الكتاب: نهاية الدراية في شرح الكفاية
المؤلف: الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهانى
الجزء: ٣
الوفاة: ١٣٦١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: تحقيق وتصحيح وتعليق: الشيخ مهدي أحدي أمير كلائي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٧٤ ش
المطبعة: امير - قم
الناشر: انتشارات سيد الشهداء (ع) - قم - ايران
ردمك:
ملاحظات:

نهاية الدراية
في شرح الكفاية للحكيم الإلهي والفقيه الأصولي
الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني
حققه وصححه وعلق عليه الشيخ مهدي أحدي أميركلائي
انتشارات سيد الشهداء (ع)
المجلد الثالث
1

اسم الكتاب: نهاية الدراية في شرح الكفاية ج 3
المؤلف: الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني - قدس سره -
المحقق: مهدي أحدا أمير كلائي
الناشر: انتشارات سيد الشهداء
الطبع: الأولى 1374 ه‍ ش
المطبعة: أمير قم
2

بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد
واله أجمعين
وبعد
هذا هو المجلد الثالث من كتاب (نهاية الدراية في شرح الكفاية) للحكيم
الإلهي والفقيه الأصولي الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني، في
الاستصحاب، والتعادل والتراجيح، والاجتهاد والتقليد.
فقد صححناه وعلقناه ورتبناه بموضوعات وعناوين أصولية على ترتيب
الكفاية ليسهل لأهل التحقيق والنظر مراجعته إليه
مضافا على أن الشارح المحقق علق على شرحه تعاليق مكتوبا في اخر
المجلد الثالث من كتابه المخطوط، وقد قمنا إلى تدوينه ذيل كل عنوان في
المجلد الأول ليكون مراجعته أسهل، واخذ فكره السديد أيسر للطالبين
ولا يخفى ان هذا المجلد الثالث حقق وطبع بنشر مؤسسة آل البيت (ع)
واستفدناه، ولهذا حق علينا أن نشكر من أصحاب المحققين الذين بذلوا الجهد
في التصحيح والتحقيق
وفي الخاتمة: ندعو من الله العزيز التوفيق لخدمة الحوزات العلمية ورواد
العلم الأحقر: مهدي أحدي أمير كلائي
12 ربيع الأول سنة 1415
3

الاستصحاب
4

بسم الله الرحمن الرحيم
(تعاريف الاستصحاب)
قوله: وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم... الخ
توضيح المقام أن إبقاء ما كان: تارة - ينسب إلى المكلف، فيراد منه الابقاء
العملي، كالتصديق العملي في باب الخبر، وأخرى - بنسب إلى الشارع - مثلا -
بأحد لحاظين: إما بجعل الحكم المماثل في الزمان الثاني بعنوان أنه الحكم
الموجود - في الزمان الأول - فهو احداث لبا، وابقاء عنوانا.
وإما بالالزام بالابقاء العملي، فيكون إبقاء عمليا من الشارع تسبيبا، ولا يخفى
عليك أن المراد من الحكم بالبقاء إذا كان هو الالزام به - كما صرح به شيخنا
العلامة - قدس سره - في تعليقته على الرسائل (1) - وكما استظهره بعض
الأجلة (2) من كلام شيخه العلامة الأنصاري قدس سرهما
فالمناسب: التعبير بالحكم بالابقاء، فان الابقاء والبقاء، وإن كانا متحدين
بالذات الا أن الذي هو عنوان فعل المكلف - الذي هو مورد الالزام - أو فعل
توليدي منه هو الابقاء بلحاظ حيثية صدوره من المكلف، لا البقاء الذي هو من
حيثيات الحكم وشؤونه

(1) الحاشية على كتاب فرائد الأصول للمحقق الخراساني - قده -: ص 172.
(2) - الظاهر أنه المحقق الآشتياني - قده - في كتابه بحر الفوائد ويستفاد ذلك من مطاوي كلامه في
تعريف الاستصحاب
5

وسيجئ إن شاء الله تعالى بيان احتمال اخر (1) في الحكم بالبقاء، بحيث لا
يناسب الا عنوان المحذور من وجهين
أحدهما: عدم الجهة الجامعة للاستصحاب * بحسب المباني الثلاثة من
الاخبار، وبناء العقلاء وحكم العقل، وذلك لان المراد.
إن كان إبقاء المكلف عملا - فهو، وإن صح جعله موردا لالزام الشارع، أو لبناء
العقلاء - فرجع البحث إلى أن الابقاء العملي هل مما ألزم الشارع أو مما بنى عليه
العقلاء أم لا؟
إلا أنه ليس بهذا المعنى موردا لحكم العقل، لان الاذعان العقلي الظني إنما
هو ببقاء الحكم، لا بابقاء الحكم عملا من المكلف، وليس للعقل إلزام انشائي
وشبهه حتى يصح إرادة موردية الابقاء العملي للحكم العقلي.
وان كان المراد الابقاء الغير المنسوب إلى المكلف، فمن الواضح أنه لا جهة
جامعة بين الالزام الشرعي - الذي هو مصداق الابقاء - أو متعلق بالابقاء، والبناء
العقلائي، والادراك العقلي.
ومع فرض الجامع بين الالزام الشرعي والاذعان العقلي - نظرا إلى التعبير عن
الاذعان العقلي بالحكم العقلي - فلا جامع بينهما وبين البناء العملي من العقلاء،
إذ الالزام من العقلاء ولا إذعان منهم.
وتصحيحه - بإرادة الالزام الشرعي ابتداء أو إمضاء، لما بنى عليه العقلاء - كما
عليه شيخنا الأستاذ قدس سره في تعليقته (2) - لا يجدي، إذ البحث في
الاستصحاب - من باب بناء العقلاء - راجع إلى البحث عن ثبوت البناء وعدمه، لا
عن حجيته - شرعا - بعد ثبوته.
فان بناء العقلاء، إذا ثبت بشرائطه كان ممضى شرعا كسائر الموارد.
مضافا إلى ما ذكرنا في غير مقام: أنه لا الزام من العقلاء باتباع الظاهر، أو

(1) في ما افاده - قده - في هذه التعليقة عند قوله: ويمكن أن يراد من الحكم... الخ
(2) ص 171: ذيل قوله الشيخ قده (وعند الأصوليين عرف بتعاريف)
6

الجري على وفق اليقين السابق - مثلا - حتى يكون معنى إمضائه جعل الحكم
المماثل على طبقه.
بل مجرد بنائهم على مؤاخذة من يخالف الظاهرة، أو لا يجري على وفق اليقين
السابق مثلا. فمعنى إمضائه أن الشارع كذلك، فيصح المؤاخذة عنده كما
تصح عند العقلاء.
ثانيهما: عدم صحة توصيفه بالدليلية والحجية، على جميع المباني:
أما إذا أريد منه الابقاء العملي المنسوب إلى المكلف، فواضح، لأنه ليس دليلا
على شئ، ولا حجة عليه.
وأما إذا أريد منه الالزام الشرعي، فإنه مدلول الدليل، لا أنه دليل على نفسه،
ولا أنه حجة على نفسه، كسائر الأحكام التكليفية.
وأما تصحيحه - بإرادة ثبوته وعدمه، من حجيته وعدمها، كالنزاع في حجية
المفاهيم فإنه راجع إلى البحث عن ثبوتها وعدمه، لا إلى حجيتها في فرض ثبوتها
- فمخذوش بأن النزاع في ثبوت كل شئ وعدمه لا يصح التعبير عنه بحجيته
وعدمها
والمفاهيم حيث أنها في فرض ثبوتها من مصاديق الحجة، صح التعبير عن
ثبوت الحجة وعدمه بالحجة وعدمها، بخلاف ثبوت الحكم التكليفي الشرعي،
فإنه أجنبي عن الحجية بالمرة.
بيانه: أن جعل الحكم المماثل (1) في مورد الخبر ليس حجة على نفسه، ولا على
غيره، بل مصحح لحجية الخبر. فان جعل الحكم المماثل لمؤدى الخبر - بعنوان
أنه الواصل بالخبر - يصحح انتزاع الموصلية من الخبر عنوانا، فهو - عنوانا -
واسطة في إثبات الحكم الواقعي، فان المفروض أنه أوصل مؤدى الخبر بجعل
الحكم المماثل الواصل بنفسه، وكذلك الامر في الحجية بمعنى المنجزية.
فان الحكم الظاهري كالحكم الواقعي، لا ينجز نفسه ولا غيره، بل الخبر منجز

(1 (- من أراد الاطلاع، فليراجع مبحث حجية الظن: ج 2.
7

لمؤداه شرعا، فلابد هنا أيضا من فرض أمر اخر غير الالزام الشرعي، حتى يكون
هو الموصول عنوانا، أو المنجز حقيقة.
وأما الاستصحاب - من باب بناء العقلاء - فليس عمل العقلاء على وفق اليقين
السابق حجة على عملهم، ولا على غيرهم، كما أن اتباعهم الظاهر ليس حجة
على اتباعه للظاهر، ولا على اتباع غيرهم للظاهر، بل الظاهر - حيث أنه مصحح
عندهم للمؤاخذة على مخالفة ما يكون الظاهر كاشفا نوعيا عنه - يوصف
بالحجية، فلابد هنا من فرض صحة مؤاخذتهم على ترك الجري على طبق الحالة
السابقة:
إما لليقين السابق واقتضاء وثاقة اليقين لعدم رفع اليد عنه عندهم.
أو الظن بالبقاء واقتضائه عندهم للجري على وفقه
فالمصحح للمؤاخذة ليس نفس إبقائهم عملا، أو ابقاء المكلف، بل أحد
الامرين المزبورين أو غيرهما مما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى
فعلم مما ذكرنا أن بناءهم عملا، وإن كان ابقاء عمليا منهم، وهو المناسب
للاستصحاب ومشتقاته المنسوبة إلى العامل، الا أن الموصوف بالحجة غيره.
ومعنى حجية بناء العقلاء - شرعا - أن ما بنى العقلاء على المؤاخذة بسببه - على
فعل أو ترك - يصح المؤاخذة به عند الشارع.
فلم يسبق من الاستصحاب بالمباني الثلاثة، الا الاذعان العقلي الظني ببقاء
الحكم، فإنه صالح لان يكون منجزات للحكم، الا ان الاستصحاب بهذا المعنى لا
يناسب مشتقاته المنسوبة إلى المكلف.
ويمكن أن يراد من الحكم - في قوله - قده - وفي كلام الشيخ الأعظم - قده - في
الرسائل: (أن الاستصحاب هو الحكم ببقاء الحكم الخ...) (1) - ما هو المرسوم في
التعبيرات من الحكم بقيام زيد، وهو كونه الرابط، فيرجع إلى أن الاستصحاب
كون الحكم باقيا في نظر الشارع أو عند العقلاء، أو في نظر العقل ظنا - لظنه ببقائه

(1) الرسائل ص 318 (في تعريف الاستصحاب).
8

وهو المستند للحكم بالابقاء من الشارع، وللابقاء العملي من العقلاء، فيندفع
محذور الجامع (1) ومحذور الدليلية (2).
ولا يأبى كلامه (قده) عن ذلك حيث قال: (اما من جهة بناء العقلاء على ذلك
اي على كونه، لا على الالزام به
وفيه: أن كونه باقيا في نظر الشارع ليس الا منتزعا من الالزام بابقائه، فهو باق
بحسب حكمه، لا بلحاظ أمر اخر، كما أن كونه باقيا - في نظر العقلاء - ليس الا
كونه باقيا بحسب عملهم لابقائهم له عملا، وليس له بقاء عندهم مع قطع النظر
عن ابقائهم له عملا.
ومنه يظهر أن تفسير الحكم بالبقاء - باعتبار بقائه عملا شرعا، أو من باب بناء
العقلاء، واعتبار بقائه ظنا من باب العقل - وإن صح جامعا بابقاء قيد العمل في
الأولين وقيد الظن في الأخير (3) الا أن البقاء عملا ليس الا بقاء العملي، وهو غير
صالح للتوصيف بالدليلية والحجية.
والتحقيق: إن الاستصحاب - كما يناسب المشتقات منه - هو الابقاء العملي
والموصوف بالحجية بناء على الاخبار هو اليقين السابق.
إما بعنوان إبقاء الكاشف إن كان المراد من الحجية الوساطة في الاثبات، فان
إبقاء الكاشف التام المتعلق بالواقع إيصال للواقع - بقاء عنوانا - بايصال الحكم
المماثل لبا.
وإما بعنوان إبقاء المنجز السابق ان كان المراد من الحجية تنجيز الواقع
فاليقين السابق يكون منجزا للحكم حدوثا عقلا، وبقاء جعلا.
وبناء على العقلاء، فالموصوف بالحجية أحد أمور ثلاثة:

(1) أي عدم الجامعية للاستصحاب بحسب المباني الثلاثة
(2) أي عدم صحة التوصيف بالدليلية.
(3) (المراد من الأولين بقاؤه عملا شرعا، أو من باب بناء العقلاء، ومن الأخير بقاؤه ظنا من باب
العقل.
9

إما اليقين السابق لوثاقته واقتضائه عدم رفع اليد عنه الا بيقين مثله، فهو
الباعث للعقلاء على إبقائهم عملا.
وإما الظن اللاحق بالبقاء
وإما مجرد الكون السابق، اهتماما بالمقتضيات وتحفظا على الاغراض
الواقعية، فالوجود السابق لهذه الخصوصية حجة على الوجود الظاهري في
اللاحق، لا من حيث وثاقة اليقين ولا من حيث رعاية الظن بالبقاء واليه يرجع
التعبد العقلائي - كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وبناء على حكم العقل، فالموصوف بالحجية هو الظن بالقاء، ويندفع محذور
الجامع، ومحذور التوصيف بالحجية
أما الأول - فبأن المراد هو الابقاء العملي، والنزاع في أن المستند للابقاء
العملي، هل هو أمر مأخوذ من الشارع؟ أو من العقلاء؟ أو من العقل؟ لا أن نفس
الاستصحاب مأخوذ من أحدهم لان لا يكون له جامع
وأما الثاني - فبأن حجية اليقين السابق على الحكم في اللاحق، حيث أنها
مستكشفة من ثبوت الابقاء العملي تشريعا - حيث أن الشارع أمر بابقاء اليقين.
الذي عرفت أن مرجعه إلى إبقاء الكاشف أو المنجز - فالتعبير عن حجية
المنكشف بحجية الكاشف صحيح، معمول به عندهم
وكذا بناء العقلاء - عملا - على الابقاء، فإنه كاشف عن بنائهم على حجية
اليقين السابق، أو الظن اللاحق، أو الكون السابق
ثم إن المراد من (إبقاء ما كان) إن كان الابقاء المنسوب إلى الشارع، فلا دلالة
في العبارة على جعل الحكم الظاهري الاستصحابي، فإنه لو أبقى الشارع حكمه
الموجود سابقا في الزمان اللحق - بعلته المقتضية لحكم مستمر، أو بعلة أخرى
مقتضية لاستمراره - لصدق عليه إبقاء ما كان، مع أنه حكم واقعي لا ظاهري،
وإبقاؤه لعلة كونه في السابق، وإن اقتضى كون الحكم في الزمان الثاني ظاهريا،
لان الحكم الواقعي لا يكون وجوده في زمان واسطة في القبول لوجوده في زمان
10

اخر، ولا واسطة في الاثبات، الا أن تعلق الابقاء بما كان لا يدل على علية
كونه (1)، بل ولا إشعار فيه (2) أيضا، لان الابقاء لابد وأن يتعلق بما كان، وليس
أخذه كأخذ الوصف لغوا، لو لم يكن لأجل إفادة فائدة: من علية، أو غيرها
وإن من المراد الابقاء العلمي من المكلف، فهو يدل على جعل الحكم الظاهري
إذ لو كان الحكم الواقعي مستمرا حقيقة لم يكن العمل به إبقاء عمليا للحكم
السابق، بل عمل بالحكم الموجود حقيقة في الزمان اللاحق، الا أنه لا يدل على
اعتبار اليقين في موضوع الاستصحاب، كما لا يدل على كون الحكم
الاستصحابي الظاهري من الأصول العملية: لعدم اخذ الشك فيه
أما الأول: فلان اليقين بثبوت الحكم سابقا، وإن كان منجزا لحكمه، لكنه غير
محقق لموضوعه، فدلالته على اعتبار اليقين - في تنجز الحكم الاستصحابي
غير دلالته على اعتباره في تحقق موضوع. فمن الممكن أن ما ثبت، يجب إبقائه
واقعا، غاية الامر أنه لا ينجز هذا الا بعد الالتفات إلى موضوعه وحكمه.
وأما الثاني: فلان لازم الابقاء العملي وان كان عدم اليقين بالحكم في الزمان
الثاني، الا أن هذا لازم أعم للحكم الظاهري على طبق الامارة، أو على وفق
الأصل، وإنما الفارق بأخذ الشك في موضوعه وعدمه.
فعلم أن التعريف بالابقاء لا يخلو من المحذور على أي حال
وأما سائر تعاريف الأصحاب للاستصحاب فغير خالية عن المحذور أيضا.
فمنها ما عن الفاضل التوني (ره): من أنه التمسك بثبوت ما ثبت في وقت، أو
حال على بقائه.. الخ (3) وظاهر جعل الثبوت في السابق حجة، ودليلا على ثبوته في اللاحق، لا الابقاء

(1) (الكون) هنا تامة.
(2) كما عليه الشيخ - قده - في (الرسائل) ص 318، فإنه قائل بالاشعار وتبعه المحقق العراقي - ره -
في نهاية الأفكار) ص 3
(3) - الرسائل ص 319 (عند تعريف الاستصحاب)
11

تعويلا على ثبوته، فلا يوافق التعريف المعروف، من القوم، كما لا يناسب
مشتقات الاستصحاب، كما أفاده الأستاذ (1) فإنه إنما يناسب ذلك إذا قيل: إنه
التمسك بما ثبت، فأنه بمعنى إبقائه، وعدم الانفكاك عنه عملا، لا التمسك
بثبوته، فإنه بمعنى الاعتماد على ثبوته في ابقائه عملا
وغاية ما يمكن أن يوجه به التعريف المزبور، إنه من باب التعريف بالعلة
المسمى بمبدأ البرهان - في قبال التحديد بالمعلول - المسمى بنتيجة البرهان
والتحديد بهما معا - المسمى بالحد التام الكامل - كتعريف الغضب بإرادة الانتقام
على الأول، وبغليان دم القلب على الثاني، وبغليان دم القلب لإرادة الانتقام على
الثالث
ومنه يعلم أن تعريف الاستصحاب: (بإثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا
على ثبوته في الزمان الأول)، من القسم الثالث، وهو الحد التام
وتعريفه (بكون الشئ متيقن الحصول في الزمان الأول) من قبيل الأول، لا أنه
بيان لمورد الاستصحاب، بل هو أولى - في دخوله في مبدأ البرهان - من تعريف
الفاضل التوني (ره).
لأنه في الحقيقة ليس تعريفا للاستصحاب بعلته - وهو ثبوته في الزمان الأول -
بل تعريف له بالاستدلال بعلته، الراجح إلى معلولية الابقاء لثبوته.
ومنها ما عن العضدي كما في الرسائل (2): إن معنى استصحاب الحال. أن
الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه، وكما كان كذلك فهو مظنون البقاء.
ولا يخفى عليك أن الاستصحاب عنده، حيث أنه الظن ببقاء الحكم مثلا
والتفاوت بينه وبين كون الحكم مظنون البقاء اعتباريا - فالقياس المزبور استدلال
على الاستصحاب بلحاظ نتيجة البرهان، لا أن الصغرى أو الكبرى استصحاب

(1) قال - قده - في تعليقته على الرسائل ص 172: فان الاستصحاب، سواء جعل نفس الظن
بالبقاء... كان به التمسك لا نفسه، وان كان لفظه بمشتقاته إنما يناسب ذلك
(2) - الرسائل ص 318
12

عنده حتى يردد الامر بينهما فيقال (1) - على الأول - بتوافقه مع تعريف المحقق
القمي (ره): (بكون الشئ متيقن الحصول مشكوك البقاء) - وعلى الثاني
بمطابقته مع تعريف المشهور بإرادة بالبقاء ظنا من الابقاء - الذي عرف به
الاستصحاب - في كلمات المشهور من الأصحاب.
ولا يمكن جعل الصغرى حدا من باب (مبدأ البرهان) وجعل الكبرى من باب
(نتيجة البرهان) لان مبدأ البرهان هو الحد الأوسط، وهو ثبوته الخاص، لا
الصغرى.
ونتيجة البرهان محمول الكبرى، وهو الأكبر لا الكبرى.
فان الكبرى متضمنة للملازمة بين الثبوت وكونه مظنونا من حيث البقاء، لا أنها
- عين كونه مظنون البقاء، فلا الصغرى توافق كلام المحقق القمي - ره - ولا الكبرى
تطابق تعريف المشهور.
وأما ما عن شيخنا الأستاذ - قده - (2): من أن الكبرى هو الاذعان بأنه مظنون
البقاء، والاستصحاب هو نفس الظن بالبقاء - وهو غير الايراد بأن الاستصحاب
ليس كون الحكم مظنون البقاء، بل نفس الظن ببقاء الحكم، لكي يندفع بان
التفاوت بين الظن والمظنون اعتباري -
ففيه مسامحة من وجهين:
أحدهما - أن الكبرى هي الملازمة بين الثبوت وكون الحكم مظنون البقاء، لا
كون الحكم مظنون البقاء فإنه الأكبر باعتبار، ونتيجة القياس باعتبار اخر
ثانيهما - أن نتيجة البرهان، وان كانت مما يذعن بها العقل، الا أن الحكم
الاذعان خارج عن مفاد القضية - موضوعا ومحمولا - وعن مفاد القياس
صغرى وكبرى ونتيجة -

(1) - القائل هو الشيخ - ره - في رسائله في تعريف الاستصحاب: ص 318، وما ذكره المحقق
القمي - ره - ففي المجلد الثاني من القوانين في تعريف الاستصحاب.
(2) راجع تعليقته (ره) على فرائد الأصول: ص 172
13

ثم إن الشيخ الأعظم - قده - في رسائله (1) رتب القياس على نحو اخر - بناء
عل كون الاستصحاب من الأدلة العقلية -، فقال - قده -: إن الحكم الشرعي
الفلاني ثبت سابقا، ولم يعلم ارتفاعه، وكلما كان كذلك فهو باق، فالصغرى
شرعية، والكبرى عقلية ظنية.. الخ.
وفيه أولا - ان الأصغر شرعي، لا الصغرى.
وثانيا - إن المهم - عند القائلين بأنه من الأدلة العقلية إثبات الظن ببقائه، لا
إثبات بقاءه، حتى يجعل الظن جهة في الكبرى، فيراد أنه باق ظنا.
بل لابد من جعل الكبرى، كما جعلها العضدي: (من أنه كلما كان كذلك، فهو
مظنون البقاء)، فالكبرى عقلية قطعية، للقطع بالملازمة بين الثبوت والظن بالبقاء
كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قوله: بل من قبيل شرح الاسم... الخ.
تكرر منه - قده - في الكتاب (2) وغيره مساوقة التعريف اللفظي لشرح الاسم
ومطلب (ما) الشارحة، ومقابلته مع الحد والرسم.
وقد تقدم منا في حاشية، مبحث مقدمة الواجب من مباحث الجزء الأول من
الكتاب (3) إن مطلب (ما) الشارحة يقابل التعريف اللفظي، وأن الحد والرسم
تارة اسمي، وأخرى حقيقي.
وأنه لا فرق بين مطلب (ما) الشارحة ومطلب (ما) الحقيقية، الا بكون السؤال
في الثاني بعد معرفة وجود المسؤول عن ماهيته، دون الأول، وأن الحدود الاسمية
بعد معرفة أعيانها تنقلب حدودا حقيقية، وأن التعريف اللفظي شأن اللغوي، لا
الحكيم، فراجع

(1) - الرسائل: الامر الثاني بعد تعريف الاستصحاب: ص 319.
(2) الكفاية 1: ص 151 في الواجب المشروط وص 331 في العام والخاص وفي تعليقته الرشيقة
على الرسائل ص 172.
(3) - نهاية الدراية ج 1 ص 326 من هذا الطبع.
14

(بيان كون حجية الاستصحاب أصولية)
قوله: إن البحث في حجيته مسألة أصولية.. الخ
قد تقدم الكلام - في نظائر المقام - في أوائل البحث عن حجية الخبر (1) وقلنا
إن مفاد دليل الاعتبار - سواء كان جعل الحكم المماثل أو التنجيز والاعذار - يأتي
عن دخول نتيجة البحث في مسائل علم الأصول، سواء كان فن الأصول ما يبحث
فيه عن حال الأدلة، أو كان ما يبحث فيه عن القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية
، أو كان ذلك مع البحث عن ما ينتهي إليه امر الفقيه في مقام العمل، بعد
الفحص واليأس عن الدليل.
إذ على الأول يكون الحكم المماثل أو تنجيز الواقع مدلول السنة باعتبار، وسنة
باعتبار اخر.
وعلى اي حال لا بحث عن حال السنة ولواحقها، بل عن أصل ثبوتها أو ثبوت
مدلولها.
وعلى الثاني ليس نتيجة البحث مما يقع في طريق استنباط الحكم، بل إما
بنفسه حكم مستنبط أو لا بنفسه مستنبط ولا ينتهي إلى حكم مستنبط.
وعلى الثالث وان كان بالإضافة إلى ما نحن فيه وسائر الأصول العملية مجديا
حيث أن نتائجها مما ينتهي إليه أمر الفقيه، بعد الفحص واليأس عن الدليل، الا أنه
لا يجدي في الامارات الغير العلمية - دلالة وسندا - حيث أنها هي الحجة على
حكم العمل، لا أنها المرجع بعد الفحص واليأس عن الحجة على حكم العقل
مع ما يرد عليه: من لزوم فرض غرض جامع بين الغرضين، لئلا يكون في
الأصول علمين وليس مثله في البين.
وقد بينا هناك أن اختصاصها بالمجتهد ليس من حيث كونها من المقدمات
المؤدية إلى استنباط الحكم، لتكون كاشفا عن كون المسألة أصولية، بل من حيث.

(1) ج 2 مبحث حجية الخبر.
15

أن خبره تطبيقا على مصاديقها واحراز تحققها - الموقوف على الفحص - مختصة
بالمجتهد، ومثله موجودة في سائر القواعد الكلية الفقهية أيضا.
وذكرنا هناك أن التفصي عن الاشكال - بالالتزام بتعميم الاستنباط - من أحد
وجهين أو منهما معا:
إما بدعوى أن إيجاد تصديق العادل، وايجاب إبقاء اليقين إيجاب كنائي عن
جعل الحكم المماثل لما أخبر بوجوبه العادل، ولما أيقن بوجوبه المكلف. وهذا
المقدار من التوسيط الناشئ عن التلازم بين الكنائي والحقيقي كاف في مرحلة
الاستنباط فالبحث في الأصول عن هذا الملزوم الكنائي وفي الفقه عن ذلك
اللازم الحقيقي.
وإما بدعوى أن الاستنباط والاجتهاد بمعنى تحصيل الحجة على حكم
العمل، لا بمعنى يؤدي إلى العلم بحكم العمل حتى يقال: لا علم بالحكم، بل
مجرد ما ينجزه شرعا.
فشأن المسائل الأصولية: البحث عن الحجية ولو بمعنى المنجزية.
وشأن المسائل الفقهية: إثبات الحجة على التكاليف المتعلقة بأفعال
المكلفين، وتوقف تحصيل الحجة على الفراغ من الحجية في فن الأصول واضح
ونزيدك هنا: أن تعميم الاستنباط بالتقريب الأول، وان كان مقيدا في مقام
التوسيط لكنه غير مفيد في مقام اثبات الحجية، إذ مجرد جعل الحكم المماثل
لبا، أو جعل الحكم كنائيا لا ربط له بالحجية
بل الحجية إما بمعنى الوساطة في الاثبات أو الوساطة في التنجز.
وعليه فجعل الحكم المماثل لما أخبر بوجوبه العادل - بعنوان أنه هو الحكم
الواصل بالخبر - جعل موصلية الخبر ووساطته لاثبات الواقع عنوانا.
فالواصل بالذات، وان كان هو الحكم المماثل بنفس دليل الاعتبار، الا أنه
حيث كان بلسان أنه الواقع الواصل بالخبر، فالحكم الواقعي بالعرض يكون
واصلا، وإن لم يكن عنوانا كنائي أيضا.
16

فالمبحوث عنه في الأصول: وساطة الخبر لاثبات الواقع عنوانا، أو لتنجزه
حقيقة، والمبحوث عنه في الفقه: نفس حكم العمل الذي يكون الواقع واصلا
عنوانا.
وبلحاظ اللب والحقيقة يكون واصلا، لوصول الحكم المماثل الحقيقي، أو
المبحوث عنه هو حكم العمل، من حيث كونه قامت عليه حجة منجزة له
فالحجية إذا كانت بمعنى الوساطة - في اثبات صح ابقاء (الاستنباط) على ما
مر من كونه مؤديا إلى العلم بالحكم، لأنه على التقدير يؤدي إلى العلم بالحكم
الواقعي عنوانا، والى العلم بالحكم الفعلي حقيقة.
وإذا كانت بمعنى المنجزية لزم التعميم بالتقريب الثاني.
قوله: وليس مفادها حكم العمل بلا واسطة... الخ.
هذا بناء على ما ذكرنا - من أن الحجية: هي الوساطة في إثبات الحكم الواقعي
عنوانا، أو الوساطة في إثبات تنجزه حقيقة - واضح، لأنها - على اي حال - غير
وجوب الصلاة التي أخبر به العادل، أو أيقن به المكلف
الا أنه انما يجدي من يجعل اليقين السابق حجة على الحكم في اللاحق، إما
بعنوان البقاء الكاشف التام، أو بعنوان بقاء المنجز.
وأما من يجعل الاستصحاب إلزام الشارع بالابقاء ويرى أن النزاع - في الحجية
وعدمها - نزاع في ثبوت الالزام المزبور وعدمه - كالنزاع في حجية المفاهيم - فلا
يمكنه دعوى عدم تعلقه بالعمل بلا واسطة، لان كلية عنوان نقض اليقين، أو ابقاء
اليقين بالإضافة إلى مصاديق النقض والابقاء، وكلية الالزام المتعلق بهما - فعلا
وتركا - بالإضافة إلى وجوب الصلاة، وحرمة الفعل الكذائي لا يحقق التوسيط، بل
هو تطبيق محض.
فلا بد حينئذ في توجيهه من التشبث بالتوسيط الكنائي، الذي قدمناه.
الا أن الصحيح ما ذكرناه لعدم المصحح لانتزاع الحجية، الا ما ذكرنا من جعل
ايجاب الابقاء بعنوان ابقاء الكاشف، أو إبقاء المنجز، ليفيد الوساطة في اثبات
17

الحكم - عنوانا - أو الوساطة في تنجزه - حقيقة -
قوله: كيف وربما لا يكون مجرى الاستصحاب الا حكما أصوليا
هذا لا ينافي كون الحجية حكما عمليا.
غاية الامر أن المستصحب - في مثل وجوب الصلاة - حكم عملي متعلق بعنوان
خاص وفي مثل الحجية حكم عملي متعلق بعنوان تام
والحكم المماثل المجعول في الأول وجوب الصلاة، وفي الثاني وجوب
تصديق العادل أو وجوب ابقاء اليقين عملا.
وتسمية بعض الأحكام العملية بالحكم الأصولي، لا تخرج الحكم عن كونه
حكما عمليا شرعيا، بعد وضوح أن حقيقة الحكم لا تخلو من تعلقها: إما بفعل
الجارحة، أو بفعل الجانحة، والأول حكم عملي فرعي، والثاني حكم جناني
أصلي
ويختص الثاني بباب العقائد، كاختصاص الأول بباب العمليات - سواء كان
فعل الصلاة أو تصديق العادل عملا - وهو إما عنوان لفعل الصلاة، أو عنوان
توليدي منه.
وإنما سمي بعض الأحكام بالأصولية، لمجرد المحكوم بهذا الحكم هو
المجتهد - عنوانا لا لبا - إذ ربما لا يكون له مساس به، كما نبهنا عليه في أول
مبحث البراءة.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في مباحث الاجتهاد والتقليد (1).
قوله: وأما لو كان عبارة عن بناء العقلاء... الخ.
وقد عرفت سابقا أن بناء العقلاء عملا، وإن كان ابقاء عمليا منهم - ويناسب
مشتقات الاستصحاب - الا أن الموصوف بالحجية ما هو الباعث على بنائهم.
وهو إما اليقين السابق، أو الكون السابق، أو الظن اللاحق.
فبناؤهم على المؤاخذة على ترك المتيقن - بسبب أحد الأمور المزبورة هو

(1) ج 3 ص 429.
18

المصحح لانتزاع الحجية، وإمضاء بناء العقلاء بمعنى اعتبار الحجية شرعا لما
بنى العقلاء على المؤاخذة بسببه، وأن ما هو المنجز عندهم منجز عند الشارع
فيجري البحث في كونه من المسائل الأصولية على أي حال، إذ بناء على أن
علم الأصول (ما يبحث عن أحوال الأدلة الأربعة) ليس الموصوف بالحجية أحد
الأدلة.
وبناء على أن علم الأصول (ما يبحث فيه عن أحوال مطلق الحجة) فالبحث
هنا عن ثبوتها لا عن لواحقها
وبناء على أنه (ما يبحث فيه عن القواعد الممهدة لاستنباط الحكم) ليست
الحجية - بمعنى المنجزية - مما ينتهي إلى حكم شرعي أصلا
فلا بد من دفع الاشكال بما ذكرناه (1) - بناء على اعتباره من باب الاخبار - فهو
في الاشكال ودفعه كالسابق.
قوله: أو الظن به الناشئ عن ملاحظة ثبوته... الخ.
الكلام تارة في ثبوت هذا الظن وعدمه. وأخرى في حجيته، وثالثة فيهما معا.
وعلى اي حال، فجعله من المسائل الأصولية لا يخلو عن الاشكال، إذ نفس
هذا الظن، وان كان مصداق الدليل العقلي المعدود من الأدلة الأربعة، الا أن
الكلام لابد في ثبوت شئ له، لا في ثبوت نفسه.
وقد مر في البحث عن مقدمة الواجب (2): أن جعل العقل من الأدلة - ليكون
النزاع في ثبوت الاذعان له - غير صحيح، لان المهم ليس ثبوت الاذعان للعقل،
حتى يبحث عنه، بل المهم ثبوت ما أذعن به، من غير فوق بين الحكم العقلي
النظري، أو العملي.
كما أن البحث - عن دليليته وحجيته - بحث عن وصفه المقوم له، فيرجع
البحث إلى اثبات الموضوع بما هو موضوع مضافا إلى أن الحجية إما حكم

(1) تقدم في ص 6 من هذا المجلد
(2) - ج 1 ص 294 له - ره - بحث نافع جدا، حق على الطالب ان يراجعه.
19

مستنبط، أو ما لا ينتهي إلى حكم مستنبط.
ويمكن أن يقال - في دفع الاشكال عن الشق الثاني - بأن حجيته شرعا غير
مقومة لدليليته عقلا، كما يندفع ما بعده بما مر من قبل، فراجع.
وعن شيخنا العلامة - رفع الله مقامه - في تعليقته الأنيقة (1)، نقل إشكال في
جعل (الظن بالبقاء) من الأدلة العقلية.
بيانه: أن القضية العقلية تمتاز عن القضية الشرعية بمحمولها، من حيث كونه
أمرا واقعيا غير شرعي، والا فالمحمول الشرعي لا يخرج (القضية المتكلفة له)
عن كونها قضية شرعية بالظن به.
ودفعه بأن الحكم العقلي - هنا - هو الظن بالملازمة بين الحدوث والبقاء دون
الظن بالحكم بقاء والملازمة امر واقعي، أدركه العقل، وإن كان طرفا هذه الملازمة
شرعيتين كالملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته، فهي من الاحكام العقلية
الغير المستقلة - كسائر الملازمات الغير المستقلة - مما لابد في التوصل بها إلى
الحكم الشرعي من ضم خطاب شرعي.
أقول: الملازمة بين الحدوث والبقاء بذاتهما مقطوع الانتفاء، إذ لا تلازم الا
بعلية أحدهما للاخر، أو بمعلوليتهما لثالث، وليس وجود الشئ في زمان علة
لوجوده في زمان اخر، وليس البقاء الا استمرار الوجود الواحد لعلة مقتضية
للوجود الخاص المستمر، لا أنهما موجودان معلولان لعلة واحدة.
بل الملازمة: إما بين الحدوث وغلبة البقاء أو بين الغلبة والظن بالبقاء، أو بين
الحدوث والظن بالبقاء إما بالعرض، لمكان الغلبة المفيدة للظن به، أو بالذات،
لترجح جانب البقاء بسبب ارتكاز الثبوت كما سيأتي في تفصيله إن شاء الله
تعالى
ومن الواضح أن الملازمة بين الثبوت وغلبة البقاء - لمكان استقراء
الموجودات - قطعية، وكذا الملازمة بين الغلبة والظن بالقاء، فلم يبق ما يكون

(1) - ص 173
20

مظنونا، الا نفس بقاء الحكم
فما هو أمر واقعي - وهي الملازمة بأحد الوجوه المزبورة - قطعي وما هو
شرعي - وهو الحكم بقاء - ظني.
فالتحقيق في دفع الاشكال: إن القضية هي كون الحكم مظنون البقاء
لا نفس الظن بالبقاء وهي نتيجة القياس المزبور سابقا: من أن الحكم مما ثبت،
ولم يعلم ارتفاعه، وكل ما كان كذلك، فهو مظنون البقاء.
وكون الحكم مظنون هو مورد الاذغان العقلي، لا نفس البقاء، ولأجل التفاوت
بينهما - بنحو من الاعتبار - عبر عن (كون الحكم مظنون البقاء) بنفس الظن بالبقاء،
وعليه فالقضية عقلية قطعية.
وتسميته بالعقلي الغير المستقل، لتوقف الملازمة العقلية على خطاب شرعي
هنا، وفي باب مقدمة الواجب - وشبهها - مجرد اصطلاح، والا فالضميمة التي
يحتاج إليها في إثبات الحكم الشرعي هي حجية الظن لا ثبوت الحكم سابقا،
فأنه محقق للموضوع، لا واسطة لاثبات الحكم
وكون الدليل العقلي - مما يتوصل به إلى لحكم الشرعي، - أعم مما يتوقف
على ضميمة أخرى، كما فيما نحن فيه أو مما لا يتوقف على ضميمة كما في
مقدمة الواجب. فتدبر جيدا.
(في جواب تفصيل الأخباريين بين الحكم الشرعي وغيره)
قوله: إلا من جهة الشك في بقاء موضوعه... الخ.
فان قلت: هذا في الحكم العقلي، والحكم الشرعي المستند إليه صحيح،
حيث أن الاغراض عناوين للموضوعات في الاحكام العقلية، وكذا في الأحكام الشرعية
، التي كانت بعين الملاك العقلي. وأما الحكم الشرعي الغير المستند إليه
فلا
21

أما أولا - فلما سيجئ إن شاء الله تعالى أنه لا موجب لكون الغرض عنوانا
لموضوعه
وأما ثانيا - فلان الغرض، وإن كان عنونا لموضوعه، الا أنه ربما يكون الفعل تام
المصلحة، لكن البعث إليه له مانع، فعلى فرض عنوانية المصلحة للموضوع
يمكن تخلف الحكم عنه، لمانع عن توجيه البحث ونحوه، فلا ملازمة بين الشك
في بقاء الحكم، والشك في بقاء الموضوع بحده.
قلت: موضوع المصلحة، وإن كان تاما الا أن الموضوع للحكم - مع فرض
المانع عن تعلق الحكم به - غير ثابت، إذ لا ينتزع الموضوعية عنه الا بملاحظة
تعلق الحكم به، فالشك في الحكم - بعد فرض عنوانية المصلحة لموضوعه
يلازم الشك في بقاء موضوعه بما هو موضوع له حقيقة.
وسيجئ إن شاء الله تعالى تتمة الكلام.
(تحقيق في ذيل تفصيل الشيخ بين الحكم الشرعي
مدركه العقلي والنقلي)
قوله: وأما الثاني فلان الحكم الشرعي المستكشف به الخ
تحقيق الحال: إن الحكم العقلي على قسمين: حكم عقلي عملي، وحكم
عقلي نظري.
وقد تكرر منا: إن الحكم العقلي العملي - في قبال العقلي النظري - مأخوذ من
المقدمات المحمودة، والقضايا المشهورة المعدودة من الصناعات الخمس في
علم الميزان.
وقد أقمنا البرهان على أنه غير داخل في القضايا البرهانية (1) في أوائل مبحث

(1) - اي البديهيات الست، وهي: الأوليات والمشاهدات والتجربيات والمتواترات والحدسيات والفطريات
22

القطع (1) مجملا، وفي مبحث دليل الانسداد (2) مفصلا.
وقد ذكرنا مرارا: أن العناوين المحكومة بالحسن والقبح بمعنى كون الفعل
ممدوحا أو مذموما: تارة ذاتية وأخرى عرضية منتهية إلى الذاتية.
والمراد بالثانية: ما كان - من حيث اندراجه تحت العنوان المحكوم بذاته
ممدوحا أو مذموما وهي على قسمين:
تارة تكون مندرجة تحت العناوين الذاتية، لو خليت ونفسها - كالصدق
والكذب - وإن أمكن مع انحفاظ عنوانه أن يكون محكوما بحكم اخر بعروض
عنوان الظلم إذا كان الصدق مهلكا للمؤمن، أو بعروض عنوان الاحسان إذا كان
الكذب منجيا له. و (أخرى) لا تكون مندرجة تحت العناوين الذاتية لو خليت
وطبعها كسائر العناوين العرضية المحضة - من المشئ إلى السوق ونحوها -
فالمراد من الحكم العقلي هو الحكم العقلائي - بمدح فاعل الافعال، وذم
فاعل بعضها الاخر، لما فيه من المصلحة الموجبة لانحفاظ النظام، أو المفسدة
العامة الموجبة لاختلال النظام وفساد النوع، وهي الموجبة لبناء العقلاء على
المدح والذم، فإنه أول موجبات حفظ النظام وموانع اختلاله.
ومبنى الملازمة: إن الشارع من العقلاء، بل رئيسهم، وواهب العقل لهم، وهو
منزه عن الاقتراحات لغير العقلائية، والاغراض النفسانية.
فهو أيضا - بما هو عاقل - يحكم بالمدح والذم، ومدحه ثوابه، وذمه عقابه،
كما عرفت تفصيل القول فيه في مبحث الانسداد (3)
وحيث أن المدح والذم من صفات الأفعال الاختيارية، لاستحالة تعلقها بغير
الاختياري، فلابد من أن يصدر العنوان الممدوح، أو المذموم - بما هو - عن قصد
وعمده، لا ذات المعنون فقط.

(1) - ج 2 من هذا الطبع
(2) - ج 2 من هذا الطبع (3) - ج 2 (في مبحث الملازمة بين حكمي العقل والشرع.
23

فلو صدر منه ضرب اليتيم بالاختيار، وترتب عليه الأدب - من دون أن يصدر
منه بعنوان التأدب - لم يصدر منه التأديب الممدوح
ومن الواضح أن صدوره بعنوانه بالاختيار ليس الا بكون الفعل - بما له من
العنوان الممدوح الملتفت إليه الذي لا وعاء له الا وجدان فاعله - صادرا منه
بالإرادة المتعلقة به بعنوانه.
ومنه علم أن عنوان المضر - مثلا - ليس بوجوده الواقعي محكوما بالقبح،
حتى يشك في صدقه على موضوع مفروض صدقه عليه سابقا، بل بوجوده في
وجدان العقل، وهو مقطوع الارتفاع مع عدم إحراز صدقه.
إذا عرفت ذلك فاعلم: إن تلك العناوين التي لا حسن لها ولا قبح لها، الا إذا
صدرت بعنوانها بالاختيار: تارة - تكون عنوانا لفعل الشخص. وأخرى تكون
عنوانا لفعل الغير.
فان كانت من عناوين فعل المكلف، فكما لا معنى للشك في نفس الحكم
كذلك لا شك في موضوعه الكلي، وكذا في انطباقه على الموضوع الخارجي.
وإن كانت من عناوين فعل الغير أمكن الشك في تطبيق الموضوع الكلي، دون
نفسه، لان صدوره بعنوانه بالاختيار متقوم باحرازه في وجدان فاعله، دون
غيره، فاحتمال بقاء الموضوع تطبيقا - لاحتمال صدوره بعنوانه بالاختيار منه -
معقول، الا مجال لاستصحاب حكمه.
نعم استصحاب موضوع للتعبد بأثره الشرعي - لا للتعبد بحكمه العقلي، فإنه
غير قابل للتعبد، ولا للتعبد بملازمة شرعا، إذ ليس التلازم شرعيا - معقول إذا
ترتب على التعبد بأثره بالإضافة إلى المستصحب أثر شرعي
ومما ذكرنا تبين أن القول (بعدم جريان الاستصحاب للشك في بقاء
موضوعه). ولا يصح الا في هذا القسم وأما القسم الأول فالحكم والموضوع
مقطوع الارتفاع فيه، لا لان الحاكم هو العقل، ولا يعقل الشك في حكمه، إذ فيه:
أولا: ما عرفت من عدم الحكم للعقل الا التعقل والادراك، فلا محالة يكون
24

ثبوت المدرك من غير ناحية العقل - الذي فعلية حكمة فعلية التعقل - بل من
ناحية العقلاء، كما أقمنا البرهان عليه في مباحث القطع والانسداد (1)
وثانيا: إذا كان المناط في حكم العقل، عنوانا لموضوعه، ولأجله يشك في
بقاء الموضوع، فكيف يتصور القطع بعدم حكم العقل؟ مع أن العلة والمعلول
متلازمان - قطعا، وظنا، وشكا -
فإذا كانت العلة مشكوكة، فلا محالة يكون المعلول مشكوكا، لا مقطوع العدم
سواء أريد به حكم العقل أو حكم الشرع إذ المفروض أنه لا علة له الا ما هو العلة
لحكم العقل.
فهو شاهد على ما ذكرنا: أن الاضرار - بعنوانه، الملتفت إليه، الصادر بالاختيار
- هو المناط، والموضوع لحكم العقل بالذم، وهو بعينه موضوع حكم الشرع
ومع عدم هذا العنوان - المتقوم عليته موضوعيته بالالتفات، والقصد،
والعمد إليه وجدانا - لا حكم بالذم عقلا، ولا بالعقاب شرعا، من دون انثلام
قاعدة التلازم بين العلة والمعلول في جميع المراتب
ومما ذكرنا اتضح أيضا: أن انتفاء الحكم العقلي - المستلزم للحكم الشرعي -
ليس من باب انتفاء الكاشف والواسطة في الاثبات فقط ليقال - كما في المتن - بأن
انتفاء الكاشف لا يستدعي انتفاء المكشوف.
غاية الامر أن العقل لا استقلال له الا في تلك الحال، وهو لا يقتضي عدم
المناط واقعا، حتى يحكم بانتفاء الحكم شرعا، وذلك لان المناط - وهو الاضرار -
ليس بوجوده الواقعي مناطا ليعلم ويشك فيه تارة أخرى، بل بوجوده في وعاء
وجدان العقل.
فالمناط مع عدم احرازه مقطوع العدم، فالواسطة في الثبوت كالواسطة في
الاثبات، وكما لا واسطة في الاثبات، كذلك لا واسطة في الثبوت، فان المدح
والذم فعليته وتنجزه واحد، وما كان كذلك يستحيل أن يكون موضوعه الشئ

(1) ج - 2: مبحث حجية القطع: عند بيان معنى جوب العمل بالقطع عقلا.
25

بوجوده الواقعي، بل بوجوده في وجدان العقل.
هذا كله إذا أريد إبقاء الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقل وملاكه
وأما الحكم العقلي النظري، فمختصر القول فيه:
إنا قد ذكرنا في بعض مباحث الانسداد (1): إن العقل ربما يدرك المصلحة
القائمة بالفعل، فإذا أدرك عدم المفسدة الغالبة فيه، والمانعة عن البعث نحوه، فلا
محالة يدرك معلولها، لاستحالة انفكاك المعلول عن علته التامة المحرزة على
الفرض.
وهذه المصلحة المحرزة ربما تكون معلومة الحال - من حيث حدود ما يؤثر
فيها - تفصيلا، فلا محالة يوجب زوال بعضها زوال العلة التامة.
وربما تكون معلومة الحال عل الاجمال، فمع زوال بعض تلك الخصوصيات
يشك في بقاء العلة التامة، فيشك في بقاء معلوله.
وحكم العقل النظر لو اتفق حصوله، فهو غالبا من النوع الثاني، فلا محالة
يجري الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند إلى مثل هذا الحكم العقلي.
ثم إنه ربما يدعى التسوية بين الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي.
والحكم الشرعي المستند إلى الدليل النقلي (2). نظرا إلى أنه لو كان الاعتبار
بالموضوع الحقيقي الواقعي لم يجر الاستصحاب - على أي حال - ولو كان
الاعتبار بالموضوع العرفي، لجرى الاستصحاب - على اي تقدير -
وذلك، لان الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، لتنزه ساحة
الشارع عن الاغراض النفسانية، وهو مبنى الملازمة بين حكمي العقل والشرع،
وهو الغرض من ابتناء الاشكال على القول بالملازمة - اي على مبناها، لا على

(1) ج 2: ذيل استتباع حكم العقل النظري للحكم الشرعي المولوي.
(2) - كما عليه صاحب الكفاية - قده - في الكفاية (ج 2 ص 278) وفي تعليقته المباركة على
الرسائل (177) وتبعه المحقق الحائري في درره ج 2 ص 156 والمحقق النائيني (في فوائد الأصول
ج 4 ص 165) - قدس سرهما.
26

نفسها -
وحينئذ فكما أن الحكم العقل بحسن شئ أو قبحه - لغرض التأديب أو
الاضرار - راجع إلى حسن التأديب بما هو تأديب، وقبح الاضرار بما هو إضرار،
فكذلك إذا حكم الشارع بوجوب الصلاة لغرض الانتهاء عن الفحشاء، فهو مريد
للناهي عن الفحشاء - بما هو كذلك - إذ لا يتعلق الشوق بشئ الا باعتبار ما فيه
من الغرض الملائم للطبع، وفي حكم الشارع وارادته لا غرض الا المصلحة أو
المفسدة، فهو مريد للغرض بالحقيقة.
ويندفع بما أشرنا إليه سابقا (1) من أن موضوعية شئ للبعث - مثلا - لا موقع
لموضوعيته له حقيقة ودقة، الا وقوعه في حيز البعث، ولم يقع في حيز البعث
حقيقة الا الصلاة
مضافا إلى أن الاغراض الشرعية غالبا مجهولة.
ويستحيل توجيه البعث الذي هو عين جعل الداعي، والباعث إلى إرادة
الفعل نحو المعنون بعنوان مجهول، بحيث يجب صدوره بعنوانه بالاختيار.
وكذلك في مقام الإرادة التشريعية، فان إرادة المعنون بعنوان قصدي مجهول
من المكلف يستحيل انقداحها في نفس العاقل، فتوهم الفرق بين البعث والإرادة
فاسدة.
وأما كفاية الموضوع العرفي - حتى في الاستصحاب الحكم الشرعي المستند
إلى الحكم العقلي - فصحيحة في ما كان المانع (الشك في بقاء الموضوع) إذ ليس
المراد من اعتبار نظر العرف اتباع نظرهم في تشخيص المفاهيم حتى يتوهم أن
نظرهم من هذه الجهة أجنبي عن موضوع الحكم العقلي، كيف والموضوع
العرفي في قبال الموضوع الدليلي - الذي ليس غير العرف مرجعا لتشخيص
مفهومه -
مع أنهم لا يقولون باختصاصه بما ثبت بالأدلة اللفظية، بل يقول من يقول به:

(1) ذيل هذا المتن المبحوث عنه (الا من جهة الشك في بقاء موضوعه).
27

حتى في الأدلة اللبية - من اجماع ونحوه -
بل المراد بنظر العرف نظرهم من حيث ارتكاز المناسبات بين الحكم
وموضوعه، فان العرف مع اعترافهم بأن الكلب اسم للحيوان، لا للجسم فقط،
ومع ذلك يرون النجاسة من عوارض جسمه - بما هو - لا بما هو حيوان.
وحينئذ فيمكن أن يكون المرتكز في أذهانهم أن شرب هذا المائع هو المضر،
وأنه القبيح عقلا والحرام شرعا.
ثم إنه لا فرق في ما ذكرنا - منعا وجوازا - بين استصحاب الوجود،
واستصحاب العدم، إذ كانا مستندين إلى القضية العقلية التي مفادها حكم العقل
العملي، كاستصحاب الوجوب والحرمة، المستندين إلى حسن الفعل وقبحه،
واستصحاب عدم الوجوب والحرمة، إذا استندا إلى قبح تكليف غير المميز -
إيجادا وتحريما -
كما لا فرق - في الجواز - بين استصحاب الوجود، واستصحاب العدم، إذا
استندا إلى القضية العقلية، التي مفادها حكم العقل النظري.
فالأول: كما إذا أدرك العقل وجود المصلحة، التي هي علة تامة في نظر الشارع
لايجاد الفعل - مثلا - فان العقل يذعن بالايجاب لمكان العلية والمعلولية، ولا
دخل له بمفاد حكم العقل العملي، فان ملاك الحسن والقبح العقلائيين هي
المصالح العمومية الموجبة لانحفاظ النظام، والمفاسد العمومية الموجبة
لاختلال النظام، لا المصالح الخصوصية التي تتفاوت بحسب أغراض المولى
كما أشرنا إليه عند مباحث هذه التعليقة مرارا.
والثاني: كما إذا أذعن العقل بعدم التكليف في الأزل بعدم علته، فان
استصحاب التكليف - عند الشك في بقاء علته - واستصحاب عدم التكليف -
عند الشك في بقاء عدم علته - على حاله لا مانع منه، إذ ليس وجود العلة، ولا
عدمها عنوانا لمعلوله أو لعدم معلوله
كيف ولا قيام لهما بهما؟ حتى يكون عنوانا لهما، وليس نظير الحسن والقبح
28

الذي يقتضي الوجدان والبرهان كون الاغراض فيهما عنانا لموضوعهما، ورجوع
الحيثية التعليلية فيهما إلى الحيثية التقييدية لموضوعهما
ومنه ظهر أن ما يوهم الفرق بين الوجود والعدم، من كون الثاني على نحوين
دون الأول، كما في كلام الشيخ الأعظم (قده) في الرسائل (1) ليس في محله.
فراجع.
(الوجه الأول في الاستدلال على الاستصحاب بناء العقلاء)
قوله: بنائهم على ذلك تعبدا... الخ.
ربما يتخيل أن بناء العقلاء إنما هو من جهة القوة العاقلة الموجودة فيهم،
وحكم العقل من دون إدراك الشئ - ولو ظنا - بالبقاء مما لا يعقل
وهو توهم فاسد إذ فيه أولا: إن بناء العقلاء عملا على الجري على طبق الحالة
السابقة، لا دخل له بحكمهم بالبقاء بمعنى إذعانهم فإنه الذي لا يعقل الا أن
يكون قطعا أو ظنا، دون البناء العملي.
وثانيا: إن الباعث لهم على البناء العملي لا ينحصر في الظن بالبقاء، بل يمكن
أن تكون الحكمة الداعية لهم التحفظ على المقتضيات الواقعية، المتعلقة بها
الاغراض العقلائية.
قوله: وثانيا: سلمنا ذلك لكنه لم يعلم أن الشارع... الخ.
لا يخفى عليك أن كلماته - قده - في هذه المسألة في تعليقته المباركة، وفي
مبحث خبر الواحد من الكتاب، وفي هامشه هناك، وفي هذا المبحث من الكتاب
- مختلفة.
ففي تعليقته (2) قدم السيرة على العمومات، نظرا إلى استحالة رادعية.

(1) - الرسالة ص 322) الامر السادس في تقسيم الاستصحاب)
(2) - ص 71: في بيان الدليل الرابع على حجية الخبر الواحد
29

العمومات عن السيرة.
وفي مبحث خبر الواحد (1) أيضا قدم السيرة مع الالتزام بالدور من الطرفين (2)
على وجه دون وجه (3).
وفي هامش المبحث المزبور (4) التزم بحجية الخبر، لاستصحاب حجيته الثابتة
قبل نزول الآيات، بعد دوران الامر بين الردع والتخصيص.
وفي هذا الموضع قدم الآيات الناهية، وادعى كفايتها في الرادعية، وقد قدمنا
شطرا وافيا من الكلام في مبحث حجية الخبر (5)، وذكرنا أن اللازم - في حجية
السيرة العقلائية - مجرد عدم ثبوت الردع عنها من الشارع ولا يجب احراز
الامضاء، واثبات عدم الردع، حتى يجب البناء على عدم حجيتها بمجرد عدم
العلم بالامضاء، أو الجهل بعدم الردع، لما ذكرنا هناك من أن الشارع - بما هو عاقل

(1) الكفاية ج 2، ص 99.
(2) - من طرف ردع الآيات عن السيرة وطرف تخصيصها بالسيرة
(3) اي على وجه كفاية عدم ثبوت الردع في حجية السيرة، دون وجه لزوم احراز عدم الردع
(4) قال - قده - في هامش الكفاية (قولنا (فافهم وتأمل) إشارة إلى كون خبر الثقة متبعا ولو قيل
بسقوط كل من السيرة والاطلاق عن الاعتبار بسبب دوران الامر بين ردعها به وتقييده بها، وذلك لأجل
استصحاب حجيته الثابتة قبل نزول الآيتين فان قلت: لا مجال لاحتمال التقييد بها، فان دليل اعتبارها مغيى بعدم الردع عنها ومعه لا تكون صالحة
لتقييد الاطلاق مع صلاحيته للردع عنها كما لا يخفى. قلت الدليل ليس الا إمضاء الشارع لها ورضاه بها
المستكشف بعدم ردعه عنها في زمان امكان وهو غير مغيى.
نعم يمكن أن يكون له واقعا وفي علمه تعالى أمد خاص كحكمه الابتدائي، حيث إنه ربما يكون له أمد
فينسخ فالردع في الحكم الامضائي ليس الا كالنسخ في الابتدائي وذلك غير كونه بحسب الدليل مغيى
كما لا يخفى.
وبالجملة: ليس حال السيرة مع الآيات الناهية الا كحال الخاص المقدم والعام المؤخر في دوران الامر
بين التخصيص بالخاص أو النسخ بالعام ففيهما يدور الامر أيضا بين التخصيص بالسيرة أو الردع بالآيات
فافهم)
راجع حقائق الأصول: 2 ص 139
(5) - ج 2 من هذا الطبع.
30

بل رئيس العقلاء - متحد المسلك معهم، الا إذا أحرز اختلاف مسلكه معهم بما
هو شارع
ومجرد الردع الواقعي لا يكون كاشفا عن اختلاف المسلك، ولا يوجب رفع
اليد عن اتحاد مسلكه المعلوم منه - بما هو عاقل - لكل عاقل.
وذكرنا - أيضا - ورود الدور من الطرفين، بناء على توقف حجية السيرة على
إثبات عدم رادعية العمومات، فان إثبات رادعية العمومات كما يتوقف على
عدم مخصصية السيرة، كذلك مخصصية السيرة تتوقف على إثبات عدم رادعية
العمومات، فيتوقف رادعية العمومات على رادعيتها، ومخصصية السيرة على
مخصصيتها.
كما أنه إذا قلنا بأن نفس عدم ثبوت الردع - ولو لاستحالته لمكان الدور - كاف
في حجية السيرة، قلنا أن نقول:
إن عدم ثبوت المخصص يكفي في الاخذ بالعمومات، فكأنه سيرة، ولا رادع
عام ولا مخصص، وثبوت المتنافيين محال. ولعله وجه ذهابه - قده - في الهامش
من مبحث حجية الخبر - استصحاب حجية السيرة، بعد دوران الامر بين الردع
والتخصيص، فإنه وإن لم يلزم دور - بناء على كفاية عدم ثبوت الردع في حجية
السيرة - لكنه يلزم منه ثبوت المتنافيين، لكفاية عدم ثبوت المخصص في العمل
بالعام أيضا، ولا يتوقف على احراز عدم المخصص.
وذكرنا هناك أيضا: إن معارضة السيرة مع العمومات من باب معارضة غير تام
الاقتضاء مع تام الاقتضاء، لان العام حجة ذاتية وانما تسقط بمعارضة الخاص عن
الحجية الفعلية دون الحجية الذاتية، من باب تقديم أقوى الحجتين على
أضعفهما، بخلاف السيرة، فان أصل حجيتها متقومة بعدم الردع من الشارع، وإنما
تقبل المعارضة مع حجة أخرى بعد الفراغ عن حجيتها بعدم الردع من الشارع
وأجبنا هناك بوجهين:
أحدهما: إن هذه الكلية - وهو عدم قابلية غير تام الاقتضاء للمعارضة مع تام
31

الاقتضاء - إنما تسلم إذا كان غير تام الاقتضاء في نفسه كذلك، لا بملاحظة تأثير
تام الاقتضاء.
وما نحن فيه من قبيل الثاني، إذ لولا تأثير العام في الردع عن السيرة، لكان
نفس عدم ثبوت الردع كافيا في تمامية اقتضائها، فعدم التمامية مستند إلى تأثيره
في الردع
فالعام على هذا الفرض يتوقف حجيته الفعلية على عدم المخصص توقف
المشروط على شرطه.
وتتوقف حجية السيرة على عدم الرادع الفعلي توقف المقتضي على مقومه،
فالسيرة مزيلة للشرط، والعام مزيل لما يتقوم به المقتضي.
ثانيهما: أن التقريب المزبور لا يخلو من خلط بين المقتضي في مقام الثبوت
والمقتضي في مقام الاثبات: فان تمامية اقتضاء العام من حيث كشفه النوعي، من
باب تمامية المقتضي ثبوتا، ومثله موجود في طرف السيرة، لوجود الحكمة
المصححة لبنائهم على العمل بالخبر، أو الجري على وفق الحالة السابقة،
والشارع أيضا - بما هو عاقل - متحد المسلك معهم، فالعام والسيرة تام الاقتضاء
ثبوتا.
وأما تمامية اقتضائهما إثباتا أو عدم التمامية فمجمل القول فيها:
أن دليل حجية الظهور العمومي أو الظهور مطلقا، إن كان لفظيا - كدليل حجية
السند مثلا - أمكن القول بأن مقتضى عمومه أو اطلاقه كون الظهور حجة ذاتية.
وتقدم الخاص عليه من باب تقديم أقوى الحجتين على أضعفهما، كتقديم خبر
الأعدل على خبر العادل بقوله عليه السلام: خذ بأعدلهما (1)
وكذا لو كان للعقلاء بناءان عموما وخصوصا أمكن أن يقال: إن البناء على
العمل بالعام يوجب التمامية، في مقام الاثبات، والبناء على الخاص يقيد البناء
العمومي أو يقال:، إن الشارع أمضى البناء العمومي هنا، ولم يمض البناء

(1) - المستدرك 3: الباب 9 من أبواب صفات القاضي: ح 2.
32

الخصوصي.
لكن المفروض أن دليل حجية الظهور ليس الا بناء العقلاء، وليس من قبل
الشارع الا الامضاء، ولا معنى للبناء العقلائي الا العمل وهو إما على طبق الظهور
العمومي، ولو كان في قباله خاص وهو خلف، وخلاف الواقع
وأما على طبق ما ليس في قباله خاص، فحينئذ لا مقتضى إثباتا للعام الذي في
قباله خاص ولا موقع لامضائه شرعا
فكما يقال: لم يثبت إمضاء الشارع لبناء العقلاء على اتباع الخبر، أو على
الجري على الحالة السابقة، فهو غير تام الاقتضاء.
كذلك يقال: لا بناء من العقلاء على اتباع هذا الظهور العمومي، المنافي
لبنائهم عملا على اتباع الخبر، والجري على الحالة السابقة، فلا موقع لامضائه
شرعا، فكل من العام وما يقابله غير تام الاقتضاء من وجه
وأما ما ذكرنا - من باب حجية الظاهر (1) الذي قام ظن معتبر عند العقلاء على
خلافه - من أن النهي عن اتباع ذلك الظن شرعا إذا كان مطلقا كان أمرا باتباع
الظاهر الذي يقابله بالالتزام العرفي فيكون دليل الحجية ابتداء لا امضاء فهو غير
جار هنا، لان النهي عن الخبر - مثلا - بنفس هذا الظاهر، الذي لا بناء من العقلاء
على اتباعه، ولا يعقل أن يكون هذا الظاهر أمرا باتباع نفسه.
وعليه فحيث لأبناء من العقلاء على اتباع هذا الظاهر، ولا حكم من الشارع
باتباعه، لا امضاء ولا ابتداء، فلا رادع من بناء العقلاء على العمل بالخبر، أو
بمقتضى الحالة السابقة، فيكون هذا البناء تام الاقتضاء والعم غير تام
هذا ملخص ما ذكرناه من مبحث حجية الخبر الواحد (2).
والتحقيق: أن عدم بناء العقلاء على العمل بالعام - الذي في قباله الخبر مثلا
ليس من جهة قصور فيه، بل هذا العام المتكلف للنهي عن اتباع كل ظن، كسائر

(1) ج 2 من هذا الطبع (2) ج 2 من هذا الطبع
33

العمومات، وليس من جهة ورود خاص في قباله من قبل المولى، الذي ألقى هذا
الظهور العمومي إلى عبيده، حتى يدخل في تلك الكلية المستفادة من عمل
العقلاء بالعام الذي ليس في قباله خاص.
بل من حيث أن المفروض بناؤهم على العمل بالخبر، لحكمة داعية لهم إلى
اتباعه فلا يعقل منهم - بما هم عقلاء - البناء المنافي لهذا البناء، وسواء كان المنافي
لهذا البناء ظهورا عموميا أو خصوصيا.
مع أن المنع عن اتباع الخبر الخصوص ليس موردا للاشكال - هنا - لوضوح
تقديمه على البناء على العمل بالخبر، فيعلم منه أن عدم البناء على اتباعه ولو
كان بالخصوص ليس بملاك تقديم الخاص على العام.
كما أن لا ينبغي الارتياب في أن العقلاء - بما هم منقادون للشارع - لا فرق في
نظرهم بين الردع بالعموم أو بالخصوص، بل بملاحظة لزوم انقياد العبد لمولاه
وتقبيح خروجه عن زي الرقية، ورسم العبودية يحكمون بوجوب اتباع ما جعله
المولى حجة على عبده، ولو لم يكن حجة عندهم، وكذلك بلزوم الارتداع عن ما
ردع عن اتباعه وان كان حجة عندهم.
وعليه فالرادع العمومي كالرادع الخصوصي متبع عندهم، ولو لمولى خاص
بالنسبة إلى عبد مخصوص ولا يكون مثله عندهم من العام الذي ورد في قباله
خاص
فملاك العموم والخصوص بعد الفراغ عن الحجية - في نفسه - من قبل من ورد
عنه العلم والخاص وهو غير ملاك الردع الذي لا يتفاوت فيه العموم والخصوص.
وعليه فإذا كان عليه العام مقارنا للسيرة، أو مقدما عليها، فلا محالة لا تنعقد
حجيتها شرعا، لوجود ما يصلح للردع دون ما يصلح للتخصيص
وأما إذا كان العام متأخرا والسيرة متقدمة عليه، كما هو كذلك في جميع موارد
السيرة العقلائية، فإنها لا تخصص بزمان دون زمان، ولا بملة ونحلة بالخصوص،
فما هو ملاك حجيتها شرعا - وهو كونها ممضاة شرعا بعدم الردع عنها، مع إمكان
34

الردع - موجود في السيرة المتقدمة.
فيدور الامر بين كونها مخصصة للعام المتأخر، بأن كان إمضاؤها وتقريرها ذا
مصلحة بقول مطلق، أو كون العام المتأخر ناسخا لها لكون إمضائها ذا مصلحة
ينتهي أمدها بورود العام المتأخر، وشيوع التخصيص وندرة النسخ يقوي جانب
التخصيص.
فصح - حينئذ - دعوى أن السيرة تامة الاقتضاء، دون العام، لعدم بناء العقلاء
على العمل به في قبال الخاص - على ما هو الصحيح في تقدم الخاص على العام
من كون الخاص أقوى ملاكا لا من حيث أنه أقوى الحجتين.
نعم قد ذكرنا (1) - في مبحث حجية الخبر - أنه يصح تقديم السيرة إذا كان
الردع ممكنا، ولم يردع.
وأما عدم الردع مع عدم امكان الردع، فلا يكشف عن كونها ممضاة عند
الشارع
ولعل زمان نزول الآيات كان أول زمان يمكن فيه الردع عن مثل ما استقرت
عليه سيرة العقلاء في كل ملة ونحلة، فان الردع عن مثله في أوائل البعثة لا يخلو
عن صعوبة.
وأما ما ذكرناه في مبحث حجية الخبر - أن السيرة متقومة بعدم الردع حدوثا
وبقاء، فهي وإن كانت تامة الاقتضاء حدوثا، الا أنها غير تامة الاقتضاء بقاء، فلا
تزاحم العام - فمدفوع بأن حجية السيرة غير متقومة بعدم ورود العام بذاته، حتى
لا يكون فرق بين الحدوث والبقاء، بل بعدم الردع من حيث كشفه عن اختلاف
مسلك الشارع - بما هو شارع - عن مسلكه بما هو عاقل.
ومن البين أن الردع الواقعي غير كاشف عن اختلاف مسلكه بما هو شارع، بل
الكاشف هو الردع الواصل.
فالعام لا يكشف عن الردع، الكاشف عن اختلاف المسالك من الأول.

(1) - ج 2 من هذا الطبع.
35

وحيث أنه لم يصل الردع حقيقة قبل ورود العام، فلا محالة يقطع باتحاد
المسلك، والا لكان ناقضا لغرضه، فلم يبق الا احتمال انتهاء أمد المصلحة
المقتضية لامضاء السيرة بورود العام، وهو معنى ناسخية العام المتأخر، وحيث
أنه بعنوان العموم، والخاص على الفرض حجة شرعا، فيدور الامر بين مخصصية
السيرة وناسخية العام المتأخر، وليس الباب - حينئذ - باب الردع الكاشف عن
اختلاف المسلك، فتدبره فإنه حقيق به.
ويؤيد تقديم السيرة على العمومات، ويؤكده: أن لسان النهي - عن اتباع الظن
وأنه لا يغني من الحق شيئا - ليس لسان التعبد بأمر على خلاف الطريقة العقلائية
بل من باب إيكال الامر إلى عقل المكلف، من حيث أن الظن بما هو ظن لا مسوغ
للاعتماد عليه والركون إليه، فلا نظر إلى ما استقرت عليه سيرة العقلاء - بما هم
عقلاء - على اتباعه من حيث كونه خبر الثقة.
ولذا كان الرواة يسألون عن وثاقة الراوي، للفراغ عن لزوم اتباع روايته بعد
فرض وثاقته، كما أن أخبار (لا تنقض اليقين) أيضا كذلك، - كما سيأتي إن شاء الله
تعالى
فان تعليل الحكم بأمر تعبدي لا معنى له، بل الظاهر تعليله بما هو المرتكز في
أذهان العقلاء من التمسك باليقين لوثاقته.
وهذا المعنى مغائر لما إفادة بعض أجلة العصر (1): من أن الظاهر من النهي عن
العمل بغير العلم ما هو غير علم عندهم
فإنه من باب أن النظر في هذه النواهي إلى الظن بما هو ظن، وإيكال الامر إلى
العقل الحاكم بأن الظن - بما هو ظن - لا يغني من الحق شيئا.
فنحن ندعي خروج ما استقرت عليه سيرة العقلاء بنحو التخصص، وهو
يدعي انطباق المأمور باتباعه على الظن الخبري، الذي هو حجة قاطعة للعذر

(1) هو المحقق الحائري - قده - في درره (ج 2 ص 58) في مبحث حجية الخبر وعليه
الآخوند ملا علي النهاوندي - قده - في كتابه (تشريح الأصول: في حجية الخبر ص 265.
36

عندهم، وعدم صدق غير العلم من باب صدق نقيضه عليه بالنظر العرفي.
قوله: إن الثبوت في السابق موجب للظن.. الخ.
قد عرفت سابقا (1) أن الثبوت في السابق - تارة - بنفسه ملازم للظن بالبقاء،
وأخرى - بواسطة غلبة البقاء المستلزمة للظن به
والأول بملاحظة أن ارتكاز الثبوت - في الذهن - يرجح جانب الوجود على
العدم في الزمان اللاحق، فان الخروج من حاق الوسط - بين الوجود والعدم
يكفي في رجحانه أدنى خصوصية مفقودة في الطرف الآخر.
وليس رجحان البقاء - ظنا - معلولا لنفس الثبوت، لعدم السنخية بين الثبوت
الخارج عن أفق النفس، مع الظن الواقع في أفق النفس، بل معلول لارتكاز الثبوت
المسانخ للظن بالبقاء.
وعن شيخنا العلامة الأنصاري - قدس سرة - (2) تسليم الغلبة، والمنع عن
إفادتها للظن بالبقاء، نظرا إلى أنه لا جامع رابط بين الموجودات، فان بقاء كل منها
ببقاء علته الخاصة به المفقودة في غيره.
والتحقيق: أن اعتبار الجامع الرابط - قطعيا أو ظنيا - إنما هو في الاستقراء التام
والناقص، حيث أنه الحكم على الكلي بمشاهدة جزئياته، فان كانت المشاهدة
لجميع الجزئيات أفادت العلم باستناد الحكم إلى الجامع، لرجوعه إلى (القياس
المقسم) باصطلاح الميزانيين (3).
فيقال مثلا: كل جسم إما جماد أو نبات أو حيوان، وكل جماد أو نبات أو
حيوان متحيز فكل جسم متحيز.
وإن كانت المشاهدة لأكثر الجزئيات، مع عدم العلم أو الظن بما يناقضه في
غيرها والا لقطع أو ظن بعدم الاستناد إلى الجامع، والا لما تخلف مع وجود

(1) ج 3 ص 19 من هذا المجلد.
(2) الرسائل ص 339 (ردا على صاحب القوانين - قده -).
(3) في منطق المنظومة ص 84 (يعطي اليقين التام إذ قياس - مقسم المرجع والأساس).
37

المانع - فلا محالة يفيد الظن بالجامع
وهذا بخلاف الغلبة، فإنها لا تفيد الظن، من حيث الحكم على الكلي، بل من
حيث تردد أمر المشكوك، بين الدخول في الغالب، أو في النادر، فيظن بالأول
لتقوية بالغالب، لا لان الموجودة مقتضية للبقاء، ليكون حالها حال الاستقراء
وبالجملة: لا يطلب في الغلبة الحكم على الكلي - ظنا - حتى يحتاج إلى
الجامع، بل مجرد الظن بالدخول في جملة الافراد الغالبة.
ولذا لا يضر القطع بوجود الافراد النادرة - على خلاف الغالب - في الغلبة،
دون الاستقراء.
(الوجه الرابع الاستدلال بالاخبار على الاستصحاب)
قوله: منها صحيحة زرارة، قال: قلت له: الرجل... الخ.
قد رواه زرارة عن الباقر عليه السلام - كما في فوائد العلامة الطباطبائي
قده - (1) ولا بأس بشرح فقرات الصحيحة.
منها: قوله (ينام وهو على وضوء) وحيث إن النوم لا يجامع الطهارة الحاصلة
بالوضوء، فلذا يقال بأن إرادة اشرافه على النوم أو إرادته
وظاهر شيخنا الأستاذ - في تعليقته الأنيقة (2) - الاكتفاء في المقارنة، بين
الحال، والعامل في ذي الحال بمجرد الاتصال زمانا إما مطلقا أو في خصوص
المقام مما كان أحدهما رافعا للاخر
والظاهر أن مجرد الاتصال الزماني لا يكفي في المقارنة المعتبرة في الحال،

(1) - الفائدة 33 ص 110، وفي الفصول في الدليل الرابع على الاستصحاب: ص 370، وفي
الحدائق ج 1 ص 143، وأضمره في ج 2 ص 95، وكذا في الوسائل ج 1، من أبواب نواقض الوضوء:
ح 1. (2) - ص 179.
38

والا لصح جعل أحد الضدين حالا عن الاخر، مع أنه لا يصح: (قعد زيد قائما) ولا
(تحرك زيد ساكنا) بمجرد اتصال قيامه بقعوده أو حركته بسكونه
كما أن ما ذكره النحاة - من اعتبار المقارنة الزمانية - غير صحيح، لصحة قولنا:
أتضربني اليوم وقد أكرمتك بالأمس، بل اللازم الاقتران بوجه ولو - لا في الزمان،
بداهة صحة الحالية في الخارج عن أفق الزمان، فلا زمان للتلبس بالمبدأ فضلا عن
المقارنة الزمانية.
والاقتران - تارة - في الوجود بلحاظ متن الواقع، كما في المثال، فان المفروض
أن الضرب في اليوم، مع الاكرام في الأمس مما ينبغي أن لا يقعا معا في دار
الوجود، بلحاظ متن الواقع ومطلق الوجود.
وأخرى بلحاظ امتداد أحدهما إلى حال وجود الاخر كما يقال (قعد زيد، وقد
كان قائما منذ يوم) فان الغرض ليس هو اقتران القيام بالقعود، بل اقتران امتداده
بالقعود.
وأما ما ذكروه في مقام تصحيح الاقتران في مثل قوله تعالى: (ادخلوها
خالدين) (1) - من أن الحال مقدرة لا محققة، والمراد دخولهم في حال تقدير
الخلود لهم، لا في حال الخلود - فمردود بأن الخلود لا يكون للدخول بمعنى
حدوث الكون في الجنة.
وأما أصل الكون، فيوصف بالدوام والاستمرار، فالمعنى: كونوا فيها دائمين
مستمرين، لا أن المعنى: ادخلوها مقدرا لكم الخلود
كما أن الحال المحكية - التي زادها على (المقارنة) و (المقدرة) بعض
النحويين (2) ممثلا لها بقولهم: (جاء زيد بالأمس راكبا) - ساقطة جدا، لمقارنة
الركون مع المجئ في الزمان الماضي وفي مثل (جاء زيد اليوم وهو راكب
بالأمس) حيث كان زمان الحال ماضيا لزمان العامل، فلا يراد منه مقارنة المجئ

(1) الزمر: 73. (2) كما عن ابن هشام في الباب الرابع من مغني اللبيب.
39

مع الحكاية عن ركوبه، لأنه خلاف الظاهر جدا، بل الغرض مجرد الاقتران في
مطلق الوجود.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن النوم حيث أنه له مراتب، وهو (نوم العين) و (نوم
القلب والاذن) فمرتبة الأولى تجامع كونه على طهارة، كما يمكن أن يكون
الاشراف على النوم مصححا لاسناده إليه في حال الطهارة، لا أن النوم قد
استعمل في الاشراف عليه، الا أن كليهما خلاف الظاهر، إذ ظاهر السؤال عدم
السائل بأن هذه المرتبة غير ناقصة للوضوء، حتى يكون الحالية بلحاظ اجتماع
هذه المرتبة من النوم مع الطهارة، فليس ذلك مناطا لاسناد النوم مقترنا بكونه
على وضوء في نظر السائل
كما أن قوله (ينام وهو على وضوء) لأجل السؤال عن ناقضية النوم، لا ناقضية
الاشراف عليه، والروايات الدالة - على استحباب النوم على الطهارة - إنما تدل
على استحباب حقيقة النوم على الطهارة لا الاشراف عليه.
والتحقيق: أن المقارنة الزمانية غير مقومة للحالية، وإنما يعلم الاجتماع -
بحسب الزمان - من الخارج، وليست حقيقة الحالية الا جعل أحد المضمونين
قيدا للاخر بحسب فرض المتكلم، فقولك (جاء زيد وهو راكب) اي: المفروض
أنه راكب.
وكذلك (ينام وهو على وضوء) أي: المفروض أنه على وضوء من دون دخل
للاتحاد الزماني بين المضمونين.
فالحالية عين الفرض والتقدير، لا أن (التقدير) بنفسه حال حتى يقال: إن معنى
(ادخلوها خالدين) (ادخلوها مقدرا لكم الخلود) ليكون قولهم (مقدرا) حالا عن
الدخول، لا الخلود حالا، بمعنى الفرض والتقدير، فإذا انسلخت الحالية عن
الزمانية والوقتية، فلا موجب لاتحاد المضمونين زمانا أو الالتزام بكفاية الاتصال
الزماني، ولا يضرنا - بعد وضوح الامر - عدم مساعدة كلمات أهل الأدبية، فإنها
غير مبتنية على أساس متين.
40

ومنها: (أيوجب الخفقة والخفقتان) ليس الوجه السؤال كونهما من النواقض -
مستقلا - مع القطع بعدم كونهما من النوم الناقض، والا لما كان لقوله (ينام
ولتفصيل الامام - عليه السلام - بين مراتب النوم وجه
وكذا ليس الوجه صدق مفهوم النوم عليهما حقيقة، فان السؤال عنه من الامام
- عليه السلام - المعد لتبليغ الاحكام بعيد جدا.
وكذا ليس الوجه كونهما من المبادئ، المنفكة عن النوم أو الغير المنفكة
عنه، فأن اسناد إيجاد الوضوء إليهما - حينئذ - إسناد إلى غير ما هو له، وهو مناف
لظاهر الاسناد
بل وجه السؤال: الشك في اندراجهما في النوم الناقض، فالشبهة مفهومية
حكمية، من حيث سعة الموضوع الكلي للحكم وضيقه.
ومنها: قوله (فان حرك في جنبه شئ وهو لا يعلم) اي لا يحس به، وجه
السؤال: أن عدم الاحساس حيث إنه لازم لفترة الحاصلة للحاستين - اي العين
والاذن - المنوط بنومهما وجوب الوضوء، فلذا سأل عن أنه: مع عدم الاحساس
هل يتحقق نوم الحاستين ليجب الوضوء أم لا؟ فالشبهة موضوعية
وحيث إن عدم الاحساس لازم أعم لنوم الحاستين، حيث أنه كما يكون للفترة
فيهما كذلك لاشتغال الانسان بنفسه - كما هو كذلك غالبا عند نومه - بل ربما
يشتد الخيال، فيرى ما يراه النائم مع أنه غير نائم
فلذا أوكل الامام - عليه السلام - أمره إلى وجدانه ويقينه، بأنه نام
وأما دفع (1) كون الشبهة مفهومية حكمية - كسابقها - بأن لو كان السؤال عن
اندراج هذه المرتبة تحت النوم الناقض، لكان المناسب ان يقول - عليه السلام -
بأنه: (لا حتى يستيقن بأنه نوم) لا: (بأنه نام)
فيمكن الجواب عنه بأنه لرعاية المطابقة بين الجواب والسؤال، فان السائل
حيث أسند عدم الاحساس إلى النائم، بقوله: (وهو لا يعلم به) فلذا أسنده الامام

(1) راجع تعليقة المحقق الخراساني - قده - ص 179
41

عليه السلام - في مقام الجواب - إليه بقوله عليه السلام: لا، حتى يستيقن أنه نام.
وسيأتي إن شاء الله تعالى شرح بقية فقرات الصحيحة في الحواشي المتعلقة
بكلام المصنف - قده -.
قوله: لا ريب في ظهور قوله - عليه السلام - والا فإنه الخ
وتوضيح المقام: أن محتملات قوله - عليه السلام -: (والا فإنه على يقين من
وضوئه) أربعة:
أحدها: أن يكون مدخول الفاء علة للجزاء قامت مقامه.
ثانيها - أن تكون الجملة الخبرية مأولة بالانشائية، ويراد منها الامر بكونه على
يقينه بالوضوء والثبات عليه، فتكون جزاء بنفسها.
ثالثها - أن تكون الجملة توطئة وتمهيدا للجزاء، ويكون الجزاء قوله عليه
السلام (ولا ينقض اليقين بالشك).
رابعها - أن تكون الجملة باقية على الخبرية وتكون جزاء بنفسها.
فنقول: أما الأول، فقد استظهره شيخنا الأستاذ العلامة - قده - تبعا للعلامة
الأنصاري - قده - مستشهدا (1) بكثرة وقوع العلة موقع الجزاء، كقوله تعالى
(ومن كفر فان الله غني عن العالمين) (2) (ومن كفر فان ربي غني
كريم) (3) (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر) (4) إلى غير ذلك
الا أن حمل الجملة على ذلك إنما هو بعد عدم إمكان إرادة الجزاء، مضافا
إلى لزوم حمله على التأكيد، لان الجزاء - وهو عدم وجوب الوضوء مع عدم
اليقين بالنوم قد استفيد سابقا من قوله عليه السلام: (لا، حتى يستيقن انه نام)
وسيجيئ إن شاء الله تعالى: أن سنخ هذا التركيب - بملاحظة تلك الأمثلة

(1) الرسائل ص 329.
(2) آل عمران: 97
(3) النمل: 40.
(4) طه: 7.
42

المتقدمة - لا ظهور في العلية لكثرة سوق مثله في إفادة الجزاء
وأما الثاني فقد حكم (1) الشيخ الأعظم - قده - بأنه تكلف، وجعله (2) شيخنا
الأستاذ - قده - بعيدا إلى الغاية. مع أنه كسائر الموارد لا تكلف فيه. وليس بعيدا
إلى الغاية.
وقد ذكرنا (3) في محله أن إفادة البعث بالجملة الخبرية الحاكية عن وقوع
المبعوث إليه بعنوان الكناية: إما إظهارا للمقتضي باظهار مقتضاه نظرا إلى البعث
علة لوجود المبعوث إليه خارجا، لأنه بمعنى جعل الداعي الذي به تنقدح
الإرادة في نفس المبعوث لتحرك عضلاته نحو المبعوث إليه، فالفعل المبعوث
إليه موجود مباشري من المبعوث، وموجود تسبيبي من الباعث
وإما بلحاظ أن المولى - لشدة طلبه للفعل - جعل وقوعه من البعد مفروغا
عنه، فاظهر شدة طلبه باظهار وجود مطلوبه في الخارج، وبينهما فرق تعرضنا له
في موضعه.
ومن الواضح أن الاخبار عن الكون على يقينه بالوضوء - في مقام البعث إلى
كونه باقيا على يقينه وثابتا عليه - حقيقة إبقاء اليقين، وعدم رفع اليد عنه، وهو
معنى معقول كسائر موارد الجملة الخبرية، المراد منها البعث إلى ما أخبر عن
وقوعه
نعم لا يتعين الحمل الا إذا لم يمكن التحفظ على ظهوره في الحكاية الجدية،
والا فالحكاية الكنائية محفوظة.
مضافا إلى أن قوله عليه السلام: (ولا ينقض اليقين بالشك) يكون حينئذ تأكيدا
للامر بالكون على يقينه، نظير كون عدم وجوب الوضوء في الاحتمال الأول
تأكيدا لما يستفاد من قوله عليه السلام: (لا، حتى يستيقن أنه نام) فتدبر

(1) الرسائل ص 329
(2) الكفاية ج 2 ص 284
(3) - ج 1 ص 219 من هذا الطبع.
43

وأما الثالث: فهو على قسمين:
أحدهما - أن يكون قوله عليه السلام: (فإنه على يقين من وضوئه) من
متممات الشرط ومفاده - حينئذ - إن لم يستيقن بالنوم وأيقن بالوضوء، فلا ينقض
يقينه بالشك.
ثانيهما - أن يكون من متعلقات الجزاء، ومفاده - حينئذ - أن من لم يستيقن
بالنوم فحيث أنه على يقين من وضوئه لا ينقض اليقين.. الخ نظير قولهم: إذا
جاءك زيد، فحيث أنه عالم أكرمه
والأول منهما مناف لتصدير المتمم للشرط ب (الفاء) ولعطف جزائه ب (الواو)
والثاني منهما يناسب التصدير بالفاء، كما في نظيره من المثال، لكنه ينافيه عطف
الجزاء بالواو
وأما الرابع - فقد أفاد شيخنا العلامة (رفع الله مقامه) في تعليقته الأنيقة (1)
على الرسائل: إنه لا يصح جعله بنفسه جزاء لاباء لفظه ومعناه (أما لفظه) فلأن
كلمة (فإنه) ظاهرة في التعليل، وأما معناه، فلان اليقين في الحال بثبوت الوضوء
سابقا، غير مترتب على عدم اليقين بالنوم، لأنه ربما كان من قبل، ويتخلف عنه
فيما بعد
أقول: أما ظهور كلمة (فإنه) في التعليل، فليس إليه سبيل، فإنه إن كان من
أجل الفاء فهي ترد على الجزاء، وإنما ترد على علته أيضا لقيامها مقامه. وإن كان
من اجل كلمة (إن) فهي لتحقيق مضمون الجملة، وان كان من اجل المجموع،
وظهور هذا التركيب، فقد ورد في القران خلافه كثيرا كقوله تعالى: (إن تصبهم
سيئة بما قدمت أيديهم، فان الانسان كفور) (2) و (فان يخرجوا منها
فانا داخلون) (3) (فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) (4) (فان فعلت

(1) - ص 172
(2) الشورى: 48
(3) المائدة: 22.
(4) المائدة: 23.
44

فإنك إذا من الظالمين) (5).
ومنه يظهر ما في دعوى ظهور - سنخ - هذا التركيب في كونه عليه قائمة مقام
الجزاء.
وأما حديث ترتب الجزاء على الشرط، فهو أمر توهمه جملة من النحاة خلافا
للمحققين منهم ولأهل الميزان، فإنهم مطبقون على أن الجزاء لا يجب أن يكون
مسببا عن الشرط ومترتبا عليه في الوجود.
بل ربما يعكس الامر كقولهم (إن كان النهار موجودا كانت الشمس طالعة، وإن
كان هذا ضاحكا كان إنسانا
بل قد مر في مبحث مفهوم الشرط (6) أنه لا حاجة إلى اللزوم أصلا، بل يكفي
الترتب بفرض العقل واعتباره في ظرف عقد القضية، كما سنوضحه في مثل ما
نحن فيه إن شاء الله تعالى.
وأما حديث التخلف، فإنما يصح إذا كانت قضية كلية، متضمنة للملازمة بين
عدم اليقين بالنوم واليقين بالوضوء، فإنه يمكن أن لا يكون يقين بالوضوء أصلا،
مع عدم اليقين بالنوم، أو كان اليقين موجودا سابقا، وزال لاحقا، لمكان الشك
الساري الا من الواضح أنه ليس فيما نحن فيه كذلك، بل حيث أن المفروض كونه
على وضوء، والشك في النوم، فعدم اليقين لاحقا بأحد الوجهين (7) خلف.
فالترتب وعدم التخلف بحسب الفرض ثابت.
والتحقيق: إن المفروض من صدر الصحيحة، حيث أنه النوم على الوضوء،
فمنزلة اليقين بالنوم، من اليقين بالوضوء منزلة الرافع له بقاء، وترتب الشئ -
حدوثا - على عدم مانعه، وترتب الشئ - بقاء - على عدم رافعه مصحح للشرط

(5) يونس: 106.
(6) ج 1 ص 608 من هذا الطبع.
(7) - من عدم اليقين بالوضوء أصلا أو عدمه بقاء للشك الساري.
45

والجزاء، والمفروض صحة اسناد نقض اليقين إلى اليقين بخلافه، أو إلى الشك
فيه بلحاظ تجريد متعلق اليقين والشك عن الحدوث والبقاء. والا فلا يكون اليقين
بعدم بقاء الشئ ناقضا لليقين بحدوثه، ولا الشك في بقائه ناقضا لليقين بحدوثه،
وعليه فمفاد قوله عليه السلام (والا فإنه على يقين من وضوئه) هو أنه إن لم
يستيقن بالنوم الناقض فهو باق على يقينه بوضوئه، ولا موجب لانحلاله
واضمحلاله الا الشك، ولا ينقض اليقين بالشك.
فقوله عليه السلام: (والا فإنه... الخ) بمنزلة الصغرى، وقوله عليه السلام: (ولا
ينقض اليقين) بمنزلة الكبرى
وهذا أوجه الوجوه الأربعة، لان ظاهر الجملة الشرطية كون الواقع بعد الشرط
جزاء لا علة له، وظاهر الجملة الخبرية كونها بعنوان الحكاية جدا لا بعنوان البعث
والزجر فالتوطئة والعلية والانشائية خلاف الظاهر.
ثم إن المعقول من الاحتمالات ثلاثة، وهي ما عدا التوطئة، والتمهيد للجزاء
وهذه الاحتمالات كلها مشتركة في ارتباط الجملة الشرطية بالكلية التي بعدها. إما
لكون عنوان اليقين بالوضوء - المقتضي لعدم وجود الوضوء - يندرج تحت
العنوان الكلي المحكوم بحرمة النقض أو وجوب الابقاء (1) وإما لكون الامر
بالمضي على يقينه بالوضوء، يندرج تحت الحكم الكلي بالمضي على اليقين (2)
وإما لكون اليقين بالوضوء صغرى لتلك الكلية، التي هي بمنزلة الكبرى (3) وعليه
فالكلية تابعة للجملة سعة وضيقا.
فان قلنا: بخصوصية الوضوء المقوم لصفة اليقين، فلا محالة يكون العنوان
المقتضي للحكم هو عنوان اليقين بالوضوء بالغاء الخصوصيات لمفردة للأفراد
اليقين بالوضوء، لا لخصوصية نفس الوضوء.

(1) بناء على كون الجملة علة للجزاء وهو الاحتمال الأول.
(2) بناء على كون الجملة مأولة بالانشائية وهو الاحتمال الثاني.
(3) بناء على كون الجملة جزاء بنفسها وهو الاحتمال الرابع.
46

وكذا إن قلنا بأنها مقومة للامر بالمضي على اليقين بالوضوء، فان الجامع
لافراد الامر بالمضي على اليقين بالوضوء أيضا يتقوم بخصوصية اليقين بالوضوء
وكذا إن قلنا بأن الجملة جزاء بنفسها، فان حد الوسط هو اليقين بالوضوء
بخصوصية فلابد من تكرره بالكبرى.
كما أنه لو قلنا بالغاء خصوصية الوضوء كانت العلة نفس عنوان اليقين وكان
موضوع الامر بالمضي نفس اليقين، وكان حد الوسط عنوان اليقين، فلا محالة
يتسع عنوان العلة، وعنوان موضوع الامر بالمضي، وعنوان حد الوسط. وإذا لم
يمكن إثبات الخصوصية، ولا إلغاءها، وتردد أمرها بين الموردية والمقومية، فان
قلنا بان القدر المتيقن - في مقام التخاطب - يمنع عن انعقاد الاطلاق، فلا يمكن
إثبات الاستغراق في الجنس، وان لم نقل بذلك، فمع تمامية مقدمات الحكمة
يمكن إثبات الاطلاق والاستغراق.
ومما ذكرنا تبين أن إثبات كون اللام للإشارة إلى الجنس، لا معنى له مع
استظهار الخصوصية - كما هو الأصل في ذكر القيد - لما عرفت من تبعية الكلية
للجملة الشرطية.
كما أن كون اللام للعهد لا يضر مع الغاء الخصوصية، فان المعهود - حينئذ -
نفس اليقين - بما هو يقين - لا بما هو يقين بالوضوء.
نعم بناء على الاجمال، وعدم مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب يفيد كون
اللام للإشارة إلى الجنس، فإنه حينئذ يثبت الاستغراق بضميمة الحكم،
وسيأتي (1) إن شاء الله تعالى بقية الكلام.
قوله: فإنه ينافيه ظهور التعليل في كونه... الخ.
ولا يخفى عليك أن معنى التعليل - هنا - إدراج المورد تحت عنوان كلي
محكوم بحكم مفروغ عنه - إما شرعا أو عند العقلاء - والموضوع حيث أن مقتض
لحكمه باعتبار ما فيه من الغاية المترتبة عليه، فلذا يوصف بالعلية بالعرض.

(1) في صفحة: 49 - 48.
47

والاقتضاء بنحو اقتضاء الغاية الداعية لا بنحو اقتضاء السبب الفاعلي.
ومن الواضح: أنه لولا الفراغ عن ذلك الحكم المترتب على الموضوع الكلي
المندرج تحته الموضوع المأخوذ بنحو العلة - لم يكن معنى للتعليل به.
ومن البين هنا: أن هذه الكلية ليست مفروغا عنها شرعا، بل عند العقلاء،
لوثاقة اليقين، المقتضية للتمسك به في قبال الشك، ومن المعلوم عدم دخل
متعلق اليقين في وثاقة اليقين.
وأخذ الخصوصية يوجب التمحض في التعبدية، ويخرج المورد عن فرض
اندراجه تحت عنوان مفروغ عن حكمه عند العقلاء، والمفروض عدم الحكم
على هذا العنوان قبلا - شرعا - ليكون الغرض من التعليل به ادراجه تحت ذلك
العنوان
والتحقيق: إن الغرض من التعليل، إن كان مجرد ادراج المورد تحت عنوان
كلي، فلا يجب ثبوت الحكم له قبلا، أو عقلا، بل يمكن اثبات الحكم للعنوان
الكلي بنفس هذا البيان، كما إذا أريد ايجاد (اكرام العالم) فيفيد بقوله (اكرام زيدا
لأنه عالم).
وإن كان الغرض تقريب الحكم التعبدي بما يقربه إلى افهام عامة الناس، فلا
محالة لا يصح التعليل الا بما ارتكز في أذهان العقلاء من وثاقة اليقين المقتضية
للتمسك به، من دون دخالة متعلقه في وثاقته
قوله: مع أن الظاهر أنه للجنس... الخ
قد ذكرنا في محلة: ان اللام لمجرد الإشارة إلى مدخوله، والجنسية إنما
تستفاد من وضع الألفاظ بإزاء الطبائع المهملة، وإفادة الاستغراق أو المعهود -
ذكرا أو ذهنا، بدال اخر.
نعم حيث أن اللام للإشارة إلى مدخوله والمفروض أن مدخوله الجنس
فيكون قابلا لإفادة الاستغراق - بضميمة مقدمات الحكمة، وهي إنما تتم إذا لم
يكن في الكلام دلالة على خصوصية في الطبيعي، أو إذا لم يكن متيقن في مقام
48

المحاورة بحيث لا يلزم من عدم بيانه بدال نقض الغرض، لكونه مبينا بذاته في
مقام البيان
قوله: وسبق فإنه على يقين.. الخ.
قد عرفت سابقا: إرتباط الكلية بالجملة الشرطية، فمع حفظ الخصوصية - في
الجملة الشرطية، لا يمكن الاطلاق في الكلية، وأما ملائمة العهد مع الحس من
حيث الإرادة الاستعمالية - بنحو تعدد الدال والمدلول - فلا يجدي، لتنافي
الخصوصية مع إرادة الاطلاق في الكلية من حيث الإرادة الجدية
نعم لو لم يكن ارتباط بين الكلية والجملة الشرطية، لأمكن إثبات الاطلاق في
الكلية، مع حفظ الخصوصية في الشرطية، لكنه ليس كذلك قطعا، لما مر من
ارتباط إحداهما بالأخرى.
قوله: أن يكون من وضوئه متعلقا بالظرف... الخ.
مراده - قده - من الظرف هو الكون المقدر المعبر عنه عند أهل الأدبية
بالظرف المستقر، في قبال المذكور المعبر عنه بالظرف اللغو، وليس الغرض (كان
التامة)، لأنه إنما يقدر مثلها إذا صح السكوت عليها، كما في قولهم: زيد في الدار
اي كائن فيها، ولا يصح (كان من ظرف وضوئه) بل الغرض (كان الناقصة)، لكنه
لامن حيث كونها رابطة للوضوء بالشخص، فإنه لا يجدي بل لا تساعده العبارة.
ولا من حيث كونها رابطة لليقين بالوضوء، فإنه خلاف ما هو المقصود من إطلاق
اليقين، مع أنه لا حاجة إليه مع صلاحية اليقين لتعلق الوضوء به.
بل الغرض تعلق الوضوء بالكون على اليقين، والاستقرار عليه، فما هو متعلق
حرف الاستعلاء متعلق لقوله عليه السلام (من وضوئه).
وحاصل المعنى: أنه مستقر على اليقين، من حيث وضوئه، فالاستقراء على
اليقين هو متعلق حرف الابتداء، كما أنه بنفسه متعلق حرف الاستعلاء.
ولا يجب أن يكون مدخول حرف الابتداء مبدأ ومنشأ لمتعلقه، حتى يقال: إن
الاستقراء على اليقين لا ينشأ من الوضوء، بل كلمة (من) - كما أشرنا إليه في أواخر.
49

البراءة (1) - لمجرد اقتطاع متعلقه عن مدخوله، والمبدأية والمنشأية والتبعيض
وأشباه ذلك يستفاد من الخارج.
ومما يشهد لعدم تعلق هذه الكلمة باليقين: أن مادة اليقين تتعدى ب (الباء) لا
ب (من)، فيقال: أيقن به، واستيقن به، ومتيقن به، بل سنخ هذا التركيب يتعدى
ب (من) دائما فيقال على سلامة من دينه، على بصيرة من أمره، وفي ريب مما
أنزلناه، مع أن البصيرة تتعدى ب (الباء) والريب يتعدى ب (في)، والسلامة وإن
كانت تتعدى ب (من) لكنه بالإضافة إلى ما يسلم منه من الآفات والعيوب
ونحوها، لا بالإضافة إلى الموصوف بالسلامة، والدين ما يوصف بأنه سالم لا
بالسلامة منه
فيظهر أن كلمة (من) ليست واسطة في تعدي اليقين والبصيرة والريب
والسلامة بمدخول، بل متعلقة بالاستقرار على اليقين البصيرة والسلامة ونحوها،
فيراد: كون الشخص على اليقين من حيث الوضوء، وعلى السلامة من حيث
الدين وهكذا.
وعليه فاليقين بحسب فرض الكلام، لم يتعلق بشئ حتى يتخصص به، وإن
كان في الواقع متعلقا به، كما هو كذلك في جميع الصفات الإضافية فإنها تعلقية.
ويمكن أن يقال - بناء - على تعلق (من وضوئه) باليقين: - أن تغيير الأسلوب
فيه، وفي أمثاله - حيث أن بعضها يتعدى ب (الباء) وبعضها ب (في) وبعضها
بغيرهما - لأجل أن لحاظ المبدأية والمنشأية في المدخول يوجب تمحض
اليقين، وعدم تعلقه بشئ يخصصه، فان تعلق الشئ بمبدئه غير تعلق الفعل
بمفعوله، فلعل إعمال هذه النكتة لتجريد اليقين عن الخصوصية ليترتب عليه
الكلية.
بل يمكن أن يقال بمبدئية الوضوء - فيما نحن فيه - لليقين حقيقة لا تنزيلا، لان
الأمور الخارجية القائمة - بغير المتيقن - لا يقين بها الا بأسباب مؤدية إليه، من

(1) - ج 2 من هذا الطبع.
50

الابصار في المبصرات والاستماع في المسموعات، أو التواتر وغيره في جملة
منها.
بخلاف الأمور القائمة بشخص المتيقن، فان ما يقوم بنفسه المجردة - من
الصفات والملكات - وجوده الواقعي عين وجوده العلمي وما يقوم ببدنه - من
قيامه وقعوده وصلاته ووضوئه - يوجب صدوره عن شعور وجود اليقين به في
نفسه، فهو على يقين من وضوئه حيث أنه توضأ لا بسبب اخر.
(تفصيل الشيخ بين الشك في المقتضى والرافع)
قوله: حسن اسناد النقض وهو ضد الابرام... الخ.
هكذا ذكره جملة من الاعلام والظاهر أن النقض نقيض الابرام وتقابلهما ليس
بنحو التضاد ولا بنحو السلب والايجاب، بل بنحو العدم والملكة، فهو عدم
الابرام عما من شأنه أن يكون مبرما.
فما ليس من شأنه الابرام لا منقوص ولا مبرم، مع أن الشئ لا يخرج عن
طرفي السلب والايجاب، فيعلم منه أن تقابلهما ليس بنحو السلب والايجاب
كما أنه ليس هناك صفتان ثبوتيتان تتعاقبان على موضوع واحد، ليكون التقابل
بينهما بنحو التضاد.
بل الابرام هيئة خاصة في الحبل أو الغزل - مثلا - كما سيجئ إن شاء الله
تعالى بيانها، وليس النقض الا زوال تلك الهيئة
.
وتوهم: أن نقض الغزل بمعنى فتوره، وهو هيئة ثبوتية، مدفوع بأن الفتور
بمعنى يساوق الضعف - المقابل للقوة تقريبا - والقوة والاتقان والاحكام لازم
الابرام، كما أن الفتور لازم زوال الابرام - أحيانا لا أنه عينه، وليس نقض العزل الا
عودة على ما كان من عدم الابرام.
ثم إن النقض وإن كان عدم الابرام في ما كان من شانه الابرام، لكنه عدم
51

خاص، ويساوق الرفع فهو عدم ما كان مبرما بالفعل، فالحبل، أو الغزل في نفسه
لا مبرم ولا منقوص.
وحيث عرفت أن النقص ليس ضد الابرام، تعرف أنه لا يشترط فيه بقاء المادة
اي الموضوع - حيث أنه لا بد في الضدين من موضوع واحد يتعاقبان عليه
وأما في العدم والملكة، فلا يشترط بقاء الموضوع بل إذا كانت الصفة
الوجودية عرضية منتزعة من خارج مقام الذات - ككون الحبل مبرما - فبقاء
الموضوع شرط.
وان كانت ذاتية للموضوع، ومنتزعة عن مقام ذاته، فلا محالة يكون زوالها
بزوال الموضوع - كابرام اليقين والعهد والعقد واليمين -
وقد نص بعض أكابر فن الحكمة (1): بعدم لزوم بقاء الموضوع فيما عدا
المتضادين من المتقابلين، بل بعدم لزوم الوحدة الشخصية - موضوعا - فيهما،
كما في المتضايفين.
ويشهد بذلك أن الذاتيات ولوازمها متقابلات مع سلوبها ونقائضها، مع أن
سلوبها مساوقة لعدم الذات، وكذا العقد والحل متقابلان بتقابل العدم والملكة،
وهما واردان على العهد والقرار المعاملي من الطرفين.
فارتباط أحد الالتزامين بالآخر معنى العقدية، وزوال الارتباط معنى انحلال
أحد العهدين والالتزامين عن الاخر، وان كان زواله مساوقا لزوال الالتزام
المعاملي من الطرفين.
ومما ذكرنا تبين فساد توهم (2) أن الناقض لابد أن يكون مجامعا مع
المنقوض، حتى ينقضه ويرفع إبرامه.
وجه الفساد: أن المتقابلين - باي نحو كانا - لا يعقل أن يكون أحدهما موضوعا
للاخر، إذ المقابل لا يقبل المقابل، بل العقد والحل واردان على العهدين

(1) صدر المتألهين في الاسفار: ج 124 - 125
(2) كما عن المحقق الشيخ هادي الطهراني في محجة العلماء: مبحث الاستصحاب ص 228
52

ومتبادلان فيهما، وكذا الابرام والنقض على الحبل والغزل.
ثم إن الابرام والنقض، هل هما بمعنى الهيئة الاتصالية ورفعها؟ - كما عن
شيخنا العلامة الأنصاري - قده - (1) أو بمعنى الاتقان والاحكام وعدمه، أو
بمعنى هيئة التماسك والاستمساك ورفعها - تقريبا - والظاهر هو الأخير، إذ لا
دخل للاتصال المقابل للانفصال بالابرام المقابل للنقض.
فان النقض هو انحلال ما للشئ من هيئة الالتئام، ولعل المراد به الاتصال
المقابل للانحلال - مسامحة - كما أن الاتقان والاحكام يصدق فيما لا يصدق فيه
الابرام، فيعلم منه أن الاتقان لازم أعم للابرام.
ومن الواضح أن هيئة التماسك لا يكون الا في مركب ذي أجزاء، فيكون
متماسكا - تارة - ومتفاسخا ومنحلا - أخرى - وعليه، فلا يصدق الابرام والنقض الا
في المركبات الحقيقية والاعتبارية، حقيقة.
وأما في البسائط - كاليقين واليمين والعهد العقد - من تنزيلها منزلة المركب،
ولا محالة يكون بلحاظ لوازم المركب الموصوف بالابرام، فيدور الامر بين أن
يكون ابرام اليقين بلحاظ وثاقته، واتقانه واحكامه، وكل أمر مبرم محكم، أو
بلحاظ ارتباط بعض اجزاء المبرم ببعض ولليقين واليمين ارتباط بمتعلقهما، وكذا
العهد العقد
فعلى الأول يكون نسبة النقض إلى الشك في قوله عليه السلام (ولكن ينقض
الشك باليقين) (2) لمجرد الجناس اللفظي (3)، إذ لا وثاقة له حتى ينتقض.

(1) الرسائل، ص 336 (عند بيان اختصاص الاخبار بالشك في الرافع) والمعنى الثاني هو
المستفاد من المتن.
(2) في الصحيحة الثالثة لزرارة (الوسائل 5: 10 من أبواب الخلل: ص 321 ح 3)
(3) الجناس بين اللفظين - وهو تشابههما في اللفظ دون المعنى - على قسمين: تام وناقص، والتام
منه هو أن يتفقا في أنواع الحروف واعدادها وهيئتها وترتيبها. فان كانا من نوع واحد - كفعلين مثلا -
يسمى مماثلا.
وأما فيما نحن فيه فالجناس يكون بين النقض المستند إلى اليقين والنقض المستند إلى الشك
وهو من القسم التام المماثل، حيث إنهما متحدان لفظا ومفترقان معنى، إذ الأول نقض ما فيه
الوثاقة، والثاني ما لا وثاقة فيه، فلا يكون نسبة النقض إليه حقيقة.
53

وعلى الثاني يكون نسبة النقض إليه بالحقيقة، لارتباط الشك بالمشكوك على
حد ارتباط اليقين بالمتقين ولعلة بهذه العناية يضاف إلى العدم ويقال: إن الوجود
ناقض العدم، وان السلب والايجاب نقيضان فكأن الماهية مربوطة ومقرونة
بالعدم، والا فلا وثاقة للعدم
لا يقال: اليقين والشك، والوجود والعدم، وإن كانا في حد ذاتهما
كذلك، بمعنى أن الوثاقة مما يوصف بها اليقين، دون الشك، والوجود دون العدم
لكنه ربما يحتف بهما خصوصية، ويوصف الشك بالاتقان، واليقين معدمه أو
يوصف العدم بالأحكام، والوجود بعدمه
فاليقين - مثلا - لضعف مقتضيه، وزواله بأدنى شبهة - يوصف بعدم كونه وثيقا،
والشك - لاستقراره بحيث لا يزول - بكونه محكما مبرما، وكذا الوجود - لضعفه -
يوصف بأنه كالعدم غير مبرم، والعدم - لتوقف الامكان الاستعدادي فيه على
معدات كثيرة تقرب المعدوم إلى الوجود - يوصف بأنه مبرم محكم.
لأنا نقول: على فرض تسليمه لا يجدي، إذ الوجود - مطلقا - ناقض العدم
والشك - مطلقا - ينتقض باليقين فيعلم منه: ان مصحح إسناد النقض إليهما ليس
ما لا ثبوت له إلا أحيانا
ولا يخفى عليك أن اليقين - حيث أنه حالة جزمية - وإن كان وثيقا محكما
والشك حيث أنه عين التزلزل والتردد، فهو عين الوهن، وعدم الوثاقة، الا أن
وثاقة اليقين ليست مصححة لاسناد النقض، بل باعثة على الامر بالتمسك به في
قبال الشك
كما أن وهن الشك، وعدم وثاقته ليس منافيا لاسناد النقض إليه، بل باعث
على النهي عن التمسك به في قبال اليقين.
ومنه تعرف أن عدم كون الشك مبرما - بمعنى عدم كونه وثيقا - يمنع عن
54

اسناد النقض المقابل للابرام بهذا المعنى، ولا يمنع عن اسناد النقض المساوق
للانحلال المقابل للارتباط.
مع أنه يصدق على الشك أنه غير وثيق، وأنه موهون، وتقابل الوثاقة والوهن
الذي معناه عدم الوثاقة - بنحو مقابل العدم والملكة.
ولا يقتضي كون الشك - بما هو - قابلا للوثاقة، إذ التقابل بهذا النحو لا
يستدعي قابلية الشئ شخصا، بل تارة شخصا وأخرى نوعا وثالثة جنسا كالعمى
في العقرب، فان نوع العقرب لا يكون الا أعمى، وإنما الملكة والقابلية بلحاظ
جنس الحيوان، فكذلك الشك فإنه عين الوهن والتزلزل، لكنه باعتبار نوع الادراك
أو جنس الادراك القابل للوثاقة - بصيرورته نوعا أو صنفا يسمى باليقين - يوصف
الشك بالعدم المقابل للملكة (1).
قوله: مع ركاكة مثل نقضت الحجر من مكانه... الخ.
يمكن أن يقال: إن كون صدق النقض والناقض عليهما شائع، فجعل الحجر
في المكان ايجاد لتلك المقولة، ورفعه عنه اعدام لها، سواء لوحظ الوجود
والعدم، بالإضافة إلى نفس وجودها الرابط وعدمه - فرفع الكون في المكان
نقيض وجودها المحمول، ورفع الحجر عن المكان نقيض وجودها الرابط، فلا
مانع من اطلاق (نقضت الحجر عن مكانه) بهذا الاعتبار لا باعتبار أنه له مقتضى
البقاء فتدبر.
قوله: نعم لكنه حيث لا انتقاض لليقين... الخ.
حاصله: إن اليقين - باعتبار إبرامه لوثاقته، أو لارتباطه - وإن كان قابلا لاسناد
النقض إليه، الا أن هذا المعنى غير محقق في باب الاستصحاب، لان اليقين
. متعلق فيه بالحدوث، والشك بالبقاء، وحيث لا يقين بالبقاء، فليس رفع اليد عن
البقاء نقضا لليقين، حيث لا يقين به، بل مجرد قطع البقاء عن الحدوث.

(1) يعني: إن اليقين والشك صنفان من نوع الادراك أو نوعان من جنسه، وحيث أن الادراك
باعتبار اليقين يصير قابلا للوثاقة، فالشك باعتبار قابلية نوعه أو جنسه يوصف بالعدم المقابل للملكة.
55

بل المناسب لحل اليقين تنزيل الاخبار على أحد معان ثلاثة:
1 - إما قاعدة اليقين - وإما قاعدة المقتضي والمانع - وإما الاستصحاب في
خصوص الشك في الرافع.
بيانه: إن اليقين في (قاعدة اليقين) حيث تعلق بالحدوث. والشك أيضا متعلق
به. فعدم ترتيب اثار الحدوث حل لليقين به المقتضي لترتيب الأثر عليه
وأما قاعدة - المقتضي والمانع) فتقريبها بوجهين:
أحدهما - ما عن بعض أجلة العصر: وهو أن المقتضي لمكان اقتضائه لشئ
نزل منزلة الامر المبرم، فتفكيكه وأخذ مقتضاه منه حل للمقتضي.
وهذا الوجه يناسب ما إذا انسب النقض إلى المتيقن أيضا، كما أنه يناسب
إسناده إلى اليقين باعتبار أن اليقين بالمقتضي يقين بمقتضاه، في مرتبة ذات
المقتضي، فعدم ترتيب مقتضاه بالشك حل لليقين بمقتضاه في مرتبة اليقين
بمقتضيه.
ثانيهما - ما عن بعض المدققين من أهل العصر (1): وهو أن العلم بالمقتضى،
وإن كان علما به فقط، لكنه حيث كان محكوما عند العقلاء بترتيب مقتضاه عليه.
عند الشك في مانعه - فلا جرم يكون المكلف على يقين وبصيرة من أمره، فمن
هذه الجهة يكون علمه بالمقتضي يقينا مبرما، يصح اسناد النقض إليه، وجعل
عدم ترتيب مقتضاه عليه نقضا وحلاله، ومثل هذا اليقين يجتمع مع الشك كما
هو مقتضى نقض شئ بشئ، حيث أنه يجب اجتماع الناقض والمنقوض ليكون
حلا لابرامه.
هذا ملخص كلامه باسقاط ما ليس له كثير دخل في مرامه.
وأما الاستصحاب في خصوص الشك في الرافع، فتقريبه بوجهين:
أحدهما - ما عن شيخنا الأستاذ - قده - كما في الكتاب تلويحا وفي تعليقته.

(1) هو الشيخ هادي الطهراني - قده - في كتابه - محجة العلماء) ص 229
56

المباركة (1) تصريحا - وهو: أن المتيقن حيث أنه من شأنه البقاء، فاليقين تعلق
بأصله حقيقة وببقائه اعتبارا نظير ثبوت المقبول بثبوت القابل، فان ثبوت القابل
بالذات - ثبوت للمقبول بالعرض، فاليقين بالقابل - بالذات - يقين بالمقبول
بالعرض.
وعليه فذلك اليقين السابق - بالحدوث - يقين ببقائه لقابليته للبقاء، فهو باعتبار
الحدوث حقيقي ذاتي، وباعتبار البقاء اعتباري عرضي وليس مثله موجودا مع
الشك في المقتضي.
ثانيهما - ما عن بعض أجلة العصر - ره - (2): وهو تقدير اليقين بالبقاء في ظرف
الشك لا في ظرف اليقين بالحدوث، كما في الأول.
وحاصله: أن وجود المقتضي للبقاء كما يصحح تقدير البقاء وفرضه بفرض
المقتضي، فكذلك اليقين بالمقتضي يصحح فرض اليقين بمقتضاه بقاء، بخلاف
ما إذا لم يكن هناك مقتض يصحح تقدير اليقين بالبقاء، حتى يكون الشك في
البقاء حلا لليقين.
والتحقيق: أنه لا موجب لتنزيل الاخبار على ما ذكر.
أما على قاعدة اليقين، فمثل هذه الصحيحة - المفروض فيها الشك في
الطهارة الفعلية لأجل الشك في النوم - غير قابل للتنزيل على قاعدة اليقين
وسيجئ (3) - إن شاء الله تعالى - الكلام في غيرها مما يتوهم دلالته عليها مع
دفعه.
وأما على قاعدة (المقتضي والمانع) بالتقريب الأول، ففيه:
أولا: إن الحيثية - التي بها يكون المقتضي بمنزلة المبرم - حيثية اقتضائه، لا

(1) ص 190
(2) هو المحقق الهمداني - قده - الفوائد الرضوية ص 151، 164.
(3) في ذيل الصحيحة الثانية لزرارة وفي رواية الخصال.
57

ترتب مقتضاه عليه، فان مجرد ترتب شئ على سببه لا يكون ابراما له، حتى
يكون عدم ترتبه حلا ونقضا له.
ومن البين أن وجود الرافع أو المانع يكون حائلا بين المقتضي ومقتضاه، لا
بين المقتضي واقتضائه، بل المقتضي على اقتضائه، ولو مع وجود مانعه أو
رافعه، فلا زوال لابرامه حتى يتحقق النقض.
وثانيا - إن التفكيك بين المقتضي ومقتضاه لا يوجب صدق النقض، ولذا لا
يكون اطفاء السراج نقضا له، ولا اطفاء أو إيجاد المانع عن إحراقه نقضا للنار، ولا
رفع الحجر عن مكانه نقضا لثقله الطبيعي المقتضي لبقائه في مركزه، ولا إيجاد
المانع عن سقوط الحجر على الأرض نقضا لثقله الطبيعي المقتضي لميله إلى مركزه.
نعم ربما يكون بعض المقتضيات - من حيث كونها أمورا ارتباطية في نفسها،
أو مما يترقب معها الثبات والاستقرار - يصدق النقض بالإضافة إليها بلحاظ تلك
الحيثية، لا بلحاظ حيثية اقتضائية أو ترتب المقتضي عليه
فمثل العقد، وان كان مقتضيا للملك - مثلا - الا أن نقضه باعتبار حله البديل
لارتباطه، ومثل اليقين، وان فرض اقتضاؤه لشئ الا أن نقضه باعتبار ارتباطه
الذاتي بمتعلقه أو بلحاظ ثباته ووثاقته.
ومثل نقض الصلاة بالضحك ونحوه لا باعتبار اقتضائها لمصلحتها، بل بلحاظ
ما فرضه الشارع من هيئة اتصالية استمرارية بين اجزائها.
وأما مثل نقض الوضوء فكناية عن نقض الطهارة المستمرة - التي لا يرفعها اي
شئ بل أمور خاصة - لا بلحاظ عدم تربت اثره عليه، لان الوضوء أفعال غير
قارة، غير موجودة فعلا حتى ينحل بنفسه أو ينحل مقتضاه عنه، فان المعدوم لا
ينحل ولا ينحل منه شئ
نعم لا مضايقة عن صدق النقض - فيما إذا كانت العلة التامة لشئ موجودة
فتبدل عدم مانعه بالوجود، فإنه بمنزلة انحلال العلة - بما هي علة مرتبط بها
58

المعلول فعلا، ولذا لا نقول بصدق النقض المساوق للانحلال فيما إذا كان المانع
موجودا من الأول
وأما التقريب الثاني من قاعدة (المقتضي والمانع) ففيه:
أن ظاهر هذه الصحيحة كغيرها - من فرض اليقين والشك وصدق النقض،
ليكون صغرى للكبرى العقلائية الارتكازية - فلابد من انحفاظ الصغرى، مع قطع
النظر عن الكبرى، ولا يعقل كون الكبرى مقومة ومحققة لصغراها، فعدم نقض
اليقين بالشك مما بنى علية العقلاء، لا أن العلم بالوضوء بقين بالطهارة بملاحظة
بناء العقلاء
وبالجملة: ليس هناك قاعدة أخرى مفروغ عنها، غير هذه الكلية المذكورة في
الرواية حتى يكون معنى (لا ينبغي نقض اليقين بالشك) (1) هو: أنه لا ينبغي
العدول عن طريقة العقلاء
وأما حديث لزوم اجتماع الناقض والمنقوض، فقد مر ما فيه. فراجع (2)
وأما تنزيل الاخبار على الاستصحاب في خصوص الشك في الرافع
فالتقريب الأول: وان امتاز عن الثاني بالدقة والمتانة، إذ يرد على التقريب
الثاني أنه غير صحيح ثبوتا وإثباتا.
أما ثبوتا: فبأن المراد من مقتضى البقاء كون الشئ من شأنه البقاء لا أن هناك
مقتضيا يترشح منه الشئ ليكون ثبوته بالذات له بالعرض، حتى يكون اليقين به
يقينا بمقتضاه تقديرا وعرضا.
فان السواد مثلا مما إذا وجد يبقى إلى أن يزيله مزيل، لا أن هناك مقتضيا
خارجيا يترشح منه السواد، ليجري فيه التوهم المزبور، والمفروض أن ما من
شأنه البقاء مشكوك الثبوت فعلا فليس هناك ثابت بالذات كي يكون هناك ثابت
بالعرض، بخلاف تقدير الثبوت واليقين في ظرف اليقين بالحدوث، فان الحادث

(1) الصحيحة الثانية لزرارة: الوسائل ج 2: الباب 41 من أبواب النجاسات: ص 1061: الحدوث 1
(2) - ص 53 من هذا المجلد.
59

في ظرف ثبوته كان من شأنه البقاء.
وأما إثباتا: فان الظاهر من قوله عليه السلام (ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين)
هو اليقين المذكور بقوله عليه السلام (والا فإنه على يقين من وضوئه) (1) أو
(لأنك كنت على يقين من طهارتك) (2)، لا اليقين المقدر، فيعلم منه أن النقض
باعتبار اليقين المذكور لا اليقين المقدر.
ومن الواضح: أن اليقين المتعلق بالبقاء في ظرف تعلقه بالحدوث هو اليقين
المذكور لأنه مضاف إلى الحدوث - بالذات - والى البقاء بالعرض
فالتقريب الأول سالم عما يرد على التقريب الثاني الا أنه يرد عليهما معا: أن
اعتبار النقض في الاستصحاب غير اعتبار النقض في قاعدة اليقين - بمعنى أن
اللازم في الاستصحاب وحدة المتعلق من جميع الجهات الا من حيث الزمان
حدوثا وبقاء - دون قاعدة اليقين فإنه واحد حتى من هذه الجهة.
فاعتبار تعلق اليقين بالبقاء يوجب دخول النقض في النقض المعتبر في قاعدة
اليقين دون الاستصحاب، فهو قول باعتباره قاعدة اليقين، غاية الامر بنحو تعم
اليقين بالحقيقة أو بالاعتبار.
وحيث عرفت أنه لا موجب لتنزيل الاخبار على ما ذكر، بل عدم صحة تنزيلها
عليه، فاعلم أن الاشكال في تنزيل الاخبار على الاستصحاب بقول مطلق من
جهات:
إحداها: أن نقض اليقين عبارة عن نقض المتيقن، وما لم يكن من شأنه البقاء
لا حل له مجازا، فلا يصدق النقض الا في مورد الشك في الرافع
وتندفع: بأنها إنما ترد إذا أريد من نقض اليقين نقض المتيقن بنحو التجوز في
الكلمة أو بنحو الاضمار، فان عنوان النقض يتعلق - حينئذ - بالمتيقن، ولا بد من
أن يكون له ابرام ليكون له نقض، وأما إذا نقض اليقين بنحو الكناية عن عدم

(1) - الصحيحة الأولى (الوسائل) ج 1، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء: ص 174: الحديث 1.
(2) - الصحيحة الثانية (الوسائل) ج 2: الباب 41 من أبواب النجاسات: ص 1061 الحديث 1.
60

ترتيب اثار البقاء فلا يرد المحذور، إذ المكنى عنه ليس الا المعنى واللب، وليس
فيه عنوان النقض المقتضي لما ذكر، وعنوان النقض في مرحلة الاسناد الكلامي
قد نسب إلى ما يناسب النقض بعنوانه إما لوثاقته أو لارتباطه.
ثانيتها: إنا سلمنا أن وثاقة اليقين أو ارتباطه بمتعلقه يصحح اسناد النقض إليه،
إلا أن الاستصحاب متقوم باليقين بالحدوث والشك في البقاء ولا يكون الشك في
البقاء ناقضا لليقين بالحدوث، إذ ليس الشك في شئ حلا لليقين بشئ اخر، الا
بعناية موجودة في مورد الشك في الرافع دون غيره
ولابد من تصحيح مرحلة الاسناد الكلامي، حتى يعقل أن يكون كناية عن
ترتيب اثار البقاء.
ويندفع: بأنه لم يؤخذ - في مرحلة الاسناد الكلامي - حدوث وبقاء ولا سبق
ولحوق زمانيان في متعلق اليقين والشك، حتى يمنع عن صحة الاسناد، الا بعناية
مخصوصة بمورد الشك في الرافع.
ثالثتها: إن نقض اليقين بالشك - بعنوان الكناية - يقتضي أن ما يكون هو المراد
الجدي، وحيث لا إهمال في الواقع، فالمراد الجدي: إما ترتب اثار المتيقن
حدوثا - كما هو مفاد قاعدة اليقين - أو ترتيب اثار المتيقن بقاء فيما كان من شأنه
البقاء - كما هو مفاد الاستصحاب في مورد الشك في الرافع بخصوصه - أو ترتيب
اثار البقاء مطلقا، ولو لم يكن من شأنه البقاء - كما هو مفاد الاستصحاب بقول
مطلق -.
فلا بد أن يراد أحد هذه اللوازم معينا، ومن الواضح: أن ترتيب اثار اليقين
حدوثا لازم ابقاء اليقين بالحدوث عملا، وعدمه نقض لليقين به عملا، وترتيب
اثار البقاء فيما من شانه البقاء لازم ابقاء اليقين بالبقاء عملا بالعناية، وعدمه نقض
عملي لليقين. بخلاف ترتيب اثار البقاء فيما ليس من شانه البقاء، فإنه ليس لازما
لابقاء اليقين، حيث لا مساس لليقين بالبقاء، ولا مسامحة كما أن عدمه ليس نقضا.
61

لليقين حيث لا يقين حتى ينحل، فلا يمكن أن يكون نقض اليقين بالشك كناية
عنه، حيث لا ملازمة حتى تصح الكناية.
وتندفع: بأن ايراد المعنى الكنائي إن كان للانتقال إلى أحد الأمور الثلاثة
بخصوصياتها وتعيناتها، فالايراد وارد، إذ لا ملازمة، الا بين المعنى الكنائي،
والأول والثاني، دون الثالث.
وان لم يكن ايراد المعنى الكنائي - الذي لم يؤخذ فيه عنوان الحدوث والبقاء
- الا للانتقال إلى ما يلازمه، لا بتعينات اليقين والشك، فلا محالة يكون اللازم هي
الجهة الجامعة، القابلة لاحد التعينات المذكورة في المكنى عنه، فان بقاء اليقين
بشئ يقتضي الجري على وفقه، وعدمه يقتضي عدمه، فيكون كناية عن ترتيب
اثار المتيقن من دون تعينه بالحدوث والبقاء، إما بالخصوص أو مطلقا على حد
عدم تعين الملزوم بشئ.
وحيث أن المراد الجدي لا يعقل الا متعينا - بنحو من أنحاء التعين - فلا محالة
يقيد الجهة الجامعة بالنهي عن نقض اليقين، وتعينها بدال اخر، كالقرائن الكلامية
النافية لقاعدة اليقين، وكاطلاق اليقين والشك - من حيث كونه من شأنه البقاء
النافي لإرادة الاستصحاب في خصوص الشك في الرافع.
ومما ذكرنا أخيرا يظهر أن ما هو لازم المعنى الكنائي متساوي النسبة إلى ما
فيه مقتضى البقاء، وما ليس فيه، وما يتفاوت فيه الامر ليس بما هو لازما للمعنى
الكنائي، حتى يقال: (1) (إن بعض اللوازم أنسب من بعض وأقرب) ليجاب () (2) (بأن
الأقربية اعتبارية، لابتنائها على اعتبار تعلق اليقين بالبقاء).
نعم ما ذكره من الأقربية إنما تتحقق إذا أريد اليقين المتيقن، - وحينئذ - يصح
ان يقال: إن المتيقن تارة من شأنه البقاء، فكأنه له إبرام، وأخرى ليس من شأنه

(1) القائل هو الشيخ - قده - في الرسائل ص 336
(2) هو المحقق الخراساني - قده - في الكفاية ج ص 286
62

البقاء فلا إبرام له حقيقة ولا اعتبارا، فنقض المتيقن يناسب الأول، دون الثاني
وحينئذ يصح أن يجاب عنه: بأن أقربية ما من شأنه البقاء اعتبارية، لا عرفية، فتدبر
جيدا.
قوله: وأما الهيئة، فلا محالة تكون المراد منها... الخ.
بيانه أن اليقين بالحدوث في الاستصحاب باق - فطلب ابقائه - بعنوان النهي
عن نقضه حقيقة - طلب الحاصل، وطلب ايجاد اليقين بالبقاء ليس طلبا لابقاء
اليقين، حتى يكون تركه نقضا منهيا عنه.
وأما في قاعدة اليقين فطلب ابقاء اليقين - حقيقة - طلب إعادة المعدوم
وطلب إيجاد اليقين بالحدوث - بعد زواله - ليس من طلب الابقاء، ولا تركه نقضا.
وأما نقض المتيقن، فالأحكام الشرعية، وجملة من الموضوعات الخارجية
خارجة عن تحت الاختيار، فطلب إبقائها - حقيقة - طلب امر غير مقدور.
وأما بعض الموضوعات الداخلة تحت الاختيار - كابقاء الطهارة والحدث -
فحيث أن الفرض كونها مشكوكة، فهي واقعا إما باقية أو زائلة، فطلبها على الأول
طلب الحاصل، وعلى الثاني طلب إعادة المعدوم، وطلب ايجادها ابتداء على
الأول طلب المثلين، وعلى الثاني طلب الجمع بين النقيضين، مع أنه - على اي
تقدير - ليس من طلب الابقاء الذي تركه نقض.
فلابد من صرف النهي عن نقض اليقين، أو المتيقن - الظاهر في النقض
الحقيقي - إلى النقض العملي، الذي سيأتي - إن شاء الله تعالى - توضيحه.
ومما ذكرنا تبين أن عدم إمكان إرادة النقض الحقيقي ليس في جميع الصور
بملاك واحد، وهو عدم كونه اختياريا، كما هو ظاهر العبارة (1).
ثم إن النهي عن نقض اليقين بالشك: حيث أنه - كما سيجئ إن شاء الله تعالى
- يرجع إلى التعبد بالمتيقن أو باثاره، فهل هو عنوان الكناية؟ أو بالتجوز في كلمة

(1) - وكذلك ظاهر عبارة الشيخ - قده -، الرسائل ص 336
63

اليقين بإرادة المتقين؟ أو بالاضمار: بأن يراد باليقين ما كان منه على يقين؟ أو
بالتجوز في الاسناد (1)، لان النقض المنهي عنه، حقه أن يسند إلى المتيقن،
فأسند إلى اليقين به لتعلقه به؟
والظاهر أن إرجاع نقض اليقين (2) إلى التعبد بالمتيقن أو باثاره بنحو الكناية
دون غيره من الوجوه - أوجه، لوجوه.
منها أن الكناية - كما هو المعروف - أبلغ من سائر أنحاء التجوز.
ومنها حفظ المقابلة بين الناقض والمنقوض اي صفة اليقين والشك في
التصرف الكنائي، بخلاف إرادة المتيقن فإنه لا مقابلة بين المتيقن والشك، ولا
معنى لناقضية المشكوك، لان المشكوك في الاستصحاب هو البقاء، ولا يعقل
ناقضية بقاء الشئ للشئ.
وليس مفاد الاخبار قاعدة المقتضي والمانع، حتى يكون النوم المشكوك
ناقضا للوضوء المتيقن، لتكون المقابلة بين المتيقن والمشكوك محفوظة، بل
الشك في النوم منشأ الشك في بقاء الطهارة المتيقنة، بناء على تنزيل الاخبار على
الاستصحاب، وليس هذا الشك بنفسه ركنا من ركني الاستصحاب ليكون ناقضا.
ومنها أن ظاهر الصحيحة وغيرها - من حيث التعليل بوجود اليقين، ومن
حيث التعبير ب (لا ينبغي) - أن وثاقة اليقين هي المقتضية للتمسك به، في قبال
الشك الذي هو عين الوهن والتزلزل.
ومنها - ظهور الاسناد - في الاسناد إلى ما هو له - فإنه محفوظ في التصرف
الكنائي، بل لابد من اسناد النقض في المعنى الكنائي إليه، كما سيظهر - إن شاء
الله تعالى وجهه

(1) كما ذهب إليه المحقق الآشتياني - قده - في كتابه (بحر الفوائد) ص 44 من الاستصحاب.
(2) اي ارجاع النهي من نقض اليقين.
64

ومنها (1) - أن التصرف الكنائي ليس فيه الا الظاهر من وجه واحد، فان الظاهر
من الكلام - مطابقة الإرادة الاستعمالية للإرادة الجدية، والكناية تقتضي مخالفة
الإرادة الاستعمالية للإرادة الجدية.
بخلاف التصرف بسائر الوجوه، فإنه مضافا إلى مخالفة الظاهر فيها - بالتجوز
في الكلمة، أو بالاضمار، أو في الاسناد - لابد فيها من مخالفة أخرى للظاهر، فان
الظاهر من نقض المتيقن حقيقة، فصرفه إلى نقضه عملا تصرف اخر، ولا حاجة
إلى هذا التصرف الاخر في التصرف الكنائي، لأن المفروض أن النهي عن نقض
اليقين غير مراد جدا، بل استعمالا فقط، فليس فيه إرادة جدية، حتى يقال: إرادة
المعنى الحقيقي محال، بل لمجرد التوطئة، للانتقال من المعنى الحقيقي - المراد
بالإرادة الاستعمالية - إلى مراد جدي ليس فيه عنوان النقض.
والانتقال من المحال إلى الممكن، بل إلى الواجب غير محال، كما في قوله
تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (2) - فان استواءه على العرش
محال، واستيلاؤه واجب لإحاطته الوجودية بكل موجود - بناء على كونه كناية
عن الاستيلاء
والسر فيما ذكرنا: أن الملازمة المعتبرة بين المعنيين - المصححة للانتقال - هي
الملازمة بين المعنيين بذاتهما، لا الملازمة الخارجية بحسب المورد، حتى يتوهم
استحالتها.
قوله: فلا يكاد يجدي التصرف... الخ.
فيه تعريض على الشيخ الأعظم - قده - في الوسائل (3) كما صرح - قده - به في
تعليقته المباركة (4) الا أن كلامه - قده - في الرسائل مسوق لمطلب اخر، لا في

(1) في النسخة زيادة (وهنا)
(2) طه: الآية 5
(3) الرسائل ص 336: عند بيان حقيقة النقض.
(4) ص 188.
65

مقام تخصيص استحالة النقض الحقيقي باليقين.
توضيحه: إن الشيخ - قده - بعدما ذكر أن النقض بالإضافة إلى ما من شانه البقاء
أقرب إلى معناه الحقيقي من إرادة رفع اليد عن الشئ مطلقا - ذكر توهم لزوم
إرادة المتيقن من اليقين على المعنى الأول دون الثاني، لان المتيقن يختلف من
حيث كون من شانه البقاء تارة، وعدم كونه كذلك أخرى بخلاف اليقين، فإنه لا
اختصاص له بشئ.
فدفعه بأن التصرف في اليقين بإرادة المتيقن لازم على أي تقدير، لاستحالة
التكليف بابقائه، لعدم كونه اختياريا.
وغرضه - قده - أن صرف اليقين عن ظاهره غير مستند إلى تعلقه بما من شأنه
البقاء، حتى يكون صرف ظهور اليقين مانعا عن إرادة النقض بالمعنى الأول، لا أن
استحالة التكليف بالابقاء الغير الاختياري، وترك النقض الغير الاختياري مختصة
بما إذا تعلق النقض باليقين. فتدبر.
قوله: لا يقال لا محيص عنه فان النهي عن النقض بحسب العمل
الخ.
توضيحه: أن مرجع النهي عن النقض إلى التعبد وجعل الحكم، والتعبد بنفس
صفة اليقين، لا معنى له، والتعبد - بحكمه وجعل الحكم المماثل لحكمة - غير
مراد، فإنه وان فرض ترتب حكم عليه شرعا، كما فيما إذا كان اليقين موضوعيا،
الا أن مورد الاخبار التعبد بالطهارة المتيقنة، وحيث أن مفاد حرمة نقض التعبد
بالمتيقن أو بحكمه، فلابد من صرف اليقين عن ظاهره بإرادة المتيقن منه
وأجاب - قده - في الكتاب - كما عن غير واحد من الأجلة (1) تبعا لبعض
الأساطين (قدس اسرارهم) بما محصله:

(1) منهم المحقق الحائري - قده - في درره (ج 2 ص 162) قال: هذا (اي القول بالطريقية)
مما افاده سيدنا الأستاذ (طاب ثراه) - اي المحقق الفشاركي الأصفهاني - نقلا عن سيد مشايخنا
الميرزا النائيني - قده -.
66

إن اليقين لم يلاحظ بنحو الموضوعية وبالاستقلال، بل بنحو الطريقية
المرآتية، والآلية، لسراية الآلية، والمرآتية من اليقين الخارجي إلى المفهوم الكلي
الفاني فيه.
فلا محالة إذا رتب عليه - بما هو طريق ومرآة - حكم، فقد رتب على ذي
الطريق، والمرئي بالذات، فلا حاجة إلى التصرف في اليقين بإرادة المتيقن منه
بنحو من أنحاء التجوز.
(تحقيق حول اليقين مفهوما ومصداقا)
أقول: تحقيق المقام يقتضي التكلم في اليقين مفهوما ومصداقا، فنقول:
مفهوم اليقين كسائر المفاهيم: تارة - يلاحظ بما هو مفهوم المفاهيم، فيرتب عليه
ما يناسبه في مرحلة المفهومية، وأخرى - يلاحظ فانيا في مطابقة - وهو اليقين
بالحمل الشائع - فيرتب عليه ما يناسبه، من كون كيفية نفسانية وأشباهها.
ففي مرحلة الحكم عليه، تارة ملحوظ بالاستقلال، كما في الأول وأخرى
ملحوظ بالتبع، وبنحو الالية لمطابقه، كما في الثاني وليس مفهوم اليقين من
وجوه متعلق صفة اليقين - كعنوان المتيقن - حتى يمكن لحاظه فانيا في متعلقه،
بخلاف مفهوم المتيقن، فإنه: تارة يلاحظ بما هو مفهوم عنواني، وأخرى بما هو
فان في معنونه
وأما المصدر المبني للفاعل، أو المبني للمفعول، فلا دخل له بصدق المصدر
على ما يصدق عليه عنوان الفاعل، والمفعول منه، بل المراد الضرب بمعنى
الضاربية، أو المضروبية، واطلاق اليقين وإرادة المتيقنة لا إرادة المتيقن.
وأما اتحاد المبدأ والمشتق، وصدق أحدهما على ما يصدق عليه الاخر
فمورد ما إذا كان العنوان الاشتقاقي منتزعا من مرتبة ذات شئ، فإنه لا يعقل الا
إذا كان المبدأ في مرتبة الذات، فلا محالة يصدق المبدأ على ما يصدق عليه.
67

المشتق، كصدق مفهوم الوجود والموجود على حقيقة الوجود، وكصدق مفهوم
البياض والأبيض على حقيقة البياض، وكصدق العلم والمعلوم على جميع
الموجودات الإمكانية، لحضورها بارتباطه الوجودي الذاتي للمبدأ، فهي
معلومات له تعالى بالعلم الفعلي الوجودي، دون الذاتي: وهي أيضا من مراتب
علمه الفعلي لحضورها بنفس ذواتها وهوياتها له تعالى - إلى غير ذلك من
الموارد.
ومن هذا القبيل اطلاق الصنع على المصنوع، والخلق على المخلوق
والايجاد والوجود على الموجود لاتحاد الكل - ذاتا - واختلافها - اعتبارا - ومن
الواضح أن اليقين بالطهارة ليس في مرتبة ذات الطهارة، حتى يتصور اتحاد اليقين
والمتيقن، هذا كله حال مفهوم اليقين.
وأما مصداقه - الذي هو يقين بالحمل الشائع - فالكلام فيه تارة في كونه
ملحوظا بالاستقلال وملحوظا بالتبع، وأخرى في كونه بنفسه آلة وطريقا ومرآة
وثالثة في سراية الحكم المرتب عليه بما هو آلة وطريق إلى متعلقه.
أما الأول - فحيث أن حقيقة اليقين عين حضور الشئ للنفس، بحضور
خاص، فهو حاضر بذاته للنفس، لا بحضور اخر يزيد على نفس ذاته، فهو خارج
عن مقسم اللحاظ الآلي والاستقلالي.
وأما الثاني - فحيث أن حقيقة اليقين عين حضور الشئ، لا ما به حضوره،
وعين وصوله، لا ما به وصوله، وعين رؤية الشئ لا ما به يرى، فلا معنى لكونه
بحقيقته طريقا إلى متعلقه ومرآة له وآلة لحضوره
وهذا مع كونه معلوما بالوجدان مما يساعده البرهان أيضا، لان كون آلة لا
يخلو من أن يكون آلة: إما لذات متعلقه أو لوجوده الذهني أو لوجوده الخارجي.
ولا معنى لكون القطع آلة للطبيعة المهمل، والماهية من حيث هي، لان
الماهية واجدة بوجدان ما هوي لذاتها وذاتياتها، ولا يعقل آلية قطع لوجود
متعلقه ذهنا، فإنه عين وجوده الذهني فكيف يكون الشئ آلة لنفسه؟ ولا يعقل.
68

أن يكون آلة لوجود متعلقه خارجا بان تكون حيثية تعلقه بمتعلقه حيثية آليته
لوجوده الخارجي، بل وجود كل شئ - خارجا - له أسباب تناسبه هي مبادئ
وجوده، وعلل حصوله ولا ينافي أن يكون علوم بعض المبادئ العالية علة
للموجودات السافلة، لأنها علوم فعلية، لا انفعالية والكلام في الثانية
وأما الثالث - فسلمنا كون القطع بوجوده الخارجي آلة وطريقا ومرآة لمتعلقه،
الا أنه لو فرض ترتب حكم عليه في تلك الحال لترتب على متعلقه، إذ ما هو
كالمعنى الحرفي لا يعقل أن يحكم به وعليه، إذ لا يعقل أن يكون طرفا وأما في
غير تلك الحال، فلابد أن يلاحظ بالاستقلال، وفناء مفهومه فيه يوجب ترتب
الحكم على المفني فيه، وهي حقيقة اليقين، ولا يعقل أن تكون في تلك الحال
حقيقة اليقين فانية في متعلقه، حتى يترتب الحكم على متعلقه، إذ المفني فيه -
في حال فناء شئ فيه - لا يعقل أن يكون فانيا أيضا في شئ اخر، حتى يترتب
الحكم على ذلك الاخر.
نعم هنا يصح إرادة الالية والاستقلالية بمعنى اخر، وهو كون قضية حرمة
نقض اليقين كناية عن التعبد بالمتيقن، والقضية الكنائية قنطرة إلى المكنى عن،
وتوطئة للانتقال منها إليه، في قبال القضية الحقيقية المرادة بالأصالة والمقصودة
بالاستقلال
وعبارة الكتاب - كعبارة التعليقة - قابلة للانطباق عليه، الا أن تعليله - بسراية
الالية من اليقين الخارجي إلى اليقين المفهومي - يوهم ما ذكرناه أولا، إذ لا يتوقف
كونه كنائيا على سراية الالية من مطابق اليقين إلى مفهوم، فإنه يناسب ترتب حكم
اليقين على المتيقن، لا للانتقال من الحكم المرتب على اليقين إلى الحكم
المرتب على المتيقن، إذ اليقين الذي له حكم بنفسه، واليقين الذي لا حكم له -
بل لمتعلقه - يكون في القضية المتكفلة للتعبد باليقين ملحوظا بالاستقلال، من
دون فنائه في متعلقه تارة، وعدم فنائه فيه أخرى بل القضية على الأول حقيقة،
وعلى الثاني كنائية
69

تحقيق حول كنائية لا تنقض اليقين)
وتحقيق حال كون قضية (لا تنقض اليقين) كناية عن التعبد بالمتيقن أو بحكمه
يتم بالبحث عن أمور مهمة.
منها - أن أخبار الاستصحاب بناء على إفادتها للحجية.
إما تفيد منجزية اليقين السابق - شرعا - للحكم في اللاحق، فيكون اليقين
واسطة في تنجز الواقع حقيقة.
وإما تفيد جعل الحكم المماثل للمتيقن أو لحكمه بعنوان إبقاء الكاشف،
فيكون اليقين واسطة لاثبات الحكم في اللاحق عنوانا، ومفادها كنائي على أي
تقدير، لكن النقض والابقاء حقيقي عنوانا على الأول وعملي حقيقة على الثاني.
توضيحه: أنه بناء على جعل المنجزية، لا تكليف عملي من الشارع، ليراد
النقض العملي والابقاء العملي، بل هناك النهي عن النقض الحقيقي بحسب
العنوان، وجعل اليقين منجزا إثباتا بحسب اللب، أي يظهر منجزية اليقين السابق
بعنوان الامر بابقاء المنجز حقيقة، للتلازم بين بقاء ذات المنجز ومنجزيته.
وبناء على جعل الحكم المماثل يراد منه حكم عملي، بحيث يكون العمل
ملزوما لابقاء اليقين أو المتيقن عملا، فيأمر بابقاء اليقين عملا للانتقال إلى الامر -
حقيقة - بالعمل الملزوم لهذا العنوان.
لكنه بعنوان إبقاء الكاشف، لإفادة وساطة اليقين السابق، لاثبات الحكم
الواقعي عنوانا، حيث لا حكم حقيقي، الا الحكم المماثل والواسطة في اثباته
نفس هذه الأخبار، واليقين السابق ليست واسطة الا لاثبات متعلقه عنوانا.
ومنها - أن التلازم المحقق لكنائية حرمة نقض اليقين، هل هو بين فعل صلاة
الجمعة - مثلا - وابقاء وجوبها المتيقن عملا؟ أو بين الفعل المزبور وابقاء اليقين
بوجوبها عملا؟
وربما أمكن توهم أن جعل الوجوب بلسان بقاء الوجوب أنسب من جعل
70

الوجوب بلسان بقاء اليقين بالوجوب فان الثاني يكون التلازم فيه بواسطة أن بقاء
الكاشف يلازم بقاء المنكشف دون الأول
ويندفع بأن الملازمة ليست بين جعل الحكم المماثل، وبقاء مماثلة بل بين
فعل صلاة الجمعة، وعنوان ابقاء اليقين بالذات، وبين الامر الحقيقي والامر
التمهيدي العنواني بالتبع.
ومن الواضح أن الوجوب المتيقن، له من الاقتضاء لفعل صلاة الجمعة مثلا
(نحو)، ولنفس اليقين به نحو اخر من الاقتضاء، فان اقتضاء الايجاد للفعل، اقتضاء
تشريعي، واقتضاء اليقين بالوجوب - لما تعلق به - اقتضاء خارجي فالأول باعث
تشريعي والثاني باعث تكويني.
وعليه ففعل الصلاة - بعد زوال اليقين السابق - إظهار لبقاء الوجوب، حيث لا
مقتضى تشريعا له سواه، كما أنه إظهار اليقين به، حيث لا مقتضى خارجا غيره.
ومنه يتضح أن الفعل قابل لان يكون ابقاء عمليا لليقين بالوجوب، ولأن يكون
ابقاء عمليا للوجوب المتيقن، وبعد قبوله لكلا الامرين، لا موجب لصرف نقض
اليقين عملا إلى نقض المتيقن عملا. مع أنه هناك شواهد على إرادة الانتقال من
حرمة نقض اليقين عملا، لا من حرمة نقض المتيقن عملا. فمن الشواهد - ما
قدمناه أنفا - من أن الاخبار إذا كانت متكفلة للحجية - فلا محالة - إما يراد منها
الوساطة في التنجز، وليس هو الا اليقين السابق، دون الكون السابق، وإما يراد
منها الوساطة في الاثبات عنوانا، وليس الا اليقين السابق.
إذا الكون السابق ليس بقاؤه عنوانا واسطة في اثبات بقائه، وليس مفاد الاخبار
الا حرمة النقض، فلا يناسب وساطة الكون السابق عنوانا لبقائه.
وبعبارة أخرى يصح التعبد بالحكم المماثل بلسان ابقاء الواسطة في اثباته
عنوانا، وهو اليقين السابق.
وأما الكون السابق، فلم يكن واسطة في اثبات نفسه حتى يصح التعبد بمماثله
بلسان ابقاء الواسطة في اثباته.
71

ويشهد له أيضا ما قدمناه من المقابلة بين الناقض والمنقوض، ونقض اليقين
عملا تتحفظ به المقابلة، دون نقض المتيقن عملا.
ويشهد له أيضا ما قدمناه من أن وثاقة اليقين هي المقتضية للتمسك به كناية
عن العمل، دون نفس المتيقن، كما قربناه سابقا.
ويشهد له أيضا أن جعل الحكم المماثل، وان كان في ظرف الشك، الا أنه
بلسان الابقاء وترك النقض.
ومن الواضح: أن استمرار اليقين إلى حصول اليقين بخلافه، أو إلى حصول
الشك في نفسه امر معقول. فصح التعبد بالحكم بلسان ابقاء اليقين وعدم حله
بالشك، بخلاف الواقع، فإنه - حدوثا وبقاء - لا يعقل أن يكون منوطا باليقين
والشك، حتى يؤمر بابقاء الواقع، وعدم نقضة بالشك، فتدبر جيدا.
ومنها: أن الفعل الذي جعل له حكم مماثل هل هو مصداق ابقاء اليقين وتركه
نقض له؟ وكذا بالإضافة إلى المتيقن؟ أو ملزوم للابقاء والنقض، بحيث إذا كان
مصداقا لعنوان الابقاء صح الامر بالفعل حقيقة بهذا العنوان؟
ومثلة الكلام في تصديق العادل، هل هو عنوان للفعل أو لازمه؟ فعلى
المصداقية، فالعنوان والفعل، عنوان ومعنون، وعلى التلازم لازم وملزوم،
والكناية انما تكون على الثاني، دون الأول
توضيحه: أن الابقاء العملي ليس الاظهار بقاء الوجوب أو اليقين به بالعمل،
وكذلك التصديق العملي اظهار صدق العادل بالعمل.
فان قلنا باتحاد الفعل التوليدي مع المتولد منه - كالاحراق مع الالقاء في النار -
صح دعوى أن عنوان إظهار الصدق واظهار البقاء صادق على العمل، وإن قلنا
بعدمه لما صح ذلك
وقد أشرنا إلى وجهه مرارا، لان الايجاد والوجود متحدان بالذات، مختلفان
بالاعتبار، فالاظهار والظهور متحدان بالذات، مع أن ظهور البقاء وظهور الصدق
غير متحد مع الفعل، بل موجودان متباينان، ويلزمه عدم اتحاد الاظهار مع
72

الفعل، بل الفعل ما به الظهور، والاظهار لا عينهما - كما لا يخفى - الا أنك عرفت
سابقا أن قضية (لا تنقض) إذا كانت كنائية، لا موجب لجعل النقض عمليا، بل
يمكن جعله حقيقيا عنوانا.
بيانه: أن الايجاب - كما عرفت - له اقتضاء تشريعي للفعل، واليقين بالوجوب
له اقتضاء تكويني للفعل، والفعل من مقتضيات الايجاب - بمعنى - ومن
مقتضيات اليقين - بمعنى اخر - فله الكاشفية عن أحد المقتضين.
والفرق بين الوجهين: أن الأول أمر باللازم للانتقال إلى الامر بملزومه، والثاني
أمر بالملزوم للانتقال إلى الامر بلازمه، فيمكن أن يجعل النهي - عن نقض اليقين -
نهيا عن النقض العملي، وهو الترك الكاشف عن عدم اليقين الباعث للعمل.
ويمكن أن يجعل النهي - عن نقض اليقين - نهيا عن حله حقيقة في مقام النهي
عن ترك مقتضاه، إذ مع حله لا مقتضى للعمل، وحيث أن النهي عن النقض
كنائي، لم يتعلق به إرادة جدية، فليس طلب ترك نقضه الحقيقي - عنوانا وكناية
وتوطئة للانتقال إلى حرمة ترك مقتضاه - طلب أمر محال جدا. ومع هذا فصرف
النقض الظاهر في الحقيقي إلى النقض العملي بلا موجب، فتدبر جيدا.
ومنها: أنه هل اليقين المأخوذ في موضوع الحكم، كاليقين الذي هو طريق إلى
الحكم أو إلى موضوعه من حيث شمول أخبار الباب له؟ أم يختص بالثاني؟
فنقول: أما إذا أريد نقض اليقين بعنوان الكناية، فقد عرفت أن وجه التلازم
اقتضاء اليقين للباعثية للعمل، فيكون العمل من مقتضيات اليقين، فيكون ابقاء
عمليا لليقين، وتركه نقضا عمليا له.
واليقين المأخوذ في الموضوع مقوم لموضوع الحكم لا باعثية له للجري على
وفقه خارجا، ليكون كاليقين الذي هو طريق إلى الحكم بلا واسطة أو بواسطة
تعلقه بموضوع الحكم
وأما إذا أريد نقض المتيقن، فالتلازم لأجل اقتضاء المتيقن تشريعا للعمل، إما
بلا واسطة كالحكم أو بواسطة كالموضوع، فإنه يقتضي الحكم لما فيه من الفائدة
73

الباعثة على جعله.
فربما يتوهم: أن هذا المعنى من الاقتضاء لا ينافي جزئية اليقين لموضوع
الحكم، فيكون المتيقن الذي يجب ابقائه أعم من أن يكون متقوما باليقين أولا
فيكون الجري على مقتضى الحكم الذي هو باقتضاء موضوعه ابقاء للحكم
ولموضوعه عملا
ويندفع بالفرق بين هذا الموضوع، وسائر الموضوعات، فان بقاءها، وبقاء
حكمها مشكوك بعد تيقنهما، فيكون الجري على وفقهما ابقاء وتركه نقضا لهما
عملا بالشك، بخلاف الموضوع المتقوم باليقين، فان الموضوع التام بعد زوال
اليقين وتبدله بالشك مقطوع الارتفاع، فليس رفع اليد - عن الحكم عملا - نقضا له.
بالشك، بل باليقين بزوال موضوعه التام
وأما إجراء الاستصحاب - في الجزء الاخر - بلحاظ الأثر التعليقي المرتب
عليه، عند انضمام ما نزل منزلة اليقين بالواقع - فعلا - إليه، ففيه كلام قد تعرضنا له
في مباحث القطع، فراجع (1)
ومنها: أن حرمة نقض اليقين في نفسها، هل تعم الشبهة الحكمية
والموضوعية؟ أم يختص بالأولى؟ أم يختص بالثانية بلحاظ موردها؟
ولا يخفى عليك أن نقض اليقين وإن كان أعم مما إذا تعلق اليقين بالحكم أو
بالموضوع والموضوع وإن كان قابلا للتنزيل، كالحكم، الا أن نقض اليقين بالحكم
اسناد له إلى ما هو له، فان الفعل مما يكون ابقاء عملا لليقين بوجه، وللمتيقن
بوجه اخر.
وإسناد نقض اليقين إلى الموضوع اسناد إلى غير ما هو له، لان اليقين
بالموضوع، لا باعثية له بنفسه، بل بلحاظ انبعاث اليقين بحكمه منه، والموضوع
المتيقن لا اقتضاء تشريعي له، بل لحكمه.

(1) راجع ج 2: ذيل قول الماتن - قده - (وما ذكرنا في الحاشية في وجه تصحيح لحاظ واحد
الخ).
74

والجمع بين الاسنادين في كلام واحد، وان كان مفعولا - كما بيناه في أوائل
البراءة عند التعرض لحديث الرفع (1) - لكنه مخالف للظاهر، إذ الظاهر من الاسناد
الكلامي كونه إلى ما هو له.
وقبول الموضوع للتنزيل - بلحاظ التعبد بحكمه - لا يجدي في دفع المحذور.
كما أن دعوى - إنه من قبيل الاختلاف في المحققات والمصاديق، مع وحدة
المفهوم والمعنى، نظرا إلى أن المكنى عنه جعل الحكم المماثل، وإن كان
بحسب المصداق تارة جعل الحكم المماثل للمتيقن وأخرى جعل الحكم
المماثل لحكم المتيقن - لا تجدي أيضا في حفظ ظهور (لا تنقض اليقين) من
حيث اسناد النقض إلى ما هو له، والا كان لازمه جعل الحكم المماثل لخصوص
المتيقن، لان ملزومه نقض اليقين بالحكم، عملا، فإنه الموافق لظهور الاسناد إلى
ما هو له
كما أن جعل اللازم والملزوم خصوص جعل الحكم المماثل للحكم المتيقن،
مع تعميم اليقين بالحكم - من حيث انبعاثه عن اليقين بالموضوع وعدمه - لا
يجدي، إذ التنزيل في الحكم مع الشك في موضوع، من دون تنزيل في موضوعه
لا معنى له.
فالتحقيق: أن هذه المحاذير إنما ترد إذا أريد نقض اليقين، أو المتيقن عملا من
المعنى الكنائي، فإنه ينقسم إلى ما هو له وغير ما هو له.
وأما إذا أريد منه نقض اليقين حقيقة - عنوانا - لا نقض اليقين عملا حقيقة،
فحل اليقين بالحكم أو بالموضوع حقيقة ملزوم لعدم الفعل.
فيصح جعل الحكم المماثل لمتعلق اليقين أو لحكمه بالنهي عن نقض اليقين
بالحكم أو بالموضوع حقيقة - عنوانا وتوطئة - من دون مخالفة للظهور بوجه، لان
النقض الحقيقي يتعلق بالحكم وبالموضوع معا، وليس كالنقض العملي المختص
بالحكم

(1) - ج 2، ذيل قول الماتن - قده - (فان ما لم يعلم من التكليف مط الخ)
75

فالمعنى الكنائي معنى واحد يعم الحكم والموضوع من دون محذور في
الاسناد - ثبوتا وإثباتا - وهو بذاته له الاقتضاء يقتضي في كل مورد لازما يناسبه.
فحل اليقين بالحكم لازمه رفع اليد عنه - وحل اليقين بالموضوع لازمه رفع
اليد عن حكمه، والمجعول - حقيقة - هو الحكم المماثل، إما لنفس المتيقن أو
لحكمه.
(الاستدلال بصحيحة ثانية لزرارة)
قوله: فإنه لو كان المراد منه اليقين الحاصل... الخ.
ولا يخفى عليك: أن قوله في السؤال (فنظرت فلم أر شيئا) (1) إن كان مجرد
عدم الرؤية وعدم اليقين بالنجاسة، فهو محقق للشك الذي هو أحد ركني
الاستصحاب، وان كان كناية عن اليقين بعدم الإصابة - كما هو المتعارف في مقام
بيان عدم شئ، قابل للرؤية التعبير بعدم الرؤية - فهو محقق لليقين الذي هو أحد
ركني قاعدة (اليقين)، لكنها تتوقف على الشك الذي يصح معه التعبد الظاهري،
وهو موقوف على أن يراد من قول السائل (فرأيت فيه) رؤية نجاسة بعد الصلاة،
لا رؤية تلك النجاسة التي ظن بإصابتها وتفحص عنها.
وحينئذ حيث أن النجاسة - المرئية - يحتمل أن تكون تلك النجاسة التي أيقن
بعدمها، وأن تكون نجاسة أخرى اصابته بعد الصلاة، فيتحقق به الشك الذي هو
أحد ركني قاعدة اليقين.
وأما إذا كان المراد من قوله (فرأيت فيه) - كما هو الظاهر - رؤية تلك النجاسة
فلا شك حتى يكون مجال لقاعدة اليقين.
ومما ذكرنا تبين أن فرض إرادة قاعدة اليقين مساوق فرض عدم الاشكال
الآتي، من كون الإعادة نقضا لليقين باليقين، وفرض إرادة الاستصحاب يجامع

(1) الصحيحة الثانية: الوسائل 2: ص 1061 الباب 41 من أبواب النجاسات: الحديث 1.
76

الاشكال وعدمه، لان حمل عدم الرؤية على ظاهره - من عدم اليقين - يكفي في
إرادة الاستصحاب.
وحينئذ فان كان المراد من قوله (فرأيت فيه) رؤية تلك النجاسة المفروضة
ورد إشكال الإعادة.
وإن كان المراد رؤية نجاسة ما، لم يرد الاشكال المزبور، الا أن الظاهر منه
أيضا حيث كان رؤية النجاسة كان المورد متعينا في الاستصحاب، والاشكال
مخصوصا به.
(تحقيق في محتملات شرطية الطهارة أو مانعية النجاسة)
قوله: ولا يكاد يمكن التفصي عن هذا الاشكال الا بأن يقال... الخ.
تحقيق الحال يقتضي بيان المحتملات لما هو شرط أو مانع، من الطهارة
والنجاسة في باب الصلاة
أحدها: أن تكون الطهارة الواقعية شرطا واقعيا، والطهارة التعبدية الظاهرية
شرطا فعليا بمعنى أن الطهارة التي أخبرت بها البينة، أو الطهارة المتيقنة سابقا
المشكوكة لاحقا، أو الطهارة المشكوكة، جعلت لها الشرطية فعلا، كجعل
الشرطية واقعا للطهارة الواقعية، فالصلاة المقرونة بإحدى الطهارتين مقرونة
بالشرط حقيقة، وعليه فلا ينكشف فقد الشرط بوقوع الصلاة في النجاسة
الواقعية.
وفيه أولا: أنه لا ريب في صحة صلاة من اعتقد الطهارة وكان في الواقع نجسا،
فإنه لا طهارة واقعية ولا تعبدية.
وثانيا: أن شرطية الطهارة التعبدية - بقاعدة الطهارة - لا باس بها، لان مفاد (كل
شئ طاهر) (1) جعل الطهارة، وجعلها جعل أحكامها التكليفية والوضعية ومنها

(1) الوسائل: ج 2: الباب 37 من أبواب النجاسات: ص 1054 الحديث 4.
77

الشرطية، فالتعبد بها تبعد بشرطيتها، بخلاف التعبد بدليل الامارة، أو بدليل
الاستصحاب، فان مفاد الأول تعبد بوجود الشرط، فيفيد التعبد باثار وجود
الشرط، كجواز الدخول في الصلاة وبعد انكشاف النجاسة ينقطع التعبد.
ومفاد الثاني تعبد ببقاء الشرط الموجودة فيفيد التعبد ببقاء اثار الشرط
الموجود فحاله حال دليل الامارة.
ولذا لا شبهة في إعادة الصلاة بعد انكشاف فقد سائر الشرائط، مع التعبد
بوجودها أو ببقائها قبل انكشاف فقدها.
ويمكن أن يقال: إن دليل الامارة - بناء على الطريقية المحضة - وأما بناء على
الموضوعية، فيمكن أن يكون المأتي به في هذا الحال مشتملا على مقدار من
المصلحة لا يبقى معه مجال لاستيفاء الباقي بالإعادة أو القضاء، فعدم وجوبهما
غير كاشف عن وجدان الشرط وجعل الشرطية.
ويمكن أن يكون المأتي به - من حيث تعنون ما اقترن به بعنوان أنه أخبر به
العادل، أو مما أيقن به سابقا - ذا مصلحة يساوق مصلحة المقترن بالشرط
الواقعي، فيستحق جعله شرطا في هذه الحال.
وعليه فاستكشاف الشرطية للطهارة التعبدية - من دليل الامارة أو دليل
الاستصحاب بقرينة عدم وجود الإعادة والتعليل بوجود الشرط، لا بعدم امكان
استيفاء مصلحته بالإعادة - معقول وإن لم نقل بالاجزاء، لا بعدم جعل الشرطية
في سائر موارد الامارات والاستصحابات.
ثانيها: أن تكون الطهارة الواقعية شرطا واقعيا، واحراز الطهارة التعبدية شرطا
ظاهريا فعليا وحينئذ لا إعادة فان انكشاف خلاف الطهارة التعبدية لا يلازم
انكشاف وقوع الصلاة بلا شرط، فان إحرازها ليس له انكشاف الخلاف.
وفيه أولا: ما ذكرناه من النقض بصحة صلاة من اعتقد الطهارة، مع أنه لا طهارة
واقعية، ولا إحراز للطهارة التعبدية.
وثانيا: أن كون الطهارة المشكوكة - في موارد الامارة، والاستصحاب، وقاعدة
78

الطهارة - تعبدية ليست الا بمعنى الحكم عليها بما يماثل حكم الطهارة الواقعية،
وذلك الحكم الذي به تصير الطهارة تعبدية، إما الشرطية، وإما حكم اخر من
جواز الدخول معها في الصلاة
فان أريد الأول، فحيث أن المفروض أن إحراز الطهارة التعبدية شرط،
فالاحراز مقوم لما هو موضوع الشرطية، ولا يعقل شرطية احراز الطهارة المجعولة
لها، وللاحراز الشرطية، كما ذكرناه في مبحث اخذ القطع بالواقع التعبدي في
موضوع ذلك الحكم التعبدي، فراجع (1)
ولا فرق بين ما إذا ثبتت شرطية الاحراز أيضا بدليل الاستصحاب، أو بدليل
اخر، لان المحال لا تقع بدليل أو بدليلين.
وإن أريد الثاني بمعنى أن الصلاة - المقرونة بما يجوز معه الدخول فيها -
مقرونة بشرطها حقيقة. فالتعبد بجواز الدخول يحقق جزء موضوع الشرط،
واحرازه جزءه الاخر.
ففيه: أن شرطية الاحراز المتعلقة بالطهارة التعبدية.
إن كانت مجعولة بدليل الاستصحاب، فمن الواضح أن قوله (عليه السلام)
(لا تنقض) هنا بحسب الانطباق على المورد - إما يفيد التعبد بجواز الدخول، أو
بالشرطية، ولا معنى لان يتكفل لتعبدين طوليين.
وإن كانت بدليل اخر، فلا محالة ليست الشرطية المجعولة شرطية ظاهرية
تعبدية، إذ ليست شرطية احراز الطهارة التعبدية مورد حكاية العادل، أو مورد
اليقين والشك أو مورد قاعدة أخرى، لتدل أدلتها على التعبد بشرطيته فعلا
ظاهرا.
بل لابد من أن يكون ذلك الدليل متكفلا لشرطية الاحراز واقعا - على حد
شرطية الطهارة الواقعية واقعا -

(1) ج 2 ذيل قول الماتن - قده - لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس الحكم
الخ.
79

ويرد عليه حينئذ بعد عدم الجامع بينهما: أن مقتضى شرطية الطهارة الواقعية،
من دون تقيد باحرازها بقائها على الشرطية عند عدم إحرازها، الذي هو موقع
التعبد بها، الذي يتعلق به الاحراز المقوم لموضوع الشرطية - فلا محالة - تكون
الصلاة المأتي بها مع احراز الطهارة التعبدية فاقدة لشرط واقعي اخر عند فقد
الطهارة الواقعية.
والمفروض أن كليهما شرط واقعي لا أن أحدهما، واقعي والاخر فعلي
ظاهري ولا يعقل التخيير بين الطهارة الواقعية، وإحراز الطهارة التعبدية، لان
مفروض الكلام في هذا الاحتمال إطلاق شرطية الطهارة الواقعية لصورتي
إحرازها وعدمه، ومع اجتماع شرطيتهما في صورة عدم احراز الطهارة الواقعية
كيف يعقل التخيير بينهما في الشرطية؟
ثالثها: أن يكون إحراز الطهارة الواقعية وجدانا شرطا واقعيا، وإحراز الطهارة
الواقعية تعبدا شرطا ظاهريا فعليا، فيندفع النقض المتقدم لكون نفس إحرازها
وجدانا شرطا واقعيا
لكنه يرد على النقض بما إذا اعتقد النجاسة، وصلى بحيث تحقق منه قصد
القربة للغفلة عن مانعيتها، لا عن أصلها، وكان في الواقع طاهرا، فان صلاته
لاقترانها بجميع شرائطها صحيحة، مع أنه لم يحرز الطهارة - وجدانا ولا تعبدا -
مضافا إلى أنه لا دليل على التعبد بالاحراز، ليكون الاحراز تعبديا، بل الأدلة
متكفلة للتعبد بالطهارة، واحراز التعبد بها وجداني لا تعبدي، فالتعبد بالاحراز
إنما يتحقق إذا كان دليل الامارة متكفلا لتنزيل الامارة منزلة العلم، لا تنزيل مؤداها
منزلة الواقع.
وكذا تنزيل اليقين السابق - في الاستصحاب - بنفسه منزلة اليقين بالفعل، لا
تنزيل المتيقن منزلة الواقع، مع أنه ليس في مورد قاعدة الطهارة شئ ينزل منزلة
العلم، حتى يكون من باب جعل - إحراز الطهارة الواقعية تعبدا - شرطا فعليا، بل
ليس فيها الا التعبد بالطهارة
80

مضافا إلى أن شرطية - الاحراز التعبدي - تقتضي تعبدية الاحراز، مع قطع
النظر عن الشرطية فان كانت تعبدية بنفس الشرطية، لزم أخذ العلم بالحكم في
موضوع نفسه كما مو (1)
وإن كانت تعبدية بحكم اخر - من جواز الدخول في الصلاة ونحوها - فان كان
التعبد بالشرطية، والحكم الاخر بنفس دليل الامارة، أو الاستصحاب، فقد مر أن
شيئا منهما لا يتكفل تعبدين طوليين.
وإن كان التعبد بدليل اخر، فلا محالة ليس مفاده الشرطية الظاهرية الفعلية، إذ
ليست الشرطية موردا لشئ من الامارات والأصول والقواعد - كما مر - بل لابد
من أن يكون شرطية الاحراز التعبدي واقعية - كشرطية الاحراز الوجداني -
وحيث أن تعبدية الاحراز غير متقيدة بعدم التمكن من الاحراز الوجداني،
فعند عدم الاحراز الوجداني يكون الاحراز التعبدي شرطا واقعا، مع بقاء الاحراز
الوجداني - المتمكن منه - على شرطيته.
ولا معنى للتخيير بين الاحرازين، للزوم تقيد شرطية الاحراز التعبدي بعدم
التمكن من الاحراز الوجداني لا بعدم الاحراز بنفسه، مع أنه خلاف ظاهر أدلة
الامارات والأصول، أو الالتزام بشرطية الاحراز الوجداني إذا اتفق حصوله، وهو
غير معقول في شرط الواجب المفروض تحصيله، وإنما هو شأن شرط الوجوب
فاتضح أن شرطية الاحراز التعبدي بجميع وجوهه كشرطية إحراز الطهارة
التعبدية غير صحيحة. فتدبر.
رابعها: أن تكون النجاسة المعلومة - ولو سابقا - عند الالتفات إليها مانعة عن
الصلاة، فالنقوض المتقدمة (2) كلها مندفعة، فإنه إما لا نجاسة واقعا أو لا علم بها
الا أن مقتضاه عدم المانع بعدم العلم، فلا موقع للتعبد بعدمها بالامارات أو
الأصول والقواعد، للقطع بعدم المانع، وإن كانت النجاسة موجودة واقعا.

(1) في الاشكال على الاحتمال الثاني
(2) في الاحتمال الأول والثاني والثالث.
81

وتعميم الاحراز للاحراز التعبدي أو لاحراز النجاسة التعبدية، فيه جميع
المحاذير المتقدمة في تعميم احراز الطهارة المجعولة شرطا فراجع (1).
خامسها: أن تكون النجاسة - التي لم تقم الحجة على عدمها - مانعة واقعا
بتعميم الحجة إلى العقلية والشرعية، فيكون الحجة ما يكون معذرا - عقلا
وشرعا - لا بمعنى الواسطة في إثباتها أو نفيها تعبدا، فإنه يوجب خروج العلم
بعدم النجاسة، فإنه لا وساطة له في نفيها تعبدا، مع أن التعبد بعدمها - في موارد
البينة على عدمها، أو استصحاب عدمها - مع عدم المانعية لها واقعا لا معنى له.
ولا يعقل ما نعيتها واقعا لولا التعبد بعدم ما نعيتها فعلا ظاهرا، بخلاف ما إذا
كانت الحجة بمعنى المعذرية - عقلا أو شرعا - فإنه لولا المعذر العقلي، أو
الشرعي، لها المانعية الواقعية.
ومع وجود المعذر لا مانعية لها واقعا فالمعذر دافع للمانعية لا رافع لها،
وجعل المعذر شرعا أيضا لدفع المانعية، لان لا يقع المصلي - مثلا - في كلفة
المانع ولولا المعذر، لا لرفع ما نعيتها ظاهرا أو واقعا
والذي يوافق الاخبار، وفتاوى علمائنا الأخيار هذا الوجه الأخير، وليست
الطهارة الواردة في الروايات والكلمات الا عدم النجاسة، فان النجاسة هي
القذارة المنفرة شرعا واقعا، كما انها عرفا كذلك، فالطهارة ليست الا الخلو عنها،
وليست هي - كالطهارة من الحدث - أمرا وجوديا، وحالة معنوية نورانية،
والنجاسة إذا كانت مانعة فعدمها شرط.
ولهذا - تارة - يقال: بأن النجاسة مانعة، و - أخرى يقال: إن الطهارة شرط.
إذا عرفت ما ذكرناه - من المحتملات - تعرف ما في ما افاده شيخنا
- قدس سره - في مقام دفع الاشكال عن التعليل (2) بجعل الشرط إحراز الطهارة
التعبدية، دون نفس الطهارة التعبدية، نظرا إلى انكشاف خلافها في الثاني، دون

(1) إلى الاحتمال الثالث.
(2) الكفاية ج 2 ص 290.
82

الأول
فإنك قد عرفت - في بيان الاحتمال الثاني المتقدم تفصيلة - أن شرطية إحرازا
لطهارة التعبدية بجميع وجوهه غير صحيحة.
مضافا إلى أن الظاهر من التعبد بالطهارة هو التعبد بأحكامها، لا التعبد
باحرازها، فيناسبه التعبد بشرطيتها بنفسها، دون التعبد بشرطيتها على تقدير
إحرازها.
وبالجملة: إذا كانت الطهارة المتيقنة سابقا المشكوكة لاحقا شرطا كان التعليل
حسنا فان قوله عليه السلام: (لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت) (1)
تعليل بوجود ذات الشرط.
وقوله عليه السلام: (فليس ينبغي لك... الخ) (2) بيان لجعل الشرطية، بجعل
عدم وجوب الإعادة من باب جعل الملزوم بجعل لازمه، فان لازم كون الصلاة
مقترنة بشرطها عدم لزوم الإعادة، فلا مصداق لنقض اليقين بالطهارة - بعد اليقين
بوقوع الصلاة في النجاسة - الا الإعادة وهي نقض لليقين بوجود الشرط بالشك
واعتناء به، وعدم الاعتناء بشرطيته بخلاف ما إذا كان احراز الطهارة التعبدية
شرطا، فإنه إن أريد جعل شرطيته بنفس قوله عليه السلام: (وليس ينبغي لك) فهو
- على فرض معقوليته - خلاف الظاهر.
فان الظاهر عدم لزوم الإعادة بجعل الشرطية لما تعبد به، وهي الطهارة
الخاصة المجعولة صغرى لتلك الكبرى، لا أمر اخر.
وإن أريد تحقيق الصغرى - لتندرج تحت كبرى مجعولة بدليل خارج - كان
حاله حال تعليل عدم لزوم الإعادة باقتضاء الامر الظاهري للاجزاء - في الاشكال
الذي أورده عليه -.
الا أن ظاهره - كما يشهد له ما افاده - قده - فيما بعد - هو الشق الأول، فلا يرد

(1) الصحيحة الثانية، الوسائل ج 1: الباب 41 من أبواب النجاسة: الحديث 1.
(2) الصحيحة الثانية: الوسائل ج 2: الباب 41 من أبواب النجاسة: الحديث 1
83

عليه ما ذكرناه على الشق الثاني، كما أورده عليه بعض أجلة العصر (1).
هذا كله بناء على شرطية الطهارة التعبدية بالمعنى المزبور.
وأما بناء على ما اخترناه - من كون النجاسة الواقعية لولا المعذر عنها مانعة عن
الصلاة - فالتعليل بيان للمعذر بذاته، بقوله عليه السلام: (لأنك كنت على يقين
من طهارتك) اي اليقين بعدم النجاسة سابقا، ولمعذريته المجعولة بقوله عليه
السلام: (فليس ينبغي لك). فالصلاة - حيث أنها غير مقترنة بالمانع، لاقترانها
بالمعذر الدافع لمانعية النجاسة - صحيحة لا إعادة لها.
فهو أيضا من باب جعل الملزوم - وهي المعذرية - بجعل لازمها - وهو عدم
لزوم الإعادة - والمعذرية كالمنجزية شرعا من الاعتبارات المجعولة، وليست
المعذرية هنا من حيث العقوبة حتى يقال:
إن عدم العقوبة، لا ينافي اقتران الصلاة بالمانع الواقعي، بل المعذرية هنا من
حيث الكلفة الوضعية، فترجع إلى أنه لا تبعة من حيث الوضع، مع وجود اليقين
السابق بعدم النجاسة، ولو كانت بوجودها الواقعي مانعة، كانت تبعتها وضعا
على حالها، فتدبره فإنه حقيق به.
قوله: إن الطهارة، وإن لم تكن شرطا فعلا... الخ.
حاصله: كفاية كونها شرطا اقتضائيا في التعبد بها، من دون حاجة إلى جعل
الشرطية لها فعلا، كما كانت في غير هذه الحال، إذ المفروض كون إحراز ما هو
شرط اقتضائي تعبدا، شرطا فعليا.
والتحقيق: أن مقتضى التعبد الاستصحابي لبا جعل الحكم المماثل - إما
تكليفا أو وضعا - وعليه فالحكم الاقتضائي: إما أن يراد منه الحكم الثابت بثبوت
مقتضيه، أو يراد منه الحكم المجعول لذات الموضوع، مع قطع النظر عن عروض
عارض.
فان أريد الأول، فلا حكم واقعي في هذه الحال، بل مجرد وجود المقتضي له،

(1) المحقق الحائري - قده - في درره 2: 163.
84

فلا معنى للتعبد بمماثله، كما أن مقتضيه واقعي، لا جعلي، حتى يتعبد بمماثله.
وان أريد الثاني، فذات الموضوع وان كان لها حكم لها حكم انشائي مجعول، لكن
المفروض عدم شموله لصورة عروض هذا العارض، فلا حكم واقعي في هذه
الصورة للطهارة الواقعية، حتى يتعبد بمماثله فيها.
ومع قطع النظر عن الحكم لا يعقل التعبد الاستصحابي، ولا غيره مما يكون
لبه جعل الحكم المماثل، فأية فائدة في كون الطهارة محكومة بحكم
اقتضائي؟
ولا يمكن الالتزام بشرطية الطهارة الواقعية واقعا، وعدم فعليتها في هذه
الصورة، بل الفعلي غيرها، وهو احراز الطهارة التعبدية، فان الجهل بها، وان كان
مانعا عن فعليتها، الا انه بعد ارتفاع الجهل تصير الشرطية، وان كان المصلي
واجدا لشرط اخر في هذه الحال
وحديث الاجزاء - وتدارك المصلحة الواقعية باقتران الصلاة بشرطها الفعلي -
لا يتوقف على جعل احراز الطهارة التعبدية شرطا، بل لو كانت بنفسها أيضا شرطا
لكفى في التدارك، كما مر في الحاشية المتقدمة.
بل لابد لمن يسلك هذا المسلك من تقييد شرطية الطهارة الواقعية بغير صورة
الجهل والالتزام بان الصلاة واجدة لما هو شرطها لا فاقدة له ومتداركة بشئ.
قوله: مع كفاية كونها من قيود الشرط... الخ.
حاصله كفاية التعبد بجزء الموضوع، مع وجود الجزء الاخر قهرا، ومرجعه
إلى جعل الشرطية - فعلا - للطهارة المتيقنة سابقا، المشكوكة لاحقا، لا من باب
التعبد بتمام الموضوع ليكون خلفا، بل من باب التعبد بجزئه لوجود جزئه الاخر،
بقرينة تعليل عدم الإعادة به.
وقد مر الجواب عنه في الحاشية المتقدمة (1).
فان احراز الطهارة المتعبد بها راجع إلى احراز الطهارة المجعولة شرطا، مع أن

(1) - من هذا المجلد ص 78
85

الاحراز مقوم لموضوع الشرطية، فيلزم أخذ الاحراز المتأخر عن الشرطية في
موضوع الشرطية - كما فصلنا القول في نظيره في مباحث القطع (1)
وأما تنزيل إحراز الطهارة سابقا منزلة احراز الطهارة بالفعل، فهو وان كان خاليا
عن هذا المحذور لكنه خلاف مبناه - قده - من جعل الطهارة بنفسها شرطا واقعيا
في غير هذه الحال
مضافا إلى ما فيه من وجوه الاشكال، كما تقدم في الحاشية السابقة (2) فراجع
قوله: نعم، ولكن التعليل إنما هو بلحاظ حال... الخ
فإنه حال جريان الاستصحاب، فيناسبه التعليل بما هو المناسب لهذه الحال،
ومن الواضح أن عدم الإعادة قبل انكشاف الخلاف للبناء على وجود الشرط
واقعا لا لمجرد الأصل، فإنه المناسب لمقام انكشاف الخلاف
مع أن موقع جريان الاستصحاب، حيث أنه قبل الدخول في الصلاة، فلأجل
التنبيه - على حجية الاستصحاب - حسن التعليل بكونه على طهارة تعبدا، لا
بكونه محرزا لها
أقول: للطهارة المستصحبة آثار واحكام:
منها: جواز الدخول في الصلاة، فان الامتناع عن الدخول اعتناء بالشك في
وجودها، ولا يجوز نقض اليقين بوجودها بالشك في وجودها.
ومنها: عدم وجوب إعادة الصلاة قبل انكشاف وقوعها في النجاسة، إذ هي
أيضا اعتناء بالشك، فمقتضى حرمة نقض اليقين بالشك عدم الإعادة، لأنها نقض
لليقين بالشك.
ومنها: عدم وجود الإعادة بعد انكشاف الخلاف، وحيث أن هذه الحال موقع
انقطاع التعبد فليست الإعادة في هذه الحال مصداقا لنقض اليقين بالشك من أول

(1) - ج 2، ذيل قول الماتن - قده - (لا يكاد يمكن ان يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس الحكم
الخ)
(2) من هذا المجلد ص 80
86

جريان الاستصحاب.
فالتعبد الاستصحابي من الأول لم يكن مقتضيا لعدم الإعادة في هذه الحال،
فالتعليل لعدم وجود الغير المجامع لفساد الصلاة، بما يناسب عدم الوجوب،
المجامع لفساد الصلاة - غير صحيح (1) والتنبيه على حجية الاستصحاب لا
يصحح تعليل الشئ بما ليس علة له، بل لغيره، مع أن التعليل لو كان باحراز
الطهارة التعبدية قبل الصلاة، لكان دالا على حجية الاستصحاب أيضا حيث لا
إحراز للطهارة التعبدية، الا مع حجية الاستصحاب.
وبالجملة: لا يحسن التعليل لعدم لزوم إعادة المشروط الا بوجود شرطه لا
بالبناء على وجود شرطة الواقعي الاقتضائي، مع انكشاف عدمه
وما يمكن أن يقال في حسن التعليل وجوه:
منها: أن إحراز الطهارة السابقة - حيث كان منزلا منزلة إحرازها بالفعل - صح
التعليل بقوله عليه السلام (لأنك كنت على يقين) (2) كما هو ظاهر الصحيحة،
فالعلة كونه على يقين، لا كونه متطهرا.
الا أنه مبني على كون الشرط الواقعي احراز الطهارة وجدانا لا نفسها.
وأيضا يبتني على كون قصة (لا تنقض) مسوقة لترتيب اثار اليقين لا المتيقن -
كما هو مبني شيخنا (3) كما هو ظاهر الصحيحة، فالعلة كونه على يقين لا كونه

(1) توضيحه: أن عدم وجوب الإعادة - الذي لا يجامع لفساد الصلاة - هو ما إذا كان الشرط إحراز
الطهارة وذلك لان الشرط موجود سواء انكشف الخلاف أم لا. وأما عدم وجوب الإعادة - الذي يجامع
لفسادها - هو ما إذا كان الشرط نفس الطهارة التعبدية، فإنه إذا انكشف الخلاف بين أن الصلاة غير واجدة
لشرطها فكانت فاسدة، فالتعليل لاثبات عدم وجوب الإعادة على النحو الأول، بكلام يناسب عدم
وجوب الإعادة على النحو الثاني غير صحيح، وسيأتي تفصيلة منه - قده - في ذيل كلام الماتن - قده -
(لا يكاد يصح التعليل) ص 89.
(2) - في الصحيحة الثانية: الوسائل ج 2: ص 1061
(3) - راجع الكفاية ج 2 ص 287، وتعليقته المباركة على الرسائل عند بيان حقيقة (لا تنقض) 188،
تبعا لأستاذه المحقق الميرزا الشيرازي - قده -
87

متطهرا.
الا أنه مبني على كون الشرط الواقعي، إحراز الطهارة وجدانا، لا نفسها.
وأيضا يبتني على كون قضية (لا تنقض) مسوقة لترتيب اثار اليقين لا المتيقن -
كما هو مبنى شيخنا (1) - قدس سره - وغيره -
ومنها: أن القضية المزبورة، وإن كان مفادها: لأنك كنت على طهارة الا أن
الشرط - في هذه الحال - إذا كان إحراز الطهارة، فالطهارة، - التي هي جزء
الموضوع - هي الطهارة العنوانية المقومة لصفة اليقين لا الطهارة الخارجية، والا
لوجبت الإعادة
ومن الواضح: أن الطهارة - العنوانية المقومة لصفة اليقين - لا يتخلف عنها ولا
يعقل أن يكون لها انكشاف الخلاف.
وبالجملة: الشرط مطلقا هي الطهارة غاية الامر أن الشرط الواقعي هي الطهارة
التي لها مطابق في الخارج، والشرط الفعلي في حال الجهل هي الطهارة، وإن لم
يكن لها مطابق في الخارج، ومقوم الاحراز هي الطهارة التي لا تتوقف على
وجودها الخارجي لان المعلوم بالذات مقوم لصفة العلم لا المعلوم بالعرض
وفيه أن طبيعي الطهارة، وإن كان محفوظا في الذهن والعين، الا أن الظاهر من
قوله عليه السلام (لأنك كنت على يقين من طهارتك) (2) لحاظ الطهارة فانية في
مطابقها الخارجي وابقاء مثلها مورد التعبد، لا ابقاء طبيعي الطهارة، وعنوانها
المقوم للاحراز حتى لا يكون فرق بين شرطية إحراز الطهارة العنوانية.
ومنها - أن الطهارة حيث أنها إذا وجدت لا تزول إلا برافع فلها اقتضاء البقاء
والطهارة الثابتة اقتضاء عين الطهارة، التي هي شرط واقعا، فنزل الشارع الطهارة
الاقتضائية منزلة الطهارة الواقعية الفعلية، وأعطاها حكمها وهي الشرطية.

(1) راجع الكفاية ج 2 ص 287 وتعليقته المباركة على الرسائل عند بيان حقيقة (لا تنقض) 188
تبعا لأستاذه المحقق الشيرازي - قده -
(2) - في الصحيحة الثانية: الوسائل ج 2: ص 1061.
88

ومن المعلوم أن الطهارة الاقتضائية لا تزول برافعها، بل الزائل هي الفعلية،
فصح تعليل عدم وجوب الإعادة، لمكان وجود الطهارة الاقتضائية التي هي
شرط في هذه الحال بلسان وجود الطهارة الفعلية التي هي شرط واقعا، حيث أن
الأولى عين الثانية.
وبناء على هذا لا حاجة إلى جعل الاحراز شرطا، بل نفس الطهارة الثابتة
اقتضاء شرط.
وفيه ما قدمناه في بعض الحواشي المتقدمة: أن اقتضاء الطهارة للبقاء ليس
بمعنى كون نفسها سببا لبقاء نفسها على حد سببية المقتضي لمقتضاه، حتى
يقال: إن ثبوت المقتضي ثبوت مقتضاه - ولو مع ثبوت المانع، أو الرافع عن تأثيره
حدوثا أو بقاء - لتكون للطهارة هنا ثبوت اقتضاء، بل معناه إن الطهارة مسببة
شرعا عن سبب يقتضي طهارة مستمرة إلى أن يجئ سبب أقوى، فيزيلها، ويمنع
عن تأثير سببها في بقائها.
فمع وجود الرافع في الواقع لا طهارة حقيقة، وليس لها سبب موجود، ليكون
الطهارة باقية ببقاء سببها اقتضاء، بل ذلك الوضوء التدريجي المنصرم، كان سببا
لطهارة مستمرة إلى أن يحدث رافع لها.
فليس هنا أمر ثابت بالذات، ليكون للطهارة ثبوت عرضي على حد ثبوت
المقتضي بثبوت المقتضي، حتى يعطي لهذا النحو من الثبوت حكم الثبوت
بالذات، ويصح التعبير عن أحدهما بالآخر، وقد قدمنا صحة التعليل بناء على
شرطية الطهارة التعبدية، ولو في خصوص المقام، وبناء على مانعية النجاسة لولا
المعذر عنها وضعا فراجع (1)
قوله: لا يكاد يصح التعليل لو قيل باقتضاء... الخ
تحقيق المقام: أن حسن التعليل - بناء على اقتضاء التعبد الاستصحابي
للأجزاء - إما مع الالتزام بكون الإعادة بعد الانكشاف نقضا، ولو بالواسطة، وإما لا

(1) تقدم في صفحة 77 ذيل قول الماتن - قده - (ولا يكاد يمكن التفصي عن هذا الاشكال..)
89

معه، بل مجرد منافاة لزوم الإعادة، مع حرمة نقض اليقين بالشك، فالمحذور
على الأول: هي الناقضية وعلى الثاني: هو الخلف.
فنقول: أما على الأول، فوجه الاشكال في صحة التعليل: إن النقض العملي
فعل ما ينافي المتيقن، أو أثره، اي ما ينافي ما هو اليقين والشك، أو ما ينافي في
اثر مورد اليقين والشك، والا ليس كل مناف لحكم مصداقا للنقض، وليس مورد
اليقين والشك الا الطهارة وليس اثرها - بناء على عدم بناء الشرطية لها في هذه
الحال - الا جواز الدخول في الصلاة
ومن الواضح: ان الامتناع من الدخول فيها مناف لجواز الدخول، فيكون
مصداقا للنقض، كما أن الإعادة - قبل الانكشاف - مناف للبناء على وجود
الطهارة، والمعاملة مع المشكوك معاملة المتيقن.
بخلاف الإعادة - بعد الانكشاف وانقطاع التعبد - فإنه غير مناف لجواز
الدخول، ولا للبناء على الطهارة - قبل الانكشاف - وليس عدم وجود الإعادة على
الفرض مورد اليقين والشك، ولا من اثاره، حتى يكون فعل الإعادة نقضا لليقين
بالشك
فان قلت: الإعادة وان لم تكن نقضا لمورد اليقين والشك، ولا لاثره بلا
واسطة الا انها نقض له مع الواسطة، فان الامر الظاهري بالصلاة - مع الطهارة
المشكوكة - مقتض لايجادها، وهي علة لحصول مصلحتها المساوقة للمصلحة
الواقعية، القائمة بالصلاة المقرونة بالطهارة الواقعية، وحصول مصلحة الواقع علة
لسقوط الامر، المنبعث عنها واقعا، وسقوطه علة لعدم لزوم الإعادة
فالإعادة نقض لهذا المقتضي الأخير بلا واسطة، ونقض لاثر مورد اليقين
والشك مع الواسطة، ولا فرق في النقض المنهي عنه بين نقض اليقين بلا واسطة
أو معها.
قلت: ليس ترتب هذه المقتضيات على الطهارة - المتيقنة سابقا، المشكوكة
لاحقا - ترتب الحكم على موضوعه، إلا نفس الامر الظاهري الاستصحابي،
90

المترتب على مورد اليقين والشك.
وليس النقض العملي المنهي عنه بلا واسطة، أو معها إلا فعل ما ينافي الأثر
الشرعي، المقتضي للجري على وفقه عملا، المانع عن نقضه عملا، فلو كانت
المقتضيات المترتبة على الطهارة شرعية، كان لها الجري العملي على وفقها،
والنقض العملي لها، دون ما إذا لم تكن شرعية، أو لم يكن ترتبها شرعيا وقد
عرفت أن ليس مجرد كون شئ منافيا لشئ نقضا عمليا له.
وأما تسليم كون الإعادة نقضا لكنها مع الواسطة، والظاهر من النقض ما كان بلا
واسطة كما عن بعض الأجلة - قده - (1) فمدفوع بأن الواسطة إذا كانت واسطة في
العروض، صح دعوى كونه خلاف الظاهر، لان الاسناد فيه إلى غير ما هو له، وأما
إذا كانت واسطة في الثبوت - كما قربناه - فلا محالة للظهور لانحفاظه بالاسناد إلى
ما هو له حقيقة.
فالعمدة ما ذكرناه من عدم كون الإعادة نقضا. فتدبر.
ولا يخفى عليك أن ترتب المقتضيات المزبورة على مورد اليقين والشك، إذا
كان كافيا في صدق النقض، فلا وجه للايراد عليه: بأن كون الإعادة نقضا إنما هو
بملاحظة الامر الظاهري واقتضائه للاجزاء فكيف يكون النقض مع قطع النظر
عنه محققا، حتى يكون النهي عنه في قوة عدم ايجاد الإعادة - والحال أن الحكم
لا يحقق موضوع نفسه وجه عدم وروده: أن من كان متطهرا واقعا يجوز له
الدخول في الصلاة وتلك الصلاة علة لحصول ملاكها الباعث على الامر،
وحصوله علة لسقوطه.
وحينئذ، فلا يجب الإعادة، فكما أن الامتناع في نفسه نقض كذلك الإعادة،
والتعبد بالطهارة أمر بالصلاة معها، وموجب لعدم الإعادة، لكون الامتناع عن
الدخول نقضا ولكون الإعادة بعد حصول الملاك نقضا.
وأما إشكال عدم كون ايجاب الإعادة، وعدم ايجابها من الآثار الشرعية

(1) هو المحقق الآشتياني - قده - في الجزء الثالث من شرحه على الرسائل: 28
91

المترتبة على الطهارة، فهو وارد على اي حال، وسيأتي إن شاء الله تعالى الجواب
عنه.
واما على الثاني - وهو كون وجوبها خلفا لمنافاته لحرمة نقض اليقين بالشك
الراجعة لبا إلى الامر بالصلاة مع الطهارة المشكوكة المقتضي للاجزاء، وعدم
وجوب الإعادة.
فتقريبه: ان قوله عليه السلام: (لأنك كنت على يقين من طهارتك
فشككت) (1) تارة - من باب تعليل صحة الصلاة، وعدم لزوم الإعادة بوجود
شرطها، بتحقيق موضوعها في السابق، وجعل الشرطية لها في حال الشك فيها
وأخرى - من باب التوطئة لتحقيق الامر الظاهري الاستصحابي المقتضي
للاجزاء حتى يكون وجوب الإعادة منفيا بمنافاته للامر الظاهري المقتضي،
للاجزاء، الا ان كون الإعادة داخلة تحت عنوان النقض المنهي عنه، لمكان وجود
الشرط، وجعل الشرطية له بقاء، هو الظاهر، لان الظاهر كفاية كبرى حرمة نقض
اليقين في عدم وجوب الإعادة.
بخلاف منافاة وجوب الإعادة للامر بالصلاة، مع الطهارة الكذائية، فإنه لا
ينافيه بالذات، بل بتبع اقتضائه للاجزاء، والملازمة غير ظاهرة، ولا مفروغ عنها،
حتى يكتفي في مقام نفي وجوب الإعادة بمجرد الامر الظاهري.
ومما ذكرنا يتضح فساد القياس بمثل قوله (الخمر حرام لأنه مسكر) بدعوى
ان لا يستقيم التعليل به، الا بملاحظة كبرى كلي، وهي: ان كل مسكر حرام،
فالكبرى الكلية في منصوص العلة دائما مطوية، فكذا لا يضر هنا انطواء الكبرى
كلية، وهي: ان كل امر ظاهري مقتض للاجزاء، بعد تعليل عدم وجوب الإعادة
بوجود الامر الظاهري.
وجه الفساد: ان تعليل عدم وجوب الإعادة بوجود الامر الظاهري لا يكفيه
الكبرى المناسبة للعلة، وهي: أن كلما كان الامر الظاهري موجودا، فالإعادة غير

(1) الوسائل ج 2: الباب 41 من أبواب النجاسات 1060 الحديث 1.
92

واجبة - كما كان يكفي (كل مسكر حرام) في حرمة الخمر المعللة بالاسكار - بل
لابد من كبرى أخرى غير مستفادة من العلة، وهي: كل امر ظاهري يقتضي
الاجزاء، فلا يقاس انطواء هذه الكبرى بانطواء الكبرى في منصوص العلة، فلا
تغفل.
ثم إن الظاهر من عبارة شيخنا الأستاذ - قده - في تقريب حسن التعليل هو
الوجه الأول، دون الثاني، كما يدل عليه قوله - قده - (موجبة لنقض اليقين
بالشك)، وقوله - قده - في الهامش (1) بلزوم النقض من الإعادة وقد عرفت ما
يتعلق به من النقض والابرام
قوله: فإنه لازم على كل حال... الخ
إن كان الغرض ورود الاشكال المتقدم على رأي حال، فقد عرفت في أول
البحث عن هذه الصحيحة: أن إرادة قاعدة اليقين منوطة بحمل قوله (فرأيت فيه)
على رؤية نجاسة ما لا تلك النجاسة المظنونة الإصابة، ومعه لا يقين بوقوع
الصلاة في النجاسة، حتى يرد إشكال نقض اليقين باليقين
وإن كان الغرض ورود إشكال اخر - بناء على إرادة قاعدة اليقين - بتقريب: أن
قاعدة اليقين لا تجري حال الصلاة، بل بعدها، لتقومها بالشك المحقق برؤية
نجاسة يحتمل أنها تلك النجاسة التي ظن إصابتها، ويحتمل أن تكون واردة عليه
بعد الصلاة.
فعليه فلا أثر للقاعدة الا عدم وجوب الإعادة، وهو اثر شرعي، ولا يرد نظيره
على الاستصحاب، لان المترتب على الطهارة قبل الصلاة - الذي هو موقع جريان
الاستصحاب - هي الشرطية، ولازم اقتران الصلاة بشرطها في هذه الحال عدم
الإعادة لا أن المجعول هو عدم وجوب الإعادة، ولا معنى للتعبد بالشرطية بعد

(1) قال - قده - في الهامش في وجه التأمل.
(ان اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ليس بذلك الوضوح كي يحسن بملاحظته التعليل بلزوم النقض
من الإعادة كما لا يخفى. انتهى)، راجع حقائق الأصول ج 2 ص 420
93

الصلاة.
فيمكن الجواب عنه: بأن الإعادة أو عدمها - فيما يمكن التعبد به - راجع إلى
جعل الوجوب بقاء، أو جعل عدمه بقاء، فمرجع الامر في قاعدة اليقين إلى
التعبد بعدم الامر بالصلاة بقاء
نعم فيما لا يمكن التعبد به - كصورتي القطع بالامتثال أو بعدمه - فوجوب
الإعادة وعدمه عقليان، راجعان إلى لزوم إطاعة الامر وعدمه، لسقوطه بالإطاعة،
فتدبر جيدا.
(الاستدلال بصحيحة ثالثة لزرارة)
قوله: والاستدلال بها على الاستصحاب مبني... الخ
توضيح المقام: أن محتملات الرواية (1) ثلاثة:
أحدها إرادة اليقين بعدم اتيان الركعة الرابعة مثلا، ويراد من حرمة نقض اليقين
- بعدم إتيانها - إيجاب الركعة الرابعة، وأما كون اللازم إتيانها موصولة، أو مفصولة،
فإنما هو بدليل اخر.
فإتيانها موصولة بالأدلة الدالة على مانعية الزيادة - من حيث التكبيرة
والتسليمة، ونحوهما - وإتيانها مفصولة بما دل في المقام على لزوم التسليمة
قبل الشروع في الرابعة، والبدأة فيها بالتكبيرة وهكذا...
وبالجملة: كما أن اعتبار سائر الشرائط - في الركعة الرابعة - ليست بدليل
الاستصحاب بل باطلاق أدلة الشرائط الموجبة لاعتبارها في كل صلاة، سواء
كانت واجبة واقعا، أو ظاهرا.
فكذا اعتبار وصل الرابعة - بعدم تخليل ما يوجب فصلها - بتلك الأدلة، ودليل
المورد مقيد لتلك الاطلاقات، لا لاطلاق دليل الاستصحاب، ومنه علم ما في

(1) - الصحيحة الثالث لزرارة: الوسائل ج 5 ص 321 ح 3
94

المتن في المسامحة في دعوى التقييد لا طلاق النقض.
والتحقيق: أن صلاة الاحتياط، إما هي صلاة مستقلة، لها أمر مستقل، تكون
على تقدير نقص الصلاة جابرة لها - من حيث مصلحتها - وعلى تقدير التمامية
نافلة، وإما هي جزء الصلاة التي وقع الشك في أثنائها، بحيث يدور أمرها بين
وقوعها جزء - حقيقة - من الصلاة، على تقدير النقص، ولغوا صرفا على تقدير
التمامية
فان قلنا بالأول، فلا معنى لاستصحاب عدم اتيان الرابعة الا التعبد ببقاء الامر
بها بعين الامر بالصلاة، كما هو شأن الجزء مع أن المفروض أن الامر بصلاة
الاحتياط أمر مستقل بصلاة مستقلة لا أنه بقاء الامر الأول - لا واقعا ولا ظاهرا -
سواء قيل بتبدل الحكم الواقعي إلى حكم واقعي اخر، أو بأنه حكم ظاهري مع
بقاء الحكم الواقعي بأربع ركعات على حاله، لان صلاة الاحتياط على اي حال
صلاة أخرى، لها أمر اخر إما واقعا، أو ظاهرا، فلا يعقل أن يكون عنوان النقص
وبقاء الامر محفوظا
لا يقال: ليس الغرض من الاستصحاب التعبد ببقاء الامر ليرد المحذور
المذكور، بل التعبد بالامر بصلاة الاحتياط، بتقريب: إن موضوعه من شك بين
الثلاث والأربع، ولم يأت بالرابعة واقعا.
فاستصحاب عدم إتيان الرابعة للتعبد بجزء الموضوع لترتيب هذا الحكم
عليه، لا للتعبد ببقاء الامر.
لأنا نقول: أولا - إن موضوعه كما يشهد له أدله صلاة الاحتياط (من شك بين
الثلاث والأربع) لا مقيدا بأنه لم يأت بالرابعة واقعا، حتى يحتاج في تحقق
موضوعه إلى الأصل.
نعم حيث أن الغرض منها جبر النقص فلا محالة لا تكون واجبة مع التمامية
نظير الأوامر الطريقية، لا أن موضوع التكليف متقيد بعدم الاتيان.
وثانيا - إن كان التكليف بصلاة الاحتياط متعلقا بمن لم يأت بالرابعة واقعا،
95

فلا محالة لا يعقل بلوغه إلى درجة فعلية، إذ مع فعلية موضوعه - المنوطة بها
فعلية حكمة - يرتفع الشك، فلا يبقى مجال لفعلية حكمه -.
ومع عدم فعلية موضوعه لا موقع لفعلية حكمه، والانشاء - بداعي جعل
الداعي - لا يترقب منه الا فعلية الدعوة بفعلية موضوعه - والانشاء - لا بهذا
الداعي - ليس بحكم الحقيقي في شئ.
وحيث لا يعقل أن يكون التكليف الواقعي مرتبا على الاتيان، فلا مجال للتعبد
الظاهري، إذ هو فرع معقولية التكليف الواقعي حتى يتحقق احتماله باحتمال
ثبوت موضوعه واقعا.
هذا كله إن كانت الاحتياط صلاة مستقلة.
وإن قلنا بالثاني - وهو كونها جزء حقيقة لا من حيث الأثر فقط - فمقتضى
جزئيتها كونها مأمورا بها بعين الامر بالصلاة إذ لا وجوب استقلالي لا نفسيا ولا
غيريا للجزء الحقيقي.
ومن الواضح: عدم كون الصلاة - الواجبة بالوجوب النفسي الممكن ببقاء أمرها
واقعا بعينه - مشتملة على تسليمتين وتكبيرتين، فليس الاشكال من حيث
مانعية زيادة التسليمة والتكبيرة، حتى يقال بتقييد اطلاق أدلة المانعية، وبقاء الامر
بذوات الاجزاء على حالها
بل الاشكال من حيث وجوب هذه الزيادات بنحو الجزئية، التي لا مجال
لدخولها في الواجب، الا بتبدل الامر بما عداها إلى الامر بما يشتمل عليها. فلا
محالة هناك امر اخر بصلاة مشتملة عليها، اما واقعا أو ظاهرا وعلى اي حال لا
يعقل عنوان بقاء الامر الواقعي تعبدا، كما هو مفاد الاستصحاب.
ثانيها - إرادة الاحتياط المقرر شرعا - هنا - من (اليقين) حيث إنه عمل يوجب
اليقين بالبراءة، وعدم النقص والزيادة، فالمراد - من عدم نقض اليقين - عدم رفع
اليد عن اليقين بالعمل بأحد طرفي الشك بمجرده.
ويكون المراد من عدم ادخال الشك في اليقين، وعدم خلط أحدهما بالآخر.
96

عدم مزاحمة اليقين بالشك، حيث أنه لكل منهما مقام من الوثاقة والوهن، فلا
ينبغي جعل الوثيق متزلزلا، أو جعل المتزلزل وثيقا باعطاء كل منهما منزلة الاخر.
وهذا المعنى ما اختاره الشيخ الأعظم - قده - في الرسائل (1) معترفا بأنه بعيد
في نفسه، لكنه يتعين بعد عدم إمكان حمله على الاستصحاب، وهو كما افاده
- قده - بعيد جدا.
إذ الظاهر من النهي عن نقض اليقين فرض وجودهما معا، كما هو ظاهر من
اخر الخبر، حيث قال عليه السلام: (ويتم على اليقين فيبني عليه)، فلا بد من
وجود يقين يتم الصلاة عليه، أو يبقيه ولا ينقصه أو لا يجعله مزاحما بشئ.
وما أفاده - قده - راجع في الحقيقة إلى الامر بتحصيله، لا إلى عدم نقضه في
فرض حصوله.
ثالثها - إرادة اليقين المذكور في صدر الصحيحة، حيث قال عليه السلام: (إذا
لم يدر في ثلاث هو أو أربع، وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أخرى، ولا شئ
عليه، ولا ينقض اليقين بالشك..) الخبر (2) وتطبيق العمل المقرر شرعا على العمل بهذا اليقين بتقريب: ان اليقين
المحقق - هنا - هو اليقين بالثلاث (لا بشرط) في قبال الثلاث (بشرط لا) الذي هو
أحد طرفي الشك، والثلاث (بشرط شئ) الذي هو الطرف الآخر، والأخذ بكل
من طرفي الشك فيه محذور النقص، بلا جابر، أو الزيادة بلا تدارك.
بخلاف رعاية اليقين بالثلاث (لا بشرط) فإنها لا يمكن الا بالوجه الذي قرره
الإمام عليه السلام من الاتمام على ما أحرز، وإضافة ركعة منفصلة، فإنها جابرة
من حيث الأثر على تقدير النقص، وزيادة خارجة عن غير مضرة على تقدير
التمامية.
وأما إضافة ركعة متصلة، فإنها من مقتضيات اليقين (بشرط لا)، والمفروض أنه

(1) الرسائل ص 332.
(2) في الصحيحة الثالثة لزرارة (الوسائل: ج 5: الباب 10 من أبواب الخلل: ص 321: الحديث 3)
97

(لا بشرط).
كما أن الاقتصار على الثلاث المحرزة - فقط - من مقتضيات اليقين بالثلاث
(بشرط شئ) فان المفروض أن الفريضة رباعية، مع أن الاحراز متعلق بالثلاث لا
بشرط، فرعاية مثل هذا اليقين وعدم رفع اليد عنه، لا تكون الا بما قرره الإمام عليه السلام
. والله أعلم.
(الاستدلال برواية محمد بن مسلم)
قوله: لظهوره في اختلاف زمان الوصفين... الخ.
لدلالة الفاء على الترتيب، الذي لا مجال فيه الا للزماني، بل ربما يدعي أنه
أظهر من الخبر الاخر، وهو قوله عليه السلام (من كان على يقين فشك) (1) ولا يتم
الا بارجاع الضمير في قوله (فأصابه) إلى (اليقين)، مع أن الظاهر رجوعه إلى
الشخص، كما في الخبر الاخر.
وعن الشيخ الأعظم - قده - (2) أن صريح الرواية اختلاف زمان الوصفين،
وظاهرها اتحاد زمان متعلقهما فيتعين حملها على قاعدة اليقين.
أقول: إن استظهرنا من الترتيب الزماني أن زمان حصول اليقين، وتحققه قبل
زمان تحقق الشك، بحيث يكون كل واحد من الزمانين مختصا بأحد الوصفين،
فلا حاجة إلى استظهار اتحاد زمان المتعلق، إذ لا يعقل في مثل المقام - الذي
يعتبر فيه عنوان نقض اليقين - الا ان يكون متعلق اليقين والشك واحدا من جميع
الجهات، حتى في الزمان.
وإن استظهرنا - من الترتيب الزماني - أن زمان حدوث اليقين قبل زمان حدوث
الشك، فهو بنفسه، وان يستلزم اتحاد زمان المتعلق، لا مكان بقاء اليقين إلى

(1) - الخصال في حديث الأربعمأة: الفقرة (130)
(2) الرسائل ص 333.
98

حدوث الشك، فلا تتعين القاعدة الا بعد استظهار وحدة المتعلق زمانا، لكنه إذا
فرض ظهور الرواية في اتحاد المتعلق زمانا، فلا حاجة إلى اثبات اختلاف
الوصفين زمانا، لاستحالة اجتماع اليقين والشك زمانا، مع اتحاد متعلقهما زمانا،
فأحد الامرين كاف في اثبات قاعدة اليقين.
ومنه يعلم: أن تجرد اليقين والشك من ذكر المتعلق، إن كان دالا على وحدة
المتعلق - بقول مطلق - فحال سائر روايات المطلقة حال هذه الرواية. فلو كانت
العبارة (من كان على يقين وشك) لكان أيضا دليلا على قاعدة اليقين، وان كان
التجرد غير كاف في ذلك، فمجرد الدلالة - على الحدوث بعد الحدوث - لا
يوجب تعين قاعدة اليقين.
وعليه فنقول: أما الدلالة على اختلاف زمان الوصفين، فغايتها الحدوث بعد
الحدوث، لا الحصول بعد الحصول، والأول يجامع الاستصحاب، بل باعتبار أن
الغالب سبق حدوث اليقين في باب الاستصحاب - كما يشهد به سائر أخبار
الباب - يتعين وروده مورد الغالب، وعدم خصوصية لسبق حدوث اليقين، كما
في قاعدة اليقين.
وأما الدلالة على اتحاد المتعلق - من حيث الزمان - فلا موجب لها، إذ ليس هنا
عنوان الواحد، حتى يدعي أن الظاهر منه هو الواحد من جميع الجهات.
وأما عنوان النقض، فقد تقدم الكلام فيه، وأنه لا يقتضي الا التجرد في مقام
الاسناد، إذ ليس هذا العنوان الا في مرحلة الاسناد الكلامي، ومجرد اتحاد
المتعلق - ذاتا، وتجرده عن الحدوث والبقاء - كاف في صدق النقض، لا أن تعينه
من حيث وحدة الزمان لازم في صدق النقض، حتى تتعين القاعدة.
بل يمكن أن يقال: أن تغاير زمان الوصفين كاف في الدلالة على تغاير زمان
الموصوفين، إذ الظاهر من اليقين بالطهارة - لولا القرينة - هي الطهارة حال اليقين
لا قبلا ولا بعدا، كما أن الظاهر من الشك في الطهارة - لولا القرينة - أيضا ذلك، فان
الظاهر من اسناد كل معنى إلى غيره، أنه كذلك حال الاسناد، الا أن حفظ هذا
99

الظهور - على اي حال - غير ممكن هنا، لان اليقين بالطهارة الفعلية - حال حدوث
اليقين - ليس أحد ركني الاستصحاب، بل اليقين المجامع مع الشك.
فلا محالة يتعلق اليقين بالطهارة السابقة.
كما أن الشك في الطهارة الفعلية - حال الشك - ليس أحد ركني القاعدة، بل
الشك في الطهارة السابقة، فلا بد من رفع اليد عن الظهور المزبور، إما في طرف
الشك فيوافق قاعدة اليقين، أو في طرف اليقين فيوافق الاستصحاب.
قوله: ولعله بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين... الخ.
فتوصيف اليقين والشك بالسبق واللحوق بالعرض لا بالذات، الا أن مجرد
احتمال كون السبق بالعرض، لا يوجب رفع اليد عن ظهور القيد في الخصوصية،
ولا عن ظهور الاسناد إلى ما هو له، مضافا إلى أن توصيف اليقين والشك بالسبق
واللحوق بالعرض، - لا تصاف متعلقهما بهما بالذات - لا يخلو عن شئ، إذ لا بد
في ذلك من نحو من الاتحاد بين الوصف والموصوف - ولو اتحادا وضعيا،
كالجالس في السفينة - حتى ينسب ما يعرض ما بالذات إلى المتحد معه
بالعرض، ولا اتحاد للعلم الا مع المعلوم بالذات، وهو غير واقع في الخارج، حتى
يكون له السبق الزماني، ليوصف به العلم المتحد معه، وما هو موصوف بالسبق
الزماني - أي المعلوم بالعرض - غير متحد مع العلم ليسري إليه وصفه، فما له
الاتحاد لا سبق له، وماله السبق لا اتحاد له.
نعم العلم الذي هو نحو وجود المعلوم في الخارج، كما في المرتبة الأخيرة
من علمه الفعلي تعالى، فالموجود بنفس ارتباطه الوجودي - الذي هو عين
حضوره لعلته - علم ومعلوم، وكلاهما موصوف بالسبق واللحوق الزمانيين هذا.
وأما دعوى ملاحظة اليقين بنحو الطريقية والمرآتية لمتعلقه، فيكون المعنى:
من كان على طهارة فشك، فحينئذ تكون الطهارة مفروضة الثبوت فيتعين
الاستصحاب
فمدفوعه: بما مر منا سابقا: من أن اليقين ليس من وجوه متعلقه، حتى
100

يلاحظ فانيا فيه، ليمكن إرادة ذات المتيقن. مضافا إلى ما قدمناه (1) من الشواهد
على بقاء اليقين بحاله.
(في الاستدلال بخبر الصفار)
قوله: حيث دل على أن اليقين بالشعبان... الخ.
الأولى تبديله باليقين بعدم دخول شهر رمضان، فإنه موضوع الحكم وجودا
وعدما، لا كونه من شعبان وجودا وعدما الا للتعبد بحكمه، وهو استحباب
صومه.
قوله: وربما يقال: إن مراجعة الأخبار... الخ.
ففي رواية أبي جعفر عليه السلام قال: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه
فافطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية) (2).
وفي رواية أخرى (صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظن) (3).
وفي رواية أخرى (صم لرؤيته وأفطر لرؤيته وإياك والشك والظن فان خفي
عليكم فأتموا الشهر الأول ثلاثين) (4).
وفي رواية أخرى (شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدوا بالتظني) (5).
وعليه فيمكن أن يراد من اليقين في قوله عليه السلام (اليقين لا يدخله الشك،
صم لرؤيته وأفطر لرؤيته) (6). هو اليقين بدخول شهر رمضان المنوط به وجوب.

(1) - تقدم في ص 67.
(2) - الوسائل ج 7: الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان: ص 182: الحديث 2
(3) - الوسائل ج 7: الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان: ص 183: الحديث 6
(4) - الوسائل ج 7: الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان: ص 184: الحديث 11
(5) - الوسائل ج 7: الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان: ص 185: الحديث 6
(6) - في الحديث المبحوث عنه (الوسائل ج 7: الباب 3 من أبواب احكام شهر رمضان: ص 184:
الحديث 13).
101

الصيام، واليقين بدخول شوال المنوط به جواز الافطار.
ومقتضى هذه الإناطة عدم وجوب الصوم في يوم الشك، لا التعبد بعدم
دخول شهر رمضان لليقين بعدمه سابقا.
نعم ظاهر قوله عليه السلام: (اليقين لا يدخله الشك) فرض اليقين والشك،
وأنه لا يزاحم اليقين بالشك، وليس هو الا اليقين بعدم دخول شهر رمضان.
الا أن يقال: اليقين حيث أنه أنيط به وجوب الصوم، فلا يعطي حكمه للشك،
ولا ينزل الشك منزلته.
فالمراد أن اليقين هو المدار، وأنه لا يزاحمه في ماله من الحكم غيره - من الظن
والشك -
ومن المعلوم أن تفريع وجوب الصوم والافطار بالرؤية حينئذ على قوله عليه
السلام (اليقين لا يدخله... الخ) أنسب من تفريعه عليه - بناء على إرادة اليقين
بعدم دخول شهر رمضان - فان المتفرع عليه ابتداء عدم وجوب الصوم، لا وجوبه
بالرؤية الا بالملازمة، فان عدم الوجوب يستمر إلى أن يتيقن بالخلاف، فحينئذ
يجب الصوم.
ومما ذكرنا - في معنى الرواية - يتضح أن حملها على ما يوافق تلك الأخبار
دون الاستصحاب لا يقتضي حمل اليقين على المتيقن - بتوهم أن المراد إدخال
صوم يوم الشك في أيام الصيام اليقينية -.
وقد عرفت أن المراد: إنه لا يعامل مع الشك معاملة اليقين، وأنه لا يعطي
حكمه، ولا يزاحم اليقين - فيما له من المنزلة - غيره من الشك والظن.
قوله: هو اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه... الخ.
فيه مسامحة، إذ مقتضى ترتب وجوب الافطار على الرؤية - كوجوب الصوم
على الرؤية - هو أن الموضوع في كليهما هو اليقين بالدخول، وإن كان اليقين
بالخروج مستلزما لليقين بالدخول.
102

(الاستدلال بكل شئ طاهر والماء كله طاهر وكل شئ حلال)
قوله: وتقربت دلالة مثل هذه الأخبار على الاستصحاب الخ.
تحقيق المقام: أن محتملات هذه الروايات كثيرة، ذهب إلى كل منها ذاهب:
فمنها - أن مفادها قاعدة الطهارة واستصحابها معا، كما حكي عن الفصول (1).
ومنها - أن مفادها إثبات الطهارة الواقعية، للإشارة بعناوينها الأولية
واستصحابها وقاعدة الطهارة، كما عن شيخنا العلامة رفع الله مقامه في تعليقته
المباركة (2).
ومنها - أن مفادها إثبات الطهارة الواقعية واستصحابها فقط، كما هو الظاهر
المتن.
ومنها - أن مفادها خصوص استصحاب الطهارة ولا يأباه صدر كلامه - قده - في
المتن واستظهره الشيخ الأعظم - قده - (3) في خصوص (الماء كله طاهر حتى
تعلم أنه نجس) (4).
ومنها - أن مفادها إثبات الطهارة الواقعية فقط، كما يساعده ما سلكه صاحب
الحدائق (5) - ره - من كون النجاسة حقيقة متقومة بالعلم.
أما الاحتمال الأول فتقريبه: أن مدخول (حتى) - وهو العلم بالقذارة - غاية
وحد لأمر ممتد قبله، والعين الخارجية - كالماء وغيره - لا معنى لامتدادها بذاتها
إلى زمان العلم.
فالموصوف بالامتداد: أما وصفه - وهو كونه مجهول الحال - فإنه قابل للامتداد

(1) الفصول: الدليل الخامس على حجية الاستصحاب ص 373.
(2) ص 185.
(3) الرسائل ص 336.
(4) الوسائل ج 1 الباب 1 من المياه: ص 100: الحديث 5 الا أن في الحديث (أنه قذر) ولم نجد
حديثا مطابقا للمتن.
(5) الحدائق ج 1 ص 136.
103

إلى أن يتبدل بنقيضه. واما حكمه بلحاظ امتداد الطهارة في زمان الجهل، فعلى
الأول: تكون الغاية حدا للوصف المأخوذ في الموضوع، وعلى الثاني: تكون حدا
لحكمه، والجهل - المدلول عليه بالالتزام - قيد للموضوع على الأول وقيد -
لحكمه - على الثاني والقيد فيهما جعلي والغاية حينئذ عقلية، بداهة انتفاء
الشئ عند تبدله بنقيضه - موضوعا كان أو حكما.
ومثل هذه الغاية غير داخلة في البحث عن مفهوم الغاية، لانتفاء سنخ
المغيى، وهو الحكم الظاهري كلية بسبب العلم، سواء كان الحكم الظاهري
مماثلا للمغيى، أو مماثلا لحكم الغاية.
وأما القيد المستفاد من الغاية - وهو الجهل - فسواء كان قيدا للموضوع، أو قيدا
للمحمول، فهو يوجب كون الحكم ظاهريا، ولا يختص بالأول، كما زعمه بعض
الأجلة (1) نظرا إلى أن الحكم الظاهري هو الحكم المرتب على المشكوك بما هو
فإنه مجرد اصطلاح.
بل الحكم المرتب على ذات الموضوع، إن كان على تقدير الجهل، وبلحاظه،
كان أيضا حكما ظاهريا، كما أن كونه قيدا للحمول لا يأبى عن أن يكون مفاد
قاعدة الطهارة، بتوهم أن استمرار الطهارة - إلى زمان العلم بالقذارة، مع تجرد
الموضوع عن الجهل - هو عين الاستصحاب، وذلك لان استمرار الحكم باستمرار
موضوعه المأخوذ فيه الجهل، واستمرار الحكم باستمرار تقديره المعلق عليه
كلاهما عقلي، ومتعلق الاستمرار المستفاد من الغاية هو الحكم الظاهري،
المرتب على المجهول، أو المعلق على الجهل وبلحاظه، والاستمرار الذي هو
عين الاستصحاب هو استمرار الحكم الواقعي عنوانا تعبدا.
فمجرد رجوع القيد إلى المحمول لا يوجب تعين مدلول الرواية في
الاستصحاب، ولا يأبى عن كونه مفاد قاعدة الطهارة.
ومنه يتضح: أنه لا مانع من الاخذ بظاهر القضية، حيث أن ظاهرها رجوع

(1) هو المحقق الآشتياني في الجزء الثالث من شرحه على الرسائل ص 39.
104

الغاية إلى النسبة الحكمية، كسائر توابع الكلام فهو - بحسب عنوان القضية - قيد
للنسبة الحكمية بين عنوان الظاهر، وعنوان الموضوع، وبحسب اللب قيد للنسبة
الحكمية بين حكم الطهارة وموضوعه.
وبهذا الاعتبار يقال: إنه قيد للمحمول لا بالدقة، ولا موجب أصلا لجعله قيدا
للموضوع ومحددا له.
ومما ذكرنا - أيضا - يتضح أن الغاية بناء على إرادة القاعدة، أو الاستصحاب
على نسق واحد، لا أنها على الأول غاية للحكم بثبوت الطهارة ظاهرا، وعلى
الثاني غاية للطهارة المحكومة بالاستمرار، كما عن الشيخ الأعظم - قده - في هذا
المقام (1).
وذلك لان الغاية - على اي حال - عقلية ينقطع بها التعبد من باب القاعدة،
والتعبد بالاستصحاب، والقيد المفهوم منها: إما قيد للموضوع المحكوم بالطهارة
أو للحكم بها، وإما قيد للموضوع المحكوم عليه باستمرار الطهارة الواقعية
العنوانية، أو قيد للحكم بالاستمرار.
وعلى اي حال ذلك الحكم بالطهارة، مستمر عقلا باستمرار موضوعه أو
باستمرار تقديره.
كما أن الحكم بالابقاء والاستمرار مستمر عقلا باستمرار موضوعه المتقوم
بالشك، أو باستمرار تقديره المعلق عليه الحكم بالاستمرار.
فالاستمرار الذي هو مقوم الاستصحاب غير استمرار الحكم به، والمراد من
كون الحكم في القاعدة، أو الاستصحاب مستمرا إلى العلم بالقذارة، كونه كذلك
بلحاظ مرحلة فعلية الحكم الكلي بفعلية موضوعه، أو بفعلية تقديره، وهو غير
استمرار الحكم الكلي الثابت لموضوعه الكلي، أو المعلق على تقدير أمر كلي،
فإنه يرفع بالنسخ. فافهم وتدبر فإنه حقيق به.
وأما الاحتمال الثاني: وهو الجمع بين قاعدة الطهارة والاستصحاب - كما

(1) الرسائل ص 334.
105

نسب إلى صاحب الفصول - ره - فمختصر القول فيه: إن ما حكاه الشيخ الأجل -
قده - في الرسائل (1) عن صاحب الفصول - ره - لا يوافق ما في الفصول وعبارته
في الفصول هكذا:
(ثم اعلم أن الروايتين الأوليين تدلان على أصلين: الأول: إن الحكم الأولي
للمياه أو الأشياء هو الطهارة، ولو بحسب الظاهر عند عدم العلم بالنجاسة، وهذا
لاتعلق له بمسألة الاستصحاب، وان تعلق به جملة من أحكامها.
الثاني: أن هذا الحكم مستمر إلى زمن العلم بالنجاسة، وهذا من موارد
الاستصحاب وجزئياته). انتهت عباراته (2).
وظاهر قوله - ره - (ولو بحسب عند... الخ) يوافق ما احتمله شيخنا العلامة
الأستاذ - قده - في تعليقته الأنيقة (3) من كون الرواية متكفلة بعمومها للطهارة
الواقعية للأشياء، وباطلاقها - لصورة الشك - للطهارة الظاهرية، والألم يكن معنى
لقوله - ره - (ولو بحسب الظاهر) بل كان عليه أن يقول - كما حكاه الشيخ الأجل
قده - عنه - (الحكم الأولي للأشياء ظاهرا هي الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة)
ولعل هذا التصرف منه - قده - بزعم أنه لا معنى لهذا التعبير، مع أنه لا يمكن
تقريب الجمع الا بذلك، حتى يكون مجال للإشارة إلى الحكم الذي يقبل
الاستمرارية بالغاية.
وعليه فيشترك هذا الاحتمال مع الاحتمال الثالث من حيث التقريب والدفع.
وأما مع قطع النظر عن ذلك، ودعوى دلالة الرواية على جعل حكمين
ظاهرين فقط، فالتقريب في غاية الصعوبة، فان الغاية، وان دلت بنفسها على أن ما
قبلها امر له امتداد واستمرار، وما لم يفرض فيه استمرار لا غاية له.
وكذا على أن الاستمرار ظاهري، لكونه الغاية علما ينقيض المغيى إلا أن غاية

(1) الرسائل ص 335.
(2) الفصول ص 373.
(3) ص 185
106

الامر دلالة الرواية على الحكم بطهارة مستمرة إلى زمان العلم بالقذارة وليس كل
استمرار استصحابا، بل الاستمرار الواقع طرفا للحكم، فالحكم باستمرار الطهارة،
وبابقائها هو الاستصحاب، لا الحكم بطهارة مستمرة إلى أن يتبدل الموضوع
بنقيضه، وعدم الجامع بين الحكم بالطهارة والحكم باستمرارها وابقائها واضح،
وعدم امكان كون الظاهر وجودا لهذين المعنيين المتباينين أيضا في غاية
الوضوح
مضافا إلى أن الحكم المجعول أولا، المطلوب استمراره، حيث أنه حكم
ظاهري، فليس الحكم باستمراره من استصحاب الطهارة، فان استصحاب الطهارة
- في قبال قاعدة الطهارة - هو الحكم بابقاء الطهارة الواقعية تعبدا.
وأما بقاء الطهارة الظاهرية الثابتة بقاعدة الطهارة فببقاء موضوعها وهو الشك.
وأما ما أورده عليه شيخنا الأعظم - قده - في الرسائل من أن الغاية من توابع
الحكم الأول الذي هو موضوع للحكم بالاستمرار، فإذا كانت غاية للحكم الثاني
أيضا - كما هو المفروض - لزم تقدم الشئ على نفسه.
فيمكن دفعه: بأن وحدة الغاية ليست شخصية حتى يلزم من اخذها في
موضوع الحكم الثاني تقدم الشئ على نفسه، بل وحدة عمومية تنطبق على كل
غاية لكل حكم ظاهري.
فإذا فرض هناك جامع بين الحكمين، وفرض إمكان الجمع بين الحكمين،
كانت الغاية غاية لكلا الحكمين، فلا اشكال من حيث وحدة الغاية، بل من حيث
عدم الجامع بين الحكمين، حتى تكون الغاية الجامعة غاية للجامع، ومن حيث
عدم إمكان الجامع بين الحكمين، حتى تكون الغاية غاية لكل منهما، كما إذا ذكر
كل منهما في الكلام وتعقبهما غاية واحدة.
وأما توهم أن الغاية: في قاعدة الطهارة - قيد للموضوع، وفي الاستصحاب
قيد للمحمول ومقتضى قيديتها للمحمول ملاحظة الموضوع مجردا عن القيد،
والجمع بين التجريد والتقييد في لحاظ الموضوع جمع بين المتنافيين.
107

فمندفع بما مر (1) منا: من أن الغاية - بحسب ظاهر الكلام - حد للنسبة
الحكمية بين الموضوع ومحموله، سواء المحمول هي الطهارة بالفعل، أو ابقاء
الطهارة وبحسب اللب أيضا لا موجب لكونها قيدا للموضوع، فلا يلزم الجمع بين
التجريد والتقييد، وسيجئ إن شاء الله تعالى (2) بعض الكلام في الغاية. ومن الله
الهداية.
وأما الاحتمال الثالث: وهو الجمع بين الطهارة الواقعية، والطهارة
الاستصحابية، والطهارة بالقاعدة، فقد شيد بنيانه ومهد أركانه شيخنا الأستاذ،
العلامة رفع الله مقامه في تعليقته المباركة على الرسائل (3).
ومحصله: أن الرواية بعمومها الافرادي تدل على طهارة كل شئ واقعا، لان
الموضوع هو الشئ الذي يكنى به عن الأعيان الخارجية من دون تقيده بشئ
في ظاهر الكلام، فهو على حد سائر الأحكام المرتبة على الموضوعات الواقعية،
فيكون حجة على طهارة كل شئ بنحو ضرب القاعدة، وإعطاء الحجة، حتى
يكون مرجعا بعد تخصيصه بالنجاسات الذاتية والعرضية.
وباطلاقها الأحوالي - الشامل لحالة كون الشئ مشكوك الطهارة والنجاسة -
تدل على طهارة المشتبه ظاهرا، وهو مفاد قاعدة الطهارة، فموضوعها يتم
بالاطلاق، لا من ناحية الغاية، ليلزم بعض المحاذير المتقدمة وبغايتها - الدالة
على الاستمرار من حيث ذاتها، وعلى كونه ظاهرا، من حيث كونها علما بالنقيض
- تدل على الحكم باستمرار الطهارة الواقعية الثابتة في المغيى تعبدا وهو عين
الاستصحاب.
فالمغيى بعمومه متكفل للطهارة الواقعية، وباطلاقه متكفل للطهارة الظاهرية،
ولغاية بنفسها متكفلة لاستمرار الطهارة الواقعية، فلا يلزم استعمال قوله عليه

(1) تقدم ص 97.
(2) ص 103.
(3) في ذيل حديث (كل شئ طاهر...) ص 185.
108

السلام (طاهر) في إثبات الحكم وفي استمراره.
كما أن الاختلاف بالواقعية والظاهرية في الحكم، من ناحية كون الموضوع هو
الشئ بنفسه - عموما - وهو بما هو مشكوك - إطلاقا - وهو لا يوجب استعمال
قوله عليه السلام (طاهر) في معنيين متباينين.
وله - قده - تقريب اخر (1) في شمول الرواية للمشتبه: وهو الشمول بنفس
العموم الافرادي، نظرا إلى أن بعض الافراد ربما يكون بنفسه - لا من حيث طرو
حالة - مشكوك الحال، كماء الكبريت مثلا، فحيث أن هذا المشتبه - بالشبهة
اللازمة لذاته - من أفراد العام، فهو طاهر بالعموم، بضميمة عدم الفصل - بين هذا
المشتبه وسائر المشتبهات - يدل العام على طهارة كل مشتبه، لان الدليل على
الملزوم دليل على لازمه فالعام بعمومه يتكفل طهارة كل شئ بما هو وبما هو
مشكوك.
أقول: أما الدلالة على مفاد قاعدة الطهارة، بالاطلاق، فمخدوشة بأن الاطلاق
إن كان جمعا بين القيود، بحيث كان مفاد الرواية: إثبات الطهارة للشئ بما هو،
والشئ بما هو مشكوك، فالامر كما أفيد من الدلالة على الكم الواقعي، وعلى
الحكم الظاهري.
وإن كان الاطلاق لتسرية الحكم إلى أفراد ذات الموضوع، من دون دخل لحالة
من الحالات وجودا، فلا يفيد الا الحكم الواقعي لذات الموضوع، وإن كان
مشكوك، والحكم الظاهري هو الحكم المرتب على الشئ - بما هو مشكوك - لا
على الشئ، وإن كان مشكوكا.
وبعبارة أخرى: موضوع الحكم الواقعي - بناء على الاطلاق - هي الماهية لا
بشرط القسمي، دون المقسمي، وموضوع الحكم الظاهري هي الماهية بشرط
شئ وهما تعينان متقابلان.
ومما ذكرنا يتضح: أن الجامع بين القيود بالاطلاق غير معقول، إذ الشئ في

(1) راجع تعليقته المباركة على الرسائل: 184.
109

استعمال واحد، ولحاظ واحد: إما أن يلاحظ متعينا بالتعين اللا بشرطي القسمي،
أو متعينا بالتعين بشرط شئ، وحيث انهما متقابلان لا يعقل لحاظهما في لحاظ،
واحد، لا جامع بين التعينين، كما لا يعقل الاهمال في الواقع، مع كون المتكلم
في مقام جعل الحكم الحقيقي جدا.
وأما انحفاظ موضوع الحكم الواقعي في موضوع الحكم الظاهري، فغير مناف
لما ذكرنا، لان الطبيعة لوحظت بنحو التعين اللا بشرطي القسمي في مورد الحكم
عليها، وهو الموجب لثبوت موضوعه حال الشك، لا أنها ملحوظة بهذا النحو من
التعين في مورد أخذها في موضوع جعل الحكم الواقعي على موضوعه، وجعل
الحكم الظاهري على موضوعه، مع أن ذات الموضوع واحد بحسب ملاحظته
بكلا التعينين المتقابلين.
وأما الدلالة على الحكم الواقعي والظاهري بالتقريب الأخير، فمخذوشة بأن
المشتبه - بالشبهة اللازمة لذات الموضوع - لم يرتب عليه حكم - بما هو مشتبه -
وإن كان مشتبها، بل رتب عليه الحكم بما هو ماء الكبريت مثلا، فعدم الفصل بين
افراد المشتبه بما هو مشتبه إنما يجدي لو ثبت الحكم للمشتبه بما هو مشتبه، لا
بذاته فتدبر جيدا.
وأما ما عن بعض أجلة العصر (1) من أن الحكم الظاهري متأخر عن الحكم
الواقعي في المرتبة، فكيف يعقل جعلهما في إنشاء واحد، مع أن موضوع الحكم
الواقعي في طول موضوع الظاهري.
فمندفع بما مر منا مرارا: أن تقدم الموضوع على حكمه طبعي لا زماني،
والمتقدم والمتأخر بالطبع ربما يكون لهما المعية في الوجود، ولذا يعقل جعل
الحكم الظاهري قبل جعل الحكم الواقعي فان ما هو موضوع للحكم الظاهري هو
الشك في الحكم بوجود العنواني لا بوجوده الخارجي وإن كان فعلية الحكم
الظاهري بفعلية موضوعه.

(1) هو المحقق الحائري - قده - في درره ص 170
110

وبالجملة: موضوع الحكم الظاهري هو الشك بوجوده العنواني، لا الخارجي،
فإنه بوجود الخارجي قائم بالشك لا بالحاكم، وموضوع الشك في الحكم الواقعي
بوجوده العنواني لا الخارجي لقيامه بالحاكم، لا بالشاك أو الظان أو العالم.
فالحكم الظاهري المجعول متأخر طبعا عن الحكم الواقعي بوجوده العنواني،
لا بوجوده الخارجي المجعول، فلا مانع من كون الحكمين الحقيقيين المجعولين
مجعولين في زمان واحد، فان المتقاربين في الزمان ليس بينهما تقدم وتأخر
طبعا.
مع أنه لو فرض التقدم والتأخر الطبعيين بينهما لم يلزم منه محذور، لان التقدم
أو التأخر الطبعي يجامع المعية بالزمان، بل يجامع الاتحاد في الوجود، فملاحظة
الموضوعين وجعل الحكم لهما لا مانع منه إذا لم يكن هناك مانع اخر، كما ذكرنا
من وحدة الشئ ووحدة اللحاظ.
كما أن الايراد عليه: بأن مقتضى إطلاقه الأحوالي لغوية ضرب القاعدة في
الشبهة الحكمية، إذ نفس الاطلاق رافع للشبهة فلا مجال للحكم بطهارته
الظاهرية.
إنما يرد إذا قلنا بالاطلاق من جميع الجهات، وأما إذا قلنا بالاطلاق من حيث
الشك فقط، لا من سائر الجهات، فلا يلغو ضرب القاعدة في الشبهة الحكمية.
هذا كله في دلالة المغيى على الطهارة الواقعية وعلى الطهارة الظاهرية
بالقاعدة.
وأما دلالة الغاية على الاستصحاب، فمختصر الكلام فيها: أن كلمتي (إلى
وحتى) للغاية، لا للاستمرار، وحيث أن الغاية والنهاية لا تكونان الا في ماله
امتداد واستمرار، فتدلان بالملازمة على أن المغيى أمر ممتد مستمر.
فان كان الغرض إنشاء الحكم بالاستمرار بنفس الغاية، فمقام الاثبات قاصر
عن ذلك، إذ ليس هناك ما يدل على الاستمرار حتى ينشأ به الحكم بالاستمرار، مع
أن الغاية من توابع المغيى، وملحوظه بلحاظه بنحو المعنى الحرفي، فلا يعقل
111

استقلالها بالانشاء، في قبال إنشاء المغيى، وعليه فلا يساعد مقام الثبوت، ومقام
الاثبات على جعل الحكم بالاستمرار بنفس الغاية.
وإن أريد - كما هو بعيد - استفادة إنشاء الحكم سابقا من الغاية، فلا شئ يقبل
جعل الحكم بالاستمرار به الا قوله عليه السلام (طاهر)
فيرد عليه جميع ما أوردناه في طي الاحتمال الثاني.
ومما ذكرنا - في كيفية تبعية الغاية - تعرف أن المغيى إن كان جعل الطهارة
الواقعية - حقيقة - فلا محالة هي الملحوظة بنحو الامتداد والاستمرار بطور
المعنى الحرفي مع أن مثل هذه الغاية غير قابلة لان تكون حدا للطهارة الواقعية،
فيعلم منها عدم كون المغيى طهارة واقعية.
وأما الاستصحاب، فهو وإن كان ابقاء الطهارة الواقعية، لكنه عنوانا لا حقيقة،
والمفروض جعل الطهارة في المغيى، حقيقة لا عنوانا، فما هو قابل للامتداد إلى
هذه الغاية غير مقصود من المغيى، وما هو مقصود من المغيى غير قابل لمثل هذه
الغاية.
ومنه تعرف أيضا: أن جعل القضية خبرية محضة حاكية عن جعل الطهارة
الواقعية، وعن جعلها مستمرة ظاهرا، لا إنشاؤهما بها حتى يندفع إشكال قصور
مقام الاثبات، وامتناع مقام الثبوت أيضا غير مجد شيئا، لان استمرار الطهارة
حقيقة ظاهرا حيث أنه غير معقول فلا يعقل الحكاية عن مثله، فلا محالة يكون
حاكية عن استمرار الطهارة الواقعية، عنوانا فقط، فلا تكون الرواية جعلا لحكمين،
ولا كاشفة عن جعل الحكمين
ثم إن الغاية حيث أنها غاية، وحد للمحمول - وهو المغيى - وهو واحد
وبوحدته العمومية حكم واقعي للشئ بنفسه، وحكم ظاهري بما هو مشكوك،
فارجاع الغاية إلى بعض أفراد الجامع خلاف الظاهر، وإرجاعها إلى الحكم الجامع
ينتج الحكم باستمرار الطهارة الواقعية، وباستمرار الطهارة الظاهرية،
والاستصحاب هو الأول، دون الثاني، فان بقاء الحكم الظاهري في مرحلة
112

الفعلية، ببقاء موضوعه - وهو عدم العلم - عقلي، لا جعلي وحينئذ فالحكم
باستمرار الجامع لا جعلي فقط، ولا عقلي فقط.
وأما الاحتمال الرابع: وهو ما في المتن - من تكفل الرواية للحكم الواقعي،
وللحكم الظاهري الاستصحابي، فهو، وإن كان يندفع عنه محاذير ضم الحكم
الظاهري - الذي هو مفاد القاعدة - الا أن محاذير الجمع بين الحكمين على حالها
فلا نعيد.
وأما الاحتمال الخامس: وهو تكفل الرواية لخصوص الاستصحاب - كما
استظهره الشيخ الأعظم - قده - (1) من خصوص رواية حماد (الماء كله طاهر حتى
تعلم أنه قذر) (2) فجميع الاشكالات اللازمة من انضمام الحكم الواقعي ومفاد
القاعدة إلى الاستصحاب مندفعة عنه.
الا أنه يرد عليه: أن الاستصحاب، إما هو ابقاء الشارع وجعل الطهارة مستمرة
لثبوتها سابقا، أو ابقاء المكلف وأمر الشارع بابقائها واستمرارها عملا.
فان أريد الأول فقوله عليه السلام (طاهر إلى أن تعلم) وإن كان إبقاء من
الشارع، وهو قد جعل الطهارة مستمرة، الا أنه ليس كل ابقاء الحكم في ثاني الحال
استصحابا، بل الابقاء في الزمان الثاني استنادا إلى ثبوته في الزمان الأول، كما
بيناه في أوائل مبحث الاستصحاب، وليس في قوله عليه السلام (طاهر حتى
تعلم) ما يفيد أن استمرار الحكم بالطهارة منه لثبوته سابقا.
وإن أريد الثاني، فمن البين أن قوله عليه السلام (طاهر) إما جعل طهارة
مستمرة، وإما حكاية عن استمرار الطهارة، وليس فيه دلالة بوجه على الامر بابقاء
الطهارة عملا ليكون دليلا على الاستصحاب.
ويمكن أن يقال: في الفرق بين موثقة عمار (كل شئ نظيف حتى تعلم أنه

(1) - الرسائل ص 334.
(2) - الوسائل: ج 1: الباب 1 من المياه: ص 100 الحديث 5.
113

قذر) (1) ورواية حماد (الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر) إن الماء مخلوق على
الطهارة، فالنجاسة فيه عرضية وليس كل شئ كذلك.
فالطهارة المستمرة المترتبة على كل شئ طهارة مستمرة من حين التعبد بها
إلى أن يزول الموضوع بتبدل الشك بالعلم، والطهارة المستمرة المترتبة على الماء
بعد فرض طهارته في نفسه طهارة مستمرة من حين ثبوتها الواقعي عنوانا.
وحينئذ نقول: حيث أن الماء طاهر بالأصل، فإذا جعل الشارع طهارة الواقعية
مستمرة عنوانا تعبدا، فالاستمرار متعلق بالطهارة الواقعية عنوانا، فهو ابقاء من
الشارع للطهارة الواقعية، وهو عين الاستصحاب.
بخلاف الطهارة في قاعدة الطهارة، فان الاستمرار المتعلق بها استمرار متعلق
بالطهارة الظاهرية، دون الواقعية ولو عنوانا، فأعمية القاعدة من حيث شمولها
موردا - لما إذا كان مسبوقا بالطهارة - لا تجدي هنا، لان حيثية استمرار الطهارة
متعلقة بالطهارة الواقعية - التي هي للماء - غاية الامر عنوانا لا حقيقة، فلا يمكن
حملها مع هذا الفرض على قاعدة الطهارة بدعوى أعميتها من حيث المورد.
لا يقال: التعبد بالطهارة العنوانية المستمرة، وان لم يكن مفاد قاعدة الطهارة،
لكنه لا يختص بالاستصحاب سابقا - تعبد بالواقع عنوانا وحيث أنه جعل
للطهارة عنوانا بعد جعلها سابقا حقيقة، يكون ابقاء من الشارع للطهارة الواقعية،
فليس كل ابقاء استصحابا.
لأنا نقول: نعم يشترك التعبد في الامارة مع التعبد في الاستصحاب فيما
ذكره الا أن ابقاء الشارع للحكم في ثاني الحال في باب الامارة انتزاع من سبق
التعبد بالواقع.
والا فالتعبد فيها بنفس الواقع فعلا، بخلاف ما نحن فيه، فان المفروض أنه
جعل الطهارة المستمرة بحسب لسان الدليل، فالتعبد هنا بنفس حيثية الاستمرار
دون مورد الامارة.

(1) الوسائل: ج 2، الباب 37 من أبواب النجاسات: ص 1054: الحديث 4.
114

والتحقيق: أن مجرد الفراغ عن طهارة الماء - لكونه مخلوقا على الطهارة - لا
توجب كون التعبد بالطهارة وابقائها بعين هذا التعبد تعبدا استصحابيا.
بل التعبد الاستصحابي هو الابقاء استنادا إلى ثبوته سابقا، لا الابقاء في مورد
الثبوت سابقا، فالرواية من حيث غايتها، وإن كانت تفارق قيام البينة، من حيث
أن مفادها الابقاء إلى حصول الغاية، الا أنه ليس كل ابقاء استصحابا، فتدبره فإنه
حقيق به.
وأما الاحتمال السادس: هو أن يكون مفاد الرواية جعل الحكم الواقعي
فقط، كما يوافقه ما سلكه صاحب الحدائق - ره - (1) من تقوم النجاسة بالعلم، فمع
عدمه يكون طاهرا حقيقة.
فتقريبه: أن الأعيان الخارجية مختلفة، فبعضها ما يكون فيه خصوصية ذاتية أو
عرضية مقتضية للتنفر، وبعضها لا يكون كذلك، وحصول التنفر بالفعل - وهو
التقذر بالفعل - منوط وجدانا بالاطلاع على تلك الخصوصية، ولو باعلام الشارع،
فالدليل على النجاسة شرعا شأنه الكشف عن خصوصية منفرة اقتضاء، وفعلية
النجاسة بالعلم الموجب للتقذر بالفعل.
وينطبق على هذا التقريب موثقة عمار حيث قال عليه السلام (كل شئ
نظيف حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك) (2).
فان عليه السلام رتب القذارة الفعلية على العلم، بأنه قذر اي ما هو موجب له
ومقتض له، والا فالعلم بالقذارة الفعلية الواقعية لا يعقل أن ينوط به القذارة الفعلية
الواقعية، أو يرتب الفعلية منها على العلم بالفعلية منها.
وليست النجاسة بناء على المشهور من مقولة الاحكام والتكاليف، حتى
يمكن فرض الواقعية الانشائية والبعثية الفعلية فيها، فلا مناص الا بفرض الاقتضاء
والفعلية فيها.

(1) - الحدائق ج 2 ص 136.
(2) - قد مر انفا.
115

لكن هذا الاحتمال مخالف لظواهر أدلة النجاسات فان ظاهرها ترتب حقيقة
النجاسة - الظاهرة في فعليتها، لا في اقتضائها - على الموضوعات بذواتها لا بما
هي معلومة.
بل نفس هذه الرواية - أيضا - ظاهرة في ذلك لمقابلة القذر مع الطاهر فيها
فكما أن الطاهر يراد منه الفعلي، فكذلك فلا بد من التصرف في قوله عليه السلام
(فإذا علمت فقد قذر) بإرادة القذارة المؤثرة بالفعل، فكأن القذر الواقعي - الذي لا
أثر له - ليس بقذر، ويؤيده قوله عليه السلام (وما لم تعلم فليس عليك) فإنه
بلحاظ الأثر.
وفي قبال هذا التقريب تقريب اخر ذكرناه في الفقه تصحيحا لما افاده المحقق الخوانساري - قده - (1)
من أن رواية (الماء كله طاهر) لبيان طهارة الماء واقعا فقط،
وملخصه: أن العلم اخذ طريقيا محضا - كما اخذ في تقريب كلام صاحب
الحدائق موضوعيا محضا - للحكم بالنجاسة، والمراد من الطريقية المحضة: أن
قوله عليه السلام (حتى تعلم أنه قذر) بمنزلة قوله (حتى يتقذر) بعروض نجاسة،
نظير قوله تعالى (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض...) الخ (2) فإنه بمنزلة،
ما إذا قيل حتى يطلع الفجر، هذا. وهو أيضا خلاف الظاهر، خصوصا بملاحظة نظائره كقوله عليه السلام (كل
شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام) (3) فإنه لا يعقل جريان هذا التقريب فيه.
فتدبر.
قوله: لظهوره في أنه متفرع على الغاية وحدها... الخ.
لا منشأ لهذا الظهور الا لزوم كون قوله عليه السلام (وما لم تعلم فليس عليك)

(1) - مشارق الشموس ص 184 رحلي.
(2) البقرة: 187.
(3) الظاهر أنه رواية مسعدة بن صدقة مع اختلاف يسير، راجع الوسائل ج 12: الباب 4 من أبواب
ما يكتسب به: ص 60: الحديث 4.
116

تكرارا مع أن التكرار لتأكيد مضمون المغيى، ولبيان أن معنى كونه طاهرا عدم
ترتب أحكام النجاسة عليه فعلا، كما هو مفاد (فليس عليك) لا أنه طاهر حقيقة.
مضافا إلى أن الظاهر أن الموضوع في الجمل الثلاث من المغيى، والجملتين
المذكورتين بعد الغاية واحد، كما هو لازم التفريع أيضا فلا يعقل أن يكون
موضوعا للحكم الواقعي في المغيى، وموضوعا للحكم الظاهري في الجملة
الثانية من ما بعد الغاية. فتدبر.
(في تحقيق حال الوضع)
قوله: هو أن الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعا... الخ.
تحقيق الحال يقتضي تمهيد مقدمة، هي: أن الموجودات الخارجية علي قسمين:
أحدهما - ماله صورة ومطابق في العين، ويعبر عنه بالموجود بوجود ما
بحذائه، كالجوهر وجملة من الاعراض.
ثانيهما - ما لم يكن كذلك، بل كان من حيثيات ماله مطابق في العين ويعبر عنه
بالموجودات بوجود منشأ انتزاعه، ومنه مقولة الإضافة.
ويقابلهما الاعتبارات الذهنية من الكلية والجزئية، والنوعية والجنسية،
والفصلية، فان معروضها أمور ذهنية لا عينية، ولكن لا بنحو القضية المشروطة،
بل بنحو القضية الحينية.
وإلا فالماهية - بما هي - موجودة بوجود ذهني ليس لها صدق على شئ،
حتى تكون مقسما لتلك الاعتبارات.
ولا إشكال في القسم الأول، إنما الاشكال في القسم الثاني، نظرا إلى أن
الوجود الواحد لا يعقل أن يكون وجودا بالذات لمقولتين، فان المقولات بذواتها
متبائنات، فكيف يعقل أن يكون الواحد وجودا بالذات لمنشأ الانتزاع، الذي هو
117

من مقولة الجوهر مثلا، ووجودا بالذات للأمر المنتزع الذي هو من مقولة
الإضافة؟
كما أن مقولة الإضافة حيث إنها تختلف بالقياس إلى شئ، دون شئ فلا
يعقل أن يكون لها وجود خارجي بالذات، إذ الوجود عين التعين، فلا بد من أن
يكون حده الوجودي محفوظا فلا يعقل اختلافه بالقياس.
مع أن السقف بالإضافة إلى ما دونه فوق، وبالإضافة إلى ما فوقه تحت، ولو
كانت الفوقية والتحتية موجودتان بالذات ولم تكونا متقومين بالاعتبار لكان
السقف فوقا وتحتا معا، مع قطع النظر عن كل شئ.
فلذا يتخيل أن مقولة الإضافة اعتبارية محضة، كسائر الاعتبارات الذهنية، مع
أنها معدودة من المقولات، وهي ما يقال ويصدق على شئ خارجا، مع وضوح
أن السماء فوقنا والأرض تحتنا في العين لا في الذهن.
فالمحاكمة بين الطرفين يقتضي الجمع بين الامرين، بان يقال: لمقولة الإضافة
نحو ان من الوجود - بالقوة وبالفعل - وباعتبارهما لها وجود بالعرض ووجود
بالذات، فالسقف مثلا - لمكان كونه جسما واقعا في المكان - له قابلية ان يضاف
إلى ما فوقه، فينتزع منه التحتية، وله قابلية ان يضاف إلى ما دونه فينتزع منه
الفوقية، فللتحتية والفوقية وجود بوجود السقف - بنحو وجود المقبول بوجود
القابل - فوجود السقف الخاص خارجا وجود الذات للجسم الخاص، ووجود
بالعرض لتلك المعاني القابلة للانتزاع منه
وهذا معنى وجود الامر الانتزاعي بوجود منشأ انتزاعه خارجا، مع قطع النظر
عن اعتبار كل معتبر كان وبهذا الوجه داخل في المقولات وبهذا الوجه يقال: إن
للإضافات، وأعدام الملكات والقابليات والحيثيات وجودا ضعيفا - اي بنحو
وجود المقبول - بوجود القابل بالعرض، لا بالذات، كما أن لها نحوا اخر من
الوجود بالذات، وهو المتقوم بالاعتبار، وهو في مقام ملاحظة السقف بالقياس
إلى ما دونه مثلا
118

ففي هذه المرحلة توجد الفوقية بوجود اعتباري فعلي هو حده الخاص
ونصيبه المخصوص من الوجود في نظام الوجود، ولا محالة ليس لها في كل حال
الا قياس واحد، وإضافة واحدة إلى شئ فلا يختلف حده الوجودي الخاص.
وبهذا النظر قالوا: إن مقولة الإضافة اعتبارية، فليست هي كالاعتبارات
الذهنية، حتى لا يكون وجود شئ خارجا وجودها بالقوة وبالعرض، ولا
كالموجودات العينية المحضة، حتى لا يكون وجودها الخاص بها متقوما
بالاعتبار.
ثم اعلم أن ما ذكرنا في شرح حقيقة الأمر الانتزاعي، في قبال الموجود
بوجود ما بحذائه فيقابل الاعتبارات التي هي في حدود ذواتها أمور ذهنية
وليست بعينية بوجه من الوجوه.
وربما يوسع في الانتزاعي، فيعم الاعتبارات لأنها معان منتزعة من معان
ذهنية، كما ربما يوسع في الاعتباري، فيعم الانتزاعيات الخارجية لتقومها
بالاعتبار، بل ربما يوسع في الانتزاعي والاعتباري فيعم الماهيات جميعا فيقال:
الماهية انتزاعية اعتبارية - في قبال أصالة الوجود - فهي منتزعة من الوجود
الخاص، وموجودة به بالعرض، فأن الوجود هو الموجود بالذات، واعتباريتها
بلحاظ تقومها بالاعتبار، إذ الماهية ما شمت رائحة الوجود، لا تشم ابدا، لأن ما
حيثية ذاته حيثية عدم الاباء عن الوجود والعدم، يستحيل أن ينقلب فيصير
حيثية الاباء عن العدم.
وفي الشرع والعرف اعتبار بمعنى آخر - في قبال جميع أنحاء الاعتبارات
والانتزاعيات - كما في اعتبار الملكية والزوجية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى
تفصيله (1).
ومما ذكرنا تبين أمران:

(1) ذيل قول الماتن - قده -: واما النحو الثالث فهو كالحجية والقضاوة الخ " ص 131.
119

أحدهما - أن الأمر الأمر الانتزاعي مجعول بالعرض، لا مجعول بالتبع، نظير لوازم
الوجود المجعولة بتبعه، فان الموجود ولوازمه مجعولان بالذات، بجعلين،
لاقتضاء تعدد الوجود - بالذات - تعدد الايجاد بالذات.
ومن ذلك في التشريعيات وجوب المقدمة، فإنه مجعول بتبع وجوب ذيها، لا
أنه وجوب واحد ينسب إلى ذي المقدمة بالذات، والى مقدمته بالعرض.
ومن الواضح: أن المجعول بالعرض لاجعل له بالحقيقة، فجعل انتزاعية
الاحكام الوضعي في قبال مجعوليتها - كما عن المنازعين في المسألة - صحيح،
وجعل الانتزاعية - كما في المتن - مساوقة للتبعية، والقول بها قولا بالجعل،
كلاهما لا يخلو عن مسامحة.
ثانيهما - أن جعل الاعتبارات الشرعية من الملكية والزوجية، داخلة في الأمور
الانتزاعية، وأن منشأ انتزاعها: تارة هي الأحكام التكليفية، وأخرى انشاؤها بالعقد
وشبهه - أيضا - لا يخلو عن المسامحة كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى في
ذيل القسم الثالث.
ثم إن مجعولات الشارع على أنحاء:
منها - الموضوعات المستنبطة كالصلاة، والحج، ونحوهما، مما اشتهر أنها
ماهيات مخترعة، وأنها مجعولة باعتبار الشارع.
والتحقيق - ما مر منا غيره مرة - أنه لاجعل لها الا جعلها في حيز الطلب ومورد
الخارجي، قائم بفاعلها وهو المصلى، لا بأمرها وهو جعل تكويني لا تشريعي،
وجعل وجودها الذهني بتصورها قائم بمن يتصورها أيا من كان.
وكون المتصور لها هو الشارع، في مقام الأمر بها - ليس جعلا تشريعيا لها، والا
لكان كل موضوع يتصوره الشارع في مقام الأمر مجعولا تشريعيا فلا يعقل من
جعلها التشريعي الا ثبوت الموضوع بثبوت الحكم، لما مر مرارا أن الحكم
بالإضافة إلى موضوعه من قبيل عوارض الماهية، وفيها ثبوت المعروض بثبوت
120

العارض.
وهذا جعل تشريعي بالعرض، لكنه غير مخصوص بالموضوعات المستنبطة
لجريانه في كل موضوع وحكم.
نعم حيث أن ثبوتها في مرحلة الحكم مخصوص بالشارع، فلذا قيل بأنها
مخترعة ومجعولة تشريعا، فكأنها متمحضة في التشريعية دون غيرها.
ومنها - الأحكام التكليفية، فان المعروف كونها مجعولة بالجمل التشريعي.
توضيحه: أن حقيقة الجعل هو الايجاد، فقد يكون منه تعالى بما هو جاعل
هويات الممكنات، فيتمحض في التكوين، وقد يكون منه تعالى بما هو شارع
الشرائع والأحكام لانباثه منه بما هو، ناظر إلى مصالح العباد، ودفع ما فيه
الفساد، بالإضافة إلى طائفة من الافعال لا بالإضافة إلى نظام الكل، فيكون جعلا
تشريعيا.
فكل جعل تشريعي - بهذه الملاحظة - جعل تكويني بالنظر إلى ذاته،
ولا عكس، إذ لا حقيقة للجعل، الا الايجاد المشارق للتكوين، والتشريع، بلحاظ
إخراجه من العدم إلى الوجود - عين تكوينه.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن الشخص إذا اشتاق إلى فعل من أفعال نفسه، وبلغ
شوقه حد النصاب، تحركت عضلاته نحو المشتاق إليه، فيوجد في الخارج، وإذا
اشتاق إلى فعل الغير، فلا يكون شوقه - وإن بلغ حد الكمال - علة لحركة
العضلات الغير نحو المشتاق إليه، لأن فعل الغير تحت اختياره لا تحت اختيار
المشتاق لفعله.
فلابد له من جعل ما يوجب انقداح الشوق المحرك في نفس الغير، فما
ينبعث من الاشتياق إلى فعل الغير هو الانشاء بداعي جعل الداعي، وهو حقيقة
الحكم التكليفي المجعول من الشارع، بما هو شارع.
وليس الحكم التكليفي عين الإرادة التشريعية، ليقال: إنها من صفات الذات -
سواء كانت عين العلم بالمصلحة أو غيره - فلا جعل، بل قد عرفت أنه منبعث
121

عنها.
كما أن مجعولات الشارع لا تنحصر في اعتبارته، واعتبار الملكية، كي يتوهم
أن ليس في الأحكام التكليفية اعتبار من الشارع، بل مجعولاته الوضعية اعتبارات
منه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومجعولاته التكليفية هي الانشاءات الخاصة الصادرة منه - بما هو شارع - وان
كان يتنزع منه عنوان البعث والداعي - اقتضاء وإمكانا - بعد صدوره وينتزع منه
الباعثية - فعلا - عند تأثيره في انقداح الشوق في نفس المكلف
ومنها - الأحكام الوضعية المبحوث عنها هنا، وهي اقسام ثلاثة، نتعرض لكل
منها في ذيل عبارة شيخنا العلامة - رفع الله مقامه.
قوله: أما النحو الأول، فهو كالسببية والشرطية... الخ.
قد أفاد - قده - في وجه المنع عن جعل تلك الأمور انتزاعا ما محصله: إن
مقتضى فرض مسببية التكليف ومشروطيته كونه متأخرا بالذات عن سببه
وشرطه، ومقتضى فرض منشأية التكليف، لانتزاع السببية كون متقدما بالذات
لتبعية الامر الانتزاعي لمنشئه، ويستحيل تقدم المتأخر بالذات
وقد أفاد - قده - في وجه المنع عن جعلها استقلالا محضا ما ملخصه: إن
الشئ إذا كان ذا ربط، به يؤثر في شئ فهو علة قبل جعله علة، فلا معنى لجعله
علة، وإن لم يكن فيه ذاك الربط لا يصلح للعلية، فلا معنى لجعل ما ليس بعلة
علة.
وأنت خبير بأنهما لا يصلحان للمنع.
أما الأول: فلأن المتأخر بالذات ذات المعلول عن ذات العلة، وأما عنوان
العلية، وعنوان المعلولية فيهما متضايفان، ولا علية بين المتضايفين وعنوان
العلية لا ينتزع عن المعلول، ولا عن ترتبه على ذات العلة، بل عنوان العلية ينتزع
عن ذات العلة، إذا بلغت بحيث يكون المعلول ضروري الوجود بها، وعنوان
المعلولية يتنزع عن ذات المعلول إذا كان بحيث يكون ضروري الوجود بالعلة،
122

ولا فرق بين ما إذا كان المعلول من الأمور التكوينية المحضة أو من الأمور
التشريعية.
فكما أن بلوغ العلة - إلى حيث يكون المعلول ضروري الوجود بها - يصح معه
انتزاع العلية من ذات العلة، والمعلولية من ذات المعلول.
فكذا إذا كان ذات العلة بحيث إذا بلغت بحد يكون ذلك الامر المجعول
ضروري الوجود بها، فإنه يصح انتزاع العلية والمعلولية من ذات المرتب عليه،
ومن ذات المرتب.
غاية الامر أن العلية والمعلولية - في مرحلة الجعل التشريعي - اقتضائيتان،
وفي مرحلة تحقق السبب والمسبب - خارجا - فعليتان.
وقد عرفت أن التقدم والتأخر بملاك العلية والمعلولية بين ذاتي العلة
والمعلول لا تنافي المعية بملاك التضايف بين عنواني العلية والمعلولية
وسيتضح إن شاء الله تعالى ما ذكرنا زيادة على ذلك.
وأما الثاني: وهو العمدة، إذ لو ثبت ذلك لم يكن مجال للجعل، لا استقلالا،
ولا انتزاعا، لعموم الملاك المقتضي لنفي المجعولية.
فتوضيح دفعه يتوقف على مقدمة:
هي أن السبب الفاعلي للحكم التكليفي، وللاعتبار الوضعي هو شخص
الحاكم والمعتبر، وما يسمى سببا - كدلوك الشمس ونحوه - شرط حقيقة أو معد
دقة فلا معنى لجعل السببية الحقيقية في نفسها، فاللازم اخراجها عن محل
البحث
وأما الشرطية فحيث أنها انتزاعية إذا الوجود في الخارج ذات الشرط وذات
المشروط - كما في سائر موارد العلة والمعلول - فهي في حد ذاتها غير قابلة
للجعل الاستقلالي سواء كان الجعل تكوينيا أو تشريعيا، فيتمحض الكلام في
جعلها على حسب وجودها الانتزاعي.
فنقول: الشرط إما مصحح لفاعلية الفاعل أو متمم لقابلية القابل.
123

فتارة يلاحظ كون النار بحيث لا يحرق الا مع وضعها ومحاذاتها لشئ، ومع
خلو المحل عن الرطوبة، ولو لم يكن في العالم نار، ولا احراق ولا شرائط التأثير،
والتأثر، وهنا لا مجعول بالذات أصلا ليكون هناك مجعول بالعرض، بل طبيعة.
النار مستعدة باستعداد ما هو للاحراق إذا كانت مقترنة بكذا.
ونظيره كون الصلاة بحيث لا تؤثر أثرها، الا إذا اقترنت بالطهارة مثلا، فإنه أمر
محفوظ سواء كان هناك جعل تكويني أو جعل تشريعي أولا، بل قد مر مرارا أن
الذات والذاتيات ولوازمها غير قابلة للجعل بوجه، (وأخرى) تكون النار موجودة
في الخارج مقترنة بالوضع بالمحاذاة مع اقتران المحل باليبوسة - مثلا
فذات المشروط، وذات الشرط موجودتان بالذات، وعنوان الشرطية
والمشروطية موجودان بالعرض.
ونظيره ما إذا وجدت الصلاة في الخارج مقترنة بالطهارة، فذات الشرط
والمشروط موجودتان بالذات، وعنوانهما بالعرض، وجاعلهما المصلي،
والجعل تكويني ذاتي في المعنون وعرضي في العنوان.
إذا عرفت ذلك، تعرف أن ما هو واقعي ما هوي ماذا؟ وما هو تكويني ماذا؟
والأول - غير قابل للجعل أصلا، للزوم الخلف، لفرض عدم المجعول بالذات،
ليكون له مجعول بالعرض.
والثاني - مجعول تكويني أجنبي عما نحن فيه، والكلام في الجعل القائم
بالشارع.
فنقول: كما أن الطهارة شرط في حد ذاتها للصلاة، إما بمعنى دخلها في فاعلية
الصلاة لأثرها أو في قابلية النفس للتأثير بأثرها، وهو معنى شرطيتها الواقعية.
ولها شرطية أخرى في مقام الطلب بحيث إذا تعلق الامر - بالصلاة عن طهارة -
صح انتزاع الشرطية في مقام الواجب بما هو واجب في قبال كونها - مع قطع النظر
عن الامر - شرط تأثير الصلاة واقعا.
كذلك إذا علق الامر بالصلاة على دلوك الشمس، فإنه تارة يلاحظ الواقع.
124

ويقال: إن الدلوك واقعا شرط تأثير المصلحة المقتضية لا يجاب الصلاة، وأخرى
يلاحظ مقام الجعل فيقال: إن الانشاء بداعي البعث، حيث إنه علق على دلوك
الشمس، فلا يكون الانشاء المزبور مصداقا للبعث الا إذا اقترن - حقيقة - بدلوك
الشمس.
فكما أن شرطية الطهارة للمطلوب - بما هو مطلوب - لا موقع لها حقيقة، الا
مرحلة الطلب وإناطة المطلوب بها وهو أمر زائد على كون تأثير الصلاة منوطا
بالطهارة، كذلك شرطية الدلوك للطلب بها، وهو أمر زائد على كون تأثير الصلاة
منوطا بالطهارة كذلك شرطية الدلوك للطلب، ولصيرورة الانشاء مصداقا للبعث
الحقيقي، لا محل له الا مرحلة الطلب، وهو أمر زائد على كون تأثير المصلحة
منوطا بالدلوك.
وحقيقة الشرطية للواجب والايجاب محفوظة، إذ الصلاة - ما لم تلاحظ
مقترنة بالطهارة - لا يصح انتزاع المطلوبية منها، فاقترانها بها متمم القابلية لانتزاع
المطلوبية وهي حقيقة الشرطية.
وكذا ما لم يلاحظ الانشاء مقترنا بدلوك الشمس لا يصح انتزاع البعث عنه فهو
متمم قابلية الانشاء لانتزاع البعث منه.
ومما ذكرنا تبين أن ما هو غير قابل للجعل هي العلية، بمعنى دخل الشئ في
التأثير واقعا، فإنها - كما عرفت واقعية ما هوية، لا جعلية - لا تكوينية ولا تشريعية،
وما هو قابل للجعل هي الدخالة في اتصاف الانشاء بكونه بعثا حقيقيا، فإنها
مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعه.
وما ذكرنا هو الملاك في عدم مجعولية الشرط الواقعي وفي مجعولية الشرط
المرتب عليه الحكم جعلا.
لا ما ربما يقال: من الفرق بين شرائط الجعل، وشرائط المجعول، بعدم
مجعولية الأولى ومجعولية الثانية (1) مع بداهة اتحاد الجعل والمجعول بالذات

(1) كما عن المحقق النائيني - قده - في فوائد الأصول ج 4 (الامر السادس) مطبعة جماعة المدرسين.
125

واختلافهما بالاعتبار.
فلابد من إرجاعه إلى ما ذكرناه: من الفرق بين الشرائط الواقعية، الدخيلة في
المصلحة المؤثرة في الجعل واقعا، وبين الشرائط المأخوذة في مقام الانشاء،
وترتيب الحكم على موضوعه.
ثم إن شيخنا العلامة (رفع الله مقامه) وان كان ينكر كون الشرطية للايجاب
جعلي، ولو انتزاعية، لكنه مع ذلك لا ينكر الايجاب المشروط، كما هو واضح،
بدعوى أنه تعليق على شرطه الواقعي، دون الجعلي.
والفرق عنده - قده - بين شرط الواجب وشرط الوجوب: أن شرطية الطهارة
لتأثير الصلاة اثرها امر، وشرطيتها للواجب - بما هو واجب - أمر اخر، فإنها لا
موقع لها الا مرحلة الطلب ومجئ زيد ولو لم يعلق عليه الطلب يكون شرطا
واقعا لحدوث الطلب، فلا يزيد تعليق الطلب عليه شيئا.
وأنت خبير بأن الانشاء، لو لم يعلق صيرورته بعثا على مجئ زيد، لم يكن
بلوغه إلى مرحلة البعث منوطا بشئ بخلاف ما إذا علق على شئ فان بلوغه
منوط به جعلا، والخروج عن حد إلى أمر زائد، على كون البعث الحقيقي منوطا
واقعا بذلك الشئ، فان الأول جعلي بتوسط التعليق في مرحلة الجعل، بخلاف
الثاني، فإنه واقعي وان لم يحدث انشاء إلا بعد حصول المعلق عليه.
والتقيد الخطابي - على أي حال - على طبق التقيد الواقعي في الوجوب
والواجب معا.
قوله: ومنه قد انقدح أيضا عدم صحة... الخ.
فان البرهان الثاني (1) كما أنه دليل على عدم القابلية للجعل الاستقلالي،
كذلك للجعل الانتزاعي.
وأما إطلاق السبب عليه جعلا مجازا، فباعتبار أنه وان كان بنفسه سببا واقعيا،

(1) في كلام الماتن - قده -.
126

لكنه حيث كان منوطا به الجعل التشريعي، فهو من خصوصيات المجعول
التشريعي فيكون ثابتا بثبوته التشريعي، فينسب إليه الجعل مجازا.
قوله: كما لا بأس أن يعبر عن إنشاء... الخ.
فان المحال جعل السببية بالاستقلال للدلوك تشريعا حقيقة وجدا، لا انشاء
السببية له مجازا وكناية للانتقال إلى لازمه، وهو جعل الوجوب عنده الملازمة
بين المحال والممكن بل الواجب - ليست بمحال كما مر في بعض المباحث
السابقة (1).
قوله: وأما النحو الثاني، فهو كالجزئية والشرطية... الخ.
توضيحه أن الجزئية والشرطية لهما مراتب:
إحداها - كون الشئ بحيث يكون بعض ما يفي بالغرض فإنه إذا ترتب غرض
واحد على مجموع أمور فكل منها في حد ذاته بعض ما يفي بالغرض،
والمجموع كل ما يفي به.
وإذا كانت فعلية ترتب الغرض على ما يفي به منوطة بشئ، فذلك الشئ
شرط وفاء ذلك المجموع بالغرض - فعلا - لا اقتضاء.
وهذه الشرطية - ذلك الجزئية - واقعية لا بجعل جاعل، وتأثير مؤثر، لا تكوينا
ولا تشريعا، بل المجموع مستعد باستعداد ماهوي للوفاء بالغرض، بحيث يكون
فعليته منوطة بما يسمى شرطا، فالجزئية والشرطية ما هوية، فهما غير قابلتين
للجعل، حيث لا يتعلق الجعل الذات والذاتيات ولوازمها وما تنوط به.
والجعل التكويني العرضي إنما يكون عند ايجاد الصلاة في الخارج، فإنه مقام
وجود المجموع بأثره، فتكون البعضية والكلية والدخالة فعلية بالعرض.
ثانيتها - كون الشئ بعض الملحوظ، فيما إذا تعلق لحاظ واعتبار واحد
بمجموع أمور فان كل واحد من تلك الأمور بعض الملحوظ، وكلها كل الملحوظ،
وقيدها - المتقيد به المجموع - شرط الملحوظ، وهذا اللحاظ جعلها التكويني

(1) - تقدم في صفحة 63
127

الذهني، لا دخل له بالجعل التشريعي.
ثالثتها - كون الشئ بعض المطلوب بما هو مطلوب، وهو فيما إذا تعلق طلب
واحد بمجموع أمور فان كل واحد من تلك الأمور بعض ما تعلق به الطلب
وتمامها كل ما تعلق به الطلب، وما لوحظ المجموع مقترنا قيد المطلوب بما هو
مطلوب.
وهذه الجزئية والشرطية هي المجعولة انتزاعا بجعل الطلب، ولا موقع لها بين
الصفتين إلا مرحلة تعلق الطلب، لان الجزئية - في مقام الوفاء بالغرض في حد
ذاته - ما هوية لا جعلية، والجزئية - في مقام اللحاظ - تكوينية بالتكوين الذهني لا
تشريعية، وما هو تشريعي - بتشريعية البعث والايجاب - هي الجزئية للواجب بما
هو واجب.
ولكن لا يخفى عليك أن الايجاب ليس منشأ انتزاع الجزئية والشرطية لما
سيأتي إن شاء الله تعالى: إن منشأ الانتزاع - باعتبار قيام حيثية القبول به بقيام
انتزاعي - يصح حمل العنوان المأخوذ منه على المنشأ، مع أن الجزء والشرط لا
يحمل الا على ذات الجزء والشرط، لا على الطلب المتعلق بمجموع الأمور.
فالطلب والايجاب مصحح انتزاع الجزئية من الجزء لا منشأ انتزاعها بمعنى
أن الفاتحة - مثلا - ليست في حد ذاتها بحيث يصح ان ينتزع منها البعضية
للمطلوب، وانما اكتسبت هذه الحيثية بتعلق الامر بمجموع أمور منها الفاتحة،
فهي في هذه الحالة قابلة لانتزاع البعضية.
فمعنى جعلها بجعل الامر بهذا الوجه لا بجعل منشأ انتزاعها، بل بجعل
مصحح انتزاعها الا بالواسطة بتقريب ان جعل الموضوع تشريعا بجعل حكمه،
وجعل الامر الانتزاعي من الموضوع التشريعي، بجعل الموضوع، فجعل الحكم
جعل للامر الانتزاعي بالواسطة.
هذا ما لزم بيانه في توضيح كلامه، وتنقيح مرامه - زيد في علو مقامه -
الا أن هذا الجعل الانتزاعي ليس من الجعل التشريعي المفيد لوجهين:
128

أحدهما - ما أشرنا إليه من باب البراءة (1)، وهو أن الجزئية الانتزاعية ليست
في لوازم المجعول التشريعي - بما هو مجعول تشريعي - بل من لوازمه - بما هو
مجعول تكويني - لما عرفت من أن كل مجعول تشريعي مجعول تكويني، فله
حيثيتان حيثيته التكوينية وحيثيته التشريعية.
فكما أن تعلق الطلب بفعل يصحح انتزاع الطالبية من المولى، والمطلوب منه
في المكلف، والمطلوب من الفعل، والموضوعية من الفعل، والمحمولية من
الحكم إلى غير ذلك من العناوين الانتزاعية، وليس شئ منها من لوازم المجعول
التشريعي بما هو تشريعي كذلك الجزئية والشرطية.
والوجه في ذلك أن الامر بالمجموع وبالخاص، وان كان منبعثا عن غرض قائم
بالمجموع - اقتضاء - وبالخاص - فعلا - وكان لذوات الاجزاء دخل في الأول،
وللقيد دخل في الثاني.
إلا أن الجزئية الانتزاعية، والشرطية الانتزاعية، غير منبعثتين عن غرض
تشريعي ولا لهذين العنوانين دخل في الغرض - لا اقتضاء ولا فعلا - بل يستحيل
دخلهما فيما هو الباعث على البعث المصحح، لانتزاعهما من الجزء والشرط، فلا
يقاس بالوجوب المعمولي المقدمي المنبعث عن غرض مقدمي.
ثانيهما - أن المجعول الانتزاعي لو كان مجعولا تبعيا - بحيث كان بينه وبين
منشئه المجعول تشريعا اثنينية في الجعل نظرا إلى السببية والمسببية بينهما -
لكان مجديا في ترتب الآثار المرغوبة من الالتزام بجعله فيصح رفعه، ولو لم يكن
رفع المنشأ - كما في الأقل والأكثر الارتباطيين بناء على الانحلال عقلا كما تقدم
دعواه من شيخنا العلامة رفع الله مقامه (2) وصرح بهذا المبنى في تعليقته
الأنيقة (3).

(1) - في دوران الامر بين الأقل والأكثر، تقدم في ج 2 من هذا الطبع.
(2) - الكفاية ج 2 ص 228.
(3) - ص 195.
129

وأما إذا كان المجعول الانتزاعي مجعولا بالعرض، لا بالتبع وكان ما بالذات وما
بالعرض مجعولين بجعل واحد، من دون تخلل الجعل بينهما، فلا محالة لا
يجدي في الوضع والرفع، الا وضع المجعول بالذات ورفعه، وقد أقمنا البرهان
غير مرة على أن ثبوت الموضوع تشريعا بعين ثبوت حكمه له، لا بثبوت اخر
منفصل الهوية عن ثبوت حكمه.
وذلك لان الشوق المطلق لا يوجد، بل متقوما بمعتلقه.
ولا يعقل أن يكون لمتعلقه في مرتبة تعلقه به فعلية أخرى مغايرة لفعلية
الشوق، والا لم يعقل أن يكون المتعلق مقوما لصفة الشوق، ومناط فردية الشوق
وملاك تحقق شوق خاص تعلقي.
ومع فرض الفعليتين لا يعقل اتحادهما، بحيث يكون الموجد صفة خاصة
واحدة، لان كل فعلية تأبى عن فعلية أخرى، فالماهية - التي تعلق بها الشوق - لها
ثبوت شوقي بعين ثبوت الشوق.
وكذا في مقام البعث الاعتباري، فان البعث الاعتباري المطلق لا يوجد فان
طبعه تعلقي - كالشوق، فلابد من أن يتقوم بمتعلقه في مرتبة وجوده في أفق
الاعتبار، فثبوت المتعلق بعين ثبوت البعث الاعتباري.
وعليه فالحكم مطلقا بالنسبة إلى موضوعه من قبيل عوارض الماهية، وثبوت
المعروض - هنا - بثبوت العارض، بخلاف عوارض الوجود المتوقفة على ثبوت
المعروض.
وعليه فإذا كان ثبوت المتعلق بعين ثبوت حكمه وجعله بعين جعله، فما
ينتزع من المتعلق باعتبار هذا النحو من الثبوت أولى بأن لا يكون له ثبوت في
قبال ثبوت الحكم، وأن يكون جعله بعين جعله. فتدبره فإنه حقيق به.
قوله: وإن إنشاء له الجزئية أو الشرطية... الخ.
فان الانشاء، وإن كان خفيف المؤنة يتحقق بمجرد قصد ثبوت المعنى باللفظ
الا أن حقيقة الجزئية للواجب، بما هو واجب والشرطية له بما هو سنخها،
130

انتزاعي، له منشأ مخصوص ومصحح خاص، فلا يقبل الجعل بالاستقلال، ولا
الجعل بغير ما هو مصحح انتزاعه.
قوله: وجعل الماهية واجزائها... الخ.
بل هذا جعل وجودها بالجعل التكويني الذهني، والا فجعل نفسها وأجزاءها
غير معقول، لان وجدان الشئ لذاته وذاتياته ضروري، فلا يقبل الجعل، لأنه
دون الجعل لا فوق الجعل، حتى يتوهم لزوم تعلق الجعل بالماهية، والا لزم
خروجها عن حدود الامكان إلى صقع الواجب.
قوله: وأما النحو الثالث، فهو كالحجية والقضاوة.. الخ.
لا يخفى عليك أن الملكية - مثلا - وإن كانت انتزاعية عنده - قدس سره - إلا
أنها تارة مجعولة بالاستقلال ابتداء، كما إذا جعل الشارع شيئا ملكا لزيد - مثلا -
بانشائه إياها له.
وأخرى مجعولة بالاستقلال - إمضاء - كما إذا أنشأ الملكية على طبق إنشاء
المتعاقدين إياها، وثالثة مجعولة تبعا لجعل التكاليف في مواردها.
فمنشأ الانتزاع مختلف بحسب الموارد، والجعل الاستقلالي بالمعنيين، ليس
محلا للكلام، إنما الكلام في قبول الجعل تبعا للتكليف.
ثم إن تحقيق حقيقة الملك سيأتي إن شاء الله تعالى في ذيل ما ذكره شيخنا
- قده - من الوهم والدفع، وإنما الاشكال هنا في الملكية الشرعية والعرفية
المترتبة عليها الآثار شرعا وعرفا فهل هي من الاعتبارات الذهنية أو المقولات
الواقعية.
فنقول: أما عدم كونها من الاعتبارات الذهنية المصطلح عليها المعبر عنها
في فن الميزان بالمعقولات الثانوية كالكلية والجزئية والفصلية والنوعية
فان المذكورات عوارض ذهنية لمعروضات ذهنية بنحو القضية الحيثية دون
الملكية الشرعية والعرفية، فإنها من العوارض لموجودات خارجية، فان
الموصوف بالمالكية زيد الخارجي، لا الذهني، والموصوف بالملوكية هي العين
131

الخارجية، لا الذهنية، فيعلم منه أنها ليست من الاعتبارات الذهنية المتعارفة.
وأما عدم كونها من المقولات الواقعية، فلان المقولات، إما يكون لها مطابق
وصورة في الخارج، أو يكون لها منشأ الانتزاع فيه، كمقولة الإضافة والملكية
الشرعية، والعرفية ليست منها بقسميها لوجوده.
منها - أن المقولات لا تختلف باختلاف الأنظار، ولا تتفاوت بتفاوت أنحاء
الاعتبار، مع أن المعاطاة تفيد الملك في نظر العرف، دون الشرع. ولو كانت
مقولة، لكانت إما موجودة في جميع الأنظار أو معدومة كذلك، وليست المقولة
الا ما يقال على شئ ويصدق عليه في الخارج، وليست كالمصالح والمفاسد،
لكي يختص الشارع بادراكها أحيانا.
ومنها: إن الاعراض التسعة المقولية تحتاج إلى موضوع محقق في الخارج
والملكية الشرعية والعرفية ليست كذلك لتعلق الملكية - بالمعنى المفعولي -
بالكلي الذمي في باب البيع، وفي أبواب الضمانات بالمثل، أو القيمة ولتعلق
الملكية - بالمعنى الفاعلي - بكلي الفقير وكلي السادة في الزكاة والخمس.
ولا يعقل أن تكون الملكية بأحد المعنيين بالقوة، وتكون فعليته عند التطبيق،
لان المالكية والمملوكية صفتان لهما التضايف والمتضايفان متكافئان في القوة
والفعلية، فلا يعقل فعلية المالكية وشأنية المملوكية أو شأنية المالكية وفعلية
المملوكية، يعلم منه أن سنخ الملكية الشرعية والعرفية ليس سنخ المقولات
العرضية الموقوفة على موضوع محقق في الخارج.
ولا فرق في هذا البرهان بين مقولة ومقولة، فمقولة الإضافة أيضا كمقولة
الجدة، وسائر المقولات العرضية في الحاجة إلى موضوع محقق.
فما يظهر من عبارته في الجواب عن الوهم الآتي في كلامه (قدس سره) من أن
الملك الحاصل بسبب العقد، أو الإرث داخل في الإضافة المقولية.
مدفوع، بالبرهان المتقدم. ومنشأ انتزاع المعنى الإضافي هو موضوعه الذي
يكون وجوده وجود الامر الانتزاعي، بالتفصيل الذي قدمناه.
132

ومنها - ان المعنى المقولي لابد من أن يكون له مطابق في الخارج، أو يكون
له منشأ الانتزاع بحيث تقوم تلك الحيثية المقولية به خارجا، بقيام انتزاعي، لا
بقيام انضمامي.
ومن الواضح - بالوجدان والعيان - ان ذات المالك ولمملوك على ماهما عليه
من جواهرهما واعراضهما قبل الحكم أو العقد أو غيرهما وبعدها من دون وجود
صورة عينية في الخارج، ولا انقلاب حيثية خارجية فيهما إلى حيثية أخرى،
كذلك السقف الذي حصل فيه حيثية القبول للفوقية بعد وضعه في مكان عال.
وهكذا
نعم حصلت هناك أمور من الحكم التكليفي، أو العقد أو موت المورث، أو
الحيازة - بعد ما لم تكن - وتلك الأمور غير قابلة لان تكون عين الملك، ولا منشأ
انتزاعه ولا مصحح انتزاعه.
وتفصيل ذلك: أما الحكم التكليفي من إباحة التصرف ونحوها، فليست هي
عين الملكية، لان الملكية: إما بمعنى الواجدية أو الإحاطة، أو الاحتواء أو
السلطنة، وليس شئ من هذه المفاهيم عين مفهوم إباحة التصرف، وجوازه
ونحوهما، مع أن القول به، - كما هو ظاهر الشيخ الأعظم - قده - في الوسائل (1).
رجوع عن دعوى الانتزاع إلى دعوى العينية والعينية في الوجود بمعنى
اتحادهما - هو معنى الانتزاعية.
وليس الحكم - التكليفي المزبور - منشأ الانتزاع، بدعوى ان الترخيص في
التصرف هو جعل زمان الشئ بيد المكلف، وهو معنى سلطنته عليه، والملكية
هي السلطنة (2).
وجه فساد الدعوى أن الامر الانتزاعي لا يعقل أن يكون منشأ انتزاعه الحكم
التكليفي - لا في الملكية، ولا في غيرها - لان الامر الانتزاعي ليس الا حيثية

(1) - الرسائل ص 351 (في حجة القول السابع، ذيل قوله - قده -: اما في المعاملات)
(2) وقد نسبها - قده - في حاشيته على المكاسب (رسالة الحقوق) إلى جماعة: ص 6.
133

القبول القائمة بالمتحيث، ولازمه صحة حمل العنوان المأخوذ منه - بلحاظ تلك
الحيثية - على المتحيث بها، كعنوان الفوق المحمول على السقف بلحاظ قيام
مبدئه - وهو الحيثية القائمة به قياما انتزاعيا - به -، على حد حمل العناوين على
ذوات معنوناتها بلحاظ قيام مبادئها بها - قياما انضماميا بها -
ومن الواضح أن جواز التصرف الذي فرض أنه منشأ الانتزاع لا يحمل عليه
عنوان المالك والمملوك، فيعلم منه أن مبدأ العنوانين غير قائم به بقيام انتزاعي.
ودعوى صدق عنوان الملك، وهو المبدأ على جواز التصرف وحينئذ فالمال
هو جائز التصرف، والملوك ما هو جائز التصرف فيه، وليس فيه استبعاد.
مدفوعة: بأنه رجوع عن دعوى الانتزاع إلى دعوى العينية - مفهوما - وقد مر
فسادها.
وكذا ليس الحكم - التكليفي المزبور - مصحح الانتزاع، والسبب لمنشئية ذات
المالك والمملوك، لانتزاع الملكية تحيثهما بتلك الحيثية، لعود المحاذير
المزبورة جميعا، إذ لو كان ذات المالك والمملوك منشأ للانتزاع بسبب الحكم
التكليفي، لكانت الملكية (1) موجودة في جميع الأنظار، ولاحتاجت إلى موضوع
محقق، ولحصل في ذات المالك والمملوك حيثية خارجية مكتسبة من الحكم
التكليفي، مع أنه ليس كذلك.
فاتضح من جميع ما ذكرنا: إن الحكم التكليفي ليس عين الملكية، ولا منشأ
انتزاعها، ولا مصحح لانتزاعها.
وأما العقد فليس هو أيضا عين الملكية الشرعية أو العرفية، وإن كان مدلوله
ملكية مفهومية إنشائية
ودعوى أن الملكية الشرعية هي الإحاطة التنزيلة، والشارع نزل العقد منزلة
الإحاطة - مدفوعة بأن الكلام في كون الملكية الشرعية مقولية ولا انتزاعية، وبهذا
التنزيل لا يخرج العقد عما هو عليه، وصيرورته مقولة واقعية انتزاعية.

(1) - اي لكانت الملكية من المقولات العرضية فتستلزم المحاذير الثلاثة.
134

مع أن الملكية مطلقا - حتى الشرعية - قائمة بذات المالك والمملوك
والإحاطة التنزيلية قائمة - خارجا - بالمتعاقدين لا بالمالكية، وليس العقد أيضا
منشأ انتزاع الملكية، لما قدمنا من البرهان، بداهة أن المبدأ لو كان قائما به بقيام
انتزاعي، لصح حمل عنوانه المأخوذ منه على العقد، وعدم صحته واضح، مع
أن نسبة العقد إلى الملكية نسبة السبب إلى مسببه، كما هو المشهور، والسبب
مباين وجودا للمسبب والمنشأ للانتزاع وجوده، بالفعل، وجوده للامر الانتزاعي
بالقوة، كما قدمنا تفصيله، فكيف يعقل أن يكون العقد منشأ لانتزاع امر مقولي؟
وليس العقد - أيضا - مصححا لانتزاع الملكية واقعا، وسببا لوجودها بوجود
منشأها الواقعي لان البراهين الدالة على عدم كون الملكية مقولة واقعية - ولو
انتزاعه - تدل على عدم حدوث مقولة واقعية بالعقد وشبهة من الأسباب
الجعلية، بل الواقعيات تحدث بأسباب طبيعية واقعية.
ومنه تعرف حال غير الحكم والعقد، مما يعد منشأ أو سببا وسيأتي إن شاء
الله تعالى بعض الكلام - أيضا - في خصوص انتزاع الوضع من التكليف - في ذيل
كلامه الشريف - قدس سره - اللطيف).
فالتحقيق في سنخ حقيقة الملكية الشرعية والعرفية أنها اعتبارات شرعية أو
عرفية لا أنها أمور انتزاعية ولا أمور اعتبارية أعني المصطلح عليها في علم
الميزان
بيانه: أن الملكية الحقيقية الواقعية - مع قطع النظر عن الشارع والعرف - وان
كانت كما سيجئ إن شاء الله تعالى من مقولة الجدة، أو مقولة الإضافة أو مقولة
أخرى. لكن الموجود - في مواردها شرعا وعرفا - ليست الملكية بوجودها
الحقيقي، كي ينافي البراهين القاطعة، بل الشارع أو العرف يعتبرون هذه الحقيقة
لمن دعت المصلحة إلى اعتبارها كالمتعاقدين، أو الوارث، أو الفقير، أو السيد، أو
من حاز شيئا.
فمفهوم الملكية له نحوان من الوجود الحقيقي المقولي، والاعتباري التنزيلي.
135

وهذا الاعتبار، لا اختصاص له بالملكية والزوجية، بل جار في جميع
المقولات، مثلا الأسد مطابقة الحقيقي المقولي نوع من أنواع مقولة الجوهر - وهو
الحيوان المفترس - لكن العرف يعتبرون الشجاع أسدا، فزيد الشجاع اعتباري،
والبياض مطابقة الحقيقي من مقولة الكيف المبصر المفرق للبصر، ومع ذلك
يعتبر هذا الغير الجسم، فيقال: قلبه ابيض، والفوقية إضافة حقيقية في مقولة الأين،
المختصة بالجسم، ولكنها تعتبر في الأمور المعنوية تنزيلا لها منزلة الأمور
الحسية، فيقال: فوق كل ذي علم عليم، وإن علم فلان فوق علم غيره، إلى غير
ذلك من موارد اعتبار المعاني المقولية.
ولا عجب في كون مفهوم واحد له مطابق حقيقي تارة، ومطابق اعتباري
أخرى، فان بعض المفاهيم له بحسب النشئات، ومراتب الموجودات مطابقات
حقيقة: بعضها من نوع مقولة وبعضها من نوع مقولة أخرى.
بل بعضها خارج عن المقولات طرا كالعلم، فإنه بمعنى الحضور، وحضور
الصورة المجردة، للجوهر العاقل من مقولة الكيف على المشهور، وعلم الجوهر
النفساني - بذاته - من مقولة الجوهر النفساني، وعلم العقل بذاته من مقولة
الجوهر العقلاني، وعلمه تعالى بذاته وبمصنوعاته في مقام ذاته وجود واجبي
خارج عن أفق المقولات بل علمه الفعلي في مقام الايجاد بعين الوجود
المنبسط، وهو لا جوهر ولا عرض.
وبالجملة: فالملكية الشرعية والعرفية غير موجودة بوجود واقعي انتزاعي
على حد الأمور الانتزاعية الغير المرهونة باعتبار معتبر، ولا موجودة بوجود
اعتباري ذهني يقوم بأمر ذهني على حد المعقولات الثانوية.
فان المالك شرعا (زيد) الخارجي لا الذهني، بل الشارع مثلا اعتبرها لزيد
الخارجي، فحقيقة موجوديتها طرف الاعتبار القائم بالشارع بالمباشر، فان
الاعتبار فعلي مباشري للمعتبر، لا إنشائي ولا تسبيبي من المعتبر.
ومنه تبين أن جعله عين اعتباره، لا أنه إنشائي أو يتسبب إليه بانشائه من
136

معتبره وان كان لمفهومه وجود إنشائي لكنه غير الملكية الحقيقية التي يترتب
عليها الآثار.
نعم حيث أن الانشاء، تارة يكون بالإضافة إلى الداعي كالمسبب والمحقق
وأخرى يكون بالإضافة إليه كاشفا ومظهرا، فيصح اظهار اعتبار الملكية بقوله:
(ملكت) أو (هذا لك)
كما أن الانشاء بداعي الارشاد لاظهار رشد العبد وخيره في المادة والانشاء
بداعي التعجيز لاظهار عجز المخاطب - في قبال الانشاء بداعي جعل الداعي -
فإنه محقق للداعي من قبل المولى.
وعليه فالمجعول بالحقيقة الصادر من الشارع هو اعتبار الملكية، والانشاء منه
إظهار له، لا إيجاد لذلك الاعتبار. هذا حال الملكية الشرعية والعرفية.
وكذا حال غيرها من المعاني التي لو وجدت في الخارج، لكانت مقولة من
المقولات مثلا، فإنها غير موجودة شرعا بذلك الوجود المناسب لها في نظام
الوجود، بل وجودها شرعا باعتبارها شرعا كالزوجية والرقية والحرية ونحوها.
وأما القضاوة، فتارة يراد بها الحكومة الكلية المترتبة شرعا على موضوعها.
كقوله عليه السلام (من روي حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا
فقد جعلته حاكما) (1)، فان هذه الحكومة المجعولة كسائر الاحكام المجعولة،
المترتبة على موضوعاتها الكلية من الاحكام المجعولة الإلهية، وفعليتها بفعلية
موضوعها، سواء كان هذا الجعل الكلي من الصادق عليه السلام بما هو مبلغ
لاحكام الله تعالى، أو بما هو مفوض إليه في أمر التشريعات، فان مجعوله أيضا
مجعولة تعالى على يده، لا أنه خارج عن دائرة الأحكام الإلهية، فيكون التشريع
منه بمنزلة التكوين منه من حيث كونه عليه السلام من وسائط الفيض ومجاريه.
فان الفاعل - بمعنى ما منه الوجود تكوينا وتشريعا - هو الله تعالى، وان كان
الفاعل - بمعنى ما به الوجود تكوينا وتشريعا - وسائط فيضه ومجاري امره

(1) - الوسائل 18: الباب 11 من أبواب صفات القاضي: ص 99: الحديث 1.
137

التكويني والتشريعي، ولعله إليه ينظر قوله عليه السلام (مجاري الأمور بيد
العلماء بالله) (1)
وأخرى يراد بها القضاوة لشخص خاص أو الامارة لشخص، خاص كنصب
الإمام عليه السلام القضاة والولاة والحكام، فان هذه كلها وان كانت حقائقها
اعتبارات لكنها لادخل لها بالأحكام الكلية الإلهية، حتى تجعل من الأحكام الوضعية
المبحوث عنها.
ولعل ما في المتن يراد منها القضاوة والحكومة الكلية، والنيابة الكلية
المعدودة من المناصب المجعولة الإلهية.
وأما الحجية، فمختصر القول فيها: أن الحجية، تارة بمعنى الوساطة في
الاثبات، وأخرى بمعنى الوساطة في التنجز، فجعل الحكم المماثل على طبق
مؤدى الخبر، بعنوان أنه الواقع يفيد وساطة الخبر لاثبات الواقع عنوانا، فان
وصول الحكم المماثل بالذات وصول الواقع عنوانا بالعرض، كما أن الانشاء
بداعي تنجيز الواقع بالخبر يفيد وساطة الخبر لتنجز الوقع حقيقة، فانشاء وجوب
تصديق العادل على الأول مصحح لانتزاع الحجية بمعنى كون الخبر بحيث يثبت
الواقع عنوانا.
وعلى الثاني مصحح لانتزاع الحجية، بمعنى كون الخبر بحيث ينجز الواقع
عند مصادفته له حقيقة، فكل من الحيثيتين - الموجودتين بقيام الخبر على حكم
من الاحكام - مما ثبت للمتحيث بها بسبب الانشاء المزبور المنبعث تارة عن
داعي جعل الداعي، وأخرى عن داعي تنجيز الواقع.
وأما جعل الحجية بالاستقلال، لا بسبب الانشاء المزبور، فمعقول على الوجه
الثاني، دون الأول، لان اعتبار منجزية الخبر للواقع حقيقة واظهاره بقوله: الخبر
حجة عندي، أو بقوله عليه السلام: (فإنهم حجتي عليكم) (2)، أو بقوله عليه

(1) المستدرك: الباب 11 من أبواب صفات القاضي الحديث 16
(2) الوسائل 18: الباب 11 من أبواب صفات القاضي: ص 101 الحديث 6.
138

السلام: (لا عذر لاحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا) (1) لا مانع
منه، بخلاف اعتبار الهوهوية وأن مؤدى الخبر هو الواقع فإنه من دون جعل
الحكم المماثل غير معقول، فأن اثر الحكم الحقيقي لا يرتب على فرضه
واعتباره، بل على حكم مثله ولو بعنوان أنه هو
نعم اعتبار الظن علما، والخبر وصولا معقول الا أنه يجدي في تحقيق الأثر
العقلي أو الشرعي المرتب على الأعم من الوصول الحقيقي والاعتباري.
وأما الصحة والفساد، المعدودان من الأحكام الوضعية فقد فصلنا القول فيهما
في مبحث النهي عن العبادات - من مباحث الجزء الأول - من التعليقة على الكتاب (2).
ومجمله: أن الصحة سواء كانت بمعنى مطابقة المأتي به للمأمور به، أو بمعنى
كون المأتي به موجبا لاستحقاق الثواب، أو بمعنى كونه مسقطا للإعادة والقضاء،
فهي - على أي حال - من أوصاف المأتي به، لا من شؤون المأمور به حتى تكون
مجعولة بجعله في مقام الامر به، نظير الجزئية والشرطية
وبقية الكلام من النقض والابرام على ما افاده شيخنا الأستاذ - قده - في المقام
موكولة إلى البحث المزبور.
وأما الصحة في المعاملات فعن شيخنا قده في البحث المزبور (3) انها
مجعولة، لا انها بمعنى ترتب الأثر، وهو بجعل الشارع وترتيبه على المعاملة، ولو
امضاء
وقد ذكرنا في محله: أن اعتبار الملكية - مثلا - هو المجعول لا ترتبه على العقد
وليس الاعتبار إنشائيا، حتى يعقل إنشاؤه بنحو الملكية، وإناطته بالعقد ليكون

(1) - الوسائل ج 18 6 الباب 11 من أبواب صفات القاضي 108 6 الحديث 40
(2) - ج 1: ذيل قوله الماتن - قده - (وصفان اعتباريان ينتزعان الخ) وقوله - قده - (لا أنه ليس بأمر
اعتباري ينتزع كما توهم الخ) ص 587 من هذا الطبع.
(3) - الكفاية ج 1 ص 290
139

نظير الوجوب المشروط، بل الاعتبار حقيقة، الا عند وجود العقد، لكون الاعتبار
وجود العقد ذا مصلحة وترتبه حينئذ عقلي لا جعلي فراجع البحث المزبور (1).
قوله: ولو كانت منتزعة عنها لما كاد.. الخ.
مع أن الملكية تكون للصبي والمجنون، ولا تكليف لهما، فيعلم أنها غير
منتزعة عن التكليف. ولا يعقل انتزاعها من جواز التصرف بعد البلوغ، وبعد
الإفاقة، لان فعلية الامر الانتزاعي تستدعي فعلية المنتزع عنه.
ومنه يعلم: أن انتزاع الضمان من وجوب دفع البدل بعد البلوغ فيما إذا أتلف
الصبي - أيضا - غير صحيح، لان فعلية الضمان مع عدم فعلية منشأ انتزاعه غير
معقولة، وسببية الاتلاف فعلا لوجوب دفع البدل بعد البلوغ غير فعلية الضمان
المنتزع عن وجوب دفع البدل بعد البلوغ
ولا يقاس الضمان الفعلي بما يسمى عند المشهور بالضمان بالقوة، حيث
يقال: بالانتزاع من وجوب دفع البدل على تقدير التلف، فان الامر الانتزاعي
كمنشأ انتزاعه كلاهما غير فعلي ولذا فرضنا اتلاف الصبي المحقق للضمان
الفعلي. وتمام الكلام في محله
قوله: وللزم ان لا يقع ما قصده... الخ.
لان المقصود في عقد البيع - مثلا - هو الملك دون التكليف، والمفروض أنه
ليس المجعول من الشارع الا التكليف وأن الملك انتزاعي محض، فما وقع لم
يقصد، وما قصد تحققه بالعقد لم يقع
ولا يخفى عليك أن الامر الانتزاعي إذا كان منشأه مجعولا تشريعيا يكون
مجعولا تبعيا عنده - ره - فما قصد رفع، وان كان ما وقع أيضا بالأصالة لم يكن
مقصودا إذ الأمور التسبيبية - من الملكية والزوجية - هي التي لا تقع بلا قصد، دون
ما يلازمها، أو ما هو منشؤها شرعا، من التكليف الذي هو ليس مما يتسبب إليه
المكلف، والأصالة والتبعية ليستا دخيلتين في المجعولية ولا في كونهما

(1) - ج 1 ص 588 ذيل قول الماتن - قده - (فأما الصحة في المعاملات فهي تكون مجعولة الخ)
140

مقصودتين.
نعم قد استدل بمثله في باب المعاطاة - بناء على القول بالإباحة - حيث أن
المقصود بها عند المتعاملين هي الملكية، مع أنها مفيدة شرعا للإباحة، فما وقع
لم يقصد وما قصد لم يقع، الا أنه لا يرد عليه ما أوردنا هنا، لأن المفروض - هناك
إفادة الإباحة في قبال الملكية، وهنا إباحة مستتبعة للملكية على الفرض.
نعم يرد على المقامين أن ترتب الإباحة - في كلا المقامين - ترتب الحكم على
موضوعه، لا ترتب الامر التسبيبي على سببه - الذي به يتسبب إليه - حتى يكون
الواقع مما لابد من قصده.
قوله: في عدم صحة انتزاعها من مجرد التكليف.. الخ
الكلام سابقا كان في صحة انتزاعها، ولو لم يكن تكليف - كما عرفت في
الصبي والمجنون - في عدم صحة انتزاعها من مجرد التكليف، كما في جواز
التصرف للولي، مع أن الملك للمولى عليه، وكما في جواز وطي الأمة المحللة
مع أنه لا زوجية هناك
فيعلم أن التكليف بمجرده ليس منشأ للانتزاع، ولا مصححا له.
(تحقيق حول الملك من أي مقولة)
قوله: إن الملك يقال بالاشتراك، ويسمى بالجدة... الخ.
توضيحه: إن الملك يطلق على أمور:
منها - الجدة، وهي الهيئة الحاصلة لجسم بسبب إحاطة جسم اخر بكله أو
ببعضه، كهيئة التختم للإصبع، وكهيئة التعمم للرأس، وكهيئة التقمص للبدن
ومنها - الإضافة الاشراقية، ككون العالم ملكا للباري - جل شأنه فإنها عبارة
عن احاطته تعالى في مرحلة فعله، ومطابقها الوجود الفائض منه تعالى المنبسط
141

على الماهيات الإمكانية، وحيث أن فيض الوجود، الذي هو عين الايجاد بالذات
امر بين المفيض والمستفيض، فلذا عبر عنه بالإضافة، وحيث أنه عين الاشراق
المذوت لذات المستشرق لا نسبة بين أمرين محققين لم يكن إضافة مقولية
وأيضا الإضافة - المقولية - ماهية خاصة، مندرجة تحت المقولات، والوجود
مطلقا ليس بجوهر ولا عرض، الا بالعرض فكيف بالوجود المطلق.
ومنها - الإضافة المقولية، ككون الفرس لزيد، فان الملكية - بالمعنى
الفاعلي - ماهية معقولة بالقياس إلى ماهية أخرى، وهي مضايفها، وهي الملكية -
بالمفعولي - أعني المالكية والمملوكية.
وسبب هذه الإضافة المقولية - تارة طبيعي واقعي، كركوبه وسائر تصرفاته في
الفرس - وأخرى - جعلي كالعقد وموت المورث والحيازة وأشباهها.
والتحقيق: أن الملك من المفاهيم العامة، وهو بنفسه لا يقتضي أن يكون
مطابقه أمرا مقوليا، ولا جدة، ولا إضافة وإنما يدخل تحت المقولة إذا كان صادقا
في الخارج على ما يقتضيه طبع تلك المقولة.
كما أن المفاهيم الإضافية من العالمية والمعلومية، والمحبة والمحبوبية
والمحيطية والمحاطية كذلك.
ولذا يصدق العالمية والمعلومية، والمحبية والمحبوبية على تعالى مع أنه
تعالى لا يندرج تحت المقولات، لوجوب وجوده تعالى.
فالمفهوم إضافة عنوانية، والمطابق تارة وجود واجبي، وأخرى وجود مطلق
غير محدود، وثالثة وجود عقلائي أو نفساني ورابعة مقولة الإضافة
وعليه نقول: نفس معنى الإحاطة لا يأبى أن يكون مطابقه وجودا محضا، كما
لا يأبى أن يكون باعتبار كون مطابقه هيئة خاصة حاصلة للجسم مندرجا تحت
مقولة الجدة
وحيث أن هذه الهيئة إذا حصلت في الخارج قائمة بجسم، فطرفاها - وهما
ذات المحيط والمحاط - يكتسبان حيثية المحيطية وحيثية المحاطية وهما من
142

مقولة الإضافة
كما أن العلم بنفسه - عند المشهور - كيف نفساني وقيامه بالعالم وتعلقه
بالمعلوم - بالذات - يوجب تحيث ذات العالم بحيثية العالمية، وذات المعلوم
بحيثية المعلومية، وهما من مقولة الإضافة
فالملك يعني هيئة الإحاطة جدة، والمالكية والمملوكية مقولة الإضافة
وحيث عرفت - أن حيثية المحيطية والمحاطية قائمة بجوهر ذات المحيط
والمحاط - تعرف أن معروض مقولة الإضافة جوهر، لا جدة حتى يكون الملك
الحقيقي الواقعي جدة ذات إضافة.
بل إنما تكون الجدة ذات إضافة في قبال مطلق الجدة، إذا كانت بنفسها
معروضة لمقولة الإضافة، كما إذا لوحظت جدة التعمم بالإضافة إلى جدة
التقمص، ووجد تفاوتهما بالزيادة والنقص، القائمين بنفس مقولة الجدة، كانت
نفس معروضة لمقولة الإضافة. فتدبر فإنه حقيق به
ولا يخفى عليك أن تفاوت مطابقات - مفهوم واحد - لا ربط له بجريان
التشكيك في مقولة الجدة، فان التشكيك صدق طبيعة واحدة على افرادها
بالتفاوت.
وقد عرفت: أنه يستحيل أن يكون بعض مطابقات مفهوم الملك من مقولة
الجدة وليس مطلق عموم المفهوم من التشكيك، كما لا يخفى على الخبير.
وأما ما افاده - قده - في ذيل كلامه من دخول الملك - الحاصل بالعقد والإرث
- في مقولة الإضافة، فقد عرفت ما فيه من الحواشي السابقة مفصلا، بل دخول
فيها بسبب التصرف والاستعمال الموجب للاختصاص - أيضا - كذلك، فان هذا
الاختصاص - أيضا - من الاعتبارات
نعم ركوبه يحقق هيئة إحاطة للفرس، وهي جدة وراكبيته ومركوبيته من مقولة
الإضافة. فتدبر وراجع ما قدمناه (1).

(1) ذيل قول الماتن - ره (وأما النحو الثالث فهو كالحجية والقضاوة الخ) تقدم في ص 131
143

ثم إن اعتبار الملك - شرعا أو عرفا - هل هو اعتبار الملك بمعنى الجدة؟ أو
اعتبار بمعنى الإضافة؟
والصحيح هو الثاني، لان مقولة الجدة ليست نفس الإحاطة، وهو المبدأ
للمحيط والمحاط، حتى يتوهم أن اعتبار الملك هو اعتبار المبدأ المستلزم
لانتزاع عنواني المالك والمملوك بقيام المبدأ الاعتباري بذات المالك والمملوك.
بل الجدة هي الهيئة الحاصلة للجسم بسبب إحاطة جسم اخر به، بحيث
ينتقل المحيط بانتقال المحاط، ولذا يعبر عنها بالتختم والتعمم والتقمص.
ومن الواضح أن المحيط في الملك الشرعي هو المالك ولا ينتقل بانتقال
المحاط، بل المحاط هنا ينتقل بانتقال المحيط، فليس اعتبار الملك شرعا أو
عرفا، الا اعتبار المالكية والمملوكية.
ولذا قال بعض الأكابر (1) بعد بيان الجدة: وقد يعبر عن الملك بمقولة (له) وهو
اختصاص شئ بشئ من جهة استعماله إياه وتصرفه فيه،
فمنه طبيعي ككون القوى للنفس وكذلك كون العالم للباري جل ذكره.
ومنه اعتباري خارجي ككون الفرس لزيد، وفي الحقيقة، الملك بالمعنى
المذكور يخالف هذا الاصطلاح
وقال بعده في موضع اخر: فإنه من مقولة المضاف لا غير الخ.
وغرضه ان المعنى معنى مقولي إضافي، لا أنه مقول، حقيقة، كيف ومطابق
الملك في الباري تعالى من جملة الأمثلة ولا يعقل اندراجه تحت مقولة فضلا
عن مقولة المضاف التي هي من أضعف الاغراض.
وغرضه من الاعتبار الخارجي في قبال الاعتبار الذهني، وقد مر مرارا شرح
حقيقتها فراجع.
قوله: إما من جهة اسناد وجوده إليه ككون العالم... الخ
هذه العبارة تشعر بأن مصحح عنوان المالكية والمملوكية - هنا - إسناد وجود

(1) - هو صدر المتألهين في شرح الهداية الأثيرية ص 274.
144

العالم إلى الباري جل شأنه، مع أن الاسناد إليه مصحح عنوان المعلولية
وأشباهها، بل محصصها ما مر سابقا (1) من انبساط فعله تعالى - وهو الوجود
المطلق - على جميع الماهيات الإمكانية، فإنه المناسب لإحاطته تعالى في
مرحلة فعله تعالى، كما أن ارتباطها به تعالى، لكونها موجودة - وبوجود رابط -
مصحح قيوميته تعالى، وأشباهها.
وقد أشرنا سابقا: أن النبي صلى الله عليه وآله وأوصياءه عليهم السلام - من
حيث كونهم مجاري فيضه، ومجالي نوره، لهم هذا المعنى من المالكية والإحاطة
الوجودية الحقيقية لما عداهم، من غير فرق بين الملاك والأملاك، وإن كان لهم
مالكية اعتبارية شرعية لما يختص لهم عليهم السلام أيضا.
فلا منافاة بين أن تكون الأرض كلها لهم، وغيرها أيضا، ومع ذلك لا يملكون
شرعا الا الحقوق، والمجعولة له من الخمس والأنفال، ونحوهما وللكلام مقام
آخر.
قوله: لا مجال لاستصحاب دخل ماله الدخل.. الخ.
الكلام تارة في استصحاب الشرطية والمانعية، وأخرى في استصحاب ذات
الشرط والمانع فنقول:
أما بناء على عدم مجعوليتهما فواضح، حيث أنهما ليستا تعبديتين، حتى
يتعبد ببقائهما، ولم يترتب عليهما اثر شرعي، فإن التكليف مترتب على ذات
الشرط والمانع، ثبوتا ونفيا، لا على الشرطية والمانعية.
وأما بناء على مجعوليتهما، فان كان لهم إثبات نفسهما، فلا كلام، فان
المستصحب حكم شرعي جعل على الفرض ولا حاجة إلى اثر آخر.
وان كان المهم إثبات التكليف، فهو كما عرفت مرتب على ذات الشرط
والمانع، لا على الشرطية والمانعية، حتى بناء على المجعولية، كيف؟ وهما
مجعولتان بتبع جعل التكليف ومترتبتان على ترتبه على ذات الشرط والمانع،

(1) تقدم في ص 141.
145

فكيف يعقل أن يكون التعبد بهما تبعدا بما يترتبان عليه، إذ الشرطية والمانعية
الظاهرية - كالشرطية والمانعية الواقعية - تابعتان لجعل التكليف الظاهري كما هما
تابعتان لجعل التكليف الواقعي.
وأما استلزام التعبد بالشرطية للتعبد بالمشروطية، لمكان التضايف، وإن لم
يكن أحدهما مترتبا على الآخر، فلا يجدي الا لاثبات المشروطية، لا لاثبات ذات
المشروط، إذ ما كان بينهما التضايف هما عنوان الشرطية، وعنوان المشروطية،
مع أن المهم ذات المشروط، وما يهم التعبد به، وهو ذات المشروط - ليس
مضايفا لعنوان الشرطية ولا مضايفا لذات الشرط فتدبر جيدا.
وأما استصحاب ذات الشرط والمانع، والتعبد بذات المشروط - ثبوتا - وبذات
الممنوع - نفيا - فمختصر القول فيه:
أما إذا لم يكن للتكليف الشرعي تقيد خطابي، وإناطة في مرحلة الجعل، فلا
شبهة في أن الترتيب عقلي، فكما لا يجدي استصحاب بقاء المصلحة الواقعية
للتعبد بمقتضاها - وهو التكليف - فكذا استصحاب ماله دخل واقعا - في كون
التكليف ذا مصلحة - لا يجدي في التعبد بالتكليف، فان الترتب عقلي لا جعلي -
وإن كان الأثر شرعيا -
وأما إذا كان للتكليف الشرعي تقيد وإناطة في مرحلة الجعل - بالمعنى
المتقدم في بعض الحواشي السابقة (1) - وهو دخل المعلق عليه في خروج
المجرد بنفسه بعثا فعليا لا بمعنى جعل ما ليس بدخيل في مصلحته دخيلا في
المصلحة، حتى يقال بأنه محال.
فحيث أن هذه الإناطة جعلية، وهذا التقيد شرعي، فلا بأس حينئذ
باستصحاب ذات الشرط والتعبد بالمشروط، لأن الجعل الظاهري كالجعل
الواقعي، فمعنى التعبد بوجود الشرط هو التعبد بإناطة الحكم به بجعل الحكم
الظاهري المرتب على وجود الشرط تطبيقا.
.

(1) تقدم في ص 118
146

وهذا الشرط وإن كان من حيث دخله الواقعي في المصلحة لا ترتب
للمشروط عليه شرعا، إلا أنه من حيث إناطة الحكم به - في مرحلة الجعل - يكون
ترتب المشروط عليه شرعا، والا لكان خلفا لفرض صحة إناطة الحكم به شرعا،
ولعله أشار - ره - إليه بقوله فافهم.
قوله: والتكليف وان كان مترتبا عليه... الخ.
في العبارة مسامحة، إذ الكلام في استصحاب الشرطية والدخل، لا في ذات
الشرط، وماله الدخل، والأثر الشرعي مترتب على الثاني، دون الأول، إلا أن
غرضه، - ره - هو الثاني وهو واضح.
قوله: وكذا ما كان مجعولا بالتبع... الخ.
قد عرفت الاشكال فيه من وجهين مفصلا فراجع (1).
قوله: نعم لا مجال لاستصحابه لاستصحاب سببه.. الخ.
لأن الشك في الجزئية مثلا مسبب عن الشك في الأمر بالمركب منه ومن
غيره، فلا شك في الجزئية - بعد التعبد بالمركب - بجعل الأمر به، بخلاف الشك
في تعلق الأمر بالمركب، فإنه غير مسبب عن الشك في الجزئية، بل ملازم له -
نظير الشك في الحكم وموضوعه - ولعله نتكلم إن شاء الله تعالى في الفرق
بينهما في مبحث الأصل المثبت.
نعم ما أفاده - قد - يختص بما إذا جرى الأصل في منشأ الانتزاع، فإنه حاكم
على الأصل في ما ينتزع عنه، وأما إذا لم يجر الأصل فيه، فلا مانع من جريان
الأصل في المسبب كما في استصحاب عدم جزئية مشكوك الجزئية مشكوك الجزئية مع عدم
جريان الأصل في الأمر النفسي في الأكثر، لمعارضته بعدم تعلق الأمر النفسي
بالأقل بما هو.
وقد تقدم بعض الكلام فيه - في البحث عن الأقل والأكثر - من مباحث

(1) تقدم في ص 129.
147

البراءة (1) ولعله - قده - أشار إلى بعض ما ذكرنا بقوله فافهم.
" التنبيه الأول من الاستصحاب "
قوله: إنه يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك... الخ.
الوجه في اعتبار فعلية الشك أمران:
أحدهما: ظهوره في الفعلية - المساوقة لثبوته وتحققه - لا وضعا فان الألفاظ
موضوعة لنفس المعاني المعراة بذاتها عن الوجود والعدم، ولذا يحمل عليه بأنه
موجود أو معدوم.
وقد مر منا مرارا أن الوضع للموجود - خارجيا كان أو ذهنيا - غير معقول لأن
فائدة الوضع الانتقال من سماع اللفظ إلى معناه، والانتقال نحو من الوجود
الذهني.
والوجود لا يعرض الموجود - خارجا كان أو ذهنيا - لأن المقابل لا يقبل
المقابل، والمماثل لا يقبل المماثل، فتدبر.
بل منشأ الظهور: أن الموضوع في القضية قد يكون - من حيث مفهومه ومعناه
- موضوعا للحكم، كما في الحمل الذاتي، وقد يكون بما هو فان في مطابقه،
ومطابق المفاهيم الثبوتية حيثية ذاتها حيثية طرد العدم.
وما نحن فيه من قبيل الثاني، كما هو واضح.
ثانيهما: ان مفاد دليل الاستصحاب - كدليل الامارة، بل وجميع الأصول.
وظائف شرعية، وأحكام طريقية، لا نفسية حقيقية، فمفادها إما التنجيز، وإما
الاعذار وهما يتقومان بالوصول - حكما وموضوعا - فلا يعقل تعلق التنجيز
والاعذار بموضوع تقديري غير موجود بالفعل، ولا ملتفت إليه، حيث أن
الالتفات يساوق تحققه، فسنخ الحكم يقتضي برهانا عدم كون الموضوع أمرا

(1) تقدم في ج 2 من هذا الطبع.
148

تقديريا يجامع الغفلة.
كما أن الظهور في الأول يقتضي فعلية الشك.
نعم - بناء على الوجه الثاني - لا يكفي فعلية الشك في فعلية الحكم، بل لابد
من الالتفات إلى حكمه، لان للفعلية والتنجز في الأحكام الطريقية مرتبة واحدة.
بخلاف الوجه الأول، فإنه يمكن أن يكون تحققه الالتفات إليه، بل يتقوم
تنجزه به.
وأما على ما هو التحقيق - عندنا - من مساوقة الفعلية، والتنجز مطلقا، فالحكم
النفسي والطريقي - من حيث تقومه بالالتفات إليه - على حد واحد.
قوله: فيحكم بصحة صلاة من أحدث ثم غفل.. الخ.
عدم جريان الاستصحاب قبل الصلاة، وفي حال الصلاة بناء على ما تقدم -
من تقومه بالشك الفعلي - واضح.
وأما صحة الصلاة بقاعدة الفراغ فبناء على الطريقية والظهور النوعي من حال
المصلى بأنه لا يدخل في العمل إلا مستجمعا لما يعتبر فيه وجودا وعدما، كما
يشهد له التعليل بأنه " هو حين يتوضأ أذكر (1) " لا مجال للقاعدة، للقطع بأنه كان
غافلا عن حدثه المتيقن سابقا، لا ذاكرا، فضلا عن كونه أذكر.
وأما بناء على أنها من الأصول العملية، المنوطة بمجرد حدوث الشك بعد
العمل، لا من باب تقديم لظاهر على الأصل، فلا شبهة في جريان قاعدة الفراغ.
قوله: بخلاف من التفت قبلها وشك ثم غفل... الخ.
ويمكن الاشكال عليه بلحاظ ما تقدم من الأمرين اللذين عليهما يبتني اعتبار
الشك الفعلي.
أما الظهور في فعلية الشك، فلا فرق بين الحدوث والبقاء، لأن الشك الفعلي،
إن كان حيثية تقييدية للحكم الاستصحابي، فقد زالت بالغفلة وإن كانت حيثية
تعليلية - حدوثا لا بقاء - فمما لا دليل عليه، لأنا إن استظهرنا الفعلية - من قوله

(1) الوسائل: ج 1: الباب 42 من أبواب الوضوء: ص 331: الحديث 7.
149

عليه السلام (لا تنقض اليقين بالشك) فلا فرق بين الحدوث والبقاء، وان قلنا بأنه
يكفي في ثبوت الشك ثبوته بثبوت مقتضيه، فلا فرق أيضا بين الحدوث والبقاء.
وأما اقتضاء الطريقية، لعدم تعقل إناطة الحكم الطريقي المسوق بداعي تنجيز
الواقع بالشك التقديري، فالأمر أوضح، إذ مقتضاه أنه لو دخل في تلك الحالة في
الصلاة، كان مستحقا لعقاب تارك الصلاة بفقد الشرط المنجز بحكم
الاستصحاب.
ومن الواضح أن بقاء التنجز - بهذا المعنى - مع الغفلة غير معقول، كما كان
كذلك حدوثا.
والجواب - أما بناء على المبنى الأول، فبأن الغفلة عن موجب الشك وسببه
مانعة عن تحقق أصل الشك، وأما الغفلة عن الشك بعد وجوده - بوجود سببه -
فمانعة عن الالتفات إليه والى حكمه، لا عن أصله، لأن العلوم والادراكات لا
تزول بعدم الالتفات إليها، بل موجودة في أفق النفس، لكنها غير ملتفت إليها،
والعلم بالشئ أمر، والعلم بالعلم أمر آخر، وكذا سائر الصفات، فالالتزام بأن
الشك الفعلي حيثية تقييدية - حدوثا وبقاء - لا مانع منه.
وأما بناء على المبنى الثاني، المجامع لفرض بقاء الشك في أفق النفس أيضا،
فبأن التنجز لا ينحصر في ترتب اثر المخالفة للتكليف، حتى يقال: بأن بقاءه
محال، بل شأن الأمر الطريقي ايقاع المكلف في كلفة الواقع تكليفا ووضعا.
فالحدث الواقعي - الذي لم يكن له كلفة المانعية، فعلا - صار بسبق اليقين به،
والشك في بقائه مانعا فعليا، فالصلاة مقرونة بالمانع الفعلي ما لم يأت برافعه،
وان غفل عن اقترانها بالمانع، البالغ مرتبة الفعلية، بسبق الأمر الاستصحابي
المبلغ له إلى مرتبه الفعلية.
قوله: قلت نعم لولا قاعدة الفراغ... الخ.
ظاهره - قده - كما هو ظاهر الشيخ الأجل - قده - في الرسائل (1) - جريان

(1) الرسائل: ذيل الأمر الخامس من الأمور التي تعرضها بعد تعريف الاستصحاب ص 322.
150

استصحاب الحدث في نفسه، بعد العمل، لتمامية أركانه من اليقين والشك.
الا أنه لا يخلو عن إشكال، لأن استصحاب الحدث، وان كان مرجعه إلى
التوسعة في دائرة المانعية، وجعل الحدث المشكوك كالمعلوم مانعا، وكانت
الإعادة بحكم العقل، وكان موضوعه أعم من الواقع والظاهر - كما أوضحه شيخنا
الأستاذ - قده - في تعليقته المباركة على الرسائل في هذا الموضع (1) إلا أن
التعبد بمانعيته - ما لم يتصف حال الصلاة بالمانعية شرعا فعلا، غير معقول، إذ
الشئ لا ينقلب عما هو عليه، فالصلاة الغير المقترنة بالمانع الواقعي - حيث لم
يحرز - ولا بالمانع التعبدي - حيث لم يكن تعبد في حال الصلاة - كيف يعقل أن
تنقلب وتصير مقترنة بالمانع التعبدي؟ حتى تكون باطلة، فتجب الإعادة لبقاء
الأمر؟
وبعبارة أخرى: مرجع المانعية إلى الأمر بعمل متقيد بعدم ما يسمى بالمانع،
وليس مثل هذا الأمر ظاهرا في حال الصلاة، لعدم الشك ولا معنى لمثل هذا
الأمر بعد الصلاة، إلا بالنسبة إلى الزمان المتأخر، دون الزمان المتقدم.
فليس اثر بقاء الحدث المشكوك - في حال الصلاة - الأمر الظاهري في تلك
الحال بالمتقيد بعدم الحدث المشكوك، مع أن موقع التعبد ووجود الأمر
الظاهري بعد الصلاة وحدوث الشك.
فنحن وإن قلنا بأن التعبد بوجود الشرط تعبد بالأمر بالمتقيد بوجود مثله
تطبيقا للحكم الكلي علي المورد - والتعبد بوجود المانع تعبد بالأمر بالمتقيد
بعدم مثله تطبيقا أيضا، الا أن هذا التعبد لا يعقل إلا بالإضافة إلى ما بعد الأمر، لا
إلى ما قبله.
نعم إذا كانت الشرطية والمانعية من الاعتبارات لا مكن اعتبار مانعية أمر
متقدم أو شرطيته، لأن الاعتبار خفيف المؤنة.
الا أنك قد عرفت: أنه لا مصحح لانتزاعهما إلا الأمر المتعلق بمركب متقيد

(1) ص 175: ذيل قول الشيخ - قده - " يوجب الإعادة بحكم استصحاب عدم الطهارة ".
151

بوجود شئ أو عدم شئ.
ومن الواضح - أيضا - عدم ترتب الأمر بالظهر المأتي بها - مثلا - شرعا على
وجود المانع، أو على عدم الشرط، حتى يكون مفاد التعبد بوجود المانع، أو
التبعد بعدم الشرط تعبدا ببقاء الأمر بالمأتي به.
بل ذكرنا في باب البراءة: أن التعبد بعدم اتيان الظهر مثلا ليس تعبدا بالأمر بها
فعلا، إذ الأمر بالظهور مرتب على موضوعه، ومقتضاه ايجاب اتيانه، ولا معنى
لأن يكون ايجاب اتيانه شرعا مترتبا على عدم اتيانه حتى يكون استصحاب عدم
اتيانه مجديا في بقاء الأمر باتيانه.
نعم قاعدة الاشتغال، أو استصحابه، أو استصحاب، بقاء الأمر كاف في وجوب
الإعادة، إنما الكلام في استصحاب وجود المانع، والحكم بوجود الإعادة
بسببه.
وأما قاعدة الفراغ، فقد عرفت ما فيها بناء على الطريقية (1) وأما بناء على
كونها من الأصول العملية، فوجه تقديمها على الاستصحاب جعلها غالبا في
مورده فتقدم عليه صونا عن اللغوية، لا من باب حكومتها عليه، فان
الاستصحاب كما يقدم بلحاظ إماريته على سائر الأصول العملية، من باب
الحكومة، فكذا بالإضافة إلى هذا الأصل العملي.
" التنبيه الثاني من الاستصحاب "
قوله: الثاني هل يكفي في صحة الاستصحاب الشك في بقاء شئ
على تقدير ثبوته... الخ.
لا يخفى عليك أن عقد هذا البحث لتصحيح الاستصحاب فيما لا يقين
بشئ في الزمان الأول، بل قامت الحجة عليه، لا أن مجرد الشك في بقاء شئ

(1) تقدم في ص 149.
152

على تقدير ثبوته - الذي يكفي في تحققه مجرد احتمال الثبوت - مجري
الاستصحاب، كما يوهمه العنوان، بل يوهمه البرهان المذكور في كلامه - قده -
حيث أنه لا حاجة في التعبد بالحكم في مورد الشك في البقاء، إلا حصول
العنوان، وإن لم يكن ثبوت واقعي ولا ثوبت علمي.
وتوضيح المقام وتنقيح المرام يستدعي تمهيد مقدمة: هي أن الحجية، كما
مرت مرارا، إما بمعني الواسطة في اثبات الحكم، أو في تنجزه.
فان كان مفاد دليل الحجية جعل الحكم المماثل، فحيث أنه بلسان أنه الواقع،
فوصوله - بالذات والحقيقة - وصول الواقع بالعرض، والعنوان، وعليه فلمن قامت
الحجة - بهذا المعنى - عنده يقين بالحكم الفعلي المماثل، الواصل حقيقة، ويقين
بالحكم الواصل بالعرض عنوانا.
وإن كان مفاد دليل الحجية تنجيز الواقع، فلا حكم فعلي ليكون متيقنا، بل
ليس في البين إلا الحكم الواقعي المحتمل مثلا.
غاية الأمر يقطع بتنجزه على تقديره ثبوته، ومصادقة الحجة له واقعا، فلا يقين
بحكم في الزمان الأول، ليكون الشك في بقاء ما أيقن بثبوته.
بل التحقيق: أن جعل الحكم المماثل، إن كان عن مصلحة أخرى غير
المصلحة الواقعية، الباعثة على جعل الحكم الواقعي - كما هو كذلك بناء على
موضوعية الامارة - فحينئذ يتيقن بالحكم المماثل، على تقدير المصادقة
والمخالفة.
وإن كان عن مصلحة الواقع، بداعي ايصال الواقع بعنوان آخر فلا حكم مماثل
حقيقة، إلا في صورة المصادفة، ووصول الواقع - بهذا العنوان - ويستحيل ثبوته
مع المخالفة، على فرض انبعاثه عن مصلحة الواقع - والا لكان معلولا بلا علة، فلا
يقين حينئذ بالحكم المماثل على اي تقدير بل على تقدير المصادفة الغير
المعلومة، فحال جعل الحكم المماثل على الطريقي حالا الانشاء بداعي تنجيز
الواقع.
153

وعلى هذا لابد من التصرف في دليل الاستصحاب بأحد وجوه ثلاثة:
الأول: أن يكون اليقين كاشفا محضا، ومعرفا صرفا إلى نفس الثبوت الواقعي،
فيكون مفاده كما إذا قيل: إذا ثبت شئ وشك في بقائه يجب ابقاؤه، فيفيد
الملازمة بين ثبوت شئ واقعا وبقائه ظاهرا وحيث أن البقاء تعبدي ظاهري - في
مورد الشك في البقاء - يكون حكما ظاهريا، وحيث أن البقاء تعبدي ظاهري - في
مورد الشك في البقاء، يكون حكما ظاهريا لا حكما واقعيا، ولا يتوقف هذا
المعني على تعقل جعل الملازمة بل على جعل الحكم ظاهرا مرتبا على ثبوته
واقعا، فينتزع الملازمة بينهما من سنخ جعل الحكم بقاء على تقدير ثبوته.
وعليه فإذا قامت حجة على الثبوت، كانت حجة على البقاء التعبدي، لأن
الحجة - على أحد المتلازمين - حجة على الآخر، ويكون منجز الثبوت منجزا
للبقاء، لمكان التلازم المحقق بتعليق البقاء التعبدي على ثبوت الواقعي، وإن لم
يحرز فعلية البقاء التعبدي بسبب عدم إحراز المعلق عليه، وهو الثبوت الواقعي.
الا أنه يكفي فعلية المعلق - واقعا - في فعلية البقاء التعبدي - واقعا -
لمكان الملازمة، والوقوع في كلفة البقاء التعبدي، بسبب قيام الحجة المنجزة
للثبوت أولا، وبالأصالة، والمنجزة اللازمة ثانيا وبالتبع، وهذا الوجه هو مختار
شيخنا العلامة - رفع الله مقامه -
والتحقيق: أن التعبد بالبقاء لا يخلو عن أنه: إما يكون حكما نفسيا وإما يكون
حكما طريقيا. فان كان من قبيل الأول، فهو - كالحكم الواقعي - قابل لأن يتنجز
بمنجز، إما ابتداء أو بالملازمة، ولكنه لا يمكن الالتزام بدوران التعبد بالبقاء مدار
الثبوت الواقعي.
بل لو أيقن بوجود شئ في الزمان الأول وشك في بقائه في لزمان الثاني،
ولم يكن ثابتا في الزمان الأول واقعا، وكان ثابتا واقعا في الزمان الثاني، الذي هو
مورد التعبد فإنه لا شك في جريان الاستصحاب واقعا، مع أنه لا ثبوت واقعا.
فيعلم منه أن الثبوت - المقوم للاستصحاب - هو الثبوت العنواني المقوم لصفة
154

اليقين أو للامارة المنجزة وهو عبارة أخرى عن دوران التعبد الاستصحابي مدار
اليقين بالثبوت، أو ما هو كاليقين بالثبوت، دون نفس الثبوت.
وإن كان من قبيل القسم الثاني، فهو في نفسه غير قابل للدخول في اللوازم
القابلة لان يتنجز بمنجز كملزومها.
ولا يعقل تعليق منجزية احتمال البقاء على الثبوت الواقعي فان معناه: أن
احتمال البقاء مع عدم احراز الثبوت بل بمصادفة الثبوت الواقعة، منجز، والحال
أن المنجزية لا يعقل أن تكون مع عدم وصول الانشاء بداعي التنجيز، ولا مع
عدم وصول موضوع المنجز - كليا وجزئيا - ولا مع عدم وصول المعلق عليه
المنجزية، فان فعلية المنجزية وتنجزها واحدة، فلا يعقل تعلقها بأمر واقعي غير
واصل، والا لأمكن تنجز الواقع مع عدم وصوله.
ومنه تعرف أن احتمال الثبوت الواقعي - الملازم لمنجزية احتمال البقاء - لا
يوجب الامتثال من باب احتمال العقاب، فيجب دفع الضرر المحتمل عقلا.
وذلك، لأن احتمال الثبوت لا يلازم فعلية المنجزية حتى يوجب احتمال
العقاب، لاحتمال مصادفة احتمال البقاء للبقاء واقعا بل يلازم احتمال منجزيته،
ولا يحتمل العقاب إلا مع فعلية المنجزية المرتبة على وصول المنجز بجميع
أطرافه، فاحتمال العقاب نتيجة وجود مقطوع المنجزية، لا محتمل المنجزية
وما لا يضره الاحتمال هو احتمال الواقع، الذي قامت عليه حجة منجزة له، فان
معنى المنجز: أنه لو صادف الواقع يوجب استحقاق العقاب على مخالفته فتدبر
جيدا.
الثاني: إرادة مطلق الحجة - القاطعة للعذر - من اليقين وتعليق منجزية احتمال
البقاء على وجود المنجز الأعم من العقلي والشرعي، فيفيد الملازمة بين
المنجزين، لا بين الثبوت والبقاء ولا بين الثبوت ومنجزية احتمال البقاء - كما في
الأول على الشقين المتقدمين -
ويمكن على هذا الوجه تعليق التعبد بالبقاء على وجود المنجز للثبوت - بناء
155

على كون مفاد دليل الاستصحاب حكما نفيسا لا طريقيا - فإذا قام الخبر على
الحكم في الزمان الأول وشك في بقائه في الزمان الثاني، يكون شرعا محكوما
بالبقاء واقعا وان لم يلتفت إلى أنه متعبد به.
الثالث - إرادة مطلق الحجة - القاطعة للعذر - من اليقين، لكن جعل منجز
الثبوت منجزا للبقاء، كما هو ظاهر الاخبار لأن مفادها ابقاء اليقين - اي المنجز - لا
التمسك باحتمال البقاء، ويتعين - حينئذ - كون الاستصحاب حكما طريقيا.
وهذا الوجهان أولى من الوجه الأول، للتحفظ فيهما على اليقين بالجهة
الجامعة له مع سائر افراد الحجج، دون الأول المبني على جعله معرفا محضا
للثبوت.
كما أن الثالث أولى من الثاني للتحفظ فيه على عنوان ابقاء اليقين وجعله في
قبال الشك والأمر بالتمسك به، دون الشك كما أوضحناه مرارا.
ويندفع على هذين الوجهين ما أوردناه على الوجه الأول من جريان
الاستصحاب، مع عدم الثبوت الواقعي فان أحد طرفي المتلازمين على الوجهين
الآخرين هو المنجز للثبوت دون نفس الثبوت الواقعي فلا تغفل.
ثم إن إرادة مطلق الحجة القاطعة للعذر من اليقين - في باب الاستصحاب -
ومن العلم والمعرفة المجعولين غاية - للأصول.
تارة بإرادة نفس هذه الحيثية، بنحو العموم، فيكون الدليل على منجزية
الامارة شرعا محققا لما اخذ في الاستصحاب والأصول.
وأخرى يراد نفس حيثية الوصول التام، والمنجز العقلي، بلا كلام، فيكون
دليل الامارة سواء كان بعنوان تتميم جهة الكشف أو بعنوان المنجزية - توسعة
فيما اخذ في دليل الاستصحاب والأصول، وتكون الامارة - بناء على الأول -
مقدمة على الأصول بنحو الورود الحقيقي، وعلى الثاني بنحو الحكومة، والورود
156

التنزيلي، وبقية الكلام في محله (1).
قوله: فإنه على تقدير لم يثبت... الخ.
بل المشكوك أمر على تقدير، والا فالشك فعلي وجدانا، ولذا لم يتعرض
- قده - لدفعه لوضوح اندفاعه.
قوله: لأجل أن التعبد والتنزيل شرعا... الخ.
يعني لا مانع من عدم اخذ اليقين بالثبوت في التعبد الاستصحابي حيث أن
الغرض منه التعبد - في ظرف الشك - لا في ظرف اليقين، فلا حاجة إلى اليقين
بالثبوت، إلا لتصحيح الشك في البقاء الذي هو موضوع التعبد وكما يشك في
بقاء ما قطع بثبوته، كذلك في البقاء على تقدير الثبوت -
وقد صرح - قده - في آخر البحث أن اليقين مرآة محض لنفس الثبوت ليتعبد
ببقائه إذا شك فيه.
أقول: إن أريد من هذا التعليل مجرد مرآتية اليقين، وأن المدار على الثبوت
دون اليقين به، كما يعطيه جعل اليقين مرآة، فيوافق تعريف الاستصحاب: بأنه
إثبات الحكم في الزمان الثاني، لثبوته في الزمان الأول.
ففيه: أن الثبوت الواقعي - حينئذ - لازم، لا لمجرد تصحيح الشك في البقاء،
وحينئذ فالتعليل بأن التعبد الاستصحابي تعبد بالبقاء - لا بالحدوث - مستدرك،
فإنه يوهم عدم الحاجة إلى الثبوت الواقعي أيضا.
وإن أريد أن اليقين مرآة للثبوت أيضا لمجرد تصحيح الشك في البقاء، فلا
حاجة إلى تحققه في الواقع، بل يكفي احتمال ثبوته المحقق لاحتمال بقائه،
فالتعليل صحيح.
بل الثبوت الواقعي - كما عرفت سابقا (2) - غير لازم، إلا أن لازمه صحة
الاستصحاب بمجرد الشك في البقاء - على تقدير الثبوت - وإن لم يكن ثبوت

(1) انظر صفحة 286 ذيل قول الماتن " وأما حديث الحكومة فلا أصل لها أصلا ".
(2) تقدم في ص 154.
157

محقق، ولا ثبوت عنواني - إما متعلق اليقين أو متعلق المنجزية، ولا يمكن القول
به، ولا يقول به أحد.
قوله: بناء على ما هو التحقيق من أن قضية الحجية... الخ.
سواء كان جعل المنجزية والمعذرية باعتبارها ممن بيده الاعتبار - كما هو
ظاهر قوله عليه السلام: " فإنهم حجتي عليكم " (1) وقوله عليه السلام: " لا عذر
لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا) (2).
أو كان جعلها بالانشاء بداعي التنجزي والاعذار.
وفي الثاني إشكال تعرضنا له في مبحث الظن، ومبحث البراءة، مع دفعه (3)
وفي كليهما اشكال اخر وهو أن التنجيز مثلا بجعل الامارة واسطة في الاثبات،
لأن استحقاق العقاب عقلا على مخالفة التكليف الواصل، وما لم يكن هناك -
وصول حقيقي أو وصول تنزيلي - لا يترتب على المخالفة استحقاقه العقاب.
فلا يمكن ادراج مخالفة التكليف تحت الموضوع المحكوم عقلا بذلك إلا
بايصاله تنزيلا إما بجعل الحكم المماثل الواصل بالحقيقة بعنوان أنه الواقع حتى
يكون وصوله - بالحقيقة وبالذات - وصول الواقع بالعنوان بالعرض، وإما باعتبار
الهوهوية لمؤدي الامارة مع الواقع فيقتضي وساطة الامارة لاثبات الواقع اعتبارا.
ويندفع: بأن استحقاق العقاب - على المخالفة - باعتبار كونها خروجا عن زي
الرقية، ورسم العبودية، فيكون ظلما على المولى، فيذم عليه عقلا، ويعاقب عليه
شرعا، وكما أن مخالفة ما وصل - من قبل المولى - خروج عن زي الرقية كذلك
مخالفة ما قامت عليه حجة من قبل المولى - اي مخالفة ما نصب عليه المولى
على تقدير ثبوته - خروج عن زي الرقية، وإن لم يكن واصلا بالحقيقة، ولا واصلا

(1) الوسائل: ج 18: الباب 11 من أبواب صفات القاضي: ص 101: الحديث 9.
(2) الوسائل ج 18: الباب 11 من أبواب صفات القاضي: ص 108: الحديث 40.
(3) ج 2 ذيل قول الماتن " قده " " نعم لو قيل باستتباع جعل الحجية الخ " وج 2 ذيل قوله - قده - (لا
يقال لا يكاد يكون ايجابه مستتبعا الخ ".
158

بالتنزيل، فموضوع حكم العقل غير متقيد بالوصول ليكون اعتبار الوصول توسعة
في موضوع حكم العقل.
وأما اعتبار الوساطة في الاثبات باعتبار الهوهوية، من دون جعل الحكم
المماثل، فغير معقول، لأن اثر حقيقة الحكم لا يترتب إلا على نفسه، دون فرضه
واعتباره.
وأما اعتبار الامارة وصولا فهو يجدي في الآثار العقلية والشرعية المترتبة على
الوصول
الأعم من الحقيقي والاعتباري، فمثل اليقين في الاستصحاب إذا أريد
منه الكاشف التام، فلا بد - في تنزيل الامارة منزلته - من جعل الحكم المماثل،
والا فلا يتحقق هذا الموضوع بمجرد الاعتبار، والفرض أنه لا اثر للأعم.
قوله: لا إنشاء أحكام فعلية ظاهرية، كما هو ظاهر الأصحاب الخ.
قد عرفت سابقا (1): أن جعل الحكم المماثل، تارة يكون على اي تقدير،
فتكون الامارة حجة من باب الموضوعية والسببية، فيكون هناك يقين بالحكم
الفعلي، وأخرى يكون على تقدير المصادفة للواقع، لكونه بعنوان ايصال الواقع،
فلا يقين بالحكم الفعلي بل حاله حال الانشاء بداعي تنجيز الواقع، والامارة
حينئذ طريق محض.
ونسبة الأول إلى الأصحاب، مع أن بناءهم على الطريقية، ولو بجعل الحكم
المماثل ونسبة الأول إلى الأصحاب، مع أن بناءهم على الطريقية، ولو بجعل
الحكم المماثل لا شاهد لها، بل الشواهد على خلافه، وما اشتهر عندهم من أن
ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم مبني على السببية لا الطريقية كما اعترف
- قده - بذلك في مبحث الاجتهاد والتقليد فراجع (2) وتدبر.

(1) تقدم في ص 153.
(2) الكفاية ج 2 ص 431.
159

" التنبيه الثالث من الاستصحاب "
قوله: كان استصحابه به بلا كلام الخ.
توضيح المقام: إن الأثر المرتب على الكلي والفرد، تارة اثر واحد وأخرى
متعدد فان كان واحدا، فلا محالة هو إما اثر الكلي بما هو، أو اثر الفرد بما هو، ولا
يعقل أن يكون اثرا لهما إذ لا يعقل أن تكون الخصوصية المقومة للفرد دخيلة في
الأثر، وغير دخيلة فيه.
والتعبد بالشئ ليس إلا تعبدا بأثره.
فان كان هو اثر الكلي، فلا معنى إلا للتعبد بالكلي، وان كان هو اثر الفرد بما
هو، فلا معنى إلا للتعبد بالفرد، فالتعبد بالفرد وترتيب اثر الكلي لا معنى له، وكذا
عكسه.
وان كان الأثر متعددا بان أحدهما للكلي بما هو، والآخر للفرد بما هو،
فمقتضى التدقيق ما ذكرنا من أن التعبد بالشئ لا معنى له إلا التعبد بأثره، ولا
يعقل التعبد بشئ والتعبد باثر غيره.
وعن شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - في تعليقته المباركة (1)، على الرسائل:
إن التعبد بالكلي لا تعبد في ترتيب اثر الفرد، إلا على الأصل المثبت، وفي كفاية
التعبد بالفرد لترتيب اثر الكلي أيضا وجهان.
من أن الطبيعي عين الفرد - في الخارج - وجوده بعين وجوده الفرد، فالتعبد
بالفرد تعبد بالطبيعي الموجود بين وجوده، فيفيد ترتيب اثر الكلي كما يفيد
ترتيب اثر الفرد.
ومن أن الكلي والفرد بالنظر العرفي اثنان، يكون بهذا النظر بينهما التوقف
والعلية، دون الاتحاد والعينية، فلا يكون التعبد بالفرد عرفا تعبدا بالكلي بهذا
النظر، وهو المعتبر في هذا الباب.

(1) ص 202: ذيل قول الشيخ - قده - " أما الأول فلا إشكال ".
160

ثم أفاد أن وساطة الفرد للكلي وإن كانت ثابتة بنظرهم لكنها ملغاة
بمسامحاتهم، والعبرة في باب ترتيب الأثر بهذا النظر المسامحي كما سيجئ إن
شاء الله تعالى، في تحقيق ما هو المعتبر، في موضوع الاستصحاب عقلا أو دليلا
أو عرفا، هذا ملخص كلامه زيد في علو مقامه.
والتحقيق: أن عينية وجود الطبيي ووجود فرده أجنبية عن مقام التعبد بأثر
الكلي، فإنهما متحدان بحسب وجودهما الخارجي لا بحسب وجودهما
التعبدي، وليس في التعبد بموضوع - ذي اثر - جعل الموضوع حقيقة، حتى
يكون جعل الفرد جعل الطبيعي المتحد معه، وليس اثر الكلي بالنسبة إلى اثر
الفرد طبيعيا بالإضافة إلى فرده.
كما أن اثنينية الطبيعي وفرده عرفا لمكان التوقف والعلية إن كانت بالنظر إلى
وجودهما الخارجي، فالأمر بالعكس، إذ بالنظر العرفي إلى ما في الخارج، لا
يراهما العرف إلا واحدا، وأنما الاثنينية عقلية بالتحليل العقلي.
وكذا التوقف والعلية - أيضا - ليس بحسب النظر العرفي، بل بالنظر الدقيق
العقلي بملاحظة أن الفرد مجرى فيض الوجود بالنسبة إلى الطبيعي، بل هو بالنظر
البرهاني الذي يتوقف على تجديد النظر جدا.
وإن كانت الاثنينية عرفا بالنظر إلى مقام موضوعية الكلي والفرد لأثرين
المترتبين عليهما، والاتحاد عرفا بالنظر إلى أنهما بمناسبة الحكم والموضوع،
موضوع واحد لهما اثران، فالاثنينية حينئذ ليست بملاك التوقف والعلية.
كما أن وحدة الموضوع تقتضي أن يكون هناك موضوع واحد له اثران،
والتعبد بالواحد تعبد بجميع آثاره، وحينئذ ليس عنوان الكلية والفردية، ولا
عنوان خفاء الواسطة دخيلا في ترتيب الأثرين.
بل التعبد بحدث الجنابة - مثلا - تعبد بجميع آثاره، ولهذه الوحدة يكون
التعبد بهذه الحصة أيضا تعبدا بأثر الجنابة أيضا.
إذ المفروض أن هذا الواحد في نظر العرف له آثار متعددة من دون نظر إلى
161

الكلية، والفردية، وليس لأجل الغاء الواسطة حتى يقال: إن الفرد له الواسطة،
والكلي ليس له الواسطة، فالتعبد بالفرد تعبد بالكلي، والتعبد بالكلي ليس تعبدا
بالفرد هذا كله إن كان المستصحب موضوعا ذا أثر، وكان كليا تارة وفردا أخرى.
وأما إن كان المستصحب حكما، فالتعبد بالفرد معناه جعله حقيقة، ومن
الواضح أن جعل الوجوب - مثلا - جعل الطلب حقيقة، فحديث عينية الطبيعي
وفرده مفيد هنا.
كما أنه إذا كان جعل الطلب المطلق، من دون تخصصه بخصوصية الحتمية
والندبية معقولا، ليس جعل الطلب إلا نفسه، لا جعل الوجوب مثلا فيصح
حينئذ أن يقال: إن التعبد بالفرد تعبد بالكلي، فيغني استصحابه عن استصحابه،
وليس التعبد بالكلي تعبدا بالفرد، فلا يغني استصحابه عن استصحابه.
الا أن في استصحاب الكلي، في خصوص الأحكام، دون الموضوعات -
إشكالا، ملخصه: أن التعبد بالموضوع الكلي ليس ايجادا له حقيقة، حتى يشكل
بأن ايجاد القدر المشترك من دون تنوعه وتخصصه بما يفرده محال، بل التعبد به
تعبد عنواني، والتعبد الحقيقي بأثره، الذي هو شخص من طبيعي الحكم،
بخلاف التعبد بالحكم الكلي، فان معناه جعل الحكم الجامع، وإيجاد الجامع
- من أية مقولة كان - غير معقول، وكما أن ايجاد الجامع واقعا غير معقول، كذلك
جعله على طبق المنجزية أو على طبق المتيقن سابقا أيضا غير معقول، إذ لا فرق
بينهما في كونه حكما حقيقيا يوجد في الخارج بنحو وجوده المناسب له في
نظام الوجود.
غاية الأمر أن أحدهما حكم مرتب على ذات الموضوع، والآخر على طبق
المخبرية أو المشكوك أو المتيقن سابقا.
وهذا الاشكال مختص بجعل الحكم حقيقة، ولا يرد على ايجاده انشائي،
فان تصور الجامع والتصديق به، واستعمال اللفظ فيه - اخبارا وانشاءا - ليس من
الايجاد الحقيقي للجامع، ولا الوجود - فيما ذكر - وجودا بالذات للجامع.
162

نعم إذا كان استصحاب الحكم للتعبد بأثره الشرعي فيكون حال هذا
المستصحب حال سائر الموضوعات من رجوع التعبد به بنفسه إلى التعبد
العنواني والتعبد الحقيقي بأثره الشرعي المترتب عليه.
وأما إذا كان استصحاب الحكم لتحقيق موضوع الحكم الشرعي أو العقلي
فحينئذ لابد من جعله فيرد محذور وجود المانع بنفسه في الخارج.
ومن المعلوم ان التعبد بمؤدي الخبر أو بالمتيقن سابقا لابد من أن يكون
بمقدار الخبر عنه واليقين به، فلا يعقل جعل الفرد على طبق الجامع المخبر به أو
المتيقن، وكونه واقعا فردا غير كون المخبر به فردا أخبر به أو المتيقن فرد تيقن به.
والتحقيق: أن الإرادة المطلقة الغير المتخصصة بخصوصية الشدة -
المساوقة للحتمية، والغير المتخصصة بخصوصية الضعف - المساوقة للندبية -
غير معقولة، وكذا المصلحة الغير المتخصصة بخصوصية كونها ملزمة، والغير
المتخصصة بخصوصية كونها غير ملزمة أيضا غير معقولة، إلا أن جعل الداعي
تمام حقيقته هو الانشاء بداعي جعل الداعي وانبعاثه عن الإرادة غير داخل في
حقيقته حتى يختلف حقيقته بسبب تفصله تارة بفصل الحتمية وأخرى بفصل
الندبية وهل التحريك الاعتباري إلا كالتحريك الخارجي.
فان تفاوت علة التحريك الخارجي بالحتمية والندبية لا يوجب تفاوتا في
حقيقته وإن أطلق على أحد الفردين من التحريك الاعتباري عنوان الايجاب،
وعلى الآخر عنوان الاستحباب.
نعم فرق بين الانشاء بداعي جعل الداعي واقعا، والانشاء بداعي جعل
الداعي ظاهرا، وهو أن الانشاءات الواقعية حيث إنها منبعثة عن إرادات واقعية
منبعثة عن مصالح واقعية ومباديها أمور خاصة.
فلا محالة هي مما ينطبق عليه الايجاب أو الاستحباب، بخلاف الانشاءات
الظاهرية، فإنها أحكام مماثلة لما أخبر به العادل، أو لما أيقن به سابقا، فلا محالة
تكون على مقدار المخبر به أو المتيقن.
163

فإذا لم يخبر إلا عن أصل المطلوبية، أو إذا لم يتيقن إلا بمجرد المطلوبية،
فكيف يعقل أن يكون الحكم المماثل مصداقا للايجاب أو للاستحباب، بل
متمحض في جعل الداعي فقط، فتدبر جيدا.
" تحقيق حول استصحاب الفرد المردد "
قوله: وإن كان الشك فيه من جهة تردد الخاص... الخ.
ينبغي التكلم أولا في صحة استصحاب الفرد المردد كما عن بعض الأجلة في
حاشيته (1) على كتاب البيع للشيخ الأعظم - قده - قائلا: بان تردده بحسب علمنا
لا يضر بتيقن وجوده سابقا، والمفروض أن اثر القدر المشترك اثر لكل من
الفردين، فيمكن ترتيب ذلك الأثر باستصحاب الشخص الواقعي المعلوم سابقا،
كما في القسم الأول الذي حكم المصنف - قده - باستصحاب كل من الكلي
وفرده انتهى ملخصا.
وفيه إن أريد تيقن وجود الفرد المردد، مع قطع النظر عن خصوصيته المفردة
له، فهو تيقن الكلي دون الفرد، إذ المفروض إضافة الوجود المتيقن إلى الموجود
به، مع قطع النظر عن الخصوصية المفردة، فلا يبقى الا الطبيعي المضاف إليه
الوجود.
وإن أريد تيقن الخصوصية المفردة، التي هي مرددة بين خصوصيتين، - فقد
مر مرارا - أن طرف العلم معين لا مردد، وأن أحدهما - المصداقي - لا ثبوت له، لا
ماهية، ولا وجودا، فيستحيل تعين العلم الجزئي بما لا ثبوت له، والعلم المطلق لا
يوجد، بل يوجد متشخصات بمتعلقة.
بل المتيقن هو الوجود إلى الطبيعي الذي لا علم بخصوصيته، مع
العلم بأن ما عدا الخصوصيتين ليس مخصصا له، فالجامع الذي لا يخرج عن

(1) هو السيد الطباطبائي اليزدي - قده - في البحث عن لزوم المعاطاة وعدمه: ص 73.
164

الفردين هو المعلوم وقد مر توضيحه مرارا.
ومنه تعرف أن الإشارة إلى الموجود الشخصي - المبهم عندنا المعين واقعا -
لا يجعل الفرد بما هو معلوما، إذ الشخص الذي هو بعين حقيقة الوجود - لأنه
المتشخص بذاته المشخص لغيره - غير مفيد، لأن المستصحب - علي اي حال -
هو الموجود المضاد. اما إلى الماهية الشخصية، أو الماهية الكلية.
ولا نعني باستصحاب الكلي استصحاب نفس الماهية الكلى، بل استصحاب
وجودها، بل المراد باستصحاب الفرد هنا - في قبال الكلي - استصحاب وجود
الماهية الشخصية.
والمفروض أنه لا علم بخصوصيتها المشخصة لها بتشخص ماهوي، والعلم
بأن الطبيعي له خصوصية منطبقة - على كل من الخصوصيتين، بنحو انطباق
مفهوم الخصوصية على مطابقها لا يخرج العلوم عن الكلية إلى الفردية.
وأما ما ذكره من ترتيب اثر الكلي على استصحاب الفرد المردد، فقد مر ما فيه
سابقا من أن التعبد بكل شئ بما هو يقتضي التعبد بأثره فالتعبد بالخاص - بما
هو يقتضي التعبد الخاص بما هو خاص لا ترتيب اثر ذات الخاص، فإنه مقتضى
التعبد بذات لخاص، وهو الكلي الموجود في ضمنه مثلا.
وأما ما نسبه إلى الشيخ الأجل من استصحاب الفرد، وترتيب اثر الكلي كما هو
مقتضى المقام، فليس في محله إذ ما افاده - قده - في القسم الأول (1) كما هو
صريح كلامه: استصحاب كل من الكلي والفرد، وترتيب اثر كل منهما عليه، لا
ترتيب اثر الكلي على الفرد.
هذا ما يقتضيه النظر القاصر في دفع استصحاب الفرد المردد ومرجعه إلى
عدم اليقين بوجوده.
وعن غير واحد من أجلة العصر عدم الشك في بقائه إما مطلقا أو مع الاتيان
بأحد الفردين مثلا. وقيل في وجه الأول: إن الفرد بما له من الخصوصية، إما

(1) الرسائل: التنبيه الأول من تنبيهات الاستصحاب: ص 371.
165

مقطوع البقاء أو مقطوع الارتفاع، فلا شك في البقاء.
وقيل في وجه الثاني إنه إذا تيقن بوجود الظهر أو الجمعة، فقد تيقن بالفرد
المردد وبعد مضي ساعة، إذا شك في اتيان الظهر والجمعة أو أحدهما
يستصحب الفرد المردد فالحكم في الزمان الثاني ظاهرا - كالحكم في الزمان
الأول - واقعا - فله من الأثر ما للحكم المعلوم اجمالا من الأثر قبل عروض الشك.
بخلاف ما إذا أتى بالظهر فإنه لا شك له في بقاء الفرد المردد لأن الشك - في
بقائه - معناه أنه سواء كان ظهرا أو جمعة يشك في بقائه، مع أنه لا يشك في عدم
بقاء الظهر عليه مع إتيانه.
ويندفع الأول بأنه لا يعقل القطع فعلا بالبقاء والارتفاع، مع عدم اتيانهما معا،
بل القطع بهما على تقدير، اي يقطع ببقاء ذلك الفرد الواقعي إن كان طويلا،
ويقطع بارتفاع الفرد الواقعي إن كان قصيرا، فهو بالفعل شاك في بقاء الفرد
الواقعي وارتفاعه.
ويندفع الثاني بأن معنى اليقين - بالفرد المردد - هو اليقين بموجود شخصي،
هو إما مطابق عنوان الظهر، أو مطابق عنوان الجمعة، وبعد الاتيان بالظهر يقطع
بارتفاع عنوان الظهر عنه، ويشك في بقاء ذلك الموجود الشخصي لاحتمال كونه
مطابق عنوان الجمعة المفروض عدم ارتفاعه عنه.
فالصحيح التعويل على ما ذكرناه من عدم اليقين بالفرد المردد كما مر تفصيله.
هذا تمام الكلام في استصحاب الفرد المردد.
وأما استصحاب الكلي، مع تردد الفردين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع،
فتحقيق القول فيه ببيان ما توهم مانعا عنه.
فنقول: إن توهم المنع منه من وجهين: أشار إليهما الشيخ الأعظم - قده - في
الرسائل (1):
أحدهما - أن وجود الكلي بوجود فرده، ومن الواضع أن وجود الكلي في

(1) الرسائل: ص 371، التنبيه الأول.
166

ضمن الفرد القصير مقطوع الارتفاع في الزمان الثاني، ووجوده في ضمن الفرد
الطويل مشكوك الحدوث من الأول، بل منفي بالأصل، فلا شك في بقاء الكلي
لليقين وجدانا بارتفاعه في ضمن أحدهما، ولليقين تعبدا بعدمه في ضمن
الآخر، فالكلي بكلا وجوديه مقطوع العدم في الزمان الثاني.
وإن شئت قلت: ان الكلي هي الحصة من الطبيعة النوعية مثلا الموجودة
بوجود الفرد فهي موجودة بالعرض وما بالعرض يتبع ما بالذات، فإذا كان ما
بالذات مقطوع العدم، إما وجدانا أو تعبدا فلا يعقل أن يكون ما بالعرض مشكوكا،
ومنه تعرف أن الاشكال لا يدور مدار جعل الفرد علة لوجود الكلي، ولو بمعنى
كونه منشأ لانتزاعه - حتى لا يعقل بقاء الامر الانتزاعي، والمعلوم مع عدم العلة،
لتوهم أنه لو قلنا: بأن وجود الكلي عين وجود الفرد، يتخلص به من الاشكال - بل
الاشكال واضح الورود على القول بوجود الكلي بعين وجود فرده أيضا، كما
قربناه.
لكنه لا يخفى عليك أن مرجع هذا الاشكال، وإن كان إلى عدم الشك في
البقاء، إلا أنه لو صح للزم منه عدم اليقين بالحدوث أيضا، إذ ليس الكلي حينئذ
الا الحصة الموجودة بوجود الفرد، وكما أن كل فرد مشكوك الحدوث من حيث
نفسه، فكذا الحصة الموجودة به، فلا يقين بوجود هذه الحصة، ولا يقين بوجود
تلك الحصة، ولا موجود آخر، مع قطع النظر عن الفردين وعن الحصتين.
وأما اليقين بالحصة المرددة بين الحصتين، فلو صح لكان كاليقين بالفرد
المردد فما المانع حينئذ من استصحاب الفرد المردد، وكما يقال: لا شك في بقاء
الفرد المردد بعد الاتيان بأحدهما، كذلك لا شك في بقاء الحصة المرددة بعد
الاتيان بإحدى الحصتين في ضم أحد الفردين.
والجواب عنه: يتوقف على بيان مقدمة: هي أن الفرد ليس زيدا مثلا بما له
من الجواهر والاعراض، لان بياضه مثلا فرد طبيعة الكيف والمبصر، وطوله فرد
طبيعة الكم المتصل، إلى غير ذلك من عوارضه، وليس فرد طبيعة مناط فردية
167

طبيعة أخرى، بل زيد - بنفسه وبدنه - فرد طبيعة الانسان، غاية الامر أن طبيعي
الانسان المركب من النفس والبدن، تارة يلاحظ بذاته بحيث يكون النظر مقصورا
على ذاته وذاتياته، فهذه ملاحظة نفس الطبيعي الوجداني، فان صرف الشئ
واحد لا يتثنى من قبل ذاته، وأخرى يلاحظ حصة من هذا الطبيعي الوجداني
متعينة بتعينات الزيدية، فذات الحصة المحفوفة بتلك التعينات - لامع مجموع
التعينات - هي الماهية الشخصية بتشخص ما هوى، وبلحاظ تقرر ذات الحصة في
زيد المحفوف بأنحاء التعين، يكون زيد فردا لطبيعي الانسان، كما أن حصة من
طبيعي البياض - المتعينة بقيامها بزيد - فرد من طبيعة الكيف المبصر وهكذا.
ومن البين أن نفس الطبيعي - بما هو - لا وجود له يختص به في نظام الوجود،
بل لا يوجد إلا متعينا بأحد أنحاء التعينات لكن اللا متعين بذاته موجود في ضمن
المتعين، ولذا جعل الطبيعي جزء للفرد، اي تحليلا، لانحلال الفرد إلى ذات
الحصة وتعينها.
وحيث أن الوجود - أولا - وبالذات - للمتعين وثانيا وبالعرض لذات المتعين،
جعل الفرد واسطة في عروض الوجود على الطبيعي.
وعليه فنقول: الطبيعي المعبر عنه بالقدر المشترك هنا، وإن كان وجوده بعين
وجوده الفرد - بالمعنى المتقدم - فهو بحسب وجوده الواقعي له نحو تعين، إلا أنه
ربما يكون معلوما بماله من التعين وربما يكون معلوما بذاته.
وحيث أن المفروض أن تعين الفرد الطويل، وتعين الفرد القصير هنا - بنفسه
في كل منهما - مجهول والتعين المردد بين نحوي التعين لا ثبوت له واقعا كي
يكون له ثبوت علما، فالمعلوم في فرض دوران الامر بين الفردين ليس إلا ذات
المتعين، اي ذات الحصة وذات الطبيعي، ولا ملازمة - بوجه - بين كون ذات
المتعين معلوما وكون تعينه أيضا معلوما وبعد زوال أحد التعينين يكون بقاء ذات
المتعين وارتفاعه مشكوكا، لاحتمال كونه تعينه هو التعين الباقي أو هو التعين
الزائل وارتفاع الفرد لا يقتضي الا ارتفاع الحصة المتعينة به، وهي غير معلومة،
168

بل المعلوم ذات الحصة.
وقد عرفت أن تعينها واقعا غير تعينها علما، فالقطع - بزوال حصة متعينة -
غير القطع بزوال ذات الحصة التي تعلق بها العلم.
كما أن التعبد - بارتفاع حصة متعينة - غير التعبد بارتفاع ذات الحصة المتعلق
بها العلم - فالمعلوم حدوثه لا علم بارتفاعه، ولا تعبد بارتفاعه، بل لمكان القطع
بزوال تعين خاص يشك في ارتفاع ذات الحصة وبقائها.
كما أن التعبد - بعدم تعين خاص، لسبق عدمه - غير التعبد بعدم ذات الحصة،
مع انقلاب عدمها إلى الوجود وسيأتي (1) إن شاء الله تعالى أن الأصل - بالإضافة
إلى القدر المشترك - معارض بمثله، فلا ينتج أن ذات الحصة لا شك في بقائها،
إما وجدانا أو تعبدا. هذا تمام الكلام في التوهم الأول.
ثانيهما - أن الشك في بقاء الكل مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل،
فإنه الذي يكون الكلي باقيا بسبب بقائه، والأصل عدم حدوثه، ومع جريان
الأصل في السبب لا مجال للأصل في المسبب.
والجواب عنه بالبحث في مقامات:
أحدهما - كون الشك في الكلي ناشئا من الشك في حدوث الفرد الطويل.
ثانيها - في أن بقاء الكلي وارتفاعه من لوازم الفرد الطويل حدوثا وبقاء شرعا.
ثالثها - في جريان الأصل فيه، بلا معارضة بمثله.
أما المقام الأول - فتحقيق الحال فيه: إن مفروض الكلام - بناء على هذا
التوهم - الفراغ عن أصل وجود الكلي، وأن مورد الشك هو الوجود بعد الوجود،
وهو منشأ انتزاع البقاء والعدم بعد الوجود، وهو منشأ انتزاع الارتفاع.
ومن الواضح: أن الشك - في الوجود بعد الوجود، وفي العدم بعد الوجود - لا
يعقل أن يكون مسببا عن الشك في حدوث الفرد الطويل وعدمه، لأنه مناف
للقطع بوجوده من الأول، ولا يجامع احتمال عدمه من الأول، بل يستحيل أن

(1) في هذه التعليقة.
169

يكون عدم الكلى بعد وجوده مستندا إلى عدم الفرد الطويل من الأول، والا لما
وجد من الأول، بل احتمال الوجود والعدم - بعد الوجود - في الكلي يستند إلى
احتمال وجود الفردين، فيحتمل عدمه بعد الوجود، لاحتمال وجود الفرد
القصير المنعدم فعلا، ويحتمل وجوده بعد الوجود لاحتمال وجود الفرد الطويل
من الأول.
ولا يخفى أن وجود الكلي، وإن كان بوجود فرده، وعدمه بعدم فرده، لا بعدم
شئ آخر، إلا أن هذه الملازمة - الواقعية - لا تجدي في ظرف الشك، بل الشك
لتقومه باحتمال الوجود والعدم - مع فرض القطع بأصل الوجود من الأول -
يستحيل أن يكون مقومه وجود فرد مخصوص وعدمه.
وعليه فاحتمال وجود الكلي وعدمه - في ثاني الحال - مسبب عن الشك في
أن الحادث المعلوم بذاته اي الفردين هل هو الفرد الطويل؟ حتى يكون باقيا، أو
الفرد القصير؟ حتى يكون مرتفعا ولا أصل يعين الحادث حتى يرتفع الشك
بسببه.
وما ذكرنا هو المراد مما أفاد الشيخ الأجل - قده - في الرسائل (1) من أن ارتفاع
القدر المشترك من آثار كون الحادث ذلك الفرد المقطوع الارتفاع، لا من آثار عدم
حدوث الأمر الآخر.
لا أن مراده تعليق الحكم على البقاء والارتفاع، وعدم حدوث الأمر الآخر لا
يثبت الارتفاع، حتى يقال (2): بأن الحكم في الأدلة معلق على الوجود والعدم، لا
على البقاء والارتفاع، أو يتكلف في جوابه بأن الحكم في الأدلة، وإن كان كذلك
الا أنه في عنوان الاستصحاب اخذ الشك في البقاء والارتفاع. فتدبر جيدا.
وأما المقام الثاني - فمختصر القول فيه: إنه يتوقف صحة التوهم المزبور
على سببية وجود الفرد لوجود الكلي، وترتب وجود الكلي على وجود فرده.

(1) الرسائل ص 371: التنبيه الأول.
(2) القائل هو السيد الطباطبائي اليزدي - قده - في حاشيته على المكاسب: ص 73.
170

ترتب المسبب على سببه في ذاته، وعلى أن يكون هذا الترتب شرعيا، حتى
يكون الأصل في السبب، حاكما على الأصل في المسبب ورافعا للشك في ترتبه
عليه شرعا وكلاهما واضح البطلان.
أما أصل الترتب، والسببية والمسببية فلما هو المعروف من العينة بين
الطبيعي وفرده، وأن وجوده بعين وجوده، فلا اثنينية حتى يتوهم السببية
والمسببية.
وأما العلية بمعنى كون الفرد مجري فيض الوجود بالإضافة إلى الماهية
النوعية، كالفصل بالإضافة إلى الجنس، وكالصورة بالإضافة إلى المادة، فهي
بمعنى لا ينافي العينية في الوجود.
فان ملاك العلية هو ملاك العينية، وذلك لأن الموجود - بالذات - هي الصورة
وهي جهة الفعلية، والموجود - بالغرض - هي جهة القوة، وهي المادة، لأن
التركيب بينهما على التحقيق اتحادي لا انضمامي، والمجعولات بجعل واحد لا
يعقل أن يستقل كل منهما بالوجود - فلا محالة - يكون المجعول بالذات هو
الموجود بالذات، فأحدهما مجعول وموجود بالذات، والآخر مجعول وموجود
بالعرض، وكل مجعول بالذات فاعل ما به الوجود - لا منه الوجود - بالإضافة إلى
المجعول والموجود بالعرض.
فملاك العينية - وهي وحدة الوجود المنسوب إلى أحدهما، بالذات والى
الآخر بالعرض - هو ملاك العلية كما عرفت.
وهكذا في الماهية الكلية، والماهية الشخصية، فان الماهية - الكلية اللا متعينة
- لا يعقل استقلالها بالوجود، والمتعين موجود، وهو اللا متعين بضميمة التعين
تحليلا.
فالوجود منسوب إلى الماهية الشخصية المتعينة - بالذات - والى الماهية
الكلية بالعرض في ذاتها - بالعرض - ولكل ما بالذات نحو من العلية، بالإضافة إلى
ما لا متعينة في ذاته - بالعرض، ولكل ما بالذات نحو من العلية بالإضافة إلى ما
171

بالعرض، من دون تخلل جعل ليكون أحدها موجودا مباينا مترتبا على موجود
آخر.
ومما ذكرنا تبين أن القول بكون الفرد علة للكلي صحيح - على وجه - وغير
صحيح - على وجه آخر - وأن كون الكلي من لوازم الفرد صحيح على الوجه
المزبور.
لكنه نظير لوازم الماهية المجعولة بجعلها، من دون تخلل الجعل بينهما وأن
العينية في الوجود لا تنادي كون الفرد منشأ انتزاع الكلي.
كما أن كل ما بالذات بالإضافة إلى ما بالعرض، كذلك، وأن وجود الكلي
بالذات مبني على القول بتأصل الماهية، فإنه حيث كان مناط التأصل في نفس
ذاتها، وهي واجدة لذاتها وذاتياتها، هي متحصلة في نفس ذاتها.
وهذا هو من مفاسد القول بأصالة الماهية وتمام الكلام في محله.
وأما أن الترتب ليس بشرعي فهو واضح، إذ لم يترتب - في خطاب من الشارع -
وجود الحدث الكلي على وجود فرده - ليكون ترتبه عليه على فرض تحققه
شرعيا.
ولا يخفى عليك أن الكلام في ترتب وجود الطبيعي على وجود فرده، لا على
وجود سببه.
فما عن بعض أجلة العصر (1) - في مقام الجواب عن السببية والمسببية، بأن
الكليات مختلفة: فمنها ما يكون ترتبه على محققاته شرعا، كالاحداث بالإضافة
إلى محققاتها. ومنها ما يكون ترتبه على محققاته عقليا، كالانسان بالإضافة إلى
زيد وعمرو وبكر - خلط بين المحقق بمعنى المصداق، والمحقق بمعنى السبب،
والا فوجود الطبيعي من الحدث بالإضافة إلى افراده الحاصلة - بالنوم، والبول،
والجماع ونحوها - كوجود طبيعي الانسان بالنسبة إلى افراده، نعم محققاته

(1) هو المحقق النائيني - قده - راجع فوائد الأصول: ج 4 ص 152.
172

وأسبابه مختلفة، فمنها شرعي ومنها واقعي غير جعلي.
ويمكن أن يقال - بعد التنزل عن المقام الأول - بالفرق بين الأصل الحكمي
والموضوعي، وإن لم يكن هناك ترتب، لا واقعا ولا جعلا، لأن جعل الوجوب
عين جعل الطلب، فلا يبقى شك في بقاء الطلب بعد التعبد بفرده، وهو جعل
الوجوب حقيقة، كما أن جعل عدم الوجوب عين جعل عدم الطلب بعد فرض
كون الشك في الطلب ناشئا من الشك في الوجوب، كما هو مقتضى التنزل عن
المقام الأول.
فملاك الأصل السببي والمسببي موجود هنا بوجه أكمل، إذ ليس ملاكه إلا
كون التعبد بالسبب يرفع الشك عن المسبب شرعا، والتعبد بالوجوب يرفع
الشك عن بقاء الطلب.
كما أن التعبد بعدم الوجوب يرفع الشك عن ارتفاع الطلب، ففي الأول لا شك
في بقاء الطلب، وفي الثاني لاشك في ارتفاعه.
وأما في الأصل الموضوعي، فلا يجري هذا البيان، إذ ليس التعبد - بالموضوع
أو بعدمه - جعلا له حقيقة، حتى يكون وجود الكلي أو عدمه مجعولا بعين
جعله، وليس اثر الجامع، واثر الفرد كالكلي بالإضافة إلى فرده، حتى يكون جعل
اثر الفرد جعل طبيعي الأثر المجعول، ليرتفع الشك عنه. بل لابد من فرض
الترتب بين طبيعي الموضوع وفرده شرعا حتى يدخل في عنوان الأصل السببي
والمسببي.
ومنه يعلم أن العينية بين الطبيعي وفرده، وعدم العلية، وإن كانت مخرجة لما
نحن فيه، عن عنوان السببي والمسببي، لكنها توجب الدخول في ملاكه في
خصوص الاستصحاب الحكمي دون الموضوعي.
وأما المقام الثالث - فنقول: إن الكلام - تارة - في معارضة الأصلين بالنسبة
إلى اثر الجامع - وأخرى - بالنسبة إلى اثر الفرد بما هو.
أما المعارضة بينهما - من الجهة الثانية - فمبنية على وجود اثر خاص لكل
173

منهما وعدمه؟ فيتعارضان - على الأول - لمنافاتهما، للقطع بثبوت أحد الاثرين.
ولا معارضة - على الثاني - لعدم المانع من التعبد بمفاد الأصل.
وأما المعارضة بينهما - من الجهة الأولى - فحيث أن فرض الكلام في
استصحاب الكلي، وفي حكومة الأصل في الفرد - على الأصل في الكلي - فلا
محالة يكون للجامع أثر شرعي، ونسبة كلا الأصلين في نفي الجامع على حد
سواء، ومقتضى التعبد بهما - على الفرض - التعبد بعدم الجامع، مع أن ثبوته
مقطوع به.
ففيما إذا تردد أمر الحادث بين أن يكون - بولا أو منيا - يكون للجامع بينهما اثر
وهو حرمة مس المصحف، ولكل منهما اثر مخصوص، وهو وجوب الغسل
للحدث الأكثر، ووجوب الوضوء للحدث الأصغر، ولخصوص الحدث الأكبر اثر
مخصوص لا يقابله فيه الأصغر، وهو حرمة اللبث في المسجد.
فأصالة عدم الجنابة - بالنسبة إلى عدم حرمة اللبث - لا معارض لها. وبالنسبة -
إلى عدم وجوب الغسل - لها معارض وهو أصل عدم خروج البول المقتضي
لوجوب الوضوء، مع أن وجوب الغسل والوضوء مقطوع به، وبالنسبة إلى عدم
حرمة مس المصحف، وهو اثر الجامع بين الأكثر والأصغر - أيضا - يتعارضان
للقطع بالحدث المقتضي لحرمة مس المصحف.
فان قلت: الغرض - مع عدم المعارضة بين الأصلين - هو عدم المعارضة في
ظرف الشك في بقاء الكلي، وهو بعد حدوث ما يزيل أحد الفردين، وفي هذا
الفرض لا مجرى إلا لأصل واحد.
قلت: أولا: إنه خلف، لأن المفروض تمامية أركان الاستصحاب في الطرفين.
وإنما لا يجري لعدم الأثر، مع أنه بعد حدوث ما يزيل أحد الفردين لا شك في
عدمه فعلا: إما لانعدامه قبلا، أو لزواله فعلا.
وثانيا: مناط المعارضة حين تمامية أركان الاستصحاب، وعند وجود الحادث
المردد، يكون عدم كل من الفردين في نفسه متيقينا سابقا، مشكوكا عند حدوث
174

الحادث.
وحيث لا يعقل شمول العام - مع تحقق موضوعه - لكلا الفردين، للعلم
بانقلاب العدم إلى الوجود في أحدهما، وشموله - لأحدهما المعين - ترجيح بلا
مرجح، فلا محالة يتساقط الأصلان، وبعد وجود ما يزيل أحد الفردين، لم يحدث
فرد آخر للعام، حتى يشمله، والساقط لا يعود.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في محله، أن قيامه بالمقتضيات وموانعها العقلية -
حتى يتوهم تأثير المقتضي اثره بعد زوال مانعه - قياس باطل.
لأن تأثيره بلحاظ شمول المقتضي له في مقام الاثبات وليس هو إلا العام، فإذا
لم يعمه العام - مع تمامية موضوعه - فلا مقتضى آخر لشموله فيما بعد، كما لافرد
آخر للعام، حتى يكون من الافراد المقدرة الوجود، الداخلة تحت العام بعنوان
كلي من الأول.
ولعلنا نتكلم - إن شاء الله تعالى - فيه مستوفي في مسألة الأصل السببي
والمسببي (1).
وأما ما عن بعض الأجلة (2) - في حاشيته على كتاب البيع للشيخ الأجل: من
فرض المثال فيما إذا دار أمر النجس الحادث بين أن يكون بولا يوجب الغسل
مرتين أو دما لا يوجب الغسل مرتين، وأن الأصل في طرف البول بنفي وجوب
الغسلة الثانية، وأن الأصل في طرف الدم لا يثبت وجوب الغسلة الثانية، فلا
معارضة.
ففيه أولا: أن المثال غير منحصر فيما ذكر، حتى يحكم كليا بحكومة الأصل
في الفرد، نظرا إلى عدم المعارضة.
وثانيا - أن العدم الذي يجري فيه الأصل:
تارة - يؤخذ بنحو العدم الرابط، ومفاد ليس الناقصة، بأن يكون مفاد الأصل:

(1) انظر ص 292.
(2) هو السيد الطباطبائي اليزدي " ص 73 في البحث عن لزوم المعاطاة وعدمه ".
175

عدم كون النجس الحادث، بولا وحينئذ يكون مفاده عدم وجوب الغسلة الثانية،
مع فرض النجاسة الموجبة لأصل الغسل، الذي يساوق المرة إلا ان العدم -
الرابط - غير متيقن في السابق، كما هو واضح.
وأخرى - يؤخذ بنحو العدم المحمولي، ومفاد ليس التامة، ويكون مفاد
الأصل عدم حدوث ما يوجب الغسل مرتين، والمعارضة - هنا - بلحاظ اثر
الجامع والخصوصية كليهما - متحققة.
بيانه: أن اثر النجاسة - الجامعة بين جميع أنحاء النجاسات - وجوب الغسل
اللا بشرط، الجامع مع الغسل مرة، ومع الغسل مرتين أو أكثر. ونفي ما يوجب
الغسل مرة وما يوجبه مرتين - مع دوران الأمر بينهما - يوجب نفي النجاسة
المقتضية لأصل وجوب الغسل، مع أنه مقطوع به، هذا بالإضافة إلى اثر الجامع.
وأما بالنسبة إلى اثر كل من الخصوصيتين، فأثر البول أنه لا يجوز الاكتفاء فيه
بمرة، وأثر الدم أنه يجوز فيه الاكتفاء بمرة، وكل منهما مشكوك من حيث نفسه.
فأصالة عدم حدوث البول يقتضي التعبد بعدم ما لا يجوز الاكتفاء في غسلة
بمرة، وأصالة عدم حدوث الدم يقتضي التعبد بعدم ما يجوز الاكتفاء فيه بمرة،
مع القطع بوجود أحدهما.
ومنه يعلم أن دعوى عدم المعارضة، من حيث تيقن الأقل فلا يجري فيه
الأصل، ويختص الأصل بعدم موجب الأكثر.
مدفوعة: بأن أثر الدم ليس وجوب الغسل المجامع - مع جواز الاكتفاء، وعدم
جواز الاكتفاء - فإنه اثر الجامع، بل اثر الدم هو وجوب الغسل اللا بشرط القسمي،
المساوق لجواز الاكتفاء فيه بمرة، وهو مباين للغسل بشرط شئ فإنهما تعينان
متقابلان ليس أحدهما متيقنا بالإضافة إلى الآخر.
نعم وجوب الجامع متيقن، لا يجري فيه الأصل، إلا أن جريان الأصلين في
الفردين - بنحو العدم المحمولي - مناف للقطع بوجود الجامع أيضا كما عرفت.
176

" القسم الثالث من استصحاب الكلي "
قوله: وأما إذا كان الشك في بقائه من جهة الشك في قيام خاص
آخر... الخ...
وعن الشيخ الأعظم - - قده - في رسائله (1) - التفصيل بين ما إذا احتمل وجود
فرد آخر مقارن للفرد المقطوع بحدوثه، وما إذا احتمل حدوثه مقارنا لارتفاعه،
بجريان الاستصحاب في الأول وعدمه في الثاني.
وتقريبه: أن مناط صدق الواحد النوعي على أفراد تقرر حصة من الواحد
النوعي في مرتبة الفرد، فإذا قطع بوجود فرد، فكما يقطع بوجود حصة متعينة بما
هي متعينة - وهي الماهية الشخصية، فكذا يقطع بوجود ذات الحصة، وبوجود
ذلك الواحد النوعي الصادق على الفرد. فالقطع بالفرد وإن كان علة للقطع
بالوجود المضاد إلى ذلك الواحد النوعي إلا أن زوال القطع بالتعين، والقطع
بارتفاعه لا يوجب القطع بزوال الوجود المضاد إلى الواحد النوعي، لاحتمال
بقائه بالفرد المحتمل حدوثه مقارنا لحدوث ذلك الفرد.
وهذا بخلاف احتمال حدوثه مقارنا لارتفاع المقطوع به، فان الوجود المضاد
إلى الواحد النوعي في الزمان السابق قد قطع بارتفاعه وإنما المحتمل حدوث
وجود آخر مضاف إلى الواحد النوعي.
والجواب - أن وجود الواحد النوعي وجود بالعرض، ولابد من انتهائه إلى ما
بالذات، وليس هو إلا الفرد المقطوع به، فما هو موجود بالعرض، ويتبع ما هو
موجود بالذات يقينا، قد ارتفع يقينا.
ووجود آخر بالعرض لموجود آخر بالذات مشكوك الحدوث من الأول
وليس للواحد النوعي وجود بالذات، ولا وجود بنحو الوحدة بالعرض - مع تعدد
ما بالذات - إلا على أصالة الماهية أو وجود الكلي وبوجود واحد عددي، يكون

(1) الرسائل صل 372: التنبيه الأول.
177

بوحدته معروضا لتعينات متباينة كما حكاه الشيخ الرئيس عن بعضه (1).
وما ذكرناه هو الفارق بين القسم الثاني المتقدم في الحاشية المتقدمة، وهذا
القسم الثالث المبحوث عنه، فان المقطوع هناك وجود واحد من الكلي بالعرض،
من دون تعين تفصيلي، لما بالذات، ومثله مشكوك البقاء إذ القطع بارتفاع الحصة
المعينة لا يوجب القطع بزوال الوجود الواحد، المضاف إلى الكلي، الذي يتعين
مطابقه.
بخلاف هذا القسم، فان الوجود المضاف إلى الكلي بالعرض، لمكان تعين
الموجود بالذات، مرتفع قطعا وغيره مشكوك الحدوث، إما من حين حدوث
المقطوع، أو من حين ارتفاعه، فتدبر فإنه حقين به.
نعم هنا تقريبان آخران لاستصحاب الكلي في هذا القسم.
أحدهما - ما عن بعض أجلة العصر (2)، وهو استصحاب صرف الوجود
بمعنى ناقض العدم المطلق، وطارد العدم الكلي، فإنه بمجرد انتقاض العدم
الكلي يكون الانتقاض باقيا إلى أن ينعدم جمعا الموجودات حتى يرجع الأمر إلى
ما كان من العدم المطلق.
وهذا الانتقاض لا شك في حدوثه إلا مع سبق العدم المطلق، والا فمع
انتقاض العدم يكون الشك دائما في بقائه، والحكم إذا كان مرتبا على وجود
الطبيعي في قبال عدمه، مع قطع النظر عن تعيناته يكون المراد به هذا النحو من
الوجود المعبر عنه بالوجود اللا بشرط، والوجود السعي.
والجواب - أن الوجود المضاف إلى شئ بديل لعدمه، وطارد له، بحسب ما
اخذ في متعلقه من القيود فناقض العدم المطلق مفهوم لا مطابق له في الخارج،
وأول الوجودات ناقض للعدم البديل له والقائم مقامه.
وما يرى من أن عدم مثله يوجب بقاء العدم كلية - على حاله - ليس من جهة
.

(1) وهو الرجل الهمداني، راجع رسائل ابن سينا ص 462 - 479.
(2) هو المحقق الحائري - قده -، راجع درر الأصول ج 2 ص 175.
178

كونه ناقضا للعدم المطلق، بل لأن عدم أول الوجودات يلازم عدم ثاني
الوجودات وثالثها إلى الآخر، ولا بشرطية وجود شئ - بلحاظ تعيناته - ليست
الا بلحاظ عنوان الوجود المفروض فانيا في مطابقه مضافا إلى طبيعة غير
ملحوظة بتعيناتها الواقعية.
وحيث أن مثله يصدق على كل هوية - من هويات تلك الماهية - فلذا يسرى
الحكم، ويوجب خروجها من حد الفرض، والتقدير إلى حد الفعلية والتحقيق،
وهو معنى ملاحظة الوجود بنحو السعة، لا أن لهذا المفهوم مطابقا واحدا في
الخارج، حتى يكون الشك في بقائه بعد اليقين بوجود مضاف إلى ماهية متعينة
بأحد التعينات.
ثانيهما - استصحاب صرف الوجود بالمعنى المصطلح عليه - وهو الموجود
بنحو لا يشذ عنه وجود - اي ملاحظة الموجودات بنهج الوحدة في الكثرة،
وصرف وجود الشئ لا يتثنى ولا يتكثر.
وهذا المفهوم - بناء على أصالة الوجود وبساطته، وإن الكثرة الماهوية
اعتبارية عرضية - له مطابق في الخارج، حيث أن حقيقة الوجود بناء على هذا
المبنى واحدة لا ثاني لها، إذ الماهية والعدم ليسا ثانيا للوجود الذي حيثية ذاتية
حيثية طرد العدم.
وعليه فأنحاء وجودات الكلي بملاحظة التعينات واحدة، حيث أن التعينات
اعتبارية، وعدم كون الشك في البقاء إنما بلحاظ تغير الوجود المتيقن، مع
الوجود المشكوك، ومع وحدتهما وعدم تعدد - الواقعي - لا يبقى مانع عن الشك
في البقاء.
وفيه: أن حقيقة الوجود، وان كانت كذلك، إلا أنه بلحاظ تمام الوجودات بنحو
الوحدة، والغاء الكثرات لكونها ماهوية اعتبارية، وبملاحظة أن غير حقيقة
الوجود لا يعقل تخلله في حقيقة الوجود، حتى تعدد حقيقة الوجود.
وصرف الوجود - بهذا المعنى - لا مطابق له، إلا وجود الباري عز اسمه،
179

وفيضه المقدس المنبسط على ما سواه، وأما صرف حقيقة الوجوب أو الندب، أو
صرف حقيقة الماء أو النار، فلا مطابق له خارجا حتى يكون الكل طبيعة من
الطبائع - مضافا إلى وحدتها الماهوية وصرافتها في الماهية - وحدة وصرافة في
الوجود، فتدبره فإنه حقيق به.
قوله: فإنه يقال: الأمر، وإن كان كذلك، إلا أن... الخ.
لا يخفي أن الحكم الوجوبي، والندبي، إما أن يراد منهما الإرادة الأكيدة
الشديدة، والإرادة الضعيفة. وإما أن يراد منهما الانشاء بداعي جعل الداعي
المنبعث عن إرادة حتمية، أو غير حتمية، أو عن مصلحة ملزمة أو غير ملزمة.
فان أريد الأول، فالإرادة من الكيفيات القابلة للحركة، والخروج من حد إلى
حد، فهي إرادة واحدة بوحدة اتصالية وإن كان ينتزع الشدة منها تارة، والضعف
أخرى.
وإن أريد الثاني فالبحث والزجر أمران اعتباريان ولا حركة ولا اشتداد فيهما،
بل في بعض المقولات، كما لا اتصال في الانشائين حتى يكون البحث - اللزومي
وغيره - واحدا بالتبع.
فالأول واحد عقلا وعرفا، والثاني متعدد عقلا وعرفا، والكلام في الثاني، فان
الحكم المجعول من الشارع، وما يكون مماثله مجعولا على طبقه، هو الحكم
بالمعنى الثاني، دون الأول، وان كان مدار الإطاعة والعصيان على المعنى الأعم.
وعليه فاستصحاب الإرادة - من حيث نفسها - غير صحيح، لعدم كونها
مجعولة والحكم الشرعي المنبعث عنها اثر شرعي لكنه غير مترتب على الإرادة
شرعا.
بل ترتبه عليها من باب ترتب المعلول على علته، كترتبه على المصلحة
المنبعث عنها، نعم لو فرض أن الإرادة ترتب عليها حكم شرعي - من باب ترتب
الحكم على موضوعه - كان استصحاب بقاء ذات الإرادة - للتعبد بأثرها الشرعي -
معقولا.
180

ولا يخفي عليك أن المستصحب - في ماله امتداد، واشتداد - نفس الكلي
المنطبق على المرتبة الشديدة والضعيفة، وليس من استصحاب الفرد، بتوهم أن
الوحدة مساوقة للتشخص، لما مر منا سابقا (1).
إن المستصحب دائما هو الوجود - في الوجوديات - والوجود عين التشخص،
الا أن الملاك في الكلية والفردية إضافة الوجود إلى الطبيعي محضا، أو الطبيعي
المتعين - بتعين فردي - يمنع عن صدقه على كثيرين.
وفي ماله الحركة والاشتداد في كل آن فرد من الطبيعة، والتبدل بلحاظ الافراد
لا بلحاظ التشخص الوجودي، غاية الأمر أنه في الحركة في الجوهر من مراتب
استكمالاته يتبادل الصور النوعية من المنوية والدموية والعقلية وغيرها.
وفي الحركة في الكيف مثلا، يتبادل المراتب، والمفروض - هنا - بقاء ذات
الإرادة لا بمرتبتها القوية، فلا يشك إلا في بقاء الكلي الذي ليس له تعين المرتبة
القوية المتيقنة.
نعم إن قلنا: بأن الإرادة - الحتمية - لا تمتاز عن الإرادة الندبية بالمرتبة، بل
بانبعاث الأولى عن مصلحة لزومية وانبعاث الثانية عن مصلحة غير لزومية
فالاستصحاب متعلق بالفرد لأن تعدد الملاك لا ينافي الوحدة والتفرد، كما إذا
شك في بقاء شخص الوجوب ببقاء ملاك آخر ملزم فتدبر.
" التنبيه الرابع في استصحاب الأمور التدريجية "
قوله: بين أن يكون من الأمور القارة أو التدريجية... الخ.
ليس منشأ الاشكال في بقاء الأمور التدريجية أن البقاء عبارة عن وجودها ما

(1) تقدم في ص 164، وعن صاحب محجة العلماء في انكار استصحاب الكلي " أن الاستصحاب
لا يعقل أن يتعلق بالكلي، من حيث هو مع قطع النظر عن الخصوصية السابقة " وقال أيضا " أن البقاء هو
استمرار الوجود ولا معنى لاستمرار نفس الطبيعة: " 246 - 247.
181

كان موجودا - في الزمان السابق - في الزمان اللاحق، كما يوهمه كلام بعضهم (1)
فان مرجع هذا الاشكال إلى أن الزمان حيث لا زمان له فليس له بقاء مع أن البقاء
ينسب إلى الخارج عن أفق الزمان كالمجردات.
بل الاشكال من أجل تدريجية الزمان، وما يشبهه من الحركات الكيفية
والأينية، بل الجوهرية، فان الأمور الغير القارة - لعدم القرار للموجود منها، بل
بحيث يوجد فينعدم، ثم يوجد فينعدم - لا بقاء لها، فاليقين متعلق بموجود زائل،
والشك بحدوث موجود آخر.
ومنه تبين أن دعوى عدم الحاجة إلى عنوان البقاء، وأنه يكفي في
الاستصحاب مجرد الشك في وجود ما قطع به سابقا غير مجدية، لأن ما يضاف
إليه الشك لابد أن يكون ما يضاف إليه اليقين. والوجود - الواقع طرفا لليقين
والشك - لابد من كونه مضافا إلى شئ واحد، مع أن ما أضيف إليه الوجود في
السابق غير ما أضيف إليه الوجود لاحقا، إلا بلحاظ المجموع واحد عرفا. كما عن
الشيخ الأعظم - قده - في مقام دفع الاشكال (2).
والجواب: أن ذات الأمر التدريجي متقومة بالأخذ والترك، والخروج من القوة
إلى الفعل - على نعت الاتصال - ووجود مثل هذا الأمر لا نقيض له، إلا العدم
البديل له، لا العدم المتقوم به نفس ذاته.
فوجود مثل هذا الأمر لا يأبى عن العدم المتقوم به هذا الأمر الموجود بهذا
النحو من الوجود، وما يخل بهذا الوجود هو العدم البديل له، الخارج - كالوجود -
عن مقامه ذاته.
وعليه فبقاء وجود مثل هذا الأمر - المتجدد في ذاته - بحدوثه شيئا فشيئا،
وجمعية هذا الوجود عين الافتراق، وما لم يتخلل العدم - البديل له - يكون

(1) كما عليه الأعظم " قده " " الرسائل: التنبيه الثاني: 374 " وتبعه المحقق الآشتياني - قده -
في بحر الفوائد ص 105.
(2) الرسائل: التنبيه الثاني: 374.
182

واحدا بالوحدة الاتصالية.
قوله: إنما هو في الحركة القطعية، وهي كون الشئ... الخ.
لا يخفى عليك أن نسبة الحركة القطعية إلى الأكوان المتعاقبة الموافية للحدود
- الواقعة بين المبدأ والمنتهى - نسبة الكل إلى أجزائه، لأنها الصورة الممتدة
المرتسمة في الخيال، ومنشأ انتزاعها تلك الأكوان المتصلة بالاتصال التعاقبي،
فأجزاؤها مجتمعة في الخيال ومتفرقة في الخارج.
ونسبة الحركة التوسطية إلى تلك الأكوان نسبة الكلي إلى جزئياته، لأن كل
كون - من تلك الأكوان الموافية للحدود، واقع بين المبدأ والمنتهى.
وحيث أن نفس الحركة القطعية باعتبار منشأيتها متقومة بتلك الأكوان
المتصرمة شيئا فشيئا، فهي بذاتها تدريجية، والتغير ذاتي لها، فيجري فيها إشكال
البقاء.
وحيث أنه لم يعتبر في الحركة التوسطية إلا الكون بين المبدأ والمنتهى دون
موافاته للحدود، فلا تغير في نفس ذاتها، بل الموافاة للحدود تعينات فردية
لأفرادها ومطابقاتها.
وحيث أن الكون بين المبدأ والمنتهى لا تعين ما هوى له، إلا الوقوع بين المبدأ
والمنتهى، فما دام لم يخرج عن الوسط يكون الكون بين المبدأ والمنتهى، باقيا،
فالحركة القطعية غير قارة، ومتغيرة بذاتها، والحركة التوسطية قارة مستمرة غير
متغيرة.
ثم إن التعريف المذكور في المتن القطعية - وهو كون الشئ في كل
آن في حد ومكان - هو تعريف المطلق الحركة عند المشهور - ففي القطعية بلحاظ
أجزائها، وفي التوسطية بلحاظ افرادها - فتلك أجزاؤها تعاقبية تدريجية، وهذه
افرادها وجزئياتها تعاقبية تدريجية، وهذه - الأفراد - المتعاقبة على نهج الاتصال -
هي الراسمة لصورة ممتدة مجتمعة الاجزاء في الخيال، وتسمى بالحركة القطعية.
ولذا قيل بأن الحركة القطعية لا وجود لها في الخارج إلا بوجود منشأ انتزاعها،
183

كما أن هذا الأكوان التي هي أجزاء ها أنما هي بلحاظ انقسام كل متصل - قار أو
غير قار - إلى اجزاء لا تتناهي، والا فالحركة - بما هي حركة - لا تقع في الآن الذي
هو طرف الزمان ونهايته.
والحركة قابلة للقسمة، والآن كالنقطة غير قابلة للقسمة، فيلزم تطبيقه ما
يتجزي على ما لا يتجزئ فليس الكون في حد في الآن حركة ولا جزء الحركة
بما هو جزء الحركة بل كون الشئ في كل آن في حد أو مكان هي الحركة، كما
هو مقتضى انقسامها إلى أجزاء غير متناهية، لئلا يلزم الجزء الذي لا يتجزئ.
وليعلم أن استصحاب الحركة القطعية استصحاب الفرد، لأن تعينات أجزائها -
الموافية لحدود خاصة - مأخوذة فيه ملحوظة معه - بخلاف استصحاب الحركة
التوسطية، فإنه من باب استصحاب الكلي وهو القسم الثالث من القسم الثالث.
وذلك، لأن الكون بين المبدأ والمنتهى، وإن كان له التعين من حيث الفاعل
والقابل، وما فيه الحركة، وما منه الحركة وما إليه الحركة إلا أن هذه التعينات
توجب التشخص الوجودي، ووحدته بالوحدة الاتصالية.
ولا توجب التعين الفردي الماهوي، لأن جميع جزئيات الكون المتوسط
مشتركة في تلك التعينات ومع ذلك هي افراد، فلا يمتاز فرد عن فرد، الا
بملاحظة موافاة كل مكون من تلك الأكوان لحد من تلك الحدود، فان لوحظ ذلك
التعين جرى فيه إشكال استصحاب الحركة القطعية، وإن قطع النظر عنه، ولو حظ
الكون المتوسط - مبهما من حيث تلك التعينات المفردة - كان من باب
استصحاب الكلي المتعاقب افراده على نهج الاتصال.
وليعلم - أيضا - أنه لابد من الالتزام باتصال تلك الأكوان المتعاقبة - كما حقق
في محله - لئلا يلزم تتالي الآنات والآنيات، والا فلو لم نلتزم به لم يجري
الاستصحاب في الحركة التوسطية، لأنه يكون - حينئذ - من القسم الثاني من
القسم الثالث، وهو وجود فرد مقارنا لارتفاع فرد مغاير.
ومنه يعلم أن الالتزام بصحة الاستصحاب - في الحركة التوسطية - يلزمه
184

الالتزام بصحته في الحركة القطعية، لأن المصحح هو الاتصال وهو مجد
في كليهما، لأن الاتصال مساوق للبقاء، كما مر فتدبر جيدا.
وليعلم - أيضا - أنه لو أشكل الأمر في استصحاب الليل والنهار، فلا يجدي
استصحاب عدم الليل لإجراء أحكام النهار، أو استصحاب عدم النهار لاجراء
أحكام الليل، لا لمجرد أنه مثبت بل لأن الليلية والنهارية متضادتان.
وعدم الليل أنما يلازم وجود النهار، لملازمة عدم الضد لوجود الضد، وكل
جزء من النهار ضد لكونه من الليل، فعدم الضد المقارن له هو عدم الليلية في هذا
الزمان.
وسائر الاعدام المستقبلة - مثلا - ليست من عدم الضد الملازم لهذا الضد،
حتى يكون متيقنا سابقا، مشكوكا لا حقا، بل عدم ضد - مشكوك الحدوث -
كوجود ضده، وفرض لحاظ العدم بنحو الوحدة والاستمرار، كفرض وحدة
وجود النهار واستمراره، بل عدم كل سنخ من الوجود على طبع ذلك الموجود،
فتدبر.
" في استصحاب المقيد بالزمان "
قوله: فان كان الشك في بقاء القيد.... الخ.
لا يخفي عليك أن مورد هذه الشرطية كمورد الشرطية الآتية - في كلامه - قده -
- وإن كان منقسما إلى ما يكون ظرفا لثبوت الحكم، وما يكون مقوما لموضوعه،
لكنه لما كان القيد - على أي حال - مجرى الاستصحاب لمكان الشك في بقائه،
لم يكن وجه لتقسيمه إلى الظرف والمقوم.
الا أنه لا يخفى أن القيد، كما يكون تارة، كقولنا " إذا دخل النهار فامسك "،
حيث أن ظاهره ترتب أصل الحكم بالامساك على ثبوت النهار، يكون التعبد
ببقائه تعبدا بترتب الحكم عليه، كنفس الحكم الواقعي المعلق على تحقق النهار،
185

وأخرى مقوما، بحيث يكون دخيلا في مصلحة الامتثال، إلا أن المقوم على
قسمين: فتارة يكون بوجود المحمولي قيدا دخيلا في مصلحة الامساك، وأخرى
يكون بوجوده الناعتي دخيلا فيها.
فالأولى - كما إذا قيل: " أمسك في النهار، فإذا كان الامساك محققا بالوجدان،
والنهار محققا بالتعبد، كفى في كون الامساك في النهار، فإنه إمساك بالوجدان في
النهار التعبدي.
والثانية - كما إذا قيل " يجب الامساك النهاري "، فان مجرد استصحاب النهار لا
يجدي في كون الامساك نهاريا، اي معنونا بهذا العنوان، لا بالتعبد، ولا بالوجدان،
والمفروض تعلق الحكم بالمعنون بهذا العنوان - بما هو - لا بالامساك، مع وقوعه
في النهار الذي هو منشأ انتزاع ذلك العنوان.
فالتعبد - بالنهار - غير التعبد بكون الامساك نهاريا والقيدية بمعنى الشرطية
للواجب، وإن كانت تقتضي تقيد الواجب ولا تعبد بالتقيد في الأول أيضا، إلا أن
تقيد الامساك بكونه في النهار التعبدي وجداني لا حاجة فيه إلى التعبد بخلاف
الامساك النهاري، فإنه لا تعبدي ولا وجداني.
نعم إذا كان الامساك النهاري موضوعا للحكم صح استصحاب كون الامساك
الوجداني من أوله إلى آخره، نهاريا في السابق وجدانا ونهاريا في اللاحق تعبدا،
فيقال: هذا الامساك الواحد كان نهاريا، والآن كما كان.
ووحدة الامساك من حيث عدم تخلل نقيضه، وان كانت عقلية إلا أنه من
حيث الاتصاف بالنهارية لابد من المسامحة.
فان المتيقن اتصاف الجزء الأول من هذا الواحد المستمر بكونه نهاريا، فلابد
من لحاظ هذا الواحد بذاته في الحكم باتصافه بالنهارية.
وأما إذا كان الامساك في النهار موضوعا فلا حاجة فيه إلى استصحاب كونه
في النهار، لما عرفت من أن التعبد بذات القيد يكفي، لأن القيد وجداني لا حاجة
فيه إلى التعبد، حتى يقال: بأنه لا يثبت بالتعبد بذات القيد.
186

وتوهم أنه لا مجال للجمع بين استصحاب القيد واستصحاب المقيد في
كلامه - قده - لأن الشك في الثاني ناش عن الشك في الأول، ومع جريان
الاستصحاب في السبب لا مجرى له في المسبب.
مدفوع بأن كونه في النهار غير مترتب شرعا على وجود النهار، ليكون الأصل
في النهار حاكما على الأصل في كونه في النهار.
قوله: فيجب فتأمل... الخ.
لعله إشارة إلى أن موضوع الحكم إذا كان الامساك في النهار لابد من
استصحاب نفس القيد، ولا يجدي استصحاب نفس القيد، موافقا لما أفاده - قده -
في تعليقته الأنيقة على الرسائل (1) نظرا إلى أن التعبد بذات القيد، لا يوجب
التعبد بالمقيد ولا بالتقيد، والمفروض لزوم إحراز كون الامساك في النهار، وقد
عرفت الجواب عنه.
قوله: وان كان في الجهة الأخرى، فلا مجال إلا لاستصحاب... الخ.
بيانه: أن القيد - تارة يكون مأخوذا على وجه الظرفية لثبوت لحكم، فيكون
قيدا للوجوب، لما سيأتي - إن شاء الله تعالى - أنه لا موجب عقلا لكونه قيدا
للواجب، والظرفية المحضة مساوقة للغوية، وعليه فالوجوب المجعول وجوب
موقف، ولا يعقل بقاؤه بعد ارتفاع قيده، فلا معنى للتعبد ببقائه بشخصه.
نعم - بناء على جريان استصحاب القسم الثاني من القسم الثالث من الكلي لا
مانع من استصحاب كلي الوجود الجامع للمؤقت وغيره، لأن المانع الآتي، وهو
تعدد الموضوع منتف هنا لفرض وحدة الموضوع هنا، وليس الشك فيه في
المقتضي، إذ لا تردد في أمر الجامع، بل المفروض الغاء التعينات والجامع بما هو
قابل للبقاء.
ومما ذكرنا تبين ما في المتن من جريان استصحاب الحكم شخصا على
الظرفية فتدبره جيدا.

(1) ص 205 ذيل قول الشيخ - قده - فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه الخ ".
187

وأخرى يكون مأخوذا على وجه المقومية لموضوع الحكم، وحينئذ لا مجال
لاستصحاب الحكم مطلقا سواء لو حظ الفرد منه أو الكلي منه.
أما الأول: فلأن الحكم - إرادة كان أو بعثا - يتقوم بمتعلقه، لأن الشوق المطلق
كالبعث المطلق، لا يوجد فلا يعقل بقاؤه بشخصه مع القطع بزوال متعلقه بزوال
قيده المتقوم لمتعلقه على الفرض.
ولا يعقل تعلق الإرادة الشخصية والبعث الواحد بالمقيد بما هو وبذات
المقيد واقعا حتى يكون احتمال بقاء الحكم احتمال بقاء الشخص، لأن الواحد -
بما هو - لا يعقل أن يتقوم باثنين - بما هما اثنان - والا لزم إما وحدة الكثير أو كثرة
الواحد.
وأما الثاني: وهو استصحاب الكلي، فلا يصح بوجه من وجوه القسم الثالث،
لأن المحتمل: إما الأمر بالفعل، في عرض الأمر بالمقيد، وهو القسم الأول من
القسم الثالث.
وإما الأمر بالفعل بعد ارتفاع الأمر بالمقيد، وهو الثاني من القسم الثالث.
وإما تبدل الإرادة القوية - المنبعثة عن مصلحة أكيدة - إلى مرتبة أخرى من
الإرادة المنبعثة عن مرتبة من تلك المصلحة والكل غير صحيح.
أما الامر بالفعل - في عرض الأمر بالمقيد - فلاستحالة تعلق الأمر بالفعل في
زمان واحد، تارة بنفسه وأخرى في ضمن الامر بالمقيد.
وأما الأمر به في طول الأمر بالمقيد، فلأن طبيعي الأمر لم يتعلق بشئ واحد،
حتى يكون تعلقه به متيقنا يشك في بقائه، لأن المفروض أن القيد مقوم، لا من
حالات الموضوع، فلا يقين بتعلق الأمر بالفعل، وتعلقه بالحصة في ضمن المقيد
مقطوع الارتفاع.
بخلاف مورد القسم الثاني من الثالث، فان المفروض تعلق الحكم - على اي
حال - بواحد، غاية الأمر ملاحظة الحكم بنحو الوحدة لا بنحو الكثرة، وأما وحدة
الموضوع فمما لا محيص عنه.
188

وأما تبدل الحكم من مرتبة إلى مرتبة - فمع أنه لا يجري في الحكم المجعول
بل في الإرادة التي ليست من الحكم المجعول - يرد عليه ما ذكرناه: من أن
الاشتداد والحركة، أنما يكون في موضوع واحد، ومع القطع بارتفاع موضوعها
يقطع بارتفاعها بجميع مراتبها، فالمتعلق بالفعل لا محالة إرادة أخرى مشكوكة
الحدوث.
نعم يمكن تقريب استصحاب الفرد والكلي بوجه آخر.
أما استصحاب الفرد: فبدعوى أن الزمان، وإن كان مقوما بحسب لسان الدليل،
بل بالدقة العقلية أيضا لفرض دخله في مصلحة المتعلق، إلا أنه مطلقا بالنظر
المسامحي العرفي من حالات الموضوع، وحيث لا يقين هنا بخطأ نظر العرف
مطلقا - لاحتمال كونه مقوما لتمام المطلوب، لا لأصله، ولذا فرض الشك في بقاء
الطلب - فيمكن استصحاب شخص الطلب المتعلق بنفس الفعل في نظر العرف
لليقين بتعلقه به في نظر العرف، والشك في بقائه بنظرهم.
وأما ما افاده - قده - في المتن من تعدد المرتبة في الطلب، فإنما هو بلحاظ
الإرادة، فان دخل بعض الحالات من مرتبة منها يوجب التنزل إلى مرتبة أخرى
بفقد ذلك البعض، بخلاف البعث فإنه بقوة مصلحته وضعفها لا يتفاوت حاله من
حيث نفسه.
الاستصحاب بالإضافة إلى البعث من استصحاب الفرد، لفرض كونه الزمان
عرفا من الحالات، وبالإضافة إلى الإرادة من استصحاب الكلي من القسم الثالث،
لفرض دخالة الحالة في قوة المصلحة، الموجبة لتأكد الإرادة، وقد مر سابقا (1) إن
الوحدة من حيث الوجود لا دخل لها بالوحدة من حيث التعين الماهوي للفرد.
وأما استصحاب الكلي بنحو القسم الثاني من القسم الثالث، وهو حدوث فرد
بعد ارتفاع فرد آخر، فتقريبه: أن شخص الحكم له تعلق بالذات بالمقيد، بما هو،
وبطبيعي الفعل بالعرض، وطبيعي الحكم حيث أنه موجود بالعرض، بعين وجود

(1) تقدم في ص 184.
189

شخصه فتعلق شخصه ذاتا وعرضا تعلق طبيعية عرضا.
فلطبيعي الحكم تعلق بطبيعي الفعل بالعرض، ويشك في بقائه والمفروض أن
القطع بزوال أحد الفردين لا يوجب القطع بزوال الطبيعي الموجود بوجود فرد
آخر.
نعم هذا القسم من الاستصحاب لا يقول به الشيخ الأعظم - ره - مع ذهابه إلى
صحة استصحاب الكلي بسائر أقسامه ولا يمكن ادراجه في صورة التبدل للزوم
وحدة الموضوع فيه ذاتا لا عرضا.
" استصحاب العدم الأزلي "
قوله: وإلا فلا مجال إلا لاستصحاب عدمه... الخ.
الكلام تارة في استصحاب العدم الأزلي، وأخرى في استصحاب العدم
المجعول.
أما الكلام في الأول، فنقول: ظاهر شيخنا - قده - في بضع كلماته (1) صحته،
من حيث أن عدم الحكم، وإن كان غير مجعول فيما لم يزل لكنه مجعول فيما لا
يزال، فيقبل التعبد به بقاء، وان لم يكن تعبديا ثبوتا، ويكفي في صحة
الاستصحاب قبول التعبد بقاء، فان موقع التعبد في الاستصحاب هو البقاء دون
غيره.
والتحقيق أن العدم الأزلي هو العدم الذي ليس بديلا للايجاب الذي أمره
بيد الشارع، إذ المفروض أنه ليس في الأزل موقع التشريع، كما سيأتي توضيحه
إن شاء الله تعالى في الأصل المثبت.
ومعنى جعل العدم ابقاؤه على حاله بعدم قلبه إلى نقيصه بالاختيار في موقع
إمكان التشريع، فالعدم الذي يكون بلحاظ بديله مستندا إلى الشارع هو عدم

(1) الكفاية ج 2: التنبيه العاشر: ص 322.
190

الحكم في زمان ورود الشرع، وليس هو عين العدم الأزلي بقاء، بل لازم عقلي له،
إذ لازم عدم قلب العدم - إلى النقيض بالاختيار - بقاء العدم الأزلي على حاله، لا
أنه عينه حتى يكون العدم الواحد، تارة غير مستند إلى الشارع، وأخرى مستندا
إليه.
فما هو متيقن غير مجعول، وما هو مجعول غير متيقن في السابق، بل لازمه.
فالتعبد به بلسان التعبد ببقاء العدم الأزلي - مع أن العدم الأزلي ليس من قبيل
الموضوع للعدم المجعول، كما هو واضح، لا يصح إلا بناء على الأصل المثبت.
الا أن يقال: بخفاء الواسطة وأن العدم الأزلي وإن كان غير العدم الذي هو
بديل لأمر المجعول بالدقة، لكنه عينه عرفا، فيري العرف استمرار العدم، وإن
كان اضطراريا تارة واختياريا أخرى.
وأما الكلام في الثاني: فنقول: العدم الذي هو بديل الوجود المجعول بالذات،
وينسب الجعل إليه بالعرض، كبديله كلاهما مشكوك، ليس شئ منهما - بما هو
مستند إلى الشارع - متيقنا لكن الوجوب من أول انعقاد الشريعة ليس فعليا،
فيمكن استصحاب عدم الوجوب الشرعي الفعلي.
والتحقيق: أنا إذا قلنا بامكان الواجب المعلق، وأن الايجاب الفعلي يمكن أن
يتعلق بأمر متأخر، فاستصحاب عدم الوجود الفعلي لا مانع منه، لفرض إمكان
بديله - قبل الزمان المقيد به الفعل - فيكون عدم الوجوب الفعلي من أول الأمر
متيقنا.
وإذا قلنا بعدم إمكان الواجب المعلق، وأن زمان الوجوب الفعلي زمان
الواجب، فكما أن الواجب على الفرق متقيد باليوم الخاص، فكذا ايجابه قهرا،
فعدمه البديل له هو عدم الوجوب في ذلك اليوم الخاص، وهو على الفرض
مشكوك يراد التعبد به.
ولا يجدي العدم السابق الاضطراري في التعبد بهذا العدم البديل، لما مر من
أنه غير مجعول ولازمه بقائه عدم الوجود الفعلي في هذا الزمان
191

نعم إن قلنا: بأن التكاليف الشرعية من أول انعقاد الشريعة كلها فعليات، إما
وجودا أو عدما فلا حالة سابقة لاحد الامرين، وإنما يجري الشقان المذكوران إذا
قلنا بأن مجعولات الشارع إنشاءات بداعي البعث والزجر، وتكون فعلية تارة،
وغير فعلية أخرى.
هذا كله فيما إذا كان الزمان قيدا مقوما للواجب.
وأما إذا كان ظرفا للوجوب وقد مر (1) أن الظرفية المحضة لغو، فلابد من أن
يكون قيدا مقوما للوجوب، فحينئذ يكون حاله حال الواجب الموقت.
فاستصحاب عدم الوجوب الموقت بالعدم الأزلي غير مجد، لما مر، وعدم
الوجوب الموقت في موضع التشريع غير متيقن، وعدم الوجوب الموقت الفعلي
غير معقول، حتى على القول بامكان الواجب المعلق، لأن فعلية وجوب فعل
موقت، وإن كان معقولا، إلا أن فعلية الوجوب الموقت - قبل الوقت - خلف،
فالعدم البديل لوجوده غير معقول، وعدم الوجوب الموقف الفعلي في الوقت
مشكوك لا متيقن، فهذا هو الوجه في عدم جريان استصحاب عدم الوجوب
الموقف.
وأما ما يقال (2): من أن القابل للتوقيت هو وجود الشئ وعدمه، لا نفس
ماهية الشئ فالمستصحب إن كان عدم ماهية الشئ فهو أجنبي عن
استصحاب عدم الوجوب الموقت، وإن أريد استصحاب عدم وجود الوجوب
الموقت، فالعدم لا يعرض الوجود، فأن أريد استصحاب عدمه - في الوقت - فهو
مشكوك لا متيقن، كنفس وجود الوجوب الموقت.
فهو مدفوع: بأن العدم الذي يستحيل عروضه على الوجود ما هو بديله؟
وأما عدم المقدر وجوده موقتا، فليس بديلا إلا للوجود الفعلي، لا للوجود
التقديري، فكما يلاحظ وجود الوجوب الموقت، ولو لم يكن موجودا كذلك.

(1) تقدم في صفحة 187.
(2) كما عن المحقق النائيني - قده - أجود التقريرات ج 2: ص 405.
192

يمكن فرض الموقت بالحمل الشايع، فيقال:
إن هذا المفروض الوجود لم يكن حقيقة، ولم يخرج من حد الفرض والتقدير،
والآن كما كان، فالمحذور الحقيقي ما قدمناه فتدبر.
قوله: الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع... الخ.
نظرا إلى أنه لو لم يكن للزمان الخاص دخل - في مصلحة الواجب - لما صح
أخذه من مورد التكليف، فالظرفية المحظة مساوقة للغوية.
والتحقيق: أن الأمر كذلك من حيث الإرادة النفسانية، حيث أن الإرادة
تنبعث عن مصلحة المراد، وليست هي من الأفعال ذوات المصالح والمفاسد،
فاما أن يكون للوقت الخاص دخل في المصلحة، فلا محالة تتعلق الإرادة
بالموقت، وإما أن لا يكون له دخل فيها، فلا تتعلق إلا بذات الفعل.
وأما من حيث البعث المتعلق بالفعل - وهو الانشاء بداعي جعل الداعي -
فيمكن فرض الظرفية المحضة، التي لادخل لها في مصلحة الفعل، فأن البعث في
ذاته من الأفعال ذوات المصالح والمفاسد، فيمكن فرض تمامية الفعل من حيث
مصلحة نفسه، ولو - لا في الوقت الخاص - مع عدم تمامية مصلحة البعث، أو
فرض مزاحمتها بمفسدة في غير الوقت الخاص، بل يمكن تسريته إلى الإرادة
أيضا.
بتقريب: أن المشتاق إليه، وإن كان ذات الفعل لكنه ما لم يبلغ الشوق حدا
ينبعث منه البعث نحو الفعل، لا يكون الشوق مصداقا للإرادة التشريعية المحاذية
للإرادة التكوينية، فكما أن المفسدة تمنع عن البعث الفعلي، كذلك عن بلوغ
الشوق حد الإرادة التشريعية التي هي علة تامة للبعث. فتدبر فإنه حقيق به.
وأما كون الزمان على الظرفية قيدا للواجب - بما واجب - ولموضوع الحكم
الفعلي - بما هو فلا يمنع عن استصحاب الحكم، لأن الموضوع الذي هو
معروض الحكم ويجب بقاؤه - ولو بالدقة - ذات الواجب، وذات ما هو موضوع،
لاستحالة صيرورة الواجب - بما هو واجب - معروضا للوجوب أو موضوعا
193

للحكم بما هو موضوع، كما لا يخفي.
قوله: إنما يكون ذلك لو كان في الدليل... الخ.
سيأتي - إن شاء الله تعالى - في مبحث اشتراط بقاء الموضوع (1) تحقيق الأمر
في ذلك.
قوله: نعم لا يبعد أن يكون بحسبه أيضا... الخ.
استدراك من القيد المقوم بنظر العرف، إلا أن القيد إذا فرض كونه مقوما
للموضوع، لا يمكن أن يتفاوت فيه الأمر بنظر العرف، من حيث احتمال قيام
مصلحة أخرى بذات الفعل، ومن حيث احتمال قيام مرتبة من المصلحة بذات
الفعل، فان منشأ الشك - في بقاء الحكم - لا يوجب التفاوت في نظر العرف من
حيث اتحاد المقيد مع المجرد تارة وعدمه أخرى كما هو واضح.
قوله: لا يخفى أن الطهارة الحدثية والخبثية... الخ.
تحقيق المقام يتوقف على تمهيد أمور.
منها - ان المناط - في قاعدة المقتضي والمانع - إحراز نفس المقتضي، ليؤخذ
به إذا شك في مانعه - حدوثا أو بقاء - وفي الاستصحاب إحراز المقتضي - بالفتح -
فإنه المستصحب.
ومن الواضح: أن إحرازه حدوثا باحراز العلة التامة له، والشك في بقائه للشك
في بقاء أحد أجزاء العلة: إما ذات المقتضي، أو ما يتقوم به المقتضي، أو ما
بوجوده له في دخل في فعلية المقتضي، عن مقتضيه، أو ما لعدمه، دخل في
فعلية، ويسمى بعدم المانع حدوثا، وبعدم الرافع بقاء.
وتوهم: أن وجود المقتضي - في الحالة الأولى - يمكن أن يقتضي أمرا
مستمرا، فيقطع بعدم المقتضي، مع القطع بوجود مقتضاه - تارة - والشك فيه
أخرى، لاحتمال أن يكون مقتضاه أمرا موقتا.
فاسد، إذا لا يعقل بقاء الشئ بلا علة، كما لا يعقل حدوثه بلا علة.

(1) ذيل قول الماتن - قده - (في أن هذه الاتحاد هل هو بنظر العرف الخ) يأتي في ص 275.
194

وما يوهم إمكانه من بقاء الحجر في مكانه - بعد وجود المقتضي لكونه في
ذاك المكان.
يندفع بأن ابقاءه في مكان من قبيل العلة المعدة لكونه في ذاك المكان،
حدوثا، وثقله الطبيعي موجب لبقائه في ذلك المكان إلى أن يرفعه رافع
وعليه فإذا كان منشأ في وجود شئ في ثاني الحال من جهة الشك في
أصل المقتضي له بقاء أو الشك في ما يتقوم به المقتضي في اقتضائه، فهو شك
في المقتضي.
وإن كان منشأ الشك فيه هو الشك في وجود ماله دخل في فعليته أو في عدم
ما يمنع عن فعليته، وهو مساوق لاحراز المقتضي، فلا شك في المتقضي، وإن لم
يكن الشك في رافعه أيضا، لأن الشك في الأول منهما شك في ما هو شرط
بوجوده في فعلية بقائه.
وأما حديث اقتضاء نفس الشئ للبقاء - في قبال ما ليس له بنفسه استعداد
البقاء - فغير صحيح، لأن وجود الشئ في زمان يستحيل أن يكون مقتضيا
لوجوده في زمان آخر، بل الوجود في جميع الأحوال والأزمان مستند إلى علة
موجبة له.
ومنها - أن الموجودات تختلف في أن بعضها قابل للبقاء بسبب مقارن له إلى
أن يزيله مزيل، أو ينعدم ما هو شرط فعلية بقائه، وبعضها غير قابل للبقاء إلا إلى
أمد مخصوص، ولو لم يحدث ما يزيله، ولم ينعدم ما هو شرط فعلية بقائه.
أما الجمادات من قبيل الأحجار - فبعد وجودها بمباديها الطبيعية - يكون
بقاؤها محفوظا بصلابته الطبيعية، وتماسكها الطبيعي إلى أن يبطلها ويعدمها
شئ مؤثر على خلاف مقتضاها الطبيعي والشك في بقائها مستند إلى الشك في
المبطل والمزيل.
والنباتات - كالأشجار - بقاؤها ببقاء القوة النامية، وهي مختلفة في الامتداد،
فبزوال تلك القوة يزول النبات - بما هو نبات وان كان يبقى بما هو جماد.
195

فالشك في بقائها إن كان منبعثا عن الشك في قوة تلك القوة وضعفها - من
حيث الاستعداد - كان الشك في المقتضي، وإن كان الشك في بقائها منبعثا عن
الشك في حرقها وقعطها كان لشك في الرافع.
وكذا حال الفواكه والأثمار، فان مزاجها الطبيعي من حيث الاقتضاء لبقائها
متفاوت، فقد يكون الشك في مقدار الاقتضاء، وقد يكون الشك في الرافع
والمزيل.
والحيوانات أيضا بحسب أمزجتها الطبيعية مختلفة الاستعداد وليس شئ
منها قابلا للبقاء إلا أن يزيله مزيل (1)، فالشك فيها من هذه الحيثية شك في
المقتضي، وإن كان الشك من حيث قتلها ونحوه شكا في الرافع.
والمقولات العرضية كلها قابلة للبقاء، فان موضوعها ومحلها حافظ لها - بعد
وجودها بأسبابها - إلى أن يزيلها مزيل، أو يبطل ما هو شرط فعلية بقائها.
وأما الافعال الخارجية القائمة بالفاعلين عن اختيار، مسبب عن مصالح
مخصوصة - كقيام زيد وقعوده، وركوعه وسجوده - فإنها وإن حدثت عن مصالح
مخصوصة لكن انقضاء تلك المصلحة لا يوجب زوال القيام والقعود بنفسها، ما
لم يحدث في نفسه داع إلى اختيار القعود بعد القيام، وهكذا.... فلا يسقط على
الأرض قهرا بعد زوال الغرض الداعي إلى القيام، بل يحدث له داع، فيقعد
باختياره فقيامه مثلا محفوظ ببقاء محله إلى أن يحصل ما يزول به القيام، ولو
بنحو المضادة لا بنحو الفعلية.
نعم إذا تردد أمر بقاء القيام - من حيث أن له قوة القيام ساعة أو ساعتين - كان
من الشك في المقتضي، فإنه بفناء القوة يسقط على الأرض لا باختياره.
وأما الأحكام الشرعية، فهي قابلة لكلا الوجهين، فقد تقتضي المصلحة ايجابا
موقتا وقد تقتضي ايجابا غير موقت، لكن فعلية بقائه منوطة بوجود شئ أو
بعدم ما فيه مصلحة مزاحمة لتلك المصلحة في تأثيرها في الوجوب بقاء.

(1) قيد للمنفي، لا استثناء من النفي.
196

وكذلك قد تقتضي المصلحة اعتبار زوجية موقتة، أو ملكية موقتة، وقد
تقتضي اعتبار الزوجية اللا مؤقتة أو الملكية اللا مؤقتة، مع إناطة فعلية بقائها
بوجود شئ أم بعدم ما يزاحم تلك المصلحة في التأثير فعلا.
فمنشأ الشك إن كان من قبيل الأول، كان الشك في المقتضي، وإن كان من
قبيل الثاني لم يكن الشك في المقتضي، وان كان ليس من قبيل الشك في الرافع -
أيضا - أحيانا، إلا أنه على وجه لا ينافي إحراز الاقتضاء.
والفرق بينهما، وبين الاعراض الخارجية، أنها لا وجود لها خارجا، حتى تكون
محفوظة بمحالها إلى أن يزيلها مزيل، بل موجودة في أفق الاعتبار، والاعتبار قد
يتعلق بمعنى غير محدود، فمعنى بقائها تعلق الاعتبار بمعنى مستمر إلى أن
يوجد ما يقتضي خلاف ذلك الاعتبار.
ومنها - أن الايجاب والتحريم وسائر الأحكام التكليفية قد يتقيد بعدم زمان
مخصوص وقد يتقيد بعدم امر زماني، فالأول كالايجاب إلى الليل، والثاني
كالايجاب إلى أن يمرض أو يسافر.
وكذا الأحكام الوضعية - مع الملكية والزوجية - قد يتقيد بعدم زمان كالملكية
إلى أول الشهر أو ما دام الحياة في الوقف، وكالزوجية الموقتة في المتعة، وقد
يتقيد بعدم أمر زماني كالملكية إلى أن يفسخ، والزوجية إلى أن يطلق.
وتخيل: أن الشئ لا يعقل أن يعلق على عدم رافعه، لأن فرض الرافع فرض
وجود المرفوع، فكيف يعلق وجوده على عدم ما يتوقف على وجوده.
مدفوع: بأن المعلق ليس أصل الوجود، حتى يلزم المحال، بل بقاء الوجود
والرافع، لا يقتضي إلا أصله، والتعليق لا يقتضي إلا توقف البقاء مع أن الوجوب
أيضا كذلك.
فتسليم صلاحيته الحكم التكليفي لكلا النوعين من التقييد دون الحكم
الوضعي بلا فارق.
ودعوى: أن القيد - هنا - راجع إلى الموضوع، وهو الايجاب على الصحيح
197

والحاضرة، دون المريض والمسافر، فلا تعليق للوجوب على عدم أمر زماني.
مدفوعة: بأن مثله ممكن الجريان في الوضع، بأن يقال: قد اعتبرت الملكية
لغير المفسوخ عليه، والزوجية قد اعتبرت لمن لم يوقع علها الطلاق، مع أنه لا
حاجة إلى هذا التوجيه والتصحيح.
وتوهم: أن جعل بقاء الاعتبارات - بعين جعل حدوثها - لا بجعل مستقل،
فتعليق هذا الجعل الواحد على عدم رافعه - الموقوف على جعله - يوجب
محذور الاستحالة، فلا محالة لا يمكن جعل الرافع إلا بجعل مستقل يرفع ذلك
الجعل المستمر اقتضاء.
مدفوع: بأن نفس الاعتبار الوحداني، غير معلق على عدم رافعه ليلزم منه
المحذور بل الملكية المعتبرة، وقد مر (1) أن المعتبر - حدوثا وبقاء - لا وجود له
خارجا، بل وجوده بمعنى كونه طرف هذا الاعتبار.
فالمعتبر - تارة - هي الملكية الغير المحدودة بعدم الفسخ - وأخرى هي
الملكية المحدودة بعدم الفسخ.
وعليه فنقول: تارة يكون الزمان أو الزماني دخيلا في المصلحة الباعثة على
الايجاب أو اعتبار الملكية وأخرى يكون عدم زمان أو زماني.
فان كان الأول، فهو قابل لأن يكون مقوما للمصلحة بحيث لا مصلحة في حد
ذاتها، إلا في المتقيد بهذا الزمان أو بذاك الزماني، وقابل لأن يكون دخيلا في
فعلية، إلا في المتقيد بهذا الزمان أو بذاك الزماني، وقابل لان يكون دخيلا في
فعلية ترتب المصلحة على ما تقوم به، فيتوقف حينئذ فعلية الايجاب أو فعلية
الملكية المعتبرة عليه.. فاحراز الاقتضاء يجامع عدم الزمان والزماني، على
الثاني، دون الأول كما عرفت سابقا.
وإن كان الثاني فعدم الزمان أو الزماني لا يعقل أن يكون مقوما للمقتضي،
ويعقل أن يكون دخيلا في فعلية المقتضي، لكون وجوده مانعا عن تأثيره - حدوثا
وبقاء - أو أحدهما، وأنما لا يعقل الأول، لأن المقتضي لا يعقل - من حيث كونه

(1) في هذه التعليقة.
198

ثبوتيا - أن يترشح وينبعث من عدم أو عدمي، ولا من المتقوم بهما.
بخلاف الثاني، فان المانع حيث كان وجوده مزاحما للمقتضي في تأثيره، فلا
محالة يكون عدمه شرطا في فعلية تأثيره، والا لزم انفكاك المعلول عن علته
التامة، فهذا هو البرهان على أن عدم الفسخ لا يعقل الا أن يكون من باب عدم
الرافع المجامع لوجود المقتضي، لا مما يتقوم به المقتضي، من دون حاجة إلى
دعوى استحالة تعليق المقتضي على عدمه.
فإذا فرض تقييد الوجوب أو الملكية بأمر عدمي، كان ذلك من باب التقييد
بعدم الرافع - برهانا - فيجامع احراز المقتضي فإذا فرض تقييدهما بأمر ثبوتي
احتمل الأمران.
ومنها - أن الغاية الحقيقية ما ينتهي إليه أمد استعداد الشئ وعمره تكوينا أو
تشريعا، والرافع الحقيقي ما يبطل فعلية وجود الشئ المستعد للبقاء.
وربما يعبر عن الغاية بالرافع، وعن الرافع بالغاية، وذلك لأن العدم لا يعرض
الوجود حتى يكون الرافع معدما لوجود الشئ ومبطلا لوجوده بقاء، بل العدم
بديل وجوده بقاء، فلكل رافع ما ينتهي إليه فعلية الشئ، كما أن كل غاية رافع
لفعلية الشئ وإن كان مزيلا لاستعداده أيضا بقاء فتدبر جيدا.
ثم إن الشبهة في الغاية.
قد تكون حكمية سواء كان الشك في أن له غاية أم لا، أو تردد أمر الغاية بين
الطول والقصر، بأن كانت الغاية غروب الشمس وشك أنه شرعا باستتار القرص
حسا أو بذهاب الحمرة المشرقية؟
وقد تكون موضوعية، كما إذا شك في ذهاب الحمرة، أو شك في استتار
القرص لغيم ونحوه، والكل من الشك في المقتضي.
وربما يتخيل أن الشك في الثانية في الانقضاء لا في الاقتضاء (1).

(1) كما عن المحقق النائيني - قده - فوائد الأصول: الجزء الرابع: ص 117 وأجود التقريرات ج 2:
ص 257.
199

ويندفع: بأنه لا فرق بينهما، إذ لا يقين بالمقتضي في زمان الشك في الأول.
وأما الشبهة في الرافع.
فقد تكون حكمية - سواء شك في أن له رافعا أم لا، أو شك في أن له رافعا آخر
أم لا، أو شك في أن الرافع المعلوم هل يعم هذا الشئ أم لا؟
وقد تكون موضوعية - كما إذا شك في أن هذا بول، حتى يكون رافعا للطهارة،
أو مذي، حتى لا يكون رافعا لها. وعلى أي حال يساوق إحراز المقتضي.
ثم إن تصور الشك في الرافع والمقتضي في المستصحبات الوجودية مما لا
شبهة فيه، وأما العدميات فربما يتخيل أنه يتصور فيها الاقتضاء، فلا يتصور فيه
الرافع والمانع.
ويندفع: بأن عدم الايجاب ربما يكون لعدم مصلحة للفعل في زمان خاص،
مع صيرورته ذا مصلحة في زمان آخر، ولو لأجل دخل زمان مخصوص في
صيرورة الفعل ذا مصلحة، في قبال ما إذا لم يكن للفعل في جميع الأزمان
مصلحة، لكنه قابل لعروض عنوان ذي مصلحة عليه.
فإذا تردد أمر ايجاب فعل في كونه من قبيل الأول أو من قبيل الثاني كان من
قبيل الشك في المقتضي، وإذا فرض كونه من قبيل الثاني، وشك في عروض
عنوان موجب لانقلاب العدم إلى الوجود، كان من قبيل الشك في الرافع.
ويمكن أن يجعل العدم بالاقتضاء - أيضا - بأن يكون في الايجاب مفسدة
مقتضية لعدم الايجاب، مانعة عن تأثير المصلحة - الثانية في الفعل - في ايجابه،
فقد يحرز الاقتضاء للعدم، ويشك في عروض عنوان أقوى تأثيرا.
وقد لا يحرز ذلك على الاطلاق، بل تردد أمر المفسدة المقتضية لعدم
الايجاب بين أن تكون في خصوص زمان أو مطلقا.
هذا وإذا عرفت ما مهدناه من الأمور المتقدمة تعرف أن الموضوعات مختلفة
- من حيث كون الشك في المقتضي أو في الرافع - فراجع.
وأما الأحكام مطلقا، فقد عرفت ملاك أحد الأمرين وأن الشك إن كان من
200

ناحية عدم زمان أو زماني، فهو من الشك في الرادع، للبرهان المتقدم، وإن كان
الشك من ناحية امر ثبوتي من زمان أو زماني فهو محتمل للأمرين - من حيث كونه
مقوما للمقتضي أو دخيلا في فعلية مقتضاه - فعلى الأول لم يحرز المقتضي،
وعلى الثاني مبني على وجود المقتضي.
ولكن القوم لا يلتزمون بذاك، بل ملاك الشك في المقتضي عندهم كون
الشئ مرددا بين أن يكون له أمد زماني مخصوص، وعمر خاص - تكوينا أو
تشريعا - وأن لا يكون له ذلك، وملاك الشك في الرافع وما يلحق به، أن لا يكون له
- تكوينا ولا تشريعا - أمد مخصوص زماني، وعمر خاص - كائنا ما كان - من دون
نظر إلى منشأ الشك الذي ربما يجامع احراز الاقتضاء على الأول، كما إذا كان
الزمان شرطا لفعلية التأثير، وربما لا يجامع احراز الاقتضاء كالزماني الذي يحتمل
تقوم المقتضي به على الثاني.
المتيقن فلا محالة يكون منتقضا بمجرد عدم المقتضي لوجوده، لا أن رفع اليد
عنه نقض له، فمتى دار الأمر بين أن يكون له مقتضي الوجود في الزمان الثاني
وأن لا يكون له، كان الشك في المقتضي.
وأخرى يستند إلى اليقين بما هو طريقي، واليقين بالأمر المحدد الذي له عمر
خاص تشريعا - كالشئ الذي له عمر خاص تكوينا - لا يقتضي الجري على وفقه
مطلقا، واليقين بالأمر المرسل الذي لا عمر خاص له تشريعا يقتضي الجري
العملي على وفقه مطلقا.
ولا فرق في هذه المرحلة بين الشك في وجود ملاك الحكم ومقتضيه،
وعدمه بل عدم الجري على وفقه نقض لليقين بما لاحد له.
هذا والأوجه من هذا أن النقض نسب إلى اليقين بما هو يقين وأنه امر وثيق
في قبال الشك، فلا موجب لملاحظة متعلقه من حيث التحديد بالزمان وعدمه،
كما لا موجب لملاحظة ملاك وجود المتيقن فرفع اليد عن هذا الأمر الموثيق نقض
له دائما إلا بوثيق مثله.
201

ومن هنا اتضح حال الطهارة والنجاسة - على كلا المسلكين وعلى كلا
الوجهين - من حيث كونها أمورا واقعية أو اعتبارات شرعية وضعية، فإنها - بناء
على كونها من الأمور الواقعية - مقولات عرضية.
وقد عرفت أنها بعد حدوثها بأسبابها محفوظة بمحلها إلى أن يحدث ما
يزيلها، فان العرض - وإن كان ضعفا في نفسه - لا يزول بنفسه وليس له في حد
نفسه أمد خاص وعمر مخصوص، فمنشأ الشك في بقاء ليس إلا الشك في
رافعها حكما أو موضوعا.
وأما بناء على انها اعتبارات شرعية وضعية، فنفس الاعتبار الوضعي، قد
عرفت أنه قابل لأن يكون محدودا بالزمان، بأن يكون المعتبر هي الطهارة في
زمان خاص - كالطهارة ما دامت الحاجة إلى الجبيرة وقبل البرء - فإذا شك في أن
المعتبر محدود بالزمان، فلا محالة يكون الشك في المقتضي بالمعنيين: اي من
حيث كونه محدودا بالزمان، وله عمر خاص تشريعا، ومن حيث احتمال
المصلحة في الطهارة المحدودة بزمان خاص.
كما أنه قابل لأن لا يكون له أمد خاص، وله مزيل مخصوص، فالشك حينئذ
في الرافع، إلا أنه - قد مر - ان المذي مثلا لا يعقل أن يكون عدمه دخيلا في
اقتضاء المقتضي، بل في فعلية تأثيره بقاء، فلا معنى لجعل الطهارة مغياة بعدم
المذي، بحيث يقتضي اقتضائها عند وجوده، فالشك في مثله شك في الرافع
على كلا المسلكين.
وكذا في مثل اعتبار النجاسة المغياة بعدم الغسل مرة، فإنها غير محددة بزمان
خاص، ولا يعقل دخل عدم الغسل مرة في اقتضاء المقتضي لاعتبار النجاسة.
وأما اعتبار النجاسة في الماء ما دام التغير بحيث يكون التغير بالنجس، مقوما
للمقتضي - حدوثا وبقاء - فيمكن أن يدخل بهذه الملاحظة في الشك في
المقتضي.
نعم يندفع احتمال كون التغير مقوما للمقتضي بتقريب: أن التغير ليس هو
بنفسه من النجاسات مؤثرا في تنجيس الماء بل بناء على أن النجاسة امر واقعي
202

يكون النجس الواقعي مقتضيا لترشح النجاسة منه إلى الماء، والملاقاة دخيلة في
فعلية التأثير مطلقا والتغير - لو لم يكن كاشفا عن العلية - شرط آخر، في خصوص
ما لا ينفعل بمجرد الملاقاة.
وبناء على كونها من الاعتبارات، فالنجس يؤثر - فيما يلاقيه - مفسدة تقتضي
اعتبار النجاسة له، والملاقاة والتغير شرط لفعلية المفسدة، والمقتضي لاعتبار
النجاسة تلك المفسدة، فلم يبق إلا احتمال دخل التغير في فعلية اعتبار النجاسة
حدوثا وبقاء، لوجود المقتضي له، وهي المفسدة.
وأما دخله في فعلية المفسدة، ليرجع الشك إلى وجود المقتضي لاعتبار
النجاسة، فغير معقول، إذ لا يعقل الدخل المزبور إلا في مقام تأثير المقتضي، أو
تأثر المحل به، والمفروض عدم تأثير للنجس الملاقي بقاء، بل ربما يكون
معدوما، فكيف يعقل شرطية التغير لتأثير النجس بقاء أو لتأثير الماء منه بقاء.
فتدبر فإنه حقيق به.
" التنبيه الخامس في الاستصحاب التعليقي "
قوله: لا ينبغي الاشكال فيما إذا كان مشروطا معلقا... الخ.
توضيح المقام: أن الشك في بقاء الحكم الشرعي.
تارة - يكون في بقاء الحكم الكلي المرتب على موضوع كلي، بنحو القضية
الحقيقية، وهذا كما في الشك في نسخ الحكم وارتفاعه من موضوعه الكلي، بعد
ثبوته له، سواء كان الحكم المرتب مطلقا أو مشروطا معلقا.
وأخرى - يكون في بقاء الحكم الفعلي، وارتفاعه عن موضوعه، لتبدل حالة
منه إلى حالة أخرى، وهذا هو محل الكلام في غير مقام الشك في النسخ.
فنقول: ان كان الوجوب الشرطي التعليقي - أو الحرمة كذلك - مرتبا على
الموضوع المتقيد بما يسمى شرطا، كما إذا قلنا بأن مرجع قوله: (يحرم العصير
العنبي إذ غلا) إلى حرمة العصير المغلي، وأن تعليقها باعتبار ترتبها على موضوع
203

مقدر الوجود وإن فعليتها بفعلية موضوعها، فحينئذ لا مجال لاستصحاب
الحرمة المعلقة، حيث لا شك في عدم ارتفاع الحرمة الكلية عن موضوعها، إذ
ليس الكلام في نسخها بل الكلام في ارتفاع الحرمة الفعلية بفعلية موضوعها.
ومن الواضح أنه - قبل تبدل العنبية إلى الزبيبية - لم يكن الموضوع وهو
العصير المغلي فعليا، لتكون له حرمة فعلية، فيستصحب، وبعد التبدل وحصول
الغليان يشك في حرمته فعلا فان المفروض أن هذه الحالة حالة الشك.
فما كان له حرمة كلية إنشائية لاشك في بقائها له، للقطع فعلا - أيضا - بأن
العصير العنبي المغلي حرام، وما كان له حرمة فعلية تطبيقا لم يكن لموضوعها
تحقق وفعلية في حالة العنبية حتى يستصحب بعد التبدل إلى الزبيبية، إذ
الموضوع هو العصير المغلي في حالة العنبية، وكونه بحيث إذا غلا - في حالة
العنبية - تثبت له الحرمة الفعلية أمر عقلي كما هو شأن كل موضوع مركب.
فان العقل يحكم عند وجود جزء منه بأنه إذا تحقق الجزء الآخر يكون الحكم
فعليا، وليس هذا الأمر العقلي قابلا للاستصحاب.
نعم إذا غلا العصير العنبي، وشك في بقاء حرمته بذهاب ثلثيه بغير النار كان
موردا للاستصحاب، للقطع بفعلية الحرمة بفعلية موضوعها قبل ذهاب الثلثين.
وإن كان الحكم التعليقي حكما معلقا على الشرط حقيقة زيادة على تعليقه
على موضوعه المقدر وجوده، فموضوع الحرمة هو العصير في حالة العنبية،
والغليان شرط للحكم لا جزء الموضوع، والحكم المشروط وإن لم يكن فعليا قبل
حصول شرطه، كما هو التحقيق، إلا أن الشك ليس في بقاء الحكم الانشائي
الكلي لموضوعه الكلي، بل الحكم الانشائي المنطبق على هذا الموضوع
الجزئي، وإن كانت فعليته منوطة شرعا بوجود شرط فعليته.
فالاشكال إن كان لعدم قابلية الحكم الانشائي - قبل فعليته بفعلية شرطه -
للاستصحاب، فهو مدفوع: بأن الانشاء - بداعي جعل الداعي فعلا أو تركا - هو
تمام ما بيد المولى، وزمانه بيده، وان كان فعليته البعثية أو الزجرية منوطة بشئ
عقلا أو شرعا، ولذا لا يشك في قبول الانشاء الكلي للاستصحاب إذا شك في
204

نسخه وارتفاعه الكلي.
وإن كان لعدم الشك في الانشاء المجعول من الشارع، فهو مدفوع بأن ما لا
شك في بقائه هو الانشاء الكلي لموضوعه الكلي وأما الانشاء المتعلق بهذا
الموضوع الجزئي بسبب تعلق الكلي منه بكلي الموضوع فهو مشكوك البقاء بعد
تبدل حالة إلى حالة.
هذا وعن شيخنا العلامة - رفع الله مقامه - في تعليقته الأنيقة على الرسائل (1):
إن القيد إذا كان راجعا إلى المادة بأن كان العصير العنبي المغلي حراما، فالأمر في
صحة الاستصحاب أوضح، إذ لا تقدير للحكم بل للموضوع.
توضيحه أن مفاد قضية " العصير العنبي المغلي حرام " ان كان جعل الحرمة
لافراد العصير المغلي الموجودة بالفعل، والموجودة فيما بعد، فالقضية خارجية
لترتب محمولها على الموجود من افرادها حالا أو استقبالا نحو فناء العنوان في
المعنون.
ومن الواضح انه لم يوجد عصير مغلي في حالة العنبية ليترتب عليه حكمه
ويستصحب إذا شك في بقائه.
وإن كان جعل الحرمة للأعم من الافراد المحققة الوجود والمقدرة الوجود
ولو لم توجد أصلا، فالقضية حقيقية لا خارجية.
ومن الواضح: أن مفاد القضية على النحو الثاني، غاية الامر أنه إذا كان هناك
لمحمولها شرط، فلها تقديران وفرضان، والا فلها تقدير وفرض واحد.
ومن البين أن العصير في حالة العنبية، إذا قدر غليانه بأن قدر العصير المغلي
في حالة العنبية كان له الحرمة قطعا، إذ ليس موضوعها الا العصير المغلي المقدر
وجوده لا المحقق وجوده، حتى يقال: لم يكن في حال العنبية عصير مغلي
محقق.
وإذا كان العصير المغلي المقدر وجوده في حالة العنبية حراما وشك في بقاء

(1) ص 208.
205

هذا الحكم - المرتب على المقدر وجوده بعد تبدل حالة العنبية إلى حالة الزبيبية
- صح استصحاب تلك الحرمة المرتبة شرعا على الموضوع المقدر، لا الحرمة
الفعلية المنوطة عقلا بفعلية موضوعها، ليتوهم عدمها، أو أن فرض فعليتها بفعلية
جزء موضوعها - بعد فعلية جزئه الآخر - أمر عقلي، بل الحكم المستصحب
حكم مجعول على موضوع مقدر واقعا، فليتعبد ببقائه في موضوعه المقدر بعد
فرض تبدل الموضوع المقدر من حال إلى حال. فتدبره فإنه حقيق به.
واما ما عن الشيخ الأعظم - قدس سره - في الرسائل (1): من استصحاب
الملازمة بين غليان العصير، وحرمته أو سببية غليانه للحرمة وأن الملازمة
والسببية فعلية، وأن اللازم وجوده على تقدير وجود الملزوم فعلي في قبال
عدمه.
فمخدوش: بأن الملازمة والسببية عنده - قده - غير قابلة للجعل الاستقلالي،
وانه لا يرى للجعل التبعي موقعا، فإنه عين الانتزاعية من تعليق الحكم على
شئ.
مع أنك قد عرفت أن المجعول التبعي - الذي هو في الحقيقة مجعول بالعرض
في قبال المجعول بالذات، لا المجعول بالتبع في قبال المجعول بالأصالة - لا
دخل له بالمجعول التشريعي بل هو من اللوازم التكوينية للمجعول التشريعي،
هذا إذا أريد التعبد بنفس الملازمة والسببية.
وإذا أريد التعبد باللازم وهو المجعول التشريعي، فهو أولا مترتب على
الملزوم، دون الملازمة، على فرضه فهو عقلي لا شرعي.
هذا كله مع أن الملازمة المجعولة ملازمة كلية إنشائية نظير الانشاء المطلق
والمشروط، وفعلية الملازمة - حتى يدخل في الحكم الفعلي - بفعلية الغليان
فيعود المحذور.
قوله: إن قلت نعم، ولكنه لا مجال لاستصحاب المعلق لمعارضته

(1) الرسائل: التنبيه الرابع: ص 380.
206

... الخ.
وأجاب عنه شيخنا العلامة الأنصاري - قدس سره - (1) بحكومة استصحاب
الحرمة التعليقية على استصحاب الحلية، نظرا إلى أن الشك - في الجملة الفعلية -
مسبب عن الشك في شمول الحرمة المجولة لما إذا تبدلت العنبية بالزبيبي وليس
الشك في شمولها مسببا عن الشك في الحلية الفعلية، بل ملازم له.
وفيه: أن الحلية الفعلية قبل الغليان، مع الحرمة المعلقة، على الغليان غير
متنافيتين، وفعلية الحرمة بعد الغليان - وهي لازم الحرمة المعلقة على الغليان
عقلا - منافية للحلية الفعلية بعد الغليان، بنحو التضاد، فيكون ثبوت كل منهما
لازما لعدم الآخر عقلا، كما في كل متضادين.
فليس عدم الحلية مرتبا - شرعا - على فعلية الحرمة بالغليان، لتكون حكومة
للأصل في الحرمة التعليقية - البالغة مرتبة الفعلية بفعلية شرطها - على الأصل في
الحلية الفعلية، ولا مرتبا عقلا عليها أيضا، لما حقق - في محله - من عدم المقدمة
لوجود الضد بالنسبة إلى عدم ضده، ولا لعدمه بالنسبة إلى وجود ضده.
ومنه يعلم أن تقريب الحكومة مع عدم الترتب الشرعي كما عن شيخنا
الأستاذ - قدس سره - (2) بدعوى أنه من قبيل اللازم الأعم للواقع والظاهر، فالتعبد
بالحرمة التعليقية كاف في رفع الشك حقيقة عن ارتفاع الحلية الفعلية، من دون
حاجة إلى التعبد بارتفاعها.
مخدوش: بأنه لا ترتب عقلا أيضا، بل مجرد التلازم، فكل من التعبد
الاستصحابي، بالحرمة التعليقية وبالحلية الفعلية - كاف في تحقيق ما يلازم -
حقيقة - لارتفاع الآخر، فلا اختصاص للحكومة بهذا المعنى باستصحاب الحرمة
التعليقية.

(1) الرسائل: التبيه الرابع، ص 380.
(2) راجع تعليقته المباركة على الرسائل: 208 - 209: ذيل قول الشيخ - قده - (لحكومة استصحاب
الحرمة على تقدير الغليان).
207

وأما دعوى (1) أن مجرد الشك السببي وتقدمه الطبعي على الشك المسببي
كاف في تقديمه فسيأتي الكلام فيه (2) صغرى وكبرى، وأنه لا تقدم طبعا للشك
السببي، ولا يجدي على فرض ثبوته.
قوله: قلت لا يكاد يضر استصحابه على... الخ.
حاصله عدم المعارضة بين استصحاب الحلية، واستصحاب الحرمة المعلقة،
ليجاب بالحكومة، أو يناقش فيها بل الحلية - الثانية - قبل عروض موجب الشك
في بقائها - حلية مغياة بعدم الغليان، لأن ما علق عليه وجود أحد الضدين غاية
لوجود الضد الآخر، واستصحاب الحلية المغياة بعد تبدل حالة العنبية إلى حالة
الزبيبية موافق لاستصحاب الحرمة المعلقة، ونتيجتهما ارتفاع الحلية، وفعلية
الحرمة بعد الغليان.
وأما حديث اتحاد الشك في الحرمة والحلية الفعليتين، مع الشك في بقاء
الحلية المغياة، وفي بقاء الحرمة المعلقة، فلدفع توهم حدوث شك آخر،
ليتحقق استصحاب آخر، يعارض به استصحاب الحرمة المعلقة.
وقد تعرض - قدس سره - للاتحاد في متن الكتاب، وفي هامشه، الا أنه جعل
في المتن: الشك في الحلية والحرمة فعلا بعد عروض حالة الزبيبية، متحدا مع
الشك في بقاء الحلية المغياة والحرمة التعليقية، وجعل - في الهامش - (3) الشك
في الحلية والحرمة فعلا بعد الغليان متحدا مع الشك في بقاء الحلية المغياة
والحرمة المعلقة.
وهو الصحيح، إذ بمجرد تبدل حالة العنبية إلى الزبيبية لا تزول الحلية
والفعلية، ولا تتحقق الحرمة الفعلية، بل فعلية الحلية مقطوع بها، وعدم فعلية
الحرمة - ولو مع القطع بالحرمة المعلقة - مقطوع به أيضا.

(1) درر الأصول ج 2 ص 258.
(2) يأتي في ص 292 ذيل قول الماتن - قده - " فان الاستصحاب في طرف المسبب الخ ".
(3) الكفاية ج 2 ص 323.
208

نعم بعد الغليان يشك في الحلية الفعلية والحرمة الفعلية.
ومنشأ دعوى الاتحاد حينئذ - أن الشك في بقاء الحرمة المعلقة على الغليان،
وإن حدث بعد تبدل العنبية إلى الزبيبية، الا أنه بقاء عين الشك في الحرمة بعد
تحقق الغليان، وكذا الشك في بقاء الحلية المغياة بالغليان، وإن حدث بعد تبدل
الحالة، إلا أنه بقاء عين الشك في ارتفاعها بالغليان خارجا، وان لم يكن أحدهما
عين الآخر عنوانا.
لكنك خبير بأن الشك:
تارة - يكون في بقاء الحلية على كونها مغياة بالغليان، بعد تبدل العنبية إلى
الزبيبية ولازم بقائها على ما هي عليه ارتفاع الحلية عند حصول الغاية، فيوافق
استصحاب الحرمة التعليقية لازمها فعليتها عند حصول عليه.
وأخرى - يكون في استصحاب نفس الحلية الثابتة حال العنبية، بل في حال
الزبيبية أيضا، لعدم انقطاع نفس الحلية بمجرد التبدل، ولا يعقل أن يكون لازم
استصحاب الحلية إلى ما بعد الغليان الذي هو زمان المشكوك ارتفاعها بالغليان،
حتى يوافق استصحاب الحرمة التعليقية، والكلام في الثاني، دون الأول.
بل لا يصح الاستصحاب على الأول - في نفسه - لأن الغاية على الفرض
عقلية، حيث أنها من لوازم اشتراط الضد شئ عقلا، فالمستصحب ليس اثرا
جعليا ولا ترتب عليه أيضا اثر شرعي فان ارتفاع الحلية بعد تحقق الغاية العقلية
عقلي، فلا يصح ترتبه حتى من باب ترتب الملازم الأعم للواقع والظاهر.
والتحقيق: اجراء استصحاب الحلية شخصا ومعارضته لاستصحاب الحرمة
التعليقية لما مر من عدم الحكومة.
هذا إذا كانت الغاية - كما هو مفروض المتن - عقلية، للبرهان على أن ما كان
شرطا للضد، فهو غاية للضد الآخر.
وأما إذا كانت الغاية شرعية، والحلية المجعولة حلية مغياة شرعا فلا يعقل
استصحاب الحلية المغياة بعد حصول الغاية شخصا.
209

نعم يمكن استصحاب الحلية المهملة للزبيب، للقطع بأنه حلال - فعلا - إما
بالحلية المغياة، كالعنب، أو بحلية مطلقا حادثة بعد تبدل العنبية إلى الزبيبية،
فكلي الحلية - التي لم يعلم تخصصها بإحدى الخصوصيتين - مقطوع به ويشك
في بقائه بعد الغليان، فزمان الشك في بقاء الحلية المغياة زمان القطع بالحية
المهملة، ومن الواضح أن الشك في بقاء الحلية المهملة - غير الشك في بقاء
الحلية المغياة.
نعم، كما يكون استصحاب كلي الحلية معارضا لاستصحاب الحرمة المعلقة
كذلك يكون معارضا باستصحاب الحلية المغياة، وباستصحاب عدم الحلية
المطلقة الثابت قبل تبدل العنبية إلى الزبيبية، ولا حكومة لهما عليه.
أما استصحاب الحلية المغياة، فان الغاية، وان كانت شرعية، إلا أن ارتفاع
الحلية - بعد حصول الغاية - لازم عقلي لكون الحلية مغياة، لا أن ارتفاعها شرعي،
ليكون التعبد بالحلية المغياة تعبدا برفع الحلية بعد الغاية، ليكون حاكما على
استصحاب الحلية الكلية.
وأما استصحاب عدم الحلية المطلقة فبالإضافة إلى استصحاب الحلية
المهملة، من استصحاب عدم الفرد، بالنسبة إلى استصحاب وجود الكلي.
وقد مر في محله أنه لا ترتب للكلي - وجودا وعدما - على الفرد كذلك شرعا
ولا عقلا، فراجع إلى ما فصلناه سابقا (1).
وأما الاكتفاء بالوضوء - فيما إذا كان محدثا بالحدث الأصغر، ولو استصحابا،
مع جريان استصحاب كلي الحدث، للقطع ببقاء الحدث الأصغر أو حدوث
الحدث الأكبر على تقدير ارتفاع الحدث الأصغر - فليس من حيث تقدم الأصل
في أحد الفردين على الأصل في القدر المشترك، بل من اجل أن مقتضى
استصحاب الحدث ليس التعبد بوجوب الوضوء والغسل معا ليعارض أصالة
عدم الجنابة الموجبة لعدم وجوب الغسل.

(1) تقدم " في لمقام الثاني " ص 170 ذيل قول الماتن " وان كان الشك فيه من جهة تردد الخاص ".
210

وليس اثر أصالة عدم الجنابة هو جواز الدخول في الصلاة أو عدم المنع من
الدخول، بل الأول اثر وجود الطهارة من وضوء أو غسل، أو ما هو بدل لهما،
والثاني أثر عدم الحدث، لا عدم الجنابة وإنما اثر الأصل المزبور عدم وجوب
الغسل، وموضوع وجوب الوضوء من كان محدثا بالحدث الأصغر بأحد
موجباته، ولم يكن جنبا، فأصالة عدم الجنابة بعد كونه محدثا بالحدث الأصغر -
ولو تعبدا - تحقق أحد جزئي الموضوع لوجوب الوضوء، ومن كان متطهرا بما
وجب عليه من الطهارة شرعا يجوز له الدخول في الصلاة قطعا.
وأما ما ذكره شيخنا - قده سره - (1) من اتحاد الشك في الحرمة والحلية
الفعليتين مع الشك في بقاء الحرمة المعلقة والحلية المغياة بعد الغليان، وهو
الذي ذكرنا أنه أولى من دعوى اتحادهما بعد تبدل العنبية إلى الزبيبية.
فمخدوش: أيضا بأن الشك في بقاء الحرمة المعلقة، وان كان متحدا مع الشك
في الحرمة الفعلية وعدمها، نظرا إلى أن الحكم المشروط لا يخرج عن الاشتراط
إلى الاطلاق بسبب فعلية ذلك الحكم، فيصح دعوى الاتحاد في مثله، الا أن
الشك في الحلية الفعلية لا يعقل أن يكون متحدا مع الشك في بقاء الحلية المغياة
وعدمه، لانقطاع الحلية المغياة إما بحصول الغاية أو بعدمها من الأول، فلا شك
في بقائها بعد الغليان حتى يقال: باتحاده مع الشك في الحلية الفعلية وعدمها.
مع أنك قد عرفت أن المتيقن والمشكوك هي الحلية الكلية المهملة - من
حيث كونها مغياة أو مطلقة - فتدبر جيدا.
" التنبيه السادس في استصحاب حكم الشريعة السابقة "
قوله: وذلك لأن الحكم الثابت في الشريعية السابقة... الخ.
هذا جواب عن الشبهة الأولى، بيانه: أن قضية التكاليف تارة - تكون بنحو

(1) في حاشية الكفاية ج 2 ص 223.
211

القضايا الخارجية المتكلفة للحكم على الافراد المحققة الوجود في زمان خاص
أو في جميع الأزمنة، فحينئذ لا يقين بثبوته الا للافراد المحققة الوجود في الزمان
السابق، وأما ثبوته للافراد الموجودة في الأزمنة المتأخرة - بما هي افراد محققة
الوجود في تلك الأزمنة - فليس بمتيقن، فلا شك حينئذ الا في ثبوته وعدمه لا
في بقائه.
وأخرى - تكون بنحو القضايا الحقيقية المتكلفة للحكم على الافراد المحققة
الوجود والمقدرة الوجود، سواء كان الحكم على تلك الافراد بلا واسطة أو عليها
بواسطة الكلي المنطبق عليها بنحو فناء الطبيعي في افراده، والعنوان في معنونه.
وحينئذ فالأشخاص الموجودة في الأزمنة المتأخرة، وإن لم تكن - بما هي
موجودة تحقيقا في تلك الأزمنة - مشكوكة الشمول للحكم، لكنها - بما هي من
الأفراد المقدرة الوجود في الزمان السابق - مقطوعة الشمول، لفرض تعلق الحكم
بالأعم من الأفراد المحققة الوجود، والمقدرة الوجود، ومنها الافراد الموجودة
في الأزمنة المتأخرة فلا شك الا من حيث اختصاص الحكم بالزمان السابق،
فيكون الحكم منسوخا بالنسبة إلى الأفراد المقدرة الوجود في السابق، المحققة
الوجود في اللاحق، وهو مجرى الاستصحاب.
ومن الواضح أن القضايا المتعارفة المتكفلة للأحكام المرتبة على موضوعاتها
من قبيل الثانية، دون الأولى.
ومما ذكرنا يظهر - بالتأمل - ما في المتن، وما في هامشه، من شيخنا العلامة
(رفع الله مقامه).
أما ما في المتن، فان صدر كلامه - قدس سره - وإن كان موافقا لما ذكرنا، الا أن
ختامه ظاهر في تعلق التكليف بمن وجد في لزمان المتقدم، وبمن يوجد في
الأزمنة المتأخرة، وهذا بظاهره يوجب اندراج القضية في الخارجية، إذ ليس
ملاكها تعلقها بالموجود بالفعل، بل تعم ما إذا تعلقت بالوجود في المستقبل
أيضا.
212

مع أن لازمه النسخ قبل حضور وقت العمل، لأن لازم تعلقها بالموجود في
المستقل بما هو كذلك كون ظرف امتثاله هو المستقل أيضا، بخلاف تعلقها
بالمقدر وجوده في الزمان المتقدم، فان ظرف امتثاله هو الزمان المتقدم على
فرض وجوده فيه.
وأما ما في هامشه (1) فلان صريح كلامه - قدس سره - عدم اليقين بثبوت
الحكم في حق من يوجد في السابق، فعلا بل مجرد اليقين بثبوته في حقه فعلا إذا
كان باقيا، ولم ينسخ فهو يشك في بقاء ما لو كان باقيا لكان متعلقا بمن يوجد وهذا
المقدار من اليقين بالثبوت - على تقدير - كاف، من دون لزوم الثبوت على اي
تقدير.
ولعله للفرار عن محذور النسخ قبل حضور وقت العمل، إذ على فرض النسخ
- وعدم بقاء الحكم واقعا - لا ثبوت له في حق من يوجد أصلا، كي يلزم منه النسخ
قبل حضور وقت العمل.
وهذا شاهد على أن القضية الحقيقة المذكورة في صدر كلامه - قدس سره -
يراد منها الحكم على من وجد، ومن يوجد - بما هما كذلك - وقد عرفت أنها
قضية خارجية محضة، بل من يوجد من افراد الموضوع بما هو موجود مقدار في
السابق، لا بما هو موجود محقق في اللاحق، وعليه فاليقين الثبوت على البقاء.
وزمان العمل منقض لا باق.
مضافا إلى أن تعليق الثبوت على البقاء: إن أريد منه تعليق الحكم المجعول
وهو الانشاء بداعي البعث، وبداعي جعل الداعي فالبقاء فرع الثبوت، فلا يعلق

(1) قال - قده - في هامش المتن عند قوله " كالشك فيه كالشك في بقاء الحكم الثابت في هذه
الشريعة " في كفاية اليقين بثبوته لو كان باقيا ولم ينسخ لعمه، ضرورة صدق أنه على يقين منه فشك فيه
بذلك، ولزوم اليقين بثبوته في حقه سابقا بلا ملزم.
وبالجملة: قضية دليل الاستصحاب جريانه لاثبات حكم السابق للاحق واسرائه إليه فيما كان يعممه
ويشمله ولولا طروء حالة معها يحتمل نسخه ورفعه وكان دليله قاصرا عن شمولها، من دون لزوم كونه
ثابتا له قبل طروئها أصلا كما لا يخفى (منه قدس سره) " حقائق الأصول ج 2 ص 476.
213

تعليق ثبوته على بقائه، وسنخ البعث تعلقي فلا يعقل التفكيك بين ثبوته وتعلقه،
بتوهم أنه على تقدير بقائه يتعلق بمن يوجد فهو من حين ثبوته له التعلق.
وان أريد تعليق فعلية الحكم المجعول بالإضافة إلى من يوجد - على تقدير
بقاء الحكم المجعول - فهو معقول، بل لا يعقل غيره، لأن فعلية الحكم حدوثا
وبقاء بثبوت الحكم المجعول حدوثا وبقاء وبفعلية موضوعه اي المكلف، الا
أن المستصحب هو الحكم المجعول، فإنه الموضوع على المكلف، والمرفوع
عنه من قبل جاعله، فلا يعتبر اليقين بالثبوت والشك في البقاء الا بالنسبة إليه، لا
إلى فعلية الحكم المجعول بفعلية موضوعه، حتى يكون اليقين بها معلقا على
بقاء الحكم المجعول.
ولولا ما ذكره (قده سره) في الهامش الذي هو بمنزلة توضيح ما في المتن،
لأمكن ارجاع ما في آخر كلامه - رحمه الله - إلى ما لا ينافي صدره.
بتقريب: ان المراد من تعلق الحكم - بمن يوجد - تعلقه به من حيث أنه فرد
مقدر الوجود فعلا لا من حيث أنه فرد محقق الوجود في ظرفه فتدبر جيدا.
قوله: والشريعة السابقة وان كانت منسوخة... الخ.
هذا جواب عن الشبهة الثانية، وحاصله إن السنخ باعتبار مجموع الأحكام لا
بلحاظ جميعها. وهذا لا يخلو عن إشكال، بحيث لو تم لمنع عن استصحاب
أحكام الشريعة السابقة.
ومحصلة: أن حقيقة الحكم المجعول - وهو الانشاء بداعي جعل الداعي - إما
أن يكون له مقام غير مقام الوحي أولا.
فان كان له مقام غير مقام الوحي، بحيث يكون بحقيقته مجعولا، ويكون
الوحي به تبليغا لذلك الحكم المجعول بلسان جبرئيل عليه السلام على قلب
النبي الموحى إليه ذلك الحكم، فحينئذ إذا أحرز أصل ثبوته بسبب الوحي به إلى
نبي من الأنبياء، وشك في بقائه بنفسه صح لنا استصحابه.
وإن كان مقام ثبوته وجعله مقام الوحي به بلسان جبرئيل عليه السلام عليه
214

قلب النبي الموحى إليه، فذلك الانشاء القائم بجبرئيل عليه السلام الوارد على
قلب ذلك النبي عين جعله منه تعالى، ومن دون سبق الجعل، فحينئذ - يكون
الباقي - هو عين ذلك الموحى به إلى ذلك النبي، فإذا بقي هذا الحكم في شريعة
أخرى، كان ذلك النبي اللاحق تابعا لذلك النبي السابق في ذلك الحكم الخاص.
وحيث أن نبينا (صلى الله عليه وآله) أفضل الأنبياء، ولا يكون تابعا لنبي من
الأنبياء في حكم من الأحكام، كيف؟ ولو كان موسى عليه السلام حيا لما وسعه
الا اتباعه صلى الله عليه وآله، كما في الخبر (1)، فلا محالة يكون المجعول في
شريعته صلى الله عليه وآله مماثلا لما في شريعة موسى عليه السلام، فأمته
صلى الله عليه وآله مأمورون بذلك الحكم من حيث أنه أوحى به إلى نبيهم صلى الله عليه وآله لا من حيث أنه أوحى به إلى موسى عليه السلام.
وعليه فجميع أحكام هذه الشريعة المقدسة أحكام حادثة، وهي إما مماثلة
لما في الشرائع السابقة، أو مضادة أو مناقضة، فالشك دائما يؤل إلى حدوث
حكم مماثل أو غير مماثل، لا إلى بقاء ما في الشريعة السابقة وعدمه ليجري
الاستصحاب.
وعليه فيصح دعوى أن هذه الشريعة ناسخة لجميع الأحكام الثابتة في
الشرائع السابقة، وأن أمد تلك الأحكام قد انتهى ببعثة نبينا صلى الله عليه وآله،
وإن كان في شريعته بعض الأحكام المماثلة لما في الشرائع السابقة، والتعبير
بعدم نسخ بعضها بلحاظ بقاء الحكم الكلي المنتزع من المتماثلين، لا بلحاظ
شخص الحكم الموحى به إلى النبي السابق.
وأما تحقيق المبنى - من حيث كون الحكم ذا مقام خاص بنفسه مع قطع النظر

(1) كما في الاحتجاج: ج 1: ص 55: احتجاجات النبي صلى الله عليه وآله: يا يهودي إن موسى
لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي ما نفعه ايمانه شيئا ولا نفعته النبوة، الحديث، وكذا يستفاد مما ورد
بنحو العموم في اثبات الهداة: ج 1: في النصوص على نبينا صلى الله عليه وآله: الفصل 14: الحديث
90.
215

عن مقام الوحي - فدقيق، كما ربما تلهج به الألسن، من أن الحكم الكذائي ثابت
في اللوح المحفوظ فالوحي مسبوق بجعله، واتباع نبينا صلى الله عليه وآله -
حينئذ - ل يس لما أوحي به إلى النبي السابق، بل من حيث أنه ثابت في اللوح
المحفوظ - بما هو حكمه تعالى - والوحي به إلى نبينا صلى الله عليه وآله،
كالوحي به إلى سائر الأنبياء، ولا تابعية لنبي بالإضافة إلى نبي آخر في هذا الحكم
الوحداني.
وليس الوحي به الا تبليغه، لا جعله واثباته لكن حيث أن اللوح المحفوظ عند
أهله، عالم النفس الكلية الموجودة فيها صورة ما في عالم العقل الكلي - بنحو
الفرق والتفصيل - فليس وجود كل ما فيها الا بوجود النفس الكلية لا بوجود ذلك
الشئ الخاص به في نظام الوجود، فالحكم بحقيقة الحكمية، وبوجوده الخاص
به غير موجود في ذلك المقام الشامخ، ولا في شئ من المبادي العالية فضلا عن
مبدء المبادي وإن كان علمه تعالى بل علوم المبادئ علوما فعلية، ولها المبدئية
لذلك الحكم، ولغيره، وبقية الكلام في محله فراجع (1).
وأما الإرادة التشريعية في المبدأ الأعلى، أو في المبادئ العالية، فلو كانت
، لكان إنشاء الحكم مسبوقا بها، فيعقل انبعاث الانشاءات المتعددة في مقامات
الوحي عن تلك الإرادة الواحدة.
الا أنك قد عرفت مرارا أنه لا اثر من الإرادة التشريعية في صفاته الذاتية تعالى
شأنه.
وأما في مقام الفعل، فإرادته التشريعية عين جعل الحكم، وقد مر أيضا عدم
الإرادة التشريعية في المبادي العالية لوجه مشترك بينها، وبين المبدأ الأعلى
فراجع.
مع أن استصحاب الإرادة التشريعية لا يجدي شيئا، إذ ليست بنفسها من
الأحكام المجعولة، حتى يكون التعبد ببقائها جعلها ظاهرا، ولا اثر شرعي لها،

(1) نهاية الدراية ج 1 ص 215 من هذا الطبع.
216

ليكون التعبد بها تعبدا به، وليس الحكم المجعول مرتبا عليها شرعا ترتب الحكم
على موضوعه، بل ترتب المعلول على علته، وقد أشرنا إليه مرارا، فتدبره، فإنه
حقيق به.
قول: لا يخفى أنه يمكن ارجاع ما افاده... الخ.
عبارته - قدس سره - في الرسائل (1) هكذا " وحله أن المستصحب هو الحكم
الكلي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم إلى آخره " وحمله شيخنا
الأستاذ - قدس سره - على إرادة القضية الحقيقية، كما في المتن، وعلى إرادة
تعلق الحكم بالكلي بما هو، كتعلق المكية بكلي السيد والفقير في الخمس
والزكاة، كما في تعليقته المباركة (2) على الرسائل.
والفرق بينهما: سراية الحكم من الكلي إلى الافراد المحققة والمقدرة - بناء
على تعلقه بالكلي - في القضية المحصورة (3) كما هو مسلك المتأخرين - في قبال
تعلقه بالافراد ابتداء، كما هو مسلك المتقدمين من أهل الميزان - وتعلق الحكم
بالكلي بما هو من دون سراية أصلا كما في ملك الفقير والسيد، لئلا يلزم محذور
الاشتراك المانع من اعطاء المال لسيد واحد أو فقير واحد
ولكن التأمل التام - في عبارته - قدس سره - يقتضي بعدم إرادة الأمرين.
أما الأول، فلأن مراده - قدس سره - من الجماعة هي الجماعة الموجودون في
الشريعة السابقة، كما يدل عليه قوله رحمه الله في مقام تحرير الاشكال المنقول
عن بعض معاصريه: " من أن الحكم الثابت في حق جماعة لا يمكن اثباته في حق
آخرين إلى آخره " (4).
فيكون حينئذ مفاد الجواب: إن الحكم متعلق بتلك الجماعة، من دون دخل

(1) الرسائل: ص 381.
(2) ص 209.
(3) الكفاية ج 2 ص 324.
(4) - الرسائل ص 381.
217

لخصوصياتهم، بمعنى أن المتعلق ذوات تلك الحصص، لا بما هي ملازمة
للخصوصيات المفردة لها، ومبنى القضية الحقيقية على تعلق الحكم بجميع
الافراد المحققة والمقدرة لا بالحصص الموجودة في قبال الآخرين غير
الموجودين.
وأما الثاني فلان الظاهر تعلق الحكم بالجماعة اي بذوات الحصص
الموجودة، لا بالكلي بما هو، نظير اعتبار الملكية لكلي الفقير، لا لذوات الفقراء
بما هم فقراء، ولو من دون دخل لخصوصياتهم الملازمة المفردة.
ولعل غرضه - قدس سره - من هذا الجواب: أن الحكم الكلي إذا ثبت
للحصص - بما هي حصص للكلي - من دون دخل خصوصياتها، فلا محالة يسري
إلى غيرها من الحصص غير الموجودة، لفرض عدم دخل الخصوصيات المميزة
لبعضها عن بعض.
وأنت خبير بأن تعلق الحكم بموضوع ليس قهريا بل منوط - سعة وضيقا - بنظر
الحاكم واعتباره.
فأما أن يجعل الكلي الساري في الافراد المحققة الوجود والمقدرة الوجود
موضوعا لحكمه فالقضية حقيقية.
وإما أن يجعل الكلي الساري في الأفراد المحققة الوجود فعلا موضوعا
فالقضية خارجية. ولا واقع لتعلق الحكم بموضوعه الا مرحلة جعل الحكم بنظر
الحاكم.
والحكم وإن تعلق بذوات الحصص، لكنه يستحيل سرايته جعلا إلى حصص
أخرى، غاية الأمر أن عدم دخل الخصوصيات يقتضي إثبات الحكم إنشاء
لذوات الحصص، وعدم دخل الوجود التحقيقي يقتضي. جعل الأعم - من
المحقق والمقدر - موضوعا، لا أنه يقتضي السراية قهرا من المحقق إلى المقدر،
ومن الكلي الموجود فعلا إلى الموجود فيما بعد.
وقد مر سابقا أن حقيقة الحكم امر تعلقي بذاته، فلا يعقل ثبوت سنخ الحكم
218

ونوعى ثه تعلقه بمن يستجمع شرائط التكليف فيما بعد.
فما عن بعض الأجلة - قدس سره - (1) من أن سنخ الحكم ونوعه لا قصور فيه
من حيث القابلية لكل من يوجد من المكلفين، وانما القصور في متعلقه من حيث
عدم قابليته لأن يتعلق به الحكم لعدم وجوده) مدفوع بما مر.
قوله: ضرورة أن التكليف والبعث والزجر لا يكاد... الخ.
بيانه أن الملكية لو كانت من المقولات الواقعية - حتى الانتزاعية منها - لما
أمكن تعلقها الا بالموجود الفعلي، وأما إذا كانت من الاعتبارات كما مر بيانه
سابقا (2) فهي كما يعتبر تعلقها بالكلي الذمي في السلف، وبالمثل والقيمة في
التضمينات، كذلك يعتبر تحققها لكلي الفقير أو السيد ونحوهما، لأن حقيقتها لا
وجود لها الا في أفق الاعتبار، فيكفي في متعلقها وجوده في هذا الأفق.
وتعين المالك والمملوك - في فرد خارجا - لا يوجب خروج الملكية من حد
إلى حد بل هي على اعتباريتها، وفعليتها فعلية اعتبارها المفروض ثبوته، غاية
الأمر أن الكلي الموصوف بالمالكية الاعتبارية، أو المملوكية الاعتبارية ينطبق
على الفرد الخارجي.
بخلاف التكليف، فان حقيقة البعث والزجر الفعلي، كما لا تتعلق بغير من
يقبل انقداح الداعي في نفسه - فعلا أو تركا - وليس القابل الا الشخص الخارجي،
كذلك الانشاء الكلي بداعي جعل الداعي، فان في مقام الانشاء، وإن لم يعتبر
فعلية الدعوة ليعتبر كون المكلف شخصا خارجيا، لكنه حيث إنه إنشاء لهذا
الداعي، فلا بد من أن يكون بحيث يمكن تأثيره في الدعوة عند بلوغه إلى مرتبة
الفعلية.
فإذا كان الكلي المتعلق به الحكم لو حظ بنحو فناء العنوان في معنونه، فلا
محالة يكون التكليف متعلقا بالشخص بتوسط العنوان، لا بالكلي بما هو، وأما إذا

(1) هو المحقق الآشتياني - قده - بحر الفوائد، ص 122 من الاستصحاب " الجزء الثالث ".
(2) تقدم في ص 131 ذيل قول الماتن - قده -: " وأما النحو الثالث فهو كالحجية والقضاوة ".
219

لو حظ الكلي من حيث نفسه، نظير ملاحظته في متعلق الملكية، فلا محالة يكون
تمام ما هو موضوع الحكم فعليا، مع أنه لا يعقل تأثيره الانشاء المزبور فيما أنشأ
لا جله.
واما الاستشهاد بترتب الثواب والعقاب على الاشخاص، لا الكلي بما هو، ولا
ثواب ولا عقاب الا بموافقة التكليف، ومخالفته، ولا موافقة ولا مخالفة من
الشخص الا إذا توجه التكليف إليه.
فيمكن دفعه: بأن الثواب والعقاب نظير انتفاع الفقير مثلا بالمال، فإنه شأن
الشخص، لا الكلي، مع أن الملك للكلي، فكما أن انطباق الكلي المالك - على
الشخص - يوجب انتفاع الشخص، كذلك يمكن أن يكون التكليف للكلي -
وانطباقه على الشخص - يوجب ترتب الثواب على موافقته والعقاب على
مخالفته، فالعمدة ما ذكره - قدس سره - أولا: فتدبر جيدا.
قوله: إلا أنه غير مجد في حق غيره من المعدومين... الخ.
لا يخفى عليك أن الفرض من الاشتراك:
تارة - هو الاشتراك في التعبد الاستصحابي - أعني حرمة نقض اليقين بالشك -
وهذا مسلك، الا أنه متقوم باليقين والشك، وليس لغير المدرك للشريعتين يقين
وشك.
وأخرى - هو الاشتراك في الحكم المستصحب بتقريب: أن ثبوت الحكم
واقعا في حق المدرك يلازم ثبوته في حق غيره - اجماعا أو ضرورة -، فإذا أيقن
غير المدرك بثبوت الحكم واقعا في حق المدرك، وشك في بقائه، فالتعبد ببقائه
في حقه يستلزم التعبد بثبوته في حق غير المدرك، لفرض الملازمة الواقعية بين
الحكمين، فأحد الحكمين بمنزلة الموضوع للآخر، فيكون التعبد به راجعا إلى
التعبد بالآخر.
ولكنه أيضا غير مفيد، لأن التعبد بأحد الحكمين إنما يكون تعبدا بالآخر، إذا
كان مترتبا عليه إما بنحو ترتب الحكم على موضوعه، أو ترتب المشروط على
220

شرطه، وليس حكم الموجودين - بالإضافة إلى حكم المعدومين - لا موضوعا ولا
معلقا عليه شرعا، وإن كان متلازمين لزوما أو اتفاقا. فتدبر.
" التنبيه السابع في الأصول المثبتة "
قوله: لا شبهة في أن قضية أخبار الباب... الخ.
توضيح المقام: أن الحجة إما معنى الالتزام بالمؤدي في الامارات وبالمتيقن
هنا، وإما بمعنى اعتبار الظن علما ووصولا تاما في الامارات، واعتبار بقاء اليقين
السابق في اللاحق، وإما بمعنى الحكم المماثل على طبق المؤدي أو على طبق
المتيقن، وإما بمعنى جعل الامارة منجزة للواقع، أو جعل اليقين السابق منجزا في
اللاحق.
فعلى الأولين ينبغي القول، بالأصل المثبت دون الأخيرين.
أما الأولان، فلأن الالتزام بشئ واقعا يستلزم الالتزام بلوازمه، فيكون التعبد
بالالتزام به مستلزما للتعبد بالالتزام بلوازمه - وإن لم يكن اللازم مؤدي الامارة، ولا
متيقنا في السابق - أو لأن اعتبار الظن وصولا تاما، واعتبار كون الشخص محرزا -
حقيقة - للواقع، يستلزم كونه بحسب الاعتبار محرزا للوازمه، كما أن اعتبار بقاء
اليقين، واعتبار كون الشخص متيقنا بالواقع، في اللاحق، يستلزم اعتبار كونه
متيقنا بلوازمه بقاء.
وأما الأخيران، فلأن جعل الحكم المماثل للمؤدي أو للمتيقن - بعنوان
التصديق العملي، أو بعنوان الابقاء العملي لليقين - يقتضي جعل الحكم المماثل
لما ينطبق عليه التصديق العملي، وليس هو الا ما تعلق به الخبر، دون غيره،
حيث لاخبر عنه، ليكون له تصديق عملي، وكذا يقتضي جعل الحكم المماثل
لما ينطبق عليه ابقاء اليقين عملا، وليس هو الا ما تعلق به اليقين سابقا، دون
لازمه الذي لم يتعلق به اليقين، ليكون له ابقاء اليقين عملا، بل ربما يكون عدمه
221

متيقنا سابقا.
وكذلك جعل الخبر منجزا أو جعل اليقين السابقين - المنجز
في اللاحق، فإنه لا مساس له بغيره حتى يكون منجزا له بقاء، كما كان منجزا له
حدوثا.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أن الصحيح من المعاني أحد الأخيرين، دون الأولين.
أما لزوم الالتزام، فلأن الالتزام الجدي بالواقع مع عدم إحرازه محال،
والمفروض عدم جعل الحكم المماثل، ليكون الالتزام به حقيقة، وبالواقع عنوانا
فلا مجال لدلالة الاقتضاء أيضا، فإنها خلف.
وأما الالتزام بالواقع بناء، فهو تشريع لا معنى للأمرية، مع أن المطلوب من
الأحكام العملية تطبيق العمل عليها لا عقد القلب عليها.
نعم لزوم الالتزام بالواقع كناية للانتقال إلى الأمر بالعمل - حيث أن من يلتزم
بشئ يعمل، ومن لم يلتزم به لا يعمل - صحيح الا أنه راجع إلى جعل الحكم
المماثل، كما لا يخفى.
وأما اعتبار الهوهوية بين الظن والعلم، أو بين اليقين حدوثا وبقاء، فهو غير
صحيح، كما قدمنا في مبحث الظن، وغير مقيد هنا، كما سيأتي إن شاء الله
تعالى (1).
وإذا تبين بطلان الحجية المعنيين الأولين، وانحصر في أحد المعنيين
الأخيرين يتبين عدم حجية المثبت من الاستصحاب، بل عدم الحجية في
الامارات أيضا، بناء على عدم مساس للامارة باللازم، والا كان اللازم كالملزوم،
من حيث تعلق الخبر بكل منهما، كما سيأتي إن شاء الله تعالى (2).
نعم هنا طريقان آخران لحجية المثبت:
أحدهما - إن النقض المنهي عنه أعم من النقض، بلا واسطة ومن النقض مع

(1) ج 2، ذيل قول الماتن - قده - ثم لا يخفى وضوح الفرق بين الاستصحاب ".
(2) يأتي في صفحة 226.
222

الواسطة، لاطلاق دليله.
فيجاب بأن المتيقن أو المنصرف إليه هو خصوص النقض، بلا واسطة،
وتنقيحه - بحيث لا يتوقف على منع الاطلاق - أن المراد من الواسطة ليس
الوسطة في الثبوت، لوضوح بطلانها بل اما الواسطة في العروض المصطلح
عليها في قبال الذاتي واما مجرد الاسناد المجازي الذي هو أوسع دائرة من
الواسطة في العروض.
أما الوساطة في العروض فمنتفية جدا، حيث لا اتحاد - بوجه من الوجوه - بين
رفع اليد عن الملزوم ورفع اليد عن اللازم، حيث أن العمل بأثر الحياة، وهو
الانفاق مثلا مع العمل بأثر لازمها، وهو خضاب اللحية مثلا عملان متباينان لا
اتحاد بينهما بوجه حتى يكون الوصف المنسوب إلى أحدهما بالذات منسوبا
إلى الآخر بالعرض.
وأما مجرد الاسناد المجازي فتقريبه: أن رفع اليد عن الملزوم تارة بالحقيقة
بعدم الانفاق المرتب شرعا على الحياة، وأخرى مجازا برفع اليد عن لازمه، فإنه
رفع اليد عنه حقيقة ورفع اليد عن الملزوم مجازا.
ورفع اليد عن الملزوم - سواء كان حقيقيا أو مجازيا - منهي عنه، فرفع اليد عن
اللازم بهذا الاعتبار موجب لرفع اليد عن الملزوم، منهي عنه بالتبع، والا فلا معنى
للنهي عن رفع اليد عن الملزوم حقيقة ومجازا.
ويندفع بأن التعبد بالملزوم إن كان بمجرد النهي عن رفع اليد عنه، لأمكن
دعوى الاطلاق من حيث الرفع الحقيقي والمجازي، وأما إن كان بعنوان نقض
اليقين عملا، فلا بد من صدق نقض اليقين حقيقة أو مجازا على مورد التعبد.
ومن الواضح: أن رفع اليد عن اللازم ليس مصداق نقض اليقين عملا حتى
يكون موجبا لكون رفع اليد عن الملزوم من اجل رفع اليد عن اللازم نقضا لليقين
بالملزوم مجازا، وإن عمل الملزوم بنفسه، ليكون نقض اليقين بالملزوم.
تارة حقيقيا، وهو ما إذا يتعبد به بنفسه.
223

وأخرى مجازيا وهو ما إذا لم يتعبد بلازمه، فان عدم التعبد بلازمه وان كان
عدم التعبد بملزومه مجازا، الا أنه ليس كل عدم التعبد بشئ مصداقا لنقض
اليقين حقيقة أو مجازا، حيث أنه ليس هذا العنوان اللازم المحسوب من الملزوم
حقيقة حتى يكون بسبب التبعية له مسندا إلى الملزوم مجازا، فتدبر فإنه حقيق
به.
ثانيهما - دعوى أن أثر الأثر أثر، فالتعبد بشئ تعبد بجميع آثاره المترتبة
طبعا أو وجودا.
وفيه: أن مسلم إذا كان كل أثر موضوعا شرعا لأثر، حتى يكون التعبد بالأثر
السابق، بمنزلة التعبد بموضوع ذي أثر، مثلا إذا رتب على الحياة وجود الانفاق،
وعلى وجوب الانفاق وجوب شئ آخر، فالتعبد بالحياة تعبد بوجوب الانفاق،
والتعبد بوجوب الانفاق تعبد بوجوب ذلك الشئ الآخر، فهناك تعبدان طوليان.
وأما لو كان للحياة اثر شرعي، وهو وجوب الانفاق، واثر عادي وهو نبات
اللحية، فهما اثر ان في عرض واحد، أحدهما شرعي والآخر عادي، فالتعبد
بالحياة تعبد بأثرها الشرعي لا بأثرها العادي، حتى يكون التعبد بأثره العادي
تعبدا باثر ذلك الأثر العادي شرعا فما هو اثر الأثر شرعا ليس موضوعه بنفسه
مورد التعبد، ولا بلحاظ كونه اثر الحياة وما لم يتعبد بموضوع الأثر - إما بنفسه أو
بالواسطة - لا يعقل التعبد بأثر ذلك الأثر العادي.
ثم: إنه تبين مما ذكرنا في تقريب الطريقين وجوابه أن وجه الشمول والجواب
عنه مختلف.
فمبنى الطريق الأول على استلزام رفع اليد عن اللازم، لرفع اليد عن الملزوم
مجازا وبالعناية - فلذا صحت دعوى أن المتيقن، أو المنصرف من التعبد بالشئ
وعدم رفع اليد عنه حقيقة، لا ولو كان بالعناية.
الا أن الأنسب ما ذكرنا - من أن التعبد بالملزوم، حيث أنه بلسان النهي عن
نقض اليقين عملا فلا يعم في نفسه الا لرفع اليد عن الملزوم، إذ ليس رفع اليد عن
224

اللازم مصداق نقض اليقين، ولا موجبا لاسناد نقض اليقين إلى الملزوم مجازا،
فلا مجان للاطلاق، حتى يدفع بالقدر المتيقن أو بالانصراف.
كما أن مبنى الطريق الثاني ليس على صدق نقض اليقين على رفع اليد عن
اللازم، ولا على استلزامه لصدق النقض في الملزوم، بل على أن التعبد بالأثر
تعبد بأثر ذلك الأثر، وهلم جرا، فلو كان للأثر اثر بقاء كان التعبد بمؤثره - الذي هو
مورد اليقين - تعبدا بأثره الذي ليس مورد اليقين.
وحينئذ فالجواب ما عرفت من عدم انطباق هذه الكلية، وهي: أن أثر الأثر
أثر فان موردها إذا كان نفس المؤثر مورد التعبد، حتى يكون بالإضافة إلى اثر الأثر
بمنزلة الموضوع الذي يكون التعبد به تعبدا بأثره، فتدبر جيدا.
قوله: كما لا يبعد ترتيب ما كان... الخ.
قد ألحق المصنف - قدس سره - بصورة خفاء الواسطة صورتين آخريين:
إحداهما - ما إذا كان مورد التعبد الاستصحابي هي العلة التامة، أو الجزء
الأخير منها، فإنه كما لا تفكيك بين العلة التامة ومعلولها واقعا، كذلك لا تفكيك
بينهما تنزيلا في نظر العرف، لشدة الاستلزام في نظرهم، فيكون التعبد
الاستصحابي مستتبعا لتعبد آخر.
ثانيهما - ما إذا كان مورد التعبد الاستصحابي من الأمور المتضايفة، فإنه، وان
لم يكن عليه بين المتضايفين من حيث التضايف، لكنهما في نظر العرف، كواحد
ذي وجهين، فأثر أحد الوجهين في نظرهم اثر الوجه الآخر، من حيث أن مورد
الأثر - عندهم - ذلك الواحد الذي له وجهان رتب على أحد وجهيه أثر شرعي،
فما هو موضوع الأثر عرفا أوسع مما هو موضوعه دليلا، فالتعبد بأحد الوجهين
تعبد بالآخر للاتحاد، لا مستلزم لتعبد آخر للاستلزام، كما في الصورة الأولى.
والتحقيق: عدم خلوص كلتا الصورتين عن شوب الاشكال.
أما الأول: فلان مورد الكلام ليس ترتب المعلول على علته التامة، فان ترتبه
عليها عقلي، ولو فرض كون ترتبه عليها شرعيا، فلا حاجة إلى فرض العلية التامة،
225

بل يصح التعبد بالمشروط بالتعبد بشرطه، فيكون من قبيل ترتب الحكم على
موضوعه.
بل مورد الكلام ما إذا كان لكل من العلة التامة ومعلولها اثر شرعي، حتى
يكون التعبد بالأولى مستلزما للتعبد بالثاني، وحينئذ كيف يعقل أن يكون العلة
التامة مورد اليقين والشك ولا يكون معلولها كذلك؟ ولا يعقل أن يكون الشئ
علة تامة لشئ بقاء لا حدوثا، فإنه لا محالة لمرور الزمان أو لما يقارنه دخل في
تمامية العلة، فلا يقين في الزمان الأول بوجود العلة التامة، وإذا فرض أن اليقين
بالعلة التامة لا ينفك عن اليقين بمعلولها فالمعلول هو بنفسه مورد التعبد
الاستصحابي، لا أنه لازم التعبد الاستصحابي.
وأما الثانية، فلان المتضايفين متكافئان - قوة وفعلا خارجا وعلما - فمع اليقين
بالأبوة الفعلية سابقا، يكون على يقين من البنوة الفعلية سابقا، فنفس الوجه الآخر
مورد التعبد.
وأما ذات المتضايفين - أعني ذات الأب والابن - فيمكن التفكيك بينهما في
اليقين الا أنهما غير متضايقين، فما يكون بينهما التضايف لا تفكيك بينهما في
اليقين والشك، وما يمكن التفكيك بينهما في اليقين والشك لا تضايف بينهما.
" الفرق بين مثبتات الطرق والأصول "
قوله: ثم لا يخفى وضوح الفرق بين الاستصحاب... الخ.
في الفرق بين الطرق والأصول في حجية المثبت في الأولى وعدمها في
الثانية وجوه:
أحدهما - أن مرجع التعبد في الطرق إلى اعتبار الهوهوية بين الطريق والعلم،
واعتبار الكاشف الناقص كاشفا تاما، واعتبار صفة لاحراز التام للخبر مثلا،
ومقتضى إحراز الواقع إحراز لوازمه وملازماته. ومرجع التعبد في الاستصحاب
226

إلى الجري العملي على طبق اليقين أو المتيقن.
وبعبارة أخرى تارة - يكون الخبر مثلا احراز للواقع اعتبارا، وأخرى - يتعبد
بترتيب اثر الاحراز، وهو الجري العملي على طبقه.
وفيه أولا - إنه قد مر في أوائل مباحث الظن ما في دعوى أن المجعول - في
الامارات - صفة الاحراز اعتبارا، وأن المجعول - في مثل الاستصحاب - اعتبار
الجري العملي فراجع (1).
وقد بينا هناك أن اعتبار الاحراز من باب تحقيق موضوع الآثار الشرعية، أو
العقلية نظير اعتبار الملكية، فلا يجدي الا لتحقيق تلك الآثار، ومن الواضح أن
اعتبار الخبر عن الحياة إحراز ليس الا تحقيق الموضوع لآثار إحراز الحياة، ونبات
اللحية واثره ليسا من الآثار الشرعية أو العقلية المترتبة على الحياة وإحرازها.
وأما التلازم بين إحراز الحياة واقعا وإحراز النبات واقعا للتلازم بين الحياة
والنبات، فلا يجدي في الاحراز الاعتباري، فإنه تابع لمقدار الاعتبار، واستلزام
اعتبار إحراز الحياة لاعتبار احراز النبات، يتوقف على كون الخبر عن الحياة خبرا
عن النبات، وهذا مما لا يلتزم به هذا القائل (2)، والا لما كان وجه للعدول، كما لا
يخفى.
مع أن إحراز ذات الملزوم وقاعا واقعا لا يلازم إحراز لازمه، حتى يكون اعتبار
الاحراز للملزوم مستلزما لاعتبار إحراز لازمه، بل لمكان العلم بالملازمة يكون
التلازم بين الاحرازين، ولا ملازمة جعلية بين الاحرازين، حتى يستلزم إحراز
الملزوم اعتبارا إحراز لازمه اعتبارا، فتدبر جيدا.
وثانيا - أن اعتبار الهوهوية في الطريق، كما يستكشف من قوله عليه السلام
" صدقه " (3) بتقريب أنه امر باعتقاد صدق المخبر، فيعلم منه أن ما يحصل بالخبر

(1) ج 2.
(2) هو المحقق النائيني - قده - راجع فوائد الأصول: الجزء: الرابع: 179.
(3) المتحصل من أدلة اعتبار الامارة.
227

بحسب اعتبار الشارع علم بالواقع واعتقاد بصدق الخبر، قلنا استكشاف مثله من
قوله عليه السلام (لا تنقض اليقين) فإنه يستكشف منه أن اليقين السابق في اعتبار
الشارع محقق في اللاحق، وغير منتقض بالشك اعتبارا - بل هو أولى بذلك،
لظهور نقض اليقين في نقض نفسه، وإرجاع التصديق - الظاهر في اظهار صدق
العادل بالعمل - إلى اعتقاد صدقه، وهو التصديق الجناني.
وثالثا - أن الأمر بالتصديق الجناني أو التصديق العملي، لا يكون كاشفا عن
اعتبار كونه عالما بصدقه، حتى يكون الأمر بالتصديق إظهار لاعتبار الهوهوية
بين الخبر والعلم، إذ ليس كشف شئ عن شئ واظهار شئ آخر جزافا، بل
الملازمة بينهما فيظهر أحد المتلازمين بالآخر.
ومن البين أن العمل لازم اعتقاد الصادق، فله الأمر باعتقاد الصدق للانتقال إلى
الامر بالعمل، وليس اعتبار الاعتقاد لازم بنفس الاعتقاد، ولا لازم نفس الأمر
بالاعتقاد، أما الأول فواضح. وأما الثاني، فان مقتضى الأمر بتحصيل شئ عدم
حصوله، لا حصوله حقيقة أو اعتبارا وكذا الأمر في الأمر باظهار صدقه عملا.
ومنه يتضح حال النهي عن نقض اليقين حقيقة أو عملا، ولا معنى لكونه
ارشادا إلى اعتبار كون الشخص عالما ومعتقدا للصدق، إذ حقيقة الارشاد هو
الانشاء بداعي إظهار اعتقاد الصدق المتعلق به البعث الانشائي حتى يكون
للارشاد إليه مجال.
فاتضح أن اعتبار الهوهوية غير صحيح بحسب مقامي الثبوت والاثبات، ومع
فرض التمامية يكون حال الاستصحاب حال الامارات.
ثانيها - ما عن شيخنا العلامة (رفع الله مقامه) من أن الخبر، كما يحكي عن
الشئ كذلك عن لازمه وملازماته وبعبارة أخرى عن جميع مداليله المطابقية
والتضمنية والالتزامية، ففي الحقيقة هناك افراد من الخبر، فيعم دليل الحجية لكل
خبر، وليس للاستصحاب هذا الشأن، إذ ليس هناك عنوان الحكاية والدلالة لتعم
228

المداليل برمتها.
والجواب: أن الدلالة الكلامية الوضعية - حيث أنها - على المعروف - تصورية،
فلا محالة يدل الكلام بهذا الدلالة على جميع مداليلها.
الا أن الحكاية قصدية، ودلالتها تصديقية متقومة بالشعور والالتفات والقصد،
والعمد والمدلول الالتزامي - إن كان ملتفتا إليه ولو نوعا - صح أن يحكم على
الحاكي المخبر بالحكاية عنه.
وأما مطلق اللوازم والملازمات فلا، فمثل هذه اللوازم غير الملتفت إليها لوازم
المخبر به لا لوازم مخبر بها، ولو اجمالا وارتكازا، فلا معنى لأن يؤاخذ المخبر بها.
ثالثها - أن الامارة خبرا كانت أو غيره بناء على الطريقية - إنما اعتبرت من
حيث إفادتها الظن نوعا، والدليل على الملزوم دليل على لازمه - علما أو ظنا،
شخصا أو نوعا - فالحكاية، وإن كانت قصدية، لكن الخبر لم يعتبر من حيث كونه
حكاية قصدية، ليقتصر فيه على ما قصد وعمد إلى الاخبار عنه، بل من حيث
إفادته الظن نوعا، وحصول الظن نوعا منه - بالمخبر به وبلوازمه - قهري لا
قصدي.
وفيه أن الحجة - بدليل حجية الخبر - هو الظن الخبري، لا الظن الملازم لظن
خبري وقد مر مرارا: أن الدليل أحد المتلازمين ليس دليلا على الآخر، بل الظن
باللازم - عند قيام الدليل على الملزوم - لمكان التلازم بين شيئين فيستدعي
كونهما متلازمين - قطعا وظنا واحتمالا - لا أن الخبر يفيد الظن باللازم كما يفيد
الظن بالملزوم.
ومنه تعرف أن حجية الاستصحاب - ببناء العقلاء أو بحكم العقل - لا يقتضي
حجية المثبت، لأن بناء العقلاء على الاخذ بالملزوم - لكونه السابق أو لوثاقة
اليقين المتعلق به، أو لكونه مظنونا في اللاحق للتلازم بين الحدوث والبقاء غالبا -
لا يسري إلى لازمه الذي لا ثبوت له سابقا، ولا كان موردا لليقين ولا عنوانه بقاء
229

الحادث فلا تغفل.
والتحقيق أن أوسط الوجوه أوسطها.
ويندفع الاشكال عنه بتقريب: أن الامارة: تارة تقوم على الموضوعات،
كالبينة على شئ فاللازم حينئذ كون ما يخبر به الشاهدان - من عمد وقصد -
ملتفتا إليه نوعا. وأخرى - كالخبر عن الإمام عليه السلام فان شأن المخبر - بما هو
مخبر - حكاية الكلام الصادر عن الإمام عليه السلام بماله من المعنى الملتفت
إليه - بجميع خصوصياته - للإمام عليه السلام - لا للمخبر، إذ رب حامل فقه وليس
بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، فمجرد عدم التفات المخبر - بلوازم
الكلام المخبر عنه - لا يوجب عدم حجية المداليل الالتزامية للكلام، الصادر عن
الإمام عليه السلام، فان كلها ملتفت إليها للمتكلم بها.
" التنبيه الثامن في اللازم العادي أو العقلي
المتحد مع المستصحب وجودا "
قوله: بين أن يكون مترتبا عليه بلا وساطة شئ أو بواسطة عنوان
كلي... الخ.
مورد التوهم استصحاب الموضوعات الخارجية، وتوهم الوساطة من حيث
كلية موضوع الحكم وجزئية المستصحب، وحيث أن الأثر الكلي لا للجزئي
فاستصحاب الجزئي، وترتيب اثر الكلي مثبت لوساطة العنوان الكلي، الذي ليس
موردا للاستصحاب، لترتيب أثره على الجزئي الذي هو مورد الاستصحاب.
230

وأجاب - قدس سره - في تعليقته المباركة (1) على الرسائل: بأن موضوعات
الأحكام حيث أخذت لا بشرط - وما لا بشرط يجتمع مع ألف شرط - فموضوع
الحكم عن ما هو المستصحب وجودا.
وقد مر - في القسم الأول من استصحاب الكلي - بعض الكلام فراجع (2).
والتحقيق: أن وجود الفرد، وان كان بما هو فرد متيقنا ومشكوكا، لكنه بما هو
وجود الحصة المتقررة في مرتبة ذات الفرد - أيضا - متيقن ومشكوك، فهو
المستصحب والمتعبد به، لا بما هو فرد فان اتحاده مع الكلي - وجودا - لا
يجدي شيئا كما قد مناه (3).
ثم إن الاشكال - من حيث الكلية والجزئية - هو المراد هنا، وأما الاشكال من
حيث الوجود العنواني، والوجود الخارجي، نظرا إلى ما هو التحقيق من تقوم
الحكم - كليا كان أو جزئيا - بالوجود العنواني، دون الوجود الخارجي - مع أن
المستصحب هو الموجود الخارجي - ليس إشكالا من حيث كون الأصل مثبتا،
ولا اتحاد في الوجود دافعا له، إذ الوجود العنواني - بما هو مقوم موضوع الحكم -
يستحيل خروجه عن أفق العنوانية واتحاده مع الخارجي حق يتوهم السراية
ليتوهم الوساطة.
بل معنى التعبد بالخارجي - كالقطع به - التعبد بمطابقته لما هو موضوع
الحكم ومرجعه إلى جعل الحكم المماثل للعنوان الملحوظ فانيا في المتيقن
والمشكوك، كنفس الحكم الواقعي، فتدبر.
ثم إن موضوع الحكم بالإضافة إلى المستصحب.

(1) ص 216: ذيل قول الشيخ - قده - " نعم هناء شئ أو هو أن بعض الموضوعات الخارجية
المتوسطة ".
(2). تقدم في صفحة 160، ذيل قول الماتن - قده - " كان استصحابه كاستصحابه بلا كلام ".
(3) تقدم في صفحة 160، ذيل قول الماتن - قده - " كان استصحابه كاستصحابه بلا كلام ".
231

تارة - يكون طبيعيا بالنسبة إلى فرده، كالانسان بالإضافة إلى زيد، وعمرو،
وكالماء والتراب بالإضافة إلى مصاديقهما.
وأخرى - يكون عنوانا بالإضافة إلى معنونه، كالعالم بالنسبة إلى العالم بالحمل
الشائع.
وربما يعبر عن الأول بالعنوان المنتزع عن مرتبة الذات، نظرا إلى تقرر حصة
من الطبيعي في مرتبة ذات فرده، فالعنوان المقابل للطبيعي - حقيقة - هو العنوان
الذي يكون مبدؤه خارجا عن مرتبة الذات، وليس ذاتيا بمعنى ما يأتلف منه
الذات، بل يكون قائما بها: إما بقيام انتزاعي كالفوقية بالنسبة إلى السقف، أو بقيام
انضمامي كالبياض بالإضافة إلى الجسم.
وما يكون قائما - بقيام انتزاعي - ربما يكون ذاتيا في كتاب البرهان، أي يكفي
وضع الذات في انتزاعه - كالامكان بالإضافة إلى الانسان مثلا - ولا يكون الا في
الحيثيات اللازمة للذات، كالامكان لذات الممكن، وكالزوجية للأربعة، وربما
يكون عرضيا بقول مطلق، كالأبوة لزيد، والفوقية للجسم.
وأما ما يكون له قيام انضمامي، فهو عرضي بقول مطلق دائما.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أن العنوان الملحق بالطبيعي.
إن كان هو العنوان الوصفي الاشتقاقي - بلحاظ قيام بمدئه بالذات - فلا فرق
بين العنوان الذي كان مبدؤه قائما بقيام انتزاعي أو بقيام انضمامي، إذ كما أن
الفوق عنوان متحد الوجود مع السقف، كذلك عنوان الأبيض متحد مع الجسم،
فيصح استصحاب العنوان الموجود في الخارج بوجود معنونه، وترتيب الأثر
المترتب على العنوان الكلي، فلا مقابلة حينئذ بين الخارج والمحمول، المحمول
بالضميمية من هذه الحيثية.
وإن كان المراد نفس المبدأ القائم بالذات - تارة - بقيام انتزاعي وأخرى - بقيام
انضمامي، فلتوهم الفرق مجال، نظرا إلى أن وجود الأمر الانتزاعي بوجود
232

منشئه، بخلاف الضميمة المتأصلة في الوجود، فإنها مباينة في الوجود مع ما
تقوم به، فاستصحاب ذات منشأ الانتزاع، وترتيب اثر الموجود بوجوده، كترتيب
اثر الطبيعي على فرده المستصحب، بخلاف استصحاب ذات الجسم، وترتيب
اثر البياض، فإنهما متباينان في الوجود.
وصدر العبارة في المتن يقتضي إرادة الشق الأول، وذيلها ظاهر في إرادة الشق
الثاني.
والتحقيق - بناء على إرادة الشق الثاني - أن الأمر الانتزاعي.
إن كان من الحيثيات اللازمة للذات - وهو الذاتي في كتاب البرهان - فهو متيقن
ومشكوك، كمنشأ انتزاعه فهو المستصحب، وهو الموضوع للأثر، لا أنهما
متحدان في الوجود.
وإن كان عرضيا بقول مطلق، فكما أن استصحاب ذات الجسم وترتيب اثر
البياض مثبت، كذلك استصحاب ذات زيد وترتيب أثر الأبوة عليه مثبت، ومجرد
اتحادهما - في الوجود بقاء - لا يجدي شيئا.
فتلخص مما ذكرنا أن نسبة المستصحب إلى موضوع الأثر إن كانت نسبة الفرد
إلى الطبيعي صح الاستصحاب، وكذا إن كانت نسبته إليه نسبة المعنون إلى
عنوانه، سواء كان مبدأ العنوان قائما بذات المعنون بقيام انتزاعي أو بقيام
انضمامي.
وأما إن كانت نسبة المنشأ إلى الأمر الانتزاعي المصطلح، فلا يصح
الاستصحاب، إذ ليس ذات المنشأ موضوعا للأثر.
نعم إن كان الأمر الانتزاعي ذاتيا للمنشأ - بالمعنى المصطلح عليه في كتاب
البرهان - صح استصحاب الأمر الانتزاعي الموجود بوجود منشئه، لا نفس المنشأ
وترتيب أثر الأمر الانتزاعي عليه.
وتوهم - أن المنشأ بمنزلة السبب، فلا مجال للأصل في المسبب، مع إمكان
جريانه في السبب - مدفوع: بأنه لا ترتب للأمر الانتزاعي على منشئه شرعا - بل
233

عقلا - حتى لأصل في السبب للتعبد بالمسبب لئلا يبقى مجال لاجرائه
في المسبب.
قوله: بين أن يكون مجعولا شرعا بنفسه... الخ.
قد تقدم في مبحث الأحكام الوضعية (1): إن الشرطية وشبهها من اللوازم
التكوينية للمجعول التشريعي، وإنها مجعولة بالعرض لا بالتبع، وإن المجعولية
بالعرض غير الانتزاعية المقابلة للمجعولي، كما تقدم ما يتعلق بشرط التكليف
والمكلف به، من حيث معقولية الجعل بالعرض فيهما معا.
إنما الكلام هنا في أن مجرد عدم مجعولية الشرطية يمنع عن الاستصحاب
الذي مقتضاه التعبد بأمر مجعول، وليس كل ما لا يقبل التعبد موجبا لكون الأصل
بالإضافة إليه داخلا في الأصول المثبتة، فان الأصل المثبت - الذي هو محل
الكلام في قبال الامارة التي يكون المثبت منها حجية - ما يتوسط الأمر الغير
الشرعي لاثبات أمر شرعي، لا ما لا ينتهي إلى أمر شرعي أصلا، فلا مجال لتوهم
المثبت بناء على عدم المجعولية فقط.
فان قلت: إدراج الاستصحاب في المثبت لعله بملاحظة إثبات الأمر
بالمقيد، باستصحاب الشرطية أو باستصحاب ذات الشرط، وترتيب الشرطية
تطبيقا ثم إثبات الأمر بالمقيد به تطبيقا فقد توسط الأمر الغير المجعول لاثبات
المجعول، فان إثبات أحد المتلازمين - بأجراء الأصل في الآخر - داخل في
الأصل المثبت والأمر الانتزاعي لازم الأمر الشرعي وهو منشؤه.
قلت: أولا لا إثنينية بين الأمر الانتزاعي ومنشئه عنده - - وجودا حتى يتوهم
الوساطة الموجبة لكون الأصل مثبتا.
وثانيا - إذا كانت الشرطية متيقنة كان منشؤها، وهو الأمر بالمقيد كذلك، فلا
حاجة إلى إجراء الأصل في الأمر الانتزاعي، واثبات منشئه المجعول ليتوهم
الاثبات بالأصل.

(1) تقدم في ص 120.
234

كما أن استصحاب ذات الشرطية يجدي للتعبد بالأمر بالمقيد به تطبيقا، من
دون حاجة إلى ترتيب الشرطية عليه أولا، تطبيقا، ثم تطبيق منشائها المجعول.
نعم في ظرف عدم الشرطية يمكن توهم المثبت، بتقريب: أن الأمر بالمقيد -
كالأمر بالمطلق - مسبوق بالعدم الأزلي، ومع انقلاب العدم إلى النقيض في
الجملة، لا مجال لاستصحابها لتعارضهما. بخلاف استصحاب عدم الشرطية
بعدم منشئها، فإنه لا مانع من استصحابه، فاثبات الأمر بالمجرد عن القيد بقاء
باستصحاب عدم الشرطية داخل في الأصل المثبت، الا أن كلامه في استصحاب
ذات الشرط وجودا وعدما، لا في استصحاب الشرطية ليتصور المثبت في ظرف
عدمها.
قولها: بين أن يكون ثبوت الأثر ووجوده أو نفيه... الخ.
تنقيح المقام بتوضيح الكلام في موارد:
أحدها - دخول استصحاب عدم التكليف - بناء على عدم المجعولية - في
الأصل المثبت.
ثانيها - إن عدم التكليف مجعول كوجوده.
ثالثها - إن عدم استحقاق العقاب من لوازم عدم التكليف - مطلقا - واقعيا كان
أو ظاهريا.
أما الأول - فقد مر أن مجرد عدم مجعولية المستصحب أو عدم مجعولية أثره
لا يوجب إدراج الأصل في المثبت، إذا لم ينته إلى اثر شرعي بواسطة أمر غير
مجعول، فمجرد استصحاب عدم التكليف لا يكون مثبتا، لا من حيث عدم
مجعولية عدم التكليف، ولا من حيث عدم مجعولية عدم الاستحقاق، الذي هو
لازم عقلي لعدم التكليف.
وما افاده شيخنا العلامة الأنصاري - قدس سره - (1) من عدم ترتب عدم
الاستحقاق على استصحاب عدم التكليف - مبنى على عدم مجعولية عدم لا من

(1) الرسائل: في استصحاب البراءة قبل التكليف ص 204.
235

حيث أن ترتبه عليه مثبت، أو من حيث أن مثل هذا الكلام لا يترتب على
المجعول الظاهري كيف؟ وكلامه - قدس سره - صريح في ترتبه على الإباحة
الشرعية إذا ثبتت باستصحاب عدم التكليف، وإنما أشكل على ترتبه من حيث
إن إثبات أحد الضدين - بعدم الآخر - مثبت.
ومنه يعلم أن استصحاب عدم المنع إنما يكون مثبتا إذا أريد إثبات الإباحة
الشرعية به، لا من حيث عدم مجعولية عدم المنع، ولا من حيث عدم مجعولية
عدم الاستحقاق.
نعم يمكن إدراجه في الأصل المثبت بوجه آخر - في خصوص المقام - وذلك
لأن الثابت - حال الصغر - عدم التكليف الفعلي، لا عدم التكليف الكلي فان
عدمه مشكوك لا متيقن، وإثبات عدمه الكلي وعدم جعل الحرمة، بعدم
التكليف الفعلي إلى ما بعد البلوغ بالملازمة العقلية، إذ لو كان مجعولا لصار فعليا
بالبلوغ، فعدم التكليف الفعلي يلازم بقاء لعدم التكليف الكلي.
وأما الخدشة في استصحاب العدم بأن الثابت قبل البلوغ هو اللا حرجية
العقلية، دون عدم التكليف شرعا، وهو لا يثبت عدم التكليف شرعا بعد
البلوغ (1).
فمدفوعة: بأنه لا موقع للا حرجية الا قبل الشرع، أو قبل إكمال الشريعة،
والعجب حمل كلام الشيخ - قدس سره - عليه فراجع.
وأما الثاني - فهو أن ظاهر الشيخ الأجل قدس سره في رسالة البراءة، وصريحه
في رسالة قاعدة نفي الضرر (2): أن عدم التكليف غير مجعول، نظرا إلى أن العدم
لا يحتاج إلى حكم، وأن حكمه بعدم الوجوب أو عدم الحرمة ليس إنشاء منه،
بل اخبار حقيقة.
بل يمكن أن يقال إن المجعول لا يكون الا ما يصدر بالاختيار، ولا مساس

(1) راجع فوائد الأصول، مبحث الاشتغال ج 4 ص 62 - وأجود التقريرات ج 2 ص 190.
(2) الملحقة بكتاب المكاسب: التنبيه الثاني ص 373، وكذلك في الرسائل في انتهاء البراءة.
236

للقدرة ولا للإرادة بطرق العدم، لما بيناه في محله، من أن القدرة جسمانية
ونفسانية. فالأولى هي القوة المثبتة في العضلات المترتبة عليها الحركات
الجسدانية والثانية هي قوة النفس على الحركات الفكرية. والعدم لا ترتب له على
شئ من القوتين، والإرادة هي المخرجة لما هو بالقوة - بالإضافة إلى القوتين -
إلى مرحة الفعلية، والعدم بعدم الإرادة.
والتحقيق: أن ابقاء عدم الوجوب، أو عدم الحرمة - مثلا - بأحد وجهين:
الأول إنشاء عدمهما اظهارا لبقاء عدمهما على حاله، والانشاء خفيف
المؤونة، وقصد ثبوت مفهوم عدم الوجوب بقوله (لا يجب) إنشاء امر معقول،
والانشاء بالإضافة إلى ما يدعو إليه ويترتب عليه: تارة - بنحو التحقيق والايجاد،
كالانشاء بداعي جعل الداعي، فإنه محقق الدعوة بالامكان وأخرى - بنحو
الكشف والاظهار، كالانشاء بداعي الارشاد فإنه ليس جعلا للرشد، بل لإظهار
رشد العبد وخيره في ما تعلق به الانشاء.
فكذا في طرف عدم التكليف، فإنه حيث لا يعقل تحقيق عدم الدعوة
بالانشاء، فهو لاظهار بقاء عدم جعل الداعي على حاله، ولابد من حمل (لا
تنقض) - الشامل لليقين بالوجوب، وبعدمه - على الانشاء بالتقريب المزبور.
والثاني - إبقاء العدم على حاله، بعدم جعل الداعي عن اختيار.
فان عدم الفعل: تارة - في حال الغفلة أو عدم القدرة، فالفعل في مثل هذه
الحالة غير اختياري، والترك على طبع الفعل. وأخرى - في حال الالتفات والقدرة
على الفعل، فابقاء العدم حينئذ - بعدم إعمال القدرة في ايجاده - عن شعور
والتفات. والفعل - حينئذ - حيث أنه مقدور وقابل لتأثير القدرة فيه، فلا محاله
يكون الترك على طبع الفعل، وليس للعدم والترك، حظ من الاستناد إلى الشخص
أزيد مما ذكر.
وعليه فالشارع عند جعل الطريقية، وشرع الشريعة مع القدرة على جعل
الوجوب إذ أبقى عدم الوجوب على حاله بعدم قلبه إلى نقيضه، كان هذا العدم
237

مستندا إليه، ولا حاجة إلى صدق الحكم، ولا إلى صدق الجعل المساوق
للتكوين والايجاد، بل إلى مجرد الاستناد إلى الشارع، ولا اختصاص بعنوان
الابقاء بطرق الوجود، بل استمرار كل مفروض على حاله في حالة أخرى بقاؤه.
وأما الثالث فمختصر القول فيه: أن استحقاق العقاب عقلا مترتب على مخالفة
التكليف الواصل - اي ما قامت عليه الحجة - وعدم الوصل هنا قطعي، لا حاجة
إلى تحقيق موضوعه بالتعبد، بل حقيقة التكليف الجدي منوطة عندنا بالوصول،
فعدم الفعلية - هنا - قطعي، من دون حاجة إلى التعبد بعدم التكليف ظاهرا،
لتحقيق عدم الفعلية، فان عدم الفعلية - واقعا - متحقق، فلا حاجة إلى التعبد
المحقق له.
وقاعدة قبح العقاب بلا بيان مختصة بحيثية عدم الوصول، وعدم قيام الحجة
والبيان، وأما عدم التكليف بنفسه أو عدم المخالفة - مثلا - فلا ربط لهما بقاعدة
قبح العقاب بلا بيان - وعدم الاستحقاق - من جهتهما - لا دخل له بعدم
الاستحقاق من جهة عدم البيان، وكما أنه مع وصول التكليف الواقعي - حقيقة أو
عنوانا - لا مجال للقاعدة كذلك مع وصول عدمه - حقيقة أو عنوانا - لا مجال
للقاعدة.
فعدم الاستحقاق - المرتب على استصحاب عدم التكليف - لا دخل له بعدم
الاستحقاق من حيث عدم الوصول، حتى يقال: إن عدمه وجداني، بل هو من
حيث عدم التكليف بنفسه، ومع ايصال عدمه، عنوانا تعبدا - لا تكليف يشك في
ثبوته، ليكون لوصوله وعدم وصوله مجال، فليس مفاد القاعدة مرتبا على
استصحاب عدم التكليف، ليقال بأن موضوعه ثابت لا حاجة إلى التعبد به.
وأما حكم العقل بعدم فعلية التكليف، بعدم وصوله، فهو حكم العقل النظري
من باب تقوم الدعوة والباعثية عقلا بالوصول، وموضوعه التكليف، ومع ايصال
عدمه - وفعلية عدمه - لا فعلية لوجوده، لا لتقوم الدعوة حينئذ بالوصول، بل
لاستحالته من باب عدم إمكان داعيين فعليين فعلا وتركا، وحكم العقل حينئذ
238

بعدم الفعلية - بعدم الوصول - لا يكون الا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع - فتدبر
جيدا.
" التنبيه التاسع في اللازم المطلق "
قوله: لا يذهب عليك أن عدم ترتب الأثر... الخ.
لا يخفى عليك أن توهم كون الأصل مثبتا - بالإضافة إلى الأثر العقلي،
المترتب على الأثر الشرعي - لا مجال له، إذ لا وساطة للأثر العقلي لأثر شرعي.
نعم إذا ترتب اثر شرعي على أثر عقلي كان للتوهم مجال.
ودفعه بما أفيد: من أن الاستصحاب محقق لموضوعه، لا موجب للتعبد به
حتى يكون مثبتا، فلا استثناء من المثبت أصلا.
" التنبيه العاشر في لزوم كون المستصحب حكما شرعيا "
قوله: لابد أن يكون كذلك بقاء... الخ.
لا يخفى عليك أن التعبد حيث أنه في ظرف الشك، فلا بد أن يكون الثابت في
ظرف الشك - حكما أو موضوعا - ذا حكم، الا انه حيث كان التعبد بعنوان الابقاء،
فلذا يتوهم لزوم كونه كذلك حدوثا أيضا.
وتوضيحه: أن حقيقة الاستصحاب إن كان ابقاء الشارع للحكم أي لطبيعي
الحكم، لا للحكم الواقعي، بداهة أن المجعول بقوله: لا تنقض " شخص آخر من
الحكم، لا نفس الحكم الواقعي بقاء، فلابد حينئذ من ثبوت الحكم في زمان
اليقين، حتى يكون جعل مماثله في زمان الشك إبقاء للحكم، الا أن الظاهر من
الاخبار النهي عن النقض، والأمر بالابقاء، لا إبقاء الشارع للحكم.
وكذا لو كان المراد من الابقاء الواجب إبقاء مقتضى اليقين، أو ابقاء مقتضى
239

المتيقن على اختلاف الوجهين المتقدمين في محله، فلابد من أن يكون لليقين
مقتضى عقلي، أو للمتيقن مقتضي جعلي تشريعي حيث يتصور إبقاؤه الواجب،
لكن الظاهر من الأخبار هو النقض المضاف إلى نفس اليقين أو المتيقن عملا
بحيث يكون العمل عنوان النقض والابقاء، لا متعلق النقض والابقاء، فما هو
اللازم للابقاء - وهو اليقين أو المتيقن - لا شبهة في ثبوته وما هو عنوان الابقاء وهو
العمل لا ريب في أنه عنوان له حال البقاء وهو حال الشك، فلا يترتب حكم
عملي الا في ظرف البقاء، لا في ظرف الحدوث. فافهم جيدا.
قوله: فإنه وإن لم يكن بحكم مجعول في الأول... الخ.
عدم الحكم المجعول في الأزل، في قبال قدمه، لبرهان حدوث العالم بأسره.
وأما عدمه - بحيث لا ينافي حدوث وجوده - فهو ليس لاستحالة التكليف الجدي
بملاحظة عدم المكلف، فإنه فيما لا يزال أيضا كذلك، مع أنه لا شبهة في جعل
الأحكام كلية بعد شرع الشريعة، ولا يعقل جعل التكليف الحقيقي في الأزل،
وتأخر المجعول في مالا يزال، عند وجود المكلف، واستجماعه للشرائط، فان
الجعل والمجعول متحدان - بالذات - مختلفان بالاعتبار، فلا جعل حيث لا
مجعول.
وأما عدم جعل الحكم الانشائي - بداعي جعل الداعي - مع عدم كونه مصداقا
لجعل الداعي في الأزل، فلا موجب لاستحالة، الا أن الحكم المجعول، بهذا
المعنى - لا موقع له منه تعالى شأنه، الا في مرحلة الوحي بلسان جبرئيل عليه
السلام على قلب النبي صلى الله عليه وآله، بداهة عدم إمكان قيام مثله بذاته
المقدسة فتدبر جيدا.
" التنبيه الحادي عشر في الشك في التقدم والتأخر "
قوله: لا إشكال في استصحاب عدم تحققه في الزمان الأول
240

وترتيب آثاره... الخ.
أي آثار نفس عدمه، بأن يكون الزمان الأول - وهو ظرف الشك - ظرف التعبد
وترتيب الأثر، لا عدمه المقارن للزمان الأول فإنه - كتأخر وجوده عنه - لا يترتب
عليه أثره الا بالأصل المثبت.
وقد ذكر - لترتيب آثار المتأخر طريقين:
أحدهما - دعوى خفاء الواسطة بأن يكون الواسطة - وهو العدم في الزمان
الأول - ملغي في نظر العرف، ويرون التعبد به تعبدا بنفس التأخر الملازم - عقلا -
للعدم في الزمان الأول، وعهدتها على مدعيها.
ثانيهما - دعوى عدم التفكيك بين التنزيل في العدم، والتنزيل في التأخر، كما
لا تفكيك بينهما واقعا.
والجواب: أن عدم التفكيك في التنزيل، إن كان لمجرد الاستلزام العقلي واقعا
فلابد من القول به في جميع اللوازم العقلية.
وإن كان لخصوصية في بعض الاستلزامات كالعلة التامة ومعلولها،
وكالمتضايفين على ما مر في البحث عن الأصل المثبت (1) فشئ منهما غير
منطبق على ما نحن فيه.
أما الأول فواضح، إذ لا علية لعدم الشئ في الزمان الأول لوجوده في الزمان
الثاني، فضلا عن تأخره، فضلا عن أن يكون بنحو العلية التامة.
وأما الثاني، فالمتضايفان هما التقدم والتأخر فالتعبد بتقدم العدم على الوجود
تعبد بتأخر الوجود عن العدم، واما العدم فليس مضايفا للوجود ولا لتأخره حتى
يكون التعبد به تعبدا بمضايفه.
هذا في ترتيب آثار المتأخر.
وأما ترتيب آثار الحدوث في الزمان، فان جعل الحدوث صفة خاصة في
الموجود في الزمان الثاني، فلا يثبت باستصحاب العدم في الزمان الأول، كما أنه

(1) تقدم في ص 225.
241

من حيث كونه عنوانا ثبوتيا غير محرز وجدانا.
وفي تعليقته - المباركة (1) على الرسائل - تصحيحه بما تقدم في ترتيب آثار
المتأخر من حيث ثبوت الملازمة بين تنزيليهما.
الا أنه من الواضح أن عنوان الحدوث، وإن كان مقابلا لعنوان القدم، لكنه ليس
بمضايف له، فالتضايف بلحاظ أن ذلك العنوان الثبوتي عنوان مسبوقية الوجود
بالعدم والمسبوقية مضايفة للسابقية، فيكون كالتقدم والتأخر.
فحينئذ يرد عليه ما ذكرناه آنفا، من أن التضائف - لعنوان المسبوقية - هي
السابقية ولا تعبد بها، ليكون تعبدا بالمسبوقية، وذات السابق لا يضايف لذات
المسبوق ولا للمسبوقية.
وإن جعل الحدوث مركبا من وجود متأخر وعدم سابق، فيحرز العدم السابق
بالأصل، والوجود اللاحق بالوجدان.
لكنه إنما يجدي للحدوث المقابل للقدم، وأما الحدوث المقابل للبقاء فلا،
لان المحرز بالوجدان في الزمان الثاني مجرد وجوده الأعم من الحدوث والبقاء،
والأصل لا يثبت أنه حادث - اي موجود يكون بذاته وجوده هذا الزمان - فتدبر.
قوله: كان الأثر الشرعي لوجود أحدهما بنحو خاص من التقدم... الخ.
توضيحه: أن موضوع الحكم إذا كان أمرا وجوديا خاصا بخصوصية التقدم،
أو التأخر، أو التقارن، وكان هذا الخاص بوجوده المحمولي موضوعا للأثر، فعدمه
- سواء كان من قبيل عدم العنوان بعدم معنونه، أو كان عدم المبدء بعدم
موضوعه، أو كان الإضافة بين ذات الموضوع وعرضه بعدم طرفيها - له حالة
سابقة، فاستصحاب عدمه في نفسه جار، ولا يسقط الا بالمعارضة، لترتب الأثر
على موجود آخر بأحد الأوصاف، أو على وجود الشئ بوصف آخر مقابل له،

(1) ص 216، ذيل قول الشيخ - قده - في التنبيه السابع " الا أن يقال أن الحدوث هو الوجود
المسبوق بالعدم ".
242

بأن كان لتقدمه أثر، ولتأخره أثر آخر.
ومما ذكرنا يتضح أن عدم المتقدم - كعدم التقدم وهكذا - له حالة سابقة.
وإن كان هذا الخاص بوجوده الرابط - اي كون الشئ متقدما رتب عليه أثر فظاهر
المتن أنه لا حالة سابقة لعدمه.
وهو إنما يصح إذا أريد التعبد بعدمه: إما بنحو العدم والملكة بنحو الموجبة
المعدولة المحمول، اي كونه غير متقدم، وإما بنحو السلب والايجاب بنحو
السالبية المحصلة ولكن بانتفاء المحمول.
وأما إذا أريد مجرد عدم كونه متقدما - اي نفي المأخوذ على وجه الربط -
حيث لا موجب لأزيد من نفي موضوع الأثر وهو متحقق بسلب الربط، ولو بسلب
موضوعه، فاستصحاب عدم الرابط جار في نفسه، فان نقيض الوجود الرابط عدم
الرابط، لا العدم، لئلا يكون له حالة سابقة (1).
ولبعض اعلام العصر (2) تفصيل بوجه آخر، وهو أن الموضوع إذا كان مركبا
من العرض ومحله، فوجوده ناعتي، وعدمه كذلك، فاستصحاب عدمه
المحمولي لا يجدي الا على الأصل المثبت، وإذا كان مركبا من عرضين لمحل
واحد، أو لمحلين، فليس وجود أحدهما للآخر ناعتا لا يجب أن يكون عدمه
كذلك، فيجدي استصحاب عدمه المحمولي.
وقد تعرضنا في تعليقة البراءة لبيانه، ودفعه في مسألة أصالة عدم التذكية،
وبينا هناك وجوه الخلط فيه (3).
الا أن الذي استقر عليه رأيه أخبر (4) وبنى جريان الاستصحاب وعدمه عليه هنا:
هو أن العرض وإن أمكن لحاظ وجوده بنحو المحمولية دون الناعتية، الا أن

(1) انظر ج 2.
(2) هو المحقق النائيني - قده - في التنبيه السابع من الاستصحاب: " فوائد الأصول ج 2 ص 532
وج 4 ص 186 ".
(3) ج 2.
(4) كما في أجود التقريرات ج 2 ص 424 " التنبيه التاسع من الاستصحاب ".
243

البرهان يقتضي لحاظ الناعتية، في خصوص مقام جزئيته للموضوع المركب منه
ومن محله، لأن المحل: إما أن يلاحظ بالإضافة إلى عرضه مطلقا أو يلاحظ
بالإضافة إليه مقيدا بضده، أو يلاحظ مقيدا بوجوده.
والأولان محال، للزوم الخلف من فرض جزئيته للموضوع، والأخير يثبت
المطلوب لفرض تقيده به المساوقة لناعتيته.
ويندفع أولا - بأنه أيضا مبني على مساوقة الناعتية للرابطية ومفاد كان الناقصة
مع أن وجود العرض ناعتي - سواء لو حظ محموليا وبنحو مفاد كان التامة، أو رابطا
وبنو كان الناقصة - فالمحمولية مقابلة للرابطية لا للناعتية.
وثانيا - لو سلمنا أن مراده من الناعتية هي الرابطية - على خلاف الاصطلاح -
الا أن الجزئية للموضوع لا تقتضي الرابطية، فيمكن أن يكون الموضوع مركبا من
الجسم وبياضه، لا من الجسم وكونه أبيض، فالجزئية غاية مقتضاها أنه لو لم يكن
البياض لا يترتب الأثر، لا أنه لو لم يكن الجسم أبيض لا يترتب عليه الأثر، حتى
يقال: لا يقين بالعدم الرابط.
قوله: وأخرى كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر... الخ.
فاستصحاب العدم في الشق الأول من باب التعبد بعدم موضوع الحكم. وفي
الشق الثاني تعبد بنفس موضوع الحكم.
وحيث أنه - قدس سره - فصل ما بين العدم المأخوذ على وجه الربط والعدم
المحمول بعدم اليقين في الأول وثبوت اليقين في الثاني، وجعل المانع عن
الاستصحاب في الثاني عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين فلابد من التكلم في
مقامين، أحدهما في ثبوت اليقين في الثاني، دون الأول.
وتوضيحه: أن زمان الحادث، إما أن يلاحظ قيدا لنفس العدم، بحيث يكون
العدم - الذي هو موضوع الحكم - حصة من طبيعي العدم، وإما أن يلاحظ قيدا
لنفس المعدوم. فالعدم - الذي هو موضوع الحكم - عدم الحصة.
فان لوحظ على الوجه الأول، فهذه الحصة لا يقين بها سواء لوحظت بنحو
244

الرابطية أو بنحو المحمولية، لأن فرض العدم المحمولي ولو بعدم زمان الحادث
الاخر حتى يكون متيقنا - خلف من فرض تقيد نفس العدم به، وحمل عبارة
الكتاب على هذا الوجه بلا موجب.
بل هو في نفسه غير معقول، لأن مقولة (متى) - وكون الشئ في زمان، زيادة
على كون نفسه - مخصوصة بطرف الوجود، والعدم لا شئ فلا كون نسبي له.
وإن لو حظ على الوجه الثاني، فتارة - يلاحظ عدم نفس الكون النسبي مع
انحفاظ ما له الكون النسبي كما هو ظاهر العبارة، حيث قال: قدس سره - ولا
يقين بحدوثه كذلك. وأخرى - يلاحظ عدم ماله الكون النسبي بجملته، وحينئذ
إن لو حظ عدم كون الحادث في زمان الآخر - بنحو الموجبة المعدولة المحمول -
فلا يقين به سابقا.
وإن لو حظ نفس عدم الكون النسبي، فاليقين به سابقا بعدم موضوعه ثابت.
وإن لو حظ على الوجه الثاني - وهو عدم ماله الكون النسبي:
فتارة - يلاحظ بنحو السالبة بانتفاء المحمول، فلا يقين به، فمتى لم يكن في
فرض وجود موضوعه في زمان الآخر؟
وأخرى يلاحظ بنحو العدم المحمولي، ولو بنحو السلب بانتفاء الموضوع
فاليقين بمثله لا مانع منه.
فما افاده - قدس سره - من التفصيل وجيه على الوجهين الآخرين وأولهما
أوفق بعبارته، الا أن فرض التفصيل لا يتوقف عليه، بل يصح على الوجه الأخير
أيضا. هذا هو الكلام في المقام الأول.
وثانيهما - في اعتبار اتصال زمان الشك بزمان اليقين والمراد اتصال زمان
المشكوك بزمان المتيقن والا فاليقين والشك مجتمعان في زمان واحد في باب
الاستصحاب.
والوجه في اعتباره هو أن التعبد الاستصحابي تعبد بعنوان الابقاء، ولازمه
اتصال الموجود بالتعبد مع الموجود بالحقيقة، لكونه متيقنا والا لكان عبدا
245

بالوجود فقط لا بابقاء الوجود، ولذا لو أيقن بوجود شئ في زمان، ثم أيقن
بعدمه في زمان آخر، ثم شك في الوجوب في زمان ثالث، لم يكن هذا الشك
شكا في البقاء، ولا الجري العملي على طبقه إبقاء عمليا للوجوب، وأما وجه
تطبيقه على ما نحن فيه، فهو أنا لو فرضنا - في مسألة الاسلام والموت، - أزمنة
ثلاثة: كان الأول زمان اليقين بعدمهما معا، وكان الثاني والثالث - أحدهما زمان
الاسلام، والآخر زمان الموت، فإذا كان الزمان الثاني، المتصل بزمان اليقين - زمان
حدوث الموت، كان عدم الاسلام فيه - هو المشكوك - متصلا زمانه بزمان اليقين،
بعدمه، وإذا كان زمان حدوث الاسلام هو الزمان الثالث، كان عدم الاسلام فيه،
وهو المشكوك منفصلا زمانه عن زمان اليقين بعدمه. وهكذا كان الأمر في عدم
الموت في زمان حدوث الاسلام، فإنه كذلك، فالتمسك بعموم (لا تنقض) - في
كل من العدمين الخاصين - يكون تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.
وفيه أولا: أن المفروض في المثال انفصال زمان ذات المشكوك عن زمان
المتيقن، لا انفصال زمان المشكوك - بما هو مشكوك - عن زمان المتيقن، والذي
يضر بالاتصال المعتبر هنا هو الثاني دون الأول.
أما - أن المفروض ذلك، فلأن غاية ما هنا أن زمان حدوث الحادث الآخر هو
الزمان الثالث من الأزمنة الثلاثة المفروضة واقعا لا بما هو مشكوك.
وأما - أنا لا يضر هذا الانفصال الواقعي فلأن الثبوت الواقعي ليس مناطا
لتحقيق كلا ركني الاستصحاب، فكما ان الثبوت السابق ليس مناطا لركنه الأول،
وهو اليقين، بل لابد من كونه متيقنا، وهو الثبوت في أفق اليقين المقوم له، كذلك
الثبوت الواقعي ليس مناطا لركنه الثاني وهو الشك، بل الثبوت في أفق الشك،
وهو الذي يتقوم به الشك في البقا -، فلا يجب أن يكون زمان حدوث الحادث
الآخر متصلا واقعا بزمان اليقين به، بل يجب أن يكون زمان العدم في زمان
الحادث الآخر - بما هو مشكوك - متصلا بزمان اليقين به وهو كذلك، فان الزمان
الثاني المتصل بزمان اليقين يحتمل فيه بقاء العدم على حاله، وأن يكون هو زمان
246

الحادث الآخر، وأن يكون زمان ذلك العدم - باعتبار المعدوم - هو الزمان الذي
يحتمل أنه زمان الحادث، فهذا الزمان الثاني - تطبيقا - زمان الشك في عدم
الاسلام مثلا في زمان الموت.
والبرهان على هذا التطبيق أنه: لو التفت إلى بقاء العدم في زمان الحادث
الاخر في الزمان الثاني فاما أن يتيقن به، أو يتيقن بخلافه، أو يشك فيه، ومع فرض
انتفاء الأولين لا شك في تعين الثالث، وليس اليقين بزمان الحادث الآخر جزءا
لموضوع الأثر المرتب على العدم في زمانه، والا كان الموضوع مقطوع الارتفاع لا
محتمل الوقوع ويشك في اتصاله وانفصاله، لأن عدم اليقين بزمان الحادث الآخر
وجداني.
هذا - إذا كانت الشبهة من حيث عدم اتصال الزمان المشكوك بزمان المتيقن.
وأما إذا كانت الشبهة احتمال انتقاض اليقين السابق - بكل منهما - باليقين
الاجمالي بحدوثه في الزمان الثاني، فهو أمر آخر، لأربط له بعدم تحقق أحد ركني
الاستصحاب.
وقد بينا سابقا وسيجئ - إن شاء الله تعالى - في مسألة تعارض
الاستصحابين (1) أن اليقين - المجعول ناقضا لليقين - هو اليقين التفصيلي، والا لما
كان للاستصحاب مجال في أطراف العلم الاجمالي - ولو لم يكن معارضة - لفرض
تقوم أحد ركنيه بالشك المحض، لا مطلقه المجامع مع العلم الاجمالي وقد أقمنا البرهان على هذا المعنى مرارا فراجع.
وثانيا - أنه سيأتي - إن شاء الله تعالى - في آخر هذه المسألة (2) أن الأمر في
اتصال زمان الشك باليقين أوسع من ذلك، وانه لا يجب اتصال زمان المتيقن - بما
هو متيقن - بزمان المشكوك بما هو مشكوك.
وثالثا - أن مبنى اليقين المفروض وجوده هنا - لفرض حصر الاشكال في

(1) يأتي في صفحة 301 ذيل قول الماتن - قده - " فالأظهر جريانهما فيما لم يلزمه منه ".
(2) يأتي في صفحة 251 ذيل قول الماتن - قده - " لعدم احراز الحالة السابقة المتيقنة المتصلة ".
247

الاتصال - على اليقين بالعدم في زمان الحادث الآخر، ولو بعدم الحادث الآخر،
كما هو لازم العدم المحمولي، ولولاه لما كان هناك يقين فان كان هذا المعنى كافيا
في طرف اليقين، فلم لا يكفي في طرف الشك، إذ لا يزيد الثبوت التعبدي على
الثبوت الحقيقي، وعليه فعدم كون الزمان الثاني واقعا زمان الحادث الآخر، غير
ضائر بالشك في بقاء مثل هذا المتيقن. فتدبر جيدا.
قوله: يكون مترتبا على ما إذا كان متصفا بكذا... الخ.
لكنك قد عرفت في مجهولي التاريخ أن نفي مثل هذا الموضوع بنحو السالبة
بانتفاء الموضوع متيقن ونقيض الوجود الرابط عدمه لا العدم الرابط فراجع (1) ما
قدمناه.
قوله: مترتبا على عدمه الذي هو مفاد ليس التامة... الخ.
لم يتعرض - قدس سره - لما هو مفاد ليس الناقصة، ولعله لوضوح حكمه مما
تقدم في مجهولي التاريخ أو لادراجه فيما تقدم آنفا بتعميم ما إذا كان متصفا بكذا
لما إذا كان متصفا بكونه متقدما مثلا، ولما إذا اتصف بعدم كونه في زمان الآخر.
قوله: لاتصال زمان شكه بزمان... الخ.
لأن المحذور سابقا عدم إحراز زمان حدوث الآخر، وحيث أنه هنا محرز،
فالشك في عدم المجهول شك في عدمه في زمان معلوم التاريخ تطبيقا.
لا يقال: حيث يشك في تقدم المجهول على المعلوم وتأخره عنه، فالزمان
المتصل بزمان المعلوم - المتقدم عليه - زمان الشك ولابد من التعبد بعدمه، مع
أنه ليس زمان حدوث الآخر.
لأنا نقول: نفس العدم، وإن كان مشكوكا الا أن الموضوع - وهو العدم في
زمان الحادث الآخر - لا شك فيه، للقطع بعدم كونه زمان الآخر، فلا شك في هذا
الزمان تطبيقا في العدم في زمان الآخر، بل نقطع أن الموضوع غير متحقق،
فالزمان المزبور زمان القطع ببقاء العدم المزبور على حاله، وزمان الشك حينئذ

(1) تقدم في ص 243.
248

متصل بزمان اليقين.
قوله: دون معلومه لانتفاء الشك فيه في زمان... الخ.
لأن زمان المجهول الذي هو ظرف للعدم المعلوم لا يخلو عن أحد أزمنة
ثلاثة: إما قبل التاريخ المعلوم أو مقارنا له، أو بعده، فان كان قبله، فعدم المعلوم
مقطوع، لا مشكوك وإن كان مقارنا له، أو بعده فوجوده مقطوع، لا مشكوك، فلا
شك في عدم المعلوم في زمان حدوث المجهول بنحو التطبيق على أحد
الأزمنة.
ويمكن أن يقال - بناء على ما افاده - قدس سره - في مجهولي التاريخ.
إن عدم المعلوم في الزمان السابق، على التاريخ وإن كان مقطوعا به، الا أن
عدمه في زمان الآخر مشكوك اي العدم الخاص مشكوك - وإن كان نفس عدمه
مقطوعا به، فلا مانع منه الا محذور عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين، حيث
لم يحرز أن هذا الزمان زمان حدوث الآخر، ليكون الشك في العدم الخاص
منطبقا على الشك في عدمه في هذا الزمان.
وبالجملة حال العدم - في طرف المعلوم - كحال العدم في مجهولي التاريخ
من حيث اليقين والشك وعدم الاتصال.
قوله: وانما الشك فيه بإضافة زمانه... الخ.
ظاهره - قدس سره - بقرينة أن موضوع الكلام هو عدم الحادث في زمان
الآخر، لا مطلق عدمه، وبقرينة ما رتبه على الفقرة من جريان الاستصحاب تارة،
وعدمه أخرى، وبقرينة ما سيأتي إن شاء الله تعالى منه قدس سره من اعتبار
خصوصية ناشئة من إضافة أحد الزمانين إلى الاخر، كالتقدم وضديه - هو أن
المراد ليس مجرد ملاحظة العدم مضافا إلى زمان الاخر في هذه الفقرة، بل
اضافته إليه من حيث كونه قبله أو بعده.
فان عدم كون الحادث - قبل زمان الآخر، أو بعده - غير مجرد كون العدم
ملحوظا في زمان الآخر، ليقال: لا شك في عدم المعلوم في أحد الأزمنة، بل
249

الشك في عدم كونه قبله أو بعده، وفي مثله يجري الاستصحاب تارة إذا لو حظ
عدم التقدم أو التأخر بنحو المحمولي، لليقين به سابقا، ولا يجري أخرى إذا
لو حظ عدم كونه متقدما أو متأخرا بنحو الرابط أو عدمه في فرض الموضوع، فإنه
لا يقين به.
والفرق بين هذا الشق والشق المتقدم - في طرف الوجود - أن موضوع الأثر
هناك هو وجود التقدم، والتعبد بعدمه تعبد بعدم الموضوع، وموضوع الأثر هنا
نفس عدم التقدم مثلا، فالتعبد به تعبد بالموضوع، فلا تداخل في الأقسام.
نعم لما كان اليقين بعدم التقدم، أو عدم كونه متقدما لا يتفاوت حاله - ثبوتا
ونفيا - بين كون موضوع الأثر طرف أو طرف العدم، فلذا قال قدس سره: (فقد
عرفت جريانه فيهما تارة وعدم جريانه كذلك أخرى) اي في طرف الوجود آنفا.
قوله: ولا بين مجهوله، ومعلومه في المختلفين... الخ.
أي المختلفان من حيث العدم المحمولي، والعدم الرابط، وشبهه، فإنه إن
اخذ عدم التقدم محموليا جرى الأصل في المجهول، والمعلوم، وإن أخذ رابطيا
لم يجر في المجهول، ولا في المعلوم، فلم يبق في البين ما يفترق فيه المعلوم عن
المجهول، الا إذا لو حظ العدم في زمان الاخر فقط، من دون إضافة خصوصية
التقدم وشبهه، فان الأصل في لمجهول جار، في المعلوم غير جار، إما لانتفاء
الشك كما ذكره - قدس سره - أو لعدم الاتصال، كما ذكرناه.
ثم اعلم أنا ذكرنا في البحث عن الاستصحاب في الأمور التدريجية: أن الفعل
المقيد بزمان - إذا لم يؤخذ فيه عنوان ثبوتي يجب احرازه وجدانا، أو تعبدا بل
كان مجردا كون الشئ في زمان خاص - فاحراز أحدهما وجدانا والآخر تعبدا
كاف في تحقق الموضوع (1).
فنقول فيما نحن فيه: إن الأثر لو كان مترتبا على وجود شئ في زمان شئ
آخر، أو عدمه في زمان الاخر، فهو وإن كان بنحو الوجود الرابطي أو عدمه في

(1) تقدم في ص 185.
250

فرض ثبوت الموضوع لكنه يكفي سبق العدم في كل من الحادثين، ولا حاجة إلى
سبق العدم الخاص، ولو بفرض ثبوت موضوعه، وحينئذ فان لم يكن ترتب الأثر
منوطا بالتطبيق، فالعدم المسبوق يستصحب إلى زمان الحادث الآخر المحقق
واقعا كما إذا علمنا بالكرية في زمان، وملاقاة النجس في زمان آخر، فهما
مسبوقان بالعدم، فيستصحب عدم الكرية إلى زمان ملاقاة النجس إلى زمان
تحقق الكرية، واثره عدم انفعال الماء، فيتعارضان ولا حاجة إلى تطبيق التعبد
بعدم كل منهما في الساعة الأولى أو الثانية.
وإن كان ترتب الأثر منوطا بالتطبيق، كما إذا غسل ثوب متنجس بالماء بوروده
عليه في الساعة الأولى، فإنه يحتاج إلى التعبد بعدم الكرية في هذه الساعة
للحكم بانفعال الماء بملاقاة الثوب المتنجس، فيأتي شبهة عدم الاتصال.
ومن الأول مسألة الشك في تقدم إسلام الوارث على موت مورثه وعدمه،
فإنه لا حاجة في الحكم بإرثه أو عدمه على تطبيق عدم إسلامه أو عدم موت
مورثه على زمان خاص، بل يستصحب عدم إسلامه إلى زمان موت مورثه كما
يستصحب حياة المورث وعدم موته، إلى زمان اسلام الوارث واقعا، فالمقيد
تعبدي والقيد وجداني، وإن لم ينطبق ذلك المتعبد به، أو هذا الوجداني على
زمان خاص.
قوله: لعدم احراز الحالة السابقة المتيقنة المتصلة... الخ.
فهنا ليس زمان المتيقن متصلا بزمان المشكوك، وفي ما تقدم لم يكن زمان
المشكوك متصلا بزمان اليقين، مع أن الابقاء لا يعقل الا مع الاتصال، وعدم إحراز
الاتصال يلازم عدم احراز الابقاء الذي هو موضوع الحكم.
وهنا كذلك حيث لم يعلم أن الحالة المتصلة بحال الشك في الطهارة والحدث
هي حالة الطهارة المتيقنة حتى يكون رفع اليد عنها نقضها والجري على وفقها
إبقاء أو حالة الحدث، حتى لا يكون كذلك وبالعكس في الحدث.
251

ولا يجري فيه ما ذكرناه سابقا (1) من أن العبرة باتصال زمان المشكوك بما هو
مشكوك، لا بذاته، لأن المشكوكية في كل من الساعتين كانت هناك وجدانية،
وبرهانية، دون ما نحن فيه، لأن عدم اليقين التفصيلي - في كل من الساعتين -
وجداني فزمان المتيقن - بما هو متيقن - غير متصل بزمان المشكوك بما هو
مشكوك.
والتحقيق: أن ثبوت الشئ واقعا ليس ملاكا للحكم الاستصحابي، ولا
ارتفاعه واقعا ملاكا لعدمه، بل ثبوت العنواني - المقوم لليقين - ملاك جريانه
وثبوت خلافه العنواني المقوم بخلافه - ملاك عدم جريانه وانتقاض اليقين
باليقين.
والمفروض اليقين بالطهارة سابقا والشك في بقائها فعلا لا في حدوثها،
وكذلك بالإضافة إلى الحدث. ومع اليقين بالطهارة والشك في بقائها وعدم تخلل
الناقض لليقين، لا معنى لدعوى عدم كون الجري العملي على وفقها إبقاء.
ولزوم كون الطهارة موجودة تحقيقا في زمان معين، وموجودة تعبدا في زمان
معين آخر، متصل بذلك الزمان - حتى يكون وجودها التعبدي بقاء لوجودها
التحقيقي ويرتب الأثر عليها في الزمان الثاني ابقاء لها عملا - بلا ملزم بعد عدم
تخلل اليقين الناقض.
" التنبيه الثاني عشر في استصحاب الأمور الاعتقادية "
قوله: واما الأمور الاعتقادية التي كان المهم... الخ.
الكلام تارة - في استصحاب حكم الأمر الاعتقادي، وأخرى - في استصحاب
موضوع ذلك الأمر الاعتقادي.
أما الأول فلو فرض الشك فيه - بعد اليقين به سابقا - جرى فيه الاستصحاب.

(1) تقدم في ص 244.
252

سواء كان الواجب من الأفعال القلبية والأعمال الجنانية، وهو عقد القلب الذي
فصلنا الكلام في حقيقته ومباينة سنخه، مع سنخ اليقين في آخر مباحث
الظن (1)، أو كان من الصفات النفسانية القابلة للتحصيل بمقدماتها - وهو العلم
والمعرفة - واليقين بالوجوب سابقا، والشك فيه لاحقا - وإن كان مجرد الفرض -
الا أن سبق اليقين بعدم الوجوب أزلا، أو في أوائل انعقاد الشريعة والشك بعده
في غير الأصول الضرورية كبعض تفاصيل القبر والبرزخ والمعاد - ليس مجرد
الفرض.
ولا فرق في الجري العملي على طبق اليقين أو المتيقن بين العمل الجسداني
والعمل الجناني، ولا بين المباشري والتوليدي، فتسمية بعض الأعمال بالفروع،
وبعضها بالأصول لا توجب فرقا في القبول للتعبد الاستصحابي والجري العملي.
وأما الثاني، فما هو قابل لدعوى اليقين به سابقا، والشك في بقائه لاحقا هي
الإمامة والنبوة ليتعبد بآثارها.
فنقول: أما الإمامة، فان كانت بمعنى الرياسة المعنوية الكبرى في الدين
والدنيا، المنبعثة عن كمال نفسه المقدسة التي من شؤنها الروحانية وساطتها
للفيض، وكونها مجرى الفيض النازل من سماء عالم الربوبية. وعليه ينطبق كمال
الانطباق قولهم عليهم السلام: (مجاري الأمور بيد العلماء بالله) (2) دون الفقيه
الذي هو - بما هو فقيه - عالم بأحكام الله لا بالله، فحينئذ لاشك في زوالها لا
بالموت ولا بمجئ إمام لاحق، كما سيجئ في النبي صلى الله عليه وآله.
وإن كان بمعنى الرياسة المجعولة تشريعا من الله تعالى في أمور الدنيا
والدين، فهي حينئذ من المناصب المجعولة، وتزول بالموت، إذ لا معنى
لاعتبارها له عليه السلام بعد موته، مع عدم امكان تصديه بعالم البشرية
للتصرفات الدينية والدنيوية المتعلقة بنظم البلاد، وتكميل العباد، فإذا شك في

(1) تقدم في ج 2 ذيل قول الماتن - قده - " من الاعتقاد به وعقد القلب عليه وتحمله والانقياد له ".
(2) المستدرك: الباب 11 من أبواب صفات القاضي: الحديث 16.
253

موته فلا محالة يشك في إمامته فعلا.
وحينئذ إذا كان الواجب هو عقد القلب على إمامته، فالاثر المترتب على
التعبد بحياته وجوب عقد القلب على إمامته، وإذا كان الواجب معرفته بالإمامة،
فظاهر المتن أنه لا يترتب عليه هذا الأثر، لأن الشك في حياته مع اليقين بإمامته
فعلا متنافيان.
ويمكن أن يقال: إن التعبد بالأمور الاعتبارية الشرعية - التي منها المناصب
المجعولة - محقق لها في ثاني الحال، فمقتضى استصحاب الملكية أو ما يترتب
عليه الملكية ايجاد اعتبار مماثل للاعتبار الواقعي فعلا لا ايجاب ترتيب آثار ذلك
الاعتبار فقط، ومع وجوده فعلا يكون وجوده فعلا ملزوما لليقين به فعلا، ولا
منافاة بين اليقين بوجوده الاعتبار المماثل فعلا مع الشك في بقاء الاعتبار الواقعي،
للشك في حياته واقعا.
وأما ايجاب تحصيل معرفته بمقدماته التي منها تحصيل اليقين بحياته واقعا،
ليكون التعبد بحياته تعبدا بتحصيل معرفته بالإمامة واقعا الممكنة بمقدماتها،
فغير معقول، إذا كان ايجاب تحصيل معرفته مطلقا، لأن تحصيل اليقين بحياته
يوجب انتفاء التعبد الاستصحابي، فيلزم من وجود التعبد الاستصحابي -
الموجب لتحصيل اليقين بالحياة - عدم التعبد الاستصحابي وهو محال.
وهكذا الأمر إذا كان وجوب تحصيل اليقين بالإمامة مشروطا باليقين بالحياة
وعلى تقدير حصوله، لأن هذا التقدير ضد التعبد الاستصحابي، ولا يعقل أن
يقتضي التعبد ما يتوقف على ما يضاده فتدبر.
وأما النبوة فان كانت من الصفات الواقعية، ومرتبة عالية من الكمالات
النفسانية، وهو تلقي المعارف الإلهية، والاحكام الدينية من المبادي العالية بلا
توسط بشر، فيكون النبوة من النبأ، والنبي فعيل بمعنى المفعول، فصيرورة نفسه
المقدسة مجلي المعارف والأحكام معنى بلوغها درجة النبوة. فالشك في بقائها
حينئذ، لأحد أمور:
254

أما انحطاط نفسه المقدسة عن هذه الدرجة، أو زوالها بالموت، أو بمجئ نبي
لاحق.
والكل غير معقول، لان هذه الملكة ليست كسائر الملكات التي لها درجة
التخلق، بل لها درجة التحقق.
والمعرفة الشهودية، وما ينبعث عنها، لا زوال لها خصوصا بالموت، فإنه لا
يزيل سائر الملكات الراسخة فضلا عن هذه الملكة الشامخة، كيف والدنيا
مزرعة الآخرة، والمعرفة بذر المشاهدة، فكيف يعقل زوالها بالموت، وصيرورة
النفوس العالية بالملكات السامية، كالنفوس العامية بالموت الذي لو لم يوجب
قوة المشاهدة لم يوجب ضعفها.
وأما زوالها بمجئ نبي لاحق - ولو كان أكمل - فبديهي الفساد، إذ كمال
شخص أو زيادته لا يوجب زوال كما شخص آخر أو نقضه، وعليه فلا شك في
بقاء النبوة بهذا المعنى حتى يستصحب.
ثم على فرض الشك في بقائها، فالأثر المهم، تارة - وجوب الاعتقاد بنبوته،
وأخرى - وجوب تصديقه فيما أتى به وثالثة - بقاء شريعته.
ومن الواضع عدم ترتب ما عدا الأول، فان التعبد بنبوته فعلا تعبد بوجوب
الاعتقاد بها فعلا.
وأما تصديقه فان كان فيما أتى به، فهو من آثار نبوته في حال حياته، لامن آثار
بقاء نبوته بعد موته.
وإن كان فيما يأتي به، فهو في فرض موته غير معقول.
ومنه تبين حال لزوم اطاعته في أوامره، ونواهيه، فإنه لا موضوع له بعد موته.
وأما بقاء شريعته، فإنه ليس من آثار بقاء نبوته، فإنه لا تزول شريعة نبي
بموته بل ولا بمجئ نبي لاحق، بل بمجئ نبي صاحب شريعة، فليس بقاء
شريعته من آثار بقاء نبوته، كي يترتب على استصحاب نبوته.
وإن كانت النبوة من المناصب المجعولة، بمعنى أن موضوع الاعتقاد هذا
255

المعنى، لا كونه ذا صفة كذائية، وإن كان كذلك، وكان هو المخصص لاعتبار هذا
المنصب له من بين سائر العباد.
فتحقيق الحال فيها إن النبوة القابلة للاعتبار هي النبوة بالمعنى الفاعلي لا
المعنى المفعولي، فان كونه ممن أنبأه الله - تعالى - بمعارفه وأحكامه واقعي لا
اعتباري.
نعم جعله مخبرا ومبلغا عن الله تعالى وسفيرا - تشريعا - إلى خلقه قابل
للاعتبار، فله منصب المبلغية والمخبرية، والسفارة وإن كان لم يبلغ أحدا بعده.
والنبوة بهذا المعنى تفارق الرسالة بالاعتبار، فان كونه مبعوثا من قبله تعالى
لكونه مبلغا عنه لاعينه، الا أن النبوة بهذا المعنى تختص بمن أعد لتبليغ الأحكام
الأصولية والفرعية.
مع أن من أنبياء السلف (سلام الله عليهم) من لم يكن كذلك، ويجب الاعتقاد
بنبوة جميع الأنبياء دون من أعد للتبليغ.
ثم من الواضح أن النبوة المجعولية تزول بالموت، إذ لا معنى لاعتبار المبلغية
والسفارة للميت بحسب العادة، الا أن حالها حال النبوة غير المجعولة في أن
التعبد بنبوته فعلا - للشك في زوالها بالموت - لا يترتب عليه الا وجوب الاعتقاد
بنبوته، واما التصديق فيما أتى به، فيجتمع مع القطع بزوالها فعلا، كما أن بقاء
شريعته يجامع القطع بموته، بل القطع بمجئ نبي لاحق.
نعم التعبد ببقاء هذا المنصب المجعول - عند الشك في حياته ومجئ نبي
صاحب شريعة - ملازم لبقاء شريعته، وعدم نسخها بشريعة أخرى، إذ اعتبار
المبلغية للأحكام بالإضافة إلى كافة الأنام، كما هو شأن من كان صاحب شريعة
مع مجئ صاحب شريعة كذلك لغو، فالتعبد بمبلغية مثل هذا النبي ملازم عادة
لبقاء شريعته شريعته وعدم مجئ صاحب شريعة أخرى - فتدبر.
قوله: لا موقع لتشبث الكتابي باستصحاب نبوة... الخ.
بيانه: أن تمسك الكتابي بالاستصحاب، تارة - من باب الزام المسلم وأخرى -
256

من باب إقناع نفسه، فالمستصحب هو المسلم على الأول، والكتابي على الثاني.
ولا مجال للأول، فان فرض كون الخصم مسلما ينافي فرض كون ما يرويه
الكتابي مسلما عنده، والا إلزام جدلا الا في المسلمات، ولو عند الخصم
بالخصوص.
وعليه فلا شك في انقطاع نبوة موسى، ونسخ شريعته، ولا استصحاب الا مع
اليقين، والشك من المستصحب.
وأما الثاني وهو استصحاب الكتابي لعمل نفسه.
ففيه تفصيل، وهو: أن ناسخية شريعة نبينا - صلى الله عليه وآله - لشريعة
موسى عليه السلام، إن كانت باعتبار جميع أحكام شريعته نظرا إلى ما قدمنا
سابقا (1) أن الحكم المجعول لا موقع له الا موقع الوحي، وهو مقام إنشائه على
لسان جبرئيل عليه السلام، على قلب النبي صلى الله عليه وآله الموحى إليه،
حيث لا يعقل قيام الإنشاء بداعي البعث بذاته المقدسة، وعدم معقولية الإرادة
التشريعية في مقام ذاته المقدسة كما أشرنا إلى وجه مرارا.
ومن الواضح أن الحكم المجعول في شريعة نبينا - صلى الله عليه وآله - إن
كان مماثلا لما في شريعة موسى عليه السلام، فهو غيره من حيث الشخص وعينه
من حيث طبيعي الحكم، ولا معنى لبقاء شخص الحكم الموحى إلى موسى -
عليه السلام - في شريعة نبينا - صلى الله عليه وآله - بحيث يكون نبينا - صلى الله
عليه وآله - تابعا لموسى - عليه السلام - في هذا الحكم ومأمورا باتباعه.
كيف؟ ولو كان موسى - عليه السلام - حيا لما وسعه الا اتباع نبينا - صلى الله
عليه وآله - فلا محالة يكون الحكم المجعول في هذه الشريعة - مماثلا أو مخالفا -
حكما موحى به إلى نبينا - صلى الله عليه وآله - ويجب اتباعه، إنه (2) أوحي به

(1) تقدم في ص 240.
(2) أي (من حيث إنه).
257

نبينا - صلى الله عليه وآله - لا من حيث أنه أوحى به موسى عليه السلام، وحيث
أنه يماثله في طبيعي الحكم.
ربما يقال: إن بعض ما في الشرائع السابقة لم ينسخ في هذه الشريعة، وحيث
أنه غيره شخصا، فالحكم الموحى إلى موسى عليه السلام مثلا حقيقة غير باق
في هذه الشريعة.
وعليه فالكتابي، وإن فرض أنه على يقين وشك من بقاء شريعة موسى عليه
السلام الا أنه لا دليل له على التعبد بالبقاء، لأن حكم التعبد بالبقاء في شريعته في
نفسه - كسائر الأحكام - مشكوك البقاء، ولا معنى لابقاء سائر الأحكام بما هو
مشكوك البقاء.
والتعبد بالبقاء في شريعة نبينا صلى الله عليه وآله، وان كان ثابتا الا أن استناد
الكتابي إليه يلازم الالتزام بهذه الشريعة الناسخة للشريعة السابقة، فليزم من ابقاء
شريعة موسى عليه السلام بحكم شريعتنا عدم ابقائها وهو محال.
ومنه تبين ما في بعض كلمات شيخنا العلامة - قدس سره - من دوران أحكام
شريعة موسى عليه السلام بين كونها أحكاما واقعية، أو ظاهرية بسبب حجية
الاستصحاب في الشريعتين.
لما عرفت: من أن حجية الاستصحاب في شريعة السابقة - كسائر أحكام -
مشكوكة البقاء، وحجيته في شريعتنا لا يجدي للكتابي، حيث يلزم من وجوده
العدم، فيستحيل أن يكون تلك الأحكام ظاهرية، بناء على بقاء شريعة موسى
عليه السلام، لعدم مجئ شريعة أخرى ويستحيل أن يكون أحكاما واقعية، بناء
على عدم بقاء شريعة موسى عليه السلام بمجئ شريعة لا حقة ناسخة.
وإن كانت ناسخية شريعتنا للشرائع السابقة باعتبار المجموع لا باعتبار
الجميع، كما هو المعروف، فحينئذ للاستصحاب في نفسه مجال، لأن
الاستصحاب غير منسوخ في هذه الشريعة - على اعتراف المسلمين - فللكتابي
الاستناد إلى هذا الحكم الغير المنسوخ قطعا في ابقاء بقية أحكام شريعة موسى
258

عليه السلام المشكوكة البقاء، وحينئذ يصح دعوى أن سائر الأحكام إما واقعية أو
ظاهرية.
وعليه فلا مناص في دفع الاستصحاب الا بان الأصل لا يجري قبل الفحص.
أما بالنظر إلى بقاء شريعة موسى عليه السلام فواضح، لأن الأصل لا يجري في الشبهات الحكمية قبل الفحص.
وأما بالنظر إلى النبوة بمعنى المنصب المجعول: فتارة - لأجل الشك في زوالها
بموت النبي وأخرى - لأجل الشك في مجئ نبي لا حق يشك في نبوته.
فبالنظر إلى الأولى لا مانع من الأصل، ولا يجب الفحص عن موته وحياته الا
أنه ليس محلا " للكلام.
وبالنظر إلى الثاني يجب الفحص - وإن كانت الشبهة موضوعية - لأن مثل هذا
الموضوع يجب الفحص عنه عقلا بالنظر إلى معجزة من يدعي النبوة كما حقق
في محله.
فاستصحاب النبوة للزوم عقد القلب على نبوته مفيد، غير مقيد بالفحص،
واستصحاب عدم نبوة من يدعي النبوة أو استصحاب نبوة النبي السابق - الملازم
عادة لعدم مجئ نبي صاحب شريعة - بالنسبة إلى هذا الأثر غير جار قبل
الفحص فتدبر جيدا.
قوله: الا إذا علم بلزوم البناء... الخ.
أي ما دام هو في طريق الفحص، كما هو مقتضى سياق الكلام.
الا أن هذا الحكم الظاهري، كسائر الأحكام قابلة للنسخ، فهو بنفسه أيضا
مشكوك البقاء، ولا فرق في ورود الاشكال بين إنشاء النبي السابق لهذا الحكم أو
اخباره عنه، بتوهم تصديقه بل القطع بصدقه، وذلك لأن القطع بصدقه من حيث
ثبوت الحكم في شريعته وهو غير مناف لنسخ هذا الحكم الخبر عنه المقطوع
بصدقه فيه، فلا مجال الا للاحتياط ما دام في صراط الفحص. فتدبر.
259

(التنبيه الثالث عشر استصحاب حكم المخصص)
قوله: والتحقيق أن يقال: إن مفاد العام تارة.... الخ.
توضيح المقام أن مدار التمسك بالعام ليس على ملاحظة قطعات الزمان قيدا
مقوما لموضوع الحكم، بحيث يكون إكرام زيد في كل يوم إكرامات متعددة بعدد
الأيام، بل إذا لوحظ الزمان منقطعا، وجعل كل قطعة ظرفا مستقلا لثبوت الحكم،
لكان ذلك كالمقوم، لأن تعدد الظرف يستلزم تعدد المظروف، وتعدد الحكم
يستلزم تعدد الموضوع، فالعبرة بتقطيع الزمان الموجب لتعدد الموضوع تارة بلا
واسطة، وأخرى معها.
كما أن مدار الاشكال - على الاستدلال بالعام - ليس وحدة الحكم - حقيقة ولبا
- وحدة شخصية، إذ الواحد الشخصي يستحيل تعدد إطاعة وعصيانه، ومن
الواضح أن مثل (أوفوا بالعقود) (1) - مع ملاحظة الزمان بوحدته، ظرفا
لاستمراره - ليس الأمر بوفائه واحدا شخصيا، بداهته أنه لو وفى بعقد خاص في
زمان، ولم يف به في زمان آخر كان مطيعا تارة وعاصيا أخرى، ولو كان الحكم
واحدا شخصيا، لما كان له إطاعة بالوفاء في زمان، باستمرار الوفاء في الزمان
المستمر.
فالمراد بالوحدة هي الوحدة الطبيعية - في مقام الجعل والاثبات - وإن تعدد
في الواقع، بمعنى أن المتكلم كما يقصد تارة الانشاء بداعي البعث شخصا إلى
فعل واحد. كذلك يقصد أخرى الانشاء بداعي البعث طبيعيا وسنخا، فيتحقق
منه طبيعي البعث المتعلق بطبيعي الفعل، ويستلزم في مقام التحليل العقلي تعلق
فرد من طبيعي البعث بفرد من طبيعي الفعل، ولذا يتعدد اطاعته وعصيانه.
فالعبرة في تعدد الإطاعة والمعصية بمرحلة البعث حقيقة، والعبرة في
التخصيص ونحوه بمرحلة الجعل ومقام الاثبات، فإنه مقام انعقاد الظهور.

(1) المائدة: 2.
260

وعليه فان لو حظ قطعات الزمان معددة للموضوع - بلا واسطة أو معها - لم يكن
خروج فرد من افراد العام موجبا لانثلام ظهوره في شموله لسائر الافراد.
وإن لوحظ الزمان بوحدته ظرفا لتعلق طبيعي الحكم بطبيعي الموضوع، بمعنى
أن طبيعي الوفاء بهذا العقد فرد من العام، وطبيعي الوفاء بالعقد الآخر فرد آخر
منه وهكذا. فإذا خرج فرد من هذا العام - في الجملة - فلا شك في انثلام ظهوره
في شموله لهذا الفرد، فان الوفاء به في آخر ليس من جملة افراد، بل فرده
طبيعي الوفاء بهذا العقد، وقد فرض عدم شموله له بما هو فرد له.
بل يلزم من شموله - بعد خروجه في زمان - تعدد الواحد واتصال المنفصلين
واستمرار المنقطع، كما عن شيخنا الأستاذ - قدس سره - في تعليقته الأنيقة (1)
على الرسائل، ولذا بنى هنا وهناك على صحة الاستدلال بالعام إذا كان
التخصيص من الابتداء، أو في الانتهاء دون الأثناء.
إذ مقتضى الأولين كون مبدأ هذا الواحد المستمر من ذاك الزمان المتيقن
خروج ما قبله، وأن منتهى هذا الواحد المستمر هذا الزمان المقطوع بخروجه،
فلا يلزم اثنينية الواحد ولا اتصال المنفصل، بل الحكم الوحداني لموضوع
وحداني على استمراره ووحدته.
مع أنه لو صح ما أفيد في الأثناء للزم تبعض الواحد وتجزي البسيط في
الابتداء والانتهاء، كما سيأتي (2) إن شاء الله تعالى.
والذي ينبغي أن يقال هو إن العام الذي لو حظ الزمان الواحد ظرفا لاستمرار
حكمه كقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) حيثيتين، حيثية عمومه وشموله
للوفاء، بكل عقد، وحيثية إطلاقه الأزماني من حيث خصوصيات الزمان
الوحداني، فمقتضى عمومه أن الوفاء بهذا العقد الملحوظ فردا واحدا - في قبال
الوفاء بسائر العقود - مشمول للوجوب في الجملة ومقتضى اطلاقه أن هذا الحكم

(1) ص 225: ذيل قوله الشيخ (قده) الحق التفصيل في المقام بان يقال..).
(2) في ذيل هذا المتن.
261

ثابت لهذا الفرد - كسائر الافراد - في هذا الزمان المستمر من دون تخصصه بوجود
خصوصية محددة له، ولا بعدمها.
فان أريد التمسك بحيثية عمومه، فالأمر كما مر، حيث أن الواحد لا يعقل أن
يكون خارجا وداخلا، بل خروج الواحد إذا ثبت فبالملازمة العقلية، يقال
بخروجه بقول مطلق، ولا يعقل الشك في شمول هذا الحكم المجعول له أصلا.
وإن أريد التمسك بحيثية اطلاقه، فلابد من بيان الفارق بين هذا المطلق ومقيده،
وسائر المطلقات ومقيداتها، مع أنه لا فارق أصلا إذ ليست وحدة الزمان -
المجعول ظرفا لثبوت طبيعي الحكم لطبيعي الوفاء مثلا - وحدة شخصية، كي
يتوهم أن الواحد الشخصي غير قابل للتقييد.
فان طبيعي الحكم المنحل إلى أحكام متعددة يستحيل أن يكون ظرفه
شخصيا بل واحد طبيعي، فيكون طبيعي الحكم المتعلق بطبيعي الموضوع في
طبيعي زمان وحداني بوحدة طبيعية كمظروفه ومتعلقه، والواحد الطبيعي قابل
للتقييد الذي يجعله حصة، والحصة وحدتها الطبيعية واستمرارها محفوظة،
فيكون المطلق والمقيد بمنزلة دال واحد من الأول على ظرفية حصة طبيعية
للحكم الطبيعي، الثابت لموضوع كذلك.
وربما يتخيل الفرق بين هذا المطلق وسائر المطلقات.
بتقريب: أن سائر المطلقات لها جهات عرضية من كون الرقية مثلا مؤمنة أو
كافرة، ومن حيث كونها عالمة أو جاهلة، وهكذا فملاحظة تلك الجهات واطلاق
الحكم بلحاظها غير مناف لشئ.
بخلاف ما نحن فيه، فان الزمان الواحد المستمر ليس بنفسه ذا أفراد متكثرة الا
بالتقطيع، وملاحظته بنحو التقطيع فلا معنى لا طلاقه من تلك الجهات حتى
يخرج جهة منه. ويبقى اطلاقه من سائر الجهات محفوظا فمعنى اطلاقه ليس الا
جعل الزمان الوحداني المستمر - دون زمان خاص - ظرفا للحكم، وبمجئ
262

المقيد، ولو في الجملة يختل هذا الاطلاق (1).
ويندفع: بأن الاطلاق ليس جمعا بين القيود، حتى يكون مرجعه إلى الحكم
في كل قطعة قطعة، ليكون خلفا بل إلى ملاحظة خصوصيات هذا الطبيعي
الوحداني، وعدم جعل وجودها ولا عدمها دخيلا في الحكم، كما هو معنى
الاطلاق إلا بشرطي القسمي، فالنظر إلى قطعات الزمان وعدم تقييد طبيعي
الزمان بها - وجودا أو عدما - معنى والنظر إليها وجعلها ظروفا للحكم معنى
آخر، وما هو خلف هو الثاني دون الأول، والا فملاحظة الزمان الوحداني المستمر
مهملا - في مقام جعل الحكم الحقيقي جدا - محال. وملاحظته متقطعا خلف،
وملاحظته لا بشرط قسميا لا يعقل الا بالنظر إلى الخصوصيات الموجبة وجودا
وعدما لكونه بشرط شئ ولكونه بشرط لا.
كما أن تخيل عدم صحة التقييد لكونه فرع انعقاد ظهورات للعام المطلق - من
حيث قطعات الزمان - والمفروض أن المطلق له ظهور واحد في معنى واحد
مستمرا، وبعد رفع اليد عنه لا ظهور يتمسك به (2).
مندفع: بأنه لا تعدد للظهور هنا، ولا في سائر المطلقات، ولا في العمومات،
بل للفظ - وضعا أو اطلاقا - ظهور واحد في معنى واحد، سواء كان ذلك المعنى
الواحد متكثرا بالذات أو واحدا بالذات، وإنما التخصيص والتقييد لقيام حجة
أقوى من الحجة على ذلك المتكثر بالذات، أو المتحد بالذات، باخراج فرد من
الأول أو جعل الثاني حصة خاصة مع بقاء الظهور الوحداني على حالة في جميع
المقامات.
وأما حديث تعدد الواحد، والاتصال بعد الانفصال، حتى يوجب الفرق بين
التخصيص من الابتداء والانتهاء، وبين التخصيص في الأثناء.
فالجواب عنه: أن الوحدة تارة - تلاحظ في مقام الثبوت، وفي مرحلة الخارج،

(1) راجع درر الأصول ج 2 ص 571 مطبعة جماعة المدرسين.
(2) راجع درر الأصول ج 2 ص 573.
263

فالمفروض - كما مر (1) برهانا - تعدد الحكم الجدي، لتعدد اطاعته وعصيانه.
وأخرى - تلاحظ في مقام الاثبات، وفي مرحلة الجعل، والتعدد في هذه
المرحلة بجعل شخصين من البعث، أو حصتين منه، ووحدته بجعل طبيعي
البعث، أو جعل حصة منه بدال واحد عليها أو بدالين كما مر.
والاستمرار الزماني هنا ليس بلحاظ استمراره خارجا بعدم تخلل زمان بين
زمانين، بل بلحاظ جعل ظرف واحد لهذا الحكم الوحداني، لا جعل حصتين من
طبيعي الظرف، فوحدته في هذه المرحلة، وعدم تفرقه أجنبي عن تعدده في
الخارج، وتخلل العدم بين زماني ثبوت الحكم قبلا وبعدا.
ولا فرق في انحفاظ وحدة الحكم، ووحدة ظرف ثبوته جعلا بين أن يكون
الوحداني طبيعي الزمان، أو حصة منه، كما لا فرق - في تخصصه بحصة - بين
كونه كذلك بدال واحد أو بدالين.
ومن البين أنه لو امر باكرام زيد - مثلا - في يوم الجمعة مطلقا بحيث لو حظ يوم
الجمعة ظرفا وحداني متعلق بطبيعي الاكرام فإنه لا شبهة في وحدة الحكم
واستمراره في ظرفه - وهو يوم الجمعة - من دون تخصصه بحصة خاصة من
طبيعي يوم الجمعة، مع أن كل يوم جمعة منفصل عن جمعة أخرى خارجا.
فكذا لو أمر باكرام زيد في طبيعي الزمان ما عدا الجمعة، فإنه ظرف واحد، وان
تخلل العدم بين أزمنة ثبوت الحكم خارجا، والا فلو بنى على ملاحظة الخارج،
للزم من تقييده من أول الامر مثلا - مع ظهور القضية في ثبوت الحكم بالوفاء من
حين انعقاد العقد - تبعض الواحد وتجزي البسيط والواحد لا يتبعص والبسيط لا
يتجزئ، وحيث انه ليس الثبوت الخارجي ملاك الوحدة، والتعدد، والاستمرار،
والانقطاع، بل الثبوت في مرحلة الجعل، فكما لا تعدد، ولا انقطاع في هذه
المرحلة، كذلك لا تبعض ولا تجزي فيها.
ومن جميع ما ذكرنا تبين صحة الاستدلال باصاحة الاطلاق عند الشك في

(1) في صدر هذه التعليقة.
264

تقييد زائد، ولا مجال للاستصحاب في هذا القسم، كما لا مجال له في القسم
الآخر المبني على كون الزمان ملحوظا بنحو التقطيع الموجب لتعدد الحكم
والموضوع جعلا، فتدبره فإنه حقيق به.
ولبعض أعلام العصر (1) تقريب برهاني لعدم جواز الاستدلال بالعام بل
حمل عليه كلام الشيخ الأعظم - قدس سره - (2).
محصله: أن استمرار الحكم من العوارض المتأخرة عن الثبوت الحكم ونسبته
إليه كنسبة العرض إلى موضوعه، وما كان كذلك يستحيل أن يكون الدليل
المتكفل لجعل الحكم متكفلا للأمر المتأخر عن جعل الحكم، فالعموم الزماني
فوق دائرة الحكم، لا كاطلاق المتعلق تحت دائرة الحكم، فلا يعقل أن يكون
لدليل الحكم اطلاق بالإضافة إلى الأمر المتأخر عن جعله، بل لابد من أن يكون بدليل آخر.
ومن البين - أيضا - أن الدليل المتكفل لجعل الاستمرار، انما هو بنحو القضية
الحقيقية، التي موضوعها الحكم ومحمولها الاستمرار، والمحمول مرتب على
ثبوت موضوعه، الا أنه متكفل لثبوته، لاستحالة تكلف الأمر المتأخر عن ثبوت
شئ لثبوت ذلك الشئ مع أن ثبوته متفرع على ثبوته.
وعليه - فلا يمكن التمسك باطلاق دليل الحكم، حيث لا يعقل اطلاقه ولا
يمكن التمسك بدليل الاستمرار، لأن ثبوت موضوعه مشكوك على الفرض،
للشك في التخصيص بعد خروج الحكم في أحد الأزمنة. هذا ملخص مرامه.
أقول: أما عدم تكفل دليل الحكم لاستمراره، فتوضيح الجواب عنه:
أن الاستمرار - تارة - مساوق للبقاء الذي هو فرع وحدة الوجود، المتحد مع
الايجاد بالذات، فلا يعقل أن يكون مجعولا بجعل آخر، لأن تعدد الجعل يقتضي
تعدد المجعول، والتعدد مناف للبقاء، إذ لا تعدد الا بفرض تخلل العدم، ومعه

(1) هو المحقق النائيني - قده - راجع فوائد الأصول: ج 4 التنبيه الثاني عشر، ص 199.
(2) الرسائل ص 359 (التنبيه العاشر).
265

يكون الموجود الثاني حادثا آخر لابقاء للحادث الأول. وحديث تأخر الاستمرار
عن ذات المستمر - في الاستمرار بمعنى البقاء - لا يضر شيئا، لأن البقاء
والحدوث عنوانان لموجود واحد، باعتبار سبقه بالعدم، وعدم عروض العدم
عليه، فكما أن تأخر عنوان الحدوث لا يستدعي جعلا آخر، بل يستحيل اقتضاؤه
له، كذلك تأخر عنوان البقاء.
وهذا المعنى لا تفاوت فيه بين الموجودات التكوينية والموجودات
التشريعية، والجاعل كما يجعل ملكية موقتة، كذلك يجعل ملكية لا موقتة، بل
مرسلة بجعل واحد، وكذا الزوجية الموقتة، والزوجية الدائمة، فكذا اعتبار
الايجاب والتحريم، فينشئ وجوبا موقتا تارة ووجوبا مرسلا ممتدا أخرى.
واحتياج الممكن إلى العلة - في بقائه، كاحتياجه إليها في حدوثه - لا يقتضي
تعدد الجعل، بل يقتضي ببقاء الجعل ببقاء علته المتقوم بوجودها وجود المعلول.
وأخرى - يكون الاستمرار بلحاظ الكون النسبي، الذي هو من مقولة (متى)
وهي من الاعراض القائمة بموضوعاتها، فليس تأخرها عن الحكم تأخر العنوان
عن المعنون، بل تأخر العرض عن موضوعه، الا أن تأخر العرض عن موضوعه
تأخر بالطبع لا تأخر عن الموضوع بالزمان.
بل لا يعقل أن يكون تأخر الكون النسبي الزماني بالزمان، والا لم يكن له، في
زمان - ذلك الكون النسبي.
ومن البين - أيضا - إن الأمر المتقدر بالزمان يستحيل أن ينفرد كونه النسبي
بالجعل، بل جعله يستتبع جعل متاه (1) وكونه النسبي، فهما مجعولان بجعلين لا
ينفك أحدهما عن الآخر، فالجاعل للزوجية يستحيل أن يجعل الزوجية أولا ثم
يجعلها ذات وقت - قصير أو طويل، أو دائما. مضافا إلى اختصاص المجعولات
التشريعية بوجه آخر، وهو أن الوجوب مثلا في نفسه طبيعة مهملة، فإذا كان النظر
مقصورا على نفس ذاته، كان ماهيته - من حيث هي - لا موقع لحمل شئ عليه الا

(1) اي زمانه.
266

حمل ذاتياته في مقام الحدود.
وإذا النظر خارجا عن مقام ذاته بإرادة جعله في زمان، فلابد من أن يتعين
بأحد أنحاء التعين من شرط شئ أو بشرط لا، أو لا بشرط - المسمى باللا شرط
القسمي، ويستحيل جعله بلا تعين، ولا جعله أولا ثم جعله متعينا، لرجوع جعل
الأول إلى جعل اللا متعين وهو محال.
ومن جميع ما ذكرنا تبين أن جعل الاستمرار - باي معنى كان - لا يعقل أن
يكون منحازا ومنفردا عن جعل ذات المستمر، من دون فرق بين المجعولات
التكوينية والمجعولات التشريعية، وأن التأخر الطبعي لا ينافي المعية الزمانية، بل
لا ينافي الاتحاد في الوجود كما حقق في محله.
وأما ما افاده من عدم كفاية الدليل المتكفل للاستمرار.
فمجمل الجواب عنه أن استمرار الشئ فرع ثبوته بالجملة لا فرع ثبوته في
الزمان الثاني والثالث، فان ثبوته - فيما بعد - عن استمراره وبقائه، لا أنه مما يتفرع
عليه الاستمرار.
وعلى هذا - فنقول: حيث أن المفروض وجود العموم الافرادي المتكفل
لحكم كل فرد فرد في الجملة، فإذا شك في استمرار الحكم لفرد - من جهة الشك
في أصل التخصيص - فبالعموم الافرادي تحقق ثبوته في الجملة وبالدليل الدال
على استمرار الحكم تثبت بقائه.
وإذا شك في الاستمرار للشك في مقدار التخصيص، فبناء على مسلك الشيخ
الأعظم - قدس سره - (1) من خروج الفرد في زمان: فهو في قوة عدم الدليل على
ثبوت أصله.
وأما بناء على ما سلكناه من عدم خروج الفرد وعدم ورود التخصيص على
العموم الافرادي بل الخروج في بعض الأزمنة تقييد لطبيعي الزمان الذي لوحظ

(1) الرسائل: ص 395 (التنبيه العاشر).
267

ظرفا للحكم وجعله حصة، فحينئذ يمكن التمسك باطلاق الدليل المتكفل
لحكم الافراد، وبالدليل الدال على استمرار كل حكم، لفرض عدم خروج الحكم
الثابت أصله عن تحت العوم، فافهم واستقم.
قوله: نفيا وإثباتا في غير محله.... الخ.
أما إطلاق كلامه - قدس سره - نفيا من طرف الاستدلال بالعام الذي اخذ
الزمان ظرفا لاستمراره، فإنه يصح فيما إذا كان التخصيص في الأثناء، دون ما إذا
كان من الابتداء أو الانتهاء.
وأما اطلاق كلامه - قدس سره - نفيا من طرف إجراء استصحاب حكم الخاص
- في قبال العام الذي اخذ فيه الزمان قيدا - فإنه إذا كان حكم الخاص بنحو
الظرفية - لا بنحو القيدية - وسقط العام المزبور عن الحجية بالمعارضة، فلا محالة
يصح إجراء استصحاب حكم الخاص، فان مقتضيه موجود والمانع فيه مفقود.
وأما اطلاق كلامه - اثباتا - من طرف استصحاب حكم الخاص، الذي في قبال
العام، الذي اخذ فيه الزمان ظرفا لاستمراره، فإنه غير صحيح، لأن المخصص:
تارة يكون فيه الزمان أيضا - كالعام ظرفا لثبوت حكمه. وأخرى - يكون قيدا
لموضوعه، فان كان من قبيل الأول صح الاستصحاب، وإن كان من قبيل الثاني،
فلا يصح لتعدد الموضوع.
والانصاف: أن كلام الشيخ - قدس سره - مسوق لمانعية العام عن الاستصحاب
- تارة - وعدم مانعيته أخرى، فسقوطه بالمعارضة - الموجبة للرجوع إلى
الاستصحاب - غير مناف لمانعيته في نفسه على تقدير ثبوته، كما أن عدم وجود
المقتضي للاستصحاب - بأخذ الزمان في الخاص قيدا أيضا غير مناف لعدم
مانعية العام في نفسه، إذا كان الزمان ظرفا لاستمرار حكمه.
لكنك قد عرفت أن التحقيق اتحادهما في الحكم - نفيا واثباتا - كما مر آنفا.
268

(اعتبار بقاء الموضوع)
قوله لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع.... الخ.
توضيح الكلام وتنقيح المرام ببيان أمور:
منها - أن مورد التعبد الاستصحابي هو المتيقن سابقا، المشكوك، لا حقا،
والشك في المتيقن بنفسه - دون غيره ولو مثله - يقتضى اتحاد المشكوك
والمتيقن من جميع الجهات المعتبرة فيما هو المهم للمستصحب.
ومنه يظهر أن لزوم هذا الاتحاد من اجل إضافة الشك إلى المتيقن، لا من اجل
إضافة الشك إلى بقائه، فلو فرض تعلق الشك بثبوت المتيقن - كما في قاعدة
اليقين - لكان مقتضيا للاتحاد أيضا فيعلم أن إضافة الشك إلى البقاء في لزوم
الاتحاد مستدرك.
ثم إنه من البين: أن ثبوت المستحب - لمعروضه في ظرف اليقين والشك -
لازم (1)، دون ثبوته خارجا، إذ لا يتقوم اليقين بوجوب شئ بثبوت الوجوب
لذلك الشئ خارجا، بداهة: ان اليقين والشك يتقومان بمتعلقهما - كائنا ما كان -
في ظرف ثبوت اليقين، والشك لا في الخارج عن أفق النفس، فإذا فرض أن
المتيقن ثبوت شئ لشئ لم يكن مقتضى قاعدة الفرعية - القاضية بأن ثبوت
شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له - تحقق المثبت له في الخارج حتى يجب احراز
موضوع المستصحب ومعروضه في الخارج.
بل ثبوت شئ لشئ خارجا يستدعي ثبوت المثبت له في الخارج - كثبوت
القيام لزيد - وثبوت شئ لشئ ذهنا يستدعي ثبوت المثبت ذهنا - كثبوت
الكلية والنوعية للانسان - وثبوت شئ لشئ في ظرف اليقين والشك يستدعي
ثبوتهما العنواني المقوم لصفتي اليقين والشك لا ثبوتهما الأجنبي عن ما هو
المقوم لليقين والشك، والتعبد الاستصحابي لا يدور مدار الواقع بل مدار اليقين

(1) اي لابد منه.
269

والشك.
ومنها - أن المستصحب ليس دائما ثبوت شئ لشئ، حتى يتوهم لزوم
احراز المثبت له خارجا لقائدة الفرعية، بل ربما يكون ثبوت الشئ كوجود زيد
مثلا، ومعروض الوجود نفس الماهية والماهية موجودة بالعرض، والوجود
بالذات، ولا ثبوت للماهية في حد ذاتها، وحيث لا ثبوت لها، فلا حدوث لها، ولا
بقاء لهاء، فإنهما خصوصيتان في الموجود فلا معنى لاحراز بقائها مع الشك في
وجودها.
وتوهم تقررها غفلة عن كون التقرر في وجودها في الذهن، بنحو عدم اعتباره
معها، والا فالثبوت الحقيقي منحصر في العيني والذهني.
بل التحقيق: أن حال جملة من الأمور - التي تعد من ثبوت شئ لشئ - حال
الوجود الذي ليس هو الا ثبوت الشئ، وذلك جميع الأحكام المتعلقة بأفعال
المكلفين فان الصلاة المعروضة للوجوب ليست بوجودها الخارجي ولا
بوجودها الذهني معروضة للوجوب، للبراهين المذكورة في مبحث اجتماع الأمر والنهي
وغيره مرارا، بل بوجودها العنواني المقوم للإرادة التشريعية، أو للبعث
الاعتباري، فلا ثبوت لها في مرحلة موضوعها الا بثبوت شوقي أو اعتباري،
وحيث لا ثبوت لها في حد ذاتها، فلا معنى لاحراز بقائها، بل اللازم مجرد اتحاد
المتيقن والمشكوك، سواء كان المتيقن ثبوت شئ لشئ أو ثبوت شئ.
ومنها - أن المستصحب إذا كان وجود الشئ، فهو على قسمين:
أحدهما - ما يكون حقيقته غير قابلة للحركة والاشتداد، فوحدة وجوده - في
ظرف اليقين والشك - تستدعي وحدة ما يضاف إليه والا لم يكن المشكوك عين
المتيقن.
ثانيهما - ما يكون حقيقته قابلة للحركة والاشتداد من مرتبة إلى مرتبة، كالحركة
من حد الضعف إلى الشدة أو من نوع إلى نوع آخر، كما في الحركة من الخضرة
إلى الصفرة ومن الصفرة إلى الحمرة، أو من المنوية إلى الدموية، ومنها إلى
270

اللحمية، وهكذا.
وهذا القسم لا منافاة بين وحدة وجودها - من مبدأ الحركة إلى منتهاها - مع
تبدل ما يضاف إليه الوجود من مرتبة إلى مرتبة، ومن نوع إلى نوع، فلابد - حينئذ -
أن يلاحظ أن الأثر المهم للمستصحب يترتب على وجود ذلك الشئ بمرتبة
منه، أو على نفس وجوده - بأية مرتبة كان - أو على وجود نوع منه، أو على وجود
الجامع بين أنواعه، فلا يضر القطع بتبدله لو كان باقيا على الثاني دون الأول - وان
كان ظاهر تعليقة شيخنا العلامة - قدس سره - (1) أن القطع بالتبدل غير ضائر
مطلقا، لكنه ينبغي حمله على ما ذكرنا من ترتب الحكم على الجامع بين المراتب
أو بين الأنواع.
وأما توهم: أن اختلاف الماهيات المنتزعة كاشف عن تعدد الوجود، وقياس
المورد بوجود زيد وعمر.
فهو غفلة عن قبول بعض الحقائق للحركة والاشتداد، ومقتضاه انحفاظ
الموضوع في الحركة، والاتصال في الوجود. وعليه فاستصحاب وجود الشئ
بمرتبته - مثلا - استصحاب الفرد، واستصحاب وجود الجامع بين المراتب -
للقطع بتبدله لو كان - من استصحاب الكلي، قد مر وجهه في مبحث استصحاب
الكلي فراجع (2).
ومنها - أنه لا فرق فيما ذكرنا - من كفاية اتحاد اليقين والمشكوك، دون لزوم
بقاء الموضوع - بين ما إذا كان المستصحب هو الوجود المحمولي أو الوجود
الرابط، سواء كان الشك في الثاني مسببا عن الشك في وجود المثبت له، كالشك
في ثبوت القيام لزيد المسبب عن الشك في وجود زيد، أو لم يكن الشك فيه
مسببا عنه، بل عن غيره.

(1) على الرسائل ص 230: ذيل قول الشيخ - قد - (الأول بقاء الموضوع).
(2) تقدم في ص 180 (ذيل قول الماتن - قده - (فإنه يقال: الامر وان كان كذلك الا أن لخ).
271

وعن بعض أجلة العصر - في مقام الايراد على اطلاق كلام شيخنا الأستاذ (1) -
قدس سره - الفرق بين الصورتين بعدم جريان الاستصحاب في الأول وجريانه
في الثانية (2).
وملخصه: إن مفاد موضوع الحكم في الوجود الرابط ثبوت القيام لزيد في
فرض وجوده خارجا، فان كان ثبوت القيام له - مع احراز وجود زيد خارجا -
مشكوكا فيجري عليه استصحاب ثبوته له المتيقن سابقا. وإن كان ثبوته - ونفس
وجود زيد خارجا - مشكوكا بشكين مستقلين، من دون استناد الأول إلى الثاني
فاللازم اجراء الاستصحاب فيهما، أما وجود زيد لفرض اليقين به سابقا والشك
فيه لاحقا، وأما ثبوت القيام له على فرض وجوده، فإنه على الفرض شك في
ثبوت القيام له في فرض وجوده.
بخلاف ما إذا كان الشك في ثبوت القيام له مستندا إلى الشك في وجوده، فإنه
لا شك له في ثبوت القيام لزيد في فرض وجوده، حتى يستصحب، بل قاطع
بقيامه في فرض وجوده.
ولا يجدي استصحاب وجوده لاثبات التعبد بقيامه، لأن ثبوت القيام له في
فرض وجوده من لوازمه العادية لا الشرعية.
وبالجملة ما هو موضوع الأثر غير مشكوك، وما هو مشكوك لا يترتب عليه
موضوع الأثر شرعا.
والجواب: أن موضوع الحكم إذا فرض مركبا من وجود محمولي ووجود
رابط، وهو وجود زيد وثبوت القيام له، فالأمر كما مر، حيث أن استصحاب
وجوده المحمولي لا يغني عن وجوده الرابط، وبالعكس، الا أن هذا المعني، لا
دخل له بمقابلة الوجود الرابط للوجود المحمولي، بل هذا من اجل تركب
الموضوع وبساطته.

(1) في تعليقته المباركة على الرسائل ص 229.
(2) راجع درر الأصول ج 2 ص 574 مطبعة جماعة المدرسين.
272

وفرض موضوعية الوجود الرابط ليس الا فرض موضوعية ثبوت القيام لزيد،
وهذا الفرض يستدعي تقوم الموضوع بطرفين، لا أنه يستدعي جزئية فرض
وجود زيد لموضوع الحكم، فالمصحح لاجراء الاستصحاب - في ثبوت القيام
لزيد - ليس كونه مشكوكا في فرض وجوده، بل هذا المعنى البسيط، وهو ثبوت
القيام لزيد مشكوكا فلا حاجة إلى أصلين فيما إذا كان كل منها مشكوكا.
وأما ما أفيد في صورة التسبب: أن ثبوت القيام لزيد في فرض وجود زيد ليس
مشكوكا. فغريب إذ - بناء عليه - هو في فرض وجود زيد ليس مشكوكا، وفي
فرض عدمه أيضا ليس مشكوكا، فأين الشك في الثبوت الرابط المسبب عن الشك
في المرتبط به.
بل إنما لا يشك في بقاء ثبوت القيام لزيد في ظرف الحراز وجوده، كما لا
يشك في ارتفاعه في ظرف احراز عدمه، وأما مع عدم احرازه فهو شاك فعلا في
الوجود الرابط - بقاء وارتفاعا - والمفروض عدم تركب الموضوع كما مر.
قوله، والاستدلال عليه باستحالة انتقال العرض..... الخ.
حاصل الدليل أن عنوان الاستصحاب ابقاء نفس المتيقن، فاما أن يراد ابقاؤه
في موضوعه فهو المطلوب، وإما أن يراد ابقاؤه في غير موضوعه، فهو من باب
انتقال العرض من موضوعه المتقوم به إلى موضوع آخر، وإما ان يراد ابقاؤه لا في
موضوع، فهو مناف لكونه عرضا، إذ يستحيل أن يكون ما حقيقته متقومة
بموضوعه لا في موضوع (1).
وأورد عليه شيخنا قدس سره في تعليقته (2) إن المحال هو الانتقال، والكون
بلا موضوع بحسب وجود العرض حقيقة، لا بحسب وجوده تعبدا.
وملخصه: أن مقتضى العنوان، وان كان بقاء نفس المتيقن الا أنه لبا جعل ما
يماثله أو يماثل حكمه، فلا يلزم شئ من المحالين بعد عدم اليقين بحسب

(1) راجع الرسائل: 400 (مبحث اشتراط بقاء الموضوع).
(2) ص 230: ذيل قول الشيخ - قده (الأول بقاء الموضوع الخ).
273

وجوده الحقيقي الشخصي.
واقتصر - قدس سره - هنا على دفع انتقال العرض فقط، ولعله انسب، إذ
الموجود بقاء وإن كان مماثلا للموجود أولا، إلا أنه لا يعقل أن يوجد المماثل
أيضا لا في الموضوع إذا كان المستصحب من سنخ الحكم.
نعم إذا كان من سنخ موضوع الحكم، فلا جعل لما يماثله تعبدا أيضا. بل
جعله راجع إلى جعل الحكم المماثل، والتعبد بحكم الموضوع المتيقن لا
يوجب خلو الحكم المجعول عن الموضوع، بل يوجب أن يكون الموضوع
التعبدي العنواني بلا موضوع ومعروض: ولا مانع منه حيث لا وجود له تحقيقا.
ولا تعبدا، بل عنوانا فقط.
ويمكن أن يستدل بمثله لما ذكرنا من اتحاد المشكوك والمتيقن.
بتقريب أن المتيقن، سواء كان وجوب شئ أو قيام زيد، أو خمرية مايع، أو
وجود زيد، فمقتضى الشك فيه - كما هو مفروغ عنه - أن يكون المشكوك أيضا
وجوب ذلك الشئ، وقيام زيد وخمرية ذلك المايع ووجود زيد، والا فاما أن
يكون المشكوك نفس الوجوب فقط، أو القيام فقط، أو الخمرية فقط، أو الوجود
فقط، وإما أن يكون المشكوك وجوب شئ آخر، وقيام عمرو وخمرية مايع آخر،
ووجود عمرو مثلا.
فان كان الأول لزم محذور العرض بلا موضوع، لأن الوجوب يتقوم بموضوعه
ولا يعقل الوجوب المطلق حتى يعقل الشك فيه، والقيام المطلق كذلك، فلا
يعقل الشك فيه، والخمرية عنوان المايع، فلا يعقل وجودها من دون معنونها، فلا
يعقل الشك فيها، والوجود المطلق في الموجودات الإمكانية لا يعقل، فلابد أن
يكون مضافا إلى ماهية، فالماهية وإن كانت متشخصة بالوجود، لكن الوجود
الامكاني متخصص بها، فلا يعقل الشك في الوجود المطلق، فمحذور الكل نظير
محذور كون العرض بلا موضوع.
وإن كان الثاني - لزم نظير محذور انتقال، العرض، لأنه - مع التحفظ على الشك
274

في المتيقن - لو كان إليه الشك غير ما أضيف إليه اليقين - مع فرض وحدة
المتيقن والمشكوك قضاء لتعلق الشك بالمتيقن - فان أرجعنا المشكوك إلى
المتيقن ثبت المطلوب، وهو لزوم كون الموضوع فيهما متحدا.
وإن أرجعنا المتيقن إلى المشكوك لزم ما هو كانتقال العرض، إذ كما أن
تشخص العرض بموضوعه، فيستحيل انتقاله إلى غيره، كذلك تقوم الوجوب
المتيقن بموضوعه وكذلك تشخص القيام المتيقن بموضوع، وتقوم العنوان
بمعنونه، وتخصص الوجود المتيقن بماهيته، فحفظ وحدة المتيقن - اي
المستصحب - والمشكوك مع تعلقه بغير موضوعه، موجب للمحذور المذكور.
قوله: في أن هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف... الخ.
تنقيح البحث بالتكلم في مقامات:
منها - أن المعاني ربما تكون حقيقية لا تتفاوت بالقياس، إلى شئ دون آخر،
كجملة من الجواهر والاعراض - وربما تكون إضافية، فتختلف بالقياس، إلى شئ
دون آخر، ومن هذه الجملة: الوحدة والاتحاد، ويتبعهما النقض والابقاء.
فإذا فرض أن الموضوع، له مراتب من الموضوعية - عقلا ونقلا وعرفا -
فالموجود في الحالة الثانية ربما يكون متحدا مع الموجود في الحالة الأولى وربما
لا يكون.
فإذا لو حظ أن الموضوع العرفي، فالموجود لا حقا متحد مع الموجود سابقا،
وإذا لو حظ الموضوع الدليلي كان مباينا معه، كما أنه إذا لو حظ الموضوع الدليلي،
وكان موجودا في الحالة الثانية، فالباقي واقعا عين الثابت سابقا بالإضافة إليه،
وغيره بالإضافة إلى الموضوع العقلي، وعلى اي حال ففي مورد اتحاد السابق
واللاحق - سواء كان بالإضافة إلى الموضوع العرفي أو بالنسبة إلى الموضوع
الدليلي يكون الابقاء والنقض حقيقتين فان المسامحة في جعل الموضوع جسم
الكلب، مثلا لا ينافي اتحاد الباقي والثابت أولا حقيقة، فلا ينافي كون الجري على
وفقه ابقاء حقيقة، ولا رفع اليد نقضا حقيقة.
275

ومنه يعلم أنه لا دخل له بمسألة الحقيقة الادعائية، وأنه بعد البناء على أن
الشئ من افراد المفهوم يصدق المفهوم عليه حقيقة، فإنه إنما يكون من ذلك
الباب إذا كان اتحاد الموضوع في القضية المتيقنة والقضية المشكوكة مسامحيا،
فان النقض حينئذ مسامحي الدقة وحقيقي بالادعاء، وأما إذا كان الاتحاد حقيقيا،
والمسامحة في تحديد الموضوع - كما عرفت - فلا مجال للقياس المزبور أصلا،
فان جسم الكلب المأخوذ موضوعا بمسامحة العرف باق بعد زوال الحياة
حقيقة، لا مسامحة وهو واضح.
ومنها - أن للعرف نظيرين: أحدهما - بما هو من أهل المحاورة، ومن أهل فهم
الكلام، وبهذا النظر يحدد الموضوع الدليلي ويستفيد من الكلام، فيرى أن
الموضوع في قوله (الماء المتغير نجس) هو الماء المتغير - بما هو متغير -
وثانيهما - بما ارتكز في ذهنه من المناسبة بين الحكم وموضوعه - على
خلاف ما هو متفاهم الكلام - فيرى أن الموضوع - في المثال المزبور - ذات الماء،
وأن التغير واسطة في ثبوت النجاسة، لما ارتكز في ذهنه من أن نجاسة من
عوارض الماء، لا من عوارض جسمه ونفسه، الحيوانية، وإن كان المفهوم من
الكلب المجعول موضوعا في لسان الدليل هو الحيوان الخاص.
وحينئذ فمنشأ الشك في بقاء النجاسة: هو أن التغير كما أنه واسطة في
حدوث النجاسة لذات الماء، هل هو واسطة لها بقاء أم لا؟ وأن الحياة واسطة في
حدوث النجاسة لجسم الكلب، فهل هي واسطة لها بقاء أيضا أم لا؟
ولا يخفى عليك أن ما ارتكز في ذهن العرف من المناسبة أو غيرها لابد من أن
لا يكون من القرائن الحافة بالكلام، بحيث يمنع من انعقاد الظهور في ما هو
مدلول اللفظ لولاه، ولا من القرائن المنفصلة المتبعة في رفع اليد عن الظهور
المستقر، فإنه على التقديرين يكون محددا للموضوع الدليلي، لا موضوعا في
قبال الموضوع الدليلي كما هو محل الكلام.
وعليه فيشكل الأمر في الموضوع العرفي المسامحي بتقريب أن موضوعية
276

شئ لحكم لها مرحلتان:
الأولى مرحلة اللب والواقع، وفي المقام الثبوت.
الثانية - مرحلة الانشاء والدلالة ومقام الاثبات.
فالموضوع باعتبار الأولى موضوع حقيقي عقلي. وباعتبار الثانية موضوع
دليلي ولا يكون الشئ معروضا للطلب في غير هاتين المرحلتين يوصف
بالموضوعية، فكون الشئ موضوعا لحكم الشارع ليس الا باعتبار تعلق طلبه به -
لبا أو لفظا.
وليست الموضوعية كالملكية متقومة باعتبار المعتبر - شارعا كان أو غيره -
حتى يتصور اعتبارها من العرف حقيقة، بل لابد من كون نظر العرف طريقا محضا
إلى ما هو الموضوع عند الشارع، والمفروض أن ذا الطريق لا ثبوت له على
التحقيق، الا في مرحلة اللب أو اللفظ، فلا يعقل أن يشكل نظر العرف المسامحي
موضوعا له حكم، بل مرجعه إلى المسامحة في الموضوع، مع فرض كون العقل
والنقل على خلافة.
وحيث أن الموضوع مسامحي، فمقتضى التضايف كون الحكم كذلك، فثبوت
الحكم له أيضا مسامحي فلا يقين بثبوت الحكم من الشارع لهذا الموضوع حتى
يكون ابقاؤه واجبا ونقضه محرما.
ويمكن أن يقال: ان نظر العقل والعرف - بكلا وجهيه - طريق إلى الواقع.
فتارة - يكون البرهان العقلي طريقا إلى ثبوت الحكم لموضوع خاص واقعا.
وأخرى - يكون مفاد الدليل بحسب المتفاهم العرفي طريقا إلى ثبوته واقعا.
وثالثة - تكون المناسبة المرتكزة في ذهن العرف مثلا طريقا إلى ثبوته له واقعا،
الا أن هذه المناسبة الارتكازية ليست بحد تكون قرينة عقلية ولا عرفية تمنع عن
انعقاد الظهورية أو تقتضي صرف الظهور ورفع اليد عنه، بل بحد لو خلي العرف
وطبعه لحكم بأن الحكم المتيقن أصله ثابت لمثل هذا الموضوع، فالشخص - بما
هو عاقل برهاني - يقطع بثبوت الحكم لموضوع خاص واقعا، وبما هو من أهل
277

فهم الكلام يقطع بثبوت الحكم لموضوع آخر متخصص بخصوصية أخرى، وبما
ارتكز من المناسبات في ذهنه، وبطبعه يقطع بثبوت الحكم لموضوع ثالث مثلا.
فيقع الكلام - حينئذ - في أن الخطاب المتكفل لحكم الاستصحاب متوجه
إليه أو بما هو لو خلي وطبعه يرى الحكم ثابتا لموضوع مخصوص.
وسيأتي إن شاء الله تعالى تعيين الأخير.
وهذا المعنى لا يتفاوت حكمه بين ما إذا التفت إلى مقتضى العقل ومفاد
النقل المخالفين لنظره الطبعي، وارتكازه العادي، وما إذا لم يلتفت، لأن حيثية
كونه بطبعه كذلك محفوظة بالفعل، فإذا كان خطاب (لا تنقض) مسوقا إليه بنظره
العرفي الطبعي كان النقض بهذا محرما عليه دون غيره.
(ما الفرق بين الموضوع العقلي والدليلي)
ومنها - أن الفرق بين الموضوع العقلي والموضوع الدليلي: أن جميع القيود
والخصوصيات المأخوذة في القضية اللفظية، وإن لم تكن مقومة للموضوع في
اللفظ، لكنها مقومة له في اللب فإذا قطع بزوال بعض تلك الخصوصيات فلا
محالة يقطع بزوال الموضوع الحقيقي فلا يعقل الشك في بقاء حكمه، كما أنه إذا
شك في زوال تلك الخصوصية يشك في بقاء الموضوع الدقيقي، مع أنه لا بد من
احراز الموضوع في الاستصحاب.
والوجه في كون القيود والخصوصيات مقومة للموضوع - حقيقة
- أمور:
الأول - أن القضية ذات أجزاء ثلاثة: وهي الموضوع والمحمول والنسبة.
وفيه: أن مقتضى ثبوت شئ لشئ وإن كان ذلك، الا أن ثبوت شئ لشئ
ربما يتوقف على شئ وهو أجنبي عن مقومات القضية، فيمكن الشك في ثبوته
له، للشك في كون الموقوف عليه علة لثبوت الشئ لشئ حدوثا فقط أو بقاء
278

أيضا.
الثاني - أن الطالب لا يأخذ شيئا في طلبه وحكمه، الا لدخله في حصول
مطلوبه، والا لزم اللغوية والعبث.
وفيه: أنه يتوقف على عدم معقولية دخلة في تحقق أصل طلبه، والا لم يلزم
اللغوية والعبث، فالمسألة مبنية على معقولية الواجب المشروط، وقد مر مرارا
أنه معقول، وأن القيد يمكن أن لا يكون له دخل في مصلحة الموضوع بوجه،
وتمحض دخله في تمامية مصلحة الحكم، وعدم كونه ذا مفسدة مانعة عن تعلق
الحكم بالموضوع.
لا يقال: هذا في البعث والزجر، وأما الإرادة والكراهة، فلا يعقل دخل القيد
فيهما، لأنهما ليستا من الأفعال ذوات المصالح والمفاسد، فلا محالة كل قيد
يفرض هناك، فله دخل في مصلحة المراد وعدم كونه ذا مفسدة.
لأنا نقول: أولا أن الحكم القابل للاستصحاب هو البعث والزجر، فإنهما من
الأحكام المجعولة دون الإرادة والكراهة، فإنهما من الصفات النفسانية ولا معنى
لجعل الحكم المماثل على طبقهما.
وثانيا - أن ذات المراد - لكونها ذات مصلحة من حيث اقتضائها لها - معروضة
للإرادة، وأما القيد الذي له دخل في فعلية ترتب المصلحة على المراد، فلا
يعقل أن يكون مقوما للمراد، حيث أنه على الفرض ليس مما يتقوم به اقتضائه
للمصلحة، فموضوع المصلحة ومعروض الإرادة ذات المراد.
والكلام في ابقاء الإرادة في موضوعها ومعروضها، وأما الموضوع الفعلي
للإرادة أو للحكم المجعول، أو للمصلحة فهو وإن كان هو الأمر المتقيد الا أن
اللازم في ابقاء الحكم ونحوه هو ابقائه لذات معروضة لا ابقائه للمعروض الفعلي
المساوق لعروض العارض. فتدبر.
ومنه يظهر أن عدم تقوم الموضوع بالقيد غير مبني على رجوع القيد إلى مفاد
الهيئة ودخله في مصلحة البعث، بل لو كان دخيلا في مصلحة المبعوث إليه أيضا
279

كان معروض البعث عين معروض الإرادة، واللازم بقاؤه هو معروض البعث.
فتدبر جيدا.
الثالث - أنه قد مر مرارا إن جميع الحيثيات التعليلية حيثيات تقييدية
لموضوع حكم العقل بحسن شئ أو قبحه، ولذا قيل: الاغراض عناوين
لموضوعاتها في الأحكام العقلية، وقد حقق - أيضا - ان الشارع لا يأمر الا بما هو
حسن عقلا، وأنه لا ينهى الا عما هو قبيح عقلا، لقاعدة التطابق بين حكمي العقل
والشرع، فما هو الموضوع لحكم العقل هو الموضوع لحكم الشارع، واقعا لبا وإن
اخذ ما يلازمه أو ما هو أخص أو أعم منه موضوعا لفظا ولا عبرة بالنقل الذي
على خلافة العقل.
والجواب: أن الحكم الشرعي - تارة - بعين ملاك الحكم العقلي فحينئذ
يكون الملاك عنوانا لموضوعه، و - أخرى - يكون بملاك في نظر الشارع، بحيث لو
اطلع عليه العقل لرآه سببا لايجاب شئ أو تحريمه شرعا، وقد مر مرارا: أن الملاك المولوي
للحكم الشرعي لا يجب أن يكون عين ملاك التحسين والتقبيح
العقليين، فان ملاكهما هي المصلحة العامة، والمفسدة العامة، اللازمة مراعاتهما
لحفظ النظم، وملاك الحكم الشرعي المولوي هي المصالح والمفاسد الخاصة،
التي يتفاوت فيهما حال الاشخاص، بل ربما يتفاوت بحسب الأزمان، وربما لا
يكون لها دخل في انحفاظ النظام وبقاء النوع.
وعليه - فلا موجب لكون الموضوع أعم أو أخص مما يكون فيه الملاك
المولوي، وقد عرفت: ان المراد من موضوع الحكم والإرادة والمصلحة - واقعا -
نفس معروضها، لا بما هو معروضها، حتى يؤخذ ماله دخل في فعلية ترتب
المصلحة والإرادة، والحكم في الموضوع الحكم.
وأما ما عن الشيخ الأجل - قدس سره - في الرسائل (1) في مقام الجواب: من
أن العبرة - في الاستصحاب من باب الاخبار - بما هو موضوع عرفي، فهو تسليم

(1) الرسائل ص 325، في تقسيم الاستصحاب باعتبار دليل المستصحب.
280

للاشكال بناء على اعتبار الموضوع العقلي.
وحينئذ فيرد على نظير ما أورد على الموضوع العرفي، من أن الموضوع
الدليلي إذا كان على خلافه العقل لا يكون موضوعا لحكم الشارع واقعا. بل
البرهان العقلي قرينة على خلاف الظهور الكاشف عن الواقع، فيحدد به موضوع
الحكم حقيقة. وجوابه ما عرفت في الموضوع العرفي.
ومنها - أن الموضوع إذا كان له مراحل ثلاثة، فهل يمكن أن يفيد الاطلاق
حرمة النقض - سواء كان عقلا أو دليلا أو عرفا - أو يختص بأحد الاعتبارات، لعدم
معقولية الاطلاق؟
ظاهر شيخنا العلامة - رفع الله مقامه - (1) - كما تقدم منه قدس سره في أواخر
البحث عن استصحاب الأمور التدريجية - عدم إمكان الاطلاق، لعدم إمكان
الجمع بين النظرين، إذا لم يكن هناك جامع مفهومي يعم النظرين.
وتحقيق الحال: أن اعتبار الشئ بشرط شئ، واعتباره لا بشرط قسميا
اعتباران متقابلان، فتارة يكونان متقابلين وجودا، كما إذا رتب حكم شخصي
على الماء مثلا، فان الماء - المفروض كونه موضوعا - لا يعقل أن يلاحظ
متقيدا بالتغير، وأن يلاحظ مطلقا من حيث التغير وعدمه، وأخرى يكونان
متقابلين من حيث التأثير، كما إذا رتبت النجاسة على الماء المتغير في قضية،
وعلى الماء إذا تغير في قضية أخرى، فان تعدد القضية يوجب عدم تقابل
الاعتبارين وجودا، الا انهما متقابلان تأثيرا، إذ يستحيل دخل التغير في النجاسة
اقتضاء، كما هو مفاد القضية الأولى، وعدم دخله كذلك، كما هو مفاد القضية
الثانية.
فتقابل اعتباري بشرط شئ، كما هو مقتضى الموضوع العقلي، واللا بشرط
القسمي كما هو مقتضى الموضوع الدليلي - بكلا وجهي التقابل - إنما هو في
القضايا المتكفلة لأصل ثبوت الحكم لموضوعه عقلا أو دليلا أو عرفا، لا في

(1) الكفاية ج 2 ص 318.
281

قضية (لا تنقض). بل لو حظ في هذه القضية طبيعي الموضوع الجامع
للموضوعات - بجميع اعتباراتها - بنحو اللا بشرط القسمي مطلقا من حيث
العقلية والدليلية والعرفية.
وليس الاطلاق بمعنى الجمع بين القيود، حتى يلزم اجتماع الاعتبارات
المتقابلة من حيث التأثير، كما أنه ليس دليل (لا تنقض) قضية متكفلة لأصل
ثبوت الحكم الخاص لموضوعه، حتى يلزم اجتماع حرمة النقض مجرد تعلق
اليقين والشك بطبيعي الحكم الثابت لطبيعي الموضوع لا بما هو عقلي أو دليلي
أو عرفي.
وحال هذا المطلق حال سائر المطلقات من حيث ملاحظة النفس الطبيعي
وملاحظة لا بشرطيته، بنحو تعدد الدال والمدلول، ولا حاجة إلى ملاحظة
طبيعي الموضوع لا بشرط، لا إلى جامع مفهومي يعم الاعتبارات المتقابلة.
كما أنه ليس المراد من النظر ما ربما يتوهم، من النظر الخارجي، ليترتب عليه
أنه لا يعقل الجمع بين النظرين، وأنه لا يتعقل الجامع بين النظرين، بل المعقول
من النظر هو اللحاظ العلمي الذي لا يعقل تحققه الا مشخصا بمنظور مفهومي.
وعليه فنتيجة الاطلاق حرمة النقض، إذا كان الموضوع العقلي أو الدليلي أو
العرفي باقيا وشك في بقاء حكمه، ففي المورد الذي لا بقاء لموضوعه عقلا، وله
البقاء دليلا يحرم النقض، لتحقق موضوعه الدليلي. وعدم تحقق الموضوع
العقلي لا يقتضي جواز النقض حتى يكون مدلوله مشتملا على المتنافيين، بل
عدم الحرمة بعدم المقتضي لا باقتضاء العدم، فلا ينافي ثبوت المقتضي من وجه
آخر.
كما أنه إذا كان الموضوع باقيا بنظر العقل، دون العرف، كان مقتضى الاطلاق
حرمة النقض لتحقق موضوعه العقلي المقتضي للحرمة، وإن لم يتحقق موضوعه
العرفي الذي لا يقتضي ما ينافي.
ومنها - أنه بناء على أن المحرم هو النقض العرفي، هل المراد ما هو مصداق
النقض واقعا؟ ونظر العرف طريق إليه؟ فيكون خطاب (لا تنقض) حينئذ تصويبا
282

لنظر العرف؟ أو المراد هو النقض العرفي بما هو كذلك؟ بحيث يكون نظر العرف
مقوما لموضوع الخطاب؟
والظاهر هو الثاني، إذ لا معنى لتصويب النظر الذي على خلافة العقل والنقل،
على الفرض، بخلاف ما إذا فرض ثبوت المصلحة في تحريم ما هو نقض عرفا
وايجاب ما هو ابقاء عرفا عنوانا وجعل الحكم المماثل لذات الموضوع لبا.
إذا عرفت ما قدمناه في المقامات المذكورة، فاعلم أن النقض حيث أنه
حقيقي - على اي حال - فلا مجال لتعيين النقض عقلا بتخيل انه النقض الحقيقي
الواقعي، كما أن النقض المحرم - على أي حال - نقض اليقين بالحكم الشرعي،
فلا يتعين النقض الدليلي بتوهم أن تحريم النقض من الشارع يقتضي تحريم ما هو
نقض بنظره على حسب ما يساعده الأدلة الصادرة منه - في مقام تعيين موضوع
حكمه - وذلك لما مر من اليقين بالحكم الشرعي الواقعي على اي تقدير، غاية
الأمر: أن طريق هذا الحكم الشرعي الثابت لموضوعه مختلف، وصدور الخطاب
من الشارع - بما هو شارع - لا يقتضي الا تحريم نقض اليقين - بما هو امر شرعي -
كما أنه لا مجال لدعوى الاطلاق من حيث العقلية والدليلية، والعرفية، فإنه إنما
يصح إذا لم يكن معين لأحد الاعتبارات.
وحينئذ نقول: كما أن حجية الظاهر عند الشارع تستفاد من كونه في مقام
محاوراته وإفهامه لمراداته كأحد أهل العرف، فكذلك إذ كان للظاهر مصاديق
ومطابقات كلها من افراد حقيقة، وكان بعض مصاديقه مصداقا له بنظر العرف،
فان الشارع من حيث مخاطبته مع العرف كأحدهم، فكما يكون المراد الجدي من
مصاديق النقض ما هو مصداق عندهم، إذا ألقى هذا الكلام من بعضهم إلى
بعض، كذلك إذا ألقى من الشارع إليهم، فإن إرادة غيره منهم تحتاج إلى نصب ما
يدل على تعيينه، دون ما هو متعين عندهم وقد مر سابقا أنه لا مسامحة هنا، لا
في تحديد مفهوم النقض، ولا في تطبيقه على مصاديقه، بل في آمر آخر، وهو
تحديد موضوع الحكم الواقعي.
283

(وجه تقديم الامارة على الاستصحاب)
قوله: والتحقيق أنه للورود فان رفع اليد.... الخ.
تحقيق الحال: أن الامارة إما أن تكون حجة من باب الموضوعية والسببية،
وإما أن تكون حجة من باب الطريقية فان كانت حجة من باب الموضوعية،
فمبناها على انبعاث الحكم المجعول المماثل عن مصلحة أخرى، زيادة على
مصلحة الحكم الواقعي، ولذلك يدور مدار موافقة الواقع، وعليه فالحكم
المماثل بعنوان انه مما أخبر به العادل، أو بعنوان آخر متيقن الثبوت - على أي
تقدير - ومع فعلية حكم المماثل لا يعقل فعلية حكم آخر لا بعنوان الواقع، ولا
بعنوان آخر، فلا يحتمل حكم فعلي آخر، حيث يستحيل ثبوتا، فلا يحتمل إثباتا،
فلا موضوع للاستصحاب المتقوم باحتمال الحكم الفعلي بقاء.
والتحقيق: أن موضوع الأصل، إن كان احتمال الحكم الفعلي، الذي لا
يجامع حكما فعليا آخر، فالأمر كما مر: من ارتفاع الاحتمال حقيقة بسبب جعل
الحكم المماثل.
وإن كان احتمال الحكم الفعلي من قبل المولى بحيث يجامع الفعلي بقول
مطلق، كما هو كذلك، إذ لابد من انحفاظ احتماله عند تعلق الحكم الظاهري به،
وإن لم يكن امارة على خلافه، أو على وفقه، فحينئذ لا ورود، إذ كما يكون
الاحتمال محفوظا مع حكم نفسه، كذلك مع الحكم المجعول بسبب الامارة.
وقد مر مرارا: أن هذا الحق الذي لا محيص عنه، حتى عند شيخنا - قدس سره -
فان الحكم الانشائي المحض بلا داع محال، فلا يحتمل، لا أنه لا اثر له - والحكم
بغير داعي البعث من الدواعي، لا يترقب منه فعلية نفس الداعي فلا يكون من
الحكم الحقيقي الذي هو محل الكلام - فلابد من أنه يكون انشاء بداعي جعل
الداعي، وهو تمام ما بيد المولى، فهو الفعلي من قبله، وصيرورته مصداقا لجعل
الداعي فعلا - وهو الفعلي بقول مطلق - منوط بوصوله بنحو من أنحائه.
284

وإن كانت حجة من باب الطريقية، فان كانت الحجية بمعنى جعل الحكم
المماثل المنبعث عن نفس مصلحة الواقع، كما هو مبنى الطريقية المحضة، فلا
محالة يكون الحكم محصورا على صورة الموافقة للواقع، فلا يقين بالحكم - على
اي تقدير - ليرتفع احتمال الحكم.
وإن كانت بمعنى منجزية الامارة للواقع، فلا حكم مجعول أصلا، ليكون اليقين
به رافعا لاحتمال الحكم.
مضافا إلى ما عرفت آنفا من أن اليقين به غير مناف لاحتمال الحكم الواقعي،
بل لابد من انحفاظه في الأصول مطلقا، ومنه عرفت أنه لا مجال للورود الحقيقي
على أي تقدير.
قوله: وعدم رفع اليد عنه مع الامارة.... الخ.
لا حاجة إلى تغيير السياق، فان الوجه الموجب لورود الامارة - المخالفة
للاستصحاب - واف بورود الامارة الموافقة أيضا، إذ مع اليقين بالحكم المماثل -
المجعول - لا يحتمل حكم فعلي آخر - مثلا كان له، أو ضدا أو نقيضا - فان امتناع
اجتماع المثلين كامتناع اجتماع الضدين والنقيضين.
وأما توضيح ما أفاده - قدس سره - فهو أن هذا الجواب - الذي خص به الامارة
الموافقة - هو الجواب العام عنده - قدس سره - في تعليقته الأنيقة (1).
بتقريب أن أفراد العام - (لا تنقض) - ليس اليقين والشك، لينافي الورود بقاء
الشك على حاله، بل افراده نقض اليقين بالشك، وهذا هو المحرم بقوله عليه
السلام (لا تنقض)، ومع قيام الحجة لأنقض بالشك، بل بالحجة ولو في حال
الشك. فما هو المحرم غير ما هو الواجب.
وإن كان قد التزم - قدس سره - أخيرا (2) بملاحظة قوله عليه السلام (ولكنه

(1) ص 235 ذيل قول الشيخ - قده - (ولا تخصصا بمعنى خروج المورد الخ).
(2) ذيل التعليقة.
285

تنقضه بيقين آخر) (1) بعين ما أجاب به - هنا - من اقتضاء اعتبار الامارة لليقين،
بالحكم، ولو بوجه وعنوان آخر.
والتحقيق: أن عنوان نقض اليقين بالحجة وإن كان مغايرا لعنوان نقض اليقين
بالشك، الا أن مجرد تغاير العنوانين لا يجدى، ما لم يكونا متضادين، فان النقض -
من حيث كونه نقض اليقين بالحجة - وإن كان جائزا الا أنه من حيث نقض اليقين
بالشك حرام، ولا تنافي بين عدم اقتضاء العنوان الأول مع اقتضاء العنوان الثاني.
نعم إذا كانا متضادين بأن يكون نقض اليقين استنادا إلى الحجة جائزا واستنادا
إلى الشك، حراما، لاستحالة صدوره مستندا إلى كليهما، كان الأمر كما أفيد الا أنه
لا ريب في عدم جواز نقض اليقين مع الشك، وإن لم يكن بالشك لوضوح أن
قصد الوجه في عدم الجري العملي على وفق اليقين غير لازم. مع أن لازمه أن في
مورد قيام الامارة تجري الاستصحاب وأن النقض بالشك مع قيام الحجة حرام،
وإن لم يقع منه هذا الحرام خارجا لفرض استناده إلى الحجة لا إلى الشك.
قوله: وأما حديث الحكومة، فلا أصل لها أصلا.... الخ.
سيأتي إن شاء الله تعالى تقريب الحكومة، وما يتعلق به من النقض والابرام.
والذي (2) ينبغي أن يقال في هذا المجال: هو أن العلم المجعول غاية للأصول -
مطلقا - طريقي وله حيثيتان:
إحداهما - حيثية كونه وصول الواقع وصولا بالذات، وبلا عناية، وهذه الحيثية
مناط فعلية الحكم وبلوغه درجة حقيقة الحكمية، كما مر تحقيقه مرارا.
ثانيهما - حيثية كونه منجزا بالذات، وبلا جعل من الشارع، وهذه الحيثية مناط
استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع.
وفي قبال العلم بإحدى الحيثيتين هو الشك، فإنه تارة من حيث عدم وصول
الواقع، وأخرى من حيث عدم المنجز له.

(1) الوسائل: ج 1: الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء: الحديث 1.
(2) في التعادل والترجيح.
286

ثم إن الغاية تارة - هو العلم بماله من الحيثية الذاتية بأحد الوجهين، وأخرى -
يكون العلم عنوانا ومعرفا لحيثية الوصول المعتبر، أو لحيثية المنجر بما هو منجز
- ولو جعلا - لا خصوص المنجز بالذات، وسيظهر الفرق بينهما إن شاء الله تعالى.
وأما أدلة اعتبار الامارة فتارة بعنوان إحدى الحيثيتين الذاتيتين، وكان اعتبار
الامارة بعنوان انها علم كما استظهرناه (1) من قوله تعالى: (فاسئلوا أهل الذكر
إن كنتم لا تعلمون) (2) حيث أن الظاهر الأمر بالسؤال لكي يعلموا بالجواب
لا بأمر زائد على الجواب، ومن قوله عليه السلام في المقبولة (روى حديثنا ونظر
في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا) (3) حيث أن استفادة الأحكام من أحاديثهم
عليهم السلام - مع كونها غالبا ظنية السند والدلالة - قد أطلقت عليها المعرفة،
فحينئذ يكون الخبر بمقتضى أمثال هذه الأدلة - منزلا منزلة العلم في كونه وصولا
للواقع، أو منجرا له، ولا منافاة بين ثبوت الحكم الظاهري إلى غاية، وبين الحكم
بثبوت الغاية بالخبر، فيكون تنزيلا حقيقة وورودا تنزيلا، وهي الحكومة
الاصطلاحية المقبولة.
وأما إذا كان العلم معرفا وعنوانا لمطلق الوصول المعتبر، ولمطلق الحجة
القاطعة للعذر، وكان اعتبار الامارة بعنوان أنها علم، فالخبر حينئذ منزل منزلة
العلم عنوانا، ويكون له الورود الحقيقي على الأصل.
أما إن التنزيل عنواني لا حقيقي، فلأن المنزل عليه - وهو العلم - لا أثر له
بخصوصه، لا من حيث ذاته، ولا من حيث وصوله الذاتي ومنجزيته الذاتية، بل
هو عنوان لما هو الغاية حقيقة، وهو مطلق الوصول المعتبر، ومطلق المنجز
بخلاف الشق المتقدم، فان العلم بماله من الحيثية الخاصة به غاية، فلذا كان
التنزيل هناك حقيقيا وهنا عنوانيا.

(1) تقدم في ج 2 ذيل قوله الماتن - قده - (وقد ورد عليها بأنه الخ).
(2) النحل: الآية 43 والأنبياء: الآية 7.
(3) الوسائل: ج 18: الباب 11 من أبواب القاضي: ص 98 الحديث 1
287

وأما إن الورود حقيقي فان الغاية الحقيقية هو المطلق الوصول المعتبر
والمنجز، غاية الأمر أنه قبل قيام الدليل على اعتبار الخبر، كان الوصول المعتبر
والمنجز كليا منحصرا في العلم الحقيقي، وبعد قيام الدليل وجد له فرد آخر
حقيقة لا اعتبارا، فيكون اعتبار الخبر ايجادا لفرد حقيقي من كلي الغاية الحقيقية،
لا تنزيلا لما ليس من افراد الغاية منزلة الغاية حقيقة.
وأما إذا كان دليل اعتبار الامارة لا بعنوان أنها علم - كالأغلب من أدلة اعتبار
الخبر -
فنقول: ليس مفاد تلك الأدلة جعل الحكم المماثل للواقع ابتداء، بل إما
إيصال الواقع بايصال مماثله بالخبر حجة - بمعنى أنه واسطة في اثبات الواقع
عنوانا - حيث أنه بلسان أنه الواقع، فوصوله بالذات وصول الواقع بالعرض، وإما
تنجيز الواقع بالخبر، فيكون الخبر واسطة في تنجز الواقع حقيقة.
وعليه - فإذا كان العلم معرفا وعنوانا لمطلق الوصول والمنجز، فدليل حجية
الخبر يقتضي جعل فرد لكلي الغاية الحقيقية، من دون تنزيل منزلة العلم ولو
عنوانا، فله الورود الحقيقي فقط.
وإذا كان العلم غاية بماله من الحيثية الخاصة به، فلا تنزيل أيضا منزلة العلم،
بل اثبات الواقع عنوانا فيكون وصولا للواقع العنواني، وهو ورود عنواني
وحكومة حقيقية.
ويمكن أن يقال: إنه إن كان بمدلوله المطابقي إثبات الواقع عنوانا، الا انه
بمدلوله الالتزامي دال على وساطة الخبر لاثبات الواقع عنوانا، فله الحكومة
أيضا، فإنه وصول عنواني للواقع.
والفرق بين الوجهين: أن الأول وصول حقيقي للواقع العنواني والثاني وصول
عنواني للواقع الحقيقي، فتدبر.
هذا كله بناء على أن مفاد (لا تنقض) جعل الحكم المماثل.
وأما إذا كان جعل اليقين سابقا منجزا للحكم في اللاحق، أو جعل احتمال
288

الحكم - بقاء - منجزا له.
فان كان الأول فاليقين منجز في فرض الشك بقاء - اي مع عدم المنجز بقاء -
والامارة منجزة على الفرض. بخلاف منجزية الامارة، فإنها غير مفيدة بشئ، فلها
الورود على الاستصحاب.
وإن كان الثاني، فالاحتمال في الحالة الثانية منجزا للحكم - كالامارة - الا أنه
بملاحظة قوله عليه السلام (ولكنه تنقضه بيقين آخر) (1) يستفاد منه أن الاحتمال
منجز مع عدم المنجز للحكم فالامارة أيضا مقدمة بنحو الورود. مضافا إلى أن
الظاهر من عدم نقض اليقين بالشك إبقاء اليقين وعدم الاعتداد بالشك لا جعله
منجزا.
قوله: هذا مع لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة.... الخ.
فان مرجع الحكومة هنا إلى الغاء احتمال الخلاف، ولا احتمال للخلاف في
صورة موافقة الامارة مع الأصل.
ويمكن دفعه بأن تقريب الحكومة من باب الغاء الاحتمال - كما ذكرناه في
مبحث التعادل والترجيح (2) - مبني على أن المراد من التصديق هو التصديق
الجناني عنوانا، فمرجعه إلى اعتقاد الصدق، فيقابله الاحتمال مطلقا دون
خصوص المخالف، فهو مأمور بأن يعامل معاملة المتيقن دون الشاك والمتحمل.
فلا تغفل.
(في ورود الاستصحاب على ساير الأصول)
قوله: فالنسبة بينه وبينها هي بعينها.... الخ.

(1) الوسائل: ج 1: الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء: الحديث 1.
(2) ص 320 من هذا المجلد.
289

لما أفاده - قدس سره - في تعليقته الأنيقة (1) من أن موضوع الأصول هو
المشكوك من جميع الجهات، والغاية هو العلم، ولو بوجه وعنوان - فموضوع
أصالة البراءة، وان كان هو المشكوك، لكنه حيث علم حكمه بعنوان نقض اليقين
بالشك، المطبق عليه في ما كان له حالة سابقة كان معلوم الحرمة بوجه.
والجواب: أن عنوان موضوع الاستصحاب أيضا هو المشكوك فعلا من جميع
الجهات، وغايته هو اليقين ولو بوجه، وهذا الموضوع بما هو محتمل الحلية
والحرمة - معلوم الحلية، فلا شك من جميع الجهات ولا فارق بين موضوع
الاستصحاب، وموضوع الأصول ولا بين غايته وغايتها.
وليس الاستصحاب كالامارة، لئلا يكون موضوعها متقوما بالشك، ولا حكمها
مغيى بالعلم، فلذا يدور الأمر فيها بالنسبة إلى الأصول بين التخصص
والتخصيص المحال، دون الاستصحاب بالإضافة إلى سائر الأصول.
ومنه يظهر حال الحكومة من حيث إلقاء احتمال الخلاف بدليل اعتبار
الاستصحاب، فان الحكم في الاستصحاب - وسائر الأصول - حكم المحتمل بما
هو، فإلقاء الاحتمال في كليهما متساوي النسبة وليس كمفاد الامارة، بحيث يكون
الحكم فيها مرتبا على ذات الموضوع حتى لا يلغى بالغاء الاحتمال.
وأما ما أفاده الشيخ الأعظم - قدس سره - في الرسائل (2) في تقريب حكومته
عليها: من أن دليل الاستصحاب بالإضافة إلى قوله عليه السلام (كل شئ مطلق
حتى يرد فيه نهي) (3) بمنزلة المعمم للنهي السابق الوارد، فمجموع الدليلين
يدلان على أن كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي وكل نهي وارد في زمان باق في
جميع أزمنة احتماله، فيكون الرخصة مغيى بورد النهي المحكوم في مورد
الاستصحاب بالدوام، فغير تام في نفسه.

(1) ص 236: ذيل قول الشيخ - قده - (ولا تخصيصا بمعنى خروج المورد الخ).
(2) الرسائل ص 423: في المقام الثالث (معارضة سائر الأصول للاستصحاب).
(3) الوسائل: ج 18: الباب 12 من أبواب القاضي: ص 127 الحديث 60.
290

لأن تعميم النهي الواقعي عنوانا لا يجدي في دفع موضوع الأصل، ولا في
تحقق الغاية، ولذا لا يكون مجرد تنزيل المؤدى منزلة الواقع مجديا في أحد
الأمرين، فان النهي الواقعي - مثلا - يجامع بقاء موضوع الأصل وعدم حصول
الغاية، فكيف بما نزل منزلته عنوانا، بل لابد من تنزيل وصول الحكم عنوانا منزلة
وصول الحكم الواقعي، فان المراد من ورود النهي المغيى به الرخصة، كما تحقق
في محله (1) وروده على المكلف المساوق لوصوله إليه، وحيث أن لسان دليل
الاستصحاب إبقاء اليقين، لا ابقاء ذات المتيقن فلا محالة يقتضي وصول النهي
السابق فعلا عنوانا، وهذا معنى الحكومة وتنزيل اليقين السابق منزلة اليقين فعلا،
وإثبات الغاية عنوانا.
(في تزاحم الاستصحابين)
قوله: فهو من باب تزاحم الواجبين.... الخ.
فيتخير بينهما إن لم يكن أحدهما أهم، والا فيتعين الأهم، كما في هامش
الكتاب (2).
ولا يخفى عليك أن تعين الأهم إنما هو إذا كان الاستصحابي حكما
طريقيا، أما بعنوان جعل المماثل المنبعث عن نفس مصلحة الواقع أو بعنوان
تنجيز الواقع. وأما إذا كان حكما نفسيا منبعثا عن مصلحة أخرى على اي تقدير،

(1) تقدم في ج 2 مبحث البراءة أو لاشتغال، ذيل قول الماتن قده (ودلالته يتوقف على عدم صدق
الورود الخ).
(2) واليك نصه: (فيتخير بينهما إن لم يكن أحد المستصحبين أهم والا فيتعين الاخذ بالأهم، ولا
مجال لتوهم أنه لا يكاد يكون هناك أهم لأجل أن ايجابهما أنما يكون من باب واحد - وهو استصحابهما
من دون مزية في أحدهما أصلا - كما لا يخفى، وذلك لأن الاستصحاب انما يتبع المستصحب، فكما
يثبت به الوجوب والاستحباب يثبت به كل مرتبة منهما فتستصحب، فلا تغفل) منه قدس سره.
راجع الكفاية المحشى بحاشية القوچاني ره: 110 - وحقائق الأصول ج 2: 541.
291

فلا موقع الا للتخيير، لأن عنوان نقض اليقين بالشك عنوان واحد، له ملاك واحد.
(في الأصل السببي والمسببي)
قوله: فان الاستصحاب في طرف المسبب.... الخ.
توضيح المقام: أن محل الكلام ليس مجرد تفرع شك على شك، إذ لا ريب
في شمول العام لجميع افراد المقدرة الوجود، وان كانت مترتبة - ذاتا أو وجودا -
كما إذا قيل: لا يجوز حمل مشكوك النجاسة في الصلاة، فإنه لا شبهة في شموله
للملاقي وملاقاة، بل فيما إذا كان أحد المستصحبين اثرا شرعيا للآخر.
وكذا ليس التمانع المبحوث عنه هو التمانع المنبعث عن مناقضة الحكمين،
أو مضادتهما، فإنه يختص بالأصلين المتنافيين، دون المتوافقين، إذ لا يلزم من
شموله للثاني محذور، حتى يلتزم بالتخصيص بل التمانع، مبني على فرض ورود
الأصل السببي أو حكومته على الأصل المسببي فإنه الوجب للتمانع الذي ينتهي
امره إلى المحذور - المسطور في المتن - من لزوم التخصيص بلا وجه أو بوجه
دائر، فالعمدة حينئذ تحقيق حال ورود الأصل السببي أو حكومته على الأصل
المسببي.
فنقول: أما وروده بالتقريب المتقدم عن شيخنا - قدس سره - في الامارات: من
اليقين بالحكم الفعلي ولو بعنوان آخر غير عنوان الواقع، فقد عرفت ما فيه مفصلا
حتى على القول بموضوعية الامارة (1).
وعليه فاليقين بطهارة الماء فعلا وبطهارة الثوب المغسول به فعلا - بعنوان
ايجاب ابقاء اليقين أو المتيقن - بجامع الشك في طهارة الثوب ونجاسته واقعا،
وموضوع الأصل الشك في الواقع حتى يعقل ترتب حكمه الفعلي عليه. مضافا

(1) تقدم في صفحة 284، وأيضا تعليقة المحقق الخراساني - قده - على الرسائل: ص 235: ذيل
قول الشيخ قده (ولا تخصصا بمعنى خروج المورد).
292

إلى أن العنوان المقتضي لليقين بالحكم الفعلي بالإضافة إلى كلا الشكين على حد
سواء.
وأما الورود بالتقريب الذي ذكرناه (1) عن توسعة اليقين واخذه بمعنى الحجة
القاطعة للعذر، وأخذ الشك بمعنى عدم الحجة القاطعة للعذر، فيجري في
خصوص السببي والمسببي من الاستصحابين لا مطلقا.
وذلك لأن اليقين بنجاسة الثوب منجز لها في الحالة الثانية، مع عدم المنجز
لخلافها واليقين بطهارة الماء حجة عليها وعلى لازمها، فالحجة على طهارة
الثوب متحققة في الحالة الثانية، بخلاف الحجة على نجاسة الماء. فان نجاسته
ليست مترتبة شرعا على نجاسة الثوب، حتى تكون الحجة على نجاسة الثوب
حجة على لازمها، وهي نجاسة الماء، إذ ليست هي من آثار نجاسة الثوب شرعا
فيدور الأمر بين التخصص والتخصيص بلا وجه أو بوجه دائر.
وأما غير الاستصحاب من الأصول - كقائدة الطهارة في شئ بالإضافة إلى
استصحاب الطهارة في ملاقيه أو بالإضافة إلى قاعدتها فيه - فلا ورود بهذا الوجه،
إذ ليست القاعدة حجة منجزة للواقع أو واسطة في وصوله عنوانا حتى يرتفع بها
موضوع الاستصحاب وغيره في الملاقي.
وأما حكومته، فتارة بالتقريب الذي افاده شيخنا العلامة الأنصاري
- قدس سره - (2).
ومحصله: أن ارتفاع نجاسة الثوب حيث أنه من آثار طهارة الماء شرعا، فالتعبد
بطهارة الماء يستلزم التعبد بطهارة الثوب، وأما نجاسة الماء حيث أنها ليست من
آثار نجاسة الثوب شرعا فالتعبد بنجاسة الثوب لا يستلزم التعبد بنجاسة الماء.
وأنت خبير بأن مجرد استلزام التعبد بأحدهما التعبد برفع الآخر - دون الآخر -

(1) تقدم في صفحة 286 ذيل قول الماتن قد (واما حديث الحكومة فلا أصل لها أصلا الخ).
(2) لرسائل ص 425: في تقدم استصحاب السببي على المسببي.
293

لا يجدي في رفع موضوع الاخر عنوانا لبقاء المعارضة بحالها، فان الدليل على
نجاسة الثوب، وإن لم يكن دليلا على نجاسة الماء، لكنه حجة في مورد - الذي
ينفيه دليل طهارة الماء - فما هو مدلول مطابقي لدليل النجاسة معارض، ومناف
لما هو مدلول التزامي لدليل طهارة الماء - مع انحفاظ موضوعه لبا وعنوانا - فلابد
من نفي موضوعه عنوانا في مرحلة الحكومة، ومجرد التعبد بالطهارة غير واف
بذلك.
وأخرى بتقريب: أن عنوان ابقاء اليقين وعدم نقضه ينفي الشك عن طهارة
الماء والثوب المغسول به عنوانا، بخلاف إبقاء اليقين في طرف النجاسة فإنه لا
يوجب رفع الشك عن نجاسة الماء عنوانا، بل رفع الشك عن النجاسة الثوب فقط.
وفيه: أن بقاء اليقين عنوانا - ليلزمه رفع الشك عنوانا - ليس الا في مورد اليقين
بثبوته حقيقة فما لا يقين حقيقة لا بقاء له عنوانا وحيث لا يقين باللازم ثبوتا فلا
بقاء له عنوانا.
مضافا إلى أن حكومة الأصل السببي غير مختصة بالاستصحاب المعنون
بعنوان إبقاء اليقين وعدم نقضه، بل قاعدة الطهارة حاكمة - عندهم - على
قاعدتها بل استصحابها في المسبب، مع وضوح عنوان مقتض لنفي الشك فيها.
هذا ولشيخنا العلامة الأنصاري - قدس سره - في آخر الوجه الثاني من وجوه
التقديم تقريب (1): محصله هو أن الشك المسببي من لوازم وجود الشك السببي،
لفرض المسببية عنه، والحكم من لوازم وجود الشك السببي لما تقرر أن الحكم
باقتضاء موضوعه. فالحكم والشك المسببي لازمان لملزوم واحد في مرتبة
وحدة. والحكم - الذي هو في مرتبة الشك السببي - لا يعقل أن يكون حكما له
أيضا، للزوم التقدم الموضوع على حكمه، وتأخر الحكم عن موضوعه.
وفيه مواقع للنظر:
منها - أن ملاك السببية والمسببية المفروضتين في المقام كون أحد

(1) الرسائل ص 426.
294

المستصحبين من آثار الآخر شرعا لا تفرع شك على شك، وترشح شك على
شك. بل إذا كان بين أمرين تلازم واقعي بالعلية والمعلولية لثالث، فهما متلازمان -
قطعا وظنا وشكا - عند الالتفات إلى التلازم فالقطع بأحدهما - علة كان أو معلولا -
ملازم للقطع بالآخر، لا علة له، كيف ومن البديهي أنه ربما ينقل من المعلول إلى
علته، أو من أحد المعلولين إلى الآخر - كما في المتضايفين - ولا يعقل أن يكون
شئ واحد صالحا للعلية لشئ وللمعلولية له، فلا وجه حينئذ لدعوى أن الشك
المسببي من لوازم وجود الشك السببي، حتى يكون له المعية بالرتبة مع حكمه.
لا يقال: الشك في المسبب متأخر عنه، ونفس المسبب متأخر عن السبب
على الفرض، فيكون المسبب في مرتبة الشك في السبب، والشك في المسبب
في مرتبة الحكم المتأخر عن الشك في السبب، فيصح معية الشك المسببي مع
حكم الشك السببي في المرتبة وإن لم يكن الشك المسببي معلولا للشك السببي
لأنا نقول: قد مر مرارا: أن الشك في شئ، والقطع بن متأخر عن عنوان ذلك
الشئ لا عن مطابقه، وليس عنوانه مسببا عن عنوان السبب، كما سيأتي
توضيحه إن شاء الله تعالى (1).
ومنها - أن الحكم بالإضافة إلى موضوعه من عوارض الماهية، لا من
عوارض الوجود لأن عارض الوجود ثبوته فرع ثبوت معروضه، وعارض الماهية
ثبوتها بثبوته كالفصل بالإضافة إلى الجنس، وكالنوع بالإضافة إلى الشخص. والحكم بالإضافة إلى موضوعه كذلك، لما حقق مرارا: أن الشوق المطلق لا
يوجد، والبعث المطلق كذلك، بل يوجد كل منها متشخصا بمتعلقه في أفق
تحققه، فماهية الموضوع موجودة في أفق النفس، بثبوت شوقي، وموجودة في
موطن الاعتبار، بثبوت البعث الاعتباري.
وعليه - فالشك السببي بوجوده العنواني معروض الحكم، وبوجوده
الخارجي سبب الشك المسببي، كما أن الشك أن المسببي بوجوده العنواني

(1) في نفس هذه التعليقة.
295

معروض الحكم، وبوجوده الخارجي معلول للشك السببي فليس لوجوده الذي
هو موضوع الحكم معية في المرتبة مع الحكم.
ومنه تعرف أن الشك السببي، وإن كان بوجوده الخارجي شرط فعلية الحكم
وسبب الشك المسببي، فالحكم الفعلي مع الشك المسببي في مرتبة واحدة الا
أن معروض الحكم هو الشك المسببي بعنوانه، لا بوجوده الخارجي الذي له
المعية مع الحكم الفعلي فتأخر الحكم المجعول طبعا عن موضوعه محفوظ.
ومنها - أن موضوع الحكم نقض اليقين بالشك، لا اليقين والشك، وليس
نقض اليقين بالشك المسببي متأخرا عن نقض اليقين بالشك السببي.
لا يقال: نقض اليقين بالنجاسة بالشك فيها وإن لم يكن معلولا لنقض اليقين
بالطهارة بالشك فيها، لكنه متقوم بالشك الذي هو معلول للشك المتقوم به نقض
اليقين بالطهارة بالشك فيها، وهذا المقدار يجدي في المعية مع الحكم في
المرتبة.
وذلك لأن الحكم متأخر عن نقض اليقين بالطهارة بالشك فيها تأخر الحكم
عن موضوعه، ونفس نقض اليقين بالشك متأخر عن الشك تأخر الكل عن جزئه،
والمفروض أن هذا الجزء متقدم على الجزء المتقوم به نقض اليقين بالنجاسة،
وذلك الجزء متقدم على الكل، وهو نقض اليقين بالنجاسة وهو متقدم على
الحكم، مع أنه في مرتبة هذا الموضوع، لأنه متأخر عن نقض اليقين بالطهارة
بالشك السببي بمرتبتين بالنسبة إلى الشك المأخوذة فيه، ونقض اليقين بالنجاسة
متأخر عن الشك السببي أيضا بمرتبتين، فهو مع الحكم في مرتبة واحدة.
لأنا نقول: عنوان نقض اليقين بالنجاسة بالشك فيها وان كان متقوما بالشك،
الا أنه متقوم بوجوده العنواني لا الخارجي، والعنوان غير متأخر طبعا عن الشك
السببي - لا بوجوده العنواني، ولا بوجود الخارجي - ومصداق نقض اليقين
بالنجاسة. وما هو بالحمل الشائع كذلك، وإن كان يتوقف على فعلية الشك
السببي والمسببي، لكنه ليس موضوعا للحكم لينافي تأخر الحكم عن موضوعه
296

طبعا.
ومنها - أن العام المتكفل لحكم نقض اليقين بالشك.
إما أن يكون متكفلا لأحكام متعددة - بعدد افراد نقض اليقين بالشك - ويكون
العام بمنزلة الجمع في العبارة.
وإما أن يكون متكفلا لطبيعي الحكم بالإضافة إلى طبيعي النقض، فحقيقة
الحكم المجعول واحدة بوحدة طبيعية نوعية ولازمه عقلا تعلق كل فرد من
طبيعي الحكم بفرد طبيعي الموضوع.
والاشكال المذكور، إنما يتوجه إذا كان الحكم واحدا شخصيا، وهو محال في
نفسه، وان لم تكن سببية ولا مسببية، لأن تعدد الموضوع يستدعي عقلا تعدد
الحكم.
وعليه - فبناء على إنشاء أحكام متعددة - ليس حكم نقض اليقين بالنجاسة مع
موضوعه في مرتبة واحدة، بل حكم نقض اليقين بالطهارة مع نقض اليقين
بالنجاسة في مرتبة واحدة، ولا مانع من معية حكم بعض الافراد مع نفس بعض
الافراد الاخر، إنما الممنوع معية حكم نفس الفرد الآخر معه في المرتبة.
وبناء على جعل طبيعي الحكم لطبيعي الموضوع، فليست السببية والمسببة
ملحوظة، إذ المفروض الغاء التشخصات وملاحظة طبيعي نقض اليقين بالشك.
وبهذه الملاحظة لا موجب لمعية الحكم الطبيعي موضوعه.
نعم لو أمكن ملاحظة افراد الموضوع - بنهج الوحدة في الكثرة - بحيث تكون
نفس الافراد مقومة للموضوع، ويكون الملحوظ صرف وجودها لأمكن
الاشكال.
بدعوى أن الحكم ملحوظ - بنهج الوحدة في الكثرة - متقوم بمالة المعية مع ما
يكون صرف وجود الموضوع متقوما به، ومثل هذا الحكم لا تأخر له برمته عن
مثل هذا الموضوع الا أن مثل هذه الملاحظة - الراجعة إلى لحاظ افراد الحكم،
وافراد الموضوع بصرافة وجودهما حقيقة - غير معقول، كما نبهنا عليه مرارا.
297

ومنها - أنه لو تم هذا التقريب لاقتضى عدم جريان الأصل في اللوازم العادية
والعقلية أيضا، بملاحظة انبعاث الشك فيها عن الشك في ملزوماتها، إذ الملاك
في هذا التقريب مجرد كون الشك المسببي من لوازم وجود الشك السببي، لا
كون أحد المستصحبين اثرا شرعيا للآخر، مع أنه لا ريب في جريان أصالة عدم
اللازم - كنبات اللحية - مع جريان أصالة بقاء الحياة والشك في الأول مسبب عن
الشك في الثاني.
ومنها - أن كون حكم العام لازما للشك السببي، حتى يكون له المعية طبعا مع
الشك المسببي أول الكلام، فلابد من إقامة البرهان عليه، بدوران الأمر بين
التخصص والتخصيص المبني على ورود الأصل السببي أو حكومته على الأصل
المسببي، ومعه لا حاجة إلى هذا التقريب إذ مع الورود أو الحكومة لا موضوع -
حقيقة أو عنوانا - ليكون له حظ من حكم العام حتى تصل النوبة إلى معية حكم
العام له في المرتبة، واما مع عدم الورود والحكومة فلا وجه للفراغ عن لزوم
الحكم للشك السببي ليتولد منه المحذور.
وقد اقتصر استاذنا العلامة - قدس سره - في التعليقة الأنيقية (1). على هذا
الايراد الأخير، ولكنه مندفع، فان التقريب المزبور، بعد فرض حكومة الأصل
السببي وكونه رافعا لموضوع الأصل المسببي.
وغرضه - قدس سره - بيان اختصاص الحكم بالشك السببي حينئذ لوجود
المانع عن شموله لهما، إذ لا موضوع للأصل المسببي مع فرض شمول العام
للشك السببي.
ووجود المانع عن شموله للشك المسببي فقط لوجهين.
أحدهما: لزوم الدور من تخصيص العام بشموله للشك المسببي.
وثانيهما: لزوم معية الحكم للشك المسببي في المرتبة، بخلاف الشك
السببي، فإنه مع فرض شمول الحكم للشك السببي لا يلزم معيته للشك السببي،

(1) ص 250: ذيل قول الشيخ قده (وإن شئت قلت الخ).
298

بل تأخره عنه محفوظ، فشمول الحكم للشك المسببي ممنوع من وجهين، مختصين به، بخلاف شموله للشك، فإنه خال عن محذور الدور، وعن
محذور عدم تأخر الحكم عن موضوعه.
هذا - ولبعض أجلة العصر (1) تقريب آخر في تقديم الأصل السببي على
الأصل المسببي، غير دوران الأمر بين التخصص والتخصيص المحال، وهو أن
الشك السببي المسببي، وإنما هو في رتبة حكمه، فإذا لم يكن في رتبة الشك
السببي مانع عن ترتب حكمه عليه، فلا محالة يترتب عليه حكمه، فلم يبق
للشك المسببي موضوع.
والفرق بين هذا التقريب وما تقدم عن الشيخ الأعظم - قدس سره - أن المانع
في التقريب المتقدم معية الحكم مع الشك المسببي في المرتبة، مع أن اللازم
تأخره عنه، والمانع في هذا التقريب عدم صلاحية الشك المسببي للمعارضة، إذ
لا ثبوت له في مرتبة الشك السببي، وبعد ثبوت الحكم للشك السببي يستحيل
شمول الحكم للشك المسببي، لا لعدم الموضوع، كما هو ظاهر التقريب فإنه لا
يتكفل ارتفاع الموضوع حقيقية أو عنوانا، بل لأن أحد المتمانعين إذا وقع يستحيل
وقوع الآخر لفرض التمانع.
ويرد على هذا التقريب أولا ما تقدم (2) من عدم معلولية الشك المسببي
للشك السببي، لا بوجودهما العنواني، ولا بوجودهما الخارجي.
وثانيا - أن الفرض، إن كان التمانع في مرحلة جعل الحكم، ففيه أن الموضوع
في مرحلة الجعل هو الشك بوجوده العنواني، وعدم المعلولية في مرحلة وجوده
العنواني مسلم، إذ توهم المعلولية انما هو في وجود الشك المسببي خارجا لا
عنوانا.
وإن كان التمانع في مرحلة فعلية الحكم بفعلية الشك خارجا، لا فالعلية - وإن

(1) هو المحقق الحائري - قده - في درره: ج 2 ص 632 لطباعة جماعة المدرسين.
(2) في الايراد على تقريب الشيخ - قده - تقدم في صفحة 295.
299

فرضت - لا توجب الا تقدم العلة على المعلول طبعا وذاتا، لا وجودا، لما مر منا
مرارا: أن التقدم والتأخر الطبعيين لا ينافي المعية في الوجود الخارجي بل لا
ينافي اتحاد المتقدم والمتأخر طبعا في الوجود الخارجي، وملاك التمانع
والتزاحم هي المعية الوجودية الخارجية، لا المعية الطبعية الذاتية، ومع المعية
الوجودية بين الشكين خارجا يتحقق التمانع المانع عن فعلية الحكم لهما.
وثالثا - أن هذا التقريب حيث لم يتكفل لورود الأصل السببي، ولا لحكومته،
بل هو بنفسه وجه تقديم الأصل السببي - كلية - على الأصل المسببي، فلا
يقتضي التقديم الا في الأصلين المتنافيين، وأما في المتوافقين - كالشئ وملاقيه
- فلا، إذ لا تمانع بين فعلية طهارة الشئ وطهارة ملاقيه، حتى يكون شمول العام
للأول مانعا عن شموله للثاني فتأمل.
ومما ذكرنا تبين ما في وجه آخر لبعض أعلام العصر (1) من أن الشك المسببي
حيث كان معلولا ومقتضاه عدم كونه في مرتبة علته، فالحكم في الشك المسببي
رافع لموضوع لحكم في الشك المسببي، ومع ذلك لو كان الحكم في الشك
المسببي معارضا للحكم في الشك السببي لزم تقدم الشئ على نفسه، وكون
الشئ علة لما فرض علة له، حيث لا يمكن أن يكون له المعارضة الا إذا كان
موجودا لموضوعه، مع أن موضوعه علة لحكمه.
وأنت خبير بما فيه، أما المعلولية للشك المسببي وعدم المعية مع الشك
السببي، وكون الحكم في الشك السببي رافعا للشك المسببي فيما تقدم.
وأما لزوم تقدم الشئ على نفسه، فهو فرع الحكومة وكون الحكم في الشك
السببي رافعا - ولو عنوانا - للشك المسببي وهو أول الكلام، خصوصا في غير
الاستصحاب من الأصول.
مع أنه لازم كل حكومة من دون دخل لمعلولية أحد الشكين من الآخر، بل
هذا المعنى جار في الامارة بالنسبة إلى الأصول فإنها مع ارتفاع موضوعها بها لو

(1) هو المحقق النائيني - قده - في أجود التقريرات ج 2 ص 497.
300

كانت معارضة لها لكانت حافظة لموضوعها ومبقية له، فيلزم تقدم الشئ على
نفسه، وعليته لما فرض أنه علة له، فتدبر جيدا.
ومن جميع ما ذكرنا: تبين عدم تمامية الوجوه المزبورة لتقديم الأصل السببي
على الأصل المسببي بنحو الكلية، وإن كان التقديم مسلما خصوصا عند
المتأخرين، بل لولاه للزم كون الاستصحاب قليل الفائدة كما في كلام الشيخ
الأعظم - قدس سره - (1)، فلو فرض كونه تخصيصا، ودوران الأمر بين تخصيصين،
لكان أحدهما أرجح من الآخر، والله أعلم.
(في تعارض الاستصحابين)
قوله: نعم لو لم يجر هذا الاستصحاب بوجه.... الخ.
لفرض عدم المانع بوجه من جريان الأصل المسببي. الا أن الكلام في أنه هل
هو من قبيل المقتضيات العقلية؟ حتى لا تؤثر مع المانع وتؤثر مع عدمه؟ ونتيجة
جريان الأصل المسببي بعد مزاحمة الأصل السببي بشئ؟ أو لا يجري الأصل
المسببي بعد سقوطه بسب الأصل الحاكم؟ وكذلك لا يجري الأصل الساقط
بالمعارضة بعد زوال معارضه، على خلاف المقتضيات العقلية وموانعها.
وتحقيق الحال: أن المقتضي - هنا - هو العام بدلالته على ثبوت الحكم
للأفراد - الأعم من المحققة والمقدرة الوجود - بدلالة واحدة لا تتغير بتغير
الحالات، وبعد ملاحظة ما هو أقوى منه يتعين مقدار مدلوله من حيث الحجية،
فكل فرد من الأفراد المقدر الوجود كان مشمولا له فهو مشمول له من الأول إلى
أن ينسخ هذا الحكم، وكل فرد لم يكن مشمولا له من الأول فهو كذلك إلى الآخر،
فلا دلالة بعد دلالة، حتى يدخل بعد الخروج أو يخرج بعد الدخول.
ولا يقاس المقام بالشرائط الشرعية والموانع الشرعية المضافة إلى عنوان

(1) الرسائل ص 426.
301

العام، فإنها من باب تحديد موضوعه سعة وضيقا، فالأفراد المشمولة للعام هي
الواجدة لتلك الشرائط والفاقدة للمواقع وعدم فعلية الحكم بعدم الشرط أو
بوجود المانع لعدم تمامية الموضوع، والا فالواجد للشرط والفاقد للمانع داخل
في العموم من الأول، وغيرهما خارج أيضا من الأول.
بخلاف التمانع العقلي - هنا - فان نقض اليقين بالشك هو تمام الموضوع،
ومعه إذا خرج فرد تام الفردية من العموم للتزاحم عقلا، ثم ارتفع التزاحم لا
يحدث معه فرد آخر، حتى يكون هذا غير المزاحم بالفعل - مشمولا من الأول: إذ
مناط الفردية وحدة الشك مثلا، ولم يحدث شك آخر بعد زوال المزاحم، وإذا لم
يكن هذا الفرد المقدر الوجود من الأول مشمولا للعام، فلا دلالة أخرى، حتى
يكون بحسب دلالة أخرى، مشمولا للحكم.
فان قلت: إذا كان هناك ماء ان كل منهما مستصحب الطهارة، ثم علم بنجاسة
أحدهما، فإنه لا ريب في دخولهما أولا تحت العام، لعدم المزاحمة، كما لا شك
في خروجهما ثانيا، لمكان المزاحمة مع أنهما على ماهما عليه من اليقين
بالطهارة والشك في بقائهما على الطهارة فإذا أمكن الخروج بعد الدخول
كذلك الدخول بعد الفراغ، إما بزوال المزاحم أو بسقوط الحاكم.
قلت: قد عرفت أن ملاك فردية الفرد - المقدر الوجود - وحدة الشك فإذا
تعدد الشك ولو مع وحدة الماء فلا نقض، حيث أن الداخل - من الأول إلى الآخر
- فرد من الشك والخارج - من الأول إلى الآخر - فرد آخر، وفي المثال كذلك، لأن
العلم بنجاسة أحدهما:
إما أن يكون علما بنجاسة أخرى غير النجاسة المحتملة أولا، فالشك
المنبعث منه قطعا شك آخر، والأول بلحاظ عدم المزاحم داخل من الأول،
والثاني بلحاظ المزاحم خارج من الأول إلى الآخر.
وإما أن يكون علما بتلك النجاسة المحتملة، من حيث وقوعها في الاناء، أو
في خارجه، فإذا علم بوقوع تلك النجاسة في الإناء أو في إناء آخر، فقد انقلب
302

العلم الأول قطعا، وحدث من شك آخر، وعنوان الشك في الطهارة، وإن كان
واحدا، الا أن وحدة العنوان لا ينافي تعدد مطابقه.
وقد عرفت أن المنبعث - عن العلم الثاني قطعا - غير ما هو المنبعث عن العلم
الأول، فالداخل تحت العام بعدم المزاحمة هو الأول، والخارج عنه بسبب
المزاحمة هو الثاني، فلا نقض.
فان قلت: إن الاستصحاب لا يجري قبل الفحص، ويجري بعده، مع أن
اليقين والشك على حالهما، من دون حدوث فرد آخر بعد الفحص، بل الشك
الواحد - مع وحدته - خارج تارة وداخل أخرى.
قلت: لزوم الفحص، تارة - شرعي بالاجماع التعبدي. وأخرى - عقلي:
فان كان شرعيا دخل تحت العنوان الذي أشرنا إليه من أن الخروج لعدم
تمامية الموضوع، لفرض اشتراط حرمة نقض اليقين بالشك بشرط شرعي، فالفرد
التام الفردية هو الشك بعد الفحص، وهو من الأول داخل، وما قبل الفحص من
الأول خارج.
وإن كان عقليا، فالوجه فيه أن الشك بمعنى عدم الحجة، والحجة بمعنى
بحيث لو تفحص عنها لظفر بها، فما لم يتفحص لا يكون الموضوع متحققا فلا
نقض.
فان قلت: في فرض انسداد العلم - وحجية الظن - يجري الاستصحاب مع
عدم الظن، ولا يجري مع حصول الظن، فيلزم الخروج بعد الدخول.
قلت: حيث أن المفروض - على هذا المبنى - هو العلم الاجمالي في دائرة
المظنونات وسقوط الأصل في أطراف العلم الاجمالي، فالموضوع هو الشك غير
المقرون بالعلم الاجمالي، فمع حصول الظن يتبدل الموضوع.
وبالجملة الملاك في الدخول والخروج ما ذكرنا، فصح ما اشتهر من أن أصل
لا يعود بعد سقوطه.
ومنه يبتين حال الأصل المحكوم، فإنه بعد سقوط الحاكم بالمزاحمة لا يعود
303

الأصل الساقط في الملاقي، وإن كان لو حدثت الملاقاة بعد سقوط الأصل
الحاكم، يجري الأصل في الملاقي فتدبر جيدا.
قوله: فالأظهر جريانهما فيما لم يلزمه منه.... الخ.
توضيح الحال: أن الكلام تارة - في المانع عن جريان الأصول ثبوتا. وأخرى -
في وجود المقتضي إثباتا.
أما الكلام في المقام الأول، فهو أن المانع ثبوتا أمران:
أحدهما - لزوم الاذن في المخالفة العملية، وهو قبيح عقلا، ويختص هذا
المانع بموارد العلم بالتكليف اللزومي فعلا أو تركا.
وثانيهما - لزوم المناقضة أو المضادة مع المعلوم بالاجمال، لفرض تعلق العلم
بما يكون فعليا حقيقة - ولو بالعلم - كما بنينا عليه: من عدم فعلية التكليف بقول
مطلق الا بنحو من أنحاء الوصول وبالعلم يكون أصلا حقيقة، فيكون حكما
حقيقيا تام الحكمية، فمع العلم الاجمالي بطهارة أحد الإناءين - المسبوقين
بالنجاسة - يقطع بجواز ارتكاب أحدهما شرعا - بحقيقة الجواز والترخيص - وهو
مضاد لوجوب الاجتناب عنهما شرعا باستصحاب نجاستهما، وإن لم يلزم منه
مخالفة عملية.
نعم تنجز العلم الاجمالي ينحصر فيما كان مخالفة عملية، حيث لا استحقاق
للعقاب الاعلى مخالفة التكليف اللزومي عملا، لا أن مناقضة المعلوم ومضادته
للمستصحب يتوقف على تنجز العلم، وكون المعلوم أو المستصحب ذا مخالفة
عملية.
ومنه تعرف أن البحث عن ثبوت المقتضي وعدمه - في مقام الاثبات - إنما
يجدي لمن يرى المانع منحصرا في الاذن في المخالفة العملية، فإنه يجديه
ثبوت المقتضى فيما لم يلزم منه مخالفة عملية، وأما على ما ذكرنا فلا تجري
الأصول، سواء كان المقتضي في مقام الاثبات تاما أو لا.
وأما الكلام في المقام الثاني فنقول: إن مقتضى قوله عليه السلام: (لا تنقض
304

اليقين بالشك) (1) حرمة نقض اليقين بالشك مطلقا، سواء كان مقرونا بالعلم
الاجمالي أولا، ومقتضى ذيله - وهو قوله عليه السلام: (ولكن تنقضه بيقين آخر)
عدم حرمة نقضه بل لزوم نقضه بيقين آخر مطلقا، ولو كان إجماليا فيقع التعارض
بين صدره وذيله.
ومبنى المعارضة - كما عن ظاهر شيخنا الأستاذ - قدس سره - في تعليقه
المباركة (2) - على قضية: (ولكن تنقضه بيقين آخر) متكلفة لحكم شرعي حتى
يؤخذ باطلاقها، فيعارض الصدر أو لمجرد التأكيد، حتى لا يكون لها اطلاق، نظرا
إلى أن التأكيد ليس له مفاد في قبال ما يؤكد، حتى يؤخذ باطلاقه، وقد استظهر
الثاني شيخنا - قدس سره -
والتحقيق: أن قضية (لكنه تنقضه بيقين آخر) لا يعقل أن تكون متكفلة لحكم
شرعي تعبدي، إذ مع اليقين بالحكم لا يعقل جعل الحكم على وفقه، ولا على
خلافه، فلا مجال له عقلا حتى ينفي بالظهور في خلافة.
بل التحقيق: أنها قضية عقلية إرشادية إلى الجري على وفق اليقين، وليس
التأكيد مفادها الابتدائي، إذ ليست هذه العبارة على حد سائر التأكيدات
لاختلاف مضمونها مع مضمون القضية السابقة.
بل لازمها التأكيد تارة، والتحديد أخرى، فان كانت لإفادة التأكيد بالالتزام، فلا
إطلاق وإن كانت لإفادة التحديد وتضييق دائرة الشك فلها الاطلاق لا محالة.
وحيث أن التأكيد أو التحديد بالالتزام، فلابد من تحقيق حال القضية العقلية
الارشادية، وأن ما يقتضي به العقل حسب اقتضاء اليقين ماذا؟ ليكون القضية
ارشادا إليه.
ومن الواضح أنه لا فرق في نظر العقل بين اليقين الإجمالي والتفصيلي في
الجري على مقتضاها ورفع اليد عن الشك فكما أن وثاقة اليقين السابق، كانت

(1) الصحيفة الأولى لزرارة: الوسائل. ج 1: الباب 1 من نواقض الوضوء: الحديث 1.
(2) ص 252: ذيل قوله الشيخ قدة (لأن قوله لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه الخ).
305

مقتضية للجري على وفقها، وعدم الاعتناء بالشك، فكذا مقتضى اليقين اللاحق
هو الجري على وفقه وعدم المعاملة معه معاملة الشك حتى يتمحض للتمسك
باليقين السابق.
وعليه فهي بالالتزام يفيد التحديد لا التأكيد، وكما لا معارضة بين التأكيد وما
يؤكده، فيكون التأكيد تابعا له إطلاقا وتقييدا كذلك التحديد لا يكون معارضا بل
يكون ما يتحدد به تابعا له فيتمحض الشك الذي يحرم نقضه في الشك المحض
وعليه فيتقيد به سائر الاطلاقات.
بخلاف ما إذا لم يعلم أنه للتأكيد أو التحديد، فان إجماله لا يسري إلى سائر
المطلقات الخالية عن هذا الدليل.
فان قلت: لا يعقل اعتبار ناقضية اليقين الاجمالي، حتى يكون محددا
للموضوع، لأن اليقين الاجمالي، إن كان ناقضا لكل من اليقين فهو خلاف
مقتضاه، لأنه لم يتعلق بخلاف كل منهما ومع عدم تعلقه بكل منهما إذا كان ناقضا
كان مرجعه إلى ناقضية الشك لليقين.
وإن كان ناقضا لأحد اليقينين معينا، فحيث أن الخصوصية مشكوكة كان
مرجعه إلى ناقضية الشك لليقين. لا ناقضية اليقين.
وإن كان ناقضا لأحدهما المردد، نظرا إلى تعلق اليقين الاجمالي المردد، فقد
بينا مرارا استحالة ثبوت المردد ماهية وهوية، فلا الناقض متعلق بالمردد، ولا
المنقوض يقين مردد.
وإن كان ناقضا لخصوص اليقين الذي انقلب متعلقه واقعا إلى ضده أو نقيضه
فحيث لا تعلق لليقين الاجمالي - بما هو يقين - بذلك المرتفع واقعا، فلا محالة
يؤل الأمر إما إلى ناقضية الشك، أو إلى ناقضية ارتفاع الواقع، وكلاهما خلف، إذ
الشك ينقض ولا ينقض، واليقين هو الناقض، دون غيره فلا يعقل ناقضية اليقين
الاجمالي بجميع الوجوه، فينحصر الناقض في اليقين التفصيلي.
وهذا المحذور لا دخل له بالمانع عن التعبد الاستصحابي في مقام الثبوت،
306

ليكون ايراده خلفا في المقام، بل المراد إن اعتبار ناقضية اليقين الاجمالي مناف
لاعتبار عدم انتقاض اليقين بالشك، وأنه لا ينقضه الا اليقين فهما اعتباران
متنافيان مقام الاثبات، المتكفل لكلا الاعتبارين.
ولا يخفى عليك أن تحريم نقض اليقين بالشك المحض، وإن كان بمكان من
الامكان الا أن تحديد الموضوع حيث كان بعنوان ناقضية اليقين الاجمالي فإذا
امتنعت ناقضية اليقين الاجمالي لم يمكن استفادة تحديد الموضوع منه، لا أن
جعل الموضوع الخاص غير معقول.
قلت: اليقين الاجمالي حيث أنه متعلق بالجامع الذي لا يخرج مطابقة عن
الطرفين، فهو وإن لم يكن ناقضا لكل من اليقينين، لكنه ناقض لمجموع اليقينين
فاعتبار ناقضيته اعتبار ناقضية اليقين لليقين، لا ناقضية الشك، ولا غير اليقين.
الا أن التحقيق: أن مجموع اليقينين ليس موضوعا للحكم، بل كل منهما،
فمرجع المجموع إلى اليقين بالجامع بين الطرفين، ولذا يصح اعتبار ناقضية
اليقين الاجمالي له، لتعلقه أيضا بالجامع بين الطرفين.
لكل تعلق اليقين المنقوض بالجامع انتزاعي من تعلق كل فرد من اليقين بفرد
من الجامع، وظاهر (لا تنقض اليقين بالشك) - مع وجود اليقين بهذا بخصوصه،
وبذاك بخصوصه، ثم الشك فيهما كذلك - هو تحريم نقض كل من اليقينين
الخاصين الحقيقيين لا الجامع من اليقينين المتعلقين بما ينتزع منهما جامع.
وهذا لا دخل له بجواز استصحاب الكلي، لتعلق اليقين هناك حقيقة بالجامع،
والشك في خصوصيته.
وعلى ما ذكرنا: من عدم اعتبار صحيح لناقضية اليقين الاجمالي، فلا يكون له
دلالة على تحديد الموضوع بالشك المحض.
وأما قضية: (ولكنه تنقضه بيقين آخر) وإن كانت إرشادية، لكنها ليست إرشادا
إلى الجري على وفق اليقين، حتى لا يكون فرق بين اليقين الاجمالي والتفصيلي،
فإنه بهذا المعنى ليس مقابلا لليقين السابق، فان الجري العملي - على وفق اليقين
307

- ليس من أجل اليقين بالحكم الفعلي لذي يقضي العقل بامتثاله، فإنه شأن اليقين
الفعلي بالحكم، لا اليقين السابق.
بل كما أن قضية الجري على وفق اليقين السابق - من حيث مقابلته مع الشك
الفعلي واقتضاء وثاقة اليقين في قبال الشك عن العقلاء - الجري العلمي عليه،
فكذا الجري العملي مستمر إلى أن يتبدل الشك باليقين، فتكون القضية إرشادا
إلى استمرار الحكم السابق العقلائي إلى تبدل موضوعه بأمر وثيق، لتقابل اليقين
السابق من حيث وثاقته، وحيث أن اليقين الاجمالي الفعلي يجامع الشك، ولا
يقابل اليقين السابق، من حيث عدم تعلقه بعين ما تعلق به، فلم يحدث في قبال
ذلك الأمر الوثيق ما يوازيه في الوثاقة ليرفع اليد به عنه، ونتيجة تأكيد الحكم
بحرمة نقض اليقين بالشك. والله أعلم.
(في تقدم الاستصحاب على القرعة)
قوله: وأما القرعة فالاستصحاب في موردها يقدم عليها الخ.
نعم هو ذلك إذا لم يكن هناك حكومة بينهما.
بيانه - أن الحكومة: تارة تلاحظ بين دليلي اعتبار المتعارضين، كما في الخبر
المتكفل لحرمة شئ، والخبر المتكفل لحليته بما هو مشكوك الحرمة والحلية
فان مفاد الخبرين ليس بينهما حكومة، إذ ليس لسان أحدهما نفي موضوع الآخر،
بل الحكومة لدليل الاعتبار، من حيث أن الأمر بالغاء احتمال الخلاف - في طرف
الخبر المتكفل للحرمة الواقعية - يوجب نفي موضوع الخبر المتكفل لحكم
المشكوك.
وأخرى تلاحظ بين نفس المتعارضين مثل حكومة (لا شك لكثير الشك) على
أدلة الشكوك، فان أحد المتعارضين - بنفسه - ينفي موضوع الآخر لا من حيث
دليل اعتباره.
308

فنقول: في الخبر المتكفل لحكم القرعة، والخبر المتكفل لحرمة نقض اليقين
بالشك.
أما بالإضافة إلى دليل اعتبار الخبرين، فلا حكومة، لأن كلا من الخبرين
متكفل لحكم تعبدي في مورد الشك، فان الموضوع في القرعة هو المجهول،
والمشتبه، والمشكل. وموضوع الاستصحاب أيضا متقوم بالشك، فالغاء احتمال
الخلاف في كل منهما يوجب نفي موضوع الآخر، لأن المفروض تكفل كل واحد
منهما لحكم الاحتمال.
وأما بالإضافة إلى نفس الخبرين المتكفلين لحكم القرعة والاستصحاب،
فتوضيح الحال فيهما: أن دليل القرعة يدل على أنها لا تخطئ، وأنها سهم الحق،
والحكم المجعول له وجوب وعدم، والخطأ والصواب شأن الطريق، كما أن لسان
دليل الاستصحاب ابقاء الكاشف، ففي الحالة الثانية طريقان أحدهما حدوثا،
وهي القرعة، والثاني بقاء وهو اليقين السابق، حيث اعتبر بقاءه شرعا، وكل منهما
طريق فعلي مع عدم الطريق إلى الواقع، لفرض نصب القرعة في المجهول،
واعتبار بقاء اليقين مع الشك - اي مع عدم الطريق - فكل منهما بعنوانه قابل في
حد ذاته لرفع موضوع الآخر، فلا تختص القرعة بالحكومة على الاستصحاب.
بل ظاهر شيخنا - قدس سره - في المتن ورود الاستصحاب عليها، نظرا إلى أن
موضوع القرعة هو المجهول بقول مطلق، مع أنه بعنوان كونه على يقين منه سابقا
معلوم الحكم. وإن كان يندفع بما مر منا سابقا: أن موضوع الاستصحاب أيضا هو
الشك بقول مطلق، ومن جميع الجهات.
مع أنه بعنوان قيام القرعة المعينة للواقع معلوم الحال، فلا يختص الورود - لو
صح - بالاستصحاب، وحينئذ يصح المعاملة معهما معاملة المتعارضين،
وملاحظة النسبة بين دليلهما، حيث لا حكومة ولا ورود لدليلهما ولا لدليل
دليلهما.
فان قلت: طريقية القرعة ليست كطريقية الطرق العادية، إذ ليس لها في نفسها
309

طريقية - كما هو واضح - حتى يكون تعبد الشارع بها تتميما لها عنوانا - كما في
الخبر، واليقين السابق باعتبار بقاء متعلقه غالبا -، بل طريقية القرعة واقعية
بتسبيب الشارع الناظر إلى الواقع إلى وقوع السهم على الحق، ولذا ورد في
الأخبار (1) جوابا عن قول السائل إنها تصيب وتخطئ: بأنها لا تخطئ إذا كانت
في مقام تفويض الأمر إلى الله، ولا في مقام التجربة، فطريقية القرعة تكوينية -
منه تعالى - وفي موردها المشروع لا تخطئ حقيقة، فلا شك حينئذ حقيقة،
فتكون واردة حقيقة على الاستصحاب، لا بلحاظ حكمها، كما عليه مسلك
شيخنا - قدس سره - في ورود الامارات على الأصول (2).
قلت: نعم ظاهر أخبارها كذلك الا أن تسبيبه تعالى بإصابة السهم للحق يمكن
أن يكون مقيدا بعدم الطرق التعبدية الشرعية، فلا طريقية لها مع وجود أحد
الطرق الشرعية، وإذا كان موردها المجهول بمعنى مالا طريق إليه شرعا، فلا
محالة لا ورود، ولا حكومة لها على ماله طريقية شرعا، بل إذا كان موضوعها
(المشكل) (3) كما في المرسل المحكي في قواعد الشهيد - قدس سره - فالأمر
أوضح فان المشكل ما يتحير فيه المكلف، بحيث لا طريق له أصلا، بل ربما يعم
المبهم الذي ليس له واقع مجهول.

(1) الوسائل ج 18: الباب 13: من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى.
(2) الكفاية ج 2 ص 350.
(3) قال ابن أبي جمهور في عوالي اللئالي ج 2: ص 112: ح 308: (نقل عن أهل البيت عليهم
السلام: كل امر مشكل فيه القرعة).
310

التعادل والترجيح
311

(تعريف التعارض)
قوله: التعارض هو تنافي الدليلين.... الخ.
التنافي تارة - ينسب إلى المدلولين من الوجوب والحرمة، أو الوجوب وعدمه
مثلا، وأخرى - ينسب إلى الدالين، بما هما كاشفان عن أمرين متنافيين، لتلون
الدال بلون المدلول لفنائه فيه، وثالثة - إلى الدليلين بما هما دليلان وحجتان،
فيكونان متنافيين في الحجية والدليلية.
ومن الواضح: أن التنافي - وهو عدم الاجتماع في الوجود - منسوب إلى
المدلولاين بالذات، لامتناع اجتماع الوجوب والحرمة، أو كل واحد منهما مع
عدمه - بالذات - ومنسوب إلى الدليلية والحجية أيضا - بالذات - لامتناع حجيتهما
معا، خصوصا إذا كانت الحجية بمعنى جعل الحكم المماثل، فإنه راجع إلى
اجتماع الوجوب والحرمة الفعليين، أو هما مع عدمهما.
وأما الدالان - بما هما كاشفان - فغير متمانعين في الوجود بالذات، بل
بالعرضي، إذ ليس الكلام في المقام في الكاشفين بالكشف التصديقي القطعي،
أو الظني - الفعلي حتى يستحيل اجتماعهما بالذات، بل في الكاشفين بالكشف
النوعي، ومن البين مكان اجتماعهما في الوجود: فان المفهومين غير متمانعين،
بل التمانع في مطابقهما.
والكاشف في مرتبة كشفه النوعي لا يتقوم إلا بمكشوفين بالذات، لا تمانع
بينهما من حيث نفسهما، لكنه يوصف الدالان بوصف المدلول - بالحمل الشائع -
بالعرض، لما بينهما من الاتحاد جعلا واعتبارا، فتنافي المدلولين واسطة في
عروض التنافي على الدالين، لا واسطة في الثبوت.
313

فالتعارض: إن كان عبارة عن التنافي في الوجود، فهو - حقيقة وبالذات - لا
يعقل إلا في المدلولين، أو في الدليلين بما هما دليلان وحجتان، لا في الدالين بما
هما كاشفان نوعيان، فلا تعارض حقيقة في مرحلة الدلالة ومقام الاثبات وإن كان
التعارض أخص، من مطلق التنافي - نظرا إلى أنه لا يوصف الوجوب والحرمة
بأنهما متعارضان، وإن وصفا بأنهما متنافيان وكذلك الحجية لا توصف
بالمعارضة، وإن وصفت بالمنافاة، بل يوصف ما دل على الوجوب، وما دل على
عدمه - حينئذ من أوصاف الدال، بما هو دال - بالذات - لا بالعرض، إذ لابد من
انتهاء ما بالعرض إلى ما بالذات، والمفروض أنه لا يوصف المدلول بذاته
بالمعارضة بل بالمنافاة وشبهها.
فحقيقة معارضة الخبرين كون أحدهما دالا على ما ينافي ما يدل عليه الآخر،
ولا منافاة بين أن يكون تنافي الدالين بالعرض، وتعارضهما بالذات.
وهذا هو الصحيح الموافق للإطلاقات العرفية، فيصح ما أفاده - قدس سره -
من كون التعارض بلحاظ مقام الاثبات، ومرحلة الدلالة، خصوصا إذا كان
التعارض من العرض بمعنى الاظهار، فان الدالين المتنافيين لكل منهما ثبوت،
ويظهر كل منهما نفسه على الآخر، بخلاف المدلولين، فإنه لا ثبوت الا
لأحدهما، فلا معنى لإظهار كل منهما نفسه على صاحبة.
وسيأتي إن شاء الله تعالى ثمرة كون التعارض - حقيقة - من أوصاف الدال، أو
من أوصاف المدلول.
قوله، على وجه التناقض أو التضاد... الخ.
ربما يتخيل (1) أن استحالة الاجتماع في المتضادين لأولهما إلى المتناقضين،
لأن لازم ثبوت كل منهما عدم الآخر، وأن اعتبار وحدة الموضوع فيهما،
لرجوعهما إلى المتناقضين، المعتبر فيهما الوحدات الثمانية مدعيا تصحيح كلام
الشيخ الأعظم - قدس سره - حيث اعتبر وحدة الموضوع - في المتعارضين -

(1) بحر الفوائد للمحقق الآشتياني ج 4 ص 3.
314

على وجه التضاد (1).
وهي غفلة واضحة، فان المتقابلين المتنافيين بالذات لا ينحصر أن في
خصوص السلب والايجاب، بل التقابل بالذات: إما بالسلب والايجاب، أو بالعدم
والملكة، أو بالتضاد والايجاب، بل التقابل بالذات، إما بالسلب والايجاب، أو
بالعدم والملكة أو بالتضائف. ولكل خاصية مخصوصة ووحدة الموضوع، معتبرة
في مطلق التقابل، بل وقع التصريح من أهل فنه باعتبار وحدة الموضوع، أو
المحل في المتضادين.
فتوهم عدم استحالته بالذات - كتوهم عدم اعتبار وحدة الموضوع الشامل
للحمل فيه - فاسد جدا.
ثم إن تضاد الوجوب والحرمة - الموجب لتعارض الدليلين - بناء على جريان
التضاد والتماثل في الأحكام الشرعية - على خلاف ما حققناه في محله (2) - إنما
يصح إذا كان التحريم بمعنى الزجر والردع، وهو امر ثبوتي كالبعث، ومتعلقهما
الفعل.
وأما إذا كان التحريم بمعنى طلب الترك، فلا تماثل، ولا تضاد، لأن موضوع
طلب الفعل غير موضوع طلب الترك.
نعم اجتماع الطلبين كذلك محال بالعرض، لاستحالة اجتماع الفعل والترك،
واقتضاء المحال محال، فالاقتضاءان الطلبيان محال، لا لتضادهما ولا لتماثلهما،
ولا لتناقضهما، بل لأنهما اقتضاء امر محال، وما يلزمه المحال محال.
ولا يخفى عليك أن استلزام اجتماع الضدين لاجتماع النقيضين لا يوجب
كون التضاد مستدركا - نظرا إلى أن التنافي بنحو التناقض، إذا عم التناقض بالذات،
وبالتبع، فالمتنافيان بنحو التضاد داخلان في المتناقضين بالتبع - فلا حاجة إلى
ذكر التضاد.

(1) الرسائل: ص 431.
(2) نهاية الدراية: ج 1 ص 524.
315

ووجه عدم صحة الاستدراك: أن جهة التنافي في المدلولين المتنافيين
مختلفة:
ففي المتنافيين بنحو التناقض بالذات لابد فيهما من الجمع الرافع للمناقضة،
أو ترجيح أحد الطرفين، أو التخيير بينهما، وفي المتنافيين بنحو التضاد بالذات،
بان كان المدلول المطابقي في أحد الدليلين هو الوجوب، وفي الاخر هو الحرمة،
تلك الجهة التي تجب رعايتها - بالجمع أو الترجيح، أو التخيير - حيثية الوجوب
والحرمة، لا لازمهما، وهو عدم الوجوب في طرف الحرمة، وعدم الحرمة في
طرف الوجوب.
وتحصر رعاية المتنافيين بالعرض فيما إذا لم يكن بين المدلولين المطابقيين
منافاة، كما إذا دل الدليلان على وجوب الظهر، ووجوب الجمعة، وعلمنا من
الخارج بعدم وجوب كليهما، فان جهة المنافاة منحصرة في وجوب كل منهما
وعدمه، أو إذا علمنا من الخارج بأن إحداهما واجبة، والأخرى محرمة، فان كلا
من الدليلين، الدالين على وجوبهما يدل على حرمة الآخر بالالتزام، وجهة
المنافاة بالتبع - وهي المنافاة بنحو التضاد - هي اللازمة مراعاتها بالجمع أو
الترجيح، أو التخيير، فتدبر جيدا.
وأما التنافي من حيث الدليلية والحجية، فتوضيح الحال فيه: أن الحجية في
كل من الطرفين وصف ثبوتي فلا تنافي من حيث التناقض، ومتعلقهما - إذا كان
فعلين متضادين بالذات أو بالعرض - متعدد فلا تنافي من حيث التضاد، فكيف
يتصور التنافي من حيث المناقضة أو المضادة في الدليلية والحجية.
والجواب: أما إذا كانت الحجية بمعنى جعل الحكم المماثل، فالحكم
المجعول في كل طرف - على طبق مدلولة المنافي لمدلول الآخر - بالمناقضة أو
المضادة.
وأما إذا كانت بمعنى المنجزية والمعذرية، ففي مورد قيام الخبرين على
وجوب شئ وعدمه، من حيث كونهما صفتين - قائمتين بالخبرين - غير متنافيين
316

بالذات، بنحو التناقض ولا بنحو التضاد، لكونهما ثبوتيين ولتعدد موضوعهما، الا
أن بلحاظ مضايفهما - وهو تنجز الحكم والمعذورية عنه ثبوتيان قائمان بحكم
واحد، متعلق بفعل واحد - متضادان.
وبلحاظ استحقاق العقاب - على الترك مثلا، وعدم الاستحقاق عليه -
متناقضان.
وفي مورد قيام الخبرين - على وجوب شئ وحرمته - وصفان متماثلان.
لكنه لتعدد موضوعهما غير داخلين فيما يمتنع اجتماعهما.
وبلحاظ تنجز الحكمين الواردين على موضوع واحد متنافيان بتنافي التضاد
بالعرض.
كما أنه بلحاظ استحقاق العقاب على الفعل والترك متضادان بالعرض، لأنه
لازم تعلق الوجوب والحرمة بفعل واحد، ولازم المحال محال.
قوله: وعليه فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلولهما.... الخ.
ظاهره عدم المعارضة في مرحلة الدلالة مع المنافاة بين المدلولين، مع أن
الدال - بما هو دال - بملاحظة فنائه في مدلوله يوصف بوصفه، بالعرض،
فيستحيل منافاة المدلولين، وعدم منافاة الدالين.
وإن أريد عدم المنافاة من حيث الدليلية والحجية، فمن الواضح: أن الحكومة
إذا كانت بين خبرين متنافين من حيث المدلول، فكل منهما حجة في نفسه على
مدلوله، المنافي لمدلول الآخر، ويستحيل حجيتهما الفعلية على مدلولين
متنافيين، وهذا شأن كل دليلين متعارضين.
فالتحقيق: أن الحاكم والمحكوم لهما جهتان:
إحداهما من حيث اللب والواقع، وهو ليس إلا اثبات الحكم ورفعه.
والأخرى - من حيث اللسان والعنوان.
وفي هذه المرحلة لا تنافي بين مدلولهما العنواني مثلا (لا شك لكثير الشك)
بالإضافة إلى أدلة الشكوك، ليس بحسب اللب والواقع إلا رفع حكم الشك عن
317

كثير الشك، وهو مناف لحكم الشك الثابت بعموم دليله، أو اطلاقه.
كما أنه بحسب اللسان والعنوان، ليس إلا رفع الموضوع، وأدلة الشكوك لا
تتكفل اثبات الموضوع، بل اثبات حكمه، فمدلول الحاكم عنوانا لا منافي له، فلا
تعارض دليلا ودالا ومدلولا، من حيث الحكومة وإن كان له المعارض والمنافي
ودالا ودليلا من غير جهة الحكومة.
لا يقال: ليس غرضه - قدس سره - أن الحاكم والمحكوم متنافيان مدلولا
دائما، بل غرضه - رحمه الله - أن تنافي المدلولين ليس مناط التعارض، إذ ربما
يكون المدلولان متنافيين ولا تعارض، كما في الأمارة والأصل، فان موضوع
الأصل، وإن اخذ فيه الجهل، إلا أنه من مراتب موضوع الحكم الواقعي فهما
متنافيان مدلولا لوحدة الموضوع، ومع ذلك لا تعارض بين دليلهما لانتفاء الجهل
بقيام الامارة تنزيلا فلا موقع لاجتماع الدليلين والحجتين، حتى يكونا متعارضين.
لأنا نقول: ما كان بينهما التنافي - وهو مفاد الأمارة، ومفاد الأصل - لا حكومة
بينهما، وما كان بينهما الحكومة لا تنافي مدلولا، إذ الحكومة لدليل اعتبار الامارة
على الأصل، لا لمدلول الامارة على الأصل.
وسيجئ - إن شاء الله تعالى - أن مفاد دليل اعتبارها رفع موضوع الأصل
تنزيلا وهو غير مناف لاثبات حكم لذلك الموضوع، وانما ينافيه نفس إثباته الذي
لا يتكفله دليله.
الا أن الصحيح - كما عرفت - أن التعارض من شؤون الدالين بما هما دالان، لا
من شؤون المدلولين ولا من شؤون الدليلين بما هما حجتان.
قوله: مقدما كأن أو مؤخرا.... الخ.
تعريض - كما صرح - قدس سره - به في تعليقته المباركة (1) - على ما افاده
الشيخ الأعظم - قدس سره - في ضابط الحكومة (2) من تفرع الحاكم على

(1) ص 256: ذيل قوله الشيخ (وضابط الحكومة...).
(2) الرسائل: ص 432.
318

المحكوم، بحيث لو لم يكن المحكوم، لكان الحاكم لغوا.
ولا يخفى عليك أن الحكومة بالمعنى الذي يراه الشيخ الأجل - قدس سره -
من الشرح والتفسير، وورود الحاكم، في مقام تحديد ماله ثبوت اطلاقا، أو عموما:
تارة - تكون في مقام الشارحية الفعلية في أحد الأزمنة فلا محالة يستدعي
مشروحا فعليا في أحد الأزمنة، والا لكان لغوا، بل خلفا محالا، ولا منافاة لذلك،
مع كون الشارحية المشروحية متضايفتان، وهما متكافئان في القوة والفعلية، فلا
معنى للشارحية بالفعل، إلا إذا كان هناك مشروح بالفعل لا متأخرا عنه.
وجه عدم المنافاة: أن التضايف بين الشارح بالذات، والمشروح بالذات، لا
المشروح بالعرض، والمشروح بالعرض، والمشروح المقوم للشارح في مقام
شارحيته - وهو وجوده العنواني - له ثبوت فعلي بثبوت الشارح بالذات،
والمتأخر بالزمان هو المشروح بالعرض، كالمعلوم بالذات، والمعلوم بالعرض،
كما لا منافاة بين تأخر الشارع بالذات، عن المشروح بالذات طبعا، وتقدم الشارح
بالحمل الشائع على ذات المشروح بالحمل بالزمان.
وأخرى - تكون في مقام الشارحية بالاقتضاء، بحيث لو تحقق دليل متكفل
للحكم اطلاقا أو عموما لكان هذا تحديدا له، ومثله لا يقتضي وجود المحكوم
في أحد الأزمنة رأسا فضلا عن تأخره عنه زمانا، بل الحاكم بالاقتضاء يستدعي
المحكوم بالاقتضاء، والتأخر الطبعي أيضا محفوظ هنا، ولا يضره عدم المحكوم
رأسا، لما عرفت.
وأما الحكومة بالمعنى الآخر، وهو مجرد اثبات الموضوع أو رفع الموضوع
تنزيلا.
فنقول: إن اثبات الحكم لبا أو سلبه لبا، وإن كان لا يقتضي ثبوت الحكم لما
نزل الموضوع منزلته، إلا أنه حيث كان بلسان اثبات موضوعه عنوانا، أو نفي
موضوعه فلابد من فرض ثبوت الحكم لذلك العنوان اقتضاء، أو فعلا على الوجه
المتقدم.
319

فما افاده الشيخ - قدس سره - وجيه على الوجه المتقدم.
قوله: أو بنحو إذا عرضا على العرف وفق بينهما.... الخ.
قد عرفت تفصيل القول - في حمل الأحكام المترتبة على العناوين الأولية
على الاقتضائية والمترتبة على العناوين الثانوية على الفعلية - في البحث عن
قاعدة نفي الضرر فراجع (1).
(وجه تقدم الامارات على الأصول الشرعية)
قوله: وليس وجه تقديمها حكومتها على أدلتها.... الخ.
لا يخفى أن كلا من المتعارضين، وإن كان يطرد الآخر ثبوتا فكل منهما
بالالتزام العقي ينفي الآخر ويدفعه إلا أنه يختص الحاكم بمزيد خصوصية
لمدلوله المطابقي أو الالتزامي اللفظي يكون بدلالته اللفظية - ولو كانت
التزامية - نافية للآخر، دون الآخر.
وتوضيحه - على ما يستفاد من كلمات العلامة الأنصاري - قدس سره - (2)
وأشار إليه شيخنا - قدس سره - في أواخر عبارته (3): أن الدليل الدال - بالمطابقة -
على تصديق العادل يدل بالالتزام اللفظي على الغاء احتمال خلافه ولا معنى
لإلقاء الاحتمال إلا الغاء حكمه واثره شرعا، فإذا قامت الأمارة على حرمة شرب
التتن - مثلا - فاحتمال خلاف الحرمة الواقعية هو احتمال حليته واقعا وحكم
هذا الاحتمال بدليل (كل شئ لك حلال) وهي الحلية الظاهرية، بخلاف
احتمال خلاف مفاد (كل شئ لك حلال)، فان خلاف الحلية الظاهرية في
موضوعها هو عدم الحلية الظاهرية، أو الحرمة الظاهرية، والغاؤها لا ربط له بالغاء

(1) نهاية الدراية ج 2 من هذا الطبع.
(2) الرسائل: ص 432.
(3) الكفاية 2: ص 381.
320

حرمة شرب التتن المترتبة على ذات الشرب، لا على المحتمل.
فدليل التصديق في طرف الأمارة، يدل بالالتزام على الغاء مفاد الأصل، ولا
يدل في طرف الأصل على إلغاء مفاد الأمارة، وحيث أنه دلالة التزامية لفظية،
مأخوذة من اقتضاء نفس عنوان التصديق، المتقوم بعدم احتمال الخلاف، ولا
منافي لها، فيؤخذ بها.
إلا أن التحقيق: أن هذا التقريب غير صحيح.
أما أولا: فلأن دليل اعتبار الأصل، وإن كان لا ينفي الحكم الذي أدت إليه
الأمارة إلا أنه يثبت حكم موضوع نفسه، فدليل اعتبار الأمارة ينفي مفاد الأصل،
ودليل اعتبار الأصل يثبت مفاده، وكفى بتنافيهما نفيا وإثباتا.
وبالجملة: مدلول الأصل بالمطابقة مناف لمدلول دليل الأمارة مطابقة
والتزاما، وليس من شرط التعارض أن يطرد كل منهما الآخر بمدلوله اللفظي.
وأما ثانيا، فليس مفاد دليل الاعتبار إلا جعل الحكم المماثل لمؤدى الأمارة،
لا إلغاء حكم الاحتمال، ولا إلغاء الحكم المحتمل، لا واقعا ولا ظاهرا.
وبالجملة: لا يتكفل دليل الاعتبار إلا ما يتكفله نفس الأمارة المعتبرة - سواء
كان مفادها حكما واقعيا أو ظاهريا - لا أن مفاده جعل حكم مماثل، وجعل عدم
ضده، أو نقيضه واقعا أو ظاهرا.
بل ربما لا يكون لاحتمال خلافه حكم، حتى يجب إلغاؤه كما في طرف
الأصل، فإنه لا اثر شرعا، لاحتمال خلاف ما افاده الأصل، كما لا يخفى.
وأما ثالثا: فلان التصديق المأمور به، إذا كان تصديقا جنانيا - بأن تعلق الأمر
باعتقاد صدقه، كناية عن العمل الذي هو لازم اعتقاد الصدق - لأمكن دعوى
إلغاء احتمال الخلاف، فان اليقين بالصدق متقوم بعدم احتمال الخلاف، بل الأمر
بالاعتقاد نهي عن الاحتمال مطلقا - موافقا كان أو مخالفا.
الا أن التصديق المأمور به هو التصديق العملي، وهو إظهار صدق المخبر
بعمله، سواء كان التصديق العملي عنوان العمل، كما في النقض عملا والابقاء
321

عملا في باب الاستصحاب، أو كان فعلا توليديا من العمل، فان العمل ما به يظهر
صدق المخبر، لا أنه إظهار صدقه، كما هو الحق.
وعليه فالتصديق العملي - ولو عنوانا - لا يتقوم ولا يلازم عدم احتمال
الخلاف، حتى يكون التعبد بالتصديق تعبدا بعدم احتمال الخلاف، ليؤول إلى
التعبد بعدم حكمه، بل لازمه عدم إظهار كذبه عملا وأين ذلك من الغاء احتمال
خلافه بالغاء حكمه؟ فتدبر.
وأما رابعا: فبأنا سلمان أن المراد هو التصديق جنانا - بعنوان الكتابة - إلا أن
عنوان الدليل ليس نفي احتمال الخلاف، حتى يكون من باب نفي الحكم بنفي
موضوعه، بل الأمر باعتقاد صدقه عنوانا يستتبع النهي عن احتمال خلافه، وكما
أن الأمر بالتصديق الجناني كناية عن لازمه، وهو العمل، كذلك النهي عن احتمال
خلافه عنانا كناية عن لازمه وهو الترك، نظرا إلى أن المعتقد يعمل، وأن من لا
يعتقد لا يعمل.
ولا معنى للأمر بالغاء حكم الاحتمال، لا عنوانا ولا لبا، بل المعقول نفي حكم
الاحتمال لبا بنفي الاحتمال عنوانا، وليس ذلك لازم الأمر بالتصديق ولو جنانا.
وأما خامسا، فلأن كل ذلك إذا كان عنوان دليل الاعتبار هو التصديق، لا سائر
العناوين التي لا مساس لها باحتمال الخلاف مفهوما كعنوان (إسمع له وأطعه)
وأشباه ذلك.
نعم التحقيق: أن الحكومة الموجبة لتقديم الحاكم على المحكوم، وإن
كانت لبا تخصيصا لا تدور مدار الشرح والتفسير، ولو بعنوان إلغاء احتمال
الخلاف وحكمه فضلا عن أن يكون بمنزلة (أعني) وأشباهه، بل إذا كان لسان
الحاكم اثبات الموضوع أو نفيه، كفى في التقديم، وذلك لأن المحكوم غير
متكفل الا لاثبات الحكم الموضوع، لا أنه متكفل لاثبات موضوعه، فلا ينافي -
بوجه - ما دل على نفي الموضوع أو اثباته، كما في " لا شك لكثير الشك " بالإضافة
إلى أدلة الشكوك.
322

وحينئذ إذا فرض كون مفاد دليل الاعتبار تنزيل الظن - أو ما يفيده - منزلة
العمل، كان إثباتا للغاية الرافعة لحكم الأصل، فهو رفع الحكم شرعا لبا بلسان
تحقق الغاية.
وكذا إذا فرض كون مفاده نفي الشك والجهل، فهو رفع الحكم الثابت له بدليل
الأصل، بعنوان رفع موضوعه شرعا، وحيث أنه دلالة لفظية، لا منافي لها بعنوانها
كان صالحا لأن يتصرف بها في عنوان الدليل ابتداء نفي الحكم في قبال إثباته، أو
اثباته في قبال نفيه، فإنه تخصيص أو تقييد محض، فيراعي فيه ما يجب رعايته
فيهما.
إنما الكلام في مساعدة دليل اعتبار الأمارة على مثل هذا النفي.
وربما يتخيل: أن قوله عليه السلام (لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك
فيما يرويه عنا ثقاتنا) (1) الخبر، دليل على إلغاء الشك، بالغاء حكمه عند رواية
الثقة.
ويندفع: بأن المراد من التشكيك ليس هو التشكيك لسانا، ولا التشكيك
جنانا، بل المراد هو التشكيك عملا فمفاده عدم العذر في إظهار الشك عملا،
بترك ما روى الثقة أنه واجب أو بفعل ما روى أنه حرام، وأين ذلك من نفي الشك
لنفي حكمه؟
وبالجملة ليس لسان الخبر نفي العذر في الشك فضلا عن نفي الشك مريدا به
نفي كون عذرا، ليكون من باب نفي الحكم بنفي موضوعه، بل المراد النهي عن
إظهار الشك بعمله أو مجرد عدم المعذورية، لمكان منجزية الأمارة.
وأوضح منه - فسادا - توهم دلالة قوله عليه السلام (نعم) بعد سؤال الراوي
(فلان ثقة آخذ منه معالم ديني) (2) نظرا إلى أنه بمعنى: خذ، فيكون دالا على أن
تناول الواقع من الراوي "، ووصوله منه عبارة أخرى عن إلغاء الشك، وعدم

(1) الوسائل 18: ص 108: الباب 11 من أبواب صفات القاضي: ح 40.
(2) الوسائل: ج 18: الباب 11 من أبواب صفات القاضي: ص 107 ح 33.
323

الاعتداد باحتمال خلافه.
وجه وضوح الفساد: أن الأخذ لازمه العمل، حيث لا عمل بلا اخذ، فالأمر
بالأخذ كناية عن الأمر بالعمل، فليس الأخذ منه منزلا منزلة الأخذ عن الإمام -
عليه السلام - حتى يكون وصوله منه منزلا منزلة وصوله منه - عليه السلام -
مع أن غايته تنزيل المأخوذ من الراوي منزلة معالم الدين، لا منزلة معالم
الدين الواصلة، حتى يكون الوصول الذي هو لازم الأخذ بمنزلة وصول الواقع،
فليس مفاده، إلا جعل الحكم المماثل للحكم الواقعي.
وقد نبهنا عليه في بعض مباحث القطع والظن فراجع (1)
نعم - قد ذكرنا في محله (2): أن مثل قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون) (3) إن كان من أدلة حجية الخبر، أمكن استفادة تنزيل الخبر
منزلة العلم، إذ الظاهر منه الأمر بالسؤال لكي يعلموا بالجواب، لا بأمر زائد على
الجواب، فالجواب منزل منزلة العلم، إما لأن المراد بالعلم حقيقة ما يعم خبر
الثقة ويكون الخبر واردا، أو لأنه منزل منزلة العلم في تنجيزه للواقع، وفي كونه
غاية رافعة لحكم الأصل، فيكون من اثبات الموضوع تنزيلا فيكون حاكما وهكذا
قوله عليه السلام (وعرف من أحكامنا) (4) مع أن أدلة الأحكام غالبا ظنية الدلالة
أو السند، أو هما معا وقد أطلق عليها المعرفة بأحد الوجهين المذكورين آنفا، إلى
غير ذلك مما يقف عليه المتتبع فراجع.
قوله: مع احتمال أن يقال: إنه ليس... الخ.
هذا وجيه بناء على تفسير الحكومة بمعنى الشرح والتفسير، والحاجة إلى
عنوان التعبد بالغاء احتمال الخلاف، واما بناء على تفسيرها بمجرد إثبات

(1) نهاية الدراية: ج 2.
(2) نهاية الدراية: ج 2.
(3) النحل 16: الآية 43 والأنبياء 21: الآية 7.
(4) الوسائل: ج 18: الباب 11 من أبواب صفات القاضي: ص 98: ح 1.
324

الموضوع أو نفيه تنزيلا فلا، وذلك لأن تنزيل الظن منزلة العلم - في المنجزية -
يجدي في الحكومة، لا بمعنى أن المراد من العلم المأخوذ من الأدلة مطلق
الحجة القاطعة للعذر، فان إعطاء صفة الحجية للأمارة يوجب ورودها، لأنها حجة
حقيقة، بل بمعنى أن العلم على حقيقته، وإنما نزل الظن منزلة العلم بعنوانه في
اثره، فهو علم تنزيلا، ومنجز حقيقة، فلا ورود، بل حكومة صرفة، فتدبر جيدا.
" وجه تقديم النص والأظهر على الظاهر "
قوله: إذا كان أحدهما قرينة على التصرف... الخ.
لا يخفى عليك أن التعارض إذا كان عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين، فالتنافي
بين مدلول العام ومدلول الخاص وأشباههما، محقق لا شك فيه، وكذا إذا كان
التعارض من شؤون الدال بما هو دال لفنائه في المدلول.
نعم إذا كان التعارض عبارة عن تنافي الدليلين في الدليلية والحجية - كما هو
مبني المتن، وإن كان خلاف ظاهر نسبته إلى مرحلة الدلالة ومقام الاثبات - أمكن
القول بأنه لا تعارض بين النص والظاهر والأظهر والظاهر.
وبيانه: بأن معنى التنافي في الدليلية والحجية عدم إمكان اجتماعهما في
الحجية فعلا، وتزاحمهما فيها، وذلك لا يكون إلا مع تمامية المقتضي للحجية
في مقام الاثبات، فكل منهما حجة بالذات، ويتمانعان، ويتزاحمان في الفعلية،
فإذا كان لأحدهما، خصوصية معينة، كان هو الحجة بالفعل، والا سقطا معا عن
الحجية الفعلية، مع بقائهما على الحجية الذاتية.
وهذا إنما يعقل فيها إذا كانت حجية الحجة بعموم، أو اطلاق لفظي كالخبر
الثابت حجيته بالآيات، أو الروايات. وأما الدلالة، فلا دليل على حجيتها إلا بناء
العقلاء عملا، ولا يعقل بناء ان منهم عموما وخصوصا اطلاقا وتقييدا ليكون أحد
البناءين مخصصا أو مقيدا للآخر.
325

فان العلم، إما على الظاهر الذي ليس في قباله نص، أو أظهر فلا مقتضى
لحجية مثل هذا الظاهر إثباتا وإما على طبق الظاهر، حتى إذا كان في قباله أحد
الأمرين من النص والأظهر. فالمقتضى موجود، الا انه خلف، لفرض تقديم النص،
أو الأظهر عملا على الظاهر.
كما أن إذا كان التعارض بين الظاهرين المتساويين في الظهور، لا عمل على
طبق أحدهما، فلا مقتضى إثباتا لشئ منهما، فلا تزاحم بين المتنافيين مدلولا
في الدليلية، بحسب مقام الدليلية والحجية مطلقا، حتى يقال بأن موارد الجمع
خارجة عن مرحلة التعارض، لتعين أحد الدليلين للحجية.
وعليه، فإذا كان التعارض بلحاظ مقام الدليلية، ومرحلة الحجية، فلا بد من
فرضه بلحاظ المقتضي ثبوتا، لا إثباتا حتى يعقل فرض التزاحم المبني على
وجود المقتضي من الطرفين، إذ التمانع بعد مرتبة الاقتضاء.
وحينئذ نقول: المقتضي - المؤثر في نفوس العقلاء للعمل على طبق الظاهر -
هو كشفه نوعا عن المراد الجدي، وهذا المعنى محفوظ في الظاهر مطلقا - كان
في قباله نص، أو أظهر، أم لا - غاية الأمر: أن النص لكونه لا يقبل التصرف فيه،
بمنزلة المقتضي الذي لا يقبل المانع، والأظهر - لمكان أقوائية ملاكه - يقبل المانع
في حد ذاته، لكنه لقوته لا يقبله بالفعل، فالتأثير له فعلا، فالظاهر والنص متنافيان
ذاتا في الحجية، غير متنافين فعلا، بخلاف الظاهرين المتساويين، فإنهما متنافيان
ذاتا وفعلا في الحجية.
وحينئذ فإن كان المهم البحث عن المتنافيين بالفعل بلحاظ المقتضي في
مقام الثبوت، فموارد الجمع خارجة عن المتعارضين بهذا المعنى، وإن كان المهم
البحث عن أحكام المتنافيين بالذات ثبوتا، فموارد الجمع - كغيرها - داخلة في
المتعارضين، وتسالم العرف على تقديم النص أو الأظهر، وعدم التزاحم فعلا لا
يوجب الغنى عن البحث عنه، كما أن التسالم على حجية الظاهر لا يوجب الغنى
عن البحث عنها.
326

ثم إنه تبين مما ذكرنا: أن عدم النص والأظهر جزء موضوع المقتضي في مقام
الاثبات، لا أنه مانع، فإنه غير معقول، كما عرفت، فليس تقديم النص أو الأظهر
على الظاهر من باب تقديم أقوى الحجتين على أضعفهما.
كما أنه تبين أن عدم النص والأظهر ليس مقوما للمقتضي في مقام الثبوت، بل
النص والأظهر مانع عن تأثير الظاهر.
وقد فصلنا القول فيه في مبحث الظواهر (1).
وعليه: فالنص أو الأظهر القطعي السند وارد على دليل اعتبار الظاهر، حيث
أنه يرتفع به موضوعه المتقوم بنقيضه حقيقة.
والظني السند منهما حاكم على دليل اعتباره، لأنه رافع لجزء موضوعه تنزيلا
لا الحكومة بمعنى الشرح والتفسير، حتى يقال بأنه لا يعقل الحكومة بالإضافة
إلى الأدلة اللبية.
ولشيخنا العلامة الأنصاري - قدس سره - إن إعتبار الظاهر، إن كان لأجل أصالة
عدم القرينة، فالنص مثلا وارد تارة، وحاكم أخرى. وإن كان لأجل إفادته للظن
النوعي، فالنص مطلقا وارد (2).
والوجه في الأول: أن الأصل متقوم بالشك، فتارة يرتفع وجدانا وأخرى
تنزيلا، فصح الورود على الأول والحكومة على الثاني.
والوجه في الثاني ما افاده: من أنا لم نجد، ولا نجد من أنفسنا موردا يقدم فيه
العام - من حيث هو - على الخاص، وإن كان أضعف الظنون المعتبرة، فيعلم منه
أن حجية الظاهر متقيدة بالأعم من العلم، والعلمي بخلافه.
وأورد عليه: تارة - بأنه لازم أعم للورود والحكومة، فلا يتعين الأول على الوجه
الثاني، وأخرى - بأنه لا نجد من أنفسنا تقيد المقتضي للحجية بعدم الظن المعتبر
على خلاف الظاهر، بل يقدم عليه من باب تقديم أقوى الحجتين على أضعفهما،

(1) نهاية الدراية: ج 2.
(2) درر الفوائد للمحقق الحائري: ج 2، ص 640 لطباعة جامعة المدرسين.
327

وثالثة - بأن التعليق ثابت من الطرفين، فكما أن حجية الظاهر معلقة على الظن
المعتبر على خلافه، كذلك اعتبار سند النص معلق على عدم المعارض.
والكل مندفع، أما الأول - فبما عرفت آنفا - من أنه ليس للعقلاء بناءان
بنحو العموم والخصوص، بل البناء العملي على اتباع الظاهر، ما لم يقم حجة
على خلافه، لا ما لم يقم علم على خلافه، حتى يكون دليل النص - مثلا - منزلا
منزلة العلم المغيى به حجية الظاهر، بل محقق للحجية المغيى بها الحجية.
وفيه كلام سيأتي - إن شاء الله تعالى -
وأما الثاني، فلان ما لا يساعده الوجدان تقيد المقتضي ثبوتا لا تقيد
المقتضي إثباتا بل غيره غير معقول.
وأما الثالث: فبأن المقتضي للحجية إثباتا - في طرف الدلالة - مقيد قطعا
والمقتضي للحجية - في طرف - السند - غير مقيد في مقام الاثبات، بل المقتضي
في الطرفين - من حيث السند - تام في مقام الإثبات.
مضافا إلى أن سند النص غير مناف بذاته للظاهر، حتى يجئ التعليق بل
ينافيه بتبع مدلوله، الذي لا يقاومه الظاهر، فالظاهر لا يقاوم ما ينافيه، ولا ينافي ما
يقاومه، فتدبر.
نعم يرد عليه - قدس سره -: أن أصالة عدم القرينة لا يراد منها استصحاب
عدمها، بل بناء العقلاء على عدمها عند احتمالها، وعليه فبناؤهم - عملا - على
اتباع الظاهر، مع عدم القرينة الصارفة، وبناؤهم على عدمها.
أما مع العلم وجدانا بعدمها، فلا معنى لاتباع الظاهر مع عدم العلم بعدمها.
وأما مع عدم قيام الحجة علما، أو عملا عليها فالمبنى الأول كالثاني في أن
مقتضى تقيد بنائهم العملي بعدم الحجة ورود النص مطلقا، وإن كان سنده ظنيا
لأن دليل اعتبار محقق لحجيته المتقومة بعدمها حجية الظاهر.
والتحقيق: أن بناء العقلاء ليس متقيدا - بعدم العلم بالقرينة - بعنوان العلم
حتى يكون النص القطعي - واردا والظني حاكما، لتنزيله منزلة العلم، مع أنهم لا
328

يقتصرون على العلم في رفع اليد عن الظاهر، وليس لهم بناءان - عموما
وخصوصا -.
وكذا ليس بناؤهم متقيدا بعدم الحجية على القرينة بعنوان الحجة، حتى يكون
دليل حجية سند النص - بملاحظة كونه محققا لحجة - واردا، لا حاكما، إذ العمل
على الظاهر الذي لم يقم على خلافه العلم وما هو معتبر عند العقلاء، من الخبر
ونحوه، والحجية تنتزع من عملهم لا أن بناءهم متقيد بعدم الحجية بعنوانها.
وعليه، فسند النص، إن كان معتبرا عند العقلاء، فهو من افراد ما يرفع اليد به
عن الظاهر حقيقة فالنص وارد.
وإن لم يكن معتبرا عندهم، فوجوده كعدمه عندهم في عدم رفع اليد عن
الظاهر بسببه، فاعتباره شرعا لا يكون محققا للحجة، حتى يكون واردا ولا تنزيلا
له منزلة العلم المتقيد بعدمه حجية الظاهر، حتى يكون حاكما بهذه الملاحظة بل
- في الحقيقة - نهى عن اتباع هذا الظاهر تنزيلا للنص الغير المحقق منزلة المحقق،
فله الحكومة بهذه العناية لا تنزيلا للأمارة منزلة العلم.
بل الحكومة بهذه الملاحظة - أيضا - مخدوشة، إذ ليس لوجود النص واقعا أثر
عند العقلاء، حتى يكون تنزيل النص الظني منزلة الواقعي مجديا بل المؤثر - كما
بيناه في مبحث حجية الظواهر (1)، هو النص الواصل لا بهذا العنوان، بل أنحاء
الوصول عند العقلاء، والمفروض أنه ليس هذا منها.
نعم تنزيل الأمارة منزلة العلم، الذي هو أحد افراد ما يرفع اليد بسببه عن
الظاهر لا بأس به، فيكون حاكما بهذه الملاحظة.
ثم إن الترديد الذي ذكره - قدس سره - في مبنى حجية الظواهر فيه، كلام قد
فصلنا القول فيه في مبحث الظواهر، وقد ذكرنا هناك: أن التعويل على أصالة
عدم القرينة له مقام، والتعويل على أصالة الظهور والكاشفية النوعية مقام آخر،

(1) نهاية الدراية: ج 2.
329

فراجع (1).
" في بيان مقتضى القاعدة الأولية في الخبرين "
المتعارضين على الطريقية "
قوله: التعارض وإن كان لا يوجب إلا سقوط.... الخ.
لا يخفى عليك أن محتملات صورة التعارض - بناء على الطريقية - أمور:
منها حجية أحد المتعارضين بلا عنوان.
ومنها حجية الموافق منهما للواقع.
ومنها حجية كليهما معا.
ومنها سقوطهما معا عن الحجية.
وحيث أن الحكم بسقوطهما مبني على بطلان سائر المحتملات فنقول:
أما حجية أحدهما - بلا عنوان - فالوجه فيها: أن المقتضى للحجية - ثبوتا -
احتمال الإصابة، وهو موجود في كلا الخبرين والمانع هو العلم الاجمالي بكذب
أحدهما، وهو متساوي النسبة إلى المقتضيين، إذ لا تعين لواحد منها بحسب
مرحلة العلم الاجمالي، وإذا كان المقتضي في الطرفين موجودا، وكان المانع
متساوي النسبة إليهما، ولم يكن حسب الفرض مانعا عنهما معا ولا عن أحدهما
المعين فاحد المقتضيين بلا عنوان يؤثر في مقتضاه، واحدهما بلا عنوان يسقط
عن التأثير.
ويندفع: أولا - بما مر منا مرارا: أن الصفات الحقيقية والاعتبارية لا يعقل أن
تتعلق بالمبهم والمردد، إذ المردد بالحمل الشائع لا ثبوت له ذاتا ووجودا
وماهية وهوية، ومالا ثبوت له بوجه يستحيل أن يكون مقوما ومشخصا لصفة

(1) الكفاية ج 2 ص 382.
330

حقيقية أو اعتبارية. وقد دفعنا النقوض الواردة عليه في غير مقام. فراجع.
وثانيا: أن حقيقة الحجية - سواء كانت بمعنى تنجيز الواقع، أو جعل الحكم
المماثل ايصالا للحكم الواقعي، بعنوان آخر - سنخ معنى لا يتعلق بالمردد،
بداهة أن الواقع - الذي له تعين واقعا - هو الذي تنجز بالخبر، وهو الذي يصل به
بعنوان آخر، فكيف يعقل أن يكون المنجز هو المردد والمبهم؟ أو الواصل هو
المردد والمبهم؟
وثالثا: أن الأثر المترقب من الحجية - بأي معنى من المعنيين - هو لزوم
الحركة على طبق ما أدت إليه الحجة، والحركة نحو المبهم والمردد واللا متعين
غير معقولة.
فحجية أحد الخبرين بلا عنوان - بلحاظ كونها صفة من الصفات، وبلحاظ
نفس معنى الحجية وبلحاظ الأثر المترقب منها - غير معقولة.
ومما ذكرنا تعرف الجواب عن البرهان، فان اقتضاء امر محال محال.
وأما حجية أحدهما المعين - وهو الخبر الموافق للواقع - فالوجه فيها: أن كلا
من الخبرين وإن كان حجة ذاتية بمقتضى مقام الاثبات، ومرحلة الثبوت إلا أن
الحجة الفعلية - الموجبة لتنجز الواقع، والموصلة إليه بعنوان آخر - شأن الخبر
الموافق، المعلوم ثبوته اجمالا فتندرج المسألة في اشتباه الحجة بغير الحجة.
والجواب - أن مورد البحث ليس في فرض العلم الاجمالي بالحكم الواقعي
في أحد الخبرين والا لتنجز بالعلم، وإن قطع بعدم حجية الخبرين، كما أنه ليس
في صورة العلم الاجمالي بوجود الحجة، كما إذا علم اجمالا بحجية الخبر، أو
الشهرة، حيث أن الحكم الطريقي يتنجز بالعلم الاجمالي، كالحكم الحقيقي،
وذلك لان تمامية المقتضي - ثبوتا وإثباتا - مفروضة فكلاهما حجة ذاتية بالعلم
التفصيلي لا الاجمالي.
بل مورد البحث: ما إذا كان هناك خبر أن يعلم بعدم صدور أحدهما، من دون
فرض العلم الاجمالي بالحكم الواقعي، لاحتمال كذبهما معا واقعا وحينئذ
331

يتمحض الكلام في أن موافقة أحد الخبرين للواقع - واقعا - يوجب تعين الموافق
الواقعي للحجية الفعلية، بصرف مقتضي الاثبات والثبوت إلى الموافق الواقعي،
لمجرد موافقته واقعا، أم لا؟
وحيث أن التنجز، ووصول الواقع بعنوان آخر يتقوم في مرحلة الفعلية
بالوصول لا بمجرد وجود المنجز والموصل واقعا - والا يكفي نفس وجود الحكم
الواقعي للتنجز - فلا محالة، لا يجدي الموافقة الواقعية للتنجز الفعلي، والوصول
الفعلي، واحتمال موافقة موجود - في كلا الخبرين - لا يختص به أحدهما.
وأما حجية كليهما معا، فالوجه فيها: أن مقتضى الاثبات - في كل منهما - تام،
إذ لو كان مقيدا بعدم المعارض كان كلا الخبرين خارجا عن العام، لابتلاء كل
منهما بالمعارض، ولو كان مهملا، لم يكن الدليل شاملا لشئ منهما في حد
نفسه، فاللازم فرض الاطلاق - في مقام الاثبات - ليكون كل منهما في حد ذاته
قابلا للحجية الذاتية، ومتمانعين في الحجية الفعلية.
وأما المقتضى في مقام الثبوت، فهو احتمال الإصابة شخصا وغلبة الإصابة
نوعا، وهذه هي المصلحة الطريقية، لرعاية المصلحة الواقعية الحقيقية، والكذب
الواقعي ليس بمانع حتى يكون العلم الاجمالي به علما بالمانع، ليستحيل تأثير
كلا المقتضيين.
ولا يقاس بالعلم التفصيلي فإنه مزيل لما يتقوم به المقتضي - وهو احتمال
الإصابة لا أنه العلم الاجمالي بعدم إصابة أحدهما، فإنه ينافي احتمال اصابتهما
معا لا أنه ينافي احتمال الإصابة في كل منهما، ومقتضى الحجية - في كل حجة -
احتمال إصابة نفسها لا احتمال اصابتها منضما إلى إصابة غيرها.
وهذه غاية ما يمكن أن يقال في وجه حجية كلا الخبرين، كما كان يحتمله
شيخنا العلامة - رفع الله مقامه - في بحثه.
والجواب: أن الامر في وجود المقتضي - ثبوتا واثباتا - وعدم المانع كما
أفيد. الا أن سنخ المقتضي لا يقبل التعدد، لان تنجز الواقع الواحد - على تقدير
332

الإصابة - لا يعقل فعليته في كليهما، والمفروض أن الواقع - على تقدير ثبوته - في
ضمن أحدهما، فهذا الامر التقديري غير قابل للفعلية، إلا في أحدهما، والا فالأمر
التعليقي محفوظ، حتى مع العلم بكذبه، تفصيلا، لصدق الشرطية مع كذب
طرفيها. فلابد من كون الواقع قابلا للتنجز في كليهما، مع أنه واحد لا يتنجز إلا في
ضمن أحدهما...
وإن شئت قلت: إن المقتضي لأصل جعل الحجة هي المصلحة الواقعية،
وهي واحدة على الفرض، وكون المجعول حجة مما يحتمل فيه الإصابة شخصا
ومما يصيب نوعا بمنزلة الشرط لتأثير الشرط ذلك المقتضي الوحداني، لجعل الخبر من
بين سائر الامارات حجة، وتعدد الشرط لا يجدي في تعدد المقتضي مع وحدة
مقتضية.
مضافا إلى بداهة فساده فيما إذا كان أحد الخبرين متضمنا للوجوب، والاخر
لعدمه أو أحدهما متكفلا للوجوب والاخر للحرمة، فان تنجز الواقع مع العذر عنه
في الأول لا يجتمعان، وتنجز الحكمين المتضادين في الثاني لا يجتمعان.
وحيث عرفت عدم صحة حجية أحدهما بلا عنوان، وعدم صحة حجية
أحدهما المعين، وعدم صحة حجية كليهما، تعرف أن سقوط كليهما عن الحجية
الفعلية هو المتعين من بين سائر المحتملات.
ومما ذكرنا تعرف - أيضا - أنه لا مجال لاحتمال التخيير، لا بمقتضى مقام
الاثبات، لان مفاد الدليل حجية أفراد العام تعيينا، ولا بمقتضى مقام الثبوت، لان
التخيير - بين الواقع وغيره - لا معنى له. والمصلحة الطريقية مصلحة الجعل، لا
كمصلحة الواقع واجب التحصيل، ولا كمصلحة المؤدى - على الموضوعية -
لازمة المراعاة.
وليست المصلحة الطريقية موجبة للحكم بالتخيير من الجاعل، لما عرفت من
أن المقتضي الحقيقي رعاية المصلحة الواقعية، ولا معنى لان تكون تلك
المصلحة باعثة على تخيير المولى بين إيجاب ما يحصلها، ولا ما يحصلها.
333

وسيأتي - إن شاء الله تعالى - تتمة الكلام فيما بعد.
قوله: نعم يكون نفي الثالث بأحدهما... الخ.
ظاهره - قدس سره - أنه ليس الحجة في مدلوله المطابقي، لعدم تعينه.
وهذا - بناء على أن عدم حجية اللا متعين بلحاظ عدم ترتب الغرض المترقب
من الحجة، وهي الحركة على طبقها - كما يظهر منه - قدس سره - في مسألة
الواجب التخييري على ما أفاده - قدس سره - في هامش الكتاب (1) - وجيه، إذ
عدم صحة جعل الحجية لهذا الغرض لا ينافي صحة جعلها لنفي الثالث.
وأما - بناء على عدم معقولية تعلق الصفة الحقيقية أو الاعتبارية باللا متعين، أو
عدم تعلق الحجية من حيث نفسها به، فلا يعقل نفي الثالث به، إذ لا حجة على
الملزوم. كي تكون حجة على اللازم.
ومنه يظهر عدم صحة نفي الثالث بأحدهما المعين واقعا، بما هو حجة على
الملزوم لعدم حجيته - كما عرفت - وعدم صحة نفيه بهما معا - بما هما حجتان -
لعدم حجيتهما معا، اللازم نفي الثالث بالخبرين بذاتهما. لا بما هما حجتان
على الملزوم والحجة على الملزوم على لازمه، وذلك لان الخبرين يكشفان
عن مدلولهما المطابقي، وعن مدلولهما الالتزامي وعدم حجية الخبرين عن
الملزوم - لمكان التعارض - لا يمنع عن حجية الخبرين عن اللازم، لمكان التوافق.
والتبعية في الوجود - في مرحلة الدلالة والكاشفية - لا تستدعي التبعية في
الحجية.
نعم: قد أشكلنا عليه في محله (2) بأن الدلالة الالتزامية التصورية، وان كانت
متحققة مع عدم الالتفات من المتكلم إلى اللازم والملازمة، إلا أن العبرة في
الاخبار والحكاية القصديين، بالدلالة التصديقية، ومع عدم الالتفات إلى اللازم لا
خبر عنه من المخبر، وإن كان هو لازم المخبر به، لا أنه لازم مخبر به، وحيث لا

(1) الكفاية 2: 226.
(2) نهاية الدراية: ج 3 ص 229.
334

خبر عن اللازم، فلا حجة عليه.
ويندفع فيما إذا كان اللازم من اللوازم العادية الملتفت إليها نوعا، ولو ارتكازا،
بنحو الاجمال لا بنحو التفصيل، بأنه يؤاخذ المخبر بالملزوم واللازم، ولا يلتفت
إلى دعوى عدم التفاته إلى اللازم.
كما يمكن التعبد باللازم مطلقا - بوجه آخر - فيما إذا كانت الحجية بمعنى لزوم
الالتزام، فان الالتزام بالملزوم لا يجامع عدم الالتزام بلازمه، فالتعبد بالالتزام
بالملزوم يستلزم التعبد بالالتزام بلازمه، فيجب الالتزام باللازم، لامن حيث أنه
مخبر به تبعا، بل من حيث أن لزوم الالتزام بالمخبر به يستلزم لزوم الالتزام
بلازمه.
ولذا نقول: إن الاخذ باللازم - بناء على هذا المبنى - لا يختص بموارد
الامارات بل يجري في جميع موارد التعبد، ولو كان من الأصول العملية.
الا أن هذا المبنى - أيضا - إنما يصح إذا كان التعبد بالالتزام بعنوانه، وأما التعبد
بعنوان التصديق العملي أو بعنوان الابقاء، وعدم النقض عملا، فلا يقتضي التعبد
باللازم، إذ ايجاب شئ لا يقتضي ايجاب لازمه بوجه، إذا لم ينطبق عليه بنفسه
عنوان التصديق العملي أو الابقاء العملي.
وتمام الكلام في محله.
الا أنه - بناء على هذا المبنى - يكون التعبد باللازم بتبع التعبد بالملزوم - في
الخبر الموافق - إذ لا يجب الالتزام واقعا بالمخالف، ففي الثالث مستند إليه.
قوله: وهو بناء العقلاء على أصالتي الظهور... الخ.
إلا أنه لمكان الطريقية عندهم لا لتقيد المصلحة المقتضية للسببية، كما أن ما
أفاده - قدس سره - من التسوية فيما بعد، بين بناء العقلاء، والأدلة اللفظية، من
حيث عدم شمول المقتضى - في مقام الاثبات - للمتعارضين، فيه ما قدمناه (1)
من أن البناء العملي ليس فيه خصوص وعموم، واطلاق وتقييد، فلا محالة لا يعم

(1) ص 325 من هذا المجلد.
335

المتقضي - إثباتا - للمتعارضين، بخلاف الأدلة اللفظية، فإنها قابلة لذلك.
والتعارض بلحاظ الحجية الفعلية، دون الحجية الذاتية.
نعم: المقتضي في مقام الثبوت - في كليهما على حد سواء - بمعنى أن
المقتضي للبناء موجود مع المانع، وكذا المقتضي للاعتبار - شرعا ثبوتا - موجود
في كليهما، مع المانع.
" في بيان مقتضى القاعدة الأولية في الخبرين
المتعارضين على السببية "
قوله: وأما لو كان المقتضي للحجية في كل واحد... الخ.
اي ثبوتا وإثباتا، ولا يتصور ذلك إلا في الأدلة اللفظية.
وتوضيح المقام: أن السببية - كما قيل - تتصور على وجهين:
أحدهما: أن تكون في نفس عنوان تصديق العادل، وتطبيق العمل على قوله
- مثلا - مصلحة مقتضية لجعل الحكم المماثل لمؤدى الخبر مثلا، فإذا كان هناك
خبران متنافيان مدلولا، كان كل منهما مشتملا على مصلحة، وحيث لا يمكن
استيفاؤهما، وامتثال الحكم المجعول على طبقهما، يحكم العقل بالتخيير
بينهما، كما في كل واجبين متزاحمين، على تفصيل سيأتي - إن شاء الله تعالى.
ثانيهما: أن تكون مصلحة الحكم الواقعي - في مقام تأثيرها الحكم الواقعي -
متقيدة بعدم قيام الامارة على خلاف الواقع، فلا محالة يسقط الحكم الواقعي،
ويكون الحكم الفعلي دائما على طبق الامارة المخالفة.
والحكم الواقعي: إما له ثبوت بثبوت مقتضيه - وهي المصلحة - وإما له ثبوت
إنشائي فقط، إذ لا تقيد لتأثير المصلحة، إلا في مقام الفعلية، كما عليه شيخنا
الأستاذ - قدس سره -
336

وحينئذ ربما يتخيل (1) أن النتيجة في هذه الصورة هو التوقف لا التخيير، إذ لا
تأثير للامارة الموافقة في الحكم، لا اثباتا ولا نفيا، غاية الامر، أنه لو كانت الامارة
الموافقة وحدها، كان الحكم الواقعي فعليا بمصلحته الغير المزاحمة، وإذا كانت
مع الامارة المخالفة كان الحكم الواقعي ساقطا عن الفعلية، لمزاحمة مصلحته
المؤثرة في فعليته بقيام الامارة المخالفة، ولا تزاحم الامارة الموافقة لها، حيث لا
شأن لها في حفظ فعلية الواقع، حتى تقبل المزاحمة مع المخالفة.
وعليه فحيث أن الحكم الفعلي على طبق الامارة المخالفة، ولم يتميز الامارة
المخالفة من الموافقة، وجب التوقف، ولا مجال للتخيير المنبي على قبول كل من
الحكمين للفعلية.
وفي الحقيقة هذا قول بالسببية في الامارة المخالفة، والطريقية في الامارة
الموافقة.
ويندفع أولا: بأنه مبني على التصويب الباطل، الذي لا يقول به العالم
بسببية الامارة وذلك لان مصلحة الواقع، ومصلحة الامارة المخالفة، إما متنافيتان
بالذات، بحيث لا تجتمعان في الوجود. وإما متنافيتان بالعرض، لتنافي
مقتضاهما، فيتنافيان في التأثير، لا في الوجود.
فان كانتا من قبيل الأول، فلا محالة لا ثبوت لمصلحة الواقع، حتى يكون
لمقتضاها ثبوت عرضي، من باب ثبوت المقتضي بثبوت المقتضي ليكون للواقع
نحو من الثبوت المشترك بين العالم والجاهل.
وإن كانتا من قبيل الثاني، فهذا النحو من الثبوت - لبقاء المصلحة على حالها -
لا يجدي في بقاء الحكم المشترك، إذ هذا الثبوت بالحقيقية للمصلحة لا للحكم -
مع ما بينا في محله: من أن لا ثبوت بالذات للمصلحة - القائمة بالفعل عند
إتيانه - حتى يكون لمقتضاها ثبوت بثبوتها عرضا.

(1) درر الفوائد للمحقق الحائري ج 2 ص 657 وهو نسب القول بالتوقف إلى الرسائل في ص
654 وأما على الطريقية ذهب إلى التوقف في ص 647 فتدبر.
337

غاية الامر: إن تقررها الماهوي يوجب شأنية الحكم، والحكم الشأني ليس له
ثبوت بوجه. وأما ثبوته الانشائي - كما عليه شيخنا العلامة (رفع الله مقامه) (1) -
فمخدوش أيضا - بما فصلنا القول فيه في محله (2).
من أن الانشاء بلا داع محال والانشاء بغير داعي جعل الداعي من سائر
الدواعي، فعليته فعلية ذلك الداعي لا فعلية البعث والزجر، فليس مثله من
مراتب الحكم الحقيقي، الذي يترقب من الفعلية والتنجز، فلا محالة يكون الحكم
الواقعي هو الانشاء بداعي جعل الداعي، وهو تمام ما بيد المولى، وتمام ما هو
الفعلي من قبله، فإذا كان منبعثا عن مصلحة - متقيدة في مقام تأثيرها في الفعلي
بهذا المعنى - لم يكن للانشاء بداعي جعل الداعي ثبوت عند قيام الامارة
المخالفة، لفرض غلبة مقتضيها على مقتضى الحكم الواقعي.
ومنه يتبين أن هذا النحو من السببية تصويب مجمع على بطلانه.
وأما الفعلية البعثية والزجرية، فهي متقيدة عقلا بوصول الانشاء بداعي جعل
الداعي، لا بعدم وصول خلافه، حتى يكون تأثير المقتضي منوطا بعدم قيام
الامارة المخالفة فتدبر جيدا.
وثانيا: بأن الالتزام بسببية الامارة تارة بملاحظة تفويت مصلحة الواقع،
بنصب الامارة التي قد تؤدي إلى خلاف الواقع، وأخرى بملاحظة أن ظاهر الامر
بعنوان كونه عنوانا، لا معرفا لشئ اخر، هو المأمورية لبا، فيكشف عن اقتضائه
للامر به بنفسه.
فان كان الالتزام بالسببية للوجه الأول، فلازمه الاقتصار على سببية الامارة
المخالفة المفوتة لمصلحة الواقع.
الا أن هذا المبنى يقتضي مسانخة مصلحة المؤدي، مع مصلحة الواقع، حتى
تتدارك بها، فلا معنى لتقيد مصلحة الواقع - في تأثيرها - بعدم قيام الامارة، فإنه

(1) راجع تعليقه الأولى على مبحث ظن الرسائل: ص 36 وأيضا الفوائد: ص 314.
(2) راجع نهاية الدراية: ج 2.
338

مبنى تنافي المصلحتين، بل أقوائية مصلحة الامارة، لتقيد تأثير مصلحة
الواقع بعدم تأثيرها.
وبالجملة: الغلبة علامة التنافي في التأثير، والتدارك آية الموافقة والمسانخة.
وأما الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، فهو لازم على اي حال، ولا يتوقف
الجميع بينهما على التقيد الراجع إلى عدم الجمع.
وإن كان الالتزام بها للوجه الثاني، فمقتضاه سببية الامارة مطلقا، لتساوي
عنوان التصديق والتطبيق الذي فيه المصلحة، بالنسبة إلى العمل بالامارة
الموافقة، والعمل بالامارة المخالفة، ولا يمكن حمل الانشاء الواحد على إرادة
تنجيز الوقع - بجعل العنوان معرفا - وعلى جعل الحكم المماثل جدا، - بقصد
العنوانية...
وبعبارة أخرى: عنوان التصديق:
إما لو حظ معرفا لفعل صلاة الجمعة التي أخير العادل بوجوبها، فيكون المراد
بايجابه تنجيزه، أو جعل الحكم المماثل بعنوان ايصال الواقع.
وإما لوحظ عنوانا محضا، وموضوعا بنفس للحكم والجمع بين المعرفية
والعنوانية - في اطلاق واحد بالإضافة إلى الامارة الموافقة، والامارة المخالفة -
غير معقول فدليل الاعتبار، إما يكون متكفلا للطريقية مطلقا أو للموضوعية
مطلقا.
وثالثا: أن الفعلية المتقيدة بعدم قيام الامارة على الخلاف، إن كانت فعلية
الحكم من قبل المولى المساوقة لأصل ثبوت الحكم الواقعي فالامارة الموافقة -
التي شأنها تنجيز التكليف، وجعله بالغا درجة البعث والزجر - لا تزاحم الامارة
المخالفة الرافعة لأصل الحكم.
وإن كانت فعلية الحكم بمعنى وصوله إلى درجة البعث والزجر، كما هو
مسلك شيخنا الأستاذ - قدس سره - في تعليقته الأنيقة (1)، فالامارة الموافقة - بناء

(1) التعليقة الأولى على مبحث الظن: ص 36.
339

على طريقيتها - مزاحمة للامارة المخالفة، لان الموافقة مقتضية لايصالها درجة
الفعلية بهذا المعنى، والامارة المخالفة مانعة عنها، لا أنه لا تزاحم بينهما، وأنه لا
شأن للامارة الموافقة، وأن الحكم الفعلي على طبق الامارة المخالفة - كما قيل -
فتدبر.
قوله: فإنه حينئذ لا يزاحم الاخر ضرورة.. الخ.
لا يخفى عليك: أن الحكم باستحباب شئ تارة من حيث وجود المقتضي
لأصل الرجحان، وحيث لا اقتضاء لحد وجودي منه، ويكفي في الندبية عدم
تفصله بفصل الوجود، فلذا يحكم عليه بالاستحباب.
وأخرى - من حيث وجود المقتضي، لحد خاص من الرجحان ملزوم لحد
عدمي.
وهو عدم مرتبة الفوق، فالندبية لاقتضاء ذلك الحد الوجودي الملزوم لحد
عدمي - لا لمجرد كون الفصل عدميا - يكفي فيه عدم علة الوجوب.
وثالثة من حيث وجود المقتضي لذلك الحد الوجودي الضعيف، ووجود
المتقضي لعدم مرتبة الفوق، فالمقتضي يقتضي الوقوف على هذا الحد الوجودي
الضعيف.
وحيث أن الصورة الأولى غير معقولة - في مقام الثبوت - لعدم الاهمال في
الواقع. فالمقتضي محدود بحسب الواقع، والاهمال إنما يتصور في مقام الاثبات
فقط، فلا محالة ينحصر الامر بحسب مقام الثبوت في الصورتين الأخيرتين.
وفي الأولى منهما لا تزاحم، لان اللااقتضاء - بالإضافة إلى مرتبة الفوق - لا
يزاحم ماله اقتضاء ثبوتها فالحكم على طبق الامارة على الوجوب، لان الامارة
على الاستحباب تحدث مصلحة مقتضية لحد ضعيف من الرجحان، والامارة
على الوجوب تقتضي حدوث مصلحة أخرى مقتضية لمرتبة أخرى زائدة على
الأولى، وحينئذ فكما لا تزاحم ثبوتا لا تنافي إثباتا.
وفي الثانية من الصورتين يتزاحم الامارتان، لان أحدهما تقتضي الوقوف
340

على حد مخصوص، والأخرى تقتضي الترقي، والبلوغ إلى المرتبة العليا، لكن كل
مقتض اقترن بالمانع لا يؤثر، فلا تأثير لشئ منهما في الوقوف على الحد
المذكور، ولا في عدمه. وأما المقتضي الحد الوجودي، وهو الرجحان الضعيف،
فلا مانع منه، فيؤثر أثره، فيحكم حينئذ بالاستحباب الفعلي.
هذا كله بالإضافة إلى ملاحظة المقتضيين، من حيث نفسهما كلية، إلا أن
مقتضى دليل الاعتبار على السببية - دائما - كون المقتضيين على نهج الصورة
الثانية من الأخيرتين، بمنى كون الحكم الاستحبابي بالإضافة إلى حده العدمي
عن اقتضاء، لا عن لا اقتضاء، وذلك لأنه لا شبهة في أن الامارة - المتكفلة
للاستحباب - تقتضي الاستحباب الفعلي لو كانت وحدها، وإن كان الحكم - واقعا
- هو الوجوب مع أن مقتضى الاستحباب لا يزاحم مقتضي الوجوب.
فيعلم - من تأثير مقتضى الاستحباب في فعلية الاستحباب، دون مقتضى
الوجود واقعا في الوجوب - أن الاستحباب كما أنه له مقتضى الحد الوجودي، له
مقتضى الحد العدمي، وأن مقتضيه - حده العدمي بالإضافة إلى مقتضى
الوجوب الواقعي - أقوى، فلذا اثر مقتضى الاستحباب، دون مقتضى الايجاب.
وعليه: فمقتضى الاستحباب، المجعول على طبق مؤدى الامارة عن اقتضاء،
فيزاحم مقتضى الوجوب المجعول على طبق مؤدى الامارة على الوجوب، غاية
الامر: أن تأثيره في الاستحباب الفعلي - بالإضافة إلى مقتضى الوجوب الواقعي -
لأقوائيته، وبالإضافة إلى مقتضى الوجود الظاهري لتساقط المقتضيين
بالمزاحمة، وعدم الوجوب الفعلي يكفي فيه عدم العلة.
فهذا هو الوجه فيما افاده قدس سره فيما بعد: من أن مقتضى دليل الاعتبار
كون الحكم الغير الإلزامي عن اقتضاء، مع أنه عناية زائدة على طبع المستحبات،
فإنها في أنفسها بالإضافة إلى حده العدمي لا اقتضاء.
ومما ذكرنا يعلم حكم الإباحة، وأنها هنا اقتضائية، وإن كانت في نفسها لا
اقتضائية، فتدبره، فإنه حقيق به.
341

والتحقيق: بناء على ما قدمنا - من عدم تقيد المصلحة الواقعية في مقام
تأثيرها في إنشاء الوجوب والحرمة، لئلا يلزم التصويب المجمع على بطلانه - إنه
لا موجب للالتزام بكون الحكم الغير اللزومي عن اقتضاء لعدم مرتبة الفوق، بل
المصلحة الواقعية على تأثيرها الواقعي، الغير المنافي للحكم المجعول على طبق
المؤدى لعدم فعلية الواقع بعثا أو زجرا، حتى ينافي بعثا آخر وزجرا، أو استحبابا
فعليا أو ترخيصا فعليا.
وعليه: فالاستحباب المجعول على طبق المؤدى - كسائر موارد الاستحباب -
استحباب ليس في مورد ما يقتضي الوقوف على حده، حتى يزاحم المقتضي
للترقي من ذلك الحد، بقيام إمارة أخرى على وجوبه مثلا. ومثله الكلام في
الإباحة المجعولة عل طبق المؤدى حيث لا موجب لان تكون عن اقتضاء
للوقوف على الإباحة فتدبر.
قوله: لو كان قضية الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام... الخ.
الحجية: إما بمعنى تنجيز الواقع، أو جعل الحكم المماثل بعنوان ايصال
الواقع بعنوان آخر - بناء على الطريقية - وجعل الحكم المماثل للمؤدى على أي
تقدير - بناء على السببية - وأما بمعنى لزوم الالتزام: فتارة - يجب الالتزام بواقع
المؤدى - بناء على الطريقية - وأخرى - يجب الالتزام بالمؤدى على اي تقدير -
بناء على السببية - وعليه فالمصلحة في الالتزام بمؤدى كل واحد من الخبرين -
بناء على الموضوعية - وحيث لا يمكن الالتزام الجدي بالضدين أو المتناقضين -
مع وجدان كل من الالتزامين للمصلحة اللزومية، مع عدم الأهمية فلذا يحكم -
العقل بالتخيير بين الالتزامين الواجبين بذاتهما.
وأما ما أفاده - قدس سره - من أن باب التعارض من باب التزاحم مطلقا، فلا
يراد منه الاطلاق من حيث الطريقية والموضوعية، إذ لا يجب الالتزام بمؤدى
الخبرين على الأولى، للعلم بكذب أحدهما، بل يراد منه الاطلاق من حيث كون
الاستحباب - مثلا - عن اقتضاء لحده العدمي، أم لا، وذلك لان المدلول، وإن كان
342

الاستحباب الذي لا اقتضاء لحده العدمي إلا أن الالتزام به واجب، وإن كان
العمل مستحبا، فيتم ما افاده من عدم إمكان الالتزام بكليهما فيتخير في الالتزام
بأحدهما، كما في كل واجبين متزاحمين، غاية الامر أن الواجب هنا هو الالتزام
بالحكم. فتدبر.
والتحقيق في دفع احتمال كون الحجية مطلقا بهذا المعنى، هو أن الالتزام
الذي فيه مصلحة لزومية.
تارة - يراد منه الالتزام الجدي، وهو في نفسه غير معقول، ولو في غير مورد
التعارض، إذ الالتزام الجدي بما لا ثبوت له وجدانا، ولا تعبدا غير معقول، ولا
ثبوت له وجدانا كما هو المفروض، ولا تعبدا أيضا إذ المفروض ان دليل الاعتبار
غير متكفل للحكم المماثل على طبق المؤدى، حتى يكون للواقع ثبوت تعبدي
بل تمام مفاده الالزام بالالتزام، فلا تعبد إلا بالالتزام.
ومنه يعلم أن المورد ليس من الموارد التي يستكشف منها حكم ظاهري
بدلالة الاقتضاء ليصح الالتزام به، إذ الفروض قصور دلالة دليل الاعتبار على
لزوم الالتزام بالمؤدى في قبال جعل الحكم المماثل، لا الالزام بالالتزام زيادة
على جعل الحكم المماثل.
وأخرى - يراد منه الامر بالالتزام كناية عن الامر بالعمل، حيث أن الملتزم
بحكم عملي، يعمل حينئذ لا أمر حقيقة إلا بالعمل، فيكون معنى الحجية جعل
الحكم المماثل، غاية الامر بعنوان الامر بالالتزام كالأمر بعنوان التصديق - بمعنى
اعتقاد صدقه - حيث أن المعتقد لصدق المخبر يعمل بما أخبر به.
وثالثة - يراد منه الامر بالبناء على الثبوت، وحيث أن ثبوته الواقعي ليس
اختيارا للمكلف، فلا محالة يراد منه معاملة المكلف مع غير الثابت معاملة
الثابت، فيكون أيضا كناية عن الامر بالعمل، فيكون في الحقيقة إثباتا لمماثل
الواقع، بعنوان امر المكلف بالبناء على ثبوته لان لازم البناء على ثبوته هو ثبوته.
فالمعاملة مع الظن معاملة العلم، وتنزيله منزلته.
343

تارة - من الشارع بأن يقول: الظن علم، ومعناه إعطاء الظن شرعا حكم العلم.
وأخرى - من المكلف بأن يقول الشارع: " ابن علي الظن انه علم، ونزله منزلته "
فيكشف أيضا عن أنه له حكمه شرعا، ومرجع الكل إلى جعل حكم العلم للظن.
هذا هو الذي ينبغي أن يقال:
وأما ما في المتن من دفع هذا الاحتمال: بأنه لا تجب الموافقة الالتزامية
عقلا، ولا نقلا في الاحكام الواقعية، فضلا عن الظاهرية.
فمخذوش من وجهين:
أحدهما: أن الجواب في خصوص المقام لا يتوقف على ذلك، بل لو فرض
وجوب الالتزام عقلا أو نقلا، لما كان مجديا هنا، لعدم الموضوع وجدانا وتعبدا -
كما عرفت - كما أنه لو فرض عدم وجوب الموافقة الالتزامية للأحكام العملية،
صح ايجاب الالتزام بالخصوص هنا مقدمة للعمل، حيث أن الواقع غير مقطوع
به، حتى يكفي في الدعوة إلى العمل، فلابد من جعله متمكنا في قلبه بالالتزام به
ليدعوه إلى العمل.
وثانيهما: ما عرفت من أنه لا تكليف ظاهري - هنا - إلا نفس الالزام بالالتزام،
لا أنه هنا تكليف ظاهري - يتكلم في موافقته الالتزامية وعدمها -
نعم إذا أريد لزوم الالتزام زيادة على جعل الحكم المماثل، كما يظهر من قوله:
(لا مجرد العمل على وفقه.. الخ) يندفع عنه الايراد بعدم معقولية الالتزام، مع
عدم الحكم، وإن كان هناك خبر واحد.
لكنه يرد عليه عدم معقولية التخيير سواء أريد بالاطلاق شمول البحث
للطريقية والموضوعية، أو شموله للاستحباب عن اقتضاء وغيره.
أما الأول فواضح، إذ لا حكم على الطريقية إلا الحكم الواقعي، فلا التزام الا
به، فيجري في لزوم الالتزام ما يجري في لزوم العمل.
وأما الثاني فان الحكم - بناء على الاستحباب عن اقتضاء - هو عدم تأثير
المقتضيين فلا حكم إلا الاستحباب بذاته، لا بحده العدمي عن اقتضاء، وبناء
344

على الاستحباب لا عن اقتضاء لا تأثير المقتضي الوجوب، فلا حكم إلا الوجوب
فكيف يعقل وجود الالتزام بحكمين حتى يتخبر بينهما.
قوله: أو محتملها في الجملة كما فصلناه في مسألة الضد... الخ.
لم يتقدم منه - قدس سره - في مسألة الضد تفصيل، ولا اجمال من هذه
الحيثية. نعم فصل - في تعليقته المباركة على رسالة التعادل والتراجيح (1) - بين ما
إذا كان منشؤه احتمال الأهمية شدة الملاك وقوة المناط، وما إذا كان منشؤه
حدوث ملاك آخر، وانطباق عنوان آخر على المورد، فان كان منشؤه احتمال
حدوث ملاك آخر، وانطباق عنوان، فمرجعه إلى احتمال تكليف آخر، وهو
مرفوع بأدلة البراءة. وان كان منشؤه احتمال شدة الملاك وقوة المناط، فمرجعه
إلى تأكد الطلب. وتأكد الطلب غير مجعول بجعل مستقل، بل جهة وحيثية في
المجعول المفروغ عنه، فلا تعمه أدلة البراءة.
ففي الأول يحكم العقل بالتخيير لبقائهما - بعد جريان البراءة عن الزائد - على
التساوي. وفي الثاني حيث لا تجري البراءة عن شدة الطلب، فلا دافع لتعينه
المحتمل، ولا يحكم العقل بالخروج عن عهدة التكليف - الثابت في الجملة الا
بامتثاله في محتمل الأهمية وسيأتي - إن شاء الله تعالى - تحقيق القول من حيث
التعيين والتخيير هنا.
الا أن الحق أنه لا فرق بين شدة الملاك وتعدده، سواء لوحظ الطلب والإرادة،
أو البعث والتحريك.
أما الأول: فلان حدوث ملاك في الموضوع المتعلق به الإرادة النفسانية لا
يوجب إلا شدة الإرادة وخروجها من حد الضعف إلى الشدة لاستحالة تعلق
إرادتين بمراد واحد، فلا فرق بين شدة الملاك وزيادته من حيث التأثير في شدة
الطلب وقوة الإرادة.
وأما الثاني، فلان البعث والتحريك أمر اعتباري، ينتزع عند العقلاء عن الانشاء

(1) ص 269: ذيل قول الشيخ: " وكذا لو احتمل الأهمية في أحدهما ".
345

بداعي جعل الداعي، ولا حركة والا اشتداد في كل المقولات، بل في بعضها
فضلا عن الاعتباريات، فشدة الملاك - كزيادة - لا يوجب خروج البعث عن حد
الضعف إلى حد الشدة، كما أن تعلق بعثين فعليين بمتعلق واحد - في الاستحالة -
كتعلق إرادتين بموضوع واحد، فمرجع احتمال شدة الملاك، أو زيادته إلى
صيرورة الحكم التعييني بذاته تعيينيا بالفعل.
ومثله، وإن لم تجر فيه أدلة البراءة الشرعية، حيث وضع حتى يكون له رفع
للقطع بثبوت الحكمين التعيينيين بذاتهما شرعا، إلا أنه تجري فيه البراءة العقلية
للشك في ترتب العقاب على ترك محتمل الأهمية بالخصوص، وبعد حكم
العقل بقبح العقاب عليه بلا بيان، يبقى المحتمل على حاله من المساواة مع غيره
فيبقى التخيير العقلي على حاله.
لا يقال: احتمال مانعية أحدهما عن الاخر بالخصوص - دون العكس -
يوجب القطع بتعين محتمل الأهمية، لتساويهما في جميع الاحتمالات
المتمانعة، الا هذا الاحتمال المختص بأحدهما بعينه.
لأنا نقول: احتمال مانعية أحدهما - بالخصوص - يسقط الاخر عن القطع
بالمانعية، لكنه لا يثبت مانعية أحدهما بالخصوص، لاحتمال عدم الأهمية،
فيدور الامر بين ما يقطع بثبوت مقتضيه، مع القطع بثبوت مانعه، وما يقطع بثبوت
مقتضيه مع احتمال مانعه، فلا قطع بالمقتضي، فلا قطع بالحكم الفعلي في
أحدهما بالخصوص.
قوله: إذ لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه العرف.. الخ.
توضيح المقام: أنك قد عرفت سابقا: أن التعارض المبحوث عنه هنا، إما
التنافي في الدليلية والحجية، وجميع موارد الجمع العرفي المقبول، خارج عن
مورد البحث، سواء كان من قبيل النص والظاهر بقول مطلق، أو الأظهر والظاهر
بقول مطلق، أو الإضافي من كل منهما، لما مر من عدم المقتضي في مقام الاثبات
الا للظاهر، الذي ليس في قباله نص أو أظهر مطلقا، سواء كان النص أو الأظهر
346

حقيقيا أو اضافيا.
وإما التنافي ثبوتا وفي الدلالة، لا الدليلية الحجية، فجميع موارد الجمع
المقبول وغيرها داخل في مورد البحث، غاية الامر لكل منها حكم خاص عرفا،
يتفاوت الامر بتفاوت الغرض المهم للباحث عن التعارض، وقد مر من المصنف
- قدس سره - (1) أن صورة النص والظاهر، والأظهر والظاهر، وأشباههما خارجة
عن مورد التعارض. وعليه ففي مورد التعارض لا جمع، وفي مورد الجمع لا
تعارض.
والتعارض بهذا المعنى هو المناسب للاخبار العلاجية، المسؤول فيها عن
حكم الخبرين المتعارضين، فان المفروض فيها تحير السائل، مع أنه لا تحير
للعرف في موارد الجمع العرفي المقبول.
كما أن المناسب لمورده قاعدة (إن الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من
الطرح) هو التعارض بالمعنى الأعم، فإنه المقسم لا يمكن فيه الجمع، وما لا
يمكن فيه الجمع.
" في بيان قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح "
وعلى أي حال، فالكلام فيما يمكن فيه الجمع، وما لا يمكن فيه الجمع يتضح
ببيان صور المتعارضين:
فمنها: ما مر: من كون أحدهما نصا، أو أظهر بقول مطلق والاخر ظاهرا بقول
مطلق، وقد مر الكلام فيه وبينا هناك (2) ورودهما تارة، وحكومتهما أخرى، على
الظاهر الذي يكون في قبالهما.
ومنها: ما إذا كان النص والظاهر، أو الأظهر والظاهر إضافيين، كما إذا ورد (لا

(1) الكفاية ج 2 ص 381.
(2) ص 325.
347

تفعل) وورد " إنه جائز " فان صيغة (لا تفعل) نص في طلب الترك، وظاهر في
الحرمة وقوله (جائز) نص في الجواز المطلق، وظاهر في الإباحة الخاصة، فيرفع
اليد عن ظهور كل منهما بنص الاخر، بعين ما مر في النص والظاهر الحقيقيين،
فينتج الكراهة المجامعة مع الترخيص المطلق.
ومنها: ما إذا كان لكل من المتعارضين قدر متيقن - في الإرادة - من الخارج، كما
إذا ورد (ثمن العذرة سحت) (1) وورد (لا بأس ببيع العذرة) (2)، فان عذرة الانسان
قدر متيقن في الأول، وعذرة المأكول قدر متيقن في الثاني.
وربما يتوهم: إن ذلك بمنزلة النص، إذ بعد فرض صدوره لا يتحير العرف
في حمل الأول على عذرة الانسان، وحمل الثاني على عذرة المأكول.
وفيه: أن المنصوصية والأظهرية من أوصاف الدلالة، ولفظ العذرة لا يتفاوت
حاله - بما له من المعنى - بحسب وقوعه موضوعا لحكمين متباينين في دليلين -
والعرف لا يتحير في الاخذ بالمتيقن، لا في القصر على المتيقن، وذلك بعد
الاخذ بمقتضى أحد الدليلين معينا، لا أنه متيقن بقول مطلق، والا لزم الحكم بتا
بحرمة بيع عذرة الانسان، وجواز بيع عذرة المأكول، كما هو مقتضى تقديم
نصوصية كل من الدليلين على ظهور الاخر.
ومنها: ما إذا كان لكل من الدليلين أقرب المجازات، فإنه يقال: بأن فرض
صدورهما بمنزلة القرينة الصارفة عن ظهورهما، والأقربية إلى المعنى الحقيقي
عرفا بمنزلة القرينة المعينة، فيراهما العرف قالبين عرفا لمعنيين مجازيين
متلائمين، بعد رفع اليد عن ظهورهما الوضعي، فلا تحير للعرف حتى يندرج
الدليلان تحت المتعارضين.
والجواب: أن التعبد بالمتنافيين غير معقول، فلابد من فرض المدلولين
متلائمين عرفا، حتى يكون التعبد بصدورهما تعبدا بالمتلائمين، والمفروض أن

(1) الوسائل: ج 12: الباب 40 من أبواب ما يكتسب به: الحديث 1.
(2) الوسائل ج 12: الباب 40 من أبواب ما يكتسب به: الحديث 2.
348

المدلولين بنفسهما متنافيان وإنما يتلائمان بعد فرض التعبد بصدورهما -
الصارف لظهورهما - فما لم يكونا متلائمين لا تعبد بصدورهما، وما لم يتعبد
بصدورهما لا يكون متلائمين.
ولا مجال لقياس التعبد بصدورهما بالقطع بصدورهما - في كونه قرينة صارفة
عن ظهورهما - وذلك لان القطع بصدور كلامين ظاهرين فيما يتنافيان معقول،
فيكون قرينة على عدم إرادة ما يكون الكلام ظاهرا فيه، بخلاف التعبد بكلامين
متنافيين ظاهرا فان التعبد ليس إلا بجعل الحكم المماثل، وجعل حكمين
متنافيين - على طبق الظاهرين المتنافيين - غير معقول، فلا يعقل التعبد
الا بالمعنيين المجازيين المتلائمين، مع أنه لولا القرينة الصارفة - المنحصرة في
التعبد بالصدور - لا يعقل التعبد بهما، كما لا يخفى.
ومنها: ما إذا لم يكن لكل من الدليلين إلا محذور بعيد أو مجازات متساوية
النسبة إلى المعنى الحقيقي. فربما يتوهم أيضا: أن مقتضى القطع بالصدور أو
التعبد به - بضميمة صون الكلام عن اللغوية - حملهما على المجاز البعيد أو على
أحد المجازات.
وفيه: أنه في فرض القطع بالصدور كذلك إلا أنه لا دخل له بالجمع العرفي
المستند إلى اقتضاء المداليل الكلامية، بل ذلك لاقتضاء القرينة القرينة العقلية، كما ربما
يتفق في دليل واحد يتكفل ما هو خلاف البرهان، وأما في فرض التعبد بالصدور،
فقد مر الاشكال فيه.
مضافا إلى أن التعبد بأحد المجازات تعبد بالمجمل، وهو غير معقول، وإن
كان القطع بإرادة المجمل، معقولا كما هو واضح.
ومن جميع ما ذكرنا تبين: أن في موارد الجمع العرفي - المبني على صلاحية
كل من الدليلين للقرينية على الاخر - لا مانع من شمول دليل التعبد بصدورهما،
لأنه تعبد بمعنيين متلائمين، وفي غيره لا يعقل الشمول، لأنه عبد بالمتنافيين،
ودليل التعبد بالصدور، ودليل التعبد بالظهور على السوية - في لزوم مراعاتهما -
349

فلا محالة تقع المزاحمة بين التعبد بصدور كل منهما مع التعبد بظهور الاخر، ولا
معين لاحد الامرين، فيتساقطان - بناء على القاعدة الأولية - ويتعين الراجح أو
يتخير بينهما إن لم يكن مرجح - بناء على القاعدة الثانوية - كما سيأتي إن شاء الله
تعالى.
ولا ينبغي توهم عدم الزاحمة بين دليل التعبد بالصدور، ودليل التعبد
بالظهور، لتأخر رتبة التعبد بالظهور عن التعبد بالصدور، فان التقدم والتأخر
الطبعيين، أنما يكونان بين التعبد بصدور شئ وظهور نفسه، لابين التعبد
بصدور أحد الدليلين، وظهور الاخر والزاحمة في الثاني، فما كان بينهما التنافي
لا تقدم ولا تأخر بينهما، وما يكون بينهما التقدم والتأخر لا تنافي بينهما.
كما لا ينبغي توهم السببية والمسببية بين الشك في صدور أحدهما، وإرادة
ظهور الاخر، إذ ليس من آثار صدور أحدهما عدم إرادة ما يكون الاخر ظاهرا فيه،
ولا إرادة ما يكون الاخر ظاهرا فيه من آثار عدم صدور الأول، بل هما متنافيان في
الوقوع، ووقوع أحد المتنافيين، يلازم عدم وقوع الاخر، إذ المفروض عدم
صلاحية كل منهما للتصرف في الاخر بنفسه، حتى يكون التعبد به تعبدا بالقرينة،
وليس مجرد التعبد بالصدور قرينة، بل مناف للتعبد ظهور الاخر.
قوله: مع أن في الجميع كذلك أيضا طرحا للامارة أو الامارتين....
الخ.
اي في الجمع، من دون أن يكون لأحدهما أو لكليهما صلاحية التصرف في
أحدهما، أو في كليهما. ومحذور مثل هذا الجمع طرح أصالة الظهور في
أحدهما، أو في كليهما، خلافا للشيخ المحقق الأنصاري - قدس سره - (1) في
الثاني، نظرا إلى أن المتيقن من السندين أحدهما معينا أو مخيرا، سواء قلنا
بالجمع أو بعدمه، فترك التعبد بظاهر ما لم يحرز التعبد به - وهو ما عدا المتيقن -
ليس مخالفا لأصالة الظهور فلا يلزم إلا طرح أصالة الظهور في ذلك المتيقن،

(1) الرسائل: ص 434.
350

ونتيجته دوران الامر بين ترك التعبد بصدور ما عدا المتيقن، أو ترك التعبد بظهور
المتيقن في الجمع، والطرح على حد سواء في مخالفة أصالة الصدور، أو أصالة
الظهور. هذا.
وتوضيح المقام: أن الجمع تارة في قبال التساقط - الذي هو مقتضى الأصل
الأولي في المتعارضين، -، فيكون المدعي: " إن الجمع أولى من طرح السندين "
إذ المانع عن التعبد بصدورهما تنافيهما بحسب الظهور البدوي، فيمتنع جعل
حكمين متنافيين، ومع رفع اليد عن ظهور أحدهما، أو كليهما يكون التعبد
بصدورهما تعبدا بالمتلائمين لا بالمتنافيين.
وحينئذ، فيجاب بأنه ما المرجح للتعبد بالصدور دون التعبد بالظهور؟ وحيث
لا يمكن التعبد بالظهور، فلا يمكن التعبد بالصدور.
وأخرى في قبال الترجيح والتخيير - الذي هو مقتضى الأصل الثانوي - فيكون
المدعي " أن الجمع أولى من الترجيح " - الذي لازمه طرح لمرجوح -، ومن
التخيير - الذي لازمه طرح أحد الخبرين -
وهذا المعنى لا يتوقف على ملاحظة الاخبار العلاجية، فان مقتضى
الاخبار العلاجية تعين الاخذ بالراجح، أو التخيير، لا أن أحدهما لمعين أو المخير
قدر متيقن، كما هو صريح صدر كلام الشيخ - قدس سره - بل المتيقن نتيجة
الاجماع على عدم سقوط المتعارضين الذي اقتضاه الأصل الأولى.
فما يوهمه كلام شيخنا الأستاذ - قدس سره - - في تعليقته الأنيقة (1) على
الرسائل في مورد الايراد على ما أفاده الشيخ - قدس سره - من أنه مبني على
ملاحظة الاخبار العلاجية، مردود بما عرفت، بل مبني على مجرد عدم سقوط
المتعارضين عن الحجية في الجملة.
وعليه، فملاحظة قاعدة الجمع - بالإضافة إلى مقتضى الأصل الأولى - يوجب
أن يكون البحث عن الجمع - في قبال التساقط - علميا فقط، لوضوح أن مقتضى

(1) التعليقة على الرسائل: ص 260: ذيل قول الشيخ: ولا ريب أن التعبد بصدور أحدهما المعين....
351

الأصل الثانوي - المحقق بالاجماع - عدم سقوطهما عن الحجية.
مضافا إلى صراحة كلام الشيخ ابن أبي جمهور - ره - (1) في بيان قاعدة الجمع:
أنه أولى من ترك أحدهما، لا من التساقط، وأنه إذا لم يكن الجمع، فأرجع إلى
مقبولة عمر بن حنظلة (2)، فيعلم منه أن الجمع أولى من الترجيح والتخيير.
الا أنه بناء على هذا المبنى - المفروض معه تيقن أحد الخبرين - أيضا يصح ما
افاده شيخنا الأستاذ - قدس سره - هنا من لزوم طرح إمارتين، فان فرض الجمع
فرض شمول دليل التعبد بالصدور لكلا الخبرين، وفي هذا الفرض يكون دليل
التعبد بالظهور - في نفسه - قابلا لشمول كلا الظاهرين، فيكون رفع اليد عنهما
مخالفا للأصل.
فابطال الجمع، تارة بعدم المتقضي له عقلا ونقلا، وأخرى بلزوم محذور
الطرح من فرض الجمع. فابطال هذا الفرض والتقدير، كما عن الشيخ - قدس سره
- أمر، ولزوم المحذور على هذا الفرض والتقدير أمر آخر. فالصواب ما في
الكتاب، والله أعلم بالصواب.
" القاعدة الثانوية في الخبرين المتعارضين "
قوله: والا فربما يدعي الاجماع على عدم... الخ.
فيكون الاجماع كالاخبار العلاجية، كاشفا عن حجية أحد الخبرين بالفعل،
بجعل جديد. فان قصور أدلة الحجية العامة عن شمول المتعارضين لا ينافي قيام
دليل بالخصوص على حكم المتعارضين تعيينا أو تخييرا.
غاية الامر أن مقتضى الاجماع هي حجية أحد المتعارضين في الجملة،
ومقتضى الاخبار العلاجية الراجح تعيينا، وحجية المتعادلين تخييرا.

(1) عوالي اللئالي: ج 4 ص 136.
(2) الوسائل: ج 18: الباب 9 من أبواب صفات القاضي: الحديث 1.
352

وحيث أن المفروض قيام الاجماع على عدم التساقط في المورد الذي يكون
مقتضى طبعه، التساقط، فلا محالة تكون الحجية الفعلية - تعيينا أو تخييرا - في
المتعارضين المبني على الطريقية، دون السببية فان مقتضى طبعها عدم التساقط،
من دون حاجة إلى الاجماع وغيره.
وبناء عليه، فلابد من تعقل التخيير على الطريقية، حتى يحكم بالتخيير في
صورة التعادل.
فنقول: نحن وإن ذكرنا سابقا (1) أن التخيير بين ما يتضمن الواقع، ومالا
يتضمنه - مع سوق الحجية لمراعاة المصلحة الواقعية القائمة بأحدهما المعين
واقعا - غير معقول، إلا أنه من الواضح بعد التأمل: أن مجرد موافقة الامارة للواقع
لا ينجز الواقع، والا لكانت كل أمارة موافقة للواقع واقعا منجزة للواقع، بل لابد من
مصلحة في الطريق، بحيث تكون هي الموجبة لجعلها منجزة للواقع عند
الإصابة، ومعذر عنه عند الخطاء.
ومن البين: أن جعل كلتا الامارتين منجزة للواقع - مع وحدة الواقع تعيينا - غير
معقول لكن جعل كل منهما منجزة للواقع تخييرا فهو معقول.
والمراد من المنجزية والمعذرية التخييريتين أن كل واحدة من الامارتين
منجزة للواقع على تقدير الإصابة، وعلى تقدير عدم موافقة الأخرى، وأن كل
واحدة منهما معذرة - على تقدير الخطأ - بموافقتها أو موافقة عدلها، فتتضيق
دائرة المنجزية في كل منهما، وتتسع دائرة المعذرية في كل منهما.
بخلاف الامارة الواحدة، فإنها منجزة للواقع عند الإصابة - سواء اتى بشئ
آخر أم لا، ومعذرة عند الخطأ بخصوص موافقتها دون شئ آخر.
فكما أن الايجاب التخييري إيجاب مشوب بجواز الترك إلى بدل، لا بجواز
الترك مطلقا، حتى تنافي حقيقة الايجاب ولا ايجاب المحض حتى ينافي
التخييرية، كذلك المنجزية مشوبة بجواز ترك موافقة الامارة الموافقة واقعا،

(1) ص 330.
353

بموافقة عدلها، وكذلك المعذرية، كما تحصل بموافقتها، كذلك موافقة عدلها.
وحينئذ لا عقاب على الواقع عند إصابة أحدهما إلا بترك موافقتها معا، كما أنه
يعذر عن مخالفة الموافقة بموافقة المخالف - زيادة على العذر - عند خطأ ما
وافقه.
قوله: هو الاقتصار على الراجح منهما للقطع بحجيته.. الخ.
بعدما عرفت (1) أن المنجزية التخييرية متقومة بعدم موافقة العدل المعذر
نقول:
إن المعذرية الواقعية ليست ملاكا للعذر، بل المعذرية الواصلة. كما أن
المنجزية كذلك. ومن المعلوم أن الراجح علم كونه منجزا، إما تعيينا أو تخييرا،
والمرجوح لم يعلم كونه معذرا فلا تكون موافقته معذرة بالفعل، فيجوز الاقتصار
على موافقة الراجح عقلا، لأنه معذر قطعا، سواء وافق الواقع أم لا، ولا يجوز
الاقتصار على موافقة المرجوح، لأنه لم يعلم كونه معذرا عن مخالفة الراجح
المعلوم منجزيته على اي تقدير، فان منجزيته التخييرية، وان لم يوجب العقاب
على مخالفته عند مصادقته، إلا أنه على تقدير موافقة المعذر، وحيث لم يصل
معذرية المرجوح، فهو غير معذر، فلا دافع لعقاب مخالفة الراجح عند مصادفته.
ومنه تبين أن أصالة البراءة غير جارية بعد وصول المنجزية، وعدم وصول
المعذرية لا أنها جارية لكنها لا تقتضي معذرية المرجوح، لان نفي العقاب عن
الراجح كاف - مع موافقة المرجوح - بتقريب: أن الواقع إن كان في ضمن الراجح،
فلا عقاب عليه بالفرض، وإن كان في ضمن المرجوح، فقد أتى به، فلا حاجة إلى
العلم بمعذرية المرجوح.
ومما ذكرنا يتضح أيضا: أن أصالة عدم اعتبار المزية شرعا، وحكومتها على
أصالة عدم حجية المرجوح فاسدة. اما أصالة عدم اعتبار المزية شرعا، فلان
المزية على تقدير اعتبارها شرعا معناها كونها مقتضية للحجية التعيينية وأصالة

(1) في التعليقة السابقة.
354

عدم المقتضي لا يترتب عليها شرعا عدم مقتضاه، فان الترتب وعدمه عقليان لا
شرعيان، فليس مقتضى الأصل المزبور عدم حجية الراجح تعيينا فضلا عن
حجية المرجوح تخييرا.
ومن الواضح أن موضوع الاقتصار عقلا كونه معلوم الحجية، وموضوع عدم
جواز الاقتصار عقلا كونه مشكوك الحجية، ومثل هذا لا ينتفي، ولا يثبت بالأصل
المزبور.
وأما حكومة الأصل المزبور على أصالة عدم حجية المرجوح، فان أريد من
الأصل المحكوم استصحاب عدم الحجية، فقد مر أن أصالة عدم اعتبار المزية لا
تنفي الحجية التعيينية ولا تثبت الحجية التخييرية فلا حكومة.
وإن أريد من الأصل المحكوم القاعدة العقلية المقتضية لعدم جواز الاقتصار
على ما لم يعلم معذريته عن الواقع، فقد مر أن موضوع الحكم العقلي المزبور ما
لم يعلم معذريته لا غير المعذر واقعا، وهذا الموضوع غير مرفوع بأصالة عدم
اعتبار المزية لا وجدانا ولا تعبدا أما وجدانا فواضح، وأما تعبدا فلان أصالة عدم
اعتبار المزية لا تثبت معذرية المرجوح حتى يكون معلوم المعذرية تعبدا، كما
أنه ليس مقتضاها التعبد برفع الشك عن المعذرية حتى لا يكون فيما يقتضيه
الأصل الثانوي على الطريقية.
وأما على الموضوعية والسببية، فقد مر سابقا: أن مقتضى الأصل الأولي هو
حجية أحدهما المعين فعلا تارة، وحجية أحدهما المخير فعلا أخرى.
فلا موقع للاجماع على حجية أحدهما في الجملة، فإنه قطعي لا يكون
الاجماع كاشفا عن تعبد جديد، كما لا موقع للاخبار العلاجية، بحيث تكون أدلة
الحجية الفعلية شرعا، إذ لا يعقل جعل حكم مماثل - تعيينا أو تخييرا - بعد ثبوته
بمقتضى أدلة الحجية العامة، فلابد من أن يحمل على سوقها لإفادة الراجح،
الذي يكون بحكم العقل متعينا، ولإفادة التخيير بما هو عاقل، لا بما هو شارع. الا
أن يلتزم بالسببية في خصوص مورد التعارض والطريقية في غيره، فان جعل
355

حكم جديد معقول حينئذ، وقد مر ما ينبغي أن يقال في صورة السببية ولا بأس
بإعادة الكلام تتميما للفائدة، فنقول فيما إذا لم يعلم اعتبار المزية شرعا أو عقلا
وجوه:
أحدها: كونه من باب الشك في التعيين والتخيير، وفيه قول بالاشتغال وقول
بالبراءة.
ثانيها: كونه من باب دوران الامر بين المتزاحمين.
وثالثها: كونه من باب دوران الامر بين المحذورين أحيانا.
وتحقيق المقام: أن رجوع الامر إلى التعيين والتخيير - شرعا - فيما إذا علم
بالملاك - في المعين - ويحتمل وجوده في الاخر. فربما يقال بالاشتغال، نظرا إلى
أن تعلق الطلب بالمعين - المقطوع وجود الملاك فيه - معلوم، وسقوطه بموافقة
الاخر مشكوك، للشك في كونه ذا ملاك وفي كونه مطلوبا، والاشتغال اليقيني
يقتضي البراءة اليقينية.
وربما يقال: بأن مطلوبية الجامع معلومة، والشك في دخل الخصوصية،
فيرتفع بأدلة البراءة الشرعية، أو العقلية، وتمام الكلام في محله.
الا أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل لفرض السببية والموضوعية، ومقتضاها
وجود الملاك في الطرفين، وتعلق الحكم التعييني الشرعي في حد ذاته بكل
منهما، والشك في أن ماله المزية أقوى ملاكا حتى يتعين شرعا، فيكون الحكم
الشرعي على طبقه فعليا، أو ليس كذلك، حتى يبقى حكم التعييني في حد ذاته
على حاله، فيقتضي التخيير عقلا، لتمانعهما في الفعلية.
وحيث علم أن المورد من الواجبين المتزاحمين، وأن التعيين والتخيير فيه
عقلي، وليس من موارد التعيين والتخير الشرعيين، فاعلم أن في المسألة وجوها
بل أقوالا.
قول بلزوم الاخذ بمحتمل الأهمية عقلا. وقول بالتخيير عقلا. وقول بالتفصيل
بين ما إذا كان منشأ احتمال الأهمية حدوث ملاك اخر يستتبع حكما شرعيا على
356

طبقه، وما إذا كان منشؤه تأكد الملاك وقوته، كما عن شيخنا العلامة (رفع الله
مقامه) في تعليقته الأنيقة (1) على الرسائل. وقد تقدم الوجه فيه مع جوابه
فراجع (2).
وأما وجه القول بتعين محتمل الأهمية الذي ذهب إليه شيخنا العلامة
الأنصاري - قدس سره - في رسالة التعادل والتراجيح (3)، حيث ألحقه بمقطوع
الأهمية، فهو راجع إلى ما ذكرناه سابقا: من أن الخبرين متساويان، في جميع
الاحتمالات الموجبة للتمانع في الفعلية، ويختص الراجح بما ليس في
المرجوح، فمحتمل الأهمية يحتمل أن يكون مانعا بالخصوص عن فعلية الحكم
في غيره، ولا يحتمل غيره أن يكون بالخصوص مانعا عن فعلية الطلب في
محتمل الأهمية.
لكنك قد عرفت سابقا (4): أن عدم احتمال مانعية غير محتمل الأهمية
بالخصوص لا يجدي، لان احتمال مانعيته المشتركة بينه وبين محتمل الأهمية
كاف في التمانع، لأن المفروض احتمال الأهمية، فيحتمل عدمها أيضا، غاية
الامر: أنه في صورة العلم - بعدم الأهمية - يقطع بعدم الفعلية التعيينية وفي صورة
احتمال عدمها يحتمل عدم الفعلية، فلا قطع بالفعلية التعيينية على اي حال.
والتحقيق: أن الحكم على الموضوعية في كل من الخبرين - كما مر - تعييني
بذاته، وإنما يكون تعيينيا - بالفعل - في صورة قوة الملاك، فان أمكن جعل حكم
تعييني - فعلا - على طبق الأهم، جرى حديث الشك في جعل حكم تعييني من
الشارع حينئذ فمقتضى أدلة البراءة الشرعية رفعه.
وإن لم يمكن جعل حكم تعييني، مع وجود الحكم الحقيقي الذي هو في

(1) ص 269، ذيل قول الشيخ: " وكذا لو احتمل الأهمية في أحدهما... الخ ".
(2) ص 345.
(3) الرسائل: ص 443.
(4) ص 345.
357

حد ذاته تعييني، ولا يعقل تصرف من الشارع، بعد صدور حقيقة الحكم منه،
باخراجه من حد إلى حد، بل معنى فعلية التعيينية - الذاتية - حكم العقل بامتثال
أحد الطرفين بالخصوص، فإنه الذي يصح انتزاع البعث الفعلي منه، دون غيره،
فحينئذ لا يحتمل - في محتمل الأهمية - جعل شرعي يقبل للرفع.
كما أنه لا معنى لاجراء البراءة العقلية، التي مقتضاها عدم العقاب على
التكليف الذي لا حجة عليه، فإنه لا يحتمل تكليف، ليكون العقاب عليه عقابا بلا
بيان للتكليف بل حكم العقل بعدم العقاب عليه - بالخصوص - من باب حكم
العقل النظري، لامن باب حكم العقل العملي، فان العقاب على مخالفة أحدهما
بالخصوص عقاب بلا موجب لا عقاب بلا بيان.
وعليه، فلا يستتبع احتمال الأهمية احتمال حكم شرعي، ولا خصوصية
شرعية لاحقة للحكم الثابت في الطرفين، بل لابد من أن يستتبع خصوصية في
نظر العقل، يوجب وقوفه عن الحكم بالتخيير.
وليس وجه حكم العقل - بالتخيير في المتزاحمين - إلا كونهما متمانعين في
الفعلية، المقتضية للجري على وفق أحدهما بالخصوص، وقوة أحد الملاكين
واقعا لا يوجب التعين في وجدان العقل، لاستحالة التأثير من دون حضوره في
أفق نفس الحاكم، فاحتماله ليس احتمال المانع، إذ لا مانعية إلا في وجدان العقل
ونفس احتمال قوة الملاك ليس مانعا لان التمانع بين المقتضيين في وجدان
العقل، فلابد من أن يرجع اختصاص أحد المتقضيين بالتأثير في وجدان العقل
إلى غلبته في وجدان العقل، فكما أن الغلبة الواقعية لا اثر لها في وجدان العقل،
فكذا احتمالها، فإنه ليس من شؤون أحد المقتضيين من حيث اقتضائه، حتى
يكون به غالبا في وجدان العقل، فنفس كل من الخطابين الواصلين مقتض متمانع
في وجدان العقل ولا غلبة في وجدان العقل، فلا حاجة إلى إحراز التساوي
واقعا، حتى يقال بأنه كما لم يعلم الغلبة، كذلك لم يعلم التساوي، إذ التساوي
واقعا ليس مناطا للتخيير العقلي، كي لا يكون معلوما، بل التساوي في وجدان
العقل، وهو محقق على الوجه المسطور.
358

ومن جميع ما ذكرنا تبين قوة القول بالتخيير في محتمل الأهمية، سواء قلنا
بامكان جعل الحكم - شرعا - على طبق محتمل الأهمية واقعا، أو خروجه من
حد إلى حد شرعا أم لا. غاية الامر نقول بالبراءة شرعا أو عقلا على الأول، دون
الثاني.
ومما ذكرنا تبين أن التخيير - هنا على أي تقدير - ليس من التخيير في صورة
دوران الامر بين المحذورين، إذ كان مؤدى أحد الخبرين الوجوب، ومؤدى الاخر
لحرمة، كي يتوهم أنه لا مجال للبراءة في صورة الدوران بين الوجوب والحرمة،
فمع احتمال الأهمية يتوقف العقل عن التخيير، وذلك لان التخيير في دوران
الامر بين المحذورين ليس لأجل لزوم الموافقة الاحتمالية، بل الموافقة
الاحتمالية قهرية، ومعنى حكم العقل بالتخيير اذعان العقل بأنه لا حرج في فعله
وتركه، حيث أن الحكم الواقعي أياما كان لا يتنجز بالعلم، ليكون المقدور من
امتثاله موافقته احتمالا.
بخلاف ما نحن فيه، فان المفروض ثبوت المقتضي في كلا الطرفين، فيكون
عند احتمال الحكم على طبق محتمل الأهمية مجال للبراءة شرعا أو عقلا، دون
ما إذا لم يكن المقتضي إلا في أحدهما، فإنه مع فرض عدم قبوله للتنجز لا
يجدي القطع بالأهمية فضلا عن احتمالها.
وأما إذا لم يحتمل الحكم على طبق المحتمل، وكان التخيير عقليا محضا،
فالامر في الفرق بين التخيير هنا، والتخيير هناك أوضح لعدم توقفه على جريان
البراءة هنا، حتى يتوهم التوقف عن الحكم بالتخيير عند عدم جريان البراءة في
المثال المفروض.
فتدبر في أطراف ما ذكرنا في المقام، فإنه من مزال الاقدام.
هذا كله بملاحظة مقام الثبوت، وقد عرفت أن مقتضى الأصل الثانوي - على
الطريقية - هو التعيين فيما ذا كان أحدهما إذ مزية مفقودة في الاخر، وأن مقتضى
الأصل الأولي هو التخيير على السببية ولو في محتمل الأهمية.
359

وأما مقام الاثبات، فالظاهر من الأدلة العامة على حجية الخبر هي الطريقية،
ولا مانع من حمل أدلة الحجية الفعلية - أعني الاخبار العلاجية (1) - على التعيين
والتخيير الطريقيين، كما عرفت إمكانه.
نعم ربما يستظهر منها السببية ولو في صورة التعارض فقط، نظرا إلى إعمال
بعض المرجحات، التي لا توجب قوة الصدور، والقرب إلى الواقع، والتصريح
بأن التخيير لمجرد التسليم لما ورد عنهم عليهم السلام.
وعليه، فيمكن القول بالتعيين - في صورة احتمال المزية المعتبرة - بدعوى أن
الراجح ذا مصلحة، وأن المرجوح ليس في المصلحة أصلا، وأن ثبوت المصلحة -
في الطرفين - مخصوص بصورة تعادل الخبرين، فان الظاهر - إن المصلحة -
المقتضية للتخيير - مصلحة التسليم المختصة بالمتعادلين، لا أن هذه المصلحة
هي المقتضية للاخذ بالراجح بوجه أقوى.
وحينئذ فالأصل يقتضي التعيين مطلقا، سواء قلنا بأن مفاد الاخبار العلاجية
جعل الحجية على وجه الطريقية أو على وجه الموضوعية.
وسيأتي - إن شاء الله تعالى - تحقيق حال الاخبار العلاجية من حيث اقتضاء
الترجيح والتخيير.
" أخبار التخيير "
قوله: إلى غير ذلك من الاطلاقات... الخ.
مجموع ما ورد في الباب مما يتضمن التخيير تسعة، وقد ذكرت أربعة منها في
المتن.

(1) الوسائل 18: باب 9 من أبواب صفات القاضي.
360

والخامسة - ما في العيون في خبر طويل عن الرضا عليه السلام، وفي اخره
(وبأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم) (1)... الخبر.
والسادسة - ما في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن رجل
اختلف عليه رجلان من أهل دينه في خبر أمر، كلاهما يرويه أحدهما يأمره
والاخر ينهاه، كيف يصنع؟ قال عليه السلام: (يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في
سعة حتى يلقاه) (2).
والسابعة - ما في الكافي بعد الخبر المزبور: وفي رواية أخرى (بأيهما أخذتم
من باب التسلم وسعك) (3)
والثامنة - ما في ديباجة الكافي حيث قال: لقوله عليه السلام: (بأيهما أخذتم
من باب التسليم وسعكم) (4).
والتاسعة - مرفوعة زرارة المروية في عوالي اللئالي، وفي آخرها: (اذن فتخير
أحدهما فتأخذ به ودع الاخر) (5).
والجواب: أما عن الأولى، فبأن صدرها مقيد بالعرض على الكتاب والسنة،
حيث قال: (قلت له تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟ فقال عليه السلام: ما جاءك
عنا، فقس على كتاب الله وأحاديثنا، فان كان يشبههما فهو منا، وإن لم يكن
يشبههما، فليس منا. قلت يجيئنا الرجلان - وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين، ولا
نعلم أيهما الحق؟ قال عليه السلام: فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت) (6).

(1) عيون أخبار الرضا 2: 20 حديث 45 والوسائل 18: 8: حديث 21.
(2) الكافي 1: 53: باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم: حديث 7 والوسائل 18: 77
حديث 5.
(3) الكافي 1: 53 باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم: حديث 7 والوسائل 18 حديث 6.
(4) الكافي 1: 7 والوسائل 18: 80 حديث 19.
(5) عوالي اللئالي 4: 133 حديث 229.
(6) الوسائل ج 18 ص 87 باب 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 40.
361

وروى شخص هذا الراوي عن موسى بن جعفر عليه السلام أيضا: العرض
على الكتاب والسنة في الحديثين المختلفين (1) كما روي عنه عليه السلام:
الاخذ بما يخالف العامة (2).
والغرض: أن التخيير ليس على الاطلاق، بل بعد الترجيح، ولو في الجملة.
فقوله (ولا نعلم أيهما الحق) إما لموافقتها معا للكتاب، أو عدم موافقتهما معا
للكتاب.
نعم بناء على ما سيجئ - من شيخنا - قده - من أن العرض على الكتاب ليس
من المرجحات لإحدى الحجتين على الأخرى، بل لتمييز الحجة عن
اللا حجة (3)، ويكون التخيير مطلقا غير مقيد باعمال المرجحات. لكنه سيأتي - إن
شاء الله تعالى - ما فيه.
وأما حمل صدره - لاطلاقه - على عدم كون الجائي بالخبر ثقة، فيخرج عن
مورد الترجيح، بخلاف ذيله، لتقيده بكون الجائي بالخبرين ثقة، وفي هذا المورد
لم يعمل الترجيح، فبعيد، إذ مثله لا يؤخذ به مع عدم الاختلاف، وظاهره أن
الاختلاف هو الموجب لتحير السائل في الاخذ به، فيعلم منه وجود المقتضي
للعمل به.
الا أنه يقرب هذا الحمل ما في بعض الروايات قال: سألت أبا عبد الله عليه
السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به، ومنهم لا نثق به؟ قال عليه السلام:
إذا ورد عليكم حديث، فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله
صلى الله عليه وآله، والا فالذي جاءكم به أولى به (4).

(1) الوسائل 18: 89 و 85: باب 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 48.
(2) الوسائل ج 18 ص 89 و 85: باب 9 من أبواب صفات القاضي: الحديث 31.
(3) الكفاية ج 2 ص 395.
(4) الوسائل ج 18: ص 78: باب 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 11.
362

وعليه فمنشأ تحير السائل ليس كونهما حجتين بالذات، بل حيث أنه منسوب
إليهم عليهم السلام، له أن يرده مطلقا أو يجب عليه رعاية الواقع بالتوقف
والاحتياط؟ فتدبر.
وأما عن الثانية (1) فموردها التمكن من لقاء الامام - القائم بالامر في كل عصر -
وصورة ترقب لقائه عليه السلام، كما في أيام الحضور، لازمان الغيبة، والرخصة
في التخيير في مدة قليلة لا تلازم رخصته فيه أبدا.
وأما عن الثالثة (2) والرابعة (3)، فبأن موردهما المستحبات المبني أمرها على
التخفيف والسهولة، فلا يستلزم التخيير في الالزاميات.
أما عن الخامسة فمضافا إلى أن مورد التخيير فيها، الامر غير الإلزامي،
والنهي التنزيهي، حيث قال عليه السلام: وأما ما كان في السنة نهي إعافة وكراهة
ثم كان الخبر الأخير خلافه، فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلى الله عليه
وآله أو كرهه، ولم يحرمه، فذلك الذي يسع الاخذ بهما جميعا وبأيهما شئت
وسعك الاختيار... الخ.
يمكن أن يقال: إن التخيير فيه ليس من باب التخيير بين الخبرين، بل لبيان لازم
الكراهة، وهي الرخصة في فعل المكروه، لا الإباحة الخاصة، كما يظهر من صدر
الرواية من أن ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى حرام، ثم جاء خلافه
لم يسع استعمال ذلك، وكذلك فيما أمر به، لأنا لا نرخص فيما لم يرخص فيه
رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله صلى الله
عليه وآله... الخ.
وبالجملة. فقد صرح - عليه السلام - في خصوص هذه الرواية بالعرض على

(1) الوسائل ج 18: ص 87: باب 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 41.
(2) الوسائل ج 18: ص 88: باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 44.
(3) الوسائل ج 18 ص 87: باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 39.
363

الكتاب والسنة في الامر اللزومي، والنهي التحريمي، فلا إطلاق للتخيير من
حيث الشمول الإلزامي، ومن حيث عدم إعمال المرجح.
وأما عن السادسة (1): فبأن حالها حال الثانية، من حيث التقيد بالتمكن من لقاء
الإمام عليه السلام، بل كل من يخبره بحكم الواقعة، كنوابه - عليه السلام -
عموما، أو خصوصا، بل سيأتي - إن شاء الله تعالى - أنها من أدلة التوقف، لا من
أدلة التخيير.
وأما عن السابعة والثامنة (2)، فبأنه لم يعلم من الكافي أنهما غير منقولتان
بالمعنى، وغير مستفادتان من سائر الأخبار المتقدمة بل ظاهر ديباجة الكافي أنه
إشارة إلى ما ورد - في باب التراجيح - من الأخبار الآمرة بالأخذ بالمشهور، وبما
يواقف كتاب الله، وبما يخالف القوم، لا أن ما ذكرنا فيها روايات مستقلة في قبال
سائر الروايات الواردة في باب الترجيح.
ومن الواضح: أن الرواية السابعة ليست بنفسها رواية مستقلة بلا صدور ولا
ذيل، فإما هي مأخوذة مما تقدم وقد عرفت حاله، وإما لها صدر غير معلوم
الحال، حتى يؤخذ باطلاقها، ولا يصح أن تجعل هذه الفقرة بدلا عن تتمة الرواية
السابعة، وإلا لكان المناسب أن يقول: بأيهما اخذ من باب التسليم وسعه، لا بنحو
الخطاب، كما هو واضح.
وأما عن التاسعة (3)، وهي المرفوعة، فحالها في التقيد، وإن التخيير بعد
إعمال المرجحات أوضح من أن يذكر.
فالانصاف عدم الاطلاق في ما تضمن التخيير بين الخبرين.

(1) قد تقدمت.
(2) قد تقدمتا.
(3) تقدم مصدرها.
364

" في بيان المرجحات المنصوصة "
قوله: فالتحقيق أن يقال إن أجمع خبر... الخ.
المرجحات المنصوص عليها في الاخبار كثيرة (1) منها: الترجيح بالاحداث.
ومنها: الترجيح بالصفات، ومنها: الترجيح بالشهرة، ومنها: الترجيح بموافقة
الكتاب. ومنها: الترجيح بمخالفة العامة.
والاخبار العلاجية أيضا مختلفة من حيث استجماعها لجملة من المرجحات
والاقتصار على بعضها.
فنقول: أما الترجيح بالأحدثية، فظاهر بعض أخباره عدم ارتباطه بترجيح
أحد الخبرين على الاخر، كما في رواية الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام،
قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: أرأيت لو حدثتك بحديث، أو أفتيتك بفتيا
(ثم جئني بعد ذلك فسألتني عنه، فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك، أو أفتيتك
بأيهما كنت تأخذ؟ قلت بأحدثهما وأدع الاخر، فقال: قد أصبت يا أبا عمرو، أبى
الله الا أن يعبد سرا، والله لئن فعلتم ذلك إنه لخير لي ولكم، أبى الله عز وجل لنا
في دينه الا التقية) (2) ومثله رواية أخرى (3).
ومن البين أنه لا ربط له بترجيح أحد الخبرين على الاخر لعامة المكلفين، بل
لان من ألقى إليه الكلام الأخير حكمه الفعلي ذلك، سواء كان واقعيا أو ظاهريا من
باب التقية وهذا وجه تحسين الإمام عليه السلام له، لا أن الأخير كاشف عن ورود
السابق مورد التقية حتى يشكل: بأنه لعل الأخير صدر تقية، كما حكي عن شيخنا
العلامة الأنصاري - قده - في كلام بعض أجلاء تلامذته - قده - (4).

(1) راجع الاخبار في الوسائل ج 18: باب 9 من أبواب صفات القاضي.
(2) الوسائل ج 18: ص 79، باب 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 17.
(3) الوسائل ج 18: ص 77: باب 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 7 وهي مرسلة الحسين بن
المختار.
(4) هو العلامة الآشتياني. انظر الجزء الرابع من كتابه " بحر الفوائد ": ذيل الصفحة 46.
365

نعم بعض أخباره الاخر يومي إلى كونه من المرجحات، كما في رواية المعلى
بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إذا جاء حديث عن أولكم،
وحديث عن آخركم، بأيهما نأخذ؟ فقال: خذوا به، حتى يبلغكم عن الحي، فان
بلغكم عن الحي فخذوا بقوله، قال: ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: إنا والله لا
ندخلكم الا في ما يسعكم (1).
وهي أيضا بقرينة امتداد الحكم إلى أن يبلغ عن الحي ظاهر في أن الفعلي أيا
ما كان هو الثاني إلى أن ينكشف حاله، لا أن وظيفة عامة المكلفين ذلك، ولو في
غير زمان الحضور - الذي يتفاوت حال الأئمة عليهم السلام وشيعتهم من حيث
الاتقاء من الأعداء -
وأما الترجيح بالصفات، فالمتكفل له مقبولة عمر بن حنظلة (2) ومرفوعة
زرارة (3) وهما أيضا مختلفان من حيث تقدم الترجيح بالصفات على الترجيح
بالشهرة، وغيرها في الأولى وتأخيره عنه في الثانية.
والعمدة هي المقبولة لضعف سند المرفوعة، فلا دليل على الترجيح
بالصفات الا المقبولة، ومن البين بالتأمل أن موردها الحكمان، دون الراويين،
والحكم والفتوى - في الصدر الأول - من الرواة وإن كانا بنقل الرواية، الا أن اعتبار
شئ في الناقل - بما هو حاكم وفاصل - غير اعتباره فيه بما هو راو ومحدث.
وبالجملة: المقبولة متكفلة لترجيح أعدل الحكمين، لا أعدل الراويين، كما في
روايتي داود بن الحصين (4) وموسى بن أكيل (5) الواردتين في ترجيح
أحد الحكمين على الاخر في مقام نفوذ حكمه، لا في مقام قبول روايته، ويؤيده
ذكر الأفقهية في عداد الصفات، فإنه يناسب مقام الاستفادة والحكم على طبق ما

(1) الوسائل ج 18: ص 78: باب 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 8.
(2) الوسائل 18: 75، باب 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 1.
(3) عوالي اللئالي 4: 133: حديث 229.
(4) الوسائل 18: 80: باب 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 20.
(5) الوسائل 18: 88: باب من أبواب صفات القاضي: حديث 45.
366

استفاده، ولذا لم يذكر هذه الصفة في المرفوعة المتمحضة في الترجيح من حيث
الرواية.
ولعله لعدم الدليل على الترجيح بالصفات لم يتعرض له ثقة الاسلام - قده -
في ديباجة الكافي (1)، لا من حيث أن أخبار كتابه كلها قطعية الصدور، فلا يحتاج
الا إلى مرجحات المضمون أو جهة الصدور، فإنه على فرض صدقه ينتقض
بالشهرة التي عدها من المرجحات، وهي مرجحة للصدور، إذ المراد منها الشهرة
في الرواية، لا في الفتوى بالخصوص، كي يتوهم أن قطعية صدورها تمنع عن ذكر
مرجحات الصدور.
وأما دعوى أن عدم تعرضه - قده - للترجيح بالصفات، لكونه من ارتكازيات
أهل العرف - بما هم أهل العرف - لئلا ينتقض بموافقة الكتاب، حيث أنها من
ارتكازيات المتشرعة بما هم متشرعة. فمدفوعة: بأن الترجيح بالمشهور
والمجمع على نقله في قبال الشاذ النادر أيضا ارتكازي للعرف، ومع ذلك فقد
تعرض له.
وأما المرفوعة الدالة على الترجيح بالصفات في الراويين، فهي - كما عرفت
- ضعيفة السند. ودعوى جبر ضعفها بشهرة العمل على طبقها، لان المشهور على
تقديم المشهور رواية على الأرجح، من حيث الصفات، كما هو مضمون
المرفوعة، مدفوعة: بأن المقبولة - بعد إرجاع الترجيح بالصفات إلى الحكمين -
موافقة لعمل المشهور، فان أول المرجحات الخبرية فيها هي الشهرة أيضا، فلعل
استناد المشهور عملا إلى المقبولة دون المرفوعة، كيف؟ وما في ديباجة الكافي
من الترجيح بالشهرة ابتداء، ليس الا من أجل المقبولة التي رواها في الكافي (2)، لا
من اجل المرفوعة التي لا اثر لها في الكافي، ولا في غيره من جوامع الاخبار.
ومما ذكرنا تبين أنه لا مخالفة بين المقبولة والمرفوعة، في كون أول

(1) الوسائل 18: 88 باب 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 45.
(2) الكافي ج 1: ص 54: باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم: حديث 10.
367

المرجحات الخبرية هي الشهرة.
وأما عدم التعرض للترجيح بالصفات بعد ذكر الشهرة وغيرها - في المقبولة -
كما تعرض له في المرفوعة، فلأجل فرض التساوي في الصفات في الحكمين
اللذين هما الراويان للمتعارضين، ما مر من أن الحكومة والافتاء في صدر الأول،
كان بالرواية لا استنادا إلى الرواية.
وربما يتخيل أن المرفوعة - على فرض صحة سندها - لا تدل على الترجيح
بالصفات فان المراد من الأعدل والأوثق هو العادل والموثوق، لا من كانت هذه
الصفة فيه أكثر وأشد، نظير (أولو الأرحام بعضهم إلى ببعض) (1) فيرجع
الامر إلى وجوب الاخذ بخبر العادل، لكونه حجة، وطرح الاخر لكونه غير حجة.
ووجه صرف (أفعل) التفضيل عن ظاهره، قوله بعد ذلك (قلت: إنهما معا
عدلان مرضيان موثقان) فيفهم منه أن المفروض سابقا في صدر الخير مما لم
يؤخذ فيه العدالة والوثوق (2).
وأنت خبير بأن هذه عبارة متداولة في بيان عدم التفاضل، ولذا عقبه في
المقبولة بقوله (لا يفضل واحد منهما على الاخر).
مع أنه كيف يتحير زرارة - مع جلاله قدره - في الخبرين، اللذين لم يفرض
حجيتهما الذاتية بقوله (فبأيهما آخذ).
ولا يقاس هذا الخبر بما تقدم، من الخبر المتضمن للسؤال عن اختلاف
الحديث، الذي يرويه من يوثق به، ومن لا يوثق به، فأنه لا يقاس زرارة بغيره، ولا
يقاس السؤال عن مجرد الاختلاف بالسؤال بقوله (بأيهما آخذ) فإنه ظاهر في
الاخذ بالخبر، لا في رعاية الواقع بالتوقف والاحتياط، الذي احتملناه في السابق.
مضافا إلى أن المفروض في صدر الخبر، إن كان مجرد تعارض الخبرين، ولو
لم يكونا مستجمعي الشرائط، وكانت الشهرة ملاك الحجية، إما لكونها موجبة

(1) الأنفال: الآية 75.
(2) درر الفوائد للمحقق الحائري: ج 2 ص 671 مطبعة جماعة المدرسين.
368

للقطع بصدوره، أو كون أحد الراويين غير عادل يوجب سقوط روايته عن الحجية
الذاتية، كما هو صريح كلام هذا المتخيل.
ولو قلنا بأن اشتهار الخبرين يوجب حجيتهما الذاتية، وكون أحد الراويين
عادلا يوجب ترجيح روايته على الأخرى، المفروضة حجيتها الذاتية أيضا صح
لنا الترجيح بالأعدلية فان هذه الصفة الموجبة للرجحان شرعا أشد في أحدهما،
فيكون أرجح من الاخر شرعا.
مع أن الشهرة لو كانت موجبة للقطع بالصدور، بل موجبة للقطع بمضمونه،
كما في آخر عبارة هذا المتخيل فلا مجال لأعمال الترجيح بالعدالة، التي لا تعقل
الا أن تكون من مرجحات الصدور، فتدبر جيدا.
وأما ما عن شيخنا العلامة الأنصاري - قده - في وجه تقديم المقبولة على
المرفوعة - مع فرض اختلافهما من حيث تقديم الشهرة على الترجيح بالصفات
في الثانية، وتأخيرها عنه في الأول - بدعوى أن المقبولة بمقتضى المرفوعة
الامرة بتقديم المشهور على غيره مقدمة على المرفوعة المنافية، لان المقبولة
مشهورة والمرفوعة شاذة (1).
فمدفوع: بأن المقبولة وان كانت منقولة في كتب المحمدين الثلاثة بطرق
مختلفة (2) الا أنه لا أظن أنها مقبولة من حيث الشهرة في الرواية، بل لان صفوان
بن يحيى في السند، وهو من أصحاب الاجماع، فتقبل الرواية لهذه الجهة، وإن لم
يوثق عمر بن حنظلة صريحا، مع أن شمول الاخبار العلاجية لعلاج نفسها لا
يمكن الا بنحو القضية الطبيعية أو بتنقيح المناط، مع أن تقديم المقبولة بمقتضى
المرفوعة يستلزم المحال، إذ يستلزم العمل بها طرحها، وما يلزم من وجوده

(1) الرسائل ص 447.
(2) الكافي ج 1: ص 54 باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم: حديث 10.
الفقيه ج 3: ص 5: باب الاتفاق على عدلين في الحكومة: حديث 2.
التهذيب ج 6: ص 301: باب بالزيادات في القضايا والاحكام: حديث 845.
369

عدمه محال.
هذا كله في الترجيح بالصفات.
واما الترجيح بالشهرة وبموافقة الكتاب ومخالفة العامة.
فنقول: أما الترجيح بالشهرة فقد يقال: كما أشرنا إليه: إن شهرة الرواية بين
الأصحاب - في الصدر الأول - توجب كون الخبر مقطوع الصدور، ولا أقل من
كونه موثوقا بصدوره، فالخبر الشاذ مقطوع العدم، أو موثوق بعدمه، فلا تعمه أدلة
حجية الخبر.
وأما الترجيح بموافقة الكتاب، فعن شيخنا - قده - (1): أن ظاهر قوله عليه
السلام (ما خالف قول ربنا لم أقله، وأنه زخرف وباطل) (2) وأمثال هذه
التعبيرات (3)، أن المخالف غير حجة، وإن كان وحده لا من حيث كونه في قبال
الموافق، ليكون من باب ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى، بل من باب تميز
الحجة عن اللا حجة.
بل بهذا الاعتبار يكون صدور الخبر المخالف للكتاب، أو ظهوره موهونا،
للوثوق بعدم أحدهما، فلا تعمه أدلة حجية الصدور والظهور.
وأما الترجيح بمخالفة العامة، فبأن الاخبار - الامرة بطرح الخبر الموافق لهم (4)
أو العمل على خلاف فتوى القوم (5) - ظاهرة في عدم صدور الموافق، الا تقية
وأن الحق في خلافه، من دون اختصاص بورود الموافق لهم - في قبال المخالف
لهم - وبأنه حينئذ باب تميز الحجة عن اللا حجة، ولا ترجيح الحجة على الحجة،
بل بملاحظة هذه الأخبار يكون المخالف موثوقا بصدوره أو ظهوره، والموافق
موثوقا بعدمه، فلا تعمه أدلة حجية الصدور والظهور، ولا تجري حينئذ أصالة

(1) الكفاية ج 2 ص 393.
(2) الوسائل ج 18 ص 79 و 87 و 89: باب 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 15 و 12 و 14 و 48.
(3) نحوه، دعوه، وردوه - راجع الباب: حديث 10 و 29.
(4) الوسائل ج 18: ص 84 و 85: باب 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 29 و 34.
(5) الوسائل ج 18: ص 83: باب 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 23 و 24.
370

عدم صدوره تقية.
أقول: أما عدم المقتضي لحجية الشاذ، والمخالف للكتاب، والموافق للعامة -
بملاحظة عدم الوثوق بالصدور والظهور، أو الوثوق بعدمهما، وكونهما موهونين -
ففيه:
أما حجية الصدور، فبناء على أن يكون مدرك حجية الخبر الأخبار الآمرة
بالرجوع إلى الثقة (1)، فظاهر كفاية وثاقة الراوي - في قبول خبره - من دون إناطته
بالوثوق الفعلي بخبره، فلا يضر عدم الوثوق الفعلي أو الظن بعدمه.
وبناء على كون المدرك بناء العقلا، فالظاهر أن بناءهم على العمل بخبر الثقة -
كالبناء على العمل بالظهور - ليس الا من حيث كونه في نفسه، ولو خلي وطبعه
مفيدا للظن بالصدور أو بكونه مرادا، لا أنه منوط عندهم بالظن الفعلي، أو بعدم
الظن الفعلي بالخلاف.
وأما حجية الظهور، فالامر فيها أوضح، وقد فرغنا عن عدم إناطتها بشئ من
الامرين - في البحث عن حجية الظواهر - فراجع (2)، فلا مانع من جريان أصالة
الصدور والظهور.
وعليه، فالمحتمل في الخبر الموافق لهم:
إن كان اتقاء الإمام عليه السلام منهم، فمرجع الامر إلى عدم إرادة الظاهر،
والظاهر حجة على الإرادة الجدية إلى أن يتبين خلافه.
وإن كان القاء الحكم المنبعث عن مصلحة محدودة إلى زمان ارتفاع التقية عن
المخاطب، فالاطلاق حجة إلى أن يتبين خلافه، فان الكلام ظاهر لمكان اطلاقه
في انبعاثه عن مصلحة مرسلة غير محدودة بحد زماني.
وهذه الأصول كلها لا مانع لها بمجرد قيام الخبر المعارض لها.
وأما الكلام في اقتضاء الشهرة، وموافقة الكتاب، ومخالفة القوم ما ذكر، مما

(1) الوسائل ج 18: با 11 من أبواب صفات القاضي: حديث 4 و 33 و 40.
(2) نهاية الدراية 2.
371

يوجب خروجها عن مسألة ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى.
فنقول: أما الشهرة فكونها موجبة للقطع بصدور المشهور - لو سلم - فإنما هو
في الشهرة رواية وفتوى وعملا، لا الأولى فقط
وأما الوثوق الفعلي بصدوره، فلا يمنع عن الوثوق الفعلي بصدور ما يقابله، بلا
لا يمنع القطع بصدوره عن القطع بصدور ما يقابله، ولذا فرض الشهرة في
الخبرين، مع أن فرض القطع بصدور ما يقابله، ولذا فرض الشهرة في الخبرين، مع
أن فرض القطع بالصدور، أو الوثوق به في الطرفين يمنع عن اعمال مميزات
الصدور - عن عدمه - بموافقة الكتاب، ومخالفته، ومخالفة لقوم، وموافقتهم، كما
في المقبولة، أو بالترجيح بالصفات أيضا، كما في المرفوعة.
وأما موافقة الكتاب:
فتارة يحمل على المخالفة ثبوتا لا إثباتا كما عن شيخنا - قده - في مباحث
الألفاظ (1).
وأخرى على عدم صدور المخالف، ولو كان وحده، كما افاده هنا.
وثالثة على حصر مواردها في العقائد.
أما المخالفة ثبوتا بمعنى ان ما يصدر منهم - عليهم السلام - لا يخالف الكتاب
واقعا، بل يوافقه واقعا، إما الإرادة المؤول من الكتاب، أو من الخبر - فهي وان
كانت محتملة من قوله عليه السلام (لا تقول ما يخالف قول ربنا) الا ان الأخبار الآمرة
بضرب المخالف على الجدار (2) وأنه زخرف، وأنه باطل، لا يراد منها الا ما
هو ظاهر في المخالفة للكتاب، وهو القابل للعرض، على الكتاب، دون ما يخالف
واقعا لما هو المراد واقعا من الكتاب.

(1) الكفاية ج 1 ص 367.
(2) انظر مقدمة تفسير التبيان ج 1 ص 5 للشيخ الطوسي قدس الله نفسه، وتفسير الصافي للفيض
الكاشاني - ره - " قال النبي صلى الله عليه وآله: إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله... وما
خالفه فاضربوا به عرض الحائط ".
372

وأما ورودها في غير مقام التعارض، فظاهر جملة من أخبارها (1) وإن كان
بحيث يعم ما لو كان المخالف وحده، الا أن صريح المقبولة والمرفوعة، ورواية
العيون والرواندي والعياشي عن الحسن بن الجهم (2) إعمال هذا المرجح في
مورد تعارض الخبرين.
وأما ورودها في العقائد، فصريح المقبولة ورودها في التنازع في الدين
والميراث، بل ظاهر جملة أخرى أيضا عدم اختصاصها بالعقائد.
ومورد جملة من أخبار موافقة الكتاب ومخالفته بحيث لو كان الخبر المخالف
وحده لوجب طرحه، ومثله ليس الا المخالف لنص الكتاب، فإنه الذي يصح أن
يقال في حقه " إنه زخرف، وباطل، وإني لم أقله، وإنه لا تقبلوا علينا ما يخالف
قول ربنا " (3) وهو صريح رواية العيون، حيث قال عليه السلام (فما جاء في تحليل
ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أو دفع فريضة في كتاب الله رسمها بين قائم بلا
ناسخ نسخ ذلك، فذلك ما لا يسع الاخذ به) (4) الخبر.
ومورد بعضها الاخر كالمقبولة بحيث لو كان وحده لاخذ به، وإنما المانع
وجود المعارض، فان الامر بأخذ الخبر الموافق، وترك المخالف وقع بعد فرض
كونهما مشهورين قد رواهما الثقات. وقد فرض موافقتهما للكتاب في مورد
الترجيح بمخالفة العامة، ولا يكون الا الموافقة لظاهر الكتاب، والا لكان اللازم
وجود نصين متباينين في نفس الكتاب، فتدبر.
واما مخالفة العامة، فمجمل القول فيها:
إن أخبارها المطلقة الامرة بالأخذ بما خالف العامة، وترك ما وافقها، كلها

(1) راجع الوسائل ج 18: ص 86: حديث 35 و 32.
(2) العيون ج 2: ص 20 حديث 45.
الوسائل ج 18: ص 84: حديث 29.
الوسائل ج 18: ص 89: حديث 48.
(3) بحار الأنوار ج 2: باب 29 من كتاب العلم: حديث 62.
(4) العيون ج 2 باب 19 ص 45.
373

منقولة عن رسالة القطب الراوندي (1)، وقال الفاضل النراقي - قده - إنها غير ثابتة
من القطب ثبوتا شائعا فلا حجية فيما نقل عنها (2).
نعم هناك روايتان أخريان: إحداهما المقبولة المروية في الكافي (3) ثانيتهما
رواية سماعة المروية في الاحتجاج (4)، ولضعف الثانية لارسالها وانحصار الدليل
في الأولى، حكي عن المحقق - قده - (5) في رد الترجيح بها - بأنه لا يثبت مسألة
علمية برواية رويت عن الصادق عليه السلام.
نعم: الظاهر من بعض الاخبار: أن الاخذ بما يخالف العامة كان أمرا مسلما بين
الشيعة - في مقام الشبهة - وإن لم يكن خبر، ولا تعارض كما في رواية الأرجاني،
حيث قال (قال أبو عبد الله عليه السلام: أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول
العامة؟ فقلت لا أدري، فقال عليه السلام: إن عليا - عليه السلام - لم يكن يدين
الله بدين الا خالف عليه الأمة إلى غيره إرادة لابطال امره، وكانوا يسألون
أمير المؤمنين عليه السلام عن النبي الذي لا يعلمونه، فإذا أفتاهم جعلوا له ضدا
من عند أنفسهم ليلتبسوا على الناس...) الخبر (6).
ومثله رواية علي بن أسباط قال: قلت للرضا عليه السلام: يحدث الامر لا أجد
بدا من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد استفتيه من مواليك؟ قال: فقال
عليه السلام: إئت فقيه البلد، فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشئ من أمرك، فخذ
بخلافه، فان الحق فيه (7).

(1) الوسائل ج 18: ص 85.
(2) راجع مناهج الاحكام والأصول: تعارض الأدلة: المقدمة الثالثة من مقدمات المرجحات بعد
بيان الاخبار.
(3) الكافي ج 1: ص 54: باب اختلاف الحديث، من كتاب فضل العلم: حديث 10.
(4) الاحتجاج ج 2 ص 357 احتجاجات الإمام الصادق (ع).
(5) معارج الأصول: ص 156 (الفصل الخامس).
(6) الوسائل ج 18: ص 83: حديث 24.
(7) الوسائل ج 18: ص 83: حديث 23.
374

ومن البين أنه لم يفرض في هذه الموارد خبر، فضلا عن التعارض، فيعلم منها
طرح الموافق وإن كان وحده.
ومورد الترجيح ما إذا كان الخبر بحيث لو لم يكن له معارض لكان حجة.
والتحقيق: أن رواية عبيد بن زرارة، موردها ما يكون الصادر عن الإمام عليه السلام
موافقا لما تفرد به العامة، وما اتخذوه طريقة لهم، فيكون نظير رواية نضر
الخشعمي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول عليه السلام: من عرف أنا لا
نقول إلا حقا فليكتف بما يعلم منا، فان سمع منا خلاف ما يعلم فليعلم أن ذلك
دفاع منا عنه (1).
ومن الواضح: أن مورد الأولى كالثانية فرض فيهما تفرد العامة بشئ، وأن ما
عند الخاصة غيره، وفي مثله لا ريب في عدم حجية الخبر الموافق.
وأما رواية الأرجاني، فلا تعرض فيها لصورة التعارض وغيرها، فلا تأبى عن
الحمل على ما يساوق المقبولة الظاهرة في الترجيح، بتقريب:
إن العامة وان كانوا يشتركون مع الخاصة أحيانا، الا أنهم غالبا على الضد منهم،
فكونهم كذلك أمارة غالبية تعبدية على أن ما هم عليه خلاف الواقع. ففي ما إذا
كان هناك خبران متساويان في أصل الحجية - صدورا وظهورا وجهة - يكون
الموافق منهما مشتملا على ما يوجب ضعف الملاك، والمخالف مشتملا على ما
يوجب قوته، وهذا مورد الترجيح.
بخلاف ما إذا أزال أصل الملاك، من الموافق، أو كانت الامارة الغالبية التعبدية
بحيث تسقطه عن الحجية، ولو كان وحده، فإنه أجنبي عن مورد الترجيح.
وقد عرفت انه لا دليل على سقوط الخبر - بمجرد الموافقة عن الحجية فتدبر
جيدا.
قوله: لا يكاد يكون الا بالترجيح... الخ.
المراد به في قبال التخيير، فان التخيير وإيكال الامر إلى المترافعين،

(1) الوسائل ج 18: ص 76: باب 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 3.
375

واختيارهما حيث أنه يوجب اختيار كل من المتنازعين ما يوافق مدعاه، فلا محالة
يبقى النزاع على حاله: وأما التوقف فهو مساوق لايقاف الدعوى لا لفصل
الخصومة.
وعليه فلابد في مورد التنازع، إما من قطعه بالترجيح إن أمكن، وإما من إيقاف
الدعوى بالتوقف إن لم يكن هناك ما يوجب الترجيح.
وهذا هو الوجه في الفرق بين المقبولة والمرفوعة، حيث إنه امر بالتوقف في
الأول، مع عدم المرجح وبالتخيير مع عدمه في الثانية، فان مورد الأولى هي
الحكومة، وفي الثانية هي الرواية، التي لا تنافي التخيير أخيرا.
قوله: ولذا أمر عليه السلام بارجاء الواقعة... الخ.
اي لم يأمر بالتخيير أخيرا - كما في المرفوعة - والا، فالتوقف يناسب ايقاف
الدعوى، ويناسب مقام الفتوى أيضا، فالترجيح والتوقف كلاهما يناسب
الحكومة والفتوى، لكنه لابد منهما في الأولى، بخلاف التخيير في قبالهما، فإنه
لا يناسب الا للثانية فتدبر.
قوله: لاختصاصها بزمان التمكن من لقائه عليه السلام.. الخ.
بشهادة تقيد التوقف المذكور فيها أخيرا بالتمكن من لقائه عليه السلام، ومورد
الترجيح بعينه مورد التوقف، فان المأمور بالتوقف هو المأمور بالترجيح، فلا
تكون المقبولة المشتملة على المرجحات مقيدة لاطلاقات التخيير على فرض
ثبوتها.
قوله: ولذا ما أرجع إلى التخيير... الخ.
استكشاف كون المورد هي الحكومة - من عدم الارجاع إلى التخيير أخيرا -
صحيح كما بيناه، الا أن الكلام - هنا - مع قطع النظر عنه، والتنزل وتسليم كون
المورد ما يعم الفتوى، وعليه، فاستكشاف كون الترجيح في زمان التمكن من
عدم الارجاع إلى التخيير، إنما يصح إذا لم يكن تقييد التخيير بصورة التمكن من
376

لقائه عليه السلام صحيحا مع أن بعض أخباره مقيد به كاعتراف (1).
قوله: مع أن تقييد الاطلاقات الواردة.. الخ.
هذا إنما يرد إذا وجب - في مقام الجمع بين المطلق والمقيد - حمل المطلق
على ما لا ينافي المقيد، فان حمل المطلق - حينئذ - على صورة التساوي حمل
على النادر، دون الغالب، الذي لا ينافي عدم التقييد عرفا وحمله على صورة
التمكن من لقاء الامام - عليه السلام - لا ينافي التخيير بقول مطلق في زمان الغيبة،
وكذا حمل أخبار الترجيح على الاستحباب.
وأما لو لم يجب ذلك في الجميع بين المطلق والمقيد، بل يكون الاطلاق
بعنوان ضرب القاعدة، واعطاء الحجة، والتقييد للاخراج من تحت القاعدة،
والحمل من باب تقديم أقوى الحجتين على أضعفهما - كما في العام والخاص -
فلا يرد ما في المتن - كما هو واضح - فتدبر.
قوله: وكذا الخبر الموافق لهم ضرورة... الخ.
قد عرفت - سابقا (2) - أن خروج المسألة عن باب الترجيح:
تارة لكون أخبار الباب توجب كون الموافق للقوم، أو المخالف للكتاب،
بحيث لو كان وحده لم يكن بحجة.
وأخرى توجب فقد ملاك الحجية فيهما، من حيث عدم الوثوق بالصدور أو
الظهور.
وعليه، فمقتضى العطف في كلامه - قده - بقوله - (وكذا الخبر الموافق) أن
يكون حاله حال المخالف للكتاب في الجهة الأولى، مع أن مقتضى تعليله بقوله
- ره - ضرورة الخ - النظر إلى الجهة الثانية، فالعطف والتعليل متباينان، فتدبر.
قوله: للزوم التقييد أيضا في اخبار المرجحات.. الخ.
اي فيما اقتصر فيه على خصوص الترجيح بموافقة الكتاب، أو بموافقة

(1) ص 362.
(2) ص 365.
377

المشهور، أو بمخالفة العامة، مع أن التقييد بعيد لاباء مثل قوله عليه السلام
(زخرف أو باطل) (1) بما إذا لم يكن أعدل، أو إذا لم يكن مشهورا. بخلاف ما إذا
حمل أخبار الترجيح على الاستحباب، فإنه لا تقييد في المستحبات فضلا عما
إذا لم يكن في مقام الترجيح، بل في مقام تمييز الحجة عن اللا حجة.
وفيه أولا: أن حملها على الاستحباب وإن كان لا يقتضي التقييد، لامكان
كون المستحب ذا مراتب، الا أن حملها على التمييز، دون الترجيح، وإن كان
يوجب خروجها عن مورد البحث، الا أنه لابد من التقييد في مرحلة التمييز
كالترجيح لان مقتضى الخبر - المتكفل لتمييز الحجة عن غيرها بالشهرة مطلقا - إن
ملاك الحجية الفعلية في المشهور، دون غيره، وإن كان النادر موافقا للكتاب،
ومقتضى الخبر - المتكفل لتمييز الحجة عن غيرها، بموافقة الكتاب مطلقا، أن
ملاك الحجية الفعلية في الموافق للكتاب، وإن كان المخالف مشهورا، فيقع
التعارض في مرحلة التمييز.
وثانيا: قد عرفت: أن ما تضمن لكون المخالف للكتاب زخرفا وباطلا في ما
إذا كان مخالفا لنص الكتاب، ولا تقييد في مورده، وما تضمن لمجرد الترجيح
بموافقة الكتاب، كالمقبولة (2) الخالية عن ذلك التعبير لا يأبى عن التقييد.
قوله: دعوى الاجماع مع مصير مثل الكليني.... الخ.
لا يخفى عليك أن ما ذكره ثقة الاسلام الكليني - قده - في ديباجة الكافي ليس
انكارا للترجيح مطلقا، ولا اثباتا للتخيير مطلقا، بل ظاهره - قده - الترجيح بموافقة
الكتاب وبمخالفة القوم وبالشهرة.
وحيث أن المعلوم من هذه المرجحات لا يفي بما اختلفت فيه الروايات، فلذا
قال - قده - لا نجد شيئا أحوط، ولا أوسع من رد علم ذلك إلى العالم، وقبول ما
وسع من الامر فيه بقوله عليه السلام (بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم)

(1) الوسائل 18: 78 و 89: حديث 12 و 14 و 48.
(2) الوسائل ج 18: ص 75: حديث 1.
378

انتهى (1).
ولا يخفى أن غرضه - قده - أنه لا أحوط من رد علم ذلك إلى العالم، ولا أوسع
من التخيير - بنحو اللف والنشر المرتب - لا أن التخيير أحوط وأوسع، كما يومي
إليه ما نقله بالمعنى في المتن، وتصدي لتصحيح موافقة التخيير للاحتياط شيخنا
الأعظم - قده - في رسائله (2).
نعم مثل هذا الاتفاق - مع وجود المدارك العقلية، والنقلية المستند إليهما - لا
يكشف عن رأي المعصوم، فتدبر.
" تقديم ذي المزية "
قوله: وفيه أنه انما يجب الترجيح لو كانت المزية... الخ.
بيانه: أنه يمكن أن تكون المزية بنفسها ملاكا للحجية - اي مجرد وجودها -
كالبصر والكتابة في القاضي، فإنهما - على فرض اعتبارهما - لا يتأكد الملاك بما
هو ملاك باشتدادهما بذاتهما، فلا يكون الأقوى بصرا، والأجود خطأ أرجح في
مرحلة القضاء، فيمكن أن يكون اعتبار الوثوق والعدالة كاعتبار البصر والكتابة من
حيث عدم اشتداد الملاك - بما هو - اشتدادهما بذاتهما، هذا إذا كان القوة
والاشتداد في ذات الملاك والمقتضي.
وأما إذا كان الاشتداد فيما كان شرطا لتأثير الملاك، لا متقضيا بنفسه فالامر
أوضح، لان الشرط ليس مؤثرا في الحجية أو نفوذ الحكم، حتى يكون الاشتداد
موجبا لقوة المؤثر ليكون أحد الخبرين أقوى ملاكا واقتضاء.
والظاهر أن البصر والكتابة في القاضي من هذا القبيل، لان الملاك في نفوذ
القضاء هو العلم والمعرفة، كما هو ظاهر المقبولة.

(1) الكافي ج 1 ص 7 في مقدمة الكتاب.
(2) الرسائل ص 449.
379

بل الظاهر: أن اعتبار الوثوق والعدالة في المفتي أيضا من هذا القبيل فان ملاك
الطريقية - وحجية الفتوى - علمه ومعرفت، كما يشهد له حكم العقلاء، برجوع
الجاهل إلى العالم والوثوق والعدالة شرط الحجية الفتوى لا ملاك ومقتض لها.
الا أن الظاهر أن ملاك حجية الخبر - بناء على الطريقية - هو الوثوق بخبره
ورجحان صدقه، فهو المقتضي للحجية في نظر العقلاء، فلا محالة يكون الأوثق
أقوى ملاكا.
وكون الوثوق ورجحان الصدق بعض الملاك - لوجود خصوصية أخرى
موجبة للتعبد به مع احتمال مخالفته للواقع - غير مناف، لما ذكرنا، إذ كون الأوثق
مساويا لغيره - في تلك الخصوصية - لا ينافي كونه أقوى منه في رجحان الصدق،
إذ لا يجب أن يكون الراجح أرجح من غيره في جميع الجهات، بل هو بقول
مطلق أرجح إذا كانت له مزية لا تكون في غيره.
ومما ذكرنا تبين: أن النقض - بمثل البصر والكتابة - غير وارد، لأنهما شرط،
وهو أجنبي عن المقتضي، ليلاحظ أقوى المقتضيين وأنه لأنقض في طرف
المقتضي. ويشهد له حكم العقلاء - في مقام الرجوع إلى أهل الخبرة - بتقديم قول
الأعلم في مقام التعارض، لان الملاك عمله وخبرته، وهو فيه أقوى. وعليه فلا
عبرة بكل مزية، بل بمزية في نفس الملاك والمقتضي، وهو يختلف باختلاف
المقامات. ففي الافتاء والقضاء العبرة بوفور علمه ومعرفته، دون غيره، وفي باب
الاخبار بقوة وثاقته لا بمزيد فقاهته. فتدبر.
قوله: مضافا إلى ما في الاضراب من الحكم بالقبح.. الخ.
تحقيق المقام: أن الترجيح موضوعه الفعل الإرادي، وثبوت الإرادة فيه
مفروغ عنه، والا لكان ترجحا بلا مرجح، وهو مساوق للمعلول بلا علة، وامتناع
بديهي لا يختلف فيه أحد، ففي الموضوع الإرادي، قالوا بقبحه تارة، وبامتناعه
أخرى.
بيانه: أن الأشاعرة بنوا على خلو أفعال الله تعالى التكوينية والتشريعية عن
380

الغايات الذاتية والعرضية، وعن الحكم والمصالح الواقعية، نظرا إلى جواز
الترجيح بلا مرجح، لامكان الإرادة الجزافية، تمسكا منهم بأمثلة جزئية مذكورة
في الكتب الكلامية (1)، بل الأصولية (2)، ونفيا منهم للحسن والقبح بالكلية فالفعل
الإرادي الخالي عن الغرض معلول للإرادة المستندة إلى المريد، فلا يلزم
المعلول بلا علة، وحيث لا حسن ولا قبح، فلا يتصف مثل هذا الفعل - الخالي عن
الغاية والغرض، بالذات وبالعرض - بكونه قبيحا.
وأجاب الحكماء - بعد إثبات الحسن والقبح عقلا في كلية أفعال الله تعالى
والعباد - بأن الفعل الخالي عن الغاية والغرض قبيح من كل عاقل، وبأن تجويز
الإرادة الجزافية يؤل إلى تجويز الترجح بلا مرجح، لان الإرادة من الممكنات،
فتعلقها بأحد الامرين دون تعلق إرادة أخرى بالآخر إما بإرادة أخرى، فيدور أو
يتسلسل وإما بلا إرادة وبلا جهة موجبة لتعلقها بهذا، دون ذاك، كان معناه حدوث
الإرادة بلا سبب، وهو عين الترجح بلا مرجح، وخروج الممكن عن امكانه بلا
موجب. فبالإضافة إلى نفس الفعل، وإن كان ترجيحا بلا مرجح، الا أنه بالإضافة
إلى ارادته ترجح بلا مرجح.
فعلم مما ذكرنا: أن محل النزاع هو الفعل الإرادي الخالي عن مطلق الغاية
والغرض، لا الخالي عن الغرض العقلائي، فإنه لم يقع نزاع في إمكانه، كما علم أن
القبح باي نظر، وأن الامتناع باي لحاظ، فإنه قبيح بالنظر إلى خلوه عن الحكمة
والمصلحة، وممتنع بالنظر إلى حدوث الإرادة بلا موجب غاية الامر إن الموجب
في إرادته تعالى منحصر في الحكمة والمصلحة، لا مطلق الغرض.
كما علم أنه لا فرق بين التكوين والتشريع في شئ من الامتناع والقبح، وإن
كان ظاهر شيخنا العلامة الأنصاري - قده - اختصاص الامتناع بمورد التكوين،

(1) كشف الفوائد للعلامة ص 41 وشرح تجريد العقائد للقوشجي ص 280.
(2) بحر الفوائد للمحقق الآشتياني ص 245: في نتيجة دليل الانسداد.
381

والقبح بمورد التشريع (1)، مع أن كل تكوين وتشريع بلا غاية قبيح، وكل إرادة بلا
سبب محال، ولك إرجاع كلامه إلى ما ذكرناه، كما عن بعض أجلة تلامذته (2)
قدس سرهما.
وأما مسألة ترجيح المرجوح على الراجح، فهي أجنبية عن مقاصد الحكماء
والأشاعرة في تلك المسألة المتداولة، الا أنه يمكن فرضها قبيحا تارة، وممتنعا
أخرى، فبالنظر إلى خلو الفعل عن جهة مصححة - من حكمة ومصلحة - قبيح،
وبالنظر إلى حدوث الإرادة - بلا سبب - ممتنع ويزيد على الترجيح بلا مرجح بأن
ترك الراجح مع وجود غاية مصححة قبيح آخر، وتخلف الإرادة عما يوجبها
محال آخر.
وأما تطبيقها قبحا وامتناعا على ما نحن فيه فنقول:
بعد فرض أقوائية أحد الخبرين فيما هو ملاك الحجية والمؤثر فيها، وفرض
التعبد بهذا الملاك دون ملاك آخر لئلا يلزم الخلف، أن الداعيين المتماثلين أو
المتضادين بالإضافة إلى إرادة شيئين - غير ممكني الجمع - يستحيل تأثيرهما معا
فإذا فرض أن أحدهما أقوى فالتأثير للأقوى، لاستحالة عدم تأثر الأقوى وتأثير
الأضعف، وحيث أن العدول عما هو أوفى بالغرض إلى غيره مناف للحكمة فهو
قبيح. فافهم واستقم.
قوله: لكفاية إرادة المختار علة... الخ.
مع انبعاثها عن موجب، وإلا كان قولا بالإرادة الجزافية، وقد عرفت استحالتها.
" هل يجب الافتاء بما اختاره من الخبرين أو بالتخيير "
قوله: ولا وجه للافتاء به في المسألة الفرعية.. الخ.
لان حكم الواقعة واقعا تعييني، لا تخييري، فكيف يجوز الافتاء بالتخيير بين

(1) الرسائل ص 146: مبحث الانسداد في الرد على الفاضل النراقي.
(2) هو المحقق الآشتياني في بحر الفوائد: 245.
382

وجوب القصر ووجوب الاتمام مثلا؟
والتحقيق ما مر مرارا، من أن أدلة حجية الخبر كلية، وأدلة الحجية الفعلية
تعيينا أو تخييرا - في مورد التعارض - مفادهما جعل أحكام مماثلة لمؤدياتها،
فحجية الخبر الراجح، القائم على وجوب القصر - مثلا - إيجاب القصر تعيينا،
بلسان ايجاب التصديق مثلا، وحجية الخبرين المتعادلين تخييرا - القائمين على
وجوب القصر والاتمام - إيجاب القصر والاتمام تخييرا، بلسان (اذن فتخير) ولا
منافاة بين أن لا يكون حكم الواقعة - بعنوانها الأولي - وجوب القصر، والاتمام
تخييرا، وأن يكون حكمها - بعنوان قيام الخبرين المتعادلين - وجوبهما تخييرا.
وليس الحكم الأصولي لبا إلا الحكم العملي الفرعي، وإنما يختلفان عنوانا.
والحكم الأصولي - وإن كان يتوجه إلى المجتهد، فإنه الذي جاءه النبأ وجاءه
الحديثان المتعارضان، أو تيقن بالحكم سابقا، وشك في بقائه لاحقا، فهو المأمور
عنوانا بالتصديق بالترجيح، وبالتخيير وبالابقاء.
لكنه إذا لم يكن للحكم مساس به، بل بمقلديه، فلا يعقل جعل الحكم
المماثل عليه لبا، بل هو المأمور عنوانا، ومقلده مأمور لبا، حيث أنه بأدلة جواز
الافتاء ووجوب التقليد يكون المجتهد نائبا عن المقلد فيما يمسه، فهو المحكوم
بتلك الاحكام عنوانا، ومقلده محكوما بها لبا.
وعليه، فلا مجال الا للافتاء بالحكم المجعول في حق المقلد لبا، وهو على
الفرض وجوب القصر والاتمام تخييرا بلسان (اذن فتخير) وبعنوان (بأيهما
اخذت من باب التسليم وسعك) فتدبره فإنه حقيق به.
" استصحاب التخيير "
قوله: قضية الاستصحاب لو لم نقل.. الخ.
ظاهره استصحاب التخيير الثابت بقوله عليه السلام: (اذن فتخير) (1) وبقوله

(1) عوالي اللئالي ج 4 ص 133 حديث 229.
383

عليه السلام بأيهما اخذت من باب التسليم وسعك (1) وهو الحاكم - في لسان
شيخنا العلامة الأنصاري - قده - على استصحاب الحكم المختار.
لكنك بعد ما عرفت أن مفاد أدلة الحجية تعيينا، أو تخييرا جعل الحكم
المماثل لبا، فليس - هناك - إلا حكم مجعول واحد - إما تعيينا أو تخييرا - فلا
اثنينية حتى يتصور حاكم ومحكوم، فالحكم المجعول ها أولا ليس الا وجوب
القصر والاتمام تخييرا بلسان (اذن فتخير) واستصحابه لا ينافي بقاء التخيير،
ليحتاج دفعه إلى استصحاب حاكم عليه، فان المختار هو وجوب القصر، الذي له
عدل، وهو وجوب الاتمام، فكيف يقتضي استصحاب التعين، كما أن ثبوته سابقا
لم يكن موجبا لتعينه، بل كان متقوما بعدله.
فان قلت: الثابت بأدلة التخيير وجود الالتزام بأحد الخبرين، ووجوب
الالتزام بهذا أو ذاك أمر، ووجوب القصر أو الاتمام أمر آخر، والأول حكم أصولي
تخييري، والثاني حكم فرعي عملي تعييني، كما هو مفاد الدليلين المتعارضين
فيتصور الحاكم والمحكوم.
قلت: ليس الواجب بأدلة حجية الخبر كلية أو في مرحلة التعارض الا العمل
بمفاد الخبر، لاحكم جناني يعبر عنه بالالتزام، مع أن الالتزام الجدي بالحكم
موقوف على حكم حقيقي، ولا يعقل هنا حكمان فعليان تعيينا، حتى يجب
الالتزام بأحدهما تخييرا فلابد من القول بجعل حكمين مماثلين تخييرا، ليمكن
الالتزام الجدي بهما تخييرا.
ومن البين أن استصحاب مثل هذا - الحكم المختار - لا يوجب تعينه ليتوقف
دفعه على استصحاب وجوب الالتزام تخييرا.
لا يقال: وإن كان الاستصحابان متوافقين في نتيجة الامر، الا أنه لا مجال
للمحكوم وإن كان موافقا للحاكم.
لأنا نقول: على فرض وجوب الالتزام لا مجال للحكومة الاصطلاحية لعدم

(1) الكافي ج 1 ص 7، والوسائل ج 18 ص 77: الحديث 6.
384

ترتب الحكم المختار على وجوب الالتزام شرعا حتى لا يكون مجال
لاستصحاب المترتب مع استصحاب المترتب عليه، بل الأمر بالعكس، إذ نسبة
وجوب الالتزام - إلى الحكم الملتزم به - نسبة الحكم إلى موضوع، ومع إمكان
استصحاب الموضوع لا مجال لاستصحاب الحكم به.
نعم بقاء الحكم المختار على حاله - حتى بعد رفع اليد عنه بعدم الالتزام به -
ملازم لعدم بقاء وجوب الالتزام تخييرا، كما أن بقاء وجوب الالتزام تخييرا ملازم
لعدم بقاء الحكم المختار على حاله بعد رفع اليد عنه بعدم الالتزام به.
وقد تقدم شطر من الكلام في محذور وجوب الالتزام عند تأسيس الأصل بناء
على الطريقية والموضوعية، فراجع (1).
قوله: ولا تحير له بعد الاختيار... الخ.
ولا يخفى عليك أن التحير - في الحكم الواقعي - متحقق، حتى فيما إذا كان
أحد الخبرين أرجح من الاخر، مع أنه لا تخيير مضافا إلى أنه لا يرتفع بالاختيار.
والتحير في الحكم العقلي في المتعادلين يرتفع بنفس العلم بالتخيير، ومثله
يستحيل أن يكون عنوانا لموضوعه، كيف؟ وهو يرتفع بمجرد العلم بالحكم
الفعلي فكيف يدور الحكم الفعلي مداره؟ بل هو شرط لحدوثه لا عنوان
لموضوعه، بل الموضوع: من جائه الحديثان المتعارضان من دون مزية معتبرة
لأحدهما على الاخر، وهو محفوظ إلى الآخر، لا ينقلب عما هو عليه بالاختيار،
ولا بالعلم بالحكم الفعلي، فلا مانع من الاطلاق - إذا تمت سائر مقدماته - ولا من
الاستصحاب.
وأما ما في كلام الشيخ الأعظم - قدس سره - في مقام الخدشة في
الاستصحاب: من أن موضوع الحكم من لم يختر، ولم يلتزم بأحد الخبرين،
فاثباته لمن اختار، والتزم بأحد الخبرين إثبات للحكم في غير موضوعه (2).

(1) تقدم في ص 342.
(2) الرسائل ص 440 ذيل " إن التخيير في المتعادلين مختص بالمجتهد أم لا؟ ".
385

فمندفع بأن الموضوع ذات من لم يختر، ولم يلتزم لا بهذا العنوان، لاستحالة
طلب الاختيار والالتزام من المعنون بعنوان عدم الاختيار وعدم الالتزام، لامتناع
اجتماع النقيضين، كما هو كذلك في جميع موارد طلب فعل من شخص، فإنه
يستحيل أخذ الفعل أو تركه عنوانا، لموضوعه فلا حاجة إلى دعوى كفاية الوحدة
العرفية.
وأما ما ربما يتخيل من أن الغرض ليس ثبوت الحكم للمتحير، فان ارتفاعه
قطعي لا أنه مشكوك، بل الغرض أن موضوع الحكم لم يعلم أنه المتحير، حتى
يكون مرتفعا أو أعم منه، حتى يكون باقيا، واستصحاب الحكم غير جار للشك،
في بقاء الموضوع، لكن استصحاب بقاء الموضوع على اجماله مجد للتعبد
بحكمه.
فمندفع: بأن الغرض إن كان استصحاب الشخص المعين، فهو مردد بين ما
هو مقطوع الارتفاع، وما هو مقطوع البقاء، وإن كان استصحاب الشخص المردد،
فهو غير معقول، لما مر مرارا أن المردد لا ثبوت له ماهية وهوية.
وإن كان استصحاب الكلي، ففيه أن الأثر مترتب على أحد الخاصين على
الفرض، لا على الجامع بينهما، ومع عدم الأثر للجامع لا معنى للتعبد به،
فاستصحاب موضوع الحكم بالتخيير للتعبد بحكمه، بجميع وجوهه بلا وجه،
فتدبر.
" هل يقتصر على المرجحات المنصوصة أو يتعدى إلى غيرها "
قوله: أما الأول فلان جعل خصوص... الخ.
بيانه: أن المرجحية على طبق الحجية، فكما أن جعل خبر الثقة لا يوجب
التعدي إلى حجية كل ما يوجب الوثوق، لاحتمال خصوصية للخبر، كذلك جعل
خصوص أصدقية المخبر وأوثقيته مرجحة لا يوجب التعدي إلى كل ما يوجب
386

الأقربية إلى الواقع، لاحتمال خصوصية لهذا الصنف من المرجح. خصوصا مع
ملاحظة أن الحكم لم يعلق على الصدق الخبري، بل على الصدق المخبري، فإنه
لو علق الحكم على ما كان أصدق وأطبق على الواقع، من غيره، لجاء احتمال
التعدي إلى كل ما كان أطبق على الواقع من غيره، بل علق الحكم على ما إذا كان
أحد الراويين أصدق من الآخر لمداقته بحسب اعتقاده في نقله، فان اعتبار هذه
الصفة، وان كان أيضا للملازمة العادية بين الصدق المخبري والصدق الخبري بعد
البناء على عدم الخطأ في الحس المشترك بين الراويين، الا أن المرجح هو
الملزوم ولو لملزوم آخر - فافهم وتدبر - خصوصا مع ما عرفت (1) من أن الترجيح
بالصفات مورده الحكمان، لا الراويان.
قوله: ما لا يحتمل الترجيح فيها الا تعبدا... الخ.
ويمكن أن يقال: إن الأعدلية والأورعية أيضا بلحاظ شدة مراقبته وكثرة
مداقته في النقل، للملازمة الغالبية بين التورع في جهة النقل، وتورعه في سائر
الجهات، بخلاف الأصدقية المحضة، فإنه ربما تأتى نفسه عن الكذب، وإن كان لا
يبالي بسائر المحرمات، كما هو المشاهد في كثير من الفساق، بل الكفار، فاعتبار
الأورعية بلحاظ هذه الجهة لا بلحاظ الجهات الأجنبية عن مرحلة النقل، كي
يكون مرجحا تعبديا.
وأما إعتبار الأفقهية، فلأن الغالب حيث يكون النقل بالمعنى، فلكثرة الفقاهة
وقوة النباهة (2)، دخل في بيان ما صدر من المعصوم عليه السلام لا لمجرد اطلاعه
على ما هو أجنبي عن مرحلة النقل والرواية، كي يكون مرجحا تعبديا، ولعله
- قده - أشار إليه بقوله - ره - فافهم.
قوله: وأما الثاني فلتوقفه على عدم كون... الخ.
الباعث للشيخ الأعظم - قده - على جعل نفي الريب إضافيا - ليتعدى منه إلى

(1) تقدم في ص 367.
(2) النباهة: ضد الخمول أي الفطنة.
387

كل ما كان كذلك - هو تخيل أن نفي الريب من جميع جهات الصدور والدلالة
والجهة، فان مثله لا ريب فيه - بقول مطلق - ولا يمكن ارادته من الخبر، والا لا
يعقل فرض الشهرة في الطرفين، مع أنه مفروض في المقبولة والمرفوعة (1).
لكنه إذا أريد من نفي الريب - بقول مطلق - نفيه من حيث الصدور فإنه المترقب
من الشهرة في الرواية، ونفي الريب من جميع الجهات مخصوص بالمشهور رواية
وفتوى وعملا وهو غير مفروض في المقبولة والمرفوعة، ولا في غيرهما، فبعد
حصر نفي الريب - بقول مطلق - في دائرة الصدور، لا مانع من فرض الشهرة في
الطرفين، كما أنه لا يوجب التعدي إلى ما لا ريب فيه صدورا بالإضافة إلى غيره،
نعم يتعدى منه إلى كل ما ريب فيه - بقول مطلق - من حيث الصدور.
قوله: وأما الثالث فلاحتمال أن الرشد الخ.
توضيحه: أن كون الرشد في خلافهم يحتمل أمرين:
أحدهما: أن مخالفتهم مطلوبة، لأن الرشد في مخالفتهم، كما ورد في اليهود
(خالفوهم ما استطعتم) (2) ونفس هذا العنوان مرغوب فيه، فلا دخل له بأقربية ما
خالفهم إلى الواقع من ما وافقهم ليتعدى إلى كل ما هو أقرب إلى الواقع من غيره.
ثانيهما: أن يكون تطبيق العمل على ما خالفهم مطلوبا، دون مخالفتهم فقوله
عليه السلام (خلافهم) على الأول مصدر مبني للفاعل، وعلى الثاني مصدر مبني
للمفعول ووصف لمضمون الخبر، والظاهر من جميع الأخبار الواردة في هذا
المرجح هو الثاني، فان قوله عليه السلام في المقبولة (ما خالف العامة فيه
الرشاد) وقوله عليهم السلام في سائر الأخبار (خذوا بما خالفهم وذروا ما
وافقهم) (3) ظاهر فيما ذكرنا، وما في ديباجة الكافي من قوله استنادا إلى الرواية
(فان الرشد في خلافهم) إشارة إلى ما ورد في الأخبار، لا أنه بنفسه خبر بمضمونه

(1) راجع الرسائل ص 450 ذيل " المقام الثالث ".
(2) ما عثرنا عليه بهذا المتن لا في كتب الخاصة ولا في العامة من طريق كامبيوتر بل الموجود هو
الذي ذكر - ره - في الصفحة الآتي.
(3) الوسائل 18: 85: حديث 29 و 31.
388

ليؤخذ بالاحتمال الأول.
نعم في بعض الأخبار (فخالفوهم فإنهم ليسوا من الحنيفية على شئ) (1) وهو
ظاهر في المعنى الأول، الا أن وروده في باب ترجيح أحد الخبرين على الآخر
غير معلوم، مع أن تعليله عليه السلام: (بأنهم ليسوا من الحنيفية على شئ)
يعطي المعنى الثاني، وهو أن مطلوبية المخالفة لمخالفة ما هم عليه للواقع، لا أن
مخالفتهم بما هي مطلوبة. فتدبر.
وبناء على المعنى الثاني، نقول: بعد البناء، على كون المخالفة مرجحة - لا
موجبة لزوال ملاك الحجية عن الموافق، ليخرج عن محل الكلام، كما عرفت فيه
الكلام مفصلا (2) - إن المخالف إذا كان في قبال الموافق لا بد من أن يتقوى به
ملاك الحجية، ويضعف المقابل بموافقته ملاكه، بحيث لو كان الموافق وحده
لأخذ به لوجدان ملاك الحجية.
وحينئذ فالاعتبار بقوة ملاك الحجية وضعفه، لا بالقرب إلى الواقع، وبعده،
فان القرب والبعد أجنبيان عن ملاك الحجية.
ومن البين أن ملاك حجية الظهور بالنسبة إلى المراد الجدي، هو كون المتكلم
- الشاعر المختار عن القاء الكلام على المخاطب - ليس بطبعه الا بصدد بيان
مراده الواقعي - فعدم ارادته اتقاء عن الغير، خلاف هذا الظاهر الذي عليه المدار
في باب المحاورات عرفا، فإذا صدر منه كلامان متنافيان أحدهما يوافق مقالة
عدوه الذي ينبغي الاتقاء من شره، والآخر يخالفه، فلا محالة يتقوى جانب ذلك
الظاهر المؤسس في المخالف، ويضعف الموافق.
فتارة تكون تلك الأمارة - الموجبة للتقوية أو للضعف - امارة متبعة عرفا،
فتكون من المرجحات العرفية، وأخرى تكون متبعة شرعا، فتكون من
المرجحات التعبدية وثالثة لا تكون متبعة عرفا ولا شرعا، فلا يترجح شئ منهما
على الآخر.

(1) الوسائل 18: 85: حديث 32.
(2) ص 375.
389

ومخالفة العامة من قبال موافقتهم قد اعتبرت شرعا مرجحة، دون غيرها، وإن
كان بحسب الخارج أحد الخبرين أقرب إلى الواقع، لخصوصية فيه من غيره، إذ
كما أن أقربية أمارة من ليست مناط الحجية، كذلك ليست ملاك المرجحية.
ومنه علم أن ما في المتن من تسليم التعدي إلى كل ما يوجب الوثوق الفعلي
بالظهور غير وجبه بظاهره، فتدبر.
قوله: ومنه انقدح حال ما إذا كان... الخ.
إذ لا فرق بين ما إذا كانت المخالفة امارة على الحقية أو كانت الموافقة امارة
على الباطل فيما سلكه من الوثوق الفعلي بصدوره لبيان الواقع في الأولى،
والوثوق الفعلي بصدور لا لبيان الواقع في الثانية، ولا فيما سلكناه من كون
المخالفة تعبدية مقوية لملاك الحجية أو كون الموافقة امارة تعبدية موجبة
لضعف الملاك.
قوله: إذا كان موجبهما مما لا يوجب... الخ.
قد عرفت: إن اعتبار الأورعية بلحاظ الملازمة بين التورع من سائر الجهات
والتورع في النقل، وأن اعتبار الأفقهية بلحاظ غلبة النقل بالمعنى، وللأفقهية -
حينئذ - دخل تام في مرحلة النقل على وجه يوافق المرام، فلا شهادة لاعتبار
هاتين الصفتين من صفات الراوي على التعدي إلى كل مزية غير موجبة للظن أو
الأقربية.
قوله: فان الظن بالكذب لا يضر.. الخ.
هذا هو الحق، الا أنه قد تقدم منه - قدس سره - في مسألة الترجيح بموافقة
الظن بصدور المخالف والموافق لا لبيان الواقع، وأنه لا يعمهما أدلة اعتبار السند
والظهور، فراجع (1) وتأمل.
قوله لوجب الاقتصار على ما يوجب... الخ.
الجمود على عنوان أقوى الدليلين، وإن كان يقتضي ذلك، الا أن الدال إذا كان

(1) الكفاية ج 2 ص 395 - 393.
390

فانيا في المدلول، وكان أحد المدلولين أقرب إلى الواقع، فالدال عليه أقرب، ولذا
يوصف الخبر المخالف للعامة بكونه أقوى، مع أنه ليس الا من اجل كون مضمونه
أقرب إلى الحق، أو أبعد عن الباطل عند من يجعل مرجحية المخالفة من هذه
الحيثية، لا لكون المخالفة أمارة تعبدية على الحجية الفعلية. فتدبر.
" هل يشمل التخيير أو الترجيح بغير موارد الجمع العرفي؟ "
قوله: وقصارى ما يقال في وجهه... الخ.
توضيح المقام: أن التعارض بين الحديثين - كما عرفت في أول الباب - لا
ينسب إليهما الا بلحاظ الدلالة، لا المدلول بذاته، ولا الحديثين من حيث الدليلية
والحجية، ولذا قلنا سابقا أن التعارض بهذا المعنى ثابت بالنسبة إلى العام
والخاص أيضا.
الا أن السؤال عن حكم تعارض الحديثين باعتبار الأثر المرتب عليهما لا
باعتبار مجرد التعارض بين الكاشفين، ولو لم يكن لهما حجية ودليلية فلا منافاة
بين أن يكون التعارض باعتبار الكاشفية والدلالة، وأن يكون السؤال عن حكمه
باعتبار الحجية والدليلية.
ومن البين: أن السؤال بدوا باعتبار صدورهما - من حيث كونهما خبرا قابلا
للصدور وعدمه - ولذا لم يقع سؤال عن الآيتين المتعارضتين، ولا عن المتواترين
المتعارضين، حتى يكون مآله إلى التحير في حال ظاهرين متعارضين، ليحمل
تارة - على عدم الالتفات إلى ما يقتضيه حكم العرف بالجمع بينهما، في مثل
العام والخاص، وأخرى - على احتمال الردع عن الطريقة العرفية.
وإذا كانت جهة السؤال متمحضة في التعبد بالصدور، فلا محالة لا مجال
للتحير في التعبد بالصدور، الا في مدلولين، غير متلائمين عرفا، فان المتلائمين
عرفا لا مانع عن التعبد بصدورهما بأدلة حجية الخبر، المفروض شمولها في
391

حد ذاتها للمتعارضين، وبعد فرض تساويهما في المرجحات من حيث الصدور -
حتى بفرضهما مشهورين قد رواهما الثقات جميعا - أمر الترجيح بموافقة الكتاب
وبمخالفة العامة، فإنهما أمارتان تعبديتان على أن المراد الجدي على طبق
الموافق للكتاب والمخالف للعامة، ولو مع فرض صدور المخالف للكتاب
والموافق للعامة منهم عليهم السلام.
مع أن التعارض غير مفروض في خصوص العام والخاص، ليحمل على
احتمال الردع عن الطريقة العرفية، بل غاية الأمر شموله له، فكيف يحمل السؤال
عن المدلولين المتلائمين، والغير المتلائمين على احتمال الردع المخصوص
بالأول.
بل السؤال عن خصوص ما لا يتلائمان باحتمال جعل أمارة تعبدية لترجيح
أحدهما على الاخر، وانطباق عنوان عليهما يقتضي التخيير بينهما، أو التوقف،
ورد علمه إليهم عليهم السلام، والاحتياط في مقام العمل مثلا.
مع أنه لم يذكر في جميع الأخبار العلاجية على كثرتها حمل العام على
الخاص، والمطلق على المقيد، ومن الواضح أن الردع عن هذه الطريقة في
خصوص الأخبار الدائر أمرها بين الترجيح والتخيير والتوقف، وإعمالها في
الكتاب المشتمل على العموم والخصوص ونحوه بعيد في الغاية، فليس الوجه
الا اختصاص مورد الترجيح والتخيير، بغير مورد الجمع العرفي، وحمل الأسئلة
على عدم الالتفات إلى ما يقتضيه حكم العرف، ولو من غير أجلة الرواة. وإن
سلم: الا أن تقرير الإمام عليه السلام في مقام الجواب بالارجاع كلية إلى الترجيح
والتخيير، لا محمل له الا الردع عن الطريقة العرفية في خصوص الأخبار، وقد
عرفت أنه بعيد في الغاية.
فان قلت: ظاهر جملة من الأخبار العلاجية أن موردها يعم النص والظاهر،
والظاهر والأظهر.
منها ما في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (سألته عن رجل اختلف
392

عليه رجلان من أهل دينه، في خبر امر، كلاهما يرويه أحدهما يأمره الآخر
والآخر ينهاه، كيف يصنع؟ قال عليه السلام يرجئه حتى يلقى من يخبر، فهو في
سعة حتى يلقاه) (1).
فان الأمر ظاهر في طلب الفعل، ونص في الجواز، والنهي ظاهر في التحريم،
ونص في طلب الترك، ومقتضى حمل الظاهر على النص الحكم بالكراهة
والرخصة في الفعل، مع أنه عليه السلام حكم بالتخيير.
منها: مكاتبة الحميري إلى الحجة عجل الله فرجه: (يسألني بعض الفقهاء عن
المصلي إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة، هل يجب عليه أن يكبر؟ قال
بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه تكبيرة ويجزيه أن يقول بحول الله وقوته أقوم
وأقعد، فكتب عليه السلام في الجواب: فيه حديثان أما أحدهما، فإنه إذا انتقل
من حالة إلى أخرى، فعليه التكبير وأما الاخر، فإنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية
وكبر، ثم جلس، ثم قام، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير، وكذلك التشهد
الأول يجري هذا المجرى، وبأيهما اخذت من باب التسليم كان صوابا (2).
فحكم عليه السلام بالتخيير مع أن الثانية أخص من الأولى، فينبغي حمل
العام على الخاص.
ومنها: مكاتبه عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه السلام: (اختلف
أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه السلام في ركعتي الفجر في السفر،
فروي بعضهم أن صلها في المحمل، وروى بعضهم لا تصلها الا على وجه الأرض
فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك، فوقع عليه السلام: موسع عليك
بأية عملت) (3).
فحكم عليه السلام بالتخيير مع أنهما من النص والظاهر، لظهور الثانية في

(1) الكافي ج 1: ص 66: حديث 7، الوسائل ج 18: ص 77، حديث 5.
(2) الإحتجاج للطبرسي ج 2: 483، توقيعات الناحية المقدسة، الوسائل 18: 87: حديث 39.
(3) الوسائل 18: 88: حديث 44.
393

حرمة الصلاة على غير وجه الأرض، ونصوصية الأولى في الجواز، فيحمل الظاهر
على النص، ويحكم بالجواز مع الكراهية، ولو بمعنى أنه ترك الأفضل، فيعلم من
الجميع أن العلاج بالترجيح، أو التخيير لا يختص بغير النص والظاهر وشبههما.
قلت: أما الرواية الأولى، فلا دلالة على كون المورد من قبيل النص والظاهر،
بل ظاهرها أن مورد أحد الخبرين حقيقة الأمر، والآخر حقيقة النهي، وهما
متباينان، لا أن مورد أحدهما صيغة (إفعل) والآخر صيغة (لا تفعل) ليكونا من
النص والظاهر.
مع أن الظاهر أن قوله عليه السلام (فهو في سعة حتى يلقاه) ليس حكما
بالتخيير بين الخبرين، بل هي التوسعة التي يحكم بها العقل مع عدم الحجة على
شئ من الطرفين، لقوله عليه السلام (يرجئه حتى يلقى من يخبره) فقد أمر
بالتوقف وعدم التعبد بأحدهما لا معينا ولا مخيرا، فهذه الرواية موافقة للأصل،
وهو التساقط مع تعارض الحجتين، فيؤكد ما عليه الطريقة العرفية من التساقط
عند تعارض الحجتين.
فقد أجيب عنها بوجوه:
أحدها: ما أفاده الشيخ الأعظم - قدس سره - في رسالة البراءة: من أن
الحديث الأول المتضمن للعموم، لعله نقل بالمعنى، وكان لفظه بحيث لا تكون
من موارد حمل العام على الخاص، إذ القابل للحمل ما إذا كان الفرد الخارج
مشمولا للعام بنحو العموم اللفظي، لا بنحو التصريح به، وبسائر الافراد بعينها،
فإنه من موارد التعارض حقيقة، لا من باب النض والظاهر أو الأظهر والظاهر،
فيكون الحكم التخيير ظاهرا في محله، لتساوي المتعارضين في الظهور.
وعدم بيان الحكم الواقعي - مع أنه سئل عنه، لا عن علاج المتعارضين -
لأجل تعليم قاعدة كلية للمتعارضين، مع عدم المصلحة لبيان الحكم الواقعي
بخصوصه (1).

(1) الرسائل: 233: ذيل المسألة الثالثة " تعارض النص ".
394

الا أنه يتوجه عليه: أن الغرض إذا كان ذلك، فلا بد من بيان المتعارضين على
وجه يكون علاجه ما حكم به، لا ما يكون ظاهرا في غيره، ولا يقع النقل بالمعنى
من العارف بمقامات الكلام هكذا، فضلا عن الإمام عليه السلام.
ثانيها: ما افاده بعض الأجلة - قدس سره - (1): من أن حكمه عليه السلام
بالتخيير، دون الحمل، لعلمه عليه السلام بإرادة العموم حقيقة، لا لفظا واستعمالا
فقط، ومع كون العموم مرادا جدا، لا موقع للحمل.
ويتوجه عليه: أن مقتضى هذا الفرض، إما الحكم بخصوص استحباب التكبير
وإما الحكم به وباستحباب بحول الله وقوته إلى آخره معا، لا التخيير، لفرض
إرادة التكبير واقعا في هذه الحالة.
ثالثها: ما افاده شيخنا العلامة - قدس سره - في تعليقته المباركة (2) على رسالة
البراءة من أن الغرض من بيان الخبرين بيان المقتضي لاستحباب كل من التكبير،
وبحول الله وقوته... إلى آخره والتخيير عقلي لتزاحم المقتضيين، وإنما علم
تزاحمهما من نفي التكبير في الخبر الثاني، لوجود مقتضي استحباب (بحول الله
إلى آخر) المفهوم من الكلام بالالتزام.
ولا ينحصر التزاحم في تضاد الفعلين ليتوهم عدم التزاحم هنا، ولو كانا
واجبين فضلا عما إذا كانا مستحبين، بل من أنحاء التزاحم تزاحم المصلحتين
المقتضيتين لإيجاب الفعلين، أو لاستحبابهما، بحيث لو أتى بأحد الفعلين
المحصل لإحدى المصلحتين لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة الأخرى بالفعل
الآخر.
ويشهد لما افاده قدس سره أن الاخبار الواصلة إلينا كلها خالية عن نفي التكبير
بل مثبتة لقول (بحول الله وقوته إلى آخره) فلا ينفي التكبير الا باثبات القول

(1) هو المحقق الهمداني: راجع هامش الرسائل: ص 233: المسألة الثالثة في دوران الامر بين
الوجوب وغيره.
(2) التعليقة: ص 137: ذيل قول الشيخ " الا أن جوابه بالأخذ بأحد الخبرين الخ ".
395

المخصوص فاما ان لا يكون التكبير مستحبا أصلا في هذه الحالة، أو مستحبا
مزاحما بمستحب آخر، ومع ثبوت المقتضي لاستحبابه، كما عن الإمام عليه السلام
لا يكون نفيه الا بالتضاد المقتضي للتخيير عقلا.
لكنه لا يلائمه قوله عليه السلام: " بأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا "
وإن ظاهره - كسائر أخبار التخيير بين الخبرين - كون التخيير تعبديا لمصلحة
التسليم، لا عقليا لتزاحم المقتضيين.
ويمكن أن يقال ان في المورد مقتضى التخيير عقلا وتعبدا كلاهما محقق،
فمن حيث الاستحباب واقعا لكل منهما مقتض مزاحم بالآخر، ومن حيث
كونهما مدلولين لخبرين فيهما مصلحة التسليم لما ورد عنهم عليهم السلام
المقتضية للتخيير، لتضاد الحكمين بحسب الفعلية واقعا وانما نسب التخيير إلى
مصلحة التسليم لأن الفعلية التخييرية انما كانت بقيام الحجة المزاحمة بحسب
مدلولها لحجة أخرى.
الا أن الذي يبعد هذا الوجه، إن الخبرين المذكورين في جوابه عليه السلام
يدل أحدهما على التكبير، والآخر على عدمه، لا على استحباب (بحول الله)
فليس مفروض الجواب دوران الأمر بين مستحبين متزاحمين، فتدبر جيدا.
وأما الثالثة، فالجواب عنها: أن ظاهر السؤال حيث قال (فأعلمني كيف
تصنع أنت لأقتدي بك) هو طلب الواقع، لا علاج التعبد بالظاهر، وحيث كان
الواقع موافقا للظاهر - من حيث كون الصلاة مستحبة في نفسها، من غير اشتراطها
في وقوعها مستحبة بايقاعها على وجه الأرض، وكان ايقاعها على وجه الأرض
أفضل الأفراد - فلذا أجاب بالتوسعة. فهذه توسعة واقعية لازم كون المستحب ذا
مراتب، لا توسعة تعبدية بين الحجتين المتعارضتين، وليس في الجواب عنوان
التسليم للخبر كي يعينه في التخيير التعبدي فافهم واستقم.
فنقول: الخبران المتكفلان لحكم العامين من وجه إما أن يكون مفادهما
الحكم الاقتضائي أو الحكم الفعلي.
396

فان كان الأول، فتارة يراد من الحكم الاقتضائي هو الحكم الطبعي أو الحكم
على ذات الشئ بلحاظ نفسه، لا من جميع الجهات، فحينئذ لا اطلاق له من
حيث العوارض، فلا شمول لمورد الاجتماع حتى يكونا متنافيين.
وأخرى يراد من الحكم الاقتضائي الانشاء بداعي بيان المقتضي والملاك،
فيكون إرشادا إلى ثبوت المقتضي في كل منهما، فلا منافاة أيضا، ولو مع
الاطلاق، والنظر إلى عروض العوارض، إذ التنافي بين الحكمين الفعليين لا بين
ثبوت المقتضي لهما.
وثالثة: يراد من الحكم الاقتضائي ثبوت الحكم بثبوت مقتضيه، اي الانشاء
بداعي البعث الثابت بثبوت مقتضيه، لا البعث الفعلي، وهذا أيضا غير داخل في
المتعارضين لعدم التنافي بين الحكمين بهذا النحو من الثبوت.
نعم هذا الشق أحسن الشقوق وأولى بصدق الحكم الاقتضائي عليه، لأنه من
سنخ الحكم الذي هو الانشاء بداعي البعث، لا بسائر الدواعي، التي هي أجنبية
عن مقولة الحكم مع انحفاظ الاطلاق والشمول فيه.
وقد فصلنا القول فيه في مبحث اجتماع الأمر والنهي (1) وغيره.
وعلى أي حال ففي الشقين الأخيرين لا يحكم بفعلية أحدهما الا إذا أحرز
أقوائية مقتضية من الاخر، وعلى فرض عدم الاحراز لا دلالة على الحكم الفعلي،
حتى يدخل الدليلان في المتعارضين ليرجع فيه إلى المرجحات السندية
وغيرها.
وإن كان الثاني بأن كان كل منهما دالا على الحكم الفعلي، اي على الانشاء
بداعي البعث جدا لا بداعي البعث الثابت بثبوت مقتضيه كما هو ظاهر الانشاء
الحكمي الطلبي.
فنقول: تارة - يعلم من الخارج بكذب أحدهما، وأنه لا حكم، ولا مقتضى له
الا في أحد الطرفين، فهو داخل في المتعارضين، من دون مجال لإحراز أقوائية

(1) نهاية الدراية ج 1، ص 517.
397

المقتضي في أحد الطرفين، وأعمال قاعدة التزاحم، وسنبين إن شاء الله تعالى ما
ينبغي أن يقال فيه في مورد الاجتماع.
وأخرى لا علم من الخارج بكذب أحدهما، والتحقيق فيه ما حققناه في
مبحث اجتماع الأمر والنهي (1): من أن الدليلين الظاهرين في الحكم الفعلي - على
الإطلاق - يدلان بالالتزام على ثبوت العلة التامة، لدلالة دليل المعلول على ثبوت
علته التامة: من وجود المقتضي وعدم المانع والمزاحم. وقيام دليل آخر على
حكم مضاد له، لا يوجب الا اثبات المزاحم له. فلا يسقط الا الدلالة الالتزامية
على عدم المزاحم، ولا موجب بوجه أصلا لسقوط دلالته الالتزامية على ثبوت
المقتضي. فعدم المعلول وإن كان كلية، اما بعدم المقتضي أو بعدم الشرط أو
وجود المزاحم، الا أن الدليل على ثبوت المقتضي مفروض هنا، من دون حجة
على خلافه، لا من الخارج ولا من الدليل الآخر المنافي له.
وعليه فإذا أحرز أقوائية أحد المقتضيين، فقد أحرز فعلية مقتضاه، فلا تعارض
حسب الفرض، وإن لم يحرز أقوائية أحد المقتضيين من الخارج، فهما دليلان
متعارضان في مادة الاجتماع، ولا مانع من شمول الأخبار العلاجية لهما.
غاية الأمر: أن الأرجح سندا أو دلالة يكون أقوى مقتضيا، لا لأن قوة مقام
الاثبات كاشفة عن قوة مقام الثبوت، لأن القوة الكاشف أجنبية عن قوة المنكشف،
بل بلحاظ أن حجية الخبر - على الطريقية - كلية، وفي مورد المعارضة ليست الا
بلحاظ المصلحة الواقعية، الباعثة على الحكم في نفسه، وعلى جعل الحكم
المماثل بعنوان كونه مما أخبر به العادل على وجه المعرفية، لا العنوانية المحضة.
فالتعبد بالمماثل إذا كان في طرف الأرجح منبعثا عن تلك المصلحة المنبعث
عنها الحكم الواقعي، فلا محالة تكون تلك المصلحة الواقعية أقوى من المصلحة
الباعثة على جعل حكم آخر في المورد، إذ يستحيل تأثير الأضعف دون الأقوى،
فالمعاملة في بدو الأمر معاملة التعارض وبحسب اللب معاملة التزاحم.

(1) نهاية الدراية ج 1 ص 519 ذيل قول الماتن " فان انتفاء أحد المتنافيين ".
398

نعم إذا كانت حجية الخبر من باب الموضوعية، إما كلية، أو في خصوص
مورد المعارضة، فلا استكشاف، بل معاملة التعارض أولا وآخرا بالنسبة إلى
الحكم الواقعي.
وذلك لأن التعبد بالمماثل غير منبعث عن المصلحة الداعية إلى جعل
الداعي الواقعي، بل عن مصلحة أخرى قائمة بالأخذ بخبر الأعدل بما هو،
وأقوائية هذه المصلحة أجنبية عن أقوائية تلك المصلحة.
ومثله الحال فيما إذا علم من الخارج بكذب أحد الدليلين في مورد
الاجتماع، فإنه يتعين الأرجح من دون استكشاف للأقوائية ثبوتا، إذ لا طرف في
الواقع، ليكون الأرجح أقوى منه، بل قوة مقام الاثبات في أحد الطرفين مرجحة
شرعا لكون الأرجح هو المطابق للواقع.
وليس معنى المرجحية كونه طريقا شرعا إلى كذب الآخر، حتى يقتضي
سقوط الآخر، حتى في غير مورد الاجتماع، بل قوة ملاك الحجية في أحد
الطرفين وضعفه بالنسبة إليه في الآخر، لا زوال ملاك الحجية، ليتوهم أنه دليل
واحد، ولا يعقل تبعيض الملاك ثبوتا وسقوطا، بل الآخر واجد لمالك الحجية،
بحيث لو كان وحده لأخذ به.
ومن الواضح: أن ضعف ملاك الحجية أنما يقتضي عدم الحجية الفعلية،
بالإضافة إلى مورد المعارضة الذي قام عليه ما هو أقوى ملاكا منه شرعا.
نعم إذا علم من الخارج بعدم صدور أحد العامين رأسا، فحينئذ يقتضي التعبد
بالأرجح سقوط الآخر، حتى في مورد الافتراق، بخلاف ما إذا علم بعدم إرادة
العموم من أحد العامين، فإنه كما قلنا: لا يسقط العام المرجوح الا في مورد
التعارض، وهو مورد الاجتماع.
كما أنه فرق بين قسمي العامين من وجه، وهو أن ما علم من الخارج بكذب
أحدهما لا يرجع إلى المرجوح منهما أصلا، ولو سقط الراجح عن الفعلية - لغفلة
أو لمزاحمة بالأهم - بخلاف ما إذا لم يعلم بكذب أحدهما، فإنه لا مانع من فعلية
399

المرجوح إذا سقط الراجح عن الفعلية، لفرض وجود المقتضي للحكم فيه، مع
عدم المزاحم عن الفعلية.
وذلك لما ذكرنا في محله: أن التزاحم في الملاك في مقام جعل الأحكام ليس
مقتضاه زوال الملاك بذاته عن أحد الطرفين، بل عدم تأثيره في الجعل لمزاحمته
بالأقوى، وحيث أن جعل الحكم لاستيفاء المصلحة، فالأقوى أولى بالاستيفاء،
ومقتضاه الأولوية بالاستيفاء، إذا أمكن استيفائه تشريعا، والا كان إهمالا للمصلحة
القابلة للاستيفاء، من دون موجب.
وحيث أن الانشاء بداعي البعث لا يترقب منه الا الباعثية لوصوله فمع عدم
إمكان وصوله - لغفلة أو لنسيان - لا يعقل جعل الداعي، حتى في هذه الحال، فلا
محالة يكون الجعل مقصورا على صورة الالتفات وعدم النسيان.
وبقية الكلام في محله: فتدبر جيدا.
قوله: أو للتحير في الحكم واقعا... الخ.
إلا أن مثل هذا التحير لا يرتفع بالاخبار العلاجية، حتى يقوم السائل مقام
الاستعلاج، فان الأخبار العلاجية لا تقتضي إلا التعبد بأنه مراد واقعا، لا الكشف
عن كونه مرادا واقعا حقيقة. فتدبر.
قوله: فيما يكون صدورهما قرينة عليه، فتأمل... الخ.
لعله إشارة إلى دعوى لزوم امضاء الطريقة العقلائية، وعدم كفاية مجرد عدم
ثبوت الردع، وقد مر منا الكلام فيه مبحث حجية الخبر الواحد (1) وفي باب
الاستصحاب (2) فراجع.

(1) نهاية الدراية ج 2 من هذا الطبع.
(2) نهاية الدراية ج 3 ص 34.
400

" في بيان جملة من المرجحات النوعية "
1 - تعارض الاطلاق والعموم
قوله: وفيه أن عدم البيان الذي هو جزء... الخ.
توضيح المقام: أنا قد بينا في مبحث المطلق والمقيد (1): أن المراد من مقام
البيان تارة مقام بيان مرامه بشخص كلامه، وأخرى الأعم من البيان حال لقاء
الكلام والبيان إلى حال انفاذ المرام.
فان أريد الأول، فالبيان الذي هو جزء المقتضي هو عدم البيان في شخص
المقام، وفي حال القاء الكلام، وبيان القيد بعده ليس عدمه جزء المقتضي، بل
ينعقد الظهور الاطلاقي بمجرد عدم بيان القيد حال القاء الكلام، وتقديم المقيد
على المطلق - حينئذ - من باب تقديم أقوى الحجتين على أضعفهما، الا أن البيان
بهذا المعنى امر اتفاقي، والالتزام به في جميع المطلقات بلا ملزم.
وإن أريد الثاني - اي البيان بالمعنى الأعم - فان كان القيد واردا قبل الحاجة فلا
ينعقد معه ظهور اطلاقي، فعدمه إلى وقت الحاجة مقوم للمقتضي، فلا ظهور
للمطلق الا الظهور الذاتي الوصفي في نفس الطبيعة المهملة، وظهوره الفعلي في
الاطلاق مراعي بعدم بيان القيد قبل وقت الحاجة.
وإن كان المقيد واردا بعد وقت الحاجة، فلا محالة ينعقد الظهور لذات المطلق
في الاطلاق، لتمامية مقدماته الموجبة لانعقاد ظهور المطلق في الاطلاق، فيكون
للمقيد الوارد بعد وقت الحاجة ظهور آخر معارضا للمطلق فلا بد من ملاحظة
أقوى الظهورين.
فان قلت: المقيد الوارد بعد وقت العمل، وان لم يصلح للمانعية عن انعقاد
الظهور الا أنه يصلح للكشف عن اقتران ذات المطلق بما يمنع عن انعقاد الظهور

(1) نهاية الدراية ج 1 ص 671 ذيل قول الماتن " وأورد عليه بأن التقييد... ".
401

له في الاطلاق.
قلت: وجوده الواقعي لا يصلح للمانعية عن انعقاد الظهور، بل المانع وجوده
الواصل، والمفروض أنه غير واصل قبل وقت العمل، فلا يوجب ورود المقيد
بعد وقت العمل، الا احتمال عدم إرادة الاطلاق، ومثله لا يمنع عن انعقاد
الظهور.
ومنه تبين أن العام إذا كان واردا قبل وقت العمل - ولو بعد إلقاء الكلام - صح
أن يكون مانعا عن انعقاد الظهور للمطلق، فكون ظهور العام تنجيزيا وظهور
المطلق تعليقيا على ما أفاده الشيخ الأعظم - قدس سره - (1) وجيه في هذه
الصورة.
بخلاف ما إذا كان ورود العام بعد وقت العمل، فإنهما ظهوران تنجيزيان، وفي
مثله يصح ما افاده شيخنا الأستاذ - قدس سره -: من أن عدم البيان الذي هو جزء
المقتضي هو عدم البيان في مقام البيان لا إلى الأبد.
نعم هنا احتمال آخر تعرضنا له في مبحث العام والخاص (2)، وهو: أن العام
وإن كان ظهوره في العموم وضعيا الا أن حجيته عند العرف بلحاظ كشفه النوعي
عن المراد الجدي، فإذا كان عادة المتكلم بيان مرامه الجدي - ولو بكلامين
منفصلين - قبل وقت العمل، فلا كاشفية نوعية للعام عن إرادة الشمول جدا، الا
إذا لم يتعقبه ما يخصصه قبل وقت العمل.
فكما أن أصل ظهور المطلق - في الاطلاق - مراعي بعدم بيان القيد قبل وقت
العمل، كذلك كاشفية العام نوعا، عن إرادة العموم مراعي بعدم ورود ما يوجب
قصره على بعض أفراده.
فالمطلق صالح للمنع عن تمامية الكشف النوعي عن المراد الجدي، والعام
صالح للمنع عن انعقاد الظهور الاطلاقي، ولا موجب لتقديم أحدهما على الآخر

(1) الرسائل: ص 457: في تعارض الاطلاق والعموم.
(2) نهاية الدراية ج 1 ص 635.
402

بنحو الكلية، بل لا بد من ملاحظة الخصوصيات الموجبة لأقوائية أحدهما في
الظهور، أو الآخر في الكاشفية النوعية: فتدبر جيدا.
قوله: وأغلبية التقييد مع كثرة.. الخ.
وفي رسائل الشيخ الأعظم - قدس سره - الاستدلال بهذا الوجه (1) - بناء على
كون العام مجازا، وهو أوجه مما في المتن، إذ بناء على عدم المجازية تكون إرادة
الخصوص من العام مجازا وإرادة المقيد من المطلق لا يستلزم التجوز، فلا تصل
النوبة إلى ملاحظة الأغلبية والأكثرية.
نعم بناء على مسلك شيخنا - قدس سره - من أن التخصيص لا يستلزم التجوز
في العام، لاستعمال العام في العموم ضربا للقاعدة وإعطاء للحجة (2) - يجدي
الاستدلال بالأغلبية، الا أن المبنى محل نظر، كما مر في مباحث الألفاظ مرارا (3).
ثم إن الشيخ - قدس سره - قال بعد بيان الوجه: (وفيه تأمل) - وأفاده - في
الهامش المنسوب إليه - أن الكلام في التقييد بالمنفصل، ولا نسلم أنه أغلب، نعم
دلالة ألفاظ العموم أقوى من دلالة المطلق، ولو قلنا: إنها بالوضع، انتهى (4).
وليس في ظاهر النظر وجه للأقوائية، مع اشتراكهما في الوضع، وفي كون العام
والمطلق يمكن أن يكون كل منهما شموليا، وأن يكون بدليا، الا أن يقال: أن
الافراد في العام مقوم الموضوع له، ومصب الدلالة الوضعية، بخلاف الحالات
في المطلق، فان الموضوع له فيه هي الطبيعة السارية في جميع الأحول،
فالموضوع له ذات الطبيعة السارية والحالات لوازمها، لا مقومها ومصب الدلالة.
فتأمل.

(1) الرسائل: ص 457 في تعارض العموم والاطلاق.
(2) الكفاية ج 1 ص 336.
(3) راجع نهاية الدراية ج 1 ص 635.
(4) راجع حاشية المحقق الخراساني على الرسائل: 276: ذيل قول الشيخ: " وأما على القول بكونه
مجازا.. ".
403

" 2 - دوران الأمر بين التخصيص والنسخ "
قوله: ومنها ما قيل فيما إذا دار بين التخصيص والنسخ... الخ.
لا يخفى عليك أن تخصيص العام بالخاص مطلقا مشروط بورود الخاص قبل
حضور وقت العمل بالعام، لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ونسخ الحكم
مشروط مطلقا بورود الناسخ بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ، لئلا يلزم كون
شئ واحد في زمان واجدا للمصلحة، وفاقدا لها ولئلا يلزم جعل الداعي ورفعه
معا في زمان يترقب فيه الدعوة إلى الفعل - كما بينا في محله (1) -. فيتمحض
دوران الأمر بين الناسخية والمخصصية - في الصورة الأولى من الصورتين
المذكورتين في المتن - حيث أن الخاص فرض تقدمه على العام، فهو صالح
للمخصصية، لوروده قبل وقت العمل بالعام، والعام صالح للناسخية، حيث
فرض وروده بعد حضور وقت العمل بالخاص، بخلاف الصور الثانية، لتقدم العام
على الخاص، فالخاص إن كان واردا قبل حضور وقت العمل بالعام، فلا يصلح الا
للمخصصية، دون الناسخية لفقد شرطها، وإن كان واردا بعد حضور وقت العمل
بالعام، فلا يصلح بنفسه للمخصصية، لفقد شرطها.
فلا بد في تعقل الدوران في هذه الصورة من أحد أمرين:
الأول - كشف الخاص عن اقتران العام بما يوجب قصره عن بعض أفراده، أو
ورود ما يوجب قصره عليه قبل حضور وقت العمل، فهو صالح للناسخية بنفسه،
وصالح للكاشفية عن ورود المخصص قبل وقت العمل.
الثاني - أن يكون الخاص مخصصا للعام واقعا وموجبا لقصره على ما عدا
الخاص، واقعا - لا فعلا - ويكون وروده بعد وقت العمل، لأجل عدم المصلحة
في صيرورة التكليف الواقعي فعليا الا في زمان ورود الخاص، فان قبح تأخير
البيان إنما يتوجه، إذا كان الغرض فعلا متعلقا بما عدا الخاص، لا الغرض الواقعي

(1) نهاية الدراية ج 1 ص 659 بينه - ره - مفصلا في الرقم: 4.
404

المزاحم بمصلحة أخرى في عدم بيان المخصص.
والالتزام بالأول بعيد، لكثرة المخصصات والمقيدات الواردة في الأزمنة
المتأخرة، وبعد خفائها جميعا، مع ثبوتها ووصولها إلى المكلفين في الأزمنة
السابقة، بداهة أن وجودها الواقعي قبل حضور الوقت غير صالح للمخصصية،
ووصولها - جميعا - وخفاؤها في غاية البعد فينحصر الامر في الثاني، وهو
تخصيص باعتبار خروج بعضه الافراد واقعا، ونسخ باعتبار انتهاء أمد الحكم
العمومي الفعلي بورود الخاص بعد وقت العمل.
ففي الحقيقة يدور الأمر بين كون الخاص موجبا لانتهاء أمد الحكم الواقعي
الفعلي، أو موجبا لانتهاء أمد الحكم الفعلي، ولو لم يكن واقعيا - اي غير منبعث
عن المصالح الأولية - والا، فليس من حقيقة الحكم الظاهري المصطلح، وحينئذ
لا يبقى مجال لاستبعاد النسخ، الذي حقيقته انتهاء أمد الحكم الفعلي، من غير
مدخلية لانبعاثه عن المصالح الأولية أو الثانوية.
نعم: يشكل الوجه الثاني بما عن الشيخ الأعظم - قدس سره - في خصوص
الخطابات المختصة بالمشافهين (1)، حيث إن العلم بعدم المخصص لا يلازم
العلم بإرادة العموم واقعا، حتى يترتب على أصالة عدم المخصص إرادة العموم
واقعا تعبدا، إذ لا يزيد الأصل على العلم.
وقد عرفت أن عدم صدور المخصص يجامع عدم إرادة العموم واقعا، وإما
إرادة العموم بحسب التكليف الفعلي للمشافهين، فلا يجدي في حق غيرهم
بأدلة الاشتراك، إذ لا اشتراك الا في الحكم الواقعي، لا في الحكم الفعلي الذي
يختلف باختلاف حالات المكلفين - سواء سمي تكليفا ظاهريا أم لا. بخلاف ما
إذا كانت الخطابات شاملة لعموم المكلفين - من المشافهين وغيرهم - فان
ظاهرها فعلية التكليف العمومي، سواء كان بحسب الواقع واقعيا أو لا.
وأجاب - قدس سره - عن هذا المحذور المبني على الوجه المذكور، بأن

(1) الرسائل ص 457: في دوران الامر بين النسخ والتخصيص.
405

مقتضى الأصل - المؤسس من باب المحاورات - الحكم بإرادة ظاهرها واقعا، الا
إذا علمنا - ولو بالخاص المتأخر - عدم ارادته واقعا مع إرادته فعلا.
وأنت خبير بأن مقتضى الأصل ليس الا الحكم بأن الظاهر مراد جدا حقيقة،
سواء كانت منبعثا عن المصلحة الأولية أو الثانوية، ولا يختص بالأولى حتى تكون
إرادة العموم فعلا على خلاف الأصل، حتى يفترق صورة الاطلاع على الخاص
وعدمه.
فلا بد في دفع المحذور عن أصالة عدم المخصص الراجعة إلى أصالة الظهور:
بأن يقال: إن الخطاب وإن كان مخصوصا بالمشافة، الا أن الظاهر أنه تكليف
المخاطب بذاته، لا بعنوان آخر، فيكون ظاهرا في التكليف الواقعي المنبعث عن
المصالح الواقعية الذاتية، دون العرضية، فيشترك غير المشافة، مع المشافة - في
هذا التكليف - بأدلة الاشتراك، والوقوف على الخاص المتأخر يكشف عن أن
التكليف لم يكن مرتبا على المكلف بذاته، بل بعنوان آخر بحسب مقام الفعلية،
لا بحسب مرتبة الواقع. فافهم وتدبر.
قوله: فعلى الوجه العقلي في تقديم التقييد... الخ.
لا يخفى عليك أن لكل من العام والخاص حيثيتين: حيثية الظهور الوضعي
في الشمول، وفي القصر على ما عدا الخاص، وحيثية الظهور الاطلاقي في
الدوام والاستمرار، والتخصيص بلحاظ الحيثية الأولى، والنسخ بلحاظ الحيثية
الثانية، فالخاص بظهوره الوضعي ليس ناسخا للعام المتقدم، وكذا العام ليس
بظهوره الوضعي ناسخا للخاص المتقدم حتى يجري الوجه العقلي المتقدم.
وحيث أن ظهور الخاص والعام في الاستمرار والدوام بالاطلاق بلا كلام، ولم
يصلح أحد المطلقين لتقييد الآخر - لتساوي النسبة من حيث توقف انعقاد
الظهور، وعدم الظهور هذه الوضعي من الجهة - حتى يتعين للمانعية، فكل منهما
مقتض بلا مانع فينعقد لكل منهما ظهور، ولو فرض أقوائية أحدهما، لكان من
باب تقديم إحدى الحجتين على الأخرى، لا من باب تنجيزة الظهور في أحدهما
406

وتعليقيته في الآخر.
قوله: وإن غلبة التخصيص إنما توجب... الخ.
يمكن أن يقال: إن اثر الغلبة ليس الظن بالتخصيص دون النسخ ليقال: بأنه لا
عبرة بالظن الخارجي في باب التمسك بالظهورات ما لم يصل إلى حد يكون من
القرائن الحافة باللفظ، بل بملاحظة أن حجية الظواهر بلحاظ كشفها النوعي عن
المراد، والكواشف النوعية عن إرادة العموم - لكثرة ورود التخصيصات - بلغت
من الضعف مبلغا لا يجوز التمسك بها قبل الفحص عن خصوص المخصصات،
بخلاف الكواشف النوعية عن استمرار الحكم فإنها لم يختل بورود الناسخ لها،
إلا أقل قليل. فهذا وجه أقوائية الظهور الاطلاقي من الظهور الوضعي في خصوص
المقام، وعليه جرى - قدس سره - في مباحث العام والخاص من الكتاب (1)،
فتدبر.
قوله: لم يكن باس بتخصيص عموماتها بها... الخ.
لا يخفى عليك أن الخاص المتأخر، إن كان متكفلا لنفي الحكم الفعلي وقصر
العام بحسب حكمه الفعلي على ما عداه، فمقتضاه عدم الحكم الفعلي أيا ما كان
بالنسبة إلى الخاص من الأول فلا معنى لكونه ناسخا.
إلا أنه معقول هنا، إذ المفروض ورود الخاص بعد وقت العمل بالعام، فلا
يعقل أن يكون متكفلا لنفي الفعلية - وإن كان متكفلا لنفي الحكم الواقعي في
مورد الخاص - فلا يكون الا تخصيصا، إذ ليس بمدلوله، ولا من حيث لزوم
تقديمه على العام، بما هو عام. متكفلا لانتهاء أمد الحكم الفعلي، بل انتهاء أمد
الحكم العمومي فعلا بلحاظ انتهاء مصلحة إخفاء الخاص بتبدله بنقيضه وهو
اظهاره، فلازم وصول الخاص من المولى انتهاء أمد الحكم العمومي فعلا.
ولذا يصح أن يقال: إن الخاص مخصص فقط، لا ناسخ، وإن كان لازم وصوله
حصول نتيجة النسخ، من حيث انتهاء أمد الحكم الفعلي قهرا.

(1) الكفاية ج 1 ص 371.
407

قوله: وفيه أن النسبة إنما هي بملاحظة... الخ.
إن الكلام، تارة في ما يوجب ملاحظة أحد الخاصيين - بخصوصه - مع العام،
أو ملاحظة الخاص مع أحد العامين من وجه.
وأخرى - في انقلاب النسبة بواسطة تقديم أحد الخاصيين أو ملاحظة الخاص
مع أحد العامين.
أما الكلام في الأول، فنقول: إذا فرض هناك خاصان في قبال عام، فهما من
حيث عدم جهة موجبة لتقديم أحدهما، يكون تقدمه في ملاحظته مع العام
وتخصيصه به أولا ترجحا من غير مرجح، فيكون من المعلول بلا علة.
وأما مع فرض عدم انقلاب النسبة بملاحظته أولا، فيكن ترجيحا بلا مرجح،
حيث أنه لا فائدة في لحاظه أولا الا تربت اثر عليه، ومع عدمه يكون لغوا،
فيدخل تحت عنوان الترجيح بلا مرجح.
وما افاده - قدس سره - في المتن من عدم انقلاب النسبة، فلا موجب لتقديمه
على الآخر - يصلح للعنوان الثاني، وإن كان الأول أولى.
وإما إذا فرض عامان من وجه، وكان في قبال أحدهما - بالخصوص - خاص،
فهل هو كالأول من عدم الموجب أو عدم الفائدة، أو لابد من تقديمه لما عن
الشيخ الأعظم - قدس سره - من محذور الغاء النص أو طرح الظاهر المنافي له
رأسا وكلاهما باطل (1).
وهو مع أنه مخصوص بما إذا قدم العام الغير المنافى للخاص، على المنافي
له، لا مطلقا، كما هو واضح، يرد عليه: أن العام حيث أنه مبتلى بالمعارض، فلا
عموم متيقن في البين ليجب تخصيصه بالخاص، والأخذ بالخاص - على اي
حال - مع فرض عدم انقلاب النسبة غير تقديم الخاص على العام تخصيصا له،
وطرح الظاهر رأسا أو إلغاء النص إنما لا يجوز إذا كان بلا موجب وأما معه فلا
وجه للحكم ببطلانه.
وسيأتي - إن شاء الله تعالى - حكم هذه الصورة.

(1) الرسائل: ص 461.
408

وأما الكلام في الثاني أعني انقلاب النسبة في الصورتين وعدمه، فتوضيح
الحال فيه: أن اللفظ بواسطة الوضع يكون قالبا بالقوة للمعنى، ووجها له، فيكون
ظهور المعنى وبروزه به. هذا هو الظهور المحفوظ دائما، ولو مع استعمال اللفظ
في غير معناه مع القرينة. ولا يزول هذا الظهور الذاتي الوضعي، الا بهجر المعنى.
وبواسطة الاستعمال يكون الظهور فعليا، فاما في نفس ما هو ظاهر فيه بذاته،
وبالقوة، وإما في غيره بملاحظة القرينة. وهذا الظهور الفعلي أيضا لا ينقلب عما
هو عليه، فإنه من شؤون ايجاد المعنى باللفظ والموجود لا ينقلب عما هو عليه.
الا أن هذين الظهورين مربوطان بنفس المعنى، لا بإرادة المعنى من اللفظ
جدا، فان الإرادة الجدية غير الإرادة الاستعمالية، وأصالة الظهور لا تجدي الا
لإحراز إرادة المعنى من اللفظ استعمالا، لا إرادته منه جدا والحجية مربوطة
بالثانية.
فان مقتضى الأصل العقلائي - في باب المحاورات المبنية على الإفادة
والاستفادة - كون الظاهر كاشفا نوعيا عن الإرادة الجدية، كما أن مقتضى الوضع أو
القرينة كونه مستعملا فيما هو ظاهر فيه ذاتا أو عرضا، والمعارضة والحجية،
وتقديم إحدى الحجتين على الأخرى، من شؤون هذه الكاشفية النوعية عن
المراد بالإرادة الجدية، والا فمجرد الاستعمال لا حجية فيه، حتى يتصور
التعارض في الدليلين والحجتين، أو تقديم حجة على حجة.
ومنه تعرف أن عدم انقلاب الظهور وما يترب عليه ليس له دخل في انقلاب
النسبة التي هي مبنى التعارض والترجيح الا بالنظر إلى مآل الأمر ونتيجته. وذلك:
لأن القاء الظاهر - في مقام الإفادة والاستفادة - كاشف طبعي نوعي عن إرادة
الظاهر حقيقة وجدا، وهذه الكاشفية النوعية ملاك الحجية، دون الكاشفية
الفعلية الشخصية، فالقطع بعدم إرادة العموم، أو قيام الحجة على عدم ارادته،
ينافي كشفه الفعلي عن إرادة العموم لا كشفه النوعي، ومع انحفاظ كشفه -
النوعي العمومي - يعامل مع الخاص الآخر هنا معاملة العام مع الخاص، ولا فرق
بين أن يكون المتكلم عن عادته إفادة مرامه بشخصين من كلامه، أو لم يكن
409

كذلك: لأن هذا البناء لا يغير الكاشفية النوعية، مثله، ما لم يظهر عدم القرينة
المنفصلة ولا شهادة لعدم جواز العمل بالعالم قبل الفحص عن المخصص، لعدم
حصول الكاشفية النوعية، فان عدم الظفر به لا يحدث كاشفية لما لا كشف له،
كما أن الظفر به يوجب اختلال كشفه، والا لسرى اجمال المخصص المنفصل إلى
العام. فتدبر جيدا.
نعم ربما لا يجوز تخصيص العام به، لا من حيث اختلال في كشفه، وصيرورته
أقوى، بل لأن تخصيصه به يوجب عدم بقاء المورد، أو ما هو كالعدم، كما إذا كان
من الأول خاص واحد يستوعب أكثر افراد العام فان حيثية العموم والخصوص
محفوظة ومع ذلك لا يجوز التخصيص، للمحذور المذكور.
ومنه اتضح: عدم انقلاب النسبة حتى في الصورة الثانية، فيما إذا خصص
أحد العامين بالخاص المقابل له، فان الكشف النوعي بنحو العموم من وجه مع
العام الآخر محفوظ، وعدم إمكان تقديم العام الآخر - للزوم إلغاء العام رأسا - لا
دخل له بانقلاب النسبة ونحوه.
إذا عرفت هذه المقدمة، فاعلم أن الصورة الأولى ينبغي ملاحظة الخاصين مع
العام في مرتبة واحدة، فيخصص بهما العام ما لم يلزم منه محذور عدم بقاء
المورد، أو ما هو كالعدم من حيث القلة، والا كان العام مع مجموع الخاصين من
قبيل المتباينين، فيعامل معها معاملتهما على التفصيل المذكور في المتن.
وأما الصورة الثانية ففيها مسلكان:
أحدهما: ما عن الشيخ الأعظم - قدس سره - (1) من انقلاب النسبة أحيانا كما
إذا ورد: أكرم العلماء ولا تكرم فساقهم، ويستحب إكرام العدول، فإنه يخصص
الأول بالثاني، فيكون نسبة الأول - بعد التخصيص بالثاني - إلى الثالث نسبة
الأخص أي الأعم، فيخصص الثالث بالأول.
وقد مر عدم الموجب، لملاحظة الخاص أولا، وعدم انقلاب النسبة، كما بنى
- قدس سره - عليه في الصولاة الأولى.

(1) الرسائل ص 461.
410

ثانيهما: ما سلكه شيخنا الأستاذ - قدس سره - في الكتاب من لزوم ملاحظة
الخاص أولا، وعدم انقلاب النسبة، فيعامل مع الأول والثالث معاملة العامين من
وجه - بعد التخصيص بالثاني أيضا - واستثنى منه ما إذا لم يبق بعد التخصيص الا
مادة الاجتماع، فإنه لا يجوز تقديم العام الآخر عليه، لأنه لا يجوز تخصيصه به
أيضا، بل يقدم على العام الآخر، لا من اجل القول بانقلاب النسبة، بلا لأنه - بعد
تخصيصه بالخاص - كالنص فيما نفي تحته، فيقدم على الآخر الظاهر فيه بعمومه.
وفيه أولا: ما مر، من عدم الموجب للتخصيص، ما لم يتعين في قباله عموم،
فان العموم، وإن كان محفوظا مع الجمع الدلالي بينه وبين العام الآخر، وأما إذا
قدم عليه للترجيح السندي، فلا محالة يسقط العام في مورد الاجتماع، فلا سند
الا لمادة الافتراق، فالعموم بما هو عموم لا سند له.
وثانيا: إن تقديم العام الآخر - على العام المخصص - ليس بملاك التخصيص،
ليقال: بأنه لا يجوز التخصيص إلى حد لا يجوز تخصيصه، بل بملاك الترجيح
السندي بين المتباينين في مورد التعارض.
وثالثا: بعد الاعتراف بعدم انقلاب النسبة المبني عنده - قدس سره - على
عدم انقلاب الظهور، لا فرق بين العامين في الظهور أولا وآخرا، فلا يتفاوت ظهور
العام المخصص في شموله لمورد الاجتماع - بملاحظة التخصيص - قبله وبعده.
بل الصحيح أن يقال: بلزوم اعمال قواعد التعارض بين العامين أولا، حتى
يتبين أنه هل يبقى هناك عموم ليقال: بتخصيصه أم لا؟ فحينئذ، إن قدمنا العام
المنافي على العام الغير المنافي للخاص - لرجحانه على الاخر - فيتحقق هناك
عموم، فيخصص حينئذ بالخاص، وإن قدمنا العام الغير المنافي على العام
المنافي - لرجحانه عليه - فحينئذ لا يبقى للعام الا مادة الافتراق، الذي في قباله
خاص، فحينئذ إن كان الخاص بعض افراد مادة الافتراق، فيخصص العام به أيضا
لانحفاظ العموم والخصوص، وعدم انقلاب النسبة، وعدم حدوث قوة لظهور
العام، ولا لكاشفيته النوعية عن المراد الجدي.
411

وإن كان الخاص مستوعبا أو كالمستوعب المادة افتراق العام، فالعام في مورد
الافتراق - الذي هو ظاهر فيه بنحو العموم - كالمباين للخاص، الذي هو أظهر منه،
فيقدم الخاص، على العام، لا من باب التخصيص، لئلا يكون له مجال، بل لأن
العام والخاص متباينان، وأحدهما ظاهر، والآخر أظهر أو نص، ويقدم النص
والأظهر على الظاهر مطلقا، سواء كان بعنوان التخصيص، الذي معناه الجمع بين
الدليلين، أو بعنوان تقديم مباين على مباين، لقوته بالنسبة إليه. إذ بناء العقلاء
على العمل بالظاهر، الذي ليس في قباله نص أو أظهر، كما أن بناءهم على العمل
بالعام في ما عدا مورد الخاص. فتدبر جيدا.
لا يقال: تقديم النص والأظهر على الظاهر، ليس كالترجيح السندي بحيث
يقتضي طرحه رأسا، بل بأن يكون النص أو الأظهر قرينة على التصرف في
الظاهر، وهنا بعد إخراج مورد الاجتماع، عن تحت العام - لا يمكن ابقاء الظاهر
بالتصرف فيه، بل لازم تقديم الخاص عليه في مورد الافتراق طرحه كلية، لا
التصرف فيه.
لأنا نقول: ألحق أنه لا يشترط في تقدم أحد المتباينين على الآخر جعله
قرينة على إرادة خلاف ظاهره، بل ربما يقتضي طرحه كلية، كما إذا كان دليل
حرمة إكرام زيد نصا - في التحريم، ودليل وجوب إكرامه ظاهرا فيه، فأنه لا شبهة
في تقديم دليل الحرمة، وطرح دليل الوجوب، لعدم إمكان حمله على خلاف
ظاهرة من الاستحباب أو الجواز، لمنافاة كليهما للحرمة.
غاية الأمر أنه ربما يطرح السند فيلزمه طرح الظاهر، وربما يطرح الظاهر،
فيلزمه طرح السند، فلا تغفل.
قوله: حتى موافقة الخبر للتقية، فإنها أيضا مما يوجب ترجيح أحد
السندين.. الخ.
تنقيح المرام أن الكلام في مقامين:
أحدهما: رجوع المرجح من حيث جهة الصدور إلى المرجح، من حيث نفس
412

الصدور.
ثانيهما: تأخر رتبة جهة الصدور عن نفس الصدور، بحيث لا يكون مرجح
الجهة مزاحما لمرجح الصدور.
فنقول: اما المقام الأول، فظاهر شيخنا الأستاذ - قدس سره - رجوع جميع
المرجحات، حتى مرجح الجهة إلى مرجح الصدور، نظرا إلى أن أدلة الترجيح
والتخيير دليل الحجية الفعلية، فيكون مفادها إما جعل الحكم فعلا معينا على
طبق الراجح من الخبرين، وإما جعل الحكم مخيرا على طبق الخبرين المتعادلين.
وعليه، فمعنى الترجيح من حيث الجهة جعل الحكم على طبق ما خالف
العامة دون الموافق، لا جعل الحكم على طبق الموافق، ثم حمله على التقية، فان
مرجعه إلى التناقض، وهو: جعل الحكم على طبقه، وعدم جعل الحكم على
طبقه، حيث لا تعبد في مقطوعي الصدور، فلا يلزم من حمل الموافق على التقية
ذلك المحذور.
توضيحه: أن الكلام له جهات، إحداهما: من حيث أنه كلام صادر. وثانيتها:
من حيث تضمنه للحكم: وثالثتها: من حيث كونه لبيان الواقع أو لا؟
والقطع بصدور الخبرين راجع إلى الجهة الأولى، فيبقى مجال لحمله على
كون لا لبيان الواقع، وما هو قابل للتعبد هي الجهة الثانية، فإنه لا معنى له الا جعل
الحكم وأما الصدور بما هو فلا معنى للتعبد به.
ومن الواضح: أنه بعد فرض القطع بالصدور يبقى مجال للتعبد بعدم الحكم
على طبقه، واما مع فرض التعبد بالحكم، فلا مجال لحمله على أنه ليس لبيان
الواقع، للتناقض.
هذا، وأنت خبير بأن مرجع ما افاده - قدس سره - إلى دعوى التلازم بين عدم
رجوع المرجح من حيث الجهة إلى المرجح من حيث الصدور، وتفرع الحمل
على التقية على التعبد بالصدور، المستلزم للمحذور المذكور، مع أنه لا ملازمة
بينهما.
413

بيانه: أن جعل الحكم الحقيقي الفعلي، إذا كان متوقفا - في موقع الشك -
على جهات مختلفة من الصدور، والظهور، وجهة الصدور، فلا بد من التعبد
بجميع تلك الجهات، حتى تكون فعليته فعلية جعل الحكم الحقيقي الوحداني.
ومن الواضح: أن ملاك التعبد بالصدور غير ملاك التعبد بالظهور، وهما غير
ملاك التعبد بجهة الصدور، والدليل على كل واحد غير الدليل على الآخر.
فان ملاك التعبد بالصدور كونه خبر ثقة مثلا، وملاك التعبد بالظهور كون كاشفا
نوعيا، وملاك التعبد بموافقة الظاهر للمراد الجدي - دون آخر - هو أن الغرض
- الطبعي العقلائي - بيان المراد الجدي بالمراد الاستعمالي.
وكما أن التلازم بين التعبد بالصدور والتعبد بالظهور لا يوجب الوحدة، ولا
ينافي الاثنينية - ملاكا ودليلا - مع أنه لا يعقل التعبد بصدور ما لا تعبد بظهوره، ولا
يعقل التعبد بظهور ما لا تعبد بصدوره، كذلك التلازم بين التعبد بالصدور، وكونه
لبيان الحكم واقعا - لا عدم كونه لبيانه - لا يوجب الاتحاد ملاكا ودليلا، ولا ينافي
الاثنينية كذلك.
وإن كان مرجع جميع هذه التعبدات إلى جعل حكم حقيقي وحداني فعلي.
فأن أريد الصدور من رجوع مرجح الجهة إلى مرجح هذا المعنى فهو لا ينافي
التعدد ملاكا ودليلا، ولا يوجب الاتحاد المنافي للترتيب بين المرجحات وتفرع
بعضها على بعض.
وإن أريد الرجوع الحقيقي ملاكا ودليلا، فقد عرفت ما فيه.
وأما التلازم المدعي بين عدم رجوع مرجح الجهة إلى مرجح الصدور، وكون
الحمل على التقية بعد التعبد بالصدور المستلزم للمحذور.
ففيه أولا: أنه مبني على إرادة فعلية التعبد بالصدور - بقول مطلق - فإنه المنافي
للحمل على التقية، لا التعبد من قبل الصدور.
وثانيا: أن مقتضى الاثنينية الفعلية، وكون المرجحين في عرض واحد محذور
التناقض وأما إذا كان مرجح الجهة في طول مرجح الصدور فلا، إذ مع فرض
رجحان الصدور يقدم الراجح صدورا، ولا يلتفت إلى الراجح جهة، وإنما تصل
414

النوبة إلى رعاية العامة، إذا لم يكن أحدهما راجحا من حيث نفس
الصدور، فلا يلزم المحذور هذا.
واما المقام الثاني فتوضيح القول فيه: أن كون الصادر لبيان الحكم واقعا - لا
لنكتة أخرى - وإن كان مترتبا على فرض الصدور حقيقة أو تعبدا - ملاكا - فان
الجهة من شؤون الصادر ففيما لا صدور له لا يتصور كونه لبيان الحكم أو لغيره،
كما أن أصل المرجحية فرع الحجية الاقتضائية الملاكية - كما مر مرارا - الا أن
المجدي - في المقام - هو التفرع والترتب في المرجحية، لا ترتب المرجحية على
الحجية.
فلا بد من إفادة برهان على أن تأثير ملاك التعبد بالجهة مترتب على عدم تأثير
ملاك التعبد بالصدور، إما لعدم وصول النوبة إليه - عقلا، أو جعلا - أو لتساويهما
في ملاك التعبد بالصدور، حتى إذا كان الخبر الموافق للعامة اعدل، وكان خبر
الغير الأعدل مخالفا لهم كان التأثير للأعدلية دون مخالفة الآخر للعامة.
أما عدم صول النوبة إلى تأثير ملاك التعبد بالجهة جعلا، فمبني على استفادة
الترتيب من المقبولة (1) في مقام المرجحية، وهو أجنبي عن حديث تفرع جهة
الصدور على أصل الصدور، بل لو كانت المقبولة على العكس من ذلك لقلنا
بمقتضاها مع عدم الترتب الطبعي.
وأما عدم وصول النوبة إليه عقلا، فلا موهم له الا حكومة دليل المرجح من
حيث الصدور على دليل المرجح من حيث جهة الصدور.
بتقريب: أن مقتضى التعبد بصدور خبر الأعدل التعبد بعدم صدور خبر غير
الأعدل، فيكون رافعا لموضوع المرجح من حيث الجهة، إذ هو فرغ الصدور
المنفي بدليل مرجح الصدور، بخلاف دليل المرجح لجهة الصدور، فان مقتضاه
ليس التعبد بعدم صدور الموافق للعامة، بل بعدم كونه لبيان الحكم الواقعي، فلا
يكون بلسانه رافعا لموضوع التعبد بالصدور.

(1) الوسائل ج 18 ص 75.
415

ويندفع بأن مقتضى دليل المرجح - من حيث الصدور - هو التعبد بصدور خبر
الأعدل، لا التعبد بعدم صدور خبر غيره، لأن عدمه ليس من الآثار المترتبة عليه،
حتى يكون من مقتضيات التعبد به.
مع أن عدم الصدور - في ذاته - ليس قابلا للتعبد، بل لازم التعبد بصدور أحد
المتنافيين عدم التعبد بصدور الآخر، وهذا غير مانع عن إعمال دليل المرجح من
حيث الجهة، لأن تفرعها لا يستدعي الا كونه واجدا في نفسه لشرائط الحجية ذاتا.
ومن الواضح: أن خبر غير الأعدل بحيث لو كان وحده لكان مما يؤخذ به، فلا
يكون موضوع التعبد بالجهة مرفوعا، لا بدليل المرجح للصدور، ولا بلازمه كما
أن التعبد بالجهة ليس مقتضاه حمل الآخر على التقية تعبدا إذ ما هو قابل للتعبد
سنخ الحكم، دون غيره فليس مرجعه الا إلى جعل الحكم المماثل على طبق
المخالف للعامة دون الموافق، لا إلى التعبد بصدور الموافق تقية، فكلا الدليلين
في عدم التعبد بالآخر متساويان.
قوله: بانتقاضه بالمتكافئين من حيث الصدور... الخ.
ولا يخفى عليك أن ما أفاده الشيخ الأعظم - قدس سره - في قوله: (قلت لا
معنى للتعبد إلى آخره) (1) ليس في مقام إثبات تأخر رتبة المرجح من حيث
الجهة عن المرجح من حيث الصدور، بل في مقام دفع توهم تقدم رتبة المرجح
من حيث الجهة على المرجح من حيث الصدور المذكور في قوله (إن قلت إلى
آخره) قياسا بالمرجح من حيث الدلالة.
وحاصل الدفع: أن التعبد فعلا بالمتلائمين - بلحاظ قرينية أحدهما على الاخر
- معقول، فلا تصل النوبة إلى اعمال المرجح الصدوري، فإنه فرع التعارض -
المفقود مع الملائمة بينما - بخلاف التعبد فعلا بالخبرين، المحمول أحدهما
على صدوره، لا لبيان الحكم الواقعي، فإنه لا يعقل التعبد به.
ومنه يعلم: أن التعبد المنفي - هنا - هو التعبد الفعلي، كما أن التعبد المثبت -

(1) الرسائل ص 468: الأمر الخامس.
416

في مورد الترجيح من حيث الدلالة - أيضا هو التعبد الفعلي.
نعم التعبد الملحوظ - في قبال القطع بالصدور لإعمال المرجح من حيث
الجهة - هو التعبد الملاكي الاقتضائي، وكيف يعقل نسبة لزوم التعبد الفعلي
بالخبرين - في مورد إعمال المرجح من حيث الجهة - إليه - قدس سره - مع أن
صريح كلامه - قدس سره - عدم إمكانه، فلا نقض بالمتكافئين، فإنه أجنبي عن
مورد كلامه، بل ملاك تقديم المرجح الصدوري، تقدم رتبة الصدور على الجهة،
لما مر في وجهه، وقد عرفت دفعه أيضا.
قوله: وأنت خبير بوضوح فساد برهانه... الخ.
مضافا إلى أن مورد إعمال المرجحات التعبدية ما إذا كانت أمارة الصدور أو
أمارة جهة الصدور فلا محالة يكون مجال لاحتمال عدم الصدور، أو احتمال
الصدور لبيان الحكم الواقعي والا فمورد البرهان، وامتناع التعبد خارج عن مورد
اعمال المرجح التعبدي كما هو واضح.
وعن هذا المحقق - المشار إليه في المتن - تقريب تقديم المرجح الجهتي على
المرجح الصدوري بطريق الأولوية.
ومحصله: أن قطعية الصدور لا تمنع عن حمل الموافق على التقية، فالتعبد
بالصدور أولى بعدم المنع من حمل الموافق على التقية.
ويندفع بما مر أن قطعية الصدور لا تقتضي لا صدور الكلام، لا الحكم
الفعلي فان القطع بحكمين فعليين متنافيين، غير معقول، بخلاف التعبد
بالصدور، فان صدور الكلام بما هو غير قابل للتعبد، بل باعتبار اشتماله على
الحكم، ولا يعقل التعبد بالحكم وحمله على التقية، فلا مساواة فضلا عن
الأولوية.
ومنه علم أنه لا فرق في هذا المحذور بين أن يكون كلا الخبرين مقطوعي
الصدور، أو كان أحدهما قطعيا والاخر تعبديا، فان الموافق غير قابل للتعبد،
وحمله على التقية، سواء كان في قبال القطعي، أو التعبدي.
417

وأما إذا كان القطعي موافقا للعامة، والتعبدي مخالفا لهم، فإنما يؤخذ
بالمخالف، ولا ينظر إلى المرجح، صدورا، لعدم مجال لإعمال المرجح صدورا،
حيث أن طرفه قطعي الصدور، ولا معنى لإعمال المرجح صدورا الا فيما إذا
احتمل عدم الصدور في المرجح، ومورد المزاحمة بين المرجح الصدوري،
والمرجح الجهتي ما إذا كانا تعبدين صدورا وجهة لا ما إذا كان كلا الطرفين أو
أحدهما قطعيا.
" التحقيق حول المرجحات الخارجية "
قوله: موافقة الخبر لما يوجب الظن بمضمونه... الخ.
الترجيح بها - كما في المتن - لوجهين:
أحدهما: البناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة، بتقريب: أن
موافقة الكتاب مثلا لا توجب الا أقربية مضمون الموافق للكتاب للواقع، مع أن
الكتاب أمارة مستقلة لا توجب قوة دلالة أحد الخبرين، ولا قوة ملاك حجيته،
وبعد الغاء خصوصية الكتاب تكون الشهرة الفتوائية المطابقة لمضمون أحد
الخبرين أيضا موجبة لأقربية ما يوافقها للواقع.
وثانيهما - قاعدة العمل بأقوى الدليلين، ومقتضى الجمود على ظاهرها، وإن
كان أقوائية أحد الدليلين بما هو دليل وكاشف، وكثير من المرجحات حتى
المنصوصة منها لا توجب قوة الكشف والدلالة.
الا أن التأمل الصادق يشهد بأعم من ذلك للزوم الاقتصار في مورد القاعدة
حينئذ على النص والظاهر، والأظهر والظاهر، فإنهما مورد قوة الكشف والدلالة،
بل المراد أقوائية أحد الخبرين بأي وجه كان، سواء كان من حيث ملاك حجيته
ودليليته، كالأعدلية والأورعية والأصدقية أو من حيث دلالته وكاشفيته، كالأظهر
مثلا، وكالمنقول باللفظ في قبال المنقول بالمعنى، أو من حيث مضمونه
418

كالموافقة للكتاب، والمخالفة للعامة، والمطابقة للشهرة الفتوائية، فإنه إذا لوحظ
فناء الدال على مدلوله، كان الخبر موصوفا بالأقربية إلى الواقع، لكون مضمونه
أقرب إلى الواقع.
بل يمكن أن يقال: إن الشهرة الفتوائية إذا كانت مستندة إلى أحد الخبرين - مع
ظفر المشهور بمعارضه - من دون وجه للجمع الدلالي، تكون كاشفة عن وجود
أحد المرجحات المنصوصة فيه، إذا كان بناؤهم على عدم التعدي، أو عن أقربية
مضمونه - عندهم - إلى الواقع، إذا كان بناؤهم على التعدي.
الا أنه، إنما يجدي إذا كان كاشفا قطعيا عن ذلك، والا فمجرد الظن بالمرجح -
بالمعنى الأخص أو الأعم - يحتاج إلى دليل على لزوم اتباعه في المرجحية.
قوله: والصدق واقعا لا يكاد يعتبر... الخ.
حتى يكون لازم الظن - بصدق الموافق، والظن بكذب المخالف - الظن
بحجية الأول، والظن بعدم حجية الآخر، الا أنه تقدم منه (رحمه الله) في ذيل
الأخبار العلاجية ما ينافي هذا الكلام (1)، وإن كان الحق ما أفاده - قدس سره - هنا،
كما نبهنا عليه هناك.
قوله: ضرورة أن استعماله في ترجيح... الخ.
يمكن أن يقال: أن معنى (إن دين الله لا يصاب بالعقول) (2) هو أن مثل القياس
لا يكون طريقا شرعا، وواسطة في إثبات حكم من الأحكام - فرعيا كان أو أصوليا
- ومقتضاه أن الظن القياسي لا يثبت به شرعا وجوب، ولا حرمة، ولا حجية، ولا
مرجحية، وهنا كذلك، إذ الحكم الفرعي من الوجوب والحرمة يثبت بالخبر
الموافق ومرجحية الظن القياسي يثبت بأدلة الترجيح المتكفلة أمر حجية كل ما
يوجب الأقربية إلى الواقع، فليس القياس واسطة في اثبات حكم ديني - فرعي
أو أصولي - حتى يقال: إن دين الله لا يصاب العقول.

(1) الكفاية ج 2 ص 393 - 395.
(2) بحار الأنوار ج 2: الباب 34 من كتاب العلم ص 303: حديث 41.
419

نعم: كما إن الأدلة المانعة - عن العمل بالقياس - توجب خروج الظن القياسي
عن تحت الدليل الدال على حجية كل ظن، كذلك، توجب خروجه عن تحت أدلة
الترجيح بكل ما يوجب الأقربية إلى الواقع، فكما ليس له الحجية، كذلك ليس له
المرجحية.
ولا يجدي دعوى الفرق بأن نسبة أدلة الترجيح إلى دليل المنع عن القياس،
بالعموم من وجه، بخلاف دليل الحجية، فان النسبة بينها وبين دليل المنع
بالعموم المطلق. وذلك بعد التسليم وعدم كون دليل المنع أظهر من دليل
الترجيح نقول: إن مقتضى القاعدة التساقط في مادة الاجتماع، فلا دليل على الترجيح بالظن القياسي.
قوله: فالمعارض المخالف لأحدهما إن كانت... الخ.
توضيح المقام: أن مخالفة الخبر للكتاب إما بالتباين أو بالعموم والخصوص
المطلق، أو بالعموم من وجه، فان كانت بنحو التباين فهما:
تارة متفاوتان بالنصوصية والظهور، فيقدم النص والأظهر - سواء كان الكتاب
نصا أو أظهر أو كان الخبر كذلك، فان حمل الظاهر على النص والأظهر بمقتضى
القاعدة العرفية في باب المحاورات لا يختص بشئ وعليه، فالخبر المخالف
الذي هو مقدم في حد ذاته لنصوصيته أو أظهريته لا يطرح لمخالفته مع الكتاب،
لو كان وحده.
إنما الكلام في ابتلائه بمزاحم مثله في النصوصية والظهور، ومقتضى القاعدة
الأولية التساقط، وإن كانت النتيجة مع الموافق عملا.
وأما بمقتضى أدلة الترجيح، فاللازم تقديم الخبر الموافق لظاهر الكتاب، بل
لعله القدر المتيقن من مورد الترجيح، فتدبر.
وأما إذا كان الكتاب نصا أو أظهر من المخالف، فهو مورد سقوط المخالف عن
الحجية رأسا، بحيث لو كان وحده ما صح الأخذ به، فإنه القدر المتقين من
420

الأخبار الدالة على أنه زخرف، وباطل، وقد مر (1) أنه من باب تمييز الحجة عن
اللا حجية، لا من باب الترجيح بموافقة الكتاب.
وتوهم أن مثله عديم المورد، أو قليلا جدا، فلا معنى لحمل أخبار كونه زخرفا
وباطلا عليه، مدفوع: بأن قلته أو عدمه إنما هو بعد تهذيب الأخبار وتنقيحها عن
مثله، والا كان مثله كثيرا عند صدور هذه الأخبار.
ودعوى أن جعل ما يخالف نص الكتاب لا يكاد يصدر من عاقل، حيث لا
يترتب عليه الغرض... مدفوعة بأن الغرض من جعله ودسه في الأخبار ليس
الأخذ به، بل لإسناد الأباطيل إليهم - عليهم السلام - وصرف الناس عنهم - عليهم
السلام.
وأخرى: متساويان في النصوصية والظهور، فان كانا نصين، فهو من موارد
كونه زخرفا وباطلا، وبلحاظ معارضته بالخبر الموافق، من موارد تمييز الحجة عن
اللا حجة كما مر.
وإن كانا ظاهرين، فان كان المخالف وحده، فهو غير داخل في مورد الترجيح
موضوعا، لعدم المقابل له، كما أنه لا يعمه ما دل على أنه زخرف وباطل، لأن
ورود ما ينافي بظاهره بظاهر القرآن غير عزيز، بل أغلب التفاسير الواردة التي لا
يساعدها ظاهر الكتاب كذلك.
نعم إذا كان في قباله خبر دخل في مورد الترجيح بموافقة الكتاب، وبابه باب
ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى بوجود مزية لها، وهي الموافقة لظاهر
الكتاب هذا.
وإن كانت المخالفة بنحو العموم والخصوص المطلق، فالخاص بحيث لو كان
وحده يؤخذ به ويخصص به عموم الكتاب ولا يعد مخالفا للكتاب، ليندرج
تحت ما دل على أنه زخرف، وباطل، كما مر في رواية العيون.
نعم حيث كان في قباله خبر معارض له فلا بد من تقديم الموافق، لكونه ذا

(1) راجع ص 365.
421

مزية بموافقته لظاهر الكتاب، وبابه باب ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى.
ولا وجه لدعوى أن أدلة الترجيح كالمقبولة والمرفوعة، وأدلة العرض على
الكتاب كلها من باب تمييز الحجة عن اللا حجة، فإنهما مرفوعان عن لسان واحد،
وذلك لخلو المقبولة والمرفوعة عن مثل تلك التعبيرات، بل ظاهرها أن الخبر
بحيث لو كان وحده لأخذ به وإن لم يوافق الكتاب.
وإن كانت المخالفة بنحو العموم من وجه، فالأمر من حيث القاعدة، وفرض
انفراد المخالف، ما يقتضيه غير هذا المورد، ولا يشمله أدلة العرض على
الكتاب، إذ ليس في المخالف الا المخالفة لظاهر الكتاب عموما، وهو غير عزيز،
ومن حيث الترجيح بموافقة الكتاب يؤخذ بالخبر الموافق لمكان مزية الموافقة
لظاهر الكتاب.
ومن جميع ما ذكرنا تبين مواقع النظر في ما افاده - قدس سره - في الصور
الثلاث، فتأمل جيدا.
422

الاجتهاد والتقليد
423

" تعريف اصطلاحي من الاجتهاد "
قوله: ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم... الخ.
بل المناسب لمفهومه هو استنباط الحكم من دليله، وهو لا يكون الا عن
ملكة. فالمجتهد هو المستنبط عن ملكة. وهو موضوع الاحكام باعتبار انطباق
عنوان الفقيه والعارف بالأحكام عليه، لا أنه من الملكات واستفادة الحكم من
اثارها - كما في ملكة العدالة والشجاعة والسخاوة -
كما أنه تختلف هذه القوة مع سائر الملكات بحصول تلك الملكات - أحيانا -
من الافعال المسانخة لآثارها التي تكون تلك الملكات مصادرها بخلاف القوة
على الاستنباط فإنها تحصل دائما بسبب معرفة العلوم التي يتوقف عليها
الاستنباط، لا نفس الاستنباط فإنه يستحيل بلا قوة عليه.
ولا يخفى أنه ليست ملكة الاستنباط الا تلك القوة الحاصلة من معرفة ما ذكره،
لا قوة أخرى تسمى بالقوة القدسية وأنها نور يقذفه الله في قلب من يشاء، فان
الاجتهاد - بمعنى " استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم " ممكن
الحصول للعادل، والفاسق والمؤمن والمنافق، لتسببه عن اعمال القوة النظرية
الحاصلة من اتقان العلوم النظرية الدخيلة في تحصيل الحجة على الحكم، من
دون حاجة إلى قوة قدسية الهية أو قذف نور منه تعالى في قلب المستنبط، وإن
كان كل قوة وكمال علمي أو عملي منه تعالى.
وتفاوت أرباب العلوم النظرية في جودة الاستنباط وسرعته من ناحية جودة
الفهم واتقان المقدمات.
نعم تزيد هذه القوة بأعمالها في الاستنباط كما في سائر الملكات فتدبر.
425

" تقسيم الاجتهاد إلى مطلق ومتجزى "
قوله: فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به... الخ.
قد عرفت أنفا أن الاجتهاد عمل يحصل من القوة المزبورة، لا نفسها، الا أن
المطلق منه - اصطلاحا - في قبال التجزي ليس الا بالمعنى المذكور، لوضوح أن
المقتدر على استنباط الكل ولو لم يستنبط الا لبعض مجتهد مطلق لا متجز.
وليعلم أن المجتهد - بعنوانه - لم يقع موضوعا للحكم في آية ولا في رواية،
بل الموضوع في الروايات هو الفقيه (1) والراوي (2)، ومن يعرف أحكامهم (3)
عليهم السلام أو شيئا منها (4).
واجمع رواية في هذا الباب مقبولة عمر بن حنظلة حيث قال عليه السلام:
ينظر إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف
أحكامنا فليرضوا به حكما الخبر (5).
فإنه ربما أمكن أن يقال إنه مخصوص بالمجتهد اصطلاحا، نظرا إلى قوله عليه
السلام: (ونظر في حلالنا وحرامنا) فان النظر في الشئ هو النظر العلمي في قبال:
النظر إلى الشئ، فإنه بمعنى الرؤية والابصار، ولذا ورد في حكاية الخليل عليه
السلام: أن المراد من قوله تعالى: (فنظر نظرة في النجوم فقال اني
سقيم) (6).
وعليه فالمراد من المقبولة - والله تعالى اعلم: ان القاضي يجب أن يكون ممن

(1) الوسائل ج 18 ص 94 حديث 20.
(2) الوسائل ج 18 ص 101 حديث 9.
(3) المقبولة الآتية.
(4) الوسائل ج 18 ص 4 حديث 5.
(5) الوسائل ج 18 ص 98 باب 11 من أبواب صفات القاضي: حديث 1.
(6) الصافات: 88.
426

يستند في قضائه إلينا، بروايته عنا وحيث إن الرواية تجامع عدم الدراية - ولذا
ورد عنهم عليهم السلام رب حامل فقه وليس بفقيه أو إلى من هو أفقه منه (1) -
فلذا قال عليه السلام: (ونظر في حلالنا وحرامنا) وحيث أن النظر فيهما يجامع
عدم التمكن من تطبيق الكليات على مواردها فلذا قال عليه السلام: (وعرف
أحكامنا) ولم يقل: وعلم أحكامنا: إذ العلم لا يتعلق الا بالكلي، والمعرفة تتعلق
بالشخصي، ولو قلنا إن المعرفة أعم فالوجه بالترتب المزبور أن النظر في مضمون
الرواية ربما يجامع عدم الوقوف التام على المرام كما يقال نظرت في كتاب كذا
وتأملته ولم أتحصل معناه.
ثم اعلم أن المعتبر في موضوع تلك الأحكام مجرد صدق الفقيه والعارف
بالأحكام، ومن الواضح أن العارف بها بمجرد السماع من المعصوم عليه السلام
شفاها من دون اعمال قوة نظرية في تحصيل معرفتها - كجل الرواة دون أجلائهم
- مما لا ريب في ترتب الاحكام المزبورة عليه وإن لم يصدق عليه عنوان
المجتهد.
نعم في زمان الغيبة لا يمكن تحصيل المعرفة بأحكامهم عليهم السلام الا
بواسطة اعمال القوة النظرية، فيلازم الفقاهة والمعرفة للاجتهاد بمعنى الاستنباط
عن ملكة:
إنما الاشكال في صدق الفقاهة والمعرفة على علم المقلد ومعرفته بعد أخذ
الفتوى من المفتي، نظرا إلى حجية رأي المفتي على المستفتي كحجية الرواية
على المفتي.
فكما أن مقتضى حجية الخبر جعل الحكم المماثل على طبق ما أخبر به
الراوي، كذلك مقتضى حجية الرأي على المقلد جعل الحكم المماثل على طبق
ما يفتي به.
وكما أن المجتهد يعلم الحكم الفعلي لحجية مدركه عليه كذلك المقلد يعلم

(1) الوسائل ج 18 ص 63 من أبواب صفات القاضي: حديث 43 و 44.
427

الحكم الفعلي لحجية الفتوى عليه.
ودعوى سلب العلم والمعرفة في مرحلة التقليد - فيقال انه ليس بعالم بل
اخذه تقليدا من فلان - صادقة فيما لا دليل على حجية رأيه وقوله، كالتقليد
المذموم في الآيات والروايات.
إلا أن يقال إن المقلد ليس بعالم بقول مطلق عند العرف بل عالم بحكمه في
رأي مجتهده، ولذا لا يكون رجوع الجاهل إلى مثله في سائر المقامات من باب
الرجوع إلى العالم وأهل الخبرة بل من باب الرجوع إلى الناقل لما علمه من أهله
إذا كان ثقة في نقله فتدبر جيدا.
قوله: وأدلة جواز التقليد انما دلت على جواز... الخ.
يمكن أن يقال يصدق العلم والمعرفة على مجرد قيام الحجة شرعا أو عرفا، أو
عقلا على أحكامهم عليهم اسلام، كما يشهد له اطلاق المعرفة على مجرد
الاستفادة من الظواهر في قوله عليه السلام (يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله) (1)
وقوله عليه السلام (أنتم أفقه الناس إذا عرفت معاني كلامنا) (2) إذ ليس هناك
بحسب المتعارف الا الاستفادة من ظاهر الكتاب وظاهر كلامهم عليهم السلام،
مع وضوح أن حجية الظاهر ببناء العرف ليس بمعنى جعل الحكم المماثل حتى
يتحقق هناك العلم الحقيقي بالحكم الفعلي، بل بمعنى صحة المؤاخذة على
مخالفته وتنجز الواقع به.
وهكذا الامر إذا قلنا بان الخبر حجة ببناء العقلاء فإنه ليس منهم الا صحة
الاحتجاج به لا جعل الحكم المماثل منهم.
ومنه يتبين أن المعرفة في قوله عليه السلام (وعرف أحكامنا) بعد قوله عليه
السلام (روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا) باعتبار منجزية الخبر بسنده
ودلالته للواقع، فهو عارف بالأحكام لقيام الحجة سندا ودلالة عنده على

(1) الوسائل 1 ص 327: باب 39 من أبواب الوضوء: حديث 5.
(2) الوسائل ج 18 ص 84: باب 9 من صفات القاضي: حديث 27.
428

الاحكام.
بل الظاهر من قوله تعالى (فاسئلوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون) (1).
هو الأمر بالسؤال لكي يعلموا بالجواب، لا بأمر اخر ما وراء الحواب. وليس
صدق العلم على الجواب الا باعتبار حجيته سندا ودلالة.
فالمعلوم بالجواب هو ما سئل عنه، لا الحكم المماثل له، ولذا قلنا بأن الآية
دليل حجية الفتوى والرواية.
وعليه فالمراد بالعلم بالحكم ومعرفته قيام الحجة القاطعة للعذر عليه - سواء
كانت حجة من قبلهم عليهم السلام أو من العرف أو من العقلاء.
ومنه تعرف انه لا حاجة إلى تكلف إرادة العلم بموارد قيام الحجة على
أحكامهم من العلم بها، فان الظاهر من المقبولة وشبهها معرفة أحكامهم عليهم
السلام، لا معرفة موارد قيام الحجة عليها.
" جواز تقليد الانسدادي وعدمه "
قوله: وقضية مقدمات الانسداد ليست... الخ.
تحقيق المقام وتنقيح المرام أن الاحكام تختلف، فبعضها يختص بالمجتهد
كجواز الافتاء ونفوذ القضاء، وبعضها الآخر وان كان يعم المجتهد والمقلد لكنه
اخذ في موضوعه ما يوجب عدم فعلية الحكم الا بالنسبة إلى المجتهد، كوجوب
تصديق العادل، ووجوب الاخذ بالراجح من الخبرين، والتخيير بين المتساويين
منهما، وحرمة نقض اليقين بالشك.
فان المجتهد هو الذي جاءه النبأ، وهو الذي جاءه الحديثان المتعارضان وهو
الذي أيقن بالحكم الكلي وشك في بقائه، دون المقلد الغافل عن كل ذلك.
فحينئذ إن كان للحكم المزبور مساس عملا بالمجتهد صار الحكم بفعلية عنوان

(1) الأنبياء: 7 والنحل 43.
429

موضوعه فعليا في حق المجتهد، وإن لم يكن له مساس عملا به بمقلده فلا
معنى لفعلية الحكم بالإضافة إلى المجتهد إذ ليس له تصديق عملي ولا نقض
عملي.
بل المجتهد بأدلة جواز الافتاء والتقليد نائب عن المقلد الذي للحكم مساس
به عملا، فالنبأ الذي له مساس بالمقلد يكون وروده على المجتهد بمنزلة وروده
على المقلد وهكذا، ويكون فتوى من جاءه النبأ متمما لفعلية الحكم في حق
المقلد، فالمجتهد وإن كان من حيث أنه جاءه النبأ محكوما بالتصديق الا أنه
محكوم به عنوانا والمقلد محكوم به لبا، وهكذا يكون المجتهد مكلفا بإبقاء
اليقين عنوانا والمقلد مكلفا به لبا. هذا بناء على جعل الحكم المماثل.
وأما بناء على تنجيز الواقع فنقول: إن قيام المنجز عند المجتهد بأدلة جواز
التقليد بمنزلة قيامه عند المقلد، فالفتوى متمم لمنجزية الخبر مثلا للواقع على
المقلد.
ومنه يعرف حال الحجة العقلية والأصول العقلية التي ليس شأنها الا المنجزية
أو المعذرية، فان المقلد العامي حيث أن لا خبرة له بحقائقها ومجاريها وموارد
تطبيقها على مصاديقها، وإمكان تصرف الشارع في مواردها نفيا وإثباتا فلذا أنيط
كل ذلك بنظر المجتهد بأدلة جواز التقليد في كل حكم كلي واقعي أو ظاهري.
واما فرض استقلال عقل العامي بخلاف ما استقل به عقل المجتهد فهو
كفرض قطع العامي بالحكم على خلاف قطع المجتهد به، فإنه وان كان المتبع
عقله وقطعه، الا أنه أجنبي عما نحن فيه من لزوم التقليد في ما لا طريق للمقلد
إليه.
نعم يمكن الخدشة في قصور دليل التقليد - كالمقبولة (1) - عن شموله لمعرفة
الحكم بالمعنى الأعم من قيام الحجة الشرعية والعقلية، نظرا إلى أنها غير منبعثة
عن رواياتهم.

(1) الوسائل ج 18 ص 91 باب 11 من صفات القاضي: الحديث 1.
430

مع اقتضاء الترتيب المذكور في المقبولة كون معرفة الاحكام عقيب النظر في
الحلال والحرام منبعثة عن الروايات الواردة عنهم عليهم السلام.
ولا منافاة بين كون الظن بالحكم - سواء كان متعلقا بالواقع أو بمؤدى الطريق -
حجة عقلا على الظان أو حجة شرعا بنحو الاستكشاف من مقدمات الانسداد،
وكون مثله غير مشمول للمقبولة لعدم كون هذه المعرفة بالمعنى الأعم ناشئة من
الرواية، والمعرفة التي أنيطت بها حجية الفتوى معرفة خاصة.
وهذا غير كون الرجوع إلى مثله من باب رجوع الجاهل إلى الجاهل لا إلى
العالم، فإنه يندفع بالتوسعة في المعرفة.
الا أن التقليد منوط بمعرفة خاصة لا بمطلق المعرفة لكنه بعد لزوم التعدي
إلى المعرفة الحاصلة من ظواهر الكتاب ومن الاجماع المحصل يعلم أن الفرض
كونه عارفا بأحكامهم عليهم السلام وأن ذكر رواية الحديث لكونها الغالب من
طرق معرفة الاحكام، وأنه في قبال الاستناد إلى القياس والاستحسان المعمول
عند العامة. والله أعلم.
قوله: ولو سلم أن قضيتها كون الظن المطلق... الخ.
نظرا إلى أنه ظن خاص بالإضافة إلى الظان لا إلى غيره.
ويندفع والشك في الحكم الكلي أيضا كذلك، فكما أن يقين المجتهد وشكه
بمنزلة يقين المقلد وشكه بأدلة جواز التقليد كذلك ظنه بالحكم الكلي المفروض
كونه حجة شرعا بمنزلة ظن المقلد به بأدلة التقليد، وإن كان قصور المقدمات عن
شمولها لحجية الظن على غير الظان، فهو مسلم الا أن المعمم له والمتمم لحجيته
بالنسبة إلى المقلد أدلة التقليد كما أن الاستصحاب المتقوم باليقين والشك
كذلك.
والتحقيق أن مورد التقليد عنده - قدس سره - ما إذا علم بالحكم ليكون
التقليد من باب رجوع الجاهل إلى العالم، وحيث أنه في الظن الانسدادي بناء
على الحكومة لا علم بالحكم - حيث لا حكم مماثل لما ظن به من الحكم - فلا
431

معنى للتقليد.
وأما بناء على الكشف واستكشاف حجية الظن شرعا فمقتضاه جعل الحكم
المماثل على طبق المظنون، فيتحقق مورد التقليد، ويكون الرجوع حينئذ من
باب رجوع الجاهل إلى العالم لا إلى الجاهل، كما في الحكومة، ولا موجب لعدم
شمول أدلة التقليد الا قيام الظن بالمجتهد وقصور دليل جواز التقليد عن شمول
الظن الذي يختص بالظان.
ولا يقاس بالخبر، فإنه حجة على الكل، والمجتهد يكون له خصوصية الظفر
بالحجة عليه وعلى مقلده، فلا قصور من هذه الحيثية لأدلة التقليد وشموله لمثله.
بخلاف الظن القائم بالظان، فإنه حجة على من تحقق له الظن وهو المجتهد
فقط.
والجواب - بعد النقض بالاستصحاب المتقوم باليقين، والشك القائمين
بالمجتهد مع أنه لم يستشكل فيه - هو أن المقدمات تقتضي حجية الظن المتعلق
بالحكم - فإذا تعلق الظن بحكم الغير وكان على طبقه حكم مماثل مجعول فلا
مانع من شمول أدلة التقليد له. ومع تمامية المقدمات بالإضافة إلى مثل هذا الظن
لا موجب لعدم حجيته، والاقتصار على الظن المتعلق بحكم نفسه بملاحظة قيام
الظن به، فان قيامه به لا يقتضي عدم كونه حجة على حكم الله تعالى في حق
الغير، ولعله أشار قدس سره إلى بعض ما ذكرنا بالأمر بالتأمل فتدبر.
قوله: نعم الا أنه عالم بموارد قيام الحجة... الخ.
قد مر أن الظاهر من المقبولة أن يكون المرجع عارفا بأحكامهم عليهم السلام،
لا عارفا بموارد قيام الحجة على أحكامهم عليهم السلام، فتفسير المعرفة بالحجة
القاطعة للعذر أولى من التصرف المزبور، وما هو المسلم عند العقلاء ليس الا
رجوع من ليس له الحجة إلى من له الحجة، لا خصوص الجاهل إلى العالم.
قوله: رجوعه إليه فيها أنما هو لأجل... الخ.
الا أنه يجدي بعد فرض الشك مثلا من المقلد، غاية الأمر (أن) عجزه الفحص
432

عما يوجب زوال شكه يقتضي الرجوع إلى القادر.
واما مع عدم الالتفات منه فلا موضوع للأصل الجاري في حقه حتى يكون له
الرجوع إلى من كان قادرا على ما يوجب استقرار شكه، بل الحق فيه ما مر (1)،
فراجع.
قوله: الا ان يدعي عدم القوم بالفصل... الخ.
وانما لم يدع ذلك في التقليد، لأن ملاكه الرجوع إلى العالم، فلا معنى لالحاق
غيره به، بخلاف نفوذ الحكم فإنه ليس بذلك الملاك، بل بملاك تعبدي يقبل
التوسعة والتضييق، إذ ليس في البين الا ظهور (عرف أحكامنا) في المعرفة
الحقيقية، وبعدم القول بالفصل يعلم أن الملاك أوسع، وأنه مجرد الحجة على
الحكم.
إلا أنك قد عرفت عدم الحاجة في التوسعة إلى عدم القول بالفصل.
قوله: الا أن يقال بكفاية انفتاح باب العلم... الخ.
هذا أيضا لما ذكرنا من أن ملاك جواز التقليد إذا كان رجوع الجاهل إلى العالم
فعلمه بغير مورد التقليد لا يعقل أن يكون محققا لرجوع الجاهل إلى العالم في
مورد الرجوع إليه.
بخلاف علمه بجملة من الأحكام فإنه يمكن أن يكون مناطا لنفوذ قضائه وإن
لم يكن له علم حقيقة ببقية الاحكام.
نعم إذا كان مورد النزاع شبهه حكمية فلعلمه ومعرفته دخل في نفوذ قضائه
في موردها، وظاهر المقبولة (2) التي امر فيها بالرجوع إلى مستند الحكمين ذلك
أيضا.
فالمراد من قوله عليه السلام إذا حكم بحكمنا بضميمة صدرها - أنه إذا حكم
بما عرفه من أحكامنا، فلا يشمل ما إذا لم يكن له طريق إلى حكمهم عليهم

(1) من أنه من باب النيابة، لا رجوع الجاهل إلى العالم. ص 429.
(2) الوسائل ج 18 ص 99 الحديث 1.
433

السلام، فلا بد من الجواب بصدق المعرفة كلية على قيام الحجة على أحكامهم
عليهم السلام.
مع امكان دعوى أن المراد: إذا قضى بقضائنا، اي بالموازين الثابتة عندنا
لفصل الخصومة في مقام الحكومة، فلا نظر له إلى أن المتعلق للقضاء ما عرفه من
أحكامهم عليهم السلام.
وأما ما في المتن بتوجيهه إلى أن حكم مثله حكمهم عليهم السلام حيث أن
منصوب منهم، فهو يناسب إرادة القضاء من مدخول الباء، لا المقتضي به، وهو
خلاف الظاهر.
وبالجملة فرق بين أن يقال قضائه قضائهم عليهم السلام، حيث أنه من قبلهم
عليهم السلام، وأن يقال ما قضى به منهم، فإنه لا يكون الا بما عرفه من أحكامهم
عليهم السلام التي وقع عليها القضاء، فتدبر.
" في إمكان التجزي "
قوله: بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادة... الخ.
لا يخفى عليك أن محذور الطفرة لا يدور مدار كون الملكة المطلقة متفاوتة
مع غيرها بالشدة الضعف، وحصول المرتبة الشديدة مسبوق بحصول المرتبة
الضعيفة، والا لزم الطفرة، بل لو كانت متفاوتة بالزيادة والنقص - كما هو الحق -
للزم المحذور المزبور، لحصول الزيادة بالتدريج عادة فيلزم الطفرة مع عدم سبق
الزائد بالناقص.
وأما أنهما متفاوتتان بالزيادة والنقص فلان معرفة كل علم من العلوم النظرية
توجب قدرة على استنباط طائفة من الاحكام المناسبة لتلك المبادئ -
كالأحكام المتوقفة على المبادئ العقلية أو المتوفقة على المبادئ اللفظية -
فالقدرة الحاصلة على استنباط طائفة غير القدرة الحاصلة على استنباط طائفة
434

أخرى، لا أن معرفة بعض المبادئ توجب اشتداد القدرة الحاصلة بسبب مباد
آخر، والأقوائية كما تكون بالشدة والضعف، كذلك بالزيادة والنقص، فان
التشكيك غير الاشتداد، وما يختص بالشدة والضعف هو الاشتداد الذي هو
الحركة من حد إلى حد.
وعليه فليس التجزئ منافيا لبساطة الملكة، بتوهم أن البسيط لا يتجزئ ولا
يتبعض، فان كل قدرة بسيطة وزيادتها توجب تعدد البسط، لا تبعض البسيط.
ويمكن أن يقال أن النفس بالإضافة إلى معقولاتها كالمادة بالنسبة إلى الصورة.
فالنفس - بحسب الفطرة الإلهية عقل هيولاني، وصيرورتها عقلا بالفعل
بمعدات لذلك، فعدم التعقل بالفعل لا لعدم قابلية النفس، بل لعدم السبب أو
المعد.
كما أن القوة البدنية المنبثة في العضلات قوة على كل ما يناسب تلك العضلة
من قبض وبسط، ومعرفة الكتابة والخياطة لا توجب شدة قوة اليد ولا زيادتها، بل
معدة لتأثير السبب وصيرورة ما بالقوة فعليا، فكذا معرفة العلوم النظرية معدة
لفعلية الاستنباط وصيرورة العقل الهيولاني - بالإضافة إلى الأحكام الشرعية -
عقلا بالفعل، لا أنها تحدث في النفس قوة على معرفة تلك الأحكام، أو اشتداد
قوتها أو زيادتها، فليس ما وراء النفس - التي هي عقل هيولاني بحسب فطرتها -
ملكة أخرى ليقال أنها بسيطة وأن البسيط لا يتجزئ أو انها مسبوقة بالضعف أو
النقص لئلا يلزم الطفرة، وهذا طور آخر من الكلام وبالله الاعتصام.
قوله: الا أن قضية أدلة المدار... الخ.
فإنه الذي جاءه النبأ، أو تيقن فشك أو جاءه الحديثان المتعارضان،
والمفروض قدرته على الأخذ به ودفع معارضاته.
وعدم قدرة على امر آخر أجنبي عن معرفة هذه الأحكام، غير ضائر بفعلية
الاستنباط في مفروض المقام، فلا موجب لاختصاصه بالمطلق القادر على
استنباط بقية الأحكام مع غرض عدم الارتباط بينهما كما لا يخفى.
435

" في رجوع الغير إلى المتجزي "
قوله: وهو أيضا محل الاشكال... الخ.
لا يخفى أن قضية الفطرة والسيرة الآتيتين (1) لا يعقل اختلافها بعد ما هو
المعلوم من ملاكها، وهو كون الشخص عالما في ما يرجع إليه، سواء علم غيره مما
لا دخل له به أم لا.
واما الأدلة اللفظية فتحقق الحال فيها: أن المأخوذ في موضوعها عنوان الفقيه
والعارف بالأحكام ولازمه اعتبار مقدار من الفقاهة والمعرفة بحيث يصدق على
المرجح أنه فقيه وعارف بالأحكام.
فربما يكون ذا ملكة مطلقة، ولا يجوز تقليده لعدم استنباط الحكم رأسا أو
بمقدار غير متعد به، وربما لا يكون ذا ملكة مطلقة لكنه قد استنبط مقدارا معتدا
به بحيث يصدق عليه أنه فقيه أو عارف بالأحكام فيجوز تقليده، لصدق عنوان
اخذ في موضوع دليل الرجوع إليه.
فعدم وجدان ملكة استنباط باقي الاحكام لا يخل بصدق الفقيه والعارف كما
أن وجدان ملكة الكل لا يجدي في صدق الفقيه والعارف.
ودعوى أن الملكة المطلقة لا تحصل عادة الا بعد مزاولة استنباط جملة معتد
بها من الاحكام، فالملكة المطلقة ملازمة لصدق الفقيه والعارف، دون ملكة
البعض.
مدفوعة بأن ملكة استنباط كل حكم لا بد من حصولها قبله، وملكة استنباط
غيره لا يعقل حصولها عن استنباط الأجنبي عنه، بل عن العلوم التي هي
كالمبادئ لها، فما استنبطه صاحب الملكة المطلقة ليس عن ملكة مطلقة، فلا
حصول الملكة المطلقة بمزاولة الاستنباط، ولا استنباط مثله عن ملكة مطلقة،
فبعد فرض فعلية الاستنباط بمقدار معتد به يكون المطلق والمتجزئ على حد

(1) البحث عن السيرة في ص 460 والبحث عن الفطرة في ص 462.
436

سواء، كما أنه مع عدمها كذلك، فتدبر جيدا.
فان قلت: إذا كان صاحب الملكة المطلقة - مع عدم الاستنباط بمقدار معتد به
- لا يصلح للمرجعية فيجوز له التقليد في عمل نفسه، أيضا، فإنه غير مجتهد اي
غير مستنبط عن ملكة بالمقدار اللازم، مع أن المعرفة عدم جواز التقليد له، وتعين
الاجتهاد عليه.
قلت دليل الصلوح للمرجعية غير دليل جواز التقليد. فالمرجع يجب ان
يكون فقيها وعارفا واما من لم يكن فقيها ولا عارفا يجب عليه التقليد أم لا؟ فهو
أمر آخر. وقد حققنا في محله أن من يتمكن من الاستناد إلى الحجة يصح توجه
الاحكام إليه، ولا يجوز له الاستناد إلى من له الحجة. ولعلنا نتكلم فيه إن شاء الله
تعالى في مباحث التقليد.
" في حكومة المتجزي وفصل خصومة "
قوله: وأما جواز حكومة وفصل خصومته فأشكل... الخ.
وجه كونه أشكل وجود مثل الفطرة، والسيرة في مرحلة التقليد، دون
الحكومة.
وقد عرفت أن صدق المعرفة والفقاهة - بمقدار معتد به - لازم على أي حال،
وبعد صدقه فاعتبار بقية الاحكام بلا موجب، كما لا موجب للاكتفاء بمجرد
الملكة المطلقة، عن مقدار معتد به من المعرفة، خصوصا في الحكومة التي
ينحصر دليلها في التعبد، وظاهر قوله عليه السلام (عرف أحكامنا) فعلية
المعرفة، لا قوة معرفتها كما هو واضح.
ولا يخفى أن مشهورة أبي خديجة (1) ليست بأوسع دائرة من المقبولة (2)

(1) الوسائل ج 18: ص 4: باب 1 من صفات القاضي: حديث 5.
(2) الوسائل ج 18: ص 99: حديث 1.
437

بتوهم قوله عليه السلام (يعلم شيئا من قضايانا أو من قضائنا) - على اختلاف
النسخ - فان المراد معرفة شئ معتد به لا معرفة قضاء واحد.
وتوهم أن حرف الابتداء للبيان لا للتبعيض فلا بد من معرفة جميع قضاياهم لا
مقدار معتدا به، أو معرفة طبيعي قضائهم عليهم السلام، ومعرفة الطبيعة بحدها
لا تكون مع الجهل بمقدار معتد به.
مدفوع بان حرف الابتداء بناء على أن مدخوله (القضايا) ليس للبيان قطعا،
وإلا لقال عليه السلام: " أشياء من قضايانا " ليوافق البيان للمبين به، بل لو كان
مدخوله الطبيعة صح التبعيض بمعنى اقتطاع متعلقه عن مدخوله وان لم يصح
عنوان التبعيض نظرا إلى أن الفرد ليس بعض الطبيعة، بل بناء على كونه للبيان
يصح صدق انه يعلم قضائهم عليهم السلام بقول مطلق إذا علم مقدارا معتدا به.
فتدبر.
" في التخطئة والتصويب "
قوله: ولا يخفى أنه لا يكاد يعقل الاجتهاد في حكم... الخ.
اعلم أن الوجوه المتصورة في المقام - كما يظهر من مجموع الكلام - ثلاثة:
أحدها: أن لا يكون قبل الاجتهاد وحصول الظن حكم أصلا، بل يحدث
الحكم حال حصول الظن به. وهذا هو الذي اشتهر عند الأصحاب من أنه محال
لاستلزامه الدور أو الخلف.
واستلزامه للدور تارة بملاحظة توقف الحكم على موضوعه وتوقف
الموضوع على حكمه وقد بينا في محله من أن الحكم بالإضافة إلى موضوعه من
قبيل عوارض الماهية، لا من قبيل عوارض الوجود فلا تعدد في الوجود بين
الموضوع، وحكمه، بل الحكم متقوم بموضوعه في مرتبة ثبوته، وثبوت
الموضوع بثبوت الحكم في هذه المرحلة.
438

وأخرى بملاحظة أن مثل العلم أو الظن بالحكم ليس كالفعل مطلوبا بطلبه
حتى يكون مقوما للحكم في مرحلة ثبوته لئلا يكون تعدد في الوجود، بل
مقتضاه جعل الحكم في فرض العلم أو الظن بحقيقة الحكم، ولازمه ثبوت الحكم
قبل ثبوت نفسه وهذا محذور الدور، وهو تقدم الشئ على نفسه، وان لم يكن
عين الدور المبني على فرض موجودين يتوقف كل منهما على الاخر.
وقد دفعناه في محله بان فرض الثبوت غير الثبوت تحقيقا، فتوقف ثبوته
التحقيقي على فرض ثبوته ليس مقتضاه ثبوت الشئ قبل ثبوت نفسه، بل
مقتضاه ثبوته الفرضي قبل ثبوته التحقيقي.
مع أن العلم بالحكم حقيقة أو الظن به كذلك لا يتوقف على ثبوته التحقيقي،
لأن ما هو حكم بالحمل الشائع، لا يعقل أن يكون مقوما لصفة العلم، بل المعلوم
بالذات ماهية الشئ لا وجوده، إذ العلم نحو من الوجود والوجود لا يعقل أن
يكون معروضا للوجود - سواء كان العارض مماثلا للمعروض أو مقابلا له، فان
المماثل لا يقبل المماثل والمقابل لا يقبل المقابل.
ومنه تعرف انه - لا خلف إذ التقدم والتأخر بالطبع بين العلم والظن وماهية
المعلوم والمظنون، دون وجودهما، فما هو المتقدم بالطبع ماهية الحكم، وما هو
المتأخر عن العلم والظن وجوده الحقيقي، كيف والحكم قائم بالحاكم ومقوم
العلم قائم بالعالم.
هذا كله بالإضافة إلى جعل الحكم على طبق ما يعتقده القاطع والظان عند
حصول القطع أو الظن، وما بالإضافة إلى الملتفت إلى أنه لا حكم قبل العلم
والظن ففيه محذور، فان من يعتقد انه لا حكم له قبل اعتقاده كيف يعقل منه
اعتقاد الحكم، لأنه من اجتماع النقيضين وجعل الحكم المبني عليه محال لأن
المبني على المحال محال.
الا أن يفرض كون العلم بالمقتضي ثبوتا شرطا في تأثيره فبمجرد العلم تتم
العلة لثبوت الحكم، فيكون جعل الحكم مقارنا زمانا مع العلم به، للعلم بتمامية
439

علته.
لكنه يصح في العلم بالحكم المنبعث عن العلم بمقتضيه ثبوتا لا عن العلم
بمقتضيه اثباتا، فإنه لا يكون الا مع جعل الحكم قبل العلم به.
والتحقيق أن نفس هذا الفرض غير خال عن المحذور، لأن العلم بالمصلحة
مثلا شرط في تأثيرها في جعل الحكم في طرف المولى، لا في ناحية العبد، بل
نفس جعل الداعي كاف في تأثيره في الدعوة من قبل المولى - سواء علم العبد
بالمصلحة أم لا - وليس الشرط الا مصححا لفاعليته (1) أو متمما لقابلية القابل
فتدبره جيدا.
ثانيها: أن يكون الحكم مجعولا قبل حصول الظن مثلا، الا انه على طبق
المظنون، بنحو القضايا الحقيقية، فلا حكم من الأول في حق من لا ظن له به
أصلا.
وهذا هو مورد دعوى الاجماع وتواتر الاخبار على خلافه، وظاهرهم عدم
استلزامه لمحذور عقلي، مع أن الدور أو الخلف إن كان صحيحا لجرى في هذه
الصورة أيضا لأن مبنى توهم الدور والخلف تعلق الظن بوجود الحكم حقيقة لا
بماهيته وعنوانه، فيتوقف الظن بوجود الحكم المجعول على وجوده، ويتوقف
وجوده المجعول على موضوعه المتقوم بالظن بوجوده، فمحذور الدور والخلف
ومحذور فرض ثبوت الشئ قبل ثبوته جار هنا، فلا يمكن عقد قضية حقيقية
متكفلة لترتيب الحكم على المظنون.
والفرق بين الصورتين انه في الصورة الأولى لا حكم قبل الظن، فلو توقف
الحكم على الظن به لزم المحذور، وفي الصورة الثانية لا ظن قبل الحكم فلو
توقف الحكم على الظن به لزم المحذور، الا أن المحذور مندفع في كلا الموردين
بما عرفت.
نعم نظير الاشكال الأخير جار هنا، فان من يلتفت إلى ترتب الحكم على طبق

(1) اي الفاعل، وهو جعل الداعي.
440

ظنه به كيف يظن به، فان فرض مثل هذا الحكم مع فرض الموضوع متنافيان.
الا أن يقال إن الموضوع هو الظن بالحكم اقتضاء، فان من يظن بالمقتضي
فيظن بمقتضاه في مرتبة ذات المقتضي لا بوجوده الخاص في نظام الوجود
والظن بهذا النحو من الثبوت متمم للعلة التامة لثبوت الحكم حقيقة، فلا منافاة
بين الظن بالحكم والقطع بترتب الحكم على طبق المظنون. لكنه يؤل إلى أن
المصلحة بوجودها المظنون علة تامة للحكم، وهو غير معقول لاستحالة انبعاث
المعلول الا عن علة واقعية، لا تقديرية، فلا بد من فرض مصلحة أخرى في الفعل
المظنون كونه ذا مصلحة.
هذا مع فرض لزوم محذور آخر - غير محذور التنافي المذكور - وهو أن الظن
بالحكم معناه الظن بثبوت الحكم لذات المتعلق، فلا يكون مقصورا على طبق
المظنون واما الظن بثبوت الحكم للمظنون بهذا الظن فغير معقول لاستحالة الظن
بثبوت الحكم للموضوع المتقوم بالظن بثبوت الحكم له.
ثالثها: أن يكون هناك حكم واقعي يشترك فيه العالم والجاهل، الا أن الحكم
الفعلي على طبق ما يودي إليه الاجتهاد فربما يتوافق الواقعي والفعلي وربما
يتخالفان، فيكون التصويب في مرحلة الفعلية، لا في مرحلة الواقع.
وهذا المعنى من التصويب بلا محذور، ولا اجماع ولا دليل نقلي على خلافه،
بل كما أفيد هو لازم القول بموضوعية الأمارات وسببيتها (1).
وتوضيح الكلام وتنقيح المرام يستدعي زيادة بسط في الكلام.
فنقول: وبالله الاعتصام: مسلك شيخنا قدس سره في هذا الموضوع من
الكتاب كما في آخر مبحث الاجزاء (2) - طبقا لما في تعليقته الأنيقة (3) على
الرسائل - أن الاحكام الواقعية أحكام انشائية، وان فعليتها منوطة بعدم المانع،

(1) راجع الكفاية ج 2 ص 431.
(2) الكفاية ج 1 ص 137.
(3) ص 36 ذيل قول الشيخ قدس سره: " المقصد الثاني في الظن والكلام... ".
441

وأنها في نفسها تجامع الجهل بها، وعليه فالإنشاءات المنبعثة عن مصالح واقعية
محفوظة، سواء كانت هناك مصالح اخر تقتضي الحكم الفعلي على خلافها أم لا،
فلا كسر ولا انكسار في مرتبة الواقع، بل في مرحلة الفعلية، ولأجله لا يلزم
التصويب، سواء كان هناك على خلاف الواقع حكم فعلي أم لا.
إلا أن هذا المنبى غير صحيح عنده - قدس سره - كما أشار إليه في أوائل
مباحث الظن (1)، وأن ما تؤدي إليه الأمارة حكم فعلي من وجه.
وقد وجهناه هناك (2) بان الانشاء بلا داع محال، والانشاء بداع آخر - غير جعل
الداعي - ليس من مقولة الحكم ولا يترقب منه الفعلية البعثية والزجرية بل فعلية
ذلك الانشاء فعلية ما يدعو إليه من ارشاد أو امتحان أو جعل القانون، فلا محالة
لا بد من أن يكون الانشاء المترقب منه البعث والزجر هو الانشاء بداعي جعل
الداعي، وهو الفعلي من قبل المولى.
والمراد من الفعلي من وجه في قبال ما إذا وصل، فإنه فعلي بقول مطلق،
وذلك لأن الانشاء بداعي جعل الداعي قبل وصوله - بنحو من أنحاء الوصول -
يستحيل أن يكون في نفسه صالحا للدعوة، وإن بلغ من القوة ما بلغ، فهو عقلا
متقيد بالوصول.
ومنه يعلم أن عدم فعلية الحكم الواقعي ليس المانعية الحكم الآخر المنبعث
عن مقتض أقوى، بل لعدم الوصول - المنوط به صيرورته باعثا وداعيا - وإن لم
يكن هناك حكم على خلافه، وإن جعل الحكم على خلافه لا يدور مدار أقوائية
مقتضية، بل وإن كان مقتضيه أضعف من مقتضى الحكم الواقعي.
وحيث عرفت أن الحكم الواقعي منوطة عقلا بالوصول - لا شرعا - وأنه لا
مقتضى آخر غير المقتضي الواقعي، لبلوغه مرتبة البعث، فلو فرض هناك حكم
آخر عن مقتض آخر على خلاف المقتضي الواقعي وكان مقتضى الحكم

(1) الكفاية ج 2 ص 52.
(2) نهاية الدراية ج 2.
442

الظاهري غالبا على مقتضى الحكم الواقعي - والغلبة آية التنافي - فلا محالة يسقط
الحكم الواقعي بسقوط مقتضيه عن التأثير فيلزمه التصويب في الواقع، فاما لا
كسر ولا انكسار، وإما يلزم التصويب. فالالتزام بالكسر والانكسار وعدم التصويب
مبني على ذلك المبنى الذي هو غير مرضي عنده قدس سره.
والتحقيق ان فرض التزاحم بين المقتضيين - ليلزم ارتفاع الحكم الواقعي من
البين - هو بنفسه غير معقول، فلا تصويب حتى على القول بموضوعية الأمارات
والإجزاء التام.
بيانه ان المصالح المقتضية لجعل الاحكام الواقعية تتصور على وجوه أربعة:
أحدها: ان تكون المصلحة المقتضية للانشاء بداعي جعل الداعي متقيدة
بعدم الجهل بمقتضاها أو بعدم قيام امارة على خلاف مقتضاها، ففي صورة
الجهل أو قيام الامارة على الخلاف لا مصلحة أصلا، فلا حكم أصلا حتى على
حد ثبوت المقتضي بثبوت مقتضيه، حيث لا ثبوت لمقتضيه، وما بالعرض
يتوقف على ما بالذات.
وهذا من أوضح افراد التصويب فان محذوره محذور تخصيص الحكم
بالعالم، فان مرجع تقيد مقتضاها بالعلم تقيد المقتضي بالعلم بنفسه، ويندرج في
هذا الفرض كلا الوجهين الأولين من الوجوه الثلاثة المتقدمة.
ثانيها: أن تكون المصلحة ثابتة حتى في صورة الجهل بمقتضاها أو قيام
الامارة المخالفة لمقتضاها، فمقتضاها ثابت - دائما - بنحو ثبوت المقتضي
بثبوت مقتضيه، لكن مصلحة الحكم الواقعي مزاحمة في التأثير بمصلحة الحكم
الظاهري وإذا فرض أقوائية الثانية من الأول فلا محالة يسقط مقتضاها، وان كان له
ثبوت اقتضائي.
وهذا هو بعينه مورد اجماع الأصحاب وتواتر الاخبار، فان هذا النحو من
الثبوت ثبوت عرضي لا ثبوت حقيقي.
إلا أن فرض المزاحمة في التأثير غير معقول لأن التنافي المقتضيين في التأثير
443

تناف بالعرض فلابد من تنافي مقتضاهما، وليس مقتضاهما الا الانشاء بداعي
جعل الداعي، لا تنافي بين الانشائين بداعيين، بل التنافي بين بعثين حقيقيين أو
زجرين كذلك أو بعث وزجر كذلك. وأما تنافيهما من حيث انتهائهما إلى جعل
داعيين متماثلين أو متضادين فغير لازم، لان جعل الداعي المعبر عنه بالحكم
الظاهري في ظرف عدم وصول الحكم الواقعي، وهو ظرف عدم البعث الحقيقي
فاما أن يصل الواقع ويكون بعثا حقيقيا فلا موضوع للحكم الظاهري، واما لا
وصول له فلا بعث حقيقي كي يمنع عن بعث على خلافه - في ظرف عدم
وصوله - فبهذا الوجه دفعنا التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري في محله (1).
ثالثها: أن تكون المصلحة المقتضية للحكم الواقعي والمصلحة الباعثة على
الحكم الظاهري متضادتين وجودا، لا متزاحمتين تأثيرا، فمع فرض فعلية الحكم
الظاهري الكاشفة عن أقوائية مقتضيه لا مصلحة للحكم الواقعي لاستحالة وجود
أحد المتنافيين بعد وجود الاخر، فلا حكم واقعي حتى ينحو الثبوت بثبوت
مقتضيه، فيلزم التصويب، وإن كان يستلزم الاجزاء بمعنى عدم الإعادة بموافقة
الامر الواقعي بعد كشف الخلاف، حيث لا يعقل الأمر بالواقع.
الا أن التحقيق عدم لزوم التصويب لان جعل الحكمين مع تضاد المصلحتين
انما يكون مستحيلا إذا لزم منه التسبيب إلى ايجاد المتضادين ولا تسبيب جدا الا
بلحاظ مرحلة البعث، وحيث عرفت أن أحد البعثين في طول الاخر بحيث لا
ينتهي الامر الا إلى بعث فعلي واحد، فلا محالة لا ينتهي امر إلى التسبيب الجدي
إلى ايجاد المتضادين فالانشاء الواقعي بنحو القضايا الحقيقية موجودة في
الطرفين.
وأما عدم فعلية الحكم الواقعي حتى مع وصوله بعد موافقة الحكم الظاهري
فهو لا يستلزم التصويب، لأن سقوط الحكم بعد ثبوته إلى حال حصول ملاكه أو

(1) نهاية الدراية ج 2.
444

إلى حال امتناع ملاكه بوجود ما يضاده أجنبي عن التصويب - بمعنى عدم الحكم
المشترك بين العالم والجاهل - وليس جعل الحكم الواقعي حينئذ لغوا لاحتمال
وصوله قبل موافقة الحكم الظاهري ولو بالإضافة إلى بعض افراد المكلفين.
رابعها: أن تكون المصلحتان متسانختين وتقوم مصلحة الحكم الظاهري مقام
مصلحة الحكم الواقعي، وهو يقتضي الاجزاء من دون لزوم التصويب، لأنه من
باب سقوط الحكم بحصول ملاكه.
هذا كله بالإضافة إلى المصالح الواقعية والظاهرية، من حيث التصويب
والاجزاء.
وأما بالنسبة إلى اجتماع المصلحة والمفسدة في فعل واحد كالجمعة
المحرمة واقعا الواجبة ظاهرا، فالكلام فيها مرتبط بالتصويب فقط دون الاجزاء.
ومجمل القول فيها: أن المصلحة والمفسدة وان كانتا متبائنتين الا أنهما ربما
تكونان متقابلتين وجودا وربما لا تكونان كذلك.
فان كانتا متقابلتين وجودا فلا محالة تندك إحديهما في جنب الأخرى، ففي
الفرض تكون الجمعة بما هي - لو خليت ونفسها - ذات مفسدة وبما هي مجهولة
الحكم مثلا ذات مصلحة، كالكذب الذي - لو خلى وطبعه - يكون قبيحا وبعنوان
انجاء المؤمن حسن، فلا بد من الحكم عليها هنا بالوجوب وهناك بالحسن، فلا
مفسدة في حال الجهل ليكون الحكم الواقعي المنبعث عنها موجودا، فلا ثبوت
للحكم بثبوت مقتضيه أيضا. وهذا الفرض يستلزم التصويب.
وان كانتا متبائنتين فقط فلا تصويب الا من حيث توهم المزاحمة في التأثير.
وبعد ما عرفت من أن الامر لا ينتهي إلى حكمين فعليين - كما فصلناه في
الوجه الثاني - تعرف عدم لزوم التصويب.
وسيجئ إن شاء الله تعالى ما ينافي بعض ما ذكرناه في كلام الشيخ الأعظم
قدس سره. هذا ما ينبغي أن يقال في هذا المجال من حيث التصويب والاجزاء.
445

ولشيخنا العلامة الأنصاري قدس سره في أول مبحث الظن من الرسائل (1)
طور آخر من الكلام لا بأس بايراده في المقام.
فنقول قال - قدس سره - في مسألة التعبد بالامارة على الموضوعية
واشتمالها على مصلحة ما وراء مصلحة الواقع: - انه يتصور على وجوه:
أحدها: ان الحكم مطلقا تابع لقيام الامارة بحيث لا يكون - مع قطع النظر عن
قيامها - حكم في حق الجاهل، فتكون الاحكام الواقعية مختصة بالعالمين بها.
وذكر أن هذا القسم تصويب باطل وتواتر الاخبار والآثار بوجود الحكم
المتشرك، ويندرج تحت هذا القسم ما تقدم من الوجهين الأولين، فان المعروف
استحالة الأول وبطلان الثاني بالاجماع والاخبار.
ثانيها: أن يكون الحكم الفعلي تابعا للامارة بمعنى ثبوت الحكم المشترك
واقعا لولا قيام الامارة على خلافه.
بتقريب أن مصلحة العمل بالامارة غالبة على مصلحة الواقع. فالحكم الواقعي
فعلي في حق غير الظان بخلافه، وشأني في حقه. بمعنى وجود المقتضي لذلك
الحكم لولا الظن بخلافه.
وقد نص هنا بعدم ثبوت الحكم الواقعي في حق الظان بخلافه، بدعوى ان
الصفة المزاحمة بصفة أخرى لا تصير منشأ الحكم، وقد أفاد سابقا ولاحقا بأنه
تصويب، إلا أنه أفاد أيضا بأنه ليس مجمعا على بطلانه، بل أفاد في أواخر كلامه
أن الحكم الواقعي الذي يجب لالتزام بوجوده هو الحكم المنزل المتعلق بالعباد
الذي امر السفراء بتبليغه ويكفي في نحو ثبوته انه لا يعذر فيه إذا كان عالما به أو
جاهلا مقصرا إلى آخر ما افاده قدس سره.
أقول: فرض غلبة مصلحة الحكم الظاهري على مصلحة الحكم الواقعي كما
عرفت سابقا - منحصرا في تزاحمهما من حيث التأثير أو تضادهما من حيث
الوجود، وقد عرفت أنه لو صح أحد الامرين - من المزاحمة في التأثير والتضاد

(1) الرسائل ص 27.
446

في الوجود - للزم التصويب، غاية الأمر أنه على الأول للحكم ثبوت اقتضائي
بثبوت مقتضيه، دون الثاني فإنه ليس له ثبوت أصلا، لعدم ثبوت ملاكه في فرض
وجوده ضده.
إلا أن الذي يسهل الخطب عدم معقولية الفرض من التزاحم والتضاد.
وأما فرض الغلبة بفرض مصلحة في الجمعة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة
الظهر - كما في طي كلامه - قدس سره - في قوله: إن قلت ما الفرق بين هذا الوجه
إلى آخره - أو فرض الغلبة بفرض تدارك مفسدة مخالفة الحكم الواقعي بمصلحة
الحكم الظاهري - كما في أواخر كلامه قدس سره - فكلاهما غير خال عن
المناقشة.
أما الأول: فبأن المصلحة في فعل الجمعة مع المصلحة في فعل الظهر أنما
تتدارك إحداهما بالأخرى إذا كانتا متسانختين، فلا تزاحم ولا تضاد كي ينتفي
المتدارك وجودا أو اثرا حتى يكون الحكم بلا صفة.
والمتدارك بهذا المعنى بعد موافقة الحكم الظاهري، لا في مقام الجعل، فلا
مانع من بقاء الحكم الواقعي إلى حصول ملاكه أو ما يسانخه، وليس هذا من
التصويب أصلا.
وأما الثاني: فله فرض صحيح تعرضنا له بعد ذكر الوجوه الخمسة (1) وهو
فرض المفسدة في نفس فعل الجمعة بما هي واقعا، وفرض المصلحة في فعلها
من حيث قيام الامارة على وجوبها.
لا بالوجه الذي افاده - قدس سره - من تدارك مفسدة المخالفة بمصلحة العمل
على طبق الأمارة، فان مفسدة المخالفة ليست من المفاسد التي هي ملاكات
الاحكام بل مفسدة نفس فعل الجمعة ملاك تحريمها لا مفسدة معصية حكمها
كما مر مرارا.

(1) عد الوجوه خمسة، باعتبار ذكر صورة " اجتماع المصلحة والمفسدة في فعل واحد " بعد الوجه
الرابع من الوجوه الأربعة.
447

وأما في الفرض الذي صححناه فقد عرفت أن معنى تدارك المفسدة اندكاكها
واضمحلالها في جنب المصلحة، وعليه فلا محالة ينتفي الحكم الواقعي بانتفاء
ملاكه.
وكونه ذا ملاك - لولا قيام الامارة - لا يوجب ثبوت الحكم حتى بثبوت
المقتضي، إذ لا مقتضي على الفرض.
وأما ما أفاده - قدس سره - من ثبوت الحكم الواقعي المنزل المتعلق بالعباد.
فان أريد منه الحكم المرتب على موضوعه بنحو القضية الحقيقية، فلا بد من
أن يكون في الموضوع - إذا لوحظ فانيا في مطابقه من مصلحة أو مفسدة، فمع
عدمها لفرض زوالها - فيما قامت الأمارة على خلافه - يكون الالتزام بالحكم
التزاما بالمعلول بلا علة.
وإن أريد أن عنوان الموضوع - المحكوم عليه بحكم ظاهري - متقيد بما
يقتضي وجود الحكم الواقعي، فكيف ينافيه بأنه التزام بثبوت الحكم عنوانا لا
حقيقة ولا ملاكا.
ومنه يظهر أنه لا معنى لثبوته بحيث إذا علم به لا يعذر فيه، إذ قد عرفت
استحالة ثبوته مع عدم الملاك، وفرض العلم فرض ثبوته بالعلم، لاختصاص
ملاكه الفعلي بصورة العلم أو عدم قيام الامارة، وليس معنى ثبوت الحكم
المشترك ثبوته الشأني أو بشأنية ملاكه.
ثالثها: أن يكون الفعل على ما فيه من المصلحة الواقعية ولا يوجب قيام
الامارة مصلحة فيه، بل المصلحة في الامر بتطبيق العمل على الامارة كما في
بعض عباراته - قدس سره - أو في نفس تطبيق العمل كما في جل عباراته
- قدس سره -.
وعدم لزوم التصويب على الأول، واضح حيث أن مصلحة الفعل على ما هي
عليه، من دون حدوث صفة أخرى غالبة عليها في نفس الفعل.
448

وعدمه على الثاني بملاحظة أن الامارة في الوجه الثاني (1) توجب حدوث
المصلحة الغالبة في نفس الفعل، فيكون الحكم المنبعث عن مثل هذه المصلحة
حكما واقعيا لنفس الفعل، وانكشاف الخلاف يوجب تبدل الموضوع، بخلاف
الوجه الثالث فان الامارة لا تحدث مصلحة في الفعل، بل توجب مصلحة في
تطبيق العمل على مدلول الامارة من حيث إنها حاكية عن الحكم الواقعي،
فعنوانها مقتض لثبوت الحكم الواقعي لا مناف له.
أقول: كلا الوجهين غير خال عن المحذور.
أما الأول فلان مصلحة الجعل غير استيفائية، بل قائمة بفعل الآمر، لا بفعل
المأمور، فكيف يتدارك بها ما يفوت من المصلحة الواقعية، كما رتبه - قدس سره -
عليه، كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.
مع أن البعث نحو تطبيق العمل إذا كان عن إرادة متعلقة به، فلا بد من فرض
مصلحة في المراد، فيعود المحذور من مزاحمة المصلحتين.
وإذا لم يكن منبعثا عن إرادة تشريعية - كما تفردنا به وتعرضنا لوجهه مرارا -
فلا بد من انبعاث البعث الحقيقي عن مصلحة في المبعوث إليه، فان البعث كما
مر مرارا ايجاد تسبيبي من المولى لفعل العبد، فالغرض متعلق بالوجود لا بحيثية
صدوره من المولى.
وما أشهر من حديث مصلحة التسهيل فليس هذه المصلحة في البعث الا
باعتبار أن الرخصة في ترك المكلف تحصيل العلم في مقام الامتثال تسهيل
تشريعا، لأن الاقتصار على العمل بالأمارات سهل، فايجابه تسهيل من الشارع، لا
أن ايجاب العمل - مع قطع النظر عن سهولة العمل بالامارات - يقوم به مصلحة
التسهيل. فتدبر جيدا.
وأما الثاني ففيه أولا: أن قيام الامارة المخالفة - على الوجه الثاني المذكور في
كلامه - ليس واسطة في ثبوت المصلحة لنفس الفعل ليكون الحكم المنبعث عنها

(1) من الوجوه الثلاثة في كلام الشيخ الأعظم قدس سره.
449

حكما واقعيا، بل الفعل بعنوان كونه مما قامت الامارة فيه على حكم مخالف
للواقع ذا مصلحة (1) في نفسه، فالحكم مرتب عليه بهذا العنوان بنحو القضايا
الحقيقية ولا فرق بين عنوان كونه مما قامت عليه الامارة وعنوان تطبيق العمل
على الامارة، كما لا فرق في التزاحم والغلبة بين العنوانين العرضيين والطوليين
عنده - قدس سره -.
وثانيا: أن الفرق بين الوجهين - بمجرد أن عنوان تطبيق العمل على مدلول
الامارة يقتضي ثبوت الحكم الواقعي فلا تصويب - غير مفيد، لما مر من أن
مقتضاه ثبوت الحكم الواقعي عنوانا، لا حقيقة ولا ملاكا، وهذا غير كاف في دفع
محذور التصويب، وتقدم الكلام في بقية ما افاده قدس سره في المقام.
واما ما افاده في الوجه الثالث كما استفيد من كلامه قدس سره - من ترتيب
الآثار في حال الجهل بمقدار الفوت - فتقريبة: أن الصلاة لها مصالح:
إحداها: ما يقوم بها من حيث ايقاعها في وقت الفضيلة.
وثانيتها: ما يقوم بها من حيث ايقاعها في الوقت وهي مصلحة الوقت.
وثالثتها: ما يقوم بها من حيث ايقاعها - ولو في خارج الوقت - وهي مصلحة
طبيعي الصلاة بما هي صلاة.
فحينئذ إن أتى بالصلاة في وقت الفضيلة وانكشف الخلاف بعد مضيها نلتزم
بادراك مصلحة وقت الفضيلة فقط، وبقاء مصلحة الوقت ومصلحة الطبيعة. وان
انكشف الخلاف بعد خروج الوقت نلتزم بادراك مصلحة الوقت أيضا وبقاء
مصلحة الطبيعة وان لم ينكشف الخلاف أصلا نلتزم بادراك جميع مصالحها.
والسر في دلك ان فوت المصلحة - بسبب العمل بالامارة - هو الباعث على
الالتزام بالتدارك فلا محالة يتقدر بقدره، وهذا في الحقيقة برزخ بين الطريقية
المحضة والسببية المحضة.
ويصح أن يقال بعدم الاجزاء عند انكشاف الخلاف، غاية الامر أنه في الصورة

(1) والصحيح " ذو " لأنه خبر من " الفعل ".
450

ويصح أن يقال بعدم الاجزاء عند انكشاف الخلاف، غاية الامر أنه في الصورة
الأخيرة من باب السالبة بانتفاء الموضوع.
أقول أولا: أنه مبني على تعدد المصالح لا تعدد مراتب مصلحة الصلاة، إذ
لو كانت مراتبها مختلفة لكان الإتيان بها في وقت الفضيلة مشتملا على المصلحة
بالمرتبة العليا وهي بنفسها لزومية وبحدها غير لزومية، فلا أثر لانكشاف الخلاف
لاستحالة حصول حدها دون أصلها، وكان الاتيان بها في الوقت دون وقت
الفضيلة مشتملا على المصلحة بالمرتبة اللازمة بحدها، ولا أثر أيضا لانكشاف
الخلاف وإن كان اتيانها في خارج الوقت مشتملا على المصلحة بمرتبة لزومية
دون تلك المرتبة.
وثانيا: أن دليل التعبد بالامارة إذا كان متكفلا لحكم حقيقي وبعث جدي فلا
محالة يكون مماثلا لمؤداها، فإذا أدت إلى وجوب صلاة الجمعة كان مقتضى
التبعد بها ايجاب الجمعة، وان كان هذا الواجب في وقت الفضيلة مشتملا على
مصلحة غير لزومية ويكون الفرد المأتي به في هذا الوقت أفضل الافراد.
ولا يعقل انبعاث الايجاب المماثل عن خصوص المصلحة الغير اللزومية، كما
لا معنى لجعل الاستحباب بالتعبد بالامارة الحاكية عن وجوب الجمعة في تمام
الوقت بعنوان أنه الواقع.
وثالثا: أن مقتضى التقدير بمقدار الفوت انه لو اتى بالجمعة مثلا في غير وقت
الفضيلة وانكشف الخلاف في جزء من الوقت لكان اللازم عدم كونها مأمورا بها
أصلا حيث إنه لم يفت منه شئ بسبب التعبد بالامارة، وحيث أن الفعل حينئذ
غير مشتمل على مصلحة أصلا يستحيل أن يكون واجبا، للزوم المعلول بلا علة.
مع أنه خلاف دليل التعبد بالامارة، ولا يمكن الالتزام بكون مفاد دليل التعبد
حكما حقيقيا تارة، وحكما طريقيا لتنجيز الواقع أخرى، فتدبر جيدا.
451

" في بيان كيفية الأعمال السابقة عند تبدل الرأي "
قوله: واما الأعمال السابقة الواقعة... الخ.
الفرق بين هذه المسألة ومسألة الاجزاء - المتقدمة - في مباحث الأوامر
اختصاص تلك المسألة بخصوص الواجبات وعموم هذه المسألة للتكليفيات
والوضعيات وللعبادات والمعاملات وغيرها من أبواب الفقه.
وأما تحقيق حال المسألة فنقول: إن كان مؤدى الاجتهاد السابق قطعيا وكان
مؤدى الاجتهاد الثاني كذلك فمقتضاه عدم الحكم في السابق، فلا تكليف سابقا
ولا وضع، فلا معنى لمضيه وعدم نقضه.
وإن كان مؤدى الاجتهاد السابق قطعيا ومؤدى الاجتهاد اللاحق تعبديا أو كان
مؤداهما تعبديا فربما يقال بالمضي وعدم النقض، لعدم انكشاف الخلاف حقيقة
حتى ينتقض جدا، ولأن الحجة اللاحقة كالسابقة أو أضعف، ولأن حجية اللاحقة
لا اطلاق لها بالإضافة إلى الأعمال السابقة، بل هي حجة من حيث قيامها، فهي
حجة بالإضافة إلى الأعمال المستقبلة دون الماضية.
والكل ضعيف لأن المفروض قيام الحجة الشرعية على خلاف السابق، والا
لم يكن لها اثر في اللاحق أيضا، فمقتضى حجيتها فعلا ترتيب الأثر على مقتضاها
شرعا - حالا وقبلا - وان لم ينكشف الخلاف حقيقة.
والحجة اللاحقة وإن كانت مماثلة للحجة السابقة، إلا أن المفروض اضمحلال
الحجة السابقة، لفرض لزوم العمل على طبق الحجة اللاحقة، والمفروض زوال
القطع بالحكم قبلا وان لم يقطع بعدمه أيضا.
وأما عدم اطلاقها إلا للواقع المتجددة فتارة لقصور مضمونها وأخرى لقصور
حجيتها.
والأول خلف، إذ المفروض قيام الحجة مثلا على جزئية السورة للصلاة، من
دون اختصاصها بزمان دون زمان.
452

والثاني بلا موجب إلا توهم استحالة منجزية أمر متأخر لحكم متقدم، وهو
غير لازم هنا، إذ لا نقول بأن جزئية السورة منجزة قبل قيام الحجة - بسبب قيامها
فيما بعد - بل اثر تنجز جزئية السورة فعلا تدارك ما وقع قبلا فان كلفة جزئية
السورة مطلقا اتيانها حالا، وتدارك الخالي عنها قبلا وكلاهما أثر فعلي فلم يتقدم
التنجز على المنجز.
وأما توضيح الحال بعد انكشاف الخلاف حكما وتعبدا من حيث نقض
الأعمال السابقة فنقول: إذا كان مؤدى الاجتهاد السابق ما قامت عليه امارة
شرعية كالخبر مثلا فإما أن نقول بحجيتها من باب الطريقية أو الموضوعية.
فان قلنا بالطريقية فعلى اي حال يجب نقض الآثار، فان حجيتها - على هذا
الوجه - إما أن لا تتضمن انشاء طلبيا أصلا كما إذا اعتبر لها عنوان الحجية
والمنجزية للواقع، وإما أن تتضمن انشاء طلبيا: فهو إما أن يكون بداعي تنجيز
الواقع فكالأول لا شأن لها إلا تنجيز الواقع عند المصادفة، وإما أن يكون بداعي
جعل الداعي - بعنوان ايصال الواقع - فلا محالة يكون مقصورا على صورة
مصادفة الواقع.
فعلى أي تقدير لا حكم حقيقي في صورة المخالفة حتى يكون موافقته
موافقة تكليف فعلى ظاهري.
وإن قلنا بالموضوعية فمقتضاها اشتمال الفعل المأتي به - بعنوان ثانوي - على
المصلحة المغايرة لمصلحة الواقع، لا أن تلك المصلحة المغايرة لمصلحة الواقع
تارة تكون مسانخة لها بحيث تقوم مقامها، وأخرى لا تكون كذلك.
وحيث أن تلك المصلحة لم يفرض مقابلتها لمصلحة الواقع فلا وجه لدعوى
الغلبة الموجبة لسقوط مصلحة الواقع عن التأثير حتى يتوهم التصويب على
الموضوعية كما مر قريبا.
فان كان جعل الحكم المماثل على طبق مؤدى الامارة منبعثا عن مصلحة
بدلية، فلا محالة يقتضي الاجزاء ولا مجال للنقض بالإعادة والقضاء.
453

وإن كان الحكم المماثل منبعثا عن مصلحة أخرى غير مصلحة الواقع فقط،
فهو وإن كان مقتضيا لجعل الحكم حقيقة في ظرف عدم وصول الواقع، إلا أن
المصلحة حيث أنها ليست بدلية فلا موجب لسقوط الحكم الواقعي باحراز
ملاكه.
ومنه تبين أن القول بالموضوعية لا يقتضي الإجزاء وعدم النقض ثبوتا وكذلك
اثباتا، فان غاية ما يقتضيه ظهور الأمر في الانشاء بداعي جعل الداعي - لا بداعي
تنجيز الواقع، وظهوره في عنوانية موضوعه، وأنه بما هو مطلوب لا بما هو معرف
للواقع - هو انبعاث هذا الحكم الحقيقي عن مصلحة غير مصلحة الواقع، وأما
بدليتها عن مصلحة الواقع فلا موجب لها.
ودعوى لزوم كون المصلحة بدلية لئلا تفوق مصلحة الواقع من دون تدارك.
مدفوعة - مضافا إلى أنه مشترك الورود على الطريقية والموضوعية - بما تقرر
في مقره: من عدم لزوم كون المؤدى ذا مصلحة فضلا عن كونها بدلية، ذا ربما
يكون ايكال العبد إلى طرقه العلمية موجبا لفوات الواقعيات أكثر من العمل
بالامارات، وموجبا لوقوعه في مفسدة أعظم من فوات مصلحة الواقع أحيانا.
مع أن تفويت مصلحة بايصال مصلحة أخرى مساوية لها أو أقوى لا قبح فيه، بل
لا بد منه وان لم تكن مسانخة للفائتة.
فان قلت: إذا كانت المصلحتان مما يمكن اجتماعهما وجب الأمر
بتحصيلهما معا تعيينا والا لزم الأمر بهما تخييرا.
والأول خلاف الاجماع، لعدم لزوم اتيانهما معا، لعدم تعين تحصيل المصلحة
الواقعية بتكلف تحصيل الطرق العلمية أو الاحتياط، بل له الاقتصار على
تحصيل مصلحة المؤدى.
والثاني خلاف ظاهر الأمر الطريقي فإنه ظاهر في التعييني - كالأمر الواقعي -
وخلاف ما هو المفروض من تحصيل المصلحة الواقعية بعد انكشاف الخلاف،
بخلاف ما إذا كانتا متسانختين وكانت إحداهما بدلا عن الأخرى فإنه يندفع
454

المحذوران كما هو واضح.
قلت: المصلحتان وان كانتا قابلتين للاجتماع إلا أن عدم تعين تحصيل
المصلحة الواقعية لعدم كون الغرض بحد يوجب تكلف تحصيله بالطرق العلمية
- مثلا - بل بحيث لو وصل عادة كان فعليا، فمع عدم الوصول العادي وقيام الامارة
لا يكون الفعلي إلا تحصيل الغرض من المؤدى، كما أنه مع الوصول عادة لا موقع
للتعبد بالمؤدى فالمصلحتان تعينيتان في ذاتهما.
ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الواقع: والمؤدى متبائنين - كالظهر والجمعة -
أو أقل وأكثر، لان فعلية الامر في الثاني بمقدار ما علم تعلقه به لا توجب الاجزاء،
فإنه لا يكشف - على الموضوعية - إلا عن مصلحة ملزمة في الأقل بعنوان قيام
الخبر عليه، لا عن المصلحة الواقعية بنفسها أو بما يسانخها.
كما أن لو فرض عدم تعدد الفرض - فمع فعلية الامر بالظهر لا أمر آخر
بالجمعة - لا اختصاص له به بل يجري في الأقل والأكثر.
ومن جميع ما ذكرنا تعرف ان الاجزاء وعدم النقض لا يدور مدار
الموضوعية، كما أن عدم الاجزاء ولزوم النقض لا يدور مدار الطريقية، لإمكان
عدم بدلية المصلحة مع الالتزام بأصلها، ولا مكان قيام الدليل من الخارج على
عدم تعدد الفريضة، فيكشف عن المصلحة البدلية، وان كان مقتضى دليل الامارة
هي الطريقية التي لا تقتضي مصلحة أصلا في صورة المخالفة للواقع.
نعم - بناء على الموضوعية - فرق بين الواجبات والعقود والايقاعات، فان
مصالح الواجبات استيفائية، فيمكن بقاء مصلحة الواقع على حالها، فلا بد من
استيفائها بعد كشف الخلاف.
بخلاف مصالح اعتبار الملكية والزوجية بالعقود والأسباب، أو مصالح اعتبار
سائر الاعتبارات في الايقاعات، فإنها غير استيفائية، فمع الموضوعية وسببية
العقد الفارسي للملكية - لما في اعتبارها به من المصلحة - تحقق الملكية
الاعتبارية بالعقد الفارسي حقيقة، وليس له كشف الخلاف، بل ينتهي أمد سببية
455

العقد الفارسي، لكونها في ظرف عدم وصول الواقع، وأن السبب بذاته وبعنوانه
الأولي هو العقد العربي.
الا أنه على الطريقية المحضة لا فرق بين التكاليف والأسباب.
وحيث أن الحق في باب التعبد بالخبر الذي هو العمدة في باب الامارات هي
الطريقية فالحق لزوم النقض مطلقا إلا في ما قام الدليل فيه على عدمه.
" الكلام حول تفصيل الفصول في الاجتهاد السابق "
قوله: ولم يعلم وجه للتفصيل بينهما كما في الفصول... الخ.
الظاهر منه - قدس سره - أنه استظهر من الفصول (1) التفصيل بين الأحكام
ومتعلقاتها، كما عن بعض الأجلة قدس سره استظهار التفصيل بين الواجبات
العبادية والعقود والايقاعات وبين الاحكام التي هي القسم الرابع من أبواب الفقه.
وبالجملة كلام صاحب الفصول رحمه الله - بحسب العنوان - هو التفصيل بين
ما يتعين في وقوعه شرعا أخذه بمقتضى الفتوى، وما لا يتعين في وقوعه شرعا
اخذه بمقتضى الفتوى، وذكر في القسم الأول أن الواقعة الواحدة لا تتحمل
اجتهادين ولو في زمانين، وفي الثاني انه رجوع عن حكم الموضوع.
ومثل - قدس سره - للأول بما إذا بنى على عدم جزئية شئ أو عدم شرطيته
للعبادة ثم رجع، أو إذا بنى على صحة الصلاة في شعر الأرانب والثعالب ثم رجع،
أو إذا بنى على طهارة شئ ثم صلى في ملاقيه ثم رجع، أو إذا تطهر بما يراه
طاهرا أو طهورا ثم رجع، أو إذا عقد أو أوقع بصيغة يرى صحتها ثم رجع.
ومثل - قدس سره - للثاني بما إذا بنى على حلية حيوان فذكاه ثم رجع بنى إلى
تحريم المذكى منه وغيره، أو بنى على طهارة العرق من الجنب بالحرام فلاقاه ثم
رجع بنى على نجاسته ونجاسة ملاقيه قبل الرجوع وبعده، أو بنى على عدم

(1) راجع الفصول: ص 409: رجوع المجتهد عن الفتوى.
456

تحريم الرضعات العشر فتزوج من أرضعته ذلك ثم رجع بنى على تحريمها.
ومن الأمثلة والعنوان يظهر فساد كلا الاستظهارين. فان العنوان وان كان موهما
للتفصيل بين الاحكام ومتعلقاتها، إلا أن الأمثلة لا تساعده، والأمثلة وإن كانت
توهم التفصيل الثاني إلا أن العنوان لا يساعده.
وقد بلغ الاجمال في كلام صاحب الفصول - قدس سره - إلى حد، بحيث قال
بعض الأجلة رحمه الله حاكيا عن أستاذه العلامة الأنصاري قدس سره أنه ارسل
الفصول إلى صاحبه قدس سره بواسطة بعض الاعلام من تلامذته قدس سره،
لتحصيل المراد من العنوان الواقع في كلامه رحمه الله فلم يحصل من بيانه ما
يرفع الاجمال عن كلامه زيد في علو مقامه، وهو عجيب.
أحدهما: ما ينقضي بانقضاء الزمان وليس للزمان عليه مروران كالصلاة بلا
سورة، أو الواقعة في شعر الأرانب والثعالب، أو الواقعة فيما بنى على طهارته،
وكذا العقد الفارسي والايقاع كذلك مثلا - فحيث لا بقاء لها بل لها ثبوت واحد،
وهي على الفرض وقعت صحيحة، فلا دليل على انقلابها فاسدة بعد فرض
وقوعها صحيحة، كما هو مبنى القول بموضوعية الامارات، وهذا معنى ان الواقعة
الواحدة لا تتحمل اجتهادين.
وثانيهما: ما لا ينقضي بانقضاء الزمان بل له بقاء وإن تغير حكمه كالحيوان
الذي بنى على حليته فذكاه، فإنه باق، والمفروض أن حكم هذا الموضوع الباقي
هي الحرمة، واما التذكية فهي مبنية على حليته، وهو على الفرض - فعلا - محرم،
وكعرق الجنب من الحرام وملاقيه فإنهما موضوعان مر عليهما الزمان مرتين،
وحكمهما فعلا النجاسة، فكيف يعامل معهما معاملة الطاهر. نعم لو كان قد صلى
في ملاقي عرق الجنب كانت صلاته صحيحة وكالمرأة المرتضعة بعشر رضعات
فإنها باقية وحكمها فعلا انها محرمة.
والفرق بين العقد الفارسي والعقد على المرتضعة بعشر رضعات أن محط
الفتوى هو العقد في الأول وقد مضى صحيحا فلا ينقلب فاسدا، ومحط الفتوى
457

في الثاني هي المرأة المرتضعة - النقص فيها لا في العقد - ومصب الرأي باق فعلا،
والمفروض تغير حكمها، فلا انقلاب، بل انتهاء أمد حكمها الأول، فهي بالإضافة
إلى الرأي الثاني موضوع آخر.
والمراد مما وقع في العنوان - من تعين الوقوع شرعا بأخذه بمقتضى الفتوى،
وعدم تعينه بأخذه بها - ان الواقعة التي لا بقاء لها تقع صحيحة إلا بمقتضى
الفتوى، فهذا الوجود الوحداني لا يقع شرعا إلا صحيحا على الفرض، فلا ينقلب
بخلاف ما له بقاء فإنه لا يتعين، لإمكان الانقلاب فيه بتجدد الرأي.
وليس المراد أن وقوعه شرعا لا يكون منوطا بالفتوى ليحمل على إرادة
الموضوعات الواقعية، بل عدم تعين وقوعها وتمحضها في الصحة، بل لها تعين
آخر بتجدد الرأي، والا فلو عرض عدم تبدل الرأي فيها وقعت صحيحة نافذة. هذا
ما يقتضيه التأمل في كلامه لتحصيل مرامه والله العالم.
قوله: مجرى الاستصحاب أو البراءة النقلية.. الخ.
لا يخفى عليك أن الاستصحاب بناء على كون مفاد دليله منجزية اليقين
السابق، أو معذريته في اللاحق - كما هو ظاهره - حاله حال الامارة على الطريقية
المحضة التي لا تتكلف انشاء طلبيا أصلا.
وبناء على كون مفاده جعل الحكم المماثل بعنوان ايصال الحكم في اللاحق
كما في السابق، فحاله حال جعل الحكم المماثل في الامارة على هذا الوجه
المقصور على صورة مصادفة الواقع.
وبناء على جعل الحكم المماثل على اي تقدير فحاله حال الأمارة على
الموضوعية.
وقد مر أن مجرد انبعاث الحكم عن مصلحة غير مصلحة الواقع لا يقتضي
البدلية والمسانخة، ولا اجزاء إلا على هذا الوجه، دون مجرد المصلحة.
ومنه تعرف حال البراءة النقلية، فانا وإن قلنا: بأن مقتضاها نفي الحكم حقيقة
فعلا، وجعل عدم الوجوب وعدم الجزئية مثلا - دون جعل المعذرية - إلا أن
458

فعلية الأمر بما عداه لا تقتضي إلا كون الامر بالباقي منبعثا عن مصلحة، إذ لا يعقل
الامر حقيقة إلا كذلك لكنه تتعين تلك المصلحة أن تكون بدلية، حتى يتعين الاجزاء.
فان قلت: إن عدم الجزئية تارة بعدم جعل منشأ انتزاعها، ومقتضاه تعلق
الامر بما عداه، فلا يكشف عن مصلحة بدلية فيه.
وأخرى بجعل منشأ انتزاع عدم الجزئية، حتى يكون عدم الجزئية مجعولا
بالتبع، فمقتضاه حينئذ جعل عدم وجوب المركب من المشكوك، لا مجرد
المعذرية المركب من المشكوك، وحيث أن تعلق الامر الفعلي بما عدا المشكوك
محقق، ولا أمر به إلا بعنوان نفسه، فلا محالة يكشف عن الغرض المرتب على
الصلاة بما هي صلاة.
ومنه تعرف الفرق بين ما يدل على نفي الجزئية الشرطية، وما يدل - من
الأصل والامارة - على ثبوتهما، فان منشأ انتزاعهما ثبوتا هو الأمر الفعلي
بالمركب من الجزء المشكوك - مثلا - بعنوان آخر، فلا يكشف إلا عن مصلحة فيه،
لا عن المصلحة المرتبة على الصلاة بما هي.
قلت: أما كشف جعل عدم وجوب المركب من عدم المصلحة الملزمة
فمعناه عدم كون الغرض بحد لا بد من ايصاله، لئلا يلزمه نقض الغرض من جعل
عدم الوجوب، عن عدم المصلحة الملزمة رأسا، للزوم الخلف من تعلق الامر
الواقعي به.
واما كشف الامر بما عدا المشكوك فعلا عن ترتب الغرض من الصلاة فغايته
ترتب مرتبة من الغرض، لا بتمامه، والا لزم مساواة الزائد والناقص في محصلية
غرض واحد. فلابد من دليل على مصلحة بدلية، أو عدم امكان استيفاء الباقي.
فتدبر جيدا.
459

" في مفهوم التقليد لغة واصطلاحا "
قوله: في التقليد وهو اخذ قول الغير... الخ.
توضيح المقام أن الكلام تارة في مقتضى مفهوم التقليد الواقع في قوله عليه
السلام (فللعوام أن يقلدوه) (1) وأخرى في حقيقة ما يعبر عنه بالتقليد التي
يقتضي الأدلة العقلية والنقلية جوازها.
اما الأول فنقول: التقليد مفهوما جعل الغير ذا قلادة ومنه تقليد الهدى، وهو
يناسب العمل استنادا إلى رأي الغير، فإنه جعل العمل كالقلادة في رقبته. وأما
مجرد التعلم أو اخذ الرسالة أو الالتزام القلبي فلا يكون جعلا لشئ في رقبة الغير
حتى يكون جعله ذا قلادة.
ومنه تعرف ان مفهومه اللغوي أوفق بالعمل من الاخذ للعمل، فما عن الشيخ
الأعظم - قدس سره - (2): من أنه بمعنى الأخذ للعمل أوفق بمفهومه اللغوي غير
وجيه.
واما ان التقليد سابق على العلم والا لكان العمل بلا تقليد.
ففيه أن التقليد إن كان عنوانا للعمل بتقريب أن العمل استنادا إلى رأي الغير
تقليد، لم يكن فيه محذور كون العمل بلا تقليد بل نفس مثل هذا العمل عين
التقليد، ولا موجب لانبعاث العمل عن عنوان التقليد حتى يلزمه السبق، فإنه
بحسب الفرض أول الكلام: من أنه نفس العمل أو الأخذ للعمل، وقد عرفت أن
الأنسب بمفهومه هو الأول.
ولا تقابل بين الاجتهاد والتقليد حتى يقتضي سبق الأول على العمل سبق
الثاني عليه، فان الاجتهاد اما تحصيل الحجة على الحكم أو تحصيل الحكم عن
مدركه، وليس عدمه المقابل له تقليدا، لأن من لم يحصل الحجة على الحكم أو

(1) الوسائل ج 18: ص 94: الباب 10 من صفات القاضي: حديث 20.
(2) مجموع رسائل: رسالة في الاجتهاد والتقليد ص 47.
460

من لم يحصل الحكم على مدركه ليس مقلدا مع عدم العمل أو عدم الاخذ
للعمل، فلا تقابل بينهما بتقابل العدم والملكة أو السلب والايجاب.
وأما التقابل بينهما بتقابل التضاد نظرا إلى أن الاجتهاد هو اخذ الحكم عن
مدركه، والتقليد أخذ الحكم عن الغير، لا عن مدركه.
ففيه أن الاخذ بمعنى الالتزام والعمل أجنبي عن حقيقة الاجتهاد إذ ليس
معنى الاجتهاد التزام المجتهد بالحكم، ولا عمله به.
والأخذ بمعنى التعلم الراجع إلى تحصيل العلم بالحكم وإن كان مشتركا بين
المجتهد والمقلد والاخذ عن مدرك وعن الغير متقابلان، إلا أنه لا دليل على أن
الاجتهاد والتقليد متقابلان، حتى يتعين كون التقليد بمعنى التعلم - تحقيقا للتقابل
- بل التقليد في قبال الاجتهاد بمعنى يقابل الاحتياط لهما، مع أن الاحتياط ليس
الا عنوانا للعمل، فالتقابل حقيقة بين العمل استنادا إلى المدرك أو إلى رأي الغير
أو بنحو يوافق الواقع، هذا كله فيما يقتضيه مفهوم التقليد.
واما الثاني وهو ما يقتضيه الأدلة العقلية والنقلية.
فنقول: من الأولى: قضية الفطرة، وسيجئ (1) إن شاء الله تعالى أن مقتضاها
- لو تمت - رفع الجهل بعلم العالم حقيقة، حيث أنه كمال القوة العاقلة، لا الالتزام
بقول الغير تعبدا، أو العمل به كذلك، أو التعلم منه الذي هو أخص من رفع الجهل
بعلم العالم، فان التعلم الذي هو مقدمة للعمل لا يدور مدار حصول العلم
بالحكم، بل إحراز الفتوى ورأي الغير فقط.
فالتقليد بالوجه الذي يقتضيه الفطرة ليس بأحد المعاني المبحوث عنها هنا.
مع ما سيأتي إن شاء الله تعالى في اقتضاء الفطرة.
ومنها: قضية السيرة، ومن البين أن ما جرت عليه سيرة العقلاء في مقاصدهم
حفظا لنظام أمورهم هو العمل بقول العارف بشئ، لا عقد القلب عليه، ولا اخذه
بوجود الكتبي أو بوجوده العلمي، وإن كانا من المقدمات أحيانا، فان كل ذلك

(1) يأتي في ص 462.
461

أجنبي عن مقاصد العقلاء في مرحلة انتظام أمورهم.
ومنها: ما سيأتي إن شاء الله تعالى منا - من أن الاستناد إلى من له الحجة لمن
لا يتمكن من الاستناد إلى الحجة لازم بحكم العقل - ومقتضاه هو الاستناد عملا
وفي مرحلة امتثال احكامه تعالى، لا الانقياد قلبا، أو الأخذ كتبا أو علما.
ومن الثانية: اية النفر (1) وهي على فرض دلالتها على وجوب التقيد لا تدل الا
على العمل على طبق ما انذر به المنذر، فإنه المراد من التحذر القابل لتعلق
الوجوب به، وهو الذي يقتضيه الخوف عادة، دون الالتزام قلبا أو الاخذ علما أو
كتبا.
ومنها: اية السؤال (2) ان كانت مسوقة لوجوب القبول بعد الجواب.
فالمراد القبول عملا، لا قلبا فضلا عن الأخذ بوجوده الكتبي، فان المطلوب
في العمليات - بعد إيجاب قبول الجواب - ليس الا القبول العملي.
واما ان كانت مسوقة لتحصيل العلم فهي أجنبية عن التقليد التعبدي. فتدبر.
ومما ذكرنا تعرف حال سائر الأدلة النقلية مثل ما دل على جواز الافتاء
والاستفتاء (3) فإنه يلازم القبول عملا - عرفا - لا سائر أنحاء القبول إذ المفروض
فيها العمليات المطلوبة فيها العمل، دون الانقياد قلبا، فضلا عن غيره فتدبر.
" أدلة جواز التقليد "
قوله: يكن بديهيا جبليا فطريا... الخ.
الكلام في مقامين: أحدهما: في مستند العامي الحامل له على التقليد.
ثانيهما: في مقتضى الأدلة وان لم يصلح لحمل العامي على التقليد، لتوقف

(1) التوبة: 122.
(2) النحل: 43 والأنبياء: 7.
(3) الروايات الدالة على ذلك كثيرة متفرقة في الأبواب. راجع الوسائل 18: الباب 4 و 6 و 11 من
صفات القاضي وأيضا هذه الأبواب من المستدرك.
462

استفادته على الاجتهاد - المفروض عدم القوة عليه - أو على التقليد - المفروض
وقوع البحث عنه بحيث يكون حاملا للعامي -.
اما المقام الأول فصريح شيخنا قدس سره هنا أنه بديهي جبلي فطري وكفى
به حاملا للعامي ان صح الامر.
والتحقيق: أن الفطري المصطلح عليه في فنه هي القضية التي كان قياسها
معها، مثل كون الأربعة زوجا لانقسامها بمتساويين، وما هو فطري بهذا المعنى هو
كون العلم نورا وكمالا للعاقلة في قبال الجهل، لا لزوم التقليد عند الشارع، أو عند
العقلاء ولا نفس رفع الجهل، بعلم العالم. والفطري - بمعنى الجبلة والطبع - شوق
النفس إلى كمال ذاتها أو كمال قواها، لا لزوم التقليد شرعا أو عند العقلاء.
نعم ثبوت الشوق إلى رفع الجهل وجداني - لا جبلي ولا فطري - ورفع الجهل
بعلم العالم جبلي. فيصح أن يقال: إن التقليد الموجب لارتفاع الجهل جبلي، لا
لزومه تعبدا من الشارع أو من العقلاء.
ومجرد دعوة الجبلة والطبع إلى رفع الجهل لا يجدي لكون التقليد - بمعنى
الانقياد للعالم ولو من دون حصول العلم الذي هو كمال العاقلة - جبليا طبعيا.
والكلام فيه دون غيره، فلا لزوم التقليد بهذا المعنى فطري بأحد المعنيين، ولا
نفس التقليد المزبور فطري بوجه أصلا.
مضافا إلى ما في الجمع بين البداهة والجبلة والفطرة، فان ما هو فطري
اصطلاحي يناسب البداهة ولا يناسب الجبلة، وما هو فطري عرفي يناسب
الجبلة ولا يناسب البداهة. ولقد خرجنا بذلك عن مرحلة الأدب. والله تعالى
مقيل العثرات.
والذي يمكن أن يقال مع قطع النظر عن الأدلة الشرعية: هو أن العقل - بعد
ثبوت المبدأ وارسال الرسل، وتشريع الشريعة، وعدم كون العبد مهملا - يذعن
بان عدم التعرض لامتثال أوامره ونواهيه خروج عن زي الرقية ورسم العبودية،
وهو ظلم فيستحق به الذم والعقاب من قبل المولى.
463

ثم إن كيفية امتثال تكاليف المولى إما بتحصيل العلم بها كي يتمكن من
الامتثال العلمي بالسماع من المعصوم ونحوه، وأما باتيان جميع المحتملات
الموجب للقطع بامتثالها.
ومع التنزل لعدم التمكن من تحصيل العلم بها أو بامتثالها لمكان العسر
والحرج، أو عدم معرفة طريق الاحتياط يذعن، العقل بنصب طريق آخر في فهم
التكاليف، وكيفية امتثالها لئلا يلزم اللغوية ونقض الغرض - من بقاء التكاليف
وعدم نصب الطريق إليها -
وهو منحصر في أمرين: أما الاجتهاد وهو تحصيل الحجة على الحكم لمن
يتمكن منه، أو التقليد وهو الاستناد إلى من له الحجة على الحكم.
بل لو احتمل حينئذ العلم بظنه لكان المتعين عليه عقلا هو التقليد، لاحتمال
تعينه، حتى قيل بأنه من ضروريات الدين أو المذهب، دون تعين الظن، فلا يقين
ببراءة الذمة إلا بالتقليد، فتدبر جيدا.
وليعلم أن الغرض من البيان المزبور استكشاف نصب الطريق شرعا، والا
فكما لا فرق في نظر العقل في مقام الامتثال بين الامتثال التفصيلي والاجمالي -
بملاك حصول القطع ببراءة الذمة - كذلك لا فرق في نظره بين تحصيل العلم
بالأحكام وتحصيل الحجة عليها - بملاك الاشتراك في القاطعية للعذر.
نعم الاكتفاء بالتقليد مع ملكة الاجتهاد والتمكن من استنباط الحكم من
مدركه محل الكلام، فعن المشهور انه غير جائز، والمنسوب إلى السيد المجاهد
قدس سره في المناهل الجواز (1).
والأقوى هو الأول، لان مقتضى الفطرة تحصيل العلم، لأنه كمال للعاقلة، كما أن
الجبلة والطبع تبعث إلى رفع الجهل، لا الانقياد للعالم، وعلى فرضه فمقتضاها
الانقياد للعالم لو لم يتمكن بنفسه من تحصيل الحجة والعلم - بمعنى القاطع

(1) نسب إليه الشيخ الأعظم " قدس سرهما " في رسالة الاجتهاد والتقليد: انظر مجموعة
رسائل: 53.
464

للعذر -. كما أن مقتضى حكم العقل الاستناد إلى من له الحجة لو لم يتمكن من
الاستناد إلى الحجة، لعدم اليقين ببراءة الذمة إلا مع عدم التمكن.
كيف وقد مر أن المعروف عدم جواز التقليد لصاحب الملكة، وليس الغرض
استقلال العقل بتعين الاجتهاد، بل عدم استقلاله بجواز التقليد كما في نظائره من
تقليد الحي وتقليد الأعلم على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما مقتضى الأدلة اللفظية فنقول: إن الوجه في اختصاص أدلة الاحكام
بالمجتهد تمكنه وعجز العامي عن الاخذ بها، فلا مانع من فعليتها وتنجزها في
حق صاحب الملكة، فلا مجال لشمول أدلة التقليد، فان موردها من لا حجة له
على الحكم، والمفروض أن المتمكن يتنجز في حقه الحكم، حيث أنه بحيث لو
راجعه لظفر به، ومنه تعرف أنه لا وجه لدعوى اطلاق أدلة التقليد بحيث يعم
المتمكن. فتدبر.
" الكلام حول الاستدلال بالآيات على جواز التقليد "
قوله: واما الآيات فلعدم دلالة مثل... الخ.
هذا هو المقام الثاني المتكفل لوجوب التقليد في نفسه، وان لم يصلح لحمل
العامي عليه، كما تقدم.
وتوضيحه أن آية النفر (1) - كما ذكرنا في بحث حجية الخبر الواحد (2) - وان
كانت أدل على حجية الفتوى من حجية الرواية، نظرا إلى ظهور دخل الفقاهة
في الحجية.
واطلاق وجوب الانذار بما تفقه فيه يقتضي حجية الانذار بدلالة الاقتضاء،
وظاهرها التحذر بما أنذروا به، لا بالعلم بما أنذروا به.

(1) التوبة: 122.
(2) نهاية الدراية ج 2.
465

ولا يصدق الاخبار عن ترتب العقاب على شئ - مطابقة أو التزاما - إلا إذا كان
العقل بقبح العقاب بلا بيان لا يكون كل اخبار انذارا.
إلا أنه مع ذلك كله نقول: إن التفقه إن كان موقوفا على اعمال النظر كانت الآية
دليلا على حجية الفتوى، وان لم يكن كذلك، بل كان المجرد العلم بالحكم بالسماع
من المعصوم عليه السلام تفقها، فلا دلالة لها على حجية الفتوى، بل على حجية
خبر الفقيه، والانذار بحكاية ما سمعوه من الإمام عليه السلام - من بيان ترتب
العقاب على شئ، فعلا أو تركا - مما لا ينبغي الريب فيه، بل كان في الصدر الأول
الافتاء والقضاء بنقل الخبر.
واما اية السؤال (1) فظاهرها وان كان ايجاب السؤال لأن يعلموا، حيث إنهم لا
يعلمون، والظاهر أن يعلموا بالجواب، لا بأمر زائد على الجواب، فتدل على
حجية الجواب بما هو، إلا ان المسؤول بحسب سياق الآية أهل الكتاب، وبحسب
التفاسير (2) الواردة فيها الأئمة عليهم السلام، فهي على اي حال أجنبية عن
حجية الفتوى والرواية معا.
الا أن يقال انه بالإضافة إلى علماء أهل الكتاب جار مجرى الطريقة العقلائية -
من ارجاع الجاهل إلى العالم - فتأمل جيدا.
وأما الأخبار الدالة على جواز الافتاء والاستفتاء (3) فهي وان كانت أحسن ما
في الباب، إلا أن الافتاء حيث كان في الصدر الأول بنقل الخبر، وكان نشر
الاحكام في زمان النبي والامام عليهما السلام بنقل الأخبار والآثار - لا باعمال
الرأي والنظر - فلذا لا تدل إلا على حجية الخبر، فتدبر.
ومنه تعرف ما في الاستدلال بقوله عليه السلام (فللعوام أن يقلدوه) (4) فان

(1) النحل: 43 والأنبياء: 7.
(2) راجع تفسير نور الثقلين ج 3 ص 55، حديث 87 - 102.
(3) الوسائل ج 18: باب 4 و 6 و 11 من أبواب صفات القاضي.
(4) الوسائل ج 18 ص 94: باب 10 من أبواب صفات القاضي: حديث 20.
466

قبول اخبار الغير من غير دليل على المخبر به يصدق عليه التقليد عرفا، كما يدل
عليه مورد هذا الخبر فراجع.
بل الحق أن مادة الفتوى - حتى بلسان الشرع - غير متقومة بالرأي والنظر
المخصوص بالمجتهد كما في قوله تعالى (ويستفتونك قل الله يفتيكم
في الكلالة) (1) وقوله عليه السلام (إذا أفتيتك بشئ) (2) بل لا تختص
بالأحكام كما في قوله تعالى (واستفتهم أهم أشد خلقا) (3) وقوله تعالى
(ولا تستفت فيهم منهم أحدا) (4) فالافتاء ليس إلا اعطاء معلومه - حكما
كان أو غيره - فيصح اطلاقه على الاخبار بالحكم حقيقة، لا من حيث شيوع
الافتاء بنقل الخبر في الصدر الأول، كما قيل.
قوله: وهذا غير وجوب اظهار الحق... الخ.
لان الاظهار والظهور - كالايجاد والوجود - متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار،
فلا يعقل ان يكون له اطلاق لصورة عدم العلم، لأن عدم الظهور لا ينفك، عن
عدم الاظهار.
ومنه يعلم أنه لا موقع لدلالة الاقتضاء على وجوب القبول تعبدا، لان الواجب
- وهو الاظهار - لا يتحقق إلا مع الظهور الذي لا يبقى معه مجال للقبول، تعبدا
بخلاف اظهار الفتوى فإنه يلازم ظهور الفتوى المجامع مع عدم ظهور الواقع،
فيبقى مجال التعبد بالقبول.
ومن الواضح أن الافتاء بمفهومه لا يقتضي إلا اظهار الفتوى، لا الواقع، ولم
يتقيد وجوبه بغاية مخصوصة، - وهي اظهار الواقع به - حتى يكون بمنزلة ايجاب
اظهار الواقع.

(1) النساء: 176.
(2) الوسائل ج 18 ص 79: حديث 17، منقول بالمعنى وفي العيون 1: 275: حديث 10 " فإذا
أفتاك بشئ... ".
(3) الصافات: 11.
(4) الكهف: 22.
467

قوله: للقطع بحجيته والشك في حجية غيره... الخ.
الكلام في الأصل تارة فيما يسع أن يكون مستندا للعامي بحسب ما يستقل به
عقله، وأخرى فيما يقتضيه القاعدة بعد النظر في أدلة وجوب التقليد شرعا،
وهذا هو الذي بلحاظه للمفتي أن يفتي بالرجوع إلى غير الأعلم، ففائدة الأول
ترجع إلى العامي، وفائدة الثاني ترجع إلى المفتي.
أما الكلام في الأول: فقد استوفيناه في مبحث التعادل والترجيح (1) وقد ذكرنا
ان المعذرية الواقعية - كالمنجزية - غير مجدية في دفع عقاب الواقع وفي ترتبه،
بل الواصلة منهما ومعذرية العمل على طبق فتوى الأفضل واصلة، دون فتوى
المفضول. فراجع.
واما الكلام في الثاني: فبيانه أن الفتوى ان كانت في نظر المجتهد حجة من
باب الطريقية المحضة - ولو بجعل الحكم المماثل على طبقه بعنوان ايصال
الواقع - فالامر فيه كما مر في الأول. ولعله إليه ينظر قدس سره حيث ساوى بين
المقامين.
وان كانت حجة من باب الموضوعية والسببية واشتمال كل منهما على
مصلحة المقتضية لجعل الحكم على طبقه، فالمسألة وان كانت ذات وجوه بل
أقوال: من رجوعها إلى الشك في التعيين والتخيير وفيه قول بالاشتغال وقول
بالبراءة، ومن رجوعها إلى المتزاحمين، ومن رجوعها إلى الدوران بين
المحذورين أحيانا.
الا أن الصحيح هو الثاني، فان مورد الأول ما إذ علم بالملاك في المعين
واحتمل وجوده في الآخر، والمفروض بناء على الموضوعية وجوده فيهما معا،
وانما الشك في أقوائيته في أحدهما من الآخر، فالحكم في كل منهما تعييني في
حد ذاته - شرعا - والتخييرية لتمانعهما عقلا في الفعلية.

(1) نهاية الدراية ج 3 ص 354.
468

وقد أوضحنا الحال فيه في مبحث التعادل والترجيح (1)، وبينا هناك أن ميزان
التساوي - الموجب لحكم العقل بالتخيير في الجري على طبق كل منهما - هو
التساوي في وجدان العقل، ومع عدم وصول قوة الملاك في أحدهما يكونان
متساويين في وعاء وجدان العقل. فراجع.
" في وجوب تقليد الأعلم "
قوله: أو جوز له الأفضل بعد رجوعه إليه... الخ.
في رسالة تقليد الأعلم (2) لشيخنا العلامة الأنصاري قدس سره حكاية المنع
عنه عن بعض معاصريه.
فقال - قدس سره - في طريق دفعه: إن الكلام إن كان في جواز افتاء الأعلم
بهذه الفتوى بعد اجتهاده فيها فلا وجه لمنعه، وان كان في صحة عمل المقلد بها
فلا اشكال في الصحة بعد جواز التقليد فيها، وبعد علم المقلد بان هذه المسألة
يجوز التقليد فيها.
واستند قدس سره في الأول إلى عموم أدلة التقليد، وفي الثاني إلى ما هو
المركوز في ذهنه من رجوع الجاهل إلى العالم.
ولكنه لا يخلو عن محذور، إذ ليس كل ما يقتضيه الأدلة ويستنبطه المجتهد
تقليديا، ألا ترى أن مقتضى الأدلة جواز التقليد مع أنه ليس بتقليدي، للزوم الدور
والتسلسل.
فليس كل ما يستفيده المجتهد قابلا للفتوى على طبق، كما تبين أن عموم
جواز التقليد لا ينافي عدم جواز التقليد في مسألة جواز التقليد، فان الاستناد في
الصلاة والصوم إلى الفتوى امر، والاستناد إلى نفس الفتوى في جعلها مستندا أمر

(1) نهاية الدراية ج 3 ص 354.
(2) انظر مجموعة رسائل: رسالة الاجتهاد والتقليد للشيخ الأعظم قدس سره: 82.
469

آخر، لاستلزامه للمحاذير العقلية.
ومنه تبين أن علم المقلد بجواز التقليد لما ارتكز في ذهنه غير علمه بجواز
التقليد حتى في مسألة جواز التقليد، فان مرجعه إلى ارتكاز الخلف في ذهنه، لأنه
حينئذ مقلد في جواز التقليد لا أن مستنده في جواز التقليد ما ارتكز في ذهنه
واستقل به عقله.
فاللازم بيان ما يتخيل في وجه المنع ودفعه.
فنقول: كما أن التقليد في مسألة جواز التقليد، وتقليد الأعلم في لزوم تقليد الأعلم
، وتقليد غير الأعلم في جواز تقليد غير الأعلم، كله مستلزم للدور، وتقليد
غير الأعلم في وجوب تقليد الأعلم مستلزم للخلف، وان يستلزم من وجوده
عدمه، كذلك لازم تقليد الأعلم في جواز تقليد غير الأعلم هو الخلف وشبهه،
لأن المفروض وجوب تقليد الأعلم معينا وعدم جواز تقليده غيره، فإذا جاز تقليد الأعلم
في جواز تقليد غير الأعلم لزم وجوب تقليده معينا عدم وجوب تقليده
معينا ومن حجية فتواه بالخصوص عدم حجية فتواه بالخصوص.
وبتقريب آخركما أن أصل التقليد لا يعقل أن يكون بالتقليد بل لا بد من انتهاء
التعبد إلى القطع، كذلك خصوصية المقلد إذ مجرد استقلال العقل بوجوب
التقليد مع عدم تعيين المقلد - من الجهات المعتبرة عقلا في المقلد - لا يجدي
في الاستناد الفعلي، فلا بد من أن لا تكون الخصوصية تقليدية.
ويندفع هذا التخيل بأنه مع عدم استقلال العقل بالتقليد لا يعقل وجوبه، ومع
استقلاله به لا مجال لوجوبه، والخصوصية كأصله في ذلك، فإنه مع عدم استقلال
العقل لا مجال للرجوع إلى واجدها أو فاقدها تعبدا، ومع استقلال العقل
باعتبارها لا مجال للتقليد فيها، إلا أن العقل أوجب الرجوع إلى الأعلم، لا من
حيث فاقدها، فهو احتياط من العقل، فلم يحكم العقل بوجوبه معينا - بمعنى
استقلاله بوجوبه التعييني - حتى يلزم الخلف من تقليد غير الأعلم بفتوى الأعلم،
بل معناه انه لا يستقل بجواز الرجوع إلى غيره.
470

فحيث صح الرجوع إلى الأعلم استنادا إلى أصله إلى حكم العقل استقلالا
وفي خصوصيته إلى الاحتياط، كانت الخصوصية قابلة للتقليد، كما أنها قابلة
للاجتهاد من دون لزوم حال.
نعم إن استقل عقل العامي بتعيين الأعلم بحيث يرى التسوية بينه وبين غيره
تسوية بين العالم والجاهل، كما ربما سيأتي إن شاء الله تعالى فلا محالة لا مجال
لتقليد الأعلم في هذه المسألة. فتدبر جيدا.
" أدلة قائلين بجواز تقليد غير الأعلم "
قوله: ولا اطلاق في أدلة التقليد... الخ.
تقريب الاطلاق ان شمول قوله عليه السلام - (فافهم حجتي عليكم) (1) وقوله
عليه السلام (اعتمدا في دينكما على كل مسن في حبنا كثير القدم في أمرنا) (2)
وقوله عليه السلام (انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا) (3) وقوله عليه
السلام (انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف
أحكامنا) (4) وقوله عليه السلام (واما من كان من الفقهاء إلى قوله عليه السلام
فللعوام أن يقلدوه) (5) إلى غير ذلك من الأخبار - لصورة التفاوت في الفضيلة
والاختلاف في الفتوى مما لا وجه لإنكاره، لكثرة التفاوت في الفضيلة وشيوع
الاختلاف في الفتوى.
بل لا بد من القول بشمولها لصورة الاختلاف، والا لم يكن دليل نقلي على
حجية شئ من المتعارضين.

(1) الوسائل ج 18 ص 101: حديث 9.
(2) الوسائل ج 18 ص 110، الباب 11 من صفات القاضي: حديث 45.
(3) الوسائل ج 18 ص 4: حديث 5.
(4) الكافي ج 7 ص 412 والوسائل ج 18 ص 99: حديث 1.
(5) الوسائل ج 18 ص 95، حديث 20.
471

واما المنع عن شمولها للمتعارضين - لاستلزامه المحذور - فمدفوع بأنه على
الموضوعية لا مانع من شمولها، غاية الامر هما كالواجبين المتزاحمين، والتخيير
بحكم العقل لا ينافي ظهور الأدلة في الحكم التعييني، فإنه كلا من المتعارضين
حجة بذاته معينا، والعقل يخير في تطبيق العمل على كل منهما.
واما على الطريقية فالأصل الأولى وإن كان يقتضي التساقط، لكنه بناء على
عدمه - إما للاخبار العلاجية كما في الخبرين المتعارضين، أو للاجماع كما فيما
نحن فيه - يمكن استكشاف المنجزية والمعذرية بنحو التخيير بالتقريب الذي
قدمنا بيانه في مبحث التعادل والترجيح. فراجع (1).
وربما يقال: بعدم شمولها لصورة التعارض في مثل المقبولة، والا لما سأل
السائل عما إذا اختلف الحكمان، ولكان تعيين الإمام عليه السلام للأعدل
والأفقه مخصصا لصدر الخبر.
ويندفع بان الاطلاق لصورة الاختلاف في الفتوى امر، ولصورة حكم الحاكم
على خلاف ما حكم به الآخر - لا على خلاف فتوى الاخر - امر آخر، ومورد
الكلام هو الأول، ومورد النقض والمسؤول عنه في المقبولة هو الثاني.
ومن البين ان مورد الافتراق بين الاختلاف في الفتوى، والحكم على الخلاف
هو القضاء، ولا يتصور مثله في الفتوى، كما لا يخفى.
نعم يمكن الخدشة في الاطلاق من وجهين.
أحدهما: ان مورد الاطلاقات هي الرواية دون الفتوى، بل قد عرفت أن ما فيه
مادة الافتاء والاستفتاء غير ظاهر في الفتوى المصطلح عليها المتقومة باعمال
الرأي والنظر، بل مادتها حتى بلسان الشرع كذلك، كما مر.
مضافا (إلى) ان الافتاء في الصدر الأول في مقام نشر الاحكام كان بنقل
الروايات لا باظهار الرأي والنظر بجعل الرواية المحكية مستندا لرأيه، وعليه
فالاطلاقات غير متكفلة لحال الفتوى حتى يتمسك باطلاقها.

(1) نهاية الدراية ج 3 ص 352.
472

واليه يؤل الجواب الأول في المتن حيث قال قدس سره: بعد الغض عن
نهوضها إلى آخره.
لكنه بالتقريب المزبور، لا بما افاده عند المناقشة في دلالتها على لزوم التقليد
أو جوازه.
ثانيهما: أن الاطلاقات وإن كانت شاملة للفتوى - بالمعنى المصطلح عليه -
ولصورتي التفاوت في الفضل، والاختلاف في الرأي، لكن مقتضاها الحجية
الذاتية الطبعية، لا الفعلية لئلا يلزم منها محذور الاستحالة.
الا أن يقال إن الاطلاقات كما أنه لها الظهور في شمول المتعارضين وفي
الحجية التعينية كذلك لها الظهور في الحجية الفعلية. والانشاء بداعي بيان المالك
خلاف الظاهر.
فهنا ظهورات ثلاثة، لا ترجيح لبعضها على بعض. فتدبر.
وأما الجواب الثاني في المتن فمرجعه إلى أن مفاد الأدلة هي الحجية
الاقتضائية الطبعية، فهي متكلفة للانشاء بداعي جعل الداعي مثلا لكنه مهملا،
من دون نظر إلى الطواري، والعوارض بخلاف الحجية الذاتية، فإنها ثابتة مع كل
عارض، إلا أنها غير فعلية بنحو التعيينية. وعلى اي حال لابد من رفع اليد عن
بعض هذه الظهورات.
" في بيان استدلال المانعين عن تقليد غير الأعلم ورده "
قوله: وأما الثاني فلان الترجيح (مع المعارضة) في مقام الحكومة...
الخ.
لا يخفى عليك ان الاستدلال بمثل المقبولة تارة بدعوى الملازمة بين الحكم
والفتوى، فحينئذ يصح الجواب بابداء الفارق بينهما كما في المتن، وأخرى
بدعوى شمول الحكم للقضاء والإفتاء فلا مساس حينئذ لإبداء الفارق.
473

أما الملازمة بين الحكم والفتوى باعتبار الأفضلية في كل منهما - كما ادعاها
جماعة، بل ادعى الاجماع على التلازم بين الرجوع إلى الأفضل والترافع عنده -
فمدفوعة بأنه لا دلالة للمقبولة على لزوم الترافع عند الأفضل حتى يجب اخذ
الفتوى منه بالملازمة لان غاية دلالتها عدم نفوذ الحكم مع حكم الأفضل
بالخلاف، لا أن وجود الأفضل ومخالفته في الفتوى يمنع عن الترافع عند غيره،
حتى يمنع عن الرجوع إلى المفضول في مرحلة الاستفتاء بالملازمة.
مع أن الاجماع على التلازم غير ثابت، ونقله غير مجد، خصوصا بعد احتمال
استفادة لزوم الترافع عند الأفضل من المقبولة.
مع أن اعتبار الأفضلية في مقام الحكومة لا يوجب اعتبارها في مرحلة الفتوى
مع أن اعتبارها في مقام الحكم على الخلاف غير اعتبارها بمجرد الاختلاف.
فكما أن الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة انما هو بعد الحكم على
الخلاف لا بمجرد الاختلاف، كذلك الترجيح بالأفقهية والأعدلية، فالكل ليس
من المرجحات الابتدائية حتى يجدي فيما نحن فيه.
والحاصل انه لا موجب للتلازم بين الحكم والفتوى في نفسه، ولذا يجوز
ترافع المجتهدين إلى ثالث، ولا يجوز تقليد المجتهد لمجتهد آخر، ويجوز الافتاء
بالخلاف على ما أفتى به الآخر، ولا يجوز الحكم بخلاف ما حكم به الاخر،
وتوضيح هذا الاجمال أن الملازمة المدعاة هنا إن كانت بين عدم جواز الترافع
إلى المفضول مع وجود الأفضل وعدم جواز الاستفتاء من المفضول مع وجود
الأفضل.
ففيه أن عدم جواز الترافع غير ثابت بالمقبولة كما مر، ولا يغيرها، بل ظاهر
الاخبار والآثار على خلافه، فلا موقع للملازمة.
مع لزوم تخصيصها بالشبهة الحكمية، وكون الحكم أو الفتوى من الأفضل
مخالفا لما يصدر من المفضول، إذ لا ينبغي الريب في عدم لزوم الاستفتاء من
الأفضل مع عدم مخالفة فتواه لفتوى المفضول، مع أن من يقول بتعين الأفضل
474

للمرافعة لا يخصصه، بما ذكرنا، بل لا فرق عنده بين الشبهة الحكمية وغيرها،
ومخالة الأفضل وعدمها.
وان كانت الملازمة بين عدم نفوذ حكم المفضول مع حكم الأفضل بخلافه،
وعدم حجية فتوى المفضول مع فتوى الأفضل بخلافه، ففيه: أن اعتبار الأفضلية
في مقام الحكومة ان كان لخصوصية الحكومة وفصل الخصومة وانها منصب
الأفضل فحينئذ لا فرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية، ولا بين اختلافهما في
الفتوى وعدمه، ولا بين صدور الحكم من الأفضل بالخلاف وعدمه، فلا موقع
للملازمة لكون المخالفة في الفتوى أجنبية عن اعتبار الأفضلية، فلا يسري إلى
الفتوى.
وان كان اعتبار الأفضلية في مقام الحكومة لكون الشبهة حكمية، وفصل
الخصومة بالفتوى المخالفة لفتوى الأفضل، فالعبرة بمرحلة الفتوى لا بمرحلة
القضاء بما هو قضاء، ففيه أن اعتبار الأفضلية في مقام الفتوى الفاصلة للنزاع مع
فتوى أخرى في هذه المرحلة لا يلازم اعتبارها في الفتوى، بما هو فتوى، ولذا
قلنا أن فتوى مجتهد ليست حجة على مجتهد اخر لكنها نافذة عليه في مقام
الخصومة، ومقتضى الاعتبار أيضا اعتبارها في مرحلة فصل الخصومة، حيث لا
يرتفع نزاع المتخاصمين بالتخيير بين الحكمين بل بتعين أحد الحكمين.
نعم الملازمة التعبدية بين نفوذ الحكم وحجية الفتوى باعتبار الأفضلية في كل
منهما معقولة إلا أنه لا دليل عليها إلا ما يحكي من الاجماع (1)، وعهدته على
مدعيه، هذا كله إن كان الاستدلال بالمقبولة بعنوان الملازمة.
وأما إن كان بعنوان شمول الحكم للفتوى أيضا كما في قوله تعالى (ومن لم
يحكم بما انزل الله...) (2) الخ خصوصا بملاحظة ان المورد شبهة حكمية
ولذا اختلف الحكمان مستندين إلى حديثين مختلفين، وبملاحظة ان

(1) انظر مجموعة رسائل: رسالة الاجتهاد والتقليد للشيخ الأعظم - قدس سره - 77.
(2) المائدة: 44 و 45 و 47.
475

الترجيحات المذكورة في المقبولة مناسبة للفتوى دون القضاء.
مع أن التحري في مستند الحاكم غير معهود في باب القضاء، فلا مجال لكل
ذلك إلا بحمل المقبولة على فصل النزاع بفتوائين متعارضين، لا بحكمين
متنافيين.
وبعبارة أخرى نفس الفتوى فاصلة للنزاع، لا إنشاء الحكم مستندا إلى فتواه
المستندة إلى الخبر.
وبه تندفع الاشكالات المتوهمة من المقبولة المنافية لما تقرر في باب القضاء.
ففيه أن الحكم في لسان الشرع كذلك، إلا أنه في خصوص المقبولة ليس
كذلك كما في قوله عليه السلام (ما يحكم له فإنما يأخذه سحتا وإن كان حقه
ثابتا) (1) إلى غير ذلك من الشواهد.
واما حمل مورد المقبولة على الفتوى تفصيا من الاشكالات فمدفوع بأن
التفصي لا ينحصر في ذلك بل حملها على فصل الخصومة بنقل الخبر الفاصل
أيضا دافع للاشكالات، فيخرج مورد المقبولة عن القضاء والفتوى معا.
بل قد مر أن المتعارف في الصدر الأول هو القضاء والافتاء بنقل الرواية،
والأمر بالترجيحات بملاحظة الرواية، لا بملاحظة الفتوى، ولا القضاء.
ولا ينافيه الترجيح بالأفقهية بتوهم مساسها باعمال الرأي والنظر لا بنقل
الخبر، وذلك لأن الروايات حيث أنها منقولة بالمعنى غالبا فللأفقهية دخل في
مطابقة النقل لما اراده الإمام عليه السلام.
وبما ذكرنا ظهر وجه آخر للجواب عن الملازمة المدعاة في التقريب المتقدم.
هذا كله مضافا إلى أن ملاحظة المرجحات في مرحلة الفتوى الصادرة في
مقام فصل الخصومة للنكتة المتقدمة لا يقتضي اعتبارها في الفتوى بما هي.
فتدبر.
ومنه تعرف أن عبارة الكتاب قابلة لنفي الملازمة بين الحكم والفتوى كما في

(1) الوسائل ج 18 ص 4: باب 1 من أبواب صفات القاضي: حديث 4.
476

التقريب الأول، وقابلة للفرق بين الفتوى الفاصلة للنزاع، ومطلق الفتوى وان كان
ظاهرها الأول.
قوله: أما الصغرى فلان فتوى غير الأفضل... الخ.
يمكن أن يقال ان الفتوى إذا كانت حجة شرعا أو عقلا لأجل إفادة الظن
بالحكم وانه أقرب إلى الواقع من غيره فلا محالة ليس لأجل مطلق الظن بحكمه
تعالى - ولذا لا يجوز عملي العامي بظنه - بل لأجل أنه خصوص ظن حاصل من
فتوى المجتهد المستند إلى حجة قاطعة للعذر، فما هو الحجة عقلا أو شرعا هو
الظن الخاص، دون الظن بما أفتى به المجتهد وان لم يحصل من فتوى المجتهد.
وعليه فدعوى الفرق بين الأقربية الداخلية والخارجية في نظر العقل - الحاكم
بحجية خصوص الظن الحاصل من فتوى المجتهد الذي يجب الرجوع إليه - في
كمال القوة.
وأما الظن الأقوى الحاصل في مطابقة فتوى الحي المفضول للأفضل من
الأموات، فحيث انه متقوم بفتوى من لا حجية لفتواه، فهو كالظن الحاصل من
سائر الامارات الغير المعتبرة أو المتقوم بما هو كذلك، فلا عبرة بقوته، كما لا عبرة
بأصله لو كان كذلك حتى في نظر العقل، لفرض الخصوصية في نظره.
وأما الأقوائية الحاصلة من مطابقة فتوى المفضول لغيره من الاحياء فهي غير
مسلمة إذ المطابقة لا محالة لوحدة المدرك وتقارب انظارهم وأفكارهم، فالكل
في قوة نظر واحد، ولا يكشف توافق آرائهم عن قوة مداركهم من مدرك الأفضل
والا لزم الخلف لفرض اقوائية نظر الأفضل من غيره في مرحلة الاستنباط بجميع
جهاته وشؤونه.
ومنه تعرف فساد قياس المورد بالخبرين المتعارضين المحكي أحدهما
بطرق متعددة دون الاخر، إذ ليست الحكايات المتعددة بمنزلة حكاية واحدة
فلا محالة يوجب كل حكاية الظن بصدور شخص هذا الكلام من الإمام عليه السلام
، ولا يلزم منه الخلف كما كان يلزم فيما نحن فيه.
477

قوله: وأما الكبرى فلان (ملاك) حجية قول الغير... الخ.
ان أريد أن القرب إلى الواقع لا دخل له أصلا فهو خلاف الطريقية الملحوظة
فيها الأقربية إلى الواقع في امارة خاصة من بين سائر الامارات.
وإن أريد أن القرب إلى الواقع بعض الملاك وأن هناك خصوصية أخرى
تعبدية فهو غير ضائر بالمقصود، لأن فتوى الأفضل وإن كانت مساوية لفتوى
غيره في تلك الخصوصية التعبدية، إلا أنها أقوى من غيرها في حيثية القرب الذي
هو بعض الملاك، فان الأرجح لا يجب أن يكون أقوى من غيره من جميع
الجهات، بل إذا كان أرجح من جهة فهو بقول مطلق أرجح من غيره.
هذا إذا كانت تلك الخصوصية التعبدية مما يتقوم بها الملاك، وكانت جزء
المقتضي.
وأما إن كانت شرطا لتأثير القرب إلى الواقع في جعل الامارة حجة فالأمر
أوضح، إذ العبرة في القوة والضعف بحال المقتضي دون الشرط، كما مر في
مبحث التعادل والترجيح (1).
ومنه يظهر فساد القياس بمثل البصر والكتابة - إذا اعتبرا في القاضي فإنه لا
يرجح الأقوى بصرا أو الأجود خطا على غيره.
فكذا هنا، فان تمام الملاك كونه عارفا بالأحكام، فكون أحد المفتيين أعرف
بالأحكام من الاخر لا يوجب الترجيح لوجود ما هو الملاك بحده في غيره من
دون زيادة في الأعرف ولا نقص في العارف.
وجه الفساد أن المعرفة في الافتاء هو الملاك والمقتضي للحجية، فيؤثر قوته
في رجحانه وتقديمه، بخلاف البصر والكتابة بل العدالة في القاضي فإنها شرائط
والمقتضي لتعينه علمه بموازين القضاء.
مضافا إلى أن المراد بالأعلم هنا إن كان أقوى معرفة - بحيث لا تزول بتشكيك
المشكك، لقوة مبني عرفانه - فالامر كما في البصر والكتابة، فان قوة البصر وجودة.

(1) نهاية الدراية ج 3 ص 380.
478

الخط لا تأثير لهما في مرحلة القضاء بل المؤثر اصلهما، وكذا أصل المعرفة
بالحكم له تأثير في ايجاب العمل على طبقها، ولا اثر لقوة المعرفة.
وأما إن كان المراد بالأعلم من كان أحسن استنباطا من غيره لكونه أقوى نظرا
في تحصيل الحكم من مداركه الشرعية والعقلية من حيث مبادئ تحصيله
وكيفية تطبيقه على مصاديقه، فحينئذ لا مجال للقياس، فان الأعلم بهذا المعنى
أكثر إحاطة بالجهات الموجبة للاستنباط المغفولة عن غيره لقصور نظره، وإن كان
نظره القاصر حجة عليه وعلى مقلده ذاتا.
فمرجع أمر التسوية بين الأعلم وغيره إلى التسوية بين العالم والجاهل، لقصور
نظر غيره عما وصل إليه الأفضل مما يوجب الفتوى بثبوت الحكم أو نفيه.
ومنه ينقدح وجه لتعين الأعلم وإن لم نقل بأقربية فتواه إلى الواقع ولم نقل بان
الملاك كلا أو بعضا هو القرب إلى الواقع، وهو أنه قد تقدم منا - في وجه لزوم
التقليد عقلا (1) - أنه من لم يكن حجة يجب استناده إلى من له الحجة.
وحيث أن فتوى الأعلم أوفق بمقتضيات الحجج الشرعية والعقلية لبلوغ نظره
إلى ما لم يبلغ نظره غيره - لفرض الأعلمية - فيكون بالإضافة إلى غيره كالعالم
بالإضافة إلى الجاهل، فيتعين في مقام ابراء الذمة لا لقصور حكم العقل، بل
لإذعانه - بمقتضى فرض الأعلمية، وكون المجتهد ذا حجة على الحكم - بكون
رأيه أوفق بمقتضيات الحجج وأن التسوية بينه وبين غيره يؤل إلى التسوية بين
العالم والجاهل.
" عدم جواز تقليد الميت للأصل والاجماع "
قوله: للشك في جواز تقليد الميت والأصل عدم... الخ.
هذا بالإضافة إلى الملتفت إلى مقتضيات الأدلة الشرعية.

(1) نهاية الدراية ج 3 ص 462.
479

وأما بالنسبة إلى العامي فالحامل له على تقليد الحي بالخصوص، هو الحامل
له على أصل التقليد، وهو: عدم اليقين بابراء الذمة إلا بالتقليد الحي، كما لا يقين له
به إلا بالتقليد في قبال غيره.
ولا فرق في هذه المرحلة بين كون الميت أفضل من الحي وعدمه - بتوهم ان
فتوى الأفضل أقرب إلى الواقع من فتوى غيره، ولا يعقل التفاوت في الأقربية بين
الموت والحياة.
ويندفع بان وجه حكم العقل هنا ليس أقربية فتوى الأفضل، كما أنه في الحي
بالإضافة إلى الميت ليس القرب إلى الواقع مناطا وملاكا في نظر العقل أصلا، بل
وجه حكم العقل واقتصاره على الحي، وعلى الأفضل كون تقليد الحي بالنسبة
إلى الميت مقطوعا به من حيث كونه مبرء للذمة، وكون تقليد الأفضل بالإضافة
إلى غيره كذلك، ولو لدعوى الاجماع في المقامين.
ونتيجة الامرين عدم اليقين بالبراءة إلا بتقليد الحي الأفضل من غيره، لا اليقين
ببراءة الذمة بتقليد الحي في نفسه وببراءة الذمة بتقليد الأفضل في نفسه ليلزم
التخيير، أو لأجل الأقربية ليتعين تقليد الأفضل وإن كان ميتا، إذ لا يعقل اليقين
ببراءة الذمة مهملا ولا يقين بها مطلقا، فلا موجب للتخيير وليست الأقربية ملاكا
فلا موجب للتعيين فافهم جيدا.
نعم بناء على ما سلكناه أخيرا في تقريب حكم العقل بتعين الأعلم يلزم القول
بتعين الأعلم وان كان ميتا، وبالتخيير بين الحي والميت مع عدم التفاضل، إذ بناء
على هذا الوجه لا تعين للحياة أصلا.
فإما أن نقول باشتراط الحياة فلا يتعين الأعلم إن كان ميتا وإما أن لا نقول
باشتراطها فلا يتعين الحي إن لم يكن هناك اعلم، بل يتخير بين الحي والميت،
فالتفصيل بين ما إذا كان الميت أفضل فيتعين الميت والا فيتعين الحي بلا وجه.
480

" في الاستدلال على جواز التقليد "
قوله: استصحاب جواز تقليده في حال حياته... الخ.
ربما يتوهم أن ظنون المجتهد وادراكاته - التي هي موضوع وجوب العمل
على طبقها - مما تزول بالموت، بل عن الوحيد البهبهاني - قدس سره - زوالها عند
النزع، وانها نزول بالغفلة والنسيان، فكيف بالموت الذي يصير الذهن معه جمادا
لا حس فيه.
وأجيب عنه وعن أمثاله بان القوة العاقلة من قوى النفس الناطقة، وقد برهن
على تجردها وبقائها بعد خراب البدن، وان القوة المدركة ليست من القوى
الجسمانية فضلا من أن تكون من الأجسام كما هو ظاهر كلام التوحيد - قدس سره -
والتحقيق أن الجسم - بما هو جسم - كل جزء منه يغيب عن الجزء الآخر فضلا
عن غيره، فلا معنى لأن ينال شيئا ويدركه، فتوهم كونه جسما سخيف جدا.
وأما كونه جسمانيا أو لا؟ فنقول:
فقد حقق في محله أن العاقلة بما هي مدركة للكليات ربما هي عقل بالفعل لا
يحتاج إلى مادة جسمانية - لا في ذاته ولا في فعله - فالنفس في أول حدوثها
انسان بشري طبيعي يحتاج إلى مادة جسمانية، لكنها عقل هيولاني وبالقوة، فإذا
خرجت من القوة إلى الفعل ومن المادية إلى الصورية وصارت عقلا بالفعل فلا
محالة هي غير مرهونة بمادة، فهي في هذه المرحلة خارجة عن عالم المواد ودار
الفساد، فلذا لا خراب لها بخراب البدن.
الا أن هذا المقدار من التجرد للقوة العاقلة لا يجدي فيما نحن فيه بل لا بد من
الالتزام بتجرد قوتي الخيال والوهم تجردا برزخيا مثالثا، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن القضايا المدركة للمجتهد وإن كانت في حد ذاتها قابلة للتجريد
التام بحيث تدخل في الكليات المجردة القائمة بالقوة العاقلة التي لا شبهة في
تجردها عن المادة، لكن الأذهان المتعارفة تنتقل من الاحساس بالجزئيات
481

المحسوسة إلى صورها الجزئية في الخيال أو إلى المضاف إلى جزئي في الوهم،
فهي مجردة عن المادة فقط، لا عن الصور والخصوصيات الحافة بالجزئيات
المحسوسة.
ومجرد قابليتها للتجريد التام لا يجعلها مجردة بحيث تناسب القوة العاقلة
حتى تكون باقية ببقاء القوة العاقلة، بل باقية ببقاء قوتي الخيال والوهم فلا بد من
اثبات تجرد القوتين وبقائهما حتى يجدي في بقاء مدركاتها.
وثانيهما: أن آراء المجتهد وإن فرضت كلية قابلة للقيام بالعاقلة، إلا أنها غالبا
منبعثة عن مدارك جزئية من آية خاصة، أو رواية مخصوصة لا قيام لهما إلا بغير
العاقلة، وتلك الآراء لا تكون حجة إلا إذا كانت مستندة إلى تلك المدارك بقاء،
كما كانت حدوثا.
فكما أن قيامها بالمجتهد مع زوال مداركها بالمرة يخرجها عن الحجية حال
حياته، كذلك، إذا زالت مداركها بزوال القوة المدركة لها بعد وفاته، لأن المفروض
عدم تجرد ما عدا القوة العاقلة، فلا مناص عن الالتزام بتجرد قوتي الخيال والوهم
المدركتين للصور الجزئية والمعاني الجزئية والمعاني تجردا برزخيا، وهو وإن كان خلاف
المعروف في فنه إلا أنه مما اقتضاء البرهان كما شيد أركانه بعض الأركان (1).
ثم إنه بناء على تجرد القوة المدركة ينبغي التفصيل بين ما إذا كانت الحجة
على المجتهد ومقلده ظنونه وادراكاته المتعلقة بالحكم الواقعي، وما إذا كانت
الحجة قطعه بالحكم الظاهري المماثل للحكم الواقعي.
فإنه على الثاني منتف قطعا، لا لفناء القوة المدركة بفناء البدن، بل لانكشاف
الواقع نفيا واثباتا، فلا جهل بالواقع فلا قطع بالحكم المماثل، بخلاف الأول فإنه
محتمل البقاء فيستصحب وترتب عليه جواز تقليده.
وانكشاف الواقع حينئذ غير ضائر، لأن انقلاب الظن إلى القطع خروج من حد
الضد إلى الشدة، وفي مثله الموضوع باق ذاته - لا بحده - فلا يمنع عن

(1) راجع الاسفار الأربعة ج 3: ص 475 وج 8: ص 291.
482

الاستصحاب.
وانقلاب ظنه إلى القطع بالخلاف محتمل، ولا يمنع من الاستصحاب، كما عن
السيد العلامة الداماد - قدس سره - بل يحققه فان المراد استصحاب نفس
موضوع الحكم وهو رأي المجتهد فيتعبد حينئذ بحكمه وهو جواز التقليد.
واما ما عن بعض الاعلام في تقريراته لبحث شيخه العلامة الأنصاري قدس
سرهما (1): من أن الاعتقاد الحاصل بالكشف والشهود من الموت لا دليل على
حجيته على المقلد، فيدور الامر بين ما هو زائل أو باق غير حجة.
فمندفع: بان الكشف والشهود الذي لا دليل على حجيته لغير صاحبه هو
الذي يحتمل عليه الخطاء على صاحبه كما في الحاصل لبعض المرتاضين لا
الحاصل بالموت. فالأمر دائر بين بقاء رأيه واعتقاده بنحو موافق للواقع جزما
بحيث لا شك فيه، أو زواله رأسا مع القطع ببقاء القوة المدركة.
قوله: أو ارتفع لمرض أو هرم اجماعا... الخ.
سيأتي (2) إن شاء الله تعالى بيان عدم ارتفاعه بمرض أو هرم حقيقة، وإلا لكان
ارتفاعه بالموت قطعيا كما سيجئ منه - قدس سره - دعوى الأولوية، فلا يبقى
مجال لاستصحاب بقاء الرأي، ولا لاستصحاب جواز العمل به. فانتظر.
قوله: كاف في جواز تقليده في حال موته... الخ.
وجه الكفاية تارة استصحاب جواز العمل على طبق الرأي حال حدوثه، ولا
نعني بالموضوع إلا ذلك الرأي السابق الثابت له الحكم مهملا، وأما الحاجة إلى
احراز بقاء الرأي وجدانا أو تعبدا فإنما هو بعد الفراغ عن لزوم بقائه حال العمل،
ولو للاجماع المتقدم في كلامه.
وأخرى التمسك بالاطلاقات، كما هو أحد الوجهين في اثبات جواز تقليد
الميت ابتداء.

(1) راجع مطارح الأنظار: رسالة تقليد الميت: ص 284.
(2) ج 3 ص 486.
483

وتقريبها: أن الآيات المقتضية للرجوع إلى أهل الذكر (1) أو التحذر بالانذار (2)
والروايات المقتضية لتقليد من كان من الفقهاء... الخ. والرجوع إلى رواة
الأحاديث (3) والاعتماد على كل مسن في حبهم (4) وغير ذلك وان كانت ظاهرة
بل صريحة في أن المسؤول عنه والمنذر والفقيه والمرجع حي، إلا ان دعوى
الاطلاق غير متوقفة على تجريد تلك الموضوعات عن الحياة، بل المدعى انها لا
ظهور لها في توقف وجوب القبول - بعد الجواب، ووجوب التحذر بعد الانذار،
ووجوب التقليد بعد الاخذ من الفقيه ووجوب الاعتماد بعد اظهار الرأي - على
حياة المجيب والمنذر مثلا حال القبول والعمل، فبعدم تقيدها بذلك يستكشف
اطلاقها لصورتي الحياة والموت حال العمل. هذه غاية التقريب.
ويمكن أن يقال إن ظاهر قول القائل: " اعمل على رأي فلان والتزم به " من
دون تقييد وعناية هو العمل على طبق الرأي حال العمل، والا لكان عملا بغير
الرأي، نعم يقبل التقييد بان يقول اعمل على طبق الرأي السابق.
وعليه فنقول إن كانت الأدلة المزبورة مسوقة لحجية الرواية فالاطلاقات على
حالها غير منافية لما ادعينا - من الظهور - لأن الحكاية لا زوال لها، فالحكم بعد ما
صار محكيا ومخبرا به فهو على حاله إلى الأبد، فهو محكي عنه، مات الحاكي أم
لا.
وان كانت مسوقة لحجية الرأي - فحيث أن الرأي يتطرق إليه الزوال - فمقتضى
ظهورها في تعلق العمل بالرأي من غير تقييد لزوم بقاء الرأي حال تعلق العمل به،
فان كان باقيا - وجدانا أو برهانا - فهو والا فلا بد من استصحاب بقائه.
ومنه تبين أن الاطلاقات لا تغني عن الاستصحاب.

(1) الأنبياء 7، والنحل 43.
(2) التوبة: 122.
(3) الوسائل ج 18 ص 108: حديث 9.
(4) الوسائل ج 18: ص 110: حديث 45.
484

قوله: لكنه لا يخفى انه لا يقين بالحكم شرعا... الخ.
توضيح المقام ان مقتضى حجية الرأي والفتوى كسائر الامارات إما جعل
الحكم المماثل لما أفتى به على اي تقدير - من موافقة الواقع وعدمها - كما هو
لازم موضوعية الامارة.
وإما جعل الحكم المماثل لكنه بعنوان ايصال الواقع فلا محالة يكون مقصورا
على صورة الموافقة، حيث لا واقع في غيرها ليكون ايصالا له، كما هو لازم
الطريقية، مع التحفظ على ظاهر الانشاء حيث إنه - لولا القرينة - بداعي جعل
الداعي.
وإما جعل المنجزية والمعذرية، فيدور مدار موافقة الواقع، كما هو مبنى
الطريقية، ومقتضى لسان بعض الأدلة كقوله عليه السلام (فإنهم حجتي عليكم
وأنا حجة الله) (1) وقوله عليه السلام (لا عذر لاحد من موالينا... الخبر) (2).
فان كان الأمر كما في الأول فالاحكام المقلد فيها احكام حقيقة فعلية متيقنة،
فلا مانع من استصحابها من حيث تقوية اليقين والشك. نعم من حيث تعلقها
وتقومها برأي المجتهد امر آخر سنتكلم فيه إن شاء الله تعالى.
وإن كان الامر كما في الثاني والثالث فلا يقين بالحكم لا واقعا ولا تعبدا على
اي تقدير، بل مجرد احتمال ثبوته عند قيام الامارة على تقدير موافقتها، فلا بد
من توسعة في دائرة الاستصحاب حتى تكون له المجال هنا وفي أمثال المقام.
وقد فصلنا الكلام فيه في ذيل ما علقناه على التنبيه الثاني من تنبيهات
الاستصحاب وبينا ما هو الوجه هناك، فراجع (3) تجده وافيا بالمرام إن شاء الله
تعالى.

(1) الوسائل ج 18: ص 101: حديث 9.
(2) الوسائل ج 18: ص 108: حديث 40.
(3) نهاية الدراية ج 3 ص 152.
485

قوله: أن الاحكام التقليدية عندهم... الخ.
تقريبه أن موضوع الحكم الواقعي وان كان مثلا هو القصر أو الاتمام إلا أن
الوجوب الفعلي لم يتعلق به بما هو، بل بعنوان وجوب اتباع الرأي بلسان
وجوب التقليد ووجوب القبول وأشباه ذلك، فهو جعل الحكم المماثل لما يراه
المجتهد حكما فعليا فموضوعه الدليلي ما يراه المجتهد واجبا.
وحيث أن العرف يرون المقلد متمسكا برأي المجتهد فلا يرونه عالما بالحكم
الفعلي بقول مطلق، بل عالما بحكمه في رأي مجتهده، لا أنه ليس عالما بالحكم
مطلقا حتى ينافي فرض جعل الحكم المماثل. فالموضوع العرفي هنا يوافق
لموضوع الدليل.
وبهذا التقريب أيضا يمكن منع الاستصحاب على تقدير تنجيز الواقع، فان
العرف يرون الحكم الواقعي منجزا بالرأي ما دام الرأي لا أن الرأي ينجزه وان زال
بعده.
وقد مر فساد الرأي بالرواية فان النقل والحكاية لا زوال له، بخلاف الرأي.
قوله: لم يجز في حال الموت بنحو أولى قطعا... الخ.
تقريب الأولوية أن المرض والهرم من أن فيهما اختلال بعض القوى إذا كانا
موجبين لزوال الرأي الموجب لعدم جواز التقليد الذي يختل به جميع
القوى يوجب زوال الرأي الموجب جواز التقليد بالأولوية القطعية.
أقول: الملاك في عدم جواز التقليد في المرض والهرم ان كان زوال الرأي
فالحق فيهما وفي الموت عدم زوال الرأي، فان الادراكات باقية في محالها.
والنفس بسبب اشتغالها بتدبير البدن أو التوجه إلى نشأة أخرى لا يمكنها
ترتب الأثر عليها، كما أنها كانت في حال النوم.
فمجرد عدم القدرة على ترتيب الأثر لا يكون دليلا على زوال المدركات، والا
فمن المستحيل بحسب الحكمة الإلهية والعناية الربانية أن تزول العلوم
والمعارف - الحاصلة للانسان في مدة مديدة من العمر بعد اتعاب شديد
486

ومجاهدات عظيمة في مقام القوة النظرية وتحصيل الملكات والأخلاق الفاضلة
- بمجرد المرض أو الهرم في آخر العمر أو بسبب الموت، مع أن الدنيا مزرعة
الآخرة، والمعرفة بذر المشاهدة.
بل الصحيح أن علاقة النفس مع البدن حجاب قوي ومانع شديد. فإذا زال
المانع وارتفع الحجاب كانت العلوم كلها حاضرة عنده مشهودة لديه.
نعم تزول الادراكات والملكات بسبب الانهماك في الشهوات والتوجه إلى ما
يضادها.
وان كان الملاك لعدم جواز التقليد - في المرض والهرم - عدم التمكن من
اعمال القوة النظرية، فلا يقدر بالفعل على رد الفرع إلى أصله، وهو معنى زوال
ملكة الاجتهاد، فمن البين بعد التأمل ان هذا الوجه مختص بالمرض والهرم، ولا
يعم الموت، لأن انقطاع علاقة النفس مع البدن وارتفاع الشواغل المانعة عن
القدرة الفعلية يوجب كون النفس أقدر على رد الفرع إلى أصله من حال حياته.
ولعل أمره - قدس سره - بالتأمل للإشارة إلى بعض ما ذكرنا.
قوله: ومنها الاطلاقات الدالة... الخ.
قد عرفت تقريب دلالتها والجواب عنه. فلا حاجة إلى الإعادة.
وهذا آخر ما ساعده التوفيق من التعليق على ما افاده شيخنا واستاذنا العلامة
رفع الله مقامه في دار المقامة، والحمد لله أولا وآخرا والصلاة على نبيه محمد
صلى الله عليه وآله باطنا وظاهرا. كتبه بيمناه الدائرة المفتقر إلى عفو ربه في
الآخرة محمد حسين الأصفهاني.
487