الكتاب: الوافية
المؤلف: الفاضل التوني
الجزء:
الوفاة: ١٠٧١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: السيد محمد حسين الرضوي الكشميري
الطبعة: الأولى المحققة
سنة الطبع: رجب ١٤١٢
المطبعة: مؤسسة إسماعيليان
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
ردمك:
ملاحظات:

الوافية
في أصول الفقه
للفاضل التوني
المولى عبد الله بن محمد البشروي الخراساني
المتوفى سنة 1071 ه‍.
تحقيق
السيد محمد حسين الرضوي
الكشميري
1

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة
مجمع الفكر الاسلامي
قم - سه رآه موزه - جنب مسجد محمدية - ت 23683
ص. ب 3654
الكتاب: الوافية في أصول الفقه
المؤلف: الفاضل التوني قدس سره
المحقق: محمد حسين الرضوي الكشميري
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
الطبعة: المحققة الأولى / رجب 1412 ه‍ - ق
صف الحروف والاخراج الفني: كمبيوست الحوراء (ع) - قم
ليتوغرافي: تيزهوش
المطبعة: مؤسسة اسماعيليان
الكمية: 2000 نسخة
السعر: 3500 ريال
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله
الطاهرين.
يقدم مجمع الفكر الاسلامي للمكتبة الاسلامية عامة وللمكتبة الأصولية
خاصة كتاب " الوافية " في علم أصول الفقه لاحد فحول الامامية، وهو المولى عبد
الله بن محمد البشروي الخراساني المعروف بالفاضل التوني من أعلام القرن الحادي
عشر الهجري. وهو من خيرة المتون الأصولية من حيث المنهجية وصياغة المطالب
والاعتماد على مبان جديدة.
يمثل كتاب " الوافية " قمة التطور لعلم أصول الفقه في القرن الحادي عشر
لدى علماء الإمامية ويمتاز بالابداع والابتكار، كما يمتاز بالالتفات إلى كتب الأصول
للمذاهب الأخرى. وقد تصدى فيه مؤلفه للحركة المناهضة لعلم الأصول في عصره
فكان سدا منيعا أمام هذا التيار الذي كاد أن يوقف حركة الاجتهاد في ذلك العصر.
ويمتاز " الوافية " بكونه كتابا أعده مؤلفه للتدريس وتربية الطلاب وتيسير
وصولهم إلى مرتبة الاستنباط.
وقد تصدى العلامة السيد محمد حسين الرضوي الكشميري لتحقيقه واخراجه
بأحسن وجه ممكن احياءا للتراث الاسلامي المعطاء وخدمة لشريعة سيد المرسلين.
فشكر الله سعيه وتقبل منه جهده انه ولي التوفيق وهو المسدد للصواب وهو حسبنا
ونعم النصير.
غرة رجب المرجب 1412 ه‍. ق
مجمع الفكر الاسلامي
5

الاهداء
إليك يا حجة الله
أهدي هذا المجهود المتواضع.
سيدي:
ولما رأيت الناس شدوا رحالهم * إلى بحرك الطامي أتيت بجرتي
المحقق
6

مقدمة التحقيق:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى
آله الطيبين الطاهرين.
وبعد، فإن الله تعالى لما اختار لوليه الغيبة، من على الأمة بطائفة نفرت للتفقه
في الدين، لتنوب منابه، ولتكون نجوما يهتدى بها.
فقد حفظ هؤلاء شرع سيد المرسلين، وحملوا أعباء الرسالة، وشيدوا علوم
الدين، فهم حقا حصون الاسلام وجنوده.
ولقد وفقهم الله تعالى - لما لهم من الاخلاص في النية - غاية التوفيق، فقاموا
بهذه المهمة خير قيام.
وقد تمخضت جهودهم العلمية والعملية عن مصنفات قيمة، لا يدرك غورها،
ولا تبلغ أطرافها. فقد خلفوا لنا تراثا ضخما واسعا رغم قساوة الظروف المحيطة بهم
وقلة الامكانات المتاحة لهم.
وشمل نشاطهم مختلف العلوم الدينية، ولم يقتصر على معرفة الحلال والحرام،
بل أعطوا كل علم من علوم الشريعة حقه بما تركوه من آثار خالدة فصنفوا في الكلام
7

والتفسير والحديث ورجاله والفقه إلى غير ذلك، فكانوا حقا فقهاء في (الدين) لا في
بعضه.
ثم لما كانت مسائل الفقه - من الطهارة إلى الديات - بحاجة إلى مبان موحدة
تقع كبرى في قياس استنباط الحكم الشرعي، عكفوا على هذه المباني فأسدوها عناية
فائقة، واهتماما كبيرا، فبذلوا فيها ما يناسبها من التدقيق والتأمل، وما تستحقها من
التوسع والتعمق، فعقدوا لكل منها مبحثا خاصا.
ولعمري فإنها جديرة بذلك، إذ أن النتائج المأخوذة من هذه المباحث لهي
قانون كلي تبنى عليه فروع فقهية متكثرة، فقد تترتب على المبنى الواحد مئات المسائل
الفقهية بأقسامها المتباينة وأبوابها المختلفة. فكون الامر حقيقة في الوجوب مثلا،
قانون ينطبق على كل أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات، ومن قال بدلالة النهي
على الفساد فإنه يبني عليه في شتى مسائل الفقه.
ونظرا لهذه الأهمية: جمعوا هذه المباحث في علم مستقل، أسموه (أصول
الفقه) وأفردوا له مصنفات على حدة.
ولقد كان جهدهم في هذا المجال جبارا وموفقا، حيث قد تمخض عن
مصنفات رائعة ومؤلفات فائقة، فكانت (الذريعة) للسيد الاجل المرتضى، و
(العدة) لشيخ الطائفة الطوسي، و (المعارج) للمحقق، و (النهاية) و (التهذيب) و
(المبادئ) للعلامة، ومقدمة (المعالم) للشيخ أبى منصور، علاوة على ما فقد منها وأتلف
فيما أتلف من التراث الاسلامي نتيجة تسلط الجهلاء والطائفيين، وحكومتهم على
رقاب المسلمين.
وفي طليعة المصنفات الأصولية يأتي كتابنا هذا فهو من خيرة التراث الامامي
الزاهر، الباعث على الفخر والاعتزاز. وسنأتي فيما بعد على بيان ميزاته وخصائصه
وقيمته العلمية، بما يجعله حريا بالتحقيق والبحث، جديرا بالدراسة والتحليل.
8

مع المصنف
9

لسنا بصدد وضع ترجمة مطولة للمصنف، فإن لهذا الفن أهله ورجاله، وإنما
نعرض بايجاز إلى ملامح من حياته ومكانته العلمية، مع حصر مؤلفاته، لنفرغ
للكلام عن (الوافية) نفسها.
وقد ترجم للمصنف كل من عني بتراجم علماء الشيعة الإمامية وفقهائهم، وفي
طليعتهم:
1 - معاصره، المحدث، صاحب الوسائل، الشيخ محمد بن الحسر الحر
العاملي (ت 1104 ه‍) في كتابه: أمل الآمل / القسم الثاني / برقم 477 / ص 163.
2 - ومعاصره الآخر، الميرزا عبد الله الأفندي الأصبهاني (من أعلام القرن
الثاني عشر ه‍) في كتابه: رياض العلماء وحياض الفضلاء: 3 / 237 - 238.
3 - والميرزا محمد التنكابني (ت 1302 ه‍) في كتابه: قصص العلماء /
ص 269 - 270 (فارسي).
4 - والمولوي الميرزا محمد علي الكشميري (ت 1309 ه‍) في كتابه: نجوم
السماء في تراجم العلماء / ص 193.
5 - والميرزا السيد محمد باقر الموسوي الخونساري الأصبهاني (ت 1313 ه‍)
في كتابه: روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات: 4 / 244 - 246.
6 - والمحدث الشيخ عباس القمي (ت 1359 ه‍) في كتابيه: الكنى
والألقاب: 2 / 113 و: الفوائد الرضوية في أحوال علماء مذهب الجعفرية /
ص 255.
7 - والسيد محسن الأمين العاملي (ت 1371 ه‍) في كتابه: أعيان الشيعة:
8 / 70.
8 - والميرزا محمد علي المدرس (ت 1373 ه‍) في كتابه: ريحانة الأدب في تراجم
المعروفين بالكنية أو اللقب: 1 / 356 (فارسي).
11

9 - والشيخ آقا بزرك الطهراني (ت 1389 ه‍) في كتابه: طبقات أعلام
الشيعة / القرن الحادي عشر / ص 342.
10 - وعمر رضا كحالة (ت 1408 ه‍) في كتابه: معجم المؤلفين: 6 / 113.
ونجمل ما جاء عنه، تحت العناوين التالية:
عنوانه في كتب التراجم والأصول:
عنونه الشيخ الحر العاملي ب‍: " مولانا عبد الله بن محمد التوني البشروي ".
وذكره بهذا العنوان أيضا: الميرزا عبد الله الأفندي، والسيد الخونساري، وزاد
الأفندي: " المعروف بملا عبد الله التوني ".
وذكره السيد الأمين بعنوان: " المولى عبد الله بن الحاج محمد التوني البشروي
الخراساني ".
وعرفه التنكابني - بالفارسية - ب‍: " آخوند ملا عبد الله توني ".
وسماه الشيخ الطهراني ب‍: " عبد الله البشروئي بن محمد التوني الخراساني،
صاحب الوافية ".
وقال المحدث القمي في كتابه الكنى والألقاب: " التوني: إذا وصف به
الفاضل، فهو: المولى عبد الله بن محمد التوني البشروي ".
وبهذا العنوان - أي: الفاضل التوني - ينعت في كتب الأصول، كما سيمر
عليك.
عصره:
لم يسجل مترجموه تاريخ ولادته. أما وفاته: فقد قال السيد الخونساري: " نقل
عن خط الشيخ أحمد - أخي المصنف - أنه كتب على ظهر بعض نسخ (الوافية) ما
هذا صورته: قد وقع فراغ المصنف، قدس الله روحه وأسكنه حضيرة القدس مع
أوليائه وأحبائه، من تسويد الرسالة - التي جمعت بدائع التحقيق وودائع التدقيق -
ثاني عشر أول الربيعين من شهور سنة تسع وخمسين وألف من الهجرة، وروح الله
12

روحه في سادس عشر ذلك الشهر بعينه من شهور سنة إحدى وسبعين
وألف.... ".
وقال العلامة الطهراني: " توفي في سنة 1071 ه‍ كما يظهر ذلك من النسخة
التي كتبها علي أصغر بن محمد حسين السبزواري 1111 ه‍ الموجودة في (مكتبة الامام
أمير المؤمنين عليه السلام العامة) - في النجف الأشرف - وهي منقولة عن خط أخيه
أحمد بن محمد ".
وسيأتي أنه فرغ من تصنيف هذا الكتاب سنة (1059 ه‍).
وقد نص الشيخ الحر العاملي (ت 1104 ه‍) على معاصرته له.
موطنه ومدفنه:
قال الميرزا الأفندي: " كان قدس سره أولا بأصبهان مدة، في المدرسة المشهورة
بمدرسة المولى عبد الله التستري المرحوم، ثم سافر إلى مشهد الرضا عليه السلام،
وتوطن فيه مدة، ثم أراد التوجه إلى العراق لزيارة الأئمة عليهم السلام بها من طريق
قزوين، وأقام مدة في قزوين مع أخيه المولى أحمد، في أيام حياة المولى الفاضل مولانا
خليل القزويني بالتماسه، وكان بينهما صحبة ومودة، ثم توجه إلى الزيارة فأدركه الموت
في الطريق بكرمانشاه، ودفن بها، ولعل وفاته بعد المراجعة فلاحظ.
والتوني: - بضم التاء المثناة، ثم الواو الساكنة، وآخرها نون - نسبة إلى تون،
وهي بلدة من بلاد قهستان بخراسان (1)، وبها قلعة الملاحدة الإسماعيلية، وأنا دخلت
تلك البلدة، وكان أهلها يقولون إن هذه القلعة هي القلعة التي حبس بها الخواجة
نصير الطوسي بأمر سلطان الملاحدة فلاحظ قصته.
والبشروي: - بضم الباء الموحدة، والشين المعجمة الساكنة، ثم الراء المهملة
المفتوحة وآخرها الواو ثم الياء - نسبة إلى (بشرويه) - بضم الباء الموحدة، ثم الشين
المعجمة الساكنة، ثم الراء المهملة المضمومة ثم الياء المثناة المفتوحة، ثم الهاء أخيرا

(1) وتعرف اليوم بفردوس على ما في بعض معاجم اللغة الفارسية.
13

- وهي قرية كبيره من أعمال بلدة (تون)... ".
قال الشيخ الطهراني [الذريعة: 6 / 230]: " وعقبه في بشرويه - من
محال خراسان - معروفون إلى اليوم ".
وقال السيد الخونساري: " ونقل عن خط الشيخ أحمد - أخي المصنف - انه
كتب على ظهر بعض نسخ الوافية ما هذه صورته: قد وقع فراغ المصنف.....
وروح الله روحه في سادس عشر ذلك الشهر بعينه من شهور سنة إحدى وسبعين
وألف في بلدة كرمانشاهان حين توجهه إلى زيارة ساداته سلام الله عليهم أجمعين. ودفن
عند القنطرة المشهورة ب‍ (بل شاه) عند منتهى القبور، عن يمين الطريق، وبني على
قبره قبة ليعرف بذلك. وقد أمر بتلك القبة الحاكم العامل العادل قدوة أمراء الزمان
وأسوة خوانين الدوران الشيخ علي خان أيده الله سبحانه. وكتب أخوه الوحيد المنتظر
لأمر الله أحمد بن حاجي محمد البشروي الخراساني حامدا مصليا مسلما. انتهى ".
ووصفه الشيخ الحر العاملي بأنه " ساكن المشهد " والمراد بها مدينة مشهد الإمام الرضا
عليه السلام المعروفة باسم (خراسان) التي ينسب إليها المصنف أيضا.
زهده وتقواه، ودوره في تهذيب المجتمع:
قال عنه الشيخ الحر العاملي: " صالح زاهد عابد ".
وأكد ذلك سائر من ترجم له.
وأضاف الميرزا الأفندي: " وهذا المولى - على ما سمعناه ممن رآه - كان من أورع
أهل زمانه وأتقاهم، بل كان ثاني المولى أحمد الأردبيلي رضوان الله عليه. وكذلك كان
أخوه المولى أحمد التوني ".
ثم قال في معرض حديثه عن بلدة بشروية: " وقد دخلتها وكان أهلها ببركة هذا
المولى وأخيه المولى أحمد كلهم صلحاء أتقياء عباد على أحسن ما يكون ".
مع الشاه عباس الصفوي:
يحكي لنا التنكابني قصة للمصنف مع سلطان عصره الشاه عباس الصفوي،
14

يبدو لنا من خلالها عدة أمور هامة:
أولا: المكانة العلمية والاجتماعية للمصنف، والتي أهلته لان يقصده بالزيارة
سلطان الوقت بنفسه. وهذا مؤشر واضح على سمو مرتبته العلمية والاجتماعية، فان
من المعلوم ان سلاطين العصر يزارون ولا يزورون. ولكن تنتقض هذه القاعدة
وتخصص بالعلماء الكبار الذين يحتلون المرتبة الدينية العليا ويختصون بلقب المرجع
والمقلد والمفتي، فهؤلاء يركع السلاطين على أبوابهم كرامة من الله تعالى لمن يبلغ
رسالته ويقوم بأعباء حمل شريعة سيد المرسلين.
وثانيا: تعفف المصنف عن طلب أي أمر دنيوي، مما يعكس لنا اخلاصه التام
لله تعالى، والصفاء في النية إليه، وهذا هو شأن علماء الإمامية والطابع العام لهم
قاطبة، فقد سجل التأريخ لهم سيرة منزهة عن كل أنواع التقرب والتودد إلى ملوك
العصر إلا ما كان من ذلك لمصلحة الدين وحفظ بيضة الاسلام والمسلمين.
وثالثا: اهتمام المصنف بحث المجتمع على تعلم العلوم الإلهية والتفقه في
الدين الموصل إلى معرفة الله وطاعته.
يقول التنكابني (1): " ذكر أن الشاه عباس جاء يوما إلى زيارة الآخوند الملا
عبد الله التوني، وكان الآخوند التوني قد شيد مدرسة دينية ولكن لم يكن قد
التحق بها أحد من الطلاب بعد.
وبعد أن اطلع السلطان على تلك المدرسة وتجول فيها، سأل الملا عبد
الله عن السبب في عدم التحاق الطلاب بها وعدم توجه الناس إلى التلمذ فيها،
فقال له الملا عبد الله سأجيبك على هذا السؤال فيما بعد.
ثم قام الآخوند بعد ذلك بمدة بزيارة الشاه عباس - ردا له على زيارته
- وبعد انتهاء التشريفات والمحادثات، طلب الشاه عباس إلى الآخوند الملا عبد الله
بأن يأمره بما يشاء. فرد عليه الآخوند بان ليس له من حاجة. فألح الشاه عباس عليه
بذلك. فقال الآخوند إذا كان ولا بد فحاجتي أن أركب وأن تسير ماشيا بين يدي في

(1) النص مترجم عن الفارسية.
15

الملا العام بقلب المدينة. فسأله الشاه عباس عن الغرض من ذلك. فقال الآخوند:
سأجيبك على هذا بعد مضي مدة من الزمان.
لذا فان الشاه عباس امتثل هذا الامر ولبى له هذا الطلب. فركب الآخوند
التوني ومشى الشاه عباس بين يديه مسافة في وسط المدينة بمرآى من الملا العام، ثم
ودعه الآخوند وانصرف.
وبعد مرور مدة من الزمان قام السلطان الشاه عباس ثانية بزيارة الآخوند الملا
عبد الله في مدرسته المذكورة فرآها حاشدة بالتلاميذ. فاستفسر عن امتلائها بذلك
العدد الكبير وعن خلوها قبل ذلك فأجابه الآخوند بان السبب في خلوها من الطلاب
فيما سبق يعود إلى ما كانوا عليه من الجهل بفضيلة العلم ومنزلة العالم، لذا لم يتوجه
أحد إلى مدرستي لطلب العلم، وبعد أن رأوا منك ذلك الاحترام والتقدير للعلماء
حين مشيت بين يدي وأنا راكب في الملا العام عرفوا ذلك فانثالوا على المدرسة لنيل
شرف العلم، وهذا هو الذي دعاني أن اطلب منك ذلك، وهذه هي غايتي منه، فلما
أن فعلت ذلك علموا أن للعلم منزلة كبيرة في الدنيا حتى أن السلطان يترجل بين
يدي العالم.
لذا فإنهم جاؤوا طلبا للعزة الدنيوية والمكانة الاجتماعية، ولكنهم بعد أن
سيطوون بعض مراحل العلم ويستضيئون بنوره، ستخلص نواياهم لله تعالى،
وتحصل لهم نية القربة له، التي هي الغاية الأخيرة للعلم ولجميع العبادات، كما ورد
في الخبر: " اطلبوا العلم ولو لغير الله فإنه يجر إلى لله "، ويكونون مصداقا لمقولة:
" المجاز قنطرة الحقيقة ".
مكانته العلمية واطراء العلماء إياه:
نعته الشيخ الحر العاملي بقوله: " عالم، فاضل، ماهر، فقيه ".
ووصفه الفقيه المتبحر، المحدث الشيخ يوسف البحراني (صاحب
الحدائق) عند التعرض لبعض آرائه في كتابه (الدرر النجفية) في درة
16

الاستصحاب ص 34 بعنوان " بعض أصحابنا المحققين من متأخري
المتأخرين ".
ويذكره مجدد علم الأصول الشيخ الأنصاري - الذي لم نعهد منه السخاء في
الاطراء واطلاق السمات العلمية إلا على آحاد العلماء - بعنوان (الفاضل التوني) عند
نقل آرائه في موارد مختلفة من فرائده، كما سيأتي.
وبهذا اللقب يذكره أساتذة الحوزات العلمية في مجالس تدريسهم وفي تقريرات
أبحاثهم.
وسيأتي مزيد من الحديث عن مكانته العلمية.
مصنفاته:
1 - شرح الارشاد، في الفقه.
ذكره له الشيخ الحر العاملي.
قال السيد الخونساري: " ولم يتيسر لنا إلى الآن الوقوف على شرح ارشاده ".
وأصل الكتاب: (إرشاد الأذهان) للعلامة الحلي.
2 - رسالة في الأصول.
ذكرها له أيضا، الشيخ الحر العاملي.
قال السيد الخونساري: " وأما رسالته الأصولية فهي كتابه الموسوم بالوافية في
أصول الفقه، ونسخه متداولة بين الطلاب ". ولكن السيد الأمين عد الرسالة كتابا
آخر غير الوافية.
وهو كتابنا هذا وهو الأثر الوحيد الباقي له، وسيأتي الكلام عنه.
3 - رسالة في الجمعة.
ذكرها له الشيخ الحر العاملي أيضا.
قال الميرزا الأفندي: " هذا المولى أحد القائلين بالمنع من صلاة الجمعة في زمن
الغيبة، ورسالته المذكورة مؤلفة في هذا المعنى ". ومثله ذكر السيد الخونساري.
4 - حاشية على معالم الأصول.
17

ذكرها له الميرزا الأفندي، ووصفها بأنها: " حسنة ".
وقال السيد الخونساري عنها بأنها: " جيدة جدا ".
والأصل: معالم الدين وملاذ المجتهدين. المحتوي في مقدمته على أبحاث علم
الأصول، وتعرف ب‍ (أصول المعالم) وب‍: (معالم الأصول)، للمحقق الشيخ حسن
الجبعي العاملي نجل الشهيد الثاني.
5 - تعليقات على المدارك.
ذكرها له الميرزا الأفندي، والسيد الخونساري، ووصفها الأخير بأنها كحاشيته
على المعالم في الجودة.
والأصل: مدارك الأحكام. للسيد محمد بن علي الموسوي العاملي، في شرح
شرائع الاسلام للمحقق الحلي.
6 - حاشية على إرشاد العلامة.
ذكرها له الميرزا الأفندي، ثم قال: " والظاهر أنها بعينها شرحه المذكور " المتقدم
برقم (1). وتابعه في ذلك السيد الخونساري.
7 - فهرست لتهذيب الاحكام لشيخ الطائفة الطوسي.
ذكره هو لنفسه في الوافية - كتابنا هذا - في آخر البحث الثاني من المقصد
الثاني من الباب الثاني، وهو مبحث جواز التمسك بالعام قبل الفحص عن
مخصصه، حيث قال: " وينبغي في فحص مخصص العام المتعلق بشئ من مسائل
الطهارة ملاحظة كل واحد من أبوابها في التهذيب، وكذا الصلاة والزكاة والصوم
والحج وغيرها، سيما باب الزيادات والنوادر في كل منها، والأحسن ملاحظة الأبواب
المناسبة في الكتب الاخر أيضا - إلى أن قال: - وقد تكفل بجميع ذلك وغيره،
الفهرست الذي جعلته على التهذيب، وهو من أهم الأشياء لمن يريد الفقه
والترجيح، ولم يسبقني إليه أحد، والحمد لله " فلاحظ كل كلامه.
وعلق على هذا السيد الخونساري بقوله: " وهو كما قال، وفوق ما نقول ".
18

ابتكاراته العلمية:
الملفت للنظر في شخصية المؤلف هو روح الابتكار لديه، وهي صفة حرية
بالتقدير والدراسة، فإن الكثير من أهل العلم والمعرفة يخوض غمار المسائل التي
طرحت قبله من دون أن يستطيع الخروج من الدائرة التي رسمها من تقدم عليه ويبقى
نطاق تفكيره وأفق أبحاثه محصورا في نفس تلك الخطوط العريضة المقررة عليه.
ويبقى عدد المبتكرين والنوابغ نزرا.
ونعتقد أن المصنف رحمه الله من أولئك الآحاد، وإنما خفي ذكره ولم يشتهر أمره
لعدة عوامل أحدها ضياع جل مؤلفاته، لأسباب لا نعرفها، وقد تكون عامة، وهي
التي أودت بالكثير من تراث المذهب الامامي الضخم على ما نقرأه في تراجم أعلامنا،
فما من علم من الاعلام إلا وقد ضاع له أكثر من كتاب.
هذا أحد العوامل، ونطوي كشحا عن سائرها.
ومما يحدو بنا إلى هذا الاعتقاد هو صنعته الفهرس على التهذيب، فهو عمل
جديد من نوعه بالقياس إلى المرحلة الزمنية، والثقافية التي عاشها، فقد وجدنا الكثير
من المصنفين والمؤلفين على مرور أدوار علوم الفقه والأصول والحديث وغيرها، ولكن
يأتي هذا المصنف أو ذاك ويصنف على غرار من قبله حتى ليضع عناوين الأبواب
والفصول، بل حتى نص المسألة، وكأنه ينسخها ممن تقدم عليه نسخا. في هذا الجو،
وفي هذه الروح التقليدية نطالع اسم الفاضل التوني وهو يقوم بوضع (الفهرس) على
التهذيب ويجمع شوارده، ليرجعها إلى مقرها المناسب، وهو بذلك يقوم بعمل جديد
من نوعه، فهو عمل تكميلي واصلاحي للموسوعة الحديثية البارعة لشيخ الطائفة
وعمادها الشيخ الطوسي قدس سره.
ولهذا الفهرس دلالة أخرى، فهو يعكس سعة باعه في كل من الفقه
والحديث، إذ من الواضح لأهل هذا الفن ما يتطلبه هذا العمل من مؤهلات.
والمؤشر الآخر على عقليته الابتكارية هي المنهجية الجديدة التي مشى عليها
19

في كتابه (الوافية) حيث وضع للمباحث الأصولية تبويبا لم نعهده عند المتقدمين
عليه، كما سيمر عليك.
وانفرد بعدة آراء لم يسبقه إليها أحد.
وقد أشار السيد الخونساري إلى ذلك حيث قال: " وله في الاستصحاب
ومباحث التعادل والتراجيح تفريعات وفوائد نادرة وتصرفات كثيرة لم يسبقه إليها أحد
من الأصوليين ".
وسنذكر طرفا آخر من ابداعاته في الفكر الأصولي عند حديثنا عن كتابه
(الوافية).
اهتمام المتأخرين بآرائه:
ليس لدي الآن الفرصة الكافية لاعطاء هذا البحث حقه، وإنما أدون ههنا ما
استحضره، وما سبق لي أن أعددته:
ينحصر طريق تقييم الفاضل التوني بكتابه الوافية بعد أن كانت بقية مصنفاته
في قائمة الكتب المفقودة.
مع أنه ليس بالأثر القليل رغم حجمه القليل.
فلقد افرغ في كتابه هذا ثقلا علميا كبيرا، وخصه بامتيازات هامة. حتى
أصبحت آراؤه المطروحة فيه مدارا للبحث والمناقشة لدى الرعيل الأول من علماء
الأصول إلى وقتنا الحاضر.
فقد اهتم الشيخ الأنصاري بأفكاره وتحقيقاته متعرضا لآرائه بالمناقشة
والبحث، ناقلا نص عبارته في بعض الموارد، وإليك التفصيل:
1 - تعرض إلى ما استظهره من مذهب المتقدمين في حجية خبر الواحد، فقد
نقل عبارته في الوافية، ثم علق عليها بالتعجب.
قال قدس سره في الفرائد: 109: " بل في الوافية أنه: لم يجد القول بالحجية
صريحا ممن تقدم على العلامة، وهو عجيب ".
2 - حكى استدلاله بالدليل العقلي على حجية خبر الواحد، وجعله الوجه
20

الثاني من الوجوه العقلية المقررة لاثبات حجية الخبر الموجود في الكتب المعتمدة
للشيعة، ونقل عبارته في ذلك، ثم تناول هذا الدليل بالبحث والمناقشة.
انظر فرائد الأصول: 171 - 172.
3 - تعرض رحمه الله إلى ما أفاده من اشتراطه لجريان أصالة البراءة شرطين
آخرين - علاوة على الشروط التي ذكرها الأصوليون - الأول: أن لا يكون إعمال
الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى مثل أن يقال في أحد الانائين
المشتبهين: الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه، فإنه يوجب الحكم بوجوب
الاجتناب عن الآخر، أو عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرا، أو عدم تقدم الكرية حيث
يعلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة، فان اعمال الأصول يوجب الاجتناب عن الاناء
الآخر أو الملاقي أو الماء. الثاني: أن لا يتضرر بأعمالها مسلم، كما لو فتح انسان
قفص طائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدها، أو أمسك رجلا فهربت دابته، فإن
اعمال البراءة فيها يوجب تضرر المالك، فيحتمل اندراجه في قاعدة الاتلاف، وعموم
قوله: " لا ضرر ولا ضرار " إلى آخر كلامه. فقد حكى الشيخ الأنصاري نص كلامه
وأشبعه تدقيقا وتحليلا ومناقشة إذ قد عقد تذنيبا خاصا بهذا الرأي.
انظر فرائد الأصول: 529 - 532.
وبمناسبة استدلال الفاضل التوني بقاعدة نفي الضرر، دخل الشيخ في هذه
المسألة ليخوض غمارها ويحقق القول فيها، فجاء هذا البحث وكأنه رسالة مستقلة
قاده إلى وضعها ما ذكره التوني في الشرط الثاني بل أخذ جميع الأصوليين بالبحث عنها
في هذا المورد.
ونشير إلى أن للفاضل التوني رأيه الخاص بمفاد هذه القاعدة، كما سنذكر ذلك
بعد قليل.
4 - ناقش رحمه الله مذهبه بتخصيص مجرى أصل البراءة بما إذا لم يكن جزء
عبادة.
انظر فرائد الأصول: 532.
5 - تعرض لما استظهره صاحب الوافية من عبارة شارح المختصر (العضدي)
21

في تعريف الاستصحاب وموافقته له.
فرائد الأصول: 542.
6 - تعرض لاستدلاله بصحيحة زرارة الواردة في باب الشك في عدد ركعات
الصلاة والمصطلح عليها بصحيحة زرارة الثالثة - على حجية الاستصحاب. ثم تأمل
في ذلك وناقش فيه.
فرائد الأصول: 567.
7 - تعرض رحمه الله للتفصيل الذي ابتكره وانفرد به في باب حجية
الاستصحاب، وهو رأي نال إهتمام كل الأصوليين إلى يومنا الحاضر، فقد ذهب إلى
التفصيل بين الأحكام الوضعية يعني نفس الأسباب والشروط والموانع، والأحكام التكليفية
التابعة لها، وبين غيرها من الأحكام الشرعية، فيجري في الأول دون
الثاني (1). فقد فصل الشيخ الأنصاري القول في هذا الرأي واستعرض استدلال
الفاضل التوني عليه، ناقلا نص عبارته بطولها، ثم انهال عليه بالمناقشة فقرة فقرة مما
اضطره إلى عقد بحث عن الحكم الوضعي وبسط الكلام فيه وتحقيق ما إذا كان
مستقلا بالجعل، أو انه تابع بالجعل للحكم التكليفي.
فرائد الأصول: 598 - 612.
وبهذا ألجأ الفاضل التوني الأصوليين إلى بسط الكلام عن الحكم الوضعي،
وتفصيل القول فيه من بيان حقيقته وكيفية تعلق الجعل به وتحديد مصاديقه

(1) أفاد بعض أساتذة العصر في مجلس درسه عند استعراض هذا الرأي للفاضل التوني
وتوضيحه: أن اطلاقه (الأحكام الوضعية) على الأسباب والشروط والموانع، مسامحة منه، فان
(الأحكام الوضعية) باصطلاح القوم هي الشرطية والسببية والمانعية.
وحاصل مسلكه هو: أن الاستصحاب حجة في موضوعات الأحكام الوضعية، والأحكام التكليفية
المسببة عنها.
وبعبارة أخرى: ان الاستصحاب يجرى في الأسباب والشروط والموانع، وفي الحكم الشرعي
المترتب عليها، دون السببية والشرطية والمانعية. أما غير هذه الموارد من الأحكام التكليفية
ومطلق الأحكام الوضعية فالاستصحاب غير جار فيها.
22

وصغرياته، بما لم نعهده منهم قبل إحداث هذا التفصيل في الاستصحاب. ولذا ترى
الأصوليين يخوضون هذا البحث في فصل الاستصحاب.
8 - أيد الشيخ الأنصاري رحمه الله دعواه اشتراط بقاء الموضوع في جريان
الاستصحاب، بكلام الفاضل التوني الذي أورده لرد تمسك المشهور في نجاسة
الجلد المطروح باستصحاب عدم التذكية.
فرائد الأصول: 641.
9 - دعم رحمه الله دعواه عدم جواز اثبات عمرو باستصحاب الضاحك
المحقق في ضمن زيد. ثم ناقشه في قياسه (عدم المذبوحية) على المثال المذكور.
فرائد الأصول: 643.
10 - استشهد رحمه الله على دعواه عدم جريان الأصل في المسبب وتقدم الأصل
في السبب عليه وعدم امكان جريانهما معا. بكلام الفاضل التوني ونقل نص عبارته
الصريحة في ذلك.
فرائد الأصول: 742.
وكذا وقعت آراؤه موقع الاهتمام والمناقشة لدى الآخوند الخراساني، فقد تطرق
في الكفاية إلى مناقشة آرائه التالية:
1 - اضافته الشرطين المتقدمين لجريان أصل البراءة. وفعل الآخوند ما فعله
الشيخ الأنصاري قبله.
كفاية الأصول: 379
2 - تفسيره الضرر المنفي بقوله صلى الله عليه وآله " لا ضرر ولا ضرار " ب‍: الضرر
غير المتدارك.
كفاية الأصول: 381.
3 - الدليل العقلي الذي أفاده لاثبات حجية خبر الواحد الموجود في الكتب
المعتمدة للشيعة.
كفاية الأصول: 305.
4 - بسط الآخوند الكلام في تحقيق حال الأحكام الوضعية تبعا للشيخ
23

الأنصاري، توطئة للقول بجريان الاستصحاب فيها ردا على التفصيل المتقدم الذي
أفاده الفاضل التوني في ذلك.
كفاية الأصول: 399 - 404
وما زالت آراؤه محل اعتناء الأصوليين في تصنيفاتهم، وأساتذة الدروس العالية
في مجالس تدريسهم.
وإن دل ذلك على شئ فإنما يدل على أنه أحد اعلام هذا العلم، وأحد
المبتكرين للنظريات الأصولية.
* * *
24

مع الكتاب
25

أهميته وامتيازاته:
الوافية: من خيرة المتون الأصولية التي خلفها لنا فطاحل علماء الإمامية فلقد
ترك لنا أولئك مصنفات في مختلف علوم الشريعة، من الكلام والتفسير والفقه
والأصول والحديث والرجال، يمثل كل منها المرحلة التي وصل إليها ذلك العلم في
تلك البرهة.
وفيما يخص علم الأصول:
ان كانت (الذريعة) معبرة عن قمة ما وصل إليه هذا العلم في عصر السيد
المرتضى، و (العدة) في عصر شيخ الطائفة الطوسي، و (المعارج) في عصر المحقق
الحلي، و (النهاية) و (التهذيب) و (المبادئ) في عصر العلامة الحلي، ومقدمة (المعالم) في
عصر المحقق الشيخ حسن، فإن (الوافية) تمثل القمة في التطور الأصولي الذي
ارتقى إليه في القرن الحادي عشر الهجري لدى الأصوليين من الامامية. فقد حباها
مؤلفها الذي يصفه الشيخ الحر العاملي بالفقيه العالم الفاضل (الماهر)، حباها بمزايا
أفردتها عما صنف قبلها. فإن مقارنة شريعة بينها وبين ما تقدمها ليكشف عن ذلك
بوضوح.
فمن ينتقل من مراجعة (المعالم) إلى (الوافية) يشعر بتحول وتطور،
ويلاحظ نقلة في المستوى والأفق الذي يدفع بالقلم لرسم تلك السطور، وليس
مجرد تبدل في الرأي، أو تغيير في المبنى، وبكلمة مختصرة: يلاحظ المقارن بين
الكتابين اختلافا في المنهجية، وفي نمط التفكير، وصياغة المطالب، والدخول
إلى البحث من مسلك لم يعهد من قبل، واعتمادا على معايير لم يلتفت إليها من
سالف.
وترى المصنف في (الوافية) قوي الحجة، بعيد النظر، يختار الرأي الصائب في
المسألة، دون ان يتقيد بما ذكروه دليلا عليه بل قد لا يكتفي بما أورده الأصوليون على
27

المدعى من الأدلة إن رآها سليمة بل يبتكر دليلا خاصا، كما فعل في حجية خبر
الواحد، وقد يوافق الآخرين في الرأي ولكن لا يرتضي ما أقاموه حجة عليه فيردها،
ويسوق لذلك الرأي برهانا آخر.
وبهذا يخرج عن طور التبعية والتقليد، ويسلك مسلك التحقيق والتأسيس.
ونراه الحاذق في المناقشة، فهو يجيد تشخيص نقاط الضعف في أدلة خصمه،
فيسدد إليها الرمية، وينقض عليها بالنقض والحل لتعود واهية سقيمة.
وتراه يحسن الاخذ بزمام المسائل الأصولية بعد أن ينتزعه من يد خصمه انتزاعا
فنيا ويردها إلى بابها كما فعل مع المحقق والعلامة وصاحب المعالم، في مسألة دلالة
النهي على الفساد في المعاملات، فقد عرض بهم في استدلالهم على عدم الدلالة
بالدليل اللفظي، منبها على محور النزاع، وان المتنازع فيه هو حكم العقل بالفساد
أو عدمه، لا استفادة الفساد وعدمها من الدليل النقلي بإحدى الدلالات اللفظية
الثلاث. ونجده يعرض الأفكار المستحدثة، والتحقيقات المبتكرة، فتراه يعترض على
حصر سقوط التكليف بالإطاعة والعصيان، ويقول بوجود مسقط ثالث وهو حصول
غرض المولى، موضحا فكرته هذه بالمثال المقنع وها هو يستعرض فكرة الترتب عرضا
واضحا على دقتها واستعصائها.
ومن التفاتاته وتدقيقاته القيمة توضيحه وابانته لمعنى بعض المصطلحات التي
أدى الخلط فيها إلى وقوع المخاصمات والمشاجرات الفارغة لدى كثير من السطحيين،
وهو بهذا يفرق بدقة ويميز بجدارة بين النزاعات اللفظية والمشاحات الاصطلاحية
وبين المناقشات العلمية، فلاحظ ذلك في توضيحه لمصطلح (الاجتهاد) وإزالة
الملابسات التي أحيطت به، وتحديد المعنى المقصود به لدى القدماء والمتأخرين.
ليجلي بذلك عن وجه الحقيقة وينفض الغبار عنها. لتصبح المسألة مسلمة واضحة
لدى الطرفين.
وتراه يؤسس الرأي وينفرد به كما فعل ذلك في تفصيله في حجية
الاستصحاب. واشتراطه جريان البراءة بشروط مبتكرة ومن خلال استعراض
الكتاب يبدو للقارئ تسلط المصنف وإلمامه بالمعقول وهو ما يتطلبه الخوض في غمار
28

المسائل الأصولية وكشف المغالطات عنها، وابداء الرأي الصائب فيها. فلاحظ ما
سبرته يراعته في بحث اجتماع الأمر والنهي من هذا الكتاب.
ومع كل هذا الثقل العلمي الذي أفرغه في كتابه هذا، جاء هذا الكتاب
حسن الأسلوب سلس العبارة، تقرؤه ويراودك الشعور بالارتياح لحسن العبارة
وجزالة الألفاظ، وطراوة البيان. مما يجذب القارئ إليه ويملكه بما لا يدع له خيار
مباعدة الكتاب.
وقد اتصف هذا الكتاب - علاوة على هذا كله - بالمزايا والخصائص التالية:
1 - قسمة العلم.
أولى المصنف اهتماما كبيرا بالقسمة، وهي أحد الرؤوس الثمانية، المذكورة في
علم المنطق، التي يستعملها المؤلفون، ليكون الداخل إلى العلم على بصيرة من
أمره.
فقد قسم المصنف - عمليا - مسائل الأصول إلى: لفظية، وعقلية، واستعمل
هذا التعبير بكثرة، خاصة فيما يرتبط بالأصول العملية، وهذا هو المتداول فيما انتهت
إليه تحقيقات هذا العلم.
وأظهر المصنف ذلك بصراحة عندما تعرض لبحث (مقدمة الواجب) و (مسألة
الضد) موضحا ضرورة إيرادهما في البحوث العقلية، إذ أنهما ليسا من باب دلالة
اللفظ، مشيرا إلى عدم استقامة ما هو المألوف عند الأصوليين من ايرادهما في مباحث
الألفاظ، بعد أن كان واقع البحث فيهما إنما هو عن (الملازمة) وهي عقلية، وقد أشرنا
إلى هذا فيما تقدم.
وكذلك فعل المصنف في مباحث المفاهيم حيث أوردها في فصل التلازم بين
الحكمين.
واستعمل المصنف مصطلح الحكم الواقعي وما يقابله، وهو مبتن على هذه
القسمة كما لا يخفى.
أضف إلى كل هذا، استناده إلى الأدلة العقلية في مناقشاته واستدلالاته بما
29

يدل على قدرة فائقة وتسلط على فن المعقول.
2 - الموضوعية في البحث.
لقد اتسم كتاب (الوافية) بالموضوعية التامة في علم الأصول، إذ قلما يلاحظ
فيه الشرود إلى مسائل وأبحاث من علوم أخرى.
وقد أدى حق التمييز بين المسائل الأصولية وما يقع في دائرة البحث في الكتاب
منها، وبين غيرها، بدقة فائقة في بداية الكتاب، بنحو يحدد مسار البحث فيه،
فلاحظ ما ذكره في نهاية المقصد الأول من الباب الأول، وما ذكره في آخر البحث
الثالث من المقصد الثاني من الباب الأول.
ومن حيث المصادر التي اعتمدها:
فإنا نفاجأ في هذا الكتاب بسعة مراجعته لكل مصنفات الأصول حتى شملت
كتب الأصول للمذاهب المختلفة، فهو ينقل أحيانا عنها جملا ونصوصا مما يدل على
مراجعته لها مباشرة، فقد حكى عن (التمهيد) و (الكوكب الدري) للأسنوي،
و (المحصول) للفخر الرازي، و (شرح مختصر ابن الحاجب) لعضد الدين،
و (الاحكام) للآمدي، و (شرح جمع الجوامع) للفاضل الزركشي، وغيرها.
وهذا إنما يدل على سعة أفق تفكيره، وحرية الرأي عنده، وحسن اختياره،
فإن تأليفا مثل الوافية - جامعا مانعا - لا يتكون إلا بمثل هذا الاقدام الجرئ.
مضافا إلى دلالته على الموضوعية العلمية في البحث، حيث إن هذا العلم يقع
في عداد العلوم الآلية، فهو منطق الفقه، فكما ان المنطق يعتبر ميزانا لأصل التفكير،
يحدد مسار الاستدلال ويقومه، فكذلك علم الأصول بالنسبة إلى الفقه، لأنه يحدد
العناصر المؤثرة في صحة الاستدلال الفقهي.
ولذا فإن التصنيفات الأصولية لا تتفاوت في العرض والاستدلال والمنهج من
مذهب لآخر، إلا بمقدار الاختلاف بين اللغات من حضارة إلى أخرى، وهذا لا
يؤثر في أصل الهدف المرسوم لعلم الأصول. * * *
30

3 - المنهج التربوي.
اهتم المصنف في هذا الكتاب بجانب تربية المتعلمين بنحو لم يسبق له مثيل
في الكتب الأصولية، فإن أكثر المؤلفين لتلك الكتب إنما يهدفون لايداع آرائهم فيها
وتسجيلها حرصا عليها.
واما هذا الكتاب، فان سيرة مؤلفه فيه، تدل على أنه ألفه قاصدا به - إضافة
إلى ذلك - استفادة الطلاب منه، ليكون كتابا دراسيا ومنهجا تعليميا لمادة علم
الأصول.
فتراه يقول في آخر مبحث أصالة النفي (القسم الثالث من الباب الرابع).
" والغرض من نقل جملة من مواضع استعمال (الأصل) أن تمتحن نفسك في
المعرفة، لتشحذ ذهنك. وتحقيق (الأصل) على هذا الوجه مما لا تجده في غير هذه
الرسالة ".
ونراه في كل مسألة يوضع البحث بأمثلة موجهة إلى الطالب، ليعطيه قدرة
المقارنة والتطبيق بسهولة تامة.
حتى أنه يواكب مستوى الطالب فيحاول معه أمورا أولية، كما فعله في
ارشاد الطالب إلى كيفة الاستفادة من كتب الحديث فلاحظ ما ذكره في نهاية مبحث
التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص (البحث الثاني من المقصد الثاني من
الباب الثاني).
وكل هذا إنما يدل على مدى اهتمام المصنف بهذا العلم، وبالجانب التربوي
فيه، وعلى شفقته على الطلاب والمحصلين (1).
ولعل هذا الجانب التربوي والتعليمي في هذا الكتاب هو السبب في اهتمام

(1) لاحظ في هذا المجال ما تقدم في هذه المقدمة تحت عنوان (مع الشاه عباس الصفوي)
31

العلماء به، وكثرة تداوله بين المحصلين، وصيرورته متنا دراسيا لطلاب الحوزات
العلمية لفترة طويلة، واعتناء العلماء به حتى أكثروا من الشروح والتعليقات عليه،
كما سيمر عليك ذكرها.
4 - تأثيره في حيوية العلم.
تم تأليف هذا الكتاب في سنة (1059 ه‍.) وهي الفترة التي مني فيها
علم الأصول بحركة مضادة، فكان للمصنف بكتابه هذا دور عظيم في الابقاء على
حيوية هذا العلم، وبصورة أدق وأسلم مما سبقه من المصنفات الأصولية بحيث
تنقشع - بأسلوبه ومتانته - السحب التي أثارها معارضو علم الأصول، والنقود التي
أوردوها على المصنفات الأصولية السابقة.
فقد أجاد المصنف في هذا الكتاب الرد على أهم الآراء المضادة للأصول،
وأكثرها تطرفا، كالقول بقطعية أخبار الكتب الأربعة، والقول بعدم الحاجة إلى علم
الأصول، فكان سدا منيعا أمام استفحال تلك الآراء في منطقة خراسان وحوزتها
العلمية.
وتصدى للمحدث الأمين الاسترآبادي، الذي أثار تلك الآراء، وناقشه في
هذا الكتاب بمتانة ودقة وموضوعية تامة.
وبالتالي فهو يشكك في حجية مطلق الخبر الواحد، ويلتزم بتقسيم الحديث
إلى الأقسام المعروفة من الصحيح والحسن والموثق والضعيف، إلا أنه ينتهي بالرأي
إلى جواز العمل بأخبار الكتب الأربعة والقول بحجيتها مشترطا ذلك بشرطين دون
أن يلتزم بقطعية صدورها.
ويتمسك بأصالة البراءة، ويستشهد بها في عدة مواضع.
وقد أدى حق كل ذلك بعيدا عن التطرف إلى فئة معينة، ولذلك نراه يذهب
إلى جواز تقليد الميت ولا يقول بجواز التقليد مطلقا، كما لا يبت بالذهاب إلى
حجية مطلق ظواهر الكتاب، مما يدل على حرية في التفكير، واتباع مطلق
للدليل، فهو حقا (من أبناء الدليل، حيثما مال يميل).
32

وكتابه هذا لوحده، دليل على أثره البارز في إرساء قواعد علم الأصول في
الحواضر العلمية، سيما حاضرة خراسان، على مدى بعيد، ومنذ تأليفه حتى عصرنا
الحاضر.
تأريخ تصنيفه:
لم يعلم بالتحديد التاريخ الذي بدأ فيه الفاضل التوني تدوين هذا الكتاب.
أما انتهاؤه منه: فقد جاء في آخره - على ما في نسخة الأصل و أ و ط -:
" وقد وقع الفراغ منه يوم الاثنين، ثاني عشر أول الربيعين في تاريخ سنة
1059 ه‍. "
ويعضده ما ذكره السيد الخونساري، حيث قال: " نقل عن خط الشيخ أحمد
- أخي المصنف - أنه كتب على ظهر بعض نسخ الوافية ما هذه صورته: قد وقع الفراغ
المصنف قدس الله روحه وأسكنه حضيرة القدس مع أوليائه وأحبائه من تسويد الرسالة
التي جمعت بدائع التحقيق وودائع التدقيق، ثاني عشر أول الربيعين، من شهور سنة
تسع وخمسين وألف من الهجرة.... ".
وذكر الطهراني كما تقدم: أن تلك النسخة موجودة في مكتبة الامام
أمير المؤمنين (ع) العامة بالنجف الأشرف، وهي بخط علي أصغر بن محمد حسين
السبزواري، وتأريخها 1111 ه‍.
تبويبه:
مهارة المصنف - كما نص عليها الشيخ الحر العاملي - وكونه من المحققين - كما
شهد له بذلك الشيخ يوسف البحراني - أمليا على المصنف أن يضع لكتابه هذا تبويبا
فنيا دقيقا، وهو أول سمات هذا الكتاب وامتيازاته. فقد وضع خارطة لمباحث
الأصول، تنبئ عن تضلعه فيه، فلم يعد يستعرض مسائل الأصول دون الالفات
إلى ترابطها، بل جعل كل طائفة منها تحت عنوان يجمعها ويميزها عن المجموعة
33

الأخرى. وكذا نراه يضع كل مسألة في الموضع المناسب لها، ويخرجها عن الموضع
الذي كانت عليه في التأليفات الأصولية التي تقدمته، وإن دل ذلك على شئ فإنما
يدل على عقليته الرافضة للتقليد وعلى عمق نظره والتفاته إلى أطراف المسألة ومرد
النزاع فيها. فقد صنف مسائل الأصول تصنيفا رائدا، ووزعها توزيعا دقيقا لم نعهده
عند من قبله، جاعلا كل صنف تحت عنوانه اللائق له. فجاء كتابه هذا محتويا على:
المقدمة، وتشمل أربعة مباحث، أولها: في تعريف أصول الفقه، ثانيها: في
الحقيقة والمجاز، ثالثها: في دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز والنقل والتخصيص
والاشتراك والاضمار. رابعها: في الاسم المشتق.
الباب الأول: في الأمر والنهي:
وجعله في مقصدين، يتضمن الأول مباحث الامر، والثاني مباحث النهي.
الباب الثاني: في العام والخاص.
وجعله في مقصدين أيضا، اشتمل الأول على مباحث العام، والثاني على
مباحث الخاص.
الباب الثالث: في الأدلة الشرعية.
وجعله في فصول:
الفصل الأول: في الكتاب.
الفصل الثاني: في الاجماع.
الفصل الثالث: في السنة.
34

الباب الرابع: في الأدلة العقلية.
وجعلها أقساما:
القسم الأول: فيما يستقل بحكمه العقل.
القسم الثاني: استصحاب حال العقل.
القسم الثالث: أصالة النفي أو البراءة الأصلية.
القسم الرابع: الاخذ بالقدر المتيقن.
القسم الخامس: التمسك بعدم الدليل.
القسم السادس: استصحاب حال الشرع.
القسم السابع: التلازم بين الحكمين، وادرج فيه خمسة أمور:
أ - مقدمة الواجب.
ب - اقتضاء الامر بالشئ النهي عند ضده.
ج - المنطوق غير الصريح.
د - المفاهيم.
ه‍ - القياس.
الباب الخامس: في الاجتهاد والتقليد.
وجعله في مباحث:
المبحث الأول: في تعريف الاجتهاد.
المبحث الثاني: في تجزئة الاجتهاد.
المبحث الثالث: في العلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد.
المبحث الرابع: في التقليد.
35

الباب السادس: في التعادل والتراجيح.
وهو آخر الكتاب.
وإن مقارنة سريعة بين هذا التبويب والتوزيع للمسائل، وبين ما نجده في
المصنفات الأصولية المتقدمة عليه، لتدل على ما أسلفناه، وكمثال على ذلك: مسألة
مقدمة الواجب، فلاحظ موقعها عنده ثم موضعها عندهم.
وأهم من ذلك فرزه بين الأدلة والحجج مقسما لها إلى الشرعية والعقلية مدرجا
كل حجة ودليل في قائمته الخاصة به.
نسخه:
لما كان هذا الكتاب أحد المتون الأصولية البارزة والهامة كما أسلفنا كان من
الطبيعي أن يتتابع طلاب هذا العلم ورجاله على نسخه واقتنائه، لذا كثرت نسخه
وانتشرت بينهم.
قال السيد الخونساري وهو يتحدث عنه: " ونسخه متداولة بين الطلاب ".
وقد حفظت المكتبات العامة والخاصة في كل من العراق وإيران الكثير من
تلك النسخ.
وقد نال الكتاب حظ الطبع والنشر في بومباي من حاضرة الهند عام 1309 ه‍
ولم تعد طباعته بعد ذلك. فعاد نادر الوجود، بعيد المتناول.
شروحه والتعاليق عليه:
عاجل المصنف الاجل.
فتوفي بكرمانشاه ولما يصل إلى المراقد المقدسة ومراكز العلم والعلماء، وهو في
طريقه إليها.
36

ولكن!
سارت الركبان بسفره القيم هذا فأوصلته إليها، ليكون خير نائب عنه.
فاستقبله عطاشى التبحر والتحقيق، وعكفوا عليه مطالعة ومدارسة ومناقشة.
ثم رسموا ما خلصوا إليه من أفكار على صحائف من نور، فكانت الشروح
والحواشي التالية:
1 - شرح الوافية.
للسيد جواد العاملي، صاحب مفتاح الكرامة. المتوفى سنة 1226 ه‍.
قال العلامة الشيخ الطهراني: " وهو مبسوط في مجلدين، ما ذكره سيدنا -
السيد حسن الصدر - في التكملة. وذكر السيد الأمين العاملي في ترجمة الشارح
المطبوعة في آخر متاجر مفتاح الكرامة: انه تعرض فيه لأغلب كلمات الأساطين
وشراح الوافية، وجميع المباحثات التي وقعت بين الشيخ الأكبر (صاحب كشف
الغطاء) والسيد محسن الكاظمي في إجراء أصل البراءة في أجزاء العبادات ".
2 - شرح الوافية.
للسيد حسن الحسيني.
قال العلامة الطهراني: " كذا ذكرته قبل خمسين عاما في مسودة (الذريعة)
الأولية، وفاتني ذكر خصوصياته ".
3 - شرح الوافية.
للسيد الاجل صدر الدين محمد بن مير محمد باقر، الرضوي القمي الهمداني
الغروي المتوفى في عشر الستين بعد الماءة والألف - كما أرخه السيد عبد الله الجزائري
في اجازته الكبيرة - وكان من أعلام عهد الفترة بين الباقرين: المجلسي، والبهبهاني.
قال العلامة الطهراني: " وهو شرح بالقول - يعني قوله... أقول.... - في
خمسة عشر الف بيت تقريبا. أوله (الحمد لله الذي أوضح لنا منهاج الدين بمصباح
37

الحق من مشكاة اليقين...) رأيته في مكتبة الخونساري بالنجف الأشرف، ومكتبة
السيد المجدد الشيرازي بسامراء، وسيدنا الحسن الصدر في الكاظمية، ونسخة
السيد محمد باقر الحجة بكربلاء كانت بقلم أقل الطلاب حسين المحلاتي المشتهر
باسم أبيه أيام تحصيله بالحائر في سنة 1227 ه‍. وأول الشرح (قوله: إن كان
التبادر.... أقول: معنى كون التبادر....).
وللشارح نفسه عليه حواش كثيرة، والخطبة من إنشاء بعض تلاميذه. ويوجد
أيضا في المكتبة الرضوية، ومكتبة الشيخ مشكور، والشيخ هادي كاشف الغطاء،
وكانت عند السيد أبي القاسم الخونساري نسخة بخط حيدر بن محمد الخونساري في
سنة 1196 ه‍. ويوجد أيضا في مكتبة الإمام علي عليه السلام العامة بالنجف
الأشرف ".
وقد يسمى هذا الشرح بالحاشية.
وقد صرح في موضع منه أنه كان مشغولا بتأليفه سنة 1141 ه‍.
4 - شرح الوافية.
قال الشيخ الطهراني: " كتب عليه هذا العنوان، وأوله (قوله: الأصل ما يبتني
عليه الشئ إلخ قد جرت عادة الأصوليين بتعريف الفقه بكلا معنييه: الإضافي
والعلمي) رأيته كذلك عند السيد عبد الحسين الحجة بكربلاء. وقد كتب عليه انه
للسيد مهدي، وتاريخ كتابته سنة 1243 ه‍. لكنه ليس هو شرح الوافية للسيد
مهدي بحر العلوم لان شرحه على الوافية مقصور على بحث الحقيقة والمجاز " كما
سيأتي.
5 - شرح الوافية.
للسيد بحر العلوم، محمد مهدي بن السيد مرتضى بن السيد محمد
الطباطبائي البروجردي الغروي المتوفى سنة 1212 ه‍.
قال العلامة الطهراني عن هذا الشرح أنه " غير تام، يقرب من نصف المعالم.
38

خرج منه مبحث الوضع إلى أواخر مبحث الحقيقة والمجاز.
أوله - بعد خطبة مختصرة -: (قوله اللفظ إن استعمل فيما وضع له فحقيقة.
جعل المقسم مطلق اللفظ المتناول للمفرد والمركب، لان كلا منهما ينقسم إلى الحقيقة
والمجاز. ولا يختص الانقسام إليهما باللفظ المفرد على ما توهمه بعض الاعلام - إلى
قوله: وإلا فمجاز. أقول: لا يخفى أن تعريف المجاز على هذا يدخل فيه الألفاظ
المستعملة في غير معانيها غلطا) وأورد فيه بحث الحقيقة الشرعية، والصحيح
والأعم، وتعارض الأحوال. رأيت نسخة منه في كتب الشيخ عبد الحسين الطهراني،
ونسخة منه بخط الشيخ نعمة الطريحي كتبها لنفسه سنة 1236 ه‍. كانت عند
الشيخ هادي كاشف الغطاء، ونسخة خط المولى محمد كاظم الشاهرودي كتبها في
سنة 1238 ه‍ كانت في مكتبة الخونساري. ورأيت نسخة منه في مكتبة الحسينية في
النجف. ونسخة عند السيد محمد علي بحر العلوم، ونسخة السيد محمد صادق بحر
العلوم، ونسخة عند العلامة السماوي كتابتها 28 جمادي الثاني سنة 1222 ه‍ وهي
بقلم الشيخ علي بن الشيخ أحمد بن الشيخ عيسى بن الشيخ علي بن نصر الله
الجزائري. ونسخة عند الشيخ نعمة الله بن عبد الله خواجة الحويزي في كتب الشيخ
مشكور تاريخها سنة 1233 ه‍. ونسخة تاريخها سنة 1236 ه‍ وهي بقلم السيد محمد
السيد حسين الموسوي عند السيد ضياء الدين العلامة الأصفهاني.
والمشهور أن السيد بحر العلوم لما عزم لزيارة المشهد الرضوي في الطاعون سنة
1186 ه‍ أمر تلميذه المقدس الكاظمي السيد محسن، بتتميم هذا الشرح لكنه تأدب
عن التتميم، وشرحها - أي الوافية - مستقلا وسمى شرحه بالوافي كما سيأتي ".
وقد يسمى هذا الشرح أيضا - أعني شرح السيد بحر العلوم - بالحاشية على
الوافية.
6 - الوافي: شرح الوافية.
للمحقق المقدس الكاظمي، السيد محسن بن الحسن الأعرجي المتوفي
1227 ه‍.
39

قال العلامة الطهراني: " وهو شرحه الكبير في خمسين ألف بيت. شرع فيه سنة
الطاعون 1186 ه‍. وفرغ منه 1 - رجب - 1196. أوله (الحمد لله الواهب المنان
المتبع الاحسان بالاحسان) عناوينه: (قوله قوله). توجد نسخته في مكتبة الخونساري
والشيخ هادي كاشف الغطاء من وقف عبد الهادي بن عيسى كبة في مجلدين ضخمين
يقرب من خمسين الف بيت. ونسخة الشيخ جواد الجزائري كتابتها 1240 ه‍ ونسخة
مكتبة السيد خليفة نقلت عن الأصل المسودة في الخميس 14 ذي الحجة 1196 ه‍
بقلم بهاء الدين محمد بن أحمد ".
7 - المحصول في شرح وافية الأصول.
له أيضا.
قال العلامة الطهراني: " أوله (بعد الحمد لله رب العالمين. قوله... فيقول
العبد الفقير إلى الله المغني، محسن بن الحسن....).... "
وهو ملخص شرحه الكبير السابق - الوافي - وسماه بالمحصول لذلك. وأضاف
الطهراني: " وهو مرتب على مقدمة ذات مطالب وفنين أولهما مباحث الألفاظ، والفن
الثاني في مدارك الأحكام. وهو خمسة أبواب: 1 - الكتاب المجيد. 2 - السنة الغراء.
3 - إجماع الأمة. 4 - العقل الراجع إليهما. 5 - الاجتهاد والتقليد. وهو آخر
الكتاب. رأيته في خزانة الشيخ علي بن الشيخ محمد رضا آل كاشف الغطاء
بالنجف، وفي خزانة سيدنا الصدر نسخة ناقصة الآخر، وفي كتب الشيخ
عبد الحسين الطهراني، ورأيت عند السيد محمد الحجة نزيل قم أوان كونه في النجف
نسخة في مجلدين تمام الأصول إلى آخر الاجتهاد والتقليد. وعند الشيخ هادي
كاشف الغطاء نسخة خط المولى محمد سليم بن الحاج مهدي. فرغ من الكتابة في
الجمعة 21 / صفر / 1224 ه‍ في حياة المؤلف ".
8 - الحاشية على الوافية.
له أيضا.
40

قال العلامة الطهراني: " وهي غير شرحيه للوافية - الموسوم أحدهما بالوافي
والآخر بالمحصول - بل هذه تعليقات بخطه على نسخة الوافية التي كتب بخطه في
آخرها ما صورته: بلغ قبالا وتصحيحا بحسب الجهد والطاقة في مجالس عديدة
آخرها يوم الأحد سلخ جمادي الأولى سنة ثمان وثمانين بعد الماءة والألف وكتب الأقل
محسن الحسيني الأعرجي ".
راجع كل ما نقلناه عن العلامة البحاثة الشيخ الطهراني، في هذا المقام،
كتابه: الذريعة إلى تصانيف الشيعة (6 / 230) و (14 / 166 - 168) و (20 / 151)
و (25 / 14 - 15).
9 - وهناك تعليقات على الوافية في هامش نسخة الأصل، وأخرى في هامش
النسخة المطبوعة لا نعرف أصحابها. * * *
41

تحقيق الكتاب
عندما أقدمت على تحقيق هذا الكتاب، كنت أعلم أن التصدي لمثله عمل
مجهد، ولكن فاتني تقدير مبلغ الصعوبة، وأخطأت في تحديد الوقت الذي يستغرقه.
وكانت نيتي في البدء مقتصرة على مقابلة النسخ المتوفرة منه وضبط نصه وإخراجه إلى
المكتبة الاسلامية بحلة تواكب الثقافة المعاصرة.
وعندما اشتغلت بذلك، ألزمني الهدف مراجعة مصادر الأحاديث والنصوص
والآراء المنقولة فيه. فإن تقويم النص يتعذر بدونها.
وهكذا أقحمت بمراجعة مجاميع الحديث، وكتب الأصول واللغة، بل كتب
الفقه والتفسير وغيرها أحيانا.
وبعد أن وقفت على شاطئ هذه الكتب، رأيت إسباغ العمل، فهامت بي
الهمة إلى قطع أشواط أخرى في تحقيقه تمثلت في تخريج الآيات القرآنية والأحاديث،
والنصوص، والآراء المنقولة عن علماء الأصول، ونسبة الأقوال إلى قائليها، فأبطأ
ذلك بي عدة أعوام، تخللتها فترات التنقيب عن بعض المصادر البعيدة المأخذ،
فبذلت في تحقيق هذا الكتاب من الجهد والوقت ما لم أكن أتوقعه.
فكان عملي في الكتاب:
1 - ضبط النص، ومقابلة النسخ.
ذكرت فيما سلف أن لهذا السفر القيم نسخا كثيرة، ولكن قصرت يدي عن
العثور على ما كان منها بخط المؤلف أو تلامذته، أو ما قرئ عليه أو على أحد من
تلامذته، أو على أحد شراح هذا الكتاب، نظر إلى أن مقر مثل هذه النسخ ومكمنها
هو البقاع المقدسة من أرض الرافدين - التي تضم المئات من المكتبات الخاصة والعامة
42

التي تتواجد فيها أمثال هذه النفائس، كما ضمت تلك البقاع من قبل فطاحل العلم
وأساطين المعرفة - فأنى لنا الوصول إليها؟!
ورحم الله أبا العلاء، إذ يقول:
ويا دارها بالخيف إن مزارها * قريب ولكن دون ذلك أهوال
ومع ذلك، فقد حصلت من النسخ ما يمنحني الثقة والاطمئنان بإصابتي
الهدف، بتقديم النص الصحيح إلى القارئ العزيز.
فقد اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على النسخ التالية:
أولا: نسخة مكتبة (آستان قدس رضوي) المحفوظة فيها برقم (7409).
وهي بخط بهاء الدين، محمد بن ميرك موسى، الحسيني التوني، فرغ من كتابتها
بتاريخ 27 / ذي القعدة / عام 1121 ه‍. تقع في ماءة ورقة.
وهي نسخة جيدة، حسنة الخط، قليلة الخطأ، نادرة السقط، أقدم النسخ
المتوفرة، وعليها حواش وتعليقات، ذيل أكثرها بعبارة " منه قدس سره " - وقد أثبت هذه
التعليقات في الهامش - بينما ذيل بعضها الآخر بإشارات غير مفهمة. أو باسم
(أحمد). وتبدو الصفحة الأولى منها وكأنها بخط ناسخ آخر، مما يبعث على الظن بأنها
مرممة. وعليها تصويبات.
ولما لهذه النسخة من الخصائص، أسميتها ب‍ (الأصل).
ثانيا: نسخة مكتبة (المدرسة الفيضية) بقم، المحفوظة فيها برقم (1095).
وهي بخط محمد باقر الحسيني، ابن محمد صادق، وفي تأريخها اضطراب، للتهافت
بين ما ارخ به الناسخ رقما وكتابة. فيتردد تأريخها بين سنة 1134 ه‍ وسنة 1104 ه‍.
والترجيح مع الأول. فلاحظ ما جاء في آخرها. وتقع في (95) ورقة.
وهي جيدة الخط، إلا أنها كثيرة السقط والغلط.
ورمزت لها في الهامش بالحرف (أ).
ثالثا: نسخة مكتبة (المدرسة الفيضية) بقم، أيضا، المحفوظة فيها برقم
(1094). كتبها محمد علي بن زين العابدين الطباطبائي الخراساني. فرغ منها في:
43

5 / شوال / سنة 1256 ه‍. وتقع في (135) ورقة من القطع الصغير.
وهي حسنة الخط، غير خالية من الخطأ والسقط. وقد ترك موضع العناوين
وأرقام الأبحاث والمسائل فارغا مما يدل على أن الناسخ أراد كتابتها فيما بعد بمداد من
لون آخر، إلا أنه لم يوفق لذلك.
ورمزت لهذه في الهامش بالحرف (ب).
رابعا: النسخة المطبوعة على الحجر في بومباي من بلاد الهند في سنة 1309 ه‍
في 189 صفحة.
وتتصف هذه الطبعة بكثرة الأخطاء والسقط.
وأشير إليها في الهامش بالحرف (ط).
على أني استعنت بنسخ أخرى أحيانا ولكني وجدتها لا تخرج عن إحدى هذه
النسخ، ففي عدة موارد من هذا الكتاب بقي في نفسي شئ من صحة النص
واستقامته، ولكن بعد مراجعتي نسخا أخرى عاد لي الاطمئنان والثقة بهذه النسخ
المعتمدة، فعلمت أن لا حاجة إلى اعتماد مزيد من النسخ. سيما وانها تفقد
المواصفات المطلوبة.
وبعد مراجعة هذه النسخ ومقابلتها، قمت بما يلي:
أ - نظرا لان النسخة الأولى تمتاز على بقية النسخ بالقدم، وقلة الأخطاء
والسقط، فقد اتخذت منها أصلا أعتمد عليه في عملي، ووضعت القراءات المختلفة
التي تضمنتها بقية النسخ في الهامش، إلا إذا كان الموجود في الأصل أقل ملاءمة مع
تقويم النص والقراءة الأخرى أقرب إلى الصحة، ففي هذه الحالة أدخل القراءة
الصحيحة في المتن مع الإشارة في الهامش إلى ما كان موجودا في الأصل.
كما اني ملأت موارد السقط من هذه النسخة - على قلتها - بما جاء في بقية النسخ
أو بعضها مع الإشارة إلى ذلك في الهامش. فجاءت بقية النسخ مرممة للنسخة
الأولى.
وأما ما حدث من سقط في بقية النسخ - وهو كثير - فلم أشر في الهامش
إلا إلى ما ينبغي الإشارة إليه كي لا أثقل الهوامش بما لا ضرورة إليه متوخيا
44

بذلك كله أن أقدم للقارئ نصا هو أقرب للصحة.
ب - اعتمدت على المصادر الحديثية المعتمدة في إيراد الأحاديث المنقولة
عنها، وهي المعروفة عند الطائفة ك‍: الكافي، والفقيه، والتهذيب، والاستبصار،
فأوردت الأحاديث كما وردت فيها، لا كما جاءت في نسخ الكتاب نظرا إلى أن هذه
الكتب قد طبعت بتحقيق العلماء والفضلاء فهي أقرب إلى الصواب، مع الإشارة
إلى ما في النسخ من الاختلاف مع المصادر المذكورة إن وجد.
ج - أهملت ما اختلفت فيه النسخ تنكيرا وتعريفا، وتذكيرا وتأنيثا، وما
احتوته من الأخطاء اللغوية والاعرابية والاملائية، فأوردت النص مطابقا لما تقتضيه
القواعد الأدبية.
2 - تقطيع النص.
قمت بتقطيع النص ووضع علامات الترقيم وفقا لما تمليه مواد البحث، تسهيلا
لتناول المطالب، بحيث لا يجد القارئ أية مشقة في المطالعة فقد وضعت العناوين
على حدة بحروف متميزة، ووضعت في بداية السطر العبارات التي يبدأ بها مطلب
جديد، أو يبدأ بها الاستدلال، وما أشبه ذلك، ثم أفرزت العبارات عن بعضها
بعلامات الترقيم التي يقتضيها المورد ويستوجبها المعنى.
3 - تخريج الآيات القرآنية واثبات رقمها واسم السورة التي وردت فيها في
الهامش.
4 - تخريج الأحاديث الشريفة من مصادرها، والإشارة في الهامش إلى موضع
وجودها في تلك المصادر.
5 - تخريج النصوص والعبارات المنقولة عن الكتب الأصولية وغيرها ومقابلتها
مع ما جاء في تلك الكتب، وضبط موارد الاختلاف بينها، مع الإشارة إلى محل
تواجدها في تلك الكتب.
وقد كلفنا هذا العمل بالخصوص الوقت الكثير، حيث أن منها ما لا يزال
مخطوطا لم ينل حظ الطبع، فتتبعتها من مكتبة إلى أخرى فعثرت على أكثرها في
45

المكتبات العامة في قم ومشهد كما ستأتي الإشارة إليه في الهوامش عند ايراد أسمائها.
وبعضها الآخر نادر الوجود، فجبت في طلبه البلدان، واستعصى علي أحدها
حتى أسعفني أحد رجال العلم فبعث إلي بنسخة مصورة منه من القاهرة، فشكر الله
سعيه.
6 - تخريج الآراء والأدلة المنسوبة إلى العلماء.
فقد قمت بالبحث عن هذه الآراء والاستدلالات في كتب أصحابها، وإلا
ففي المصادر المعتمدة التي تضمنت حكاية هذه الأقوال عنهم مراعيا في ذلك أقدم
المصادر زمنا، وأقربها تاريخا إلى القائل.
وقد لاحظت أحيانا اختلافا بين المنقول في هذا الكتاب وبين ما هو مثبت في
كتبهم، فبحثت عن سبب هذا الالتباس، حتى عثرت على من أوقع المصنف في
ذلك، ودونت كل هذه الملاحظات في الهامش.
7 - نسبة الأقوال والأدلة إلى أصحابها.
فإنك تجد أن المصنف كثيرا ما يحكي أقوالا دون أن يسمي قائلها، فعندئذ
أشير في الهامش إلى القائل معتمدا على كتابه إن كان من المصنفين، وإلا فعلى
المصنفات التي نصت على نسبة ذلك القول إليه مرتبا لها عند ذكرها ترتيبا تأريخيا.
8 - تتبعت مسائل هذا الكتاب في أغلب المصادر الأصولية المتقدمة عليه،
فأشرت في الهامش إلى موضع وجودها في تلك المصادر.
وفي هذا تسهيل ومساعدة للمراجع إن شاء أن يتابع البحث في تلكم المسائل
عند من تقدم على المصنف.
كما أن هذا العمل يوضح للقارئ السير التاريخي للمسائل والنظريات
الأصولية. فعندما يذكر المصنف دليلا على رأي من الآراء، فاني أشير في الهامش إلى
من وجدته ينص على ذلك الدليل ويستدل به، مرتبا المصادر ترتيبا تأريخيا يتضح من
خلاله أقدم المستدلين به، ويعلم من أخذ بذلك الدليل من بعد فرضي به، أو ناقشه
ورده.
وقد شمل هذا العمل المصادر الأصولية لمختلف المذاهب، وفي هذا تعريف
46

وارشاد لكل أهل طائفة إلى مصنفات الطائفة الأخرى، فالكل يشتركون في البحث
في مسائل علم الأصول.
9 - وضعت الفهارس العامة للكتاب تسهيلا لمهمة الباحثين والمراجعين.
10 - أثبت في آخر الكتاب قائمة المصادر التي اعتمدتها في تحقيق الكتاب
ومقدمته، مع ذكر تفاصيل الطبعات، وتعيين النسخ المخطوطة فيما يخص غير المطبوع
منها.
هذا، واني قد بذلت الجهد الكبير، والوقت الكثير، في تحقيق هذا الكتاب
رغبة في اخراجه على أحسن هيأة، ولكن العصمة لأهلها، لذا فإني أستميح العذر
من المصنف أولا، ومن القارئ ثانيا، إن اشتمل على بعض وجوه النقص، وقد أجاد
الدكتور عمر فروخ حيث قال - في مقدمة كتابه: تاريخ الفكر العربي -: " ولو أن
مؤلفا أراد أن لا يخرج كتابه إلى الناس إلا بعد أن يخلو من كل نقص وخطأ وهفوة
وهنة، لما خرج إلى الناس كتاب قط ".
وبعد
فاني أسجل شكري لكل من أعانني على انجاز هذا التحقيق، ولا سيما
أستاذي الجليل سماحة العلامة السيد محمد رضا الحسيني الجلالي، الذي راجع
الكتاب بعد تحقيقه، وأبدى عليه ملاحظات مفيدة، وأعانني على حل ما استغلق
واشكل.
واشكر لكل من:
العلامة الجليل الأستاذ المحقق، سماحة السيد عبد العزيز الطباطبائي على
ارشاداته وتوجيهاته.
وأخينا سماحة العلامة السيد جواد الشهرستاني، وسائر أعضاء مؤسسة آل
البيت عليهم السلام، لتلطفهم علي في الحصول على النسخة الخطية الأولى (نسخة
استان قدس رضوي)، واتاحتهم لي فرصة الاستفادة من مكتبة المؤسسة الخاصة والتي
ضمت كثيرا من المصادر والمراجع التي اعتمدتها.
وحجة الاسلام والمسلمين الشيخ مجتبى العراقي، وحجة الاسلام الشيخ
47

محمد مهدي نجف، على تفضلهم في الحصول على نسختي مكتبة المدرسة الفيضية.
والحمد لله أولا وآخرا.
السيد محمد حسين الرضوي الكشميري
قم المقدسة
ليلة عيد الأضحى من سنة (1411 ه‍)
48

بداية نسخة (الأصل)
49

نهاية نسخة (الأصل)
50

بداية نسخة (أ)
51

نهاية نسخة (أ)
52

بداية نسخة (ب)
53

نهاية نسخة (ب)
54

الوافية
في أصول الفقه
للفاضل التوني
المولى عبد الله بن محمد البشروي الخراساني
المتوفى سنة 1071 ه‍
تحقيق
السيد محمد حسين الرضوي
الكشميري
55

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على جزيل آلائه، والشكر له على جميل نعمائه، والصلاة
والسلام على أشرف (1) أصفيائه، وأكرم أنبيائه، محمد وآله.
أما بعد (2)، فهذه رسالة وافية، وجملة شافية، محتوية على تحقيق المهم
من المسائل الأصولية، سيما (3) مباحث الأدلة العقلية، ومباحث الاجتهاد
والتقليد، وباب التراجيح.
وهي مشتملة على مقدمة وأبواب:

(1) زاد في الأصل ههنا كلمة: الأنبياء.
(2) في أ وط: وبعد. وهي ساقطة من ب.
(3) في ط: لا سيما.
57

المقدمة:
في تحقيق ما ينبغي العلم به قبل الشروع في المقصود.
وفيها أبحاث:
الأول: الأصول - لغة -: ما يبنى عليه (1) الشئ.
ومضافا إلى الفقه: هو العلم بجملة طرق الفقه إجمالا، وبأحوالها،
وكيفية الاستدلال بها، وحال المفتي والمستفتي (2).
الثاني: اللفظ إن استعمل فيما وضع له، فهو حقيقة، وإلا فمجاز.
والأول: إن كان استفادة المعنى منه (3) بوضع الشارع، فحقيقة شرعية. وإن
كان بوضع أهل اللغة، فلغوية. وإن كان بوضع طار غير الشرع، فحقيقة

(1) في أ وب وط: يبتني. بدل يبنى. وفي الأصل: عليها. بدل: عليه.
(2) قارن هذا التعريف بما جاء في الذريعة: 1 / 7، والمستصفى: 1 / 5، والمحصول: 1 / 12،
والمعارج: 47، وتهذيب الوصول: 3. لترى انفراده به وعدم متابعتهم فيما ذكروه
من التعاريف.
(3) كذا في ب وط، وفي الأصل وأ: عنه.
59

عرفية: عامة أو خاصة.
ولا ريب في وجود الأخيرتين.
وأما الشرعية: ففي وجودها خلاف (1)، والحق: وجودها.
لنا: تبادر الأركان المخصوصة من لفظ الصلاة، والقدر المخرج من المال
من لفظ الزكاة، والقصد الخاص من لفظ الحج (2)، ونحو ذلك، مع أن هذه
الألفاظ موضوعة في اللغة لمعان اخر.
والتبادر من أمارات الحقيقة.
فإن قلت: أردت التبادر في كلام الشارع، أو المتشرعة - أعني الفقهاء -؟
الأول ممنوع، والثاني مسلم، ولا يثبت به إلا الحقيقة العرفية.
قلت: إنكار التبادر في كلام الشارع، مكابرة باللسان لما يحكم به
الوجدان، فإنه لا شك في حصول هذه المعاني في الأذهان من مجرد (3) سماع هذه
الألفاظ في أي كلام كان.
غايته أنك تقول: إن هذا التبادر لأجل المؤانسة بكلام المتفقهة.
فنقول: هذا غير معلوم، بل الظاهر أنه لكثرة استعمال الشارع هذه
الألفاظ في هذه المعاني.
والحاصل: أنا نقول إن التبادر معلوم، وكونه لأجل أمر غير الوضع،
غير معلوم، فنحكم بالحقيقة، وإلا لم تثبت أكثر الحقائق اللغوية والعرفية، إذ
احتمال كون التبادر بواسطة أمر خارج (4)، جار في الأكثر.
واعلم: أن هذه المسألة قليلة الفائدة، إذ صيرورة هذه الألفاظ حقائق

(1) الذريعة: 1 / 10، المحصول: 1 / 119، المنتهى: 19، معارج الأصول: 52، تهذيب
الوصول: 13، معالم الدين: 34.
(2) في أ: من لفظ الصوم والحج.
(3) في ب: بمجرد.
(4) في ب: بواسطة امر آخر، وفي ط: بواسطة آخر.
60

في معانيها الشرعية في كلام الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين مما يبعد
النزاع فيه غاية البعد.
واستقلال القرآن والاخبار النبوية - المنقولة من غير جهة الأئمة عليهم
السلام، بحكم - مما لا يكاد يتحقق بدون نص من الأئمة عليهم السلام على ذلك
الحكم.
الثالث: الأصل في اللفظ أن يكون مستعملا فيما وضع له حتى يثبت
المخرج، فإذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز، رجحت الحقيقة.
وكذا إذا دار بينها (1) وبين النقل، أو التخصيص، أو الاشتراك، أو
الاضمار.
ولكن إن وقع التعارض بين واحد من هذه الخمسة مع آخر منها - كما
قيل (2) في آية * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) * (3) حيث إن الحكم
بتحريم معقودة الأب على الابن من الآية موقوف على مجازية النكاح في الوطئ،
إذ على تقدير الاشتراك يجب التوقف، كما يتوقف في حمل كل مشترك على
واحد من معانيه بدون القرينة - فقد قيل: بتقديم (4) المجاز على الاشتراك وغيره
عدا التخصيص، و: بتقديم (5) الاشتراك على النقل، وقيل: بالعكس، و:
بتقديم (6) التخصيص على غيره، و: بتساوي الاضمار والمجاز (7).
والأولى: التوقف في صورة التعارض، إلا مع أمارة خارجية أو داخلية
توجب صرف اللفظ إلى أمر معين، إذ مما ذكروا في ترجيح البعض على البعض،
من كثرة المؤنة وقلتها، وكثرة الوقوع وقلته، ونحو ذلك، لا يحصل الظن بأن

(1) في ب: بينهما.
(2) التمهيد: 190، الأبهاج: 1 / 329، شرح البدخشي: 1 / 386.
(3) النساء / 22.
(4) (5) (6) كذا في ب، وفي سائر النسخ: بتقدم.
(7) شرح العضد: 1 / 50، شرح البدخشي: 1 / 388، تهذيب الوصول: 16.
(8) في ط: المؤن.
61

المعنى الفلاني هو المراد من اللفظ في هذا الموضع.
وبعد تسليم الحصول - أحيانا - لا دليل على جواز الاعتماد على مثل هذه
الظنون في الأحكام الشرعية، فإنها ليست من الظنون المسببة (1) عن الوضع.
الرابع: إطلاق المشتق - كاسم الفاعل والمفعول ونحوهما - على المتصف
بمبدئه بالفعل حقيقة، اتفاقا، كالضارب لمباشر الضرب.
وقبل الاتصاف بالمبدأ؟ المشهور: أنه مجاز، وادعى جماعة الاتفاق عليه،
وقال صاحب الكوكب الدري: " إطلاق النحاة يقتضي أنه إطلاق حقيقي " (2).
وأما بعد زوال المبدأ، كالضارب لمن انقضى عنه الضرب؟ ففيه أقوال:
أولها: مجاز مطلقا.
ثانيها: حقيقة مطلقا (3).
ثالثها: إن كان مما يمكن (4) بقاؤه فمجاز، وإلا فحقيقة (5).
وتوقف جماعة كابن الحاجب (6) والآمدي (7).
وذكر الرازي (8) والآمدي (9) والتبريزي - في اختصار المحصول (10) -
وجماعة أخرى (11): أن محل الخلاف ما إذا لم يطرأ على المحل وصف وجودي

(1) في أ: المسببية، وفي ط: المستثناة.
(2) الكوكب الدري: 233.
(3) يشعر به كلام العلامة: تهذيب الوصول: 10، وكلام المحقق الكركي: رسائل المحقق
الكركي: 2 / 82.
(4) في أ: لا يمكن.
(5) حكاه ابن الحاجب: المنتهى: 25.
(6) المنتهى: 25.
(7) الاحكام: 1 / 48 - 50.
(8) المحصول: 1 / 91، ويفهم هذا من جوابه على (قوله رابعا).
(9) الاحكام: 1 / 50.
(10) حكاه عنه الأسنوي: التمهيد: 154.
(11) الأبهاج: 1 / 229.
62

يناقض المعنى الأول أو يضاده، كالسواد مع البياض، والقيام مع القعود، ومع
الطريان مجاز اتفاقا (1).
وفي تمهيد الأصول: " إن النزاع إنما هو فيما إذا كان المشتق محكوما به،
كقولك: زيد مشرك (2)، أو قاتل، أو متكلم، فإن كان محكوما عليه - كقوله
تعالى * (الزانية والزاني فاجلدوا...) * (3)، * (والسارق والسارقة
فاقطعوا...) * (4) و * (فاقتلوا المشركين...) * (5) ونحوه - فإنه حقيقة مطلقا:
سواء كان للحال أو لم يكن " (6).
والحق: أن إطلاق المشتق باعتبار الماضي حقيقة، إذا (7) كان اتصاف
الذات بالمبدأ أكثريا، بحيث يكون عدم الاتصاف بالمبدأ مضمحلا في جنب
الاتصاف، ولم تكن الذات (8) معرضة عن المبدأ، أو راغبة عنه، سواء كان
المشتق محكوما عليه أو محكوما به، وسواء طرأ الضد أم لا (9)، لأنهم يطلقون
المشتقات على المعنى المذكور من دون نصب القرينة، كالكاتب والخياط
والقارئ والمتعلم والمعلم ونحوها، ولو كان المحل متصفا بالضد الوجودي
كالنوم ونحوه.
والقول: بأن الألفاظ المذكورة ونحوها كلها موضوعة لملكات هذه

(1) يلاحظ ان المصنف قد اعتمد في حكاية هذه الأقوال المذكورة على الأسنوي: التهميد:
154.
(2) زاد في أ: أو قائم.
(3) النور / 2.
(4) المائدة / 38.
(5) التوبة / 5.
(6) التمهيد: 154.
(7) في ط: إن.
(8) في ب: بالذات.
(9) كذا في ط، وفي سائر النسخ: أولا.
63

الافعال (1).
مما يأبى عنه الطبع السليم في أكثر الأمثلة، وغير موافق لمعنى مبادئها على
ما في كتب اللغة.
وقال الشارح الرضي (2)، نقلا عن أبي علي والرماني (3): " إن اسم الفاعل
مع اللام فعل في صورة الاسم " قال: " ونقل ابن الدهان ذلك أيضا عن
سيبويه، ولم يصرح سيبويه بذلك، بل قال: الضارب زيدا بمعنى ضرب "
انتهى (4).
والحاصل: أن استعمال اسم الفاعل بمعنى الماضي في كلامهم أكثر من
أن يحصى، والأصل في الاستعمال الحقيقة، وكذا غيره من المشتقات.
ومن فروع المسألة ما لو قال أحد: " وقفت الشئ الفلاني على سكان
موضع كذا " فهل (5) يبطل حق الساكن بالخروج عن الموضع مدة قليلة أو كثيرة،
على وجه الاعراض أو غير وجه الاعراض؟
وقد عرفت التحقيق.

(1) في ب: الألفاظ.
(2) في أ: الشيخ الرضي.
(3) في ب: المازني، وهو خطأ.
(4) شرح الكافية: 2 / 201.
(5) في أ: قيل.
64

الباب الأول
في الأمر والنهي
وفيه مقصدان
65

الأول في الامر:
وفيه مباحث:
الأول: في أن صيغة الامر هل تقتضي الوجوب أو لا؟.
اختلف الناس في ذلك، فقيل: إنها للوجوب (1)، وقيل: للندب (2)،
وقيل: للقدر المشترك بينهما وهو الطلب (3)، وقيل: باشتراكها بينهما لفظيا (4)،
وقد تدرج الإباحة فيها (5) لفظيا أو معنويا (6) باعتبار الاذن في الفعل، وقد يدرج

(1) ذهب إليه الغزالي: المنخول: 107، والفخر الرازي: المحصول 1 / 204، والمحقق الحلي:
معارج الأصول: 64، والعلامة الحلي: تهذيب الأصول: 21، والبيضاوي، كما في
الأبهاج: 2 / 22، وابن الحاجب: المنتهى: 91، وشرح العضد: 1 / 191 (المتن)، والمحقق
الشيخ حسن: معالم الدين: 46.
(2) ذهب إليه أبو هاشم، كما في: شرح العضد 1 / 191.
(3) ذهب إليه الجبائي. حكاه عنه في: المنخول: 104.
(4) ذهب إليه الشافعي. حكاه عنه في: المستصفى: 1 / 426، وقال به السيد المرتضى أيضا:
الذريعة: 1 / 53.
(5) كذا في ط، وفي النسخ: فيهما.
حكاه الأسنوي دون أن يسمي قائله: التمهيد: 268.
(6) كذا في ب، وفي سائر النسخ: ومعنويا.
67

التهديد فيها لفظيا (1)، وقيل: بالوقف (2) في الأولين (3)، وقيل للوجوب شرعا
لا لغة (4).
والحق: أنها للقدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو الطلب، ولكن
دل الشرع على وجوب امتثال الأوامر الشرعية فيحكم بالوجوب عند التجرد عن
قرائن الندب (5)، فههنا مقامان:
الأول: أنها حقيقة في الطلب.
والدليل عليه من وجوه:
الأول: أن المفهوم من الصيغة ليس إلا طلب الفعل، وربما لا يخطر
بالبال الترك، فضلا عن المنع عنه (6)، ولهذا عرف النحاة (7) وأهل الأصول (8)
الامر بأنه: طلب الفعل على سبيل الاستعلاء أو العلو (9).
الثاني: ضعف دليل مثبتي الفصول المميزة - من الوجوب والندب - في

(1) قال الأسنوي في التمهيد: 268: حكاه الغزالي في المستصفى. ولكن في المستصفى: " وقال
قوم هو مشترك بين هذه الوجوه الخمسة عشر كلفظ العين والقرء ": المستصفى: 1 / 419.
(2) في ط: بالتوقف.
(3) ذهب إليه الآمدي، حيث قال " وهو الأصح ": الاحكام: 2 / 369، وأبو الحسن الأشعري،
والقاضي الباقلاني، كما في المنخول: 105، و: شرح العضد: 1 / 192.
(4) اختلف في القائل بذلك، للاختلاف في فهم كلمات الأصوليين، ولعل المصنف أراد به قول
الشافعي. انظر: الأبهاج: 2 / 25. وقد ذهب الشيخ الطوسي إلى انها تقتضي الايجاب إن
صدرت عن الحكيم: العدة 1 / 63. وقد يكون هذا القول هو مراد من ذكر هذا الاحتمال
والله العالم.
(5) الذريعة: 1 / 53، المنخول: 108، المنتهى: 91.
(6) في ب: المنع من الترك.
(7) شرح المفصل: 7 / 58.
(8) التمهيد: 265، معارج الأصول: 62، تهذيب الأصول: 20.
(9) عبارة (أو العلو) ساقطة من أ، ومع فرض وجودها تكون إشارة إلى الخلاف بين الأصوليين
في اشتراط العلو، أو اشتراط الاستعلاء، أو عدم اشتراط شئ منهما. انظر تفصيل هذه
الأقوال وأدلتها في: المحصول: 1 / 198 - 199.
68

حقيقة صيغة الامر، كما ستطلع عليه.
الثالث: كثرة ورود الامر في الأحاديث متعلقا بأشياء بعضها واجب
وبعضها مندوب، من دون نصب قرينة في الكلام، وهذا غير جائز لو لم يكن
حقيقة في القدر المشترك.
وكذا كثرة وروده متعلقا بالأمور الواجبة وكذا بالمندوبة، من دون نصب
القرينة في الكلام.
لا يقال: على تقدير كون الصيغة حقيقة في القدر المشترك، كيف يجوز
استعمالها في الواجب (1) أو الندب، بدون القرينة؟! إذ المجاز مما لابد له من
القرينة؟!
لأنا نقول: الصيغة ليست مستعملة إلا في الطلب، وإنما يعرف كون
متعلقه (2) جائز الترك أو غير جائز الترك، من موضع آخر (3)، فليست إلا
مستعملة في معناها الحقيقي.
والقول باحتمال اقترانها بالقرينة حين الخطاب وخفائها علينا الآن، مما
يأبى عنه الوجدان، لبعد خفائها في هذه المواضع على كثرتها، ولاشتراك
التكاليف بيننا وبينهم (4).

(1) كذا في النسخ، والظاهر أنه: الوجوب.
(2) كذا في أ، وفي سائر النسخ: كون متعلق الصيغة.
(3) في ط: مواضع اخر.
(4) فان قلت: فالمنع من الترك والاذن فيه مراد للشارع ليكون داخلا فيما استعمل فيه الصيغة،
فيكون استعمال الصيغة في جل المواضع مجازا.
قلت: المنع من الترك والاذن فيه ليسا من صفات الطلب ولا الفعل المطلوب حقيقة، بل
من صفات الطالب، وظاهر انه لا يختلف معنى الصيغة باختلاف صفات المتكلم بها، بل
نقول: المنع من الترك مما لا ينفك عن حقيقة صيغة الامر، غاية الامر أن المنع في بعض المواضع
تنزيهي كما في المندوبات، وفي البعض تحريمي غير كبيرة، كما في الواجبات التي تركها من
الصغائر، وفي البعض تحريمي كبيرة، كما في ما تركه يوجب الكفر ك‍ (آمن به) ونحوه.
فلو كان كون الصيغة للطلب يوجب مجازيتها في هذه المواضع، كان كونها للايجاب أيضا
يوجب مجازيتها في أغلب مواضع الايجاب، وهم ينكرونه.
فالحق ما عرفت من أن العقاب على ترك الفعل أو حرمان الثواب عليه، أو الثواب على
الفعل، ليسا مما يتعقل دخوله في معنى الصيغة، فتأمل جدا. (منه رحمه الله).
69

حجة من قال بأنها حقيقة في الوجوب أمور:
أحدها: أن السيد إذا قال لعبده: (إفعل كذا) ولم يكن هناك قرينة
أصلا، فلم يفعل، عد عاصيا، وذمه العقلاء لتركه الامتثال، فتكون
للوجوب. (1)
والجواب: لا نسلم تحقق العصيان والذم على تقدير انتفاء القرينة،
والقرائن في مثل هذه المواضع لا يكاد يمكن انتفاؤها، إذ الغالب علمه بالعادة
العامة، أو عادة مولاه، أو فوت منفعة مولاه، ولهذا لو أمره مولاه بما (2) يختص
بمصالحه، من غير أن يعود على السيد منه نفع ولا ضرر، لما ذمه العقلاء إذا لم
يفعل، وهذا ظاهر.
والأدلة الباقية: آيات قرآنية، تدل على عدم جواز ترك ما تعلق به أمر
الشارع (3)، وسيجئ بعضها.
والجواب: أن هذه الآيات لا تدل على كون الصيغة حقيقة في الوجوب،
كما لا يخفى.
وحجة من قال بأنها للندب أمران:
أحدهما: قول النبي صلى الله عليه وآله " إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه
ما استطعتم (4) " أي ما شئتم (5).

(1) معارج الأصول: 64.
(2) في أ: لما.
(3): الذريعة: 1 / 57 - 58، المحصول: 1 / 205 - 234.
(4) غوالي اللآلي: 4 / 58 ح 206، صحيح مسلم: 2 / 975 ح 1337، مسند أحمد: 2 / 247
السنن الكبرى: 1 / 215.
(5) المنتهى: 92.
70

وجوابه ظاهر، لبطلان تفسير الاستطاعة بالمشيئة.
وثانيهما: مساواة الامر والسؤال إلا في الرتبة، والسؤال إنما يدل على
الندب، فكذا الامر (1).
وجوابه: منع المساواة أولا، ونص أهل اللغة عليها غير ثابت، ومنع
دلالة السؤال على الندب ثانيا.
المقام الثاني:
إن امتثال الأوامر الشرعية واجب إلا مع دليل يدل على جواز ترك
الامتثال، والدليل عليه أيضا من وجوه:
الأول: أن امتثال الامر طاعة، إذ ليس معنى الطاعة إلا الانقياد كما
صرح به أرباب اللغة، وحصول الانقياد بامتثال الامر بديهي، وترك الطاعة
عصيان، لتصريح أهل اللغة بأن العصيان خلاف الطاعة (2)، والعصيان
حرام، لقوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) * (3).
الثاني: قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الامر منكم) * (4) مع الآيات الدالة على ذم ترك الطاعة، كقوله تعالى
: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) * (5)
وغيرها.
الثالث: قوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة
أو يصيبهم عذاب أليم) * (6).

(1) المحصول: 1 / 235، منهاج الوصول: 75.
(2) المفردات في غريب القرآن: حرف العين / ص 337
(3) الجن / 23.
(4) النساء / 59.
(5) النساء / 80.
(6) النور / 63.
71

والتهديد على مخالفة مطلق الامر لا يصح إلا مع وجوب امتثال مطلق
الامر.
الرابع: ما ذكره السيد المرتضى رحمه الله من حمل الصحابة كل أمر ورد في
القرآن أو السنة على الوجوب (1).
والظاهر كون باعث حملهم هو ما ذكرناه في هذا المقام، لما مر (2) في المقام
الأول، ولأصالة عدم النقل.
واعلم أن صاحب المعالم قال في أواخر هذا البحث: " فائدة: يستفاد
من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة عليهم السلام، أن استعمال صيغة الامر
في الندب كان شائعا في عرفهم، بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي
احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي، فيشكل التعلق
في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الامر به منهم عليهم السلام " (3) انتهى كلامه
أعلى الله مقامه.
وأنت بعد خبرتك بما ذكرنا تعلم أن صيغة الامر في كلام الأئمة عليهم
السلام ليست مستعملة إلا فيما استعملت فيه في كلام الله تعالى (4)، وكلام
جدهم صلى الله عليه وآله، وكيف يتصور عنهم نقل لفظ كثير الاستعمال عن
معناه الحقيقي في كلام جدهم صلى الله عليه وآله من غير تنبيه وإعلام لاحد:
أن عرفنا في هذا اللفظ هذا المعنى؟! حاشاهم عن ذلك، بل الصيغة في
كلامهم أيضا مستعملة في طلب مبدأ الصيغة، وإنما يعلم العقاب على الترك
وعدمه من أمر خارج.
وورودها في كلامهم أيضا مجردة، محمولة على الوجوب المذكور، لفرض

(1) الذريعة: 1 / 54.
(2) في ط: لا ما مر.
(3) معالم الدين: 53.
(4) في أ: إلا فيما استعمل فيه كلام الله.
72

طاعتهم أيضا، لما مر، ولما رواه الكليني، في باب فرض طاعة الأئمة عليهم السلام
من الكافي، بسنده عن بشير العطار، قال: " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
نحن قوم فرض الله طاعتنا، وأنتم تأتمون بمن لا يعذر الناس بجهالته " (1).
وبسنده " عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل: * (وآتيناهم
ملكا عظيما) * " (2) قال: الطاعة المفروضة " (3).
وفي الصحيح: عن أبي الصباح الكناني، " قال: قال أبو عبد الله عليه
السلام: نحن قوم فرض الله عز وجل طاعتنا... " الحديث (4).
وروى الحسين بن أبي العلاء، في الصحيح: " قال: ذكرت لأبي عبد الله
عليه السلام قولنا في الأوصياء: إن طاعتهم مفترضة؟ قال: فقال: نعم، هم
الذين قال الله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * (5) وهم
الذين قال الله عز وجل * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) * " (6).
وفي الصحيح: " عن معمر بن خلاد قال: " سأل رجل فارسي أبا الحسن
عليه السلام، فقال: طاعتك مفترضة؟ فقال: نعم. قال: مثل طاعة علي بن
أبي طالب عليه السلام؟ فقال: نعم " (7).
وفي الموثق: " عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن

(1) الكافي: 1 / 186 - كتاب الحجة / باب فرض طاعة الأئمة ح 3.
(2) النساء / 54.
(3) الكافي: 1 / 186 ح 4.
(4) الكافي: 1 / 186 ح 6.
(5) النساء / 59.
المائدة / 55.
الكافي: 1 / 186 ح 7.
(7) الكافي: 1 / 186 ح 8.
73

الأئمة هل يجرون في الامر والطاعة مجرى واحد؟ قال: نعم " (1).
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المذكورة في هذا الباب وفي غيره، ولا
شك أن الانقياد لمطلوبهم (2) طاعة، وطاعتهم واجبة، فامتثال أوامرهم واجب
مطلقا إلا ما دل دليل على جواز عدم العمل به، وهذا ظاهر.
تذنيب
اختلفوا في صيغة الامر إذا وردت بعد الحظر، على أقوال:
الوجوب (3)، والندب، والإباحة (4)، وتابعية ما قبل الحظر، والتوقف (5).
والحق: أن صيغة الامر - إذا وردت بعد الحظر أو الكراهة (6)، أو في
مقام مظنة الحظر أو الكراهة، بل في موضع تجويز السائل واحدا منهما (7)، كأن
يقول العبد: هل أنام أو أخرج؟ أو نحو ذلك، فيقول المولى له: (إفعل
ذلك) (8) - لا تدل إلا على رفع ذلك المنع التحريمي أو التنزيهي المحقق أو
المحتمل (9).

(1) الكافي: 1 / 186 ح 9.
(2) كذا في ط، وفي سائر النسخ: ان انقياد مطلوبهم.
(3) ذهب إليه الفخر الرازي، المحصول: 1 / 236، والبيضاوي: منهاج الوصول: 76،
والعلامة الحلي: تهذيب الوصول: 21.
(4) حكاه ابن الحاجب: المنتهى: 98، والبيضاوي: منهاج الوصول: 76.
(5) حكاه ابن الحاجب: المنتهى: 98.
وذهب السيد المرتضى: الذريعة: 1 / 73، والشيخ الطوسي: العدة: 1 / 68، والمحقق
الحلي: معارج الأصول: 65، إلى أن حكم الامر الواقع بعد الحظر هو حكم الامر المبتدأ.
(6) كذا في ب، وفي سائر النسخ: والكراهة.
(7) في ط: منها.
(8) في ط: افعل كذا.
(9) هذا قريب مما ذهب إليه الغزالي: المستصفى 1 / 435.
74

وهو كالاذن في الفعل، أمر مشترك بين الإباحة والندب والوجوب.
فالإباحة: مثل * (وإذا حللتم فاصطادوا) * (1).
والندب: مثل * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) * (2).
والوجوب: مثل * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم) * (3).
لنا: تبادر رفع المنع من الفعل.
والظاهر أنها مجاز في هذا المعنى، والتبادر لأجل القرينة، وهي مسبوقية
الصيغة بالمنع المحقق أو المحتمل، وتعليقها على زوال علة المنع في البعض.
وأيضا: إجراء أدلة الوجوب والندب لا يتصور فيما نحن فيه، لأنه فرع
فهم الطلب من (4) الصيغة، وفرديتها لمفهوم الامر، مع أنها ليست كذلك فيما
نحن فيه (5).
البحث الثاني:
اختلفوا في دلالة صيغة الامر على الوحدة والتكرار على أقوال:
ثالثها - وهو الحق -: عدم دلالتها على شئ منهما.
لنا: تبادر مجرد طلب الفعل من الصيغة، من غير فهم شئ من الوحدة
والتكرار منها (6)، كالزمان والمكان وغيرهما من المتعلقات (7)، والمنكر مكابر.

(1) المائدة / 2.
(2) الجمعة / 10.
(3) التوبة / 5.
(4) في ط: عن.
(5) عبارة (فيما نحن فيه): زيادة من ب.
(6) المحصول: 1 / 238.
(7) الذريعة: 1 / 100، معالم الدين: 53.
75

وأيضا: لو دلت على التكرار لعمت الأوقات، لعدم الأولوية (1)، وهو
باطل (2) للاجماع على خلافه.
وما قيل: بأنها لو لم تكن للتكرار لما تكرر الصوم والصلاة وغيرهما، ولما
كانت مماثلة لصيغة النهي، حيث اقتضت التكرار، ولاستلزامها إياها بالنظر إلى
الضد، وتكرار اللازم يستدعي تكرار (3) الملزوم.
فهو باطل، لان تكرر (4) ما يتكرر من العبادات، إنما هو لدليل آخر،
كتعليقه على موجب يتكرر.
وأيضا: التكرار على هذا النحو مما لا يتصور أن يكون مفهوما من مجرد
صيغة الامر.
وأيضا: ينتقض بما لا يتكرر كالحج ونحوه.
والثاني: قياس، وفي اللغة (5)، ومع الفارق، إذ النهي يقتضي انتفاء
الحقيقة، والامر اثباتها.
والثالث: باطل، لما سيجئ من عدم الاستلزام.
وبعد التسليم: فالنهي هنا تابع للامر في التكرار وعدمه، لترتبه عليه،
والقائل بالمرة يتمسك هنا بتحقق الامتثال بالمرة (6)، ولا يخفى أنه لا ينافي كونها
لمجرد الطلب، لأصالة براءة الذمة.

(1) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: لعدم الأولية.
(2) المحصول: 1 / 239، معارج الأصول: 66.
(3) كذا في أ. وفي سائر النسخ: تكرار.
(4) كذا في ط. وفي الأصل وب: تكرير. وفي أ: تكرر.
(5) في ط: قياس في اللغة.
(6) عدة الأصول: 1 / 74.
76

تذنيب (1):
الحق أن الامر المعلق على شرط أو صفة، لا يتكرر بتكررهما (2) إلا إذا
كانت الشرطية قضية كلية، مثل: (كلما جاءك زيد فأكرمه)، أو كان الشرط أو
الصفة علة موجبة (3)، مثل: * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * (4)، * (والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما) * (5).
ووجه الثاني ظاهر.
ولنا على الأول: أن السيد إذا قال لعبده: (إن دخلت السوق، أو إذا
دخلت السوق، فاشتر لحما) (6) فترك الشراء في المعاودة لا يوجب الذم، وهو
ظاهر (7).
ولكن أكثر الأوامر المعلقة الواقعة في الاحكام مما يتكرر بتكرر الشرط
لفهم العلية غالبا، ولذا توهم البعض أن (إذا) تفيد العموم عرفا، وإن لم تفده
لغة.
البحث الثالث:
اختلفوا في دلالة صيغة الامر على الفور أو التراخي، على أقوال (8):

(1) في أ وط: تذييل.
(2) عدة الأصول: 1 / 76، المحصول: 1 / 243.
(3) المحصول: 1 / 246، تهذيب الأصول: 22.
(4) المائدة / 6.
(5) المائدة / 38.
(6) في ط: فاشتر لنا لحما.
(7) الذريعة: 1 / 115، المحصول: 1 / 243، معارج الأصول: 67.
(8) فقد ذهب السيد المرتضى إلى أن الامر المطلق مشترك بينهما: الذريعة: 1 / 132. وذهب
الشيخ الطوسي إلى أنه يقتضي الفور: العدة: 1 / 85، وبه قالت الحنفية، كما في المحصول:
1 / 247، المنتهى: 94، والحنابلة، كما في المنتهى: 94.
77

ثالثها: أنها لا تدل على شئ منهما (1) وهو الحق، إلا أن الأقوى وجوب
التعجيل في الامر المجرد عن القرائن، فههنا أيضا مقامان:
الأول: عدم الدلالة على الفور ولا على التراخي.
ولنا فيه: أن المتبادر من الامر ليس إلا طلب الفعل من غير فهم شئ
من الأوقات والأزمان منه، وهو ظاهر (2).
الثاني: وجوب المبادرة إلى امتثال الفعل المأمور به، وليس المراد بالفور -
في المقام الثاني - المبادرة بالفعل في أول أوقات الامكان، بل ما يعد به المكلف
الفاعل عرفا مبادرا ومعجلا، وغير متهاون ومتكاسل (3)، وهذا أمر يختلف
بحسب اختلاف الآمر والمأمور والفعل المأمور به، مثلا: إذا أمر المولى عبده
بسقي الماء، فبتأخيره ساعة تفوت الفورية، ويعد العبد متهاونا.
وإذا أمره بالخروج إلى مصر (4) بعيد الغاية - كالهند - فبتأخر أسبوع بل
شهر لا تفوت الفورية، ولا يعد متهاونا.
والدليل عليه من وجوه:
الأول: أن جواز التأخير على تقديره ليس إلى (5) غاية معلومة، إذ لا دلالة
للصيغة على غاية معلومة، ولو استفيدت (6) الغاية من أمر خارج، يخرج عن محل

(1) ذهب إليه الشافعي، كما في: المنتهى: 94، واختاره الفخر الرازي: المحصول:
1 / 247، والمحقق الحلي: معارج الأصول: 65، وابن الحاجب: المنتهى: 94، والعلامة
الحلي: تهذيب الوصول: 22: والمحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 56.
(2) انظر مصادر البحث السابق.
(3) كذا الظاهر، وفي النسخ: متكاهل.
(4) كذا في ب، وفي سائر النسخ: سفر.
(5) في ط: ليس له.
(6) كذا في ط، وفي الأصل وأ: استفاد، وفي ب: استفادة.
78

النزاع، لأنه يصير من قبيل المؤقت، والكلام في غيره (1).
وما يقال من أن كل أمر - على هذا - يكون مؤقتا، فلا يجب الفور في
شئ أصلا، لان الغاية هي ظن الموت، فإذا حصل ذلك الظن، تصير العبادة
مضيقة.
فهو باطل:
لان (2) ظن الموت قلما يحصل.
وعلى تقديره: لا دليل على اعتبار هذا الظن شرعا حتى يمكن الحكم به
بتضييق عبادة ثبت من الشرع توسعتها.
وعلى تقدير التسليم: فبعد حصول هذا الظن، قلما يتمكن المكلف من
الامتثال، إذ حصول هذا الظن في صحة من الجسم وكمال من العقل، من
خوارق العادة، بل هو على تقديره إنما يكون عند شدة المرض، وحينئذ لا
يتمكن الانسان من فعل ما يحتاج إلى زيادة إتعاب النفس، كالحج والصوم
والجهاد، ونحوها، بل الصلاة أيضا إذا كانت كثيرة، فنقول في الاستدلال: إن
جواز التأخير لا إلى غاية، يفضي إلى خروج الواجب عن الوجوب فيكون
منتفيا (3) فيكون الفور واجبا.
والمقدمتان في غاية الظهور.
وما يقال من: أن الواجب ما لا يجوز تركه على وجه ما، فلا يخرج شئ
من الوجوب، إذ يصدق على كل واجب أنه بحيث لو حصل ظن المكلف بفوته،
وتمكن من الفعل، فهو غير جائز الترك حينئذ.
فهو من المزخرفات، لان تحديد الوجه في هذا التعريف، بحيث يسلم
طرده من الندب بل من المباح، مما لا يكاد يمكن إلا بالتكلفات الباردة البعيدة

(1) الذريعة: 1 / 133، المحصول: 1 / 250.
(2) في ط: لا أن.
(3) في ط: منفيا.
79

جدا.
وأيضا: قد عرفت ما في غائية الظن بالموت (1).
وأيضا: كيف يتصور وصف العبادة بالوجوب باعتبار وصف نادر
التحقق فيها؟!
وكذا ما يقال من " أن الواجب ما لا يجوز تركه لا إلى بدل " والعزم هنا
واجب، لان بدلية العزم على الاطلاق توجب إخراج الواجب عن الحتمي.
وأيضا: لا دليل على وجوب العزم، ولا على بدليته، على تقدير
الوجوب.
فإن قلت: هذا الدليل ينتقض بما لو صرح بجواز التأخير، ولا نزاع في
إمكانه.
قلت: جواز التأخير - في جميع أزمنة صحة الجسم والتمكن من الفعل -
لا نسلم أنه يمكن تصريح الحكيم (2) به، لأنه سفه ومناف لغرضه.
نعم، صراحة جواز التأخير على الاطلاق، توجب أن يدخل في زمن
جواز التأخير بعض الأزمنة، التي يعد التارك فيها متهاونا مضيعا، لولاها.
الثاني: أن التأخير بما ينافي الفورية المذكورة، يعد في العرف تهاونا
ومعصية (3)، فيكون حراما، فيكون الفور واجبا، إذا كان الآمر ممن ثبت وجوب
امتثاله.
ولا يتوهم من هذا: صيرورة الفورية مدلولا لصيغة الامر، فينافي ما في
المقام الأول.
لان قضاء العرف بذلك، لا يلزم أن يكون لأجل وضع اللفظ له، ولا
يلزم أن يكون جميع صفات الشئ وآثاره وأحكامه، من مدلولات لفظه.

(1) في ب: غايته، وفي ط: غائته بالموت.
(2) في أ وط: الحكم.
(3) الذريعة: 1 / 132، المحصول: 1 / 251.
80

الثالث: ادعاء (1) السيد الاجل المرتضى، الاجماع على أن الامر المطلق
يحمل على الفور، حيث قال في الذريعة، في بحث أن الامر للوجوب، أولا؟:
" ونحن، وإن ذهبنا إلى أن هذه اللفظة مشتركة في اللغة بين الايجاب والندب،
فنحن نذهب إلى أن العرف الشرعي المتفق المستمر قد أوجب أن يحمل مطلق
هذه اللفظة - إذا وردت عن الله تعالى أو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -
على الوجوب دون الندب، وعلى الفور دون التراخي، وعلى الاجزاء " (2)،
واحتج عليه ب‍ " أن الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين، حملوا كل أمر ورد في
الكتاب والسنة مجردا، على الفور، والوجوب، والاجزاء، ولم ينكر أحد ذلك،
وإذا احتج واحد بأمر عليه، لم ينكر خصمه، بل يسلم منه ذلك " (3) ثم قال:
" وأما أصحابنا معشر الامامية فلا يختلفون في هذا الحكم الذي ذكرناه، وقد مر
غير مرة: أن إجماعهم حجة " (4) انتهى.
فان قلت: الاجماع المنقول بخبر الواحد لا يفيد إلا الظن، والمسألة من
المطالب الكلية، التي يجب تحصيل العلم بها.
قلت: إفادة الظن من الخبر الواحد أكثري، وقد يفيد القطع إذا احتف
بالقرائن، والظاهر كون هذا الخبر كذلك.
ولو سلم، فلا نسلم كون المسألة من المطالب العلمية، بل هي من
المطالب المتعلقة بمقتضيات الألفاظ، وقد صرحوا بالاكتفاء بالظن فيها، لعدم
إمكان تحصيل القطع فيها.
ولو سلم كونها من غير تلك المطالب، فلا نسلم وجوب تحصيل القطع
في غير المعارف الإلهية.

(1) في ط: ادعى.
(2) الذريعة: 1 / 53.
(3) هذا تلخيص لكلام السيد في الذريعة: 1 / 54.
(4) الذريعة: 1 / 55.
81

ولو سلم، فلا نسلم وجوب تحصيل القطع فيما لا يمكن فيه ذلك، لأنه
تكليف بالمحال، والمسألة كذلك، إذ كل من القول بالفور والتراخي والاشتراك
وطلب الماهية والتوقف، مبني على الأدلة الظنية، كما لا يخفى.
وأيضا: اشتراط القطع في الأصول مطلقا، وسيما في أصول الفقه - كعدمه -
مبني (1) على الأدلة الظنية، كالآيات القرآنية ونحوها، والأصل ونحوه.
فإن قلت: كلام المرتضى - كما فهمه بعض الأصحاب (2) - دال على أن
الوجوب والفور والاجزاء، من مدلولات الامر في الشرع، فليس الاجماع واردا
على المدعى.
قلت: لا ظهور لكلام السيد في ذلك، إذ هو ما زاد على القول بوجوب
حمل الامر عليه، ولم يذكر بأنه مما وضع له اللفظ في العرف الشرعي، فتأمل.
الرابع: قوله تعالى: * (فاستبقوا الخيرات) * (3)، ولا شك أن فعل المأمور
به من الخيرات.
وقوله تعالى: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات
والأرض) * (4)، حيث إن مسارعة العبد إلى المغفرة غير متصورة، لأنها من فعل
الله تعالى، فالمراد - والله أعلم - سببها، وفعل المأمور به سببها، كما قال تعالى:
* (إن الحسنات يذهبن السيئات) * (5).
وإضمار سبب خاص - كالتوبة - ترجيح بلا مرجح، لا دليل عليه.
وأيضا: حذف المفعول هنا، إنما هو ليذهب ذهن السامع كل مذهب،

(1) زاد في ط: أيضا.
(2) الظاهر أنه صاحب المعالم كما يظهر ذلك مما ذكره في الرد على استدلال السيد المرتضى: معالم
الدين: 58.
(3) المائدة / 48.
(4) آل عمران / 133.
(5) هود / 114.
82

وكل سبب للمغفرة (1).
وما قيل: (2): " بأن ذلك محمول على أفضلية المسارعة والاستباق، لا على
وجوبهما، وإلا لوجب الفور، فلا تتحقق المسارعة والاستباق، لأنهما إنما
يتصوران في الموسع دون المضيق، ألا ترى أنه لا يقال لمن قيل له: (صم غدا)
فصام -: إنه سارع إليه واستبق، والحاصل أن العرف قاض بأن الاتيان
بالمأمور به، في الوقت الذي لا يجوز تأخيره عنه، لا يسمى مسارعة واستباقا،
فلابد من حمل الامر في الآيتين على الندب، وإلا لكان مفاد الصيغة فيهما منافيا
لما تقتضيه المادة، وذلك ليس بجائز، فتأمل " (3) انتهى كلامه بعبارته.
فوهنه وضعفه ظاهر، لأنه مبني على اشتباه المؤقت بغيره، فإنه توهم أن
الواجب الفوري يصير مؤقتا مضيقا كالصوم، وليس كذلك، إذ المؤقت - موسعا
كان أو مضيقا - يصير قضاءا بخروج وقته، وقد يسقط به كصلاة العيد،
بخلاف غير المؤقت كإزالة النجاسة من المسجد، وقضاء الصلوات اليومية على
المشهور، والحج، ونحوها، فإن فيه وإن حصل الاثم بالتأخير، إلا أنه أداء لازم
الفعل في كل وقت، فالاستباق والمسارعة يتصوران في المضيق غير الموقت،
وقضاء العرف بما ادعاه فيه ظاهر البطلان.
وما توهم من منافاة مادة الامر فيها لصيغته حينئذ - بناءا على أن المادة
تقتضي إمكان التأخير، وصورته تقتضي المنع من التأخير - فهو باطل، إذ المادة
لا تقتضي إلا كون الفعل أداءا، وصحيحا على تقدير التأخير، ولا تقتضي جواز
التأخير ومشروعيته (4).
وهو في غاية الظهور، ولا يبعد كون أمره بالتأمل، إشارة إلى ما ذكرناه.

(1) الذريعة: 1 / 134، المحصول: 1 / 249.
(2) والقائل هو صاحب المعالم تبعا لغيره. (منه).
(3) معالم الدين: 57 - 58.
(4) في أ: وصورته تقتضي المنع من التأخير ومشروعيته. بدل قوله: ولا تقتضي إلى آخره.
83

واحتج من قال بالدلالة على الفور، بأدلة: بعضها غير مناف لما مر،
وبعضها غير صحيح، كالقياس على النهي، وعلى الايقاعات، ولزوم ثبوت
بدل - هو العزم - على تقدير التراخي، من غير دليل، ونحو ذلك (1).
واحتج من قال بالتراخي - بمعنى جواز التأخير لا وجوبه، إذ لم يذهب
إليه أحد على الظاهر - بأن الامر المطلق لا توقيت فيه، فلو أراد وقتا معينا لبينه،
فإذا فقدنا البيان، علمنا أن الأوقات متساوية في إيقاعه (2).
والجواب:
بالوفاق، إن أراد نفي الدلالة على الفور.
وإن أراد نفيه مطلقا، فنقول: البيان بعدم تساوي الأوقات، موجود في
العقل والنقل كما مر.
البحث الرابع:
في أن الامر بفعل في وقت معين، هل يقتضي فعله فيما بعد ذلك الوقت
- على تقدير فوات ذلك الفعل في وقته - أو لا؟.
فيه مذهبان: الاقتضاء (3)، وعدمه.
وقوي الأكثر الثاني (4)، قائلين بأن القضاء لا يجب إلا بأمر مجدد، نحو:

(1) تجدها في: الذريعة: 1 / 32 1 - 134، المحصول 1 / 249 - 251، معالم الدين: 56 -
58، وقد استدل الشيخ الطوسي بالأخير منها: العدة: 1 / 86.
(2) حكاه في: الذريعة: 1 / 141.
(3) ذهب إليه الحنابلة وبعض الفقهاء. كما في: المنتهى: 98.
(4) الذريعة: 1 / 116، العدة: 1 / 77، المستصفى: 2 / 11، المحصول: 1 / 324، المعارج:
75، تهذيب الوصول: 30.
84

(من نام عن صلاة (1) أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها) (2).
لنا: أن الامر بصوم يوم الخميس، لا إشعار فيه بوجوب صوم غير يوم
الخميس، ولا يقتضيه معنى (3) لاختلاف الأوقات - كالكيفيات - في المصلحة،
فقد تكون العبادة في وقت خاص لمصلحة (4)، دون غيره من الأوقات (5).
احتجوا:
[أ] بأن هناك مطلوبين: أحدهما الصوم، والآخر إيقاعه في يوم
الخميس، فبفوت الثاني لا يسقط الأول، إذ (6) لا يسقط الميسور بالمعسور (7).
والجواب: لا نسلم تعدد المطلوب، بل هو الصوم المقيد بيوم الخميس،
فلا يمكن إيقاع هذا المطلوب في غيره.
[ب] وبأن الدين المؤجل يسقط بالتأخير، فكذا المأمور به (8).
والجواب: أن ضرب الاجل في الدين إنما هو لرفع الوجوب قبله، لا
لرفعه بعده، وهو معلوم عادة، والعقل يحكم بأن الغرض (9) في الدين متعلق
بإحقاق الحق، ولا مدخلية للأجل إلا لرفع تقاضي صاحب الحق قبله، بخلاف
المأمور به.
على أنه قياس، لا نقول به.

(1) في ط: من نام في وقت صلاة.
(2) المستصفى: 2 / 11، غوالي اللآلي: 1 / 201 / الفصل التاسع ح 17.
(3) المنتهى: 98.
(4) كذا في ط، وفي سائر النسخ: مصلحة.
(5) الذريعة: 1 / 117، العدة: 1 / 77.
(6) كذا في ط: وفي سائر النسخ: (و) بدل (إذ).
(7) روى ابن أبي جمهور عن النبي صلى الله عليه وآله مرسلا: " لا يترك الميسور بالمعسور " غوالي اللآلي: 4 / 58
ح 205.
(8) المستصفى: 2 / 11.
(9) في ط: الفرض.
85

هذا، و (1) لكن التتبع يورث الظن بثبوت القضاء في كل مؤقت، إذا كان
واجبا لا مندوبا، إذ لا يكاد يوجد في الاحكام ما تعلق به الامر في وقت إلا وثبت
الامر بقضائه على تقدير فوته (2)، غير صلاة العيدين والجمعة ونحوهما (3).
فالظن يحكم بأن منشأ تعلق الامر المجدد، هو الامر الأول.
وأيضا: إلحاق الفرد المجهول بالأعم الأغلب يوجبه.
ولكن الحكم بمدركية هذا الظن للأحكام الشرعية مشكل، والله
أعلم.
تذنيب:
على ما اخترناه - من أن الامر للفور - لو أخر المكلف المأمور به عن
الوقت الذي يتحقق فيه الفور، فهل يجب عليه الاتيان به فيما بعد ذلك الوقت؟
مع عدم القرينة على الاعتداد به فيه، ولا على عدمه؟
فيه مذهبان (4)، والأقوى وجوب الاتيان به فيما بعد.
لنا: أنا لو خلينا وظاهر الأوامر المطلقة، نحكم بجواز الاتيان بالمأمور به
في كل وقت أداءا (5)، من دون ترتب الاثم على الاتيان به في وقت ما، والأدلة
الدالة على الفور لا تقتضي إلا ترتب الاثم على التأخير، وهو لا يوجب سقوط
الفعل فيما بعد.
والحاصل: أن الامر المطلق يقتضي بظاهره شيئين: الأول: أدائية (6)

(1) الواو زيادة من أ.
(2) في أ وط: فواته.
(3) كذا في أ، وفي سائر النسخ: ونحوها.
(4) الذريعة: 1 / 131، معالم الدين: 59.
(5) زاد في ب في هذا الموضع كلمة: وقضاءا.
(6) في أ: دائمية.
86

الفعل المأمور به في كل وقت، والثاني: رفع (1) الاثم والحرج بالاتيان به في أي
وقت من الأوقات، وأدلة الفور إنما تقتضي صرفه عن ظاهره في الشئ الثاني
دون الأول، إذ لا منافاة بين الاعتداد بالفعل المأمور به في أي وقت أتى به،
وبين ترتب الاثم على التأخير به، فلا يجوز صرف الامر عن ظاهره في كلا
الشيئين من دون موجب.
ولا يتوهم جريان الدليل في المؤقت، لأنه لا يقتضي الشئ الأول، بل
ولا الاعتداد بالمأمور به في كل وقت.
نعم، يبقى الاشكال في الامر المطلق، إذا علم توقيته بوقت محدود (2) من
خطاب آخر، إذ لا يبعد (3) أن يقال: إن التوقيت مطلقا ظاهر في نفي الأدائية
والاعتداد به فيما بعد.
والفرق بين الفورية والتوقيت: أن الوقت - في التوقيت - لابد أن يكون
منشأ لمصلحة الفعل، بخلاف الفورية، فإن الوقت فيها (4) لا ارتباط له
بالفعل، إلا لأجل أن الفعل الزماني لابد وأن يكون في زمان، حتى لو أمكن
إيقاع الفعل لا في زمان، لحصل (5) الامتثال.
وكذا يبقى (6) الاشكال فيما يفيد الفور بالامر الأول، كأن يقول: (إفعل
معجلا، أو بسرعة)، فهل يجب الاتيان به فيما بعد وقت الفور حينئذ، أو لا؟.
أو يقول: (إفعل) بناءا على أن الامر بنفسه يفيد الفور.
والأقرب الثاني، لما مر في المؤقت، إلا أنه لا يكاد يوجب في الاحكام

(1) في أ: دفع.
(2) في ب: معلوم.
(3) في ط: ولا يبعد.
(4) كذا الظاهر، وفي النسخ: فيه.
(5) كذا في ط، وفي سائر النسخ: يحصل.
(6) في ب: لا يبقى.
87

الشرعية أمر فوري، إلا وهناك قرينة على عدم السقوط فيما بعد.
هذا، وقد يورد في بعض كتب الأصول في بحث الامر مباحث أخرى،
رأينا عدم إيرادها هنا أولى:
إما لان البعض سيجئ ذكره في مباحث الأدلة العقلية، مثل: بحث
مقدمة الواجب، واستلزام الامر بالشئ النهي عن الضد، وبحث المفاهيم.
وإما لكونه من المسائل الكلامية التي لا تليق بهذه الرسالة، وإن كانت
من المبادئ الفقهية، مثل: صحة التكليف بفعل علم الآمر انتفاء شرطه، مع
جهل المأمور أو علمه أيضا، ووجود الواجب الموسع والكفائي، وامتناع تكليف
ما لا يطاق، وتعلق الامر بالمعدوم، وتكليف الغافل والمكره، ونحو ذلك مما
يتعلق بمباحث العدل من علم الكلام.
وإما لقلة فائدته، مثل بحث الواجب التخييري، وبقاء الجواز بعد نسخ
الوجوب، وغير ذلك. * * *
88

المقصد الثاني: في النواهي
وفيه مباحث:
البحث الأول:
اختلفوا في مدلول صيغة النهي حقيقة، على نحو اختلافهم في الامر (1).
والحق ههنا - أيضا - نظير ما مر (2) في الامر، من أنها حقيقة في طلب
الترك.
ولكن تحمل نواهي الشرع على التحريم:
لما مر في الامر.
ولقوله تعالى: * (وما نهاكم عنه فانتهوا) * (3)، وقد مر أن أوامر الشرع

(1) قال الغزالي: " اعلم أن ما ذكرنا من مسائل الأوامر تتضح به أحكام النواهي إذ لكل مسألة
وزان من النهي عن العكس ". المستصفى: 2 / 24 والنظر: الذريعة: 1 / 174، المحصول:
1 / 338، المنتهى: 100، المعارج: 76، المعالم: 90.
(2) في ب: يظهر مما مر.
(3) الحشر / 7.
89

محمولة على الوجوب.
وقوله تعالى في مقام الذم والوعيد: * (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى
ثم يعودون لما نهوا عنه) * (1) الآية.
وغير ذلك، نحو قوله تعالى في مقام الذم: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا
عنه) * (2).
وقوله تعالى: * (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) * (3).
البحث الثاني:
الحق أن النهي الشرعي المجرد عن القرائن يجب حمله على الدوام: (4)
لان حمل النهي المطلق على حصة معينة من الأوقات، محدودة الأول
والآخر، من دون مرجح، غير معقول.
ولأن العلماء لم يزالوا يستدلون على عموم التحريم بمطلق النهي.
البحث الثالث:
هل يجوز تعلق الأمر والنهي بشئ واحد، أو لا؟ (5).

(1) المجادلة / 8.
(2) الانعام / 28.
(3) الأعراف / 166.
(4) الذريعة: 1 / 176، معالم الدين: 92، ونقله الفخر الرازي عن المشهور، لكنه خالف فيه:
المحصول: 1 / 338، ونسبه ابن الحاجب إلى المحققين: المنتهى: 101، كما خالف في ذلك
العلامة في تهذيب الوصول: 33، وإن وافقهم على ذلك في كتابه نهاية الوصول على ما حكاه
عنه المحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 92.
(5) المحصول: 1 / 340.
90

والحق عدم الجواز (1).
واعلم أن للمسألة صورا:
الأولى: أن يتعلق الامر الايجابي العيني، والنهي التحريمي العيني،
بأمر واحد شخصي.
ولا شك ولا نزاع لاحد في امتناعه، بناءا على امتناع التكليف بما لا
يطاق (2)، سواء كان منشأ تعلق الحكمين ذات ذلك الشئ أو وصفين لازمين له.
أما لو أمكن اتصافه بعرضين مفارقين، مع بقاء وحدته في الحالين،
فيجوز تعلق الامر باعتبار أحد الوصفين، والنهي باعتبار الآخر، فيجب حينئذ
إيقاعه على الوصف الأول، ويحرم إيقاعه موصوفا بالوصف الثاني، كلطم اليتيم
تأديبا، وظلما، والسجود لله، ولغيره، فإنه يختلف بالقصد والنية.
الثانية: أن يتعلق الامر الايجابي التخييري، والنهي التحريمي العيني
بأمر شخصي، بحيث يكون منشأ الوجوب والحرمة واحدا، أو أمرين
متلازمين.
والحق امتناعه، والظاهر أنه لا نزاع فيه أيضا، وسيجئ ما يحققه.
الثالثة: أن يتعلق الامر الحتمي، والنهي كذلك، كل واحد بكلي،
ولكن يكون بين الكليين العموم من وجه، فيختار المكلف ما يندرج في كل
منهما، فهل يحصل الامتثال باعتبار الامر، أو لا؟.
فيه خلاف، وقد مثل بالصلاة في الدار المغصوبة، فإن الصلاة مأمور
بها، والغصب منهي عنه، والصلاة في الدار المغصوبة فرد لكل منهما، أما
بالنسبة إلى الصلاة فباعتبار نفسها، وأما بالنسبة إلى الغصب فباعتبار جزئها،
لان القيام على أرض الغير، والسجود عليها، مع عدم رضائه أو بدون إذنه،

(1) المحصول: 1 / 340.
(2) المحصول: 1 / 341.
91

تصرف متصف بالغصب، بل هو نفس الغصب، وكذا الحركات والسكنات،
إذ الكون - وهو شغل الحيز - جنس للحركة والسكون، وجزئيتهما للصلاة
تستلزم جزئيته.
وقد وقع النزاع في صحة هذه الصلاة وبطلانها، بناءا على أنه هل تعدى
الامر المتعلق (1) بمطلق الصلاة إلى هذا الفرد المتعلق (2) للنهي؟ أو لا؟ (3).
وهذه الصورة في الحقيقة ترجع إلى الصورة الثانية، لان النهي عن الكلي
نهي عن جميع جزئياته، والامر به أمر بواحد من جزئياته، فكل واحد (4) من
جزئياته يصير واجبا تخييريا.
والحق: امتناع تعلق الامر - العام (5) لجميع (6) الجزئيات المحصي لها (7) -
بما هو فرد للمنهي عنه، وأن الدعوى بينة، غنية عن الدليل، إذ امتناع كون
الشئ الواحد مرادا - ولو على جهة التخيير - وغير مراد - بل مبغوضا - لشخص
واحد، في غاية الظهور.
وتعلق الوجوب التخييري به، يوجب الرخصة من الحكيم باختياره، مع
استلزامه حينئذ (8) امتناع الإطاعة في طرف النهي.
وأيضا: هذا ينافي اللطف، إذ المكلف حينئذ مقرب للمكلف إلى
معصيته (9)، كما لا يخفى.

(1) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: المطلق.
(2) في ط: المعين. بدل: المتعلق.
(3) المحصول: 1 / 343، وقد ذهب الشيخ الطوسي إلى الأول: عدة الأصول: 1 / 100.
(4) كلمة (واحد): زيادة من ب.
(5) كذا في ب، وفي سائر النسخ: امر العالم.
(6) كذا في أ، وفي سائر النسخ: بجميع.
(7) كذا في الأصل وب، وفي أ وط: بها.
(8) (حينئذ): زيادة من أ وط.
(9) كذا في أ وب، وفي الأصل: لا معصيته، وفي ط: معصية.
92

واختلاف الجهة غير مجد مع اتحاد المتعلق.
احتج المخالف بوجهين (1):
الأول: أن السيد إذا أمر عبده بخياطة ثوب، ونهاه عن الكون في مكان
مخصوص، ثم خاطه في ذلك المكان، فإنا نقطع بأنه مطيع عاص، لجهتي الأمر والنهي.
الثاني: أنه لو امتنع الجمع، لكان باعتبار اتحاد متعلق الأمر والنهي - إذ
لا مانع سواه اتفاقا - واللازم باطل، إذ لا اتحاد في المتعلقين (2)، فإن متعلق الامر
الصلاة، ومتعلق النهي الغصب، وكل منهما يتعقل انفكاكه عن الآخر، وقد
اختار المكلف جمعهما، مع إمكان عدمه، وذلك لا يخرجهما عن حقيقتيهما
اللتين هما متعلقا الأمر والنهي (3) حتى لا تبقيا مختلفتين.
والجواب عن الأول:
أولا: بمنع حصول الإطاعة على التقدير المذكور، والسر في توهم هذا
الحصول: أن غرض الآمر وفائدة الخياطة حاصلة على أي حال اتفقت
الخياطة، فيشتبه (4) حصول الغرض بحصول الإطاعة.
وثانيا: بأن المتعلق في المثال المذكور مختلف، فإن الكون ليس جزءا من
الخياطة، بخلاف الصلاة، وتحقيقه: أن الخياطة أمر حاصل من الحركات،
فهي بمنزلة المعدات له.
ولا يمكن أن يقال: إن الصلاة - أيضا - أمر حاصل من الحركات

(1) حكاهما المحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 94 - 95.
(2) في ط: للمتعلقين.
(3) عبارة (اللتين هما متعلقا الأمر والنهي): زيادة من ب، وهي مثبتة في المصدر أيضا: المعالم 95.
(4) في ب وط: فيشبه.
93

والسكنات، فهي الأذكار (1) الواقعة على الأنحاء الخاصة.
للاجماع على أن القيام، ورفع الرأس من الركوع، والسجود، وملاصقة
الجبهة بالأرض - من أجزاء الصلاة وأركانها.
لا يقال: اختلاف المتعلق غير مجد مع التلازم، إذ تعلق النهي باللازم،
والامر بالملزوم - غير جائز، ومطلق الكون من لوازم مطلق الخياطة، والكون في
المكان المغصوب من لوازم الخياطة فيه، كالكون مع الصلاة في الجزئية.
لأنا نقول - بعد تسليم أن الكون من لوازم الخياطة لا من لوازم الخياط
-: إنا لا نسلم أن الكون في المكان المغصوب من لوازم الخياطة فيه، بل الكون
المطلق لازم لها، وليس للكون الخاص مدخلية في تشخص الخياطة، بل
شخص الخياطة في المكان المغصوب يمكن حصوله في غير ذلك المكان،
بخلاف الصلاة، فإن أشخاصها تتبدل بتبدل الأكوان في الأماكن المختلفة.
وعن الثاني: أن اتحاد المتعلق لازم، بملاحظة أن التكاليف المتعلقة
بالماهيات، متعلقة في الحقيقة بجزئياتها.
الرابعة (2): أن يتعلق الامر الايجابي الحتمي والنهي التنزيهي، بأمر واحد
شخصي، وهذا - أيضا - غير جائز، لما مر.
الخامسة: أن يتعلق الامر الايجابي التخييري، والنهي التنزيهي، بأمر
واحد شخصي، كالصلاة في الحمام، ونحوه من الأماكن المكروهة (3)، وهذا
أيضا ممتنع، إذا كان المكروه بمعناه المعروف، وهو راجحية (4) الترك، فما تعلق
به هذا النهي من العبادات، فالظاهر بطلانه ما لم يدل دليل على صحته، وما

(1) زاد في ط في هذا الموضع كلمة: الخاصة.
(2) أي: من الصور المذكورة لاجتماع الأمر والنهي.
(3) الفقيه: 1 / 241 ح 725، الكافي: 3 / 390 باب الصلاة في الكعبة.... ح 12، المحاسن
للبرقي: 365 ح 110.
(4) في ب: أرجحية.
94

دل الدليل على صحته، يجب حمل النهي (1) فيه على غير معناه الحقيقي، ولهذا
اشتهر أن متعلق الكراهة ليس نفس العبادة، بل أمر آخر، كالتعرض
للنجاسة، أو لكشف العورة، ونحو ذلك، في كراهة الصلاة في الحمام،
فاختلف المتعلق.
ويقولون: إن الحرمة غالبا تتعلق بالذات، والكراهة (2) بالوصف.
وهذا خلاف ظواهر النصوص، الدالة على تعلق الكراهة بنفس
الفعل، مثل: (لا تصل في الحمام) ونحوه.
والحق: هو ما اشتهر من أن الكراهة في العبادات، بمعنى كونها (3) أقل
ثوابا بنسبة خاصة.
وتحقيقه: أن العبادة قد تكون بحيث لم يتعلق بها نهى ولا أمر - غير الامر
الذي تعلق بأصلها - كالصلاة اليومية في البيت للبعيد عن المسجد، أو عند
المطر (4)، نحو ذلك.
وهذه ربما تتصف بالإباحة، بمعنى عدم مرجوحية أوصافها وأجزائها (5)،
وعدم راجحيتها أيضا - غير الراجحية الناشئة من راجحية أصلها - فيقال:
الصلاة اليومية في البيت مثلا مباحة.
وقد تكون بحيث تعلق بها أمر آخر، باعتبار اشتمالها أو اتصافها على أمر
راجح أو به.
وهذا الرجحان: قد ينتهي إلى حد الوجوب، كالصلاة في المسجد مع
نذر إيقاعها فيه، فيجتمع حينئذ وجوبان، وقد لا ينتهي إليه، كالصلاة اليومية

(1) كذا في ط، وفي سائر النسخ: الكراهة.
(2) في ط: الكراهية.
(3) في ط: أنها.
(4) الفقيه: 1 / 377 ح 1099.
(5) كذا في أ وط، وفي الأصل وأ: أو أجزائها.
95

في المسجد لا مع النذر ولا مع عذر مسقط للندب، فيجتمع (1) حينئذ الوجوب
مع الندب.
وقد تكون بحيث يتعلق بها نهي بالاعتبار المذكور.
وهذه المرجوحية: قد تنتهي إلى حد التحريم، كصلاة الحائض،
والصلاة في الدار المغصوبة، وغير ذلك، وقد مر أنها تستلزم الابطال، وقد لا
تنتهي إليه، وهذه أيضا تستلزم الابطال، إن كان النهي باعتبار جزء، أو وصف
لازم، لما مر في النهي التحريمي.
فلا بد من حمل الكراهة على أقلية الثواب، بمعنى كون العبادة - باعتبار
الاشتمال أو الاتصاف المذكور - أقل ثوابا منها نفسها لو لم تكن كذلك، بل
كانت متصفة بالإباحة المذكورة، فالصلاة في الحمام مكروهة، بمعنى أنها أقل
ثوابها منها في البيت، لا في المسجد.
وعلى هذا التحقيق لا يرد ما يقال: إن الكراهة بمعنى أقلية الثواب،
توجب كون الصلاة في جميع المساجد والمواضع - مكروهة، غير المسجد الحرام،
لأنها أقل ثوابا منها فيه.
وقد علم مما مر صورة اجتماع الامر الايجابي معه، ومع الندب، ومع
الإباحة، بل صورة اجتماع الامر الندبي مع الايجاب، والندب، والإباحة،
والكراهة، والتحريم، فهذه ثلاث عشر صورة:
تتميم:
فإن قلت: كيف حكمت ببطلان العبادة، عند فرديتها للمأمور به
والمنهي عنه؟ وحكمت باستثنائها عن بقية أفراد المأمور به في تعلق الامر، ولم لا

(1) في ط: فيجمع.
96

يجوز دخولها في المأمور به، وخروجها عن المنهي عنه؟ مثلا: الصلاة في الدار
المغصوبة، تكون صحيحة، ويكون كل غصب منهيا عنه إلا الصلاة إذا كانت
غصبا، وأي فرق بين قولك: (كل صلاة مأمور بها إلا إذا كانت غصبا)، وبين
قولنا: (كل غصب منهي عنه إلا إذا كان صلاة)؟!
قلت: هذا الاحتمال (1) لا يخلو عن قرب، سيما (2) مع ضميمة ما دل على
صحة الصلاة المذكورة، مثل قوله تعالى: * (إن الأرض لله) * (3)، وما ورد من
أن الأرض مهر لفاطمة الزهراء عليها السلام (4) إلا أن أصحابنا لم ينقلوا خلافا
في بطلان الصلاة المذكورة.
ولعل الوجه فيه: أن تعلق الامر بمثل العبادة المذكورة، بطريق التخيير،
على ما مر، وتعلق النهي بها، بطريق الحتم والعين، فيكون استثناؤها من الامر
أولى من استثنائها من النهي، إذ ظاهر (5): أن الاهتمام بفعل فرد خاص من
الواجب التخييري، ليس مثل الاهتمام بترك الحرام العيني.
أو الوجه فيه: أن العبادة إذا صارت محتملة لكل من الوجوب
والتحريم، رجح جانب التحريم، لا لما قيل واشتهر من: أن دفع المفسدة أهم
من جلب المنفعة - إذ هذا إنما يتم مع تعارض الندب والتحريم، لا الواجب
معه، لان ترك الواجب أيضا كفعل الحرام مفسدة - بل لما ورد من التوقف
عند تعارض الأمر والنهي، ومصداقه الكف.
وأيضا: من تتبع ظهر عليه أن كل أمر مردد (6) بين الوجوب والتحريم،

(1) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: احتمال.
(2) في ب: لا سيما.
(3) الأعراف / 128.
(4) كشف الغمة: 1 / 472، المحتضر: 133.
(5) في ط: الظاهر.
(6) كذا في أ. وفي الأصل: أن كل مردد. وفي ط: ان كل أمر تردد. وفي ب: ان كل امر ورد.
97

رجح الشرع جانب الكف عنه، كصلاة الحائض في أيام الاستظهار، وكف
الوضوء عن الإناءين (1) المشتبهين عند نجاسة أحدهما، وغير ذلك.
وقال السيد في الذريعة: " وقد يصح أن تقبح من المكلف جميع أفعاله
على وجه، وتحسن على وجه آخر، وعلى هذا الوجه يصح القول: بأن من دخل
زرع غيره على سبيل الغصب - أن له الخروج عنه بنية التخلص، وليس له
التصرف بنية الفساد، وكذلك من قعد على صدر حي، إذا كان انفصاله منه
يؤلم ذلك الحي كقعوده، وكذلك المجامع زانيا، له الحركة بنية التخلص،
وليس له الحركة على وجه آخر " (2).
وقال في موضع آخر، بعد الاستدلال على بطلان الصلاة في الدار
المغصوبة: " وقد قيل في التمييز (3) بين الصلاة وغيرها، في هذا الحكم: إن كل
عبادة ليس من شرطها أن يتولى الفعل بنفسه، بل ينوب فعل الغير مناب فعله،
أو ليس من شرطها أن تقع منه بنية الوجوب، أو ليس من شرطها النية
أصلا، لم يمتنع في المعصية منها أن تقوم مقام الطاعة، وهذا قريب " (4) انتهى.
ثم قال: " وأما الضيعة المغصوبة، فالصلاة فيها مجزية، لان العادة جرت
بأن صاحبها لا يحظر على أحد الصلاة فيها، والتعارف يجري مجرى الاذن،
فيجب الرجوع إليه ".
وقال: " فأما من دخل وليس بغاصب، لكنه داخل الدار المغصوبة
مختارا (5)، فيجب أن لا تفسد صلاته، لان المتعارف بين الناس أنهم يسوغون

(1) كف صاحبه عن مجاوزته إلى غيره: منعه، وهو أصل المعنى. انظر: معجم الافعال المتعدية
بحرف: 315. هذا، والمناسب أن تكون العبارة كما يلي: والوضوء بالإناءين إلى آخره، عطفا
على المثال الأول.
(2) الذريعة: 1 / 178.
(3) كذا في أ وط، وفي الأصل وب: التميز.
(4) الذريعة: 1 / 193.
(5) كذا في النسخ، ولكن في المصدر: مجتازا.
98

ذلك لغير الغاصب، ويمنعونه في الغاصب " (1) انتهى.
ويفهم من كلامه الأول: أن الفعل الواحد يمكن أن يتصف بالوجوب
والحرمة، سيما في مثاله بالقعود على صدر الحي.
وكلامه الثاني ظاهر في صحة الوجوب الكفائي في المكان المغصوب.
واعلم أن الشهيد رحمه الله، نقل في قواعده (2)، عن السيد المرتضى:
صحة الصلاة الواقعة على جهة الرياء، وعدم ترتب الثواب عليها، لكن تسقط
المؤاخذة بفعلها (3)، وهو يؤذن بتجويزه تعلق الأمر والنهي بشئ واحد من
جهتين، إلا أن يقول: إن الرياء أمر غير الصلاة، وفيه تأمل.
ونقل الكليني في كتاب الطلاق، عن الفضل بن شاذان: التصريح
بصحة الصلاة في الدار المغصوبة، حيث قال: " وإنما قياس الخروج والاخراج
[للمعتدة الرجعية من بيتها] (4) كرجل داخل دار قوم بغير إذنهم، فصلى فيها،
فهو عاص في دخوله الدار، وصلاته جائزة، لان ذلك ليس من شرائط
الصلاة، لأنه منهي عن ذلك، صلى أو لم يصل " (5) انتهى كلامه.
وغرضه: أن ما كانت الصلاة سببا للنهي عنه (6)، فاقترانه للصلاة مفسد
لها، كالصلاة في الثوب النجس، وما كان النهي فيه عاما غير مختص بالصلاة،
فاقترانه غير مفسد، كالصلاة في الثوب المغصوب، وذكر أمثلة أخرى غيرها.
ثم اعلم: أن هذه المسألة من المسائل العدلية من علم الكلام، أوردتها
هنا لنفعها في بعض مسائل هذا العلم، فهي من المبادئ التصديقية، وإيرادها

(1) الذريعة: 1 / 194.
(2) القواعد والفوائد: 1 / 79 - الفائدة الثالثة.
(3) الانتصار: 17.
(4) ما بين المعقوفين غير مثبت في نسخة ط، كما أن المصدر الكافي خال منه.
(5) الكافي: 6 / 94 / كتاب الطلاق / باب الفرق بين من طلق على غير السنة.....
(6) كلمة (عنه): زيادة من أ.
99

في الأدلة العقلية أيضا غير بعيد، إلا أنها لا يستدل بها إلا على نفي الحكم
الشرعي، كأصالة براءة الذمة.
البحث الرابع:
اختلفوا في دلالة النهي على فساد المنهي عنه، على أقوال:
عدم الدلالة مطلقا، نقله في المحصول عن أكثر الفقهاء (1)، والآمدي
عن أكثر المحققين (2)
والدلالة مطلقا (3)، واختاره ابن الحاجب من العامة (4)، والسيد المرتضى
منا لكن قال: إن دلالته على الفساد شرعا لا لغة (5)، واختاره الشهيد في
قواعده (6)، والمحقق الشيخ علي في شرح القواعد (7)، بشرط عدم رجوع النهي
إلى وصف غير لازم.
" واختاره بهذا الشرط الفخر الرازي في المعالم، ونقله في الوجيز، عن
الشافعي، ونقله الآمدي عن أكثر أصحاب الشافعي، واختاره هو " (8).

(1) المحصول: 1 / 344.
(2) الاحكام: 2 / 407، التمهيد: 292.
(3) العدة: 1 / 101 - 102.
(4) كذا حكى الأسنوي في التمهيد: 292، ولكن ابن الحاجب قد فصل بين النهي عن الشئ
لعينه فيدل على الفساد شرعا لا لغة، وبين النهي عن الشئ لوصفه. وحكم في هذه الصورة
بالفساد مطلقا: المنتهى: 100 - 101، وشرح العضد على المختصر: 1 / 209 (المتن).
(5) الذريعة: 1 / 180.
(6) القواعد والفوائد: 1 / 99 قاعدة 57.
(7) المسمى ب‍: جامع المقاصد: 2 / 116.
(8) ما بين القوسين نص عبارة الأسنوي في التمهيد: 293.
100

والقول الثالث: التفصيل، وهو الدلالة (1) في العبادات، لا في
المعاملات، وهو مختار المحصول منهم (2)، والعلامة (3)، والمحقق (4)، وكثير
من المتأخرين منا (5).
والحق: أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه مطلقا، فههنا مقامان:
الأول: أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من العبادات.
والدليل عليه: أن المنهي عنه لا يكون مرادا ومطلوبا للمكلف، والعبادة
الصحيحة - واجبة أو مندوبة - تكون مرادة ومطلوبة للمكلف، فلا يكون المنهي
عنه عبادة صحيحة، وهو ظاهر.
واعلم أن النهي:
قد يرجع إلى نفس العبادة، كالنهي عن صلاة الحائض.
وقد يرجع إلى جزئها، كالنهي عن قراءة العزائم في اليومية، بناءا على
جزئية السورة.
وقد يرجع إلى وصف لازم، كالنهي عن الجهر في الفرائض النهارية.
وقد يرجع إلى (6) أمر مقارن غير لازم، كالنهي عن قول (آمين) بعد
الحمد، وعن التكفير - وهو وضع اليمين على الشمال في الصلاة - ونحو ذلك.
واقتضاء النهي الفساد في الثلاثة الأول ظاهر، إذ صحة الكل والملزوم،
مع فساد الجزء واللازم (7)، ظاهر الفساد.
وأما القسم الأخير: فقد وقع الخلاف فيه بين فقهائنا:

(1) زاد في ط كلمة (مطلقا) في هذا الموضع.
(2) المحصول: 1 / 344.
(3) تهذيب الوصول: 33.
(4) معارج الأصول: 77.
(5) معالم الدين: 96.
(6) زاد في ب في هذا الموضع كلمة: وصف.
(7) حرف العطف ساقط من أ وب.
101

فبعضهم يقول: إن النهي عن مثل (1) هذه الأمور، لا يوجب فساد
العبادة الواقعة هي فيها، أو المتصفة بها، إذ هذه أمور خارجة (2) ومغايرة
للعبادة، ولا دليل على استلزام فسادها لفساد العبادة، والامر يقتضي الاجزاء
إجماعا ممن يعتد به.
وبعضهم يقول بفساد العبادة بفسادها، وكأن الوجه فيه: أنه يفهم من
النهي أن عدم المنهي عنه من شرائط تحقق العبادة الشرعية، ووجوده مانع منه،
فلا يمكن تحقق العبادة مع وجوده.
والحق أن يقال: إن العبادة إذا كانت بحيث قد علم من دليل شرعي
جميع أجزائها وشرائطها وموانعها، ولا يكون هذا المنهي عنه شيئا منها، فالنهي
حينئذ لا يقتضي فساد العبادة المقارنة للمنهي عنه، لما مر، وأما مع عدم ذلك
فالظاهر أن المنهي عنه من موانع حقيقة العبادة شرعا، إذ جميع أجزاء العبادة
وشرائطها وموانعها، إنما يعلم من الأوامر والنواهي، فليس لأحد أن يقول: إن
النهي إنما يدل على حرمة المنهي عنه، وهو لا يستلزم فساد العبادة.
كما أنه ليس له أن يقول: إن الامر إنما يدل على وجوب المأمور به في
العبادة (3)، ولا دلالة له (4) على جزئيته للعبادة، أو شرطيته.
ولو صح هذا القول، لا نسد طريق الاستدلال على بطلان الصلاة
والصوم وغيرهما، بترك جل أجزائها وشرائطها كما لا يكاد (5) يخفى.
ثم لا يخفى عليك: أن مانعية المنهي عنه، إنما هو على تقدير اختصاص
النهي بالعبادة، فلو علم أن النهي عن الشئ في عبادة إنما هو لأجل حرمة ذلك

(1) كذا في أ وب، وفي الأصل وط: ان نهي مثل.
(2) كذا في أ وط، وفي الأصل وب: خارجية.
(3) في الأصل: والعبادة. وما أثبتناه مطابق لسائر النسخ.
(4) كلمة (له) زيادة من أ.
(5) كلمة (يكاد): زيادة من ط.
102

الشئ مطلقا، كالنهي عن النظر إلى الأجنبية في الصلاة، فهو لا يقتضي فساد
العبادة، إذ حينئذ معلوم أن المنهي عنه لا ارتباط له بالعبادة في المانعية.
المقام الثاني: أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من المعاملات، كأقسام
البيوع والأنكحة والطلاق وغيرها، سواء كان النهي يرجع إلى نفس الصيغة،
كلفظ التحليل في النكاح، والكنايات في الطلاق، ونحو ذلك، أو إلى أحد
العوضين، كبيع الميتة والخمر ونكاح المحرمات، أو إلى وصف لازم، كبيع
الملامسة والمنابذة والربا ونكاح الشغار ونحو ذلك، ويمكن إدخال كثير من هذه
في الأولين.
والدليل على اقتضاء النهي الفساد في هذا القسم - من وجهين:
الأول: استدلال العلماء:
فإن علماء الأمصار في الاعصار، لم يزالوا يستدلون على الفساد بالنهي،
في أبواب الربا، والأنكحة والبيوع وغيرها (1).
وليس الفساد مدلولا للفظ النهي (2)، إذ لا يفهم سلب (3) الاحكام من
النهي المتعلق بشئ، ولا تلازم بين التحريم وسلب الاحكام، إذ لا بعد (4) في
أن تكون المصلحة في عدم شئ، ولكن بعد وجوده تكون المصلحة في ترتب
آثاره عليه (5)، ولهذا حكم شرعا بالتطهير إذا وقعت إزالة النجاسة بالماء
المغصوب، ويترتب على الوطئ في الحيض آثاره من لحوق الولد، ووجوب المهر،
والتحليل للزوج الأول، ونحو ذلك.

(1) في ب: ونحوها.
(2) هذا تعريض بالمحقق الحلي، والعلامة الحلي، والشيخ حسن حيث استدلوا على عدم دلالة
النهي على الفساد في هذا القسم بعدم الدلالة اللفظية عليه: معارج الأصول: 77، تهذيب
الوصول: 34، معالم الدين: 96 - 97.
(3) في أ: سبب.
(4) في أ: يبعد.
(5) هذا رد على دعوى المحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 97.
103

بل الفساد مما يحكم به العقل في المعاملات من ظاهر حال الناهي.
وقد وقع في الروايات ما يدل على اقتضاء النهي الفساد:
روى الشيخ في التهذيب، في الصحيح: " عن محمد بن مسلم، عن
أحدهما عليهما السلام، أنه قال: لو لم يحرم على الناس أزواج النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، لقول الله عز وجل * (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا
أزواجه من بعده أبدا) * (1) - حرم على الحسن والحسين عليهما السلام، لقوله
عز وجل: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) * (2).
وروى في الموثق: " عن الحسن بن الجهم، قال: قال أبو الحسن الرضا
عليه السلام: يا أبا محمد، ما تقول في رجل تزوج بنصرانية على مسلمة؟
قلت: جعلت فداك، وما قولي بين يديك؟!
قال: لتقولن، فإن ذلك يعلم (3) به قولي.
قلت: لا يجوز تزويج النصرانية على المسلمة، ولا على غير مسلمة.
قال: لم؟
قلت: لقول الله عز وجل: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (4).
قال: فما تقول في هذه الآية: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم) * (5)؟
فقلت: قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (6) نسخت
هذه الآية، فتبسم ثم سكت " (7).

(1) الأحزاب / 53.
(2) النساء / 22، والحديث في: التهذيب: 7 / 281 ح 1190.
(3) كذا في المصدر، وفي النسخ: تعلم.
(4) البقرة / 221.
(5) المائدة / 5.
(6) البقرة / 221.
(7) التهذيب: 7 / 297 ح 1243.
104

وروى: " عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: لا ينبغي
نكاح أهل الكتاب.
قلت: جعلت فداك، وأين تحريمه؟
قال: قوله * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * (1).
وفي الحسن - بإبراهيم بن هاشم -: " عن زرارة بن أعين، قال: سألت
أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: * (والمحصنات من الذين أوتوا
الكتاب من قبلكم) * (2)؟
فقال: هي منسوخة بقوله: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * " (3).
فإن الإمام عليه السلام استدل بالنهي عن التحريم، ومعلوم أن المراد من
التحريم في هذه الصور بطلان النكاح، كما في قوله تعالى: * (حرمت عليكم
أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم..) (4) الآية.
وروى في الحسن - به -: " عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:
سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده؟ فقال: إن ذلك إلى سيده، إن شاء
أجازه، وإن شاء فرق بينهما.
فقلت: أصلحك الله، إن الحكم بن عتيبة (5)، وإبراهيم النخعي،
وأصحابهما، يقولون: إن أصل النكاح باطل، فلا تحل إجازة السيد له.
فقال أبو جعفر عليه السلام: إنه لم يعص الله، إنما عصى سيده، فإذا
أجازه فهو له جائز " (6).

(1) الممتحنة / 10، والحديث في: التهذيب: 7 / 297 ح 1244.
(2) المائدة / 5.
(3) التهذيب: 7 / 298 ح 1245.
(4) النساء / 23.
(5) في أ: عيينة. وهو تصحيف.
(6) التهذيب: 7 / 351 ح 1432.
105

وفي حديث آخر عنه أيضا: " فقلت لأبي جعفر عليه السلام فإن أصل
النكاح كان عصيانا (1).
فقال أبو جعفر عليه السلام: إنما أتى شيئا حلالا، وليس بعاص لله،
وإنما عصى سيده، ولم يعص الله، إن ذلك ليس كإتيان ما حرم الله عليه من
نكاح في عدة وأشباهه " (2).
فإنهما يدلان على فساد النكاح إذا كان معصية لله تعالى.
وفي الحسن: عن " محمد بن مسلم، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: من
طلق ثلاثا في مجلس على غير طهر، لم يكن شيئا، إنما الطلاق: الذي أمر الله
عز وجل به، فمن خالف لم يكن له طلاق " (3).
وجه الدلالة: أن الطلاق إذا كان منهيا عنه كان مخالفا لما أمر الله عز وجل
به.
والروايات فيما يدل على المطلوب أكثر من أن تعد وتحصى، فتدبرها (4).
الثاني: أن لزوم الآثار والاحكام للمعاملات ليس عقليا، بل هو
بمجرد جعل الشارع، من قبيل الأحكام الوضعية الناقلة عن الأصل، فلا
يحكم به إلا مع العلم، أو الظن الشرعي، ومع تعلق النهي بمعاملة لا يحصل
العلم ولا الظن بأن الشارع جعل تلك المعاملة المنهي عنها سببا ومعرفا لشئ
من الاحكام، نعم إن علم في معاملة أن الشارع جعلها معرفا لاحكام
مخصوصة مطلقا - سواء أكانت منهيا عنها لنفسها أو لجزئها أو لوصفها أو لم
تكن - أمكن الحكم بترتب آثارها عليها مع حرمتها، بأحد الوجوه المذكورة،
لكن الظاهر أن مثل ذلك ليس واقعا في أحكامنا.

(1) كذا في النسخ، وفي المصدر: عاصيا.
(2) التهذيب 7 / 351 ح 1431.
(3) التهذيب: 8 / 47 ح 146.
(4) كذا في أ، وفي سائر النسخ: فليتدبرها.
106

هذا، ولو رجع النهي في المعاملة إلى أمر مقارن، كالنهي عن البيع وقت
النداء، فهل يوجب الفساد أو لا؟
والحق فيه - أيضا -: مثل ما مر في مثله في النهي في العبادات، بأن يقال -
مع اختصاص النهي، وعدم العلم بعدم مانعية المنهي عنه في صحة المعاملة -:
الظاهر كون المنهي عنه مانعا من ترتب أحكامها عليها، ويجري فيه الدليل
المذكور، فتأمل. * * *
107

الباب الثاني
في العام والخاص
وفيه أيضا مقصدان
109

الأول في العام، وفيه مباحث:
الأول:
العام: هو اللفظ المستغرق لما يصلح له بوضع واحد، وقد وقع الخلاف
في أن العام هل له صيغة تخصه؟ بحيث إذا استعملت في الخصوص كانت
مجازا، أو لا؟
والأكثر منا: على أن له صيغة كذلك (1).
وأنكر السيد المرتضى ذلك، وذهب إلى الاشتراك اللفظي بحسب
اللغة، ووافقهم بحسب الشرع (2).
والجمهور من العامة - أيضا -: على أن له صيغة كذلك (3).

(1) عدة الأصول: 1 / 103 وما بعدها، معارج الأصول: 81، تهذيب الوصول: 35، وقد نسبه
المحقق الشيخ حسن إلى جمهور المحققين بعد أن صرح باختياره: معالم الدين: 102.
(2) الذريعة: 1 / 198، 201.
(3) المستصفى: 2 / 48، المحصول: 1 / 356، المنتهى: 102 - 103، منهاج الوصول: 81 -
82.
111

وعكس جمع منهم، والقاضي منهم كالمرتضى (1).
ونقل عن الآمدي: التوقف (2).
[وقيل: بالتوقف] في الاخبار والوعد والوعيد، دون الأمر والنهي (3).
والحق: المشهور.
والصيغة الموضوعة (4) له عند المحققين هي هذه:
(من) و (ما) للشرط والموصول والاستفهام.
و (مهما) و (أينما) للشرط.
و (متى) للزمان.
و (كل) و (جميع)، مع عدم إرادة الهيئة الاجتماعية.
والنكرة في سياق النفي ب‍ (لا) أو (ليس) أو (لن) أو (بما) على المشهور.
وألحق البعض: النكرة في سياق الشرط، كأن يقول: (إن ولدت ولدا،
فأنت علي كظهر أمي) فيحصل الظهار بتوليد ولدين أو أكثر أيضا.
وألحق آخر النكرة في سياق الاثبات، إذا كانت للامتنان، نحو: * (فيهما
فاكهة ونخل ورمان) * (5) وابتنى عليه الاستدلال على العموم في قوله تعالى
* (وينزل عليكم من السماء ماءا ليطهركم به) * (6).
وآخر: في سياق الامر، نحو: (أعتق رقبه).

(1) (2) (3) حكى هذه الأقوال الأسنوي، والظاهر اعتماد المصنف عليه في نسبة هذه الأقوال، وما
بين المعقوفين أخذناه من عبارة الأسنوي وقد خلت نسخ كتابنا هذا منه. انظر:
التمهيد: 297.
(4) في ب: المخصوصة.
(5) الرحمن / 68.
(6) الأنفال / 11.
112

ومنها: الجمع المعرف باللام، أو بالإضافة، والمفرد كذلك عند
الأكثر (1)، نقله الآمدي عن الشافعي والأكثر (2) واختاره هو (3)، ونقله الرازي
عن الفقهاء والمبرد (4)، ويظهر من الشارح الرضي عدم الخلاف فيه (5)، وفي
شرح العضدي نقله عن المحققين، من غير إشعار بخلاف فيه بينهم، إلا المنكر
لأصل صيغة العموم (6).
وقد ألحق بالعموم: الجميع بصيغة الامر، نحو (أكرموا زيدا) (7).
والدليل على العموم في جميع ذلك: تبادره من الصيغ المذكورة، عند
التجرد عن القرائن، وهو علامة الحقيقة.
وبعض من أنكر عموم المفرد، اعترف به في الأحكام الشرعية، معللا:
بأن تعيين البعض غير معلوم، والحكم على البعض غير المعين غير
معقول - إذ لا معنى لتحليل بيع من البيوع، وتحريم فرد من الربا، وعدم
تنجيس مقدار (8) الكر من بعض الماء، في: * (وأحل الله البيع وحرم الربا) * (9)،
و: " إذا بلغ الماء قدر (10) كر لم ينجسه شئ " (11) - فتعين إرادة الجميع.

(1) اختاره الغزالي في المستصفى: 2 / 89.
(2) كما في التمهيد: 327.
(3) الاحكام: 2 / 421 - 422.
(4) المحصول: 1 / 382. وزاد فيه: والجبائي. ولكن الرازي نفسه اختار عدم إفادته العموم.
(5) شرح الكافية: 2 / 129.
(6) شرح العضد: 1 / 215 - 216.
(7) ذكره في المحصول: 1 / 381.
(8) في ب وط زيادة كلمة (من) في هذا الموضع.
(9) البقرة / 275.
(10) كلمة (قدر): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من باقي النسخ.
(11) كذا الحديث في النسخ، ولكن المروي هو: " إذا كان الماء.... إلى آخره " الكافي: 3 / 2 -
كتاب الطهارة / باب الماء الذي لا ينجسه شئ / ح 1. التهذيب: 1 / 39 - 40 / ح 107
- 109. وفي غوالي اللآلي: 1 / 76 و 2 / 6: " إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا ".
113

وأيضا: صحة الاستثناء دليل العموم، إذ الاستثناء - عند الأكثر -:
إخراج ما لولاه لوجوب الدخول (1)، ولا يكفي الصلوح، ولهذا لا يجوز: (رأيت
رجالا (2) إلا زيدا).
وليست صيغ العموم منحصرة فيما أوردناه، فلتعلم (3).
واعلم: أن الجمع المنكر لا يدل على العموم إلا في موضع يجري فيه ما
ذكره المعترف في عموم المفرد في الاحكام، لعدم فهم العموم منه، وإفادة المعرف
العموم، إنما هي مع عدم تساوي احتمالي العهد والجنس، وإلا فالعهد أظهر،
كما ذكره الأكثر، ولا يتساوى الاحتمالان إلا مع تقدم (4) أمر يرجع إليه، كقوله
تعالى: * (فعصى فرعون الرسول) * (5).
البحث الثاني:
قيل: " ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة

(1) كذا في ط، وقد أسقط الضمير من الأصل، وفي أ وب: ما لولا الاخراج لوجب الدخول.
(2) في ط: رجلا.
(3) هناك صيغ أخرى تفيد العموم، وإن وقع في كثير منها الخلاف ك‍ (سائر) و (معشر) و (معاشر)
و (عامة) و (كافة) و (قاطبة) و (ما) الزمانية نحو (إلا ما دمت عليه قائما) وكذا المصدرية مع
الفعل المستقبل، مثل (يعجبني ما تصنع) و (أي) في الشرط والاستفهام وان اتصل بها (ما)،
و (متى) و (حيث) و (إن) و (كيف) و (إذا) الشرطية إذا اتصلت بواحد منها (ما)، و (ايان)
و (إذ ما) و (كم) الاستفهامية، واسم جمع ك‍ (الناس)، و (الرهط) و (القوم)، والأسماء
الموصولة ك‍ (الذي) و (التي)، وتثنيتهما وجمعهما، وأسماء الإشارة المجموعة مثل (أولئك) و
(هؤلاء) والنكرة في سياق الاستفهام الانكاري مثل (هل تعلم له سميا)، وإذا اكد الكلام ب‍
(الأبد) أو (الدوام) أو (دهر الداهرين) أو (عوض) أو (قط) في النفي، أفاد العموم في الزمان،
وأسماء القبائل مثل (ربيعة) و (مضر) و (الأوس) و (الخزرج) (منه رحمه الله).
(4) في أ وب: مع تقدمه.
(5) المزمل / 16.
114

العموم في المقال " (1).
وقيل: بل حكايات الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب
الاجمال، وسقط بها الاستدلال (2)، واختاره العلامة في التهذيب (3).
والحق أن يقال: إنه أقسام:
الأول: أن يسأل عن واقعة دخلت في الوجود، والنبي صلى الله عليه وآله
وسلم، أو الإمام عليه السلام، مطلع عليها.
والحق فيه: عدم اقتضاء العموم، لان الجواب ينصرف إلى الجهة
الخاصة للواقعة المخصوصة، ولا يتناول غيرها.
الثاني: أن يسأل عنها بعينها، مع احتمال اطلاعه عليه السلام على جهتها.
والحق فيه: القول الثاني، مع عدم مرجح لاحد الاحتمالين.
الثالث: أن يسأل عن الواقعة لا باعتبار وقوعها.
والحق فيه (4) أن يقال: إن الواقعة إن كانت لها جهة شائعة تقع غالبا
عليها، فالجواب إنما ينصرف إليها، فلا يستدل به على غيرها.
وإن كانت جهات وقوعها واحتمالاته متساوية، لا مرجح لشئ منها في
عصرهم عليهم السلام، فالظاهر: العموم، إذ عدم الانصراف إلى شئ منها
يوجب إلغاء (5) الدليل، والصرف إلى البعض ترجيح بلا مرجح، فينصرف إلى

(1) القائل هو الشافعي واللفظ له، حكاه عنه الفخر الرازي في: المحصول: 1 / 392، ثم قال:
مثاله أن ابن غيلان أسلم على عشر نسوة، فقال عليه الصلاة والسلام: " أمسك أربعا، وفارق
سائرهن " ولم يسأله عن كيفية ورود عقده عليهن في الجمع، أو الترتيب، فكان اطلاقه القول
دالا على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معا وعلى الترتيب.
(2) المستصفى: 2 / 60، المحصول: 1 / 393.
(3) كذا في ط، وفي سائر النسخ: واختار الأول العلامة. وهو خطأ، فإن العلامة تنظر في الأول
بعدما ذكره: تهذيب الوصول: 38: فتأمل.
(4) في أ: فيها.
(5) في أ: القاء.
115

الكل، وهو معنى (1) العموم.
والظاهر من المرتضى رحمه الله في الذريعة: القول بالعموم بترك
الاستفصال، فإنه قال: " إذا سئل عليه السلام عن حكم المفطر، فلا يخلو جوابه
من ثلاثة أقسام:
إما أن يكون عام اللفظ، نحو أن يقول: كل مفطر فعليه الكفارة.
والقسم الثاني: أن يكون الجواب في المعنى عاما، نحو أن يسأل عليه
السلام عن رجل أفطر، فيدع الاستكشاف عما به أفطر، ويقول عليه السلام: عليه
الكفارة، فكأنه عليه السلام قال: من أفطر فعليه الكفارة.
والقسم الثالث: أن يكون السؤال خاصا، والجواب مثله، فيحل (2) محل
الفعل " (3).
فكلامه يدل على أن ترك الاستكشاف بمنزلة العموم، إلا أن مثاله في
تنقيح المناط، والظاهر أنه لا خلاف في العموم حينئذ، كما سيجئ في بحث
الأدلة العقلية إن شاء الله تعالى وتقدس.
البحث الثالث:
تخصيص حكم العام بمبين، لا يخرجه عن الحجية (4) في الباقي، سواء
خص بمتصل أو بمنفصل، عقل أو نقل، وسواء قلنا بأن ذلك العام حينئذ
حقيقة - كما هو الحق في أغلب صور التخصيص بالمتصل - أو قلنا إنه مجاز،

(1) في ط: مقتضى.
(2) في أ: فيحمل. وفي ب: فجعل.
(3) الذريعة: 1 / 292.
(4) في ط: الحجة.
116

وفاقا لمن تكلم في هذه المسألة من أصحابنا (1)، ولجمهور العامة (2).
وعند البلخي: إن خص بمتصل (3).
والبصري: إن أنبأ لفظ العموم عنه قبل التخصيص، لا مثل
* (والسارق والسارقة....) * (4) غير المنبئ عن النصاب والحرز (5).
وعبد الجبار: إن كان منبئا [عنه] (*) قبل التخصيص، لا مثل،
* (وأقيموا الصلاة) * (6) المفتقر إلى البيان قبل إخراج مثل الحائض (7).
وقيل بحجيته (8) في أقل الجمع (9).
وقال أبو ثور: ليس بحجة مطلقا (10).
لنا وجوه:
الأول: تبادر كل الباقي من (11) العام المخصص (12)، وظهوره فيه

(1) عدة الأصول: 2 / 4، معارج الأصول: 97، تهذيب الوصول: 39، معالم الدين: 116.
(2) المستصفى: 2 / 57، المنخول: 153، المحصول: 1 / 402، المنتهى: 107، منهاج
الوصول: 86، التمهيد: 414.
(3) المنتهى: 107، الأبهاج: 2 / 139.
(4) المائدة / 38.
(5) المنتهى: 107، الأبهاج: 2 / 139.
* - [عنه]: إضافة أثبتناها للتوضيح، أخذناها من: المنتهى: 107.
(6) البقرة / 43.
(7) المنتهى: 107، الأبهاج: 2 / 140.
(8) في أ: الحجية، وفي: ط: بحجية.
(9) وهو قول الشيخ صفي الدين الهندي الأرموي. كما في الأبهاج: 2 / 140.
(10) الأبهاج 2 / 138، المنتهى 107، وزاد فيه: وأبان.
(11) كذا الظاهر، وفي النسخ: عن. بدل: من.
(12) هذا الدليل عبارة عن تطوير فني دقيق لما استدل به المحقق، فقد استعاض بمصطلح التبادر
عن قول المحقق: " لنا أن اللفظ متناول إلى آخره ": معارج الأصول: 97.
117

كظهوره في الكل قبل (1) التخصيص، فإن المدار في المحاورات على إيراد
العمومات المخصصة من دون نصب قرينة أخرى غير التخصيص، ولا يتوقف
المخاطب في الحكم بالمراد حينئذ، ولا يحكم بإجمال كلام المتكلم، بل لا يخطر
بباله غير إرادة كل الباقي، والمنكر مكابر.
الثاني: أنه إذا قال: (أكرم بني تميم، وأما فلان فلا تكرمه)، فترك إكرام
غير المخرج، عد عاصيا، ولولا الظهور لما عصى به (2).
الثالث: استدل العلماء قديما وحديثا بالعامات المخصوصة من غير
نكير (3)، وقد وقع في كلام أهل البيت عليهم السلام، فليطلب.
احتج الخصم بوجهين:
الأول: أن متعلق الحكم ليس هو المعنى الحقيقي للعام، لأنه
المفروض، والمجازات كثيرة، وكل منها محتمل (4)، وتمام الباقي أحد المجازات،
فلا يحمل عليه إلا بقرينة، وبدونها يبقى مجملا (5).
والجواب: منع احتمال كل واحد من المجازات، بل المتبادر، والظاهر،
الأقرب إلى الحقيقة، هو: كل الباقي، كما ذكرنا.
الثاني: أنه بالتخصيص خرج عن كونه ظاهرا، وما لا يكون ظاهرا لا
يكون حجة (6).

(1) في ط: تبادر كل الباقي بعد التخصيص إلى آخره.
(2) المنتهى: 108، معالم الدين: 117.
(3) ذكر هذا الاستدلال في: المستصفى: 2 / 57، المحصول: 1 / 403، 404 مع زيادة: بل
الصحابة أيضا.
(4) في أ: يحتمل.
(5) المستصفى: 2 / 56، المحصول: 1 / 404، المنتهى: 108، معالم الدين: 117.
(6) معالم الدين: 117.
118

وجوابه: منع عدم ظهوره، بل هو ظاهر في الباقي، بعد ملاحظة
المخصص (1).
والمذاهب المذكورة، كلها اعتقادات فاسدة، مبتنية (2) على خيالات
واهية، تنحل شبههم بأدنى تأمل، بعد ملاحظة ما مر.
البحث الرابع:
الحق أن الخطابات الواردة بصيغة النداء، وكلمة الخطاب - كالكاف
والتاء، وغير ذلك مما خلقه الله تعالى في الملك، ونحوه، وأمره (3) بإنزاله إلى
السماء الدنيا في مدة، أو في ليلة القدر، ومنها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
مدة مديدة بالتدريج، ليبلغ هو وأوصياؤه من عترته صلوات الله عليهم أجمعين إلى
أمته، إلى يوم القيامة - ليست مختصة بالموجودين في زمن الوحي، بحيث يكون
كل خطاب منها مختصا بمن استجمع شرائط التكليف في حين نزوله، و (4) لا
يكون شاملا لمن تأخر، كالخطابات المكية لمن تولد حين توطن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم بالمدينة.
ولا مختصة بحاضري مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قراءتها (5).
خلافا للأكثر ممن صنف في الأصول من الشيعة (6)، والنواصب (7)،

(1) معالم الدين: 117.
(2) في أ وب وط: مبنية.
(3) في ط: فأمره.
(4) الواو إضافة من ط وب.
(5) وفاقا للحنابلة حيث ذهبوا إلى عمومها في الجميع، كما في: المنتهى: 117.
(6) تهذيب الوصول: 38، معالم الدين: 108.
(7) المستصفى: 2 / 83، المحصول: 1 / 393 - 394.
119

حيث جعلوها مختصة بالموجودين في زمن الخطاب، أو بحاضري مجلس
الوحي، وجعلوا ثبوت حكمها لمن بعدهم بدليل آخر كإجماع، أو نص، أو
قياس.
لنا: مساعدة الظواهر - من غير معارض، إلا الشبهة (1) الواهية
للخصم - وهي (2) أمور:
الأول: احتجاج العلماء قديما وحديثا حتى الأئمة (عليهم السلام) بتلك
الخطابات، من غير ذكر إجماع أو نص أو قياس على الاشتراك، مع أن الخصم
معترف بعدم ظهور مستند الشركة - ولذا اختلفوا، فقيل: مستنده الاجماع،
وقيل: بل القياس - ولو لم تعم تلك الخطابات، لم يصح ذلك إلا بعد إيراد ما
هو العمدة من الاجماع أو القياس.
ودعوى: ظهور المستند بحيث يعلمه كل أحد من الخصوم (3).
مما تحكم البديهة (4) بفساده، وكيف يخفى هذا الخفاء ما كان ظاهرا هذا
الظهور؟! وكيف يجوز على الله تعالى إخفاء مستند كل تكاليف من وجد بعد
النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
الثاني: ورود الروايات - في كثير من تلك الخطابات - بأنها نزلت في
جماعة نشأوا بعد زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: ورودها - في كثير منها - بأنها نزلت في الأئمة عليهم السلام، وأن
الخطاب إليهم (5).

(1) كذا في ط، وفي الأصل وأ وب: الشبه. والصواب ما أثبتناه في المتن، لأنها شبهة واحدة
سيأتي المصنف على ذكرها فيما بعد في قوله: " احتج الخصم " إلى آخره.
(2) فيه اضطراب، حيث جعل الخامس منها الظواهر، فلاحظ.
(3) الدعوى للمحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 109.
(4) في ب: البديهية، وفي ط: البداهة.
(5) كقوله تعالى: * (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) * رواه
الشيخ في باب من يجب عليه الجهاد، وقوله (ع): " وبحجة هذه الآية يقاتل مؤمنوا كل زمان "
إشارة إلى قوله تعالى: * (اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) * الآيات. (منه رحمه الله).
120

الرابع: ورود الامر بقول: (لبيك ربنا) عند قراءة قوله تعالى: * (يا أيها
الذين آمنوا) *، وقول: (لا بشئ من آلاء ربي أكذب) عند قراءة قوله تعالى:
* (فبأي آلاء ربكما تكذبان) *، وغير ذلك مما هو مذكور في محله (1).
الخامس: الظواهر، وهي كثيرة:
منها: قوله تعالى: * (لا نذركم به ومن بلغ) * (2).
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله في خبر الغدير: " فليبلغ الشاهد منكم (3)
الغائب " (4).
ومنها: ما رواه ابن بابويه في العيون، بسنده " عن الرضا عليه السلام، عن
أبيه عليه السلام: أن رجلا سأل أبا عبد الله عليه السلام: ما بال القرآن لا يزداد
على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فقال: لان الله تبارك وتعالى لم ينزله (5) لزمان
دونه زمان، ولا لناس (6) دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم
غض، إلى يوم القيامة " (7).
ومنها: ما رواه الكليني، بسنده " عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: * (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد...) * (8)؟.... إلى أن قال عليه
السلام: يا أبا محمد، لو كانت إذا نزلت آية على رجل، ثم مات ذلك الرجل،

(1) عيون أخبار الرضا: 2 / 183، الكافي: 3 / 429 - كتاب الصلاة / باب نوادر الجمعة / ح 6.
(2) الانعام / 19.
(3) كلمة (منكم): زيادة من ط.
(4) الكافي: 1 / 289، 291 - كتاب الحجة / الباب 64 / ح 4، 6.
(5) كذا في المصدر، وفي النسخ: لم يجعله.
(6) كذا في المصدر، وفي النسخ: ولناس.
(7) عيون أخبار الرضا: 2 / 87 ح 32.
(8) الرعد / 7.
121

ماتت الآية - مات الكتاب، ولكنه حي، يجري فيمن بقي كما جرى فيمن
مضى " (1).
ومنها: ما رواه في الصحيح: " عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: أوصي الشاهد من أمتي، والغائب منهم، ومن
في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة - أن يصل الرحم... " (2)
الحديث.
وغير ذلك من الروايات.
احتج الخصم: بأنا نعلم بديهة (3) أنه لا يقال للمعدومين: (يا أيها
الناس) ونحوه، بل للصبي والمجنون (4).
والجواب:
أولا: تسليم ذلك في المعدومين فقط، لا في (5) المخلوط من الموجودين
والمعدومين، ولهذا قبح خطاب الغائبين فقط بمثل: (يا أيها الناس) دون
المركب من الغائبين والحاضرين، كما في أكثر خطابات الرؤساء والحكام
وغيرهم.
وثانيا: تسليم ذلك فيما إذا تكلم المخاطب مشافهة، لا فيما إذا أنزل
الخطابات (6) بصورة المشافهة، وأمر جماعة - واحدا بعد واحد - بتبليغ ذلك إلى
مكلفي زمانهم، ويكون ذلك محفوظا في الكتب، يرجع إليه من يريد، ولهذا
تجوز الوصية بالأوامر والنواهي، مكتوبة في طومار - إلى من انتسب إلى الموصي

(1) الكافي 1 / 192 - كتاب الحجة / باب أن الأئمة هم الهداة / ح 3.
(2) الكافي: 2 / 151 - كتاب الايمان والكفر / باب صلة الرحم / ح 5.
(3) في أ وط: بديهية.
(4) المنتهى: 117، معالم الدين: 108.
(5) كلمة (في): زيادة من أ.
(6) في أ: انزل الخطاب، وفي ب: نزل الخطاب، وفي ط: نزلت الخطابات.
122

بعدة بطون، وقد وقع ذلك في وصية أمير المؤمنين عليه السلام (1) وغيره، من غير
شائبة قبح أصلا.
وفي الصبي والمجنون - أيضا - نقول: إنه يجوز خطابهم في جماعة
بخطاب (2) يفهمونه عند استجماعهم لشرائط الخطاب، إذا علم المخاطب أنهم
يصيرون بهذه المنزلة، ويعلم بقاء خطابه.
ولا شك ولا شبهة في جواز أن يكتب الانسان كتابا، فيه خطابات وأوامر
ونواه، ويدفعه إلى إنسان ويقول له: إن هذه الخطابات والأوامر والنواهي لكل
من اطلع على كتابي، وينبغي لك أن تبلغها إلى الناس، ثم من بعدك ولدك،
ثم ولد ولدك، وهكذا، ولا يتوقف العقل في أن المخاطب حينئذ هو كل من
اطلع عليها، موجودا كان وقت تصنيف الكتاب أو معدوما، بل نقول: لا فرق
بين خطاب الغائب والمعدوم.
مع أن خطابات الكتب والمراسيل كلها من قبيل خطاب الغائب كما لا
يخفى، ونحن نقول: إن خطابات القرآن من هذا القبيل، لما مر.
ويؤيده: حديث الصحف الاثني عشر المنزلة على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، للأئمة الاثني عشر عليهم السلام (3)، إذ في كل منها أوامر ونواه لامام من
الأئمة.
وأيضا: خطابات المصنفين - مثل قولهم: (إعلم) و: (تأمل) و: (تدبر)

(1) الكافي: 7 / 49 - كتاب الوصايا / باب صدقات النبي صلى الله عليه وآله وفاطمة (ع) والأئمة (ع)
ووصاياهم / ح 7.
(2) في أ: في جماعة الخطاب بخطاب إلى آخره.
(3) الكافي: 1 / 279 - كتاب الحجة / باب أن الأئمة (ع) لم يفعلوا شيئا ولا يفعلون إلا بعهد
من الله عز وجل، وأمر منه لا يتجاوزونه. و: الإمامة والتبصرة من الحيرة: ص 166 / باب في
أن الإمامة عهد من الله تعالى / ح 20. وقد ورد هذا الحديث في مصادر عديدة، انظر مجموع
طرقه ومتونه في بحار الأنوار: 36 / 192 وما بعدها / الباب 40 - باب نصوص الله عليهم من
خبر اللوح والخواتيم وما نص به عليهم في الكتب السالفة وغيرها.
123

ونحو ذلك - من هذا القبيل.
واعلم: أن الغرض من هذه المسألة وذكرها، بيان الحق فيها، وإلا
فالحق أنه لا يترتب عليها أثر، إذ الظاهر تحقق الاجماع على مساواة كل الأمة في
التكاليف، وورود بها النصوص، وقد قال الصادق عليه السلام - في رواية أبي
عمرو الزبيري، في الجهاد -: " لان حكم الله عز وجل في الأولين والآخرين،
وفرائضه عليهم، سواء، إلا من علة، أو حادث يكون، والأولون والآخرون
أيضا في منع الحوادث شركاء والفرائض عليهم واحدة، يسأل الآخرون عن
أداء الفرائض كما يسأل عنه الأولون، ويحاسبون به كما يحاسبون... "
الحديث (1). * * *

(1) التهذيب: 6 / 127 ح 224.
124

المقصد الثاني: في الخصوص.
وفيه مباحث:
الأول: الحق جواز تخصيص العام إلى أي مرتبة كانت، ما لم يستلزم
استدراكا في الكلام، حتى إلى الواحد، بعد نصب القرينة على مرتبة
التخصيص (1)، فلا يجوز طرح نص شرعي كان العام الواقع فيه مخصصا إلى
الواحد، بعد تحقق المخصص المخصوص، المانع من إرادة الأكثر من الواحد
بلا معارض أصلا، إلا أن الظاهر عدم وقوع تخصيص العام إلى الواحد في
الشرعيات.
والمفرد المحلى باللام المستعمل في الأحد: الظاهر أن لامه للعهد، أو
استعماله للتعظيم، وهو كثير في الحقيقة، كما حقق.
لنا: أصالة الجواز من غير مانع.

(1) وهو اختيار السيد المرتضى: الذريعة: 1 / 297، والشيخ الطوسي: عدة الأصول:
1 / 149، وحكاه في المعالم عن السيد ابن زهرة: معالم الدين: 110، وللعلامة تفصيل في
المقام أنظره في: تهذيب الوصول: 39.
125

وتحقق العلاقة بين المعنى الحقيقي للعام - وهو الافراد بالأسر - وبين
الواحد والاثنين والثلاثة من تلك الافراد، وهي الجزئية.
احتج من ذهب إلى أنه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام: بقبح
قول القائل: (أكلت كل رمانة في البستان) وفيه آلاف وقد أكل واحدة أو
ثلاثة (1)، وقوله: (أخذت كل ما في الصندوق من الذهب) وفيه ألف، وقد أخذ
دينارا إلى ثلاثة (2)، وكذا قوله: (كل من دخل داري فهو حر)، أو: (كل من
جاءك فأكرمه)، وفسر بواحد أو ثلاثة (3).
والجواب:
أولا: منع القبح الذي ادعاه، مع نصف القرينة، نعم يقبح بدون
نصب القرينة، كما يصح قول القائل: (له علي (4) عشرة إلا تسعة) و: (أكرم
الناس إلا الجهال) وإن كان العالم واحدا، اتفاقا، من غير نقل خلاف من
أحد، مع أنه لا يصح أن يقول: (له علي عشرة) و: (أكرم الناس)، وفسر
العشرة بواحد، والناس بزيد مثلا.
وثانيا: بأنا لا ندعي صحة استعمال العام في واحد مخصوص من أفراده،
أو في اثنين أو في (5) ثلاثة أو نحو ذلك، بل المراد بالتخصيص إلى الواحد
والاثنين ونحو ذلك: أن يكون العام مستعملا في المعنى الكلي، ولكن يكون
الحكم المتعلق بالعام متعلقا بواحد من أفراده أو اثنين أو نحو ذلك، بسبب
المخصص.
والفرق ظاهر بين استعمال العام في الواحد المخصوص، وبين تعلق الحكم

(1) المستصفى: 2 / 91، المحصول: 1 / 400، المنتهى: 120.
(2) معارج الأصول: 90.
(3) معالم الدين: 110. والعبارة فيه: وفسره.
(4) كلمة (علي): ساقطة من الأصل، أثبتناها من باقي النسخ.
(5) كلمة (في): زيادة من ط.
126

بالواحد المخصوص من أفراده، فنقول: لو قال (أكلت كل رمانة في البستان إلا
الحامض) ويكون الحلو واحدا، فهو صحيح، بخلاف ما لو فسر قوله: (كل
رمانة) بواحدة حلوة.
وكذا يصح لو قال (1): (أخذت كل ما في الصندوق من الذهب إلا
الدمشقيات) ويكون غير الدمشقي دينارا واحدا.
وكذا الحال في باقي المخصصات، من الشرط والصفة وغيرهما.
ثم لا يخفى ما في مذهب من منع من التخصيص إلى الواحد، فإن ثمرة
هذه المسألة (2) إنما تظهر: إذا ورد نص عام، له مخصص يخصصه إلى الواحد،
ويكون مستجمعا لشرائط جواز العمل، وحينئذ: فكيف يجوز للمانع طرح هذا
النص لأجل ما ذكره من الاعتبارات الواهية؟!.
ولو كان هذا النص بحيث لا يوجب مخصصه تخصيصه إلى الواحد،
بل يحتمل الأكثر، فظاهر عدم جواز القول بأنه مخصص إلى الواحد،
لان التخصيص خلاف الأصل، فلا يجوز إلا بقدر الضرورة.
ثم لا يخفى عليك مما مر: أن الاستدلال على المطلوب بتصحيح علاقة
المجاز - كما مر - كان مما شاة وعلى طريق التنزل (3)، وإلا: فالحق أن العام
المخصوص إنما هو مستعمل في معناه الحقيقي الذي هو العموم، والمخصص
إنما أخرج البعض عن الحكم المتعلق به - سواء خص بمتصل (4): من شرط،
أو صفة، أو غاية، أو استثناء، أو نحوها، أو بمنفصل: لفظي أو عقلي - لعدم
الدليل (5) على المجازية، مثلا قولنا: (أكرم بني تميم إلى الليل) أو: (إن دخلوا

(1) في ط: ما لو قال.
(2) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: المسألتان.
(3) في ط: التنزيل.
(4) في ط: لمتصل.
(5) في ط: الدلالة.
127

الدار) (1) الحكم على كل واحد من بني تميم، غايته أنه ليس في جميع الأزمنة في
الأول، وليس على جميع الأحوال في الثاني، وكذا: (أكرم بني تميم الطوال)
الحكم على كل أحد ولكن لا مطلقا بل إذا اتصف بالطول، أو المراد: أكرم
طوال بني تميم، أي: بعضهم، وهو يؤيد عمومه، ولهذا يصح أن يقال: (وأما
القصار منهم فلا تكرمهم)، وكذا: (أكرم بني تميم إلا الجهال منهم) الحكم على
كل واحد بشرط اتصافه بالعلم، أو الحكم على كل واحد بعد إخراج الجهال
منهم.
وكذا الحال في المنفصل، مثل: (أكرم بني تميم)، ثم يقول: (لا تكرم
الجهال من بني تميم) معناه: أكرم علماء بني تميم.
ولا بد في المنفصل (2) أن تكون في الكلام الأول، أو معه - قرينة مقالية،
أو حالية، بها يطلع المخاطب على مراد المتكلم، ولا يكفي المخصص إلا مع
اتحاد المجلس، أو عدم لزوم إفهام المخاطب قبل (3) وقت الحاجة والعمل.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن العام المخصص: لا بد أن يكون الحكم فيه
متعلقا بالامر الكلي، إلا أنه لا يمتنع أن يكون هذا الكلي منحصرا في فرد أو
فردين أو نحو ذلك، فلذا حسن أن يقول: (أكلت كل رمانة إلا الحامض)
ويكون الحلو منحصرا في واحد، وقبح أن يقوله، ويقول: إن المراد ب‍ (كل
رمانة): رمانة واحدة، فلا تغفل.
البحث الثاني:
اختلف في جواز التمسك بالعام قبل البحث عن مخصصه (4)، وفي مبلغ

(1) كذا في ط، وفي أ وب: وان دخلوا الدار، والأصل هنا مشوش.
(2) قوله (في المنفصل): زيادة من ط.
(3) في ط: بعد.
(4) فقد ذهب البيضاوي إلى جواز الاستدلال بالعام ما لم يظهر المخصص، ولم يوجب طلبه:
منهاج الوصول: 87، وذهب إلى ذلك أيضا الصيرفي والأرموي والبهاري كما في: فواتح
الرحموت بهامش المستصفى: 1 / 267، وبهذا يعلم عدم استقامة ما فعله ابن الحاجب من
حصر محل الخلاف بمبلغ البحث عن المخصص: المنتهى: 144.
وقال العلامة الحلي: " ولا يجب في الاستدلال بالعام استقصاء البحث في طلب
المخصص ": تهذيب الوصول: 40، وقد فهم من كلامه هذا أنه يرى جواز العمل بالعام
قبل البحث عن المخصص مطلقا: معالم الدين: 119، ولكن يظهر مما ذكره في الرد على
ابن سريج أن ذلك مشروط عنده بالظن بعدم المخصص، على أنه صرح في (نهاية الوصول)
باختيار عدم جواز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص: نهاية الوصول ورقة 100 /
أ (مصورة).
128

البحث عنه.
فقيل: يجب البحث حتى يحصل الظن بعدمه (1).
وقيل: حتى يحصل القطع (2).
والأكثر على عدم الجواز (3)، حتى أنه نقل الاجماع عليه (4)، وما استدلوا
به عليه غير منقح.
والأولى الاستدلال عليه: بأن إطاعة الله، ورسوله، والأئمة عليهم
السلام، واتباعهم - لا تتحقق إلا بالعمل بمرادهم، فلا بد من العلم أو الظن
بمرادهم، ولا يحصل في العام قبل البحث عن مخصصه (5)، بل الظن
بالتخصيص حاصل، لشيوع التخصيص. والحاصل: أنه لا دليل على وجوب
العمل بمدلولات الألفاظ بدون العلم أو الظن بأنها المراد، والإطاعة الواجبة
ونحوها لا تتحقق بدونهما، ولا أقل من الشك في صدق الإطاعة والانقياد على

(1) نسب ابن الحاجب هذا القول إلى الأكثر، واختاره هو: المنتهى: 144.
(2) وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني، كما في المستصفى: 2 / 159، المنتهى: 144.
(3) فقد ذهب إلى ذلك الشيخ الطوسي: عدة الأصول: 2 / 19. والمحقق الحلي والمحقق الشيخ
حسن ما لم يحصل الظن الغالب بعدم المخصص: معارج الأصول: 113، معالم
الدين: 119.
(4) حكى الاجماع الغزالي: المستصفى: 2 / 157، وابن الحاجب: المنتهى: 144.
(5) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: مخصص.
129

ذلك التقدير (1)، فالإطاعة الواجبة لا تتحقق في البحث.
وفيه نظر، لمنع عدم حصول الظن في كل فرد، ولا ينافيه ظن أصل
المخصص، لقلة المخرج غالبا بالنسبة إلى الباقي، وحال الاجماع عندنا في مثل
هذه المسائل غير خفي.
ويمكن الاستدلال على الجواز: بأن علماء الأمصار - في جميع الأعصار -
لم يزالوا يستدلون في المسائل بالعمومات، من غير ذكر ضميمة نفي المخصص،
ولو لم يصح التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص، لكان للخصم أن
يقول: العام لا يكفي في إثبات هذه المسألة، ولا علم لي ببحثك عن المخصص،
الذي يوجب انتفاؤه دخول هذا الفرد المتنازع فيه، فيفحم المستدل عن إثباته
على الخصم.
وأيضا: الأصول الأربعماءة (2) - التي كانت معتمد أصحاب الأئمة عليهم
السلام - لم تكن موجودة عند أكثر أصحابهم، بل كان عند بعضهم واحد، وعند
البعض الاثنان، والثلاثة، والأربعة، والخمسة، ونحو ذلك، والأئمة عليهم
السلام كانوا يعلمون أن كل واحد من أصحابهم، يعمل في الأغلب بما عنده من
الأصول، ومعلوم أن البحث عن المخصص، لا يتم بدون تحصيل جميع تلك
الأصول، فلو كان واجبا، لورد من الأئمة عليهم السلام أمر بتحصيل كل تلك
الأصول، ونهي عن العمل ببعضها، إذ معلوم أن جل الاحكام من قبيل
العمومات والمطلقات المحتملة للتقييد.
فالمسألة محل التوقف.
واعلم: أنه - على تقدير وجوب الفحص عن المخصص، إلى أن يحصل
القطع بعدمه - لا يجوز العمل بشئ من العمومات والمطلقات، المجوزة

(1) أي تقدير عدم العلم والظن. (منه رحمه الله).
(2) اقرأ بحثا موسعا عن (الأصول الأربعماءة) في: دائرة المعارف الشيعية / للسيد حسن الأمين.
130

للتخصيص، حتى يفتش (1) عن مخصصه في جميع كتب الاخبار، كالكتب
الأربعة، والخصال، والعيون، والعلل، والأمالي، وغير ذلك، من الكتب
الأخبارية الموجودة في هذا العصر، إذ لا يحصل القطع بعدم المخصص بدون
ذلك، وبعد التفتيش: يحصل القطع بالتكليف بالعام، وإن كان تجويز وجود
المخصص في الكتب غير الموجودة في هذا الزمان باقيا.
وعلى تقدير الاكتفاء بالظن: يكفي ملاحظة الكتب الأربعة، بل يكفي
ملاحظة التهذيب والكافي، بل لا يبعد الاكتفاء بالتهذيب، لندرة وجود خبر
مخصص في غير التهذيب مع تحقق عامه فيه، ولا يكفي ملاحظة الكافي
فقط (2).
وينبغي في فحص مخصص العام المتعلق بشئ من مسائل الطهارة
ملاحظة كل واحد من أبوابها في التهذيب، وكذا الصلاة والزكاة والصوم والحج
وغيرها، سيما أبواب (3) الزيادات والنوادر في كل منها، والأحسن ملاحظة
الأبواب المناسبة في الكتب الاخر، أيضا، فإن:
في كتاب الطهارة: ما يتعلق بالنكاح، وبالمكاسب، وبالصلاة،
وبالصوم، وبالطلاق، وبالحج.
وفي الصلاة: ما يتعلق برمضان، وبالصوم، وبالطهارة، والأطعمة،
والمكاسب، والنذر، والميراث، والزكاة، والديات.
وفي الزكاة: ما يتعلق بالصلاة، والصوم، والميراث، والمكاسب،

(1) في أ: نقيس.
(2) لقد صنفت بعد عصر المؤلف مجاميع حديثية كبرى تحملت أعباء هذه المهمة، وكفت الفقهاء
مؤنة الفحص هذه، كوسائل الشيعة للشيخ الحر العاملي، ثم المستدرك عليه للشيخ النوري،
والوافي للفيض الكاشاني، وجامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي، حيث جمع في هذه
المصنفات شتات جميع الأحاديث في محل واحد، تحت عناوين الأبواب المناسبة.
(3) كذا في أ. وفي سائر النسخ: باب.
131

والخمس، والجهاد، والضمان، والفطرة، والجزية، والنكاح، والشهادة.
وفي الصوم: ما يتعلق بالصلاة، والنذر، والطهارة، والحج، والحدود،
والكفارات، والطلاق.
وفي الحج: من الزكاة، والجهاد، والصلاة، والصوم، والطهارة
والمكاسب، والذبائح، والعقيقة، والإجازة.
وفي المزار: من الطهارة، والصوم، والصلاة، والأطعمة.
وفي الجهاد: من الجزية، والزكاة.
وفي الديون وتوابعه: من الزكاة، والوصية، والمكاسب، والاقرار،
والشهادة، والميراث، والنكاح.
وفي القضايا: من الصلاة، والصلح، والطلاق، والضمان، والحدود.
وفي المكاسب: من الحج، والخمس، والطهارة، والقضايا، والجزية،
والوصايا، والنكاح، والضمان.
وفي النكاح: من الميراث، والطلاق، والنذر، والأطعمة، والمكاسب،
والتدبير، والقضايا، والعتق، والطهارة، والحدود، والجزية.
وفي الطلاق: من الصوم، والعتق، والمكاسب، والشهادة، والوصية،
والنكاح، واليمين، والديات، والميراث، والحدود.
وفي العتق وتوابعه: من المكاسب، والطلاق، والميراث، والزكاة،
والنذر، والصلاة، والنكاح، والوصية، والشهادة، والاقرار، والقضاء،
والديون، والضمان، والحجر.
وفي الايمان وتوابعه: من العتق، والصدقة، والطلاق، والكفارات،
والحج، والنكاح، والصوم، والجهاد، والقضايا.
وفي الصيد والذباحة: من الطهارة، والصلاة، والزكاة، والمكاسب،
والنكاح، والديات، والشهادة.
وفي الوقوف: من المكاسب، والقضاء، والتدبير.
132

وفي الوصية: من الاقرار، والقضايا، والديون، والضمان، والنكاح،
والعتق، والزكاة، والحج، والطهارة، والصوم، والذباحة، والمكاسب،
والميراث.
وفي الفرائض: من الديات، والنكاح، والقضايا، والوصايا (1)،
والطلاق، والحدود، والعتق، والقصاص، والزكاة، والخمس، والكفارة،
والضمان.
وفي الحدود: من القضايا، والطلاق، والنكاح، والايمان، والديات،
والأطعمة، والمكاسب، والطهارة، والأشربة، والذبائح، والاقرار، والزكاة،
والديون.
وفي الديات: من القضايا، والجزية، والميراث، والعتق، والصلاة،
والكفارات، والصوم، والضمان، والنكاح، والمكاسب.
وقد تكفل بجميع ذلك وغيره، الفهرست الذي جعلته على التهذيب،
وهو من أهم الأشياء لمن يريد الفقه والترجيح، ولم يسبقني إليه أحد، والحمد لله.
البحث الثالث:
إذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر، فإما أن يكونا من الكتاب، أو من
السنة، أو العام من الكتاب والخاص من السنة، أو بالعكس، فهذه أربعة
أقسام.
وعلى كل تقدير: فإما أن يكونا قطعيين، أو ظنيين، أو العام قطعيا
والخاص ظنيا، أو بالعكس، فهذه ستة عشر قسما.
وعلى كل تقدير: فالقطعية والظنية: إما بحسب المتن فيهما، أو بحسب

(1) في ب: والربا. بدل: والوصايا.
133

السند فيهما، أو بحسب المتن في العام وبحسب السند في الخاص، أو بالعكس،
فهذه أربعة وستون قسما.
وعلى كل تقدير، فالتنافي: إما بين منطوقيهما، أو مفهوميهما، أو منطوق
العام ومفهوم الخاص، أو بالعكس، فهذه مائتان وستة وخمسون قسما.
وعلى كل تقدير: فإما أن يكون العام والخاص مقترنين، أو العام مقدما
والخاص مؤخرا، أو بالعكس، أو كلاهما مجهولي التاريخ، أو العام فقط، أو
الخاص فقط، فهذه ألف وخمسماءة وستة وثلاثون قسما.
والخاص المؤخر: إما بعد وقت العمل، أو قبله، فهذه ألف وسبع ماءة
واثنان وتسعون قسما.
وقد وقع الخلاف في كثير من هذه الأقسام، في جواز مقاومة الخاص
للعام، وفي كونه مبنيا أو ناسخا.
وتحقيق الحق في كل واحد (1) على التفصيل، مما يفضي إلى غاية
التطويل (2)، فنقول: المراد بالظني: ما دل الدليل على حجيته (3) شرعا، كخبر
العدل، وكذا المفهوم، المراد به - ههنا -: ما دل الدليل على اعتباره، وسيجئ
تفصيله إن شاء الله تعالى.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن كل خاص، علم وروده بعد وقت العمل
بالعام في الكتاب والاخبار النبوية، فالظاهر: أنه ناسخ لحكم (4) العام في مورد
ذلك الخاص، لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة من غير داع أصلا.

(1) في أ وب: في كل واحد واحد.
(2) انظر تفصيل بعض هذه الأبحاث في: الذريعة: 1 / 315 - 323، عدة الأصول: 1 / 153،
المستصفى: 2 / 137 - 152، المحصول: 1 / 440 - 447، معارج الأصول: 98 - 99،
نهاية الوصول ورقة 109 / ب - 111 ب (مصورة)، تهذيب الوصول: 45 - 46، معالم
الدين: 142 - 147.
(3) في أ: حجته.
(4) في ط: بحكم.
134

اللهم، إلا أن يكون المتكلم عالما بتعذر حكم هذا العام في مورد ذلك
الخاص، فإن الظاهر حينئذ أن الخاص مبين (1) - كما في صورة تقديمه مطلقا -
وهذا (2) هو الوجه في اختصاص التقسيم - إلى ما بعد وقت العمل، وما قبله -
بالخاص المتأخر في قولنا: (والخاص المؤخر: إما بعد وقت العمل أو قبله).
وما عدا ذلك: فالظاهر بيانية (3) الخاص للعام، وتخصيص العام
بالخاص في أي قسم كان من الأقسام المذكورة.
ومنع السيد المرتضى (4)، والشيخ (5)، وجماعة من أصحابنا (6)، ومن
العامة (7): تخصيص الكتاب بخبر الواحد مطلقا (8).
وتوقف بعضهم (9)، وإليه يميل المحقق، بناءا على عدم ثبوت حجية خبر
الواحد على الاطلاق (10).
وفصل بعضهم في كل خاص ظني عارض عاما قطعيا، فقال: إن

(1) في أ: بين.
(2) كلمة (هذا): زيادة من ط.
(3) في أ: مباينة.
(4) الذريعة: 1 / 281، حيث قال: " على أنا لو سلمنا ان العمل بها لا على وجه التخصيص
واجب قد ورد الشرع به، لم يكن في ذلك دلالة على جواز التخصيص بها ".
(5) عدة الأصول: 1 / 135.
(6) فهو مذهب كل من منع حجية خبر الواحد. وقد تقدم من المصنف التنصيص عليهم في
ص 158.
(7) وهو قول المعتزلة. كما في المنخول: 174، وجماعة من المتكلمين كما في: معارج الأصول: 96.
(8) وأكثر العامة على جوازه " فالمنقول عن الأئمة الأربعة الجواز مطلقا، واختاره الامام - أي الغزالي -
واتباعه، منهم البيضاوي وبه قال امام الحرمين وطوائف وتبعه الآمدي "، كما في الأبهاج:
2 / 171 وبذلك صرح الغزالي في ص 174 من المنخول، واليه أيضا ذهب الفخر الرازي:
المحصول: 1 / 432، وابن الحاجب: المنتهى: 131، واختار الجواز منا العلامة الحلي مصرحا
بوقوعه: تهذيب الوصول: 44 - 45، والمحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 140.
(9) وهو القاضي أبو بكر الباقلاني، كما في: المنخول: 174، والمنتهى: 131.
(10) معارج الأصول: 96.
135

كان العام خاص من قبل بدليل قطعي - متصلا كان، كالاستثناء، والشرط،
والغاية، ونحوها، أو منفصلا - فيجوز تخصيصه مرة أخرى بهذا الظني، وإلا
فلا (1)، لضعف العموم في الأول، وقوته في الثاني (2).
والأولى: التوقف في تخصيص القرآن بخبر الواحد، للشك في وجوب
اتباع ما يفهم من ظاهر القرآن على الاطلاق، وحجية خبر الواحد على
الاطلاق.
أما القرآن فلأمور:
الأول: تجويزنا كون عمومات القرآن - حين نزولها - مقترنة بقرائن يظهر
المقصود بها للمخاطبين في ذلك الوقت، ومع ذلك التجويز، فلا يعلم حجية
تلك الظواهر بالنسبة إلينا.
الثاني: لزوم طرح أكثر الاخبار المروية في كتبنا الأخبارية، مما ورد (3) في
تفسير الآيات وفي الاحكام، يظهر ذلك لمن تتبع الكتب الأربعة وغيرها، سيما
الكافي وتفسير علي بن إبراهيم وعيون أخبار الرضا، فإن ثلثيها (4) - بل أربعة
أخماسها - مما يخالف الظاهر الذي يفهم بحسب الوضع اللغوي، كما فسر
(الشمس) ب‍: النبي صلى الله عليه وآله، و (النهار) ب‍: علي بن أبي طالب
عليه السلام، و (الليل) ب‍: فلان (5)، وفسر (السكارى) ب‍: سكر النوم (6)، وغير

(1) وهو قول عيسى بن أبان. كما في: المحصول: 1 / 432، والمنتهى: 131.
(2) وقال الكرخي: ان كان قد خص بدليل منفصل صار مجازا، فيجوز ذلك: وان خص بدليل
متصل أو لم يخص أصلا لم يجز. كذا ذكر في المحصول: 1 / 432.
(3) في ط: مما يورد.
(4) في أ: ثلثها.
(5) انظر الأحاديث بذلك في: الكافي 8 / 50 ح 12، وتفسير فرات بن إبراهيم الكوفي: 212
- 213، وتأويل الآيات الظاهرة: 777.
(6) الكافي: 3 / 299 ح 1، وفي ص 371 ح 15، التهذيب: 3 / 258 ح 722.
136

ذلك، مما هو أكثر من أن يحصى (1).
الثالث: الروايات التي تدل على حصر علم القرآن في النبي صلى الله عليه
وآله وسلم والأئمة عليهم السلام:
منها: ما رواه الكليني، عن الصادق عليه السلام: " إنما يعرف القرآن من
خوطب به " (2).
ومنها: ما رواه في كتاب الروضة، بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام، في
حديث طويل: " واعلموا أنه ليس من علم الله، ولا من أمره: أن يأخذ أحد
من خلق الله في دينه بهوى، ولا رأي، ولا مقائيس، قد أنزل الله القرآن وجعل
فيه تبيان كل شئ، وجعل للقرآن، ولتعلم القرآن، أهلا، لا يسع أهل علم
القرآن، الذين آتاهم الله علمه، أن يأخذوا فيه بهوى، ولا رأي، ولا مقائيس،
أغناهم الله تعالى عن ذلك بما آتاهم من علمه، وخصهم به، ووضعه
عندهم، كرامة من الله أكرمهم بها، وهم أهل الذكر، الذين أمر الله هذه الأمة
بسؤالهم " الحديث (3).
ومنها: ما رواه في الأصول، بسنده " عن الصادق عليه السلام، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: من عمل بالمقائيس، فقد هلك وأهلك، ومن
أفتى الناس بغير علم - وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه -
فقد هلك وأهلك " (4) واختصاص علم ذلك في الأئمة عليهم السلام، ظاهر.
والظاهر: أن (المحكم) ما أريد منه ظاهره، و (المتشابه) ما أريد منه غير
ظاهره - لا ما ذكروه في كتب الأصول (5) من: أن (المحكم) ما له ظاهر، و

(1) في أ وط: من أن يعد ويحصى.
(2) الكافي: 8 / 312 ح 485 كذا ورد الحديث في الكافي، ولكن في نسخ كتابنا هذا: " إنما يعلم
القرآن إلى آخره ".
(3) الكافي: 8 / 5 - 6.
(4) الكافي: 1 / 43 - باب النهي عن القول بغير علم / ح 9.
(5) المستصفى: 1 / 106، المنتهى: 47.
137

(المتشابه) ما لا ظاهر له، كالمشترك - لقوله تعالى: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ
فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة....) * الآية (1)، إذ اتباع المتشابه بالمعنى
الذي ذكروه، غير معقول.
ومنها: ما رواه بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام - في حديث طويل،
يدعي فيه اختصاص العلم بالأحكام به -: " فما نزلت على رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم آية من القرآن إلا أقرأنيها، وأملاها علي، فكتبتها بخطي، وعلمني
تأويلها، وتفسيرها، وناسخها، ومنسوخها، ومحكمها، ومتشابهها، وخاصها،
وعامها، ودعا الله أن يعطيني فهمها، وحفظها... " الحديث (2).
ومنها: ما رواه بسنده (3) عن بريد بن معاوية (4)، عن أحدهما عليهما
السلام، في قوله تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) * (5)
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الراسخين في العلم، قد علمه الله عز
وجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئا لم
يعلمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله. والذين لا يعلمون تأويله إذا
قال العالم فيهم بعلم، فأجابهم الله تعالى بقوله: * (يقولون آمنا به كل من عند
ربنا) * (6) والقرآن خاص وعام، ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، فالراسخون
في العلم يعلمونه " (7).
ومنها: ما رواه " عن سلمة بن محرز، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام

(1) آل عمران / 7.
(2) الكافي: 1 / 64 باب اختلاف الحديث / ح 1، ورواه الصدوق أيضا في إكمال الدين واتمام
النعمة: 284 - 285.
(3) في ط: باسناده.
(4) كذا في المصدر (الكافي). وفي النسخ: عن معاوية بن عمار. بدل: بريد بن معاوية.
(5) آل عمران / 7.
(6) آل عمران / 7.
(7) الكافي: 1 / 213 - كتاب الحجة / باب الراسخين في العلم هم الأئمة (ع) / ح 2.
138

يقول: إن من علم ما أوتينا: تفسير القرآن وأحكامه، وعلم تغيير الزمان
وحدثانه... " الحديث (1).
ومنها: ما رواه، عن الصادق عليه السلام - في حديث طويل -: " أما إنه
شر عليكم أن تقولوا بشئ ما لم تسمعون منا.... " الحديث (2).
ومنها: ما رواه في تفسير: * (إنا أنزلناه) * (3) عن أبي جعفر عليه السلام،
قال: فكذلك لم يمت محمد إلا وله بعيث ونذير، قال: فإن قلت: لا، فقد
ضيع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من في أصلاب الرجال من أمته، قال:
وما يكفيهم القرآن؟ قال: بلى، إن وجدوا له مفسرا، قال: وما فسره رسول
الله صلى الله عليه وآله؟ قال: بلى، قد فسره لرجل واحد، وفسر للأمة شأن
ذلك الرجل، وهو علي بن أبي طالب.... " الحديث (4).
ومنها: ما رواه الشيخ، بسنده عن علي عليه السلام قال: " يا أيها الناس
اتقوا الله ولا تفتوا الناس بما لا تعلمون، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قد قال قولا آل منه إلى غيره، وقد قال قولا من وضعه [في] (5) غير موضعه كذب
عليه.
فقام عبيدة، وعلقمة، والأسود، وأناس منهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين،
فما نصنع بما قد خبرنا به في المصحف؟
قال: يسأل عن ذلك علماء آل محمد عليهم السلام " (6).
ومنها: ما ورد (7) أن تفسير القرآن بالرأي غير جائز، حتى قال الطبرسي

(1) الكافي: 1 / 229 - كتاب الحجة / باب انه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة (ع) / ح 3.
(2) الكافي: 2 / 402 - كتاب الايمان والكفر / باب الضلال / ذيل الحديث الأول.
(3) القدر / 1.
(4) الكافي: 1 / 250 - كتاب الحجة / باب في شأن " انا أنزلناه في ليلة القدر " / ح 6.
(5) كلمة (في): وردت في كل النسخ، إلا أن المصدر خال منها.
(6) التهذيب: 6 / 295 ح 823.
(7) في أ: رواه.
139

في مجمعه: " واعلم أن الخبر قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن
الأئمة القائمين مقامه عليهم السلام: أن تفسير القرآن، لا يجوز إلا بالأثر
الصحيح، والنص الصريح، وروت العامة أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، أنه قال: " من فسر القرآن برأيه، فأصاب الحق، فقد أخطأ " قالوا: وكره
جماعة من التابعين القول في القرآن بالرأي، كسعيد بن المسيب، وعبيدة
السلماني، ونافع، وسالم بن عبد الله، وغيرهم " (1) انتهى كلامه.
وأما الشك في حجية خبر الواحد على الاطلاق:
فلان (2) عمدة أدلة حجيته: الاجماع، والاجماع فيما نحن فيه غير
متحقق، لما عرفت من الاختلاف.
ولورود الروايات بطرح (3) ما خالف القرآن:
كرواية السكوني: " عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق
كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه " (4).
ورواية عبد الله بن أبي يعفور: " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
اختلاف الحديث، يرويه من نثق به، ومنهم من لا نثق به؟ قال إذا ورد عليكم
حديث، فوجدتم له شاهدا من كتاب الله عز وجل، أو من قول رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وإلا فالذي جاءكم به أولى به " (5).
وصحيحة أيوب بن الحر: " قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
كل شئ مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو

(1) مجمع البيان: 1 / 13 - الفن الثالث.
(2) في ط: فإن.
(3) في ط: بترك.
(4) الكافي: 1 / 69 - كتاب فضل العلم / باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب / ح 1.
(5) الكافي: 1 / 69 ح 2.
140

زخرف " (1).
وصحيحة هشام بن الحكم، وغيره: " عن أبي عبد الله عليه السلام، قال
خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى، فقال: أيها الناس، ما جاءكم عني
يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله " (2).
ومؤثقة أيوب بن راشد: " عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ما لم يوافق
من الحديث القرآن فهو زخرف " (3).
ويمكن الجمع:
بحمل هذه الأخبار على الاخبار النبوية (4) التي روتها (5) العامة.
أو حمل المخالفة على ما إذا كان مضمون الخبر مبطلا لحكم القرآن
بالكلية، والتخصيص بيان لا مخالفة (6).
أو المراد بطلان الخبر المخالف للقرآن، إذا علم تفسير القرآن بالأثر
الصحيح، إذ لا شك في بطلان المخصص إذا كان إرادة العموم من القرآن
معلوما بالنص الصريح، والمخالفة بدون ذلك غير معلومة لما عرفت.
وإن كان تأويل الاخبار الأولة أيضا ممكنا، بأن العلم بكل القرآن
منحصر في الأئمة عليه السلام لكن الظاهر: أنه خلاف ما اعتقده علماؤنا
الأولون، قال ابن بابويه - في كتاب معاني الأخبار في باب معنى العصمة -:
" قال أبو جعفر مصنف هذا الكتاب: الدليل على عصمة الامام: [أنه] لما كان
كل كلام ينقل عن قائله، يحتمل وجوها من التأويل، و [كان] أكثر القرآن

(1) الكافي: 1 / 69 ح 3.
(2) الكافي: 1 / 69 ح 5.
(3) الكافي: 1 / 69 ح 4.
(4) كذا في أ وط، وفي الأصل وب: على النبوية.
(5) في ب: دونها.
(6) في ط: لا مخالف للقرآن.
141

والسنة مما أجمعت (1) الفرق على أنه صحيح، لم يغير، ولم يبدل، ولم يزد [فيه]،
ولم ينقص [منه]، محتملا لوجوه كثيرة من التأويل - وجب أن يكون مع ذلك
مخبر صادق معصوم من تعمد الكذب والغلط، ينبئ عما عنى الله ورسوله في
الكتاب والسنة على حق ذلك وصدقه، لان الخلق مختلفون في التأويل، كل
فرقة تميل مع (2) القرآن والسنة إلى مذهبها، فلو كان الله تبارك وتعالى تركهم بهذه
الصفة من غير مخبر عن كتابه صادق [فيه]، لكان قد سوغهم الاختلاف في
الدين، ودعاهم إليه، إذ أنزل كتابا يحتمل التأويل، وأمرهم بالعمل بها، فكأنه
قال: تأولوا واعملوا، وفي ذلك إباحة العمل بالمتناقضات، ولما استحال ذلك
على الله، وجب أن يكون مع القرآن والسنة في كل عصر - من يبين عن (3) المعاني
التي عناها الله بكلامه، دون ما تحتمله ألفاظ القرآن من التأويل، ويبين عن (4)
المعاني التي عناها رسول الله صلى الله عليه وآله في سنته (5) وأخباره، دون
التأويلات التي تحتملها ألفاظ الاخبار المروية عنه صلى الله عليه وآله " (6).
وروى الكليني في الصحيح: " عن منصور بن حازم، قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون
بالله، قال: صدقت. قلت: إن من عرف أن له ربا، فقد ينبغي له أن يعرف
أن لذلك الرب رضا وسخطا، وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو
رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل، فإذا لقيهم عرف
أنهم الحجة، وأن لهم الطاعة المفترضة وقلت للناس أليس تعلمون أن رسول

(1) كذا في أ وب والمصدر، وفي الأصل وط: اجتمعت.
(2) في ب وط: معنى. بدل: مع. ولعله الأولى.
(3) (4) كذا، في المصدر. وفي النسخ: من.
(5) في ط: سنة. وفي المصدر: سننه.
(6) معاني الأخبار: 133 - 134. وما وضعناه من هذا النص بين معقوفين فهو إضافة من المصدر
لم ترد في متن كتابنا هذا.
142

الله صلى الله عليه وآله كان هو الحجة من الله على خلقه؟ قالوا: بلى. قلت:
فحين مضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان الحجة فقالوا: القرآن،
فنظرت في القرآن، فإذا هو يخاصم به المرجي، والقدري، والزنديق الذي لا
يؤمن به، حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا
بقيم، فما قال فيه من شئ كان حقا، فقلت لهم: من قيم القرآن؟ فقالوا: ابن
مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم، قلت: كله؟ قالوا: لا. فلم
أجد أحدا يقال إنه يعرف ذلك كله إلا عليا عليه السلام، وإذا كان الشئ بين
القوم، فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال
هذا: أنا أدري، فأشهد أن عليا عليه السلام كان قيم القرآن وكانت طاعته
مفترضة، وكان الحجة على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
وأن ما قال في القرآن فهو حق. فقال: رحمك الله " (1).
وأيضا: فإن الظن الحاصل بعموم الألفاظ المعدودة في ألفاظ العموم، مما
يشكل طرح خبر الواحد به.
ويضعف ظن عمومها كثرة الاختلاف الواقع فيها، حيث ذهب بعضهم
إلى أنه لم يوضع للعموم لفظ أصلا (2) وذهب بعضهم إلى اشتراكها لفظا،
وبعضهم معنى، وتوقف بعضهم (3)، كما مر.
وحينئذ، فطرح خبر الواحد (4) الذي يجب العمل به لولا المخالفة،
بمجرد ظن ضعيف حاصل من الاعتبارات والاستقراءات الناقصة، في غاية
الجرأة.

(1) الكافي 1 / 168 - 169 - كتاب الحجة / باب الاضطرار إلى الحجة / ح 2، وأورده أيضا في
/ باب فرض طاعة الأئمة (ع). ح 15 ص 188 - 189 باختلاف يسير.
(2) انظر أدلتهم ومناقشتها في: المستصفى: 2 / 45.
(3) المستصفى: 2 / 36 - 37 و 46، المنتهى: 103.
(4) في أ وب وط: الخبر الواحد.
143

واحتج من ذهب إلى عدم تخصيص القرآن بخبر الواحد:
[أ] بأن القرآن قطعي، وخبر الواحد ظني، والظني لا يعارض
القطعي (1).
ويرد عليه:
أولا: أن التخصيص إنما هو في الدلالة، وقطعية المتن غير مجد، والدلالة
ظنية، كما مر (2).
وثانيا: بمنع ظنية خبر الواحد، بل هو أيضا قطعي من جهة الدلالة.
وثالثا: بمنع أن الظني لا يعارض القطعي، إذا كان الدليل الدال على
حجية ذلك الظني قطعيا.
[ب] وباستلزام امتناع النسخ بخبر الواحد امتناع التخصيص به،
للاشتراك في مطلق التخصيص (3).
والجواب: منع علية المطلق للجواز، بل هي التخصيص الخاص
الأفرادي، لا الأزماني (4)، والسر: أن الأول مبين، لا الثاني.
واحتج الذاهب إلى تقديم الخبر: بأن فيه جمعا بين الدليلين، بخلاف
العمل بالعام فإنه يوجب إلغاء (5) الخاص بالمرة (6).
والجواب:
أولا: منع حجية الخبر حينئذ.
وثانيا: بمنع وجوب الجمع بين الدليلين، أو أولويته، إذا كان الجمع
مخرجا للدليل القطعي عن معناه الحقيقي.

(1) عدة الأصول: 1 / 135، المستصفى: 2 / 115، المحصول: 1 / 434، المنتهى: 131.
(2) معالم الدين: 141، وقريب منه في: معارج الأصول: 96.
(3) المحصول: 1 / 434.
(4) كذا في أ وط، وفي الأصل وب: لا الزماني.
(5) في أ: القاء.
(6) المحصول: 1 / 432، معالم الدين: 141.
144

الباب الثالث
145

في الأدلة الشرعية
وفيه فصول
146

الفصل الأول: في الكتاب.
ووجوب اتباعه، والعمل به، متواتر ومجمع عليه، وقد أشبعنا الكلام
فيه (1) في البحث المتقدم.
وقد وقع الخلاف في تغييره:
فقيل: إن فيه زيادة ونقصانا، وبه روايات كثيرة، رواها الكليني (2)،
وعلي بن إبراهيم في تفسيره (3).
والمشهور: أنه محفوظ ومضبوط كما أنزل، لم يتبدل ولم يتغير، حفظه

(1) في ط: عليه.
(2) الكافي 8 / 50 ح 11، وص 183 ح 208، وص 290 ح 437 و 438 و 439 و 440،
وص 377 ح 568، وص 368 ح 569 و 570 و 571.
(3) تفسير علي بن إبراهيم القمي / المجلد الثاني ص 295، حديث أبي بصير في تفسير الآية 29
/ الجاثية، وكذا في ص 349 حديث أبي عبد الرحمن السلمي، وحديث أبي بصير، في تفسير
الآية 56 / الواقعة، وكذا في ص 367 حديث ابن أبي يعفور في تفسير الآية 11 / الجمعة،
وفي ص 451: " قال رسول الله: لو أن الناس قرأوا القرآن كما انزل الله ما اختلف اثنان ".
ولكن هذه الروايات ونظائرها ساقطة إما سندا وإما دلالة، انظر تفصيل القول في ابطالها
وعدم دلالتها على وقوع التحريف في القرآن: البيان في تفسير القرآن: 245 - 254.
147

الحكيم الخبير، قال الله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (1).
والحق: أنه لا أثر لهذا الاختلاف، إذا الظاهر تحقق الاجماع على وجوب
العمل بما في أيدينا، سواء كان مغيرا أو لا، وفي بعض الاخبار تصريح بوجوب
العمل به إلى ظهور القائم من آل محمد عليهم السلام (2).
ثم اعلم - أيضا - أنه وقعت اختلافات كثيرة بين القراء، وهم جماعة
كثيرة، وقدماء العامة اتفقوا على عدم جواز العمل بقراءة غير السبعة أو العشرة
المشهورة (3)، وتبعهم من تكلم في هذا المقام من الشيعة أيضا (4)، ولكن لم ينقل
دليل، يعتد به على وجوب العمل بقراءة هؤلاء دون من عداهم.
وتعلق بعضهم في القراءات السبع، بما رواه الصدوق في الخصال،
بسنده عن " حماد بن عثمان، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن الأحاديث
تختلف عنكم؟ قال: فقال: إن القرآن نزل على سبعة أحرف، وأدنى ما للامام
أن يفتي على سبعة وجوه، ثم قال: * (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير
حساب) * " (5).
ولا يخفى عدم الدلالة على القراءات السبع المشهورة، مع أنه قد روى
الكليني، في كتاب فضل القرآن، روايات منافية لها:
منها: رواية زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: " إن القرآن واحد،

(1) الحجر / 9.
(2) ما عثرنا عليه في هذا الصدد من الاخبار المغياة بظهور القائم (ع) انما هو ما يتعلق بالقراءة،
كالحديث الآتي: " فقال أبو عبد الله (ع) كف عن هذه القراءة، إقرأ كما يقرء الناس حتى يقوم
القائم.... "، وغيره: الكافي: 2 / 633 - كتاب فضل القرآن / باب النوادر / ح 23.
(3) الاتقان: / 258 النوع 22، التهميد: 141، فواتح الرحموت (بهامش المستصفى:
2 / 15).
(4) التبيان: 1 / 7، و: مجمع البيان / المقدمة / الفن الثاني، و: التذكرة: 1 / 115، ومنتهى
المطلب: 1 / 273، والذكرى: 187 في التفريع على المسألة الخامسة.
(5) الخصال: 2 / 358 ح 43. والآية من سورة: ص / 39.
148

نزل من عند واحد، ولكن الاختلاف يجئ من قبل الرواة " (1).
وصحيحة الفضيل بن يسار،: " قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن
الناس يقولون: إن القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال: كذبوا، أعداء الله،
ولكنه نزل على حرف واحد، من عند الواحد " (2).
ولا بحث لنا في الاختلاف الذي لا يختلف به الحكم الشرعي.
وأما فيما يختلف به الحكم الشرعي:
فالمشهور: التخيير بين العمل بأي قراءة شاء العامل (3).
وذهب العلامة إلى رجحان قراءة عاصم بطريق أبي بكر، وقراءة حمزة (4).
ولم أقف لهم وله على مستند يمكن الاعتماد عليه شرعا.
فالأولى: الرجوع فيه إلى تفسير حملة الذكر، وحفظة القرآن، صلوات الله
عليهم أجمعين، إن أمكن، وإلا فالتوقف، كما قال أبو الحسن عليه السلام: " ما
علمته فقل، وما لم تعلمه فها - وأهوى بيده إلى فيه - " (5)، والامر فيه سهل (6)،
لعدم تحقق محل التوقف. * * *

(1) الكافي 2 / 630 - كتاب فضل القرآن / باب النوادر / ح 12.
(2) الكافي: 2 / 630 ح 13.
(3) تقدم ذكر مصادر ذلك آنفا.
(4) منتهى المطلب: 1 / 273 - كتاب الصلاة / البحث الرابع في القراءة / مسألة: " وتبطل
الصلاة لو أخل بحرف واحد... " / الفرع السادس.
(5) المحاسن للبرقي: 213، الكافي: 1 / 57 - كتاب فضل العلم / باب البدع والرأي والمقاييس
/ ح 13.
(6) في ط: العمل.
149

الفصل الثاني: في الاجماع
وفيه أبحاث:
الأول: الاجماع - لغة -: الاتفاق.
واصطلاحا - عندنا -: اتفاق جمع يعلم به أن المتفق عليه (1)، صادر عن
رئيس الأمة، وسيدها، وسنامها، صلوات الله عليه.
والحق: إمكان وقوعه، والعلم به، وحجيته (2).
وقد اختلف في كل من المواضع الثلاثة، وركاكة حججهم تمنع من (3)
التعرض لها (4).
وسبب حجيته ظاهر بما مر من التعريف، وهو اشتماله على قول الإمام
المعصوم الذي لا يقول إلا عن وحي إلهي (5).

(1) كلمة (عليه): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(2) معالم الدين: 172. (3) كلمة (من): زيادة من ط.
(4) كذا في ب، وفي سائر النسخ: لهم.
(5) الذريعة: 2 / 605، 630، معارج الأصول: 126، تهذيب الوصول: 65، معالم الدين:
173.
151

وليس سبب حجيته انضمام الأقوال واجتماعها، كما يقول المخالفون (1)،
حيث احتالوا في إطفاء نور الله، فجعلوا اجتماع أقوال الأمة حجة، واجب
الاتباع، كالقرآن، والحديث، وأدلتهم - بعد تمامها - لا تدل على مطلوبهم.
فالاجماع عندنا ليس أمرا غير السنة.
البحث الثاني:
الاجماع يطلق على معنيين:
أحدهما: اتفاق جمع على أمر، يقطع بأن أحد المجمعين هو المعصوم،
ولكن لا يتميز شخصه (2).
وهذا القسم من الاجماع مما لا يكاد يتحقق (3)، لان الإمام عليه السلام قبل
وقوع الغيبة: كان ظاهرا مشهورا عند الشيعة في كل عصر، يعرفه كل منهم،
وبعد الغيبة: يمتنع حصول العلم بمثل هذا الاتفاق.
وما يقال: من أنه إذا وقع إجماع علماء الرعية على الباطل، يجب على
الامام أن يظهر ويباحثهم، حتى يردهم إلى الحق، لئلا يضل الناس (4).
فهو مما لا ينبغي أن يصغى إليه، لان جل الاحكام - بل كلها - معطل،
كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وغير ذلك، ومع ذلك فهو
لا يظهر.

(1) المستصفى: 1 / 175، المحصول: 2 / 37، المنتهى: 52.
(2) الذريعة: 2 / 624، معارج الأصول: 132.
(3) معالم الدين: 175.
(4) عدة الأصول: 2 / 76. وقد حكي عن المير داماد أيضا ذهابه إلى ذلك أو ما يقرب منه في مجلس
درسه. انظر:؟ فرائد الأصول: 86.
152

وأيضا: إجماعهم إنما يوجب ضلالة الناس، إذا كان واجب الاتباع
بدون العلم بدخول الإمام عليه السلام فيهم، وليس كذلك كما عرفت.
وثانيهما: اتفاق جماعة على أمر، لا يقطع بدخول الإمام عليه السلام
فيهم، بل قد يقطع بخروجه عنهم، إلا أن هؤلاء المجمعين كانوا ممن لا يجوز
العقل اجتماعهم على الافتاء من دون سماعهم لتلك الفتوى عن قدوتهم
وإمامهم عليه السلام.
وعدم ذلك التجويز لا يتم إلا بعد التتبع عن أحوال هؤلاء المجمعين،
والاطلاع على تقواهم وديانتهم، فهو مختلف باعتبار خصوص المجمعين، فقد
يحصل بإثنين، بل بواحد، وقد لا يحصل بعشرة، بل بعشرين.
البحث الثالث:
الحق إمكان الاطلاع على الاجماع بالمعنى الثاني من غير جهة النقل في
زمان وقوع الغيبة، إلى حين انقراض الكتب المعتمدة، والأصول الأربعماءة
المتداولة، كزمان المحقق والعلامة وما ضاهاه (1)، ولكنه بعيد.
أما إمكانه: فلان كتب أصحاب الأئمة عليهم السلام، كانت موجودة
مشهورة، كفتاوى المتفقهة المتأخرين عندنا، وفتاواهم كانت مودعة في كتبهم،
فقد يحصل العلم بقول الإمام عليه السلام، إذا حصل العلم بفتاوى عدة منهم،
كزرارة، ومحمد بن مسلم، والفضيل، وأبي بصير المرادي، ومن يحذو حذوهم،
وإنكار ذلك مكابرة.
وأصحاب الأئمة عليهم السلام كانت لهم فتاوى مشهورة، وقد نقل

(1) في أ وط: وما ضاهاهما.
153

بعضها المتأخرون، كما نقل رئيس المحدثين (1) فتاوى الفضل بن شاذان (2)،
ويونس بن عبد الرحمن (3)، وغيرهما، في كتاب الميراث من الفقيه، وغيره، وكذا
الكليني في الكافي (4).
ونقل الشيخ في التهذيب، في باب الخلع (5): فتيا جعفر بن سماعة،
والحسن بن سماعة، وعلي بن رباط، وابن حذيفة، وعلي بن الحسين.
وفي باب عدة النساء (6): مذهب الحسن بن سماعة، وعلي بن إبراهيم
ابن هاشم، وجعفر بن سماعة، ومعاوية بن حكيم، وغيرهم.
وفي باب ميراث المجوس (7): اختلاف أئمة الحديث، وعملهم.
وفي باب المرتد والمرتدة (8): فتوى جميل بن دراج، وغير ذلك مما (9) يطلع عليه بعد التتبع (10).
وأما بعده: فلان من تتبع أحوال أئمة الحديث، يحصل له العلم العادي
بأنهم إذا سمعوا شيئا من الإمام عليه السلام، يسندونه إليه، ولا يقتصرون على
مجرد (11) فتواهم، وما أسندوه إلى الإمام عليه السلام في الفروع من الأمور المهمة

(1) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: رئيس الطائفة. لكن في هامش الأصل: (المحدثين خ ل).
(2) الفقيه: 4 / 267 و 270 و 276 و 286 و 293 و 295 و 320.
(3) لم أعثر على ذلك.
(4) الكافي 6 / 94.
(5) التهذيب: 8 / 97.
(6) التهذيب: 8 / 124 - 125.
(7) التهذيب: 9 / 364.
(8) التهذيب: 10 / 137.
(9) في ط: ممن.
(10) في أ: بعد السعي.
(11) في ط: جرد.
154

المعتمدة، نقله نقدة الحديث (1) كالمحمدين (2) الثلاثة، سيما فيما يحتاج فيه إلى
نقل الاجماع.
فعلى هذا، يشكل الاعتماد على الاجماعات المنقولة، سيما في غير
العبادات، وسيما إذا لم تكن فتاوى أصحاب الأئمة فيه معلومة، ولم يكن ورد
فيه نص أصلا.
نعم، لا يبعد جواز الاعتماد على الاجماع في مادة وردت فيها نصوص
مخالفة لذلك الاجماع، إذا علم عدم غفلتهم عن هذه النصوص، وتواترها
عندهم، فإن من هذا الاجماع المخالف لتلك النصوص، يحصل العلم بوصول
دليل يقطع العذر إليهم، لكنه بعيد الوقوع، إذ الغالب حينئذ تحقق النص،
بل النصوص الموافقة أيضا للاجماع.
البحث الرابع:
الحق التوقف في الاجماع المنقول بخبر الواحد (3) لما عرفت.
ولاختلاف الاصطلاحات في الاجماع، فإن الظاهر من حال القدماء -
كالسيد المرتضى والشيخ وغيرهما (4) - إطلاق الاجماع على ما هو المصطلح عند
العامة، من اتفاق الفرقة غير المبتدعة - ولو في زمان الغيبة - على أمر.
وحينئذ، فكيف الوثوق بالاجماعات الواقعة في كلامهم؟!

(1) كذا فلي أ وط وب، وفي الأصل: نقله نقلة الحديث.
(2) في أ وط: كالمحدثين.
(3) خلافا للمحقق الشيخ حسن منا: معالم الدين: 180، وللفخر الرازي: المحصول:
2 / 73، وابن الحاجب: المنتهى: 64، والبيضاوي: منهاج الوصول: 136، ووفاقا للغزالي:
المستصفى: 1 / 215، ولبعض الحنفية. كما حكاه عنهم في المنتهى: 64.
(4) في أ وط: غيرهم.
155

وزعم بعض علمائنا (1) أن علماءنا في زمان (2) الغيبة إذا اتفقوا على أمر،
وكانوا مخطئين، يجب على الامام أن يظهر لهم - ولو بنحو لا يعرفونه - ويباحث
معهم، حتى يردهم إلى الحق.
وبطلان هذا مما لا يحتاج إلى البيان، بعد ملاحظة تعطل أكثر الاحكام
والأمور. * * *

(1) انظر ما تقدم في الهامش (4) من ص 152.
(2) في أ وط: زمن.
156

الفصل الثالث: في السنة
وفيه أبحاث:
الأول: السنة: هي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو الامام، أو
فعلهما أو تقريرهما على وجه.
ولما كان المهم منها هو القول، فلنتكلم فيه.
ويسمى: حديثا، و: خبرا.
والخبر ينقسم إلى: متواتر، وآحاد.
والمتواتر: هو خبر جماعة، بلغوا في الكثرة مبلغا، أحالت العادة تواطأهم
على الكذب، كالمخبرين عن وجود مكة واسكندر، ونحوهما.
والظاهر: قلة الخبر المتواتر باللفظ في زماننا، فنسكت عنه.
وخبر الواحد: هو ما لم يفد العلم، باعتبار كثرة المخبرين، وقد يفيد
العلم بالقرائن، وهو ضروري، وإنكاره مكابرة ظاهرة. * * *
157

البحث الثاني:
اختلف العلماء في حجية خبر الواحد، العاري عن قرائن القطع.
فالأكثر من علمائنا الباحثين في الأصول: على أنه ليس بحجة، كالسيد
المرتضى (1)، وابن زهرة (2)، وابن البراج (3)، وابن إدريس (4)، وهو الظاهر من
ابن بابويه في كتاب الغيبة (5)، والظاهر من كلام المحقق (6)، بل الشيخ الطوسي
أيضا (7).
بل نحن لم نجد قائلا صريحا بحجية خبر الواحد ممن تقدم على
العلامة (8).
والسيد المرتضى يدعي الاجماع من الشيعة على إنكاره (9)، كالقياس،
من غير فرق بينهما أصلا (10).

(1) الذريعة: 2 / 528.
(2) غنية النزوع: 475 (تسلسل الجوامع الفقهية).
(3) حكاه عنه المحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 189.
(4) السرائر: 1 / 51.
(5) للشيخ الصدوق في الغيبة كتاب ورسائل ثلاث، ونسخها مفقودة في عصرنا هذا.
(5) معارج الأصول: 142 - 147، يظهر ذلك من مناقشته أدلة القائلين بحجيته.
(7) فقد قال المحقق الحلي: " ذهب شيخنا أبو جعفر إلى العمل بخبر العدل من رواة أصحابنا،
لكن لفظه وان كان مطلقا فعند التحقيق تبين انه لا يعمل بالخبر بمطلقا، بل بهذه الاخبار
التي رويت عن الأئمة (ع) ودونها الأصحاب، لا أن كل خبر يرويه الامامي يجب العمل
به ". معارج الأصول: 147.
(8) علق الشيخ الأنصاري على هذه العبارة بعد ايرادها في فرائده بقوله " وهو عجيب ": فرائد
الأصول: 109.
(9) رسائل السيد المرتضى: 1 / 24.
(10) رسائل السيد المرتضى: 3 / 309.
158

ولكن الحق: أنه حجة كما اختاره المتأخرون منا (1)، وجمهور العامة (2)،
لوجوه:
الأول: أنا نقطع ببقاء التكاليف إلى يوم القيامة، سيما بالأصول
الضرورية كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أن
جل أجزائها، وشرائطها، وموانعها، وما يتعلق بها، إنما يثبت بالخبر غير
بالقطعي، بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند
ترك العمل بخبر الواحد، ومن أنكر ذلك، فإنما ينكر باللسان، وقلبه مطمئن
بالايمان.
الثاني: أنا نقطع بعمل أصحاب الأئمة عليهم السلام، وغيرهم ممن
عاصرهم - بأخبار الآحاد، بحيث لم يبق للمتتبع شك في ذلك، ونقطع بعلم
الأئمة عليهم السلام بذلك، والعادة قاضية بوجوب تواتر (3) المنع عنهم عليهم
السلام لو كان العمل بها في الشريعة ممنوعا، مع أنه لم ينقل عنهم عليهم السلام
خبر واحد في المنع، بل ظاهر كثير من الاخبار جواز العمل بها، كما ستقف عليه
عن قريب إن شاء الله.
ويؤيده: إطباق العلماء على رواية أخبار الآحاد، وتدوينها، والاعتناء
بحال الرواة، والتفحص عن المقبول والمردود.
قال العلامة في النهاية: " أما الامامية: فالأخباريون منهم، لم يعولوا في
أصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد، المروية عن الأئمة عليهم السلام،
والأصوليون منهم - كأبي جعفر الطوسي وغيره - وافقوا على قبول خبر الواحد،

(1) تهذيب الوصول: 76، معالم الدين: 189.
(2) المنخول: 253، المحصول: 2 / 170، المنتهى: 74، الأبهاج: 2 / 300.
(3) في ط: توارد.
159

ولم ينكره أحد (1) سوى المرتضى وأتباعه، لشبهة حصلت لهم " (2).
والحق: أنه لا يظهر (3) من كلام الشيخ أنه يعمل بخبر الواحد، العاري
عن القرائن المفيدة للقطع (4)، نعم، هو قسم القرائن، وذكر فيها أمورا، لا
يمكن إثبات قطعيتها.
الثالث: ظواهر الروايات، وهي كثيرة:
منها: ما رواه الكليني، بسنده " عن المفضل بن عمر، قال: قال لي أبو
عبد الله عليه السلام: أكتب، وبث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك
بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج، لا يأنسون فيه إلا بكتبهم " (5).
فإن ظاهرها: جاز العمل بما في الكتب من الاخبار، وهي آحاد، فإن
تواترها، واحتفافها بالقرائن المفيدة للقطع، بعيد جدا.
ومنها: ما رواه في الصحيح " عن محمد بن الحسن ابن أبي خالد شينولة،
قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام: جعلت فداك، إن مشايخنا رووا عن
أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام، وكانت التقية شديدة، فكتموا كتبهم، ولم
ترو عنهم، فلما ماتوا صارت الكتب إلينا، فقال: حدثوا بها، فإنها حق " (6).
ومنها: ما رواه في الصحيح أيضا " عن سماعة بن مهران، عن أبي الحسن
موسى عليه السلام، قال: قلت: أصلحك الله، إنا نجتمع فنتذاكر ما عندنا،

(1) كلمة (أحد): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(2) نهاية الوصول ورقة 209 / أ (مصورة) وقد أورد هذه العبارة بلفظها الفخر الرازي المتقدم على
العلامة في: المحصول: 2 / 188.
(3) في ط: لم يظهر.
(4) كما استظهر ذلك المحقق الحلي وقد تقدم نقل كلامه.
(5) الكافي: 1 / 52 - كتاب فضل العلم / باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك
بالكتب / ح 11.
(6) الكافي 1 / 52 ح 15.
160

فلا يرد علينا شئ إلا وعندنا فيه شئ مسطر (1)، وذلك مما أنعم الله به علينا
بكم، ثم يرد علينا الشئ الصغير، ليس عندنا فيه شئ، فينظر بعضنا إلى
بعض، وعندنا ما يشبهه، فنقيس على أحسنه؟ فقال: وما لكم وللقياس، إنما
هلك من هلك قبلكم - بالقياس، ثم قال: إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به،
وإن جاءكم ما لا تعلمون فها - وأهوى بيده إلى فيه - " الحديث (2).
وفيه تقرير منه عليه السلام في العمل والفتوى بالكتاب، مع أنه غالبا
يكون من قبيل أخبار الآحاد.
ومنها: ما رواه في الصحيح، عن عبد الله بن أبي يعفور " قال: سألت
أبا عبد الله عليه السلام، عن اختلاف الحديث، يرويه من نثق به، ومنهم من
لا نثق به؟ قال: إذا ورد عليكم حديث، فوجدتم له شاهدا من كتاب الله، أو
من قول رسول الله صلى الله عليه وآله، وإلا فالذي جاءكم به أولى به " (3).
وظاهر: أن السائل سأل عن أخبار الآحاد، إذ لا دخل للوثوق
بالراوي (4)، وعدمه في القطعي من الاخبار.
ونحوها: الأخبار الواردة في حكم اختلاف الاخبار (5)، كما سيجئ في
آخر الكتاب إن شاء الله، وهي تدل على حجية خبر الواحد، بشرط اعتضاده
بالقرآن، أو سنة الرسول (6).

(1) ورد في هامش الكافي ما يلي: " في بعض النسخ: مسطور، وفي بعضها: مستطر ".
(2) الكافي: 1 / 57 - كتاب فضل العلم / باب البدع والرأي والمقائيس / ح 13. ومثله ما رواه
البرقي باسناده عن محمد بن حكيم: المحاسن: 213.
(3) الكافي: 1 / 69 - كتاب فضل العلم / باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب / ح 2.
(4) كذا في أ وب، وفي الأصل: للموثق بالراوي، وفي ط: بالوثوق للراوي.
(5) الكافي: 1 / 62 - كتاب فضل العلم / باب اختلاف الحديث / ح 7، 8، 9، وغيرها.
(6) لا يقال: اشتراط اعتضاده بالقرآن والسنة يدل على عدم حجية خبر الواحد. لأنا نقول: شهادة
القرآن والسنة لا توجب انتهاءه إلى حد القطع، فاجماله (ع) يدل على حجية الخبر المظنون
المعتضد بالقرآن أو السنة، فتأمل جدا (منه رحمه الله).
161

ونحوها: ما رواه في الموثق بعبد الله بن بكير، عن رجل عن أبي جعفر عليه
السلام - إلى أن قال -: " وإذا جاءكم عنا حديث، فوجدتم عليه شاهدا، أو
شاهدين من كتاب الله فخذوا به، وإلا فقفوا عنده، ثم ردوه إلينا، حتى
يستبين لكم " (1).
ومنها: الروايات الواردة في الامر بإبلاغ الحديث إلى الناس، مثل ما رواه
في الصحيح " عن خيثمة، قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: أبلغ شيعتنا أنه
لن ينال ما عند الله إلا بعمل، وأبلغ شيعتنا أن أعظم الناس حسرة يوم القيامة
من وصف عدلا، ثم يخالفه إلى غيره " (2).
إذ لا شك في علمهم عليهم السلام بعدم انتهائها إلى حد القطع.
وقد يحتج على هذا المطلب بالآيات:
كقوله تعالى: * (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * (3).
حيث يدل على وجوب الحذر، بإنذار الطائفة من الفرقة، وهي تصدق
على واحد - ك‍ (الفرقة) على الثلاثة - فيفيد وجوب اتباع قول الواحد، وهو
المطلوب.
وقوله تعالى: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة
فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) * (4).
حيث يدل بمفهومه (5) على انتفاء التبين والتثبت عند خبر العدل، فإما:
الرد، أو: القبول (6)، والأول: يوجب كون العدل أسوء حالا من الفاسق، وهو

(1) الكافي 2 / 222 - كتاب الايمان والكفر / باب الكتمان / ح 4.
(2) الكافي: 2 / 300 - كتاب الايمان والكفر / باب من وصف عدلا وعمل بغيره / ح 5.
(3) المستصفى: 1 / 152، والآية من سورة التوبة / 122.
(4) المحصول: 2 / 178، والآية من سورة: الحجرات / 6.
(5) في أ: يدل المفهوم، وفي ط: دل المفهوم.
(6) كذا في ط، وفي سائر النسخ: فاما الرد أو لا أو القبول.
162

باطل، فيكون الحق: هو الثاني، وهو المطلوب (1).
والأولى: ترك الاستدلال بهذه الآيات، فإنه:
يرد على الاستدلال بالأولى:
أن المتبادر (2) من (الطائفة) الزيادة على الاثنين، فالظاهر أن المراد ب‍
(الفرقة) ممن ذكره الله تعالى - أهل كل حشم حشم، وقرية قرية.
وأيضا: - على تقدير خروج واحد من كل ثلاثة - فالظاهر حينئذ: بلوغ
المخبرين عدد التواتر، لان الغالب في الأحشام والقرى، الكثرة العظيمة،
ويندر توطن ثلاثة أنفس من الرجال والنساء والصبيان في موضع، لا يكون لهم
رابع بل عاشر.
وأيضا: يحتمل كون الانذار بطريق الفتوى بمعنى الروايات (3)، ولا
نزاع لاحد في قبوله، ويسمونه فتوى المجتهد.
وأيضا: إطلاق الانذار على نقل روايات الأحكام الشرعية، غير
متعارف، فيحتمل كون المراد التخويف على ترك أو فعل ما ثبت بطريق
القطع، وهذا مما تتأثر النفس بسماعه، ويحصل به للنفس خوف، يوجب اهتمامه
بالواجبات وترك المحرمات، وإن لم يكن خبر الواحد حجة.
وأيضا: يحتمل أن يقال: إن خبر الواحد المشتمل على الانذار حجة،
لقضاء العقل بمثل هذه الاحتياطات دون غيره، والاجماع على عدم الفصل،
غير معلوم.
وأيضا: يحتمل أن يكون ضمير (ليتفقهوا) راجعا إلى الباقي من الفرقة
مع العالم، دون من نفر منهم.
وغير ذلك من الاعتراضات.

(1) المحصول: 2 / 179 - 180.
(2) في أ وط: التبادر.
(3) في ط: لا بمعنى الروايات.
163

وعلى الآية الثانية:
بأنه استدلال بمفهوم الصفة على أصل علمي، وحاله معلوم (1).
وأيضا: الآية واردة في شخص خاص، وذكر (فاسق) إنما هو (2) لاعلام
الصحابة بفسق ذلك الشخص الخاص، وتبيين حاله، لا لانتفاء هذا الحكم
عند انتفاء هذا الوصف.
احتج المنكرون: بأن العمل بخبر الواحد، اتباع الظن، وقول على الله
بغير علم، وهو غير جائز (3).
أما الصغرى: فلان خبر الواحد لا يفيد العلم، وأيضا: النزاع إنما هو
فيما لا يفيده، وإنما غايته أن يفيد الظن.
وأما الكبرى: فللآيات الكثيرة:
كقوله تعالى في مقام الذم: * (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من
الحق شيئا) * (4).
وقوله تعالى: * (إن هم إلا يظنون) * (5).
وقوله تعالى: * (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا) * (6).
ونحو ذلك.
وقوله تعالى في الآيات الكثيرة: * (وأن تقولا على الله ما لا تعلمون) * (7).

(1) المنتهى: 75، لكن الفخر الرازي قرب الاستدلال بها بمفهوم الشرط: المحصول 1 / 179
- 180.
(2) في ط: إما انه.
(3) عدة الأصول: 1 / 44، الذريعة: 2 / 523، المستصفى: 1 / 154، المحصول: 2 / 192.
المنتهى: 76.
(4) النجم / 28.
(5) الجاثية / 24.
(6) يونس / 36.
(7) البقرة / 169 وكذا: الأعراف / 33.
164

وقوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (1).
والجواب:
أولا: منع الصغرى:
فإن اتباع الظن: هو أن يكون مناط العمل هو الظن من حيث هو هو،
وههنا ليس كذلك، وإنما مناط العمل هو كلام أصحاب العصمة المنقول
عنهم، وأخبار مهابط الوحي الإلهي، صلوات الله عليهم، بشرط عدم المخالفة
للكتاب والسنة، وعدم المعارضة، ونحو ذلك، على ما سيأتي إن شاء الله، سواء
أفاد الظن أو لا.
وعلى تقدير القول باشتراط جواز العمل به بإفادته الظن - أيضا لا يلزم
كون مناط العمل هو الظن، بل هو الخبر الخاص المشترط بالظن، ولهذا لو
حصل الظن بحكم شرعي، لا من دليل شرعي، لا يجوز العمل به اتفاقا منا،
بل ومن غيرنا أيضا، فعلم الفرق بين اتباع الظن، واتباع الخبر الخاص بشرط
الظن، فلا تغفل.
وأيضا: فإن العمل بخبر الواحد، إنما هو اتباع للدليل (2) القطعي، الدال
على حجية خبر الواحد، فهو اتباع للقطع.
وثانيا: بمنع الكبرى:
فإن سياق الآيات يقتضي اختصاصها بأصول الدين.
وأيضا: فإن المطلق يقيد، والعام يخص، إذا وجد الدليل، ونحن قد
دللنا على حجية خبر الواحد. * * *

(1) الاسراء / 36.
(2) في أ وط: الدليل.
165

البحث الثالث:
للعمل بخبر الواحد في هذا الزمان شرائط، يجمعها:
وجود الخبر في الكتب المعتمدة للشيعة، كالكافي، والفقيه، والتهذيب،
ونحوها.
مع عمل جمع منهم به، من غير رد ظاهر.
ولا معارضة لما هو أقوى منه.
سواء كان الراوي عدلا أم لا، وسواء كانت الرواية مسندة صحيحة،
أو حسنة، أو موثقة، أو ضعيفة - بحسب الاصطلاح - أو مرسلة، أو مرفوعة،
أو موقوفة، أو منقطعة، أو معضلة (1)، أو معنعنة، أو منكرة (2) أو معللة، أو
مضطربة، أو مدرجة، أو معلقة، أو مشهورة، أو غريبة، أو عزيزة، أو
مسلسلة، أو مقطوعة، إلى غير ذلك من الاصطلاحات.
والقوة: تكون باعتبار العدالة، والورع، والشهرة، وعمل الأكثر، ونحو
ذلك، مما سيجئ التنبيه عليه إن شاء الله تعالى.
البحث الرابع:
تعرف عدالة الراوي، في هذا الزمان وما ضاهاه، وكذا أعدليته،
وورعه، وأورعيته - بتزكية العدل المشهور، وقد انحصر المزكي والجارح في:
الشيخ الطوسي، والكشي، والنجاشي، وابن الغضائري، وابن طاوس،

(1) في ط: منفصلة.
(2) في ط: مكررة.
166

والعلامة، ومحمد ابن شهرآشوب، وابن داود، وربما توجد التزكية والجرح
لغيرهم أيضا في كتب الحديث، ك‍: الفقيه، والكافي، وغيرهما.
والظاهر: الاكتفاء بالواحد في الجرح والتعديل، ولو لم يذكر السبب،
وإلا لم يوجد خبر صحيح بالاصطلاح المشهور، وسيجئ فيه مزيد تحقيق.
ومع تعارض الجرح والتعديل:
فقد قيل (1): بتقديم الجرح، لأنه به يحصل الجمع بينهما.
والظاهر: الترجيح بالقرائن، إن أمكن، وإلا فالتوقف.
وبقي هنا مباحث اخر، تركناها لقلة فائدتها، كمباحث المطلق والمقيد،
والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، ومباحث المنطوق والمفهوم سيجئ ما
يعتد به منها إن شاء الله تعالى. * * *

(1) كذا في ط، وفي سائر النسخ: فقيل.
167

الباب الرابع
في الأدلة العقلية
وتحقيق ما يعتمد عليه منها وما لا يعتمد عليه
169

وهي أقسام:
الأول: ما يستقل بحكمه العقل، كوجوب قضاء الدين، ورد الوديعة،
وحرمة الظلم، واستحباب الاحسان، ونحو ذلك. كذا ذكره المحقق في
المعتبر (1)، والشهيد في الذكرى (2)، وغيرهما.
وحجية هذه الطريقة: مبنية على الحسن والقبح العقليين (3).
والحق ثبوتهما، لقضاء الضرورة بهما (4) في الجملة، ولكن في إثبات الحكم
الشرعي - كالوجوب والحرمة الشرعيين - بهما (5)، نظر وتأمل.
والواجب العقلي: ما يستحق فاعله المدح، وتاركه الذم.
والشرعي: ما يستحق فاعله الثواب، وتاركه العقاب.
وعكسه الحرام فيهما.
ووجه النظر أمور:

(1) المعتبر: 1 / 32.
(2) الذكرى: 5 / المقدمة / الأصل الرابع / القسم الأول.
(3) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: العقلي.
(4) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: به.
(5) كذا في ب وط، وفي الأصل وأ: بها
171

الأول: أن قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (1) ظاهر
في أن العقاب لا يكون إلا بعد بعثة الرسول (2) فلا وجوب (3) ولا تحريم إلا وهو
مستفاد من الرسول صلى الله عليه وآله.
فإن قلت: يجوز أن يستحق العقاب، ولكن لا يعاقبه الله تعالى إلا بعد
بيان الرسول أيضا، ليتعاضد (4) العقل والنقل، لطفا منه تعالى.
قلت: ظاهر أن الواجب شرعا مثلا ما يجوز المكلف العقاب على تركه،
فلا يتصور وجوب شرعي مثلا عند الجزم - بسبب إخبار الله تعالى - بعدم
العقاب، ولا يكون (5) حينئذ إلا (6) الوجوب العقلي.
الثاني ما ورد من الاخبار:
كما رواه الكليني عن: " عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد،
عن علي بن الحكم، عن أبان الأحمر، عن حمزة بن الطيار، عن أبي عبد الله عليه
السلام، قال: قال لي: اكتب، فأملى علي: أن من قولنا أن الله يحتج على العباد
بما آتاهم وعرفهم، ثم أرسل إليهم رسولا، وأنزل عليهم الكتاب، فأمر فيه
ونهى أمر فيه بالصلاة والصيام.... " (7) الحديث.
والتطبيق: كما مر.
وأيضا: قد نقل تواتر الاخبار بأنه لم يتعلق بأحد تكليف إلا بعد بعث (8)

(1) الاسراء / 15.
(2) كذا في ط، وفي سائر النسخ: الرسل.
(3) في أ وط: ولا وجوب.
(4) في أ: لتعاضد.
(5) كذا في ط، وفي سائر النسخ: بل لا يكون.
(6) كلمة (إلا): ساقطة من ط.
(7) الكافي: 1 / 164 - كتاب التوحيد / باب حجج الله على خلقه / ح 4.
(8) في ط: بعثة.
172

الرسول، * (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) * (1)، وبأنه على
الله بيان ما يصلح الناس وما يفسد، وبأنه لا يخلو زمان عن إمام معصوم،
ليعرف الناس ما يصلحهم وما يفسدهم.
والظاهر منها: حصر العلم بهما في ذلك، وبأن أهل الفترة وأشباههم
معذورون، ويكون تكليفهم يوم الحشر (2).
وأيضا: قد ورد: " كل شئ مطلق، حتى يرد فيه نهي " رواه ابن بابويه
في الفقيه، في تجويز القنوت بالفارسية (3).
فيفهم دخول غير المنصوص (4) في المباح.
الثالث: ما عليه أصحابنا (5)، والمعتزلة (6)، من أن التكليف فيما يستقل
به العقل لطف، والعقاب بدون اللطف قبيح، فلا يجوز العقاب على ما لم يرد
فيه من الشرع نص، لعدم اللطف فيه حينئذ.
وأيضا: العقل يحكم بأنه يبعد من الله تعالى توكيل (7) بعض أحكامه (8)

(1) الأنفال / 42.
(2) روى ابن بابويه في كتاب الخصال بسنده " عن زرارة، عن أبي جعفر (ع)، قال: إذا كان يوم
القيامة احتج الله عز وجل على خمسة: على الطفل، والذي مات بين النبيين، والذي أدرك
النبي وهو لا يعقل، والأبله، والمجنون الذي لا يعقل، والأصم والأبكم. فكل واحد منهم
يحتج على الله عز وجل، قال: فيبعث الله عز وجل إليهم رسولا، فيؤجج لهم نارا فيقول لهم:
ربكم يأمركم أن تثبوا فيها، فمن وثب فيها كانت عليه بردا وسلاما، ومن عصى سيق إلى النار.
(منه رحمه الله).
الخصال: 283 / باب الخمسة ح 31.
(3) الفقيه: 1 / 317 ح 937.
(4) في ط: الخصوص.
(5) الذريعة: 2 / 701 - 702، تقريب المعارف: 77، كشف المراد: 319، 324، 327.
(6) المواقف: 323 بضميمة ما في ص 328، حاشية السيالكوتي على شرح المواقف: 393 -
399.
(7) كذا في أ وط، وفي الأصل وب: وكول. (8) في أ وط: أحكام.
173

إلى مجرد إدراك العقول، مع شدة اختلافها في الادراكات والاحكام، من غير
انضباطه بنص وشرع، فإنه يوجب الاختلاف (1) والنزاع، مع أن رفعه من
إحدى الفوائد في إرسال الرسل، ونصب الأوصياء عليهم السلام.
فعلى ما ذكرنا، يشكل التعلق بهذه الطريقة في إثبات الأحكام الشرعية
غير المنصوصة.
لكن الظاهر: أنه لا يكاد يوجد شئ يندرج في هذه الطريق إلا وهو
منصوص من الشرع، ففائدة هذا الخلاف نادرة، والله أعلم.
الرابع: ما رواه الكليني في الصحيح: " عن زرارة، عن أبي جعفر عليه
السلام، قال: بني الاسلام على خمسة أشياء - إلى أن قال - أما لو أن رجلا قام
ليله، وصام نهاره، وتصدق بجميع ماله، وحج جميع دهره، ولم يعرف ولاية ولي
الله فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه (2)، ما كان له على الله حق في
ثوابه، ولا كان من أهل الايمان " (3) والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
وهذا الخبر (4) إنما يدل على أن الاحكام العملية (5) تتوقف على الشرع،
وكأنه هو الحق، للنصوص المطلقة الدالة على تعذيب الكفار بشركهم وكفرهم،
الشاملة لأهل الفترة وغيرهم، فلو كانت المعارف الفطرية موقوفة على الشرع من
حيث الوجوب، لم يثبت تعذيب الوثني من أهل الفترة.
فإن قلت: الواجب العقلي: هو ما يكون تاركه مذموما عند كل عاقل
وحكيم، والحرام العقلي ما يكون فاعله مذموما كذلك، فالحرام العقلي - مثلا -

(1) في أ: الاختلافات.
(2) هذا محل الشاهد من الخبر، إذ لو كان للعقل دلالة لم يوجب اخذ جميع الأعمال بدلالة الامام
(هامش نسخة ط).
(3) الكافي: 2 / 18 - كتاب الايمان والكفر / باب دعائم الاسلام / ح 4.
(4) في أ: الأخير.
(5): في أ وط: العلمية.
174

لابد وأن يكون مكروها وممقوتا لله تعالى، وليس الحرام الشرعي إلا ذلك،
لان فاعل فعل، هو مكروه عند الله تعالى، ممقوت له تعالى - مستحق لعقابه
ضرورة.
قلت: الحرام الشرعي: ما يجوز المكلف العقاب عليه، ولا يكفي مجرد
الاستحقاق، وإن علم انتفاؤه بسبب ما، كإخباره بذلك.
وأيضا: بداهة استلزام المكروهية عند الله تعالى لاستحقاق عقابه،
محل نظر ومنع.
فإن قلت: فإذا كان الامر على ما ذكرت، فلم لم تحكم بعدم حجية هذه
الطريقة على البت؟! بل جعلت حجيتها محل التأمل، المشعر بالشك والتردد.
قلت: وجه التردد مما مر، ومن: أن إخباره تعالى بنفي التعذيب، فيما
هو مذموم ومكروه عنده - إغراء منه تعالى للمكلف على هذا المذموم، وهو
قبيح (1)، ونقض للغرض، وحينئذ لا يكون ما يندرج في هذه الطريقة مندرجا
في قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (2) وحينئذ، فيبقى (3)
الكلام في صحة الملازمة المذكورة، وعدمها.
وقد قال السيد المرتضى رحمه الله في الذريعة: " وأما حد المحظور: فهو
القبيح الذي قد اعلم المكلف، أو دله على ذلك من حاله " (4).
وذهب الفاضل الزركشي في شرح جمع الجوامع (5) إلى: أن الحسن والقبح
ذاتيان، والوجوب والحرمة شرعيان، وأنه لا ملازمة بينهما، فقال: " تنبيهات:
الأول: أن المعتزلة لا ينكرون أن الله تعالى هو الشارع للأحكام، إنما

(1) في ط: قبح.
(2) الاسراء / 15.
(3) في أ: فبقي.
(4) الذريعة 2 / 808، لكن فيه: أو دل.
(5) المسمى ب‍: تشنيف المسامع بجمع الجوامع.
175

يقولون: إن العقل يدرك أن الله تعالى شرع أحكام الافعال بحسب ما يظهر
من مصالحها ومفاسدها، فهو طريق عندهم إلى العلم بالحكم (1) الشرعي،
والحكم الشرعي تابع لهما، لا عينهما، فما كان حسنا جوزه الشرع، وما كان
قبيحا منعه، فصار عند المعتزلة حكمان: أحدهما عقلي، والآخر شرعي تابع
له، فبان أنهم لا يقولون: إنه - يعني (2) العقاب والثواب - ليس بشرعي أصلا،
خلافا لما توهمه (3) عبارة المصنف، وغيره.
والثاني: ما اقتصر عليه المصنف من حكاية قولين (4)، هو المشهور،
وتوسط قوم، فقالوا: قبحها ثابت بالعقل، والعقاب يتوقف على الشرع، وهو
الذي ذكره أسعد بن علي الزنجاني من أصحابنا، وأبو الخطاب من الحنابلة،
وذكره الحنفية، وحكوه عن أبي حنيفة نصا، وهو المنصور، لقوته من حيث
الفطرة، وآيات القرآن المجيد، وسلامته من الوهن والتناقض، فههنا أمران:
الأول إدراك العقل حسن الأشياء وقبحها، الثاني، أن ذلك كاف في الثواب
والعقاب، وإن لم يرد شرع، ولا تلازم (5) بين الامرين، بدليل، (ذلك أن
لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) * أي: بقبيح فعلهم (6) * (وأهلها
غافلون) * (7) أي: لم تأتهم الرسل والشرائع، ومثله:
* (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم) * أي: من القبائح * (فيقولوا ربنا

(1) كذا في المصدر المنقول عنه النص، وفي النسخ كما يلي: فهما عندهم مؤديان إلى العلم بالحكم
(بالأحكام خ ل).
(2) كذا في المصدر، وفي النسخ: بمعنى.
(3) كذا في المصدر، وزاد في النسخ في هذا الموضع كلمة: ظاهر.
(4): كذا في المصدر، وفي النسخ: قولهم.
(5) كذا في المصدر، وفي النسخ: ولا ملازمة.
(6) كذا في المصدر، وفي النسخ: أي بقبح فعلهم (أفعالهم خ ل).
(7) الانعام / 131.
176

لولا أرسلت إلينا رسولا....) * (1) " انتهى كلام الزركشي (2).
وليس الغرض من نقل هذا الكلام الاحتجاج به، بل التنبيه (3) على أن
الملازمة المذكورة مما قد تكلم عليه جماعة من أهل البحث والنظر.
واعلم أن المحقق الطوسي، ذكر في بعض تصانيفه: " أن القبيح العقلي
ما ينفر الحكيم عنه، وينسب فاعله إلى السفه " (4).
وقال بعض المتأخرين من أصحابنا (5): " لا يقال قوله عليه السلام " كل
شئ مطلق حتى يرد فيه نهي " يبطل الحسن والقبح الذاتين. لأنا نقول: ههنا
مسألتان: الأولى الحسن والقبح الذاتيان، والأخرى الوجوب والحرمة
الذاتيان، والذي يلزم من ذلك بطلان الثانية لا الأولى، وبينهما بون بعيد، ألا
ترى أن كثيرا من القبائح العقلية ليس بحرام في الشريعة، ونقيضه (6) ليس
بواجب " إنتهى كلامه.
وفي آخر كلامه نظر ظاهر.
وقال السيد أيضا في الذريعة - في إثبات إباحة ما لم يرد به شرع، بعد
ادعاء انتفاء المضرة العاجلة -: " وأما المضرة الآجلة: فهي العقاب، وإنما يعلم انتفاء
ذلك، لفقد السمع الذي يجب أن يرد به لو كان ثابتا، لان الله تعالى لا بد أن
يعلمنا ما علينا من المضار الآجلة التي هي العقاب، الذي يقتضيه قبح
الفعل (7)، وإذا فقدنا هذا الاعلام، قطعنا على انتفاء المضرة الآجلة أيضا " (8)

(1) القصص / 47.
(2) تشنيف المسامع: 1 / 133 - 139.
(3) في ط: للتنبيه.
(4) حكاه عنه في: الفوائد المدنية: 161.
(5) وهو المحدث الأمين الاسترآبادي: الفوائد المدنية: 161.
(6) في أ وط: فنقيضه.
(7) كذا في المصدر المنقول عنه النص، وفي النسخ: العقل.
(8) الذريعة: 2 / 811 - 812.
177

انتهى.
القسم الثاني: استصحاب حال العقل، أي: الحال السابقة، وهي
عدم شغل الذمة عند عدم دليل أو أمارة عليه، والتمسك به أن (1) يقال: إن
الذمة لم تكن مشغولة بهذا الحكم في الزمن السابق، أو الحالة الأولى، فلا تكون
مشغولة في الزمن اللاحق أو الحالة الأخرى، وهذا إنما يصح إذا لم يتجدد ما
يوجب شغل الذمة في الزمن (2) الثاني.
ووجه حجيته حينئذ ظاهر، إذ التكليف بالشئ مع عدم الاعلام به،
تكليف الغافل، وتكليف بما لا يطاق.
ويدل عليه (3) الاخبار أيضا، كما سيجئ مع ما فيه.
القسم الثالث: أصالة النفي، وهو البراءة الأصلية.
قال المحقق الحلي رحمه الله: " أعلم أن الأصل خلو الذمة عن الشواغل
الشرعية، فإذا ادعى مدع حكما شرعيا، جاز لخصمه أن يتمسك في انتفائه
بالبراءة الأصلية، فيقول: لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعية،
لكن ليس كذلك فيجب نفيه.
ولا يتم هذا الدليل إلا ببيان مقدمتين:
الأولى: أنه لا دلالة عليه (4) شرعا، بأن يضبط طرق الاستدلالات
الشرعية ويبين عدم دلالتها عليه.
والثانية: أن يبين أنه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلت عليه إحدى تلك

(1) كذا في أ، وفي سائر النسخ: بأن.
(2) في أ وب: الزمان.
(3) في أ وب وط: عليها.
(4) في ط: لا دليل.
178

الدلائل، لأنه لو لم يكن عليه دلالة، لزم التكليف بما لا طريق للمكلف إلى
العلم به، وهو تكليف بما لا يطاق، ولو كان عليه دلالة غير تلك الأدلة، لما
كانت أدلة الشرع منحصرة فيها، لكن بينا انحصار الاحكام في تلك الطرق،
وعند هذا يتم كون ذلك دليلا على نفي الحكم " انتهى كلامه في كتابه
الأصول (1).
ولا يخفى أن بيان هاتين المقدمتين مما لا سبيل إليه إلا فيما تعم به
البلوى.
أما الأول: - وهو عدم السبيل إلى البيان فيما لا تعم به البلوى - فلان
جل أحكامنا - معاشر (2) الشيعة - بل كلها، متلقاة من الأئمة الطاهرة، صلوات
الله عليهم أجمعين، وظاهر أنهم عليهم السلام لم يتمكنوا من إظهار جميع الأحكام،
وما أظهروه لم يتمكنوا من إظهاره على ما هو عليه في نفس الامر، للتقية - على
أنفسهم وعلى شيعتهم - من الحكام الظلمة والحسدة الكفرة (3).
نعم، هذا. إنما (4) يتم عند المخالفين، القائلين: بأن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أظهر كل ما جاء به عند أصحابه، وتوفرت الدواعي على أخذه و
نشره، ولم تقع بعده فتنة أوجبت إخفاء بعضه، ويجوز خلو بعض الوقائع عن
الحكم الشرعي، فحينئذ: إذا تتبع الفقيه ولم يجد دليلا على واقعة، علم (5)
انتفاء الحكم الشرعي فيها في نفس الامر.
وهذا عندنا باطل، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أودع كل ما جاء به
عند عترته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين مما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة،

(1) المسمى ب‍: معارج الأصول، راجع ص 212 - 213 منه.
(2) في أ وب وط: معشر.
(3) في ط: والكفرة.
(4) كلمة (انما): إضافة من أ وط.
(5) في ط: جزم على انتفاء إلى آخره.
179

ولم تخل واقعة عن حكم حتى أرش الخدش، كما نطقت به النصوص، وأمر
الناس بسؤالهم والرد إليهم، فعلى هذا: فكيف يعلم من انتفاء الدليل انتفاء
الحكم في نفس الامر؟! (1).
نعم، يعلم عدم تكليف المكلف، إذا لم يجد الدليل بعد التتبع، بما في
نفس الامر، لأنه تكليف بما لا يطاق، ويدل عليه الأخبار الكثيرة:
روى ابن بابويه في (من لا يحضره الفقيه) في بحث جواز القنوت
بالفارسية، عن الصادق عليه السلام، قال: " كل شئ مطلق حتى يرد فيه
نهي " (2).
وفي باب الاستطاعة من كتاب التوحيد، في الصحيح: " عن حريز بن
عبد الله، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يطيقون،
وما لا يعلمون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في
الخلق، ما لم ينطقوا بشفة " (3).
وهذا الحديث مذكور في أوائل (من لا يحضره الفقيه) أيضا (4).
ولا يخفى أن ما نحن فيه من قبيل: " ما لا يعلمون ".
وذكر في باب التعريف والحجة والبيان: " حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى
العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن داود بن فرقد،
عن أبي الحسن زكريا بن يحيى، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ما حجب
الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم " (5).

(1) زاد في ب في هذا الموضع: لأنه تكليف بما لا يطاق.
(2) الفقيه: 1 / 317 ح 937.
(3) التوحيد: 353 ح 24.
(4) الفقيه: 1 / 59 ح 132، باختلاف يسير.
(5) التوحيد: 413 ح 9.
180

وهذه الرواية في الكافي، في باب حجج الله على خلقه (1).
وروى ابن بابويه أيضا، بسنده: " عن حفص بن غياث القاضي، قال:
قال أبو عبد الله عليه السلام: من عمل بما علم كفي ما لم يعلم " (2).
وفي النوادر من المعيشة من الكافي، بسنده: " عن عبد الله بن سنان، عن
أبي عبد الله عليه السلام، قال: كل شئ يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك
أبدا حتى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه " (3).
وبمعناه رواية أخرى عنه أيضا عليه السلام (4).
ونقل عن كتاب المحاسن للبرقي: أنه روى عن " أبيه [عن النضر بن
سويد] (5)، عن درست ابن أبي منصور، عن محمد بن حكيم، قال: قال أبو
الحسن عليه السلام: إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا، وإذا جاءكم ما لا تعلمون
فها - ووضع يده علي فيه (6) - فقلت: ولم ذاك (7)؟ قال: لان رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أتى الناس بما اكتفوا به على عهده، وما يحتاجون إليه [من بعده] (8)
إليه إلى يوم القيامة " (9).
وقد يتوهم منافاة هذه الرواية للروايات السابقة، والحق عدمها، لأنها

(1) الكافي: 1 / 164 - كتاب التوحيد / باب حجج الله على خلقه / ح 3 لكن باستبدال (أحمد
بن محمد بن يحيى العطار) ب‍ (محمد بن يحيى)، وباسقاط كلمة (علمه) من المتن.
(2) التوحيد: 416 ح 17.
(3) الكافي: 5 / 313 ح 39.
(4) وهي رواية مسعدة بن صدقة: نفس المصدر / ح 40.
(5) ما بين المعقوفين زيادة من المصدر.
(6) في المصدر: فمه.
(7) في ط: ذلك.
(8) ما بين المعقوفين إضافة من المصدر.
(9) المحاسن للبرقي: 213 ح 91 / الباب (7) باب المقائيس والرأي من كتاب مصابيح الظلم
من المحاسن. وروى مثله الكليني باسناد آخر: الكافي: 1 / 57 - كتاب فضل العلم / باب
البدع والرأي والمقائيس / ح 13
181

محمولة على تعيين الحكم الواقعي، أو على (1) عدم الافتاء، وإن جاز العمل
لنفسه، فتأمل.
وفي كتاب التوحيد لرئيس المحدثين ابن بابويه: " حدثنا أبي رحمه الله،
قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن
الحجال، عن ثعلبة بن ميمون، عن عبد الاعلى بن أعين، قال: سألت أبا
عبد الله عليه السلام عمن لم يعرف شيئا، هل عليه شئ؟ قال: لا " (2).
وأما الثاني: وهو السبيل إلى بيان المقدمتين المذكورتين، وإمكانه فيما تعم
به البلوى، كنجاسة أرض (3) الحمام، ونجاسة الغسالة، ووجوب قصد السورة
المعينة عند البسملة، ووجوب نية الخروج، ونحو ذلك:
فالحق: إمكان بيان المقدمتين المذكورتين (4)، فإن (5) المحدث الماهر، إذا
تتبع الأحاديث المروية عنهم عليهم السلام في مسألة - لو كان فيها حكم مخالف
للأصل لاشتهر، لعموم البلوي بها - ولم يظفر (6) بحديث يدل على ذلك الحكم،
يحصل له الظن الغالب بعدمه (7)، لان جما غفيرا من العلماء - أربعة آلاف منهم
تلامذة الإمام الصادق عليه السلام، كما نقله في المعتبر (8) - كانوا ملازمين لأئمتنا
في مدة تزيد على ثلاثماءة سنة، وكان همهم وهم الأئمة عليهم السلام إظهار الدين

(1) في ط: وعلى.
(2) التوحيد: 412 - الباب 64 / ح 8، ورواه الكليني باسناد آخر: الكافي 1 / 164 -
كتاب التوحيد / باب حجج الله على خلقه / ح 2. لكن فيه (من) بدل (عمن).
(3) في ط: ماء.
(4) قوله: (فالحق امكان بيان المقدمتين المذكورتين): ساقط من الأصل وب، وقد أثبتناه من
نسختي أ وط.
(5) في الأصل: فلان. وما أثبتناه مطابق لسائر النسخ.
(6) في أ: ولم يظهر.
(7) في ط: به. وفي هامشها: بعدمه خ ل.
(8) المعتبر: 1 / 26.
182

عندهم، وتأليفهم كل ما يسمعونه منهم.
والفرق بين هذا القسم والقسم الثاني: أن بناء الاستدلال في القسم
الثاني على انتفاء الحكم في الزمان السابق وإجرائه (1) في اللاحق
بالاستصحاب، فيرد عليه ما يرد على حجية الاستصحاب في نفس الحكم
الشرعي، ولهذا اعترضت الشافعية على الحنفية بأن قولكم بالاستصحاب في
نفي الحكم الشرعي دون نفسه تحكم (2).
وبناؤه في هذا القسم على انتفاء الدليل على ثبوت الحكم في الحال، سواء
وجد في السابق أو لا.
نعم، لما اعتبر في القسم الثاني عدم العلم بتجدد ما يوجب ثبوت الحكم
في الزمان اللاحق بعد الفحص المعتبر في الحكم ببراءة الذمة، كان كل موضع
يصح فيه الاستدلال بالقسم الثاني، يصح بهذا القسم أيضا، فلذا لم يفرق
جماعة بينهما، وعدوهما واحدا.
واعلم أن الشهيد الثاني رحمه الله ذكر في تمهيد القواعد (3): أن الأصل
يطلق على معان:
الأول: الدليل، ومنه قولهم: " الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة ".
الثاني: الراجح، ومنه قولهم: " الأصل في الكلام الحقيقة ".
الثالث: الاستصحاب، ومنه قولهم: " إذا تعارض الأصل والظاهر،

(1) في النسخ: واجراؤه (بالضم). والصواب ما أثبتناه، وهو مطابق لما جاء في حكاية المحدث
البحراني لهذه العبارة: الدرر النجفية / درة في الاستصحاب / ص 35.
(2) تجد رأي الأحناف هذا في: المحصول: 2 / 549، شرح البدخشي: 3 / 176، وانظر
الاعتراض على هذا التفصيل في: المستصفى: 1 / 217 وما بعدها، شرح العضد: 2 / 453،
الاحكام: 4 / 367.
(3) هذا ليس عبارته بل ظاهر كلامه. (منه رحمه الله).
183

فالأصل مقدم إلا في مواضع " (1) كما ذكره الشهيد الأول رحمه الله في قواعده (2).
الرابع: القاعدة، ومنه قولهم: " لنا أصل "، ومنه قولهم: " الأصل في
البيع اللزوم "، و: " الأصل في تصرفات المسلم الصحة " أي: القاعدة التي
وضع عليها البيع بالذات، وحكم المسلم بالذات: اللزوم في بيعه، والصحة
في تصرفاته، لان وضع البيع شرعا لنقل مال كل من المتابعين إلى الآخر (3).
والمراد بالراجح: ما يترجح إذا خلي الشئ ونفسه، مثلا: إذا خلي الكلام
ونفسه، يحمله (4) المخاطب على المعنى الحقيقي، لأنه راجح حينئذ.
والمراد من الأصل في قولهم: " الأصل براءة الذمة " - هذا المعنى.
وأما قولهم: " الأصل في كل ممكن عدمه " فيمكن حاله على الحالة
الراجحة، حتى يكون من القسم الثالث، ويمكن حمله على الحالة السابقة،
حتى يكون من القسم الثاني.
إذا عرفت هذا، فالأصل بالمعنى الأول لا شك في حجيته.
وكذا بالمعنى الثاني، إذا كان في براءة الذمة، مع عدم المخرج عنه، أو
كان الرجحان من نص شرعي.
وبالمعنى الثالث سيجئ الكلام فيه.
وأما بالمعنى الرابع - أي: القاعدة - فإن كانت تلك القاعدة مستفادة من
نص شرعي، أو جماع كذلك، فظاهر أنه حجة، وإلا فلا.
فقولهم: " الأصل في الأشياء الطهارة " أصل مستفاد من الشرع، لان
" الطاهر هو: ما أبيح ملابسته في الصلاة اختيارا. والنجاسة: ما حرم استعماله

(1) كنجاسة ارض الحمام. (منه رحمه الله).
(2) انظر: القواعد والفوائد: 1 / 137 - 141 / الفائدة الثانية والثالثة من فوائد القاعدة الثالثة
(قاعدة اليقين).
(2) تمهيد القواعد: 2 / في قوله " قاعدة: الأصل لغة ما يبنى عليه الشئ... إلى آخره ".
(4) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: يحمل.
184

في الصلاة، والأغذية، للاستقذار، أو للتوصل إلى الفرار " (1)، والتعريفات من
الشهيد الأول في قواعده (2).
فالشارع لما أمر بالصلاة مستقبلا، طاهرا، ساترا للعورة (3)، تحصل هذه
الماهية بأي فرد كان، والبدن متلطخا بأي شئ كان، وكذا الثوب متلطخا بأي
شئ كان، فإذا خرج (4) بعض الأشياء، وهو النجاسات، بقي الباقي على عدم
مانعيته من الصلاة وتتحقق (5) الصلاة معه، وهو معنى الطهارة، فتكون طهارة
الأشياء مستفادة من الامر بالصلاة مع الساتر، ساكتا عما عدى النجاسات،
إذا كانت في البدن أو الثوب.
وكذا قولهم: " الأصل في الأشياء الحل " لقوله تعالى: * (خلق لكم ما في
الأرض جميعا) * (6) فإن (ما) ظاهرة في العموم، وكذا يفهم عموم أنواع الانتفاع
أيضا، فإنه لو كان المراد إباحة انتفاع خاص معين غير معلوم المكلفين، لم
يكن هناك امتنان، إذ العقل يحكم بوجوب اجتناب ما تساوى فيه احتمال النفع
والمضرة.
وأيضا: يدل عليه قوله تعالى: * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم
الخنزير وما أهل به لغير الله) * (7) وقوله تعالى: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا

(1) دخل به الخمر والعصير، فإنهما غير مستقذرين، ولكن الحكم بنجاستهما يزيدهما إبعادا من
النفس لأنها مطلوبة بالفرار عنهما، وبالنجاسة يزداد الفرار. (منه رحمه الله). أقول: هذا من
كلام الشهيد أيضا.
في أ وط: أو التوصل... إلى آخره.
(2) القواعد والفوائد: 2 / 85 - قاعدة: 175.
(3) في ط: العورة.
(4) في أ وب وط: اخرج.
(5) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: تحقق.
(6) البقرة / 29.
(7) البقرة / 173.
185

الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) * الآية (1)،
وقوله تعالى: * (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا) * (2)، وقوله تعالى:
* (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما
مسفوحا أو لحم خنزير) * (3)، بل في هذه الآية إشعار بأن إباحة الأشياء مركوزة
في العقول قبل الشرع، لأنها في صورة الاستدلال على الحل بعدم وجدان
التحريم إلا للأشياء الخاصة، فتأمل.
وكذا قولهم: (الأصل في الافعال (4) الإباحة) لما مر من قوله عليه السلام:
" كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي "، وما بعده من الأخبار الكثيرة، المذكورة في
هذا القسم.
واعلم أيضا: أن ههنا قسما من الأصل، كثيرا ما يستعمله الفقهاء، وهو
أصالة عدم الشئ، وأصالة عدم تقدم الحادث، بل هما قسمان.
والتحقيق: أن الاستدلال بالأصل - بمعنى النفي والعدم - إنما يصح
على نفي الحكم الشرعي، بمعنى: عدم ثبوت التكليف، لا على إثبات الحكم
الشرعي، ولهذا لم يذكره الأصوليون في الأدلة الشرعية، وهذا يشترك فيه جميع
أقسام الأصل المذكورة.
مثلا: إذا كانت أصالة براءة الذمة مستلزمة لشغل الذمة من جهة
أخرى، فحينئذ لا يصح الاستدلال بها، كما إذا علم نجاسة (5) أحد الإناءين
مثلا بعينه، واشتبه بالآخر، فإن الاستدلال بأصالة عدم وجوب الاجتناب من

(1) المائدة / 93.
(2) البقرة / 168.
(3) الانعام / 145.
(4) في ط: الأشياء.
(5) في ب: بنجاسة.
186

أحدهما (1) بعينه لو صح، يستلزم وجوب الاجتناب من الآخر.
وكذا في الثوبين المشتبه طاهرهما، بنجسهما، والزوجة المشتبهة بالأجنبية،
والحلال المشتبه بالحرام المحصور، ونحو ذلك.
وكذا أصالة العدم، كأن يقال: الأصل عدم نجاسة هذا الماء، وهذا
الثوب، فلا يجب الاجتناب عنه، لا إذا كان شاغلا للذمة، كأن يقال في الماء
الملاقي للنجاسة المشكوك في كريته: الأصل عدم بلوغه كرا فيجب الاجتناب
عنه.
وكذا في أصالة عدم تقدم الحادث، فيصح أن يقال في الماء الذي وجد
فيه نجاسة بعد الاستعمال، ولم يعلم هل وقعت النجاسة قبل الاستعمال؟ أو
بعده؟ -: الأصل عدم تقدم النجاسة، فلا يجب غسل ما لاقى ذلك الماء قبل
رؤية النجاسة، ولا يصح إذا كان شاغلا للذمة، كما إذا استعملنا ماءا، ثم
ظهر أن ذلك (2) الماء كان قبل ذلك الوقت (3) نجسا، ثم طهر بإلقاء كر عليه
دفعة ولم يعلم أن الاستعمال هل كان قبل التطهير؟ أو بعده؟ فلا يصح أن
يقال: الأصل عدم تقدم تطهيره، فيجب (4) إعادة غسل ما لاقى ذلك الماء في
ذلك الاستعمال، لأنه إثبات حكم بلا دليل، فإن حجية الأصل في النفي
باعتبار قبح تكليف الغافل، ووجوب إعلام المكلف بالتكليف، فلذا يحكم
ببراءة الذمة عند عدم الدليل، فلو ثبت حكم شرعي بالأصل، يلزم إثبات
حكم من غير دليل، وهو باطل إجماعا.
فإن قلت: لم لا يكون اللازم (5) فيما لم يدل عليه دليل التوقف؟!.

(1) في ط: في أحديهما.
(2) في أ وط: لان ذلك.
(3) كذا في ب، وفي سائر النسخ: في وقت.
(4) زاد في أ في هذا المواضع كلمة: عليه.
(5) في أ: الامر.
187

لما روى الشيخ السعيد، قطب الدين الراوندي: " عن ابن بابويه، قال:
أخبرنا أبي، قال: أخبرنا سعد (1) بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن محمد
بن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: الوقوف
عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، إن على كل حق حقيقة، وعلى كل
صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه " (2).
وفي الكافي، في باب اختلاف الحديث، في الموثق: " عن سماعة، عن
أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه
في أمر، كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟
قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه ".
وفي رواية أخرى: " بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك " (3).
وفي آخر حديث عمر بن حنظلة، عن الصادق عليه السلام: " قال رسول
الله صلى الله عليه وآله: حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن
ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات
وهلك من حيث لا يعلم ".
وفي آخره أيضا، بعد بيان وجوه الترجيح في الخبرين المختلفين، قال:
" إذا كان كذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من
الاقتحام في الهلكات " (4).

(1) في أ وط: سعيد.
(2) نقل الحر العاملي أيضا هذا الحديث عن الراوندي من رسالة له، قال عنها أنه " ألفها في أحوال
أحاديث أصحابنا واثبات صحتها " انظر هذا الحديث في الوسائل: 18 / 86 - كتاب القضاء
/ باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة / ح 35. ولم نوفق للعثور على نسخة من هذه
الرسالة.
(3) الكافي 1 / 66 - كتاب فضل العلم / باب اختلاف الحديث / ح 7.
(4) الكافي: 1 / 68 - كتاب فضل العلم / باب اختلاف الحديث ح 10، لكن فيه: ذلك. بدل:
كذلك. كما أن فيه (فأرجه)، لكنا ضبطناها كما جاءت في نسخة الوسائل: 18 / 76.
188

وفي باب النهي عن القول بغير علم، بسنده: " عن أبي عبد الله عليه
السلام، قال: أنهاك عن خصلتين، فيهما هلاك الرجال: أنهاك أن تدين الله
بالباطل، وتفتي الناس بما لا تعلم " (1).
وفي الصحيح: " عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: قال لي أبو عبد الله
عليه السلام: إياك وخصلتين، ففيهما هلك من هلك: إياك أن تفتي الناس
برأيك، أو تدين بما لا تعلم " (2).
وبمضمونهما روايات اخر، مذكورة في هذا الباب والذي بعده.
أو يكون الحكم حينئذ العمل بالاحتياط؟!
لما رواه الشيخ في التهذيب عن " علي بن السندي، عن صفوان، عن
عبد الرحمن بن الحجاج، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام، عن رجلين أصابا
صيدا، وهما محرمان، الجزاء بينهما؟ أم على كل واحد منهما جزاء؟ فقال: لا،
بل عليهما جميعا، ويجزي عن كل واحد منهما الصيد، فقلت، إن بعض
أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه؟ فقال: إذا أصبتم مثل هذا فلم
تدروا، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا " (3).
والامر بالاحتياط يدل على عدم جواز العمل بالبراءة الأصلية، وإلا
لقال: فعليكم (4) بالبراءة الأصلية.
وروى أيضا، في بحث المواقيت " عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن
سليمان بن داود، عن عبد الله بن وضاح، قال: كتبت إلى العبد الصالح عليه
السلام: يتوارى القرص، ويقبل الليل، ثم يزيد الليل ارتفاعا، وتستتر عنا

(1) الكافي: 1 / 42 - كتاب فضل العلم / باب النهي عن القول بغير علم / ح 1. كذا الحديث
في الكافي. وفي النسخ: هلك بدل: هلاك.
(2) الكافي: 1 / 42 ح 2 من الباب المذكور.
(3) التهذيب: 5 / 466 ح 1631.
(4) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: عليكم.
189

الشمس، وترتفع فوق الجبل حمرة، ويؤذن عندنا المؤذنون فأصلي حينئذ؟
وأفطر إن كنت صائما؟ أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب
إلي: أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك " (1).
ولا يخفى أنه صريح في طلب الاحتياط.
ونقل عن محمد بن جمهور الأحسائي، في كتاب غوالي اللآلي، أنه قال:
" روى العلامة مرفوعا إلى زرارة بن أعين، قال: سألت الباقر عليه السلام، فقلت:
جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيهما آخذ؟
فقال: عليه السلام: يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذ النادر،
إلى أن قال: إذن، فخذ بما فيه الحائطة (2) لدينك، واترك ما خالف الاحتياط "
الحديث (3).
قلت: الجواب:
أما عن أدلة التوقف:
فأولا: بمنع (4) أن ما لم يدل عليه دليل، ولم يرد، ولم يبلغنا فيه، نص
شرعي - داخل في الشبهة: إذ أدلة التوقف واردة فيها ورد فيه من الشرع نصان
متعارضان، فإلحاق غير المنصوص به قياس، باطل عند العاملين بالقياس
أيضا، لانتفاء الجامع بين الأصل والفرع.
وثانيا: بأن قولهم عليهم السلام: " كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي "، و:
" ما حجب الله علمه عن العباد موضوع عنهم "، وغير ذلك من الاخبار التي مر
بعضها - أخرج ما لا نص فيه عن حكم الشبهة (5) على تقدير تسليم شمول
أحاديث التوقف له، وكونه شبهة.

(1) التهذيب: 2 / 259 ح 1031، الاستبصار: 1 / 264 ح 952.
(2) كذا في المصدر، وفي النسخ: الحائط.
(3) غوالي اللآلي: 4 / 133 ح 229.
(4) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: منع. (5) وهو وجوب التوقف. (منه رحمه الله).
190

وثالثا: بأن الأخبار الدالة على التوقف عند تعارض الامارتين، معارضة
بما دل على التخيير عند التعارض، كما لا يخفى، ففي تعيين وجوب التوقف في
الشبهة المذكورة، أيضا نظر ظاهر.
ورابعا: بأن المحرم: ما يجب اجتنابه، وهذه الأخبار كالصريحة في أن (1)
الشبهة ليست من المحرمات، فلا يكون اجتنابها واجبا، بل لما كانت مما قد
ينجر ويفضي إلى ارتكاب الحرام، يكون اجتنابها مستحبا، وارتكابها مكروها،
ولهذا وقع طلب ترك ارتكاب الشبهة في هذه الروايات بطريق النصيحة
والموعظة، لا بطريق صيغة النهي الظاهر في الالزام، فتأمل.
وأما عن أدلة الاحتياط:
فعن الرواية الأولى:
أولا: بمنع أنه من قبيل ما نحن فيه، لان بإصابة الصيد علم اشتغال
ذمة كل من الرجلين، فيجب العلم ببراءة الذمة، ولا يحصل إلا بجزاء تام من
كل واحد منهما، فلا يجوز التمسك فيه بأصالة براءة الذمة.
والحاصل: أنه إذا قطع باشتغال الذمة بشئ، ويكون لذلك الشئ
فردان: بأحدهما تحصل البراءة قطعا، وبالآخر يشك في حصول براءة الذمة،
فإنه حينئذ لا أعلم خلافا في وجوب الاتيان بما يحصل به يقين براءة الذمة،
لقولهم عليهم السلام: " لا يرفع اليقين إلا يقين مثله " (2). وغير ذلك، ونحن
نجوز التمسك بالأصل فيما لم يقطع باشتغال الذمة، وهذا ظاهر.
وثانيا: بتسليم عدم جواز العمل بالأصل مع التمكن من الرد إلى الأئمة
عليهم السلام، والسؤال منهم (3) عليهم صلوات الله عليه وسلامه، لان العمل بالأصل مع

(1) في ط: كالصريحة بأن.
(2) في ب وط: بيقين. ولم نعثر على حديث بهذا اللفظ، نعم وردت بهذا المضمون أحاديث
متعددة سيأتي ذكرها في ص 203 - 207. والظاهر أن المصنف أراد بهذا مضمون تلك الأخبار
(3) كذا الظاهر. وفي النسخ: عنهم.
191

حضورهم والتمكن من سؤالهم، بمنزلة العمل بالأصل في هذا الزمان من دون
التفحص والتفتيش عن النص: هل هو متحقق، أم لا؟ وهو غير جائز
بالاجماع.
وعن الرواية الثانية:
أولا: بمثل الأول عن الأولى، فإن اشتغال الذمة بالصلاة معلوم، ولا
يحصل يقين البراءة إلا بالتأخير حتى تذهب الحمرة.
وثانيا: بأن الظاهر من قوله عليه السلام: " أرى لك إلى آخره "
الاستحباب، لا الوجوب، وحينئذ يكون دالا على حصول البراءة بالتقديم
أيضا.
وعن الرواية الثالثة: - بعد الاغماض عن سندها -:
فأولا: بأنه ليس من قبيل ما نحن فيه، لأنه منصوص، ولكن ورد فيه
نصان متعارضان (1)، فإلحاق غير المنصوص، به - قياس، كما مر.
وثانيا: بأنه معارض للاخبار (2) الدالة على التخيير، وجواز العمل بكل
من الخبرين.
وثالثا: بأنه معارض للاخبار (3) الدالة على التوقف، لان التوقف عبارة
عن: ترك الامر المحتمل للحرمة وحكم آخر من الأحكام الخمسة،
والاحتياط: عبارة عن ارتكاب الامر المحتمل للوجوب وحكم آخر ما عدا
التحريم، كما هو ظاهر موارد التوقف والاحتياط، ومن توهم أن التوقف هو
الاحتياط فقد سها وغفل.
ورابعا: باحتمال أن يكون المراد بالأخذ ب‍ " ما فيه الحائطة (4) لدينك "
الاخذ بما وافق كتاب الله، وترك ما خالف كتاب الله، إذ ليس هذا الوجه من

(1) في ط: بأنه ليس مما نحن فيه، لأنها ورد فيما ورد فيه نصان متعارضان.
(2) (3) في ط، وب: بالاخبار.
(4) كذا في أ وب، وفي الأصل وط: الحائط.
192

الترجيح مذكورا في هذه الرواية، مع أنه مذكور في جميع الروايات الواردة في
هذا الباب بدلا عن هذا الوجه المذكور في هذه الرواية.
وخامسا: بإمكان الحمل على الاستحباب.
ويشعر باستحباب الاحتياط في ترك ما يحتمل التحريم: صحيحة
عبد الرحمن بن الحجاج، " عن أبي إبراهيم عليه السلام، قال: سألته عن الرجل
يتزوج المرأة في عدتها بجهالة، أهي ممن لا تحل له أبدا؟ فقال: لا، أما إذا كان
بجهالة فليتزوجها بعدما تنقضي عدتها، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو
أعظم من ذلك. فقلت: بأي الجهالتين أعذر؟ بجهالته أن يعلم أن ذلك محرم
عليه؟ أم بجهالته أنها في عدة؟ فقال: إحدى الجهالتين أهون من الأخرى،
الجهالة بأن الله حرم ذلك عليه، وذلك لأنه لا يقدر على الاحتياط معها.
فقلت: فهو في الأخرى معذور؟ قال: نعم، إذا انقضت عدتها فهو معذور في
أن يتزوجها " الحديث (1).
ولا يخفى أنه يظهر من الرواية قدرته على الاحتياط مع العلم بالتحريم
في العدة والجهل بأنها في العدة، ويظهر منها أنه معذور في ترك هذا الاحتياط،
ولفظ " أهون " فيه إشعار باستحباب الاحتياط مع العلم بالتحريم في العدة
والجهل بالعدة (2).
واعلم: أن لجواز التمسك بأصالة براءة الذمة، وبأصالة العدم،
وبأصالة عدم تقدم الحادث - شروطا:
أحدها: ما مر من عدم استلزامه لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى.
وثانيها: أن لا يتضرر بسبب التمسك به مسلم، أو من في حكمه.
مثلا: إذا فتح إنسان قفصا لطائر، فطار، أو حبس شاة، فمات ولدها،

(1) الكافي: 5 / 427 ح 3، الاستبصار: 3 / 186 ح 676، التهذيب: 7 / 306 ح 1274 لكن
فيه: عن أبي عبد الله (ع).
(2) في ط: والجهل بأنها لعدة.
193

أو أمسك رجلا، فهربت دابته وضلت، أو نحو ذلك، فإنه حينئذ لا يصح
التمسك ببراءة الذمة، بل ينبغي للمفتي التوقف عن الافتاء حينئذ، ولصاحب
الواقعة الصلح، إذا لم يكن منصوصا بنص خاص أو عام، لاحتمال اندراج مثل
هذه الصور في قوله عليه السلام: " لا ضرر ولا إضرار في الاسلام " (1)، وفيما يدل
على حكم من أتلف مالا لغيره (2)، إذ نفي الضرر غير محمول على نفي حقيقته،
لأنه غير منفي، بل الظاهر أن المراد به: نفي الضرر من غير جبران بحسب
الشرع.
والحاصل: أن في مثل هذه الصور لا يحصل العلم، بل ولا الظن، بأن
الواقعة غير منصوصة، وقد عرفت أن شرط التمسك بالأصل فقدان النص،
بل يحصل القطع حينئذ بتعلق حكم شرعي بالضار، ولكن لا يعلم أنه مجرد
التعزير، أو الضمان، أو هما معا، فينبغي للضار أن يحصل العلم ببراءة ذمته
بالصلح، وللمفتي الكف عن تعيين حكم، لأن جواز التمسك بأصالة براءة
الذمة، والحال هذه، غير معلوم.
وقد روى البرقي، في كتاب المحاسن: " عن أبيه، [عن النضر بن
سويد]، عن درست ابن أبي منصور، عن محمد بن حكيم، قال: قال: أبو
الحسن عليه السلام: إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا، وإذا جاءكم ما لا تعلمون،
فها - ووضع يده على فيه - فقلت: ولم ذاك؟ فقال: لان رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أتى الناس بما اكتفوا به على عهده، وما يحتاجون إليه من بعده، إلى يوم
القيامة " (3).

(1) الفقيه: 4 / 334 - باب ميراث أهل الملل ح 5718. ولهذا الحديث مصادر كثيرة ولكنها بلفظ
آخر.
في ط: ضرار. بدل: اضرار.
(2) التهذيب: 7 / 215 ح 943 (صحيحة أبي ولاد)، دعائم الاسلام: 2 / 424 ح 1476.
(3) المحاسن للبرقي: 213، وما بين المعقوفين زيادة من المصدر، مع استبدال كلمة (فيه) ب‍:
(فمه). ورواه في الكافي بسند آخر: الكافي 1 / 57 وقد تقدم الاستشهاد بهذا الحديث، وسيأتي
ذكره أيضا.
194

فإن قلت: هذه الرواية كما تدل على حكم ما إذا حصل الضرر، تدل
على حكم (1) غيره أيضا.
قلت: لا نسلم فإنا ندعي أنه ليس داخلا في " ما لا تعلمون "، فإن قبح
تكليف الغافل معلوم، وموضوعية " ما حجب علمه عن العباد " معلوم، وإباحة
" ما لم يرد فيه نهي " معلوم، للأخبار المذكورة.
وأما في صورة الضرر: فكون التكليف حينئذ تكليف الغافل غير
معلوم، إذ الضار يعلم أنه صار سببا لاتلاف مال محترم، واشتغال الذمة حينئذ
- في الجملة - مما هو مركوز في الطبائع، وكذا الكلام في كونه من " ما حجب
علمه عن العباد "، ومن " ما لم يرد فيه نهي ".
وثالثها: أن لا يكون الامر المتمسك فيه بالأصل جزء عبادة مركبة، فلا
يجوز التمسك به لو وقع الاختلاف في صلاة، هل هي ركعتان أو أكثر؟ أو
أقل؟ - في نفي الزائد، وعلى هذا القياس.
بل! كل نص بين فيه أجزاء ذلك المركب، كان دالا على عدم جزئية ما
لم يذكر فيه، فيكون نفي ذلك المختلف فيه حينئذ منصوصا، لا معلوما
بالأصل، كما لا يخفى.
ثم اعلم أن جماعة من الفقهاء، كثيرا ما يستعملون الأصل المحمول
عليه العدم، وبعد التأمل يظهر رجوعه إلى ادعاء أصالة الوجود، كما قالوا:
" الأصل عدم تداخل الأسباب " يعني: إذا تحقق أمارتان لشئ، فالأصل عدم
الاكتفاء بفعل ذلك الشئ (2) مرة واحدة، بل يلزم فعله متعددا بحسب تعدد
سببه.

(1) كلمة (حكم): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(2) في أ وط: عدم الاكتفاء بذلك الشئ.
195

وكذا كثيرا ما يستعملون لفظ (الأصل) في مواضع لا ترجع إلى الأصل
المذكور أنه حجة، ولا إلى القاعدة المستفادة من الشرع، والشهيد الأول - في
القواعد - استعمل لفظ الأصل في مواضع، منها صحيح، ومنها لا يظهر له
وجه.
قال: " الأصل عدم اجزاء كل من الواجب والندب عن الآخر " (1).
وقال: " الأصل أن النية فعل المكلف، ولا أثر لنية غيره " (2).
وقال: الأصل عدم بلوغ الماء كرا " (3).
وقال: " قد يتعارض الأصلان، كدخول المأموم في صلاة، وشك هل
كان الامام راكعا؟ أو رافعا؟ ولكن يؤيد الثاني بالاحتياط " (4).
وقال: " الأصل صحة البيع " (5).
وقال: " الأصل عدم القبض الصحيح " يعني للمبيع (6).
وقال: " الأصل عدم معرفة المشتري بصفة المبيع " (7).
وقال: " قد يتعارض الأصل والظاهر " (8).
وقال: " الأصل عدم تقدم الاسلام " (9).
وقال: " الأصل عدم صحة العقد " (10).
وقال: " الأصل السلامة من العلة " (11).
وقال: " الأصل في اللفظ الحمل على الحقيقة الواحدة " (12).
وقال: " الأصل في الكلام الحقيقة " (13).

(1) القواعد والفوائد: 1 / 83 - الفائدة السادسة.
(2) القواعد والفوائد: 1 / 122 - الفائدة 31.
(3) القواعد والفوائد: 1 / 133 - القاعدة الثالثة.
(4) القواعد والفوائد: 1 / 134 - القاعدة الثالثة. وفيه: يتأيد.
(5) (6) (7) (8) (9) (10) (11) القواعد والفوائد: 1 / 135 - 139 / القاعدة الثالثة.
(12) القواعد والفوائد: 1 / 152 - قاعدة 40.
(13) القواعد والفوائد: 1 / 154 - قاعدة 41. ولكن فيه: الأصل في الاطلاق الحقيقة.
196

وقال: " الأصل يقتضي قصر الحكم على مدلول اللفظ، وأنه لا يسري
إلى غير مدلوله " (1).
وقال: " الأصل عدم تحمل الانسان عن غيره، ما لم يأذن له " (2).
وقال: " الأصل أن كل واحد لا يملك إجبار غيره " (3).
وقال: " الأصل في الاحكام التابعة لمسميات: أن تناط (4) بحصول تمام
المسمى " (5).
وقال: " الأصل عدم تداخل الأسباب " (6).
وقال: " الأصل في البيع اللزوم " (7).
وقال: " الأصل في العقود الحلول " (8).
وقال: " الأصل في الميراث النسبي: التولد، وفي السببي: الانعام
بالعتق " (9).
وقال: " الأصل في هيأت المستحب: أن تكون مستحبة، لامتناع زيادة
الوصف على الأصل (10) في الأكثر " (11) وأخرج مواضع من الأصل الذي ذكر (12).

(1) القواعد والفوائد: 1 / 323 - قاعدة 116.
(2) القواعد والفوائد: 1 / 353 - قاعدة 135.
(3) القواعد والفوائد: 1 / 356 - قاعدة 136.
(4) كذا في المصدر، وفي النسخ: ارتباطه. بدل: أن تناط.
(5) القواعد والفوائد: 1 / 358 - قاعدة 139.
(6) القواعد والفوائد: 2 / 223 - قاعدة 229.
(7) القواعد والفوائد: 2 / 242 - قاعدة 243.
(8) القواعد والفوائد 2 / 261 - قاعدة 254.
(9) القواعد والفوائد: 2 / 286 - قاعدة 275.
(10) القواعد والفوائد: 2 / 303 - قاعدة 288.
(11) وقد خولف في مواضع، منها: الترتيب في الاذان، ومنها: رفع اليدين بالتكبيرات، عند
المرتضى، و: وجوب الطهارة للصلاة المندوبة. (منه رحمه الله).
(12) كذا العبارة في أ وط، ولكنها في الأصل وب كما يلي، وفي الأكثر أخرج إلى آخره.
197

وأنت بعدما أحطت بشرائط العمل بالأصل، تتمكن من معرفة
الصحيح منها من غيره، بعد اطلاعك في الجملة على الفروع الفقهية.
مثلا: قوله " الأصل في البيع اللزوم " ليس له وجه، لان خيار المجلس
مما يعم أقسام البيع، وهكذا.
والغرض من نقل جملة من مواضع استعمال الأصل، أن تمتحن نفسك
في المعرفة، لتشحذ ذهنك، وتحقيق الأصل على هذا الوجه مما لا تجده في غير
هذه الرسالة والله أعلم.
القسم الرابع:
الاخذ بالأقل عند فقد الدليل على الأكثر، كما يقول بعض الأصحاب:
" في عين الدابة: نصف قيمتها "، ويقول الآخر: " ربع قيمتها "، فيقول
المستدل: ثبت الربع اجماعا، فينتفي الزائد، نظرا إلى البراءة الأصلية.
وعد صاحب المعتبر هذا القسم من البراءة الأصلية (1) وذكر في الذكرى:
أنه راجع إليها (2).
والحق: أنه قسم من أقسام أصالة البراءة (3)، ولا وجه لعده قسما على
حدة، إلا أني التزمت أن أورد كل ما عد في أدلة العقل، ثم أذكر ما هو الحق
فيه.
واعلم: أن التمسك بهذا القسم، لا يكاد يصح إلا أن يعلم تحقق إجماع
شرعي، أو دليل آخر على ثبوت الأقل، وإلا فشغل الذمة معلوم، فيجب
تحصيل العلم ببراءة الذمة، ولا يعلم بالأقل، وقد عرفت ما في حجية الأصل،
إذا كان من هذا القبيل.

(1) المعتبر: 1 / 32.
(2) الذكرى: 5 / المقدمة / الأصل الرابع / القسم الرابع.
(3) في ط: أصل البراءة.
198

القسم الخامس:
التمسك بعدم الدليل، فيقال: عدم الدليل على كذا، فيجب انتفاؤه.
قال في المعتبر: " وهذا يصح فيما علم أنه لو كان هناك دليل لظفر به.
أما لا مع ذلك: فيجب التوقف، ولا يكون ذلك الاستدلال حجة " (1).
وكلامه في غاية الجودة، ففيما تعم به البلوى: يمكن التمسك بهذه
الطريقة، وأما في غيره فيحتاج إلى المقدمتين المذكورتين، ولا يتم إلا ببيانهما،
مع استحالته عندنا، لما عرفت، فلا نعيده.
قال في الذكرى: " ومرجع هذا القسم إلى أصالة البراءة " (2).
والظاهر: أن الفقهاء يستدلون بهذه الطريقة على نفي الحكم الواقعي،
وبأصالة البراءة على عدم تعلق التكليف، وإن كان هناك حكم في نفس الامر،
فلذا عدا قسمين.
واختلف العامة في: أن عدم المدرك، هل هو مدرك شرعي لعدم
الحكم؟ أو لا؟ (3).
وقد عرفت مما مر جلية الحال.
والحق عندنا: أنه لا توجد واقعة إلا ولها مدرك شرعي، ببركات أئمة
الهدى عليهم السلام، ولا أقل من اندراجها في: " ما حجب الله علمه عن العباد
فهو موضوع عنهم "، وفي: " كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي "، وفي: اخبار
التوقف، وغير ذلك مما مر، فلا تغفل (4).

(1) المعتبر: 1 / 32.
(2) الذكرى: 5 / المقدمة / الأصل الرابع / القسم الثالث.
(3) المحصول: 2 / 581.
(4) تقديم تخريج هذه الأحاديث فلاحظ.
199

القسم السادس:
استصحاب حال الشرع، وهو التمسك بثبوت ما ثبت في وقت، أو
حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت، وفي غير تلك الحال، فيقال: إن الامر
الفلاني قد كان، ولم يعلم عدمه، وكل ما هو كذلك فهو باق.
وقد اختلف فيه العامة بينهم، فنفته جماعة وأثبتته أخرى (1)، واختاره منا
العلامة رحمه الله (2)، ونسب اختياره إلى الشيخ المفيد أيضا (3) وسيجئ، وأنكره
المرتضى (4)، والأكثر.
حجة المثبتين: أن ما تحقق وجوده، ولم يظن طرو مزيل له، فإنه يحصل
الظن ببقائه وبأنه ثبت الاجماع على اعتباره في بعض المسائل، فيكون حجة.
وفيه: أنه بناء على حجية مطلق الظن، وهو عندنا غير ثابت، والمسائل
التي ذكروها ليست مما نحن فيه، كما ستطلع عليه.
وحجة النافين: أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بالأدلة المنصوبة (5) من
قبل الشارع، والاستصحاب ليس منها.
ولتحقيق المقام لابد من إيراد كلام يتضح به حقيقة الحال فنقول:
الأحكام الشرعية تنقسم إلى ستة أقسام:

(1) فهو حجة عند الشافعي والمزني والصيرفي والغزالي والآمدي والبيضاوي، خلافا للحنفية
وجماعة من المتكلمين كأبي الحسين وغيره، فإنه لا يثبت به حكم شرعي عندهم، نعم تمسكوا
به في النفي الأصلي. انظر: المستصفى: 1 / 217، الاحكام: 4 / 367، شرح العضد:
2 / 453، الأبهاج 3 / 168، شرح البدخشي: 3 / 176.
(2) تهذيب الوصول: 105.
(3) معالم الدين: 231.
(4) الذريعة: 2 / 829 - 832.
(5) في ط: المنصوصة.
200

الأول والثاني: الاحكام الاقتضائية المطلوب فيها الفعل، وهي الواجب
والمندوب.
والثالث والرابع: الاقتضائية المطلوب فيها الكف والترك، وهي الحرام
والمكروه.
والخامس: الاحكام التخييرية الدالة على الإباحة.
والسادس: الأحكام الوضعية، كالحكم على الشئ بأنه سبب لأمر، أو
شرطه له أو مانع عنه. والمضايقة بمنع أن الخطاب الوضعي داخل في الحكم
الشرعي - مما لا يضر فيما نحن بصدده.
إذا عرفت هذا! فإذا ورد أمر بطلب شئ، فلا يخلو إما أن يكون مؤقتا،
أو لا.
وعلى الأول: يكون وجوب وجوب ذلك الشئ أو ندبه في كل جزء من أجزاء
ذلك الوقت، ثابتا بذلك الامر، فالتمسك حينئذ في ثبوت ذلك الحكم في
الزمان الثاني - بالنص، لا بالثبوت في الزمان الأول، حتى يكون استصحابا،
وهو ظاهر.
وعلى الثاني: أيضا كذلك، إن قلنا بإفادة الامر التكرار، وإلا فذمة
المكلف مشغولة حتى يأتي به في أي زمان كان، ونسبة أجزاء الزمان إليه نسبة
واحدة في كونه أداءا في كل جزء منها، سواء قلنا بأن الامر للفور، أو لا.
والتوهم بأن الامر إذا كان للفور، يكون من قبيل المؤقت المضيق، اشتباه
غير مخفي على المتأمل.
فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شئ.
ولا يمكن أن يقال: بأن إثبات الحكم في القسم الأول فيما بعد وقته -
من الاستصحاب، فإن هذا لم يقل به أحد، ولا يجوز إجماعا.
وكذا الكلام في النهي، بل هو أولى بعدم توهم الاستصحاب فيه، لان
مطلقه لا يفيد التكرار.
201

والتخييري أيضا كذلك.
فالاحكام (1) الخمسة: - المجردة عن الأحكام الوضعية - لا يتصور فيها
الاستدلال بالاستصحاب.
وأما الأحكام الوضعية: فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام
الخمسة - كالدلوك لوجوب الظهر، والكسوف لوجوب صلاته، والزلزلة
لصلاتها، والايجاب والقبول لإباحة التصرفات والاستمتاعات في الملك
والنكاح، وفيه لتحريم أم الزوجة (2)، والحيض والنفاس لتحريم الصوم
والصلاة، إلى غير ذلك - فينبغي أن ينظر إلى كيفية سببية السبب، هل هي على
الاطلاق؟ كما في الايجاب والقبول، فإن سببيته على نحو خاص، وهو الدوام
إلى أن يتحقق مزيل، وكذا الزلزلة، أو في وقت معين، كالدلوك ونحوه مما لم يكن
السبب وقتا، وكالكسوف والحيض ونحوهما مما يكون السبب وقتا للحكم، فإن
السببية في هذه الأشياء على نحو آخر، فإنها أسباب للحكم في أوقات معينة،
وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شئ، فإن ثبوت الحكم في شئ من
أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ليس تابعا للثبوت في جزء آخر، بل نسبة
السبب في اقتضاء الحكم في كل جزء نسبة واحدة.
وكذا الكلام في الشرط والمانع.
فظهر مما مر: أن الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلا في الأحكام الوضعية
- أعني: الأسباب، والشرائط، والموانع، للأحكام الخمسة - من
حيث أنها كذلك (3)، ووقوعه في الأحكام الخمسة إنما هو بتبعيتها، كما يقال في
الماء الكر المتغير بالنجاسة، إذا زال تغيره من قبل نفسه: بأنه يجب الاجتناب

(1) في أ وط: والاحكام، وفي ب: فان الاحكام.
(2) في ط: وكذا الايجاب والقبول لتحريم أم الزوجة.
(3) قيد الحيثية لجواز أن يكون حكم من الأحكام الخمسة سببا أو شرطا أو مانع لآخر منها. (منه
رحمه الله).
202

عنه (1) في الصلاة، لوجوبه قبل زوال تغيره، فإن مرجعه إلى: أن النجاسة كانت
ثابتة قبل زوال تغيره، فتكون كذلك بعده، ويقال في المتيمم إذا وجد الماء في
أثناء الصلاة: إن صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان، فكذا بعده، أي: كان
مكلفا ومأمورا بالصلاة بتيممه قبله، فكذا بعده، فإن مرجعه إلى: أنه كان
متطهرا قبل وجدان الماء، فكذا بعده، والطهارة من الشروط.
فالحق - مع قطع النظر عن الروايات -: عدم حجية الاستصحاب،
لان العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت، لا يقتضي العلم بل ولا
الظن بوجوده في غير ذلك الوقت، كما لا يخفى، فكيف يكون الحكم المعلق
عليه ثابتا في غير ذلك الوقت؟! فالذي يقتضيه النظر، بدون ملاحظة
الروايات: أنه إذا علم تحقق العلامة الوضعية، تعلق الحكم بالمكلف، وإذا
زال ذلك العلم، بطر وشك - بل وظن أيضا (2) - يتوقف عن الحكم بثبوت
الحكم الثابت أولا.
إلا أن الظاهر من الاخبار: أنه إذا علم وجود شئ، فإنه يحكم به، حتى
يعلم زواله.
روى زرارة، في الصحيح، عن الباقر عليه السلام: " قال: قلت له:
الرجل ينام وهو على وضوء، أتوجب الخفقة، والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال:
يا زرارة، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن، فإذا نامت العين والاذن والقلب
فقد وجب الوضوء.
قلت: فإن حرك إلى جنبه شئ ولم يعلم به؟ قال: لا، حتى يستيقن
أنه قد نام، حتى يجئ من ذلك أمر بين، وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا
ينقض اليقين أبدا بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر " (3).

(1) كذا في أ، وفي سائر النسخ: منه.
(2) في ط: بطرو ظن بل شك أيضا.
(3) التهذيب: 1 / 8 ح 11.
203

فإن اليقين والشك عام، أو مطلق ينصرف إلى العموم، في مثل هذه
المواضع، بل صرح الشارح الرضي رحمه الله: بأن الجنس المعرف باللام (1) أو
الإضافة للعموم، وأدرجه ابن الحاجب في مختصره (2) في ألفاظ العموم من غير
نقل خلاف فيه، ثم ذكر ألفاظا اختلف في عمومها.
ومع التنزل عن ذلك، فالظاهر هنا العموم، فإنه عليه السلام استدل على
أن الوضوء اليقيني لا ينقض بشك النوم، بقوله: " ولا تنقض اليقين أبدا
بالشك "، ولو كان مراده أن لا ينقض يقين الوضوء أبدا بشك النوم، كان عينا
للمقدمة الأولى، فقانون الاستدلال يقتضي أن يكون عاما.
وأيضا: فإن حمل المعروف باللام هنا على العهد، يحتاج إلى قرينة مانعة
عن الحمل على الجنس، وليست متحققة.
قال الرضي، في أوائل بحث المعرفة والنكرة: " فكل اسم دخله اللام لا
يكون فيه علامة كونه بعضا من كل فينظر ذلك الاسم، فإن لم تكن معه قرينة
حالية ولا مقالية دالة على أنه بعض مجهول من كل - كقرينة الشراء الدالة على
أن المشترى بعض في قولك (اشتر اللحم)، ولا دلالة على أنه بعض معين كما
في قوله تعالى: * (أو أجد على النار هدى) * (3) - فهي اللام التي جئ بها
للتعريف اللفظي، والاسم المحلى بها لاستغراق الجنس " ثم شرع في
الاستدلال على وجوب حمله على الاستغراق، ثم قال: " فعلى هذا، قوله عليه
السلام " الماء طاهر " أي (4): كل الماء، و " النوم حدث " أي: كل النوم، إذ ليس
في الكلام قرينة البعضية، لا مطلقة ولا معينة - ثم ذكر - قوله تعالى: * (إن

(1) شرح الكفاية: 2 / 129.
(2) شرح العضد: 1 / 215 (لاحظ المتن).
(3) سور طه / 10.
(4) كلمة (أي): ساقطة من الأصل، وأثبتناها من سائر النسخ.
204

الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا) * (1) أي: كل واحد منهم " (2).
وقال العلامة التفتازاني في المطول، في بحث تعريف المسند إليه باللام:
" اللفظ إذا دل على الحقيقة باعتبار وجودها في الخارج، فإما أن يكون لجميع
الافراد، أو لبعضها، إذ لا واسطة بينهما في الخارج، فإذا لم يكن للبعضية، لعدم
دليلها، وجب أن يكون للجميع، وإلى هذا ينظر صاحب الكشاف، حيث
يطلق لام الجنس على ما يفيد الاستغراق، كما ذكر في قوله تعالى: " * (إن الانسان
لفي خسر) * أنه للجنس، وقال في قوله: * (إن الله يحب المحسنين) * (3): إن
اللام للجنس، فيتناول كل محسن " (4).
ولا يخفى: أن قوله " لعدم دليلها " صريح في أن حمل لام الجنس على
البعض يحتاج إلى الدليل، دون حمله على الجميع.
ثم لا يخفى: أن (اليقين) و (الشك) مما لا يمكن اجتماعهما في وقت
واحد، فالمراد أنه إذا تيقن وجود أمر، يجب الحكم بوجوده، إلى أن يتحقق
يقين آخر يعارضه.
وصحيحة أخرى لزرارة أيضا، وفي آخرها: " قلت: فإن ظننت أنه قد
أصابه، ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فرأيت فيه؟ قال:
تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت: لم ذلك؟ قال: لأنك كنت على يقين من
طهارتك، ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا.
قلت: فإني قد علمت أنه قد أصابه، ولم أدر أين هو، فأغسله؟ قال: تغسل
من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها، حتى تكون على يقين من طهارتك "

(1) العصر / 2.
(2) شرح الكافية: 2 / 129.
كذا في أ وب وط، وفي الأصل: أي إلا كل واحد منهم.
(3) البقرة / 195، والمائدة / 13.
(4) المطول: 81.
205

تمام الحديث (1).
وههنا أيضا: لا يمكن حمل (اليقين) على يقين طهارة الثوب، و (الشك)
على الشك في نجاسة الثوب، بلا معارض أصلا، لما مر.
وفي الكافي، في باب السهو في الثلاث والأربع (2)، في الصحيح: " عن
زرارة، عن أحدهما عليهما السلام، قال: قلت له: من لم يدر في أربع هو، أم في
ثنتين، وقد أحرز الثنتين، قال: يركع ركعتين - إلى أن قال -: ولا ينقض اليقين
بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنه ينقض
الشك باليقين، ويتم على اليقين، فيبني عليه، ولا يعتد بالشك في حال من
الحالات " (3).
ودلالته على العموم غير خفية.
وفي التهذيب: " عن بكير، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: إذا
استيقنت أنك قد توضأت، فإياك أن تحدث وضوءا أبدا حتى تستيقن أنك
قد أحدثت " (4).
وروى عمار في الموثق: " عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: كل شئ
طاهر، حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس
عليك " (5).
وروى عبد الله بن سنان، في الصحيح: " قال سأل رجل أبا عبد الله عليه
السلام، وأنا حاضر: إني أعير الذمي ثوبي، وأنا أعلم أنه يشرب الخمر، ويأكل
لحم الخنزير، فيرده علي، فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه

(1) التهذيب: 1 / 421 ح 1335، الاستبصار: 1 / 183 ح 641.
(2) في النسخ: " باب السهو في الفجر والمغرب والجمعة " وهو سهو.
(3) الكافي: 3 / 351 - باب السهو في الثلاث والأربع / ح 3.
(4) التهذيب: 1 / 102 ح 268.
(5) التهذيب: 1 / 284 - 285 ح 832. لكن فيه: نظيف. بدل: طاهر.
206

السلام: صل فيه، ولا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه وهو طاهر، ولم
تستيقن أنه نجسه، فلا بأس أن تصلي فيه، حتى تستيقن أنه نجسه " (1).
وروى ضريس، في الصحيح: " قال: سألت أبا جعفر عليه السلام، عن
السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم، أنأكله؟ فقال: أما ما علمت
أنه قد خلطه الحرام، فلا تأكل، وأما ما لم تعلم فكله، حتى تعلم أنه
حرام " (2).
وروى عبد الله بن سنان، في الصحيح: " قال: قال أبو عبد الله عليه
السلام: كل شئ يكون فيه حرام وحلال، فهو لك حلال أبدا، حتى تعرف
الحرام منه بعينه فتدعه " (3).
وروى مسعدة بن صدقة، في الموثق: " عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
سمعته يقول: كل شئ هو لك حلال، حتى تعلم أنه حرام بعينه، فتدعه
من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته، وهو سرقة، أو
المملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع، أو قهر، أو امرأة تحتك
وهي أختك أو رضيعتك. والأشياء كلها على هذا، حتى يستبين لك غير ذلك،
أو تقوم به البينة " (4).
وروي بعدة طرق، عن الصادق عليه السلام: " كل ماء طاهر حتى
يستيقن أنه قذر " (5).
لا يقال: هذه الأخبار الأخيرة إنما تدل على حجية الاستصحاب في

(1) التهذيب: 2 / 361 ح 1495. لكن فيه: أبي. بدل: رجل.
(2) التهذيب: 9 / 79 ح 336.
(3) الكافي: 5 / 313 - كتاب المعيشة / باب النوادر / ح 39، التهذيب: 7 / 226 ح 988، و
9 / 79 ح 337.
(4) الكافي: 5 / 313 - كتاب المعيشة / باب النوادر / ح 40، التهذيب 7 / 226 ح 989.
(5) المروي في الكافي: 3 / 1 ح 2، 3، والتهذيب: 1 / 215 ح 619 هو: " الماء كله طاهر حتى
يعلم أنه قذر ".
207

مواضع مخصوصة، فلا تدل على حجيته على الاطلاق.
لأنا نقول: الحال على ما ذكرت من ورودها (1) في موارد مخصوصة، إلا
أن العقل يحكم من بعض الأخبار الدالة على حجيته مطلقا، ومن حكم
الشارع به (2) في مواضع مخصوصة كثيرة - كحكمه باستصحاب الملك، وجواز
الشهادة به، حتى يعلم الرافع (3)، والبناء على الاستصحاب في بقاء الليل
والنهار، وعدم جواز قسمة تركة الغائب ولو مضى زمان يظن عدم بقائه، وعدم
تزويج زوجاته، وجواز عتق العبد الآبق من (4) الكفارة، إلى غير ذلك مما لا
يحصى كثرة - بأن الحكم في خصوص هذه المواضع بالبناء على الحالة السابقة
ليس لخصوص هذه الموانع، بل لان اليقين لا يرفعه إلا يقين مثله.
وينبغي أن يعلم: أن للعمل بالاستصحاب شروطا:
الأول: أن لا يكون هناك دليل شرعي آخر، يوجب انتفاء الحكم
الثابت أولا في الوقت الثاني، وإلا فيتعين العمل بذلك الدليل إجماعا.
الثاني: أن لا يحدث في الوقت الثاني أمر يوجب انتفاء الحكم الأول،
فالعامل بالاستصحاب ينبغي له غاية الملاحظة في هذا الشرط.
مثلا: في مسألة من دخل في الصلاة بالتيمم ثم وجد الماء في أثناء
الصلاة، ينبغي للقائل بالبناء على تيممه وإتمام الصلاة للاستصحاب،
ملاحظة النص الدال على أن التمكن من استعمال الماء ناقض للتيمم، هل
هو مطلق؟ أو عام؟ بحيث يشمل هذه الصورة؟ أو لا؟ فإن كان الأول،

(1) كذا في ط، وفي سائر النسخ: من أن ورودها.
(2) كلمة (به): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(3) كذا في أ وب وط. وفي الأصل: الواقع.
(4) كذا في النسخ. ولعلها تصحيف: عن.
208

فلا يجوز العمل بالاستصحاب، لأنه حينئذ يرجع إلى فقد الشرط الأول
حقيقة، وإلا فيصح التمسك به.
وفي مسألة من طلق زوجته المرضعة، ثم تزوجت بعد العدة بزوج آخر،
وحملت منه، ولم ينقطع بعد لبنها، فالحكم بأن اللبن للزوج الأول
للاستصحاب، كما فعله المحقق في الشرائع (1) وغيره - يتوقف على ملاحظة ما
دل على أن لبن المرأة، الحاصل (2) من الذي حملت منه، هل يشمل هذه الصورة؟
أو لا؟ فعلى الأول لا يصح الاستصحاب، لأنه إما أن يتعين الحكم بالثاني،
أو يصير من قبيل تعادل (3) الامارتين، فيحتاج إلى الترجيح، وعلى الثاني يصح.
الثالث: أن لا يكون هناك استصحاب آخر معارض له، يوجب نفي
الحكم الأول في الثاني.
مثلا: في مسألة الجلد المطروح، قد استدل جماعة على نجاسته
باستصحاب عدم الذبح، فإن في وقت حياة ذلك الحيوان يصدق عليه أنه غير
مذبوح، ولم يعلم زوال عدم المذبوحية، لاحتمال الموت حتف أنفه، فيكون
نجسا لان الطهارة حينئذ لا تكون (4) إلا مع الذبح، فإن هذا الاستصحاب
معارض باستصحاب طهارة الجلد الثابتة في حال حياته، إذ لم يعلم زوالها،
لاحتمال الذبح، وباستصحاب عدم الموت حتف أنفه أو نحوه الثابت أولا،
كعدم المذبوحية.
واستدل بعض آخر على النجاسة: بأن للذبح أسبابا حادثة، والأصل
عدم الحادث، فيكون نجسا.
وقد عرفت أيضا: أن أصالة العدم أيضا مشروطة بشروط، منها أن لا يكون

(1) شرائع الاسلام: 2 / 282.
(2) كذا في ط، وفي الأصل وأ وب: الحامل.
(3) في ط: تعارض.
(4) أ وط، وفي الأصل وب: لا يمكن.
209

مثبتا لحكم شرعي، مع أنه معارض أيضا بأصالة عدم أسباب الموت أيضا.
الرابع: أن يكون الحكم الشرعي المترتب على الامر الوضعي
المستصحب ثابتا في الوقت الأول، إذ ثبوت الحكم في الوقت الثاني، فرع لثبوت
الحكم في الأول، فإذا لم يثبت في الزمان الأول، فكيف يمكن إثباته في الزمان
الثاني؟!
مثلا: باستصحاب عدم المذبوحية في المسألة المذكورة، لا يجوز الحكم
بالنجاسة، لان النجاسة لم تكن ثابتة (1) في الوقت الأول، وهو وقت الحياة (2).
والسر فيه: أن عدم المذبوحية لازم لامرين: الحياة، والموت حتف
أنفه، والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو هو، بل ملزومه الثاني،
أعني: الموت، فعدم المذبوحية لازم أعم لموجب النجاسة، فعدم المذبوحية
العارض للحياة مغاير لعدم المذبوحية العارض للموت حتف أنفه، والمعلوم
ثبوته في الزمان الأول هو الأول، لا الثاني، وظاهر أنه غير باق في الوقت الثاني.
ففي الحقيقة: تخرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب، إذ شرطه بقاء
الموضوع، وعدمه هنا معلوم.
وليس مثل المتمسك (3) بهذا الاستصحاب، إلا مثل من تمسك على وجود
عمرو في الدار في الوقت الثاني،، باستصحاب بقاء الضاحك المتحقق بوجود
زيد في الدار في الوقت الأول، وفساده غني عن البيان.
الخامس: أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك
المستصحب.

(1) في أ وط: بثابتة.
(2) كأن نظر من حكم بنجاسة الجلد المطروح على أنه غير جائز الاكل لعدم العلم بالتذكية، وهو
حكم بأنه ميتة، وهو يستلزم الحكم بالنجاسة، وفي صحة هذه المقامات بحث ونظر، فتأمل.
(منه رحمه الله).
(3) كذا في ب وط، وفي الأصل وأ: التمسك.
210

مثلا: إذا ثبت في الشرع أن الحكم بكون الحيوان ميتة، يستلزم الحكم
بنجاسة المائع القليل الواقع ذلك الحيوان فيه - لا يجوز الحكم باستصحاب
طهارة الماء، ولا نجاسة الحيوان في مسألة من رمى صيدا فغاب، ثم وجده (1)
في ماء قليل، يمكن استناد موته إلى الرمي وإلى الماء.
وأنكر بعض الأصحاب ثبوت هذا التلازم، وحكم بكلا الأصلين:
نجاسة الصيد، وطهارة الماء، ولكن قد عرفت سابقا أن طهارة الأشياء ليست
بالاستصحاب في وقت، بل بالأصل، بمعنى: القاعدة المستفادة من الشرع،
وكذا النجاسة قبل ثبوت الرافع الشرعي، لان الحكم وقع في الاخبار في بيان
تطهير (2) النجس بالغسل، في الثوب والبدن والاناء، وإعادة الصلاة قبله، وهو
صريح في بقاء النجاسة إلى حين الغسل، فيكون بقاء النجاسة إلى حين الغسل
مدلولا للاخبار، فلا يكون بالاستصحاب.
وكذا وقع الامر بإهراق الماء القليل النجس، والنهي - الظاهر في الدوام -
عن التوضي والشرب من الماء النجس (3)، وهو كالصريح في إستمرار
النجاسة، وورد الامر في حق المربية للصبي بغسل قميصها في اليوم مرة (4)،
وورد (5) النهي عن الصلاة في الثوب المشترى من النصراني قبل غسله (6)،
وتعجبه عليه السلام في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع، حين سأله عن:
" الأرض والسطح، يصيبه البول أو ما أشبهه، هل تطهره الشمس من غير ماء؟
قال: كيف تطهر من غير ماء؟! " (7) إلى غير ذلك، مما يدل على بقاء

(1) كذا في ط، وفي الأصل وأ وب: وجد.
(2) كذا في ط، وفي سائر النسخ: تطهر.
(3) الكافي: 3 / 10 - كتاب الطهارة / باب الوضوء من سؤر الدواب والسباع والطير / ح 6.
(4) التهذيب: 1 / 250 ح 719، الفقيه: 1 / 70 ح 161.
(5) كذا في أ وط، وفي الأصل وب: وورود.
(6) التهذيب: 1 / 263 ح 766، قرب الاسناد: 96.
(7) التهذيب: 1 / 273 ح 805.
211

النجاسة.
وإذا كان بقاء النجاسة إلى حين المطهر الشرعي منصوصا من الروايات،
فكيف يمكن القول بأنه بالاستصحاب (1)؟!
ففي بعض الأمثلة المذكورة: وفي شرائط الاستصحاب قد انضم إليه أمر
آخر من الأدلة، وهو الأصل، بمعنى: القاعدة: فالأمثلة للتوضيح.
وقد يمكن اشتراط شروط أخر غير ما ذكرنا، لكن الجميع في الحقيقة
يرجع إلى انتفاء المعارض وعدم العلم والظن بالانتفاء.
قال المدقق الاسترآبادي في الفوائد المكية (2)، بعد إيراد الأخبار الدالة
على الاستصحاب المذكور (3): " لا يقال: هذه القاعدة تقتضي جواز العمل
باستصحاب أحكام الله تعالى، كما ذهب إليه المفيد والعلامة من أصحابنا،
والشافعية قاطبة، وتقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفية، بعدم جواز العمل
به، لأنا نقول: هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الأصوليين
والفقهاء، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنية (4):
تارة بما ملخصه: أن صور الاستصحاب المختلف فيها عند النظر
الدقيق والتحقيق، راجعة إلى: أنه: إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع
في حال من حالاته، نجريه (5) في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة،
وحدوث نقيضها فيه، ومن المعلوم أنه إذا تبدل قيد موضوع المسألة بنقيض
ذلك القيد، اختلف موضوع المسألتين، فالذي سموه استصحابا، راجع

(1) زاد في أ في هذا الموضع: قد انضم إليه.
(2) هذا الكتاب جزء من التراث المفقود في العصر الحاضر، وقد ذكره العلامة المجلسي في عداد
مصادر كتابه: بحار الأنوار: 1 / 20.
(3) كذا في ط، وفي سائر النسخ: المذكورة.
(4) لاحظ ذلك في بحث الاستصحاب من الفوائد المدنية: ص 16، 17، 141 وما بعدها،
وفي بحث البراءة الأصلية منه ص 137.
(5) كذا في أ، وفي الأصل وب: بجريه، وفي ط: تجريه.
212

بالحقيقة إلى إسراء حكم إلى موضوع آخر، يتحد معه بالذات ويغايره بالقيد
والصفات، ومن المعلوم عند الحكيم، أن هذا المعنى غير معتبر شرعا، وأن
القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة له.
وتارة: بأن استصحاب الحكم الشرعي، وكذا الأصل، أي: الحالة التي
إذا خلي الشئ ونفسه كان عليها، إنما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما، وقد
ظهر في محال النزاع. بيان ذلك: أنه تواترت الاخبار عنهم عليهم السلام، بأن
كل ما يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة، ورد فيه خطاب وحكم، حتى أرش
الخدش، وكثير مما ورد مخزون عند أهل الذكر عليهم السلام (1)، فعلم أنه ورد في
محال (2) النزاع أحكام نحن لا نعلمها بعينها، وتواترت الاخبار عنهم عليهم السلام
بحصر المسائل في ثلاث: بين رشده، وبين غيه، أي: مقطوع به لا ريب فيه،
وما ليس هذا ولا ذاك، وبوجوب (3) التوقف في الثالث " (4) انتهى كلامه
بألفاظه.
ولا يخفى عليك ضعف هذين الجوابين:
أما الأول: فلانه ظاهر أن مورد الروايات بعدم نقض الشك لليقين،
إنما هو إذا تغير وصف الموضوع، بأن يعرض له أمر يجوز العقل رفعه به،
كالخفقة والخفقتين للوضوء، وظن إصابة النجاسة لطهارة الثوب في لبس الذمي
الثوب، ونحو ذلك، فإن سلم تبدل وصف الموضوع في هذه المواضع، تكون
الأخبار المذكورة حجة عليه، وإلا فنحن لا نتمسك بالاستصحاب، إلا فيما
علم وجود أمر في وقت، وتجدد في وقت آخر أمر يجوز العقل أن يكون رافعا

(1) الكافي: 1 / 238 - 242 - كتاب الحجة / باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف
فاطمة (ع).
(2) في أ: محل.
(3) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: فبوجوب.
(4) كما في مقبولة عمر بن حنظلة: الكافي: 1 / 68 ح 10.
213

للأول، لا فيما ترتب حكم على أمر موصوف بصفة، بحيث يكون الحكم مترتبا
على المركب من الموصوف والصفة جميعا، ثم زالت الصفة في الوقت الثاني، فإنا
لا نحكم ببقاء ذلك الحكم في الوقت الثاني، وهو ظاهر.
وأما الثاني: فلانا لا نسلم أنه دخل في الشبهة، بل هو داخل في ال‍
(بين رشده)، لان الاخبار ناطقة بأن الحكم السابق باق إلى أن يعلم زواله، ولا
يزول بسبب الشك. وهذا أظهر.
وقال هذا الفاضل في الفوائد المدنية، في أغلاط المتأخرين من الفقهاء -
بزعمه -: " من جملتها: أن كثيرا منهم، زعموا أن قوله عليه السلام: " لا ينقض
اليقين بالشك أبدا، وإنما تنقضه بيقين آخر " جار في نفس أحكامه تعالى (1)،
ومن جملتها: أن بعضهم توهم أن قوله عليه السلام: " كل شئ طاهر، حتى
تستيقن أنه قذر " يعم صورة الجهل بحكم الله تعالى، فإذا لم نعلم أن نطفة
الغنم طاهرة أو نجسة، نحكم بطهارتها، ومن المعلوم أن مرادهم عليهم السلام،
أن كل صنف فيه طاهر وفيه نجس، كالدم والبول واللحم والماء واللبن
والجبن، مما لم يميز الشارع بين فرديه بعلامة، فهو طاهر، حتى تعلم أنه نجس،
وكذلك كل صنف فيه حلال وحرام، مما لم يميز الشارع بين فرديه بعلامة،
فهو لك حلال، حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه " انتهى كلامه (2).

(1) قال المحدث البحراني في معرض رده على ما افاده الأمين الاسترآبادي من بطلان القول
بالاستصحاب: " السادس: قوله ومن القسم الثاني من الاختلاف ذهاب شيخنا المفيد قدس
سره إلى جواز العمل بالاستصحاب إلى آخره فان فيه: انه وان كرر ذلك في غير موضع من هذا
الكتاب - يعني به الفوائد المدنية - وشنع به على من عمل به من الأصحاب إلا أنه وقع فيما شنع
به، ومن عاب استعاب، كما وقفت عليه من كلامه في حاشية [حاشيته ظ] على شرح المدارك
وإن تستر ببعض التمويهات والتشبيهات التي هي أوهن من بيت العنكبوت، وقد نقلنا كلامه
المشار إليه في درة الاستصحاب، فارجع إليه يظهر لك ما فيه من العجب العجاب والله الهادي
إلى جادة الصواب ". الدرر النجفية: 92، ولاحظ: درة الاستصحاب في ص 73 منه.
(2) الفوائد المدنية: 148.
214

ولا يخفى عليك ما في كلامه، فإن قوله عليه السلام: " كل شئ طاهر
حتى تستيقن أنه قذر " عام شامل، لما إذا كان الجهل بوصول النجاسة، أو بأنه
في الشرع هل هو طاهر؟ أو نجس؟.
مع أن الأول يستلزم الثاني للجاهل، فإن المسلم إذا أعار ثوبه للذمي
الذي يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، ثم رده عليه، فهو جاهل بأن مثل هذا
الثوب الذي هو مظنة النجاسة، هل هو مما يجب التنزه عنه في الصلاة، وغيرها
مما يشترط بالطهارة؟ أو لا؟ فهو جاهل بالحكم الشرعي، مع أنه عليه السلام
قرر في الجواب قاعدة كلية، بأن ما لم تعلم نجاسته، فهو طاهر، والفرق بين
الجهل بحكم الله تعالى إذا كان تابعا للجهل بوصول النجاسة، وبينه إذا لم يكن
كذلك، كالجهل بنجاسة نطفة الغنم، مما لا يمكن إقامة دليل عليه.
وأيضا: قد عرفت مما مر في القسم الثالث، أن الطهارة في جميع ما لم
يظهر مخرج عنها - قاعدة مستفادة من الشرع.
وأيضا: فرقه بين نطفة الغنم، وبين البول والدم واللحم وغيرها، تحكم
ظاهر، فإن النطفة أيضا منها طاهرة، كنطفة غير ذي النفس، ومنها نجسة.
ومن العجب حكمه بالطهارة فيما إذا وقع الشك في بول الفرس هل هو
طاهر؟ أو نجس؟ وحكمه بنجاسة نطفة الغنم عند الشك!.
وكذا الكلام في الحلال والحرام.
فإن قلت: قوله عليه السلام: " كل شئ طاهر، حتى تستيقن أنه قذر "
ظاهر في جوانب البناء في جميع الأشياء على الطهارة، حتى يعلم بالنجاسة، من
غير فحص عن (1) المعارض، مع أن البناء على أصل الطهارة في نفس
الاحكام (2) من المسائل الاجتهادية، التي يحتاج ترجيحها إلى الفحص عن عدم
المعارض.

(1) كلمة (عن): إضافة من ب.
(2) في أ وط: الحكم.
215

وأيضا: على هذا يلزم معذورية من صلى مع البول مثلا، عالما بأنه بول
غير المأكول، إذا جهل نجاسة البول.
فيجب أن يكون المراد من الحديث معذورية الجاهل بإصابة النجاسة
لثوبه أو بدنه أو نحو ذلك، لا معذورية الجاهل مطلقا.
قلت:
أولا: بإمكان التزام معذورية الجاهل بالنجاسة مطلقا، من غير فحص
لهذه الروايات.
وثانيا: بالتزام معذورية الجاهل بالنجاسة مطلقا، إذا كان غافلا عن
الحكم بالكلية، وعدم معذورية من سمع الحكم مثل نجاسة البول، وإن لم
يصدق به، بل حينئذ يلزمه التفحص حتى يظهر عليه الحكم الواقعي، ولو
بعدم الاطلاع على النجاسة بعد الفحص، فإن مقتضاه الحكم بالطهارة.
وثالثا: بأن ظاهر هذا الحديث، وإن اقتضى عدم وجوب الفحص
مطلقا، إلا أنه مخصص بما دل على لزوم الفحص عن المعارض، في حق
المجتهد في نفس الحكم، حتى يجوز له الحكم بالطهارة.
ورابعا: بالتزام لزوم الفحص، سواء جهل بأصل النجاسة، أو
بإصابتها، إذا كان موجبا للجهل بحكم الله، لأنه من قبيل الاجتهاد، فمن
علم أن ظن النجاسة لا اعتبار به شرعا، لا يلزمه الفحص عن ثوبه، هل
أصابته النجاسة؟ أو لا؟ وقد دل عليه بعض الروايات، ومن لم يعلم ذلك،
وظن نجاسة ثوبه، لا يبعد أن يقال: إنه يلزمه السؤال إن كان عاميا، والفحص
عن أنه هل ورد الشرع باجتناب مثل ذلك؟ أو لا؟ إن كان مجتهدا.
واعلم: أن الشهيد الأول قال في قواعده: " البناء على الأصل، وهو
استصحاب ما سبق، أربعة أقسام:
أحدها: استصحاب النفي في الحكم الشرعي، إلى أن يرد دليل، وهو
المعبر عنه بالبراءة الأصلية.
216

وثانيها: استصحاب حكم العموم إلى ورود مخصص، وحكم النص
إلى ورود ناسخ، وهو إنما يتم بعد استقصاء البحث عن المخصص والناسخ.
وثالثها: استصحاب حكم ثبت شرعا - كالملك عند ورود سببه (1)،
وشغل الذمة عند إتلاف مال أو التزام - إلى أن يثبت (2) رافعه.
ورابعها: استصحاب حكم الاجماع في مواضع النزاع، كما نقول:
الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء، للاجماع على أنه متطهر قبل هذا
الخارج، فيستصحب، إذ الأصل في كل متحقق دوامه، حتى يثبت معارض،
والأصل عدمه " (3).
ومثله قال الشهيد الثاني في كتاب تمهيد القواعد (4).
ولا يخفى عليك الحال في القسم الأول، فإنه قد مر مفصلا.
وعرفت أيضا أن الثاني ليس من الاستصحاب.
وأما الثالث: فهو من الاستصحاب، ولكن الفائدة في قوله:
" استصحاب حكم ثبت شرعا " وتقييد الثبوت بالشرع، غير ظاهرة، لعموم
أدلة الاستصحاب على ما مر، فتأمل.
وأما الرابع: فيجري فيه ما يجري في الثاني، من خروجه عن
الاستصحاب إن كان المجمع عليه الثبوت مطلقا، وإلا فلا يجوز
الاستصحاب.
وما قد يستدل في بعض المسائل، بأن هذا الحكم ثابت بالاجماع،
والاجماع إنما هو إلى هذا الوقت الخاص، فلا دليل عليه فيما بعده، فلم يكن

(1) في ط: عند ثبوت سببه. وفي المصدر: عند وجود سببه.
(2) كذا في أ وط والمصدر. وفي الأصل وب: ثبت.
(3) القواعد والفوائد: 1 / 132 - 133 / القاعدة الثالثة.
(4) تمهيد القواعد: 37 / المقصد الخامس / قاعدة: استصحاب الحال حجة... إلى آخره.
217

الحكم فيما بعده ثابتا - فهو (1) غير منقح، فإنه يجب التفتيش عن متن الحكم
المجمع عليه، هل هو محدود إلى وقت؟ أو حال؟ أو هو مطلق غير محدود؟
فإن كان الأول، فالاستدلال صحيح، وإلا فلا، ولا يجدي (2) تحقق الخلاف
في وقت، إذا كان متن الاجماع غير محدود، لأنه يصير حجة على المخالف.
ثم اعلم: أن حجية الاستصحاب والعمل به، ليس مذهبا للمفيد
والعلامة فقط من أصحابنا، بل الظاهر أنه مذهب الأكثر، فإن من تتبع كتب
الفروع، سيما في أبواب العقود (3) والايقاعات، يظهر عليه أن مدارهم في
الأغلب على الاستصحاب.
يشهد بذلك شرح الشرائع للشهيد الثاني رحمه الله (4).
وقد صرح الشهيد الأول في قواعده باختياره في مواضع، منها في قاعدة
اليقين (5).
ونسب الشهيد الثاني اختياره في تمهيد القواعد إلى أكثر المحققين، حيث
قال: " قاعدة: استصحاب الحال حجة عند أكثر المحققين، وقد يعبر عنه بأن
الأصل في كل حادث تقديره في أقرب زمان، وبأن الأصل بقاء ما كان على ما
كان " (6).
القسم السابع:
التلازم بين الحكمين، فإنه إذا ثبت تلازم حكمين، وتحقق أحدهما،

(1) كذا في أ وط. وفي الأصل وب: فإنه.
(2) في ط: وإلا فلا يجدي.... إلى آخره.
(3) في أ: كتب الفروع سيما في العقود، وفي ط: كتب الفروع وفي أبواب العقود.
(4) المسالك: 1 / 6 - كتاب الطهارة / احكام الوضوء / في شرح قوله: " أو تيقنهما ".
(5) القواعد والفوائد: 1 / 132 - 141 / القاعدة الثالثة: قاعدة اليقين.
(6) تمهيد القواعد: 37.
218

فإنه يدل على تحقق الحكم الآخر.
والتلازم قد يكون مستفادا من الشرع، كتلازم القصر في الصلاة والافطار
في الصوم في السفر، المستفاد من قوله عليه السلام: " إذا قصرت أفطرت، وإذا
أفطرت قصرت " (1).
وقد يكون مستفادا من حكم العقل، كما يقال: إن الامر بالشئ في وقت
معين لا يزيد عليه، يستلزم عدم الامر بضده في ذلك الوقت بعينه وإلا لزم
التكليف بما لا يطاق، وهو قبيح عقلا، مع قطع النظر عن كونه منصوصا
أيضا.
وهذا القسم مما يتوقف (2) حكم العقل فيه على ورود الخطاب الشرعي
ويندرج فيه أمور بحسب الظاهر، فنحن نذكرها، ونبين ما هو الحق في كل
منها.
الأول: مقدمة الواجب:
وقد وقع الخلاف في أن وجوب الشئ هل يستلزم وجوب مقدمته؟ أي:
ما يتوقف عليه ذلك الشئ، أو لا؟
فقيل: بالتلازم مطلقا.
وقيل: لا، مطلقا.
وقيل: به إذا كانت المقدمة سببا لا غير.
وقيل: به إذا كانت شرطا شرعيا لا غير.
والأول: مذهب أكثر القدماء والمحققين (3)، ولكن أدلتهم المنقولة مما لا

(1) الفقيه: 1 / 437 ح 1269.
(2) وضع ناسخ الأصل كلمة (لا) في الهامش ووضع عليها الرمز (ظ). إشارة إلى استظهار ان
الصواب في العبارة هو: مما لا يتوقف. ولكن هذا الاستظهار كما ترى.
(3) فقد قال السيد المرتضى: " اعلم أن كل من تكلم في هذا الباب أطلق القول بأن الامر بالشئ
هو بعينه أمر بما لا يتم ذلك الشئ إلا به ": الذريعة: 1 / 83، وممن صرح بالوجوب الغزالي:
المستصفى: 1 / 71، والرازي: المحصول: 1 / 289.
219

يمكن التعويل عليها، لضعفها، كما يقال: على تقدير عدم وجوب المقدمة،
يكون تركها جائزا، فإذا تركت: فإن بقي التكليف بذي المقدمة حينئذ، كان
تكليفا بما لا يطاق، وإلا فيلزم خروج الواجب عن كونه واجبا، وهو محال (1)،
وهذا الدليل عمدة أدلتهم، وعليه يدور أكثر أدلتهم.
والجواب: أن هذا الواجب لا يخلو: إما أن يكون مؤقتا؟ أم لا؟
وعلى الأول: فإن تضيق الوقت، بحيث لو أتى بالمقدمة، لا يمكن
الاتيان بذي المقدمة إلا فيما بعد وقته، كالحج في المحرم مثلا، فنختار عدم بقاء
التكليف.
قوله: " يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا ".
قلنا: نعم، يلزم أن لا يكون الواجب المؤقت واجبا بعد وقته، ولا فساد
فيه، فإن الحج مثلا في غير ذي الحجة ليس واجبا.
فإن قلت: نحن نقول: من استطاع الحج (2)، وترك المشي إليه بغير
عذر، وطلع عليه هلال ذي الحجة، وهو في بلدة بعيدة لا يمكنه إدراك الحج
في هذه السنة - إن وجب عليه الحج في هذه السنة، يلزم تكليفه بالمحال عادة،
وإلا يلزم خروج الواجب في وقته عن الوجوب.
قلت: لما كان وقوع الحج في هذه السنة في وقته محالا، عادة، فالتكليف
به حينئذ ينصرف (3) إلى التكليف بإيقاعه فميا بعد وقته، فنختار عدم بقاء
التكليف حينئذ، وليس إلا خروج الواجب بعد وقته عن الوجوب، ولا استحالة
فيه، بل يتحقق (4) الاثم حينئذ.

(1) حكى هذا الدليل المحقق الشيخ حسن ثم رده: معالم الدين: 62.
(2) كذا في ب وط. وفي الأصل: إلى الحج. وفي أ: للحج.
(3) في ط: يؤول.
(4) كذا في أ وب، وفي الأصل وط: تحقق.
220

وإن كان الوقت متسعا، أو لم يكن الواجب مؤقتا، فنختار بقاء
التكليف، وليس تكليفا بالمحال، لأنه يمكن الاتيان بالمقدمة بعد.
على: أنه يمكن جريان هذا (1) الدليل على تقدير وجوب المقدمة أيضا،
إذا تركها المكلف، فتأمل.
واستدل ابن الحاجب على وجوب الشرط الشرعي: بأنه لو لم يجب لكان
الآتي بالمشروط فقط آتيا بجميع ما امر به، فيجب أن يكون صحيحا، فيلزم
خروج الشرط الشرعي عن كونه شرطا (2).
والجواب: منع الشرطية، لان المتأخر عن الشرط لا يتأتى إلا بفعل
الشرط، فليس آتيا بجميع ما امر به على تقدير عدم الاتيان بالشرط، لفوت
وصف التأخر في المشروط (3) حينئذ.
وهذه المسألة بأدلتها من الطرفين مذكورة في كتب الأصول، كالمعالم،
وغيره، والمعترض مستظهر من الجانبين، إلا أن المتتبع - بعد الاطلاع على المدح
والذم الواردين في الاخبار والآيات القرآنية على فعل مقدمة الواجب وتركها -
يحصل له ظن قوي بوجوب مقدمة الواجب مطلقا.
واعلم: أنه قد تطلق المقدمة على أمور، يكون الاتيان بالواجب حاصلا
في ضمن الاتيان بها، وكأنه (4) لا خلاف في وجوب هذا القسم من المقدمة،
لأنه عين الاتيان بالواجب، بل هو منصوص في بعض الموارد، كالصلاة إلى
أربع جهات عند اشتباه القبلة (5)، والصلاة في كل من الثوبين عند اشتباه

(1) كلمة (هذا): زيادة من أ وب وط.
(2) المنتهى: 36، شرح العضد: 1 / 90 - 91 (لاحظ المتن).
(3) كذا في أ وب وط. وفي الأصل: الشروط.
(4) كذا في أ وب وط. وفي الأصل: فكأنه.
(5) الفقيه: 1 / 278 ح 854.
221

الطاهر بالنجس (1)، وغير ذلك.
ولما [ظهر] ضعف أدلتهم المذكورة على وجوب مقدمة الواجب، فلا
فائدة في التعرض لحال (2) مقدمة المندوب والحرام والمكروه.
والثاني: النهي عن الشئ عند الامر بضده الخاص.
وقد اختلف في أن الامر بالشئ، هل يستلزم النهي عن ضده الخاص؟
أو لا؟ بعد الاتفاق على النهي عن الضد العام، أي: ترك الواجب.
وأدلة الاستلزام ضعيفة، كما لا يخفى على من له أدنى تدبر، فلا فائدة
في ذكرها.
والحق: عدم الاستلزام، للأصل، ولأنه لو كان كذلك لتواتر، لأنه من
الأمور العامة البلوى، على ما قال الشهيد الثاني [من] أنه لو كان كذلك لم
يتحقق إباحة السفر إلا لأوحدي الناس (3)، لتضاده غالبا لتحصيل العلوم
الواجبة، بل قلما ينفك الانسان عن شغل الذمة بشئ من الواجبات الفورية،
مع أنه على ذلك التقدير موجب لبطلان الصلاة الموسعة في غير آخر وقتها،
ولبطلان النوافل اليومية وغيرها.
فلو كان الامر بالشئ مستلزما للنهي عن ضده الخاص، لتواتر عنهم
عليهم السلام النهي عن أضداد الواجبات، من حيث هي كذلك، والتالي (4)
باطل.

(1) التهذيب: 2 / 225 ح 887، الفقيه: 1 / 249 ح 756.
(2) في أ وب: بحال.
(3) روض الجنان: 388 / باب سفر المعصية / كتاب الصلاة. وقد صرح الشهيد الثاني بعدم
اقتضاء الامر بالشئ النهي عن ضده الخاص في: تمهيد القواعد: 17، وقد بنى على ذلك في
الفقه، انظر: روض الجنان: 120 / مسألة ما لو كان على بدن المحدث أو ثوبه نجاسة ولم يجد
من الماء إلا ما يكفيه لإزالة النجاسة خاصة، وص 204 منه / مسألة الصلاة في الثوب
المغصوب، وص 339 منه، والمسالك: 1 / 25 / مسألة وجوب رد السلام على المصلي.
(4) في ط: والثاني.
222

على أنه لم ينقل آحادا أيضا.
وبعض المتأخرين غير العبارة في المدعى (1)، وقال: الامر بالشئ يستلزم
عدم الامر بضده، وإلا لزم التكليف بالمحال، فيبطل الضد إذا كان عبادة.
وفيه أيضا نظر، ينكشف مما سنتلو عليك.
فاعلم: أن الواجب إما مؤقت أو غير مؤقت، وكل منهما إلا مضيق أو
لا، فالأقسام أربعة:
المؤقت الموسع، كالظهر مثلا.
والمؤقت المضيق، كالصوم.
وغير المؤقت الموسع، كالنذر المطلق على المشهور، وغيره مما وقته العمر.
وغير المؤقت المضيق، كإزالة النجاسة عن المسجد، وأداء الدين والحج
وغيرها من الواجبات الفورية.
فنقول: قوله: " الامر بالشئ يستلزم عدم الامر بضده " غير صحيح في
الواجبين الموسعين مطلقا، إذ لا يتوهم فيه أنه تكليف بالمحال، وهو ظاهر.
وأما في المؤقتين المضيقين فالمدعى حق، إلا أنه لم يرد في الشرع شئ من
هذا القبيل، إلا ما تضيق بسبب تأخير المكلف، كما إذا أخر المكلف الواجبين
الموسعين إلى أن يبقى من الوقت بقدر فعل أحدهما.
ولكن لا يخفى أنه حينئذ لا يمكن الاستدلال على بطلان أحدهما،
لتعلق الامر بكل منهما، ولا يتفاوت كون أحدهما أهم من الآخر، بل الحق
حينئذ التخيير، وتحقق الاثم إن كان التأخير بسبب تقصيره، بل لا يبعد أن يقال
بوجوب كل منهما في هذا الوقت أيضا، ولا يلزم التكليف بالمحال، لان حتمية
فعلهما في هذا الوقت، إنما هي بالنظر إلى ما بعد ذلك الوقت، لا بالنظر إلى ما

(1) انظر: زبدة الأصول: 82 - 83. وقد لمح الشهيد الثاني إلى ذلك حيث قال: " وإرادة أحد
الضدين يستلزم عدم إرادة الآخر " المسالك: 1 / 55.
223

قبله، لان نسبة هذا الجزء من الوقت إلى هذين الواجبين، مثل نسبة أول الوقت
ووسطه، فكما أن الفعلين الواجبين في أول الوقت ووسطه متصفان بالوجوب
من غير لزوم التكليف بالمحال - لكون الوجوب راجعا إلى التخييري بحسب
أجزاء الوقت - فكذا في آخر الوقت أيضا، والحتمية - بمعنى: عدم (1) جواز
التأخير عنه - لا ترفع التخيير فيه بالنظر إلى ما قبله من أجزاء الوقت.
فإن قلت: إذا قصر المكلف، وأخر الواجبين الموسعين حتى لا يبقى من
وقتهما إلا بمقدار فعل أحدهما، فحينئذ إن وجب كل منهما معا في هذا الوقت،
يكون تكليفا بالمحال، ولا يجدي إمكان إيقاعهما قبل هذا الوقت، لان الفرض
أنه فات.
قلت: وجوبهما في هذا الوقت بالايجاب السابق، الذي نسبته إلى أول
الوقت ووسطه وآخره نسبة واحدة، فكما لا يتوهم التكليف بالمحال في الأولين،
فكذا في الآخر.
وأما في المضيقين غير المؤقتين - كإزالة النجاسة من المسجد، وأداء الدين
مثلا إذا تضادا - فنقول:
أول وقت وجوبهما، قبل أن يمضي زمان يمكن فعل أحدهما فيه، لا يجوز
أن يكون كلاهما واجبا عينيا، للزوم التكليف بالمحال، بل يكون وجوبهما حينئذ
تخييريا (2) إن لم يكن بينهما ترتيب، ولا يمكن الاستدلال على النهي عن (3)
أحدهما بسبب الامر بالآخر، لما عرفت، تساويا في الأهمية أو لا.
وأما إذا مضى من أول وقت وجوبهما بقدر فعل أحدهما، ففيه الاحتمالان
المذكوران:

(1) كلمة (عدم): ساقطة من الأصل، وأثبتناها من سائر النسخ.
(2) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: بل يكون وجوبهما تخييرا.
(3) كذا في ب وط، وفي الأصل وأ: من.
224

كون وجوبهما في كل جزء من الزمان تخييريا (1)، ولكن مع تحقق الاثم على
ترك ما تركه منهما، بسبب تقصيره في التأخير مع إمكان فعله سابقا.
وكون وجوبهما في كل جزء منه حتميا بالنظر إلى ما بعده، أعني: عدم
جواز تأخيرهما، لا بالنظر (2) إلى ما قبله، لامكان فعلهما قبله.
وعلى أي تقدير، فلا يمكن الاستدلال على النهي عن (3) أحدهما بسبب
الامر بالآخر:
أما على الأول: فلان الامر بأحدهما على التخيير - لا بهما معا، حتى
يتوهم التكليف بالمحال - لكن مع تحقق الاثم بترك ما تركه، لتقصيره بتأخيره.
وأما على الثاني: فلما عرفت، فتأمل.
وأما في الموسع مطلقا والمؤقت المضيق: فقد يتوهم أن هذا الوقت
المضيق، لما (4) صار متعينا لوقوع هذا الواجب المضيق فيه، خرج عن (5) أن
يكون وقتا لهذا الواجب الموسع، فلم يتحقق الامر فيه بالواجب الموسع، فإذا
فعل فيه يكون باطلا، وفيه بحث، لان خروجه عن وقتية (6) الموسع ممنوع.
فإن قلت: فما الفائدة في جعل هذا الوقت المضيق، الذي ليس إلا بقدر
الواجب المضيق، وقتا له على التعيين، وللموسع على التخيير؟.
قلت: الفائدة فيه أنه لو عصى المكلف وترك فيه الواجب المضيق، ولكن
أتى فيه بالموسع، يكون مؤديا للموسع غير فايت له (7)، وكذا الكلام في الموسع

(1) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: تخييرا.
(2) أسقط حرف النفي من ط.
(3) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: من.
(4) كلمة (لما) ساقطة من الأصل، وأثبتناها من سائر النسخ.
(5) في ط: من.
(6) في أ وط: وقته.
(7) كذا في النسخ: والمراد: مفوت. وقد اتفق للمصنف رحمه الله أمثال هذه المسامحات اللفظية
في مواضع اخر من كتابنا هذا فلاحظ. ويحتمل أن يكون في المقام محذوف، والتقدير: فالموسع
غير فائت له.
225

مطلقا، والمضيق غير المؤقت.
إذا عرفت هذا، عرفت أن القول بأن الامر بالشئ يستلزم عدم الامر
بضده - غير صحيح، إلا في المضيقين المؤقتين، وأما فيهما (1) فهو صحيح، لكن
لم يقع من هذا القبيل شئ في الشرع، ولو وقع يكون محمولا على الوجوب
التخييري، فلا يمكن الاستدلال فيه أيضا على بطلان أحدهما.
ثم نقول: وهل الامر بالشئ يستلزم عدم طلب ضده على طريق
الاستحباب؟ أو لا؟ الأظهر عدم الاستلزام فيه أيضا.
وتظهر الفائدة فيمن صلى نافلة الزوال في وقت الكسوف، قبل صلاة
الكسوف، بحيث يفوته الفرض، فإن قلنا بالاستلزام، تكون النافلة باطلة،
ويحتاج إلى الإعادة، وإلا فلا.
والحق الثاني، إذ لا تناقض في إيجاب عبادة في وقت خاص، واستحباب
أخرى فيه بعينه، ولا شك في صحة التصريح به، من غير توهم تناقض، بأن
يقول: أوجبت عليك الفعل الفلاني في الوقت الفلاني، وندبت عليك الفعل
الفلاني في هذا الوقت بعينه، بحيث لو عصيت وتركت الفعل الذي أوجبته
عليك فيه وأتيت بما ندبت عليك فيه، كنت مذموما لتركك الواجب، وممدوحا
لفعلك المندوب، ولو كان وجوب الشئ في وقت منافيا لاستحباب آخر فيه،
لكان هذا الكلام مشتملا على التناقض، مع أنه ليس كذلك ضرورة.
ولا يجري هذا في الواجبين المؤقتين المضيقين، لأنه لا يمكن للمكلف
بهما الخلاص من الاثم على هذا التقدير، بخلاف ما نحن فيه، لأنه يمكنه
ترك النافلة.
فإن قلت: إذا علم الشارع أن فعل هذا النافلة مما لا ينفك عن

(1) كذا الظاهر، وفي النسخ: وفيه.
226

العصيان، يقبح منه طلبها.
قلت: الموجب للعصيان هو إرادة ترك الواجب، واستحباب هذه النافلة
إنما هو على تقدير تحقق هذه الإرادة، فكأنه قال: إن اخترت إرادة هذا الواجب
فلا أطلب منك شيئا غيره، وإن اخترت عدم فعل هذا الواجب، فقد عصيت،
ولكن حينئذ أطلب منك هذا المندوب.
فان قلت: هذا (1) يرفع كون التكليف بهما معا في حال واحدة.
قلت: نحن ننزل الخطاب الوجوبي والاستحبابي - لو وردا - على هذا
المعنى، فلا يمكن الاستدلال على بطلان المستحب، بسبب الخطاب الوجوبي،
على أنه على تقدير إرادة عدم الوجوب يقع التكليف بهما معا، فتأمل.
إذا عرفت هذا: فاستحباب شئ في وقت، يكون بعض ذلك الوقت
وقتا لواجب مضيق، يكون جائزا بالطريق الأولى، إذ يمكن حينئذ انفكاك
الفعل المستحب عن العصيان، بخلاف الأول، فإنه لا ينفك عن العصيان،
وإن لم يكن هو الموجب له، بل الموجب سوء الاختيار.
واعلم (2): أن من قال بأن الامر بالشئ يستلزم النهي عن ضده، إنما
يقول به في الواجب المضيق، كما صرح به جماعة، إذ لا يقول عاقل بأنه إذا
زالت الشمس مثلا، حرم الأكل والشرب والنوم وغيرها من أضداد الصلاة،
قبل فعل الصلاة.
ثم اعلم: أنه إيراد مقدمة الواجب والنهي عن الضد في هذا القسم إنما
هو إذا لم يكن وجوب المقدمة وتحريم الضد، على القول به، من باب دلالة
اللفظ، كما قيل به، ولكنه بعيد على هذا القول أيضا.
ولما كانت أدلة اقتضاء الامر بالشئ النهي عن الضد ضعيفة، فالأولى
عدم التعرض ل‍:

(1) كذا في ط، وفي الأصل وأ وب: فهذا.
(2) كلمة (واعلم): ساقطة من الأصل وقد أثبتناها من سائر النسخ.
227

أن النهي عن الشئ هل يقتضي الامر بضده؟ أو لا؟
وهل استحباب الشئ يقتضي كراهة ضده وبالعكس؟ أو لا؟
والثالث: المنطوق غير الصحيح.
وهو ما لم يوضع له اللفظ، بل يكون مما يلزم لما وضع له اللفظ، وهو
أقسام:
الأول: ما يتوقف صدق المعنى، أو صحته عليه، ويسمى بدلالة
الاقتضاء.
فالصدوق: نحو: " رفع عن أمتي: الخطأ، والنسيان " (1) فإن صدقه
يتوقف على تقدير المؤاخذة، لوقوعهما من (2) غير المعصوم عليه السلام.
والصحة: نحو * (واسأل القرية) * (3).
وحجية هذا القسم ظاهرة، إذا كان الموقوف عليه مقطوعا به.
الثاني: ما يقترن بحكم على وجه، يفهم منه أنه علة لذلك الحكم،
فيلزمه (4) جريان هذا الحكم في غير هذا المورد، مما اقترنت به، ويسمى بدلالة
التنبيه والايماء، نحو قوله عليه السلام: " أعتق رقبة " حين قال له الأعرابي:
واقعت أهلي في شهر رمضان (5)، فإنه يفهم (6) منه أن علة وجوب العتق هي
المواقعة، فيجب في كل موضع تحققت.
وهو حجة إذا علم العلية، وعدم مدخلية خصوص الواقعة (7)، فإن مدار

(1) الكافي: 2 / 462 - كتاب الايمان والكفر / باب ما رفع عن الأمة ح 2، الفقيه: 1 / 59 ح
132 (لكن فيهما: وضع. بدل: رفع) الخصال: 2 / 417 - باب التسعة.
(2) في أ وط: عن.
(3) يوسف / 82.
(4) في ط: فيلزم.
(5) الفقيه: 2 / 115 ح 1885.
(6) في أ وط: يعلم.
(7) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: المواقعة.
228

الاستدلال في الكتب الفقهية عليه، وهذا هو مراد المحقق في المعتبر (1)، حيث
حكم بحجية تنقيح المناط القطعي، كما إذا قيل له عليه السلام: صليت مع
النجاسة؟ فيقول عليه السلام: أعد صلاتك، فإنه يعلم منه، أن علة الإعادة
هي النجاسة في البدن أو الثوب، ولا مدخلية لخصوص المصلي، أو الصلاة.
الثالث: ما لم يقصد عرفا من الكلام، ولكن يلزم المقصود، نحو قوله
تعالى: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * (2) مع قوله تعالى: * (وفصاله في
عامين) * (3) علم منهما أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإن المقصود (4) في الأولى
بيان حق الوالدة وتعبها، وفي الثانية بيان مدة الفصال، فلزم منهما: العلم بأقل
مدة الحمل، ويسمى بدلالة الإشارة، وحجيته ظاهرة إذا كان اللازم قطعيا.
والرابع: المفهوم.
وينقسم إلى موافقة ومخالفة، لان حكم غير المذكور: إما موافق لحكم
المذكور نفيا وإثباتا، أو لا، والأول الأول، والثاني الثاني.
والأول: يسمى بفحوى الخطاب، ولحن الخطاب، وضرب له أمثلة.
منها: قوله تعالى: * (فلا تقل لهما أف، ولا تنهرهما) * (5) فإنه يعلم من
حال التأفيف - وهو محل النطق - حال الضرب، وهو غير محل النطق، وهما
متفقان في الحرمة.
ومنها: قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال
ذرة شرا يره) * (6).
ومنها: قوله تعالى: * (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يوده إليك

(1) نص المحقق الحلي على هذا في: معارج الأصول: 185.
(2) الأحقاف / 15.
(3) لقمان / 14.
(4) في ب وط: المراد.
(5) الاسراء / 23.
(6) الزلزلة / 7، 8.
229

ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) * (1).
فإنه يعلم منه (2) مجازاة ما فوق الذرة في الأول، وتأدية ما دون القنطار في
الثاني، وعدم ما فوقه في الثالث، فهو تنبيه بالأدنى - أي: الأقل مناسبة - على
الاعلى، أي: الأكثر مناسبة.
وهو حجة إذا كان قطعيا، أي: كون (3) التعليل بالمعنى المناسب -
كالاكرام في منع التأفيف، وعدم تضييع الاحسان، والإساءة في الجزاء،
والأمانة في أداء القنطار، وعدمها في أداء الدينار، وكونه أشد مناسبة للفرع،
قطعيين، كالأمثلة المذكورة.
وأما إذا كانا ظنيين: فهو مما يرجع إلى القياس المنهي عنه (4)، كما يقال.
(يكره جلوس المجبوب الصائم في الماء، لأجل ثبوت كراهة جلوس المرأة
الصائمة في الماء)، ويقال: (إذا كان اليمين غير الغموس توجب الكفارة،
فالغموس أولى)، لعدم تيقن كون العلة في الأول جذب الماء بالفرج، وفي الثاني
الزجر.

(1) آل عمران / 75.
(2) كلمه (منه): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(3) كذا الظاهر، وفي النسخ: يكون.
(4) ويدل على بطلان هذا القسم من القياس ما رواه ابن بابويه في الصحيح " عن عبد الرحمن بن
الحجاج، عن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد الله (ع): ما تقول في رجل قطع إصبعا من
أصابع المرأة، كم فيها؟ قال: عشرة من الإبل. قلت: قطع اثنتين؟ قال: عشرون. قلت:
قطع ثلاثا؟ قال ثلاثون. قلت قطع أربعا؟ قال: عشرون. قلت سبحان الله! يقطع ثلاثا
فيكون عليه ثلاثون ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون! إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ
ممن قاله، ونقول: الذي قاله شيطان. فقال: مهلا يا أبان، هكذا حكم رسول الله صلى الله عليه وآله. إن
المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت رجعت المرأة إلى النصف، يا أبان انك أخذتني
بالقياس، والسنة إذا قيست محق الدين ". (منه رحمه الله).
230

والثاني أقسام:
الأول: مفهوم الصفة، نحو قوله (1): " في الغنم السائمة زكاة " (2)
ومفهومه: نفي الزكاة عن المعلوفة.
الثاني: مفهوم الشرط، نحو: " إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا " (3)
مفهومه: نجاسة الماء القليل.
الثالث: مفهوم الغاية، مثل: * (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا
غيره) * (4) مفهومه: أنها إذا نكحت زوجا غيره تحل.
الرابع: مفهوم العدد الخاص، مثل: * (فاجلدوهم ثمانين جلدة) (5)
مفهومه: عدم وجوب الزائد على الثمانين.
الخامس: مفهوم الحصر، مثل: (المنطلق زيد) مفهومه: نفي الانطلاق
عن غيره.
وعد بعضهم مفهوم الاستثناء، ومفهوم (إنما).
والحق: أن دلالتهما على ما يفهم منهما - من المنطوق، على تقدير ثبوت أن
(إنما) بمعنى: (ما) و (إلا).
وعلى تقدير كونه بمعنى: (إن) التأكيدية و (ما) الزائدة، فلا مفهوم له
أصلا، وذلك لان المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق، أي: يكون حكما
للمذكور، وحالا من أحواله، سواء ذكر ذلك الحكم ونطق به أو لا، والمفهوم
بخلافه، ولا يخفى أنا إذا قلنا: (ما جاء القوم إلا زيد) فنفي الجيأة (6) عما عدا

(1) كلمة (قوله): إضافة من ب.
(2) مثل به السيد في الذريعة: 1 / 399، والغزالي في المستصفى: 2 / 191، وغيرهما.
(3) غوالي اللآلي: 1 / 76 و 612.
(4) البقرة / 230.
(5) النور / 4.
(6) في أ وط: المجيأة.
231

زيد من القوم، مما نطق به، وكذا: (ما جاء إلا زيد)، لان المقدر كالمذكور.
السادس: مفهوم الزمان والمكان، مثل: (أفعله (1) في هذا اليوم) أو: (في
هذا المكان) ومفهومه: نفي الفعل في غير ذلك الزمان والمكان.
وقد وقع الخلاف في حجية المفهوم بأقسامه (2):
فالسيد المرتضى (3)، وجماعة من العامة أيضا (4): أنكروا حجية جميع
أقسامه.
والشيخ الطوسي رحمه الله: قال بحجية مفهوم الصفة (5)، ومال إليه
الشهيد (6)، وبه قال أكثر العامة (7).
والظاهر: أن قال بمفهومه الصفة، يعترف بحجية: مفهوم الشرط،
والغاية، والزمان، والمكان، لان الأولين أولى منه، والأخيرين في معناه.
ومختار المرتضى رحمه الله قوي.
ولما كان حجية مفهوم الغاية أقوى من باقي الأقسام، فنحن نتكلم فيه
ويظهر منه حال البواقي، من غير تأمل، فنقول:

(1) في ب: فعله: وفي ط: افعل.
(2) كذا في أ وب، وفي الأصل وط: باقسام.
(3) الذريعة: 1 / 392.
(4) فقد أنكره أبو حنيفة، كما في المنخول: 209، وهو مذهب الأحناف والقاضي أبي بكر وأبي
العباس بن سريج والقفال الشاشي والغزالي، كما في الأبهاج: 1 / 371، وقوم من المتكلمين،
كما في التبصرة: 218، والآمدي، كما في التمهيد: 245، 253.
(5) لم نجد في العدة ما يدل على صحة هذه النسبة، بل قال الشيخ بعد نقله كلاما مبسوطا للسيد
المرتضى في الاستدلال على عدم حجية الوصف - قال: ولي في هذه المسألة نظر. عدة
الأصول 2 / 25.
(6) الذكرى: 5 / المقدمة / الإشارة السادسة / الأصل الرابع / القسم الثاني / قوله خامسا.
(7) فقد ذهب إلى ذلك الشافعي والجمهور، كما في التمهيد: 245، 253، وأبو الحسن وأبو
عبيدة معمر بن المثنى، وجمع كثير من الفقهاء والمتكلمين، كما في الأبهاج 1 / 371، والشيرازي
في التبصرة: 218.
232

لنا: أن قول القائل: (صوموا إلى الليل) لا يدل على نفي وجوب صوم
الليل بوجه، أما المطابقة والتضمن: فظاهر، وأما الالتزام: فلانه لا ملازمة بين
وجوب صوم النهار وعدم وجوب صوم الليل، وهو ظاهر.
فإن قلت: نحن ندعي أن مفهوم الغاية وغيره (1) مما يلزم المنطوق لزوما
غير بين، كوجوب مقدمة الواجب ونحوه، ولهذا أدرجناه في الأدلة العقلية.
قلت: ليس ههنا ما يوجب القول بالمفهوم، كما ستعرف من ضعف أدلة
الخصم.
احتج الخصم بوجوه ضعيفة، أقواها: أن التعليق على الغاية والشرط
والصفة وغيرها، يجب أن يكون لفائدة، والفائدة هي مخالفة حكم المذكور
للمسكوت عنه، لان الأصل عدم غيرها من الفوائد، وهي أمور:
الأول: أن يكون قد خرج مخرج الأغلب، مثل: * (وربائبكم اللاتي في
حجوركم) * (2)، فإن الغالب كون الربائب في الحجور، فقيد لذلك، لا لان
حكم اللاتي لسن في الحجور بخلافه.
الثاني: أن يكون لسؤال سائل عن المذكور، أو لحادثة مخصوصة به، مثل
أن يسأل: هل في الغنم السائمة زكاة؟ فيقول: في الغنم السائمة زكاة. أو يكون
الغرض بيان ذلك لمن له السائمة دون المعلوفة.
الثالث: أن تكون المصلحة في السكوت عن المسكوت عنه، وعدم
إعلام حاله.
وغير ذلك من الفوائد المذكورة في المطولات.
والمخالفة مما لا يحتاج إلى القرينة، بخلاف الفوائد الاخر، فإنها محتاجة
إلى القرائن الخارجة (3)، فيصير عند عدم القرينة من قبيل اللفظ المردد بين

(1) في ط: ونحوه.
(2) النساء / 23.
(3) في ط: الخارجية.
233

المعنى الحقيقي والمجازي، فظاهر أنه محمول على المعنى الحقيقي، عند
التجرد عن القرينة.
والجواب: أن هذه الفوائد كلها متساوية (1) في الاحتياج إلى القرينة وليس
للمخالفة المذكورة رجحان على غيرها من الفوائد، ليحمل عليه عند عدم
ظهور القرينة، بل يمكن أن يقال: إن الفائدة الثالثة، وهي المصلحة في عدم
الاعلام، راجحة على غيرها، سيما في كلام الأئمة صلوات الله عليهم.
فظهر بطلان ادعاء اللزوم غير البين بين المفهوم والمنطوق.
واحتج صاحب المعالم على الدلالة الالتزامية في مفهوم الغاية ب‍: أن قول
القائل: (صوموا إلى الليل) معناه: آخر وجوب الصوم مجئ الليل، فلو فرض
ثبوت الوجوب بعد مجيئه، لم يكن الليل آخرا، وهو خلاف المنطوق (2) - وقريب
منه استدلال ابن الحاجب في مختصره (3) - وقال بعد ذلك في جواب السيد:
اللزوم هنا ظاهر، إذ لا ينفك تصور الصوم المقيد بكون آخره الليل مثلا، عن
عدمه في الليل (4).
والجواب: لا نسلم أن معناه ذلك، بل معناه: أريد منكم الامساك
الخاص في زمان أوله طلوع الفجر، وآخره الليل. وظاهر: أن مطلوبية الامساك
في القطعة الخاصة من الزمان، لا تستلزم عدم مطلوبيته فيما بعد تلك القطعة،
بل يجوز أن يكون فيما بعدها أيضا مطلوبا موسعا، لكن سكت عنه لمصلحة
اقتضت ذلك، فقول القائل: (صوموا إلى الليل) يستفاد منه أن الصوم الواجب
بذلك الخطاب انتهاؤه الليل، وهذا لا يجدي الخصم.
وقوله في بيان اللزوم: " إذ لا ينفك تصور الصوم المقيد بكون آخره الليل

(1) كذا في أ وط، وفي الأصل وب: مساوية.
(2) معالم الدين: 81.
(3) شرح العضد: 2 / 320 (لاحظ المتن).
(4) معالم الدين: 82.
234

مثلا عن عدمه في الليل " لا يخفى ما فيه، فإن مدلول قول القائل: (صوموا إلى
الليل) هو مطلوبية الصوم - أي الامساك - إلى الليل، وليس لفظة (إلى الليل)
صفة للصوم، حتى يكون المعنى مطلوبية الصوم الموصوف بكونه منتهيا إلى
الليل، مع أنه على تقدير الوصفية أيضا يرجع إلى مفهوم الوصف، وهو
ينكره (1)، فليس للمفهوم لزوم ذهني مع المنطوق.
واحتج أيضا على حجية مفهوم الشرط ب‍: أن قول القائل: (أعط زيدا
درهما إن أكرمك) يجري في العرف مجرى قولنا: الشرط في إعطائه إكرامك.
والمتبادر من هذا: انتفاء الاعطاء عند انتفاء الاكرام قطعا، فيكون الأول أيضا
هكذا (2).
ولا يخفى ما فيه، إذ لا يلزم أن يكون ما يتبادر من لفظ الشرط متبادرا
من (إن) المسماة في العرف بحرف الشرط، بل هو قياس لكلام على كلام آخر
من غير بيان الجامع، مع أن ادعاء التبادر من الثاني أيضا منظور فيه، فتأمل.
ثم لا يذهب عليك: أن ثمرة الخلاف إنما تظهر إذا كان المفهوم مخالفا
للأصل، نحو: (ليس في الغنم المعلوفة زكاة) أو: (ليس في الغنم زكاة إذا
كانت معلوفة) أو: (ليس في الغنم زكاة إلى أن تسوم) فهل يجوز بمجرد هذا
مثلا، القول بوجوب الزكاة في السائمة؟ أو لا؟ فأنكره المرتضى (3)، وقد عرفت
حقيقة الحال.
وأما إذا كان موافقا للأصل: نحو: (في الغنم السائمة زكاة)، فإن نفي
الزكاة عن المعلوفة هو المقتضي لبراءة الذمة، فلا يظهر للخلاف فيه ثمرة يعتد
بها.
وكأن المفهوم في هذا القسم لما كان مركوزا في العقول، بسبب موافقة

(1) أي: عدم الصوم في الليل. (منه رحمه الله).
(2) معالم الدين: 77 - 78.
(3) الذريعة: 1 / 394 و 406 و 407.
235

الأصل، ادعي أنه حجة، ومتبادر من حكم المنطوق، ويؤيده: أن الأمثلة
المذكورة في استدلالهم، كلها من هذا القبيل.
واحتج بعضهم على حجية مفهوم الشرط والصفة، بأن هذا النحو من
التعليق يشعر بالعلية، والعلة منتفية في المفهوم بحسب الفرض، والأصل عدم
علة أخرى، فينتفي فيه حكم المنطوق (1).
والجواب: - بعد تسليم اعتبار (2) مطلق العلة منصوصة كانت أو
مستنبطة - أن هذا النحو من الاستدلال صحيح، لرجوعه إلى أصالة براءة
الذمة كما عرفت، ولا مدخلية للمنطوق فيه، مثلا: لو لم يكن النص الدال على
وجوب الزكاة في السائمة متحققا، أمكن إجراء هذا الاستدلال على نفي الزكاة
في المعلوفة، بأن يقال: الأصل عدم تحقق علل وجوب الزكاة في المعلوفة،
فينتفي وجوب الزكاة فيها.
والخامس: القياس.
وهو: إثبات الحكم في محل، بعلة، لثبوته في محل آخر بتلك العلة.
واختلف في حجيته (3)، ولا خلاف بين الشيعة في عدم حجيته، ما لم
ينص على العلة (4) - مثل أن يقول: (حرمت الخمر)، فلا يجوز بمجرد هذا
القول، الحكم بتحريم غيره من المسكرات، بسبب ظن أن علة حرمة الخمر
هي الاسكار، وهو متحقق في غيره - إلا ما نقل عن ابن الجنيد: أنه كان يقول
به (5) ثم رجع (6).

(1) المحصول: 1 / 266 (الثالث)، المنتهى: 152. وتقرير الدليل للمصنف.
(2) في ب: اختيار.
(3) المستصفى: 2 / 234، المحصول: 2 / 245، المنتهى: 186، 188.
(4) الذريعة: 2 / 697، عدة الأصول: 2 / 90، معارج الأصول: 187.
(5) الفهرست: 134 ترجمة رقم 590، و: رجال النجاشي: 388 ترجمة رقم 1047.
(6) لم نجد من نص على ذلك، حتى نسب في الفوائد المدنية (ص 135) رجوعه عنه إلى القيل.
236

بل إنكار القياس قد صار متواترا عندنا.
واختلف أصحابنا في حجية القياس المنصوص العلة، مثل أن يقول:
(حرمت الخمر لاسكاره)، فهل يجوز القول بتحريم غيره من المسكرات بمجرد
ذلك؟ أو لا؟
فأنكره السيد المرتضى (1).
وقال به العلامة (2) وجماعة (3).
والحق أن يقال: إذا حصل القطع بأن الامر الفلاني علة لحكم خاص،
من غير مدخلية شئ آخر في العلية، وعلم وجود تلك العلة في محل آخر، لا
بالظن بل بالعلم، فإنه حينئذ يلزم القول بذلك الحكم في هذا المحل الآخر،
لان الأصل حينئذ يصير من قبيل النص على حكم كل ما فيه تلك العلة،
فيخرج في الحقيقة عن القياس. وهذا مختار المحقق أيضا (4).
ولكن هذا في الحقيقة قول بنفي حجية القياس المنصوص العلة، إذ
حصول هذين القطعين (5) مما يكاد ينخرط في سلك المحالات، إلا في تنقيح
المناط، على ما مر.
واعلم: ان للعلم بالعلة عند القايسين طرقا:
منها: النص عليها، وله مراتب:
صريح، وهو: ما دل وضعا، مثل: (لعله كذا) أو (6): (لأجل كذا) أو:
(كي يكون كذا) أو: (إذن يكون كذا) أو: (لكذا) أو: (بكذا) إذا كانت

(1) الذريعة: 2 / 684.
(2) تهذيب الوصول: 84 - 85.
(3) معالم الدين: 229.
(4) معارج الأصول: 185 / المسألة الرابعة.
(5) بل الأول. (منه رحمه الله).
(6) كذا في ب وط، وفي الأصل وأ: و.
237

(الباء) للسببية (1)، أو: (فإنه كذا).
وتنبيه وإيماء، وهو: ما لزم مدلول اللفظ، وضابطه: كل اقتران بوصف،
لو لم يكن للتعليل لكان بعيدا، مثل ما مر من قصة الأعرابي (2)، فكأنه عليه
السلام في جوابه قال: واقعت فكفر.
وهذا القسم قد (3) يصير قطعيا، فإنه إذا علم عدم مدخلية بعض
الأوصاف، فحذف، وعلل بالباقي، سمي تنقيح المناط القطعي، كما يقال:
إن كونه أعرابيا لا مدخل له في العلية، إذ الهندي والأعرابي حكمهما واحد في
الشرع، وكذا كون المحل أهلا، فإن الزنا أجدر به، وعند الحنفية: لا مدخلية
لكونه وقاعا، فيكون الاكل وغيره من مفسدات الصوم كذلك (4).
وقد يكون ظنيا، محتملا لعدم قصد الجواب، كما يقول العبد: (طلعت
الشمس) فيقول السيد: (إسقني ماءا).
ومن الايماء: ما روي من قوله عليه السلام، حين قالت له الخثعمية: " إن
أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج، فإن حجحت عنه، أينفعه ذلك؟ فقال
صلى الله عليه وآله: أرأيت لو كان على أبيك دين، فقضيته، أكان ينفعه
ذلك؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى " (5).
ومنه: أن يفرق بين حكمين بوصفين، مثل: " للراجل سهم، وللفارس
سهمان " (6).

(1) وردت هذه الجملة في نسخة أ كما يلي: مثل لعلة كذا، ولأجل كذا، وكي يكون كذا، ولكذا،
أو بكذا، إذا كانت الباء للسببية. وفي ط: مثل للعلة كذا، أو لأجل كذا، أو كي يكون كذا،
أو اذن يكون كذا، ولكذا، وبكذا، إذا كانت الباء للسببية.
(2) انظر ص 228.
(3) كلمة (قد): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(4) أصول السرخسي: 1 / 244 - 245، 2 / 153 - 154.
(5) دعائم الاسلام: 1 / 336.
(6) الكافي: 5 / 44 - كتاب الجهاد / باب قسمة الغنيمة ح 2.
238

ومنه: تعليق الحكم على الوصف المناسب، مثل (أكرم العلماء).
ومنها: السبر والتقسيم، وهو: حصر الأوصاف الموجودة في الأصل -
الصالحة للتعليل - في عدد، ثم إبطال بعضها، وهو ما سوى الذي يدعى أنه
العلة، كما يقال في قياس الذرة على البر في الربوية: إن الأوصاف الصالحة
للعلية في البر ليس إلا القوت والطعم والكيل، لكن القوت والطعم لا يصلح
للعلية، فتعين الكيل.
ومنها: تخريج المناط، وهو: تعيين العلة في الأصل بمجرد المناسبة بينها
وبين الحكم في الأصل، لا بالنص ولا بغيره، كالاسكار للتحريم، فإن النظر
في المسكر وحكمه ووصفه، يوجب العلم بكون الاسكار مناسبا لشرع
التحريم، وكالقتل العمد العدوان، فإنه بالنظر إلى ذاته مناسب لشرع
القصاص.
والمناسب - اصطلاحا -: وصف ظاهر منضبط، يحصل من ترتب الحكم
على (1) ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء: من حصول مصلحة، أو دفع
مفسدة. وفي هذه الطريقة لا يحتاج إلى السبر.
ويرد على القياس - بعد الايرادات المذكورة في المطولات -: أنه قد لا
تكون علة الحكم في الشئ شيئا من أوصاف ذلك الشئ، كما يدل عليه قوله
تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * الآية (2)،
وفي آية أخرى: * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم
حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما) * الآية (3)، فإنه يدل على أن علة
تحريم هذه الأشياء عصيانهم، لا أوصاف تلك الأشياء، فتأمل. * * *

(1) كذا الصواب، وفي النسخ: عليه. بدل: على.
(2) النساء 160.
(3) الانعام / 146.
239

الباب الخامس
في الاجتهاد والتقليد
وفيه مباحث
241

الأول:
الاجتهاد في اللغة: تحمل الجهد، وهو: المشقة (1).
وفي الاصطلاح:
المشهور: أنه استفراغ الوسع من الفقيه، في تحصيل الظن بحكم
شرعي (2).
وعندي أن الأولى في تعريفه: أنه صرف العالم بالمدارك وأحكامها نظره
في ترجيح (3) الأحكام الشرعية الفرعية.
فدخل القطعيات النظرية.
وخرج الشرعية الأصلية.
ولم يستعمل فيه (الفقيه) مع خفاء معناه ههنا (4).

(1) المصباح المنير / مادة: جهد.
(2) المنتهى: 209، معالم الدين: 238.
(3) لفظة (ترجيح) ساقطة من ب.
(4) لاحظ تفصيل هذه الدعوى في: الفوائد المدنية: 93 / الوجه الثامن.
243

والمدارك: قد علم كميتها وحقيقتها سابقا.
والمراد ب‍ (أحكامها): أحوال التعادل والترجيح وسيجئ إن شاء الله
تعالى.
وسيجئ تحقيق ما يحصل بسببه العلم بالمدارك.
البحث الثاني:
في أن الاجتهاد هل يقبل التجزية؟ أو لا؟ بمعنى: جريانه في بعض
المسائل دون بعض، وذلك بأن يحصل للعالم ما هو مناط الاجتهاد في بعض
المسائل، دون بعض آخر، وقد اختلف فيه، فالأكثر على أن يقبل التجزية،
وقيل بعدمه.
والحق الأول لوجوه:
الأول: أنه إذا اطلع على دليل مسألة بالاستقصاء، فقد ساوى المجتهد
المطلق في تلك ا لمسألة، وعدم علمه بأدلة غيرها لا مدخل له فيها.
فإن قلت: لا يمكن العلم بعدم المعارض (1) والمخصص بدون الإحاطة
بجميع مدارك الأحكام، فبطل التساوي.
قلت: إنكار حصول الظن بعدم المعارض مكابرة، بل قد يحصل العلم
من العادة بالعدم، فإن المسائل التي وقع فيها الخلاف، وأوردها جمع كثير من
الفقهاء في كتبهم الاستدلالية، واستدلوا عليها نفيا وإثباتا، مما تحكم العادة بأن
ليس لها مدارك غير ما ذكروه، ولا أقل من حصول ظن قوي متاخم من العلم.
فإن قلت: التمسك في جواز اعتماد المتجزي على استنباطه، بمساواته
للمجتهد المطلق، قياس غير معلوم العلة، فيكون باطلا.

(1) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: المعارضة.
244

مع أنه: يمكن أن تكون العلة في المجتهد المطلق، هي: قدرته على
استنباط المسائل كلها، فإن القوة الكاملة أبعد عن احتمال الخطأ من الناقصة.
قلت: البديهة تحكم بالمساواة حينئذ، بمعنى: أن كل ما دل على جواز
اعتماد المجتهد المطلق على ظنه، دل على الجواز في المتجزي أيضا، كما سيجئ
في آخر هذا البحث.
وقوله بأن قوة الأول كاملة دون الثاني:
إن أراد ب‍ (الكمال) الشمول والعموم، فالعقل يحكم بأنه لا يصلح
للعلية، إذ العلة يجب أن تكون مناسبة، وظاهر أن الظن بأن المتعة (1) مثلا ترث
أو لا ترث؟ أو الرضاع الناشر للحرمة خمس عشرة أو عشر؟ - لا دخل له في
جواز الاعتماد على الظن بوجوب السورة مثلا في الصلاة، والمنكر مكابر مقتضى
عقله.
وإن أراد أن ظن العالم بالكل بوجوب السورة مثلا، يكون أقوى من
ظن المتجزي بوجوب السورة، وإن اطلع على جميع أدلة وجوب السورة - فهذا
مجرد دعوى يحكم أول النظر ببطلانها.
الثاني: أن التقليد مذموم، وخلاف الأصل أيضا، فإن الأصل عدم
وجوب اتباع غير المعصوم، خرج عنه العامي الصرف، لدليل على وجوب
التقليد في حقه، فيبقى المتجزي والمطلق، لعدم المخرج في حقهما.
فإن قلت: نحن نقلب هذا الدليل في المتجزي، فنقول: اتباع الظن
مذموم، بل وخلاف الأصل أيضا، إذ الأصل عدم وجوب اتباع غير القطع،
خرج عنه المجتهد المطلق، لدليل أخرجه، فبقي المتجزي، لعدم المخرج فيه.
قلت: المخرج فيه متحقق، فإنه ليس له بد من اتباع الظن: إما الظن

(1) أي: المتمتع بها، وهي المنكوحة بالعقد المنقطع. و: المتعة: اسم التمتع - كما في المصباح -
فاطلاقه على المتمتع بها مسامحة منه.
245

الحاصل من التقليد، أو الظن الحاصل من الاجتهاد، فكيف يكون هو منهيا
عن اتباع الظن على الاطلاق بخلاف التقليد؟!
وتقريره الدليل بعبارة أخرى: جواز التقليد مشروط بعدم جواز العمل
بالدليل - أي: الاجتهاد - فما لم يحصل القطع بعدم جواز الاجتهاد، لم يحصل
القطع بجواز التقليد - وكذا الظن على تقدير الاكتفاء به في الأصول - ولا دليل
على عدم جواز عمل (1) المتجزي بالأدلة الشرعية، حتى يحصل القطع أو الظن
بالشرط، فينتفي العلم أو الظن (2) بجواز تقليد المتجزي، وإذا كان هناك
أمران، أحدهما مرتب (3) على الآخر، فلا يعدل من الأصل إلى الفرع إلا مع
القطع أو الظن بوجوب العدول.
والثالث: أن أوامر وجوب العمل بأوامر الرسول ونواهيه - وكذا خلفاؤه -
عام، خرج عنه العامي الصرف إجماعا، لعدم إمكان العمل في حقه، فيبقى
المتجزي.
والوجهان متقاربا المأخذ.
قال في الذكرى: وعليه - أي على صحة التجزي - نبه في مشهور أبي
خديجة، عن الصادق عليه السلام: " انظروا إلى رجل منكم، يعلم شيئا من
قضايانا، فاجعلوه بينكم قاضيا، فإني قد جعلته قاضيا عليكم " (4).
قال في المعالم - بعد إيراد تحقيق له قد ظهر مما مر جوابه -: " لكن التعويل
في اعتماد ظن المجتهد المطلق، إنما هو على دليل قطعي وهو إجماع الأمة عليه،
وقضاء الضرورة به، وأقصى ما يتصور في موضع النزاع أن يحصل دليل ظني
يدل على مساواة التجزي للاجتهاد المطلق، واعتماد المتجزي عليه يفضي إلى

(1) كلمة (عمل): ساقطة من الأصل وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(2) كذا في أ وط، وفي الأصل وب: والظن.
(3) في ط: مترتب.
(4) الذكرى: 3 / المقدمة / الاشار الثالثة / ذيل الامر الثالث عشر.
246

الدور، لأنه تجز في مسألة التجزي، وتعلق بالظن في العمل بالظن. ورجوعه
في ذلك إلى فتوى المجتهد المطلق، وإن كان ممكنا، لكنه خلاف المراد، إذ
الفرض إلحاقه ابتداءا بالمجتهد، وهذا إلحاق له بالمقلد بحسب الذات، وإن كان
بالعرض إلحاقا بالاجتهاد، ومع ذلك فالحكم في نفسه مستبعد، لاقتضائه (1)
ثبوت الواسطة بين أخذ الحكم بالاستنباط والرجوع فيه إلى التقليد، وإن شئت
قلت: تركب التقليد والاجتهاد، وهو غير معروف " انتهى (2).
وفيه بحث من وجوه:
الأول: أن قوله: " التعويل في اعتماد ظن المجتهد المطلق، إنما هو على
دليل قطعي، وهو إجماع الأمة، وقضاء الضرورة به " - غير صحيح، إذ ظاهر:
أن هذه المسألة مما لم يسأل عنها الإمام عليه السلام، وظاهر: أن العمل بالروايات
في عصر الأئمة عليهم السلام، للرواة، بل وغيرهم، لم يكن موقوفا على إحاطتهم
بمدارك كل الاحكام، والقوة القوية على الاستنباط، بل يظهر بطلانه بأدنى
اطلاع على حقيقة أحوال (3) قدماء الأصحاب.
والحاصل: أن العلم بالاجماع الذي يقطع بدخول المعصوم عليه السلام
في هذه المسألة، بل وفي غيرها من المسائل التي لم يوجد فيها نص شرعي - مما
لا يكاد يمكن.
وقوله: " وقضاء الضرورة به ":
إن أراد: حكم بديهة العقل به من غير ملاحظة أمر خارج، فظاهر
البطلان، إذ العمل بالظن ونحو ذلك، ليس من البديهيات الصرفة.
وإن أراد: حكم العقل به، بسبب أنه إذا احتاج المكلف إلى العمل،
وانحصر طريقه في الاجتهاد والتقليد، فالبديهة تحكم بتقديم العمل بالحجة

(1) كذا في أ وب وط والمصدر، وفي الأصل: لافضائه.
(2) معالم الدين: 239.
(3) في ط: طريقة. بدل: حقيقة أحوال.
247

الشرعية على التقليد - فهو صحيح، لكنه مشترك بين المجتهد المطلق
والمتجزي.
والحاصل: أن دليل عمل المجتهد المطلق بالأدلة الشرعية، هو ما ذكرنا،
لا ما ذكره من الاجماع، إذ انتفاء الاجماع القطعي هنا من أجلى الأمور.
الثاني: أن قوله: " وأقصى ما يتصور " إلخ - أيضا غير صحيح، لان
الأدلة التي ذكرناها، توجب القطع بجواز عمل المتجزي بالأدلة الشرعية.
الثالث: أن قوله: " واعتماد المتجزي عليه يفضي إلى الدور " - أيضا غير
صحيح، لأنه على تقدير جواز الاعتماد في الأصول على الظن، لا يختص ذلك
بالمجتهد، فمن حصل له الظن من دليل أو أمارة بشئ من المطالب الأصولية
يجوز الاعتماد عليه على ذلك التقدير، مجتهدا كان أو مقلدا، وعلى تقدير عدم
جواز الاعتماد على الظن في الأصول، فهذه المسألة لابد فيها من الاعتماد على
الظن، بناءا على عدم تحقق دليل قطعي على جواز التجزي، إذ عدم تحقق دليل
قطعي دال على جواز التقليد لذلك الشخص أظهر (1).

(1) استدل في حواشي العدة على تعذر المجتهد المطلق بأدلة، ثانيها: انه لو أمكن تحقق المجتهد
المطلق فعلمه أو ظنه بامارة بأنه مجتهد مطلق غير ممكن عادة، فان المجتهدين كانوا لا يدرون
الجواب في كثير من المسائل وليس لهم طريق إلى أن يعلموا أو يظنوا بامارة انهم قادرون بعد
الفكر والمراجعة على الاجتهاد فيه، فيلزم أنه لا يجوز لاحد العمل باجتهاده. وثالثها: أنه لا
يمكن للمقلد العامي أو المتجزي أن يعلم أو يظن بامارة اجتهاد غيره بالاجتهاد المطلق بطريق
أولى، فيلزم ان لا يجوز للعامي أو المتجزي الرجوع إلى المجتهد. ورابعها: أنه لو لم يجز
للمتجزي العمل بظنه لم يمكن له العلم بجواز عمله، لان استدلال المتجزي على وجوب
الاستفتاء من المجتهد المطلق بظاهر قوله * (فاسألوا أهل الذكر) * غير ممكن، لأنه لو علم
المتجزي جواز عمله بالظاهر في مسائل الأصول فعلمه بجواز في الفروع أولى، ويناقض هذا
توقفه في التجزي أو نفيه له. ولو ادعي الاجماع على وجوب عمل المتجزي بهذا الظاهر، وهذا
الظن دون الظواهر والظنون الأخرى في الأصول أو الاجماع على رجوع المتجزي إلى المجتهد
المطلق توجه المنع، وكذا لو ادعي رجوع المتجزي في مسألة جواز عمله بظنه إلى المجتهد المطلق
كما احتمله صاحب المعالم. كيف وهي مسألة أصلية ولا يجري هنا التقليد للمجتهد وبعد
التسليم يجوز فرض الكلام في المتجزي الذي لم يطلع على هذا الاجماع، فيلزم أنه يكون أسوء
حالا من العامي. انتهت عبارته. (منه رحمه الله).
248

فان قلت: يجوز أن يقلد في جواز التقليد.
قلت: الأدلة الدالة على ذم التقليد مطلقا، وفي الأصول خاصة -
لكثرتها - غير قابلة للتأويل، فإذا كان صحة تقليده مبنيا على صحة التقليد في
الأصول كاد أن يحصل القطع ببطلانه، وعلى تقدير التسليم، والقول بصحة
تقليده في الأصول، فيجوز حينئذ (1) له العمل بظنه في الفروع، بعد اعتقاده
الحاصل من التقليد في جواز اعتماده على ظنه.
وقوله: " إنه خلاف الفرض (2) ومستبعد، للزوم الواسطة " - لا يخفى ما
فيه، فإنه على تقدير جواز التقليد في الأصول، لا يتصور ههنا مانع للعمل
بظنه، بعد تقليده في مسألة التجزي والله يعلم.
ثم لا يخفى: أن حصول ملكة العلم بكل الاحكام الواقعية للمجتهد
ممتنع عندنا، لان الأئمة عليهم السلام لم يتمكنوا من إظهار كل الاحكام، نعم
يمكن العلم بالأحكام الظاهرية المتعلقة بعمله في نفسه.
بل الظاهر: أن القول بنفي التجزي إنما هو على طريقة جمع من العامة
القائلين بأن النبي صلى الله عليه وآله أظهر جميع الأحكام بين يدي أصحابه،
وتوفر الدواعي على نقله، فما لم يوجد فيه مدرك، فعدم المدرك فيه، مدرك لعدم
الحكم فيه في الواقع، فحكمه التخيير، وقد عرفت بطلانه عندنا، فإن الأئمة
عليهم السلام، كثيرا ما يتقون على أنفسهم وعلى أصحابهم في بيان الاحكام، بل
ربما يحكمون على شخص معين بحكم معين، لمدخلية بعض خصوصيات ذلك
الشخص في ذلك الحكم كما روى ابن بابويه في الفقيه، في أواخر باب (ما يجوز
للمحرم إتيانه وما لا يجوز) عن خالد بياع القلانس، أنه قال: " سألت أبا

(1) كلمة (حينئذ): زيادة من أ وب وط.
(2) كذا في ط، وفي سائر النسخ: الغرض.
249

عبد الله عليه السلام، عن رجل أتى أهله وعليه طواف النساء؟ قال عليه السلام:
عليه بدنة. ثم جاءه آخر، فسأله عنها؟ فقال عليه السلام: عليه بقرة. ثم جاءه
آخر فسأله عنها؟ فقال عليه السلام: عليه شاة. فقلت - بعد ما قاموا -: أصلحك
الله، كيف قلت: عليه بدنه؟! فقال: أنت موسر، وعليك بدنة، وعلى الوسط
بقرة، وعلى الفقير شاة " (1) فبين عليه السلام بعد السؤال، أن الأول موسر، والثاني
متوسط، والثالث فقير، من غير إشعار في كلامه عليه السلام بمدخلية الأحوال
الثلاث، وهذا مما يقدح أيضا في حصول العلم بنتقيح المناط (2)، فتأمل.
البحث الثالث:
فيما يحتاج إليه المجتهد من العلوم، وهو تسعة، ثلاثة من العلوم
الأدبية، وثلاثة من المعقولات، وثلاثة من المنقولات.
فالأول من الأول: علم اللغة.
والاحتياج إليه: ظاهر، إذ الكتاب والسنة عربيان، ومعاني مفردات
اللغة إنما تبين (3) في علم اللغة.
والثاني: علم الصرف.
والاحتياج إليه: لان تغير المعاني بتصريف المصدر - المبين معناه في علم
اللغة - إلى الماضي والمضارع والامر والنهي ونحوها، إنما يعلم في الصرف.
والثالث: علم النحو.
والاحتياج إليه: أظهر، لان معاني المركبات من الكلام إنما يعلم به.

(1) الفقيه: 2 / 363 ح 2716.
(2) حيث أن العلم بعدم المزية شرط في تعدية الحكم إلى المساوي، فان احتمل وجودها لم تجز
التعدية، كما صرح به المحقق في معارج الأصول: 85 / المسألة الرابعة.
(3) كذا في ط وب، وفي الأصل: يبين، وفي أ: يتبين.
250

والاحتياج إلى هذه العلوم الثلاثة إنما هو لمن لم يكن مطلعا على عرف
النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام، كالعجم مطلقا، والعرب أيضا
في هذه الأزمنة، لا مثل الرواة، ومن قرب زمانه منهم، على أن الاحتياج في
هذه الأزمنة أيضا، متفاوت بالنسبة إلى الأصناف كالعرب والعجم.
والأول من الثاني: علم الأصول.
والاحتياج إليه: لان المطالب الأصولية مما يتوقف عليه استنباط الاحكام،
مثلا: كثير من المسائل يتوقف على ثبوت الحقيقة الشرعية ونفيها، وتحقيقها
إنما هو في الأصول، وكذا على كون الامر للوجوب أو لا؟ وكذا الوحدة والتكرار؟
والفور والتراخي؟ وأن الامر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده الخاص أو
لا؟ وكذا وجوب مقدمة الواجب، وظاهر أنها لا تعلم من اللغة وغيرها، وليس
أحد الشقين في هذه المذكورات بديهيا حتى يستغنى عن تدوينها وعن النظر
فيها، وكذا ليست هذه المذكورات مما لا يتوقف عليه العمل، وكذا الحال في
مباحث النواهي، وحكم ورود العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل
والمبين، والقياس مطلقا، أو منصوص العلة، ووجوب العمل بخبر الواحد
وعدمه، وإن أمكن ادعاء ثبوت وجوب العمل بالمتواتر، من علم الكلام،
وهكذا بقية المطالب.
والثاني: علم الكلام.
ووجه الاحتياج إليه: أن العلم بالأحكام يتوقف على أن الله تعالى لا
يخاطب بمالا يفهم معناه، ولا بما يريد خلاف ظاهره، من غير بيان، وهذا إنما
يتم إن لو عرف (1) أنه تعالى حكيم مستغن عن القبيح، وكذا يتوقف على العلم
بصدوق الرسول والأئمة عليهم السلام.

(1) كذا في النسخ، والظاهر زيادة أحد حرفي الشرط، أو ان تكون العبارة بالنحو التالي: وهذان
انما يتمان لو عرف.
251

والحق: أن الاحتياج إليه، إنما هو لتصحيح الاعتقاد، لا للأحكام
بخصوصها.
والثالث: علم المنطق.
والاحتياج إليه: إنما هو لتصحيح المسائل الخلافية وغيرها، من العلوم
المذكورة، إذ لا يكفي التقليد سيما في الخلافيات، مع إمكان الترجيح، وكذا
لرد الفروع الغريبة إلى أصولها، لأنه محتاج إلى إقامة الدليل، وتصحيح الدليل
لا يتم بدون المنطق إلا للنفوس القدسية.
واعلم: أن العلوم المذكورة، ليس جميع مسائلها المدونة، مما يتوقف عليه
الاجتهاد، بل ولا أكثرها على الظاهر، والقدر المحتاج إليه، مما لا يمكن تعيينه
إلا بعد ملاحظة جميع الأحكام، ويكفي لصاحب الملكة (1) الرجوع إلى ما يحتاج
إليه عند الاحتياج، كما لا يخفى.
الظاهر الاستغناء عن المنطق في العمل بالمنطوقات، وكذا المفهومات
الظاهرة.
فإن قلت: لا حاجة إلى علم الأصول، لوجهين:
الأول: أن علم الأصول قد حدث تدوينه بعد عصر الأئمة عليهم
السلام، وأنا نقطع بأن قدماءنا، ورواة أحاديثنا، ومن يليهم - لم يكونوا عالمين
بعلم الأصول، مع أنهم كانوا عاملين بهذه الأحاديث الموجودة، ولم ينقل عن
أحد من الأئمة عليهم السلام إنكارهم، بل المعلوم تقريرهم لهم، وكان ذلك
الطريق مستمرا عند الشيعة إلى زمان القديمين: الحسن بن أبي عقيل، وأبي
علي أحمد بن الجنيد، ثم حدث تدوين الأصول بين الشيعة أيضا (2)، فلا يكون
العمل بهذه الأحاديث موقوفا على العلم بمسائل علم الأصول.

(1) أي: في العلوم المذكورة (منه رحمه الله).
(2) كلمة (أيضا): ساقطة من ط.
252

الثاني: أن البديهة حاكمة بوجوب العمل (1) بأوامر الشرع ونواهيه، ومن
علم العلوم الثلاثة الأول: فهو ممن يفهم الأوامر والنواهي، فالحكم عليه
بوجوب التقليد المنهي عنه، بمجرد جهله بمسائل الأصول، مما لا دليل عليه،
بل لا عذر له في التقليد، وليس مثله مع التقليد إلا مثل شخص حكمه ملك
على ناحية، وعهد إليه: أنه متى أخبره ثقة بأن الملك أمرك بكذا، أو نهاك عن
كذا، فعليك بالطاعة والعمل بالامر والنهي، وبين له المخلص عند تعارض
الاخبار، فهو يترك العمل بما سمع من الأوامر والنواهي من الثقاة، معللا
بجهله بمسائل الأصول أو المنطق، فإن استحقاقه للذم حينئذ مما لا ريب فيه.
قلت: اعلم أولا: أن مباحث علم الأصول قسمان:
الأول: ما يتعلق بتحقيق معاني الألفاظ، مثل: أن الحقيقة الشرعية
ثابتة أو لا؟ وأن الامر للوجوب؟ والمرة؟ والفور؟ أو لا؟ وكذا النهي؟ وأن
المفرد المعرف باللام، والجمع المنكر، للعموم؟ أو لا؟ والمخصص المتعقب
للجمل المتعاطفة - كالاستثناء، والشرط، ونحوهما - يرجع إلى الجملة الأخيرة
فقط؟ أو إلى الجميع؟ إلى غير ذلك من المسائل المودعة في مواضعها.
والثاني: ما ليس كذلك، مثل: أن الامر بالشئ هل يقتضي وجوب
مقدمته؟ وتحريم ضده الخاص؟ أو لا؟ وهل يجوز تعلق الأمر والنهي بشئ
واحد؟ أو لا؟ وهل يجوز التكليف بالشئ مع علم الآمر بانتفاء شرطه؟ أو
لا؟ وهل العام المخصص حجة في الباقي؟ أو لا؟ وهل العمل بالعام مشروط
باستقصاء البحث عن المخصص؟ أو لا؟ وهل المفهومات حجة؟ أو لا؟
وخبر الواحد هل هو حجة؟ أو لا؟ إلى غير ذلك من المسائل.
إذا عرفت هذا، فنقول: ما كان من القسم الأول، فهو لم يكن في عصر
الأئمة عليهم السلام وما شابهه محتاجا إليه، لان معاني الألفاظ وحقائقها كانت

(1) في ط: العلم.
253

معلومة لهم، لعدم تغير العرف في زمانهم، ولما خفي هذا - بسبب تغير العرف -
احتيج إلى تحقيق هذه المسائل، فدون لها علم على حدة، ولا يلزم من
استغنائهم استغناؤنا، فإنه لما اشتبه علينا أن الامر للوجوب؟ أو لا؟ لا يمكننا
الحكم بوجوب شئ وبعدم جواز تركه، بمجرد ورود الامر به، إلا بعد النظر
في الأدلة الدالة على أن الامر للوجوب، وكذا الحال في بقية المسائل، فكيف
يتصور القول باستغنائنا عنها في العلم أو الظن بالأحكام؟! بل هل هذا إلا
جهل أو تجاهل؟!
فإن قلت: يمكن العلم بهذه المطالب الأصولية من علم العربية.
قلت: ليس شئ من هذه المباحث مبينا - بحيث يشفي العليل ويروي
الغليل - في غير الأصول، كما هو ظاهر للمتتبع. وبعد التسليم، فهي محتاج
إليها، وليس الغرض إلا هذا.
وقد ظهر الجواب بما مر عن كلا الوجهين في هذا القسم، أما الأول:
فظاهر، وأما الثاني: فلانا لا نسلم حصول الفهم بدون العلم بهذا القسم من
المطالب.
وأما القسم الثاني: فلا شك في الاحتياج إليه للعلم بالفروع المتفرعة
عليه، مثلا: إذا أريد العلم بحال الصلاة في الدار المغصوبة، هل هي
صحيحة؟ أو باطلة؟ فلابد من تحقيق حال (تعلق الأمر والنهي بشئ واحد)
هل هو جائز؟ أو لا؟ إذ ليس لهذه المسألة مدرك غير هذه المسألة الأصولية،
على ما هو الظاهر من الكتب الاستدلالية، وكذا العلم بحال الصلاة في أول
الوقت مع شغل الذمة بحق مضيق؟ أو جواز السفر بعد الصبح من يوم الجمعة
قبل صلاة الجمعة إذا وجبت؟ أو صحة الصلاة في موضع يخاف في الوقوف
فيه هلاك النفس؟ أو صحة النافلة في وقت الفريضة، أو صحة استيجار
العبادة لمن في ذمته مثلها من عبادة نفسه؟ أو لمن يقلد الميت؟ على المشهور؟
أو لمن استأجر نفسه قبل ذلك بمثلها، مع الاطلاق في عقدي الإجارة؟ أو
254

التعيين في أحدهما والاطلاق في الآخر، على تقدير تقارب زمانهما، بحيث لم
تحصل البراءة من الأول؟ وكأنه لا خلاف في عدم صحة إجارة الحج لمن عليه
حج واجب من نفسه، أو لإجارة سابقة من القدرة، ولم يظهر له مدرك غير
المسألة الأصولية.
وكذا الحال في بقية المسائل، سيما حجية خبر الواحد، والاحتياج إلى
العلم بمثل هذه الفروع المذكورة مما لا يعتريه شك.
والقائل بالاستغناء عن علم الأصول يلزمه: إما القول ببداهة أحد طرفي
هذه المسائل، أو: بعدم الاحتياج إلى العلم بهذه المسائل، وكلاهما بديهي
البطلان.
والسر في عدم احتياج القدماء إلى تحقيق هذا القسم - على تقديره -:
أن بعض هذا القسم كان لهم غنى عن تحقيق حاله، مثل حجية خبر الواحد
وما يتعلق به، فإن حصول العلم لهم - بسبب المشافهة من المعصوم عليه السلام،
وبالتواتر (1)، وبالقرائن المفيدة للعلم، بسبب قرب زمانهم - أغناهم عن النظر
في خبر الواحد وما يتعلق به، ولهذا ترى أكثر القدماء ينكرون خبر الواحد،
كابن بابويه في أول كتاب الغيبة، والسيد المرتضى، وابن زهرة، وابن إدريس،
بل الشيخ الطوسي، كما لا يخفى على المتأمل، وغيرهم (2).
وبعض آخر منه: من عاداتهم وعرفهم يعلمونه، كالقسم الأول، مثل:
مقدمة الواجب، والمفهومات، والعام المخصص، ونحوها، بل يمكن إدراجها
في القسم الأول أيضا.
وبعض آخر: مما لم يخطر في بالهم، ولو خطر ببالهم لسألوا عنه إمام
زمانهم عليه السلام، مثل: احتمال بطلان الصلاة مع سعة الوقت، لمن عليه حق

(1) كذا في أ وط، وفي ب: أو بالتواتر، وفي الأصل، أسقط حرف العطف.
(2) راجع ذلك فيما أوردناه في هوامش ص 158.
255

مضيق، إذ نحن لم ندع أن العمل بمنطوقات الاخبار الصريحة، يتوقف على
العلم بجميع هذا القسم من المسائل الأصولية، بل نحن ندعي أن العلم
بفروعاتها يتوقف عليها.
نعم من أنكر التجزي، يلزمه القول بعدم العلم بشئ من الاحكام
حينئذ، بدون العلم بهذه المسائل الأصولية. لكن على ما مر من التحقيق:
يمكن الاجتهاد والعلم بكثير من الاحكام، مع الجهل بكثير من مسائل القسم
الثاني، فلا تغفل.
ولي كلام في قولهم: لا يجوز العمل بالعام قبل فحص المخصص
والمعارض، لعلي أورده في موضعه في هذه الرسالة إن شاء الله تبارك وتعالى.
والأول من الثالث: العلم بتفسير الآيات المتعلقة بالأحكام، وبمواقعها
من القرآن، أو من الكتب الاستدلالية، بحيث يتمكن من الرجوع إليها عند
الحاجة.
والمشهور: أن الآيات المتعلقة بالأحكام نحو من خمسماءة آية، ولم أطلع
على خلاف في ذلك.
وروى الكليني، في باب النوادر من كتاب فضل القرآن، عن الأصبغ
ابن نباتة، قال: " سمعت أمير المؤمنين عليه السلام، يقول: نزل القرآن أثلاثا:
ثلث فينا وفي عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام " (1).
وفي الصحيح: " عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: نزل
القرآن أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع
فرائض وأحكام " (2).
وفي رواية أخرى: " عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إن القرآن نزل

(1) الكافي: 2 / 627 - كتاب فضل القرآن / باب النوادر / ح 2.
(2) الكافي: 2 / 627 ح 4 من باب المذكور.
256

أربعة أرباع: ربع حلال، وربع حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان
قبلكم ونبأ ما يكون بعدكم وفصل ما بينكم " (1).
ووجه الاحتياج إليه: أن استنباطا الاحكام من الآيات الأحكامية،
يتوقف على العلم بها، وذلك ظاهر.
فإن قلت: قد ورد الاخبار أن القرآن إنما يعلمه من خوطب به (2)،
وأنه لا يجوز تفسير القرآن بالرأي (3)، كما (4) رواه الطبرسي (5) وغيره، ويدل على
مضمونه: ما رواه الكليني في باب اختلاف الحديث (6). وفي التفسير المنسوب
إلى سيدنا ومولانا أبي محمد الحسن بن علي العسكري: " فأما من قال في القرآن
برأيه فإن اتفق له مصادفة صواب، فقد جهل في أخذه عن (7) غير أهله " (8)
والحديث طويل.
وقال في مجمع البيان: " واعلم: أن الخبر قد صح عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، وعن الأئمة عليهم السلام القائمين مقامه: أن تفسير القرآن لا يجوز إلا
بالأثر الصحيح، والنص الصريح " (9) انتهى.

(1) الكافي: 2 / 627 ح 3 من الباب المذكور.
(2) ذيل رواية زيد الشحام. الكافي: 8 / 311 ح 485 وبمعناه روايات اخر أوردها في (باب انه
لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام وانهم يعلمون علمه كله) سيما الحديث الثاني
والخامس والسادس منه. الكافي: 1 / 228.
(3) تفسير العياشي: 1 / 17 - 18، عيون أخبار الرضا (ع): 1 / 59 - الباب 11 ح 4، أمالي الصدوق
: 155 ح 3، التوحيد: 905 ح 5.
(4) كلمة (كما): زيادة من ط.
(5) مجمع البيان: 1 / 13 - الفن الثالث.
(6) الكافي: 1 / 62.
(7) في أ وب وط: من.
(8) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري: 14.
(9) مجمع البيان: 1 / 13 - الفن الثالث.
257

وأيضا: قد روى الكليني (1)، وعلي بن إبراهيم (2)، وغيرهما، روايات
كثيرة، دالة على أن في القرآن تغييرا وتبديلا كثيرا.
وعلى هذين الاحتمالين، فلا يصح التمسك بالقرآن في الأحكام الشرعية
ما لم يكن هناك نص، وهو مغن، فلا يكون العلم بالكتاب مما يتوقف عليه
الاجتهاد.
قلت: الجواب من وجوه:
الأول: أن المراد بانحصار علم القرآن وتفسيره، في الأئمة عليهم السلام،
ما كان من حمل الكلام على خلاف المدلولات الظاهرة.
وأما المدلولات الظاهرة: فلا شك في حصول العلم بها من الكلام،
مثلا: لا شك في حصول العلم بالتوحيد من آية: * (قل هو الله أحد) * (3)، و
* (إنما إلهكم إله واحد) * (4)، وفي حصول العلم بطلب الصلاة من آية:
* (وأقيموا الصلاة) * (5) وإن كانت الصلاة مما يحتاج إلى البيان، وفي العلم بأن
نصيب الذكر ضعف الأنثى في الميراث في شريفة: * (يوصيكم الله في أولادكم
للذكر مثل حظ الأنثيين) * (6)، وفي الربع للزوج مع الولد، والنصف مع عدمه،

(1) الكافي: 8 / 50 ح 11، وص 183 ح 208، وص 290 ح 437 و 438 و 439 و 440 وص
377 ح 568، وص 378 ح 569 و 570 و 571.
(2) تفسير علي بن إبراهيم القمي / المجلد الثاني: 295 حديث أبي بصير في تفسير الآية 29 /
الجاثية، وكذا في ص 349 حديثا أبي عبد الرحمن السلمي، وأبي بصير في تفسير الآية 56
/ الواقعة، وكذا في ص 367 حديث ابن أبي يعفور في تفسير الآية: 11 / الجمعة، وفي ص
451: " قال رسول الله [ص] لو أن الناس قرأوا القرآن كما انزل الله ما اختلف اثنان ". انظر
ما أوردناه فيما تقدم في الهامش (3) من صفحة 147.
(3) التوحيد / 1.
(4) الكهف / 110، والأنبياء / 108.
(5) البقرة / 43، 83، 110، والنساء / 77، والنور / 56، والمزمل / 20.
(6) النساء / 11.
258

إلى غير ذلك، بحيث لا يعتريه شك ولا يدانيه ريب.
ويؤيد هذا الوجه:
ما ذكره الطبرسي: [من] " أن التفسير: كشف المراد عن اللفظ
المشكل " (1).
و: أن الفقهاء في جميع الأعصار كانوا يستدلون بالآيات القرآنية، وكتاب
(من لا يحضره الفقيه) مملوء منه، سيما كتاب المواريث وغيره (2)، واستدلالات
الأئمة عليهم السلام لأصحابهم الشيعة ولغيرهم بالآيات، مما لا يعد ولا يحصى.
وحمل الطبرسي التفسير بالرأي على عدم مراعاة شواهد الألفاظ، وفيه
بعد.
الثاني: أن المراد انحصار العلم بكل القرآن في الأئمة عليهم السلام.
ويؤيده: ما رواه الكليني، في كتاب فضل القرآن: أن القرآن اسم
للمجموع (3)، وما رواه في باب الرد إلى الكتاب والسنة، أو باب آخر قريب منه
من أنه: " لا يدعي العلم بجميع القرآن غيرنا إلا كذاب " (4).
الثالث: أن ههنا أخبارا معارضة للاخبار الأولة، كحديث عرض الحديث
على كتاب الله، والاخذ بالموافق وطرح المخالف خلف الحائط (5). وفي هذا
المضمون أخبار كثيرة بالغة حد التواتر، فلو فرض أن العلم بالقرآن لا يحصل
إلا بالحديث، لم يكن للعرض فائدة.
وفي هذا الوجه دلالة على صحة الاعتماد على الأصل وظاهر الحال، من

(1) مجمع البيان: 1 / 13 - الفن الثالث.
(2) يكفي لصدق هذا المقال ملاحظة خطبة كتاب الكافي للكليني (منه رحمه الله).
(3) الكافي: 2 / 630 - كتاب فضل القرآن / باب النوادر ح 11.
(4) الكافي: 1 / 228 - كتاب الحجة / باب انه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة (ع) / ح 1 وغيره.
(5) الكافي: 1 / 69 - كتاب فضل العلم / باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب. ذكر بعضها
الكليني في خطبة الكافي (من رحمه الله)، مجمع البيان: 1 / 13 - المقدمة / الفن الثالث.
259

عدم النسخ والتخصيص، إذ لو كان احتمال النسخ موجبا لعدم صحة
الاعتماد على مدلول الآية، لم يحصل العلم بصحة الحديث بسبب عرضه على
القرآن، سيما عند تعارض الخبرين.
وعلى هذا، يسقط ما يتوهم من أنه على تقدير العلم بمضمون الآية،
فالعلم ببقاء التكليف بمضمونه غير حاصل لنا، لاحتمال النسخ والتخصيص،
وإذا حصل التعارض فيجب - على تقدير التكافؤ - حمل الاخبار الأولة على
المتشابهات، كما لا يخفى.
وأما حديث التغيير في القرآن: فهو مما نفاه الأكثر، وبالغ فيه السيد
الاجل المرتضى في جواب المسائل الطرابلسيات، وقد نقل كلامه الشيخ
الطبرسي في أوائل كتاب مجمع البيان (1).
وعلى تقدير التسليم، فقد روي أيضا جواز العمل بهذا القرآن الموجود،
حتى يقوم قائم آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام (2).
واعلم: أنه يتصور في حق المتجزي استغناؤه في التفسير، كما لا يخفى،
فتأمل.
والثاني من القسم الثالث: العلم بالأحاديث المتعلقة بالأحكام، بأن
يكون عنده من الأصول المصححة ما يجمعها، ويعرف موقع كل باب، بحيث
يتمكن من الرجوع إليها.
ويتصور في حق المتجزي الغناء عنها، ببعض الكتب الاستدلالية، كما
لا يخفى.
والثالث من الثالث: العلم بأحوال (3) الرواة في الجرح والتعديل، ولو
بالمراجعة إلى كتب الرجال.

(1) مجمع البيان: 1 / 15 - الفن الخامس.
(2) انظر ما تقدم في الهامش (2) من ص 148.
(3) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: حال.
260

ووجه الاحتياج إليه: أن الاجتهاد بدون التمسك بالأحاديث غير
متصور، وليس كل حديث مما يجوز العمل به، إذ كثير من الرواة نقلوا في حقهم
أنهم من الكذابين المشهورين، فلا شك في وجود رواية الكذب (1)، وربما لا
يمكن التمييز بغير الاطلاع على حال الراوي.
وههنا شكوك:
الأول: - وهو ما ذهب إليه الفاضل مولانا محمد أمين الاسترآبادي - أن
العلم بأحوال الرواة غير محتاج إليه للعمل بأحاديث الاحكام (2)، لان أحاديثنا
كلها قطعية الصدور عن المعلوم، وما كان كذلك فلا يحتاج إلى ملاحظة
سنده، أما الكبرى: فظاهرة، وأما الصغرى: فلان أحاديثنا محفوفة بقرائن
مفيدة للقطع بصدورها عن المعصوم عليه السلام.
" فمن جملة القرائن: أنه كثيرا ما نقطع بالقرائن الحالية أو المقالية، بأن
الراوي كان ثقة في الرواية، لم يرض بالافتراء، ولا برواية ما لم يكن بينا واضحا
عنده، وإن كان فاسد المذهب أو فاسق بجوارحه، وهذا النوع من القرينة وافرة
في أحاديث كتب أصحابنا.
ومنها: تعاضد بعضها ببعض.
ومنها: نقل الثقة العالم الورع - في كتابه الذي ألفه لهداية الناس، ولأن
يكون مرجع الشيعة - أصل رجال أو روايته، مع تمكنه من استعلام حال ذلك
الأصل، أو تلك الرواية، وأخذ الاحكام بطريق القطع عنهم عليهم السلام.
ومنها: تمسكه بأحاديث ذلك الأصل، أو بتلك الرواية، مع تمكنه من
أن يتمسك بروايات اخر صحيحة.
ومنها: أن يكون راويه أحد من الجماعة التي أجمعت العصابة على

(1) كذا في النسخ. ولعله تصحيف: الكذاب.
(2) الفوائد المدنية: 30 (في انكاره لما نقله عن العلامة الحلي) وانظر أيضا: ص 40 و 53 و 56
261

تصحيح ما يصح عنهم.
ومنها: أن يكون راويه من الجماعة التي ورد في شأنهم من بعض الأئمة
عليهم السلام: " أنهم ثقات مأمونون " أو: " خذوا عنهم (1) معالم دينكم " أو: " هؤلاء
أمناء الله في أرضه "، ونحو ذلك.
ومنها: وجوده في أحد كتابي الشيخ، وفي الكافي، وفي (من لا يحضره
الفقيه)، لاجتماع شهاداتهم على صحة أحاديث كتبهم، أو على أنها مأخوذة من
تلك الأصول المجمع على صحتها " انتهى كلامه (2).
وذكر في بيان شهاداتهم: " أن ابن بابويه رحمه الله، ذكر في أول كتابه:
" إني لا أورد في هذا الكتاب إلا ما أفتي به، وأحكم بصحته، وهو حجة يبني
وبين ربي " (3).
وقال محمد بن يعقوب في أول الكافي، مخاطبا لمن سأله تصنيفه:
" وقلت: إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم
الدين، ما يكتفي به المتعلم، ويرجع إلى المسترشد، ويأخذ عنه من يريد علم
الدين، والعمل به، بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام، فاعلم يا
أخي أرشدك الله تعالى: أنه لا يسع أحدا تمييز شئ مما اختلفت الرواية فيه عن
العلماء عليهم السلام برأيه، إلا ما أطلقه العالم بقوله عليه السلام: " اعرضوها على
كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه "، وقوله عليه
السلام: " دعوا ما وافق القوم، فإن الرشد في خلافهم " وقوله عليه السلام: " خذوا
بالمجمع عليه، فإن المجمع عليه لا ريب فيه "، ونحن لا نعرف من جميع ذلك
إلا أقله، لا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم عليه

(1) كلمة (عنهم): ساقطة من الأصل، وأثبتناها من سائر النسخ.
(2) الفوائد المدنية: 89 وكرر دعوى اجتماع شهاداتهم على صحة أحاديث كتبهم في ص 176
منه.
(3) الفقيه: 1 / 3.
262

السلام، وقبول ما وسع من الامر فيه، بقوله عليه السلام: " بأيهما (1) أخذتم من باب
التسليم وسعكم " وقد يسر الله وله الحمد، تأليف ما سألت، وأرجو أن يكون
بحيث توخيت فمهما كان فيه من تقصير، فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة،
إذ كانت واجبة لإخواننا وأهل ملتنا، مع ما رجونا أن نكون مشاركين لكل من
اقتبس منه وعمل بما فيه في دهرنا هذا وفي غابره إلى انقضاء الدنيا، إذ الرب عز
وجل واحد، والرسول محمد خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه واحد، والشريعة
واحدة، وحلال محمد حلال، وحرامه حرام، إلى يوم القيامة " انتهى (2).
قال: " إن كلامه قدس سره صريح في أنه قصد بذلك التأليف إزالة خيرة
السائل، ومن المعلوم أنه لو لفق كتابه هذا مما ثبت وروده عن أصحاب العصمة
صلوات الله عليهم ومما لم يثبت، لزاد السائل حيرة وإشكالا، فعلم أن أحاديث
كتابه كلها صحيحة " (3).
وقال الشيخ الطوسي في أول الاستبصار (4) ما حاصله: " إن الحديث على
خمسة أقسام، لأنه: إما متواتر، أو لا. والثاني: إما محفوف بالقرائن المفيدة
للقطع، أو لا، والثاني: إما لا يعارضه خبر آخر، أو يعارضه. والثاني: إما إن
لم يتحقق (5) الاجماع على صحة أحد الخبرين، أو على إبطال الآخر، أو لم يكن
كذلك ".
وجعل الأقسام كلها قطعية إلا الأخير، أما الأول - وهو المتواتر -:
فظاهر. وأما المحفوف بالقرائن الموجبة للعلم: فظاهر أيضا، فإنه صرح بأنه

(1) في النسخ والكافي - في خطبته -: بأيما. وما أثبتناه مطابق لما جاء في ص 66 من المجلد الأول
من الكافي.
(2) الكافي: 1 / 8 - 9 خطبة الكتاب.
(3) الفوائد المدنية: 50 و 272 / الفائدة الأولى.
(4) الاستبصار 1 / 3 - 4 (بتصرف في اللفظ).
(5) كذا في الأصل، وأ. وفي ب أسقط: إن. وفي ط أسقط: اما. ولعل الصواب: اما أن لا
يتحقق.
263

يجري مجرى المتواتر. وأما الثالث - وهو كل خبر لا يعارضه خبر آخر -: فإن
ذلك يجب العمل به، لأنه من الباب الذي عليه الاجماع في النقل، إلا أن
تعرف فتاواهم بخلافه - ويفهم منه: أن نقل هذا القسم من المعصوم مجمع
عليه، وهذا فوق الشهادة بالصحة - وأما الرابع، فقال فيه: " ولأنه إذا ورد
الخبران المتعارضان، وليس بين الطائفة إجماع على صحة أحد الخبرين، ولا على
إبطال الخبر الآخر، فكأنه إجماع على صحة الخبرين، وإذا كان إجماعا على
صحتهما، كان العمل بهما، جائزا سائغا " فادعى الاجماع على صحة هذا
القسم، فعلم منه: أن كل خبر لا يعلم الاجماع على خلافه، فهو عنده
صحيح، فهذا شهادة منه على صحة جل الأحاديث، بل كلها، إذ القسم
الخامس مما لا يكاد يوجد.
وقال أيضا: " وأنت إذا فكرت في هذه الجملة، وجدت الاخبار كلها لا
تخلو من قسم من هذه الأقسام ووجدت أيضا ما عملنا عليه في هذا الكتاب
وفي غيره من كتبنا في الفتاوى في الحلال والحرام لا يخلو من واحد من هذه
الأقسام ". ويفهم منه أن كل حديث عمل هو به فهو عنده صحيح (1).
وقال في أول التهذيب: " وأذكر مسألة مسألة، فأستدل عليها، إما من
ظاهر القرآن، أو من صريحه، أو فحواه، أو دليله، أو معناه، وإما من السنة
المقطوع بها: من الأخبار المتواترة، أو الاخبار التي تقترن إليها القرائن التي تدل
على صحتها، وإما من إجماع المسلمين، إن كان فيها، أو إجماع الفرقة المحقة،
ثم أذكر بعد ذلك ما ورد من أحاديث أصحابنا المشهور في ذلك، وأنظر فيما
ورد بعد ذلك مما ينافيها ويضادها، وأبين الوجه فيها، إما بتأويل أجمع بينها
وبينها، أو أذكر وجه الفساد فيها، إما من ضعف إسنادها، أو عمل العصابة
بخلاف متضمنها " (2).

(1) أشار الاسترآبادي إلى ذلك باستشهاده بكلام شيخ الطائفة: الفوائد المدنية: 50 و 67.
(2) التهذيب: 1 / 3 - المقدمة.
264

وهذا الكلام صريح في أن ما لم يتعرض لتأويله أو طرحه، فهو إما من
المتواتر، أو من المحفوف بالقرائن المفيدة للقطع، أو من الأحاديث المشهورة عند
أرباب الحديث. فالأولان: ظاهر أنهما من قبيل القطعي، وأما الثالث: فهو
أيضا كذلك، إذ شهرة الحديث عند أربابه، أيضا مما يفيد القطع بصدوره عن
المعصوم.
وبيان شهادة الشيخ الطوسي رحمه الله بهذا الوجه الذي ذكرته في هذه
الرسالة، مما لم أجده في كلام هذا القائل، بل هو نقل أن الشيخ في كتاب
العدة، ذكر: " أن ما عملت به من الاخبار فهو صحيح " (1)، ولكني تصفحت
العدة، فما رأيت هذا الكلام فيه.
وذكر أيضا: " أن الشيخ كغيره، كان متمكنا من إيراد الأخبار الصحيحة
، من الكتب القطعية الاخبار فلا وجه لتلفيقه الأخبار الصحيحة
والضعيفة، بل هذا مما يقطع العقل بسبب العادة بامتناعه.
ويمكن أن يكون قوله: " لاجتماع شهاداتهم على صحة أحاديث كتبهم "
إشارة إلى كلام الكليني، وابن بابويه رحمهما الله تعالى.
وقوله: " أو على أنها مأخوذة من تلك الأصول، المجمع على صحتها "
إشارة إلى كلام الشيخ الطوسي في العدة، حيث قال: - في بيان جواز العمل
بخبر الواحد، الوارد من طريق أصحابنا الامامية، المروي عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، والأئمة عليهم السلام، إذا كان الراوي ممن لا يطعن في روايته،
ويكون سديدا في نقله - " والذي يدل على ذلك: إجماع الفرقة المحقة، فإني

(1) فقد قال الاسترآبادي: " إن رئيس الطائفة صرح في كتاب العدة وفي أول الاستبصار بان كل
حديث عمل به مأخوذ من الأصول المجمع على صحة نقلها، ونحن نقطع عادة بأنه ما كذب "
الفوائد المدنية: 183. وذكر مثل ذلك أو قريبا منه في ص 41 و 49 و 67 و 177 و 193
ومواضع اخر من الكتاب المذكور.
265

وجدتها مجمعة (1) على العمل بهذه الاخبار، التي رووها في تصانيفهم ودونوها في
أصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه " (2). انتهى. فإن هذا الكلام يدل
على أن الأصول الأربعماءة، التي كانت للشيعة، كان العمل بها إجماعيا،
وظاهر: أن كتابي الشيخ، أخذ أحاديثهما عنها، بل الكتب الأربعة كلها
كذلك.
والجواب عن هذا الشك: منع كون أخبارنا كلها قطعية، ليلزم
الاستغناء عن النظر في أحوال الرجال، وما ذكره من القرائن، لا يدل شئ منها
على المدعى.
أما الأول: فلان العلم بكون الراوي ثقة لا يرضى بالافتراء... إلى
آخره - لا يحصل إلا بالنظر في أحوال الرجال، وهو ظاهر.
مع: أن حصول هذا العلم مطلقا ممنوع، وسيما مع العلم بكون الراوي
فاسد المذهب، أو فاسقا بجوارحه، غايته حصول الظن.
وأيضا: وفور هذا النوع من القرينة ممنوع، إذ ظاهر: أن خبرا، تكون
سلسلة سنده كلها، رجالا يحصل في كل منهم العلم بعدم افترائه وغلطه وسهوه -
في غاية الندرة.
وأما الثاني: فلان تعاضد البعض بالبعض، لا يوجب حصول القطع
بالحديث.
مع: أن الاخبار المتعاضدة، المتحدة المعاني، التي لا تكون مشتركة في
شئ من رجال السند - قليلة الوجود، فلا توجب الاستغناء المذكور.
وأما الثالث: فلان نقل الثقة لا يوجب القطع
وأيضا: قوله: " مع تمكنه من أخذ الاحكام بطريق القطع " ممنوع، إذ

(1) كذا في أ وب والمصدر. وفي الأصل وط: مجتمعة.
(2) عدة الأصول: 1 / 47.
266

ظاهر: أن الكليني، وابن بابويه، والشيخ، رحمهم الله - لم يكونوا متمكنين من
أخذ الاحكام بطريق القطع عنهم عليهم السلام.
ولو سلم إمكان القطع في بعض الأحكام بالنسبة إليهم، فهذا لا يوجب
اقتصارهم على إيراد القطعيات، وترك غيرها، بل عليهم إيراد الجميع، مع ذكر
ما يحصل به التمييز (1) بين المعتمد وغيره، من ذكر رجال أسانيد الاخبار، وقد
فعلوا ذلك، وسيجئ بقية الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
وأما الرابع: فلان الجماعة التي نقل الاتفاق على العمل بحديثهم، في
غاية القلة.
مع: أنه لا يحصل العلم بأنه منهم إلا بمعرفة الرجال.
وأيضا: هذا الاجماع ظني، لأنه منقول من طريق الآحاد (2)، فلا يوجب
القطع بالحديث، بل لا يوجبه لو كان متواترا أيضا، لأنه فرع عدم جواز العمل
بغير القطعي (3)، وإلا فيجوز أن يكون عمل العصابة بحديثه، و (4) وصف
حديثه بالصحة، لكونه ثقة يحصل الظن بحديثه.
وأيضا: لا يكاد يوجد حديث، يكون جميع رجال السند ممن أجمعت
العصابة على تصحيح حديثه، وهو في غاية الظهور.
وأما الخامس: فالكلام فيه كالرابع.
وأما السادس: فلان شهادة المشايخ الثلاثة، بل إخبارهم بصحة
أخبار (5) كتبهم، لا يستلزم قطعيتها عندهم، فضلا عن قطعيتها عندنا، فإنه
كما أن اتصاف الحديث بالصحة عند المتأخرين، لا يستلزم قطعيته، فكذا عند

(1) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: التمييز.
(2) كلمة (الآحاد): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(3) في أ، وط: القطع.
(4) الواو: ساقطة من الأصل وب وط، وقد أثبتناها من نسخة أ.
(5) كلمة (اخبار): ساقطة من الأصل وقد أثبتناها من سائر النسخ.
267

القدماء، إذ الصحيح في مصطلحهم يطلق على الحديث، باعتبار تعاضده
بأمور توجب الاعتماد عليه والركون إليه، وربما لا يصير بمجرد ذلك قطعيا.
قال الشيخ الفقيه بهاء الملة والدين في فواتح كتاب مشرق الشمسين:
" كان المتعارف بين القدماء إطلاق الصحيح على كل حديث اعتضد بما يقتضي
اعتمادهم عليه، أو اقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه، وذلك بأمور:
منها: وجود في كثير من الأصول الأربعماءة، التي نقلوها عن مشايخهم،
بطرقهم المتصلة بأصحاب العصمة سلام الله عليهم، وكانت متداولة لديهم في
تلك الاعصار، مشتهرة بينهم اشتهار الشمس في رائعة النهار.
ومنها: تكرره في أصل واحد، أو أصلين منها فصاعدا، بطرق مختلفة
وأسانيد عديدة معتبرة.
ومنها: وجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا
على تصديقهم، كزرارة، ومحمد بن مسلم، والفضيل (1) بن يسار، أو على
تصحيح ما يصح عنهم، كصفوان بن يحيى، ويونس بن عبد الرحمن، وأحمد بن
محمد بن أبي نصر، أو على العمل بروايتهم، كعمار الساباطي، ونظرائه، ممن
عدهم شيخ الطائفة في كتاب العدة، كما نقله عنه المحقق في بحث التراوح
من المعتبر (2).
ومنها: اندراجه في أحد الكتب، التي عرضت على أحد الأئمة عليهم
السلام، فأثنوا على مؤلفها، ككتاب عبيد الله بن علي الحلبي، الذي عرض على
الصادق عليه السلام، وكتابي: يونس بن عبد الرحمن، والفضل بن شاذان،
المعروضين على العسكري عليه السلام.
ومنها: أخذه من أحد الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد

(1) في ط: الفضل.
(2) المعتبر: 1 / 60.
268

عليها، سواء كان مؤلفوها من الفرقة الناجية الامامية، ككتاب الصلاة لحريز
ابن عبد الله السجستاني، وكتب ابني (1) سعيد، وعلي بن مهزيار، أو من غير
الامامية، ككتاب حفص بن غياث القاضي، وكتب الحسين بن عبيد الله
السعدي، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري.
وقد جرى ثقة الاسلام، رئيس المحدثين، محمد ابن بابويه - قدس الله
روحه - على متعارف القدماء، من إطلاق الصحيح على ما يركن إليه ويعتمد
عليه، فحكم بصحة جميع (2) ما أورده من الأحاديث في كتاب من لا يحضره
الفقيه، وذكر أنه استخرجها من كتب مشهورة، عليها المعول وإليها المرجع "
انتهى كلامه أعلى الله مقامه (3).
وإذا كانت الأحاديث ظنية، فيجب الفحص عن أحوال أسانيدها،
حتى يعلم أن هذا الظن مما يجوز التعويل عليه (4):
لعموم النهي عن اتباع الظن.
ولقوله تعالى: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) * (5) أو فتثبتوا (6).
فإن قلت: إخبار العدل بصحة خبر الفاسق، يخرج الخبر عن كونه خبرا
للفاسق، ويدخله في خبر العدل، فلا دلالة في الآية حينئذ على منع العمل به.
قلت: لا نسلم ذلك، بل الجائي بالنبأ إنما هو الفاسق، وخبر العدل ليس
هو الحديث، بل صحة خبر الفاسق.

(1) في ط: أبي، وفي المصدر المنقول عنه النص: (بني خ ل).
(2) كلمة (جميع): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ، وهي مثبتة في المصدر أيضا.
(3) مشرق الشمسين: الصفحة الثانية (المرقمة ب‍ 269 من مجموعة طبعت باسم: رسائل الشيخ
بهاء الدين).
(4) كلمة (عليه): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(5) الحجرات / 6.
(6) إشارة إلى القراءة الأخرى في الآية. لاحظ: مجمع البيان / ذيل الآية المباركة.
وفي ط: أي. بدل: أو.
269

ولا أقل: يحصل التعارض، وإثبات شئ من التكاليف يحتاج إلى دليل،
فتأمل.
وأيضا: فالظاهر أن إخبار ابن بابويه رحمه الله بصحة أخبار كتابه، ليس
من حيث علمه بصحة خصوصية كل خبر منها، بل لأجل صحة الكتب التي
أخذ الاخبار منها.
مع: أنه كثيرا ما يرد الاخبار المأخوذة من هذه الكتب بالقدح في
أسانيدها، وكثيرا ما يرد الرواية بأنه تفرد فلان بها، ويذكر اسم رجل هو ثقة
صاحب كتاب معتمد، كما قال - في أول باب وجوب الجمعة وفضلها، في رواية
حريز عن زرارة -: " تفرد بهذه الرواية حريز عن زرارة، والذي أستعمله وأفتي
به كذا... " إلى آخره (1). فلو كان كتاب زرارة أو حريز عنده قطعيا، لم يكن
تفرد حريز ضارا، كما لا يخفى، وقال - في كتاب الحج، في باب إحرام الحائض
والمستحاضة، بعد نقل رواية محمد بن مسلم عن أحدهما -: " وبهذا الحديث
أفتي، دون الحديث الذي رواه محمد بن مسكان، عن إبراهيم بن إسحاق،
عمن سأل أبا عبد الله عليه السلام.... الحديث، لان هذا الحديث إسناده
منقطع، والحديث الأول رخصة ورحمة، وإسناده متصل " (2). وأمثال ذلك في
هذا الكتاب كثير.
والحاصل: أن تعرضه لقبول الحديث ولرده (3) بسبب الاسناد كثير، مع
وحدة الكتاب المأخوذ منه، وهذا ينافي قطعية الكتاب عنده.
وأيضا: تعرضه لذكر المشيخة على هذا عبث، بل ينبغي على هذا أن
يقول: إني أخذت الاخبار من الكتب القطعية، والأحاديث قطعية، لا يحتاج
إلى الاطلاع على رواتها، وعلى طريقي إليهم.

(1) الفقيه: 1 / 411 في تعليقه على الحديث 1219.
(2) الفقيه: 2 / 383 ح 2766، 2767.
(3) في ط: وكذا رده.
270

وكذا الكلام على الكليني (1).
مع: أن ابن بابويه كثيرا ما يطرح الروايات المذكورة في الكافي:
قال - في باب (الرجل يوصي إلى رجلين) بعد ما ذكر توقيعا من
التوقيعات، الواردة من الناحية المقدسة -: " هذا التوقيع عندي بخط أبي محمد
الحسن بن علي عليهما السلام، وفي كتاب محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله رواية (2)
خلاف ذلك التوقيع، عن الصادق عليه السلام "، ثم قال: " لست أفتي بهذا
الحديث - مشيرا إلى رواية محمد بن يعقوب - بل أفتي بما عندي بخط الحسن
ابن علي عليهما السلام، ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الاخذ بقول الأخير،
كما أمر به الصادق عليه السلام، وذلك أن الاخبار لها وجوه ومعان، وكل إمام
أعلم بزمانه وأحكامه، من غيره من الناس " (3).
وقال - في باب (الوصي يمنع الوارث) بعد نقل حديث -: " ما وجدت
هذا الحديث إلا في كتاب محمد بن يعقوب الكليني رضي الله عنه، وما رويته إلا
من طريقه، حدثني به غير واحد، منهم محمد بن محمد بن عصام الكليني، عن
محمد بن يعقوب الكليني " (4).
وطرح الشيخ الطوسي لأحاديث الفقيه، والكافي، وكذا السيد
المرتضى، وغيرهما - أكثر من أن يحصى، وهذا يدل على أن هذه الأخبار لم تكن
قطعية عند قدماء أصحابنا.
هذا، والأقوى في هذا الزمان: جواز العمل بالاخبار المودعة في الكتب
الثلاثة، لمن له أهلية العمل بالحديث، من دون ملاحظة الأسانيد، بشرط:
عدم المعارض.

(1) كلمة (الكليني): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(2) كلمة (رواية) ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(3) الفقيه: 4 / 203 في تعليقه على الحديث 5471، 5472.
(4) الفقيه: 4 / 223 معلقا بذلك على الحديث 5526.
271

وعدم كون مضمونه مخالفا لعمل المشاهير من فقهائنا.
وسيجئ تحقيق حكم صورة التعارض في بحث التراجيح، إن شاء الله
تعالى.
الشك الثاني: شك اعتبار مطلق الظن، وهو مما اختاره بعض
الفضلاء (1)، وصورته أن يقال: قد حصل لنا من تتبع آثار العلماء، أنهم كانوا
يعملون بكل ما حصل لهم الظن بأنه مراد المعصوم، سواء كان منشأ حصول
هذا الظن رواية صحيحة أو لا، مسندة أو لا، مرسلة أو لا، إلى غير ذلك.
ويلزم على هذا: أن لا يكون العلم بأحوال الرواة محتاجا إليه، إذ ربما
يحصل هذا الظن من رواية من هو في غاية الضعف، ولا يحصل من رواية من
هو في غاية الثقة.
والجواب: لا نسلم عمل العلماء بكل ما حصل لهم الظن به، بل الظاهر
من أحوال القدماء عدم عملهم إلا بالقطعيات، وكلام السيد المرتضى، وابن
إدريس، وابن زهرة، ينادي بأعلى صوته بمنع العمل بالظنيات، كما لا يخفى
على من له أدنى تتبع، وأكثر هذه الأخبار الضعيفة باصطلاح المتأخرين، كان
صحيحا عند القدماء.
وأيضا: لا يجوز أن يكون الظن من حيث هو ظن مناطا للأحكام الشرعية
، ما لم يكن ناشئا عما ثبت اعتباره شرعا، إذ كثيرا ما يحصل هذا الظن
بأسباب اخر، مثل: هوى النفس، أو التعصب، أو الحسد، أو نحو ذلك،
كما هو محسوس مشاهد، وعلى هذا، فيحصل الهرج والمرج في الدين، لاختلاف
الناس في هذه الأسباب، فيجب أن يكون الظن الذي يجوز العمل به
مضبوطا، بأن يكون ناشئا من الكتاب الجيد (2)، أو الحديث الصحيح، أو

(1) هو المحقق الشيخ حسن في: معالم الدين: 192 / قوله: (الرابع ان باب العلم القطعي
بالأحكام الشرعية إلى آخره). وتقرير الدليل للمصنف.
(2) كلمة (المجيد): زيادة من أ وب وط.
272

مطلقه لو ثبت حجيته مطلقا.
بل الحق: أن العمل بهذه الأدلة ليس عملا بالظن، بل عمل بكلام من
يجب اتباعه، غاية الامر الاكتفاء بالظن الخاص في نسبة هذا الكلام إلى من
يجب اتباعه.
الشك الثالث: أنه وقع الاختلاف في أسباب الجرح. فقيل: الكبائر
سبع. وقيل: أكثر. وقيل: بأنها إضافية. وعلى هذا، لا يمكن الاعتماد على
تعديل المعدل وجرحه، إلا مع العلم بموافقة مذهبه لمذهب من يريد العمل،
وهذا العلم مما لا يكاد يمكن حصوله، إذ المعدلين والجارحين - وهم:
الكشي، والنجاشي، والشيخ الطوسي، وابن طاوس، وابن الغضائري،
وغيرهم - ليس مذهبهم في عدد الكبائر معلوما، بل صرح الشيخ بتوثيق المتحرز
عن الكذب وإن كان فاسقا في (1) أفعال جوارحه، وتوثيق بعض المتأخرين،
كالعلامة، وابن داود، مبني على توثيق القدماء.
وأيضا: اعتبر بعض العلماء (2) في الجرح والتعديل شهادة اثنين، وعلى
هذا: لا يوجد حديث صحيح، يكون جميع رجال سنده معدلا بتعديل
عدلين.
وأيضا: تعديل هؤلاء المعدلين مبني على غيرهم، مع عدم معلومية

(1) زاد في أ في هذا الموضع كلمة: جميع.
(2) كالمحقق الحلي: معارج الأصول: 150.
والمحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 204، و: منتقى الجمان: 1 / 16 - الفائدة الثانية.
والشيخ بهاء الدين العاملي: مشرق الشمسين: 4 (المرقمة ب‍ 471 تسلسل رسائل الشيخ
بهاء الدين) حيث ورد في الهامش: (والحاصل اني أشترط في الرواية اخبار ثلاثة: واحد بها،
واثنين بعدالة راويها، واشترط في التزكية إخبار اثنين لا غير. منه طاب ثراه). ولكن يظهر من
المتن خلاف ذلك.
والمحدث الاسترآبادي: الفوائد المدنية: 256 / قوله " فائدة: يفهم من هذين الحديثين
الشريفين إلى آخره ".
273

مذهب هؤلاء أيضا.
وهذا الشك مما أورده الشيخ الفقيه بهاء الملة والدين فقال: " من
المشكلات أنا نعلم مذهب الشيخ الطوسي رحمه الله في العدالة، وأنه يخالف
مذهب العلامة رحمه الله، وكذا لا نعلم مذهب بقية أصحاب الرجال،
كالكشي، والنجاشي، وغيرهم، ثم نقبل تعديل العلامة رحمه الله في التعديل على
تعديل أولئك. وأيضا: كثير من الرجال، ينقل عنه أنه كان على خلاف المذهب
ثم رجع وحسن إيمانه، والقوم يجعلون روايته من الصحاح، مع أنهم غير عالمين
بأن أداء الرواية متى وقع؟ أبعد التوبة؟ أم قبلها؟ وهذان المشكلان لا أعلم
أن أحدا قبلي تنبه لشئ منهما " انتهى كلامه (1).
وأيضا: العدالة بمعنى الملكة المخصوصة التي ذهب إليها المتأخرون،
مما لا يجوز إثباته بالشهادة، لان الشهادة وخبر الواحد ليس حجة إلا في
المحسوسات، والعدالة - بمعنى الملكة المخصوصة - ليست محسوسة،
كالعصمة، فلا تقبل فيها الشهادة، فلا يعتمد على تعديل المعدلين بناءا على
طريقة المتأخرين، وهذا مما أورده الفاضل الاسترآبادي (2).
وأيضا: قد تقرر في محله أن شهادة فرع الفرع غير مسموعة، ولا تقبل

(1) لم نعثر على هذا النص فيما طبع من آثار ومصنفات الشيخ بهاء الدين، كالزبدة والوجيزة والحبل
المتين ومشرق الشمسين وما عليها من حواشيه وتعليقاته، وغيرها، وأما مصنفاته التي لم تطبع
إلى الآن فلم نعثر على نسخها الخطية رغم البحث عنها كحواشيه على القواعد للشهيد الأول،
وحواشيه على شرح العضد. هذا وقد نقل النص المذكور أعلاه المحدث البحراني أيضا
في: الحدائق الناضرة - المقدمة: 1 / 24 (في الهامش).
(2) قد يتصيد هذا المطلب من مواضع متعددة من كلام الاسترآبادي في الفوائد المدنية منها ما ذكره
في ص 247 و 253 فان كلماته تلوح بذلك، ولكن للمحدث الاسترآبادي مصنفات أخرى
لعل المصنف ينقل هذا النص منها، كالفوائد المكية الذي سبق ذكره عند المصنف بالاسم في
ص 212 ونقل منه بعض كلام الاسترآبادي وكتعليقاته على المدارك التي وقف عليها المحدث
البحراني ونقل منها كلام الاسترآبادي بلفظه في: الدرر النجفية / درة في الاستصحاب
ص 34.
274

[الشهادة] إلا من الشاهد الأصل والشاهد الفرع، مع أن شهادة علماء الرجال
على أكثر المعدلين والمجروحين، من شهادة فرع الفرع، إذ ظاهر: أن الشيخ
الطوسي والنجاشي والكشي (1)، لم يلقوا أصحاب مثل الباقر والصادق عليهما
السلام، ولا أصحاب غيرهما من الأئمة، وكذا ظاهر: عدم ملاقاتهم لمن أدرك
أصحاب هؤلاء الأئمة، فلا تكون شهاداتهم إلا شهادة فرع الفرع بمراتب
كثيرة، فكيف يجوز التعويل في الشرع على شهادتهم في الجرح والتعديل؟!
وهذا أيضا مما أورده المورد المذكور (2).
وأيضا: قلما يخلو اسم عن اشتراكه بين جماعة بعضهم غير معدل، وكثيرا
ما لا يحصل العلم بأن الشخص الواقع في سند الرواية المخصوصة هو ذلك
الثقة أو غير، وقلما يحصل بكثرة التتبع ظن ضعيف بأنه هو الثقة لا غير،
واعتبار مثل هذا الظن في الشرع، بحيث يعتمد عليه في الأحكام الشرعية، مما
لا دليل عليه، فلا يتحقق للتعديل فائدة يعتد بها، حتى يكون علم الرجال
محتاجا إليه.
وأيضا: على تقدير العلم بأن رجال الرواية الفلانية ثقات، لا يحصل
العلم بعدم سقوط جماعة من رجال السند من البين، فلا يمكن حصول العلم
بصحة الحديث بالاصطلاح المشهور، وحينئذ فلا يحصل أيضا للتعديل فائدة
لنا يعتد بها.
وقد ذكر صاحب منتفى الجمان: " أن في كثير من روايات الشيخ
الطوسي، عن موسى بن القاسم البجلي، في كتاب الحج - علة، وذلك أن
الشيخ أخذ الحديث من كتاب موسى بن القاسم، وهو قد أخذ الحديث من
كتب جماعة، وذكر أول السند في أول رواياته، ثم بعد ذلك ذكر صاحب

(1) كلمة (الكشي): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(2) لم نعثر عليه فيما بأيدينا من مؤلفات الاسترآبادي، نعم في ص 251 من الفوائد المدنية ما
يناسبه.
275

الكتاب الذي أخذ الحديث من كتابه، والشيخ روى تلك الأحاديث من موسى
عن صاحب ذلك الكتاب، مع أنه لم يلقه، فصار الحديث منقطعا معللا "
انتهى (1). وعدم مثل غير معلوم في بقية أحاديثه، بل ولا في أحاديث غير
الشيخ أيضا، غايته حصول الظن بالعدم، وجواز الاعتماد على مثل هذا الظن
في الأحكام الشرعية غير معلوم.
وذكر أيضا: " أن الكليني قد لا يذكر أول سنده، اعتمادا على إسناد سابق
قريب، والشيخ رحمه الله ربما غفل عن المراعاة، فأورد الاسناد من الكافي بصورة
وصله بطريق الكليني، من غير ذكر الواسطة المتروكة، فيصير الاسناد في رواية
الشيخ له منقطعا، ولكن مراجعة الكافي تفيد وصله " انتهى كلامه (2).
ولا يخفى: أنه لا يؤمن وقوع مثل ذلك من الشيخ رحمه الله فيما نقله من
غير الكافي من كتب الحديث أيضا، وكذا في حق غيره كما عرفت.
وأيضا: كثيرا ما يذكر جماعة من الرواة بعطف بعضهم على بعض،
وبعد التتبع يعلم أن العطف سهو، والواجب نقل البعض عن البعض، وكذا
الحال في عكس ذلك.
قال في المنتفى: " ومن المواضع التي اتفق فيها هذا الغلط مكررا، رواية
الشيخ، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن
ابن أبي نجران، وعلي بن حديد، والحسين بن سعيد، فقد وقع في خط الشيخ
رحمه الله في عدة مواضع منها، إبدال إحدى واوي العطف بكلمة (عن) وقد
اجتمع الغلط بالنقيصة وبالزيادة في رواية سعد عن الجماعة المذكورة بخط
الشيخ رحمه الله في إسناد حديث زرارة: " عن أبي جعفر عليه السلام فيمن صلى
بالكوفة ركعتين ثم ذكر وهو بمكة، أو غيرها، أنه قال: يصلي ركعتين " فإن

(1) منتقى الجمان / المقدمة / الفائدة الثالثة: 1 / 25.
(2) منتقى الجمان / المقدمة / الفائدة الثالثة: 1 / 24
276

الشيخ رواه بإسناده عن سعد بن عبد الله، عن ابن أبي نجران، عن الحسين بن
سعيد، عن حماد، مع أن سعدا إنما يروي عن ابن أبي نجران بواسطة أحمد بن
محمد بن عيسى، وابن أبي نجران يروي عن حماد بغير واسطة، كرواية الحسين
ابن سعيد عنه، ونظائر هذا كثيرة " انتهى كلامه (1).
وأيضا: حكم الحاكم بتعديل المعدلين وجرح الجارحين، حكم بشهادة
الميت، وهو ظاهر.
والجواب عن جميع هذه الشكوك العشرة المذكورة ههنا - بعد إمكان
الأجوبة الجدلية عن كل منها - هو: أن أحاديث الكتب الأربعة، أعني،
الكافي، والفقيه، والتهذيب، والاستبصار، مأخوذة من أصول وكتب معتمدة
معول عليها، كان مدار العمل عليها عند الشيعة، وكان عدة من الأئمة عليهم
السلام عالمين (2) بأن شيعتهم يعملون بها في الأقطار والأمصار، وكان مدار مقابلة
الحديث وسماعه في زمن العسكريين عليهما السلام، بل بعد زمن الصادق عليه
السلام، على هذه الكتب، ولم ينكر أحد من الأئمة عليهم السلام على أحد من
الشيعة في ذلك، بل قد عرض عدة من الكتب عليهم، ككتاب الحلبي،
وكتاب حريز (3) وكتاب سليم بن قيس الهلالي، وغير ذلك، والعلم بأخذ الكتب
الأربعة من هذه الأصول المعتمدة، يحصل من إخبار المحمدين الثلاثة رحمهم
الله، على ما مر مفصلا، ومن شهادة القرائن بأن تمكنهم من أخذ الاخبار من
هذه الكتب المعتمدة، يمنعهم من أخذها من الكتب التي لا يجوز العمل بها،
والعادة شاهدة بأن من صنف كتابا، وتمكن من إيراد ما هو الحق عنده، لا
يرضى بإيراد المشتبهات والمشكوكات.
إذا عرفت هذا، فنقول: إنا لما حصل لنا علم عادي بأن أخبار الكتب

(1) منتقى الجمان / المقدمة / الفائدة: 1 / 26.
(2) كذا الظاهر، وفي النسخ: عالما.
(3) عبارة (وكتاب حريز): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
277

الأربعة مأخوذة من كتب معتمدة بين الشيعة، فنحن لا نحتاج إلى العلم
بأحوال الرجال فيما لا معارض له، وأما مع التعارض: فنحن نتفحص عما
يحصل به رجحان أحد المتعارضين على الآخر عند النفس: من العرض على
كتاب الله، وعلى مذهب العامة، ومن حال الراوي، وكثرته، وثقته، ونحو ذلك،
ولا شك في حصول الرجحان عند النفس بسبب تعديل المعدلين، وإن ورد
عليه ما ذكر من الشكوك، ومن لم يحصل عنده رجحان بذلك، فحكمه ما
سيجئ في بحث الترجيح، إن شاء الله تعالى.
فإن قلت: فعلى هذا تكون أخبار الكتب الأربعة قطعية الصدور من
المعصوم، كما قال به المورد المذكور.
قلت: لا يلزم من كون جواز العمل بهذه الكتب قطعيا، كون أخبارها
قطعية الصدور من المعصوم، إذ يجوز من المعصوم عليه السلام تجويز العمل
بكتاب مشتمل على الأخبار الكثيرة، بحيث يعلم عدم صدور بعضها منه ومن
غيره من الأئمة، لعدم تمكنه من تمييز (1) الصحيح من غيره، لتقية، أو ضيق
وقت، أو نحو ذلك، وهذا غير خفي.
فإن قلت: فإذا جاز العمل بما في هذه الكتب، فلا يحتاج في العمل إلى
العلم بأحوال الرجال عند التعارض أيضا، إذ يصير من قبيل تعارض
القطعيين، وحكمه: العرضان، أو التخيير، أو التوقف، أو الاحتياط، كما
سيجئ إن شاء الله تعالى.
قلت: قد عرفت أن قطعية العمل لا تقتضي قطعية الحديث، ونحن قد
حصل لنا القطع بجواز العمل في صورة عدم التعارض، ولهذا ترى جل
الفقهاء بل كلهم يستدلون على المطالب بالاخبار الضعيفة السند، ويكفي في
ذلك ملاحظة الكتب الاستدلالية للشيخ، والسيد المرتضى، والعلامة،

(1) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: تميز.
278

والمحقق، وابن إدريس، وغيرهم. وأما مع التعارض فقد وجدناهم لا
يطرحون المتعارضين، بل يفتشون عما يحصل به عندهم رجحان أحدهما على
الآخر في أنفسهم من ملاحظة حال الراوي، ونحو ذلك.
والحاصل: أن المعلوم هو جواز العمل بهذه الاخبار عند عدم التعارض،
وأما في صورة التعارض فجواز العمل بأحدهما مع إمكان ترجيح أحدهما على
الآخر - بملاحظة حال الراوي، أو نحوه - غير معلوم، بل المعلوم من حال
السلف عدم العمل بدون التفتيش، فيحتاج إلى التفتيش (1) عن حال الرواة،
لأنه من جملة ما يحصل به الترجيح ضرورة.
على: أن الشكوك المذكورة مصادمة للضرورة، إذ ربما يحصل من
التفتيش العلم العادي بعدالة بعض الرواة وضبطه وديانته، فإنا بعد التفتيش
حصل لنا القطع بثقة مثل سلمان الفارسي رضي الله عنه، والمقداد، وأبي ذر،
وعمار، رضي الله عنهم، ونظرائهم، وزرارة، وبريد (2)، وأبي بصير المرادي،
والفضيل، ونظرائهم، وجميل بن دراج، وصفوان، وابن أبي عمير، والبزنطي،
ونظرائهم، وإنكار ذلك مكابرة.
وربما نحكم بعدالة شخص لم نره، ولم يشهد عندنا من نعتمد على قوله،
بل بمجرد الاطلاع على أحواله وسيرته، وعلمنا بعدالة مثل الشيخ أبي جعفر
الطوسي، والسيد المرتضى، والمحقق، وأمثالهم - من هذا القبيل، فإنا قبل
ملاحظة كتب الرجال كان هذا العلم حاصلا لنا من تقديم العلماء إياهم
والاقتداء بهم، إلى غير ذلك من القرائن، فلا يلزم من الشكوك المذكورة سد
باب الاحتياج إلى علم الرجال والتفتيش عن أحوالهم.
نعم هذا العلم لا يحصل إلا في قليل من الرواة غير أصحاب الأصول.

(1) قوله (فيحتاج إلى التفتيش): ساقط من الأصل وب، وأثبتناه من نسختي أ وط.
(2) في أ وط: يزيد.
279

وأما أصحاب الأصول: فيمكن تحصيل هذا العلم في كثير منهم.
ثم تحصيل العلم بأن الرجال الذين بينهم وبين مصنفي الكتب الأربعة،
من شيوخ الإجازة، فلا يضر عدم عدالتهم في صحة الحديث.
وأيضا: فإن بعض الرواة قد وردت الاخبار من الأئمة الأطهار بلعنهم،
وذمهم، والاجتناب عنهم، وبأنهم من الكذابين والمفترين، مثل: فارس بن
حاتم القزويني، وأبي الخطاب محمد ابن أبي زينب، والمغيرة بن سعيد،
ونظرائهم، ويشكل جواز العمل بروايات هؤلاء الملعونين الكذابين، وإن كانت
موجودة في الكتب الأربعة، إلا أن تكون معتضدة بإحدى القرائن المذكورة،
لأنا لا نعلم أن قدماءنا كانوا يعملون بأخبار هؤلاء، وإن كانت مودعة في
الأصول المعتمدة، فيحتاج إلى معرفة الرجال ليتميز (1) من نص بعدم جواز
العمل بروايتهم عن غيرهم.
واعلم: أن ههنا أشياء اخر، سوى العلوم المذكورة، لها مدخلية في
الاجتهاد، إما بالشرطية، أو المكملية:
الأول: علم المعاني.
ولم يذكره الأكثر في العلوم الاجتهادية، وجعله بعضهم من المكملات،
وعده بعض العامة من الشرائط (2)، وهو المنقول عن السيد الاجل المرتضى في
الذريعة (3)، وعن الشهيد الثاني في كتاب آداب العالم والمتعلم (4)، وعن الشيخ

(1) كذا في ب، وفي الأصل وط: لتميز. وفي أ: لتمييز.
(2) لم أعثر على مأخذ ذلك في ما لدي من المصادر.
(3) لم يزد السيد في الذريعة على القول بأن (الذي يجب أن يكون عليه المفتي هو أن يعلم الأصول
كلها على سبيل التفصيل ويهتدي إلى حل كل شبهة تعترض في شئ منها، ويكون أيضا عالما
بطريقة استخراج الاحكام من الكتاب والسنة وعارفا من اللغة والعربية بما يحتاج إليه في ذلك):
الذريعة: 2 / 800.
(4) المسمى ب‍: منية المريد في آداب المفيد والمستفيد: الخاتمة / المطلب الأول / الفصل الثاني /
ص 225.
280

أحمد المتوج البحراني في كتاب كفاية الطالبين (1).
الثاني: علم البيان.
ولم يفرق أحد بينه وبين علم المعاني في الشرطية والمكملية إلا ابن
جمهور (2)، فإنه عد علم المعاني من المكملات، وسكت عن البيان وعلل ب‍: أن
أحوال الاسناد الخبري، إنما يعلم فيه، وهو من المكملات للعلوم العربية.
الثالث: علم البديع
ولم أجد أحدا ذكره إلا ما نقل عن الشهيد الثاني في الكتاب
المذكور (3)، وصاحب كفاية الطالبين (4)، فإنهما عدا العلوم الثلاثة أجمع في
شرائط الاجتهاد.
والحق: عدم توقف الاجتهاد على العلوم الثلاثة، أما على تقدير صحة
التجزي: فظاهر، وأما على تقدير عدم صحة التجزي: فلان فهم معاني
العبارات لا يحتاج فيه إلى هذه العلوم، لان في هذه يبحث عن الزائد على أصل المراد.
فإن المعاني: علم يبحث فيه عن الأحوال التي بها يطابق الكلام
لمقتضى الحال، كأحوال الاسناد الخبري، والمسند إليه والمسند ومتعلقات
الفعل، والقصر والانشاء، والفصل والوصل، والايجاز والاطناب والمساواة.
وبعض مباحث القصر والانشاء المحتاج إليه يذكر في كتب الأصول.
والبيان: علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة. وما يتعلق

(1) كفاية الطالبين ص 38 من مخطوطة محفوظة برقم 2805، و: الصفحة قبل الأخيرة من مخطوطة
أخرى محفوظة برقم 7212، و: الصفحة قبل الأخيرة أيضا من مخطوطة ثالثة محفوظة برقم
2538، ثلاثتها من نفائس مكتبة (آستان قدس رضوي) في مشهد - إيران.
(2) كاشفة الحال عن أحوال الاستدلال / ورقة 8 أ / من مخطوطة محفوظة برقم 4700 في مكتبة
آية الله العظمى النجفي المرعشي العامة بقم - إيران، و: ورقة 4 أ / من مخطوطة أخرى محفوظة
ضمن مجموعة برقم 6322 في المكتبة المذكورة.
(3) منية المريد: 225.
(4) أشرنا إلى المأخذ آنفا.
281

بالفقه من أحكام الحقيقة والمجاز مذكور في كتب الأصول أيضا.
والبديع: علم يعرف به وجوه محسنات الكلام. وليس شئ من مباحثه
مما يتوقف عليه الفقه.
نعم، لو ثبت تقدم الفصيح على غيره، والأفصح على الفصيح، في باب
التراجيح - أمكن القول بالاحتياج إلى هذه العلوم الثلاثة لغير المتجزي، وله -
في بعض الأحيان - إذ فصاحة الكلام وأفصحيته مما لا يعلم في مثل هذا الزمان
إلا بهذه العلوم الثلاثة، وكذا على تقدير تقدم الكلام الذي فيه تأكيد أو مبالغة
على غيره، وسيجئ الكلام على هذه الأمور في باب التراجيح إن شاء الله
تعالى، ولكن لا شك في مكملية هذه العلوم الثلاثة للمجتهد.
الرابع: بعض مباحث علم الحساب، كالأربعة المتناسبة، والخطأين
والجبر والمقابلة (1)، وهو أيضا مكمل وليس شرطا، أما في المتجزي: فظاهر،
وأما في غيره: فلانه ليس على الفقيه إلا الحكم باتصال الشرطيات، وأما تحقيق
أطراف الشرطية فليس في ذمته، مثلا: عليه أن يحكم بأن من أقر بشئ فهو
مؤاخذ به، وليس عليه بيان كمية المقر به في قوله: (لزيد علي ستة إلا نصف ما
لعمرو، ولعمرو علي ستة إلا نصف ما لزيد) مثلا، فتأمل.
الخامس: بعض مسائل علم الهيأة، مثل ما يتعلق، بكروية الأرض،
للعلم بتقارب مطالع بعض البلاد مع بعض أو تباعدهما، وكذا لبعض مسائل
الصوم، مثل: تجويز كون الشهر ثمانية وعشرين يوما بالنسبة إلى بعض
الأشخاص.
السادس: بعض مسائل الهندسة، كما لو باع بشكل العروس مثلا (2).

(1) تجد توضيح هذه المصطلحات في: مفتاح السعادة: 1 / 370، و: أبجد العلوم: 2 / 263.
(2) شكل العروس - عند القدماء من علماء الهندسة - عبارة عن: كل مثلث قائم الزاوية، فان
مربع وتر زاويته القائمة يساوي مربعي ضلعيها وإنما سمي به لحسنه وجماله. انظر: كشاف
اصطلاحات الفنون: 1 / 785.
282

السابع: بعض مسائل الطب، كما لو احتاج إلى تحقيق (القرن) ونحوه.
وليست هذه العلوم محتاجا إليها، لما عرفت، وإلا لزم الاحتياج إلى بعض
الصنائع، كالعلم بالغبن، والعيوب، ونحو ذلك.
الثامن: فروع الفقه.
ولم يذكره الأكثر في الشرائط.
والحق: أنه لا يكاد يحصل العلم بحل الأحاديث ومحاملها بدون ممارسة
فروع الفقه.
التاسع: العلم بموقع الاجماع والخلاف، لئلا يخالف الاجماع.
وهذا شرط لا يستغني غير المتجزي عنه، وهذا العلم إنما يحصل في هذا
الزمان بمطالعة الكتب الاستدلالية الفقهية، ككتب الشيخ، والعلامة،
ونحوها.
العاشر: أن تكون له ملكة قوية، وطبيعة مستقيمة، يتمكن بها من رد
الجزئيات إلى قواعدها الكلية، واقتناص (1) الفروع من الأصول، وليس هذا
الشرط مذكورا في كلام جماعة من الأصوليين.
وتحقيق المقام: أن الدليل النقلي إذا كان ظاهرا أو نصا في معناه، ولم يكن
له معارض، ولا لازم غير بين، ولا فرد غير بين الفردية، فلا يحتاج الحكم
بمعناه والعمل به إلى هذا الشرط، بل تكفي الشرائط السابقة، مثلا: في العلم
بأن الكر من الماء لا ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، من قوله عليه السلام: " إذا
بلغ الماء قدر كر (2) لم ينجسه شئ " (3) - لا يحتاج إلى أكثر من العلم بمعاني

(1) في ب: اقتباس.
(2) كذا في ب، وفي سائر النسخ: كرا. بدل: قدر كر.
(3) كذا الحديث في النسخ، والمروي: " إذا كان الماء.... إلى آخره " الكافي: 3 / 2 - كتاب
الطهارة / باب الماء الذي لا ينجسه شئ / ح 1. التهذيب: 1 / 39 - 40 / ح 107 - 109.
نعم روى في غوالي اللآلي: 1 / 76 و: 2 / 6: " إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا ".
283

مفردات هذا الحديث من اللغة والصرف، وبالهيأة التركيبية من النحو، وهذا
ضروري.
وأما عند وجود المعارض: فيحتاج إلى الملكة المذكورة للترجيح، وكذا
للعلم باللوازم غير البينة، كالحكم بوجوب المقدمة، والنهي عن الأضداد عند
الامر بالشئ، وبمفهوم الموافقة والمخالفة، ونحوها، وربما يحتمل كفاية العلم
بالمطالب الأصولية لهذا القسم.
والعمدة في الاحتياج إلى الملكة إنما هو للحكم بفردية ما هو غير بين
الفردية للكلي المذكور في الدليل، أو لمعارضه، أو لمقدمته، أو لضده، أو نحو
ذلك.
مثلا: للعلم باندراج الكر الملفق من نصفين نجسين مع عدم التغير - في
الحديث المذكور، حتى يحكم بصيرورته طاهرا، أو بعدم اندراجه فيه، فيحكم
ببقائه على النجاسة، يحتاج إلى تأمل تام وفهم ذكي (1).
وكذا في اندراج من عنده من الماء ما لا يكفيه للوضوء إلا مع مزجه
بمضاف لا يسلبه الاطلاق، في: (غير الواجد للماء) فيصح تيممه، أو في
نقيضه: وهو (الواجد للماء) فيبطل تيممه.
وكذا في اندراج الخارج من بيته للسفر قبل حد الترخص - في (الحاضر)
فيتم الصلاة - أو في (المسافر) فيقصر.
وكذا في اندراج حاج في طريقه عدو، لا يندفع إلا بمال، وهو يقدر على
ذلك المال - في (المستطيع) فيجب عليه الحج، أو عدم اندراجه فيه فلا يجب.
وهذا القسم من الكثرة بحيث لا يعد ولا يحصى، ومعظم الخلافات بين
الفقهاء يرجع إلى هذا، ولا شك في أن العلم (2) بهذا القسم - ليعمل لنفسه،

(1) كذا في أ وط، وفي الأصل وب: زكي.
(2) في الأصل: للعلم، وما أثبتناه مطابق لسائر النسخ.
284

أو ليفتي غيره - يحتاج إلى ملكة قوية، وفهم ذكي (1)، وطبع صفي.
ويجب الاجتناب في الحكم بأن هذا الشئ الجزئي فرد لهذا الكلي ومندرج
فيه - عن الاعتماد على الظنون الضعيفة والناشئة عن الهوى النفساني، وينبغي
أن يختبر نفسه في الاستقامة بمجالسة العلماء، ومذاكرتهم، وتصديق جماعة
منهم باستقامة طبعه، بحيث يحصل له الجزم بسببه بعدم اعوجاجه في
الأغلب، وإلا فلا يعتمد على اعتقاداته في الاحكام التي من هذا القبيل، وربما
قيل: بجواز الاعتماد على شهادة عدلين خبيرين (2) بذلك، وهو محل تأمل مع
عدم حصول الجزم من شهادتهما بانتفاء القرائن.
فإن قلت: اعتبار هذا الشرط يستلزم عدم العلم بوجود المجتهد، والتالي
باطل، فكذا المقدم.
أما بيان الملازمة: فلان الملكة المذكورة أمر غير منضبط (3)، لأنه لا يكاد
يتفق اثنان فيها، لاختلاف الطبائع غاية الاختلاف - فليس ههنا مرتبة معينة
يمكن أن يقال: إن (4) من له هذه المرتبة مجتهد دون من هو دونها - فلا يمكن
تحصيل العلم باجتهاد أحد.
وأما بطلان التالي: فلانه لا تتم التكاليف في مثل هذا الزمان بدون
العلم بالاجتهاد، إذ غير المجتهد لا يجوز له العمل باعتقاداته، ولا يجوز لغيره
العمل بقوله، لما مر من الأدلة على اعتبار كل شرط من الشرائط المذكورة للعمل
بالأحكام الشرعية.
وأيضا: اعتبار هذا الشرط يستلزم عدم وجوب الاجتهاد كفاية، والتالي
باطل.

(1) كذا في أ وط، وفي الأصل وب: زكي.
(2) كذا في ب وط، وفي الأصل وأ: خيرين.
(3) ذهب إلى ذلك المحدث الاسترآبادي: الفوائد المدنية: 93 / الوجه الثامن.
(4) كلمة (إن): زيادة من ط.
285

بيان الملازمة: أن هذه الملكة أمر موهبي من الله تعالى، لا يمكن
اكتسابه، وإن أمكن تقويته في الجملة بالكسب، فإنا نرى جماعة لا يمكنهم
تحصيل مسائل لها عراقة في النظرية في الجملة، وإن صرفوا أعمارهم في
تحصيلها، بل نشاهد جماعة لا يمكنهم إلا تحصيل قليل من النظريات بعد
الكد التام والسعي البليغ، فعلم أن هذه الملكة مما لا تحقق لها في أكثر الناس،
فلم يكن الاجتهاد واجبا عليهم، وإلا لزم التكليف بما لا يطاق.
وأما بطلان التالي: فلأنهم بين قائل بوجوبه العيني، كما نقله الشهيد في
الذكرى عن قدماء أصحابنا وفقهاء حلب (1)، وبين قائل بوجوبه الكفائي، ومن
خواص الواجب الكفائي إثم الكل بتركه.
لا يقال: الاجتهاد ليس واجبا كفائيا بالنسبة إلى المكلفين، بل
بالنسبة إلى صاحبي الملكة، فعلى تقدير انتفائه لا يلزم إلا إثم صاحبي الملكة
المذكورة.
لأنا نقول: شرط التكليف إعلام المكلف، وقبل (2) الاجتهاد لا يتميز
صاحب الملكة عن غيره، فلا يعلم أحد أنه مكلف بالاجتهاد (3)، لعدم علمه
بأنه صاحب الملكة.
وأيضا: يلزم تأثيم (غير المعين) وإنه غير معقول، كما صرحوا به في تحقيق
الواجب الكفائي.
وأيضا: هذا الجواب خلاف ما صرحوا به من تأثيم الكل بترك
الاجتهاد.
والجواب الحق عن كلا البحثين: أنا ما ادعينا اعتبار الملكة المذكورة في
مطلق المجتهد بل اعتبرناها في المجتهد المطلق، لما عرفت أن العلم بمعاني الأدلة

(1) الذكرى: 2 / المقدمة / الإشارة الثانية. لكن فيه: بعض قدماء الامامية.
(2) في الأصل: وقيل. وما أثبتناه مطابق لسائر النسخ.
(3) في الأصل: الاجتهاد. وما أثبتناه مطابق لسائر النسخ.
286

الشرعية - الناصة أو الظاهرة في معناها بلا معارض - غير محتاج إلى الملكة،
والاحتياج إليها إنما هو لأجل العلم بحكم التراجيح، أو اللوازم غير البينة، أو
الجزئيات غير البينة الاندراج تحت القواعد الكلية، ونحو ذلك.
فإن أراد المعترض بالاستغناء عن الملكة: الاستغناء في القسم الأول،
فنعم الوفاق.
وإن أراد: الاستغناء في هذه الأقسام الاخر، فلا يخلو: إما إن أراد عدم
الاحتياج إلى استعلام هذه الأقسام، أو أراد عدم الاحتياج في استعلام هذه
الأقسام إلى الملكة المذكورة:
فإن أراد الأول، فبطلانه ظاهر، فإنه كثيرا ما يقع الاحتياج إلى العلم
بحال هذه الأقسام، مثلا:
ربما نحتاج إلى أن نعلم أن نصفي كر من الماء كل منهما نجس - هل
يطهران بمزجهما؟ أو لا؟ وهذا العلم لا يحصل إلا بأن نعلم هل هو مندرج
في قوله عليه السلام: " إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا " (1)؟ أو لا؟ وهو يحتاج إلى
الملكة المذكورة.
وكذا نحتاج إلى أن نعلم: أن الحاج متى كان في طريقه عدو لا يندفع
إلا بمال، وهو يقدر على إعطاء ذلك المال - هل هو داخل في (المستطيع إلى
الحج)؟ أو لا؟
وكذا نحتاج إلى أن (2) نعلم: هل الدين المضيق يبطل الصلاة في أول
الوقت؟ أو لا؟ إذ ظاهر: أن القول ببطلانها، يتوقف على إتمام الدليل الدال
على أن الامر بالشئ يستلزم النهي عن الضد الخاص. والقول بصحتها يتوقف
على القدح في الدليل المذكور، وكلاهما لا يتم بدون الملكة.

(1) غوالي اللآلي 1 / 76 و 2 / 6.
(2) كلمة (أن): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
287

ومثل هذه المسائل المحتاج إليها أكثر من أن يحصى.
وإن أراد الثاني - أي: عدم الاحتياج لاستعلام مثل هذه المسائل إلى
الملكة المذكورة - فبطلانه من أجلى البديهيات، لأنا لا نعني بالملكة إلا حالة بها
يتمكن من ترجيح أحد طرفي هذه المسائل، فلا يتصور العلم بالنفي أو الاثبات
في هذه المسائل إلا بالملكة، فعلم أن الدليل على الاستغناء في هذه الأقسام
شبهة في مقابل الامر القطعي.
وتفصيل الجواب عن الاعتراض الأول: منع استلزام اعتبار الملكة
المذكورة في الاجتهاد المطلق، عدم العلم بوجود المجتهد:
أما في الاجتهاد والعلم بالأحكام التي هي من قبيل القسم الأول من
القسمين المذكورين: فظاهر، لأنا لم نعتبرها فيه.
وأما في القسم الثاني: فلان الاطلاع على هذه الملكة ليس بمتعذر، بل
ولا بمتعسر غاية التعسر، بل يمكن:
بالمعاشرة.
وبإخبار الجماعة.
وبشهادة العدلين المطلعين على قوله (1).
وبنصب نفسه متعرضا للفتوى بمجمع خلق كثير - على ما قيل.
وبعرض ترجيحاته المخترعة على ترجيحات من هو معلوم أنه صاحب
الملكة.
وبنحو ذلك، كما سيجئ إن شاء الله في مسألة على حدة.
وعدم انضباط الملكة المذكورة - بمعنى: أن لها مراتب مختلفة - لا يوجب
عدم العلم بها، لان المراد بها: حالة يتمكن بها من رد الفروع إلى الأصول،
بحيث لا يقع الغلط منه غالبا، ولها مراتب كثيرة، المتصف بكل منها ممن يتعلق

(1) كذا في ب، وفي سائر النسخ: قول.
288

به أحكام المجتهد.
وعن الاعتراض الثاني: أيضا منع الملازمة، والبيان الذي ذكره لم يكن
دالا على نفي الوجوب الكفائي عن مطلق الاجتهاد، إذ (1) قد عرفت مرارا عدم
اعتبار الملكة المذكورة في العلم بالأحكام التي هي من قبيل القسم الأول من
القسمين المذكورين آنفا.
فإن قلت: فهل الاجتهاد في الاحكام التي هي من قبيل القسم الثاني
واجب؟ أو لا؟
قلت: يمكن أن يقال: إنه واجب كفائي بالنسبة إلى صاحب الملكة (2).
قوله: " شرط التكليف إعلام المكلف، وقبل الاجتهاد لا يتميز صاحب
الملكة عن غيره " إلى آخره.
قلنا: قبل الاجتهاد في القسم الثاني من الاحكام، وبعد الاجتهاد في
القسم الأول - يتميز صاحب الملكة عن غيره بإحدى الطرق المذكورة سابقا،
ولا يلزم تأثيم غير المعين، لان عدم التعيين قبل الاجتهاد - في القسم الأول من
الاحكام - مستند إلى تقصيرهم من ترك الاجتهاد بالكلية، وبعده يتحقق
التعيين لو لم يقصروا بترك الفحص عن حالهم. وتصريحهم إنما هو بتأثيم الكل
بعدم الاجتهاد بالكلية، فتأمل.
وقال مولانا محمد أمين الاسترآبادي: " الذي ظهر لي من الروايات: أن
طلب العلم فريضة على كل مسلم في كل وقت، بقدر ما يحتاج إليه في ذلك
الوقت، ولا يجب كفاية طلب العلم بكل ما تحتاج إليه الأمة كما قالته العامة -
لأنه غير منضبط بالنسبة إلى الرعية، والتكليف بغير المنضبط محال، كما تقرر
في الأصول في مبحث علة القياس، بل يفهم من الروايات: أن علم الرعية

(1) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: وإذ.
(2) في أ وط: صاحبي الملكة.
289

بجميع ذلك من المحالات " انتهى (1).
وهم وتنبيه (2):
قد بالغ مولانا المدقق محمد أمين الاسترآبادي في إنكار الاجتهاد،
وزعم أن المجتهد فيه لا يكون إلا ظنيا، وأحكامنا كلها قطعية، لما مر من أن (3)
القرآن والسنة النبوية، لا يجوز العمل بهما إلا بعد تحقق ما يوافقهما في كلام
العترة الطاهرة، وأخبار العترة الطاهرة كلها قطعية، لما مر من الوجوه (4).
وجوابه:
أولا: أن اشتراط كون المجتهد فيه ظنيا، ليس إلا في كلام العامة
والعلامة وقيل من أصحابنا. والأكثر منا: لم يذكروا الظن في تعريف الاجتهاد
فقطعية الاحكام لا تنافي صحة الاجتهاد، مع أنه في الحقيقة راجع إلى نزاع
لفظي.
وثانيا: أنا لا نسلم قطعية صدور أحاديثنا (5) كلها من المعصوم، وقد مر
الكلام فيه.
وبعد التسليم: لا يلزم قطعية الحكم، بل قلما تبلغ دلالة الاخبار على

(1) الفوائد المدنية: 241.
(2) في ط: تذنيب. بدل: وهم وتنبيه.
(3) كلمة (أن) ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(4) هذا هو خلاصة ما افاده المحدث الاسترآبادي في الفوائد المدنية في موارد متعددة، انظر: ص
28 و 40 و 47 و 49 و 63 و 91 و 135 - 136 و 164 و 253 منه.
(5) في ط: قطعية أخبارنا.
290

جميع ما يستفاد منها مرتبة القطع، وهو في غاية الظهور.
وأيضا: شنع المذكور (1) على أكثر فقهائنا قدس الله أرواحهم، بأنهم كانوا
يفتون بمجرد آرائهم من غير دليل (2).
وأنت قد عرفت: أن كثيرا من الاحكام من قبيل اللوازم (3) غير البينة إلا
بالتأمل والدليل، ومن قبيل الجزئيات والافراد غير البينة الفردية، ونحو ذلك.
ولما كان العلم باندراج هذه الفروع في أصولها، يحتاج إلى طبيعة وقادة،
وقريحة نقادة (4)، تحصل للبعض دون البعض - لا يحسن لمن لا تحصل له،
الطعن على من حصلت فيه بأنه أفتى في الحكم الفلاني من غير دليل.
مثلا: ربما يتوهم أن القول بوجوب القصد بالبسملة إلى سورة معينة في
الصلاة، قول بالحكم الشرعي من غير دليل، إذ لا نص يدل على ذلك
الوجوب.
وهو باطل، لان من قال به، يقول: إنه قد وردت النصوص بوجوب
قراءة سورة كاملة، ولا تتحقق السورة الكاملة إلا مع القصد المذكور، لان
البسملة لما كانت مشتركة، لا تصير جزءا إلا بالقصد.
والغرض: أن فتاوى الفقهاء كلها راجعة إلى أحد من الأدلة التي هي
واجبة الاتباع عندهم، ولا أقول بامتناع الغلط والخطأ عليهم، إذ غير المعصوم
لا ينفك عن السهو والخطأ، إذ أحد من العقلاء لم يجوز القول في الأحكام الشرعية
من غير دليل، ومعلوم: أن أدلة الشرع منحصرة - عند فقهاء الشيعة
كلهم، كما صرحوا به في جميع كتبهم الأصولية - في: القرآن، والحديث
الصحيح، والاجماع الذي علم دخول المعصوم فيه، والدلالة العقلية التي قد

(1) كلمة (المذكور): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(2) الفوائد المدنية: 178 - 180 / الفصل الثامن / السؤال الحادي والعشرون.
(3) في الأصل: اللزوم، وما أثبتناه مطابق لسائر النسخ.
(4) في ط: نفاده.
291

مر الكلام فيها.
والفتاوى الراجعة إلى الأدلة العقلية - وهي: الاستصحاب، وأقسام
المفهوم - قليلة في كلامهم، والمعظم من قبيل الجزئيات المندرجة تحت أصولها
التي لا يمكن إرجاعها إلى أحد من الأدلة العقلية.
والأدلة عند معظم العامة: أيضا منحصرة في أشياء مخصوصة، نعم قليل
من أصحاب أبي حنيفة.....، كانوا يعملون بالرأي، ويسمون بأصحاب
الرأي، والظاهر: أنه إما العلم بالاستحسان، أو المصالح المرسلة، إذ لا
يتصور غيرهما (1).
وكيف يتوهم من له أدنى شائبة من العقل أن معظم فقهائنا - كالمفيد،
والمرتضى، والشيخ الطوسي، وتلامذتهم، والمحقق، والعلامة، وجميع
المتأخرين - كانوا يعملون في الأحكام الشرعية بما لم يعمل به أكثر العامة أيضا،
فإن الفتاوى المذكورة في كتب العلامة، والمحقق، وغيرهما من المتأخرين - شذ ما
يخلو عنها كتب الشيخ الطوسي ونظرائه، مثل: ابن أبي عقيل، وابن الجنيد،
والمفيد، والمرتضى، وغيرهم، كما هو مذكور في كتب الاستدلال.
وقد نقل أغلاطا عن (2) العلامة، يعلم بأدنى تأمل، أنه هو الغالط فيها،
وذكر: أن الشهيد الثاني رحمه الله نقل - في شرح الشرائع - عن العلامة أنه قال
في القواعد في مسألة: " أفتيت بهذا بمجرد رأيي ولم أجد فيه نصا وأثرا " (3).
وأنا أقول: حاشا ثم حاشا مثل ذلك من مثل العلامة رحمه الله، بل ممن
له أدنى فضل وورع، وقد تصفحت من أول شرح الشرائع إلى أول كتاب
الميراث، فما وجدت مما نقله عينا ولا أثرا، وهذا القواعد حاضر، كيف والعلامة
ينادي في كتبه الأصولية بانحصار الأدلة في: الكتاب، والسنة، والاجماع،
والقياس المنصوص العلة، والاستصحاب، ثم يفتي بالرأي الذي لم يعمل به

(1) شرح اللمع: 2 / 969.
(2) كذا في ب وط، وفي الأصل وأ: من. (3) الفوائد المدنية 178.
292

إلا شاذ من الحنفية! (1)
نعم، نقل الشهيد في الشرح، في كتاب الصلح (2)، عن التذكرة (3): أنه
قال في مسألة: " ولست أعرف في هذه المسألة بالخصوصية، نصا من الخاصة،
ولا من العامة، وإنما صرت إلى ما قلت عن اجتهاد " انتهى، وظاهر: أن مراده
بالاجتهاد هو: الاستدلال بالعمومات، فإنه استدل على فتواه في هذه المسألة،
بجواز تصرف الانسان في ملكه كيف شاء، ودلالة العمومات عليه ظاهرة.
وقد وجدت مواضع مما عده من أغلاط العلامة، غير موافق لعبارة
الكتاب الذي نقله عنه.
فإن قال: لا يجوز رد الفروع والجزئيات إلى أصولها.
قلنا: لا شك أنا إذا علمنا أن هذا الحكم متعلق بهذا الكلي، وعلمنا أن
هذا الشئ الخاص فرد لهذا الكلي، يحصل لنا العلم بأن ذلك الحكم متعلق
بذلك الشئ الخاص.
فإن قال: إن فردية الفرد لابد أن تكون قطعية حتى يصح الحكم، مع
أن الفقهاء يحكمون بمجرد الظن.
قلنا: الذي ذكره الفقهاء الحكم على الأشياء بالأدلة الظنية التي ثبتت
حجيتها في الشرع، ولا يعلم من ذلك أنهم كانوا يكتفون في فردية الفرد،
واندراج الجزئي بالظن، حتى يصح الطعن.
مع: أنه يمكن الاستدلال على الاعتماد على هذا الظن أيضا - بما يستدل
به على حجية خبر الواحد، كما لا يخفى.

(1) لاحظ التعليقة المذكورة برقم (1) في الصفحة السابقة.
(2) المسالك: 1 / 214 - كتاب الصلح / في شرح قول المحقق: " المسألة الأولى يجوز اخراج
الرواشن والأجنحة... إلى آخره ".
(3) التذكرة: 2 / 182 - كتاب الصلح / الفصل الثالث / مسألة " إذا أخرج جناحا أو روشنا في
الشارع النافذ فقد بينا أنه... ".
293

وأيضا: إنه أورد في بحث صحة أحاديثنا: أن الفاضل المدقق محمد بن
إدريس الحلي رحمه الله، أخذ أحاديث من أصول قدمائنا التي كانت عنده،
وذكرها في باب هو آخر أبواب السرائر، وأورد حديثين عن جامع البزنطي،
صاحب الرضا عليه السلام:
أحدهما: عنه، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
" إنما علينا أن نلقي إليكم (1) الأصول، وعليكم أن تفرعوا ".
والثاني: أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام
قال: " علينا إلقاء الأصول إليكم (2)، وعليكم التفريع " (3).
فإن هذين الحديثين الصحيحين: يدلان على لزوم رد الفروع إلى
الأصول، وظاهر: أنه لا معنى للتفريع إلا إجراء حكم الأصول والكليات إلى
الجزئيات والافراد مطلقا، بل لا يخفى صدق التفريع المأمور به في الاجراء إلى
الافراد المظنونة الفردية، ولكنه محل تأمل.
واعلم: أن الاجتهاد كما يطلق على استعلام الاحكام من الأدلة
الشرعية، كذلك يطلق على العمل بالرأي وبالقياس، وهذا الاطلاق كان
شائعا في القديم (4).
قال الشيخ الطوسي، في بحث شرائط المفتي، من كتاب العدة: " إن
جمعا من المخالفين عدوا منها: العلم بالقياس، وبالاجتهاد، وبأخبار الآحاد،
وبوجوه العلل، والمقاييس، وبما يوجب غلبة الظن " ثم قال: " إنا بينا فساد
ذلك، وذكرنا أنها ليست من أدلة الشرع " (5) وظاهر: أن الاجتهاد الذي ذكر أنه

(1) و (2) في ط: عليكم.
(3) الفوائد المدنية: 154.
(4) كانت نقطة التحول في اصلاح الاجتهاد على يد المحقق الحلي إذ عرف الاجتهاد ببذل الجهد
في استخراج الأحكام الشرعية (معارج الأصول: 179) بعد أن كان عبارة عن أحد الأدلة
الشرعية وواقعا في عرضها كما سيوضحه المصنف فيما بعد.
(5) عدة الأصول: 2 / 115.
294

ليس من أدلة الشرع، ليس بالمعنى المتعارف، إذ لا يحتمل (1) كونه من جنس
الأدلة.
والسيد المرتضى في كتاب الذريعة، ذكر: أن الاجتهاد " عبارة عن إثبات
الأحكام الشرعية بغير النصوص والأدلة، أو إثبات الأحكام الشرعية بما طريقه
الامارات والظنون " (2) وقال في موضع آخر منه: " وفي الفقهاء من فرق بين
القياس والاجتهاد، وجعل القياس ما له أصل يقاس عليه، وجعل الاجتهاد
ما لم يتعين له أصل، كالاجتهاد في طلب القبلة، وفي قيمة المتلفات، وأروش
الجنايات، ومنهم من عد القياس من الاجتهاد، وجعل الاجتهاد أعم منه " (3).
قال: وأما الرأي، فالصحيح عندنا: أنه عبارة عن المذهب والاعتقاد
الحاصل من الأدلة، غير الحاصل من الامارات والظنون (4). هذا حاصل
كلامه.
وظاهر أيضا: أن (الاجتهاد) في كلامه ليس بمعناه المعروف، وقد ورد
ذم الاجتهاد في بعض الاخبار، وهو بهذا المعنى الثاني، وكأن هذا هو الباعث
لانكار الاجتهاد للقائل المذكور، وهو غلط ناش من الاشتراك اللفظي.
وإنكاره الاجتهاد، مستندا بغلط جماعة من المجتهدين، شبيه باستدلال عوام
العامة على عدم حقية مذهب الشيعة بتركهم لصلاة الجماعة، واستدلال جماعة
من جهلة العوام على ذم العلم بأن جل علماء هذا الزمان حريصون على الدنيا،
وهو مذموم، إذ عمل بعض من المجتهدين بمجرد رأيه، أو غلطه في بعض الأحكام
- على تقدير تسليمه - لا يوجب بطلان الاجتهاد، أي: العلم

(1) كذا في أ وب، وفي الأصل وط: لا يحمل.
(2) الذريعة: 2 / 792.
(3) الذريعة: 2 / 672.
(4) الذريعة: 2 / 673. والعبارة فيها كما يلي: " فأما الرأي، فالصحيح عندنا أنه: عبارة عن
المذهب والاعتقاد، وإن استند إلى الأدلة، دون الامارات والظنون ".
295

بالأحكام عن أدلتها التفصيلية، وهو من البديهيات.
وربما يستدل له: بأنا لا ننكر الاجتهاد، إلا بمعنى: أن العمل بالأدلة
والأحاديث يتوقف على الملكة المذكورة، إذ ظاهر: أن هذه الأحاديث والاخبار،
كان يعمل بها في عصر الأئمة عليهم السلام، كل من سمعها من الشيعة من
العوام والعلماء، وإنكار ذلك مكابرة، ولم ينقل عن أحد من الأئمة عليهم السلام
الانكار على أحد من الشيعة، وهذا مما يوجب القطع بجواز العمل بها لكل من
فهمها، من غير توقف على أمر آخر.
وجوابه: أنك قد عرفت وجه الاحتياج إلى الشرائط المذكورة، في هذه
الاعصار دون عصر الأئمة عليهم السلام، وعرفت: أن الاحتياج إلى الملكة
المذكورة إنما هو للعمل باللوازم غير البينة اللزوم، وبالأفراد غير البينة الفردية،
ونحو ذلك، لا للعمل بمناطيق الاخبار ومدلولاتها الصريحة، والذي هو معلوم
من حال السلف، هو عملهم بهذه الاخبار ومدلولاتها الصريحة. وأما العمل
باللوازم، والافراد غير البينة، فلا يعلم من حالهم العمل بها بدون الملكة بل هو
بديهي البطلان.
فإن قلت: فعلى ما ذكرت يلزم الاستغناء عن الملكة لعمل بالمدلولات
الصريحة للاخبار، ولو كان لها معارض، وقد مر خلافه.
قلت: المعلوم من حال السلف، العمل بما سمعوه من الاخبار المعتمدة
من غير الفحص عن المعارض، ولا يلزم منه الاستغناء عن الملكة بعد الاطلاع
على المعارض. وسيجئ لهذا زيادة بيان في بحث التراجيح إن شاء الله تعالى.
فإن قلت: لا يجوز العمل إلا بالمدلولات الصريحة، لان اللوازم،
والافراد غير البينة:
إن كانت ظنية: فلا يجوز العمل بها للأدلة الدالة على النهي عن العمل
بالظن، ولقوله عليه السلام: " ما تعلمون فقولوا، وما لا تعلمون فها، وأهوى
296

بيده إلى فيه " (1) وهذا داخل في (ما لا تعلمون)، فيجب التوقف فيه.
وإن كانت قطعية: فلا يجوز أيضا، لاحتمال قصر الحكم على ما لا يحتاج
في الحكم بلزومه أو بفرديته إلى دليل ونظر، فإن وجوب العمل بالاخبار، عام
لمن تمكن من إقامة الدليل، ولمن لم يتمكن، مثلا: أهل الاجتهاد يقولون: يجب
على الولي منع الطفل عن مس كتابة القرآن ولو كان مميزا متوضئا، لقوله تعالى:
* (لا يمسه إلا المطهرون) * (2)، والطفل لما لم يكن وضوؤه شرعيا، لم يكن رافعا
للحدث، فهو محدث، والمحدث لا يجوز له مس كتابة القرآن، فيجب من باب
الحسبة منعه، المنع في الطفل يتعلق بوليه. فنقول - بعد قطعية جميع المقدمات -:
لم لا يكون المنع مقصورا على من علم كونه محدثا، من غير نظر ودليل؟!
والطفل المتوضي ليس كذلك، والعرف قاض بذلك.
قلت: قد مر أنه يحصل القطع بتعلق الحكم بالافراد، واللوازم غير
البينة، إذا قطع باللزوم (3) والفردية.
وأيضا: الخبران المذكوران المنقولان عن السرائر، يدلان على ذلك.
وأيضا: لم يزل العلماء في عصر الأئمة عليهم السلام، يجرون حكم الكلي
على أفراده، كزرارة، ومحمد بن مسلم، وهشام بن الحكم، ويونس بن
عبد الرحمن، والفضل بن شاذان، ونظرائهم من أهل النظر والاستدلال.
وأيضا: كان الأئمة كثيرا ما يستدلون على حكم بآية. ويستدلون على
الاندراج، كما لا يخفى على المتتبع، فلا يكون الحكم مقصورا على اللوازم البينة
اللزوم، والافراد البينة الفردية، فتأمل.

(1) تقدم من المصنف الاستشهاد بهذا الحديث مكررا، وقد رواه كل من البرقي في المحاسن: 213
والكليني في الكافي: 1 / 57 على ما تقدم.
(2) الواقعة / 79.
(3) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: اللزوم.
297

وقد يستدل الخصم (1) أيضا: بأن مصنفي الكتب الأربعة، مصرحون
بجواز العمل بالأحاديث، من غير توقف على ملكه أو غيرها، سوى فهم
الحديث، فيكون الاجتهاد باطلا.
أما الأول:
فلان أبا جعفر ابن بابويه، صرح - في أول كتاب من لا يحضره الفقيه -:
بأن وضع هذا الكتاب، إنما هو لان يرجع إليه ويعمل بما فيه من لم يكن
الفقيه عنده (2). وهو صريح في أن المقلد - الذي عليه الاستفتاء، على تقدير
حضور الفقيه والمجتهد عنده - عليه العمل بأخبار هذا الكتاب عند عدم
حضور الفقيه (3).
وكذا ثقة الاسلام، صرح في أول الكافي بأنه: " كتاب يكتفي به
المتعلم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به " (4).
وهذا ظاهر في جواز رجوع كل متعلم ومريد لعلم الدين إلى هذا الكتاب، من
غير توقف على شرط.
وكذا رئيس الطائفة، ذكر في أول الاستبصار (5): " أن تهذيبه: كتاب
يصلح أن يكون مذخورا يلجأ (6) إليه المبتدي في تفقهه، والمنتهي في تذكره،
والمتوسط في تبحره ".
وقال في أول التهذيب (7) أيضا: " لما فيه - أي: في الكتاب المذكور - من

(1) في أ وط: للخصم.
(2) الفقيه: 1 / 2.
(3) قوله " والمجتهد عنده عليه العمل باخبار هذا الكتاب عند عدم حضور الفقيه " ساقط من
الأصل، وقد أثبتناه من سائر النسخ.
(4) الكافي: 1 / 8.
(5) الاستبصار: 1 / 2.
(6) في ط: يرجع.
(7) التهذيب: 1 / 3.
298

كثرة النفع للمبتدي والريض في العلم " وظاهر: أن المبتدي لا يكون مستجمعا
للشرائط المذكورة للعمل بالأحكام، سيما الملكة.
قلت: غاية ما يلزم من كلامك، تصريحهم بجواز العلم بمناطيق
الاخبار ومدلولاتها الصريحة لكل فاهم للحديث، سواء كان مستجمعا للشرائط
الاخر أو لا، ولا يلزم منه عدم اعتبار الشرائط الاخر، والملكة، في العمل
بالقسم الثاني من القسمين المذكورين للأحكام الشرعية، والله أعلم.
البحث الرابع: في التقليد.
وهو: قبول قول من يجوز عليه الخطأ من غير حجة ولا (1) دليل.
يعتبر في المفتي الذي يستفتى منه - بعد الشرائط المذكورة، على النحو
المذكور - أن يكون مؤمنا، ثقة.
ويكون حصول هذه الشرائط فيه معلوما للمقلد بالمخالطة المطلقة - إن
أمكن الاطلاع في حقه - أو بالاخبار المتواترة، أو بالقرائن الكثيرة المفيدة للعلم،
أو بشهادة العدلين العارفين - على قول.
ولا يشترط المشافهة، بل يجوز العمل بالرواية عنه.
وفي جواز العمل بالرواية عن المجتهد الميت خلاف، على ما نقل.
قال الشهيد الثاني، في كتاب آداب العالم والمتعلم: " وفي جواز تقليد
المجتهد الميت، مع وجود الحي، أو لا معه؟ للجمهور أقوال:
أصحها عندهم: جوازه مطلقا، لان المذاهب لا تموت بموت أصحابهم
- ولهذا يعتد بها بعدهم في الاجماع والخلاف - ولأن موت الشاهد قبل الحكم لا

(1) حرف النفي زيادة من ط.
وقد نص الغزالي على أصل التعريف: المستصفى: 2 / 387 لكن قيده المصنف ليخرج
بذلك قبول قدم المعصوم عن التقليد.
299

يمنع الحكم بشهادته، بخلاف فسقه.
والثاني: لا يجوز مطلقا، لفوات أهليته بالموت، وهذا هو المشهور بين
أصحابنا (1)، خصوصا المتأخرين منهم، بل لا نعلم قائلا بخلافه ممن يعتد
بقوله.
والثالث: المنع منه مع وجود الحي، لا مع عدمه " (2).
ونقل الشهيد الأول في الذكرى (3) القول بجواز تقليد الميت، ولم يصرح
باسم قائله.
ونقل المحقق الشيخ علي، في حواشي الشرائع (4)، عن الشيخ السعيد
فخر الدين، عن والده العلامة: جواز (5) تقليد الميت إذا خلا العصر عن
المجتهد الحي، واستبعده، وحمل كلامه على الاستعانة بكتب المتقدمين في
معرفة صور المسائل والاحكام مع انتفاء المرجع.
وقال فخر المحققين - في كتاب إرشاد المسترشدين وهداية الطالبين (6)،
على ما نقل عنه أنه قال -: في وجه الاقتصار على الأصول الكلامية:
" واقتصرت على هذه الأصول، ولم أذكر العبادات السمعية، لان والدي - جمال
الدين الحسن بن يوسف [بن] (7) المطهر قدس الله سرهم (8) - ذكر ما أجمع

(1) وذهب إليه بعض العامة أيضا كالفخر الرازي في المحصول: 2 / 526.
(2) منية المريد: 167. باختصار.
(3) الذكرى: 3، المقدمة، الإشارة الخامسة.
(4) حاشية المحقق الشيخ علي الكركي على الشرائع، الصفحة الأخيرة من مخطوطة محفوظة برقم
1418 في مكتبة المدرسة الفيضية بقم - إيران والصفحة 639 من مخطوطة أخرى محفوظة
برقم 1964 في المكتبة المذكورة.
(5) كلمة (جواز): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(6) ارشاد المسترشدين وهداية الطالبين، الخاتمة، الصفحة الأخيرة من مخطوطة محفوظة برقم 454
في مكتبة آية الله المرعشي النجفي العامة بقم - إيران.
(7) ما بين المعقوفين زيادة من المصدر قد خلت منها النسخ.
(8) كذا في المصدر، وفي النسخ: ذكره.
300

عليه أهل البيت عليهم السلام، وهم الأئمة المعصومون صلوات الله عليهم، وما
صح نقله عنهم، بالطريق الذي له إلى الشيخ الطوسي، ومن الشيخ الطوسي
إلى الأئمة عليهم السلام، بالطرق الصحيحة التي لا شك فيها ولا ريب، لان
والدي لما ذكرنا له أن الميت لا قول له، فقال: إني قد أثبت لكم ما اتفقت عليه
الأئمة عليهم السلام، فلا يحتاج إلى تقليد أحد بعد معرفة (واجب الاعتقاد) (1)
ومن عدل عنه إلى غيره، فقد عدل عن يقين إلى ظن، وعن قول معصوم إلى
قول مجتهد، فأيها المؤمنون تمسكوا واعتمدوا عليه " انتهى كلامه.
احتج المحقق الشيخ علي، في حواشي كتاب الجهاد من الشرائع (2)، على
المنع بوجوه:
الأول: أن المجتهد إذا مات سقط اعتبار قوله، ولهذا ينعقد الاجماع على
خلافه.
وضعف هذا الوجه ظاهر، لأنه - بعد عدم صحته على أصولنا - ينتقض
بمعروف النسب، مع أنهم اعتبروا شهادة الميت في الجرح والتعديل، وهو
يستلزم الاعتداد بقوله في عدد الكبائر، فتأمل.
الثاني: أنه لو جاز العمل بقول الفقيه بعد موته، لامتنع في زماننا،
للاجماع على وجوب تقليد الأعلم والأورع من المجتهدين، والوقوف على الأعلم
والأورع بالنسبة إلى الاعصار السابقة في هذا العصر غير ممكن.

(1) هو من مصنفات العلامة قدس سره في أصول الدين. انظر: الذريعة: 25 / 4.
(2) حاشية المحقق الكركي على شرائع الاسلام / ص 635 - 638 من مخطوطة محفوظة برقم
1964 في مكتبة المدرسة الفيضية بقم - إيران والصفحة قبل الأخيرة من مخطوطة أخرى
محفوظة برقم 1418 في المكتبة المذكورة. (بتصرف).
وقد ذكر المحقق الكركي ذلك في كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تعقيبا على قول
المحقق الحلي في الشرائع: " ولا يجوز أن يتعرض لإقامة الحدود ولا للحكم بين الناس إلا عارف
بالأحكام مطلع على مآخذها... " شرائع الاسلام: 1 / 344.
301

وفيه - بعد تسليم هذا الاجماع -: أنه يمكن الاطلاع على الأورع
والأعلم، بالآثار والاخبار والتصانيف ونحو ذلك، وهذا في غاية الظهور.
الثالث: أن المجتهد إذا تغير اجتهاده، وجب العمل باجتهاده الأخير،
ولا يتميز في الميت فتواه الأولى والأخيرة.
وفيه: أنه يمكن العلم بتقديم الفتوى وتأخيرها في الميت من كتبه، وأنه
لا يتم إلا في ميت تغيرت فتواه في مسألة واحدة، واحتمال التغير ينتقض بالحي.
الرابع: أن دلائل الفقه لما كانت ظنية، لم تكن حجيتها إلا باعتبار الظن
الحاصل معها (1)، وهذا الظن يمتنع بقاؤه بعد الموت، فيبقى الحكم خاليا عن
السند، فيخرج عن كونه معتبرا شرعا.
وأورد هذا الوجه الفاضل المدقق مير محمد باقر الداماد، في كتابه شارع
النجاة (2)، بتغيير ما، وزاد: أنه بعد موته يمكن ظهور (3) خطأ ظنه، فلا يمكن
القول بأصالة لزوم اتباع ظنه كما في حال الحياة (4)، إذ بقاء الموضوع معتبر في
الاستصحاب.
والجواب: - بعد تسليم زوال الاعتقادات والعلوم القائمة بالنفس
الناطقة بعد الموت - منع خلو الحكم عن السند، وهل هذا إلا عين (5) المتنازع
فيه؟!
فإنا نقول: إذا حصل للمجتهد العلم أو الظن بالحكم الشرعي، من
دليل اقترن به علمه أو ظنه، فلم لا يجوز العمل بذلك الحكم - الذي أفتى به

(1) في ط: بها.
(2) شارع النجاة (فارسي): 10 - 11.
(3) كلمة (ظهور): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(4) في ط: حياته.
(5) في أ وط، غير. وهو خطأ، لان مراد المصنف ان الاستدلال المذكور مصادرة إذ انه عين
المدعى.
302

في حياته - بعد موته؟! ولم لا يكفي لسندية ذلك الحكم بالنسبة إلى المقلد، ظنه
السابق المقترن به مع عدم العلم بالمزيل في حياته؟! لابد لنفيه من دليل!
ودعوى لزوم بقاء ظن المجتهد إلى حين عمل المقلد، أول المسألة، غايته
لزوم عدم العلم بتغير اعتقاده، وهو حاصل ههنا بحسب الفرض.
واحتمال ظهور خطأ الظن غير مضر، كما في الحي.
ولضعف هذه الوجوه قال صاحب المعالم: " والحجة المذكورة للمنع في
كلام الأصحاب - على ما وصل إلينا - ردية جدا، لا تستحق أن تذكر ".
ثم قال: " ويمكن الاحتجاج له ب‍: أن التقليد إنما ساغ:
للاجماع المنقول سابقا.
وللزوم الحرج الشديد والعسر بتكليف الخلق بالاجتهاد.
وكلا الوجهين لا يصلح دليلا في محل النزاع:
لان صورة حكاية الاجماع صريحة في الاختصاص بتقليد الاحياء،
والحرج والعسر يندفعان بتسويغ التقليد في الجملة.
على أن القول بالجواز قليل الجدوى على أصولنا، لان المسألة اجتهادية،
وفرض العامي فيها الرجوع إلى فتوى المجتهد، وحينئذ فالقائل بالجواز:
إن كان ميتا: فالرجوع إلى فتواه فيها - دور ظاهر.
وإن كان حيا: فاتباعه فيها، والعمل بفتاوى الموتى في غيرها - بعيد عن
الاعتبار غالبا، مخالف لما يظهر من اتفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى
الميت مع وجود المجتهد الحي، بل قد حكى الاجماع فيه صريحا بعض
الأصحاب " انتهى كلامه، أعلى الله مقامه (1).

(1) معالم الدين: 247 - 248.
303

والجواب من وجوه:
الأول: مع عموم النهي عن التقليد واتباع الظن، بل هو مختص
بالأصول.
الثاني: أن المسوغ لجواز تقليد الحي، ليس إلا الوجه الأخير من الوجهين
اللذين ذكرهما، وكيف يمكن دعوى الاجماع مع مخالفة كثير من الأصحاب؟!
ونقد نسب المنع من التقليد مطلقا، الشهيد في الذكرى (1) إلى قدماء
أصحابنا وفقهاء حلب.
وكلام الكليني في أول الكافي (2)، ظاهر في منع التقليد مطلقا، حيث
جعل التكليف منوطا بالعلم واليقين، ونهى عن التقليد والاستحسان.
وصرح ابن [زهرة في كتاب غنية النزوع] (3) بعينية الاجتهاد، وعدم جواز
التقليد، وجعل فائدة رجوع العامي إلى العلماء الاطلاع على مواضع الاجماع
ليعمل به (4).
وأيضا: العلم بدخول قول المعصوم أو تقريره في مثل هذه المسائل
الأصولية، التي علم عدم الكلام عنها في عصر المعصوم - غير ممكن الحصول،
فإن هذه المسائل غير مذكورة في كتب قدمائنا، بل غير مذكورة إلا في كتب
العلامة ومن تأخر عنه، فكيف يمكن العلم بالاجماع الذي يكون حجة
عندنا؟!

(1) الذكرى: 2 / المقدمة / الإشارة الثانية. لكن فيه: بعض قدماء الامامية.
(2) الكافي: 1 / 8 - المقدمة.
(3) في النسخ: وصرح ابن حمزة في كتاب غنية (عتبة - ط) الدروع. والصواب ما أثبتناه.
(4) غنية النزوع: 485 - 486 (تسلسل الجوامع الفقهية).
304

مع: أنه روى الكشي - في ترجمة يونس بن عبد الرحمن - بسنده: " عن
الفضل بن شاذان، عن أبيه، عن أحمد بن أبي خلف، قال: كنت مريضا،
فدخل علي أبو جعفر عليه السلام يعودني في مرضي، فإذا عند رأسي كتاب (يوم
وليلة) فجعل يتصفحه ورقة ورقة، حتى أتى عليه من أوله إلى آخره، وجعل
يقول: رحم الله يونس، رحم الله يونس، رحم الله يونس " (1).
والظاهر: أن الكتاب كان كتاب الفتوى، فحصل تقرير الإمام عليه السلام
على تقليد يونس بعد موته.
وأيضا: روى بسنده " عن داود بن القاسم: أن أبا جعفر الجعفي،
قال: أدخلت كتاب (يوم وليلة) الذي ألفه يونس بن عبد الرحمن، على أبي
الحسن العسكري عليه السلام، فنظر فيه، وتصفحه كله، ثم قال:: هذا ديني
ودين آبائي، وهو الحق كله " (2) فلو لم يجز العمل بقول الميت، لأنكر عليه السلام
العمل به قبل عرضه عليه.
وأيضا: ابن بابويه صرح بجواز العمل بما في: من لا يحضره الفقيه، مع
أنه كثيرا ما ينقل فتاوى أبيه، وهو صريح في تجويزه العمل بفتاوى أبيه بعد
موته، وإنكاره مكابرة.
نعم، الوجه الأخير - وهو لزوم الحرج - يدل على جاوز التقليد.
وكذا: ما ورد من الاخبار، من رجوع الناس بأمر الأئمة عليهم السلام
إلى: محمد بن مسلم، ويونس بن عبد الرحمن، والفضل بن شاذان، وأمثالهم -
في أحكامهم، والامر بأخذ معالم الدين عنهم، على ما ذكره الكشي في
ترجمتهم (3).

(1) رجال الكشي: 484 الترجمة: 913.
(2) رجال الكشي: 484 الترجمة 915.
(3) رجال الكشي: 161 الترجمة: 273، وص 483 الترجمة: 910، وص 542 الترجمة: 1027.
305

لكن تخصيص الحي وإخراج الميت، يحتاج إلى دليل.
ولا يكفي اندفاع العسر بتقليد الاحياء، للاندفاع بتقليد الميت أيضا.
الثالث: أن قوله: " لان المسألة اجتهادية، وفرض العامي، الرجوع فيها
إلى المجتهد " ممنوع، لان المسألة أصولية، يمكن تحصيل القطع فيها، فإن
الانسان إذا علم أن جواز استفتاء المقلد عن المجتهد، إنما هو لأنه مخبر عن
أحكام الله تعالى، يحصل له القطع بأن حياة المجتهد وموته، مما لا يحتمل أن
يكون مؤثرا في ذلك.
وعلى تقدير عدم إمكان تحصيل القطع: فلا شك في الاكتفاء بالظن،
إذ اشتراط القطع في الأصول مبني على إمكانه، كما صرحوا به، وتحكم به
البديهة، وليس اعتماد المقلد على ظنه في المطالب الأصولية - التي يعتمد فيها
على الظن - مشروطا بشئ، كالاعتماد على الظن في الفروع، حيث إنه مشترط
بثبوت الاجتهاد.
وعلى تقدير تسليم كون المسألة اجتهادية: فلا نسلم أن فرض العامي
الرجوع فيها إلى المجتهد، فإنه مبني على ما أشار إليه بقوله: " على أصولنا " من
عدم صحة تجزي الاجتهاد، وقد عرفت بطلانه.
وحينئذ: فيمكن الاجتهاد في هذه المسألة، ثم الرجوع إلى فتاوى
الأموات في بقية أحكامه.
الرابع: أن قوله: " وحينئذ، فالقائل بالجواز: إن كان ميتا، فالرجوع إلى
فتواه فيها - دور ظاهر، وإن كان حيا، فاتباعه فيها والعمل بفتاوى الموتى في
غيرها، بعيد عن الاعتبار غالبا... " إلى آخره - غير صحيح، إذ لا بعد في
تقليد مجتهد حي في هذه المسألة، وتقليد الموتى في غيرها، ولا معنى لادعاء
البعد في مثل هذه المقامات البرهانية.
الخامس: أن قوله: " مخالف لما يظهر من اتفاق علمائنا... " إلى آخره -
فيه: أنه لو تحقق اجماع شرعي على منع تقليد الميت مع وجود الحي، لاستغنى
306

عن التطويل الذي ذكره، فإن قوله: " والحرج والعسر يندفعان بتسويغ التقليد
في الجملة " كالصريح في أن مراد المستدل المنع من تقليد الميت عند وجود
المجتهد الحي، وإلا فلا يندفع العسر إلا بتقليد الميت كما لا يخفى، ولكنك
عرفت عدم تحقق الاجماع مثل هذه المسائل الأصولية، وسيما هذه المسألة.
وأقول: الذي يختلج في الخاطر في هذه المسألة، أن من علم من حاله أنه
لا يفتي في المسائل إلا بمنطوقات الأدلة، ومدلولاتها الصريحة - كابني بابويه،
وغيرهما من القدماء - يجوز تقليده حيا كان أو ميتا، ولا تتفاوت حياته وموته في
فتاواه.
وأما من لا يعلم من حاله ذلك، كمن يعمل باللوازم غير البينة، والافراد
الخفية (1)، والجزئيات غير البينة الاندراج - فيشكل تقليده حيا كان أو ميتا، فإن
من تتبع، وظهر عليه كثرة اختلاف الفقهاء في هذه الأحكام، يعلم أن قليل
الغلط في هذه الأحكام قليل، مع أن شرط صحة التقليد: ندرة الغلط.
والسر فيه: أن مقدمات هذه الأحكام، لما لم يوجد فيها نص صريح،
كثيرا ما يشتبه فيها الظني بالقطعي، وربما يشتبه الحال فيتوهم جواز الاعتماد على
مطلق الظن (2)، فيكثر فيها الاختلاف، ولهذا قلما يوجد في مقدمات هذا
القسم، مقدمة غير قابلة للمنع، بل مقدمة لم يذهب أحد إلى منعها وبطلانها.
بخلاف الاختلاف الواقع في القسم الأول، فإنه يرجع إلى اختلاف الاخبار (3).
فإن قلت: فعلى هذا يبطل جواز اعتماد المجتهد - أيضا - على اعتقاده في
هذا القسم الثاني.

(1) كلمة (الخفية): زيادة من ب.
(2) في ط: فيتوهم جواز العمل على الظن.
(3) في الكافي [1 / 56 ح 11] في باب البدع والرأي والمقاييس: في الصحيح " عن أبي بصير،
قال: قلت لأبي عبد الله (ع) ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب ولا سنة، فننظر فيها؟ فقال:
لا، أما إنك إن أصبت لم تؤجر، وإن أخطأت كذبت على الله عز وجل ". (منه رحمه الله).
307

قلت: لا يلزم ذلك، لأنه إذا حصل له الجزم باللزوم أو الفردية، يحصل
له الجزم بالحكم الشرعي، ومخالفة الحكم المقطوع به غير معقول، فتأمل.
إذا عرفت هذا: فالأولى والأحوط للمقلد المتمكن من فهم العبارات:
أن لا يعتمد على فتوى القسم الثاني من الفقهاء إلا بعد العرض على
الأحاديث، بل لو عكس أيضا كان أحوط (1).
تنبيه (2):
حكم جماعة من متأخري أصحابنا، ببطلان صلاة من لم يكن مجتهدا
ولا مقلدا لمن يجوز تقليده، وكذا غير الصلاة من العبادات (3)، ولا أرى لاطلاق
ذلك وجها، بل لا يصح ذلك الحكم في صور:
الأولى: من احتاط في العبادة، بحيث تحصل الصحة على كل تقدير،
فحينئذ لا وجه للقول ببطلان تلك العبادة، كمن صام وكف عن جميع ما
يحتمل أن يكون مبطلا، ويتأتى ذلك في الصلاة أيضا، كالاتيان بجميع ما
يحتمل أن يكون تركه مبطلا، وترك جميع ما يحتمل أن يكون فعله مبطلا،
بحيث يحصل له القطع بصحة صلاته على كل تقدير.
فإن قلت: هذا لا يتأتى في الصلاة، لان الافعال المحتملة للوجوب
والندب - كالسورة، والتسليم، ونحوهما - إن وقعت على وجه الوجوب، أبطلت
الصلاة على تقدير ندبيتها، وكذا العكس.

(1) في الكافي [1 / 53 ح 3] في باب التقليد: في الصحيح " عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع)
في قول الله عز وجل: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * فقال: والله، ما صاموا
لهم، ولا صلوا لهم، ولكن أحلوا لهم حراما، وحرموا عليهم حلالا، فاتبعوهم ". (منه).
(2) في ط: تذنيب.
(3) المقاصد العلية: 32، روض الجنان: 248.
308

قلت: لا نسلم بطلان ذلك - أي: بطلان الصلاة بإيقاع بعض أجزائها
الواجبة على وجه الندب، وبالعكس - إذا تحققت نية القربة، غايته كونه آثما في
اعتقاده (1) خلاف الواقع، وليس النهي متعلقا بنفس الصلاة، أو بشئ من
أجزائها، بل ولا بصفاتها اللازمة، كما لا يخفى.
وعلى تقدير التسليم: فيمكن عدم نية الوجه في مثل تلك الأفعال، بل
الاقتصار على قصد القربة، وكونه مشغولا بالصلاة، إذ لا دليل على تعيين نية
الوجه في تفاصيل أجزاء الصلاة، ولهذا لم يذهب إليه أحد من العلماء - وإن
ذهب البعض إلى البطلان مع نية الوجه المخالف للواقع - ولذا لم يذهب أحد
إلى بطلان صلاة الذاهل عن الوجه في أجزاء الصلاة.
مع: أنه لا يتم القول بالبطلان - بوجه - على تقدير صحة تجزي
الاجتهاد، فإن من اجتهد في أمر النية وظهر عليه أن لا يعتبر نية الوجه في أجزاء
الصلاة، ثم أتى بالصلاة على الوجه المذكور (2)، فحينئذ لا يتصور القول
ببطلان صلاته بوجه.
الثانية: لو وقعت العبادة موافقة لحكم الشرع في نفس الامر، واقترنت
بنية القربة: مثلا: من صلى وترك قراءة السورة في الصلاة، بمجرد تقليد مثله
من العوام، فلا يمكن للمجتهد المعتقد استحباب السورة، الحكم ببطلان
تلك الصلاة، إذ ليس النهي عنده متعلقا بصلاة ذلك المصلي، بل بتقليده لمثله
كما مر.
وعلى هذا، فلا يمكن الحكم ببطلان صلاة من كانت صلاته موافقة
لشئ من أخبار الأئمة عليهم السلام المعمول به، أو لقول من أقوال الفقهاء
المعتمدين شرعا، وإن لم يكن ذلك المصلي إلا مقلدا لمثله، بمجرد حسن الظن

(1) كذا في ط، وفي سائر النسخ: اعتقاد.
(2) أي: الاتيان بجميع ما يحتمل ان يكون تركه مبطلا. (منه رحمه الله).
309

به، بحيث يتأتى منه نية القربة.
قال الفاضل الورع المحقق مولانا أحمد الأردبيلي - في شرح قول العلامة
في الارشاد: " ويجب معرفة واجب أفعال الصلاة... " إلى آخره -: " إعلم:
أن الذي تقتضيه الشريعة السهلة، والأصل، عدم الوجوب على التفصيل
والتحقيق المذكور في الشرح وغيره، وأظن: أنه يكفي الفعل على ما هو المأمور
به (1)، وفي الاخبار إشارة إليه، كما مر البعض وستقف على أمثاله أيضا،
خصوصا في مسائل الحج، إذ الظاهر: أن الغرض إيقاعه على شرائطه المستفادة
من الأدلة، وأما كونه على وجه الوجوب فلا، وغير معلوم أنه داخل في الوجه
المأمور به (2)، بل الظاهر عدمه، فلا يتم الدليل بأن فعل الواجب على الوجه
المأمور به موقوف على المعرفة والعلم، فبدونه ما أتى بالمأمور به على وجهه،
فيبقى في عهدة التكليف. وعلى تقدير تسليم الوجوب: لا نسلم البطلان على
تقدير عدمه، خصوصا عن الجاهل والغافل عن وجوبه، وعن الذي أخذه
بدليل، مع كون (3) وظيفته ذلك، وكذا المقلد لمن لا يجوز تقليده، ولا خفاء في
صعوبة العلم الذي اعتبروه سيما بالنسبة إلى النساء والأطفال في أوائل البلوغ،
فإنهم كيف يعرفون المجتهد، وعدالته، وعدالة المقلد، والوسائط؟! مع أنهم
ما يعرفون العدالة، ومعرفتهم إياها وأخذهم عنهم فرع العلم بعدالتهم.
ومعرفة العدالة ما تحصل غالبا إلا بمعرفة المحرمات والواجبات، فهم (4) الآن ما
حصلوا شيئا، وليس بمعلوم لهم العمل بالشياع بأن فلانا (5) عدل، مع عدم
معرفتهم حقيقة العدالة، بل ولا بالعدلين، ولا بالمعاشرة. وتحقيقهم ذلك كله

(1) كلمة (به): إضافة من ب ومن المصدر.
(2) كلمة (به): إضافة من ب وط ومن المصدر.
(3) في ط والمصدر: عدم. بدل: كون.
(4) في أ وب وط: وهم. وفي المصدر: وهم إلى الآن.
(5) كذا في المصدر، وفي الأصل وب: الفلان، وفي أ وط: الفلاني.
310

بالدليل لا يخفى صعوبته، مع عدم الوجوب عليهم قبل البلوغ على الظاهر،
بل بعده أيضا، لعدم العلم بالتكليف بها. نعم يمكن فرض الحصول،
فحينئذ يصح التكليف، ولكن قد لا يكون، المراد أعم.
والحاصل: أنه لا دليل يصلح، إلا أن يكون إجماعا، وهو أيضا غير
معلوم لي، بل ظني: أنه يكفي في الأصول الوصول إلى المطلوب كيف كان،
بدليل ضعيف باطل، وتقليد كذلك، كما مر إليه الإشارة، وعدم نقل الايجاب
عن [النبي صلى الله عليه وآله والأئمة و] (1) السلف، بل كانوا يكتفون بمجرد
الاعتقاد وفعل صورة الواجبات (2)، ومثل تعليم النبي صلى الله عليه وآله
الاعراب، مع أن الصلاة معلوم اشتمالها على ما لا يحصى كثرة من الواجبات
وترك المحرمات والمندوبات، وكذا سكوتهم عليهم السلام عن أصحابهم في ذلك.
وبالجملة: لي ظن قوي على ذلك من الأمور الكثيرة، وإن لم يكن كل
واحد منها دليلا، فالمجموع مفيد له، وإن لم يحضرني الآن كله، وإن أمكن
الوجوب على العام المتمكن من العلم على الوجه المشروط. على أن دليلهم لو
تم، لدل على وجوب القصد حين الفعل، وإنه غير واجب إجماعا، ولكن ظني
لا يغني من الحق (3) شيئا، فعليك طلب الحق والاحتياط ما استطعت " انتهى
كلامه، أعلى الله مقامه (4).
وذكر أيضا في مسألة الشك بين الاثنين والثلاث والأربع: " أنه يكفي في
الأصول مجرد الوصول إلى الحق، وأنه يكفي ذلك لصحة العبادة المشترطة
بالقربة، من غير اشتراط البرهان والحجة على ثبوت الواجب، وجميع الصفات
الثبوتية والسلبية، والنبوة، والإمامة، وجميع أحوال القبر، ويوم القيامة، بل

(1) ما بين المعقوفين زيادة من المصدر.
(2) كذا في المصدر، وفي النسخ: الايجاب
(3) كذا في ط، وفي الأصل وأ وب والمصدر: العلم.
(4) مجمع الفائدة والبرهان: 2 / 182.
311

يكفي في الايمان اليقين بثبوت الواجب والوحدانية والصفات في الجملة،
بإظهار الشهادة به، وبالرسالة، وبإمامة الأئمة عليهم السلام، وعدم إنكار ما
علم من الدين بالضرورة ويلزمه اعتقاد سائر المذكورات في الجملة. هذا ظني،
وقد استفدته أيضا من كلام منسوب إلى أفضل العلماء وصدر الحكماء، نصير
الحق والشريعة، ومعين الفرقة الناجية بالبراهين العقلية والنقلية، على حقية (1)
مذهب الشيعة الاثني عشرية، نفعه الله بعلومه الدينية وحشره الله مع محمد
خاتم الرسالة وآله الامناء الأئمة عليهم السلام.
ومما يؤيده: الشريعة السهل السمحة، [و] (2) أن البنت - التي ما رأت
أحدا إلا والديها، مع فرضهما متعبدين (3) بالدين الحق، فكيف بالغير (4)؟! -
إذا بلغت تسعا يجب عليها جميع ما يجب على غيرها من المكلفين، على ما هو
المشهور عند الأصحاب، مع أنها ما تعرف شيئا، فكيف يمكنها تعلم كل
الأصول بالدليل والفروع من أهلها، على التفصيل المذكور، قبل العبادة مثل
الصلاة؟! على: أن تحقيقها العدالة في غاية الاشكال كما مر، وقد لا يمكن لها
فهم الأصول بالتقليد، فكيف بالدليل؟! وعلى ما ترى، أنه قد صعب على
أكثر الناس من الرجال والنساء جدا، فهم شئ من المسائل على ما هي إلا بعد
المداومة.
وبالجملة: هذا ظني، ولكنه لا يغني من شئ، ولعلي لا أعاقب به إن
شاء الله تعالى، وقد استبعدت ما ذكره بعض الأصحاب، سيما ما في الرسالة
الألفية، مع قوله في الذكرى بصحة صلاة العامة، وقد أشار الشراح إليه أيضا،

(1) كذا في أ والمصدر، وفي الأصل وب وط: حقيقة.
(2) ما بين المعقوفين ساقط من النسخ، وقد أثبتناه من المصدر المنقول عنه النص.
(3) كذا في أ وب وط والمصدر، ولكن في الأصل: متقيدين.
(4) كذا في أ وط، وفي الأصل وب: الغير.
312

واستشكل الشارح هنا في الصحة على تقدير الموافقة " انتهى كلامه (1).
وقال في بحث وجوب العلم بدخول وقت الصلاة: " وبالجملة: كل من
فعل ما هو في نفس الامر - وإن لم يعرف كونه كذلك، ما لم يكن عالما بنهيه وقت
الفعل، حتى لو أخذ المسائل عن غير أهله، بل لو لم يأخذ من أحد (2) فظنها
كذلك وفعل - فإنه يصح ما فعله، وكذا في الاعتقادات، وإن لم يأخذها عن
أدلتها، فإنه يكفي ما اعتقده دليلا وأوصله إلى المطلوب، ولو كان تقليدا،
كذا يفهم من كلام منسوب إلى المحقق نصير الملة والدين قدس سره العزيز، وفي
كلام الشارع إشارات إليه، مثل مدحه جماعة للطهارة بالحجر والماء مع عدم
العلم بحسنها، وصحة حج من مر بالموقف، ومثل قوله صلى الله عليه وآله
لعمار حين غلط في التيمم قال -: " ألا فعلت كذا " فإنه يدل على أنه لو فعل
كذا لصح (3)، مع أنه ما كان يعرف، وفي تصحيح من نسي ركعة ففعلها،
واستحسنه عليه السلام مع عدم العلم، والشريعة السمحة السهلة تقتضيه، وما
وقع في أوائل الاسلام من فعله صلى الله عليه وآله مع الكفار من الاكتفاء
بمجرد قولهم بالشهادة، وكذا فعل الأئمة عليهم السلام مع من قال بهم مما يفيد
اليقين، فتأمل. وكذا جميع أحكام الصوم، والقصر والاتمام (4)، وجميع
المسائل، فلو أعطى زكاته للمؤمن مع عدم العلم، لصح، فتأمل واحتط "
انتهى كلامه قدس سره (5).
وقال - في شرح قوله: " ويجب غسل موضع البول بالماء خاصة " -:
" واعلم: أن الرواية التي نقلت هنا في سبب نزول الآية الدالة على الإزالة بالماء

(1) مجمع الفائدة والبرهان: 3 / 189 - 190
(2) كلمة (أحد): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ والمصدر.
(3) كذا في المصدر، وفي النسخ: يصح.
(4) كذا في المصدر وفي النسخ: التمام.
(5) مجمع الفائدة والبرهان: 2 / 54 - 55.
313

- أي: قوله تعالى: * (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) * (1) - دالة على أن
إصابة الحق حسن وصواب، وإن لم يكن عن علم، فعدم صحة صلاة من لم
يأخذ كما وصفوه، مع صلاته كما وصفوها، غير ظاهر، بل يمكن صحتها.
وأمثالها كثيرة، سيما في أخبار الحج، فتفطن، إلا أن يقال: إنه - في وقت الصلاة -
كان مأمورا بالأخذ، فتبطل، ولكن المتأخرين لم يقولوا بمثله، لعدم النهي عن
الضد الخاص عندهم. نعم نقول به لو فرض الامر المضيق في ذلك الوقت مع
الشعور، فالجاهل والغافل خارجان عن النهي، فافهم " انتهى (2).
هذا، ولكن روى الكليني في باب المسألة في القبر: عن " محمد بن يحيى،
عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن إبراهيم بن أبي البلاد، عن
بعض أصحابه، عن أبي الحسن موسى عليه السلام، قال: يقال للمؤمن في قبره:
من ربك؟ قال: فيقول: الله. فيقال له: ما دينك؟ فيقول: الاسلام. فيقال
له: من نبيك؟ فيقول: محمد. فيقال: من إمامك؟ فيقول: فلان. فيقال:
كيف علمت بذلك؟ فيقول: أمر هداني الله وثبتني عليه. فيقال له: نم نومة
لا حلم فيها، نومة العروس، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيدخل عليه من
روحها وريحانها، فيقول: يا رب عجل قيام الساعة، لعلي أرجع إلى أهلي ومالي.
ويقال للكافر: من ربك؟ فيقول: الله. فيقال: من نبيك: فيقول: محمد.
فيقال: ما دينك؟ فيقول: الاسلام. فيقال: من أين علمت ذلك؟ فيقول:
سمعت الناس يقولون فقلته. فيضربانه بمرزبة، لو اجتمع عليها الثقلان:
الانس، والجن، لم يطيقوها. قال: فيذوب كما يذوب الرصاص " الحديث (3).

(1) البقرة / 222.
(2) مجمع الفائدة والبرهان: 1 / 93.
(3) الكافي: 3 / 238 ح 11 من الباب المذكور.
المرزبة: عصية من حديد. و: المطرقة الكبيرة تكسر بها الحجارة، ج: مرازب (لاروس).
وفي نسخة ب: بمضربة.
314

وهذه الرواية دالة على أن هذه الأصول لا يكفي فيها تقليد الناس.
والحق: أن الأولى والأحوط للمكلف، أن يكون جميع ما يعتقده من
الأصول والفروع مما يكون معروضا على كلام أئمة الهدى، وخزنة علم الله،
وأبواب مدينة العلم صلى الله عليه وآله وسلم، ومستندا إليهم.
روى الكليني رحمه الله في الكافي (1) في الصحيح: " عن أبي بصير، قال:
قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ترد علينا أشياء وليس نعرفها في كتاب ولا سنة
فننظر فيها؟ فقال: لا، أما إنك إن أصبت لم تؤجر، وإن أخطأت كذبت على
الله عز وجل " (2).
فإن الظاهر من كلامهم عليهم السلام: أن المخطئ حينئذ لا يكون
معذورا، والمصيب لا مع ذلك غير مؤجر، بل الأولى: أن تكون مقدمات
المعارف النظرية مأخوذة من كلامهم. وما سكتوا عنه، أو لم يبلغنا فيه منهم
شئ، فالأحوط السكوت فيه. ومن تتبع الأخبار الواردة في ذلك - كالروايات
الواردة في النهي عن الكلام، مرة على الاطلاق، ومرة على غير المأخوذ منهم
عليهم السلام - حصل له الجزم بذلك. ويفهم من كثير من الروايات والخطب أن
أصل التصديق بالله تعالى مما فطر عليه جميع العقول، وأن قلب ذي الجحود
مقر بما أنكر (3) بلسانه، بل إن البهائم أيضا لم تبهم عن أربع، أحدها معرفة
الرب - وفي بعض الروايات: معرفة الله، بدل: معرفة الرب - قال الله تعالى:
* (أفي الله شك فاطر السماوات والأرض) * الآية (4).
وهذا مذهب النظام، وكثير من المتكلمين (5)، كما نقله في المواقف (6)،

(1) الكافي: 1 / 56 ح 11.
(2) قوله: (روى الكليني) إلى هذا الموضع: ساقط من الأصل وب وط، وقد أثبتناه من نسخة أ.
(3) في أ وط: أنكره.
(4) إبراهيم / 10.
(5) شرح المواقف: 1 / 77، حاشية الچلبي على شرح المواقف: 51.
(6) المواقف: 28. إلا أنه لم ينص على رأي النظام.
315

وغيره، بل جميع المعارف عندهم كذلك.
واعلم: أنه قد مر أن الأحوط للمقلد، عرض فتاوى الفقهاء على
الروايات وإنما قلنا: إنه أحوط، لا أنه متعين، لان الظاهر من الروايات جواز
اعتماد العامي على من كان ثقة عارفا بروايات الأئمة، كالأمر بأخذ معالم الدين
عن محمد بن مسلم الثقفي، والفضيل بن يسار، ويونس بن عبد الرحمن،
وغيرهم، على ما ذكره الكشي (1)، وغيره، في ترجمتهم، وكالروايات الواردة في
فضل العلماء بأنهم يسددون قلوب شيعتنا.
وروى ابن جمهور، في غوالي اللآلي، بطرقه المذكورة فيه: " عن الإمام الحسن
العسكري عليه السلام، قال: حدثني أبي، عن آبائه، عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، قال: أشد من يتم اليتيم الذي انقطع من أبيه، يتم يتيم
انقطع عن إمامه، ولا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى
من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا، وهدى الجاهل
بشريعتنا، كان معنا في الرفيق الاعلى " (2).
وبإسناده: " عن علي بن محمد عليه السلام، قال: لولا من يبقى بعد غيبة
الامام - من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عنه وعن دينه
بحجج الله، المنقذين للضعفاء من عباد الله، من شباك إبليس ومردته، لما بقي
أحد إلا ارتد " الحديث (3).
وغير ذلك من الروايات.
والحاصل: أن المفهوم جواز اعتماد ضعفاء الناس والعوام على العلماء،
من غير تقييده (4) بلزوم عرض فتاواهم على كلام الأئمة عليهم السلام، فيكون

(1) رجال الكشي: 161 ترجمة رقم 273 وص 212 رقم 377 - 381 وص 483 رقم 910.
(2) غوالي اللآلي: 1 / 16 ح 1.
(3) غوالي اللآلي: 1 / 19 ح 8.
(4) في أ وب وط: تقييد.
316

منفيا، ولو وقع غلط كان على ذمة العلماء فقط، ويقتضيه نفي العسر والحرج،
وكون الدين والشريعة سمحة سهلة، كما لا يخفى، فتأمل، والله أعلم بحقائق
الأمور. * * *
317

الباب السادس
في التعادل والتراجيح (1)

(1) في ط: الترجيح.
319

اعلم: أن التعارض الواقع في الأدلة الشرعية، يكون بحسب
الاحتمالات العقلية منحصرا في أقسام:
الأول: بين الآيتين من الكتاب.
فإن كان في إحداهما إطلاق أو عموم، بحيث يمكن تقييدها أو
تخصيصها أو نحو ذلك:
فالمشهور: لزوم ذلك.
وإلا فالمتأخر ناسخ، إن علم التأريخ.
وإلا فالتوقف، أو التخيير إن أمكن.
والأحوط: الرجوع إلى الأخبار الواردة عن الأئمة عليهم السلام - إن
وجدت في ذلك - وإلا فالتوقف، أو الاحتياط إن أمكن (1).
الثاني: بين الكتاب والسنة المتواترة.
فإن كانت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فحكمه ما مر، مع احتمال
تقديم السنة.
وكذا إن كانت من الأئمة عليهم السلام، مع احتمال تقديم الكتاب

(1) في ط: والاحتياط.
وقوله: إن أمكن: ساقط من أ وط.
321

حينئذ، لحديث عرض حديثهم على كتاب الله، وطرح ما خالف كتاب الله،
وحمله على التقية.
الثالث: بين الكتاب والظني من أخبار الآحاد.
والمشهور: تقديم الكتاب مع عدم إمكان الجمع بوجه، بل معه أيضا
على قول الشيخ وجماعة، وحديث العرض مقتض له (1).
والأخبار الواردة في حصر العلم بالقرآن على الأئمة عليهم السلام - وأنه
بحسب عقولهم لا بحسب عقول الرعية - يقتضي تقديم الخبر، كما لا يخفى والله
أعلم.
الرابع: بين الكتاب والاجماع المقطوع، أو المظنون.
والظاهر: أن حكمه كالثاني والثالث في الأول، والثاني من قسميه.
الخامس: بين الكتاب والاستصحاب، بناءا على حجيته.
ويبعد تقديم الثاني مطلقا.
السادس: بين السنة المتواترة وخبر الواحد.
ولا شك في تقديم الخبر المتواتر، وكذا المحفوف بما يفيد القطع، على خبر
الواحد، إذا كان كل منهما عن الأئمة عليهم السلام، أو النبي صلى الله عليه وآله
وسلم. وكذا إذا كان أحدهما عن النبي صلى الله عليه وآله فقط على الظاهر،
وهذا مع عدم إمكان الجمع.
السابع: بين السنة المقطوع بها بقسميها (2) مع مثلها.

(1) روى الكليني في باب الاخذ بالسنة، في الصحيح: " عن هشام بن الحكم وغيره، عن أبي
عبد الله (ع) قال: خطب النبي صلى الله عليه وآله بمنى، فقال: أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله
فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله ". [و] روى بمضمونه اخبارا كثيرة (منه رحمه
الله).
الكافي: 1 / 69 ح 5.
(2) كذا الظاهر. وفي الأصل: بقسميه. وهي ساقطة من أ وب وط. وعلى نسخة الأصل يكون
المراد بالقسمين: الخبر المتواتر، والخبر المحفوف بما يفيد القطع. أو المنقول عن النبي صلى الله عليه وآله،
والمنقول عن الأئمة (ع)، والأول أولى.
322

ويظهر حكمه مما سيجئ إن شاء الله تعالى.
الثامن: بين السنة المقطوع بها والاجماع بقسميه.
وحكمه: كالسادس والسابع.
التاسع: بينها وبين الاستصحاب.
وحكمه: كالخامس.
العاشر: بين الخبرين من أخبار الآحاد.
وهذا هو الذي ذكره الأكثر في كتبهم، واقتصروا عليه، وذكروا فيه
أقساما من وجوه الترجيح:
بعضها: بحسب السند (1)، ككثرة رواة أحدهما، أو ورع راوي
أحدهما، أو أضبطيته، أو نحو ذلك من الأوصاف، أو علو الاسناد في أحدهما.
وبعضها: بحسب الرواية، كترجيح المروي بلفظ المعصوم، على المروي
بالمعنى.
وبعضها: بحسب المتن، كالفصاحة والأفصحية على قول، أو تأكد
الدلالة، أو كون المدلول في أحدهما حقيقيا دون الآخر، أو كون دلالة أحدهما
غير موقوفة على توسط أمر بخلاف الآخر، أو العام الذي لم يخصص والمطلق
الذي لم يقيد على المخصص والمقيد.
وبعضها: بالأمور الخارجية، كاعتضاد أحدهما بدليل آخر، أو بعمل
السلف، أو بموافقة الأصل على قول، أو بمخالفته (2) على قول آخر، أو
بمخالفته لأهل الخلاف، بخلاف الآخر.
وهذه الوجوه مفصلة في كتب الأصول، وأنا لم أبسط القول فيها، لان

(1) في ط: الراوي.
(2) كذا في ط، وفي سائر النسخ: وبمخالفته.
323

المدرك في بعضها غير ظاهر.
والأولى: الرجوع في الترجيح إلى ما ورد به، وهو روايات:
الأولى: ما رواه الشيخ الجليل الطبرسي في كتاب الاحتجاج، في
احتجاج أبي عبد الله الصادق عليه السلام: " عن الحارث بن المغيرة، عن أبي
عبد الله عليه السلام، قال: إذا سمعت من أصحابك الحديث، وكلهم ثقة،
فموسع عليك حتى ترى القائم عليه السلام، فترد (1) إليه " (2).
الثانية: ما رواه عن الحسن بن الجهم، عن الرضا عليه السلام، وفي
آخره: " قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة، بحديثين مختلفين، فلا نعلم (3) أيهما
الحق، قال: إذا لم تعلم، فموسع عليك بأيهما أخذت " (4).
الثالثة: ما رواه أيضا، في جواب مكاتبة محمد بن عبد الله الحميري، إلى
صاحب الزمان عليه السلام: " يسألني بعض الفقهاء عن المصلي، إذا قام من
التشهد الأول إلى الركعة الثالثة، هل يجب عليه أن يكبر؟ فإن بعض أصحابنا
قال: لا يجب عليه تكبيرة، ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوته أقوم وأقعد.
في الجواب عن ذلك حديثان، أما أحدهما: فإنه إذا انتقل من حالة إلى
أخرى، فعليه التكبير، وأما الحديث الآخر: فإنه روي إذا رفع رأسه من
السجدة الثانية وكبر، ثم جلس، ثم قام، فليس عليه في القيام بعد القعود
تكبير، وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى. وبأيهما أخذت من باب
التسليم كان صوابا " (5).

(1) كذا في النسخ. وفي المصدر: - على ما في النسخة المطبوعة منه - فترده. ويؤيد المتن نسخة
الوسائل: 18 / 87 - 88.
(2) الاحتجاج: 357.
(3) كذا في المصدر، وفي النسخ: فلم نعلم. وفي نسخة الوسائل: ولا نعلم: الوسائل:
18 / 87.
(4) الاحتجاج: 357.
(5) الاحتجاج: 483. باختلاف يسير.
324

الرابعة: ما رواه علي بن مهزيار، في الصحيح، قال: قرأت في كتاب
لعبد الله بن محمد، إلى أبي الحسن عليه السلام: " اختلف أصحابنا في رواياتهم
عن أبي عبد الله عليه السلام في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم: أن
صلهما في المحمل، وروى بعضهم: أن لا تصلهما إلا على الأرض، فأعلمني
كيف تصنع أنت؟ لأقتدي بل في ذلك.
فوقع عليه السلام: موسع عليك بأية عملت " (1).
وفي دلالة هذه الرواية على ما نحن فيه نظر ظاهر.
وروى الكليني في الكافي، قال: وفي رواية: " بأيهما أخذت من باب
التسليم وسعك " (2)، ورواها في خطبة الكافي عن العالم عليه السلام (3).
وهذه الأخبار دالة على أن المكلف مخير في العمل بأي الخبرين شاء،
واختار الكليني في خطبة الكافي، كما مر نقل عبارته (4).
الخامسة: ما نقل عن احتجاج الطبرسي أنه روى: " عن سماعة بن
مهران، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام، قلت: يرد علينا حديثان، واحد
يأمرنا بالأخذ به، والآخر ينهانا عنه؟ قال: لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى (5)
صاحبك فتسأله عنه، قال: قلت: لابد أن نعمل بأحدهما؟ قال: خذ بما فيه
خلاف العامة " (6).
السادسة: ما رواه الشيخ قطب الدين الراوندي، في رسالة ألفها في بيان
أحوال أحاديث أصحابنا (7)، بسنده: " عن ابن بابويه، عن محمد بن الحسن

(1) التهذيب: 3 / 228 ح 583.
(2) الكافي: 1 / 66 - باب اختلاف الحديث ح 7.
(3) الكافي: 1 / 9.
(4) كذا الظاهر، وفي النسخ: ونقل عبارته.
(5) كذا في المصدر والوسائل (18 / 88)، ولكن في النسخ: حتى يأتي.
(6) الاحتجاج: ص 357 - 358.
(7) هذه الرسالة من المفقودات في عصرنا هذا، وقد نقل هذه الأحاديث الثلاثة (6، 7، 8)
وغيرها عنها أيضا: الحر العاملي في الوسائل: 18 / 85 - كتاب القضاء / باب وجوه الجمع بين
الأحاديث المختلفة ح 30، 31، 34، والأمين الاسترآبادي في الفوائد المدنية: 187.
325

الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن رجل، عن يونس بن عبد الرحمن،
عن الحسن (1) بن السري، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا ورد عليكم
حديثان مختلفان، فخذوا بما خالف القوم ".
السابعة: وروى أيضا عن: " ابن بابويه، عن محمد بن موسى بن
المتوكل، عن علي بن الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي،
عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم، قال: قلت للعبد الصالح عليه السلام،
هل يسعنا فيما يرد (2) علينا منكم إلا التسليم لكم؟ فقال: لا والله، لا يسعكم
إلا التسليم لنا. قلت: فيروى عن أبي عبد الله عليه السلام شئ، ويروى عنه
خلافه، فبأيهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه ".
الثامنة: [و] روى بهذا الاسناد: " عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن
أبيه، عن محمد بن عبد الله (3)، قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: كيف
نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان، فانظروا ما
يخالف منهما العامة فخذوه، وانظروا ما يوافق أخبارهم فدعوه ".
وروى الشيخ في باب الخلع: " عن الحسن بن سماعة، عن الحسن بن
أيوب، عن ابن بكير، عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
ما سمعت مني يشبه قول الناس، فيه التقية، وما سمعت مني لا يشبه قول
الناس، فلا تقية فيه " (4).
وهذه الأخبار الخمسة، دالة على أن المتعين عند اختلاف الاخبار،

(1) كذا الظاهر، وفي النسخ والوسائل والفوائد المدنية: الحسين بن السري. ولكن لم يرد هذا
الاسم في كتب الرجال.
(2) في نسخة الوسائل: فيما ورد.
(3) في نسخة الفوائد المدنية: عبيد الله.
(4) التهذيب: 8 / 98 ح 330.
326

العرض على مذهب العامة، والاخذ بالمخالف مطلقا، وعدم جواز العمل
بالتقية عند الاختيار.
التاسعة: ما رواه الكليني، في باب اختلاف الحديث من الكافي، في
الصحيح عن: " عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألت أبا
عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا، بينهما منازعة - إلى أن قال - وكلاهما
اختلفا في حديثكم؟
قال: الحكم ما حكم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث،
وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.
قال: قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما
على صاحبه؟
قال: فقال عليه السلام: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا، في ذلك الذي
حكما به، المجمع عليه من أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذ
الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه. وإنما
الأمور ثلاثة، أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد
علمه إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: حلال بين،
وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات. ومن
أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم.
قلت: فإن كان الخبران عنكم (1) مشهورين، قد رواهما الثقاة عنكم؟
قال: ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة، وخالف العامة،
فيؤخذ به، ويترك ما خالف. حكمه حكم الكتاب والسنة، ووافق العامة.
قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب

(1) في النسخة المطبوعة المحققة من الكافي: عنكما. وفسرها في مرآة العقول بالصادق والباقر (ع)
كما في هامش الكافي، وما أثبتناه مطابق لنسخة الوسائل: 18 / 76 - كتاب القضاء / باب وجوه
الجمع بين الأحاديث المختلفة وكيفية العمل بها ح 1.
327

والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم، بأي الخبرين
يؤخذ؟
قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد.
قلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعا؟
قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم، فيترك، ويؤخذ
بالآخر.
قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا؟
قال: إذا كان كذلك، فأرجه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند
الشبهات، خير من الاقتحام في الهلكات " (1).
وهذه الرواية تدل على أن الترجيح ب‍: أعدلية الراوي، وأفقهيته، وأورعيته
وأصدقيته، ومع التساوي: بالشهرة، ومع التساوي فيها أيضا: فبالعرض على
الكتاب والسنة ومذهب العامة.
وظاهرها: لزوم العرض على الجميع، ويحتمل أن تكون (الواو) بمعنى
(أو) فاللازم العرض على أحدها، ولكن قوله: " أرأيت إن كان الفقيهان عرفا
حكمه من الكتاب والسنة ".... إلى آخره، يؤيد الأول، إلا أنه عليه السلام
جوز الترجيح بالعرض على مذهب العامة فقط، وعلى عمل حكامهم في جوابه
لهذا القول، ومع عدم إمكان هذا النحو من الترجيح، فمقتضى هذه الرواية
لزوم التوقف، ولم يجوز في هذه الرواية التخيير.
وحمل بعضهم (2) روايات التخيير على العبادات المحضة، وروايات
الارجاء والتوقف على ما ليس كذلك، كالدين والميراث ونحوهما، وهو غير

(1) الكافي 1 / 67، 68 - كتاب فضل العلم / باب اختلاف الحديث ح 10.
(2) وهو الأمين الاسترآبادي: الفوائد المدنية: 192 / الفائدة الرابعة، وكذا في ص 273. كما
ذهب إلى هذا الجمع الحر العاملي: الوسائل: 18 / 77.
328

بعيد، لان هذه الرواية وردت في المنازعات والمخاصمات، فتأمل (1).
العاشرة: ما رواه محمد بن إبراهيم ابن أبي جمهور الأحسائي، في كتاب
غوالي اللآلي (2): " عن العلامة، مرفوعا إلى زرارة بن أعين.
قال: سألت الباقر عليه السلام، فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكم
الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيهما آخذ؟
فقال عليه السلام: يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذ
النادر.
فقلت: يا سيدي، إنهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم؟
فقال عليه السلام: خذ بما يقول أعدلهما عندك، وأوثقهما في نفسك.
فقلت: إنهما معا عدلان مرضيان موثقان؟
فقال: انظر إلى ما وافق منهما مذهب العامة، فاتركه، وخذ بما خالفهم،
فإن الحق فيما خالفهم.
فقلت: ربما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟
فقال: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك، واترك ما خالف الاحتياط.
فقلت: إنهما معا موافقين للاحتياط، أو مخالفين له، فكيف أصنع؟
فقال عليه السلام: إذن، فتخير أحدهما فتأخذ به، وتدع الآخر.
وفي رواية: أنه عليه السلام قال: إذن، فأرجه حتى تلقى إمامك
فتسأله " (3) انتهى كلامه (4)

(1) لعل وجه التأمل هو " ان تقييد اطلاق جملة الأخبار الواردة بذلك لا يخلو من اشكال، فإنها
ليست نصا في التخصيص، بل ولا ظاهرة فيه، حتى يمكن ارتكاب التخصيص بها ":
الحدائق الناظرة 1 / 101 - المقدمة السادسة.
(2) في الأصل: اللحساوي في كتاب عوالي - بالمهملة -.
(3) قوله (وفي رواية انه (ع) إلى آخره: ساقط من الأصل، وقد أثبتناه من سائر النسخ.
(4) غوالي اللآلي: 4 / 133 ح 229 لكن فيه: بقول: بدل: بما يقول.
329

الحادية عشرة: ما رواه الشيخ قطب الدين الراوندي بسنده: " عن ابن
بابويه، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أيوب بن نوح، عن محمد ابن أبي
عمير، عن عبد الرحمن ابن أبي عبد الله، عن الصادق عليه السلام، قال: " إذا ورد
عليكم حديثان مختلفان، فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله
فخذوه، وما خالف الله فذروه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله، فاعرضوهما
على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه " (1).
الثانية عشرة: ما رواه: " الحسن بن الجهم (2)، عن الرضا عليه السلام -
ثم قال - قلت للرضا: تجيئني الأحاديث عنكم مختلفة؟ قال: ما جاءك (3) عنا
اعرضه على كتاب الله وأحاديثنا، فإن كان ذلك يشبههما فهو منا، وإن لم يكن
يشبههما فليس منا، قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، فلا
نعلم (4) أيهما الحق؟ قال: إذا لم تعلم، فموسع عليك بأيهما أخذت " (5).
الثالثة عشرة: ما رواه الكليني، في باب اختلاف الحديث، في الصحيح
عن: " سماعة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن رجل اختلف عليه
رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه
عنه، كيف يصنع؟ قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه.
وفي رواية أخرى: بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك " (6).
الرابعة عشرة: ما رواه أيضا، في الباب المذكور، بسنده: " عن أبي
عبد الله عليه السلام، قال: أرأيتك لو حدثتك بحديث العام، ثم جئتني من

(1) تقدم ان هذه الرسالة من المفقودات، وقد روى هذا الحديث عنها أيضا: المحدث الاسترآبادي
في الفوائد المدنية: 186، والحر العاملي في وسائل الشيعة: 18 / 84 ح 29 باختلاف يسير.
(2) كلمة (الجهم): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من أ وب وط والمصدر.
(3) كذا في أ، وفي الأصل ب وط والمصدر: جاءكم.
(4) كذا في المصدر. وفي النسخ: فلم نعلم، وفي نسخة الوسائل: ولا نعلم: الوسائل: 18 / 77.
(5) الاحتجاج: 357.
(6) الكافي: 1 / 66 - كتاب فضل العلم / باب اختلاف الحديث / ح 7.
330

قابل، فحدثتك بخلافه، بأيهما كنت تأخذ؟ قال: قلت كنت آخذ بالأخير،
فقال لي: رحمك الله " (1).
الخامسة عشرة: ما رواه بإسناد عن: " المعلى بن خنيس، قال: قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: إذا جاء حديث عن أولكم، وحديث عن آخركم،
بأيهما نأخذ؟ فقال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فإن بلغكم عن الحي
فخذوا بقوله " الحديث.
وفي حديث آخر: " خذوا بالأحدث " (2).
وهذه الروايات الثلاثة دالة على أن الواجب الاخذ بالرواية الأخيرة، ولا
أعلم أحدا عمل بها غير ابن بابويه في الفقيه في باب (الرجل يوصي إلى
رجلين) حيث نقل خبرين مختلفين، ثم قال: " لو صح الخبران جميعا، لكان
الواجب الاخذ بقول الأخير، كما أمر به الصادق عليه السلام، وذلك أن الاخبار
لها وجوه ومعان، وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس " انتهى (3).
السادسة عشرة: ما رواه الكليني أيضا، في باب الاخذ بالسنة وشواهد
الكتاب، في الصحيح أو الموثق، عن: " عبد الله بن أبي يعفور، قال: سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف الحديث، يرويه من نثق به، ومنهم من لا
نثق به؟ قال: إذا ورد عليكم: حديث، فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من
قول رسول الله صلى الله عليه وآله، وإلا فالذي جاءكم به أولى به " (4).
السابعة عشرة: قال ابن بابويه في كتاب الاعتقادات: " اعتقادنا في
الحديث المفسر أنه يحكم على المجمل، كما قال الصادق عليه السلام " (5) وراعى

(1) الكافي: 1 / 67 - كتاب فضل العلم / باب اختلاف الحديث / ح 8.
(2) الكافي: 1 / 67 ح 9 من الباب المذكور.
(3) الفقيه: 4 / 203 هامش الحديث 5472.
(4) الكافي: 1 / 69 - كتاب فضل العلم / باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب / ح 2.
(5) كتاب الاعتقادات للشيخ الصدوق / باب الاعتقاد في الاخبار المفسرة والمجملة. ط حجري
بلا ترقيم.
331

هذه القاعدة في كتاب من لا يحضره الفقيه، في الجمع بين الاخبار.
والظاهر: أنه أراد بالمفسر: المخصص، والمقيد، والمبين، والمفصل،
ونحوها، وبالمجمل: خلافها.
وهذه الروايات تدل على أنواع من العمل عند تعارض الاخبار:
الأول: الترجيح باعتبار السند، فترجح رواية الثقة، والأوثق، والأفقه،
والأصدق، والأورع، على من ليس كذلك. وهذا تدل عليه: الرواية التاسعة،
والعاشرة.
الثاني: الترجيح بشهرة الرواية: ونقل الأكثر إياها، وندرة الأخرى،
وتدل عليه أيضا: التاسعة، والعاشرة.
الثالث: العرض على كتاب الله، والعمل بالموافق، وطرح المخالف.
وهذا تدل عليه: التاسعة، والحادية عشرة، والثانية عشرة، والسادسة عشرة.
الرابع: العرض على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله. وتدل عليه:
الرواية التاسعة، والسادسة عشرة.
ولفظة (أو) في الأخيرة مؤيدة لكون (الواو) في الأولى بمعنى (أو).
الخامس: العرض على مذهب العامة، أو رواياتهم، أو عمل حكامهم،
والاخذ بالمخالف، وتدل عليه: الرواية الخامسة، والسادسة، والسابعة،
والثامنة، والتاسعة، والعاشرة، والحادية عشرة.
السادس: الاخذ بالأحدث، وتدل عليه: الرابعة عشرة، والخامسة
عشرة، مع رواية أخرى مذكورة فيها.
السابع: التخيير في العمل بأيهما شاء المكلف، وتدل عليه: الأربعة
الأول، والعاشرة، والثانية عشرة، والثالثة عشرة.
الثامن: التوقف، وعدم العمل بشئ منهما. وتدل عليه: الخامسة،
332

والتاسعة، والعاشرة، والثالثة عشرة.
التاسع: العمل بالأحوط منهما. وتدل عليه: الرواية العاشرة.
العاشر: العمل بالحديث المفسر، وحمل المجمل عليه، كما تدل عليه
الرواية الأخيرة، ولكن هذا ضرب آخر من العمل، ليس فيه طرح أحد
الخبرين.
واعلم: أن ظاهر الرواية التاسعة أن الترجيح باعتبار السند، من أوثقية
الراوي ونحوها وكثرته، مقدم على العرض على كتاب الله.
وعلى هذا، فإذا تعارض حديثان، ويكون راوي أحدهما أوثق وأفقه
وأورع من راوي الآخر (1) - يكون العمل بالأول متعينا، وإن كان مخالفا
للقرآن.
و (2) لكن ظاهر كثير من الروايات: أن العرض على كتاب الله مقدم على
جميع أقسام التراجيح، بل روى الكليني في باب الاخذ بالسنة وشواهد
الكتاب (3)، أخبار كثيرة دالة على أن الخبر غير الموافق لكتاب الله فهو زخرف،
وغير مقول النبي صلى الله عليه وآله، ويلزم طرحه، وإن لم يكن له معارض
أصلا.
وعلى هذا، فإذا تعارض حديثان:
ينبغي عرضهما على القرآن أو السنة المقطوع بها، والعمل بالموافق لهما.
وإن لم تعلم الموافقة والمخالفة لهما، فالترجيح: باعتبار الصفات المذكورة
للراوي.
ومع التساوي فيها، فالترجيح: بكثرة الراوي، وشهرة الرواية.
ومع التساوي، ف‍: بالعرض على روايات العامة، أو مذاهبهم، أو

(1) كذا في أ وب وط، وفي الأصل: الأخير.
(2) حرف العطف ساقط من الأصل، وقد أثبتناه من سائر النسخ.
(3) الكافي 1 / 69.
333

عمل حكامهم، والعمل بالمخالف لها. وتأخر هذا عما قبله مما صرح به في
التاسعة والحادية عشرة.
وإن لم تعلم الموافقة أو المخالفة للعامة، ف‍: العمل بالأحوط منهما،
للرواية العاشرة، وللروايات الاخر الدالة على الاحتياط مع عدم العلم،
كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، في كفارة الصيد، عن أبي الحسن عليه السلام،
وفي آخرها: " إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا، فعليكم بالاحتياط " (1) وقوله
عليه السلام في مكاتبة عبد الله بن وضاح: " أرى لك أن تنتظر حتى تذهب
الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك " (2) رواهما الشيخ في التهذيب، وغير ذلك من
الروايات الدالة على الاخذ بالجزم.
والاحتياط إنما يتأتى فيما لو (3) لم يكن أحد احتمالية التحريم. وأما في
المردد بين التحريم وحكم آخر فلا احتياط.
فإن لم يتيسر العمل بالأحوط، ف‍: التوقف، وعدم العمل بشئ منهما،
إن أمكن ذلك، لما في الروايات الدالة على التوقف عند فقد المرجح.
فإن لم يكن بد إلا العمل بواحد منهما، فالحكم: التخيير، لأنه عليه السلام
جعل التوقف في الرواية الخامسة مقدما على العرض على مذهب العامة، وهو
مقدم على التخيير على ما في كثير من الروايات، وفيه نظر. وتقديم التوقف على
التخيير، وكذا عكسه، محل تأمل.
وجعل بعضهم (4) التخيير مخصوصا بالعبادات المحضة، والتوقف بغيرها

(1) التهذيب: 5 / 466 ح 1631.
(2) التهذيب: 2 / 259 ح 1031.
(3) كلمة (لو): زيادة من ط.
(4) هو الأمين الاسترآبادي: الفوائد المدنية: 192 / الفائدة الرابعة، وكذا في ص 273، وذهب
إلى هذا الجمع أيضا الحر العاملي في الوسائل: 18 / 77.
وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
334

- فظاهر الروايات يأباه، سيما الرواية الخامسة، فإنها ظاهرة في العبادات مع
الامر بالتوقف فيها.
والعمل بالروايات الدالة على العمل بالأحدث - في الأحاديث النبوية -
قريب، لما ورد من أن الأحاديث ينسخ بعضها بعضا (1). وأما في أخبار الأئمة
عليهم السلام بالنسبة إلى مكلفي هذه الاعصار - فمشكل غاية الاشكال.
والحادي عشر من أقسام الأدلة: التعارض بين خبر الواحد والاجماع.
فإن كان قطعيا: فتقديمه ظاهر.
وإن كان ظنيا: فيحتمل تقديم الخبر، لان النسبة إلى المعصوم عليه السلام
فيه أظهر وأصرح، ويحتمل تقديم الاجماع، لبعد التقية فيه، وكونه بمنزلة رواية
كثرت رواتها (2)، ويحتمل كونه كتعارض الخبرين الواحدين في الحكم، وقد مر.
الثاني عشر: بين خبر الواحد والاستصحاب، فإن كان أصل
الاستصحاب ثابتا بخبر الواحد، فالظاهر: تقديم الخبر، وإلا فمحل تأمل.
وحكم القياس - على تقدير حجيته - وكذا المفاهيم، لا يزيد على حكم
الاستصحاب فيما ذكرنا.
الثالث عشر: بين الاجماعين.
والحكم مع الاختلاف في القطعية والظنية: ظاهر ومع التماثل: فحكمه
ما مر في تعارض الخبرين من أخبار الآحاد.
وتوهم كثير من الأصوليين، أنه لا يمكن تعارض اجماعين قطعيين.
وهو باطل، لان مرادنا بالاجماع، هو اتفاق جماعة على حكم، علم من
حالهم وعادتهم أنهم لا يتفقون إلا لما بلغهم من إمامهم عليه السلام. فإذا حصل

(1) الكافي: 1 / 64 - كتاب فضل العلم / باب اختلاف الحديث / ح 1، 2.
(2) في ط: روايتها.
335

العلم باتفاق مثل زرارة، والفضيل بن يسار، وليث المرادي، وبريد بن معاوية
العجلي - فلا شك في حصول العلم القطعي بدخول قول المعصوم، أو إشارته،
أو تقريره في هذا الاتفاق، ولما كانت فتاوى الأئمة صلوات الله عليهم كثيرا ما تورد
على جهة التقية ونحوها، فلا بعد في اتفاق جماعة كذلك على أمر، واتفاق جماعة
أخرى كذلك على خلافه، غاية الامر أن يكون مستند أحد الاجماعين واردا على
سبيل التقية، ولما كانت كتب كثير من فضلاء أصحاب الأئمة عليهم السلام
موجودة في زمن المرتضى رحمه الله، والشيخ، وتلامذتهما، والمحقق، والعلامة،
إلى زمان الشهيد (1)، رحمهم الله - فيمكن اطلاعهم على الاجماعات المتعارضة،
كالاخبار المتعارضة بتواتر الكتب بعينها، فلا يجوز نسبه الغلط (2) إليهم بسبب
نقلهم الاجماعات المتخالفة المتناقضة.
والقول بأن أصحاب الأئمة عليهم السلام لم يكن لهم الفتاوى، بل كتبهم
منحصرة في الروايات - قول تخميني، فإن في كتب الروايات كثيرا ما تذكر
الفتاوى عن زرارة، وابن أبي عمير، ويونس بن عبد الرحمن، وغيرهم، وفي
كتاب الفرائض، من كتاب من لا يحضره الفقيه، أورد كثيرا من فتاوى يونس
والفضل بن شاذن (3)، وكيف لنا بمجرد هذا (4) التخمين، نسبة الغلط إلى
كثير من فحول العلماء؟! كالسيد، والشيخ، والمحقق، والعلامة، وغيرهم،
مع قطعنا بأن الكتب التي كانت عندهم ليست موجودة في هذا الزمان، بل هذا
من بعض الظن!
الرابع عشر: بين الاجماع والاستصحاب.
وحكمه: يعلم مما سبق بأدنى تأمل.

(1) في ط: زمن الشهيدين.
(2) كلمة (الغلط): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
(3) الفقيه: 4 / 267، 270، 276، 286، 295، 320.
(4) كلمة (هذا): ساقطة من الأصل، وقد أثبتناها من سائر النسخ.
336

الخامس عشر: بين الاستصحابين.
والحكم: التوقف، وعدم العمل بشئ منهما، إن أمكن، وإلا فيعمل بما
وافق الأصل، لعدم العلم بالناقل عنه.
ولا يبعد ترجيح ما أصله راجح، بإحدى المرجحات المذكورة.
وعليك بإمعان النظر في المرجحات المذكورة في كتب الأصول، فما رجع
إلى أحد من المرجحات المنصوصة، أو قام عليه دليل قطعي، فهو مقبول، وإلا
فعدم الالتفات إليه أحوط وأولى.
والعلم عند الله، والتكلان في المهمات على الله، وهو حسبي ونعم
الوكيل، وصلى الله على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
هذا آخر ما اختصرناه (1) من المطالب الأصولية، المبرهنة بالنصوص
والأدلة القطعية (2). وأنا العبد المذنب الراجي: عبد الله بن حاجي محمد
البشروي الخراساني. وقد وقع الفراغ منه يوم الاثنين، ثاني عشر أول الربيعين
في تاريخ سنة (1059).
* * *

(1) في ط: اقتصرنا.
(2) في ب: العقلية.
337

[نهايات النسخ]
جاء في نهاية نسخة الأصل ما يلي:
وقع الفراغ من كتابة هذه الرسالة الشريفة على يد العبد المفتقر إلى
الله الغني، بهاء الدين محمد بن ميرك موسى الحسيني التوني، في سابع
وعشرين شهر ذي القعدة الحرام، المنخرط في شهور إحدى وعشرين
وماءة بعد الألف من الهجرة النبوية. على هاجرها ألف سلام وتحية.
رب وفقني للعمل في يومي لغدي قبل أن يخرج الامر من يدي
آمين.
وجاء في نهاية نسخة أ ما يلي.
هذا آخر كلام المصنف رحمه الله. تمت الرسالة الموسومة بالوافية في
علم الأصول التي هي من تصانيف العلامة المحقق والحبر المدقق خلاصة
العلماء المتأخرين ومحيي آثار الأئمة المعصومين مولانا عبد الله الشهير
بالتوني حشره الله مع أوليائه وأدخله في قرب أحبائه محمد وآله الطاهرين
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. في ظهيرة يوم السبت من العشر الثاني
من الشهر الثامن من السنة الرابعة من الماءة الثانية من الألف الثاني على
يد أحوج المربوبين إلى الله الغني المغني ابن محمد صادق محمد باقر الحسيني
339

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا سنة 1134. [كذا جاء فيها.
فلاحظ هذا الاختلاف].
وجاء في نهاية نسخة ب ما يلي:
قد فرغت من تسويد هذه النسخة الشريفة في يوم الخامس من شهر
شوال المكرم في سنة 1256. وأنا العبد الأقل المحتاج إلى رحمة الله الغني
محمد علي بن زين العابدين الطباطبائي الخراساني.
* * *
340