم تنطق بحرف من حروفه وحيث لم يكن الأمر كذلك بل تواتر الوحي حينا فحينا تبين أنه من عند الله عز وجل، وذكر في الجملة الثانية ما ذكره جار الله من الوجهين، ولا يخفى عليك ما يرد على كلامه من المنع مع أن فيه جعل مفعول المشيئة غير ما يدل عليه الجواب وهو ذلك المشار به إلى عدم الصدور، والمتبادر كون المفعول الختم على ما هو المعروف
34

في نظائر هذا التركيب أي فإن يشأ الله تعالى الختم على قلبك يختم، وإيهام كون القرآن ناشئا منه صلى الله عليه وسلم لا منزلا عليه عليه الصلاة والسلام، وقال السمرقندي: المعنى إن يشأ يختم على قلبك كما فعل بهم فهو تسلية له عليه الصلاة والسلام وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه له صلى الله عليه وسلم ليشكر ربه سبحانه ويترحم على من ختم على قلبه فاستحق غضب ربه ولولا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر، فالتفريع بالنظر إلى المعنى المكنى عنه، وحاصله أنهم اجترؤا على هذا لأنهم مطبوعون على الضلال انتهى، وفيه شمة مما ذكره الزمخشري. وعن قتادة. وجماعة يختم على قلبك ينسك القرآن، والمراد على ما قال ابن عطية الرد على مقالة الكفار وبيان بطلانها كأنه قيل: وكيف يصح أن تكون مفتريا وأنت من الله تعالى بمرأى ومسمع وهو سبحانه قادر ولو شاء لختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك، وفيه أن اللفظ ضيق عن أداء هذا المعنى، وذكر القشيري أن المعنى فإن يشأ الله تعالى يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعاجلهم بالعذاب، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب ومن الجمع إلى الإفراد، وحاصله يختم على قلبك أيها القائل إنه عليه الصلاة والسلام افترى على الله تعالى كذبا، وفيه من البعد ما فيه مع أن الكفار مختوم على قلوبهم، وقال مجاهد، ومقاتل: المعنى فإن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم إنك مفتر، ولا مانع عليه من عطف * (يمح) * على جواب الشرط بل هو الظاهر فيكون سقوط الواو للجازم، و * (يحق) * حينئذ مستأنف أي وإن يشأ يمح باطلهم عاجلا لكنه سبحانه لم يفعل لحكمة أو مطلقا وقد فعل جل وعلا بالآخرة وأظهر دينه، وقيل: لا مانع من العطف على بعض الأقوال السابقة أيضا أي إن يشأ يمح افتراءك لو افتريت وهو كما ترى، وكذا جوز كون الجملة حالية وإن أحوج ذلك إلى تقدير المبتدأ وفيه تكلف مستغنى عنه؛ وربما يقال: إن جملة * (فإن يشأ الله يختم) * من تتمة قولهم مفرعا على * (افترى) * كأنه قيل: افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبه بسبب افترائه فلا يعقل شيئا أو كأنه قيل: افتريت على الله فإن يشأ يختم على قلبك جزاء ذلك إلا أن نكتة اختيار الغيبة في إحدى الجملتين والخطاب في الأخرى غير ظاهرة، وكونها الإشارة إلى أن من افترى يحق أن يواجه بالجزاء ليس مما يهش له السامع فيما أرى، ولعل الأولى أن يكون * (فإن يشأ) * الخ مفرعا على كلامهم خارجا مخرج التهكم بهم، ولا بأس حينئذ بعطف يمح على جواب الشرط ويراد بالباطل ما هو باطل بزعمهم كأنه قيل: أم يقولون افترى على الله فإذن إن يشأ الله يختم على قلبك ويمح ما يزعمون أنه باطل، وهذا كما تقول لمن أخبرك أن زيدا افترى عليك وأنت تعلم أنه لم يفتر وإنما أدى عنك ما أمرته به فإذن نؤدبه وننتقم منه ونمحو افتراءه تقصد بذلك التهكم بالقائل فتأمل، فهذه الآية كما قال الخفاجي من أصعب ما مر في كلامه تعالى العظيم وفقنا الله تعالى وإياكم لفهم معانيه والوقوف على سره وخافيه * (إنه عليم بذات الصدور) * فيعلم سبحانه ما في صدرك وصدورهم فيجري جل وعلا الأمر على حسب ذلك.
* (وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئ‍ات ويعلم ما تفعلون) *.
* (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) * بالتجاوز عما تابوا عنه والقبول يعدى بعن لتضمنه معنى الإبانة وبمن لتضمنه معنى الأخذ كما في قوله تعالى: * (وما منعهم أن تقيل منهم نفقاتهم) * (التوبة: 54) أي تؤخذ، وقيل: القبول مضمن هنا معنى التجاوز والكلام على تقدير مضاف أي يقبل التوبة متجاوزا عن ذنوب عباده وهو تكلف.
والتوبة أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب في الحال ويندم على ما مضى ويعزم على تركه في المستقبل
35

وزادوا التفصي منه بأي وجه أمكن إن كان الذنب لعبد فيه حق وذلك بالرد إليه أو إلى وكيله أو الاستحلال منه إن كان حيا وبالرد إلى ورثته إن كان ميتا ووجدوا ثم القاضي لو كان أمينا وهو كالاكسير ومن رأى الإكسير؟ فإن لم يقدر على شيء من ذلك يتصدق عنه وإلا يدع له ويستغفر.
وفي " الشكف " التفصي داخل في الرجوع إذ لا يصح الرجوع عنه وهو ملتبس به بعد، واختير أن حقيقتها الرجوع وإنما الندم والعزم ليكون الرجوع إقلاعا ويتحقق أنه التوبة التي ندبنا إليها وهو موافق لما في الإحياء من أنها اسم لتلك الحالة بالحقيقة والباقي شروط التحقق؛ ويشترط أيضا أن يكون الباعث على الرجوع مع الندم والعزم دينيا فلو رجع لمانع آخر من ضعف بدن أو غرم لذلك لم يكن من التوبة في شيء، وأشار الزمخشري إلى ذلك بكون الرجوع لأن المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب وخرج عنه ما لو رجع طلبا للثناء أو رياء أو سمعه لأن قبح القبيح معناه كونه مقتضيا للعقاب آجلا وللذم عاجلا فلو رجع لما سبق لم يكن رجوعا لذلك.
وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر فلما فرغ من صلاته قال له علي كرم الله وجهه: إن
سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين وتوبتك تحتاج إلى التوبة فقال يا أمير المؤمنين: ما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب الندامة ولتضيع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته، وهذا يحتمل أن تكون التوبة مجموع هذه الأمور فالمراد أكمل أفرادها، ويحتمل أنها اسم لكل واحد منها والأول أظهر. واختلف في التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض هل هي صحيحة أم لا والذي عليه الأصحاب أنها صحيحة لظواهر الآيات والأحاديث وصدق التعريف عليها، وأكثر المعتزلة على أنها غير صحيحة قال أبو هاشم منهم: لو تاب عن القبيح لكونه قبيحا وجب أن يتوب عن كل القبائح وإن تاب عنه لا لمجرد قبحه بل لغرض آخر لم تصح توبته. وتعقب بأنه يجوز أن يكون الباعث شدة القبح أو أمرا دينيا آخر وأيضا يجري نظير هذا في فعل الحسن بل يقال: لو فعل الحسن لكونه حسنا وجب عليه أن يفعل كل حسن وإن فعله لغرض آخر لم يقبل وفيه بحث.
واستدل المعتزلة بالآية على أنه يجب عليه تعالى قبول التوبة واستدل أهل السنة بها على عدم الوجوب لمكان التمدح ولا تمدح بالواجب، وفيه أيضا بحث والأنفع في هذا المقام أدلة نفي الوجوب مطلقا عليه عز وجل.
* (ويعفوا عن السيئات) * صغائرها وكبائرها لمن يشاء من غير اشتراط شيء كالتوبة للكبائر واجتنابها للصغائر.
وقال الطيبي: المعنى من شأنه تعال شأنه قبول التوبة عن عباده إذا تابوا والعفو عن سيآتهم بمحض رحمته أو بشفاعة شافع، وقال المعتزلة: أي يعفو عن الكبائر إذا تيب عنها وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر فالعفو عن السيئات عليه أعم من قبول التوبة لشموله الصغائر إذا اجتنبت الكبائر وهو تعميم بعد تخصيص، والظاهر مع أهل السنة إذ لا دلالة في " النظم الجليل " على تخصيص السيئات نعم المراد بها غير الشرك بالإجماع.
* (ويعلم ما تفعلون) * بتاء الخطاب عند حفص. والأخوين. وعلقمة. وعبد الله وبياء الغيبة عند الجمهور وعلى الأول ففيه التفات وما موصولة والعائد محذوف أي يعلم الذي تفعلونه كائنا ما كان من خير وشر فيجازى بالثواب والعقاب أو يتجاوز سبحانه بالعفو حسبما تقتضيه مشيئته جل وعلا المبنية على الحكم والمصالح.
36

وقيل: يعلم ذلك فيجازى التائب ويتجاوز عن غيره إذا شاء سبحانه والأول أظهر. وفي " الكشاف " يعلم سبحانه ذلك فيثيب على الحسنات ويعاقب على السيئات. وفي " الكشف " بعد نقله هو أي قوله تعالى: * (ويعلم) * الخ تذييل للكلام السابق يؤكد ما ذكره من القبول والعفو لأنه تعالى إذا علم العملين والعاملين جازى كلا بما فعل فأولى أن يجازي هؤلاء المحسنين بأفعالهم، ثم فيه لطف وحث على لزوم الحذر منه تعالى والإخلاص له سبحانه في إمحاض التوبة، ونحن أيضا لا ننكر أنه تذييل فيه تأكيد كما لا يخفى.
* (ويستجيب الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات ويزيدهم من فضله والك‍افرون لهم عذاب شديد) *.
* (ويستجيب الذين ءامنوا وعملوا الصالحات) * عطف على * (يقبل التوبة) * فالفاعل ضميره تعالى و * (الذين) * مفعول بدون تقدير شيء بناء على أن * (يستجيب) * يتعدى بنفسه كما يتعدى باللام نحو شكرته وشكرت له أو بتقدير اللام على أنه من باب الحذف والإيصال والأصل يستجيب للذين آمنوا بناء على أنه يتعدى للداعي باللام وللدعاء بنفسه ونحو هذا قوله: وداع دعايا من يجيب إلى الندى * فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وأجاب واستجاب بمعنى أي ويجيب الله تعالى الذين آمنوا إذا دعوا وحاصله يجيب دعاءهم، وجوز بعضهم أن يكون الكلام بتقدير هذا المضاف قيل: وهو أولى من القول بإيصال الفعل بحذف الصلة لأن حذف المضاف إذا لم يلبس منقاس وذاك مسموع، ويجوز أن يكون المراد يثيبهم على طاعتهم فإن الطاعة لكونها طلب ما يترتب عليها من الثواب شابهت الدعاء وشابهت الإثابة عليها الإجابة، ومن هذا يسمى الثناء دعاء لأنه يترتب عليه ما يترتب عليه، وسئل سفيان عن قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: " أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " فقال: هذا كقوله تعالى في الحديث القدسي: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين " ألا ترى قول أمية بن الصلت لابن جدعان حين أتاه يبغي نائله: أأذكر حاجتي أم قد كفاني * ثناؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوم * كفاه عن تعرضك الثناء
وجعلوا من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الدعاء الحمد لله " على معنى أن الحمد يدل على الدعاء والسؤال بطريق الكناية والتعريض، وقيل: هو على إطلاق الدعاء على الحمد لشبهه به في طلب ما يترتب عليه، وجوز أن يراد بالإجابة معناها الحقيقي والإثابة بناء على القول بصحة الجمع بين الحقيقة والمجاز أي يجيب دعاءهم ويثيبهم على الطاعة * (ويزيدهم) * على ما سألوا واستحقوا * (من فضله) * الواسع جل شأنه، وقيل: إن فاعل * (ويستجيب الذين آمنوا) * واستظهره أبو حيان، والجملة عطف على مجموع قوله تعالى: * (هو الذين يقبل التوبة) * (الشورى: 25) الخ أي ينقادون لله تعالى ويجيبونه سبحانه إذا دعاهم، وهو المروى عن ابن جبير، وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له: ما لنا ندعوا فلا نجاب؟ فقال: لأنه سبحانه دعاكم فلم تجيبوه ثم قرأ * (والله يدعو إلى دار السلام) * (يونس: 25) * (ويستجيب الذين آمنوا) * (الشورى: 26) وهذا يؤكد هذا الوجه لأنه قدس سره ذكر أن الله تعالى دعاكم بقوله عز وجل: * (والله يدعو إلى دار السلام) * وذكر أن المؤمن من استجاب دعوة ربه تعالى بقوله: * (ويستجيب الذين آمنوا) * فمن لا يجيب دعاءه تعالى لا يجيب تعالى أيضا دعاءه، وكون الفاعل ضميره تعالى قد روى ما يقتضيه عن ابن عباس. ومعاذ بن جبل * (ويزيدهم) * عليه عطف على ما قبله وعلى الوجه الآخر عطف على مقدر أي فيوفيهم أجورهم ويزيدهم عليها على أسلوب * (وقالا الحمد لله الذي فضلنا) * (النمل: 15) وقوله سبحانه: * (من
37

فضله) * (البقرة: 90) متعلق بيزيدهم مطلقا، وجوز تعليقه بالفعلين على التنازع فإن الإجابة والثواب فضل منه تعالى كالزيادة.
وأيا ما كان فالظاهر عموم الذين آمنوا وروي عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها: نأتي رسول الله عليه الصلاة والسلام ونقول له: إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها فنزلت قل * (لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * (الشروى: 23) فقرأها عليهم، وقال تودون قرابتي من بعدي فخرجوا مسلمين فقال المنافقون: إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد بذلك عن قرابته من بعده فنزلت * (أم يقولون افترى على الله كذبا) * فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا وندموا فأنزل الله تعالى: * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) * فأرسل صلى الله عليه وسلم إليهم فبشرهم وقال: * (ويستجيب الذين آمنوا) * وهم الذين سلموا لقوله ذكر ذلك الطبرسي، وذكر قريبا منه في " الدر المنثور " لكن قال: أخرجه الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن ابن جبير بسند ضعيف، والذي يغلب على الظن الوضع * (والك‍افرون لهم عذاب شديد) * بدل ما للمؤمنين من الإجابة والتفضل.
* (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الارض ول‍اكن ينزل بقدر ما يشآء إنه بعباده خبير بصير) *.
* (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) * أي لتكبروا فيها بطرا وتجاوزوا الحد الذي يليق بالعبيد أو لظلم بعضهم بعضا فإن الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون عبرة، وفي الحديث " أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها " ولبعض العرب: وقد جعل الوسمي ينبت بيننا * وبين بني رومان نبعا وشوحطا
وأصل البغي طلب أكثر مما يجب بأن يتجاوز في القدر والكمية أو في الوصف والكيفية * (ول‍اكن ينزل) * بالتشديد، وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو بالتخفيف من الإنزال * (بقدر) * بتقدير * (ما يشاء) * وهو ما اقتضته حكمته جل شأنه * (إنه بعباده خبير بصير) * محيط بخفيات أمورهم وجلاياها فيقدر لكل واحد منهم في كل وقت من أوقاتهم ما يليق بشأنه فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ويقبض ويبسط حسبما تقتضيه الحكمة الربانية ولو أغناهم جميعا لبغوا ولو أفقرهم لهلكوا. واستشكلت الآية بأن الغنى كما يكون سبب البغي فكذلك الفقر قد يكون فلا يظهر الشرطية، وأجاب جار الله بأنه لا شبهة أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه فلو عم البسط لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن وأراد والله تعالى أعلم أن نظام العالم على ما هو عليه يستمر وإن كان قد يصدر من الغني في بعض الأحيان بغي ومن الفقير كذلك لكن في أحدهما ما يدفع والآخر أما لو أفقرهم كلهم لكان الضعف والهلك لازما ولو بسط عليهم كلهم مع أن الحاجة طبيعية لكان من البغي ما لا يقادر قدره لأن نظام العالم بالفقر أكثر منه بالغنى، وهذا أمر ظاهر مكشوف؛ ثم إن الفقر الكلي لا يتصور معه البغي للضعف العام ولأنه لا يجد حاجته عند غيره ليظلمه، وأما الغنى الكلي فعنده البغي التام، وأما الذي عليه سنة الله عز وجل فهو الذي جمع الأمرين مشتملا على خوف للغني من الفقراء يزعه عن الظلم وخوف للفقير من الأغنياء أكثر منه يدعوه إلى التعاون ليفوز بمبتغاه ويزعه عن البغي، ثم قد يتفق بغي من هذا أو ذاك كذا قرره صاحب الكشف ثم قال: وهذا جواب حسن لا تكلف فيه وهو إشارة إلى رد العلامة الطيبي فإنه زعم أنه جواب متكلف وأن السؤال قوي، وذهب هو إلى أن المراد * (بعباده) * من خصهم الله تعالى بالكرامة وجعلهم من أوليائه ثم قال: وينصره التذييل بقوله تعالى: * (إنه بعباده خبير بصير) *
38

ووضع المظهر موضع المضمر أي أنه تعالى خبير بأحوال عباده المكرمين بصير بما يصلحهم وما يرديهم، وإليه ينظر ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم إذا أحب الله تعالى عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء، ويشد من عضده قول خباب بن الارت نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت * (ولو بسط) * الآية وقول عمرو بن حريث طلب قوم من أهل الصفة من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغنيهم الله تعالى ويبسط لهم الأموال والأرزاق فنزلت وعليه تفسير محيي السنة انتهى. ولا يخفى أن الأنسب بحال المكرمين المصطفين من عباده تعالى أن لا يبطرهم الغنى لصفاء بواطنهم وقوة توجههم إلى حظائر القدس ومزيد تعلق قلوبهم بمحبوبهم ووقوفهم على حقائق الأشياء وكمال علمهم بمنتهى زخارف الحياة الدنيا، وأبناء الدنيا لو فكروا في ذلك حق التفكر لهان أمرهم وقل شغفهم كما قيل: لو فكر العاشق في منتهى * حسن الذي يسبيه لم يسبه
فلعل الأولى ما تقدم أو يقال: إن هذا في بعض العباد المؤمنين فتأمل.
* (وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولى الحميد) *.
* (وهو الذي ينزل الغيث) * أي المطر الذي يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع منه فلا يقال غيث لكل مطر، وقرأ الجمهور * (ينزل) * مخففا.
* (من بعد ما قنطوا) * يئسوا منه، وتقييد تنزيله بذلك مع تحققه بدونه أيضا لتذكير كمال النعمة؛ وقرأ الأعمش. وابن وثاب * (قنطوا) * بكسر النون * (وينشر رحمته) * أي منافع الغيث وآثاره في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان أو رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر انتظاما أوليا، وقيل: الرحمة هنا ظهور الشمس لأنه إذا دام المطر سئم فتجىء الشمس بعده عظيمة الموقع ذكره المهدوي وليس بشيء، ومن البعيد جدا ما قاله السدي من أن الرحمة هنا الغيث نفسه عدد النعمة نفسها بلفظين، * (وأيا ما كان فضمير) * رحمته لله عز وجل، وجوز على الأول كونه للغيث.
* (وهو الولي) * الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة * (الحميد) * المستحق للحمد على ذلك لا غيره سبحانه.
* (ومن ءاي‍اته خلق السم‍اوات والارض وما بث فيهما من دآبة وهو على جمعهم إذا يشآء قدير) *.
* (ومن ءاياته خلق السموات والأرض) * على ما هما عليه من تعاجيب الصنائع فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه تعالى العظيمة، ومن له أدنى إنصاف وشعور يجزم باستحالة صدورها من الطبيعة العديمة الشعور.
* (وما بث فيهما) * عطف على * (السموات) * أي ومن
39

آياته خلق ما بث أو عطف على * (خلق) * أي ومن آياته ما بث.
و * (ما) * تحتمل الموصولية والمصدرية والموصولية أظهر ولا حاجة عليه إلى تقدير مضاف أي خلق الذي بث خلافا لأبي حيان * (من دابة) * أي حيوان له دبيب وحركة، وظاهر الآية وجود ذلك في السموات وفي الأرض وبه قال مجاهد وفسر الدابة بالناس والملائكة، ويجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران، واعترض ذلك ابن المنير بأن إطلاق الدابة على الأناسي بعيد في عرف اللغة فكيف بالملائكة وادعى أن الأصح كون الدواب في الأرض لا غير؛ وما في أحد الشيئين يصدق أنه فيهما في الجملة، فالآية على أسلوب * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * (الرحمن: 22) وذلك لقوله تعالى في البقرة: * (وبث فيها من كل دابة) * فإنه يدل على اختصاص الدواب بالأرض لأن مقام الإطناب يقتضي ذكره لو كان لا للعمل بمفهوم اللقب الذي لا يقول به الجمهور والجواب أن التي في البقرة لما كانت كلاما مع الغبي والفهم والمسترشد والمعاند جىء فيه بما هو معروف عند الكل وهو بث الدواب في الأرض وأما ههنا فجىء به مدمجا مختصرا لما تكرر في القرآن ولا سيما في هذه السورة من كمال قدرته على كل ممكن فقيل: * (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما) * (الشورى: 29) مؤثرا على لفظ الخلق ليدل على التكثير الدال على كمال القدرة وبين بقوله تعالى: * (من دابة) * تعميما وتغليبا لغير ذوي العلم في السماوي والأرضي تحقيقا للمخلوقية فقد ثبت في صحاح الأحاديث ما يدل على وجود الدواب في السماء من مراكب أهل الجنة وغيرها، وكذلك ما يدل على وجود ملائكة كالأوعال بل لا يبعد أن يكون في كل سماء حيوانات ومخلوقات على صور شتى وأحوال مختلفة لا نعلمها ولم يذكر في الأخبار شيء منها فقد قال تعالى: * (ويخلق ما لا تعلمون) * وأهل الأرصاد اليوم يتراءى لهم بواسطة نظاراتهم مخلوقات في جرم القمر لكنهم لم يحققوا أمرها لنقص ما في الآلات على ما يدعون، ويحتمل أن يكون فيما عدا القمر ونفي ذلك ليس من المعلوم من الدين بالضرورة ليضر القول به، وقيل: المراد بالسموات جهات العلو المسامتة للأقاليم مثلا وفي جو كل إقليم بل كل بلدة بل كل قطعة من الأرض حيوانات لا يحصي كثرتها إلا الله تعالى بعضها يحس بها بلا واسطة آلة وبعضها بواسطتها، وقيل: المراد بها السحب وفيها من الحيوانات ما فيها وكل ذلك على ما فيه لا يحتاج إليه، وكذا لا يحتاج إلى ما ذهب إليه كثير من أن المراد بالدابة الحي مجازا إما من استعمال المقيد في المطلق أو إطلاق الشيء على لازمه أو المسبب على سببه لأن الحياة سبب للدبيب وإن لم تكن الدابة سببا للحي فيكون مجازا مرسلا تبعيا لأن الاحتياج إلى ذلك عدول عن الظاهر ولا يعدل عنه إلا إذا دل دليل على خلافه وأين ذلك الدليل؟ بل هو قائم على وجود الدواب في السماء كما هي موجودة في الأرض.
* (وهو على جمعهم) * أي حشرهم بعد البعث للمحاسبة * (إذا يشاء) * ذلك * (قدير) * تام القدرة كاملها، و * (إذا) * متعلقة بما قبلها لا بقدير لأن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته سبحانه وهي كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع، ومنه قوله: وإذا ما أشاء أبعث منها * آخر الليل ناشطا مذعورا
وقول صاحب الكشف: لقائل أن يفرق بين إذا وإذا ما الظاهر أنه ليس في محله وقد نص الخفاجي على عدم الفرق وجعل القول به توهما، وكذا نص على أنها تدخل على الفعلين ظرفية كانت أو شرطية، وقيد ذلك الطيبي بما إذا كانت بمعنى الوقت كما هنا، وضمير * (جمعهم) * قيل للسموات والأرض وما فيهما على التغليب وهو كما ترى، وقيل: للدواب المفهوم مما تقدم وضمير العقلاء للتغليب المناسب لكون الجمع للمحاسبة، وقيل: للناس المعلوم من ذلك ولعله الأولى.
* (ومآ أص‍ابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) *.
* (وما أصابكم من مصيبة) * أي مصيبة كانت من مصائب الدنيا كالمرض وسائر النكبات * (فبما كسبت أيديكم) * أي فبسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، و * (ما) * اسم موصول مبتدأ والمبتدأ إذا كان موصولا صلته جملة فعلية تدخل على خبره الفاء كثيرا لما فيه من معنى الشرط لإشعاره بابتناء الخبر عليه فلذا جىء بالفاء هنا. وقرأ نافع. وابن عامر. وأبو جعفر في رواية. وشيبة * (بما) * بغير فاء لأنها ليست بلازمة وإيقاع المبتدأ موصولا يكفي في الإشعار المذكور، وحكي عن ابن مالك أنه قال: اختلاف القراءتين دل على أن ما موصولة فجىء تارة بالفاء في خبرها وأخرى لم يؤت بها حطا للمشبه عن المشبه به، وجوز كون ما شرطية واستظهره أبو حيان في القراءة بالفاء وجعلها موصولة في القراءة الأخرى بناء على أن حذف الفاء من جواب الشرط مخصوص بالشعر عند سيبويه نحو: من يفعل الحسنات الله يشكرها
والأخفش. وبعض نحاة بغداد أجازوا ذلك مطلقا، ومنه
40

قوله تعالى: * (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) * (الأنعام: 121).
وقال أبو البقاء: حذف الفاء من الجواب حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي ويعلم منه مزيد حسن حذفها هنا على جعل ما موصولة * (ويعفو عن كثير) * أي من الذنوب فلا يعاقب عليها بمصيبة عاجلا قيل وآجلا.
وجوز كون المراد بالكثير الكثير من الناس والظاهر الأول وهو الذي تشهد له الأخبار. روى الترمذي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر وقرأ * (وما أصابكم من مصيبة) * ".
وأخرج ابن المنذر. وجماعة عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية * (وما أصابكم) * الخ، قال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عز وجل عنه أكثر، وأخرج ابن سعد عن أبي مليكة أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول بذنبي وما يغفره الله تعالى أكثر، ورؤى على كف شريح قرحة فقيل: بم هذا؟ فقال: بما كسبت يدي، وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال: إن أحبه إلى أحبه إلى الله تعالى وهذا بما كسبت يدي، والآية مخصوصة بأصحاب الذنوب من المسلمين وغيرهم فإن من لا ذنب له كالأنبياء
عليهم السلام قد تصيبهم مصائب، ففي الحديث " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل " ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا، وأما الأطفال والمجانين فقيل غير داخلين في الخطاب لأنه للمكلفين وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية، وقيل: في مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر ثم أن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة، ويدل على ذلك ما رواه أحمد في مسنده. والحيكم الترمذي. وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير * (وسأفسرها لك يا علي ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثنى عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله سبحانه أكرم من أن يعود بعد عفوه، وزعم بعضهم أنها لا تكون جزاء لأن الدنيا دار تكليف فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار جزاء وتكليف معا وهو محل فما هي إلا امتحانات، وخبر علي كرم الله وجهه يرده وكذا ما صح من أن الحدود أي غير حد قاطع الطريق مكفرات وأي محالية في كون الدنيا دار تكليف ويقع فيها بعض الأشخاص ما يكون جزاء له على ذنبه أي مكفرا له.
وعن الحسن تفسير المصيبة بالحد قال: المعنى ما أصابكم من حد من حدود الله تعالى فإنما هو بكسب أيديكم وارتكابكم ما يوجبه ويعفو الله تعالى عن كثير فيستره على العبد حتى لا يحد عليه، وهو مما تأباه الأخبار ومع هذا ليس بشيء ولعله لم يصح عن الحسن.
وفي الانتصاف أن هذه الآية تلبس عندها القدرية ولا يمكنهم ترويج حيلة في صرفها عن مقتضى نصها فإنها حملوا قوله تعالى: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) على التائب وهو غير ممكن لهم ههنا فإنه قد أثبت التبعيض
41

في العفو ومحال عندهم أن يكون العفو هنا مقيدا بالتوبة فإنه يلزم تبعيضها أيضا وهي عندهم لا تتبعض كما نقل الإمام عن أبي هاشم وهو رأس الاعتزال والذي تولى كبره منهم فلا محل لها إلا الحق الذي لا مرية فيه وهو رد العفو إلى مشيئة الله تعالى غير موقوف على التوبة. وأجيب عنهم بأن لهم أن يقولوا: المراد ويعفو عن كثير فلا يعاقب عليه في الدنيا بل يؤخر عقوبته في الآخرة لمن لم يتب. وأنت تعلم ما دل خبر علي كرم الله تعالى وجهه.
* (ومآ أنتم بمعجزين فى الارض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير) *.
* (وما أنتم بمعجزين في الأرض) * أي جاعلين الله سبحانه وتعالى عاجزا عن أن يصيبكم بالمصائب بما كسبت أيديكم وإن هربتم في أقطار الأرض كل مهرب، وقيل: المراد أنكم لا تعجزون من في الأرض من جنوده تعالى فكيف من في السماء * (وما لكم من دون الله من ولى) * من متول بالرحمة يرحمكم إذا أصابتكم المصائب وقيل يحميكم عنها * (ولا نصير) * يدفعها عنكم، والجملة كالتقرير لقوله تعالى: * (ويعفو عن كثير) * أي أن الله تعالى يعفو عن كثير من المصائب إذ لا قدرة لكم أن تعجزوه سبحانه فتفوتوا ما قصى عليكم منها ولا لكم أيضا من متول بالرحمة غيره عز وجل ليرحمكم إذا أصابتكم ولا ناصر سواه لينصركم منها ولهذا جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أن هذه أرجى آية في القرآن للمؤمنين، ويقوى أمر الرجاء على ما قيل: أن معنى * (ما أنتم) * الخ ما أنتم بمعجزين الله تعالى في دفع مصائبكم أي أنه سبحانه قادر على ذلك
* (ومن ءاي‍اته الجوار فى البحر ك الاعل‍ام) *.
* (ومن ءاياته الجوار) * أي السفن الجواري أي الجارية فهي صفة لموصوف محذوف لقرينة قوله تعالى: * (في البحر) * وبذلك حسن الحذف وإلا فهي صفة غير مختصة والقياس فيها أن لا يحذف الموصوف وتقوم مقامه، وجوز أبو حيان أن يقال: إنها صفة غالبة كالابطح وهي يجوز فيها أن تلى العوامل بغير ذكر الموصوف، و * (في البحر) * متعلق بالجواري وقوله تعالى: * (كالأعلام) * في موضع الحال.
وجوز أن يكون الأول أيضا كذلك، والاعلام جمع علم وهو الجبل وأصله الأثر الذي يعلم به الشيء كعلم الطريق وعلم الجيش وسمى الجبل علما لذلك ولا اختصاص له بالجبل الذي عليه النار للاهتداء بل إذا أريد ذلك قيد كما في قول الخنساء: وإن صخر التأتم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار
وفيه مبالغة لطيفة، وحكى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماسمعه: قاتلها الله تعالى ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا.
42

وقرأ نافع وأبو عمرو الجواري بياء في الوصل دون الوقف.
وقرأ ابن كثير بها فيهما والباقون بالحذف فيهما والإثبات على الأصل والحذف للتخفيف، وعلى كل فالأعراب تقديري وسمع من بعض العرب الأعراب على الراء.
* (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن فى ذلك لاي‍ات لكل صبار شكور) *.
* (إن يشأ يسكن الريح) * التي تجري بها ويعدم سبب تموجها وهو تكاثف الهواء الذي كان في المحل الذي جرت إليه وتراكم بعضه على بعض وسبب ذلك التكاثف إما انخفاض درجة حرارة الهواء فيقل تمدده ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولا به خليا وإما تجمع فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فيخلو محلها، وهذا على ما قيل أقوى الأسباب فإذا وجد الهواء أمامه فراغا بسبب ذلك جرى بقوة ليشغله فتحدت الريح وتستمر حتى تملأ المحل وما ذكر في سبب التموج هو الذي ذكره فلاسفة العصر. وأما المتقدمون فذكروا أشياء أخر، ولعل هناك أسبابا غير ذلك كله لا يعلمها إلا الله عز وجل، والقول بالأسباب تحريكا واسكانا لا ينافي إسناد الحوادث إلى الفاعل المختار جل جلاله وعم نواله.
/ وقرأ نافع * (الرياح) * جمعا * (فيظللن رواكد على ظهره) * فيصرن ثوابت على ظهر البحر أي غير جاريات لا غير متحركات أصلا، وفسر بعضهم * (يظللن) * بيبقين فيكون * (رواكد) * حالا والأول أولى.
وقرأ قتادة * (فيظللن) * بكسر اللام والقياس الفتح لأن الماضي مكسور العين فالكسر في المضارع شاذ، وقال الزمخشري: هو من ظلل يظل بالفتح والكسر نحو ضل بالضاد يضل ويضل، وتعقبه أبو حيان بأنه ليس كما ذكر لأن يضل بالفتح من ضللت بالكسر ويضلل بالكسر من ضللت بالفتح وكلاهما مقيس * (إن في ذالك) * الذي ذكر من السفن المسخرة في البحر تحت أمره سبحانه وحسب مشيئته تعالى: * (لآيات) * عظيمة كثيرة على عظمة شؤنه عز وجل * (لكل صبار شكور) * لكل من حبس نفسه عن التوجه إلى ما لا ينبغي ووكل همته بالنظر في آيات الله تعالى والتفكر في آلائه سبحانه فالصبر هنا حبس مخصوص والتفكر في نعمه تعالى شكر.
ويجوز أن يكون قد كني بهذين الوصفين عن المؤمن الكامل لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر.
وذكر الإمام أن المؤمن لا يخلو من أن يكون في السراء والضراء فإن كان في الضراء كان من الصابرين وان كان في السراء كان من الشاكرين.
* (أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير) *.
* (أو يوبقهن) * عطف على * (يسكن) * أي أو يهلكهن بارسال الريح العاصفة المغرقة، والمراد على ما قال غير واحد اهلاك أهلها إما بتقدير مضاف أو بالتجوز باطلاق الملح على حاله أو بطريق الكناية لأنه يلزم من إهلاكها إهلاك من فيها والقرينة على إرادة ذلك قوله تعالى: * (بما كسبوا) * وأصله أو يرسلها أي الريح فيوبقهن لأنه قسيم يسكن فاقتصر فيه على المقصود من إرسالها عاصفة وهو إما إهلاكهم أو انجاؤهم المراد من قوله تعالى: * (ويعف عن كثير) * إذا المعنى أو يرسلها فيوبق ناسا بذنوبهم وينج ناسا على طريق العفو عنهم وبهذا ظهر وجه جزم * (يعف) * لأنه بمعنى ينج معطوف على يوبق، ويعلم وجه عطف بالواو لأنه مندرج في القسيم وهو ارسالها عاصفة، وعلى هذا التفسير تكون الآية متضمنة لإسكانها ولإرسالها عاصفة مع الإهلاك والإنجاء وإرسالها باعتدال معلوم من قوله سبحانه الجواري فإنها المطلوب الأصلي منها.
وقال بعض الأجلة: التحقيق أن * (يعف) * عطف على قوله تعالى: * (يسكن الريح) * (الشورى: 33) إلى قوله سبحانه: * (بما كسبوا) * ولذا عطف بالواو لا بأو والمعنى إن يشأ يعاقبهم بالإسكان أو الاعصاف وإن يشأ يعف عن كثير.
وجوز بعضهم حمل * (يوبقهن) * على ظاهره لأن السفن من جملة أموالهم التي هلاكها والخسارة فيها بذنوبهم أيضا وجعل الآية مثل قوله تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة) * (الشورى: 30) الخ.
وقرأ الأعمش * (يعفو) * بالواو الساكنة آخره على عطفه على مجموع الشرط والجواب دون الجواب وحده كما في قراءة الجزم، وعن أهل المدينة أنهم قرؤوا * (يعفو) * بالواو المفتوحة على أنه منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الواو والعطف على هذه القراءة على مصدر متصيد مت الكلام السابق كأنه قيل: يقع وهو من العطف على المعنى وهذا مذهب البصريين في مثل ذلك وتسمى هذا الواو واو الصرف لصرفها عن عطف الفعل المجزوم قبلها إلى عطف مصدر على مصدر، ومذهب الكوفيين أن الواو بمعنى أن المصدرية ناصبة للمضارع بنفسها.
واختار الرضى أن الواو أما واو الحال والمصدر بعدها مبتدأ خبره مقدر والجمالة حالية أو واو المعية وينصب بعدها الفعل لقصد الدلالة على معية الأفعال كما أن الواو في المفعول معه دالة على مصاحبة الأسماء فعدل به عن
43

الظاهر ليكون نصا في معنى الجمعية، والمشهور اليوم على ألسنة المعربين مذهب البصريين وعليه خرج أبو حيان النصب في هذه القراءة وكذا خرج غير واحد ومنهم ازلجاج النصب في قوله تعالى:
* (ويعلم الذين يج‍ادلون فىءاي‍اتنا ما لهم من محيص) *.
* (ويعلم الذين يجادلون في ءاي‍اتنا ما لهم من محيص) * أي من مهرب ومخلص من العذاب على ذلك، وجعلوا الجزاء بمنزلة الإنشاء كالاستفهام فكأنه تقدم أحد الأمور الستة ولم يرتض ذلك الزمخشري وقال: فيه نظر لما أورده سيبويه في الكتاب قال: واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف وهو نحو من قوله: وألحق بالحجاز فاستريحا
فهذا تجوز ولا بحد الكلام ولا وجهه إلا أنه في الجزاء صار أقوى لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعف، ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة انتهى، وخرج هو النصب في * (يعلم) * على العطف على علة مقدرة قال: أي لينتقم منهم ويعلم الذين الخ، وكم من نظير له في القرآن العظيم إلا أن ذلك مع وجود حرف التعليل كقوله تعالى: * (ولنجعله آية للناس) * (البقرة: 259) وقوله سبحانه: * (خلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزي كل نفس بما كسبت) * (الجاثية: 22).
وقال أبو حيان: يبعد هذا التقدير أنه ترتب على الشرط اهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن لينتقم منهم.
وأجيب بأن الآية مخصوصة بالمجرمين فالمقصود الهلاك ويجوز أن يقدر ليظهر عظيم قدرته تعالى ويعلم الذين يجادلون فلا يرد عليه ما ذكر ويحسن ذلك التقدير في توجيه النصب في * (يعفو) * على ما روي عن أهل المدينة إذا خدش التوجيه السابق بما نقل عن سيبويه فيقال: إنه عطف على تعليل مقدر أي لينتقم منهم ويعفو عن كثير، وقراءة النصب في * (يعلم) * هي التي قرأ بها أكثر السبعة.
وقرأ نافع. وابن عامر. وأبو جعفر. والأعرج. وشيبة. وزيد بن علي بالرفع، وقرر في الكشف وجهه بأنه على عطف يعلم على مجموع الجملة الشرطية على معنى
ومن آياته الدالة على كمال القدرة السفن في البحر ثم ذكر وجه الدلالة وأنها مسخرة تحت أمره سبحانه تارة بتضمن نفع من فيها وتارة بالعكس ثم قال جل وعلا ويعلم الذين يعاندون ولا يعترفون بآيات الله تعالى الباهرة بدل قوله سبحانه فيها بالضمير الراجع إلى الآية المبحوث عنها شهادة بأنها من آيات الله تعالى وزيادة للتحذير وذم الجدال فيها وليكون على أسلوب الكناية على نحو العرب لا حفر الذمم فكأنه لما قيل: إن يشأ يسكن الريح وذكر سبب الدلالة صار في معنى يعلمها ويعترف بها المتدبرون في آياتنا المسترشدون ويعلم المجادلون فيها المنكرون ما لهم من محيص، وجاز أن يجعل عطفا على قوله تعالى: * (ومن آياته الجوار) * وتجعل هذه وحدها آيات لتضمنها وجوها من الدلالة أقميت مقام المضمر، والمعنى ومن آياته الجوار ويعلم المجادلون فيها، واعترض بين المعطوف والمعطوف عليه ببيان وجه الدلالة ليدل على موجب وعيد المجادل وعلى كونه آية بل آيات، ونقل عن أن الحاجب أنه يجوز أن يكون الرفع بالعطف على موضع الجزاء المتقدم باعتبار كونه جملة لا باعتبار عطف مجرد الفعل ليجب الجزم فتكون الجملتان مشتركتين في المسببية، وفيه بحث يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقرىء * (ويعلم) * بالجزم.
وخرج على العطف على * (يعف) * وتسببه عن الشرط باعتبار تضمن الأخبار عن علم المجادلين بما يحل بهم في
44

المستقبل الوعيد والتحذير كما قيل: سوف ترى إذا انجلى الغبار * أفرس تحتك أم حمار
ومرجع المعنى على ذلك أنه تعالى إن يشأ يعصف الريح فيغرق بعضا وينج آخرين عفوا ويحذر جماعة أخرى.
واعترض بأن التخصيص بالمجادلين في هذا التحذير غير لائح، وأيضا علمهم بأن لا محيص من عذاب الله تعالى على تقدير عصف الريح بأهل السفن على سبيل العبرة ولا اختصاص لها بهم ولا بهذا المقدور خاصة.
وأجيب عن الأول بأن التخصيص بالمجادلين لأنهم أولى بالتحذير، وعن الأخير بأنه أريد أن البر والبحر لا ينجيان من بأسه عز وجل فهو تعميم، واختار في الكشف كون التخريج على أن الآية في الكافرين بمعنى إن يشيعصف الريح فيغرق بعضهم وينج آخرين منهم عفوا ويعلموا ما لهم من محيص فلا يغتروا بالنجاة والعفو في هذه المرة، فالمجادلون هم الكثير الناجون أو بعضهم وهو على منوال قوله تعالى: * (أم امنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى) * الآية، ومن مجموع ما سمعت يلوح لك ضعف هذه القراءة ولهذا لم يقرى بها في السبعة، والظاهر على القراءات الثلاث أن فاعل * (يعلم الذين) * وجملة * (ما لهم من محيص) * سادة مسد المفعولين. وفي الدر المصون أن الجملة في قراءة الرفع تحتمل الفعلية وتحتمل الاسمية أي وهو يعلم الذين، ولا يخفى أن الظاهر على الاهتمال الثاني كون " الذين " مفعولا أولا والجملة مفعولا ثانيا والفاعل ضمير تعالى المستتر، وأوجب بعضهم هذا على قراءة الجزم وعطف " يعلم " على " يعف " لئلا يخرج الكلام عن الانتظام ويظهر قصد التحذير لشيوع أن علم الله تعالى يكون كناية عن المجازاة وهو كما ترى.
* (فمآ أوتيتم من شىء فمت‍اع الحيواة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون) *.
* (فما أوتيتم من شيء) * أي شيء كان من أسباب الدنيا، والظاهر أن الخطاب للناس مطلقا، وقيل: للمشركين، وما موصولة مبتدأ والعائد محذوف أي أوتيتموه والخبر ما بعد، ودخلت الفاء لتضمنها معنى الشرط، وقال أبو حيان: هي شرطية مفعول ثان لأوتيتم و * (من شيء) * بيان لها وقوله تعالى: * (فمتاع الحياة الدنيا) * أي فهو متاعها تتمتعون به مدة حياتكم فيها جواب الشرط، والأول أوفق بقوله تعالى: * (وما عند الله) * من ثواب الآخرة * (خير) * ذاتا لخلوص نفعه * (وأبق‍اى) * زمانا حيث لا يزول ولا يفنى لأن الظاهر أن * (ما) * فيه موصولة وإنما لم يؤت بالفاء في خبرها مع أن الموصول المبتدأ إذا وصل بالظرف يتضمن معنى الشرط أيضا لأن مسببية كون الشيء عند الله تعالى لخيريته أمر معلوم مقرر غني عن الدلالة عليه بحرف موضوع له بخلاف ما عند غيره سبحانه والتعبير عنه بأنه عند الله تعالى دون ما ادخر لذلك، وقوله تعالى: * (للذين ءامنوا) * إما متعلق بابقى أو اللام لبيان من له هذه النعمة فهو خبر مبتدأ محذوف أي ذلك للذين آمنوا.
* (وعلى ربهم يتوكلون) * لا على غيره تعالى أصلا، وعن على كرم الله تعالى وجهه اجتمع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه مال فتصدق به كله في سبيل الله تعالى فلامه المسلمون وخطأه الكافرون فنزلت؛ والموصول في قوله تعالى:
* (والذين يجتنبون كب‍ائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون) *.
* (والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا ما غضبواهم يغفرون) * مع ما بعد اما عطف على الموصول الأول أو هو مدح مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف أو منصوب بمقدر كاعنى أو أمدح، والواو اعتراضية كما كما ذكره الرضى، وغفل أبو البقاء عن الواو فلم يذكر العطف وذكر بدله البدل، وكبائر الاثم ما رتب عليه الوعيد أو ما يوجب الحد أو كل ما نهى الله تعالى عنه والفواحش ما فحش وعظم قبحه منها، وقيل: المراد بالكبائر ما يتعلق
45

بالبدع واستخراج الشبهات وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية وبقوله تعالى: * (وإذا ما غضبواهم يغفرون) * (الشورى: 37) ما يتعلق بالقوة الغضبية وهو كما ترى، والمراد بالاثم الجنس والا لقيل الآثام، و * (إذا) * ظرف ليغفرون و " هم " مبتدأ لا تأكيد لضمير غضبوا ووزه في البحر وجملة يغفرون خبره وتقديمه لإفادة الاختصاص لأنه فاعل معنوي، واختصاصهم باعتبار أنهم احقاء بذلك دون غيرهم فإن المغفرة حال الغضب عزيزة المثال، وفي الآية إيماء إلى أنهم يغفرون قبل الاستغفار، وقيل: * (هم) * مرفوع بفعل يفسره * (يغفرون) * ولما حذف انفصل الضمير وليس بشيء، وجعل أبو البقاء * (إذا شرطية وجملة * (هم يغفرون) * جوابا لها، وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم الفاء حينئذ ولا يجوز حذفها إلا في الشعر، وتقدم لك آنفا ما ينفعك تذكره فتذكر، وقرأ حمزة. والكسائي " كبير الاثم " بالافراد لإرادة الجنس أو الفرد الكامل منه وهو الشرك، وروي تفسيره به عن ابن هباس رضي الله تعالى عنهما، ولا يلزم التكرار لأن المراد الاستمرار والدوام * (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة) * قيل: نزلت في الانصار دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للإيمان به وطاعته سبحانه فاستجابوا له فاثنى عليهم
جل وعلا بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام لبيان شرفه لإيمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر وإذا كانت مكية فالمراد بالانصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة أو المراد بهم أصحاب العقبة.
* (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلواة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقن‍اهم ينفقون) *.
* (وأمرهم شورى بينهم) * أي ذو شورى ومراجهة في الآراء بينهم بناء على أن الشورى مصدر كالبشرى فلا يصح الأخبار لأن الأمر متشاور فيه لا مشاورة إلا إذا قصد المبالغة، وأورد أنه يقال من غير تأويل شأني الكرم والأمر هنا بمعنى الشأن، نعم إذا حمل على القضايا المتشاور فيها احتاج إلى التأويل أو قصد المبالغة، وقيل: أن إضافة المصدر للمعوم فلا يصح الأخبار إلا بالتأويل ورد بأن المراد أمرهم فيما يتشاور فيه لا جميع أمروهم وفيه نظر، وقال الراغب: المشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شرت العسل وأشرته استخرجته والشورى الأمر الذي يتشاور فيه انتهى، والمشهور كونه مصدرا، وجيء بالجملة اسمية مع أن المعطوف عليه جملة فعلية للدلالة على أن التشاور كان حالهم المستمرة قبل الإسلام وبعده، وفي الآية مدح للتشاور لا سيما على القول بأن فيها الأخبار بالمصدر، وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أراد أمرا فشاور فيه وقضى هدى لأرشد الأمور، وأخرج عبد بن حميد. والبخاري في الأدب. وابن المنذر عن الحسن قال: ما تشاور قوم قط إلا هدوا وأرشد أمرهم ثم تلا * (وأمرهم شورى بينهم) *، وقد كانت الشورى بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب، وكذا بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعده عليه الصلاة والسلام، وكانت بينهم أيضا في الأحكام كقتال أهل الردة وميراث الجد وعدد حد الخمر وغير ذلك، والمراد بالأحكام ما لم يكن لهم فيه نص شرعي وإلا فالشورى لا معنى لها وكيف يليق بالمسلم العدول عن حكم الله عز وجل إلى آراء الرجال والله سبحانه هو الحكيم الخبير، ويؤيد ما قلنا ما أخرجه الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء قال: اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد، وينبغي أن يكون المستشار عاقلا كما ينبغي أن يكون عابدا، فقد أخرج الخطيب أيضا عن أبي هريرة مرفوعا " استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا " والشورى على الوجه الذي ذكرناه من جملة أسباب صلاح الأرض ففي الحديث إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض
46

خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها " وإذا لم تكن على ذلك الوجه كان افسادها للدين والدنيا أكثر من اصلاحها * (ومما رزقناهم ينفقون) * أي في سبيل الخير لأنه مسوق للمدح ولا مدح بمجرد الإنفاق، ولعل فصله عن قرينة بذكر المشاورة لأن الاستجابة لله تعالى وأقام الصلاة كانا من آثارها، وقيل: لوقوعها عند اجتماعهم للصلوات.
* (والذين إذآ أصابهم البغى هم ينتصرون) *.
* (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) * أي ينتقمون ممن بغى عليهم على ما جعله الله تعالى لهم ولا يعتدون، ومعنى الاختصاص انهم الاخصاء بالانتصار وغيرهم يعدو ويتجاوز، ولا يراد أنهم ينتصرون ولا يغفرون ليتناقض هو والسابق، فكأنه وصفهم سبحانه بأنهم الأخصاء بالغفران لا يغول الغضب أحلامهم كما يغول في غيرهم وأنهم الأخصاء بالانتصار على ما جوز لهم إن كافؤا ولا يعتدون كغيرهم فهم محمودون في الحالتين بين حسن وأحسن مخصوصون بذلك من بين الناس، وقال غير واحد: إن كلا من الوصفين في محل وهو فيه محمود فالعفو عن العاجز المعترف بجرمه محمود ولفظ المغفرة مشعر به والانتصار من المخاصم المصر محمود، ولفظ الانتصار مشعر به ولو أوقعا على عكس ذلك كانا مذمومين وعلى هذا جاء قوله: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته * وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا * مضر كوضع السيف في موضع الندى
زقد يحمد كل ويذم باعتبارات أخر فلا تناقض أيضا سواء اتحد الموصوفان في الجملتين أولا، وقال بعض المحققين: الأوجه أن لا يحمل الكلام على التخصيص بل على التقوى أي يفعلون المغفرة تارة والانتصار أخرى لا دائما للتناقض وليس بذاك، وعن النخفي أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم الفساق، وفيه إيماء إلى أن الانتصار من المخاصم المصر وإلا فلا إذلال للنفس بالعفو عن العاجز المعترف، ثم إن جملة * (هم ينتصرون) * من المبتدأ والخبر صلة الموصول ودإذا) * ظرف * (ينتصرون) * وجوز كونها شرطية والجملة جواب الشرط وجملة الجواب والشرط هي الصلة. وتعقبه أبو حيان بما مر آنفا، وجوز أيضا كون * (هم) * فاعلا لمحذوف وهو كما سمعت في * (وإذا ما غضبوا) * الخ، وقال الحوفي: يجوز جعل * (هم) * توكيدا لضمير * (أصابهم) * وفيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بالفاعل ولعله لا يمتنع، ومع هذا فالوجه في الاعراب ما أشرنا إليه أولا.
* (وجزآء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظ‍المين) *.
* (وج‍ازؤا سيئة سيئة مثلها) * بيان لما جعل للمنتصر وتسمية الفعلة الثانية وهي الجزاء سيئة قيل للمشاكلة، وقال جار الله: تسمية كلتا الفعلتين سيئة لأنها تسوء من تنزل به، وفيه رعاية لحقيقة اللفظ واشارة إلى أن الانتصار مع كونه محمودا إنما يحمد بشرط رعاية المماثلة وهي عسرة ففي مساقها حث على العفو من طريق الاحتياط، وقوله تعالى: * (فمن عفا) * أي عن المسيء إليه * (وأصلح) * ما بينه وبين من يعاديه بالعفو والأغضاء عما صدر منه * (فأجره على الله) * فيجزيه جل وعلا أعظم الجزاء، تصريح بما لوح إليه ذلك من الحث وتنبيه على أنه وإن كان سلوكا لطريق الاحتياط يتضمن مع ذلك اصلاح ذات البين المحمود حالا ومالا ليكون زيادة تحريض عليه، وابهام الأجر وجعله حقا على العظيم الكريم جل شأنه الدال على عظمه زيادة في الترغيب، وجيء بالفاء ليفرعه عن السابق أي إذا كان سلوك الانتصار غير مأمون العثار فمن عفا وأصلح فهو سالك الطريق
47

المأمون العثار المحمود في الدارين، وقوله تعالى: * (إنه لا يحب الظ‍المين) * المتجاوزين الحد في الانتقام، تتميم لذلك المعنى وتصريح بما ضمن من عسر رعاية طريق المماثلة وأنه قلما تخلو عن الاعتداء والتجاوز لا سيما في حال الحرد والتهاب الحمية فيكون دخولا في زمرة من لا يحبه الله تعالى، ولا حاجة على هذا المعنى إلى جعل * (فمن عفا) * الخ اعتراضا، ثم لو كان كذلك بأن يكون هذا متعلقا بجزاء سيئة سيئة مثلها على أنه تعليل لما يفهم منه فالفاء غير مانعة عنه كما توهم، وأدخل غير واحد المبتدئين بالسيئة في الظالمين.
* (ولمن انتصر بعد ظلمه فأول‍ائك ما عليهم من سبيل) *.
* (ولمن انتصر بعد ظلمه) * بعد ما ظلم بالبناء للمجهول، وقرىء به فالمصدر مضاف لمفعوله أو هو مصدر المبني للمفعول واللام للقسم، وجوز أن تكون لام الابتداء جيء بها للتوكيد و * (من) * شرطية أو موصولة وحمل انتصر على لفظها وحمل * (فأول‍ائك ما عليهم من سبيل) * أي للمعاقب ولا للعاتب والعائب على معناها، والجملة عطف على دمن عفا) * وجيء بها للتصريح بأن ما حض عليه إنما حض عليه إرشادا إلى الأصلح في الأغلب لا أن المنتصر عليه سبيل بوجه حالا أو مآلا، ولا يهام الحض خلاف ما تضمنته من نفي السبيل على العموم صدرت باللام، وقوله تعالى:
* (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون فى الارض بغير الحق أول‍ائك لهم عذاب أليم) *.
* (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس) * تعيين لمن عليه السبيل بعد نفي ذلك عن المنتصرين، والمراد بالذين يظلمون الناس من يبدؤنهم بالظلم أو يزيدون في الانتقام ويتجاوزون ما حدلهم، وفسر ذلك بعضهم بالذين يفعلون بهم ما لا يستحقونه وهو أعم.
* (ويبغون في الأرض بغير الحق) * أي يتكبرون فيها تجبرا وفسادا * (أولائك) * الموصوفون بالظلم والبغي بغير الحق * (لهم عذاب أليم) * بسبب ظلمهم وبغيهم، والمراد بهؤلاء الظالمين الباغين الكفرة.
وقيل: من يعمهم وغيرهم، وقوله تعالى:
* (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور) *.
* (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) * تحذير عن الظلم والبغي وما يؤدي إلى العذاب الأليم بوجه، وفيه حض على ما حض عليه أولا اهتماما به وزيادة ترغيب فيه، فالصبر هنا هو الاصلاح المؤخر فيما تقدم قدم هنا، وعبر عنه بالصبر لأنه من شأن أولى العزم وإشارة إلى أن الاصلاح بالعفو والاغضاء إنما يحمد إذا كان عن قدرة لا عن عجز، و " ذلك " إشارة إلى المذكور من الصبر والمغفرة، و * (عزم الأمور) * الأمور المعزومة المقطوعة أو العازمة الصادقة، وجوز في * (من) * أن تكون موصولة وأن تكون شرطية، وفي اللام أن تكون ابتدائية وأن تكون فسمية واكتفى بجواب القسم عن جواب الشرط، وإذا جعلت اللام للابتداء و * (من شرطية فجملة * (إن ذلك) * جواب الشرط وحذفت الفاء منها، ومن يخص الحذف بالشعر لا يجوز هذا الوجه، وذكر جماعة أن في الكلام حذفا أي إن ذلك منه لمن عزم الأمور، وعلل ذلك بأن الجملة خبر فلا بد فيها من رابط و * (ذلك) * لا يصلح له لأنه إشارة إلى الصبر والمغفرة، وكونه مغنيا عنه لأن المراد صبره أو * (ذلك) * رابط والإشارة لمن بتقدير من ذوي عزم الأمور تكلف.
هذا واختار العلامة الطيبي أن تسمية الفعلية الثانية التي هي الجزاء سيئة من باب التهجين ودن المشاكلة، وزعم أن المجازي مسيء وبنى على ذلك ربط جملة * (إنه لا يحب الظاليمن) * (الشورى: 40) بما قبل فقال: يكن أن يقال لما نسب المجازي إلى المساءة في قوله سبحانه: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورة 40) والمسيء في هذا المقام مفسدا لما في البيت بدليل * (فمن عفا وأصلح) * علل مفهوم ذلك بقوله سبحانه: * (إنه لا يحب الظالمين) * كأنه قيل: من أخرج نفسه
48

بالعفو والاصلاح من الانتساب إلى السيئة والإفساد كان مقسطا إن الله يحب المقسطين فوضع موضعه * (فأجره على الله) * ومن اشتغل بالمجازاة وانتسب إلى السيئة وأفسد ما في البين وحرم نفسه ذلك الأجر الجزيل كان ظالما نفسه * (إنه لا يحب الظالمين) * فالآية واردة إرشادا للمظلوم إلى مكارم الأخلاق وإيثار طريق المرسلين. وقال: إن قوله تعالى: * (ولمن انتصر بعد ظلمة) * الخ خطاب للولاة والحكام وتعليم فعل ما ينبغي فعله بدليل قوله سبحانه: * (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس) * (الشورى: 42) حيث أعاد السبيل المنكر بالتعريف وعلق به * (يظلمون الناس) * وفسره بقوله تعالى: * (عذاب أليم) * وكذا قوله سبحانه: * (ولمن صبر وغفر) * الخ تعليم لهم أيضا طريق الحكم يعني أن صاحب الحق إذا عدل من الأولى وانتصر من الظالم فلا سبيل لكم عليه لما قد رخص له ذلك وإذا اختار الأفضل فلا سبيل لكم على الظالم لأن عفو المظلوم من عزم الأمور فتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان انتهى، ولا يخفى ما فيه.
وفي " الكشف " أن جعل ما ذكر خطابا للولاة والحكاه يوجب التعقيد في الكلام فالمعول عليه ما قدمناه، وقد جاءت أخبار كثيرة في فضل العافين عمن ظلمهم، أخرج البيهقي في " شعب الايمان " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال موسى ابن عران عليه الصلاة والسلام يا رب من أعز عبادك عندك؟ قال: من إذا قدر غفر " وأخرج ابن أبي حاتم.
49

وابن مردويه. والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من أجره على الله تعالى فليدخل الجنة ثم نادى الثانية ليقم من أجره على الله تعالى قالوا: ومن ذا الذي أجره على الله تعالى؟ قال: العافون عن الناس فقام كذا وكذا ألفا فدخلوا الجنة بغير حساب ".
وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رجلا شتم أبا بكر رضي الله تعالى عنه والنبي جالس فجعل عليه الصلاة والسلام يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام فلحقه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال
: إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله: وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان ثم قال عليه الصلاة والسلام: " ثلاث من الحق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله تعالى ألا أعز الله عز وجل بها نصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله تعالى بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله تعالى بها قلة " استشكل هذا الخبر بأنه يشعر بعتب أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو نوع من السبيل المنفي في قوله تعالى: * (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) * (الشورى: 41) وأجيب بأنا لا نسلم ذلك وليس فيه أكثر من تنبيهه رضي الله تعالى عنه على ترك الأولى وهو شيء والعتب شيء آخر، وكذا لا يعد لوما كما لا يخفى.
ومن الناس من خص السبيل في الآية بالإثم والعقاب فلا إشكال عليه أصلا، وقيل: هو باق على العموم إلا أن الآية في عوام المؤمنين ومن لم يبلغ مبلغ أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإن مثله يلام بالشتم وإن كان بحق بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأذن له به قالا أو حالا بل لاح عليه صلى الله عليه وسلم ما يشعر باستحسان السكوت عنه وحسنات الأبرار سيآت المقربين.
وقد أمر صلى الله عليه وسلم بعض الأشخاص برد الشتم على الشاتم، أخرج النسائي. وابن ماجه. وابن مردويه. عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخلت على زينب رضي الله تعالى عنها وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت علي تسبني فوزعها النبي عليه الصلاة والسلام فلم تنته فقال لي: سبيها فسببتها حتى جف ريقها في فمها ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل سرورا، ولعله كان هذا منه عليه الصلاة والسلام تعزيزا لزينب رضي الله تعالى عنها بلسان عائشة رضي الله تعالى عنها لما أن لها حقا في الرد ورأي المصلحة في ذلك وقد ذكر فقهاؤنا أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم إلى أمور أخر فتأمل.
وظاهر قوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) يقتضي رعاية المماثلة مطلقا، وفي تفسير الإمام أن الآية تقتضي وجوب رعاية المماثلة في كل الأمور إلا فيما خصه الدليل لأنه لوحملت المماثلة فيها على المماثلة في أمر معين فهو غير مذكور فيها فيلزم الاجمال وعلى ما قلنا يلزم تحمل التخصيص ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص.
والفقهاء أدخلوا التخصيص فيها في صور كثيرة تارة بناء على نص آخر أخص وأخرى بناء على القياس، ولا شك أن من ادعى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بها في جميع المطالب.
وعن مجاهد. والسدي إذا قال له: أخزاه الله تعالى فليقل أخزاه الله تعالى وإذا قذفه قذفا يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله تعالى به، ونقل أبو حيان عن الجمهور أنهم قالوا إذا بغي مؤمن على مؤمن فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه بل يرفع ذلك إلى الإمام أو نائبه، وفي " مجمع الفتاوي " جاز المجازاة بمثله في غير موجب حد للإذن به " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " والعفو أفضل * (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) * (الشورى: 40) وقال ابن الهمام: الأولى أن الإنسان إذا قيل له ما يوجب التعزير أن لا يجيبه قالوا: لو قال له: يا خبيث الأحسن أن يكف عنه ويرفعه إلى القاضي ليؤدبه بحضوره ولو أجاب مع هذا فقال: بل أنت لا بأس.
وفي " التنوير " وشرحه ضرب غيره بغير حق وضربه المضروب أيضا يعزران كما لو تشاتما بين يدي القاضي ولم يتكافآ، وأنت تعلم ما يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا لنص، وظاهر كلام العلامة الطيبي أن المظلوم إذا عفا لا يلزم الظالم التعزير بضرب أو حبس أو نحوه، وذكر فقهاؤنا أن التعزير يغلب فيه حق العبد فيجوز فيه الإبراء والعفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين ويكون أيضا حقا لله تعالى فلا عفو فيه إلا إذا علم الإمام انزجار الفاعل إلى آخر ما قالوا، ويترجح عندي أن الإمام متى رأى بعد التأمل والتجرد عن حظوظ النفس ترك التعزير للعفو سببا للفساد والتجاسر على التعدي وتجاوز الحدود عزر بما تقتضيه المصلحة العامة وليبذل وسعه فيما فيه إصلاح الدين وانتظام أمور المسلمين وإياه أن يتبع الهوى فيضل عن الصراط المستقيم.
* (ومن يضلل الله فما له من ولى من بعده وترى الظ‍المين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل) *.
* (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده) * أي ما له من ناصر يتولاه من بعد خذلان أن الله تعالى إياه فضمير * (بعده) * لله تعالى بتقدير مضاف فيه، وقيل للخذلان المفهوم من * (يضلل) * والجملة عطف على قوله تعالى: * (أولئك لهم عذاب أليم) * وكنى بمن عن الظالم الباغي تسجيلا بأنه ضال مخذول أو أتى به مبهما ليشمله شمولا أوليا فقوله سبحانه: * (ولمن صبر) * الخ اعتراض لما أشرنا إليه * (وترى الظالمين لما رأوا العذاب) * أي حين يرونه، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق * (يقولون هل إلى مرد) * أي رجعة إلى الدنيا * (من سبيل) * حتى نؤمن ونعمل صالحا وجوز أن يكون المعنى هل إلى رد للعذاب ومنع منه من سبيل، وتنكير * (مرد) * وكذا * (سبيل) * للمبالغة والجملة حال وقيل مفعول ثان لترى.
* (وتراهم يعرضون عليها خ‍اشعين من الذل ينظرون من طرف خفى وقال الذين ءامنوا إن الخ‍اسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القي‍امة ألا إن الظ‍المين فى عذاب مقيم) *.
50

* (وتراهم يعرضون عليها) * أي على النار المدلول عليها بالعذاب، والجملة كالسابقة * (خاشعين) * متضائلين متقاصرين * (من الذل) * أي بسبب الذل لعظم ما لحقهم فمن سببية متعلقة بخاشعين وهو وكذا ما بعده حال.
وجوز أن يعلق الجار بقوله تعالى: * (ينظرون) * ويوقف على * (خاشعين) * * (من طرف خفي) * والأول أظهر، والطرف مصدر طرف إذا حرك عينه ومنه
طرفة العين، والمراد بالخفي الضعيف، ومن ابتدائية أي يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف بمسارقة كما ترى المصبور ينظر إلى السيف وهكذا نظر الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها كما يفعل في نظهر إلى المحاب، ويجوز أن تكون من بمعنى الباء.
وعن ابن عباس * (خفي) * ذليل فالطرف عليه جفن العين، وقيل: يحشرون عميا فلا ينظرون إلا بقلوبهم وذاك نظر من طرف خفي، وهو تأويل متكلف، والجملتان السابقتان أعني * (ترى الظالمين. وتراهم يعرضون) * معطوفان على * (ومن يضلل) * وأصل الكلام والظالمون لما رأوا العذاب يقولون وهم يعرضون عليها خاشعين، ثم قيل: * (وترى وتراهم) * خطابا لكل من يتأتى مه الرؤية ويعتبر بحالهم زيادة للتهويل كأنه يعجبهم مما هم فيه ليعتبروا واو يبتهجوا، ومنه يظهر أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه * (وقال الذين ءامنوا ان الخاسرين) * أي أنهم * (الذين خسروا أنفسهم وأهليهم) * بالتعريض للعذاب الخالد أو على ما مر في الزمر، وعدل عن أنهم إلى المنزل تسجيلا عليهم بأكمل الخسران إذ المراد أن الكاملين في صفة الخسران المتصفين بحقيقته * (يوم القيامة) * متعلق بخسروا والقول في الدنيا، وجوز أن يكون متعلقا بقال، والماضي لتحقق الوقوع أي ويقولون إذا رأوهم على تلك الصفة. وفي " الكشف الظاهر " أنه قول يوم القيامة كالخسران من باب التنازع بين الفعلين، وآثر " صاحب الكشاف " على ما يؤذن به صنيعه أن يتعلق بالخسران وحده لأن الأصل في * (قال) * الذين آمنوا إن الخاصرين * (الخ) * هم الخاسرون كما أن الأصل في * (وترى الظالمين) * والظالمون لما رأوا ثم قيل: * (وقال الذين آمنوا) * على نحو ما قيل * (وترى) * الخ وكما أن الرؤية رؤية الدنيا استحضاراف لعذابهم الكائن في الآخرة تهويلا كذلك القول كأنهم جعلهم حضورا يعاين عذابهم ويسمع ما يقول المؤمنون فيهم ورد على الخطاب في الرؤية والغيبة في القول لأن معاينة العذاب لما كانت أدخل في التهويل جعل العذاب قريبا مشاهدا وخصوا بالخطاب على سبيل استحضار الحال لمزيد الابتهاج ولم يكن في الخسران ذلك المعنى لأنه أمر معقول والمحسوسات أقوى لا سيما إذا كن موجبات الخسران فجيء به على الأصل من الغيبة، وعدله من المضارع إلى الماضي لأنه قول صادر عن مقتضى الحال قد حق ووقع تفوهوا به أولا وأسند إلى المؤمنين دلالة على الابتهاج المذكور واغتباطهم بنجاتهم عما هم فيه وإلا فالقول والرؤية لكل من يتأتى منه القول والرؤية، وجعله حالا كما فعل الطيبي على معنى وتراهم وقد صدق فيهم قول المؤمنين في الدنيا أن الخاسرين الخ من أسلوب قوله: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
وفيه أنه إنما يرتكب عند تعذر الحقيقة وقد أمكن الحمل على التنازع فلا تعذر. ثم أنه على التقدير لا يظهر أنه قول فيها إلا بدليل خارج، وهذا بخلاف ا ذكره جار الله في قوله تعالى: * (وقد قدمت إليكم بالوعيد) * (ق: 28) من تقدير وقد صح عندكم أني قدمت لأن في اللفظ إشعارا به بينا انتهى، ولعمري لقد أبعد قدس سره المغزى في هذه الآيات العظام وأتى بما تستحسنه النظار من ذي الأفهام فليفهم، وقوله تعالى:
51

* (ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) * إما من تمام كلام المؤمنين ويجري فيه ما سمعت من الأصل ونكتة العدول أو استئناف أخبار منه تعالى تصديقا لذلك.
* (وما كان لهم من أوليآء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل) *.
* (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم) * برفع العذاب عنهم * (من دون الله) * حسبما يزعمون * (ومن يضلل الله فما له من سبيل) * إلى الهدي أو النجاة، وقيل: المراد ما له من حجة.
* (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير) *.
* (استجيبوا لربكم) * إذا دعاكم لما به النجاة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم * (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) * الجار والمجرور أما متعلق بمرد ويعامل اسم لا الشبيه بالمضاف معاملته فيترك تنوينه كما نص عليه ابن مالك في " التسهيل "؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " لا مانع لما أعطيت " وقوله تعالى: * (لا تثريب عليكم اليوم) * (يوسف: 92) أي لا يرده الله تعالى بعدما حكم به.
ومن لم يرض بذلك قال: هو خبر لمبتدأ محذوف أي ذلك من الله تعالى، والجملة استئناف في جواب سؤال مقدر تقديره ممن ذلك؟ أو حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع خبر لا أو متعلق بالنفي أو بما دل عليه كما قيل في قوله تعالى: * (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) * (القلم: 2) وقيل: هو متعلق بيأتي، وتعقب بأنه خلاف المتبادر من اللفظ والمعنى، وقيل: هو مع ذلك قليل الفائدة، وجوز كونه صفة ليوم، وتعقب بأنه ركيك معنى، والظاهر أن المراد بذلك اليوم يوم القيامة لا يوم ورود الموت كما قيل: * (ما لكم من ملجأ يومئذ) * أي ملاذ تلتجئون إليه فتخلصون من العذاب على أن * (ملجأ) * اسم مكان، ويجوز أن يكون مصدرا ميميا * (وما لكم من نكير) * إنكار على أنه مصدر أنكر على غير القياس ونفى ذلك مع قوله تعالى حكاية عنهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * تنزيلا لما يقع من إنكارهم منزلة العدم لعدم نفعه وقيام الحجة وشهادة الجوارح عليهم أو يقال أن الأمرين باعتبار تعدد الأحوال والمواقف، وجوز أن يكون * (نكير) * اسم فاعل للمبالغة أي ما لكم منكر لأحوالكم غير مميز لها ليرحمكم وهو كما ترى.
* (فإن أعرضوا فمآ أرسلن‍اك عليهم حفيظا إن عليك إلا البل‍اغ وإنآ إذآ أذقنا الإنس‍ان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنس‍ان كفور) *.
* (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا) * تلوين للكلام وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة وتوجيه له إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه فلا تهتم بهم فما أرسلناك رقيبا ومحاسبا عليهم * (إن عليك) * أي ما عليك * (إلا البلاغ) * لا الحفظ وقد فعلت.
* (واإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة) * أي نعمة من الصحة والغنى والأمن ونحوها * (فرح بها) * أريد بالإنسان الجنس الشامل للجميع وهو حينئذ بمعنى الأناسي أو الناس ولذا جمع ضميره في قوله سبحانه: * (وإن تصبهم) * وليست للاستغراق والجمعية لا تتوقف عليه فكأنه قيل: وإن تصب الناس أو الأناسي * (سيئة) * بلاء
من مرض وفقر وخوف وغيرها * (بما قدمت أيديهم) * بسبب ما صدر منهم من السيئات * (فإن الإنسان كفور) * بليغ الكفر ينسى النعمة رأسا ويذكر البلية ويستعظمها ولا يتأمل سببها بل يزعم أنها أصابته من غير استحقاق لها.
وأل فيه أيضا للجنس، وقيل: هي فيهما للعهد على أن المراد المجرمون، وقيل: هي في الأول للجنس وفي الثاني للعهد، وقال الزمخشري: أراد بالإنسان الجمع لا الواحد لمكان ضمير الجمع ولم يرد إلا المجرمين لأن إصابة السيئة بما قدمت أيديهم إنما يستقيم فهيم، ثم قال: ولم يقل فإنه لكفور ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم كما قال سبحانه: * (إن انسان لظلوم كفار) * (إبراهيم: 34) * (إن الإنسان لربه لكنود) * (الزلزلة: 6) ففهم منه العلامة الطيبي أنها في الأول للعهد
52

وأن المراد الكفار المخاطبون في قوله تعالى: * (استجيبوا لربكم لترتب) * فإن أعرضوا * (عليه) *، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بتصميمهم على الكفران والإيذان بأنهم لا يرعوون مما هم فيه وأنها في الثاني للجنس ليكون المعنى لس ببدع من هذا الإنسان المعهود الإصرار لأن هذا الجنس موسوم بكفران النعم فيكون ذم المطلق دليلا على ذم المقيد، وفي " الكشف " أنه أراد أن الإنسان أي الأول للجنس الصالح للكل وللبعض وإذا قام دليل على إرادة البعض تعين وقد قام لما سلف أن الإصابة في غير المجرمين للعوض الموفي ولم يذهب إلى أن اللام للعهد وجعل قوله تعالى: * (فإن الإنسان كفور) * للجنس ليكون تعليلا للمقيد بطريق الأولى ومطابقا لما جاء في مواضع عديدة من الكتاب العزيز؛ ولا بأس بأن يجعل إشارة إلى السالف فإنه للجنس أيضا، ويكون في وضع المظهر موضع المضمر الفائدة المذكورة مرارا بل هو أدل على القانون الممهد في الأصول وبكون كليهما للجنس أقول؛ وإسناد الكفران مع أنه صفة الكفرة إلى الجنس لغلبتهم فهو مجاز عقلي حيث أسند إلى الجنس حال أغلب أفراده لملابسته الأغلبية، ويجوز أن يعتبر أغلب الأفراد عين الجنس لغلبتهم على غيرهم فكيون المجاز لغويا، وكذا يقال في إسناد الفرح إذا كان بمعنى البطر فإنه أيضا من صفات الكفرة بل أن كان أيضا بمعناه المعروف وهو انشراح الصدر بلذة عاجلة وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية فإنه وإن لم يكن من خواص الكفار بل يكون في المؤمنين أيضا اضطرارا أو شكرا إلا أنه لا يعم جميع أفراد الجنس وإن قلت بعمومه لم تحتج إلى ذلك كما إذا فسرته بالبطر على إرادة العهد في الإنسان، وإصابة السيئة بالذنوب غير عامة للأفراد أيضا فحال إسنادها يعلم مما ذكرنا؛ وتصدير الشرطية الأولى بإذا مع إسناد الإذاقة بلفظ الماضي إلى نون العظمة للتنبية على أن إيصال النعمة محقق الوجود كثير الوقوع وأنه مراد بالذات من الجواب المطلق سبحانه وتعالى كما أن تصدير الثانية بإن وإسناد الإصابة بلفظ المضارع إلى السيئة وتعليلها بأعمالهم للإيذان بندرة وقوعها وأنها بمنزل عن الانتظام في سلك الإرادة بالذات والقصد الأولى، وإقامة علة الجزاء مقام الجزاء مبالغة في ذمهم.
* (لله ملك السم‍اوات والارض يخلق ما يشآء يهب لمن يشآء إن‍اثا ويهب لمن يشآء الذكور) *.
* (لله ملك السموات والأرض) * لا لغيره سبحانه اشتراكا أو استقلالا * (يخلق ما يشاء) * من غير وجوب عليه سبحانه * (يهب لمن يشاء اناثا ويهب لمن يشاء الذكور) *.
* (أو يزوجهم ذكرانا وإن‍اثا ويجعل من يشآء عقيما إنه عليم قدير) *.
* (أو يزوجهم ذكرانا واناثا ويجعل من يشاء عقيما) * استئناف بياني أو بيان ليخلق أو بدل منه بدل البعض على ما اختاره القاضي، ولما ذكر سبحانه إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها أتبع جل وعلا ذلك أن له سبحانه الملك وأنه تعالى يقسم النعمة والبلاء كما شاء بحكمته تعالى البالغة لا كما شاء الإنسان بهواه، وفيه إشارة إلى أن إذاقة الرحمة ليست للفرح والبطر بل للشكر لموليها وإصابة المحنة ليست للكفران والجزع بل للرجوع إلى مبليها؛ وتأكيد لإنكار كفرانهم من وجهين. الأول: أن الملك ملكه سبحانه من غير منازع ومشارك يتصرف فيه كيف يشاء فليس على من هو أحقر جزء من ملكه تعالى أن يعترض ويريد أن يجري التدبير حسب هواه الفاسد. الثاني: أن هذا الملك الواسع لذلك العزيز الحكيم جل جلاله الذي من شأنه أن يخلق ما يشاء فأنى يجوز أن يكون تصرفه إلا على وجه لا يتصور أكمل منه ولا أوفق لمقتضى الحكمة والصواب، وعند ذلك لا يبقى إلا التسليم والشغل بتعظيم المنعم المبلي عن الكفران والإعجاب، وناسب هذا المساق أن يدل في البيان من أول الأمر على أنه تعالى فعل لمحض مشيئته سبحانه لا مدخل لمشيئة العبد فيه فلذا قدمت الإناث وأخرت الذكور كأنه قيل يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء من الأناسي ما لا يهواه ويهب لمن يشاء
53

منهم ما يهواه فقد كانت العرب تعد الإناث بلاء * (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم) * (النحل: 58) ولو قدم المؤخر لاختل النظم، وليس التقديم لمجرد رعاية مناسبة القرب من البلاء ليعارض بأن الآية السابقة ذكرت الرحمة فيها مقدمة عليه فناسب ذلك تقديم الذكور على الإناث، وفي تعريف الذكور مع ما فيه من الاستدراك لقضية التأخير التنبيه على أنه المعروف الحاضر في قلوبهم أول كل خاطر وأنه الذي عقدوا عليه مناهم، ولما قضى الوطر من هذا الأسلوب قيل: * (أو يزوجهم) * أي الأولاد * (ذكرانا وإناثا) * أي يخلق ما يهبهم زوجا لأن التزويج جعل الشيء زوجا فذكرانا وأناثا حال من الضمير، والواو قيل للمعية لأن حقه التأخير عن القسمين سياقا ووجودا فلا تتأتى المقارنة إلا بذلك، وقيل ذلك لأن المراد يهب لمن يشاء ما لا يهواه ويهب لمن يشاء ما يهواه أو يهب الأمرين معالا أنه سبحانه يجعل من كل من الجنسين الذكور والإناث على حياله زوجا ولولا ذلك لتوهم ما ذكر فتأمله، ولتركبه منهما لم يكرر فيه حديث المشيئة، وقدم المقدم على ما هو عليه في الأصل ولم يعرف إذ لا وجه له، ثم قيل: * (ويجعل من يشاء عقيما) * أي لا يولد له فقيد بالمشيئة لأنه قسم آخر، وكأنه جيء بأو في * (أو يزوجهم) * دون الواو كما في سابقه من حيث أنه قسم الانفراد المشترك بين الأولين ولم يؤت في الأخير لاتضاحه بأنه قسيم الهبة المشتركة بين الأقسام المتقدمة فتأمل، وقيل قدم الإناث توصية برعايتهن لضعفهن لا سيما وكانوا قريبي العهد بالوأد، وفي الحديث " من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له سترا من النار " وقيل: قدمت
لأنها أكثر لتكثير النسل فهي من هذا الوجه أنسب بالخلق المراد بيانه، وقيل: لتطييب قلوب آبائهن لما في تقديمهن من التشريف لأنهن سبب لتكثير مخلوقاته تعالى، وقال الثعالبي: إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن حتى أن أول مولود ذكر يكون مشؤما فيقولون له بكر بكرين؛ وعن قتادة من يمن المرأة تبكيرها بأنثى، وقيل: قدمت وأخر الذكور معرفا للمحافظة على الفواصل، والمناسب للسياق ما علمت سابقا، وقال مجاهد في * (أو يزوجهم) * التزويج أن تلد المرأة غلاما ثم تلد جارية، وقال محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنهما: هو أن تلد توأما غلاما وجارية. وزعم بعضهم أن الآية نزلت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث وهب سبحانه لشعيب ولوط عليهم السلام أناثا ولإبراهيم عليه السلام ذكورا ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ذكورا وإناثا وجعل عيسى ويحيى عليهما السلام عقيمين اه‍ * (إنه عليم قدير) * مبالغ جل شأنه في العلم والقدرة فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار.
* (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشآء إنه على حكيم) *.
* (وما كان لبشر) * أي ما صح لفرد من أفراد البشر.
* (أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراءي حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) * ظاهره حصر التكليم في ثلاثة أقسام. الأول: الوحي وهو المراد بقوله تعالى: * (إلا وحيا) * وفسره بعضهم بالإلقاء في القلب سواء كان في اليقظة أو في المنام والإلقاء أعم من الإلهام فإن إيحاء أم موسى إلهام وإيحاء إبراهيم عليه السلام إلقاء في المنام وليس إلهاما وإيحاء الزبور إلقاء في اليقظة كما روى عن مجاهد وليس بإلهام؛ والفرق أن الإلهام لا يستدعي صورة كلام نفساني فقد وقد وأما اللفظي فلا، وأما نحو إيحاء الزبور فيستدعيه، وقد جاء إطلاق الوحي على الإلقاء في القلب في قول عبيد بن الأبرص: وأوحى إلى الله أن قد تأمروا * بابل أبي أوفى فقمت على رجلي
فإنه أراد قذف في قلبي. والثاني: إسماع الكلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه كما كان لموسى وكذا
54

الملائكة الذين كلمهم الله تعالى في قضية خلق آدم عليه السلام ونحوهم وهو المراد بقوله سبحانه: * (أو من وراء حجاب) * فإنه تمثيل له سبحانه بحال الملك المتحجب الذي يكلم بعض خواصه من وراء حجاب يسمع صوته ولا يرى شخصه. والثالث: إرسال الملك كالغالب من حال نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حال كثير من الأنبياء عليهم السلام،، وزعم أنه من خصوصيات أولي العزم من المرسلين غير صحيح وهو المراد بقوله عز وجل: * (أو يرسل رسولا) * أي ملكا * (فيوحى) * ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري * (بإذنه) * أي بأمره تعالى وتيسيره سبحانه: * (ما يشاء) * أن يوحيه، وهذا يدل على أن المراد من الأول الوحي من الله تعالى بلا واسطة لأن إرسال الرسول جعل فيه إيحاء ذلك الرسول، وبني المعتزل على هذا الحصر أن الرؤية غير جائزة لأنها لو صحت لصح التكليم مشافهة فلم يصح الحصر، وقال بعض: المراد حصر التكليم في الوحي بالمعنى المشهور والتكليم من وراء حجاب وتكليم الرسل البشريين مع أممهم، واستبعد بأن العرف لم يطرد في تسمية ذلك إيحاء، وقال القاضي إن قوله تعالى: * (إلا وحيا) * معناه إلا كلاما خفيا يدرك بسرعة وليس في ذاته مركبا من حروف مقطعة وهو ما يعم المشافهة كما روى في حديث المعراج وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى عليه السلام في الطور لكن عطف قوله تعالى: * (أو من وراء حجاب) * عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها، وإلى الأول ذهب الزمخشري وانتصر له صاحب الكشف عفا الله تعالى عنه فقال: وأما نحن فنقول والله تعالى أعم: إن قوله تعالى: * (وما كان لبشر) * على التعميم يقتضي الحصر بوجه لا يخص التكلم بالأنبياء عليهم ويدخل فيه خطاب مريم وما كان لأم موسى وما يقع للمحدثين من هذه الأمة وغيرهم فحمل الوحي على ما ذهب إليه الزمخشري أولى. ثم أنه يلزم القاضي أن لا يكون ما وقع من وراء حجاب وحيا لا أنه يخصصه لأنه نظير قولك: ما كان لك أن تنعم إلا على المساكين وزيد، نعم يحتمل أن يكون زيد داخلا فيهم على نحو * (ملائكته وجبريل) * وهذا يضر القاضي لاقتضائه أن يكون هذا القسم أعني ما وقع من وراء حجاب أعلا المراتب فلا يكون الثاني هو المشافهة، وتقدير إلا وحيا من غير حجاب أو من وراء حجاب خلاف الظاهر وفيه فك للنظم لقوله سبحانه: * (أو يرسل) * وهو عطف على قوله تعالى: * (إلا وحيا) * مع كونه خلاف الظاهر.
وعلى هذا يفسد ما بني عليه من حديث التنزل من القسم الأعلى إلى ما دونه، ومع ذلك لا يدل على عدم وقوع الرؤية فضلا عن جوازه بل دل على أنها لو وقعت لم يكن معها المكالمة وذلك هو الصحيح لأن الرؤية تستدعي الفناء والبقاء به عز وجل وهو يقتضي رفع حجاب المخاطب المستدعي كونا وجوديا ثم الكامل لتوفيته حق المقامات الكبرى يكون المحتظى منه بالشهود في مقام البقاء المذكور ومع ذلك لا يمنعه عن حظه من سماع الخطاب لأنه حظ القلب المحجوب عن مقام الشهود، والمقصود أن الذي يصح ذوقا ونقلا وعقلا كون الخطاب من وراء حجاب البتة وهو صحيح لكن لا ينفع منكر الرؤية ولا مثبتها، وأما سؤال الترقي في الأقسام فالجواب عنه أن الترقي حاصل بين الأول والثاني الذي له سمي الكليم كليما، وأما الثالث: فلما كان تكليما مجازيا أخر عن القسمين ولم ينظر إلى أنه أشرف من القسم الأول فإن ذلك الأمر غير راجع إلى التكليم بل لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم السلام انتهى.
وتعقب ما اعترض به على القاضي بأنه لا يرد لأن الوحي بذلك المعنى بالتخصيص المذكور والتقييد المأخوذ من التقابل صار مغايرا لما بعده وليس من شيء من القبيلين حتى يذهب إلى الترقي أو التدلي لأنه لا يعطف
55

بأو بل بالواو كما لا يخفى، ولزوم أن لا يكون الواقع من وراء حجاب وحيا غير مسلم لأنه إن أراد أن لا يكون وحيا مطلقا فغير صحيح لأن قوله تعالى بعده: فيوحى بأنه قرينة على أن المراد بالوحي السابق وحي مخصوص كالذي بعده وإن أراد أنه لا يكون من الوحي المخصوص السابق فلا يضره لأنه عين ما عناه، نعم الحصر على ما ذهب إليه القاضي غير ظاهر إلا بعد ملاحظة أنه مخصوص بما كان بالكلام فتدبر، والظاهر أن عائشة رضي الله تعالى عنها حملت الآية على نحو ما حملها المعتزلة
، أخرج البخاري. ومسلم. والترمذي عنها أنها قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت * (لا تذركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) * وأنت تعلم أن أكثر العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه ليلة الإسراء لكثرة الروايات المصرحة بالرؤية نعم ليس فيهيا التصريح بأنها بالعين لكن الظاهر من الرؤية كونها بها، والمروي عن الأشعري وجمع من المتكلمين أنه جل شأنه كله عليه الصلاة والسلام تلك الليلة بغير واسطة ويعزى ذلك إلى جعفر بن محمد الباقر. وابن عباس. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم وهو الظاهر للأحاديث الصحاح في مرادة الصلاة واستقرار الخمسين على الخمس وغير ذلك، وعائشة رضي الله تعالى عنها لم تنف الرؤية إلا اعتمادا على الاستنباط من الآيات ولو كان معها خبر لذكرته، واحتجاجها بما ذكر من الآيات غير تام، أما عدم تمامية احتجاجها بآية لا تدركه الأبصار فمشهور، وأما عدم تمامية الاحتجاج بالآية الثانية فلما سمعت عن " صاحب الكشف " قدس سره، وقال الخفاجي بعد تقرير الاحتجاج بأنه تعالى حصر تكليمه سبحانه للبشر في الثلاثة: فإذا لم يره جل وعلا من يكلمه سبحانه في وقت الكلام لم يره عز وجل في غيره بالطريق الأولى وإذا لم يره تعالى هو أصلا لم يره سبحانه غيره إذ لا قائل بالفصل، وقد أجيب عنه في الأصول بأنه يحتمل أن يكون المراد حصر التكليم في الدنيا في هذه الثلاثة أو نقول يجوز أن تقع الرؤية حال التكليم وحيا إذا لوحي كلام بسرعة وهو لا ينافي الرؤية انتهى، ولا يخفى عليك أن الجواب الأول لا ينفع فيما نحن بصدده إلا بالتزام أن ما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام تلك الليلة لا يعد تكليما في الدنيا على ما ذكره الشرنبلالي في إكرام أولي الألباب لأنه كان في الملكوت الأعلى وأنه يستفاد من كلام " صاحب الكشف " منع ظاهر للشرطية في وجه الاستدلال الذي قرره، وبعضهم أجاب بأن العام مخصص بغير ما دليل وفي " البحر " قيل " قالت قريش: ألا تلكم الله تعالى وتنظر إليه إن كنت نبيا صادقا كما كلم جل وعلا موسى ونظر إليه تعالى فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: " لم ينظر موسى عليه السلام إلى الله عز وجل فنزلت * (وما كان لبشر) * الآية " وهذا ظاهر في أن الآية لم تتضمن التكليم الشفاهي مع الرؤية وكذا ما فيه أيضا كان من الكفار خوض في تكليم الله تعالى موسى عليه السلام فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم فنزلت فإن عدم تضمنها ذلك أدفع لتوهم التجسيم، وبالجملة الذي يترجح عندي ما قاله " صاحب الكشف " قدس سره أن الآية لا تنفع منكر الرؤية ولا مثبتها وما ذكر من سبب النزول ليس بمتيقن الثبوت، ويفهم من كلام بعضهم أن الوحي كما يكون بالإلقاء في الروع يكون بالخط فقد قال النخعي كان في الأنبياء عليهم السلام من يخط له في الأرض، ومعناه اللغوي يشمل ذلك، فقد قال الإمام أبو عبد الله التيمي الأصبهاني: الوحي أصله التفهيم وكل ما فهم به شيء من الإلهام والإشارة والكتب فهو وحي، وقال الراغب: أصل الوحي الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي وذلك يكون بالكلام على الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على ذلك قوله تعالى: * (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة) * (مريم: 11) فقد
56

قيل رمز وقيل اعتبار وقيل كتب وجعل التسخير من الوحي أيضا وحمل عليه قوله تعالى: * (وأوحى ربك إلى النحل) * وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للصوفية قدست أسرارهم من الكلام في هذه الآية، و * (وحيا) * على ما قال الزمخشري مصدر واقع موقع الحال وكذا أن يرسل لأنه بتأويل إرسالا، و * (من وراء حجاب) * ظرف واقع موقع الحال أيضا كقوله تعالى: * (وعلى جنوبهم) * والتقدير وما صح أن يكلم أحدا في حال من الأحوال إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا. وتعقبه أبو حيان فقال: وقوع المصدر حالا لا ينقاس فلا يجوز جاء زيد بكاء تريد باكيا، وقاس منه المبرد ما كان نوعا للفعل نحو جاء زيد مشيا أو سرعة ومنع سيبويه من وقوع أن مع الفعل موقع الحال فلا يجوز جاء زيد أن يضحك في معنى ضحكا الواقع موقع ضاحكا. / جسم]
وأجيب عن الأول بأن القرآن يقاس عليه ولا يلزم أن يقاس على غيره مع أنه قد يقال: يكتفي بقياس المبرد، وعن الثاني بأنه علل المنع بكون الحاصل بالسبك معرفة وهي لا تقع حالا، وفي ذلك نظر لأنه غير مطرد ففي شرح التسهيل أنه قد يكون نكرة أيضا ألا تراهم فسروا * (أن يفتري) * بمفترى، وقد عرض ابن جني ذلك على أبي علي فاستحسنه، وعلى تسليم الاطراد فالمعرفة قد تكون حالا لكونها في معنى النكرة كوحدة، والاقتصار على المنع أولى لمكان التعسف في هذا، واختار غير واحد إن وحيا بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأنه نوع من الكلام أو بتقدير إلا كلام وحي و * (من وراء حجاب) * صفة كلام أوسماع محذوف وصفة المصدر تسد مسده والإرسال نوع من الكلام أيضا بحسب المآل والاستثناء عليه مفرغ من أعم المصادر، وقال الزجاج: قال سيبويه سألت الخليل عن قوله تعالى: * (أو يرسل رسولا) * بالنصب فقال: هو محمول على أن سوى هذه التي في قوله تعالى: أن يكلمه الله لما يلزم منه أن يقال: ما كان لبشر أن يرسل الله رسولا وذلك غير جائز، والمعنى ما كان لبشر * (أن يكلمه الله) * إلا بأن يوحي أو أن يرسل، وعليه أن يقدر في قوله تعالى: * (أو من وراء حجاب) * نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وأي داع إلى ذلك مع ما سمعت؟ واختلف في الاستثناء هل هو متصل أو منقطع وأبو البقاء على الانقطاع. وتعقبه بعضهم بأن المفرغ لا يتصف بذلك والبحث شهير. وقرأ ابن أبي عبلة * (أو من وراء حجاب) * نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وأي داع إلى ذلك مع ما سمعت؟ واختلف في الاستثناء هل هو متصل أو منقطع وأبو البقاء على الانقطاع. وتعقبه بعضهم بأن المفرغ لا يتصف بذلك والبحث شهير. وقرأ ابن أبي عبلة * (أو من وراء حجب) * بالجمع. وقرأ نافع. وأهل المدينة * (أو يرسل رسولا فيوحي) * برفع الفعلين ووجهوا ذلك بأنه على إضمار مبتدأ أي هو يرسل أو هو معطوف على * (وحيا) * أو على ما يتعلق به * (من وراء) * بناء على أن تقديره أو يسمع من وراء حجاب، وقال العلامة الثاني: إن التوجيه الثاني وما بعده ظاهر وهو عطف الجملة الفعلية الحالية على الحال المفردة، وأما إضمار المبتدأ فإن حمل على هذا فتقدير المبتدأ لغو، وإن أريد أنها مستأنفة فلا يظهر ما يعطف عليه سوى * (ما كان لبشر) * الخ وليس بحسن الانتظام. وتعقب بأنه يجوز أن يكون تقدير المبتدأ مع اعتبار الحالية بناء على أن الجملة الاسمية التي الخبر فيها جملة فعلية تفيد ما لا تفيده الفعلية الصرفة مما يناسب حال إرسال الرسول، أو يقال: لا نسلم أن العطف على * (ما كان لبشر) * ليس بحسن الانتظام، وفيه دغدغة لا تخفى، وفي الآية على ما قال ابن عطية دليل على أن من حلف أن لا يكلم فلانا فراسله حنث
لاستثنائه تعالى الإرسال من الكلام، ونقله الجلال السيوطي في أحكام القرآن عن مالك وفيه بحث والله تعالى الهادي.
* (إنه علي) * متعال عن صفات المخلوقين * (حكيم) * يجري سبحانه أفعاله على سنن الحكمة فيكلم
57

تارة بواسطة وأخرى بدونها إما إلهاما وإما خطابا أو إما عيانا وإما خطابا من وراء حجاب على ما يقتضيه الاختلاف السابق في تفسير الآية.
* (وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكت‍ابولا الإيم‍ان ول‍اكن جعلن‍اه نورا نهدى به من نشآء من عبادنا وإنك لتهدىإلى صراط مستقيم) *.
* (وكذلك) * أي ومثل هذا الإيحاء البديع على أن الإشارة لما بعد * (أوحينا إليك روحا من أمرنا) * وهو ما أوحى إليه عليه الصلاة والسلام أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية، وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهور لغيرك أوحينا إليك، وقيل: أي ومثل ذلك الإيحاء المفصل أوحينا إليك إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث سواء فسر الوحي بالإلقاء أم فسر بالكلام الشفاهي، وقد ذكر أنه عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث سواء فسر الوحي بالإلقاء أم فسر بالكلام الشفاهي، وقد ذكر أنه عليه الصلاة والسلام قد ألقى إليه في المنام كما ألقى إلى إبراهيم عليه السلام وألقى إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه السلام.
ففي الكبريت الأحمر للشعراني نقلا عن الباب الثاني من الفتوحات المكية أنه صلى الله عليه وسلم أعطى القرآن مجملا قبل جبريل عليه السلام من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عباس تفسير الروح بالنبوة.
وقال الربيع: هو جبريل عليه السلام، وعليه فأوحينا مضمن معنى أرسلنا، والمعنى أرسلناه بالوحي إليك لأنه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.
ونقل الطبرسي عن أبي جعفر. وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصعد إلى السماء، وهذا القول في غاية الغرابة ولعله لا يصح عن هذين الإمامين، وتنوين * (روحا) * للتعظيم أي روحا عظيما * (ما كنت تدري ما الكت‍ابولا الإيمان) * الظاهران أن ما الأولى نافية والثانية استفهامية في محل رفع على الابتداء و * (الكتاب) * خبر، والجملة في موضع نصب بتدري وجملة * (ما كنت) * الخ حالية من ضمير * (أوحينا) * أو هي مستأنفة والمضي بالنسبة إلى زمان الوحي.
واستشكلت الآية بأن ظاهرها يستدعي عدم الاتصاف بالإيمان قبل الوحي ولا يصح ذلك لأن الأنبياء عليهم السلام جميعا قبل البعثة مؤمنون لعصمتهم عن الكفر بإجماع من يعتد به، وأجيب بعدة أجوبة، الأول: أن الإيمان هنا ليس المراد به التصديق المجرد بل مجموع التصديق والإقرار والإعمال فإنه كما يطلق على ذلك يطلق على هذا شرعا، ومنه قوله تعالى: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * (البقرة: 143) والأعمال لا سبيل إلى درايتها من غير سمع فهو مركب والمركب ينتفي بانتفاء بعض أجزائه فلا يلزم من انتفاء الإيمان المركب بانتفاء الأعمال انتفاء الإيمان بالمعنى الآخر أعني التصديق وهو الذي أجمع العلماء على اتصاف الأنبياء عليهم السلام به قبل البعثة، ولذا عبر بتدري دون أن يقال: لم تكن مؤمنا وهو جواب حسن ولا يلزمه نفي الإيمان عمن لا يعمل الطاعات ليكون القول به اعتزالا كما لا يخفى.
الثاني: أن الإيمان إنما يعني به التصديق بالله تعالى وبرسوله عليه الصلاة والسلام دون التصديق بالله عز وجل ودون ما يدخل فيه الأعمال والنبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بالإيمان برسالة نفسه كما أن أمته صلى الله عليه وسلم مخاطبون بذلك، ولا شك أنه قبل الوحي لم يكن عليه الصلاة والسلام يعلم أنه رسول الله وما علم ذلك إلا بالوحي فإذا كان الإيمان هو التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكن هذا المجموع ثابتا قبل الوحي بل كان الثابت هو التصديق بالله تعالى خاصة المجمع على اتصاف الأنبياء عليهم السلام به قبل البعثة استقام نفي الإيمان قبل الوحي وإلى هذا ذهب ابن المنير. الثالث: أن المراد شرائع الإيمان ومعالمه مما لا طريق إليه إلا السمع وإليه ذهب محي السنة البغوي وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل الوحي على دين إبراهيم عليه السلام ولم تتبين له عليه الصلاة
58

والسلام شرائع دينه، ولا يخفى أنه إذا لم يعتبر كون الكلام على حذف مضاف يلزمه إطلاق الإيمان على الأعمال وحدها وهو خلاف المعروف. الرابع: أن الكلام على تقدير مضاف فقيل التقدير دعوة الإيمان أي ما كنت تدري كيف تدعو الخلق إلى الإيمان وإليه يشير كلام أبي العالية.
وقال الحسين بن الفضل: أي أهل الإيمان أي لا تدري من الذي يؤمن، وأنت تدري أنه لا يرتضي هذا إلا من لا يدري. الخامس: المراد نفي دراية المجموع أي ما كنت تدري قبل الوحي مجموع الكتاب والإيمان فلا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم كان يدري الإيمان وحده ويأباه إعادة * (لا) * السادس: أن المراد ما كنت تدري ذلك إذ كنت في المهد وإليه ذهب علي بن عيسى وهو خلاف الظاهر، والظاهر أن المراد استمرار النفي إلى زمن الوحي، وظاهر كلام الكشف يميل إلى اعتبار نحو ذلك القيد قال: لعل الأشبه أن الإيمان على ظاهره والآية واردة في معرض الامتنان والإيحاء يشمل الإلقاء في الروع وإرسال الرسول فالإيمان عرفه بالأول والكتاب بالثاني على أن الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم عرفهما بعد أن لم يكن عارفا وهو كذلك أما أنه عليه الصلاة والسلام عرفهما بعد الوحي فلا فجاز أن يعرفهما به وجاز أن يعرف واحدا منهما معينا به. وقد دل الدليل على أن المعرف به هو الكتاب والإيمان بعد العقل وقبل الوحي، والتمسك به على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدا بشرع من قبله ضعيف لأن عدم الدراية لا يلزمه عدم التعبد بل يلزمه سقوط الإثم إن لم يكن تقصيرا انتهى.
وأنت تعلم أن المتبادر أنه عليه الصلاة والسلام عرفهما بعد الوحي، وأما قوله قدس سره في تضعيف التمسك بذلك على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدا بشرع من قبله أن عدم الدراية لا يلزمه عدم التعبد فقد قيل عليه: إنه ساقط لأنه عليه الصلاة والسلام إذا لم يدر شرعا فكيف يتعبد به، وقد يجاب بأن مراد المدقق أن الدراية المنفية الدراية بمعنى العلم الجازم الثابت المطابق للواقع وعدمها لا يلزمه عدم التعبد إذ يكفي في التعبد بشرع من قبله عليه الصلاة والسلام الظن الراجح ثبوته فلعله كان حاصلا له صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذا الظن يكفي للمتعبدين اليوم بشرع نبينا عليه الصلاة والسلام فإن أكثر الفروع ظنية، ومن يتتبع الأخبار يعلم أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إبراهيم عليه السلام من الحج والختان وإيقاع الطلاق والغسل من الجنابة وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر وغير ذلك وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحرص الناس على اتباع دين إبراهيم عليه السلام. وفي " الصحيح " أنه صلى الله عليه وسلم كان أي قبل البعثة يتحنث بغار حراء، وفسر التحنث بالتحنف أي اتباع الحنيفية وهي دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم وفي رواية ابن هشام في السير يتحنف بالفاء بدل الثاء، نعم فسر أيضا بالتعبد كما في " صحيح البخاري " وباتقاء الحنث أي الإثم كالتحرج والتأثم وكل ذلك مما ذكره الحافظ القسطلاني في شرح الصحيح.
ثم إن الظاهر أن من قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بشرع من قبله ليس مراده أنه عليه الصلاة والسلام كان متعبدا بجميع
59

شرع من قبله بل بما ترجح عنده صلى الله عليه وسلم ثبوته. والذي ينبغي أن يرجح كون ذلك من شرع إبراهيم عليه السلام لأنه من ذريته عليهما الصلاة والسلام وقد كلفت العرب بدينه.
وقال بعضهم: إن عبادته صلى الله عليه وسلم التفكر والاعتبار، ولعله أيضا مما ترجح عنده عليه الصلاة والسلام كونه من شريعته عليه السلام وربما يقال: بما علمه صلى الله عليه وسلم لا على ذلك الوجه من شرع من قبله أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل موحى إليه وأنه عليه الصلاة والسلام متعبد بما يوحي إليه إلا أن الوحي السابق على البعثة كان إلقاء ونفثا في الروع وما عمل بما كان من شرائع أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلا بواسطة ذلك الإلقاء وإذا كان بعض إخوانه من الأنبياء عليهم السلام قد أوتي الحكم صبيا ابن سنتين أو ثلاث فهو عليه الصلاة والسلام أولى بأن يوحى إليه ذلك النوع من الإيحاء صبيا أيضا.
ومن علم مقامه صلى الله عليه وسلم وصدق بأنه الحبيب الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين لم يستبعد ذلك فتأمل.
* (ول‍اكن جعلناه) * أي الروح الذي أوحيناه إليك، وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل: للإيمان ورجح بالقرب، وقيل: للكتاب والإيمان ووحد لأن مقصدهما واحد فهو نظير * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) * (التوبة: 62).
* (نورا) * عظيما * (نهدي به من نشاء) * هدايته * (من عبادنا) * وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به والجملة إما مستأنفة أو صفة * (نورا) * وقوله تعالى: * (وإنك لتهدي) * تقرير لهدايته، وبيان لكيفيتها، ومفعول * (لتهدي) * محذوف ثقة بغاية الظهور أي وإنك لتهدي بذلك النور من تشاء هدايته * (إلى صراط مستقيم) * وهو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام؛ وقرأ ابن السميقع * (لتهدي) * بضم التاء وكسر الدال من أهدى، وقرأ حوشب * (لتهدي) * مبنيا للمفعول أي ليهديك الله وقرىء لتدعو.
* (صراط الله الذى له ما فى السم‍اوات وما فى الارض ألا إلى الله تصير الامور) *.
* (صراط الله) * بدل من الأول وإضافته إلى الاسم الجليل ثم وصفه بقوله تعالى: * (الذي له ما في السموات وما في الأرض) * لتفخيم شأنه وتقرير استقامته وتأكيد وجوب سلوكه فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلفا وملكا وتصرفا مما يوجب ذلك أتم إيجاب.
* (ألا إلى الله تصير الأمور) * أي أمور من فيهما قاطبة لا إلى غيره تعالى وذلك بارتفاع الوسائط يوم القيامة ففيه من الوعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم والوعيد للضالين عنه ما لا يخفى، وصيغة المضارع على ما قررنا على ظاهرها من الاستقبال، وقال في " البحر ": المراد بها الاستمرار كما في زيد يعطي أي من شأنه ذلك، والأول أظهر والله تعالى أعلم.
ومما قاله أرباب الإشارات في بعض الآيات: قال سبحانه: * (لتنذر أم القرى ومن حولها) * قيل يشير ذلك إلى إنذار نفسه الشريفة لأنها أم قرى نفوس آدم وأولاده لأنه صلى الله عليه وسلم أول العالمين خلقا ومنه عليه الصلاة والسلام نشأت الأرواح والنفوس ومن هذا كان آدم ومن دونه تحت لوائه صلى الله عليه وسلم، وقد أشار إلى ذلك سلطان العاشقين عمر بن الفارض بقوله على لسان الحقيقة المحمدية: وإني وإن كنت ابن آدم صورة * فلي منه معنى شاهد بأبوتي
وقوله سبحانه: * (ومن حولها) * (الشورى: 7) يشير إلى نفوس أهل العالم وقد أنذر صلى الله عليه وسلم كلا حسب استعداده، وقيل: في قوله تعالى: * (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) * (الشورى: 11) إنه يشير إلى التنزيه والتشبيه، وقرر ذلك الشيخ الأكبر قدس سره بما يطول * (له مقاليد السموات والأرض) * (الشورى: 12) أي مفاتيح سموات القلوب وفيها خزائن لطفه تعالى ورحمته عز وجل وأرض النفوس وفيها خزائن قهره سبحانه وعزته جل جلاله فكل قلب مخزن لنوع من ألطافه كالمعرفة والمحبة والشوق والتوحيد والهيبة والانس والرضا إلى غير ذلك، وقد يجتمع في القلب خزائن وكل نفس مخزن لنوع من آثار قهره كالنكرة والجحود والإنكار والشرك والنفاق والحرص والكبر والبخل والشره وغير ذلك، وقد
60

يجتمع في النفس خزائن، وفائدة الأخبار بأن له سبحانه مقاليد ذلك قطع أفكار العباد عمن سواه سبحانه في جلب ما يريدونه ودفع ما يكرهونه * (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) * (الشورى: 13) يشير إلى مقامي المجذوب والسالك فالمجذوب من الخواص اجتباه ربه سبحانه في الأزل وسلكه في مسلك من يحبهم واصطنعه سبحانه لنفسه جل شأنه وجذبه تعالى عن الدارين بجذبة توازي عمل الثقلين فهو في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والسالك من العوام سلكه في سلك من يحبونه بالتوفيق للهداية والقيام على قدمي الجهد والإنابة إلى سبيل الرشاد من طريق العناد * (والذي يحاجون في الله من بعد ما استجيب له) * (الشورى: 16) يشير إلى الذين يحاجون في معرفة الله تعالى بشبه العقل الذي استجاب له تعالى حين دعاه فوصل إلى الحضرة فهو في كشف وعيان وأولئك من وراء ما يزعمون أنه برهان * (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) * (الشروى: 21) يشير إلى كفار النفوس فإنهم شرعوا عند استيلائهم للأرواح والقلوب ما لم يرض به الله تعالى
من مخالفات الشريعة وموافقات الطبيعة * (الله لطيف بعباده) * (الشروى: 19) يشير إلى عموم لطفه تعالى وهو أنواع لا تحصى ومراتب لا تستقصى.
وروى السلمي عن سيد الطائفة قدس سره اللطيف من نور قلبك بالهدى وربى جسمك بالغذا ويخرج من الدنيا بالإيمان ويحرسك من نار لظى ويمكنك حتى تنظر وترى هذا لطف اللطيف بالعبد الضعيف * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) * استعملوا تكاليف الشرع لقمع الطبع وكسر الهوى وتزكية النفس وتصفية القلب وجلاء الروح * (في روضات الجنات) * في الدنيا جنات الوصلة والمعارف وطيب الأنس في الخلوة والآخرة في روضات الجنة * (لهم ما يشاؤون عند ربهم) * (الشورى: 22) حسب مراتبهم في القربات والوصلات والمكاشفات ونيل الدرجات وعلى قدر هممهم * (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * (الشروى: 23) وهم أقاربه صلى الله عليه وسلم الذين خلقوا من عنصره الشريف وتحلوا بحلاه المنيف كأئمة أهل البيت ومودتهم يعود نفعها إلى من يودهم لأنها سبب للفيض وهم رضي الله تعالى عنهم أبوابه وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا مدنية العلم وعلى بابها " رمز إلى ذلك فافهم الإشارة * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) * (الشورى: 25) لمزيد كرمه جل شأنه فمتى وفق عبدا للتوبة قبلها جودا وكرما وعن بعضهم أنه قال لبعض المشايخ: إن تبت فهل يقبلني الله تعالى؟ فقال: إن يقبلك الله تعالى تتب إليه سبحانه فقبول الله تعالى سابق على التوبة * (ويزيدهم من فضله) * (الشورى: 26) إشارة إلى الرؤية فإن الجنان ونعيمها مخلوقة تقع في مقابلة مخلوق وهو عمل العمال والرؤية مما تتعلق بالقديم فلا تقع إلا فضلا ربانيا، وفي بعض الأخبار أن هذه الزيادة أن يشفعهم في إخوان إخوانهم * (استجيبوا لربكم) * (الشورى: 47) الاستجابة للعوام بالوفاء بعهده تعالى والقيام بحقه سبحانه والرجوع عن مخالفته جل شأنه إلى موافقته عز وجل، وللخواص بالاستسلام للأحكام الأزلية والإعراض عن الدنيا وزينتها وشهواتها، ولأخص الخواص من أهل المحبة بصدق الطلب بالإعراض عن الدارين والتوجه لحضرة الجلال ببذل الوجود في نيل الوصول والوصال * (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما) * (الشورى: 50) قيل فيه إشارة إلى أحوال المشايخ من حيث المريدين فمنهم من يهب الله تعالى له ومنهم من لا تصرف له في غيره بالتخريج والتسليك وهو أشبه شيء بالأنثى من حيث عدم التصرف ومنهم من يهب سبحانه له من له قدرة التصرف بالتخريج والتسليك وهو أشبه شيء بالذكر ومنهم من يهب له تعالى هذا وهذا ومنهم من يجعله جل وعلا عقيما لا مريد له أصلا * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه من يشاء إنه علي حكيم) * (الشورى: 51) قال سيدي الشيخ
61

عبد الوهاب الشعراني في تفسيره الآية المذكورة: اعلم أن المانع من سماع كلام الحق إنما هو البشرية فإذا ارتفع العبد عنها كلمه الله تعالى من حيث كلم سبحانه الأرواح المجردة عن المواد، والبشر ما سمي بشرا إلا لمباشرته الأمور التي تعوقه عن اللحوق بدرجة الروح فلما لم يلحق كلمه الله تعالى في الأشياء وتجلى سبحانه له فيها بخلاف من لحق كالأنبياء عليهم السلام فلا يتجلى الحق سبحانه لغيرهم إلا في حجاب الصدور ولولا هدايته تعالى للعبد ما عرف أنه سبحانه ربه، واعلم أن الحقيقة تأبى أن يكلم الله تعالى غير نفسه أو يسمع غير نفسه فلا بد إذا خاطب عبدا على قصد إسماعه أن يكون جميع قواه لأنه محال أن يطيق الحادث سماع كلام القديم ولم يكن الحق سبحانه قواه عند النجوى ولذلك خر موسى عليه السلام صعقا إذ لم يكن له استعداد يقبل به التجلي اللائق بمقامه وثبت نبينا صلى الله عليه وسلم ولما لم يكن للجبل درجة المحبة التي يكون بها الحق سمع عبده وبصره وجميع قواه لم يقدر على سماع الخطاب فدك، واعلم أن حديث الحق سبحانه للخلق لا يزال أبدا غير أن من الناس من يفهم أنه حديث كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ومن ورثه من الأولياء ومنهم من لا يعرف ذلك ويقول: ظهر لي كذا وكذا ولا يعرف أن ذلك من حديث الحق سبحانه معه وكان شيخنا يقول: كان عمر من أهل السماع المطلق الذي يحدثهم الله تعالى في كل شيء ولكن له ألقاب وهو أنه إن أجابوه به تعالى فهو حديث وإن أجابوه بهم فهي محادثة وإن سمعوا حديثه سبحانه فليس بحديث في حقهم وإنما هو خطاب أو كلام، وقد ورد في المتهجدين أنهم أهل المسامرة فقد علمت أن الوحي ما يلقيه الله تعالى في قلوب خواص عباده على جهة الحديث فيحصل لهم من ذلك علم بأمر ما فإن لم يكن كذلك فليس بوحي ولا خطاب فإن بعض الناس يجدون في قلوبهم علما بأمر ما مثل العلوم الضرورية عند الناس فهو علم صحيح لكن ليس صادرا عن خطاب وكلامنا إنما هو في الخطاب الإلهي المسمى وحيا فإن الله تعالى جعل هذا الصنف من الوحي كلاما يستفيد به العلم من جاء له. / جسم]
واعلم أنه لا ينزل على قلوب الأولياء من وحي الإلهام إلا دقائق ممتدة من الأرواح الملكية لا نفس الملائكة لأن الملك لا ينزل بوحي على غير نبي أصلا ولا يأمر بأمر إلهي قطعا لأن الشريعة قد استقرت فلم يبق إلا وحي المبشرات وهو الوحي الأعم ويكون من الحق إلى العبد من غير واسطة ويكون أيضا بواسطة والنبوة من شأنها الواسطة فلا بد من واسطة الملك فيها لكن الملك لا يكون حال إلقائه ظاهرا بخلاف الأنبياء عليهم السلام فإنهم يرون الملك حال الكلام والولي لا يشهد الملك إلا في غير حال الإلقاء فإن سمع كلامه لم يره وإن رآه لا يكلمه فالعارفون لا ينالون ما فاتهم من النبوة مع بقاء المبشرات عليهم إلا أن الناس يتفاضلون فمنهم من لا يبرح في بشارة الواسطة ومنهم من يرتفع عنها كالأفراد فإن لهم المبشرات بارتفاع الوسائط وما لهم النبوات ولهذا ينكر عليهم الأحكام لأنهم ضاهوا الأنبياء من حيث كونهم يعملون بما يرونه من تعريفات الحق لهم كأنه شريعة مستقلة في الظاهر وليس ذلك بشريعة إنما هو بيان لها فالمنقطع إنما هو وحي التشريع لا غير أما التعريف لأمور مجملة في السنة فهو باق لهذه الأمة ليكونوا على بصيرة فيما يدعون الناس إليه لأنه خبر إلهي وأخبار من الله تعالى للعبد على يد ملك مغيب على هذا الملهم، ولا يكون الإلهام إلا في الخير و * (ألهمها) * فجورها على معنى إلهامها إياه لتجتنبه كما أن إلهامها تقواها لتعمل بها، وأكمل الإلهام أن يلهم اتباع الشرع والنظر في الكتب الإلهية ويقف عند حدودها وأوامرها حتى يزول صدى طبيعته وتنتقش فيها صور العالم، وأما قوله تعالى: * (أو من وراء
62

حجاب) * فهو خطاب إلهي يلقيه على السمع لا على القلب فيدركه من ألقي إليه فيفهم منه ما قصده من يسمعه ذلك وقد يحصل له ذلك في صورة التجلي فتخاطبه تلك الصورة وهي عين الحجاب فيفهم من ذلك الخطاب علم ما يدل عليه ويعلم أن ذلك حجاب وأن المتكلم من وراء ذلك الحجاب وكل من أدرك صورة التجلي الإلهي يعلم أن
ذلك هو الله تعالى فما يزيد صاحب هذا الحال على غيره إلا بمعرفته أن المخاطب له من وراء الحجاب.
وأما قوله تعالى: * (أو يرسل رسولا) * (الشورى: 51) فهو ما ينزل به الملك أو ما يجىء به الرسول البشرى إلينا إذا نقلا كلام الله تعالى خاصة كالتالين فإن نقلا علما وجداه في أنفسهما وأفصحا عنه فذلك ليس بكلام إلهي، ومن الأولياء من يعطي الترجمة عن الله سبحانه في حال الإلقاء والوحي الخاص بكل إنسان فيكون المترجم موجدا لصور الحروف اللفظية أو المرقومة ويكون روح تلك الصور كلام الله عز وجل لا غير، وقد يقول الولي: حدثني قلبي عن ربي يعني به من الوجه الخاص فاعلم ذلك وتأمل ما قررته لك فإنه نفيس والله تعالى يتولى هداك، وله قدس سره كلام كثير في هذا المقام تركناه خوف الإطالة، ولعل فيما ذكرناه كفاية لذوي الأفهام * (وكذلك أوحينا إليك ورحا من أمرنا) * وهو ما به الحياة الطيبة الأبدية * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * قبل الإيحاء.
قيل: أشير بهذا الإيحاء إلى الإيحاء في هذه النشأة وكان له صلى الله عليه وسلم في كل حال من أحواله فيها نوع من الوحي والدراية المنفية إذ كان عليه الصلاة والسلام في كينونته قبل إخراجه منها بتجلي كينونته عز وجل وإلا فهو صلى الله عليه وسلم نبي ولا آدم ولا ماء ولا طين ولا يعقل نبي بدون إيحاء * (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) * (الشورى: 52) وهو التوحيد السليم من زوايا الأغيار ويشير إلى ذلك قوله تعالى: * (ألا إلى الله تصير الأمور) * (الشورى: 53) تمت السورة بتوفيق الله عز وجل والصلاة والسلام على أول نور أشرق من شمس الأزل وبها والحمد لله تعالى.
سورة الزخرف
مكية كما روي عن ابن عباس وحكى ابن عباس إجماع أهل العلم على ذلك ولم ينقل استثناء، وقال مقاتل: ألا قوله تعالى: * (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) * (الزخرف: 45) فإنها نزلت ببيت المقدس كذا في " مجمع البيان "، وفي الإتقان نزلت بالسماء، وقيل: بالمدينة، وعدد آيها ثمان وثمانون في الشامي وتسع وثمانون في غيره، ووجه مناسبة مفتتحها لمختتم ما قبلها ظاهر.
* (حم) *.
* (حم) * الكلام فيه على نحو ما مر في مفتتح يس.
* (والكت‍ابالمبين) *.
* (والكت‍اب) * أي القرآن والمراد به جميعه، وجوز إرادة جنسه الصادق ببعضه وكله، وقيل: يجوز أن يراد به جنس الكتب المنزلة أو المكتوب في اللوح أو المعنى المصدري وهو الكتابة والخط، وأقسم سبحانه بها لما فيها من عظيم المنافع ولا يخفى ما في ذلك، والأولى على تقدير اسمية * (حم) * كونه اسما للقرآن وأن يراد ذلك أيضا بالكتاب وهو مقسم به إما ابتداء أو عطفا على * (حم) * على تقدير كونه مجرورا بإضمار باء القسم على أن مدار العطف المغايرة في العنوان لكن يلزم على هذا حذف حرف الجر وإبقاء عمله كما في: أشارت كليب بالأكف الأصابع
ومنع أن يقسم بشيئين بحرف واحد لا يلتفت إليه ومناط تكرير القسم المبالغة في تأكيد الجملة القسمية * (المبين) * أي المبين لمن أنزل عليهم لكونه بلغتهم وعلى أساليب كلامهم على أنه من أبان اللازم أو المبين لطريق الهدى من طريق الضلالة الموضح لأصول ما يحتاج إليه في أبواب الديانة على أنه من أبان المتعدي.
* (إنا جعلن‍اه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون) *.
63

* (إنا جعلن‍اه قرءانا عربيا) * جواب للقسم، والجعل بمعنى التصيير المعدى لمفعولين لا بمعنى الخلق المعدى لواحد لا لأنه ينافي تعظيم القرآن بل لأنه يأباه ذوق المقام المتكلم فيه لأن الكلام لم يسبق لتأكيد كونه مخلوقا وما كان إنكارهم متوجها عليه بل هو مسوق لإثبات كونه قرآنا عربيا مفصلا واردا على أساليبهم لا يعسر عليهم فهم ما فيه ودرك كونه معجزا كما يؤذن به قوله تعالى: * (لعلكم تعقلون) * أي لكي تفهموه وتحيطوا بما فيه من النظر الرائق والمعنى الفائق وتقفوا على ما يتضمنه من الشواهد الناطقة بخروجه عن طوق البشر وتعرفوا حق النعمة في ذلك وتنقطع أعذاركم بالكلية والقسم بالقرآن على ذلك من الإيمان الحسنة البديعة لما فيه من رعاية المناسبة والتنبيه على أنه لا شيء أعلى منه فيقسم به ولا أهم من وصفه فيقسم عليه كما قال أبو تمام: وثناياك إنها اغريض * ولآل قوم وبرق وميض
بناء على أن جواب القسم قوله: إنها إغريض، واستدل بالآية على أن القرآن مخلوق وأطالوا الكلام في ذلك، وأجيب بأنه إن دل على المخلوقية فلا يدل على أكثر من مخلوقية الكلام اللفظي ولا نزاع فيها.
وأنت تعلم أن الحنابلة ينازعون في ذلك ولهم عن الاستدلال أجوبة مذكورة في كتبهم، وأخرج ابن مردويه. عن طاوس قال: جاء رجل إلى ابن عباس من حضرموت فقال له: يا ابن عباس أخبرني عن القرآن أكلام من كلام الله تعالى أم خلق من خلق الله سبحانه قال: بل كلام من كلام الله تعالى أو ما سمعت الله سبحانه يقول: * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) * (التوبة: 6) فقال له الرجل: أفرأيت قوله تعالى: * (إنا جعلناه قرآنا عربيا) * قال: كتبه الله تعالى فيا للوح المحفوظ بالعربية أما سمعت الله تعالى يقول: * (بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ) * (البروج: 21، 22) فتأمل فيه.
* (وإنه فىأم الكت‍ابلدينا لعلى حكيم) *.
* (وإنه في أم الكتاب) * أي في اللوح المحفوظ على ما ذهب إليه جمع فإنه أم الكتب السماوية أي أصلها لأنها كلها منقولة منه، وقيل: * (أم الكتاب) * العلم الأزلي، وقيل: الآيات المحكمات والضمير - لحم - أو للكتاب بمعنى السورة أي أنها واقعة في الآيات المحكمات التي هي الأم وهو كما ترى.
وقرأ الأخوان * (إم) * بكسر الهمزة لاتباع الميم أو * (الكتاب) * فلا تكسر في عدم الوصل * (لدينا) * أي عندنا * (لعلي) * رفيع الشأن بين الكتب لإعجازه
واشتماله على عظيم الأسرار * (حكيم) * ذو حكمة بالغة أو محكم لا ينسخه غيره أو حاكم على غيره من الكتب وهما خبران لإن، وفي * (أم الكتاب) * قيل متعلق بعلى واللام لما فارقت محلها وتغيرت عن أصلها بطلت صدراتها فجاز تقديم ما في حيزها عليها أو حال منه لأنه صفة نكرة تقدمتها أو من ضميره المستتر و * (لدينا) * بدل من * (أم الكتاب) * وهما وإن كانا متغايرين بالنظر إلى المعنى متوافقان بالنظر إلى الحاصل أو حال منه أو من الكتاب فإن المضاف في حكم الجزء لصحة سقوطه، ولعل المختار كون الظرفين في موضع الخبر لمبتدأ محذوف والجملة مستأنفة لبيان محل الحكم كأنه قيل بعد بيان اتصافه بما ذكر من الوصفين الجليلين هذا في أم الكتاب ولدينا، ولم يجوزوا كونهما في موضع الخبر لإن لدخول اللام في غيرهما.
وأيا ما كان فالجملة المؤكدة إما عطف على الجملة المقسم عليها داخلة في حكمها وإما مستأنفة مقررة لعلو شأن القرآن
64

الذي أنبا الإقسام به على منهاج الاعتراض في قوله تعالى: * (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) * وبعد ما بين سبحانه علو شأن القرآن العظيم وحقق جل وعلا أن إنزاله على لغتهم ليعقلوه ويؤمنوا به ويعملوا بموجبه عقب سبحانه ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه فقال جل شأنه:
* (أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين) *.
* (أفنضرب عنكم) * الذكر أي أفننحيه ونبعده عنكم على سبيل الاستعارة التمثيلية من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض شبه حال الذكر وتنحيته بحال غرائب الإبل وذودها عن الحوض إذا دخلت مع غيرها عند الورد ثم استعمل ما كان في تلك القصة ههنا، وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجه الذكر إليهم وملازمته لهم كأنه يتهافت عليهم، ولو جعل استعارة في المفرد بجعل التنحية ضربا جاز ومن ذلك قول طرفة: أضرب عنك الهموم طارقها * ضربك بالسيف قونس الفرس
وقول الحجاج في خطبته يهدد أهل العراق: لأضربنكم ضرب غرائب الإبل. و * (الذكر) * قيل المراد به القرآن ويروى ذلك عن الضحاك. وأبي صالح والكلام على تقدير مضاف أي إنزال الذكر وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر تفخيما، وقيل: بل وذكر العباد بما فيه صلاحهم فهو بمعنى المصدر حقيقة، وعن ابن عباس. ومجاهد ما يقتضيه، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف يقتضيه على أحد الرأيين في مثل هذا التركيب أي أنهملكم فننحى الذكر عنكم، وقال ابن الحاجب: الفاء لبيان أن ما قبلها وهو جعل القرآن عربيا سبب لما بعدها وهو إنكار أن يضرب سبحانه الذكر عنهم * (صفحا) * أي إعراضا، وهو مصدر لنضرب من غير لفظه فإن تنحية الذكر إعراض فنصبه على أنه مفعول مطلق على نهج قعدت جلوسا كأنه قيل: أفنصفح عنكم صفحا أو هو منصوب على أنه مفعول له أو حال مؤول بصافحين بمعنى معرضين، وأصل الصفح أن تولي الشيء صفحة عنقك، وقيل: إنه بمعنى الجانب فينتصب على الظرفية أي أفننحيه عنكم جانبا، ويؤيد قراءة حسان بن عبد الرحمن الضبعي. والسميط ابن عمير. وشبيل بن عذرة * (صفحا) * بضم الصاد وحينئذ يحتمل أن يكون تخفيف صفح كرسل جمع صفوح بمعنى صافحين، وأبو حيان اختار أن يكون مفردا بمعنى المفتوح كالسد والسد.
وحكي عن ابن عطية أن انتصاب صفحا على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة فيكون العامل فيه محذوفا، ولا يخفى أنه لا يظهر ذلك، وأيا ما كان فالمراد إنكار أن يكون الأمر خلاف ما ذكر من إنزال كتاب على لغتهم ليفهموه * (أن كنتم قوما مسرفين) * أي لأن كنتم منهمكين في الإسراف مصرين عليه على معنى أن الحكمة تقتضي ذكركم وإنزال القرآن عليكم فلا نترك ذلك لأجل أنكم مسرفون لا تلتفتون إليه بل نفعل التفتم أم لا.
وقيل: هو على معنى أن حالكم وإن اقتضى تخليتكم وشأنكم حتى تموتوا على الكفر والضلالة وتبقوا في العذاب الخالد لكننا لسعة رحمتنا لا نفعل ذلك بل نهديكم إلى الحق بإرسال الرسول الأمين وإنزال الكتاب المبين.
وقرأ نافع. والاخوان * (إن كنتم) * بكسر الهمزة على أن الجملة شرطية، وإن وإن كانت تستعمل للمشكوك وإسرافهم أمر محقق لكن جىء بها هنا بناء على جعل المخاطب كأنه متردد في ثبوت الشرط شاك فيه قصدا إلى نسبته إلى الجهل بارتكابه الإسراف لتصويره بصورة ما يفرض لوجوب انتفائه وعدم صدوره ممن يعقل، وقيل: لا حاجة إلى هذا لأن الشرط الإسراف في المستقبل وهو ليس بمتحقق، ورد بأن إن الداخلة علي لا تقلبه للاستقبال
65

عند الأكثر، ولذا قيل: * (إن) * هنا بمعنى إذ، وأيد بأن علي بن زيد قرأ به وأنه يدل على التعليل فتوافق قراءة الفتح معنى، ولو سلم فالظاهر من حال المسرف المصر على إسرافه بقاؤه على ما هو عليه فيكون محققا في المستقبل أيضا على القول بأنها تقلب كان كغيرها من الأفعال وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبل عليه، وجوز أن يكون الشرط في موقع الحال أي مفروضا إسرافكم على أنه من الكلام المنصف فلا يحتاج إلى تقدير جواب.
وتعقب بأنه إنما يتأتى على القول بأن إن الوصلية ترد في كلامهم بدون الواو والمعروف في العربية خلافه.
وقوله عز وجل:
* (وكم أرسلنا من نبي فى الاولين * وما يأتيهم من نبى إلا كانوا به يستهزءون) *.
* (وكم أرسلنا من نبي في الأولين * وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤن) * تقرير لما قبله ببيان أن إسراف الأمم السالفة لم يمنعه تعالى من إرسال الأنبياء إليهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاء قومه به عليه الصلاة والسلام، فقد قيل: البلية إذا عمت طابت، و * (كم) * مفعول * (أرسلنا) * و * (في الأولين) * متعلق به أو صفة * (نبي) * وما يأتيهم الخ للاستمرار وضميره للأولين، وقوله تعالى:
* (فأهلكنآ أشد منهم بطشا ومضى مثل الاولين) *.
* (فأهلكنا أشد منهم بطشا) * نوع آخر من التسلية له صلى الله عليه وسلم، وضمير * (منهم) * يرجع إلى المسرفين المخاطبين لا إلى ما يرجع إليه ضمير * (ما
يأتيهم) * لقوله تعالى: * (ومضى مثل الأولين) * أي سلف في القرآن غير مرة ذكر قصتهم التي حقها أن تسير مسير المثل، ونصب * (بطشا) * على التمييز وجوز كونه على الحال من فاعل * (أهلكنا) * أي باطشين، والأول أحسن، ووصف أولئك بالأشدية لإثبات حكمهم لهؤلاء بطريق الأولوية، وقوله تعالى:
* (ولئن سألتهم من خلق السم‍اوات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم) *.
* (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) * عطف على الخطاب السابق والآيتان أعني قوله تعالى: * (وكم أرسلنا) * اعتراض لإفادة التقرير والتسلية كما سمعت، والمراد ولئن سألتهم من خلق العالم ليسندن خلقه إلى من هو متصف بهذه الصفات في نفس الأمر لا أنهم يقولون هذه الألفاظ ويصفونه تعالى بما ذكر من الصفات ذكره الزمخشري فيما نسب إليه، وهذا حسن وله نظير عرفا وهو أن واحدا لو أخبرك أن الشيخ قال كذا وعنى بالشيخ شمس الأئمة ثم لقيت شمس الأئمة فقلت: إن فلانا أخبرني أن شمس الأئمة قال: كذا مع أن فلانا لم يجر على لسانه إلا الشيخ ولكنك تذكر ألقابه وأوصافه فكذا ههنا الكفار يقولون: خلقهن الله لا ينكرون ثم أن الله عز وجل ذكر صفاته أي أن الله تعالى الذي يحيلون عليه خلق السموات والأرض من صفته سبحانه كيت وكيت، وقال ابن المنير: إن * (العزيز العليم) * من كلام المسؤولين وما بعد من كلامه سبحانه. وفي " الكشف " لا فرق بين ذلك الوجه وهذا في الحاصل فإنه حكاية كلام عنهم متصل به كلامه تعالى على أنه من تتمته وإن لم يكن قد تفوهوا به، وهذا كما يقول مخاطبك: أكرمني زيد فتقول: الذي أكرمك وحياك أو لجماعة آخرين حاضرين الذي أكرمكم وحياكم فإنك تصل كلامك بكلامه على أنه من تتمته ولكن لا تجعله من مقوله، والأظهر من حيث اللفظ ما ذكره ابن المنير وحينئذ يقع الالتفات في * (فأنشرنا) * (الزخرف: 11) بعد موقعه، ونظير ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: * (لا يضل ربي ولا ينسى) * إلى قوله تعالى: * (فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) * (طه: 53) وفي إعادة الفعل في الجواب اعتناء بشأنه ومطابقته للسؤال من حيث المعنى على ما زعم أبو حيان لا من حيث اللفظ قال: لأن من مبتدأ فلو طابق في اللفظ لكان بالاسم مبتدأ دون الفعل بأن يقال: العزيز العليم خلقهن.
* (الذى جعل لكم الارض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون) *.
* (الذي جعل لكم الأرض مهدا) * مكانا ممهدا أي موطأ ومآله بسطها لكم تستقرون فيها
66

ولا ينافي ذلك كريتها لمكان العظم، وعن عاصم أنه قرأ * (مهدا) * بدون ألف * (وجعل لكم فيها سبلا) * طرقا تسكلونها في أسفاركم * (لعلكم تهتدون) * أي لكي تهتدوا بسلوكنها إلى مقاصدكم أو بالتفكر فيها إلى التوحيد الذي هو المقصد الأصلي.
* (والذى نزل من السمآء مآء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون) *.
* (والذي نزل من السماء ماء بقدر) * أي بمقدار تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم والمصالح ولا يعلم مقدار ما ينزل من ذلك في كل سنة على التحقيق إلا الله عز وجل، والآلة التي صنعها الفلاسفة في هذه الأعصار المسماة بالاودوميتر يزعمون أنه يعرف بها مقدار المطر النازل في كل بلد من البلاد في جميع السنة لا تفيد تحقيقا في البقعة الواحدة الصغيرة فضلا عن غيرها كما لا يخفى على المنصف. وفي " البحر " بقدر أي بقضاء وحتم في الأزل، والأول أولى * (فأنشرنا به) * أي أحيينا بذلك الماء * (بلدة ميتا) * خالية عن النماء والنبات بالكلية.
وقرأ أبو جعفر. وعيسى * (ميتا) * بالتشديد، وتذكيره لأن البلدة في معنى البلد والمكان، قال الجلبي: لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون تأنيث البلد وتذكير * (ميتا) * إشارة إلى بلوغ ضعف حاله الغاية، وفي الكلام استعارة مكنية أو تصريحية.
والالتفات في * (أنشرنا) * إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظم خطره * (كذلك) * أي مثل ذلك الإنشار الذي هو في الحقيقة إخراج النبات من الأرض وهو صفة مصدر محذوف أي إنشارا كذلك * (تخرجون) * أي تبعثون من قبوركم أحياء، وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الذي هو إحياء الموتى وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث، وفي ذلك من الرد على منكريه ما فيه.
وقرأ ابن وثاب. وعبد الله بن جبير. وعيسى. وابن عامر. والأخوان * (تخرجون) * مبنيا للفاعل.
* (والذى خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والانع‍ام ما تركبون) *.
* (والذي خلق الأزواج كلها) * أي أصناف المخلوقات فالزوج هنا بمعنى الصنف لا بمعناه المشهور، وعن ابن عباس الأزواج الضروب والأنواع كالحلو. والحامض. والأبيض. والأسود. والذكر. والأنثى، وقيل: كل ما سوى الله سبحانه زوج لأنه لا يخلو من المقابل كفوق وتحت ويمين وشمال وماض ومستقبل إلى غير ذلك والفرد المنزه عن المقابل هو الله عز وجل، وتعقب بأن دعوى اطراده في الموجودات بأسرها لا تخلو عن النظر.
ولعل من قال: كل ما سوى الله سبحانه زوج لم يبن الأمر على ما ذكر وإنما بناه على أن الواجب جل شأنه واحد من جميع الجهات لا تركيب فيه سبحانه بوجه من الوجوه لا عقلا ولا خارجا ولا كذلك شيء من الممكنات مادية كانت أو مجردة * (وجعل لكم من الفلك والأنعم ما تركبون) * أي ما تركبونه، فما موصولة والعائد محذوف، والركوب بالنظر إلى الفلك يتعدى بواسطة الحرف وهو في كما قال تعالى: * (فإذا ركبوا في الفلك) * (العنكبوت: 65) بخلافه لا بالنظر إليه فإنه يتعدى بنفسه كما قال سبحانه: * (لتركبوها) * (النحل: 8) إلا أنه غلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المتعدي بواسطة فالتجوز الذي يقتضيه التغليب بالنسبة إلى المتعلق أو غلب المخلوق للركوب على المصنوع له لكونه مصنوع الخالق القدير أو الغالب على النادر فالتجوز في * (ما) * وضميره الذي تعدى الركوب إليه بنفسه دون النسبة إلى المفعول ولتغليب ما ركب من الحيوان على الفلك.
* (لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبح‍ان الذى سخر لنا ه‍اذا وما كنا له مقرنين) *.
* (لتستووا على ظهوره) * حيث عبر عن القرار على الجميع بالاستواء على الظهور المخصوص بالدواب والضمير - لما تركبون - وأفرد رعاية للفظ، وجمع ظهور مع إضافته إليه رعاية لمعناه، والظاهر أن لام * (لتستووا) * لام كي، وقال الحوفي: من أثبت لام الصيرورة جاز له
67

أن يقول به هنا، وقال ابن عطية: هي لام الأمر، وفيه بعد من حيث استعماله أمر المخاطب بتاء الخطاب، وقد اختلف في أمره فقيل: إنه لغة رديئة قليلة لا تكاد تحفظ إلا في قراءة شاذة نحو * (فبذلك فلتفرحوا) * أو شعر نحو قوله: لتقم أنت يابن خير قريش
وما ذكره المحدثون من قوله عليه الصلاة والسلام: لتأخذوا مصافكم يحتمل أنه من المروى بالمعنى، وقال الزجاج: إنها لغة جيدة، وأبو حيان على الأول وحكاه عن جمهور النحويين. * (ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه) * أي تذكروها بقلوبكم معترفين بها مستعظمين لها ثم تحمدوا عليها بألسنتكم وهذا هو معنى ذكر نعمة الله تعالى عليهم على ما قال الزمخشري، وحاصله أن الذكر يتضمن شعور القلب والمرور على اللسان فنزل على أكمل أحواله وهو أن يكون ذكرا باللسان مع شعور من القلب، وأما الاعتراف والاستعظام فمن نعمة ربكم لاقتضائه الإحضار في القلب لذلك وهذا عين الحمد الذي هو شكر في هذا المقام لا أنه يوجبه وءن كان ذلك التقرير سديدا أيضا، ومنه يظهر إيثاره علي ثم تحمدوا إذا استويتم، ومن جوز استعمال المشترك في معنييه جوز هنا أن يراد بالذكر الذكر القلبي والذكر اللساني وهو كما ترى.
ولما كانت تلك النعمة متضمنة لأمر عجيب قال سبحانه: * (وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا) * أي وتقولوا سبحان الذي ذلله وجعله منقادا لنا متعجبين من ذلك، وليس الإشارة للتحقير بل لتصوير الحال وفيها مزيد تقرير لمعنى التعجب، والكلام وإن كان إخبارا على ما سمعت أولا يشعر بالطلب.
أخرج عبد بن حميد. وابن جرير. وابن المنذر عن أبي مجلز قال: رأى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما رجلا ركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا فقال: أو بذلك أمرت؟ فقال: فكيف أقول؟ قال: الحمد لله الذي هدانا للإسلام الحمد لله الذي من علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعلني في أخير أمة أخرجت للناس ثم تقول: * (سبحان الذي سخر لنا هذا - إلى - مقرنين) * وهذا يومي إلى أن ليس المراد من النعمة نعمة التسخير، وأخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب أنه فسرها بنعمة الإسلام.
وأخرج أحمد. وأبو داود. والترمذي وصححه. والنسائي. وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتى بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله ثلاثا والله أكبر ثلاثا سبحان الذي سخر لنا هذا إلى لمنقلبون سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم شحك فقيل له: مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك فقلت: يا رسول الله مم ضحكت؟ فقال: يتعجب الرب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري، وفي حديث أخرجه مسلم. والترمذي. وأبو داود. والدارمي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثا ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا إلى لمنقلبون، وفي حديث أخرجه أحمد. وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من بعير إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله تعالى إذا ركبتموه كما أمركم، وظاهر النظم الجليل أن تذكر النعمة والقول المذكور لا يخصان ركوب الأنعام بل يعمانها والفلك، وذكر بعضهم أنه يقال: إذا ركبت السفينة * (بسم الله مجراها ومرساها) * - إلى - * (رحيم) * (هود: 41) ويقال: عند النزول منها " اللهم
68

أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين * (وما كنا له مقرنين) * أي مطيقين، وأنشد قطرب لعمرو بن معدي كرب: لقد علم القبائل ما عقيل * لنا في النائبات بمقرنينا
وهو من أقرن الشيء إذا أطاقه، قال ابن هرمة: وأقرنت ما حملتني ولقلما * يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر
وحقيقة أقرنه وجده قرينته وما يقرن به لأن الصعب لا يكون قرينة للضعيف ألا ترى إلى قولهم في الضعيف لا تقرن به الصعبة، والقرن الحبل الذي يقرن به، قال الشاعر: وابن اللبون إذا ما لز في قرن * لم يستطع صولة البزل القنا عيس
وحاصل المعنى أنه ليس لنا من القوة ما يضبط به الدابة والفلك وإنما الله تعالى هو الذي سخر ذلك وضبطه لنا.
أخرج عبد بن حميد. وابن المنذر عن سليمان بن يسار أن قوما كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وكان فيهم رجل له ناقة رزام فقال: أما أنا فلهذه مقرن فقمصت به فصرعته فاندقت عنقه، وقرىء * (مقرنين) * بتشديد الراء مع فتحها وكسرها وهما بمعنى المخفف.
* (وإنآ إلى ربنا لمنقلبون) *.
* (وإنا إلى ربنا لمنقلبون) * أي راجعون، وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يتأمل فيما يلابسه من السير ويتذكر منه المسافرة العظمى التي هي الانقلاب إلى الله تعالى فيبني أموره في مسيره ذلك على تلك الملاحظة ولا يأتي بما ينافيها، ومن ضرورة ذلك أن يكون ركوبه لأمر مشروع، وفيه إشارة إلى أن الركوب مخطرة فلا ينبغي أن يغفل فيه عن تذكر الآخرة.
* (وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنس‍ان لكفور مبين) *.
* (وجعلوا له من عباده جزءا) * متصل بقوله تعالى: * (ولئن سألتهم) * إلى آخره فهو حال من فاعل * (ليقولن) * بتقدير قد أو بدونه، والمراد بيان أنهم مناقضون مكابرون حيث اعترفوا بأنه عز وجل خالق السموات والأرض ثم وصفوه سبحانه بصفات المخلوقين وما يناقض كونه تعالى خالقا لهما فجعلوا له سبحانه جزأ وقالوا: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وعبر عن الولد بالجزء لأنهب ضعة ممن هو ولد له كما قيل: أولادنا أكبادنا، وفيه دلالة على مزيد
استحالته على الحق الواحد الذي لا يضاف إليه انقسام حقيقة ولا فرضا ولا خارجا ولا ذنا جل شأنه وعلا، ولتأكيد أمر المناقضة لم يكتف بقوله تعالى: * (جزأ) * وقيل * (من عباده) * لأنه يلزمهم على موجب اعترافهم أن يكون ما فيهما مخلوقه تعالى وعبده سبحانه إذ هو حادث بعدهما محتاج إليهما ضرورة.
وقيل: الجزء اسم للإناث يقال: أجزأت المرأة إذ ولدت أنثى، وأنشد قول الشاعر: إن أجزأت حرة يوما فلا عجب * قد تجزىء الحرة المذكار أحيانا
وقوله: زوجتها من بنات الأوس مجزئة * للعوسج اللدن في أنيابها زجل
وجعل ذلك الزمخشري من بدع التفاسير وذكر أن ادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث كذب عليهم ووضع مستحدث منخول وأن البيتين مصنوعان، وقال الزجاج: في البيت الأول لا أدري قديم أم مصنوع.
ووجه بعضهم ذلك بأن حواء خلقت من جزء آدم عليه السلام فاستعير لكل الإناث.
وقرأ أبو بكر عن عاصم * (جزأ) * بضمتين، ثم للكلام وإن سيق للفرض المذكور يفهم منه كفرهم لتجسيم الخالق تعالى والاستخفاف به جل وعلا حيث جعلوا له سبحانه أخس النوعين بل إثبات ذلك يستدعي الإمكان
69

المؤذن بحدوثه تعالى فلا يكون إلها ولا بارئا ولا خالقا تعالى عما يقولون وسبحانه عما يصفون، وليس الكلام مساقا لتعديد الكفران كما قيل. وقوله تعالى: * (إن الإنسان لكفور مبين) * لا يقتضيه فإن المراد المبالغة في كفران النعمة وهي في إنكار الصانع أشد من المبالغة في كفرهم به كما أشير إليه، و * (مبين) * من أبان اللازم أي ظاهر الكفران، وجوز أن يكون من المتعدي أي مظهر كفرانه.
* (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصف‍اكم بالبنين) *.
* (أم اتخذ مما يخلق بنات) * * (أم) * مقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال والهمزة للإنكار والتعجيب من شأنهم، وقوله تعالى: * (وأصفياكم بالبنين) * إما عطف على * (اتخذ) * داخل في حكم الإنكار والتعجيب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه، والالتفات إلى خطابهم لتشديد الإنكار أي بل اتخذ سبحانه من خلقه أخس الصنفين واختار لكم أفضلهما على معنى هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه سبحانه جائزة فرضا أما تفطنتم لما ارتكبتم من الشطط في القسمة وقبح ما ادعيتم من أنه سبحانه آثركم على نفسه بخير الجزئين وأعلاهما وترك له جل شأنه شرهما وأدناهما فما أنتم إلا في غاية الجهل والحماقة، وتنكير بنات وتعريف البنين لقرينة ما اعتبر فيهما من الحقارة والفخامة، وقوله تعالى:
* (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحم‍ان مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم) *.
* (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحم‍ان مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم) * قيل: حال وارتضاه العلامة الثاني على معنى أنهم نسبوا إليه تعالى ما ذكروا من حالهم أن أحدهم إذا بشر به اغتم، وقيل: استئناف مقرر لماق بله، وجوز عطفه على ما قبله وليس بذاك. والالتفات للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم أن يعرض عنهم وتحكي لغيرهم تعجيبا، والجملة الاسمية في موضع الحال أي إذا أخبر أحدهم بجنس ما جعله مثلا للرحمن جل شأنه وهو جنس الإناث لأن الولد لا بد أن يجانس الولد ويماثله صار وجهه أسود في الغاية لسوء ما بشر به عنده والحال هو مملوء من الكرب والكآبة، وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة فقالت: ما لأبي حمزة لا يأتينا * يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا * وليس لنا من أمرنا ما شينا
وإنما نأخذ ما أعطينا وقرىء * (مسود) * بالرفع و * (مسواد) * بصيغة المبالغة من اسواد كإحمار مع الرفع أيضا على أن في * (ظل) * ضمير المبشر ووجهه مسود أي مسواد جملة واقعه موقع الخبر، والمعنى صار المبشر مسود الوجه وقيل: الضمير المستتر في * (ظل) * ضمير الشأن والجملة خبرها، وقيل: الفعل تام والجملة حالية والوجه ما تقدم، وقوله تعالى:
* (أومن ينشأ فى الحلية وهو فى الخصام غير مبين) *.
* (أو من ينشؤا في الحلية) * تكرير للإنكار و * (من) * منصوبة المحل بمضمر معطوف على * (جعلوا) * وهناك مفعول محذوف أيضا أي أو جعلوا له تعالى من شأنه أن يتربى في الزينة وهن البنات كما قال ابن عباس: ومجاهد وقتادة. والسدي: ولدا فالهمزة لإنكار الواقع واستقباحه.
وجوز انتصاب * (من) * بمضمر معطوف على * (اتخذ) * فالهمزة حينئذ لإنكار الوقوع واستبعاده، وإقحامها بين المعطوفين لتذكير ما في أم المنقطعة من الإنكار، والعطف للتغاير العنواني أي أو اتخذ سبحانه من هذه الصفة الذميمة ولدا * (وهو) * مع ما ذكر من القصور * (في الخصام) * أي الجدال الذي لا يكاد يخلو عنه إنسان في العادة * (غير مبين) * غير قادر على تقرير دعواه وإقامته حجته لنقصان عقله وضعف رأيه، والجار متعلق
70

بمبين، وإضافة * (غير) * لا تمنع عمل ما بعدها فيه لأنه بمعنى النفي فلا حاجة لجعله متعلقا بمقدر، وجوز كون من مبتدأ محذوف الخبر أي أو من حاله كيت وكيت ولده عز وجل، وجعل بعضهم خبره جعلوه ولدا لله سبحانه وتعالى أو اتخذه جل وعلا ولدا، وعن ابن زيد أن المراد بمن ينشأ في الحلية الأصنام قال: وكانوا يتخذون كثيرا منها من الذهب والفضة ويجعلون الحلي على كثير منها، وتعقب بأنه يبعد هذا القول قوله تعالى: * (وهو في الخصام غير مبين) * إلا إن أريد بنفي الإبانة نفي الخصام أي لا يكون منها خصام فإبانة كقوله: على لا حب لا يهتدى بمناره
وعندي أن هذا القول بعيد في نفسه وأن الكلام أعني قوله سبحانه: * (أم اتخذ) * إلى هنا وارد لمزيد الإنكار في أنهم قوم من عادتهم المناقضة ورمى القول من غير
علم، وفي المجىء بأم المنقطعة وما في ضمنها من الإضراب دليل على أن معتمد الكلام إثبات جهلهم ومناقضتهم لا إثبات كفرهم لكنه يفهم منه كما سمعت وتسمع إن شاء الله تعالى، وقرأ الجحدري في رواية * (ينشأ) * مبنيا للمفعول مخففا، وقرأ الحسن في رواية أيضا * (يناشأ) * على وزن يفاعل مبنيا للمفعول، والمناشاة بمعنى الإنشاء كالمغالاة بمعنى الإغلاء، وقرأ الجمهور * (ينشأ) * مبنيا للفاعل، والآية ظاهرة في أن النشوء في الزينة والنعومة من المعايب والمذام وأنه من صفات ربات الحجال فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويأنف منه ويربا بنفسه عنه ويعيش كما قال عمر رضي الله تعالى عنه اخشوشنوا في اللباس واخشوشبوا في الطعام وتمعددوا وإن أراد أن يزين نفسه زينها من باطن بلباس التقوى، وقوله تعالى:
* (وجعلوا المل‍ائكة الذين هم عباد الرحم‍ان إن‍اثا أشهدوا خلقهم ستكتب شه‍ادتهم ويس‍الون) *.
* (وجعلوا الملئكة الذين هم عباد الرحم‍ان إناثا) * أي سموا وقالوا: إنهم أناث، قال الزجاج: الجعل في مثله بمعنى القول والحكم على الشيء تقول: جعلت زيدا أعلم الناس أي وصفته بذلك وحكمت به، واختار أبو حيان أن المعنى صيروهم في اعتقادهم إناثا اعتراض وارد لإثبات مناقضتهم أيضا وادعاء ما لا علم لهم به المؤيد لجعله معتمد الكلام على ما سبق آنفا فإنهم أنثوهم في هذا المعتقد من غير استناد إلى علم فارشد إلى أن ما هم عليه من إثبات الولد مثل ما هم عليه من تأنيث الملائكة عليهم السلام في أنهما سخف وجهل كانا كفرين أولا، نعم هما في نفس الأمر كفران، أما الأول: فظاهر، وأما الثاني: فللاستخفاف برسله سبحانه أعني الملائكة وجعلهم أنقص العباد رأيا وأخسهم صنفا وهم العباد المكرمون المبرأون من الذكورة والأنوثة فإنهما من عوارض الحيوان المتغذي المحتاج إلى بقاء نوعه لعدم جريان حكمة الله تعالى ببقاء شخصه وليس ذلك عطفا على قوله سبحانه: * (وجعلوا له من عباده جزأ) * (الزخرف: 15) لما علمت من أن الجملة في موضع الحال من فاعل * (ليقولن) * ولا يحسن بحسب الظاهر أن يقال: * (ليقولن خلقهن العزيز العليم) * (الزخرف: 9) وقد جعلوا الملائكة إناثا، وقرىء عبيد جمع عبد وكذا * (عباد) * وقيل: عباد جمع عابد كصائم وصيام وقائم وقيام، وقرأ عمر بن الخطاب. والحسن. وأبو رجاء. وقتادة. وأبو جعفر. وشيبة. والأعرج. والابنان. ونافع * (عند الرحمن) * ظرفا وهو أدل على رفع المنزلة وقرب المكانة، والكلام على الاستعارة في المشهور لاستحالة العندية المكانية في حقه سبحانه، وقرأ أبي عبد الرحمن بالباء مفرد عباد، والمعنى على الجمع بإرادة الجنس.
وقرأ الأعمش * (عباد) * بالجمع والنصب حكاها ابن خالويه وقال: هي في مصحف ابن مسعود كذلك، وخرج أبو حيان النصب على إضمار فعل أي الذين هم خلقوا عباد الرحمن، وقرأ زيد بن علي * (أنثا) * بضمتين ككتب جمع إناثا فهو جمع الجمع، وعلى جميع القراءات الحصر إذا سلم إضافي فلا يتم الاستدلال به على أفضلية الملك على البشر.
* (أشهدوا خلقهم) * أي أحضروا خلق الله تعالى إياهم فشاهدوهم إناثا حتى يحكموا بأنوثتهم فإن ذلك مما يعلم
71

بالمشاهدة، وهذا كقوله تعالى: * (أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون) * (الصافات: 150) وفيه تجهيل لهم وتهكم بهم، وإنما لم يتعرض لنفي الدلائل النقلية لأنها في مثل هذا المطلب مفرعة على القول بالنبوة وهم الكفرة الذين لا يقولون بها ولنفي الدلائل العقلية لظهور انتفائها والنفي المذكور أظهر في التهكم فافهم، وقرأ نافع * (أأشهدوا) * بهمزة داخلة على أشهد الرباعي المبني للمفعول، وفي رواية أنه سهل هذه الهمزة فجعلها بين الهمزة والواو وهي رواية عن أبي عمرو، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. ومجاهد، وفي أخرى أنه سهلها وأدخل بينها وبين الأولى ألفا كراهة اجتماع همزتين ونسبت إلى جماعة، والاكتفاء بالتسهيل أوجه، وقرأ الزهري وناس: * (اشهدوا) * بغير استفهام مبنيا للمفعول رباعيا فقيل المعنى على الاستفهام نحو قوله: قالوا تحبها قلت بهرا
وهو الظاهر، وقيل: على الإخبار، والجملة صفة * (إناثا) * وهم وإن لم يشهدوا خلقهم لكن نزلوا لجراءتهم على ذلك منزلة من أشهد أو المراد أنهم أطلقوا عليهم الإناث المعروفات لهم اللاتي اشهدوا خلقهن لا صنفا آخر من الإناث؛ ولا يخفى ما في كلا التأويلين من التكلف * (ستكتب) * في ديوان أعمالهم * (شهادتهم) * التي شهدوا بها على الملائكة عليهم السلام، وقيل: سألهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدريكم أنهم إناث فقالوا: سمعنا ذلك من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا فقال الله تعالى: * (ستكتب شهادتهم) * * (ويسئلون) * عنها يوم القيامة، والكلام وعيد لهم بالعقاب والمجازاة على ذلك والسين للتأكيد، وقيل: يجوز أن تحمل على ظاهرها من الاستقبال ويكون ذلك إشارة إلى تأخير كتابة السيآت لرجاء التوبة والرجوع كما ورد في الحديث إن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيآت فإذا أراد أن يكتبها قال له: توقف فيتوقف سبع ساعات فإن استغفر وتاب لم يكتب فلما كان ذلك من شأن الكتابة قرنت بالسين، وكونهم كفارا مصرين على الكفر لا يأباه. وقرأ الزهري * (سيكتب) * بالياء التحتية مبنيا للمفعول، وقرأ الحسن كالجمهور إلا أنه قرأ * (شهاداتهم) * بالجمع وهي قولهم: إن لله سبحانه جزأ وإن له بنات وإنها الملائكة، وقيل: المراد ما أريد بالمفرد والجمع باعتبار التكرار، وقرأ ابن عباس. وزيد بن علي. وأبو جعفر. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة. والجحدري. والأعرج * (سنكتب) * بالنون مبنيا للفاعل * (شهادتهم) * بالنصب والإفراد.
وقرأت فرقة * (سيكتب) * بالياء التحتية مبنيا للفاعل وبإفراد * (شهادتهم) * ونصبها أي سيكتب الله تعالى شهادتهم.
وقرىء * (يساءلون) * من المفاعلة للمبالغة.
* (وقالوا لو شآء الرحم‍ان ما عبدن‍اهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) *.
* (وقالوا لو شاء الرحم‍ان ما عبدناهم) * عطف على قوله سبحانه: * (وجعلوا الملائكة) * (الزخرف: 12) الخ إشارة إلى أنه من جنس ادعائهم أنوثة الملائكة في أنهم قالوه من غير علم، ومرادهم بهذا القول على ما قاله بعض الأجلة الاستدلال بنفي مشيئة الله تعالى ترك عبادة الملائكة عليهم السلام على امتناع النهي عنها أو
على حسنها فكأنهم قالوا: إن الله تعالى لم يشأ ترك عبادة الملائكة عليهم السلام على امتناع النهي عنها أو على حسنها فكأنهم قالوا: إن الله تعالى لم يشأ ترك عبادتنا الملائكة ولو شاء سبحانه ذلك لتحقق بل شاء جل شأنه العبادة لأنها المتحققة فتكون مأمورا بها أو حسنة ويمتنع كونها منهيا عنها أو قبيحة، وهو استدلال باطل لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن لأنها ترجيح بعض الممكنات على بعض حسنا كان أو قبيحا فلذلك جهلوا بقوله سبحانه: * (ما لهم بذلك) * القول على الوجه الذي قصدوه منه، وحاصله يرجع إلى الإشارة إلى زعمهم أن المشيئة تقتضي طباق الأمر لها أو حسن ما تعلقت به * (من علم) * يستند إلى سند ما.
* (إن هم إلا يخرصون) * أي يكذبون كما فسره به غير واحد، ويطلق الخرص على الحزر وهو شائع
72

بل قيل: إنه الأصل وعلى كل هو قول عن ظن وتخمين، وقوله تعالى:
* (أم ءاتين‍اهم كت‍ابا من قبله فهم به مستمسكون) *.
* (أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون) * إضراب عن نفي أن يكون لهم بذلك علم من طريق العقل إلى إبطال أن يكون لهم سند من جهة النقل؛ فأم منقطعة لا متصلة معادلة لقوله تعالى: * (أشهدوا) * كما قيل لبعده.
وضمير * (قبله) * للقرآن لعلمه من السياق أو الرسول عليه الصلاة والسلام، وسين مستمسكون للتأكيد لا للطلب أي بل أآتيناهم كتابا من قبل القرآن أو من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم ينطق بصحة ما يدعونه فهم بذلك الكتاب متمسكون وعليه معولون، وقوله جل وعلا:
* (بل قالوا إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا على ءاث‍ارهم مهتدون) *.
* (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) * إبطال لأن يكون لهم حجة أصلا أي لا حجة لهم على ذلك عقلية ولا نقلية وإنما جنحوا فيه إلى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم، والأمة الدين والطريقة التي تؤم أي كالرحلة للرجل العظيم الذي يقصد في المهمات يقال: فلان لا أمة له أي لا دين ولا نحلة، قال الشاعر: كنا على أم آبائنا * ويقتدي بالأول الآخر
وقال الجبائي: الأمة الجماعة والمراد وجدنا آباءنا متوافقين على ذلك، والجمهور على الأول وعليه المعول، ويقال فيها إمة بكسر الهمزة أيضا وبها قرأ عمر بن عبد العزيز. ومجاهد. وقتادة. والجحدري.
وقرأ ابن عياش * (أمة) * بفتح الهمزة، قال في " البحر ": أي على قصد وحال، و * (على آثارهم مهتدون) * قيل خبر إن لأن، وقيل: على آثارهم صلة * (مهتدون) * ومهتدون هو الخبر، هذا وجعل الزمخشري الآية دليلا على أنه تعالى لم يشأ الكفر من الكافر وإنما شاء سبحانه الايمان، وكفر أهل السنة القائلين بأن المقدورات كلها بمشيئة الله تعالى، ووجه ذلك بأن الكفار لما ادعوا أنه تعالى شاء منهم الكفر حيث قالوا: * (لو شاء الرحمن) * الخ أي لو شاء جل جلاله منا أن نترك عبادة الأصنام تركناها رد * (الله) * تعالى ذلك عليهم وأبطل اعتقادهم بقوله سبحانه: * (ما لهم بذلك من علم) * (الزخرف: 20) الخ فلزم حقيقة خلافه وهو عين ما ذهب إليه، والجملة عطف على قوله تعالى: * (وجعلوا له من عباده جزأ) * (الزخرف: 15) أو على * (جعلوا الملائكة) * (الزخرف: 19) الخ فيكون ما تضمنته كفرا آخر ويلزمه كفر القائلين بأن الكل بمشيئته عز وجل، ومما سمعت يعلم رده، وقيل: في رده أيضا: يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أصل الدعوى وهو جعل الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا دون ما قصدوه من قولهم: * (لو شاء) * الخ وما ذكر بعد أصل الدعوى من تتمتها فإنه حكاية شبهتهم المزيفة لأن العبادة للملائكة وإن كانت بمشيئته تعالى لكن ذلك لا ينافي كونها من أقبح القبائح المنهي عنها وهذا خلاف الظاهر. وقال بعض الأجلة: إن كفرهم بذلك لأنهم قالواه على جهة الاستهزاء، ورده الزمخشري بأن السياق لا يدل على أنهم قالوه مستهزئين؛ على الله تعالى قد حكى عنهم على سبيل الذم والشهادة بالكفر أنهم جعلوا له سبحانه جزأ وأنه جل وعلا اتخذ بنات واصطفاهم بالبنين وأنهم جعلوا الملائكة المكرمين أناثا وأنهم عبدوهم وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم فلو كانوا ناطقين بها على طريق الهزء لكان النطق بالمحكيات قبل هذا المحكي الذي هو إيمان عنده لوجدوا بالنطق به مدحا لهم من قبل أنها كلمات كفر نطقوا بها على طريق الهزء فبقي أن يكونوا
73

جادين ويشترك كلها في أنها كلمات كفر، فإن جعلوا الأخير وحده مقولا على وجه الهزء دون ما قبله فما بهم إلا تعويج كتاب الله تعالى ولو كانت هذه كلمة حق نطقوا بها هزأ لم يكن لقوله سبحانه: * (ما لهم بذلك من علم) * الخ معنى لأن الواجب فيمن تكلم بالحق استهزاء أن ينكر عليه استهزاؤه ولا يكذب، ولا يخفى أن رده بأنه لا يدل عليه السياق صحيح، وأما ما ذكر من حكاية الله سبحانه والتعويج فلا لأنه تعالى ما حكى عنهم قولا أولا بل أثبت لهم اعتقادا يتضمن قولا أو فعلا وقد بين أنهم مستخفون في ذلك العقد كما أنهم مستخفون في هذا القول فقوله: لو نطقوا الخ لا مدخل له في السابق وليس فيه تعويج البتة من هذا الوجه وكذلك قوله: لم يكن لقوله تعالى: * (ما لهم) * الخ معنى مردود لأن الاستهزاء باب من الجهل كما يدل عليه قول موسى عليه السلام * (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * وقد تقدم في البقرة، وأما الكذب فراجع إلى مضمونه والمراد منه كما سمعت فمن قال لا إله إلا الله استهزاء مكذب فيما يلزم من أنه اخبار عن إثبات التعدد لأنه إخبار عن التوحيد فافهم كذا في " الكشف ".
وفيه أيضا أن قولهم: * (لو شاء الرحمان) * الخ فهم منه كونه كفرا من أوجه. أحدها: أنه اعتذار عن عبادتهم الملائكة عليهم السلام التي هي كفر وإلزام أنه إذا كان بمشيئته تعالى لم يكن منكرا.
والثاني: أن الكفر والايمان بتصديق ما هو مضطر إلى العلم بثبوته بديهة أو استدلالا متعلقا بالمبدأ والمعاد وتكذيبه لا بإيقاع الفعل على وفق المشيئة وعدمه.
والثالث: أنهم دفعوا قول الرسل بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة غيره سبحانه بهذه المقالة ثم أنهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى شأنه فقد شاء إرسال الرسل وشاء دعوتهم للعباد وشاء سبحانه جحودهم وشاء جل وعلا دخولهم النار فالإنكار والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل مجازفة، وإليه الإشارة بقوله تعالى في مثله: * (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) * (الأنعام: 149) وفيه أنهم يعجزون الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة وضد المأمور به فيلزم أن لا يريد إلا ما أمر سبحانه به ولا ينهى جل شأنه إلا وهو سبحانه لا يريده وهذا تعجيز من وجهين. إخراج بعض المقدورات عن أن يصير محلها وتضييق محل أمره ونهيه؛ وهذا بعينه مذهب إخوانهم من القدرية؛ ولهذه النكتة جعل قولهم: * (وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم) * (الزخرف: 20) معتمد الكلام ولم يقل: وعبدوا الملائكة وقالوا: لو شاء ونظير قولهم في أنه إنما أتى به لدفع ما علم ضرورة قوله تعالى: * (لو شاء ربنا لأنزل ملائكة) * (فصلت: 14) فالدفع كفر والتعجيز كفر في كفر، وقوله تعالى: * (ما لهم بذلك من علم) * (الزخرف: 20) يحتمل أن يرجع إلى جميع ما سبق من قوله تعالى: * (وجعلوا له من عباده) * (الزخرف: 15) إلى هذا المقام ويحتمل أن يرجع إلى الأخير فقد ثبت أنهم قالوه من غير علم وهو الأظهر للقرب وتعقيب كل بإنكار مستقل وطباقه لما في الأنعام، وقوله سبحانه: * (أن هم إلا يخرصون) * على هذا التكذيب المفهوم منه راجع إلى استنتاج المقصود من هذه اللزومية فقد سبق أنها عليهم لا لهم ولوح إلى طرف منه في سورة الأنعام أو إلى الحكم بامتناع الانفكاك مع تجويز الحاكم الانفكاك حال حكمه فإن ذلك يدل على كذبه وإن كان ذلك الحكم في نفسه حقا صحيحا يحق أن يعلم كما تقول زيد قائم قطعا أو البتة وعندك احتمال نقيضه.
وليس هذا رجوعا إلى مذهب من جعل الصدق بطباقه للمعتقد فافهم، على أنه لما كان اعتذارا على ما مر صح أن يرجع التكذيب إلى أنه لا يصلح اعتذارا أي أنهم كاذبون في أن المشيئة تقتضي طباق الأمر لها، وهذا ما آثره
74

الإمام. والعلامة. والقاضي، والظاهر ما قدمناه. وتعقيب الخرص على وجه البيان أو الاستئناف عن قوله تعالى: * (ما لهم بذلك من علم) * (الزخرف: 20) وقوله تعالى: * (إن يتبعون إلا الظن) * في سورة (الأنعام: 6) دليل على ما أشرنا فقد لاح للمسترشد أن الآية تصلح حجة لأهل السنة لا للمعتزلة؛ وقال في آية سورة الأنعام: إن قولهم هذا إما لدعوى المشروعية ردا للرسل أو لتسليم أنهم على الباطل اعتذارا بأنهم مجبورون، والأول باطل لأن المشيئة تتعلق بفعلهم المشروع وغيره فما شاء الله تعالى أن يقع منهم مشروعا وقع كذلك وما شاء الله تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك.
ولا شك أن من توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية وظاهر الآية مسوق لهذا المعنى، والثاني على ما فيه من حصول المقصود وهو الاعتراف بالبطلان باطل أيضا إذ لا جبر لأن المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختيارا منهم والعلم تعلق كذلك فهو يؤكد دفع القدر لا أنه يحققه وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (قل فلله الحجة البالغة) * (الأنعام: 149) ثم إنهم كاذبون في هذا القول لجزمهم حيث لا ظن مطلقا فضلا عن العلم وذلك لأن من المعلوم أن العلم بصفات الله سبحانه فرع العلم بذاته جل وعلا والايمان بها كذلك والمحتجون به كفرة مشركون مجسمون، ونقل العلامة الطيبي نحوا من الكلام الأخير عن إمام الحرمين عليه الرحمة في الإرشاد اه‍.
وقد أطال الأعلام الكلام في هذا المقام وأرى الرجل سقى الله تعالى مرقده صهيب الرضوان قد مخض كل ذلك وأتى بزبده بل لم يترك من التحقيق شيئا لمن أتى من بعده فتأمل والله عز وجل هو الموفق.
* (وكذلك مآ أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا على ءاث‍ارهم مقتدون) *.
* (وكذالك) * أي والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة مطلقا وتشبثهم بذيل التقليد، وقوله سبحانه:
* (ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إن وجدنا آباءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مقتدون) * استئناف مبين لذلك دال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم لأسلافهم وأن متقدميهم أيضا لم يكن لهم سند منظور إليه وتخصيص المترفين بتلك المقالة للإيذان بأن التنعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد.
* (قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءابآءكم قالوا إنا بمآ أرسلتم به ك‍افرون) *.
* (قال) * حكاية لما جرى بين المنذرين وبين أممهم عند تعللهم بتقليد آبائهم أي قال: كل نذير من أولئك المنذرين لأمته * (أو لو جئتكم) * أي أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم * (بأهدى) * بدين أهدى * (مما وجدتم عليه ءاباءكم) * من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء، وإنما عبر عنها بذلك مجاراة معهم على مسل الانصاف.
وقرأ الأكثرون * (قل) * على أنه حكاية أمر ماض أوحى إلى كل نذير أي فقيل أو قلنا للنذير قل الخ، واستظهر في " البحر " كونه خطابا لنبينا صلى الله عليه وسلم، والظاهر هو ما تقدم لقوله تعالى:
* (قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) * فإنه ظاهر جدا في أنه حكاية عن الأمم السالفة أي قال كل أمة لنذيرها إنا بماأرسلتم به الخ وقد أجمل عند الحكاية للإيجاز كما قرر في قوله تعالى: * (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) * (المؤمنون: 51).
وجعله حكاية عن قومه عليه الصلاة والسلام بحمل صيغة الجمع على تغليبه صلى الله عليه وسلم على سائر المنذرين وتوجيه كفرهم إلى ما أرسل به الكل من التوحيد لإجمالعهم عليهم السلام عليه كما في نحو قوله تعالى: * (كذبت عاد المرسلين) * تمحل بعيد، وأيضا يأباه ظاهر قوله سبحانه:
* (فانتقمنا منهم فانظر كيف كان ع‍اقبة المكذبين) *.
* (فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) *
75

فإن ظاهره كون الانتقام بعذاب الاستئصال وصاحب البحر يحمله على الانتقام بالقحط والقتل والسبي والجلاء.
وقرأ أبي. وأبو جعفر. وشيبة. وابن مقسم. والزعفراني. وغيرهم * (أو لو جئناكم) * بنون المتكلمين وهي تؤيد ما ذهبنا إليه والأمر بالنظر فيما انتهى إليه حال المكذبين تسلية له صلى الله عليه وسلم وإرشاد إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه إياه عليه الصلاة والسلام.
* (وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إننى برآء مما تعبدون) *.
* (وإذ قال إبراهيم) * أي واذكر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام * (لأبيه) * آزر * (وقومه) * المكبين على التقليد كيف تبرأ مما هم فيه بقوله:
* (إنني براء مما تعبدون) * وتمسك بالبرهان، والكلام تمهيد لما أهل مكة فيه من العناد والجسد والإباء عن تدبر الآيات وأنهم لو قلدوا آباءهم لكان الأولى أن يقلدوا آباهم الأفضل الأعلم الذي هم يفتخرون بالانتماء إليه وهو إبراهيم عليه السلام فكأنه بعد تعييرهم على التقليد ويعيرهم على أنهم مسيئون في ترك اختياره أيضا.
وبراء مصدر كالطلاق نعت به مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث.
وقرأ الزعفراني. والقورصي عن أبي جعفر. وابن المنذري. عن نافع * (براء) * بضم الباء وهو اسم مفرد كطول وكرام بضم الكاف، وقرأ الأعمش * (بري) * وهو وصف كطويل وكريم وقراءة العامة لغة العالية وهذه لغة نجد.
وقرأ الأعمش أيضا * (إني) * بنون مشددة دون نون الوقاية.
* (إلا الذى فطرنى فإنه سيهدين) *.
* (إلا الذي فطرني) * استثناء متصل إن قلنا إن ما عامة لذوي العلم وغيرهم وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام وليس هذا من الجمع بين الله تعالى وغيره سبحانه الذي يجب اجتنابه لما فيه من إيهام التسوية بينه سبحانه وبين غيره جل وعلا لظهور ما يدل على خلاف ذلك في الكلام أو منقطع بناء على أن ما مختصة بغير ذوي العلم وأنه لا يناسب التغليب أصلا وأنهم لم يكونوا يعبدونه تعالى أو أنهم كانوا يعبدونه عز وجل إلا أن عبادته سبحانه مع الشرك في حكم العدم، وعلى الوجهين محل الموصول النصب، وأجاز الزمخشري أن يكون في محل جر على أنه بدل من ما المجرور، بمن، وفيه بحث لأنه يصير استثناء من الموجب ولم يجوزوا فيه البدل، ووجهه أنه في معنى النفي لأن معنى * (إنني براء مما تعبدون) * لا أعبد ما تعبدون فهو نظير قوله تعالى: * (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) * (التوبة: 32) إلا أن ذلك في المفرغ وهذا فيما ذكر فيه المستثنى منه وهم لا يخصونه بالمفرغ ولا بألفاظ مخصوصة أيضا كأبي وقلما، نعم إن أبا حيان يأبى إلا أنه موجب ولا يعتبر النفي معنى، وأجاز أيضا أن تكون * (إلا) * صفة بمعنى غير على أن * (ما) * في ما * (تبعدون) * نكرة موصوفة والتقدير إنني براءة من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني نظير قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) واعتبار ما نكرة موصوفة بناء على أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة وكذا اعتبارها بمعنى الجمع بناء على اشتراط كون النكرة الموصوفة بها كذلك، والمسألة خلافية، فمن النحويين من قال إن إلا يوصف بها المعرفة والنكرة مطلقا وعليه لا يحتاج إلى اعتبار كون ما نكرة بمعنى آلهة، وفي جعل الصلة * (فطرني) * تنبيه على أنه لا يستحق العبادة إلا الخالق للعابد * (فإنه سيهدين) * يثبتني على الهداية فالسين للتأكيد لا للاستقبال لأنه جاء في الشعراء يهدين بدونها والقصة واحدة، والمضارع في الموضعين للاستمرار، وقيل: المراد * (سيهدين) * إلى وراء ما هداني إليه أولا فالسين على ظاهرها والتغاير في الحكاية والمحكي بناء على تكرر القصة * (وجعلها) * الضمير المرفوع المستتر لإبراهيم عليه السلام أو لله عز وجل والضمير المنصوب لكلمة التوحيد أعني لا إله
76

إلا الله كما روى عن قتادة. ومجاهد. والسدي ويشعر بها قوله: * (إنني براء مما تعبدون) * (الزخرف: 26) الخ، وجوز أن يعود على هذا القول نفسه وهو أيضا كلمة لغة.
* (وجعلها كلمة باقية فى عقبه لعلهم يرجعون) *.
* (كلمة باقية في عقبه) * في ذريته عليه السلام فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده عز وجل.
وقرأ حميد بن قيس * (كلمة) * بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة فيها، وقرىء * (في عقبه) * بسكون القاف تخفيفا و * (في عاقبه) * أي من عقبه أي خلفه ومنه تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بالعاقب لأنه آخر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
* (لعلهم يرجعون) * تعليل للجعل أي جعلها باقية في عقبه كي يرجع من أشرك منهم بدعاء من وحد أو بسبب بقائها فهيم، والضميران للعقب وهو بمعنى الجمع، والأكثرون على أن الكلام بتقدير مضاف أي لعل مشركيهم أو الإسناد من إسناد ما للبعض إلى الكل وأولوا لعل بناء على أن الترجي من الله سبحانه وهو لا يصح في حقه تعالى أو منه عليه السلام لكنه من الأنبياء في حكم المتحقق ويجوز ترك التأويل كما لا يخفى بل هو الأظهر إذا كان ذاك من إبراهيم عليه السلام.
* (بل متعت ه‍اؤلاء وءابآءهم حتى جآءهم الحق ورسول مبين) *.
* (بل متعت ه‍اؤلاء) * أي أهل مكة المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم * (وءاباءهم) * بالمد في العمر والنعمة * (حتى جاءهم الحق) * دعوة التوحيد أو القرآن * (ورسول مبين) * ظاهر الرسالة بما له من المعجزات الباهرات أو مبين للتوحيد بالآيات البينات والحجج القاطعات، والمراد بالتمتيع ما هو سبب له من استمتاعهم بما متعوا واشتغالهم بذلك عن شكر المنعم وطاعته والغاية لذلك فكأنه قيل اشتغلوا حتى جاء الحق وهي غاية له في نفس الأمر لأن مجيء الرسول مما ينبه عن سنة الغفلة ويزجر عن الاشتغال بالملاذ لكنهم عكسوا فجعلوا ما هو سبب للتنصل سببا للتوغل فهو على أسلوب قوله تعالى: * (لم يكن الذين كفروا) * إلى قوله سبحانه
: * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) * (البينة: 4)، و * (بل متعت) * إضراب عن قوله جل شأنه * (لعلهم يرجعون) * كأنه قيل بل متعت مشركي مكة وأشغلتهم بالملاهي والملاذ فاشتغلوا فلمن يرجعوا أو فلم يحصل ما رجاه من رجوعهم عن الشرك، وهو في الحقيقة إضراب عن التمهيد الذي يمعت وشروع في المقصود ما رجاه من رجوعهم عن الشرك، وهو في الحقيقة إضراب عن التمهيد الذي سمعت وشروع في المقصود لكن روعي فيه المناسبة بما قرب من جملة الإضراب أعني * (لعلهم يجرعون) * وفي " الحواشي الشهابية " أنه إضراب عن قوله تعالى: * (وجعلها) * الخ أي لم يرجعوا فلم أعاجلهم بالعقوبة بل أعطيتهم نعما أخر غير الكلمة الباقية لأجل أن يشكروا منعمها ويوحدوه فلم يفعلوا بل زاد طغيانهم لاغترارهم أو التقدير ما اكتفيت في هدايتهم بجعل الكلمة باقية فيهم بل متعتهم وأرسلت رسولا وقرأ قتادة. والأعمش * (بل متعت) * بتاء الخطاب ورواها يعقوب عن نافع وهو من كلامه تعالى على سبيل التجريد لا الالتفات وإن قيل به في مثله أيضا كأنه تعالى اعترض بذلك على نفسه جل شأنه في قوله سبحانه: * (وجعلها) * الخ لا لتقبيح فعله سبحانه بل لقصد زيادة توبيخ المشركين كما إذا قال المحسن على من أساء مخاطبا لنفسه. أنت الداعي لاساءته بالإحسان إليه ورعايته فيبرز كلامه في صورة من يعترض على نفسه ويوبخها حتى كأنه مستحق لذلك، وفي ذلك من توبيخ المسيء ما فيه، وقال " صاحب اللوامح ": هو من كلام إبراهيم عليه السلام ومناجاته عز وجل، وقال في " البحر ": الظاهر أنه من مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم على معنى قل يا رب متعت، والأول أولى وهو الموافق للأصل المشهور، وقرأ الأعمش * (متعنا) * بنون العظمة.
* (ولما جآءهم الحق قالوا ه‍اذا سحر وإنا به ك‍افرون) *.
* (ولما جاءهم الحق) * لينبههم عما هم فيه من الغفلة ويرشدهم إلى التوحيد * (قالوا ه‍اذا سحر وإنا به كافرون) *
77

زادوا شرارة فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستحقاق به فسموا القرآن سحرا وكفروا به واستحقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* (وقالوا لولا نزل ه‍اذا القرءان على رجل من القريتين عظيم) *.
* (وقالوا لولا نزيل ه‍اذا القرءان على رجل من القريتين) * أي من إحدى القريتين مكة والطائف أو من رجالهما فمن ابتدائية أو تبعيضية، وقرىء * (رجل) * بسكون الجيم * (عظيم) * بالجاه والمال قال ابن عباس: الذي من مكة الوليد بن المغيرة المخزومي والذي من الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، وقال مجاهد: عتبة بن ربيعة وكنانة بن عبد ياليل، وقال قتادة: الوليد بن المغيرة. وعروة بن مسعود الثقفي، وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش وكان يقول: لو كان ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم حقا لنزل على أو على أبي مسعود يعني عروة بن مسعود وكان يكنى بذلك، وهذا باب آخر من إنكارهم للنبوة وذلك أنهم أنكروا أولا أن يكون النبي بشرا ثم لما بكتوا بتكرير الحجج ولم يبق عندهم تصور رواج لذلك جاؤا بالإنكار من وجه آخر فتحكموا على الله سبحانه أن يكون الرسول أحد هذين وقولهم هذا القرآن ذكر له على وجه الاستهانة لأنهم لم يقولوا هذه المقالة تسليما بل إنكارا كأنه قيل: هذا الكذب الذي يدعيه لو كان حقا لكان الحقيق به رجل من القريتين عظيم وهذا منهم لجهلهم بأن رتبة الرسالة إنما تستدعي عظيم النفس بالتخلي عن الرذائل الدنية والتحلي بالكمالات والفضائل القدسية دون التزخرف بالزخارف الدنيوية، وقوله تعالى:
* (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحيواة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درج‍ات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون) *.
* (أهم يقسمون رحمت ربك) * إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم بنزول القرآن العظيم على من أرادوا، والرحمة يجوز أن يكون المراد بها ظاهرها وهو ظاهر كلام البحر ونزل تعيينهم لمن ينزل عليه الوحي منزلة التقسيم لها وتدخل النبوة فيها، ويجوز أن يكون المراد بها النبوة وهو الأنسب لما قبل وعليه أكثر المفسرين، وفي إضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه عليه الصلاة والسلام ما فيه، وفي إضافة الرحمة إلى الرب إشارة إلى أنها من فات الربوبية * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم) * أسباب معيشتهم.
وقرأ عبد الله. وابن عباس. والأعمش. وسفيان * (معايشهم) * على الجمع * (في الحياة الدنيا) * قسمة تقتضيها مشيئتنا المبنية على الحكم والمصالح ولم نفوض أمرها إليهم علما منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية وإطلاق المعيشة يقتضي أن يكون حلالها وحرامها من الله تعالى: * (ورفعنا بعضهم فوق بعض) * في الرزق وسائر مبادي المعاش * (درجات) * متفاوتة بحسب القرب والبعد حسبما تقتضيه الحكمة فمن ضعيف وقوي وغني وفقير وخادم ومخدوم وحاكم ومحكوم * (ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) * ليستعمل بعضهم بعضا في مصالحهم ويستخدموهم في مهنهم ويسخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى مرافقهم لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المقتر عليه ولو فوضنا ذلك إلى تدبيرهم لضاعوا وهلكوا فإذا كانوا في تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم من متاع الدنيا وهو على طرف التمام بهذه الحالة فما ظنهم بأنفسهم في تدبير أمر الدين وهو أبعد من مناط العيوق ومن أين لهم البحث عن أمر النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بأمرها، والسخري على ما سمعت نسبة إلى السخرة وهي التذليل والتكليف، وقال الراغب: السخري هو الذي يقهر أن يتسخر بإرادته، وزعم بعضهم أنه هنا من السخر بمعنى الهزء أي ليهزأ الغني بالفقير واستبعده أبو حيان، وقال السمين: إنه غير مناسب للمقام.
وقرأ عمرو بن ميمون. وابن محيصن: وابن أبي ليلى. وأبو رجاء. والوليد بن مسلم * (سخريا) * بكسر السين والمراد به ما ذكرنا أيضا، وفي قوله تعالى: * (نحن قسمنا) * الخ ما يزهد في الانكباب على طلب الدنيا ويعين على التوكل
78

على الله عز وجل والانقطاع إليه جل جلاله. فاعتبر نحن قسمنا بينهم * تلقه حقا وبالحق نزل
* (ورحمت ربك) * أي النبوة وما يتبعها من سعادة الدارين، وقيل: الهداية والايمان، وقال قتادة. والسدي: الجنة * (خير مما يجمعون) * من حطام الدنيا الدنية
فالعظيم من رزق تلك الرحمة دون ذلك الحطام الدنىء الفاني.
* (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحم‍ان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون) *.
* (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحم‍ان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون) * استئناف مبين لحقارة متاع الدنيا ودناءة قدره عند الله عز وجل، والمعنى أن حقارة شأنه بحيث لولا كراهة أن يجتمع الناس على الكفر ويطبقوا عليه لأعطيناه على أتم وجه من هو شر الخلائق وأدناهم منزلة، فكراهة الاجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع كل كافر والبسط عليه لا أن المانع كون متاع الدنيا له قدر عندنا، والكراهة المذكورة هي وجه الحكمة في ترك تنعيم كل كافر وبسط الرزق عليه فلا محذور في تقديرها؛ وليس ذلك مبنيا على وجوب رعاية المصلحة وإرادة الايمان من الخلق ليكون اعتزالا كما ظن. وكأن وجه كون البسط على الكفار سببا للاجتماع على الكفر مزيد حب الناس للدنيا فإذا رأوا ذلك كفروا لينالوها، وهذا على معنى أن الله تعالى شأنه علم أنه لو فعل ذلك لدعا الناس إذ ذاك حبهم للدنيا إلى الكفر، فلا يقال: إن كثيرا من الناس اليوم يتحقق الغنى التام لو كفر ولا يكفر ولو أكره عليه بالقتل، وكون المراد بالأمر الواحد الذي يقتضيه كونهم أمة واحدة فإنه بمعنى اجتماعهم على أمر واحد الكفر بقرينة الجواب، و * (لبيوتهم) * بدل اشتمال من قوله تعالى: * (لمن يكفر) * واللام فيهما للاختصاص أو هما متعلقان بالفعل لا على البدلية ولام لمن صلة الفعل لتعديه باللام فهو بمنزلة المفعول به ولام * (لبيوتهم) * للتعليل فهو بمنزلة المفعول له، ويجوز أن تكون الأولى للملك والثانية للاختصاص كما في قولك: وهبت الحبل لزيد لدابته وإليه ذهب ابن عطية، ولا يجوز على تقدير اختلاف اللامين معنى البدلية إذ مقتضى إعادة العامل في البدل الاتحاد في المعنى وإلى هذا ذهب أبو حيان، وقال الخفاجي: لا مانع من أن يبدل المجموع من المجموع بدون اعتبار إعادة، والسقف جمع سقف كرهن جمع رهن، وعن الفراء أنه جمع سقيفة كسفن جمع سفينة، والمعارج جمع معرج وو عطف على * (سقفا) * أي ولجعلنا لهم مصاعد عليها يعلون السطوح والعلالي وكأن المراد معارج من فضة بناء على أن العطف ظاهر في التشريك في القيد وإن تقدم، وقال أبو حيان: لا يتعين ذلك، وقرأ أبو رجاء * (سقفا) * بضم السين وسكون القاف تخفيفا وفي " البحر " هي لغة تميم.
وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو بفتح السين والسكون على الأفراد لأنهم اسم جنس يطلق على الواحد وما فوقه وهو المراد بقرينة البيوت؛ وقرىء بفتح السين والقاف وهي لغة في سقف وليس ذلك تحريك ساكن لأنه لا وجه له.
وقرىء * (سقوفا) * وهو جمع سقف كفلوس جمع فلس، وقرأ طلحة * (معاريج) *.
* (ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون) *.
* (ولبيوتهم) * أي ولجعلنا لبيوتهم، وتكرير ذكر بيوتهم لزيادة التقرير ولأنه ابتداء أية * (أبوابا وسررا) * أي من فضة على ما سمعت، وقرىء * (سررا) * بفتح السين والراء وهي لغة لبني تميم وبعض كلب وذلك في جمع فعيل المضعف إذا كان اسما باتفاق وصفة نحو ثوب جديد وثياب جدد باختلاف بين النحاة * (عليها) * أي على السرر * (يتكئون) *
79

كما هو شأن الملوك لا يهمهم شيء.
* (وزخرفا وإن كل ذلك لما مت‍اع الحيواة الدنيا والاخرة عند ربك للمتقين) *.
* (وزخرفا) * قال الحسن: أي نقوشا وتزاويق، وقال ابن زيد: الزخرف أثاث البيت وتجملاته وهو عليهما عطف على * (سقفا) *، وقال ابن عباس. وقتادة. والشعبي. والسدي. والحسن أيضا في رواية الزخرف الذهب، وأكثر اللغويين ذكروا له معنيين هذا والزينة فقيل الظاهر أنه حقيقة فيهما، وقيل: إنه حقيقة في الزينة ولكون كمالها بالذهب استعمل فيه أيضا، ويشير إليه كلام الراغب قال: الزخرف الزينة المزوقة ومه قيل للذهب زخرف، وفي " البحر " جاء في الحديث إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان، وقال ابن عطية: الحسن أحمر والشهوات تتبعه؛ ولبعض شعراء المغرب: وصبغت درعك من دماء كماتم * لما رأيت الحسن يلبس أحمرا
وهو على هذا عطف على محل * (من فضة) * كأن الأصل سقفا من فضة وزخرف يعني بعضها من فضة وبعضها من ذهب فنصب عطفا على المحل، وجوز عطفه على * (سقفا) * * (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) * أي وما كل ما ذكر من البيوت الموصوفة بالصفات المفصلة إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا وفي معناه ما قرىء * (وما كل ذلك الامتاع الدنيا) * وقرأ الجمهور * (لما) * بفتح اللام والتخفيف على أن * (إن) * هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بين المخففة وغيرها وما زائدة أو موصولة بتقدير لما هو متاع كما في قوله تعالى: * (تماما على الذي أحسن) * في قراءة من رفع النون، وقرأ رجاء وفي التحرير أبو حيوة * (لما) * بكسر اللام والتخفيف على أن * (إن) * هي المخففة واللام حرف جر وما موصولة في محل جر بها والجار والمجرور في موضع الخبر لكل وصدر الصلة محذوف كما سمعت آنفا. أنا ابن أباة الضيم من آل مالك * وإن مالك كانت كرام المعادن
بل لا يجوز في البيت إدخال اللام كما لا يخفى على النحوي * (والآخرة) * أي بما فيها من فنون النعيم التي لا يحيط بها نطاق البيان * (عند ربك للمتقين) * خاصة لهم، والمراد بهم من اتقى الشرك، وقال غير واحد: من اتقى ذلك والمعاصي، وفي الآية من الدلالة على التزهيد في الدنيا وزينتها والتحريض على التقوى ما فهيا، وقد أخرج الترمذي وصححه. وابن ماجه عن سهل بن سعد قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء " وعن علي كرم الله تعالى وجهه الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم، هذا واستدل بعضهم بقوله تعالى: * (لبيوتهم سقفا) *
على أن السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو لأنه منسوب إلى البيت.
* (ومن يعش عن ذكر الرحم‍ان نقيض له شيطانا فهو له قرين) *.
* (ومن يعش) * أي يتعام ويعرض * (عن ذكر الرحمان) * وهو القرآن، وإضافته إلى الرحمن للإيذان بنزوله رحمة للعالمين، وجوز أن يكون مصدرا أضيف إلى المفعول أي من يعش عن أن يذكر الرحمن، وأن يكون مصدرا أضيف إلى الفاعل أي عن تذكير الرحمن عباده سبحانه، وقرأ يحيى بن سلام البصري * (يعش) * بفتح الشين كيرض أي يعم يقال: عشى كرضى إذا حصلت الآفة في بصره وعشا كغزا إذا نظر نظر العشي لعارض قال الحطيئة: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره * تجد خير نار عندها خير موقد
أي تنظر إليها نظر العشي لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء ولو لم يكن كذلك لم يكن لكلمة
80

الغاية موقع وأظهر منه في المقصود قول حاتم: أعشو إذا ما جارتي برزت * حتى يواري جارتي الخدر
لأنه قيد بالوقت وأتى بالغاية وما هو خلقي لا يزول، وقال بعضهم: لم أر أحدا يجيز عشوت عنه إذا أعرضت وإنما يقال تعاشيت وتعاميت عن الشيء إذا تغافلت عنه كأنك لم تره ويقال: عشوت إلى النار إذا استدللت عليها ببصر ضعيف، وهو مما لا يلتفت إليه ومثله عشى وعشا عرج بكسر الراء لمن به الآفة وعرج بفتحها لمن مشى مشية العرجان من غير عرج على ما في الكشاف، وفيه خلاف لأهل اللغة ففي القاموس يقال: عرج أي بالفتح إذا أصابه شيء في رجله وليس بخلقه فإذا كان خلقة فعرج كفرح أو يثلث في غير الخلقة، وقرأ زيد بن علي * (يعشو) * بإثبات الواو وخرج ذلك الزمخشري على أن من موصولة لا شرطية جازمة، وجوز أن تكون شرطية والمدة إما للإشباع أو على لغة من يجزم المعتل الآخر بحذف الحركة على ما حكاه الأخفش، ووز كون الفعل مجزوما بحذف النون والواو ضمير الجمع، وقد روعي فيه معنى من، وتخريج الزمخشري مبني على الفصيح المطرد المتبادر.
* (نقيض له شيطانا) * أي نتح له شيطانا ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض وهو القشر الأعلى.
* (فهو له قرين) * دائما لا يفارقه ولا يزال يوسوسه ويغويه وهذا عقاب على الكفر بالختم وعدم الفلاح كما يقال: إن الله تعالى يعاقب على المعصية بمزيد اكتساب السيآت، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والسلمي. والأعمش ويعقوب. وأبو عمرو بخلاف عنه. وحماد عن عاصم. وعصمة عن الأعمش وعن عاصم. والعليمي عن أبي بكر * (يقيض) * بالياء على إسناده إلى ضمير * (الرحمن) *، وقرأ ابن عباس يقيض بالياء والبناء للمفعول * (شيطان) * بالرفع والفعل في جميع القراءات مجزوم ولم نسمع أنه قرىء بالرفع، وفي الكشاف حق من قرأ * (من يعشو) * بالواو أن يرفعه أي بناء على تخريجه ذلك على أن من موصولة، وجوز على ذلك أيضا أن يكون * (يقيض) * مرفوعا لكنه سكن تخفيفا.
وفي البحر يجوز أن تكون * (من) * موصولة وجزم * (نقيض) * تشبيها للموصول باسم الشرط وإذا كان ذلك مسموعا في الذي وهو لم يكن اسم شرط قط فالأولى أن يكون فيما استعمل موصولا لا وشرطا، قال الشاعر: لا تحفرن بئرا تريد اخا بها * فإنك فيها أنت من دونه تقع
كذاك الذي يبغي على الناس ظالما * تصبه على رغم عواقب ما صنع
انشدهما ابن الأعرابي وهو مذهب للكوفيين، وله وجه من القياس وهو أنه كما شبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره فكذلك يشبه به فينجزم الخبر إلا أن دخول الفاء منقاس إذا كان الخبر مسببا عن الصلة بشروطه المذكورة في النحو وهذا لا يقيسه البصريون.
* (وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) *.
* (وانهم) * أي الشياطين الذين قبض وقدر كل واحد منهم لكل واحد ممن يعشو * (ليصدونهم) * أي ليصدون قرناءهم وهم الكفار المعبر عنهم بمن يعش، وجمع ضمير الشيطان لأن المراد به الجنس، وجمع ضمير من رعاية لمعنى كما أفرد أولا رعاية للفظ. وفي الانتصاف أن في هذه الآية نكتتين بديعتين الأولى الدلالة على أن النكرة الواقعة في سياق الشرط تفيد العموم وهي مسألة أضطرب فيها الأصوليون وإمام الحرمين من القائلين بإفادتها العموم حتى استدرك على الأئمة اطلاقهم القول بأن النكرة في سياق الإثبات تخص، وقال إن الشرط يعم النكرة في سياقه تعم وقد رد عليه الفقيه أبو الحسن على
81

الأبياري شارح كتابه ردا عنيفا، وفي هذه الآية للإمام ومن قال بقوله كفاية، وذلك أن الشيطان ذكر فيها منكرا في سياق شرط ونحن نعلم أنه إنما أريد عموم الشياطين لا واحد لوجهين. أحدهما أنه قد ثبت أن لكل أحد شيطانا فكيف بالعاشي عن ذكر الله تعالى والآخر من الآية وهو أنه أعيد عليه الضمير مجموعا في قوله تعالى: * (وانهم) * فإنه عائد إلى الشيطان قولا واحدا ولولا إفادته عموم الشمول لما جاز عود ضمير الجمع عليه بلا اشكال، فهذه نكتة تجد عند سماعها المخالفي هذا الرأي سكتة. والنكتة الثانية أن فيها ردا على من زعم أن العود على معنى من يمنع من العود على لفظها بعد ذلك واحتج لذلك بأنه إجمال بعد تفسير، وهو خلاف المعهود من الفصاحة وقد نقض ذلك الكندي وغيره بآيات، واستخرج جدي من هذه الآية نقض ذلك أيضا لأنه أعيد الضمير على اللفظ في * (يعش. وله) * وعلى المعنى في * (ليصدونهم) * ثم على اللفظ في * (حتى إذا جاءنا) * (الزخرف: 38) وقد قدمت أن الذي منع قد يكون اقتصر بمنعه على مجيء ذلك في جملة واحدة وأما إذا تعددت الجمل واستقلت كل بنفسها فقد لا يمنع ذلك انتهى.
وفي كون ضمير * (أنهم) * عائدا على الشيطان قولا واحدا نظر، فقد قال أبو حيان: الظاهر أن ضمير النصب في * (أنهم ليصدونهم) * عائد على من على المعنى وهو أولى من عود ضمير * (إنهم) * على الشيطان كما ذهب إليه ابن عطية لتناسق الضمائر في * (أنهم) * ومن بعده فلا تغفل * (عن السبيل) * المستبين الذي
يدعو إليه ذكر الرحمن * (ويحسبون) * أي العاشون * (أنهم) * أي الشياطين * (مهتدون) * أي إلى ذلك السبيل الحق وإلا لما اتبعوهم أو يحسب العاشون ان أنفسهم مهتدون فإن اعتقاد كون الشياطين مهتدين مستلزم لاعتقاد كونهم كذلك لاتحاد مسلكهما.
والظاهر أن أبا حيان يختار هذا الوجه للتناسق أيضا، والجملة حال من مفعول * (يصدون) * بتقدير المبتدأ أو من فاعله أو منهما لاشتهمالها على ضميريهما أي وأنهم ليصدونهم عن الطريق الحق وهم يحسبون أنهم مهتدون إليه.
وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجددي لقوله تعالى:
* (حتى إذا جآءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) *.
* (حتى إذا جاءنا) * فإن * (حتى) * وإن كانت ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية لكنها تقتضي حتما أن تكون غاية لأمر ممتد وأفرد الضمير في جاء وما بعده لما أن المراد حكاية مقالة كل واحد من العاشين لقرينه لتهويل الأمر وتفظيع الحال والمعنى يستمر أمر العاشين على ما ذكر حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينة يوم القيامة * (قال) * مخاطبا له: * (يا ليت بيني وبينك) * أي في الدنيا، وقيل: في الآخرة * (بعد المشرقين) * أي بعد كل منهما من الآخر، والمراد بهما المشرق والمغرب كما اختاره الزجاج والفراء وغيرهما لكن غلب المشرق على المغرب وثنيا كالموصلين للموصول والجزيرة وأضيف البعد إليهما، والأصل بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق وإنما اختصر هذا المبسوط لعدم الالباس إذ لا خفاء أنه لا يراد بعدهما من شيء واحد لأن البعد من احدهما قرب من الآخر ولأنهما متقابلان فبعد أحدهما من الآخر مثل في غاية البعد لا بعدهما عن شيء آخر، واشعار السياق بالمبالغة لا ينكر فلا لبس من هذا الوجه أيضا، وقال ابن السائب: لا تغليب، والمراد مشرق الشمس في أقصر يوم من السنة ومشرقها في أطول يوم منها * (فبئس القرين) * أي أنت، وقيل: أي هو على أنه من كلامه تعالى وهو كما ترى.
وقرأ أبو جعفر. وشيبة. وأبو بكر. والحرميان. وقتادة والزهري. والجحدري * (جاءانا) * على التثنية أي العاشي والقرين
82

وقوله تعالى:
* (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم فى العذاب مشتركون) *.
* (ولن ينفعكم) * الخ حكاية لما سيقال لهم حينئذ من جهة الله عز وجل توبيخا وتقريعا، وفاعل * (ينفعكم) * ضمير مستتر يعود على ما يفهم مما قبل أي لن ينفعكم هو أي تمنيكم لمباعدتهم أو الندم أو القول المذكور * (اليوم) * أي يوم القيامة * (إذ ظلمتم) * بدل من * (اليوم) * أي إذ تبين أنكم ظلمتم في الدنيا قاله غير واحد، وفسر ذلك بالتبين قيل لئلا يشكل جعله وهو ماض بدلا من * (اليوم) * وهو مستقبل لأن تبين كونهم ظالمين عند أنفسهم إنما يكون يوم القيامة فاليوم وزمان التبين متحدان وهذا كقوله: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
وأورد عليه أن السؤوال عائد لأن * (إذ) * ظرف لما مضى من الزمان ولا يخرج عن ذلك باعتبار التبين وتقصى بعضهم عن الاشكال لأن إذ قد تخرج من المضي إلى الاستقبال على ما ذهب إليه جماعة منهم ابن مالك محتجا بقوله تعالى: * (فسوف يعلمون * إذ الاغلال) * (غافر: 70، 71) وإلى الحال كما ذهب إليه بعضهم مجتجا بقوله سبحانه: * (ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه) * (يونس: 61) فلتكن هنا للاستقبال، وأهل العربية يضعفون دعوى خروجها من المضي.
وقال الجلبي: لعل الأظهر حملها على التعليل فيتعلق بالنفي، فقد قال سيبويه: إنها بمعنى التعليل حرف بمنزلة لام العلة، نعم أنكر الجمهور هذا القسم لكن إثبات سيبويه إياه يكفي حجة. فإن القول ما قالت حذام
وتعقب بأنه لا يكفي في تخريج كلام الله سبحانه إثبات سيبويه وحده مع إطباق جميع أئمة العربية على خلافه، وأيضا تعليل النفي بعد يبعده وقال أبو حيان: لا يجوز البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفا لما مضى من الزمان فإن جعلت لمطلق الوقت جاز، ولا يخفى أن ذلك مجاز فهل تكفي البدلية قرينة له فإن كفت فذاك، وقال ابن جنى: راجعت أبا علي في هذه المسألة يعني الإبدال المذكور مرارا وآخر ما تحصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله سبحانه وعلمه جل شأنه إذ لا يجري عليه عز وجل زمان فكأن * (إذ) * مستقبل أو * (اليوم) * ماض فصح ذلك، ورد بأن المعتبر حال الحكاية والكلام فيها وارد على ما تعارفه العرب ولولاه لسد باب النكات ولغت الاعتبارات في العبارات ومثله غني عن البيان، وقال أبو البقاء: التقدير بعد إذ ظلمتم فحذف المضاف لعلم به، وقال الحوفي: * (إذ) * متعلقة بما دل عليه المعنى كأنه قيل ولن ينفعكم اليوم اجتماعكم إذ ظلمتم مثلا.
ومن الناس من استشكل الآية من حيث أن فيها إعمال * (ينفعكم) * الدال على الاستقبال لاقترانه بلن في اليوم وهو الزمان الحاحضر وإذ وهو للزمان الماضي، وأجيب بأنه يدفع الثاني بما قدروه من التبين لأن تبين الحال يكون في الاستقبال والأول بأن * (اليوم) * تعريفه للعهد وهو يوم القيامة لا للحضور كتعيرف الآن وان كان نوعا منه.
وقيل: يدفع بأن الاستقبال بالنسبة إلى وقت الخطاب وهو بعض أوقات اليوم وهو كما ترى فتأمل ولا تغفل.
وقوله تعالى: * (أنكم في العذاب مشتركون) * تعليل لنفي النفع أي لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا.
وجوز أن يكون الفعل مسندا إليه أي لن ينفكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه لتعاونهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لشدته وعنائه وذلك أن كل واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته أو لن ينفعكم ذلك من حيث التأسي فإن المكروب يتأسى ويتروح بوجدان المشارك وهو الذي عنته الخنساء بقولها
: يذكرني طلوع الشمس صخرا * وأذكره بكل مغيب شمس
83

ولولا كثرة الباكين حولي * على اخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن * اعزى النفس عنه بالتأسي
فهؤلاء يؤسيهم اشتراكهم ولا يروحهم لعظم ما هم فيه أو لن ينفعكم ذلك من حيث التشفي أي لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكلم: * (ربنا آتهم ضعيفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا) * (الأحزاب: 68) وقولكم: * (فآتهم عذابا ضعفا من النار) * (الأعراف: 38) لتتشفوا بذلك، واعترض على الوجه الأول من هذه الأوجه الثلاثة بأن الانتفاع التعاون في تحمل أعباء العذاب ليس ما يخظر ببالهم حتى يرد عليهم بنفيه، وأجيب بأنه غير بعيد أن يخطر ذلك ببالهم لمكان المقارنة والصحبة والغريق يتشبث بالحشيش والظمآن يحسب السراب شرابا.
وقرأ ابن عامر * (إنكم) * بكسر الهمزة وهو تقوى ما ذكر أولا من إضمار الفاعل وتقدير اللام في أنكم معنى ولفظا لأنه لا يمكن أن يكون فاعلا فيتعين الإضمار، ولأن الجملة عليها تكون استئنافا تعليليا فيناسب تقدير اللام لتتوافق القراءتان، وقوله تعالى:
* (أفأنت تسمع الصم أو تهدى العمى ومن كان فى ضل‍ال مبين) *.
* (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي) * إنكار تعجيب من أن يكون صلى الله عليه وسلم هو الذي يقدر على هدايتهم وهم قد تمرنوا في الكفر واعتادوه واستغرقوا في الضلال بحيث صار ما بهم العشي عمي مقرونا بالصمم * (ومن كان في ضلال مبين) * عطف على العمي باعتبار تغاير الوصفين أعني العمي والضلال بحسب المفهوم وإن اتحدا مآلا، ومدار الإنكار هو التمكن والاستقرار في الضلال المفرط الذي لا يخفى لا توهم القصور منه عليه الصلاة والسلام ففيه رمز إلى أنه لا يقدر على ذلك إلا الله تعالى وحده بالقسر والالجاء وقد كان صلى الله عليه وسلم يبالغ في المجاهدة في دعاء قومه وهم لا يريدون إلا غيا وتعاميا عما يشاهدونه من شواهد النبوة وتصاما عما يسمعونه من بينات القرآن فنزلت * (أفأنت) * الخ * (فاما نذهبن بك) * فإن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم ونشفي بذلك صدرك وصدور المؤمنين.
* (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون) *.
* (فانا منهم منتقمون) * لا محالة في الدنيا والآخرة واقتصر بعضهم على عذاب الآخرة لقوله تعالى في آية أخرى: * (أو نتوفينك فالينا يرجعون) * (غافر: 77) والقرآن يفسر بعضه بعضا، وما ذكرنا أتم فائدة وأوفق باطلاق الانتقام، وأما تلك الآية فليس فيها ذكره، وما مزيدة للتأكيد وهي بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة.
* (أو نرينك الذى وعدن‍اهم فإنا عليهم مقتدرون) *.
* (أو نرينك الذي وعدناهم) * أي أو أردنا أن نريك العذاب الذي وعدناهم * (فانا عليهم مقتدرون) * بحيث لا مناص لهم من تحت ملكنا وقهرنا واعتبار الإرادة لأنها أنسب بذكر الاقتدار بعد، وفي التعبير بالوعد وهو سبحانه لا يخالف الميعاد إشارة إلى أنه هو الواقع، وهكذا كان إذا لم يفلت أحد من صناديدهم في بدر وغيرها إلا من تحصن بالإيمان، وقرىء * (نرينك) * بالنون الخفيفة.
* (فاستمسك بالذىأوحى إليك إنك على صراط مستقيم) *.
* (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) * تسلية له صلى الله عليه وسلم وأمر له عليه الصلاة والسلام أو لأمته بالدوام على التمسك بالآية والعمل بها، والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا كان أحد هذين الأمرين واقعا لا محالة فاستمسك بالذي أوحيناه إليك، وقوله تعالى: * (إنك) * الخ تعليل للاستمساك أو للأمر به.
84

وقرأ بعض قراء الشام * (أوحى) * بإسكان اللام، وقرأ الضحاك * (أوحى) * مبنيا للفاعل.
* (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تس‍الون) *.
* (وإنه) * أي ما أوحى إليك والمراد به القرآن * (لذكر) * لشرف عظيم * (لك ولقومك) * هم قريش على ما روي عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة. والسدى. وابن زيد.
وأخرج ابن عدي. وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور فإذا قالوا: لمن الملك بعدك أمسك فلم يجبهم بشيء لأنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * فكان صلى الله عليه وسلم بعد إذا سئل قال لقريش: فلا يجيبونه حتى قبلته الأنصار على ذلك.
وأخرج الطبراني. وابن مردويه. عن عدي بن حاتم قال: " كنت قاعدا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا إن الله تعالى علم ما في قلبي من حبي لقومي فبشرني فيهم فقال سبحانه: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * الآية فجعل الذكر والشرف لقومي في كتابه " الحديث، وفيه " فالحمد لله الذي جعل الصديق من قومي والشهيد من قومي إن الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة إلى أن قال عدى: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده قريش بخير قط إلا سره حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم وكان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يتلو هذه الآية * (وإنه لذكر لك ولقومك) * الخ، وقيل هم العرب مطلقا لما أن القرآن نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص منهم حتى يكون الشرف لقريش أكثر من غيرهم ثم لبني هاشم أكثر مما يكون لسائر قريش، وفي رواية عن قتادة هم من اتبعه صلى الله عليه وسلم من أمته.
وقال الحسن: هم الأمة والمعنى وإنه لتذكرة وموعظة لك ولأمتك، والأرجح عندي القول الأول.
* (وسوف تسئلون) * يوم القيامة عنه وعن قيامكم بحقوقه، وقال الحسن. والكلبي. والزجاج: تسألون عن شكر ما جعله الله تعالى لكم من الشرف، قيل إن هذه الآية تدل على أن الإنسان يرغب في الثناء الحسن والذكر الجميل إذ لو لم يكن ذلك مرغوبا فيه ما أمتن الله تعالى به على رسوله صلى الله عليه وسلم والذكر الجميل قائم مقام الحياة ولذا قيل ذكر الفتى عمره الثاني، وقال ابن دريد: وإنما المرء حديث بعده * فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقال آخر: إنما الدنيا محاسنها * طيب ما يبقى من الخبر
ويحكى أن الطاغية هلاكو سأل أصحابه من الملك؟ فقالوا: له أنت الذي دوخت البلاد وملكت الأرض وطاعتك الملوك وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن فقال لا الملك هذا الذي له أزيد من ستمائة سنة قد مات وهو يذكر على المآذن في كل يوم وليلة خمس مرات يريد محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* (واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحم‍ان ءالهة يعبدون) *.
* (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمان آلهة يعبدون) * أي هل حكمنا بعبادة غير الله سبحانه وهل جاءت في ملة من ملل المرسلين عليهم السلام والمراد الاستشهاد بإجماع المرسلين
85

على التوحيد والتنبيه على أنه ليس ببدع ابتدعه صلى الله عليه وسلم ويكذب ويعادي له، والكلام بتقدير مضاف أي واسأل أمم من أرسلنا أو على جعل سؤال الأمم بمنزلة سؤال المرسلين إليهم.
قال الفراء: هم إنما يخبرون عن كتب الرسل فإذا سألهم عليه الصلاة والسلام فكأنه سأل المرسلين عليهم السلام، وعلى الوجهين المسؤول الأمم، وروي ذلك عن الحسن. ومجاهد. وقتادة. والسدى. وعطاء وهو رواية عن ابن عباس أيضا.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال في بعض القراءات وأسأل من أرسلنا إليهم رسلنا قبلك.
وأخرج هو وسعيد بن منصور عن مجاهد قال: كان عبد الله يقرأ واسأل الذين ارسلنا إليهم قبلك من رسلنا، وعن ابن مسعود أنه قرأ وأسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبل مؤمني أهل الكتاب، وجعل بعضهم السؤال مجازا عن النظر والفحص عن ماللهم في سؤال الديار والاطلال ونحوها من قولهم: سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجني ثمارك.
وروي عن ابن عباس أيضا. وابن جبير. والزهري. وابن زيد أن الكلام على ظاهره وأنه عليه الصلاة والسلام قيل له ذلك ليلة الإسراء حين جمع له الأنبياء في البيت المقدس فامهم ولم يسألهم عليه الصلاة والسلام إذ لم يكن في شك. وفي بعض الآثار أن ميكال قال لجبريل عليهما السلام: هل سأل محمد صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: هو أعظم يقينا وأوثق إيمانا من أن يسأل. وتعقب هذا القول بأن المراد بهذا السؤال الزام المشركين وهم منكرون الاسراء، وللبحث فيه مجال، والخطاب على جميع ما سمعت لنبينا عليه الصلاة والسلام.
وفي البحر الذي يظهر أنه خطاب للسامع الذي يريد أن يفحص عن الديانات قيل له اسأل أيها الناظر أتباع الرسل أجاءت رسلهم بعبادة غير الله عز وجل فانهم يخبرونك أن ذلك لم يقع ولا يمكن أن يأتوا به ولعمري أنه خلاف الظاهر جدا، ومما يقضي منه العجب ما قيل: إن المعنى واسألني أو واسألنا عمن أرسلنا وعلق اسال فارتفع من وهو اسم استفهما على الابتداء وأرسلنا خبره والجملة في موضع نصب باسال بعد اسقاط الخافض كأن سؤاله من أرسلت يا رب قبلي من رسلك أجعلت في رسالته آلهة تعبد ثم ساق السؤال فحكى المعنى فرد الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: * (من قبلك) * انتهى، واسأل من قرأ أبا جاد أيرضى بهذا الكلام ويستحسن تفسير كلام الله تعالى المجيد بذلك:
* (ولقد أرسلنا موسى بااي‍اتنآ إلى فرعون وملايه فقال إنى رسول رب الع‍المين) *.
* (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) * متلبسا بها * (إلى فرعون وملائه) * أشراف قومه وخصوا بالذكر لأن غيرهم تبع * (فقال) * لهم * (إني رسول رب العالمين) * اليكم. وأريد باقتصاص ذلك تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبطال قولهم: * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31) لأن موسى عليه السلام مع عدم زخارف الدنيا لديه كان له مع فرعون وهو ملك جبار ما كان وقد أيده الله سبحانه بوحسه وما أنزل عليه، والاستشهاد بدعوته عليه السلام إلى التوحيد أثر ما أشير إليه من إجماع جميع الرسل عليهم السلام عليه ويعلم من ذلك وجه مناسبة الآيات لما قبلها، وقال أبو حيان: مناسبتها من وجهين: الأول أنه ذكر فيما قبل قول المشركين: * (لولا نزل) * الخ وفيه زعم أن العظم باجلاه والمال وأشير في هذه الآيات إلى أن مثل ذلك سبق إليه فرعون في قوله: * (أليس لي ملك مصر) * (الزخرف: 51) الخ فهو قدوتهم في ذلك وقد انتقم منه فكذلك ينتقم منهم، الثاني أنه سبحانه لما قال: * (واسأل) * الخ ذكر جل وعلا قصة موسى وعيسى عليهما السلام وهما أكثر اتباعا ممن سبق
86

من الأنبياء وكل جاء بالتوحيد فلم يكن فيما جاءا به إباحة اتخاذ آلهة من دون الله تعالى كما اتخذت قريش فناسب ذكر قصتهما الآية التي قبلها.
* (فلما جآءهم بااي‍اتنآ إذا هم منها يضحكون) *.
* (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون) * أي فاجأهم الضحك منها أي استهزؤا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها، وفي الكشاف جاز أن تجاب لما باذا المفاجاة لأن فعل المفاجأة مقدر معها وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجؤوا وقت ضحكهم، فالجواب عنده ذلك الفعل وهو العامل في لما، وقدر ماضيا
لأن المعروف في جوابها، وإذا مفعول به لا ظرف، وقال أبو حيان: لا نعلم نحو يا ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره فاجأ بل المذاهب فيها ثلاثة. الأول أنها حرف فلا تحتاج إلى عامل. الثاني أنها ظرف مكان فان صرح بعد الاسم بعدها بخبر له كان ذلك الخبر عاملا فيها نحو خرجت فإذا زيد قائم فقائم هو الناصب لها والتقدير خرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم. الثالث أنها ظرف زمان والعامل فيها الخبر أيضا كأنه قيل: ففي الزمان الذي خرجت فيه زيد قائم: وإذا لم يذكر بعد الاسم خبر أو ذكر اسم منصوب على الحال كانت إذا خبرا للمبتدأ: فإن كان جئة وقلنا: إذا ظرف مكان كان الأمر واضحا وإن قلنا ظرف زمان كان الكلام على حذف مضاف أي ففي الزمان حضور زيد ثم أن المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق بل يدل على أنها تكون من الكلام التي هي فيه تقول خرجت فإذا الأسد فالمعنى ففاجأتي الأسد دون ففاجأت الأسد انتهى، وقال الخفاجي ما قيل إن نصبها بفعل المفاجأة المقدر هكذا لم يقله أحد من النحاة لا يلتفت إليه وتفصيله في شورح المغني.
* (وما نريهم من ءاية إلا هى أكبر من أختها وأخذن‍اهم بالعذاب لعلهم يرجعون) *.
* (وما نريهم من ءاية) * من الآيات:
* (الا هي أكبر من أختها) * أي من أية مثلها في كونها آية دالة على النبوة واستشكل بأنه يلزم كون كل واحدة من الآيات فاضلة ومفضولة معا وهو يؤدي إلى التناقض وتفضيل الشيء على نفسه لعموم آية في النفي، وأجيب بأن الغرض من هذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر لا يكدن يتفاوتن فيه على معنى أن كل واحدة لكمالها في نفسها إذا نظر إليها قيل هي أكبر من البواقي لاستقلالها لإفادة المقصود على التمام كما قال الحماسي: من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم * مثل النجوم التي يسري بها الساري
وإذا لوحظ الكل توقف عن التفضيل بينهن، ولقد فاضلت فاطمة بنت خرشب الأنمارية بين أولادها الكملة ربيعة الحفاظ. وعمارة الوهاب. وأنس الفوارس ثم قال: أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت ثكلتهم أن كنت أعلم أيهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها، وقال بعض الأجلة: المراد بأفعل الزيادة من وجه أي ما نريهم من آية الاهي مختصة بنوع من الاعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار، ولا ضير في كون الشيء الواحد فاضلا ومفضولا باعتبارين، وقد أطال الكلام في ذلك جلال الدين الدواني في حواشيه على الشرح الجديد للتجريد فليراجع ذلك من أراده، وفي البحر قيل: كانت آياته عليه السلام من كبار الآيات وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها فعلى هذا يكون ثم صفة محذوفة أي من أختها السابقة عليها ولا يبقى في الكلام تعارض، ولا كيون ذلك الحكم في الآية الأولى لأنه لم يسبقها شيء فتكون أكبر منه، وذكر بعضهم في الأكبرية أن الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما منضما إلى علم الأولى فيزداد الرجوع انتهى، والأولى ما تقدم لشيوع ارادة ذلك المعنى من مثل هذا التركيب * (وأخذناهم بالعذاب) * كالسنين والجراد والقمل وغيرها:
87

* (لعلهم يرجعون) * لكي يرجعوا ويتوبوا عما هم عليه من الكفر.
* (وقالوا ياأيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون) *.
* (وقالوا يا أيه الساحر) * قال الجمهور: وهو خطاب تعظيم فقد كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لاستعظامهم على السحر، وحكاه في مجمع البيان عن الكلبي. والجبائي، وقيل: المعنى يا غالب السحرة من ساحره فسحره كخاصمه فخصمه فهو خطاب تعظيم أيضا، وقيل: الساحر على المعنى المعروف فيه وقد تعودوا دعاءه عليه السلام بذلك قبل، ومقتضى مقام طلب الدعاء منه عليه السلام أن لا يدعوه به إلا أنهم فرط حسرتهم سبق لسانهم إلى ما تعودوا به، وقيل: هو خطاب استهزاء وانتقاص دعاهم إليه شدة شكيمتهم ومزيد حماقتهم وروي ذلك عن الحسن.
ودفع الزمخشري المنافاة بين هذا الخطاب وقولهم الآتي: " أننا لمهتدون " بأن ذلك القول وعد منوى إخلافه وعهد معزوم على نكثه معلق بشرط أن يدعو لهم وينكشف عنهم العذاب وفيه أن الوعد وإن كان منوى الاخلاف لكن إظهار الاخلاف حال التضرع إليه عليه السلام ينافيه لأنهم في استلانة قلبه عليه السلام.
وقيل الأظهر أنهم قالوا يا موسى كما في الأعراف لكن حكى الله تعالى كلامهم هنا على حسب حالهم ووفق ما في قلوبهم تقبيحا لذلك وتسلية لحبيه صلى الله عليه وسلم ويكون ذلك على عكس قوله سبحانه: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) * وجعل على هذا قولهم الآتي مجمل ما فصل هنالك من الإيمان وآرسال بني إسرائيل فلا يحتاج إلى التزام كون القولين فيم جلسبن للجمع بين ما هنا وما هناك، ولا يخلو عن بعد والالتزام المذكور لا أرى ضررا فيه. وقرىء يا أيه بضم الهاء * (ادع لنا ربك) * ليكشف عنا العذاب * (بما عهد عندك) * أي بعده عندك، والمراد به النبوة وسميت عهدا إما لأن الله تعالى عاهد نبيه عليه السلام أن يكرمه بها وعاهد النبي ربه سبحانه على أن يستقل بأعبائها أو لما فيها من الكلفة بالقيام بأعبائها ومن الاختصاص كما بين المتواثقين أو لأن لها حقوقا تحفظ كما يحفظ العهد أو من العهد الذي يكتب للولاة كأن النبوة منشور من الله تعالى بتولية من أكرمه بها والباء إما صلة - لا دع - أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير فيه أي متوسلا إليه تعالى بما عهد أو بمحذوف دل عليه التماسهم مثل اسعفنا إلى ما نطلب، وإما أن تكون للقسم والجواب ما يأتي، وهي على هذا للقسم حقيقة وعلى ما قبله للقسم الاستعطافي وعلى الوجه الأول للسببية، وإذخال ذلك في الاستعطافخروج عن الاصطلاح، وجوز أن يراد بالعهد عهد استجابة الدعوة كأنه قيل: بما عاهدك الله تعالى مكرما لك من استجابة دعوتك أو عهد كشف العذاب عمن اهتدى، وأكر الباب في الوجهين على ما مر؛ وأن يراد بالعهد الإيمان والطاعة أي بما عهد عندك فوفيت به على أنه من عهد إليه أن يفعل كذا أي أخذ منه العهد على فعله ومنه العهد الذي يكتب للولاة، و * (عندك) * يغني عن ذكر الصلة مع إفادة أنه محفوظ مخزون عند المخاطب، والأولى على هذا أن تكون ما موصولة، وهذا الوجه فيه كما في الكشف نبو لفظا ومعنى وسيالقا على ما لا يخفى على الفطن.
* (إننا لمهتدون) * لمؤمنون ثابتون على الإيمان وهو إما معلق بشرط كشف العذاب كما في قولهم المكحي في سورة الأعراف لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك أو غير
معلق وجيب حينئد أن يكون هذا منهم في مجلس آخر، وإن قلنا: لم يصدر منهم طلب الدعاء إلا مرة أو أكثر منها لكن على طرز واحد قيل هنا: أرادوا من الاهتداء الإيمان وإرسال بني إسرائيل كما سمعت آنفا.
* (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) *.
* (فلما كشفنا عنهم العذاب) * أي بدعوته ففي الكلام
88

حذف أي فدعانا بكشف العذاب فكشفناه فلما كشفناه عنهم * (إذا هم ينكثون) * فاجأهم نكث عهدهم بالاهتداء أو فاجؤوا وقت نكث عهدهم. وقرأ أبو حيوة * (ينكثون) * بكسر الكاف.
* (ونادى فرعون فى قومه قال ياقوم أليس لى ملك مصر وه‍اذه الانه‍ار تجرى من تحتىأفلا تبصرون) *.
* (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وه‍اذه الأنهار تجري من تحتي) * أي رفع صوته بنفسه فيما بين قومه بذلك القول، ولعله جمع عظماء القبط في محله الذي هو فيه بعد أن كشف العذاب فنادى فيما بينهم بذلك لتنتشر مقالته في جميع القبط ويعظم في نفوسهم مخافة أن يؤمنوا بموسى عليه السلام ويتركوه.
ويجوز أن يكون إسناد النداء إليه مجازا والمراد أمر بالنداء بذلك في الأسواق والأزقة ومجامع الناس وهذا كما يقال بنى الأمير المدينة، * (ونادى) * قيل معطوف على فاجأ المقدر ونزل منزلة اللازم وعدى بفي كقوله: يجرح في عراقيبها نصلى
للدلالة على تمكين النداء فيهم، وعنى بملك مصر ضبطها والتصرف فيها بالحكم ولم يرد مصر نفسها بل هي وما يتبعها وذلك من اسكندرية إلى أسوان كما في " البحر "، والأنهار الخلجان التي تخرج من النيل المبارك كنهر الملك. ونهر دمياط. ونهر تنيس ولعل نهر طولون كان منها إذ ذاك لكنه اندرس فجدده أحمد بن طولون ملك مصر في الإسلام وأراد بقوله: * (من تحتي) * من تحت أمري.
وقال غير واحد كانت أنها تخرج من النيل وتجري من تحت قصره وهو مشرف عليها، وقيل: كان له سرير عظيم مرتفع تجري من تحته أنهار أخرجها من النيل، وقال قتادة: كانت له جنان وبساتين بين يديه تجري فيها الأنهار، وفسر الضحاك الأنهار بالقواد والرؤساء الجبابرة، ومعنى كونهم يجرون من تحته أنهم يسيرون تحت لوائه ويأتمرون بأمره، وقد أبعد جدا وكذا من فسرها بالأموال ومن فسرها بالخليل وقال: كما يسمى الفرس بحرا يسمى نهرا بل التفاسير الثلاثة تقرب من تفاسير الباطنية فلا ينبغي أن يلتفت إليها، والواو في * (وهذه) * الخ إما عاطفة لهذه الأنهار على الملك فجملة تجري حال منها أو للحال فهذه مبتدأ و * (الأنهار) * صفة أو عطف بيان وجملة * (تجري) * خبر للمبتدأ وجملة هذه الخ حال من ضمير المتكلم، وجوز أن تكون للعطف * (وهذه تجري) * مبتدأ وخبر والجملة عطف على اسم ليس وخبرها، وقوله: * (أفلا تبصرون) * على تقدير المفعول أي أفلا تبصرون ذلك أي ما ذكر، ويجوز أن ينزل منزلة اللازم والمعنى أليس لكم بصر أو بصيرة، وقرأ عيسى * (تبصرون) * بكسر النون فتكون الياء الواقعة مفعولا محذوفة، وقرأ فهد بن الصقر * (يبصرون) * بياء الغيبة ذكره في الكامل للهزلي والساجي عن يعقوب ذكره ابن خالويه، ولا يخفى ما بين افتخار اللعين بملك مصر ودعواه الربوبية من البعد البعيد، وعن الرشيد أنه لما قرأ هذه الآية قال: لأولينها - يعني مصر - أخس عبيدي فولاها الخصيب وكان على وضوئه، وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها فلما شارفها ووقع عليها بصره قال: هي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال: * (أليس لي ملك مصر) * والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثنى عنانه.
* (أم أنآ خير من ه‍اذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين) *.
* (أم أنا خير) * مع هذه البسطة والسعة في الملك والمال * (من ه‍اذا الذي هو مهين) * أي ضعيف حقير أو مبتذل ذليل فهو من المهانة وهي القلة أو الذلة * (ولا يكاد يبين) * أي الكلام، والجمهور أنه عليه السلام كان بلسانه بعض شيء من أثر الجمرة لكن اللعين بالغ.
ومن ذهب إلى أن الله تعالى كان أجاب سؤاله حل عقدة من لسانه فلم يبق فيه منها أثر قال: المعنى ولا يكاد يبين حجته الدالة على صدقه فيما يدعي لا أنه لا قدرة له على الإفصاح باللفظ وهو افتراء عليه عليه السلام ألا ترى إلى
89

مناظرته له ورده عليه وإقحامه إياه، وقيل: عابه بما كان به عليه السلام من الحبسة أيام كان عنده وأراد اللعين أنه عليه السلام ليس معه من العدد وآلات الملك والسياسة ما يعتضد به وهو في نفسه مخل بما ينعت به الرجال من اللسن وإبانة الكلام، و * (أم) * على ما نقل عن سيبويه والخليل متصلة، وقد نزل السبب بعدها منزلة المسبب على ما ذهب إليه الزمخشري، والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع * (أم أنا خير) * موضع أم تبصرون.
وإيضاح ذلك أن فرعون عليه اللعنة لما قدم أسباب البسطة والرياسة بقوله: * (أليس لي) * الخ وعقبه بقوله أفلا تبصرون استقصارا لهم وتنبيها على أنه من الوضوح بمكان لا يخفى على ذي عينين قال في مقابله: * (أم أنا خير) * بمعنى أم تبصرون أني أنا المقدم المتبوع، وفي العدول تنبيه على أن هذا الشق هو المسلم لا محالة عندكم فكأنه يحكيه عن لسانهم بعدما أبصروا وهو أسلوب عجيب وفن غريب، وجعله الزمخشري من إنزال السبب مكان المسبب لأن كونه خيرا في نفسه أي محصلا له أسباب التقدم والملك سبب لأن يقال فيه أنت خير منه وقولهم: أنت خير سبب لكونهم بصراء وسبب السبب قد يقال له سبب فلا يرد ما يقال إن السبب قولهم: أنت خير لا قوله: أنا خير، وقال القاضي البيضاوي: إنه من إنزال المسبب منزلة السبب لأن علمهم بأنه خير مستفاد من الإبصار، وفيه أن المذكور أنا خير لا أم تعلمون أني خير، وله أن يقول: ذلك يغني غناه لأنه جعله مسلما معلوما ما عندهم فقال: * (أم أنا خير) * لا أم تعلمون كما سلف، ولا يخفى أن ما ذكره الزمخشري أظهر كذا في " الكشف "، وقال العلامة الثاني في تقرير ذلك: إن قوله: أنا خير سبب لقولهم من جهة بعثه على النظر في أحواله واستعداده لما ادعاه وقولهم: أنت خير سبب لكونهم
بصراء عنده فأنا خير سبب له بالواسطة لكن لا يخفى أنه سبب للعلم بذلك والحكم به، وأما بحسب الوجود فالأمر بالعكس لأن إبصارهم سبب لقولهم أنت خير فتأمل، وبالجملة إن ما بعد * (أم) * مؤول بجملة فعلية معلولة لفظا ومعنى هي ما سمعت ونحو ذلك من حيث التأويل * (أدعوتموهم أم أنتم صامتون) * (الأعراف: 193) أي أم صمتم، وقوله: أمخدج اليدين أم أتمت
أي أم متما، وقيل: حذف المعادل لدلالة المعنى عليه، والتقدير أفلا تبصرون أم تبصرون أنا خير الخ، وتعقب بأن هذا لا يجوز إلا إذا كان بعد أم لا نحو أيقول زيد أم لا أي أم لا يقوم فأما حذفه دون لا فليس من كلامهم، وجوز أن يكون في الكلام طي على نهج الاحتباك والمعنى أهو خير مني فلا تبصرون ما ذكرتكم به أم أنا خير منه لأنكم تبصرونه، ولا ينبغي الالتفات إليه، وجوز غير واحد كون * (أم) * منقطعة مقدرة ببل والهمزة التي للتقرير كأن اللعين قال أثر ما عدد أسباب فضله ومبادىء خيريته: أثبت عندكم واستقر لديكم أني خير وهذه حالي من هذا الخ، ورجحه بعضهم لما فيه من عدم التكلف في أمر المعادل اللازم أولا لحسن في المتصلة، وقال السدي. وأبو عبيدة: أم بمعنى بل فيكون قد انتقل من ذلك الكلام إلى إخباره بأنه خير كقول الشاعر: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى * وصورتها أم أنت في العين أملح
وقال أبو البقاء: إنها منقطعة لفظا متصلة معنى وأراد ما تقدم من التأويل، وليس فيه مخالفة لما أجمع عليه النحاة كما توهم، وجملة * (لا يكاد يبين) * معطوفة على الصلة أو مستأنفة أو حالية. وقرىء * (أما أنا خير) * بإدخال الهمزة على ما النافية، وقرأ الباقر رضي الله تعالى عنه * (يبين) * بفتح التاء من بان إذا ظهر.
* (فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جآء معه المل‍ائكة مقترنين) *.
* (فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب) * كناية عن تمليكه، قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهب علامة لسودده،
90

فقال فرعون هلا ألقى رب موسى عليه أساور من ذهب إن كان صادقا، وهذا من اللعين لزعمه أن الرياسة من لوازم الرسالة كما قال كفار قريش في عظيم القريتين، والأسورة جمع سوار نحو خمار وأخمرة، وقرأ الأعمش * (أساور) * ورويت عن أبي، وعن أبي عمرو جمع أسورة فهو جمع الجمع، وقرأ الجمهور * (أساورة) * جمع أسوار بمعنى السوار والهاء عوض عن ياء أساوير فإنها تكون في الجمع المحذوف مدته للعوض عنها كما في زنادقة جمع زنديق.
وقد قرأ * (أساوير) * عبد الله. وأبى في الرواية المشهورة، وقرأ الضحاك ألقى مبنيا للفاعل أي الله تعالى أساورة بالنصب * (أو جاء معه الملائكة مقترنين) * من قرنته به فاقترن، وفسر بمقرونين أي به لأنه لازم معناه بناء على هذا، وفسر أيضا بمتقارنين من اقترن بمعنى تقارن والاقتران مجاز أو كناية عن الإعانة.
ولذا قال ابن عباس: يعينونه على من خالفه، وقيل: عن التصديق ولولا ذلك لم يكن لذكره بعد قوله معه فائدة، وهو على الأول حسي وعلى الثاني معنوي، وقيل: متقارنين بمعنى مجتمعين كثيرين، وعن قتادة متتابعين.
* (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين) *.
* (فاستخف قومه) * فطلب منهم الخفة في مطاوعته على أن السين للطلب على حقيقتها، ومعنى الخفة السرعة لإجابته ومتابعته كما يقال هم خفوف إذا دعوا وهو مجاز مشهور وقال ابن الأعرابي استخف أحلامهم أي وجدهم خفيفة أحلامهم أي قليلة عقولهم فصيغة الاستفعال للوجدان كالأفعال كما يقال أحمدته وجدته محمودا وفي نسبته ذلك للقوم تجوز * (فأطاعوه) * فيما أمرهم به * (إنهم كانوا قوما فاسقين) * فلذلك سارعوا إلى طاعة ذلك الفاسق الغوي.
* (فلمآ ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقن‍اهم أجمعين) *.
* (فلما ءاسفونا) * أي أسخطونا كما قال علي كرم تعالى وجهه. وفي معناه ما قيل أي أغضبونا أشد الغضب أي بأعمالهم. والغضب عند الخلف مجاز عن إرادة العقوبة فيكون صفة ذات أو عن العقوبة فيكون صفة فعل.
وقال أبو عبد الله الرضا رضي الله تعالى عنه: إن الله سبحانه لا يأسف كأسفنا ولكن له جل شأنه أولياء يأسفون ويرضون فجعل سبحانه رضاهم رضاه وغضبهم غضبة تعالى، وعلى ذلك قال عز وجل: * (من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة) * وقال سبحانه: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * (النساء: 80) وعليه قيل: المعنى فلما أسفوا موسى عليه السلام ومن معه، والسلف لا يؤولون ويقولون: الغضب فينا انفعال نفساني وصفاته سبحانه ليست كصفاتنا بوجه من الوجوه، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأسف بالحزن وأنه قال هنا أي أحزنوا أولياءنا المؤمنين نحو السحرة وبني إسرائيل.
وذكر الراغب أن الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الانفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا، ولذلك سئل ابن عباس عنهما فقال: مخرجهما واحد واللفظ مختلف من نازع من يقوى عليه أظهره غيظا وغضبا ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنا وجزعا، وبهذا النظر قال الشاعر: فحزن كل أخي حزن أخو الغضب
انتهى، وعلى جميع الأقوال آسف منقول بالهمزة من أسف.
* (انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) * في اليم.
* (فجعلن‍اهم سلفا ومثلا للاخرين) *.
* (فجعلناهم سلفا) * قال ابن عباس. وزيد بن أسلم. وقتادة أي متقدمين إلى النار.
وقال غير واحد: قدوة للكفار الذين بعدهم يقتدون بهم في استيجاب مثل عقابهم ونزوله بهم، والكلام
91

على الاستعارة لأن الخلف يقتدي بالسلف فلما اقتدوا بهم في الكفر جعلوا كأنهم اقتدوا بهم في معلول الغضب وهو مصدر نعت به ولذا يصح إطلاقه على القليل والكثير، وقيل: جمع سالف كحارس وحرس وخادم وخدم وهذا يحتمل أن يراد بالجمع فيه ظاهره ويحتمل أن يراد به اسم الجمع فإن فعلا ليس من أبنية الجموع لغلبته في المفردات، والمشهور في جمعه أسلاف وجاء سلاف أيضا.
وقرأ أبو عبد الله. وأصحابه. وسعيد بن عياش. والأعمش. والأعرج. وطلحة. وحمزة والكسائي * (سلفا) * بضمتين جمع سليف كفريق لفظا ومعنى، سمع القاسم بن معن العرب تقول: مضى سليف من الناس يعنون فريقا، منهم وقيل: جمع سلف كصبر جمع صابر أو جمع سلف كجنب.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. ومجاهد. والأعرج. أيضا سلفا بضم ففتح إما على أنه أبدلت فيه ضمة اللام فتحة تخفيفا كما يقال في جدد بضم الدال جدد بفتحها أو على أنه جمع سلفة بمعنى الأمة والجماعة من الناس أي فجعلناهم أمة سلفت، والسلف بالضم فالفتح في غير هذا ولد القبح والجمع سلفان كصردان ويضم.
* (ومثلا للآخرين) * أي عظة لهم، والمراد بهم الكفار بعدهم، والجار متعلق على التنازع بسلفا ومثلا، ويجوز أن يراد بالمثل القصة العجيبة التي تسير مسير الأمثال؛ ومعنى كونهم مثلا للكفار أن يقال لهم: مثلكم مثل قوم فرعون، ويجوز تعلق الجار بالثاني وتعميم الآخرين بحيث يشمل المؤمنين، وكونهم قصة عجيبة للجميع ظاهر.
* (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون) *.
* (ولما ضرب ابن مريم مثلا) * الخ بيان لعناد قريش بالباطل والرد عليهم، فقد روي أن عبد الله بن الزبعري قبل إسلامه، قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقد سمعه يقول: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * (الأنبياء: 98) أليست النصارى يعبدون المسيح وأنت تقول كان نبيا وعبدا من عباد الله تعالى صالحا فإن كان في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه ففرح قريش وضحكوا وارتفعت أصواتهم وذلك قوله تعالى: * (إذا قومك منه يصدون) * فالمعنى ولما ضرب ابن الزبعري عيسى بن مريم مثلا وحاجك بعبادة النصارى إياه إذا قومك من ذلك ولأجله يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحا وجدلا، والحجة لما كانت تسير مسير الأمثال شهرة قيل لها مثل أو المثل بمعنى المثال أي جعله مقياسا وشاهدا على إبطال قوله عليه الصلاة والسلام: إن آلهتهم من حصب جهنم، وجعل عيسى عليه السلام نفسه مثلا من باب " الحج عرفة ".
وقرأ أبو جعفر. والأعرج. والنخعي. وأبو رجاء. وابن وثاب. وابن عامر. ونافع. والكسائي * (يصدون) * بضم الصاد من الصدود، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه، وأنكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه القراءة وهو قبل بلوغه تواترها، والمعنى عليها إذا قومك من أجل ذلك يعرضون عن الحق بالجدل بحجة داحضة واهية، وقيل: المراد يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض.
وقال الكسائي. والفراء: يصدون بالكسر ويصدون بالضم لغتان بمعنى واحد مثل يعرشون ويعرشون ومعناهما يضجون، وجوز أن يكون يعرضون.
* (وقالوا ءأالهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) *.
* (وقالوا) * تمهيدا لما بنوا عليه من الباطل المموه مما يغتر به السفهاء * (ءالهتنا خير أم هو) * أي ظاهر عندك أن عيسى عليه السلام خير من آلهتنا فحيث كان هو في النار فلا بأس بكونها وأيانا فيها، وحقق الكوفيون الهمزتين همزة الاستفهام والهمزة الأصلية؛ وسهل باقي السبعة الثانية بين بين،
92

وقرأ ورش في رواية أبي الأزهر بهمزة واحدة على مثال الخبر، والظاهر أنه على حذف همزة الاستفهام، وقوله تعالى: * (ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) * إبطال لباطلهم إجمالا اكتفاء بما فصل في قوله تعالى: * (إن الذين سبقت) * وتنبيها على أنه مما لا يذهب على ذي مسكة بطلانه فكيف على غيره ولكن العناد يعمى ويصم أي ما ضربوا لك ذلك إلا لأجل الجدال والخصام لا لطلب الحق فإنه في غاية البطلان بل هم قوم لد شداد الخصومة مجبولون على المحك أي سؤال الخلق واللجاج، فجدلا منتصب على أنه مفعول لأجله، وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي مجادلين، وقرأ ابن مقسم * (جدالا) * بكسر الجيم وألف بعد الدال، وقوله تعالى:
* (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلن‍اه مثلا لبنىإسراءيل) *.
* (إن هو) * أي ما عيسى ابن مريم * (إلا عبد أنعمنا عليه) * بالنبوة وروادفها فهو مرفوع المنزلة على القدر لكن ليس له من استحقاق المعبودية من نصيب، كلام حكيم مشتمل على ما اشتمل عليه قوله تعالى: * (إن الذين سبقت) * ولكن على سبيل الرمز وعلى فساد رأي النصارى في إيثارهم عبادته عليه السلام تعريضا بمكان عبادة قريش غيره سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: * (وجعلناه مثلا) * أي أمرا عجيبا حقيقا بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة * (لبني إسرائيل) * حيث خلقناه من غير أب وجعلنا له من أحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ونحو ذلك ما لم نجعل لغيره في زمانه، كلام أجمل فيه وجه الافتتان به وعليه، ووجه دلالته على قدرة خالقه تعالى شأنه وبعد استحقاقه عليه السلام عما قرف به إفراطا وتفريطا، وقوله سبحانه:
* (ولو نشآء لجعلنا منكم مل‍ائكة فى الارض يخلفون) *.
* (ولو نشاء لجعلنا) * الخ تذييل لوجه دلالته على القدرة وأن الافتتان من عدم التأمل وتضمين للإنكار على من اتخذ الملائكة آلهة كما اتخذ عيسى عليهم السلام أي ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر لجعلنا بطريق التوليد ومآله لولدنا * (منكم) * يا رجال * (مل‍ائكة) * كما ولدنا عيسى من غير أب * (في الأرض يخلفون) * أي يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم أو يكونون خلفا ونسلا لكم ليعرف تميزنا بالقدرة الباهرة وليعلم أن الملائكة ذوات ممكنة تخلق توليدا كما تخلق إبداعا فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إليه سبحانه وتعالى بالبنوة، وجوز أن يكون معنى لجعلنا الخ لحولنا بعضكم ملائكة فمن ابتدائية أو تبعيضية و * (ملائكة
) * مفعول ثان أو حال، وقيل: من للبدل كما في قوله تعالى: * (ارضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) * (التوبة: 38) وقوله: ولم تذق من البقول الفستقا
أي ولو نشاء لجعلنا بدلكم ملائكة يكونون مكانكم بعد إذهابكم، وإليه يشير كلام قتادة ومجاهد، والمراد بيان كمال قدرته تعالى لا التوعد بالاستئصال وإن تضمنه فإنه غير ملائم للمقام، وقيل: لا مانع من قصدهما معا نعم كثير من النحويين لا يثبتون لمن معنى البدلية ويتأولون ما ورد مما يوهم ذلك والأظهر ما قرر أولا.
وذكر العلامة الطيبي عليه الرحمة أن قوله تعالى: * (إن هو إلا عبد) * (الزخرف: 59) الخ جواب عن جدل الكفرة في قوله سبحانه: * (إنكم وما تعبدون) * (الأنبياء: 98) الخ وإن تقريره إن جدلكم هذا باطل لأنه عليه السلام ما دخل في ذلك النص الصريح لأن الكلام معكم أيها المشركون وأنتم المخاطبون به وإنما المراد بما تعبدون الأصنام التي تنحتونها بأيديكم وأما عيسى عليه السلام فما هو إلا عبد مكرم منعم عليه بالنبوة مرفوع المنزلة والذكر مشهور في بني إسرائيل كالمثل السائر فمن أين تدخل في قولنا: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * (الأنبياء: 98) ثم لا اعتراض علينا أن نجعل قوما أهلا للنار وآخرين أهلا للجنة إذ لو نشاء لجعلنا منكم ومن أنفسكم أيها الكفرة ملائكة أي عبيدا مكرمون مهتدون وإلى الجنة صائرون كقوله تعالى: * (ولو شئنا لآتينا كل
93

نفس هداها) * (السجدة: 13) اه‍.
وعلى ما ذكرنا أن الكلام في ابطال قد تم عند قوله تعالى: * (خصمون) * وما بعد لما سمعت قبل وهو أدق وأولى مما ذكره بل ما أشار إليه من أن قوله تعالى: * (ولو نشاء) * الخ لنفي الاعتراض ليس بشيء. وروي أن ابن الزبعرى قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين سمع قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله خصب جهنم) * (الأنبياء: 98) أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال: خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح، واليهود عزيرا، وبنو مليح الملائكة؟ فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: * (إن الذين سبقت) * الآية أو نزلت هذه الآية، وأنكر بعضهم السكوت، وذكر أن ابن الزبعرى حين قال للنبي عليه الصلاة والسلام: خصمتك رد عليه صلى الله عليه وسلم بقوله ما أجهلك بلغة قومك أما فهمت أن ما لما لا يعقل، وروى محيي السنة في المعالم أن ابن الزبعرى قال له عليه الصلاة والسلام: أنت قلت: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) *؟ قال: نعم قال: أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هم يعبدون الشيطان فأنزل الله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) * (الأنبياء: 101) وهذا أثبت من الخبر الذي قبله. وتعقب ما تقدم في الخبر السابق من سؤال ابن الزبعرى أهذا لنا الخ، وقوله عليه الصلاة والسلام: هو لكم الخ بأنه ليس بثبت.
وذكر من أثبته أنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يجب حين سئل عن الخصوص والعموم بالخصوص عملا بما تقتضيه كلمة * (ما) * لأن إخراج المعهودين عن الحكم عند المحاجة موهم للرخصة في عبادتهم في الجملة فعممه عليه الصلاة والسلام للكل لكن لا بطريق عبارة النص بل بطريق الدلالة بجامع الاشتراك في المعبودية من دون الله تعالى ثم بين أنهم بمعزل من أن يكونوا معبوديهم بما جاء في خبر محي السنة من قوله عليه الصلاة والسلام: بل هم يعبدون الشيطان كما نطق به قوله تعالى: * (سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن) * (سبأ: 41) الآية، وقد تقدم ما ينفعك تذكره فتذكر. وفي " الدر المنثور " أخرج الإمام أحمد. وابن أبي حاتم. والطبراني. وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: إنه ليس أحد يعبد من دون الله تعالى فيه خير فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله تعالى صالحا فإن كنت صادقا فإنه كآلهتنا فأنزل الله سبحانه: * (ولما ضرب ابن مريم مثلا) * (الزخرف: 57) الخ، والكلام في الآيات على هذه الرواية يعلم مما تقدم بأدنى التفات، وقيل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) * (آل عمران: 59) قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة فنزلت، فالمثل ما في قوله تعالى: * (إن مثل عيسى) * الآية والضارب هو تعالى شأنه أي ولما بين الله سبحانه حاله العجيبة اتخذه قومك ذريعة إلى ترويج ما هم فيه من الباطل بأنه مع كونه مخلوقا بشرا قد عبد فنحن أهدى حيث عبدنا ملائكة مطهرين مكرمين عليه وهو الذي عنوه بقولهم: * (أآلهتنا خير أم هو) * (الزخرف: 58) فأبطل الله تعالى ذلك بأنه مقايسة باطل بباطل وأنهم في اتخاذهم العبد المنعم عليه إلها مبطلون مثلكم في اتخاذ الملائكة وهم عباد مكرمون، ثم قوله سبحانه: * (ولو نشاء لجعلنا منكم) * (الزخرف: 60) دلالة على أن الملائكة عليهم السلام مخلوقون مثله وأنه سبحانه قادر
94

على أعجب من خلق عيسى عليه السلام وأنه لا فرق في ذلك بين المخلوق توالدا وإبداعا فلا يصلح القسمان للإلهية. وفي رواية عن ابن عباس. وقتادة أنه لما نزل قوله تعالى: * (إن مثل عيسى) * الآية قالت قريش: ما أراد محمد صلى الله عليه وسلم من ذكر عيسى عليه السلام إلا أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى.
ومعنى يصدون يضجون ويضجرون، والضمير في * (أم) * هو لنبينا عليه الصلاة والسلام، وغرضهم بالموازنة بينه صلى الله عليه وسلم وبين آلهتهم الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى: * (ولو نشاء) * الخ رد وتكذيب لهم في افترائهم عليه صلى الله عليه وسلم ببيان أن عيسى عليه السلام في الحقيقة وفيما أوحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليس إلا أنه عبد منعم عليه كما ذكر فكيف يرضى صلى الله عليه وسلم بمعبوديته أو كيف يتوهم الرضا بمعبودية نفسه ثم بين جل شأنه أن مثل عيسى ليس ببدع من قدرة الله تعالى وأنه قادر على أبدع منه وأبدع مع التنبيه على سقوط الملائكة عليهم السلام أيضا عن درجة المعبودية بقوله سبحانه: * (ولو نشاء) * الخ وفيه أن الدلالة على ذلك المعنى غير واضحة، وكذلك رجوع الضمير إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: * (أم هو) * مع رجوعه إلى عيسى في قوله سبحانه: * (إن هو إلا عبد) * (الزخرف: 59) وفيه من فك النظم ما يجب أن يصان الكتاب المعجز عنه، ولا يكاد يقبل القول برجوع الضمير الثاني إليه صلى الله عليه وسلم، ولعل الرواية عن الحبر غير ثابتة، وجوز أن يكون مرادهم التنصل عما أنكر عليهم من قولهم: الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه
ومن عبادتهم إياهم كأنهم قالوا: ما قلنا بدعا من القول ولا فعلنا منكرا من الفعل فإن النصارى جعلوا المسيح ابن الله عز وجل فنحن أشف منهم قولا وفعلا حيث نسبنا إليه تعالى الملائكة عليهم السلام وهم نسبوا إليه الأناسي، وقوله تعالى: * (ولو نشاء) * الخ عليه كما في الوجه الثاني.
* (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون ه‍اذا صراط مستقيم) *.
* (وإنه) * أي عيسى عليه السلام * (لعلم للساعة) * أي أنه بنزوله شرط من أشراطها وبحدوثه بغير أب أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذي هو معظم ما ينكره الكفرة من الأمور الواقعة في الساعة، وأيا ما كان فعلم الساعة مجاز عما تعلم به والتعبير به للمبالغة.
وقرأ أبي * (لذكر) * وهو مجاز كذلك.
وقرأ ابن عباس. وأبو هريرة. وأبو مالك الغفاري. وزيد بن علي. وقتادة. ومجاهد. والضحاك. ومالك بن دينار. والأعمش. والكلبي قال ابن عطية. وأبو نصرة * (لعلم) * بفتح العين واللام أي لعلامة.
وقرأ عكرمة. قال ابن خالويه. وأبو نصرة * (لا لعلم) * معرفا بفتحتين والحصر إضافي، وقيل: باعتبار أنه أعظم العلامات، وقد نطقت الأخبار بنزوله عليه السلام فقد أخرج البخاري. ومسلم. والترمذي. وأبو داود. وابن ماجه عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزلن ابن مريم حكما عدلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسقى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد "، وفي رواية " وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فليقاتل الناس على الإسلام " وفيه " ويهلك المسيح الدجال " وفي أخرى قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم " وفي رواية " فأمكم منكم قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قال: تخبرني قال: فأمكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، والمشهور نزوله عليه السلام بدمشق والناس في
95

صلاة الصبح فيتأخر الإمام وهو المهدي فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه ويقول: إنما أقيمت لك.
وقيل بل يتقدم هو ويؤم الناس والأكثرون على اقتدائه بالمهدي في تلك الصلاة دفعا لتوهم نزوله ناسخا وأما في غيرها فيؤم هو الناس لأنه الأفضل والشيعة تأبى ذلك.
وفي بعض الروايات أنه عليه السلام ينزل على ثنية يقال لها أفيق بفاء وقاف بوزن أمير وهي هنا مكان بالقدس الشريف نفسه ويمكث في الأرض على ما جاء في رواية عن ابن عباس أربعين سنة وفي رواية سبع سنين قيل والأربعون إنما هي مدة مكثه قبل الرفع وبعده ثم يموت ويدفن في الحجرة الشريفة النبوية، وتمام الكلام في البحور الزاخرة للسفاريني، وعن الحسن. وقتادة. وابن جبير أن ضمير * (إنه) * للقرآن لما أن فيه الإعلام بالساعة فجعله عين العلم مبالغة أيضا، وضعف بأنه لم يجر للقرآن ذكر هنا مع عدم مناسبة ذلك للسياق، وقالت فرقة: يعود على النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال عليه الصلاة والسلام: " بعثت أنا والساعة كهاتين " وفيه من البعد ما فيه.
وكأن هؤلاء يجعلون ضمير " أم هو وضمير * (إن هو) * له صلى الله عليه وسلم أيضا وهو كما ترى * (فلا تمترن بها) * فلا تشكن في وقوعها * (واتبعون) * أي واتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي، وقيل: هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورا من جهته عز وجل فهو بتقدير القول أي وقل اتبعوني * (ه‍اذا) * أي الذي أدعوكم إليه أو القرآن على أن الضمير في * (إنه) * له * (صراط مستقيم) * موصل إلى الحق.
* (ولا يصدنكم الشيط‍ان إنه لكم عدو مبين) *.
* (ولا يصدنكم الشيطان) * عن اتباعي * (إنه لكم عدو مبين) * أي بين العداوة أو مظهرها حيث أخرج أباكم من الجنة وعرضكم للبلية.
* (ولما جآء عيسى بالبين‍ات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذى تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون) *.
* (ولما جاء عيسى بالبينات) * بالأمور الواضحات وهي المعجزات أو آيات الإنجيل أو الشرائع ولا مانع من إرادة الجميع * (قال) * لبني إسرائيل * (قد جئتكم بالحكمة) * أي الإنجيل كما قال القشيري: والماوردي، وقال السدي: بالنبوة، وفي رواية أخرى عنه هي قضايا يحكم بها العقل، وقال أبو حيان: أي بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع، وقال الضحاك: أي بالموعظة * (ولأبين لكم) * متعلق بمقدر أي وجئتكم لأبين لكم، ولم يترك العاطف ليتعلق بما قبله ليؤذن بالاهتمام بالعلة حيث جعلت كأنها كلام برأسه. وفي " الإرشاد " هو عطف على مقدر ينبىء عنه المجىء بالحكمة كأنه قيل قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ولأبين لكم * (بعض الذي تختلفون فيه) * وهو أمر الديانات وما يتعلق بالتكليف دون الأمور التي لم يتعبدوا بمعرفتها ككيفية نضد الأفلاك وأسباب اختلاف تشكلات القمر مثلا فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيان ما يختلف فيه من ذلك ومثلها ما يتعلق بأمر الدنيا ككيفية الزراعة وما يصلح الزرع وما يفسده مثلا فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيانه أيضا كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل " أنتم أعلم بأمور دنياكم ".
وجوز أن يراد بهذا البعض بعض أمور الدين المكلف بها وأريد بالبيان البيان على سبيل التفصيل وهي لا يمكن بيان جميعها تفصيلا وبعضها مفوض للاجتهاد، وقال أبو عبيدة: المراد بعض الذي حرم عليهم وقد أحل عليه السلام لهم لحوم الإبل والشحك من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت، وقال مجاهد: بعض الذي يختلفون فيه من تبديل التوراة، وقال قتادة: لأبين لكم اختلاف الذين تحزبوا في أمره عليه السلام * (فاتقوا الله) * من
96

مخالفتي * (وأطيعون) * فيما أبلغه عنه تعالى.
* (إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه ه‍اذا صراط مستقيم) *.
* (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه) * بيان لما أمرهم بالطاعة فيه وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع * (ه‍اذا) * أي هذا التوحيد والتعبد بالشرائع * (صراط مستقيم) * لا يضل سالكه، وهو إما من تتمة كلام عيسى عليه السلام أو استئناف من الله تعالى مقرر لمقالة عيسى عليه السلام.
* (فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) *.
* (فاختلف الأحزاب) * الفرق المتحزبة * (من بينهم) * من بين من بعث إليهم وخاطبهم بما بما خاطبهم من اليهود والنصارى وهم أمة دعوته عليه السلام، وقيل: المراد النصارى وهم أمة إجابته عليه السلام، وقد اختلفوا فرقا ملكانية ونسطورية ويعقوبية * (فويل للذين ظلموا) * من المختلفين وهم الذين لم يقولوا: إنه عبد الله ورسوله * (من عذاب يوم أليم) * هو يوم القيامة وأليم صفة عذاب أو يوم على الإسناد المجازي.
* (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) *.
* (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) * الضمير لقريش، وأن تأتيهم بدل من الساعة، والاستثناء مفرغ، وجوز جعل إلا بمعنى غير والاستفهام للإنكار وينظرون بمعنى ينتظرون أي ما ينتظرون شيئا إلا إتيان الساعة فجأة وهم غافلون عنها، وفي ذلك تهكم بهم حيث جعل إتيان الساعة كالمنتظر الذي لا بد من وقوعه.
ولما جاز اجتماع الفجأة والشعور وجب أن يقيد ذلك بقوله سبحانه: * (وهم لا يشعرون) * لعدم إغناء الأول عنه فلا استدراك، وقيل: يجوز أن يراد بلا يشعرون الإثبات لأن الكلام وارد على الإنكار كأنه قيل: هل يزعمون أنها تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون أي لا يكون ذلك بل تأتيهم وهم فطنون، وفيه ما فيه، وقيل: ضمير * (ينظرون) * للذين ظلموا، وقيل: للناس مطلقا وأيد بما أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقوم الساعة والرجلات يحلبان النعجة والرجلان يطويان الثوب ثم قرأ عليه الصلاة والسلام هل ينظرون إلا الساعة أن تؤتيهم بغتة وهم لا يشعرون ".
* (الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) *.
* (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * الظرف متعلق بعدو والفصل لا يضر، والمراد أن المحبات تنقطع يوم إذ تأتيهم الساعة ولا يبقى إلا محبة المتقين وهم المتصادقون في الله عز وجل لما أنهم يرون ثواب التحاب في الله تعالى، واعتبار الانقطاع لأن الخل حال كونه خلا محال أن يصير عدوا. وقيل: المعنى الإخلاء تنقطع خلتهم ذلك اليوم إلا المجتنبين إخلاء السوء، والفرق بين الوجهين أن المتقي في الأول: هو المحب لصاحبه في الله تعالى فاتقى الحب أن يشوبه غرض غير إلهي، وفي الثاني: من اتقى صحبة الأشرار.
والاستثناء فيهما متصل، وجوز أن يكون يومئذ متعلقا بالإخلاء والمراد به في الدنيا ومتعلق عدو مقدر أي في الآخرة والآية قيل نزلت في أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط.
* (ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) *.
* (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) * حكاية لما ينادي به المتقون المتحابون في الله تعالى يومئذ فهو بتقدير قول أي فيقال لهم يا عبادي الخ أو فأقول: لهم بناء على أن المنادي هو الله عز وجل تشريفا لهم، وعن المعتمر بن سليمان أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحدا لا يفزع فينادي مناديا عباد الخ فيرجوها الناس كلهم فيتبعها قوله تعالى:
* (الذين ءامنوا بااي‍اتنا وكانوا مسلمين) *.
* (الذين ءامنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) * فييأس منها الكفار، فيا عباد عام مخصوص إما بالآية السابقة وإما باللاحقة، والأول أوفق من أوجه عديدة.
والموصول إما صفة للمنادي أو بدل أو مفعول لمقدر أي أمدح ونحوه، وجملة * (وكانوا مسلمين) * حال من ضمير * (آمنوا) * بتقدير قد أو بدونه، وجوز عطفها على الصلة، ورجحت الحالية بأن الكلام عليها أبلغ المراد بالإسلام
97

هنا الانقياد والإخلاص ليفيد ذكره بعد الايمان فإذا جعل حالا أفاد بعد تلبسهم به في الماضي اتصاله بزمان الايمان، وكان تدل على الاستمرار أيضا ومن هنا جاء التأكيد والأبلغية بخلاف العطف، وكذا الحال المفردة بأن يقال: الذين آمنوا بآياتنا مخلصين، وقرأ غير واحد من السبعة * (يا عبادي) * بالياء على الأصل، والحذف كثير شائع وبه قرأ حفص. وحمزة. والكسائي، وقرأ ابن محيصن * (لا خوف) * بالرفع من غير تنوين، والحسن. والزهري. وابن أبي إسحق. وعيسى. وابن يعمر. ويعقوب. بفتحها من غير تنوين.
* (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون) *.
* (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم) * نساؤكم المؤمنات فالإضافة للاختصاص التام فيخرج من لم يؤمن منهم * (تحبرون) * تسرون سرورا يظهر حباره أي أثره من النضرة والحسن على وجوهكم كقوله تعالى: * (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) * أو تزينون من الحبر بفتح الحاء وكسرها وهو الزينة وحسن الهيئة؛ وهذا متحد بما قبله معنى والفرق في المشتق منه، وقال الزجاج: أي تكرمون إكراما يبالغ فيه، والحبرة بالفتح المبالغة في الفعل الموصوف بأنه جميل ومنه الإكرام فهو في الأصل عام أريد به بعض أفراده هنا.
* (يطاف عليهم بصح‍افمن ذهب وأكوابوفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين وأنتم فيها خ‍الدون) *.
* (يطاف عليهم) * بعد دخولهم الجنة حيثما أمروا به * (بصحاف من ذهب وأكواب) * كذلك، والصحاف جمع صحفة قيل هي كالقصعة، وقيل: أعظم أواني الأكل الجفنة ثم القصعة ثم الصحفة ثم الكيلة.
والأكواب جمع كوكب وهو كوز لا عروة له، وهذا معنى قول مجاهد لا إذن له، وهو على ما روى عن قتادة دون الإبريق، وقال: بلغنا أنه مدور الرأس ولما كانت أواني المأكول أكثر بالنسبة لأواني المشروب عادة جمع الأول جمع كثرة والثاني جمع قلة، وقد تظافرت الأخبار بكثرة الصحاف، أخرج ابن المبارك. وابن أبي الدنيا في صفة الجنة. والطبراني في " الأوسط " بسند رجاله ثقات عن أنس قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل واحد صحفتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة في كل واحدة لون ليس في الأخرى مثله يأكل من آخرها مثل ما يؤكل من أولها يجد لآخرها من الطيب واللذة مثل الذي يجد لأولها ثم يكون ذلك كرشح المسك الأذفر لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون إخوانا على سرر متقابلين " وفي حديث رواه عكرمة " إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل بعده أحد يفسح له في بصره مسيرة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدي عليه كل يوم ويراح بسبعين ألف صحفة في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها لو نزل عليه جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطى لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا " وروى ابن أبي شيبة هذا العدد عن كعب أيضا، وإذا كان ذلك لودنى فما ظنك بالأعلى، رزقنا الله تعالى ما يليق بجوده وكرمه.
وأمال أبو الحرث عن الكسائي كما ذكر ابن خالويه بصحاف * (وفيها) * أي في الجنة * (ما تشتهيه) * من فنو الملاذ * (وتلذ الأعين) * أي تستلذ وتقر بمشاهدته، وذكر ذلك الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف عليهم بأواني الذهب الذي هو بعض من التنعم والترفه تعميم بعد تخصيص كما أن ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهاء النفس تخصيص بعد تعميم، وقال بعض الأجلة: إن قوله تعالى: * (يطاف عليهم) * بصحاف دل على الأطعمة * (وأكواب) * على الأشربة، ولا يبعد أن يحمل قوله سبحانه: * (وفيها ما تشتهيه الأنفس) * على المنكح والملبس وما يتصل بهما ليتكامل جميع المشتهيات النفسانية فبقيت اللذة الكبرى وهي النظر إلى وجه الله تعالى الكريم
98

فكنى عنه بقوله عز وجل: * (وتلذ الأعين) * ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي عن أنس: " حبب إلى الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة " وقال قيس بن ملوح: ولقد هممت بقتلها من حبها * كيما تكون خصيمتي في المحشر
حتى يطول على الصراط وقوفنا * وتلذ عيني من لذيذ المنظر
ويوافق هذا قول الإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: شتان بين ما تشتهي الأنفس وبين ما تلذ الأعين لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذ الأعين كأصبع تغمس في البحر لأن شهوات الجنة لها حد ونهاية لأنها مخلوقة ولا تلذ عين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي جل وعز ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية انتهى، ويعلم مما ذكر أن المعنى على اعتبار وفيها ما تلذ الأعين وعلى ذلك بني الزمخشري قوله: هذا حصر لأنواع النعم لأنها أما مشتهاة في القلوب أو مستلذة في الأعين، وتعقبه في " الكشف " فقال: فيه نظر لانتقاضه بمستلذات سائر المشاعر الخمس، فإن قيل: إنها من القسم الأول قلنا: مستلذ العين كذلك فالوجه أنه ذكر تعظيما لنعيمها بأنه مما يتوافق فيه القلب والعين وهو الغاية عندهم في المحبوب لأن العين مقدمة القلب؛ وهذا قول بأنه ليس في الجملة الثانية اعتبار موصول آخر بل هي والجملة قبلها صلتان لموصول واحد وهو المذكور، وما تقدم هو الذي يقتضيه كلام الأكثرين، وحذف الموصول في مثل ذلك شائع، ولا مانع من إدخال النظر إلى وجهه تعالى الكريم فيما تلذ الأعين على ما ذكرناه أولا، و * (أل) * في الأنفس والأعين للاستغراق على ما قيل، ولا فرق بين جمع القلة والكثرة.
ولعل من يقول: بأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ويفرق بين الجمعين في المبدإ والمنتهى يقول: بأن استغراق جمع القلة أشمل من استغراق جمع الكثرة، وقيل: هي للعهد، وقيل: عوض عن المضاف إليه أي ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم، وجمع النفس والعين الباصرة على أفعل في كلامهم أكثر من جمعهما على غيره بل ليس في القرآن الكريم جمع الباصرة إلا على ذلك، وما أنسب هذا الجمع هنا لمكان * (الإخلاء) * وحمل ما تشتهيه النفس على المنكح والملبس وما يتصل بهما خلاف الظاهر.
وفي الأخبار أيضا ما هو ظاهر في العموم، أخرج ابن أبي شيبة. والترمذي. وابن مردويه عن بريدة قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل في الجنة خيل فإنها تعجبني؟ قال: إن أحببت ذلك أتيت بفرس من ياقوتة حمراء فتطير بك في الجنة حيث شئت، فقال له رجل: إن الإبل تعجبني فهل في الجنة من إبل؟ فقال: يا عبد الله إن أدخلت الجنة فلك فيها ما تشتهي نفسك ولذت عينك ".
وأخرج أيضا نحوه عن عبد الرحمن بن سابط وقال: هو أصح من الأول، وجاء نحوه أيضا في روايات أخر فلا يضره ما قيل من ضعف إسناده، ولا يشكل على العموم أن اللواطة مثلا لا تكون في الجنة لأن ما لا يليق أن يكون فيها لا يشتهي بل قيل في خصوص اللواطة أنه لا يشتهيها في الدنيا الأنفس السليمة.
واختلف الناس هل يكون في الجنة حمل أم لا فذهب بعض إلى الأول، فقد أخرج الإمام أحمد. وهناد. والدارمي. وعبد بن حميد. وابن ماجه. وابن حبان. والترمذي وحسنه. وابن المنذر. والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال: " قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لأهل الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي.
99

وذهب طاوس. وإبراهيم النخعي. ومجاهد. وعطاء. وإسحق بن إبراهيم إلى الثاني. فقد روى عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل
الجنة لا يكون لهم ولد " وفي حديث لقيط الطويل الذي رواه عبد الله بن الإمام أحمد. وأبو بكر بن عمرو. وأبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم. والطبراني. وابن حبان. ومحمد بن إسحق بن منده. وابن مردويه. وأبو نعيم. وجماعة من الحفاظ وتلقاه الأئمة بالقبول وقال فيه ابن منده: لا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة قلت: " يا رسول الله أو لنا فيها - يعني الجنة - أزواج أو منهن مصلحات؟ قال: المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا توالد ".
وقال مجاهد. وعطاء قوله تعالى: * (ولهم فيها أزواج مطهرة) * (البقرة: 25) أي مطهرة من الولد والحيض والغائط والبول ونحوها، وقال إسحق بن إبراهيم في حديث أبي سعيد السابق: إنه على معنى إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي ولكن لا يشتهي، وتعقب بأن * (إذا) * لمتحقق الوقوع ولو أريد ما ذكر لقيل. لو اشتهى، وفي حادي الأرواح إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله يحتج بهم فيه ولكنه غريب جدا.
وقال السفاريني في " البحور الزاخرة " حديث أبي سعيد أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي وقد اضطرب لفظه فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة أن الرجل ليولد له، وإذا قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم من المحقق وغيره، ورجح القول بعدم الولادة بعشرة وجوه مذكورة فيها، وأنا أختار القول بالولادة كما نطق بها حديث أبي سعيد وقد قال فيه الأستاذ أبو سهل فيما نقله الحاكم: إنه لا ينكره إلا أهل الزيغ، وفيه غير إسناد، وليس تكون الولد على الوجه المعهود في الدنيا بل يكون كما نطق به الحديث ومتى كان كذلك فلا يستبعد تكونه من نسيم يخرج وقت الجماع، وزعم أن الولد إنما يخلق من المني فحيث لا مني في الجنة كما جاء في الاخبار لا خلق فيه تعجيز للقدرة، ولا ينافي ذلك ما في خديث لقيط لأن المراد هناك نفي التوالد المعهود في الدنيا كما يشير إليه وقوع غير أن لا توالد بعد قوله عليه الصلاة والسلام: مثل لذاتكم في الدنيا، ويقال نحو ذلك في حديث أبي رزين جمعا بين الأخبار، ثم إن التوالد ليس على سبيل الاستمرار بل هو تابع للاشتهاء ولا يلزم استمراره فالقول بأنه إن استمر لزم وجود أشخاص لا نهاية لها وإن انقطع لزم انقطاع نوع من لذة أهل الجنة ليس بشيء، وما قيل: إنه قد ثبت في " الصحيح " أنه صلى الله عليه وسلم قال: " يبقى في الجنة فضل فينشى الله تعالى لها خلقا يسكنهم إياها " ولو كان في الجنة إيلاد لكان الفضل لأولادهم الملازمة فيه ممنوعة لجواز أن يقال من يشتهي الولد يشتهي أن يكون معه في منزله، والقول بأن التوالد في الدنيا لحكمة بقاء النوع وهو باق في الجنة بدون توالد فيكون عبثا يرد عليه أنه ما المانع من أن يكون هناك للذة ونحوها كالأكل والشرب فإنهما في الدنيا لشيء وفي الجنة لشيء آخر، وبالجملة ما ذكر لترجيح عدم الولادة من الوجوه مما لا يخفى حاله على من له ذهن وجيه.
وقرأ غير واحد من السبعة وغيرهم * (ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين) * بحذف الضمير العائد على * (ما) * من الجملتين المتعاطفتين، وفي مصحف عبد الله * (ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين) * بالضمير فيهما، والقراءة به في الأول دون الثانية لأبي جعفر. وشيبة. ونافع. وابن عامر. وحفص * (وأنتم فيها) * أي في الجنة، وقيل: في الملاذ
100

المفهومة مما تقدم وهو كما ترى * (خالدون) * دائمون أبد الآبدين، والجملة داخلة في حيز النداء وهي كالتأكيد لقوله تعالى: * (لا خوف عليكم) * ونودوا بذلك إتماما للنعمة وإكمالا للسرور فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الأحوال، ولله تعالى در القائل: وإذا نظرت فإن بؤسا زائلا * للمرء خير من نعيم زائل
وعن النصرأباذي أنه إن كان خلودهم لشهوة الأنفس ولذة الأعين فالفناء خير من ذلك وإن كان لفناء الأوصاف والاتصاف بصفات الحق والمقام فيها على سرر الرضا والمشاهدة فأنتم إذا أنتم، وأنت تعلم أن ما ذكره يدخل في عموم ما تقدم دخولا أوليا، وذكر بعضهم هنا أن الخطاب هنا من باب الالتفات وأنه للتشريف.
وقال الطيبي: ذق مع طبعك المستقيم معنى الخطاب والالتفات وتقديم الظرف في * (وأنتم فيها خالدون) * لتقف على ما لا يكتنهه الوصف.
* (وتلك الجنة التىأورثتموها بما كنتم تعملون) *.
* (وتلك الجنة) * مبتدأ وخبر وقوله تعالى: * (التي أورثتموها) * صفة الجنة وقوله سبحانه: * (بما كنتم تعملون) * متعلق بأورثتموها، وقيل: * (تلك الجنة) * مبتدأ وصفة و * (التي أورثتموها) * الخبر والجار بعده متعلق به، وقيل: تلك مبتدأ والجنة صفتها والتي أورثتموها صفة الجنة وبما كنتم متعلق بمحذوف هو الخبر.
والإشارة على الوجه الأول إلى الجنة المذكورة في قوله تعالى: * (ادخلوا الجنة) * وعلى الأخيرين إلى الجنة الواقعة صفة على ما قيل، والباء للسببية أو للمقابلة، وقد شبه ما استحقوه بأعمالهم الحسنة من الجنة ونعيمها الباقي لهم بما يخلفه المرء لوارثه من الأملاك والأرزاق ويلزمه تشبيه العمل نفسه بالمورث اسم فاعل فاستعير الميراث لما استحقوه ثم اشتق أورثتموها فيكون هناك استعارة تبعية، وقال بعض: الاستعارة تمثيلية.
وجوز أن تكون مكنية، وقيل: الإرث مجاز مرسل للنيل والأخذ، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فالكافر يرث المؤمن منزله في النار والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة وذلك قوله تعالى: * (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) * ولا يخلو الكلام عن مجاز عليه أيضا، وأيا ما كان فسببية العمل لإيراث الجنة ونيلها ليس إلا بفضل الله تعالى ورحمته عز وجل، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل أحدكم الجنة عمله " ففي إدخال العمل الجنة على سبيل الاستقلال والسببية التامة فلا تعارض.
وأخرج هناد. وعبد بن حميد في الزهر عن ابن مسعود قال: تجوزون الصراط بعفو الله تعالى وتدخلون الجنة برحمة الله تعالى وتقتسمون المنازل بأعمالكم فتأمل.
وقرىء * (ورثتموها) *.
* (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون) *.
* (منها تأكلون) * أي لا تأكلون إلا بعضها وأعقابها باقية في أشجارها فهي مزينة بالثمار أبدا موقرة بها لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا، وفي الحديث " لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها ءلا نبت مكانها مثلاها " فمن تبعيضية وجوز كونها ابتدائية، والتقديم للحصر الإضافي وقيل لرعاية الفاصلة.
ولعل تكرير ذكر المطاعم في القرآن العظيم مع أنها كلا شيء بالنسبة إلى سائر أنواع نعيم الجنة لما كان بأكثرهم في الدنيا من الشدة والفاقة فهو تسلية لهم، وقيل: إن ذلك لكون أكثر المخاطبين عواما نظرهم مقصور على الأكل والشرب. وتعقب بأنه غير تام وللصوفية، كلام سيأتي في مواضع إن شاء الله تعالى عز وجل:
* (إن المجرمين فى عذاب جهنم خ‍الدون) *.
* (إن المجرمين) *
101

أي الراسخين في الأجرام الكاملين فيه وهم الكفار فكأنه قيل: إن الكفار * (في عذاب جهنم خالدون) * وأيد إرادة ذلك بجعلهم قسيم المؤمنين بالآيات في قوله تعالى: * (الذين آمنوا بآياتنا) * (الزخرف: 69) فلا تدل الآية على خلود عصاة المؤمنين كما ذهب إليه المعتزلية والخوارج، ولا يضر عدم التعرض لبيان حكمهم بناء على أن المراد بالذين آمنوا المتقون لقوله تعالى: * (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) * (الزخرف: 68) والقول بأن الذين آمنوا شامل لهم لأن العلة إيمانهم وإسلامهم لا يخفى ما فيه. والظرف متعلق بخالدون وخالدون خبر إن، وجوز أن يكون الظرف هو الخبر وخالدون فاعله لاعتماده.
* (لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون) *.
* (لا يفتر عنهم) * أي لا يخفف عنهم من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا، والمادة بأي صيغة كانت تدل على الضعف مطلقا * (وهم فيه) * أي في العذاب، وقرأ عبد الله * (فيها) * أي في جهنم * (مبلسون) * حزينون من شدة البأس، قال الراغب: الإبلاس الحزن المعترض من شدة البأس ومنه اشتق إبليس فيما قيل.
ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته انتهى، وقد فسر الإبلاس هنا بالسكوت وانقطاع الحجة.
* (وما ظلمن‍اهم ول‍اكن كانوا هم الظ‍المين) *.
* (وما ظلمناهم ول‍اكن كانوا هم الظالمين) * لسوء اختيارهم، و * (هم) * ضمير فصل فيفيد التخصيص، وقرأ عبد الله. وأبو زيد * (الظالمون) * بالرفع على أن هم مبتدأ وهوخبره، وذكر أبو عمر الجرمي أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ويرفعون ما بعده على الخبر، وقال أبو زيد: سمعتهم يقرؤن * (تجدوه عند الله هو خير وأعظم) * برفع خير وأعظم، وقال قيس بن ذريح: تحن إلى ليلى وأنت تركتها * وكنت عليها بالملا أنت أقدر
وقال سيبويه: بلغنا أن رؤبة كان يقول أظن زيدا هو خير منك يعني بالرفع * (ونادوا) * أي من شدة العذاب.
وفي بعض الآثار يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون: ادعوا مالكا فيدعون.
* (ونادوا يام‍الك ليقض علينا ربك قال إنكم م‍اكثون) *.
* (يا مالك ليقض علينا ربك) * أي ليمتنا من قضى عليه إذا أماته، ومرادهم سل ربك أن يقضي علينا حتى نستريح، وإضافتهم الرب إلى ضميره لحثه لا للإنكار، وهذا لا ينافي الإبلاس على التفسير الأول لأنه صراخ وتمنى للموت من فرط الشدة، وأما على التفسير الثاني أنه وإن نفاه لكن زمان كل غير زمان الآخر فإن أزمنة العذاب متطاولة وأحقابه ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم وعلمهم أنه لا خاص لهم ولو بالموت ويغوثون أوقاتا لشدة ما بهم. وتعقب بأنه لا يناسب دوام الجملة الاسمية أعني وهم مبلسون وقيل إن نادوا معطوف بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا، ولا يخفى أن تلك الجملة حالية لا تنفك عن الخلود.
وقرأ عليه كرم الله تعالى وجهه. وابن مسعود. وابن وثاب. والأعمش * (يامال) * بالترخيم على لغة من ينتظر وقرأ أبو السوار * (يامال) * بالترخيم أيضا لكن على لغة من لم ينتظر.
قال ابن جني: وللترخيم في هذا الموضع سر وذلك أنهم لعظم ما هم فيه ضعفت قواهم وذلت أنفسهم فكان هذا من موضع الاختصار ضرورة وبهذا يجاب عن قول ابن عباس وقد حكيت له القراءة به على اللغة الأولى: ما أشغل أهل النار عن الترخيم مشيرا بذلك إلى إنكارها فإن ما للتعجب وفيها معنى الصد يعني أنهم في حالة تشغلهم عن الالتفات إلى الترخيم وترك النداء على الوجه الأكثر في الاستعمال وحاصل الجواب أن هذا الترخيم لم يصدر عنهم لقصد التصرف في الكلام والتفنن فيه كما في قوله:
102

يحيى رفات العظام بالية * والحق يامال غير ما تصف
بل للعجز وضيق المجال عن الاتمام كما يشاهد في بعض المكر وبين * (قال) * أي مالك * (إنكم ماكثون) * مقيمون في العذاب أبدا لا خلاص لكم منه بموت ولا غيره، وهذا تقنيط ونكاية لهم فوق ما هم فيه ولا يضر في ذلك علمه بيأسهم إن قلنا به.
وذكر بعض الأجلة أن فيه استهزاء لأنه أقام المكث مقام الخلود والمكث يشعر بالانقطاع لأنه كما قال الراغب ثبات مع انتظار، ويمكن أن يكون وجه الاستهزاء التعبير بماكثون من حيث أنه يشعر بالاختيار وإجابتهم بذلك بعد مدة.
قال ابن عباس يجيبهم بعد مضي ألف سنة، وقال نوف: بعد مائة، وقيل ثمانين، وقيل أربعين.
* (لقد جئن‍اكم بالحق ول‍اكن أكثركم للحق ك‍ارهون) *.
* (لقد جئناكم بالحق ول‍اكن أكثركم للحق كارهون) * خطاب توبيخ وتقريع من جهته تعالى مقرر لجواب مالك ومبين لسبب مكثهم، ولا مانع من خطابه سبحانه الكفرة تقريعا لهم، وقيل: هو من كلام بعض الملائكة عليهم السلام وهو كما يقول أحد خدم الملك للرعية أعلمناكم وفعلنا بكم قيل لا يجوز أن يكون من قول مالك لا لأن ضمير الجمع ينافيه بل لأن مالكا لا يصح منه أن يقوله لأنه لا خدمة له غير خزنه للنار.
وفيه بحث، وقيل: في * (قال) * ضميره تعالى فالكل مقوله عز وجل، وقيل: إن قوله تعالى: * (إنكم ماكثون) * خاتمة حال الفريقين، وقوله سبحانه لقد الخ كلام آخر مع قريش والمراد عليه جئناكم في هذه السورة أو القرآن بالحق، وعلى ما تقدم لقد جئناكم في الدنيا بالحق وهو التوحيد وسائر ما يجب الايمان به وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب ولكن أكثركم للحق أي حق كان كارهون لا يقبلونه وينفرون منه وفسر الحق بذلك دون الحق المعهود سواء كان الخطاب لأهل النار أو لقريش لمكان * (أكثركم) * فإن الحق المعهود كلهم كارهون له مشمئزون منه، وقد يقال: الظاهر العهد وعبر بالأكثر لأن من الأتباع من يكفر تقليدا. وقرىء * (لقد جئتكم) * وقوله تعالى:
* (أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون) *.
* (أم أبرموا أمرا) * كلام مبتدأ ناع على المشركين ما فعلوا من الكيد برسول الله صلى الله عليه وسلم، و * (أم) * منقطعة وما فيها معنى بل للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء والهمزة للإنكار فإن أريد بالإبرام الأحكام حقيقة فهي لإنكار الوقوع واستبعاده، وإن أريد الأحكام صورة فهي لإنكار الواقع واستقباحه أي بل أبرم مشركو مكة أمرا من كيدهم ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم * (فانا مبرمون) * كيدنا حقيقة لا هم أو فإنا مبرمون كيدنا بهم حقيقة كما أبرموا كيدهم صورة كقوله تعالى: * (أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون) * (الطور: 42) والآية إشارة إلى ما كان منهم من تدبير قتله عليه الصلاة والسلام في دار الندوة وإلى ما كان منه عز وجل من تدميرهم، وقيل: هو من تتمية الكلام السابق، والمعنى أم أبرموا في تكذيب الحق ورده ولم يقتصروا على كراهته فإنا مبرمون أمرا في مجازاتهم، فإن كان ذاك خطابا لأهل النار فإبرام الأمر في مجازاتهم هو تخليدهم في النار معذبين؛ وإن كان خطابا لقريش فهو خذلانهم ونصر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فكأنه قيل: فإنا مبرمون أمرا في مجازاتهم وإظهار أمرك، وفيه إشارة إلى أن إبرامهم لا يفيدهم، ولا يغني عنهم شيئا والعدول عن الخطاب في أكثركم إلى الغيبة في أبرموا على هذا
103

القيل للاشعار بأن ذلك أسوأ من كراهتهم ويؤيده ما ذكر أولا على ما قيل قوله تعالى:
* (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون) *.
* (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم) * لأنه يدل على أن ما أبرموه كان أمرا قد أخفوه فيناسب الكيد دون تكذيب الحق لأن الكفرة مجاهرون فيه والمراد بالسر هنا حديث النفس أي بل أيحسبون أنا لا نسمع حديث أنفسهم بذلك الكيد * (ونجواهم) * أي تناجيهم وتحادثهم سرا.
وقال غير واحد: السر ما حدثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال والنجوي ما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي * (بلى) * نسمعهما ونطلع عليهما * (ورسلنا) * الذين يحفظون عليهم أعمالهم * (لديهم) * ملازمون لهم * (يكتبون) * أي يكتبونهما أو يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال التي من جملتها ما ذكر.
والمضارع للاستمرار التجددي، وهو مع فاعله خبر و * (لديهم) * حال قدم للفاصلة أو خبر أيضا وجملة المبتدأ والخبر إما عطف على ما يترجم عنه بلى أو حال أي نسمع ذلك والحال أن رسلنا يكتبونه، وإذا كان المراد بالسر حديث النفس فالآية ظاهرة في أن السر والكلام المخيل مسموع له تعالى، وكذا هي ظاهرة في أن الحفظة تكتبه كغيره من أقوالهم وأفعالهم الظاهرة، ولا يبعد ذلك بأن يطلعهم الله تعالى عليه بطريق من طرق الاطلاع فيكتبوه.
ومن خص كتابهم بالأمور الغير القلبية خص السر بما حدث به الغير في مكان خال؛ والظاهر أن حسبانهم ذلك حقيقة ولا يستبعد من الكفرة الجهلة، فقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة عند الكعبة وأستارها قرشيان وقفي أو ثقفيان وقرشي فقال واحد منهم ترون الله تعالى يسمع كلامنا فقال واحد: إذا جهرتم سمع وإذا أسررتم لم يسمع فنزلت * (أم يحسبون الآية) *.
وقيل: إنهم نزلوا في إقدامهم على الباطل وعدم خوفهم من الله عز وجل منزلة من يحسب أن الله سبحانه لا يسمع سره ونجواه * (قل) * أي للكفرة تحقيقا للحق وتنبيها لهم على أن مخالفتك لهم بعدم عبادتك ما يعبدون من الملائكة عليهم السلام ليس لبغضك وعداوتك لهم أو لمعبوديهم بل إنما هو لجزمك باستحالة ما نسبوا إليهم وبنوا عليه عبادتهم من كونهم بنات الله سبحانه وتعالى * (إن كان للرحم‍ان ولد فأنا أول الع‍ابدين) * أي لذلك الولد وكان بمعنى صح كما يقال ما كان لك أن تفعل كذا وهو أحد استعمالاتها، و * (أول) * أفعل تفضيل والمفضل عليه المقول لهم، وجوز اعتبار ذلك مطلقا، والمراد إظهار الرغبة والمسارعة، والمنساق إلى الذهن الأول.
ووجه الملازمة أنه عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بشؤنه تعالى وبما يجوز عليه وبما لا يجوز وأحرصهم على مراعاة حقوقه وما توجبه من تعظيم ولده سبحانه فإن حق الوالد على شخص يوجب عليه تعظيم ولده لما أن تعظيم الولد تعظيم الوالد، فالمعنى إن كان للرحمان ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فإنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم أبيه، وهذا نفي لكينونة ولد له سبحانه على أبلغ وجه وهو الطريق البرهاني والمذهب الكلامي، فإنه في الحقيقة قياس استثنائي استدل فيه بنفي اللازم البين انتفاؤه وهو عبادته صلى الله عليه وسلم للولد على نفي الملزوم وهو كينونة الولد له سبحانه، وذلك نظير قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) لكنه جيء بأن دون لو لجعل ما في حيزها بمنزلة ما لا قطع بعدمه على
طريق المساهلة وإرخاء العنان للتبكيت والإفحام.
104

وفي الكشف أن في الآية مبالغة من حيث أنه جعل الممكن في نفسه أعني عبادته عليه الصلاة والسلام لما يدعونه ولدا محالا فهو نفي لعبادة الولد على أبلغ وجه حيث جعل مسببا عن محال ثم نفي للولد كذلك من طريق آخر وهو أنه لما لم يعبد صلى الله عليه وسلم الولد مع كونه أولى بعبادته لو كان دل على نفيه، ونحوها ذكر في الآية مرويا عن قتادة. والسدى. والطبري.
وأخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد. وابن جرير عن مجاهد أن المعنى قل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول من عبد الله تعالى وحده وكذبكم بما تقولون فالمراد من كونه عليه الصلاة والسلام أول العابدين كونه صلى الله عليه وسلم من ينكر ذلك عليهم، والملازمة في الشرطية باعتبار أن نسبتهم الولد له تعالى تقتضي أن يكذبهم النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون أول من ينكره لأنه صاحب الدعوة إلى التوحيد، وقد خفى ذلك على الإمام فنفى صحة هذا الوجه، وتكلف بعضهم فقال: إن تسبب الجزاء عن الشرط عليه باعتبار الأولية في العبادة والتوحيد من بينهم فإنهم إذا أطبقوا على ذلك الزعم يكون النبي صلى الله عليه وسلم أولهم في عبادة الله تعالى وحده لا محالة، وقيل: إن السببية باعتبار الأخبار والذكر نحو أن تضربني فأنا لا أضربك وهو أولى مما قبله، والإنصاف أن الارتباط خفي لا يظهر إلا لمجاهد، وحكى أبو حاتم عن جماعة ولم يسم أحدا منهم أن * (العابدين) * من عبد يعبد كفرح يفرح إذا أنف من الشيء، ومنه قوله: وأعبد أن اهجو كليبا بدارم
وقول الآخر: متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله * ويعبد عليه لا محالة ظالما
أي أن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين من الولد أو من كونه لله سبحانه ونسبته له عز وجل. وروي نحو هذا عن ابن عباس أخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: * (فأنا أول العابدين) * فقال: أنا أول من ينفر عن أن يكون لله تعالى ولد، وأيد ذلك بقراءة السلمي. واليماني * (العبدين) * جمع عبد كحذر وحذرين وهو المعروف في معنى أنف وقلما يقال فيه فابد، ومن هنا ضعف ابن عرفة هذا الوجه لما فيه من استعمال ما قل استعماله في كلامهم، وذكر الخليل في كتاب " العين " أنه قرىء * (العبدين) * بسكون الباء تخفيف العبدين بكسرها، وقال أبو حاتم: العبد بكسر الباء الشديد الغضب، وقال أبو عبيدة: العرب تقول عبدني حقي أي جحدني، وروي عن الحسن. وابن زيد. وزهير بن محمد وهو رواية عن ابن عباس. وقتادة. والسدى أيضا أن * (إن) * نافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال ذلك وعبد ووحد، و * (كان) * عليه للاستمرار والمقصود استمرار النفي لا نفي الاستمرار والفاء للسببية. وتعقب بأنه خلاف الظاهر مع خفاء وجه السببية أو حسنها، وزعم مكي أنه لا يجوز لا يهامه نفي الولد فيما مضى وهو كما ترى.
وقرأ عبد الله. وابن وثاب. وطلحة. والأعمش. وحمزة. والكسائي كما قال القاضي * (ولد) * بضم الواو وسكون اللام جمع ولد بفتحهما.
* (سبح‍ان رب السم‍اوات والارض رب العرش عما يصفون) *.
* (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون) * أي عن وصفهم أو الذي يصفونه
105

به من كونه سبحانه له ولد، وفي إضافة اسم الرب إلى أعظم الإجرام وأقواها تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت تحت ملكوته تعالى وربوبيته عز وجل كيف يتوهم أن يكون شيء منها جزأ منه سبحانه وهو ينافي وجوب الوجود، وفي تكرير ذلك الاسم الجليل تفخيم لشأن العرش.
* (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يل‍اقوا يومهم الذى يوعدون) *.
* (فذرهم) * فدعهم غير ملتفت إليهم حيث لم يذعنوا للحق بعد ما سمعوا هذا البرهان الجلي * (يخوضوا) * في أباطيلهم * (ويلعبوا) * في دنياهم فإن ما هم فيه من الأقوال والأفعال ليس إلا من باب الجهل، والجزم لجواب الأمر * (حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) * وهو يوم القيامة عند الأكثرين، وعن عكرمة. وجماعة أنه يوم بدر وقد وعدوا الهلاك فيه، وقريب منه تفسيره بيوم الموت، وقيل: ينبغي تفسيره به دون يوم القيامة لأن الغاية للخوض واللعب إنما هو يوم الموت لانقطاعهما بالموت، وانتصر للأكثرين بأن يوم القيامة هو الويم الموعود وبه سمي في لسان الشرع وتفسيره بذاك مخالف للمعروف ولما بعد من ذكر الساعة، وما ذكر من أمر الانقطاع مدفوع بأن الموت وما بعده في حكم القيامة ولذا ورد من مات فقد قامت قيامته ومثله قد يراد به الدلالة على طول المدة مع قطع النظر عن الانتهاء فيقال: لا يزال في ضلالة إلى أن تقوم القيامة.
وقرأ أبو جعفر. وابن محيصن. وعبيد بن عقيل. عن أبي عمرو * (يلقوا) * مضارع لقي، والآية قيل منسوخة بآية السيف.
* (وهو الذى فى السمآء إل‍اه وفى الارض إل‍اه وهو الحكيم العليم) *.
* (وهو الذي في السماء إلاه وفي الأرض الاه) * الظرفان متعلقان بإله لأنه صفة بمعنى معبود من أله بمعنى عبد وهو خبر مبتدأ محذوف أي هو إله وذلك عائد الموصول وحذف لطول الصلة بمتعلق الخبر والعطف عليه.
وقال غير واحد: الجار متعلق بإله باعتبار ما ينبىء عنه من معنى المعبودية بالحق بناء على اختصاصه بالمعبود بالحق وهذا كتعلق الجار بالعلم المشتهر بصفة نحو قولك: هو حاتم في طيء حاتم في تغلب، وعلى هذا تخرج قراءة عمر. وعلي. وعبد الله. وأبي. والحكم بن أبي العالي. وبلال بن أبي بردة. وابن يعمر. وجابر. وابن زيد. وعمر بن عبد العزيز. وأبو شيخ الهنائي. وحميد. وابن مقسم. وابن السميقع * (وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله) * فيعلق الجار بالاسم الجليل باعتبار الوصف المشتهر به، واعتبر بعضهم معنى الاستحقاق للعبادة وعلل ذلك بأن العبادة بالفعل لا تلزم، وجوز كون الجار والمجرور صلة الموصول، و * (إله) * خبر مبتدأ محذوف أيضا على أن الجملة بيان للصلة وأن كونه سبحانه في السماء على سبيل الإلهية لا على معنى الاستقرار.
واختيار كون * (إله) * في هذا الوجه خبر مبتدأ محذوف على كونه خبرا آخر للمبتدأ المذكور أو بدلا من الموصول أو من ضميره بناء على تجويزه لأن إبدال النكرة الغير الموصوفة من المعرفة إذا أفادت ما لم يستفد أولا كما هنا جائز حسن على ما قال أبو علي في الحجة لأن البيان ههنا أتم وأهم فلذا رجح مع ما فيه من التقدير وحينئذ فلا فاصل أجنبي بين المتعاطفين، ولا يجوز كون اجلار والمجرور خبر مقدما وإله مبتدى مؤخرا للزوم خلو الجملة عن العائد مع فساد المعنى، وفي الآية نفي الآلهة السماوية والأرضية واختصاص الإلهية به عز جل لما فيها من تعريف طرفي الإسناد، والموصول في مثل ذلك كالمعرف بالأداة وللاعتتاء بكل من إلهيته تعالى في السماء وإلهيته عز وجل في الأرض قيل دوهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) * ولم يقل: وهو الذي في السماء وفي الأرض إله أو هو الذي في السماء والأرض إله، وحديث الإعادة قيل مما لا يجري ههنا لأن القاعدة أغلبية كأكثر قواعد العربية.
وقال بعض الأفاضل: يجوز إجراء القاعدة فيه والمغايرة بين الشيئين أعم من أن تكون بالذات أو بالوصف
106

والاعتبار والمراد هنا الثاني ولا شك أن طريق عبادة أهل السماء له تعالى غير طريق عبادة أهل الأرض على ما يشهد به تتبع الآثار فإذا كان إله بمعنى معبود كان معنى الآية أنه تعالى معبود في السماء على وجه ومعبود في الأرض على وجه آخر، وإن كان بمعنى التحير فيه فالتحير في أهل السماء غير التحير في أهل الأرض فلا جرم تكون أطوارهم مخالفة لأطوار أهل الأرض، ومن ذلك اختلاف علومهم فإن علوم أهل الأرض إن كانت ضرورية فأكثرها مستندة إلى الحس وإن كانت نظرية كانت مكتسبة من النظر فإذا انسد طريق النظر والحس عجزوا وتحيروا ولا كذلك أهل السماء لتنزههم عن الكسب والحسن فتحيرهم على نحو آخر، أو نقول التحير في إدراك ذاته تعالى وصفاته إنما ينشأ من مشاهدة آثار عظمته وكمال قدرته سبحانه ولا شك أن تلك الآثار في السماء أعظم من الآثار في الأرض وعليه فيجوز أن يكون الإله بمعنى المتحير فيه ويكون مجازا عن عظيم الشأن من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم فيكون المعنى أنه تعالى عظيم الشأن في السماء على نحو وعظيم الشأن في الأرض على نحو آخر اه‍، ولا يخلو عن شيء كما لا يخفى * (وهو الحكيم العليم) * كالدليل على النفي والاختصاص المشار إليهما فإن من لا يتصف بكمال الحكمة والعلم لا يستحق الإلهية.
* (وتبارك الذى له ملك السم‍اوات والارض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون) *.
* (وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما) * كالهواء ومخلوقات الجو المشاهدة وغيرها * (وعنده علم الساعة) * أي العلم بالساعة أي الزمان الذي تقوم القيامة فيه فالمصدر مضاف لمفعوله، والساعة بمعناها اللغوي وهو مقدار قليل من الزمان، ويجوز أن يراد بها معناها الشرعي وهو يوم القيامة، والمحذور مندفع بأدنى تأمل، وفي تقديم الخبر إشارة إلى استئثاره تعالى بعلم ذلك * (وإليه ترجعون) * للجزاء، والالتفات إلى الخطاب للتهديد، وقرأ الأكثر بياء الغيبة والفعل في القراءتين مبني للمفعول؛ وقرىء بفتح تاء الخطاب والبناء للفاعل، وقرىء * (تحشرون) * بتاء الخطاب أيضا والبناء للمفعول.
* (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشف‍اعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) *.
* (ولا يملك الذين يدعون) * أي ولا يملك آلهتهم الذين يدعونهم * (من دونه الشفاعة) * كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله عز وجل، وقرىء * (تدعون) * بتاء الخطاب والتخفيف؛ والسلمي. وابن وقاب بها وشد الدال * (إلا من شهد بالحق) * الذي هو الوتحيد * (وهم يعلمون) * أي يعلمونه، والجملة في موضع الحال، وقيد بها لأن الشهادة عن غير علم بالمشهود به لا يعول عليها، وجمع الضمير باعتبار معنى من كما كما أن الافراد أولا باعتبار لفظه، والمراد به الملائكة. وعيسى وعزيز. وأضرابهم صلاة الله تعالى وسلامه عليهم، والاستثناء قيل: متصل إن أريد بالذين يدعون من دونه كل ما يعبد من دون الله عز وجل ومنفصل إن أريد بذلك الاصنام فقط، وقيل: هو منفصل مطلقا وعلل بإن المراد نفي ملك الآلهة الباطلة السفاعة للكفرة ومن شهد بالحق منها لا يملك الشفاعة لهم أيضا وإنما يملك الشفاعة للمؤمنين فكأنه قيل على تقدير التعميم: ولا يملك الذين يدعونهم من دون الله تعالى كائنين ما كانوا السفاعة لهم لكن من شهد بالحق يملك الشفاعة لمن شاء الله سبحانه من المؤمنين؛ فالكلام نظير قولك) ما جاء القوم إلى إلا زيدا جاء إلى عمرو فتأمل.
وقال مجاهد. وغيره: المراد بمن شهد بالحق المشفوع فيهم، وجعل الاستثناء عليه متصلا والمستثنى منه محذوفا كأنه قيل: ولا يملك هؤلاء الملائكة واضرابهم الشفاعة في أحد إلا فيمن وحد عن إيقان وإخلاص
107

ومثله في حذف المستثنى منه قوله: نجا سالم والنفس منه بشرقة * ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
أي ولم ينج شيء إلا جفن سيف، واستدل بالآية على أن العلم ما لا بد منه في الشهادة دون المشاهدة.
* (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون) *.
* (ولئن سألتهم من خلقهم) * أي سألت العابدين أو المعبودين * (ليقولن الله) * لتعذر المكابرة في ذلك من فرط ظهوره ووجه قول المعبودين ذلك أظهر من أن يخفى * (فأنى يؤفكون) * فكيف يصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره سبحانه ويشركونه معه عز وجل مع إقرارهم بأنه تعالى خالقهم أو مع علمهم بإقرار آلهتهم بذلك، والفاء جزائية أي إذا كان الأمر كذلك فإني الخ، والمراد التعجب من اشراكهم مع ذلك، وقيل: المعنى فكيف يكذبون بعد علمهم بذلك فهو تعجب من عبادة غيره تعالى وإنكارهم للتوحيد مع أنه مركوز في فطرتهم، وأيا ما كان فهو متعلق بما قبله من التوحيد والإقرار بأنه تعالى هو الخالق، وأما كون المعنى فكيف أو أين يصرفون عن التصديق بالبعث مع أن الإعادة أهون من الإبداء وجعله متعلقا بأمر الساعة كما قيل فيأباه السياق.
وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو * (تؤفكون) * بتاء الخطاب.
* (وقيله يارب إن ه‍اؤلاء قوم لا يؤمنون) *.
* (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) * بجر * (قيله) * وهي قراءة عاصم. وحمزة. والسلمي. وابن وثاب: والأعمش.
وقرأ الأعرج. وأبو قلابة. ومجاهد. والحسن. وقتادة. ومسلم بن جندب برفعه وهي قراءة شاذة.
وقرأ الجمهور بنصبه، واختلف في التخريج فقيل الجر على عطفه على لفظ الساعة في قوله تعالى: * (وعنده علم الساعة) * أي عنده علم قيله، والنصب على عطفه على محلها لأنها في محل نصب بعلم المضاف إليها فإنه كما قدمنا مصدر مضاف لمفعوله فكأنه قيل: يعلم الساعة ويعلم قيله، والرفع على عطفه على * (علم الساعة) * على حذف مضاف والأصل وعلم قيله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ونسب الوجه الأول لأبي علي والثالث لابن جنى وجميع الأوجه للزجاج وضمير * (قيله) * عليها للرسول صلى الله عليه وسلم المفهوم من قوله تعالى: * (ولئن سألتهم) * والقيل والقال والقول مصادر جاءت بمعنى واحد، والمنادي وما في حيزه مقول القول، والكلام خارج مخرج التحسر والتحزن والتشكي من عدم إيمان أولئك القوم، وفي الإشارة إليهم بهؤلاء دون قوله قومي ونحوه تحقير لهم وبتر منهم لسوء حالهم، والمراد من أخباره تعالى بعلمه ذلك وعيده سبحانه إياهم، وقيل: الجر على إضمار حرف القسم والنصب على حذفه وإيصال فعله إليه محذوفا والرفع على نحو لعمرك لأفعلن وإليه ذهب الزمخشري وجعل المقول يا رب وقوله سبحانه: * (إن هؤلاء) * الخ جواب القسم على الأوجه الثلاثة وضمير * (قيله) * كما سبق، والكلام اخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون وإقسامه سبحانه عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: يا رب لرفع شأنه عليه الصلاة والسلام وتعظيم دعائه والتجائه إليه تعالى، والواو عنده للعطف أعني عطف الجملة القسمية على الجملة الشرطية لكن لما كان القسم بمنزلة الجملة الاعتراضية صارت الواو كالمضمحل عنها معنى العطف، وفيه أن الحذف الذي تضمنه تخريجه من ألفاظ شاع استعمالها في القسم كعمرك وايمن الله واضح الوجه على الأوجه اللثلاثة، وأما في غيرها كالقيل هنا فلا حكاه في البحر وهو كما ترى، وقيل: النصب على العطف على مفعول يكتبون المحذوف أي يكتبون أقوالهم
108

وأفعالهم وقيله يا رب الخ وليس بشيء، وقيل: هو على العطف على مفعول يعلمون أعني الحق أي يعلمون الحق وقيل الخ، وهو قول لا يكاد يعقل، وعن الأخفش أنه على العطف على * (سرهم ونجواهم) * ورد بأنه ليس بقوى في المعنى مع وقوع الفصل بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم. وتعقب أن ما ذكر من الفصل ظاهر وأما ضعف المعنى وتنافر النظم فغير مسلم لأن تقديره أم يحسبون أنه لا نسمع سرهم ونجواهم وانا لا نسمع قيله الخ وهو منتظم أتم انتظام، وعنه أيضا أنه على اضمار فعل من القيل ناصب له على المصدرية والتقدير قال قيله ويؤيده قراءة ابن مسعود دوقال الرسول) * والجملة معطوفة على ما قبلها. ورد بأنه لا يظهر فيه ما يحسن عطفه على الجملة قبله وليس التأكيد بالمصدر في موقعه ولا ارتباط لقوله تعالى: * (فاصفح) * به، وقال العلامة الطيبي: في توجيهه إن قوله تعالى: * (ولئن سألتهم) * تقديره وقلنا لك: ولئن سألتهم الخ وقلت: يا رب يأسا من إيمانهم وإنما جعل غائبا على طريق الالتفات لأنه كأنه صلى الله عليه وسلم فاقد نفسه للتحزن عليهم حيث لم ينفع فيهم سعيه واحتشاده، وقيل: الواو على هذا الوجه للحال وقال بتقدير قد والجملة حالية أي فاني يؤفكون وقد قال الرسول يا رب الخ، وحاصله فإني يؤفكون وقد شكا الرسول عليه الصلاة والسلام اصرارهم على الكفر وهو خلاف الظاهر، وقيل: الرفع على الابتداء والخبر يا رب إلى لا يؤمنون أو هو محذوف أي مسمون أو متقبل فملة النداء وما بعده في موضع نصب بقيله والجملة حال أو معطوفة، ولا يخفى ما في ذلك، والأوجه عندي ما نسب إلى الزجاج، والاعتراض عليه بالفصل هين، وبضعف المعنى والتنافر غير مسلم، ففي الكشف بعد ذكر تخريج الزجاج الجر أن الفاصل أعني من قوله تعالى: * (وإليه ترجعون - إلى - يؤفكون) * (الزخرف: 85 - 87) يصلح اعتراضا لأن قوله سبحانه * (وعنده علم الساعة) * (الزخرف: 85) مرتبط بقوله تعالى: * (حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) * (الزخرف: 83) على ما لا يخفى، والكلام مسوق للوعيد البالغ بقوله تعالى: * (وإليه ترجعون) * إلى قوله عز وجل: * (وهم يعلمون) * (الزخرف: 86) متصل بقوله تعالى: * (وعنده علم الساعة) * (الزخرف: 85) اتصال العصا بلحاها، وقوله تعالى: * (ولئن سألتهم) * خطاب لمن يتأنى منه السؤال تتميم لذلك الكلام باستحقاقهم ما أوعدوه لعنادهم البالغ، ومنه يظهر وقوع التعجب في قوله سبحانه: * (فأني يؤفكون) * وعلى هذا ظهر ارتباط وعلم قيله بقوله تعالى: * (وعنده علم الساعة) * وأن الفاصل متصل بهما اتصالا يجل موقعه، ومن هذا التقرير يلوح أن ما ذهب إليه الزجاج في الأوجه الثلاثة حسن، ولك أن ترجحه على ما ذهب إليه الأخفش بتوافق القراءتين، وأن حمل * (ولئن سألتهم) * على الخطاب المتروك إلى غير معين أوفق بالمقام من حمله على خطابه عليه الصلاة والسلام وسلامته من اضمار القول قبل قوله تعالى: * (ولئن سألتهم) * مع أن السياق غير ظاهر الدلالة عليه اه‍، وهو أحسن ما رأيته للمفسرين في هذا المقام. وقرأ أبو قلابة * (يا رب) * بفتح الباء ووجه ظاهر.
* (فاصفح عنهم وقل سل‍ام فسوف يعلمون) *.
* (فاصفح) * فأعرض * (عنهم) * ولا تطمع في إيمانهم، وأصل الصفح لي صفحة العنق فكنى به عن الإعراض.
* (وقل) * لهم * (سلام) * أي امرى سلام تسلم منكم ومتاركة فليس ذلك أمرا بالسلام عليهم والتحية وإنما هو أمر بالمتاركة، وحاصله إذا أبيتم القبول فأمري التسلم منكم، واستدل بعضهم بذلك على جواز السلام على الكفار وابتدائهم بالتحية، أخرج ابن أبي شيبة. عن شعيب بن الحبحاب قال: كنت مع علي بن عبد الله البارقي فمر علينا يهودي أو نصراني فسلم عليه قال شعيب: فقلت: إنه يهودي أو نصراني فقرأ على آخر سورة الزخرف * (وقيله يا رب) * إلى الآخر، وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن عون بن عبد الله أنه قال قلت لعمر بن عبد العزيز كيف
109

تقول أنت في ابتداء أهل الذمة بالسلام؟ فقال: ما أرى بأسا أن نبتدئهم قلت لم؟ قال: لقوله تعالى: * (فاصفح عنهم وقل سلام) * ومما ذكرنا يعلم ضعفه، وقال
السدى: المعنى قل خيرا بدلا من شرهم، وقال مقاتل: اردد عليهم معروفا، وحكى الماوردي أي قل ما تسلم به من شرهم والكل كما ترى والحق ما قدمنا * (فسوف يعلمون) * حالهم السيئة وإن تأخر ذلك وهو وعيد من الله سبحانه لهم وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقرأ أبو جعفر. والحسن. والأعرج. ونافع. وهشام * (تعلمون) * بتاء الخطاب على أنه داخل في حيز * (قل) * وإن أريد من الآية الكف عن القتال فهي منسوخة وإن أريد الكف عن مقابلتهم بالكلام فليست بمنسوخة والله تعالى أعلم.
سورة الدخان
مكية كما روي عن ابن عباس. وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم واستثنى بعض قوله تعالى: * (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) * (الدخان: 15) وآيها كما قال الداني تسع وخمسون في الكوفي وسبع في البصرى وست في عدد الباقين.
واختلافها على ما في مجمع البيان أربع آيات * (حم) * و * (إن هؤلاء ليقولون) * (الدخان: 34) كوفي * (شجرة الزقوم) * (الدخان: 43) عراقي شامي والمدني الأول في * (البطون) * (الدخان: 45) عراقي مكي والمدني الأخير. ووجه مناسبتها لما قبلها أنه عز وجل ختم ما قبل بالوعيد والتهديد وافتتح هذه بشيء من الإنذار الشديد وذكر سبحانه هناك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: * (يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) * (الزخرف: 88) وهنا نظيره فيما حكى عن أخيه موسى عليهما الصلاة والسلام بقوله تعالى: * (فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون) * (الدخان: 22) وأيضا ذكر فيما تقدم * (فاصفح عنهم وقل سلام) * (الزخرف: 89) وحكى سبحانه عن موسى عليه السلام * (إني عذت بربي وربكم أن ترجمون * وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون) * (الدخان: 20، 21) وهو قريب من قريب إلى غير ذلك، وهي إحدي النظائر التي كان يصلي بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرج الطبراني عن ابن مسعود الذاريات والطور والنجم واقتربت والرحمن والواقعة ونون والحاقة والمزمل ولا أقسم بيوم القيامة وهل أتى على الإنسان والمرسلات وعم يتساءلون والنازعات وعبس وويل للمطففين وعبس وويل للمطففين وإذا الشمس كورت والدخان، وورد بفضلها أخبار.
أخرج الترمذي. ومحمد بن نصر. وابن مردويه. والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك " وأخرج المذكورون عنه أيضا يرفعه من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له " وفي رواية للبيهقي. وابن الضريس عنه مرفوعا " من قرأ ليلة الجمعة حم الدخان ويس أصبح مغفورا له " وأخرج ابن الضريس عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ سورة الدخان في ليلة غفر له ما تقدم من ذنبه " وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ حم الدخان في ليلة جمعه أو يوم جمعة بني الله تعالى له بيتا في الجنة ".
* (حم * والكت‍ابالمبين) *.
* (ح‍م * والكتاب المبين) * الكلام فيه كالذي سلف في السورة السابقة.
* (إنآ أنزلن‍اه فى ليلة مب‍اركة إنا كنا منذرين) *.
* (إنا أنزلناه) * أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعول عليه * (في ليلة مباركة) * هيب ليلة القدر على ما روي عن ابن عباس. وقتادة. وابن جبير. ومجاهد. وابن زيد. والحسن. وعليه أكثر المفسرين والظواهر معهم، وقال عكرمة. وجماعة: هي ليلة النصف من شعبان. وتسمى ليلة الرحمن والليلة المباركة وليلة الصك وليلة البراءة، ووجه تسميتها بالأخيرين أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة
110

والصك كذلك أن الله عز وجل يكتب لعباده المؤمنين البراءة والصك في هذه الليلة. وظاهر كلامهم هنا أن البراءة وهي مصدر بريء براءة إذا تخلص تطلق على صك الأعمال والديون وما ضاهاها وأنه ورد في الآثار ذلك وهو مجاز مشهور وصار بذلك كالمشترك، وفي المغرب بريء من الدين والعيب براءة، ومنه البراءة لخط الابراء والجمع براءات وبروات عامية اه‍.
وأكثر أهل اللغة على أنه لم يسمع من العرب وأنه عامي صرف وإن كان من باب المجاز الواسع.
قال ابن السيد في المقتضب البراءة في الأصل مصدر برىء براءة، وأما البراءة المستعملة في صناعة الكاتب فتسميتها بذلك اما على أنها من برىء من دينه إذا أداه وبرئت من الأمر إذا تخيلت منه فكأن المطلوب منه أمر تبرأ إلى الطالب أو تخلي، وقيل: أصله أن الجاني كان إذا جنى وعفا عنه الملك تب له كاتب أمان مما خافه فكان يقال: كتب السلطان لفلان براءة ثم عمم ذلك فيما كتب من أولي الأمر وأمثالهم اه‍.
وذكروا في فضل هذه الليلة أخبارا كثيرة، منها ما أخرجه ابن ماجه. والبيهقي في شعب الإيمان عن علي كرم الله وجهه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له ألا مسترزق فأرزقه ألا مبتلي فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر " وما أخرجه الترمذي. وابن أبي شيبة. والبيهقي. وابن ماجه. عن عائشة قالت: " فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فخرجت أطلبه فإذا هو بالبيقع رافعا رأسه إلى السماء فقال يا عائشة: أكنت تخافين أن يحيف الله تعالى عليك ورسوله؟ قلت: ما بي من ذلك ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماءالدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب " وما أخرجه أحمد بن حنبل في المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يطلع الله تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن وقاتن نفسه " وذكر بعضهم فيها صلاة مخصوصة وأنها تعدل عشرين حجة مبرورة وصيام عشرين سنة مقبولا، ولاوي في ذلك حديثا طويلا عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقد أخرجه
البيهقي ثم قال: يشبه أن يكون هذا الحديث موضوعا وهو منكر وفي رواته مجهولون وأطال الوعاظ الكلام في هذه الليلة وذكر فضائلها وخواصها، وذكروا عدة أخبار في أن الآجال تنسخ فيها. وفي الدر المنثور طرف غير يسير من ذلك وسنذكر بعضا منه إن شاء الله تعالى. وفي البحر قال الحافظ أبو بكر بن العربي: لا يصح فيها شيء ولا نسخ الآجال فيها ولا يخلو من مجازفة والله تعالى أعلم. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملة إلى السماء الدنيا من الولح فالإنزال المنجم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أن المحل الذي أنزل فيه من تلم السماء البيت المعمور وهو مسامت للكعبة بحيث لو نزل لنزل عليها.
وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قال: نزل القرآن جملة على جبريل عليه السلام وكان جبريل عليه السلام يحجيء به بعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال غير واحد: المراد ابتداء إنزاله في تلك الليلة على التجوز في الطرف أو النسبة واستشكل ذلك بأن
111

ابتداء السنة المحرم أو شهر ربيع الأول لأنه ولد فيه صلى الله عليه وسلم ومنه اعتبر التاريخ في حياته عليه الصلاة والسلام إلى خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وهو الأصح، وقد كان الوحي إليه صلى الله عليه وسلم على رأس الأربعين سنة من مدة عمره عليه الصلاة والسلام على المشهور من عدة أقوال فكيف يكون ابتداء الإنزال في ليلة القدر من شهر رمضان أو في ليلة البراءة من شعبان.
وأجيب بأن ابتداء الوحي كان مناما في شهر ربيع الأول ولم يكن بأنزال شيء من القرآن والوحي يقظة من الإنزال كان في يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، وقيل لسبع منه، وقيل لأربع وعشرين ليلة منه، وأنت تعلم كثرة اختلاف الأقوال في هذا المقام فمن يقول باتبداء أنزاله في شهر يلتزم منها ما لا يأباه.
واختلف في أول ما نزل منه، ففي " صحيح مسلم " أنه * (يا أيها المدثر) * (المدثر: 1) وتعقبه النووي في شرحه فقال: إنه ضعيف بل باطل والصواب أن أول ما نزل على الأطلاق * (اقرأ باسم ربك) * (العلق: 1) كما صرح به في حديث عائشة، وأما * (يا أيها المدثر) * فكان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزهري عن أبي سلمة. عن جابر.
وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يكذر اه‍ والكلام في ذلك مستوفى في الاتقان فليرجع إليه من أراده.
ووصف الليلة بالبركة لما أن إنزال القرآن مستتبع للمنافع الدينية والدنيوية بأجمعها أو لما فيها من تنزل الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وفضيلة العبادة أو لما فيها من ذلك وتقدير الأرزاق وفصل الأقصية كالآجال وغيرها وإعطاء تمام الشفاعة له عليه الصلاة والسلام، وهذا بناء على أنها ليلة البراءة، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم سأل ليلة الثالق عشر من شعبان في أمته فأعطى الثلث منها ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطى الثلثين ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع إلا من شرد على الله تعالى شراد البعير، وأيا ما كان فقد قيل: إن التعليل إنما يحتاج إليه بناء على القول بما اختاره العز بن عبد السلام من أن الأمكنة والأزمنة كلها متساوية في حد ذاتها لا يفضل بعضها بعضا إلا بما يقع فيها من الأعمال ونحوها، وزاد بعضهم أو يحل لتدخل البقعة التي ضمته صلى الله عليه وسلم فإنها أفضل البقاع الأرضية والسماوية حتى قيل وبه أقول إنها أفضل من العرش.
والحق أنه لا يبعد أن يخص الله سبحانه بعضها بمزيد، تشريف حتى يصير ذلك داعيا إلى إقدام المكلف على الأعمال فيها أو لحكمة أخرى، وجملة * (إنا أنزلناه) * جواب القسم، وفي ذلك مبالغة نحو ما في قوله: وثناياك أنها إغريض
وقوله تعالى: * (إنصا كنا منذرين) * استئناف يبين المقتضى للإنزال، وقوله تعالى:
* (فيها يفرق كل أمر حكيم) *.
* (فيها يفرق كل أمر حكيم) * استئناف أيضا لبيان التخصيص بالليلة المباركة فكأنه قيل: أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزاله في تلك الليلة المباركة لأنه من الأمور الدالة على الحكم البالغة وهي ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم ففي الكلام لف ونشر، واشتراط أن يكون كل منهما بجملتين مستقلتين مما لا داعي إليه، وقيل: إن جملة * (فيها يفرق) * الخ صفة أخرى لليلة وما بينهما اعتراض لا يضر الفصل به بل لا يعد الفصل به فصلا، وقيل إن قوله تعالى: * (إنا كنا منذرين) * هو جواب القسم وما بينهما اعتراض وإليه ذهب ابن عطية زاعما أنه لا يجوز جعل * (إنا أنزلناه) * جوابا له لما فيه من القسم بالشيء على نفسه.
واعترض بأن قوله تعالى: * (فيها يفرق كل أمر حكيم) * يكون حينئذ من تتمة الاعتراض فلا يحسن تأخره عن
112

المقسم عليه ولا يدفعه أن هذه الجملة مستأنفة لا صفة أخرى لأنه استئناف بياني متعلق بما قبل كما سمعت آنفا فلا يليق الفصل أيضا كما لا يخفى على من له ذوق سليم، وما ذكر من حديث القسم بالشيء على نفسه فقد أشرنا إلى جوابه، وقيل أن قوله سبحانه: * (إنا كنا منذرين) * جواب آخر للقسم وفيه تعدد المقسم عليه من غير عطف ولم نر من تعرض له، ومعنى يفرق ويفصل ويلخص، والحكيم بمعنى المحكم لأنه لا يبدل ولا يغير بعد إبرازه للملائكة عليهم السلام بخلافه قبله وهو في اللوح فإن الله تعالى يمحو منه ما يشاء ويثبت.
وجوز أن يكون بمعنى المحكوم به ونسبته إلى الأمر عليها حقيقة، ويجوز أن يكون المعنى كل أمر ملتبس بالحكمة والأصل حكيم صاحبه فتجوز في النسبة، وقيل: إن حكيم للنسبة كتامر ولابن وقد أبهم سبحانه هذا الأمر.
وأخرج محمد بن نصر. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في ذلك: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو موت أو حياة أو
مطر حتى يكتب الحاج يحج فلان ويحج فلان. وأخرج عبد بن حميد. وابن جرير عن ربيعة بن كلثوم قال: كنت عند الحسن فقال له رجل: يا أبا سعيد ليلة القدر في كل رمضان هي؟ قال: إي والله إنها لفي كل رمضان وإنها لليلة يفرق فيها كل أمر حكيم فيها يقضي الله تعالى كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها، وروي هذا التعميم عن غير واحد من السلف.
وأخرج البيهقي عن أبي الجوزاء فيها يفرق كل أمر حكيم هي ليلة القدر يجاء بالديوان الأعظم السنة إلى السنة فيغفر الله تعالى شأنه لمن يشاء ألا ترى أنه عز وجل قال: * (رحمة من ربك) * وفيه بحث، وإلى مثل ذلك التعميم ذهب بعض من قال: إن الليلة المباركة هي ليلة البراءة، أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم من طريق محمد بن سوقة عن عكرمة أنه قال في الآية: في ليلة النصف من شعبان يبرم أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أحد، وفي كثير من الأخبار الاقتصار على قطع الآجال، أخرج ابن جرير. والبيهقي في " شعب الإيمان " عن الزهري عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخفش قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى، وأخرج الدينوري في المجالسة عن راشد بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " في ليلة النصف من شعبان يوحي الله تعالى إلى ملك الموت بقبض كل نفس يريد قبضها في تلك السنة " ونحوه كثير، وقيل: يبدأن في استنساخ كل أمر حكيم من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل عليه السلام ونسخة الحروب إلى جبرائيل عليه السلام وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ونسخة الأعمال إلى إسماعيل عليه السلام صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقضي الأقضية كلها ليلة النصف من شعبان وتسلم إلى أربابها ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان. واعترض بما ذكر على الاستدلال بالظواهر على أن الليلة المذكورة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان ومن تدبر علم أنه لا يخدش الظواهر، نعم حكي عن عكرمة أن ليلة النصف من شعبان هي ليلة القدر ويلزمه تأويل ما يأبى ظاهره ذلك فتدبر، وسيأتي إن شاء الله عز وجل الكلام في هذا المقام مستوفى على أتم وجه في تفسير سورة القدر وهو سبحانه الموفق.
وقرأ الحسن. والأعرج. والأعمش * (يفرق) * بفتح الياء وضم الراء * (كل) * بالنصب أي يفرق الله تعالى، وقرأ
113

زيد بن علي فيما ذكر الزمخشري عنه * (نفرق) * بالنون * (كل) * بالنصب وفيما ذكر أبو علي الأهوازي عنه بفتح الياء وكسر الراء ونصب * (كل) * ورفع * (حكيم) * على أنه الفاعل بيفرق، وقرأ الحسن. وزائدة عن الأعمش * (يفرق) * بالتشديد وصيغة المفعول وهو للتكثير وفيه رد على قول بعض اللغويين كالحريري أن الفرق مختص بالمعاني والتفريق بالأجسام.
* (أمرا من عندنآ إنا كنا مرسلين) *.
* (أمرا من عندنا) * نصب على الاختصاص وتنكيره للتفخيم، والجار والمجرور في موضع الصفة له وتعلقه بيفرق بيس بشيء، والمراد بالعندية أنه على وفق الحكمة والتدبير أي أعني بهذا الأمر أمرا فخيما حاصلا على مقتضى حكمتنا وتدبيرنا وهو بيان لزيادة فخامته ومدحه، وجوز كونه حالا من ضمير أمر السابق المستتر في حكيم الواقع صفة له أو من * (أمر) * نفسه، وصح مجىء الحال منه مع أنه نكرة لتخصصه بالوصف على أن عموم النكرة المضاف إليها كل مسوغ للحالية من غير احتياج الوصف، وقول السمين: إن فيه القول بالحال من المضاف إليه في غير المواضع المذكورة في النحو صادر عن نظر ضعيف لأنه كالجزء في جواز الاستغناء عنه بأن يقال: يفرق أمر حكيم على إرادة عموم النكرة في الإثبات كما في قوله تعالى: * (علمت نفس ما أحضرت) * (التكوير: 14) وقيل: حال من * (كل) * وأيا ما كان فهو مغاير لذي الحال لوصفه بقوله تعالى: * (من عندنا) * فيصح وقوعه حالا من غير لغوية فيه.
وكونها مؤكدة غير متأت مع الوصفية كما لا يخفى على ذي الذهن السليم، وهو على هذه الأوجه واحد الأمور وجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهي على أنه واحد الأوامر فحينئذ يكون منصوبا على المصدرية لفعل مضمر من لفظه أي أمرنا أمرا من عندنا، والجملة بيان لقوله سبحانه: * (يفرق) * الخ، وقيل: إما أن يكون نصبا على المصدرية ليفرق لأن كتب الله تعالى للشيء إيجابه وكذلك أمره عز وجل به كأنه قيل: يؤمر بكل شأن مطلوب على وجه الحكمة أمرا فالأمر وضع موضع الفرقان المستعمل بمعنى الأمر، وإما أن يكون على الحالية من فاعل * (أنزلنا) * أو مفعوله أي إنا أنزلناه آمرين أمرا أو حال كون الكتاب أمرا يجب أن يفعل؛ وفي جعل الكتاب نفس الأمر لاشتماله عليه أيضا تجوز فيه فخامة، وتعقب ذلك في " الكشف " فقال: فيه ضعف للفصل بالجملتين بين الحال وصاحبها على الثاني ولعدم اختصاص الأوامر الصادرة منه تعالى بتلك الليلة على الأول.
ووجهه أن تخص بالقرآن ولا يجعل قوله تعالى: * (فيها يفرق) * علة للإنزال في الليلة بل هو تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه: * (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) * (الدخان: 3) على معنى فيها أنزل الكتاب المبين الذي هو المشتمل على كل مأمور به حكيم كأنه جعل الكتاب كله أمرا أو ما أمر به كل المأمورات وفيه مبالغة حسنة، ولا يخفى أن في فهمه من الآية تكلفا.
وقال الخفاجي في أمر الفصل: إنه لا يضر ذلك الفاصل على الاعتراض وكذا على التعليل لأنه غير أجنبي.
وجوز بعضهم على تقدير أن يراد بالأمر ضد النهي كونه مفعولا له والعامل فيه * (يفرق) * أو * (أنزلنا) * أو * (منذرين) *.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (أمر) * بالرفع وهي تنصر كون انتصابه في قراءة الجمهور على الاختصاص لأن الرفع عليه فيها؛ وقوله تعالى:
* (إنا كنا مرسلين) *.
* (رحمة من ربك إنه هو السميع العليم) *.
* (رحمة من ربك) * تعليل ليفرق أو لقوله تعالى: * (أمرا من عندنا) * ورحمة مفعول به لمرسلين وتنوينها للتفخيم، والجار والمجرور في موضع الصفة لها، وإيقاع الإرسال عليها هنا كإيقاعه عليها في قوله سبحانه: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) * (فاطر: 2) والمعنى على ما في " الكشاف " يفصل في هذه الليلة كل أمر لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة أي أن المقصود الأصلي بالذات من ذلك الرحمة
114

أو تصدر الأوامر من عندنا لأن من عادتنا ذلك والأوامر الصادرة من جهته تعالى من باب الرحمة أيضا لأن الغاية لتكليف العباد تعريضهم للمنافع، وفيه كما قيل إشارة إلى أن جعله تعليلا لقوله سبحانه: أمرا من عندنا إنما هو على تقدير أن يراد بالأمر مقابل النهي وهو يجري على تقديري المصدرية والحالية.
وفي " الكشف " أن قوله: يفصل الخ أو تصدر الأوامر الخ تبيين لمعنى التعليل على التفسيرين في * (يفرق) * لأنه أما بمعنى الفصل على الحقيقة من قسمة الأرزاق وغيرها أو بمعنى يؤمر والشأن المطلوب يكون مأمورا به لا محالة فحاصله يرجع إلى قوله: أو تصدر الأوامر من عندنا لا لوجهي التعليل من تعلقه بيفرق أو بأمرا فإن تعلقه بأمرا إنما يصح إذا نصب على الاختصاص وإذ ذاك ليس الأمر ما يقابل النهي لأن الأمر إذا كان المقابل فهو إما مصدر وإنما يعلل فعله وإما حال مؤكدة فيكون راجعا إلى تعليل الإنزال المخصوص وليس المقصود وإنما لم يذكر المعنى على تقدير تعلقه بأمرا لأن المعنى الأول يصلح تفسيرا له أيضا انتهى.
والظاهر كون ذلك تبيينا لوجهي التعليل، وما ذكر في نفيه لا يخلو عن بحث كما يعرف بالتأمل، واعتبار العادة في بيان المعنى جاء من كنا فإنه يقال: كان يفعل كذا لما تكرر وقوعه وصار عادة كما صرحوا به في الكتب الحديثية وغيرها ولإفادة ذلك عدل عن أنا مرسلون الأخصر وقوله سبحانه: * (من ربك) * وضع فيه الظاهر موضع الضمير والأصل منا فجىء بلفظ الرب مضافا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم على وجه تخصيص الخطاب به صلى الله عليه وسلم تشريفا له عليه الصلاة والسلام ودلالة على أن كونه سبحانه ربك وأنت مبعوث رحمة للعالمين مما يقتضي أن يرسل الرحمة.
وقال الطيبي: خص الخطاب برسوله عليه الصلاة والسلام والمراد العموم، والأصل من ربكم وجىء بلفظ الرب ليؤذن بأن المربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين وليكون تمهيده يبتني عليه التعليل الآتي المتضمن للتعريض بواسطة الحصر بأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئا وتعقب بأنه لو أريد العموم لفاتت النكتة المذكورة ولزم أن يدخل المؤمنون في قوله تعالى: * (إن كنتم موقنين) * (الشعراء: 24) وما بعده وليس المعنى عليه وفي القلب منه شيء وفسر بعضهم الرحمة المرسلة بنبينا صلى الله عليه وسلم ولا يخفى أن صحة التعليل تأبى ذلك.
وجوز أن يكون قوله تعالى: * (إنا كنا مرسلين) * بدلا من قوله سبحانه: إنا كنا منذرين الواقع تعليلا لإنزال الكتاب بدل كل أو اشتمال باعتبار الإرسال والإنذار، ويكون * (رحمة) * حينئذ مفعولا له أي أنزلنا القرآن لأن عادتنا إرسال الرسل والكتب إلى العباد لأجل الرحمة عليهم واختيار كون الرحمة مفعولا له ليتطابق البدل والمبدل منه إذ معنى المبدل منه فاعلين الإنذار ويطابقه فاعلين الإرسال ولم يجوز كونها كذلك على وجه التعليل بل أوجب كونها مفعولا به ليصح إذ لو قيل: فيها تفصيل كل شأن حكيم لأنا فاعلون الإرسال لأجل الرحمة لم يفد أن الفصل رحمة ولا أنه سبحانه مرسل فلا يستقيم التعليل قيل وينصر نصب رحمة على المفعول قراءة الحسن وزيد بن علي برفعها لأن الكلام عليه جملة مستأنفة أي هي * (رحمة) * تعليلا للإرسال فيلائم القول بأنها في قراءة النصب مفعول له وليطابق قراءتهما في كون معنى * (إنا كنا مرسلين) * إنا كنا فاعلين الإرسال، وقال بعض أجلة المحققين: أن القول بأنه تعليل أظهر من القول بأنه بدل ليكون الكلام على نسق في التعليل غب التعليل، ولما ذكر في الحالة المقتضية للإبدال ولوقوع الفصل، وأشار على ما قيل بما ذكر في الحالة المقتضية للإبدال بأن المبدل منه غير مقصود وأنه في حكم السقوط وههنا ليس كذلك، وتعقب هذا بأنه أغلبي لا مطرد، وقوله: لوقوع الفصل أي بين البدل والمبدل
115

منه بأن الفاصل غير أجنبي فلا يضر الفصل به فتدبر، وجوز كون رحمة مصدرا لرحمنا مقدر وكونها حالا من ضمير * (مرسلين) * وكونها بدلا من * (أمرا) * فلا تغفل * (إنه هو السميع) * لكل مسموع فيسمع أقوال العباد * (العليم) * لكل معلوم فيعلم أحوالهم، وتوسيط الضمير مع تعريف الطرفين لإفادة الحصر، والجملة تحقيق لربوبيته عز وجل وأنها لا تحق إلا لمن هذه نعوته، وفي تخصيص * (السميع العليم) * على ما قال الطيبي إدماج لوعيد الكفار ووعد المؤمنين الذين تلقوا الرحمة بأنواع الشكر.
* (رب السم‍اوات والارض وما بينهمآ إن كنتم موقنين) *.
* (رب السموات والأرض وما بينهما) * بدل من * (ربك) * أو بيان أو نعت.
وقرأ غير واحد من السبعة والأعرج. وابن أبي إسحاق. وأبو جعفر. وشيبة بالرفع على أنه خبر آخر لإن أو خبر مبتدأ محذوف أي هو رب، والجملة مستأنفة لإثبات ما قبلها وتعليله * (إن كنتم موقنين) * أي إن كنتم ممن عنده شيء من الإيقان وطرف من العلوم اليقينية على أن الوصف المتعدي منزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى ما يتعلق به، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم من أهل الإيقان علمتم كونه سبحانه رب السموات والأرض لأنه من أظهر اليقينيات دليلا وحينئذ يلزمكم القول بما يقتضيه مما ذكر أولا، ويجوز أن يكون مفعوله مقدرا أي إن كنتم موقنين في إقراركم إذا سئلتم عمن خلق السموات والأرض فقلتم الله تعالى خلقهن، والجواب أيضا محذوف أي إن كنتم موقنين في إقراركم بذلك علمتم ما يقتضيه مما تقدم لظهور اقتضائه إياه، وجعل غير واحد الجواب على الوجهين تحقق عندكم ما قلناه، ولم يجوزوا جعله
مضمون * (رب السموات) * الخ لأنه سبحانه كذلك أيقنوا أم لم يوقنوا فلا معنى لجعله دالا عليه، وكذا جعله مضمون ما بعد بل هذا مما لا يحسن باعتبار العلم أيضا.
وفي هذا الشرط تنزيل إيقانهم منزلة عدمه لظهور خلافه عليهم، وهو مراد من قال: إنه من باب تنزيل العالم منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، قيل: ولا يصح أن يقال: إنهم نزلوا منزلة الشاكين لمكان قوله سبحانه بعد: * (بل هم في شك) * ولا أرى بأسا في أن يقال: إنهم نزلوا أولا كذلك ثم سجل عليهم بالشك لأنهم وإن أقروا بأنه عز وجل رب السموات والأرض لم ينفكوا عن الشك لإلحادهم في صفاته سبحانه وإشراكهم به تعالى شأنه.
وجوز أن يكون * (موقنين) * مجازا عن مريدين الإيقان والجواب محذوف أيضا أي إن كنتم مريدين الإيقان فاعلموا ذلك، وفيه بعد، وأما جعل * (إن) * نافية كما حكاه النيسابوري فليس بشيء كما لا يخفى.
* (لا إل‍اه إلا هو يحى ويميت ربكم ورب ءابآئكم الاولين) *.
* (لا إلاه إلا هو) * جملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وقيل: خبر لمبتدأ محذوف أي هو سبحانه لا إله إلا هو؛ وجملة المبتدأ وخبره مستأنفة مقررة لذلك، وقيل: خبر آخر لإن على قراءة * (رب السموات) * بالرفع وجعله خبرا، وقيل: خبر له على تلك القراءة وما بينهما اعتراض * (يحيي ويميت) * مستأنفة كما قبلها، وكذا قوله تعالى: * (ربكم ورب ءابائكم الأولين) * بإضمار مبتدأ أو بدل من * (رب السموات) * على تلك القراءة أو بيان أو نعت له، وقيل: فاعل ليميت، وفي * (يحيي) * ضمير راجع إليه والكلام من باب التنازع أو إلى * (رب السموات) *، وقيل: * (يحيي ويميت) * خبر آخر لرب السموات وكذا * (ربكم) * وقيل: هما خبران آخران لإن، وقرأ ابن أبي إسحاق. وابن محيصن. وأبو حيوة. والزعفراني وابن مقسم. والحسن. وأبو موسى. وعيسى بن سليمان. وصالح كلاهما عن الكسائي بالجر بدلا من * (رب السموات) * على قراءة الجر، وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي بالنصب على المدح.
* (بل هم فى شك يلعبون) *.
* (بل هم في شك) * إضراب إبطالي أبطل به إيقانهم لعدم جريهم على موجبه، وتنوين * (شك) * للتعظيم أي
116

في شك عظيم * (يلعبون) * لا يقولون ما يقولون مما هو مطابق لنفي الأمر عن جد وإذعان بل يقولونه مخلوطا بهزء ولعب وهذه الجملة خبر بعد خبر لهم.
وجوز أن تكون هي الخبر والظرف متعلق بالفعل قدم للفاصلة، والالتفات عن خطابهم لفرط عنادهم وعدم التفاتهم، والفاء في قوله تعالى:
* (فارتقب يوم تأتى السمآء بدخان مبين) *.
* (فارتقب) * لترتيب الارتقاب أو الأمر به على ما قبلها فإن كونهم في شك يلعبون مما يوجب ذلك حتما أي فانتظر لهم * (يوم تأتي السماء بدخان مبين) * أي يوم تأتي بجدب ومجاعة فإن الجائع جدا يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان وهي ظلمة تعرض للبصر لضعفه فيتوهم ذلك فإطلاق الدخان على ذلك المرئي باعتبار أن الرائي يتوهمه دخانا، ولا يأباه وصفه بمبين وإرادة الجدب والمجاعة منه مجاز من باب ذكر المسبب وإرادة السبب أو لأن الهواء يتكدر سنة الجدب بكثرة الغبار لقلة الأمطار المسكنة له فهو كناية عن الجدب وقد فسر أبو عبيدة الدخان به، وقال القتيبي: يسمى دخانا ليبس الأرض حتى يرتفع منها ما هو كالدخان، وقال بعض العرب: نسمي الشر الغالب دخانا، ووجه ذلك بأن الدخان مما يتأذى به فأطلق على كل مؤذ يشبهه، وأريد به هنا الجدب ومعناه الحقيقي معروف، وقياس جمعه في القلة أدخنة وفي الكثرة دخنان نحو غراب وأغربة وغربان، وشذوا في جمعه على فواعل فقالوا: دواخن كأنه جمع داخنة تقديرا، وقرينة التجوز فيه هنا حالية كما ستعلمه إن شاء الله تعالى من الخبر، والمراد باليوم مطلق الزمان وهو مفعول به لارتقب أو ظرف له والمفعول محذوف أي ارتقب وعد الله تعالى في ذلك اليوم وبالسماء جهة العلو، وإسناد الإتيان بذلك إليهما من قبيل الإسناد إلى السبب لأنه يحصل بعدم إمطارها ولم يسند إليه عز وجل مع أنه سبحانه الفاعل حقيقة ليكون الكلام مع سابقه المتضمن إسناد ما هو رحمة إليه تعالى شأنه على وزان قوله تعالى: * (أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم) * (الفاتحة: 7) وتفسير الدخان بما فسرناه به مروى عن قتادة. وأبي العالية. والنخعي. والضحاك. ومجاهد. ومقاتل وهو اختيار الفراء. والزجاج.
وقد روي بطرق كثيرة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أخرج أحمد. والبخاري. وجماعة عن مسروق قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني تركت رجلا في المسجد يقول في هذه الآية * (يوم تأتي السماء بدخان) * الخ: يغشى الناس قبل يوم القيامة دخان، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام فغضب وكان متكئا فجلس ثم قال: من علم منكم علما فليقل به، ومن لم يكن يعلم فليقل الله تعالى أعلم. فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله تعالى أعلم، وسأحدثكم عن الدخان إن قريشا لما استصعبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبطؤا عن الإسلام قال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينه كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله تعالى: * (فارتقب إلى أليم) * فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله استسق الله تعالى لمضر فاستسقى لهم عليه الصلاة والسلام، فسقوا فأنزل الله تعالى: * (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) * (الدخان: 15) الخبر. وفي رواية أخرى صحيحة أنه قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدبارا قال: اللهم سبعا كسبع يوسف فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام، فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك قد بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا، فادع الله تعالى فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
117

فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر فقال: اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة عن رأسه فسقى الناس حولهم قال: فقد مضت آية الدخان وهو الجوع الذي أصابهم الحديث، وظاهره يدل كما في تاريخ ابن كثير على أن القصة كانت بمكة فالآية مكية.
وفي بعض الروايات أن قصة أبي سفيان كانت بعد الهجرة فلعلها وقعت مرتين، وقد تقدم ما يتعلق بذلك في سورة المؤمنين.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي لهيعة عن عبد الرحمن الأعرج أنه قال في هذا الدخان: كان في يوم فتح مكة وفي " البحر " عنه أنهق ال: * (يوم تأتي السماء) * وهو يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغبرة، وفي رواية ابن سعيد أن الأعرج يروي عن أبي هريرة أنه قال: كان يوم فتح مكة دخان، وهو قول الله تعالى: * (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) * ويحسن على هذا القول أن يكون كناية عما حل بأهل مكة في ذلك اليوم من الخوف والذل ونحوهما، وقال علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عمر. وابن عباس. وأبو سعيد الخدري. وزيد بن علي. والحسن: إنه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ويعتري المؤمن كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص.
وأخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان مرفوعا أول الآيات الدجال ونزول عيسى ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا والدخان، قال حذيفة: يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: * (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) * وقال: يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره، فالدخان على ظاهره والمعنى فارتقب يوم ظهور الدخان.
وحكى السفاريني في " البحور الزاخرة " عن ابن مسعود أنه كان يقول: هما دخانان مضى واحد والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض ولا يصيب المؤمن إلا بالزكمة وأما الكافر فيشق مسامعه فيبعث الله تعالى عند ذلك الريح الجنوب من اليمن فتقبض روح كل مؤمن ويبقى شرار الناس، ولا أظن صحة هذه الرواية عنه.
وحمل ما في الآية على ما يعم الدخانين لا يخفى حاله، وقيل: المراد بيوم تأتي السماء الخ يوم القيامة فالدخان يحتمل أن يراد به الشدة والشر مجازا وأن يراد به حقيقته.
وقال الخفاجي: الظاهر عليه أن يكون قوله تعالى: * (تأتي السماء) * إلى آخره استعارة تمثيلية إذ لا سماء لأنه يوم تشقق فيه السماء فمفرداته على حقيقتها، وأنت تعلم أنه لا مانع من القول بأن السماء كما سمعت أولا بمعنى جهة العلو سلمنا أنها بمعنى الجرم المعروف لكن لا مانع من كون الدخان قبل تشققها بأن يكون حين يخرج الناس من القبور مثلا بل لا مانع من القول بأن المراد من إتيان السماء بدخان استحالتها إليه بعد تشققها وعودها إلى ما كانت عليه أولا كما قال سبحانه: * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) * (فصلت: 11) ويكون فناؤها بعد صيرورتها دخانا. / جسم]
هذا والأظهر حمل الدخان على ما روي عن ابن مسعود أولا لأنه أنسب بالسياق لما أنه في كفار قريش وبيان سوء حالهم مع أن في الآيات بعد ما هو أوفق به، فوجه الربط أنه سبحانه لما ذكر من حالهم مقابلتهم الرحمة بالكفران وأنهم لم ينتفعوا بالمنزل والمنزل عليه عقب بقوله تعالى شأنه: * (فارتقب يوم) * الخ، للدلالة على أنهم
118

أهل العذاب والخذلان لا أهل الإكرام والغفران.
* (يغشى الناس ه‍اذا عذاب أليم) *.
* (ه‍اذا عذاب أليم) *.
* (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) *.
* (ربنا اكشف عنا العذاب أنا مؤمنون) * في موضع نصب بقول مقدر وقع حالا أي قائلين أو يقولون هذا الخ. والإشارة للتفخيم، وقيل: يجوز أن يكون هذا عذاب أليم إخبارا منه عز وجل تهويلا للأمر كما قال سبحانه وتعالى في قصة الذبيح * (إن هذا لهو البلاء المبين) * (الصافات: 106) فهو استئناف أو اعتراض والإشارة بهذا للدلالة على قرب وقوعه وتحققه، وما تقدم أولى، وقوله سبحانه: * (ربنا) * إلى آخره كما صرح به غير واحد من المفسرين وعد منهم بالإيمان إن كشف جل وعلا عنهم العذاب، فكأنهم قالوا: ربنا إن كشفت عنا العذاب آمنا لكن عدلوا عنه إلى ما في المنزل إظهارا لمزيد الرغبة وحملوه على ذلك لما في بعض الروايات أنه لما اشتد القحط بقريش مشى أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم وواعده أن دعا لهم وزال ما بهم آمنوا والمراد بقوله سبحانه وتعالى.
* (أنى لهم الذكرى وقد جآءهم رسول مبين) *.
* (أنى لهم الذكرى) * نفي صدقهم في الوعد وأن غرضهم إنما هو كشف العذاب والخلاص أي كيف يتذكرون أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم.
* (وقد جاءهم رسول مبين) * أي والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم من ذلك في إيجابهما حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ظاهر أمر رسالته بالآيات والمعجزات التي تخر لها صم الجبال أو مظهر لهم مناهج الحق بذلك.
* (ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون) *.
* (ثم تولوا عنه) * أي عن ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام وهو هو والجملة عطف على قوله تعالى: و * (قد جاءهم) * إلى آخره، وعطفها على قوله سبحانه: * (ربنا) * الخ لأنه على معنى قالوا: * (ربنا) * الخ ليس بذاك، وثم للاستبعاد والتراخي الرتبي وإلا فهم قد تولوا ريثما جاءهم وشاهدوا منه ما شاهدوا مما يوجب الإقبال إليه صلى الله عليه وسلم * (وقالوا) * مع ذلك في حقه عليه الصلاة والسلام.
* (معلم مجنون) * أي قالوا تارة: يعلمه عداس غلام رومي لبعض ثقيف وأخرى مجنون أو يقول بعضهم كذا وآخرون كذا ولم يقل ومجنون بالعطف لأن المقصود تعديد فبائحهم وقرأ زر بن حبيش معلم بكسر اللام فمجنون صفة له وكأنهم أرادوا رسول مجنون وحاشاه ثم حاشاه صلى الله عليه وسلم.
* (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عآئدون) *.
* (إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون) * جواب من جهته تعالى عن قولهم وأخبار بالعود على تقدير الكشف أي إن كشفنا عنكم العذاب كشفا قليلا أو زمانا قليلا عدتم والمراد على ما قيل عائدون إلى الكفر؛ وأنت تعلم أن عودهم إليه يقتضي إيمانهم وقد مر أنهم لم يؤمنوا وإنما وعدوا الإيمان فإما أن يكون وعدهم منزلا منزلة إيمانهم أو المراد عائدون إلى الثبات على الكفر أو على الإقرار والتصريح به وقال قتادة: هذا توعد بمعاد الآخرة وهو خلاف الظاهر جدا ومن قال: إن الدخان يوم القيامة قال إن قوله سبحانه: * (إنا كاشفوا) * إلى آخره وعد بالكشف على نحو قوله عز وجل: * (ولو ردوا) * لعادوا لما نهوا عنه ومن قال المراد به ما هو من أشراط الساعة قال بإمكان الكشف وعدم انقطاع التكليف عند ظهوره وإن كان من الأشراط بل جاء في
119

بعض الآثار أنه يمكث أربعين يوما وليلة فيكشف عنهم فيعودون إلى ما كانوا عليه من الضلال، وحمله على ما روي عن ابن مسعود ظاهر الاستقامة لا قيل فيه ولا قال، وقوله سبحانه: * (وقد جاءهم) * الخ قوي الملاءمة له وهو بعيد الملاءمة للقول المروى عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه فقد احتيج في تحصيلها إلى جعل الإسناد من باب إسناد حال البعض إلى الكل أو حمل الناس على الكفار الموجودين في ذلك الوقت والأمر على القول بأنه ما كان في فتح مكة أهون إلا أنه مع ذلك ليس كقول ابن مسعود فتأمل.
* (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) *.
* (يوم نبطش البطشة الكبرى) * هو يوم بدر عند ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد. وابن جرير عن أبي بن كعب. ومجاهد. والحسن. وأبي العالية. وسعيد بن جبير. ومحمد بن سيرين. وقتادة. وعطية، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس.
وأخرج ابن جرير. وعبد بن حميد بسند صحيح عن عكرمة. قال: قال ابن عباس قال ابن مسعود البطشة الكبرى يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة ونقل في " البحر " حكاية أنه يوم القيامة عن الحسن. وقتادة أيضا.
والظرف معمول لما دل عليه قوله تعالى: * (إنا منتقمون) * أي إنا ننتقم يوم إذ انا منتقمون، وقيل لمنتقمون ورده الزجاج وغيره بأن ما بعد إن لا يجوز أن يعمل فيما قبلها، وقيل لعائدون على معنى إنكم لعائدون إلى العذاب يوم نبطش.
وقيل بكاشفوا العذاب وليس بشيء وقيل لذكرهم أو اذكر مقدرا، وقيل هو بدل من * (يوم تأتي) * الخ.
وقرىء * (نبطش) * بضم الطاء وقرأ الحسن. وأبو رجاء. وطلحة بخلاف عنه * (نبطش) * بضم النون من باب الأفعال على معنى نحمل الملائكة عليهم السلام على أن يبطشوا بهم أو نمكنهم من ذلك فالمفعول به محذوف للعلم وزيادة التهويل، وجعل البطشة على هذا مفعولا مطلقا على طريقة أنبتكم نباتا، وقال ابن جني، وأبو حيان: هي منصوبة بفعل مضمر يدل عليه الظاهر أي يوم نبطش من نبطشه فيبطش البطشة الكبرى، وقال ابن جني: ولك أن تنصبها على أنها مفعول كأنه به قيل: يوم نقوي البطشة الكبرى عليهم ونمكنها منهك كقولك: يوم نسلط القتل عليهم ونوسع الأخذ منهم، وفي " القاموس " بطش به يبطش ويبطش أخذه بالعنف والسطوة كابطشة والبطش الأخذ الشديد في كل شيء والبأس اه‍ فلا تغفل.
* (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجآءهم رسول كريم) *.
* (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون) * أي امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام إليهم على أنه من فتن الفضة عرضها على النار فيكون بمعنى الامتحان وهو استعارة والمراد عاملناهم معاملة الممتحن ليظهر حالهم لغيرهم أو أوقعناهم في الفتنة على أنه بمعناه المعروف والمراد بالفتنة حينئذ ما يفتن به الشخص أي يغتر ويغفل عما فيه صلاحه كما في قوله تعالى: * (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) * وفسرت هنا بالإمهال وتوسيع الرزق.
وفسر بعضهم الفتنة بالعذاب ثم تجوز به عن المعاصي التي هي سبب وهو تكلف ما لا داعي له.
وقرىء * (فتنا) * بتشديد التاء إما لتأكيد معناه المصدري أو لتكثير المفعول أو الفعل.
* (وجاءهم رسول كريم) * أي مكرم معظم عند الله عز وجل أو عند المؤمنين أو عنده تعالى وعندهم أو كريم في نفسه متصف بالخصال الحميدة والصفات الجليلة حسبا ونسبا، وقال الراغب: الكرم إذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه، ونقل عن بعض العلماء أن الكرم كالحرية إلا أن الحرية قد تقال في المحاسن الصغيرة والكبيرة والكرم لا يقال إلا في المحاسن الكبيرة.
وقال الخفاجي أصل معنى الكريم جامع المحامد والمنافع وادعى لذلك أن تفسيره به أحسن من تفسيره بالتفسيرين السابقين.
* (أن أدوا إلى عباد الله إنى لكم رسول أمين) *.
120

* (أن أدوا إلي عباد الله) * اطلقوهم وسلموهم إلى، والمراد بهم بنو إسرائيل الذين كان فرعون مستعبدهم، والتعبير عنهم بعباد الله تعالى للإشارة إلى أن استعباده إياهم ظلم منه، والأداء مجاز عما ذكر، وهذا كقوله عليه السلام فأرسل معنى بنا إسرائيل ولا تعذبهم وروى ذلك عن ابن زيد ومجاهد. وقتادة أو أدوا إلى حق الله تعالى من الايمان وقبول الدعوة يا عباد الله على أن مفعول * (أدوا) * محذوف وعباد منادى وهو عام لبني إسرائيل والقبط، والأداء بمعنى الفعل للطاعة وقبول الدعوة وروى هذا عن ابن عباس، وأن عليهما قيل مصدرية قبلها حرف جر مقدر متعلق بجاءهم أي بأن أدوا، وتعقب بأنه لا معنى لقولك: جاءهم بالتأدية إلى، وحمله على طلب التأدية إلى لا يخلو عن تعسف ورد بأنه بتقدير القول وهو شائع مطرد فتقديره بأن قال أدوا إلى ولا يخلو عن تكلف ما ومع هذا الأمر مبني على جواز وصل المصدرية بالأمر
والنهي وهو غير متفق عليه، نعم إلا صح الجواز.
وقيل: هي مخففة من الثقيلة، وتعقب بأنها حينئذ يقدر معها ضمير الشأن ومفسره لا يكون إلا جملة خبرية وأيضا لا بد أن يقع بعدها النفي أوقد أو السين أو سوف أو لو وأن يتقدمها فعل قلبي ونحوه وأجيب بأن مجيء الرسول يتضمن معنى فعل التحقيق كالأعلام والفصل المذكور غير متفق عليه، فقد ذهب المبرد تبعا للبغاددة إلى عدم اشتراطه، والقول بأنه شاذ يصان الررن عن مثله غير مسلم واشتراط كون مفسر ضمير الشأن جملة خبرية فيه خلاف على ما يفهم من كلام بعضهم، ولم يذكر في " المغنى " في الباب الرابع في الكلام على ضمير الشأن. إلا اشتراط كون مفسره جملة ولم يشترط فيها الخبرية ولم يتعرض لخلاف، نعم قال في الباب الخامس: النوع الثامن اشتراطهم في بعض الجملة الخبرية وفي بعضها الإنشائية وعد من الأول خبر إن وضمير الشأن لكنه قال بعد: وينبغي أن يستثني من ذلل في خبري أن وضمير الشأن خبر أن المفتوحة إذا خففت فإنه يجوز أن يكون جملة دعائية كقوله تعالى: * (والخامسة أن غضب الله عليها) * (النور: 9) في قراءة من قرأ أن وغضب بالفعل والاسم الجليل فاعل.
وحقق بعض الأجلة أن الاخبار عن ضمير الشأن بجملة إنشائية جائز عند الزمخشري أو هي مفسرة وقد تقدم ما يدل على القول دون حروفه لأن مجيء الرسول يكون برسالة ودعوة وكأن التفسير لمتعلقه المقدر أي جاءهم بالدعوة وهي أن ادوا إلى عبار الله * (وإني لكم رسول أمين) *.
* (وأن لا تعلوا على الله إنىءاتيكم بسلطان مبين) *.
* (وأن لا تعلوا على الله) * ولا تستكبروا عليه سبحانه بالاستهانة بوحيه جل شأنه ورسوله عليه السلام * (وأن) * كالتي قبلها، والمعنى على المصدرية بكفكم عن العلو على الله تعالى * (إنى ءاتيكم بسلطان مبين) * تعليل للنهي أي آتيكم بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها أو موضحة صدق دعواي * (وآتيكم) * على صيغة الفاعل أو المضارع، ولا يخفى حسن ذكر الأمين مع الأداء والسلطان مع العلاء، وذكر أن في الأول ترشيحا للاستعارة المصرحة أو المكنية بجعلهم كأنهم مال للغير في يده أمره بدفعه لمن يؤتمن عليه وفي الثاني تورية عن معنى الملك مرشحة بقوله * (لا تعلوا) * وقرأت فرقة * (أنى) * بفتح الهمزة فقيل هو أيضا على تعليل النهي بتقدير اللام، وقيل: هو متعلق بما دخله النهي نظير قولك لمن غضب من قول الحق له لا تغضب لأن قيل لك الحق.
* (وإنى عذت بربى وربكم أن ترجمون) *.
* (وإني عذت بربي وربكم) * أي التجأت إليه تعالى وتوكلت عليه جل شأنه * (أن ترجمون) * من أن ترجموني أي تؤذوني ضربا أو شتما أو أن تقتلوني، وروى هذا عن قتادة وجماعة قيل. لما قال: أن لا تعلوا على الله توعدوه بالقتل فقال ذلك، وفي " البحر " أن هذا كان قبل أن يخبره عز وجل بعجزهم عن رجمه بقوله
121

سبحانه: فلا يصلون إليكما والجملة عطف على الجملة المستأنفة، وقرأ أبو عمرو. والإخوان عت بإدغام الذال في التاء.
* (وإن لم تؤمنوا لى فاعتزلون) *.
* (وان لم تؤمنوا فاعتزلون) * فكونوا بمعزل مني لا علي ولا لي ولا تتعرضوا لي بسوء فليس ذلك جزاء من يدعوكم إلى ما فيه فلا حكم، وقيل: المعنى وإن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن فتنحوا واقطعوا أسباب الوصلة عني، ففي الكلام حذف الجواب وإقامة المسبب عنه مقامه والأول أوفق بالمقام، والاعتزال عليه عبارة عن الترك وإن لم تكن مفارقة بالأبدان.
* (فدعا ربه أن ه‍اؤلاء قوم مجرمون) *.
* (فدعا ربه) * بعد أن أصروا على تكذيبه عليه السلام * (أن ه‍اؤلاء قوم مكرمون) * أي بأن هؤلاء الخ فهو بتقدير الباء صلة الدعاء كمايقال دعا بهذا الدعاء، وفيه اختصار كأنه قيل: أن هؤلاء قوم مجرمون تناهى أمرهم في الكفر وأنت أعلم بهم فافعل بهم ما يستحقونه قيل كان دعاؤه عليه السلام اللهم عجل لهم ما يستحقون باجرامهم، وقيل: قوله: * (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) * (يونس: 85) إلى قوله: * (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) * (يونس: 88) وإنما ذكر الله سبحانه السبب الذي استوجبوا به الهلاك ليعلم منه دعاؤه والإجابة معا وأن دعاءه كان على يأس من إيمانهم وهذا من بليغ اختصارات الكتاب المعجز.
وقرأ ابن أبي إسحق. وعيسى. والحسن في رواية. وزيد بن علي بكسر همزة أن وخرج على إضمار القول أي قائلا أن هؤلاء الخ.
* (فأسر بعبادى ليلا إنكم متبعون) *.
* (فأسر بعبادي) * وهم بنو إسرائيل وم آمن به من القبط * (ليلا) * بقطع من الليل، والكلام باضمار القول أما بعد الفاء أي فقال أسر الخ فالفاء للتعقيب والترتيب والقول معطوف على ماقبله أو قبلها كأنه قيل قال: أو فقال أن كان الأمر كما تقول: فاسر الخ، فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر وهو وجوابه مقول القول المقدر مع الفاء أو بدونها على أنه استئناف والاضمار الأول لقلة التقدير مع أن تقدير أن لا يناسب إذ لا شك فيه تحقيقا ولا تنزيلا وجعلها بمعنى إذا تكلف على تكلف وأبو حيان لا يجيز حذف الشرط وإبقاؤ جوابه في مثل هذا الموضع وقد شنع على الزمخشري في تجويزه، وقرأ نافه. وابن كثير. * (فاسر) * بوصل الهمزة من سرى.
* (إنكم متبعون) * يتبعكم فرعون وجنوده إذا علموا بخروجكم فالجملة مستأنفة لتعليل الأمر بالسرى ليلا ليتأخر العلم به فلا يدركون والتأكيد لتقدم ما يلوح بالخبر * (واترك البحر رهوا) * أي ساكنا كما قال ابن عباس يقال رها البحر يرهو رهوا سكن ويقال: جاءت الخيل رهوا أي ساكنة، قال الشاعر: والخيل تمزع رهوا في أعنتها * كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البرد
ويقال افعل ذلك رهوا أي ساكنا على هينة وأنشد غير واحد للقطامي في نعت الركاب: يمشين رهوا فلا الإعجاز خاذلة * ولا الصدور على الاعجاز تتكل
والظاهر أنه مصدر في الأصل يؤول باسم الفاعل، وجوز أن يكون بمعنى الساكن حقيقة وعن مجاهد رهوا أي منفرجا مفتوحا قال أبو عبيدة رها الرجل يرهو رهوا فتح بين رجليه، وعن بعض العرب أنه رأى جملا فالجأ أي ذا سنامين فقال: سبحان الله تعالى رهو بين سنامين قالوا: أراد فرجة واسعة، والظاهر أيضا أنه مصدر مؤول أو فيه مضاف مقدر أي ذا فرجة قال قتادة: أراد موسى عليه السلام بعد أن جاوز البحر هو ومن معه أن
122

يضربه بعصاه حتى يلتئم كما ضربه أولا فانفلق لئلا يتبعه فرعون وجنوده فأمر بأن يتركه رهوا أي مفتوحا منفرجا أو ساكنا على هيئته قارا على حاله من انتصاب الماء وكون الطريق يبسا ولا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئا ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله تعالى عليهم، وذلك قوله تعالى:
* (واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون) *.
* (إنهم جند مغرقون) * فهو تعليل للأمر بتركه رهوا، وقيل: رهوا سهلا، وقيل: يابسا، وقيل: جددا، وقيل: غير ذلك والكل بيان لحاصل المعنى، وزعم الراغب أن الصحيح أن الرهو السعة من الطريق ثم قال: ومنه الرهاء المفازة المستوية ويقال لكل جوبة مستوية يجتمع فيها الماء رهو ومنه قيل: لا شفعة في رهو. والحق أن ما ذكره من جملة إطلاقاته وأما أنه الصحيح فلا وقرىء * (أنهم) * بالفتح أي لأنهم.
* (كم تركوا من جن‍ات وعيون) *.
* (كم تركوا) * أي كثيرا تركوا بمصر * (من جنات وعيون) *.
* (وزروع ومقام كريم) *.
* (وزروع ومقام كريم) * حسن شريف في بابه، وأريد بذلك كما روى عن قتادة المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس. وابن مردويه عن جابر أنه أريد به المناب، ر وروى ذلك عن مجاهد وابن جبير أيضا، وقيل: السرر في الحجال والأول أولى، وقرأ ابن هرمز. وقتادة. وابن السميقن. ونافع في رواية خارجة * (مقام) * بضم الميم.
* (ونعمة كانوا فيها فاكهين) *.
* (ونعمة) * أي تنعم، قال الراغب: النعمة بالفتح التنعم وبناؤها بناء المرة من الفعل كالضربة والشتمة والنعمة بالكسر الحالة الحسنة وبناؤها بناء التي يكون عليها الإنسان كالجلسة والركبة وتقال للجنس الصادق بالقليل والكثير واختير ههنا تفسير النعمة بالشيء المنعم به لأنه أنسب للترك وهي كثيرا ما تكون بهذا المعنى.
وقرأ أبو رجاء * (ونعمة) * بالنصب وخرج بالعطف على * (كم) *، وقيل: هي معطوفة على محل ما قبلها كأنه قيل: كم تركوا جنات وعيونا وزروعا ومقاما كريما ونعمة * (كانوا فيها فاكهين) * طيبي الأنفس وأصحاب فاكهة ففاكه كلابن وتامر، وقال القشيري: لاهين، وقرأ الحسن. وأبو رجاء * (فكهين) * بغير ألف والفكه يستعمل كثيرا في المستخف المستهزىء فالمعنى مستخفين بشكر النعمة التي كانوا فيها.
وقال الجوهري؛ فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان مزاحا والفكه أيضا الأشر.
* (كذالك) * قال الزجاج: المعنى الأمر كذلك، والمراد التأكيد والتقرير فيوقف على ذلك فالكاف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أو الجار والمجرور كذلك، وقيل: الكاف في موضع نصب أي نفعل فعلا كذلك لمن نريد إهلاكه، وقول الكلبي: أي كذلك أفعل بمن عصاني ظاهرا فيما ذكر، وقال الزمخشري: الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الإخراج أي المفهوم مما تقدم أخرجناهم منها * (وأورثناها قوما ءاخرين) * عطف على تركوا والجملة معترضة فيما عدا القول الأخير وعلى أخرجناهم فيه، وقيل: الكاف منصوبة على معنى تركوا تركا مثل ذلك فالعطف على * (تركوا) * بدون اعتراض وهو كما ترى، والمراد بالقوم الآخرين بنو إسرائيل وهم مغايرون للقبط جنسا ودينا. ويفسر ذلك قوله تعالى في سورة (الشعراء: 59) * (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) * وهو ظاهر في أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وملكوها وبه قال الحسن.
وقيل: المراد بهم غير بني إسرائيل ممن ملك مصر بعد هلاك القبط وإليه ذهب قتادة قال: لم يرد في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر ولا أنهم ملكوها قط وأول ما في سورة الشعراء بأنه من باب * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره) * (فاطر: 11) وقولك: عندي درهم ونصفه فليس المراد خصوص ما تركوه
123

بل نوعه وما يشبهه، والإيراث الإعطاء. وقيل: المراد من إيراثها إياهم تمكينهم من التصرف فيها ولا يتوقف ذلك على رجوعهم إلى مصر كما كانوا فيها أولا، وأخذ جمع بقول الحسن وقالوا لا اعتبار بالتواريخ وكذا الكتب التي بيد اليهود اليوم لما أن الكذب فيها كثير وحسبنا كتاب الله تعالى وهو سبحانه أصدق القائلين وكتابه جل وعلا مأمون من تحريف المحرفين.
* (فما بكت عليهم السمآء والارض وما كانوا منظرين) *.
* (فما بكت عليهم السماء والأرض) * مجاز عن عدم الاكتراب بهلاكهم والاعتداد بوجودهم، وهو استعارة تمثيلية تخييلية شبه حال موتهم لشدته وعظمته بحال من تبكي عليه السماء والأجرام العظام وأثبت له ذلك والنفي تابع للإثبات في التجوز كما حقق في موضعه، وقيل: هي استعارة مكنية تخييلية بأن شبه السماء والأرض بالإنسان وأسند إليهما البكاء أو تمثيلية بأن شبه حالهما في عدم تغير حالهما وبقائهما على ما كانا عليه بحال من لم يبك، وليس بشيء كما لا يخفى على من راجع كلامهم، وقد كثر في التعظيم لمهلك الشخص بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح ونحو ذلك، قال يزيد بن مفرغ: الريح يبكي شجوه * والبرق يلمع في غمامه
وقال النابغة: بكى حارث الجولان من فقد ربه * وحوران منه خاشع متضائل
أراد بهما مكانين معروفين، وقال جرير: لما أتى بخبر الزبير تواضعت * سور المدينة والجبال الخشع
وقال الفرزدق يرثي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: الشمس طالعة ليست بكاسفة * تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
يتعجب من طلوع الشمس وكان من حقها أن لا تطلع أو تطلع كاسفة، والنجوم تروى منصوبة ومرفوعة فالنصب على المغالبة أي تغلب الشمس النجوم في البكاء نحو باكيته فبكيته، قال جار الله: كان رضي الله تعالى عنه يتهجد بالليل فتبكيه النجوم ويعدل بالنهار فتبكيه الشمس والشمس غالبة في البكار لأن العدل أفضل من صلاة الليل، والجوهري جعلها منصوبة بكاسفة أي لا تكسف ضوء النجوم لكثرة بكائها وكأنه جعل خفاء النجوم تحت ضوء الشمس كسفا لها مجازا، وفيه أن الكسف بالمعنى المذكور غير واضح وتخلل تبكي غير مستفصح وفي " حواشي الصحاح " الشمس كاسفة ليست بطالعة.
وفيها أن نجوم الليل ظرف أي طول الدهر كأنه من باب آتيك الشمس والقمر أي وقتهما كأنه قيل: تبكي ما يطلع النجوم والقمر، وفيه أن مثل هذا الظرف مسموع لا يثبت إلا بثبت فكيف يعدل إليه مع المعنى الواضح، وقيل: التقدير تبكي بكاء النجوم فحذف المضاف. وفيه أنه مما لا يكاد يفهم، والرفع واضح والقمر منصوب على أنه مفعول معه وهذا استطراد دعانا إليه شهرة البيت مع كثرة الخبط فيه.
وأخرج الترمذي. وجماعة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يصعد مه علمه وباب ينزل منه رزقه فالمؤمن إذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية: * (فما بكت عليهم السماء والأرض) * " وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على وجه الأرض عملا صالحا فتفقدهم فتبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم.
124

وأخرج البيهقي في " شعب الايمان " والحاكم وصححه وغيرهما عن ابن عباس قال؛ " إن الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحا ثم قرأ الآية " وأخرج ابن المنذر. وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ثم تلا * (فما بكت) * الخ وجعلوا كل ذلك من باب التمثيل.
ومن أثبت كالصوفية للأجرام السماوية والأرضية وسائر الجمادات شعورا لائقا بحالها لم يحتج إلى اعتبار التمثيل وأثبت بكاء حقيقيا لها حسبما تقتضيه ذاتها ويليق بها أو أوله بالحزن أو نحوه وأثبته لها حسب ذلك أيضا.
وأخرج ابن جرير. وابن المنذر عن عطاء بكاء السماء حمرة أطرافها. وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن نحوه، وأخرج عن سفيان الثوري قال: كان يقال هذه الحمرة التي تكون في السماء بكاء السماء على المؤمن؛ ولعمري ينبغي لمن لم يضحك من ذلك أن يبكي على عقله، وأنا لا أعتقد أن من ذكر من الأجلة كانوا يعتقدونه، وقيل: إن الآية على تقدير مضاف أي فما بكت عليهم سكان السماء وهم الملائكة وسكان الأرض وهم المؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين.
وروى هذا عن الحسن والأحسن ما تقدم * (وما كانوا) * لما جاء وقت هلاكهم * (منظرين) * ممهلين إلى وقت آخر أو إلى يوم القيامة بل عجل لهم في الدنيا.
* (ولقد نجينا بنىإسراءيل من العذاب المهين) *.
* (ولقد نجينا بني إسرائيل) * بما فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا * (من العذاب المهين) * من استبعاد فرعون وقتله أبناءهم واستحيائه نساءهم على الخسف والضيم.
* (من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين) *.
* (من فرعون) * بدل من العذاب على حذف المضاف والتقدير من عذاب فرعون أو جعله عليه اللعنة عين العذاب مبالغة، وجوز أن يتعلق بمحذوف يقع حالا أي كائنا من جهة فرعون، وقيل: متعلق بمحذوف واقع صفة أي كائنا أو الكائن من فرعون ولا بأس بهذا إذا لم يعد ذلك من حذف الموصول مع بعض صلته.
وقرأ عبد الله * (من عذاب المهين) * على إضافة الموصوف إلى صفته كبقلة الحمقاء. وقرأ ابن عباس من * (فرعون) * على الاستفهام لتهويل العذاب أي هل تعرفون من فرعون في عتوه وشيطنته فما ظنكم بعذابه، وقيل: لتحقير فرعون بجعله غير معلوم يستفهم عنه كالنكرة لما فيه في القبائح التي لم يعهد مثلها وما بعد يناسب ما قبل كما لا يخفى.
وأيا ما كان فالظاهر أن الجملة استئناف، وقيل: إنها مقول قول مقدر هو صفة للعذاب، وقدر المقول عنده إن كان تعريف العذاب للعهد ومقول إن كان للجنس فلا تغفل * (إنه كان عاليا) * متكبرا * (من المسرفين) * في الشر والفساد، والجار والمجرور إما خبر ثان لكان أي كان متكبرا مغرقا في الإسراف، وإما حال من الضمير المستتر في عاليا أي كان متكبرا في حال إغراقه في الإسراف.
* (ولقد اخترن‍اهم على علم على الع‍المين) *.
* (ولقد اخترناهم) * أي اصطفينا بني إسرائيل وشرفناهم * (على علم) * أي عالمين باستحقاقهم ذلك أو مع علم منا بما يفرط منهم في بعض الأحوال، وقيل: عالمين بما يصدر منهم من العدل والإحسان والعلم والايمان، ويرجع هذا إلى ما قيل أولا فإن العدل وما معه من أسباب الاستحقاق، وقيل: لأجل علم فيهم، وتعقب بأنه ركيك لأن تنكير العلم لا يصادف محزه.
وأجيب بأنه للتعظيم ويحسن اعتباره علة للاختيار * (على الع‍المين) * أي عالمي زمانهم كما قال مجاهد. وقتادة فالتعريف للعهد أو الاستغراق العرفي فلا يلزم تفضيلهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم خير أمة أخرجت للناس
125

على الإطلاق، وجوز أن يكون للاستغراق الحقيقي والتفضيل باعتبار كثرة الأنبياء عليهم السلام فيهم لا من كل الوجوه حتى يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية، وقيل: المراد اخترناهم للإيحاء على الوجه الذي وقع وخصصناهم به دون العالمين، وليس بشيء، ومما ذكرنا يعلم أنه ليس في الآية تعلق حرفي جر بمعنى بمتعلق واحد لأن الأول متعلق بمحذوف وقع حالا والثاني متعلق بالفعل كقوله: ويوما على ظهر الكثيب تعذرت * على وآلت حلفة لم تحلل
وقيل: لأن كل حرف بمعنى.
* (وءاتين‍اهم من الاي‍ات ما فيه بلؤا مبين) *.
* (وءاتيناهم من الآيات) * كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغيرها من عظائم الآيات التي لم يعهد مثلها في غيرهم، وبعضها وأن أوتيها موسى عليه السلام يصدق عليه أنهم أوتوه لأن ما للنبي لأمته * (ما فيه بلاء مبين) * أي نعمة ظاهرة أو اختبار ظاهر للنظر كيف يعملون، وفي * (فيه) * إشارة إلى أن هناك أمورا أخرى ككونه معجزة.
* (إن ه‍اؤلاء ليقولون) *.
* (إن هؤلاء) * كفار قريش لأن الكلام فيهم، وذكر قصة فرعون وقومه استطرادي للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة والإنذار عن مثل ما حل بهم، وفي اسم الإشارة تحقير لهم * (ليقولون) *.
* (إن هى إلا موتتنا الاولى وما نحن بمنشرين) *.
* (إن هي إلا موتتنا الأولى) * أي ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية * (وما نحن بمنشرين) * أي بمبعوثين بعدها، وتوصيفها بالأولى ليس لقصد مقابلة الثانية كما في قولك: حج زيد الحجة الأولى، ومات.
قال الأسنوي في " التمهيد ": الأول: في اللغة ابتداء الشيء ثم قد يكون له ثان وقد لا يكون، كما تقول: هذا أول ما اكتسبته فقد تكتسب بعده شيئا وقد لا تكتسب كذا ذكره جماعة منهم الواحدي في تفسيره والزجاج.
ومن فروع المسألة ما لو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق تطلق إذا ولدته، وإن لم تلد غيره بالاتفاق، قال أبو علي: اتفقوا على أنه ليس من شرط كونه أولا أن يكون بعده آخر، وإنما الشرط أن لا يتقدم عليه غيره اه‍، ومنه يعلم ما في قول بعضهم: إن الأول يضايف الآخر والثاني ويقتضي وجوده بلا شبهة، والمثال إن صح فإنما هو فيمن نوى تعدد الحج فاختر مته المنية فلحجة ثان باعتبار العزم من قصور الإطلاع وأنه لا حاجة إلى أن يقال: إنها أولى بالنسبة إلى ما بعدها من حياة الآخرة بل هو في حد ذاته غير مقبول لما قال ابن المنير من أن الأولى إنما يقابلها أخرى تشاركها في أخص معانيها، فكما لا يصح أو لا يحسن أن يقال: جاءني رجل وامرأة أخرى لا يقال الموتة الأولى بالنسبة لحياة الآخرة، وقيل: إنه قيل لهم أنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة، وذلك قوله عز وجل * (وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) * (البقرة: 28) فقالوا: * (إن هي إلا موتتنا الأولى) * يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تتعقبها حياة، إلا الموتة الأولى دون الثانية وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة، وهذا ما ارتضاه جار الله وأراد أن النفي والإثبات لما كان لرد المنكر المصر إلى الصواب كان منزلا على إنكارهم، لا سيما والتعريف في الأولى تعريف عهد، وقوله تعالى: * (الموتة الأولى) * تفسير للمبهم وهي على نحو هي العرب تقول كذا فيتطابقان والمعهود الموتة التي تعقبتها الحياة الدنيوية، ولذلك استشهد بقوله تعالى: * (وكنتم أمواتا) * (البقرة: 169) الخ فليس اعتبار الوصف عدولا عن الظاهر من غير حاجة كما قال ابن المنير. وقوله في الاعتراض أيضا: إن الموت السابق على الحياة
126

الدنيوية لا يعبر عنه بالموتة لأن * (فيها) * لمكان بناء المرة إشعارا بالتجدد والموت السابق مستصحب لم تتقدمه حياة مدفوع كما قال " صاحب الكشف "، ثم أنه لا يلزم من تفسير الموتة الأولى بما بعد الحياة في قوله تعالى: * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) * (الدخان: 56) تفسيرها بذلك هنا لأن إيقاع الذوق عليها هناك قرينة أنها التي بعد الحياة الدنيا لأن ما قبل الحياة غير مذوق، ومع هذا كله الإنصاف إن حمل الموتة الأولى هنا أيضا على التي بعد الحياة الدنيا أظهر من حملها على ما قبل الحياة من العدم بل هي المتبادرة إلى الفهم عند الإطلاق المعروفة بينهم، وأمر الوصف بالأولى على ما سمعت أولا.
وقيل: إنهم وعدوا بعد هذه الموتة موتة القبر وحياة البعث فقوله تعالى عنهم: * (إن هي إلا موتتنا الأولى) * رد للموتة الثانية وفي قوله سبحانه: * (وما نحن بمنشرين) * نفي لحياة القبر ضمنا إذ لو كانت بدون الموتة الثانية لثبت النشر ضرورة.
* (فأتوا باابآئنا إن كنتم ص‍ادقين) *.
* (فأتوا بآبائنا) * خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول والمؤمنين أي فأتوا لنا بمن مات من آبائنا * (إن كنتم صادقين) * في وعدكم ليدل ذلك على صدقكم ودلالة الايقان إما لمجرد الإحياء بعد الموت وإما بأن يسألوا عنه، قيل: طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدعو الله تعالى فيحيي لهم قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة النبوة والبعث إذ كان كبيرهم ومستشارهم في النوازل.
* (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكن‍اهم إنهم كانوا مجرمين) *.
* (أهم خير) * في القوة والمنعة * (أمح قوم تبع) * هو تبع الأكبر الحميري واسمه أسعد بهمزة، وفي بعض الكتب سعد بدونها وكنيته أبو كرب وكان رجلا صالحا. أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: كان تبع رجلا صالحا ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه، وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس لا يشتبهن عليكم أمر تبع
فإنه كان مسلما، وأخرج أحمد. والطبراني. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم " وأخرج ابن عساكر. وابن المنذر. عن ابن عباس قال: سألت كعبا عن تبع فإني أسمع الله تعالى يذكر في القرآن قوم تبع ولا يذكر تبعا فقال: إن تبعا كان رجلا من أهل اليمن ملكا منصورا فسار بالجيوش حتى انتهى إلى سمرقند فرجع فأخذ طريق الشام فأسر بها أحبارا فانطلق بهم نحو اليمن حتى إذا دنا من ملكه طار في الناس أنه هادم الكعبة فقال له الأحبار: ما هذا الذي تحدث به نفسك فإن هذا البيت لله تعالى وإنك لن تسلط عليه فقال: إن هذا لله تعالى وأنا أحق من حرمه فأسلم من مكانه وأحرم فدخلها محرما فقضي نسكه ثم انصرف نحو اليمن راجعا حتى قدم على قومه فدخل عليه أشرافهم فقالوا: يا تبع أنت سيدنا وابن سيدنا خرجت من عندنا على دين وجئت على غيره فاختر منا أحد أمرين إما تخلينا وملكنا وتعبد ما شئت وإما أن تذر دينك الذي أحدثت وبينهم يومئذ نار تنزل من السماء فقال الأحبار عند ذلك: اجعل بينك وبينهم النار فتواعد القوم جميعا على أن يجعلوها بينهم فجيء بالأحبار وكتبهم وجيء بالأصنام وعمارها وقدموا جميعا إلى النار وقامت الرجال خلفهم بالسيوف فهدرت النار هدير الرعد ورمت شعاعا لها فنكص أصحاب الأصنام وأقبلت النار وأحرقت الأصنام وعمارها وسلم الآخرون فأسلم قوم واستسلم قوم فلبثوا بعد ذلك عمر تبع حتى إذا نزل بتبع الموت استخلف أخاه وهلك فقتلوا أخاه وكفروا صفقة واحدة، وفي رواية عن ابن عباس أن تبعا لما أقبل من الشرق بعد أن حير الحيرة أي بناها ونظم أمرها - وهي بكسر الحاء المهملة وياء ساكنة مدينة بقرب الكوفة -
127

وبني سمرقند وهي مدينة بالعجم معروفة، وقيل: إنه هدمها وقصد المدينة وكان قد خلف بها حين سافر ابنا له فقتل غيلة فأجمع على خرابها واستئصال أهلها فجمع له الأنصار وخرجوا لقتاله وكانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل فأعجبه ذلك وقال: إن هؤلاء لكرام فبينما هو على ذلك إذ جاءه كعب. وأسد ابنا عم من قريظة حبر إن وأخبراه أنه يحال بينك وبين ما تريد فإنها مهاجر نبي من قريش اسمه محمد صلى الله عليه وسلم ومولده بمكة فثناه قولهما عما يريد ثم دعواه إلى دينهما فاتبعهما وأكرمهما فانصرفوا عن المدينة ومعهم نفر من اليهود فقال له في الطريق نفر من هذيل: ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبر جد وذهب وفضة بمكة وأرادت هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه ما أراده أحد بسوء إلا هلك فذكر ذلك للحبرين فقالا: ما نعلم لله عز وجل بيتا في الأرض اتخذه لنفسه غير هذا فاتخذه مسجدا وانسك عنده واحلق رأسك وما أراد القوم إلا هلاكك فأكرمه وكساه وهوأول من كسى البيت وقطع أيدي أولئك النفر من هذيل وأرجلهم وسمل أعينهم وصلبهم. وفي رواية أنه قال للحبرين حين قالا له ما قالا: وأنتما ما يمنعكما من ذلك؟ فقالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه السلام وإنه لكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يريقونها عنده وهم نجس أهل شرك فعرف صدقهما ونصحهما فطاف بالبيت ونحر وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل، وقيل: إنه أراد تخريب البيت فرمى بداء عظيم فكف عنه وكساه.
وأخرج ابن عساكر عن ابن إسحق أن تبعا أرى في منامه أن يكسو البيت فكساه الخصف ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الوصائل وصائل اليمن فكان فيما ذكر لي أول من كساه وأوصى بها ولاته من جرهم وأمر بتطهيره وجعل له بابا ومفتاحا. وفي رواية أنه قال أيضا: ولا تقربوه دما ولا ميتا ولا تقربه حائض، وفي نهاية ابن الأثير في الحديث أن تبعا كسى البيت المسوح فانتفض البيت منه ومزقه عن نفسه ثم كساه الخصف فلم يقبله ثم كساه الانطاع، وفي موضع آخر منها إن أول من كسى الكعبة كسوة كاملة تبع كساها الانطاع ثم كساها الوصائل والخصف فعل بمعنى مفعول من الخصف وهو ضم الشيء إلى الشيء والمراد شيء منسوج من الخوص على ما هو الظاهر، وقيل: أريد به ههنا الثياب الغلاظ جدا تشبيها بالخصف المذكور، والمعافر برود من اليمن منسوبة إلى معافر قبيلة بها، والميم زائدة، والوصائل ثياب حمر مخططة يمانية، والمسوح جمع مسح بكسر الميم وسكون المهملة أثواب من شعر غليظة، والانطاع جمع نطع بالكسر وبالفتح وبالتحريك بسط من أديم. وأخرج ابن سعد. وابن عساكر عن أبي بن كعب قال: لما قدم تبع المدينة ونزل بفنائها بعث إلى أحبار يهود فقال: إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية ويرجع الأمر إلى دين العرب فقال له: شامول اليهودي وهو يومئذ أعلمهم: أيها الملك إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل مولده بمكة اسمه أحمد وهذه دار هجرته إلى أن قال: قال وما صفته؟ قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل في عينيه حمرة يركب البعير ويلبس الشملة سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى حتى يظهر أمره فقال تبع: ما إلى هذا البلد من سبيل وما كان ليكون خرابها على يدي. وذكر أبو حاتم الرياشي أنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وقيل بينه وبين مولده عليه الصلاة والسلام ألف سنة، والقولان يدلان على أنه قبل مبعث عيسى عليه السلام. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لا تقولوا في تبع إلا خيرا فإنه قد حج البيت وآمن بما جاء به عيسى ابن مريم، وهو يدل على أنه بعد مبعث عيسى عليه السلام، والأول أشهر. / جسم]
128

ومن حديث عباد بن زياد المري أنه لما أخبره اليهود أنه سيخرج نبي بمكة يكون قراره بهذا البلد - يعني المدينة - اسمه أحمد وأخبروه أنه لا يدركه قال للأوس والخزرج: أقيموا بهذا البلد فإن خرج فيكم فوازروه وإن لم يخرج فأوصوا بذلك أولادكم، وقال في شعره: حدثت أن رسول الملي‍ * - ك يخرج حقا بأرض الحرم
ولو مد دهري إلى دهره * لكنت وزيرا له وابن عم
وفي " البحر " بدل البيت الأول: شهدت على أحمد أنه * رسول من الله باري النسم
وفيه أيضا رواية عن ابن إسحاق. وغيره أنه كتب أيضا كتابا وكان فيه أما بعد فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك وأنا على دينك وسنتك وآمنت بربك ورب كل شيء وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام فإن أدركتك فبها ونعمت وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة فإني من أمتك الأولين وتابعيك قبل مجيئك وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام، ثم ختم الكتاب ونقش عليه لله الأمر من قبل ومن بعد، وكتب عنوانه إلى محمد بن عبد الله نبي الله ورسوله خاتم النبيين
ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم من تبع الأول ودفعه إلى عظيم من الأوس والخزرج وأمره أن يدفعه للنبي عليه الصلاة والسلام إن أدركه.
ويقال: إنه بنى له دارا في المدينة يسكنها إذا أدركه صلى الله عليه وسلم وقدم إليها وأن تلك الدار دار أبي أيوب خالد بن زيد وأن الشعر والكتاب وصلا إليه وأنه من ولد ذلك الرجل الذي دفعا إليه أولا، ولما ظهر النبي عليه الصلاة والسلام دفعوا الكتاب إليه فلما قرىء عليه قال: مرحبا بتبع الأخ الصالح ثلاث مرات.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم عليه صلاة الجنازة وكذا على البراء بن معروف بعد وفاته بشهر يوم قدومه عليه الصلاة والسلام المدينة كما قال النجم الغيطي وكانت صلاة الجنازة قد فرضت تلك السنة، وكون هذا هو تبع الأول ويقال له الأكبر هو المذكور في غير ما كتاب، وذكر عبد الملك بن عبد الله بن بدرون في شرحه لقصيدة ابن عبدون أن أسعد هذا هو تبع الأوسط وذكر أيضا أن ملكه ثلثمائة وعشرين سنة وملك بعده عمرو أربعا وستين سنة، وقال ابن قتيبة: حسان وهو الذي قتل زرقاء اليمامة وأباد جديسا وكان ملكه خمسا وعشرين سنة؛ والتواريخ ناطقة بتقدم تبابعة عليه فإن تبعا يقال لمن ملك اليمن مطلقا كما يقال لملك الترك خاقان، والروم قيصر، والفرس كسرى أولا يسمى به إلا إذا كانت له حمير وحضرموت كما في " القاموس " أو إلا إذا كانت له حمير وسبأ وحضرموت كما ذكره الطيبي، والمتصف بذلك غير واحد كما لا يخفى على من أحاط خبرا بالتواريخ. وما تقدم من حكاية أنه هدم سمرقند ذكر عبد الملك خلافه ونسب هدمها إلى شمر بن افريقيس ابن أبرهة أحد التبابعة أيضا كان قبل تبع المذكور بكثير قال: إن شمر خرج نحو العراق ثم توجه يريد الصين ودخل مدينة الصغد فهدمها وسميت شمر كند أي شمر خربها وعربت بعد فقيل سمرقند اه‍.
وحكاية البناء يمكن نسبتها إلى شمر هذا فإن كند في لغة أهل أذربيجان ونواحيها على ما قيل بمعنى القرية فسمرقند بمعنى قرية شمر وهو أوفق بالبناء، وذكر علامة عصره الملأ أمين أفندي العمري الموصلي تغمده الله تعالى برحمته في كتابه شرح ذات الشفاء أن تبعا الذي ذكر سابقا هو ابن حسان وأنه ملك الدنيا كلها وأنه يقال له الرائش لأنه راش الناس بالعطاء، ولعل ما قاله قول لبعضهم وإلا فقد قال ابن قتيبة: إنه ابن كليكرب.
129

وفي شرح قصيدة ابن عبدون أن الرائش لقب الحرث بن بدر أحد التبابعة، وهو قبل أسعد المتقدم ذكره بزمان طويل جدا، وهو أيضا ممن ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم في شعره فقال: ويملك بعدهم رجل عظيم * نبي لا يرخص في الحرام
يسمى أحمدا يا ليت أني * أعمر بعد مخرجه بعام
ثم إن ملكه الدنيا كلها غير مسلم، وبالجملة الأخبار مضطربة في أمر التبابعة وأحوالهم وترتيب ملوكهم بل قال صاحب تواريخ الأمم: ليس في التواريخ أسقم من تاريخ ملوك حمير لما يذكر من كثرة عدد سنينهم مع قلة عدد ملوكهم فإن ملوكهم ستة وعشرون ومدتهم ألفان وعشرون سنة. وقال بعض: إن مدتهم ثلاثة آلاف واثنان وثمانون سنة ثم ملك من بعدهم اليمن الحبشة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، والقدر المعول عليه ههنا أن تبعا المذكور هو أسعد أبو كرب وأنه كان مؤمنا بنبينا صلى الله عليه وسلم وكان على دين إبراهيم عليه السلام ولم يكن نبيا، وحكاية نبوته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تصح، وإخباره بمبعثه صلى الله عليه وسلم لا يقتضيها لأنه علم ذلك من أحبار اليهود وهم عرفوه من الكتب السماوية.
وما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال: ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبي لم يثبت، نعم روى أبو داود. والحاكم أنه عليه الصلاة والسلام قال: " ما أدري أذو القرنين هو أم لا " وليس فيه ما يدل على التردد في نبوته وعدمها فإن ذا القرنين ليس بنبي على الصحيح، ثم إن الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام درى بعد أنه ليس ذا القرنين.
وقال قوم: ليس المراد بتبع هاهنا رجلا واحدا إنما المراد ملوك اليمن، وهو خلاف الظاهر والأخبار تكذبه، ومعنى تبع متبوع فهو فعل بمعنى مفعول وقد يجىء هذا اللفظ بمعنى فاعل كما قيل للظل تبع لأنه يتبع الشمس، ويقال لملوك اليمن أقيال من يقيل فلان أباه إذا اقتدى به لأنهم يقتدى بهم، وقيل: سمى ملكهم قيلا لنفوذ أقواله وهو مخفف قيل كميت.
* (والذين من قبلهم) * أي قبل قوم تبع كعاد. وثمود أو قبل قريش فهو تعميم بعد تخصيص * (أهلكناهم) * استئناف لبيان عاقبة أمرهم هدد به كفار قريش أو حال بإضمار قد أو بدونه من الضمير المستتر في الصلة أو خبر عن الموصول إن جعل مبتدأ ولم يعطف على ما قبله * (إنهم كانوا مجرمين) * تعليل لإهلاكهم أي أهلكناهم بسبب كونهم مجرمين فليحذر كفار قريش الإهلاك لإجرامهم.
* (وما خلقنا السم‍اوات والارض وما بينهما ل‍اعبين) *.
* (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما) * أي ما بين الجنسين وهو شامل لما بين الطبقات.
وقرأ عبيد بن عمير * (وما بينهن) * فالضمير لمجموع السموات والأرض * (لاعبين) * أي عابثين وهو دليل على وقوع الحشر كما مر في الأنبياء وغيرها.
* (ما خلقن‍اهمآ إلا بالحق ول‍اكن أكثرهم لا يعلمون) *.
* (ما خلقناهما) * أي وما بينهما * (إلا بالحق) * استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما خلقناهما ملتبسين بشيء من الأشياء إلا ملتبسين بالحق فالجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل، وجوز أن يكون في موضع الحال من المفعول، والباء للملابسة فيهما، وجوز أن
130

تكون للسببية، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب أي ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق الذي هو الإيمان والطاعة والبعث والجزاء والملابسة أظهر * (ول‍اكن أكثرهم لا يعلمون) * تذييل وتجهيل فخيم لمنكري الحشر وتوكيد لأن إنكارهم يؤدي إلى إبطال الكائنات بأسرها * (وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) * (النور: 15
) ولهذا قال المؤمنون: * (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) * (آل عمران: 191).
* (إن يوم الفصل ميق‍اتهم أجمعين) *.
* (إن يوم الفصل) * أي فصل الحق عن الباطل والمحق عن المبطل بالجزاء أو فصل الشخص عن أحبابه وذوي قرابته * (ميقاتهم) * وقت وعدهم * (أجمعين) * وقرىء * (ميقاتهم) * بالنصب على أنه اسم إن والخبر * (يوم الفصل) * أي إن ميعاد حسابهم وجزائهم في يوم الفصل وليس مثل إن حراسنا أسدا.
* (يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون) *.
* (يوم لا يغني) * * (بدل من يوم الفصل) * أو عطف بيان عند من لا يشترط المطابقة تعريفا وتنكيرا، وجوز نصبه بأعني مقدرا وأن يكون ظرفا لما دل عليه الفصل لا له للفصل بينه وبينه بأجنبي، وهو مصدر لا يعمل إذا فصل لضعفه أوله على قول من اغتفر الفصل إذا كان المعمول ظرفا كابن الحاجب. والرضى، وجوز أبو البقاء كونه صفة لميقاتهم. وتعقب بأنه جامد نكرة لإضافته للجملة فكيف يكون صفة للمعرفة مع أنه لا يصح بناؤه عند البصريين إذا أضيف إلى جملة صدرها معرب وهو المضارع أي يوم لا يجزى * (مولى عن مولى شيئا) * من الإغناء أي الإجزاء، فشيئا منصوب على المصدرية ويجوز كونه مفعولا به، ويغني بمعنى يدفع وينفع. وتنكير * (شيئا) * للتقليل، والمولى الصاحب الذي من شأنه أن يتولى معونة صاحبه على أموره فيدخل في ذلك ابن العم والحليف والعتيق والمعتق وغيرهم، وذكر الخفاجي أنه من الولاية وهي التصرف فيشمل كل من يتصرف في آخر لأمر ما كقرابة وصداقة وهو قريب مما ذكرنا. وأيا ما كان فليس ذلك من استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد، ولو سلم أن هناك مشتركا استعمل في أكثر من معنى كانت الآية دليلا لابن الهمام عليه الرحمة في جواز ذلك في النفي فيقال عنده: ما رأيت عينا ويراد العين الباصرة وعين الذهب وغيرها ويعلم من نفى إغناء المولى نفى إغناء غيره من باب أولى.
* (ولا هم ينصرون) * الضمير عند جمع للمولى الأول؛ والجمع باعتبار المعنى لأنه نكرة في سياق النفي وهي تعم دون الثاني لأنه أفيد وأبلغ لأن حال المولى الثاني نصرته معلوم من نفي الإغناء السابق، ولأنه إذا لم ينصر من استند إليه فكيف هو، وأيضا وجه جمع الضمير فيه أظهر، وجوز عوده على الثاني للدلالة على أنه لا ينصره غير مولاه وهو في سياق النفي أيضا وإن لم يكن في ذلك بمرتبة الأول. نعم قيل في وجه الجمع: عليهما؛ إن النكرة في سياق النفي تدل على كل فرد فرد فلا يرجع الضمير لها جمعا.
وأجيب بأنه لا يطرد لأنها قد تحمل على المجموع بقرينة عود ضمير الجمع عليها، ولعل الأولى عود الضمير على المولى المفهوم من النكرة المنفية، وقال بعض: لو جعل الضمير للكفار كضمير * (ميقاتهم) * كثرت الفائدة وقلت المؤنة فتأمل.
* (إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم) *.
* (إلا من رحم الله) * في محل رفع على أنه بدل من ضمير * (ينصرون) * أو في محل نصب على الاستثناء منه أي لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله تعالى وذلك بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه.
وجوز كونه بدلا أو استثناء من * (مولى) * وفيه كما في الأول دليل على ثبوت الشفاعة لكن الرجحان للأول لفظا ومعنى؛ والاستثناء من أي كان متصل، وقال الكسائي: إنه منقطع أي لكن من رحمه الله تعالى
131

فإنه لا يحتاج إلى قريب ينفعه ولا إلى ناصر ينصره، ولا وجه له مع ظهور الاتصال، نعم إنه لا يتأتى على كون الاستثناء من الضمير وكونه راجعا للكفار فلا تغفل.
* (إنه هو العزيز) * الغالب الذي لا ينصر من أراد سبحانه تعذيبه * (الرحيم) * لمن أراد أن يرحمه عز وجل.
* (إن شجرة الزقوم) *.
* (إن شجرة الزقوم) * مر معنى الزقوم في الصافات وقرىء * (شجرة) * بكسر الشين.
* (طعام الاثيم) *.
* (طعام الأثيم) * أي الكثير الآثام والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه دون ما يعمه والعاصي المكثر من المعاصي ثم إن المراد به جنس الكافر لا واحد بعينه، وقال ابن زيد. وسعيد بن جبير: إنه هنا أبو جهل، وليس بشيء ولا دليل على ذلك بما أخرجه سعيد بن منصور عن أبي مالك من أن أبا جهل كان يأتي بالتمر والزبد فيقول: تزقموا فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد صلى الله عليه وسلم فنزلت: * (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) * لما لا يخفى، ومثله ما قيل: إنه الوليد. وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الأنباري. وابن المنذر عن عوف بن عبد الله أن ابن مسعود أقرأ رجلا * (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) * فقال الرجل طعام اليثيم فرددها عليه فلم يستقم بها لسانه فقال أتستطيع أن تقول طعام الفاجر؟ قال: نعم قال: فافعل، وأخرج الحاكم وصححه وجماعة عن أبي الدرداء أنه وقع له مثل ذلك فلما رأى الرجل أنه لا يفهم قال: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.
واستدل بذلك على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها. وتعقبه القاضي أبو بكر في الانتصار بأنه أراد أن ينبهه على أنه لا يريد اليتيم بل الفاجر فينبغي أن يقرأ * (الأثيم) * وأنت تعلم أن هذا التأويل لا يكاد يتأتى فيما روي عن ابن مسعود فإنه كالنص في تجويز الإبدال لذلك الرجل وأبعد منه عن التأويل ما أخرج ابن مردويه عن أبي أنه كان يقرىء رجلا فارسيا فكان إذا قرأ عليه * (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) * قال: طعام اليتيم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " قل له طعام الظلام " فقالها ففصح بها لسانه، وفي الباب أخبار كثيرة جياد الأسانيد كخبر أحمد من حديث أبي هريرة " أنزل القرآن على سبعة أحرف عليما حكيم غفورا رحيما "
.
وكخبره من حديث أبي بكرة كله أي القرآن شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب نحو قولك تعالى وأقبل وأسرع وعجل إلى غير ذلك، لكن قال الطحاوي: إنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الحفظ ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ، وكذا قال ابن عبد البر. والباقلاني. وآخرون، ولعله أن تحقق إبدال من أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعده عليه الصلاة والسلام يقال: إنه كان منه قبل الاطلاع على النسخ ومتى لم يجز إبدال كلمة مكان كلمة مؤدية معناها مع الاتحاد عربية فعدم جواز ذلك مع الاختلاف عربية وفارسية مثلا أظهر، وما روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من أنه يرى جواز قراءة القرآن بالفارسية بشرط أداء المعاني على كمالها فقد صح عنه خلافه، وقد حقق الشرنبلالي عليه الرحمة هذه المسألة في رسالة مفردة بما لا مزيد عليه، وقد تقدم في هذا الكتاب شيء من ذلك فتذكر، والطعام ما يتناول منه من الغذاء وأصله مصدر فلذا وقع خبرا عن المؤنث ولم يطابق، وجوز أن يكون ذلك من باب قوله: إنارة العقل مكسوف بطوع هوى * وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا
132

فكأنه قيل: إن الزقوم طعام الأثيم.
* (ك المهل يغلى فى البطون) *.
* (كالمهل) * عكر الزيت كما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وجاء في حديث رواه الحاكم وغيره عن أبي سعيد مرفوعا وفيه " فإذا قرب إلى وجهه - يعني الجهنمي - سقطت فروة وجهه وربما يؤيد بقوله تعالى: * (يوم تكون السماء كالمهل) * (المعارج: 8) مع قوله سبحانه: * (فكانت وردة كالدهان) * (الرحمان: 37) وقال بعض: عكر القطران، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الصديد، ومنه ما في حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه ادفنوني في ثوبي هذين فإنما هما للمهل والتراب. وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنه أنه ما أذيب من ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص، وروي ذلك عن ابن مسعود، قيل: وسمي ذلك مهلا لأنه يمهل في النار حتى يذوب فهو من المهل بمعنى السكون، وادعى بعضهم الاشتراك وقد جاء استعماله في كل ما سمعت، وقرأ الحسن * (كالمهل) * بفتح الميم وهو لغة فيه، والجار والمجرور أو الكاف في محل رفع خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف لبيان حال الطعام أي هو كالمهل أو مثل المهل، وقوله عز وجل: * (يغلي في البطون) * خبر ثان لذلك المبتدأ، وقيل: حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور فيكون وصفا للطعام أيضا؛ وقال أبو عبيد: هو حال من المهل، وقيل: صفة له لأن أل فيه للجنس نحو أمر على اللئيم يسبني ويعتبر داخلا في التشبيه وأنت تعلم أن غليان الطعام في البطن فيه مبالغة أما التشبيه بمهل يغلي في البطن فلا، وقيل كالمهل أو الكاف خبر ثان لإن وجملة * (يغلي في البطون) * حال من الزقوم أو الطعام. وتعقب بأنه منع مجىء الحال من المضاف إليه في غير صور مخصوصة ليس هذا منها ومنع مجيئه من الخبر ومن المبتدأ. وأجيب بأن هذا بناء على جواز مجىء الحال من الخبر ومن المبتدأ والمضاف إليه المبتدأ في حكمه وأن ما ذكر من الصور التي يجىء الحال فيها من المضاف إليه لأن المضاف كالجزء في جواز إسقاطه، ولا يخفى أنه بناء على ضعيف، وقيل: كالمهل خبر ثان والجملة حال من ضمير الشجرة المستتر فيه، والتذكير باعتبار كونها طعام الأثيم أو لاكتسابها إياه مما أضيفت إليه نظير ما سمعت في البيت آنفا وهو تكلف مستغنى عنه، وقيل: الجملة على ذلك خبر مبتدأ محذوف هو ضمير الطعام أو الزقوم فإن كانت الجملة حينئذ مستأنفة فالبحث هين وإن كانت حالة عاد ما مر آنفا ولا أراك تظنه هينا، وقيل: كالمهل حال من طعام وحاله معلوم، وبالجملة الوجوه في إعراب الآية كثيرة وأنا أختار منها ما ذكرته أولا.
وقرأ عمرو بن ميمون. وأبو رزين. والأعرج. وأبو جعفر. وشيبة. وابن محيصن. وطلحة. والحسن في رواية. وأكثر السبعة * (تغلي) * بالتاء الفوقية فكالمهل خبر ثان لإن وجملة * (تغلي) * خبر ثالث واتحاد المبتدأ والخبر متكفل باتحاد القراءتين معنى فافهم ولا تغفل.
* (كغلى الحميم) *.
* (كغلي الحميم) * صفة مصدر محذوف أي غليا كغلي الحميم، وجوز أن يكون حالا، والحميم ما هو في غاية الحرارة.
* (خذوه فاعتلوه إلى سوآء الجحيم) *.
* (خذوه) * على إرادة القول والمقول له الزبانية أي ويقال لهم خذوه * (فاعتلوه) * فجروه بقهر.
قال الراغب: العتل الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر، وبعضهم يعبر بالثوب بدل الشيء وليس ذاك بلازم والمدار على الجر مع الإمساك بعنف.
وقال الأعمش. ومجاهد: معنى * (اعتلوه) * اقصفون كما يقصف الحطب، والظاهر عليه التضمين أو تعلق الجار بخذوه، والمعنى الأول هو المشهور. وقرأ زيد بن علي. والحجازيان. وابن عامر. ويعقوب * (فاعتلوه) *
133

بضم التاء وروي ذلك عن الحسن. وقتادة. والأعرج. على أنه من باب قعد، وعلى قراءة الجمهور من باب نصر وهما لغتان * (إلى سواء الجحيم) * أي وسطه، وسمي سواء لاستواء بعد جميع أطرافه بالنسبة إليه.
* (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم) *.
* (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم) * كأن أصله صبوا فوق رأسه الحميم، ثم قيل: صبوا فوق رأسه عذابا هو الحميم للمبالغة بجعل العذاب عين الحميم، وهو مترتب عليه ولجعله مصبوبا كالمحسوس ثم أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف، وزيد * (من) * للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع فهناك إما تمثيل أو استعارة تصريحية أو مكنية أو تخييلية.
* (ذق إنك أنت العزيز الكريم) *.
* (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * أي ويقال: أو قولوا له ذلك استهزاء وتقريعا على ما كان يزعمه.
أخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة قال: لما نزلت * (خذوه فاعتلوه إلى سوء الجحيم) * (الدخان: 47) قال أبو جهل: ما بين جبليها رجل أعز ولا أكرم مني، فقال الله تعالى: * (ذق) * الخ.
وأخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء لقد علمت أنني أمنع أهل بطحاء وأنا العزيز الكريم فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * وروي أن اللعين قال يوما: يا معشر قريش أخبروني ما أسمي فذكرت له ثلاثة أسماء عمر والجلاس. وأبو الحكم فقال: ما أصبتم أسمي إلا أخبركم به؟ قالوا: بلى قال: اسمي العزيز الكريم فنزلت * (إن شجرة الزقوم) * الآيات، وهذا ونحوه لا يدل أيضا على تخصيص حكم الآية به فكل أثيم يدعي دعواه كذلك يوم القيامة، وقيل: المعنى ذق إنك أنت العزيز في قومك الكريم عليهم فما أغنى ذلك عنك ولم يفدك شيئا، والذوق مستعار للإدارك.
وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما على المنبر. والكسائي * (أنك) * بفتح الهمزة على معنى لأنك.
* (إن ه‍اذا ما كنتم به تمترون) *.
* (إن ه‍اذا) * أي العذاب أو الأمر الذي أنتم فيه * (ما كنتم به تمترون) * تشكون وتمارون فيه، وهذا ابتداء كلام منه عز وجل أو من مقول القول والجمع باعتبار المعنى لما سمعت أن المراد جنس الأثيم.
* (إن المتقين فى مقام أمين) *.
* (إن المتقين في مقام) * في موضع قيام، والمراد بالقيام الثبات والملازمة كما في قوله تعالى: * (ما دمت عليه قائما) * ويكنى به عن الإقامة لأن المقيم ملازم لمكانه، وهو مراد من قال: في مقام أي موضع إقامة.
وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما. وزيد بن علي. وأبو جعفر. وشيبة. والأعرج. والحسن. وقتادة. ونافع. وابن عامر * (مقام) * بضم الميم ومعناه موضع إقامة، وعلى ما قررنا ترجع القراءتان إلى معنى واحد.
* (أمين) * يأمن صاحبه مما يكره فهو صفة من الأمن وهو عدم الخوف عما هو من شأنه، ووصف المقام به باعتبار أمن من آمن به فهو إسناد مجازي كما في نهر جار، وظاهر كلام الزمخشري أن ذلك استعارة من الأمانة كأن المكان مؤتمن وضع عنده ما يحفظه من المكاره ففيه استعارة مكنية وتخييلية، وقال ابن عطية: فعيل بمعنى مفعول أي مأمون فيه وليس بذاك، وجوز أن يكون للنسبة أي ذي أمن.
* (فى جن‍ات وعيون) *.
* (في جنات وعيون) * بدل من * (مقام) * بإعادة الجار أو الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور، وظرفية العيون للمجاورة، والظاهر
134

أنه بدل اشتمال لا كل وبعض، وفي ذلك دلالة على نزاهة مكانهم واشتماله على ما يستلذ من المآكل والمشارب.
* (يلبسون من سندس وإستبرق متق‍ابلين) *.
* (يلبسون من سندس واستبرق) * خبر ثان أو حال من الضمير في الجار والمجرور أو استئناف، والسندس قال ثعلب: الرقيق من الديباج والواحدة سندسة، والاستبرق غليظه، وقال الليث: هو ضرب من البزيون يتخذ من المرعز، ولم يختلف أهل اللغة في أنهما معربان كذا ذكره بعضهم.
وفي " الكشاف " الاستبرق ما غلظ من الديباج وهو تعريب استبر، قال الخفاجي: ومعنى استبر في لغة الفرس الغليظ مطلقا ثم خص بغليظ الديباج وعرب، وقيل: إنه عربي من البراقة، وأيد بقراءته بوصل الهمزة وهو كما ترى.
وذكر بعضهم أن السندس أصله سندي ومعناه منسوب إلى السند المكان المعروف لأن السندس كان يجلب منه فأبدلت ياء النسبة سينا، وقد مر الكلام في ذلك فتذكر، ثم إن وقوع المعرب في القرآن العظيم لا ينافي كونه عربيا مبينا. ونقل صاحب الكشف عن جار الله أنه قال: الكلام المنظوم مركب من الحروف المبسوطة في أي ليان كان تركي أو فارسي أو عربي ثم لا يدل على أن العربي أعجمي فكذا ههنا، ثم قال صاحب الكشف: يريد أن كون استبر أعجميا لا يلزمه أن يكون استبرق كذلك. وقرأ ابن محيصن * (واستبرق) * فعلا ماضيا كما في " البحر "، والجملة حينئذ قيل معترضة، وقيل: حال من * (سندس) * والمعنى يلبسون من سندس وقد برق لصقالته ومزيد حسنه * (متقابلين) * في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض.
* (كذلك وزوجن‍اهم بحور عين) *.
* (كذلك) * أي الأمر كذلك فالكاف في محل رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف، والمراد تقرير ما مر وتحقيقه. ونقل عن جار الله أنه قال: والمعنى فيه أنه لم يستوف الوصف وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف فكأنه قيل: الأمر نحو ذلك وما أشبهه.
وأراد على ما قال المدقق أن الكاف مقحم للمبالغة وذلك مطرد في عرفي العرب والعجم، وجوز أن يكون في محل نصب على معنى أثبناهم مثل ذلك، وقوله تعالى: * (وزوجناهم) * على هذا عطف على الفعل المقدر وعلى ما قبل على * (يلبسون) * والمراد على ما قال غير واحد وقرناهم * (بحور عين) * وفسر بذلك قيل لأن
الجنة ليس فيها تكليف فلا عقد ولا تزويج بالمعنى المشهور، وقيل: لمكان الباء، وزوجه المرأة بمعنى أنكحه إياها متعد بنفسه، وفيه بحث فإن الأخفش جوز الباء فيه فيقال: زوجته بامرأة فتزوج بها، وأزدشنوءة يعدونه بالباء أيضا، وفي " القاموس " زوجته امرأة وتزوجت امرأة وبها أو هي قليلة، ويعلم مما ذكر أن قول بعض الفقهاء زوجته بها خطأ لا وجه له، ويجوز أن يقال: إن ذلك التفسير لأن الحور العين في الجنة ملك يمين كالسراري في الدنيا فلا يحتاج الأمر إلى العقد عليهن، على أنه يمكن أن يكون في الجنة عقد وإن لم يكن فيها تكليف.
وقد أخرج ابن جرير. وغيره عن مجاهد أنه قال: زوجناهم أنكحناهم. ومن الناس من قال بالتكليف فيها بمعنى الأمر والنهي لكن لا يجدون في الفعل والترك كلفة، نعم المشهور أن لا تكليف فيها، وبعض ما حرم في الدنيا كنكاح امرأة الغير ونكاح المحارم لا يفعلونه لعدم خطوره لهم ببال أصلا، والحور جمع حوراء وهي البيضاء كما روي عن ابن عباس. والضحاك. وغيرهما، وقيل: الشديدة سواد العين وبياضها، وقيل: الحوراء ذات الحور وهو سواد المقلة كلها كما في الظباء فلا يكون في الإنسان إلا مجازا. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد أن الحوراء التي يحار فيها الطرف. والعين جمع عيناء وهي عظيمة العينين وأكثر الأخبار تدل على أنهن
135

لسن نساء الدنيا، أخرج ابن أبي حاتم. والطبراني عن أبي أمامة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الحور العين من زعفران " وأخرج ابن مردويه. والخطيب عن أنس بن مالك مرفوعا نحوه، وأخرج ابن المبارك عن زيد بن أسلم قال: إن الله تعالى لم يخلق الحور العين من تراب إنما خلقهن من مسك وكافور وزعفران. وأخرج ابن مردويه. والديلمي عن عائشة قالت: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حور العين خلقهن من تسبيح الملائكة عليهم السلام " وهذا إن صح لا يعارض ما قبله إذ لا بد عليه من أن يقال بتجسد المعاني فيجوز تجسد التسبيح وجعله جزأ مما خلقن منه، وقيل: المراد بهن هنا نساء الدنيا وهن في الجنة حور عين بالمعنى الذي سمعت بل هن أجمل من الحور العين أعني النساء المخلوقات في الجنة من زعفران أو غيره ويعطي الرجل هناك ما كان له في الدنيا من الزوجات، وقد يضم إلى ذلك ما شاء الله تعالى من نساء متن ولم يتزوجن، ومن تزوجت بأكثر من واحد فهي لآخر أزواجها أو لأولهم إن لم يكن طلقها في الدنيا أو تخير فتختار من كان أحسنهم خلقا معها أقوال صحح جمع منها الأول، وتعطى زوجة كافر دخلت الجنة لمن شاء الله تعالى. وقد ورد أن آسية امرأة فرعون تكون زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقرأ عكرمة * (بحور عين) * بازضافة وهي على معنى من أي بالحور من العين، وفي قراءة عبد الله * (بعيس عين) * والعياسء البيضاء تعلوها حمرة.
* (يدعون فيها بكل فاكهة ءامنين) *.
* (يدعون فيها بكل فاكهة) * يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه ولا يتخصص شيء منها بمكان ولا زمان * (ءامنينع) * من الضرر أي ضرر كان، وهو حال من ضمير * (يدعون) * وكونه حالا من الضمير في قوله سبحانه: * (في جنات) * بعيد، وأبعد منه جعل * (يدعون) * حينئذ صفة الحور والنون فيه ضمير النسوة ومنه يفعلن لما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر مع عدم المناسبة للسياق.
وقوله تعالى:
* (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى ووق‍اهم عذاب الجحيم) *.
* (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) * جملة مستأنفة أو حالية وكأنه أريد أن يقال: لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع الموتة الأولى موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها، ونظيره قول القائل لمن يستسقيه: لا أسقيك إلا الجمر وقد علم أن الجمر لا يسقى، ومثله قوله عز وجل: * (ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) * (النساء: 22) فالاستثناء متصل والدخول فرضي للمبالغة، وضمير * (فيها) * للجنات، وقيل: هو متصل والمؤمن عند موته لمعاينة ما يعطاه في الجنة كأنه فيها فكأنه ذاق الموتة الأولى في الجنة، وقيل: متصل وضمير * (فيها) * للآخرة والموت أول أحوالها، ولا يخفى ما فيه من التفكيك مع ارتكاب التجوز، وقيل: الاستثناء منقطع والضمير للجنات أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا، والأصل اتصال الاستثناء، وقال الطبري: إلا بمعنى بعد، والجمهور لم يثبتوا هذا المعنى لها، وقال ابن عطية: ذهب قوم إلى أن إلا بمعنى سوى وضعفه الطبري.
وقال أبو حيان: ليس تضعيفه بصحيح بل يصح المعنى بسوى ويتسق. وفائدة الوصف تذكير حال الدنيا.
والداعي لما سمعت من الأوجه دفع سؤال يورد ههنا من أن الموتة الأولى مما مضى لهم في الدنيا وما هو كذلك لا يمكن أن يذوقوه في الجنة فكيف استثنيت؟ وقيل: إن السئال مبني على أن الاستثناء من النفي إثبات فيثبت للمستثني الحكم المنفي عن المستثنى منه ومحال أن يثبت للموتة الأولى الماضية الذوق في الجنة، وأما على قول من
136

جعله تكلما بالباقي بعد الثنيا، والمعنى لا يذوقون سوى الموتة الأولى من الموت فلا إشكال فتأمل. وقرأ عبيد بن عمير * (لا يذاقون) * مبنيا للمفعول، وقرأ عبد الله * (لا يذوقون فيها طعم الموت) * وجاء في الحديث النوم لأنه أخو الموت، أخرج البزار. والطبراني في " الأوسط ". وابن مردويه. والبيهقي في البعث بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: " قيل يا رسول الله أينام أهل الجنة؟ قال: لا النون أخو الموت وأهل الجنة لا يموتون ولا ينامون ".
* (ووقاهم عذاب الجحيم) * وقرأ أبو حيوة * (ووقاهم) * مشدد القاف على المبالغة في التكثير في الوقاية لأن التفعيل لزيادة المعنى لا للتعدية لأن الفعل متعد قبله.
* (فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم) *.
* (فضلا من ربك) * أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلا منه تعالى فهو نصب على المصدرية، وجوز فيه أن يكون حالا ومفعولا له، وأيا ما كان ففيه إشارة إلى نفي
إيجاب أعمالهم الإثابة عليه سبحانه وتعالى. وقرىء * (فضل) * بالرفع أي ذلك فضل * (ذالك هو الفوز العظيم) * لأنه فوز بالمطالب وخلاص من المكاره.
* (فإنما يسرن‍اه بلس‍انك لعلهم يتذكرون) *.
* (فإنما يسرناه) * أي فإنما سهلنا القرآن * (بلسانك) * أي بلغتك، وقيل: المعنى أنزلناه على لسانك بلا كتابة لكونك أميا، وهذا فذلكة وإجمال لما في السورة بعد تفصيل تذكيرا لما سلف مشروحا فيها، فالمعنى ذكرهم بالكتاب المبين فإنما يسرناه بلسانك * (لعلهم يتذكرون) * أي كي يفهموه ويتذكروا به ويعملوا بموجبه.
* (فارتقب إنهم مرتقبون) *.
* (فارتقب) * أي وأن لم يتذكروا فانتظر ما يحل بهم وهو تعميم بعد تخصيص بقوله تعالى: * (فارتقب يوم تأتي السماء) * (الدخان: 59) منتظرون ما يحل بك كما قالوا: " نتربص به ريب المنون " وقيل: معناه مرتقبون ما يحل بهم تهكما، وقيل: هو مشاكلة، والمعنى أنهم صائرون للعذاب، وفي الآية من الوعد له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى، وقيل: فيها الأمر بالمتاركة وهو منسوخ بآية السيف فلا تغفل.
ومن باب الإشارة في الآيات: ما ذكروه في قوله تعالى: * (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون) * (الدخان: 17) إلى آخر القصة من تطبيق ذلك على ما في الأنفس، وهو مما يعلم ما ذكرناه في باب الإشارة من هذا الكتاب غير مرة فلا نطيل به، وقالوا في قوله تعالى: * (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق) * (الدخان: 38، 39) إنه إشارة إلى الوحدة كقوله عز وجل: * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) * (فصلت: 53) وأفصح بعضهم فقال: الحق هو عز وجل والباء للسببية أي ما خلقناهما إلا بسبب أن تكون مرايا لظهور الحق جل وعلا، ومن جعل منهم الباء للملابسة أنشد. رق الزجاج وراقت الخمر * فتشاكلا وتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح * وكأنما قدح ولا خمور
والعبارة ضيقة والأمر طور ما وراء العقل والسكوت أسلم، وقالوا في شجرة الزقوم: هي شجرة الحرص وحب الدنيا تظهر يوم القيامة على أسوأ حال وأخبث طعم، وقالوا: * (الموتة الأولى) * (الدخان: 56) ما كان في الدنيا بقتل النفس بسيف الصدق في الجهاد الأكبر وهو المشار إليه بموتوا قبل أن تموتوا فمن مات ذلك الموت حيى أبدا الحياة الطيبة التي لا يمازجها شيء من ماء الألم الجسماني والروحاني وذلك هو الفوز العظيم، والله تعالى يقول الحق وهو سبحانه يهدي السبيل.
137

سورة الجاثية
وتسمى سورة الشريعة. وسورة الدهر كما حكاه الكرماني في العجائب لذكرهما فيها، وهي مكية قال ابن عطية: بلا خلاف، وذكر الماوردي إلا * (قل للذين آمنوا يغفروا) * (الجاثية: 14) الآية فمدنية، وحكى هذا الاستثناء في جمال القراء عن قتادة، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. وهي سبع وثلاثون آية في الكوفي وست وثلاثون في الباقية لاختلافهم في * (حم) * هل هي آية مستقلة أولا، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح.
* (حم) *.
* (حم) * إن جعل اسما للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا مسمى بحم، وقوله تعالى:
* (تنزيل الكت‍ابمن الله العزيز الحكيم) *.
* (تنزيل الكتاب) * خبر بعد خبر على أنه مصدر أطلق على المفعول مبالغة، وقوله سبحانه: * (من الله العزيز الحكيم) * صلته أو خبر ثالث أو حال من * (تنزيل) * عاملها معنى الإشارة أو من * (تنزيل) * عاملها معنى الإشارة أو من * (الكتاب) * الذي هو مفعول معنى عاملها المضاف، وقيل: * (حم) * مبتدأ وهذا خبره والكلام على المبالغة أيضا أو تأويل * (تنزيل) * بمنزل، والإضافة من إضافة الصفة لموصوفها، واعتبار المبالغة أولى أو المسمى به تنزيل الخ. وتعقب بأن الذي يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذ لا عهد بالتسمية بعد فحقها الاخبار بها، وجوز جار الله جعل * (حم) * مبتدأ بتقدير مضاف أي تنزيل حم و * (تنزيل) * المذكور خبره و * (من الله) * صلته، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر إيذانا بأنه الكتاب الكامل إن أريد بالكتاب السورة، وفيه تفخيم ليس في تنزيل حم تنزيل من الله، ولهذا لما لم يراع في حم السجدة هذه النكتة عقب بقوله تعالى: * (كتاب فصلت) * ليفيد هذه الفائدة مع التفنن في العبارة، وإن أريد الكتاب كله فللاشعار بأن تنزيله كإنزال الكل في حصول الغرض من التحدي والتهدي، فدعوى عراء هذا الوجه عن فائدة يعتد بها عراء عن إنصاف يعتد به. وإن جعل تعديدا للحروف فلا حظ له من الإعراب وكان * (تنزيل) * خبر مبتدأ مضمر يلوح به ما قبله أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب أو مبتدأ خبره الظرف بعده على ما قاله جار الله، وقيل: * (حم) * مقسم به ففيه حرف جر مقدر وهو في محل جر أو نصب على الخلاف المعروف فيه و * (تنزيل) * نعت مقطوع فهو خبر مبتدأ مقدر والجملة مستأنفة وجواب القسم قوله تعالى:
* (إن فى السم‍اوات والارض لاي‍ات للمؤمنين) *.
* (إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين) * وهو على ما تقدم استئناف للتنبيه على الآيات التكوينية، وجوز أن يكون * (تنزيل الكتاب من الله) * مبتدأ وخبرا والجملة جواب القسم، وهو خلاف الظاهر، وقيل: يدر * (حم) * على كونه مقسما به مبتدأ محذوف الخبر أي حم قسمي ويكون * (تنزيل) * نعتا له غير مقطوع، وعلى سائر الأوجه قوله سبحانه: * (العزيز الحكيم) * نعت للاسم الجليل.
وجوز الإمام كونه صفة للكتاب ءلا أنه رجح الأول بعد احتياجه إلى ارتكاب المجاز مع زيادة قرب الصفة من الموصوف فيه، وأوجبه أبوحيان لما في الثاني من الفصل
بين الصفة والموصوف الغير الجائز.
وقوله عز وجل: * (إن في السموات) * الخ يجوز أن يكون بتقدير مضاف أي إن في خلق السموات كما رواه الواحدي عن الزجاج لما أنه قد صرح به في آية أخرى والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويناسبه قوله عز وجل:
* (وفى خلقكم وما يبث من دآبة ءاي‍ات لقوم يوقنون) *.
138

* (وفي خلقكم) * إلى آخره، ويجوز أن يكون على ظاهره وحينئذ يكون على أحد وجهين. أحدهما: إن فيهما لآيات أي ما فيهما من المخلوقات كالجبال والمعادن والكواكب والنيرين وعلى هذا يكون قوله سبحانه * (وفي خلقكم) * من عطف الخاص على العام. والثاني: أن أنفسهما لآيات لما فيها من فنون الدلالة على القادر الحكيم جل شأنه، وهذا أظهر وهو أبلغ من أن يقال: إن في خلقهما لآيات وإن كان المعنى آيلا إليه، و * (في خلقكم) * خبر مقدم وقوله سبحاه: * (وما يبث من دابة) * عطف على خلق، وجوز في * (ما) * كونها مصدرية وكونها موصولة إما بتقدير مضاف أي وفي خلق ما ينشره ويفرقه من دابة أو بدونه.
وجوز عطفه على الضمير المتصل المجرور بالإضافة وما موصولة لا غير على الظاهر، وهو مبني على جواز العطف على الضمير المتصل المجرور من غير إعادة الجار وذلك مذهب الكوفيين. ويونس. والأخفش؛ قال أبو حيان: وهو الصحيح، واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين، ومذهب سيبويه. وجمهور البصريين منع العطف المذكور سواء كان الضمير مجرور بالحرف أو بالإضافة لشدة الاتصال فأشبه العف على بعض الكلمة.
وذكر ابن الحاجب في " شرح المفصل " في باب الوقف منه أن بعض النحويين يجوزون العطف في المجرور بالإضافة دون المجرور بالحرف لأن اتصال المجرور بالمضاف ليس كاتصاله بالجار لاستقلال كل واحد منهما بمعناه فلم يشتد اتصاله فيه اشتداد مع الحرف وأجاز الجرمي. والزيادي العطف إذا أكد الضمير المتصل بمنفصل نحو مررت بك أنت وزيد وقوله تعالى: * (ءايات) * مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على جملة * (إن في السموات) * الخ. وقرأ أبي. وعبد الله * (لآيات) * باللام كذا في " البحر " ولم يبين أن آيات مرفوع أو منصوب، فإن كان منصوبا فاللام زائدة في اسم إن المتقدم عليه خبرها وهو أحد مواضع زيادته المطردة الكثيرة، وإن كان مرفوعا فهي زائدة في المبتدأ ويقل زيادتها فيه، وحسن زيادتها هنا تقدم إن في الجملة المعطوف عليها فهو كقوله: إن الخلافة بعدهم لذميمة * وخلائف ظرف لمما أحقر
وقرأ زيد بن علي * (آية) * بالإفراد. وقرأ الأعمش. والجحدري. وحمزة. والكسائي. ويعقوب * (آيات) * بالجمع والنصب على أنها عطف على * (آيات) * السابق الواقع اسما لأن و * (في خلقكم) * معطوف على * (في السموات) * فكأنه قيل: وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات * (لقوم يوقنون) * أي من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه.
* (واختل‍افاليل والنهار ومآ أنزل الله من السمآء من رزق فأحيا به الارض بعد موتها وتصريف الرياح ءاي‍ات لقوم يعقلون) *.
* (واختلاف الليل والنهار) * بالجر على إضمار في، وقد قرأ عبد الله بذكره. وجاء حذف الجار مع إبقاء عمله كما في قوله: إذا قيل أي الناس شر قبيلة * أشارت كلبب بالأكف الأصابع
وحسن ما هنا ذكر الجار في الآيتين قبل. وقرىء بالرفع على أنه مبتدأ خبره * (آيات) * بعد، والمراد باختلافهما تعاقبهما أتفاوتهما طولا وقصرا، وقيل: اختلافهما في أن أحدهما نور والآخر ظلمة * (وما أنزل الله) * عطف على * (اختلاف) * * (من السماء) * جهة العلو، وقيل: السحاب، وقيل: الجرم المعروف بضرب من التأويل.
* (من رزق) * من مطر، وسمي رزقا لأنه سببه فهو مجاز، ولو لم يؤل صح لأنه في نفسه رزق أيضا.
* (فأحيا به الأرض) * بأن أخرج منها أصناف الزرع والثمرات والنبات، والسببية عادية اقتضتها الحكمة
139

* (بعد موتها) * يبسها وعرائها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها * (وتصريف الرياح) * من جهة إلى أخرى ومن حال إلى حال، وتأخيره عن إنزال المطر مع تقدمه عليه في الوجوه إما للإيذان بأنه آية مستقلة حيث لو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح وإنزال المطر آية واحدة، وإما لأن كون التصريف آية ليس بمجرد كونه مبدأ لإنشاء المطر بل له ولسائر المنافع التي من جملتها سوق السفن في البحار.
وقرأ زيد بن علي. وطلحة. وعيسى * (وتصريف الريح) * بالأفراد * (ءايات لقوم يعقلون) * بالرفع على أنه مبتدأ خبره ما تقدم من الجار والمجرور أعني * (في اختلاف) * على ما سمعت، والجملة معطوفة على ما قبلها.
وقيل: إن * (اختلاف) * بالجر عطف على * (خلقكم) * المجرور بفي قبله و * (آيات) * عطف على آيات السابق المرفوع بالابتداء، وفيه العطف على معمولي عاملين مختلفين، ومن الناس من يمنعة وهم أكثر البصريين، ومنهم من يجيزه وهم أكثر الكوفيين، ومنهم من يفصل فيقول: وهو جائز في نحو قولك: في الدار زيد والحجرة عمرو وغير جائز في نحو قولك: زيد في الدار وعمر والحجرة لأن الأول يلي المجرور فيه العاطف فقام العاطف مقام الجار، والثاني لم يل فيه المجرور العاطف فكان فيه إضمار الجار من غير عوض، وتمام الكلام في هذه المسألة في محله؛ وقيل: إن * (اختلاف) * عطف على المجرور قبل و * (آيات) * خبر مبتدأ محذوف أي هي آيات؛ واختاره من لم يجوز العطف على معمولي عاملين ويقول بضعف حذف الجار مع بقاء عمله وإن تقدمه ذكر جار.
وقال أبو البقاء: * (آيات) * مرفوع على التأكيد لآيات السابق وهم يعيدون الشيء إذا طال الكلام في الجملة للتأكيد والتذكير. وتعقب بأن ذلك إنما يكون بعين ما تقدم
واختلاف الصفات يدل على تغاير الموصوفات فلا وجه للتأكيد، وأيضا فيه الفصل بين المعطوف المجرور والمعطوف عليه وبين المؤكد والمؤكد وهو إن جاز يورث تعقيدا ينافي فصاحة القرآن العظيم. وقرأ * (آيات) * هنا بالنصب من قرأها هناك به فهي مفعول لفعل محذوف أي أعني آيات، وقيل: العاطف في قوله تعالى: * (واختلاف) * عطف اختلاف على المجرور بفي قبل وعطفها على اسم إن وهو مبني على جواز العطف على معمولي عاملين، وقال أبو البقاء: هي منصوبة على التأكيد والتكرير لاسم إن نحو إن بثوبك دما وبثوب زيد دما، ومر آنفا ما فيه.
وقال بعضهم: إنها اسم إن مضمرة وهي قد تضمر ويبقى عملها، ذكر أبو حيان في الارتشاف في الكلام على إن من خير النار أو خيرهم زيد أن محمل بن يحيى بن المبارك اليزيدي ذهب إلى نصب خيرهم ورفع زيد فاسم إن محذوف وأو خيرهم منصوب بإضمار إن لدلالة إن المذكورة تقديره إن من خير الناس زيدا وإن خيرهم زيد. وقد أقر الشاطبي تخريج النصب في الآية على ذلك لكن نقله السفاقسي عن أبي البقاء ورده بأن إن لا تضمر.
وقال ابن هشام في آخر الباب الرابع من المغني:: إنه بعيد، والظاهر أنه لا بد عليه من إضمار الجار في * (اختلاف) * وحينئذ لا يخفى حاله، وسائر القراءات مروية هنا عمن رويت عنه فيما تقدم، وتنكير * (آيات) * في الآيات للتفخيم كما وكيفا، والمعنى إن المنصفين من العباد إذ نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح علموا أنها مصنوعة وأنها لا بد لها من صانع فآمنوا بالله تعالى وأقروا، وإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة
140

إلى أخرى وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا ايمانا وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بعد موتها وتصريف الرياح جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا وشدة وضعفا وحرارة وبرودة عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم كذا في " الكشاف " ومنه يعلم نكتة اختلاف الفواصل.
وفي " الكشف " أنه ذكر ما حاصله أنه على سبيل الترقي وهو يوافق ما عليه الصوفية وغيرهم من أن الايقان مرتبة خاصة في الايمان، ثم العقل لما كان مدارهما أي الايمان والايقان ونعني به العقل المؤيد بنور البصيرة جعله لخلوص الايقان من اعتراء الشكوك من كل وجه ففي استحكامه كل خير، وروعي في ترتيب الآيات ما روعي في ترتيب المراتب الثلاث من تقديم ما هو أقدم وجودا، ولا يلزم أن تكون الآية الثانية أعظم من الأولى ولا الثالثة من الثانية لما ذكره من أن الجامع بين النظرين موقن وبين الثلاثة عاقل على أنها كذلك في تحصيل هذا الغرض فإن كانت أعظم من وجه رخر فلا بأس فإن النظر إلى حال نفسه وما هو من نوعه ثم جنسه من سائر الأناسي والحيوان للقرب والتكرر وكثرة العدد أدخل في انتفاء الشك وحصول اليقين وإن كان النظر في السماء والأرض أتم دلالة على كمال القدرة والعلم فذلك لا يضر ولا هو المطلوب ههنا ثم النظر إلى اختلاف المذكور أدل على استحكام ذلك اليقين من حيث أنه يتجدد حينا فحينا ويبعث على النظر والاعتبار كلما تجدد هذا، والتحقيق أن تمام النظر في الثاني يضطر إلى النظر في الأول لأن السموات والأرض من أسباب تكون الحيوان بوجه، وكذلك النظر في الثالث يضطر إلى النظر في الأولين، أما على الأول فظاهر من أسباب تكون الحيوان بوجه، وكذلك النظر في الثالث يضطر إلى النظر في الأولين، أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فلأنه العلة الغائية فلا بد من أن يكون جامعا انتهى، وهو كلام نفيس جدا.
وقال الإمام في ترتيب هذه الفواصل: أظن أن سببه أنه قيل إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين بل كنتم من طلاب الجزم واليقين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل، ولا يخفى أنه فاته ذلك التحقيق ولم يختر الترقي وهو بالاختيار حقيق، والمغايرة بين ما هنا وما في سورة (البقرة: 164) أعنى * (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) * الآية للتفنن والكلام المعجز مملوء منه، وذكر الإمام في ذلك ما لا يهش له السامع فتأمل.
* (تلك ءاي‍ات الله نتلوها عليك بالحق فبأى حديث بعد الله وءاي‍اته يؤمنون) *.
* (تلك آيات الله) * مبتدأ وخبر، وقوله تعالى: * (نتلوها عليك) * حال عاملها معنى الإشارة نحو * (هذا بعلى شيخا) * على المشهور، وقيل: هو الخبر و * (آيات الله) * بدل أوعطف بيان وقوله سبحانه: * (بالحق) * حال من فاعل * (نتلوها) * أو من مفعوله أي نتلوها محقين أو ملتبسة بالحق فالباء للملابسة ويجوز أن تكون للسببية الغائية، والمراد بالآيات المشار إليها إما آيات القرآن أو السورة أو ما ذكر قبل من السموات والأرض وغيرهما فتلاوتها بتلاوة ما يدل عليها، وفسرت بالسرد أي نسردها عليك. وقال ابن عطية: الكلام بتقدير مضاف أي نتلوا شأنها وشأن العبرة بها. وقرىء * (يتلوها) * بالياء على أن الفاعل ضميره تعالى والمراد على القراءتين تلاوتها عليه صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك عليه السلام * (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) * هو من باب قولهم: أعجبني زيد وكرمه يريدون أعجبني كرم زيد إلا أنهم عدلوا عنه للمبالغة في الإعجاب أي فبأي حديث بعد هذه الآيات المتلوة بالحق يؤمنون، وفيه
141

دلالة على أنه لا بيان أزيد من هذا البيان ولا آية أدل من هذه الآية، وتفخيم شأن الآيات من اسم الإشارة وإضافتها إلى الله عز وجل، وجعل * (نتلوها) * حالا مع ضمير التعظيم ثم تكرير الاسم الجليل للنكتة المذكورة وإضافتها إليه بواسطة الضمير مرة أخرى، وقد ذكر ذلك الزمخشري وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بشيء لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة والعطف، والمراد غير العفط من إخراجه إلى باب البدل لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في أعجبني زيد كرمه بغير واو على البدل وهذا قلب لحقائق النحو، وإنما المعنى في المثال أن ذات زيد أعجبته وأعجبه كرمه فهما إعجابان لا إعجاب واحد وهو مبني على عدم التعمق في فهم كلام جار الله.
ومن تعمق فيه لا يرى أنه قائل بالإقحام وإنما بيان حاصل المعنى يوهمه، وبين هذه الطريقة وطريقة البدل مغايرة تامة، فقد ذكر أن فائدة هذه الطريقة وهي طريقة إسناد
الفعل إلى شيء والمقصود إسناده إلى ما عطف عليه قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه من جهة الدلالة على أنه صار من التلبس بحيث يصح أن يسند أوصافه وأفعاله وأحواله إلى الأول قصدا لأنه بمنزلته ولا كذلك البدل لأن المقصود فيه بالنسبة هو الثاني فقط وهنا هما مقصودان، فإن قلت: إذا لم يكن ذلك الوصف منسوبا للمعطوف عليه لزم إقحامه كما قال أبو حيان، وما يذكر من المبالغة لا يدفع المحذور، وعلى فرض تسليمه فدلالته على ما ذكر بأي طريق من طرق الدلالة المشهورة.
أجيب بأنه غير منسوب إليه في الواقع لكن لما كان بينهما ملابسة تامة من جهة ما ككون الآيات ههنا بإذنه تعالى أو مرضية له عز وجل جعل كأنه المقصود بالنسبة وكنى بها عن ذلك الاختصاص كناية إيمائية ثم عطف عليه المنسوب إليه وجعل تابعا فيها وبهذا غاير البدل مغايرة تامة غفل عنها المعترض فالنسبة بتمامها مجازية كذا قرره بعض المحققين.
وقال الواحدي: أي فبأي حديث بعد حديث الله أي القرآن وقد جاء إطلاقه عليه في قوله تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث) * (الزمر: 23) وحسن الإضمار لقرينة تقدم الحديث، وقوله سبحانه: * (وآياته) * عطف عليه لتغايرهما إجمالا وتصيلا لأن الآيات هي ذلك الحديث ملحوظ الأجزاء، وإن أريد ما بين فيه من الآيات والدلائل فليس من عطف الخاص على العام لأن الآيات ليست من القرائن وإنما وجه دلالتها وإيرادها منه فيكون في هذا الوجه الدلالة أيضا على حال البيان والمبين كما في الوجه الأول، وقال الضحاك: أي فبأي حديث بعد توحيد الله ولا يخفى أنه بظاهره مما لا معنى له فلعله أراد بعد حديث توحيده تعالى أي الحديث المتضمن ذلك أو هو بعد تقدير المضاف من باب أعجبني زيد وكرمه، وأيا ما كان فالفاء في جواب شرط مقدر والظرف صفة * (حديث) * وجوز أن يكون متعلقا بيؤمنون قدم للفاصلة.
وقرأ ابن عامر. وأبو بكر. وحمزة. والكسائي * (تؤمنون) * بالتاء الفوقانية وهو موافق لقوله تعالى: * (وفي خلقكم) * بحسب الظاهر والصورة وإلا فالمراد هنا الكفار بخلاف ذلك.
وقرأ طلحة * (توقنون) * بالتاء الفوقانية والقاف من الإيقان.
* (ويل لكل أفاك أثيم) *.
* (ويل لكل أفاك) * كثير الإفك أي الكذب * (أثيم) * كثير الإثم، والآية نزلت في أبي جهل، وقيل: في النضر بن الحرث وكان يشتري حديث الأعاجم ويشغل به الناس عن استماع القرآن لكنها عامة كما هو مقتضي كل ويدخل من نزلت فيه دخولا أوليا، و * (أثيم) * صفة * (أفاك) * وقوله تعالى:
* (يسمع ءاي‍ات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم) *.
* (يسمع ءايات الله) * صفة أخرى له، وقيل استئناف، وقيل حال من الضمير في * (أثيم) *
142

وقوله سبحانه: * (تتلى عليه) * حال من * (آيات الله) * ولم يجوز جعله مفعولا ثانيا ليسمع لأن شرطه أن يكون ما بعده مما لا يسمع كسمعت زيدا يقرأ، والظاهر أن المراد بتتلى الاستمرار لأنه المناسب للاستبعاد المدلول عليه بقوله عز وجل: * (ثم يصر) * فإن ثم لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات وهي للتراخي الرتبي ويمكن إبقاؤه على حقيقته إلا أن الأول أبلغ وأنسب بالمقام، ونظير ذلك في الاستبعاد قول جعفر بن علية: لا يكشف الغماء إلا ابن حرة * يرى غمرات الموت ثم يزورها
والإصرار على الشيء ملازمته وعدم الانفكاك عنه من الصر وهو الشد ومنه صرة الدراهم، ويقال: صر الحمار أذنيه ضمهما صرا وأصر الحمار ولا يقال أذنيه على ما في " الصحاح " وكأن معناه حينئذ صار صارا أذنيه.
والمراد هنا ثم يقيم على كفره وضلاله * (مستكبرا) * عن الايمان بالآيات وهو حال من ضمير * (يصر) * وقوله سبحانه * (كأن لم يسمعها) * حال بعد حال أو حال من ضمير * (مستكبرا) * وجوز الاستئناف، و * (كأن) * مخففة من كأن بحذف إحدى النونين واسمها ضمير الشأن، وقيل: لا حاجة إلى تقديره كما في أن المفتوحة، والمعنى يصر مستكبرا مثل غير السامع لها * (فبشره بعذاب أليم) * على إصراره ذلك، والبشارة في الأصل الخبر المغير للبشرة خيرا كان أو شرا، وخصها العرف بالخبر السار فإن أريد المعنى العرفي فهو استعارة تهكمية أو هو من قبيل. تحية بينهم ضرب وجيع
* (وإذا علم من ءاي‍اتنا شيئا اتخذها هزوا أول‍ائك لهم عذاب مهين) *.
* (وإذا علم من ءاياتنا شيئا) * وإذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها.
* (اتخذها هزوا) * بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه، وجوز أن يكون المعنى وإذا علم من آياتنا شيئا يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملا يتسلق به على الطعن والغميزة افترصه واتخذ آيات الله تعالى هزوا وذلك نحو اعتراض ابن الزبعري في قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * (الأنبياء: 98) ومغالطته رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله على ما بعض الروايات: خصمتك فضمير * (اتخذها) * على الوجهين للآيات، والفرق بينهما أن * (شيئا) * على الثاني فيه تخصيص لقرينة * (اتخذها هزوا) * إذ لا يحتمل إلا ما يحسن أن يخيل فيه ذلك ثم يجعله دستورا للباقي فيقول: الكل من هذا القبيل، وفرق بين الوجهين أيضا بأن الأول الاتخاذ قبل التأمل وفي الثاني بعده وبعد تمييز آية عن أخرى، وقيل: الاستهزاء بما علمه من الآيات إلا أنه أرجع الضمير إلى الآيات لأن الاستهزاء بواحدة منها استهزاء بكلها لما بينها من التماثل، وجوز أن يرجع الضمير إلى شيء والتأنيث لأنه بمعنى الآية كقول أبي العتاهية: نفسي بشيء من الدنيا معلقة * الله والقائم المهدي يكفيها
يعني الشيء وأراد به عتبة جارية للمهدي من حظاياه وكان أبو العتاهية يهواها فقال ما قال. وقرأ قتادة. ومطر الوراق * (علم) * بضم العين وشد اللام مبنيا للمفعول
* (أول‍ائك) * إشارة إلى كل أفاك من حيث الاتصاف بما ذكر من القبائح، والجمع باعتبار الشمول للكل كما في قوله تعالى: * (كل حزب بما لديهم فرحون) * كما أن الأفراد فيما سبق من الضمائر باعتبار كل واحد واحد، وأداة البعد للإشارة إلى بعد منزلتهم في الشر.
* (لهم) * بسبب جناياتهم المذكورة * (عذاب مهين) * وصف العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم
143

بآيات الله عز وجل:
* (من ورآئهم جهنم ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أوليآء ولهم عذاب عظيم) *.
* (من ورائهم جهنم) * أي من قدامهم لأنهم متوجهون إليها أو من خلفهم لأنهم معرضون عن الالتفات إليها والاشتغال عما ينجيهم منها مقبلون على الدنيا والانهماك في شهواتها، والوراء تستعمل في هذين المعنيين لأنها اسم للجهة التي يواريها الشخص فتعم الخلف والقدام، وقيل في توجيه الخلفية: إن جهنم لما كانت تتحقق لهمبعد الأجل جعلت كأنها خلفهم * (ولا يغنى عنهم) * ولا يدفع * (ما كسبوا) * أي الذي كسبوه من الأموال والأولاد * (شيئا) * من عذاب الله تعالى أو شيئا من الإغناء على أن * (شيئا) * مفعول به أو مفعول مطلق * (ولا ما اتخذوا) * أي الذي اتخذوه * (من دون الله أولياء) * أي الأصنام.
وجوز أن تفسر * (ما) * بما تعمها وسائر المعبودات الباطلة، والأول أظهر، وجوز في * (ما) * في الموضعين أن تكون مصدرية، وتوسيط حرفي النفي بين المعطوفين مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعا مبني على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه تهكم * (ولهم) * فيما وراءهم من جهنم * (عذاب عظيم) * لا يقادر قدره.
* (ه‍اذا هدى والذين كفروا بااي‍ات ربهم لهم عذاب من رجز أليم) *.
* (ه‍اذا) * أي القرآن كما يدل عليه ما بعد وكذا ماقبل * (كيسمع آيات الله. وإذا علم من آياتنا. وتلك آيات الله نتلوها) * * (هدى) * في غاية الكمال من الهداية كأنه نفسها * (والذين كفروا بآيات ربهم) * يعني القرآن أيضا على أن الإضافة للعهد، وكان الظاهر الإضمار لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل لزيادة تشنيع كفرهم به وتفظيع حالهم، وجوزأن يراد بالآيات ما يشمله وغيره.
* (لهم عذاب من رجز) * من أشد العذاب * (أليم) * بالرفع صفة * (عذاب) * أخر للفاصلة.
وقرأ غير واحد من السبعة * (أليم) * بالجر على أنه صفة * (رجز) *، وجعله صفة * (عذاب) * أيضا والجر للمجاورة مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقيل: على قراءة الرفع إن الرجز بمعنى الرجس الذي هو النجاية، والمعنى لهم عذاب أليم من تجرع رجس أو شرب رجس والمراد به الصديد الذي يتجرعه الكافر ولا يكاد يسيغه ولا داعي لذلك كما لا يخفى، وتنوين * (عذاب) * في المواقع الثلاثة للتفخيم، ورفعه إما على الابتداء وإما على الفاعلية للظرف.
* (الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *.
* (الله الذي سخر لكم البحر) * بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه * (لتجري الفلك فيه بأمره) * بتسخيره تعالى إياه وتسهيل استعمالها فيما يراد بها، وقيل: بتكوينه تعالى أو بإذنه عز وجل، وسياق الامتنان يقتضي أن يكون المعنى لتجري الفلك فيه وأنتم راكبوها.
* (ولتبتغوا من فضله) * بالتجارة والغوص والصيد وغيرها * (ولعلكم تشكرون) * ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك، وهذا أعني * (الله الذي سخر) * الخ ذرك تتميما للتقريع ولهذا رتب عليه الأغراض العاجلة فإنه مما يستوجب الشكر غالبا للكافر أيضا فكأنه قيل: تلك الآيات أولى بالشكر ولهذا عقب بما يعم القسمين أعني قوله سبحانه:
* (وسخر لكم ما فى السم‍اوات وما فى الارض جميعا منه إن فى ذلك لاي‍ات لقوم يتفكرون) *.
* (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض) * أي من الموجودات بأن جعل فيها منافع لكم منها ظاهرة ومنها خفية، وعقب بالتفكر لينبه على أن التفكر هو الذي يؤدي إلى ما ذكر من الأولوية ويدل به على أن التفكر ملاك الأمر في ترتيب الغرض على ما جعل آية من الايمان والإيقان والشكر * (جميعا) * حال
144

من * (ما في السموات وما في الأرض) * أو توكيد له وقوله تعالى: * (منه) * حال من ذلك أيضا، والمعنى سخر هذه الأشياء جميعا كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه سبحانه مكونها وموجودها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه. وجوز فيه أوجه أخر. الأول أن يكون خبر مبتدأ محذوف فقيل " جميعا " حينئذ حال من المضير المستتر في الجار والمجرور بناء على جواز تقدم الحال على مثل هذا العامل أو من المبتدأ بناء على تجويز الحال منه أي هي جميعا منه تعالى وقيل: جميعا على ما كان ويلاحظ في تصوير المعنى فالضمير المبتدأ يقدر بعده ويعتبر رجوعه إلى ما تقدم بقيد جميعا، والجملة على القولين استئناف جيء به تأكيدا لقوله تعالى: * (سخر) * أي أنه عز وجل أوجدها ثم سخرها لا أنها حصلت له سبحانه من غيره كالملوك، الثاني أن يجعل " ما في السموات " مبتدأ ويكون هو خبره و * (جميعا) * حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والواقع صلة ويكون * (وسخر لكم) * تأكيدا للأول أي سخر وسخر، وفي العطف إيماء إلى أن التسخير الثاني كأنه غير الأول دلالة على أن المتفكر كلما فكر يزداد إيمانا بكمال التسخير والمنة عليه، وجملة * (ما في السموات) * الخ مستأنفة لمزيد بيان القدرة والحكمة.
واعترض بأنه إن أريد التأكيد اللغوي فهو لا يخلو من الضعف لأن عطف مثله في الجمل غير معهود، وإن أريد التأكيد الاصطلاحي كما قيل به في قوله تعالى: * (كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون) * (التكاثر: 3، 4) فهو مخالف لما ذكره ابن مالك في التسهيل من أن عطف التأكيد يختص بثم، وقال الرضى: يكون بالفاء أيضا وهو ههنا بالواو ولم يجوزه أحد منهم وان لم يذكروا وجه الفرق على أنه قد تقرر في المعاني أنه لا يجري في التأكيد العطف مطلقا لشدة الاتصال، واعترض أيضا
بأن فيه حذف مفعول * (سخر) * من غير قرينة وهذا كما ترى، الثالث أن يكون * (ما في الأرض) * مبتدأ و * (منه) * خبره ولا يخفى أنه ضعيف بحسب المساق.
وأخرج ابن المنذر من طريق عكرمة أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن يفسر هذه الآية، ولعله ان صح محمول على أنه لم يبسط الكلام فيها، فقد أخرج ابن جرير عه أنه قال فيها كل شيء هو من الله تعالى.
وأخرج عبد الرزاق. وعبد بن حيمد. وابن المنذر. والحاكم وصححه. والبيهقي في الأسماء والصفات عن طوس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله ممن خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأل فقال مثل قول عبد الله بن عمرو فاتي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فسأله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال: فمم خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس " وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا الارجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
واختلف أهل العلم فيما أراد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بذلك فقال البيهقي: أراد أن مصدر الجميع منه تعالى أي من خلقه وابداعه واختراعه خلق الماء أولا أو الماء وما شاء عز وجل من خلقه لا عن أصل ولا عن مثال سبق ثم جعله تعالى أصلا لما خلق بعده فهو جل شأنه المبدع وهو سبحانه البارىء لا إله غيره ولا خالق سواه اه‍، وعليه جميع المحدثين والمفسرين ومن حذا حذوهم، وقال الشيخ إبراهيم الكوارني من الصوفية: إن المخلوقات تعينات الوجود المفاض الذي هو صورة النفس الرحماني المسمى بالعماء وذلك أن
145

العماء قد انبسط على الحقائق التي هي أمرو عدمية متميزة في نفس الأمر والانبساط حادث والعماء من حيث اقترانه بالماهيات غير ذات الحق تعالى فإنه سبحانه الوجود المحض الغير المقترن بها فالموجودات صور حادثة في العماء قائمة به والله تعالى قيومها لأنه جل وعلا الأول الباطن الممد لتلك الصور بالبقاء ولا يلزم من ذكل قيام الحوادث بذات الحق تعالى ولا كونه سبحانه مادة لها لأن وجوده تعالى مجرد عن الماهيات غير مقترن بها والمتعين بحسبها هو العماء الذي هو الوجود المفاض فأراد ابن عباس أن الأشياء جميعا منه تعالى أي من نوره سبحانه المضاف الذي هو العماء والوجود المفاض منه تعالى بآيجاده جل شأنه، وبهذا ينطبق الجواب على السؤال من غير تكلف ولا محذور، ولو كان مراد ابن عباس مجرد ما ذكره البيهقي من أن مصدر الجميع من خلقه تعالى كان يكفي في ذلك قوله تعالى: * (الله خالق كل شيء) * (الرعد: 16) لكن السؤال إنما وقع بمم ووقع الجواب بمنه في تلاوته الآية فالظاهر أن ما فهمه السائل من تلاوته رضي الله تعالى عنه ليس مجرد ما ذكره بقرينة مدحه بقوله: ما كان ليأتي بهذا الخ فإن ما ذكره البيهقي يعرفه كل من آمن بقوله تعالى: * (الله خالق كل شيء) * فلا يظهر حينئذ وجه لقول كل من ابن عمرو. وابن الزبير لا أدري فإنهما من أفضل المؤمنين بأن الله تعالى خالق كل شيء بل ما فهمه هو ما أشرنا إليه اه‍، وعليه عامة أهل الوحدة * (وأجاب الأولون) * بأن مراد ابن عباس قطع التسليل في السؤال بعد ذكر مادة لبعضها بأن مرجع الأمر أن الأشياء كلها خلقت بقدرته تعالى لا من شيء وهو كلام حكيم يمدح قائله لم يهتد إليه ابن الزبير. وابن عمرو، ولا يعكر على هذا قوله تعالى: * (أم خلقوا من غير شيء) * لما قاله المفسرون فيه وسيأتي إن ساء الله تعالى في محله فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، وقد أورد الحسين بن علي بن واقد في مجلس الرشيد هذه الآية ردا على بعض النصارى في زعمه ان قوله تعالى في عيسى عليه السلام: " وروحا منه " يدل على ما يزعمه فيه عليه السلام من أنه ابن الله سبحانه وتعالى عما يصفون.
وحكى أبو الفتح. وصاحب اللوامح عن ابن عباس. وعبد الله بن عمرو. والجحدري. وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرؤوا " منة " بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على أنه مفعول له أي سخر لكم ذلك نعمة عليكم، وحكاها عن ابن عباس أيضا ابن خالويه. ولكن قال أبو حاتم: إن سند هذه القراءة إليه مظلم فإذا صح السند يمكن أن يقال فيما تقدم من حديث طاوس: إنه ذكر الآية على قراءة الجمهور ويحتمل أن له قراءتين فيها.
وقرأ مسلمة بن محارب كذلك إلا أنه ضم التاء على تقدير هو أو هي منة، وعنه أيضا فتح الميم وشد النون وهاء الكتابة عائدة على الله تعالى أي انعامه وهو فاعل " سخر " على الإسناد المجازي كما تقول: كرم الملك أنعشني أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا أو هو منه تعالى، وجوزت الفاعلية في قراءته الأولى، وتذكير الفعل لأن الفاعل ليس مؤنثا حقيقيا مع وجود الفاصل، والوجه الأول أولى وإن كان فيه تقدير * (إن في ذالك) * أي فيما ذكر * (لآيات) * عظيمة الشأن كثيرة العدد * (لقوم يتفكرون) * في بدائع صنعه تعالى وعظائم شأنه جل شأنه فإن ذلك يجرهم إلى الإيمان والإيقان والشكر.
* (قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزى قوما بما كانوا يكسبون) *.
* (قل للذين آمنوا يغفروا) * حذف المقول لدلالة " يغفروا " عليه فإنه جواب للأمر باعتبار تعلقه به لا باعتبار نفسه فقط أي قل لهم اغفروا يغفروا * (للذين لا يرجون أيام الله) * أي يعفوا ويصفحوا عن
146

الذين لا يتوقعون وقائعه تعالى باعدائه ونقمته فيهم فالرجل مجاز عن التوقع وكذا الأيام مجاز عن الوقائع من قولهم: أيام العرب لوقائعها وهو مجاز مشهور وروي ذلك عن مجاهد أولا يأملون الأوقات التي وقتها الله تعالى لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها، والآية قيل نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بها.
وقال بعضهم: لا نسخ لأن المراد هنا ترك النزاع في المحقرات والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش، وحكى النحاس. والمهدوي عن ابن عباس أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه ستمه مشرك بمكة قبل الهجرة فهم أن يبطش به فنزلت وروي ذلك عن مقاتل وهذا ظاهر في كونها مكية كاخواتها. وارادة فهم أن يبطش به بعد الهجرة لأن المسلمين بمكة قبلها عاجزون مقهورون لا يمكنهم الانتصار من المشركين والعاجز لا يأمر بالعفو والصفح غير ظاهر محتاج إلى نقل، ودوام عجز كل من
المسلمين غير معلوم بل من وقف على أحوال أبي حفص رضي الله تعالى عنه لا يتوقف في أنه قادر على ما هم به لا يبالي بما يترتب عليه.
وهذا أولى في الجواب من أن يقال: إن الأمر بفعل ذلك بينه وبين الله تعالى بقلبه ليثاب عليه، نعم قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال له المريسيع فأرسل ابن أبي غلامه ليستقي فأبطأ عليه فلما أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال ابن أبي: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمن كلبك بأكلك فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى الآية؛ وحكاه الإمام عن ابن عباس وهو يدل على أنها مدنية، وكذا ما روي عن ميمون بن مهران قال: إن فنحاصا اليهودي قال: لما أنزل الله تعالى: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * (البقرة: 245) احتاج رب محمد فسمع بذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه وخرج فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى رده ونزلت الآية ليجزي قوما بمعا كانوا يعكسبون) * تعليل للأمر بالمغفرة، وجوز أن يكون تعليلا للأمر بالقول لأنه سبب لامتثالهم المجازي عليه، والمراد بالقوم المؤمنون الغافرون والتكير للتعظيم، ولفظ القوم في نفسه اسم مدح على ما يرشد إليه الاشتقاق والاستعمال في نحو يا ابن القوم. وفي هذا التنكير كمال التعريف والتنبيه على أنهم لا يخفون نكروا أو عرفوا مع العلم بأن المجزي لا يكون إلا العامل وهو الغافر ههنا أي أمروا بذلك ليجزي الله تعالى يوم القيامة قوما أيما قوم وقوما مخصوصين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والأغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المروه ما لا يحيط به نطاق البيان من الثواب العظيم، ومنهم من خص ما كسبوه بالمغفرة والصبر على الأذية، و * (ما) * في الوجهين موصولة وجوز أن تكون مصدرية، والباء للسببية أو للمقابلة أو صلة يجزي، وجوز أن يراد بالقوم الكفرة وبما كسبوا سيآتهم التي من جملتها إيذاؤهم المؤمنين والتنكير للتحقير: وتعقب بأن مطلق الجزاء لا يصلح تعليلا للأمر بالمغفرة لتحققه على تقديري المغفرة وعدمها فلا بد من تخصيصه بالكل بأن لا يتحقق بعض منه في الدنيا أو بما يصدر عنه تعالى بالذات، وفي ذلك من التكلف ما لا يخفى، وأن يراد كلا الفريقين والتنكير للشيوع، وتعقب بأنه أكثر تكلما وأشد تمحلا، والذي يشهد للوجه السابق ما روي عن سعيد بن المسيب قال: كنا بين يدي عمر رضي الله تعالى عنه فقرأ قارىء هذه الآية فقال: ليجزي عمر بما صنع، وقرأ زيد بن علي. وأبو عبد الرحمن. والأعمش.
147

وأبو خليد. وابن عامر. وحمزة. والكسائي * (لنجزي) * بنون العظمة، وقرىء * (ليجزي) * بالياء والبناء للمفعول * (قوم) * بالرفع على أنه نائب الفاعل، وقرأ سيبة. وأبو جعفر بخلاف عنه كذلك إلا إنهما نصبا * (قوما) * وروي ذلك عن عاصم، واحتج به من يجوز نيابة الجار والمجرور عن الفاعل مع وجود المفعول الصريح فيقول: ضرب بسوط زيدا فبما كسبوا نائب الفاعل ههنا ولا يجيز ذلك الجمهور، وخرجت هذه القراءة على أن القائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي ليجزي هو أي الجزاء. ورد بأنه لا يبقام مقماه عند وجود المفعول به أيضا على الصحيح، وأجازه الكوفيون على خلاف في الإطلاق والاستحسان أو على أنه ضمير المفعول الثاني وهو الجزاء بمعنى المجزي به كما في قوله تعالى: * (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن) * (البينة: 8) وأضمر لدلالة السياق كما في قوله سبحانه: * (ولأبويه) * والمفعول الثاني في باب أعطى يقوم مقام الفاعل بلا خلاف وهذا من ذاك، وأبو البقاء اعتبر الخير بدل الجزاء المذكور أو على أن * (قوما) * منصوب بأعني أو جزي مضمرا لدلالة المجهول على أن ثم جازيا واختاره أبو حيان، و * (ليجزي) * حينئذ من باب يعطي ويمنع وحيل بين العير والنزوان فمعناه ليفعل الجزاء ويكون هناك جملتان.
* (من عمل ص‍الحا فلنفسه ومن أسآء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون) *.
* (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) * لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله * (ثم إلى ربكم) * مالك أموركم * (ترجعون) * فيجازيكم على أعمالكم حسبما تقتضيه الحكمة خيرا على الخير وشرا على الشر، والجملة مستأنفة لبيان كيفية الجزاء.
* (ولقد ءاتينا بنىإسراءيل الكت‍ابوالحكم والنبوة ورزقن‍اهم من الطيب‍ات وفضلن‍اهم على الع‍المين) *.
* (ولقد ءاتينا بني اسرائيل الكتاب) * وهو التوراة على أن التعريف للعهد، وجوز جعله للجنس ليشمل الزبور والإنجيل ولا يضر في ذلك كون الزبور أدعية ومناجاة والإنجيل أحكامه قليلة جدا ومعظم أحكام عيسى عليه السلام من التوراة لأن إيتاء الكاتب مطلقا منة * (والحكم) * القضاء وفصل الأمور بين الناس لأن الملك كان فيهم واختاره أبو حيان، أو الفقه في الدين ويقال: لم يتسع فقه الأحكام على نبي ما اتسع على لسان موسى عليه السلام، أو الحكم النظرية الأصلية والعملية الفرعية * (والنبوة) * حيث كثر فيهم الأنبياء عليهم السلام ما لم يكثر في غيرهم * (ورزقناهم من الطيبات) * المستلذات الحلال وبذلك تتم النعمة وذلك كالمن والسلوى * (وفضلناهم على العالمين) * حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم من فلق البحر واظلال الغمام ونظائرهما فالمراد تفضيلهم على العالمين مطلقا من بعض الوجوع لا من كلها ولا من جهة المرتبة والثواب فلا ينافي ذلك تفضيل أمة محمد صلى الله عليه وسلم عليهم من وجه آخر ومن جهة المرتبة والثواب، وقيل: المراد بالعالمين عالمو زمانهم.
* (وءاتين‍اهم بين‍ات من الامر فما اختلفوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضى بينهم يوم القي‍امة فيما كانوا فيه يختلفون) *.
* (وءاتيناهم بينات من الأمر) * دلائل ظاهرة في أمر الدين فمن بمعنى في والبينات الدلائل ويندرج فيها معجزات موسى عليه السلام وبعضهم فسرها بها، وعن ابن عباس آيات من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وعلامات مبينة لصدقه عليه الصلاة والسلام ككونه يهاجر من مكة إلى يثرب ويكون أنصاره أهلها إلى غير ذلك مما ذكر في كتبهم * (فعمعا اختلفوا) * في ذلك الأمر * (إلا من بعد معا جاءهم العلم) * بحقيقة الحال فجعلوا ما ويجب زوال الخلاف موجبا لرسوخه * (بغيا بينهم) * عداوة وحسدا لا شكا فيه * (إن ربك يقضي بينهم يوم القي‍امة) * بالمؤاخذة والجزاء * (فيما كانوا يختلفون) * من أمر الدين.
* (ثم جعلن‍اك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون) *.
* (ثم جعلناك على شريعة) * أي سنة وطريقة من شرعه إذا سنه ليسلك، وفي البحر الشريعة في كلام العرب الموضع الذي يرد منه الناس في الأنهار ونحوها
148

فشريعة الدين من ذلك من حيث يرد الناس منها أمر الله تعالى ورحمته والقرب منه عز وجل، وقال الراغب: الشرع مصدر ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له شرع وشرعة وشريعة واستعير ذلك للطريقة الإلهية من الدين ثم قال: قال بعضهم سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث أن من شرع فيها على الحقيقة والصدق روي وتطهر، وأعني بالري ما قال بعض الحكماء: كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب، وبالتطهر ما قال عز وجل: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * والظاهر هنا المعنى اللغوي، والتنوين للتعظيم أي شريعة عظيمة الشأن * (من الأمر) * أي أمر الدين، وجوز أبو حيان كونه مصدر أمر، والمراد من الأمر والنهي وهو كما ترى * (فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) * أي آراء الجهال التابعة للشهوات، والمراد بهم ما يعم كل ضال، وقيل: هم جهال قريظة. والنضير، وقيل: رؤساء قريش كانوا يقولون له صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى دين آبائك.
* (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظ‍المين بعضهم أوليآء بعض والله ولى المتقين) *.
* (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) * من الأشياء أو شيئا من الأغناء ان اتبعتهم والجملة مستأنفة مبينة لعلة النهي * (وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض) * لا يواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالما مثلهم.
* (والله ولي المتقين) * الذين أنت قدوتهم فدم على ما أنت عليه من توليه سبحانه خاصة والاعراض عما سواه عز وجل بالكلية.
* (ه‍اذا بص‍ائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون) *.
* (ه‍اذا) * أي القرآن * (بصائر للناس) * فإن ما فيه من معالم الدين وشعائر الشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، وقيل: الإشارة إلى اتباع الشريعة والكلام من باب التشبيه البليغ، وجمع الخبر على الوجهين باعتبار تعدد ما تضمنه المبتدأ واتباع مصدر مضاف فيعم ويخبر عنه بمتعدد أيضا، وقرىء * (هذه) * أي الآيات) * * (وهدى) * جليل من ورطة الضلالة * (ورحمة) * عظيمة * (لقوم يوقنون) * من شأنهم الإيقان بالأمور.
* (أم حسب الذين اجترحوا السيئ‍ات أن نجعلهم ك الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات سوآء محي‍اهم ومم‍اتهم سآء ما يحكمون) *.
* (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) * (الجاثية: 21) إلى آخره استئناف مسوق لبيان حال المسيئين والمحسنين إثر بيان حال الظالمين والمتقين، و * (أم) * منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان على معنى أنه لا يليق ولا ينبغي لظهور خلافه، والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدي، وجاء هو جارحة أهله أي كاسبهم، وقال الراغب: الاجتراح اكتساب الاثم وأصله من الجراحة كما أن الاقتراف من قرف القرحة، والظاهر تفسيره ههنا بالاكتساب لمكان * (السيئات) * والمراد بها على ما في البحر سيئات الكفر، وقوله تعالى: * (أن نجعلهم) * ساد مسد مفعولي الحسبان، والجعل بمعنى التصيير وهم مفعوله الأول، وقوله سبحانه: * (كعالذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات) * مفعوله الثاني، وقوله عز وجل: * (سواء) * بدل من الكاف بناء على أنها اسم بمعنى مثل، وقوله تعالى: * (محياهم ومماتهم) * فاعل سواء أجرى مجرى مستو كما قالوا: مررت برجل سواء هو والعدم، وضمير الجمع للمجترحين، والمعنى على إنكار حسبان جعل محبا المجترحين ومماتهم مستويين مثلهما للمؤمنين، ومصب الإنكار استواء ذلك فإن المؤمنين تتوافق حالاهم لأنهم مرحومون في المحيا والممات وأولئك تتضاد حالا هم فانهم مرحومون حياة لا موتا؛ وجوز أن يكون * (سواء) * حالا من الضمير في الكاف بناء على ما سمعت من معناها.
149

وتعقب بأنها اسم جامد على صورة الحرف فلا يصح استتار الضمير فيها وقد صرح الفارسي بمنع ذلك، نعم يجوز أن يكون * (كالذين) * جارا ومجرورا في موضع المفعول الثاني و * (سواء) * حالا من الضمير المستتر فيه، وقيل: يجوز أيضا كونه حالا من ضمير نجعلهم وكذا يجوز كونه المفعول الثاني، وكون الكاف أو الجار والمجرور حالا من هذا الضمير، وما ذكر أولا أظهر وأولى، وجوز كون ضمير الجمع في * (محياهم ومماتهم) * للمؤمنين فسواء حال من الموصول الثاني ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في * (كالذين) * لفساد المعنى وكون الضمير للفريقين فسواء حال من مجموع الموصول الثاني وضمير الأول، والمعنى على إنكار حسبان أن يستوي الفريقان بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استويا ظاهرا في الرزق والصحة في الحياة، وجوز أن يكون المعنى على إنكار حسبان جعل الحياتين مستويتين لأن المؤمنين على الطاعة وأولئك على المعاصي وكذلك الموتان لأنهم ملقون بالبشري والرضوان وأولئك بالسوء والخذلان، وقيل: به على تقدير كون الضمير للمجترحين أيضا:
ولم يجوز المدقق الابدال من الكاف على تقدير اشتراك الضمير إذا لمثل هو المشبه و * (سواء) * جار على المشبه والمشبه به.
وقرأ جمهور القراء * (سواء محياهم ومماتهم) * برفع سواء وما بعده على أن سواء خبر مقدم وما بعده مبتدأ لا العكس لأن سواء نكرة ولا مسوغ للابتداء بها والضمير للمجترحين، والجملة قيل: بدل من المفعول الثاني لنجعل بدل كل من كل أو بدل اشتمال أو بدل بعض، وأيا ما كان ففيه إبدال الجملة من المفرد وقد أجازه أبو الفتح واختاره ابن مالك، وأورد عليه شواهد، قال أبو حيان: لا يتعين فيها البدل، وقال محمد بن عبد الله الاشبيلي المعروف بابن العلج في كتابه البسيط في النحو: لا يصح أن تكون جملة معمولة للأول في موضع البدل فإن كانت غير معمولة فهل تكون جملة بدلا من جملة لا يبعد عندي جواز ذلك كالعطف والتأكيد اللفظي.
وظاهره أنه لا يجوز الإبدال ههنا، وفي البحر يظهر لي أنه لا يجوز إبدال هذه الجملة من ذلك المفعول لأن الجعل بمعنى التصيير ولا يجوز صيرت زيدا أبوه قائم ولا صيرت زيدا غلامه منطلق لأن في ذلك انتقالا من ذات إلى ذات أو من وصف في الذات إلى وصف آخر فيها وليس في تلك الجملة المقدرة مفعولا ثانيا انتقال مما ذكرنا
وفيه بحث لا يخفى، والزمخشري قد نص على جعل الجملة بدلا من الكاف وهو إمام في العربية، لكن أفاد صاحب الكشف أنه أاد أنه بدل من حيث المعنى لا أنه بدل من ذاك لفظا قال: لأنه مفرد دال على الذات باعتبار المعنى وهذا دال على المعنى وإن كان الذات يلزم من طريق الضرورة إلا أن يقدر له موصوف محذوف بأن يقدر رجالا سواء محياهم ومماتهم مثلا، والمعنى على البدلية كما سمعت في قراءة النصب، وجوز كون الجملة مفعولا ثانيا و * (كالذين) * حال من ضمير * (نجعلهم) * ولا يخفى عليك ما عليه وما له، وإذا كان الضمير للمؤمنين فالجملة قيل: حال من الموصول الثاني لا من الضمير في المفعول الثاني للفساد، وتعقب بأن فيه اكتفاء الاسمية الحالية بالضمير وهو غير فصيح على ما قيل: وقيل: استئناف يبين المقتضى للإنكار على حسبان التماثل وهو أن المؤمنين سواء حالهم عند الله تعالى في الدارين بهجة وكرامة فكيف يماثلهم المجترحون، وجوز أن تكون بيانا لوجه الشبه المجمل، وإذا كان الضمير للفريقين فالظاهر أن الجملة كلام مستأنف غير داخل في حكم الإنكار والتساوي حينئذ بين حال المؤمنين بالنسبة إليهم خاصة وحال المجترحين كذلك وتكون الجملة تعليلا للإنكار في المعنى دالا على عدم المماثلة لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن المؤمنين متساوو المحيا والممات في الرحمة وأولئك متساوو المحيا والممات في النقمة إذ المعنى كما يعيشون يموتون فلما افترق حال هؤلاء وحال هؤلاء حياة فكذلك
150

موتا، وأما الإبدال فقد علم حاله فتأمل.
وقرأ الأعمش * (سواء) * بالنصب * (محياهم) * ومماتهم به أيضا، وخرج الأول على ما سمعت ونصب محياهم ومماتهم على الظرفية لأنهما اسما زمان أو مصدران أقيما مقام الزمان والعامل إما * (سواء) * أو * (نجعلهم) *، هذا والآية وإن كانت في الكفار على ما نقل عن البحر وهو ظاهر ما روي عن الكلبي من أن عتبة. وسيبة. والوليد بن عتبة قالوا لعلي كرم الله تعالى وجهه. وحمزة رضي الله تعالى عنه. والمؤمنين: والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقا لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما هو أفضل في الدنيا فنزلت الآية: * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) * الخ.
وهي متضمنة للرد عليهم على جميع أوجهها كما يعرف بأدني تدبر يستنبط منها تباين حالي المؤمن العاصي والمؤمن الطائع ولهذا كان كثير من العباد يبكون عند تلاوتها حتى أنها تسمى مبكاة العابدين لذلك، فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد. والطبراني. وجماعة عن أبي الضحى قال: قرأ تميم الداري سورة الجاثية فلما أتى على قوله تعالى: * (أم حسب الذين) * الآية لم يزل يكررها ويبكي حتى أصبح وهو عند المقام.
وأخرج ابن أبي شيبة عن بشير مولى الربيع بن خيثم أن الربيع كان يصلي فمر بهذه الآية * (أم حسب الذين) * الخ فلم يزل يرددها حتى أصبح، وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها: ليت شعري من أي الفريقين أنت.
وقال ابن عطية: إن لفظها يعطي أن اجتراح السيئات هو اجتراح الكفر لمعادلته بالإيمان، ويحتمل أن تكون المعادلة بالاجتراح وعمل الصالحات ويون الإيمان في الفريقين ولهذا بكى الخائفون عند تلاوتها.
ورأيت كثيرا من المغرورين المستغرقين ليلهم ونهارهم بالفسق والفجور يقولون بلسان القال والحال: نحن يوم القيامة أفضل حالا من كثير من العابدين وهذا منهم والعياذ بالله تعالى ضلال بعيد وغرور ما عليه مزيد * (ساء ما يحكمون) * أي ساء حكمهم هذا وهو الحكم بالتساوي فما مصدرية والكلام اخبار عن قبح حكمهم المعهود.
ويجوز أن يكون لإنشاء ذمهم على أن * (ساء) * بمعنى بئس فما فيه نكرة موصوفة وقعت تمييزا مفسرا لضمير الفاعل المبهم والمخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئا حكموا به ذلك.
* (وخلق الله السم‍اوات والارض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون) *.
* (وخلق الله السموات والأرض بالحق) * كأنه دليل على إنكار حسبانهم السابق أو دليل على تساوي محيا كل فريق ومماته وبيان لحكمته على تقدير كون قوله تعالى: * (سواء محياهم ومماتهم) * استئنافا وذلك من حيث أن خلق العالم بالحق المقتضى للعدل يستدعي انتصاف المظلوم من الظالم والتفاوت بين المسيء والمحسن وإذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات حتما * (ولتجزى كل نفس بما كسبت) * عطف على * (بالحق) * لأنه في معنى العلة سواء كانت الباء للسببية الغائية أو الملابسة، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن المعنى خلقها ملتبسة ومقرونة بالحكمة والصواب دون العبث والباطل وحاصله خلقها لأجل ذلك أو عطف على علة محذوفة مثل ليدل سبحانه بها على قدرته أو ليعدل، وما موصولة أو مصدرية أي ليجزي كل نفس بالذي كسبته أو بكسبها * (وهم) * أي النفوس المدلول عليها بكل نفس * (لا يظلمون) * بنقص ثواب وتضعيف عذاب، والجملة في موضع الحال، وتسمية ذلك ظلما مع أنه ليس كذلك لأنه منه سبحانه تصرف في ملكه والظلم صرف في ملك الغير بغير إذنه لأنه لو فعله غيره عز وجل كان ظلما
151

فالكلام على الاستعارة التمثيلية أو أنه لما كان مخالفا لوعده سبحانه الحق سماه تعالى ظلما.
* (أفرأيت من اتخذ إل‍اهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غش‍اوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) *.
* (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) * تعجيب من حال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنه يعبده فالكلام على التشبيه البليغ أو الاستعارة، والفاء للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة أي أنظرت من هذه حاله فرأيته فإن ذلك مام يقضي منه العجب، وأبو حيان جعل أرأيت بمعنى أخبرني وقال: المفعول الأول من * (اتخذ) * والثاني محذوف يقدر بعد الصلات أي أيهتدي بدليل " فمن يهديه " والآية نزلت على ما روي عن مقاتل في الحرث بن قيس السهمي كان لا يهوى شيئا إلا ركبه، وحكمها عام وفيها من ذم اتباع هوى النفس ما فيها، وعن ابن عباس ما ذكر الله تعالى هوى إلا ذمه.
وقال وهب: إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأته، وقال سهل التستري: هواك داؤك فإن خالفته فدواؤك، وفي الحديث " العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله تعالى ".
وقال أبو عمران موسى بن عمران الأشبيلي الزاهد: فخالف هواها واعصها إن من يطع * هوى نفسه ينزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده * وترم به في مصرع أي مصرع
وقد ذم ذلك جاهلية أيضا، ومنه قول عنترة: أني امرؤ سمح الخليقة ما جد * لا أتبع النفس اللجوج هواها
ولعل الأمر غني عن تكثير النقل.
وقرأ الأعرج. وأبو جعفر * (إلهة) * بتاء التأنيث بدل هاء الضمير، وعن الأعرج أنه قرأ " آلهة " بصيغة الجمع.
قال ابن خالويه: كان أحدهم يستحسن حجرا فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه مائلا إليه، فالظاهر أن آلهة بمعناها من غير تجوز أو تشبيه والهوى بمعنى المهوى مثله في قوله: هواي مع الركب اليمانين مصعد
* (وأضله الله) * أي خلقه ضالا أو خلق فيه الضلال أو خذله وصرفه عن اللطف على ما قيل * (على علم) * حال من الفاعل أي أضله الله تعالى عالما سبحانه بأنه أهل لذلك لفساد جوهر روحه.
ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي أضله عالما بطريق الهدى فهو كقوله تعالى: * (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم) * (الجاثية: 17) * (وختم على سمعه وقلبه) * بحيث لا يتأثر بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات.
* (وجعل على بصره غشاوة) * مانعة عن الاستبصار والاعتبار والكلام على التمثيل، وقرأ عبد الله. والأعمش * (غشاوة) * بفتح الغين وهي لغة ربيعة، والحسن. وعكرمة. وعبد الله أيضا بضمها وهي لغة عكلية، وأبو حنيفة. وحمزة. والكسائي. وطلحة. ومسعود بن صالح. والأعمش أيضا * (غشوة) * بفتح الغين وسكون الشين، وابن مصرف. والأعمش أيضا كذلك إلا أنهما كسرا الغين * (فمن يهديه من بعد الله) * أي من بعد اضلاله تعالى إياه، وقيل: المعنى فمن يهديه غير الله سبحانه * (أفلا تذكرون) * أي ألا تلاحظون فلا تذكرون، وقرأ الجحدري * (تذكرون) * بالتخفيف، والأعمش " تتذكرون " بتاءين على الأصل.
* (وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنآ إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) *.
* (وقالوا) * بيان لاحكام إضلالهم والختم على سمعهم وقلوبهم وجعل
152

غشاوة على أبصارهم فالضمير لمن باعتبار معناه أو للكفرة * (ما هي) * أي ما الحياة * (إلا حياتنا الدنيا) * التي نحن فيها، ويجوز أن يكون الضمير للحال والحياة الدنيا من جملة الأحوال فيكون المستثنى من جنس المستثنى منه أيضا لاستثناء حال الحياة الدنيا من أعم الأحوال ولا حاجة إلى تقدير حال مضافا بعد أداة الاستثناء أي ما الحال إلا حال الحياة الدنيا * (نموت ونحيا) * حكم على النوع بحملته من غير اعتبار تقديم وتأخير إلا أن تأخير نحي في " النظم الجليل " للفاصلة أي تموت طائفة وتحيا طائفة ولا حشر أصلا، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وليس بذاك، وقيل: أرادوا بالموت عدم الحياة السابق على نفخ الروح فيهم أي نكون نطفا وما قبلها وما بعدها ونحيا بعد ذلك، وقيل: أرادوا بالحياة بقاء النسل والذرية مجازا كأنهم قالوا: نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا وذرارينا، وقيل: أرادوا يموت بعضنا ويحيا بعض على أن التجوز في الإسناد، وجوز أن يريدوا بالحياة على سبيل المجاز إعادة الروح لبدن آخر بطريق التناسخ وهو اعتقاد كثير من عبدة الأصنام ولا يخفى بعد ذلك، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (ونحيا) * بضم النون * (وما يهلكنا إلا الدهر) * أي طول الزمان فالدهر أخص من الزمان وهو الذي ارتضاه السعد، ولهم في ذلك كلام طويل، وقال الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان فإنه يقع على المدة القليلة والكثيرة، ودهر فلان مدة حياته، ويقال: دهر فلانا نائبة دهرا أي نزلت به حكاه الخليل فالدهر ههنا مصدر.
وذكر بعض الأجلة أن الدهر بالمعنى السابق منقول من المصدر وأنه يقال: دهره دهرا أي غلبه وإسنادهم الإهلاك إلى الدهر إنكار منهم لملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله عز وجل وكانوا يسندون الحوادث مطلقا إليه لجهلهم أنها مقدرة من عند الله تعالى، وأشعارهم لذلك مملوءة من شكوى الدهر وهؤلاء معترفون بوجود الله تعالى فهم غير الدهرية فإنهم مع إسنادهم الحوادث إلى الدهر لا يقولون بوجوده سبحانه وتعالى: * (عما يقولون علوا كبيرا) * والكل يقول باستقلال الدهر بالتأثر، ولا يبعد أن يكون الزمان عندهم مقدار حركة الفلك كما ذهب إليه معظم الفلاسفة. وقد جاء النهي عن سب الدهر. أخرج مسلم " لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر " وأبو داود. والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم قال الله عز وجل: " يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقل أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره " والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم أيضا يقول الله عز وجل: " استقرضت عبدي فلم يقرضني وشتمني عبدي وهو لا يدري يقول وادهراه وأنا الدهر " والبيهقي: " لا تسبوا الدهر قال الله عز وجل: " أنا الأيام والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك " " ومعنى ذلك أن الله تعالى هو الآتي بالحوادث فإذا سببتم الدهر على أنه فاعل وقع السب على الله عز وجل.
وعد بعضهم سبه كبيرة لأنه يؤدي إلى سبه تعالى وهو كفر، وما أدى إليه فأدنى مراتبه أن يكون كفرا.
153

وكلام الشافعية صريح بأن ذلك مكروه لا حرام فضلا عن كونه كبيرة، والذي يتجه في ذلك تفصيل وهو أن من سبه فإن أراد به الزمن فلا كلام في الكراهة، أو الله عز وجل فلا كلام في الكفر، ومثله إذا أراد المؤثر الحقيقي فإنه ليس إلا الله سبحانه؛ وإن أطلق فهذا محل التردد لاحتمال الكفر وغيره وظاهر كلامهم هنا أيضا الكراهة لأن
المتبادر منه الزمن وإطلاقه على الله تعالى كما قال بعض الأجلة إنماهو بطريق التجوز.
ومن الناس من قال: إن سبه كبيرة إن اعتقد أن له تأثيرا فيما نزل به كما كان يعتقد جهلة العرب، وفيه نظر لأن اعتقاد ذكر كفر وليس الكلام فيه، وأنكر بعضهم كون ما في حديث أبي داود. والحاكم " فإني أنا الدهر " بضم الراء وقال: لو كان كذلك كان الدهر من أسمائه تعالى وكان يرويه " فإني أنا الدهر " بفتح الراء ظرفا لأقلب أي فإني أنا أقلب الليل والنهار الدهر أي على طول الزمان وممره، وفيه أن رواية مسلم فإن الله هو الدهر تبطل ما زعمه، ومن ثم كان الجمهور على ضم الراء. ولا يلزم عليه أن يكون من أسمائه تعالى لما سبق أن ذلك على التجوز، وحكى الراغب عن بعضهم أن الدهر الثاني في حديث مسلم غير الأول وأنه مصدر بمعنى الفاعل، والمعنى أن الله تعالى هو الدهر أي المصرف المدبر المفيض لما يحدث، وفيه بعد.
وقرأ عبد الله * (إلا دهر) * وتأويله إلا دهر يمر * (وما لهم بذلك) * أي بما ذكر من قصر الحياة على ما في الدنيا ونسبة الإهلاك إلى الدهر * (من علم) * مستند إلى عقل أو نقل * (إن هم إلا يظنون) * ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يكون لهم ما يصح أن يتمسك به في الجملة، هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم.
* (وإذا تتلى عليهم ءاي‍اتنا بين‍ات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا باابآئنآ إن كنتم ص‍ادقين) *.
* (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا) * الناطقة بالحق الذي من جملته البعث * (بينات) * واضحات الدلالة على ما نطقت به مما يخالف معتقدهم أو مبينات له * (ما كان حجتهم) * بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى: * (إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين) * أي في أنا نبعث بعد الموت أي ما كان متمسكا لهم شيء من الأشياء إلا هذا القول الباطل الذي يستحيل أن يكون حجة، وتسميته حجة لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم أو أنه من قبيل: تحية بينهم ضرب وجيع
أي ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، والمراد نفي أن يكون لهم حجة فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء حالا كإعادة آبائهم التي طلبوها في الدنيا امتناعه بعد لتمتنع الإعادة إذا قامت القيامة، والخطاب في * (ائتوا. وكنتم) * للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين إذ هم قائلون بمقالته صلى الله عليه وسلم من البعث طالبون من الكفرة الإقرار به، وجوز أن يكون له عليه الصلاة والسلام وللأنبياء عليهم السلام الجائين بالبعث وغلب الخطاب على الغيبة.
وقال ابن عطية: * (ائتوا. وكنتم) * من حيث المخاطبة له صلى الله عليه وسلم والمراد هو وإلهه والملك الذي يذكر عليه الصلاة والسلام نزوله عليه بذلك وهو جبريل عليه السلام، وهو كما ترى.
وقرأ الحسن. وعمرو بن عبيد. وابن عامر فيما روى عنه عبد الحميد. وعاصم فيما روى هارون. وحسين عن أبي بكر عنه * (حجتهم) * بالرفع على أنه اسم كان وما بعد خبر أي ما كان حجتهم شيئا من الأشياء إلا هذا القول الباطل، وجواب * (إذا) * ما كان الخ، ولم تقترن بالفاء وإن كانت لازمة في المنفى بما إذا وقعت جواب الشرط لأنها غير جازمة ولا أصلية في الشرطية، وهو سر قول أبي حيان: إن إذا خالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان
154

منفيا بما لم تدخل الفاء بخلاف أدوات الشرط فلا بد معها من الفاء نحو إن تزرنا فما جفوتنا فلا حاجة إلى تقدير جواب لها كعمدوا إلى الحجج الباطلة خلافا لابن هشام. واستدل بوقوع ما ذكر جوابا على أن العمل في إذا ليس للجواب لصدارة ما المانعة منه ولا قائل بالفرق، ولعل من قال بالعمل يقول يتوسع في الظرف ما لم يتوسع في غيره، ثم إن المعنى على الاستقبال لمكان * (إذا) * أي ما تكون حجتهم إلا أن يقولوا ذلك.
* (قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القي‍امة لا ريب فيه ول‍اكن أكثر الناس لا يعلمون) *.
* (قل الله يحييكم) * ابتداء * (ثم يميتكم) * عند انقضاء آجالكم على ما دل عليه الحجج لا الدهر كما تزعمون * (ثم يجمعكم إلى يوم القيامة) * أي فيه وجوز كون الفعل مضمنا معنى مبعوثين أو منتهين ونحوه ومعنى في أظهر أي يجمعكم في يوم القيامة * (لا ريب فيه) * أي في جمعكم فإن من قدر على البدء قدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة في ذلك اليوم والوعد الصدق بالآيات دل على قرعها، وحاصله أن البعث أمر ممكن أخبر به الصادق وتقتضيه الحكمة وكل ما هو كذلك لا محالة واقع والإتيان بالآباء حيث كان منافيا للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * استدراك من قوله تعالى: * (لا ريب فيه) * وهو من تمام الكلام المأمور به أو كلام مسوق من جهته تعالى تحقيقا للحق وتنبيها على أن ارتيابهم لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر لا لأن فيه شائبة ريب ما.
* (ولله ملك السم‍اوات والارض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون) *.
* (ولله ملك السموات والأرض) * بيان للاختصاص المطلق والتصرف الكلي فيهما وفيما بينهما بالله عز وجل إثر بيان تصرفه تعالى بالإحياء والإماتة والبعث والجمع للمجازاة فهو تعميم للقدرة بعد تخصيص.
* (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون) * قال الزمخشري: العامل في * (يوم تقوم) * يخسر ويومئذ بدل من يوم تقوم وحكاه ابن عطية عن جماعة، وتقديم الظرف على الفعل للحصر لأن كل خسران عند الخسران في ذلك اليوم كلا خسران، وفيه أيضا رعاية الفواصل على ما قيل، وتعقب حديث الإبدال بأن التنوين في * (يومئذ) * عوض عن الجملة المضاف إليها، والظاهر أنها تقدر بقرينة ما قبل * (تقوم الساعة) * فيقال ويوم تقوم الساعة يوم إذ تقوم الساعة يخسر المبطلون فيكون تأكيدا لا بدلا إذ لا وجه له، ولذا قيل: إنه بالتأكيد أشبه، وقول أبي حيان: إن كان بدلا توكيديا وهو قليل جاز وإلا فلا لا يسمن ولا يغني؛ وتكلف بعضهم فزعم أن اليوم الثاني بمعنى الوقت الذي هو جزء من يوم قيام الساعة فهو بدل بعض معه عائد مقدر ولما كان فيه ظهور خسرانهم كان هو المقصود بالنسبة، وقالت فرقة: العامل في * (يوم تقوم) * ما يدل عليه الملك قالوا: وذلك أن يوم القيامة أمر ثالث ليس بالسماء ولا بالأرض لتبدلهما فكأنه قيل: ولله ملك السموات والأرض والملك يوم تقوم
الساعة، و * (يومئذ) * منصوب بيخسر والجملة استئناف وإن كان لها تعلق بما قبلها من جهة تنوين العوض، وقيل: يجوز أن يكون عطفا على ظرف معمول لملك المذكور كأنه قيل: لله ملك السموات والأرض اليوم ويوم تقوم الساعة وهو كما ترى، و * (المبطلون) * الداخلون في الباطل، ولعل المراد به أعظم أنواعه وهو الكفر.
* (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كت‍ابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون) *.
* (وترى كل أمة) * من الأمم المجموعة * (جاثية) * باركة على الركب مستوفزة وهي هيئة المذنب الخائف المنتظر لما يكره، وعن ابن عباس جاثية مجتمعة، وعن قتادة جماعات من الجثوة مثلثة الجيم وهي الجماعة تجتمع على جثي أي تراب مجتمع، وعن مؤرج السدوسي جاثية خاضعة بلغة قريش، والخطاب في * (ترى) * لمن يصح منه الرؤية أو لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام وهي
155

بصرية، و * (جاثية) * حال وجوز أن تكون صفة ولو كانت علمية كانت مفعولا ثانيا، وقرىء * (جاذية) * بالذال والجذو أشد استيفازا من الجثو لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه، وجوز أن يكون الجاذي بمعنى الجاثي أبدلت ثاؤه ذالا فإن الثاء والذال متقارضان كما قيل شحاث وشحاذ * (كل أمة تدعى إلى كتابها) * إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة لتحاسب، وأفرد على إرادة الجنس وإلا فلكل واحد من كل أمة صحيفة فيها أعماله، وقيل: المراد كتاب نبيها تدعى إليه لينظر هل عملت به أولا وحكي ذلك عن يحيى بن سلام إلا أنه حمل كل أمة على كل أمة كافرة والظاهر العموم، وقيل: المراد بذلك اللوح المحفوظ أي تدعى إلى ما سبق لها فيه، وقرأ يعقوب * (كل) * بالنصب وخرج على أنه بدل من كل الأول، وجملة * (تدعى) * صفة، وإبدال الأمة المدعوة إلى كتابها من الأمة الجاثية حسن وجاء ذلك من الوصف، ويقال مثل ذلك فيما إذا كان الجملة حالا، وإذا كانت الرؤية علمية وجملة * (تدعى) * مفعولا ثانيا فالظاهر أنه تأكيد، وجعله تأكيدا مع كون الجملة صفة فيه تخلل التأكيد بين الوصفين وهو كما في " الكشف " غير مستحسن * (اليوم تجزون ما كنتم تعملون) * مقول قول مقدر هو حال أو خبر بعد خبر.
وفي الكلام مضاف مقدر أي جزاء ما كنتم الخ أو هو من المجاز، وقوله تعالى:
* (ه‍اذا كت‍ابنا ينطق عليكم بالحق إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) *.
* (هذا كتابنا) * إلى آخره من تمام ما يقال حينئذ، والإشارة إلى الكتاب التي تدعي إليه الأمة المقول لها ذلك، وهو إذا كان صحيفة الأعمال فإضافته إلى ضميره جل شأنه لأدنى ملابسة على التجوز في النسبة الإضافية فإنه تعالى الذي أمر الكتبة أن يكتبوا فيه أعمالهم، وإن كان الكتاب المنزل على نبي تلك الأمة أو اللوح المحفوظ فأمر الإضافة ظاهر، وضمير العظمة على سائر الأوجه لتفخيم شأن الكتاب، وجوز أن يكون الضمير للكتبة والإضافة فيه حقيقية قيل: ويأباه * (نستنسخ) * إلا أن يجعل بمعنى ننسخ ونكتب وستعلم إن شاء الله تعالى ما فيه، واوظهر عندي حمل الكتاب في الموضعين على صحيفة الأعمال واسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبر، وقوله سبحانه: * (ينطق عليكم) * أي يشهد عليكم * (بالحق) * من غير زيادة ولا نقص خبر آخر أو حال أو مستأنف، و * (بالحق) * حال من فاعل * (ينطق) * وقوله تعالى: * (إنا كنا نستنسخ) * إلى آخره تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشيء منها أي إنا كنا فيما قبل نستنسخ الملائكة أي نجعلها تنسخ وتكتب * (ما كنتم تعملون) * في الدنيا من الأعمال حسنة كانت أو سيئة، وحقيقة النسخ كتابة من أصل ينظر فيه فكان أفعال العباد هي الأصل على ما في " البحر "، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله تعالى خلق النون وهي الدواة وخلق القلم فقال: اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر ورزق مقسوم حلال أو حرام ثم الزم كل شيء من ذلك بيانه دخوله في الدنيا متى ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف ثم جعل على العباد حفظه وعلى الكتاب خزانا فالحفظة يستنسخون كل يوم من الخوان عمل ذلك اليوم فإذا فني الرزق وانقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فتقول الخزنة ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا فترجع فيجدونه قد مات ثم قال ابن عباس ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون وهل يكون الاستسناخ إلا من أصل؟ وفي رواية ابن المنذر. وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن الآية فذكر نحو ما سمعت ثم قال: هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب، وكون الاستنساخ من اللوح قد رواه جماعة عنه، وما ذكرناه يصحح أن يكون هذا القول من الملائكة بدون تأويل * (نستنسخ) * بننسخ
156

كما لا يخفى، وقوله تعالى:
* (فأما الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات فيدخلهم ربهم فى رحمته ذلك هو الفوز المبين) *.
* (فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته) * إلى آخره تفصيل للمجمل المفهوم من قوله تعالى: * (ينطق عليكم بالحق) * أو يجزون من الوعد والوعيد، والمراد بالرحمة الجنة مجازا والظرفية على ظاهرها، وقيل: المراد بالرحمة ما يشمل الجنة وغيرها والأول أظهر * (ذلك) * الذي ذكر من الإدخال في رحمته تعالى: * (هو الفوز المبين) * الظاهر كونه فوزا لا فوز وراءه.
* (وأما الذين كفروا أفلم تكن ءاي‍اتى تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين) *.
* (وأما الذين كفروا أفلم تكن ءاياتي تتلى عليكم) * أي فيقال لهم بطريق التقريع والتوبيخ: ألم تكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم فجواب أما القول المقدر، وحذف اكتفاء بالمقصود وهو المقول وحذفه كثير مقيس حتى قيل هو البحر حدث عنه، وحذف المعطوف عليه لقرينة الفاء العاطفة وأن تلاوة الآيات تستلزم إتيان الرسل معنى، وهذا على ما ذهب إليه الزمخشري والجمهور على أن الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها والفاء على نية التقدير، والتقدير فيقال لهم: ألم تكن الخ فليس هناك سوى حذف القول، وفي " الكشف " لو حمل على أن المحذوف فيوبخون لدلالة ما بعده عليه، وفائدة هذا الأسلوب مع أن الأصل فيدخلهم في عذابهم الدلالة على أن
المؤمنين يدخلون الجنة والكافرون بعد في الموقف معذبون بالتوبيخ لكان وجها * (فاستكبرتم) * عن الإيمان بها * (وكنتم قوما مجرمين) * قوما عادتهم الإجرام.
* (وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندرى ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) *.
* (وإذا قيل إن وعد الله) * أي وما وعده سبحانه من الأمور الآتية أو وعده تعالى بذلك * (حق) * أي كائن هو أو متعلقه لا محالة ففي الكلام تجوز إما في الطرف أو في النسبة.
وقرأ الأعرج. وعمرو بن قائد * (وإذا قيل أن) * بفتح الهمزة على لغة سليم * (والساعة لا ريب فيها) * برفع * (الساعة) * في قراءة الجمهور على العطف على محل إن واسمها على ما ذهب إليه أبو علي وتبعه الزمخشري، ومن زعم أن لاسم إن موضعا جوز العطف عليه هنا، وزعم أبو حيان أن الصحيح أنه لا يجوز كلا الوجهين وعليه فجملة * (الساعة لا ريب فيها) * عطف على الجملة السابقة، وقرأ حمزة * (والساعة) * بالنصب عطفا على اسم أن وروي ذلك عن الأعمش. وأبي عمرو. وأبي حيوة. وعيسى. والعبسي. والمفضل، وذكر أمر الساعة وإنها لا ريب في وقوعها مع أنها من جملة ما وعد الله تعالى اعتناء بأمر البعث المقصود بالمقام * (قلتم) * لغاية عتوكم: * (ما ندري ما الساعة) * أي أي شيء هي استغرابا لها جدا كما يؤذن به جمع * (ما ندري) * مع الاستفهام.
* (إن نظن إلا ظنا) * استشكل ذلك لما أنه استثناء مفرغ وقد قالوا: لا يجوم تفريغ العامل إلى المفعول المطلق المؤكد فلا يقال: ما ضربت إلا ضربا لأنه بمنزلة ما ضربت إلا ضربت، وقال الرضي: إن الاستثناء المفرغ يجب أن يستثنى من متعدد مقدر معرب بإعراب المستثنى مستغرق لذلك الجنس حتى يدخل فيه المستثنى بيقين ثم يخرج بالاستثناء وليس مصدر نظن محتملا مع الظن غيره حتى يخرج الظن منه، وكذا يقال في ما ضربت إلا ضربا ونحوه وهذا مراد من قال: إنه من قبيل استثناء الشيء من نفسه، واختلفوا في حله فقيل: إن معنى ما نظن ما نفعل الظن كما في نحو قيم وقعد وحينئذ يصح الاستثناء ويتغاير مورد النفي والإيجاب من حيث التقدير والتجوز في الاستثناء من العام المقدر وجعل * (نظن) * في معنى الفعل لا نفعل الظن كأنه قيل: ما نفعل فعلا إلا الظن، وكذا يقال في أمثاله ومنها قوله الأعشى: وحل به الشيب أثقاله * وما اغتره الشيب إلا اغترار
157

وارتضاه صاحب الكشف، وقيل: ما نظن بتأويل ما نعتقد ويكون * (ظنا) * مفعولا به أي ما نعتقد شيئا إلا ظنا، وارتضاه أبو حيان. وتعقب بأن ظاهر حالهم أنهم مترددون لا معتقدون. وأجيب بأن الاعتقاد المنفي لا ينافي ظاهر حالهم بل يقررها على أتم وجه، وقيل المستثنى ظن أمر الساعة والمستثنى منه مطلق الظن كأنه قيل لا ظن ولا تردد لنا إلا ظن أمر الساعة والتردد فيه فالكلام لنفي ظنهم فيما سوى ذلك مبالغة، وقال الرضي: إن ما ضربت إلا ضربا يحتمل التعدد من حيث توهم المخاطب إذ ربما تقول ضربت وقد فعلت غير الضرب مما يجري مجراه من مقدماته كالتهديد فتدفع ذلك وتقول ضربت ضربا فهو نظير جاء زيد زيد فلما كان ضربت محتملا للضرب وغيره من حيث التوهم صار كالمتعدد الشامل للضرب وغيره، وحاصله أن لاضرب لما احتمل قبل التأكيد والاستثناء فعلا آخر حمل على العموم بقرينة الاستثناء فيكون المعنى ما فعلت شيئا إلا ضربا، وهكذا * (ما نظن إلا ظنا) * وهذا كالمتحد مع ما ذكرناه أولا. ورد بأن الاستثناء يقتضي الشمول المحقق ولا يكفي فيه الاحتمال المحقق فضلا عن المتوهم.
وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا تجرد الفعل لمعنى عام صار الشمول محققا على أن عدم كفاية الشمول الفرضي غير مسلم كما يعرفه من يتتبع موارده، وذهب ابن يعيش. وأبو البقاء إلى أنه على القلب والتقديم والتأخير والأصل ءن نحن إلا نظن ظنا وحكى ذلك عن المبرد، وقد حمل عليه ما حكاه أبو عمرو بن العلاء. وسيبويه من قول العرب: ليس الطيب إلا المسك بالرفع فقال: الأصل ليس إلا الطيب المسك ليكون اسم ليس ضمير الشأن وما بعد إلا مبتدأ وخبرا في موضع الخبر لها، ورده الرضي وقال: إنه تكلف لما فيه من التعقيد المخل بالفصاحة.
والمثال المحكي وارد على لغة بني تميم فإنهم عاملوا ليس معاملة ما فاهملوها لانتقاض النفي بإلا، وقيل * (ظنا) * مفعول مطلق لفعل محذوف والمستثنى محذوف والتقدير إن نظن إلا أنكم تظنون ظنا. وحكي عن المبرد أيضا وفيه حذف إن واسمها وخبرها وإبقاء المصدر وذلك لا يجوز، وفيه أيضا من التعقيد المخل بالفصاحة ما فيه، ولا أظن صحة حكايته عن المبرد لغاية برودته، وجوز صاحب التقريب أن يكون المراد إن نظن إلا ظنا ضعيفا فهو مصدر مبين للنوع حذفت صفته كما صرح به في " البحر " لا مؤكد، وهذا يوافق ما ذكره الإمام السكاكي في بحث أن التنكير قد يكون للتحقير. وتعقب بأن قوله تعالى: * (وما نحن بمستيقنين) * يأباه فإن مقابل الاستيقان مطلق الظن لا الضعيف منه، وقد صرح غير واحد بأن هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها والمراد بها استمرار النفي وتأكيده، قيل: والمعنى وما نحن بمستيقنين إمكان الساعة أي لا نتيقن إمكانها أصلا فضلا عن تحقق وقوعها المدلول عليه بقوله تعالى: * (إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها) * فقولهم ذلك رد لهذا، ولعل المثبتين لأنفسهم الظن من غير إيقان بأمر الساعة غير القائلين إن هي إلا حياتنا الدنيا فإن ذلك ظاهر في أنهم منكرون للبعث جازمون بنفي الساعة فيكون الكفرة صنفين صنف جازمون بنفيها كأئمتهم وصنف مترددون متحيرون فيها فإذا سمعوا ما يؤثر عن آبائهم أنكروها وإذا سمعوا الآيات المتلوة تقهقر إنكارهم فترددوا.
ويحتمل اتحاد قائل ذاك وقائل هذا إلا أن كل قول في وقت وحال فهو مضطرب مختلف الحالات تارة يجزم بالنفي فيقول: إن هي إلا حياتنا الدنيا وأخرى يظن فيقول إن نظن إلا ظنا، وقيل: الجزم هناك بنفي وقوعها والظن من غير إيقان هنا بمجرد إمكانها فهم مترددون بإمكانها الذاتي جازمون بعدم وقوعها بالفعل فتأمل.
158