الكتاب: منتهى الأصول
المؤلف: حسن بن على أصغر الموسوي البجنوردي
الجزء: ٢
الوفاة: ١٣٧٩
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

منتهى الأصول الجز الثاني
حسن بن علي الموسوي
1

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام
على أشرف الأولين والآخرين محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين و
اللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.
وبعد فاعلم أن المكلف القادر على استنتاج المسائل الفقهية عن
أدلتها التفصيلية - إذا التفت إلى حكم شرعي لا يخلو من حالات
ثلاث:
إما أن يقطع به، أو يظن به، أو يشك فيه. واحتمال الوهم مندرج في
هذه الثلاثة، باعتبار أن الوهم بأحد الطرفين ظن بالطرف الاخر.
وانما قيدنا المكلف بكونه مجتهدا لما مر سابقا أن المسائل الأصولية
عبارة عن الكبريات التي تقع في طريق استنتاج الأحكام الشرعية.
ومن المعلوم أن وجود هذه الحالات لغير المجتهد لا ربط له بتلك
الكبريات التي هي مسائل علمنا. فالبحث عنها - باعتبار حدوثها لغير
المجتهد - خارج عن هذا الفن، كما أن بعض مباحث القطع خارج
مطلقا، سوأ حصل للمجتهد أو للمقلد، فيكون ذكر ذلك البعض
استطرادا.
وأما ما أفيد - من أن مثل خطاب (لا تنقض اليقين بالشك) و (رفع ما لا
يعلمون) لا وجه لاختصاصه بالمجتهدين مع أن الخطابين و
أمثالهما عامة لا تقييد فيها ولا مقيد لها من الخارج - فهو في نفسه
كلام حق لا غبار عليه، لكنه غير مربوط بما ذكرنا، لأنا لا نقول بعدم
حجية الاستصحاب والبرأة بالنسبة إلى العامي، بل نقول بحجيتهما
في حقه في الموضوعات الخارجية بعد إفتاء المجتهد بمضمونهما، و
يجوز للعامي إجراؤهما
3

فيها بعد ذلك الافتاء. ومقصودنا أن الأصولي - بما هو أصولي - لا
يهمه البحث عن حدوث هذه الحالات لغير المجتهد لعدم ارتباطها
بفنه وأما ما استشكل به صاحب الكفاية (ره) على تثليث الأقسام بأنه
لا وجه لتخصيص متعلق القطع بالحكم الواقعي، لعدم اختصاص
أحكامه بذلك، بل لا فرق في ترتب أحكامه بين أن يكون متعلقا
بالحكم الواقعي أو الظاهري، فلا يبقى مجال لتثليث الأقسام، بل
ينبغي
أن يقال أنه إذا التفت إلى حكم شرعي إما أن يقطع به، فهو، وإلا فلا بد
من انتهائه إلى ما استقل به العقل من اتباع الظن على تقدير و
الرجوع إلى الأصول العقلية على تقدير آخر.
وأنت خبير بأن الأصولي لا يهمه إلا تحصيل القطع - بأي سبب كان -
بذلك الحكم الظاهري حتى يجعله كبرى في قياس الاستنباط ولا
شأن له بعد حصول القطع بالحكم الظاهري.
وبعبارة أخرى القطع بالحكم الظاهري لا يحصل إلا بعد الاجتهاد و
الاستنباط الفعلي، والأصولي يبحث ويتكلم عما به يجتهد ويقع
كبرى في قياس الاستنتاج، فلا شغل له بالقطع بالحكم الظاهري فإنه
يهم الفقيه لا الأصولي، فلا بد من التثليث في الأقسام، حتى يرى
الأصولي - بعد البحث والتنقيح - أن أي ظن معتبر ويقع كبرى في
قياس الاستنباط، وأي ظن لا يقع، أو أن كل ظن حجة أو ليس شي
منه بحجة، وأن الشارع - في مورد الشك - هل جعل وظيفة عملية
للمجتهد الشاك ليستنتج منه الحكم الشرعي الظاهري أم لا؟ وعلى
تقدير الجعل ما هي وكم هي. نعم القطع بالحكم الشرعي الذي هو
إحدى هذه الحالات الثلاث خارج أيضا عن البحث الأصولي، كما
سنذكره إن شاء الله تعالى.
ومما ذكرنا ظهر الجواب عن إشكاله الثاني أيضا، وهو أنه لو سلمنا
صحة تثليث الأقسام، فينبغي أن يقال إما أن يقطع أو لا، وعلى
الثاني
4

إما أن تقوم عنده إمارة معتبرة أم لا، وعلى الثاني فالمرجع هي الأصول
العملية، والا يلزم تداخل الأقسام بحسب الحكم، إذ رب ظن
يلحقه حكم الشك بواسطة عدم اعتباره كما أنه رب شك يلحقه حكم
الظن بواسطة اعتباره:
وأنت خبير بأنه ليس هاهنا حكم مفروغ عنه للظن وآخر مفروغ عنه
للشك كي يتداخل بعض الأقسام في بعض بحسب الحكم، بل
المقصود من بيان هذه الحالات - التي هي من الأمور الواقعية لكل
مكلف ملتفت إلى الحكم الشرعي هو تحصيل الحجة على الحكم
الشرعي
وأن هذه الحالات الثلاث كلها أو بعضها حجة عند الشارع أو ليس
شي منها بحجة.
وبعبارة أخرى بعد هذا التقسيم نقول: (أما القطع) فلا معنى لان يكون
حجيته بجعل الشارع إذ هو من قبيل تحصيل الحاصل بل أسواء منه
لأنه يلزم منه تحصيل ما هو حاصل تكوينا بالتشريع. و (أما الظن) فإنه
يمكن أن يجعله حجة بأن يتمم كشفه، كما سنبينه إن شاء الله
تعالى و (أما الشك) فلا يمكن جعله طريقا وحجة، لأنه لا طريقية ولا
كشف له ولو ناقصا حتى يتمم في عالم الاعتبار ولا نفهم معنى
للحجية الشرعية والطريقية المعطاة من قبله سوى ذلك المعنى الذي
لا مورد له ولا يمكن تحققه في الشك فكل ما جعل الشارع للشاك
يكون وظيفة عملية له، لعدم إمكان جعله طريقا من قبله:
(إن قلت) أ ليس بعض الطرق الشرعية كالخبر الموثوق الصدور، و
البينة لا يحصل منه الظن في بعض الأحيان لبعض الاشخاص، فكيف
جعل طريقا وإمارة؟ (قلنا) حجية هذه الأمور باعتبار الظن النوعي،
بمعنى أن هذه الطبيعة مع قطع النظر عن الخصوصيات الواردة
عليها تكون مفيدة للظن، حتى أن هذا الشخص الذي لم يحصل له
الظن من هذه الامارة لو لم تطرأ
5

عليه أو على تلك الامارة تلك الخصوصية، لكان يظن، فالشارع كأنه
تمم تلك الكاشفية النوعية الناقصة في عالم الاعتبار التشريعي
بالمعنى الذي سنذكره لتتميم الكشف في محله إن شاء الله تعالى و
هذا غير جعل الشك طريقا، فإنه غير معقول.
والحاصل أن لنا مقاصد ثلاثة (الأول) في القطع باعتبار بعض أحكامه
وقد بينا أن بعض أحكامه خارج عن الفن (الثاني) في الظن وأن
مطلق الظن حجة أو بعضه دون بعض، أو ليس شي منه بحجة
(الثالث) في الشك وأن الوظيفة المجعولة للشاك ما هي وكم هي. ولا
بأس
بذكر مجاري الأصول وكميتها هنا تبعا للاساطين العظام، وإن كان
محل ذكرها في أول المقصد الثالث:
فنقول الوظيفة المجعولة إما أن يراعي في جعلها الحالة السابقة أم لا
فالأول هو الأصحاب، والثاني إما أن يكون في مورد الشك في
جنس التكليف فهي البراءة، وإما أن تكون بعد العلم بالتكليف و
الشك في المكلف به، فاما أن يقدر على الاحتياط أو لا، فالأول هو
الاحتياط والثاني هو التخيير:
ثم إنه لا يخفى أن حصر مجاري هذه الأصول الأربعة عقلي، والقسمة
قسمة مستوفاة، حيث أنها دائرة بين النفي والاثبات. وأما نفس
الأصول الأربعة فانحصارها فيها استقرائي، وإلا من الممكن جعل
أصل آخر أو أصول اخر في مورد الاستصحاب مثلا غيره أو معه كما
في الموضوعات فان الوظيفة والبناء العملي فيها ليسا على طبق
الحالة السابقة في كثير من الموارد وذلك كالبناء على الأكثر في أعداد
الرباعية، والبناء على وجود المشكوك في قاعدة التجاوز والفراغ و
أصالة الصحة وهكذا، حتى أن انحصار الأصول الحكمية في
الأربعة غير مسلم بل هناك أصلان آخران وهو أصالة الطهارة وأصالة
الحل في الشبهات الحكمية، ولم يذكرها الأصوليون لوضوحها و
عدم الاختلاف فيها،
6

فلا يحتاج إلى بحث وتنقيح، فيكون ذكرها والبحث عنها لغوا وبلا
فائدة:
وأما القول بأن المسألة الأصولية ما لا تكون مختصة بباب دون باب،
بل تجري في جميع أبواب الفقه كالبرأة والاستصحاب كما ذكره
صاحب الكفاية (قده) اعتذارا لعدم ذكر أصالة المحل وأصالة الطهارة
في الشبهات الحكمية فهذه دعوى بلا بينة ولا برهان، بل البرهان
على خلافه، لان المناط في كون المسألة أصولية - كما ذكرنا مرارا -
وقوعها كبرى في قياس الاستنتاج الحكم الكلي الشرعي، ولو في
قياس واحد لاستنتاج حكم واحد.
ثم أن هذا كله في الأصول الحكمية الشرعية. وأما الأصول العقلية
فالحصر في كليهما - أي المجرى والجاري - عقلي، لأنه بعد ما
فرضنا
أن المجتهد بعد الفحص والتفتيش لم يظفر على دليل شرعي على
الحكم أصلا كان أو أمارة فان كان شكه في أصل الالزام من قبل
الشارع فالعقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان، ولا معنى لوجود أصل
آخر من قبل العقل في مثل هذا المورد وأما إذا علم بأصل الالزام
وجوبا أو حرمة أو مرددا بينهما، فأما أن يتمكن من الاحتياط أو لا ففي
الصورة الأولى يحكم بالاحتياط، وفي الثانية بالتخيير كما
سيجئ بيانها مفصلا إن شاء الله تعالى.
المبحث الأول في القطع
وفيه أمور:
(الأول)
أنه لا شبهة في حجية القطع وطريقته لاثبات متعلقه، سواء كان حكما
أو موضوعا، ولا شك في أن طريقية كل شي - عدا القطع -
بالآخرة تنتهي إلى القطع، لان كل ما بالعرض لا بد وأن ينتهي إلى ما
بالذات ولا شك أيضا في أن الحجية والطريقية بهذا المعني للقطع
ذاتي لا يمكن أن يكون بجعل شرعي، لان الجعل الشرعي في هذا
المقام من
7

قبيل تحصيل الحاصل بل أسوأ، لأنه من قبيل تحصيل ما هو حاصل
تكوينا بالتشريع. نعم حجيته وطريقيته بالمعنى الذي ذكرنا مجعول
بالجعل التكويني وحينئذ فإن قلنا بأن الكاشفية هو ذاتي إيساغوجي
للقطع، بمعنى أن القطع ليس إلا انكشاف الشئ وظهوره للقاطع،
فليست صفة الكاشفية من لو أحقه وأعراضه، بل هي عينه، فتكون
مجعولة بالجعل البسيط التكويني بالذات، وإن قلنا بأنها من لوازمه و
لو أحقه كما يظهر من عبارة شيخنا الأعظم (قدس سره) في الرسائل
فتكون مجعولة بالجعل التأليفي التكويني، ولكن بالعرض، لأنه
يكون حينئذ من قبيل الذاتي في كتاب البرهان ومنتزعا من نفس ذات
القطع بلا ضم ضميمة إليه، فجعل الذات مغن عن جعلها مستقلا، بل
تكون مجعولة بعين جعله، وهذا معنى الجعل بالعرض.
ثم إن إطلاق الحجة على القطع ليس من قبيل إطلاق الحجة على الحد
الأوسط عند المنطقيين، لان الحد الأوسط لا بد وأن تكون له علاقة
وارتباط بالأكبر الذي هو محمول النتيجة، وتلك العلاقة لا تخلو إما أن
تكون (هي العلية)، فيكون الأوسط علة للأكبر فيسمى بالبرهان
اللمي، أو المعلولية بأن يكون الأوسط معلولا له، أو كلاهما معلولان
لعلة ثالثة، ويسمى هذان القسمان بالبرهان الآني، ومن الواضح أن
القطع الطريقي المحض الذي هو محل الكلام والبحث لا علاقة له
بمتعلقه ولا ارتباط بينهما أصلا لا العلية والمعلولية، ولا كونهما
معلولين لعلة ثالثة، هذا على أن الحد الأوسط هو الذي يوجب القطع
بثبوت الأكبر للأصغر. وأما القطع، فلا يمكن أن يوجب نفسه. فقد
ظهر مما ذكرنا أن إطلاق الحجة على القطع ليس بالمعنى المصطلح
عند المنطقي ولا عند الأصولي، لان الحجية عند الأصولي عبارة عن
تتميم الكشف في الامارات. وعن الوظيفة العملية في الأصول، كما
سيجئ البحث عنها مفصلا إن شاء الله تعالى.
8

(وبعبارة أخرى) مصداق الحجة في اصطلاح الأصولي عبارة عن
الكبريات التي يستنتج منها المسائل الفقهية ويوجب القطع بها ولو
في
مقام الظاهر والاثبات. وواضح أن القطع الطريقي المحض - سوأ
تعلق بالحكم الشرعي أو بموضوعه - ليس له هذا الشأن، نعم القطع
الذي أخذ في الموضوع - سواء كان على وجه الصفتية أو الطريقية، و
سواء كان جزا للموضوع أو تمامه - يمكن أن يكون من قبيل الحد
الأوسط، فيصح أن يطلق الحجة عليه بالمعنى المصطلح عند المنطقي
وذلك لان نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة المعلول إلى علته بل بناء
على ما هو التحقيق من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في
متعلقاتها، يكون الموضوع دخيلا في الحكم كدخل العلة في معلولها،
فيصح
تشكيل قياس بجعل المقطوع الخمرية مثلا حدا أوسطا لاستنتاج
وجوب الاجتناب أو إثبات النجاسة لهذا الشئ الخارجي المقطوع
خمريته، ويكون من قبيل البرهان اللمي، لما ذكرنا من أن الموضوع من
قبيل العلة بالنسبة إلى الحكم نعم في القطع الذي هو جز
الموضوع لا يمكن أن يجعل الأوسط هو المقطوع كذا وحده، بل لا بد
وأن ينضم إليه الواقع الذي هو متعلق القطع، مثلا في المثال السابق
لا بد وأن يقال في الكبرى وكل ما هو مقطوع الخمرية وكان خمرا
يجب الاجتناب عنه أو نجس مثلا وإلا يلزم الكذب في الكبرى كما
هو واضح.
(الامر الثاني):
في أقسام القطع فنقول وهو إما ليس له دخل في موضوع الحكم
الشرعي أصلا بل يكون إما صرف كاشف عن موضوع الحكم أو عن
نفسه وهذا هو الذي يسمى بالقطع الطريقي المحض أوله دخل في
موضوع الحكم وهو على قسمين. إما بأن يكون تمام الموضوع، أوله
دخل فيه بأي نحو من أنحاء المدخلية جزا أو قيدا أو شرطا وفي كل
واحد من القسمين إما أن تكون المدخلية وأخذه في الموضوع
بعنوان
9

الصفتية، أو الطريقية، ومعنى أخذه بعنوان الصفتية هو أن يكون القطع
باعتبار وجوده الخاص وانه من مقولة الكيف النفساني أخذ في
الموضوع (بيان ذلك) أنه لا شك في أن القطع كسائر الاعراض
الخارجية، بل جميع الموجودات الامكانية واقع ومندرج تحت
إحدى
المقولات، ومعلوم أنه من قبيل الكيف النفساني - كما أن البياض من
الكيف المحسوس - وبهذا الاعتبار عرض من أعراض النفس و
صفة من صفاتها كما أن البياض عرض من أعراض الجسم وصفة من
صفاته. فأخذه في موضوع الحكم بهذا الاعتبار يسمى بالصفتية، كما
أن فيه جهة إرأة عن متعلقه حيث أنه عبارة عن الصورة الذهنية
التصديقية الحاكية عن النسبة الخارجية وبهذا الاعتبار ينقسم إلى
اليقين
والجهل المركب لأنه ان كانت تلك الصورة الذهنية التصديقية مطابقة
للنسبة الخارجية فيقين، وإلا فجهل مركب، وأخذه في الموضوع
بهذا الاعتبار يسمى بالطريقية ولا ريب أن أخذه في الموضوع، بكل
واحد من الاعتبارين ممكن تمام الموضوع أو جزئه.
وأما ما أفيد من عدم إمكان أخذه تمام الموضوع على نحو الطريقية
لان معنى أخذه تمام الموضوع هو أن يكون المنظور فيه حال الجعل
هو القطع وحده من دون نظر إلى متعلقه بل يكون هو وحده منظورا
فيه بالنظر الاستقلالي، ومعنى كونه طريقا وأخذه على هذا الوجه
أن يكون المنظور فيه في الحقيقة هو الواقع المنكشف أي متعلق القطع
ويكون النظر إلى القطع نظرا آليا مرآتيا فهذان الاعتباران أي
اعتباره تمام الموضوع واعتباره فيه على وجه الطريقية - متنافيان.
ولكن أنت خبير - بأن الشارع إذا أراد أن يجعل تمام موضوع حكمه
جهة إرأة القطع وكاشفيته عن متعلقه مثلا يريد أن يحكم على
مقطوع الخمرية بوجوب الاجتناب أو النجاسة سواء كان خمرا في
الواقع أو لم يكن، فكما
10

أنه من الممكن أن يجعل تمام موضوع هذين الحكمين القطع
بالخمرية بما أنه صفة من صفات النفس وحالة من حالاتها وبعبارة
أخرى
نحو وجوده الخاص الذي به يتميز عن غيره ويكون هو هو وليس
غيره فكذلك يمكن له ان يجعل تمام موضوع حكمه القطع باعتبار
كاشفيته عن الخمر مثلا فيلاحظ في المثال كاشفية القطع - المتعلق
بالخمر عنه وطريقيته إليه - معنى اسميا، غاية الامر بما هو حاك
عن الارأات الخارجية التي تحصل لاشخاص القاطعين بالخمر أو
لشخص واحد بالنسبة إلى حصول القطع المتعدد له في أزمنة متعددة،
وكون هذه الارأات معنى حرفيا - غير استقلالي - لا ينافي تصورها و
لحاظها تحت عنوان معنى اسمي حاك عنها كما في وضع
الحروف، بناء على ما هو التحقيق عندنا، من أن معانيها غير مستقلة
لأنها عبارة عن أنحاء الربط بين المعاني الاسمية، فان الواضع إذا
أراد وضع كلمة من مثلا للارتباطات الابتدائية غير المستقلة يلاحظ
عنوان الربط الابتدائي معنى اسميا بما هو حاك عن تلك الارتباطات
غير المستقلة، فيضع اللفظ بإزائها (فكذلك) فيما نحن فيه يلاحظ
إرأة القطع - المتعلق بالخمر مثلا - معنى اسميا بما هو حاك عن
الارأة
الخارجية - تمام موضوع حكمه، من دون نظر إلى المتعلق إلا تبعا،
لتميز قسم الارأة عن الأقسام الاخر، وإلا لو سلم الاشكال المتقدم
لم يجز أخذه في الموضوع - على نحو الطريقية - ولو جزا لان
المناط في الاشكال، إن طريقية القطع معنى آليا غير ملحوظ فيه، بل
اللحاظ متعلق بالمقطوع والمرئي، ولا شك ان في أخذه بهذا الاعتبار
جزا للموضوع لا بد أن يلاحظ القطع أيضا معنى اسميا استقلاليا،
لان جز الموضوع كنفس الموضوع لا بد وأن يتصور حتى يحكم
عليه. وبعبارة أخرى المعنى الحرفي - غير الملتفت إليه - كما لا
يمكن أن يكون تمام الموضوع والمحكوم عليه - كذلك لا يمكن أن
يكون جزا للمحكوم عليه:
11

(إن قلت) - معنى كونه طريقا، هو أن يكون طريقا إلى ما هو موضوع
للحكم الشرعي أو إلى ما هو جز له، وفرض كونه تمام الموضوع
ينافي كونه طريقا إلى أحدهما، لان ذلك المطروق الذي يكون تمام
الموضوع أو جزئه - لو كان شي غير القطع لزم خلاف ما فرض
من كونه تمام الموضوع بلا مدخلية شي آخر، ولو كان هو نفس القطع
لزم أن يكون الشئ طريقا إلى نفسه، وهو مجال.
(قلت) - هذا حق، لو كان المراد من أخذه على نحو الطريقية هذا
المعني، ولكنه من الواضح أن المراد من الطريقية طريقيته إلى متعلقه
و
لو كان أجنبيا عما هو موضوع الحكم، هذا كله فيما إذا كان القطع
متعلقا بموضوع خارجي.
أما إذا كان متعلقا بحكم شرعي وضعي أو تكليفي، فلا إشكال في
إمكان أخذه في موضوع حكم آخر على الانحاء الأربعة، إنما الكلام
في
إمكان أخذه في موضوع نفس الحكم الذي هو متعلقه أو مثله أو ضده
أو لا.
قال صاحب الكفاية (ره) بعدم إمكان أخذه في موضوع شخص الحكم
الذي هو متعلقه للزوم الدور ولا مثله للزوم اجتماع المثلين ولا
ضده للزوم اجتماع الضدين.
وأنت خبير - بأن أخذه في موضوع شخص ذلك الحكم لا يمكن، لما
ذكره من لزوم مفسدة الدور أي تقدم الشئ على نفسه، لان الحكم
المتعلق باعتبار كونه متعلق القطع متقدم على القطع، وباعتبار أن
القطع تمام موضوعه أو جزئه يكون متأخرا عن القطع، وأما أخذه في
موضوع مثله أو ضده فأيضا لا يمكن لكن لا لما ذكره من لزوم اجتماع
المثلين أو الضدين بل للزوم اللغوية.
بيان ذلك أن ما تعلق به القطع كحرمة الخمر مثلا في الرتبة المتقدمة
على القطع فلو فرض ورود مثل ذلك الحكم أو ضده على القطع
يكون
12

في الرتبة المتأخرة عن القطع فلا يلزم لا اجتماع المثلين ولا اجتماع
الضدين لاختلاف موضوع الحكمين ورتبتهما.
ولكن - يمكن أن يقال أن الحكم الثاني - الذي هو مثل الأول المقطوع
أو ضده - ولولا يسرى إلى رتبة الأول وموضوعه، لكن حكم
الأول محفوظ في رتبة الثاني بنتيجة الاطلاق، لما ثبت في محله، من
اشتراك الاحكام بين العالمين والجاهلين ولذلك يعاقب الجاهل
المقصر، وإلا لا وجه لعقابه أصلا.
واحتمال أن يكون العقاب لأجل ترك التعلم - الذي هو واجب نفسي
- في غاية البعد لان السؤال الأول الذي يتوجه إليه يوم الحساب أنه
لم ما عملت، فإذا يجيب بما علمت، يقال له هلا تعلمت؟ هذا مع أنه
لا يمكن الاهمال في المصلحة أو الملاك ولا في الحكم الواقعي الذي
يتبع
الملاك تبعية المعلول لعلته. وحينئذ فإذا لم يكن مطلقا بنتيجة
الاطلاق لا بد وأن يكون مقيدا بنتيجة التقييد، ولا معنى لان يكون
مقيدا
بالجهل، فلا بد وأن يكون مقيدا بالعلم، فيلزم اجتماع المثلين أو
الضدين في الفرضين.
ثم إن ما ذكرنا - من عدم إمكان أخذ القطع والعلم في موضوع نفس
الحكم الذي هو متعلقه للزوم مفسدة الدور - يكون بالنسبة إلى
الاطلاق اللحاظي أي الاطلاق الثابت بمقدمات الحكمة. وأما أخذه
بنتيجة الاطلاق.
أو بنتيجة التقييد فلا مانع منه ولا يلزم منه محذور (بيان ذلك) أما
بالنسبة إلى الاطلاق والتقييد اللحاظيين فلا يمكنان. من جهة ان
التقابل بين الاطلاق والتقييد - كما بينا في مبحث المطلق والمقيد -
تقابل العدم والملكة، فإذا جاء الدليل على امتناع التقييد فنفس ذلك
الدليل دليل على امتناع الاطلاق لأن المفروض أن الاطلاق عبارة عن
عدم التقييد في موضوع قابل للتقييد، فلو فرضنا عدم قابليته
للتقييد وامتناعه، فكما أنه لا يمكن التقييد وممتنع حسب الفرض
كذلك يمتنع الاطلاق، ومعلوم أن في ما نحن فيه يمتنع
13

التقييد للزوم الدور كما بينا فيمتنع الاطلاق أيضا وهذا الامر مطرد في
كل خصوصية آتية من قبل الحكم وكان متأخرا عنه كما بينا في
أخذ قصد القربة في متعلق الامر وقلنا ان التقييد محال للزوم مفسدة
الدور فالاطلاق محال أيضا لما ذكرنا من أن التقابل بينهما تقابل
العدم والملكة وقد اصطلح شيخنا الأستاذ (ره) بتسمية
الخصوصيات الآتية من قبل الحكم - المتأخرة عنه - بالانقسامات
الثانوية مقابل
الخصوصيات الواردة على الطبيعة قبل ورود الحكم عليها المصطلح
عليها عنده (قدس سره) بالانقسامات الأولية، ولا مشاحة في
الاصطلاح.
ثم انه قد عرفت آنفا أن الاهمال في ملاكات الاحكام الواقعية لا يمكن
وبينا أيضا أن الاحكام الواقعية تابعة للملاكات تقييدا وإطلاقا
فإذا كان الملاك مطلقا لا بد وأن يكون الحكم أيضا مطلقا، وحيث أنه
قد عرفت أن في مقام الاثبات لا يمكن أن يكون مطلقا بالاطلاق
اللحاظي بالنسبة إلى العلم والجهل فلو كان الملاك مطلقا بالنسبة إلى
هاتين الحالتين فلا بد من جعل آخر لاثباته في هاتين الحالتين
لقصور الجعل الأول عن شموله لهما حسب الفرض وشيخنا الأستاذ
(ره) اصطلح على تسمية الجعل الثاني بمتمم الجعل سواء كان هذا
الباب أو في باب قصد القربة أو في غيرهما ومتمم الجعل في ما نحن
فيه هو ادعاء تواتر الاخبار بل الضرورة على اشتراك الاحكام -
بين العالمين والجاهلين.
(فظهر) - مما ذكرناه أن أخذ القطع - في موضوع نفس حكم هو
متعلقه بطرو نتيجة التقييد - بمكان من الامكان، وقد ظهر مما ذكرنا
انه يمكن أن يكون المراد من مقالة الأخباريين - من أن القطع الحاصل
عن المقدمات العقلية ليس بحجة - هو القطع الموضوعي بمعنى ان
الشارع قيد موضوع الاحكام الواقعية بالقطع بتلك الاحكام من غير
المقدمات العقلية بنتيجة
14

التقييد لما بينا من إمكان ذلك فليس كلامهم بناء على ذلك من
الاستهجان كما توهموا وتخيلوا واستشكلوا عليهم بأن حجية القطع
ذاتي
ولا يمكن رفعه ونفيه كما لا يمكن إثباته ووضعه ولا فرق في ذلك
بين أسبابه وموارده واشخاص القاطعين لان هذا الكلام في القطع
الطريقي المحض لا في ما أخذ في الموضوع فان ما أخذ في الموضوع
تابع لكيفية الاخذ كسائر الموضوعات.
ولكن الجواب حينئذ عن مقالتهم مطالبة الدليل على مثل هذا التقييد
وصرف الامكان لا يفيد.
وأما استدلالهم على ذلك بقوله عليه السلام (ولو أن رجلا قام ليله و
صام نهاره وحج دهره وتصدق بجميع ماله ولم يعرف ولاية ولي
الله فيكون أعماله بدلالته فيواليه ما كان له على الله ثواب)، وقوله
عليه السلام (حرام عليكم أن تقولوا بشي ما لم تسمعوه منا) وأمثال
ذلك من الروايات الكثيرة بهذا المضمون.
فالجواب عنه ان مفاد هذه الأخبار هو النهي عما كان متعارفا بين
المسلمين في ذلك الزمان من رجوعهم إلى غير الأئمة عليهم السلام
في
أخذ أحكامهم، أو اشتراط قبول العبادة بمعرفة الولاية وأن يكون مؤمنا
أو غير ذلك من التوجيهات واحتمل شيخنا الأستاذ (ره) أن
يكون الأحكام الشرعية مقيدة موضوعاتها بنتيجة التقييد بما إذا لم
يقطع من طريق الجفر والرمل وغير ذلك من الأسباب غير
المتعارفة ونحن لا ننكر إمكان ذلك ولكن يطالب بالدليل على
الاثبات ولا دليل في البين أصلا.
(الامر الثالث)
- في أنه هل تقوم الامارات والأصول العملية مقام القطع مطلقا
بجميع أقسامه سواء كان طريقا محضا أو كان مأخوذا في الموضوع
بأحد
الانحاء الأربعة أو يفصل بين ما إذا كان مأخوذا على وجه الطريقية أو
كان طريقا محضا فتقوم الامارات وبعض الأصول العملية مقامه و
بين
15

ما إذا كان مأخوذا في الموضوع على نحو الصفتية فلا تقوم كما ذهب
إليه شيخنا الأعظم (ره) في الفرائد وأنكر صاحب الكفاية (ره) هذا
التفصيل وأفاد في وجهه أن أدلة اعتبار الامارات والأصول أما أن
تكون ناظرة إلى جعل المؤدى والمشكوك منزلة الواقع والمتيقن و
إما أن تكون ناظرة إلى تنزيل أداء الامارة والشك منزلة اليقين والقطع
ولا يمكن الجمع بين هذين النظرين واللحاظين والسر في
ذلك أن التنزيل كما هو واضح يحتاج إلى تصور المنزل والمنزل عليه
معنى اسميا حتى يحكم على المنزل بأنه المنزل عليه ادعاء ولا
شك ان في تنزيل المؤدى والمشكوك منزلة الواقع والمقطوع تمام
النظر بالمعنى الاسمي إلى المؤدى والمشكوك من طرف (أي
المنزل) وإلى الواقع والمقطوع من طرف آخر أي (المنزل عليه) و
يكون النظر إلى أداء الامارة والشك من طرف وإلى القطع واليقين
من طرف آخر معنى حرفيا آليا.
وأما في تنزيل الامارة والشك منزلة القطع يكون النظر إلى الامارة و
الشك المسبوق باليقين مثلا من طرف المنزل وإلى القطع من
طرف المنزل عليه معنى اسميا ففي أحد التنزيلين يكون الشك و
القطع ملحوظا باللحاظ الآلي والمعنى الحرفي وفي التنزيل الاخر
يكونان ملحوظين باللحاظ الاستقلالي والمعنى الاسمي ومن
البديهي أنه لا يمكن الجمع بينهما في لحاظ واحد وفي استعمال
واحد حتى
ولو قلنا بجواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
فبناء على هذا لا بد وأن يكون أدلة الاعتبار ناظرة إلى أحد المعنيين، و
لا يمكن أن تكون ناظرة إلى كليهما، ومعلوم أن في قيامها مقام
القطع الطريقي المحض لا بد وأن يكون التنزيل ناظرا إلى المؤدى و
الواقع وفي قيامها مقام ما أخذ في الموضوع على أحد الانحأ
الأربعة لا بد وأن يكون ناظرا إلى الشك والقطع، وحيث أن قيامها
مقام القطع الطريقي المحض معلوم وهذا هو معنى اعتبارها و
حجيتها فلقيامها مقام ما أخذ في الموضوع على
16

أحد الانحاء الأربعة لا بد من التماس دليل آخر وإذ ليس فلا تقوم.
ثم انه لو كان هناك دليل آخر دال على التنزيل الاخر فحينئذ. لا فرق
بين ما أخذ في الموضوع على نحو الطريقية أو الصفتية فعلى كل
حال لا وجه لتفصيل شيخنا الأعظم (قدس سره) بين ما أخذ في
الموضوع على نحو الطريقية وما أخذ على نحو الصفتية لأنه لو لم يكن
الا
تنزيل واحد في البين وهو تنزيل المؤدى منزلة الواقع - كما هو الظاهر
من أدلة اعتبار الامارات والأصول - فلا تقوم إلا مقام القطع
الطريقي المحض كما بينا ولو كان تنزيلان أي كان تنزيل آخر في البين
غير ذلك التنزيل وهو تنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع
بالواقع أو تنزيل قيام الامارة والأصل مقام القطع بالواقع فليس حينئذ
فرق بين أن يكون القطع مأخوذا في الموضوع على نحو الصفتية
أو الطريقية.
ثم انه (قدس سره) أفاد وجها لتحقق كلا التنزيلين من دون وجود
المحذور المذكور أي لزوم الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي
في حاشيته على فرائد الشيخ الأعظم (ره) وهو أن تنزيل المؤدى
منزلة الواقع - الذي هو مفاد دليل اعتبار الامارات والأصول - ملازم
لتنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع، فيتحقق كلا التنزيلين من
دون لزوم محذور في البين، غاية الامر أحدهما بالدلالة المطابقية و
الاخر بالدلالة الالتزامية.
ورده في الكفاية بأنه مستلزم للدور بيانه أن تنزيل المؤدى منزلة الواقع
- فيما إذا كان للعلم دخل في الموضوع بأحد الانحاء الأربعة -
متوقف على أحد الامرين - أما إحراز الواقع الذي هو متعلق العلم
بالوجدان أو بالتعبد و (المفروض) ان الجز الاخر - أي إحراز الواقع
الذي نزل المؤدى منزلته في التنزيل الأول ليس بالوجدان ولا بالتعبد
أيضا إلا بتنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع (وبعبارة
أخرى) ليس إلا بتنزيل العلم الوجداني
17

بالواقع التعبدي منزلة العلم الوجداني بالواقع الحقيقي ومعلوم أن مثل
هذا التنزيل أيضا متوقف على التنزيل الأول لان المنزل في هذا
التنزيل الثاني لا يتحقق إلا بالتنزيل الأول فصار التوقف من الطرفين، (و
بعبارة أوضح) تنزيل المؤدى منزلة الواقع متوقف على تنزيل
العلم الوجداني بالواقع التعبدي أي المؤدى الذي نزل منزلة الواقع
منزلة العلم الوجداني بالواقع الحقيقي وهذا التنزيل أي تنزيل العلم
الوجداني بالواقع التعبدي منزلة العلم بالواقع الحقيقي الذي هو على
الفرض مدلول الترامي لأدلة اعتبار الامارات والأصول متوقف على
التنزيل الأول الذي هو مدلول مطابقي على الفرض أي تنزيل المؤدي
منزلة الواقع وهذا هو الدور هذا ما ذكره صاحب الكفاية (ره) في
هذا المقام.
ولكن أنت خبير - أولا بأن صحة هذا الكلام متوقف على أن يكون
معنى حجية الامارات واعتبار الأصول جعل المؤدى فيهما منزلة
الواقع وستعرف في باب حجية الامارات أن هذا المسلك خلاف
التحقيق ويترتب عليه مفاسد، من جملتها انه يلزم منه إما التصويب
المعتزلي الباطل أو اجتماع الضدين، ومن جملتها الاجزاء بالنسبة إلى
الأوامر الظاهرية، ومن جملتها حكومة الواقعية لأدلة اعتبار
الامارات والأصول على الأدلة المتكفلة للأحكام الواقعية لا الحكومة
الظاهرية.
ومنشأ جميع هذه المحاذير هو أن الجعل التشريعي لا يمكن أن يكون
جزافا وبلا مصلحة كالجعل التكويني فلا بد من القول كما قيل بل
ربما نسب إلى شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (ره) بأن قيام الامارة
تحدث مصلحة في المؤدى غالبة على مصلحة الواقع، ولذا يجعل
على طبقها لأنه لو كانت مغلوبة لا تؤثر ولو كانت متساوية مع مصلحة
الواقع فلا بد من جعل التخيير الشرعي كما في خصال الكفارة لا
جعل خصوص المؤدى، فإذا التزمنا انه
18

يحصل من قبل قيام الامارة أو الأصل مصلحة غالبة على مصلحة
الواقع فيلزم جميع المحاذير التي ذكرناها وسيجئ تفصيل الكلام
فيها
إن شاء الله.
وثانيا ما أفاد من الملازمة العرفية بين التنزيلين - حتى يكون أحدهما
مدلولا مطابقيا والاخر التزاميا - دعوى بلا بينة ولا برهان ولا
يساعد عليه الوجدان (والتحقيق) في المقام بعد ما تعرف إن شاء الله
فيما سيجئ في كيفية جعل الطرق والامارات أن المجعول فيها
ليس إلا الوسطية في الاثبات والطريقية والكاشفية التي كانت في
القطع ذاتية بدون جعل جاعل وفيها حيث إنها ليست ذاتية لا بد وأن
يكون بجعل جاعل (وبعبارة أخرى) معنى حجيتها أن الشارع تمم
كشفها الناقص في عالم الاعتبار التشريعي، ومعنى تتميم كشفها
ليس أن الشارع أضاف إليه تكوينا أو تشريعا مقدار النقص لأنه في
الصورة الأولى يصير علما حقيقيا وهو كذب بالضرورة، وفي
الصورة الثانية يلزم أن يكون هناك مقدار كاشفية القطع في الظن أيضا
غاية الامر الفرق بينهما أن كاشفية القطع كله تكويني وفي
الظن بعضه تكويني وبعضه تشريعي وهو عجيب هذا مضافا إلى أنه
لو كان من الممكن إعطاء مقدار من الكاشفية لما ليس له هذا
المقدار فليكن من الممكن إعطاء تمام الكاشفية لما ليس له أصلا
كالشك وقد بينا عدم إمكانه بل المراد أن الشارع يرى هذا الكشف
الناقص كشفا تاما في اعتباره التشريعي ويحسبه ويعده طريقا كاملا
كما أن العرف والعقلا يرون بعض الظنون في اعتبارهم طريقا
وكاشفا تاما ولا يعتنون باحتمال الخلاف ويلقونه في نظرهم فإذا كان
هذا هو معنى جعل الحجية كما احتمله صاحب الكفاية (ره)
هناك في بابه وأصر عليه شيخنا الأستاذ (ره) وجمع آخر من
المحققين، فلا يلزم جميع المحذورات المذكورة فلا تصويب إذ مثل
هذا
الجعل لا يمس كرامة الحكم الواقعي أصلا بل يبقى على ما هو عليه
لان حال هذه الحجة المجعولة مثل الحجة المنجعلة
19

أي القطع، غاية الامر أن الحجية في القطع ذاتية غير مجعول وفي
الامارات يحتاج إلى الجعل فكما أن القطع أصاب أو أخطأ لا يمس
كرامة
الحكم الواقعي ولا ربط له به أصلا فليكن كذلك في الظن ولا يلزم
اجتماع الضدين فيما إذا أخطأ الامارة كالقطع طابق النعل بالنعل لأنه
ليس هناك حكم ظاهري على الفرض بل المجعول ليس إلا الوسطية
في الاثبات ولا أجزأ لان الاجزاء فرع أن يكون هناك حكم و
مصلحة قبال حكم الواقعي ومصلحته حتى يقال بأنه مجز عنه أم لا و
يكون حكومة أدلة الاعتبار على الأدلة المتكفلة للأحكام الواقعية
حكومة ظاهرية لا واقعية.
بيان ذلك أن الحكومة عبارة عن التوسعة أو التضييق في جانب
الموضوع أو المحمول تعبدا لا توسعة وتضييقا حقيقيا تكوينيا فبنأ
على
هذا يكون الحكومة على أربعة أقسام وكل واحد من هذه الأقسام
الأربعة:
اما واقعية بمعنى ان التوسعة والتضييق في كل واحد من الموضوع و
المحمول واقعي لا ظاهري وفي مقام الاثبات فقط مثال التوسعة
الواقعية في الموضوع قوله عليه السلام (الطواف بالبيت صلاة) و
التضييق الواقعي فيه قولهم المتصيدة من الاخبار (لا شك لكثير
الشك)
ومثال التضيق الواقعي في المحمول كقوله عليه السلام (لا ضرر ولا
ضرار في الاسلام) وقوله تبارك وتعالى (ما جعل عليكم في الدين
من حرج) بناء على ما هو التحقيق في معنى لا ضرر ولا حرج من
حكومتهما الواقعية على المحمولات في الأدلة الواقعية ومثال
التوسعية
الواقعية في المحمول كقوله عليه السلام (المطلقة رجعة زوجة).
وإما ظاهرية بمعنى أن التوسعة والتضييق في كل واحد من الموضوع
والمحمول في مرحلة الظاهر والاثبات فقط بحيث لو كشف
الغطاء وانكشف الواقع لا توسعة ولا تضييق في البين أصلا بل
كسراب بقيعة يحسبه الضم آن ماء مثال التوسعة الظاهرية في جانب
الموضوع كما إذا قامت البينة
20

الاستصحاب على خمرية مائع مشكوك الخمرية ولا شك في أنه لو
لم نقل بجعل المؤدى فليس هاهنا خمر تعبدي وليس إلا إحراز
الخمرية شي في البين أصلا (وإن شئت قلت) أنه ليس بعد قيام
الامارة أو الأصل على خمرية مانع مشكوك الخمرية هاهنا إلا خمر
إثباتي أي في مرحلة الاثبات والظاهر فقط، وإلا عند خطائهما ليس إلا
سرابا وهذا هو المراد من الحكومة الظاهرية.
وأما التضييق الظاهري في الموضوع كما إذا قامت البينة أو
الاستصحاب على عدم خمرية مائع (وأما التوسعة الظاهرية في
المحمول)
كما إذا قام خبر الواحد الحجة على نجاسة شي أو وجوب شي و
التضييق الظاهري كما إذا قاما على عدم وجوب شي، فهذه هي
الأقسام للحكومة الظاهرية فالحكومة على ثمانية أقسام لأنها إما
ظاهرية أو واقعية وكل واحد منهما إما في جانب الموضوع أو
المحمول وكل واحد منهما اما بالتوسعة أو التضييق.
وأما الفرق بين الحكومة والورود والتخصص والتخصيص فسيجي.
في محله إن شاء الله (وإجماله) أن الحكومة مع التخصيص من واد
واحد نتيجة ويشتركان في شي ويختلفان في شي والتخصص و
الورود من واد واحد يشتركان في شي ويختلفان في شي بيان
ذلك أما الحكومة فقد عرفت معناها بأقسامها (وأما التخصيص)
فحقيقته عبارة عن تضييق دائرة النسبة التي تكون بين حكم العام و
مصاديق موضوعة مثلا إذا قال أكرم العلماء إلا زيدا فظاهر القضية لو لم
يكن الاستثناء انتساب الحكم إلى جميع أفراد العالم وأنواعه و
بواسطة الاستثناء أو أي قسم آخر من التخصيص الافرادي أو الانواعي
يرتفع تلك النسبة عن بعض أفراد العام أو بعض أنواعه،
فالحكومة والتخصيص يشتركان في شي وهو ارتفاع الحكم عن
بعض مصاديق العام ويختلفان في شي، وهو ان الحكومة رفع
الحكم بلسان رفع الموضوع أو رفع المحمول، والتخصيص رفعه
بلسان رفع النسبة التي بين الموضوع وبين المحمول بدون
21

أدنى نظر إلى الموضوع أو المحمول عن بعض أفراد العام أو بعض
أنواعه.
وأما الورود فهو عبارة عن ارتفاع موضوع أحد الدليلين بالدليل الاخر
ارتفاعا حقيقيا واقعيا غاية الامر يكون هذا الارتفاع برعاية
جعل الشارع كورود جميع الحجج والأدلة الشرعية المثبتة للأحكام
الالزامية على البراءة العقلية، فإنه بعد أن جعل الشارع الخبر الواحد
أو الاستصحاب حجة فلا يبقى موضوع حقيقتا لقبح العقاب بلا بيان
بعد دلالة أحدهما على حكم إلزامي:
وأما التخصص فهو عبارة عن نفس ذلك الارتفاع التكويني الحقيقي
الذي قلنا في الورود، غاية الامر يكون ذلك الارتفاع بدون رعاية
جعل شرعي في البين، وذلك بارتفاع موضوع البراءة العقلية بالدليل
الذي يحصل منه علم وجداني وقطع تكويني بوجوب أو حرمة
فان ارتفاع عدم البيان بالعلم الوجداني أمر تكويني لا علاقة له مع
الجعل الشرعي أصلا فالورود والتخصص من واد واحد يشتركان
في شي وهو الارتفاع الحقيقي التكويني ويختلفان في شي وهو أن
الارتفاع في أحدهما أعني الورود برعاية الجعل الشرعي وفي
الاخر أعني التخصص لا ربط له بالجعل الشرعي أصلا.
إذا عرفت ما ذكرنا من معنى الحكومة فاعلم أن الامارات والأصول
التنزيلية تقوم مقام القطع الطريقي المحض ومقام ما أخذ في
الموضوع على نحو الطريقية سواء كان تمامه أو بعضه كل ذلك بنفس
دليل الاعتبار من دون وجود تنزيل في البين بل بواسطة حكومة
أدلة الاعتبار على الأدلة المثبتة للأحكام الواقعية وعلى الأدلة الدالة
على كون العلم جز الموضوع أو تمامه بالحكومة الظاهرية (بيان
ذلك) انه بعد ما عرفت أن مفاد دليل الاعتبار في باب الامارات هو
جعلها محرزا وطريقا في عالم الاعتبار التشريعي فلو كان القطع
بجهة طريقيته وكاشفيته ومحرزيته تمام الموضوع أو بعضه فيكون
22

دليل الاعتبار حاكما على ذلك الدليل الذي يدل على أن العلم تمام
الموضوع أو بعضه بما هو محرز وطريق لان دليل الاعتبار يوسع ما
أخذ الموضوع في لسان ذلك الدليل كما أن قوله عليه السلام (الطواف
بالبيت صلاة) يوسع الصلاة تعبدا (ان قلت) فعلى هذا يكون ورودا
أو حكومة واقعية لأنه (ان كانت) التوسعة توسعة حقيقية تكوينية
بمعنى ان الشارع يخلق فردا آخر من المحرز والطريق حقيقة فهذا هو
الورود غاية الامر بالتوسعة لا بالتضييق لأنه بناء على هذا توسع
الموضوع حقيقتا وتكوينا غاية الامر برعاية الجعل الشرعي (وان
كانت) توسعة تعبدية فهذه تكون حكومة واقعية لا ظاهرية لان مرجع
هذه التوسعة التعبدية إلى جعل الامارة منزلة القطع بما هو طريق
ومحرز في ترتيب آثاره عليها (قلنا) لا شك في أن هذه التوسعة ليست
توسعة حقيقية تكوينية وإلا لكانت الامارة علما حقيقيا واحتمال
الخلاف فيها موجود بالوجدان، بل طريقيته بجعل واعتبار شرعي
إحداثا أو إمضاء ومع ذلك ليس مرجعه إلى تنزيل الامارة منزلة
القطع بما هو طريق كما توهم، بل للشارع وكذلك للعقلا أن يعتبروا
الطريق الناقص طريقا تاما بالمعنى الذي ذكرناه لتتميم الكشف
وشرحناه مفصلا (ولا شك) في أن مثل هذا الجعل ليس إلا جعلا
إثباتيا لا ثبوتيا بمعنى أن طريقية الامارة المجعولة ليس مثل طريقية
القطع بل طريقيته حيث أنه مجعول في عالم الاعتبار تابعة لكيفية
الجعل، ومعلوم أن اعتبار الطريقية في مثل هذه الاشياء ما دام لم
ينكشف الخلاف وأما إذا انكشف الخلاف يظهر أنه ما كان طريقا بل
كان سرابا بقيعة يحسبه الضم آن ماء (ان قلت) أن القطع أيضا
كذلك إذا تبين خطأه فهو جهل مركب وليس بطريق (قلنا) ان طريقية
القطع وكاشفيته لمتعلقه ذاتي وليس جعليا حتى يتبع كيفية
الجعل بخلاف الامارات فإنها تتبع كيفية الجعل ومعلوم ان جعل
الطريقية والكاشفية
23

لهما ما لم ينكشف الخلاف (وبعبارة أخرى) الفرق بين الحكومة
الظاهرية والواقعية هي أن في الحكومة الواقعية ليس كشف الخلاف
في
البين أصلا لأنها عبارة عن التوسعة أو التضيق التعبديين في الموضوع
أو المحمول حقيقتا لا في ظرف الجهل واستتار الواقع وأما في
الحكومة الظاهرية يتطرق كشف الخلاف، لأنها توسعة في عالم
الاثبات فقط وليس توسعة في عالم الثبوت والواقع.
ومعلوم أن الطريقية المجعولة في باب الامارات في ظرف استتار
الواقع والجهل به، وأما في ظرف انكشاف الواقع والعلم به فلا
طريقية لها سواء كان العلم على وفق مؤداها أو على خلافه، لأنه لا
معنى لحجية الامارة مع العلم الوجداني بمؤداها أو بخلاف المؤدى.
وبعبارة أخرى حجية القطع ذاتي للقطع لا يختلف ولا يتخلف عنه ما
دام ذات الموضوع موجودة بخلافه في الامارة فإنه من الممكن أن
تكون موجودة ولا تكون حجة كما أنه هي كذلك في مورد العلم
الوجداني على خلافه أو وفاقه (فظهر مما ذكرنا) ان الطريقية المجعولة
للامارات في عالم الاثبات واستتار الواقع، وهذا عين الحكومة
الظاهرية، وأما قيامها مقام القطع الطريقي المحض لان أدلة الاعتبار
بعد ما أثبتت لها محرزية في عالم الاثبات واستناد الواقع، فيكون
حالها حال القطع الطريقي المحض ما لم ينكشف الخلاف في إثبات
متعلقها حكما كان أو موضوعا (نعم) الحكم أو الموضوع الثابت بها لا
وجود لها إلا في مرحلة الاثبات، فان كان لهما في حاق الواقع مع
قطع النظر عن قيام الامارة فهو وإلا فليس لهما أزيد من الوجود
الاثباتي (وبعبارة أخرى) سراب لا ماء، فلا يلزم لا تصويب ولا
اجتماع الضدين ولا أجزاء في البين.
وأما قيام الأصول التنزيلية أيضا مقام القطع الطريقي المحض وما أخذ
24

في الموضوع على نحو الطريقية فمن جهة أن المجعول فيها هو الجري
العملي بما أن الواقع محرز لست أقول إنها محرزة للواقع كما
ربما يوهمه ظاهر لفظة الأصول المحرزة، كيف ولو كانت كذلك، فلا
يبقى فرق بينها وبين الامارات بل المراد من كونها محرزة، أن
المجعول فيها عمل الواقع المحرز المكشوف والمتيقن، وإلا
فالأصول مطلقا شرعية كانت أو عقلية والشرعية تنزيلية كانت أو غير
تنزيلية ليست إلا وظائف عملية لا طريقية فيها ولا محرزية لها ولذلك
تقدم الامارات عليها ورودا أو حكومة على اختلاف المسالك
فيها، وإذا كان المجعول فيها هو ذلك الجري العملي غاية الامر في
ظرف الشك واستتار الواقع وعدم انكشاف الخلاف فيكون لها
أيضا كالامارات حكومة ظاهرية على أدلة الواقع فيقوم مقام القطع
الطريقي المحض وعلى أدلة التي أخذ القطع في موضوع حكم سوأ
كان تمام الموضوع أو بعضه على نحو الطريقية فتقوم مقام هذين
القسمين من الأقسام الخمسة للقطع أيضا كالامارات.
وأما الأصول غير التنزيلية فالمجعول فيها ليس إلا وظيفة عملية من
دون نظر فيها إلى الواقع أصلا، ومن هذه الجهة تكون محكومة
للأصول التنزيلية، فلا معنى لقيامها مقام ما أخذ في الموضوع مطلقا،
لأنه ليس إحراز فيها على الفرض ولا جرى العملي الواقع المحرز،
بل في قيامها مقام القطع الطريقي المحض نحو مسامحة.
اللهم إلا أن يقال قيامها مقامه في تنجيز الواقع بها كما في أصالة
الاحتياط فيما كان وجوب الاحتياط شرعيا لا عقليا كالشبهات البدوية
الثلاث الدماء والاعراض والأموال، وعلى كل حال لا معنى لقيام
الامارات والأصول مقام القطع الذي أخذ في الموضوع على نحو
الصفتية إلا بدليل خاص يدل على تنزيلها منزلته غير أدلة اعتبارها
لعدم وفاء تلك الأدلة
25

بذلك، لان مفاد تلك كما عرفت حجيتها وطريقيتها في الامارات و
الجري العملي للواقع على أنه محرز ومكشوف في الأصول التنزيلية
وكلا الامرين أجنبي عن إثبات جهة الصفتية التي للقطع أو تنزيلهما
منزلة تلك الجهة فبأي وجه تقومان مقام تلك الجهة (ولكن) أخذ
القطع في الموضوع على جهة الصفتية حيث إنه لا مثال له في
الشرعيات فلا ثمرة لهذا البحث.
وما توهم أن يكون من هذا القبيل مثل مسألة جواز الشهادة أو وجوبها
ومسألة جواز الحلف حيث يقول عليه السلام في الأول (ان كان
مثل هذا فليشهد) مشيرا بيده نحو السماء وفي الثاني (لا حلف إلا عن
بت) وسائر الموارد التي توهم أخذ العلم فيها على جهة الصفتية
فالانصاف أن التأمل التام يقضي بكون العلم مأخوذا في تلك
الموضوعات على نحو الطريقية والمحرزية فالمسألة فقهية، و
تحقيقها كما
هي خارج عن الفن هذا كله في أقسام القطع.
وأما الكلام في أقسام الظن فخلاصة القول فيه (بعد ما عرفت) من أن
حجيته مجعولة إحداثا أو إمضاء لما عند العقلا كما هو الحال في
غالب الظنون المعتبرة، بل قيل أنه ليس فيها ما يكون حجيته إحداثيا
من قبل الشارع وانما هي كلها كانت أمارات عند العقلا أمضاها
الشارع، وعلى كل حال من المعلوم الواضح أن كل صفة لم تكن ذاتيا
لموصوفها فلا بد من علة وجعل في اتصافه بها لان كل عرضي
معلل، فان كانت الصفة من التكوينيات يحتاج إلى جعل تكويني وإن
كانت من الاعتباريات كجميع المحمولات الشرعية الفقهية فيحتاج
إلى جعل تشريعي، وحيث أن الحجية ليست ذاتية للظن كالقطع فلا بد
في اتصافه بها من جعل شرعي وإلا يلزم حدوث الحادث بلا علة
فلا يكون الظن حجة بنفسه في حال من الحالات لان الظن ممكن
الحجية والممكن من قبل نفسه ليس محض، وأما حديث حجية الظن
26

في حال تمامية مقدمات الانسداد بحكم العقل، فحديث خرافة
سيتضح لك حاله عما قريب إن شاء الله تعالى (هو ان الظن) تارة
طريق
محض إلى موضوع أو حكم شرعي وضعي أو تكليفي كالقطع غاية
الامر الفرق بينهما ان الطريقية في الثاني ذاتي وفي الأول مجعول
في عالم الاعتبار التشريعي كما حققناه وشرحناه وسيجئ أيضا
تحقيقه في كيفية جعل الطرق والامارات، وتارة مأخوذ في موضوع
حكم، وهذا على أربعة أقسام، لان ذلك الحكم الذي أخذ الظن في
موضوعه إما أن يكون نفس الحكم الذي تعلق ذلك الظن به أو غيره و
الثاني اما أن يكون مما يضاده أو مما يماثله أو ليس شي منهما بل مما
يخالفه فهذه أربعة أقسام وفي كل واحد منها إما أن يكون
المأخوذ في الموضوع الظن المعتبر أي الذي جعلها الشارع حجة أم لا
أي الظن غير المجعول حجة (فهذه) ثمانية أقسام، وفي كل واحد
من هذه الثمانية إما أن يكون مأخوذا على وجه الصفتية أو الطريقية و
في كل من هذه الستة عشر إما أن يكون تمام الموضوع أو جزئه،
فهذه اثنان وثلاثون قسما مضافا إلى ما كان طريقا محضا فالمجموع
ثلاثة وثلاثون قسما:
ولكن أنت خبير بأنه ليس جميع هذه الأقسام ممكنة والأقسام
الممكنة ليس كلها واقعة في الشريعة، فعليك بالتأمل التام لاستخراج
الأقسام وإجماله (أن ثمانية) منها - وهي ما كان الظن مأخوذ في
موضوع نفس الحكم الذي يكون ذلك الحكم متعلق الظن سواء كان
تمام الموضوع أو جزئه على جهة الوصفية أو الطريقية، وفي كل واحد
من الأربعة كان الظن المأخوذ معتبرا أو غير معتبر - غير ممكن
يقينا كما ذكرنا في أخذ القطع موضوعا لنفس الحكم الذي هو متعلقه
طابق النعل بالنعل، غاية الامر كان الأقسام هناك أربعة لعدم
إمكان كون القطع غير معتبر بخلاف الظن فإنه يمكن أن يكون معتبرا و
مجعولا ويمكن أن لا يكون والدليل على عدم إمكان هذه
27

الأقسام الثمانية هو عين الدليل على عدم الامكان هناك، وهو أن الظن
والقطع وهكذا الشك والوهم متأخرات رتبة عن متعلقاتها و
نسبتها إليها نسبة العرض إلى معروضاتها فلو أخذ إحدى هذه الحالات
الأربع في موضوع متعلقاتها يلزم أن يتقدم عليها ضرورة تقدم
الموضوع على حكمة رتبة فيلزم أن يكون ما هو المتأخر عن الشئ
متقدما عليه وهذا محال.
نعم كما ذكرنا هناك في توجيه مقالة الأخباريين في أخذ العلم الحاصل
عن أدلة النقلية موضوعا للأحكام الشرعية بنتيجة التقييد يمكن
هاهنا أيضا أخذ الظن بأقسامها الثمانية في موضوع نفس الحكم الذي
هو متعلقه بنتيجة التقييد وأما بالتقييد اللحاظي فغير ممكن وغير
معقول وقد تقدم تفصيل ذلك والمقصود هاهنا صرف الإشارة (و
ثمانية أخرى) من هذه الأقسام ممكن يقينا ولا ينبغي الشك في
إمكانه وهي أخذ الظن في موضوع حكم آخر يخالف الحكم الذي هو
متعلق الظن لا يماثله ولا يضاده تمام الموضوع أو جزئه على جهة
الصفتية أو الطريقية كان الظن المأخوذ معتبرا أو غير معتبر.
وأما ما أفاده شيخنا الأستاذ (ره) من أن أخذ الظن على جهة الطريقية
في الموضوع مع كونه غير معتبر مما لا يجتمعان لأنه لا معنى
لطريقية الظن إلا اعتباره (ففيه) أن المراد من الطريقية هاهنا ليس هو
المحرزية والمثبتية المجعولة في عالم الاعتبار - نعم لو كان
المراد من الطريقية هذا المعنى لكان هو عين الاعتبار - بل المراد من
أخذه في الموضوع على جهة الطريقية تلك الطريقية الناقصة
التكوينية الموجودة فيه بلا جعل تشريعي في البين، ومعلوم أن تلك
الجهة التكوينية قابلة لان تؤخذ في الموضوع لان جعل شي
موضوعا تابع لوجود المصلحة في ذلك الشئ وكما يمكن أن تكون
الكاشفية - التامة التكوينية في القطع بواسطة مصلحة فيها -
موضوعا كذلك يمكن
28

أن تكون الكاشفية الناقصة الموجودة في الظن تكوينا لمصلحة
موجودة فيها تؤخذ موضوعا، فلا فرق في إمكان جعله موضوعا بين
الظن المعتبر وغير المعتبر، وإنما هو تابع لوجود المصلحة وعدمها.
وأما الثمانية التي هي عبارة عن أخذ الظن في موضوع حكم يضاد
متعلقه إذا كان المتعلق حكما شرعيا وضعيا أو تكليفيا بأن يؤخذ
تمام الموضوع أو جزئه على وجه الطريقية أو الصفتية كان الظن
المأخوذ معتبرا أو غير معتبر (فالظاهر) انه غير ممكن أيضا في جميع
الأقسام الثمانية، لأنه يلزم اجتماع الضدين في صورة مصادفة الظن في
حاق الواقع، إذ لا يمكن عادة أن يكون جميع الظنون في هذا
القسم مخالفا للواقع دائما، ولزوم المحال في مورد واحد يكفي
لبطلان الملزوم أي أخذ الظن في موضوع حكم يضاد الحكم الذي هو
متعلقه (هذا مضافا) إلى لزوم الظن باجتماع الضدين دائما في نظر
الظان، ومعلوم أن الظن باجتماع الضدين في الاستحالة كالقطع به
وهذا محذور آخر مستقل دائمي.
وأما الثمانية التي هي عبارة عن أخذ الظن في موضوع حكم يماثل
الحكم الذي هو متعلقه بأن يؤخذ تمام الموضوع له أو جزئه على جهة
الوصفية أو الطريقية معتبر أو غير معتبر، فأربعة من هذه الثمانية - و
هي ما كان المأخوذ ظنا معتبرا سواء كان تمام الموضوع أو جزئه
وسواء كان على وجه الطريقية أو الصفتية - لا يمكن لأنه بعد أن
فرضنا أن الظن الذي تعلق بذلك الحكم معتبر وطريق محرز لمتعلقه
أي ذلك الحكم فجعل مماثلة لغو لوصول الجعل الأولى إليه حسب
الفرض فلو كان المكلف أهلا لان ينبعث من أمر المولى فقد وصل إليه
فلينبعث وإذا ليس أهلا للانبعاث فالجعل الثاني والثالث أيضا هكذا و
لا ثمرة فيه (إن قلت) أي مانع في أن يكون الجعل الثاني تأكيدا
للأول كما أنه لو نذر واجبا بعد انعقاد النذر يتأكد ذلك
29

(قلنا) ان الجعل الثاني يكون تأكيدا إذا كان موضوعه عين الموضوع
الأول فيتأكد الحكم (وبعبارة أخرى) إذا كانت مرتبة من عرض
قابلة للتأكد والاشتداد في موضوع، ثم جأت مرتبة أخرى من ذلك
العرض وتعلقت بعين ما تعلق به الأولى فقهرا يشتد ذلك العرض و
يتأكد وذلك كالكيفيات المحسوسة التي تحصل في موضوعاتها
تدريجا مرتبة بعد مرتبة وتسمى بالحركة في الكيف كالحلاوة التي
توجد في التمر والعنب وتشتد تدريجا وأما لو لم يكن موضوع
المرتبتين واحدا - كما في ما نحن فيه - فلا وجه للتأكد والاشتداد،
مضافا إلى أن الأحكام الشرعية ليست من سنخ الكيفيات والاعراض
الخارجية القابلة للاشتداد بل إن هي إلا اعتباريات وتشريعيات
شرعت لأجل تحريك العبد نحو الفعل أو الترك فلا معنى للتأكد و
الاشتداد فيها، وأما القول بأن الاشتداد والتأكد في منشأ اعتبار هذه
الأمور أي الإرادات والكراهات فخروج عن البحث ومحل الكلام (و
مما ذكرنا) ظهر ان في الأربعة أقسام الاخر أيضا لا يلزم اجتماع
المثلين ولا تأكد في البين ولا يلزم محذور اللغوية أيضا لأن المفروض
ان الظن المأخوذ في الموضوع هو الظن غير المعتبر سواء كان
تمام الموضوع أو بعضه على وجه الصفتية أو الطريقية والظن غير
المعتبر لا محرزية ولا طريقية فيه كي ينبعث المكلف عنه حتى
يكون الجعل الثاني لغوا وبلا فائدة.
فتلخص مما ذكرنا أن عشرين قسما من هذه الأقسام الاثنين والثلاثين
من الظن الموضوعي غير ممكن ومحال واثني عشر قسما منها
ممكن لكن ليس كلها واقع في الشريعة بل ما هو واقع منها ليس إلا
القليل جدا.
(الامر الرابع) في التجري
والتجري بحسب اللغة أعم من العصيان كما أن الانقياد أعم من
الإطاعة، ولكن حسب الاصطلاح الأصولي التجري مباين للعصيان
كما أن
الانقياد عندهم مباين للإطاعة لان مخالفة الحجة غير
30

المصادفة للواقع تسمى بالتجري كما أن مخالفة الحجة المصادفة
للواقع تسمى بالعصيان وموافقة الحجة غير المصادفة للواقع والعمل
على طبقها تسمى بالانقياد كما أن موافقة الحجة المصادفة للواقع و
العمل على طبقها تسمى بالإطاعة والبحث عن التجري يمكن أن يقع
على أنحاء بل قد وقع فتارة يقع التكلم عنه باعتبار أن المتجري هل هو
كالعاصي في استحقاق العقاب عقلا أم لا ولا شك ان البحث من
هذه الجهة كلامية لا فقهية ولا أصولية.
أما أنه ليس بفقهية لان المحمولات في جميع المسائل الفقهية أمور
مجعولة في عالم الاعتبار التشريعي (وبعبارة أخرى) اما من الأحكام الوضعية
أو التكليفية ومعلوم ان الاستحقاق أمر واقعي تكويني مدركه
العقل وهكذا عدم الاستحقاق وإن كان واقعيته بواقعية منشأ
انتزاعه وعلى كل حال ليس من مجعولات الشارع في عالم الاعتبار و
بعبارة أخرى ليس من الأحكام الوضعية ولا التكليفية.
وأما انه ليس بأصولية فلان المسائل الأصولية كما قلنا مكررا هي
المسائل التي تقع نتيجة البحث عنها كبرى في قياس استنتاج الحكم
الشرعي وبعبارة أخرى هي ما تكون واسطة في إثبات محمول
المسألة الفقهية لموضوعها ومبدأ تصديقيا لها ولا شك في أن البحث
عن أن المتجري هل كالعاصي يستحق العقاب أم لا لا يستنتج منه
مسألة فقهية اللهم إلا أن يقال من استحقاق العقاب عليه يستكشف
حرمته
(وتارة) يقع التكلم عنه باعتبار ان الفعل المتجري به أو نفس التجري
حرام أم لا سواء كان دليله الاجماع أو شي آخر، ولا شك في أنه
بهذا الاعتبار مسألة فقهية وذلك واضح (وتارة) يقع التكلم فيه باعتبار
أنه هل يحدث من ناحية قيام الحجة غير المصادفة للواقع على
الحرمة أو الوجوب مناط الحرمة في مخالفتها حتى يكون ذلك المناط
مستتبعا للحرمة على عنوان لتجري أو الفعل المتجري به، ولا شك
أنه بهذا
31

الاعتبار مسألة أصولية وأيضا لا ينبغي الشك في أنه مع إمكان البحث
عن المسألة من جهة كونها من نفس الفن لا وجه للبحث عنها من
جهة أخرى أجنبية عن الفن (فينبغي التكلم) فيها من هذه الجهة
الأخيرة وان وقع ذكر لها من سائر الجهات يكون بالتبع والعرض.
فنقول التكلم من هذه الجهة قد يكون باعتبار شمول الخطابات الأولية
لمورد التجري أيضا، وقد يكون باعتبار حدوث خطاب آخر من
ناحية طرو عنوان التجري إما على نفس عنوان التجري وإما على
الفعل المتجري به (وبعبارة أخرى) يكون قيام الحجة غير المصادقة
للواقع واسطة في العروض وجهة تقييدية أو واسطة في الثبوت وجهة
تعليلية لذلك الخطاب الحادث.
فالأول لب الكلام فيه يرجع إلى أن الخطابات الأولية المتعلقة بأفعال
المكلفين كما في الأحكام التكليفية أو المتعلقة بالموضوعات كما
في الأحكام الوضعية ولو كانت بحسب ظاهر الأدلة متعلقة بنفس
موضوعاتها الواقعية سواء قام عليها حجة أو لا فضلا من أن تكون
الحجة مصادفة أو غير مصادفة ولكن لما كان الغرض من الأمر والنهي
هو الانبعاث إلى المأمور به والانزجار عن المنهي عنه ففي
الحقيقة ليس الامر إلا عبارة عن طلب اختيار المكلف وانبعاثه نحو
فعل الشئ، كما أن النهي ليس إلا طلب اختيار المكلف ترك الشئ و
انزجاره عن فعله، ولا شك في أنه لا يعقل اختيار فعل الشئ بعنوان
انبعاثه عن الامر أو اختيار تركه بعنوان انزجاره عنه بواسطة النهي
بدون قيام الحجة من علم أو علمي سواء كانت تلك الحجة مصادفة
للواقع أم لا فإذا كان الامر كذلك، فلا بد وأن نقول بأن الأمر والنهي
وان كانا بحسب ظاهر الأدلة متعلقة بنفس الواقع مطلقا ولا دخل
للعلم في موضوعاتها أصلا ولكن حيث إنه بدون قيام الحجة وجود
التكليف لا أثر له ولغو فلا بد أن نقيدها بصورة قيام الحجة فبضميمة،
هذه
32

المقدمة يقيد موضوعات الخطابات الأولية بصورة قيام الحجة على
أحكامها وموضوعاتها، غاية الامر تقييد الموضوعات الأولية بقيام
الحجة على الموضوعات أمر ممكن بالتقييد اللحاظي، وأما تقييد
الاحكام بقيام الحجة عليها فلا يمكن، الا بنتيجة التقييد كما بيناه
مفصلا،
فحاصل أدلة الخطابات الأولية - بضميمة هذه المقدمة العقلية -
يكون عبارة عن أن الخمر - الذي قامت الحجة على أنه خمر - حرام
لا كل
ما هو خمر واقعا ووجوب الشئ الفلاني أو حرمة ذلك الشئ الاخر
الذي قامت الحجة على وجوبه أو حرمته مجعول لا الوجوب و
الحرمة المطلقين ولو لم يكن حجة في البين.
والحاصل أن مفاد الأدلة بعد ما عرفت من البيان، هو أن ما قام الحجة
على حرمته أو وجوبه حرام أو واجب لا مطلقا.
ثم أنه حيث لا يمكن للقاطع - بل كل من قام عنده الحجة سواء كان
علما أو علميا - تشخيص الحجة المصادفة للواقع عن غيرها،
فتخصيص الموضوع بخصوص الحجة المصادفة للواقع إحالة إلى أمر
غير مقدور وما هو خارج عن تحت قدرة المكلف واختياره فلا بد
وأن يكون الموضوع للتكاليف الأولية الواقعية مطلق ما قامت الحجة
على حرمته أو وجوبه سواء كانت الحجة مطابقة للواقع أم لا وهو
المطلوب (ولكن أنت خبير) بان هذا الكلام مغالطة واضحة لا ينبغي
الالتفات إلى أمثال هذه الكلمات لولا ان ذكره شيخنا الأستاذ (ره).
والجواب عنها أن التكاليف الواقعية، ليست جزافا بل تابعة لوجود
المصالح والمفاسد في متعلقاتها فان كان للعلم دخل في مصلحة
المتعلق يؤخذ في الموضوع تماما أو جزا صفة أو طريقا، وهذا خارج
عن مفروض كلامنا ولو لم يكن كذلك بل كان المتعلق فيه
المصلحة أو المفسدة بدون أن يكون لقيام الحجة دخل فيهما، فلا
يعقل تعلق الإرادة أو الكراهة بالمقيد
33

بالعلم أو العلمي، لان تبعية الإرادة لما هو ذو المصلحة والكراهة لما
هو ذو المفسدة عقلي ومن نوع تبعية المعلول لعلته.
وبعبارة أخرى، لا يمكن ان يكون متعلق الإرادة أوسع أو أضيق مما فيه
المصلحة والا يلزم في كلا الشقين تخلف المعلول عن العلة، فإذا
فرضنا أن المفسدة قائمة بذات شرب الخمر فكيف يمكن أن نقول ان
متعلق التكليف هو شرب الخمر الواصل خمريته بعلم أو علمي ومن
أين جاء هذا التقييد واما قولك إن الغرض من التكليف هو الانبعاث و
لا يمكن الانبعاث بدون الوصول.
فجوابه انه لذلك نقول بمعذورية المكلف ما لم يصل إليه التكليف
صغرى وكبرى بمعنى انه ما لم يصل إليه الكبريات المجعولة الشرعية
مثل كل خمر يجب الاجتناب عنه ولا يحرز الصغرى أي خمرية هذا
المائع الخارجي بعلم أو علمي يكون معذورا ولا يعاقب على مخالفة
التكليف الواقعي فالوصول شرط تنجز التكليف لا شرط تحققه.
هذا مضافا إلى أنه على فرض التسليم بتقييد الموضوعات الواقعية
القائمة بها المصالح والمفاسد بصورة الوصول إلى المكلف - تكون
النتيجة أن الخمر الذي قامت الحجة على خمريته حرام شربه لا مطلق
ما قامت الحجة على خمريته سواء كان خمرا أو لم يكن كما هو
المدعي، مضافا إلى الاشكالات الاخر الواردة على هذه المغالطة
الرديئة، لكن الاعراض عنها أولى (والثاني) أي حدوث خطاب اخر
بواسطة طرو عنوان التجري اما على الفعل المتجري به أو على نفس
عنوان المتجري (اما الأول) أي حدوث خطاب تحريمي متعلق
بالفعل المتجري به بواسطة عنوان التجري بحيث يكون طرو هذا
العنوان جهة تعليلية لحدوث ذلك الخطاب المتعلق بنفس الفعل
المتجري به أي ذات الفعل الذي قامت الحجة الغير المصادفة للواقع
على حرمته أو وجوبه
34

أو ما هو واجب أو حرام (فتقريبه) بان يقال لا شك في أن الافعال
يختلف حسنها وقبحها بالوجوه والاعتبارات الطارئة عليها، فرب
شي في حد نفسه لا حسن ولا قبح له كالقيام. ولكن إذا تعنون بعنوان
احترام المؤمن يحسن، كما أنه إذا تعنون بعنوان هتك المؤمن
صار قبيحا، فشرب الماء مثلا في حد نفسه لا قبح فيه، ولكن بواسطة
تعنونه بعنوان مقطوع الخمرية يمكن أن يحدث فيه مفسدة توجب
قبحه عقلا وحرمته شرعا.
هذا في مقام الثبوت، وأما في مقام الاثبات إذا حكم العقل بقبح الفعل
المتجري به، فنستكشف الحرمة بقاعدة الملازمة (وفيه) أن إمكان
ذلك ليس محلا للكلام، وانما الكلام في أن القطع أو قيام سائر الحجج
من هذا القبيل أعني قيامها على حكم إلزامي موجب لحدوث
مصلحة في فعله أو مفسدة في تركه بحيث يستتبع الحكم الشرعي من
الوجوب والحرمة أم لا.
الظاهر أن قيام الحجة - على الحكم أو الموضوع الذي له حكم إلزامي
- لا يوجب شيئا غير إظهار ذلك الموضوع أو الحكم (نعم) يمكن
أن يكون في نفس القطع وحده أو مع متعلقه مصلحة أو مفسدة يستتبع
الحكم الشرعي لكن هذا معناه أن يكون القطع تمام الموضوع أو
بعضه فيكون خارجا عن محل الكلام، لان كلامنا في القطع الطريقي
المحض.
وبعبارة أخرى صفة العلم - أو ما يقوم مقامه من سائر الحجج
المجعولة إذا تعلقت بحكم أو موضوع ذي حكم - ليس شأنها الا
إثبات ذلك
الموضوع أو ذلك الحكم وإظهاره وأما تغييره عما هو عليه - بأن
يجعله ذا مصلحة أو ذا مفسدة - فلا وإن قيل أن قيام الحجة على
وجوب شي يوجب احداث مصلحة في ذلك الشئ وإن لم يكن
واجبا وقيامها على حرمة شي يوجب احداث مفسدة في ذلك
الشئ وان
لم يكن حراما.
لكن تصديق هذا الكلام مع أنه القول بالتصويب المعتزلي المجمع
عليه
35

بطلانه - والا يلزم اجتماع الضدين أو المثلين إن لم يرفع اليد عن
الحكم الواقعي ومع رفع اليد لزوم التصويب معلوم - معناه - عدم
وجود التجري أبدا لان الحكم الواقعي بناء على هذا ليس الا مؤدي
الحجج والأدلة كما هو قول المصوبة.
(إن قلت) - نحن لا نقول بان قيام الحجة من علم أو علمي، يوجب
حدوث المصلحة أو المفسدة كي يلزم هذا المحذور، أي التصويب أو
اجتماع الضدين أو المثلين، بل نقول مخالفة الحجة - القائمة غير
المصادفة للواقع الذي هي عبارة عن التجري - توجب حدوث
مفسدة
في الفعل الذي يتحقق به المخالفة أو في الترك الذي يكون كذلك، و
يستتبع تلك المفسدة الحرمة الشرعية.
(قلنا) - لا شك في أن المخالفة للحجة لو كانت موجهة - لحدوث
المفسدة - فيما يتحقق به المخالفة في الحجة غير المصادفة للواقع -
تكون موجبة في المصادفة أيضا بطريق أولى، لان مخالفة اليقين أشد و
أعظم من مخالفة الجهل المركب، ولا أقل من التساوي بينهما
فحينئذ يلزم في مورد مخالفة الحجة القائمة على الحرام الواقعي
اجتماع مفسدتين تستتبع كل واحدة منهما حرمة شرعية فيلزم اجتماع
المثلين، ولا يمكن القول بالتأكد لاختلاف الرتبة في المفسدتين و
الحكمين لان إحداهما في الرتبة السابقة على العلم والأخرى متأخرة
عنه وعن مخالفته.
(إن قلت) - فبناء على هذا لا يلزم اجتماع الضدين أو المثلين أيضا
لاختلاف الرتبة.
(قلنا) - أن اختلاف الرتبة لا تصلح جهة اجتماع الضدين والمثلين إذ
المفروض أن المخالفة جهة تعليلية لا تقييدية، وذات الفعل ونفسه
تتصف بالحرمة عند مخالفة الحجة، غاية الامر أنه إذا كانت الحجة
قائمة على
36

حرمة شي وكانت مصادفة للواقع فيلزم اجتماع المثلين أو التصويب
إن قلنا برفع اليد عن الحرمة الواقعية، وإن لم تكن مصادفة لزم
اجتماع الضدين وعلى كل حال فلا يبقى وجه بعد ما حققناه، للقول
بحرمة الفعل المتجري به من ناحية حدوث خطاب جديد من طرف
التجري بحيث يكون عنوان التجري جهة تعليلية. (وأما ما أفاده)
أستاذنا المحقق (ره) من اختلاف الرتبة في رتبة الحكمين من أن
الحكم
الواقعي في رتبة معروضية الذات للإرادة والحكم الجائي من قبل
التجري في رتبة فعلية الإرادة وتأثيرها فلا يلزم اجتماع الضدين
(فجوابه) أن الحكم الواقعي محفوظ في جميع المراتب (غاية الامر)
بنتيجة الاطلاق لا بالاطلاق اللحاظي لاطلاق الملاك وعدم إمكان
الاهمال فيه وبمثل هذا نجيب عمن يقول بإمكان الجمع بين الحكم
الواقعي والظاهري باختلاف الرتبة (وأما الثاني) أي حدوث خطاب
على نفس عنوان التجري بحيث يكون عنوان التجري جهة تقييدية و
واسطة في العروض، (وبعبارة أخرى) يكون النهي متعلقا بعنوان
التجري (بيان ذلك) أنه لا فرق في نظر العقل في حكمه بالقبح بين
العصيان والتجري فكما أنه مستقل يقبح العصيان كذلك مستقل بقبح
التجري، وبقاعدة الملازمة نستكشف حرمة التجري، والفرق بين
العصيان والتجري - وعدم استكشاف الحرمة الشرعية في الأول
دون الثاني - هو عدم إمكان توجه الخطاب الشرعي إلى العصيان
لاستلزامه التسلسل بخلاف الثاني لامكان تعلق الخطاب التحريمي
بعنوان التجري ولا يلزم تسلسل ولا محذور اخر أصلا.
ولكن أنت خبير - بأنه أولا لا يمكن ولا يعقل تعلق خطاب وتوجيهه
نحو هذا العنوان، لأنه من شرائط صحة الخطاب وتوجيهه نحو
شي، أن يكون من الممكن أن يرى الشخص نفسه مصداقا لموضوع
ذاك الخطاب حتى يكون داعيا له على الفعل أو الترك، وفي المقام
لا يمكن ذلك لأنه
37

إذا التفت إلى أنه متجر يخرج عن كونه متجريا فيلزم من وجوده عدمه،
فهو محال، نظير ما قالوا من عدم إمكان تعلق خطاب وتوجيهه
إلى الناسي بعنوانه، فإذا كان خطاب في البين، لا بد وأن يكون بعنوان
مطلق القاطع بحكم إلزامي لا خصوص القاطع غير المصادف
قطعه للواقع لعدم إمكان ذلك أولا وعدم وجه لهذا الاختصاص ثانيا،
(ولكن) توجيه الخطاب نحو هذا العنوان أيضا لا يمكن، لأنه
بالنسبة إلى القطع المصادف يلزم اجتماع المثلين أحدهما تحت القطع
أي الحكم المقطوع ويكون متقدمات على القطع، والثاني فوق
القطع أي الحكم الذي توجه إلى القاطع ويكون متأخرا عن القطع، و
أن أبيت - عن صيرورته اجتماع المثلين، لاختلاف مرتبة الحكمين
لكون أحدهما متقدما على القطع والاخر متأخرا عنه - فلا يمكن لك
إنكار لغوية جعل الحكم الثاني، وذلك من جهة أن المكلف لو كان
ممن ينبعث عن بعث المولى بعد وصوله إليه وتنجزه عليه، فيكفي
حكم الأول، والا فلا يفيد الثاني أيضا.
فظهر - من جميع ما ذكرنا أن حرمة التجري أو الفعل المتجري به لا
وجه له، لا بشمول الخطابات الأولية، ولا بحدوث خطاب جديد من
ناحية التجري، ولا فرق بين القول بتعلق الخطاب الجديد بعنوان
التجري أو بفعل المتجري به.
ومما ذكرنا - ظهر لك فساد التمسك بالاجماع للحرمة. وذلك من
جهة أن صحة الدليل على الاثبات فرع إمكان الثبوت وقد تقدم عدم
الامكان في مقام الثبوت، هذا مضافا إلى أن دعوى الاجماع لا يخلو
عن إشكال لان المسألة خلافية، فعدم تحقق الاجماع من جهة وجود
الخلاف لا من جهة أن المسألة عقلية ولا وجه للتمسك بالاجماع في
مثل هذه المسألة، وذلك من جهة أن البحث عن حرمة التجري أو
الفعل
المتجري به
38

فقهية شرعية لا بأس بالتمسك بالاجماع لاثباتها إلا ما ذكرنا من وجود
الخلاف فيها وعدم تحقق الاجماع المصطلح.
نعم ادعى الاجماع في موردين (أحدهما) فيمن سلك طريقا مظنون
الضرر فادعى الاجماع على أن سفره معصية يجب إتمام الصلاة فيه و
لو انكشف بعد ذلك عدم الضرر فيه فقالوا إن هذا لا يتم إلا بناء على
حرمة التجري (ثانيهما) فيمن ظن ضيق الوقت واخر الصلاة ثم تبين
سعة الوقت فادعوا الاجماع على استحقاق العقاب ومعلوم ان هذا لا
يتم إلا بناء على استحقاق المتجري للعقاب والا فإنه أدرك الوقت و
ما خالف الواقع على الفرض (لكنه يمكن) أن يجاب عن الأول بان
سلوك طريق مظنون الضرر قبيح عقلا - ولو لم يكن ضرر فيه في
الواقع -، فيكون حراما شرعا بقاعدة الملازمة فانكشاف الخلاف لا
مورد له، فيخرج عن كونه تجريا ويكون معصية حقيقية (وعن
الثاني) أيضا بان خوف ضيق الوقت تمام الموضوع لحرمة التأخير،
فيجب المبادرة إلى الصلاة بمحض خوف الفوت سواء كان الوقت في
الواقع واسعا أم ضيقا، فيخرج هذا أيضا عن كونه تجريا، بل الظان
المذكور لو تأخر يكون عاصيا وان انكشف سعة الوقت فيما بعد.
ثم أن بعضهم - قال باستحقاق المتجري للعقاب بحكم العقل من دون
ان يكون خطاب شرعي في البين لا على عنوان التجري ولا على
الفعل المتجري به وهو ان العقل لا يفرق في حكمه باستحقاق
العقاب بين المعصية الحقيقية والتجري، وذلك من جهة وحدة
المناط
فيهما، إذ مناط حكم العقل باستحقاق العقاب في المعصية الحقيقية
ليس الا مخالفة العبد لما اعتقد انه المأمور به أو المنهي عنه عن قبل
مولاه (وبعبارة أخرى) بعد وصول أمر المولى أو نهيه إليه بواسطة
قطعه أو قيام حجة أخرى عليهما عنده
39

يتنجزان عليه ويحكم العقل باستحقاقه العقاب لو هتك حرمة المولى
ولم يعتن بأمره أو نهيه وتجرأ عليه، فكلما - أحرز إرادة المولى
لشي أو كراهته وزجره عن شي، - العقل يحكم عليه بلزوم الامتثال
وعدم جواز مخالفته، سواء كان ذلك الاحراز مطابقا للواقع أو لم
يكن، فإحراز أمر المولى ونهيه تمام الموضوع عند العقل، في حكمه
بلزوم الامتثال وعدم جواز المخالفة وأما كون المحرز والحجة
مطابقا للواقع أو لم يكن كذلك، فشي لا يلتفت إليه العقل في هذا
الحكم أصلا، هذا مضافا إلى أن إناطة استحقاق العقاب بمصادفة
القطع
أو سائر الحجج للواقع يكون إناطته بأمر غير اختياري، ولا شبهة في أن
إناطة استحقاق العقاب بأمر غير اختياري غير صحيح.
ولكن أنت خبير - بان حكم العقل بقبح المعصية يكون من جهة
مخالفة مولى المنعم وأن العبد ما اعتنى بأمره ونهيه، وأما إذا لم يكن
من
قبله أمر ونهي في البين فلا مخالفة هناك حتى يحكم العقل بقبحه و
صرف تخيل الأمر والنهي غير وجودهما واقعا، وذلك من جهة انه -
في مورد وجودهما واقعا وعدم اعتناء العبد بهما بعد وصولهما إليه -
يكون العبد كافرا لنعمة مولاه غير شاكر له، مع أنه بحكم العقل
يجب شكر المولى المنعم ويقبح كفران نعمته، وأما في مورد عدم
وجودهما واقعا ليس كفران في البين (نعم) بعد قيام الحجة من علم
أو علمي على وجودهما، فعدم الاعتناء يكون عدم الاعتناء بالحجة لا
بهما فيكون جرأة من العبد على مولاه فيكشف عن سؤ سريرته و
خبث باطنه لا أنه خالف مولاه وعصاه إذ المفروض أنه ليس في البين
شي من قبل المولى كي يصدق عليه المخالفة:
فظهر مما ذكرنا - ان مناط قبح المعصية في نظر العقل هي المخالفة
التي لا تتحقق في التجري أصلا.
(وأما ما ذكره) هذا القائل في أثناء كلامه من أنه لو لم يكن
40

التجري موجبا لاستحقاق العقاب يلزم إناطة العقاب بأمر غير اختياري
أعني مصادفة الحجة للواقع وهذا قبيح (فجوابه) أن إناطة عدم
العقاب بأمر غير اختياري لا بأس فيه، وأما العقاب على المعصية
فليس على أمر غير اختياري لتنجز الواقع عليه بواسطة الحجة وهو
خالف الواقع عن عمد واختيار (نعم) بالنسبة - إلى ذلك الشخص
الذي اتفق عدم مصادفة حجته للواقع - ليس عقاب لعدم مخالفة
المولى
فعدم العقاب أنيط بأمر غير اختياري وهو عدم مصادفة الحجة للواقع
وهذا غير أن يكون العقاب منوطا بأمر غير اختياري.
ثم انه ظهر لك - من تضاعيف ما ذكرنا أنه لا فرق في جميع ما ذكرنا
بين أن تكون - الحجة غير المصادفة للواقع - من الحجج الشرعية
المجعولة أو ذاتية وليس بجعل جاعل كالقطع بناء على الطريقية، لان
الطرق المجعولة بناء على الطريقية بعد جعلها وتتميم كشفها
تكون في تنجيز مؤدياتها مثل القطع فتجري عليها أحكام القطع، نعم
بناء على السببية يكون فرق بين تلك الحجج وبين القطع، وهو أنه
لا يتصور التجري فيها لان مؤدياتها أحكام شرعية واقعية على كل حال
أخطأت أم أصابت وتسميتها - بالأحكام الظاهرية بناء على
مسلك جعل المؤدي - مجرد اصطلاح والا فهي أحكام حقيقية
واقعية ولذلك قلنا يلزم من هذا المسلك والقول أحد الامرين إما
التصويب
لو أنكرنا وجود أحكام واقعية عدى مؤديات الامارات والأصول وإما
اجتماع الضدين لو قلنا بها أيضا.
ثم إن صاحب الفصول (ره) - أفاد أن قبح التجري يختلف شدة و
ضعفا بواسطة اختلاف الفعل المتجري به، بل ربما لا يبقى له قبح
أصلا
وذلك فيما إذا قطع بحرمة واجب واقعي وكان مصلحة ذلك الواجب
وحسنه مساويا لمفسدة التجري وقبحه أو كانا أزيد منهما فبنأ
على هذا يختلف
41

حال قبح التجري باختلاف مراتب المصلحة أو المفسدة في الفعل
المتجري به فلو كان الفعل المتجري به حراما واقعيا ذو مفسدة عظيمة
يكون قبح التجري شديدا لأنه ليس هناك مصلحة موجبة لتخفيف قبح
التجري بل ربما يجتمع القبحان فيصير قبح التجري أشد مما لو
كان الفعل المتجري به مباحا وهو أشد مما إذا كان مستحبا، وهكذا
في درجات المستحبات وهو أشد مما إذا كان واجبا بل في
الواجبات المهمة لا يبقى له قبح أصلا.
ثم انه ذكر - في مورد مصادفة التجري مع المعصية الحقيقية أنه
يتداخل عقابهما.
(ولكن أنت خبير) بأن دعاويه الثلاثة في هذا المقام كلها باطلة (اما
الدعوى الأولى) - وهي أن قبح التجري يختلف بالوجوه والاعتبار
- ففيها ان قبح التجري على المولى ذاتي لا يتغير عما هو عليه بطرو
أي عنوان كان لان العقل مستقل بقبحه مثل قبح المعصية وليس من
قبيل قبح الكذب حتى يتغير بواسطة طرو عنوان حسن عليه ككونه
موجبا لنجاة نبي أو ولي وأمثال ذلك من العناوين الحسنة (واما
الدعوى الثانية) - وهي أنه لو صادف انه اعتقد بحرمة واجب واقعي
فيذهب قبح التجري بواسطة مصلحة ذلك الواجب إذا كانت مساوية
مع قبح التجري أو كانت أزيد - ففيها أن العناوين المغيرة لحسن
الاشياء أو قبحها لا بد وأن تكون ملتفتا إليها وهاهنا في المفروض
يكون الوجوب غير ملتفت إليه والا يخرج عن كونه تجريا (واما
الدعوى الثالثة) - وهي أن التجري لو صادف المعصية الحقيقية
يتداخل
عقابهما - ففيها أن ذلك محال إذ يلزم منه الجمع بين النقيضين إذ قوام
التجري بعدم مصادفة الواقع والمعصية بمصادفتها له فهما
متناقضان لا يجتمعان.
ووجه شيخنا الأستاذ (ره) الدعوى الثالثة بأنه يمكن أن يكون
42

مراده وان كان خلاف ظاهر كلامه ما إذا قامت الحجة على كونه حراما
كذا وأخطأت وما كان ذلك الحرام لكنه كان حراما اخر مثلا
قامت البينة على خمرية مائع وأخطأت وما كان خمرا ولكنه كان
مغصوبا وقلنا بان قيام البينة أو العلم بحرمة شرب هذا المائع ولو
من جهة اعتقاد أنه خمر يكفي في تنجز حرمته من جهة الغصبية
فحينئذ يكون هذا تجريا باعتبار اعتقاد انه خمر مع عدم كونه خمرا و
معصية حقيقية من جهة كونه مغصوبا وتنجز حرمته الغصبية بواسطة
العلم أو قيام البينة على أصل الحرمة وان لم يعلم بخصوص غصبية
(ولكنه) يمكن أن يقال علي تقدير تنجز الحرمة الواقعية - الموجودة
بالعلم أو البينة - فيكون معصية حقيقية وليس من التجري، وعلى
تقدير عدم تنجزه فليس هناك معصية حقيقية بل هو تجر فقط (و
ظني) أن مراده من التجري الجرأة على المولى وعدم الاعتناء بما
قامت
الحجة على أنه واجب أو حرام، وهذا المعنى مشترك بين التجري
الاصطلاحي والمعصية فلو كان هذا المعنى موجبا لاستحقاق العقاب
و
سببا له ففي المعصية الحقيقية يوجد سببان أحدهما هذا المعنى و
الاخر مخالفة الواجب أو الحرام الواقعي المنجز فلا بد من القول بأنه
في
المعصية الحقيقية عقابان وهو مستبعد جدا لان الظاهر كما هو مفاد
الاخبار والآيات ان لكل معصية واحدة عقاب واحد فأراد صاحب
الفصول (ره) التخلص عن هذا الاشكال، فقال بالتداخل مع أنه لا وجه
للتداخل لو كان هناك سببان لان تعدد السبب موجب لتعدد
المسبب كما أن وحدة المسبب يكشف بنحو الان عن وحدة السبب
فثبوت ان لكل معصية ليس الأعقاب واحد يدل على أنه ليس فيها الا
سبب واحد.
ثم إن بعض المحققين (ره) في حاشيته على الكفاية أفاد تفصيلا في
المقام وهو انه تارة نقول بان استحقاق العقاب بواسطة جعل
الشارع العقاب
43

الفلاني على المعصية الفلانية فحينئذ لا مقتضى لاستحقاق العقاب
على التجري لأنه جعل العقاب على المعصية الواقعية أي على مخالفة
امره
ونهيه المنجزين بوصولهما إلى المكلف ولم يرد بيان من قبله أن
التجري أي مخالفة الحجة غير المصادفة للواقع موجب لعقاب كذا و
أخرى نقول بان استحقاق العقاب بحكم العقل كما هو ظاهر المشهور
فحينئذ لا ينبغي الشبهة في استحقاق العقاب على التجري لاتحاد
الملاك فيه مع المعصية الواقعية، لان العقاب على المعصية الواقعية
ليس لأجل ذات المخالفة مع الأمر والنهي، ولا لأجل تفويت غرض
المولى ولا لأجل كونه ارتكابا لمبغوض المولى بما هو مبغوضة
لوجود الكل في صورة الجهل ومع ذلك لا يستحق العقاب في تلك
الصورة قطعا بل لكونه هتكا للمولى وجرأة عليه وهذا المعنى مشترك
بين المعصية الواقعية والتجري (وفيه) ما عرفت أن ملاك
استحقاق العقاب في المعصية الواقعية هو مخالفة التكليف المنجز
بواسطة وصوله بتوسط الحجة من علم أو علمي إلى المكلف فلا يرد
على ما قلنا صورة الجهل، لعدم تنجز التكليف في تلك الصورة وكون
المكلف معذورا بواسطة جهله بعد فحصه أو فحص مجتهده، و
لذلك لو خالف قبل الفحص يستحق العقاب ولا يكون معذورا حتى
مع جهله، فلا فرق بين أن يكون منشأ استحقاق العقاب هو الجعل
الشرعي أو حكم العقل، وأنه في كلتا الصورتين ليس دليل على
استحقاق المتجري للعقاب. ثم أن شيخنا الأستاذ (ره) ذكر هاهنا بعض
الأبحاث العقلية ونحن نتبعه. فمن جملتها أن الأحكام الشرعية من
الأوامر والنواهي تابعة لملاكاتها أي المصالح والمفاسد الكامنة في
متعلقاتها ولا يجوز أن يكون تعلق الأوامر والنواهي بمتعلقاتها جزافا و
بلا مرجح، خلافا للأشاعرة فإنهم جوز والترجيح بلا مرجح
نوعي ولا شخصي، وهناك من يقول بجواز الترجيح بلا مرجح
44

شخصي وان كان لا بد من المرجح النوعي ويقول بكفايته في ترجيح
أحد الشخصين على الاخر بدون أن يكون مرجح لأحد هذين
الشخصين على الاخر، ويمثلون بكأسي العطشان ورغيفي الجوعان
فان العطشان لا يتوقف في ترجيح أحد الكأسين من جهة عدم
مرجح شخصي في البين، بل المرجح النوعي أي رفع العطش الذي
قائم بالجامع بين الكأسين يكفيه في ترجيح أحدهما على الاخر ولو
كانا من جميع الجهات متساويين.
ولكن أنت خبير - بأنه لا فرق في استحالة الترجيح بلا مرجح، بين
المرجح النوعي والشخصي ولو جاز أحدهما لجاز الاخر لوحدة
المناط وهو عدم إمكان تعلق الإرادة بشي جزافا، وعلى كل حال كما
أنه لا يمكن تعلق الإرادة التكوينية بشي جزافا وبلا مصلحة فيه
في نظر المريد كذلك الامر في الإرادة التشريعية فلا بد وأن يكون في
متعلق الإرادة والتكاليف مرجح لتعلق التكليف به دون غيره و
ذلك المرجح نسميه في باب التكاليف بالمصلحة أو المفسدة (و
هناك) من قال بوجود المصلحة في الامر بنحو الموجبة الجزئية لا في
المأمور به كالأوامر الامتحانية (ولكنه) أيضا ليس بصحيح ولو كان
بنحو الموجبة الجزئية لان المصلحة لو كانت في الامر فبصرف
الامر يحصل المصلحة والغرض فلا بد من سقوطه بمحض وجوده
لان وجوده بعد حصول المصلحة والغرض يكون من قبيل تحصيل
الحاصل والأوامر الامتحانية ليست من هذا القبيل أي لا يحصل
الغرض منها بمحض وجودها بل الغرض منها انه هل العبد في مقام
الإطاعة والانقياد ويأتي بالمأمور به أم في مقام التمرد والطغيان ولا
يظهر الإطاعة ولا يأتي بالمأمور به.
ومن جملتها أن العقل هل يدرك حسن الافعال وقبحها أم لا يدرك و
لو كان بنحو الموجبة الجزئية، هذا بناء على أن يكون للأفعال
حسن وقبح مع قطع النظر عن أمر الشارع ونهيه، وأما على تقدير إنكار
ذلك
45

- وأن الافعال في حد ذاتها مع قطع النظر عن أمر الشارع ونهيه لا
حسن لها ولا قبح لها وأن الحسن ما أمر به الشارع وأن القبيح ما
نهى عنه كما ذهب إليه الأشاعرة - فليس هناك في مقام الثبوت حسن
وقبح كي يقع الكلام في أنه هل يدركه العقل أم لا.
وقد نسب إلى الأخباريين منا إنكار إدراك العقل حسن الافعال وقبحها
ولو بنحو الموجبة الجزئية وفي مورد واحد (ولكن الانصاف)
- أن عزل العقل بالمرة عن إدراك الحسن والقبح - ليس كما ينبغي بل
ربما يلزم منه إفحام الأنبياء إذ بناء على هذا يمكن صدور
المعجزة على يد الكاذب ولا قبح فيه فلا يكون صدور المعجزة منه و
على يده دليلا على نبوته، هذا مع أن بداهة العقل والفطرة تحكم
بحسن بعض الأفعال كإطاعة المنعم وشكره وقبح بعضها الاخر
كعصيانه وكفر انه فإذا عزلنا العقل بالمرة عن الادراك فينسد باب
إثبات الصانع ويبطل جميع العلوم العقلية بل النقلية أيضا.
ومن جملتها حكم العقل بالملازمة بين ما استقل العقل بحسنه و
وجود المصلحة الملزمة فيه وبين حكم الشارع بوجوبه وهكذا بين ما
استقل بقبحه ووجود المفسدة فيه وبين حكم الشارع بحرمته، وقد
أنكر هذا المعنى بعض الأصوليين وجماعة الأخباريين.
ولكن أنت خبير - بان إنكاره بنحو السالبة الكلية لا وجه له، لان إنكاره
لا بد وأن يكون لأحد وجهين اما من جهة عدم تبعية الاحكام
للمصالح و المفاسد، واما من جهة عدم إمكان إدراك العقل لها ولو
بنحو الموجبة الجزئية (وقد عرفت) فيما تقدم تبعية الاحكام
للمصالح والمفاسد وأن التكاليف لا يمكن أن تتعلق بشي جزافا و
الإرادة التشريعية مثل الإرادة التكوينية في ذلك، وعرفت أيضا أن
العقل بنحو الموجبة الجزئية يمكن أن يدرك المصالح الملزمة وحسن
الاشياء والمفاسد وقبحها ولو في بعض الموارد
46

وعزل العقل عن إدراك ذلك بالمرة يوجب إفحام الأنبياء وسد باب
إثبات الصانع وإبطال العلوم العقلية والنقلية (والحاصل) أن
إنكار الملازمة يتوقف على إنكار إحدى المقدمتين، (إحداهما) إنكار
تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد كما ذهب إليه الأشاعرة وعليه
بنوا إنكار الملازمة (ثانيهما) إنكار إمكان إدراك العقل علل الاحكام و
مناطاتها ولو بنحو الموجبة الجزئية، ونسب هذا إلى الأخباريين
وعليه بنوا إنكار قاعدة الملازمة وكلا الانكارين ليس في محله بل
واضح البطلان كما عرفت فلا نعيد.
ثم إن صاحب الفصول (ره) أنكر الملازمة الواقعية وقال بالملازمة
الظاهرية وقال في وجهه أن العقل لا يحيط بجميع جهات مناطات
الاحكام بل ربما يدرك المقتضى ويخفى عليه المانع وليس ما يسد
هذا الاحتمال ففي كل مورد كان له حكم بالحسن أو القبح احتمال
أن يكون هناك مانع عن تأثير ذلك الحسن في الوجوب وذلك القبح
في الحرمة أيضا موجود ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال للملازمة
الواقعية لان الملازمة الواقعية تكون بين ما هو علة تامة للحكم معه لا
بين ما هو مقتضى له مع احتمال وجود المانع عن تأثير ذلك
المقتضى، نعم لا بأس بأن يكون إدراك العقل لما هو المناط بنظرة
أمارة للحكم الشرعي، فيكون بين إدراك العقل والحكم الشرعي
ملازمة ظاهرية.
وفيه (أولا) أنه من الممكن - بل هو الواقع الذي لا مناص منه - إدراك
العقل بنحو الموجبة الجزئية لما هو المناط الواقعي والعلة التامة
للحكم الشرعي فيكون بينهما ملازمة واقعية أي الملازمة التي بين
العلة والمعلول (وبعبارة أخرى) كلامنا في المستقلات العقلية و
العقل
إذا استقل بحكم لا بد وان يحيط بجميع جهات ذلك الحكم من
وجود المقتضى وفقد الموانع والا لا يستقل بذلك الحكم، وإنكار
ذلك و
لو في بعض الموارد مكابرة (وثانيا) لو سلمنا عدم وجود الملازمة
الواقعية فلا ملازمة ظاهرية أيضا، لأنه
47

على ذلك يكون ما أدركه العقل مقتضيا للحكم الشرعي مع احتمال
وجود المانع وبصرف وجود المقتضى للشي مع احتمال اقترانه
بالمانع لا يمكن الحكم بوجود المقتضى بالفتح الا على قاعدة
المقتضى والمانع التي لا أساس لها، وليس تعبد من قبل الشارع أنه ابن
علي وجود الحكم الشرعي عند ما أدرك العقل المقتضى له فمن أين
جأت هذه الملازمة الظاهرية التي يدعيها صاحب الفصول (ره)؟ و
الملازمة التي بين العلة التامة ومعلولها ملازمة واقعية، وهو ينكر
إدراك العقل للعلة التامة للحكم الشرعي وما يدركه العقل أي
المقتضي
له مع احتمال وجود المانع ليس بينه وبين الحكم الشرعي ملازمة
أصلا لا ملازمة ظاهرية ولا واقعية.
ثم انه مما نسب إلى الأخباريين عدم العبرة بالحكم الواصل من غير
تبليغ ولي الله وعلى هذا الأساس أنكروا حجية القطع الحاصل من
المقدمات العقلية، وادعوا وجود الأخبار الكثيرة الدالة على هذا
المطلب كقوله عليه السلام (ولو أن أحد أقام ليله وصام دهره ولم
يكن
بدلالة ولي الله لا تقبل له صلاة ولا صوم) وأمثال ذلك من الروايات
(وقد عرفت) فيما تقدم أن هذا المعنى معقول فان تقييد الحكم
بوصوله من طريق خاص أمر ممكن بنتيجة التقييد وان لم يمكن ذلك
بالتقييد اللحاظي ولكنه يحتاج إلى دليل مثبت لذلك وما استدلوا
بها من الاخبار لاثبات هذا المطلب لا دلالة لها على مدخلية السماع
عن الأئمة عليهم السلام في لزوم الامتثال بل في مقام الردع عن
الرجوع إلى غيرهم ممن كانوا من أهل الاهواء والعمل بالقياس و
الفتوى بالظن والاستحسانات لا عدم حجية ما استقل به العقل فان
العقل رسول باطني فكيف يمكن عدم الاعتناء بالحكم الواصل من
قبل ما استقل به وتلك الأدلة التي استدل بها الأخباريون بعضها في
مقام اعتبار الايمان والاعتقاد بالولاية في صحة العبادات وان الله
تعالى لا يقبل صلاة من لم
48

يعترف بولاية ولي الله ولا صومه ولا سائر عباداته، ومعلوم ان هذه
الطائفة أجنبي عن محل كلامنا (والحاصل) أن مقالة الأخباريين
سواء كان راجعا إلى إنكار قاعدة الملازمة أو كان راجعا إلى تقييد
الاحكام الواقعية بالوصول من طريق السماع عن الأئمة الطاهرين لا
دليل عليها بل الدليل على عدمها.
ثم انه نسب إلى الشيخ الكبير (ره) عدم حجية قطع القطاع
فان كان مراده عدم حجيته في القطع الطريقي كما هو المعروف عنه
(ففيه) أن حجية القطع الطريقي كما أشرنا فيما تقدم ذاتي والذاتي
لا يمكن ان يختلف عن ذي الذات فعدم حجية كل فرد من أفراد القطع
غير معقول سواء كان قطع القطاع أو غيره ومن أي سبب حصل و
لأي شخص كان وفي أي مورد من موارد الفقه، وان كان نظره في هذا
الكلام إلى القطع الذي يؤخذ في الموضوع فهذا كلام صحيح، لان
الظاهر من الدليل الذي أخذ القطع في الموضوع هو القطع الحاصل من
الأسباب المتعارفة لا الحاصل من أي سبب كان كما هو الحال في
الشك والظن أيضا إذ ينصرف دليل اعتبارها وأخذهما في الموضوع
إلى غير شك كثير الشك وظن كثير الظن ويكون الظاهر منه
الشك والظن الحاصل من الأسباب المتعارفة التي ينبغي حصولهما
منهما لا السبب الذي لا ينبغي حصولهما منه، يبقى الكلام في أنه هل
يمكن - توجيه مثل هذا الخطاب إلى نفس القطاع وأن قطعك
الحاصل من مثل هذا السبب الذي لا ينبغي حصوله منه ليس ما هو
المأخوذ
في الموضوع - الظاهر أنه لا مانع منه كما أنه خاطب كثير الشك بعدم
اعتبار شكه، وذلك من جهة أنه من الممكن التفات القطاع إلى أن
قطعه غالبا يحصل من الأسباب غير المتعارفة حصوله منها عند سائر
الناس، نعم هو يخطئ سائر الناس وانه لما ذا لا يحصل القطع
عندهم.
49

ومن أقسام القطع القطع الاجمالي وغالبا يعبر عنه بالعلم الاجمالي
- والبحث عنه في مقامين -:
(والمقام الأول)
في إسقاط التكليف به وأنه هل يجوز الامتثال العلمي الاجمالي
للتكليف ويسمى بالاحتياط أم لا يجوز؟ بل لا بد في مقام الإطاعة من
الامتثال التفصيلي (والتحقيق في المقام) أنه مع عدم التمكن من
الامتثال التفصيلي لا مناص إلا من الامتثال العلمي الاجمالي ولا كلام
في
ذلك وإلا ينسد باب الاحتياط بالمرة مع أنه في تلك الحالة حسن
عقلا ونقلا، واما مع التمكن من الامتثال التفصيلي بالعلم أو الظن
المعتبر، ففي التوصليات أيضا لا كلام في جواز الامتثال الاجمالي
سواء كان مستلزما لتكرار العمل أم لا إذ المقصود في التوصليات هو
إيجاد المأمور به بأي شكل اتفق، وأما في التعبديات ربما استشكل
جماعة خصوصا إذا كان الاحتياط مستلزما للتكرار وعمدة إشكالهم
مستند إلى أمرين (الأول) عدم إمكان قصد الوجه والتميز في
الاحتياط.
(والثاني) ما ذهب إليه شيخنا الأستاذ (ره) من أن للإطاعة بحكم
العقل الذي هو سلطان في هذا الباب مراتب طولية لا تصل النوبة إلى
المرتبة النازلة الا بعد عدم إمكان المرتبة العالية ويرى أن مرتبة
الامتثال العلمي الاجمالي متأخرة بحكم العقل عن مرتبة الامتثال
التفصيلي سواء كان بالعلم التفصيلي أو الظن المعتبر وهؤلاء هم الذين
يقولون ببطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد وأن
الاحتياط لا يجوز في العبادات مع التمكن منهما.
(ولكنك خبير) - بان الوجه الأول مبني على لزوم قصد الوجه و
اعتباره في العبادات وهو غير لازم.
(اما أولا) فمن جهة القطع بعدم اعتباره إذ مثل هذا الشئ الذي
50

مما يغفل عنه غالبا ويكون الابتلاء به كثيرا كان على الشارع التنبيه إليه
وبعد التفتيش التام نرى انه لا عين ولا أثر له في الاخبار، و
اما احتمال - أنه كان وأخفى علينا - فبعيد إلى الغاية لان دواعي
الاخفاء فيه قليل كما هو واضح، فلو كان لبان فمن عدم وجدانه
نستكشف عدم وجوده ومن عدم وجوده عدم اعتباره.
(واما ثانيا) على فرض الشك في اعتباره يدفع اعتباره بالاطلاق
المقامي، وان قلنا بعدم إمكان رفعه بالاطلاق الخطابي لعدم إمكان
أخذ قصد الوجه والتمييز مثل قصد القربة في متعلق الامر لأنه متأخر
عن الامر فكيف يمكن ان يؤخذ في متعلقه ويكون متقدما عليه فإذا
لم يمكن التقييد لا يمكن الاطلاق لان التقابل بينهما تقابل العدم و
الملكة وامتناع التقييد مساوق مع امتناع الاطلاق لان هذا لمحذور
ليس في الاطلاق المقامي لأنه عبارة عن أن الشارع بعد ما كان بصدد
بيان حقيقة الصلاة مثلا وشرح مهيته وتوضيح كل ما له دخل في
تلك العبادة من الاجزاء والشرائط والموانع ومع ذلك لم يبين اعتبار
قصد الوجه بوجه من الوجوه، نستكشف من ذلك عدم اعتباره و
اعتباره في العبادة لو فرضنا أنه بحكم العقل وأنه يحكم بان حصول
الغرض متوقف عليه ولكنه ليس. من المستقلات العقلية الذي يفهمه
كل أحد ويكون الشارع في مقام بيان حقيقة العبادة مستغنيا عن ذكره
بسبب حكم العقل كيف يكون كذلك ومفروضنا هو الشك في
اعتباره فيحتاج إلى ذكره إذا كان الشارع في مقام بيان حقيقة العبادة و
من عدم ذكره نستكشف عدم اعتباره وهذا هو المراد من
إطلاق المقامي.
(واما ثالثا) فيمكن التمسك بالاطلاق الخطابي غاية الامر بنتيجة
الاطلاق لا بالاطلاق اللحاظي حتى يلزم ذلك المحذور وقد تقدم
تفصيل ذلك في مبحث التوصلي والتعبدي عند الشك في شي أمر
به وانه توصلي
51

أو تعبدي فراجع.
ثم أن أستاذنا المحقق (ره) صحح إمكان الاطلاق الخطابي أيضا
بشكلين.
(أحدهما) أن يكون المنشأ في الامر بالصلاة مثلا هي الطبيعة الكلية
لوجوب الصلاة لا الفرد منه فيشمل طبيعة الوجوب جميع الافراد
العرضية والطولية لطبيعة الصلاة، فكما أن طبيعة وجوب الصلاة
السارية إلى جميع أفراد الصلاة تسرى إلى جميع الافراد العرضية غاية
الامر على البدل كذلك تسري إلى الافراد الطولية منها ولا شك أن
الصلاة مع قصد الوجه مثل الصلاة مع قصد القربة من الافراد الطولية
لطبيعة الصلاة، فبهذه الطريقة يمكن تعلق مفاد الخطاب أي الوجوب
الكلي المنشأ بذلك الانشأ الشخصي بالصلاة المقيدة بقصد الوجه أو
القربة أو ما شابههما من الانقسامات الثانوية.
(ثانيهما) تعلق الخطاب بالحصة التوأمة من طبيعة مع قصد الوجه
بحيث يكون المتعلق نفس تلك الحصة من طبيعة الصلاة ويكون القيد
و
ما هو التوأم خارجا عن تحت الطلب فلا يلزم محذور تقدم ما هو
متأخر عن الشئ على الشئ، وقد أجبنا عن إمكان أخذ قصد القربة
في
متعلق الامر بهذين الوجهين فلا نعيد.
وأما الوجه الثاني الذي ذهب إليه شيخنا الأستاذ قدس سره.
(ففيه) أن العقل لا يحكم الا بلزوم الإطاعة وليست الإطاعة الا إتيان
المأمور به بجميع ما اعتبر فيه شرعا أو عقلا، فإذا أتي بجميع ماله
دخل في المصلحة والغرض يحصل الغرض ويسقط الامر وهذا هو
الامتثال (وبعبارة أخرى) لا صحة لهذه الطولية التي ذكرها بحكم
العقل في مقام الامتثال.
(المقام الثاني) في إثبات التكليف به،
فنقول لا فرق في نظر العقل
52

في تنجز متعلق العلم به بين كونه تفصيليا أو إجماليا، فكما أن العلم
التفصيلي إذا تعلق بحكم شرعي أو موضوع ذي حكم يحكم العقل
بلزوم إطاعة ذلك الحكم والخروج عن عهدته بالامتثال كذلك أيضا
يحكم في العلم الاجمالي بلزوم الإطاعة والخروج عن عهدة
المعلوم بالاجمال، غاية الامر في العلم التفصيلي حيث أن المتعلق
معلوم تفصيلا ولا ترديد فيه طريق إطاعته بإتيانه، واما في العلم
الاجمالي حيث إن المتعلق غير معلوم تفصيلا طريق إطاعته بنظر
العقل بإتيان جميع محتملاته في الشبهة الوجوبية، وترك الجميع في
الشبهة التحريمية حتى يحصل القطع بامتثال ذلك التكليف المنجز
فالاتيان بالجميع أو ترك الجميع يكون مقدمة لتحصيل الامتثال
القطعي لذلك التكليف المنجز بالعلم الاجمالي ولذا سمي وجوب
الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي بالمقدمة العلمية.
ومما ذكرنا ظهر أن العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي علة تامة لتنجز
التكليف به ولا فرق بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة مخالفتها
ويكون علة تامة بالنسبة إلى كلتا المرحلتين وذلك من جهة عدم جواز
مخالفة التكليف المنجز ولو احتمالا والترخيص في مخالفته
القطعية تناقض قطعي وفي مخالفته الاحتمالية تناقض احتمالي وهما
في الاستحالة سواء، فكما أنه ليس للشارع - ان يرخص في
المخالفة القطعية ويكون تناقضا ترخيصه مع حكم العقل بلزوم
الإطاعة - كذلك ليس له أن يرخص في المخالفة الاحتمالية لاحتماله
تناقضه واحتمال التناقض في الاستحالة مثل القطع به، فيجب
الموافقة القطعية ولا يجوز الترخيص في تركه وحكم العقل بالنسبة
إلى
كلتا المرحلتين سواء فالتفكيك - بين حرمة المخالفة القطعية وبين
وجوب الموافقة القطعية بان العلم الاجمالي علة تامة بالنسبة إلى
الأول ومقتض بالنسبة إلى الثاني - في غير محله بل الصحيح أنه علة
تامة بالنسبة إلى كليهما، وظهر مما ذكرنا عدم
53

تمامية سائر الأقوال والاحتمالات في المسألة.
(من كون العلم الاجمالي) مثل الشك البدوي لا يؤثر في تنجيز متعلقه
أصلا ويجري حتى البراءة العقلية في جميع المحتملات وربما نسب
هذا القول إلى المحقق الخوانساري والمحقق القمي (قدس سرهما).
(ومن كونه) مقتضيا حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية وأنه يجوز
الترخيص حتى في المخالفة القطعية والظاهر أن هذا القول هو قول
المحققين المذكورين لا القول الأول إذ هما يقولان بانفتاح باب الحكم
الظاهري والجعل الشرعي على خلاف المعلوم بالاجمال حتى
بالنسبة إلى المخالفة القطعية وهذا غير عدم تأثير العلم بالمرة وكونه
كالشك البدوي والفرق بين القولين هو عدم جريان البراءة
العقلية على الثاني لان العلم الاجمالي بيان ومقتض لتنجيز متعلقه
غاية الامر قابل لمنع المانع ولمجي الترخيص من قبل الشارع على
خلافه فلو فرضنا انه لم يكن ترخيص من قبل الشارع على خلافه لما
كان العقاب عليه عقابا بلا بيان، وجريانه على الأول لأنه إذا لم
يكن تأثير للعلم الاجمالي أصلا وكان مثل الشك البدوي فيكون
العقاب عليه عقابا بلا بيان.
(ومن كونه علة تامة) بالنسبة إلى المخالفة القطعية ومقتضيا بالنسبة
إلى وجوب الموافقة القطعية بمعنى ان باب جعل الحكم الظاهري
بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية وعلى خلافها مسدود واما
بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية فمفتوح ويمكن جعل الحكم
الظاهري على خلافه وبعبارة أخرى التفكيك بين حرمة المخالفة
القطعية وبين وجوب الموافقة القطعية فيقال بأنه مقتض بالنسبة إلى
الثاني وعلة تامة بالنسبة إلى الأول وهذا القول يظهر من كلام شيخنا
الأعظم الأنصاري وذهب إليه شيخنا الأستاذ (قدس سرهما).
ولكن قد عرفت ان العلم الاجمالي منجز لمتعلقه وكما أنه لا يجوز
الترخيص
54

في ترك الواجب المعلوم المنجز كذلك لا يجوز في ترك ما هو محتمل
الوجوب المنجز بمعنى انه على تقدير وجوبه يكون منجزا إذ
الأول قطع بالتناقض والثاني احتمال التناقض وهما في الاستحالة
سواء (وبعبارة أخرى) التكليف الذي وصل إلى المكلف وقام عليه
البيان وصار منجزا بحكم العقل لا يجوز الترخيص من قبل الشارع
على خلافه ولو احتمالا لأنه يكون من احتمال اجتماع النقيضين و
هو أيضا في الاستحالة كالقطع باجتماع النقيضين لان العاقل لا يحتمل
الاجتماع.
ان قلت - أ ليس إذا قامت حجة - من أمارة أو أصل مثبت للتكليف في
بعض الأطراف موافقة للمعلوم بالاجمال ويكون بمقدار المعلوم
بالاجمال بحيث يكون انطباق المعلوم بالاجمال عليه ممكنا محتملا
- ينحل العلم الاجمالي ويجري الأصل النافي والمرخص في الطرف الآخر
بلا معارض، والحال أن احتمال وجود التكليف المنجز في ذلك
الطرف موجود، فكيف جاء الترخيص من قبل الشارع وهذا أمر
مسلم عند الكل ما اختلف فيه أحد ويسمون هذا بالانحلال الحكمي
مقابل الانحلال الحقيقي، وهو صيرورة المعلوم بالاجمال معلوما
بالتفصيل في بعض الأطراف.
قلت - ان ذلك يرجع إلى جعل ذلك الطرف - الذي قامت الحجة
على وجود التكليف فيه - بدلا في مقام الامتثال عن التكليف الواقعي
إذا
أخطأت الحجة ويكون في الحقيقة توسعة في مقام الامتثال، بأن
تفريغ الذمة وما في العهدة إما أن يكون بإتيان نفس المأمور به
الواقعي مثلا وإما أن يكون بإتيان بدله فعلى المكلف أن يأتي في
الشبهة الوجوبية أو يترك في الشبهة التحريمية بالواقع الحقيقي أو
الجعلي فهذا تصرف وتوسعة في مقام إسقاط التكليف لا في مقام
إثبات التكليف ومثل هذا المعنى يأتي بل هو جاء في القطع التفصيلي
مع أنه ما توهم أن يكون القطع التفصيلي مقتضيا
55

للتنجز لا علة تامة له (ونحن أيضا لا نقول) - بان علية العلم الاجمالي
لتنجز متعلقه - إذا كان حكما شرعيا أو كان موضوعا ذا حكم -
تكون بحيث لا يمكن جعل البدل في مقام الامتثال بل نقول ان حاله
حال العلم التفصيلي فكما انه في العلم التفصيلي بالتكليف قد يجعل
الشارع بدلا في مقام الامتثال كما في موارد قاعدة التجاوز وقاعدة
الفراغ وأصالة الصحة واستصحاب بقاء الشرط وأمثال ذلك
فكذلك في العلم الاجمالي والا نحن لا ندعي ان أمر العلم الاجمالي
في تنجيز متعلقه أعظم من العلم التفصيلي (وبعبارة أوضح) نحن
نقول
بعدم إمكان الترخيص ولو في بعض الأطراف ما لم يجعل الطرف الآخر
بدلا عن المعلوم بالاجمال، ولذلك لو فرضنا وجود أصل
مرخص - مناف مع المعلوم بالاجمال في بعض الأطراف كما هو
كذلك في بعض الأحيان وسيجئ البحث عنه وأمثلته في باب
الاشتغال
- لا يجري ذلك الأصل ولو كان بلا معارض، ولكن بناء على القول
بالاقتضاء يلزمه إجراء مثل ذلك الأصل لان سقوط الأصول بناء على
ذلك القول يكون بواسطة المعارضة وبعد ما فرضنا وجود أصل بلا
معارض فلا مانع حينئذ من جريانه مع أنهم لا يلتزمون بذلك. ثم إن
شيخنا الأستاذ (ره) ذكر هاهنا أمورا وان كان محلها باب الاشتغال و
سيذكر هناك أيضا إن شاء الله تعالى ونحن نتبعه.
(الأول)
أن الأصول المحرزة كالاستصحاب وقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز و
أصالة الصحة في فعل الغير لا تجري في أطراف العلم الاجمالي و
ان لم يستلزم مخالفة عملية، كما لو كان كأسان مستصحبي النجاسة مع
العلم بطهارة أحدهما لوقوعه تحت المطر مثلا بعد ما كان
الاثنان متيقن النجاسة ففي الحقيقة في هذا الفرض يعلم بنجاسة
أحدهما وطهارة الاخر بواسطة وقوعه تحت المطر مثلا بعد ما كان
عالما بنجاسة الاثنين
56

هذا الفرض مقتضى العلم الاجمالي هو الاجتناب عن كلا الكأسين و
مقتضى الاستصحابين أيضا هو الاجتناب عنهما، فلا يلزم من
جريانهما مخالفة عملية في البين أصلا ومع ذلك لا يجوز جريانهما و
ذلك من جهة ان البناء العملي على نجاسة الاثنين على أن نجاسة
الاثنين محرزة مما لا يجتمع مع القطع بطهارة أحدهما - نعم لو كان
الأصلان من الأصول غير المحرزة كأصالة الحل والطهارة و
الاحتياط لما كان مانع عن جريانهما لان صرف البناء العملي على
وجود شي لا ينافي مع العلم بعدمه بخلاف الهناء العملي على أنه
محرز
مع العلم بعدمه فإنهما متنافيان.
والحاصل أن إحراز الشئ ولو كان من حيث البناء العملي مع العلم
بعدم ذلك الشئ ولو إجمالا مما لا يجتمعان.
هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ (ره) ثم قال.
ان قلت في بعض موارد الاستصحابات نرى انهم يجرون استصحابين
نعلم بعدم موافقة أحدهما للواقع مثلا لو توضأ بمائع مردد بين
كونه ماء أو بولا يستصحبون بقاء الحدث وأيضا بقاء طهارة البدن و
الحال ان طهارة البدن في المفروض مع بقاء الحدث مما لا
يجتمعان ونعلم بعدم أحدهما في حاق الواقع وهكذا في استصحاب
بقاء الملزوم كالحياة مع استصحاب عدم حدوث اللازم كإنبات
اللحية نعلم بعدم مطابقة أحد الاستصحابين للواقع ولا يمكن الالتزام
بعدم جريان مثل هذين الاستصحابين لأنه بناء على عدم حجية
الأصل المثبت فاستصحاب الملزوم لا يثبت اللازم العقلي والعادي
فقهرا يكون اللازم مجرى لأصالة العدم فيلزم ما ذكرناه.
وأجاب شيخنا الأستاذ (قدس سره) عن ذلك بالفرق بين المقامين و
هو أنه في المفروض الذي منعنا جريان الأصل المحرز في أطراف
العلم الاجمالي ولو لم يستلزم مخالفة عملية يلزم - من التعبد بمؤدى
الأصل في جميع
57

الأطراف - العلم التفصيلي بكذب تلك المؤديات جمعا فنعلم
تفصيلا بعدم نجاسة كلا الكأسين الذين هما مؤدى الاستصحابين في
المثل
المتقدم، بخلاف موارد النقض فإنه لا يلزم من التعبد بمؤدى الأصل
في الأطراف العلم التفصيلي بكذب تلك المؤديات جمعا بل يعلم
إجمالا بعدم مطابقة أحدهما مثلا للواقع من دون ان تتوافق تلك
الأصول في ثبوت ما علم تفصيلا نفيه أو نفي ما علم تفصيلا ثبوته.
(وأنت خبير) بعدم الفرق الذي يكون فارقا بين المقامين من جهة أنه
في مورد النقض أيضا نعلم تفصيلا بعدم صحة الجمع بين بقاء
طهارة البدن وبقاء الحدث وكذبه.
والتحقيق أن البناء العملي على طبق شي ولو كان بعنوان انه محرز
غير كونه محرز في الواقع وفي الأول يمكن التعبد من طرف
الشارع بالبناء العملي على طبق الشئ على أنه محرز مع إحراز خلافه
إجمالا وفي الثاني لا يمكن التعبد بوجوده مع إحراز عدمه ففي
المثال المفروض نفرق بين قيام بينتين على نجاسة الكأسين وبين
استصحابيهما مع العلم بطهارة أحدهما ففي الأول نقول بعدم
جريانهما وتعارض البينتين وان لم يستلزم مخالفة عملية وفي الثاني
لا مانع من جريانهما ان لم يستلزم مخالفة عملية كما هو
المفروض فتأمل.
(الثاني)
ان عدم جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي يكون من جهة
مناقضتها - أي المناقضة بين حكمي العقل بتنجز المعلوم بالاجمال و
بين حكمه بعدم لزوم الامتثال لترخيص الشارع مخالفته - للمعلوم
بالاجمال وليس من جهة عدم شمول دليلها كما توهم ان في شمولها
لأطراف المعلوم بالاجمال يلزم المناقضة بين صدرها وذيلها لان مفاد
الصدر في دليل الاستصحاب عدم جواز نقض اليقين بالشك فمن
هذه الجهة يشمل الأطراف
58

ومفاد الذيل جواز نقضه بيقين مثله فلا يشمل وذلك من جهة أن أدلة
الأصول مختلفة وليس ما يوجب هذا التوهم الا في بعض أدلة
الاستصحاب واما أدلة سائر الأصول والبعض الاخر من أدلة
الاستصحاب فليس فيها شي من هذا القبيل أصلا، ولعل هذا هو مراد
من
يقول بان عدم جريانها ليس من جهة عدم المقتضي بل لوجود المانع
فيكون مراده من عدم المقتضي عدم الدليل ومن وجود المانع هي
المناقضة مع المعلوم إجمالا.
(الثالث)
من شرائط تأثير العلم الاجمالي في تنجيز المعلوم بالاجمال أن يكون
المعلوم بالاجمال على إجماله قابلا لان ينبعث المكلف نحو امتثاله
وإطاعته ولا يكون من قبيل دوران الامر بين المحذورين بحيث لا
يمكن فيه المخالفة القطعية ولا الموافقة القطعية والمخالفة
الاحتمالية وموافقتها لا بد منها (وبعبارة أخرى) لا يمكن خلو
المكلف عنهما بل لا بد له من التلبس بأحدهما تكوينا وذلك فيما إذا
كان
المعلوم بالاجمال مرددا بين النقيضين أو الضدين الذين لا ثالث لهما و
وجه ما قلنا - من أن المعلوم بالاجمال لا يكون كذلك ويكون
قابلا للانبعاث نحوه - هو انه لو كان من قبيل دوران الامر بين
المحذورين يكون توجيه التكليف نحو المكلف لغوا لأنه لا يقدر لا
على
الامتثال القطعي ولا على المخالفة القطعية، والاحتمال من كل منهما
لا بد منه، سواء كان من قبل المولى خطاب أو لم يكن فوجود
الخطاب الإلزامي وعدمه سواء، وهذا هو معنى كونه لغوا، ولذلك
قلنا - في محله أنه من شرائط حكم العقل بلزوم الاحتياط في أطراف
العلم الاجمالي - ان لا يكون من قبيل دوران الامر بين المحذورين.
ويلزم مما ذكرنا من عدم إمكان المخالفة القطعية أن لا تكون الواقعة و
مورد التكليف مكررا، والا لو كان كذلك يمكن ان يأتي في
أحدهما بأحد الضدين أو النقيضين وفي الاخر بالآخر فتتحقق
المخالفة القطعية وأن لا يكون
59

كلاهما أو أحدهما المعين تعبديا والا فائضا يمكن المخالفة القطعية
بإتيانهما أو إتيان ذلك الواحد المعين بدون قصد القربة وان لا
نقول بوجوب الموافقة الالتزامية وإلا أمكن أيضا المخالفة القطعية
بترك الالتزام بوجوب المعلوم بالاجمال أو بحرمته فتأمل.
(الرابع)
من شرائط تأثير العلم الاجمالي في تنجيز المعلوم بالاجمال أن يكون
موجبا لمجي خطاب جديد من طرف ذلك العلم الاجمالي في أي
طرف كان المعلوم بالاجمال ولازم ذلك أن لا يكون تكليف آخر من
سنخ هذا التكليف الذي يأتي من قبل المعلوم بالاجمال في بعض
الأطراف أو جميعها سابقا على العلم وإلا لو كان كذلك أي كان في
أحد الأطراف تكليف سابقا على العلم فالعلم لا يؤثر مطلقا وعلى كل
تقدير، لأنه لو كان المعلوم بالاجمال في ذلك الطرف الذي كان فيه
تكليف سابقا فلا يؤثر العلم الاجمالي ويكون تأثيره من قبيل
تحصيل الحاصل فيكون الطرف الآخر من قبيل الشك البدوي و
يجري الأصل النافي بلا معارض ويكون الطرف الذي فيه التكليف
السابق بدلا عن المعلوم بالاجمال على تقدير عدم كونه في ذلك
الطرف، بل الحق أنه لا يحتاج إلى هذا أيضا وان مثل هذا العلم لا
يوجب
تنجيز متعلقه أصلا بل يكون حاله حال الشك البدوي.
(الخامس)
من شرائط تأثير العلم الاجمالي في التنجيز أن يكون الخطاب المعلوم
بالاجمال متوجها إلى شخص واحد لا إلى شخصين كواجدي المني
في الثوب المشترك بينهما لأنه حينئذ كل واحد منهما يكون شاكا في
توجيه خطاب إليه وتكليف نحوه شكا بدويا في ثبوت التكليف
فيكون مجرى البراءة ويجري الأصل النافي في حق كل واحد منهما
بدون معارض.
نعم ربما يتولد - من هذا العلم الاجمالي علم آخر موجبا لتعارض
الأصلين النافيين كما إذا كانا من متممي العدد في صلاة الجمعة فيعلم
كل
60

واحد منهما ببطلان صلاته تفصيلا لان كل واحد منهما في الفرض إذا
كانا من متممي العدد يجب أن يحرز صحة صلاة الاخر بالوجدان أو
بالتعبد وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك للعلم بفساد صلاة نفسه أو
الاخر، وهذا العلم مانع من جريان أصالة الصحة في صلاة الاثنين أو
أصالة عدم حدوث الجنابة في حق الاثنين وكما إذا اقتدى أحد
واجدي المني في الثبوت المشترك بينهما بالآخر فيعلم المقتدي
ببطلان
صلاته تفصيلا اما من جهة كونه محدثا وإما من جهة بطلان صلاة
الامام وأصالة عدم كونه محدثا في حق نفسه وحده لا أثر له وفي حق
الاثنين لا يجريان من جهة العلم بالخلاف، إلا ان يقال لا يعتبر في
صحة صلاة المأموم أن يحرز صحة صلاة الامام بل إحراز الامام صحة
صلاته يكفي لجوز الاقتداء به ولو لم يكن المأموم محرزا لصحة صلاة
الامام لكن هذا القول بعيد عن الصواب. (وهكذا الامر) لو اقتدى
ثالث بهما في صلاة واحدة بل في صلاتين أيضا (وهكذا أيضا) لو
استأجر كل واحد منهما لما يكون مشروطا بالطهارة كما إذا
استأجرهما للصلاة مثلا فيعلم إجمالا بفساد صلاة أحدهما ولا يمكن
إجراء أصالة الصحة أو أصالة عدم حدوث الجنابة في الاثنين للعلم
بجنابة أحدهما فيتعارضان، (وهكذا) لو استأجرهما لكنس المسجد
بناء على لزوم إحراز المستأجر صحة إجارة الأجير فتأمل، إلى غير
ذلك من الموارد.
ثم انه ذكر - شيخنا الأعظم الأنصاري (ره) من جملة الموارد التي
يتولد من العلم الاجمالي علم تفصيلي - هو انه لو أودع أحدهما عند
شخص درهمين والاخر عند ذلك الشخص بعينه درهما واحدا فضاع
أحد الثلاثة أو سرق فمن الاثنين الباقيين أحدهما لصاحب
الدرهمين يقينا والاخر يبقى محل النزاع في أنه هل هو لصاحب
الدرهمين أيضا أم لصاحب الدرهم الواحد فبمقتضى قاعدة العدل و
الانصاف أو بالتصالح القهري ينصف ويعطى
61

نصفه لصاحب الدرهمين ونصفه الاخر للاخر فإذا جاء ثالث وباع
شيئا من أحدهما بأحد النصفين وشيئا آخر من الاخر بالآخر فيحصل
عنده النصفان، مع أنه يعلم تفصيلا بأنه ما صار مالكا للنصفين لعدم
انتقال أحدهما إليه من مالكه الحقيقي قطعا هذا ولكن كون الامر
كذلك مبني على عدم حصول الشركة بين المالين لمالكين بواسطة
الخلط وعدم تميز مال كل واحد منهما عن مال صاحبه لأنه هو
الميزان في باب الشركة التي تحصل بواسطة الخلط وذلك من جهة انه
لو قلنا بحصول الشركة من ناحية الخلط فيكون ثلثي المال
لصاحب الدرهمين مشاعا وثلثه الاخر مشاعا أيضا لصاحب الدرهم
الواحد والتلف الوارد على المال المشترك يحسب عليهما بنسبة
شركتهما فيحسب ثلث التالف على صاحب الدرهم الواحد وثلثيه
على صاحب الدرهمين فيعطى صاحب الدرهمين من الاثنين الباقيين
درهم وثلث، وثلثي الدرهم لصاحب الدرهم الواحد فيكون المقدار
المعطى لكل واحد منهما ماله حقيقة على حسب قواعد باب الشركة.
ومما ذكرنا ظهر أنه قد يكون للعلم بخصوصية الشئ تأثير في أحكامه
وآثاره بحيث انها لو صارت مجهولة تنقلب آثاره وتتبدل
أحكامه واقعا كما أنه عرفت ان بواسطة الجهل بخصوصية المال و
عدم تميزه بواسطة الخلط تحصل الشركة ويصير ما ليس بماله ماله
حقيقة وواقعا (ويمكن) أن يجعل هذا أيضا أحد شرائط تأثير العلم
الاجمالي بأن يقال ان من شرائط تأثيره أن لا يكون الجهل
بالخصوصية موجبا لتبدل حكم ذلك الشئ واقعا كما جعله شيخنا
الأستاذ (ره) من شرائط تأثير العلم الاجمالي.
(السادس)
ان لا يكون هناك ما يوجب تبدل الحكم واقعا أو ظاهرا كالتحالف و
الاقرار وحكم الحاكم لأنه ربما لا يكون للعلم الاجمالي أثر مع
وجود أحد هذه الأمور (بيان ذلك) انه هناك دار ونعلم إجمالا بأن
تمام
62

تلك الدار اما لهذا المدعى أو تمامها لذلك المدعي الاخر وادعى كل
واحد من المدعيين ملكية تمامها فأقام كل واحد منهما البينة على
دعواه فحكم الحاكم بالتنصيف كما هو أحد الأقوال في المسألة فيعلم
الذي يريد أن يشتري النصفين ان أحد النصفين ليس لمن في يده، و
لكن هذا العلم الاجمالي لا أثر له بواسطة أن حكم الحاكم يجعل
النصف مالا له ظاهرا وان لم يكن ماله واقعا فيجوز ترتيب آثار الملكية
عليه ظاهرا حتى مع ذلك العلم الاجمالي نعم مع انكشاف الخلاف
تفصيلا لا يجوز لأنه لا نقول بالموضوعية للحكم إلى هذا الحد فحكم
الحاكم يكون سببا لعدم تأثير ذلك العلم الاجمالي و تبدل الحكم
ظاهرا وصيرورة مال المحكوم عليه في بعض الفروض ملكا ظاهريا
للمحكوم له وجواز ترتيب جميع آثار الملكية عليه ما لم ينكشف
الخلاف تفصيلا (وهكذا الامر) في المفروض لو تحالفا أي حلف كل
واحد من المدعيين ان هذه الدار له فحكم الحاكم بالتنصيف هذا كله
في الحكم.
واما التحالف - فكما أنه يدعى أحدهما وقوع العقد على الدار وينكر
الاخر والاخر يدعي وقوعه على البستان وينكر صاحبه أو كان
الاختلاف بينهما في ناحية الثمن فكل واحد منهما يعين ثمنا غير ما
يعينه الاخر فالمشهور انه بعد التحالف يرجع كل مال إلى ملك صاحبه
الأول ويكون وجود العقد كعدمه ويصير مثل الفسخ والإقالة فيجوز
ان يشتري الثالث كلا الثمنين والمثمنين من صاحبيه مع العلم
إجمالا بان أحد المالين انتقل إليه من غير المالك وذلك من جهة ان
الحلف يصير سببا لتبدل الموضوع أي الملكية ظاهرا أو واقعا كما
احتمله بعض.
واما الاقرار - فكما انه لو أقر بمال في يده لزيد ثم أقر بعين ذلك المال
لعمرو فيعطى عين المال لزيد وقيمته أو مثله لعمرو ويجوز
لثالث أن
63

يشتري الاثنين منهما مع العلم بان أحد هذين ليس لمن في يده فإقرار
ذي اليد أسقط العلم الاجمالي عن التأثير لأنه صار سببا لتبدل
الملكية ظاهرا ما لم ينكشف الخلاف تفصيلا.
المبحث الثاني في الظن
وتارة نتكلم في إمكان التعبد به وأخرى في وقوعه.
اما الأول
فقد قال جماعة بعدم إمكانه كابن قبة وغيره من المتكلمين والمراد
من الامكان هاهنا هو الامكان الوقوعي لا الذاتي إذ لا إشكال في
إمكانه بذلك المعنى إذ ليس هو بنفسه من المحالات بل إن كان هناك
شي فمن جهة استلزامه للمحال كما توهم لا انه بنفسه محال وهذا
هو معنى الامكان والمحال الوقوعي فالأول ما لا يستلزم من وقوعه
محال والثاني بالعكس أي ما يستلزم من وقوعه المحذور و
المحال وليس الامكان الوقوعي التشريعي شيئا آخر في قبال الامكان
الوقوعي التكويني كما ربما يظهر الفرق بينهما من كلام شيخنا
الأستاذ (ره) بل هو بمعنى واحد وهو انه لا يقع محذور و محال من
ثبوت هذا المحمول لهذا الموضوع سواء كان المحمول من الأمور
الاعتبارية والتشريعية كحجية الخبر الواحد أو من الأمور التكوينية
كحرارة الماء أو برودته، ثم انه لو جاء دليل يدل على وقوع التعبد
به نأخذ بذلك الدليل ان لم يثبت امتناعه ولا يحتاج إلى إثبات إمكانه
بالدليل والبرهان حتى يجوز الاخذ بذلك الدليل بل عدم وجدان
الدليل على الامتناع يكفي لذلك، لا ان عدم الدليل على الامتناع
يكفي في إثبات الامكان لان هذا واضح البطلان ولعل نظر شيخنا
الأعظم (ره) في قوله - وهذا طريق يسلكه العقلا في الحكم
بالامكان - إلى ما قلنا أي أنهم يتمسكون بالدليل
64

على الوقوع إذا لم يجدوا دليلا على الامتناع لكن هذا المعنى خلاف
ظاهر كلام شيخنا الأعظم (ره) إذ ظاهره أن إمكان الشئ يثبت
بعدم الدليل على الامتناع.
ثم إن المحذور المتوهم في المقام بعضها راجع إلى الملاك وبعضها
راجع إلى الخطاب (أما المحاذير الراجعة إلى الخطاب) وهي اجتماع
الضدين أو النقيضين عند عدم إصابة الظن والمثلين عند اصابته، و
عبر ابن قبة عن تلك الأمور بتحليل الحرام وتحريم الحلال فهي
مبنية على جعل المؤدى في باب جعل الطرق والامارات وسيجئ
الكلام فيه إن شاء الله وانه خلاف التحقيق، وسنجمع بين الحكم
الظاهري والواقعي بما يرتفع به هذه المحاذير (وأما المحاذير الراجعة
إلى الملاك) أعني تفويت المصلحة والالقاء في المفسدة
فورودها مبني على تبعية الاحكام للمصالح اللازمة الاستيفاء أو
المفاسد اللازمة الترك تبعية المعلول لعلته إذ بناء على عدم التبعية كما
هو منسوب إلى الأشاعرة فليس هناك مصلحة ولا مفسدة حتى يلزم
تفويتها أو الالقاء فيها كما أنه لو كانت ولكنه لم تكن لازمة
الاستيفاء أو الترك فلا مانع من تفويتها والوقوع فيها، وأيضا مبنى على
عدم الالتزام بالمصلحة السلوكية في الامارات إذ لو التزمنا
بذلك يمكن أن يقال بتدارك ما فات من المصلحة الواقعية أو ما وقع
فيها من المفسدة الواقعية بتلك المصلحة السلوكية، وأيضا ورود
هذا الاشكال مبني على فرض انفتاح باب العلم إذ في فرض الانسداد
بعد الفراغ عن عدم جواز الاحتياط أو عدم لزومه لا شي أقرب
إلى الواقع من العمل بالأمارات الظنية إذ في فرض عدم العمل
بالامارات وعدم الاحتياط يجري البراءة الأصلية ولا يعتني باحتمال
وجود تكليف إلزامي وجوبي أو تحريمي في البين ففي العمل بالامارة
يقع ويتحقق الامتثال بالنسبة إلى الاحكام الواقعية في صورة
إصابة الامارة وهي كثيرة لأنها طرق عقلائية
65

يعتمدون عليها لكثرة إصابتها، وأما في صورة عدم العمل بالامارة
الظنية فلا يقع امتثال أصلا، لما ذكرنا من الرجوع إلى البراءة ومع
ذلك كله يمكن منع ورود هذا الاشكال من جهة أنه من الممكن أن
تكون الأمارات الظنية في المطابقة مع الواقع مساويا مع العلم
الوجداني
إذ ليس المراد من انفتاح باب العلم فعلية الوصول إلى الواقع قطعا، بل
غاية ما يمكن أن يقال ويدعى هو انفتاح باب إمكان الوصول إلى
الواقع بالسؤال عن الإمام عليه السلام إذ مع فعلية الوصول إلى الواقع
لا يبقى مورد ومجال للعمل بالظن حتى يقع الكلام في أنه يجوز أو
لا يجوز فمورد هذا البحث في حال الانفتاح لا بد وإن يكون المراد
منه إمكان الوصول إلى الواقع في ذلك الظرف فإذا فرضنا أن العلم
بالواقع الذي يحصل للمكلف ليس أغلب مطابقة من الأمارات الظنية
التي هي طرق عقلائية فلا محذور في جعلها حجة.
اللهم إلا أن يقال أن هذا صرف فرض وإلا العلم الذي يحصل للمكلف
بالواقع خصوصا إذا كان بالسؤال عن نفس الإمام عليه السلام يكاد
يكون دائم المطابقة لان احتمال اشتباهه وعدم فهمه كلام الإمام عليه السلام
أو فهمه خلاف ما أراد احتمالات في غاية البعد فما اعترف
به - شيخنا الأعظم الأنصاري (ره) من ورود الاشكال ولزوم المحذور
بناء على الانفتاح وعدم الالتزام بالمصلحة السلوكية - لا يخلو
عن قوة (نعم يمكن أن يقال) هناك مصلحة أخرى يتدارك بها ما يفوت
من مصلحة الواقع أو ما يقع فيها من المفسدة وهي مصلحة
التسهيل على المكلفين كما أنه صلى الله عليه وآله صرح بذلك في
قوله (لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك) فإنه يفهم من هذا
الكلام جواز تفويت المصلحة التي لفعل من الافعال لأجل التسهيل بل
موارد رفع الحكم بدليل نفي الحرج والعسر دائما من هذا القبيل إذا
كان الحكم المرفوع به إلزاميا لان الحكم المرفوع ان كان وجوبا
فتفويت
66

المصلحة يكون لأجل الحرج وان كان حرمة فالالقاء في المفسدة
يكون لأجل ذلك هذا ما أفاده شيخنا الأعظم الأنصاري (ره) في هذا
المقام (وفيه) أنه لازم هذا الكلام أن تكون الامارات لها حكومة واقعية
على الواقعيات ورفع الحكم الواقعي حقيقة في ما أدت إلى خلافها
كما هو الحال في موارد العسر والحرج وهذا عين التصويب الباطل.
ثم أنه هناك محذور أخر في حجية الظن وهو نقض الغرض لان
الغرض من الأوامر إيجاد المكلف لمتعلقاتها والغرض من النواهي
عدم
إيجادها وتركها فلو جعل الظن حجة وهو ربما يؤدي إلى حرمة
واجب أو وجوب حرام فقد نقض غرضه ونقض الغرض لا يجوز حتى
على مذاق من يقول بعدم تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد.
ولكن أنت خبير بأنه يمكن أن يجاب عن هذا المحذور بما أجيب به
عن محذور تفويت المصلحة بأن يقال إن المصلحة السلوكية أو
التسهيلية أيضا قد تكون متعلقة للغرض فتفويت إحدى المصلحتين
أي المصلحة الواقعية التي هي مناط الحكم الواقعي لأجل الوصول
إلى
مصلحة أخرى أي المصلحة السلوكية أو التسهيلية ليس نقضا للغرض.
ثم أن المحاذير الخطابية وهي اجتماع المثلين عند إصابة الامارة و
الضدين أو النقيضين عند عدم إصابتها أجيب عنها بوجوه (الأول) ما
يظهر من كلام شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) من اختلاف رتبة
الموضوع في الحكم الظاهري والواقعي وتقدم رتبة الموضوع
في الثاني بالنسبة إلى الأول وذلك من جهة أخذ الشك في الحكم
الواقعي في موضوع الحكم الظاهري فالحكم الظاهري متأخر عن
الشك
في الحكم الواقعي الذي هو موضوعه وهو متأخر عن نفس الحكم
الواقعي لان الحالات الأربعة الوجدانية أي العلم والظن والوهم و
الشك
نسبتها إلى متعلقاتها نسبة العرض إلى معروضه والحكم الواقعي
67

متأخر عن موضوعه كما هو شأن كل حكم بالنسبة إلى موضوعه
فيكون ما هو الموضوع للحكم الظاهري متأخرا عن الموضوع للحكم
الواقعي برتبتين إحداهما تأخر الشك عن الحكم الواقعي والثانية تأخر
الحكم الواقعي عن موضوعاتها (وأن شئت قلت) أن موضوعات
الاحكام الواقعية متقدمة على نفس تلك الأحكام وتلك الأحكام
متقدمة على الشك فيها الذي هو الموضوع الحكم الظاهري وهذا
معني
تقدم موضوع الحكم الواقعي على موضوع الحكم الظاهري برتبتين و
إذا كان كذلك فلا يجتمعان في موضوع واحد حتى يلزم اجتماع
الضدين أو المثلين أو النقيضين.
وفيه أن الحكم الظاهري وإن كان لا يصل إلى مرتبة الحكم الواقعي و
ذلك لما ذكر من تأخر موضوعه عنه ومعلوم أن الحكم لا يتعدى
عن موضوعه ولا يتقدم عليه ولكن الحكم الواقعي محفوظ في رتبة
الحكم الظاهري بنتيجة الاطلاق كما تقدم تفصيل ذلك، وإن في كل
مورد لا يمكن التقييد والاطلاق اللحاظيين وكان الملاك مطلقا أو
مقيدا لعدم تطرق الاهمال فيه، فلا بد من التوصل إلى تحصيله بنتيجة
الاطلاق أو بنتيجة التقييد، فيزاحم الحكم الواقعي - في مرحلة الشك
فيه - الحكم الظاهري لوصوله إلى تلك المرتبة بنتيجة الاطلاق.
(الجواب الثاني) ما ذكره أستاذنا المحقق (ره) وهو أيضا باختلاف
الرتبة ولكن ببيان آخر وهو أن متعلق التكاليف الصور الذهنية بما
هي حاكيات عن الخارج، ولا تسرى الإرادة والكراهة في عالم
العروض إلى الخارج، لان العرض إذا لم يكن في الخارج لا يمكن أن
يكون العروض في الخارج، ولان وجود متعلق الامر في الخارج ظرف
سقوط الامر لا ثبوته، لان المقصود من الامر ليس إلا وجود
المتعلق في الخارج، ومعلوم أن الصورة الذهنية من شرب التتن مثلا
التي هي موضوع الحكم الواقعي غير الصورة الذهنية من شرب
التتن المشكوك الحكم التي هي موضوع الحكم
68

الظاهري، فلا يصير اجتماع بين الحكمين حتى يلزم اجتماع الضدين
أو المثلين أو النقيضين، وحيث أن الحكم الواقعي في مورد قيام
الحجة على خلافه مجهول للمكلف وغير واصل إليه - فلا داعوية و
لا محركية له كي يقع التزاحم والتدافع في مرحلة الامتثال فلا تضاد
في مرحلة الجعل لاختلاف المتعلقين ولا تزاحم ولا تدافع في مرحلة
الامتثال لكون الحكم الواقعي غير واصل إليه والمكلف معذور في
مخالفته، وبهذا البيان قال بجواز اجتماع الأمر والنهي في مرحلة
الجعل، ولو كان التركيب بين المأمور به والمنهي عنه تركيبا
اتحاديا.
وفيه أن ما ذكره من تعلق الاحكام بالصورة الذهنية وإن كان صحيحا لا
شك فيه، ولكن تعلقها بها باعتبار كونها مرآة للخارج وآلة
لملاحظته ففي الحقيقة الحكم على الخارج بتوسيط تلك الصور
الذهنية، ولذلك يكون الاتصاف بهذه الأحكام في الخارج ويكون
الخارج محل اجتماع الحكمين فالصورة الذهنية مراد بالذات بمعنى
أن الإرادة تعلقت بها بلا واسطة في العروض ومراد بالعرض بمعنى
أن المراد الأصلي والمقصود بالذات هو الخارج ومرادية الصورة
الذهنية لأجل كونها حاكية ومرآة للخارج (والشاهد على ذلك) أنه لو
حكم بحكمين متضادين على عنوان واحد لم يشك أحد في امتناعه
وصيرورته من قبيل اجتماع الضدين مع جريان هذا البيان فيه أيضا
حرفا بحرف، بأن يقال أن الصورة الذهنية في الحكم الأول غير الصورة
الذهنية في الحكم الثاني وجودا، وذلك لان التصور الثاني غير
التصور الأول، فلا يكون اجتماع الضدين في مرحلة الجعل، وفي
مرحلة الامتثال أيضا يمكن فرض مجهولية الحكم الأول حتى لا يكون
له
داعوية وتحريك للمكلف نحو امتثاله، والحاصل أن المقصود و
المراد بالذات بالمعنى المتقدم هو الخارج وبتوسيط الصورة يحكم
على الخارج لان الإرادة والكراهة تتبع المصالح والمفاسد
69

وهي في الخارج فشارع الاحكام يحكم على الدم الخارجي بأنه
نجس، نعم حيث أن ظرف الحكم هو الذهن - والموجود الخارجي
بوجوده الخارجي لا يمكن أن ينتقل إلى الذهن والا ينقلب الذهن
خارجا - فلا محالة يحكم على الخارج بتوسيط الصورة الذهنية فينظر
بها إلى الخارج ويكون الخارج هو المحكوم عليه فيلزم المحاذير
المذكورة.
(الثالث) هو أن الحكم الظاهري سنخ من الحكم والواقعي سنخ آخر
فاجتماعهما لا يصير من قبيل اجتماع الممثلين إذا كانا تحت عنوان
واحد، فالطهارة الواقعية مثلا ليست من سنخ الطهارة الظاهرية وهكذا
في سائر الأحكام وأن أطلق عليهما عنوان واحد وشملهما
مفهوم واحد، وكذلك الحال بالنسبة إلى اجتماع الضدين أو النقيضين،
فالوجوب الواقعي ضد للحرمة الواقعية لا للحرمة الظاهرية وإلا
فلا مانع من اجتماع الحرمة الظاهرية مع الوجوب الواقعي إذ لا تضاد
بينهما. وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر الأحكام الوضعية و
التكليفية، ونقيض الحرمة الواقعية عدم تلك الحرمة واقعا لا عدمها
ظاهرا فلا يلزم من خطأ الامارة اجتماع النقيضين أو الضدين حتى
بناء على بطلان التصويب وانحفاظ الحكم الواقعي في مورد الجهل، و
لعل هذا مراد من جمع بين الحكم الظاهري والواقعي باختلاف
المحمول.
ولكن أنت خبير بأن الفرق بين الحكم الظاهري والواقعي ليس من
ناحية الحكم والمحمول بل الحكم والمحمول في كليهما بمعنى
واحد
وإنما الفرق من ناحية الموضوع أو المورد فمورد الحكم الظاهري في
ظرف الجهل بالواقع لا أن الطهارة الواقعية مثلا بمعنى و
الطهارة الظاهرية بمعنى آخر والوجوب الظاهري بمعنى والوجوب
الواقعي بمعنى آخر.
(الرابع) ما ذكره صاحب الكفاية (ره) من حمل الاحكام الواقعية على
الشأنية أو الانشائية والظاهرية على الفعلية فلا يصير اجتماع
الضدين أو
70

المثلين أو النقضين لأنه لا تضاد بين الوجوب الشأني أو الانشائي مثلا
مع الحرمة الفعلية، لان الاحكام الشأنية في الرتبة المتقدمة بالنسبة
إلى الاحكام الفعلية، وهذا الكلام منه بناء على ما ذهب إليه من أن
للأحكام مراتب أربع (الأول) الاقتضائية والشأنية وهي عبارة عن
كون الشئ ذا ملاك يقتضي الحكم الفلاني على طبق ذلك الملاك
(الثاني) الحكم الانشائي وهو عبارة عن إنشاء الحكم على طبق
المصالح والمفاسد الكامنة في الاشياء ضربا للقاعدة والقانون، من
دون أن يكون في البين إرادة أو كراهة فعلية (الثالث) الحكم الفعلي
وهو عبارة عن تعلق الإرادة الفعلية أو الكراهة الفعلية بشي (الرابع)
مرتبة التنجز وهي عبارة عن حكم العقل باستحقاق العقاب على
مخالفة حكم المولى وعصيانه بعد وصوله إليه بعلم أو علمي (وقد
عرفت) مما ذكرنا أن مرتبة الاقتضائية - التي يسميها بالحكم
الاقتضائي أو الحكم الشأني ومرتبة التنجز - لا ينبغي أن يعدا من
الأحكام الشرعية ومجعولاته بل الحكم الاقتضائي والشأني ليس الا
اقتضاء الحكم وشأنيته له لا الحكم الاقتضائي والشأني - والتنجز
حكم عقلي لا حكم شرعي فلا وجه لان يعد من مراتب الحكم
الشرعي،
نعم الحكم الانشائي والفعلي لو صح هذا التقسيم يكونان من مراتب
الحكم الشرعي ومن مجعولاته.
وعلى كل حال ما ذكره من حمل الاحكام الواقعية في مورد الأصول و
الامارات على الشأنية والانشائية يرجع إلى إنكار الحكم الواقعي
والتصويب الباطل لان الحكم الشأني ليس مجعولا وحكما شرعيا و
إطلاق الحكم الشأني عليه من باب المسامحة، إذ المراد منه كما
فسرنا شأنية الحكم لا الحكم الشأني.
وأما الحكم الانشائي على فرض صحته وصحة إطلاق الحكم عليه
71

ليس ما هو المجعول واقعا طبقا للمصالح والمفاسد ويكون مشتركا
بين العالم والجاهل بل ما دلت الأدلة - على اشتراكه بينهما و
انحفاظه في مرتبة الجهل به - هو الحكم الفعلي الذي لو وصل إلى
المكلف كان داعيا ومحركا له نحو الفعل أو الترك، وإنكار مثل هذا
الحكم في ظرف الجهل بالحكم الواقعي تصويب لا يقول به الإمامية،
هذا مضافا إلى أن الحكم الانشائي لا يفهم منه معنى محصلا بذلك
المعنى الذي يريد صاحب هذا القول بأن يكون أحد مراتب الحكم و
المفهوم منه هو إنشاء الحكم على الموضوع المقدر وجوده بما له من
القيود التي لها دخل في المصلحة والملاك، فثبوت الحكم لموضوعه
المفروض الوجود بقيوده المعتبرة فيه دائما فعلي نعم الفعلية بمعنى
تحريك المكلف نحو الفعل أو الترك منوطة ومتوقفة على وجود ذلك
الموضوع مع جميع قيوده المعتبرة في توجيه التكليف نحو
المكلف التي نسميها بشرائط التكليف، فوجوب الحج مثلا يكون
محركا للمكلف نحوه بعد وجوده مع جميع الشرائط المعتبرة من
الاستطاعة والبلوغ والعقل والحرية وأمثال ذلك مما هو دخيل في
توجيه التكليف نحوه.
ثم إن شيخنا الأعظم الأنصاري (ره) بعد ما جمع بين الحكم الظاهري
والواقعي - باختلاف الرتبة في الأصول العملية بالتقريب الذي
تقدم وأن موضوع الحكم الواقعي هو نفس ذات فعل المكلف و
موضوع الظاهري هو الذات المشكوك الحكم فيكون موضوع الحكم
الظاهري في الرتبة المتأخرة عن موضوع الحكم الواقعي - أفاد في
مقام الجمع بينهما في مؤدى الامارات معنى آخر، وهو أن المجعول
في باب الامارات هي الهوهوية بين المؤدي والواقع فلو كانت الامارة
مطابقة للواقع فالمجعول هو كون المؤدي عين الواقع فلو كانت
الامارة مطابقة للواقع فالمجعول هو كون المؤدي عين الواقع و
اتحادهما فليس شي آخر مجعولا في قبال الواقع حتى يكون غيره و
يلزم اجتماع المثلين وإن لم تكن مطابقة للواقع فيكون -
72

ادعاء الاتحاد واعتبار أن المؤدي هو عين الحكم الواقعي - واقعا في
غير محله ولذلك لو انكشف الخلاف لا يكون مجزيا لأنه ليس
هناك مجعول مولوي في البين.
وفيه أن الهوهوية إذا لم تكن حقيقية فلا بد وأن تكون ادعاء وتنزيلا
بلحاظ ترتيب آثار المنزل عليه على المنزل كقوله عليه السلام
(الطواف بالبيت صلاة) فيرجع هذا الادعاء والتنزيل في باب
الامارات إلى وجوب ترتيب آثار الواقع على مؤدى الامارات، ولا فرق
بين
هذا وبين جعل المؤدي فترجع المحاذير المذكورة من اجتماع المثلين
أو الضدين أو النقيضين.
(الخامس) أن مؤدي الأصول والامارات ليس الا حكما إثباتيا بل ليس
حكما حقيقة وهو من قبيل السراب الذي يحسبه الضم آن ماء (و
بعبارة أخرى) هو إثبات الحكم من دون أن يكون هناك حكم غير
الحكم الواقعي فان طابق هذا الاثبات مقام الثبوت فليس في البين الا
ذلك الحكم الواقعي الذي بلغ مقام الاثبات فتنجز لوصوله إلى
المكلف، وإن لم يطابق كان إثباتا بلا ثبوت ويكون سرابا محضا، و
هذا
في باب الامارات واضح بناء على جعل الحجية والطريقية وتتميم
كشفها في عالم الاعتبار التشريعي، بمعنى أن الشارع حسب في عالم
تشريعه ذلك الكشف الناقص الذي في الامارات كشفا تاما وألقي
احتمال الخلاف، فيكون حال هذه الامارات حال العلم والقطع
الوجداني فكما أنه عند قيام القطع - على وجوب شي أو حرمته إذا
أخطاء ولم يكن هناك وجوب أو حرمة في الواقع - لا يحدث من
طرف قيام القطع شي وليس هناك الا إثبات الوجوب والحرمة بدون
الثبوت لأنه جهل مركب ولا واقع له - فكذلك في الامارات لا
يحدث من طرف قيامها حكم شرعي، فليس في البين الا إثبات الحكم
فان طابق الواقع فلا يحدث حكم آخر حتى يصير اجتماع
73

المثلين بل يتنجز الواقع لوصوله إلى المكلف وان لم يطابق الواقع
يكون إثباتا بلا ثبوت ويكون من قبيل السراب.
هذا كله في الامارات وأما الأصول العملية فالمجعول فيها ليس هو
المؤدي والحكم الشرعي كي يلزم اجتماع المثلين أو الضدين أو
النقيضين بل المجعول فيها هو البناء العملي على طبق الحالة السابقة
كما في الاستصحاب أو على طبق احتمال وجود التكليف كما في
موارد الاحتياط أو عدمه كما في موارد البراءة، وهذه الوظيفة العملية
ليست حكما مجعولا حتى تلزم المحاذير الخطابية في مقام الجعل
والتشريع، ولا يلزم من جعل هذه الوظيفة العملية تصادم مع الحكم
الواقعي في مقام الامتثال أيضا لعدم داعوية ذلك الحكم ومحركيته
نحو الامتثال لكونه على الفرض مجهولا وغير واصل إلى المكلف، فلا
تصادم بين الحكم الظاهري وبين الحكم الواقعي في باب الأصول
العملية لا في مقام الجعل ولا في مقام الامتثال (وإن شئت قلت) أن
للقطع جهات أربع لا تنفك إحداها عن الأخرى في نفس القطع بل
جميعها متلازمات (الأولى) كونه صفة كذا ومن مقولة الكيف النفساني
وله وجود خاص وحقيقة مخصوصة (الثانية) كونه طريقا إلى
متعلقه وكاشفا تاما عنه (الثالثة) الجري العملي على طبقه بما أن
متعلقه منكشف به تمام الانكشاف وواصل إلى المكلف (الرابعة)
صرف
الجري العملي على طبق متعلقه وتنجز المتعلق من حيث لزوم العمل
على وفقه به من دون النظر إلى انكشاف المتعلق به - فالجهة الأولى
- من هذه الجهات مخصوص بذات القطع لأنها عبارة عن نحو وجوده
الخاص ومهيته المخصوصة ولذلك لو وقع بتلك الجهة موضوعا
لحكم شرعي لا يقوم مقامه شي من الامارات والأصول - والجهة
الثانية - هي التي مجعولة في باب الامارات - والجهة الثالثة - هي
المجعولة في باب الأصول العملية التنزيلية المسماة بالمحرزة أيضا -
والجهة
74

الرابعة - مجعولة في الأصول غير التنزيلية، فكما أن تلك الجهات -
عند اجتماعها في القطع الوجداني المتعلق بحكم شرعي أو موضوع
ذي حكم - لا تصادم الحكم الواقعي لا في مرحلة الجعل والتشريع و
لا في مقام الامتثال، فليكن كذلك عند افتراقها ووجود بعضها
بدون بعض بواسطة الجعل التشريعي.
فصل
ثم أنه بعد ما تقدم من إمكان حجية الظن وأنه ليس هناك محذور
ملاكي ولا خطابي في البين أصلا، لو شككنا في حجية ظن فما هو
مقتضى الأصل والقاعدة؟.
الظاهر أنه لا ينبغي أن يشك في أن مقتضى الأدلة العقلية والنقلية عدم
حجيته وأنه لا يجوز الاستناد إليه وقد ذكر شيخنا الأعظم
الأنصاري (ره) قيام الأدلة الأربعة على ذلك - أما الكتاب - فقوله
تعالى (قل الله أذن لكم أم على الله تفترون) فان التعبد بأمارة لم يقم
دليل على حجيتها ليس مما أذن الله له بل يكون افتراء على الله - و
أما الاخبار - فقوله عليه السلام (رجل قضى بالحق وهو لا يعلم)
حيث
أنه عليه السلام عد هذا القسم أيضا من الداخلين في النار ومناط كون
ذلك الرجل منهم هو عدم علمه بأنه من الله وهذا المعنى بعينه
موجود في العمل بالظن الذي لم يقم دليل على حجيته متدينا و
متعبدا به - وأما الاجماع - فادعى الوحيد البهبهاني (ره) ان حرمة -
العمل بالظن الذي لم يقم دليل على حجيته متدينا و متعبدا به - من
البديهيات عند العوام فضلا عن الخواص - وأما العقل - فاتفاق
العقلا
على قبح استناد ما لم يعلم أنه من الله إليه تبارك وتعالى وأن هذا من
التشريع القبيح عند العقل، (لان الظاهر) أن التشريع
75

عبارة عن العمل بما لم يعلم أنه من الدين بعنوان أنه من الدين وإن كان
من الدين واقعا، فالمناط في تحقق التشريع عدم قيام حجة على
أنه من الدين لا عدم كونه منه واقعا ولا شك في أن العقل يحكم بقبح
استناد ما لم يعلم أنه من الدين إليه سواء كان في الواقع من الدين أو
لم يكن.
ثم أن حكم العقل بقبح التشريع ليس من قبيل حكم العقل بقبح
العصيان من حيث عدم جريان قاعدة الملازمة في الثاني دون الأول، و
ذلك من جهة أن مورد جريان قاعدة الملازمة كما تقدم هو كون حكم
العقل واردا في سلسلة علل الاحكام لا في سلسلة معلولات الاحكام،
بمعنى أن العقل لو أدرك ما هو مناط حكم الشرع وملاكه فيستكشف
من ذلك لما وجود الحكم الشرعي، وهذا معنى وقوعه في سلسلة
علل الاحكام، وأما لو وقع حكم العقل في الرتبة المتأخرة عن الحكم
الشرعي وفي سلسلة آثاره ولوازمه كقبح العصيان وحسن
الإطاعة، فلا يمكن أن يكون مستتبعا للحكم الشرعي للزوم التسلسل.
ثم أن المحرم هل هو نفس العمل الذي يتحقق التشريع به أو خصوص
التدين والتعبد به، الظاهر أن العقل يحكم بقبح نفس العمل الذي
يصدر بعنوان أنه من الدين ويكون العمل الصادر بهذا العنوان مصداقا
للتشريع القبيح عقلا فبقاعدة الملازمة نستكشف حرمة نفس
العمل الكذائي، هذا مضافا إلى دلالة بعض الاخبار والأدلة اللفظية
أيضا على ذلك وخصوصا الأخبار الواردة في باب البدعة وتحريمها.
ثم أنه من لوازم الحجية جواز التعبد والتدين بمؤداها بناء على ما تقدم
من أن جعل الحجية عبارة عن تتميم كشفه الناقص وجعله في
عالم الاعتبار التشريعي علما وواسطة في الاثبات نعم لو كانت
الحجية بمعنى صرف من جزيته من دون جعله علما تشريعيا ووسطا
في الاثبات فلا يمكن التعبد
76

والتدين بمؤداه بصرف هذا المعنى) لكن هذا الوجه في الحجية بعيد
عن الصواب لما تقدم في وجه الحجية. وأما الأصول العملية فحيث
أن
مؤداها ليس حكما مجعولا كما تقدم، بل المجعول فيها هي الوظائف
العملية فلا يجوز استناد أزيد من ذلك إلى الدين في مواردها أو
يقيد الحكم في مواردها بكونه ظاهريا (وأما النقض) بالظن على تقدير
تمامية دليل الانسداد على تقرير الحكومة بأنه حجة على ذلك
التقدير ومع ذلك لا يجوز استناد المظنون إلى الدين وانه حكم الله،
فغير وارد لان الحجية هناك ليس بمعناها المصطلح من تتميم
الكشف بل معناها جواز الامتثال الظني والاكتفاء به في مقام إسقاط
التكليف، لا أنها بمعنى العلم التشريعي وكونه وسطا في الاثبات،
وفي الحقيقة العقل لا يحكم بأن الظن في تلك الحالة حجة مثبتة
للتكاليف شأن سائر الحجج والامارات لان الظن في آية حالة من
الحالات لا يكون مثل القطع حجيته ذاتية له، فلا بد من إعطاء هذه
الصفة له وجعلها في عالم الاعتبار والتشريع له، وليس وظيفة العقل
إلا الادراك لا الاعطاء وجعل تلك الصفة وهذا واضح جدا.
ثم إن للتشريع صور وذلك من جهة أنه كما ذكرنا عبارة عن استناد ما
لم يقم دليل على أنه من الدين إليه (فتارة) يعلم أنه ليس من الدين
وينسبه إليه سواء كان علمه مطابقا للواقع أو لم يكن بل كان ما علم أنه
ليس من الدين منه (وأخرى) يشك أنه منه وينسبه إليه سوأ
كان منه واقعا أو لم يكن وفي كلتا الصورتين تشريع محرم والظن غير
المعتبر في هذا المورد مثل الشك فليس له أن ينسبه إلى الدين
بمحض ذلك الظن غير المعتبر، ومناط التشريع وكونه قبيحا في
جميع تلك الصور واحد وهو الانتساب إلى الدين وعده منه مع عدم
قيام حجة على ذلك.
وبعبارة أخرى للعقل حكم واحد في صورة العلم بعدم كونه من الدين
77

والظن غير المعتبر والشك في ذلك أي في كونه من الدين، ففي
جميع تلك الصور له حكم واحد بمناط واحد لا أن حكمه في مورد
عدم
كونه من الدين واقعا حكم واقعي وفي مورد الشك في ذلك حكم
طريقي (نعم) عند من عرف التشريع بأنه إدخال ما ليس من الدين
واقعا في الدين للتشريع واقع متعلق للحرمة وهو انتساب ما ليس من
الدين واقعا إليه، فيكون حكم العقل بقبح استناد ما لم يقم حجة
على أنه من الدين إليه حكما طريقيا للاحتراز عن الواقع في مفسدة
الواقع وهو استناد ما ليس من الدين واقعا إليه، ويكون من قبيل
حكمه بعدم جواز ارتكاب مظنون الضرر بل مشكوكه بناء على كون
ذلك الحكم حكما طريقيا (ولكن قد عرفت) أن التشريع عبارة عن
استناد ما لم يقم حجة انه من الدين إليه سواء كان من الدين أو لم يكن
لا استناد خصوص ما ليس من الدين واقعا إليه كما توهم، هذا كله
حسب مقتضى القواعد والأدلة.
وأما بحسب الأصول العملية فمقتضي الاستصحاب عدم حجية ما
شك في حجيته لان الحجية أيضا كسائر الحوادث مسبوقة بالعدم و
ليست ذاتية ولا من لوازم الذات إلا في القطع.
وأورد شيخنا الأعظم الأنصاري (ره) على هذا الاستصحاب بان الأثر
المترتب على هذا الاستصحاب مترتب على نفس الشك في بقاء
عدم الحجية الذي هو موضوع لهذا الاستصحاب، ففي الرتبة السابقة
على جريان الاستصحاب هذا الأثر حاصل، فتحصيله بالاستصحاب
يكون من قبيل تحصيل الحاصل.
وأورد عليه في الكفاية (ره) (أولا) بأن الاحتياج إلى الأثر في جريان
الأصل العملي إنما يكون فيما إذا لم يكن المؤدى بنفسه من
المجعولات الشرعية، كما إذا كان المستصحب مثلا من الموضوعات
الخارجية
78

وأما إذا كان بنفسه من المجعولات الشرعية كاستصحاب الاحكام
وضعية أو تكليفية فإنها بأنفسها تنالها يد الجعل التشريعي وضعا و
رفعا ولا يحتاج إلى أثر عملي حتى يكون الوضع والرفع بلحاظ ذلك
الأثر، وقد تقدم أن الحجية من الأحكام الوضعية التي تنالها يد
الجعل التشريعي وضعا ورفعا فيكون كاستصحاب الوجوب والحرمة
لا يحتاج إلى أثر عملي (وثانيا) بأن الأثر هاهنا أي عدم جواز
التعبد والتدين بمؤداه كما أنه يترتب على نفس الشك كذلك يترتب
على الواقع المشكوك أي عدم الحجية واقعا، فيصح الاستصحاب
بلحاظ ذلك الأثر ففي مورد الشك في الحجية يمكن ترتيب الأثر
بنفس الشك، ويمكن إجراء الاستصحاب وترتيب الأثر بلحاظ الواقع
المشكوك، ثم أنه لو كانت في مثل المقام قاعدة مضروبة للشك تجري
القاعدة بلحاظ نفس الشك والاستصحاب بلحاظ الواقع
المشكوك، ولكن الاستصحاب يكون حاكما على القاعدة (وبعبارة
أخرى) الأثر لو كان مترتبا على نفس الشك فقط تجري القاعدة
دون الاستصحاب ولو كان مترتبا على الواقع المشكوك دون الشك
فيجري الاستصحاب دون القاعدة ولو كان مترتبا على كليهما
كلاهما يجريان، ولكن الاستصحاب يكون حاكما على القاعدة، هذا
ما أفاده صاحب الكفاية (ره).
واستشكل عليه شيخنا الأستاذ (ره) (أولا) بان الأصول العملية
وظائف عملية مجعولة للشاك، فمع عدم عمل في البين لا معنى
لجريان
الأصل العملي وإنما يكون جريان استصحاب الوجوب والحرمة أيضا
من جهة الانتهاء بالآخرة إلى العمل وإلا فهما أيضا لا يجريان (و
ثانيا) بما ذكرنا من لغوية هذا الاستصحاب لحصول الأثر والنتيجة في
رتبة موضوع هذا الأصل أعني الشك، فيكون تحصيل هذا الأثر و
النتيجة بهذا الاستصحاب من قبيل تحصيل الحاصل بل هو أسوء منه
لأنه تحصيل ما هو حاصل وجدانا تعبدا.
79

والحاصل أن مورد جريان الاستصحاب في مثل هذه الموارد يكون
فيما إذا كان الأثر المترتب على الواقع غير الأثر المترتب على الشك
كاستصحاب الحلية وقاعدة الحل حيث أنه يترتب على الشك الحلية
الظاهرية دون الواقعية، وعلى الاستصحاب آثار الحلية الواقعية
فباستصحاب الحلية يترتب جواز الصلاة فيه ولا يترتب هذا الأثر على
قاعدة الحل بناء على أن الحلية الواقعية شرط في جواز الصلاة ولا
يكفي الحلية الظاهرية (هذا مضافا) إلى أنه يمكن أن يقال إنه لا أثر
للواقع المشكوك في المقام أصلا من جهة أن عدم جواز التعبد و
التدين بمؤدى الظن من آثار عدم العلم أو العلمي لحجيته لا من آثار
عدم حجيته واقعا، لأنه لو لم تكن حجة واقعا ولكن دل دليل معتبر
على حجيته جاز التعبد بمؤداه، فجواز التعبد بمؤدى الظن وعدم
جوازه يدور مدار قيام دليل معتبر على اعتباره وعدم قيامه، لا الحجية
الواقعية وعدمها.
ثم إن ما ذكرنا من لزوم انتهاء المجعول في الأصول العملية إلى الأثر
العملي بناء على أن المجعول فيها هي الوظائف العملية واضح (وأما
بناء) على مسلك جعل المؤدى فيمكن أن يقال انه لا يحتاج إلى الأثر
العملي ان كان المؤدى بنفسه من المجعولات الشرعية ويكون قابلا
للوضع والرفع في عالم التشريع، ولكن ذلك لا يرفع اللغوية من جهة
أن الجعل التشريعي لا بد وأن يكون بلحاظ عمل المكلف وإلا
يكون الجعل والتشريع بلا فائدة ولا ثمرة فيكون لغوا.
(المقام الثاني في وقوع التعبد به)
في حجية الظواهر
فمن جملة الظنون التي خرجت عن
80

تحت أصالة حرمة العمل بالظن ودل الدليل على حجيتها - ظواهر
الألفاظ لاستقرار سيرة العقلا على ذلك في جميع محاوراتهم و
كتبهم ومصنفاتهم العلمية ومكاتيبهم الراجعة إلى حوائجهم وفي كل
مقام يريدون الافادة والاستفادة والشارع لم يردع عن هذه
الطريقة بل أمضاها وعمل بها في محاوراته وإفاداته وفي مقام بيان
أحكامه، فإذا سئل أحدهم مكاتبة أو مشافهة أخذ عليه السلام
بظاهر كلامه وأجابه عن ذلك السؤال وأراد أيضا في مقام الجواب ما
هو ظاهر كلامه، واستثنوا من هذه القاعدة موردين.
(أحدهما) ظواهر الكتاب العزيز فان الأخباريين قالوا بعدم حجيتها و
عدم جواز الاخذ بها واستدلوا على ذلك (أولا) بالاخبار الناهية
عن الرجوع إلى الكتاب والعمل والاخذ بظواهره وتلك الأخبار بما
تبلغ حد التواتر لكثرتها من قبيل (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ
مقعده من النار) وقوله عليه السلام (يا قتادة ما ورثك من القرآن حرفا)
وقوله عليه السلام (إنما يفهم القرآن من خوطب به) وغير
ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في هذا الباب.
وفيه أن هذه الأخبار وان كانت كثيرة ربما بلغت حد التواتر كما ادعاه
الطرف، ولكن كلها يرجع إلى أحد أمرين (أحدهما) المنع عن
تفسير القرآن بالرأي والظنون الاستحسانية (ثانيهما) الاخذ بالقرآن
استقلالا من دون الرجوع إلى المخصصات والمقيدات الواردة
من أهل بيت العصمة لعموماته ومطلقاته، ومعلوم أن الاخذ بالظاهر
غير التفسير بالرأي (ونحن أيضا لا نقول) بجواز الرجوع إلى
الكتاب استقلالا ومن دون مراجعة الاخبار والفحص عن
المخصصات والمقيدات واستخراج الناسخ والمنسوخ منها هذا
مضافا إلى
إرجاعه عليه السلام إلى القرآن والامر بالأخذ به في مقامات كثيرة
كقوله عليه السلام في رواية عبد الأعلى هذا وأمثاله يعرف من
كتاب الله
81

امسح على المرارة ما جعل عليكم في الدين من حرج) وقوله عليه
السلام (ما وافق الكتاب فخذوه وما خالف الكتاب فاطرحوه) وقوله
عليه السلام (ما خالف قول ربنا لم نقله)، أو زخرف أو باطل أو اطرحه
على الجدار إلى غير ذلك من أخبار العرض على الكتاب، و
مقتضى الجمع - بين هذه الأخبار والأخبار المتقدمة لو كان بينهما
تعارض ابتدائي - حمل تلك الأخبار على أحد الامرين المتقدمين (و
ثانيا) بالعلم الاجمالي بوجود مخصصات لعمومات الكتاب بين
الاخبار ومقيدات لمطلقاته كذلك (وفيه) أنه بعد الرجوع إلى الاخبار
و
الفحص عن تلك المخصصات والمقيدات ينحل ذلك العلم
الاجمالي بوجدان مخصصات ومقيدات فيما بين الاخبار فلا يبقى
مانع عن
الرجوع.
(ثانيهما) ما استثناه المحقق القمي (ره) من عدم حجية الظواهر في
حق من لم يقصد إفهامه وحجيته في حق من قصد إفهامه، وقد أفاد
في
وجه الفرق بينهما أن عدم إرادة الظاهر بالنسبة إلى من قصد إفهامه لا
بد وأن يكون لأحد الاحتمالين (أحدهما) غفلة المتكلم عن نصب
القرينة على إرادته خلاف الظاهر (وثانيهما) غفلة المخاطب المقصود
بالافهام وعدم التفاته إلى القرينة المنصوبة من قبل المتكلم و
العقلا لا يعتنون بكلا الاحتمالين ونفيهما مورد الأصل العقلائي لان
أصالة عدم الخطأ والغفلة أصل عقلائي جار عند الكل (وأما
بالنسبة) إلى من لم يقصد إفهامه فليس الاحتمال منحصرا بهذين، كي
يرفع بأصالة عدم الخطأ والغفلة بل من الممكن أن تكون بين
المتكلم ومن قصد إفهامه قرينة حالية أو مقالية على إرادة خلاف
الظاهر واختفت على من لم يقصد إفهامه، وليس هناك أصل عقلائي
يرفع هذا الاحتمال (نعم) قد يتعلق غرض المتكلم أو الكاتب بإفهام
كل من يسمع أو ينظر فيه كالكتب العلمية والوصايا والأقارير و
غير ذلك فيكون
82

حجة في حق الكل.
ثم أنه بناء على هذا المسلك قال بانسداد باب العلمي إلى معظم
الاحكام وحجية الظن المطلق، وذلك من جهة أن انفتاح باب العلمي
إلى
معظم الاحكام لا يتم بالتعبد بصدور الاخبار المودعة في الكتب
المعتبرة فقط بل يحتاج مضافا إلى هذا إلى أصالة جهة الصدور وإلى
أصالة الظهور، وبإنكار كل واحد من هذه الثلاثة ينسد باب العلمي إلى
معظم الاحكام (وحيث) إنه أنكر الأخير - أي أصالة الظهور في
الاخبار من جهة أن أغلبها أجوبة لأسئلة خاصة يكون المقصود
بالافهام ذلك السائل الخاص فلا يكون حجة في حق غيره - فقد قال
بتمامية دليل الانسداد وان العمل بالاخبار يكون من باب الظن المطلق
الذي تم حجيته بدليل الانسداد، هذا ما أفاده ذلك المحقق.
وفيه (أولا) أن الاخبار المودعة في الكتب المعتبرة تكون من قبيل
الكتب العلمية ويكون المقصود بالافهام هو جميع من ينظر فيها، و
ذلك من جهة أن الرواة كانوا يتعلمون الاحكام لا لعمل أنفسهم فقط بل
للنقل إلى السائرين وبث أحكام الدين، فلو كانت هناك قرينة في
البين لكانوا ينقلونها إلى من ينقلون الرواية إليهم ويثبتونها في كتبهم
التي ضبطوا فيها الروايات (وثانيا) احتمال - وجود قرينة بين
المتكلم وخصوص من قصد إفهامه أيضا - منفي بالأصل العقلائي.
وأما دعوى - أن سيرة العقلا وبنائهم على عدم حجية الظهور إلا
لمن قصد إفهامه، فيكون المقتضى للحجية والدليل عليها ضيقا لا
يفيد
أزيد من هذا المقدار - غير مسموع لان العقلا لا يفرقون بين من قصد
إفهامه ومن لم يقصد إفهامه في حجية الظهورات وكشفها عن
المرادات (نعم ها هنا) كلام آخر وهو أن حجية الظواهر هل هي
مشروطة بالظن
83

أم لا، ولكن مشروطة بعدم الظن على الخلاف.
والحق في هذا المقام (أما في الأول) أي اشتراط حجيتها بالظن
بالوفاق (فان كان) المراد هو الظن النوعي، فهو حاصل قطعا لان
الظواهر لا شبهة في أنها تفيد الظن بالمراد نوعا (وإن كان) المراد هو
الظن الشخصي فغير لازم قطعا، لان مناط حجية جميع الامارات
العقلائية عندهم هو الظن النوعي لا الشخصي (وأما في الثاني) أي
اشتراط حجيتها بعدم الظن على الخلاف (فان كان) المراد هو الظن
النوعي على الخلاف فلا يوجد قطعا، لما بينا من إفادتها الظن نوعا (و
إن كان) المراد الظن الشخصي فوجوده في مورد على الخلاف
غير مضر قطعا لما ذكرنا من أن مناط الحجية عند العقلا هو الظن
النوعي منها بالمراد فالظن الشخصي بالوفاق أو الخلاف لا أثر له،
هذا كله كان في حجية الظواهر.
(وأما تعيين) الصغرى وأن اللفظ الفلاني ظاهر في المعنى الفلاني،
فقد تقدم في مبحث الألفاظ جملة مما يكون معينا ومشخصا للظهور
ككون صيغة الامر ومادته ظاهرة في الوجوب وكون صيغة النهي
ظاهرة في التحريم وكون الجملة الشرطية ظاهرة في الانتفاء عند
الانتفاء وأمثال ذلك.
ومما قيل بحجيته في مقام تشخيص الظهور وتعيينه قول اللغوي
واستدلوا على ذلك.
تارة بإجماع العلماء بل العقلا على الرجوع إلى كتب اللغة عند وقوع
الخلاف بينهم في معنى لفظ أو عدم فهمهم معناه (وفيه) أنه من
الممكن أن يكون رجوعهم إليهم إما من جهة المسامحة فيما إذا لم
يكن متعلقا بما له أثر شرعي وإما من جهة حصول الوثوق والاطمئنان
من قولهم في بعض الأحيان، لا من جهة حصول الظن فقط وحجية
قولهم مطلقا.
وأخرى بأدلة حجية الخبر الواحد لكون قول اللغوي من مصاديقه
84

(وفيه) أن أدلة حجية خبر الواحد على فرض شمولها للموضوعات و
عدم اختصاصها بالأحكام مقيدة إطلاقها برواية مسعدة بن صدقة
(الاشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم بها البينة) فيشترط في
قبوله العدالة والتعدد.
وثالثة ببناء العقلا وسيرتهم على الرجوع إلى أهل الخبرة (وفيه) أن
اللغوي ليس من أهل الخبرة أي أهل الرأي والاجتهاد بل ينقل ما
يسمع من أهل المحاورة أو ما يرى في كتاب، (هذا كله) مضافا إلى أن
شأن اللغوي ليس إلا بيان موارد الاستعمال لا تعيين المعنى
الحقيقي من بين المعاني التي يستعمل اللفظ فيها.
ثم إن بعضهم تمسكوا لحجية قول اللغوي بالانسداد الصغير، وهو
عبارة عن انسداد باب العلم والعلمي في بعض الموضوعات مقابل
الانسداد الكبير الذي هو عبارة عن انسداد باب العلم والعلمي إلى
معظم الاحكام، فقالوا لا شك في أن باب العلم والعلمي مسند إلى
فهم
كثير من معاني الألفاظ والرجوع إلى البراءة في مواردها مستلزم
للمخالفة القطعية الكثيرة، فلا بد من الرجوع إلى مطلق الظن في
تعيين تلك المعاني، ولا شي أقرب من قول اللغوي في ذلك.
(وفيه) أنه لو آل أمر انسداد باب العلم والعلمي إلى الانسداد الكبير
أي إلى انسداد باب العلم إلى معظم الاحكام، فهذا هو الانسداد الكبير
ونتيجته حجية مطلق الظن كشفا أو حكومة أو من باب التبعيض في
الاحتياط كما سيجئ إن شاء الله، ولا وجه التسمية بالانسداد
الصغير (وإن لم ينجر الامر) إلى الانسداد الكبير وكان باب العلم و
العلمي مع ذلك إلى معظم الاحكام مفتوحا، فلا مانع من الرجوع إلى
الأصول العملية وإجراء كل واحد في مجراه ولا يلزم منه محذور
أصلا (ودعوى) أنه يلزم منه المخالفة القطعية الكثيرة، دعوى بلا بينة
و
لا برهان لان الموارد
85

التي يدعي المدعى لزوم الرجوع إلى قول اللغوي وإن لم يحصل
العلم أو الوثوق والاطمئنان من قوله ويكون من باب مطلق الظن في
غاية القلة فلا يلزم من الرجوع إلى الأصول في تلك الموارد القليلة
محذور الخروج عن الدين أو المخالفة القطعية الكثيرة كما توهم.
في إجماع المنقول
ومما قيل بحجيتها بالخصوص وخروجه عن تحت أصالة حرمة
العمل بالظن (إجماع المنقول) واستدلوا على حجيته بأدلة حجية خبر
العادل، لان ناقل الاجماع ينقل الحكم عن الإمام عليه السلام بدون
واسطة فإذا كان عادلا يكون خبره هذا خبرا عالي السند لكون
المخبر عادلا وعدم واسطة بينة وبين الإمام عليه السلام (وفيه) أن
أدلة حجية الخبر الواحد لا تشتمل الخبر عن حدس إما لان سيرة
العقلا التي هي عمدة دليل حجية لم تقم إلا على قبول خبر الثقة فيما
كان اخباره عن حس لا عن حدس وسائر الأدلة تكون تقريرا و
إمضاء لتلك السيرة، وإما من جهة أن أدلة حجية خبر العادل والثقة
تنفي احتمال تعمد الكذب، فبضميمة أصالة عدم الخطأ والغفلة في
المحسوسات يتم المطلوب أي حجيته ووجوب تصديقه ولزوم
العمل على طبق قوله، وأما في الحدسيات فلا تجري أصالة عدم
الخطأ و
الغفلة، وهذا معنى عدم شمول أدلة حجية الخبر الواحد للاخبار عن
حدس، ولا شك أن ناقل الاجماع لا ينقل الحكم عن الإمام عليه السلام
عن حس خصوصا في زمان الغيبة.
وأما تشرف بعض الأوحدي إلى خدمته وسماع الحكم منه عليه
السلام كما يقال في حق بعض الأعاظم من العلماء (رحمهم الله) ثم
نقله
بصورة
86

الاجماع وإن كان حينئذ وبناء على ذلك اخبارا عن الحس، لكنه ليس
مبنى الاجماعات المنقولة في الكتب الفقهية قطعا (وخلاصة الكلام
في المقام) ان الاجماعات المنقولة الموجودة في الكتب تكون من
قسم الخبر الحدسي وأدلة حجية الخبر الواحد لا تشملها لأنها لا تدل
إلا
حجية الخبر الحسي أو الحدس القريب من الحس، وهو أن يكون
لذلك المخبر به الحدسي آثار ولوازم حسية بحيث يكون إحساس
تلك
الآثار واللوازم في نظر العرف والعقلا إحساسات لذلك المخبر به
الحدسي (ولكن مع ذلك كله) يمكن أن يكون إجماع المنقول
مشمولا لأدلة حجية خبر الواحد ببعض الوجوه والمباني في إجماع
المحصل وحجيته، فنذكر وجوه حجية الاجماع المحصل عندهم و
المسالك التي سلكوها في ذلك أولا.
فنقول (الأول) دخول الإمام عليه السلام في المجمعين والمتفقين و
إن كان لا يعرفه المحصل للاجماع، فيخبر بالحكم عنه بصورة
الاجماع، ولا شك في أنه بناء على ذلك يكون اخبارا عنه عليه السلام
عن حس، ولكن الاجماعات المنقولة الموجودة في الكتب الفقهية
ليست من هذا القبيل قطعا خصوصا الاجماعات التي نقلوها في زمان
غيبته عجل الله تعالى فرجه فان الناقل لم يسمع الحكم من جماعة
يعلم بان الامام أحدهم قطعا، نعم هذا المعنى كان ممكنا في عصر
حضور الإمام عليه السلام، ولكن نقلة الاجماع وأرباب الكتب الفقهية
متأخرون عن ذلك العصر يقينا.
(الثاني) قاعدة اللطف وهي عدم جواز اجتماع الأمة جميعهم على
الخطأ بل يجب لطفا إلقاء الخلاف بينهم بإظهار الحق ولو لبعضهم (و
بعبارة أخرى) اجتماعهم على الباطل وخلاف حكم الله الواقعي
خلاف اللطف فلو حصل إجماع واتفاق من الكل نستكشف بقاعدة
اللطف
انه حق وهو حكم الله الواقعي.
87

وأنت خبير - بأن هذه الدعوى لا صغرى لها ولا كبرى (أما عدم
الصغرى) فمن جهة ان اتفاق الكل - الذي يدعى المدعى بعدم إمكان
كون الكل على الخطأ - لا يمكن تحصيله لأحد إذ مع اختلاف أرباب
الفتاوى بحسب الاعصار والأمصار وان أغلبهم ليس لهم تصنيف
كيف يمكن أن يطلع على فتوى الكل وانهم متفقون في ذلك، (اللهم)
إلا أن يدعى ان اتفاق أرباب التصنيف على الخطأ أيضا لا يمكن وهو
كما ترى (وأما عدم الكبرى) فمن جهة أن اللازم على الله لطفا إرسال
الرسل وإنزال الكتب وقد فعل وعليهم صلوات الله عليهم تبليغ
الاحكام، وأما اختفاء بعض تلك الأحكام على الأمة ووقوعهم في
الخطأ وخلاف الواقع لجهات راجعة إليهم ليس منافيا مع اللطف.
(الثالث) تراكم الظنون بالآخرة تنتهي إلى القطع بمعنى أن من فتوى كل
واحد منهم يحصل الظن بحكم الله الواقعي فإذا كثروا فمن تراكم
تلك الظنون يحصل القطع بالحكم الواقعي الصادر عن الإمام عليه السلام
(وفيه) أنه من الممكن أن لا يصل جميعهم إلى الحكم
الواقعي، و
مع هذا الاحتمال كيف يحصل القطع بان ما اتفقوا عليه هو حكم الله
الواقعي؟.
(الرابع) الحدس برأيه عليه السلام من جهة الملازمة العادية بين اتفاق
جماعة كثيرة من أرباب الفتاوى وبين رأيه ورضاه صلوات الله
عليه وذلك من جهة ان المجمعين مع اختلاف سلائقهم في التمسك
بالعقليات وفي التعبد بالرجوع إلى الاخبار وعدم الاعتناء بالعقليات
والاستحسانات والظنون الحاصلة من الأدلة العقلية، ومع ذلك اتفقوا
على حكم وليس في البين مدرك من آية أو رواية يمكن أن يكون
اعتمادهم واتكاؤهم عليه وليس أيضا مدركا عقليا في المسألة،
فيحدس الانسان حدسا قطعيا بأن هذا الاتفاق حصل لهم في هذا
الحكم
من جهة كون هذا هو رأي رئيسهم فيكون
88

اتفاقهم سببا لاثبات كون هذا هو رأى الإمام عليه السلام ورأيه مسبب
منكشف، هذا في عالم الاثبات وفي عالم الثبوت يكون الامر
بالعكس أي يكون الاتفاق مسبب ورأى الإمام عليه السلام سبب و
علة لحصول هذا الاتفاق، والناقل للاجماع ان كان هذا مسلكه في
تحصيل الاجماع فيكون نقله للحكم عن الإمام عليه السلام خبرا
حدسيا ولا يكون مشمولا لأدلة حجية خبر الواحد كما تقدم (اللهم إلا
ان
يقال) انه حدس قريب من الحس كما أنه ليس ببعيد لان اتفاقهم
المحسوس من الآثار الظاهرة واللوازم البارزة لرأيه عليه السلام ك آثار
المحسوسة الظاهرة للعدالة والاجتهاد، ولذلك تقبل شهادته بهما.
(الخامس) كشفه عن دليل معتبر عند الكل، وهذا الكشف القطعي لا
يحصل لمحصل الاجماع الناقل له إلا بعد ما لم يكن في البين مدرك
يمكن استنادهم إليه، كما تقدم في الامر الرابع.
ثم إن نقل الاجماع على هذا الوجه أيضا يكون من القسم الخبر
الحدسي إلا أنه يجي فيه أيضا التقريب المتقدم في الامر الرابع من
كونه
حدسا قريبا من الحس، لكون اتفاق هؤلاء من الآثار الظاهرة واللوازم
البارزة للدليل المعتبرة عند جميعهم، وليس هو الا رأى الإمام عليه السلام
، لأنه لو كانت - هناك رواية معتبرة عند الكل من حيث
الصدور والظهور وجهة الصدور، أو آية صريحة الدلالة أو دليل
عقلي صريح بحيث يعتمد عليه الكل - لما خفي ذلك على المنقول
إليهم حتى يكون في استكشاف وجوده محتاجا إلى إجماع المنقول
(نعم) لو لم يكن في البين شي مما ذكر، فلا طريق إلى استكشاف رأى
الإمام عليه السلام إلا هذا الاجماع (وقد ظهر) مما ذكرنا أن هذا
الوجه ليس أمر آخر غير الوجه الرابع وأن كلا الوجهين واحد.
89

ثم إن الناقل (تارة) ينقل السبب أي الاتفاق الكاشف عن رأي الإمام عليه السلام
ورضائه (وأخرى) ينقل المسبب أي نفس رأيه ورضاه و
ما قلنا انه من القسم الخبر الحدسي هو فيما إذا كان نقله من القسم
الثاني وأما إذا كان من القسم الأول فهو خبر حسي.
اللهم إلا أن يكون اخباره عن نفس الاتفاق أيضا حدسيا لوجود قاعدة
أو أصل عنده أو أي دليل آخر، فيزعم حجية ما ذكر عند الكل
فيحدس الاتفاق بما يزعم أنه مضمونه، فينقله، وهذا القسم - من
الاجماع المنقول الذي لا يكون الاخبار عن نفس الاتفاق فيه أيضا
حسيا -
لا فائدة فيه أصلا.
وأما لو كان نقل الاتفاق حسيا فيثبت به مقدار ما يحتمل في حق الناقل
من الاطلاع على الأقوال، وهذا يختلف بحسب الناقلين وكثرة
تتبع بعضهم وقلته بالنسبة إلى بعض الاخر، بل ربما يختلف حال
شخص واحد بالنسبة إلى كتبه، بل بالنسبة إلى أبواب كتاب واحد
فربما يكون بناؤه على التتبع في باب ومسألة دون باب آخر ومسألة
أخرى، وبعد ما ثبت - مقدار ما يحتمل في حق الناقل من الاطلاع
على الأقوال عند المنقول إليه لكونه خبرا حسيا صادرا عن العادل -
يكون ذلك المقدار كأنه هو رآه وحصله فان كان عنده أيضا مثل
الناقل ملازمة بين ذلك المقدار من الاتفاق ورأى الإمام عليه السلام
فيأخذ به، وإلا فله أن يحصل تتميم ما نقص بالسعي في التتبع و
وجدان أقوال وفتاوى آخرين موافقة مع ما نقل.
ولا يخفى ان ما يحصله حينئذ يجب ان يعلم أنه غير ما حصله الناقل
حتى يكون المجموع سببا كاشفا عن رأي الامام عنده (ومما ذكرنا)
من نقل الاجماع ظهر لك حال نقل التواتر وانه تارة ينقل نفس التواتر
حدسا، و قد ينقل كثرة المخبرين وما هو سبب حصول التواتر
حسا (فالأول) من القسم الخبر الحدسي وليس مشمولا لأدلة حجية
خبر الواحد (والثاني) خبر حسي
90

يثبت به ما يحتمل في حق الناقل من الاطلاع على المخبرين، فان كان
ذلك المقدار كافيا عند المنقول إليه في إثبات التواتر فهو والا
يحصل ما نقص ويضمه إلى ما يحتمل في حق الناقل بالشرط المتقدم
في إجماع المنقول وهو العلم بان ما حصله غير ما حصله الناقل.
في حجية الشهرة
ومما قيل بخروجه عن تحت أصالة حرمة العمل بالظن الشهرة و
المراد بها الشهرة الفتوائية فان الشهرة الروائية والعملية أجنبية عن
مقامنا (لان الأول) عبارة عن اشتهار الرواية بين أرباب الحديث ونقلها
في كتبهم وتكون من المرجحات عند تعارض الخبرين، كما
هو مذكور في المقبولة والمرفوعة كما سيجئ (والثاني) عبارة عن
عمل المشهور بالرواية أي فتواهم مستندا إلى تلك الرواية وتكون
جابرة لضعف الرواية خصوصا إذا كانت عند القدماء، وذلك من جهة
حصول الوثوق بالصدور الذي هو موضوع الحجية من عملهم، كما
أن إعراضهم عن العمل بها يكون كاسرا لقوتها حتى قيل (كلما ازداد
صحة ازداد وهنا).
وأما الشهرة الفتوائية فهي عبارة عن فتوى المشهور بحكم سواء كانوا
متفقين في المدرك أو كانوا مختلفين فيه، وهذا أيضا قد تكون
بين القدماء وقد تكون بين المتأخرين (والحق) أن الشهرة الفتوائية بين
القدماء أيضا تكون كالشهرة العملية بينهم جابرة لضعف السند
إذا لم يكن هناك رواية أخرى أو آية يمكن أن تكون مدركا لفتواهم، و
ذلك من جهة تعبد القدماء بالعمل بالاخبار وعدم الاعتناء
بالأدلة العقلية والاستحسانات، فلا بد وأن يكون مدركهم تلك الرواية
الضعيفة وان لم يصرحوا بذلك ولم يستندوا إليها، فملاك -
جابرية هذا القسم من الشهرة الفتوائية مع الشهرة العملية -
91

واحد بل هذا أيضا بالبيان المتقدم يمكن ان يعد من الشهرة العملية.
ثم إنهم استدلوا على حجية الشهرة الفتوائية (تارة) بما في المقبولة من
قوله عليه السلام (فان المجمع عليه لا ريب فيه) إذ ليس المراد من
هذا الكلام هو الاجماع المصطلح بقرينة قوله عليه السلام فيها (و
يترك الشاذ النادر) فلا يكون المراد به إلا الشهرة ونفي الريب عن
الشهرة معناه حجيتها.
وفيه انه في مقام ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى عند التعارض
بواسطة اشتهارها وترك الأخرى الشاذ النادر فيكون أجنبيا عن
الشهرة الفتوائية وحجيتها.
هذا مضافا إلى أن نفي الريب هاهنا ليس المراد به نفي الريب بقول
مطلق لوجود الريب قطعا وإلا لم يكن موردا للسؤال، بل المراد به
نفي الريب بالنسبة إلى ما يقابله من الخبر الشاذ النادر، ومثل هذا
المعنى ليس قابلا لان يكون علة سارية لوجوب الاخذ في جميع
الموارد للقطع بعدم حجية بعض ما يكون الريب فيه أقل بالنسبة إلى ما
يقابله، فان خبر الفاسق المتحرز عن الكذب يكون الريب فيه أقل
بالنسبة إلى ما يقابله من خبر الفاسق الكذاب، وكلاهما ليسا بحجة (و
أخرى) بما في المرفوعة من قوله عليه السلام (خذ بما اشتهر بين
أصحابك) (وفيه) أيضا ان المراد من الموصول الخبر المشهور رواية
مقابل الخبر الشاذ النادر، فلا يدل إلا على كون الشهرة الرواية
مرجحا عند التعارض (وثالثة) بأقوائية الظن الحاصل من الشهرة
الفتوائية بالحكم الشرعي من الظن الحاصل من خبر الواحد فتكون
الشهرة حجة بطريق أولى (وفيه) ان هذا يتم بعد تسليم الصغرى لو
كان مناط حجية الخبر الواحد هو حصول الظن منه بالحكم الشرعي
وحينئذ لا اختصاص بحجية الشهرة بل يدل على حجية كل ظن يكون
في مرتبة ذلك الظن أو
92

منه وأما لو كان مناط حجيته ورود الدليل عليها كما هو كذلك فلا (و
رابعة) بما في ذيل آية النباء من التعليل بقوله تعالى: (أن تصيبوا
قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) ومعلوم ان العمل بالشهرة
ليس فيه مثل العمل بخبر العادل جهالة وسفاهة وفعل ما لا
ينبغي (وفيه) ان الآية تدل عدم حجية كل ما فيه جهالة وسفاهة لا
حجية كل ما ليس فيه جهالة وسفاهة.
حجية الخبر الواحد
ومما قيل بخروجه عن تحت أصالة حرمة العمل بالظن خبر الواحد
أي الخبر غير المقطوع الصدور ولا شك في أن البحث عن حجيته
بحث عن مسألة أصولية بل هي أعظم مسألة في علم الأصول إذ يدور
عليها رحى الاستنباط وقد تقدم سابقا مناط كون المسألة أصولية و
انه وقوعها كبرى في قياس يستنتج من ذلك القياس الحكم الكلي
الإلهي الفرعي، ومعلوم ان أغلب الأحكام الشرعية الفرعية يستنبط
من
الخبر الواحد بحيث لو لم يكن حجة ينسد باب العلم والعلمي إلى
معظم الاحكام بل لا بد من العمل به والاخذ بمضمونه ولو قلنا بلزوم
الاخذ بمطلق الظن من باب تمامية دليل الانسداد، وذلك من جهة ان
حصول الظن بمعظم الأحكام الشرعية لا يمكن إلا به فالعمل بالاخبار
الآحاد الموجودة في الكتب المعتبرة التي لم يعرض عنها الأصحاب
لازم ومتعين على كل حال وانما الاختلاف في مدرك لزوم العمل
على طبقها فطائفة تقول بلزوم العمل على طبقها لأنها قطعية الصدور و
أخرى تقول من باب تمامية دليل الانسداد وحصول مطلق الظن
منها، والحق انه يجب العمل بها من جهة قيام الأدلة على حجيتها
بالخصوص ثم إن استنباط الأحكام الشرعية منها متوقف على أربعة
أمور كونها
93

ظاهرة وحجية ذلك الظهور وأصالة جهة الصدور وأصالة الصدور.
(أما كونها ظاهرة) في معنى وتشخيص الظاهر من غير الظاهر فقد
تقدم شطر مهم من أسبابها ومواردها في مباحث الألفاظ (وأما
أصالة الظهور) فقد تقدم ان عليها بناء العقلا (وأما أصالة جهة
الصدور) فهي أيضا كأصالة الظهور أصل عقلائي، إذ بناء العقلا قاطبة
على أن كل متكلم في مقام المحاورة والافادة والاستفادة يريد ما هو
ظاهر كلامه (وأما أصالة الصدور) أي التعبد بصدور هذه
الروايات وإلغاء احتمال تعمد الكذب فهو الذي يكون محل البحث
في هذا المقام فطائفة يثبتونها ويقولون بحجيتها وأخرى ينفونها و
يقولون بعدم حجيتها.
حجة النافين الأدلة الأربعة
(الأول) العقل
من المحاذير الملاكية والخطابية وقد تقدم مع أجوبتها
(الثاني)
الآيات الناهية عن العمل بغير العلم وان الظن لا يغنى من الحق شيئا،
فإنها تنفي جواز العمل بالخبر الواحد لأنه من مصاديق ما ليس لك
به علم ومما يوجب الظن فلا يغني من الحق شيئا.
وفيه ان تلك الآيات - على فرض تسليم دلالتها على عدم حجية
أخبار الآحاد في الاحكام الفرعية وعدم اختصاصها بأصول العقائد
تكون مخصصة بالأدلة الدالة على حجية خبر الواحد بل تلك الأدلة
تكون حاكمة عليها بناء على ما هو الحق في وجه حجيتها من تتميم
الكشف وان الشارع جعلها علما تعبدا فيكون خبر الواحد بعد ما دلت
تلك الأدلة على أنه علم تعبدي خارجا عن موضوع تلك الآيات
تعبدا وهذا هو معنى الحكومة فلا تلاحظ النسبة بين الآيات الناهية
عن العمل بغير العلم وعن اتباع الظن وبين تلك الأدلة لعدم ملاحظة
النسبة بين الحاكم وبين المحكوم بل دليل الحاكم مقدم على
المحكوم على كل حال لارتفاع موضوع دليل المحكوم بدليل
94

الحاكم ودليل المحكوم لا نظر له في إثبات موضوعه إذ الحكم لا
يثبت موضوعه وبعد ارتفاع موضوع دليل المحكوم بدليل الحاكم و
لو تعبدا لا يبقى مجال لمعارضة دليل المحكوم مع دليل الحاكم (بل
ربما يظهر) من كلام شيخنا الأستاذ (ره) ان سيرة العقلا التي هي
إحدى الأدلة على حجية الخبر الواحد تكون واردة على الآيات، إذ
بعد قيام السيرة على حجية الخبر الواحد يخرج عن موضوع عدم
العلم
والظن حقيقة لا انه خروج تعبدي فقط.
ولكن أنت خبير بعدم تمامية هذا الكلام من جهة ان قيام السيرة على
حجية ظن لا يجعل غير العلم علما حقيقة لان الجعل التشريعي لا
يغير الشئ تكوينا وغاية ما يمكن ان يقال ان الشارع جعل ذلك الظن
في عالم الاعتبار التشريعي علما وهذا هو المراد من تتميم
الكشف، ومعلوم ان هذا الجعل لا يوجب إلا حكومة السيرة القائمة
على حجية الخبر الواحد على الآيات الناهية لا ورودها عليها بل
يمكن
إنكار كونها حاكمة أيضا عليها من جهة توقف حكومتها عليها على
عدم ردعها بها ويمكن كون الآيات رادعة عنها في الرتبة السابقة
على حكومتها المتوقفة على حجيتها المتوقفة على عدم ردعها بها و
مما ذكرنا ظهر لك فساد احتمال تخصص الآيات بالسيرة بان يقال
بان قيام السيرة على حجيتها يكشف عن أن خبر الثقة علم عادي
عندهم يوجب اطمئنان النفس وركونها إلى مؤداها فخبر الثقة عند
العقلا خارج عن موضوع الظن وعدم العلم حقيقة من دون احتياج
إلى جعل شرعي في البين - وذلك من جهة ان ادعاء ان قيام السيرة
يكشف عن أن خبر الثقة خارج عن موضوع عدم العلم والظن حقيقة
من دون جعل شرعي في البين دعوى بلا بينة ولا برهان.
ثم انه ظهر مما ذكرنا عدم صحة الاستدلال على عدم حجية الخبر
الواحد بعموم التعليل في ذيل آية النباء أعني قوله تعالى (ان تصيبوا
قوما
95

بجهالة) بان يقال ان هذا التعليل مشترك بين خبر الفاسق والعادل و
ذلك من جهة انه لو سلمنا اشتراك التعليل بينهما - كما أفاد أمين
الاسلام الطبرسي (ره) ولم نقل ان المراد من الجهالة السفاهة وفعل ما
لا ينبغي صدوره عن العاقل فلا يكون مشتركا بينهما كما هو
واضح - يكون المفهوم حاكما على عموم التعليل بالبيان المتقدم، و
هو ان المفهوم يجعل الخبر الواحد علما تعبدا فيكون خارجا عن
موضع الجهالة تعبدا وهذا معنى الحكومة.
(الثالث الاجماع)
وادعاه علم الهدى (ره) حتى جعل العمل بالخبر الواحد مثل العمل
بالقياس ضروري البطلان (ولكن أنت خبير) بان ادعاء الاجماع في
مثل هذه المسألة التي ذهب المعظم إلى خلافه بل العقد الاجماع
على الخلاف وادعاه معاصروه في غاية الوهن.
(الرابع الروايات)
وهي طوائف.
(منها) ما يدل على لزوم أخذ ما علم أنه منهم ورد ما لم يعلم أنه منهم
إليهم كرواية داود بن فرقد (ما علمتم انه قولنا فالزموه وما لم
تعلموه فردوه إلينا) وحيث إن الخبر الواحد لم يعلم صدوره منهم
عليهم السلام فلا يجوز العمل به ويجب رده إليهم (وفيها) ان أدلة
حجية خبر الواحد تكون حاكمة على هذه الطائفة، إذ مفادها ان الخبر
الموثوق الصدور علم تعبدي كما تقدم بيانه في الجواب عن الآيات
الناهية هذا مضافا إلى أنه نفسه خبر واحد فيلزم من حجيته عدم حجية
نفسه.
ومنها ما يدل على عرض الاخبار الصادرة منهم عليهم السلام على
الكتاب فان لم يكن موافقا معه أو لم يجد شاهدا أو شاهدين له فيه أو
كان مخالفا معه فما صدر عنهم أو ليس بحجة وإن كان صادرا، و
مجموع هذه الطوائف من أخبار العرض على الكتاب وان كانت
متواترة ولكن لما كان تواترها إجماليا، إذ ليس هناك معنى واحد في
البين يكون كل هذه
96

الاخبار حاكية عنه حتى يكون التواتر معنويا، وإذا كان التواتر إجماليا
فلا بد من الاخذ بأخصها مضمونا (إذ يكون) هو المقطوع
الصدور والحجية وهو ليس الا الخبر المخالف للكتاب لعدم تخلفه
عن العنوانين الآخرين أي عنوان عدم الموافقة وعنوان عدم وجود
شاهد أو شاهدين له من كتاب الله إذ المخالف غير موافق سواء كان
عبارة عن نفس عدم الموافقة أو كان أمرا وجوديا وكذلك لا يوجد
له شاهد أو شاهدان من كتاب الله وإلا ليس بمخالف فتدل هذه الأخبار
على عدم حجية الخبر المخالف لكتاب الله أو عدم صدوره، و
حيث نعلم بصدور الخبر المخالف بالعموم والخصوص المطلق
إجمالا أو ان المخالف بالعموم والخصوص المطلق لا يعد في نظر
العرف
مخالفا للجمع العرفي عندهم بحمل العام على الخاص، فلا بد من
حمل هذه الأخبار على المخالف بالعموم والخصوص من وجه، أو
على
المخالف بالتباين الكلي وان كان الأخير لا يخلو عن إشكال، لان
الوضاعين والدساسين يعلمون بان الخبر المخالف بالتباين الكلي لا
يقبل منهم فلا يضعون الا المخالف بالعموم والخصوص من وجه و
معلوم ان عدم حجية هذه الطائفة أو عدم صدورها لا يضر بحجية
الطوائف الاخر.
حجة المثبتين أيضا الأدلة الأربعة:
(الأول) الكتاب
واستدل لها ب آيات
منها
قوله تعالى في سورة الحجرات (يا أيها الذين آمنوا إن جأكم فاسق بنبأ
فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)
تقريب الاستدلال بهذه الآية (تارة) من باب مفهوم الشرط (وأخرى)
من باب مفهوم الوصف.
أما الأول بأن يقال أنه تعالى علق وجوب التبين على مجئ الفاسق
بالنبإ فإذا انتفى ذلك وكان الجائي به عادلا ينتفي وجوب التبين فاما
أن يرد
97

ولا يعتنى به أصلا فيلزم أن يكون العادل أسوأ حالا من الفاسق وإما أن
يقبل ويعمل به من غير تبين وهو المطلوب.
ثم إن الاحتياج إلى هذه المقدمة أي لزوم كون العادل أسوأ حالا من
الفاسق في إثبات وجوب العمل بدون تبين يكون بناء على كون
وجوب التبين وجوبا نفسيا أي يكون التبين عن الخبر الفاسق واجبا
سواء كان بصدد العمل به أم كان خارجا عن محل ابتلائه.
وأما لو كان وجوبه وجوبا شرطيا فلا يحتاج إثبات وجوب العمل و
لزوم الاخذ بخبر العادل إلى هذه المقدمة، بل يتم بدونها وذلك
من جهة أن مفاد المنطوق حينئذ ان العمل بخبر الفاسق مشروط
بالتبين فمفهومه أن العمل بخبر العادل يجوز أو يجب من غير تبين و
هو المطلوب، هذا وكون التبين واجبا نفسيا بعيد في حد نفسه إذ لا
مصلحة في التبين لو لم يكن بصدد العمل وغير مناسب مع التعليل
إذ الندم يحصل من ترك التبين مع العمل لا منه فقط وبدون العمل:
واستشكل عليه بان القضية الشرطية هاهنا ليس لها مفهوم، لأنها
سبقت لبيان تحقق الموضوع مثل (إن رزقت ولدا فاختنه) ومثل (إذا
قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) بمعنى أن الجزاء موقوف عقلا على
الشرط، وعند عدمه لا يمكن أن يتحقق وعند انتفائه انتفاؤه
عقلي فيكون من قبيل السالبة المنتفي الحكم والمحمول فيها بانتفاء
الموضوع قهرا وعقلا، لا السالبة المنتفي فيها المحمول مع وجود
الموضوع بواسطة انتفاء ما علق عليه من شرط أو وصف - والضابط
في كون القضية سبقت لبيان تحقق الموضوع هو أن يكون الجزأ
موقوفا عقلا على الشرط لا من جهة جعل الشارع وإناطته به تشريعا
من دون توقف عقلي في البين - وذلك من جهة ان الموضوع
هاهنا وفي هذه القضية هو مجئ الفاسق بالنبإ وقد جعل شرطا
فبانتفائه ينتفي
98

الموضوع عقلا وقهرا وقد جعل شيخنا الأعظم الأنصاري (ره) هذا
الاشكال مما لا يمكن الذب عنه.
ولكن أنت خبير ان ظاهر الآية ان الله تبارك وتعالى في مقام بيان ان
كل خبر ليس مما يجوز العمل على طبقه وترتيب الأثر عليه بل لا
بد وأن ينظر الانسان فيه فان رأى أن الآتي به فاسق فلا يعمل به حتى
يتبين ويثق بصحته ويطمئن بعدم كونه كذبا فبناء على هذا
الموضوع هو طبيعة النبأ الأعم من أن يكون الآتي به فاسقا أو عادلا و
قد علق الحكم بالتبين على كون الآتي به فاسقا فتدل القضية
الشرطية على انتفاء هذا الحكم أي وجوب التبين عن طبيعة النبأ عند
انتفاء الشرط أي كون الآتي به فاسقا.
وبعبارة أخرى الضابط - في كون القضية الشرطية مما سبقت لبيان
تحقق الموضوع وان انتفاء الحكم أعني الجزاء بانتفاء الشرط عقلي
- هو أن لا يكون الموضوع المذكور في القضية محفوظا في كلتا حالتي
وجود الشرط وعدمه، ولا شك في أنه إذا كان الموضوع طبيعة
النبأ لا خصوص النباء الذي جاء به الفاسق وكان مجئ الفاسق به
شرطا فالموضوع باق ومحفوظ في كلتا حالتي وجود الشرط وعدمه
ولا ينعدم طبيعة النبأ بانعدام كون الجائي به فاسقا لامكان وجوده في
ضمن كون الجائي به عادلا فتكون القضية دالة على انتفأ
وجوب التبين عن النبأ عند انتفاء الشرط أي كون الجائي به فاسقا.
أما الثاني أي تقريبه من باب مفهوم الوصف، فبأن يقال ان وجوب
التبين جعل في الآية حكما للنبإ الذي جاء به الفاسق (وبعبارة أخرى)
علق وجوب التبين على كون المخبر متصفا بهذه الصفة أي صفة
الفسق فينتفي بانتفائه. فاما أن يرد ولا يعتني به إذا كان المخبر عادلا
فيلزم أن يكون العادل أسوأ حالا من الفاسق، وإما أن يقبل ويصدق و
هو
99

المطلوب ويجري ما تقدم في مفهوم الشرط من عدم الاحتياج إلى
هذه المقدمة في إثبات المفهوم لو كان وجوب التبين شرطيا لا نفسيا
حرفا بحرف.
واستشكل على هذا التقريب بعدم كون القضية الوصفية ذات مفهوم
خصوصا في الوصف غير المعتمد على الموصوف كما تقدم في
مبحث المفاهيم.
ثم إن هاهنا إشكالات أوردوها وبعضها مختص بالآية الشريفة، و
بعضها لا يختص بها بل يورد على كل ما يدل على حجية الخبر
الواحد.
(فمن القسم الأول) هو ان المفهوم معارض بعموم التعليل، وذلك من
جهة اشتراك التعليل بين خبر العادل والفاسق، فكما ان العمل بخبر
الفاسق يكون عملا بما هو مجهول تحققه وقد يورث الندم فكذلك
العمل بخبر العادل أيضا يكون عملا بالمجهول وقد يورث الندم،
فالتعليل لوجوب التبين عن خبر الفاسق جار في خبر العادل أيضا
بعينه ويكون الترجيح مع عموم التعليل لأقوائية ظهوره وإبائه عن
التخصيص.
وأجيب عنه بأن المفهوم أخص من عموم التعليل لاختصاص المفهوم
بخبر العادل الذي مجهول تحقق مضمونه، إذ لو كان معلوما لا
يحتاج إلى التعبد بوجوب التصديق فهو خارج عن المفهوم والتعليل
عام لكل مجهول فيخصص بالمفهوم كما أنه يخصص بسائر أدلة
الحجج الظنية التي لا توجب العلم (وفيه) أنه مع إن لسان عموم
التعليل آب عن التخصيص كونه مخصصا فرع وجوده وثبوته، وعموم
التعليل مانع عن ظهور القضية في المفهوم ففي الحقيقة يقع التعارض
بين ظهور التعليل في العموم وظهور القضية الشرطية في المفهوم،
وحيث أن ظهور القضية في المفهوم إطلاقي وظهور التعليل في
العموم أقوى فالأخير مقدم ويمنع عن ظهور القضية في المفهوم (و
الجواب الصحيح) هو الذي تقدم في حكومة الأدلة الدالة على حجية
الخبر العادل على الآيات الناهية عن العمل بغير العلم والناهية عن
اتباع
100

الظن (فهاهنا) أيضا بعد ما كان مفاد المفهوم بناء على أن حجية خبر
العادل من باب تتميم الكشف انه علم تعبدا فيكون المفهوم حاكما
على عموم التعليل، يعني أن المفهوم يخرج خبر العادل عن موضوع
عموم التعليل خروجا تعبديا فلا معارضة بينهما حتى يكون عموم
التعليل مقدما على المفهوم لأقوائية ظهوره في العموم ولا يمكن أن
يمنع عموم التعليل عن ظهور القضية الشرطية في المفهوم، لان منشأ
المنع كان هو المعارضة، وعلى تقدير الحكومة لا معارضة في البين.
وبعبارة أخرى لا تلاحظ النسبة ولا قوة الظهور وضعفه بين الحاكم و
المحكوم بل يكون الحاكم مقدما على المحكوم مطلقا سواء كان
أعم من المحكوم أو أخص مطلقا أو من وجه، وسواء كان ظهوره أقوى
منه أو أضعف.
(وأيضا منه) أنه يلزم من كون القضية ذات مفهوم خروج المورد عن
عموم المفهوم وتخصيصه مع أن خروج المورد من العموم مستهجن
بل انطباق العموم عليه يكون بالنصوصية وذلك من جهة أن المورد
أي ارتداد بنى المصطلق من الموضوعات والموضوعات لا تثبت
بخبر الواحد الموثوق الصدور بل ثبوتها أما بالعلم الوجداني أو بالبينة،
وحجية الخبر الواحد مخصوصة بالأحكام، فلو كان لهذه القضية
مفهوم لا بد وأن يستثنى المورد بان يقال صدق العادل إلا في الارتداد
الذي هو مورد هذا العام.
وفيه أن الارتداد ليس مورد نزول المفهوم، بل يكون مورد منطوق
الآية أي مجئ الفاسق بالنبإ وحكمه هو وجوب التبين وهو ينطبق
على المورد والآية سبقت لأجل هذا الانطباق، وأما المفهوم هاهنا
يكون كعام ابتدائي ليس له مورد أصلا، هذا مع أن المفهوم حجة أيضا
بالنسبة إلى الموضوعات التي منها الارتداد غاية الامر يقيد إطلاقه
بضم عادل اخر إليه (و
101

أخرى) كما أنه يجب تصديق العادل في الاحكام كذلك يجب تصديقه
في الموضوعات لكن لا مطلقا بل إذا انضم إليه إخبار عادل آخر.
و (من القسم الثاني) أي من الاشكالات التي لا تختص ب آية النبأ بل
يورد على جميع أدلة حجية خبر العادل معارضة آيات الناهية عن
العمل
بغير العلم واتباع الظن لها، وبعد تساقطها بالتعارض وعدم مرجح في
البين تكون المرجع أصالة عدم الحجية.
وفيه (أولا) ما تقدم من حكومة الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد
على تلك الآيات بناء على أن مفادها تتميم الكشف (وثانيا) أنها
أخص من تلك الآيات فتخصص بها على حسب قواعد العام و
الخاص فيصير مفاد الآيات الناهية - بعد تخصيصها بأدلة حجية خبر
العدل
- لا تعمل بكل ظن إلا الظن الحاصل من خبر العدل.
(ومنها) انه لو كان خبر الواحد حجة لكان إجماع السيد (ره) على عدم
حجية الخبر الواحد أيضا حجة لأنه من مصاديق الخبر الواحد
فيلزم من حجية الخبر الواحد عدم حجيته وما يلزم من وجوده عدمه
فهو محال.
وفيه (أولا) من عدم شمول أدلة حجية خبر الواحد للخبر الحدسي
لان عمدتها السيرة والأدلة اللفظية تقرير وإمضاء لتلك السير، و
قيام السيرة على قبول الخبر الحسي لا الحدسي، نعم قد يقبلون الخبر
الحدسي القريب من الحس وليس خبر السيد (ره) من القسم
الحسي أو الحدس القريب من الحس لأنه ما رأي الإمام عليه السلام
حتى يخبر عنه عن حس وليس هناك ما يوجب كون حدسه قريبا من
الحس بل دعوى - الشيخ (ره) في عصره - الاجماع على الخلاف مما
يؤيد أن إجماعه حدسي لا حسي. (وثانيا) معارض ادعائه الاجماع
بدعوى الشيخ الاجماع على الخلاف فيتعارضان ويتساقطان،
فوجوده كالعدم (وثالثا) أن أدلة اعتبار الخبر الواحد لا يمكن ان تشمل
102

خبرا يلزم من اعتباره عدم اعتبار تلك الأدلة وبحكم العقل تكون
قاصرة عن شمولها لمثل هذا المورد لان الحجة لا يمكن أن تكون
حجة على عدم حجية نفسها، وأيضا يلزم من دخول خبر السيد في
مدلول تلك الأدلة خروجه عنه وهو محال.
(ومنها) عدم شمول أدلة حجية الخبر الواحد للاخبار الحاكية لقول
الإمام عليه السلام بواسطة أو وسائط وتقريبه من وجوه (الأول)
انصراف أدلة الحجية عن الاخبار مع الواسطة بل يكون مفاد صدق
العادل وجوب تصديقه فيما يخبره عن غيره حسا وبلا واسطة.
(وفيه) أولا منع الانصراف، (وثانيا) ان كل لا حق يخبر عن سابقه بلا
واسطة فهناك اخبار بعدد الوسائط كل واحد منها بالنسبة إلى من
يخبر عنه خبر بلا واسطة ودليل الحجية أيضا انحلالي ينحل إلى
قضايا متعددة حسب تعدد الاخبار فقضية صدق العادل مثلا تنحل
إلى
قضايا متعددة ولكل خبر من تلك الأخبار قضية من تلك القضايا
مفادها وجوب تصديق ذلك الخبر دون غيره من سائر الأخبار
فالانصراف لا وجه له.
(الوجه الثاني) ان الناقل لقول الامام بوسائط ليس لما يخبر به أثر
شرعي لأنه لا يخبر إلا ان الواسطة أخبرني بكذا نعم الواسطة الأخير
الذي يخبر عن قول الإمام بلا واسطة لخبره أثر شرعي من حكم
وضعي أو تكليفي ويكون خبره قول الإمام عليه السلام.
(وفيه) انه حيث تنتهي سلسلة الاخبار إلى قوله عليه السلام فلكل
واحد من هذه السلسلة دخل في إثبات قوله عليه السلام الذي له الأثر
الشرعي، وهذا المقدار كاف في صحة التعبد بالشئ ولا يلزم أن
يكون مترتبا على نفس المتعبد به بلا واسطة.
(الوجه الثالث) أنه لا بد من الحكم بوجوب تصديق خبر العادل
103

ولزوم التعبد به ان يكون - في الرتبة السابقة على هذا الحكم - خبر
عدل وجداني أو تعبدي حتى يرد هذا الحكم عليه كما هو الحال
بالنسبة إلى كل حكم وموضوع فلا يمكن أن يكون حكم سببا لتحقق
موضوعه وفيما نحن فيه أي الاخبار الحاكية لقول الإمام عليه السلام
بواسطة أو وسائط فيما عدا - الخبر الذي يخبره الراوي الأول
الذي هو في أول السلسلة ويكون خبره لنا بلا واسطة ويكون
خبره خبرا وجدانيا - يكون اخبارهم اخبار تعبدية يتحقق بنفس هذا
الحكم أي وجوب تصديق العادل ولزوم التعبد بقوله، فيكون هذا
من كون الحكم سببا لتحقق موضوعه الذي هو محال (وبعبارة أخرى)
خبرية اخبار الوسائط ليست وجدانية بل تعبدية محرزة من
ناحية حكمها.
وفيه أن قضية صدق العادل قضية انحلالية تنحل إلى قضايا متعددة
حسب تعدد اخبار العدول سواء كانت تلك الأخبار وجدانية أو
تعبدية فإحدى تلك القضايا ترد على الخبر الوجداني الذي أخبر به
الراوي الأول الذي ليس بيننا وبينه واسطة وأثر التعبد بهذا الخبر
ثبوت خبر تعبدي للراوي الثاني وقضية أخرى من تلك القضايا
الانحلالية ترد على هذا الخبر التعبدي واثره ثبوت خبر تعبدي اخر و
هكذا إلى أن ينتهى إلى ثبوت قول الإمام عليه السلام تعبدا فليس من
قبيل ثبوت الموضوع بنفس حكمه بل من قبيل ثبوت موضوع حكم
بحكم موضوع آخر فلا إشكال فيه.
(الوجه الرابع) هو أنه لا بد في وجوب تصديق العادل والتعبد بقوله أن
يكون لقوله وخبره أثر شرعي كي يرد عليه هذا الحكم أي
وجوب التصديق بلحاظ ذلك الأثر، فلا بد أن يكون ذلك الأثر ثابتا له
في الرتبة السابقة على مجئ هذا الحكم ولا يمكن أن يكون ذلك
الأثر جائيا من قبل نفس هذا الحكم أو يكون هو نفس هذا الحكم وان
كان هذا أيضا أثرا شرعيا له إلا أنه حيث جاء من قبل نفس هذا
الحكم فلا يمكن أن يكون ورود
104

هذا الحكم عليه أي على خبر العادل بلحاظ نفسه وإلا يلزم تقدم
الشئ على نفسه، لما ذكرنا من لزوم وجود أثر في الرتبة السابقة على
هذا الحكم مثلا لو أخبر العادل بعدالة زيد فمعنى وجوب تصديقه
ترتيب آثار العدالة الواقعية لزيد من قبول شهادته والطلاق عنده و
الاقتداء به على هذا الخبر، وأما لو لم يكن لما أخبر به العادل أثر
شرعي غير نفس هذا الحكم أعني وجوب التصديق فورود هذا الحكم
عليه يكون بلحاظ نفسه، وهو محال مستلزم لتقدم الشئ على نفسه،
(وإن شئت قلت) يلزم اتحاد الحكم والأثر الشرعي الذي لا بد منه
أن يكون موجودا في الرتبة السابقة على مجئ الحكم.
وفيه أنه لا يلزم أن يكون المتعبد به تمام الموضوع للأثر الشرعي بل
يكفي أن يكون له مدخلية في الحكم الشرعي، غاية الامر أن الخبر
- الذي يخبر عن الإمام عليه السلام وهو في انتهاء السلسلة - يكون
تمام الموضوع للأثر الشرعي، وغيره يكون له مدخلية في ثبوت
ذاك الذي موضوع للأثر فبالاخرة كل واحد من الوسائط من أول
السلسلة إلى انتهائها له مدخلية في إثبات ما له الأثر وهذا المقدار
كاف في صحة التعبد وعدم كونه لغوا ولا يحتاج إلى كون المتعبد به
تمام الموضوع للأثر.
وفيه انه يمكن أن يقال بعد ما عرفت بأن قضية صدق العادل قضية
انحلالية فإحدى تلك القضايا موضوعها الخبر الأخير الذي يروى عن
الامام بلا واسطة ويكون التعبد به ووجوب تصديقه بلحاظ الآثار
المترتبة على قول الإمام عليه السلام فكما ان الآثار الشرعية المترتبة
على قول الإمام كانت أثرا شرعيا لوجوب التصديق في هذا الخبر
الأخير فكذلك نفس وجوب التصديق الذي جاء باعتبار تلك الآثار
يكون أثرا شرعيا لوجوب تصديق آخر العارض على الخبر الذي هو
بعد هذا الخبر وهكذا إلى أن ينتهي الامر إلى أول السلسلة، فالخبر
الأخير حيث أنه له الأثر غير وجوب
105

التصديق يرد عليه وجوب التصديق بلحاظ ذلك الأثر، ولكن نفس
وجوب التصديق الذي حكم للخبر الأخير صار أثرا شرعيا للحكم
بوجوب التصديق بالنسبة إلى الخبر الذي قبله كما بينا في وجوب
التصديق الذي كان موضوعا لوجوب تصديق آخر.
فالجواب عن اتحاد الحكم والأثر هو الجواب بعينه عن اتحاد الحكم
والموضوع، والفرق بينهما أن في طرف الموضوع يكون الموضوع
في أول السلسلة وجدانيا وغير متحقق من قبل الحكم وفي طرف
الأثر يكون الأثر في آخر السلسلة أي الخبر عن الامام بلا واسطة غير
متحقق من قبل الحكم، لان الأثر المترتب على قوله عليه السلام يكون
شيئا آخر غير وجوب التصديق فلا يلزم اتحاد الحكم والأثر الذي
بلحاظه يرد الحكم.
(الوجه الخامس) هو أنه لا شك في حكومة أدلة اعتبار الامارات و
الأصول على أدلة الاحكام الواقعية حكومة ظاهرية وفي مرحلة
الاثبات، بمعنى أنها تثبت أو تنفي تلك الأحكام ظاهرا فتكون
حكومتها عليها حكومة في جانب المحمول بالتوسعة والتضييق، و
لكن
إثباتيا وظاهريا لا ثبوتيا وواقعيا فإذا كان الحكم الشرعي لخبر الشيخ
مثلا هو وجوب تصديقه في ذلك الخبر ودليله هو صدق العادل
وحيث أن صدق العادل هو دليل اعتبار الخبر الواحد الذي هو من
الامارات فيكون حاكما على أدلة الأحكام الشرعية التي من جملتها
نفس صدق العادل، فيلزم أن يكون صدق العادل حاكما على نفسه و
هو محال لان الحاكم يرفع أو يثبت موضوع دليل المحكوم أو
محموله والشي لا يمكن أن يرفع أو يثبت موضوع نفسه أو محموله
كذلك وفيه ما ذكرنا في الوجه الثالث والرابع من أن قضية صدق
العادل انحلالية حسب تعدد اخبار الآحاد، ففي كل خبر وجوب
تصديق العادل غير وجوب التصديق في الخبر الاخر فليس الحاكم و
المحكوم قضية واحدة
106

وبهذا أجبنا عن الاشكال في حكومة الأصل السببي والمسببي إذا كان
لهما دليل واحد كاستصحاب السببي والمسببي الذين كلاهما
مفاد (لا تنقض اليقين بالشك)، وقلنا أن هذه القضية تنحل إلى قضايا
متعددة حسب تعدد الاستصحابات فكل واحد من الاستصحابين
مفاد قضية من هذه القضايا غير ما يكون الاخر مفادا لها فدليل الحاكم
غير دليل ما هو المحكوم ولا يكون دليل واحد من حيث إنه حاكم
رافع أو مثبت لموضوع أو محمول نفسه من حيث أنه محكوم،
ومن جملة الآيات
قوله تعالى (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و
لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) تقريب الاستدلال
بهذه الآية الشريفة أن التحذر جعل غاية للانذار الواجب لظهور الامر به
في الوجوب وغاية الواجب إذا كانت من الأفعال الاختيارية
واجبة، وأما كون التحذر غاية فمستفاد من كلمة لعل لأنها ظاهرة أبدا و
دائما في أن ما بعدها علة غائية لما قبلها كما هو ظاهر من
موارد استعمالها، ولا فرق في ذلك بين أن يكون ما قبلها من الأمور
التكوينية أو من الأمور التشريعية وأما أن غاية الواجب واجبة إذا
كانت فعلا اختياريا فمن جهة أن المطلوب بالذات هي الغاية وذي
الغاية يكون مطلوبا بالعرض، فلا يمكن أن يكون ذي الغاية مطلوبا
بالطلب اللزومي ولا تكون الغاية كذلك مع أنها فعل اختياري لا مانع
من تعلق الطلب بها.
ثم أن الظاهر من التحذر هو التحذر الخارجي ومن حيث العمل، كما
أن الظاهر أن العموم في قوله تعالى (ليتفقهوا) وفي (ولينذروا) و
في (لعلهم يحذرون) استغراقي لا مجموعي فينتج أنه يجب التحذر و
العمل على كل شخص عقيب إنذار كل منذر سواء حصل من قوله
العلم أم لا، وهذا معنى حجية إخباره ولزوم قبول قوله (فلا يرد عليه)
أن الآية وإن دلت على وجوب التحذر عند ثبوت الانذار إلا أنه لا
إطلاق لها بالنسبة إلى كلتا حالتي
107

حصول العلم وعدم حصوله عقيب الانذار فيمكن أن تكون مخصوصا
بصورة حصول العلم فقط (لأنه) لو أنكرنا الاطلاق في هذه الآية
فيمكن إنكار جميع الاطلاقات فينسد باب التمسك والاستدلال بها،
هذا مضافا إلى أن حمل وجوب العمل والتحذر على صورة حصول
العلم - من قول المنذر بالحكم الشرعي مع كون العام استغراقيا و
وجوب التحذر عقيب إنذار كل منذر - حمل على الفرد النادر لعدم
حصول العلم غالبا من قول منذر واحد واخباره.
وأما ما أورد عليه بأن وجوب التحذر ولزوم العمل على طبق قول
المنذر يكون بعد إحراز أن إنذاره بما تفقه في الدين وبالاحكام
الدينية، ومع الشك في ذلك يكون التمسك به تمسكا بالعموم في
الشبهات المصداقية لنفس العام ومعلوم أنه لا يجوز.
ففيه أنه بعد استكشاف حجية قول المنذر من وجوب التحذر وجعله
غاية للانذار الواجب يكون نفس اخباره محرزا لما أخبر، إذ بناء
على ما تقدم من أن حجية الامارات من باب تتميم الكشف يكون كل
أمارة مثبتة لمؤداها ومحرزة له وبمنزلة العلم به فنفس اخبار
المنذر بشي انه من الدين يثبت انه من الدين وهو مما تفقه به.
وأما ما أورد عليه بان لفظ الانذار ظاهر في الوعظ والتخويف من
العقاب الأخروي على فعل المحرمات أو ترك الواجبات ولا ربط له
بباب نقل الروايات (ففيه) أن نقل الروايات - من حيث اشتمالها على
الواجبات والمحرمات يكون متضمنا للانذار والتخويف في ترك
الواجبات وارتكاب تلك المحرمات وادعاء أن لفظ الانذار منصرف
- إلى الانذار الاستقلالي الابتدائي لا الضمني التبعي على فرض
التسليم - يكون انصرافا بدويا لا اعتداد به.
وأما الاشكال عليه بأن نقل الرواية غير التفقه والانذار بما تفقه
فالظاهر من الآية هو حجية قول المجتهد بالنسبة إلى مقلديه ولا ربط
لها
108

بحجية خبر الواحد الذي هو محل الكلام (ففيه) أنه لم يكن فرق بين
التفقه وأخذ الرواية ونقل الفتوى ونقل الرواية في الصدر الأول
خصوصا زمان النبي صلى الله عليه وآله فان الاجتهاد في ذلك الوقت
كان خفيف المئونة وما كان إلا عبارة عما يستظهر من ألفاظ
النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأحكام الشرعية، ولذا كان يصح
أن يقول الشئ الفلاني واجب أو حرام وفهمته من كلامه صلى الله
عليه وآله أو يقول بصورة نقل الرواية أن النبي صلى الله عليه وآله قال
أن الشئ الفلاني واجب أو حرام، فإذا كان الاخبار بما تفقه و
تعلم من أحكام الدين واجب القبول فيشمل حجية قول المنذر في كلتا
الصورتين أي صورة نقل فتواه وصورة نقل الخبر بدون تفاوت
بينهما أصلا.
ومن جملة الآيات
قوله تعالى فاسئلوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون تقريب الاستدلال أن
ظاهر الامر بالسؤال هو وجوبه ووجوبه ملازم مع وجوب القبول
وإلا يكون وجوب السؤال لغوا لأنه لا فائدة في أن يسأل ولا يقبل.
وفيه (أولا) أن الآية وردت في أصول العقائد والمراد بأهل الذكر أهل
الكتاب من علماء اليهود والنصارى والمراد السؤال عنهم عن
علائم النبوة الموجودة في التوراة والإنجيل حتى يحصل العلم له
بنبوته صلى الله عليه وآله فيؤمن، ولا شك في أن الخبر الواحد ليس
حجة في أصول العقائد، هذا على أحد التفسيرين، والتفسير الاخر هو
أن المراد بأهل الذكر هم الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين، فلا ربط
له بحجية الخبر الواحد بالمعنى المصطلح عندنا (وثانيا) يمكن أن
تكون فائدة وجوب السؤال هي حصول العلم بالمسئول منه بواسطة
تعدد السؤال عن أمر واحد، فبالسؤال عن اشخاص متعددة وتراكم
الظنون ينتهي الامر بالآخرة إلى العلم بذلك الشئ، وعلى
109

كل حال يمكن أن يقال أن هذه الجملة - أي جملة فاسئلوا أهل الذكر
بضميمة ذيلها أعني قوله تعالى ان كنتم لا تعلمون - تكون ظاهرة
في أن غاية وجوب السؤال هي حصول العلم بالشئ لأجل العمل به
لا صرف العمل به ولو من غير علم تعبدا كما هو دعوى المستدل
بالآية على حجية الخبر الواحد.
ومن جملة الآيات
قوله تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما
بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)
تقريب الاستدلال بهذه الآية كما تقدم في الآية السابقة وهو أن حرمة
الكتمان ووجوب الاظهار يلازم وجوب القبول وإلا يكون لغوا.
وفيه (أولا) أن الآية وردت ونزلت في أصول العقائد وفي مقام توبيخ
علماء أهل الكتاب وأنهم كتموا ما رأوا في الكتاب من علائم و
شواهد النبي صلى الله عليه وآله، ولا شك في عدم حجية الخبر
الواحد في أصول العقائد بل لا بد فيها من تحصيل العلم لو أمكن (و
ثانيا)
أنه من الممكن أن تكون فائدة حرمة الكتمان ووجوب الاظهار عليهم
هو حصول العلم من قولهم لأجل تعددهم لا العمل بقولهم وان لم
يحصل العلم من أخبارهم (ولكن الانصاف) أنه لو لم يكن ورودها في
أصول العقائد وانه تعالى في مقام توبيخ علماء أهل الكتاب من
جهة إخفائهم شواهد النبوة لما كان وجه لانكار إطلاق الآية وشمولها
لكلتا حالتي حصول العلم من قولهم وعدم حصوله وإلا ينسد
باب التمسك بالاطلاقات.
ومن جملة الآيات
قوله تعالى في سورة البراءة (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو
أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) فإنه تعالى
مدح نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بتصديقه للمؤمنين وقرن
تصديقهم بتصديق الله تعالى وهذا معنى قبول ما أخبروا به والعمل
على
طبقه.
وفيه أن ظاهر الآية هو تصديقهم ظاهرا وعدم إنكار ما أخبروا به
110

وتكذيبهم والانكار عليهم (وبعبارة أخرى) تصديقهم الصوري فيما
ينفعهم ولا يضر غيرهم، وليس المراد التصديق الحقيقي وترتيب
الأثر الواقعي على كلامهم وإن كان يضر غيرهم كما أنه هو معنى حجية
اخبارهم وكونه أذن خبر لهم أيضا بهذا المعنى لا بمعنى سريع
الاعتقاد كما ربما يتوهم، فإنه توهم باطل إذ لازمه انه يقبل قولهم و
يصدق كلامهم واقعا في مقابل الوحي وهذا محال بالنسبة إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ويكون نقصا بالنسبة إليه صلى الله عليه و
آله وسلم.
الثاني مما استدلوا به على حجية الخبر الموثوق الصدور الاخبار
الصادرة عن الأئمة عليهم السلام
وهي على طوائف.
منها الاخبار العلاجية الواردة في مقام تعارض الخبرين فإنها تدل على
وجوب الاخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا مع أن المفروض عدم
القطع بصدورهما أو أحدهما وأيضا تدل بالالتزام على حجية
الروايات المروية عنهم عليهم السلام إن لم يكن معارض في البين (و
بعبارة أخرى) يستفاد من تلك الروايات أن أصل حجيتها مفروغ عنه و
انما الكلام في التعيين أو التخيير عند التعارض.
ومنها الأخبار الواردة في إرجاعهم الناس إلى أصحابهم ورواة
أحاديثهم كإرجاعه إلى زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم الثقفي و
يونس بن عبد الرحمن وزكريا بن آدم القمي وأبو بصير الأسدي وأبان
بن تغلب والعمريان وغيرهم من أمثالهم وأضرابهم (رحمهم
الله) فإنها تدل دلالة واضحة على حجية خبر الثقة (لا يقال) أنها أخبار
آحاد وحجية الخبر الواحد بها دوري لأنها متواترة معنى وإن لم
تكن كذلك لفظا وذلك لان كل هذه الأخبار بصدد بيان معنى واحد و
هو حجية خبر الثقة، فليس من قبيل إثبات حجية الخبر الواحد
بالخبر الواحد بل يكون بالخبر المتواتر معنى.
ومنها ما يدل على عدم جواز التشكيك فيما يروى عنهم ثقاتهم و
يظهر
111

من بعض الروايات أن حجية خبر الثقة كانت أمرا مفروغا عنه عندهم،
وإنما يسأل الراوي عن كونه ثقة أم لا كقوله أ فيونس بن عبد
الرحمن ثقة - أخذ عنه ما احتاج من معالم ديني، فقال عليه السلام
نعم (والحاصل) أن الناظر في هذه الأخبار وأمثالها مما هي موجودة
في الكتب المعتبرة يقطع بحجية خبر الثقة المتحرز عن الكذب.
الثالث مما استدلوا به على حجية الخبر الواحد الاجماع
وتقريبه من وجوه:
(الأول) الاجماع القولي وهو عبارة عن اتفاق أرباب الفتاوى على
حجية خبر الثقة وإفتاء جميعهم بذلك كما ادعاه الشيخ رضوان الله
تعالى عليه في هذه المسألة وخالفه السيد علم الهدى وابن إدريس و
ابن قبة وبعض آخر.
ثم أن مخالفة هؤلاء ليست مضرا بالاجماع المصطلح (أولا) لما تقدم
من أن وجه حجية الاجماع هو حصول القطع عادة بوجود دليل معتبر
عند الكل أو تلقى المجمعين ذلك من الإمام عليه السلام (وبعبارة
أخرى) ملازمة الاتفاق من هؤلاء مع تلقيهم هذا الحكم منه عليه
السلام، و
معلوم أن مخالفة جمع قليل لا يضر بهذه الملازمة (وثانيا) من جهة
حمل كلامهم عدم حجية الخبر الواحد على الاخبار غير نقية السند
المروية عن غير الثقات من أصحاب الأئمة، ولا شك في أنهم كانوا
يعملون بالاخبار الموجودة في الكتب المعتبرة المعتمدة للشيعة و
يستندون إليها في فتاواهم ولا يمكن أن يكون وجه عملهم بها
اعتقادهم بأنها قطعي الصدور وإن صدر هذا الكلام عنهم فلا بد وأن
يكون مرادهم من أنها قطعي الصدور أي الوثوق والاطمئنان النوعي
بصدورها الموجود هذا المعنى في جميع أخبار الثقات، ففي الحقيقة
ليس مخالفا في المسألة حتى يكون مضرا بالاجماع.
نعم هاهنا إشكال آخر وهو أنه مع اختلاف مدرك المجمعين وتمسك
طائفة منهم بالدليل العقلي وأخرى بالأدلة النقلية من الآيات و
الروايات يخرج
112

هذا الاجماع عن كونه الاجماع الاصطلاحي الذي بنينا على حجيته.
(الثاني) الاجماع العملي وهو اتفاق جميع العلماء قاطبة على ترتيب
آثار الحجية على الخبر الموثوق الصدور واستناد فتواهم إليه (و
فيه) ما ذكرنا من الاشكال في الوجه الأول.
(الثالث) سيرة المتدينين بما هم متدينون على العمل بخبر الثقة و
ترتيب آثار الحجية عليه والفرق بين هذا الوجه والوجه السابق هو أن
الوجه السابق كان مخصوصا بالفقهاء والمجتهدين وهذا الوجه يشمل
المجتهدين وغيرهم من قاطبة المتدينين، ثم أنه لو ثبت اتفاق
المتدينين بما هم متدينون وكان هذا الاتفاق متصلا بزمان المعصوم،
فلا شك في كونه كاشفا عن رضاء المعصوم بذلك وإلا عليه أن
يردعهم، ولكن الشأن في ثبوت ذلك وأن عملهم به كان بما هم
متدينون.
(الوجه الرابع) سيرة العقلا على العمل بخبر الثقة فإنهم لا يزال
يعملون بخبر الثقات ويرتبون الأثر عليه وعدم ردع الشارع عن هذه
الطريقة دليل إمضائه لها كما أنه ردع العقلا عن العمل بالقياس في
الأمور الشرعية وشدد النكير عليهم (وبعبارة أخرى) حيث أن
الشارع ما اخترع طريقا خاصا لتبليغ أحكامه بل اعتمد على الطرق
العقلائية وما اعتمدوا عليه فلو كان في نظره أحد طرقهم أو أكثر
غير مرغوب فيه فلا بد من ردعه وتشديد النكير عليه كما فعل في
القياس.
وأما الآيات الناهية عن العمل بالظن وما ليس بالعلم فلا يمكن أن
تكون رادعة عن هذه السيرة لان العقلا - بعد بنائهم على حجية خبر
الثقة وانه علم في نظرهم.
لا يرون الآيات شاملة لها بل يرونها خارجة عن موضوع الآيات فردع
مثل هذه السير لا يمكن بمثل هذه العناوين بل لا بد وأن يكون
بعنوانها
113

الخاص هذا غاية ما يمكن أن يقال في هذا المقام.
ولكنك خبير بأن قيام السيرة على حجية خبر الثقة لا يوجب خروجه
عن كونه من مصاديق الظن وعدم العلم لا حقيقة ولا تعبدا (أما
حقيقة) فواضح (وأما تعبدا) لتوقفه على إمضاء الشارع وهو دوري
(اللهم) إلا أن يقال أن المقصود من الردع هو الارتداع، وحيث لا
يحصل ذلك بمثل هذه العناوين العامة لما ذكرنا فلا بد وأن يصدر
الردع بعنوانه الخاص لا مثل تلك العناوين لئلا يكون لغوا بلا فائدة
فعدم ورود الردع بالعنوان الخاص دليل الامضاء (والحاصل) أن سيرة
المتدينين بما هم متدينون لو تحققت كاشفة عن الامضاء، ولكن
لا صغرى لها وسيرة العقلا وان كانت ثابتة ولكن إثبات إمضائها
بعدم الردع مع وجود الآيات الناهية لا يخلو من إشكال.
الرابع مما استدلوا به على حجية الخبر الواحد دليل العقل
وتقريره من وجوه:
(الوجه الأول) هو العلم الاجمالي بصدور جملة كثيرة من الاخبار
الموجودة في الكتب المعتبرة المشتملة على الاحكام الالزامية الوافية
بمعظم الفقه، بحيث لو علمنا بها تفصيلا يكون باب العلم والعلمي
مفتوحا إلى معظم الفقه، بحيث لا يبقى محذور في إجراء البراءة فيما
عداها ولا يلزم منه الخروج من الدين أو المخالفة القطعية الكثيرة، و
من نظر - فيما نقل من أحوال الرواة وما كتب في تراجمهم و
كثرة اهتمامهم في ضبط الأحاديث وحفظها من دس الداسين -
يحصل له مثل هذا العلم قطعا ولا ينكره إلا أن يكون مكابرا ومقتضى
هذا العلم الاجمالي هو لزوم الاخذ بكل خبر يكون مفاده ومضمونه
حكما إلزاميا.
وفيه (أولا) أن العلم الاجمالي دائرته أوسع مما ذكر من الاخبار
الموجودة
114

في الكتب المعتبرة بل يكون جميع الأمارات الظنية من أخبار الثقات و
الشهرات والاجماعات المنقولة فلو كان هذا الوجه تماما فيجب
الاخذ بجميع الأمارات الظنية لا خصوص خبر الثقة، ولا يتوهم
انحلال هذا العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي الصغير، من جهة
أنه لو
عزلنا - بمقدار المعلوم بالاجمال من أطراف العلم الاجمالي الصغير
أي الاخبار الموجودة في الكتب المعتبرة وضممنا الباقي إلى باقي
الأطراف من العلم الاجمالي الكبير أي سائر الأمارات الظنية من
الشهرات والاجماعات المنقولة - لكان العلم الاجمالي باقيا وهذا
علامة
عدم انحلاله.
نعم ان هاهنا علما إجماليا أكبر ينحل بالعلم الاجمالي الكبير لأنه لو
عزلنا بمقدار المعلوم بالاجمال - عن أطراف العلم الاجمالي الكبير
وضممنا الباقي إلى باقي أطراف العلم الاجمالي الأكبر الذي أطرافه
عبارة عن جميع ما هو مظنون الحرمة والوجوب ومشكوك الحرمة
والوجوب وموهومهما سواء كان من الاخبار أو من سائر الأمارات الظنية
أو من أي سبب آخر - لا يبقى علم إجمالي آخر في البين و
ينعدم وهذا علامة انحلال العلم الاجمالي الأكبر بالكبير.
والمراد بالعلم الاجمالي الأكبر ما كان دائرة احتمال انطباق المعلوم
بالاجمال مطلق مظنون التكليف الإلزامي ومشكوكه وموهومه
سواء كان منشأ هذه الاحتمالات هي الاخبار الموجودة في الكتب
المعتبرة أو سائر الأمارات الظنية أو شي آخر.
والمراد بالعلم الاجمالي الكبير هو ما كان أطرافه خصوص الأمارات الظنية
.
والمراد بالعلم الاجمالي الصغير هو خصوص ما كان أطرافه الموجودة
في الكتب المعتبرة، فالصحيح هو أن العلم الاجمالي الأكبر ينحل
بالكبير وأما الكبير فلا ينحل بالصغير بالعلامة المتقدمة (وثانيا) لازم
هذا الكلام
115

هو لزوم الاخذ بخصوص الاخبار المثبتة للتكليف الالزامية دون
الاخبار النافية لها خصوصا إذا كان في موردها أصلا مثبتا للتكليف
كاستصحاب بقاء حكم شرعي وضعي أو تكليفي إلزامي مع أن الخبر
ينفيه (وثالثا) هذا التقريب على فرض صحته وتماميته لا ينتج إلا
لزوم الاخذ بجميع الاخبار الموجودة في الكتب المعتبرة من باب
حكم العقل بلزوم الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي لا من جهة انها
حجة تخصص بها عمومات الكتاب وسائر الأدلة القطعية كالخبر
القطعي الصدور وتقيد بها إطلاقاتها (والحاصل) أن هذا الدليل على
فرض تماميته وسلامته عن الاشكالات التي أوردوها عليه لا يثبت
الحجية بالمعنى الذي هو محل الكلام والنقض والابرام.
(الوجه الثاني) من وجوه تقريب دليل العقل ما حكى عن صاحب
الوافية بأنه لا شك في تكليفنا بالأحكام الشرعية وخصوصا الواجبات
الضرورية مثل الصلاة والصوم والحج والزكاة وغير ذلك من
الضروريات، ولا شك أيضا في بقاء التكليف بهذه الأمور إلى قيام يوم
القيامة، ومعلوم أن أجزاء هذه الأمور وشرائطها وموانعها لا يثبت إلا
بالخبر الواحد الموجود في الكتب ولو لم يكن حجة وجاز ترك
العمل به لكان تخرج هذه الأمور عن حقائقها وما كنا نعرف ان هذه
الأمور ما هي وهذا ينافي كونها ضرورية وبقاء التكليف بها إلى
يوم القيامة.
وفيه (أولا) أن العلم الاجمالي المدعى في المقام ليست دائرته
منحصرة بما ذكره من الاخبار بل يعلم إجمالا بوجود بيان الاجزاء و
الشرائط والموانع في ضمن جميع الاخبار لا خصوص الاخبار
الموجودة في الكتب المعتبرة المعتمدة للشيعة بل دائرته أوسع من
ذلك و
تكون جميع الأمارات الظنية من أخبار الثقات مطلقا وسائر الاخبار و
الأمارات الظنية من الشهرات والاجماعات المنقولة فيجب
الاحتياط بمقتضى هذا العلم الاجمالي بالأخذ بكل
116

إمارة ظنية تثبت شرطية شي أو مانعيته أو جزئيته لأحد هذه الأمور.
(وثانيا) أن هذا الدليل على فرض صحته لا يثبت إلا لزوم الاخذ
بالاخبار المثبتة للاجزاء والشرائط والموانع لأحد هذه الأمور دون
سائر الأخبار اللهم إلا أن يقال بلزوم الاخذ في غيرها بعدم القول
بالفصل.
(وثالثا) أن هذا الدليل لا يثبت إلا لزوم الاخذ بها من باب الاحتياط لا
الحجية بالمعنى الذي هو محل البحث والكلام، بحيث يكون
مخصصا للعمومات ومقيدا للمطلقات.
(الوجه الثالث) من وجوه تقريب دليل العقل ما ذكره المحقق والشيخ
محمد تقي (ره) في حاشيته على المعالم وهو أن وجوب العمل
بالكتاب والسنة ثابت بالاجماع والضرورة والأخبار المتواترة ولا
شك في بقاء هذا التكليف بالنسبة إلينا أيضا بنفس الأدلة
المذكورة وحينئذ إن أمكن الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم
بالحكم منهما أو الظن الخاص فيجب أن يرجع إليهما على وجه
يحصل
الظن منهما بالحكم الشرعي.
وفيه أنه ان كان المراد من السنة هذه الأخبار الحاكية لقول المعصوم أو
فعله أو تقريره الموجودة في كتب الحديث فوجوب الرجوع
إليها أول الكلام، إلا أن يدعى العلم الاجمالي بصدور كثير منها، وقد
تقدم في الوجه الأول مع جوابه، أو يدعى العلم الاجمالي بوجود
أحكام كثيرة فعلية في مضامينها بحيث يلزم من إهمالها الخروج عن
الدين أو المخالفة القطعية الكثيرة، فهذا يرجع إلى دليل الانسداد
الآتي وسنتكلم فيه مفصلا إن شاء الله وإن كان المراد من السنة نفس
قول المعصوم وفعله وتقريره فوجوب الرجوع إليها وإن كان
كذلك وثابت بالضرورة كما أفاده ولكنه لا ربط له بما هو محل الكلام
من حجية خبر الثقة أو الخبر الموثوق الصدور، هذا تمام الكلام
في حجية الخبر الواحد.
117

وأما حجية مطلق الظن فقد أقاموا عليها أدلة أربعة.
(الأول)
أن مخالفة - المجتهد لما ظنه من الحكم الإلزامي - مظنة للضرر ودفع
الضرر المظنون لازم ولا معنى الحجية الظن إلا عدم جواز
مخالفته (وقد أجاب عنه) صاحب الكفاية (ره) بعدم تمامية الصغرى
إن كان المراد بالضرر الضرر الأخروي والعقاب، لان الظن غير
المعتبر ليس منجزا وبيانا فيكون العقاب على التكليف المظنون بذلك
الظن عقابا بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان وهو قبيح، وصدور
القبيح منه تعالى محال، ففي مورد قيام الظن الغير المعتبر لا يحتمل
العقاب فضلا عن أن يكون مظنونا وعدم تمامية الكبرى إن كان
المراد بالضرر الضرر الدنيوي لان العقل لا يحكم بلزوم دفع مقطوعه
في بعض الأحيان فضلا عن مظنونه.
ولكن أنت خبير أن الضرر - الدنيوي أيضا إذا كان مظنونا يجب بحكم
العقل - دفعه إذا كان نفسيا (نعم) الضرر اليسير المالي ربما لا
يلتفت إليه العقلا ولا يعتنون به ولذلك ادعى العلامة (ره) الاجماع
على عدم جواز سلوك الطريق المظنون الخطر ولو لم يكن خطرا
في الواقع ويظهر من هذا الكلام أن نفس الظن بالضرر موضوع واقعي
للحرمة لا انه طريق إلى ما هو الموضوع أعني الضرر الواقعي
(فالأولى) أن يقال بعدم تمامية الصغرى في هذا الشق أيضا بمعنى
إنكار أن مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الإلزامي مظنة للضرر، إذ
لا ملازمة بين كون الشئ واجبا وكون تركه ضررا على المكلف أو كونه
حراما وكون فعله ضررا، وذلك من جهة أنه نحن وإن كنا
نقول بتبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد ولكن هذا غير أن
يكون ترك كل واجب أو فعل كل حرام موجبا للضرر على المكلف
بل وجوب كثير من الاشياء يكون للمصلحة النوعية، وهكذا حرمة
كثير منها تكون للمفسدة النوعية فالملازمة المدعاة في المقام ليست
ثابتة
118

أي ليست مخالفة المجتهد لما ظنه من التكليف الإلزامي مظنة للضرر.
وأما ما يقال من أن رفع المفسدة المظنونة أيضا لازم ولو كانت نوعية و
هكذا رفع تلك المصلحة النوعية لازم بحكم العقل (فعلى فرض)
تسليمه أيضا مطلب آخر لا ربط له بهذه الدعوى (مضافا) إلى ما أجاب
عن هذا الاشكال شيخنا الأعظم (ره) بأن الشارع بعد ما رخص -
في ترك مظنون الوجوب وفعل ما هو مظنون الحرمة بواسطة حكمه
بالبرأة في مورد عدم العلم ولو كان ظنا غير معتبر بالتكليف
الإلزامي - فعليه تدارك ما فات من المصلحة في مظنون الوجوب
على تقدير مطابقة الظن للواقع وأيضا تدارك ما وقع فيه من المفسدة
في مظنون الحرمة أيضا على تقدير مطابقته للواقع، ولا شك في أن
الوقوع في المفسدة المتداركة أو ترك المصلحة المتداركة لا يحكم
العقل بلزوم دفعه.
الثاني من أدلة حجية مطلق الظن
أنه لو جاز ترك العمل بالظن فيجوز الاخذ بالوهم الذي هو مقابل
الظن، لان الامر في مورد الظن يدور بينهما وذلك من جهة أنه في كل
مورد تعلق الظن بحكم إلزامي يتعلق الوهم بعدمه ومعنى عدم
الاعتناء بالظن هو ترك العمل على طبق ذلك الحكم الإلزامي، وهذا
هو
عين الجري على طبق عدمه أي العمل على طبق الوهم، وهذا ترجيح
المرجوح على الراجح (وفيه) أن هذا الدليل بعض مقدمات الانسداد
الآتي ذكره فان تم سائر مقدماته ينتج حجية مطلق الظن بمعنى
وجوب العمل على طبقه حكومة أو كشفا أو من باب التبعيض في
الاحتياط وإلا فلا ويرجع في مورده إلى البراءة أو سائر الأدلة التي في
المقام سواء طابق الظن أو الوهم.
الثالث
ما حكى عن السيد المجاهد (ره) من اننا نعلم بوجود واجبات كثيرة و
محرمات كثيرة أيضا في دائرة الشبهات من محتمل
119

والحرمة ومقتضى القاعدة هو الاحتياط بإتيان جميع ما هو مظنون
الوجوب ومشكوكه وموهومه وترك جميع ما هو مظنون الحرمة و
مشكوكها وموهومها ولكنه موجب للعسر والحرج المنفيين في
الشرع، فلا بد من الاخذ بالظن بالتكليف الإلزامي وعدم الاعتناء
بالشك والوهم به (وفيه) أن ما ذكره بعض مقدمات الانسداد الآتي
فيحتاج إلى تمامية سائر المقدمات وإلا فلا ينتج.
الرابع الدليل المعروف بدليل الانسداد
وهو مركب من مقدمات (الأولى) العلم الاجمالي بوجود تكاليف
كثيرة في دائرة المشتبهات ومحتملات التكاليف الإلزامي وقد ترك
شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) هذه المقدمة ولم يذكرها في
جملة المقدمات واعتذر له شيخنا الأستاذ (ره) بأن عد هذه المقدمة
من جملة مدارك المقدمة الثانية عنده أعني عدم جواز إهمال الوقائع
والرجوع إلى البراءة الأصلية أي أصالة العدم - أولى من عدها
مقدمة مستقلة وفي عرض سائر المقدمات لدليل الانسداد (الثانية)
انسداد باب العلم والعلمي إلى معظم الاحكام (الثالثة) عدم جواز
إهمال الوقائع وترك التعرض لها والرجوع إلى البراءة الأصلية وإجرأ
أصالة عدم تكليف المشكوك فيه الإلزامي (الرابعة) عدم جواز
الرجوع إلى الوظائف المقررة للجاهل المختص بالمجتهد الجاهل و
هو الرجوع في كل مسألة إلى الأصل الجاري فيها البراءة و
الاستصحاب والتخيير والاحتياط أو المختص بالعامي وهو التقليد أو
المشترك بينهما وهو الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة
(الخامسة) أن ترجيح المرجوح على الراجح قبيح وهو أن يأخذ
بالمشكوكات والموهومات ويترك المظنونات، ومعلوم أنه لو تمت
هذه
المقدمات لانتجت وجوب العمل على طبق مطلق الظن بالحكم
الإلزامي ولزوم الاخذ به وترك العمل بالمشكوك والموهوم وهو
المدعى في المقام.
120

فنقول (أما المقدمة الأولى) فثبوتها واضحة وغني عن البيان فان كل
مجتهد يعلم علما قطعيا أن أحكام الشريعة والدين ليست منحصرة
بهذه الأحكام القليلة المعلومة تفصيلا خصوصا بعد ما راجع الاخبار
المشتملة على الاحكام الالزامية وفتاوى الفقهاء أيضا كذلك (وأما
المقدمة الثانية) أي انسداد باب العلم والعلمي إلى معظم الاحكام
فبالنسبة إلى انسداد باب العلم إليه أيضا معلوم، لما ذكرنا من قلة
المعلوم بالتفصيل من الاحكام الكثيرة الثابتة في الشريعة، وأما بالنسبة
إلى انسداد باب العلمي إليه فلا، لما تقدم من حجية الخبر
الموثوق الصدور ولو لم يكن الراوي عدلا بل ثقة (وبعبارة أخرى)
تقدم استقرار سيرة العقلا وبنائهم على العمل بالخبر الذي يثقون
بصدوره سواء حصل الوثوق بالصدور من عدالة الراوي أو كونه ثقة أو
من عمل الأصحاب ولو لم يكن الراوي عدلا أو ثقة، ومثل هذا
الخبر كثير واف بحمد الله بمعظم الفقه، لان الأصحاب قديما وحديثا
عملوا بأغلب الاخبار المشتملة على الأحكام الشرعية الموجودة في
الكتب المعتبرة عندهم.
نعم لو كنا نقول بحجية خصوص خبر العدل بل الثقة أيضا لما كان وافيا
بمعظم الفقه والاحكام لقلتهما من جهة أن معنى حجية خبر
العدل أو الثقة كون جميع الوسائط عدلا أو ثقة لا بعضها وذلك من
جهة أن النتيجة تابعة لأخس المقدمات، فلو كان جميع الوسائط عدلا
أو ثقة ما عدا واحد منها فليس ذلك خبر عدل أو ثقة، فيكون خبر
العدل والثقة بهذا المعنى قليلا جدا ولا يفي بمعظم الفقه، فيكون
باب
العلمي منسدا إلى معظم الاحكام، وحيث - لا نقول بذلك ونقول
بحجية الخبر الموثوق الصدور لما ذكرنا من سيرة العقلا وبنائهم على
ذلك وهو واف بمعظم الفقه -، فالمقدمات غير تامة فلا يمكن
تحصيل تلك النتيجة المطلوبة بها أي حجية مطلق الظن فأغلب
المباحث
الآتية التي ذكروها في دليل الانسداد
121

صرف فرض ويكون البحث على تقدير تمامية المقدمات (وأما
المقدمة الثالثة) أي عدم جواز إهمال الوقائع والرجوع إلى البراءة
الأصلية أي أصالة العدم فقد ذكروا لاثباته وجوه.
الأول الاجماع على عدم جواز الاهمال والرجوع إلى البراءة الأصلية و
الاجماع على قسمين تحقيقي وتقديري (والأول) معلوم أي تحقق
الاتفاق بالفعل من الكل أو الجل في مسألة معنونة (والثاني) هو
الاتفاق التقديري في المسألة غير المعنونة عند الأكثر أو في الاعصار
السابقة، والمراد بالاتفاق التقديري هو أن المسألة لو كانت معنونة في
كلامهم لما كان يخالف أحد منهم وفيما نحن فيه الاجماع المدعى
من القسم الثاني لعدم تعنون هذه المسألة في كلام القدماء، نعم لو
كانت المسألة معنونة عندهم لما كان أحد منهم يقول بجواز إهمال
الوقائع وعدم التعرض لها، وهذا هو الاجماع التقديري.
الثاني الخروج عن الدين بمعنى أن التارك - للتعرض للوقائع المشتبهة
والذي يهملها ولا يعتني بها ويجري البراءة الأصلية في جميعها
- يكون في مقام العمل كغير المتدين بهذا الدين وإن كان معتقدا به
لقلة الاحكام المعلومة بالتفصيل في فرض انسداد باب العلم و
العلمي إلى معظم الاحكام، ولا شك أن هذا المعنى مرغوب عنه
شرعا ولا يجوز لمسلم أن يأخذ هذه الطريقة.
الثالث المخالفة القطعية الكثيرة بمعنى أن إهمال الوقائع وعدم
التعرض لها والرجوع إلى البراءة الأصلية - مستلزم لها وذلك يتضح
بأدنى تأمل، لقلة المعلومات بالتفصيل وكثرة التكاليف الالزامية بين
المشتبهات (لا يقال) أن منشأ ذلك هو العلم الاجمالي بوجود
تكاليف كثيرة بين المشتبهات (لان هذا) محذور مستقل ولو لم نقل
بأن العلم الاجمالي منجز للتكليف المعلوم بالاجمال كما تقدم أنه
منسوب إلى المحقق الخوانساري والمحقق القمي،
122

(قدس سرهما) فليس كون المخالفة القطعية الكثيرة محذورا وأمرا
مرغوب عنه شرعا تابعا لتأثير العلم الاجمالي وعدم جريان الأصل
النافي المخالف للمعلوم بالاجمال في أطرافه بل هو بنفسه محذور
عند الجميع وقد صرح به جمع كثير حكى شيخنا الأعظم الأنصاري
(ره) عباراتهم وتصريحاتهم في الرسائل.
الرابع العلم الاجمالي بوجود تكاليف فعلية كثيرة إلزامية في دائرة
المشتبهات وهذا العلم الاجمالي يمنع من إجراء أصالة العدم في
الوقائع المشتبهة والرجوع إلى البراءة الأصلية بناء على ما هو التحقيق
من تأثير العلم الاجمالي في تنجز المعلوم بالاجمال وعدم
جريان الأصل المرخص المنافي مع المعلوم بالاجمال في الأطراف، و
لا يمكن إنكار هذا العلم الاجمالي لان ثبوته في دائرة المشتبهات
من الواضحات ومدارك هذه المقدمة أعني الاجماع التقديري و
الخروج من الدين والمخالفة القطعية الكثيرة كلها ثابتة وكلها دالة على
عدم جواز إهمال الوقائع (نعم) في كون الاجماع دليلا ومدركا كلام و
هو أن الاجماع الذي يكون دليلا ومدركا هو فيما إذا لا يكون
المجمعون متكئين على مدرك، وفيما نحن فيه ليس الامر كذلك لان
بعض من يقول بعدم جواز الاهمال يقول به للعلم الاجمالي و
الآخرون لوجوه آخر، فليس هذا الاجماع من الاجماع الاصطلاحي
في قبال سائر المدارك الثلاثة الأخر.
وأما انه لو فرضنا عدم قولهم بهذه الوجوه ليقولون أيضا بعدم جواز
الاهمال فصرف فرض لا واقع له.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قدس سره) أفاد في المقام أنه باختلاف مدارك
هذه المقدمة تختلف نتيجة مقدمات الانسداد أعني حجية الظن من
حيث الكشف والحكومة والتبعيض في الاحتياط، فمن يقول بأن
مدرك هذه المقدمة هو الاجماع والخروج عن الدين يلزمه أن يقول
بالكشف، ومن
123

يقول بأن المدرك هو العلم الاجمالي، فيمكن أن يقول بالكشف، و
يمكن أن يقول بالتبعيض في الاحتياط.
بيان ذلك أنه لو كان المدرك الاجماع أو الخروج عن الدين فمعناه أن
الشارع لا يرضى بالاهمال فلا بد له أن ينصب طريقا إلى تلك الأحكام
التي موجودة في دائرة المشتبهات وليس المورد مورد
الايكال إلى حكم العقل لان العقل لا يحكم بالاحتياط إلا في مورد
تنجز
الحكم بالعلم الاجمالي، وفي المفروض - حيث أنه ليس علم
إجمالي في البين حسب الفرض لأن المفروض أن المدرك لعدم جواز
الاهمال هو الاجماع والخروج عن الدين لا العلم الاجمالي - فلا
حكم للعقل فلا بد للشارع من نصب طريق وأصل بنفسه أو واصل
بطريقه لان جعل الطريق الغير الواصل بنفسه ولا بطريقه كالعدم ولا
فائدة فيه أصلا، والطريق الواصل بنفسه في تلك الحالة ليس إلا
الاحتياط، لان العقل - بعد ما حكم بأنه على الشارع أن ينصب طريقا
إلى أحكامه الموجودة في دائرة المشتبهات - لا يرى في تلك الحالة
أي حالة انسداد باب العلم والعلمي إلى معظم الاحكام - طريقا
واصلا إلى المكلف بنفسه أي بلا واسطة أعمال مقدمة أخرى إلا
الاحتياط
في جميع المشتبهات فان الاحتياط هو الطريق إلى حفظ الاحكام
الواقعية وملاكاتها بإتيان جميع ما هو محتمل الوجوب وترك جميع
ما
هو محتمل الحرمة، فإذا جاء الدليل على عدم جواز الاحتياط أو عدم
وجوبه يستكشف العقل أن ذلك الطريق المنصوب من قبل الشارع
ليس هو الاحتياط وليس في نظر العقل حينئذ طريقا واصلا إلى
المكلف إلا الظن لان جعل الشئ المجهول طريقا قلنا لا فائدة ولا
ثمرة
فيه، وجعل الشك والوهم ترجيح المرجوح على الراجح، فلا يبقى
إلا الظن فهو طريق واصل بطريقه، أي بعد بطلان كون الاحتياط التام
طريقا بواسطة الدليل على ذلك وبواسطة هذه المقدمة (وأما المقدمة
124

الرابعة) أي عدم جواز الرجوع إلى الوظائف المقررة للجاهل، وهي
ثلاثة التقليد والرجوع في كل مسألة إلى الأصل الجاري فيها و
الاحتياط التام في دائرة المشتبهات بأن يأتي بكل ما هو مظنون
الوجوب أو مشكوكه أو موهومه ويترك جميع ما هو محتمل الحرمة
من
مظنونها ومشكوكها وموهومها وأما احتمال أن تكون المرجع له
القرعة كما ذكره بعض فما لا ينبغي المصير إليه للاجماع على عدم
حجيتها في معرفة الاحكام المجعولة (والأول) أي التقليد لا يجوز لان
عمدة دليل التقليد هو بناء العقلا بل حكم الفطرة على رجوع
الجاهل إلى العالم والأدلة الشرعية أيضا على فرض تماميتها ناظرة إلى
هذا المعنى، ومعلوم أنه في المقام يرى - المجتهد الذي يرى
انسداد باب العلم والعلمي إلى معظم الاحكام - نفسه عالما وغيره
ممن يرى الانفتاح جاهلا ومخطئا فكيف يرجع إليه، وهل رجوعه
إليه إلا رجوع العالم إلى الجاهل عنده وفي نظره (والثاني) أي الرجوع
إلى الأصل الجاري في نفس المسألة، فلا يجوز الرجوع إلى
النافي منها بواسطة العلم الاجمالي بوجود تكاليف إلزامية في مواردها
وإنكار ذلك مكابرة، وأما المثبت منها - أي أصالة الاحتياط في
موارد العلم الاجمالي في نفس المسألة مثل العلم الاجمالي بوجوب
صلاة الظهر أو الجمعة في يوم الجمعة في عصر الغيبة و
الاستصحابات
المثبتة - فلعدم كفايتها لانحلال العلم الاجمالي المتعلق بوجود
تكاليف كثيرة في دائرة المشتبهات والمحتملات من المظنونات و
المشكوكات والموهومات ولو بضميمة ما علم تفصيلا، وذلك لكثرة
التكاليف المعلومة إجمالا وقلة الأصول المثبتة، لان موارد
الاحتياط في نفس المسألة مع موارد الاستصحاب المثبت للتكليف
في الشبهات الحكمية التي هي محل الكلام قليلة جدا بخلاف
التكاليف
المعلومة بالاجمال في دائرة المحتملات فإنها أكثر منها بكثير فلا يبقى
ثمرة الرجوع إلى الأصل الجاري في نفس المسألة ويبقى العلم
الاجمالي بحاله.
125

وأما ما أفاده شيخنا الأعظم الأنصاري (ره) من أن الرجوع إلى الأصول
المثبتة من الاحتياط الشخصي والاستصحاب المثبت للتكليف
يوجب العسر والحرج (فغير تام) لما ذكرنا من قلة مواردهما نعم ما
أفاده يتم في الاحتياط التام الكلي في جميع موارد المحتملات من
مظنون التكليف الإلزامي ومشكوكه وموهومه.
ان قلت أ ليس شيخنا الأعظم يقول بجريان الأصول المثبتة من
الاستصحاب والاحتياط في الموارد الشخصية في فرض انفتاح باب
العلمي بل قاطبة الأصوليين يقولون بذلك فكيف يدعى أنه يلزم من
الرجوع إليها العسر والحرج (قلت) فرق بين صورة الانفتاح و
الانسداد ففي صورة الانفتاح لا يبقى مجال لجريان أغلب الأصول
المثبتة لوجود الدليل أي الخبر الموثوق الصدور على خلافها.
وأفاد صاحب الكفاية (ره) في هذا المقام ان العلم الاجمالي بوجود
تكاليف إلزامية في دائرة المشتبهات ينحل بواسطة جريان الأصول
المثبتة أعني استصحاب المثبت للتكليف وأصالة الاحتياط الشخصي
بواسطة العلم الاجمالي في نفس المسألة كمثال الظهر والجمعة
الذي تقدم منضما إلى ما علم به تفصيلا من الاحكام، فلا يبقى مانع
عن جريان الأصول النافية وأيضا لا يبقى وجه للاحتياط التام في
دائرة جميع ما هو محتمل التكليف الإلزامي فالمقدمة الثالثة أيضا غير
تام.
ولكن أنت خبير أن عدد المعلوم بالاجمال أكثر بكثير من عدد ما يثبت
بالأصول المثبتة منضما إلى ما علم به تفصيلا من الاحكام،
فكيف يمكن الانحلال لان الانحلال متوقف على أن يكون الحكم
المنجز في بعض أطراف العلم الاجمالي بقدر المعلوم بالاجمال
بحيث
يكون انطباق المعلوم بالاجمال عليه محتملا.
126

ثم إن ما أفاده - من أن العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة في
بعض مؤديات الأصول لا يضر بإجراء تلك الأصول ولو قلنا بعدم
إجرائها فيما إذا علمنا بانتقاض الحالة السابقة في بعض أطراف العلم
الاجمالي لمناقضة صدر الدليل مع ذيله في قوله عليه السلام (لا
تنقض اليقين بالشك ولكن انقضه بيقين مثله) - أيضا غير تام، لان ما
يذكر في وجه هذه الدعوى غير تام - وهو انه لا بد من جريان
الاستصحاب أن يكون الشك فعليا ملتفتا إليه حتى يتوجه إليه خطاب
لا تنقض اليقين بالشك وهكذا الامر في جانب اليقين، وفي المقام
ليس كذلك لان استنباط المجتهد للأحكام يكون تدريجيا فهو حين
استنباط حكم ليس متوجها إلى حكم آخر وغير ملتفت إليه فهذا
الاستصحاب الذي يكون هو بصدد جريانه لا يعلم تفصيلا بانتقاض
الحالة السابقة فيه والاستصحابات الاخر ليس فعلا وحال هذا
الاستصحاب ملتفتا إليه وليس متوجها إليه خطاب لا تنقض اليقين
بالشك إلا بالنسبة إلى هذا الاستصحاب وهكذا الامر في سائر
الاستصحابات (وبعبارة أخرى) قضية لا تنقض تنحل إلى قضايا
متعددة بعدد الاستصحابات والمتوجه إلى المجتهد دائما إحدى
تلك
القضايا وهي بالنسبة إلى الاستصحاب الذي يريد أن يجريه وبالنسبة
إلى كل واحد منها حال الاستنباط لا علم له بانتقاض الحالة
السابقة فيه، نعم بعد إجراء الجميع يعلم بمخالفة بعض هذه
الاستصحابات للواقع وانتقاض الحالة السابقة فيه - ووجه عدم
تمامية هذه
الدعوى وعدم تمامية وجهها هو أن المجتهد قبل إجراء هذه
الاستصحابات يعلم بانتقاض الحالة السابقة في في بعض هذه
الاستصحابات التي يجريها، ومع هذا العلم الاجمالي بانتقاض الحالة
السابقة كيف يمكن إجرائها لا من جهة تناقض صدر دليله مع ذيله
كما توهم، لان المراد بقوله عليه السلام (ولكن انقضه بيقين مثله) هو
اليقين التفصيلي بارتفاع الحالة السابقة أو لا وعدم انحصار دليل
الاستصحاب فيه
127

ثانيا، بل من جهة أن التعبد ببقاء الحالة السابقة في الجميع على أنه
متيقن بالبقاء لا يجتمع مع العلم بعدم البقاء في البعض (فتلخص مما
ذكرنا) انه لا يجوز للمجتهد الذي انسد عليه باب العلم والعلمي في
معظم الاحكام أن يراجع في كل مسألة إلى الأصل الجاري فيها كما لا
يجوز أن يقلد غيره ممن يرى الانفتاح.
وأما بطلان الاحتياط التام بأن يأتي بجميع ما هو محتمل الوجوب و
يترك جميع ما هو محتمل الحرمة فالدليل عليه الاجماع أو لا وثانيا
ان هذه المرتبة من الاحتياط ربما يوجب اختلال النظام كما أن
الاحتياط في دائرة المظنونات والمشكوكات دون الموهومات لا
يوجب
اختلال النظام ولكن يوجب العسر والحرج والاحتياط في خصوص
المظنونات لا يوجب شيئا من ذلك فالمرتبة الأولى التي سميناه
بالاحتياط التام لا يجب بل لا يجوز قطعا ولا يحكم به العقل ولا
الشرع لأنه قبيح.
وأما المرتبة الثانية أي الاحتياط في خصوص المظنونات و
المشكوكات فلا يجب إما لدليل نفي العسر والحرج وإما للاجماع.
وأما الاشكال على الأول بان دليل نفي العسر والحرج حاكم على
الأدلة الأولية بمعنى أن الحكم الأولى إذا كان له حالتان إحداهما
حرجية والأخرى غيرها، وأما لو لم يكن كذلك بل كان دائما حرجيا
فلا نظر له إليه وفيما نحن فيه كذلك لان الاحكام الواقعية
المجهولة في دائرة المشتبهات دائما حرجية هذا أولا، وثانيا يمكن أن
يقال أن الاحكام الواقعية المجعولة من قبل الشارع لا حرج فيها و
إنما الحرج نشأ من حكم العقل بالجمع بين المحتملات وليس لدليل
نفي العسر والحرج حكومة على الاحكام العقلية.
فالجواب (أما عن الأول) بأنه يمكن تصوير حالتين للأحكام الواقعية
إحداهما حالة قيام الحجة عليها ووصولها إلى المكلفين والثاني
حالة
128

واشتباهها في دائرة المحتملات التي تكون في هذه الحالة امتثالها
حرجي (وأما عن الثاني) فبان ما يوجب الحرج وإن كان هو لزوم
الجمع بين المحتملات وهو حكم عقلي إرشادي إلا أن هذا الحرج
بالآخرة ينتهي إلى حكم الشارع ويكون تلك الأحكام الواقعية
المجهولة منشأه فلا حرج يرفع تلك الأحكام اما لا مطلقا بل بمعنى انه
يرفعها لو كان في دائرة الموهومات والمشكوكات فيكون حال
دليل نفي العسر والحرج حال دليل الاضطرار فيما إذا اضطر إلى
ارتكاب أحدهما غير المعين في الشيئين الذين يعلم إجمالا بحرمة
ارتكاب أحدهما فكما أن الاضطرار لا يرفع التكليف هناك بالمرة
فكذلك هاهنا دليل نفي العسر والحرج لا يرفع التكليف بالمرة، فإذا
ثبت عدم وجوب الاحتياط التام أو عدم جوازه لاختلال النظام فالعقل
يحكم بتبعيض الاحتياط لا رفعه، وذلك من جهة أن الضرورات
تتقدر بقدرها، وحيث أن الاحتياط في دائرة الموهومات أو
المشكوكات وتركه في دائرة المظنونات ترجيح للمرجوح وهو قبيح.
فلا
مناص إلا عن الاحتياط في دائرة المظنونات دون الموهومات و
المشكوكات، فالعقل بعد تمامية هذه المقدمات يحكم بلزوم العمل
على
طبق الظن من باب التبعيض في الاحتياط.
نعم لو كان هاهنا إجماع على عدم بناء الشريعة على الامتثال
الاحتمالي بل لا بد في مقام الامتثال أن يمتثل الاحكام بعناوينها وبعد
بلوغها إلى الاثبات والاظهار، فحينئذ لا بد من القول بأن العقل من
هذه المقدمات يستكشف بأن الشارع جعل الظن حجة وطريقا إلى
أحكامه المجهولة في هذه الحالة وإلا يلزم التكليف بما لا يطاق، ولا
فرق في استكشاف العقل ذلك من هذه المقدمات على تقدير ثبوت
هذا الاجماع بين ان يكون المدرك لعدم جواز إهمال الوقائع والرجوع
إلى البراءة الأصلية هو العلم الاجمالي بوجود أحكام إلزامية
كثيرة بين المشتبهات أو الاجماع أو الخروج
129

عن الدين أو المخالفة القطعية الكثيرة، ولكن الشأن في إثبات مثل هذا
الاجماع وإن كان يظهر من كلام شيخنا الأعظم الأنصاري (قده)
احتمال ثبوته.
والحاصل أن تقرير الاجماع على عدم وجوب الاحتياط أو عدم
جوازه على وجهين: (أحدهما) قيام الاجماع على عدم جواز الامتثال
الاحتمالي في معظم الاحكام وأن بناء الشريعة على لزوم الاتيان
بالواجبات وترك المحرمات بعنوانهما الخاص وبعد بلوغوهما إلى
مرحلة الاثبات بعلم أو علمي، فبناء على هذا الوجه لا مناص الا عن
القول بالكشف، لان العمل بالظن بغير الكشف لا يخرج عن كونه عملا
بالاحتمال من دون بلوغ الواجب أو الحرام المحتمل إلى مرحلة
الاثبات بعلم أو علمي فينفيه الاجماع ولا فرق في ذلك أي لا بدية
القول
بالكشف بناء على هذا الوجه من تقرير الاجماع بين أن يكون الوجه
في المقدمة الثانية أي عدم جواز إهمال الوقائع أي واحد من الوجوه
الأربعة المتقدمة أي الاجماع والعلم الاجمالي والخروج عن الدين و
المخالفة القطعية الكثيرة، لأنه على جميع التقادير لو لم نقل
بالكشف يكون امتثالا احتماليا منفيا بالاجماع فلا بد من القول
بالكشف (ثانيهما) هو قيام الاجماع على عدم لزوم الجمع أو عدم
جوازه
بين المحتملات بإتيان كل ما هو مظنون الوجوب أو مشكوكه أو
موهومه، وترك كل ما هو مظنون الحرمة أو مشكوكها أو موهومها
فيختلف الامر بالنسبة إلى الكشف وتبعيض الاحتياط بعد الفراغ عن
عدم إمكان ما يسمونه الحكومة في مقام الثبوت، فلا يبقى مجال
للبحث عن إثباته. فلو قلنا أن مدرك عدم جواز إهمال الوقائع هو العلم
الاجمالي فلا بد من القول بتبعيض الاحتياط.
(بيان ذلك) ان مقتضى العلم الاجمالي ومنجزيته التكاليف المجهولة
130

في دائرة المحتملات هو الاحتياط التام بالجمع بين جميع
المحتملات بإتيان كل ما هو محتمل الوجوب من مظنونه ومشكوكه و
موهومه،
وترك كل ما هو محتمل الحرمة كذلك (ولكن) بعد قيام الاجماع على
عدم وجوب ذلك أو عدم جوازه فلا بد من القول بتبعيض
الاحتياط حتى لا يلزم مخالفة الاجماع، ولا وجه للقول بسقوط العلم
الاجمالي حينئذ عن الأثر والتنجيز مطلقا بل يجوز مخالفته في
المقدار الذي أذن الشارع في مخالفته وترك اتباعه.
وأما لو قلنا بأن المدرك لعدم جواز الاهمال هو الاجماع أو الخروج
عن الدين أو المخالفة القطعية الكثيرة لا العلم الاجمالي فليس هناك
حكم من طرف العقل بلزوم الاحتياط في جميع المحتملات أو بعضها
لأن المفروض بناء على هذا انه ليس علم إجمالي في البين أو ليس
بمنجز وإن كان، فحكمه بعدم جواز الاهمال لأحد الوجوه الثلاثة -
ملازم مع جعله طريقا واصلا بالنسبة إلى الاحكام المجهولة وليس
طريقا واصلا بنفسه في البين إلا الاحتياط التام والجمع بين جميع
المحتملات وحيث أن الاجماع قام على عدم وجوبه أو عدم جوازه
(فلا
بد) من جعل التبعيض في الاحتياط طريقا شرعيا لأنه هو الطريق
الواصل في تلك الحال فظهر انه بناء على تقرير الاجماع على هذا
الوجه تكون النتيجة هو تبعيض الاحتياط إما عقلا لو كان مدرك هدم
جواز الاهمال هو العلم الاجمالي أو طريقا شرعيا لو كان المدرك
أحد الوجوه الثلاثة الأخر.
(لا يقال) مقتضى العلم الاجمالي هو الاحتياط التام وحيث أنه مخل
بالنظام فلا يحكم به العقل لقبحه، فمع عدم رفع الشارع يده مع ذلك
عن التكاليف المجهولة فلا بد للشارع إما من جعل الاحتياط فيما
عدي ما يخل بالنظام طريقا شرعيا وإما إيكاله إلى حكم العقل، وهو
يحكم بالتبعيض
131

فيه أي الاحتياط فيما عدي ما يخل بالنظام، وقهرا يكون في دائرة ما
هو مظنون الوجوب والحرمة أو مشكوكهما دون موهومهما لقبح
ترجيح المرجوح على الراجح.
(لأنه يقال) الاحتياط بهذا المقدار وإن لم يكن موجبا لاختلال النظام و
لكنه موجب للحرج فيرفع بقاعدة لا حرج بمقدار رفع العسر و
الحرج فينحصر الاحتياط بدائرة المظنونات دون المشكوكات وذلك
بضميمة قبح ترجيح المرجوح على الراجح.
وأما ما قيل من عدم حكومة قاعدة الحرج على الاحتياط العقلي
(لان) مفاد قاعدة الحرج مثل قاعدة لا ضرر رفع الحكم برفع
موضوعه،
وقد حقق ذلك في محله وليس للاحتياط هاهنا حكم من قبل الشارع
حتى يرفع بهذه القاعدة بل العقل يحكم بالجمع بين المحتملات بهذا
المقدار.
ففيه ان التحقيق في مفاد دليل لا حرج كدليل لا ضرر (ورفع ما
اضطروا إليه وما استكرهوا عليه) أن لها حكومة واقعية في جانب
المحمول بالتضييق بالنسبة إلى الأدلة الأولية المتكفلة لبيان الاحكام
الأولية وتفصيل ذلك في محله فكل حكم حرجي مرفوع بهذا الدليل
ولا شك في أن لزوم الجمع بين المحتملات في مقام الامتثال في
دائرة المشكوكات والمظنونات حرجي فلا بد من ترك الاحتياط في
دائرة المشكوكات والتبعيض في الاحتياط دون ترك المظنونات، والا
يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.
(ان قلت) إن الأحكام الشرعية المجهولة ليست حرجية وإنما الحرج
جاء من قبل الجهل والجمع بين المحتملات بحكم العقل، وإلا كانت
مرفوعة بلا حرج فلم يكن حينئذ مقتضيا للاحتياط لعدم حكم شرعي
مردد بين المحتملات (قلت) ظاهر دليل الحرج حيث إنه في مقام
الامتنان أنه لا يتوجه من قبل الجعل الشرعي حرج على المكلفين، ولا
شك في أن
132

هذا الحرج أي لزوم الجمع بين المحتملات إنما يأتي من قبل جعل
تلك الأحكام المجهولة.
(إن قلت) إذا ارتفعت تلك الأحكام بلا حرج فلا يبقى مقتضيا
للاحتياط (قلت) حال رفع الاحكام هاهنا بلا حرج حال رفع الحكم
فيما إذا
اضطر إلى بعض الأطراف غير المعين في الشبهة المحصورة، حيث إنه
لا يرفع التكليف مطلقا بل يجب الاحتياط بالنسبة إلى الطرف الآخر
فيكون من قبيل التوسط في التكليف أو التنجز كما سيأتي
تفصيله في مبحث الاشتغال إن شاء الله.
وخلاصة الكلام في المقام ان الحكومة بمعنى حكم العقل بحجية
الظن في حال الانسداد بعد تمامية مقدماته المذكورة وانه في هذا
الحال
كالقطع يثبت ما تعلق به ويكون كسائر الامارات والحجج المنجعلة أو
المجعولة، ويترتب عليه آثار الحجة من تقييد المطلقات و
تخصيص العمومات ولو كانت تلك المطلقات والعمومات قطعية
الصدور كالتي في الكتاب العزيز (فهذا) غير ممكن في مقام الثبوت
فلا يبقى مجال للبحث عنه في مقام الاثبات، وذلك من جهة ان
الحجية والطريقية والكاشفية ليست ذاتية للظن في حال من الأحوال
كما
هو واضح، لان الذاتي بكلا معنييه أي: الذاتي الايساغوجي وفي
كتاب البرهان لا يتخلف فلا يمكن أن يختص بحال دون حال فإذا كان
كذلك فلا بد في اتصافه بهذا الوصف من جعل (وحيث) إن العقل
وظيفته الادراك وليس له الاعطاء وجعل شي فحكمه بحجية الظن
بذلك المعنى لا بد وأن يكون مسبوقا بجعل ولا جاعل في البين على
الفرض.
نعم يمكن أن يقال ان العقل يستكشف من هذه المقدمات بعد
تماميتها ان الشارع جعل الظن حجة، لكن هذا هو الكشف لا الحكومة.
فالحكومة بهذا المعنى الذي ذكرنا غير معقول (نعم) يمكن بمعنى
آخر وهو حكم العقل
133

بكفاية الامتثال الظني بعد عدم إمكان امتثال العلمي التفصيلي ولا
الاجمالي المسمى بالاحتياط ولا الظني بالظن المعتبر وذلك من جهة
ان العقل في مقام الامتثال يحكم أولا بالامتثال العلمي التفصيلي أو
بالظن المعتبر عند عدم العلم والحق عندنا خلافا لشيخنا الأستاذ
(قده) ان الامتثال العلمي الاجمالي أي الاحتياط أيضا في عرض
هذين وبعد عدم إمكان هذه الثلاثة وتنجز التكاليف بمنجز يستقل
العقل
بكفاية الامتثال الظني وهذا المعنى هو مراد القائلين بالحكومة في
هذا المقام.
ولكن أنت خبير بأن هذا المعنى لا يتم إلا بأمرين (أحدهما) عدم
جعل الشارع الظن حجة في هذا الحال والا لا تصل النوبة إلى كفاية
الامتثال الظني لامكان الامتثال بالظن المعتبر كما هو واضح (ثانيهما)
عدم إمكان الاحتياط بمراتبه الثلاث أي ما يوجب اختلال النظام
كالاحتياط التام عنى في دائرة المشكوكات والمظنونات و
الموهومات وما يوجب العسر والحرج من دون أن يكون موجبا
لاختلال
النظام كالاحتياط في دائرة المشكوكات والمظنونات دون
الموهومات، وما لا يوجب شيئا من ذلك كالاحتياط في المظنونات
فقط.
ولا يخفى وجود فرق واضح بين العمل بالظن من باب التبعيض في
الاحتياط وبين العمل به من باب حكم العقل بكفاية الامتثال الظني،
فإنه في الأول لا يحتاج إلى حصول الظن بامتثال تلك التكاليف
المعلومة بالاجمال، إذ العقل يحكم بالتبعيض وترجيح الاخذ
بالمظنون
في مقام التبعيض دون المشكوك والموهوم سواء حصل الظن
بالامتثال أم لا بخلاف حكمه بكفاية الامتثال الظني (فان) موضوعة
الظن
بالامتثال (ويمكن) أن يعد هذا وجها لبطلان الحكومة لان العمل
بالظن ليس ملازما مع الظن بامتثال تلك التكاليف المعلومة بالاجمال،
إذ من الممكن أن يكون بعض تلك التكاليف في دائرة المشكوكات بل
الموهومات ولو كان العمل
134

بالمظنونات موجبا للظن بامتثال تلك التكاليف المعلومة بالاجمال
(فلا معنى) لان يكون مشكوكات في البين بل لا بد وأن يكون
الباقي موهومات فقط اللهم إلا أن يدعي ان المشكوكات ليست من
أطراف ذلك العلم الاجمالي بل هي احتمالات بدوية وأطرافه
منحصرة
في المظنونات والموهومات وهو خلاف المفروض في المقام.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قدس سره) أنكر الامر الأول واحتمل أن يكون
الشارع قد جعل الظن حجة في تلك الحالة بما ذكره من ترجيح أن
يكون المدرك لعدم جواز إهمال الوقائع هو الاجماع لا العلم
الاجمالي، وأيضا يكون المدرك لعدم جواز الاحتياط هو الاجماع
(فحينئذ)
بعد تحقق هذين الاجماعين لا مناص إلا عن القول بالكشف وقد
تقدم تفصيل ذلك وما فيه. وأيضا احتمل بل رجح أن يكون الاجماع
على عدم جواز الامتثال الاحتمالي في معظم الاحكام، كما هو لازم
القول بالتبعيض في الاحتياط أو القول بالحكومة (فلا مناص) أيضا الا
عن القول بالكشف سواء أ كان المدرك لعدم جواز إهمال الوقائع بناء
على هذا أو غيره من الوجوه المذكورة هناك وقد تقدم كل ذلك
ونحن أنكرنا ثبوت الاجماع على كلا الوجهين فلا حاجة إلى الإعادة.
وأما الامر الثاني فقد بينا وتقدم انه لا مانع من التبعيض في الاحتياط
بالعمل بالمظنونات فلا تصل النوبة إلى الحكومة بالمعنى الذي
ذكرنا لها أعني حكم العقل بكفاية الامتثال الظني بل النتيجة على
تقدير تمامية المقدمات هو التبعيض في الاحتياط.
135

بقي التنبيه على أمور
(الأول)
في أنه هل نتيجة هذه المقدمات على تقدير تماميتها هي حجية الظن
بالواقع أو الظن بالطريق أو الأعم منهما وجوه وأقوال.
ذهب المحققان صاحب الحاشية وأخوه صاحب الفصول (قدس
سرهما) إلى أن نتيجة هذه المقدمات على تقدير تماميتها هي حجية
الظن
بالطريق دون خصوص الظن بالواقع ولا الأعم منهما.
واستدل صاحب الحاشية (قده) لمطلبه بدليلين (الأول) وتبعه في
ذلك صاحب الفصول أيضا وهو انه كما نقطع بأننا مكلفون بتكاليف
فعلية إلزامية وجوبية أو تحريمية في زماننا هذا (وبعبارة أخرى) نعم
إجمالا بوجود واجبات ومحرمات في الشريعة وليس لنا علم ولا
علمي يعينها كذلك نعلم علما إجماليا بأن الشارع الاقدس جعل لنا
طرقا وافية بها إليها، ونتيجة هذا العلم الاجمالي الثاني هو اننا فعلا
مكلفون بالعمل بتلك الطرق والاخذ بها والجري على طبقها، وحيث
- لا علم بها ولا علمي على تعيينها ولا طريق إلى معرفتها لا
طريقا ذاتيا كالقطع ولا طريقا مجعولا من طرف الشارع كالظنون
المعتبرة عنده - فلا مناص إلا عن تعيينها بالظن غير المعتبر عند
الشارع والذي لا دليل على عدم حجيته.
(وبعبارة أخرى) لا بد من تعيين تلك الطرق المجعولة المعلومة
إجمالا بالظن الذي لا دليل على حجيته ولا على عدم حجيته فبمثل
الظن
القياسي لا يمكن تعيينها ومعرفتها، لان تعيينها بالظن القياسي يكون
عملا به و الشارع نهى عن العمل به وأما تعيينها بالظن المعتبر
فخروج عن فرض الانسداد، وبعد أن كان - مؤدى تلك الطرق
المجعولة المعلومة إجمالا هي الاحكام
136

الفعلية المتوجهة إلى المكلفين التي يجب الاخذ بها والعمل على
طبقها والمفروض عدم علم ولا علمي لتعيينها - فلا بد من الرجوع
إلى
الظن في تعيينها لأنه لا شي أقرب من الظن إلى إصابة الواقع الذي هو
الغرض الأصلي، هذا حاصل ما أفاده المحقق صاحب الحاشية و
أخوه صاحب الفصول (قدس سرهما) بتوضيح منا.
وفيه (أولا) عدم تسليم وجود العلم الاجمالي بجعل طرق وافية
بمعظم الأحكام الشرعية بحيث يكون موجبا لانحلال العلم الاجمالي
الأول
الذي كان متعلقه الاحكام الالزامية الكثيرة من الواجبات والمحرمات
المرددة بين مظنون الوجوب ومشكوكه وموهومه وكذلك بين
مظنون الحرمة ومشكوكها وموهومها، إذ لو لم يكن موجبا لانحلاله
يؤثر ذاك أثره من لزوم الاحتياط في دائرة المحتملات الست، و
على فرض عدم إمكانه أو عدم وجوبه تصل النوبة إلى حكم العقل
بكفاية الامتثال الظني أو التبعيض في الاحتياط أو الكشف على ما
تقدم
تفصيله، ولا يبقى مجال لما ذكراه هذان المحققان، وأيضا من الممكن
أن يكون الشارع أو كلهم إلى ما هو طريق عند العقلا كأخبار
الثقات، وذلك يعلم مما ترى في كثير من الموارد أنهم يسألون عن
الإمام عليه السلام أنه هل الفلاني ثقة نأخذ منه الاحكام، وذلك يدل
دلالة واضحة على مفروغية اعتبار طرق العقلائية عندهم.
(وثانيا) على فرض تسليم الجعل من الممكن عدم بقاء ذلك
المجعول إلى زماننا مثلا من الممكن أن يكون المجعول الخبر الذي
يطمئن
الانسان بصدوره وهو في ذلك الوقت كان كثيرا وافيا بمعظم الاحكام
لقرب العهد بزمان الإمام عليه السلام أو كان في زمانهم عليهم
السلام، ولكن في الأزمنة المتأخرة - بواسطة بعد العهد وكثرة
الوسائط - ما بقي منه شي.
(وثالثا) على فرض تسليم بقائها إلى زماننا يجب أن يؤخذ بالقدر
137

المتيقن من تلك الطرق التي هي أطراف ذلك العلم الاجمالي إذا كان
وافيا بمعظم الاحكام وإلا يتنزل إلى ما هو متيقن بالنسبة إلى البقية
وهكذا حتى يصل إلى ما يكون وافيا بمعظم الاحكام، (ولكن يمكن)
أن يجاب عن هذا الاشكال بإمكان عدم كون قدر متيقن بين تلك
الطرق بحيث يكون وافيا بالمعظم ويكون موجبا لانحلال ذلك العلم
الاجمالي الكبير في دائرة محتمل التكاليف الالزامية من مظنونه و
مشكوكه وموهومه.
(ورابعا) على فرض تسليم - وجود ذلك العلم الاجمالي وبقأ
المعلوم بالاجمال إلى زماننا وعدم وجود قدر متيقن بينها وافيا بمعظم
الاحكام - تصل النوبة إلى الاحتياط في دائرة محتملات الطريقية لا
الاخذ بمظنون الطريقية كما هو المدعى للمحققين المذكورين ولا
يرد على الاحتياط في المقام ما أوردناه على الاحتياط التام في أطراف
العلم الاجمالي الكبير من اختلال النظام أو العسر والحرج وذلك
من جهة ان المحتملات الطريقية كالخبر الموثوق الصدور والاجماع
المنقول والشهرة في الفتوى وغير ذلك من المحتملات كالأولوية
الظنية مثلا، كما أنها مثبتات للتكاليف الالزامية كذلك كثير منها ينفي
الالزام في كثير من الموارد فلا يوجب عسرا ولا حرجا فضلا عن
اختلال النظام ولذلك قال بعضهم بحجية أغلب هذه الأمور من باب
الظن الخاص، ولا يلزم منه محذور أصلا ولم يستشكل أحد عليهم
بلزوم هذه المحاذير (وأنت خبير) بأنه لا فرق من جهة لزوم هذه
المحاذير بين العمل بها من باب الاحتياط أو من باب الظن الخاص.
(ولكن فيه أولا) أنه لا يمكن الاحتياط في دائرة محتملات الطريقية
لكثرة التعارض الواقع بينها فلا يمكن الاخذ بجميعها والعمل
بمضمونها بل قلما يوجد طريق من هذه المحتملات الطريقية لا يكون
على خلاف مؤداه ومضمونه طريق آخر من هذه المحتملات من
سنخه أو غير سنخه (ويظهر
138

ذلك) لك بمراجعة الاخبار الموجودة في الكتب المعتبرة إذ ما من
مسألة من المسائل الفقهية إلا وفيها أخبار متعارضة لا يمكن الاخذ
بجميعها ولا يمكن الجمع العرفي بينها مثلا هناك روايات معتبرة على
أن الزوجة لا ترث من العقار وطائفة أخرى مفادها انها ترث و
هكذا في سائر الموارد وما تكلفه الشيخ - رضوان الله تعالى عليه في
مقام الجمع بينها - جمع تبرعي لا شاهد عليه، بل طرح لظاهر
كليهما كما هو مذكور في محله (وثانيا) هذا ليس إلا احتياطا في الفروع
والاحكام المحتملة المظنونة أو المشكوكة بل الموهومة التي
هي مؤدى تلك الطرق والمفروض أنه لا يجوز أو لا يجب الاحتياط
بحكم المقدمة الثالثة من مقدمات الانسداد بالنسبة إلى محتملات
الاحكام.
(وخامسا) سلمنا أن قضية هذا الدليل هو العمل بما هو مظنون
الطريقية فليس ذلك إلا من جهة أن ذلك الحكم يظن بأنه مؤدى طريق
معتبر وهذا المعنى لا ينفك عن أي ظن بأي حكم من الأحكام الشرعية
لأنه بعد ما فرضنا أن الشارع جعل طرقا لاحكامه وافيا
بجميعها
فكل حكم من أحكامه لا بد وأن يكون مؤدي لأحد تلك الطرق
المجعولة ولو لم يعرف ذلك الطريق ومعلوم أنه لا وجه للزوم معرفة
ذلك الطريق بعنوانه، فكما أن القطع بكون الشئ الفلاني حكم
شرعي ملازم مع القطع بأنه مؤدى طريق معتبر ولو لم يعرف ذلك
الطريق بعنوانه، فكذلك الظن فلا يكون فرق في هذه النتيجة بين الظن
بالطريق وبين الظن بالواقع (هذا مضافا) إلى أن لزوم العمل
بالطريق ليس لموضوعية فيه بل من جهة تفريغ الذمة وتحصيل
المؤمن، وهذا كما يحصل من الظن بالطريق في هذا الحال يحصل من
الظن بالواقع بطريق أولى، لان الجري على طبق الظن بالواقع موجب
للظن بتفريغ الذمة يقينا، وهذا هو الامتثال الظني المطلوب في
هذا الحال (هذا بناء) على القول بالحكومة (وأما بناء) على القول
بالكشف فلا ينبغي
139

أن يشك في عموم النتيجة بالنسبة إلى الواقع والطريق، لأنه بعد أن
كشفنا - من تمامية هذه المقدمات أن الشارع جعل الظن حجة و
طريقا - فلا فرق بين أن يكون طريقا إلى حكم شرعي أو إلى طريقية
طريق كما هو واضح (وأما بناء) على القول بان نتيجة هذه
المقدمات هي التبعيض في الاحتياط فربما يقال بأنه لا شك في أن
محل التبعيض هي محتملات الاحكام الواقعية (ولكنك عرفت) أن
الظن بالطريق ملازم مع الظن بأن مؤداه هو الحكم الواقعي أو بدله
فيكون ظنا بالامتثال الذي هو مطلوب في هذا الحال فيكون كالظن
بالواقع مؤمنا قطعا في هذا الحال.
الوجه الثاني وهو الذي اختص به صاحب الحاشية (ره) وحاصله أنه
لا شك في عدم سقوط التكاليف عنا بعد انسداد باب العلم والعلمي
بالنسبة إليها، والواجب علينا أولا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في
حكم المكلف بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به و
سقوط تكليفنا عنا سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا حسبما مر
تفصيل القول فيه، فحينئذ نقول: إن أمكن تحصيل العلم بحكم الشارع
والمكلف بتفريغ ذمتنا فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به، وان
انسد علينا سبيل العلم بذلك كان الواجب علينا تحصيل الظن
بحكمه بذلك إذ هو أقرب إلى العلم به فيتعين الاخذ به عند التنزل من
العلم في حكم العقل بعد انسداد باب العلم والعلمي إلى ذلك دون
ما يحصل معه الظن بأداء الواقع كما يدعيه القائل بحجية الظن بالواقع
في حال الانسداد.
وفيه ان ما ذكره - من لزوم تحصيل العلم بحكم الشارع والمكلف
بتفريغ الذمة - كلام لا محصل له، لان الحاكم في باب الإطاعة هو
العقل وليس للشارع في هذا الباب حكم مولوي ولا يمكن أن يكون و
إن صدر يكون إرشادا إلى ما حكم به العقل، وليس في هذا الباب
مجال لجريان
140

قاعدة الملازمة، لما ذكرنا في محله أن حكم العقل إنما يكون -
مستتبعا للحكم الشرعي في مقام الاثبات - فيما إذا كان واقعا في
سلسلة
علل الاحكام لا معاليلها وما هو في الرتبة المتأخرة عنها، إذ لو كان
مستتبعا له في هذا المقام كباب الإطاعة والعصيان يلزم التسلسل
المحال (وبعبارة أوضح) الحاكم - والسلطان في باب الإطاعة و
كيفيتها - هو العقل فإذا أتى المكلف بالمأمور به - على وجهه أي مع
جميع ما يعتبر فيه قيدا وتقييدا عقلا أو شرعا - فالعقل يحكم بتفريغ
ذمة المكلف ولا يبقى مجال للحكم الشرعي في هذا المقام أصلا و
ليس له أن يقول بعدم تفريغ الذمة وبقاء التكليف وعدم سقوطه، وإلا
يكون طلبه بعد ذلك تحصيلا للحاصل، ولا شك في أن العقل -
بعد انسداد باب العلم والعلمي وحكمه بكفاية الامتثال الظني - لا
يفرق بين الظن بالواقع والظن بالطريق، غاية الامر أن الظن بالطريق
موجب للظن بالامتثال وتفريغ الذمة في مقام الاثبات، وإلا فلا ملازمة
بينه وبين الظن بالطريق حقيقة إذ من الممكن خطأ الطريق حتى
في الطريق المعلوم طريقيته فضلا عن المظنون وهذا بخلاف الظن
بالواقع فإنه ملازم مع الظن بالتفريغ حقيقة وواقعا (نعم من
الممكن) عدم اكتفاء الشارع بالظن بالفراغ حتى الظن بالفراغ الحقيقي،
لكن هذا خلاف ما هو المفروض في المقام من كفاية الامتثال
الظني بعد تمامية مقدمات الانسداد نعم للشارع أن ينهي عن الظن
الحاصل من سبب كذا حتى في حال الانسداد، وحيث أن الحكم
بحجية
كل ظن معلق على عدم ورود منع من الشارع عن العمل به كما هو
كذلك بالنسبة إلى الظن الحاصل عن القياس - فلا يشمله هذا الحكم
كما سيجئ الكلام فيه مفصلا إن شاء الله تعالى.
وأما ما ربما يقال بانحلال العلم الاجمالي - الكبير المتعلق بالأحكام الشرعية
الالزامية الموجودة في دائرة محتملات التكاليف من
مظنوناتها
141

ومشكوكاتها وموهوماتها - بما هو المعلوم في مؤديات الطرق
المعلوم جعلها (وبعبارة أخرى) ما هو المنجز على المكلف الاحكام
الموجودة في هذه الدائرة لا ما هو في الدائرة العلم الاجمالي الكبير
فيجب القطع بامتثالها ابتداء ومع عدم إمكانه كما هو المفروض في
حال الانسداد يجب تحصيل الظن بكونها من تلك المؤديات ولا
يحصل ذلك إلا بالظن بطريقية طريق ذلك الظن.
ففيه (أولا) أن تنجز التكليف بالطريق متوقف على وصول الطريق إلى
المكلف وثبوته عنده وإلا فبصرف جعله لا يتنجز مؤداه على
المكلف بدون قيام علم أو علمي عليه (وبعبارة أخرى) كما أن
التكاليف الواقعية بصرف جعلها لا تتنجز على المكلف بل بعد
وصولها
إلى مرتبة الاثبات وقيام البيان من علم أو علمي عليها تتنجز فكذلك
الطريق لا يكون منجزا لمؤداه إلا بالوصول، وأما العلم الاجمالي
الذي يدعى بالنسبة إلى جعلها لا أثر له في كونها منجزا لصدق عدم
الوصول بعناوينها معه (وثانيا) على فرض الانحلال وتنجز مؤدى
تلك الطرق دون تلك الأحكام الواقعية بينا سابقا أن الظن بالواقع
ملازم مع الظن بأنه مؤدى طريق معتبر فيحصل المطلوب من دون
احتياج إلى الظن بالطريق.
(التنبيه الثاني)
في أن نتيجة دليل الانسداد هل مطلقة وكلية أو مهملة بالنسبة إلى
الأسباب أي من أي سبب حصل الظن يكون حجة، وهذا معنى
المطلقة و
الكلية باعتبار الأسباب ومقابل هذا المعنى أي عدم كونه حجة من أي
سبب حصل بل تكون حجيته في الجملة باعتبار السبب من دون
إطلاق أو تعيين السبب فهي المهملة، وكذلك الامر في الاطلاق و
الاهمال والتعيين بحسب الموارد والمراتب.
فنقول: (أما على القول) بتبعيض الاحتياط فلا شك في أن العمل
بالظن بناء عليه لا فرق فيه بين المراتب والأسباب والموارد
142

لان مقتضى العلم الاجمالي بين المحتملات الست هو الاحتياط التام
بإتيان كل ما هو محتمل الوجوب من مظنونه ومشكوكه وموهونه و
ترك كل ما هو محتمل الحرمة من مظنونها ومشكوكها وموهومها، و
حيث لا يجب أو لا يجوز فبحكم العقل لا بد وأن يبعض بإتيان كل
ما هو مظنون الوجوب وترك كل ما هو مظنون الحرمة من دون تفاوت
بين أسباب الظن وموارده ومراتبه، وهذا واضح جدا (وأما
الاشكالات) التي أوردوها على كون نتيجة دليل الانسداد هو التبعيض
في الاحتياط أجبنا عنها مفصلا فلا نعيد.
(وأما بناء على الحكومة) أي حكم العقل على فرض تمامية مقدمات
الانسداد بكفاية الامتثال الظني بحيث لا يجوز للامر والمأمور التعدي
عنه بأن يطلب الامر أزيد من الامتثال الظني أو المأمور يكتفي بالامتثال
الشكي أو الوهمي مثلا، فائضا لا إهمال في نظر العقل بين
الأسباب والموارد بل بكفاية الامتثال الظني من أي سبب حصل الظن
وفي أي مورد كان من الطهارات إلى الديات (ولذلك) أشكل
عليهم خروج الظن الحاصل عن القياس وسيجئ الجواب عنه
مفصلا إن شاء الله تعالى، (نعم) بالنسبة إلى المراتب يكون الظن
القوي
مقدمات في نظر العقل على ما دونه من المراتب بعين ما يكون الظن
مقدمات على الشك والوهم، فان كانت هناك مرتبة قوية من الظن
الاطمئناني مثلا كانت وافية بمعظم الاحكام فيتعين الحجية فيها وإلا
يتنزل إلى مرتبة أخرى أدون منها وهكذا حتى يصل إلى مرتبة
تكون وافية به، وفي الحقيقة بالنسبة إلى المراتب أيضا لا إهمال بل
تكون النتيجة معينة وإن لم يكن فيها إطلاق.
(وأما بناء على الكشف) فان قلنا به من جهة الاجماع على عدم جواز
الامتثال الاحتمالي في كل مسألة ومورد من الأحكام الشرعية، بل لا
بد وأن يكون الامتثال بعد معرفته وبلوغه إلى مرتبة الاثبات، وقد
تقدم
143

تفصيله في بيان ما هو مدرك الكشف، فلا إهمال أيضا من حيث
السبب والمورد لأنه لو لم يكن الظن حجة في مورد أو إذا كان حاصلا
من سبب كذا فلا بد له إما من الرجوع إلى الأصول النافية للتكليف و
المفروض أن العلم الاجمالي يمنع عنه وأما أن يأخذ بأحد
الاحتمالات من الظن والشك والوهم والمفروض انها غير معتبرة
شرعا ولا عقلا فيكون امتثالا احتماليا والمفروض أنه لا يجوز فلا
بد من القول بأن الشارع جعل الظن حجة من أي سبب وفي أي مورد
كان، وإلا يلزم مع بقاء التكليف في هذا الحال التكليف بما لا
يطاق، وهذا هو معنى كون الظن طريقا واصلا بنفسه أي لا يحتاج في
إثبات حجيته وطريقيته شرعا إلى إجراء مقدمات الانسداد ثانيا،
بل ولا إلى مقدمة عقلية أخرى غير تلك المقدمات التي سميناها
بدليل الانسداد (وأما بالنسبة إلى المراتب) فيمكن أن يقال بتعين
المرتبة العالية ان كانت وافية بمعظم الاحكام وإلا يتنزل إلى المرتبة
الوافية كما قلنا بناء على الحكومة، وذلك من جهة ان في ما عدا
تلك المرتبة لا مانع من الرجوع إلى الأصول النافية لانحلال العلم
الاجمالي بواسطة حجية تلك المرتبة شرعا ففي الحقيقة لا إهمال في
البين أصلا بل بالنسبة إلى المراتب معينة وبالنسبة إلى الموارد و
الأسباب مطلقة.
وأما إن قلنا بالكشف من جهة قيام الاجماع على عدم جواز الامتثال
الاحتمالي في معظم الاحكام بل وأن يأتي المكلف بالواجب ويترك
الحرام بعنوانهما الخاص لا بالرجاء والاحتمال وذلك في معظم
الاحكام لا في كل واقعة وفي كل مسألة، وأيضا قيام الاجماع على
عدم
جواز الرجوع إلى الأصول النافية في معظم المسائل للزوم الخروج عن
الدين لا العلم الاجمالي، وإلا ينتج التبعيض في الاحتياط كما
تقدم تفصيله، فلا محال تكون النتيجة مهملة من الجهات
144

الثلاث أي موردا وسببا ومرتبة، فلا بد من معمم خارجي أو معين آخر
غير هذه المقدمات، وإلا يكون دليل الانسداد لغوا وبلا فائدة و
لا يثمر ثمرا وهذا الرجوع - إلى المعمم أو المعين الخارجي ولو كان
انسداد آخر - هو معنى كون الظن طريقا وأصلا بطريقه، بل في
بعض الفروض تكون النتيجة طريقا غير واصل أصلا لا بنفسه ولا
بطريقه كما إذا كانت النتيجة بناء على الكشف مهملة ولم يكن معمم
أو معين في البين، وقد ذكروا ثلاث معممات.
الأول تساوي الأسباب فاختصاص - الحجية بالظن الحاصل من بعض
الأسباب دون بعض آخر - يكون ترجيحا بلا مرجح، هذا بالنسبة
إلى الأسباب (وأما بالنسبة إلى الموارد) فقد ادعى الاجماع على
التعميم، وهذا الاجماع تقديري كما تقدم بيانه وإن كان ثبوت
الاجماع
- في مثل هذه المسائل التي تكون الأقوال فيه مختلفة جدا - في غاية
الاشكال ولو تقديرا، نعم يمكن أن يدعى القطع بأن الشارع بعد ما
جعل الظن حجة بملاحظة هذه المقدمات لا فرق في نظره بين الموارد
فيكون حاله حال سائر الحجج المجعولة في كونه حجة في جميع
الموارد والمسائل الفقهية (وأما بالنسبة إلى المراتب) فلا يبعد أن
يكون مختصا بالظن القوي القريب من الاطمئناني هذا بناء على أن
يكون الظن الاطمئناني من الظنون المعتبرة عند العقلا ولم يردع عنه
الشارع وإلا تكون النتيجة حجية خصوص الظن الاطمئناني إذا
كان وافيا بمعظم الاحكام، وإلا يتنازل إلى ما دونه من المراتب حتى
يبلغ إلى ما يكون وافيا به.
(والسر في ذلك) أنه من المعلوم أن استكشاف العقل من تمامية هذه
المقدمات أن الشارع جعل الظن حجة دون ما يوجب الشك أو الوهم
مثلا من جهة أقربيته إلى الوصول إلى الاحكام الواقعية وهذا الوجه
موجود
145

بعينه في الظن القوي والضعيف.
واستشكل على هذا الوجه من المعمم أي كون الحجية مختصة بالظن
الحاصل من بعض الأسباب دون بعض مستلزما للترجيح بلا مرجح
بوجوه ثلاث: (الأول) كون بعض الظنون متيقن الاعتبار، وهذا كاف
في ترجيح ذلك البعض فلا يكون من الترجيح بلا مرجح (الوجه
الثاني) كون بعض الأسباب يفيد ظنا أقوى من البعض الاخر فأيضا لا
يكون ترجيحا بلا مرجح. (الوجه الثالث) كون بعضها مظنون
الاعتبار فيكون أقرب إلى الحجية فيكون مرجحا وأيضا أقرب إلى
إدراك المصلحة لأنه مظنون في العمل به إدراك مصلحة الواقع، و
على تقدير مخالفة الواقع مظنون فيه إدراك المصلحة السلوكية بناء
على ما تقدم في بحث جعل حجية الامارات من تدارك ما يفوت من
مصلحة الواقع عند مخالفة الامارة بالمصلحة السلوكية.
وأجيب عن الوجه الأول من وجوه الاشكال على هذا المعمم بأن
متيقن الاعتبار من بين المحتملات - وهو الخبر الصحيح الاعلائي
المعمول به عند المشهور غير معرض عنه عند الأصحاب - في غاية
القلة، فلا يفي بمعظم الاحكام وبعد الاخذ به أيضا يبقى دليل
الانسداد
بحاله (فان قلت) يتنزل إلى ما هو القدر المتيقن بالنسبة إلى البقية و
هكذا إلى أن يبلغ إلى حد يفي بمعظم الاحكام (قلنا) انه بعد ما
فرضناه القدر المتيقن الذي لم يكن وافيا بمعظم الاحكام ليس هناك
قدر متيقن في البين بل كما يحتمل حجية هذا دون غيره كذلك
يحتمل حجية ذاك الاخر دون هذا.
ولكن يمكن أن يقال أن القدر المتيقن هو اعتبار الخبر الموثوق
الصدور التي قام على اعتباره بناء العقلا ولم يردع الشارع عنه، و
لذلك قلنا بحجيته من باب اعتباره بالخصوص وعدم تمامية المقدمة
الأولى من مقدمات الانسداد الأربعة من هذه الجهة وانفتاح باب
العلمي و
146

انسد باب العلم فلو شك أحد في حجيته بالخصوص ومن باب الظن
الخاص لا يمكن إنكار كونه متيقن الاعتبار في حال الانسداد بالنسبة
إلى سائر الامارات المفيدة للظن (وبعبارة أخرى) الخبر الموثوق
الصدور المعمول به عند الأصحاب لا شك في حجيته ولزوم العمل
على طبقه (أما من جهة) قيام الأدلة على حجيته بالخصوص كما هو
الصحيح وأثبتناه فيما تقدم (وأما من جهة) كونه متيقن الاعتبار على
تقدير تمامية مقدمات الانسداد بناء على الكشف وإهمال النتيجة
سببا وموردا، ومعلوم أن الخبر - الموثوق الصدور والمعمول به عند
الأصحاب - كثير بحمد الله واف بمعظم الاحكام.
وأجيب عن الوجه الثاني من وجوه الترجيح بأن القوة والضعف أمران
إضافيان، ولك ظن فهو قوي بالنسبة إلى ما دونه من المراتب و
ضعيف بالنسبة إلى ما فوقه، ولا يمكن جعل ضابط وتحديد لما هو
موضوع الحجية هذا مضافا إلى أن كون الجعل الشرعي ملاكه قوة
الظن غير معلوم، ولذلك ترى أن بعض الامارات الذي ما جعله الشارع
حجة يكون الظن الحاصل منه أقوى من الظن الحاصل مما جعله
حجة.
ولكن يمكن أن يقال أن الضابط هو أن تحصل من الظن مرتبة من
الاطمئنان وركون القلب كما أنه كذلك بالنسبة إلى الخبر الموثوق
الصدور (وأما الاشكال) - بعدم معلومية كون ملاك الجعل الشرعي
القوة والضعف لو قلنا به - فيجري في أصل استكشاف حجية الظن
لأنه من الممكن أن يجعل شيئا آخر حجة في هذا الحال والجواب -
بلزوم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح يجري فيما نحن فيه
أيضا - بعينه فيما إذا كان الظن القوي وافيا بمعظم الاحكام (نعم) ان
هذا ينبغي أن يعد إشكالا على الكشف وتعيين أن الشارع جعل
الظن حجة في ذلك الحال مع أنه من الممكن أن يكون ملاك الحجية
في غيره.
147

وأجيب عن الوجه الثالث من وجوه الترجيح (تارة) بأن هذا الوجه
يرجع إلى الوجه السابق أي الترجيح بالقوة - وقد أجيب عنه - (و
أخرى) بأن هذا الوجه لا يعين الترجيح بنحو يكون لازما بل أقصى ما
يفيد أولوية الترجيح، لان مراعاة إدراك المكلف - إما مصلحة
الواقع عند إصابة مثل ذلك الظن، وإما الظن بإدراك المصلحة
السلوكية عند المخالفة - أولى من الظن بإدراك مصلحة الواقع فقط.
ثم إن شيخنا الأستاذ (ره) أفاد في مقام الجواب عن هذا الوجه من
المعمم بأن الترجيح لا بد وأن يكون بمعين قطعي الاعتبار لا بكل
مزية
ولو لم يقم على اعتباره دليل (وفيه) ان الترجيح يحصل بكل مزية في
نظر العقل وموجب لخروج الشئ عن حد الاستواء، وأما
الاشكال - بأن ملاك الجعل الشرعي ربما يكون غير ما هو مزية بنظر
العقل - تقدم الجواب عنه، وقلنا أن هذا إشكال على أصل الكشف،
ولكن بعد ما قلنا أن العقل يستكشف من المقدمة الرابعة أي قبح
ترجيح المرجوح على الراجح أن الحجة المجعولة من قبل الشارع في
هذا
الحال لا بد وأن تكون هو الظن دون غيره من الاحتمالات لقبح ترجيح
المرجوح على الراجح، وفيما نحن فيه أيضا كذلك لا بد وأن
يقدم في مقام الجعل ذو المزية، (نعم) الجواب الصحيح عن هذا
المعمم من أن الخبر الموثوق الصدور هو القدر المتيقن وهو بحمد
الله
واف بمعظم الفقه فلا يبقى مجال لهذه المرجحات أصلا.
الوجه الثاني من وجوه التعميم ما حكى عن بعض الاعلام وهو أن
مقتضى القاعدة - ولو كان بناء على الكشف - حجية خصوص ظن و
مظنون الاعتبار (ولكن) حيث نعلم إجمالا بوجود مخصصات و
مقيدات في دائرة مشكوك الاعتبار وموهومه، ومعلوم أنه لا يجوز
العمل بعمومات ومطلقات مظنون الاعتبار إلا بعد الاخذ
بمخصصاتها ومقيداتها فيلزم
148

- لذلك - الاخذ بالمشكوكات وموهومات الاعتبار أيضا.
وفيه (أولا) عدم ثبوت مثل هذا العلم الاجمالي، بل ليس إلا احتمالا
بدويا مدفوعا بأصالة العموم أو أصالة الاطلاق (وثانيا) أن هذا لا يلزم
منه إلا الاخذ بخصوص ما هو مشتمل على المخصصات والمقيدات
منهما لا جميعهما أي جميع ما هو مشكوك الاعتبار وموهومه، و
المدعى هو أخذ الجميع (اللهم) إلا أن يقال بلزوم الاخذ بالجميع
لعدم القول بالفصل، ولكن فيه نظر واضح.
الوجه الثالث من وجوه التعميم ما نقل عن الأستاذ الشريف (ره) وهو
أن لزوم العمل بجميع الظنون من باب الاحتياط، لأنه بعد ما
استكشفنا حجية الظن شرعا في الجملة بدليل الانسداد فبحكم العقل
يجب العمل بكل ظن سواء كان مظنون الاعتبار أو مشكوكه أو
موهومه حتى يحصل العلم بالأخذ والعمل بما جعله الشارع حجة و
ليس قدرا متيقنا من الظنون في الحجية وافيا بمعظم الاحكام في البين
حتى يوجب انحلال ذلك العلم الاجمالي.
وفيه (أولا) وجود القدر المتيقن الوافي وهو الخبر الموثوق الصدور و
قد تقدم (وثانيا) أن مرجع الاحتياط في الاخذ بجميع الظنون
سواء كان مظنون الاعتبار أو مشكوكه أو موهومه إلى الاحتياط التام
الذي عدم جوازه أو عدم وجوبه من مقدمات دليل الانسداد فكيف
يمكن أن يكون من نتائجه، فتأمل فإنه لا يخلو من نظر وإشكال، وإن
وجهنا هذا الكلام في البحث بأن احتمال التكليف الإلزامي
وجوبيا أو تحريميا مظنونه ومشكوكه وموهومه - لا بد وأن يكون
مؤدى إحدى الامارات أما مظنون الاعتبار أو مشكوكه أو موهومه،
فالأخذ بجميع ما هو مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه ولزوم
العمل على طبق الجميع معناه الاحتياط التام في جميع محتملات
التكليف الإلزامي. وقد عرفت بطلانه.
149

فقد ظهر لك من جميع ذكرنا لزوم العمل على طبق الخبر الموثوق
الصدور المعمول به عند الأصحاب غير المعرض عنه المشهور (أما
أولا) فمن جهة أن الأدلة تدل على حجيته بالخصوص من الآيات و
الروايات والاجماعات وبناء العقلا (وثانيا) لو قلنا بتمامية مقدمات
الانسداد فكذلك أيضا سواء قلنا بالكشف أو قلنا بالحكومة فالفقيه لا
يرى مانعا من الرجوع إلى الأصول النافية في مورد فقد الخبر
الموثوق الصدور أو إجماله ويطمئن بذلك على كل حال سواء قلنا
بالانسداد أو لم نقل، وذلك هو مطلوب الفقيه.
التنبيه الثالث
قد اشتهر الاشكال بخروج الظن الحاصل من القياس عن نتيجة دليل
الانسداد بناء على الحكومة، إذ بناء على الكشف لا إشكال في البين
أصلا، إذ من تمامية هذه المقدمات يستكشف العقل أن الشارع جعل
الظن حجة ما عدا الظن الحاصل عن القياس لأنه نهى عن العمل به (و
إن السنة إذا قيست محق الدين) وأما بناء على الحكومة فالاشكال في
أن الاحكام العقلية الكلية ليست قابلة للتخصيص فكيف خصص هذا
الحكم بغير الظن القياسي مع وجود ملاك الحكم فيه أيضا (وبعبارة
أخرى) بعد ما حكم العقل بلزوم الامتثال الظني وكفايته ولا يجوز
التعدي عنه عند الامر والمأمور فليس للامر المطالبة بأزيد منه ولا
للمأمور الاكتفاء بأقل منه فكيف يجوز للامر أن يقول بعدم رضائه
الامتثال بالظن القياسي وهل هذا إلا تناقض في نظر العقل.
وأجيب عن هذا الاشكال (تارة) بعدم حصول الظن من القياس بعد
الالتفات إلى منع الشارع عن العمل به والردع عنه معللا بكثرة
خطائه ومخالفته للواقع حتى قال عليه السلام (السنة إذا قيست محق
الدين) (وفيه) أن حصول الظن من القياس في بعض الأحيان و
بطور الموجبة الجزئية من القطعيات إن لم يكن من البديهيات ولا
يمكن أن ينكر (وأخرى) بعدم
150

المنع عنه في حال الانسداد واختصاص المنع بحال الانفتاح، وقد
بسط الكلام في هذا الجواب في رسائل شيخنا الأعظم (ولكن أنت
خبير) أن المنع عن العمل بالقياس من المسلمات عند الإمامية في
جميع الأحوال وليس مختصا بحال دون حال (وقد أجيب) بأجوبة
أخرى ذكرها في رسائل شيخنا الأعظم (ره) ولا يهمنا التعرض لها و
الاشكال عليها.
(والجواب الصحيح) هو أن هذا الحكم أي حكم العقل بكفاية
الامتثال الظني ليس حكما تنجيزيا بل معلق على عدم ورود نهي عن
قبل
الشارع عن العمل به (وبعبارة أخرى) نتيجة دليل الانسداد بناء على
الحكومة كفاية الامتثال الظني فيما إذا لم يكن حجة من قبل الشارع
على خلافه، ومعلوم أنه في مورد القياس قامت الأدلة القطعية على
عدم كفاية الامتثال الظني الحاصل عن القياس فباب العلم في مورد
الظن القياسي مفتوح ولا يصل النوبة إلى أعمال دليل الانسداد، ولا
فرق في عدم وصول النوبة إلى دليل الانسداد بين أمر الشارع
بالعمل بأمارة أو النهي عنه، فلا يكون إشكال في البين أصلا ويكون
خروج الظن القياسي عن نتيجة دليل الانسداد بالتخصص لا
بالتخصيص (نعم يبقى) الاشكال في إمكان نهي الشارع عن العمل به
مع أنه يوجب في مورد الإصابة اما فوت المصلحة فيما إذا أدى إلى
وجوب شي وكان في الواقع واجبا أو الالقاء في المفسدة فيما إذا
أدى إلى حرمة شي وكان حراما واقعا (وأيضا) كيف يمكن المنع
عنه فيما إذا حصل القطع منه؟ مع أن الظاهر حصول القطع بكون دية
أربع أصابع المرأة أربعين بعيرا قياسا على الاعداد السابقة ومع
ذلك ردع الإمام عليه السلام عن هذا القطع.
والجواب عن الأول هو الالتزام بالمفسدة السلوكية عكس المصلحة
السلوكية التي قلنا بها في مقام الجواب عن الاشكال على حجية الخبر
الواحد
151

بأنها توجب عند المخالفة تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة، و
قد تقدم بيانه في ما تقدم مفصلا.
والجواب عن الثاني ما تقدم في توجيه مقالة الأخباريين من إنكارهم
حجية القطع الحاصل من المقدمات العقلية بإرجاعه إلى التقييد في
جانب الموضوع بنتيجة التقييد لعدم إمكان التقييد اللحاظي في كلا
المقامين مثلا يقال بتقييد وجوب شي أو حرمته بكونه غير معلوم
من طريق القياس (وقد قلنا) بمثل ذلك في العلم الحاصل من الجفر أو
الرمل أو غير ذلك من الأسباب غير المتعارفة، وبمثل ذلك يمكن
أن يوجه كلام الشيخ الكبير كاشف الغطاء (ره) في إنكاره حجية قطع
القطاع، حيث أشكلوا عليه بعدم إمكان ذلك.
التنبيه الرابع في ظن المانع والممنوع
وهو عبارة عن قيام ظن على عدم حجية ظن آخر كما إذا قام الاجماع
المنقول على عدم حجية الشهرة والعكس وفي وجوب العمل
بالظن المانع أو الظن الممنوع أو تساقطهما وجوه وأقوال (والأقوى)
هو الأول وذلك لان شموله للظن الممنوع معلق على عدم المنع
عنه والمفروض ان الظن المانع منع عنه فيكون خارجا عنه بالتخصص
كما قلنا وبينا وجهه في الظن القياسي، وأما شموله للظن المانع
فلا يكون معلقا على شي فيشمله، فلا يبقى مجال لشموله للظن
الممنوع (وبعبارة أخرى) حال الظن المانع والممنوع بالنسبة إلى دليل
الانسداد حال الاستصحاب السببي والمسببي بالنسبة إلى دليل
الاستصحاب، فكما ان شمول دليل الاستصحاب للشك المسببي
متوقف
على عدم شموله للشك السببي ولكن شموله للشك السببي ليس
متوقفا على شي بل يشمله في عرض سائر الافراد ويذهب بموضوع
الشك المسببي، كذلك الامر هاهنا، (وهذه القاعدة) جارية في كل
مورد دار الامر بين المقتضى التنجيزي والمقتضى التعليقي وفي
الحقيقة لا دوران ولا تعارض في البين، بل التنجيزي يذهب بموضوع
التعليقي
152

(نعم بناء) على كون نتيجة دليل الانسداد هي حجية الظن بالواقع دون
الظن بالطريق فإذا كان الظن الممنوع ظنا بالواقع فيشمله ولا
يشمل ظن المانع لأنه لا محاله ظن بالطريق: إلى هنا انتهى دليل
الانسداد وتنبيهاته ولكن ذكروا هاهنا أمورا نحن نتبعهم.
الأول
أن دليل الانسداد هل يشمل ظن الحاصل من القول اللغوي أم لا
(فنقول) إذا كان الظن الحاصل من القول اللغوي ظنا بالحكم الشرعي
أو
بطريقه مع تمامية مقدمات التي عمدتها انسداد باب العلم والعلمي
إلى معظم الاحكام ولذلك سمي بدليل الانسداد فلا شك في شمول
دليل الانسداد له، وأما مع عدم تمامية مقدمات الانسداد فقد تقدم
الكلام في حجية قول اللغوي وعدمها وقد استدلوا لها بوجهين
(أحدهما) من باب حجية قول أهل الخبرة (ثانيهما) هو التمسك
بالانسداد الصغير وهو انسداد باب العلم والعلمي إلى معرفة بعض
الموضوعات كالموضوعات ومفاهيم بعض الألفاظ التي لا طريق إلى
معرفتها إلا ما ذكره اللغويون في بيان المراد منها مثلا، وقد تقدم
الاشكال في كل واحد من الوجهين، وقلنا ما لم ينسد باب العلم و
العلمي إلى معظم الاحكام مع تمامية سائر المقدمات لا دليل على
حجية
الظن الحاصل من القول اللغوي.
الامر الثاني
في أنه هل الظن الحاصل من توثيق أهل الرجال حجة يثبت كون
الراوي ثقة أم لا (قلنا) إذا كانت مقدمات الانسداد الكبير - وهو
انسداد
باب العلم والعلمي إلى معظم الاحكام مع سائر المقدمات - تامة
حاصلة، وكان الظن الحاصل من أقوال الرجاليين بوثاقة الراوي موجبا
لحصول الظن بحكم شرعي أو بطريقه فلا شك في حجيته وحصول
الامتثال به سواء قلنا بالكشف أو بالحكومة.
أما لو لم يكن باب العلم والعلمي إلى معظم الاحكام منسدا (وبعبارة
153

أخرى) ما تمت مقدمات الانسداد الكبير فإثبات وثاقة الراوي
بالانسداد الصغير - وهو انسداد باب العلم والعلمي إلى معرفة
الرجال و
لا طريق إليها إلا أقوال أصحاب الرجال فلو لم نقل بحجية الظن
الحاصل من أقوالهم يلزم إهمال ما تضمنتها من الاحكام - لا وجه له
لأنه
بعد ما كانت الاحكام معظمها معلومة ثابتة بالعلم أو العلمي فالرجوع
إلى الأصول النافية فيما عداها لا يلزم منه محذور (نعم لو قلنا) ان
ما هو الحجة من الاخبار الخبر الموثوق الصدور من أي سبب حصل
الوثوق فالظن الحاصل - من أقوال الرجاليين الموجب للوثوق
بصدور للرواية - حجة أي موجب لتحقيق موضوع الحجة كان باب
العلم إلى معظم الاحكام منسدا أو مفتوحا، كما أن عمل المشهور أيضا
موجب للوثوق بصدور الرواية فيكون مثل الظنون الحاصلة من أقوال
أصحاب الرجال موجبا لدخول الرواية تحت موضوع الحجة بعد ما
لم يكن بل كان في حد نفسه خبرا ضعيفا، وربما يكون الوثوق
الحاصل من عمل المشهور خصوصا مشهور القدماء أقوى بمراتب من
الظنون الرجالية (ومما ذكرنا ظهر لك) قلة الحاجة للفقيه إلى تلك
الظنون الرجالية، لان كثيرا من الاخبار الموجودة في الكتب
المعتبرة كالكتب الأربعة وأمثالها الوافية بمعظم الأحكام الشرعية
تكون معمولة بها عند المشهور ومعظم الأصحاب، فيتحقق موضوع
الحجة وإن كان الخبر في حد نفسه ضعيفا، وهذا هو المراد من قولهم
ان عمل الأصحاب جابر لضعف السند كما أن إعراض الأصحاب
عن الرواية وعدم العمل بها موجب لخروجها عن تحت دليل الحجية
وإن كانت في حد نفسها صحيحة وداخلة حتى قالوا (كلما ازدادت
صحة ازداد وهنا)، وهذا معنى قولهم ان إعراض الأصحاب عن
الرواية موهن للوثوق بسندها وكاسر لها وإن كانت في حد نفسها قوية
بحسب السند.
154

الامر الثالث
ان انسداد الصغير لا يوجب حجية الظن كما توهم لعدم جريان الدليل
الجاري في الانسداد الكبير فيه لأنه لا مانع فيه من الرجوع إلى
الأصول النافية لعدم علم إجمالي منجز بعد انفتاح باب العلم و
العلمي إلى معظم الاحكام، وأيضا لا مانع من الرجوع إلى الاحتياط،
لعدم
لزوم اختلال النظام، ولا العسر والحرج، ولا إجماع على عدم جوازه
بعد انفتاح باب العلم والعلمي إلى معظم الاحكام (نعم) ربما
يوجب الظن بالشئ دخوله في موضوع حكم، وهذا ليس من باب
حجية الظن أو طريقيته شرعا، بل من باب تحقق موضوع الحكم، و
هذا
مثل أن يكون للشي حكم وللظن به أيضا ذلك اما من جهة ان من
الظن بذلك الشئ يوجد عنوان يكون ذلك العنوان أيضا موضوع
ذلك
الحكم، وذلك مثل الضرر بنفسه موضوع للحرمة فإذا ظن بالضرر
بالظن غير المعتبر ربما يحصل عنوان آخر وهو الخوف، وهذا
العنوان أيضا موضوع آخر للحرمة، أو نفس الظن بالضرر موضوع آخر
للحرمة من دون احتياج إلى وجود عنوان الخوف.
وهذا هو الذي اصطلح عليه شيخنا الأستاذ (ره) بتسميته بأبي
حكمين حكم على نفس الواقع وحكم على الظن بذلك الموضوع
الواقعي،
سواء تحقق ذلك الموضوع أم لا فيكون الظن بذلك الموضوع تمام
الموضوع لذلك الحكم أصاب الظن أم خطاء، فلذلك ترى انهم يفتون
ببطلان الوضوء والغسل مع الظن بالضرر في استعمال الماء ولو لم
يكن مضرا في الواقع، وهكذا يقولون بوجوب الاتمام إذا كان
السفر مظنون الخطر ولو لم يكن خطرا بحسب الواقع، فهذا ليس من
باب طريقية الظن وحجيته لاثبات متعلقه بل هو موضوع آخر في
عرض موضوعية متعلقة.
الامر الرابع
في أنه كما يجري دليل الانسداد - لاثبات لزوم العمل على طبق الظن
في الاحكام الفرعية العملية من باب الكشف أو
155

أو التبعيض في الاحتياط على اختلاف المسالك - هل يجري في
الاحكام الأصولية الاعتقادية التي من أعمال الجوانح فيلتزم ويعتقد
بما
ظن أنه مما يجب الاعتقاد والالتزام به.
والتحقيق في هذا المقام أن يقال ان ما يجب الاعتقاد به على قسمين
(الأول) ما يحكم به العقل الفطري الخالي عن شوائب الأوهام، بحيث
لا يخفى على أحد ممن شملته العناية الإلهية الذين لا نقص في
خلقتهم ولا في خلقهم ممن لهم العصبية والعناد وحب طريقة الابأ
و
الأسلاف وليسوا من أصحاب الاهواء وأرباب اللجاج، وذلك مثل
الاعتقاد بوجود صانع حكيم قادر عليم واحد أحد فرد صمد ليس له
ضد ولا ند متصفا بجميع صفات الجمال والجلال (والمراد بصفات
الجمال) الصفات الكمالية الثبوتية (وبصفات الجلال) الصفات
السلبية التي هي نقائص يجب تنزيهه تعالى عنها (فالقسم الأول)
كعلمه وقدرته الشاملة وحياته وإرادته إلى غير ذلك من الصفات
الكمالية التي هي كمال للموجود المتصف بها (والقسم الثاني) ككونه
جسما ومركبا ومرئيا بالباصرة وأن يكون له حيز ومكان و
زمان وغير ذلك من الصفات التي هي نقائص للموجود المتصف بها،
وأيضا كالاعتقاد بأن هذه الصفات ليست أمورا زائدة على الذات
حتى يكون موجبا لتركب الذات أو تعدد القدماء، كما التزم به شطر
كبير من الناس غافلين عن أن هذا هو الشرك الجلي، والقول بتعدد
الواجب تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فهو تبارك وتعالى بوحدته و
بساطته عين جميع الكمالات ومسلوب عنه جميع النقائص، و
النقائص أمور عدمية ففي الحقيقة سلب الصفات السلبية عنه عبارة
عن سلب السلوب ونفي النقائص عنه لأنه كل الوجود وكله الوجود و
كالاعتقاد بأنه يجب على الله أن يبعث الرسل وينزل الكتب لارشاد
الخلق وهدايتهم، لحكم العقل الفطري بأنه لطيف بعباده فإرسال
الرسل وإنزال
156

الكتب لطف منه تعالى فيجب عليه تعالى لطفا، كما أن إعطأهم هذا
العقل الفطري لمعرفة هذه الأمور أيضا لطف فيجب عليه فان كان
نقص في شخص من هذه الناحية فلا بد وأن يكون مسببا من جهة
أخرى بمعنى انه لا بد وأن يكون هذا النقص معلولا بالعرض من قبل
نفسه أو غيره.
وأما النبوة والإمامة الخاصتان أيضا اللذان يجب الاعتقاد بهما
(فالأول) يكون معرفته بالمعجزة مع كون المدعى في مقام التحدي (و
الثاني) بها أيضا أو بالنص من النبي أو من إمام سابق معلوم إمامته، و
في جميع هذه المذكورات باب العلم مفتوح بكلا مصراعيه فلا وجه
لادعاء الانسداد فيه أصلا، فلا يبلغ إلى مقام التكلم في أنه هل يجري
دليل الانسداد فيها.
(أما بالنسبة) إلى الواجب تعالى وصفاته بكلا قسميه والنبوة والإمامة
العامتان (فقد عرفت) ان معرفتها والعلم بها يحصل من العقل
الفطري الخالي عن شوائب الأوهام (وأما بالنسبة) إلى النبوة والإمامة
الخاصتان حيث أن معرفتها قلنا بالمعجزة والنص فبالنسبة إلى
نبينا صلى الله عليه وآله وسلم المعجزات كثيرة متواترة مضافا إلى أن
القرآن معجزة خالدة باقية في جميع الأزمان والاعصار وقد
وقع التحدي به في قوله تعالى (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا
فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدأكم إن كنتم صادقين) و
النصوص بالنسبة إلى الإمامة جلية من الآيات والروايات المتواترة
فباب العلم إليهما مفتوحة، فلا يبقى مجال للبحث عن جريان دليل
الانسداد وحجية الظن بالنسبة إلى هذه الأمور.
ثم إن المشهور عندهم ان وجوب تحصيل العلم بهذه الأمور (إما من
جهة) شكر المنعم حيث إن المنعم الحقيقي هو الله جل جلاله فيجب
شكره بتحصيل المعرفة به تعالى وبصفاته بكلا قسميه، وأيضا يجب
الاعتقاد أعني عقد القلب بما حصل له من المعرفة، وكذلك الأنبياء
والاوليأ
157

حيث إنهم وسائط فيضه لعباده يجب معرفتهم وعقد القلب على
نبوتهم، وإمامة الأئمة الاثني عشر أيضا لذلك (واما أن يكون من
جهة)
دفع الضرر المحتمل أي احتمال العقاب أعني الضرر الأخروي (و
حينئذ) الكبرى والصغرى معلومتان.
وهنا احتمال ووجه ثالث لوجوب تحصيل المعرفة بهذه الأمور و
الاعتقاد بها ولعل هو الوجه الوجيه، وهو أنه لا شبهة في أن معرفة
هذه الأمور والاعتقاد بها من كمالات النفس وبها يرتقي من حضيض
الحيوانية بل كونها أضل إلى أوج الملكوتية بل أعلى منها خصوصا
إذا وصلت إلى مرتبة عين اليقين وكشف الغطاء، ولا شك في أن في
تحصيل هذه المرتبة من الكمال أقوى المصالح وألزمها، فيحكم
العقل الفطري بلزوم تحصيلها والاعتقاد بها وهذا الوجوب عقلي و
مطلق. بمعنى أن وجوب الاعتقاد بهذه الأمور ليس مشروطا بحصول
المعرفة بل يجب تحصيلها من باب المقدمية، وهذا لا ينافي وجوبها
- أي معرفة هذه الأمور - نفسيا، إذ معنى وجوبها المقدمي هو لزوم
تحصيل المعرفة بهذه الأمور لأجل الاعتقاد والتدين بها ولو لم يكن
تحصيلها في حد أنفسها واجبا (فتلخص مما ذكرنا) عدم انسداد
باب العلم إلى معرفة هذه الأمور.
ثم لو سلمنا الانسداد فلا وجه للزوم تحصيل الظن والتدين بما هو
المظنون لا بطور الواجب المطلق ولا الواجب المشروط، وذلك من
جهة عدم كونه شكر المنعم ولا يدفع به الضرر المحتمل بل الضرر
المحتمل مدفوع بنفس قبح العقاب بلا بيان، لأنه لا بيان شرعي في
البين لاستلزامه للدور، ولا بيان عقلي لعدم استقلال العقل بحسن
تحصيل الظن والاعتقاد بالمظنون (وعدم مجئ) الوجه الثالث الذي
قلنا هو الوجه الوجيه في المقام واضح لان حصول الظن بهذه الأمور
ليس كمالا للنفس بل هو جهالة وضلالة
158

وكيف لا يكون جهالة وضلالة مع أن الظن - بوجود الصانع الحكيم أو
سائر هذه الأمور - مساوق مع احتمال العدم تعالى الله عن ذلك
علوا كبيرا (فظهر) أنه على فرض تحقق مقدمات الانسداد لا وجه
لوجوب تحصيل الظن بهذه الأمور ولا الالتزام والاعتقاد بذلك
المظنون.
(وأما معرفة) تفاصيل عالم القبر والبرزخ والسؤال والجواب مع
الملكين (النكير والمنكر) وإن القبر إما روضة من رياض الجنة وإما
حفرة من حفر النيران وكيفية نعيمها وأسلوب جحيمها وكيفية
المعراج والمعاد الجسمانيين ووجود الجهنم وانه مخلوق الان (أو
انه)
يخلق في يوم القيامة وكذلك الجنة، فكل ما كان ضروريا يجب
الاعتقاد به كالمعاد والمعراج الجسمانيين وإن الجنة والنار مخلوقتان
فعلا، والمنكر يكون كافرا خارجا عن ربقة الاسلام.
(نعم هنا كلام) في أن إنكار الضروري هل هو بنفسه موجب للكفر و
الارتداد؟ أو من جهة استلزامه لانكار أصل الدين وبنوة خاتم
النبيين، وهذه مسألة فقهية ليس هاهنا محل بحثه، ففي مثل هذه
الأمور الضرورية أيضا لا مجال لتحقق الانسداد والقول بكفاية تحصيل
الظن والاعتقاد بالمظنون (وأما ما ليس) بضروري فإن حصل له القطع
من دليل عقلي أو نقلي فيلتزم به، وإلا لا وجه (للزوم) تحصيل
القطع به ولو كان ممكنا فضلا عن لزوم تحصيل الظن والالتزام بذلك
المظنون عند عدم إمكان تحصيل القطع وانسداد باب تحصيل
العلم بالنسبة إليه، إلا إذا دل دليل قطعي على لزوم تحصيل العلم
بالنسبة إليه وإلا يكون مجرى للبرأة، هذا مع إمكان الاعتقاد بواقعة
بطور الاجمال بدون أن يلزم منه عسر أو اختلال نظام، وهذا بخلاف
إدراك الواقع في الاحكام الفرعية العملية (فإنه)
159

لا يمكن إلا بالجمع بين المحتملات وهو موجب لاختلال النظام، فلا
مناص إلا عن العمل بالظن بعد ضم سائر المقدمات - فقياس باب
الاعتقاديات بباب الاحكام الفرعية العملية في إجراء دليل الانسداد -
لا وجه له.
المقصد الثالث في الأصول العملية
وهي الوظائف العملية المجعولة للمكلف الشاك المتحير بعد الفحص
عن الدليل واليأس عن الظفر به، ولا يخفى أن المراد من الشك في
المقام ليس خصوص ما تساوى طرفاه - أي ما هو إحدى الحالات
الأربعة الوجدانية المتعلقة بالنسب الواقعة بين الموضوعات و
المحمولات القسيم للحالات الثلاث الاخر أي العلم والظن والوهم -
بل كل ما لم ينكشف بعلم أو علمي وإن كان أحد طرفيه راجحا الذي
يقال له الظن، فالظن الذي لم يقم دليل على اعتباره داخل في هذا
المقصد ويبحث عنه في هذا المقام وإلى هذا يشير شيخنا الأعظم
(ره)
في الفرائد حيث يقول أن الظن غير المعتبر في حكم الشك بل هو هو
(وذلك من جهة) أنه سيظهر فيما بعد أن الوظائف المجعولة
للشاك ليست مخصوصة بالشاك المتساوي الطرفين بل تكون مجعولة
لكل من لم يقم عنده دليل وحجة على ثبوت ذلك الشئ
المشكوك المجهول ولو كان ظانا بأحد الطرفين (وبعبارة أخرى)
الحكم المجعول باعتبار عدم انكشاف الواقع - وفي ظرف استتاره
- هو الأصل العملي مقابل الامارات التي مفادها رفع استتار الواقع و
انكشافه، إما تعبدا كالامارات الشرعية الظنية، واما وجدانا كالقطع
الذي هي أمارة تكوينية منجعلة.
ثم انهم قسموا الأصول إلى أربعة أقسام (الأول) مباحث الألفاظ سوأ
كانت تلك الألفاظ في الكتاب والسنة أو في غيرهما، وإن كان
الغرض
160

المهم عندهم خصوص ما كانت فيهما لمدخليتها في الاستنباط و
ذلك كأغلب مباحث الأمر والنهي والمفهوم والمنطوق والعام و
الخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين (القسم الثاني) مباحث
الملازمات العقلية كمبحث مقدمة الواجب، ومسألة اجتماع الامر و
النهي، ومسألة أن الامر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده أم لا، فان
البحث في هذه المسائل عقلي لا دخل لها بباب الألفاظ ففي الحقيقة
يرجع البحث فيها إلى أنه هل العقل يحكم بوجود الملازمة بين إرادة
الشئ وإرادة مقدماته الوجودية أم لا، وفي مسألة الاجتماع هل
يرى العقل اجتماعهما من قبيل اجتماع الضدين أم لا، وفي مسألة
الضد يرجع البحث إلى أن العقل هل يرى وجوب الشئ ملازما مع
حرمة
ضده من باب الملازمة أو من باب المقدمية، ولكن حيث أنهم لم
يفردوا بابا لذكر هذه الملازمات ذكروها في مباحث الألفاظ وإلا لا
دخل لها بها (القسم الثالث) مباحث الامارات والحجج المعتبرة شرعا
أو عقلا إحداثا أو إمضاء لما هو حجة وطريق عند العقلا، كما لعله
هو الغالب في الامارات المعتبرة عند الشارع، فإنها ليست إحداث
حجية من قبله بل إمضاء لما هو من طريقة العقلا (القسم الرابع)
مباحث الأصول العملية وأحكام الشك.
ثم أن صاحب الكفاية (ره) جعل الأقسام ثمانية الأوامر والنواهي و
المفهوم والمنطوق والعام والخاص والمجمل والمبين والمطلق و
المقيد والامارات والأصول العملية والتعادل والتراجيح.
ويمكن تقسيمه بثلاثة أقسام (الأول) مباحث الألفاظ (المقصد الثاني)
في الامارات المعتبرة شرعا وعقلا (المقصد الثالث) في الشك و
أحكامه وهو الان محل البحث.
وينبغي تقديم أمور:
الامر الأول
حيث أخذ الشك موضوعا في أحكامه، فتكون الامارات حاكمة على
الاحكام المجعولة للشاك أي الوظائف العملية التي مجعولة له بعنوان
161

انه شاك، وهذا بناء على أن يكون جعلها على نحو الكاشفية و
الطريقية كما هو طريقة العقلا في جعل الطرق والامارات، وذلك من
جهة رفع موضوعها بها تعبدا، كما أن العلم الوجداني يرفع موضوعها
حقيقة فيكون تقديمه عليها من باب التخصص ولعين تلك الجهة
يقدم الأصل التنزيلي على غير التنزيلي، ويكون حال الأصل غير
التنزيلي بالنسبة إلى التنزيلي حال الأصول بالنسبة إلى الطرق و
الامارات، فيكون الأصل التنزيلي حاكما على غير التنزيلي وسيأتي
تفصيله في أواخر الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
هذا فيما إذا أخذ الشك موضوعا للأحكام الظاهرية أي الوظائف
العملية المجعولة للشاك كما هو كذلك في المقام، (وقد يكون)
موضوعا
للحكم الواقعي كالشك في عدد الركعات بالنسبة إلى صلاة الاحتياط،
ففي هذا القسم أيضا يرفع العلم موضوع الحكم الواقعي المجعول
للشاك رفعا حقيقيا كما أنه لو قامت إمارة على وجود المشكوك ترفع
الموضوع تعبدا وتكون تلك الامارة حاكمة على أدلة صلاة
الاحتياط مثلا (فظهر مما ذكرناه) أن في موارد الأصول لو قامت أمارة
على خلاف مؤداها يرتفع التنافي بينهما بارتفاع موضوع الأصل
تعبدا. فما يظهر من الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) من الجمع
بين الأصل والامارة بطولية موضوعهما - من حيث أخذ الشك في
موضوع الأصل دون الامارة كالجمع بين الحكم الظاهري والواقعي
بذلك - بظاهره غير مستقيم وذلك من جهة بطلان الجمع بين
الحكم الواقعي والظاهري بذلك أي بطولية موضوعهما أولا، بل لا
مناص من إنكار وجود أحدهما حتى لا يجتمع الضدان (ولكن) إنكار
وجود حكم الواقعي أو فعليته حيث يلزم منه التصويب المحال أو
المجمع على بطلانه فلا مناص إلا من إنكار حكم الظاهري وانه سراب
و
حكم إثباتي لا ثبوت له واقعا وهو صحيح كما تقدم تفصيله في
مبحث الظن (وثانيا) ذكرنا أن
162

الجمع في المقام بحكومة الامارات على الأصول مطلقا تنزيليا كانت
أو غير تنزيلي، وبارتفاع موضوعها تعبدا بها، كما أن الامر في
الأصول التنزيلية وغير التنزيلية أيضا كذلك أي بارتفاع موضوع غير
التنزيلي تعبدا بالتنزيلي وحكومته على غير التنزيلي.
الامر الثاني
في أن الوظيفة العملية المجعولة للشاك أي الأصول العملية على
قسمين (منها) ما تختص بالشبهات الموضوعية، كأصالة الصحة في
فعل
الغير، وقاعدة اليد، وقاعدة السوق، وقاعدة الفراغ، وقاعدة التجاوز،
وغير ذلك (ومنها) ما تجري في كلتا الشبهتين الحكمية و
الموضوعية كأصالة الطهارة، وأصالة الحل، والاستصحاب، وأصالة
البراءة، وأصالة التخيير، والمقصود في هذا البحث هي الأصول
الحكمية وإن كانت قد تجري في الشبهات الموضوعية، والمهم منها
وما هو مورد البحث والنزاع هي الأربعة المعروفة المذكورة في
أول الكتاب أي الاستصحاب والبرأة والاحتياط والتخيير، وأما
قاعدة الطهارة والحل في الشبهات الحكمية وإن كانتا من الأصول و
من أحكام الشك أيضا لكنه لوضوحهما وعدم الخلاف فيهما استغنى
عن البحث فيهما، وإن كان هذا الكلام بالنسبة إلى الأخير منهما لا
يخلو من إشكال (ومجاري) هذه الأصول الأربعة هي أن الوظيفة
المجعولة للشاك اما أن تكون برعاية الحالة السابقة وملاحظته و
الحكم ببقاء ما كان تعبدا فهذا هو الاستصحاب، وإن لم تكن برعاية
الحالة السابقة فان كان الشك في أصل التكليف وجنسه فهذه هي
البراءة، وإلا ان كان أصل التكليف معلوما فان كان الاحتياط فيه ممكنا
فيكون مجرى أصالة الاحتياط، وإلا يكون مجرى أصالة التخيير.
الامر الثالث
ان الشك في أصل التكليف الذي هو مجرى البراءة على أقسام، و
ذلك من جهة ان الشك (قد يكون) في الشبهة الحكمية (وقد
163

يكون) في الشبهة الموضوعية، والأول قد يكون تحريمية، وقد يكون
وجوبية وفي كل واحد منهما قد يكون لفقد النص وقد يكون
لاجماله وقد يكون لتعارض الامارتين فالصور في الشبهة الحكمية
ستة ثلاثة للتحريمية وثلاث للوجوبية (والموضوعية صورتان)
فالمجموع ثمانية.
ولكن المهم في مقام البحث والنزاع - الذي هو محل الخلاف بين
الأصوليين والاخباريين - هي الشبهة الحكمية التحريمية لفقد النص
أو
إجماله وأما لو كان منشأ الشك تعارض النصين فيه تفصيل سيجئ
الكلام فيه إن شاء الله (ومناط الحكم) بالبرأة أو الاحتياط في
الجميع وإن كان واحدا (ولكن) ربما يكون لبعض هذه الأقسام
خصوصية ليست للآخرين (فالأولى) أن يفرد لكل واحد من هذه
الأقسام
مسألة على حدة كما صنعه شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره.
الامر الرابع
لا نزاع في كبرى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل الأخروي أي
العقاب فالاصولي والاخباري متفقان في تمامية هذه القاعدة و
صحتها وكذلك في قاعدة قبح العقاب بلا بيان اتفاقي بين الطرفين و
النزاع في الصغرى وإن محل النزاع أعني الشبهة التحريمية
الحكمية، من صغريات أيهما فالاصولي يدعى أنه من صغريات قاعدة
قبح العقاب بلا بيان، والاخباري يدعى أنه من صغريات قاعدة
لزوم دفع الضرر الأخروي المحتمل (وبعبارة أخرى) الاخباري يدعى
وجود البيان على لزوم الاحتياط فيخرج عن تحت قاعدة قبح
العقاب بلا بيان ويكون من صغريات قاعدة دفع الضرر المحتمل، و
الأصولي يدعي عدم وجود البيان على التكليف المجهول ولا على
لزوم الاحتياط فيكون من صغريات قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وعند
تعارض القاعدتين تكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على
قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى ذهاب موضوعها بها أي بعد
حكم
164

بقبح العقاب لا يبقى احتمال الضرر في البين (لا يقال) لو جأت قاعدة
دفع الضرر المحتمل فتكون بيانا ويذهب بموضوع قاعدة قبح
العقاب بلا بيان (لأنا نقول) بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل دوري
(بيان ذلك) ان بيانية هذه القاعدة متوقفة على عدم جريان قبح
العقاب بلا بيان وعدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان موقوف على
بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل، وهذا دور واضح وسيأتي.
الامر الخامس
في وضوح الفرق بين هذه المسألة ومسألة ان الأصل في الاشياء هل
هو الحضر أو الإباحة وعدم اتحادهما بل لا تلازم بينهما فضلا عن
الاتحاد، إذ يمكن أن يختار في تلك المسألة الحضر وفي هذه المسألة
يقول بالبرأة لقيام الدليل عليها بنظره أو يقول في تلك المسألة
بالإباحة ويقول في هذه بالاحتياط لقيام الدليل عليه أيضا بنظره (و
بعبارة أخرى) البحث في تلك المسألة في أنه مع قطع النظر عن
ورود حكم الاشياء عن قبل الشارع هل العقل يستقل بالحضر أو
الإباحة، والبحث في هذه المسألة في أنه بعد ورود حكم الاشياء من
قبل
الشارع وصدوره عنه إذا لم يعلم الحكم الصادر عنه في الشبهة
التحريمية لفقد النص أو إجماله هل مقتضى الأدلة العقلية أو النقلية
الاحتياط أو البراءة، فعلى فرض دلالة الأدلة في تلك المسألة على
الحضر لا تفيد في إثبات الاحتياط في هذه المسألة بها لما ذكرنا من
الفرق بين المسألتين (نعم) لو دلت الأدلة في تلك المسألة على
الإباحة ولم يوجد في هذه المسألة دليل على الاحتياط في مورد
الشبهة
يحكم عليه بالإباحة والبرأة من دون احتياج إلى وجود دليل على
البراءة، وأما لو كان مفاد الأدلة في تلك المسألة هو الحضر فالحكم
في هذه المسألة بالبرأة يحتاج إلى ورود دليل عليها.
الامر السادس
لا ينبغي أن يتوهم أن حكم الشبهة قبل الفحص حيث
165

يكون هو الاحتياط فبعد الفحص أيضا حكمها الاحتياط إلا أن يأتي
دليل على البراءة (فالاصولي) في دعواه البراءة يحتاج إلى وجود
دليل عليها بخلاف الاخباري فإنه لا يحتاج إلى وجود الدليل على
الاحتياط بل يكفيه عدم الدليل على انقلاب الاحتياط إلى البراءة، و
ذلك
من جهة عدم وجود مناط الاحتياط الذي كان قبل الفحص بعد
الفحص، إذ مناطه قبل الفحص (أما العلم الاجمالي) بوجود تكاليف
إلزامية
في جملة المشتبهات ولا شك في أن هذا العلم الاجمالي بعد
الفحص ينحل بواسطة الاطلاع على تكاليف إلزامية كثيرة بين
المشتبهات (و
أما عدم العمل) بما هو وظيفة العبد من لزوم السؤال والفحص عن
أوامر المولى ونواهيه في مظان وجوده، ولا شك في أنه لا يبقى
موضوع لهذا الوجه بعد الفحص التام، فالاحتياط بعد الفحص يحتاج
إلى دليل أيضا كالبرأة ولا يمكن بقائه إلى ما بعد الفحص لزوال
مناطه وعلته.
الامر السابع
في أن المراد بالشك في المقام عدم انكشاف الواقع بعلم أو علمي و
لو كان ظانا بالظن غير المعتبر وليس المراد به خصوص ما تساوى
طرفاه المقابل للقطع والظن والوهم، إذ الوظائف العملية المجعولة
للشاك التي أحكام الشك في المقام هي وظيفة لمطلق من لم ينكشف
لديه الواقع بعلم أو علمي ولو كان ظانا بالظن غير المعتبر على خلاف
مؤدياتها كما سيأتي تفصيله في المباحث الآتية إن شاء الله.
الامر الثامن
لا يتوهم اتحاد مسألة البراءة مع مسألة عدم الدليل دليل العدم، إذ مع
فساد تلك الدعوى في نفسها - إذ من الممكن عدم وجدان الدليل
على ثبوت حكم شرعي تكليفي أو وضعي مع ثبوته في الواقع - فكان
هذا القائل قاس عدم الدليل بعدم العلة وقال كما أن عدم العلة
لوجود شي علة لعدمه كذلك عدم الدليل دليل العدم. (ولكنك
خبير) بالفرق الواضح بينهما، هذا مع أن المقيس عليه أيضا لا يخلو
من
مسامحة وكلام
166

تقريبي (لان) العدم لا تأثير له ولو في العدم الأصولي يدعى وجود
الدليل على البراءة من الآيات والروايات ودليل العقل، والاخباري
أيضا كذلك يدعى وجود الدليل على الاحتياط (هذا مضافا) إلى أنه لو
كان ما ذكروه صحيحا وكان عدم الدليل دليلا على العدم فيكون
من قبيل قيام الامارة على الحكم الواقعي لا الوظيفة العملية المجعولة
للشاك والمتحير بعد الفحص واليأس من الظفر على الدليل كما هو
مفاد البراءة، وأما استصحاب عدم التكليف أو الوضع على فرض
جريانه فهو أصل تنزيلي يكون حاكما على البراءة ولو كان مؤداه
موافقا لمؤدى البراءة وواضح انه غير البراءة. إذا عرفت هذه الأمور
فلنشرع فيما هو المقصود من جريان البراءة في الشبهة البدوية
الوجوبية أو التحريمية بأقسامها من الحكمية والموضوعية وفيها
مباحث يأتي تفصيلها.
(المبحث الأول): في الشبهة الحكمية التحريمية لأجل فقدان النص:
وقد وقع الخلاف فيها بين الأخباريين والأصوليين، فالاخباريون
قاطبة قالوا بلزوم الاحتياط، والأصوليون قالوا بالبرأة، والأقوى
هو الثاني، واستدل عليه بالأدلة الأربعة.
أما الكتاب:
فب آيات (منها) قوله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها) وتقريبه
بأن يكون المراد من الموصول هو التكليف، والمراد من الايتاء هو
الايصال والاعلام، لان إيتاء كل شي بحسبه وإيتاء التكليف ليس إلا
بإيصاله وإعلامه، وبناء على ما ذكرناه في معنى الآية دلالته على
المطلوب واضحة، إذ الآية بناء على هذا المعنى تدل على أن التكليف
الذي ما أوصله الله إلى المكلف وما أعلمه مرفوع عنه ولا يوقعه في
مشقة التكليف به (لكنه أورد عليه) بأنه من المحتمل أن يكون المراد
بالموصول هو المال ومن الايتاء هو التمليك بقرينة المورد فتكون
الآية
167

أجنبية عن المقصود أي البراءة عند الشك في التكليف، وكذلك من
المحتمل أن يكون المراد من الموصول مطلق فعل الشئ وتركه ومن
الايتاء الاقدار (فيكون) معنى الآية ان الله تعالى لا يكلف العبد بفعل
شي أو تركه إلا فيما إذا أعطاه القدرة على ذلك الفعل أو ذلك
الترك أي: لا يكلف العاجز عن فعل أو ترك بهما، وهذا المعنى أيضا
أجنبي عن البراءة، وظهور الآية في المعنى الأول الذي يفيد في
المقام غير معلوم بل لعلها ظاهرة في المعنى الثاني بقرينة المورد.
ان قلت - يمكن أن يكون المراد بالموصول الجامع بين التكليف و
المال ومطلق فعل الشئ وتركه، والمراد بالايتاء الجامع بين
الايصال والتمليك والاقدار بأن يكون المراد بالايتاء الاعطاء وإعطأ
كل شي بحسبه فإعطاء التكليف إيصال وإعلام وإعطاء المال
تمليك وإعطاء مطلق فعل الشئ وتركه إقدار فالآية بعمومها تشمل
المقام وتدل على البراءة.
قلنا - ان الجامع بين المال والتكليف لا يمكن وجوده في المقام لان
نسبة الفعل أي التكليف إلى التكليف نسبة الفعل إلى مفعول المطلق
ونسبته إلى المال نسبة الفعل إلى المفعول به وهما مما لا يجتمعان،
لان بين النسبتين تناف وتباين لان في نسبة الفعل إلى المفعول
المطلق يحتاج إلى لحاظ كون المفعول من شؤون الفعل وأطواره على
نحو لا يكون له وجود قبل وجود الفعل بل يكون وجوده بعين
وجود الفعل بخلاف المفعول به فإنه لا بد وأن يكون موجودا قبل
الفعل كما هو ظاهر لفظ المفعول به ليكون الفعل واقعا عليه وموجبا
لاحداث صفة فيه ومن أجل هذه الجهة أنكر الزمخشري كون
السماوات في قوله تعالى (خلق الله السماوات) مفعولا به لعدم
وجودها قبل
الخلق وعدم وقوع الخلق عليها (فظهر مما ذكرنا) عدم إمكان اجتماع
نسبة فعل واحد في استعمال واحد إلى المفعول المطلق و
المفعول به إلا باستعمال
168

اللفظ في أكثر من معنى واحد، هذا ولكن مع ذلك كله (يمكن أن
يقال) أن المراد من الموصول هو الجامع بين المعاني الثلاثة وهو
الشئ
مثلا بإلقاء خصوصيات المعاني الثلاثة أي المال والتكليف والفعل
لان كل واحدة من هذه الثلاثة لها ذات مشترك بين جميع الاشياء و
بهذا الاعتبار يقال لها شي بحذف خصوصيات، ومعلوم أن نسبة
التكليف إلى الشئ يكون من قبيل المفعول به لا المفعول المطلق
فليس نسبتان متنافيان وكذلك المراد من الايتاء ونسبة الفعل إليه
نسبته إلى المفعول به وحده، وحديث وجود المفعول به قبل تعلق
الفعل به لا أساس له أصلا إلا إذا كان الفعل من العوارض الطارئة على
المفعول به.
وأما إذا كان الفعل بمعناه الاسم المصدري من الأعيان الخارجية
كالسماوات في قوله تعالى (خلق الله السماوات) أو من الأمور
المستقلة
الموجودة في عالم الاعتبار كالتكليف أي الحكم الشرعي فيمكن أن
يكون هو المفعول به ولا وجه لكونه من قبيل المفعول المطلق لعدم
كونه من أطوار الفعل وكيفياته بل هو الحاصل من الفعل بالمعنى
المصدري بل هو عينه والفرق اعتباري، فليس هناك نسبتان متنافيان
حتى لا يمكن اجتماعهما هذا كله إذا كان المراد من الفعل توجيه
الحكم الشرعي وما هو المسمى بالتكليف وإنشائه وتكليف
المكلفين
به، وأما لو كان المراد منه كما هو الظاهر منه إيقاعهم في الكلفة و
المشقة من ناحية توجيه التكليف نحوهم فلا يرد الاشكال المذكور
أصلا لاختلاف معنى الفعل حينئذ مع الموصول وعدم كونه موجودا
بوجود الفعل.
نعم هاهنا إشكالات اخر (أحدهما) ان ظاهر الآية بقرينة المورد هو أن
المراد من الموصول هو خصوص المال فهو القدر المتيقن في مقام
التخاطب ومعه لا يبقى مجال للتمسك بإطلاق الآية (وفيه) أنه من
قبيل العموم وكون
169

المورد بعض مصاديقه لا ينافي الاخذ بعمومه بالنسبة إلى موارد الاخر
مع أن المراد من قدر المتيقن في مقام التخاطب المنافي للاخذ
بالاطلاق هو أن يكون بحيث لو كان المراد بخصوصه لما احتاج إلى
نصب قرينة عليه وكون المال كذلك في المقام غير معلوم (ثانيهما)
أن الآية بناء على ما ذكرنا لا تدل إلا على رفع الكلفة والمشقة من
ناحية التكليف المجهول غير الواصل إلى المكلف، ولا تدل على
عدم
وجوب الاحتياط الذي يقول به (وفيه) أن وجوب الاحتياط كلفة و
مشقة آتية من ناحية التكليف المجهول، فالآية تدل على رفعها، لان
وجوب الاحتياط ليس وجوبا نفسيا استقلاليا وانما هو وجوب طريقي
يأتي من ناحية التكليف المجهول ولمراعاته وحفظه (ثالثهما)
إن الايتاء - ولو كان بمعنى الاعلام حيث أنه منسوب إلى الله تعالى -
ظاهر في كونه بحسب أسبابه العادية بواسطة إرسال الرسل و
إنزال الكتب وتبليغ الاحكام إلى الناس على النحو المتعارف، وهذا
المعنى قد حصل وقال صلى الله عليه وآله وسلم (ما من شي
يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به وما من شي
يقربكم إلى النار ويبعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه) فلو بقي
شي مجهولا ليس من جهة عدم إعلامه تعالى بل حصل إعلامه
بالنسبة إلى جميع التكاليف، فالآية لا تشتمل التكاليف المجهولة
بواسطة
ظلم الظالمين ومنع المانعين، إذ لا يصدق عليها عدم الايتاء والاعلام
من قبل الله جل جلاله فلا تكون الآية دليلا على عدم وجوب
الاحتياط وردا على الأخباريين ومثبتا لقول الأصوليين بل يكون
مساقها مساق قوله عليه السلام (اسكتوا عما سكت الله عنه) فلو
سكت
الله عن شي ولم يبلغه ولم يعلمه بتوسط الوحي إلى سفرائه وأمرهم
بتبليغ ذلك إلى الناس فلا يؤاخذ الناس ولا يكلفهم بذلك وهذا
المعنى أجنبي عن المقام.
(ومنها) قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وتقريب
170

الاستدلال بها أنه تعالى أخبر بعدم العقاب والتعذيب قبل بعث الرسل
وإتمام الحجة فبعث الرسل كناية عن إيصال الاحكام إلى
المكلفين فقبل أن يصل إليهم لا يؤاخذهم على مخالفة التكليف
المجهول، فتدل على البراءة عند الشك في التكليف (وبعبارة أخرى)
حيث إنه
تبارك وتعالى في مقام الامتنان على العباد ونفي الظلم عنه تعالى
فالمناسب لهذا المقام هو نفي التعذيب في غير مورد إتمام الحجة
ووصول التكليف وعدم تنجزه عليه فتدل على رفع العقاب في مورد
الجهل بالتكليف وعدم تنجزه عليه وهو مطلوب الأصولي، و
لذلك قالوا أن هذه الآية أصرح وأظهر دليل على البراءة في الشبهات و
مورد الجهل بالتكليف الإلزامي (ولكن مع ذلك فيه) أن الآية
ظاهرة بل صريحة في نفي التعذيب عن الأمم السابقة وإهلاكهم قبل
بعث الرسل وإنزال الكتب وإتمام الحجة عليهم بظهور المعجزات
وخوارق العادات فالآية أجنبية عن المقام أي البراءة عن التكليف
المجهول.
ثم أن الأخباريين استدلوا بهذه الآية على عدم الملازمة بين حكم
العقل وحكم الشرع (بتقريب) أن العقل إذا حكم بلزوم فعل شي أو
تركه ولم يرد بيان من قبل الشارع فلا عقاب على مخالفة ما حكم
العقل بلزوم فعله أو تركه، ونفي العقاب يدل على نفي التكليف ففي
مورد حكم العقل بلزوم فعل أو ترك شي ليس على وفقه حكم من
الشارع بحكم هذه الآية.
وفيه (أولا) ما ذكرنا أن الآية ظاهرة في نفي التعذيب الدنيوي عن
الأمم السابقة قبل إتمام الحجة عليهم ببعث الرسل وظهور المعجزات
وخوارق العادات على أيديهم فهي أجنبية عن البراءة وعن نفي
قاعدة الملازمة (وثانيا) على فرض الدلالة على البراءة وكون المراد
من
الرسول البيان الواصل إلى المكلف (فنقول) حكم العقل بيان وقد
وصل إلى المكلف ولذلك اشتهر أن العقل رسول باطني كما أن
الأنبياء رسل ظاهرية.
171

وقيل في جواب الأخباريين في دلالة هذه الآية على نفي الملازمة بأن
الآية لا تدل الا على نفي فعلية العذاب ونفي الفعلية لا يدل على نفي
الاستحقاق لان نفي الأخص لا يدل على نفي الأعم والذي يدل على
عدم الملازمة هو نفي الاستحقاق لا نفي الفعلية لأنه من الممكن عدم
فعلية العذاب بواسطة العفو، كما ورد العفو عن نية السيئة مع عدم
العمل بها، وعن ارتكاب الصغائر مع الاجتناب عن الكبائر، وعن
الظهار، فإذا حكم العقل بلزوم فعل أو ترك ولم يرد بيان من الشارع
على لزوم أحدهما على وفق العقل يمكن أن يكون من خالف حكم
العقل مستحقا للعقاب ولو عفى الله عنه بحكم هذه الآية (وفيه أولا)
ان ردهم بهذا البيان مع الاستدلال بهذه الآية على البراءة كما ذكره
المحقق القمي (ره) متناقضان إذ البراءة مبتنية على أن يكون المراد من
نفي التعذيب في الآية نفي الاستحقاق وردهم في نفي الملازمة
مبتنية على أن لا يكون المراد منه نفي الاستحقاق بل يكون نفي
الفعلية وأما اعتراف الخصم بملازمة نفي الفعلية مع نفي الاستحقاق
فلا
يصحح الاستدلال على البراءة إلا جدلا لا برهانا (وثانيا) لا يجوز
إظهار العفو وإعلانه من الحكيم مع الاستحقاق لأنه موجب للجرأة
على
ارتكاب المعصية، وأما في العفو عن نية المعصية مع عدم العمل بها
على فرض كونها معصية لا يمكن التجري فيها لأنه حال النية والعزم
على المعصية لا يحتمل أن تكون نية مجردة، وأما العفو عن الصغائر
حيث إنه معلق على اجتناب الكبائر طول عمره فلا يمكن عادة له
إحراز هذا الموضوع بحيث يكون مطمئنا بأنه لا يبتلى ولو بكبيرة
واحدة كاستماع غيبة مثلا في تمام عمره فلا يوجب التجري على
ارتكاب الصغائر مثل هذا العفو المعلق، وأما الظهار فان ثبت العفو عنه
فلا بد وأن نقول بعدم حرمته.
ولكن الانصاف ان الآية ظاهرة في نفى العقاب بدون إتمام الحجة
فيكون مفادها مفاد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فلا تعارض
أدلة وجوب الاحتياط لو كان دليل على ذلك كما يدعيه الأخباريون
كما أن بعث الرسل كناية عن البيان والاعلام والايمان فتأمل.
(ومنها) قوله تعالى (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى
172

يبين لهم ما يتقون) وتقريب الاستدلال بها ظهر من الآية السابقة وإن
مفادها أن الله تعالى لا يخذل العباد إلا بعد بيان ما يجب أن
يجتنبوا عنه وبعد إتمام الحجة عليهم بإيصال التكاليف إليهم ففي
مورد الجهل بالتكليف وعدم البيان والايصال إليهم لا خذلان ولا
إضلال ولا مؤاخذة ولا عقاب في البين، فتدل الآية على البراءة (و
فيه) أن ظاهر الآية ان الخذلان في الدنيا ما كان في الأمم السابقة إلا
بعد بيان ما كان يجب أن يتركوه ولا يرتكبوه فارتكبوا ولم يجتنبوا
كالمعاصي التي صدر عن قوم لوط مثلا فخذ لهم الله وأضلهم
فتكون الآية أجنبية عن البراءة في مورد التكليف المجهول هذا ما أفاده
شيخنا الأعظم (قده) ولكن أنت خبير إلى أن ورود الآية في
مورد السؤال في الذين ماتوا قبل نزول حكم الزكاة والصوم والحج و
انهم هل يعاقبون على ترك هذه الاشياء.
أم لا؟ فأجاب الله تبارك وتعالى وما كان الله ليضل إلخ فهذا أدل دليل
على البراءة.
(ومنها) قوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم
يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) وتقريب الاستدلال بها أن
الله
تبارك وتعالى جعل عدم الوجدان فيما أوحى إلى نبيه دليلا على
الحلية ووبخ اليهود على قولهم بالحرمة مع عدم وجدان الحرمة فيما
أوحى ففي مورد احتمال الحرمة وعدم وجدان دليل عليها لا يجوز
القول بالحرمة و هو افتراء وتشريع محرم (وفيه) ان عدم وجدانه
صلى الله عليه فيما أوحى إليه دليل قطعي على عدم وجوده وعلى
عدم حرمته، فالحق ما ذهب إليه صاحب الكفاية (ره) من إنكاره حتى
الاشعار بالمطلوب في مقام الاعتراض على الشيخ الأنصاري (قدس
سره) الذي قال بأن الآية لا تدل على البراءة لكنه فيها اشعار بذلك.
(ومنها) قوله تعالى (وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد
فصل لكم ما حرم عليكم) تقريب الاستدلال بها أن الله وبخهم على
تركهم أكل ما ليس من المحرمات التي فصل الله لهم فجعل عدم كونه
173

فصل تحريمه دليلا على الحلية مع احتمال حرمته، فتدل الآية على
حلية مشكوك الحرمة مع عدم دليل على حرمته (وفيه) أن عدم كونه
مما فصل حرمته، يوجب العلم بعدم حرمته إذ ظاهر الآية أنه تبارك و
تعالى فصل جميع المحرمات لظهور الموصول في العموم وبعد ما
لم يكن داخلا في المحرمات فيكون بالقطع واليقين من جملة
المحللات.
وأما الاخبار
فبروايات أظهرها في الدلالة على المطلوب حديث الرفع وهو قوله
صلى الله عليه وآله وسلم (رفع عن أمتي تسعة الخطاء والنسيان وما
أكرهوا عليه وما لا يطيقون وما لا يعلمون وما اضطروا إليه والطيرة و
الحسد والوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة) والحديث
الشريف مروي في الخصال بسند صحيح عن أحمد بن محمد بن
يحيى العطار عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن حماد بن
عيسى عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام فكونه من
الصحاح مع اشتهاره بين الأصحاب واعتمادهم عليه يغني عن التكلم
في سنده، وأما دلالته وما يستفاد من فقراته فيظهر برسم أمور.
(الامر الأول) لا شك في أن الرفع يستعمل عند العرف في إزالة شي
موجود مع كون المقتضى لبقائه موجودا، والدفع يستعمل فيما إذا
لم يوجد بعد ولكن كان المقتضي لوجوده موجودا، فالمفهوم العرفي
للرفع عبارة عن إزالة الموجود مع وجود المقتضى لبقائه، وأما
الدفع عندهم عبارة عن منع تأثير المقتضى في وجود الشئ، فهما
يشتركان في أن ورودهما لا بد وأن يكون في مورد يكون المقتضى
لوجود الشئ موجودا، ويفترقان في أن الرفع لا يرد إلا في مورد أثر
المقتضى بالكسر أثره وصار المقتضى بالفتح موجودا بخلاف
الدفع فإنه يرد بعد وجود المقتضى بالكسر ولم يوجد المقتضى بالفتح
بعد فالرفع يمنع عن تأثير المقتضى بقاء والدفع يمنع عن
174

تأثيره حدوثا.
وشيخنا الأستاذ قدس سره أفاد بأن كليهما مفهومهما العرفي المنع عن
تأثير المقتضى حدوثا حتى في الرفع، لان الممكن يحتاج إلى
العلة بقاء ففي كل آن يحدث أثر للمقتضى باعتبار ذلك الان، فالرفع و
الدفع بمعنى واحد (نعم) الرفع غالبا يستعمل فيما له الوجود
سابقا والدفع يستعمل غالبا فيما ليس له وجود سابقا، وهذا القدر من
الفرق لا يوجب اختلاف مفهومهما وظهورهما، فاستعمال
أحدهما في محل الاخر لا يوجب تجوزا في الكلمة ولا يحتاج إلى
رعاية عناية أصلا وعليه بنى أن الرفع في الحديث بمعنى الدفع من
دون
تجوز.
ولكن أنت خبير باختلاف مفهوميهما عند العرف كما ذكرنا (وعرفت)
أن الرفع ظاهر فيما له سبق وجود بخلاف الدفع، فإنه ظاهر
فيما ليس له سبق وجود (ولكن) كون الرفع في الحديث بمعنى الدفع
كما هو الصحيح لا يحتاج إلى ما أفاد بل المقتضى إذا كان لشي
موجودا وكان تام الاقتضاء فالاثر والمقتضى يكون بنظرهم موجودا
فإذا جاء ما يمنع عن التأثير يرونه رفعا حقيقة ولم يستعمل الرفع
في غير معناه حتى يكون مجازا في الكلمة وكان محتاجا إلى رعاية
علاقة (ومما يدل) على أن الرفع في الحديث بمعنى الدفع هو أن
الموصول فيما لا يعلمون المراد به الحكم الشرعي المجهول فإن كان
في حال الشك موجودا وبحديث الرفع يرفع ذلك الحكم الموجود
فهذا يكون نسخا وهو معلوم البطلان وإن لم يكن موجودا فمعناه أن
الأحكام الشرعية مخصوصة بالعالمين وليست مشتركة بين
العالمين والجاهلين وهذا باطل إجماعا، فلا مناص (إلا أن يقال) بأن
إنشاء الاحكام الواقعية لما لم يمكن شمولها لمرتبة الجهل بها لما
يلزم من تقدم الشئ على نفسه وهو محال فوصولها إلى تلك المرتبة
يحتاج إلى جعل آخر سميناه بمتمم الجعل وهو في مقامنا
175

عبارة عن وجوب الاحتياط، فملاكات الاحكام الواقعية مقتضية لجعل
وجوب الاحتياط وقد جعل وجوب الاحتياط في الشبهات الثلاث
(الفروج والدماء والأموال) وأما فيما عداها من موارد الشبهة دفع
المقتضيات عن التأثير في وجوب الاحتياط امتنانا على العباد (لا
نقول) أن الرفع تعلق ابتداء بوجوب الاحتياط كما قال بذلك الشيخ
الأعظم (قدس سره)، لان ظاهر الحديث هو أن المرفوع نفس الحكم
المجهول (بل نقول) أن الحكم الواقعي المجهول ليس محفوظا ظاهرا
وفي رتبته وهذا مرجعه إلى دفع تأثير مقتضيات الاحكام
المجهولة وملاكاتها في وجوب الاحتياط، وهذا معنى رفع الحكم
الواقعي ظاهرا ولا يلزم منه تصويب ولا نسخ.
هذا كله فيما لا يعلمون وأما سائر الفقرات المذكورة في الحديث
فالرفع فيها أيضا بمعنى الدفع، إذ من المعلوم أن هذه الأمور بأنفسها
ليست مرفوعة رفعا تكوينيا لأنها أمور موجودة في الخارج بالضرورة،
فمعنى رفعها تشريعا دفع ملاكات الاحكام عن تأثيرها في جعل
تلك الأحكام في موردها منة على العباد، فملاك حرمة أكل الميتة مثلا
دفع تأثيره في الحرمة في مورد الاضطرار إلى أكلها، وهكذا الامر
في سائر الأمور التسعة غاية الامر في بعضها دفع المقتضى عن أصل
الجعل والتشريع كالحسد والطيرة والوسوسة في الخلق وفي
بعضها الاخر وهي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يطيقون و
ما اضطروا إليه دفع المقتضى عن تأثيره في شمول الحكم
المجعول لهذه الموارد.
(الامر الثاني) حيث أن الرفع تشريعي في هذه الأمور فلا يحتاج إلى
تقدير حتى يقال بأن هذه الأمور - غير ما لا يعلمون - أمور خارجية
تكوينية موجودة بالضرورة فلا بد من تقدير شي حتى يكون هو
المرفوع وذلك الشئ هل هو خصوص المؤاخذة في الجميع أو
جميع
الآثار أو الأثر
176

الظاهر في كل واحد منها كما احتمله الشيخ الأنصاري (قدس سره)، و
ذلك من جهة أن الرفع التشريعي ليس إخبارا عن ارتفاع الشئ -
حتى يكون كذبا إلا أن يقدر صونا لكلام الحكيم عن الكذب واللغوية
- بل تنزيل منزلة العدم في عالم التشريع كقول الفقهاء (لا شك
لكثير الشك) أي كثير الشك في عالم الاعتبار التشريعي شكه نازل
منزلة العدم فلا يترتب عليه أحكام الشك ففي الحقيقة إنشاء لرفع
هذه الأمور في عالم الاعتبار التشريعي باعتبار الآثار الشرعية المترتبة
على موضوعاتها في مواردها، مثلا التكلم بكلام الآدميين في
الصلاة مبطل لها فإذا صدر نسيانا لا يترتب عليه ذلك الأثر الشرعي، و
هذا معنى رفع النسيان تشريعا، وهكذا في سائر الفقرات فمعنى
رفع ما اضطروا إليه أو أكرهوا عليه مثلا انه لو صدر فعل عن اضطرار أو
إكراه لا يترتب على ذلك الفعل الآثار الشرعية التي كانت
تترتب عليه لولا طرو هذا العنوان إذا كان في رفعه امتنان.
(الامر الثالث) الآثار المرفوعة بحديث الرفع لا بد وأن تكون من الآثار
التي تعرض على موضوعاتها غير مقيدة بوجود أحد هذه
العناوين ولا بعدمها، إذ لو كانت مقيدة بوجود أحد هذه العناوين فعند
وجوده لا يرتفع ذلك الأثر، إذ الموضوع للأثر مستدع لوضعه و
لا يمكن أن يكون موجبا لرفعه، وإلا يلزم الخلف كالكفارة في قتل
الخطأ وسجدتي السهو في موارد زيادة أو نقيصة نسيانا، ولو
كانت مقيدة بعدم أحد هذه الأمور فارتفاعه بارتفاع موضوعه ولا
يحتاج إلى حديث الرفع كالكفارة في شهر رمضان والقصاص في
قتل العمدي، فإذا أفطر نسيانا أو قتل خطأ يرتفع الكفارة والقصاص
بارتفاع موضوعهما وهو كونهما عن عمد.
(الامر الرابع) في أن حديث الرفع حيث ورد في مقام الامتنان على
هذه الأمة فلا يجري إلا فيما كان في رفعه منة على الأمة وهذا معلوم
177

وهل يختص بالآثار التي يكون وضعها خلاف المنة أو يجري في
مطلق ما يكون في رفعها الامتنان على الأمة سواء كان وضعها خلاف
المنة أو لا (قال أستاذنا المحقق) قدس سره الظاهر اختصاصه بالأول و
لا أقل من الشك في شموله لما لا يكون وضعها خلاف المنة ولو
كان في رفعها الامتنان عليهم فيؤخذ بالقدر المتيقن وفرع على ذلك
فروع.
ولكن أنت خبير بأن الحديث مطلق من هذه الجهة وظاهر في العموم
وعدم الاختصاص بما يكون وضعها خلاف المنة، فلا وجه للشك
في الشمول وعلى تقدير الشك لا وجه بالأخذ بقدر المتيقن مع وجود
الاطلاق وإلا لا يبقى مورد الاخذ بالاطلاق، إذ ليس مطلق إلا وله
قدر متيقن بالنسبة إلى حكمه، وأما قدر المتيقن في مقام التخاطب له
معنى آخر تقدم في باب المطلق أنه مما يمنع من الاخذ بالاطلاق
(نعم) لو كان رفع التكليف امتنانا بالنسبة إلى شخص وخلاف الامتنان
بالنسبة إلى شخص آخر فشمول الحديث لمثل هذا المورد لا
يخلو عن إشكال، لان ظاهر الحديث أنه في مقام الامتنان والارفاق
على جميع الأمة في كل مورد يرفع الحكم لا على بعض دون بعض.
(الامر الخامس) ربما يتوهم أن المراد من الموصول فيما لا يعلمون
الموضوع المشتبه بقرينة وحدة السياق فان الموصول في سائر
الفقرات لا شك في أن المراد منه هي الموضوعات الخارجية، لان
هذه العناوين - أي عنوان الاكراه والاضطرار وما لا يطيقون - لا
تعرض على الأحكام الشرعية بل هي تعرض على الافعال الخارجية
فبحكم وحدة السياق لا بد وأن يكون الجهل وعدم العلم فيما لا
يعلمون أيضا المراد منه الجهل بالافعال الخارجية وعدم العلم بأنه من
الافعال المباحة كشرب الخل أو من الأفعال المحرمة كشرب الخمر
مثلا، فيدل على البراءة في الشبهات الموضوعية، وكلامنا
178

ومحل الخلاف هي الشبهة الحكمية والحديث لا يشمل الشبهات
الحكمية، هذا أولا، (وثانيا) الاستدلال بهذا الحديث على البراءة في
الشبهات الحكمية والموضوعية جميعا لا يمكن لأنه لا جامع بين
الموضوع والحكم فيما لا يعلمون.
(وبعبارة أخرى) المراد من الموصول فيما لا يعلمون لا يمكن أن
يكون الحكم والموضوع جميعا لان اسناد الرفع إلى الحكم اسناد إلى
ما هو له واسناده إلى الموضوع اسناد إلى غير ما هو له، لان المقصود
من رفع الموضوع رفع حكمه لا رفع نفسه فإسناد الرفع إليه
اسناد إلى غير ما هو له، وأما الحكم فهو بنفسه مرفوع فإسناد الرفع إليه
إسناد إلى ما هو له، والجمع بين الاسنادين في استعمال واحد
لا يمكن، فيدور الامر بين أن يؤخذ بظهور وحدة السياق ويراد من
الموصول خصوص الموضوع أو يؤخذ بظهور الاسناد في كونه إلى
ما هو له ويكون المراد من الموصول هو الحكم فقط، ولكن حيث أن
ظهور وحدة السياق أقوى من الظهور الاخر، فيتعين تخصيصه
بالشبهات الموضوعية (وفيه) أولا أن وحدة السياق ليست محفوظة
في جميع الفقرات وفي بعضها ليس المرفوع هو الفعل قطعا،
كالطيرة والحسد والوسوسة في الخلق لأنها من كيفيات النفس ما لم
ينطق بشفة ومع ذلك كيف يدعى وحدة السياق في الحديث فتأمل
(وثانيا) كما أن ظهور وحدة السياق موجب لإرادة الموضوع من
الموصول فيما لا يعلمون كذلك ظهور الموصول فيه في الحكم
موجب
لإرادة الحكم منه ولا دليل على أقوائية ظهور وحدة السياق من ظهور
الموصول في الحكم في تلك الفقرة فلا موجب لصرف ظهور
الموصول في إرادة الحكم إلى إرادة الموضوع فتأمل هذا كله في
الاشكال الأول.
وأما الاشكال الثاني أي عدم إمكان الجمع بين اسناد الرفع إلى الحكم
والموضوع جميعا في استعمال واحد (ففيه) انه ليس هناك إلا
اسناد الرفع
179

إلى الحكم فقط في كلتا الشبهتين الحكمية والموضوعية، غاية الامر
أن منشأ الجهل والاشتباه في الشبهة الحكمية هو فقد النص أو إجماله
ومنشأ الشك والاشتباه في الشبهة الموضوعية الأمور الخارجية وإلا
ففي كلاهما يكون الشك في الحكم وهو الجامع بينهما واختلاف
منشأ الشك في الشبهتين لا يوجب اختلاف الاسناد فليس الاسناد إلا
إلى ما هو له في كلتا الشبهتين.
(الامر السادس) في أن حديث الرفع بالنسبة إلى الافعال التي تقع عن
خطأ أو عن نسيان أو عن إكراه أو عن اضطرار أو ما لا يطيقه
تكون حاكمة على أدلة الاحكام بعناوينها الأولية، بمعنى أن دليل
الجلد في الزنا مثلا، أو القطع في السرقة مثلا محكوم بهذا الحديث إذا
وقعا عن خطأ أو نسيان أو إكراه أو اضطرار أو كان فعل واجب مما لا
يطيقه كالحج والصوم مثلا فدليل ذلك الواجب محكوم بهذه
الفقرة من الحديث الشريف كل ذلك بالحكومة الواقعية، كدليل نفي
الضرر والحرج إلا أن الحكومة الواقعية فيهما في جانب المحمول،
لان الضرر والحرج مما يطرآن على نفس الاحكام الواقعية التي هي
محمولات على أفعال المكلفين أو على الأعيان الخارجية كالاحكام
الوضعية التي تحمل على تلك الأعيان، فحال الحديث بالنسبة إلى
هذه الفقرات حال حديث نفي الضرر في كونه حاكما على الأدلة
الاحكام بعناوينها الأولية (نعم) الفرق بينهما أن أدلة نفي الضرر و
الحرج لهما حكومة واقعية على الأدلة الأولية في عقد الحمل أي في
جانب المحمول أي نفس الأحكام الشرعية بالتضييق، وحديث الرفع
بالنسبة إلى هذه الفقرات له حكومة واقعية على الأدلة الأولية
بالتضييق في عقد الوضع أي في جانب موضوعات الأحكام الشرعية
التي هي عبارة عن أفعال المكلفين (نعم) بالنسبة إلى فقرة (ما لا
يعلمون) له حكومة ظاهرية على الأدلة الأولية وقد فصلنا بيان أقسام
الحكومة من الظاهرية والواقعية في جانب الموضوع
180

وفي جانب المحمول بالتوسعة أو بالتضييق وسيأتي أيضا إن شاء الله.
ومما ذكرنا ظهر لك أنه لا تلاحظ النسبة بين حديث الرفع والأدلة
الأولية ولا الأظهرية بل يقدم عليها مطلقا كما هو شأن الحاكم و
المحكوم فيقدم دليل الحاكم على دليل المحكوم وإن كانت النسبة
بينهما عموما من وجه أو كان دليل المحكوم أظهر، ونتيجة تقديمه
على الأدلة الأولية تخصيص الاحكام الواقعية بغير موارد طرو هذه
العناوين على موضوعاتها لما تقدم وسيأتي أن نتيجة الحكومة
تخصيص دليل المحكوم فلا مجال للشك في تخصيص حديث الرفع
للأدلة الاحكام الواقعية بغير موارد طرو هذه العناوين.
(الامر السابع) في أن المرفوع هل هو جميع الآثار المترتبة على
موضوعاتها أو بعضها، وقد تقدم أن الرفع تشريعي، ومعناه أن الفعل
الذي صدر خطأ أو نسيانا أو إكراها عليه أو اضطرارا أو ما لا طاقة له
عليه في عالم التشريع والاعتبار التشريعي كالعدم أي لا يترتب
على ذلك الفعل الآثار التي كانت تترتب لولا عروض هذا العنوان
عليه، فالرفع التشريعي في الحقيقة تنزيل الموجود منزلة المعدوم
بالنسبة إلى الآثار، وكما أن التنزيل قد يكون بجعل شي منزلة شي
آخر من حيث الآثار كذلك قد يكون بجعل وجود شي منزلة
عدمه من حيث الآثار (والأول) يسمى عندهم بالتنزيل كتنزيل
الطواف منزلة الصلاة بقوله عليه السلام (الطواف بالبيت صلاة) (و
الثاني)
يسمى بالرفع كما في ما نحن فيه، وقد تقدم أنه لا بد وأن يكون
بالنسبة إلى الآثار التي في رفعها امتنان ولا بد أيضا أن يكون الرفع
بالنسبة إلى الآثار الشرعية التي أمر وضعها ورفعها بيد الشارع لا الآثار
العقلية التي ليست كذلك.
وقد ظهر مما ذكرنا أن الرفع التشريعي لا ينافي مع وجود الشئ في
الخارج وثبوته تكوينا لان رفع الموضوع تشريعا هو رفع حكمه
لا من جهة
181

تقدير الأثر والحكم بل من جهة أن هذا هو معنى الرفع التشريعي، ثم
أن المراد من رفع الخطأ والنسيان لا بد وأن يكون هو الفعل الذي
أوجده خطأ أو نسيانا لا نفساهما لان ارتفاع نفس الخطأ والنسيان
باعتبار آثارهما الشرعية معناه ترتيب آثار العمد على الفعل الذي
وقع خطأ أو نسيانا وهو خلاف الامتنان يقينا، فالمراد منهما المنسي و
ما أخطأ على حذو ما أكرهوا عليه وما اضطروا إليه وما لا
يطيقون (وقد ظهر) من جميع ما ذكرنا أن الرفع التشريعي يكون بلحاظ
رفع الآثار.
فنقول مقتضى ظاهر الحديث أن كل فعل يكون له أثر أو آثار شرعية
وضعية أو تكليفية بمعنى كونه موضوعا لذلك الأثر أو تلك الآثار
(فذلك) الأثر أو تلك الآثار مرفوعة عن صفحة التشريع باعتبار ارتفاع
موضوعها في عالم التشريع إذا لم يكن في رفعها خلاف
الامتنان على الأمة بل يشترط في رفعها أن يكون فيه امتنان، هذا فيما
إذا طرأ على الفعل أحد العناوين الخمسة أي الخطأ أو النسيان أو
الاضطرار أو الاكراه أو كان الفعل مما لا يطبقه لأنه إذا رفع الموضوع
فوجود الحكم بدون الموضوع لا يعقل بل لا معنى هاهنا لارتفاع
الموضوع إلا ارتفاع آثاره وأحكامه.
(وبعبارة أخرى) طرو أحد هذه العناوين الخمسة علة لارتفاع الحكم
عن معروضاتها بالشروط المتقدمة، وهي أن يكون في رفعها
امتنان ويكون قابلا للوضع والرفع في عالم التشريع، ولا يكون
موضوعها نفس أحد هذه العناوين، ولا يكون موضوعها مقيدة بعدم
أحد هذه العناوين، وإلا بعد طرو أحد هذه العناوين يرتفع الحكم
بارتفاع موضوعه ولا يحتاج إلى حديث الرفع كما تقدم كل ذلك.
(الامر الثامن) وهو أنه لو كان الأثر مترتبا على وجود شي سواء كان
الأثر من الأحكام التكليفية أو الوضعية وتركه بواسطة طرو
182

هذه العناوين الخمسة - أي تركه نسيانا أو خطأ أو أكره على الترك أو
اضطر إليه أو كان مما لا يطيق عدم الترك - فتركه لا يترتب
عليه آثار الوجود، إذ الحديث الشريف في مقام تنزيل الموجود منزلة
المعدوم لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود (وبعبارة أخرى)
ظاهره بل صريحه رفع الشئ عن صفحة التشريع لا وضعه فيه، وأما
كون رفع عدم الشئ وجوده - كما إن رفع وجود الشئ عدمه لان
رفع أحد النقيضين ثبوت نقيض الاخر ولذلك قالوا بأن نقيض كل
شي رفعه - فغير مربوط بالمقام لان المدعى في المقام أن ظاهر
الحديث بل صريحه أن الفعل الذي صدر عن المكلف إذا كان معنونا
بأحد هذه العناوين فهو مرفوع في عالم التشريع ونازل منزلة
العدم بالنسبة إلى الآثار والأحكام الشرعية المترتبة على ذلك الفعل،
وأين هذا من تنزيل الترك منزلة عدمه حتى يصير عدم الفعل
منزلة وجوده فيترتب على ذلك العدم آثار وجود الفعل؟ (ان قلت)
المقصود ترتيب آثار نفس عدم الترك لا آثار الوجود وإن كان عدم
الترك منطبقا على الوجود لان نفي النفي إثبات (قلت) ظاهر الحديث
رفع الفعل لا رفع الترك وإن كان ذلك أيضا أمرا ممكنا معقولا
(فبناء) على هذا لو أوجد المانع في الصلاة مثلا نسيانا أو خطأ أو
اضطرارا أو لاكراه الغير إياه فلا يكون مبطلا للصلاة مثلا إذا كان طرو
أحد هذه العناوين مستوعبا لتمام الوقت وإلا لو تذكر في أثناء الوقت
مثلا فيجب أن يمتثل خطاب المتوجه إلى المركب التام الاجزاء و
الشرائط لان وجوده بحكم حديث الرفع نازل منزلة العدم (وأما لو
ترك) الجز أو الشرط لأحد هذه الأمور فلا يمكن الحكم بصحة
الصلاة مثلا مستندا إلى حديث الرفع لأنه لا يفيد أن ترك الجز أو
الشرط نازل منزلة وجودهما إذا كان لطرو أحد هذه العناوين فلا بد
من التماس دليل آخر فان كان فهو، كوجود لا تعاد في غير الأركان في
باب الصلاة وإلا مقتضى
183

القاعدة عدم صحة العمل ووجوب الإعادة أو القضاء.
إذا عرفت هذه المقدمات الثمانية (فنقول) في مقام تطبيق الحديث
الشريف بالنسبة إلى هذه العناوين الخمسة على مواردها أن الاحكام
والآثار الشرعية للأفعال التي تكون معروضة لأحد هذه العناوين اما
تكليفية أو وضعية (أما إذا كانت) تكليفية وكان رفعها امتنانا على
الفاعل ولم يكن خلاف الامتنان على غيره فيرتفع ذلك الحكم أو
تلك الأحكام بارتفاع موضوعها تشريعا، إذ لا يمكن بقائها مع
ارتفاعها بل كما قدمنا لا معنى لارتفاع موضوعها تشريعا إلا ارتفاع
أحكامها، ولا فرق في ذلك بين أن تكون تلك الأحكام مترتبة على
موضوعاتها على نحو صرف الوجود بحيث لا يكون قابلا للتكرر أو
كانت مترتبة عليها بنحو مطلق الوجود والطبيعة السارية، ولا فرق
أيضا بين أن يكون الفاعل هو المخاطب بذلك الحكم كخطاب (لا
تسرق) المتوجه إلى نفس الفاعل أو كان فعله أي السرقة موجبا لتوجه
الخطاب إلى غيره أي خطاب وجوب قطع اليد المتوجه إلى من يقيم
الحد فإذا وقع السرقة خطأ أو نسيانا أو إكراها أو اضطرارا يرتفع
حكم الحرمة عن الفاعل وحكم وجوب قطع اليد عمن يقيم الحد
بارتفاع موضوعه تشريعا أي السرقة، نعم في ارتفاعها بارتفاع
موضوعها لا بد من اجتماع جميع الشرائط التي اعتبرناها في جريان
حديث الرفع (وأما إذا كانت) وضعية فالكلام (تارة) في الأسباب
كالعقود والايقاعات والتذكية أي فري الأوداج مع سائر الشرائط (و
أخرى) في المسببات كالملكية والزوجية وغيرهما من
الاعتبارات الشرعية المسببة عن أسبابها (وثالثة) في الأحكام الشرعية
المترتبة على تلك المسببات.
(أما الأول) فإذا كان إيجاد السبب معنونا بأحد هذه العناوين أو أجزائه
أو شرائطه كذلك فمفاد حديث الرفع وإن كان يقتضي تنزيل
ذلك
184

الوجود منزلة العدم وعدم ترتيب الآثار الشرعية عليه، ولكنه فيما إذا
لم يكن رفعه خلاف الامتنان كما أنه في الاضطرار كذلك فإنه إذا
اضطر إلى بيع شي لأجل حاجة فتنزيل بيعه منزلة العدم خلاف
الامتنان في حقه (نعم) إذا أكره على البيع فيحكم ببطلان بيعه لا
لحديث
الرفع فقط بل العدم طيب النفس الذي هو شرط في المعاملات من
العقود والايقاعات، وكذلك لو أوجده نسيانا أو خطأ لا يصح المعاملة
أيضا لا لحديث الرفع فقط بل لعدم القصد أي الاختيار الذي هو شرط
في باب المعاملات لأنها عناوين قصدية - أي لا بد وأن يكون عن
اختيار - لا تتحقق بدون القصد إليها (وأما إذا كان) تركه أو ترك بعض
أجزائه أو بعض شرائطه لأجل طرو أحد هذه العناوين فقد
تقدم أنه لا يجري فيه حديث الرفع لان الرفع تنزيل الموجود منزله
المعدوم لا المعدوم منزلة الموجود، فلو ترك العقد بالعربية بناء على
اعتبارها فيه أو الماضوية أو التقارن بين الايجاب والقبول كل ذلك بناء
على اعتبارها فيحكم ببطلان العقد (نعم) لو كان السبب مانع و
أوجده لطرو أحد هذه العناوين فحديث الرفع في تنزيله منزلة العدم
يجري ويترتب عليه الأثر ويكفي في وجود السبب بلا مانع لما
ذكرنا لكن هذا كله فيما إذا لم يكن في جريانه خلاف الامتنان كما في
بيع العين المرهونة فللمرتهن حق في العين المرهونة وهذا الحق
يكون مانعا عن نفوذ المعاملة فصحة البيع بدون اذن المرتهن بواسطة
حديث الرفع خلاف الامتنان ولهذا حديث الرفع في أمثال المقام
لا يجري كل هذا بالنسبة إلى الأسباب.
(وأما الثاني) أي الكلام في المسببات فان تصورنا وقوعها معنونة بأحد
هذه العناوين فيكون وجودها كالعدم، لما ذكرنا من أن طرو
أحد هذه العناوين يوجب تنزيل معروضها منزلة العدم فيرتفع آثارها و
أحكامها بارتفاع موضوعها إذا لم يكن وقعها خلاف الامتنان
(ولكن) وقوع المسببات معنونة بأحد هذه العناوين لا يخلو عن
إشكال، لان هذه العناوين تطرأ على أسبابها فان الملكية والزوجية و
الطهارة والنجاسة والحرية والرقية وغيرها من المسببات لا تقع
بأنفسها تحت أحد هذه العناوين بل الذي يقع هو أسبابها.
185

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون المسبب من الأمور الاعتبارية التي
تنالها يد الجعل التشريعي كأغلب المسببات بل جميعها على ما هو
الحق عندنا من أنها أمور مجعولة أمر وضعها ورفعها بيد الشارع، أو
يكون من الأمور الواقعية الخارجية كالجنابة المترتبة على الجماع
بناء على أنها من الأمور الواقعية الخارجية التي كشف عنها الشارع
(نعم) لو كان المسبب من الأمور الخارجية الواقعية ووقع سببها مثل
الجماع عن إكراه أو عن غيره من العناوين الخمسة فلا ترتفع بحديث
الرفع لأنها ليست من الآثار الشرعية للسبب، فالفرق بين القسمين
أي بين المسببات الاعتبارية الشرعية وبين المسببات التكوينية
الخارجية ان الأول إذا وقع سببه تحت أحد هذه العناوين يرتفع
المسبب
بارتفاع سببه بخلاف الثاني لما ذكرنا، وأما إذا وقع نفس المسبب
تحت أحد هذه العناوين وكان له أثر شرعي فيرتفع بارتفاع ذلك
المسبب تشريعا من أي واحد من القسمين كان (فلا فرق) في ذلك بين
القسمين أصلا (نعم ما ذكرنا) - من ارتفاع الأثر الشرعي للمسبب
إذا وقع تحت أحد هذه العناوين - فيما إذا لم يكن الأثر مترتبا على
المسبب مطلقا سواء كان السبب واقعا بأحد هذه العناوين أم لا فلا
يرتفع وجوب الغسل إذا وقعت الجنابة عن إكراه أو اضطرار مثلا لأنه
من آثار مطلق الجنابة (هذا مضافا) إلى ما قلنا من عدم إمكان
وقوع المسببات تحت أحد هذه العناوين بل الذي يقع هو السبب لا
المسبب، ففي المثال الذي وقع تحت الاكراه هو الجماع مثلا لا
الجنابة.
(وأما الثالث) أي آثار المسببات فقد عرفت أنه لو تعنون المسبب
بأحد هذه العناوين أو ارتفع تشريعا بارتفاع سببه فترتفع تلك الآثار
وإلا فلا وجه لارتفاعها.
بقي شي وهو أن ظاهر ما مضى مما بيناه هو أنه لو وقع فعل من
186

أفعال المكلف تحت عنوان مطلق الاكراه يرتفع حكمه الشرعي ولو
كان من أعظم المحرمات إلا قتل النفس لورود الدليل على عدم
جوازه مطلقا، ولكن الالتزام بهذا مشكل جدا خصوصا بالنسبة إلى
بعض مراتب الاكراه الذي يتحقق بأقل ضرر مالي أو بدني أو عرضي
متوعد على فعل من الافعال خصوصا بالنسبة إلى الجرائم الكبيرة
كالزناء مع ذات البعل من المحصن، بل ربما يعد خلاف هذا من
الضروريات، فالقول بتخصيص حديث الرفع لأدلة المحرمات -
بالنسبة إلى مطلق الاكراه - مما لا يمكن المصير إليه، هذا تمام الكلام
في
الفقرات الخمس من حديث الرفع أي الخطأ والنسيان وما اضطروا
إليه وما أكرهوا عليه وما لا يطيقون (وأما الكلام) في جملة ما لا
يعلمون الذي هو الأصل في المقام ويدل على البراءة في الشبهة
الحكمية التحريمية التي محل النزاع بين الأصولي والاخباري.
فنقول قد تقدم أن حديث الرفع بالنسبة إلى الفقرات الخمس المتقدمة
له حكومة واقعية على أدلة الاحكام الواقعية ونتيجة تلك الحكومة
تخصيص تلك الأحكام بغير موارد طرو أحد هذه العناوين (وأما
بالنسبة) إلى فقرة ما لا يعلمون فله حكومة ظاهرية على تلك الأدلة،
لان مفاده رفع الحكم في مرتبة الجهل به والشك فيه بمعنى دفع
المقتضى لذلك الحكم عن تأثيره في جعل ثانوي متمم للجعل الأولى
و
هو وجوب الاحتياط لا رفع الحكم الواقعي في تلك المرتبة حتى يلزم
تخصيص الاحكام الواقعية بالعالمين بها لان اشتراك التكاليف بين
العالمين والجاهلين بها من المسلمات والقطعيات فحديث الرفع
بالنسبة إلى هذه الفقرة لا يمس بكرامة الحكم الواقعي أصلا (وقد
عرفت) أن المراد من الموصول فيما لا يعلمون هو مطلق الأحكام الشرعية
وضعية أو تكليفية ولا فرق بين أن يكون منشأ الشك فقد
النص أو إجماله أو تعارض النصين وهذا هو الذي نسميه (بالشبهة
الحكمية) أو يكون
187

الأمور الخارجية وهو الذي نسميه (بالشبهة الموضوعية) فيشمل
الحديث كلتا الشبهتين الحكمية والموضوعية.
ثم إن الحكم المجهول إما استقلالي نفسي أو ضمني نفسي أو غيري و
في جميع هذه الصور يجري حديث الرفع لشمول ما لا يعلمون
للجميع على على نسق واحد في الشبهة الموضوعية والحكمية
جميعا، وأيضا لا فرق بين الحكم التكليفي والوضعي فكما إذا شك
في
وجوب شي بالوجوب النفسي الاستقلالي كالدعاء عند رؤية الهلال
أو غسل الجمعة مثلا أو شك في حرمة شي كذلك كتصوير الصور
الغير المجسمة من الحيوان ولم يقم دليل على وجوب مشكوك
الوجوب وكذلك على حرمة مشكوك الحرمة يجري حديث الرفع و
يحكم
بالبرأة كذلك إذا شك في وجوب جلسة الاستراحة أو الاستعاذة في
الصلاة تجري البراءة وحديث الرفع يشمله وكذلك إذا شك في
جزئية شي أو شرطيته أو مانعيته يشمله الحديث.
وإما من قبيل الأسباب والمحصلات فلا يشمله حديث الرفع مطلقا و
بجميع أقسامه سواء كانت أسبابا عقلية أو عادية أو شرعية أو
اختراعية أو إمضائية (فلو قلنا) أن الطهارة الحدثية أمر معنوي وحالة
نفسانية والغسلات والمسحات أسبابها ومحصلاتها - وعلى هذا
النزاع أيضا يبتني اختلافهم في مسألة لزوم قصد غاية من الغايات في
الوضوء وعدم لزوم ذلك لأنه لو كان المأمور به نفس هذه الأفعال
فيكفي إتيانها بقصد أمرها ولا يحتاج إلى قصد غاية (وإن كان
الأقوى) أنها ليست كذلك - فان شككنا في أن المسح في باب
الوضوء يكفي إلى قبة القدمين أو يحتاج إلى أصل الساق - فلا تجري
في الزائد البراءة، (بخلاف ما لو قلنا) أنها عبارة عن نفس تلك
الغسلات والمسحات فتجري فيها البراءة عند الشك وأما التفصيل
بين الأسباب الشرعية وغيرها فليس كما ينبغي وسيأتي
188

تفصيل ذلك في مبحث الاشتغال إن شاء الله تعالى (بقي) من
العناوين المذكورة في الحديث الشريف الثلاثة الأخيرة وهي الحسد و
الطيرة والوسوسة في الخلق (أما الحسد) فالظاهر أن المرفوع فيه هو
الحكم الذي كان يقتضيه هذا العنوان لولا الامتنان وهي الحرمة،
وأما احتمال أن يكون المرفوع هو وجوب دفعه أو رفعه -
بالمجاهدات والرياضيات أو بالتفكر في أنه ملكه رذيلة توجب خسة
النفس
ودنأتها فيدفعها أو يرفعها بذلك - فبعيد (وأما الطيرة) وهي التشؤم
فالظاهر أن المرفوع فيها المنع من المضي في شغله والاعتناء
بما يتشأم ففي الحقيقة ردع لما التزم به العرف من صد مقاصدهم و
ترك أشغالهم وعدم إمضاء لالتزامهم بالمذكورات امتنانا على الأمة
حتى لا يتعطل أشغالهم لأمر لا واقع له ولصرف توهم بلا منشأ ويشهد
على ذلك قوله عليه السلام (إذا تطيرت فامض) (وأما الوسوسة)
في التفكر في الخلق ما لم ينطق بشفة فالظاهر أن المرفوع فيها هي
الحرمة التي كان يقتضيه هذا العنوان امتنانا على العباد (لا يقال) أن
الوسوسة في التفكر في الخلق أمر غير اختياري فلا يصح تعلق الرفع
بها لعدم اقتضاء فيها للحرمة (لأنه من الممكن) صرف نفسه عن
هذه الأفكار باشتغاله بأمور اخر من الأمور الدنيوية أو الأخروية (و
ليعلم) أن هذه العناوين الثلاثة لا نظر لها إلى الأدلة الاحكام الواقعية
أصلا ولا حكومة لها عليها لا واقعية ولا ظاهرية بل حديث الرفع يدل
على نفي الحكم ورفعه عن نفس هذه العناوين كما عرفت مما
ذكرناه.
ومنها ما في أصول قوله عليه السلام (ما حجب الله علمه عن العباد
فهو موضوع عنهم) وتقريب الاستدلال به أن التكليف المجهول سوأ
كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية مما حجب الله علمه عن العباد
فهو موضوع ومرفوع عنهم، فهذا يعارض أدلة وجوب الاحتياط
(لان) مفاد تلك الأدلة عدم رفع ما حجب الله علمه أي التكليف
المجهول عن العباد وأيضا أوضح من
189

حديث الرفع في شموله للشبهة الحكمية، بل ربما يقال باختصاصه بها
لأنها هي التي حجب علمها مستندا إلى الله إلى الله وإلا فالشبهة
الموضوعية حجب علمها لأجل الأمور الخارجية (وفيه) أن ظاهره أن
المراد منه أن الاحكام التي ما أوحى الله بها إلى رسوله وسكت
عنها أو أوحي ولكن لم يأمر رسوله بتبليغ تلك الأحكام إلى الناس فلا
يشمل الاحكام التي بلغ رسول الله بنفسه الشريفة أو بتوسط أئمة
الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين واختفى على العباد لظلم
الظالمين ومنع المانعين فيكون مفاده مفاد قوله عليه السلام (وسكت
عن
أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة لكم).
ومنها ما في أصول الكافي قوله عليه السلام (الناس في سعة ما لم
يعلموا) تقريب الاستدلال به أن مفاده والظاهر منه كون الناس في
سعة وعدم ضيق عليهم ما دام لا يعلمون أو من قبل ما لا يعلمون فلا
فرق بين أن يكون ما مصدرية وظرفا للسعة أو موصولة أضيف إليه
السعة، ولا شك أن وجوب الاحتياط ينافي كون المكلف في سعة ما
دام لا يعلم أو من قبل ما لا يعلم، وأما كون وجوب الاحتياط علما فلا
يستقيم إلا بكونه تكليفا نفسيا تكون المؤاخذة على ترك نفسه لا على
التكليف المجهول المتنجز بواسطته، ولا شك في أن العقاب و
المؤاخذة على نفس التكليف المجهول عند الاخباري لا على مخالفة
الاحتياط الواجب، فالانصاف أن الرواية تدل على البراءة في الشبهات
التحريمية وتكون معارضة لأدلة وجوب الاحتياط لو كانت أدلة عليه
في البين (نعم لو كان) وجوب الاحتياط أمارة على الواقع المجهول
لكان دليله حاكما على هذه الرواية، ولكن هذا مما لا يمكن القول به
(نعم لو كان) المراد بالعلم هو تنجز الواقع ولو كان مجهولا لكان ما
ذكر من تقديم أدلة الاحتياط على الرواية صحيحا بل على هذا تكون
واردة عليها (ولكن هذا) خلاف ظاهر لفظ العلم كما هو واضح
معلوم.
190

ومنها رواية عبد الأعلى عن الصادق عليه السلام (قال سألته عمن لا
يعرف شيئا هل عليه شي قال عليه السلام لا) تقريب الاستدلال بها
أنه عليه السلام قال لا أي لا مؤاخذة ولا عقاب ولا استحقاقه على من
لا يعرف ولا يعلم شيئا، ولو كان الاحتياط عليه واجبا لكان عليه
المؤاخذة من طرف التكليف المجهول لتنجزه عليه بواسطة وجوب
الاحتياط (وفيه) أن المراد بقوله عليه السلام من لا يعرف شيئا أهالي
البوادي البعيدة عن المدن فيكون أجنبيا عن مقامنا.
ومنها قوله عليه السلام (أيما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شي عليه)
تقريب الاستدلال به أنه عليه السلام نفي المؤاخذة على ارتكاب ما لم
يعلم حرمته فيدل على عدم وجوب الاحتياط على نحو ما بينا في
الرواية السابقة (وفيه) أن ظاهر الرواية هو كون الجهل سببا لارتكاب
التكليف المجهول فتختص بالجاهل المركب واعتقاده الحلية فتكون
أجنبية عن مقامنا وهو مورد احتمال الحرمة مع عدم وجود دليل
عليها لعدم كون الجهل حينئذ سببا للارتكاب بل الموجب ميله و
رغبته (وأما القول) بأن الموجب في الجهل البسيط أيضا هو الجهل
غاية
الامر بضميمة حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان (فيه) أن هذا فيما لم
يكن دليل على وجوب الاحتياط وإلا فهو وارد على قاعدة قبح
العقاب
بلا بيان.
ومنها قوله عليه السلام (ان الله يحتج على العباد بما أتاهم وعرفهم)
وتقريب الاستدلال به أن الله تعالى لا يحتج على العباد ولا
يؤاخذهم ولا يكلفهم إلا بالنسبة إلى التكاليف التي أوصلها إليهم فما
لم يوصلها إليهم - ولو كان من جهة ظلم الظالمين وإخفاء المانعين
أو دس الداسين - فلا يؤاخذهم ولا يحتج عليهم فيدل على عدم
وجوب الاحتياط بالنسبة إلى التكاليف المجهولة التي لم يوصلها إليهم

القول) بأن الاحتجاج والمؤاخذة على مخالفة الاحتياط الواصل إليهم
فتكون أدلة الاحتياط واردة على
191

(مبني) على أن يكون الاحتياط واجبا نفسيا مستقلا حتى تكون
المؤاخذة على ترك نفس الاحتياط، وهذا خلاف ظاهر هذه الرواية
لان
ظاهرها نفي المؤاخذة ولو بتوسط الاحتياط.
ومنها قوله عليه السلام (كل شي مطلق حتى يرد فيه نهي) قيل أن
هذه الرواية أظهر الاخبار دلالة على البراءة وهو كذلك (لو كان
المراد) من الورود الايصال إلى المكلف ومن النهي النهي الواقعي
المتعلق بالشئ بعنوانه الأولى وإلا (لو كان المراد) من الورود
صدوره من قبل الله بتوسط النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الأئمة
عليهم السلام وإن اختفى لما ذكرنا من أسباب الاختفاء فلا يدل
على المقصود وهو عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية أصلا
وكذلك لا يدل على المقصود (لو كان المراد من النهي مطلق النهي و
لو كان من حيث إنه مجهول الحكم كالنهي المستفاد من أدلة وجوب
الاحتياط لان الاخباري يدعي ورود مثل هذا النهي (والانصاف) أن
الظاهر من الورود هو الصدور واقعا لا الايصال والاخباري لا يقول
بوجوب الاحتياط فيما إذا لم يصدر نهي واقعا فلا تدل الرواية على
المطلوب وهو معارضته أدلة وجوب الاحتياط لو كانت في البين و
الظاهر هو النهي الواقعي المتعلق بأفعال المكلفين بعناوينها الأولية
(نعم ربما يقال) حمل الورود على هذا المعنى يكون موجبا للإرادة من
الرواية ما هو من قبيل توضيح الواضحات لأنه من المعلوم عدم
جواز المؤاخذة مع عدم صدور نهي أصلا ويكون قبيحا عقلا فمثل
هذا المعنى الواضح بعيد عن سياق الرواية وهو كلام جيد (اللهم) إلا
أن يقال أن الغرض منه ردع الناس عن التمسك بالاستحسانات و
الجري على العادات فيما سكت الله عنه ولم يصدر فيه نهي فيكون
على سياق (اسكتوا عما سكت الله عنه).
192

ومنها صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم عليه السلام
(قال سألته عن الرجل يتزوج المرأة في علتها بجهالة أ هي ممن لا
تحل له أبدا؟ فقال عليه السلام أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما
تنقضي عدتها فقد يعذر الناس بما هو أعظم من ذلك، قلت بأي
الجهالتين أعذر بجهالة أن ذلك تحرم عليه أم بجهالة أنها في العدة. قال
عليه السلام: إحدى الجهالتين أهون من الأخرى الجهالة بأن الله
تعالى حرم عليه ذلك وذلك لأنه لا يقدر معه على الاحتياط. قلت فهو
في الأخرى معذور قال عليه السلام: نعم إذا انقضت عدتها فهو
معذور في أن يزوجها) وتقريب الاستدلال بهذه الرواية أن قوله عليه
السلام (فقد يعذر الناس بما هو أعظم من ذلك) يدل على عدم
العقوبة على ارتكاب مجهول الحرمة وكونه معذورا في ذلك فتدل
على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية (ثم) أن ظاهر
الرواية أن منشأ الجهل بالحرمة هو الجهل بحكم التزويج في العدة
حتى تكون الشبهة حكمية وان كانت هناك احتمالات اخر أيضا في
الرواية (ولكن فيه) إن الظاهر من الرواية أن المراد من الجهالة هي
الغفلة وعدم الالتفات إلى حكم التزويج في العدة بقرينة التعليل
بعدم القدرة على الاحتياط، إذ الشاك المحتمل للحرمة قادر على
الاحتياط يقينا بخلاف الغافل غير الملتفت فتكون الرواية أجنبية عن
محل النزاع والكلام، إذ لا كلام في أن الغافل غير الملتفت إلى الحرمة
لا يؤاخذ ولا يعاقب.
ومنها قوله عليه السلام في صحيحة عبد الله بن سنان (كل شي فيه
حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه) و
تقريب الاستدلال بهذه الصحيحة هو أن كل فعل قابل لان يتصف
بالحلية والحرمة فهو لك حلال حتى تعرف حرمته بعينه (ولكن فيه)
أن الظاهر منها - بقرينة فيه، ومنه، وبعينه - أن القسمة فعلية أي ما
يكون بالفعل متصفا
193

بالقسمين كاللحم والجبن المتصفين فعلا بكون بعض أقسامهما حراما
كالميتة أو لحكم الخنزير أو جبنه وبعض أقسامهما حلالا كلحم
الحيوان المحلل المذكى وجبن الغنم مثلا، وأما شرب التتن أو لحم
الحمير مثلا ليس فيهما بالفعل قسمين أحدهما يكون حلالا والاخر
حراما (نعم) كل واحد منهما قابل لان يتصف بالحرمة وأن يتصف
بالحلية فتكون الصحيحة دالة على البراءة في الشبهة الموضوعية و
أجنبية عن محل النزاع أي البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية، لان
الذي فيه القسمين بالفعل هي الشبهة الموضوعية، وأما الشبهة
الحكمية فليس فيها القسمين بالفعل بل إما حلال أو حرام (وأما) قوله
السلام (كل شي لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه) ولو ليس فيه
لفظة فيه وكذلك لفظة منه، ولكن كلمة بعينه الموجودة فيه أيضا
يصرفه إلى الشبهة الموضوعية كما هو ظاهر، وأما بدون كلمة بعينه
فهي لم تثبت وإلا كانت ظاهرة في المطلوب، هذه هي جملة من
الاخبار التي استدلوا بها على البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية (و
قد
عرفت) ما يدل منها على ذلك وما لا يدل.
وأما الاجماع
وإن ادعى في المقام وقرروه بتقارير مختلفة لكن الذي يفيد في المقام
ويكشف عن رأي المعصوم هو اتفاق الفقهاء والعلماء كافة إذ
رأي العوام لا أثر له في المقام لان المسألة من المسائل الأصولية التي
إعمالها بيد المجتهدين، ومثل هذا الاتفاق لم يتحقق قطعا إذ علمائنا
الأخباريون وهم ليسوا بقليل مخالفون للبرأة وقائلون بوجوب
الاحتياط (هذا مضافا) إلى أن اتفاقهم يمكن أن يكون مستندا إلى ما
هو المدارك عندهم فلا يكشف مثل هذا الاتفاق عن رأي المعصوم بل
لا بد من الرجوع إلى نفس المدارك.
وأما العقل
فلقاعدة قبح العقاب بلا بيان ولا شك في استقلال العقل
194

بقبح العقاب والمؤاخذة بلا بيان واصل إلى المكلف بعد فحصه مظان
وجوده فحصا تاما وعدم وجدانه، فالعبد بعد أداء وظيفته - من
الفحص التام في مظان وجود التكليف وعدم وجدانه دليلا على
الحكم - يكون معذورا عند العقل في عدم امتثال التكليف المجهول،
و
لو كان هناك بيان في الواقع، فموضوع حكم العقل بقبح العقاب عدم
البيان الواصل إلى المكلف لا عدم البيان الواقعي، لان البيان
الواقعي إذا لم يوصل إلى المكلف لا تأثير له في تحريك العبد نحو
الامتثال فحاله حال العدم الواقعي ولا يتم به الحجة على العبد (نعم)
لو
كان البيان في الواقع موجودا وقصر العبد ولم يؤد وظيفته ولم يفحص
لا يكون معذورا ولذلك لا يجوز إجراء البراءة قبل الفحص
التام هذا (ولكن التمسك) بهذه القاعدة لا يفيد في مقام رد الأخباريين
لانهم يقولون بوجوب الاحتياط من جهة الأدلة الموجودة عندهم
ولو تمت تلك الأدلة لا تعارضها هذه القاعدة بل تكون القاعدة
مورودا لتلك الأدلة بخلاف بعض الأخبار المتقدمة وكذلك بعض
الآيات
التي تقدمت فإنها تعارض أدلة وجوب الاحتياط، وقد تقدم أن هذه
القاعدة متفق عليها عند الأصوليين والاخباريين وانما النزاع في
الصغرى فالاخباري يدعي وجود الدليل على وجوب الاحتياط و
الأصولي ينكره.
ثم أنه ادعى ورود قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل على هذه
القاعدة لأنها تكفي بيانا للزوم الاحتياط وعدم جواز إجراء البراءة في
محتمل الحرمة فلا يبقى موضوع لهذه القاعدة (وفيه) أنه إن كان المراد
من الضرر الضرر الأخروي أي العقاب فالصغرى لهذه القاعدة
ممنوعة أي لا موضوع لها، إذ موضوعها احتمال الضرر أي العقاب
على الفرض، واحتمال العقاب - مع عدم قيام دليل على التكليف
المجهول - منفي لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فقاعدة قبح العقاب بلا
بيان يذهب بموضوع قاعدة دفع
195

الضرر المحتمل إن كان المراد من الضرر هو الأخروي أي العقاب و
تكون واردة عليها، (ولا يتوهم) العكس بأن يقال بتقديم قاعدة
وجوب دفع الضرر المحتمل وورودها على الأخرى بكونها بيانا على
التكليف المجهول فتذهب بموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان
فتكون واردة عليها (وذلك) من جهة عدم إمكان تحقق موضوع هذه
القاعدة أي احتمال العقاب إلا بعد بيان غير هذه القاعدة أي حكمها
بوجوب دفع الضرر المحتمل لا يمكن أن تكون علة لتحقق موضوعها
لتأخرها عن تحققه فلا بد أن يتحقق موضوعها في الرتبة السابقة
على حكمها ببيان آخر على التكليف المجهول والمفروض أنه ليس
بيان آخر في البين غير هذه القاعدة (اللهم) إلا أن يدعى احتمال
العقاب حتى مع عدم بيان وحجة على التكليف المجهول، وهذا مما
يأباه العقل السليم، وقد قدمنا أن هذه القاعدة مما اتفق عليها الأصولي
والاخباري وإنما النزاع في الصغرى، فالاخباري يدعي وجود البيان
على وجوب الاحتياط والأصولي ينكره.
وأما جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا محذور فيه أصلا، لان
موضوعه عدم البيان وهو محقق (أما قاعدة دفع الضرر المحتمل) فقد
بينا أنه لا يمكن أن يكون بيانا والبيان الاخر المفروض أنه ليس في
البين، هذا كله إذا كان المراد من الضرر الضرر الأخروي أي العقاب
(وأما لو كان) المراد منه الضرر الدنيوي فالكبرى والصغرى كلاهما
ممنوعة (أما الكبرى) فلانه ليس كل ضرر مما يحكم العقل بلزوم
دفعه، بل هناك أضرار طفيفة يتحملها العقلا لأجل أغراض دنيوية و
إن كان الضرر من المقطوع فصلا عن المحتمل (وأما الصغرى)
فلانه ليس مناطات الاحكام دائما هي الضرر بل المصالح والمفاسد -
التي تكون مناطات الاحكام غالبا - لا تكون من سنخ الضرر (نعم)
ربما يحتمل في التكليف المجهول أن يكون
196

في مخالفته ضرر أيضا وفي ذلك المورد قلنا أن العقل لا يحكم بلزوم
الدفع في مقطوعه فضلا عن محتمله (نعم) إذا حكم العقل به في
مورد احتمال الضرر كما إذا كان الضرر المحتمل ضررا مهما كضرر
النفس أو العرض أو المال الكثير - فلا محالة يستكشف منه حكما
شرعيا مولويا بلزوم الاجتناب عنه بقاعدة الملازمة، لان حكم العقل
بلزوم دفع الضرر واقع في سلسلة علل الاحكام وكلما كان كذلك
فهو محل جريان قاعدة الملازمة كما لو كان حكم العقل واقعا في
سلسلة معاليل الاحكام - كحكمه باستحقاق الثواب أو العقاب أو لزوم
الإطاعة وأمثال ذلك - فليس محل جريان قاعدة الملازمة (وأما لو
كان) المراد من الضرر في القاعدة تفويت المصلحة أو الالقاء في
المفسدة فلا شك في تحقق الصغرى بمعنى أن احتمال الحرمة مثلا
ملازم لاحتمال المفسدة في ارتكابها (كما أن) احتمال الوجوب ملازم
لاحتمال فوت المصلحة في تركها بناء على ما هو الحق عندنا من تبعية
الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد (ولكن الاشكال) في حكم
العقل بلزوم ترك محتمل المفسدة في فعله أو لزوم إتيان ما يحتمل
المصلحة في فعله، نعم ان أدرك العقل المصلحة والمفسدة التامتين -
وأحاط بجميع الجهات ولم ير مزاحما - حكم بقبح تفويت المصلحة
والالقاء في المفسدة (وأما في صورة) الاحتمال والشك فلا يستقل
بذلك إلا في مورد تكون المصلحة والمفسدة بمثابة من الأهمية
بحيث يحكم العقل بلزوم التحرز عن الوقوع في مخالفتهما بالفعل أو
الترك ولو كانت بهذه المثابة يجب على الشارع جعل المتمم و
وجوب الاحتياط فعدم إيجابه للاحتياط كاشف عن عدم بلوغه إلى
هذه
المثابة (فقد ظهر) من جميع ما ذكرنا أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان
واردة على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وتدل على عدم
العقاب في الشبهة البدوية بعد الفحص وعدم وجدان الدليل على
التكليف المجهول، نعم لا تجري في
197

الشبهة البدوية قبل الفحص، كما أنه لا تجري في الشبهة المقرونة
بالعلم الاجمالي لان العلم الاجمالي بيان، وأما في الشبهة البدوية قبل
الفحص فعدم جريانها لعدم العمل بوظائف العبودية والعقل لا يحكم
بقبح العقاب إلا بعد الفحص التام وعدم وجدان البيان (واستدل)
الأصوليون أيضا باستصحاب عدم التكليف قبل البلوغ وسيأتي الكلام
فيه وانه لا يجري لا العدم قبل الوقت ولا العدم قبل البلوغ.
وأما أدلة الأخباريين
فمن الكتاب ب آيات (منها) قوله تعالى (واتقوا الله حق تقاته) بتقريب
أن حق التقوي المأمور بها في الآية هو الاجتناب عن فعل محتمل
الحرمة (وفيه) أن التقوي عبارة عن الاجتناب عن فعل ما نهى الشارع
عنه وعن ترك ما أمر به، وأما محتمل الحرمة الذي ما وجد دليل
على حرمته ورخص الشرع والعقل في ارتكابه فارتكابه لا ينافي
التقوي (ومما ذكرنا ظهر) حال الاستدلال بقوله تعالى (واتقوا الله ما
استطعتم) وجوابه فلا نعيد (ومنها) قوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك
به علم) بتقريب أن الاقتحام في الشبهة وعدم اجتنابها والقول
بالإباحة قول بغير علم (وجوابه) أن الترخيص والاقتحام لأجل الأدلة
العقلية والنقلية فليس قولا بغير علم بل القول بوجوب الاحتياط ان
أبطلنا الأدلة الدالة على وجوب الاحتياط يكون قولا بغير علم (ومنها)
قوله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) بتقريب أن ارتكاب
مشتبه الحرمة إلقاء للنفس في التهلكة (وجوابه) أنه ليس في ارتكاب
المشتبه تهلكة بعد ما ورد الترخيص من قبل الشرع والعقل (و
منها) قوله تعالى (فإن تنازعتم في شي فردوه إلى الله ورسوله)
بتقريب أن التنازع كناية عن عدم العلم بالشئ والمراد من الرد إلى
الله ورسوله التوقف وعدم المضي في مورد الشبهة فتدل الآية بناء
على هذا على وجوب الاحتياط (وفيه) أن ظاهر الآية أن الرد إلى الله
198

ورسوله فيما إذا يمكن الرجوع إليه صلوات الله وسلامه عليه أو إلى
خزانة علمه سلام الله عليهم ولو بالرجوع إلى ما ورد عنهم من
الأحاديث والاخبار وإزالة الشبهة بذلك، أما فيما لا يمكن إزالة الشبهة
بعد الفحص واليأس عن إزالة الشبهة وورود الترخيص من
الشارع فلا تشمله الآية قطعا.
ومن السنة فبأخبار كثيرة وهي على طوائف.
الطائفة الأولى ما دل على حرمة الافتاء بغير علم كقوله عليه السلام في
خبر زرارة (على العباد أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا
يعلمون) (والجواب عنه) تقدم في الجواب عن بعض الآيات بأنه بعد
ما ورد الترخيص من قبل الشرع والعقل فليس الافتاء بالترخيص
قولا بغير علم.
الطائفة الثانية ما دل على أن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في
الهلكة وهي كثيرة (منها) قوله عليه السلام (قفوا عند الشبهة فان
الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) (ومنها) قوله عليه
السلام في موثقة سعد بن زياد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أنه قال (لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة إلى أن
قال فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) وتقريب
الاستدلال بهذه الاخبار - التي بلغت حد الاستفاضة - أن الشارع أمر
بالاحتياط وعدم المضي الذي هو المراد من التوقف عند الشبهة
فتدل هذه الأخبار على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية (و
جوابه) أنه لا بد من حمل هذه الأخبار على الشبهة المقرونة بالعلم
الاجمالي لان الظاهر منها أن الهلكة التي عبارة عن العقاب موجودة
في الرتبة السابقة على الامر بالتوقف ومع قطع النظر عنه، لأنه
جعل الاقتحام في الهلكة علة للامر بالتوقف فلا بد وأن يكون التكليف
المشتبه منجزا في الرتبة السابقة على الامر بالتوقف ومع قطع
النظر عنه حتى يكون التعليل صحيحا ويكون الاقتحام في المشتبه
اقتحاما في الهلكة والعقاب
199

فلا بد من تخصيص الشبهة بغير الشبهة البدوية بعد الفحص التام عن
مظان وجود الأدلة وعدم وجدانها من الشبهة المقرونة بالعلم
الاجمالي أو الشبهة البدوية قبل الفحص.
(ولكن ربما يقال) أن الشبهة بإطلاقها تشمل الشبهة البدوية قبل
الفحص فمن الامر بالوقوف عندها مطلقا - سواء كانت قبل الفحص أو
بعده وسواء كانت مقرونة بالعلم الاجمالي أو لم تكن كذلك مع حكم
العقل بقبح العقاب بلا بيان - نستكشف إيجاب الاحتياط في الشبهة
البدوية في الرتبة السابقة على الامر بالوقوف عندها وذلك بدلالة
الاقتضاء لتصحيح التعليل بأن عدم الوقوف عندها اقتحام في الهلكة
مع كون الهلكة بمعنى العقوبة كما هو المفروض، فالروايات الواردة
بهذا المضمون تدل على وجوب الاحتياط بالطريق الذي بينا (وفيه)
أن هذا البيان مستلزم للدور لتوقف إحراز الاطلاق في الشبهة بحيث
تشمل الشبهة البدوية قبل الفحص على العلم بإيجاب الاحتياط في
الرتبة السابقة على الامر بالوقوف والمفروض أن العلم بإيجاب
الاحتياط موقوف على إحراز الاطلاق.
الطائفة الثالثة ما دل على وجوب الاحتياط وعدم المضي في
الشبهات وهي أيضا كثيرة تبلغ حد الاستفاضة (منها) ما في الصحيح
عن
عبد الرحمن ابن الحجاج قال سئلت أبا الحسن عليه السلام عن
رجلين أصابا صيدا وهما محرمان الجزاء بينهما أو على كل واحد
منهما
جزاء قال عليه السلام (بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد
قلت إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه قال عليه
السلام
إذا أصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكم الاحتياط حتى تسألوا عنه و
تعلموا) (ومنها) ما في موثقة عبد الله بن وضاح قال كتبت إلى العبد
الصالح يتوارى منا القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعا ويستر عنا
الشمس ويرتفع فوق الجبل الحمرة ويؤذن عندنا المؤذنون
فأصلي وأفطر إن كانت صائما أو أنتظر حتى تذهب الحمرة
200

عليه السلام (أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة
لدينك) (منها) ما عن المفيد الثاني (ره) قال: قال أمير المؤمنين عليه
السلام لكميل (أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت) وقوله عليه
السلام (ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط).
والجواب عن الأول اما (أولا) فالشبهة وجوبية لا يقول الاخباري أيضا
بوجوب الاحتياط فيها (وثانيا) مفاده الوقوف وعدم الافتاء بغير
علم والأصولي لا يقول بجواز الافتاء بغير علم (وثالثا) هذا فيما يمكن
السؤال وإزالة الشبهة لقوله عليه السلام (حتى تسألوا وتعلموا) و
محل النزاع فيما لا يمكن إزالة الشبهة و بقائها حتى بعد الفحص التام
(ورابعا) عدم العمل بها في موردها فتسقط عن الحجية والاعتبار.
وأما عن الثانية أي الموثقة فلكون قوله عليه السلام (وتأخذ بالحائطة
لدينك) محمولا على التقية لكون دخول الوقت للصلاة والافطار
بذهاب الحمرة المشرقية خلاف مذهب أكثر العامة فالإمام عليه السلام
أفاد الحكم الواقعي في الشبهة الحكمية بلسان الاحتياط وإلا
فلا
معنى لان يسأل عن الحكم عنه عليه السلام وهو لا يبين الحكم
الواقعي ولا يرفع جهله هذا إذا كان السؤال والجواب راجعا إلى
الشبهة
الحكمية كما هو الظاهر منها، أما لو كان السؤال عن الشبهة الموضوعية
فعند الأصولي أيضا يجب الانتظار لاستصحاب عدم دخول الليل
(وأما عن سائر) ما ورد في هذا الباب فبظهور الامر بالاحتياط في
الاستحباب ولا كلام في حسنه واستحبابه، وإلا يلزم من القول
بوجوبه مطلقا - كما هو مفاد تلك الأخبار - تخصيص الأكثر لكثرة
موارد الشبهة الموضوعية مطلقا والشبهة الوجوبية الحكمية التي لا
يجب الاحتياط فيها باتفاق الأصولي والاخباري.
الطائفة الرابعة أخبار التثليث كقوله عليه السلام في ذيل مقبولة عمر
ابن حنظلة (حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك
الشبهات
201

نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من
حيث لا يعلم) وتقريب الاستدلال بها أن الهلاك ظاهر في العقاب و
رتبه على الاقتحام في الشبهات التحريمية كما هو ظاهر، فإذا كان في
الاقتحام فيها عقاب فيجب فيها الاحتياط (وفيه) أن ظاهرها أن
التجنب عن الشبهات التحريمية يوجب في النفس ملكة وحالة رادعة
عن ارتكاب المحرمات كما أن ارتكابها والمضي فيها يوجب الجرأة
على ارتكاب المعاصي والهلاك بسببه لا أن نفس اقتحام الشبهات فيه
الهلاك والعقاب، وهذا المعنى أجنبي عن محل النزاع.
الثالث مما تمسك به الأخباريون دليل العقل وتقريبه من وجوه
(الأول) أنه حيث أن الأصل في الاشياء في غير الضروريات الحضر
فبعد
مجئ الشرع كل شي ورد الدليل من قبل الشرع على جوازه فهو وإلا
فيبقى على ممنوعيته (وفيه أولا) منع كون الأصل في الاشيأ
الحضر (وثانيا) تقدم أنه لا ربط بين المسألتين أعني مسألة البراءة و
مسألة أن الأصل في الاشياء هل هو الحضر أو الإباحة وتقدم
تفصيل الكلام فيه (وثالثا) أنه ورد الدليل على الترخيص والإباحة و
قد تقدم التفصيل (الثاني) حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل
أي العقاب المحتمل وقد تقدم تفصيل الكلام فيه وانه (لو كان المراد)
من الضرر الضرر الأخروي فلا صغرى لهذه القاعدة لورود قاعدة
قبح العقاب بلا بيان عليها كما تقدم تفصيله (وإن كان المراد) الضرر
الدنيوي ففي كثير من الموارد ليس الضرر الدنيوي ملاك الحكم و
إن كان في بعض الموارد فاحتمال الضرر ليس موجبا للزوم دفع
المحتمل بل ربما يرتكب العقلا مقطوع الضرر لأجل أغراض عندهم
فارتكاب محتمل الضرر الدنيوي ليس ممنوعا عند العقل خصوصا إذا
كان الضرر متداركا من قبل الشارع لترخيصه (وأما لو كان)
المراد من الضرر المفسدة التي
202

هي مناط الحرمة فلا يحكم العقل بلزوم دفع محتمل المفسدة قطعا و
ان قال الشيخ (ره) في العدة بلزوم دفعه وقد تقدم كل ذلك
(الثالث) العلم الاجمالي بوجود محرمات كثيرة فعلية في جملة
المشتبهات فيتنجز تلك المحرمات بواسطة العلم الاجمالي فيجب
الاحتياط
في جميع المشتبهات حتى يحصل العلم بالفراغ عما اشتغلت ذمته به
يقينا لان الاشتغال اليقيني يحتاج إلى الفراغ اليقيني بحكم العقل (و
فيه) أن العلم الاجمالي ينحل بواسطة قيام الامارات على المحرمات
الكثيرة في أطراف المعلوم بالاجمال بعد الفحص عن الأدلة و
الاطلاع عليها خصوصا بضميمة الأصول المثبتة للمحرمات (وأما
دعوى) علم الاجمالي بوجود المحرمات بعد الفحص - عن الأدلة و
الامارات والأصول المثبتة ووجدان محرمات كثيرة فمما لا شاهد
عليها ولا برهان (هذا مضافا) إلى أن العلم الاجمالي بوجود
التكاليف الالزامية ليس مختصا بالشبهات التحريمية بل حاصل في
الشبهات الوجوبية أيضا مع أن الأخباريين لا يقولون بوجوب
الاحتياط هناك فلو كان إشكال في البين يكون مشترك الورود لكن
الجواب عن الجميع هو الذي ذكرنا.
ثم أن الكلام في انحلال العلم الاجمالي وأنه حقيقي أو حكمي و
الضابط فيهما سيأتي في مبحث الاشتغال إن شاء الله (فقد ظهر) من
جميع
ما ذكرنا أنه ليس للاخباري دليل يمكن الاعتماد في وجوب الاحتياط
في الشبهة الحكمية التحريمية وجملة مما استدلوا بها على وجوب
الاحتياط في الشبهة التحريمية لو كانت تامة تدل على وجوب
الاحتياط في الشبهة الوجوبية أيضا مع أنهم لا يقولون بوجوبه فيها.
203

تنبيه
وهو أن أصالة البراءة من الأصول غير التنزيلية فلو كان هناك أصل
تنزيلي لا يبقى مجال لجريان أصالة البراءة لما تقدم وسيأتي من
حكومة الأصول التنزيلية على الأصول غير التنزيلية لارتفاع موضوعها
بها تعبدا لان الأصول التنزيلية مفادها إثبات المؤدى غاية الامر
بحسب الجري العملي والأصول غير التنزيلية مفادها صرف الجري
العملي على طبق وجود التكليف كأصالة الاشتغال أو على طبق عدمه
كأصالة البراءة بلا تعرضها لاثبات المؤدى فيكون الاستصحاب مثلا
كأصالة عدم التذكية حاكما على أصالة الحل وأصالة الطهارة فلو
شك في حلية لحم حيوان أو طهارته من جهة الشك في تذكيته و
عدمها إذا لم يكن سوق مسلم أو يده أو أي أمارة أو أصل حاكم عليه أو
من جهة الشك في قبوله للتذكية وعدم قبوله تجري أصالة عدم
التذكية وتكون حاكمة على أصالة الحل وأصالة الطهارة فيحكم بحرمة
لحمه ونجاسته وحيث انجر الكلام إلى جريان أصالة عدم التذكية من
باب المثال لا بأس بالتكلم فيها تبعا للاساتيذ العظام (رحمهم
الله).
فنقول اختلفت أقوال الفقهاء من أصحابنا الامامية فيما يقبل التذكية
من الحيوان غير الانسان (فقول) بقبول كل حيوان للتذكية ما عدا
نجس العين والحشرات (وقول) باستثناء المسوخ مما يقبل أيضا (و
قول) باستثناء السابع أيضا (وقول) باختصاصه بالحيوان المأكول
اللحم، والظاهر من إطلاقات الأدلة هو القول الأول وبناء عليه فلا
يبقى مجال لجريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية لاثبات عدم
التذكية إذا علم بأنه ليس من نجس العين ولا من الحشرات لعدم شبهة
في البين حكما (وبعبارة أخرى) لا يبقى
204

موضوع لأصالة عدمها.
واما لو شككنا في قابليته للتذكية ولم يكن إطلاق يرفع هذا الشك
كالحيوان المتولد من حيوان قابل للتذكية وحيوان غير قابل لها و
لم يكن إطلاق يكون مفاده قابلية كل حيوان للتذكية عدا نجس العين و
الحشرات فهذا هو الذي يقع محل البحث وانه تجري فيه أصالة
عدم التذكية من جهة الشك في قابلية المحل أم لا، هذا كله في الشبهة
الحكمية وأما في الشبهة الموضوعية كاللحم من الحيوان القابل
للتذكية الذي شك في وقوع التذكية عليه أم لا فتجري فيه أصالة عدم
التذكية إذا لم تكن أمارة أو أصل حاكم عليها على وقوع التذكية
كسوق المسلم أو يده، فيحكم عليه بالحرمة والنجاسة.
ثم انك عرفت عدم جريان أصالة عدم التذكية في الشبهة الحكمية ان
قلنا بقابلية كل حيوان للتذكية ودلت الاطلاقات عليها، وأما إذا لم
يكن إطلاق في البين ووصلت النوبة إلى أصالة عدم التذكية من جهة
الشك في قابلية المحل فهل يجري أم لا مبنى على مقدمة (وهي أن
التذكية) هل هي معنى بسيط تحصل في الحيوان من الأمور الخمسة
أعني فري الأوداج الأربعة بالحديد من مسلم مسميا موجها إلى القبلة
مع قابلية المحل، أو هي عبارة عن نفس هذه الأمور مع كون المحل
قابلا لها أو هي عبارة عن نفس هذه الأمور الخمسة وقابلية المحل
شرط لتأثيرها (فعلى الأول) أي إذا كانت عبارة عن ذلك المعنى
البسيط الذي يحصل من هذه الأمور في المحل القابل (فإذا شككنا)
في
حصول التذكية من جهة قابلية المحل أو من جهة الشك في اعتبار
كونها بالحديد أو اعتبار كون الذابح مسلما مثلا أو بالغا أو غير امرأة
أو من أي جهة أخرى مما يكون راجعا إلى الشبهة الحكمية ولم يكن
هناك إطلاق رافعا للشك في البين فتجري أصالة عدم التذكية من
جهة العلم بعدم حصول ذلك المعنى البسيط حال حياة الحيوان
205

والشك في حصوله بعد الذبح مع الشك في قابلية المحل أو مع فقد
ما هو مشكوك الاعتبار وإن كان منشأ القطع بعدمه في حال الحياة
عدم وقوع الذبح الذي ارتفع قطعا، ومنشأ الشك في حصوله بعد
الذبح هو الشك في قابلية المحل الذي من الأول كانت مشكوكة، لكن
هذا لا يضر بتمامية أركان الاستصحاب كما هو واضح (وعلى الثاني و
الثالث) أي بناء على كون التذكية عبارة عن نفس هذه الأمور مع
قابلية المحل أو تكون عبارة عن نفس هذه الأمور وقابلية المحل شرط
لتأثيرها في الحلية والطهارة، فلا تجري أصالة عدم التذكية
لعدم اليقين السابق بالعدم فيما إذا كانت قابلية المحل جز للتذكية،
للشك فيها من الأول في حال الحياة ولوقوع التذكية عليه فيما إذا
كانت القابلية خارجة عن حقيقتها وكانت شرطا لتأثيرها.
(نعم) لا أثر للتذكية الواقعة لفقد شرطها فيحكم بالطهارة والحلية
لقاعدة الطهارة والحل بناء على جريانهما في الشبهة الحكمية و
ليست أصالة عدم التذكية في البين حتى تكون حاكمة عليهما، وعلى
ما ذكرنا ظهر لك جريان أصالة عدم التذكية في الشبهة الموضوعية
مطلقا إذا شك في ورود التذكية بمعنى فري الأوداج الأربعة مع وجود
كل ما هو معلوم الاعتبار فيها (واما في الشبهة الحكمية)
فبالتفصيل الذي قدمناه، ولكن في مقام الاثبات حيث أن التذكية
عبارة عن نفس هذه الأمور الخمسة وقابلية المحل خارجة عنها و
شرط في تأثيرها فلا تؤثر في مورد الشك في القابلية كما تقدم،
فالمرجع قاعدة الحل وقاعدة الطهارة وعلى كل حال إذا جرت أصالة
عدم التذكية فيحكم بالنجاسة وحرمة أكل لحمه وان لم تجر فالمرجع
قاعدة الحل والطهارة ولا وجه للتفكيك بينهما فما ذهب إليه
بعض الأساطين من التفكيك بينهما والقول بالطهارة وحرمة الاكل لا
يستقيم لا مع جريان أصالة عدم التذكية ولا مع عدم جريانها كما
بينا، هذا تمام الكلام في الشبهة الحكمية
206

التحريمية إذا كان منشأ الشك فقد النص (وكذلك الامر) إذا كان منشأه
إجمال النص لعموم الأدلة التي تقدمت وعدم اختصاصها بصورة
فقد النص.
وأما لو كان منشأ الشك تعارض النصين فسيأتي الكلام فيه وانه مع
وجود المرجح في أحدهما خصوصا المرجحات المنصوصة يتعين
الاخذ به، وإلا فيتخير هذا في خصوص الاخبار لمجي الدليل على
عدم التساقط وان كان هو مقتضى القاعدة في باب تعارض الامارات
بناء على الطريقية فإذا جاء خبر يدل على حرمة لحم الأرنب كما هو
كذلك وجاء خبر على حليته (وحيث أن) الخبر الدال على الحرمة
موافق للمشهور مخالف للعامة وكلاهما من المرجحات المنصوصة
يجب الاخذ به ويطرح الاخر، وعلى كل حال إذا قلنا بالتساقط
فترجع المسألة إلى صورة فقدان النص، وقد تقدم أنه مجرى البراءة و
أما الاستدلال للاحتياط في مورد تعارض النصين في الشبهة
التحريمية بما عن غوالي اللئالي بقوله عليه السلام بعد فرض الراوي
فقد المرجحات (خذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف
الاحتياط) لا يفيد لضعف المرفوعة وعدم عمل الأصحاب بها. وإلا
فهو خارج عن محل البحث والنزاع لوجود الحجة تعيينا أو تخييرا (و
أما ان كانت الشبهة) موضوعية فأيضا تشمله الأدلة المتقدمة في
الشبهة الحكمية بل بعض أدلة الحل والإباحة في الشبهة الموضوعية
التي
منشأ الشك فيها هي الأمور الخارجية أظهر بل ربما يكون مختصا بها
كرواية مسعدة هذا مضافا إلى انعقاد الاجماع من الطرفين أي
الأصوليين والاخباريين على جريان البراءة فيها هذا كله في الشبهة
التحريمية بأقسامها الأربعة.
وأما الشبهة الوجوبية بأقسامها الأربعة من الحكمية التي منشأ الشك
فيها فقد النص أو إجماله أو تعارض النصين بناء على التساقط ومن
الشبهة الموضوعية التي منشأ الشك فيها هي الأمور الخارجية تكون
مجرى للبرأة
207

وحالها حال الشبهة التحريمية لاتحاد الدليل والمناط في كلتيهما،
هذا مضافا إلى حصول الاتفاق على البراءة في الشبهة الوجوبية من
الطرفين وإنما الخلاف بين الأصوليين والاخباريين في الشبهة
التحريمية الحكمية لفقد النص أو إجماله.
تنبيهات
(الأول)
في رجحان الاحتياط عقلا وشرعا في جميع صور احتمال التكليف
الإلزامي سواء كانت الشبهة وجوبية أو تحريمية، حكمية منشأها فقد
النص أو إجماله أو موضوعية منشأها الأمور الخارجية (وأما رجحانه
العقلي) فواضح لان العقل يحكم بحسن إتيان ما يحتمل أن يكون
مطلوبا للمولى بالطلب الإلزامي وترك ما يحتمل أن يكون مبغوضا
للمولى ومنهيا بالنهي التحريمي بلا شك ولا ريب (وأما رجحانه
الشرعي) فلا يمكن استكشافه من هذا الحكم العقلي لأنه وإن قلنا
بصحة قاعدة الملازمة وإن كل ما حكم العقل بحسنه يحكم الشرع
برجحانه وجوبا أو استحبابا، ولكن هذا فيما إذا كان حكم العقل واقعا
في سلسلة علل الاحكام وملاكاتها لا في سلسلة معاليلها و
امتثالاتها (وبعبارة أخرى) كلما كان متأخرا عن الامر كحكمه بحسن
الإطاعة وقبح العصيان فلا محل لها لقاعدة الملازمة (فالأحسن)
أن يستدل لرجحانه الشرعي بالأخبار الواردة في الترغيب على
الاحتياط كقوله عليه السلام (من يرتع حول الحمى أو شك أن يقع
فيه) و
قوله عليه السلام (من ارتكب الشبهات نازعته نفسه أن يقع في
المحرمات) وقوله عليه السلام (من ترك الشبهات كان لما استبان من
الاثم اترك) وغير ذلك من الروايات التي بهذه المضامين، فإنه يستفاد
من هذه الروايات أن تعويد النفس على الاحتراز عما يحتمل
المخالفة للمولى مطلوب ومحبوب
208

له من جهة أنه موجب لتبعيده عما هو إثم ومعصية، كما أن الاقتحام
في الشبهات وارتكابها موجب لتقريبه إلى المعصية والاثم وقلة
الاهتمام بتركها.
ثم إن هاهنا إشكال في إمكان الاحتياط في العبادات في غير ما إذا
كانت دائرة بين الوجوب والاستحباب (بيان ذلك) ان العبادة
تحتاج امتثالها إلى قصد القربة وقصد الامر (وبعبارة أخرى) الجزم
بكونها مأمورا بها ومطلوبة للمولى (فإذا كان) الامر دائرا بين
الوجوب والاستحباب يحصل الجزم بكونها مأمورا بها ومطلوبة
للمولى، غاية الامر بالطلب الأعم من الوجوبي والاستحبابي (وأما إذا
كان) الاحتمال دائرا بين الوجوب وغير الاستحباب أو كان غيرهما
أيضا محتملا فلا جزم بالمطلوبية حتى يقصد القربة والامر جزما
(ومن الواضح) لزوم قصد الامر في العبادات، وذلك لا يمكن إلا
العلم التفصيلي أو الاجمالي بالامر وفي المقام ليس علم لا تفصيلي و
لا
إجمالي في البين بل صرف احتمال بدوي، هذا ما أورده شيخنا
الأعظم الأنصاري (ره) في المقام أي على إمكان الاحتياط في
العبادات
في الشبهات البدوية، (وأجاب عنه) شيخنا الأستاذ (ره) بأن في مورد
عدم إمكان امتثال العلمي بكلا قسميه من التفصيلي والاجمالي و
عدم وجود ظن معتبر تصل النوبة إلى امتثال الاحتمالي بحكم العقل
فلو أتى به يسقط الامر على تقدير ثبوته واقعا فالامتثال الاحتمالي
في مرتبته امتثال وإن لم يكن في عرض الامتثال العلمي التفصيلي و
العلمي والاجمالي والظن المعتبر (ولكن يرد عليه) أنه بناء على
كون قصد الامر مأخوذا في متعلق الامر يكون المأمور به مركبا من ذات
المأمور به وقصد أمره المتعلق به ففي مورد احتمال الوجوب
المراد من امتثال الاحتمالي (ان كان) الاتيان بذات المأمور به بدون
قصد الامر فقطعا لم يحصل الامتثال لان المأمور به على الفرض
مركب وما أتى هو بتمامه فتسميته بالامتثال الاحتمالي غير صحيح (و
إن كان المراد)
209

إتيان المأمور بقصد أمره جزما فذلك غير ممكن لأنه غير جازم بوجود
الامر.
فالصواب في الجواب أن يقال لا يعتبر في تحقق العبادة قصد الامر
جزما بل إتيان الشئ برجاء أن يكون مأمورا به ومطلوبا للمولى
كاف في تحقق العبادة بل ربما يكون آكد في العبادية مما كان مأمورا به
جزما (وبعبارة أخرى) انبعاث العبد إلى إتيان شي لاحتمال
أن يكون مأمورا به ومطلوبا للمولى مع أنه يجوز له تركه أدل على
الانقياد والعبودية مما إذا كان انبعاثه بواسطة قطعه بالامر و
المطلوبية ولا يجوز له تركه ولو ترك يكون مستحقا للعقاب (و
الحاصل) أن إتيان ما يحتمل وجوبه برجاء أن يكون واجبا مطلوبا آكد
في مقام الانقياد للمولى من إتيان ما يعلم بوجوبه بقصد أمره (وما ربما
يقال) من إمكان الاحتياط في الشبهة البدوية الوجوبية التي
عبادة بواسطة قصد الامر الاستحبابي المتعلق بمادة الاحتياط ومعلوم
أن هذا الامر جزمي فيقصد هذا الامر الجزمي فيرتفع الاشكال و
يمكن الاحتياط في العباديات كإمكانه في التوصليات (ففيه أولا) أن
أوامر الاحتياط المتعلقة بمادته إرشادي ليست بمولوي استحبابي
على ما قالوا وإن كان خلاف ما اخترناه فليس قصدها موجبا لصيرورة
إتيان ما تعلق بها عبادة وإنما العبادية تحصل فيما إذا كان
المكلف منبعثا عن أمر مولوي وجوبي أو استحبابي أو آتيا برجاء أمر
كذلك، وأما قصد الامر الارشادي لا أثر له في هذا المقام أصلا (و
ثانيا) على فرض تسليم أن يكون مولويا استحبابيا لا بد وأن يكون
الاحتياط في المرتبة السابقة على الامر ممكنا حتى يتعلق به الامر و
المفروض انه لا يتمكن من الاحتياط في العبادات إلا بعد تعلق الامر به
فإمكان الاحتياط في العبادات موقوف على تعلق الامر به وتعلق
الامر به موقوف على إمكانه وهذا دور واضح (نعم) لو كان الاحتياط
حتى في العبادات عبارة عن إتيان ذات العمل مجردا عن قصد
القربة والامر فحينئذ
210

يمكن أن يأتي به بقصد الامر المتعلق به مولويا استحبابيا فيصير عبادة
(ولكن) هذا الاحتمال ملغى جدا فالصحيح هو الذي ذكرنا من أنه
لا يعتبر في تحقق العبادة قصد الامر الجزمي بل إتيانها برجاء
المطلوبية كاف بلا ريب ولا إشكال.
وأما لو كان منشأ احتمال الوجوب قيام خبر ضعيف لا يثبت به
الوجوب لعدم كون مثل ذلك الخبر مشمولا لدليل الحجية (فيقع
الكلام)
في أنه هل يمكن إثبات الاستحباب لذلك الشئ الذي قام الخبر
الضعيف على وجوبه بواسطة أخبار من بلغ كما أنه صار محل البحث
أيضا في ثبوت الاستحباب بالخبر الضعيف إذا قام على استحباب
شي (وهذا) هو المعروف بمسألة التسامح في أدلة السنن
(فالمناسب)
أن نذكر مدرك هذه المسألة ومفاد أدلتها والاحتمالات التي ذكروها
فيها وما هو الظاهر من مفاد الأدلة منها أي من تلك الاحتمالات
فنقول.
التنبيه الثاني في بيان ما يستفاد من أخبار من بلغ الذي يسمى بالتسامح
في أدلة السنن
أما الأخبار الواردة في هذا الباب فكثيرة نذكر جملة منها (الأول)
صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال (من بلغه عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم شي من الثواب فعمله كان أجر ذلك
له وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقله) (الثاني)
المروي عن صفوان عن الصادق عليه السلام قال (من بلغه شي من
الثواب على شي من الخير فعمل به كان له أجر ذلك وإن كان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقله) (الثالث) خبر محمد بن
مروان عن أبي عبد الله عليه السلام قال (من بلغه عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم شي من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلى
الله عليه وآله وسلم كان له ذلك الثواب وإن كان النبي صلى الله عليه
وآله وسلم لم يقله) (الرابع)
211

خبره الاخر قال سمعت أبا جعفر عليه السلام (من بلغه ثواب من الله
تعالى على عمل ففعله التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن
الحديث
كما بلغه) إلى غير ذلك من الاخبار.
فنقول اما الاحتمالات التي ذكروها في مفاد هذه الأخبار أو يمكن أن
يحتمل فكثيرة (منها) أن يكون مفادها حجية خبر الضعيف الذي
قام على وجوب شي أو استحبابه بالنسبة إلى استحبابه فيكون حجة
على استحباب ذلك الشئ ولو كان ظاهرا في وجوبه، والمراد
من الخبر الضعيف هو الخبر الذي ليس مشمولا لدليل الحجية في حد
نفسه لولا هذه الأخبار وهذا الاحتمال هو الظاهر من قولهم
بتسامح أدلة السنن (وبيان) دلالة هذه الأخبار على هذا الاحتمال هو
دلالتها على ترتب الثواب على العمل الذي بلغه أن فيه الثواب، ولا
شك أن ترتب الثواب على عمل دليل على استحبابه والمثبت لهذا
الاستحباب هو عنوان البلوغ سواء كان بالخبر الموثق أو الضعيف
فيكون خبر الضعيف حجة على الاستحباب كالخبر الصحيح و
الموثق. والانصاف ان خبر الصفوان عن الصادق عليه السلام و
صحيحة
هشام ابن سالم لهما ظهور في هذا المعنى حيث رتب فيهما الاجر
على نفس العمل عقيب البلوغ وبناء على هذا تكون المسألة أصولية
لان
نتيجتها وهي حجية الخبر الضعيف تقع كبرى في قياس الاستنباط
(منها) أن مفادها ان الانقياد في ترتب الثواب مثل الإطاعة غاية الامر
ثواب الإطاعة بالاستحقاق وثواب الانقياد بالتفضل بمعنى أنه ولو لم
يأت بما هو واجب أو مستحب ولكنه بعد ما عمله عقيب قيام الحجة
التماس ذلك الثواب فالله تبارك وتعالى يتفضل عليه بإعطاء الاجر و
لو أخطأت الحجة (وبعبارة أخرى) لا يذهب عمله وتعبه عند خطأ
الحجة سدى ولعل هذا ظاهر خبر محمد بن مروان عن أبي جعفر
عليه السلام، وبناء على هذا لا ربط لهذه الأخبار بما قالوا
212

من التسامح في أدلة السنن ولا بد لهم من التماس دليل آخر (منها) أن
مفادها هو الارشاد إلى ما حكم به العقل من حسن الاحتياط و
الترغيب فيه بإتيان محتمل المطلوبية - سواء كان محتمل الوجوب أو
محتمل الاستحباب - بأن في الاحتياط وإتيان محتمل المطلوبية
مطلقا سواء طابق الواقع أو لم يطابق أجر وثواب إذا أتاه بهذا الداعي و
بناء على هذا لا يدل هذه الأخبار لا على استحباب العمل الذي
يأتي به مطلقا سواء كان بداعي التماس الثواب وطلب قول النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أو لم يكن ولا على حجية الخبر الضعيف على
الاستحباب (ويمكن) أن يستظهر هذا الاحتمال من خبري محمد بن
مروان حيث قيد العمل في أحدهما بطلب قول النبي صلى الله عليه و
آله وسلم وفي الاخر بالتماس ذلك الثواب والذي يبعد هذا
الاحتمال ان الارشاد إلى الاحتياط بتوسط عنوان يكون بينه وبين
عنوان
الاحتياط عموم من وجه وهو عنوان من بلغ في غاية البعد بل
الاستهجان.
ثم إن الظاهر من مفاد مجموع هذه الأخبار هو الاحتمال الأول أي كون
العمل الذي أتى به بداعي التماس الثواب مستحبا غاية الامر إنما
الكلام في معروض هذا الاستحباب هل هو ذات العمل أو العمل
المعنون بعنوان البالغ عليه الثواب بحيث يكون من قبيل العنوان
الثانوي
للعمل كعنوان الاكراه والاضطرار فيكون ذات العمل وحدها غير
محكوم بالاستحباب بل كان مباحا في حد نفسه (ولكن) بواسطة
طرو هذا العنوان وجدت فيه مصلحة صارت سببا لاستحبابه معنونا
بهذا العنوان بمعنى أنه واسطة في العروض لا أنه واسطة في الثبوت
فقط فالدليل على ثبوت الاستحباب لهذا العمل المعنون بهذا العنوان
هو اخبار من بلغ لا الخبر الضعيف وأخبار من بلغ في غاية القوة و
الصحة بل ربما ادعى قطعية صدورها نعم الخبر الضعيف يوجب
تعنون العمل بهذا العنوان (وبعبارة أخرى) يوجب تحقق موضوع
الحجة
فبناء على هذا
213

قول المشهور بالتسامح في أدلة السنن لا ينطبق على هذا وليس كما
ينبغي ان كان مرادهم هذا المعنى (نعم لو قلنا) أن مفاد هذه الأخبار
حجية خبر الضعيف لاثبات الاستحباب (وبعبارة أخرى) أن شرائط
الحجية في باب الخبر الدال على الاستحباب ليست عين الشرائط
التي أخذت في باب الاحكام الالزامية من لزوم كون الراوي عدلا أو
ثقة ولم يعرض الأصحاب عن العمل به إلى غير ذلك من القيود و
الشرائط بل لو دل خبر ضعيف على استحباب عمل يكون حجة و
مثبتا لذلك الاستحباب وعلى هذا ينطبق ما ذكروه من التسامح في
أدلة السنن ولكن عرفت أن مفاد هذه الأخبار غير هذا المعنى.
ثم أنه بناء على دلالة هذه الأخبار على حجية الخبر الضعيف في باب
السنن فللفقيه أن يفتي باستحباب العمل الذي دل خبر ضعيف على
استحبابه فيكون حاله حال سائر الأحكام الشرعية التي قامت حجة
معتبرة على ثبوتها فيكون مستحبا في حقه وفي حق مقلديه (وأما)
إذا احتمل الاستحباب أو ظن به من فتوى فقيه بل من شهرة أو إجماع
منقول أو من غير ذلك مما ليس بحجة شرعا فليس له أن يفتي
بالاستحباب من ناحية أخبار من بلغ لعدم صدق البلوغ وعدم دلالة
هذه الأخبار على حجية هذه الأمور على الفرض بل دلالتها مختصة
بحجية الخبر الضعيف (وأما بناء) على ما استظهرنا منها من أن مفادها
استحباب العمل الذي بلغ إليه من ناحية المعصوم أن عليه الثواب
والاجر حتى تكون المسألة فقهية بخلاف الصورة السابقة فإنها أصولية
لأن مفادها حجية الخبر الضعيف فيقع كبرى في قياس
الاستنباط وقد تقدم مرارا أنه مناط كون المسألة أصولية فشمولها
لفتوى الفقيه والشهرة وإجماع المنقول والاستحسانات وغير ذلك
مما ليس بحجة شرعا منوط على صدق البلوغ أي صدق بلوغ الاجر و
الثواب على ذلك العمل الذي دل
214

أحد هذه الأمور على استحبابه فإذا صدق البلوغ يكون مستحبا بأخبار
من بلغ وإذ ليس فليس (وأما بناء) على أن يكون مفادها أن
ثواب الانقياد مثل الإطاعة تفضلا بدون أن يكون طلب استحبابي في
البين فلا تدل هذه الأخبار على استحباب ما دل على استحبابه خبر
ضعيف فضلا عما إذا كان منشأ احتمال الاستحباب شيئا آخر غير
الخبر الضعيف مما ذكرنا من مثل الشهرة وإجماع المنقول وغيرهما
بل يدل على أن في كل مورد يصدق عنوان بلوغ الثواب إذا كان البلوغ
بسبب حجة على أحد الاحتمالين أو مطلقا على احتمال آخر ففعله
التماس ذلك الثواب فالله تبارك وتعالى يتفضل عليه بذلك الاجر و
الثواب وإن لم يكن البلوغ مطابقا للواقع فليس للفقيه أن يفتي بناء
على هذا الاحتمال بالاستحباب حتى يقلده العامي ويأتي به بعنوان
انه مستحب وليس له أيضا أن يأتي به بعنوان أنه مستحب بل له أن
يأتي برجاء الواقع والتماس ذلك الثواب والاجر كما أن له أن يرشد
العامي إلى ما هو مضمون ومفاد هذه الأخبار بأن يقول أو يكتب
من بلغه عن المعصوم سلام الله عليه ثواب أو أجر على عمل فأتى
بذلك العمل رجاء يكون له أجر ذلك العمل، وهذا ليس من باب
الافتاء و
إظهار الحكم الشرعي بل من قبيل الارشاد إلى أمر يترتب عليه الثواب.
ثم أنه بناء على استفادة الاستحباب لا فرق بين أن يكون الخبر
الضعيف مفاده استحباب الشئ أو وجوبه لاتحاد المناط فيهما وهو
بلوغ الثواب والاجر فيهما كما أنه بناء على سائر الاحتمالات أيضا لا
فرق في تحقق الموضوع وصدق البلوغ بينهما (نعم) بناء على
استفادة حجية الخبر الضعيف في باب الاستحباب حتى تكون
المسألة أصولية كما بينا فالخبر الضعيف الدال على وجوب شي لا
يثبت
به مؤداه أعني وجوب ذلك الشئ وهل يثبت به الاستحباب بناء
على هذا الاحتمال لا يبعد ذلك (أما الأول) أي عدم
215

ثبوت الوجوب به فمن جهة أن المفروض دلالة هذه الأخبار على
حجية الخبر الضعيف بالنسبة إلى الاستحباب لا فيما إذا كان مفاده
الوجوب (وأما الثاني) فمن جهة أن الخبر الضعيف الذي دل على
وجوب شي يدل بالدلالة التضمنية على مطلوبيته ورجحانه في
ضمن
دلالته على وجوبه بالدلالة المطابقية ويمكن أن يكون حجة باعتبار
دلالته التضمنية بواسطة هذه الأخبار وإن لم يكن حجة في مدلوله
المطابقي ولا ملازمة في الحجية بين الدلالتين، ولكنه لا يخلو من
إشكال (ثم انه) هل تدل هذه الأخبار على كراهة ما دل الخبر الضعيف
على كراهته أو حرمته فيكون حال الحرمة والكراهة حال الوجوب و
الاستحباب في التسامح بمعنى انه تثبت الكراهة بالخبر الضعيف
الدال على الكراهة أو الحرمة (الظاهر) عدم دلالتها على ذلك فلا
يجري التسامح في أدلة الكراهات (لان غاية) ما يمكن أن يقال في هذا
المقام أن الخبر الضعيف الذي قام على كراهة شي أو حرمته يدل
بالدلالة الالتزامية على أن في ترك ذلك الشئ أجر وثواب كما هو
كذلك في تروك الصوم والاحرام فيدل على استحباب الترك و
رجحانه فيكون الفعل مرجوحا وهذا معنى الكراهة فيما لا يكون
الفعل
حراما كما هو المفروض في المقام لان الخبر الضعيف إذا كان ظاهرا
في الكراهة فلا وجه لحرمة الفعل وإذا كان ظاهرا في الحرمة فلا
تثبت الحرمة به لعدم حجيته لضعفه (وأنت خبير) بأن هذا الكلام على
فرض تماميته وصحته لا يثبت إلا استحباب الترك لا كراهة الفعل
لعدم الملازمة بينهما فعلا وتركا فيمكن أن يكون الفعل أو الترك
مستحبا ولا يكون الطرف الآخر مكروها وكذلك يمكن أن يكون
الفعل أو الترك مكروها ولا يكون الطرف المقابل مستحبا، هذا مع أنه
لو كان الفعل حراما أو مكروها معناه أن فيه مفسدة ملزمة في
الأول وحزازة في الثاني لا أن في الترك مصلحة حتى يكون له أجر و
ثواب
216

هذا مضافا إلى أن ظاهر هذه الأخبار ترتب الثواب والاجر على عمل
عمله التماس ذلك الاجر والعمل ظاهر في الامر الوجودي ولا
يشمل التروك (نعم) ربما يكون مفاد الخبر الضعيف استحباب ترك أو
وجوبه كما أنه ربما يقع ذلك في باب الصوم وباب الاحرام
فحينئذ يمكن التمسك لاستحباب ذلك الترك بهذه الاخبار، لكن هذا
خارج عن محل البحث والكلام.
ثم انه بناء على ما استظهرنا من هذه الأخبار من استحباب العمل الذي
صادر معنونا بعنوان بلوغ الأجر والثواب عليه فلا بد من صدق
البلوغ عرفا لتحقق موضوع الاستحباب به وذلك لا يكون إلا بدلالة
الخبر الضعيف عليه بإحدى الدلالات اللفظية الوضعية حسب الظهور
العرفي فلو كان الخبر الضعيف غير ظاهر في البلوغ فلا يثبت به
الاستحباب، وبناء على هذا لو ورد خبر ضعيف مطلق بالاطلاق
الشمولي أو كان عاما أصوليا على إكرام جميع العلماء وجوبا أو ندبا و
ورد مقيد أو مخصص بالنسبة إلى بعض الحالات أو بعض الافراد
أو الأصناف (فان كان) المقيد أو المخصص متصلا - حيث إنهما
يمنعان عن انعقاد الظهور بالنسبة إلى المقدار الخارج عن تحت العام
أو
المطلق الذي دل على عمومه أو إطلاقه خبر الضعيف - فلا يصدق
البلوغ بالنسبة إلى المقدار الخارج - فلا يمكن إثبات استحباب ذلك
المقدار باخبار من بلغ وذلك لعدم تحقق موضوعه أي البلوغ (وأما لو
كان) التقييد أو التخصيص بالمنفصل - فحيث أن الظهور لا ينثلم
بالمنفصل يمكن أن يقال حيث أن ظهور المطلق في الاطلاق والعام
في العموم باق بعد ورود المقيد والمخصص المنفصلين - فيصدق
البلوغ وتشمله أخبار من بلغ، هذا فيما إذا كان المقيد والمخصص
خبرا ضعيفا غير حجة، وأما إذا كان مشمولا لدليل الحجية (فربما
يقال) حيث يسقط ظهور المطلق والعام عن الحجية في تلك القطعة
بواسطة تقديم ظهور المقيد والمخصص على
217

ظهورهما فلا يصدق البلوغ بالنسبة إلى الظهور الذي ليس بحجة (و
لكن أنت خبير) بأن بلوغ شي عن شخص بواسطة الاخبار عنه
ليس إلا أن يكون كلام المخبر واخباره ظاهرا في أنه قال كذا سواء كان
صادقا في اخباره أو كاذبا وسواء كان خبره حجة أو لا و
لذلك يمكن أن يقال في المتعارضين بعد التساقط أيضا كما إذا كان
أحدهما ظاهرا في الوجوب أو الاستحباب والاخر في نفيهما ولو
يسقط ما هو ظاهر في الوجوب أو الاستحباب عن الحجية إلا أن
ظهوره في أحدهما باق فبأخبار من بلغ يثبت استحبابه فلا فرق في
صدق البلوغ وشمول أخبار من بلغ لتلك القطعة بين أن يكون
ظهورهما حجة فيها أو لم يكن (نعم) لو كان مفاد دليل المقيد و
المخصص
المعتبر حكما تحريميا (فلا يمكن) القول باستحباب تلك القطعة
بأخبار من بلغ.
ثم أنه هل تشمل أخبار من بلغ فتوى الفقيه باستحباب شي أو وجوبه
فيكون حاله حال الخبر الضعيف أم لا الظاهر عدم الشمول لان
الفقيه يخبر عن رأيه بالوجوب أو الاستحباب وربما يكون منشأ رأيه و
حدسه شيئا آخر غير الاخبار المروية عنهم عليهم السلام من
الاستحسانات وتنقيح المناطات بنظره فلا ربط حينئذ بين الاخبار عن
رأيه وفتواه وبين البلوغ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه
لو كان منشأ رأيه وفتواه هي الاخبار أيضا لا يفيد لأنه فرق بين رأيه
المستنبط عن الاخبار وبين نقل ما قاله النبي فالأول ليس
اخبارا عن النبي فالأول ليس اخبارا عن النبي صلى الله عليه وآله و
سلم ولا يصدق عليه البلوغ عن النبي بخلاف الثاني كما هو واضح.
ثم أنه هل تشمل هذه الأخبار مورد الخبر الضعيف الذي مفاده وقوع
بعض المصائب لأهل البيت عليهم السلام أو للنبي صلى الله عليه و
آله و
218

بأن يقال حيث أنه من المسلم والمقطوع أن البكاء على مصائبهم
عليهم السلام له أجر وثواب عظيم فمفاد هذا الخبر الضعيف ينتهي
إلى
الأجر والثواب على البكاء في هذه المصيبة (ولكن أنت خبير) بأن
هذا الكلام مغالطة عجيبة لان كون البكاء على مصائبهم موجبا للاجر
والثواب أمر مسلم مقطوع فالمهم إثبات الصغرى وهي وقوع هذه
المصيبة في الخارج وهي حيث أنها من الموضوعات الخارجية فلا
يثبت بالخبر الصحيح الواحد فضلا عن الخبر الضعيف (نعم يمكن أن
يقال) إذا كان البكاء لظن وقوع مصيبة أو احتماله عليهم عليهم
السلام يوجب الأجر والثواب فكما أن الخبر الصحيح موجب لتحقق
موضوع الأجر والثواب أي الظن أو احتمال وقوع تلك المصيبة
فكذلك الخبر الضعيف، وهذا لا ربط له بأخبار من بلغ، وما قلنا جار
في جميع الموضوعات الخارجية التي دل على وجودها خبر ضعيف
وإن كان العمل المتعلق بذلك الموضوع كان له أجر وثواب وأما جواز
نقل ما هو مضمون الخبر الضعيف الوارد في مصائبهم عليهم
السلام واستناده إليهم صلوات الله عليهم فأجنبي عن مقامنا.
التنبيه الثالث
قيل بالفرق بين الشبهات الحكمية التحريمية وبين الشبهات
الموضوعية التحريمية فتجري البراءة في الأول بالأدلة المتقدمة من
الآيات
والروايات ولا تجري في الثاني (وذلك) من جهة أن الشك في الشبهة
الموضوعية ليس من ناحية فقد النص أو إجماله أو تعارض النصين
(وبعبارة أخرى) ليس من جهة عدم البيان لان البيان من ناحية الشارع
تام وتمام وإنما الشك نشأ من الاشتباه في الأمور الخارجية
فليس من قبيل الشك في التكليف حتى تشمله أدلة البراءة بل يكون
من قبيل الشك في الامتثال فيكون شكا في السقوط لا في الثبوت
فيكون مجرى قاعدة الاشتغال (وفيه) أن النواهي المتعلقة بالطبائع
انحلالية إذا تعلق بالطبيعة السارية أو كان بنحو
219

العام الاستغراقي بناء على كونه غير نحو تعلق النهي بالطبيعة السارية
بأن يفرق بينهما بأن المنهي فيما إذا تعلق النهي بالطبيعة السارية
هي وجودات الطبيعة من دون دخول الخصوصيات الفردية في
المتعلق بخلاف كونه على نحو العام الأصولي أي الاستغراقي فان
الخصوصيات الفردية داخلة في متعلق النهي (ففي كلا القسمين)
النهي ينحل إلى النواهي المتعددة حسب تعدد أفراد الطبيعة، ولا فرق
في
ذلك بين أن يكون لمتعلق النهي أي فعل المكلف تعلق بالموضوع
الخارجي مثل لا تشرب الخمر ولا تغتب أخاك المؤمن أو لم يكن مثل
لا
تكذب، فإذا شك في فرد انه هل من الافراد التي تعلق بها أو لا، يكون
شكا في ثبوت التكليف لا في سقوطه فيكون مجرى البراءة (و
بعبارة أخرى) بعد فرض الانحلال وتعدد النواهي حسب تعدد الافراد
فإذا علمنا بفردية فرد لمتعلق النهي فيما إذا لم يكن للمتعلق تعلق
بموضوع خارجي كما إذا علمنا بكذبية خبر نعلم بوجود نهي آخر غير
النواهي الاخر المتعلقة بسائر أفراد الكذب وإذا شككنا في كذبية
خبر نشك في وجود ذلك النهي الاخر الذي هو مقتضى الانحلال و
كذلك الامر بالنسبة إلى متعلق ما تعلق به النهي أي الموضوع
الخارجي
الذي تعلق به فعل المكلف المنهي عنه كالخمر مثلا من حيث الشك و
اليقين فإذا أحرزنا خمرية مائع بمحرز وجداني كالقطع أو تعهدي و
لو كان أصلا محرزا كالاستصحاب نحرز النهي وإذا لم نحرز وكان
خمريته مشكوكا نشك في وجود فرد آخر للنهي الانحلالي متعلق
بهذا المائع المشكوك الخمرية فيكون شكا في التكليف ومجرى
للبرأة، وإذا بلغ الكلام إلى هذا المقام فالأحسن أن نذكر أقسام الطلب
الوجودي والنهي وأنحائهما باعتبار تعلقهما بفعل المكلف وباعتبار
تعلق ذلك الفعل المنهي عنه بموضوع خارجي حتى يتبين حال
الشبهة الموضوعية مطلقا وجوبية كانت أو تحريمية.
220

فنقول أما الطلب الوجودي والامر (قد يتعلق) بالطبيعة بنحو الطبيعة
السارية (وقد يتعلق) بها بنحو الاستغراق وقد بينا الفرق بينهما
(وثالثة) بنحو الطبيعة الصرفة وما كان بنحو الطبيعة الصرفة (قد
يكون) لمتعلقه مساس بالموضوع الخارجي الذي يسمى بمتعلق
المتعلق مرة و بالموضوع أخرى (وقد لا يكون) وما يكون له مساس
بالموضوع الخارجي (قد يكون) الطلب منوطا بوجوده بحيث لا
طلب قبل وجوده فيكون بالنسبة إليه من قبيل واجب المشروط (وقد
يكون) الطلب يسرى إليه فيقع تحت الطلب فيكون بالنسبة إليه من
قبيل واجب المطلق ويكون ذلك الموضوع الذي نسميه بمتعلق
المتعلق من قبيل مقدماته الوجودية أي لمتعلق الطلب فيقع في حيز
الطلب.
إذا عرفت هذا فنقول (ما كان) من قبيل القسم الأول والثاني أي كان
متعلق الطلب الطبيعة السارية أو العام الاستغراقي فلا محالة يكون
الخطاب انحلاليا ينحل إلى قضايا متعددة لكل منها امتثال على حدة و
عصيان على حدة، وهذا كما تقول أكرم العلماء إذا كان الخطاب
بأحد القسمين أي بنحو العام الاستغراقي أو الطبيعة السارية (ولكن
أنت خبير) أن هذا الانحلال يأتي من قبيل الموضوع الخارجي أي
متعلق المتعلق وإلا لو لم يكن لمتعلق الامر متعلق وموضوع خارجي
فكون الطلب المتعلق به - بنحو العام الاستغراقي أو بنحو الطبيعة
السارية - في غاية الاشكال بل صرف فرض بخلاف النهي فأنه يكون
غالبا من القسمين (وأما لو كان) من قبيل القسم الثالث أي كان
تعلق الطلب والامر به بنحو صرف الطبيعة وكان للمتعلق مساس
بالموضوع الخارجي وكان الطلب مشروطا بوجود ذلك الموضوع
الخارجي فأيضا في مورد الشك في وجود ذلك الموضوع الخارجي
تجري البراءة لأن الشك في وجود الشرط يوجب الشك في وجود
المشروط فيكون
221

شكا في التكليف، ومعلوم أنه مجرى البراءة وذلك مثل صل
للخسوف مثلا أو لغيره من الآيات (وبعبارة أخرى) في كل مورد كان
التكليف انحلاليا فتجري البراءة في الشبهة الموضوعية مثل الشبهة
الحكمية سواء كانت الشبهة الموضوعية وجوبية أو تحريمية (غاية
الامر) أن الانحلال في التكليف الوجوبي وما هو مفاد الامر غالبا من
ناحية الموضوع وفي التكليف التحريمي لا فرق بين أن يكون
لمتعلق النهي موضوع خارجي مثل لا تشرب الخمر ولا تغتب المؤمن
وأمثال ذلك أو لا يكون - مثل لا تكذب ولا تتكلم وأمثال ذلك -
غالبا يكون التكليف انحلاليا (والسر في ذلك) أن الطلب ان تعلق
بطبيعة ولم يكن لتلك الطبيعة متعلق وموضوع في الخارج فمفاد
ذلك الطلب وجوب إيجاد تلك الطبيعة وهو يحصل بأول وجود لها
فيسقط الامر بالامتثال ولا يبقى مجال للانحلال وأما النهي فحيث
أن مفاده لزوم ترك الطبيعة وهو لا يحصل إلا بترك جميع وجوداتها
فقهرا ينحل إلى نواهي متعددة حسب تعدد وجودات الطبيعة وإن
لم يكن لمتعلق النهي متعلق وموضوع خارجي (نعم) الطلب بالنسبة
إلى متعلق متعلقه ربما ينحل كما إذا تعلق الطلب بموضوع خارجي و
كان الحكم بلحاظ السريان إلى جميع أفراد ذلك الموضوع بحيث كان
المتعلق به حكم مستقل لا ربط بحكم الافراد الاخر وهذا هو
العموم الافرادي أو الاستغراقي أو العام الأصولي وكلها بمعنى واحد و
قد يلاحظ بنحو العام المجموعي بحيث يكون جميع الافراد
موضوعا واحدا فلو أتى بالجميع امتثل امتثالا واحدا وإلا فلا معنى
للانحلال في هذه الصورة أصلا (فقد ظهر) أن الانحلال في جانب
الطلب لا يمكن إلا بأن يكون لمتعلق الطلب موضوع خارجي ويكون
الحكم بلحاظ كل فرد من أفراد ذلك الموضوع موضوعا مستقلا بأن
يكون له حكم مستقل له عصيان خاص وكذلك له امتثال وان جمع
الحاكم في مقام حكمه تلك
222

الافراد تحت جامع واحد بصورة القضية الحقيقية.
والحاصل أن الطلب اما يتعلق بالطبيعة باعتبار صرف الوجود وليس
للمتعلق موضوع خارجي مثل (صل) فلا بد للمكلف أن يأتي بما هو
فرد ومصداق يقيني للصلاة بعد تبين مفهوم الصلاة مثلا كما هو
المفروض، لان الكلام في الشبهة الموضوعية فلا مورد لجريان البراءة
في مشكوك الفردية وأما إن كان للمتعلق موضوع خارجي في هذه
الصورة - ولم يكن الطلب مشروطا بوجود ذلك الموضوع في
الخارج وكان إيجاد ذلك الموضوع الخارجي تحت قدرة المكلف
كقوله اقرأ دعاء كذا فإذا شك في أنه دعاء كذا - فلا يتحقق به الامتثال
بل يكون مجرى قاعدة الاشتغال ولا بد له أن يأتي بما هو متيقن
الفردية ولو بإيجاد موضوعه وأما لو لم يكن إيجاده تحت قدرته فلا
بد له أن يأتي بفرد آخر معلوم الفردية ولو لم يكن له متيقن الفردية فلا
بد له من الاحتياط بإتيان ذلك الفرد المشكوك لأنه شك في
القدرة وفي مثله يجب الاحتياط (أما لو كان) لمتعلق الطلب موضوع
خارجي وكان الطلب مشروطا بوجوده فلا شك في أنه لو كان
هناك ما هو مشكوك المصداقية لذلك الموضوع الخارجي فليس له
الاكتفاء بذلك الفرد مع وجود فرد آخر متيقن الفردية لقاعدة أن
الاشتغال اليقيني يحتاج إلى فراغ يقيني، وأما مع الانحصار بذلك
الفرد كما أنه إذا ورد أكرم عالما ولا يوجد عالم غير هذا الفرد
المشكوك العالمية فيكون مجرى البراءة لأنه شك في التكليف للشك
في وجود شرط، هذا كله فيما إذا كان متعلق الطلب صرف وجود
الطبيعة (وأما لو كان) متعلقه الطبيعة السارية أو العام الاستغراقي -
بناء على ما فرقنا بينها وإن كان هذا السريان أو العموم من ناحية
الموضوع لما ذكرنا من أنهما باعتبار نفس المتعلق بدون أن يكون له
موضوع - فصرف فرض لا واقع لهما فلا محالة يكون التكليف
منحلا إلى تكاليف متعددة
223

حسب تعدد أفراد الموضوع، فإذا شك في موضوع يكون شكا في
التكليف ويكون مجرى البراءة كما تقدم بيانه (وأما لو كان) متعلق
الطلب هو العام المجموعي فهل يكفي الاكتفاء بالاتيان بالافراد
المتيقن الفردية وتجري البراءة في الفرد المشكوك؟ أم يجب الاتيان
به
أيضا للقطع بالامتثال ولحصول الفراغ اليقيني (الظاهر) جريان البراءة
في الفرد المشكوك الفردية للشك في تعلق الامر به (وبعبارة
أخرى) فيما إذا كان متعلق الطلب عاما مجموعيا فكل واحد من أفراد
ذلك المجموع يكون واجبا نفسيا ضمنيا ويشبه المشتبه الجزئية
للمركب الواجب في أن كل واحد من تلك الاجزاء يكون واجبا نفسيا
ضمنيا فيرجع الشك في فرديته لذلك المجموع إلى الشك في وجوبه
فيكون مجرى البراءة إلا أن يكون المجموع ذا هيئة تعلق الطلب به بما
هي متهيئة بتلك الهيئة، هذا كله في الشبهة الوجوبية وأنحاء تعلق
الطلب الامري.
وأما النواهي فهي أيضا على أقسام كما ذكرنا في الطلب الوجوبي أي
طلب وجود الشئ غاية الامر الفرق بينهما أن الامر إذا لم يكن
لمتعلقه موضوع خارجي يكون متعلق الطلب فيه صرف وجود
الطبيعة لا السارية ولا العموم الاستغراقي بخلاف النهي فإنه غالبا على
نحو الطبيعة السارية أو العموم الاستغراقي وقد بينا جريان البراءة في
الفرد المشتبه إذا كان تعلقه بأحد النحوين، (وأما إذا كان) تعلقه
بنحو العام المجموعي بأن يكون المنهي عنه إتيان مجموع الافراد
فيجوز الاتيان بما هو متيقن الفردية فضلا عن مشكوكها ما دام يترك
البعض الاخر، نعم يبقى الكلام في أنه هل يجوز أن يترك المشكوك
الفردية فقط ويأتي بجميع الافراد المتيقنة أم لا (يمكن أن يقال) أنه
من قبيل الأقل والأكثر غاية الامر أن الأقل والأكثر في المحرمات
بعكس الأقل والأكثر في الواجبات ففي الواجبات الأقل هو القدر
المتيقن وفي المحرمات القدر المتيقن هو الأكثر بمعنى القطع بحرمة
224

الاتيان وارتكاب الأكثر للعلم بأن مجموع الافراد الذي تعلق النهي به
إما هو الأكثر أو هو - أي الأكثر - مشتمل عليه فيقطع بحرمة
ارتكاب الأكثر وأما ارتكاب الأقل أي الافراد المتيقنة فمشكوك حرمته
لاحتمال أن يكون الفرد المشكوك المصداقية مصداقا واقعا فمع
ارتكاب الأقل والاجتناب عن ذلك الفرد المشكوك لا يقطع بارتكاب
الحرام فيكون بالنسبة إلى الأقل شكا في التكليف فيكون مجرى
للبرأة (وأما لو كان) تعلق النهي بنحو صرف الوجود بمعنى أن
المطلوب فيه يكون ترك صرف وجود الطبيعة الذي هو نقيض صرف
وجودها ففرق بينه وبين الطلب الامري حيث إنه في طرف الوجود إذا
كان صرف الوجود مطلوبا يصدق على أول وجود أي فرد من
أفراد الطبيعة ويحصل به الامتثال بخلاف ما إذا كان المطلوب ترك
صرف الوجود الذي هو نقيض صرف الوجود فإنه لا يحصل إلا
بالاجتناب عن جميع الوجودات وإلا يلزم اجتماع النقيضين، إذ
يصدق على أي وجود من وجودات الافراد عنوان صرف الوجود فلو
صدق عليه ترك صرف الوجود يلزم ما قلنا من اجتماع النقيضين، و
هذا هو المراد بقولهم أن عدم الطبيعة بعدم جميع الافراد فارتكاب
ما هو مشكوك الفردية يوجب الشك في الامتثال فيجب الاجتناب
عنه من باب الاحتياط مقدمة لحصول القطع بالامتثال.
ولكن يمكن أن يقال أن مرجع هذا الشك أيضا إلى أن مفاد النهي هل
هو ترك خصوص الوجودات المتيقنة الفردية أم أوسع من ذلك؟
فتعلق النهي بالوجودات المتيقنة الفردية معلوم وبالنسبة إلى الزائد
عن هذا المقدار مشكوك فتجري فيه البراءة فتأمل فإنه لا يخلو من
إشكال.
وأما ما يتوهم من أن مرجع النهي عن صرف الوجود إلى النهي عن أول
وجود للطبيعة وصدقه على وجود الفرد المشكوك مشكوك
فتجري البراءة
225

(ففساده) يظهر مما بينا في مفاد النهي عن صرف الوجود وانه ليس
عبارة عن تعلق النهي بعنوان أول وجود للطبيعة بل متعلق النهي
ليس إلا صرف وجود الطبيعة غير معنون بأي عنوان فقهرا ينطبق على
أي وجود من وجوداتها فبأول وجود من وجوداتها يحصل
العصيان لان المقصود بهذا النهي خلو صفحة الوجود عن هذه
الطبيعة، ومعلوم أنه بوجود أي واحد من مصاديقه ينتقض هذا
المعنى و
يرتفع من البين فارتكاب ما هو مشكوك المصداقية يكون موجبا
للشك في الامتثال كما ذكرنا وتقدم (نعم يمكن أن يقال) أنه ليس من
قبيل الشك في العنوان والمحصل حتى يكون موردا لقاعدة الاشتغال
(وبعبارة أخرى) ليس ترك الافراد مقدمة ومحصلا لترك
الطبيعة وعدمها بل يكون عدم الافراد عين عدم الطبيعة فالطلب تعلق
بعدم الطبيعة الذي هو عين عدم وجودات الطبيعة ففي الحقيقة
تعلق الطلب بعدم وجودات الطبيعة فكل وجود علم أنه من وجودات
الطبيعة يعلم أنه مما تعلق النهي الذي هو عبارة عن طلب عدم الشئ
به وإذا شك في أنه من وجودات الطبيعة يكون تعلق النهي به مشكوكا
فيكون مجرى البراءة فما هو مشكوك الفردية كما هو المفروض
في المقام يكون تعلق الطلب التحريمي به مشكوكا فالأصل البراءة لأنه
شك في التكليف (فقد ظهر) انه في الشبهة التحريمية الموضوعية
في جميع موارد النواهي على اختلاف أنحائها يكون موردا للبرأة ولا
مجال لجريان قاعدة الاشتغال فيها أصلا.
نعم فرق شيخنا الأستاذ (ره) بين أن يكون النهي المتعلق بموضوع
بنحو القضية السالبة المحصلة أو المعدولة كقوله لا تشرب الخمر و
قوله كن لا شارب الخمر ففي مشكوك الخمرية إذا كان النهي عن
شرب الخمر بصورة القضية الأولى أي السالبة المحصلة قال بأنه مورد
البراءة وإذا كان بصورة الثانية أي المعدولة قال بأنه مورد الاشتغال (أما
الأول) لما ذكرنا
226

من أنه من الشك في التكليف (وأما الثاني) فمن جهة أنه من قبيل
الشك في العنوان والمحصل أما الأول فواضح كما أوضحناه وتقدم و
أما الثاني فمن جهة أن قوله كن لا شارب الخمر مفاده لزوم إدخال نفسه
تحت هذا العنوان بحيث يكون معنونا بهذا العنوان، ومعلوم أن
تعنونه بهذا العنوان متوقف على تركه شرب ما هو معلوم الخمرية و
محتملها (وبعبارة أخرى) إذا كانت القضية من قبيل المعدولة
فتكون التروك مقدمة لحصول ذلك العنوان الذي نسميه بالمعدولة
كعنوان لا شارب في المثال المذكور وليست التروك عين ذلك
العنوان وسيجئ في مسألة الشك في الأقل والأكثر أنه لا تجري
البراءة إذا كان من قبيل العنوان والمحصل (فما هو العمدة في المقام)
تشخيص أن القضية المعدولة المحمول قبال السالبة المحصلة هل هي
من قبيل الشك في العنوان والمحصل حتى لا تجري البراءة أو من
قبيل الشك في الأقل والأكثر في نفس موضوع التكليف أو متعلقه
حتى تجري البراءة عند الشك في فردية فرد لما هو موضوع
التكليف.
والانصاف أن كون التروك مقدمة لحصول عنوان لا شارب الخمر مثلا
- كما في المثال المتقدم لا عينه كما ادعاه شيخنا الأستاذ (ره) و
أصر على ذلك - لا يخلو من نظر وإشكالا وذلك من جهة أن قوله كن
لا شارب الخمر أو أي قضية أخرى مما كان النهي عن طبيعة
بصورة القضية المعدولة المحمول لا السالبة المحصلة ليس مفاده إلا
طلب ترك شرب الخمر لا اتصافه بصفة عدمية تكون معلولة لترك
شرب الخمر (نعم) لو كانت هناك صفة وجودية أو عدمية تكون
حاصلة من إعدام فعل من الافعال بنحو السالبة الكلية فإذا شككنا في
فردية شي لذلك الفعل وكانت تلك الصفة مطلوبة بالطلب الإلزامي
فلا يجوز إجراء البراءة في ذلك الشئ لأنه يكون من قبيل الشك
في العنوان والمحصل، ولكن انما الكلام في المثال المذكور وفي
227

الموارد الاخر في الصغرى (ثم أنه لا فرق) فيما ذكرنا من أقسام النهي و
جريان البراءة في بعض أقسامها بالنسبة إلى الفرد المشكوك و
عدم جريانها بالنسبة إلى بعض آخر بين أن يكون النهي مولويا نفسيا أو
إرشاديا أو مولويا غيريا (ولذلك) نقول فيما إذا كان لباس
المصلي مشكوكا كونه من المأكول أو من غير المأكول إذا كان من
الحيوان بجريان البراءة ورفع منشأ انتزاع المانعية واعتبارها
فقوله عليه السلام (لا تصل فيما لا يؤكل لحمه) في موثقة ابن بكير و
غيرها من الروايات بعد الفراغ من أن النهي فيها ليس نهيا تحريميا
مولويا فيكون اما نهيا مولويا غيريا أو إرشاديا وعلى كل واحد من
الوجهين يكون منشاء انتزاع المانعية واعتبارها فبمقتضى ظاهر
النهي كما بينا مفصلا إذا قلنا بالانحلال وتعدد النهي حسب تعدد أفراد
المنهي وإن لكل واحد من تلك النواهي امتثال مستقل وعصيان
مستقل ففي الفرد المشكوك نشك في تعلق نهي به فيكون مجرى
البراءة فترتفع المانعية من البين فيصح الصلاة في المشكوك (نعم لو
قلنا) بشرطية كون اللباس من المأكول فأصالة البراءة عن النهي لا تثبت
الشرط كما أنه (لو قلنا) باعتبار اتصاف المصلي بصفة وجودية
أو عدمية تكون حاصلة من عدم كون لباسه من غير المأكول فجريان
البراءة من باب الأقل والأكثر لا يجوز لأنه من قبيل الشك في
العنوان والمحصل وفي مثله لا تجري البراءة على المختار (وعلى كل
حال) كان كلامنا في أقسام النواهي وأما تحقيق هذه المسألة
الفقهية والنقض والابرام فيها وبيان الطرق التي تمسكوا للقول بصحة
الصلاة فيه فموكول إلى محله أي البحث عن لباس المصلي في
كتاب الصلاة.
التنبيه الرابع في جريان البراءة عند الشك في الواجب التعييني و
التخييري
وبيان ذلك يتم برسم أمور:
(الامر الأول) في أقسام الواجب التخييري وهو على ثلاثة أقسام
228

(الأول) أن يكون التخيير بحسب الجعل الأولى بأن يجعل الواجب من
أول الامر إما هذا أو ذاك سواء كان التخيير بين أمرين أو أمور
كخصال الكفارة في كفارة صوم شهر رمضان وسواء كان كيفية جعل
ذلك الخطاب التخييري بتقييد إطلاق كل واحد من الخطابين أو
الخطابات بصورة عدم الاخر كما هو المختار عندنا وقد تقدم بيانه في
المجلد الأول من هذا الكتاب أو بكونه سنخا آخر من الخطاب و
الإرادة غير سنخ الخطاب والإرادة في الخطاب التعييني كما قبل
(الثاني) أن يكون التخيير من ناحية تزاحم الحكمين في مقام الامتثال
لعدم القدرة على الجمع بينهما في مقام الامتثال وعدم أهمية أحدهما
من حيث الملاك ومن أول الامر الخطاب المجعول في كل واحد
منهما مطلق لكن بواسطة عدم القدرة على الجمع العقل يحكم اما
بتقييد كل واحد من الاطلاقين بصورة عدم الاخر كما هو الصحيح و
بيناه في مبحث الترتب واما بسقوط كلا الخطابين وحدوث خطاب
جديد كما توهم (الثالث) أن يكون التخيير حكما ظاهريا في مورد
تعارض الامارتين بعد تساقطهما بناء على الطريقية لا الموضوعية و
السببية كما تقدم بعض الكلام فيها وسيجئ تحقيقها في مبحث
التعارض بين الاخبار إن شاء الله والتخيير في التقليد بين المجتهدين
المتساويين في العلم والعدالة من هذا القبيل بناء على أن يكون
مدركه الاجماع (وأما التخيير) العقلي فهو أن يتعلق الحكم بجامع
عرفي قريب يكون المكلف بنظر العقل مخيرا في تطبيقه على أي
واحد
من الافراد فيكون أجنبيا عن الأقسام التي ذكرناها.
(الامر الثاني) في بيان صور الشك في التعيين والتخيير (الأولى) أن
يكون شاكا في أصل الوجوب وعلى تقدير ثبوت الوجوب شاك في
كونه تعيينيا أو تخييريا وذلك مثل الارتماس في نهار رمضان لمن
يجب عليه الصوم فيشك أن عليه واجب عتق نسمة أم لا كفارة في
الارتماس وعلى تقدير
229

وجوبه هل وجوبه تعييني أو مخير بينه وبين الصوم؟ وفي هذه
الصورة أي صورة الشك في أصل الوجوب ربما يكون الترديد بين
كونه
واجبا تخييريا أو مباحا وذلك كالمثال المذكور فيما إذا تردد بين أن
يكون العتق واجبا تخييريا أو مباحا وربما يحتمل أن يكون
واجبا تعيينيا ففي مورد الارتماس يحتمل ثلاث أمور وجوب العتق
مثلا تعيينيا أو تخييريا بينه وبين الصوم مثلا أو كونه مباحا (الثانية)
أن يعلم بوجوب شي ويشك في أن وجوبه هل هو تعييني ليس له
عدل أو يكون له عدل كما أنه لو علم أنه بمفطر كذا يجب عليه عتق و
لكن يشك في أنه تعييني ليس له عدل أو تخييري له عدل وهذه
الصورة هو المتبادر من قولهم الشك في التعييني والتخييري (الثالثة)
أن يعلم بوجوب كلا الشيئين ولكن يشك في أنهما كلاهما تعيينيان أو
كلاهما واجبان تخييريان أي يحتمل أن يكون كل واحد منهما
عدلا للاخر ويحتمل أن لا يكون لكل واحد منهما عدل أصلا (الرابعة)
أن يعلم بوجوب أحدهما المعين ويعلم بأن الاخر مسقط له ولكن لا
يعلم أنه من باب أنه أحد فردي التخيير حتى يكون واجبا تخييرا أو
ليس بواجب أصلا بل مستحب أو مباح لا يبقى معه مجال لتحصيل
ملاك الواجب لعدم إمكان استيفائه بواسطة مضادته مع ملاك الواجب
(هذه) صور الشك في الواجب التعييني والتخييري.
فنقول أما (الصورة الأولى) فلا ينبغي الشك في جريان البراءة فيها لأنه
شك في أصل التكليف أي الوجوب.
أما (الصورة الثانية) فربما يقال بالبرأة عن التعيينية من جهة أنها
خصوصية زائدة على أصل الوجوب مشكوكة فتكون مجرى البراءة، و
لكنه لا شك في أن جريان البراءة مشروط بأن يكون رفع الشئ في
عالم التشريع بيد الشارع وذلك بأن يكون له وجود أو مقتض
للوجود في ذلك العالم حتى يصدق الرفع والتعيينية أمر ينتزع عن
عدم جعل عدل له وليس هو
230

بنفسه مجعولا شرعيا حتى يكون قابلا للرفع في عالم التشريع ويكون
في رفعه امتنان الذي هو شرط آخر لجريان البراءة فلا يمكن
إجراء البراءة فيها (وأما بالنسبة) إلى عدم جعل الاخر عدلا له أي عدم
وجوبه أو جعله عدلا أي وجوبه فإنه أي وجوبه وإن كان مشكوكا
ويشمله حديث الرفع وسائر أدلة البراءة لكن رفعه خلاف الامتنان
لان رفع وجوبه يوجب الضيق على المكلف مضافا إلى أنه ينتج عكس
المقصود من البراءة أي عدم تعينه، لان البراءة عن وجوب محتمل
العدلية مستلزم لتعينه وعدم كونه واجبا تخييريا (فالنتيجة) هي أن
المرجع في هذه الصورة من صور الشك في التعيين والتخيير قاعدة
الاشتغال، لكن هذا الكلام مبني على أن يكون الوجوب في التعييني
والتخييري سنخ واحد وخصوصية التعيينية تكون منتزعة من قبل
عدم وجوب عدل له (أما لو قلنا) بأن الوجوب فيهما سنخان ففي
الواجب التخييري إرادة ناقصة مفادها سد باب إعدام الشئ إلا في
ظرف وجود ما هو عدل له (وبعبارة أخرى) متكفلة لحفظ وجود
الشئ من قبل جميع أعدامه إلا من قبل عدمه في ظرف وجود عدله
وأما في الواجب التعييني إرادة تامة متكفلة لحفظ وجود الشئ مطلقا
ومن قبل جميع أعدامه بدون استثناء فالمتعلق في الواجب التعييني
أوسع منه في الواجب التخييري (وإن شئت قلت) ان الإرادة في
التعييني أبسط من التخييري فالشك في أنه تعييني أو تخييري مرجعه
إلى الشك في تعلق الإرادة بحفظ وجود الشئ حتى في ظرف
وجود ذلك الذي يحتمل أن يكون عدلا له وهذا ما اختاره أستاذنا
المحقق (ره) في الواجب التخييري فعلى هذا يكون مجرى البراءة و
نحن بينا عدم صحة هذا المسلك في المجلد الأول في مبحث
الواجب التخييري فراجع وأستاذنا المحقق (ره) مع اختياره لهذا
المسلك قال
في هذا المقام بالاشتغال لا بالبرأة للعلم الاجمالي أما بوجوب هذا
المشكوك التعيينية والتخييرية
231

مطلقا حتى في ظرف وجود ذاك الاخر المحتمل العدلية وأما
بوجوب ذاك الاخر في ظرف عدم الاتيان بهذا الذي شك في أنه
واجب
تعييني أو تخييري، ومقتضى هذا العلم الاجمالي لزوم الاحتياط و
الاتيان بكليهما أي الاتيان بالمشكوك تعيينيته مطلقا والاتيان بذلك
الاخر الذي يحتمل أن يكون عدلا لهذا في ظرف عدم الاتيان به لعدم
التمكن من الاتيان به بل بتعين به حينئذ كما هو الشأن في كل
واجب تخييري بعد عدم التمكن من الذي عدله، واستصحاب العدم
فيما هو محتمل الوجوب لا يجري أيضا ما لم ينحل هذا العلم
الاجمالي
بناء على ما سيجئ من كونه علة تامة لتنجز التكليف والأصول
المرخصة لا تجري في أطرافه ما لم يجعل البدل للمعلوم بالاجمال و
لو
بواسطة أصل موافق للمعلوم بالاجمال وهذا معنى انحلال الحكمي
كما سيجئ البحث مفصلا إن شاء الله تعالى، هذا مضافا إلى أن
استصحاب عدم الوجوب لا يثبت التعيينية في الطرف الآخر لان عدم
الوجوب من لوازم تعيينية طرف الاخر فيكون إثباته بالاستصحاب
من الأصل المثبت.
وأما (الصورة الثالثة) وهي أن يعلم بوجوب كلا الشيئين ولكن يحتمل
تخييريتهما فبعد ما عرفت من القول بعدم جريان البراءة عن
التعيينية في كليهما فيكون الشك في مسقطية كل واحد منهما عن
الاخر فيكون مورد قاعدة الاشتغال ولزوم الاتيان بكل واحد منهما
حتى في ظرف إتيان الاخر وأما بناء على مسلك أستاذنا المحقق (ره)
في معنى الواجب التعييني والتخييري وإن كنا ما اخترناه فتجري
البراءة في الاثنين ولا يجي محذور العلم الاجمالي الذي ذكرناه في
الصورة الثانية في البين.
وأما (الصورة الرابعة) وهي أن يعلم بوجوب أحدهما المعين ويعلم
بأن الاخر مسقط له ولكن لا يعلم أنه من جهة أنه عدل له حتى يكون
كلاهما واجبين تخييريين أو ليس بواجب أصلا بل مستحب أو مباح
يسقط
232

بإتيانه للواجب لما ذكرنا من عدم إمكان استيفاء ملاك الواجب بعد
إتيانه اما لمضادته مع ملاك الواجب في عالم الوجود وأما لكونه
معدما لملاك الوجوب (فلا محالة) يكون الوجوب مشروطا بعدمه
فبناء على جريان البراءة من خصوصية التعيينية كما ذكرنا تجري
البراءة عن تعيينية ما علم وجوبه وعن ما شك في وجوبه فتكون
النتيجة أنه بتعين عليه إتيان ما علم وجوبه في ظرف عدم التمكن من
إتيان ما شك في وجوبه (وأما لو لم يتمكن) من إتيان ما علم وجوبه
فليس عليه شي أصلا أما ما علم وجوبه لعدم التمكن منه وأما ما
شك في وجوبه فللبرأة (وأما لو كان) متمكنا من الاثنين فله أن يأتي
بأي واحد منهما نعم لو أتى بما علم وجوبه في هذه الحالة فيجوز
أن يأتي بالآخر أيضا إباحة أو استحبابا ولو أتى بما شك في وجوبه فلا
يبقى مجال أن يأتي بالآخر لأنه مسقط للاخر على الفرض (هذا
لو قلنا) بجريان البراءة في محتمل التعيينية اما (لو قلنا) بالاشتغال ففي
ظرف التمكن من الاتيان بمحتمل التعيينية يجب الاتيان به ولو
أتى بالآخر يسقط عنه قهرا ولو لم يأت به ولا بالآخر عصى بالنسبة
إليه دون الاخر لعدم وجوبه وفي ظرف عدم التمكن من الاتيان به
تظهر الثمرة بين الاحتمالين فلو كان ذلك الاخر عدلا لمحتمل التعيينية
يتعين الاتيان به ويكون تركه عصيانا وإلا لا يجب الاتيان به بل
يكون مجرى البراءة ولكن في مقام الاثبات يجب الاتيان بمحتمل
التعيينية في ظرف عدم الاتيان بالآخر مع التمكن من الاتيان بهذا
المحتمل التعيينية وأما الاخر فلا يجب مطلقا (هذا كله) فيما إذا شك
في التعيينية والتخييرية ولم يكن إطلاق في البين وإلا فلا شك في
أن مقتضى الاطلاق هو التعيينية، ولا فرق فيما ذكرنا من أصالة
الاشتغال في الشك التعيينية والتخييرية بين أقسامه التي ذكرناها في
صدر المبحث.
أما إذا كان الشك من جهة التزاحم في مقام الامتثال وعدم القدرة
233

على الجمع بينهما بعد تمامية الملاك في كليهما فإن تساوى الملاكان
في الأهمية فلا شك في البين بل يكون التخيير بحكم العقل كما أنه
لو احتمل أهمية كل واحد منهما فالامر أيضا كذلك كما أنه لو علم
بأهمية أحدهما المعين فالعقل يحكم بتعين ذاك ولا شك وأما لو
احتمل
أهمية أحدهما المعين فهذا هو مورد الشك بالنسبة إلى ذلك المحتمل
الأهمية، ومعلوم أن في مثله الأصل يقتضي الاشتغال لأنه بإتيان
الطرف الآخر يشك في امتثال الخطاب الفعلي المنجز عليه ففي هذا
القسم من الشك في التعيين والتخيير لا مجال لجريان البراءة ولا
ينبغي أن يحتمل وأما (في القسم الثالث) أي التخيير بين الحجتين كما
في الاخبار بناء على الطريقية أي التخيير الظاهري المجعول من
قبل الشارع وإن كان مقتضى القاعدة تساقطهما فالشك لا بد وأن
يكون في مورد يحتمل مزية أحدهما وحينئذ يكون محتمل المزية
مقطوع الحجية والاخر مشكوك الحجية وقد تقدم أن الشك في
الحجية مساوق مع القطع بعدمها وأما (في القسم الأول) فلا فرق بين
أن
يكون التخيير شرعيا أو عقليا كما هو واضح بأدنى تأمل هذا كله فيما
إذا شك في التعيينية والتخييرية.
وأما الشك في العينية والكفائية فلا شك في أن إطلاق الواجب كما
قلنا أنه يقتضي التعيينية كذلك يقتضي العينية لان مقابل كل واحد
منهما يحتاج إلى بيان ومئونة زائدة والاطلاق يدفعه (ولكن) أن لم
يكن إطلاق في البين ووصلت النوبة إلى الأصول العملية كما هو
المفروض في المقام فمقتضى الأصل هي العينية والاشتغال عند
إتيان الغير لتوجه الخطاب الفعلي المنجز إليه ويشك في سقوطه
بفعل
الغير ولا فرق في ذلك بين (أن نقول) بأن الواجب الكفائي عبارة عن
تقييد إطلاق خطاب كل واحد من آحاد المكلفين بعدم إتيان غيره
كما هو الصحيح وبينا في المجلد الأول من هذا الكتاب وقلنا بأن
الفرق بين الواجب التخييري والكفائي أن التقييد في
234

الأول في ناحية المكلف به وفي الثاني في ناحية المكلف فيكون
مرجع الشك إلى الشك في التقييد (أو نقول) بأنه عبارة عن تعلق الامر
بالطبيعة ومن جهة انطباق طبيعة المكلف على كل واحد من آحاد
المكلفين يكون كل واحد منهم مشمولا للخطاب وعلى كل واحد من
الاحتمالين يكون شكا في سقوط الخطاب لا ثبوته (نعم) لو شك في
أصل توجه الخطاب المردد بين أن يكون عينيا أو كفائيا فلا شك في
أنه يكون مجرى البراءة لكنه خلاف المفروض في المقام وهو الشك
في كون الوجوب عينيا أو كفائيا بعد الفراغ عن وجوبه (هذا تمام
الكلام) في أنحاء الشك في التكليف وقد عرفت جريان البراءة فيه
مطلقا سواء كانت الشبهة وجوبية أو تحريمية حكمية أو موضوعية و
منشاء الشك في الشبهة الحكمية كان فقد النص أو إجماله (وأما لو كان)
منشأه تعارض النصين فسيجي الكلام فيه في مبحث التعارض إن
شاء الله تعالى.
وأما ما أفتى به المشهور من الاحتياط في بعض موارد الشبهة
الموضوعية كتردد الفائتة بين الأقل والأكثر (فالصواب فيه) خلافه بل
الصحيح هو جريان البراءة عن الأكثر والاخذ بالمتيقن ولا فرق في
جريان البراءة بين كون الشبهة مسبوقة بالعلم ثم عرض لها الشك
كما أنهم قالوا في مورد تردد الفائتة بين الأقل والأكثر كذلك وبين عدم
كونها مسبوقة بالعلم بل كانت مشكوكة من أول الامر (و
السر في ذلك) أن المناط في شمول حديث الرفع مثلا عدم العلم
بالشئ فعلا حال الجريان وإن كان سابقا معلوما (وبعبارة أخرى)
المناط هو الشك الفعلي سواء كان مسبوقا بالعلم أو لم يكن نعم إذا كان
هناك ما يرتفع به الشك بواسطة المراجعة إليه كما أنه في
المورد الذي هو محل الكلام لو كان عنده دفتر مكتوب كل يوم المقدار
الذي يفوت عنه فيجب الرجوع إليه لكي يرتفع شكه وليس هذا
235

من الفحص غير الواجب في الشبهات الموضوعية وكذلك الامر في
دفاتر التجار المكتوبة فيها مقدار ديونهم فلا يجوز الرجوع إلى
البراءة ابتداء ومن غير رجوعهم إلى ما في دفاترهم.
خاتمة
في دوران الامر بين المحذورين أي فيما إذا علم جنس الالزام وتردد
بين أن يكون الالزام المعلوم هل هو في ضمن الوجوب أو الحرمة
(فان قلنا) بإمكان جعل وظيفة عملية من قبل الشارع في المقام سوأ
كان دليل إثباتها العقل أو النقل فتكون تلك الوظيفة المجعولة أصلا
عمليا سواء كانت هي البراءة عن كلا المحتملين أو الإباحة أو
استصحاب عدم كلا المحتملين أو غير ذلك من الاحتمالات التي
ذكروها (و
أما إن لم نقل) بذلك ففي عد أصالة التخيير من الأصول العملية إشكال
بل لا وجه له فلا وجه لعد الأصول العملية أربعة أحدهما أصالة
التخيير وعلى أي حال لهذه المسألة صور وهي أن الدوران بين
الوجوب والحرمة بحيث لا يكون احتمال آخر في البين وإلا يكون
موردا للبرأة سواء كان في الشبهة الحكمية بأقسامها أو الموضوعية -
أما أن يكون كلا الطرفين توصليين أو يكون أحدهما تعبديا و
الأول أما أن يكون في واقعة واحدة أو يكون في وقائع متعددة.
(أما الصورة الأولى) أي ما كان الدوران في التوصليين في واقعة واحدة
كما أنه لو تردد بين أن حلفه المعلوم صدوره عنه كان على وطئ
امرأته في ليلة معينة أو على ترك وطئها في تلك الليلة بعينها، فالعلم
الاجمالي حيث أنه ليس قابلا لان يكون منجزا لمعلومه - لعدم قدرة
المكلف
236

الجمع بين المحتملين والاحتياط في مقام الامتثال - فيكون وجوده
كعدمه في مقام التأثير ولزوم الموافقة القطعية أو حرمة المخالفة
القطعية فقط إذ كليهما لا يمكن وليس مقدور للمكلف، والموافقة
الاحتمالية أيضا لا بد منه فالعقل يحكم بكون المكلف مخيرا بين
الفعل
والترك بمعنى أنه لا بد منه تكوينا فهو تخيير قهري تكويني لا أنه
حكم واقعي أو ظاهري مجعول من قبل الشارع إذ جعل مثل هذا
الحكم في مثل المقام مما هو حاصل تكوينا وقهرا لغو لا ثمرة له (و
إنما الكلام) في أنه هل يمكن جعل الإباحة الظاهرية لمثل هذا الشئ
أو كونه مشمولا لأدلة البراءة العقلية والنقلية بالنسبة إلى كليهما أو
تقديم جانب الحرمة لان دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة أو لا
يمكن شي من ذلك.
فنقول اما الإباحة فلا يمكن جعلها ظاهرا للقطع بعدمها واقعا لان
المكلف قاطع بوجود الالزام من قبل المولى اما بالفعل أو بالترك
بحيث يقطع بعدم الترخيص في الفعل والترك جميعا والإباحة عبارة
عن الترخيص في الفعل والترك جميعا فيكون مناقضا مع ما يعلم،
ولا ترتفع هذه المناقضة إلا بأن يقال أن الشارع قطع النظر عن الحكم
الواقعي ورفعه سواء كان هو الوجوب أو الحرمة، وهذا يرجع
إلى التصويب الباطل (وبعبارة أخرى) لا بد في جعل الحكم الظاهري
من احتمال مطابقته للواقع وإلا فمع القطع بالعدم ليس رتبة الجعل
الظاهري محفوظا كما هو واضح جدا (والسر في ذلك) أن الإباحة
بمدلولها المطابقي متعرض لنفي كلا الاحتمالين الذين يعلم بوجود
أحد المحتملين وثبوته، وإلا لو كان مفادها نفي إحدى الخصوصيتين
- أي الوجوب والحرمة - لما كان مناقضة في البين.
وأما إجراء البراءة الشرعية والعقلية في المقام فلا يمكن من جهة
حكم العقل بالتخيير في الرتبة السابقة على إجراء البراءة لان سقوط
العلم
237

الاجمالي عن التأثير بواسطة عدم إمكان الموافقة القطعية ولا
مخالفتها والاحتمالي منهما لا بد منه وفي نفس هذه المرتبة يحكم
العقل
بالتخيير فحكم العقل بالتخيير مع سقوط العلم الاجمالي عن التأثير
في رتبة واحدة ولا شك في تأخر البراءة عن سقوط العلم الاجمالي
عن التأثير لأنه ما لم يسقط عن التأثير لا تصل النوبة إلى البراءة فقهرا
يكون وصول النوبة إلى البراءة متأخرا عن حكم العقل بالتخيير و
مع حكمه كذلك وكونه معذرا لا يبقى مجال للبرأة ولا امتنان في رفع
الحرمة والوجوب المجهولين بل يكون مثل هذا الحكم والجعل
لغوا محضا سواء كان مدركه العقل أو النقل، نعم لا مانع من جعل
الشارع المكلف ملزما بالعمل على طبق أحد الاحتمالين ولكنه يحتاج
إلى دليل مفقود في المقام.
وأما استصحاب عدم الوجوب والحرمة فلا يمكن من جهتين
(أحدهما) هذا الذي ذكرنا في البراءة بعينه (والاخر) أن الاستصحاب
أصل
تنزيلي لا يمكن جريانه في الطرفين مع العلم بانتقاض الحالة السابقة
في أحدهما قبل الجريان (نعم) إذا كان غافلا عن أن هناك
استصحاب آخر وأحدهما انتقض حالة السابقة فيه قطعا (ربما يمكن)
القول بصحة جريانهما وان علم فيما بعد الجريان بأن مؤدى
أحدهما مخالف للواقع (ولكن) هذا غير ما نحن فيه بأن يبنى على
بقاء الحالتين السابقتين في واقعة واحدة وهو فعل الواحد الذي يعلم
بوجوبه أو حرمته مع كون الحالتين السابقتين من الضدين الذين لا
يمكن اجتماعهما، وهل هذا إلا الحكم باجتماع الضدين في موضوع
واحد ولو كان بتوسط استصحابين لا يلزم من إجراء كل واحد منهما
على حدة محذور أصلا ولكن الاشكال في الجمع بين
الاستصحابين في فعل واحد كما هو المفروض في المقام، نعم لو كان
هناك استصحاب مثبتا بالنسبة إلى أحد الاحتمالين فينحل العلم
الاجمالي وتجري البراءة بالنسبة إلى الاحتمال
238

الاخر (وأما تقديم) احتمال الحرمة لان رفع المفسدة أولى من جلب
المنفعة فمما لا ينبغي الاعتناء به من جهة أن احتمال المفسدة
لاحتمال
الحرمة لو كان موجبة للحكم بالحرمة ففي الشبهة البدوية يكون أولى
من جهة أنه هناك لا يزاحم احتمال المفسدة احتمال المصلحة
الملزمة لان احتمال المقابل لهذا الاحتمال ليس حكما إلزاميا ومع
ذلك تجري البراءة ولا يعتني باحتمال المفسدة، هذا تمام الكلام في
الصورة الأولى.
(الصورة الثانية) وهي أن يكون الدوران بين وجوب فعل شي وحرمة
ذلك الفعل بعينه في وقائع متعددة وذلك مثل ما إذا علم بأنه
حلف بالنسبة إلى امرأته المعينة أما على وطئها في كل ليلة جمعة مثلا
وأما على ترك وطئها (فربما يقال) حيث يمكن المخالفة القطعية
لهذا العلم الاجمالي بسبب الفعل في جمعة والترك في أخرى، لان
مفاد مثل هذا العلم الاجمالي هو يدور بين وجوب الوط في كل ليلة
جمعة أو حرمته كذلك وحينئذ لو فعل في جمعة وترك في أخرى
يقطع بمخالفة ذلك العلم الاجمالي، ومعلوم أن العلم الاجمالي علة
تامة
لتنجز التكليف بالنسبة إلى المخالفة القطعية قولا واحدا إلا من الشاذ
القائل بعدم تأثير العلم الاجمالي في التنجيز مطلقا فيجوز ورود
الترخيص من قبل الشارع حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية، وهذا
قول شاذ لا ينبغي الاعتناء به كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فلا
يجوز مخالفته القطعية بما ذكرنا من الفعل في واقعة والترك في أخرى
ونتيجة ذلك أن يكون التخيير بدويا لا استمراريا لان التخيير
الاستمراري يوجب المخالفة القطعية التي بينا عدم جوازها.
ولكن أنت خبير بأن التكليف المعلوم بالاجمال المردد بين وجوب
الوط في كل ليلة جمعة أو حرمته فيها كما في المثال ينحل إلى
تكاليف متعددة ففي كل ليلة جمعة تكليف مستقل له إطاعة مستقلة و
عصيان مستقل
239

ليس مربوطا بالاطاعات والعصيانات في سائر الجمع ففي كل ليلة
جمعة بالنسبة إلى الخطاب الموجه إليه المعلوم إجمالا انه وجوبي أو
تحريمي لا يمكن له المخالفة القطعية ولا الموافقة القطعية، فلا فرق
من هذه الجهة بين وحدة الواقعة وتعددها نعم يعلم فيما بعد
بمخالفته لأحد هذه الخطابات من سنخ واحد في جميع الجمع، و
هذا لا دخل له بإمكان المخالفة القطعية بالنسبة إلى الخطاب الموجه
إليه
في كل جمعة (نعم يمكن) ها هنا تصوير صور وفروض آخر ربما
يختلف حكمه مع ما ذكرنا ولكن يطول بنا المقام وليس فيها فائدة.
الصورة الثالثة وهي أن يكون كلا طرفي الترديد أو أحدهما المعين
تعبديا ولا شك في أنه حينئذ يمكن المخالفة القطعية بأن يأتي أو
يترك بغير قصد القربة فيما إذا كان الواجب أو الحرام تعبديا فلا يجوز
المخالفة القطعية بأن يأتي بغير قصد القربة إذا كان الواجب
تعبديا أو يترك بغير قصد القربة إذا كان الحرام تعبديا بل لا بد له أن
يأتي أو يترك بنحو يكون فيه الموافقة الاحتمالية فالحكم فيه و
ان كان أيضا تخييرا لكن بصورة لا يلزم منها المخالفة القطعية ولذلك
قيد بعضهم مسألة دوران الامر بين المحذورين بأن لا يكون
أحدهما المعين أو كلاهما تعبديين (وبعبارة أخرى) الصور أربعة أما
تعبديين وأما أحدهما المعين تعبدي وأما توصليين وأما أحدهما
غير المعين تعبدي والأربعة مشتركة في عدم إمكان الموافقة القطعية
ويختص الأوليان بإمكان المخالفة القطعية.
(تنبيه) ربما يحتمل أنه لو كان أحد الطرفين أقوى احتمالا أو أهم
محتملا يجب الاخذ به ويتعين لان حكم العقل بالتخيير فيما لم يكن
لأحدهما مزية من حيث الاحتمال أو المحتمل (ولكن أنت خبير) بأن
المزية من حيث الاحتمال لا أثر له ما لم تبلغ إلى مرتبة الاعتبار و
الحجية والظن غير
240

المعتبر في حكم الشك بالنسبة إلى تنجيز متعلقه. وأما المزية من
حيث المحتمل توجب التعيين (لو كان) الملاك محرزا وجدانا أو تعبدا
واحتمل أهميته بالنسبة إلى مقابله أو كان بدرجة من الأهمية بحيث
كان احتمال وجوده موجبا لوجوب الاحتياط، كما إذا تردد في مقام
الرمي بين أن يكون إنسانا محقون الدم أو حيوانا يجوز قتله، وكما لو
تردد بين أن يكون زوجته أو تكون أجنبية (وأما لو لم يكن)
الملاك محرزا ولم يكن الاحتمال موجبا لوجوب الاحتياط كما هو
المفروض في المقام وإلا خرج عن كونه من قبيل الدوران بين
المحذورين وفي المقام في الطرف الذي يكون الاحتمال أقوى أو
يحتمل أهمية ملاكه على تقدير ثبوته يكون في حد نفسه مجرى
للبرأة وإنما منعنا عن إجرائها للغويته وحصول نتيجة البراءة بواسطة
حكم العقل بالتخيير قبل وصول النوبة إليه (ومما يوضح) ما
ذكرنا أن في مورد دوران الامر بين الحرام وغير الواجب تجري البراءة
ولو كان احتمال الحرمة أقوى من احتمال غيره مع أن ملاك
الحرمة على تقدير ثبوته قطعا أهم من ملاك غيره أي الاستحباب أو
الإباحة (والحاصل) أن قوة الاحتمال لا أثر له ما لم يبلغ إلى مرتبة
الحجية واحتمال أهمية الملاك لا أثر له ما لم يحرز الملاك.
تنبيه آخر في الموارد التي لا يمكن الجمع بين المحتملين في أطراف
العلم الاجمالي في عمل واحد كما إذا كان مرددا بين أن يكون
شرطا أو مانعا أو كانا من قبيل الضدين كالجهر والاخفات أو القصر و
الاتمام ولكن يمكن الاحتياط والموافقة القطعية بتكرار العمل
وإتيانه مرتين فالعلم الاجمالي منجز ويجب الاحتياط وتكرار العمل
وتكون خارجة عن دوران الامر بين المحذورين.
241

في أصالة الاشتغال
الثالث من الأصول الأربعة العملية أصالة الاشتغال ومجراه - كما تقدم
- هو الشك في المكلف به بعد العلم بأصل التكليف ولو بجنسه مع
إمكان الاحتياط، والشك في المكلف به مع العلم بأصل التكليف (قد
يكون) من ناحية المتعلق أي فعل المكلف سواء كان من جهة تردده
بين المتباينين كالشك في أن متعلق الالزام المعلوم هل هو الدعاء عند
رؤية الهلال مثلا أو غسل الجمعة ومن هذا القبيل ما إذا كان الشك
في خصوصيات المتعلق من منوعاته ومصنفاته كالشك في أن متعلق
الوجوب هو صلاة الظهر أو صلاة الجمعة في يومها أو كان من جهة
تردده بين الأقل والأكثر كالصلاة مثلا فيما إذا تردد بين كونها عشرة
أجزاء أو تسعة (وقد تكون) من ناحية متعلق المتعلق كذلك وفي
جميع صور المسألة (قد تكون) الشبهة حكمية سواء كان منشأها فقد
النص أو إجماله أو تعارض النصين (وقد تكون) موضوعية منشأها
الأمور الخارجية وفي جميع الأقسام الشبهة إما وجوبية أو تحريمية و
في جميع الأقسام قد تكون بين المتباينين وقد تكون بين الأقل و
الأكثر فالأقسام كثيرة جدا.
فهاهنا أبحاث
الأول في الشبهة الموضوعية التحريمية بين المتباينين
وهي (قد تكون) محصورة (وقد تكون) غير محصورة وفي الأولى قد
نتكلم من ناحية علية العلم لحرمة المخالفة القطعية وأخرى من
ناحية عليته لوجوب الموافقة القطعية.
(أما الأول) فالحق أنه علة تامة لحرمة المخالفة القطعية وباب الجعل
الحكم الظاهري - بحيث يكون موجبا للمخالفة القطعية مع الواقع
المعلوم
242

في البين - مسدود لأنه موجب للتناقض بناء على ما هو الحق من
انخفاض الحكم الواقعي في هذه المرتبة وعدم رفع اليد عنه (وبعبارة
أخرى) تأثير العلم الاجمالي في تنجيز متعلقه المعلوم - وان كان
الترديد في انطباقه - ليس قابلا لمنع المانع لا عقلا بإجراء البراءة
العقلية أي حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لأنه مع العلم الاجمالي
بالحرمة ليس العقاب بلا بيان بل أي بيان أبين وأوضح من العلم، و
لذلك لم يخالف أحد من الفقهاء في هذا المقام إلا من شذ ممن يقول
بعدم تأثير العلم الاجمالي في التنجيز مطلقا ولو بنحو الاقتضاء حتى
بالنسبة إلى المخالفة القطعية وليس ببيان، بل يكون حاله من هذه
الجهة حال الشك (وربما نسب) هذا القول إلى محقق الخوانساري و
المحقق القمي (قدس سرهما) وإن كان هذه النسبة لا يخلو من إشكال
لان الظاهر من كلاهما إجراء البراءة الشرعية وانفتاح باب
الترخيص الظاهري في جميع الأطراف على خلاف المعلوم بالاجمال
(وأيضا) ليس قابلا لمنع المانع شرعا بإعطاء الرخصة في مخالفته
قطعا وفي جميع الأطراف كما يستظهر من كلام المحققين المذكورين
(وحاصل) ما يدعون هؤلاء أي القائلين بإجراء البراءة أو أصالة
الحل في جميع الأطراف في الشبهة التحريمية الموضوعية أنه لا
محذور في البين من ذلك إلا ما يتخيل من المحذور في الجمع بين
الحكم
الظاهري والواقعي والجواب عنه هو الجواب.
ولكن أنت خبير أن في موارد الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي لم
يتنجز الحكم الواقعي أصلا لا بمنجز وجداني كالعلم ولا تعبدي
كالأصول والامارات فلا حكم للعقل بلزوم إطاعته واستحقاق العقاب
على مخالفته فلو أراد الشارع أن يعاقبه على مخالفته فلا بد له من
إيجاب الاحتياط وإلا يكون عقابا بلا بيان وهو قبيح فله حينئذ
لمصلحة من المصالح عدم إيجاب الاحتياط بل الترخيص في مخالفته
لأنه
على الفرض لا حكم للعقل مثلا
243

بوجوب الاجتناب عن ذلك الحرام الواقعي وحكم آخر بجواز ارتكابه
من حيث كونه حلالا ظاهرا كي يلزم التناقض بين حكمي العقل
بلزوم الاجتناب وعدم لزومه كما أنه يلزم في المقام أي في مورد العلم
الاجمالي ذلك، مثلا إذا علم بحرمة شرب أحد الكأسين باعتقاد
أن أحدهما خمر فيحكم العقل بلزوم الاجتناب عن ذلك الحرام
الواقعي لتنجزه بالعلم فإذا أجريت البراءة أو أصالة الإباحة أو الحل أو
استصحاب العدم في جميع الأطراف فبمقتضى هذه الأحكام
الظاهرية أيضا للعقل حكم بجواز ارتكاب جميع الأطراف ولا يلزم
الاجتناب
عن الحرام المعلوم في البين، وهذا تناقض بين الحكمين من قبل
العقل (وإن شئت قلت) يقع التناقض بين حكم العقل بلزوم الاجتناب
عن
جميع الأطراف - مقدمة للاجتناب عن الحرام المنجز الموجود في
البين - وبين الترخيص في جميع الأطراف، وقد عرفت مما ذكرنا أن
قياس المقام بالشبهات البدوية لا يصح لعدم البيان وعدم التنجز هناك
بخلاف المقام فإنه مستلزم للتناقض ولا يرتفع إلا بالالتزام
بأحد الامرين اما رفع اليد عن الحكم الواقعي وهو خلاف الفرض واما
بعدم منجزية علم الاجمالي وهو واضح البطلان (هذا كله) إذا كان
إجراء الأصول المنافية للعلم الاجمالي مستلزما للمخالفة العملية
القطعية (وأما) لو لم يستلزم ذلك أي المخالفة العملية كما لو علم
بطهارة
أحد الانأين الذين كانا نجسين بسبب وقوع أحدهما غير المعين
تحت المطر مثلا فاستصحاب النجاسة في كليهما لا يوجب مخالفة
عملية لما هو معلوم طهارته إجمالا فلا يكون تناقضا بين حكم العقل
بلزوم الاجتناب عن كلا الانأين بواسطة الاستصحابين مع ما هو
مقتضى العلم الاجمالي لان مقتضاه أيضا كذلك فلا مانع من جريان
أصول المخالفة للعلم الاجمالي (إذا كانت) من الأصول غير التنزيلية
لان المانع لم يكن إلا المناقضة مع حكم العقل والترخيص في
244

المعصية والمفروض أنه ليس (واما لو كانت) من الأصول التنزيلية أو
كانت من الامارات كما لو قامت البينة على نجاسة كل واحد منهما
بالخصوص في المثال المذكور فهناك مانع آخر من جريانهما في
جميع أطراف المعلوم بالاجمال وهو أن البناء على بقاء الحالة السابقة
مثلا على أنه هو الواقع مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما
مما لا يجتمعان بشهادة الوجدان، وهذا المعنى في الامارة أوضح
خصوصا بناء على أن حجية الامارات من باب تتميم الكشف كما هو
المختار، إذ لا معنى لجعل كاشفين تامين على خلاف المعلوم
بالاجمال في طرفيه، وهل هذا إلا تهافت وتناقض (ولذا قلنا) في
مسألة دوران الامر بين المحذورين بعدم جريان الاستصحاب عدم
الوجوب والحرمة جميعا مع العلم بأحدهما بالنسبة إلى فعل واحد و
عدم جريان الامارة على عدمهما أوضح ولذا يعامل معاملة التعارض
مع الخبرين الذين يدل أحدهما على عدم وجوب ذلك الشئ الذي
علم إجمالا بأنه واجب أو حرام في الشبهة الحكمية ويدل الخبر الاخر
على عدم حرمته وكذلك البينتين في الشبهة الموضوعية، كل هذا مع أنه
ليس في إجراء الأصول التنزيلية ولا الامارات في مسألة دوران
الامر بين المحذورين مخالفة عملية من جانب الأصول والامارات لان
الموافقة والمخالفة القطعيتان لا يمكن والاحتماليان منهما لا بد
منها (وقلنا) في مسألة دوران الامر بين المحذورين أن أصالة الإباحة لا
تجري لمضادتها مع نفس العلم لان لزوم أحدهما أي الفعل أو
الترك مع جوازهما مما لا يجتمعان.
وما ذكرنا من عدم جواز جريان الأصول المنافية للعلم الاجمالي مطلقا
تنزيلية أم غير تنزيلية وكذا الامارات إذا كانت مستلزمة
للمخالفة القطعية العملية كان بحسب الواقع ومقام الثبوت لا بحسب
مقام الاثبات وإن أدلة الأصول منصرفة عن مورد العلم الاجمالي أو
من جهة التناقض بين
245

دليل الاستصحاب وذيله على تقدير الشمول، لان الانصراف لا وجه
له وأجبنا عن التناقض (أولا) بأن الأصول تجري في كل واحد من
الأطراف بعنوانه الخاص وما تعلق به العلم عنوان كلي قابل للانطباق
على كل واحد من الأطراف فما هو مشكوك النجاسة مثلا أي عنوان
الخاص من كل واحد من الأطراف الذي هو مورد الاستصحاب غير ما
هو معلوم النجاسة أي عنوان أحدهما أو غيره من العناوين المرددة
الانطباق، فإذا تيقن بنجاسة أحد الأطراف أو جميعها ثم علم بطهارة
بعضها بسبب من الأسباب فاستصحاب نجاسة الجميع مثل
استصحاب نجاسة ذلك البعض ليس إلا من إبقاء اليقين مع الشاك في
بقائه لا من إبقاء اليقين مع القطع بارتفاعه كما توهم (والسر في
ذلك) أن الاستصحابات هاهنا متعددة بعدد الأطراف فكل
استصحاب في كل طرف يجري مع قطع النظر عن الاستصحابات في
سائر
الأطراف، ومعلوم أن في كل واحد منها مع قطع النظر عن سائر
الاستصحابات لا علم بانتقاض الحالة السابقة حتى يكون نقضها من
نقض اليقين باليقين (وثانيا) أن دليل الاستصحاب ليس منحصرا بما
هو مشتمل على هذا الذيل بل له أدلة أخرى غير مشتملة على هذه
الجملة أي قوله عليه السلام (ولكن انقضه بيقين مثله).
(أما الثاني) أي علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية، فالحق
أنه كذلك، لما عرفت من أن العلم الاجمالي بيان ومنجز لمتعلقه
كالعلم التفصيلي بل هو علم تفصيلي بالنسبة إلى متعلقه وهو العنوان
المردد الانطباق وانما الاجمال في ناحية متعلقه من حيث ترديده
في الانطباق، وإلا ففي نفس العلم لا إجمال بل هو كاشف تام، فإذا
علم بخمرية أحد الكأسين مثلا والمفروض أنه عالم بحكم الخمر و
هو كبرى ان كل شرب خمر حرام فيضم هذه الصغرى الوجدانية إلى
تلك الكبرى المعلومة فيعلم علما قطعيا
246

بحرمة شرب هذا الكأس الموجود المردد بين هذين الكأسين أو هذه
الكئوس ففي الحقيقة العلم الاجمالي في الشبهة الموضوعية الدائرة
بين المتباينين يرجع إلى العلم بالصغرى للكبرى المعلومة فيتنجز عليه
التكليف بحكم العقل لعلمه بالصغرى والكبرى الذي هو مناط
التنجز في نظر العقل، فيشغل ذمته به يقينا فيحتاج إلى الفراغ اليقيني و
هو لا يحصل إلا بالاجتناب عن جميع المحتملات في الشبهة
التحريمية والاتيان بجميعها في الشبهة الوجوبية، وهذا معنى وجوب
الموافقة القطعية، ولا شك في أن هذا المعنى ليس قابلا لمنع المانع،
لان حكم العقل بلزوم امتثال تكليف المنجز تنجيزي وليس معلقا
على عدم ترخيص بالنسبة إلى بعض الأطراف وذلك من جهة أنه بعد
تنجزه أي وصول حكم المولى إلى العبد فالعقل يرى أن عدم الاعتناء
بذلك الحكم وترك امتثاله عصيان وقبح العصيان ذاتي ليس قابلا
لمنع المانع ولا يمكن الترخيص في ترك الامتثال في بعض الأطراف و
لو كان هذا ممكنا لكان الترخيص في ترك جميع الأطراف أيضا
ممكنا فيكون العلم الاجمالي بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية أيضا
مقتضيا قابلا لمنع المانع، إذ لا فرق في نظر العقل من حيث القبح
بين الترخيص في محتمل المعصية وبين ما هو معلوم المعصية إذ
مناط الاثنين هو حكمه بلزوم تحصيل الفراغ القطعي والامتثال
اليقيني
فكما أنه ليس للشارع الترخيص في جميع الأطراف لأنه ترخيص في
معلوم المعصية وموجب للتناقض كذلك ليس له الترخيص في بعض
الأطراف لأنه ترخيص في محتمل المعصية ويصير محتمل التناقض و
احتمال التناقض في الاستحالة كالقطع به ومحتمل المعصية مورد
لقاعدة دفع الضرر المحتمل (فلا يقاس) بالشبهة البدوية فإنها تكون
مورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان ولو فرضنا عدم مجئ ترخيص
من قبل الشارع لأنه لا منجز هناك بخلاف المقام فان المنجز هاهنا أي
العلم الاجمالي موجود
247

فكم فرق بين البابين (فالتفكيك) بين حرمة المخالفة القطعية والقول
بأن العلم الاجمالي علة تامة لها وليس قابلا للترخيص فيها وبين
وجوب الموافقة القطعية والقول بأنه مقتض بالنسبة إليه وقابل
للترخيص في بعض الأطراف كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ ويظهر
أيضا من كلام الشيخ الأعظم الأنصاري (مما لا يمكن المصير إليه).
ولا يخفى عليك أنه ليس المراد من أن العلم الاجمالي علة تامة
لوجوب الموافقة القطعية مثل حرمة مخالفتها عدم جريان الأصول
النافية
في بعض أطرافه حتى مع جعل البدل له في مقام الامتثال بأن يكتفي
بالاجتناب عن بعض الأطراف ويجعله بدلا عن الاجتناب عما هو
المعلوم بالاجمال وذلك بوجود دليل مثبت للتكليف الموافق مع
المعلوم بالاجمال في بعض الأطراف من أصل أو أمارة سواء كان
الأصل
شرعيا أو عقليا تنزيليا أو غير تنزيلي (وكيف يمكن) إنكار إمكان جعل
البدل للمعلوم بالاجمال والاكتفاء به في مقام الامتثال مع
إمكان ذلك بل وقوعه في العلم التفصيلي كقاعدتي الفراغ والتجاوز و
غيرهما من القواعد التي مفادها الاكتفاء بفاقد الجز أو الشرط
على تقدير كون العمل فاقدا لهما بدلا عن المركب التام الاجزاء و
الشرائط (فالغرض) من كونه علة تامة لوجوب الموافقة القطعية أن
الأصل النافي لا يجري ولو في بعض أطرافه ولو كان بلا معارض ما لم
يجعل بعض الأطراف بدلا عن التكليف المعلوم فعدم جريان
الأصول النافية في أطرافه ليس للتساقط بواسطة المعارضة بل بواسطة
تنجز المعلوم بالاجمال وأن الترخيص فيه ولو في بعض
الأطراف ترخيص في محتمل المعصية وقد ذكرنا ذلك مفصلا فلا
نعيد وذكرنا أن قياس المقام بالشبهات البدوية في غير محله (و
لذلك ترى) أن في بعض الموارد مع وجود أصل ناف في بعض
الأطراف بلا معارض اتفقوا على عدم جريانه فيما إذا لم يجعل الطرف الآخر
بدلا بدليل مثبت موافق مع
248

المعلوم بالاجمال، وذلك كما إذا علم بنجاسة أحد الكأسين الذين
أحدهما كان قبل هذا العلم متيقن الطهارة والاخر مشكوكها فبعد العلم
بنجاسة أحدهما وإن كان يصير كل واحد منهما مشكوك الطهارة إلا أن
ذاك الذي كان متيقن الطهارة قبل حدوث هذا العلم يجري فيه
استصحاب الطهارة دون الاخر، وحيث أنه لا تصل النوبة إلى أصل
المحكوم مع وجود أصل الحاكم فيتعارض استصحاب الطهارة في
ذلك الطرف مع أصل الطهارة في هذا الطرف فيتساقطان وتصل النوبة
إلى أصل المحكوم أي أصالة الطهارة في الطرف الذي كان فيه
استصحاب الطهارة وهو حينئذ بلا معارض ومع ذلك لا يقولون
بجريانه (واعتذار) شيخنا الأستاذ (قدس سره) عن هذا النقض بأن
الحكم الظاهري المجعول في كل واحد من الطرفين سواء كان مفاد
أصل الحاكم أو المحكوم معارض بالحكم الظاهري المجعول في
الطرف الآخر والحكم الظاهري في الطرف الذي فيه أصلان أحدهما
حاكم والاخر محكوم حكم واحد لا أن هناك حكمان ظاهريان
أحدهما مفاد الأصل الحاكم والاخر مفاد الأصل المحكوم ففي المثال
المذكور ليس في طرف مستصحب الطهارة طهارتان ظاهريتان
إحداهما مفاد الاستصحاب والأخرى مفاد قاعدة الطهارة، إذ لا يعقل
اجتماع طهارتين في موضوع واحد إلى آخر ما ذكره، مضافا إلى
عدم صحة ما ذكره في نفسه (مخالف) للقواعد المقررة في علم
الأصول (وخلاصة) الكلام في المقام عدم صحة جريان الأصل النافي
للتكليف المعلوم بالاجمال ولو في طرف واحد من أطرافه بأن لم يكن
له معارض حتى يتساقطان بالمعارضة إلا بجعل الاجتناب عن
أحد الأطراف بدلا عن الاجتناب عما هو معلوم بالاجمال، أو انحلال
العلم الاجمالي انحلالا حقيقيا أي: تبدل الاجمال بالتفصيل بزوال
الاجمال ومجي التفصيل، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الكأسين
ثم علم تفصيلا بأن كأس النجس هو ذلك فتجري أصالة
249

الطهارة في الطرف الآخر، لأنه بعد الانحلال صار من الشبهات البدوية،
أو انحلالا حكميا بمعنى عدم تأثيره مع بقائه، وذلك فيما إذا
كان منجزا لبعض الأطراف ولو كان أصلا عقليا كأصالة الاحتياط في
أطراف العلم الاجمالي، كما أنه لو كان أحد الكأسين المفروض
نجاسة أحدهما طرفا لعلم إجمالي آخر بنجاسة أحدهما سابق على
هذا العلم الاجمالي، فهذا العلم الاجمالي الثاني لا يمكن أن يؤثر في
ذلك الطرف الذي كان وجوب الاجتناب عنه منجزا عليه بالعلم
الاجمالي الأول، وإلا يكون من قبيل تحصيل الحاصل المحال (وأما
إذا
كان) المنجز أصلا شرعيا مطلقا تنزيليا أو غيره أو كان أمارة فالامر
أوضح ولا فرق بين أن يكون المنجز قبل حصول العلم أو بعده ما
دام المؤدى قبله.
ثم أنه لا يتوهم أن الأصل النافي في بعض الأطراف كاف لجعل الطرف الآخر
بدلا عن المعلوم بالاجمال وذلك من جهة أن صحة جريان
الأصل النافي متوقف على جعل البدل ففي الرتبة السابقة لا بد وأن
يتحقق بدل حتى يمكن جريانه فكيف يمكن أن يكون جعل البدل من
ناحية جريانه ومتأخرا عنه؟.
ثم أنه بعد ما عرفت عدم صحة جريان الأصل النافي في بعض أطراف
العلم الاجمالي ولو لم يكن له معارض ما لم ينحل أو لم يجعل له
البدل في مقام الامتثال (تعرف) أن عدم الجريان ليس للتساقط بواسطة
المعارضة (هذا بناء) على القول بكون العلم الاجمالي علة تامة
لوجوب الموافقة القطعية (وأما بناء) على القول بالاقتضاء وصحة
الترخيص في ارتكاب بعض الأطراف فهل يكون مقتضى القاعدة هو
تساقط الأصول المرخصة في الأطراف لمعارضة بعضها مع بعض
لعدم جواز إجراء الجميع للزوم المخالفة القطعية وهو لا يجوز كما
تقدم وعليه المشهور بل الاتفاق إلا ممن شذ، أم
250

لا بل مقتضى القاعدة هو التخيير.
فنقول: (ربما يقال) بأن مقتضى هذا القول - أي: القول بالاقتضاء لا
العلية التامة - هو التخيير لا سقوط كلا الأصلين في الطرفين من جهة
أنه لا مانع من إجراء الأصل في بعض الأطراف بحيث لا يستلزم منه
المخالفة القطعية العملية، لأنه بينا شمول أدلة الأصول الأطراف العلم
الاجمالي وانه لا مانع من إجرائها إلا استلزامها المخالفة القطعية التي
لا تجوز قطعا لان الترخيص فيها ترخيص في المعصية فالمانع من
الاخذ بإطلاق أدلة الأصول ليس إلا هذه الجهة فلا بد أن يقيد بهذا
المقدار أي عدم إجراء الأصل في طرف في ظرف إجرائه في طرف
الاخر والتخيير ليس فيه هذا المحذور لان مرجعه إلى إجراء الأصل
النافي في كل طرف في ظرف عدم الاجراء في الطرف الآخر وهذا
لا محذور فيه أصلا فيجب الاخذ بإطلاق أدلة الأصول وتقييدها
بمقدار اللزوم.
وقد أجاب شيخنا الأستاذ (ره) عما ذكرنا لاثبات التخيير بأنه أي
التخيير اما يكون من ناحية الدليل فيكون تخييرا ظاهريا وإما من
ناحية المدلول فيكون تخييرا واقعيا (فالأول) كما إذا ورد مطلق
شمولي أو عام أصولي الذي نسميه بالعام الاستغراقي وعلمنا بخروج
فردين كزيد وعمرو مثلا عن تحت ذلك العام أو ذلك المطلق، ولكن
شككنا في أن خروجهما يكون مطلقا بمعنى أن كل واحد منهما
خارج عن تحت عموم أكرم العلماء مثلا سواء كان الاخر داخلا أو كان
خارجا حتى يكون التخصيص افراديا أو يكون خروج كل واحد
منهما مقيدا بدخول الاخر تحت العام لا مطلقا حتى يكون التقييد
أحواليا ففي مثل هذا لا بد وأن نقول بأن التقييد أحوالي لان
التخصيص
الافرادي مستلزم لخروج كل واحد منهما في حالتين أي حال دخول
الاخر وحال عدم دخوله بخلاف الأحوالي فإنه تخصيص في
251

حالة واحدة أي خروج كل واحد منهما في حال دخول الاخر فقط
فيكون من قبيل دوران الامر بين تخصيص واحد وبين تخصيصين، و
لا
شك في أن التخصيص الزائد المشكوك يدفع بأصالة العموم أو أصالة
الاطلاق فينتج التخيير أي خروج كل واحد منهما في حال دخول
الاخر فدائما أحدهما غير المعين داخل تحت العام وكذلك الاخر
دائما خارج فيجب إكرام أحدهما دائما وهذا معنى التخيير (والثاني)
أي التخيير من ناحية المدلول فكالتخيير في باب المتزاحمين حيث أن
ملاك لزوم الاتيان في كل واحد منهما موجود والطلب في كل
واحد منهما في حد نفسه مطلق بمقتضى إطلاق الملاك (ولكن)
حيث لا يكون المكلف قادرا على الجمع بينهما في مقام الامتثال و
التكليف مشروط بالقدرة فقهرا لا يبقى التكليف على إطلاقه بل يقيد
بحال عدم إتيان الاخر فينتج التخيير.
وأما في المقام فلا يكون وجها للتخيير لا من ناحية الدليل ولا من
ناحية المدلول (اما الأول) فلان دليل الأصل لا يدل إلا على جريانه في
كل واحد منهما بعينه لا في أحدهما لا بعينه حتى يكون مفاده التخيير
(وأما الثاني) فلان المدلول في باب الأصول العملية أي المجعول
فيها ليس إلا الجري العملي على طبق أحد الاحتمالين الذين للشاك
كما في الأصول غير التنزيلية، أو الجري العملي على طبق أحد
الاحتمالين على أنه هو الواقع كما في الأصول التنزيلية وفي كلتا
الصورتين ليس المدلول أي ما هو المجعول معنى يقتضي التخيير كما
كان المدلول والمجعول في باب المتزاحمين معنى يقتضي التخيير
هناك (فظهر مما ذكرنا) أن في مورد العلم الاجمالي بتكليف لا وجه
للتخيير في إجراء الأصول في بعض الأطراف.
هذا ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) ولكن يمكن أن يقال إن دليل
الأصل مطلق في حد نفسه بالنسبة إلى جريان الأصل في الطرف
252

الاخر وفي أي مورد، ولكن في أطراف العلم الاجمالي جريانه في
طرف إذا كان موجبا للمخالفة القطعية والترخيص في المعصية في
ظرف جريان الأصل النافي في الطرف الآخر أيضا (فلا محالة) يقيد
الاطلاق بهذا المقدار وأما الزائد على هذا المقدار كإجرائه في ظرف
عدم إجراء الاخر في الطرف الآخر حيث لا مانع من جريانه، فلا وجه
لخروجه عن تحت الاطلاق.
(فلو كان) المانع من جريان الأصل النافي في أطراف العلم الاجمالي
هي المعارضة مع الأصل الاخر في الطرف الآخر، فيرتفع بهذا التقييد
وينتج التخيير (نعم بناء) على ما هو الحق من عدم إمكان جريان
الأصل النافي في أطراف العلم الاجمالي ولو كان في طرف واحد و
كان بلا معارض أيضا (فلا مجال) للتخيير أيضا كما أنه لا مجال لجريانه
في أحدهما المعين.
ثم أن ما ربما يتوهم بل يظهر مما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من أن
جريان الأصل النافي في طرف إذا كان بلا معارض يستلزم جعل
الاجتناب عن الطرف الآخر بدلا عن الاجتناب عن المعلوم بالاجمال.
ففيه (أولا) إن هذا رجوع عن القول بالاقتضاء (وثانيا) أنه مبنى على
القول بحجية الأصل المثبت حتى يكون لازمة - أعني جعل الطرف الآخر
بدلا - يثبت بهذا الأصل النافي. مع أنه بناء عليه أيضا لا يخلو
عن إشكال، لان الأصل النافي بناء على ما ذكرنا - من القول بكون
العلم الاجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية - لا يجري إلا بعد
جعل البدل في الرتبة السابقة على جريانه، لا أن يكون الجريان سببا
لحصوله (اللهم) إلا أن يقال بجريان الأصل يستكشف جعله في الرتبة
السابقة، وعلى كل حال مورد هذا الكلام هو قيام إمارة على
الترخيص، وحيث أن مثبت الامارة حجة فيستكشف من قيامها على
الترخيص في طرف بدلية الطرف الآخر، كما أنه لو قام دليل
بالخصوص على الترخيص في طرف
253

ولو كان أصلا، فبدلالة الاقتضاء صونا لكلام الحكيم عن اللغوية
نستكشف بدلية الطرف الآخر.
وأما الاشكال على القول بالعلية بالعلم الاجمالي بوجوب أحد أمرين
يكون وجوب أحدهما المعين مترتبا على عدم وجوب الاخر، بأنهم
يجرون الأصل النافي في الطرف المترتب عليه بلا أن يكون جعل بدل
أو انحلال في البين، وذلك مثل انه إذا علم إجمالا (إما) بوجوب
الحجج عليه (وإما) أنه مديون لزيد مثلا بكذا مقدار، والدين على
تقدير وجوده معجل ومطالب، ولا شك في أن وجوب الحج مترتب
على عدم وجوب أداء الدين الكذائي فيما إذا لم يكن المال وافيا إلا
لأحدهما كما هو المفروض (فواضح الفساد) من جهة أن الأصل النافي
الجاري في المترتب عليه (كما أنه) ينفي وجوب المترتب عليه مثل
الدين في المثال المذكور كذلك يثبت وجوب الطرف الآخر أعني
وجوب الحج في نفس المثال، لا من ناحية الملازمة بين عدم وجوب
أداء الدين حتى تقول أنه أصل مثبت وليس بحجة، بل من جهة أنه
منقح لموضوع الطرف الآخر. مثلا في المثال المذكور موضوع وجوب
الحج هو المستطيع والاستطاعة حصولها متوقفة على عدم
وجوب أداء الدين على الفرض (لان المال) ليس وافيا إلا بأحدهما
على الفرض، فباستصحاب عدم وجوب أداء الدين أو البراءة عنه
يثبت
الموضوع (وثانيا) لا يمكن الاحتياط في الفرض (فقد ظهر) من جميع
ما ذكرنا علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية وعدم جواز
إجراء الأصل النافي في بعض أطرافه أيضا كالجميع، إلا بالانحلال أو
بجعل البدل (لا أنه) مقتض لذلك وتسقط الأصول بالمعارضة.
254

بقي التنبيه على أمور
(الأول)
في أنه لا فرق في تأثير العلم الاجمالي في تنجيز متعلقه بين أن يكون
المعلوم بالاجمال عنوانا واحدا أو كان مرددا بين عنوانين كل
واحد منهما تعلق به النهي المولوي التحريمي (فالأول) كما إذا علم
بخمرية أحد الكأسين أو بنجاسته أو غير ذلك مما هو محرم الشرب
(والثاني) كما إذا علم أن هذا الكأس اما أنه خمر أو ذاك الاخر
مغصوب مثلا.
والسر في عدم الفرق أن المكلف في نظر العقل بعد ما علم أنه وجه
إليه خطاب إلزامي وجوبي أو تحريمي يكون ملزما بامتثال ذلك
الخطاب ولو كان لا يعلم الخصوصية، وليس لمعرفة الخصوصية
الخمرية أو الغصبية دخل في لزوم الإطاعة وترك العصيان، خلافا لما
نسب إلى صاحب الحدائق (قدس سره) حيث أفاد بأن تنجز الخطاب
منوط بالعلم بالخطاب ومعرفة العنوان المتعلق به الخطاب، فلو علم
إجمالا بأن الخطاب المتوجه إليه إما عنوان (لا تغصب هذا الكأس) أو
عنوان (لا تشرب هذا الخمر) مثلا فلا يعلم الخطاب بخصوصية
المتعلق فلا يعلم بخطاب جامع بينهما الذي هو مناط حكم العقل
بلزوم الإطاعة.
ولكن قد عرفت أن المناط في نظر العقل وحكمه بلزوم الإطاعة هو
علمه بتوجه خطاب إلزامي إليه ولو كان مرددا في أنه وجوبي
متعلق بهذا العنوان أو تحريمي متعلق بذلك العنوان الاخر فضلا عما
إذا علم بأنه خطاب وجوبي أو علم بأنه خطاب تحريمي ولكن
الترديد في ناحية متعلقه بأنه هذا العنوان أو ذاك العنوان، فلو أنى بكلا
العنوانين الذين يعلم بأن أحدهما متعلق النهي مثلا يعلم بمخالفته
للتكليف الواصل إليه المنجز عليه، وهكذا الامر
255

في سائر صور المسألة، فالتزامه بلزوم كون المتعلق عنوانا واحدا
جامعا بين الامرين، فإذا علم بمثل هذا العنوان يتنجز عليه وإلا فلا فلا
وجه له أصلا (نعم إذا كان) لأحد العنوانين أثرا خاصا بذلك العنوان
كتعدد الغسل أو التعفير لبعض العناوين النجسة فلا يترتب بهذا العلم
الاجمالي بل يحتاج إلى معرفة ذلك العنوان بخصوصه وتجري البراءة
في غير الآثار المشتركة.
(الثاني)
أن وجوب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي حكم عقلي إرشادي
راجع إلى كيفية الإطاعة، فلو خالفه المكلف لا يترتب على مخالفته
شي من حيث مخالفته إلا عنوان التجري، فإذا ارتكب بعض الأطراف
في الشبهة التحريمية أو ترك في الشبهة الوجوبية وكان حراما في
الأول وواجبا في الثاني يعاقب على العصيان لتنجز الواقع عليه
بالعلم، وإلا فليس إلا التجري.
(الثالث)
أنه لو كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء فلا يؤثر العلم
الاجمالي لا في وجوب الموافقة القطعية ولا في حرمة مخالفتها، و
ذلك
لما بينا أن العلم الاجمالي إنما يؤثر في تنجيز متعلقه فيما إذا كان
متعلقه التكليف الفعلي على كل تقدير وفي أي طرف كان، وأما لو
كان ثبوت التكليف الفعلي على تقدير انطباقه على بعض الأطراف
دون بعض آخر وذلك لمانع من ثبوت الخطاب في ذلك الطرف من
اضطرار أو عدم القدرة بالنسبة إليه أو غير ذلك من الجهات المانعة أو
الرافعة للتكليف فلا فإذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل
الابتلاء بمعنى أنه مثلا لم يكن له قدرة على ارتكابه عادة وإن كان له
قدرة عقلية بالنسبة إليه بمقدمات غير عادية ويتحمل المشاق،
كما إذا علم بحرمة هذه المرأة التي يريد تزويجها عليه أو المرأة التي
في أقصى بلاد الشرق (فحيث) إن المراد والغرض من النهي
المولوي زجر العبد عن ارتكاب المنهي واحداث الداعي للترك لما
يرى
256

بعد الالتفات إلى نهي المولى وثبوته عنده بمثبت وجداني أو تعبدي
من استحقاقه للعقاب عند الارتكاب فينزجر ولا يرتكب (فلا بد) و
أن يكون الارتكاب له ممكنا عادة ومقدورا له بحسب العادة حتى
يوجب النهي زجره وإلا كان النهي بلا فائدة ولا ثمرة له، فيكون لغوا
ومثل هذا النهي يكون بنظر العقلا مستهجنا لا ينبغي أن يصدر من
الحكيم.
(لا يقال) أنه لا شك في وجود النواهي المتعلقة بأشياء يكون النفس
منزجرا عن ارتكابها مثل نكاح الأمهات أو كشف العورة لذوي
المروات وأمثال ذلك مما تشمئز النفوس الكاملة عنها وتأبى عن
ارتكابها ولو لم يكن نهي عن قبل المولى، والنفوس مختلفة جدا
بالنسبة إلى ارتكاب المحرمات، فبعض المحرمات مما تشمئز نفوس
أغلب الناس عن ارتكابها بل جميعهم كأكل بعض الخبائث وبعض
منها تشمئز نفوس بعض منهم دون بعض (فيجب) أن لا يتوجه إلى
هؤلاء أمثال هذه النواهي مع أنها متوجهة إليهم قطعا.
(لأنا نقول) فرق بين أن يكون الشئ غير مقدور عادة ولا يمكن
ارتكابها إلا بالمقدمات البعيدة الخارجة عن العرف والعادة وتحمل
المشاق الكثيرة بحيث لو أمر به كان من أشق الاشياء عليه (ففي مثل)
هذه الموارد يكون نهيه عن الارتكاب مستهجنا عند العرف و
العقلا بين أن يكون الشئ منفورا ومشمئزا عنه، ففي هذا القسم من
الاشياء لا يرى العرف والعقلا استهجانا في الخطاب بلزوم ترك
الارتكاب (لانهم) يرون نهي العاجز عن الفعل بحسب العادة قبيحا
كالعاجز عقلا ولا يرون نهي القادر على الفعل المشمئز عنه إذا كان
في الفعل مفسدة قبيحا (ولعل السر في ذلك) أن الأمر والنهي
حقيقتهما بعث وتحريك نحو أحد طرفي المقدور فإذا كان الفعل
بنظرهم غير مقدور فالترك بنظرهم طلب أمر غير مقدور وان كان كلا
الطرفين بنظر العقل مقدورا فطلب الترك غير مقدور عندهم
بل يرونه مجبورا على الترك فلا يبقى مجال للنهي لما قلنا من أنه
تحريك إلى
257

أحد طرفي المقدور فلا يمكن تحقق حقيقة النهي إلا معلقا على
الابتلاء ومشروطا به بخلاف مورد الاشمئزاز فإنه لا مانع من تحقق
حقيقة
النهي عن الفعل الذي له قدرة على إيجاده ومتوقف إيجاده على
إرادته واختياره فقط ولكن لا يريد ولا يختاره لكونه منفورا عنه أو
لكونه مضرا أو لجهة أخرى من الجهات التكوينية.
نعم يبقى كلام حينئذ في طلب الفعل إذا كان غير مقدور عادة وإن كان
مقدورا عقلا ويمكن الاتيان به بإيجاد مقدمات بعيدة وتحمل
مشاق شديدة بأن يقال لا يجوز طلب مثل هذا الفعل لأنه غير مقدور
فلا بد أن يقال بعدم صحة مثل هذا الامر واستهجانه مع أنهم لا
يلتزمون بذلك هذا.
ولكن يمكن أن يقال أن فعل شي إذا كان له مصلحة مهمة بحيث يلزم
تحصيلها ولو بتحمل مشقة شديدة وتهيئة مقدمات غير عادية بل
يجب في مقام تحصيله بذل كل نفس ونفيس، ففي مثل هذا المورد لا
استهجان في الخطاب ولا محذور فيه أصلا فلا يصح قياس باب
الأوامر بالنواهي (وحاصل الكلام) أن العلم لا يؤثر في وجوب
الموافقة ولا في حرمة مخالفتها فيما إذا كان بعض الأطراف خارجا
عن
محل الابتلاء أي لم يكن مقدورا عادة وعرفا، هذا كله فيما إذا علم
بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.
وأما إذا شك فيه ففي تأثير العلم الاجمالي في تنجيز متعلقه في أي
طرف كان المتعلق أي سواء كان في الطرف الذي هو مقدور عادة أو
كان في ذلك الطرف الذي مقدوريته مشكوك وعدم تأثيره وجهان بل
قولان أقواهما الأول لوجهين (أحدهما) أن الشك في القدرة بعد
إحراز الملاك التام - كما هو المفروض في المقام لعدم مدخلية القدرة
بكلا قسميه أي عقلية أو عادية في الملاك - ليس من موارد
الرجوع إلى البراءة وقاعدة قبح
258

العقاب بلا بيان لان مورد تلك القاعدة فيما إذا كان قصور في البيان من
ناحية المولى لا أن عدم التكليف كان مستندا إلى عجز العبد
عن الامتثال عقلا أو عادة، وأما فيما إذا كان عدم التكليف من جهة
عجز العبد فإن علم العبد بالعجز عقلا أو عادة فلا تكليف لقبح
تكليف العاجز، وأما إذا شك فالعقل يحكم بلزوم الاحتياط والامتثال
حتى يتبين ويظهر العجز ويكون موردا لقاعدة دفع الضرر
المحتمل بنظر العقل لا قاعدة العقاب بلا بيان (والسر في ذلك) ما
ذكرنا من عدم قصور لا في بيان المولى ولا في ناحية الملاك وإنما
يكون عدم الشمول لعجز العبد فإذا تيقن بالعجز فهو معذور وإلا فيما
إذا شك فالعقل يلزمه بالاحتياط إلى أن يظهر العجز.
(وبعبارة أخرى) اشتراط التكليف بالقدرة العادية ليس أمره بأعظم من
اشتراطه بالقدرة العقلية فكما أن في مورد العقلية منها إذا شك
فيها ليس له الرجوع إلى البراءة ففي القدرة العادية أيضا كذلك ليس له
الرجوع إلى البراءة، فلو شك في مقدورية طرف من أطراف
العلم الاجمالي ليس له إجراء البراءة عن التكليف التحريمي كما هو
المفروض في المقام وارتكاب سائر الأطراف بل يجب الاجتناب عن
الأطراف المقدورة (وأما الاشكال) على ما ذكرنا بلزوم الاحتياط بناء
على هذا في الأطراف المقدورة حتى مع العلم بخروج بعض
الأطراف عن محل الابتلاء (فعجيب) لأنه مع العلم بخروج بعض
الأطراف نعلم بعدم التكليف في ذلك الطرف المعلوم الخروج، و
حيث أنه
على تقدير انطباقه على ذلك الطرف نعلم بعدم تكليف في البين فلا
يبقى مجال للزوم الاحتياط حتى يظهر الحال لان الحال ظاهرة
(نعم) لو كان المعلوم بالاجمال في هذا الطرف المقدور فالعموم
يشمله، وحيث أن المعلوم بالاجمال وجوده في هذا الطرف مشكوك
فالعلم الاجمالي لم يتعلق بخطاب فعلي في أي طرف كان بل المعلوم
بالاجمال تكليف مشكوك فلا يؤثر التنجيز، والملاك أيضا
259

لا يؤثر لأنه على تقدير كون الملاك في ذلك الطرف المعلوم الخروج
عن محل الابتلاء لا يؤثر قطعا للقطع بعدم التكليف حينئذ ومع
القطع بعدم التكليف في الطرف المعلوم الخروج فنقطع بعدم
التكليف المطلق ومعه لا يبقى مجال لحكم العقل بلزوم الاحتياط
لكون
الشبهة حينئذ من قبيل الشبهة البدوية بل هي عينها (وهذا بخلاف) ما
لو شك في الخروج فلا يقطع بعدم التكليف المطلق مثل الصورة
السابقة بل يحتمل وجوده فيبقى مجال لحكم العقل بلزوم الاحتياط
لأجل وجود الملاك (وبعبارة أخرى) أما في الطرف الخارج عن محل
الابتلاء قطعا فلا تكليف قطعا حتى مع وجود الملاك فيه وأما الطرف الآخر
فمقدور قطعا ووجود الملاك فيه مشكوك والعقل يحكم
بلزوم الاحتياط في عكس هذا أي فيما كان الملاك معلوم الوجود و
القدرة مشكوكة لا فيما كان بالعكس فقياس القطع بالخروج عن
محل الابتلاء بالشك فيه في غاية الفساد واقتناع شيخنا الأستاذ (ره)
بهذا الاشكال أعجب على ما يدعيه المستشكل (الثاني) ما ذهب إليه
شيخنا الأعظم (قدس سره) من التمسك بالاطلاقات الواردة في باب
الاحكام (بيان ذلك) أن النواهي الواردة في الآيات مطلقة تشمل
جميع الموارد بحسب الظهور العرفي سواء كانت خارجة عن محل
الابتلاء أو داخلة فيه والقدر المتيقن من تقيد هذه الاطلاقات و
تخصيص العمومات ما علم بخروجه عن محل الابتلاء وأما ما شك
فيه فيبقى داخلا تحت الاطلاقات والعمومات بمقتضى أصالة
الاطلاق و
العموم، وحيث أن المخصص لبي لا فرق بين أن تكون الشبهة
مفهومية دائرة بين الأقل والأكثر كما فيما نحن فيه أو مصداقية كما
تقدم
تفصيله في مبحث العام والخاص.
وأورد على هذا الوجه أي شمول إطلاقات أدلة المحرمات لمورد
الشك في الخروج عن محل الابتلاء بوجوه (الأول) أن المخصص
هاهنا
من قبيل
260

العقل الضروري فيكون من قبيل المخصص المتصل المحفوف
بالكلام فيسري إجماله إلى العام فلا يبقى له ظهور في العموم يشمل
مورد
الشك في الخروج لصيرورته مجملا بواسطة إجمال مفهوم المخصص
الذي في حكم المخصص المتصل كما تقدم ذلك في مبحث العام و
الخاص (وفيه) أن كون المخصص هاهنا من قبيل الضروري ممنوع
لان استهجان الخطاب بالنسبة إلى ما هو خارج عن محل الابتلاء مما
هو مغفول غالبا ولا يدرك إلا بالتأمل وملاحظة جهات الحسن وقبح
الخطاب.
وأجاب شيخنا الأستاذ (ره) أيضا عنه بأنه لو سلمنا كونه من قبيل
العقل الضروري حتى يكون من قسم المخصص المتصل فمع ذلك
أيضا
إجماله لا يسري إلى العام لان ما يسري إجماله إلى العام هو فيما إذا
كان المخصص عنوانا واقعيا غير مختلف المراتب كعنوان الفاسق
الذي ليس له مراتب ومردد بين الأقل والأكثر فإذا كان مثل هذا
العنوان متصلا بالعام لا ينعقد للعام ظهور إلا في ما عدا هذا العنوان
فإذا كان مجملا فقهرا إجماله يسري إلى العام (وأما إذا كان)
المخصص عنوانا ذا مراتب مختلفة كما فيما نحن فيه حيث أن
الخروج عن
محل الابتلاء وعدم القدرة العادية له مراتب متفاوتة فالخمر الموجود
في أقصى بلاد العالم مثلا أشد خروجا عن محل الابتلاء من الذي
في بلد أقرب منه وهكذا إلى أن يصل إلى مكان يشك في خروجه
عنه فالقدر المتيقن الخارج هي المرتبة الكاملة من العجز العادي و
باقي المراتب يشك في خروجه فيجب الرجوع إلى أصالة العموم.
ولكنك خبير بأن الرجوع إلى أصالة العموم فرع انعقاد ظهور العام في
العموم ومع وجود هذا المخصص المتصل ولو كان ذا مراتب
كيف يمكن حصول القطع بظهور العام في العموم عدا مرتبة الكاملة
من العجز فالأحسن في الجواب هو الجواب الأول (الثاني) ما أفاده
صاحب الكفاية (ره)
261

من أن التمسك بالاطلاق في مقام الاثبات فرع إمكان الاطلاق في عالم
الثبوت، وفيما نحن فيه ليس كذلك لأنه لا يمكن أن يكون
الخطاب مطلقا في عالم الثبوت بالنسبة إلى مورد الشك في القدرة لان
شمول إطلاق الخطاب لمورد الشك الذي له احتمالان وجود
القدرة وعدمها معناه شمول الخطاب لمورد الشك على كل واحد من
التقديرين أي على تقدير وجود القدرة وعدمها والحال أن شمول
الخطاب للمورد على تقدير عدم القدرة وكونه عاجزا محال لأنه قبيح
والقبيح على الحكيم محال (ولكن يمكن أن يجاب عنه) بأن هذا
فيما إذا لم يكن الاطلاق كاشفا عن عدم العجز وثبوت القدرة كما
أفادوا في قوله عليه السلام (لعن الله بني أمية قاطبة) بأنه في مورد
الشك في إيمان بعضهم يتمسك بالعموم ويثبت به عدم إيمانه نعم
الذي هو منهم وهو معلوم الايمان خارج عن تحت العموم قطعا وما
نحن فيه مثل ذاك طابق النعل بالنعل (الثالث) ما أفاده بعض من أن
شمول الاطلاق للانقسامات الثانوية غير ممكن كما بيناه في مسألة
التعبدي والتوصلي فلا نعيد، ولا شك في أن القدرة على الامتثال في
الرتبة المتأخرة عن الامر لأنه ما لم يكن أمر لا معنى لامتثال الامر
(وفيه) أن هذا الكلام مغالطة عجيبة، إذ ما هو شرط لحسن الخطاب
هو القدرة على إتيان ذات المأمور به لا بعنوان أنه مأمور به و
بعنوان امتثال الامر حتى يكون متوقفا على الامر وفي الرتبة المتأخرة
عنه فيكون من الانقسامات الثانوية فالقدرة التي شرط حسن
الخطاب بكلا قسميه سواء كانت عقلية أو عادية من الانقسامات
الأولية التي تلحق الشئ قبل تعلق الأمر والنهي به (وأما ادعائه)
(قده)
أن القدرة العادية والدخول في محل الابتلاء من شرائط التنجيز
فأعجب إذ لا شك في أنها بكلا قسميه شرط تحقق الخطاب ووجوده
لا
شرط تنجزه بعد وجوده حتى تكون متأخرة عن الخطاب كما توهم
نعم على تقدير تسليم كونها من الانقسامات الثانوية
262

فلا ريب في عدم شمول الاطلاقات لمورد الشك فيها ولا يصححه
عدم كونها من شرائط التنجيز كما هو واضح.
تنبيه
وهو أنه هل المنع الشرعي بالنسبة إلى ارتكاب بعض الأطراف يلحق
بعدم القدرة تكوينا فيكون خارجا عن محل الابتلاء فلا يكون العلم
الاجمالي مؤثرا في تنجيز متعلقه فيجري الأصل النافي في الطرف الآخر
الذي هو داخل في محل الابتلاء، أم ليس كذلك، بل المنع
الشرعي
لا يوجب سلب القدرة العقلية أو العادية مثلا لو علم بنجاسة طعامه
الذي يريد أن يأكله أو طعام شخص آخر من أهل بلدته أو من جيرانه
مع النهي عن أكله عن قبل صاحبه له أن يجري أصالة الطهارة في
طعامه أم لا (والانصاف) أن المنع الشرعي لا يوجب قبح النهي عنه
بعنوان آخر الذي هو معلوم إجمالا فإذا كان طعام مغصوب عنده لا
يرضى صاحبه أن يأكله فعلم إجمالا بنجاسة ذلك الطعام المغصوب أو
طعامه الذي ملكه وحلال له فلا يرى العقل والعقلا قبحا واستهجانا
في خطاب لا تأكل النجس الموجود بينهما وكذلك إذا غصب جارية
الغير فعلم إجمالا بأنه إما جاريته حائض وإما تلك الجارية فلا قبح في
خطاب لا تقرب الحائض منهما وكذلك في سائر الموارد التي من
هذا القبيل وهي كثيرة جدا (وكذلك الامر) فيما يبعد عادة اتفاق
الابتلاء به فقد قيل بلحوقه بالخروج عن محل الابتلاء في قبح توجيه
الخطاب إليه والنهي عنه، كما إذا علم إجمالا بنجاسة تراب الموجود
عنده الذي هيأه في داره للتيمم عليه عند احتياجه به أو نجاسة قطعة
معينة من تراب الطريق الفلاني بحيث يكون احتمال الاحتياج إليه
للسجود أو التيمم في غاية البعد.
ولكن يمكن أن يقال أن بلغ بعد الاحتياج إلى مرتبة صارت عن
مصاديق الخارج عن محل الابتلاء عند العرف فهذا هو وليس ملحقا
263

وإن لم يبلغ إلى تلك المرتبة فلا وجه لالحاقه به فان قلة الابتلاء لا
يوجب استهجان الخطاب بل المدار في القبح والاستهجان إمكان
الابتلاء عادة وعرفا لا فعليته خصوصا إذا كان قلة ابتلائه من ناحية
عدم قصده وإرادته لبعض الأغراض والدواعي النفسانية ككونه
غير لائق بمقامه مثلا فترك ارتكابه لأجل الترفع عنه لا لأجل عدم
الاحتياج إليه كما إنه في مسألة تراب الطريق الذي مثلنا به يكون الامر
كذلك فان أصحاب الشؤون والشرف يتأنفون عن التيمم أو السجود
على تراب الطريق لما يرونه مخالفا لشأنهم ففي مثل هذا لا يمكن
أن يقال بقبح النهي المتوجه إليهم.
(الامر الرابع)
فيما إذا اضطر إلى ارتكاب بعض أطراف المعلوم بالاجمال فأما أن
يكون إلى أحدها بعينه وأما إلى أحدها لا بعينه وكل واحد من
القسمين إما أن يكون الاضطرار حصوله قبل وجود التكليف وقبل
العلم به أيضا وإما أن يكون بعد حصول التكليف وقبل حصول العلم
أو مقارنا لحصوله وإما أن يكون بعد حصول التكليف وبعد حصول
العلم جميعا فالأقسام ثمانية ولكن نذكر منها ما يختلف باختلافها
الآثار والاحكام.
فنقول أما صور الاضطرار إلى المعين ما عدا القسم الأخير منها أي فيما
إذا كان حصول الاضطرار بعد حصول التكليف والعلم الاجمالي
فيجري الأصل النافي في غير ما اضطر إليه حتى على ما اخترناه من
كون العلم الاجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية، وذلك من
جهة أن الاضطرار إلى ذلك المعين يرفع التكليف عن ذلك الفرد لو
كان هو موضوع الحكم المعلوم بالاجمال لحكومة دليل رفع ما
اضطروا إليه على العمومات والاطلاقات الأولية حكومة واقعية
فتكون النتيجة تخصيص الاحكام الأولية بغير مورد طرو الاضطرار
على
موضوعاتها، فإذا حدث العلم الاجمالي بعد ذلك أو مقارنا لحدوث
الاضطرار فلا يتعلق بحكم فعلي على كل تقدير أي سوأ
264

انطبق المعلوم بالاجمال على هذا الطرف أو على الطرف أو الأطراف
الاخر لأنه لو انطبق على الطرف الذي اضطر إليه فليس هناك حكم
أصلا لما ذكرنا من ارتفاع الحكم بطرو والاضطرار (وقد بينا) اشتراط
تأثير العلم الاجمالي في تنجيز المتعلق ووجوب الموافقة
القطعية وحرمة مخالفتها أن يكون متعلقه حكما فعليا على كل تقدير
أو ذو حكم كذلك فتجري الأصول النافية في الطرف أو الأطراف
الاخر بلا مانع أعني وجوب الموافقة القطعية لأنه هو الذي كان مانعا
(وأما) إذا حصل الاضطرار بعد حصول العلم وقهرا يكون بعد
حصول التكليف أيضا لان حصول التكليف لا بد وأن يكون قبل العلم
وإلا لا يمكن حصول العلم إلا أن يكون جهلا مركبا فالعلم ينجز
متعلقه قبل حصول الاضطرار فكل واحد من الطرفين يصير محتمل
التكليف المنجز والاضطرار وإن كان يرفع التكليف عن ذلك
الطرف الذي اضطر إليه ولكن لا تجري البراءة في الطرف الآخر لما
ذكرنا من أنه محتمل التكليف المنجز بمعنى أنه لو كان المعلوم
بالاجمال في ذلك الطرف الذي ما اضطر إليه تنجز بالعلم الاجمالي
في الرتبة السابقة على طرو الاضطرار والأصول النافية تساقطت
على القول بالاقتضاء فلا تعود وعلى ما اخترنا كان سقوط الأصول
بواسطة كونه علة تامة لوجوب الموافقة القطعية وعلى أي حال لا
تجري الأصول النافية في الطرف الآخر فيكون حال الاضطرار إلى أحد
الأطراف بعد حصول العلم الاجمالي حال التلف بعده فكما إذا
تلف بعض الأطراف بعد حصول العلم لا تجري الأصول النافية في
الطرف أو الأطراف الباقية لعين ما ذكرنا في غير الطرف المضطر
إليه فكذلك الامر في مورد الاضطرار.
وأما ما أفاد في الكفاية من الفرق بينهما بأن التكليف في باب
الاضطرار ليس مطلقا بل محدود إلى حد طرو الاضطرار بخلاف باب
التلف فان
265

فان التكليف فيه مطلق غاية الامر يرتفع بارتفاع موضوعه فإذا كان
التالف هو موضوع التكليف المعلوم بالاجمال فقهرا يرتفع الحكم
وينعدم لا أنه محدود (فهذا الفرق) ليس بفارق لأنه لا فارق في نظر
العقل في تنجيز العلم لمتعلقه المعلوم بالاجمال بين أن يكون تكليفا
مطلقا مطلقا وعلى كل تقدير أو كان مطلقا على تقدير انطباقه على هذا
الطرف مثلا وتكليفا محدودا على تقدير انطباقه على الطرف الآخر
كما لو علم إجمالا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة مثلا فوجوب
صلاة الظهر مطلق يجب أن يأتي بها طول العمر إما أداء أو قضاء و
وجوب صلاة الجمعة محدود إلى ساعة بعد الزوال ومع ذلك بعد
مضي ساعة من الظهر لا يصح إجراء البراءة عن صلاة الظهر كما هو
واضح وأما ما أفاده شيخنا الأستاذ (ره) - من الاعتراف بعدم منجزية
العلم الاجمالي فيما إذا كان المعلوم بالاجمال عنوانا واحدا مرددا
بين أن يكون حكمه محدودا إلى زمان أو مطلقا - فغير مربوط بما نحن
فيه لأنه في الحقيقة علم تفصيلي إلى زمان كذا وشك بدوي بعد
ذلك الزمان فهو أشبه بالانحلال فان جرى استصحاب الحرمة في
ظرف الشك فهو وإلا يكون مجرى البراءة (هذا كله) فيما إذا كان
الاضطرار إلى أحدهما المعين.
وأما إذا كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه ففي جميع الصور المتقدمة
لا تجري البراءة في غير ما يرتكب للاضطرار بل يجب الاحتياط
فيه وذلك من جهة أن الاضطرار في هذه الصورة ليس مزاحما بوجوده
للتكليف بل تكون مزاحمته في مقام تطبيقه لما اضطر إليه وهو
أحدها لا بعينه على ما هو المنهي عنه وهذا التطبيق قد يتفق من ناحية
الجهل بما هو الحرام في البين ولذلك لو فرضنا له حصول العلم
التفصيلي بما هو الحرام في البين ليس له أن يطبق اضطراره على ما هو
الحرام في البين بل يجب عليه رفع اضطراره بذلك الطرف الآخر
(ومن هذا) يظهر أن الاضطرار لم يطرأ
266

على ما هو الحرام في البين كي يرتفع به حرمته كما هو مفاد دليل رفع
ما اضطروا إليه فلا يكون العلم الاجمالي مؤثرا حتى تجري
البراءة في غير ما طبق الاضطرار عليه (وقياس) هذه الصورة على
صورة الاضطرار إلى أحد الأطراف بعينه (في غير محله) لأنه هناك
طرأ الاضطرار على نفس ما هو الحرام الواقعي في البين على تقدير
كونه هو ذلك الفرد الذي اضطر إليه بعينه بخلاف المقام (نعم) لو
طبق اضطراره على ما هو الحرام الواقعي فهو معذور من جهة جهله
فهذا الترخيص في تطبيقه اضطراره على أي فرد شاء ترخيص
ظاهري منشأه جهله بالواقع لا اضطراره ولذلك قلنا لو فرض حصول
العلم التفصيلي قبل ارتكابه أحد الأطراف للاضطرار ليس له أن
يرفع اضطراره بما هو الحرام بل يتعين عليه أن يرفعه بالطرف الاخر (و
لا فرق) فيما ذكرنا من عدم مزاحمة الاضطرار في هذه
الصورة أي صورة الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه بين حصول
الاضطرار قبل التكليف أو بعده ولا قبل حصول العلم أو بعده أو كان
حصوله مقارنا لحصول العلم ففي جميع هذه الصور لا يسقط العلم
الاجمالي عن التأثير ولا يجري الأصل النافي في غير ما ارتكب لأجل
الاضطرار ورفعه به.
بقي شي وهو أن هذا التخيير في دفعه اضطراره بأي واحد من
الأطراف شاء هل هو من قبيل التوسط في التكليف أو من قبيل التوسط
في التنجز احتمالان بل قولان (أقواهما) هو التوسط في التكليف بناء
على القول بعلية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية وعدم
جريان الأصول النافية في أطرافه ولو كان بلا معارض الا مع الانحلال
أو جعل البدل كما تقدم تفصيل ذلك واخترناه (بيان ذلك) أن
المراد من التوسط في التكليف أن لا يكون التكليف مطلقا وعلى كل
تقدير بل يكون على تقدير فقط دون تقدير آخر فيكون مرفوعا
على تقدير لا مطلقا فالاضطرار إلى
267

أحدهما المعين يكون من هذا القبيل لأنه على تقدير أن يكون المعلوم
بالاجمال في ذلك الطرف المعين الذي اضطر إليه فلا تكليف في
البين أصلا إذ يرتفع بطرو الاضطرار وعلى تقدير أن يكون في ذلك
الطرف الآخر فيكون موجودا فلا يكون موجودا مطلقا ولا
معدوما ومرتفعا مطلقا بل معنى متوسط أي موجود على تقدير غير
موجود على تقدير آخر (والمراد) من التوسط في التنجز أن يكون
التكليف موجودا مطلقا وعلى كل حال ولكن تنجزه في حال دون
حال.
إذا عرفت ما ذكرنا (فنقول بناء) على القول بعلية العلم الاجمالي
لوجوب الموافقة القطعية وعدم جواز جريان الأصول النافية في
أطرافه
ولو كان بلا معارض إلا مع الانحلال وجعل البدل فلا يجوز الترخيص
الظاهري إلا بالتصرف في ناحية التكليف المعلوم بالاجمال بأن
يقيده بعدم انطباق الاضطرار عليه فلو طبق المكلف ولو بواسطة
جهله اضطراره عليه فلا تكليف في البين لا أنه موجود وغير منجز
حتى يكون من قبيل التوسط في التنجز لأنه لا انحلال ولا جعل بدل
في البين فلا يمكن الترخيص الا بما ذكرنا فيكون من باب التوسط
في التكليف، هذا بناء على ما اخترناه من من القول بالعلية التامة (وأما
بناء) على القول بالاقتضاء فحيث لا ينافي بقاء التكليف على
إطلاقه في مقام الواقع مع الترخيص الظاهري للاضطرار فلا مناص الا
عن القول بالتوسط في التنجز ولا وجه للقول بالتوسط في
التكليف أصلا لما ذكرنا من عدم مزاحمة الاضطرار للتكليف الواقعي و
إمكان جعل التخيير الظاهري وعدم منافاته للعلم الاجمالي كما
تقدم بيان ذلك كله وحيث اخترنا العلية لا الاقتضاء (فالأقوى) هو
التوسط في التكليف (ولكن يمكن أن يقال) بالتوسط في التنجز حتى
بناء على العلية وذلك من جهة عدم سقوط التكليف على تقدير
تطبيق الاضطرار على الحرام
268

الواقعي كما في الاضطرار إلى المعين غاية الامر يكون تكليفا ناقصا لا
يوجب حفظ متعلقه على جميع التقادير.
(الامر الخامس)
في حكم الملاقى لأحد أطراف العلم الاجمالي بنجاسة شي و
تحقيق المسألة يتوقف على بيان الوجوه والاحتمالات لنجاسة
الملاقى بعد
العلم والقطع بتنجس الملاقى بملاقاة النجس المعلوم وجدانا أو
تعبدا.
فنقول (الأول) أن تكون الملاقاة سببا وعلة لحدوث النجاسة في
الملاقي كسائر الأسباب التكوينية وعللها وهذا الاحتمال في غاية
السقوط لأنه لا شك في أن نجاسة الملاقى كنجاسة ما لاقاه من
المجعولات والأحكام الشرعية وليست من الأمور التكوينية (الثاني)
أن
يكون عنوان ملاقى النجس موضوعا آخر حكم الشارع عليه بالنجاسة
في عرض سائر ما حكم عليه بالنجاسة كالبول والغائط من
حيوان غير مأكول اللحم ما عدا الطيور فيكون حال ملاقى النجس حال
سائر النجاسات ويبعد هذا المعنى (أولا) أن الفقهاء حينما عدوا
النجاسات ما عدوا الملاقى للنجس من جملتها (وثانيا) المستفاد من
مجموع أدلة نجاسة الملاقى للنجس من الاجماعات والروايات أن
هذه النجاسة آتية من قبل ما لاقاه من النجس وهذا هو المرتكز في
أذهان المتشرعة (الثالث) سراية نجاسة النجس إلى ملاقيه بمعنى
انبساط النجاسة الموجودة في الملاقى على ملاقيه أيضا فكأن موضوع
النجاسة كان قبل الملاقاة ضيقا وبعد الملاقاة صار أوسع وشمل
الملاقى أيضا (وفيه) أن هذا الكلام بالنسبة إلى الاعراض الخارجية
ممكن بل واقع كثيرا وغالبا فاللون أو الطعم أو الرائحة أو غير ذلك
الموجودة في الشئ ربما يسري إلى ملاقيه بعد الملاقاة فيتسع دائرة
موضوع هذا العرض وهكذا إلى أن ينعدم بالنظر العرفي بالمرة
(وهذا الكلام) يكون صحيحا بل لا مناص عنه إذا قلنا بأن النجاسة من
الموضوعات الخارجية التي كشف عنها الشارع (لا بناء) على ما هو
269

الصحيح من أنها من المجعولات الشرعية وان كان جعلها لوجود
مفسدة في عدم الاجتناب عنها كسائر الأحكام الشرعية المجعولة عن
ملاك أوجب جعلها (وبعبارة أخرى) الحكم الشرعي ليس قابلا
للانبساط والسراية الا بأن يصير الملاقى والملاقى واحدا عرفا كما قلنا
في طهارة الماء الملاقى للكر من جهة وحدتهما (الرابع) أن النجاسة
في الملاقى حكم مجعول على عنوان الملاقى للنجس ولكن ملاك
الجعل تأثير النجس الملاقى فيه بمعنى أنه بسبب الملاقاة مع النجس
أو المتنجس على القول بتنجس ملاقى المتنجس أيضا حصل تكوينا
أمرا في الملاقى أوجب حكم الشارع بنجاسته (وهذا) هو المعنى
المعقول والوجه الصحيح في نجاسة الملاقى ويمكن أن يكون المراد
من
الوجه الأول هو هذا المعنى والا فهو بظاهره واضح البطلان (وحاصل
الكلام) في المقام أن نجاسة الملاقى مجعول شرعي كسائر
الأحكام الشرعية وليست من الأمور التكوينية حتى تكون مسببا عن
ملاقاة النجس نعم ملاقاة النجس أو المتنجس علة تكوينية لحدوث
ملاك جعل النجاسة في الملاقى وانبساط نجاسة الملاقى بالفتح على
الملاقى أيضا أمر غير معقول الا بصيرورتهما أي الملاقي والملاقي
موضوعا واحدا في نظر العرف وهذا معلوم العدم فان إصبع المتنجس
إذا لاقاه الماء القليل يتنجس الماء مع وضوح عدم وحدة الملاقي
بالكسر مع الملاقى بالفتح فالقول بالسراية بمعنى الانبساط في غاية
الفساد.
وأما الاخبار الظاهرة في السراية فالمراد منها أن نجاسة الملاقى بالفتح
منشأ لحصول ملاك جعل النجاسة في الملاقي بالكسر ومن
هذه الجهة أطلق عليها السبب والمؤثر وبهذه العناية يصح استناد
نجاسة الملاقي إلى الملاقى بالفتح.
إذا عرفت هذه المقدمة فلا بد وأن تعلم أن محل الكلام والبحث عن
نجاسة الملاقى لأحد أطراف ما علم بنجاسته إجمالا هو فيما إذا لم
تكن جهة
270

أخرى لوجوب الاجتناب عن ذلك الطرف الملاقى بالفتح غير أنه من
أطراف ما علم نجاسته إجمالا (وأما لو كانت) نجاسته ثابتة بعلم
تفصيلي أو بأصل شرعي كاستصحاب النجاسة أو أمارة فلا كلام ولا
إشكال في نجاسته ولزوم ترتيب آثار النجس الواقعي عليه كما أنه
لو كان الملاقي بالكسر طرفا لعلم إجمالي آخر لا شبهة في وجوب
الاجتناب عنه فهذه الفروض والصور خارجة عن محل بحثنا (و
محل بحثنا) متمحض في أن الملاقاة مع أحد الأطراف لما علم
نجاسته إجمالا الذي يجب الاجتناب عنه من باب المقدمة العلمية
هل يوجب
الاجتناب عن هذا الملاقي بالكسر أم لا؟.
فنقول (اما بناء) على أن نجاسة الملاقي بالكسر فيما إذا علم نجاسة
الملاقى بالفتح تفصيلا بالوجدان أو بالتعبد بالسراية بمعنى
الانبساط واتساع دائرة موضوع النجس (فلا شك) في أنه يجب
الاجتناب عنه بعين ما يدل على وجوب الاجتناب عن الملاقى بالفتح
و
هو كونه طرفا للعلم الاجمالي لأنه في الحقيقة يكون بمنزلة جعل
الكأس الذي هو أحد الأطراف العلم الاجمالي كأسين فبجعله كأسين
لا
يخرج عن كونه طرفا بل كلاهما طرف واحد من أطرافه، وبناء على
القول بالانبساط يكون حال المتلاقيين حال ذينك الكأسين الذين
كانا كأسا واحدا (وأما بناء) على ما هو المختار من أن نجاسة الملاقى
مجعول مستقل وان كان منشأ هذا الجعل وملاك المجعول حدث
فيه بواسطة الملاقاة وتأثيره فيه فتكون نجاسة الملاقى مشكوكا
فتجري فيه قاعدة الطهارة.
(ان قلت) ان هنا علم إجمالي آخر وهو أنه يعلم إجمالا اما بنجاسة
الملاقي بالكسر أو بنجاسة طرف الملاقى بالفتح، وان شئت فقل يعلم
إجمالا اما بنجاسة المتلاقيين أو طرف الملاقى بالفتح فيجب
الاجتناب عن الجميع فهاهنا صورتان أخريان (قلت) ان حصل هذا
العلم
الاجمالي الاخر
271

بعد حصول العلم الاجمالي الأول فلا أثر له لانحلاله بالعلم الاجمالي
الأول وان حصل قبله فيجب الاجتناب عن الجميع الملاقى والملاقي
و
طرف الملاقى بالفتح إذا كان علمه إجمالا اما بنجاسة المتلاقيين أو
طرف الملاقى بالفتح ويجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر وطرف
الملاقى بالفتح دون نفس الملاقي إذا كان علمه بنجاسة الملاقي
بالكسر أو طرف الملاقى بالفتح قبل العلم بنجاسة الملاقى بالفتح أو
طرفه ثم علم بالملاقاة ونجاسة الملاقى أو طرفه، كل ذلك من جهة
انحلال العلم الاجمالي المتأخر بالعلم الاجمالي المتقدم، كما تقدم
في
ما بينا في وجه الانحلال الحكمي وانه لو تنجز أحد أطراف العلم
الاجمالي بمنجز شرعي - كالامارة أو أصل شرعي بكلا قسميه من
التنزيلي وغير التنزيلي أو أصل عقلي كأصالة الاحتياط في أطراف
العلم الاجمالي - فينحل العلم الاجمالي وتجري الأصول النافية في
الطرف الآخر بل يمكن (أن يقال) أنه لا فرق بين تأخر العلم بنجاسة
الملاقى بالفتح أو طرفه عن العلم بنجاسة الملاقي بالكسر أو طرف
الملاقى بالفتح وبين تقدمه عليه، فيكون موجبا لانحلال العلم
الاجمالي بنجاسة الملاقي بالكسر أو طرف الملاقى بالفتح ولو حصل
بعد
هذا العلم، وذلك من جهة أن معلومه سابق ولو كان نفس العلم متأخرا
(بيان ذلك) أن حكم نجاسة الملاقى متأخر عن موضوعه، و
موضوعه أي الملاقى للنجس متأخر عن نجاسة الملاقى بالفتح كما هو
واضح والمدار في الانحلال على سبق المعلوم ولو كان حدوث
العلم متأخرا، مثلا إذا علم يوم الجمعة بوقوع قطرة من الدم في أحد
الكأسين ثم علم يوم السبت إجمالا بنجاسة واحد من هذين الكأسين
أو كأس آخر غير هذين الكأسين من يوم الخميس فهذا العلم الاجمالي
المتأخر - يوجب انحلال العلم الاجمالي الأول (وفيما نحن فيه)
حيث أن المعلوم أي نجاسة الملاقى بالفتح دائما مقدم على نجاسة
الملاقي بالكسر لما ذكرنا من تأخر
272

عن نجاسة الملاقى بالفتح، فالعلم الاجمالي المتعلق بنجاسته أو طرفه
موجب لانحلال العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي بالكسر أو طرف
الملاقى بالفتح ولو كان متأخرا عنه (وأما صورة) الثانية أي العلم
الاجمالي إما بنجاسة المتلاقيين أو طرف الملاقى بالفتح فيجب
الاجتناب عن الجميع (ففيه) أن الشك في نجاسة الملاقى مسبب عن
الشك في الملاقى بالفتح فرتبة أصالة الطهارة في الملاقى مقدم على
أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر ففي الرتبة السابقة يتعارض أصل
الطهارة في الملاقى بالفتح مع أصل الطهارة في طرفه فيتساقطان
ويبقى أصل الطهارة في الملاقي بالكسر بلا معارض (فالقول) بأنه
يجب الاجتناب عن المتلاقيين مع طرف الملاقى كما في الصورة
الثانية (غير تام) ففي جميع الصور لا يجب الاجتناب عن ملاقى أحد
أطراف ما علم نجاسته إجمالا إذا كان سبب نجاسته منحصرا بذلك
الملاقاة.
وأشكل على ما ذكرنا من انحلال العلم الاجمالي المتقدم بالمتأخر إذا
كان معلوم العلم المتأخر سابقا على معلوم العلم المتقدم، بأن هذا لا
يستقيم الا بأحد أمرين (أما بأن نقول) بتنجز التكاليف الواقعية وان لم
تصل إلى المكلف ولم يكن منجز في البين حتى يكون المعلوم
السابق أي نجاسة الملاقى بالفتح في الفرض منجزا على تقدير وجوده
بدون منجز في البين ولا يمكن القول به (واما أن نقول) بأن العلم
الاجمالي ينجز التكليف السابق على وجوده من زمان وجود ذلك
التكليف قبل زمان وجود نفسه وهذا أيضا واضح البطلان ووجه
توقف انحلال العلم المتقدم بالعلم الاجمالي المتأخر على أحد
الوجهين المذكورين واضح.
ولكن يمكن (أن يقال) أن تنجز التكليف في كل آن بوجود العلم في
ذلك الان فبقاء التنجز وامتداده ببقاء العلم وامتداده وليس أن
يكون
273

التنجز ثابتا وباقيا إلى الأبد أي إلى امتثال التكليف أو سقوطه بوجه
آخر بصرف حدوث العلم من دون بقائه لان ذلك واضح البطلان،
إذ لو علم بنجاسة مائع مثلا يتنجز عليه حرمة شربه ما دام العلم
موجودا فإذا زال العلم وحصل الشك في نجاسته بنحو الشك الساري
في
زمان بعد الزمان الأول لا شك في أنه يكون مجرى البراءة ويتضح من
هذا أن تنجز التكليف بوجود العلم في ذلك الان فكأنه ينحل العلم
إلى علوم متعددة وينحل التكليف إلى تكاليف متعددة كل تكليف من
هذه التكاليف المتعددة في كل آن يتنجز بالعلم في ذلك الان غير
مربوط إلى العلوم السابقة في الانات السابقة (فإذا كان) الامر كذلك،
فالعلم الاجمالي السابق بنجاسة الملاقي بالكسر أو طرف الملاقى
بالفتح بعد حصول العلم الاجمالي اللاحق - أعني العلم بنجاسة
الملاقى بالفتح أو طرفه في الزمان المتأخر - لا يكون منجزا لمعلومه
أي
نجاسة المرددة بين الملاقي بالكسر وطرفه بوجوده السابق بل
بوجوده في ذلك الان (ومن المعلوم) أن وجوده في ذلك الان ليس
مقدما على العلم اللاحق بل هما متقارنان، فكل واحد منهما يرد على
تكليف غير منجز بالعلم السابق، لأن المفروض تقارنهما باعتبار
منجزيتهما في ذلك الان ولا تقدم ولا تأخر بينهما أصلا، ولكن حيث
أن المعلوم في العلم المفروض لا حقا سابق على المعلوم في العلم
المفروض سابقا (وذلك) لان نجاسة الملاقي بالكسر حاصلة من قبل
نجاسة الملاقى بالفتح لان موضوعها أي ملاقى النجس متأخر عنها
كما تقدم، فالعلم الاجمالي اللاحق ينجز النجاسة السابقة على
النجاسة التي تنجز في الملاقى بسبب العلم السابق سابقا (وقد
عرفت) أن
تنجزه سابقا بالعلم السابق لا يؤثر في تنجزه الان، بل لا بد من تنجزه
الان بالعلم الان، ولا يمكن ذلك لان تنجز النجاسة السابقة
المرددة بين الملاقى بالفتح وطرفه على هذه النجاسة المرددة بين
الملاقي بالكسر وطرف
274

الملاقى بالفتح لا يبقى مجالا لتنجز النجاسة المتأخرة ولو كان زمان
المنجزين أي العلمين واحدا، وذلك لتقدم معلوم أحدهما على
الاخر، (فلنفرض) لتوضيح المقام علمين تفصيليين في عرض واحد و
في زمان واحد تعلق أحدهما بنجاسة الملاقى والاخر بنجاسة
ملاقيه مع العلم بانحصار سبب نجاسة ملاقيه بالملاقاة، هل كل واحد
من العلمين منجز لمتعلقه أم العلم بنجاسة الملاقى بالفتح لا يبقى
مجالا لمنجزية العلم الاخر، لا يبعد الثاني.
ولكن الانصاف ان هذا البيان لا يثبت أزيد من أن كل واحد من العلمين
لا يوجب انحلال الاخر بل كل واحد منهما ينجز متعلقه (فالنتيجة)
في المفروض - أي فيما إذا كان العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى
بالفتح أو طرفه متأخرا عن العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي بالكسر أو
طرف الملاقى بالفتح - هو الاجتناب عن الجميع أعنى المتلاقيين و
طرفهما (فما أفاد) في الكفاية - من أنه يجب في هذه الصورة
الاجتناب عن الملاقي بالكسر وطرف الملاقى بالفتح دون نفس
الملاقى - ليس كما ينبغي (والحاصل) أن تقدم أحد الحكمين
المعلومين
بالعلمين على الاخر بحسب الرتبة أو الزمان لا يوجب تقدم أحد
التنجيزين على الاخر مع وحدة زمان المنجزين حتى يوجب تنجز
المقدم
انحلال العلم الاخر الذي سبب للتنجز المتأخر، وتطويل الكلام كان
لتوضيح المقام الذي هو محل اختلاف آراء المحققين والاعلام.
ولا يخفى أن ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من وجوب
الاجتناب عن الملاقي بالكسر وطرفه دون الملاقى بالفتح وإن كان
العلم
بنجاسته أو طرفه سابقا على العلم بنجاسة الملاقي بالكسر أو طرفه
(فيما إذا كان) الملاقى بالفتح خارجا عن محل الابتلاء حال حدوث
العلم ثم دخل فيه بعد العلم الثاني، ففي الحقيقة مرجع هذه الصورة
أيضا إلى صورة حدوث العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى بالفتح أو
طرفه بعد العلم بنجاسة الملاقي بالكسر أو
275

طرفه لان حدوثه حال خروجه عن محل الابتلاء لا أثر له ويكون
كالعدم فكأنه حدث بعد دخول الملاقى بالفتح في محل الابتلاء و
المفروض أن دخوله في محل الابتلاء بعد العلم الثاني أي العلم
بنجاسة الملاقى أو طرفه فيكون كصورة تأخره عن العلم بنجاسة
الملاقي
بالكسر أو طرفه، وقد عرفت ما فيها من الحكم مفصلا فلا نعيد هذا
بناء على أن بخروج بعض الأطراف في بعض الأزمنة عن محل
الابتلاء يسقط العلم الاجمالي عن المنجزية (وأما بناء) على ما ذهب
إليه أستاذنا المحقق (ره) من تنجيز العلم حتى في تلك الصورة إذا علم
بأنه يدخل فيما سيأتي في محل الابتلاء بأن يكون مفاد العلم
الاجمالي أنه اما أن يجب الاجتناب عن طرف الملاقى بالفتح الان أو
من
نفسه بعد دخوله في محل الابتلاء فيما يعلم أنه يدخل في محل
الابتلاء واصطلح على تسمية هذا بالعلم الاجمالي المؤرب فلا يبقى
وجه
لكلام صاحب الكفاية (قدس سره) أصلا (وأما الكلام) في صحة هذا
المبنى والبحث فيه سيأتي في الامر السادس عند البحث عن العلم
الاجمالي في التدريجات إن شاء الله.
تتميم
لا شك في لزوم ترتيب ما للمعلوم بالاجمال من الآثار والأحكام الشرعية
على نفس المعلوم بالاجمال لا بالنسبة إلى كل واحد من
الأطراف (فلو أحرز) ملاقاة شي لنفس المعلوم بالاجمال بعنوانه من
كونه نجسا، - وذلك اما بملاقاته لجميع الأطراف أو بقيام دليل من
علم أو علمي على إن الملاقى هو النجس الموجود في البين - فيحكم
بنجاسة ذلك الشئ (وأما لو لم يحرز) ملاقاته لنفس المعلوم
بالاجمال بل كان ملاقيا لبعض
276

الأطراف الذي يحتمل أن يكون هو النجس الموجود في البين فلا
يترتب عليه الآثار المترتبة على نفس المعلوم بالاجمال من نجاسة
ملاقيه (نعم) حيث أن المعلوم بالاجمال يتنجز بالعلم الاجمالي و
يجب موافقته القطعية كما يحرم مخالفته القطعية، فإذا كان المعلوم
بالاجمال محرما وكان يجب الاجتناب عنه فيجب الاجتناب عن كل
واحد من الأطراف من باب المقدمة العلمية أي حصول العلم
بالاجتناب
من الحرام المنجز بذلك العلم الاجمالي، كما أن المعلوم بالاجمال لو
كان واجبا يجب الاتيان بكل واحد من الأطراف عقلا تحصيلا للعلم
بالامتثال لما هو الواجب المنجز، وإلا فالاثر الشرعي الثابت للمعلوم
بالاجمال لا يثبت لكل واحد من الأطراف بل يرجع إلى الأصل
الجاري فيه إلا أن يسقط بالمعارضة (أو قلنا) بعدم جريان الأصل
النافي في أطرافه ولو لم يكن له معارض كما رجحناه (والحاصل) أن
وجوب الاجتناب عن كل واحد من الأطراف عقلي بخلاف نفس
المعلوم بالاجمال فان وجوب الاجتناب عنه شرعي فلو علم بغصبية
أحد
الدارين أو أحد الحيوانين أو أحد الشجرين أو أحد المختلفين مما هما
مالان فأما المغصوب المعلوم إجمالا في البين فوجوب الاجتناب عنه
شرعي فلو تصرف فيه بأكل أو شرب أو ركوب أو سكنى فيه أو بيعه أو
سائر التصرفات فعل حراما ويكون موجبا للفسق وأما
التصرف في بعض الأطراف فلا يجوز عقلا من باب المقدمة العلمية و
ليس بحرام شرعا فلا يكون في صورة عدم المصادفة للواقع
موجبا للفسق الا بناء على القول بحرمة التجري فهذا الحكم العقلي
بوجوب الاجتناب عن جميع الأطراف هل يوجب بطلان البيع لو وقع
على بعض الأطراف أم لا (لا إشكال) في أنه لو كان هناك أصل سببي
كأصالة عدم الملكية أو أصالة عدم السلطنة غير معارض بما في
الطرف الآخر يقدم على أصالة الصحة ويحكم بفساد المعاملة (أما لو
لم يكن)
277

مثل هذا الأصل في البين (اما) في مقام الثبوت فان صادف وقوع البيع
على ما هو المغصوب واقعا ففاسد وإلا فلا (واما) في مقام
الاثبات فبناء على القول بالاقتضاء لا مانع من جريان أصالة الصحة
لعدم معارضتها بها في الطرف الآخر لعدم وقوعها أي المعاملة على
سائر الأطراف كما هو المفروض (نعم بناء) على القول بالعلية التامة
لوجوب الموافقة القطعية كما رجحناه لا يبقى مجال لجريان أصالة
الصحة ولو في طرف واحد وبلا معارض فتصل النوبة إلى أصالة
الفساد فيحكم بالفساد ظاهرا.
هذا كله بالنسبة إلى نفس الأطراف وأما بالنسبة إلى منافع الأطراف
فيما إذا علم غصبية أحدها سواء كانت لها وجود استقلالي كالثمرة
بالنسبة إلى الشجرة أو الأولاد واللبن بالنسبة إلى الام وإلى ذي اللبن أو
لم يكن لها وجود استقلالي - كسكنى الدار أو ركوب الدابة أو
السفينة أو السيارة أو الطيارة أو أمثالها - فلا شك في وجوب الاجتناب
بحكم العقل عن جميعها من باب المقدمة العلمية للاجتناب عن
الحرام المعلوم في البين، فجميع التصرفات على أنحائها كما هو
ممنوع عن نفس الأطراف من باب المقدمة كذلك ممنوع عقلا عن
منافع
الأطراف متصلة كانت أم منفصلة كان لها وجود استقلالي في قبال
نفس الأطراف أو لم يكن كانت نفس العين موجودة أم لا كان باقي
الأطراف موجودة أم كانت تالفة أم كانت خارجة عن محل الابتلاء
(ففي جميع هذه) الصور يجب الاجتناب عن جميع منافع كل طرف
من
أطراف ما علم غصبيته وذلك من جهة أن معنى الاجتناب عن
المغصوب هو الاجتناب عنه وعدم التصرف فيه بجميع شؤونه و
أنحائه، ولا
شك في أن سكنى الدار وركوب السيارة وحمل الدابة هو المشمول
لوجوب الاجتناب عن هذه الاشياء (ولا يتوهم) خروج المنافع
المنفصلة التي لها وجود استقلالي كالثمرة المنفصلة عن الشجرة أو
اللبن المحلوب من الحيوان أو ما ولده وأمثال ذلك فلا يكون
مشمولا لوجوب الاجتناب
278

عن الأعيان التي هي منافعها لأنها موجودات وأموال مستقلة في
عرض تلك الأعيان وذلك (لان وجوب الاجتناب) عن هذه الاشيأ
من
مقتضيات نفس النهي عن تلك الأعيان، فإذا حكم العقل بلزوم
الاجتناب عن كل ما يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه من باب
المقدمة،
فقهرا تكون هذه الاشياء أيضا محكومة بوجوب الاجتناب عنها بعين
ذلك النهي لا بنهي مستقل آخر.
وأما مسألة إجراء الحد على من شرب أحد أطراف ما علم خمريته
إجمالا فعدمه من جهة أن موضوع الحد ليس هو شرب الخمر الواقعي
بل موضوعه ما ثبت خمريته عند الشارب بطريق معتبر من علم أو
علمي، ولذلك لو شرب جميع الأطراف مع الالتفات يحد (ولا فرق)
في لزوم الاجتناب عن المنافع متصلة أم منفصلة بين أن تكون العين
الأصلية التي هي طرف للعلم الاجمالي موجودة أم كانت تالفة أم
كانت خارجة عن محل الابتلاء لبعد مكانها مثلا وكذلك بالنسبة إلى ما
هو طرف لهذه العين الأصلية كل ذلك من جهة أن التكليف
المعلوم بالاجمال بعد ما تنجز وسقطت الأصول بالمعارضة بناء على
القول بالاقتضاء فلا تعود، وأما على القول بالعلية فلا يجري ولو
لم يكن له معارض كما تقدم.
لكن يرد عليه بناء على القول بالعلية أن وجود المنجز في زمان لا
يكفي للتنجز إلى الأبد بل في كل زمان يحتاج إلى وجود المنجز في
ذلك الزمان، ولا يمكن في المفروض إثبات ذلك إلا بالعلم الاجمالي
المورب كما في التدريجيات بأن يكون هذا الطرف يجب الاجتناب
عنه الان أو ذلك الاخر في الزمان المتأخر، بل وكذلك على القول
بالاقتضاء (وما يقال) من أن الأصول تسقط بالمعارضة قبل تلف
بعض الأطراف أو قبل خروجه عن محل الابتلاء فلا تعود بعد التلف أو
الخروج عن الابتلاء (كلام ظاهري)
279

لا أساس له، كل ما ذكرنا كان مبنيا على العلم بأن وجوب الاجتناب عن
الملاقى للنجس والحكم بنجاسته هل هو من جهة سراية النجاسة
من الملاقى بالفتح إليه أو من جهة حكم الشارع بنجاسته مستقلا من
دون سراية النجاسة من الملاقى بالفتح إليه (وأما) لو شك في ذلك
ولم يتعين أحد الوجهين (فالظاهر) وجوب الاجتناب عن الملاقى
لأحد الأطراف، وذلك من جهة أنه لا شك في وجود العلم الاجمالي
بنجاسة الملاقى لأحد الأطراف أو الطرف الآخر بل العلم الاجمالي
بنجاسة الملاقى وما لاقاه أو الطرف الآخر ومقتضى هذا العلم هو
وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف أعني الملاقى وما لاقاه و
الطرف الآخر (ولكن) لو كنا نعلم بأن وجه وجوب الاجتناب عن
الملاقى
بالكسر أن نجاسته مسببة عن نجاسة الملاقى بالفتح وفي طولها،
(فبناء) على القول بالاقتضاء يسقط أصل الطهارة في جانب السبب
بالمعارضة معه في الطرف الآخر ويبقى الأصل في جانب المسبب بلا
معارض فيحكم بطهارة الملاقي بالكسر (وبناء) على القول
بالعلية، حيث أن العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي بالكسر أو طرف
الملاقى بالفتح في طول العلم بين الملاقى بالفتح وطرفه (فلا يبقى)
مجال لان يكون منجزا لاطرافه لتنجز طرف الملاقى بالفتح في الرتبة
السابقة، والمنجز لا يتنجز ثانيا (وأما إذا شككنا) في وجه
نجاسة الملاقى وانها في طول نجاسة ما لاقاه أو في عرضة، فلا يمكن
الحكم بطهارة الملاقي لأحد الأطراف لا على القول بالاقتضاء ولا
على القول بالعلية، أما على الأول لعدم إحراز السببية حتى نقول
بسقوط الأصل في جانب السبب بالمعارضة وبقائه في جانب
المسبب
سليما، وأما على الثاني لعدم إحراز طولية العلمين فيكون العلم
الاجمالي بنجاسة الملاقي بالكسر أو طرف الملاقى بالفتح يؤثر أثره،
بل
في الحقيقة هاهنا علم إجمالي واحد أحد طرفيه الملاقى وما
280

لاقاه والطرف الآخر ذاك الاخر.
(الامر السادس)
في عدم الفرق في منجزية العلم الاجمالي بين أن تكون أطرافه دفعي
الوجود أو تدريجي الوجود، وسواء كان الزمان دخيلا في الملاك
في تدريجي الوجود كالحيض في أول الشهر أو في آخره في مستدام
الدم مثلا أو لم يكن كذلك كما في المعاملات الربوية التي تقع اما
في أول الشهر أو في آخره، بأن يعلم إجمالا أن أحد معاملاته في هذا
الشهر ربوي أما في أوله أو في آخره مثلا، وأما عدم دخل الزمان
المتأخر في الخطاب المتأخر فغير معقول بناء على ما هو المختار
عندنا من إنكار واجب المعلق، وعلى جميع التقادير يكون العلم
الاجمالي منجزا لجميع الأطراف (أما في ما لم يكن) الزمان المتأخر
دخيلا في الملاك فواضح، من جهة قطعه الان بوجود الملاك أما في
هذه المعاملة التي تقع في أول الشهر أو في آخره، ولو أنه لا علم له
بوجود النهي المتوجه إليه الان بناء على إنكار الواجب المعلق كما هو
المختار، ولكن يعلم الان بوجود ملاك النهي والمفسدة اللازمة الترك
في إحدى معاملاته في هذا اليوم أو في هذا الشهر التي تصدر منه
تدريجا مثلا وفي مثل هذا المقام يحكم العقل بلزوم الاجتناب عن
تلك المعاملة التي لها مفسدة لازمة الترك، سواء كانت منطبقة على
المعاملة التي تقع في أول الشهر أو فيما بعد مثلا، فيجب الاجتناب عن
جميع المحتملات (وأما ما يكون) للزمان دخل في الملاك -، فربما
يقال بجريان البراءة وأصالة الحل في جميع الأطراف (ولكن) هذا
القول - وإن كان بحسب الصناعة - لا يخلو من وجه، من جهة عدم
المعارضة بين الأصلين، لان في زمان جريان كل واحد منهما ليس
خطاب فعلي معلوم ولو إجمالا في البين في نفس ذلك الزمان، و
بعبارة أخرى في ظرف جريان الأصل في كل طرف يكون الطرف الآخر
خارجا عن محل الابتلاء (ولكن) حيث يعلم أن بإجراء الأصل
281

جميع الأطراف يفوت الملاك ويقع في المفسدة اللازمة الترك،
فالعقل يحكم يتنجز المعلوم بالاجمال ووجوب الاجتناب عن جميع
الأطراف (وبعبارة أخرى) لا فرق في نظر العقل وفي حكمه بلزوم
الاجتناب عن جميع الأطراف (بين) أن يعلم بأن وطئ إحدى زوجتيه
الان مبغوض للمولى للعلم إجمالا بأن إحداهما الان حائض (وبين)
أن يعلم إجمالا أن وطئ هذه الزوجة المعينة أما الان في أول الشهر
مبغوض مثلا أو في آخر الشهر مع أن الزمان المتأخر دخيل في خطاب
المتأخر وملاكه جميعا قطعا، وقياس المقام بالشبهة البدوية
التحريمية أو في سائر موارد جريان الأصل النافي - ثم بعد الارتكاب
ينكشف الخلاف - لا وجه له لان فيها لا حكم للعقل بوجوب
الاجتناب للجهل وعدم وجود منجز في البين (بخلاف المقام) فان
علم المكلف بفوت الملاك وغرض المولى ووجود مبغوضه قطعا أما
بهذا الفعل أو الفعل المتأخر يكفي في كونه بيانا ومنجزا كما التزموا
بذلك في مقدمات المفوتة.
(فما يظهر) من شيخنا الأعظم (ره) من عدم الفرق وإجراء أصل البراءة
في هذا القسم (ليس كما ينبغي) وبناء على ما أفاده (ره) من
جريان الأصل النافي في ما كان الخطاب والملاك مشروطا بالزمان -
فلا فرق بين إجراء الأصل في بعض الأطراف أعني المخالفة
الاحتمالية وبين إجرائه في الجميع أي المخالفة القطعية، لان المناط
في كليهما واحد، فإذا علم إجمالا بأن إحدى معاملاته التي تصدر في
هذا الشهر ربوية تجري أصالة الحل في الجميع بناء على عدم منجزية
العلم الاجمالي كما هو قول الشيخ وكذلك تجري البراءة عن
المحرمات على الحائض أو ما هو محرم على الزوج في حال الحيض
في جميع أطراف العلم أيضا بناء على عدم منجزيته كما يقول به
الشيخ (كل ذلك) بالنسبة إلى الحكم التكليفي، وأما بالنسبة إلى
الحكم الوضعي
282

وصحة هذه المعاملات التي من أطراف المعلوم بالاجمال وافادتها
للنقل والانتقال فتجري فيها أصالة الفساد التي هي الأصل في أبواب
المعاملات أي أصالة عدم النقل والانتقال في المعاوضات وأصالة
عدم وقوع الأثر في سائر العقود ولا ملازمة بين الحلية الظاهرية و
النقل والانتقال، ولذا تكون المعاملة الربوية مثلا حلالا للجاهل
بالموضوع مع عدم وقوع النقل والانتقال فيها شرعا فلا مانع من
الحكم
بالحلية الظاهرية لمكان أصالة الحل والحكم بالفساد لمكان أصالة
الفساد (وأما أصالة) الصحة الحاكمة على أصالة الفساد (فقد أفاد)
شيخنا الأستاذ (ره) في وجه عدم جريانها في المقام أن جريان أصالة
الصحة منوط بوقوع المعاملة خارجا فلا تجري قبل وقوعها كما
في المقام (وهو لا يخلو) من غرابة لان كل معاملة بعد ما أوقعها
فيشك في لزوم ترتيب الأثر عليها ومقتضى أصالة عدم النقل و
الانتقال
عدم ترتيب الأثر عليها، ولكن مقتضى أصالة الصحة التي هي حاكمة
على أصالة عدم النقل والانتقال لزوم ترتيب الأثر عليها، ولكن في
جريان كلا الأصلين إشكال للعلم بمخالفة بعضها للواقع المعلوم
إجمالا فيكون بناء على هذا المسلك - أي مسلك عدم تنجيز العلم
الاجمالي في التدريجيات فيما إذا كان الزمان دخيلا في الملاك لو قلنا
بأن المعاملة الربوية من هذا القبيل وإن كان هذا القول غير
صحيح. أو قلنا بأن العلم الاجمالي غير منجز في التدريجيات مطلقا و
إن لم يكن للزمان دخل في الملاك كما في المعاملة الربوية التي
يعلم بوقوعها أما في أول الشهر أو في آخره مثلا بناء على ما هو
الصحيح - جميع المعاملات الواقعة في تمام الشهر حلالا وصحيحا و
يجب ترتيب الأثر على جميعها نعم التمسك بعمومات أدلة الصحة و
إطلاقاتها اللفظية مثل أحل الله البيع يكون من التمسك بعموم العام
في الشبهة المصداقية للمخصص وقد حققنا في محله عدم جواز
ذلك.
283

هذا بناء على هذا القول أي القول بعدم منجزية العلم الاجمالي في
الأمور التي توجد تدريجا وفي الأزمنة المختلفة مطلقا أو في خصوص
ما لم يكن الزمان دخيلا في الملاك أما دخله في الخطاب فمما لا بد
منه بالنسبة إلى التكليف المتأخر زمانا (وأما بناء) على ما هو الحق و
المختار عندنا من منجزيته فيها مطلقا فلا تجري في أطرافه الأصول
المرخصة النافية للتكليف مطلقا.
(الامر السابع) في الشبهة غير المحصورة
واختلفت الاراء والأقوال في تعيين الضابط لها وتحديدها فهناك
أقوال (الأول) ما كان غير محصور عند العرف من حيث عدد
الأطراف كالواحد في الألف مثلا (الثاني) أن تكون كثرة الأطراف بحد
يعسر عدها في زمان قليل أو مطلقا (الثالث) ما ذهب إليه شيخنا
الأستاذ (قدس سره) من أن الضابط فيها اجتماع أمرين (أحدهما) عدم
إمكان الجمع بين أطرافها عادة في مقام ارتكاب الأطراف
(ثانيهما) أن يكون عدم إمكان الجمع من جهة كثرة أطرافها وبهذا
الأخير يختلف مع ما خرج بعض الأطراف عن محل الابتلاء لبعد
المكان أو لجهة أخرى غير كثرة العدد (الرابع) ما ذهب إليه الشيخ
الأعظم الأنصاري (قدس سره) وهو أن يبلغ كثرة العدد إلى حد لا
يعتني العقلا إلى ذلك العلم الاجمالي الحاصل فيما بينها ولا يرونه
علما، مثلا لو علم أن في مجموع البشر الموجود في العالم إنسان ذو
رأسين فلا يرى العقلا مثل هذا علما يكون موجبا لتنجيز المعلوم كي
يحكم العقل بوجوب الاجتناب عن جميع الأطراف في الشبهة
التحريمية ووجوب الاتيان في الشبهة الوجوبية (الخامس) ما ذهب
إليه صاحب الكفاية (قدس سره) وهو أنه عدم الحصر وكثرة
الأطراف ربما يوجب عسر الموافقة القطعية فيرتفع الحكم بواسطة
العسر والحرج، وإلا لا فرق في تنجيز العلم إذا كان المعلوم فعليا من
جميع الجهات بين أن يكون الأطراف قليلة أو كثيرة، ففي كل
284

مورد كان في الأطراف أو في بعضها ما يمنع عن فعلية التكليف فلا
يكون العلم منجزا قلت الأطراف أو كثرت، وإلا إذا كان المعلوم
فعليا من جميع الجهات فلا فرق في مقام المنجزية بين العلم
الاجمالي والتفصيلي.
(السادس) ما ذهب إليه أستاذنا المحقق (ره) من أن المناط في كون
الشبهة غير محصورة هو أن تكون كثرة الأطراف بحد يوجب ضعف
الاحتمال في كل واحد من الأطراف بحيث يكون موهوما بدرجة لا
يعتني العقلا بذلك الاحتمال الضعيف الموهوم بل ربما يحصل له
الاطمئنان بالعدم (السابع) ما ذهب إليه الفقيه الهمداني (قدس سره)
في حاشيته على الرسائل وهو أن المراد من الشبهة غير المحصورة
في المقام هو أن تكون أطراف المعلوم بالاجمال التي يحتمل انطباق
المعلوم بالاجمال عليها غير معلومة بالتفصيل بحيث لا يحتمل
وجود فرد آخر يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه، لأنه إن كان
كذلك فيكون محصورة مضبوطة محدودة بتلك الافراد المعلومة
المعينة سواء قلت تلك الافراد أو كثرت، ففي كلا القسمين تكون
محصورة (غاية الامر) إذا كانت الافراد كثيرة فيكون في الغالب بعض
الافراد خارجا عن محل الابتلاء فلا يكون العلم الاجمالي غير منجز
للمعلوم بالاجمال ولكن لا بمناط كون الشبهة غير محصورة بل
بمناط خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، لان الشبهة بناء على
ما ذكرنا في ضابطها محصورة محدودة مضبوطة لا يحتمل وجود
فرد آخر يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه، فالمناط كل المناط
في كون الشبهة غير محصورة هو أن تكون الأطراف المعلومة
بالاجمال تحت عنوان إجمالي ككون الغنم الموطؤ في هذا القطع
مثلا من دون أن تكون الأطراف معلومة بالتفصيل مضبوطة بحيث لا
يحتمل أن يكون هناك فرد آخر يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه
ففي الشبهة غير المحصورة لا بد وأن يحتمل وجود فرد أو أفراد
أخر يمكن أن يكون المعلوم
285

بالاجمال ينطبق عليها، مثلا إذا علم إجمالا بنجاسة لبن أحد الدكاكين
التي في البلد أو غصبية أحد أجناس الموجودة في البلد أو غير ذلك
من محرمات الاكل أو الشرب أو مطلق التصرف وعلم بالمشتبهات
كلها بحيث يعلم انحصار المشتبهات في تلك الافراد المعينة المعلومة
ولا يحتمل وجود فرد آخر في البلد يمكن أن ينطبق المعلوم بالاجمال
عليه فهذا هو المحصورة ولو كان أفرادها كثيرة وأما لو يعلم
بعدة من أطراف الشبهة ولكن يحتمل أن يكون هناك فرد آخر في البلد
من هذا الجنس المعلوم إجمالا بحيث يمكن انطباق المعلوم
بالاجمال عليه فهذه الشبهة غير محصورة ولو كانت أفرادها وأطرافها
قليلة لأنها بناء على هذا الاحتمال غير محصورة فيما يعلم من
المشتبهات وعلى هذا الوجه يكون إطلاق غير المحصورة عليها
إطلاقا حقيقيا لغويا وعرفيا لا اصطلاحيا، فحينئذ إجراء الأصل النافي
فيما أحاط بها من الأطراف بلا معارض لان غيره أي غير ما أحاط بها
من الافراد التي يمكن انطباق المعلوم بالاجمال عليها غير معلوم و
لا يجري الأصل في غير المعلوم الفردية وباقي الوجوه التي ذكروها
في مختلف الكتب إن كان هناك وجوه أخر يرجع إلى ما ذكرنا و
الاختلاف في التعبير (نعم) ذكر وجهان آخران (أحدهما) الاجماع (و
الثاني) الاخبار أما الاجماع فممنوع وجوده أولا وثانيا على فرض
وجوده لا اعتبار به مع وجود هذه المدارك المختلفة وأما الاخبار
فنتكلم فيه.
فنقول أما (الوجه الأول) فيرده أن لفظ الشبهة غير المحصورة لم يجعل
موضوعا لحكم شرعي كي نرجع في مفهومه إلى العرف بل
الحكم بمنجزية العلم الاجمالي لمعلومه وأيضا لزوم الاجتناب عن
جميع أطرافه في الشبهة التحريمية كلاهما حكمان عقليان ليسا
مربوطين بعنوان غير المحصورة وأما (الوجه الثاني) فضابط جزاقي،
إلا أن يكون المراد منه ملازمة
286

عدم إمكان العد أو عسرة مطلقا أو في زمان قليل مع أحد الوجوه
المذكورة وأما (الوجه الثالث) الذي ذكره شيخنا الأستاذ (ره) فحاصل
ما أفاد في وجه عدم منجزية العلم الاجمالي - بناء على ما ذكره من
الضابط - أن عدم حرمة المخالفة القطعية لعدم إمكانه عادة على
الفرض في الشبهة التحريمية وعدم وجوب الموافقة القطعية لأنها فرع
حرمة المخالفة القطعية حتى تسقط الأصول بالمعارضة لاستلزام
إجراء الجميع مخالفة القطعية وهي لا تجوز وإجراء البعض ترجيح بلا
مرجح (وأما) لو لم تكن المخالفة القطعية حراما كما هو
المفروض في المقام (فلا مانع) من إجراء الأصول النافية في جميع
الأطراف.
وفيه (أولا) أن هذا البيان متوقف على القول بالاقتضاء كما هو مسلكه
(ره) وقد أثبتنا فيما تقدم علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة
القطعية كعليته لحرمة المخالفة القطعية، فسقوط الأصول النافية في
أطرافه ليس للمعارضة بل لحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية (و
ثانيا) إجراء الأصول النافية في جميع الأطراف مع العلم بكذب أحدها
مما لا يجوز وهو أيضا لا يجوزه خصوصا إذا كان من الأصول
التنزيلية فلا يجوزه حتى مع عدم مخالفة العملية فضلا عما يستلزمها
كما في المقام (وثالثا) أن عدم حرمة المخالفة القطعية التي يدعيها
في المقام هو فيما إذا لم يتمكن منها عقلا لا فيما إذا لم يتمكن عادة و
أما (الوجه الرابع) الذي ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره)
فان كان مراده عدم حجية العلم عند العقلا إذا كانت الشبهة غير
محصورة (فالجواب) أن حجيته بالنسبة إلى معلومه ذاتية ليست قابلة
لتصرف العقلا كما تقدم في مبحث حجية القطع في أول هذا الكتاب
(وإن كان) مراده أن الأطراف إذا كثرت فبالنسبة إلى كل واحد من
الأطراف يكون الاحتمال ضعيفا وموهوما بحيث أن العقلا لا يعتنون
به ويرونه في حكم العدم، كما أنه في مضار الدنيوية لا يعتنون
287

بأطراف ما علم إجمالا ضرره، كما إذا علموا بأن أحد أطعمة السوق
مثلا مسموم على كثرة أنواعها وأفراد كل نوع منها فلا يتوقفون في
ارتكاب أطراف ذلك المعلوم بالاجمال (ففيه) أولا أن قياس ضرر
الأخروي بضرر الدنيوي في غير محله وتقدم في شرح قاعدة دفع
الضرر الدنيوي أن مقطوعه تفصيلا قد يرتكبه العقلا لدواعي و
أغراض فضلا عن المحتمل والمشكوك كما في أطراف العلم
الاجمالي،
بخلاف الضرر الأخروي فالعقل يحكم بلزوم سد باب احتماله و
تحصيل المؤمن (وثانيا) أن يكون التكليف موهوما في جميع
الأطراف
لا يجتمع مع العلم بوجوده بينهما، نعم يمكن أن يكون في بعض
الأطراف موهوما ومظنونا في البعض الاخر ومثل ذلك يمكن حصوله
في الشبهة المحصورة أيضا (وثالثا) أن ضعف الاحتمال والموهومية
له مراتب، وكل ما كانت الأطراف أكثر فالاحتمال في كل طرف
من الأطراف أضعف والموهومية أشد بناء على ما ذكره من كون كثرة
الأطراف موجبة لضعف الاحتمال وكلما كانت أقل فالاحتمال
أقوى، وليس هناك ما يكون معينا لمقدار الضعف الذي يكون موجبا
لسقوط العلم الاجمالي عن التنجيز وأما (الوجه الخامس) الذي أفاده
صاحب الكفاية (ره) ففي الحقيقة إنكار لعدم تنجيز العلم الاجمالي
لمتعلقه في الشبهة غير المحصورة بل صريح كلامه - في الكفاية - أنه
لا فرق في تنجيز العلم الاجمالي إذا كان المعلوم تكليفا فعليا من
جميع الجهات بين المحصورة وغير المحصورة، فإذا كان هناك ما
يرفع التكليف الواقعي - كالعسر والحرج والاكراه والاضطرار إلى
ارتكاب الأطراف - فلا يؤثر في التنجيز وفي هذا المعنى لا فرق
بين المحصورة وغير المحصورة، (نعم) في غير المحصورة غالبا
يكون التكليف موجبا للعسر والحرج، ولعل هذا هو السر في
تخصيصهم غير المحصورة بالذكر، وما ذكره كلام تام بناء على القول
بالعلية لا على
288

القول بالاقتضاء (لكنه) خلاف ظاهر كلام الأصحاب فان ظاهر كلام
الأصحاب ودعواهم الاجماع عليه أن كثرة الأطراف التي نسميه من
هذه الجهة بغير المحصورة صارت سببا لسقوط العلم الاجمالي عن
التأثير لا ارتفاع المعلوم بواسطة طرو بعض العناوين كالحرج و
الاكراه أو خروج البعض عن محل الابتلاء ونحو ذلك وأما (الوجه
السادس) الذي ذكره أستاذنا المحقق (ره) من أن كثرة الأطراف
توجب ضعف الاحتمال بحيث يطمئن الانسان بعدم التكليف المعلوم
بالاجمال في هذا الطرف وهكذا في كل طرف أراد أن يرتكبه و
العقلا لا يعتنون بمثل ذلك الاحتمال الضعيف ويلغونه (ففيه) أكثر ما
أوردناه على ما ذكره الشيخ الأنصاري (ره) بل هما تقريبا وجه
واحد وإن كان بيانه وتقريره بشكلين حيث أن الشيخ يقول أن العقلا
يلغون العلم ويرونه كلا علم من جهة ضعف الاحتمال الناشئ من
كثرة الأطراف في كل طرف من الأطراف واطمئنانهم بالعدم في كل
واحد منها وأستاذنا المحقق يقول بإلغاء احتمال وجود التكليف
في كل طرف عند العقلا لضعف الاحتمال والاطمئنان بعدمه فيه و
مرجع كلا البيانين عند التدقيق إلى أمر واحد وهو بناء العقلا على
إلغاء احتمال وجود التكليف في كل طرف من الأطراف، فيكون هذا
البناء منهم حجة وطريقا وأمارة على عدم وجود التكليف.
ولكن أنت خبير بأنه على فرض تسليم ثبوت مثل هذا البناء والامضاء
من قبل الشارع لا بد وأن يكون مثل هذا البناء في كل واحد من
الأطراف ومعناه قيام الامارة على نفي التكليف في جميع الأطراف مع
العلم بوجوده بينها، ولا شك في تعارض الامارات النافية في
جميع الأطراف للعلم بكذب أحدها بل التعارض في باب الامارات
أشد من التعارض في باب الأصول النافية كما أن التعارض في باب
الأصول التنزيلية أشد من الأصول غير
289

التنزيلية والسر واضح وأما (الوجه السابع) الذي ذكره الفقيه الهمداني
(ره) (ففيه) أن هذا الوجه في غاية المتانة والجودة، بناء على
القول بالاقتضاء وان سقوط الأصول المرخصة في أطرافه من جهة
التعارض، (ولكن) قد عرفت فيما تقدم أن عدم جريان الأصول ليس
للمعارضة بل لأجل علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية و
لذلك لا تجري ولو لم يكن معارض في البين إلا بعد جعل البدل، وقد
تقدم شرحه.
وأما الأخبار الواردة في هذا المقام فهي كثيرة ولكن أظهرها دلالة على
عدم تنجيز العلم الاجمالي هي رواية أبي الجارود التي رواها
البرقي في في محاسنه عن أبيه عن محمد بن سنان عن أبي الجارود،
قال سئلت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقلت له أخبرني من رأي
أنه يجعل فيه الميتة فقال عليه السلام (أمن أجل مكان واحد يجعل
فيه الميتة حرم جميع ما في الأرضين. إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله وإن
لم
تعلم فاشتر وبع وكل.
والله اني لاعترض السوق فاشتري اللحم والسمن والجبن. والله ما
أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان) وتقريب الاستدلال
بهذه الرواية الشريفة أن السائل لما أخبر بجعل الميتة في الجبن حصل
له العلم الاجمالي بأن في بعض الجبن ميتة والشبهة غير محصورة
فسأل عن حكمها عن الإمام عليه السلام فأجابه بأنه إذا علمت تفصيلا
بأن هذا الجبن الخاص ميتة فلا تأكله وإلا فان لم تعلم تفصيلا فلا
بأس فيه.
ولكن أنت خبير بأنه على فرض تسليم أن السائل حصل له العلم
بوضع الميتة في الجبن في مكان بواسطة إخبار ذلك المخبر عن
جعلها
فيه، فمن المحتمل أن تكون أطراف علمه الاجمالي محصورة في
ذلك المكان ولا يكون سائر الأمكنة من أطراف العلم فكان الإمام عليه السلام
ردع عن الملازمة بين وجوب الاجتناب في مكان لأجل العلم
الاجمالي وبين وجوبه
290

سائر الأمكنة مما تكون الشبهة فيها بدوية (والشاهد) على ذلك قوله
عليه السلام (والله اني لاعترض إلخ) استشهادا لعدم وجوب
الاحتياط، إذ لا شك في أن أمارية السوق لحلية اللحم وغيره في مورد
الشبهة لا العلم ولو إجمالا (اللهم) إلا أن يقال أن قوله عليه السلام
(ما أظن كلهم إلخ) مقرونا بالحلف وهذا التشديد في مورد علمه عليه
السلام بعدم تسمية بعضهم فيكون من الشبهة غير المحصورة و
الإمام عليه السلام حكم بعدم وجوب الاحتياط وهو عليه السلام
أخبر عن عدم احتياطه، ويؤيده أن كون السائل بصدد فهم الملازمة
بين
الاحتياط في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي وبين الاحتياط في
الشبهة البدوية بعيد جدا، لان عدم الملازمة واضح (فالرواية) بناء
على
هذا ظاهرة فيما ذهب إليه المشهور - بل ادعى عليه الاجماع - من
عدم وجوب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي إذا كانت الشبهة غير
محصورة.
فظهر من جميع ما ذكرناه (أنه بناء) على القول بالاقتضاء ما ذكره الفقيه
الهمداني (قدس سره) من الضابط - ووجه عدم وجوب
الاحتياط في الشبهة غير المحصورة - هو الصحيح (وأما بناء) على
القول بالعلية فمقتضى القاعدة عدم الفرق بين المحصورة وغير
المحصورة في وجوب الاحتياط ولزومه فما ذهب إليه المشهور من
عدم وجوب الاحتياط في غير المحصورة فلعله (اما) من جهة أنهم
قائلون بالاقتضاء لا بالعلية كما هو المشهور أيضا (وإما) من جهة
الاستناد إلى الروايات الواردة في الباب.
تتمة في أمور:
(الأول)
في أنه على تقدير عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة
هل يختص بالشبهة التحريمية أو كذلك الامر في الشبهة الوجوبية
الظاهر هو الفرق بينهما وعدم الترخيص في ترك جميع الأطراف
بحيث يلزم
291

منه مخالفة القطعية، وأما الموافقة القطعية (فان قلنا) بعدم إمكانها
عادة بناء على ما ذكره شيخنا الأستاذ (ره) في ضابط الشبهة غير
المحصورة فلا تجب قطعا لعدم التمكن منها عادة (ولكن بناء) على ما
قلنا من كون العلم الاجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية
كحرمة مخالفتها فيجب أيضا إلا أن يطراء ما يرتفع به التكليف من
الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف أو الاكراه إليه أو كان الاتيان
بالجميع حرجيا وأمثال ذلك، إلا أن يقوم الاجماع على عدم وجوب
الاحتياط فيها أيضا (وأما) دلالة الروايات الواردة في الباب على
عدم وجوب الاحتياط فيها فمشكل جدا.
(الثاني)
أن المعلوم بالاجمال إذا كان أفراد كثيرة مشتبهة في أفراد كثيرة أيضا،
كما إذا علم بعدم وقوع التذكية على مائة غنم مثلا مشتبهة في
ألف (فبناء) على عدم وجوب الاحتياط في غير المحصورة بالضابط
الذي ذكره شيخنا الأستاذ (ره) يقتضي أن لا يكون الاحتياط فيها
واجبا لما ذكره من الضابط أي عدم التمكن من الجمع بين المحتملات
في مقام الارتكاب (ولكن) ظاهر الأصحاب خلاف ذلك وعدها من
الشبهة المحصورة ويسمونها بالكثير في الكثير ففي المثال المتقدم
يرونه كالواحد في عشرة، ويمكن أن يعد هذا أحد الاشكالات على
ضابط شيخنا الأستاذ (قدس سره) فان في بعض صور المسألة لا
يمكن الالتزام به ولا هو يلتزم به قطعا.
(الثالث)
إذا شك في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة فهل مقتضى
القاعدة هو وجوب الاحتياط أم لا (أما بناء) على مسلك شيخنا
الأستاذ
(ره) - من أن جهة عدم وجوب الاحتياط عدم القدرة العادية على
الجمع بين الأطراف - فيرجع هذا الشك إلى الشك في القدرة العادية
و
قد تقدم عدم جواز إجراء البراءة بل يجب الاحتياط في مورد الشك
في
292

القدرة العقلية فضلا عن العادية (وأما بناء) على مسلك شيخنا الأعظم
الأنصاري فيرجع إلى الشك في بيانية العلم الاجمالي ومنجزيته و
في مثله المرجع البراءة (وأما بناء) على مسلك أستاذنا المحقق
فيرجع إلى الشك في جعل البدل وفي مثله المرجع هو الاحتياط (و
أما
بناء) على ما ذكرنا من تنجيز العلم الاجمالي مطلقا إلا أن يقوم إجماع
أو دليل تعبدي آخر كالروايات كما استظهرنا من بعضها في
المقام بالنسبة إلى غير المحصورة فالتمسك بالعلم الاجمالي لوجوب
الاحتياط يكون من قبيل التمسك بعموم العام في الشبهات
المصداقية وقد حققنا في مباحث العام والخاص عدم جواز التمسك
به في المخصص اللفظي دون اللبي كالاجماع فحينئذ هل المرجع هي
البراءة أم لا (يمكن أن يقال) أن وجود الدليل التعبدي من الاجماع أو
الرواية على عدم وجوب الاحتياط مرجعه إلى جعل بعض الأطراف
لا بعينه بدلا عن الواقع لما ذكرنا من كون العلم الاجمالي علة تامة
لتنجيز متعلقه ولا يجري الأصل النافي ولو في بعض إلا بعد جعل
البدل ومرجع هذا الشك إلى الشك في جعل البدل ومع الشك فيه لا
مجال للبرأة بل المرجع مراعاة العلم الاجمالي ووجوب الاحتياط (و
مما ذكرنا) ظهر أيضا أن قيام الدليل التعبدي على عدم وجوب
الاحتياط في شبهة غير المحصورة ليس مفاده جواز ارتكاب الجميع
في
التحريمية وترك الجميع في شبهة الوجوبية بل لا بد من إبقاء مقدار
المعلوم بالاجمال فعلا وتركا في الطرفين في الشبهتين وأيضا
(علم مما ذكرنا) أن معنى عدم تنجيز العلم الاجمالي في شبهة غير
المحصورة بناء على المختار ليس هو إلغاء حكم الشك واعتبار
وجوده كعدمه حتى لا يشمله الاحكام المجعولة للشك بل معناه أن
الطرف الآخر لا بعينه جعل بدلا على المعلوم بالاجمال فعلا في
الوجوبية وتركا في التحريمية (هذا كله) في الشبهة الموضوعية
التحريمية بين المتباينين (وكذلك) الامر في الشبهة الحكمية
التحريمية
293

بين المتباينين سواء كان منشاء الشبهة فقد النص أو إجماله بعين ما
ذكرنا في الشبهة الموضوعية وأما لو كان منشأ الشبهة تعارض
النصين فسيجي التفصيل فيه في مبحث التعارض.
المبحث الثاني في الشبهة الوجوبية
وهي (تارة) تكون دائرة بين المتباينين (وأخرى) بين الأقل والأكثر.
(أما الأول)
كما إذا تردد الواجب بين الظهر وبين الجمعة أو بين القصر والاتمام
في الشبهة الحكمية سواء كان منشأ الشبهة فقد النص أو إجماله بل
وإن كان منشأها تعارض النصين لو قلنا بالتساقط في باب الاخبار لا
التخيير كما في مورد تعارض العامين من وجه أو كان من قبيل
تعارض الاجماعين بناء على حجية الاجماع المنقول أو كانت الشبهة
موضوعية كما لو تردد بين أن يكون مديونا لزيد أو لعمرو بكذا
مقدار ففي جميع ذلك يجب الموافقة القطعية كما يحرم المخالفة
القطعية ولا تفكيك بينهما بل يكون العلم الاجمالي علة تامة في
كليهما و
لا تجري الأصول النافية أي المرخصة على خلاف ما يقتضي العلم
الاجمالي من لزوم الاحتياط في أطرافها ولو لم يكن لها معارض (كل
ذلك) لما ذكرنا في الشبهة التحريمية من أن العلم الاجمالي كالعلم
التفصيلي لا قصور في بيانيته وكاشفيته لمتعلقه بل بالنسبة إلى
متعلقه أي معلومه لا إجمال فيه بل تفصيلي، وإنما الاجمال في تطبيق
متعلقه على مصاديقه (فلا محالة) يتنجز المتعلق به، لان حكم العقل
بالتنجز في مورد وصول التكليف قطعي ولا شك في أن المعلوم
بالاجمال واصل إلى المكلف في جميع موارد الشك في المكلف به
مع
العلم بجنس التكليف سواء كانت الشبهة وجوبية أو تحريمية حكمية
أو موضوعية ومنشأ الشك في الحكمية كان فقد النص أو إجماله أو
تعارض النصين على التفصيل المتقدم (وأما الفرق) بين أن يكون
المتعلق حكما فعليا من جميع الجهات وبين
294

ما لم تكن كذلك، فمما لا أساس له، وذلك لما ذكرنا في الواجب
المشروط من أن جميع الأحكام مجعولة على نحو القضايا الحقيقية و
فعليتها بوجود موضوعاتها في الخارج، فإذا علم إجمالا بوجوب
القصر أو الاتمام على من سافر أربع فراسخ وبقي هناك ليلة أو أكثر
أقل من عشرة أيام ورجع إلى مقره، فلا وجه لان لا يكون هذا الحكم
فعليا لان الحكم مجعول وموضوعه بقيوده موجود فجميع الاحكام
فعلية ولا يجوز إجراء الأصول النافية في أطراف العلم الاجمالي
مطلقا ولو لم يكن لها معارض ولا يقاس بالشبهات البدوية لأنها لا
تنجز لها، فباب الجعل الظاهري هناك مفتوح بكلا مصراعيه، بخلافه
هنا فان المحتمل هاهنا قد تنجز بالعلم الاجمالي فلا مجال للجعل
الظاهري على خلافه لا في جميع الأطراف كما يعترف الخصم به و
هي التي نسميها بالمخالفة القطعية، ولا في بعض الأطراف وهي التي
نسميها بالموافقة القطعية، ولا فرق بينهما في علية العلم الاجمالي
لهما أي لحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية (نعم)
بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية يوجب القطع بالتناقض في حكم
العقل والترخيص في عدم الموافقة القطعية يوجب في نظر العقل -
مع حكمه بوجوب الموافقة القطعية من باب المقدمة العلمية -
احتمال التناقض وهو أيضا محال، فعدم جريان الأصول ليس
لسقوطها
بواسطة التعارض بل لا تجري ولو لم يكن لها معارض إلا بجعل
الطرف الآخر بدلا عن التكليف المعلوم أو انحلال العلم الاجمالي
بالعلم
التفصيلي أو الاجمالي أو بأمارة أو أصل تنزيلي أو غير تنزيلي شرعي
أو عقلي كما تقدم تفصيل ذلك كله في مبحث الانحلال.
ثم أنه لو أتى بأحد المحتملين في الشبهة الوجوبية فيجب الاتيان
بالمحتمل الاخر لما ذكرنا من وجوب الموافقة القطعية (وقد) يتمسك
لوجوب إتيانه بالاستصحاب حكما وذلك باستصحاب بقاء الحكم
المعلوم في البين أو
295

موضوعا وذلك باستصحاب عدم إتيان الواجب المعلوم في البين.
أما الأول أي استصحاب الحكم (ففيه) أن أركان الاستصحاب - من
اليقين السابق أي اليقين بالوجوب الكلي المشترك بين وجوب صلاة
الظهر وصلاة الجمعة مثلا والشك اللاحق أي الشك في بقاء ذلك
الوجوب الكلي - وإن كانت تامة إلا أنه لا أثر شرعي لهذا
الاستصحاب،
إذ وجوب محتمل الباقي الذي هو المقصود من هذا الاستصحاب من
اللوازم العقلية لبقاء الوجوب الكلي المشترك بين وجوب المحتملين،
لان الكلي إذا كان له فردان فقط وفرضنا انعدام أحد فرديه فبقاء الفرد
الاخر من اللوازم العقلية لبقاء ذلك الكلي (وأما) إن كان المراد
من استصحاب الكلي ترتيب آثار بقاء نفس الكلي المشترك لا إثبات
وجوب المحتمل الباقي بأن يأتي بكلا المحتملين، فهذا بالنسبة إلى
المحتمل الذي أنى به يكون من قبيل تحصيل الحاصل وهو محال (و
إن أريد) من الاستصحاب بقاء الاشتغال فهذا من الآثار الوجدانية
لنفس الشك في الامتثال فتحصيله تعبدا بالاستصحاب يكون من أردإ
أقسام تحصيل الحاصل، لأنه عبارة عن تحصيل ما هو حاصل
بالوجدان بالتعبد، (ولا يقاس) باستصحاب بقاء الوجوب الشخصي
لشي إذا شك في إتيانه وامتثاله كما إذا شك في أنه أتى بصلاة
الظهر مثلا أم لا (وذلك) من جهة أنه ليس المراد من استصحاب بقاء
ذلك الوجوب الشخصي اشتغال ذمته بإتيانه لان هذا أثر نفس الشك
في الامتثال بحكم العقل فهو في ظرف الشك في الامتثال ثابت
وجدانا ولا يبقى مجال للتعبد به بل أثر الاستصحاب إثبات وجوب
ذلك
الشئ الذي شك في أنه أنى به وهذا المعنى لا يمكن إثباته بقاعدة
الاشتغال لان قاعدة الاشتغال لا يثبت أزيد من لزوم الامتثال في
المورد الذي شك فيه بعد العلم بحدوث التكليف (وإن أريد) من
الاستصحاب بقاء شخص الوجوب المردد بين ما هو
296

مقطوع الارتفاع أو ما هو مقطوع البقاء، فهذا هو استصحاب بقاء الفرد
المردد ولا يجري لعدم تمامية أركان الاستصحاب فيه، إذ
أركان الاستصحاب عبارة عن يقين السابق بحكم أو موضوع ذي حكم
والشك في بقاء ذلك المتيقن في عمود الزمان والحكم ببقاء
ذلك المتيقن في زمان الشك إلى أن يحصل اليقين بخلافه، والفرد
المردد من الوجوب بين وجوب صلاة الجمعة وصلاة الظهر مثلا وإن
كان متيقنا سابقا قبل أن يأتي بأحدهما (ولكن) بعد أن أتى نقطع بعدم
بقاء الفرد المردد لان معنى بقاء الفرد المردد بعد الاتيان
بأحدهما وارتفاعه هو أن يكون باقيا سواء كان هو الفرد الباقي أو كان
هو الفرد الزائل وهذا محال لأنه على تقدير كونه هو الفرد
الزائل محال أن يكون باقيا.
إن قلت نعم ان الفرد المردد بوصف كونه مرددا لا يمكن بقائه بعد
ارتفاع أحدهما، لكن واقع ذلك الفرد الموصوف بكونه مرددا بين
أن يكون هو الفرد الباقي أو الزائل الذي كان متيقنا لو كان هو الفرد
الباقي يقينا باق ولو كان هو الفرد الزائل يقينا ليس بباق وهذا
هو منشأ الشك في البقاء بالنسبة إلى ذلك الفرد الحادث المردد.
قلت ذلك الفرد الحادث الموصوف بكونه مرددا بين ما هو مقطوع
الارتفاع أو البقاء لم يكن معلوما قط، بل المعلوم هو الكلي المشترك
بين الفردين أو عنوان الفرد المردد بينهما (ثم) على تقدير جريان
استصحاب الفرد المردد فإثبات وجوب هذا الفرد الباقي به مثبت و
ليس لنفسه أثر يفيد في المقام (فظهر) مما ذكرنا عدم جريان
استصحاب الحكم مطلقا لا الكلي ولا الشخصي أي الفرد المردد (و
أما
الثاني) أي استصحاب عدم إتيان الواجب الذي كان متيقنا قبل أن يأتي
بأحدهما (ففيه) أن هذا الاستصحاب لا يثبت وجوب الفرد الباقي
إلا على القول بالأصل المثبت وأما بالنسبة إلى أثر بقاء الاشتغال و
لزوم الاتيان بالمحتمل الاخر فقد تكلمنا في
297

الصورة الأولى وانه حاصل بالوجدان للشك في الامتثال وحكم
العقل بلزوم إتيان محتمل الاخر فلا يبقى مجال لاحرازه بالتعبد.
تنبيهات
(الأول)
في وجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعية في الشرائط والموانع
كالقبلة والساتر وغير المأكول وأمثال ذلك، فإذا اشتبه القبلة بين
أطراف أو السائر بين الطاهر والنجس أو المأكول وغير المأكول فيجب
الموافقة القطعية بتكرار الصلاة إلى جميع الجوانب حتى يحصل
له العلم بالصلاة إلى القبلة وكذلك يجب للتكرار حتى يحصل له العلم
بالصلاة في غير النجس وما ليس بغير المأكول، وذلك من جهة أنه
لا فرق في لزوم الاتيان بما هو الواجب بين أن يكون وجوبه نفسيا أو
غيريا أو كان استقلاليا أو ضمنيا، فبعد وصول التكليف يجب
الامتثال وإتيان ما أراده المولى بجميع قيوده الوجودية والعدمية كل
ذلك بحكم العقل، إلا أن يكون عاجزا عن الاتيان فيسقط التكليف
لاشتراطه بالقدرة (ولا فرق) في نظر العقل بين أن يكون الاشتباه و
الترديد في نفس المأمور به أو في قيوده الوجودية المعبر عنها
بالشرائط أو العدمية المعبر عنها بالموانع، فيجب الاحتياط بإتيان
جميع المحتملات حتى يحصل له العلم بالامتثال.
فما نسب إلى ابن إدريس (ره) من الصلاة عاريا عند اشتباه الساتر
بالنجس أو من المحقق القمي (ره) - من الفرق بين ما إذا كان دليل
القيد الوجودي أو العدمي مثل الأوامر والنواهي الغيرية مثل (لا تصل
فيما لا يؤكل لحمه) مثلا أو (صل مستقبلا) فقال بسقوط الشرطية و
المانعية عند الاشتباه وبين أن يكون من قبيل نفي الطبيعة بوجوده أو
بعدمه مثل (لا صلاة إلا بطهور) ونحو ذلك فقال بعدم السقوط
عند الاشتباه - ليس بما هو الصحيح كما عرفت وجهه ويمكن توجيه
ما قالوا بما لا ينافي ما ذكرناه وليس هاهنا
298

محل ذكره لان المسألة فقهية (نعم) إذا كانت شرطية الشرط أو مانعية
المانع مشروطا بالعلم التفصيلي بهما فيسقطان عند عدمه ولو
كانا معلومين بالعلم الاجمالي كما ادعى ذلك في شرطية الترتيب في
صلاة القضاء كما قيل أنه يستفاد من قوله عليه السلام (اذن وأقم
لاولهن) والحاصل أن مقتضى ما ذكرنا - من كون العلم الاجمالي
موجبا لتنجيز متعلقه كالعلم التفصيلي - عدم الفرق بين أقسام الواجب
في وجوب الاحتياط ولا وجه للقول بسقوط الشرطية أو المانعية إلا
بما قلنا وهذا الامر ما كان ينبغي أن يذكر ويكتب لكثرة وضوح
الامر فيه مما ذكرنا، ولكن نحن ذكرناه تبعا لاساتيذنا العظام.
(الثاني)
في كيفية النية في العبادات في الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم
الاجمالي وانه فرق بينهما في ذلك أم لا، (فرق) الشيخ الأعظم
الأنصاري (ره) بينهما فقال في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي أن
الاتيان باحتمال الامر لا يكفي في وقوعه عبادة بخلاف الشبهة
البدوية فان فيها يكفي الاتيان بداعي احتمال أن يكون مأمورا به كما
تقدم (وبناء) على ما قال فلو أتى بأحد أطراف المعلوم وجوبه
إجمالا مع عدم قصد إتيان الاخر فضلا عما إذا قصد عدم إتيان الاخر
لا يكون صحيحا ولا يقع عبادة ولو تبين بعد إتيانه أنه هو
الواجب، إذ لا بد له من قصد ذلك الامر المعلوم في البين الذي من
المحتمل أن يكون متعلقا بهذا المحتمل ويحتمل أن يكون متعلقا
بالطرف أو الأطراف الاخر، ولازم هذا القصد أن يكون عازما حال
إتيان هذا المحتمل على إتيان المحتمل أو المحتملات الاخر، وإلا ما
قصد ذلك الامر المعلوم في البين بل أتى به باحتمال الامر مع أنه لا بد
وأن يكون منبعثا عن ذلك الامر المعلوم لا عن احتمال أمر غير
معلوم كما في الشبهات البدوية (وفيه) أنه لا يمكن له الانبعاث عن
ذلك المعلوم بالنسبة إلى هذا المحتمل، لان تعلقه بهذا المحتمل غير
معلوم بل المعلوم احتمال أن يكون
299

هذا متعلق ذلك الامر وهذا المحتمل مثلا لا يمكن أن يكون الداعي و
المحرك لايجاده أمر لم يتعلق به فيكون حال هذا المحتمل من هذه
الجهة حال الشبهة البدوية (نعم) حيث بينا أن العلم الاجمالي علة تامة
لوجوب الموافقة القطعية فلو لم يأت بالمحتمل الاخر واتفق أنه كان
هو الواجب المردد في البين كان عاصيا لتنجزه بواسطة العلم، وإلا كان
متجريا على حذو مخالفة سائر الحجج غير المصادفة للواقع
حتى العلم التفصيلي.
(الثالث)
لو كان الواجب المشتبه من حيث شرطه مثلا أو من جهة أخرى أمرين
مترتبين في مقام الامتثال كالظهر والعصر، أو المغرب والعشأ
فمع اشتباه القبلة مثلا حيث يجب عليه من باب المقدمة العلمية إتيان
كل واحدة منها إلى أربع جهات (فهل) يجب تأخير جميع محتملات
العصر عن الفراغ عن امتثال الظهر يقينا بمعنى الاتيان بجميع
محتملات الظهر أولا ثم الشروع في الاتيان بمحتملات العصر (أو
يكفي)
إتيان كل محتمل من محتملات المتأخر بعد الاتيان بالمحتمل المتقدم
بشرط أن يكون الاتيان بكلا المحتملين إلى جهة واحدة في مسألة
اشتباه القبلة، وهكذا في سائر الشرائط المشتبهة كالثوبين الذين
أحدهما طاهر والاخر نجس، فهل يكفي أن يأتي بأحد المحتملين في
العصر بعد إتيانه بأحد المحتملين للظهر في نفس ذلك الثوب الذي
أتى فيه بالظهر أم لا (قال) شيخنا الأستاذ (ره) بالأول من جهة ما
يقول بطولية مراتب الامتثال وانه مع إمكان العلمي ولو إجمالا لا
تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي (ففي الصورة الأولى) التي اختارها
يقطع بحصول الترتيب بين كل محتمل يأتي به من محتملات العصر
مثلا مع الظهر لأن المفروض إتيانه بذلك المحتمل بعد الفراغ عن
الظهر والقطع بإتيانه لأنه أتى به بجميع محتملاته على الفرض (وأما
في الصورة الثانية) وإن كان يقطع بحصول الترتيب بين ما هو
العصر وما هو الظهر واقعا (ولكن)
300

حال الاشتغال بالمحتمل المتأخر لا يعلم أن ما يأتي بعنوان العصرية
هو بعد إتيان ما هو الظهر واقعا لأنه يحتمل أن لا يكون الطرف
الذي صلى إليه قبلة (نعم) يعلم بأن المتأخر على تقدير كونه عصرا
واقعا فهو بعد ما هو ظهر واقعا ولكن هذا المقدار لا يفيد، لأنه بناء
على لزوم أن يكون امتثال التكليف قطعيا من كل جهة من جهاته مع
إمكانه فهاهنا ليس كذلك لأنه مع أن القطع بالترتيب ممكن حال
امتثال المتأخر بإتيان جميع المحتملات المتقدم ثم الشروع في إتيان
محتملات المتأخر اكتفى بحصول العلم البتي بالترتيب بعد الاتيان
بجميع محتملات الاثنين أي المتقدم والمتأخر (وبهذا البيان) لا يرد
عليه أنه في الصورة الأولى أيضا لا يعلم بأن ما هو الظهر واقعا حال
الاشتغال بالعصر متقدم على ما هو العصر واقعا لأنه حال الاشتغال
بالمحتملات للواجب المتأخر لا يعلم بأن أي واحد منها هو الواجب
المتأخر واقعا لان الجميع محتمل (وذلك) من جهة أنه لا ينافي مع
اعتبار العلم من جهة أخرى لامكان تحصيل العلم من ناحية الترتيب و
عدم إمكانه من ناحية القبلة وقد قلنا باعتبار الامتثال العلمي من كل
جهة من جهات الواجب مع إمكانه ولذلك - لو كان ممكنا له تعيين
الثوب الطاهر من المشتبهين ولا يمكن له تعيين القبلة - يجب عليه
تعيين ثوب الطاهر أولا ثم الصلاة إلى أربع جهات لا أربع صلوات مع
أحدهما وأربع مع الاخر، كل ذلك بناء على مبناه من طولية مراتب
الامتثال، ولكن المبنى غير صحيح وقد تكرر منا أن اللازم هو إتيان
المأمور به عبادة أي بقصد القربة بجميع أجزائها وشرائطها وعدم
موانعها ولا يلزم شي آخر أزيد من ذلك لا قصد الوجه ولا التميز
ولا العلم بأنه هو المأمور به الواقعي بل يكفي إتيانه برجاء المطلوبية و
احتمال أن يكون مأمورا به، فلو أتى به بهذا الاحتمال واتفق
المصادفة يكفي هذا القسم من الاتيان ويسقط الامر ويحصل الامتثال
حتى مع تمكنه من تعيين
301

الواجب وسواء كان الامتثال الاجمالي مستلزما للتكرار أو لم يكن.
المقام الثاني في تردد التكليف بين الأقل والأكثر
وهما قد يكونان استقلاليين وقد يكونان ارتباطيين وفي كل واحد
منهما قد يكون في متعلق التكليف وقد يكون في موضوع
التكليف بمعنى متعلق المتعلق وفي كل واحد منهما قد تكون الشبهة
وجوبية وقد تكون تحريمية وفي كل واحد منهما قد يكون الشك
في الاجزاء وقد يكون في الشرائط والموانع وقد يكون في الأسباب
والمحصلات (وما يكون) من قبيل الاجزاء قد يكون من الاجزأ
الخارجية وقد يكون من الاجزاء التحليلية العقلية كالجنس والنوع،
كما إذا علم بوجوب ذبح حيوان مردد بين أن يكون الواجب جنس
الحيوان أو خصوص هذا النوع الخاص فمرجع الشك إلى مدخلية
الفصل الخاص في الواجب وعدمه (وما يكون) من قبيل الشروط تارة
يكون ما هو الشرط له وجود خارجي غير وجود المشروط كالوضوء أو
الغسل بالنسبة إلى الصلاة وقد يكون متحد الوجود مع الواجب
كاشتراط الرقبة في باب الكفارات بكونها مؤمنة (وقد يكون) منشأ
الشبهة في جميع ذلك فقد النص أو إجمال النص أو تعارض النصين
(وقد يكون) منشأها أمورا خارجية فتكون الشبهة موضوعية هذه هي
أقسام الأقل والأكثر وليكن البحث عنها في طي أمور.
(الأول) في دوران الامر بين الأقل والأكثر الاستقلالي مطلقا
ولا شك في جريان البراءة عن الأكثر في الشبهة الوجوبية مطلقا وعن
الأقل في الشبهة التحريمية مطلقا وذلك لانحلال العلم الاجمالي
إلى علم تفصيلي وشك بدوي بل تسميته بالعلم الاجمالي لا يخلو
من مسامحة لأنه من أول الامر علم تفصيلي بوجوب الأقل في الشبهة
الوجوبية وشك بدوي في وجوب الأكثر وفي الشبهة التحريمية
بعكس ذلك أي علم تفصيلي بحرمة الأكثر وشك بدوي في حرمة
الأقل
كالغناء مثلا فان الأكثر أي ترجيع الصوت مع الطرب
302

الذي هو الأكثر مقطوع الحرمة تفصيلا وأما الأقل أي ترجيع الصوت
بلا طرب مشكوك والمناط في الاستقلالية والارتباطية هو تعدد
التكليف والغرض ووحدتهما ففي الاستقلالي هما متعددان على
تقدير وجوب الأكثر لوجود تكليف مستقل بوجوب مقدار الأقل من
الدين وتكليف مستقل آخر بأداء الزائد على تقدير أن يكون الواجب
هو الأكثر وأما في الارتباطي فتكليف واحد متعلق بالأكثر و
غرض واحد فيما إذا كان الواجب هو الأكثر كالصلاة مثلا (وبعبارة
أخرى) في الاستقلالي لو كان الأكثر واجبا ينحل التكليف إلى
تكليفين أحدهما متعلق بالأقل والاخر بالزائد ولذلك لكل واحد
منهما امتثال يخصه (ولكن) بناء على هذا في الارتباطي في الشبهة
التحريمية يجب أن يكون المتيقن هو الأقل لدوران الامر بين أن يكون
حراما مستقلا لو كان هو الحرام الواقعي أو حراما ضمنيا لو كان
الأكثر هو الحرام الواقعي فتجري البراءة في الأكثر فجريان البراءة في
الأقل لا وجه له ولكنهم لا يقولون به. ووجهه ان الحرام لو كان
هو الأكثر بوجوده الجمعي
(الثاني) الشك بين الأقل والأكثر في الأسباب والمحصلات
والظاهر عدم جريان البراءة فيها عن الأكثر مطلقا سواء كانت عقلية أو
عادية أو شرعية (أما في الأسباب) العقلية والعادية فواضح لما
قلنا فيما تقدم في حديث الرفع أن جريانها منوط بأمرين كلاهما مفقود
في المقام (الأول) أن يكون من المجعولات الشرعية أو كان
موضوعا لاثر شرعي حتى يكون قابلا للرفع التشريعي (الثاني) أن
يكون في رفعه امتنان أما (أولا) السببية فيها ليست من المجعولات
الشرعية وعلى فرض أنه كذلك ليس لرفعها امتنان لان رفعها عن الأكثر
لا يثبت سببية الأقل فمعنى رفع السببية عن الأكثر بقاء الحكم
الشرعي بلا سبب وأي امتنان في هذا وأيضا التكليف قطعي مثلا
يجب قطعا عليه أن يذكي هذا الحيوان فإذا شك في سببية الأقل
303

واحتمل أن يكون سببه الأكثر على فرض أن تكون التذكية معنى بسيط
وفري الأوداج وسائر المقدمات أسبابا عاديا لها وإن كان
ليس هكذا فيشك في امتثال التكليف فيكون مجرى قاعدة الاشتغال
لأنه شك في الامتثال إلا أن يثبت سببية الأقل شرعا ولا طريق إلى
إثباته والحاصل أن ذمة المكلف مشغول يقينا وعلى الفرض لأن الشك
في المحصل لا في أصل التكليف فالاكتفاء بالأقل يوجب
الشك
في الامتثال فيكون مجرى قاعدة الاشتغال لا البراءة الا أن يثبت سببية
الأقل والمفروض أنه لا تنالها يد الجعل التشريعي لأنها على
الفرض عقلية أو عادية (وأما الأسباب) والمحصلات الشرعية سوأ
كانت اختراعية أو إمضائية كالعقود والايقاعات أو غسل الوجه و
اليدين ومسح الرأس والرجلين على الكيفية المعهودة من قبل الشارع
بالنسبة إلى الطهارة الحديثة بناء على أن تكون هي المأمور به لا
الغسلات والمسحات وإن كان خلاف ظاهر ما يستفاد من الأدلة
(فحيث) أن الصحيح أن المجعول الشرعي ليس فيها السببية بل لا
يمكن
أن يكون كما سيجئ في باب الاستصحاب في مسألة جعل الأحكام الوضعية
بل المجعول هو التكليف أو الوضع عند وجود ما نسميه
السبب وعند تحققه ومن هذا ينتزع السببية والمسببية (فيكون) حالها
حال الأسباب العادية والعقلية ويجري ما قلنا فيهما فيها أيضا
حرفا بحرف وأما احتمال أن تكون الجزئية أيضا للسبب المجعول
مجعولا فإذا شك في جزئية شي أو شرطيته أو مانعيته لما هو
السبب الشرعي فيرفع بحديث الرفع ففيه أولا ما قلنا من عدم جعل
السببية بل عدم إمكانه (وثانيا) على فرض أن تكون مجعولا لا يبقى
مجالا لجعل الجزئية لأنه بعد جعل المركب من عدة أشياء مقيدا
بوجود شي قبله أو بعده أو معه أو بعدم شي كذلك فقهرا ينتزع
الجزئية من تلك الاشياء والشرطية من ذلك الذي قيد بوجوده و
المانعية من الذي قيد بعدمه فجعل الجزئية أو
304

الشرطية لا يمكن إلا برفع منشاء انتزاعها كما في باب الأقل والأكثر في
نفس متعلق التكاليف حيث يرفع الجزئية المشكوكة هناك برفع
التكليف عن الأكثر (ولا يقاس) المقام بما هناك بأن يقال برفع السببية
عن الأكثر وذلك من جهة الفرق بين المقامين فان وجوب
الأكثر هناك مشكوك فيشمله حديث الرفع فقهرا يرفع الجزئية في
مشكوك الجزئية بخلاف المقام فان سببية الأكثر غير مشكوك بل
معلوم فلا يشمله حديث الرفع نعم لو قلنا بجعل السببية كما يدعيه
الخصم فسببية الأقل مشكوكة فترفع فينتج عكس المقصود لان
المقصود ترتب الأثر على الأقل لا عدمه مضافا إلى أن رفع سببية الأقل
خلاف الامتنان فلا يشمله حديث الرفع (وثالثا) على تقدير تسليم
جعل الجزئية فرفعه بحديث الرفع لا يثبت سببية الأقل إلا على القول
بالأصل المثبت ولا يقاس برفع الجزئية المشكوكة في الأقل و
الأكثر في الاجزاء لأنه هناك وجوب الأقل معلوم فإذا رفعنا الوجوب
عن الأكثر بجريان حديث الرفع في نفس وجوب الأكثر أو في
جزئية المشكوك فلا يحتاج إلى إثبات وجوب الأقل بجريان حديث
الرفع حتى يصير من الأصل المثبت بل وجوبه معلوم بالأدلة الأولية
بخلاف المقام فان سببية الأقل مشكوك فلا بد أن يثبت بإجراء حديث
الرفع لرفع جزئية المشكوك الجزئية فيكون مثبتا.
(الثالث) في دوران الامر بين الأقل والأكثر في الاجزاء في متعلق
التكليف
وذلك كما أنه إذا شك في جزئية السورة للصلاة مثلا والمقصود في
المقام من الأقل والأكثر هو الارتباطيين واختلف في جريان
البراءة وعدمه في الزائد على الأقل أي في الاجزاء المشكوكة (فقيل)
بجريان البراءة فيها مطلقا البراءة العقلية والنقلية (وقيل) بعدم
جريانها فيها مطلقا (وقيل) بالتفصيل بجريان البراءة النقلية دون
العقلية والأصح هو الأول، وذلك لانحلال العلم الاجمالي الذي كان
علة لوجوب الاحتياط بالعلم التفصيلي بوجوب
305

الأقل وإلى الشك في وجوب الزائد (بيان ذلك) أنه لا شك في
وجوب الأقل من جهة أنه إما واجب نفسي استقلالي كما هو أحد
تقديري
العلم الاجمالي المفروض في المقام وإما واجب نفسي ضمني كما هو
على تقدير الاخر أي على تقدير وجوب الأكثر والامر لا يخلو من
هذين التقديرين فالعلم التفصيلي يحصل بوجوب الأقل وليس
الترديد في أصل وجوبه ولا في كون وجوبه نفسيا وإنما الترديد في
كون وجوبه النفسي ضمنيا أو استقلاليا وهذا المقدار من الترديد لا
يضر بكون أصل وجوبه النفسي معلوما بالتفصيل وقد أورد على
هذا البيان بوجوه:
(الأول) ما أفاده صاحب الحاشية على المعالم وأخوه صاحب
الفصول من أن الأقل على تقدير وجوبه الاستقلالي أخذ لا بشرط عن
الزيادة
وعلى تقدير وجوبه الضمني أخذ بشرط شي أي أخذ متعلقا
للوجوب بشرط الزيادة وهذان الاعتباران قسيمان لأنهما قسمان
للماهية
اللابشرط المقسمي فيكون المتعلق لوجوب النفسي الاستقلالي غير
ما هو متعلق للوجوب الضمني فيكون علمه الاجمالي بوجوب الأقل
أو
الأكثر من قبيل الدوران بين المتباينين فلا يكون علم تفصيلي في البين
حتى يوجب الانحلال (وإن شئت قلت) ان علمه التفصيلي بوجوب
الأقل مرجعه في الحقيقة إلى علم إجمالي أحد طرفيه وجوب الماهية
اللابشرط القسمي بالوجوب النفسي الاستقلالي والطرف الآخر
وجوب الماهية البشرط شي بالوجوب النفسي الضمني فلا علم
تفصيلي في البين حتى يوجب الانحلال (وفيه) أن هذه الاعتبارات لا
تغير
الواقع عما هو عليه والوجوب من الاعتبارات الشرعية التي تعرض
على ما هو الموجود في الخارج وإن كان بواسطة الصورة الذهنية
لكن لا بما هي هي بل بما أنها مرات وحاكية عن الخارج وفانية فيه
فظرف العروض وإن كان هو الذهن ولكن ظرف الاتصاف هو
الخارج، ولذلك ترى أن أفعال
306

المكلفين في الخارج تقع على صفة الوجوب أو الحرمة أو غيرهما من
الأحكام الخمسة التكليفية، والأحكام الوضعية أيضا كذلك فالدم
الخارجي مثلا تتصف بالنجاسة والزوجة الخارجية تتصف بالزوجية
(وبعبارة أخرى) الأحكام الشرعية اعتبارات اما متعلقة بالافعال
الخارجية كالاحكام التكليفية أو بالأعيان الخارجية فالوجوب للأقل
في المفروض أو الجزئية لأجزاء الأقل عارض أو وارد على هذه
الاجزاء الخارجية التي نسميها بالأقل، ومعلوم أن هذه الاجزاء لا
تتفاوت بواسطة لحاظ هذه الاعتبارات فلحاظ هذه الاجزاء - تارة
بنحو
لا بشرط باعتبار كونها واجبا نفسيا استقلاليا وأخرى بشرط شي
باعتبار كونها واجبا نفسيا ضمنيا - لا يوجب فرقا فيما هو
معروض الوجوب أي الاجزاء الخارجية (هذا) ويمكن أن يقال أن
هذين الاعتبارين في الأقل يلاحظان من ناحية وجوبه فتكونان في
الرتبة المتأخرة عن وجوبه فلا يمكن أخذهما في متعلق الوجوب لما
تقدم في مبحث التوصلي والتعبدي من أن الانقسامات الحاصلة و
الآتية من قبل حكم الشئ لا يمكن أن تكون متعلقة لذلك الحكم (و
بعبارة أخرى) أخذ كل ما هو حاصل من قبل الحكم ويكون متأخرا
عنه في متعلق ذلك الحكم يوجب تقدم الشئ على نفسه وهو محال
فما هو متصف بالوجوب سواء كان الوجوب استقلاليا أو ضمنيا هو
ذات الأقل لا الأقل بوصف كونه لا بشرط في أحد التقديرين وبشرط
شي في تقدير الاخر (فظهر) مما ذكرنا في جواب صاحب
الحاشية صحة الانحلال وإجراء كلتا البرأتين العقلية والنقلية.
(الثاني) ما أورد صاحب الكفاية (قده) على هذا الانحلال وأنه خلاف
المفروض ومحال لأنه يلزم من وجوده عدمه وما يلزم من وجوده
عدمه فهو محال (أما أنه) خلاف المفروض من جهة أن المفروض ان
الوجوب - سواء كان متعلقا بالأقل أو كان متعلقا بالأكثر - وصل
إلى
307

المكلف بواسطة العلم الاجمالي وصار منجزا لما ذكرنا من أن العلم
الاجمالي منجز للتكليف في أي طرف كان ومعنى الانحلال عدم
تنجزه على تقدير كونه في طرف الأكثر فهذا خلاف المفروض (و
الجواب) أن منجزية العلم الاجمالي لجميع الأطراف متوقف على
عدم
انحلاله حقيقة أو حكما وأما مع الانحلال فليس بمنجز قطعا وهذا
واضح جدا ولا يقول به صاحب الكفاية أيضا (وأما لو أريد) من
الخلف
في المقام أن فرض الانحلال والعلم بوجوب الأقل على كل حال - أي
سواء كان التكليف متعلقا بالأقل والأكثر - فرض تنجز التكليف
مطلقا ولو كان في حاق الواقع متعلقا بالأكثر والحال أن بالانحلال
يرتفع تنجز الأكثر ولو كان في الواقع هو متعلق التكليف فهذا
خلف (والجواب) أن فرض الانحلال ليس إلا عبارة عن العلم بوجوب
الأقل على كلا تقديري وجوب الأقل أو الأكثر واقعا وليس فرضه
فرض تنجز التكليف مطلقا لأنه من الممكن أن يكون الشئ واجبا
واقعا ولا يكون منجزا كموارد الجهل بالتكليف الواقعي (نعم) العلم
بوجوب الأقل على كل حال وجوبا فعليا متوقف على كون الوجوب
فعليا ولو كان متعلقا بالأكثر وهذا شي نقبله ولا ينافي مع
الانحلال، لان نتيجة الانحلال عدم المانع من إجراء البراءة عن الأكثر و
لا تنافي بين كون الشئ واجبا فعليا واقعيا ومجرى للبرأة في
الظاهر لعدم وصول الوجوب إلى المكلف بعلم أو علمي (وأما أنه)
يلزم من وجوده عدمه من جهة أن الانحلال يتوقف على العلم
التفصيلي
بوجوب الأقل على كل حال وتنجزه على كل حال متوقف على تنجزه
ولو كان الواجب هو الأكثر فلو فرضنا عدم تنجز الواجب على
تقدير أن يكون هو الأكثر فلا يتحقق الانحلال وينعدم والمفروض أن
الانحلال يوجب عدم تنجز الأكثر ولو كان هو الواجب الواقعي
فهو يوجب عدم نفسه وكون الشئ علة لعدم نفسه يلزم
308

اجتماع النقيضين كما هو واضح كما أن محاليته أيضا واضح (الجواب)
أن الانحلال يتوقف في المقام على العلم بوجوب الأقل ولو كان
الواجب الواقعي هو الأكثر وهذا كلام حق ولا محذور فيه ولا يلزم من
وجوده عدمه من هذه الجهة، وأما توقفه على تنجز الواجب على
كل حال - ولو كان هو الأكثر - فغير صحيح، نعم لو كان كذلك لزم من
وجوده عدمه كما ادعاه صاحب الكفاية (قده)، ولكن الامر ليس
كذلك لان منشأ الانحلال هو العلم التفصيلي بوجوب الأقل على كل
حال ووجوب الأقل على كل حال عبارة عن وجوبه مطلقا سواء كان
الواجب الواقعي هو الأقل أو كان هو الأكثر ولا ربط لهذا العلم
التفصيلي بتنجز الأكثر على كل حال (نعم) لو كانت ملازمة بين تنجز
بعض أجزاء الأكثر مع تنجز سائر أجزائه بحيث لا يمكن الانفكاك في
التنجز بين الاجزاء لو كان الواجب الواقعي هو الأكثر لكان
الاشكال واردا (ولكن) لا ملازمة بينهما لأنه من الممكن وصول
المركب إلى المكلف بعدة من أجزائه دون بعض آخر كما في المقام
فالمقدار الواصل يتنجز دون غيره (فظهر) مما ذكر أنه لا يلزم من
الانحلال محذور أصلا لا الخلف ولا لزوم عدمه من وجوده فيكون
الأكثر مشكوكا بالشك البدوي فتجري فيه البراءة العقلية والنقلية لعدم
المانع الذي كان وهو العلم الاجمالي لذهابه من البين بواسطة
الانحلال.
(الثالث) ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) وحاصله أن الانحلال يتحقق
في مورد يكون الاتيان بما هو معلوم بالتفصيل من أطراف المعلوم
بالاجمال - وهو الأقل في المقام - موجبا للفراغ اليقيني عن عهدته
بمعنى أن الاتيان بالقدر المتيقن وامتثاله يكون امتثالا قطعيا له
مطلقا أي سواء كان واجبا نفسيا استقلاليا أو ضمنيا وفيما نحن فيه
ليس الامر كذلك فان الاتيان بالأقل لا يوجب الفراغ عن عهدة الأقل
مطلقا، إذ على تقدير
309

كونه واجبا نفسيا ضمنيا لا يحصل الفراغ عن عهدته بصرف إتيانه فقط
من دون ضم سائر الاجزاء إليه في مقام الامتثال، لأنه بناء على
هذا التقدير واجب ارتباطي (ومعلوم) أن امتثال أي جز من أجزأ
الواجب الارتباطي لا يحصل إلا مع اقترانه بامتثال سائر الاجزأ
جامعا للشرائط وفاقدا للموانع (وفي المقام) حيث يحتمل أن يكون
الواجب الواقعي الارتباطي هو الأكثر وعلى تقدير كونه هو الواجب
الواقعي فإتيان الأقل لا يوجب الفراغ حتى بالنسبة إلى الأقل (لما قلنا)
من أن امتثال كل جز من واجب الارتباطي لا بد وأن يكون في
ضمن امتثال الكل فبناء على هذا بامتثال الأقل وإتيانه لا يقطع بالفراغ
حتى بالنسبة إلى الأقل وقد بينا أن من شرط الانحلال أن يكون
الاتيان بما هو معلوم بالتفصيل موجبا للقطع بالفراغ من قبله حتى يبقى
الشك في الفراغ من ناحية الطرف الآخر وحيث أن ثبوت ذلك
الطرف الآخر مشكوك وبعد وجود العلم التفصيلي في بعض الأطراف
وانحلال العلم الاجمالي يكون حاله حال الشك البدوي بل هو هو
فيكون مجرى البراءة ولا مجال حينئذ لورود قاعدة الاشتغال حتى
يحكم العقل بلزوم الخروج عن العهدة إذ لا عهدة بحكم الشارع بعد
جريان البراءة (وحاصل) ما ذكرنا أنه يجب الاتيان بالأكثر لأجل القطع
بالفراغ عن عهدة الأقل الذي علم الاشتغال به تفصيلا لا من
باب العلم الاجمالي حتى تقول لا تأثير للعلم الاجمالي بعد الانحلال
(وفيه) أن التكليف بوجوده الواقعي لا يوجب مخالفته استحقاق
العقاب بل مخالفته يوجب ذلك بعد تنجزه بعلم أو علمي ووصوله
إلى المكلف وحكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني من باب الفرار عن
العقاب، وفيما نحن فيه أي في كل مورد شككنا في جزئية شي
للواجب ولم يكن بيان على جزئية ذلك المشكوك الجزئية فإذا أتى
بما
قام عليه البيان ولو في الواجب الارتباطي لا يعاقب من ناحية ترك
ذلك المشكوك
310

الجزئية لعدم قيام البيان على جزئيته فيكون العقاب بلا بيان وهو قبيح
وهذه هي البراءة العقلية فالاتيان بالأقل موجب لرفع العقاب و
لو على تقدير كون الواجب الواقعي هو الأكثر لعدم تنجز سائر الاجزأ
بل على هذا التقدير المقدار المنجز عليه هو مقدار الأقل لا الزائد
عليه (نعم) لا يعلم بسقوط التكليف بإتيان الأقل لاحتمال أن يكون
الواجب الواقعي هو الأكثر ولم يأت به (ولكن) بقائه لا أثر له لعدم
تنجزه إلا بمقدار الأقل (والعجب) من شيخنا الأستاذ (قده) أنه أجاب
عن صاحب الكفاية بمثل هذا الجواب ثم وقع هو فيه.
وتقريب آخر لشيخنا الأستاذ في عدم صحة جريان البراءة العقلية و
حاصله أن معنى وجوب الأقل هو أن معروض الوجوب هذه الاجزأ
التي نسميها بالأقل لا بشرط عن الزيادة ومعنى كون معروض الوجوب
هو الأكثر أن هذه الاجزاء التي نسميها بالأقل معروض للوجوب
الضمني بشرط الزيادة فيدور الامر بين أن يكون الأقل واجبا نفسيا
استقلاليا لا بشرط عن الزيادة أعني الطبيعة المطلقة وبين أن
يكون واجبا ضمنيا أي الطبيعة المقيدة بالزيادة وهذا هو العلم
الاجمالي بأن الواجب اما الأقل لا بشرط أو بشرط شي أي الأقل
مطلقة أو
مقيدة (فلو علم) تفصيلا بوجوب الأقل مطلقة مثلا فينحل ذلك العلم
الاجمالي، لان القضية المنفصلة المانعة الخلو تتبدل إلى قضية حملية
بتية وأخرى مشكوكة وهذا هو مناط الانحلال دائما وأما لو بقيت
القضية المنفصلة على حالها فلا انحلال في البين (وفيما نحن فيه)
ليس
المعلوم بالتفصيل الأقل بما هو لا بشرط أي الماهية المطلقة حتى
تنحل القضية المنفصلة المانعة الخلو إلى قضية حملية بتية وهي العلم
بوجوب الأقل بما هو لا بشرط وإلى قضية أخرى مشكوكة وهي
وجوب الأكثر بل المعلوم بالتفصيل قضية موضوعها الماهية المهملة
أي
الجامع بين الماهية المطلقة أي
311

الأقل لا بشرط والماهية المقيدة أي الأقل بشرط شي، أي بشرط
الانضمام إلى سائر الاجزاء وهذا هو عين العلم الاجمالي لان العلم
بوجوب الجامع أي الماهية المهملة مفاده العلم بوجوب الأقل لا
بشرط أي الأقل أو بشرط شي أي الأكثر فيكون الترديد في أن المعلوم
هل ينطبق على الأقل المقابل للأكثر أو على نفس الأكثر؟ فالعلم
التفصيلي في المقام مرجعه إلى العلم الاجمالي بل هو عينه فلو كان
موجبا للانحلال فيكون موجبا لانحلال نفسه وهو محال ضرورة عدم
إمكان أن يكون الشئ علة لعدم نفسه (وفيه) ما تقدم في جواب
صاحب الحاشية من عدم تقيد معروض الوجوب بهذه الاعتبارات
فالأقل المعروض للوجوب ومتعلق للعلم التفصيلي بوجوبه ليس إلا
عبارة عن عدة أجزاء معينة لم يلاحظ فيه لا كونها مطلقة ولا مقيدة ولا
الجامع بينهما بمعنى اللابشرط المقسمي الذي عبر عنه شيخنا
الأستاذ بالماهية المهملة وإن كان خلاف مصطلح القوم بل متعلق
العلم بالوجوب نفس ذوات الاجزاء بلا لحاظ أي شي معها ومتعلق
العلم الاجمالي عنوان أحد الحدين أي حد الأقل وحد الأكثر وفي
الحقيقة في المقام في إطلاق لفظ الانحلال مسامحة بل من أول الامر
علم
تفصيلي بوجوب عدة أجزاء وشك بدوي بالنسبة إلى الجز أو
الاجزاء الاخر (وبعبارة أخرى) بالنسبة إلى نفس ذوات الاجزاء ليس
علم
إجمالي في البين بل من أول الامر وجوب عدة معينة من الاجزأ
معلوم تفصيلا وعدة أخرى مشكوك فلا إجمال حتى يحتاج إلى
الانحلال
وأما بالنسبة إلى الحدين أي حد الأقل والأكثر فالعلم الاجمالي
موجود إلى الأبد ولكن لا أثر له لان معلومية أحد الحدين لا أثر شرعي
له حتى يكون العلم به موجبا لتنجزه لأنه ليس بحكم ولا بموضوع ذي
حكم.
(الرابع) مما أورد على جريان البراءة بالنسبة إلى الأكثر القطع بوجود
الملاك والمصلحة الملزمة القائمة بالأقل أو الأكثر فإذا لم يأت
بالأكثر
312

يشك في حصول الملاك وتلك المصلحة التي يجب استيفائها بحكم
العقل والعقل في مثل هذه الموارد يحكم بلزوم إتيان ما يعلم
بحصول الملاك وغرض المولى مع إتيانه فبناء على هذا يجب على
المكلف إتيان المأمور به بجميع ما يحتمل أن يكون دخيلا في حصول
الملاك والغرض بعد القطع بوجوده فلا يقاس بالشبهة البدوية لأنه
هناك لا قطع بالملاك بل صرف احتمال للملاك من جهة احتمال
الوجوب بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد التي في
متعلقاتها كما هو الحق بخلاف المقام فان وجود الملاك بناء على ما
ذكرنا
من التبعية قطعي للقطع بالحكم على الفرض (وقد أجاب) شيخنا
الأستاذ (قده) عن هذا الوجه بالفرق بين أن يكون إتيان المأمور به علة
تامة لحصول الملاك أو كان من قبيل المعد له كغرس الشجر مثلا
لحصول الثمر والزرع لحصول الحبوبات وأمثال ذلك (فان كان) من
القسم الأول فكما يمكن تعلق الامر بالعلة يمكن تعلق الامر بإيجاد
الملاك وما هو الغرض لأنه مقدور بالواسطة بل لا فرق بينهما والامر
بأحدهما أمر بالآخر ففي هذا القسم يلزم تحصيل الغرض والملاك
لأنه الواجب في الحقيقة (وأما ان كان) من القسم الثاني فحيث أن فعل
المكلف وما هو المأمور به ليس علة تامة لحصول الغرض والملاك و
لا الجز الأخير منها فحصول الغرض والملاك خارج عن تحت
قدرته واختياره بل فعله ليس إلا معدا من معداته فلا يمكن تعلق
التكليف به وقبيح إلزام المكلف بإيجاده، فلا يجب عليه إلا ما قام
عليه
البيان من نفس المأمور به وحيث أن متعلقات الأوامر الشرعية غالبا
بل جميعها من القسم الثاني فلا يبقى مجال للتمسك بلزوم إتيان
الأكثر بحكم العقل بلزوم تحصيل الملاك (وفيه) أولا أن كون متعلقات
الأوامر الشرعية من قبيل القسم الثاني غير معلوم بل ظاهر أمر
المولى بشي كونه وافيا بغرضه (وبعبارة أخرى) الغرض من الامر
بالشئ ولو كان معدا بالنسبة إلى غرضه الأقصى حصول ذلك
الاعداد
313

نحو ذلك الشئ والمعد بالنسبة إلى أثره الاعدادي من قبيل العلة
التامة وإن كان بالنسبة إلى الغرض الأخير صرف معد (وثانيا) كونه
من قبيل المعد ليس ملازما مع كون الغرض حصوله خارجا عن تحت
قدرة المكلف واختياره فكل ما يحتمل دخله في الغرض ويكون
تحت اختياره يجب أن يأتي به كما فيما نحن فيه، فان مشكوك الجزئية
تحت قدرته ويحتمل أن يكون دخيلا في غرضه (فالأحسن) في
الجواب أن يقال ليس العبد مكلفا بإتيان شي إلا ما قام على إتيانه
البيان وأما ما لم يقم على وجوب إتيانه البيان لو كان دخيلا في
غرضه فهو الذي فوت الغرض على نفسه (نعم) لو علم بدخله في
غرضه فنفس العلم بيان وأما بصرف الاحتمال كما في المقام فالعقاب
عليه قبيح ولو كان في الواقع دخيلا وأيضا احتمال الجزئية مرفوع
بحديث الرفع فيجري البرأتان العقلية والنقلية.
وأما ما أجاب به شيخنا الأعظم (قده) عن هذا الايراد (تارة) بأن النزاع
أعم من أن تكون الأوامر والنواهي تابعة للمصالح والمفاسد أو
لم تكن كما يقول به الأشعري (وأخرى) بعدم إمكان القطع بحصول
الغرض من جهة احتمال مدخلية قصد الوجه والتميز في الغرض و
فيما نحن فيه لا يمكن قصد الوجه لعدم العلم بوجوب الجز
المشكوك (ففيه) أما في جوابه الأول بأن عدم ورود الايراد بناء على
مسلك
الأشعري لا يدفع الايراد بناء على ما هو الحق عندنا من تبعية الأوامر و
النواهي للمصالح والمفاسد الكامنة في متعلقاتها (وأما) ما في
جوابه الثاني فما تقدم في إمكان الاحتياط في الشبهات البدوية وفي
جواز الاكتفاء بالامتثال العلمي الاجمالي مع إمكان الامتثال
التفصيلي من عدم اعتبار قصد الوجه والتميز في مقام الامتثال أصلا و
لو كان قصد الوجه ومعرفته معتبرا في الامتثال مع كثرة الابتلاء
به لعامة المكلفين لكان من اللازم تنبيه الشارع على لزوم هذا الامر و
حيث لم يرد
314

من الشارع ما يدل على وجوب قصده ولا أثر منه في الاخبار وليس
مما يحكم العقل الضروري بلزومه حتى يقال بإيكال الشارع هذا
الامر إليه ولذلك لم يشر إليه وترك بيانه فيقطع الانسان بعدم دخله
في الغرض.
ثم أنه ربما يتمسك لوجوب الاتيان بالأكثر وعدم جواز الرجوع إلى
البراءة باستصحاب بقاء الوجوب المردد بين الأقل والأكثر بعد
الاتيان بالأقل (وفيه) أن استصحاب الوجوب المردد ان أريد به
شخص الوجوب المردد بين أن يكون متعلقه الأقل أو الأكثر (ففيه) أن
شخص الوجوب المردد بوصف كونه مرددا معلوم عدم بقائه بعد
الاتيان بالأقل، وإن أريد به شخص الوجوب المعين فليس له حالة
سابقة معلوم الوجود، ثم يكون الشك في بقائه بل المعلوم من أول
الامر هو الفرد المردد قبل أن يأتي بالأقل (وإن أريد) به استصحاب
الكلي - أي: القدر المشترك بين الوجوب المتعلق بالأقل وبين
الوجوب المتعلق بالأكثر بمعنى أنه لو وجد في ضمن الوجوب
المتعلق
بالأقل - ارتفع يقينا، ولو وجد في ضمن الوجوب المتعلق بالأكثر يقينا
باق فيكون دائرا بين ما هو مقطوع البقاء وبين ما هو مقطوع
الارتفاع فأركان الاستصحاب وإن كان تاما ويكون من قبيل القسم
الثاني من استصحاب الكلي (إلا أنه) لا يثبت وجوب الأكثر إلا على
القول بالأصل المثبت (وأما استصحاب) الاشتغال فلا مورد له، لأنه
على فرض عدم الانحلال نفس العلم الاجمالي موجب للاشتغال
لتنجز
التكليف به والشك في امتثاله، وموضوع الاشتغال عند العقل هو
الشك في الامتثال فهو حاصل بالوجدان (فلا يبقى) مجال لاحرازه
بالتعبد بواسطة الاستصحاب، فإنه يكون من قبيل تحصيل الحاصل بل
أردإ منه (لأنه) تحصيل ما هو الحاصل بالوجدان بالتعبد (وأما)
باعتبار بقاء نفس الكلي الجامع بين وجوب الأقل والأكثر فلا أثر له إلا
لزوم إتيان الأكثر من جهة لزوم الفراغ اليقيني بعد
315

اشتغال اليقيني بذلك الجامع وهذا المعنى حاصل بنفس الشك في
الامتثال بلا احتياج إلى الاستصحاب (أولا) و (ثانيا) محكوم
باستصحاب عدم وجوب الأكثر لأن الشك في بقاء الكلي مسبب عن
الشك في حدوث الأكثر وعدم حدوثه.
(وإن قلت) ان الشك في بقاء الكلي الجامع بين الوجوبين وإن كان
مسببا عن ذلك الشك لكن السببية عقلي وليست من آثاره الشرعية
حتى يكون محكوما باستصحاب عدمه، مثل الشك في بقاء النجاسة
للثوب المتيقن النجاسة المغسول بالماء المستصحب الطهارة (حيث)
أن استصحاب طهارة الماء حاكم على استصحاب نجاسة الثوب (لان)
هناك الشك في بقاء نجاسة الثوب من آثار الشرعية للشك في
طهارة الماء، فإذا حكم الشارع بطهارة الماء يرتفع الشك في بقاء
نجاسة الثوب شرعا بخلاف ما نحن فيه (فان) حكم الشارع بعدم
حدوث الأكثر ليس من آثاره الشرعية عدم بقاء الجامع بين الوجوبين،
بل هذا من لوازمه العقلية (قلنا) فلا أقل من سقوطه بالمعارضة
بهذا الاستصحاب، لان استصحاب بقاء الكلي الجامع بعد إتيان الأقل
مع استصحاب عدم حدوث الأكثر متنافيان فلا يجتمعان
فيتساقطان.
هذا كله في الاستصحاب لأجل إثبات وجوب الأكثر (وأما
الاستصحاب) لأجل إثبات عدم وجوب الأكثر والقول بالبرأة بأن
يقال لا
شك في عدم جزئية هذا الجز المشكوك للمركب في الأزل ولو لعدم
تعلق الامر بالمركب قبل جعله واجبا، أو يقال بأنه لا شك في عدم
وجوب الأكثر المشتمل على هذا الجز المشكوك في الأزل، فنشك
في بقاء هذا العدم بعد الجعل بكلا المعنيين أي عدم وجوب الأكثر و
عدم جزئية المشكوك الجزئية (فيستصحب) هذان العدمان في ظرف
الشك في بقائهما (هذا فيما) إذا اعتبرنا العدم السابق المتيقن العدم
الأزلي، وكذلك الامر إذا كان
316

الاستصحاب بلحاظ العدم السابق على البلوغ أو بلحاظ العدم في
الموقتات قبل دخول الوقت أو بلحاظ العدم السابق على لحاظ
المأمور
به (قبل جعل الاحكام) بناء على الفرق بينه وبين العدم الأزلي.
وقد أورد شيخنا الأستاذ (قده) على صحة الاستصحاب في جميع
هذه الصور (أما في الصورة الأولى) أي: في صورة كون المتيقن العدم
الأزلي السابق على تشريع الاحكام، فان كان المستصحب عدم
وجوب الجز أو الشرط المشكوك فيه (فان أريد) من العدم العدم
النعتي
وما هو مفاد ليس الناقصة بمعنى: عدم جزئيته أو شرطيته لما هو
المجعول في ما بعد (وبعبارة أخرى) في الأزل قبل جعل الاحكام هذا
المشكوك لم يكن جزا أو شرطا للمجعول حتى يكون من قبيل
السالبة بانتفاء الموضوع أي ما كان في الأزل مجعولا فما كان مشكوك
الجزئية أو الشرطية بعد الجعل جز أو شرطا للمركب للغير المجعول
في الأزل.
(وأنت خبير) بأن عدم الجزئية بهذا المعنى أي: العدم النعتي قبل
جعل المركب لا معنى له (لأنه) أيضا مثل الوجود المقابل له نعت و
وصف
للمركب، فلا يعقل كونه قبل وجود موصوفه (فليس) للعدم بهذا
المعنى متيقنا أصلا (أما قبل) جعل المركب فلما عرفت أما من حين
الجعل
وبعده فالمفروض أنه مشكوك، وكذلك ليس للعدم حالة سابقة يكون
العدم فيها متيقنة لو كان المراد من العدم النعتي عدم تعلق الجعل
واللحاظ بالمشكوك فيه في ظرف تشريع المركب ولحاظ أجزائه
(بحيث) كان هذا العدم وصفا ونعتا للحاظ المركب وأجزائه، لان
ظرف هذا العدم ظرف جعل المركب ولحاظ أجزائه (فلا معنى)
لكونه متيقنا قبل هذا الظرف، وفي هذا الظرف المفروض أنه مشكوك
لحاظ جزئيته وبسط أمر المتعلق بالمركب عليه (وإن أريد) من العدم
السابق على الجعل العدم المحمولي وما هو
317

ليس التامة أي: عدم وجود الجعل واللحاظ المتعلق بهذا المشكوك
فيه فهذا وإن كان متيقنا قبل جعل المركب (كما أن) عدم جعل
المركب أيضا متيقن قبل تحقق الجعل، بل عدم كل ممكن متيقن قبل
وجوده سواء أ كان من الأمور التكوينية أو الاعتبارية كالاحكام
الشرعية تكليفية أم وضعية (لان) وجود كل حادث مسبوق بالعدم
الواقعي المقابل للوجود، لكن هذا الاستصحاب بهذه الصورة لا يثبت
عدم جزئية المشكوك ولا عدم شرطيته للمركب المجعول إلا على
القول بالأصل المثبت (وكذلك) لا يثبت تعلق الجعل والوجوب
بخصوص الأقل إلا على ذلك القول وسيأتي في محله إن شاء الله
تعالى بطلان وفساد هذا القول.
هذا مضافا إلى أن عدم تحقق الجعل واللحاظ المتعلق بالمشكوك فيه
لا أثر شرعي له (لان) الآثار الشرعية مترتبة على المجعول لا على
الجعل بحيث لو فرضنا محالا انفكاك الجعل عن المجعول - فلو وجد
الجعل ولم يوجد المجعول - لم يترتب عليه أثرا أصلا، وبالعكس
يترتب عليه جميع آثاره، وليس أيضا بنفسه من الأحكام الشرعية و
مجعولاته حتى تقول بعدم احتياج الاستصحاب إلى الأثر الشرعي
فهذا الاستصحاب لغو لا ثمرة له إلا على القول بالأصل المثبت بأن
يثبت بأصالة عدم تحقق الجعل عدم تحقق المجعول (وإن كان
المستصحب) عدم وجوب الأكثر بأن يقال بأن تعلق الجعل بالأكثر
المشتمل على هذا الجز أو الشرط المشكوك فيه مشكوك وقبل
الجعل في الأزل كان عدم تعلق الجعل بالأكثر المشتمل على الجز أو
الشرط المشكوك فيهما متيقنا (فيستصحب) ذلك العدم المتيقن إلى
ما بعد الجعل.
فيرد عليه (أولا) ما قلنا في الصورة السابقة من عدم الأثر والثمرة لهذا
الاستصحاب إلا على القول بالأصل المثبت، إذ لا أثر لعدم جعل
318

وجوب الأكثر إلا بإثبات عدم المجعول (وثانيا) بمعارضته مع
استصحاب عدم تعلق الجعل بالأقل لا بشرط فعلي تقدير جريانه من
حيث
تمامية أركانه يسقط من جهة المعارضة (ولكن يمكن) أن يقال بعدم
ورود كلا الايرادين (أما الأول) فمن جهة أن جعل الوجوب وعدمه
كلاهما بيد الشارع في عالم التشريع (وبعبارة أخرى) أمر وضعه ورفعه
بيده فيمكن ورود التعبد الشرعي بوضعه أو رفعه، وهذا
المقدار كاف في استصحابه ولا يلزم أن يكون لغوا ولا ثمرة له لان
المراد من الجعل الايجاب والفرق بين الايجاب والوجوب اعتباري
وإلا في الحقيقة الايجاب بالمعنى الاسم المصدري عين الوجوب و
كذلك الجعل بالمعنى الاسم المصدري عين المجعول فعدم الجعل
بالمعنى الاسم المصدري عين عدم المجعول لا أن عدم المجعول من
اللوازم العقلية لعدم الجعل حتى يكون من قبيل أصل المثبت.
(وأما الثاني) أي معارضة هذا الاستصحاب باستصحاب عدم جعل
وجوب الأقل لا بشرط (ففيه) ما تقدم من عدم أخذ هذه الاعتبارات
في
معروض الوجوب وان معروضه ذوات الاجزاء من دون ملاحظتها لا
بشرط، أو بشرط شي، ولا شك في أن وجوب ذوات الاجزأ
المحدودة بحد الأقل - من دون تقيدها بذلك الحد - معلوم فلا يبقى
مجال لاستصحاب عدم وجوبها فأصالة عدم وجوب الأكثر تبقى بلا
معارض فتأمل، هذا كله فيما إذا كان المراد من العدم العدم الأزلي (و
أما إذا كان) المراد منه العدم قبل دخول الوقت في الموقتات فإنه
حيث أن الوجوب مشروط بدخول الوقت فقبل الوقت لا وجوب إذا
كان من قبيل الواجب المشروط لا المعلق فيستصحب ذلك العدم
المتيقن قبل الوقت (فتارة) عدم وجوب الجز أو الشرط - المشكوك
فيهما - يستصحب عدمه النعتي فسيأتي الاشكال المتقدم في عدم
النعتي الأزلي للجز من أنه ليس له حالة سابقة متيقنة لما
319

قلنا من أن النعت بدون وجود المنعوت لا يمكن وحيث أنه لا وجود
للمركب الواجب قبل الوقت فعدم الجزئية له بما هو نعت أيضا لا
يمكن أن يكون قبل الوقت لأنه يلزم منه وجود الوصف قبل وجود
الموصوف (وأخرى) يستصحب عدمه المحمولي أي عدم وجود
الجز
المشكوك قبل الوقت أي بما أنه جز أو بما أنه واجب ولا شك في
تيقن هذا لعدم قبل الوقت لعدم وجوب المركب وسائر الاجزأ
المتيقنة أيضا قبل الوقت فضلا عن الجز المشكوك فيه فأركان
الاستصحاب فيه من اليقين السابق والشك اللاحق تامة.
لكن أورد شيخنا الأستاذ (قده) أنه لا أثر لهذا الاستصحاب إلا كون
معروض الوجوب هو خصوص أجزاء الأقل أي الأقل لا بشرط فيكون
من الأصل المثبت (ولكن) يمكن أن يقال أثر هذا الاستصحاب ليس
إثبات الوجوب لأجزأ الأقل لان وجوبها متيقنة فلا معنى لاثبات ما
هو حاصل بالوجدان بالتعبد واعتبار كونها لا بشرط قلنا أنه خارج عن
معروض الوجوب بل أثره رفع الوجوب أو الجزئية مثل حديث
الرفع والفرق بينهما في المقام ليس إلا أنه أصل تنزيلي ومفاد حديث
الرفع أي البراءة أصل غير تنزيلي فبضميمة هذا الاستصحاب إلى
الوجدان يثبت أنه يجب عليه إتيان أجزاء الأقل دون جز المشكوك و
هو المطلوب في المقام (وتارة يكون) المستصحب عدم وجوب
الأكثر المشتمل على الجز المشكوك فيه قبل الوقت ولا شك في
تمامية أركان الاستصحاب في هذه الصورة من اليقين السابق والشك
اللاحق.
وقد أورد عليه شيخنا الأستاذ (قده) بإيرادين (الأول) أنه مثبت لأنه لا
أثر له إلا إثبات ان الواجب هو الأقل (والثاني) معارضته
باستصحاب عدم وجوب الأقل قبل الوقت، وقد أجبنا عن الايرادين
في
320

بعض الصور السابقة فلا نعيد (وأما إذا كان) المراد منه استصحاب
العدم في حال الصغر فالظاهر أن هذا الاستصحاب أيضا لا إشكال
فيه إلا في بعض الصور التي نشير إليه إن شاء الله تعالى (وأورد عليه)
شيخنا الأستاذ (قدس سره) بأن العدم حال الصغر يكون من جهة
عدم قابلية الصغير للتكليف فكونه مرخى العنان - من فعل أو ترك -
ليس من قبل ترخيص الشارع ورفع الالزام منه بل اللاحرجية
للصغير من جهة أنه كالبهائم والمجانين ما وضع عليه قلم التكليف قبل
البلوغ لعدم قابلية المحل لا أنه رفع عنهم الالزام امتنانا عليهم و
هذا العدم الذي من جهة عدم قابلية المحل واللاحرجية القهرية يرتفع
قهرا بواسطة البلوغ، إذ معنى هذا العدم عدم وضع قلم التكليف
عليه وبعد التكليف والبلوغ تبدل هذا العدم قطعا ووضع عليه قلم
التكليف فلا مورد للاستصحاب (مضافا) إلى عدم أثر لهذا
الاستصحاب إلا عدم العقاب وهو حاصل بنفس الشك (وفيه) أن
هذا الكلام أي كون عدم التكليف في حال الصغر لعدم قابلية المحل
فيكون من اللاحرجية القهرية فلا يكون الرفع من قبل الشارع بل من
جهة عدم وضع قلم التكليف عليه وبعد البلوغ يرتفع وينتقض
ذلك العدم قهرا عجيب إلى الغاية من جهة أن العدم الذي يجر
بالاستصحاب هو العدم المتصل بزمان الشك أي البلوغ ولا شك في
أن
حال الغلام والصبي خمسة دقائق مثلا أي بزمان يسير قبل البلوغ لا
يتفاوت مع حاله أول البلوغ من حيث عدم القابلية في الأول وقابلية
المحل في الثاني (ولذلك) نقول بشرعية عبادات الصبي وكونه
مشمولا للخطابات الاستحبابية بناء على أن المراد من رفع القلم عنه
رفع
الالزام عنه نعم في أول طفولته حيث أنه غير مميز ولا إدراك له يكون
عدم التكليف كما ذكره لكن ذلك العدم لا يستصحب بل العدم
المتصل بزمان البلوغ المتقدم عليه بزمان يسير (وأما إيراده) الثاني و
هو عدم الأثر لهذا
321

الاستصحاب (فجوابه) ظهر مما تقدم أن هذا الاستصحاب بضميمة
وجوب الأقل وجدانا يثبت به وجوب الأقل وعدم وجوب الأكثر
تعبدا،
وأما إشكال معارضته مع استصحاب عدم وجوب الأقل فقد أجبناه
فلا نعيد.
إن قلت بناء على هذا فلا يبقى مجال لجريان البراءة وحديث الرفع
مطلقا سواء كانت الشبهة وجوبية أو تحريمية بأقسامهما في الشبهة
البدوية.
قلنا في كل مورد كان الأكثر مترتبا على الترخيص والحلية فيحتاج إلى
أدلة البراءة، إذا باستصحاب عدم التكليف حال الصغر لا يثبت
إلا عدم المنع وأما الإباحة والترخيص فلا إلا على القول بالأصل
المثبت كما أنه في كل مورد يسقط استصحاب العدم في حال الصغر
بالتعارض تصل النوبة إلى البراءة كما أنه في الشبهة الموضوعية إذا لم
يكن له حالة سابقة تكون محلا للبرأة فتأمل، كما أنه لو كان
ضعف عقل الصبي وعدم قابليته للتكليف متصلا بالبلوغ فبرأ من
مرضه أول البلوغ فاستصحاب العدم لا يجري بالبيان الذي ذكره
شيخنا الأستاذ (قده) فلو شك في التكليف الإلزامي في هذه الصورة
يكون المرجع هي البراءة.
ثم أنه لا فرق في جريان البراءة العقلية والنقلية واستصحاب عدم
وجوب الأكثر حال الصغر لو قلنا به بين أن يكون منشأ الشك في
وجوب الأكثر فقد النص أو إجماله أو تعارض النصين فيما إذا قلنا
بتساقطهما وذلك من جهة اتحاد المناط والدليل في الجميع (وأيضا)
لا فرق فيما ذكرنا من البراءة العقلية والنقلية واستصحاب عدم الأكثر
في حال الصغر أو قبل الوقت في الموقتات أو العدم الأزلي بين
أن يكون الشك في الاجزاء أو الشرائط أو الموانع وفي الجميع تجري
البراءة واستصحاب العدم (وأيضا) لا فرق بين أن يكون الشرط
متحد الوجود مع الواجب كالايمان مع القربة التي هي موضوع
للوجوب بمعنى أنه متعلق لمتعلق الوجوب أي العتق أو كان له
322

وجود في الخارج غير وجود الواجب كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة و
في الموانع أيضا كذلك (فحيث) أن مرجع الشروط والموانع إلى
تقييد الواجب بوجود شي بحيث كان التقييد داخلا في الواجب و
القيد خارجا في الشروط وبعدم شي كذلك في الموانع (كان الشك)
في شرطية شي أو مانعيته للواجب مرجعه إلى أن الواجب هل هو
هذا الذات وحدها أو مع التقيد بهذا القيد الوجودي أو العدمي فنفس
الذات الذي هو الأقل وجوبه معلوم تفصيلا وأما مع التقيد فغير معلوم
فينحل العلم الاجمالي بالبيان المتقدم في الاجزاء فتجري البراءة
بالنسبة إلى الأكثر أو بالنسبة إلى التقيد.
الرابع في دوران الواجب بين الأقل والأكثر في المركبات التحليلية
كالحيوان المركب من الجنس والفصل بمعنى أن الأكثر كان مركبا من
الجنس والفصل كما إذا كان الواجب مرددا بين إطعام الحيوان
مطلقا أي حيوان كان أو خصوص الانسان فالانسان الذي هو الأكثر
مركب تحليلي ينحل عند العقل إلى جنس هو الحيوان وفصل هو
الناطق فقال الأستاذ (قدس سره) بوجوب الاحتياط بإتيان الأكثر لان
الأكثر وإن كان مركبا بنظر التحليلي العقلي إلا أنه بنظر العرف
يكون مفهوما بسيطا مباينا لمفهوم الأقل فالانسان مع الحيوان الجنسي
وإن كان بالدقة العقلية من الأقل والأكثر ولكن عند العرف
من المتباينين فإذا علم إجمالا بوجوب إطعام الحيوان أو الانسان
فالقطع بامتثال هذا التكليف والفراق عن عهدته لا يحصل إلا بإطعام
خصوص الانسان لان نسبة حديث الرفع إلى كليهما متساوية
فيتساقطان بالتعارض (وهذا الكلام) صدر بناء على مسلكه في الأقل
و
الأكثر الارتباطيين من عدم جريان البراءة العقلية وان الانحلال محال و
إلا فلا دخل لنظر العرف في هذه المسألة لان الانحلال أمر عقلي
بل بينا أنه في الحقيقة ليس علم إجمالي في البين إلا بلحاظ الحدين
أي حد الأقل والأكثر وقد بينا
323

خروج الحد واعتبار اللا بشرطية عن معروض الوجوب فيكون من
أول الامر علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي بالنسبة إلى
الزائد (ففي المقام) كون المعنى الجنسي موضوعا لمتعلق التكليف
الذي هو الاطعام في المثال المذكور معلوم تفصيلا من أول الامر و
الشك في وجوب الفصل الخاص فبناء على هذا مقتضى ما ذكرنا
جريان البراءة في الخصوصية الزائدة المتحدة وجودا مع المعنى
الجنسي.
ولكن التحقيق أن الخصوصية الزائدة المشكوكة (قد تكون) من
مقومات المعنى المتخصص بها عقلا كالفصل بالنسبة إلى الجنس، و
ذلك
من جهة أن معنى الجنسي لا يمكن أن يوجد في الخارج بدون الفصل
بل وجوده دائما لا بد وأن يكون في ضمن أحد الفصول ففي مثل
ذلك لو وقع متعلقا أو موضوعا للتكليف لا بد وأن يكون في ضمن
أحد أنواعه (فلو قال) جئني بحيوان أو أطعم حيوانا حيث أن التكليف
بلحاظ الوجود الخارجي وليس للجنس وحده وجود خارجي ولا
يمكن أن يكون فلا بد وأن يكون متعلقا للتكليف مقرونة بأحد
الفصول والنتيجة أنه إذا قال أطعم حيوانا يكون واجبا تخييريا بالنسبة
إلى الفصول (والمقصود) أن الجنس وحده ليس متعلقا للتكليف
ولا يمكن أن يكون حتى يكون هو القدر المتيقن بل في المطلق مثل
أطعم حيوانا يكون معروض الوجوب هو الحيوان مع أحد الفصول
تخييريا وفي المركب الأكثر أي الخاص كالانسان مثلا يكون معروض
الوجوب المعنى الجنسي مع فصل معين فيكون من قبيل دوران
الامر بين التعيين والتخيير لا بين الأقل والأكثر وقد تقدم أن في باب
دوران الامر بين هذا القسم من التعيين والتخيير مقتضى القاعدة
هو التعيين لا البراءة عن الخصوصية (وقد يكون من مقوماته بنظر
العرف وإن لم يكن من مقوماته عقلا كما إذا قال تارة اشتر لي
جارية وأخرى قال اشتر لي جارية رومية
324

حيث أن الرومية ليس من مقومات الجارية عقلا ولكن بنظر العرف
يرونه نوعا آخر مقابل الجارية الحبشية (والضابط) فيه أنه إذا باع
العبد الحبشي بعنوان الرومي تكون المعاملة من قبيل تخلف العنوان و
باطلا، لا من قبيل تخلف الوصف وموجبا للخيار فقط كما إذا قال
بعتك هذا العبد الكاتب ولم يكن كاتبا (ففي مثل) هذا القسم أيضا
ألحقه شيخنا الأستاذ (قدس سره) بالقسم الأول باعتبار أن المطلق
كقوله اشتر لي جارية تخيير بين أنواع الجارية من الحبشية والرومية و
غيرهما بنظر العرف حيث يرون هذه العناوين أنواعا وحقائق
مختلفة بنظرهم وإن لم يكن كذلك عقلا وقوله اشتر جارية رومية
تعيين لهذا النوع فيكون من قبيل دوران الامر بين التعيين و
التخيير وليس معلوم تفصيلي في البين حتى تجري البراءة في
الخصوصية الزائدة.
ولكن أنت خبير بأن هذا القسم ليس من قبيل القسم الأول عقلا و
القدر المتيقن والمعلوم تفصيلا بنظر العقل موجود والانحلال عقلي و
لا عبرة بنظر العرف (وتارة) الخصوصية الزائدة ليست من مقوماته لا
عقلا ولا عرفا ففي هذا القسم جريان البراءة في الخصوصية
الزائدة المشكوكة لا إشكال فيه ويكون حالها حال مشكوك الجزئية و
الشرطية فيما إذا كان منشأ انتزاع الشرطية أمرا خارجا غير
متحد الوجود مع المشروط (والاشكالات) الواردة هنا عين
الاشكالات التي أوردوا هناك والأجوبة عنها عين الأجوبة فلا
نعيدهما.
وأما مسألة تحصص الطبيعة وإن الحصة الموجودة من الطبيعة في
ضمن اقتران الطبيعة مع أي خصوصية غير الحصة الأخرى منها حين
اقترانها بخصوصية أخرى حتى يكون من قبيل الدوران بين المتباينين
(فجوابه) ظهر مما تقدم في مسألة المطلق والمقيد بأن القول بأن
الطبيعة متحصصة بذاتها
325

مما لا أساس لها بل المعنى المعقول من الحصة هو الكلي المقيد بقيد
بحيث يكون التقيد داخلا في اللحاظ والقيد خارجا عنه فليست
الطبيعة المجردة عن القيد في الأقل لها حصص وفي طرف الأكثر
عبارة عن حصة معينة حتى يكون من قبيل الدوران بين التعيين و
التخيير من هذه الجهة فلا يكون فرقا بين الدوران بين الجنس والنوع و
بين النوع وفرده بل بين أي مطلق ومقيدة هذا كله كان في
الشبهة الحكمية.
الامر الخامس في دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين في
الشبهة الموضوعية
ويظهر من الشيخ الأعظم الأنصاري (قده) جعل الشبهة الموضوعية
في الأقل والأكثر الارتباطيين من أقسام الشك في المحصل (قال)
شيخنا الأستاذ (قده) ولعله من جهة عدم تصويره وقوع الشك في
الأقل والأكثر الارتباطيين في الشبهة الموضوعية في متعلق التكليف
ولذلك قال فيها بالاحتياط (ولكن) الصحيح هو إمكان وقوع هذا
الشك في متعلق التكليف فيما إذا كان لمتعلق التكليف تعلق
بالموضوعات الخارجية كما إذا أمر بإكرام العلماء مثلا (بيان ذلك) أنه
لا شك في اتساع دائرة فعل المكلف أي الاكرام في المثل
المذكور باتساع موضوعه أي العلماء وذلك من جهة أن نسبة فعل
المكلف أي الاكرام مثلا إلى موضوعه أي العلماء نسبة العرض إلى
معروضه والعرض تابع لمعروضه في السعة والضيق فكلما كان أفراد
العلماء أكثر تكون دائرة الاكرام أوسع وفي العكس بالعكس (و
السر في ذلك) هو انحلال القضية إلى قضايا متعددة حسب تعدد أفراد
العلماء مثلا فإذا شك في كون فرد من الافراد أنه عالم أو لا فإذا
كان عالما تكون دائرة متعلق التكليف أوسع وهذا هو الأكثر لأنه تزيد
على قضايا المنحلة قضية أخرى وإن لم يكن عالما لا تزيد قضية
أخرى وهذا هو الأقل فإذا شك في عالمية فرد من الافراد يكون متعلق
التكليف أي
326

الاكرام دائر بين الأقل والأكثر فإذا كان العام عاما مجموعيا يكون
الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين هذا بحسب تحقق موضوعه (و
أما حكمه) فواضح أنه البراءة للشك في وجود قضية أخرى بالنسبة
إلى هذا المشكوك الفردية وقد تقدم أن المرجع في جميع موارد
الانحلال بالنسبة إلى الفرد المشكوك المصداقية هي البراءة سوأ
كانت الشبهة وجوبية أو تحريمية ومعلوم أن منشأ الشك أمور خارجية
فتكون الشبهة موضوعية (فظهر) أن وقوع الأقل والأكثر الارتباطيين
في الشبهة الموضوعية بمكان من الامكان وله أمثلة في الفقه.
منها المسألة المعروفة العام البلوى في مورد الشك في لباس المصلي
أنه من المأكول أو من غيره (فمن يقول) بجواز الصلاة فيه يقول
بالبرأة عن المانعية لما ذكرنا من الانحلال والشك في وجود قضية
بالنسبة إلى هذا الفرد المشكوك المصداقية يمنع عن الصلاة
فتجري البراءة عن النهي المشكوك فيرتفع المانعية برفع منشأ انتزاعها
(وبعبارة أخرى) يدور متعلق النهي الغيري الذي هو منشأ
اعتبار المانعية أي الصلاة بين الأقل إذا قلنا بعدم كون هذا الفرد
المشكوك منهيا من جهة عدم كونه من غير المأكول في حاق الواقع و
بين الأكثر إذا كان هذا المشكوك الفردية في حاق الواقع من أفراد غير
المأكول لما ذكرنا من تبعية المتعلق لموضوعه في السعة و
الضيق فهاهنا الصلاة التي متعلق التكليف يتبع موضوعها أعني غير
المأكول في السعة والضيق أي المنهي يكون أوسع.
327

التنبيه على أمور
الأول
في أنه هل الأصل في الاجزاء هي الركنية بمعنى أن زيادتها أو نقيصتها
سهوا أو نسيانا يوجب بطلان المركب منه ومن غيره أم لا و
بعضهم خصص الركنية ببطلان العمل بنقيصتها سهوا وعمدا دون
زيادتها كذلك وأما نقصان العمدي فموجب للبطلان مطلقا سواء كان
ركنا أو لم يكن وإلا يلزم أن يكون ما فرضته جزا ليس بجز وهو
خلف محال (فبناء) على القول الأول الفرق بين الجز الركني وغير
الركني يكون من جهة النقيصة والزيادة جميعا لان الجز غير الركني لا
يبطل العمل لا بزيادتها سهوا ولا بنقيصتها كذلك (وبناء) على
القول الثاني يكون الفرق بينهما من جهة النقيصة فقط لان عدم البطلان
بالزيادة مشترك بينهما وأما الزيادة العمدية في غير الركن
فكونها موجبا للبطلان مبني على أخذه بشرط لا وإلا فلا وجه للبطلان
بها ولكن حينئذ يكون من النقيصة لا من الزيادة وذلك واضح
(ثم لا يخفى) أن تسمية ما يوجب تركه عمدا أو سهوا للبطلان أيضا
بالركن مجرد اصطلاح من الفقهاء والذي يهم في المقام هو أن مجرد
ترك جز من المركب الواجب سهوا يوجب بطلان العمل أي جز كان
أو يحتاج الحكم بالبطلان إلى دليل خاص على ذلك فكل جز جاء
الدليل على أن تركه سهوا يوجب البطلان أو مضافا إلى هذا يكون
زيادته سهوا أيضا كذلك نسميه بالركن وإلا فلا (فتارة) نتكلم في
أنه هل ترك الجز سهوا يوجب البطلان مطلقا أي جز كان أو لا بل
يحتاج إثبات البطلان إلى دليل خاص (وأخرى) نتكلم في أنه هل
زيادة الجز عمدا أو سهوا يوجب البطلان مطلقا أي جز كان أم لا فهنا
مقامان
(فالأول)
328

توضيحه يتوقف على البحث من جهات ثلاث.
(الأولى) أنه هل يمكن توجيه الخطاب ثبوتا بما عدا الجز المنسي
إلى الناسي بأن يقال مثلا أيها الناسي للسورة يجب عليك إتيان الصلاة
بجميع أجزائها ما عدا الجز المنسي أو لا يمكن.
(الثانية) أنه على فرض إمكان ذلك ثبوتا هل هناك في مقام الاثبات
دليل عليه من أمارة أو أصل أم لا.
(الثالثة) أنه على فرض عدم إمكان توجيه مثل ذلك الخطاب إليه أو
إمكانه في عالم الثبوت ولكن لم يوجد عليه دليل في عالم الاثبات
هل هناك دليل من أصل أو أمارة يدل على أجزاء المأتي به الفاقد
للجز أو الشرط المنسي عن المأمور به الواقعي أم لا (فهذه) جهات
ثلاث
يجب تنقيحها لاثبات أن ترك الجز نسيانا أو سهوا يوجب بطلان
العمل الفاقد للجز المنسي أو شرطه كذلك أم لا.
(أما الجهة الأولى)
فاستشكل في إمكان ذلك في عالم الثبوت بأن الخطاب المتوجه إلى
المكلف لا بد وأن يكون قابلا لان يكون داعيا ومحركا إلى العمل
بمضمونه وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك لان الخطاب إلى الناسي و
الساهي والغافل وأمثال ذلك من العناوين المنطبقة على غير الملتفت
إلى جزئية جز لا يخلو من أحد أمرين إما أن يلتفت إلى هذا العنوان أو
لا ومع عدم الالتفات لا يمكن أن يكون داعيا ومحركا فيكون
الخطاب لغوا ومع الالتفات يخرج عن كونه مصداقا لهذا العنوان (وإن
شئت قلت) يلزم من كونه داخلا في هذا العنوان بما هو داع و
محرك عدم دخوله فيه وهذا محال (وقد أجيب) عن هذا الاشكال
بوجوه (الأول) ما أفاده صاحب الكفاية (قدس سره) وهو أنه من
الممكن توجيه الخطاب إلى الناسي بما عدا الجز المنسي بعنوان عام
أو خاص ملازم لكونه ناسيا مع عدم التفاته إلى
329

تلك الملازمة فلا يلزم محال (وفيه) أنه صرف فرض لا واقع له مع
اختلاف النسيان بحسب اختلاف الاشخاص من حيث أسباب
النسيان و
أيضا من ناحية كثرة الاجزاء وقلتها التي صارت منسية واختلاف
الاجزاء التي يتعلق بها النسيان بحسب اختلاف الاشخاص و
اختلافهم
بحسب الحالات فرض عنوان ملازم للنسيان لجميع الاشخاص بحيث
يكون جامعا لجميع هذه التشتتات وإن لم يكن ممتنعا عقلا ولكن
ممتنع عادة (وبعبارة أخرى) ذلك العنوان العام بمعنى كونه عاما من
جهة كونه ملازما لمطلق نسيان الجز أي جز كان قليلة الاجزأ
المنسية أو كثيرة أو ذلك العنوان الخاص الملازم لنسيان جز خاص (و
إن كان) تصويره وفرضه لا مانع منه وعلى فرض وجود مثل
هذا العنوان يمكن الخطاب إلى الناسي بما عدا الجز المنسي لا
بعنوان أنه ما عدا الجز المنسي حتى يعود الاشكال بل الخطاب إليه
بذلك العنوان العام أو الخاص الملازم بأن يأتي بما يراه من أجزأ
الصلاة ويطبق الصلاة عليها ولو كان مخطئا في هذا التطبيق (ولكن
الشأن) في وجود مثل هذا العنوان عاما كان أو خاصا.
(الوجه الثاني) أيضا ما أفاده صاحب الكفاية من توجيه الخطاب
بالنسبة إلى الاجزاء التي جزئيتها مطلقة - وليست مخصوصة بحال
الذكر - إلى عامة المكلفين من الناسين والذاكرين ونتيجة مثل هذا
الخطاب أنه لو ترك المكلف شيئا من هذه الاجزاء يكون عمله باطلا
ويجب عليه الإعادة ولو كان تركه من جهة النسيان (وأما) بالنسبة إلى
سائر الاجزاء أي التي ليست جزئيتها مطلقة يوجه خطابا إلى
خصوص الذاكرين ونتيجة مثل هذين الخطابين أن الناسي لجز أو
أجزاء ليس مكلفا بالاجزاء المنسية إذا لم تكن جزئيتها مطلقة وأنه
مكلف بها إذا كانت جزئيتها مطلقة ولكن لا بعنوان أنه ناس حتى يلزم
المحال بل بعنوان العام الشامل لجميع المكلفين فيحصل
330

المقصود بدون لزوم محال وهذا الوجه لا يرد عليه إشكال ولا شك
في إمكانه في عالم الثبوت (ولكن) يحتاج في عالم الاثبات إلى
دليل يدل على مثل هذا الجعل والخطاب وسنتكلم عنه.
(الوجه الثالث) وهو المختار عندي وهو أنه يمكن أن يقال أن
الخطاب المتوجه إلى عامة المكلفين هو الامر بالجامع بين الافراد
الصحيحة التي تختلف من حيث الاجزاء والشرائط قلة وكثرة وكيفية
بحسب حالات المكلفين علما وجهلا ذكرا ونسيانا وكذلك
بحسب سائر الحالات والطوارئ فالصلاة مثلا في حق الناسي لبعض
الاجزاء والذاكر لها وإن كانت تختلف بالنسبة إلى المصداق (و
لكن) لا اختلاف بينهما من حيث ذلك الجامع لأنه كما أن ما أتى به
الذاكر من الصلاة الجامعة لجميع الاجزاء والشرائط مصداق للصحيح
كذلك الذي يأتي به الناسي لبعض الاجزاء الفاقد لذلك البعض
المنسي مصداق للصلاة الصحيح فالجامع في كليهما موجود بدون أي
اختلاف بينهما وإلا ليس بجامع فكل واحد منهما أي الذاكر والناسي
أتى بما هو المأمور به أي الجامع وهو الصلاة الصحيح (نعم) كل
واحد منهما يرى نفسه ذاكرا ويرى صلاته جامعة لجميع الاجزاء و
الشرائط (غاية الامر) الناسي مخطئ في هذه العقيدة أي في أنه ذاكر و
أتى بما هو وظيفة الذاكر وهذا الخطأ لا يضر بصحة عمله وامتثاله
للامر المتوجه إليه لأنه أتي بما هو وظيفته واقعا بقصد القربة و
اشتبه في أمر آخر وهو أنه ذاكر وإن ما أتى به هو وظيفة الذكر (نعم) لا
بد وأن يثبت من الخارج أن وظيفة الناسي ليس إتيان تمام
الاجزاء في غير الأركان بل خصوص ما يتذكرها منها (نعم هذا الوجه)
يتوقف على أن يكون بين أفراد الصحيحة جامع عنواني يكون هو
المراد في الخطابات العامة وإنما الاختلاف من حيث الكم والكيف
في الافراد راجعة إلى الخصوصيات الفردية الناشئة عن اختلاف
حالات المكلفين
331

أو سائر الجهات الزمانية والمكانية أو غير ذلك وذكر وجوه اخر لا
يهمنا ذكرها هذا كله في الجهة الأولى.
(أما الجهة الثانية)
أي بعد الفراغ عن إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي بما عدا الجز
المنسي في عالم الثبوت بأحد الوجوه المتقدمة أو بوجه آخر فهل
هناك دليل في عالم الاثبات من أصل أو أمارة على وقوع ذلك أم لا
فنقول (تارة) نتكلم في وجود الامارة ودليل الاجتهادي على الوقوع
(وأخرى) في الأصل العملي.
(أما الأول) أي وجود دليل اجتهادي على أن الناسي مكلف بإتيان ما
عدا الجز المنسي أم لا فبيان ذلك هو أنه لا شك في أن الجزئية
بمقتضى طبعه الأولى يقتضي انعدام تكليف المتوجه إلى المركب
بسقوط التكليف عن الجز لنسيانه أو لجهة أخرى من موجبات سقوط
التكليف عنه لأنه ليس هناك إلا تكليف واحد متعلق بالمجموع فبعد
سقوطه عن الجز فلا يبقى شي كي يتعلق بما عدا الجز الذي سقط
التكليف عنه بأحد موجبات السقوط فلو كان تكليف بالباقي لا بد وأن
يكون تكليفا جديدا آخر.
فنقول إذا كان لدليل الجز إطلاق - يشمل جميع حالات المكلف أو
خصوص هذه الحالة أعني طرو النسيان عليه بالنسبة إلى ذلك الجز
- فلا شك في دلالة هذا الاطلاق على سقوط الامر عن المركب حتى
فيما إذا كان لدليل المركب أيضا إطلاق (وذلك) لحكومة إطلاق دليل
الجز على إطلاق دليل المركب ففي هذه الصورة تدل الامارة والدليل
الاجتهادي أعني إطلاق دليل الجز على عدم تكليف الناسي بما
عدا الجز المنسي (وأما) الصورة الثانية أي فيما إذا لم يكن لدليل
المركب إطلاق مع أن دليل الجز فيه إطلاق فالامر أوضح لان إطلاق
دليل الجز حينئذ يدل على سقوط الامر عن المركب وعدم توجه
تكليف إلى الناسي حتى بما عدا الجز
332

المنسي بدون توهم معارضة شي لهذا الاطلاق (بخلاف) الصورة
الأولى فإنه ربما يتوهم تعارض هذا الاطلاق مع إطلاق دليل المركب
(وإن كان) هذا التوهم فاسدا لما ذكرنا من حكومة إطلاق دليل الجز
على إطلاق دليل المركب لان إطلاق دليل الجز بيان لتقييد دليل
إطلاق المركب (وأما) إذا لم يكن لدليل الجز إطلاق كما إذا كان دليل
الجز أو الشرط هو الاجماع وهو دليل لبي لا إطلاق له ولذلك
يجب في مورد الشك الاخذ بالقدر المتيقن من مؤداه فهذا أيضا له
صورتان.
(إحداهما) أن يكون لدليل المركب إطلاق فيؤخذ بإطلاق دليل
المركب ويقال بأن الناسي وإن لم يكن مكلفا بإتيان الجز المنسي و
لكنه مكلف بإتيان ما عداه وذلك لاطلاق دليل المركب.
(الثانية) أن لا يكون لدليل المركب أيضا إطلاق فيكون كلاهما بلا
إطلاق وسيجئ الكلام فيه هذا كله في مقام الثبوت (وأما في مقام
الاثبات) فالظاهر أنه لا إطلاق لأدلة المركبات لورودها غالبا في مقام
التشريع وليست بصدد بيان مهية العبادة أو المعاملة من حيث
الاجزاء والشرائط فلا إطلاق لها من هذه الجهة وأما أدلة الاجزاء و
الشرائط فان كان من قبيل الاجماع وكان دليلا لبيان فلا إطلاق لها
فيما إذا لم يكن انعقاد الاجماع على صدور عنوان مطلق وأما ان كان
دليلا لفظيا فالظاهر أنها مطلقات بالنسبة إلى كلتا حالتي الذكر و
النسيان لان ظاهر دليل الجزئية ان المركب متقوم بذلك الجز
خصوصا فيما إذا كان لسان دليلها نفي المركب بنفيه وعدمه كقوله
عليه
السلام (لا صلاة إلا بطهور) ولا زكاة إلا بالحديد.
ولذلك فرق بعض - وهو الوحيد البهبهاني - بين أن يكون دليل
الجز من هذا القبيل أي من قبيل نفي المركب وانعدامه بانعدام الجز
فقال
333

بإطلاقه وشموله لحالة النسيان (وبين) أن يكون بلسان الامر به في
المركب أو معه أو قبله فقال بعدم الاطلاق من جهة أن منشأ انتزاع
الجزئية أو الشرطية ذلك الامر فتابع سعة وضيقا لمنشإ انتزاعه ولا
شك في سقوط الامر بالنسبة إلى نفس ذلك الجز المنسي حال
نسيانه لأنه تكليف بالمحال وإنما الكلام كان في إمكانه بالنسبة إلى ما
عدا الجز المنسي وأما بالنسبة إلى نفسه فواضح عدم إمكانه
فبسقوط الامر من جهة النسيان عن الجز المنسي لا يبقى منشأ انتزاع
لجزئيته فتكون جزئيته مختصة بحال الذكر (ولكن) هذا الكلام و
هذا الفرق في غير محله لان مبنى هذا الفرق على عدم صحة الامر
بالنسبة إلى الجز المنسي حال نسيانه وهذا صحيح فيما إذا كان الامر
نفسيا وليس في المقام كذلك لان منشأ انتزاع الجزئية في مثل اركع و
اسجد وتشهد مثلا في الصلاة ليس هو الامر النفسي بل الامر
الغيري الارشادي لان الامر النفسي ظاهر في أنه بنفسه مطلوب غاية
الامر ظرف وجوبه هذا المركب لا أنه من مقوماته وأجزائه فلا
معنى لان يكون منشأ لانتزاع الجزئية.
وأفاد أستاذنا المحقق (قده) في هذا المقام أنه على تقدير أن يكون
الامر المتعلق بهذه الأمور المذكورة وأشباهها مما هي أجزأ
للمركب أمرا نفسيا أي كان كل أمر من هذه الأوامر قطعة من ذلك الامر
الواحد المنبسط على جميع أجزاء المركب فأيضا لا مانع من
التمسك بإطلاق دليل الجز أي إطلاق الامر المتعلق به لشموله لحال
نسيان الجز لان الامر له ظهور إطلاقي من حيث الحكم التكليفي
لشموله لحال النسيان وظهور من من حيث الحكم الوضعي أي جزئية
ما تعلق به الامر للمركب في حال النسيان وحيث أن المقيد ليس إلا
حكم العقل بقبح توجيه الخطاب إلى الناسي وتكليفه بالنسبة إلى
الجز المنسي وهذا الحكم العقلي المقيد للاطلاق
334

ليس من الارتكازيات حتى يكون كالقرينة المحتفة بالكلام المتصلة به
مانعا من انعقاد الظهور الاطلاقي بل يكون حاله حال القرينة
المنفصلة مانعا عن حجية ذلك الظهور بعد انعقاده فهذا الحكم العقلي
غايته أنه يمنع عن حجية الظهور الاطلاقي بالنسبة إلى الحكم
التكليفي أي وجوب الركوع والتشهد مثلا على ناسي جزئيتهما وأما
بالنسبة إلى حكم الوضعي أي جزئيتهما في حال النسيان فلا
فحينئذ يؤخذ بالظهور الاطلاقي بالنسبة إلى الحكم الوضعي ويقال
بجزئيتهما في تلك الحالة هذا ما أفاده (قده) (ولا يخلو من غرابة)
لأن المفروض أن منشأ انتزاع الجزئية بناء على هذا وجوب النفسي
للجز وظهور الامر في الجزئية يتبع ظهوره في الوجوب فكيف
يبقى حجية ظهوره في الجزئية بعد سقوط حجية ظهوره في الوجوب
(هذا كله) من حيث التمسك في الجزئية أو عدمها بالأدلة و
الامارات.
وأما من حيث الأصل العملي (فربما يقال) بأن مقتضى إطلاق أدلة
الاجزاء والشرائط وإن كان ثبوت الجزئية مطلقا ولو في حال
النسيان إلا أن مقتضى قوله صلى الله عليه وآله في حديث الرفع (رفع
النسيان) رفع الجزئية في حال النسيان وذلك لما ذكرنا في شرح
الحديث مفصلا من حكومتها بالحكومة الواقعية على أدلة الأولية
بالنسبة إلى الفقرات الخمس - أي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه و
ما اضطروا إليه وما لا يطيقون - فحديث الرفع يخصص الجزئية بحال
الذكر لحكومته على إطلاق دليل الجز.
ولكن قد عرفت فيما تقدم في شرح الحديث أن الرفع وإن تعلق
ظاهرا بنفس النسيان ولكنه لا يمكن الاخذ به لأنه خلاف الامتنان لان
معنى رفع النسيان كون الفعل الصادر نسيانا كالفعل الصادر عمدا
فيكون الافطار الصادر نسيانا مثلا كالصادر عمدا موجبا للقضاء و
الكفارة أو شرب الخمر نسيانا موجبا للحد مثلا ولا شك في ورود
الحديث في مقام
335

فلا بد وأن يراد من رفع النسيان رفع المنسي بأن يجعل المصدر
بمعنى الفعل المبني للمفعول فيكون المرفوع هو الفعل الذي صدر
عن
نسيان مثلا لو شرب الخمر نسيانا يجعل هذا الشرب كالعدم من حيث
أثره الشرعي كما تقدم فيسقط عنه الحد وسائر الآثار الشرعية
المترتبة شرعا على الشرب العمدي (وبناء على هذا) فإجراء حديث
الرفع في هذا المقام أن الصلاة التي صدرت منه نسيانا لنسيان الجز
أو الشرط يجعل كالعدم فيصلي ثانيا وهذا خلاف الامتنان.
إن قلت أن المنسي ليس هو المركب الفاقد للجز المنسي لأنه صدر
عن عمد والتفات إليه غاية الامر باعتقاد أنه تمام المركب واشتبه
في ذلك بل المنسي هو الجز الذي نسيه ولم يأت به فعدم إتيانه به
لنسيان جزئيته وإلا لو كان ذاكرا لجزئيته لكان يأتي به فلا بد وأن
يكون المرفوع هي الجزئية في ذلك الحال لا الفعل الفاقد للجز حتى
يكون خلاف الامتنان.
قلنا (أولا أن) المفروض أن المنسي ذات الجز لا جزئيته وقد بينا
سابقا أن مفاد حديث الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم لا المعدوم
منزلة الموجود فليس مفاده أن الجز المعدوم من جهة نسيانه منزلة
الموجود فأتى المكلف الناسي للجز بالمركب التام تعبدا (وثانيا)
على فرض تسليم أن يكون المنسي هي الجزئية لا ذات الجز فنسيان
الجزئية في بعض الوقت في الموقتات و في بعض الأزمنة في غير
الموقتات وسقوطها بواسطة النسيان في ذلك الوقت لا يوجب
سقوطها في تمام الوقت أو في تمام العمر ولو بعد الذكر (هذا مضافا)
إلى سقوط الجزئية سقوطا واقعيا لا ظاهريا كما هو مفاد رفع النسيان
حيث ذكرنا سابقا في بيان مفاد حديث الرفع أنه بالنسبة إلى
هذه الفقرات الخمس يكون له حكومة واقعية على الأدلة الواقعية لا
يمكن إلا برفع الإرادة عن ذلك الجز وفي المركب الارتباطي
336

ليس إلا إرادة واحدة بسيطة منبسطة على المجموع فسقوطها عن
البعض مستلزم لسقوطها عن المجموع فلزوم إتيان ما عدا الجز
المنسي يحتاج إلى إرادة أخرى جديدة وحديث الرفع ليس متكفلا
لذلك (فظهر) من مجموع ما ذكرنا أنه لا دليل على توجه التكليف بما
عدا الجز المنسي إلى الناسي إلا فيما إذا لم يكن لدليل الجز إطلاق
وكان لدليل المركب إطلاق وأما إذا كان لدليل الجز إطلاق
فهناك يكون الدليل على عدم تكليف الناسي بما عدا الجز المنسي و
أما فيما إذا لم يكن لكلاهما إطلاق فليس دليل لا على تكليفه بما عدا
الجز المنسي ولا على عدمه.
أما الجهة الثالثة
أي وجود دليل على أن المأتي به الفاقد للجز نسيانا هل هو مجز عن
المأمور به واقعا أم لا (بيان ذلك) أنه مقتضى القاعدة عدم أجزأ
غير المأمور به خصوصا في المقام حيث أن غير المأمور به واقعا ليس
مأمورا به لا واقعا ولا ظاهرا فيكون خارجا عن مبحث الاجزأ
الذي تقدم في مباحث الألفاظ فإجزائه عنه وعدم الاحتياج إلى
الإعادة والقضاء يحتاج إلى دليل يدل عليه وليس في غير الصلاة ما
يدل
على ذلك ظاهرا وفي الصلاة عمدة ما يدل على ذلك هو قوله عليه
السلام (لا تعاد الصلاة إلا من خمس الطهور والوقت والقبلة و
الركوع والسجود) وأما مقدار دلالة هذا الحديث وأنه هل هو
مخصوص بالسهو والنسيان أو يشمل الجهل بالموضوع والحكم
قصورا
أو تقصيرا بعد الفراغ عن عدم شموله للخلل العمدي والفروع
المتفرعة عليه ففيها تفصيل طويل قد تعرضنا لها في شرح هذه
القاعدة
بطور التفصيل في كتابنا القواعد الفقهية.
هذا كله كان في المقام الأول أي بطلان العمل الفاقد للجز من جهة
النسيان في بعض الوقت فيكون البطلان من جهة النقص في المركب
المأمور به فيكون كل جز بمقتضى القاعدة من حيث النقيصة ركنا (و
أما) من
337

حيث الزيادة وهو
المقام الثاني
وهو أنه هل يبطل العمل بزيادة الجز عمدا أو سهوا أم لا (والفرق)
بين هذا المقام والمقام الأول في صورة العمد هو أن النقيصة
العمدية معلوم أنه توجب البطلان وإلا يلزم لغوية دليل الاجزاء و
الشرائط وأيضا الخلف وما فرضته جز أو شرطا للواجب أن لا يكون
كذلك وأما الزيادة العمدية فيمكن أن لا تكون موجبة للبطلان (و
بعبارة أخرى) يمكن تصوير الصحة معها (وفيها) أيضا مثل المقام
الأول جهات ثلاث (الأولى) في تصوير الزيادة في الاجزاء والشرائط
زيادة حقيقية وأنها ممكنة أم لا (الثانية) في ما تقتضيه القاعدة
الأولية في كل واحد من الزيادة العمدية والسهوية من الصحة و
البطلان (الثالثة) في ما تقتضيه الأدلة الثانوية على خلاف القاعدة
الأولية
وهل هناك دليل قائم على ذلك أي على خلاف القواعد الأولية أم لا.
أما الجهة الأولى
فربما يقال بعدم تصوير الزيادة في الاجزاء حقيقة لأنه لا يخلو الامر من
أن أجزاء المركب إما أخذت بشرط لا وإما لا بشرط وعلى
الأول يرجع إلى النقيصة وعلى الثاني لا يتصور الزيادة (أما الأول) فمن
جهة أن الجز إذا أخذ بشرط لا فيكون مركبا من ذات الجز و
قيد عدمي أي عدم تكرره فإذا تكرر فأحد جزئي الجز أعني القيد
العدمي ما تحقق فيكون من النقيصة (وأما الثاني) فمن جهة أنه إذا
أخذ
لا بشرط أي طبيعي الجز من غير اعتبار وجود فرد آخر من الطبيعي
معه ولا اعتبار عدمه لأنه على الفرض غير مقيد بكونه وجودا
واحدا ولا بكونه متعددا فلو وجد فردان من الطبيعي أو أكثر يصدق
على الجميع أنها من مصاديق المأمور به فلا يتصور الزيادة (وفيه)
أن الجز إذا كان اعتباره بنحو صرف الوجود من الطبيعة وما هو عادم
العدم ونقيضه فقهرا ينطبق على أول وجود من تلك الطبيعة
التي أخذت جز ولا ينطبق على الوجود الثاني
338

(ولذلك) قيل أن الامتثال عقيب الامتثال لا يعقل مع أن المأمور به هي
الطبيعة اللابشرط (نعم) لو أوجد أفرادا متعددة دفعة واحدة يكون
كلها مصداقا للمأمور به وأما لو أوجد فردا واحدا من الطبيعة حصل
الامتثال وتحقق صرف الوجود ووجد ما هو الجز (فيصدق) على
الوجود الاخر من تلك الطبيعة الذي عقيب الوجود الأول عنوان
الزيادة حقيقة لا بالمسامحة العرفية كما أفيد (نعم) على تقدير عدم
إمكان تحقق الزيادة الحقيقية يكفي في صدق الزيادة التي وردت في
الاخبار أنها مبطلة للصلاة الزيادة بنظر العرف ولو لم تكن زيادة
في البين حقيقة (ولكنك) عرفت أن الزيادة الحقيقية أمر ممكن وقوام
الزيادة في المركب الاعتباري بأمور ثلاثة (الأول) أن يكون
الزائد من سنخ المزيد فيه (والثاني) التجاوز عن الحد المعتبر في
المركب بمعنى عدم اعتبار هذا الزائد فيه (الثالث) أن يؤتى به بقصد
جزئيته للمركب وإلا يكون شيئا أجنبيا عن المركب لا زيادة فيه، فلو
أتى بشي من غير سنخ أجزاء أفعال الصلاة مثلا جعل في يده
خاتمة أو غير ذلك من الافعال فليس بزيادة ولا يكون موجبا للبطلان
من جهة الزيادة ولو قصد كونها جز للصلاة وكما أنه لو أتى
بما هو من سنخ أجزاء المركب (ولكن) لا بقصد الجزئية كما أنه لو
سجد للشكر أو ركع لغرض آخر لا بقصد أنه ركوع الصلاة لا يصدق
أنه زاد في صلاته (نعم) ورد في باب سجدة التلاوة عند قراءة إحدى
العزائم في الصلاة (أنها زيادة في المكتوبة) ولا بد من حملها على
الزيادة العرفية أو محمل آخر هذه هي الجهة الأولى.
الجهة الثانية
وهي أنه بمقتضى القواعد الأولية هل الزيادة السهوية بل العمدية
توجب البطلان أم لا.
فنقول بطلان العمل لا يمكن إلا بالاخلال فيه بفقد ما اعتبر فيه
339

وجوده من الاجزاء والشرائط أو عدمه بوجود ما اعتبر من الموانع و
القواطع سواء كان اعتبارها بحكم الشرع أو العقل (وأما) إذا أتى
بجميع ما اعتبر وجوده وترك جميع ما اعتبر عدمه فلا وجه لبطلانه و
لذا فرقنا بين النقيصة والزيادة فيما سبق في مورد العمد بأن مع
النقيصة العمدية صحة العمل يكون موجبا للخلف بخلاف الزيادة فإنه
يمكن الحكم بالصحة بدون لزوم أي محذور في البين فالزيادة
سواء كانت عمدية أو سهوية كونها موجبة للبطلان متوقف على اعتبار
الجز مقيدا بعدم الزيادة أو وجود دليل تعبدي على أن الزيادة
مطلقا موجبة للبطلان والأخير راجع إلى الجهة الثالثة وسيجئ الكلام
فيه (وأما الأول) أي تقييد المركب بعدم زيادة الجز فيه فالشك
فيه يرجع إلى الأقل والأكثر في المركبات التحليلية وقد تقدم أن
المختار فيها جريان البراءة (فمقتضى) الأصل عدم بطلان المركب
بالزيادة العمدية فضلا عن السهوية فالأصل في طرف الزيادة يقتضي
عدم الركنية على خلافه في طرف النقيصة.
وقد يستدل لعدم البطلان بالاستصحاب وتقريره من وجهين (الأول)
استصحاب الصحة التأهلية للاجزاء التي أتى بها قبل أن يأتي بهذه
الزيادة والصحة التأهلية في المقام عبارة عن صلاحيته لانضمام سائر
الاجزاء بها وحصول الامتثال بالمجموع (الثاني) استصحاب
الهيئة الاتصالية التي كانت في المركب قبل حدوث هذه الزيادة و
المراد بها الجز الصوري للمركب القائم بمادته أي ذوات الاجزأ
فكما
أن المركبات الخارجية الحقيقية مشتملة على مادة وهي أجزأ
المركب في الخارج وعلى صورة وهي مدار وحدته وعليه يدور
تسميته
بل تلك الصورة مبدأ أثره كذلك في بعض المركبات الاعتبارية صورة
إذا انعدمت لا يكون أثر للاجزاء أصلا ودليل إثبات مثل هذه
الصورة للمركب - بعد إمكانها في عالم الثبوت - أدلة القواطع
340

لان معنى القاطع هو قطع تلك الهيئة الاتصالية وانعدام صورة المركب
بها وهذا هو الفرق بين القاطع والمانع (فالمانع) هو الذي اعتبر
عدمه في المركب كلبس الذهب أو غير المأكول في الصلاة مثلا من
دون أن يقطع الهيئة الاتصالية (والقاطع) ما يقطع تلك الهيئة ولذلك
لو أوجد مانعا حال السكونات المتخللة بين الصلاة ورفع حال
الاشتغال لا يكون موجبا للبطلان بخلاف القاطع فإنه أينما وجد
كالاستدبار والحدث يوجب البطلان (وذلك) لمضادته مع حالة كونه
في المركب.
وأورد شيخنا الأستاذ (قده) على تقدير الأول أن الصحة التأهلية
بالمعنى الذي ذكرنا له مقطوع البقاء وعدم تأثير انضمام بقية الاجزأ
ليس لنقص في تلك الاجزاء بل هي باقية على ما كانت عليه وإنما
الشك وقع من جهة احتمال مانعية الموجود أي الزيادة (وفيه) أن قبل
وجود الزيادة كانت الصحة التأهلية موجودة قطعا سواء كانت الاجزأ
السابقة مأخوذة لا بشرط أو بشرط لا وبعد وجودها فان كانت
مأخوذة لا بشرط فأيضا قطعا موجود وأما إن كانت مأخوذة بشرط لا
فقطعا غير موجود لعدم حصول قيدها ولما كان كيفية أخذها
مشكوكة من ناحية هذين الاعتبارين فقهرا يكون بقاء تلك الصحة
مشكوكا.
وأورد على تقرير الثاني بأن دلالة أدلة القواطع على وجود مثل هذه
الصورة في الصلاة أو الطواف مثلا غير معلوم (إذ من الممكن) أن
يكون بطلان الصلاة مثلا بها حتى في حال السكونات المتخللة من
جهة تقييدها بعدم وجود هذه الاشياء حتى في تلك الحالات لا من
جهة
ارتفاع تلك الصورة المفروضة (فليس) لاثبات تلك الصورة دليل وإن
كان ممكنا في عالم الثبوت (ولا شك) في أن إمكان وجود شي
لا يوجب اليقين بوجوده حتى يستصحب.
341

(وفيه) أن هذا الكلام صحيح إذا لم يكن متعلق النهي في باب القواطع
بعنوان أنه قاطع وإلا لو كان كذلك فهذا العنوان سواء كان متعلق
النهي أو كان تعليلا للنهي ظاهر في وجود تلك الصورة والهيئة
الاتصالية وظواهر الألفاظ حجة (نعم) هذا الاستصحاب يختص
بالمركب
الذي ورد النهي عن قواطعه ولا يعم جميع المركبات وهذا
الاستصحاب يجري في كل ما شك في قاطعيته بعد الفراغ عن وجود
تلك
الهيئة الاتصالية كما أن البراءة تجري في كل ما شك في قاطعيته أو
مانعيته كما تقدم (وسائر) الاشكالات التي أوردها شيخنا الأستاذ
(قده) على استصحاب الهيئة الاتصالية (واضح دفعها) ولا يخفى
عدم تماميتها على الفطن العارف.
أما الجهة الثالثة
فالظاهر أنه لم يرد دليل على بطلان جميع المركبات بالزيادة العمدية
أو السهوية إلا في الصلاة والطواف فقد وردت عدة روايات في
بطلان الصلاة بالزيادة وكذلك في الطواف والروايات الواردة في باب
بطلان الصلاة بالزيادة مختلفة (فبعضها) مطلق من حيث العمد
والسهو والأركان وغيرها كقوله عليه السلام في خبر أبي بصير (من
زاد في صلاته فعليه الإعادة) (وبعضها) مخصوص بحال السهو و
لكنه مطلق من حيث الأركان وغير الأركان كقوله عليه السلام فيما رواه
الشيخ والكليني (قدهما) عن زرارة وبكير بن أعين (إذا
استيقن أنه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتد بها واستقبل صلاته
استقبالا إذا كان استيقن يقينا) - وبعضها - يظهر منها عدم البطلان
مطلقا في صورة السهو سواء كان من الأركان أو من غيرها كقوله عليه
السلام (تسجد سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة) - وبعضها -
يدل على البطلان في خصوص الأركان وعلى عدم البطلان في غير
الأركان في صورة السهو (كحديث لا تعاد) بناء على عدم شمول
الحديث صورة العمد كما هو المختار فمقتضى الرواية الأولى بطلان
الصلاة مطلقا بالزيادة سوأ
342

كان في الأركان أو غيرها ولكن حديث لا تعاد يعارضها في غير الأركان
في صورة السهو في عقد المستثنى منه بالظهور بل
بالنصوصية ويكون مقدما عليها وإن كانت النسبة بينهما عموم من
وجه من جهة عمومية الرواية الأولى للاركان وغير الأركان وأيضا
شمولها للعمد والسهو وحديث لا تعاد مختص بغير الأركان وصورة
السهو بناء على المختار من عدم شموله لصورة العمد ومن جهة
أعمية لا تعاد لشموله للنقيصة والزيادة (وأما احتمال) عدم شموله
للزيادة لعدم إمكان تطرق الزيادة في الطهور والوقت والقبلة فلا
تعارض في البين (فساقط) غاية السقوط.
أما أولا فلان المعارضة بين المستثنى منه وبين الرواية لا في المستثنى
فان المستثنى موافق للرواية (وثانيا) ان أبيت إلا عن وحدة
السياق (فالجواب) ان عدم تطرق الزيادة في بعض الخمسة المستثناة
لا يضر بعموم الحكم بحسب ظهوره، غاية الامر لا مصداق له في
بعض التقادير، وتقدم لا تعاد على الرواية مع ما شرحناه من كون
النسبة بينهما عموم من وجه لحكومته عليها والحاكم يقدم على
المحكوم ولا يلاحظ النسبة بينهما، وذلك من جهة تصرف الحاكم في
موضوع دليل المحكوم أو محموله بالتوسعة أو التضييق (فلا يبقى)
مجال للمعارضة كما تقدم شرحه مفصلا وسيأتي أيضا إن شاء الله (و
هاهنا) لسان لا تعاد إثبات الصحة تعبدا للصلاة التي وقع الاخلال
فيها بالزيادة والنقيصة سهوا في غير الخمسة (وأما) الزيادة العمدية
فحيث لا تشمله لا تعاد يبقى تحت عموم أدلة بطلان الصلاة
بالزيادة هذا حال لا تعاد بالنسبة إلى الرواية المطلقة أي: الرواية الأولى
التي ذكرنا وكل ما كان من قبيلها.
وأما الرواية الثانية المختصة بالبطلان بالزيادة السهوية (فأيضا) بينهما
وبين لا تعاد عموم من وجه لاعمية لا تعاد من حيث شموله
للزيادة والنقيصة
343

واختصاص لا تعاد في مورد المعارضة بغير الأركان (فيكون) لا تعاد
مقدما عليها لعين ما قلنا في وجه تقديمه على الرواية الأولى طابق
النعل بالنعل والقذة بالقذة (نعم) يبقى الكلام في قوله عليه السلام
تسجد سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة) بناء على دلالتها على عدم
بطلان الصلاة بكل زيادة ونقيصة سواء كان في الأركان أو غيرها فيكون
معارضا لحديث لا تعاد بالنسبة إلى عقد المستثنى لا
المستثنى منه والنسبة أيضا بينهما عموم من وجه (وذلك) لان عقد
المستثنى من حديث لا تعاد عام من حيث شموله للزيادة والنقيصة و
الرواية عام من حيث شمولها للاركان وغير الأركان فيكون الامر كما
تقدم في الصورتين المتقدمتين بلا تفاوت أصلا والنتيجة هو
بطلان للسهو الصلاة بالزيادة السهوية في خصوص الأركان وأما في
غير الأركان فلا تكون وغيره كالجهل البسيط موجبة للبطلان و
أما الزيادة العمدية فتوجب البطلان مطلقا.
التنبيه الثاني
إذا تعذر وجود جز أو شرط أو عدم مانع بواسطة الاضطرار أو أحد
الاعذار الاخر بمعنى أنه اضطر إلى ترك جز من أجزاء الواجب أو
ترك شرط من شرائطه أو اضطر إلى وجود مانع أو أكره مثلا إلى ترك ما
لوجوده دخل في الواجب أو إلى فعل ما لعدمه دخل فيه (فهل)
مقتضى القواعد الأولية سقوط الوجوب والتكليف عن البقية لعدم
قدرته على المجموع وعدم تكليف آخر متعلق بالبقية أم لا؟ بل الذي
يسقط في تلك الحال هي الجزئية أو الشرطية أو المانعية (وبعبارة
أخرى) ليست الجزئية والشرطية والمانعية مطلقة بل الأولان مختصة
بحال التمكن من الاتيان والأخير مجال التمكن من الترك فهاهنا
مقامان:
المقام الأول من حيث القواعد الأولية أي الاطلاقات
وقد تقدم في الامر الأول الصور الأربعة أي دليل ما له دخل في
الواجب وجودا أو عدما إن كان له إطلاق من حيث التمكن منه وعدمه
فيدل على
344

التكليف عما عد المتعذر سواء كان دليل الواجب مطلقا أم لا وذلك
لحكومة إطلاق دليل ما له دخل في الواجب وجودا أو عدما على
إطلاق
دليل الواجب وأما لو كان دليل الواجب له إطلاق دون دليل ما له دخل
فيه فيؤخذ بإطلاق دليل الواجب ويحكم ببقاء التكليف بالنسبة
إلى البقية ولو لم يكن لكلاهما إطلاق فالمرجع الأصل العملي وهي
البراءة عن وجوب البقية للشك في وجوبها.
المقام الثاني هل هناك دليل على وجوب البقية على خلاف مقتضى
القواعد الأولية أم لا
(وقد) تمسكوا لذلك بقاعدة الميسور وقبل بيان مدرك القاعدة و
دلالتها على وجوب البقية نقدم ما تمسكوا لبقاء وجوبها أي البقية
بالاستصحاب (ومن الواضح الجلي) أنه لا تصل النوبة إلى
الاستصحاب إذا كان لدليل القيد إطلاق يرفع الشك أو كان لدليل
المركب
إطلاق كذلك فيما لم يكن لدليل القيد إطلاق (ففي) هذه الصور
الثلاث من الصور الأربعة أي فيما إذا كان كلاهما مطلقين أو كان
أحدهما
مطلقا دون الاخر لا تصل النوبة إلى الاستصحاب أو البراءة في فرض
عدم جريان الاستصحاب فمورد الاستصحاب أو البراءة على
تقدير عدم جريانه هي الصورة الرابعة أي فيما إذا لم يكن لدليل كليهما
أي القيد والمقيد إطلاق وتقريره من وجوه.
منها استصحاب الوجوب النفسي الاستقلالي المتعلق بمجموع القيد
المتعذر والمقيد قبل تعذر القيد أو الجز من جهة أن وجوب
المجموع
قبل التعذر كان معلوما وبعد حدوث التعذر يكون بقائه مشكوكا
فيستصحب ولا يرد عليه) عدم اتحاد قضية المشكوكة والمتيقنة من
حيث الموضوع فان الموضوع في القضية المتيقنة هو مجموع القيد و
المقيد وفي المشكوكة ذات المقيد من دون القيد لتعذره وعدم
إمكان تعلق التكليف به (وذلك) من
345

جهة إتيان هذا الاشكال في جميع استصحابات الاحكام الكلية مثلا
في استصحاب نجاسة الماء المتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجس إذا
زال التغير من قبل نفسه لا بوصول المطهر إليه الموضوع في القضية
المتيقنة هو الماء المتغير وفي المشكوكة الماء الذي زال عنه هذا
العنوان ولذلك أنكر جمع من المحققين جريان الاستصحاب في
الاحكام الكلية ولكن الجواب عن هذا الاشكال - الجاري في جميع
الاستصحابات في الاحكام الكلية التي منها مورد البحث - هو كفاية
وحدة العرفية وسنتكلم عنه في مبحث الاستصحاب إن شاء الله
تعالى (نعم) إذا كان الجز المتعذر أو القيد المتعذر سواء كان وجوديا
أو عدميا من مقومات الموضوع في نظر العرف بحيث يعدونه
موضوعا آخر عند فقده فلا يجري الاستصحاب وهذا يختلف
باختلاف القيود والموارد جدا.
ومنها استصحاب الجامع بين الوجوب النفسي الاستقلالي المتعلق
بالمجموع وبين الوجوب النفسي المتعلق بما عدا المتعذر فان هذا
الجامع كان قبل حدوث التعذر متيقن الوجود وبعد حدوثه مشكوك
البقاء (وفيه) أن هذا الاستصحاب على فرض جريانه يكون من
الأصل المثبت بالنسبة إلى وجوب الباقي مضافا إلى أنه من القسم
الثالث من أقسام استصحاب الكلي لان الجامع الموجود يقينا كان في
ضمن الوجوب المتعلق بالمجموع وهو ارتفع قطعا بتعذر القيد و
احتمال بقائه من جهة احتمال وجود فرد آخر وحدوثه بعد التعذر
متعلق بما عدا المتعذر.
ومنها استصحاب الجامع بين النفسي الضمني الذي كان متيقنا قبل
التعذر وكان متعلقا بما عدا المتعذر وبين الوجوب النفسي
الاستقلالي المتعلق بالمقيد دون القيد بعد حدوث التعذر على تقدير
أن يكون ما عدا المتعذر واجبا بعد التعذر فان هذا الجامع قبل
حدوث التعذر متيقن الوجود وبعد حدوث التعذر يكون مشكوك
البقاء (وفيه) أنه أيضا من القسم الثالث
346

لان المتيقن كان في ضمن فرد ارتفع قطعا بواسطة حدوث التعذر و
المشكوك على تقدير بقائه يكون في ضمن فرد آخر مع أنه يرد
عليه أيضا إشكال الاثبات (نعم) هنا احتمال آخر وهو أن يقال من
المحتمل أن يكون المرتفع عند التعذر قطعة من الإرادة المتعلقة بهذا
المتعذر وأما القطعة الأخرى المتعلقة بما عدا المتعذر باقية على
حالها لا أن التعذر صار سببا لسقوط الإرادة رأسا ولو كان ما عدا
المتعذر واجبا لا بد وأن يكون بإرادة جديدة (ولو صح) هذا الاحتمال
لكان سليما عن جميع الاشكالات ويستصحب شخص الوجوب
المتعلق بما عدا المتعذر.
وأما القاعدة فمدركها قوله صلى الله عليه وآله (إذا أمرتكم بشي
فأتوا منه ما استطعتم) وقوله عليه السلام (ما لا يدرك كله لا يترك
كله) وقوله عليه السلام (الميسور لا يسقط بالمعسور) وقد اشتهر نقل
هذه الروايات بين الأصحاب وعملهم بها واستنادهم في فتاواهم
إليها وهذا يكفي في الوثوق بها وحجيتها وفي عدم لزوم التفتيش عن
سندها (وأما دلالتها) على ثبوت التكليف بالنسبة إلى ما عدا
قيد المتعذر وجودا أو عدما أو الجز المتعذر فصريحة وواضحة جدا
(نعم) استشكل شيخنا الأستاذ (قده) على دلالة الحديث الشريف
الأول بأنها موقوفة على إرادة الكل من الشئ وأجزائه لا الكلي و
أفراده ولا شك في أن المورد من قبيل الكلي وأفراده بقرينة سؤال
ذلك الصحابي وهو - عكاشة أو سراقة بن مالك عن الحج وانه يجب
في كل سنة أو مرة في تمام العمر فلو كان بحسب الظهور الأولى
ظاهرا في الكل وأجزائه لا بد من صرفه إلى الكلي وأفراده بقرينة
المورد أي كونه جوابا عن سؤال ذلك الصحابي عن وجوب الحج في
كل عام أو اختصاصه بذلك العام (ولا يمكن) أن يكون المراد الجامع
بين الكل وأجزائه وبين الكلي وأفراده (لامتناع) اجتماع
اللحاظين في استعمال واحد، إذ في لحاظ الكل
347

وأجزائه النظر إلى المركب وأجزائه وفي لحاظ الكلي وأفراده إلى
صرف وجود الطبيعي ووجوداته (ومعلوم) أن هذين اللحاظين
متباينين لا يجتمعان (وفيه) أن لحاظ الشئ بالمعنى الجامع بين الكل
والكلي بمكان من الامكان كما أن المراد من لفظة - من - في و
منه البعض سواء كان بعض الاجزاء أو بعض الافراد (نعم) لحاظ
خصوصية الكل والاجزاء والكلي وأفراده في استعمال واحد غير
ممكن
(ولكن) هذا غير لحاظ الجامع بينهما والحكم على الجامع من دون
نظر إلى الخصوصيات (وأما قوله عليه السلام ما لا يدرك كله لا
يترك كله) فظهوره في الكل وأجزائه مما لا ينبغي أن يشك فيه (و
كذلك) قوله عليه السلام (الميسور لا يسقط بالمعسور) ظاهر في عدم
سقوط المقدار الميسور من كل شي من المركبات بالمقدار المتعذر و
المتعسر من ذلك الشئ ومعلوم أن هذا المعنى في الكل وأجزائه
أظهر من الكلي وأفراده (فالحاصل) أن هذه الروايات الثلاث لا قصور
في دلالتها على وجوب ما عدا القيد المتعذر وجوديا كان القيد أو
عدميا وكذلك في دلالتها على وجوب ما عدا الجز المتعذر (نعم)
في جريان قاعدة الميسور أي مفاد قوله عليه السلام (الميسور لا
يسقط بالمعسور) لا بد من إحراز أن الباقي مما تعسر من المركب يعد
ميسورا له عرفا (ولذلك) من جهة أنه عليه السلام جعل موضوع
عدم السقوط والوجوب عنوان الميسور ولا بد في تنجز الحكم من
إحراز موضوعه وإحراز الموضوع أي الميسور من المركب في
الموضوعات الخارجية التكوينية ممكن في نظر العرف لان
الموضوعات العرفية - كالقيام والركوع والسجود وأمثال ذلك مما
جعل
موضوعا للحكم الشرعي - تشخيصها وتشخيص مراتبها بنظر العرف
فيسهل على العرف أن هذه المرتبة مثلا ميسور القيام أو الركوع
أو المعجون الفاقد للجز الفلاني ميسور ذلك المعجون وأما في
الموضوعات الشرعية - كالوضوء والتيمم والصلاة والحج
348

والصوم إلى غير ذلك من المخترعات الشرعية - فلا طريق للعرف
إلى معرفتها ولا إلى معرفة مراتبها إلا بورود بيان من قبل الشارع.
ولكن يمكن أن يقال بأنه (ان أريد) من الميسور من الشئ الميسور من
مراتبه بحيث يعد أنه أيضا نفسه غاية الامر هو من مراتبه النازلة
فالفرق بين الموضوعات العرفية وبين الموضوعات الشرعية في هذا
المعنى في غاية الوضوح (وبتوجه) هذا الاشكال على الاستدلال
بالرواية في الموضوعات الشرعية لأنه لا طريق للعرف في معرفة أن
هذا الفاقد الجز أو فاقد القيد الوجودي أو العدمي من مراتب ذلك
الموضوع المخترع الشرعي إلا ببيان من قبله (وأما ان أريد) من
الميسور الميسور من أجزاء المركب وقيوده فلا فرق حينئذ بين
الموضوع العرفي والشرعي وذلك لشمول إطلاق الرواية لكليهما
بدون تفاوت غاية الامر نستكشف من إطلاق الرواية أن الامر و
المولى غرضه في حال التمكن قائم بالمجموع وفي حال التعذر
لبعض الاجزاء أو القيود بالباقي الغير المتعذر وعلى كل حال في دلالة
الروايتين الأخريين غنى وكفاية إذ لا يتوجه هذا الاشكال عليهما ولا
فرق في جريان هذه القاعدة بين الاجزاء والشرائط ولا بين
الجز الركني وغير الركني إذا لم يكن له دخل في التسمية لاطلاق
الروايات الثلاث فالتفاصيل لا وجه له.
وأما لو كان للواجب بدل اضطراري فهل بعد تعذر بعض أجزائه أو
شرائطه أي قيوده الوجودية أو بعد تعذر عدم مانعه فهل ينتقل إلى
بدله أو يجب الاتيان بالباقي غير المتعذر (الظاهر) عدم الانتقال إلى
البدل فإذا تعذر مسح بعض الأعضاء في الوضوء مثلا لا ينتقل إلى
التيمم لأنه في مقام الثبوت يكون راجعا إلى كيفية جعل البدل فان كان
مجعولا بعد تعذر المبدل بجميع مراتبه الاختيارية والاضطرارية
فلا ينتقل إلى البدل بصرف طرو الاضطرار أو تعذر بعض الاجزاء أو
القيود وإن كان مجعولا
349

بعد تعذر المرتبة الاختيارية للمبدل فلا محالة ينتقل إلى البدل بصرف
تعذر بعض الواجب جزا أو قيدا (ولكن الظاهر) من أدلة البدلية
هو الأول ويحتاج إلى التأمل التام في دليل البدلية في كل مقام وموارد
الأدلة ليست على نسق واحد.
ثم أنه لو دار الامر بين تعذر جز أو شرط بمعنى أنه غير قادر على
الجمع بينهما فحاله حال دوران الامر بين جز وجز أو شرط و
شرط يرجع كلها إلى باب التزاحم بين الواجبين وقد ذكرنا أحكام
التزاحم بين الواجبين ومرجحاتها في مسألة الضد في المجلد الأول
مفصلا فلا نعيد وأما دوران الامر بين أن يكون شرطا أو مانعا فقد تقدم
في أواخر مسألة دوران الامر بين المحذورين في أصالة
التخيير أن الواجب إذا كان قابلا للتكرار يجب الاحتياط وليس من
مسألة دوران الامر بين المحذورين نعم إذا لم يكن قابلا للتكرار فلا
يمكن فيه الاحتياط فيكون من قبيل دوران الامر بين المحذورين وقد
تقدم أحكامه مفصلا.
بقي شي
وهو أنه لو علم بوجوب أحد الشيئين وحرمة الاخر ولكن لا يعلم أن
أيهما هو الواجب المعلوم في البين وكذلك لا يعلم أن أيهما الحرام
المعلوم في البين فيحتمل في كل واحد منهما أن يكون واجبا وأن
يكون حراما وحيث أن الموافقة القطعية لكليهما معا غير ممكن بل
الموافقة القطعية لكل واحد منهما مستلزم للمخالفة القطعية للاخر ولا
ترجيح في البين فالأولى أن يختار الموافقة الاحتمالية لكل واحد
منهما وإن كان مستلزما للمخالفة الاحتمالية لكل واحد وذلك من
جهة أن هذا أي التخيير بين فعل كل واحد منهما مع ترك الاخر وبين
ترك كل واحد منهما مع فعل الاخر الذي هو الموافقة الاحتمالية لكل
واحد منهما وأيضا المخالفة الاحتمالية لكل منهما أحسن وأولى في
نظر العقل وحكمه من الموافقة القطعية لأحدهما مع المخالفة
350

القطعية لان هذا يرجع إلى ترجيح أحدهما على الاخر من دون مرجح
ولذلك قال شيخنا الأعظم الأنصاري (قده) بهذا التخيير ولكن هذا
الكلام غير تام على إطلاقه بل لا بد وأن ينظر إلى الحكمين المعلومين
في البين المشتبهين من حيث المورد فان لم يكن لأحدهما ترجيح
من حيث الملاك فمخير بمثل ما قال الشيخ (قده) من فعل أو ترك كل
واحد منهما لكن مع نقيض ما صنع في هذا الطرف في الطرف الآخر
لكي تكون الموافقة الاحتمالية في كل واحد من الحكمين وإن كان
مستلزما للمخالفة الاحتمالية أيضا في كل واحد منهما أي من
الحكمين
أو مخير بين فعل كل واحد منهما جمعا وبين ترك كل واحد منهما
أيضا كذلك (وبعبارة أخرى) مخير بين فعل الاثنين معا أو تركهما
معا وأما إن كان لأحدهما ترجيح على الاخر أي كان أحدهما أهم
ملاكا من الاخر فلا يجوز التخيير بكل واحد من الوجهين الذين
ذكرناهما للتخيير بل لا بد مراعاة الأهم بالموافقة القطعية وإن كان
مستلزما للمخالفة القطعية بالنسبة إلى الاخر مثلا لو كان ملاك
الوجوب أهم في نظر الشارع يجب الاتيان بكليهما ولو كان ملاك
الحرمة أهم يجب ترك كليهما.
خاتمة في بيان ما يعتبر في جريان الاحتياط والبرأة
أما الاحتياط
فلا يعتبر في حسنه وجريانه سوى تحقق موضوعه وهو إتيان محتمل
المطلوبية برجاء أن يكون مطلوبا من دون قيام علم أو علمي من
أمارة أو أصل على مطلوبيته أو ترك ما احتمل مطلوبية ذلك الترك
كذلك أي من دون قيام حجة عقلية أو شرعية على ذلك الترك (و
بعبارة أخرى) يكون إتيانه أو تركه بصرف احتمال كونه مطلوبا للمولى
هذا هو الاحتياط في الشبهات البدوية حكمية كانت
351

الشبهة بكلا قسميه من الوجوبية والتحريمية أو موضوعية بل ولو كان
المحتمل غير إلزامي كان التكليف المحتمل من العبادات أو من
التوصليات كان الاحتياط في الشبهة الحكمية الالزامية قبل الفحص أو
بعده ففي جميع هذه الصور العقل يحكم بحسن الاحتياط وأنه
يكفي في حصول التعبد وقصد القربة الاتيان بداعي احتمال الامر بل
ربما يكون آكد في العبادية من الاتيان بداعي الامر الجزمي (وأما
الاحتياط) في أطراف العلم الاجمالي فأيضا عبارة عن إتيان المحتمل
برجاء الواقع ولكن بعد تنجز التكليف بالعلم الاجمالي (وحيث)
بينا سابقا عدم تقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاجمالي
فيجوز الاحتياط حتى قبل الفحص في الشبهة الحكمية الالزامية ولو
كان مستلزما للتكرار كما في بعض فروض صلاة المسافر فيجمع بين
القصر والاتمام مع أنه ربما يجد دليلا بعد الفحص على خصوص
القصر والاتمام (وكذلك) المقلد يجوز له الاحتياط بما ذكرنا مع أنه
يمكنه الامتثال التفصيلي بالرجوع إلى مقلده كل ذلك (إما) من جهة
أن الاتيان بصرف الاحتمال كاف كما في الشبهات البدوية (وإما) من
جهة أن الامتثال العلمي الاجمالي كاف مع التمكن من الامتثال
التفصيلي كما في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي (وقد بينا) في
مسألة حجية القطع عدم اعتبار قصد الوجه والتميز والجهة حتى في
العبادات (والمراد) من قصد الوجه في العبادة قصد وجوبها أو
استحبابها ومن قصد التميز تميز أجزاء العبادة وشروطها وموانعها
عن غيرها مثل أن الركوع والسجود مثلا جز والطهارة بقسميها و
الاستقبال شرط والتكلم مثلا قاطع ونجاسة البدن أو الثوب مثلا
مانع والقنوط والاستعاذة مثلا ليس جزاء ولا شرطا ولا مانعا بل أمر
خارج عن المركب العبادي ومستحب (والمراد) بالجهة ملاك
الحكم وبعد الفراغ عن عدم احتياج العبادة إلى هذه الأمور وعدم
تقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الاجمالي وان اختاره
352

شيخنا الأستاذ (قده) وأصر عليه (فلا يبقى) مجال للشك في إمكان
الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي حتى في العبادات ولو كان
مستلزما للتكرار حتى مع إمكان رفع الاجمال بالفحص والاجتهاد أو
بالتقليد (غاية الامر) أن الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي
الاتيان بجميع المحتملات إذا كان المحتمل هو الوجوب وترك جميع
المحتملات إذا كان المحتمل هي الحرمة مع تنجز التكليف بالعلم و
قيام الحجة عليه وفي الشبهة البدوية إتيان المحتمل أو أو تركه بصرف
احتمال المطلوبية فعلا أو تركا بدون قيام حجة عليه كما تقدم.
ومما ذكرنا ظهر أنه إذا قامت حجة على وجوب أحد المحتملات في
الشبهة الوجوبية في العلم الاجمالي أو حرمة أحدها فيجوز الاحتياط
بل لا شك في حسنه بإتيان الاخر برجاء أن يكون هو الواجب أو ترك
الاخر برجاء أن يكون هو الحرام المعلوم في البين (ولا فرق) في
حسن الفعل أو الترك برجاء أن يكون هو الواقع بين أن يكون هذا
الاحتياط قبل العمل بما قام عليه الحجة من المحتمل الاخر أو يكون
بعده (وما ذكره) شيخنا الأستاذ (قده) من أن الاحتياط بالنسبة إلى
المحتمل الاخر قبل العمل بالحجة بالنسبة إلى الطرف الذي قامت
الحجة عليه يرجع إلى عدم الاعتناء بالحجة وطرحها (فعجيب) لان
عدم الاعتناء بالحجة عبارة عن عدم العمل بمضمونها لا العمل على
طبق الاحتمال الاخر مع العمل على طبق مضمونها أيضا قبلا أو بعدا
(ولو كان) العمل على طبق الاحتمال الاخر علاوة على العمل بالحجة
مضرا بالحجية (لم يكن فرق) بين أن يكون قبل العمل بالحجة أو بعده،
ومعنى إلغاء احتمال الخلاف وتتميم الكشف ليس إلا وصول
المحتمل إلى مرتبة الاثبات لا عدم الاتيان بالمحتمل الاخر برجاء
كونه واقعا فيحصل له العلم الوجداني بإدراك الواقع وليس معنى
الاتيان بهذا المحتمل الاخر لادراك الواقع إلغاء الحجة القائمة على
ذلك الطرف أنه
353

الواقع بل معنى إلغاء الحجة عدم الاعتناء بها وعدم العمل على طبقها
(فلا فرق) بين قيام الامارة أو الأصل التنزيلي على أحد المحتملين و
بين الأصل غير التنزيلي وفي كليهما يجوز الاتيان بالمحتمل الاخر من
باب الاحتياط ورجاء كونه هو الواقع قبل العمل بالحجة وبعده
بلا تفاوت والفرق بينهما بجواز العمل بالاحتياط في المحتمل الاخر
قبل العمل بالحجة في الثاني دون الأول غير تام.
وخلاصة ما ذكرنا أن قصد الوجه من الوجوب والندب والتميز و
الجهة بمعنى الملاك للحكم كل ذلك لا من المستقلات العقلية لزومها
في مقام الامتثال ولا على لزومها وردت دليل من الشرع مع كثرة
الابتلاء وكثرة سؤالاتهم عن الأئمة (سلام الله عليهم) ولا أثر ولا
عين من شي منها في الاخبار المروية عنهم عليهم السلام ولو كان
لبان فيحصل الاطمئنان بعدم اعتبار شي منها في العبادة وعلى
فرض عدم حصول القطع أو الاطمئنان بعدم اعتبار شي من هذه
المذكورات في العبادة ووصول النوبة إلى الشك في اعتبارها
فالمرجع البراءة لامكان أخذها في متعلق الامر بجعل ثانوي متمم
للجعل الأول كما تقدم مفصلا في الجز الأول في مسألة التوصلي و
التعبدي (وأيضا) الامتثال العلمي الاجمالي ليس في طول الامتثال
التفصيلي ومتوقفا على عدم إمكانه بل مع إمكان الامتثال التفصيلي
يجوز امتثال العلمي الاجمالي وإن كان مستلزما للتكرار وفي الشبهة
الحكمية الوجوبية البدوية يجوز الاحتياط بأن يأتي بالمحتمل و
يترك الفحص (وبعد ما عرفت) هذه المذكورات لا يبقى مجال للفروع
التي ذكرها شيخنا الأستاذ هاهنا والبحث عنها (وقد ظهر) مما
ذكرنا أن في جريان الاحتياط ليس شرط أصلا بل بمحض تحقق
موضوعه أي احتمال التكليف يحكم العقل بحسنه.
وأما البراءة
فما اعتبر في جريانها هو الفحص عن الدليل على الحكم
354

المشكوك والمجهول في الشبهات الحكمية.
وتوضيح المقام يقتضي البحث عن جهات ثلاث (الأولى) في اعتبار
الفحص أو عدمه (الثانية) في أن تارك الفحص هل مستحق للعقاب أم
لا (الثالثة) في أنه هل العمل التي يأتي به قبل الفحص صحيح أم لا.
أما الجهة الأولى
(فأما) بالنسبة إلى البراءة العقلية فلا شك في أن حكم العقل بقبح
العقاب بلا بيان في مورد إحراز عدم البيان ولا يمكن إحراز عدم
البيان إلا بعد الفحص عن البيان في مظان وجوده مثل آيات الاحكام و
الأخبار المعتبرة في الكتب المعتبرة المروية عن النبي صلى الله
عليه وآله أو عن الأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) فبعد الفحص
التام وعدم وجدانه وعدم إجماع ولا دليل عقلي يحرز الموضوع أي
عدم البيان فيثبت له حكم العقل بقبح العقاب بالنسبة إلى ذلك
التكليف الذي لم يوجد عليه البيان (وأما) البراءة النقلية فلا شك في
أن
بعض أدلتها كحديث الرفع مطلقة تشمل حال عدم الفحص لان
موضوعها عدم العلم بالتكليف وهذا المعنى حاصل قبل الفحص
فلزوم
الفحص قبل إجرائها يحتاج إلى دليل وبناء على هذا عدم وجوب
الفحص في الشبهات الموضوعية على طبق القاعدة ولا يحتاج إلى
دليل
فلزوم الفحص في الشبهات الحكمية لا بد له من مستند وقد ذكروا له
وجوه.
(الأول) العلم الاجمالي بوجود أحكام إلزامية وجوبية وتحريمية في
مضامين الاخبار الموجودة في الكتب المعتبرة التي بأيدينا ومن
المحتمل أن يكون المجهول من تلك الأحكام التي تنجزت بواسطة
العلم الاجمالي فلا يجوز الرجوع إلى للبرأة إلا بعد الفحص عن تلك الأخبار
والاطمئنان بأن المورد ليس منها.
وقد يشكل عليه بأن دائرة العلم الاجمالي أوسع من هذا لأنه كما نعلم
355

بوجود أحكام إلزامية فيما بأيدينا من الكتب كذلك نعلم بوجود
أحكام كثيرة في مجموع ما بأيدينا من الاخبار المروية عن المعصومين
(سلام الله عليهم) وما في كتب مخالفينا من الاخبار التي يرويها عن
النبي صلى الله عليه وآله والصحابة وسائر الأمارات الظنية
كالاستحسانات العقلية والشهرات والاجماعات المنقولة وغير ذلك
(فالفحص) عن خصوص الاخبار الموجودة في الكتب المعتبرة و
عدم وجدان شي على خلاف البراءة فيها (لا أثر له) ولا يمكن إجرأ
البراءة حتى بعد الفحص بل يحتاج إلى فحص أتم وأعم من هذه أي
الفحص من جميع الأمارات الظنية حتى ظن الحاصل من القياس و
بعد مثل هذا الفحص التام عن جميع هذه الأمارات الظنية وعدم
وجدان
شي مخالف للبرأة ومثبت للالزام على فعل أو ترك تصل النوبة إلى
البراءة وأين هذا من المدعى الذي هو عبارة عن الفحص عن
خصوص ما في كتبنا المعتبرة من طرقنا عن الأئمة المعصومين.
والجواب عن هذا الاشكال أن هذا العلم الاجمالي الكبير ينحل بالعلم
الاجمالي الصغير أي العلم بوجود أحكام إلزامية كثيرة في خصوص
ما بأيدينا من الكتب المعتبرة عندنا لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال
في العلم الاجمالي الكبير عليه فيكون أطراف العلم الاجمالي
الصغير أحد الطرفين للعلم الاجمالي الكبير والطرف الآخر سائر
الأمارات الظنية أي غير ما بأيدينا من الأخبار المعتبرة في الكتب
المعتبرة وأطراف العلم الاجمالي الصغير يتنجز به فيوجب انحلال
العلم الاجمالي الكبير لما تقدم في باب الانحلال الحكمي من أن
وجود
المنجز في بعض الأطراف ولو كان هو العلم الاجمالي يوجب
الانحلال.
وقد يشكل بأخصية هذا الدليل عن المدعى، إذ المدعى لزوم
الفحص في جميع موارد الشك وإجراء البراءة والعلم الاجمالي -
الذي هو
الدليل في المقام - ينحل بعد الظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال المثبتة
للأحكام الالزامية
356

في الكتب المعتبرة ففي الزائد على ذلك المقدار لا يبقى وجه
للفحص لو كان المدرك للفحص هو هذا العلم الاجمالي.
وقد أجاب شيخنا الأستاذ (قده) عن هذا الاشكال بأن العلم الاجمالي
على قسمين (تارة) يكون المعلوم بالاجمال من أول الامر مرددا
بين الأقل والأكثر (وأخرى) ليس كذلك بل المعلوم بالاجمال عنوان
بما له من المصاديق الواقعية غاية الامر قد يحصل الترديد و
الاجمال في عدد المصاديق (مثال الأول) كما إذا علم بموطوئية مقدار
قطيع من الغنم مردد بين الأقل والأكثر (ومثال الثاني) كما إذا
علم بموطوئية كل ما هو أبيض من هذا القطيع فالمعلوم بالاجمال في
هذه الصورة ليس من أول الامر عنوانا مرددا بين الأقل والأكثر
كما كان في القسم الأول بل عنوان واقعي له مصاديق واقعية لا يتبدل و
لا يتغير بالعلم أو الجهل بعددها (ففي القسم الأول) إذا ظفر
بمقدار المعلوم بالاجمال بحيث يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال
في ذلك المقدار وانطباقه عليه ينحل العلم الاجمالي (وأما في القسم
الثاني) وإن عرض له الترديد في عدد مصاديق العنوان المعلوم
بالاجمال أي البيض من ذلك القطيع مثلا أنه عشرة أو عشرين فان ظفر
بالموطؤة بمقدار المعلوم بالاجمال - أي العشرة مثلا كما في
المفروض - فلا ينحل العلم الاجمالي ولا يجوز له الرجوع إلى البراءة
في
الزائد على ذلك المقدار إذا شك في كونه موطؤا قبل الفحص عن
كونه أبيض أم لا (نعم) إذا فحص ولم يكن من البيض فحينئذ له أن
يجري البراءة إذا شك في كونه موطؤ (واعتبر ذلك) بما إذا علم تاجر
بأنه مديون لزيد بما هو مكتوب في دفتره وشك في مقدار
دينه بين الأقل والأكثر فهل ترضى أن تقول يعطى الأقل ويجري
البراءة قبل المراجعة إلى الدفتر لانحلال العلم الاجمالي (وما نحن
فيه) من هذا القبيل لأنه بعد الظفر على مقدار المعلوم بالاجمال من
357

الاحكام بواسطة الفحص عن الأدلة فيما بأيدينا من الكتب يعلم في
مورد المشكوك أنه يظفر بدليله لو كان من أطراف المعلوم بالاجمال
الذي كان عبارة عن العلم الاجمالي بثبوت أحكام إلزامية في مؤدى
الاخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب فلا بد له من الفحص عند
الشك في حكم إلزامي إذا احتمل أنه يظفر بدليله إذا فحص في ما
بأيدينا من الكتب ولا يجوز له إجراء البراءة قبل الفحص عما ذكر عند
العقلا (وبعبارة أخرى) انحلال العلم الاجمالي بوجدان مقدار
المعلوم بالاجمال مع احتمال انطباق المعلوم بالاجمال عليه و
انحصاره فيه
فيما إذا لم يكن للمعلوم بالاجمال علامة بها يتميز عن غيره كما في
القسم الأول وأما لو كان كما في القسم الثاني - حيث أن كونه من
البيض في المثال الأول وكونه في الدفتر في المثال الثاني وكونه من
مفاد الاخبار الموجودة فيما بأيدينا من الكتب كما فيما نحن فيه
- فلا يؤثر الانحلال في عدم لزوم الفحص (وفيه أولا) كون ما نحن فيه
من قبيل القسم الثاني لا يخلو من إشكال لان المعلوم بالاجمال
عبارة عن جملة من الواجبات والمحرمات الواقعية في مؤديات
الاخبار الموجودة فيما بأيدينا من الكتب المعتبرة وهو بنفسه مردد
بين
الأقل والأكثر وليس هناك عنوان واقعي له مصاديق واقعية يكون
ذلك العنوان بما له من المصاديق الواقعية متعلقا للعلم (وبعبارة
أخرى) ليس للمعلوم بالاجمال وهو وجود عدة من الواجبات و
المحرمات والواقعية في مؤديات الاخبار الموجودة في الكتب
المعتبرة
علامة يتميز بها عن غيرها لأنه ليس كلما كان وجوبه أو حرمته مفاد
خبر من تلك الأخبار من الواجبات والمحرمات الواقعية الفعلية بل
يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون (وثانيا) لزوم الفحص فيما ذكره
ليس لأجل العلم الاجمالي وعدم انحلاله بل في مثل تلك
الموضوعات التي إلى معرفتها طريق واضح جلي يجب تحصيل
معرفتها حتى في الشبهات البدوية
358

(والشاهد) على ذلك أن المثالين الذين ذكرهما لعدم الانحلال من
الشبهات الموضوعية التي لا يجب الفحص فيها حتى في الشبهات
البدوية إجماعا فالفحص فيها لا بد وأن يكون لجهة أخرى غير عدم
الانحلال وهو ما ذكرنا من سهولة تحصيل العلم فيها كما في النظر
إلى السماء لتحصيل العلم بأول الشهر ولزوم الحساب والاختبار
لمعرفة النصاب في الزكاة ومعرفة الاستطاعة في الحج إلى غير ذلك.
وقد أفاد أستاذنا المحقق (قده) في وجه عدم الانحلال في المفروض
ودفع هذا الاشكال على التمسك بالعلم الاجمالي لوجوب الفحص
في كل مسألة حتى بعد الاطلاع على مقدار يمكن ويحتمل انطباق
المعلوم بالاجمال على ذلك المقدار وانحصاره فيه بأن هذا الاشكال
يرد لو كان متعلق العلم الاجمالي مطلقا أو مقيدا بقيد لظفر بها فيما إذا
فحص على جمع من المسائل لا فيما إذا قيد بقيد لو تفحص في كل
مسألة تكون مظان وجود محتمله لظفر به والعلم الاجمالي مقيدا بهذا
القيد لا ينحل بواسطة الاطلاع على جملة كثيرة من الاحكام بمقدار
المعلوم بالاجمال بحيث يمكن انطباق المعلوم بالاجمال عليه و
انحصاره فيه (وفيه) أنه على فرض تسليم عدم انحلال مثل هذا العلم
الاجمالي المقيد بهذا القيد بما ذكرنا من الاطلاع على الاحكام بمقدار
المعلوم بالاجمال فنقول أن حصول مثل هذا العلم لا يخلو من
غموض.
الثاني الاجماع على لزوم الفحص في الشبهات الحكمية قبل إجرأ
البراءة (وفيه) أن هذا الاجماع والاتفاق ليس من الاجماع
الاصطلاحي
الذي حجة من جهة كشفه عن رأي المعصوم لاحتمال اتكاء المتفقين
على أحد هذه المدارك المذكورة في كتب الأصول أو يكون بعضهم
يعتمدون على مدرك والبعض الاخر على مدرك آخر من هذه
المدارك أو من غيرها (والحاصل) أنه مع أنهم ذكروا مدارك متعددة
لوجوب الفحص لا يبقى
359

وجه لاستكشاف رأي المعصوم من مثل هذا الاتفاق.
الثالث حكم العقل بوجوب الفحص فيما إذا احتمل وجود الحكم
الإلزامي من الوجوب أو الحرمة قبل أن يجري البراءة وهو المعتمد
عندنا
وذلك من جهة أن العقل يحكم بأن وظيفة العبد بعد هذا الاحتمال هو
التفتيش والفحص في مظان وجود أحكام المولى عنها وأنه هل
من قبله هناك حكم إلزامي أم لا وأنه لو أجرى البراءة بدون الفحص
يكون خارجا عن وظيفة العبودية وذلك لان المولى بلغ أحكامه
بالطريق المتعارف إلى الناس بلسان النبي صلى الله عليه وآله والأئمة
عليهم السلام وهم عليهم السلام بينوا لأصحابهم كي يبلغون
سائر الناس وهم رضوان الله عليهم أودعوا ما سمعوا في الكتب و
فيما بعد جمع أرباب الجوامع العظام ما كان مسطورا في الكتب و
بوبوها على ترتيب الكتب الفقهية (فيجب) على الفقيه بحكم العقل
أولا الرجوع إلى تلك الكتب والجوامع والفحص عن حكم كل مسألة
فإذا لم يجد شيئا بعد الفحص التام فتصل النوبة إلى البراءة وإلا كان
مقصرا ولم يعمل بوظيفة العبودية.
الرابع الأدلة النقلية من الآيات والروايات (والانصاف) أن الآيات
ك آية النفر والذكر وأمثالهما والروايات الواردة في الحث و
الترغيب في التفقه وطلب العلم (وقوله) تعالى في جواب العبد حين
ما يقول ما علمت (هلا تعلمت) كل ذلك يدل على عدم جواز إجرأ
البراءة في الشبهات الحكمية قبل الفحص عن الحكم في مظان وجوده
(نعم يبقى) الكلام في مقدار الفحص وأنه هل يجب إلى أن يحصل
القطع بعدم وجود دليل معتبر في المسألة أو يكفي الاطمئنان بالعدم
أو يكفي مطلق الظن وجوه (والظاهر) أن المدار على مقدار وجوب
الفحص هو حصول اليأس عن الظفر بالدليل بناء على ما رجحناه من
أن مدرك الفحص هو حكم العقل بأنه من وظائف
360

العبودية لان وظيفة العبد هو الفحص عن وجود الطلب المولوي أمرا
أو نهيا في مظان وجوده وهذا الفحص لا بد وأن يكون على النحو
المتعارف بين العبيد والموالي فصرف احتمال الوجود بعد صدور
مثل هذا الفحص عنه ليس منافيا مع أداء وظيفة العبودية فلا يحتاج
إلى القطع بالعدم كما أنه مطلق الظن بالعدم أيضا ليس كافيا في أدأ
وظيفة العبودية (نعم) الاطمئنان منه يكفي، إذ به يحصل اليأس
العادي عن الظفر بالدليل (فعلى) الفقيه أن يفحص أولا عما بأيدينا من
الكتب المعتبرة المودعة فيها الأحاديث والاخبار في كل مسألة و
هذا كان مشكلا جدا أي الرجوع في كل مسألة إلى جميع الاخبار و
لكن سهل الامر العلماء الماضين رضوان الله عليهم بأن جمعوا الاخبار
في جوامعهم العظام و بوبوها على أحسن نظام بحيث يطمئن الفقيه
بعد المراجعة إلى باب المسألة التي شك فيها من الجوامع المشهورة
بعدم رواية معتبرة في المسألة إن لم يجد شيئا في ذلك الباب (نعم)
حيث أن جريان البراءة منوط بفقد مطلق الدليل على الحكم الشرعي
وليس مختصا بفقد الاخبار (فيجب) عليه مراجعة أقوال الفقهاء في
المسألة لكي لا يكون إجماع في المسألة على خلاف البراءة بل ربما
يحتاج إلى مراجعة مدارك فتاوى الفقهاء وأنظارهم وأفكارهم من
جهة أنه من الممكن أن يكون قد خفي عليه نكتة ربما يتنبه بواسطة
مراجعة أفكارهم وأنظارهم والله الهادي عصمنا الله من الخطأ و
الزلل.
الجهة الثانية في أنه هل يستحق العقاب على ترك الفحص أم لا
والأقوال فيه ثلاثة (الأول) استحقاقه لتركه التعلم مطلقا خالف الواقع
أم لا وهو ما ذهب إليه المقدس الأردبيلي وتلميذه صاحب
المدارك (الثاني) استحقاقه على ترك التعلم والفحص عند مخالفة
الواقع لا مطلقا وذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري واختاره شيخنا
الأستاذ (قدس سرهما) (الثالث)
361

استحقاق العقاب على مخالفة الواقع ولكن عند ترك التعلم والفحص
لا على نفس ترك الفحص عند المخالفة كما في القول الثاني و
ذهب المشهور إلى هذا القول.
ومنشأ اختلاف الأقوال هو أن وجوب التعلم هل هو نفسي ولو كان
تهيئيا أو وجوب طريقي أو إرشادي محض (فعلى القول) بأنه وجوب
نفسي استقلالي أو تهيئي يكون العقاب على نفس ترك الفحص و
التعلم لان الامر النفسي المولوي مخالفته وعصيانه يوجب استحقاق
العقاب (وعلى القول) بأن وجوبه وجوب نفسي طريقي تكون
مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب أيضا على نفس ترك الفحص و
التعلم و
لكن عند مخالفة الواقع اما كون العقاب على نفس ترك التعلم و
الفحص فلانه واجب نفسي على الفرض فمخالفته توجب استحقاق
العقوبة وأما تقييده بعند مخالفة الواقع فلأجل أن وجوبه لأجل حفظ
الواقع وطريقية التعلم والفحص إلى إدراك الواقع كوجوب
الاحتياط شرعا في بعض الشبهات البدوية كما في باب الفروج و
الدماء بل الأموال فالمطلوب بالذات هو الواقع وإنما مطلوبيته لأجل
الوصول إلى الواقع وحصوله.
إن قلت إذا كان الامر كذلك فوجوبه يكون وجوبا مقدميا ومن قبيل
المقدمات المفوتة فيكون وجوبه وجوبا غيريا مقدميا على القول
بالواجب المعلق أو وجوبا عقليا على القول بعدم إمكانه فلا يكون
العقاب إلا على مخالفة الواقع لا على نفس ترك التعلم عند مخالفة
الواقع كما هو المدعى في المقام.
قلنا فرق بين أن يكون وجوب شي لأجل الوصول إلى واجب آخر و
يكون وجوبه مترشحا من وجوبه لأنه من مقدماته الوجودية وبين
ما نحن فيه (بيان ذلك) أن إتيان محتمل الوجوب أو ترك محتمل
الحرمة ليس متوقفا على الفحص وتعلم وجوبه أو حرمته والمقدمات
المفوتة ما يكون
362

الواجب في ظرفه ووقته متوقف على وجود هذا الشئ قبله سواء كان
التوقف تكوينيا أو شرعيا (فالأول) كتوقف أعمال الحج و
مناسكه في وقته على المسير قبل ذلك الوقت (والثاني) كتوقف
الصلاة في وقتها على حفظ الماء أو التراب قبل وقتها ومرجع الثاني
بعد الجعل الشرعي أيضا إلى الأول ويكون التوقف حينئذ عقليا
(فقياس) التعلم بباب المقدمات المفوتة بعيد عن الثواب فالنتيجة أن
العقاب على نفس ترك الفحص والتعلم ولكن لا مطلقا بل فيما إذا
انجر إلى مخالفة الواقع كما هو الشأن في مخالفة كل أمر طريقي
نفسي كوجوب الاحتياط في بعض الشبهات البدوية (وعلى القول)
بأن وجوبه إرشادي محض فلا يكون استحقاق العقاب على نفس
المخالفة الامر الارشادي لأنه لا مولوية فيه حتى يوجب ذلك بل
الاستحقاق على مخالفة نفس الواقع عند ترك التعلم كما ذهب إليه
المشهور.
وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من أن العقاب على الواقع المجهول
قبيح في نظر العقل (ففيه) أن هذا فيما لم يتنجز التكليف عليه
بواسطة الاحتمال وتركه الفحص وإلا لا قبح فيه أصلا (ولذلك) يقال
لتارك التعلم الذي فعل المحرم أو ترك الواجب ابتداء لما ما عملت
ولا يقال له ابتداء لم ما تعلمت ولكن بعد اعتذاره عن مخالفة الواقع
بقوله ما علمت يجاب بأن هذا الاعتذار ليس بصحيح و يقال له هلا
تعلمت (والحاصل) أن التكليف بواسطة حكم العقل وإرشاده إلى
التعلم والفحص يتنجز وليس العقاب على كل واقع مجهول قبيحا بل
فيما لا يمكن رفع جهله أو فيما جاء الترخيص من قبل الشارع في عدم
لزوم رفع جهله وأما فيما حكم العقل بلزوم رفع الجهل حتى
يحصل له اليأس فإذا احتمل وجود التكليف الإلزامي مع هذا الحكم
العقلي بلزوم الفحص ودفع الجهل ومع ذلك خالف العقل والنقل و
ارتكب الحرام الواقعي أو ترك الواجب الواقعي كيف
363

يكون العقاب على مخالفة مثل هذا المحتمل قبيحا (هذا كله) بحسب
مقام الثبوت (وأما) بحسب مقام الاثبات فلا شك في أن أوامر وجوب
التعلم والفحص إرشادي محض لان الحكم المولوي النفسي يحتاج
إلى وجود مصلحة في نفس الشئ ومعلوم أنه لا مصلحة في نفس
الفحص إلا حفظ مصلحة الواقع وعدم الوقوع في مفسدته بقدر
الامكان والحكم الطريقي عبارة عن تعلق الامر بعين ما تعلق الامر
الواقعي به عند الإصابة ويكون عذرا عند المخالفة مثلا الامر
بالاحتياط في الشبهة البدوية في باب الفروج والدماء بناء على أن
يكون
طريقيا تعلق بإيجاد المحتمل في الشبهة الوجوبية وبتركه في
التحريمية وعند المصادفة الامر الواقعي تعلق بعين ذلك أي بإتيان
ذلك
المحتمل وكذلك في طرف النهي وأما في المقام فالامر تعلق
بوجوب التعلم والفحص وهما غير متعلق الأمر والنهي الواقعيين
(فظهر)
أن وجوب التعلم لا يمكن أن يكون طريقيا مضافا إلى استقلال العقل
بوجوب العمل بوظيفة العبودية أي الفحص وهذا المقام ليس مقام
إعمال المولوية فلو صدر أمر من الشارع لا بد وأن يكون إرشادا محضا.
الجهة الثالثة في صحة العمل المأتي به أو فساده مع تركه التعلم أو
الفحص
أقول قد تقدم في الجز الأول أن إتيان المأمور به بالامر الواقعي على
وجهه أي واجدا لجميع الاجزاء والشرائط وفاقدا لجميع الموانع
يقتضي الاجزاء وسقوط الامر (وأما الاتيان) بالمأمور به بالامر
الظاهري فلا يجزى عن إتيان الواقع إعادة وقضاء عندنا بناء على عدم
السببية والموضوعية في الأصول والامارات كما هو مذهب المخطئة
فبناء على هذا المسلك الحق والصحيح المدار كل المدار في صحة
العمل الصادر عن المكلف وفساده مطابقة المأتي به للمأمور به
الواقعي فصحيح ومجز ومخالفته للمأمور به الواقعي ففاسد وغير
مجز
وأما الموافقة والمخالفة للامارات أو للأصول كل في مورده فلا أثر له
أصلا (ولذلك)
364

قلنا في مبحث الاجزاء لو تبدل رأي المجتهد وقامت الحجة المعتبرة
من علم أو علمي على خلاف ما أفتاه أو لا فمقتضى القاعدة بطلان
العمل السابق ان كان فاقد الجز أو الشرط أو كان واجدا لمانع حسب
اجتهاده اللاحق فيجب عليه - وعلى كل من عمل بفتواه السابق إن
كان باقيا على تقليده أو يؤدي اجتهاده أو تقليده على خلاف ما عمل
به - أن يعيد والحاصل أن صرف كون العمل مطابقا للحجة المعتبرة
سابقا لا يؤثر في صحة العمل وعدم وجوب الإعادة والقضاء وسائر
آثار الصحة إذا انكشف الخلاف والخطاء بعلم أو علمي إلا أن يقوم
دليل معتبر على أجزاء ذلك العمل الناقص وترتيب آثار الصحة عليه
كما ادعى ذلك في باب تبدل رأي المجتهد من انعقاد الاجماع
بالنسبة إلى العبادات على الاجزاء وعدم وجوب الإعادة في الوقت و
القضاء في خارج الوقت لا عليه ولا على مقلديه وإن كان ادعأ
الاجماع - في مثل هذه المسألة التي ذكروا لها مدارك عديدة مختلفة
مثل العسر والحرج وغير ذلك - لا يخلو من إشكال.
ومما ذكرنا ظهر حكم صور تبدل رأي المجتهد بالنسبة إلى فتواه
السابقة بل حكم مطلق انكشاف خلاف ما عمل به سواء كان عمله
السابق عن اجتهاد أو تقليد أو كان بلا اجتهاد ولا تقليد وسواء كان
انكشاف الخلاف بالعلم الوجداني أو بالظن المعتبر فلا حاجة إلى
إطالة الكلام بذكر تلك الصور الكثيرة مع تبين حكمها مما ذكرنا ولا
يخفى في أنه إذا صدر العمل عن حجة معتبرة حين العمل وشك
في مطابقتها للواقع فيحكم بصحة العمل ظاهرا إلى أن يقطع بالخلاف
أو يقوم حجة فعلية على خلاف الحجة السابقة مع سقوط الأول عن
الحجية فالمدار على الحجية الفعلية، فعمله يحكم عليه بالصحة إذا
كان مطابقا مع الحجة الفعلية وإن كان مخالفا لما هو كان حجة سابقا
وأما لو لم يكن مطابقا للحجة الفعلية يحكم عليه بالفساد وإن كان
مطابقا
365

مع ما كان حجة سابقا هذا بحسب مقام الاثبات وأما في مقام الثبوت
فالامر يدور مدار الموافقة والمخالفة للواقع.
تنبيهات
(الأول)
قد ظهر مما ذكرنا من أن استحقاق العقاب يكون على مخالفة الواقع
عند ترك الفحص والتعلم وعدم العقاب عند عدم مخالفة الواقع أن
بطلان عمل التارك للفحص والتعلم أي الجاهل المقصر ملازم مع
استحقاق العقاب وصحة عمله ملازم مع عدم استحقاق العقاب و
استثنى الأصحاب من هذه الملازمة الاتمام في موضع القصر فقالوا
بصحة الاتمام في موضع القصر للجاهل المقصر التارك للتعلم مع
استحقاقه للعقاب على ترك التعلم أو الفحص وهكذا بالنسبة إلى
الجهر والاخفات كل في موضع الاخر فحكموا بالصحة مع استحقاق
العقاب على ترك التعلم أو الفحص فيتولد من هذين الحكمين أي
الحكم بالصحة مع استحقاق العقاب إشكال وهو أن المأتي به إن كان
مطابقا للواقع فلا وجه لاستحقاق العقاب لما قلنا من أن استحقاق
العقاب ليس على نفس ترك التعلم بل على مخالفته إذا أدى إليها ترك
التعلم وإن كان مخالفا للواقع فلا وجه للحكم بالصحة لما ذكرنا من أن
الصحة والاجزاء وعدم لزوم الإعادة في الوقت والقضاء في
خارج الوقت لا تكون إلا مع مطابقة المأتي به للمأمور به الواقعي فهذا
الاستثناء يوجب أحد المحذورين.
وأجيب عن هذا الاشكال بوجوه (الأول) ما أجاب به صاحب الكفاية
(قده) وهو أنه من الممكن أن تكون للصلاة الجامع بين الخصوصيتين
أي القصر والاتمام أو الجهر والاخفات مصلحة ملزمة واجب
الاستيفاء ولكن في حال الجهل بوجوب الخصوصية (وأما) لو كان
عالما
بوجوب الخصوصية
366

فليس لفاقد الخصوصية مصلحة أصلا وتكون الصلاة المتخصصة
بخصوصية القصرية في مسألة الاتمام في موضع القصر أو الصلاة
المتخصصة بإحدى الخصوصيتين أي الجهر والاخفات في مسألة
كون كل منهما في موضع الاخر مشتملة على مرتبة أشد وأكمل من
المصلحة التي في ذلك الجامع الفاقد لهذه الخصوصية ويكون وجود
مصلحة الجامع الفاقد للخصوصية بحيث لو وجد أولا لا يبقى محلا و
مجالا لوجود مصلحة الجامع المتخصص بتلك الخصوصية وكم له
من نظير في الأمور الخارجية مثلا الطعام الجامع بين المتخصص
بالخصوصية الكذائية وفاقدها له مرتبة من المصلحة ضعيفة بالنسبة
إلى الواجد للخصوصية وذلك كالطبيخ المزعفر مع الطبيخ الخالي
عنه وإذا أكل الطبيخ الخالي عن الزعفران فلا يبقى مجالا لاستيفاء
المصلحة المزعفر ولو كان إيجاده في كمال السهولة ولا يرد على
هذا البيان شي من الايرادات التي أوردوها كما سنذكرها مع أجوبتها
(ولا يلزم) أيضا شيئا من المحذورين لان صحة الاتمام في
موضع القصر أو صحة كل واحد من الجهر والاخفات في موضع الاخر
لاشتمالها على مرتبة من المصلحة هي ملزمة وواجب استيفائه و
أما العقاب عليه فمن جهة تفويته لتلك المرتبة التي هي أكمل من التي
حصلت (لا يقال) إذا علم بالخصوصية مع بقاء الوقت فيجب استيفائه
لعدم محذور في استيفائه مع بقاء وقته إذا كان واجب الاستيفاء وإلا
فلا وجه للعقاب لان جوابه ظهر مما قلنا من أن سبق وجود
المصلحة الضعيفة التي للجامع الفاقد للخصوصية لا يبقى محلا و
مجالا لاستيفاء مصلحة الأتم والأكمل ولا يتوهم أن المصلحتين إذا
كانتا
ارتباطيتين فلا وجه للحكم بالصحة في فاقد الخصوصية لعدم حصول
المصلحة والغرض فيه أصلا وإن كانتا مستقلتين فلا بد أن يكون
من قبيل الواجب في الواجب لان كل واحد من الصلاة الفاقدة و
الواجدة لتلك الخصوصية مشتملة على مصلحة ملزمة (وبعبارة
أخرى)
367

مصلحة ملزمة لأصل الصلاة الجامع ومصلحة أخرى للخصوصية
فقهرا تكون الخصوصية واجبا آخر في الصلاة (وجوابه) ظهر مما قلناه
أن صلاة الفاقدة لتلك الخصوصية مشتملة على مرتبة ضعيفة من
المصلحة التي هي ملزمة ونفس الصلاة الواجدة لتلك الخصوصية
المتخصصة بها لها مصلحة أتم وأكمل فمركز المصلحتين شي واحد
وهي الصلاة (فتارة) يكون مصلحتها ضعيفة (وأخرى) شديدة لا
أن هناك في الصلاة الواجدة للخصوصية مصلحتان إحداهما قائمة
بذات الصلاة والأخرى قائمة بالخصوصية حتى يكون في الصلاة
الواجدة واجبين إحداهما ذات الصلاة والأخرى الخصوصية وتكون
الصلاة ظرفا للخصوصية حتى يكون واجبا في واجب.
وأما ما أورده شيخنا الأستاذ (قده) على هذا الجواب أي جواب
صاحب الكفاية عن الاشكال المعروف (فحاصله) أن الخصوصية التي
هي
مركز المصلحة الزائدة إن كانت دخيلة في الغرض فلا وجه لسقوطه
بالفاقدة لتلك الخصوصية خصوصا مع إمكان استيفاء تلك
الخصوصية في الوقت كما لو علم بالحكم في الوقت وما يقال - من
عدم إمكان الجمع بين المصلحتين في الاستيفاء لان استيفاء المصلحة
الناقصة موجب لسبب القدرة عن استيفاء المصلحة الأتم - غير تام
لان القدرة على إيجاد الصلاة الكاملة باقية ولا يعتبر في استيفاء
المصلحة الكاملة إلا القدرة على إيجاد متعلقها وهي حاصلة خصوصا
إذا علم بالحكم في الوقت إلا إذا كان استيفاء المصلحة الكاملة
بالصلاة الواجدة للخصوصية مشروطا بعدم سبق الصلاة الفاقدة وهذا
خلف إذ يلزم من ذلك خلو الصلاة الواجدة للخصوصية عن
المصلحة في حال الجهل فلا موجب لاستحقاق العقاب هذا إذا كانت
الخصوصية الزائدة دخيلة في الغرض والواجب وبها قوامه وإن لم
يكن لها دخل فاللازم هو الحكم بالتخيير بين القصر والاتمام غاية
الامر يكون القصر أفضل فردي
368

التخيير لاشتماله على المصلحة الزائدة ولا وجه لاستحقاق العقاب
هذا كله مضافا إلى أن أدلة الباب ظاهرة في أن المأتي به في حال
الجهل يكون مأمورا به فراجع.
وفيه أن الخصوصية الزائدة لها دخل في المرتبة الكاملة من غرضه و
لكن مرتبة غير كاملة من غرضه تحصل بالفاقدة للخصوصية
الزائدة وبعد حصول تلك المرتبة من الغرض بفاقدة الخصوصية
الزائدة لا يبقى مجال لتحصيل المرتبة الكاملة بالواجدة لتلك
الخصوصية وقد شرحناه في تقرير جواب صاحب الكفاية فقهرا
يسقط الامر ولا يجب الإعادة في الوقت ولا القضاء في خارجه
لحصول
مرتبة من الغرض وعدم إمكان تحصيل الباقي وأما العقاب فلأجل
تفويته مرتبة من الغرض الذي كان لازم التحصيل من غير عذر بل
بسؤ اختياره وأما قوله قدس سره أنه يلزم من اشتراط استيفاء
المصلحة الكاملة بالصلاة الواجدة للخصوصية الزائدة بعدم سبق
الصلاة
الفاقدة خلو الصلاة الواجدة للخصوصية الزائدة عن المصلحة في حال
الجهل فلا موجب للعقاب (فالجواب عنه أولا) أن حال الجهل ليس
ملازما مع سبق الصلاة الفاقدة (وثانيا) أنه على تقدير اللزوم لا يلزم من
هذا الاشتراط إلا عدم إمكان استيفاء المصلحة التامة بعد سبق
الصلاة الفاقدة لا عدم كونها أي الصلاة الواجدة للخصوصية الزائدة
ذات مصلحة وخلوها عنها (وثالثا) أن عدم إمكان الاستيفاء لتلك
المصلحة الكاملة مستند إلى سؤ اختياره من جهله وخروجه من
وظيفة العبودية بترك الفحص إن كان مجتهدا أو ترك التعلم فترك
التعلم مع إمكانه أو الفحص إن مجتهدا صار سببا لتفويت تلك
المصلحة وعدم إمكان استيفائها فالموجب للعقاب - وهو فوت
المصلحة
مستندا إلى ترك التعلم أو الفحص - موجود وأما أدلة الباب فلسانها
أنه تمت صلاته أي لا يحتاج إلى الإعادة والقضاء وهذا المعنى
حاصل كما بيناه وليس فيها أن صلاة الاتمام في موضع
369

القصر هو المأمور به الواقعي.
(الثاني) ما أجاب به الشيخ الكبير (قده) وهو الالتزام بالامر الترتبي في
المقام بمعنى أن الامر حال الجهل أولا تعلق بالصلوات الواجدة
التامة الكاملة وعند عصيانه وفي طوله تعلق بالفاقد لتلك الخصوصية
الزائدة فقهرا إذا عصى الامر الأول لجهله المستند إلى ترك التعلم
أو الفحص يعد عاصيا لمخالفته الامر الأهم فيوجب استحقاق العقاب
ومطيعا للامر الثاني أي أمر المهم فيكون عمله صحيحا وتمت
صلاته (وفيه) أن الترتب عبارة عن كون عصيان الأهم موضوعا لأمر
المهم بمعنى أن خطاب المهم متوجه إلى عنوان العاصي للأهم ولا
شك في أن الخطاب لا يحرك المكلف إلا في ظرف التفاته إلى
الموضوع وأنه من مصاديقه وفي المقام لا يمكن ذلك إذ الالتفات إلى
أنه
من مصاديق الموضوع أي العاصي لخطاب الأهم الذي هو عبارة عن
الصلاة الواجدة للخصوصية الزائدة يخرجه عن كونه جاهلا ومع
عدم الالتفات يكون ذلك الخطاب لغوا لا أثر له فالخطاب الترتبي لا
يمكن في المقام كما أشرنا إليه في مبحث الترتب في الجز الأول و
لا فرق فيما ذكرنا من عدم مجئ الترتب في المقام بين أن يكون شرط
المهم هو عنوان عصيان الأهم أو عنوان ترك القصر مثلا في
المقام لان ترك المأمور به أيضا هو العصيان إلا أن يكون أحد فردي
التخيير (وأما احتمال) أن يكون شرط الامر بالصلاة التمام مقابل
القصر ترك صلاة القصر بدون أن يكون مأمورا به (فعجيب) لان الترتب
عبارة عن أمرين طوليين متعلقين في زمان واحد بأمرين لا
يمكن اجتماعهما ولذلك صار معركة الأداء واختلفوا في إمكانه و
امتناعه وإلا صرف اشتراط أمر بعدم شي بديهي إمكانه.
وأما الاشكال عليه بتعدد العقاب لو ترك الاثنين أي الصلاة الاتمام و
القصر وبعبارة أخرى الأهم والمهم جميعا فهذا الاشكال معروف
ويرد على
370

جميع موارد الترتب وقد تقدم الكلام فيه في الجز الأول في مبحث
الترتب فراجع (نعم يرد عليه) أن الترتب كما عرفت اشتراط الامر
بالمهم بعصيان الأهم وفي المقام لا يمكن ذلك لأنه لا بد من فعلية
المهم في الوقت ولا يمكن حصول شرطه أي عصيان الأهم في الوقت
لأنه ما دام وقت الأهم باق لا معنى لتحقق عصيانه.
(الثالث) ما أجاب به الشيخ الأعظم الأنصاري (قده) (تارة) بأن العقاب
على ترك التعلم (وأخرى) بأنه على ترك القصر الذي هو المأمور
به في حال الجهل أيضا وليس ما أتى به أي الاتمام مأمورا به وإنما هو
مسقط للواجب (ويرد عليه) أن هذا الجواب مع عدم صحته في
نفسه خروج عن مفروض البحث كما أن ما قاله شيخنا الأستاذ (قده)
من منع استحقاق العقاب أيضا خروج عن مفروض البحث وقد
وجه المسألة أيضا بتوجيهات تركنا ذكرها خوفا من إطالة البحث في
المقام.
وقد أجاب شيخنا الأستاذ - أيضا على فرض تسليم استحقاق العقاب
تعدد الواجب في ظرف الجهل بوجوب الجامع بين ذي
الخصوصيتين ووجوب للخصوصية الكذائية فالاجزاء للامتثال
لوجوب ذلك الجامع والعقاب لعصيان وجوب الخصوصية هذا في
حال
الجهل وأما في حال العلم فيندك وجوب الجامع في وجوب
الخصوصية أو بالعكس وعلى كل حال ينقلب وجوب الاستقلالي
للخصوصية
إلى الغيرية والقيدية فتصير الخصوصية بعد ما كانت واجبا نفسيا
واجبا شرطيا وهذا الجواب أورده في مسألة الجهر والاخفات ولكن
قال إنه أيضا جار في المسألتين الأخريين أعني مسألة الاتيان بالقصر
في موضع الاتمام على فتوى جماعة في المقيم عشرة الذي جاهل
بأن وظيفته الاتمام ومسألة الاتمام في موضع القصر عند الكل وخص
كل واحدة من هاتين المسألتين أيضا بوجه خاص به تركناهما
لأجل رجوعهما إلى الوجه الأول.
371

(الامر الثاني)
في عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إلا في بعض
الموارد وذلك (أولا) لعدم الدليل على وجوب الفحص فيها تحريمية
كانت
أم وجوبية وشمول إطلاقات أدلة الحل لها وعدم جريان أدلة وجوب
الفحص في الشبهات الحكمية عقليها ونقليها مما ذكرنا فيها (و
ثانيا) الاجماع على عدم وجوب الفحص فيها (نعم) في بعض
الشبهات الموضوعية التحريمية كما في باب احتمال كون المرأة
محرمة عليه
كما قيل يجب الفحص وفي الشبهات الوجوبية قالوا بوجوب الفحص
في موارد (منها) وجوب الفحص عن الاستطاعة للحج إذا شك فيها
(ومنها) الفحص عن البلوغ حد النصاب في باب الزكاة (ومنها)
الفحص عن بلوغ النصاب فيما له نصاب في باب الخمس (ومنها)
الفحص عن الهلال فيما إذا يرى بمحض النظر إلى السماء أو الفحص
عن طلوع الفجر فيما إذا يعرف بمحض النظر وعدم جواز جريان
الاستصحاب في الموردين إلى غير ذلك من الموارد التي يجدها
المتتبع في الفقه (والظاهر) أن وجوب الفحص في هذه الموارد ليس
بمناط واحد بل في بعضها بلحاظ أهمية المحتمل كما في باب
الاعراض والنفوس وفي بعضها بلحاظ لزوم المخالفة الكثيرة للحكم
المجعول لو لم يجب الفحص بل في بعض الأحيان ينجر إلى لغوية
الجعل لذلك الحكم كما في باب الفحص عن الاستطاعة في الحج و
عن
النصب في باب الزكاة والخمس وقد ورد رواية أيضا في باب الزكاة
في النقدين بالامر بسبكهما لتعيين المقدار وفي بعضها أنه لا
يصدق عليه الجهل كما فيما إذا نظر يرى الهلال أو الفجر ولكن مع
جميع ما ذكرنا من الوجوه لوجوب الفحص في الشبهات الموضوعية
وجوبية كانت أو تحريمية من الموارد المذكورة وأمثالها فان كان مدرك
عدم وجوب الفحص هو الاجماع لا شمول الاطلاقات التي
لأدلة الحل ففيها وجه لان المخالفة للاجماع على عدم وجوب
الفحص عن جمع كثير ولو كان لأجل هذه الوجوه مضر بتحقق
الاجماع في
هذه الموارد
372

فلا بد من الوقوف على قدر المتيقن من موارده وأما إن كان مدركه
شمول إطلاقات الحل لحال عدم الفحص كما هو الظاهر بل المتيقن
فلا بد من التماس دليل معتبر لتقييد الاطلاقات وتقييدها بهذه الوجوه
الاستحسانية مع أن بعضها غير تام في حد نفسها مشكل جدا.
(الامر الثالث)
ذكر الفاضل التوني (قده) لجريان البراءة شرطين أخريين (أحدهما) أن
لا يكون مستلزما لثبوت حكم إلزامي على المكلف (ثانيهما) أن
لا يكون موجبا لضرر على الغير (أقول) أما الشرط الأول فمجمل القول
فيه أن الحكم الإلزامي المترتب على البراءة (تارة) مترتب على
عدم تنجز حكم وجوبي كما في باب تزاحم الحكمين كوجوب الصلاة
المترتب على عدم تنجز وجوب الإزالة لا على عدم وجوبها واقعا و
ذلك من جهة أن المزاحمة تحصل على تقدير تنجز وجوب الإزالة و
إلا فصرف وجوده مع عدم تنجزه ليس مزاحما لوجوب الصلاة لان
التزاحم يقع في مرحلة الامتثال لأنه لا يقدر على امتثالهما جميعا وإلا
فصرف وجودهما واقعا مع عدم تنجزهما أو مع عدم تنجز أحدهما
فلا يوجب التزاحم فإذا ارتفع التنجز بالبرأة فقهرا يسقط التزاحم و
يكون وجوب الاخر بلا مزاحمة فلو كان الأهم كالازالة مجرى
للبرأة يكون وجوب المهم أي الصلاة في سعة الوقت بلا مزاحم فان
كان مراد الفاضل مثل هذا المورد فلا يمكن إنكاره والقول بعدم
جريان البراءة (وأخرى) مترتب على عدمه واقعا لا على عدم تنجزه
كوجوب الحج المترتب على عدم وجوب أداء الدين واقعا لا عدم
تنجزه ففي مثل ذلك لا يثبت وجوب الحج لان البراءة ترفع الوجوب
ظاهرا ولا تثبت عدم الوجوب واقعا نعم لو كان عدم الدين مفاد
الاستصحاب يثبت موضوع وجوب الحج لأنه أصل تنزيلي يكون في
ذلك مثل الامارة فان كان مراده مثل هذا المورد فكلامه حق
373

لان البراءة عن وجوب شي لا يثبت عدم الوجوب واقعا حتى يثبت
موضوع حكم الاخر وأما ترتب وجود الحكم في طرف من أطراف
العلم الاجمالي على عدمه في الطرف أو الأطراف الاخر كما إذا علمنا
بوجوب أحد الشيئين أو الاشياء وإن كان لا يثبت بالبرأة إلا على
القول بالأصل المثبت ولكن فيه أولا أن هذا ليس مخصوصا بالبرأة
بل دلالة كل أصل عملي على الترخيص في طرف لا يثبت الوجوب
في الطرف الآخر حتى الاستصحاب الذي هو من أقوى الأصول إلا
على القول بالأصل المثبت (وثانيا) أن الأصول المرخصة لا تجري في
بعض أطراف العلم الاجمالي (إما) لأجل السقوط بالمعارضة (وإما)
لان العلم الاجمالي علة تامة لتنجز التكليف المعلوم حتى بالنسبة إلى
الموافقة القطعية فلا يجري في طرف واحد ولو كان بلا معارض إلا
بجعل البدل أو الانحلال كما اخترناه (وقد ظهر) من جميع ما
ذكرناه أن عد هذا من شروط جريان البراءة ليس كما ينبغي.
وأما الشرط الثاني وهو أن لا يكون موجبا لورود ضرر على الغير
(ففيه) أن البراءة ولو كان لا تجري في مورد جريان قاعدة لا ضرر
(وذلك) لما ذكرنا في محله من حكومة القاعدة على الأدلة الأولية و
لو كان من أقوى الامارات فضلا عن الأصول غير التنزيلية كالبرأة
إلا أن مثل ذلك لا ينبغي أن يعد من شروط البراءة وإلا فيجب أن يعد
من شروط جميع الامارات والأصول ففي الحقيقة بواسطة جريان
القاعدة لا يبقى موضوع للبرأة (ومن الممكن) أن يكون مراده من هذا
الشرط أن حديث الرفع الذي مؤداه البراءة حيث إنه في مقام
الامتنان فيجب أن لا يكون جريانه خلاف الامتنان بأن يكون موجبا
لورود ضرر على الغير.
[تم الاشتغال بحمد الله ومنه]
374

في الاستصحاب
وهو الأصل الرابع من الأصول العملية الأربعة المعروفة التي هي
وظائف عملية جعلها الشارع للمتحير الشاك الذي لم يجد دليلا على
الحكم الشرعي أو على موضوعه، وهذا المعنى الذي ذكرنا للأصل
العملي هو المختار عندنا (وإلا) فقد ذكروا فيه أقوالا أخر وليس في
ذكرها كثير فائدة وقد بينا سابقا مجاري الأصول الأربعة وأن مجرى
الاستصحاب هو الشك في بقاء المتيقن السابق من حكم شرعي
أو موضوع ذي حكم (وقلنا) إن الأصول عقلية وشرعية تنزيلية وغير
تنزيلية أي: محرزة وغير محرزة، (وبينا) الفرق بين الأصول
المحرزة وغير المحرزة وان الأصول المحرزة تقوم مقام القطع الذي
أخذ في الموضوع على نحو الطريقية (وقد بينا) أن الاستصحاب
على ما هو المختار عندنا من الأصول العملية المحرزة كل ذلك تقدم
في تضاعيف هذا الكتاب، وسيأتي أيضا إن شاء الله تعالى في مقام
البحث عن حكومة الامارات على كافة الأصول، وحكومة الأصول
المحرزة على غير المحرزة وعلى كل ينبغي في المقام ذكر أمور:
(الأول) في بيان تعريف الاستصحاب
(فنقول) أما لغة فهو أخذ الشئ مصاحبا، وأما اصطلاحا عند
الأصوليين فيختلف تعريفه حسب اختلاف الاراء في حقيقته، من أنه
إمارة أو
أصل شرعي أو عقلي تنزيلي أو غير تنزيلي (وحيث) أن المختار
عندنا والمستفاد من الاخبار أنه أصل عملي شرعي تنزيلي، ونقل
سائر الأقوال والنقص والابرام لا فائدة فيها (فهو عبارة) عن حكم
الشارع ببقاء المتيقن السابق حكما كان أو موضوعا ذي حكم من
حيث ترتيب الآثار الشرعية على أنه متيقن عند الشك في بقائه.
375

(الثاني) في أن الاستصحاب هل هو من المسائل الأصولية أم لا؟
(أقول) قد تكرر منا في هذا الكتاب أن المدار في كون المسألة أصولية
أن تكون نتيجة البحث عنها تقع كبرى في قياس يستنتج منه
الحكم الكلي الشرعي الفرعي ولو كانت النتيجة - أي: الحكم
المستنتج من ذلك القياس - وظيفة عملية كما هو كذلك في باب
جريان
الأصول العملية ولا شك في أن الاستصحاب في الاحكام الكلية
تكليفية أم وضعية نتيجة البحث عنه تقع كبرى في قياس يستنتج منه
الحكم الشرعي الكلي الفرعي، مثلا الفقيه في بقاء نجاسة الماء المتغير
أحد أوصافه الثلاثة بالنجس بعد زوال التغير من قبل نفسه - لا
بوصول المطهر إليه - يثبت نجاسته بالاستصحاب، وهكذا إذا شك
في بقاء حلية شرب العصير التمري أو الزبيبي بعد الغليان وقبل أن
يذهب ثلثاه يستنتج بقاء حليته بالاستصحاب إلى غير ذلك من
الموارد الكثيرة في جميع أبواب الفقه، وهذا المعنى - أي: كون
الاستصحاب من المسائل الأصولية - ليس مخصوصا بأن يكون
مستفادا من الاخبار وبأن يكون من الوظائف العملية التي حكم الشارع
بها في طرف الشك في بقاء المتيقن السابق حكما كان أو موضوعا ذا
حكم شرعي، بل هو كذلك بناء على القول بكونه حجة من باب
الظن بالبقاء (لأنه) حينئذ يكون حاله حال سائر الأمارات الظنية التي
جعلها الشارع حجة، ولو كان من باب بناء العقلا على حجيته و
عدم ردع الشارع عنه، بل كونه من المسائل الأصولية بناء على حجيته
من باب إفادة اليقين السابق الظن بالبقاء أوضح (لأنه) بناء على
هذا يقع في طريق الاستنباط الحكم الشرعي ويكون حاله حال الخبر
الواحد الذي هو حجة الذي لا كلام في أنه من المسائل الأصولية و
عليه يدور رحى الاستنباط (ولا يخفى) أن ما قلنا من كون
الاستصحاب مسألة أصولية هو فيما إذا كان في الاحكام الكلية، وأما
في
الموضوعات الخارجية فهو
376

من القواعد الفقهية.
وأما عده من المسائل الأصولية - باعتبار أن الضابط في كون المسألة
أصولية أن يكون لها دخل في الاستنباط - فغير تام (أما أولا)
فلانه لا حاجة إلى هذا التكلف بعد أنه على كلا القولين يقع كبرى في
قياس يستنتج منه الحكم الشرعي وهو الضابط الصحيح كما بيناه (و
ثانيا) أنه لو كان مناط المسألة أصولية هذا المعنى يلزم دخول كثير من
مسائل العلوم العربية بل وسائر العلوم أيضا في علم الأصول و
الاذعان بهذا الامر وعدم إنكاره عجيب (ومما ذكرنا) من الضابط في
كون المسألة أصولية تعرف الفرق بين المسألة الأصولية وبين
القاعدة الفقهية كقاعدة (لا تعاد الصلاة إلا من خمس) وقاعدة
(الامكان في الحيض) وقاعدة (من ملك شيئا ملك الاقرار به) و
غيرها من
القواعد الكثيرة في أبواب الفقه، فإن تلك القواعد الفقهية بنفسها
أحكام شرعية كلية تنطبق على مصاديق جزئية وقد تنطبق على
مصاديق كلية، لا أنها تكون كبرى في قياس يستنتج منه الحكم الكلي
الشرعي.
(الثالث) في أن الاستصحاب غير قاعدة اليقين وغير قاعدة المقتضى
والمانع
- ولا دليل على اعتبارهما (أما كون) الاستصحاب غير قاعدة اليقين -
الذي يقال له الشك الساري - لان قاعدة اليقين عبارة: عن اليقين
بشي في زمان ثم يطرأ له الشك في وجود ذلك الشئ في نفس ذلك
الزمان (ولذلك) يطلقون عليه الشك الساري، ففي قاعدة اليقين
زمان المتيقن والمشكوك واحد وزمان اليقين والشك لا بد وأن
يكون متعددا (لأنه) لا يمكن أن يكون ثبوت شي في زمان واحد
كعدالة زيد في يوم معين مثلا يتعلق به الشك واليقين في زمان واحد،
إذ يلزم اجتماع النقيضين، إذ معنى اليقين به أنه لا يحتمل عدمه و
معنى الشك فيه أنه يحتمل عدمه،
377

ولا يرتفع هذا التناقض إلا بأحد أمرين (أحدهما) عدم اتحاد زمان
المشكوك والمتيقن وإن كان زمان اليقين والشك واحدا كما في
الاستصحاب (والثاني) عدم اتحاد زمان اليقين والشك وإن كان زمان
المتيقن والمشكوك واحدا كما هو كذلك في قاعدة اليقين،
فالمقوم لقاعدة اليقين هو اختلاف زمان اليقين والشك مع وحدة زمان
المتيقن والمشكوك، والمقوم للاستصحاب اختلاف زمان
المتيقن والمشكوك وأما زمان اليقين والشك فيمكن فيه الاختلاف و
يمكن أن يكون واحدا.
وخلاصة الكلام أن الاستصحاب هو الحكم ببقاء ما هو المتيقن سابقا
في ظرف الشك في بقائه، فمتعلق الشك هو بقاء ما هو متيقن في
الزمان السابق بدون سراية الشك إلى زمان الذي كان متيقنا، مثلا لو كان
اجتهاد زيد أو عدالته متيقنا سابقا فشك في بقاء تلك العدالة
أو الاجتهاد في الأزمنة المتأخرة مع بقاء اليقين السابق المتعلق بالعدالة
أو الاجتهاد في الزمان السابق - بحيث يكون زمان السابق قيد
الاجتهاد والعدالة لا قيد اليقين - فهذا مورد الاستصحاب، وهذا
بخلاف قاعدة اليقين فان اليقين السابق لم يبق فيها والشك سرى حتى
إلى وجوده في الزمان السابق، مثلا لو تيقن باجتهاد زيد ثم شك في
أصل حدوث هذه الصفة له وارتفع اليقين من البين فهذا وهو قاعدة
اليقين (وأما) لو لم يرتفع اليقين بحدوث الاجتهاد مثلا وإنما تعلق
الشك ببقائه لا بأصل وجود هذه الصفة فهذا هو الاستصحاب،
فالقضية المشكوكة والمتيقنة في الاستصحاب وحدتهما باعتبار ذات
الموضوع (وأما) باعتبار وصف الحدوث والبقاء فمختلفان،
فكونه متيقنا باعتبار الحدوث وكونه مشكوكا باعتبار البقاء، وأما
القضيتان المشكوكة والمتيقنة في قاعدة اليقين فكلاهما باعتبار
الحدوث ولا اختلاف بينهما لا ذاتا ولا وصفا بل الشك تعلق بعين ما
تعلق به اليقين مع اختلاف زمان اليقين والشك.
378

وأما فرق الاستصحاب مع قاعدة المقتضى والمانع فهو أوضح (لان)
متعلق الشك واليقين مختلفان ذاتا ووصفا (فاليقين) تعلق بشي و
هو المقتضى والشك تعلق بشي آخر أجنبي عنه وهو المانع،
فمتعلق الشك واليقين في قاعدة اليقين متحد ذاتا ووصفا، (وأما)
متعلقهما في قاعدة المقتضى والمانع فمختلف ذاتا ووصفا، فالمتيقن
أبدي والمشكوك أزلي وفي الاستصحاب متعلقهما متحد ذاتا و
مختلف وصفا أي: باعتبار وصف الحدوث والبقاء (وبعد ما ظهر)
الفرق بين هذه القواعد الثلاث فالدليل على اعتبار الاستصحاب (إما
بناء العقلا) أو الاخبار وسنتكلم فيه إن شاء الله تعالى وأما الدليل
على اعتبار قاعدة اليقين (إما الاخبار) وسيأتي الكلام فيه وأنها لا
تدل إلا على الاستصحاب، والجمع بينه وبين القاعدة لا يمكن (وإما
بناء العقلا) على ترتيب آثار اليقين بالشئ إذا حصل ولو زال
اليقين بعد ذلك وصار ما كان متيقنا مشكوكا من أول الامر، فمن تيقن
برجوع زيد مثلا عن السفر في هذا اليوم يخرج لزيارته ولا
يرجع عن عزمه بمحض حصول الشك في رجوعه بل يبنى على
ترتيب آثار ذلك اليقين الأول وإن زال فعلا.
(وفيه) أن هذا دعوى بلا بينة ولا برهان بل الوجدان على خلافه
(نعم) قد يرتبون آثار وجود المتيقن حتى مع زوال اليقين ولكن ليس
مستندا إلى هذه القاعدة بل إلى قاعدة معتبرة أخرى (وأما الدليل)
على اعتبار قاعدة المقتضى والمانع (أما أخبار) الباب أي: أخبار التي
استدل بها على حجية الاستصحاب - فأجبني عن تلك القاعدة لان
في مورد القاعدة لا يصدق نقض اليقين بالشك فيما لم يرتب آثار
المتيقن أعني: المقتضى باحتمال وجود المانع، لان اليقين تعلق بشي
والشك بشي آخر (وأما بناء العقلا) الذي هو العمدة في
استدلالهم على اعتبار هذه القاعدة، بمعنى
379

أن العقلا إذا علموا بوجود المقتضى يرتبون آثار وجود المقتضى ولا
يعتنون باحتمال وجود المانع عن تأثير المقتضى (ففيه) أن
العقلا لا يحكمون بوجود الشئ إلا بعد وجود علته التامة بجميع
أجزائها ووجود شرائطها وفقد موانعها (نعم) في بعض الأحيان
يرتبون آثار وجوده بصرف احتمال وجود الشئ من باب أهمية
المحتمل (فيكون) احتياطا عقلائيا لا أنهم يبنون على وجود المقتضى
بصرف اليقين بوجود المقتضى مع احتمال وجود المانع.
نعم إذا علموا بوجود المقتضى بالفتح - واحتملوا ارتفاعه بواسطة
احتمال وجود الرافع - فلا يعتنون بهذا الاحتمال ويرتبون أثر بقاء
ذلك المقتضى الموجود، ولكن أين هذا من بناء العقلا على اعتبار
قاعدة المقتضى والمانع؟ بل هذا بناء العقلا على إبقاء ما كان وهو
عين الاستصحاب (ونحن) لا ننكر أن من جملة أدلة الاستصحاب بناء
العقلا على اعتباره كما سيأتي.
والحاصل أن الحكم بوجود المقتضى - بصرف وجود المقتضى مع
احتمال وجود المانع وعدم الاطمئنان بعدمه - لا دليل عليه لا من
العقل ولا من النقل (ولا فرق) فيما ذكرنا بين المقتضيات التكوينية -
أي: ما يفاض الأثر التكويني منه مع اجتماع شرائطه وفقد موانعه
كالنار مع الاحراق - وبين المقتضيات التشريعية كالملاكات التي في
أفعال المكلفين التي تكون مقتضية لجعل الحكم على طبقها لو لم
يكن مانع في البين كالحرج والضرر وأمثال ذلك (فيصرف) العلم
بالملاك لا يجوز الحكم الشرعي على طبق الملاك مع احتمال وجود
المانع بل لا بد من إحراز الملاك التام مع شرائطه وفقد موانعه حتى
مع القول بالملازمة (ولعل) إلى هذا نظر من قال بإنكار الملازمة، و
أيضا لعل إلى هذا يكون نظر جماعتنا الأخباريين في نفي إمكان
استكشاف الحكم الشرعي بالأدلة العقلية مع أن إحراز ملاك الحكم
الشرعي في غاية الاشكال والصعوبة ودين الله لا يصاب بالعقول.
380

وأما لو كان المراد من المقتضى ما هو موضوع الحكم الشرعي ومن
المانع القيود العدمية التي أخذت في الموضوع، كما أن الشارع جعل
موضوع النجاسة ملاقاة الماء للنجس أو المتنجس مقيدا بعدم كونه كرا
(فجعل) ملاقاة الماء مقتضيا للنجاسة وجعل الكرية مانعا عن
قبول الانفعال (فيكون) معنى القاعدة الحكم بنجاسة الماء الملاقي
للنجس ولو احتمل المانع أي:
كرية الماء، فهذا واضح البطلان، إذ لا يمكن الحكم بوجود الحكم إلا
بعد تمامية الموضوع والمفروض أن القيد العدمي من تمام الموضوع
(والحاصل) أن قاعدة المقتضى والمانع بأي معنى من هذه المعاني لا
أساس لها ولا دليل على اعتبارها.
ثم اعلم أن ما يسمى عندهم باستصحاب القهقرى لا اعتبار له (لان)
مرادهم من استصحاب القهقرى هو أن يكون المشكوك مقدما و
المتيقن متأخرا عكس الاستصحاب المصطلح فلا يشمله (لا تنقض
اليقين بالشك) لان معنى لا تنقض هو أن يكون متيقنا فشك في بقائه
فترتيب آثار الشك نقض اليقين بالشك (وأما لو لم يكن) يقين سابقا
بل كان شكا بشي فحصل في الزمان المتأخر يقين فترتيب آثار
الشك السابق ليس نقضا لليقين بالشك (لأنه) لم يكن يقين حتى يكون
نقض اليقين بالشك، بل ليس نقض أصلا، هذا إذا كان اعتباره من
باب الاخبار (وأما إذا كان) من باب الظن أو بناء العقلا (ففيه) أنه لا
يحصل الظن منه ولو قلنا بحصوله من الاستصحاب المصطلح، لان
اليقين بثبوت صفة مثلا في الزمان المتأخر لا يوجب الظن بثبوته في
الزمان المتقدم الذي كان مشكوك الوجود فيه وان قلنا بأن ما ثبت
يدوم.
نعم في باب وضع الألفاظ لو علمنا بأن لفظ الصعيد مثلا معناه فعلا هو
التراب الخاص (ربما يوجب) الظن بأنه سابقا أيضا كان كذا،
381

ولكن لا يمكن إثبات حكم كلي بمورد واحد مضافا إلى أن هذا من
جهة أصالة عدم النقل فإنه أصل عقلائي وليس من جهة استصحاب
القهقرى مضافا إلى أنه لا دليل على حجية مثل هذا الظن.
(الرابع)
في أن الشك واليقين المأخوذين موضوعا للاستصحاب وحرمة
النقض لا بد وأن يكونا فعليين لا تقديريين بمعنى: أن جريان
الاستصحاب في حقه متوقف على أن يكون المكلف فعلا متيقنا
بحكم أو موضوع ذي حكم في الزمان السابق، ويكون شاكا فعلا في
بقائهما لا أن يكون متيقنا وشاكا تقديرا بمعنى: أنه غافل ليس له يقين
بوجود شي سابقا ولا شك ببقاء ذلك الشئ فعلا (ولكن) لو
التفت وخرج عن غفلته يحصل له الشك واليقين (والدليل) على
ذلك أن كل عنوان أخذ موضوعا لأي حكم من الاحكام ففعلية ذلك
الحكم
متوقف على فعلية ذلك الموضوع، والمراد من الموضوع هاهنا متعلق
المتعلق أي:
متعلق النقض الذي هو فعل المكلف وتعلق به الحرمة، ومتعلق
النقض هو اليقين والشك (ففعلية) حرمة النقض ووجوب الابقاء
الذي
عبارة عن الاستصحاب متوقفة على فعلية الشك واليقين، ففيما إذا لم
يكن الشك واليقين فعليين فلا استصحاب في البين، ويترتب على
هذا ثمرة مهمة وهي أن من كان متيقنا بالحدث وغفل عن ذلك و
صلى ثم شك بعد الفراغ في أنه تطهر قبل الصلاة أم لا (فبناء) على
لزوم كون الشك فعليا في جريان الاستصحاب فهنا ليس استصحاب
الحدث قبل الصلاة حتى لا يبقى مجالا لقاعدة الفراغ فيجري
القاعدة ويحكم بصحة الصلاة (وأما لو قلنا) بكفاية التقديريين منهما
فاستصحاب الحدث جار ولا يبقى مجال لقاعدة الفراغ فيحكم
ببطلان الصلاة.
(الخامس) في انقسامات الاستصحاب باعتبار المستصحب وباعتبار
الدليل الذي يدل عليه وباعتبار الشك المأخوذ فيه
(أما انقسامه) باعتبار
382

المستصحب فالمستصحب قد يكون وجوديا وقد يكون عدميا وكل
واحد منهما إما حكم شرعي وإما موضوع ذو حكم شرعي، وما
فيه المستصحب حكم شرعي وجودا وعدما قد يكون حكما كليا و
أخرى يكون حكما جزئيا وكل واحد منها إما يكون حكما تكليفيا و
إما يكون حكما وضعيا (وأما انقسامه) باعتبار دليله أي: دليل
المستصحب فقد يكون الدليل على المستصحب عقليا وقد يكون
شرعيا و
ما كان شرعيا قد يكون لفظيا كالكتاب والسنة وقد يكون لبيا كالاجماع
(أما انقسامه) باعتبار الشك المأخوذ فيه فمن جهة أن الشك
المأخوذ فيه قد يكون شكا في المقتضى - بمعنى الشك في أن
المستصحب قابل للبقاء في حد نفسه من دون أن يكون رافع في البين
- و
قد يكون شكا في الرافع بمعنى أن المستصحب في حد نفسه قابل
للبقاء لو لم يكن رافع في البين (فالشك) في بقاء المستصحب حينئذ
مستند إلى احتمال وجود الرافع، وهذا القسم - أي: الشك في الرافع
- قد يكون من جهة الشك في وجود الرافع وقد يكون من جهة الشك
في رافعية الموجود والشك في الغاية قد يكون من قبيل الشك في
الرافع (فهذه) هي انقسامات الاستصحاب بالاعتبارات الثلاث. وقد
وقع الخلاف في أغلب هذه الأقسام فقالوا بالتفصيل بين كل قسم و
مقابله (كما أنه) قيل بعدم حجيته مطلقا، والحق حجيته مطلقا إلا على
كلام في الشك في المقتضى وعمدة التفصيلات هو التفصيل من
حيث المستصحب بين الاحكام الكلية والجزئية ومن حيث الدليل
بين ما
كان دليله العقل أو النقل ومن حيث الشك المأخوذ فيه بين الشك في
المقتضى والشك في الرافع فنتكلم في هذه الأمور فنقول:
أما التفصيل بين الاحكام الكلية والجزئية - بجريانه واعتباره في
الجزئية دون الكلية - فمن جهة تخيل عدم بقاء موضوع القضية
المتيقنة مع
383

أنه يشترط في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع ووحدة القضية
المتيقنة والمشكوكة (وإلا لو لم يكن) الموضوع في القضية المتيقنة
عين ما هو في المشكوكة فعدم الجري العملي على طبق القضية
المشكوكة ليس نقض اليقين بالشك بل عبارة عن عدم الاعتناء بثبوت
محمول لموضوع آخر للشك في ثبوته له، وليس من عدم الاعتناء
ببقاء المحمول لموضوع القضية المتيقنة بواسطة عروض الشك في
بقائه كي يصدق عليه نقض اليقين بالشك (ومعلوم) أن الاستصحاب
عبارة عن حرمة نقض اليقين باعتبار الجري العملي ووجوب إبقاء
اليقين من حيث آثار المتيقن والجري العملي على طبقه (وأما بيان)
عدم بقاء الموضوع في استصحاب الاحكام الكلية فمن جهة أن الشك
في بقاء الحكم الكلي لا يطراء - من غير جهة الشك في النسخ - إلا
بتغير في موضوعه من وجود وصف أو من فقد قيد مأخوذ في القضية
المتيقنة أو غير ذلك مثلا الماء المتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة
نجس يقينا، ولا يحصل الشك في بقاء نجاسته إلا بتغير في موضوع
الحكم المجعول له كما إذا زال التغير من قبل نفسه لا بوصول المطهر
إليه (ومعلوم) أن الماء المتغير بكذا غير الماء غير المتغير بكذا،
فموضوع القضية المتيقنة غير موضوع القضية المشكوكة فتغير
الموضوع في هذا المثال بفقد قيد (وأما تغيره) لوجود وصف لم يكن
في
القضية المتيقنة ففي مثل هذا العصير التمري أو الزبيبي غير المغلي
يقينا طاهر وحلال (ولكن) بعد وجود وصف الغليان قبل ذهاب
الثلثين إذا حصل الشك ليس إلا من جهة تغير الموضوع (فالحكم)
بعدم نجاسة الماء بعد زوال تغيره من قبل نفسه ليس نقضا لنجاسة
الماء المتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجس لاختلاف الموضوعين في
القضيتين، وهكذا الحكم بعدم الحلية أو عدم الطهارة للعصير التمري
أو الزبيبي بعد الغليان ليس نقضا للحلية أو الطهارة التي كانت لهما قبل
384

الغليان لعين تلك الجهة وكان سيدنا الأستاذ (قده) ينكر صحة جريان
الاستصحاب في الاحكام الكلية لأجل ارتكاز هذه الشبهة في
ذهنه.
لكن وفيه أن هذه الشبهة لا يمكن الجواب عنها لو قلنا بلزوم كون
وحدة القضيتين - التي هي ركن الاستصحاب - بنظر العقل وبالدقة
لما ذكر (وأما لو كانت) الوحدة بنظر العرف فيرجع إلى العرف وإن ما
حصل به التغير في جانب موضوع القضية المتيقنة هل من
مقومات الموضوع عندهم أم لا؟ بل أمر خارج عن الموضوع بحيث أن
فقده لا يضر بصدق النقض عند عدم الاعتناء بحكمه بالشك فيه (و
بعبارة أخرى) ربما يكون القيد - الذي صار فقده سببا للشك في بقاء
الحكم - بنظر العرف من قبيل الواسطة في الثبوت لا الواسطة في
العروض حكمتي يكون فقده سببا لعدم بقاء الموضوع (فلا يصدق)
النقض على عدم الالتزام بحكمه في ظرف الشك ولا الابقاء على
الالتزام به في ذلك الظرف، ومنشأ فهم العرف أنه من أي واحد من
القسمين هو مناسبة الحكم والموضوع مثلا في قولهم (الماء المتغير
أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة نجس) يفهم العرف بمناسبة الحكم و
الموضوع أن النجاسة معروضها جسم الماء وأن التغير بأحد
الأوصاف علة للحكم بالنجاسة وواسطة في ثبوتها للماء، لا أنه واسطة
في العروض كي يكون الماء بوصف كونه متغيرا موضوعا حتى لا
يبقى الموضوع بعد زوال التغير محفوظا (ولا فرق) فيما ذكرنا من فهم
العرف ونظره بمناسبة الحكم والموضوع بين أن يكون القيد
المأخوذ في جانب الموضوع بصورة التوصيف كقوله (الماء المتغير)
أو بصورة القضية الشرطية، وإن فرق بينهما أستاذنا المحقق (قده)
وذلك (لان) اختلاف العبارة لا يؤثر في فهم العرف بواسطة مناسبة
الحكم والموضوع (إذا ظهر) ما ذكرنا فنقول لا شك في أنه لا بد
من الرجوع إلى العرف في فهم مفاد (لا تنقض اليقين بالشك)
385

كسائر القضايا العرفية أو الشرعية فيعتبر في جريان الاستصحاب
صدق نقض اليقين بالشك عرفا عند عدم ترتيب آثار المتيقن على
المشكوك (وقد عرفت) أن صدق ذلك عرفا منوط بأن لا يكون القيد
المفقود من مقومات الموضوع وواسطة في العروض بل كان من
علل الحكم وواسطة في الثبوت (وقد عرفت) أن طريق تشخيص هذا
المعنى هو مناسبة الحكم والموضوع فإذا لم يكن القيد المفقود من
مقومات الموضوع بنظر العرف تكون القضية المشكوكة عين المتيقنة
في نظرهم (فيحصل) ما هو الركن في جريان الاستصحاب أي:
صدق النقض على تقدير والابقاء على تقدير (ثم أنه) لو حصل الشك
في مورد - في أن القيد المفقود هل من مقومات الموضوع ومن
قبيل الواسطة في العروض أو ليس من مقوماته بل من قبيل الواسطة
في الثبوت - فلا يجري الاستصحاب لعدم إحراز ما هو المناط في
جريان الاستصحاب وهو وحدة القضية المشكوكة والمتيقنة ويكون
التمسك (حينئذ) بلا تنقض اليقين بالشك لابقاء الحكم الذي في
القضية المتيقنة في ظرف الشك من قبيل التمسك بالعموم لما هو
مشكوك الفردية لنفس العام.
وأما التفصيل بين ما كان دليله العقل فلا يجري وما كان دليله النقل
فيجري (وقد ذهب) إلى هذا التفصيل الشيخ الأعظم (قده) وذكر
في وجه ذلك أن الحكم الشرعي المستكشف بالحكم العقلي بقاعدة
الملازمة تابع له في مقام الاثبات (فان كان) حكم العقل معلوما يكون
حكم الشرع أيضا معلوما، وإذا كان عدمه معلوما يكون عدم حكم
الشرع أيضا معلوما وإذا كان مشكوكا يكون مشكوكا (والسر في
ذلك) أن استكشاف الحكم الشرعي حيث يكون من باب الملازمة مع
الحكم العقلي (ومعلوم) أن العلم بوجود أحد المتلازمين علم بوجود
الاخر، وكذلك في طرف العدم العلم بعدم أحد المتلازمين علم بعدم
الاخر (وكذلك)
386

الشك مثل العلم فالشك في أحدهما شك في الاخر (إذا ظهر) هذا
فنقول:
لا إهمال ولا إجمال في حكم العقل (لان) العقل لا يستقل بحسن
شي أو قبحه إلا بعد الالتفات إلى موضوع حكمه بجميع خصوصياته
مما
له دخل في حكمه، فكل قيد اعتبره في موضوع حكمه لا بد وأن
يكون دخيلا في موضوع حكمه، فمع بقاء الموضوع بجميع
خصوصياته
المأخوذة فيه وقيوده التي اعتبر في ذلك الموضوع فالحكم العقلي
مقطوع البقاء (فكذلك) الحكم الشرعي لما ذكرنا من التبعية وإن
فقد منه قيد أو خصوصية فالحكم العقلي مقطوع الارتفاع (فكذلك)
الحكم الشرعي لعين ما ذكرنا من التبعية فالحكمان العقلي و
الشرعي دائما إما مقطوع البقاء وإما مقطوع الارتفاع، وليس شك في
البين حتى يكون مجرى للاستصحاب.
هذا خلاصة ما استفدنا من كلامه (ولكن فيه) انا لا نسلم ان كل ما أخذ
من القيود في موضوع حكم العقل بالحسن أو القبح يكون مما له
دخل في مناط ذلك الحكم بحيث ينتفي مناط ذلك الحكم العقلي
بانتفائه، بل العقل يحكم على مجمع القيود حكما قطعيا بالحسن أو
القبح
من دون أن يعلم بأن كل واحد من هذه القيود له مدخلية في مناط
حكمه (بمعنى) ان ما حكم به من حسن الشئ أو قبحه مقطوع به عند
العقل في مجمع القيود (وأما) لو فقد أحد هذه القيود فإنه وإن لم يكن
له حكم لكن ليس من جهة العلم بعدم مناط الحسن أو القبح بل من
جهة عدم العلم بمناطهما (فيحتمل) وجود مناط الحسن أو القبح في
فاقد القيد وإن كان فعلا لا حكم له لعدم العلم بالمناط والحكم
الشرعي تابع لمناط حكم العقل وجودا وعدما لا لنفس حكم العقل،
فإذا احتمل وجود المناط في فاقد القيد (فيحتمل) بقاء الحكم
الشرعي
وعدم انتفائه بانتفاء حكم العقل فبالاستصحاب يثبت البقاء (لان)
موضوع الاستصحاب هو احتمال بقاء
387

الحكم الشرعي بعد القطع بحدوثه.
(وبعبارة أخرى) الحكم الشرعي المستكشف بالحكم العقلي وإن كان
تابعا له إثباتا (ولكن) ليس تابعا له في مقام الثبوت (نعم) تابع
لمناطه في عالم الثبوت، هذا مع أنه (يمكن) أن يقال أنه لو فرضنا
انتفاء مناط الحكم العقلي عند انتفاء قيد من قيود موضوع حكم العقل
(ولكن من الممكن) والمحتمل أن يكون ما هو مناط حكم الشرع
موجودا حتى مع فقد قيد من قيود ما هو موضوع حكم العقل وحتى
مع
انتفاء مناطه، فإذا جاء هذا الاحتمال وهو ملازم لاحتمال بقاء الحكم
الشرعي مع القطع بحدوثه في الزمان المتقدم أي: قبل انتفاء هذا
القيد فيجري الاستصحاب لتمامية أركانه.
وأما التفصيل من حيث الشك بأنه إن كان الشك في المقتضى -
بمعنى أن احتمال ارتفاع حكم السابق كان لأجل احتمال عدم
استعداد
المستصحب للبقاء لو خلى وطبعه (ولو لم يكن) رافع في البين، إذ لا
شك في أن الكائنات والحوادث يختلف استعداد بقائها في عمود
الزمان وقد يعبر عن هذا بعمر الشئ (فيقال) أن عمر الانسان بحسب
استعداده مائة وعشرين سنة وهكذا في جميع الحيوانات و
النباتات بل الجمادات أيضا (كما أنه) قيل إن عمر الذهب عشرين ألف
سنة - فلا يجري الاستصحاب وإن كان الشك في الرافع - بمعنى
أن احتمال عدم البقاء مستند إلى احتمال وجود الرافع (وإلا)
فاستعداد المستصحب للبقاء لو خلى وطبعه كان محرزا - فيجري
الاستصحاب وإلى هذا القول والتفصيل ذهب الشيخ الأعظم و
شيخنا الأستاذ (قدهما) ونسب إلى المحقق في المعارج وإلى
المحقق
الخوانساري في شرح الدروس.
وعلى أي حال المراد من الشك في المقتضى هو هذا المعنى الذي
ذكرناه لا الملاك والمناط الذي يقال له أنه مقتضى الحكم (ولا
بمعنى)
المفيض
388

للأثر الذي هو من أجزاء العلة التامة والجزان الآخران وجود الشرائط
وفقد الموانع (فالضابط) في الشك في المقتضى هو الشك في
استمداد بقائه إلى طرف الشك في بقاء المستصحب لو خلى وطبعه
بلا وجود احتمال حادث زماني أوجب انعدامه وارتفاعه (وأما
الضابط الشك في الرابع هو الشك في بقاء المستصحب لأجل احتمال
وجود حادث زماني أوجب ارتفاع المستصحب وانعدامه، فلا يجتمع
الشك في المقتضى مع الشك في الرافع في مورد واحد (لأنه) إذا كان
سبب الشك في بقاء المستصحب الشك في استعداد بقائه فلا يستند
إلى احتمال وجود الرافع، وإذا كان منشأ احتمال وجود حادث زماني
يكون موجبا لانعدامه فلا يكون مستندا إلى الشك في استعداده
للبقاء (وما قيل) في وجه هذا التفصيل ان عمدة دليل حجية
الاستصحاب واعتباره إما بناء العقلا وإما الاخبار (أما بناء العقلا)
فغير
ثابت في الشك في المقتضى بالمعنى المذكور فليس لهم بناء على
إبقاء ما شك في استعداده للبقاء عند الشك في بقائه ولو كان لهم بناء
على إبقاء ما كان متيقنا في ظرف الشك في بقائه من حيث الجري
العملي (فذلك) فيما إذا كان المتيقن السابق محرزا استعداده للبقاء و
إنما الشك نشأ من احتمال وجود حادث زماني يوجب انعدام هذا
المتيقن (وأما الاخبار) فالظاهر من قوله عليه السلام (لا تنقض اليقين
بالشك) هو الجري العملي على طبق اليقين باعتبار كونه مرآتا للمتيقن
(فالمراد) من هذه الجملة ترتيب آثار المتيقن والجري العملي
على طبقه (لأنه) لا أثر لليقين كي يكون الابقاء وحرمة النقض بلحاظ
آثاره مع أنه لو كان له أثر فليس المراد ترتيب آثاره قطعا وإلا
يخرج عن باب الاستصحاب والمفروض دلالته على حجية
الاستصحاب واعتباره (لا نقول) أن اليقين استعمل في المتيقن كي
يكون
مجازا في الكلمة لان هذا خلاف ظاهر الجملة وخلاف ظاهر لفظ
اليقين، بل
389

أن حرمة النقض وإن كانت متعلقة باليقين ولكن باعتبار مرآتيته
للمتيقن (فالنتيجة) وجوب إبقاء اليقين باعتبار آثار المتيقن وحرمة
نقضه من حيث الجري العملي على طبق المتيقن (ومعلوم) أن عدم
الجري العملي على طبق المتيقن عند الشك في بقائه يصدق عليه أنه
نقض لليقين باعتبار آثار المتيقن فيما إذا كان للمتيقن استعداد البقاء
في ظرف الشك في بقائه والشك في بقائه يكون مستندا إلى
الرافع أي: إلى احتمال وجود حادث زماني أوجب انعدامه (وإلا فلا
معنى) للنقض، لان نفس اليقين انتقض بالشك والمتيقن يحتمل أن
يكون منتقضا بنفسه من جهة احتمال عدم استعداده للبقأ
(فالتمسك) بلا تنقض لحرمة نقضه يكون من قبيل التمسك بعموم
العام لما هو
مشكوك المصداقية لنفس العام.
وخلاصة الكلام في المقام أن مفاد أخبار الباب كما سيأتي وجوب
إبقاء اليقين وحرمة نقضه من حيث الجري العملي على طبقه (ولكن
اليقين) حيث أنه مرآة وطريق إلى المتيقن فالجري العملي على طبقه
قد يكون بلحاظ آثار نفسه وهذا المعنى لا يمكن فيما نحن فيه لما
ذكرنا من عدم أثر لنفس اليقين (أولا) (وثانيا) عدم كونه مرادا في أخبار
الباب لسوقها لترتيب آثار المتيقن في ظرف الشك في بقائه
(وقد يكون) إبقاء اليقين باعتبار آثار المتيقن في ظرف الشك في بقائه
وترتيب آثار المتيقن من حيث الجري العملي أيضا إبقاء عملي
لليقين، لما ذكرنا من أن إبقأه عملا له معنيان (لان) له جهتان: جهة
موضوعية - ومعنى إبقائه عملا بهذا اللحاظ ترتيب آثار لنفس اليقين
- وجهة مرآتية وطريقية (ومعنى) إبقائه عملا بهذا اللحاظ ترتيب آثار
المتيقن لا نفس اليقين (فلا بد) وأن يكون في مورد يكون عدم
الجري العملي على طبق اليقين - بهذا اللحاظ في ظرف الشك في
بقاء المتيقن - نقضا لليقين، لأنه هو الموضوع الذي تعلق به
390

النهي ولا يصدق نقض اليقين بالشك من حيث الجري العملي إلا فيما
إذا كان المتيقن له استعداد البقاء في ظرف الشك لو خلى وطبعه و
يكون منشأ الشك في بقائه احتمال وجود حادث زماني أوجب
انعدامه وارتفاعه، وإلا لو لم يكن له استعداد البقاء فهو ينعدم بنفسه
لا
انك نقضته، هذا إذا كان عدم استعداده للبقاء معلوما (وأما) إذا كان
مشكوكا فيكون صدق النقض عليه مشكوكا فلا يمكن التمسك له
بعموم العام أي: عموم (لا تنقض اليقين بالشك).
ثم أنه أورد على هذا القول بإيرادين (الأول) عدم بقاء مورد
للاستصحاب في مورد الاحكام لان كلها أو جلها إلا في مورد الشك
في بقاء
الحكم لأجل التزاحم يكون من قبيل الشك في المقتضي (ولكن فيه)
أنه قد ظهر جواب هذا الاشكال مما ذكرنا من المراد من الشك في
المقتضى في المقام وأنه ليس المراد منه ملاكات الاحكام ومناطاتها
حتى تقول بأن الشك في الحكم ملازم مع الشك في الملاك والمناط
على ما هو مذهب العدلية من تبعية الاحكام للملاكات وجودا وعدما
وأيضا ليس المراد منه المقتضى بمعنى مفيض الأثر عند وجود
الشرائط وفقد الموانع الذي هو بهذا المعنى من أجزاء علة وجود
الشئ (وأيضا) ليس المراد من المقتضى ما هو موضوع للحكم
الشرعي
كما أنهم يقولون أن ملاقاة الجسم للنجس أو المتنجس مع الرطوبة
مقتض لنجاسته والكرية مثلا إذا كان ذلك الجسم الملاقى للنجس ماء
مانع (بل المراد) من المقتضى كما ذكرنا استعداد بقاء الشئ في عمود
الزمان لو خلى وطبعه أي لو لم يوجد حادث زماني يوجب زواله
وانعدامه وقلنا أن هذا المعنى هو الذي يعبرون عنه بعمر الشئ و
بناء على هذا المعنى أغلب الأحكام الشرعية كليها وجزأيها قابل
للبقاء سواء كان من الأحكام الوضعية أو التكليفية ما لم يوجد حادث
زماني أوجب
391

زواله فالطهارة في الماء الجاري أو البئر أو الكر قابلة للبقاء إلى لا بد ما
لم يوجد حادث زماني يوجب زوالها وهو تغير أحد أوصافه
الثلاثة بالنجس أو يحصل ما جعل غاية للحكم ففي بعض الموارد
الشك في تحقق الغاية أيضا بمنزلة الشك في الرافع (ومنشأ) هذا
الاشكال عدم فهم المراد من المقتضى في كلام الشيخ وتخيل أن
المراد منه ملاكات الاحكام ومناطاتها أو بمعنى ما هو مفيض الأثر
الذي
هو من أجزاء العلة التامة وقد عرفت أن الامر على خلاف ذلك.
(الثاني) أن هذا المعنى للاستصحاب يرجع إلى أن حقيقة
الاستصحاب تنزيل المشكوك منزلة المتيقن من حيث الجري العملي
لا الشك
منزلة اليقين (فاليقين) الوجداني زال على الفرض بالنسبة إلى بقاء
المستصحب وليس يقين تعبدي في البين لعدم كون التنزيل بين
الشك واليقين وإنما وقع بين المشكوك والمتيقن (فكيف) يقوم
الاستصحاب مقام القطع الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقية
(لان) وجوب ترتيب آثار المتيقن على المشكوك الذي هو حقيقة
الاستصحاب بناء على هذا القول (ليس) عملا بالمستصحب لا
وجدانا ولا
تعبدا بخلاف ما لو قلنا بأن النقض متعلق باليقين وباعتبار نفسه
(فمرجع) الاستصحاب إلى تنزيل الشك منزلة اليقين فيكون
الاستصحاب يقينا وعلما تعبدا (غاية) الامر من حيث الجري العملي
على طبق المستصحب لا إثبات مؤداه وعلى هذا يبتنى كونه أصلا لا
أمارة فان الاستصحاب على هذا المبنى يصح أن يقوم مقام القطع
الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقية لا المبنى المتقدم أما
صاحب
ذلك المبنى ليس له أن يقول ذلك.
والجواب عن هذا الاشكال أن المراد من لا تنقض اليقين بالشك
تنزيل الشك منزلة اليقين لا المشكوك منزلة المتيقن كما توهم ولكن
تنزيل
392

الشك منزلة اليقين ليس باعتبار آثار نفس اليقين وانه صفة كذا بل
باعتبار طريقيته ومرآتيته للمتيقن (فحينئذ) جرى العملي لا بد وأن
يكون على طبق آثار المتيقن من جهة تنزيل الشك منزلة اليقين
بالاعتبار المذكور (وبعبارة أخرى) حقيقة الاستصحاب جر اليقين من
حيث الجري العملي إلى ظرف الشك ولكن باعتبار مرآتيته وطريقيته
لا صفتيته وموضوعيته ومن هذه الجهة تقوم مقام القطع الذي
أخذ في الموضوع على نحو الطريقية لا الصفتية والموضوعية (و
أيضا) من هذه الجهة تكون حاكمة على الأصول غير التنزيلية (وأما ما
يقال) من أن اليقين في هذه القضية - أي قضية لا تنقض اليقين بالشك
- مع أنه مأخوذ على وجه الطريقية لا الصفتية ملحوظ في تعلق
النقض به استقلالا وبما هو هو بلحاظ ما يترتب عليه من الأعمال و
الآثار لا مرآة لمتعلقه ليكون محط التنزيل في الحقيقة هو المتيقن
(ففيه) تناقض واضح.
فتلخص من جميع ما ذكرنا أن الحق في حجية الاستصحاب هو
التفصيل بين كون الشك في المقتضى بالمعنى الذي ذكرنا له فليس
بحجة
وبين الشك في الرافع فيكون حجة سواء كان مدرك حجية
الاستصحاب هو الاخبار أو بناء العقلا (وأما) التفصيل بين الشك في
وجود
الرافع فيقال فيه بالحجية وبين الشك في رافعية الموجود فيقال فيه
بعدمها (فلا وجه له) أصلا وما تخيل المفصل - وهو المحقق
السبزواري (قده) من وجه عدم الحجية في الثاني بأنه من نقض اليقين
باليقين لا نقض اليقين بالشك - مغالطة عجيبة لان اليقين تعلق
بوجود ما هو منشأ الشك في بقاء المتيقن والذي هو نقض اليقين
باليقين أن تتعلق اليقين الثاني بعدم بقاء المتيقن أي يعلم بانتقاض
الحالة السابقة.
ثم أنه لا شك في أن الأحكام الوضعية طرا مما تنالها يد الوضع والرفع
التشريعي (إما ابتداء) وأولا بالذات من دون الاحتياج إلى توسيط
أمر كالملكية والطهارة والنجاسة بناء على ما هو الحق فيهما من أنهما
من الاعتبارات
393

الشرعية (وإما بتوسيط منشأ انتزاعها) رفعا ووضعا (فالتفصيل) بين
الأحكام الوضعية والتكليفية لا وجه له بإنكار جريان
الاستصحاب في الأول دون الثاني لعدم كون وضع الأول ورفعه بيد
الشارع. كما أن التفصيل بعكس هذا أيضا - كما ينقل عن الفاضل
التوني - لا وجه له بل يجري في كليهما لان أمر وضعهما ورفعهما بيد
الشارع في عالم التشريع.
وحيث انجر الكلام إلى ذكر الأحكام الوضعية بمناسبة نقل ما فصله
الفاضل التوني
(فلا بأس) بالتكلم في الأحكام الوضعية،
وانها مجعولة في عالم التشريع أم لا؟ بل هي أمور منتزعة عن الوضع و
التكليف.
فنقول ان الموجود على قسمين: إما موجود واقعي في الأعيان - وهو
على أربعة أقسام: لأنه إما موجود في نفسه لنفسه بنفسه وهو
الموجود الواجبي الذي هو عين الوجود الذي هو صرف الوجود و
خالصه وبسيط غاية البساطة ليس له أجزاء عقلية من الجنس و
الفصل،
إذ لا مهية له بل هو فوق المقولات. وإما موجود في نفسه لنفسه ولكن
لا بنفسه بل بغيره أي: بعلته، وهذا الموجود الجوهري بأنواعه. و
إما موجود في نفسه ولكن لغيره وبغيره أي: لموضوعه وبعلته، وهذا
هو الموجود العرضي (وقد يسمى) بالوجود الرابطي. وإما
موجود ولكن لا في نفسه ولا لنفسه ولا بنفسه بل لا يوجد إلا بوجود
الطرفين المنتسبين أحدهما إلى الاخر (فهو صرف) ربط خارجي
بين شيئين في الخارج أو في الذهن، وهذا قد يسمى بالوجود الرابط و
قد يسمى بالمعنى الحرفي، وجميع الموجودات الواقعة في
الأعيان لا بد وأن تكون من أحد هذه الأقسام حتى الموجودات
الذهنية فإنها أيضا واقعة في الأعيان حتى ما يكون من أنياب الأغوال

ما يقال) فيها إنها صرف فرض الفارض فهي من جهة محكيها كذلك و
أما من حيث وجودها في الذهن فهي موجودات واقعية لا بد وأن
يكون
394

داخلا تحت إحدى المقولات - وإما موجود في عالم الاعتبار بمعنى:
ان العقلا أو معتبر خاص اعتبر وجوده، وهذا القسم وإن كان
بحسب الواقع ليس له وجود - ويصح سلب الوجود عنه بالدقة - و
لكن المعتبر عاما كان أو خاصا ومن يتبعه في هذا الاعتبار يرونه
موجودا ويرتبون عليه آثارا لا يمكن إنكار وجوده بالمرة، وفي
الحقيقة له وجود ادعائي وهذا الامر الاعتباري باعتبار جعله و
اعتباره في عالم الاعتبار أمر واقعي وإن كان المعتبر نفسه لاحظ له من
الوجود الواقعي بل له وجود ادعائي (وعلى كل حال) كما أن
جعل الموجودات التكوينية أمر واقعي كذلك جعل الأمور الاعتبارية
أمر واقعي، وهو عبارة عن: إنشاء ذلك الامر الاعتباري، فبقاء ذلك
الامر الاعتباري ببقاء اعتباره ومتى رفع المعتبر يده عن اعتباره ينعدم
ذلك الامر الاعتباري في عالم الاعتبار. والأحكام الشرعية
كلها من هذا القسم أي: من الموجودات في عالم الاعتبار تكليفية
كانت أو وضعية، بل الاحكام كلها وضعية أعني موضوعة من قبل
الشارع
على نهج القضايا الحقيقية على ما تقدم بيانه في الجز الأول في بحث
الواجب المشروط، ولكن سمي قسم منها بالأحكام التكليفية (لأنها)
محددة لعمل المكلف من حيث الاقتضاء كالوجوب والاستحباب من
اقتضاء الفعل والحرمة والكراهة من حيث اقتضاء الترك أو من حيث
التخيير كالإباحة، فكونها تكليفية من جهة إيقاعها المكلف غالبا في
الكلفة والمشقة، وسمى الإباحة بالحكم التكليفي لأنها أيضا متعلقة
بكيفية عمل المكلف بلا واسطة كأخواتها.
والحاصل أن الأحكام الشرعية المذكورة في الفقه من الطهارة إلى
الديات - وضعية أم تكليفية - كلها من المجعولات في عالم التشريع و
الاعتبار هذا حال المفاهيم المتأصلة أي: ما كان لها ما بحذائها شي
غير موضوعاتها (إما) في عالم العين أو في عالم الاعتبار التي قد
يسمى بالمحمول بالضميمة
395

ولو كانت الضميمة أمرا اعتباريا (وأما المفاهيم الانتزاعية) أي التي
ليس لها ما بحذاء لا في الخارج ولا في عالم الاعتبار غير
موضوعاتها - وقد تسمى بالخارج المحمول - فهي أجنبية عن
الأحكام الوضعية والتكليفية جميعا (وقد تلخص مما ذكرنا) أن
الأحكام الوضعية
أيضا مثل الأحكام التكليفية أمر وضعها ورفعها بيد الشارع،
اما لأنها مجعولات ابتداء واستقلالا في عالم التشريع، وإما لأنها
من توابع الجعل التشريعي كالجزئية والشرطية والمانعية للمأمور به. و
سنتكلم في أقسامها.
فنقول: اختلفوا في تعداد الأحكام الوضعية، وحصرها بعضهم في
عدد خاص من كونها ثلاثة، أو خمسة، أو تسعة (ولكن الحق) في هذا
المقام أن يقال ان كلما هو مجعول تشريعي - ويكون من المحمولات
الفقهية وليست من الأحكام الخمسة التكليفية المعروفة - فهو حكم
وضعي سواء أ كان مجعولا ابتداء واستقلالا، أو كان اعتباره وتشريعه
منتهيا إلى الجعل الشرعي، فالسببية والشرطية والمانعية
للتكليف، وكذا الجزئية والشرطية والمانعية للمكلف به، والصحة و
الفساد والقضاوة والولاية والحجية والملكية والزوجية والرقية
والطهارة والنجاسة إلى غير ذلك كلها من الأحكام الوضعية.
وأما الماهيات المخترعة - كالصلاة والحج والصوم وغيرها -
فالاحكام المتعلقة بها أحكام تكليفية من (وجوب وحرمة واستحباب
و
كراهة) وأما نفس هذه الماهيات (فليست) أمورا اعتبارية ومن
مجعولات الشارع، بل هي أمور تكوينية وأفعال خارجية صادرة عن
المكلفين مقرونة بالقصد والإرادة، وقصد القربة وكل هذه الأمور
موجودات عينية وليست من الأحكام الشرعية (نعم) باعتبار تعلق
الامر بهذه المركبات والافعال الخارجية يتصف ما تعلق الامر به قيدا و
تقييدا بالجزئية، وما تعلق به تقييدا لا قيدا
396

بالشرطية، وما تعلق بعدمه تقييدا لا قيدا بالمانعية، وسنتكلم في هذه
الأمور إن شاء الله (فلا وجه) لعد الماهيات المخترعة من الأحكام الوضعية
، لما عرفت من أن الضابط في الحكم الوضعي هو: أن يكون
مجعولا شرعيا ابتداء واستقلالا، أو تبعا لجعل آخر شرعي أيضا (و
بعبارة أخرى) يكون وجوده وتحققه في عالم الاعتبار التشريعي منتهيا
إلى جعل شرعي، وإلا فان لم يكن مما تناله يد التشريع وضعا
ورفعا فلا يصح إطلاق الحكم الشرعي عليه، لا الوضعي ولا
التكليفي.
وأيضا ظهر من الضابط المذكور ان عد ما ليس قابلا للجعل التشريعي
بزعمه - كالسببية للتكليف من الأحكام الوضعية لا استقلالا ولا
تبعا - لا وجه له أصلا، فالاحكام الوضعية على قسمين: (قسم) قابل
للجعل ابتداء واستقلالا تأسيسيا أو إمضاء، (وقسم) ليس قابلا للجعل
إلا تبعا، وليس هناك قسم ثالث غير قابل للجعل أصلا، إذ كونه حكما
مع كونه غير قابل للجعل مناقضة (فالأحسن) أن نتكلم في ما عدوه
من الأحكام الوضعية حتى يتبين أن أي واحد منها لا يقبل ذلك.
فنقول: (منها) الجزئية والشرطية والمانعية للواجب، (وبعد ما
عرفت) أن الجزئية والشرطية والمانعية للواجب منشأ اعتبار هذه
الأمور
تعلق الامر بعدة أشياء مقيدا بوجود شي آخر قبله أو بعده أو بعدمه
كذلك فما هو تحت الامر قيدا وتقييدا يعتبر له الجزئية، وما هو
تحت الامر تقييدا لا قيدا فان كان التقييد بوجوده يعتبر له الشرطية وإن
كان بعدمه يعتبر له المانعية (فلا يعقل) جعلها ابتداء و
تشريعها مستقلا ولا محالة يكون يتبع جعل الواجب (وأما القول)
بكونها مفاهيم انتزاعية - وليست مجعولة بالأصالة ولا بالتبع -
فمساوق لانكار كونها من الأحكام الوضعية، لما ذكرنا من الضابط
للحكم الوضعي (وأما) المفهوم الانتزاعي - الذي ليس
397

له ما بحذاء في عالم الاعتبار وإن انتزع عما هو مجعول شرعي - (فلا
وجه) لتسميته بالحكم الوضعي أصلا.
ثم إن أستاذنا المحقق (قده) أراد في هذا المقام أن يفرق بين الجزئية
للواجب وبين الشرطية والمانعية له، بأن الجزئية صفة لا تتصف
بها ذات الجز إلا بملاحظة تعلق أمر واحد بمجموع المركب منه ومن
غيره، وإلا مع قطع النظر عن تعلق ذلك الامر الواحد به مع غيره
ليس اعتبار جزئيته للواجب في البين أصلا (نعم يمكن أن يقال) انه
جز لما هو ذو الملاك أو هو جز لما هو محصل للغرض، أو هو جز
للصورة الذهنية التي تعلق بها الامر، لا أنه جز للواجب (فان) هذا
المعنى الأخير لا يحصل إلا بعد تعلق الامر (لأنه) قبل تعلق الامر لا
واجب
في البين حتى يكون جز له، وهذا (بخلاف) الشرط والمانع للواجب
فإنهما أمران واقعيان وفي الرتبة السابقة على الامر وصيرورة
الشئ واجبا فهما مثل عنوان المقدمية للواجب، فالمقدمة بعنوان أنها
مقدمة للواجب ومضافة إلى الواجب - وإن كانت متأخرة عن
الوجوب لكن ما هو المقدمة بالحمل الشائع - والذي طرف إضافة
المقدمية - تكون في الرتبة السابقة على الوجوب، ومن هذه الجهة
يسري الوجوب إلى المقدمة بمحض تعلقه بذي المقدمة (وإلا لو لم
تكن) المقدمية في الرتبة السابقة على وجوب ذي المقدمة لما كان
وجه
لسراية وجوب ذي المقدمة إليها.
(وبعبارة أخرى) حال الشرط والمانع للواجب حال سائر العلل
التكوينية وأجزائها وشرائطها وموانعها فإضافة العلية والمقدمية وإن
كانت متأخرة عن المعلول (لكن) طرف هذه الإضافة وما هو مضاف
بالحمل الشائع متقدم على المعلول (ففيما نحن فيه) أيضا كذلك أي
إضافة الشرطية والمانعية للواجب وإن كانت متأخرة عن وجوب
الواجب ولكن طرف
398

الإضافة وما هو بالحمل الشائع شرط ومانع يكون في الرتبة السابقة
على الوجوب (ففرق) بين الجزئية للواجب وبين الشرطية و
المانعية له فإنه في الأول لا حقيقة ولا واقع للجزئية إلا بعد الامر
بالمركب ومجي الوجوب واعتباره يتحقق اعتبار الجزئية فاعتبارها
تابع لاعتبار وجوب المركب (وأما) الشرطية والمانعية للواجب
فأمران واقعيان منشؤهما الخصوصية التكوينية الموجودة في ذاتيهما
فليستا من الأحكام الوضعية الموجودة في عالم الاعتبار.
وفيه أن الشرطية للواجب وكذلك المانعية له اعتبار من طرف الشارع
مجعول بجعل الوجوب لمركب مقيدا بوجود شي على أن يكون
التقييد بذلك الشئ داخلا تحت الوجوب دون نفس القيد أو مقيدا
بعدم شي كذلك (نعم) ذلك التقيد بالوجود أو العدم لا بد وأن يكون
لأجل خصوصية في ذلك الوجود أو ذلك العدم دخيلة في الغرض
الذي يكون منشأ لوجوب ذلك الواجب ويكون مؤثرا في حصول
المصلحة التي مترتبة على وجود ذلك الواجب فذات الشرط أو المانع
تأثيره في الغرض والملاك تكويني (وأما) شرطية الشرط ومانعية
المانع فأمر اعتباري جعله بجعل الوجوب بالنحو المذكور كما أن ذات
الجز أيضا كذلك دخله في الغرض والملاك تكويني (ولكن)
جزئيته أمر اعتباري مجعول بجعل الوجوب بالنحو المذكور (و
الحاصل) أنه لا فرق بين الجز وبين الشرط والمانع فان دخل كل
واحد
منها في الغرض والملاك تكويني وفي مقام اعتبار الجزئية والشرطية
والمانعية أيضا كلها سواء هذا حال الجزئية والشرطية و
المانعية للواجب والمكلف به.
وأما الشرطية والمانعية والسببية للتكليف والوجوب فقال صاحب
الكفاية (قده) أنها أمور ومفاهيم تنتزع عن ذوات ما هو شرط أو
سبب أو مانع لخصوصية تكوينية في تلك الذوات بها تؤثر في وجود
حكم تكليفي
399

أو وضعي وتشريعه (مثلا) للاستطاعة خصوصية تؤثر بتلك
الخصوصية في وجوب الحج (وهكذا) في الحكم الوضعي مثلا لبلوغ
المتعاقدين خصوصية تكوينية تؤثر في ملكية الثمن البائع والمثمن
للمشتري (وكذلك) الامر في جميع الشرائط والموانع والأسباب و
أجزائها للتكليف أو الوضع إذ لو لم تكن لتلك الذوات تلك
الخصوصية التكوينية لما كان وجه لتأثيرها في وجود ذلك التكليف أو
ذلك
الوضع أو في عدمهما إذا كانت من قبيل الموانع وإلا يلزم أن يؤثر كل
شي في كل شي (فمنشأ) انتزاع تلك المفاهيم تلك الخصوصية
التكوينية الموجودة فيها (فليست) من المجعولات في عالم الاعتبار
التشريعي لأنه بدون تلك الخصوصية لا توجد السببية أو الشرطية أو
المانعية للتكليف أو الوضع ولو اعتبرها المعتبر ألف مرة ومع وجود
تلك الخصوصية فقهرا ينتزع هذه المفاهيم سواء اعتبرها المعتبر
أو لم يعتبرها بل يكون اعتبارها من قبيل تحصيل الحاصل بل أردأ منه
لأنه من قبيل تحصيل ما هو حاصل تكوينا ووجدانا بالتعبد و
الاعتبار بل لا يمكن جعل هذه الأمور حتى بالجعل التكويني بالذات
بل تكون مجعولة تكوينا بالعرض (بمعنى) أن الجعل التكويني أولا و
بالذات تتعلق بنفس الشرط والسبب والمانع الموجود فيها تلك
الخصوصية فيكون شرطيتها وسببيتها ومانعيتها مجعولة قهرا أو
بالعرض كسائر ما ينتزع عن الشئ بعد وجوده قهرا هذا ما ذكره
صاحب الكفاية بتوضيح وبيان منا (وفيه) أن ما ذكره صحيح في
باب العلل التكوينية (وأما) في الشرعيات فليس ترتب الحكم على
موضوعه من قبيل ترتب المعلول على علته التكوينية (وذلك) من
جهة
أن الحكم الشرعي سواء كان تكليفيا أو وضعيا وجوده في عالم
الاعتبار وليس الموضوع من علل وجوده (وحيث) أن الحكم ترتبه
على
موضوعه كترتب المعلول على علته في عدم التخلف عنه وجودا و
عدما (سمي) الموضوع في باب الوضعيات
400

بالسبب كالعقد بالنسبة إلى الزوجية والملكية مثلا كما أنه سمى قيود
الموضوع في باب التكاليف بالشرط كالاستطاعة والعقل و
البلوغ والحرية بالنسبة إلى وجوب الحج وإلا فليس في الحقيقة شرط
ولا سبب ولا مانع في البين بالمعنى المعروف المصطلح لهذه
المفاهيم (ولا شك) أن موضوعية الموضوع بقيوده المأخوذة فيه
وجودية كانت أو عدمية للحكم الشرعي وضعية كان أو تكليفيا يكون
بجعل شرعي وإن كان الحاكم الجاعل الحكيم للحكم لا بد وأن
يلاحظ جهة مرجحة لما جعل موضوعا لحكمه وكذلك بالنسبة إلى
القيود
الوجودية أو العدمية التي يأخذها في موضوع حكمه (ولكن) هذا
اللحاظ لا يضر بكون موضوعية الموضوع وقيوده المأخوذة فيه بجعل
شرعي (ومعلوم) أن هذا الجعل يستتبع مجعولية السببية للعقد
الموضوع للنقل والانتقال مثلا بالمعنى الذي ذكرنا للسببية والشرطية
لا
السببية والشرطية في باب العلل التكوينية وأجزائها وكذلك يستتبع
مجعولية الشرطية والمانعية للقيود المأخوذة في الموضوع
وجودية وعدمية سواء كان في موضوع الحكم التكليفي أو الوضعي.
فظهر من جميع ما ذكرنا أن الجزئية والشرطية والمانعية والسببية
مطلقا سواء كان للتكليف أو للوضع أو للمكلف به من الأحكام الوضعية
المجعولة بالتبع (وهذا) هو القسم الأول من الأحكام الوضعية
أي المجعولات بالتبع.
وأما القسم الثاني أي المجعولات ابتداء واستقلالا فهي عبارة عن
الأمور الاعتبارية التي لا وعاء لها إلا عالم الاعتبار ولا وجود لها في
عالم التكوين بل تكوينها عين تشريعها (وهذه) الأمور غالبا من
اعتبارات العقلا فيما يحتاجون إليه من الأمور الاقتصادية والسياسية
المتوقف عليها معاشهم وحياتهم وحفظ أموالهم وأعراضهم وجميع
شئونهم مثل الملكية والزوجية والرقية والضمان والحرية و
الطلاق والظهار والولاية والقضاوة
401

والحكومة والوصاية والوكالة والنيابة إلى غير ذلك من الاعتبارات
العقلائية (فيكون) جعل الشارع لهذه الأمور التي من اعتبارات
العقلا إمضائية لا تأسيسية (والاختلاف) الواقع بين العقلا والشرع
في نفي الملكية والمالية عن بعض الاشياء عند الشرع وثبوتها عند
العرف كما في الخمر والخنزير وكذلك الامر في جميع ما ذكرنا من
الاختلاف بينهما إثباتا ونفيا كما في الحرية والرقية والطلاق و
الزوجية والقضاوة والولاية إلى غير ذلك (لا يوجب) عدم إمضاء
الشارع لهذه الأمور المعتبرة عندهم ويكون اعتباره أمرا آخر مغايرا
في الحقيقة لهذه الأمور فيكون جعله تأسيسيا لا إمضائيا لان مرجع
نفيه لما يثبتون أو إثباته لما ينفون إلى تخطئتهم في المصداق لا
تصرف في المفهوم (نعم) هناك أشياء اعتبره الشارع ولم يعتبرها
العقلا أو اعتبرها العقلا ولم يعتبرها الشارع لا إمضاء ولا
تأسيسا (ولعل) من الأول الطهارة والنجاسة والحدث بكلا قسميه من
الأكبر والأصغر (ومن الثاني) بعض المناصب العرفية التي ما
اعتبره الشارع وما أمضاه فبين الاعتبارين العرفي والشرعي بحسب
المورد عموم وخصوص من وجه.
ثم انه يظهر من شيخنا الأعظم (قده) إنكار جعل هذه الأمور واعتبارها
ابتداء واستقلالا بل هي منتزعات عن التكاليف (وفيه أولا) أن
هذه الأمور بعد أنه من الممكن جعلها ابتداء واستقلالا لا داعي إلى
مثل هذه التكلفات خصوصا بعد ما نرى وجدانا أن العرف يعتبرونها
أولا ثم يرتبون عليها الآثار (وثانيا) أن الشارع جعل هذه الأمور
موضوعا للآثار كما هي كذلك عند العرف والعقلا كما نبهنا عليه ولا
يمكن أن يكون الموضوع منتزعا ومتأخرا عن الحكم (وثالثا) ما أفاده
شيخنا الأستاذ (قدس سره) من عدم حكم تكليفي في مورد
بعض الأمور كالحجية والطريقية يمكن انتزاع ذلك الامر منه.
402

ثم أنه من أغرب الأمور ادعاء شيخنا الأعظم أن الطهارة والنجاسة
أمران واقعيان كشف عنهما الشارع فيكون حالهما كحال سائر
المحمولات بالضمائم التي موجودة في الخارج لا في عالم الاعتبار
فقط (لأنه) ان كان مراده ان ملاك جعلهما في عالم الاعتبار في
الخارج موجود ولكن العرف والعقلا لم يلتفتوا إليه ولذلك لم
يعتبروهما فيما اعتبرهما الشارع (فهذا) كلام حق لا محيص عنه بناء
على ما هو الحق عندنا من تبعية الاحكام مطلقا تكليفية أم وضعية
للملاكات (ولكنه) خلاف ما يظهر من كلامه (وان كان) مراده كما هو
ظاهر كلامه انهما من المحمولات بالضمائم الخارجية وحالهما حال
سائر الاعراض الخارجية وليستا من الأمور الاعتبارية فهذا الكلام
هو الذي قلنا بغرابته إذ لا يمكن أن يلتزم أن بالاسلام ينعدم عرضا
خارجيا عن بدن الكافر أعني النجاسة ويوجد عرضا خارجيا آخر
فيه أعني الطهارة أو لو كان ماء الورد أزيد من الكر في وعاء فيوجد فيه
عرض خارجي بمحض ملاقاته لإصبع متنجس مع عدم كون
عين النجاسة في الإصبع وأما لو كان ما في ذلك الوعاء ماء قراحا
بمقدار الكر أو أزيد منه لا يوجد فيه ذلك العرض الخارجي ولو لاقى
ذلك الإصبع بعينه إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي لا تعد ولا
تحصى مما لا يمكن الالتزام به (فالحق) أن الطهارة بقسميها من
الحدثية والخبثية والنجاسة أيضا بكلا قسميها من الاعتبارات
الشرعية المجعولة في عالم الاعتبار التشريعي ابتداء واستقلالا و
حالهما
حال الزوجية والملكية.
بقي هنا أمور
(الأول) في الصحة والفساد
وانهما هل من الأمور الاعتبارية والمجعولات في عالم التشريع أو من
الأمور التكوينية الخارجية؟ أي:
الخارج المحمول أو على بعض التقادير يكون من قبيل المحمول
بالضميمة (وهناك) قول بالتفصيل بين الصحة والفساد في باب
العبادات وبينهما في
403

باب المعاملات (ففي الأول) يكون من الأمور الواقعية التكوينية (وفي
الثاني) من المجعولات الاعتبارية (ونقل) تفصيل آخر وهو أن
الصحة والفساد بمعنى موافقة الامر الواقعي وعدم موافقته يكونان
من الأمور الواقعية وبمعنى كون الاتيان بمتعلق الامر الظاهري
مجزيا عن الواقع أو ليس بمجز يكونان من المجعولات الاعتبارية و
الأحكام الوضعية (ولعل) نظر هؤلاء المفصلين إلى أن الصحة و
الفساد في أبواب المعاملات عبارة عن حكم الشارع بالنقل والانتقال
أو بعدمهما في العقود المعاوضية أو حكمه بترتيب الأثر وعدم
ترتيب الأثر في مطلق المعاملات ومطلق العقود والايقاعات (وأما)
وجه التفصيل الثاني فلعله بنظرهم يكونان عبارة في ذلك المورد
عن حكم الشارع بأن الاتيان بمتعلق الامر الظاهري مجز عن الواقع أو
ليس بمجز عن إتيانه.
والتحقيق في المقام أن الصحة والفساد كما تقدم في الجز الأول في
مبحث الصحيح والاعم بينهما تقابل العدم والملكة والصحة عبارة
عن تمامية الشئ وعدم نقض فيه بالنسبة إلى الغرض المطلوب منه و
الفساد عبارة عن عدم تمامية الشئ بالنسبة إلى الغرض المطلوب
منه فالصحة في العبادات والمعاملات بمعنى واحد وهو تمامية
الشئ بحسب الغرض المطلوب منه ومقابله الفاسد (وربما) يختلف
بحسب الأغراض والحالات فيكون بحسب غرض أو حال صحيح و
تام وذلك الشئ بعينه فاسد وغير تام بحسب غرض آخر وحالة
أخرى وذلك لا يوجب التفاوت في مفهوميهما وحينئذ ان كان
الغرض - الذي باعتباره وبحسبه يتصف الشئ بالتمامية وعدمها -
من
الأمور التكوينية بمعنى أن ترتب الغرض على ذلك الشئ أمر تكويني
ليس مربوطا بالجعل الشرعي (فلا شك) في أن الصحة ومقابلها
حينئذ غير مربوطتان بالجعل لا أصالة ولا تبعا بمعنى أنه ليس هناك
جعل شرعي حتى يقال أنها مجعول بالتبع أو يقال بأنها منتزعة
عما هو مجعول شرعا (وأما) إن كان الغرض المطلوب
404

منه ترتبه على ذلك الشئ بجعل شرعي (فيصح) أن يقال أن الصحة و
مقابلها منتزعان عما هو مجعول شرعا كما أن في أبواب
المعاملات الأثر الشرعي من الملكية والزوجية والطلاق والعتاق و
غيرها مترتب على العقد أو الايقاع بجعل الشارع ذلك العقد أو ذلك
الايقاع موضوعا لهذا الأثر فكما أن الموضوعية بناء على كونها من
الأحكام الوضعية مجعول شرعي ومنتزع عن جعل الشارع ذلك
الشئ موضوعا كذلك تمامية الموضوع وعدم تماميته أي الصحة و
الفساد (ومن هذه) الجهة لا فرق بين العبادات والمعاملات غاية
الامر (في العبادات) كون المركب مثل الصلاة والصوم والحج وغير
ذلك متعلقية هذه الأمور للتكليف يكون بالجعل الشرعي (وفي
المعاملات) موضوعية العقد الفلاني أو موضوعية الايقاع الفلاني لاثر
كذا مجعول فكما أن نفس الموضوعية والمتعلقية منتزعان عن
جعل الشارع الشئ الفلاني موضوعا أو متعلقا فكذلك تماميتهما و
عدم تماميتهما أي الصحة والفساد وعلى كل حال فليست الصحة و
الفساد من المفاهيم الاعتبارية المتأصلة فإما ليسا بمجعولين أصلا وإما
منتزعان عما هو المجعول.
وأما كون إجزاء الامر الظاهري عن الواقع عبارة عن الصحة وعدمه
عبارة عن الفساد والاجزاء وعدمه من الأحكام الشرعية المجعولة
في عالم الاعتبار (ففيه) أن إجزاء الامر الظاهري عن الواقع (إما) من
جهة التصويب الباطل عندنا فلا يمكن أن يقال بالصحة على هذا
فضلا عن أن يكون مجعولا شرعيا وقد نسب إلى الشهيد (قده) أن
القول بالاجزاء ملازم للقول بالتصويب (وإما) من جهة التوسعة في
مقام الامتثال بأن يكتفي بهذا المأمور به بالامر الظاهري بدلا عن الواقع
بدون تصرف في الواقع ولا جعل مؤدى الامر الظاهري كي
يلزم اجتماع الضدين أو التصويب فحينئذ لا معنى لاطلاق الصحة
على هذه التوسعة (وعلى كل حال) اتصاف
405

إجزاء الامر الظاهري بها على القول به وإن كان القول به غير صحيح
كما ذكرنا في بحث الاجزاء لا وجه له أصلا فلا تصل النوبة إلى
أنهما أي الصحة والفساد مجعولان أو لا وما ذكرنا من كون الصحة و
الفساد بمعنى تمامية المتعلق أو الموضوع من حيث الاجزاء و
الشرائط وفقد الموانع كان بالنسبة إلى الحكم الكلي وأما الصحة و
الفساد بالنسبة إلى العبادة أو المعاملة الواقعتان في الخارج فلا شك
في أنهما عبارة عن مطابقة المأتي به للمتعلق في العبادة أو الموضوع
في المعاملة وعدم مطابقته وهذا المعنى أي المطابقة وعدمها أمر
تكويني غير مجعول قطعا لا أصالة ولا تبعا.
الامر الثاني في الرخصة والعزيمة
وهل أنهما من الأحكام الوضعية المجعولة في عالم الاعتبار التشريعي
أو من المنتزعات عن المجعولات الشرعية أو لا هذا ولا ذاك (و
الحق) أن الرخصة إن كانت بمعنى جواز الترك والعزيمة بمعنى لزومه
ووجوبه وعدم جواز الفعل كما قيل في سقوط الاذان في موارد
الجمع فمن قال بالرخصة قال بجواز الترك وجواز الفعل أيضا ومن
قال بالعزيمة قال بلزوم الترك وعدم جواز الفعل وهكذا في
صلاة الحائض مثلا فهذا حكم تكليفي متعلق بفعل المكلف من حيث
الاقتضاء والتخيير (وإن كانت) بمعنى سقوط الحكم التكليفي على
وجه لا يكون إتيان متعلقه تشريعات محرما كما أن مقابلها أي العزيمة
كان بمعنى سقوطه على وجه يكون إتيان متعلقه تشريعات
محرما فليس من الحكم الوضعي ولا من التكليفي كما هو واضح (و
لكن) الظاهر من معنى الرخصة والعزيمة هو المعنى الأول وهو
المناسب للفظ الرخصة والعزيمة.
الامر الثالث في أن الولاية والخلافة والإمامة والنبوة كل واحدة من
هذه الأمور على قسمين تكوينية وتشريعية
(أما) التكوينية منها فهي بلوغ النفس بواسطة العلم والعمل أو بواسطة
الموهبة الإلهية من دون سبق عمل
406

بل لاستعدادها الذاتي ونفاسة جوهرها وعلو طينتها أعلى مراتب
الكمال ووصولها إلى أقرب مدارج القرب إلى ذي الجلال بحيث
يكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش
بها (وهذه) المرتبة من الولاية هي التي قارنها الله في كتابه العزيز
بولاية نفسه حيث قال عز من قائل:
(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة وهم راكعون وهذه الولاية عبارة عن كون الولي
متصرفا في جميع الكون سمائه وأرضه بإذن الله جل جلاله وهي
التي بها يبرأ الاكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله تعالى شأنه و
بها يشق القمر ويجعله نصفين كل ذلك وما شابهها بإذن الله عظم
سلطانه وهكذا الامر في الخلافة والإمامة حتى النبوة (وقسم آخر)
هي التشريعية من هذه الأمور فالولاية التشريعية هي الولاية الاعتبارية
التي يلتزمون به العرف والعقلا أيضا في تدبير أمورهم و
شئونهم وقد اعتبرها الشارع أيضا في موارد (وينقسم) إلى ولاية عامة
كولاية السلطان العادل أي النبي صلى الله عليه وآله والأئمة
عليهم السلام وإلى ولاية خاصة كولاية الحاكم الشرعي على
الحسبيات على قول (والقولان) الآخران أنه له الولاية الاعتبارية
العامة
كالامام عليه السلام وانه ليس له الولاية له مطلقا إلا على القضاء و
الولاية بهذا المعنى لا شك في أنها من الأمور الاعتبارية المتأصلة في
الجعل ومن المناصب الإلهية ومن هذا القبيل ولاية الأب والحد على
الصغير والوصي من قبل الأب عليه وولاية عدول المؤمنين على
الحسبيات عند فقد الحاكم وولاية الأب على عقد الكبيرة إذنا.
ثم أنه فرق أستاذنا المحقق (قده) (بين) الموجودات الاعتبارية - التي
لا وعاء لها إلا وعاء الاعتبار، ويكون تكوينها عين تشريعها وبعد
جعلها واعتبارها ممن بيده الاعتبار سواء أ كان من بيده الاعتبار هو
الشرع أو العرف والعقلا أو شخص واحد كان بيده الاعتبار،
بمعنى أن
407

والعقلا يعتنون باعتباره ويرتبون عليه الأثر يكون موجودا في عالم
الاعتبار حقيقة، ويكون حال وجودها حال الموجودات الواقعية
الخارجية (ولا فرق) بينهما إلا أن وعاء وجود الاعتباريات عالم
الاعتبار ووعاء عالم الخارجيات عالم الخارج، وذلك كأغلب
الاعتباريات كالزوجية والملكية والرقية والولاية بمعناها الاعتباري
إلى غير ذلك من الأمور الاعتبارية الكثيرة التي ذكرنا جملة منها
- وبين الموجودات الادعائية والتنزيلات (نفيا) كقولهم (لا شك
لكثير الشك) وقوله عليه السلام (لا صلاة لجار المسجد إلا في
المسجد)
(وإثباتا) كقوله عليه السلام (الطواف بالبيت صلاة. والمطلقة رجعة
زوجة) وأمثال ذلك (ففي القسم الأول) المفهوم له مصداق حقيقي
في عالم الاعتبار يحمل المفهوم عليه بالحمل الشائع حقيقة فبعد
العقد الصحيح - جامعا للشرائط وفاقدا للموانع على المرأة المعلومة
للرجل المعلوم - فهي حقيقة زوجة له، وكذلك بعد انتقال المال بأحد
أسباب الانتقال أي: المعاوضات الصحيحة، أو الإرث، أو الحيازة
(فالمال) حقيقة ملكه وهكذا الامر في الولاية والقضاوة وغيرها من
الأمور الاعتبارية يوجد في عالم الاعتبار مصداق حقيقي لذلك
المفهوم (وأما في القسم الثاني) وان كان مجعولا شرعا لكن لا يوجد
للمفهوم فردا حقيقيا في عالم الاعتبار بل يوجد فردا ادعائيا
(فالطواف) - بعد جعله في عالم التشريع بمنزلة الصلاة - يصير فردا
ادعائيا للصلاة لا فردا حقيقيا ولو في عالم الاعتبار لان الصلاة أمر
واقعي خارجي والطواف أيضا كذلك فلا ينقلب عما هو عليه فيصير
فردا حقيقيا للصلاة حتى يحمل الصلاة عليها بالحمل الشائع، بل
الطواف فرد ادعائي بلحاظ الآثار.
(فقال) في الحجية والطريقية والكاشفية والوسطية في الاثبات في
غير القطع، لان هذه المعاني في القطع ذاتي مجعول تكوينا بنفس
جعل القطع
408

تكويننا فهي هناك مجعولات تكوينا بالعرض - أنها أي: الحجية و
الطريقية ادعائي، لا أنها من الأمور الاعتبارية التي يوجد في عالم
الاعتبار حقيقة، إذ الطريقية أمر تكويني لا يوجد بصرف الاعتبار إلا
ادعاء فالامارات ليست مصاديق حقيقة للكاشف والطريق بل هي
مصاديق ادعائية لهما (ويمكن أن يكون) من هذا القبيل الهوهوية التي
ادعيناها في باب وضع الألفاظ، فإنها أمر واقعي تكويني لا توجد
بصرف الجعل والاعتبار إلا ادعاء أي:
لا تكون الهوهوية - المجعولة بين اللفظ والمعنى - هو هوية حقيقية و
مصداقا حقيقيا لمفهوم الهوهوية (بحيث) يحمل ذلك المفهوم عليها
بالحمل الشائع بل تكون فردا ادعائيا لذلك المفهوم (وما أفاده) لا
يخلو من نظر، لأنه من الممكن أن يكون لمفهوم واحد سنخان من
الافراد فرد اعتباري وفرد تكويني ويحمل على كليهما بالحمل
الشائع.
هذا تمام الكلام في الأحكام الوضعية (وقد عرفت) ان كلها مما تناله
يد الجعل التشريعي. وإذا عرفت - حال التفاصيل - فلنشرع في
الأدلة الدالة على حجية الاستصحاب.
(منها) بناء العقلا
- وتقريره: أنه لا شك في أن سيرة العقلا وبنائهم كافة سواء كانوا من
ذوي الأديان أو من غيرهم - على العمل والجري على طبق
الحالة السابقة وعدم الاعتناء بالشك في ارتفاعها (ويظهر) ذلك
بالعيان والوجدان لمن نظر في أعمالهم وحركاتهم وسكناتهم في
معاملاتهم وتجاراتهم وزياراتهم لاصدقائهم وأقربائهم وعياداتهم
لمرضاهم وجميع أمورهم بل وإن تأمل في أعمال نفسه - و
حركاته الارتكازية - يرى أنه يجري على طبق الحالة السابقة مع الشك
في ارتفاعها ولا يعتنى إلى شكه أصلا من حيث الجري العملي -
بمعنى: أن شكه لا يوافقه عن الجري - على طبق الحالة السابقة (و
حيث) أن الشارع لم يردع عن هذه البناء والسيرة فيكون
409

عدم ردعه كاشفا عن إمضائه لها (واحتمال) أن يكون عملهم على
طبق الحالة السابقة لغفلتهم عن ارتفاعها، أو لاطمئنانهم ببقائها، أو
برجاء البقاء - لا وجه له (ويدفع الأول) استقرار السيرة ولو في ظرف
الشك الفعلي وإنكار استقرارها في ذلك الظرف مكابرة (و
يدفع الثاني) ما قلنا باستقرار السيرة حتى في ظرف الشك الفعلي و
الشك بمعناه الأخص لا يجتمع مع الاطمئنان مضافا إلى أن دعوى
الاطمئنان - في نوع هذه الأعمال على طبق الحالة السابقة - لا يخلو
عن مجازفة. كما أن ادعاء أن بعض الموارد للاطمئنان وبعضها
للغفلة وبعضها برجاء إدراك الواقع - بحيث تستوعب هذه الجهات
الثلاث جميع الموارد - أيضا لا يخلو عن المجازفة (ويدفع الثالث) أن
الجري على طبق الحالة السابقة في الأمور المهمة خصوصا في التي
يكون على تقدير عدم البقاء في الجري ضرر كثير لا يمكن أن يكون
برجاء إدراك الواقع، لان العمل بالرجاء يكون غالبا في مورد لو صادف
الواقع فيه نفع، ولو لم يصادف لا يترتب عليه ضرر (وبعبارة
أخرى) يكون فيه احتمال النفع ولا يكون فيه احتمال ضرر مهم.
وأورد صاحب الكفاية (قده) على هذا الدليل أن الآيات الناهية عن
العمل بغير العلم رادعة عن هذه السيرة (وأورد عليه) أن هذا الكلام
مناقض لما ذكره في باب الاستدلال على حجية خبر الثقة بالسيرة في
رد من قال: بأن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم رادعة من أن
رادعية الآيات لها دوري (ولكن يمكن) أن يكون نظر صاحب الكفاية
(قده) إلى أن قيام السيرة في باب خبر الثقة على طريقيته و
كاشفيته وإلغاء احتمال الخلاف، فيكون خبر الثقة علما عندهم ولو
ادعاء، فيكون خروجه عن عموم الآيات الناهية بالحكومة بل
بالورود بل تخصصا. وأما قيام السيرة هاهنا على العمل (على طبق)
الحالة السابقة في فرض فعلية الشك وحفظه،
410

وإلا لا يكون الاستصحاب أصلا عمليا بل كان من الامارات.
(وفيه) أنه وإن كان قيام السيرة على العمل على طبق الحالة السابقة
في ظرف فعلية الشك وعدم إلغائه، بل يكون الشك موضوعه ومن
أجل هذا يكون أصلا عمليا، ولكن ليست السيرة على صرف جري
العملي على طبق الحالة السابقة فقط (وإلا كان) أصلا غير تنزيلي بل
يكون قيامها على جري العملي على طبق الحالة السابقة على أنه
متيقن، ولذلك يكون حاكما على الأصول غير التنزيلية وكل ما أخذ
الشك في موضوعه (ففي) ما نحن فيه حيث أن موضوع الآيات الناهية
عدم العلم والسيرة مفادها البناء عملا على بقاء اليقين السابق من
حيث مرآتيته للمتيقن بحسب الجري العملي (فيكون) حاكما على
آيات الناهية عن العمل بغير العلم، ولا يمكن أن تكون الآيات رادعة
لها
(وفيه) ان الآيات الناهية وإن كانت موضوعها عدم العلم لكن السيرة
إذا كانت على مجرد العمل على طبق الحالة السابقة من دون أن
تكون كاشفة عن بقائها فبقاؤها غير معلوم، لا وجدانا حتى تكون
السيرة واردة، أو تكون من قبيل التخصيص ولا تعبدا حتى تكون من
قبيل الحكومة (ولكن لا يخفى) إن المتيقن من قيام السيرة هو العمل
على طبق الحالة السابقة في مورد الشك في الرافع، لا الشك في
المقتضى بالمعنى الذي ذكرنا للشك في المقتضى.
ومنها الاجماع:
من الطائفة على حجية الاستصحاب (فإنهم) - قديما وحديثا -
متفقون على اعتباره (ولكن الانصاف) إن ادعاء الاجماع بالمعنى
الذي
تقدم في بحث الاجماع - في وجه حجيته من حدس رأي الإمام عليه السلام
من اتفاق الكل - لا يستقيم في المقام (أما أولا) فلان الاتفاق
يكون موجبا لحدس رأيه عليه السلام، فيما إذا لم يكن مستند المتفقين
معلوما (وبعبارة أخرى) لم يكن لهم مستند يعتمدون عليه،
فحينئذ يحدس
411

الانسان ان اتفاقهم - مع اختلاف سلائقهم وأعصارهم وأمصارهم -
لا بد وأن يكون لسبب متفق عند الكل وليس هو إلا رأي الإمام عليه السلام
(وأما إذا كان) لهم مستند معلوم كما في هذه المسألة،
حيث تمسك بعضهم ببناء العقلا وبعضهم بالظنون الاستحسانية و
بعضهم بالاخبار، وبواسطة اختلاف المدارك أو اختلاف أفهامهم و
استظهاراتهم وقع الاختلاف في اعتباره مطلقا وعدم اعتباره
كذلك، والتفاصيل في اعتباره التي ذكرنا جملة منها (وثانيا) حصول
الاتفاق من الكل ممنوع، وكيف يمكن ادعاء الاتفاق مع مخالفة
الأخباريين قاطبة؟ نعم لا بأس بادعاء الشهرة المحصلة (ويمكن)
ادعاء الانفاق في الموضوعات الخارجية التي لها آثار شرعية خصوصا
الموضوعات المذكورة في الروايات.
ومنها الاخبار:
وهي العمدة والمعتمد في اعتبار الاستصحاب مطلقا إذا كان الشك
في الرافع دون المقتضى بالمعنى الذي ذكرنا للمقتضى في التفصيل
في اعتبار الاستصحاب، بين أن يكون الشك في الرافع فحجة وبين
الشك في المقتضى فليس بحجة، والاخبار في هذا الباب بلغت حد
الاستفاضة وفيها الصحاح وقد عمل بها المشهور فنحن في غنى عن
البحث عن حجيتها بل نتكلم في دلالتها وانها هل تدل على اعتباره
مطلقا أو لا تدل مطلقا أو تدل على أحد التفاصيل التي ذكروها في
المقام؟ فنقول:
(منها) مضمرة زرارة
التي رواها في الوسائل عن محمد بن حسن بإسناده عن الحسين ابن
سعيد عن حماد عن حريز عن زرارة ولا يضر إضمارها بصحتها
(لأنه) من المعلوم أن مثل زرارة لا يروي بعنوان الاضمار إلا عن الإمام عليه السلام
خصوصا في مثل هذه المسألة التي يكرر السؤال
بذكر الشقوق قال: قلت له (الرجل ينام وهو على وضوء أ يوجب
الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال عليه السلام يا زرارة قد تنام
العين ولا ينام القلب والاذن فإذا نامت العين
412

والاذن فقد وجب الوضوء) قلت: فان حرك إلي جنبه شي وهو لا
يعلم به قال عليه السلام: (لا حتى يستيقن أنه قد نام حتى يجي من
ذلك أمر بين وإلا فإنه على يقين من وضؤه ولا ينتقض اليقين أبدا
بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر).
وتقريب الاستدلال بهذه الرواية الشريفة: هو أنه قوله عليه السلام:
(ولا تنقض اليقين بالشك أبدا وإنما ينقضه بيقين آخر) كبرى كلية
تنحل إلى قضايا متعددة حسب تعدد أفراد اليقين، فيرجع إلى حرمة
نقض كل فرد من أفراد اليقين بالشك فيه. وقد ذكرنا سابقا في باب
البراءة - في أنحاء تعلق النهي بمتعلقاته - ظهوره في العموم
الاستغراقي، أو العموم الأصولي بناء على ما بينهما من الفرق الذي
بيناه هناك - وكونه من العام المجموعي أي: سلب العموم لا عموم
السلب - يحتاج إلى قرينة مفقودة في المقام، وقلنا لا فرق في ظهور
النهي في العموم الاستغراقي أو الأصولي بين أن يكون لمتعلقه الذي
هو فعل المكلف متعلق أي: موضوع كما في المقام، حيث أن متعلق
النقض الذي هو فعل المكلف هو اليقين بل العموم هنا أظهر، أو لا
يكون
له متعلق أي موضوع؟ ولا فرق أيضا في ظهوره في العموم والانحلال
بين أن يكون متعلق متعلقه - الذي سميناه بالموضوع نكرة كقوله:
مثلا لا تشرب خمرا - أو يكون مفردا محلى باللام كقوله: لا تشرب
المسكر، أو جمعا محلى باللام كقوله: لا تشرب المسكرات (فلو
كانت)
هذه الجملة صادرة وحدها لما كان شك في ظهورها في العموم و
الانحلال، وكانت دليلا على اعتبار الاستصحاب وحجيته (فالكلام)
في أنه هل ها هنا قرينة يخرجها عن هذا الظهور أو لا؟ قيل أن قوله
عليه السلام قبل هذه الجملة - (فإنه على يقين من وضؤه) - قرينة
على أن اللام للعهد، فيكون مفاد الجملة حرمة نقض ذلك اليقين أي:
اليقين بالوضوء بالشك
413

في بقائه، فيكون مخصوصا بباب الوضوء (فليس) كبرى كلي في البين
حتى يكون دليلا على حجية الاستصحاب مطلقا، بل تدل على
اعتباره في خصوص باب الوضوء بل بالنسبة إلى خصوص حدث
النوم من بين النواقض. ولو ألغينا خصوصية النوم يكون دليلا على
اعتباره في خصوص باب الوضوء بالنسبة إلى الشك في أي ناقض من
النواقض، وقد اختار هذا المعنى أصحابنا الأخباريون فأنكروا
حجية الاستصحاب (فالمدار كل المدار) في دلالة هذه الصحيحة على
اعتبار الاستصحاب أن لا يكون المراد من تلك الجملة خصوص
اليقين بالوضوء بل كان مطلق اليقين تعلق بالوضوء أو بأي حكم
شرعي، أو موضوع ذي حكم وذلك لا يمكن إلا بتجريد اليقين عن
إضافته إلى الوضوء حتى يكون اللام للجنس، فيكون المراد مطلق
اليقين على نحو العموم الاستغراقي غاية الامر أحد موارده هو اليقين
بالوضوء، وعلل الإمام عليه السلام حرمة نقض اليقين بالوضوء
بالشك فيه باندراجه تحت تلك الكبرى المسلمة (والانصاف) ان
مقتضى
الفهم العرفي عدم دخل المتعلق أي: الوضوء في حكمه بحرمة نقض
اليقين بالوضوء بالشك فيه بل إضافته إلى الوضوء (لكونه) مورد
السؤال، وإلا فالرواية ظاهرة - ظهورا قويا - في أنه عليه السلام بصدد
تعليل حكمه بحرمة نقض اليقين بالوضوء الذي هو مورد
السؤال، بأن كل يقين متعلقا بأي شي كان لا يجوز نقضه بالشك،
فكأنه عليه السلام شكل قياسا بطريق الشكل الأول من القياس
الاقتراني الحملي كبراه من المسلمات المفروغة عنها. وقال:
(فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك أبدا وإنما ينقضه
بيقين آخر) من دون أن يكون لذكر الوضوء في الصغرى مدخلية
في هذا القياس أصلا، وإنما ذكره لكونه مورد السؤال فهو عليه السلام
بصدد إعطاء قاعدة كلية تكون الصغرى إحدى مصاديقها بتعليل
الحكم في الصغرى باندراجها
414

في كبرى مسلمة مفروغة عنها، (وهذا) غاية حسن البيان وأجود
طريق للاستدلال. ومن الواضح الجلي أنه لا خصوصية لكون متعلق
اليقين هو الوضوء في هذه الكبرى المسلمة الظهور العرفي.
(ومما يؤيد) - هذا الذي ذكرنا - وقوع هذه الجملة كبرى لصغريات
متعددة في أبواب مختلفة، غير اليقين والشك المتعلق بالوضوء
أيضا كما ورد في الطهارة والنجاسة الخبثيتان في الصحيحة الثانية
لزرارة كما سيأتي.
وكما ورد في عدد الركعات في الصحيحة الثالثة له أيضا، وفي موارد
اخر مما يطول ذكره فيحدس الانسان حدسا قطعيا بأنه لا
خصوصية لكون متعلق اليقين هو الوضوء أو شي آخر من المتعلقات
المذكورة في الروايات، بل يفهم من مجموع هذه الروايات أن
الإمام عليه السلام بصدد إعطاء قاعدة كلية في جميع الموارد سواء أ
كانت الموارد المذكورة في الروايات أو غيرها بصورة الكبرى
المسلمة المفروغة عنها (بل يمكن أن يقال) أنه عليه السلام يستدل
بكبرى مرتكزة في أذهان العقلا، فيكون استدلاله بها دليلا على
إمضائه لها.
وحاصل الكلام أن دلالة الصحيحة على اعتبار الاستصحاب موقوف
على أن يكون اللام - في الكبرى المذكورة - للجنس حتى تكون
الجملة ظاهرة في العموم الاستغراقي (ولا يقال) كونه للجنس لا ينافي
مع تقييد اليقين بكون متعلقه خصوص الوضوء، فيكون المراد
جنس اليقين بالوضوء كما إن هذا التقييد لا ينافي العموم الاستغراقي
لمدخول اللام، غاية الامر تكون دائرة العموم بعد التقييد أضيق مما
قبله، ولذلك قلنا في باب العام والخاص التمسك بالعام لشموله
جميع الافراد المندرجة تحته يحتاج إلى إثبات الاطلاق بمقدمات
الحكمة (لأنه) لا تنافي بين العموم وتقييد مدخول أدوات العموم (و
إن شئت قلت) لا تنافي بين عموم العام وتقييده، (لأنا
415

نقول) بعد ما كان اللام للجنس ليس شي في البين يقتضي تقييد العام،
فبمقدمات الحكمة يثبت الاطلاق (نعم) لو كان اللام للعهد فحينئذ
نحتاج في شموله لكل فرد من أفراد اليقين إلى تجريد اليقين في (فإنه
على يقين من وضوئه) عن إضافته إلى الوضوء حتى يكون
المعهود طبيعة اليقين. فاستظهار العموم - لجميع أفراد اليقين من هذه
الجملة - منوط بأحد أمرين: إما كون اللام لاستغراق الجنس كما
هو ظاهر اللام، أو بتجريد اليقين عن إضافته إلى الوضوء لو كان اللام
للعهد على كلام في هذا الأخير، وعلى كل حال لا فرق فيما
استظهرناه من هذه الجملة بين أن يكون جواب الشرط - الذي يستفاد
من كلمة الا أي: وان لم يستيقن أنه قد نام محذوفا كما يدعيه
الشيخ الأنصاري (قده) وهو لا يجب عليه شي - أو كان هو قوله عليه
السلام (فإنه على يقين من وضوئه) كما هو مختار شيخنا الأستاذ
(قده) غاية الامر لو قلنا بأن الجواب مقدر - أعني: لا يجب عليه شي
- فيكون مجموع الصغرى والكبرى بصورة القياس علة للجواب (و
أما لو قلنا) ان جواب الشرط قوله (فإنه على يقين من وضوئه) - و
الجملة الخبرية استعملت في مقام الانشاء، ومعناها يجب ترتيب آثار
اليقين بالوضوء - فيكون الكبرى فقط أي: قوله عليه السلام (ولا
ينقض بالشك أبدا) علة للجواب، ولا فرق بينهما من حيث النتيجة
المقصودة وهي أن قوله عليه السلام (ولا ينقض اليقين بالشك أبدا)
قاعدة كلية لعدم جواز نقض اليقين باعتبار مرآتيته بالشك في بقاء
متعلقه.
نعم ربما يكون ما أفاده الشيخ الأنصاري (قده) من حذف الجواب و
هو لا يجب عليه شي - أظهر من أن يكون الجواب قوله (فإنه على
يقين من وضوئه) لجهات:
416

الأولى شيوع هذا النوع من الاستعمال - في القضايا العرفية - وهو أن
يحذف جواب الشرط ويقوم علته مقامه. وهذا النوع من
الاستعمال كثير في القرآن العظيم مثل قوله تعالى (ان يسرق فقد سرق
أخ له من قبل) وقوله تعالى وان يكذبوك فقد كذبت وقد ذكر
شيخنا الأنصاري (قدس سره) جملة كثيرة منها. وابن هشام عقد تنبيها
- في كتابه المغني - لهذا الامر في الباب الخامس تحت عنوان
حذف جملة جواب الشرط (الثانية) ان جملة (فإنه على يقين من
وضوئه) خبرية، وحملها على الانشائية خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا
لقرينة مفقودة في المقام، لان في حملها على ظاهرها كمال الملائمة
(الثالثة) أن حملها على الانشاء لا يلائم في المقام، لان مفاده حينئذ
وجوب تحصيل اليقين، لان الاخبار عن كونه على يقين إذا كان بمعنى
الانشاء يصير معناه طلب اليقين، فيجب على الشاك تحصيل اليقين
(ولكن) هذه الجهة الثالثة بعيدة عن الصواب، لان المقصود من كون
الجملة إنشائية طلب ترتيب أثر بقاء اليقين بما هو مرآة عملا فيكون
طلب أثر الشئ بلسان إثبات نفسه فتنزيل الشك منزلة اليقين بلسان
إخباره عن وجود اليقين باعتبار ترتيب آثار اليقين بما هو مرآة
كقوله (الطواف بالبيت صلاة) معناه طلب ترتيب آثار الصلاتية على
الطواف بلسان الاخبار بأنه صلاة، ومثل قولك إن جاء فلان عندك
فهو عالم، أو سيد أي: رتب آثار كونه عالما أو سيدا. والحاصل ان الامر
يدور بين أحد الامرين: إما أن يكون اللام في قوله (ولا ينقض
اليقين بالشك أبدا) للعهد - ويكون اليقين في قوله عليه السلام (فإنه
على يقين من وضوئه) مقيدا بكونه متعلقا بالوضوء، لا أن ذكره من
باب كونه مورد السؤال فلا يدل على اعتبار الاستصحاب، بل يكون
كما ذهب إليه أصحابنا الأخباريون قاعدة كلية مخصوصة بباب
الوضوء بناء على إلغأ
417

كون منشأ الشك هو خصوص حدث النوم - وإما أن يكون اللام
للجنس أو بتجريد اليقين عن إضافته إلى الوضوء ولو كان للعهد على
كلام فيه، فيكون قاعدة كلية لعدم جواز نقض كل يقين بما هو مرآة
متعلقا بأي حكم شرعي أو موضوع ذي حكم كذلك بالشك، وهذا
عين الاستصحاب (وقد عرفت) ان الظاهر هو الثاني ولا فرق بين
الاحتمالات الثلاث في الجزاء من كونه محذوفا مقدرا - وهو لا يجب
عليه شي - ومن كونه (فإنه على يقين من وضوئه) ومن كونه نفس
الكبرى أي: ولا ينقض اليقين بالشك أبدا فأي واحد منها كان الجزأ
لا تأثير له في النتيجة المقصودة بل ما هو الدخيل هو الاحتمالان
المذكوران أي: كون اللام للجنس، أو للعهد مع تجريد اليقين عن
إضافته
إلى الوضوء، فيكون قاعدة كلية في جميع الموارد وهو الاستصحاب.
والاحتمال الثاني كون اللام للعهد مع عدم تجريد اليقين عن
إضافته إلى الوضوء (فيكون) قاعدة مخصوصة بباب الوضوء (وإن
شئت) سمها باستصحاب خاص مخصوص بباب الوضوء.
وأما احتمال أن يكون (فإنه على يقين) هو الجزاء للشرط - وإن وجب
الوضوء، بأن تكون كلمة الشرط مقرونة بالنفي راجعا إلى قوله
عليه السلام (لا) أي: لا يجب عليه شي، وإلا أي: وإن وجب (لان)
مفاد وإلا بناء على هذا الاحتمال نفي عدم الوجوب، ونفي النفي
إثبات
- ففي غاية البعد عن ظاهر الكلام مع أنه لا تأثير له في استفادة القاعدة
الكلية المذكورة لا نفيا ولا إثباتا (بل المدار) في استفادتها ما
ذكرنا. وقد أورد أستاذنا المحقق (قده) على ما استظهرناه تبعا للشيخ
الأنصاري (قده) إيرادين وأجاب هو أيضا عنهما. (الأول) ان
لازمه إجراء الأصل المسببي مع وجود الأصل السببي، وذلك لا يجوز
كما سيأتي (بيان ذلك) إن مفاد هذا الاستظهار استصحاب بقاء
الوضوء مع أنه مسبب عن الشك في
418

وجود الرافع، ولا مانع من جريان استصحاب عدم وجود الرافع، فلا
تصل النوبة إلى استصحاب بقاء الوضوء (الثاني) أن الوضوء عبارة:
عن الغسلات والمسحات وهي لا قرار لها بعد وجودها كسائر الأمور
غير القارة (وأجاب عن الأول) بعدم جريان الأصل السببي، لأنه
من قبيل استصحاب الفرد المردد بين ما هو مقطوع الوجود وما هو
مقطوع العدم فتأمل (وعن الثاني) ببقاء أثره وهي الطهارة، و
معلوم أن الطهارة - الحاصلة من تلك الغسلات والمسحات - قابلة
للبقاء، فلا وجه لما توهم من عدم إمكان تطبيق مفاد هذه الكلية على
الاستصحاب، فالمستفاد منها هي: قاعدة المقتضى والمانع.
فتلخص من جميع ما ذكرنا ظهور الرواية في اعتبار الاستصحاب مطلقا
من جميع الجهات إلا من ناحية الشك في المقتضى، وقد تقدم
بيان الاستثناء.
(ومنها)
ما عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن زرارة مضمرا، وعن العلل عن
أبي جعفر عليه السلام وقد ذكرنا في الرواية الأولى أن إضمارها لا
يضر بصحتها، لان استفتاء مثل زرارة عن غير الإمام عليه السلام - مع
عدم ذكر ذلك الغير وإيراده بصورة الاضمار - في غاية البعد
(قال:
قلت له أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي من مني فعلمت أثره
إلى أن أصيب له الماء فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي
شيئا وصليت ثم اني ذكرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة وتغسله
قلت: فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه قد أصابه فطلبته فلم أقدر
عليه فلما صليت وجدته قال: تغسله وتعيد قلت: فان ظننت أنه قد
أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت فيه؟
قال: تغسله ولا تعيد الصلاة قلت لم ذلك؟ قال: لأنك كنت على يقين
من طهارتك
419

ثم شككت. فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا. قلت:
فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال: تغسل من
ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من
طهارتك قلت: فهل علي إن شككت في أنه أصابه شي ان انظر فيه؟
قال: لا ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك قلت:
إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا
شككت في موضع منه ثم رأيته وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت
الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شي أوقع
عليك فليس ينبغي أن ينقض اليقين بالشك) وتقريب الاستدلال بهذه
الصحيحة على حجية الاستصحاب مثل ما عرفت في الصحيحة
الأولى بقوله عليه السلام في موضعين منها (فليس ينبغي لك أن
تنقض
اليقين بالشك) مع كلمة أبدا في الجملة الأولى منهما، وأما الجملة
الأولى من هاتين الجملتين (فلان) المفروض في السؤال هو الظن
بالإصابة وعدم اليقين بها فاليقين السابق - على هذا الظن أي:
الظن بالإصابة - لا يجوز نقضه بهذا الظن بناء على اعتبار
الاستصحاب، وعلى فرض احتياج جريان الاستصحاب في الشبهات
الموضوعية - في أمثال المقام مما يرتفع الجهل بصرف النظر - إلى
الفحص فقد حصل النظر والفحص كما هو المذكور في الصحيحة.
(لا يقال) ان هذا ليس من نقض اليقين بالشك بل من نقض اليقين
باليقين لقوله (ثم صليت فيه فرأيت فيه) فبعد أن رأى النجاسة فيه و
تيقن
بها فيكون من نقض اليقين باليقين، فلا تنطبق الكبرى التي ادعينا أنها
ارتكازية على المورد (فيكون) المورد خارجا عن مفاد كلتا
القاعدتين أي: الاستصحاب وقاعدة اليقين (لأنه من الممكن) أن
تكون النجاسة التي رآها نجاسة حادثة ولا تكون تلك المظنونة، و
الشاهد على ذلك
420

أنه لم يقل (فرأيتها فيه) حتى يكون الضمير راجعا إلى تلك النجاسة
المظنونة، فلعله شي أوقع عليه كما احتمله عليه السلام في بعض
الفروض الآتية، وعلى هذا التقرير لا يبقى إشكال في تعليل الإمام عليه السلام
عدم الإعادة بهذه الكبرى، فتكون هذه الكبرى دليلا على
اعتبار الاستصحاب مثل الصحيحة الأولى طابق النعل بالنعل من ظهور
كون اللام للجنس لا للعهد وسائر ما ذكرناه في تلك الصحيحة، و
أما الجملة الثانية - أعني:
قوله عليه السلام (فليس ينبغي أن ينقض اليقين بالشك) بعد قوله
عليه السلام (لعله شي أوقع عليك) - فأوضح دلالة على
الاستصحاب
لأنه عليه السلام علل الحكم بعدم الإعادة بإبداء هذا الاحتمال أي:
احتمال حدوث النجاسة بعد الصلاة ولتقوية هذا الاحتمال قيد
الحكم
بعدم الإعادة بكون النجاسة التي رآها رطبة، ولكن مع ذلك كله كون
المراد من قوله - (ثم صليت فيه فرأيت فيه) أن النجاسة التي رآها
بعد الصلاة - يمكن أن تكون نجاسة حادثة بعدها لا تلك النجاسة
المظنونة قبل الصلاة لا يخلو عن بعد، فالاشكال باق على حاله أي:
تكون الإعادة من نقض اليقين باليقين (وقد أجيب) عن هذا الاشكال
بوجوه: (الأول) ان تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب - وان الإعادة
تكون من نقض اليقين بالشك - باعتبار اقتضاء الامر الظاهري للاجزأ
فكأنه عليه السلام قال إن الإعادة معناها عدم الاعتناء بما هو
وظيفته الظاهرية أي: الاستصحاب، مع أنه مجز عن إتيان الواقع ثانيا
(فتكون) الإعادة نقضا لليقين بالشك الذي نهى الشارع عنه.
وفيه (أولا) أن يكون الامر الظاهري مقتضيا للاجزاء غير تام، كما تقدم
في الجز الأول من هذا الكتاب (ولا يمكن) أن يكون استدلال
الإمام عليه السلام مبتنيا على أمر غير تام (وثانيا) لو كان الامر كذلك
421

لكان ينبغي أن يعلل عليه السلام عدم الإعادة بنفس هذا العنوان -
أي:
اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء - لا بالاستصحاب وانه يلزم من الإعادة
نقض اليقين بالشك (وثالثا) ان التعليل ظاهر في أن تمام المناط
في عدم الإعادة هو الاستصحاب، وبناء على هذا الجواب يكون
الاستصحاب مقدمة لما هو المناط أعني: اقتضاء الامر الظاهري
للاجزاء.
الثاني ما أفاده صاحب الكفاية (قده) من أن شرط صحة الصلاة إحراز
الطهارة الخبثية حال الالتفات إليها ولو بالأصل المحرز، ولا شك
في أن الاستصحاب من الأصول المحرزة فالشرط حاصل فلا تجب
الإعادة وتكون الإعادة نقضا لليقين بالشك (وفيه) أنه لا بد في
جريان الاستصحاب - من أن يكون لا بقاء المستصحب في ظرف
الشك في بقائه - أثر عملي حتى يكون الحكم بالبقاء بلحاظ ذلك
الأثر
(لأنه) أصل عملي، وفيما نحن فيه في هذا الفرض ليس لبقاء الطهارة
أثر عملي يكون الحكم ببقائها بذلك اللحاظ (لان) المفروض أن
الأثر لاحراز الطهارة سواء أ كان هناك في الواقع طهارة في البين أم لا (و
بعبارة أخرى) لا بد وأن يكون في الرتبة السابقة على
جريان الاستصحاب أثر عملي للمستصحب حتى يجري
الاستصحاب فيحصل الشرط أي: إحراز الطهارة (فلا يمكن) أن يكون
ذلك الأثر
هو الأثر الذي يحصل من ناحية جريان الاستصحاب وهو إحراز
الطهارة الذي هو شرط صحة الصلاة على الفرض، لأنه مستلزم للدور
الباطل.
وأما الجواب عن هذا الاشكال - بأنه شرط واقعي اقتضائي أو من قيود
ما هو الشرط واقعا أي: إحراز الطهارة لان إحرازها بخصوصها
لا غيرها شرط - فلم نفهم معنى محصلا لهذا الكلام، إذ ما لم يكن أثرا
عمليا فعليا للمستصحب لا معنى للحكم ببقاء ذلك المستصحب من
حيث الجري العملي الذي هو حقيقة الاستصحاب وهذه العبارات و
المفاهيم الاصطلاحية
422

أو غير الاصطلاحية لا أثر لها (وقد بينا) أن التعليل ظاهر في أن تمام
المناط - في عدم وجوب الإعادة - هو بقاء المستصحب أي:
الطهارة المحرزة حال الشك في بقائها، وهذا أجنبي عن كون المناط
إحراز الطهارة.
نعم لو قلنا بأن الطهارة الخبيثة أيضا مثل الحدثية من المجعولات
الشرعية - كما هو كذلك وحيث أنها مما تنالها يد الجعل التشريعي -
فلا يحتاج في استصحابها إلى وجود أثر عملي في البين (فيمكن أن
يقال) بصحة التعليل بناء على أن الشرط هو إحراز الطهارة لأنه
حينئذ لا مانع من جريان الاستصحاب فيحصل الشرط أي إحراز
الطهارة فتكون الإعادة نقضا لليقين بالشك.
(الثالث) ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من صحة التعليل سواء قلنا
بشرطية الطهارة أو مانعية النجاسة، أما بناء على الأول الذي هو
الظاهر من الأدلة فالشرط ليس خصوص الطهارة الواقعية بل الأعم من
الطهارة الظاهرية - ولو كان مؤدى أصل غير تنزيلي كأصالة
الطهارة - ومن الطهارة الواقعية (فحينئذ) بالاستصحاب بلحاظ حال
قبل انكشاف الخلاف حصل الشرط أي: الطهارة الظاهرية التي
مؤدى الاستصحاب، فالإعادة يكون عدم اعتناء بالاستصحاب ونقضا
لليقين بالشك (وأما بناء على الثاني) أي: على مانعية النجاسة حال
الالتفات إليها فمن جهة أن النجاسة الخبثية بوجودها الواقعي ليست
مانعة قطعا لصحة الصلاة معها مع الجهل (فلا بد) وأن نقول بأن
العلم بالنجاسة من حيث التنجيز لاحكامها أو طريقيته إليها مانع عن
صحتها، ومعلوم أنه مع استصحاب الطهارة وتنجيز أحكامها به لا
يبقى مجال لتنجيز أحكام ضدها أي: النجاسة فلا مانع عن الصحة في
البين (فالإعادة) من جهة عدم صحة الصلاة مستندا إلى وجود المانع
يرجع إلى عدم الاعتناء بالاستصحاب، ويكون نقضا لليقين بالشك
فالتعليل بذلك إنما يكون لافادة ان النجاسة في مفروض السؤال
ليس
423

لها منجز وطريق لعدم العلم بها لا تفصيلا ولا إجمالا والشك ليس
طريقا ومنجزا، مع أنه ملغى بالاستصحاب فلا موجب للإعادة.
وحاصل الكلام في المقام أنه بناء على شرطية الطهارة ولكن بشرط
أن يكون أعم من كونها ظاهرية أو واقعية يرجع التعليل إلى أن
المكلف في مفروض السؤال بواسطة الاستصحاب محرز للشرط أي
الطهارة الظاهرية (وان شئت قلت) الشرط أي الطهارة المحرزة
حاصل له، لأنه محرز لها بالاستصحاب فيستفاد من التعليل بضميمة
المورد وهو قوله عليه السلام (لأنك كنت على يقين من طهارتك
فشككت ولا ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك) كبرى كلية وهي
عدم وجوب الإعادة على كل من كان محرزا للطهارة حال الصلاة
سواء انكشف الخلاف بعدها أو لم ينكشف (فيكون) التعليل من قبيل
تعليل حرمة شرب مائع لاسكاره حيث إن التعليل يكون لاعطاء كلية
كبرى وهي حرمة شرب كل مسكر، ومعلوم أن هذه الكبرى الكلية في
المورد لا يصح إلا بأحد أمرين: وهو (إما اقتضاء) الامر الظاهري
للاجزاء أو كون الشرط أعم من الطهارة الواقعية ومن إحرازها (و
حيث) ان اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء باطل كما تقدم في مبحث
الاجزاء في الجز الأول من هذا الكتاب، فلا بد بدلالة الاقتضاء من
القول بأن الشرط أعم من الطهارة الواقعية والمحرزة.
ولكن يرد على الشق الأول - أي: على كون الشرط في الموارد إحراز
الطهارة أو الطهارة المحرزة - ما أوردنا على ما أفاده صاحب
الكفاية (قده) حرفا بحرف مضافا إلى أن كون الشرط هو الجامع بين
الطهارة الواقعية وإحرازها لا يخلو عن غموض (لأنه) عين ما
أفاد، ويمكن تصحيحه أيضا بعين ما صححنا أخيرا كلام صاحب
الكفاية (ويرد على الشق الثاني) - أي:
على كون العلم بالنجاسة من حيث منجزيته لاحكامها أو طريقيته إليها
مانعا عن صحة الصلاة - انه بناء على هذا المبنى كان ينبغي أن
يعلل عدم الإعادة
424

بعدم تنجيز النجاسة وأحكامها أو بعدم إحرازها لا بالاستصحاب، و
على كل تقدير دلالة هذه الصحيحة على اعتبار الاستصحاب -
بالنسبة إلى الفقرة الثانية - لا غبار عليها ولا يتطرق هذا الاشكال فيها،
وذلك لقوله عليه السلام فيها (لعله شي أوقع عليك) وبعد
وجود هذا الاحتمال لا يعلم بوقوع الصلاة في الثوب النجس ولو
بعدها، فلا ربط لها بقاعدة اليقين ولا ينطبق إلا على الاستصحاب (و
نحن) ما استبعدنا ظهور الفقرة الأولى أيضا في هذا الاحتمال أي:
احتمال وقوع النجاسة على الثوب بعد الصلاة فهذه الفقرة الثانية أيضا
(بناء على هذا الاستظهار) لا مجال لانطباقها على قاعدة اليقين و
يكون منطبقا على الاستصحاب.
ثم إن هذه الصحيحة مشتملة على عدة من القواعد الفقهية متعلقة
بوقوع الصلاة مع النجاسة، وينبغي أن يبحث عن كل واحد منها في
محله
(في كتاب الصلاة) والبحث عنها هاهنا لا وجه له، لأنها خارجة عن
الفن (كما أن) البحث عن وجه الجمع بين ما دل على صحة الصلاة مع
وقوعها في النجس إذا لم يتنجز عليه - لعدم الالتفات إليه والغفلة عنه
أو لاحراز ضده، وبين ما دل على شرطية طهارة بدن المصلي و
لباسه الظاهر في أنها بوجودها الواقعي شرط - أيضا لا وجه له هاهنا
لخروجه عن الفن ومحل بحثها أيضا (كتاب الصلاة) لكنهم ذكروا
وجوها للجمع هاهنا استطرادا وتتميما للبحث عن هذه الصحيحة
(الأول) ان الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية (والثاني)
إن الشرطية والمانعية للطهارة والنجاسة، الأول للأول والثاني للثاني
في صورة الالتفات والعلم بمعنى: أنه إذا علم بطهارة الثوب أو
بنجاسته (فالطهارة) شرط أو النجاسة مانع، وإلا عند الغفلة عنهما أو
عدم العلم بهما فلا
425

شرط ولا النجاسة مانع (الثالث) ان الشرط هو إحراز الطهارة لا الطهارة
الواقعية.
(الرابع) هو أن الشرط أو المانع هي الطهارة الواقعية في الأول و
النجاسة الواقعية في الثاني (ولكن) الفاقدة لما هو الشرط واقعا أو
الواجدة لما هو المانع واقعا يشتمل على مرتبة من المصلحة في ظرف
الجهل أو الغفلة عما هو الشرط واقعا، أو عما هو المانع واقعا يفي
بما هو الغرض أو لا يمكن تدارك الباقي؟ وشيخنا الأستاذ وكذلك
أستاذنا المحقق (قدهما) كلاهما اختارا هذا الوجه الرابع بمعنى: ان
الشارع في مقام الامتثال وإسقاط التكليف يقبل هذا الواجد لما هو
المانع واقعا أو الفاقد لما هو الشرط واقعا بدلا عن الواقع (وبعبارة
أخرى) يكون عدم وجوب الإعادة من باب التوسعة في مقام الامتثال،
بلا تصرف فيما هو متعلق التكليف (وهذا الوجه) ليس مختصا
بالمقام بل يجري في كل مقام اكتفى الشارع بامتثال فاقد الجز أو
الشرط أو الواجد للمانع، كما في موارد (حديث لا تعاد) في غير
الأركان مثلا، وهذا الوجه وان كان في حد نفسه حسن وقد استحسنه
جمع كثير في سائر المقامات (بل لا مناص) عنه في بعض الموارد
ولكن تطبيق هذه الكبرى المذكورة في هذه الصحيحة - أعني قوله
عليه السلام (فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك) عليه - لا
يخلو
من نظر وإشكال، لما ذكرنا في توجيه الصحيحة ان الشرط لا بد وأن
يكون إما أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية أو يكون إحرازها
(فينطبق) على الوجه الأول أو الثالث وإن كان كلاهما خلاف ظاهر
أدلة اشتراط الصلاة بطهارة بدن المصلي وثوبه (لان) ظاهرها ان
الشرط هي الطهارة الواقعية.
ومنها صحيحة ثالثة لزرارة
رواها في التهذيب والكافي عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام
(قال: قلت له من لم يدر في أربع هو أو في
426

ثنتين وقد أحرز الثنتين قال عليه السلام: يركع ركعتين وأربع سجدات
وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد ولا شي عليه، وإذا لم يدر
في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا
شي عليه، ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين و
لا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على
اليقين فيبني عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات) وتقريب
الاستدلال بهذه الصحيحة على اعتبار الاستصحاب هو أن جملة (ولا
ينقض اليقين بالشك) ظاهر في أنه لا يجوز نقض اليقين بعدم إتيان
الرابعة بالشك في إتيانه، فيجب أن يبتنى على العدم ويأتي بها وهذا
عين الاستصحاب (فيكون) مفاد هذه الجملة في هذه الصحيحة عين
مفادها في الصحيحتين المتقدمتين (والقول) بأن اللام في هذه الجملة
للعهد وإشارة إلى اليقين بالثلاث أو بعدم إتيان الرابعة فلا يجوز
نقض هذا اليقين الخاص بالشك، فليس حكما كليا على نحو العموم
الاستغراقي أو الأصولي حتى يفيد اعتبار الاستصحاب مطلقا بل يكون
مفاد هذه الجملة اعتباره في خصوص هذا المورد أي: في الشك بين
الثلاث والأربع فيما إذا أحرز الثلاث وشك في إتيان الرابعة
(فجوابه) تقدم في الصحيحتين المتقدمتين، بظهور اللام في الجنس
في حد نفسه مضافا إلى تطبيق الإمام عليه السلام لهذه الجملة على
موارد عديدة وإنها كبرى كلية ارتكازية.
نعم هنا إشكال آخر وهو أن دلالة هذه الصحيحة على اعتبار
الاستصحاب مبني على أن يكون المورد لهذه الكبرى هو اليقين بعدم
إتيان
الرابعة سابقا ثم شك في إتيانها، فحكم الشارع بعدم جواز نقض ذلك
اليقين ووجوب إتيان الرابعة والبناء على ذلك اليقين وعدم
الاعتناء بالشك في حال من الحالات وأنه يجب عليه أن يبني على
اليقين ويأتي بالرابعة، ومقتضى
427

ذلك هو الاتيان بالرابعة موصولة لا مفصولة بتكبيرة الاحرام وتعين
فاتحة الكتاب وسلام، وكل ذلك بعد السلام عقيب الثالثة
المحرزة كما هو عند الإمامية (فمفاد هذه) الصحيحة بناء على هذا
مخالف لمذهب الامامية، فلا بد من حملها إما على التقية أو على أن
المراد من اليقين هو اليقين بالامتثال أي:
الاتيان بصلاة الاحتياط مفصولة بطريق الذي ذكرنا حتى يقطع
بالامتثال على كل حال أي: على كل واحد من طرفي الاحتمال و
تسمية
هذا باليقين مصطلح الاخبار (فيكون) مفاد هذه الجملة بناء على هذا
الوجه أجنبيا عن الاستصحاب، كما أنه بناء على الوجه الأول أي:
الحمل على التقية يسقط عن الاعتبار (فلا يمكن) أن يكون دليلا على
اعتبار الاستصحاب.
وفيه أن مقتضى الاستصحاب ليس إلا لزوم إتيان الركعة الرابعة (إما
كونها) موصولة أو مفصولة فلا دخل لها بالاستصحاب (نعم) لما
كان المعلوم من الخارج ان ركعات كل صلاة بعضها متصلة ببعض
(فمقتضى) إطلاق الامر بإتيانه لزوم الاتيان بها موصولة، إذ إتيانها
مفصولة - بالابتداء بتكبيرة الاحرام وتعين فاتحة الكتاب وأن يأتي
بسلام بعد السجدتين والتشهد - يحتاج إلى بيان ومئونة زائدة
فالاطلاق يدفعه (وأما إذا) جاء البيان على لزوم الاتيان بالركعة
المشكوكة مفصولة - كما جاء فيما نحن فيه - فيقيد الاطلاق.
والحاصل أن مفاد الاستصحاب لزوم الاتيان بالركعة المشكوكة، فلو لم
يكن بيان في كيفية إتيانها كان مقتضى إطلاق الامر بإتيانها
أن يأتي بها موصولة، وإذا جاء بيان فلا بد وأن يعمل بمقتضى ذلك
البيان، ولا يبقى إطلاق في البين (إن قلت) مقتضى الاستصحاب هو
البناء على الأقل والمذهب على البناء على الأكثر كما هو لسان الاخبار
(قلت) ان المذهب أيضا على البناء على الأقل من حيث لزوم
الاتيان بالمشكوكة، وإنما التعبير
428

بالبناء على الأكثر كما في بعض الاخبار بلحاظ السلام في الرابعة، وإلا
فمن حيث إتيان ذوات الركعات (فلا شك) في أن البناء يكون في
الحقيقة على الأقل فالاستصحاب لا ينافي مع البناء على الأكثر
الموجود في بعض الروايات.
ثم لو سلمنا حملها على التقية فليس التقية في أصل الكبرى، بل التقية
في تطبيق هذه الكبرى على المورد ولا تنافي بين أن يكون أصل
الكبرى في مقام بيان حكم الله الواقعي وتطبيقه على المورد يكون من
باب التقية كما وقع نظيره في قوله عليه السلام للخليفة العباسي
(ذلك إلى إمام المسلمين إن صام صمنا معه وإن أفطر أفطرنا معه) فان
أصل الكبرى أي: الحكم بكون اليوم الفلاني عيد من وظائف
إمام المسلمين والامر بيده (ولا شك) في هذا وليس فيه تقية بل هو
حكم واقعي، والتقية في تطبيق عنوان إمام المسلمين على ذلك
الرجل خوفا منه (فكذلك) الامر فيما نحن فيه فجملة (لا تنقض اليقين
بالشك) لبيان حكم الله ولا تقية فيه بل التقية في تطبيق هذه الجملة
على المورد بناء على أن يكون المورد إتيان الركعة المشكوكة موصولة
كما هو مذهب المخالفين لنا، فبناء على حمل الصحيحة على التقية
أيضا لا تسقط هذه الجملة عن الاعتبار.
وأما ما يقال - من أن حملها على التقية حتى في مقام التطبيق ينافي
مع ما في صدرها من ظهوره في إرادة صلاة الاحتياط على خلاف
مذهب المخالفين - ففيه (أولا) أن الصدر ليس له ظهور تام في خلاف
التقية لان قوله عليه السلام في الصدر في الشك بين الاثنين و
الأربع (يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب و
يتشهد ولا شي عليه) كما أنه يلائم مع الركعتين المفصولتين كذلك
يلائم مع الموصولتين لاشتراكهما في جميع ما ذكره عليه السلام (و
ثانيا) أنه من الممكن أن لا يكون ما هو
429

المقتضى للتقية في الصدر ثم يوجد حين إلقاء الذيل بدخول من
يخاف منه في المجلس في ذلك الوقت (وثالثا) هذا الحمل على
تقدير
بعده بمناسبة كون الصدر على خلاف التقية لو سلم ليس بأبعد من
حمل اليقين على اليقين بالبرأة وتدارك ما احتمل فوته بصلاة
الاحتياط.
ومنها موثقة إسحاق بن عمار
عن أبي الحسن عليه السلام (قال: إذا شككت فابن علي اليقين، قلت:
هذا أصل قال نعم) وتقريب الاستدلال بها كما تقدم في الصحيحة
المتقدمة (لان) الظاهر ورودها في مورد الشك في عدد الركعات كما
أن الوسائل ذكرها في ذلك الباب (فيكون) مفادها أنه إذا شككت
في عدد الركعات فابن علي اليقين أي: الأقل (لأنه) المتيقن وعلى هذا
لا تكون هذه الجملة كبرى كلية في جميع موارد الاستصحاب (و
لكن يمكن أن يقال) أن ظاهر الكلام مطلق واختصاصه بل وروده في
مورد الشك في عدد الركعات غير معلوم وعلى تقدير التسليم
خصوصية المورد لا يقيد الاطلاق (فيكون) حال هذه الجملة حال
قوله عليه السلام في الروايات الاخر (لا تنقض اليقين بالشك).
نعم هنا احتمالان آخران (أحدهما) أن يكون المراد بالبناء على اليقين
اليقين بالبرأة أي الاتيان بصلاة الاحتياط كما هو المصطلح في
الاخبار (الثاني) أن يكون المراد به قاعدة اليقين ولكن الاحتمال
الأخير بعيد، لان الظاهر من قوله عليه السلام (فابن علي اليقين)
الموجود في ظرف البناء (وبعبارة أخرى) اليقين الفعلي لا اليقين الذي
كان وانعدم وتبدل بالشك كما هو الشأن في قاعدة اليقين، و
لذلك سميت بقاعدة الشك الساري وهكذا الاحتمال الأول أيضا لا
يخلو من بعد لعدم تعين متعلق الشك واليقين والاطلاق يشمل عدد
الركعات وغيره (فاحتمال) الاستصحاب أظهر.
وربما يؤيد هذا الاحتمال قول الراوي في الذيل (قلت: هذا أصل قال:
430

عليه السلام نعم) فكأنه عليه السلام قال هذا أصل كلي لا اختصاص له
بباب دون باب وهذا البيان يناسب العموم والاطلاق جدا.
ومنها
ما عن الخصال بسنده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه
السلام (قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: من كان على يقين فشك
فليمض على يقينه فان الشك لا ينقض اليقين) وفي رواية أخرى عنه
عليه السلام (من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه فان
اليقين لا يدفع بالشك) وتقريب الاستدلال بهاتين الروايتين هو كما
تقدم في الروايات السابقة وهو أن قوله عليه السلام (فان الشك لا
ينقض اليقين) في الرواية الأولى وقوله عليه السلام فان اليقين لا يدفع
بالشك) في الرواية الثانية كبرى كلية تدل على عدم جواز نقض
اليقين بالشك وعدم جواز دفعه به من حيث الجري العملي وترتيب
آثاره بما هو مرآة للمتيقن، بل العموم فيهما أولى وأوضح من عموم
هذه الجملة في الصحاح المتقدمة لعدم تطرق احتمال كون اللام
للعهد هاهنا، إذ لم يذكر لليقين والشك متعلق هاهنا حتى يكون اللام
إشارة إلى ذلك المتعلق الخاص بخلافه هناك (فإنه) كان فيها متعلق
لليقين وكان من المحتمل أن يكون اللام في الكبرى إشارة إلى
ذلك المتعلق الخاص، كما استظهر الأخباريون هذا المعنى منها و
أنكروا حجية الاستصحاب مطلقا وفي جميع الموارد وخصصوا
بخصوص موارد الروايات (فدلالة) هاتين الروايتين على اعتبار
الاستصحاب لعله أوضح ولكن الشيخ الأعظم رجح أن يكون المراد
منهما قاعدة اليقين استنادا إلى ظهور لفظ كان في قوله (من كان على
يقين) في كلتا الروايتين على أن اليقين كان وانعدم وفي ظرف
الشك ليس يقين في البين فالروايتان تدلان على اختلاف زمان
الوصفين أي: ليس شك في زمان اليقين ولا يقين في زمان الشك، و
هذا
المعنى من خصوصيات قاعدة اليقين ولذلك سمي بالشك الساري
(لان)
431

الشك يسري إلى زمان اليقين فيذهب باليقين ويعدمه، بخلاف
الاستصحاب فإنه في ظرف الشك في بقاء المتيقن في الزمان الثاني
اليقين بوجود المتيقن في الزمان الأول موجود.
(وبعبارة أخرى) في الاستصحاب اليقين بالحدوث دائما موجود و
إنما الشك في ناحية البقاء (ولكن أنت خبير) بأنه من الممكن أن
يكون التعبير بالماضي على تقدير تسليم دلالة كان على زمان الماضي
وعدم انسلاخه عن الزمان يكون الماضي باعتبار زمان حدوث
اليقين (لأنه) غالبا يحدث اليقين بالمستصحب قبل زمان حدوث
الشك في بقائه، وإن كان من الممكن حدوثهما معا مع أن هذا الظهور
الذي ادعاه الشيخ الأعظم معارض بما هو أظهر منه وهو ظهور لفظ
اليقين في الجملتين - أي: في قوله عليه السلام (فان الشك لا ينقض
اليقين) وفي قوله عليه السلام (فان اليقين لا يدفع بالشك) - في
اليقين الفعلي أي: اليقين الموجود حال طرو الشك (فلا يمكن) أن
ينطبق
على قاعدة اليقين لزوال اليقين فيها حال طرو الشك، ولذا قد يسمى
بقاعدة الشك الساري فلا بد من انطباقه على الاستصحاب
(فالانصاف) ان هاتين الروايتين ليس ظهورهما في اعتبار الاستصحاب
أضعف من ظهور الصحاح المتقدمة بل لو ادعى أحد أقوائيته لما
كان بعيدا عن الصواب.
ومنها مكاتبة علي بن محمد القاساني
(قال كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل
يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخله الشك صم للرؤية وأفطر
الرؤية) وتقريب الاستدلال بها بأن يكون المراد بقوله عليه السلام
(اليقين لا يدخله الشك) ان اليقين بشعبان الذي لا يجب فيه الصوم لا
يدخله حكما الشك بدخول رمضان حتى يخرج عن حكم شعبان
الذي هو عدم الوجوب
432

بصرف الشك في دخول رمضان، بل لا بد من اليقين بدخول رمضان،
وعبر عن اليقين بدخول رمضان بقوله عليه السلام (صم للرؤية)
ثم بين أن هذا الحكم لا اختصاص له باليقين بشعبان والشك في
دخول رمضان بل كذلك الحكم بالنسبة إلى اليقين برمضان والشك
في
دخول شوال، فأيضا لا يجوز الخروج عن حكم رمضان بصرف الشك
في دخول شوال، (بل لا بد) من رفع اليد عن حكم رمضان من
الرؤية أي: اليقين بدخول شوال فمعنى قوله عليه السلام (اليقين لا
يدخله الشك) أي: حكم اليقين لا يرفعه الشك في كل مورد بل الذي
يرفعه هو اليقين بخلافه (وبهذا) المعنى جعلها الشيخ الأعظم أظهر
الروايات دلالة على الاستصحاب (لكن) صاحب الكفاية وشيخنا
الأستاذ (قدهما) أنكرا ظهورها فيه فضلا عن أن يكون أظهر الروايات،
ببيان أن جوابه عليه السلام عن يوم الشك الذي سئل عنه وجوب
الصوم (وكذلك) جواز الافطار أو وجوبه حكم اليقين برمضان في
الأول وحكم اليقين بشوال في الثاني (واليقين لا يدخله الشك)
يعني:
الشك في رمضان كيوم الشك في الطرفين لا يدخل في حكم اليقين
في الطرفين، فلا الشك في رمضان يدخل في حكم اليقين برمضان و
لا الشك في شوال يدخل في حكم اليقين بشوال بل الصوم الواجب
حكم اليقين برمضان (فلا يجوز) في يوم يشك في دخول رمضان
بعنوان أنه صوم رمضان وجواز الافطار أو وجوبه حكم اليقين بشوال،
فلا يجوز في يوم يشك بدخوله فيه.
ثم إنه لا يتوهم أحد أن مراد شيخنا الأستاذ أو صاحب الكفاية (قدس
سرهما) من قولهم ان وجوب الصوم أو وجوب الافطار حكم اليقين
بكونه من رمضان في الأول واليقين بشوال في الثاني ان اليقين تمام
الموضوع أو جزئه ولو على نحو الطريقية (لان) هذا واضح
البطلان بل المراد
433

اليقين بما هو مرآة وطريق إلى ما هو متعلق الحكم وموضوعه، وعلى
كل حال لا بد وأن ينظر إلى ظهور هذه الجملة أي: قوله (اليقين لا
يدخله الشك) مع ملاحظة اقترانها بذيلها أعني: قوله عليه السلام
(صم للرؤية وأفطر للرؤية) وانه هل الظاهر منها أن اليقين بعدم دخول
رمضان أو عدم دخول شوال لا يدخله الشك في دخول رمضان في
الأول؟ أو الشك في دخول شوال في الثاني - بمعنى أنه يوجب إبقاء
حكم اليقين بما هو مرآة حتى يعلم خلافه فيكون ظاهرا في
الاستصحاب - أو الظاهر منها أن حكم اليقين لا يدخله الشك - أي:
حكم اليقين
غير حكم الشك - فلا ربط له بالاستصحاب (ولكن الانصاف) أن
الظاهر منها بعد تذييله بقوله عليه السلام (صم للرؤية وأفطر للرؤية)
الذي عبارة عن العلم بخلاف الحالة السابقة هو ان اليقين لا ينقض إلا
باليقين هذا مضافا إلى أن ما ذكراه من أن المراد من هذه الجملة
أعني: اليقين لا يدخله الشك أي حكم اليقين غير حكم الشك لا
معنى له إلا فيما إذا كان لنفس اليقين حكم لا فيما إذا كان اليقين طريقا
محضا وإلا يرجع إلى أن الشك ليس طريقا وهذا من توضيح
الواضحات (وما استشكل) به أستاذنا المحقق (قده) - من عدم إمكان
تطبيق الاستصحاب على المورد من جهة ان بقاء شعبان بمفاد كان
الناقصة أو عدم دخول رمضان بمفاد ليس الناقصة ليس لهما حالة
سابقة وهما بمفاد التامة منهما وإن كان لهما حالة سابقة (لكن) لا
يترتب عليهما الأثر، إذ الأثر لكون يوم الشك من شعبان أو من
رمضان أو من شوال لابقاء هذه الأشهر أو عدم دخولها (فلا بد) وأن
يحمل الرواية على معنى غير الاستصحاب - فهذا كلام عجيب (لان)
عدم دخول رمضان أو بقاء شعبان يكفي لرفع وجوب الصوم. وربما
استدل على اعتبار الاستصحاب بقوله عليه السلام في رواية عمار
(كل شي نظيف حتى تعلم أنه قذر) وقوله في رواية حماد بن
434

(الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر) وقوله (كل شي هو لك حلال
حتى تعرف أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك) وهذا الأخير رواها
مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام والاحتمالات في هذه
الروايات سبعة الحكم الظاهري فقط - أي: قاعدة الحل وقاعدة
الطهارة - والحكم الواقعي فقط، والاستصحاب فقط، والثلاثة جمعا،
والحكم الظاهري مع الاستصحاب، والحكم الواقعي معه، والحكم
الواقعي والظاهري معا فقط دون الاستصحاب.
فنقول: أما الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي فمما لا يمكن بإنشأ
واحد (لان) الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي وموضوعه
أيضا كذلك في طول موضوع الحكم الواقعي (وذلك) لان الحكم
الظاهري في ظرف استتار حكم الواقعي والجهل به وموضوعه أيضا
هو الفعل أو الذات المقيد بكونه مجهول الحكم في الأصول العملية
(فلا يمكن) أن يشمل الجعل الواحد بلحاظ واحد كلتا المرتبتين، و
لذلك قلنا أن إطلاق الحكم الواقعي لا يمكن أن يشمل مرتبة الشك
فيه والجهل به (وكذلك) لا يمكن التقييد به فالتقييد أو الاطلاق
يحتاج
إلى جعل آخر وأيضا إطلاق الحكم الظاهري (لا يمكن) أن يشمل
المرتبة السابقة على موضوعه أعني: مرتبة الذات قبل الشك في
حكمه،
فلا ينزل الحكم الواقعي إلى مرتبة الحكم الظاهري ولا يصعد الحكم
الظاهري إلى مرتبة الحكم الواقعي، فبإنشاء واحد لا يمكن جعل
الحكم الظاهري والواقعي ولو كان هناك دال آخر (فما ذكره) صاحب
الكفاية (قده) في حاشيته على الرسائل - من إمكان استفادة
الثلاث أي: الحكم الواقعي والظاهري والاستصحاب من هذه الأخبار
الثلاثة - لا يخلو من إشكال لما عرفت من عدم إمكان الجمع بين
الحكم الواقعي والظاهري في إنشاء واحد، ولعله لذلك عدل في
الكفاية عن هذا
435

الكلام والرأي وقال: ان الغاية فيها إنما هو لبيان استمرار ما حكم على
الموضوع واقعا من الطهارة والحلية ظاهرا ما لم يعلم بطرو
ضده أو نقيضه لا لتحديد الموضوع كي يكون الحكم بهما قاعدة
مضروبة للشك في طهارته أو حليته. (فاعترف) بأن المستفاد منها
الحكم الواقعي مع الاستصحاب فقط دون القاعدة المضروبة للشك، و
ذلك بأن مفادها باعتبار الجملة التي في الصدر الحلية والطهارة
الواقعيتين والغاية تدل على استمرار هذا الحكم ظاهرا إلى زمان العلم
بالخلاف (وحيث) ان الاستمرار ظاهري ويكون بحسب الجري
العملي (فلا يتوهم) ان ذلك الاستمرار بقاء الحكم الواقعي في ظرف
الشك وهو واضح البطلان، لعدم إمكان ان يحكم بحلية ميتة الواقعية
المشكوكة كونها ميتة وهكذا في سائر المحرمات والنجاسات
الواقعيتين والدليل على أن الاستمرار ظاهري لا واقعي ان الحكم
الواقعي لا يمكن أن يكون مغيا بالعلم بضده، إذ الاحكام الواقعية تابعة
لملاكاتها وجودا وعدما ولا يؤثر فيها العلم بالخلاف أو بضدها
(نعم) قد يكون العلم بالحكم دخيلا في الملاك فيكون تمام الموضوع
أو جزئه، لكن ذلك أجنبي عن محل كلامنا.
وفيه أنه لا يمكن استفادة الاستصحاب والحكم الواقعي من جملة
واحدة (وذلك) من جهة أن حقيقة الاستصحاب جر الحكم الثابت
واقعا
جرا تعبديا ادعائيا - أي: من حيث الجري العملي - لا جرا حقيقيا
حتى يكون مفاده ومؤداه الحكم الواقعي (فيكون) جعل الحكم
الاستصحابي مترتبا على جعل الحكم الواقعي ومتأخرا عنه (فلا بد)
أولا من جعل حكم واقعا ثم الحكم باستمرار ذلك الحكم ظاهرا إلى
زمان العلم بالخلاف أو بضده، ومثل هذا المطلب وإن كان ممكنا إذا
كان دالان ولو بجملة واحدة ولكن خلاف ظاهر الكلام (بل إن
كان) هذا مراده فينبغي بل يجب
436

أن يقول فيما نحن فيه كل شي طاهر أو حلال وطهارته أو حليته
مستمرة إلى زمان العلم بالخلاف وبهذا البيان ظهر فساد احتمال أن
يكون مفاد تلك الروايات القاعدة والاستصحاب معا أيضا لما ذكرنا
من تأخر الحكم ببقاء المستصحب عن نفس المستصحب فلا يمكن
جعل الحكم الظاهري الذي هو المستصحب مع الحكم ببقائه الذي
هو الاستصحاب بجعل واحد بل يدور مفادها بين أن يكون خصوص
الحكم الواقعي أو خصوص القاعدة المضروبة للشك في طهارة
الاشياء أو حليتها (ولكنه) من الواضح الجلي أن الغاية غاية للحكم
الظاهري، لما ذكرنا من أن الحكم الواقعي لا يمكن أن يكون مغيا بالعلم
(ففي) حد نفسه لو لم تكن هذه الغاية في البين كان مقتضى
ظاهر الصدر هو الحكم الواقعي (لان) الموضوع لهذين الحكمين -
أعني الطهارة والحلية - كان غير مقيد بكونه مشكوك الحكم بل كان
نفس الذات المرسلة (فلا محالة) يكون حكمها حكما واقعيا ولكن
بملاحظة الغاية وعدم صحة كونها غاية للحكم الواقعي ينقلب هذا
الظهور ويكون ظاهرا في الحكم الظاهري (فيكون) مفاد هذه الروايات
قاعدة الحل وقاعدة الطهارة دون غيرهما من المحتملات
الاخر.
هذا تمام الكلام في الاخبار العامة التي ذكروها لاعتبار الاستصحاب
مطلقا وهناك أخبار أخر تدل على حجية الاستصحاب في موارد
خاصة كقوله عليه السلام في موثقة ابن بكير (إذا استيقنت أنك
أحدثت فتوضأ وإياك أن تحدث وضوء أبدا حتى تستيقن أنك قد
أحدثت)
فدلالة هذه الموثقة على حجية الاستصحاب لا إشكال فيها لكن في
خصوص مورد اليقين بالوضوء والشك في الحدث (وأما استفادة)
كبرى كلية - بحيث تدل على حجية الاستصحاب في جميع الموارد -
ففي غاية الاشكال (وكذلك) رواية عبد الله بن سنان عن الصادق
عليه السلام في طهارة ثوب يستعيره
437

الذمي (قال: سأل أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر اني أعير الذمي
ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرد علي
فاغسله قبل أن أصلي فيه. فقال عليه السلام: صل فيه ولا تغسله من
أجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس
أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه) ولا شك في ظهورها في اعتبار
الاستصحاب في نفس المورد ولكن استفادة الكبرى منها لا يخلو
من نظر وإشكال. ويجد المتتبع كثيرا من الموارد من هذا القبيل (و
لكن) بحيث يكون حكم الشارع بإبقاء الحالة السابقة المتيقنة من
حيث الجري العملي في مورد خاص فمن الممكن أن يحدس الفقيه
من كثرة الموارد ان نظر الشارع إلى تلك الكبرى الارتكازية أي: قوله
عليه السلام (ولا ينقض اليقين بالشك).
وينبغي التنبيه على أمور
أما التنبيه الأول
الذي ذكره في الكفاية من لزوم فعلية الشك واليقين فقد تقدم شرحه
(الثاني)
لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون المستصحب محرزا
باليقين الوجداني أو بمحرز تعبدي كالامارات بل والأصول المحرزة
كالاستصحاب (بيان ذلك) أن في قوله عليه السلام لا تنقض اليقين
بالشك) وفي غيره من الاخبار التي بهذا المضمون أو قريب منه أخذ
اليقين بالشئ في الزمان السابق موضوعا للحكم بالبقاء في ظرف
الشك في البقاء بما هو طريق ومحرز لمتعلقه (وقد تقدم) في مبحث
القطع قيام الامارات والأصول العملية المحرزة مقام القطع الذي أخذ
في الموضوع على نحو الطريقية ففي الحقيقة معنى قوله عليه السلام
(لا تنقض اليقين بالشك) حرمة نقض ما أحرز ثبوته بالشك في بقائه
(فلا فرق) بين أن يحرز ثبوته بمحرز
438

وجداني كالقطع أو بمحرز تعبدي كالامارات والأصول المحرزة دون
غير المحرزة.
اللهم إلا أن يقال أن اليقين الذي أخذ في موضوع الاستصحاب ما أخذ
من حيث كونه صفة خاصة كذائية ولا من حيث كونه طريقا ومرآتا
ومحرزا لمتعلقه، بل من حيث تنجيز متعلقه ولزوم الجري العملي
على طبق المتيقن (فبناء) على هذا لا فرق بين الأصول العملية
المحرزة
وغير المحرزة في قيامها مقام اليقين الذي أخذ في موضوع
الاستصحاب لاشتراك الجميع في تنجيز متعلقاتها (ولا يتوهم) مما
ذكرنا
أن اليقين في قوله عليه السلام (لا تنقض اليقين بالشك) استعمل
بمعنى المحرز حتى تكون أعم من المحرز الوجداني والتعبدي، بل
اليقين
استعمل في تلك الجملة بمعناه المعروف أي:
الاعتقاد الجازم (غاية الامر) ان أخذ اليقين في موضوع حكم قد يكون
بنحو الصفتية - وان قلنا انه ما وجدنا في الأحكام الشرعية موردا
يكون القطع مأخوذا في موضوعه على نحو الصفتية - وقد يكون
مأخوذا على نحو الطريقية والكاشفية كما هو كذلك في باب
الاستصحاب (فإذا كان) الامر كذلك فيكون أدلة اعتبار الامارات و
الأصول المحرزة حاكمة على الاستصحاب (بمعنى) انه يوسع
موضوع الاستصحاب تعبدا، ولا يخفى ان ما قلنا من حكومة أدلة
اعتبار الامارات على اليقين الذي أخذ موضوعا في الاستصحاب
ناقضا
ومنقوضا هو بناء على أن يكون المجعول هو الطريقية بمعنى تتميم
الكشف في باب حجية الامارات كما هو المختار عندنا (وقد تقدم)
مفصلا في باب حجية الامارات.
وأما ما أفاده صاحب الكفاية (قده) من أن المجعول الشرعي هي
الملازمة بين ثبوت الشئ وبقائه إلى زمان العلم بالخلاف فالدليل
على
ثبوته ولو كانت هي الامارة دليل على بقائه من جهة أن الدليل على
أحد المتلازمين
439

دليل على ثبوت الاخر - ففيه وجوه من الاشكال (الأول) ان الملازمة
بين شيئين ولو كانت ظاهرية ليست قابلة للجعل التشريعي، لأنها
من الأمور التكوينية وحالها حال السببية والعلية (الثاني) ان ظاهر
دليل الاستصحاب هو الحكم ببقاء ما ثبت، فموضوع هذا الحكم في
لسان الدليل هو اليقين بثبوت شي والشك في بقائه (ولا يمكن)
وجود الحكم بدون وجود موضوعه، فبناء على ما ذكرنا من الحكومة
وقيام الامارة مقام القطع الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقية
(لا يبقى) إشكال في البين لوجود الموضوع تعبدا فيوجد حكمه -
أي: بقاء المتيقن - في ظرف الشك في بقائه تعبدا (وأما) عند من لا
يقول بقيام الامارات مقام القطع الذي أخذ في الموضوع ولو على
نحو الطريقية كصاحب الكفاية فالاشكال - أي: وجود الحكم بدون
الموضوع - يبقى على حاله والقول بأن المجعول هي الملازمة قد
عرفت حاله.
ثم إن ما ذكرنا من حكومة الامارات والأصول المحرزة على اليقين
المأخوذ موضوعا في دليل الاستصحاب ناقضا ومنقوضا انما يكون
بناء على تتميم الكشف (وأما بناء) على جعل المؤدى فلا يرد إشكال
المتقدم أصلا، لأنه لا فرق في المستصحب بين أن يتعلق اليقين بحكم
واقعي أو ظاهري كما هو معنى جعل المؤدى (نعم) هنا إشكال آخر -
في جريان الاستصحاب في مؤدى الاستصحاب بل في كل أصل
كان مغيا بالعلم بالخلاف كقاعدتي الحل والطهارة - وهو أنه قبل
حصول العلم بالخلاف نفس مؤدى ذلك الأصل موجود ولا حاجة
إلى
الاستصحاب (ويكون) من قبيل تحصيل الحاصل وبعد حصول
الغاية - أي: العلم بالخلاف - لا يبقى موضوع للاستصحاب (فلا
مجال)
لجريان الاستصحاب في جميعها.
(التنبيه الثالث) في استصحاب الكلي
المستصحب قد يكون شخصا
440

وقد يكون كليا والأول قد يكون شخصا معينا وقد يكون فردا مرددا
بين فردين أو أفراد من طبيعة واحدة أو طبيعتين أو طبائع
متعددة (والثاني) أيضا على أقسام: (الأول) أن يكون الشك في بقاء
الكلي من جهة الشك في بقاء ذلك الفرد الذي وجد الكلي في ضمنه
(الثاني) أن يكون الشك في بقائه من جهة تردد الفرد الذي وجد الكلي
في ضمنه بين ما هو مقطوع الارتفاع وبين ما هو مقطوع البقاء
(الثالث) أن يكون الشك في البقاء من جهة احتمال وجود فرد آخر من
الطبيعة مقارنا لزوال الفرد الأول أو كان معه قبل أن يزول، و
هذا القسم الثالث (قد يكون) بين الافراد المتواطئة (وقد يكون) بين
المراتب المشككة فهذه جملة استصحاب الشخصي والكلي.
فنقول: أما المستصحب إن كان شخصا معينا فلا إشكال في صحة
الاستصحاب (وأما) ان كان فردا مرددا فقد تقدم ان استصحاب الفرد
المردد لا يخلو عن إشكال. (وحاصل) الاشكال ان ذلك الفرد المردد
غير معلوم بعنوانه التفصيلي وإلا لم يكن مرددا (لان) العلم
بالعنوان التفصيلي ينافي الترديد فلا بد وأن يكون المعلوم عنوانا
إجماليا يلائم مع الترديد مثل عنوان الفرد المردد أو أحدهما و
أمثال ذلك (مما لا ينافي) الترديد ولا شك في أنه بعد إتيان أحد
الأطراف أو تلفه أو خروجه عن محل الابتلاء أو ما شابه ذلك (يقطع)
بعدم بقاء ذلك العنوان الاجمالي (فما هو محتمل) البقاء هو ذلك
الفرد الواقعي الذي هو معلوم في علم الله وهو لم يكن معلوما قط، و
ما
كان معلوما أي: ذلك العنوان الاجمالي لا يحتمل بقائه وغير باق قطعا
(فلا يجري) الاستصحاب لعدم تمامية أركانه أي: اليقين السابق و
الشك اللاحق، لا أن عدم جريانه لعدم الأثر لما هو المعلوم وهو
عنوان الفرد المردد، أو أحدهما أو ما شابه ذلك (لان) أمثال هذه
العناوين لم
441

يؤخذ موضوعا للأثر في لسان الأدلة، وما هو موضوع الأثر أي كل فرد
بعنوانه الخاص ليس مما علم سابقا كما قال به أستاذنا المحقق
(قده) فهو يقول بصحة الاستصحاب الفرد المردد في حد نفسه ومن
حيث المجرى وتمامية أركانه (ولكن) لا يجري لعدم الأثر لهذا
العنوان المردد، فلو فرضنا في مورد وجود أثر لذلك العنوان فلا مانع
من جريانه، مثلا لو كان زيد ابن بكر مرددا بين اثنين والدليل
قام على وجوب إكرام زيد بن بكر المذكور فما دام الاثنان موجودين
يجب إكرامهما جميعا من باب لزوم الاحتياط والقطع بالخروج
عن عهده التكليف القطعي فإذا فقد أحد الشخصين منهما (فبناء) على
ما اخترناه من عدم جريان استصحاب الفرد المردد في حد نفسه لا
بد وأن نتمسك في وجوب إكرام ذلك الشخص الباقي بقاعدة
الاشتغال (وبناء) على جريان الاستصحاب الفرد المردد يجب إكرامه
شرعا لا عقلا ومن باب المقدمة العلمية لو لم يكن مثبتا (ولكنه) من
أردى أنحاء الأصل المثبت، لان من لوازم بقاء زيد بن بكر المردد
بينهما أن يكون الفرد الباقي هو زيد بن بكر (نعم) لو كان الأثر لنفس
بقاء زيد بن بكر مثلا كما أنه لو نذر أن يعطي درهما للفقير لو
كان زيد بن بكر باقيا إلى زمان كذا (فبناء) على جريان استصحاب الفرد
المردد يرتب الأثر.
(لا يقال) زيد بن بكر إذا كان هو الفرد الذي فقد فغير باق قطعا، وإن
كان هو الفرد الباقي فباق قطعا فلا شك في البين (لان) هذا
الامر هو منشاء الشك في بقاء زيد بن بكر بعد فقد ذلك الاخر (نعم) في
هذا المثال إشكال آخر ومن تلك الجهة لا ينطبق على ما نحن فيه،
وهو أن الفرد المردد في هذا المثال معلوم بعنوانه الشخصي ثم الشك
في بقائه أيضا بعنوانه الشخصي (غاية الامر) الترديد في انطباق
ذلك العنوان الشخصي المتيقن الوجود المحتمل البقاء على كل واحد
من هذين الشخصين
442

فهذا المثال وأمثاله خارج عن محل الكلام. وما هو محل البحث هو
أن لا يكون الحكم الشرعي أو ما هو موضوعه معلوما إلا بعنوان الفرد
المردد أو عنوان أحدهما أو ما يشبه ذلك كالصلاة الواجبة في يوم
الجمعة في عصر الغيبة المرددة بين الظهر والجمعة، وكالجنس
المشتبه بين الكأسين (حيث) لا علم في المثالين إلا بعنوان الفرد
المردد بينهما وهو واجب في المثال الأول أو نجس في المثال الثاني

إن شئت قلت) ان أحدهما واجب في المثال الأول وأحدهما نجس
في المثال الثاني، ولا شك في أنه - بعد الاتيان بإحدى الصلاتين في
الأول أو تلف أحد المشتبهين في الثاني - يقطع بعدم بقاء كلا
المفهومين أعني: عنوان الفرد المردد وعنوان أحدهما الذين كان العلم
تعلق بهما.
وأما ان كان المستصحب كليا فقد عرفت أن له أقسام:
(الأول)
أن يكون الشك في بقائه من جهة الشك في بقاء الفرد الذي تحقق
الكلي في ضمنه، ولا شك في أنه في هذا القسم يصح استصحاب
الفرد و
ترتيب آثاره عليه وكذلك استصحاب الكلي وترتيب آثاره عليه و
ذلك لتمامية أركان الاستصحاب في كليهما
(الثاني)
أن يكون الشك في بقائه من جهة دورانه بين ما هو باق قطعا وبين ما
هو مرتفع قطعا (وذلك) كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر،
فبعد أن توضاء يعلم أنه لو كان أصغر ارتفع قطعا ولو كان أكبر باق قطعا و
يجري الاستصحاب في هذا القسم أيضا إن كان للكلي أثر
شرعي كالمثال المذكور (فان) الحدث الكلي الجامع بين الأصغر و
الأكبر أثره عدم جواز مس المصحف إذ (لا يمسه إلا المطهرون) إذ
أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشك اللاحق فيه تامة وذلك
من جهة أن الكلي يوجد بوجود الفرد فالحدث الجامع بين الأصغر و
الأكبر يوجد بوجود أي واحد من الأكبر والأصغر، والمفروض وجود
أحدهما قطعا فوجود الحدث الجامع قطعي (وحيث)
443

المحتمل أن يكون وجوده في ضمن الفرد الزائل فقهرا يزول بزواله، و
من المحتمل أن يكون وجوده في ضمن الفرد الباقي فهو باق
فالنتيجة الشك في بقائه، فيتم أركان الاستصحاب من اليقين السابق و
الشك اللاحق (وأشكل) على هذا الاستصحاب بوجوه:
(الأول) أن وجود الكلي الطبيعي عين وجود الفرد لا أن له وجود غير
وجود الافراد، بل بوجود كل فرد له يتحقق وجوده فله وجودات
بعدد وجودات الافراد، ولذلك قالوا نسبة الكلي إلى أفراده نسبة الابأ
إلى الابناء لا نسبة أب واحد إلى أبنائه المتعددة (فبناء) على هذا
وجود طبيعة الحدث في ضمن الحدث الأصغر مثلا غير وجودها في
ضمن الحدث الأكبر، ولا شك في أن ما هو موضوع ومنشأ للأثر هو
وجود الطبائع لا مفاهيمها (وحيث) أن المستصحب لا بد وأن يكون
ما هو موضوع للأثر فاستصحاب الكلي لا بد وأن يكون بلحاظه (و
قد عرفت) أن وجوده دائر بين وجودين متباينين، فيكون حاله حال
استصحاب الفرد المردد (وبعبارة أخرى) الكلي بناء على هذا
مفهوم انتزاعي ليس له أثر ومنشأ انتزاعه الذي يكون منشأ للآثار تلك
الوجودات المتعددة المتباينة، والاستصحاب لا بد وأن يكون
بلحاظ تلك الوجودات المتباينة فليس اليقين بوجود في البين، لان كل
واحد من الوجودين أو الوجودات مشكوك الحدوث.
وفيه ان هذا الاشكال وارد ولا مناص منه لو قلنا بأصالة الوجود وأنها
حقائق بسيطة متباينة بتمام ذواتها البسيطة لعين ما ذكر في
الاشكال (وأما لو قلنا) بأنه حقيقة واحدة ذات مراتب متفاوتة، فكل
نوع من الأنواع وإن كان له وجودات متعددة حسب تعدد وجودات
الافراد لكن بين تلك الوجودات المتعددة وحدة سنخية واقعية
خارجية لا يضر بها التعدد وهذه الوحدة هي التي قلنا أنها الموضوع له
لألفاظ العبادات
444

في باب الصحيح والاعم، وهذه الوحدة هي التي يعبر عنها بالوجود
السعي للطبيعة (وإلا) فكل وجود شخص والتشخص مع سعة
الانطباق متنافيان (ولعل) هذا مراد رجل الهمداني الذي حكى عنه
الشيخ أبو علي ابن سينا أنه كان يقول بوجود واحد للكلي الطبيعي و
مع ذلك موجود في الأمكنة المتعددة ومتصف بالصفات المتضادة (و
إلا) لا ينبغي أن يسند هذا القول إلى عاقل فضلا عمن هو من أهل
الفضل والعلم.
الثاني من وجوه الاشكال في هذا الاستصحاب أن الشك في بقاء
الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الباقي فإذا ارتفع الشك عن
حدوث الفرد الباقي تعبدا باستصحاب عدم حدوثه يعلم بعدم بقاء
الكلي تعبدا (فلا شك) في عالم الاعتبار التشريعي حتى يستصحب
بقاء الكلي، وذلك لحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي (و
فيه أولا) منع كونه مسببا عن الشك في حدوث الفرد الباقي بل الشك
في بقاء الكلي وارتفاعه مسبب عن أن الحادث المعلوم حدوثه هل
هو الفرد الزائل حتى يكون الكلي معلوم الارتفاع أو هو الفرد الباقي
حتى يكون معلوم البقاء؟ وحيث أنه كلا الامرين غير معلوم فالبقاء و
الارتفاع كلاهما في جانب الكلي غير معلوم (فيكون) محتمل البقاء
والارتفاع جميعا ولا أصل لتعيين ان الحادث المعلوم أي واحد منهما
(وثانيا) على فرض التسليم تكون السببية والمسببية في المقام
عقليا وفي باب حكومة الأصل السببي على المسببي يجب أن يكون
المسبب من آثار الشرعية للسبب كما سيأتي تفصيله إن شاء الله
تعالى (وثالثا) معارضة أصالة عدم حدوث الفرد الباقي بأصالة عدم
حدوث الفرد الزائل إذا كان له أثر شرعي بعد تلفه وزواله كما هو
المفروض فلا يرد عليه بعدم مجال للاستصحاب في الفرد الزائل بعد
زواله وخروجه عن محل الابتلاء (وان أجاب) عن هذا الاشكال
شيخنا الأستاذ (قده) بتساقط الأصول
445

بالمعارضة قبل الخروج عن محل الابتلاء (لكن) ربما يشكل بأنه هذا
فيما إذا حصل العلم الاجمالي قبل الخروج عن محل الابتلاء، وأما لو
حصل بعد الخروج عن محل الابتلاء فليس علم إجمالي قبل الخروج
حتى يتعارض الأصول فيتساقط (لكن) هذا الاشكال لا يرد عليه لأنه
في الغالب يكون حصول العلم الاجمالي قبل الخروج عن محل
الابتلاء.
الثالث من وجوه الاشكال معارضة استصحاب وجود الكلي وبقائه
باستصحاب عدمه في ضمن الفرد الطويل، فإذا ضم إحراز عدمه
التعبدي بهذا الاستصحاب إلى إحراز عدمه الوجداني في ضمن الفرد
القصير يحصل إحراز عدمه مطلقا (غاية الامر) إحراز العدم المركب
من الاحراز الوجداني والتعبدي، فيكون حاله حال الموضوعات
المركبة التي يحرز بعضها بالأصل وبعضها بالوجدان فيتعارض
الأصلان فيتساقطان (وفيه) أن أصالة عدمه في ضمن الفرد الطويل
معارض بأصالة عدمه في ضمن الفرد القصير حال حدوث أحدهما و
العلم به (وقد تقدم) شرحه في ضمن الاشكال الثاني والجواب عنه.
ثم إن هاهنا شبهة منقولة عن السيد الصدر (قده) المعروفة بالشبهة
العبائية ربما تعد إشكالا على استصحاب الكلي وهي أنه لو علم
بنجاسة أحد جانبي عبأة من الأعلى أو الأسفل فطهر جانبا معينا
كجانب الأسفل مثلا (فيصير) بقاء النجاسة في العبأة مشكوكا
لاحتمال أن تكون النجاسة المعلومة إجمالا في الطرف الذي طهره
فأزالها وما بقيت (فبناء) على صحة جريان الاستصحاب في هذا
القسم
من استصحاب الكلي يجري استصحاب نجاسة العبأة، ولازمه
نجاسة ملاقى الجانبين المطهر ومشكوك النجاسة دون ملاقى
مشكوك
النجاسة فقط بناء على ما هو المشهور وما هو الصحيح كما تقدم عدم
تنجس ملاقى بعض أطراف ما علم إجمالا نجاسته (ولازم) هذا
446

الكلام ان انضمام الطاهر إلى ذلك الجانب المشكوك الذي لم يطهره
موجبا لنجاسة ملاقى المشكوك وهذا غريب ومنشأ هذه الغرابة هو
جريان الاستصحاب في هذا القسم من الكلي (لان) ملاقي مستصحب
النجاسة مثل ملاقى معلوم النجاسة.
وأجيب عن هذه الشبهة بوجوه: (الأول) ما ذكره شيخنا الأستاذ
(قدس سره) من أن استصحاب الكلي انما هو فيما إذا كان نفس الكلي
بهويته وحقيقته مرددا بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع
(وأما) إذا كان الاجمال والترديد في محل المتيقن فهذا لا
يكون من استصحاب الكلي بل يكون من قبيل استصحاب الفرد
المردد الذي قلنا أنه لا يجري، وذلك من جهة أن نجاسة أحد الجانبين
مفهوم مردد فبعد تطهير أحد الجانبين نقطع بارتفاع ذلك المفهوم (فلا
يبقى) مجال للاستصحاب وهذا الكلام بظاهره لا يخلو من
الخلل، لان الاجمال والترديد في محل النجاسة موجب للشك في
بقاء النجاسة المعلومة بعد تطهير أحد الجانبين فيتم أركان
الاستصحاب وليس هناك دليل على أن الكلي في هذا القسم يجب أن
يكون بهويته وحقيقته مجهولا و مرددا بين ما هو مقطوع الارتفاع
وما هو مقطوع البقاء (الثاني) ان هذا الاستصحاب بالنسبة إلى وجوب
الاجتناب عن ملاقى الجانبين ونجاسته مثبت (فلا يجري).
(بيان ذلك) ان استصحاب نجاسة كل واحد من الجانبين بمفاد كان
الناقصة ليس لها حالة سابقة، فلا بد أن يكون الاستصحاب بلحاظ
مفاد كان التامة أي: بقاء وجود النجاسة ولازمه عقلا كون أحد الجانبين
الذي لم يطهر نجسا فينجس ملاقيه (فنجاسة) ملاقى ذلك
الطرف الذي لم يطهر من آثار نجاسة ذلك الطرف، ونجاسته من
اللوازم العقلية لبقاء نجاسة العبأة بالاستصحاب (وفيه) أن
استصحاب نجاسة العبأة بمفاد كان الناقصة له
447

حالة سابقة وهذا المقدار يكفي في نجاسة ملاقى الجانبين بلا احتياج
إلى إثبات نجاسة كل واحد من الطرفين (الثالث) ان المعلوم
بالاجمال عبارة عن تلك القطعة الشخصية المرددة بين كونها في
جانب الاعلى أو في جانب الأسفل (ولا شك) في أن تلك القطعة
الشخصية غير معلوم بالتفصيل بل تعلق العلم بها بعنوان أنها مرددة
بين كونها في جانب الاعلى والأسفل وبعد تطهير أحد الجانبين
يحصل القطع بارتفاع نجاسة القطعة المرددة، بل لا يبقى إلا احتمال
نجاسة الطرف الذي لم يطهر وهذا من أول الأول كان مشكوكا و
لم يكن متيقنا قط (وبعبارة أخرى) هذا الاستصحاب عين استصحاب
الفرد المردد الذي قلنا انه لا يجري (فقد ظهر) مما ذكرنا ان
الشبهة العبائية لا أساس لها لعدم جريان الاستصحاب فيها.
(الثالث) من أقسام استصحاب الكلي
ما يكون منشأ الشك في بقاء الكلي احتمال قيام فرد آخر من مصاديق
الكلي مقام الفرد الزائل، وهذا على ثلاثة أقسام: (الأول) أن يكون
الفرد الذي يحتمل قيامه مقام الزائل معه من أول الامر (الثاني) أن
يكون حدوثه مقارنا لزوال ذلك الفرد الذي وجد الكلي في ضمنه
(الثالث) أن تكون مرتبة من مراتب الزائل لا فرد مباين معه وإن كان
شريكا معه في نوعه وهذا أيضا (تارة) يكون مباينا عرفا مع
الزائل (وأخرى) يعد عرفا من مراتب وجود الزائل (أما القسم) الأول و
الثاني فلا فرق بينهما في عدم جريان استصحاب الكلي في
كليهما، وذلك من جهة عدم كون المشكوك عين المتيقن في ضمنهما
(لان) المتيقن عبارة عن وجود الكلي في ضمن فرد والمشكوك
وجوده في ضمن فرد آخر سواء وجد ذلك الفرد الاخر مقارنا لوجود
الفرد الذي وجد الكلي في ضمنه أو وجد في زمان ارتفاع ذلك
الفرد، وعلى كل حال التفصيل بين الصورتين لا وجه له، لاشتراكهما
في أن المشكوك وجود الكلي في
448

ضمن فرد آخر غير الوجود المتيقن (فظهر) أن المحتمل والمشكوك
غير ما هو المتيقن وفي جريان الاستصحاب لا بد من وحدة
القضيتين المشكوكة والمتيقنة.
(ان قلت) ما الفرق بين هاتين الصورتين من القسم الثالث مع القسم
الثاني؟ حيث قلت إن الوحدة السنخية محفوظة سواء أ كان الحادث
هو
الفرد الطويل أو كان هو الفرد القصير في القضية المتيقنة أي: الحادث
أي واحد منهما كان يكون الكلي موجودا (قلت) وحيث أنه من
المحتمل أن يكون الحادث هو الفرد الطويل الباقي فيحتمل أن يكون
هناك عين ما تيقنت بوجوده باقيا بخلاف هاتين الصورتين فان
عدم بقاء ما تيقنت بوجوده معلوم (نعم) يحتمل وجودا آخر حدث
الكلي.
(وبعبارة أخرى) اليقين بوجود الكلي حاصل بالضرورة ويحتمل بقاء
عين ما تيقن به لاحتمال حدوث فرد الباقي (وأما) في هاتين
الصورتين فالمتيقن هو الموجود المحدود بحد الزيدية مثلا و
المشكوك هو الوجود المحدود بحد العمرية مثلا وهما متباينان، وإن
كان سنخ الوجود فيهما واحد (ولكن) يخرج عن الوحدة بواسطة
هذين الحدين وتطوره بطورين، فما هو المتيقن هو الوجود المتطور
بطور وما هو المشكوك هو الوجود المتطور بطور آخر متباينان، و
وحدة سنخ الوجودين لا ينافي مع التباين، والتنافي الآتي من قبل
الحدود والتطورات. والقول بوحدة الوجود بهذا المعنى - أي: حتى
مع محدوديته بحدود مختلفة وتطوره بأطوار متعددة - من
الأباطيل والترهات التي صدرت من الجهال (بل ينبغي) أن يطلق
عليهم كلمة المجانين، فإذا وجد الكلي في ضمن فرد ثم ارتفع ذلك
الفرد وكان هناك فرد آخر من مصاديق ذلك الكلي معه أو وجد حين
ارتفاع ذلك الفرد الذي كان الكلي في ضمنه متيقن الوجود،
فوجود الكلي في ضمن هذا الفرد الاخر المقارن معه وجودا أو حين
ارتفاعه غير وجوده الأولى. هذا فيما إذا كان الفرد الاخر متيقن
449

الوجود (وكذلك) فيما إذا احتمل وجود فرد آخر مقارنا معه أو من
حين ارتفاعه، فوجود الكلي في ضمنه يكون وجودا آخر
(فالمشكوك) وجود آخر لابقاء الأول فلا يجري الاستصحاب في
هاتين الصورتين.
وأما القسم الثالث أي: ما كان محتمل البقاء مرتبة من مراتب وجود
الكلي الزائل، وقلنا هذا أيضا على قسمين: (فتارة) يعد مباينا مع
الزائل (وأخرى) يعد من مراتب وجوده (أما القسم الأول) فلا يجري
الاستصحاب لما سيأتي من لزوم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة
عرفا والمفروض أنهما متباينان عرفا وان كانتا واحدة بالدقة العقلية
(لان) المناط الوحدة العرفية ولا اعتبار بالوحدة العقلية الدقية
(وأما في القسم الثاني) أي: فيما إذا كان الشك في بقاء مرتبة من
المستصحب بعد القطع بارتفاعه بحيث تعد تلك المرتبة عند العرف
من
مراتب وجود المستصحب (فلا مانع) من جريان الاستصحاب لكفاية
الوحدة العرفية كما سيأتي.
(تذييل)
وهو أن الشيخ الأنصاري (قده) في هذا المقام تعرض لكلام الفاضل
التوني (حيث) أورد على المشهور في حكمهم بالحرمة والنجاسة في
الحيوان الذي شك في وقوع التذكية عليه - من غير جهة الشك في
قابليته لها - بأصالة عدم التذكية بمنع جريان أصالة عدم التذكية
لوجهين:
(الأول) ان موضوع هذين الحكمين أعني الحرمة والنجاسة في لسان
الأدلة هي الميتة، وهي عبارة عن: الموت حتف الانف فهي ضد
للتذكية، وإثبات أحد الضدين باستصحاب عدم الاخر يكون من
الأصل المثبت (وفيه أولا) أن الميتة ليست عبارة عن الموت حتف
الانف
بل هي عبارة في لسان الشرع عن غير المذكي (وإن أبيت) إلا عن
كونها عبارة عن الموت حتف الانف لا عن غير المذكى موضوعا
يشمل مطلق غير المذكى حكما ولو لم يكن موته حتف الانف بل كان
مذبوحا على غير الوجه الشرعي، أي:
450

يكون أكله حراما ويكون نجسا (فاستصحاب) عدم كونه مذكى يكفي
لاثبات هذين الحكمين من دون الاحتياج إلى إثبات عنوان الميتة،
فقوله تعالى (إلا ما ذكيتم) تدل دلالة واضحة على أنه لا حلية في غير
مورد التذكية، فالحرمة ليست مترتبة على عنوان وجودي أي: عنوان
الميتة فقط بل موضوعه عنوان غير المذكى شرعا (ولذلك) لو حصل
العلم بأنه مذبوح على غير وجه الشرعي يحصل العلم بحرمته و
نجاسته مع العلم بعدم موته حتف أنفه.
(الثاني) من الوجهين لعدم صحة ثبوت الحرمة والنجاسة بأصالة عدم
التذكية، ان الموضوع لهذين الحكمين وان كان هو عدم التذكية (و
لكن) لا مطلقا بل عدم التذكية في حال زهوق الروح، وإلا يلزم أن
يكون الحيوان المأكول في حال حياته نجسا لعدم كونه مذكى في
تلك الحال قطعا (فإذا كان) الامر كذلك فليس لما هو موضوع الحكم
حالة سابقة، لان عدم التذكية مقيدا بكونه حال زهوق الروح محال
أن يتحقق حال الحياة، فعدم التذكية الجامع بين كونه في حال الحياة و
بين كونه حال زهوق الروح له فردان (فاستصحاب) ذلك الجامع
بواسطة احتمال وجود فرد آخر منه بعد انعدام الفرد الأول (أولا)
يكون من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي الذي قلنا بعدم
صحته وعدم جريانه (وثانيا) أن الأثر للفرد المحتمل الوجود بعد
انعدام الفرد الأول، وإلا فنفس الجامع لا أثر له واستصحاب الجامع
والكلي لترتيب أثر الفرد يكون من الأصل المثبت، فلو سلمنا صحة
جريانه لو كان له أثر لا يجري لأجل هذه الجهة.
وفيه أن موضوع الحرمة والنجاسة وإن كان هو عدم التذكية في حال
زهوق الروح (فيكون) الموضوع مركبا من جزين أحدهما عدم
التذكية والاخر زهوق الروح، ولكن لا بنحو يكون الأخير - أي: زهوق
الروح -
451

من نعوت الأول أي: عدم التذكية ومن حالاته ومشخصاته، حتى
يكون لعدم التذكية فردان ويكون أحدهما موضوعا للأثر دون الفرد
الاخر، كما قرر في الاشكال بل هما مجتمعان موضوعات للأثر بدون
أن يكون لوصف الاجتماع أيضا تأثير في الموضوعية. ومن
البديهي أن الموضوع المركب يمكن إحراز أحد جزئيه بالأصل و
الاخر بالوجدان كما في محل الكلام (نعم) ادعى شيخنا الأستاذ (قده)
أن الموضوع المركب إذا كان من قبيل العرض ومحله يكون العرض
بما هو نعت لمحله وبمفاد كان الناقصة دخيل في الموضوع
فاستصحاب وجود المحمولي لذلك العرض أو عدمه المحمولي لا
يثبت ما هو دخيل في الموضوع إلا على القول بصحة الأصل المثبت

قد حققنا) ما هو الحق في هذا الكلام في الجز الأول في مبحث العام
والخاص في أصالة عدم القرشية لتنقيح الموضوع في العام، وعلى
أي حال لا ربط له بالمقام (لان) زهوق الروح ليس مع عدم التذكية من
قبيل العرض ومحله بل هما عرضان لمحل واحد وهو ذلك
الحيوان فإشكال فاضل التوني - على هذا الاستصحاب - لا أساس له
كما أنه ظهر مما ذكرنا ان هذا الاستصحاب ليس من القسم الثاني
من القسم الثالث من استصحاب الكلي كما توهم.
(التنبيه الرابع) في جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية غير القارة
(وربما يتوهم) عدم صحة استصحابها بتوهم ان الاستصحاب - بناء
على ما تقدم تعريفه واستفادته من دليله - عبارة عن الحكم ببقاء
ما شك في بقائه والأمور المتصرمة غير القارة ليست قابلة للبقاء، ولا
يوجد جز منها إلا بعد انعدام الجز السابق عليه ففي نفس
الزمان والزمانيات - المنصرمة المتدرجة في الوجود كالتكلم والحركة
- لا يبقى مجال لجريان الاستصحاب فيها لعدم تحقق موضوع
الاستصحاب فيها وهو الشك في البقاء (لان)
452

عدم البقاء فيها معلوم ولكن الحق مع ذلك كله جريان الاستصحاب و
صحته فيها (بيان ذلك) أن مورد الاستصحاب قد يكون نفس
الزمان - كاليوم والليل وشهر رمضان أو شهر آخر - وقد يكون من
الزمانيات المتصرمة (فلا بد) من التكلم في مقامين:
(المقام الأول)
في نفس الزمان والحق جريان الاستصحاب - في نفس العناوين التي
هي أسماء لقطعات الزمان كاليوم والليل والأسبوع والشهر و
السنة وأمثال ذلك - وذلك لتمامية أركانه من اليقين بوجودها و
الشك في بقائها عرفا بل حقيقة (وذلك) من جهة أن انطباق هذه
العناوين على قطعة من الزمان توجد بوجود أول جز منه حقيقة و
يبقى إلى وجود آخر جز منه بالدقة العقلية لا المسامحة العرفية، و
ذلك من جهة أن الموجود المتصرم غير القار حيث أن نحو وجوده هو
أن يكون متدرج الوجود - بمعنى أنه يوجد شيئا فشيئا (ولا
يمكن) أن يوجد دفعة وإلا يلزم الخلف وأن يكون قارا لا غير قار -
فهذا القسم من الوجود في هوية ذاته هكذا، ومن المعلوم أنه ليس
للزمان زمان حتى يقال معنى بقاء الشئ هو وجوده في الزمان الثاني
بعد وجود مجموعه وتمام أجزائه في الزمان الأول، بل المراد من
البقاء في هذه القطعات من الزمان استمرار وجودها إلى وجود آخر
جز منه (ولا شك) في أن وجود النهار مثلا مستمرا إلى آخر جز
منه المتصل بغروب الشمس بالدقة العقلية (وبعبارة أخرى) استمرار
الوجود في قطعات الزمان هو عدم تماميتها وعدم انتهائها
فقياس الزمان - مع أنه لا زمان له وإلا يتسلسل بالزمانيات القارة - في
غير محله (وإن أبيت) إلا عن عدم صدق البقاء في الموجودات
غير القارة بالدقة العقلية، فمن الواضح المعلوم أن في نظر العرف
وجود هذه القطعات بوجود أول جز منها وبعد ذلك يحكمون
ببقائها إلى وجود آخر جز منها وانتهائها وسيأتي ان وحدة القضيتين
453

المتيقنة والمشكوكة - التي لا بد منها في جريان الاستصحاب وفي
صدق نقض اليقين بالشك - تكون بنظر العرف لا بالدقة العقلية.
هذا كله فيما إذا كان الاستصحاب بمفاد كان التامة (وأما إذا كان) بمفاد
كان الناقصة كما إذا أراد استصحاب نهارية هذا الزمان
المشكوك النهارية مثلا فهذا ليس له حالة سابقة متيقنة قطعا (لأنه) من
أول حدوثه مشكوك النهارية، وكذلك استصحاب عدم كونه من
النهار أيضا لا يجري لعدم الحالة السابقة للعدم النعتي (وأما إثبات) أنه
من النهار - أو ليس له باستصحاب الوجود أو العدم بمفاد كان
أو ليس التامتين - فمن الأصل المثبت كما هو واضح. ومن هنا يتولد
إشكال وهو أن استصحاب نفس هذه القطعات من الزمان على
تقدير صحته وجريانه قليل الفائدة (لان) الموقتات لا بد من وقوعها
في أوقاتها واستصحاب بقاء ذلك الزمان بمفاد كان التامة لا
يثبت وقوعها في ذلك الزمان إلا بناء على القول بالأصل المثبت.
نعم لو كان مفاد الاستصحاب نهارية هذا الزمان المشكوك مثلا فكان
يصح (أن يقال) أن وقوع الفعل الواجب الموقت في هذا الزمان
الذي حكم الشارع بأنه نهار مثلا وجداني ولا يحتاج إلى تعبد آخر (و
لكنك عرفت) أن كون هذا الزمان المشكوك النهارية مثلا نهارا
من اللوازم العقلية لبقاء النهار إلى ذلك الحين (فيكون) من الأصل
المثبت (وأما استصحاب) نهارية هذا الزمان المشكوك - بمفاد كان
الناقصة - فليس له حالة سابقة (لأنه) مشكوك أزلا بل وأبدا ففي مقام
الامتثال - بناء على أن يكون وقوع الواجب في زمان كذا قيدا له -
لا يمكن القطع بالامتثال والفراغ لا وجدانا ولا تعبدا (فلا مناص) إلا
أن يقال أن المراد من الواجب الموقت صدور الفعل عن المكلف عند
وجود الوقت الكذائي، لا أن الوقت الكذائي
454

من قيود الواجب ومن نعوته (وبعبارة أخرى) اجتماعهما في الوجود
يكفي من دون أن يكون بينهما أي بين الواجب وذلك الزمان
ارتباط الظرفية والمظروفية (ولا يخفى) أن هذا الاشكال في مقام
الامتثال وإلا ففي مقام إثبات الوجوب المشروط بزمان كشهر
رمضان مثلا فلا إشكال في إثباته باستصحاب بقاء رمضان أو بقاء النهار
بعد الفراغ عن كونه رمضان مثلا كما أن باستصحاب العدم
في المثالين وما يشبههما بمفاد ليس التامة يثبت عدم الوجوب.
ثم إن ما ذكره أستاذنا المحقق (قده) - من إجراء استصحاب التعليقي
في المقام بأن يقال هذا العمل الشخصي الموجود في هذا الزمان
المشكوك نهاريته مثلا لو كان موجودا قبل هذا الزمان المشكوك
نهاريته مثلا لكان صلاتا أو إمساكا في النهار والآن كما كان - لا
يخلو من غرابة (لأنه) (أولا) سيأتي الكلام في استصحاب التعليقي و
ما فيه من الاشكال (وثانيا) على فرض صحته، ذلك فيما إذا كان
الحكم الشرعي المتعلق على أمر معلوم الحصول في الزمان الأول و
يكون ذلك الحكم المعلق مشكوك الحصول في الزمان الثاني لتغير
في جانب الموضوع كحرمة شرب العصير العنبي لو غلى فيشك في
بقاء هذا الحكم المعلق بواسطة عروض الجفاف على العنب و
صيرورته زبيبا (وفيما نحن فيه) ليس الامر كذلك، لان كون الصلاة أو
الصوم في النهار مثلا ليس حكما شرعيا معلقا على أمر، بل هو
موضوع خارجي كان في الزمان السابق قبل هذا الزمان المشكوك
نهاريته معلوم الحصول على تقدير الوجود وفي نفس زمان
المشكوك مشكوك الحصول وليس من قبيل الشك في بقاء حكم
شرعي أو موضوع ذي حكم حتى يستصحب.
(المقام الثاني) في الزمانيات غير القارة
أو القارة المقيدة بالزمان فيصير بواسطة قيده غير قار بالعرض (فالأول)
كالحركة والتكلم وسيلان
455

الماء من القنوات والعيون في الجداول والأنهار وسيلان دم الحيض و
أمثال ذلك (والثاني) كالوقوف في عرفات أو المشعر مقيدا
بكونه في زمان كذا - أي من أول زوال يوم عرفة إلى الغروب في
عرفات وبين طلوع الفجر وطلوع الشمس من يوم العيد في مشعر و
أمثال ذلك - من الافعال المقيدة بالزمان التي هي متعلقات للتكاليف
فعلا أو تركا، ففي هذا المقام الثاني بحثان (الأول) في الزمانيات
غير القارة أعني الحوادث والموجودات التي لا تجتمع أجزائها في
الوجود وما لم ينعدم جز منها لا يوجد جز آخر (والثاني)
الموجودات القارة المقيدة بالزمان (فالأول) حالها حال نفس الزمان و
لا فرق بينهما، إذ الزمان أيضا من الوجودات غير القارة ولعل
وجه إفراد الزمان بالبحث عنه هو أن الزمان واحد شخصي دائم لا
يتعدد بتعدد الدواعي والاغراض كالتكلم أو اختلاف المبادئ والعلل
كسيلان الماء وسيلان دم الحيض وهكذا سائر جهات الاختلاف
الواردة عليها (وأما) تعدد الزمان فليس إلا بصرف الاعتبار والتقطيع
فالاشكال الذي كان في استصحاب الزمان - من عدم صدق الشك في
البقاء - جار بعينه فيما نحن فيه والجواب عين الجواب (بأن يقال)
مثلا الحيض الذي أقله ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام هوية شخصية
متدرجة الوجود يوجد بوجود أول جز منه ويبقى بقاء حقيقيا إلى
وجود آخر جز منه (وإن أبيت) ذلك وقلت إن البقاء الحقيقي لا
يتصور في الموجودات غير القارة (لأنه) ما لم ينعدم الجز السابق لا
يوجد الجز اللاحق ومعنى بقاء الشئ هو وجود الشئ بتمامه و
كماله في الان الثاني بعد وجوده بتمامه وكماله في الان الذي قبل
ذلك
الان، ومثل هذا المعنى غير معقول في الأمور غير القارة (وأما) مسألة
الحركة التوسطية والآن السيال في الزمان فأجنبية عن محل
كلامنا، لان الحيض مثلا الذي هو أحد الموارد المهمة في استصحاب
الزمانيات غير القارة عبارة من مجموع جريان الدم في المدة التي
456

أقلها ثلاثة أيام وأكثرها عشرة أيام لا أن يكون عبارة عن السيلان بين
المبدأ والمنتهى، وبهذا المعنى يكون أمرا ثابتا قارا يتصور له
القطع بالبقاء (تارة) والشك فيه (أخرى) وعلى كل حال أن أبيت عن
صدق البقاء الحقيقي فلا إشكال في صدق البقاء عرفا إما قطعا و
إما احتمالا (فالعرف) بعد ما تيقن بوجود الحيض مثلا فما دام متيقنا لا
يحتمل الانقطاع يقول بأنه قاطع بالبقاء (وأما) إذا احتمل
الانقطاع يقول بأنه شاك في البقاء، وحيث أن المدار في جريان
الاستصحاب هو تحقق موضوعه - أي: كون المتيقن سابقا مشكوك
البقاء في الزمان اللاحق - بنظر العرف كما سيأتي تحقيقه فلا مانع من
جريان الاستصحاب في هذه الأمور غير القارة سواء فيه الزمان
والزمانيات غير القارة.
ثم إن الشك في بقاء هذه الأمور قد يكون من جهة الشك في
استعدادها للبقاء - من دون احتمال وجود عائق ومانع لاستمرار
وجودها
فيكون من قبيل الشك في المقتضى فكل على مبناه وبناء على ما
اخترناه من عدم صحة جريانه في مورد الشك في المقتضى فلا يجري
في هذه الصورة - وقد يكون من جهة احتمال حدوث حادث يكون
مانعا من استمرار وجود ذلك الامر غير القار (كما أنه) إذا احتمل
حدوث مانع عن استمرار تكلمه في مقام تدريسه أو إلقاء خطاباته مع
العلم بوجود الداعي على الاستمرار أو احتمل انهدام جدار القناة أو
وقوع صخرة في العين كانا مانعين عن استمرار سيلان الماء مع العلم
باستعداد القناة والعين للسيلان، أو احتمل وجود مرض حادث
يمنع عن سيلان دم الحيض مع العلم باستعداد الرحم لاستمرار سيلان
الدم وأمثال ذلك (ففي جميع) ذلك يجري الاستصحاب لتمامية
أركانه من اليقين بالشئ السابق والشك في بقائه في الزمان اللاحق إما
حقيقة أو عرفا، وقد يكون الشك فيها من جهة احتمال حدوث
فرد آخر من تلك الطبيعة مقارنا
457

مع زوال الفرد الأول أو من أول الامر (فالأول) كما إذا حصل القطع
بارتفاع الداعي الأول على التكلم ولكن يحتمل حدوث داع آخر
حين ارتفاع الداعي الأول وزواله (والثاني) كما إذا يحتمل أن يكون
من الأول داع آخر مع ذلك الداعي الذي زال فيكون الكلام مستمرا
لأجل احتمال ذلك الداعي الاخر (فان قلنا) ان التكلم أو الحركة و
أمثالهما يتبدل من فرد إلى فرد آخر ومن شخص إلى شخص آخر
باختلاف الدواعي والاعراض.
(وبعبارة أخرى) تعدد الأسباب يوجب تعدد المسببات، فيكون هذا
الاستصحاب في الفرض الأول من هذه الصورة من القسم الأول من
القسم الثالث من استصحاب الكلي، وفي الفرض الثاني من القسم
الثاني من القسم الثالث منه (وأما إن قلنا) ان اختلاف الدواعي و
الأسباب لا يضر بوحدتها الشخصية - بمعنى أن حدوث هذا الشخص
بسبب وداع وبقائه بسبب آخر (ولا يبعد) أن يكون بالنظر
العرفي بقاء ذلك الشخص لا انعدام ذلك الشخص وحدوث شخص
آخر وإن كان بالدقة العقلية كذلك (فبناء) على النظر العرفي يكون
من قبيل استصحاب الشخص وليس من قبيل استصحاب الكلي أصلا
- فلا مانع من جريانه في هاتين الصورتين، وبناء على أن يكون من
قبيل استصحاب الكلي من القسم الثالث يمكن أن يكون من القسم
الثالث من القسم الثالث منه بأن يكون ما هو مقطوع الارتفاع مرتبة
منه مع احتمال قيام مرتبة أخرى ضعيفة أو شديدة مقامه، مثلا إذا علم
بارتفاع الحركة السريعة أو التكلم السريع أو السيلان السريع في
الدم أو الماء لارتفاع مبدئه ولكن يحتمل قيام مرتبة ضعيفة من هذه
المذكورات أو أمثالها مقام المرتبة الزائلة أو بالعكس أي: إذا علم
بارتفاع المرتبة الضعيفة من هذه المذكورات وأمثالها لارتفاع مبدأ تلك
المرتبة الضعيفة (ولكن) يحتمل
458

قيام مرتبة قوية منها مقام الزائلة لاحتمال وجود مبدئها فمع مساعدة
العرف - وإذعانه بوحدة القضية المشكوكة والمتيقنة - لا مانع
من جريان الاستصحاب في هذا القسم أيضا (والصورة الثانية) أي:
الأمور القارة المقيدة بالزمان كوجوب الجلوس في يوم الجمعة إلى
الزوال مثلا فإذا شك في وجوبه بعد الزوال فهل يجري استصحاب
وجوب الجلوس أم لا؟ فيه تفصيل.
وخلاصة الكلام في المقام أن هذا الشك في المفروض يمكن حصوله
لجهات عديدة لا يهمنا في المقام إلا أن يكون جهة الشك مفردية
الزمان لموضوع الحكم حتى لا يكون للاستصحاب مجال، بل يكون
من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع أو ليس كذلك بل موضوع
واحد وهو الجلوس، غاية الامر قبل الزوال من ذلك اليوم المفروض
مقطوع الوجوب وبعد الزوال يشك في بقاء ذلك الوجوب كل ذلك
بعد الفراغ عن حصول الغاية أي الزوال من يوم الجمعة كما في المثل
المفروض (وأما لو كان) الشك في حصول الزوال - من جهة الشبهة
المفهومية أو المصداقية - فالاستصحاب هو المرجع ولا ربط له
بمحل الكلام فنقول: الزمان (تارة) أخذ ظرفا للحكم أو الموضوع (و
أخرى) يكون قيدا لهما أو لأحدهما (أما في الصورة الأولى) فلا مانع
من جريان استصحاب الوجوب فيما بعد الزوال، لان الموضوع و
هو الجلوس كان مرسلا غير مقيد بشي وكان مقطوع الوجوب وبعد
الزوال يشك في بقاء ذلك الوجوب.
وأما فيما إذا كان الزمان قيدا للحكم أو الموضوع فلا يجري
الاستصحاب للقطع بارتفاع الحكم فان كان الجلوس في المسجد يوم
الجمعة واجبا لا بد وأن يكون وجوب آخر وعلى موضوع آخر بدليل
آخر غير الاستصحاب (وذلك) فيما إذا كان الزمان قيد للموضوع
واضح لان الجلوس بعد الزوال موضوع آخر غير الجلوس قبل الزوال
فيما إذا كان
459

الجلوس مقيدا بالزمان كما هو المفروض (وأما) فيما إذا كان قيدا
للحكم فلا يعقل بقاء ذلك الحكم المغيا بعد حصول الغاية سواء قلنا
بأن تقييد الهيئة - الذي عبارة أخرى عن تقييد الحكم لان الحكم مفاد
الهيئة فتقييد الحكم معناه تقييد الهيئة - مستلزم لتقييد المادة أو لم
نقل (اما) لو قلنا بذلك فيرجع تقييد الحكم إلى تقييد الموضوع لان
المادة هو الموضوع (وقد عرفت) حال تقييد الموضوع (أما) لو لم
نقل بذلك فلا شك في أن تضييق الحكم بواسطة تقييده بالزمان
يوجب تضييقا للموضوع فهو وان لم يكن تقييدا للموضوع اصطلاحا
بل
لا يمكن أن يكون تقييدا للموضوع بما هو موضوع لان تقييد الموضوع
بهذا المعنى لا بد وأن يكون في الرتبة السابقة على الحكم وهذا
التضييق من ناحية ورود الحكم عليه فيكون متأخرا عنه (ولكن)
النتيجة واحدة من حيث القطع بعدم شمول هذا الحكم المضيق
بواسطة
تقييده بالزمان للجلوس بعد الزوال إلا أن يكون المستصحب هو
الجامع بين فردي الوجوب الذي يكون أحدهما مقطوع الارتفاع و
الاخر محتمل الحدوث فيكون من القسم الثاني من القسم الثالث من
استصحاب الكلي الذي قلنا بعدم صحة جريانه.
ثم أنه حكى الشيخ الأعظم عن النراقي (قدهما) القول بتعارض
استصحاب الوجود مع استصحاب العدم الأزلي في المفروض أي
فيما إذا
كان الحكم الشرعي مقيدا بالزمان كما في المثال المفروض إذا ورد
الدليل على وجوب الجلوس يوم الجمعة من شهر كذا مثلا إلى
الزوال (ثم) حصل الشك في بقاء ذلك الوجوب بعد الزوال فقال إن
استصحاب وجوب الجلوس فيما بعد الزوال معارض باستصحاب
عدم وجوبه أزلا في تلك القطعة أي فيما بعد الزوال فيلزم أن يكون
الجلوس في تلك القطعة واجبا باعتبار استصحاب الوجودي وغير
واجب باعتبار استصحاب العدمي وذكر أمثلة
460

لذلك (منها) إذا حصل الشك في بقاء وجوب الامساك في اليوم الذي
وجب فيه الصيام لعروض مرض (ومنها) إذا شك بعد خروج المذي
في بقاء الطهارة الحدثية (ومنها) إذا شك في بقاء النجاسة الخبثية بعد
الغسل مرة واحدة فبزعم ذلك الفاضل يتعارض استصحاب
الوجودي مع استصحاب العدم الأزلي في جميع تلك الموارد وأمثالها
من الموارد الكثيرة في أبواب الفقه (وأجاب) عنه شيخنا الأستاذ
(قده) بأن استصحاب العدم الأزلي لا مورد له فيما نحن فيه لان العدم
الأزلي هو العدم المطلق الذي يكون كل حادث مسبوق به وهذا
العدم المطلق الذي هو نقيض وجود كل شي ينقض بوجود ذلك
الشئ لان نقيض كل شي رفعه فبوجود كل شي الذي هو نقيض
العدم
المطلق يرتفع ذلك العدم المطلق الذي هو عبارة أخرى عن العدم
الأزلي وإلا يلزم اجتماع النقيضين فإذا كان العدم الأزلي مقطوع
الارتفاع فكيف يستصحب وأما عدم وجوب الجلوس المقيد بكونه
بعد الزوال فليس له حالة سابقة لان هذا العدم هو العدم البديل
لوجود وجوب الجلوس المقيد بكونه بعد الزوال ونقيضه فكما أن
وجود وجوب الجلوس المقيد بكونه بعد الزوال لا يمكن أن يتحقق
قبل الزوال فكذلك عدم ذلك الوجوب المقيد نفسه أو موضوعه
حفظا لوحدة رتبة النقيضين فالعدم الأزلي أي العدم المطلق أي غير
مقيد
بزمان انتقض بواسطة وجود وجوب الجلوس إلى الزوال والعدم
المقيد بكونه بعد الزوال لا يمكن تحققه قبل الزوال وعلى الوجه
الذي
وجهنا كلام شيخنا الأستاذ لا يرد عليه أن الزمان قيد للمعدوم لا للعدم
لأنه لا يدعي أن الزمان قيد للعدم بل يدعي ان عدم هذا المقيد
بالزمان لا يمكن أن يتحقق قبل ذلك الزمان مثل وجوده المقيد بذلك
الزمان الذي لا يمكن أن يتحقق قبل ذلك الزمان وهذا ينطبق على
عدم المقابل أي العدم البديل الذي هو نقيض الشئ.
461

نعم يرد عليه أن عدم الأزلي وإن كان هو العدم المطلق أي العدم
المحمولي مقابل الوجود المطلق أي الوجود المحمولي (ولكن)
الموضوع في القضية التي محمولها العدم المطلق يختلف (فتارة)
تكون الطبيعة المطلقة وذلك مثل الرقبة معدومة (وأخرى) تكون
الطبيعة المقيدة مثل الرقبة المؤمنة معدومة فكما أن للطبيعة المطلقة
عدم أزلي كذلك للطبيعة المقيدة عدم أزلي لان كل حادث مسبوق
بالعدم الأزلي (ولا شك) في أن انتقاض العدم الأزلي في كل قضية
بوجود موضوعها ففي القضية التي موضوعها الطبيعة المطلقة إذا
وجدت تلك الطبيعة ينتقض العدم الأزلي فإذا وجدت الرقبة في
القضية الأولى من القضيتين اللتين ذكرناهما انتقض العدم الأزلي للرقبة
المطلقة لا للرقبة المؤمنة فما لم يوجد رقبة مؤمنة العدم الأزلي للرقبة
المؤمنة باق ووجود الرقبة المطلقة لا أثر له في انتقاض العدم
الأزلي بالنسبة إلى الرقبة المؤمنة وهذا الامر جار في كل مطلق ومقيد
بالوجدان وكذلك الامر في الطبيعة المقيدة بقيد كالرقبة
المؤمنة مع تلك الطبيعة إذا كانت مقيدة بقيد آخر كالرقبة الكافرة
فوجود الرقبة المؤمنة مثلا لا يوجب انتقاض العدم الأزلي بالنسبة إلى
الرقبة الكافرة (ففيما نحن فيه) وجود وجوب الجلوس إلى الزوال لا
يوجب انتقاض العدم الأزلي بالنسبة إلى وجوب الجلوس المقيد
بكونه بعد الزوال سواء كان إلى الزوال قيدا للحكم أو الموضوع أو كان
ظرفا (نعم) لو كان بعد الزوال ظرفا لوجوب الجلوس
المشكوك ولم يكن قيدا للحكم ولا للموضوع فالعدم الأزلي لوجوب
الجلوس بعد الزوال قهرا ينتقض بوجود وجوب الجلوس إلى
الزوال خصوصا إذا كان إلى الزوال أيضا ظرفا لا قيدا للحكم أو
الموضوع ولعله نظر شيخنا الأستاذ إلى هذه الصورة.
فينبغي بل يجب التفصيل في جريان أصالة العدم الذي قال بها الفاضل
462

النراقي بين أن يكون الزمان ظرفا للمستصحب في ظرف اليقين و
الشك جميعا وما يكون قيدا له (ففي الأول) لا يجري إلا الأصل
الوجودي ولا يجري الأصل العدمي لانتقاض العدم بالوجود (وفي
الثاني) لا يجري استصحاب الوجود للقطع بارتفاع المستصحب و
انتفائه بانتفاء القيد أعني الزمان الكذائي فلا يجتمعان في مورد حتى
يقع التعارض بينهما بل لا بد من أن ينظر في دليل المستصحب و
أنه هل أخذ الزمان فيه ظرفا للمستصحب حتى لا يجري إلا
استصحاب الوجود أو قيدا له حتى لا يجري إلا استصحاب العدم.
التنبيه الخامس فيما هو المصطلح عند الأصوليين بالاستصحاب
التعليقي
وقد وقع الخلاف في صحته وجريانه وعدمه والمراد بالاستصحاب
التعليقي في المقام هو أن يكون عروض الحكم الشرعي على
موضوع معلقا على شرط غير حاصل فقبل وجود ذلك الشرط وقع
تغير في ذلك الموضوع أوجب الشك في بقاء ذلك الحكم المعلق
حصوله على وجود ذلك الشرط مثلا حكم الشارع بالحرمة والنجاسة
على العنب بشرط غليان مائه وعدم ذهاب ثلثيه فلو فرضنا جفاف
العنب قبل الغليان وحصل الشك في بقاء ذلك الحكم المعلق على
الغليان فهل يجري استصحاب بقاء ذلك الحكم المعلق أم لا فمن
يقول
بصحة استصحاب التعليقي - كالشيخ الأعظم وصاحب الكفاية و
أستاذنا المحقق (قدس سرهم) ومن حذا حذوهم - (يقول) بجريانه و
من ينكر صحته كشيخنا الأستاذ (يقول) بعدم الجريان فلا بد من ذكر
أدلة الطرفين حتى يظهر ما هو الحق في البين وأمثلة هذا
الاستصحاب كثيرة في الفقه فلا يضر الخدشة في هذا المثال الذي
ذكرنا كما صدر عن شيخنا الأستاذ بالنسبة إليه بأصل المطلب.
فنقول ان ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) في وجه إنكار صحة هذا
الاستصحاب وبطلانه (حاصله) بتوضيح منا أن الموضوع لهذا الحكم
463

التعليقي في الحقيقة مركب من جزين أحدهما ذات ما جعل
موضوعا كالعنب في المثال المذكور والثاني هو الشرط الذي علق
عليه
الحكم أي الغليان في المثال المذكور الذي علق عليه حرمة شرب
عصير العنب ونجاسته (وذلك) لما تقدم في بحث واجب المشروط
أن
جميع الشروط التي مأخوذة في ناحية الهيئة ترجع إلى ما هو موضوع
الحكم أي المكلف كما إذا قال إن استطعت فحج يعني أيها المكلف
المستطيع يجب عليك الحج أو ما هو متعلق متعلق الحكم كما إذا قال
أعط الخمس للسيد إذا كان فقيرا أي أعط الخمس للسيد الفقير
فالموضوع مركب من كونه سيدا وفقيرا كما أن الأول مركب من كونه
مكلفا ومستطيعا (وهذا) الامر في الأحكام الوضعية أوضح فإذا
قال إن العصير العنبي نجس إذا غلى واشتد فموضوع النجاسة مركب
من أمرين ذات العصير العنبي مع كونه مغليا (ولا شك) في أن
نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة المعلول إلى علته ولا يمكن الانفكاك
بينهما ولا تقدم الحكم على موضوعه فلا يمكن تحقق النجاسة
الاعتبارية في عالم الاعتبار التشريعي العصير قبل الغليان وإلا يلزم
الخلف وهو أن يكون ما فرضته موضوعا أي العصير العنبي
بوصف الغليان ليس بموضوع بل لا بد وأن يكون موضوع النجاسة
ذات العصير العنبي وحدها من دون مدخلية قيد الغليان وهذا هو
الخلف ولا شك في أن الاستصحاب في الاحكام لا بد وأن يكون
المستصحب متيقنا بوجود حكم وثبوته في الزمان السابق وأن يكون
شاكا في بقاء ذلك الحكم في الزمان اللاحق حتى يستصحب وفيما
نحن فيه لا يمكن ذلك للقطع بعدم الحكم قبل وجود المعلق عليه لما
ذكرنا من عدم إمكان تخلف الحكم عن الموضوع.
ثم أنه لا فرق فيما ذكرنا بين الأحكام الوضعية والتكليفية فبعد ان كان
موضوع وجوب الحج مركبا من ذات المكلف وقيود اخر ومن
جملتها
464

كونه مستطيعا فلا يعقل تحقق الوجوب قبل الاستطاعة وهكذا الحال
في سائر القيود وسائر الأحكام تكليفية كانت أم وضعية (و
بعبارة أخرى) حكم الشارع بنجاسة العصير العنبي إذا غلى مثلا وإن
كان من قبيل القضية الحقيقية أي الطبيعة السارية المقدر وجودها
في الخارج وليس من قبيل القضية الخارجية التي يكون الحكم فيها
على الافراد الموجودة فعلا في الخارج ولكن الحكم في الحقيقة وارد
على الطبيعة الموجودة في الخارج فلا يعقل فعليته قبل وجودها في
الخارج فظرف العروض وإن كان هو العقل ولكن ظرف الاتصاف
هو الخراج ومن أبده البديهيات ان الصورة الذهنية من العصير العنبي
المغلي لا تتصف بالنجاسة بل ما هو النجس بالحمل الشائع هو
الموجود في الخارج من هذا العنوان المركب من جزين (نعم) إنشأ
الشارع هذا الحكم في مقام الجعل على تلك الصورة الذهنية بما هي
مرآة للخارج وهذا معنى كونها مقدرة الوجود فقبل وجود هذا العنوان
المركب من الجزين في المثل المذكور أي العصير العنبي و
كونه مغليا لا يتصف بالنجاسة أصلا (نعم) لو حصل الشك في بقاء هذا
الحكم المجعول على ذلك العنوان المقدر وجوده واستمراره قبل
أن يوجد هذا العنوان في الخارج فيجري استصحاب بقائه ولكن هذا
هو استصحاب عدم النسخ وخارج عن محل البحث.
وخلاصة الكلام أن باب إنشاء الاعتباريات والقضية الحقيقية فيها مثل
القضية الحقيقية في باب الاخباريات فلو أخبر ان الدواء الفلاني
مسهل مثلا بشرط كذا فلا يمكن وجود المسهلية وتحققها إلا بعد
وجود ذلك الدواء مع ذلك الشرط (ولا فرق) من هذه الجهة بين
المحمولات الاعتبارية كالزوجية والطهارة والنجاسة والوجوب و
الحرمة وأمثالها وبين المحمولات التكوينية كالاعراض الخارجية
التي تحمل على موضوعاتها فكما ان إخبارك عن حلاوة الشاي ان
وضعت فيه السكر أو برودة الماء لو كان شتاء فقبل
465

أن تضع فيه السكر لا حلاوة أصلا وكذلك قبل دخول الشتاء لا برودة
للماء أصلا والحلاوة التقديرية والبرودة التقديرية لا وجود لهما
أصلا بل معناهما الملازمة بين وضع السكر في الشاي مع حلاوته و
دخول الشتاء وبرودة الماء مثلا.
فظهر مما ذكرنا ان ما ربما يقال - من أن فرض وجود الموضوع كاف
في جريان الاستصحاب وإلا يلزم عدم جريان استصحاب عدم
النسخ أيضا - كلام لا صحة له من جهة ان الحكم المجعول على
الطبيعة السارية بلحاظ وجوداتها الخارجية أمر متيقن وجوده بمعنى
جعله
فإذا شك في بقاء هذا المجعول واستمراره يستصحب وليس
استصحاب التعليقي من هذا القبيل (بل المراد منه) إبقاء الحكم
الثابت
لعنوان على تقدير وجود وصف له قبل وجود ذلك الوصف وذلك
الشرط فيما إذا حصل تغير في ذلك العنوان وذلك كما في المثال
المذكور أعني استصحاب نجاسة العنب أو حرمته على تقدير الغليان
بعد أن تغير العنب وصار زبيبا فالمستصحب هي النجاسة أو
الحرمة الثابتة للعنت على تقدير الغليان واستصحابهما عبارة عن
إبقائهما للعنب بعد أن صار زبيبا قبل أن يغلي (فالاشكال) أنه قبل
الغليان ليس حرمة ولا نجاسة للعنب حتى تبقيهما في حال الجفاف و
صيرورته زبيبا فالشي الذي ليس بموجود قطعا كيف تبقيه ولو
بقاء تعبديا ولا حلية في دفع هذا الاشكال إلا أن تقول بأن للنجاسة و
الحرمة على تقدير الغليان وجود وثبوت قبل الغليان كما قبل في
الواجب المشروط ان له وجود قبل وجود الشرط فوجوب الحج
المشروط بالاستطاعة موجود قبل الاستطاعة غاية الامر بعنوان
الواجب
المشروط لا الواجب المطلق وهذا أيضا نحو من الوجود فبناء على
هذا يكون استعمال لفظ الواجب فيه على نحو الحقيقة لا على نحو
المجاز (وأنت خبير) بعدم صحة هذا الكلام وان حرمة العصير مثلا أو
نجاسته
466

قبل الغليان لا يمكن أن يوجد مع اشتراط العصير في كونه محكوما
بأحد هذين الحكمين بالغليان وإلا يلزم وجود المشروط قبل وجود
الشرط والحكم قبل الموضوع وفرض وجود العصير العنبي أو نفس
العنب مع الغليان لا يثبت وجوده ولا يخرجه عن كونه صرف
فرض لا واقعية له.
وأما احتمال أن يكون الغليان مثلا واسطة في الثبوت لا في العروض
مع بطلانه في حد نفسه - لعدم الشك في أن موضوع الحرمة و
النجاسة هو العصير المغلي مثلا لا أنه ذات العنب بعلة الغليان - لا أثر
له فيما نحن فيه غاية الامر بناء على فرض وجود الحكمين أي
الحرمة والنجاسة قبل الغليان يكون من قبيل وجود الحكم قبل وجود
تمام موضوعه وبناء على الثاني يكون من قبيل وجود الشئ قبل
وجود علته وكلاهما في المحالية سواء (وأما القول) بأن الأحكام التكليفية
ليست كالاحكام الوضعية من المجعولات الاعتبارية بل هي
أمور انتزاعية ينتزع من مقام إبراز الإرادة فإذا أبرز الشارع إرادته أو
كراهته بأمر أو نهى ولو بصورة التعليق فقهرا ينتزع الوجوب
أو الحرمة ويكونان فعليين فلا مانع من استصحابهما. ففيه (أولا) ان
هذا الكلام لا يرفع الاشكال عن استصحاب التعليقي في الأحكام الوضعية
لأنها باعتراف الطرف أمور مجعولة في عالم الاعتبار
فالاشكال موجود فيها (وثانيا) أنه لا شك في وجود هذه الاعتبارات
أي
الوجوب والحرمة وسائر الأحكام الخمسة التكليفية في عالم الاعتبار
التشريعي وأنها من المجعولات الشرعية وقد تقدم تفصيل ذلك
في الأحكام الوضعية.
وخلاصة الكلام في المقام أن قياس استصحاب التعليقي على
استصحاب عدم النسخ في الاحكام الكلية لا وجه له من جهة أن
استصحاب
عدم النسخ عبارة عن إبقاء الحكم الكلي المجعول من طرف الشارع
على الموضوع المقدر وجوده بطور القضية الحقيقية وعلى نهجها
بمعنى فرض وجودها بجميع أجزائها
467

وشراشر شرائطها وإعدام موانعها في الوعاء المناسب لها من دون
وقوع أي تغير فيها ومع ذلك شك في بقائها من جهة احتمال
نسخها من قبل الشارع (وأما) الاستصحاب التعليقي عبارة عن إبقاء
الحكم الثابت لأحد جزئي الموضوع بشرط انضمامه إلى الجز
الاخر في ظرف عدم ذلك الجز الاخر عند وقوع تغير في الجز الأول
ولذلك يرد عليه الاشكال ان إبقاء ما ليس بموجود ولم يكن
موجودا قط لا معنى له (وذلك) من جهة امتناع ثبوت الحكم لأحد
الجزين مع فرض عدم الجز الاخر كما في المقام (وأما) لو فرضت
كلا الجزين فيخرج عن كونه استصحاب تعليقيا ويصير تنجيزيا لو كان
الشك لوقوع تغير لأحد الجزين أو لكلاهما (وأما) لو حصل
الشك في بقاء الحكم الموضوع لكلا الجزين بدون وقوع أي تغير في
أحدهما أو في كليهما فلا محالة يكون الشك في بقاء ذلك الحكم
من احتمال النسخ وإلا يلزم تخلف الحكم عن الموضوع فأي ربط بين
الاستصحاب التعليقي واستصحاب عدم النسخ حتى يقاس أحدهما
بالآخر ويقال بأن الاستصحاب ان احتاج إلى وجود المستصحب في
الخارج فلا يجري استصحاب عدم النسخ أيضا لأنه أيضا عبارة عن
إبقاء الحكم على الموضوع المفروض الموجود لا الموضوع الموجود
فعلا بل الاستصحاب في الاحكام الكلية حتى من قبل غير احتمال
النسخ أيضا كذلك لأنه في فرض وقوع تغير في الموضوع أوجب
الشك في بقاء الحكم كالكر المتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة إذا
زال التغير من قبل نفسه لا بمطهر فالموضوع في جميع ذلك هو الكلي
المفروض الوجود لا ما هو الموجود في الخارج فعلا.
والجواب عن جميع ذلك هو ما ذكرنا من أن استصحاب التعليقي في
الاحكام الكلية ليس المفروض الوجود إلا بعض أجزاء الموضوع
المحكوم بحكم بشرط انضمامه إلى أمر آخر أو حدوث صفة فيه أو
حدوث أي قيد
468

كان له أو فيه في ظرف عدم ذلك الشرط أو ذلك الجز أو ذلك القيد و
يكون الشك من جهة فرض وقوع تغير في ذلك البعض
المشروط بذلك الشرط، مثلا العنب مشروطا بوجود وصف فيه وهو
غليان مائه محكوم بالحرمة والنجاسة فإذا فرض وقوع تغير في
العنب كالجفاف وصيرورته زبيبا وشك في أنه في هذا الحال هل
يكون حراما ونجسا لو غلى ماؤه على فرض تصوير أن يكون له ماء
ولو بتوسيط دخول ماء خارجي فيه وإلا يكون إشكالا على المثال ولا
ربط له بأصل المطلب فيستصحب الحكمان للعنب بفرض وجوده
كذلك في ظرف عدم الغليان على تقدير الغليان (وبعبارة أخرى)
المتيقن الذي يحكم ببقائه في ظرف الشك في بقائه هو الحكم الثابت
للعنب في ظرف عدم الغليان ولكن على تقدير الغليان وإلا لو فرضت
وجود العنب ووجود الغليان كليهما أي فرضت العنب المغلي و
أردت استصحاب حكم العنب المفروض مغليا فهذا ليس من
الاستصحاب التعليقي بل هذا استصحاب تنجيزي خارج عن محل
الكلام (و
ذلك) من جهة أن العنب المفروض كونه مغليا ليس حكمه معلقا على
شي بل حكمه تنجيزي ولا إشكال في استصحاب الاحكام العنب
المفروض كونه مغليا لو وقع تغير فيه أوجب الشك في حكم من
أحكامه كما أنه لو فرضت ذهاب ثلثيه بغير النار فالاستصحاب
التعليقي
عبارة عن إبقاء الاحكام المعلقة لشي في ظرف عدم وجود المعلق
عليه بواسطة وقوع تغير في ذلك الشئ (وأ ما) استصحاب الاحكام
المعلقة مع فرض وجود المعلق عليه فهو استصحاب تنجيزي لا
تعليقي فاستصحاب وجوب الحج للانسان العاقل البالغ الحر مشروطا
بكونه مستطيعا والمعلق على الاستطاعة في فرض وجود الاستطاعة
لو حصل الشك من جهة أخرى كمرض أو غير ذلك ليس من
الاستصحاب التعليقي بل استصحاب تنجيزي بلا كلام (ولعمري)
هذا واضح جدا
469

ولكن هذا التطويل والتكرار كان لأجل رفع الشبهة التي ربما يقع في
أذهان بعض خصوصا بعد ما صدر هذا الكلام أعني كفاية فرض
وجود المعلق عليه في ثبوت المستصحب ووجوده في الاستصحاب
التعليقي عن أستاذنا المحقق في كتابه المقالات وعن بعض المحققين
في حاشيته على الكفاية (وأما استصحاب) الملازمة بين غليان
العصير العنبي وبين حرمته أو نجاسته - كما ربما يظهر من كلام شيخنا
الأعظم (قده) بأن يقال كان بين العنب بشرط غليانه قبل أن يجف و
يصير زبيبا وبين حرمته أو نجاسته ملازمة، فإذا شك بعد الجفاف
في بقاء تلك الملازمة تستصحب وأثره وجود اللازم أي: الحرمة و
النجاسة عند وجود الملزوم - (وفيه) ان الملازمة بين الموضوع و
الحكم ليست من المجعولات الشرعية بل إنما هي أمر ينتزعه العقل
من الموضوع والحكم والعلة التامة ومعلولها، وليس لها ما بحذاء في
الخارج (فليس) في الخارج وراء الموضوع والمحمول شي يكون
محكيا ومطابقا لعنوان الملازمة (فتكون) الملازمة عند العقل عبارة
عن عدم انفكاك شي عن شي آخر (ولذلك) قد تكون بين شيئين
ممتنعي الوجود كالملازمة بين تعدد الالهة وفساد السماوات و
الأرضين فليس هناك شي موجود يحمل عليه الملازمة بالحمل
الشائع بل صرف انتزاع عقلي ينتزع من عدم انفكاك الحكم عن
موضوعه، فإبقاء الملازمة بإبقاء الحكم على ذلك الموضوع ورفعه
برفع الحكم عنه (فيرجع) استصحاب الملازمة إلى استصحاب الحكم
و
يعود المحذور، وإلا فنفس الملازمة أي: ذلك الامر الانتزاعي ليست
قابلة للاستصحاب (لان) إبقاء المتيقن لا يمكن حصوله إلا بأن يكون
من المجعولات الشرعية أو يكون له آثار شرعية كي يكون التعبد
بالبقاء بلحاظ تلك الآثار، والملازمة - بين تحقق انضمام أحد جزئي
الموضوع إلى الجز الاخر وبين تحقق حكمه - أمر عقلي وليست من
المجعولات الشرعية و
470

لها آثار شرعية (ولعل) ما أوقع بعضهم في الاشتباه هو بيان الشارع
لبعض الموضوعات بصورة التعليق كما في المقام بالنسبة إلى
بعض الروايات حيث قال عليه السلام (العصير العنبي يحرم إذا غلى)
مع أنه لا فرق في متفاهم العرف بين أن يقول بتلك الصورة أو
يقول العصير المغلي يحرم شربه إلا إذا ذهب ثلثاه (ولا فرق) بين أن
يقول يجوز تقليد المجتهد إن كان عادلا أو يقول يجوز تقليد
المجتهد العادل، فالاختلاف في العبارة - في بيان ما هو موضوع
الحكم بأن يؤدي (تارة) بصورة الشرط (وأخرى) بصورة الوصف - لا
يوجب تغييرا في ناحية الواقع.
هذا مضافا إلى أن الملازمة في مواردها الثلاثة - أي: بين العلة التامة و
معلولها وبين معلولي علة واحدة وبين تمام الموضوع وحكمه -
لا يمكن أن تكون مجعولة بالذات حتى بالجعل التكويني فضلا عن
الجعل التشريعي (ولا شك) في أن عدم صحة استصحاب التعليقي
في
الاحكام الجزئية أوضح، وذلك من جهة أن هذا الزبيب الخارجي إذا
غلى ماؤه أي الماء الخارجي الذي دخل في جوفه وغلى
فاستصحاب
حرمة الثابتة للعنب معلقا على غليانه، والحال أنه لم يغل حتى صار
زبيبا لهذا الزبيب الخارجي أوضح إشكالا (لان) هذا العنب الخارجي
الذي صار زبيبا لم يغل في زمان من الأزمنة كما هو المفروض ولم يكن
موضوعا للحرمة حتى يستصحب (ولا يمكن أن يقال) بتقدير
الغليان وفرضه فيه، لان هذا الكلام - على فرض صحته وقد أبطلناه -
محله الحكم الكلي حيث أنه يرد على الموضوع الكلي المقدر
وجوده (وأما) الحكم الجزئي فموضوعه الشخص الخارجي الموجود
بجميع قيوده وشروطه ولا معنى لتقدير أمر وفرض وجوده فيه.
ثم أنه ربما يقال علي فرض جريان استصحاب التعليقي وصحته لا أثر
له لمعارضته مع استصحاب التنجيزي فيتساقطان (بيان ذلك) أنه
على فرض
471

جريان استصحاب الحرمة والنجاسة المعلقتين على الغليان بعد أن
جف وصار زبيبا يعارضه استصحاب الطهارة والحلية المنجزتين
اللتين كانتا ثابتتين للزبيب قبل غليانه فيتساقطان (وقد) أجاب شيخنا
الأستاذ (قده) عن هذا بحكومة استصحاب التعليقي على
استصحاب التنجيزي بأن الشك في بقاء الحلية والطهارة المنجزتين
للزبيب مثلا مسبب عن الشك في كيفية جعل الحرمة والنجاسة
للعصير العنبي إذا غلى وان الحكم المجعول هل هو مختص بالعنب
إذا كان رطبا وغلى أو دائرة موضوعه أوسع من كونه رطبا أو جافا
(فعلى الأول) لا يبقى شك في طهارة الزبيب وحليته إذا غلى بل هو
طاهر وحلال (وعلى الثاني) لا يحتمل طهارته وحليته لان موضوع
الحرمة والنجاسة عام يشمل حال الجفاف. فمنشأ الشك هو أن
المجعول على النحو الأول أو الثاني فإذا ثبت بالاستصحاب التعليقي
أن
الجعل على النحو الثاني فلا يبقى احتمال الطهارة والحلية في البين
حتى يستصحب. وهذا معنى حكومة استصحاب التعليقي على
استصحاب التنجيزي.
ثم أورد على نفسه بأن عدم طهارة الزبيب إذا غلى وعدم حليته كذلك
ليس من الآثار الشرعية لحرمة العصير العنبي إذا غلى حتى ولو
كان الغليان بعد الجفاف الذي يثبت بالاستصحاب بل من اللوازم
العقلية من باب أن لازم وجود أحد الضدين عدم الضد الاخر وإلا يلزم
اجتماع الضدين (ثم أجاب) عن ذلك بأن التعبد بوجود أحد الضدين
يقتضي التعبد بعدم الاخر فإذا جاء التعبد بحرمة شي كالعصير إذا
غلى ولو بعد جفافه فهذا التعبد يقتضي التعبد بعدم حليته (ومرجع)
هذا الكلام إلى أن عدم حلية هذا الشئ مثلا ولو أنه ليس من الآثار
الشرعية لحرمته (ولكن) التعبد بحرمته ملازم مع تعبد آخر وهو التعبد
بعدم حليته (وهذا الكلام) لا يخلو من غرابة لأنه يمكن أن يقال
بعكس هذا وان التعبد ببقاء حلية الزبيب
472

وطهارته إذا غلى ملازم مع التعبد بعدم بقاء الحرمة العصير العنبي إذا
غلى بعد الجفاف وصيرورته زبيبا ولا مرجح لأحدهما على
الاخر مضافا إلى عدم صحة هذا الكلام لأنه بالضرورة في مثل هذه
الموارد ليس إلا تعبد واحد وهو الحكم ببقاء المتيقن السابق في
ظرف الشك في بقائه (نعم) التعبد ببقاء أحد الضدين ملازم عقلا مع
عدم الضد الاخر وأن هذا من القول بتعبدين شرعيين.
وأجاب - عن التعارض وقال بحكومة الاستصحاب التعليقي على
التنجيزي - أستاذنا المحقق (قده) بأن مرجع استصحاب الحرمة و
النجاسة التعليقيين إلى استصحاب شرطية الغليان للحرمة وغائيته
لحلية العنب وطهارته في حال جفافه وصيرورته زبيبا (فلا يبقى)
مجال لاستصحاب حلية الزبيب وطهارته لحصول غايته وهي
الغليان، وحيث إن حصول الغاية ليس وجدانيا بل تعبدي و
بالاستصحاب
فيكون عدم جريان الاستصحاب التنجيزي - أي استصحاب طهارة
الزبيب وحليته عند الغليان - من باب حكومة استصحاب بقاء غائية
الغليان لحلية العنب وطهارته في حال الجفاف وصيرورته زبيبا (و
بعبارة أخرى) لا شك في أنه كما أن حرمة العنب ونجاسته معلق و
مشروط شرعا بالغليان كذلك حليته وطهارته مغيا شرعا بالغليان،
فالغليان شرط شرعا لحرمة العنب ونجاسته (وكذلك) غاية
شرعا لحليته وطهارته، فإذا شككنا في بقاء هذين الحكمين أي
شرطية الغليان لحرمة العنب ونجاسته وغائية الغليان لحلية العنب و
طهارته في حال جفافه وصيرورته زبيبا فاستصحاب بقاء شرطية
الغليان وغائيته في هذا الحال أي حال الجفاف يكون حاكما على
استصحاب حلية الزبيب وطهارته لحصول الغاية باستصحاب الغائية
تعبدا (وفيه) أنه لو كان الغليان في لسان الأدلة - كما أنه جعل
شرطا شرعا للحرمة كان غاية أيضا للحلية والطهارة - لكان هذا الكلام
473

تاما ولكن ليس هناك دليل على غائية الغليان شرعا للحلية والطهارة،
وإنما ارتفاعهما بواسطة وجود ضديهما أعني الحرمة والنجاسة
بعد الغليان.
وأجاب عن إشكال التعارض صاحب الكفاية (قده) بأن الغليان كما أنه
شرط للحرمة المعلقة عليه وهذا هو معنى التعليق كذلك غاية
للحلية المنجزة، فالغليان كما أنه يكون مبدأ لوجود الحرمة كذلك
يكون غاية لانتهاء الحلية، فالاجتماع بينهما محال (فليس) لوقوع
التعارض مجال، لان التعارض فرع اجتماع مفادي الاستصحابين. و
هذا كلام عجيب لأنه لو كان غائية الغليان للحلية معلومة - ولو كان
الغليان بعد جفاف العنب وصيرورته زبيبا - فلا يبقى مجال
للاستصحاب أصلا لا استصحاب الحرمة لو كان شرطيته أيضا معلومة
ولو
كان في حال الجفاف (فتكون) الحرمة في ذلك الحال متيقنة لا
مشكوكة حتى يحتاج إلى الاستصحاب ولا استصحاب الحلية
المنجزة
لوجود الغاية على الفرض، فهذا الكلام معناه عدم جريان كلا
الاستصحابين لعدم تمامية أركانهما لا عدم تعارضهما، هذا مع أن
دعوى
العلم بغائية الغليان حتى في ظرف الجفاف وصيرورته زبيبا دعوى بلا
بينة وبرهان مع أنه خلاف الفرض أيضا (لان) المفروض هو
الشك في سببية الغليان في حال الجفاف وصيرورته زبيبا للحرمة (و
كذلك) الشك في كون الغليان حال الجفاف غاية للحلية،
فاستصحاب الحلية إلى ما بعد الغليان في حال الجفاف يثبت الحلية و
استصحاب الحرمة التعليقية على تقدير الغليان ولو في حال
الجفاف يثبت الحرمة متى تحقق الغليان ولو في حال الجفاف (ففي)
حال الجفاف إذا تحقق الغليان تجتمع الحلية والحرمة ونعلم بكذب
أحد الاستصحابين، وهذا هو التعارض ولا حكومة لأحد
الاستصحابين على الاخر حتى يجري الحاكم دون المحكوم ويرتفع
التعارض
(نعم) لو كان الغليان غاية شرعا للحلية في حال كونه عنبا - كما أنه
شرط وسبب شرعا
474

للحرمة في ذلك الحال وجرى استصحاب الشرطية والغائية في حال
الجفاف - فيصير حال الجفاف مثل حال كونه رطبا وعنبا ولا
تجتمع الحرمة في حال من الأحوال بل يكون مبدأ الحرمة أول الغليان
ولو في تلك الحالة أي:
حالة الجفاف وانتهأ الحلية أول وجود الغليان (فلا يجتمعان) ويكون
حال الجفاف مثل حال كونه عنبا ورطبا وهذا غير استصحاب
الحلية المنجزة والحرمة التعليقية، بل يكون استصحاب الشرطية و
الغائية ولا إشكال فيه إلا ما ذكرنا من عدم ثبوت كون الغليان غاية
شرعا في دليل من الأدلة.
(التنبيه السادس) في استصحاب الاحكام الشرائع السابقة،
وأشكل عليه بوجهين بعد الاعتراف بجريان استصحاب عدم النسخ
في أحكام هذه الشريعة المقدسة (الوجه الأول) هو اختلاف
الموضوع في القضية المشكوكة لان الموضوع في الأولى المدرك
لتلك الشريعة التي تريد استصحاب أحكامها وهذه الصفة ليست
موجودة في الثانية قطعا (لان) المدركين للشرائع السابقة ماتوا و
انقرضوا (وأجيب) عن هذا الاشكال بأنه يتوجه على تقدير جعل
الاحكام على نحو القضايا الخارجية - أي كون الحكم على الافراد
الموجودة في الخارج - وأما لو كان جعل الاحكام على نحو القضايا
الحقيقية - أي كون الحكم على الطبيعة المقدرة وجوداتها في الخارج
بنحو السريان - فلا فرق بين الموجودين في ذلك الزمان و
الموجودين في الأزمنة المتأخرة إلى آخر الدهر، ولولا ذلك أي: جعل
الاحكام على نحو القضية الحقيقية لكان هذا الاشكال واردا حتى
بالنسبة إلى أصحاب هذه الشريعة غير الموجودين في زمان صدور
أحكامها.
والحاصل ان استصحاب الاحكام الشرائع السابقة - بمعنى عدم
نسخها بعد الفراق عن شمولها لجميع الناس في أي زمان كانوا - حال
استصحاب عدم نسخ أحكام هذه الشريعة (وأما لو كان) الشك من
جهة احتمال
475

مدخلية قيد مفقود في المكلفين من أفراد هذه الشريعة فلا يجري
الاستصحاب البتة إلا بعد إحراز الموضوع (إما) بإحراز عدم مدخلية
ذلك القيد المفقود في هؤلاء في الموضوع (وإما) بوجوده فيهم أيضا
وأما صرف عدم وجودهم في ذلك الزمان فليس مما يوجب عدم
شمول العمومات لهم إلا بناء على كون جعل الاحكام على نهج
القضايا الخارجية.
(الوجه الثاني) هو العلم بنسخ الشرائع السابقة ومع هذا كيف يجوز
استصحاب أحكام تلك الشرائع (وفيه) انه ان أراد المستشكل نسخ
جميع الأحكام فالعلم به ممنوع، وإن أراد من العلم به العلم الاجمالي
بنسخ جملة من أحكامها دون جميع ما في الشرائع السابقة فجوابه ان
هذا العلم الاجمالي ينحل بواسطة الظفر بمقدار المعلوم بالاجمال من
الاحكام المنسوخة التي يمكن انطباق المعلوم بالاجمال عليها (و
لكن) شيخنا الأستاذ (قده) استشكل على هذا الجواب بأن صرف بقاء
أحكام الشرائع السابقة إلى هذه الأزمان التي تجري فيها
الاستصحاب لا فائدة فيه بل يحتاج إلى إمضاء من قبل الشارع ويدل
على ذلك قوله صلى الله عليه وآله في خطبة حجة الوداع (ما من
شي يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به، وما من
شي يبعدكم عن الجنة ويقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه
حتى الخدش بالاظفار) وحاصل هذا الكلام والاشكال والاستدلال
بخبر حجة الوداع أنه صلى الله عليه وآله ما أهمل بيان شي من
الأحكام الشرعية بل بين حكم كل فعل وكل موضوع، فبعد الفحص و
التفتيش عن الأدلة في مظانها يجد على كل حكم لأي فعل أو لأي
موضوع دليلا يثبت له أحد الأحكام التكليفية أو الوضعية (فلا يبقى)
حاجة إلى الاستصحاب ان وجد دليلا موافقا معه في المفاد وان لم
يجد دليلا موافقا معه (فلا يجب) العمل على طبقه لعدم الامضأ (و
فيه) أولا بناء على ما قلنا وقد تقدم في الجز الأول
476

في مبحث الواجب المشروط ان جعل الاحكام أزلي وعلى نحو
القضايا الحقيقية بمعنى أن كل ما له دخل وجودا أو عدما في صيرورة
الشئ ذا مصلحة أو يكون دخيلا في وجود المصلحة بعد كونه ذا
مصلحة يؤخذ في موضوع التكليف بكلا معنييه أي المكلف ومتعلق
متعلق التكليف وكذلك نفس متعلق التكليف الذي عبارة عن فعل
المكلف فالحكم الشرعي يرد على هذا الذي هو مجمع القيود و
العناوين التي لها دخل في الملاك والمصلحة حتى لو كان لوجود
المكلف في زمان كذا أو من أمة كذا دخل في الملاك والمصلحة
يؤخذ
قيدا في الموضوع فمحال أن يوجد مثل هذا المجمع القيود ويتخلف
عنه الحكم الشرعي ولا يكون ممضى من قبل الشارع وأما احتمال
النسخ فيدفع بالاستصحاب (وثانيا) ان دليل الاستصحاب الوارد في
هذه الشريعة دليل على الامضأ (وذلك) من جهة ان الاستصحاب
سوأ كان في الاحكام أو كان في الموضوعات حكم ظاهري مجعول
من قبل الشارع كسائر الاحكام الظاهرية بالمعنى الذي بيناه في
محله للأحكام الظاهرية فإبقأ الاحكام الموجودة في الشرائع السابقة
- عند احتمال نسخها بعد وحدة القضية المشكوكة والمتيقنة - من
مجعولات هذه الشريعة وأحكامها.
التنبيه السابع في عدم اعتبار الأصول المثبتة
بيان ذلك أن المجعول في باب الأصول - مطلقا سوأ كانت تنزيلية أو
غير تنزيلية - هو مجرد تطبيق العمل على مؤدى الأصل وليس
فيها جهة كشف وطريقية أصلا لا ذاتا كالقطع ولا جعلا كالامارات، و
ذلك لأنها وظائف عملية مجعولة للشاك المتحير بعد الفحص و
اليأس عن الظفر بالدليل في الشبهات الحكمية ومطلقا في الشبهات
الموضوعية (ولا تتوهم) أن الأصل المحرز فيه جهة كاشفية كما أنه
ربما يتوهم من إطلاق هذا العنوان عليه (ولكن) فليعلم ان الاحراز في
باب الأصول غير الاحراز في باب الامارات (فان المراد) منه في
477

باب الامارات هي الكاشفية والطريقية مثل القطع غاية الامر الفرق
بينهما أن كاشفية القطع ذاتية غنية عن الجعل التشريعي ولا يمكن
وضعها ولا رفعها في عالم التشريع وأما كاشفية الامارات وطريقيتها
لمتعلقاتها مجعولة بنحو تتميم الكشف كما تقدم تفصيله في باب
جعل حجية الامارات فلا نعيد (وأما المراد) من الاحراز في باب
الأصول العملية هو العمل على طبق مؤدى الأصل على أنه هو الواقع
(فالفرق) بين الأصل المحرز المسمى بالأصل التنزيلي أيضا وبين
الأصل غير المحرز هو أن المجعول في الأصل المحرز هو البنأ
العملي
على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع من دون إثباته للواقع وكشفه
عنه (وأما) الاخر أي الأصل غير المحرز فهو عبارة عن حكم
الشارع بالبنأ العملي على أحد طرفي الشك من دون اعتبار ان هذا
العمل عمل الواقع أو اعتبار اليقين والجري على طبقه كي يكون
العمل على طبق ذلك المحتمل من جهة بلوغه إلى مرتبة الاثبات بل
لا يمكن ذلك لما ذكرنا من أن معنى الحجية والطريقية هو تتميم
الكشف في عالم الاعتبار التشريعي بمعنى أن الشارع يعتبر هذا
الكشف الناقص الموجود في الامارة تكوينا كشفا تاما تشريعا (ولا
تتوهم) أن الشارع يكمل نقص كشف الامارة (اما) تكوينا حتى يصير
وجدانيا وهذا واضح البطلان (وإما) تشريعا فتكون كاشفية
الامارة تامة ولكنها مركبة من كشف تكويني وكشف تشريعي وهذا
أيضا مع عدم إمكانه مما يكذبه الوجدان (فالصحيح) ما ذكرنا و
أيضا تقدم في مبحث الامارات ان المراد من تتميم الكشف هو أن
يعتبر هذا الكشف الناقص التكويني كشفا تاما في عالم الاعتبار
التشريعي.
إذا عرفت ما ذكرنا من الفرق بين الامارة وبين الأصل بكلا قسميه
(فنقول) فالحق في المقام هو حجية مثبتات الامارات دون الأصول و
لو كانت تنزيلية (وليس) وجه حجية مثبتات الامارات ما ذكره صاحب
478

الحاشية - من أن الامارات كما أنها تحكي عن مؤدياتها كذلك تحكي
عن لوازم المؤديات شرعية كانت أم عقلية وأيضا تحكي عن
ملزومات المؤديات وملازماتها كذلك شرعية كانت أم عقلية
فمقتضى إطلاق دليل اعتبارها حجيتها في جميع هذه الحكايات و
ذلك
بخلاف الأصول ولو كانت تنزيلية فان مفادها ليس إلا التعبد بمؤدياتها
وليس فيها حكاية عن شي أصلا لان ما ذكره من حكاية
الامارة عن مؤداها ولوازم مؤداها وملزوماتها وملازماتها لا أساس له
لان الحكاية عن شي فرع الالتفات إلى ذلك الشئ وقصده و
لا شك في أن المخبر غالبا غافل عن لوازم ما أخبر به وعن ملزوماته و
ملازماته ومع الغفلة عن ذلك كيف يمكن أن يدعي أن البينة أو
الخبر الموثوق الصدور مثلا تحكى عن لوازم مؤدياتها وملازماتها و
ملزوماتها هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ ردا على صاحب الحاشية
(قدهما) (وهذا الكلام) يرجع إلى إنكار وجود حكايات متعددة في
الامارة بالنسبة إلى المؤدى وبالنسبة إلى لوازمه وملزوماته و
ملازماته.
ولكن الانصاف أن الامارة اللفظية كخبر الثقة محكي بالدلالة المطابقية
عن نفس المؤدى وعن لوازمه العادية والعقلية والشرعية
بالدلالة الالتزامية بل كذلك بالنسبة إلى ملزوماته وملازماته (ولذلك)
في باب الأقارير والوصايا يؤخذ بها ولو ادعى الغفلة عن
اللوازم والملزومات والملازمات بل حتى مع العلم بغفلته عن كون
هذا الامر من لوازم ما أخبر به بالدلالة المطابقية أو من ملزوماته أو
من ملازماته (ولكن) إذا كان مريدا لمدلوله المطابقي ولا يكون من
قبيل الهازل (ولا شك) في أن الاخبار عن وجود العلة اخبار عن
وجود المعلول وكذلك العكس وأيضا الاخبار عن الشئ اخبار عن
ملازماته فلو أخبر عن طلوع الشمس فقد أخبر عن إضأتها للعالم
الذي هو لازم طلوع الشمس إذا كان مريدا لمدلوله المطابقي و
479

يكن هازلا (وكذلك) لو أخبر بوجود النهار فقد أخبر بوجود ملزومه أي
طلوع الشمس وكذلك لو أخبر باستقبال زيد مثلا للقبلة في
أواسط العراق فقد أخبر باستدباره للجدي كل ذلك فيما إذا كان مريدا
لما هو المدلول المطابقي للكلام ولا يكون من قبيل الهازل (و
بعبارة أخرى) كما أن مدلول المطابقي الذي نسميه بالمؤدى هو من
ظواهر الكلام ويشمله أدلة حجية الظواهر كذلك المدلول الالتزامي
(والحاصل) أنه لا يصح إنكار ان خبر الثقة كما أنه حاك عن مدلوله
المطابقي كذلك حاك عن اللوازم العقلية والعادية والشرعية
للمؤدى.
وعلى كل حال الوجه الوجيه في الفرق بين الامارات وبين الأصول
هو ما ذكرنا من أن المجعول في الامارات هي الطريقية والوسطية
في الاثبات ولو كان من جهة إمضاء ما عند العقلا من بنائهم على
طريقية هذه الامارات بل جل الامارات الشرعية لولا الكل من هذا
القبيل (وقد) بينا معنى الطريقية وتتميم الكشف فكما ان في نظر
العقلا الامارات العقلائية تثبت مؤدياتها ولوازمها العقلية والعادية
لتلك المؤديات وملزوماتها وملازماتها (فكذلك) الامارات الشرعية
تثبت جميع ما ذكرنا (وذلك) لان إثبات العلة إثبات المعلول و
كذلك العكس وأيضا إثبات أحد المتلازمين إثبات لملازمه (وبعبارة
أخرى) حال الطريق الجعلي حال الطريق الانجعالي فكما ان العلم
الوجداني إذا تعلق بشي يثبت نفس ذلك الشئ وجميع لوازمه
العقلية والعادية والشرعية فكذلك الطريق المجعول والعلم التعبدي
(غاية الامر) ان مثبتية العلم الوجداني ذاتية ليست قابلة للجعل و
مثبتية الامارات الشرعية ليست ذاتية بل مجعولة شرعي اما إمضاء كما
هو الغالب بل الكل واما إحداثي كما أنه ربما يتفق أن يكون كذلك (و
هذا) أي كون الطريقية والمثبتية في العلم الوجداني ذاتية وفي
الامارات عرضية مجعولة لا يوجب فرقا في
480

ما نحن بصدده لأنه بعد الفراغ عن كونه كاشفا وطريقا ومثبتا وأثبت
مؤداه وكشفه فقهرا يثبت بها وينكشف جميع لوازمه و
ملزوماته من جهة الملازمة بين ثبوت الشئ وانكشافه وبين انكشاف
لوازمه وملزوماته وملازماته.
ان قلت إن هذا في الانكشاف التكويني صحيح فان انكشاف الشئ
تكوينا بمعنى عدم احتمال الخلاف ملازم مع انكشاف لازمه وملزومه
وملازمه مع العلم بالملازمة (وأما) في الكشف التعبدي فليس الامر
كذلك لان باب احتمال الخلاف لا ينسد وجدانا غاية الامر يجب عليه
إلقأ احتمال الخلاف تعبدا ففي الحقيقة معنى الحجية المجعولة و
وسطيته في الاثبات ادعأ أنه كذا وإلا فإيجاد صفة تكوينية بالجعل
الاعتباري غير معقول فحالها حال سائر التنزيلات لا بد وأن يكون
بلحاظ ترتيب آثار المنزل عليه فلا بد وأن يكون هناك آثار
شرعية حتى يكون أمر وضعها ورفعها بيد الشارع حتى يصح التنزيل
بذلك اللحاظ فإذا كان لمؤدى الامارة أثر شرعي يترتب على
مؤداها وان كان غير محرز بصرف قيام الامارة عليه لان هذا هو معنى
التنزيل فيكون حال الامارة من هذه الجهة حال الأصول حيث إن
دليل اعتبارها يدل على العمل على طبق مؤدياتها من دون تعرض
للوازمها وملزوماتها وملازماتها ومعنى التعبد بالعمل على طبق
مؤدياتها ترتيب الآثار الشرعية التي لها بلا واسطة أثر عقلي عليها (و
أما) الآثار العقلية والعادية التي لها أو الشرعية التي تكون لها
بتوسيط أحد هذين فلا لأنها خارجة عن دائرة التعبد بها، إذ معنى
التعبد بها ترتيب الآثار التي لها عليها لكن خصوص الآثار التي يكون
أمر وضعها ورفعها بيد الشارع لا مطلق آثارها ولو كانت عقلية أو
عادية.
قلنا ليس معنى الحجية والطريقية المجعولة في باب الامارات ما
ذكرت من أن مفادها ادعأ ثبوت مؤدياتها حتى يرجع إلى تنزيل
مؤداها منزلة الواقع بل المراد انه لهذا المفهوم أي مفهوم الحجة
قسمان من المصداق
481

(قسم) تكويني ولا يحتاج إلى اعتبار الحجية والطريقية بل لا يمكن
لأنه يصير من قبيل تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبد (وقسم)
اعتباري فيحتاج إلى جعل واعتبار ممن بيده الاعتبار فبعد جعل
الحجية يصير مصداقا حقيقيا واقعيا للحجة والطريق والمثبت (و
ذلك)
مثل مفهوم المال حيث إنه له قسمان من المصاديق قسم يقال له المال
بدون جعل المالية له في عالم الاعتبار كالأجناس التي يحتاج إليها
الناس في أمر معاشهم من ألم آكل والملابس والمراكب والمساكن و
أمثالها وقسم لا يصدق عليه المال إلا بعد اعتبار المالية له وذلك
كالاوراق المالية ولكن بعد اعتبار المالية ممن بيدهم الاعتبار يصير
مالا حقيقيا ويحمل عليها المال بالحمل الشائع وحجية الامارات من
هذا القبيل فبعد اعتبار الحجية لها يكون حالها في إثبات المتعلق و
آرائها له وكشفها عنه حال الحجة التكوينية وكذلك الحجة عند
العقلا إذا اعتبروا حجية شي وقام ذلك الشئ على أمر من الأمور
يقولون ثبت ذلك الامر لا أنهم يرتبون آثار ذلك الامر عليه تعبدا و
بادعأ وجوده بل يرون وجوده ثابتا كما لو علموا بوجوده.
فظهر من جميع ما ذكرنا حجية مثبتات الامارات دون الأصول (أما
الأول) أي حجية مثبتات الامارات لما ذكرنا من أن متعلقاتها و
مؤدياتها يثبت بها كالعلم التكويني فقهرا من باب الملازمة بين ثبوت
الشئ وبين ثبوت لوازمه وملزوماته وملازماته يثبت جميع هذه
المذكورات سوأ كانت عقلية أو عادية أو شرعية (وأما الثاني) أي
عدم حجية مثبتات الأصول فمن جهة أن المجعول في باب الأصول
ليس إلا صرف البنأ العملي على طبق المؤدى من دون إثبات المؤدى
حتى يكون إثباته ملازما لاثبات لوازمه وملزوماته وملازماته
كما بينا ذلك وقلنا به في باب الامارات (ومعلوم) ان البنأ العملي
على طبق المؤدى هو ترتيب جميع الآثار الشرعية التي للمؤدى
482

عليه (وأما) الآثار العقلية والعادية حيث أنها من الأمور التكوينية و
ليس أمر وضعها ورفعها بيد الشارع في عالم التشريع فلا يشملها
المجعول في باب الأصول (نعم) لو كان لاثاره الشرعية أثر شرعي و
هكذا ولو بألف واسطة ولكن كل الوسائط آثار شرعية يلزم
العمل على طبق جميع تلك الآثار لأن المفروض أن جميعها آثار
شرعية وأمر وضعها ورفعها بيد الشارع فإذا قال الشارع تعبد ببقاء
اليقين وكان التعبد ببقاء اليقين باعتبار طريقيته ومرآتيته للمتيقن
فيرجع الامر ببقائه من هذا الحيث إلى إبقاء المتيقن ولا شك في أن
إبقأه حقيقة ليس تحت قدرة المكلف فلا بد وأن يكون بمعنى ترتيب
آثار البقاء الحقيقي على ما هو مشكوك البقاء بعد اليقين بحدوثه
ولا بد أن تكون تلك الآثار آثارا شرعية إذ آثار العقلية والعادية تابعة
لواقع بقاء الشئ تكوينيا ولا معنى لحكم الشارع ببقاء الشئ
بقاء تعبديا باعتبار ترتيب آثاره العقلية والعادية إذ هي لا تترتب على
وجود التعبدي للشي والتعبد بنفس تلك الآثار وإن كان يمكن
بلحاظ الآثار الشرعية التي لتلك الآثار ولكن يحتاج إلى تعبد مستقل و
لا يفيد دليل التعبد ببقاء ذلك الشئ أي ملزوم تلك الآثار العقلية
والعادية لهذا التعبد أي التعبد بوجود تلك الآثار العقلية والعادية
بلحاظ آثارهما الشرعية (وأما) عدم شمول دليل الاستصحاب لهذا
التعبد فواضح لعدم كون تلك الآثار أي العقلية والعادية متيقنة سابقا و
يشك في بقائها حتى يستصحب (وأما) الآثار الشرعية وان
كانت طولية فجميعها يثبت بالاستصحاب أما العرضية فواضح (وأما
للطولية) فكذلك أما لو قلنا بإطلاق الأدلة وشمولها لكل أثر شرعي
سوأ كان بلا واسطة أو مع الواسطة فواضح وأما لو قلنا بعدم إطلاقها
أو انصرافها إلى الآثار التي ليس لها واسطة فمن جهة أن كل أثر
سابق موضوع للأثر اللاحق على الفرض وتخلفه عن موضوعه خلف
فبمحض وجود أول السلسلة واعتباره
483

يوجد تمام السلسلة.
إن قلت فبنأ على ما ذكرت ان كان لدليل الأصل إطلاق يشمل الآثار
مطلقا سوأ كان بلا واسطة أم مع الواسطة فيشمل الآثار الشرعية
التي للشي بواسطة آثار عقلية أو عادية (قلنا) أن شمول الأدلة لمطلق
الأثر وان كان مع الواسطة فيما إذا كان لها إطلاق معناه أن جميع
الآثار تكون مشمولة للدليل وهذا لا ينافي أن يكون شموله للاحق
بواسطة شموله للسابق وهذا المعنى في المفروض لا يمكن لعدم
شمول الدليل للآثار العقلية والعادية لما بيناه فان كان الأثر العقلي أو
العادي في أول السلسلة فلا يشمل الدليل شيئا منها وان كانا في
أوساطها يشمل الدليل إلى ذلك الحد ثم ينقطع ولا يشمل الآثار
الشرعية التي بعدهما وان كانا في آخر السلسلة فيشمل جميع أفرادها
ما عداهما (وإما) الملزومات والملازمات فلا يشملهما أدلة الأصول و
إن كانتا شرعيتين وذلك لما قلنا بأن التعبد بوجود الشئ معناه
ترتيب آثاره الشرعي عليه لا علله وملازماته ولو كانت شرعية لأن المفروض
ان الالتزام بوجوده الواقعي لا يمكن فلا بد وأن يكون
بلحاظ آثاره التي يراها الامر أثرا وأما ملزوماته وملازماته ولو كانتا
شرعيتين فيحتاج إلى دليل مستقل.
ومما ذكرنا ظهر لك أن الفرق بين الامارة والأصل في قولهم بحجية
المثبتات من الامارات دون الأصول هو الذي ذكرنا لا ما قيل
بإطلاق أدلة الامارات دون أدلة الأصول وذلك (أولا) من جهة عدم
الفرق بين بين أدلة الامارات والأصول فبعض أدلة الأصول أيضا له
إطلاق وإن كان البعض الاخر لا إطلاق له من جهة أنه دليل لبي كما أن
أدلة الامارات أيضا مختلفة (وثانيا) بينا ان المجعول في باب
الأصول معنى لا يمكن أن يشمل الآثار الشرعية للمؤدى بتوسط الآثار
العقلية أو العادية ولا دخل لها
484

بمرحلة الاثبات حتى يتمسك بالاطلاق وأما المجعول في باب
الامارات معنى يشمل الجميع بالمعنى الذي تقدم شرحه (فما ذكره)
في
الكفاية في هذا المقام - من ابتنأ المسألة على أن التنزيل هل هو
بلحاظ المستصحب وحده بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة
أو
يكون تنزيله بلوازمه العقلية أو العادية كما هو الحال في تنزيل مؤديات
الطرق والامارات أو بلحاظ مطلق الأثر ولو بالواسطة - غير
سديد لما شرحناه مفصلا (وأما) ما قال من احتمال تنزيل المؤدى مع
لوازمه العقلية والعادية فهذا الاحتمال باطل لان هذا ليس تنزيلا
واحدا بل تنزيلات متعددة جمعها في لفظ واحد فيحتاج ثبوتا إلى
اعتبارات متعددة وإثباتا إلى أدلة مستقلة ولا يمكن إثباتها بدليل
واحد مثل لا تنقض اليقين بالشك ذلك لان التعبد بالمؤدى لا معنى له
إلا ترتيب آثاره لا ملزوماته وملازماته.
وأما ما ربما يقال من أن عدم حجية مثبتات الأصول من جهة صرف
أدلتها عن الآثار مع الواسطة بناء على أن يكون أثر الأثر أثرا
فالآثار الشرعية التي تكون أثرا للمؤدى بواسطة الآثار العقلية والعادية
وإن كانت أثرا للمؤدى إلا أن الأدلة منصرفة عن الآثار مع
الواسطة فلا يشملها وأما نفس الواسطة ولو أنها أثر بلا واسطة لكنها
حيث أنها عقلية أو عادية وليست من المجعولات الشرعية وليس
أمر وضعها ورفعها بيد الشارع فلا يمكن أن يكون التعبد ببقاء المتيقن
في الاستصحاب بملاحظة تلك الآثار (وفيه أولا) ان هذا الكلام
على تقدير صحته يصحح عدم حجية مثبتات الأصول ولا دخل له
بجهة الفرق بين الامارة والأصل الذي هو الان محل الكلام (وثانيا)
على تقدير كون أثر الأثر أثرا لا وجه له لادعأ الانصراف (وثالثا) أنه
هناك ليس لفظ الأثر في البين حتى يدعي الانصراف بل الدليل
الدال على التعبد بمؤدى الأصل معناه ترتيب الآثار والأحكام الشرعية
485

للمؤدى عليه (ورابعا) قضية أن أثر الأثر أثر كلام فارغ في الأحكام الشرعية
وذلك من جهة أن الأحكام الشرعية ليست آثارا
لموضوعاتها فلو نذر أن يتصدق لانبات لحية ولده فوجوب التصدق
ليس من آثار إنبات اللحية حتى يكون أثر أثر الحياة المشكوك
البقاء فالانصراف لا وجه له بل الوجه في عدم حجية مثبتات الأصول
ما ذكرنا.
ثم إن هاهنا أمور يجب التنبيه عليها
(الأول)
في أنه لا شك في ترتيب الآثار العقلية التي موضوعها الحكم الشرعي
مطلقا سوأ كان ظاهريا أو واقعيا على المستصحب وذلك لوجود
موضوعاتها وعدم جواز تخلف الحكم عن موضوعه (وأما) ما قلنا من
عدم جواز ترتيب الآثار الشرعية التي للمستصحب بواسطة الآثار
العقلية والعادية فذلك فيما إذا كانت تلك الآثار للوجود الواقعي
للمستصحب (وبعبارة أخرى) الآثار العقلية والعادية إذا كانت ثابتة
للأحكام الواقعية أو لموضوعاتها بوجوداتها الواقعية فبالاستصحاب
حكما كان أو موضوعا لا يترتب تلك الآثار العقلية ولا الأحكام الشرعية
المترتبة على تلك الآثار العقلية والعادية لما ذكرنا مفصلا من
أن مفاد دليل الاستصحاب التعبد ببقاء المستصحب حكما كان أو
موضوعا لا إبقائه في حال الشك حقيقة ومعنى التعبد بوجود شي
بقاء أو حدوثا ترتيب آثاره الشرعية عليه فالآثار العقلية أو العادية
للمستصحب بوجوده الواقعي خارجة عن دائرة هذا التعبد لعدم ثبوت
موضوعها وهو الوجود الواقعي للمستصحب والوجود التعبدي و
ان كان ثابتا ولكن هو بلحاظ آثاره الشرعية لا العقلية والعادية (وفيما
نحن فيه) المفروض ان الموضوع لتلك الآثار العقلية أعم من
الوجود الواقعي للمستصحب أي الحكم الواقعي في استصحاب
الاحكام والوجود التعبدي أي الحكم الظاهري في استصحاب
الاحكام
فبالاستصحاب يوجد موضوع ذلك الأثر العقلي لا محالة (وهذا)
الذي قلنا من وجود
486

موضوع ذلك الأثر العقلي لا محالة بناء على أن يكون مفاد
الاستصحاب جعل حكم مماثل للمستصحب في استصحاب
الاحكام حتى يكون
حكم ظاهري في البين وأما ان أنكرنا الحكم الظاهري وقلنا ان مفاد
الاستصحاب ليس إلا صرف البنأ العملي والامر به من طرف
الشارع وليس جعل حكم في البين أصلا فهذا المطلب لا يستقيم لأنه
ليس حكم ظاهري حينئذ حتى نقول بتحقق موضوع ذلك الأثر العقلي
لا محالة.
(الثاني)
استثنى الشيخ الأعظم (قده) مما ذكرنا من عدم حجية الأصل المثبت
ما إذا كانت الواسطة خفية بحيث يكون الأثر الشرعي عند العرف
لنفس المستصحب ولا يلتفتون إلى أن هذا الأثر له بواسطة أمر عقلي
أو عادي لخفأ الواسطة عليهم والظاهر أن الوجه في هذا
الاستثناء هو (ان خطاب) لا تنقض الذي مفاده ترتيب آثار الشرعية
التي للمستصحب بوجوده الواقعي عليه في ظرف الشك في بقائه
حتى يكون ظرف الشك في بقائه مثل ظرف القطع بحدوثه من حيث
العمل كسائر الخطابات العرفية (موكول) إلى فهم العرف فإذا رأى
العرف ان الأثر الشرعي من آثار نفس المستصحب بواسطة خفأ
الواسطة عندهم وان كان بالدقة العقلية له واسطة فيرى خطاب لا
تنقض موجها إليه (ومعلوم) ان امتثال الخطابات الشرعية كامتثال
الخطابات العرفية يكون بإتيان أو ترك ما يفهم العرف منها إذ
الشارع في مقام تفهيم خطاباته سلك طريق أهل المحاورة ولم يخترع
طريقا خاصا (ولكن) هذا كلام عجيب لان الذي موكول إلى فهم
العرف هو فهم ظاهر الخطابات وتشخيص الظاهر عن غيره وأما
تطبيق هذا الظاهر على ما يأتي به في الخارج بنظر العقل بكمال
الدقة ولا دخل لنظر العرف في هذا المقام أصلا فلو قال الشارع اغسل
وجهك ويديك بالماء للوضوء مثلا فما هو راجع إلى فهم العرف
هو أنه ما هو ظاهر لفظ الغسل ولفظ
487

الوجه ولفظ الماء وأيضا ما هو ظاهر هذه الجملة من حيث المعنى
التركيبي (وأما) في مقام تطبيق هذا الذي فهم على الخارج ليس
المرجع النظر العرفي بل يلاحظ فيه كمال الدقة ففيما نحن فيه بعد
الرجوع إلى العرف وفهمه من لا تنقض اليقين بالشك وجوب ترتيب
آثار الشرعية التي للمستصحب بدون واسطة عقلية أو عادية عليه ففي
مقام التطبيق لا اعتبار لما يرى من انطباقه على ما كان الواسطة
خفية بحيث يرى الأثر لنفس المستصحب بإلقأ الواسطة العقلية و
العادية فكل أثر شرعي لم يكن له الواسطة في العروض بحيث يكون
المعروض بالدقة العقلية نفس المستصحب ولا يمكن سلبه عنه ولو
بالدقة يترتب على المستصحب في حال الشك في بقائه ولو كان
لعروضه واسطة في الثبوت وأما ما كان له واسطة في العروض ولو
بالدقة فلا يترتب عليه لأنه ليس من أحكامه وأعراضه وآثاره و
المفروض أن المجعول في الاستصحاب تنزيل المشكوك البقاء منزلة
معلوم البقاء من حيث العمل على طبقه بالنسبة إلى آثار الشرعية
التي لنفسه وهذا ليس من آثار نفسه.
وأما ما قيل من أن المسامحة العرفية راجعة إلى تحديد مفهوم نقض
اليقين بالشك بما يراه العرف نقضا وان لم يكن نقضا بالدقة
فمغالطة واضحة من جهة أن مراد أستاذنا المحقق (قده) من قوله بما
يراه العرف نقضا ان كان ما يفهم من ظاهر الكلام فقد تقدم مرارا
أن ظاهر هذا الكلام حسب المفهوم العرفي ترتيب آثار الشرعية التي
لنفس المستصحب من دون واسطة في العروض عليه في حال
الشك في بقائه فإذا كان لاثر شرعي واسطة في العروض عقلية أو
عادية وسامح العرف ونسب الأثر إلى نفس المستصحب بلا واسطة
فلا اعتبار بهذه المسامحة ويرجع إلى مقام التطبيق وان كان ما يراه في
الخارج مصداقا لنقض اليقين بالشك فهذا عين المسامحة في
التطبيق نعم لو قلنا بأن عدم شموله للآثار مع الواسطة بواسطة
488

الاطلاق أو الانصراف إلى الآثار الشرعية التي للمستصحب بلا واسطة
فيمكن ادعأ الاطلاق أو عدم الانصراف عما إذا كان الواسطة
خفية بحيث يراه العرف أثرا لنفس المستصحب بلا واسطة ولكن
تقدم أن عدم الشمول لقصور في المجعول لا لعدم الاطلاق أو
للانصراف.
ثم أن ما ذكره صاحب الكفاية من إلحاق الواسطة الجلية بالواسطة
الخفية فيما إذا كان بين الواسطة وذوي الواسطة ملازمة حتى في
مقام التنزيل بمعنى أن تنزيل مشكوك أحدهما منزلة معلومه يكون
ملازما عرفا - مع تنزيل مشكوك الاخر منزلة معلومه بحيث يفهم
العرف تنزيلين أحدهما بالدلالة المطابقية والاخر بالدلالة الالتزامية -
فهذه دعوى يحتاج إلى فهم العرف بالدلالة الالتزامية مثل هذا
التنزيل وعلى فرض ثبوته فهو خارج عن مسألة أصل المثبت لان
المراد من الأصل المثبت أن تنزيل المؤدى مثل المستصحب في حال
الشك في بقائه منزلة كونه معلوما من حيث ترتيب الآثار عملا يشمل
الآثار الشرعية التي تكون للمستصحب بلا واسطة ومع الواسطة
العقلية أو العادية كل ذلك بتنزيل نفس المؤدى لا بتنزيل آخر بالدلالة
الالتزامية كما هو المستفاد من كلام صاحب الكفاية.
الثالث في ذكر بعض الموارد المتفرعة على حجية الأصل المثبت فيما
إذا كانت الواسطة خفية
(فمنها) استصحاب رطوبة النجس من المتلاقيين مع كون الطاهر منهما
يابسا لصيرورة ذلك الطاهر نجسا بسبب ملاقاته مع النجس
المستصحب الرطوبة مع أن سبب النجاسة لذلك الطاهر سراية
النجاسة من النجس المرطوب إلى الطاهر وإثبات النجاسة
باستصحاب
الرطوبة يكون من الأصل المثبت لان النجاسة أثر السراية والسراية من
اللوازم العادية للرطوبة فمن يفتي بصيرورة ذلك الطاهر
اليابس نجسا باستصحاب الرطوبة لا بد وأن يقول باعتبار أصل
المثبت (ولكن التحقيق) هو أنه لو قلنا
489

أن موضوع النجاسة هو الملاقى للنجس الرطب كما هو الصحيح فهذا
من الموضوع المركب الذي أحد جزئيه بالوجدان وهو كونه ملاقيا
للنجس والاخر بالاستصحاب وليس من الأصل المثبت وأما ان قلنا
بأن موضوعها هو الجسم الذي سرى إليه النجاسة بواسطة الملاقاة
مع النجس الرطب فيكون من الأصل المثبت الذي يكون الواسطة فيه
جلية فلا يجوز الافتأ بنجاسة الملاقى لأجل استصحاب الرطوبة و
على كل تقدير عد هذا من الأصل المثبت الذي تكون الواسطة فيه
خفية لا وجه له بل اما ليس من الأصل المثبت أو يكون من القسم
الذي
تكون الواسطة فيه جلية ولا يجري الاستصحاب لأجل إثبات نجاسة
الطاهر اليابس من المتلاقيين.
(ومنها) ما ذكره المحقق (قده) من أنه لو اتفق الوارثان على إسلام
أحدهما المعين في أول شعبان والاخر في غرة رمضان واختلفا في
زمان موت المورث فادعى أحدهما موته في أثنأ شعبان وادعى
الاخر كونه في أثنأ رمضان كان المال بينهما نصفين لأصالة بقاء
حياة المورث إلى زمان إسلام الوارث الاخر ولا شك في أن هذا
الاستصحاب من الأصل المثبت لان إسلام الوارث في حال حياة
المورث
الذي هو موضوع كونه وارثا من اللوازم العقلية لبقأ حياة المورث إلى
ذلك الزمان وفيه أنه يمكن أن يقال أن موضوع الإرث ليس كون
إسلام الوارث في حال حياة المورث بحيث يكون الحياة ظرفا للاسلام
بل موضوع كونه وارثا اجتماع إسلامه مع حياة المورث في
زمان واحد بلا لحاظ إضافة الظرفية بينهما فالموضوع مركب أحرز أحد
جزئيه بالوجدان وهو إسلام الوارث والاخر بالأصل وهو
حياته في ذلك الزمان (ومنها) حكمهم بضمان من كان يده على مال
الغير مع الشك في كونه مأذونا من قبله لأصالة عدم كونه مأذونا مع أن
كون اليد عادية الذي هو موضوع الضمان من اللوازم العقلية لعدم
كونه مأذونا من قبله.
490

(وفيه) أنه ليس موضوع الضمان عنوان كون اليد عادية بل موضوعه
كون اليد غير مأذونة فالموضوع مركب من جزين أحدهما أحرز
بالوجدان وهو اليد على مال الغير (والثاني) عدم كونها مأذونة وهو
أحرز بالأصل (ومنها) تمسكهم في عقد الفضولي لتأثير إجازة
المالك في مورد الشك في وقوع الرد من قبله بأصالة عدم صدور الرد
مع أنه من الأصل المثبت لان عدم كون الإجازة مسبوقا بالرد
الذي هو موضوع تأثير العقد المجاز من اللوازم العقلية لعدم صدور
الرد (وفيه) أنه يمكن أن يكون موضوع التأثير مركبا من الإجازة و
عدم صد ورود من قبل المالك فأحرز أحد جزئيه بالوجدان وهي
الإجازة والجز الاخر بالأصل وهو عدم صدور الرد ولا يحتاج إلى
إثبات عنوان عدم المسبوقية بالرد حتى يكون من الأصل المثبت.
(ومنها) ما ذكره العلامة في التحرير فيما إذا اختلف الجاني وولى
الميت في سراية الجناية فقال الولي مات بالسراية وقال الجاني مات
بسبب آخر أو صار الاختلاف بينهما فقال الجاني ان الجناية وقعت
على الميت بعد الموت وقال الولي بوقوعها قبل الموت وإنما الموت
كان بسببها فقال العلامة (قدس سره) في الضمان وعدمه وجهان من
أصالة عدم الضمان ومن أصالة بقاء حياة المجني عليه إلى زمان
وقوع الجناية ووقوع الجناية على الحي الذي هو موضوع الأثر من
اللوازم العقلية لبقأ الحياة ولكن هذا الفرع لا بد فيه من القول بعدم
صحة هذا الاستصحاب لاثبات أحكام الجناية على الحي اما بناء على
ما اخترناه من عدم اعتبار أصل المثبت ولو كانت الواسطة خفية
فالامر واضح واما بناء على ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (قده) من
جريانه مع خفأ الواسطة فلعدم خفائها (ومنها) جريان استصحاب
عدم وجود الحاجب عند الشك في وجوده في البشرة في محل
الغسل أو الوضوء لصحة
491

الوضوء أو الغسل ولا شك في أن صحتهما منوطة بوصول الماء إلى
البشرة وهذا من اللوازم العادية للمستصحب أي عدم وجود الحاجب
وفيه أن الواسطة هاهنا ليست خفية فهذا الاستصحاب ينبغي أن لا
يجري لأجل هذا الأثر حتى على مسلك الشيخ الأنصاري (قده) اللهم
إلا
أن يقال أن البنأ على عدم وجود الحاجب عند الشك في وجوده
ليس من باب الاستصحاب والأصل العملي بل من جهة سيرة العقلا
و
بنائهم على العدم وعدم الفحص عن الحاجب عند الغسل أو الوضوء
فيكون أصالة عدم وجود الحاجب مثل أصالة عدم القرينة وأصالة
الظهور وأمثالها من الامارات العقلائية وقد تقدم حجية مثبتاتها.
ومنها استصحاب بقاء شهر رمضان أو عدم دخول شوال يوم الشك
لأجل ترتيب آثار يوم أول شوال على غده مع أنه من الأصل المثبت
لان كون غد يوم الشك يوم أول شوال ويوم العيد من اللوازم العقلية
لبقأ رمضان يوم الشك أو لعدم دخول شوال في ذلك اليوم ومع
ذلك بنائهم على ترتيب آثار العيد على غد يوم الشك من صلاة العيد
وإعطأ الفطرة وغسل يوم العيد وسائر أحكامه بل يرتبون آثار
اليوم الثاني والثالث وهكذا إلى آخر الشهر مع أن كل هذه العناوين أي
الثاني والثالث وهكذا إلى آخر الشهر مشكوكة لأن الشك في
أول الشهر مستلزم للشك في جميع هذه العناوين والاستصحاب
مثبت بالنسبة إلى الجميع.
وأما احتمال أن يكون أول يوم من الشهر عبارة عن اليوم الذي يقينا من
الشهر مع كونه مسبوقا بضده أو عدم كونه مسبوقا بمثله حتى
يكون من الموضوعات المركبة التي أحرز أحد جزئيه بالوجدان وهو
كونه من شوال مثلا وهكذا في سائر الأيام التي بعد غد يوم
الشك إلى آخر الشهر فان كون كلها من شوال معلوم بالوجدان والجز
الاخر بالأصل
492

أي كون يوم قبله من رمضان حتى يكون مسبوقا بضده أي باستصحاب
بقاء رمضان أو استصحاب عدم كونه من شوال حتى لا يكون
مسبوقا بمثله فبعيد إلى الغاية لان الظاهر من هذه الكلمة أي لفظ أول
الشهر معنى بسيط ينتزع عن هذا الامر المركب فليس من قبيل
الموضوع المركب الذي يكون إحراز أحد جزئيه بالوجدان والجز
الاخر بالأصل لا لما ذكره شيخنا الأستاذ من أن المفاهيم لا تركيب
فيها في صقع الذهن بل هي أمور بسيطة وذلك لما تقدم في الجز
الأول من هذا الكتاب عدم تمامية هذا الكلام بل لان المتفاهم العرفي
من هذه العناوين كلها أي أول الشهر وثانية وهكذا أمور بسيطة تنتزع
الأول من كونه يقينا من شوال مثلا مع كونه مسبوقا بضده أو
عدم كونه مسبوقا بمثله والباقي من كونه من شوال مثلا يقينا مع سبقه
بما قبله من الأول إلى ثلثين (فاليوم) الثاني من شوال مثلا
ينتزع من كونه من شوال يقينا مع كونه مسبوقا باليوم الأول وهكذا إلى
آخر الشهر وعلى كل حال هذا الاستصحاب - أي استصحاب
عدم دخول شوال أو استصحاب بقاء رمضان لاثبات غد يوم الشك أو
شوال وبعد غده يوم الثاني وهكذا إلى آخر الشهر - من الأصل
المثبت الذي يكون الواسطة جلية (فلا بد) من علاج لهذا الاشكال
عند من يرى عدم اعتبار الأصول المثبتة كما هو ما اخترناه (وأحسن ما
يمكن أن يقال) أن الشارع جعل مضي ثلثين يوما من أول شهر رمضان
فيما إذا لم ير الهلال ليلة الشك لعلة في السماء أو لجهة أخرى
أمارة على كون اليوم التالي لمضي ثلثين أول الشهر ورؤية الهلال أيضا
بعد ليلة الشك التالي لها إذا لم ير في ليلة الشك أمارة أخرى
لكون نهار تلك الليلة أول الشهر، وهكذا إلى آخر الشهر وأمارية هذين
يستفاد من الأخبار الواردة في هذا الباب (الرابع) في أن المدار
على كون المستصحب ذا أثر عملي يكون مصححا للتنزيل هو
493

كون بقائه ذا أثر ولو لم يكن له حال حدوثه أثر عملي أصلا، فإذا كان
لبقأ ذلك المتيقن حال الشك في بقائه أثر عملي فيجري
الاستصحاب ويترتب عليه أثره (وذلك) من جهة أن مفاد لا تنقض هو
الحكم ببقاء متيقن الحدوث في ظرف الشك من حيث العمل، لأنه
ظرف التنزيل والتعبد وجودا وعدما.
(التنبيه الثامن) فيما إذا شك في التقدم والتأخر
فيما إذا تعاقب حادثان: كالطهارة والحدث (فتارة) يكون الاستصحاب
بلحاظ نفس أجزأ الزمان (وأخرى) بلحاظ زمان حدوث
الحادث الاخر (أما الأول) فلا شك في جريان الاستصحاب في كل
واحد منهما إذا كان له أثر بهذا اللحاظ، فيجري استصحاب عدم كل
واحد منهما إلى زمان القطع بحدوثه (ولا فرق) بين أن يكون أصل
الحدوث مشكوكا أو كان أصل الحدوث معلوما إجمالا في أحد
الأزمنة ولكن يجهل تاريخ حدوثه تفصيلا (وذلك) لعدم منافاة العلم
الاجمالي مع الشك بالنسبة إلى الخصوصيات والعناوين التفصيلية،
وعلى كل حال جريان الاستصحاب في كل واحد منهما بالنسبة إلى
أجزأ الزمان التفصيلية لا مانع عنه ولا خلاف فيه أيضا.
(وأما الثاني) أي: استصحاب كل واحد منهما بلحاظ زمان حدوث
حادث الاخر فالأقسام المتصورة فيه وإن كانت كثيرة من حيث
التقدم والتأخر والتقارن - وكون الحادثين حالتين متضادتين لا يمكن
اجتماعهما كالطهارة والحدث وعدم كونهما كذلك كإسلام
الوارث مع موت المورث أو إسلام المتوارثين - ولكن المقصود هاهنا
الان انهما إما مجهولي التاريخ وإما أحدهما معلوم التاريخ وأما
كون كلاهما معلوم التاريخ فخارج عن موضوع البحث، لأنه حينئذ لا
يبقى مورد للاستصحاب (فقال بعض) بجريان الاستصحاب في
كلتا الصورتين (وقيل) بالعدم مطلقا وذهب شيخنا الأستاذ (قده) إلى
التفصيل بين ما إذا كان كلاهما مجهول التاريخ
494

فقال بجريانه فيهما أو كان أحدهما معلوم التاريخ فلا يجري فيه، وأما
الاخر المجهول فيجري فيه (واما الذي) يقول بجريانه مطلقا
فيقول عمدة الاشكال بالنسبة إلى معلوم التاريخ وإلا ففي المجهول لا
إشكال أصلا لتمامية أركان الاستصحاب من اليقين بالعدم قبل
حدوث الحادثين أي العدم الأزلي والشك في حدوثه إلى زمان
حدوث الحادث الاخر.
وأما الاشكال في معلوم التاريخ بأن زمانه معلوم مثلا موت المورث
معلوم أنه في غرة رمضان، فعدم الموت إلى ذلك الزمان معلوم و
من ذلك الوقت يكون الموت معلوما فمتى يكون الشك حتى
يستصحب؟ (فجوابه) ان ما ذكرت - من معلومية زمانه وعدم شك
في البين
بل أمره دائر بين يقينين - إنما يكون بالنسبة إلى نفس أجزأ الزمان (و
أما) بالنسبة إلى زمان حدوث الحادث الاخر حيث أن ذلك
الزمان مجهول فيمكن أن يكون حدوث ذلك الحادث الاخر قبل
رمضان ويمكن أن يكون بعده، فان كان مثلا إسلام الوارث قبل غرة
رمضان بقي عدم حدوث الحادث المعلوم أي الموت المورث إلى
زمان حدوث الحادث المجهول أي إسلام الوارث قطعا (وان كان)
إسلامه بعد غرة رمضان فعدم الحادث المعلوم أي موت المورث قطعا
غير باق إلى زمان حدوث الحادث المجهول (وحيث) ان تاريخ
إسلامه مجهول حسب الفرض ومردد بين أن يكون قبل غرة رمضان أو
بعدها فقهرا يحصل الشك والترديد في بقاء عدم معلوم
التاريخ إلى زمان حدوث مجهول التاريخ وفي عدم بقاء عدمه إلى
ذلك الزمان.
واستشكل شيخنا الأستاذ (قده) على هذا الجواب بأن زمان الحادث
الاخر الذي هو مجهول التاريخ (إما) أن يؤخذ قيدا للمستصحب الذي
هو عبارة عن عدم معلوم التاريخ في الفرض (وإما) أنه يكون صرف
ظرف من دون تقييد في البين، فإذا كان من قبيل الأول فعدم
جريان
495

الاستصحاب يكون من جهة اختلال أحد ركنية وهو اليقين السابق
(لأنه) في المثل الذي تقدم فرضه وهو أن يكون موت المورث معلوما
بأن يكون مثلا في غرة رمضان، فعدم الموت مقيدا بكونه في زمان
إسلام الوارث غير متيقن سابقا (لان) العدم الأزلي المتيقن سابقا
هو عدم الموت من دون تقييد ذلك العدم بقيد كونه في زمان كذا (و
بعبارة أخرى) العدم المقيد بكونه في زمان كذا مثل الوجود المقيد
بكونه في زمان كذا، فكما ان الثاني لا يمكن أن يتحقق قبل ذلك الزمان
فالأول أيضا كذلك (لأنه) نقيض الوجود المقيد فإذا كان تحقق
ذلك العدم قبل ذلك الزمان ممكنا وفي نفس ذلك الزمان وجوده
أيضا ممكن لأنهما في زمانين فيلزم إمكان اجتماع النقيضين (وأما)
إذا لم يكن العدم مقيدا بكونه في زمان ذلك الحادث الاخر المجهول
تاريخه فحينئذ وإن كان له حالة سابقة إلا أنه يرجع إلى لحاظ ذلك
العدم باعتبار أجزأ الزمان (وقد عرفت) أنه بهذا الاعتبار لا شك فيه،
إذ قبل غرة رمضان معلوم عدمه وبعدها معلوم تحققه (وربما
يقال) العدم المقيد بزمان كذا ليس له حالة سابقة بمفاد ليس الناقصة
(وأما) بمفاد ليس التامة والعدم المحمولي فله حالة سابقة، لما قلنا
ان عدم المقيد نقيض وجود المقيد وكل وجود حادث مطلقا كان أو
مقيدا مسبوق بالعدم الأزلي والمحمولي، فموت المورث مقيدا بكونه
في زمان إسلام الوارث حادث مسبوق بالعدم الأزلي أي المحمولي
فلعدم موته مقيدا بكونه في زمان إسلام الوارث حالة سابقة (وفيه)
ان هذه مغالطة واضحة لان ما ذكره هذا القائل من قبيل تقييد المعدوم
لا العدم، وإلا لو كان العدم مقيدا بكونه في زمان كذا فتحققه قبل
ذلك الزمان خلف محال.
ولكن يمكن أن يقال أن عدم معلوم التاريخ الذي هو المستصحب إن
كان مقيدا بزمان وجود الحادث الاخر المجهول تاريخه فالامر كما
ذكرت
496

(وأما لو لم يكن) العدم مقيدا بل كان المعدوم أي: موت المورث مثلا
مقيدا بكونه في زمان إسلام الوارث (فلا شك) في أن الموت مقيدا
بهذا القيد مشكوك وعدمه الأزلي كان معلوما فيستصحب ذلك العدم
الأزلي المعلوم فيعارض به الاستصحاب في مجهول التاريخ
فيتساقطان.
وخلاصة الكلام في المقام ان الحادثين المتعاقبين الذين علم
بحدوثهما وشك في المتقدم والمتأخر منهما (ان كان) مجهولي
التاريخ
فاستصحاب العدم يجري في كليهما ويتساقطان وهذا فيما إذا كان
لكل واحد من العدمين أثر عملي شرعا ولو برفع الأثر الشرعي
الذي هو نقيض ذلك الأثر (وأما لو لم يكن) الأثر إلا لأحدهما فيجري
فيه بلا معارض (نعم) لو كان الأثر لعنوان تقدم أحدهما على الاخر
أو تأخره كذلك أو تقارنهما فالاستصحاب بالنسبة إلى إثبات أحد هذه
العناوين أو رفع أحدها يكون مثبتا وكذلك لا يثبت مثلا أصالة
تأخره إلى زمان كذا حدوثه في ذلك الزمان لو كان الأثر مترتبا على
حدوثه فيه بناء على أن يكون حدوث شي في زمان عبارة عن أن
يكون أول وجوده في ذلك الزمان نعم لو كان الحدوث في زمان عبارة
عن كونه موجودا في ذلك الزمان وأن يكون معدوما قبله
فيصير من الموضوع المركب الذي يحرز أحد جزئيه بالوجدان وهو
وجوده في ذلك الزمان والجز الاخر بالأصل وهو عدمه قبل ذلك
الزمان وأما جريان الاستصحاب في نفس هذه العناوين بأصالة عدم
حدوثها إذا كان لها أثر لاثبات نقيض أثرها فبمفاد ليس الناقصة
ليس لها حالة سابقة كما هو واضح وأما بمفاد ليس التامة فيجري إذا
كان الأثر لوجودها بمفاد كان التامة أو لعدمها المحمولي (و
أيضا) كانت هذه الاشيأ من المحمولات بالضمائم والأمور الواقعية
الخارجية (وأما) لو كانت من الأمور الانتزاعية التي ليس لها ما
بحذاء في الخارج وتكون من قبيل خارج المحمول فتابعة لمنشإ
انتزاعها ولا
497

الاستصحاب فيها مستقلا.
(وأما) إذا كان أحدهما معلوم التاريخ ففي مجهول التاريخ لا مانع من
جريان الاستصحاب فيه إذا كان لعدمه أثر سوأ كان بالنسبة إلى
نفس أجزأ الزمان أو كان بالنسبة إلى زمان حدوث حادث الاخر الذي
معلوم تاريخ حدوثه وأما في معلوم التاريخ فقد عرفت عدم
جريانه بالنسبة إلى أجزأ الزمان وأما بالنسبة إلى زمان حدوث حادث
الاخر المجهول تاريخه فان كان الأثر للعدم النعتي فلا يجري
الاستصحاب لعدم الحالة السابقة والعدم المحمولي وان كان له سابقة
يقين لكنه بالنسبة إلى ما له الأثر يكون مثبتا (نعم) لو كان الأثر
للعدم المحمولي فيجري الاستصحاب في معلوم التاريخ أيضا على
إشكال فيه ويسقط بالمعارضة مع استصحاب مجهول التاريخ.
ثم إن صاحب الكفاية (قده) استشكل في جريان الاستصحاب في
مجهولي التاريخ بعدم اتصال الشك باليقين مع أنه لا بد منه في جريان
الاستصحاب (لأنه) كما تقدم عبارة عن الحكم ببقاء المتيقن تعبدا من
حيث الجري العملي في ظرف الشك في بقائه ولازم هذا المعنى هو
أن يكون المستصحب في قطعة من الزمان متيقن الوجود وفي قطعة
أخرى من الزمان متصلة بالأولى مشكوك الوجود فالاستصحاب
كأنه يجر المستصحب من القطعة الأولى إلى الثانية تعبدا ومن حيث
الجري العملي.
وأما بيان عدم اتصال الشك باليقين فلان جريان الاستصحاب في
المفروض يتوقف على فرض ثلاث أزمنة (الأول) زمان القطع بعدم
حدوث كل واحد منهما (والثاني) زمان القطع بحدوث أحدهما لا
على التعيين (والثالث) أيضا زمان القطع بحدوث الحادث الاخر
كذلك
أي لا على التعيين فالزمان الأول زمان المتيقن الذي هو المستصحب و
هو عدم حدوث كل واحد منهما وزمان الشك لا بد وأن يكون
هو الزمان الثالث لا الثاني
498

(وذلك) من جهة أن الشك في التقدم والتأخر لا في أصل الحدوث و
الشك في التقدم والتأخر لا يمكن أن يتحقق إلا في فرض وجود
الاثنين لان التقدم والتأخر من الإضافات التي لا يمكن وجودها إلى
في ظرف وجود الاثنين وظرف وجود الاثنين ليس إلا الزمان
الثالث فظرف المتيقن هو الزمان الأول وظرف المشكوك بما هو
مشكوك زمان الثالث فما اتصل زمان المشكوك بما هو مشكوك
بزمان المتيقن وإلا فنفس الشك واليقين قد يفترقان حدوثا وقد
يجتمعان (فالمراد) من لزوم اتصال الشك باليقين في باب
الاستصحاب هو اتصال زمان المشكوك بالمتيقن.
وقد يقرر هذا الاشكال بوجه آخر وهو أنه لا بد من شمول دليل لا
تنقض للمقام من إحراز موضوعه وهو إحراز أن المورد من نقض
اليقين بالشك كما هو الشأن في شمول كل دليل لمورده (وفيما نحن
فيه) لا يمكن إحراز الموضوع أي كونه من قبيل نقض اليقين بالشك
لاحتمال أن يكون من قبيل نقض اليقين باليقين (وذلك) من جهة أن
الزمان الأول من الأزمنة الثلاثة المفروضة الذي هو ظرف المتيقن
يمكن أن يكون متصلا بظرف وجود المستصحب المعلوم إجمالا
وجوده إما في زمان الثاني من الأزمنة الثلاثة المفروضة وإما في
الزمان الثالث منها فيحتمل انطباق ذلك المعلوم بالاجمال على الزمان
الثاني فيكون على هذا التقدير من نقض اليقين باليقين غاية الامر
باليقين الاجمالي لا التفصيلي (وهذا) ليس من التمسك بعموم العام
في الشبهات المصداقية للمخصص المنفصل حتى يقال بعدم ورود
الاشكال عند من يقول بجواز التمسك به بل يكون من قبيل عدم
إحراز موضوع الحكم في مقام شمول الحكم لذلك المشكوك الذي لا
يمكن أن يقول به أحد ولا ريب في أنه كما تكون الملازمة بين الحكم
وموضوعه ثبوتا وهو أن وجود الحكم تابع لوجود موضوعه
كذلك تكون الملازمة بينهما في مقام الاثبات فالشك
499

في أحدهما شك في الاخر وكذلك الظن والقطع فإحراز الحكم
يحتاج إلى إحراز الموضوع (هذا) ما أفاده صاحب الكفاية أو يستفاد
من
كلامه ولكن الانصاف عدم ورود شي من الاشكالين.
أما الأول أي عدم اتصال الشك باليقين فلان العاقل إذا تيقن بشي
فمع عدم الغفلة اما أن يكون يقينه بذلك باقيا أم لا لا كلام على الأول
وعلى الثاني اما ان حصل له يقين على خلاف اليقين الأول أم لا فان
حصل له يقين على خلاف اليقين الأول ثم زال هذا اليقين الثاني و
شك
في بقاء المتيقن الأول فهذا الشك ليس له اتصال باليقين لانفصاله عنه
باليقين على خلافه ومن أوضح الواضحات عدم اجتماع اليقين على
خلاف اليقين الأول مع الشك في بقاء المتيقن فمتى حصل اليقين
على خلاف اليقين الأول ينفصل الشك في البقاء عن اليقين الأول وإلا
لو
لم يحصل يقين على خلاف اليقين الأول ولا بقي هو أي اليقين الأول
(فلا محالة) يكون شاكا في بقاء ذلك الشئ مع الالتفات إليه وعدم
الغفلة ففي صورة عدم توسط يقين على الخلاف بين اليقين بوجود
شي والشك في بقائه محال أن لا يكون الشك متصلا باليقين لان
معنى عدم اتصاله اما بالغفلة وهو خلاف المفروض واما بتوسط يقين
على خلاف اليقين السابق والمفروض أنه لم يحصل فحاله حينئذ لا
يخلو من أن يكون اما باقيا على يقينه السابق أو يكون شاكا في بقاء
ذلك الشئ فلا يعقل الانفصال بينهما إذا علم بإسلام الوارث وموت
المورث أيضا وشك في المتقدم والمتأخر منهما وفرضنا أزمنة ثلاثة
مثلا يوم الخميس زمان العلم بعدم حدوث كل واحد منهما ويوم
الجمعة زمان حدوث أحدهما لا على التعيين ويوم السبت أيضا
كذلك زمان حدوث أحدهما لا على التعيين فلا شك في أنه يوم
الجمعة
الذي هو زمان العلم الاجمالي بحدوث أحد الحادثين وكذلك أول
يوم السبت الذي هو أيضا
500

زمان العلم الاجمالي بحدوث أحد الحادثين ليس له علم بخلاف
اليقين السابق إلى آخر يوم السبت الذي هو زمان القطع بحدوث كلام
الحادثين.
ومما ذكرنا ظهر الجواب عن التقرير الثاني عن الاشكال أي عدم إحراز
موضوع الاستصحاب وهو نقض اليقين بالشك بل من المحتمل
أن يكون من نقض اليقين باليقين (وذلك) من جهة عدم حصول العلم
التفصيلي على خلاف الحالة السابقة في كل واحد من الاستصحابين
لعدم العلم بحدوث كل واحد من الحادثين بالخصوص والعلم
الاجمالي بحدوث أحدهما وان كان حاصلا إلا أنه لا ينافي الشك في
خصوص كل واحد منهما كما هو واضح (ولذلك) لم نقل بعدم
المجرى للأصول العملية في أطراف العلم الاجمالي بل قلنا بأن عدم
جريانها في أطراف العلم الاجمالي إذا كان مخالفا للمعلوم بالاجمال
إما لسقوطها بالمعارضة وإما من جهة كون العلم الاجمالي علة تامة
لوجوب الموافقة القطعية كحرمة المخالفة القطعية كما هو المختار
عندنا وقد تقدم تفصيله (ثم إن ما ذكره) صاحب الكفاية من عدم
اتصال الشك باليقين أو عدم إحراز موضوع الاستصحاب في
استصحاب الحادث المجهول التاريخ إنما هو فيما إذا كان كلاهما
كذلك و
أما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ فهذا الاشكال والكلام على فرض
صحته وتماميته لا يرد في استصحاب مجهول التاريخ منهما.
(واستشكل) أستاذنا المحقق (قده) على جريان الاستصحاب في
مجهولي التاريخ بإشكال آخر وحاصل ما أفاد أنه لا شك في أن
الاستصحاب عبارة عن التعبد ببقاء المستصحب في ظرف الشك في
بقائه وارتفاعه وجدانا (وإلا) فلو علم وجدانا ببقائه أو ارتفاعه
(فلا مجال) للتعبد بأحدهما فشأن الاستصحاب دائما رفع الشك
تعبدا عن بقاء الشئ بعد القطع بحدوثه فيما إذا شك في بقائه وجدانا
و
أما إثبات ان هذا الزمان زمان حدوث
501

الحادث الفلاني أو ليس زمان حدوثه فليس من شؤون الاستصحاب (و
أيضا) لا شك في أن التعبد الاستصحابي بمعنى جر المستصحب
تعبدا يكون في ظرف الشك إلى انتقاض الحالة السابقة باليقين على
خلافها وفي ظرف اليقين بالانتقاض لا يبقى محل للاستصحاب (إذا
عرفت) ذلك فنقول الأزمنة الثلاثة المفروضة مثلا لاسلام الوارث و
موت المورث بناء على تعاقبهما في الحدوث وعدم اجتماعهما في
زمان واحد فالزمان الأول زمان القطع بعدم حدوث كليهما والزمان
الثاني زمان الشك في حدوث كل واحد منهما مع العلم إجمالا
بحدوث أحدهما وقد بينا عدم تنافي الشك التفصيلي مع الاجمالي و
هذا الزمان الثاني هو زمان جر المستصحب تعبدا لأنه زمان الشك
في البقاء وأما الزمان الثالث فزمان القطع بحدوث المستصحب
وجدانا إما في نفس ذلك الزمان أو في زمان قبله وهو الزمان الثاني
ففي الزمان الثالث لا يمكن جر عدم الموت أو عدم الاسلام تعبدا
للقطع بانتقاض كلا العدمين (وحيث) ان موضوع الأثر هو عدم كل
واحد منهما في زمان وجود الاخر والتعبد ببقاء عدم كل واحد منهما
في الزمان الثاني الذي هو ظرف الاستصحاب لا يثبت كون هذا
العدم في زمان وجود الاخر لأنه مشكوك لاحتمال أن يكون زمان
حدوث نفس ما استصحب عدمه وليس من شؤون الاستصحاب رفع
هذا الشك كما هو واضح فلا يترتب على هذا الاستصحاب أثر
المطلوب منه.
وهذا الاشكال لا يرد على استصحاب مجهول التاريخ إذا كان الاخر
معلوم التاريخ لأن الشك ممتد في هذه الصورة إلى زمان الواقعي
المعلوم لمعلوم الحدوث (نعم) هذا الاشكال يرد بعينه على
استصحاب عدم معلوم التاريخ إذا كان الأثر لعدمه في زمان وجود
الحادث
الاخر المجهول التاريخ لعين ما ذكرنا في مجهولي التاريخ (وفيه) أنه لا
شك في امتداد الشك من
502

آن أول حدوثه إلى زمان الواقعي لوجود الحادث الاخر في مرحلة
الاثبات ولو كان وجوده بحسب الواقع قبل ذلك الزمان (وبعبارة
أخرى) موضوع الاستصحاب هو اليقين والشك ولا دخل فيه لوجود
المتيقن والمشكوك أصلا فالاستصحاب يثبت بقاء ما كان ثابتا
يقينا في ظرف الشك في بقائه وجدانا ثبوتا تعبديا سوأ كان في الواقع
ثابتا قبله أو بعده أو لم يكن ثابتا أصلا (والحاصل) أن أثر
الاستصحاب هو ثبوت المشكوك ثبوتا تعبديا في مجموع زمان الشك
من أوله إلى آخره فإذا كان عدم كل واحد من الحادثين معلوما
قبل العلم الاجمالي بحدوث أحدهما وبعده يشك في بقاء عدم كل
واحد من الحادثين وهذا الشك مستمر إلى زمان وجود الحادث الاخر
لاحتمال حدوث هذا الذي استصحب عدمه بعد ذلك الحادث الاخر
فيكون عدمه في زمان حدوث الاخر ثابتا بالتعبد فإذا كان الأثر مثلا
لاسلام الوارث مع عدم موت المورث في زمان إسلامه يثبت
الموضوع المركب أحد جزئيه بالوجدان وهو إسلام الوارث والجز
الاخر
بالتعبد وهو عدم موت المورث في زمان إسلام الوارث وهو موضوع
الأثر على الفرض.
بقي الكلام في الحادثين المتضادين كالطهارة الخبثية مع النجاسة في
جسم بحيث يكون كلاهما في محل واحد أو الطهارة والحدث
لشخص واحد فإذا علم بوجود كلا الحادثين وشك في المتقدم و
المتأخر منهما (فأما) استصحاب عدم كل واحد منهما إلى زمان الشك
في المتقدم والمتأخر منهما (فلا) يجري قطعا للعلم بانتقاض العدم
الأزلي في كليهما وإنما الشك في التقدم والتأخر فقط لا في أصل
حدوثهما (وأما) استصحاب عدم كل واحد منهما إلى زمان وجود
الاخر وإن لم يرد عليه شبهة عدم اتصال الشك باليقين لما أجبنا عنه
(ولكن) لا أثر له من جهة أن هذا الاستصحاب لا يثبت تأخره عن
الحادث الاخر حتى تكون النتيجة ثبوته وارتفاع الاخر
503

فيترتب آثار وجوده عليه إلا بناء على القول بصحة أصل المثبت (و
قد) عرفت بطلانه مثلا استصحاب عدم الحدث إلى زمان وجود
الطهارة لا يثبت تأخر الحدث عن الطهارة فيحكم بوجود الحدث و
ارتفاع الطهارة فيترتب عليه آثار الحدث إلا على القول بحجية أصل
المثبت (نعم) لو كان الأثر لنفس عدم كل واحد منهما إلى زمان وجود
الاخر فلا مانع من جريانهما من حيث تمامية أركان الاستصحاب
ولكن يتساقطان من جهة المعارضة (وأما) استصحاب بقاء كل واحد
منهما إلى زمان الشك في المتقدم والمتأخر منهما (فلا مانع) من
جريانهما من ناحية تمامية أركان الاستصحاب لولا سقوطهما
بالمعارضة (وقد) قال به الشيخ الأعظم (قده) واستشكل عليه أيضا
بعدم
اتصال الشك باليقين للعلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة في
أحدهما واحتمال أن يكون المعلوم بالاجمال أي ما هو مرفوع الوجود
المعلوم ارتفاعه هذا هو الذي يستصحب بقائه.
(وبعبارة أخرى) إذا فرضنا أزمنة ثلاثة (الأول) زمان وجود أحدهما لا
على التعيين (والثاني) زمان وجود الاخر أيضا كذلك أي لا على
التعيين (الثالث) زمان الشك في المتقدم والمتأخر منهما وفي هذا
الزمان الثالث ولو يكون شاكا في بقاء كل واحد منهما مع العلم
بوجودهما فزمان الشك في البقاء مع القطع بالحدوث هو الزمان
الثالث وزمان اليقين بوجود المستصحب حيث أنه علم إجمالي مردد
بين الزمان الأول والثاني وحيث أنه من المحتمل أن يكون المعلوم
بالاجمال منطبقا على الزمان الأول فيكون منفصلا عن زمان الشك
الذي عرفت أنه الزمان الثالث والفاصل هو الزمان الثاني.
(ولكن) قد عرفت جواب هذه الشبهة وان الضابط في عدم اتصال
الشك باليقين هو أن يتوسط يقين على خلاف اليقين السابق بينه وبين
الشك
504

وإلا فمع الالتفات إلى وجود شي أو ثبوت شي لشي أو عدم شي
أو سلب صفة عن شي فمحال أن لا يكون اما متيقنا بذلك الشئ أو
شاكا بالمعنى الأعم من الشك المتساوي الطرفين ومن الظن والوهم
لأنه اما ان لا يحتمل الخلاف فهو متيقن أو يحتمل الخلاف فهو
شاك بالمعنى الأعم (وأما كونه) قاطعا بالخلاف الذي هو أيضا أحد
الشقوق (فهو) خلاف الفرض فهو بعد اليقين بوجود المستصحب لا
يخلو حاله من أحد هذه الأمور الثلاثة إما أن يكون يقينه بوجوده باقيا
أو يكون شاكا في بقاء وجوده وإما أن يكون قاطعا بعدم بقائه و
الأخير والأول خلاف الفرض فلا بد وأن يكون شاكا فلا فاصل بين
اليقين والشك (وأيضا) لا يكون من التمسك بالدليل مع عدم إحراز
موضوعه وهذا فيما إذا كان الحادثان المتضادان مجهولي التاريخ وأما
إذا كان أحدهما معلوم التاريخ فإشكال عدم اتصال الشك
باليقين لا يتوجه إلى ما هو معلوم التاريخ قطعا لعدم تردد في زمان
اليقين فان الفرض أنه معلوم بالتفصيل وأما في مجهول التاريخ
منهما فكالصورة الأولى أي فيما إذا كانا مجهولي التاريخ.
ولا يتوهم أن شبهة عدم اتصال الشك باليقين آتية في هذه الصورة
أيضا لان زمان حدوث الحادث المجهول التاريخ مردد بين أن
يكون قبل معلوم التاريخ أو بعده وعلى تقدير أن يكون بعده يكون
معلوم التاريخ مقطوع الارتفاع ولا يبقى شك في بقائه فموضوع
الاستصحاب الذي هو الشك في البقاء غير محرز وذلك (أولا) من
جهة أن هذه شبهة أخرى غير عدم اتصال الشك باليقين وقد دفعناها
(وثانيا) ان هذا الاحتمال أي احتمال وجود حادث الاخر المجهول
تاريخ حدوثه بعد ما هو معلوم التاريخ منشأ الشك في البقاء لأنه في
الحقيقة يرجع إلى احتمال وجود الرافع بعد العلم التفصيلي بوجود
الشئ ولا فرق بين أن يكون احتمال كونه رافعا
505

للشي من جهة مضادته له أو لجهة أخرى (فقد ظهر) مما ذكرنا أن في
جميع صور العلم بوجود الحادثين المتضادين مع الشك في المتقدم
والمتأخر منهما يجري استصحاب بقاء كل واحد منهما إذا كان له أثر
غاية الامر إذا كان الأثر لكلاهما يتساقطان بالمعارضة وعليه
فتوى المشهور (وذهب) المحقق (قده) إلى لزوم الاخذ بضد الحالة
السابقة وذلك من جهة القطع بارتفاعها لوجود ما هو ضدها قطعا و
الشك في ارتفاعه لاحتمال وجوده بعد وجود الحادث الاخر الموافق
للحالة السابقة فيكون مجرى الاستصحاب (وفيه) أنه كما أن ضد
الحالة السابقة وجد قطعا وهو مشكوك الارتفاع كذلك الحادث الاخر
معلوم الوجود ومشكوك الارتفاع فيستصحب ويقع التعارض
فيتساقطان كما ذهب إليه المشهور (وأما) ما ربما يتوهم من عدم
جريان الاستصحاب في الحادث الموافق للحالة السابقة، بأنه لو وجد
عقيب الحالة السابقة بدون أن يكون الحادث الاخر فاصلا بينهما، مثلا
لو فرضنا أنه كان محدثا قبل حدوث هذين الحادثين فوجد سبب
الحدث - من نوم أو غيره حال كونه محدثا بالحدث السابق - لا يؤثر
أثرا جديدا، (وهكذا) الامر لو كان الحادث الموافق للحالة السابقة
هي: الطهارة عينا، ففي هذه الصورة المتيقن هي الحالة السابقة وهي
مرتفعة قطعا، وغير تلك الحالة السابقة حدث آخر أو طهارة
أخرى غير معلوم، وأما لو لم يكن عقيب الحالة السابقة بل كان فاصل
بينهما بالحادث الاخر (فحينئذ) وإن كان باقيا قطعا، ولا حاجة
إلى الاستصحاب ولكن حدوثها مشكوك، فما هو متيقن البقاء
مشكوك الحدوث فينهدم كلا ركني الاستصحاب أي: يكون عكس
الاستصحاب (لان) مورد الاستصحاب لا بد وأن يكون متيقن
الحدوث ومشكوك البقاء وهذا عكسه.
(وفيه) أن الاستصحاب - كما قلنا سابقا - حكم اليقين بوجود
506

والشك في ارتفاعه، وليس دائرا مدار وجود الشئ أو ارتفاعه واقعا،
(ولا شك) في أنه حال حدوث الحادث الموافق للحالة السابقة يعلم
بوجود حدث شخصي ان كانت الحالة السابقة هي الحدث أو طهارة
شخصية إن كانت الحالة السابقة هي الطهارة، وبعد حصول العلم
بحدوث كلا الحادثين يشك في ارتفاع ذلك الشخص الخارجي
الممتنع الصدق على كثيرين (نعم) لا يعلم أن سبب ذلك الحدث
الشخصي
هل هو الحادث الجديد؟ أعني: أحد هذين الحادثين المتضادين أو
السبب الذي كان موجودا قبل حدوث هذين الحادثين، ويعلم أنه لو
كان سببه الذي كان موجودا قبل حدوث هذين الحادثين فارتفع قطعا
ولو كان هو أحد هذين الحادثين فباق قطعا، وهذه لا تضر
بتمامية أركان الاستصحاب، بل يكون منشأ للشك في البقاء بعد اليقين
بحدوثه (وبعبارة أخرى) الترديد في سبب وجود الشئ - بعد
القطع بوجوده - لا يوجب تعدد وجود الشئ، وإن كان تعدد السبب
واقعا ربما يوجب تعدد المسبب إن لم يكن من باب تداخل
الأسباب.
(التنبيه التاسع)
في أنه هل يجري استصحاب الصحة عند احتمال وجود مانع أو قاطع
للعمل المركب بالنسبة إلى الاجزاء السابقة أم لا؟ وقد تقدم الكلام
في هذا الاستصحاب في الاشتغال - في باب الاستدلال على عدم
بطلان العمل بالزيادة السهوية بالاستصحاب - وقلنا هناك ان تقرير
هذا الاستصحاب بوجهين: (فتارة) المراد منه: استصحاب الصحة
التأهلية التي كانت لهذه الاجزاء التي أتى بها قبل أن يأتي بهذه الزيادة
بمعنى:
بقائها على صلاحيتها، بحيث لو انضم إليها سائر الاجزاء التي لم يأت
بها لكان العمل صحيحا وتاما (وأخرى) يكون المراد منه:
استصحاب الهيئة الاتصالية التي كانت للعمل المركب قبل وجود هذه
الزيادة أعني: الجز الصوري للمركب القائم بمادته، أي ذوات
الاجزاء وهذا الجز الصوري
507

أي الهيئة الاتصالية يستكشف من أدلة القواطع، وقد تكلمنا في كلا
الوجهين في باب الزيادة السهوية في (مبحث الاشتغال) بما فيهما من
النقض والابرام ولا وجه للإعادة وأما احتمال أن يكون المراد من
استصحاب الصحة هي الصحة الفعلية القائمة بمجموع العمل - التي
هي عبارة عن: تمامية العمل بما له من الاجزاء والشرائط وإعدام
الموانع المعتبرة فيه عقلا أو شرعا - فلا ينبغي صدوره عن عاقل (لان)
هذا المعنى لا يتحقق إلا بعد وجود المركب على النحو الذي أمر به
شرعا أو عقلا بجميع أجزائه وشرائطه وإعدام موانعه.
(التنبيه العاشر) في استصحاب الأمور الاعتقادية
وانه هل يجري فيها أم لا؟ ومن المسلم المعلوم بناء على ما ذكرنا و
استفدناه من أخبار الباب - وهو أن الاستصحاب عبارة: عن حكم
الشارع بالجري عملا على طبق الحالة السابقة عند الشك في بقائها مع
اليقين بوجودها سابقا - أنه يحتاج إلى أثر عملي حتى يكون
الحكم بالجري العملي بلحاظ ذلك الأثر ولا يكفي فيه صرف
مجعولية المستصحب شرعا ما لم ينته إلى أثر عملي حتى أن أستاذنا
المحقق (قده) جعل هذا تنبيها من تنبيهات الاستصحاب (إذا تبين)
هذا فنقول إذا كان للمستصحب أثر عملي سواء كان من أعمال
الجوارح
أو من أفعال الجوانح أي الالتزامات والاعتقادات القلبية وكان متيقنا
ثم شك في بقائه فيجري الاستصحاب لتمامية أركانه ولا يضر
كونه من الأمور الاعتقادية والافعال القلبية كما أنه لو لم يكن له أثر
عملي لا يفيد كون المستصحب مجعولا شرعيا (فمثل) النبوة و
الإمامة ان لم يكن لبقائهما أثر عملي (لا يجري) الاستصحاب فيهما و
إن كانا من المجعولات الشرعية والمناصب الإلهية وإن كان
لبقائهما أثر عملي شرعي فيجري الاستصحاب وان لم يكونا من
المجعولات الشرعية بل كانا أمرين تكوينيين بأن يكون كل
508

واحد منهما عبارة عن مرتبة من كمال النفس بها يستحق لاطلاق هذا
الاسم عليه فما أفاده في الكفاية - بالجريان بناء على الأول دون
الثاني - لا وجه له (ثم) ان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية قد يكون
في حكمها وقد يكون في موضوعها (فالأول) كما إذا علم بوجوب
الاعتقاد بتفاصيل البرزخ مثلا أو بخصوصيات النبي أو الأئمة من
كونهم صلوات الله عليهم اعلم مثلا وكذا في سائر الصفات الكمالية
ثم
شك في بقاء هذا الحكم مثلا من غير جهة النسخ لان جريان
استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى جميع الأحكام فيما عدا ما جاء
الدليل على
نسخه معلوم بل من جهة صيرورته مكفوفا وعدم قدرته على مطالعة
الكتب واستنباط ما هو الحق الذي يجب أن يعتقد به أو لجهة بعد
بلاده عمن يرفع الشبهات فلا مانع من جريان الاستصحاب لتمامية
أركانه أي اليقين بوجوده والشك في بقائه.
وأما الثاني أي استصحاب الموضوع الذي يجب الاعتقاد به بعد الفراغ
عن ثبوت حكمه فإذا شك في بقاء مثل هذا الموضوع مع علمه
بوجوده سابقا وكان لبقائه أثر شرعي ولو كان ذلك الأثر من أعمال
الجوانح وأفعال القلب مثل عقد القلب على نبوته أو إمامته
فيجري الاستصحاب قطعا لتمامية أركانه وإنما الشأن في وجود
الصغرى لهذه الكبرى (ويمكن أن يقال) لا شك في أن معرفة إمام
زمانه وعصره واجب وهذا الحكم قطعي للحديث المتواتر عنه صلى
الله عليه وآله (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية)
فإذا شك في بقاء حياة من يدعى الإمامة يستصحب حياته لاثر
وجوب معرفته وعقد القلب على إمامته بعد تحصيل العلم بإمامته (و
قد
عرفت) صحة إجراء الاستصحاب في مثل النبوة والإمامة إذا كان
لبقائهما أثر شرعي عملي وتم أركانه من اليقين بوجوده سابقا وإن
لم يكونا من المناصب المجعولة شرعا وان التفصيل لا وجه له.
509

وقد ظهر مما ذكرنا ان تمسك الكتابي بالاستصحاب لاثبات نبوة
عيسى مثلا أو لبقاء نبوته إلى هذا الزمان لا وجه له لا لنفسه ولا
لالزام المسلم (أما أولا) لعدم تصوير الشك لا له لأنه متيقن بنبوته و
وجوب تبعيته في أحكامه وإلا ليس بنصراني وهو خلاف الفرض و
لا للمسلم لأنه عالم بنبوته وأيضا عالم بنسخ دينه وأحكامه فلم
يحصل لكل واحد من الكتابي والمسلم شك في بقاء نبوته حتى تصل
النبوة إلى الاستصحاب (وأما ثانيا) فعلى فرض حصول الشك لهما أو
لأحدهما يجب رفع الشك وتحصيل العلم والمعرفة ولا يجوز
الاكتفاء بالاستصحاب بل يلزم المجاهدة والسعي في طلب المعرفة
حتى يحصل له العلم والمعرفة فان معرفة الرسول بل الامام أيضا
عند طائفة الامامية من أصول الدين الذي لا يكتفي فيه بالظن ولو كان
من الظنون المعتبرة ويجب فيه تحصيل اليقين (ان قلت) ربما
يعجز عن تحصيل اليقين فما ذا يصنع (قلنا) ان الطريق واضح لا خفأ
فيه فمن سعى وجاهد في الطلب مجاهدة حقيقية وألقى العصبية و
حب طريقة الاباء يهتدي ويهديه الله تعالى لكي لا يكون للناس على
الله حجة بل له الحجة البالغة وإلى هذا يشير قوله تعالى (والذين
جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وعلى كل تقدير لو سلمنا حصول العجز
لبعض ضعفاء العقول فأيضا لا مورد للاستصحاب لان المعرفة
ليست من آثار بقاء النبوة حتى يثبت بالاستصحاب بل لا بد من التنزل
إلى الظن من أي سبب حصل.
التنبيه الحادي عشر
فيما إذا ورد عام افرادي يتضمن أيضا العموم الازماني وخصص بعض
الافراد وشك في خروج ذلك البعض في جميع الأزمنة أو في
بعضها فهل يرجع في زمان الشك في الخروج إلى عموم العام أو إلى
استصحاب حكم المخصص (وذلك) مثل أوفوا بالعقود فإنه لا شك
في أنه له عموم افرادي لان العقود جمع معرف باللام وهو من صبغ
العموم
510

وله أيضا عموم أزماني وإلا يلزم لغوية هذا الحكم لان لزوم الوفاء
بالعقد في زمان لا أثر له فمعنى أوفوا بالعقود وجوب الوفاء بكل
عقد في كل زمان فإذا جاء دليل خيار الغبن واخرج المعاملة الغبنية
مثلا عن تحت هذا العموم وعلمنا بخروجها عن تحت هذا العام في
آن أول الالتفات إلى الغبن والضرر وشككنا في خروجها في الأزمنة
المتأخرة عن آن أول الالتفات إلى الغبن فهل المرجع هو عموم
العام والحكم باللزوم في سائر الأزمنة حتى يكون الخيار فوريا أو
استصحاب حكم المخصص حتى يكون الخيار على التراخي.
فنقول لا شك في أنه في مقام الثبوت إذا كان العام بحسب عمومه
الازماني أيضا انحلاليا مثل عمومه الافرادي بمعنى كون كل قطعة من
الزمان القابل لوقوع متعلق التكليف أو الوضع موضوعا مستقلا لحكم
العام بحيث لا يكون امتثال الحكم أو عصيانه في تلك القطعة
مربوطا بالامتثال والعصيان في سائر القطعات بل يكون لكل قطعة
امتثاله وعصيانه ففي هذه الصورة خروج قطعة من الزمان عن
تحت العموم الازماني لا يضر بوجود أصالة العموم بالنسبة إلى
قطعات الاخر، إذ حال أصالة العموم بناء على هذا بالنسبة إلى الأزمان
حال أصالة العموم بالنسبة إلى الافراد فكما أن خروج فرد عن تحت
العام باعتبار حكمه لا يضر بشموله لسائر الافراد المشكوكة
فكذلك الامر في العموم الازماني (فخروج) المعاملة الغبنية عن تحت
عموم أوفوا بالعقود في آن الالتفات إلى الغبن لا يضر بشمول
العموم لسائر الانات والقطعات ومعلوم أنه مع وجود أصالة العموم
التي هي من الامارات لا يبقى مجال للاستصحاب بل لو فرضنا عدم
أصالة العموم في البين في هذه الصورة أي في صورة كون كل قطعة من
الزمان موضوعا مستقلا مع خروج قطعة من الزمان عن تحت
الحكم يقينا فأيضا لا مجال لاستصحاب حكم المخصص بالنسبة إلى
الافراد المشكوكة من قطعات الزمان لأنه يكون
511

من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر لا من إبقاء ما كان الذي
هو عبارة عن الاستصحاب بالنسبة إلى العموم الافرادي (وأما
إذا لم يكن كذلك) أي لم يكن كل قطعة من الزمان موضوعا مستقلا بل
كان مجموع القطعات موضوعا واحدا (فلا يبقى) مجال للتمسك
بعموم العام لان الفرد الخارج يقينا في بعض قطعات الزمان عن تحت
العام خرج عن تحت حكم العام رأسا وليس للعام بحسب الزمان
أحكاما متعددة حسب الفرض بل حكم واحد سقط عن هذا الفرد
بواسطة التخصص وليس هناك حكم آخر حتى يثبت بأصالة العموم
لهذا
الفرد فان كان شك في حكم هذا الفرد بقاء بعد خروجه عن تحت
العام فلا مجال الا للرجوع إلى الاستصحاب هذا كله في مقام الثبوت.
وأما في مقام الاثبات وان المورد من أي واحد من القسمين وان
العموم الازماني يكون على نحو العموم الافرادي عاما أصوليا انحلاليا
بأن يكون كل قطعة من الزمان أخذ موضوعا مستقلا أو لا بل يكون من
قبيل العام المجموعي (ولا فرق) فيما ذكرنا من الضابط بين أن
يكون شمول حكم العام لجميع قطعات الزمان وآناته بنحو العام
الأصولي بالاطلاق أو بأحد ألفاظ العموم فلا فرق بين أن يقول تجب
الوفاء بكل عقد في كل زمان بأن يدل على انحلال هذا الحكم إلى
أحكام متعددة حسب تعدد الأزمنة لفظ كل وأمثاله من ألفاظ العموم
أو
يكون الدال على الانحلال هو الاطلاق مثل إطلاق أوفوا بالعقود حيث
أنه يدل على وجوب الوفاء بكل عقد في كل زمان فالمناط كل
المناط هو انحلال الحكم باعتبار الأزمنة أيضا إلى أحكام متعددة مثل
انحلاله باعتبار الافراد فكما أن مورد الانحلال بحسب الافراد إذا
علم بخروج فرد عن تحت عموم الحكم لا مجال لتوهم جريان
استصحاب حكم الفرد الخارج يقينا بالنسبة إلى فرد المشكوك
فكذلك
512

في مورد الانحلال بحسب الأزمان.
إذا ظهر ما ذكرنا فنقول إن كان العام نهيا فبناء على ما ذكرنا سابقا من
ظهور النهي في الانحلال بحسب الافراد والأزمان وربما
يعبر عن هذا بالافراد العرضية والطولية فلو علمنا بخروج فرد في زمان
عن تحت عموم النهي مثلا لو علمنا بجواز شرب الخمر لأجل
كونه دواء منحصرا ثم شككنا في زمان بعد ذلك الزمان لا مجال
لاستصحاب الجواز بل لا بد من الرجوع إلى عموم النهي لان خروج
فرد عن تحت العموم لا يوجب خروج سائر الافراد (وأما إذا كان أمرا)
فلا بد من استفادة العموم من ألفاظ العموم أو أدواته أو الاطلاق
الثابت بمقدمات الحكمة فإذا استفدنا العموم الاستغراقي بالنسبة إلى
الافراد والأزمان سواء كان من ألفاظ العموم وصيغه أو من أدواته
أو من الاطلاق الثابت بمقدمات الحكمة فإذا علمنا بخروج قطعة من
الأزمنة عن تحت العموم وشككنا بالنسبة إلى الأزمنة المتأخرة عن
ذلك الزمان فالمرجع هو أصالة العموم لا الاستصحاب لما ذكرنا من أن
خروج فرد من الافراد كما أنه لا يضر بأصالة العموم بالنسبة
إلى الافراد المشكوكة في العموم الافرادي فكذلك الحال في العموم
الازماني.
ولكن شيخنا الأستاذ (قده) جعل المناط في الرجوع إلى العام أو
استصحاب حكم المخصص كون مصب العموم الزماني هو متعلق
الحكم
أو نفسه (وقال) في الأول بالرجوع إلى عموم العام وفي الثاني بإجرأ
استصحاب حكم المخصص وأفاد في وجه ذلك أنه لو كان
المصب هو المتعلق فالحكم وارد على العموم ولو كان المصب هو
الحكم فالعموم وارد على الحكم (وفي) الصورة الأولى حيث إن
متعلق
الحكم يتعدد بواسطة العموم فالحكم يتعدد قهرا بتعدد متعلقه فيكون
أحكام متعددة على موضوعات متعددة وخروج فرد من تلك
الموضوعات المتعددة لا يضر ببقاء سائر تلك الأحكام
513

والموضوعات المتعددة فلا بد من الرجوع إلى العام ولا يجوز
الاستصحاب لأنه من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر و
الاستصحاب إبقاء الحكم السابق المتيقن ثبوته لنفس حكم موضوعه
لا إثبات آخر لموضوع آخر كما في المفروض (وفي) الصورة
الثانية لا يتعدد الحكم بل حكم واحد مستمر في جميع تلك الأزمنة
المفروضة واستمرار وجود الشئ لا يوجب تعدد الشئ ولا شك
في
أن الاستمرار الذي هو مفاد العموم الوارد على الحكم بناء على أن
يكون مصب العموم هو نفس الحكم لا متعلقه فرع وجود الحكم و
ثبوته لأنه بالنسبة إلى الحكم بناء على هذا الفرض يكون من قبيل
العرض بالنسبة إلى موضوعه فإذا شككنا في الحكم لا يمكن إثباته
بالعموم لأنه من قبيل إثبات المعروض بالعرض بل الموضوع بالحكم
فلا يبقى مجال لاثبات الحكم في مورد الشك فيه بالعموم بل لا بد
من الرجوع إلى استصحاب حكم المخصص وإن لم يكن مجرى
للاستصحاب لاختلال بعض أركانه أو تمامها فلا بد من الرجوع إلى
أصل
آخر من برأة أو احتياط لا إلى العموم هذا خلاصة ما ذكره شيخنا
الأستاذ.
(وفيه) أن ما ذكره في الصورة الأولى صحيح وتمام ومرجعه إلى ما
ذكرنا من أن المناط في الرجوع إلى العام هو الانحلال (وأما ما
ذكره) في الصورة الثانية من عدم جواز الرجوع إلى العام لأنه من قبيل
إثبات الموضوع بالحكم لان العموم الوارد على الحكم فرع
ثبوت الحكم ووجوده ففي ظرف الشك في ثبوت الحكم كما هو
المفروض في المقام لا معنى لعمومه إلى آخر ما أفاده (فعجيب) لان
معنى عموم الحكم بحسب الزمان واستمراره وجوده في الأزمنة
المتأخرة عن الزمان الأول لا أنه يجب أولا إحراز وجوده حتى يرد
عليه
الاستمرار لان وجوده في الأزمنة المتأخرة عين استمراره وعمومه
بحسب الأزمان فإذا أحرزنا عمومه بحسب الأزمان بنحو الانحلال
إلى قضايا متعددة يكون المرجع هو العام سواء كان الزمان ظرفا
للحكم أو
514

المتعلق وكان قيدا لكل واحد منهما فالمناط هو الانحلال بحسب
أجزاء الزمان وقطعاته لا الظرفية أو القيدية ولا كون مصب العموم هو
المتعلق أو الحكم إذ مع الانحلال لا فرق بين الجميع ومع عدمه أيضا
كذلك وقد عرفت الامر في مقام الاثبات (وهذا المعنى) أي الانحلال
مراد من جعل المناط في الرجوع إلى العام لا إلى الاستصحاب كون
العام مفردا للزمان بحسب موضوع حكمه بمعنى كون كل قطعة من
الزمان فردا آخرا مصداقا مستقلا لما هو موضوع الحكم وهذا عين
الانحلال.
(ثم إن ما ذكرنا) من تقسيم العام على قسمين بالنسبة إلى عموم
الازماني يأتي في المخصص أيضا فهو أيضا (تارة) يكون الزمان
المأخوذ فيه موضوعا مستقلا بحيث يكون الفرد الخارج في زمان عن
تحت عموم العام يكون نفس ذلك الزمان موضوعا مستقلا لحكم
المخصص بمعنى أنه لو فرضنا ثبوت حكم المخصص له في الزمان
المتأخر عن ذلك الزمان المتصل به يكون حكم آخر لموضوع آخر و
ليس بقاء ما كان (وأخرى) ليس ذلك الزمان موضوعا مستقلا بل
يكون حكم المخصص من ناحية الزمان مهملا له من هذه الجهة قدر
متيقن وهو الزمان الذي نقطع بخروجه عن تحت العموم الازماني
(فان كان) من قبيل الأول فلا مجال للاستصحاب وان لم يكن مورد
التمسك بعموم العام كما إذا لم يكن العام انحلاليا (وذلك) من جهة
أن هذا من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر لا إبقاء ما كان
(وإن كان) من قبيل الثاني فان كان العام انحلاليا يجب الرجوع إلى
العام ويكون من قبيل الشك في أصل التخصيص ومع وجود أصالة
العموم لا يبقى مجال للاستصحاب.
(والحاصل) ان صور المسألة أربع (الأولى) أن يكون العام انحلاليا و
كذلك الخاص يكون الزمان المأخوذ فيه موضوعا مستقلا لحكم
515

وفي هذه الصورة لا بد من الرجوع إلى العام في مورد الشك ولا مجال
له حتى لو لم يكن الرجوع إلى العام ممكنا لجهة من الجهات فلا
بد من الرجوع إلى أصل آخر غير الاستصحاب لما ذكرنا من عدم
مجرى له (الثانية) أن يكون العام انحلاليا والخاص لا يكون الزمان
المأخوذ فيه موضوعا مستقلا بل يكون مهملا من هذه الجهة وفي هذه
الصورة أيضا يجب الرجوع إلى العام وإن كان للاستصحاب أيضا
مجرى ولكنه محكوم بالعام (الثالثة) أن لا يكون العام انحلاليا و
الخاص يكون الزمان المأخوذ فيه موضوعا مستقلا ففي مورد الشك لا
يجوز الرجوع إلى العام ولا إلى استصحاب حكم المخصص اما عدم
الرجوع إلى العام لعدم أصالة العموم بل كان حكما واحدا بالنسبة
إلى كل فرد من أفراد العام في مجموع الأزمنة وذهب ذلك الحكم عن
هذا الفرد الذي خصص وليس هناك حكم آخر حتى يتمسك
بعمومه ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون التخصيص من أول الأزمنة أو
الأوسط وان فرق بعضهم وذلك من جهة وحدة العلة في
الصورتين (وأما) عدم جواز الرجوع إلى الاستصحاب فلما تقدم من
أنه إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر وليس من إبقاء ما
كان (الرابعة) ان لا يكون العام انحلاليا والخاص أيضا لا يكون الزمان
المأخوذ فيه موضوعا مستقلا فالمرجع في هذه الصورة هو
الاستصحاب والسر واضح.
ثم أنه بناء على ما ذكرنا من أن المناط في التمسك بعموم العام لا
الرجوع إلى استصحاب حكم المخصص هو كون العام انحلاليا
استغراقيا بحسب الأزمان ككونه كذلك بحسب الافراد فإذا ثبت كون
العام انحلاليا بأحد أسباب الاثبات بحسب الزمان فلا فرق بين
الشك في أصل التخصيص أو في مقداره بعد العلم بأصله وفي كلتا
الصورتين المرجع هو العام وأيضا لا فرق
516

بين أن يكون العموم واردا على الحكم أو على المتعلق كما بينا وجهه
(وأما) إذا لم يثبت كونه كذلك - أي كون العام انحلاليا لعدم كونه
من النواهي الظاهرة في الاستغراق والانحلال وعدم كون أدوات
العموم الاستغراقي في البين وذلك مثل لفظة كل يوم أو كل زمان و
أمثال ذلك مما يدل على تعدد الحكم بتعدد الأزمنة - فلا يجوز
الرجوع إلى عموم العام لان الرجوع إليه موقوف على كونه انحلاليا و
المفروض أنه لم يثبت بل لا بد من الرجوع إلى دليل آخر من أمارة لو
كانت وإلا فإلى الأصول العملية (وما ذكره) شيخنا الأستاذ (قده)
في هذا المقام من دوران قيد الزمان بين الرجوع إلى المتعلق أو الحكم
فبإطلاق المتعلق يثبت رجوعه إلى الحكم (فغير تام) أما (أولا)
فلما تقدم من عدم كون مناط الرجوع إلى العام والرجوع إلى
الاستصحاب هو كون العموم واردا على المتعلق في الأول وكون
مصب
العموم هو الحكم في الثاني (وثانيا) على فرض إثبات إطلاق المتعلق
تقييد الحكم وعدم معارضته مع إطلاق الحكم فكون الحكم مقيدا
باستمراره في جميع الأزمنة لا ينافي مع التمسك به في أصل
التخصيص أو في مقداره بعد الفراغ عن أصله إذا كان قيد الزمان الذي
قيد
به الحكم بنحو العموم الاستغراقي لا العام المجموعي سواء كان
بأدوات العموم مثل أن يقول يجب في كل زمان الوفاء بكل عقد أو
يكون
عموم الحكم وكون الوجوب في كل زمان بالاطلاق ومقدمات
الحكمة لعدم لزوم اللغوية فالاطلاق أيضا في قوة أن يقول يجب في
كل
زمان الوفاء بكل عقد فإذا علمنا بثبوت الخيار وعدم وجوب الوفاء
في أول زمان العلم بالغبن بمقدار إيقاع الفسخ وشككنا في ثبوته
بعد ذلك الزمان فالمرجع أصالة اللزوم أي العموم الازماني الثابت
بالاطلاق ومقدمات الحكمة لاوفوا بالعقود (اللهم) إلا أن يدعي أن
الحكم مقيد بالزمان بنحو العام المجموعي لا العام الأصولي.
517

(فظهر) من جميع ما ذكرنا أنه يجب التمسك بعموم العام لا الرجوع
إلى استصحاب حكم المخصص عند الشك في أصل التخصيص أو
الشك في مقداره إذا كان العموم الازماني انحلاليا ولا فرق بين أن
يكون الزمان قيدا للمتعلق حتى يكون الحكم واردا عليه أو يكون
قيدا للحكم حتى يكون هو المورود (وأيضا ظهر) مما ذكرنا أنه لا فرق
بين الأحكام الوضعية والتكليفية وجوبية كانت أو تحريمية فان
المناط في الرجوع إلى العام في الجميع هو كون العام انحلاليا وأن لا
يكون بنحو العام المجموعي (فتعرف) ما فيما ذكره شيخنا
الأستاذ (قده) من عدم جواز التمسك بعموم العام في العموم الازماني
في الأحكام الوضعية لان الزمان فيها قيد لنفس الحكم إذ الأحكام الوضعية
بناء على أنها بنفسها مجعولات وليست منتزعات عن
التكاليف ليست مثل الأحكام التكليفية لها متعلقات حتى يكون الزمان
قيدا لمتعلقاتها ويكون الحكم واردا على العموم فيكون العام مرجعا
عند الشك وهذا بناء على ما أسسه من أن الزمان إذا كان قيدا
للمتعلق يكون المرجع عند الشك هو العموم وإذا كان قيدا للحكم
فالمرجع هو الاستصحاب (وقد عرفت) أنه لا أساس لهذا التفصيل بل
المناط في الرجوع إلى العام هو كونه انحلاليا بالنسبة إلى الأزمان
كانحلاله بالنسبة إلى الافراد بحيث يكون كل قطعة من الزمان
موضوعا مستقلا للحكم سواء كان ظرفا للحكم أو كان قيدا له لتعدد
الحكم بتعدد ظرفه أيضا فبناء على هذا في باب الأحكام الوضعية
أيضا يمكن التمسك بعموم الازماني الذي هو قيد للحكم عند الشك
بعد القطع بخروج فرد عن تحت عموم الحكم في قطعة من الزمان (و
ذلك) مثل أوفوا بالعقود بناء عن أن يكون مفاد أوفوا هو اللزوم الذي
هو حكم وضعي لا صرف وجوب الوفاء الذي هو حكم تكليفي فإذا
كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة يدل على ثبوت اللزوم كما أنه يكون
لكل فرد من أفراد العقود كذلك
518

يكون في كل زمان من الأزمنة فبعد القطع بخروج المعاملة الغبنية عن
تحت هذا الحكم في أول وقت ظهور الغبن والشك في خروجه في
الأزمنة المتأخرة فأصالة العموم محكمة ولا يبقى مجال لاستصحاب
حكم المخصص مع وجود ذلك العموم فتكون النتيجة فورية خيار
الغبن خلافا لشيخنا الأستاذ (قده) حيث يقول أن المرجع هو
استصحاب حكم المخصص عند الشك بناء على ما أفاده من أن
الزمان قيد
للحكم أي اللزوم فليس هناك عموم بعد الانقطاع بواسطة المخصص
أي أدلة خيار الغبن.
وأما الأحكام التكليفية التحريمية فقد تقدم أن النواهي ظاهرة في
الانحلال بحسب الافراد والأزمان جميعا غاية الامر أن عمومه
الافرادي من جهة تعلق الطلب بترك الطبيعة السارية فيكون العموم من
جهة الوضع وعمومه الازماني من جهة الاطلاق ومقدمات الحكمة
إذ لو كانت الطبيعة منهية في بعض الأزمان لكان عليه البيان ومقتضى
الاطلاق شمول الحكم لجميع الأزمنة فخروج فرد عن تحت الحكم
في بعض الأزمنة كما لا يضر بالأخذ بالعموم بالنسبة إلى سائر الافراد
كذلك لا يضر بالأخذ بالاطلاق بالنسبة إلى سائر الأزمنة (هذا)
مضافا إلى أنه غالبا في باب النواهي معلوم ان المفسدة الموجبة للنهي
في جميع وجودات الطبيعة في جميع الأزمان.
وأما الأحكام التكليفية الوجوبية فبالنسبة إلى نفس متعلقاتها فغالبا من
قبيل تعلق الطلب بصرف الوجود وليس في البين لا عموم
افرادي ولا أزماني فتكون من هذه الجهة خارجة عن حريم بحثنا.
وأما من ناحية موضوعاتها بكلا معنييه أي متعلقات متعلقاتها كالعلمأ
والسادات في يجب إكرام العلماء والسادات مثلا والمكلفين بها
كقوله يجب الحج على كل عاقل بالغ حر مستطيع وأمثال ذلك (فان
كان) في المذكورات وأمثالها ما يدل على العموم الافرادي و
الازماني والانحلال بحسب الافراد
519

والأزمان (فالامر كما تقدم) ويكون المرجع هو العموم وإن لم يكن
كذلك فلا وجه للرجوع إلى العموم لعدم عموم في البين ولو
إثباتا فلو قال اشرب الدواء مستمرا والمفروض عدم انحلال شرب
الدواء مستمرا بحسب قطعات الزمان لعدم الدليل على هذا الانحلال
(فإذا علمنا) بخروج زمان عن تحت هذا الحكم مثل حال الصلاة مثلا
وبعد ذلك الزمان شككنا (فليس) عموم انحلالي بحسب الزمان
حتى نتمسك به لأنه من المحتمل أن يكون وجوب شرب الدواء
حكما واحدا مستمرا بحسب الزمان من قبيل العام المجموعي و
المفروض
أنه انقطع بدليل المخصص وإثباته في الزمان المتأخر يحتاج إلى دليل
مفقود في المقام فالرجوع إلى العام في هذه الصورة لا مورد له.
(وأما) استصحاب حكم المخصص حينئذ في الزمان المتأخر عن
ذلك الزمان المقطوع الخروج (فموقوف) على أن لا يكون ذلك الزمان
بحدوده موضوعا مستقلا لحكم المخصص بحيث لو أثبتنا حكم
المخصص للزمان المتأخر يكون من إسراء الحكم من موضوع إلى
موضوع آخر بل كان إثبات ذلك الحكم للزمان المتأخر من إبقاء ما كان
لا أنه حكم جديد لموضوع جديد (وهذا الذي) قلنا - من عدم
جواز الرجوع إلى العموم الازماني إذا لم يكن انحلاليا بل كان حكما
واحدا مستمرا وبعد خروج قطعة من الزمان عن تحت الحكم ينقطع
الاستمرار ولا يبقى دوام واستمرار في البين حتى نتمسك به في مورد
الشك - مورده فيما إذا كان كان الخروج في أثناء ذلك الزمان
المستمر وأما لو كان تلك القطعة الخارجة من أول ذلك الزمان
المستمر أو من آخره فشك في خروج سائر القطعات فالمرجع هو
العموم (وذلك) من جهة أن مثل هذا الخروج من الأول أو من الاخر لا
يصادم ذلك الاستمرار والدوام المستفاد من لفظيهما أو من
الاطلاق غاية الامر يبتداء الاستمرار بعد الخروج في الأول وينتهي قبله
في الثاني.
فتحصل من مجموع ما ذكرنا ان المدار في المقام الثبوت في الرجوع
520

إلى عموم العام في جميع صور المسألة وشقوقها كون العام بحسب
الأزمان انحلاليا مثل العموم الافرادي والمدار في استصحاب حكم
المخصص عند الشك هو (أولا) أن لا يكون العام الذي خصص
انحلاليا وإلا لو كان كذلك فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب (وذلك)
لحكومة الامارات التي منها العام على الأصول مطلقا التي منها
الاستصحاب (وثانيا) هو أن لا يكون حكم المخصص أيضا انحلاليا و
إلا لو
كان كذلك - بمعنى أن الموضوع لحكم المخصص كان قطعة معينة
من الزمان أو كان الموضوع مقيدا بتلك القطعة المعينة بحيث لو ثبت
هذا الحكم لنفس ذلك الموضوع ولكن في قطعة أخرى من الزمان كان
حكم آخر لموضوع آخر ويكون من إسراء الحكم من موضوع
إلى موضوع لا إبقاء الحكم السابق المتيقن على على نفس موضوعه -
فلا يجري الاستصحاب لان حقيقة الاستصحاب كما تقدم هو إبقاء
ما كان لا إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر هذا كله في مقام
الثبوت وأما في مقام الاثبات فقد تقدم ما يكفي للاستظهار.
التنبيه الثاني عشر
فيما إذا تعذر إتيان بعض أجزاء المركب أو شرائطه أو تعذر ترك بعض
موانعه ولم يكن هناك دليل اجتهادي من إطلاق دليل أو عموم
قاعدة الميسور أو غير ذلك فهل يمكن التمسك بالاستصحاب لاثبات
وجوب الباقي غير المتعذر وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في
التنبيه الثاني من تنبيهات الاشتغال وقد ذكرنا هناك تقرير
الاستصحاب من وجوه وما يرد عليها وما هو المختار عندنا (و
حاصله)
استصحاب بقاء شخص الوجوب المتعلق بتلك القطعة الباقية غير
المتعذرة وهو الوجوب النفسي الضمني المتعلق بتلك القطعة الباقية
في
ضمن تعلقه بالمجموع (بأن يقال) أن منشأ اعتبار الوجوب هي الإرادة
المنبسطة على جميع الاجزاء والشرائط وإعدام الموانع قبل طرو
التعذر وبعد طروه يشك في أنه هل ارتفع جميع قطعات
521

تلك الإرادة المنبسطة على مجموع أجزاء المركب وشرائطها أو ارتفع
خصوص القطعة التي كانت متعلقة بالمتعذر للتعذر ولازم ذلك
هو الشك في بقاء شخص القطعة التي كانت متعلقة بغير المتعذر
فيستصحب (نعم) لازم ذلك أن المستصحب في ظرف اليقين به كان
وجوبه وجوبا نفسيا ضمنيا وفي ظرف الشك صار وجوبه نفسيا
استقلاليا وهذا المقدار من الاختلاف لا يوجب اختلافا في ذات
المستصحب بل يوجب تبدل حده من الضمنية إلى الاستقلالية هذا ما
كان هو المختار عندنا من أوجه تقرير الاستصحاب وهذا الوجه لا
يرد عليه أغلب ما يرد على سائر الأوجه.
ويمكن أن يقال بأن المستصحب هو شخص الوجوب المتعلق بالأكثر
(ان قلت) إن القضية المتيقنة غير القضية المشكوكة لان الموضوع
في المتيقنة هو الأكثر وفي المشكوكة هو الأقل ووحدة الموضوع في
القضيتين من أركان الاستصحاب وإلا لا يصدق عليه إبقاء ما كان
بل يكون حكم آخر على موضوع آخر ولا يكون رفع اليد عن المتيقن
نقض اليقين بالشك (قلنا) حال هذا الاستصحاب هو حاله في
الاحكام الكلية وهذا الاشكال أي عدم وحدة الموضوع في القضيتين
هو عين الاشكال الذي هناك والجواب أيضا عين الجواب (و
حاصله) ان اتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة عرفي لا دقي
فالاختلاف الذي بين الصلاة المركبة من الأكثر مع الصلاة المركبة من
الأقل لا يوجب تعددهما بنظر العرف وإن كان بالنظر الدقي العقلي
يختلفان ويتعددان وسيجئ ان المناط في تشخيص وحدة
موضوع القضيتين هو النظر العرفي لا الدقي العقلي.
التنبيه الثالث عشر
في أن المراد بالشك في البقاء الذي أخذ موضوعا للاستصحاب هو
عدم قيام علم أو علمي على ارتفاع الحالة السابقة أو بقائها (و
الظاهر) ان الشك استعمل بمعناه المتبادر عند العرف وهو الترديد و
احتمال
522

الخلاف وعدم الجزم بالنسبة الحكمية فمع العلم بالبقاء أو الارتفاع لا
يعقل تحقق الشك في البقاء (نعم) الظن بالبقاء أو الارتفاع لا ينافي
الشك في البقاء لأنك قد عرفت أن الشك عبارة عند العرف عن عدم
الجزم بالنسبة الحكمية واحتمال الخلاف وهذا المعنى كما أنه يلائم
مع كون احتمال الخلاف مساويا مع احتمال الوفاق الذي هو الشك
بالمعنى الأخص كذلك يلائم مع كون احتمال الخلاف راجحا أو
مرجوحا فيشمل الظن والوهم فالظن غير المعتبر على خلاف الحالة
السابقة أو وفاقها لا يخرج القضية عن كونها مشكوكة وتكون
مجرى للاستصحاب (فالذي) يضر بالشك في البقاء هو العلم بالبقاء أو
الارتفاع وأما الظن المعتبر حيث أنه يقوم مقام العلم بل هو علم
تعبدا بناء على القول بتتميم الكشف فإذا قام على البقاء أو الارتفاع لا
يبقى مجال للاستصحاب لارتفاع موضوعه تعبدا وهذا معنى كون
الامارات حاكمة على الاستصحاب (وأما احتمال) كون الشك الذي
أخذ موضوعا للاستصحاب في قوله عليه السلام (لا تنقض اليقين
بالشك) خصوص الشك المتساوي الطرفين الذي هو الشك بالمعنى
الأخص حتى يكون إجراء الاستصحاب في مورد الظن بالخلاف بل و
حتى في مورد الظن على طبق الحالة السابقة محتاجا إلى ما ذكروه من
التمحلات - (فبعيد) عن الصواب (وذلك) لما ذكرنا من أن
المتفاهم العرفي من مثل خطاب لا تنقض اليقين بالشك هو عدم جواز
نقض اليقين بشي بصرف احتمال عدم بقائه سواء كان احتمال
العدم مساويا مع احتمال البقاء أو راجحا أو مرجوحا (والشاهد) على
ذلك أنه عليه السلام جعل العلم مقابل الشك وقال ولكن انقضه
بيقين مثله فلا بد وأن يكون ما عدا العلم بارتفاع الحالة السابقة
مشمولا للشك وإلا يلزم إهمال حكم الظن بالخلاف (وظني) ان هذا
المعنى الذي ذكروه للشك وهو خصوص كون الاحتمالين متساويين
ليس معنى لغويا أو عرفيا للشك وإنما هو اصطلاح علمي لبيان
استيفاء
523

الحالات الأربعة التي تحصل للنفس بالنسبة إلى كل قضية التفت
الانسان إليها ولا يخلو من أحدها.
التنبيه الرابع عشر
في عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون الدليل على
الحكم المستصحب هو العقل أو الشرع كالكتاب والسنة والاجماع (و
قد خالف في ذلك الشيخ الأعظم (قده) (ونحن) ذكرنا ما أفاد في وجه
عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية التي تستكشف من
الأدلة العقلية مع الجواب عنها مفصلا في مقام البحث عن أدلة
المفصلين والجواب عنها ومن جملتها هذا التفصيل المنسوب إلى
الشيخ
الأعظم فلا نعيد.
خاتمة نذكر فيها أمور
(الأول)
لا شك في أنه بناء على ما عرفت من أن حقيقة الاستصحاب عبارة عن
الحكم ببقاء ما كان تعبدا في ظرف الشك في بقائه وجدانا من
حيث الجري العملي (فلا بد) من كون قضيتين إحداهما متيقنة و
الأخرى مشكوكة في تحقق موضوع الاستصحاب وثبوت المجرى له
(ولا
بد) من اتحاد القضيتين موضوعا ومحمولا وإلا فمع اختلافهما - من
ناحية الموضوع أو المحمول أو كليهما - لا يصدق نقض اليقين
بالشك عملا على عدم العمل على طبق القضية المتيقنة في ظرف
الشك فيها كما أنه لا يصدق إبقاء ما كان على العمل على طبقها (و
حيث)
ان الاستصحاب عبارة عن البناء العملي على طبق الحالة السابقة عند
الشك في بقاء تلك الحالة وعدم جواز نقضها عملا سواء كان منشأ
لزوم العمل على طبق الحالة السابقة وحرمة نقضها هي الاخبار كما هو
الحق عندنا أو الظن بالبقاء أو بناء العقلا على ذلك كما قيل فلا
بد مما ذكرنا من اتحاد القضيتين وإلا فلا مورد له وهذا المعنى واضح
جدا لا يحتاج إلى إقامة برهان بأن انتقال العرض من موضوعه
إلى موضوع آخر محال مع أن ذلك على فرض جوازه لا يضر بما قلنا
من لزوم اتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة موضوعا و
524

من جهة عدم صدق النقض والابقاء على ترك العمل أو العمل فيما إذا
لم يكن القضيتان متحدتين موضوعا ومحمولا وان قلنا بجواز
انتقال العرض من موضوعه إلى موضوع آخر لأنه على فرض إمكان
انتقال شخص العدالة العارضة لزيد لموضوع آخر وهو عمرو مثلا
والقضية المتيقنة افرض أنها زيد عادل والمشكوكة هي أن عمرا عادل
ولو كان عدالته المشكوكة عين العدالة التي كانت لزيد ولكن
العدالة التي كانت لزيد ثبوتها لعمر ومشكوكة (ولا شك) في أنه لا
يصدق النقض ومقابله أي الابقاء على عدم ترتيب آثار العدالة على
عمر أو ترتيبها (والسر في ذلك) ان عدالة التي لزيد بما أنها من صفات
زيد غير تلك العدالة عينا بما أنها من صفات عمرو (والحاصل)
ان مسألة لزوم اتحاد القضيتين في صدق النقض والبقاء أو الابقاء غير
مربوطة بمسألة إمكان انتقال العرض من محله إلى محل آخر و
عدم إمكانه.
ثم أنه ينبغي التكلم في أن اتحاد القضيتين الذي هو من مقومات
الاستصحاب هل أنه لا بد وأن يكون بالنظر الدقيق العقلي أو يكفي
الاتحاد العرفي وهو المناط أو الاتحاد بحسب ما أخذ موضوعا في
الدليل بأن يكون ما أخذ موضوعا للحكم في لسان الدليل يكون
موضوعا في القضيتين المتيقنة والمشكوكة (أما الاتحاد الدقي
العقلي) هو عبارة عن أن يكون ما هو الموضوع والمحمول في القضية
المشكوكة بالدقة العقلية عين ما هو الموضوع والمحمول في القضية
المتيقنة بأن يكون كل ما اعتبر من قيود وجودية أو عدمية في
جانب الموضوع مما له دخل في الحكم في القضية المتيقنة يكون
محفوظا في القضية المشكوكة بلا نقيصة ولا زيادة (وبعبارة أخرى)
تكون القضية المشكوكة عين القضية المتيقنة موضوعا ومحمولا
بالنظر الدقيق العقلاني (وأما الاتحاد العرفي) هو أن يكون الموضوع و
المحمول في القضية
525

المشكوكة عين ما هو الموضوع والمحمول في القضية المتيقنة عرفا
بمعنى أنهما بالنظر العرفي واحد وإن كان بالدقة العقلية بينهما
اختلاف وتفاوت (وأما لا اتحاد بحسب الدليل) فهو عبارة عن أن
يكون ما هو الموضوع في القضية المشكوكة عين ما هو الموضوع في
القضية المتيقنة بحسب ما أخذ موضوعا للحكم في دليله مثلا إذا كان
موضوع النجاسة الماء المتغير في لسان الدليل وكان الموضوع في
القضية المتيقنة أيضا هو الماء المتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجس و
الموضوع في القضية المشكوكة الماء الذي زال عنه التغير من قبل
نفسه لا بوصول مطهر إليه فلو كان المناط في اتحاد القضيتين الوحدة
بحسب الدقة العقلية فلا اتحاد بينهما بالدقة إذ الموضوع في
القضية المتيقنة مقيد بقيد التغير بخلاف القضية المشكوكة (ومن
المحتمل) أن يكون لوصف التغير مدخلية في الحكم بقاء أيضا كما أن
له
مدخلية فيه حدوثا (وكذلك) لا اتحاد بينهما لو كان المناط في الاتحاد
وحدتهما بحسب الدليل لأن المفروض أن موضوع القضية في
لسان الدليل هو الماء المقيد بكونه متغيرا وفي القضية المشكوكة ليس
كذلك.
وخلاصة الكلام أن الاتحاد وعدمه يختلف بحسب الانظار مثلا في
المثل المذكور بالنظر الدقي العقلي أو بحسب الدليل لا اتحاد بين
القضيتين (ولكن) بالنظر العرفي يمكن أن تكونا متحدتين وهو أن
العرف حسب ما ارتكز في ذهنه من المناسبات بين الحكم و
الموضوع يرى عدم مدخلية بقاء التغير في موضوع الحكم بل يراه
واسطة في الثبوت حدوثا فقط لا حدوثا وبقاء ولا يراه واسطة في
العروض أصلا فالموضوع في القضية المتيقنة أيضا عند العرف ليس
إلا ذات الماء لا الماء بوصف التغير فالقضيتان متحدتان بنظر
العرف وإن لم تكونا متحدتين لا بالدقة العقلية ولا بحسب ما أخذ
موضوعا للدليل.
(ان قلت) ان ما أخذ موضوعا للدليل لا بد وأن يكون بحسب
526

ما يفهمه العرف من الدليل فلا يبقى فرق بين ما هو موضوع في لسان
الدليل وما هو الموضوع عرفا فلا وجه لتثليث الأقسام بل ينبغي
أن يقال أن وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة (اما) بالنظر الدقي
العقلي (واما) بالنظر العرفي وليس هناك قسم ثالث.
(قلنا) ان الاتحاد بين القضيتين بحسب ما أخذ موضوعا في لسان
الدليل ربما يختلف مع ما هو الموضوع للحكم عند العرف (وذلك)
كما
أنه لو كان الموضوع للنجاسة في لسان الدليل أن الماء المتغير أحد
أوصافه الثلاثة بالنجس نجس فما يفهمه العرف من هذا الدليل أن
الموضوع المأخوذ فيه هو الماء المتصف بكونه متغيرا بأحد
المذكورات (ولكن) العرف بحسب ما ارتكز في ذهنه من المناسبات
بين
الحكم وموضوعه يرى ما هو الموضوع واقعا هو نفس الماء والتغير
واسطة في الثبوت وعلة لحدوث الحكم لا لبقائه ولا يراه واسطة
في العروض ومن قيود الموضوع وإن كان في لسان الدليل كذلك
(فإذا شككنا) بعد زوال التغير من قبل نفسه لا بوصول المطهر إليه
في المثال المذكور فلو كان المناط في وحدة القضيتين بحسب
موضوعهما كون موضوعهما واحدا حسب ما أخذ موضوعا في دليل
الحكم
فالقضيتان مختلفتان من هذه الجهة لا اتحاد بينهما لان الموضوع في
القضية المتيقنة مقيد بوصف التغير وفي القضية المشكوكة خال
عن هذا القيد لأن المفروض طرو هذا الشك بعد زوال القيد (وأما) لو
كان المناط في وحدتهما هو النظر العرفي فلا شك في وحدة
القضيتين من ناحية الموضوع لما ذكرنا من أن العرف يرى الموضوع
بحسب ما ارتكز في ذهنه من المناسبات بين الحكم وموضوعه
نفس الماء (فالموضوع) في كلتا القضيتين نفس الماء فاتحدتا ومنشأ
الشك مع وحدتهما موضوعا ومحمولا في المثال المذكور هو أن
وصف التغير علة للحكم حدوثا فقط أو حدوثا وبقاء.
527

والتحقيق أن المناط في اتحاد القضيتين هو الاتحاد بالنظر العرفي لا
الدقي العقلي ولا بحسب ما أخذ موضوعا للحكم في لسان الدليل (و
ذلك) من جهة أن خطاب لا تنقض اليقين بالشك كسائر الخطابات
الشرعية حجة وكاشف عن مراد الشارع بظهوره الكلامي كما هو
طريقة العقلا في تفهيم مقاصدهم والكشف عن مراداتهم، إذا الشارع
ما اخترع طريقا خاصا في تفهيم مراداته ومقاصده بل سلك ما
سلكه العقلا في محاوراتهم وهذا معنى حجية ظهور كلام الشارع (و
لا شك) أن المراد من الظهور الكلامي هو ما يفهمه العرف وينسبق
إلى ذهنه من الكلام والجملة وهذا هو معنى المفهوم العرفي فبنأ
على هذا لا بد وأن ينظر ويراجع إلى ما يفهمه العرف من هذه الجملة
والكلام أي قوله (لا تنقض اليقين بالشك) فكل ما يفهمه من نقض
اليقين بالشك هو المناط في جريان الاستصحاب وعدم جريانه و
المراد من الرجوع إلى العرف وكونه هو المرجع - هو في تعيين ما هو
المفهوم من نقض اليقين بالشك وإلا فلا اعتبار بمسامحاته في
مقام تطبيق ما يفهمه على مصاديقه بل التطبيق يكون بيد العقل وفي
كمال الدقة ولا ينطبق على غير ما هو مصداقه حقيقة إلا بادعائه و
تنزيله (فإذا كان) المتفاهم العرفي من هذا الكلام أن الموضوع للحكم
إذا كان حسب ما يفهمه العرف ولو كان من جهة مناسبات الحكم
والموضوع في القضيتين المشكوكة والمتيقنة واحدا ولو كان بالدقة
أو بحسب ما أخذ في الدليل موضوعا مختلفان يصدق على عدم
العمل على طبق القضية المتيقنة في ظرف الشك في تلك القضية أنه
نقض اليقين بالشك فهذا المورد هو مورد الاستصحاب كما أنه في
عكس هذا أي لو فرضنا في مورد يصدق بالدقة أو بحسب ما أخذ
موضوعا في الدليل كانت القضيتان واحدة ولكن بحسب المتفاهم
العرفي لم تكونا واحدة ولم يكن من مصاديق مفهوم نقض اليقين
بالشك حقيقة أو بادعاء من
528

الشارع (فليس) موردا للاستصحاب فمعنى أخذ الموضوع من العرف
أي فهم موضوع الاستصحاب وهو نقض اليقين بالشك بيد العرف
وان كان تطبيقه أي ما يفهم العرف من هذه الجملة بيد العقل ولا
اعتبار بالمسامحات العرفية في مقام التطبيق.
ومما ذكرنا - من أن المعتبر في اتحاد القضيتين هو النظر العرفي لا
الدقي ولا بحسب ما أخذ موضوعا في دليل الحكم - يظهر عدم
ورود الاشكال المعروف على جريان الاستصحاب في الاحكام الكلية
الشرعية وهو أن الحكم الشرعي من غير جهة احتمال النسخ ومن
غير جهة احتمال حصول غايته لا يحصل الشك في بقائه إلا بوجود
تغير في موضوعه من فقد قيد احتمل دخل وجوده فيه أو وجود صفة
احتمل دخل عدمه فلا يكون دائما وفي جميع موارد الشك وحدة
القضيتين حاصلة فيجب عدم جريان الاستصحاب في الاحكام وقد
تقدم
الكلام فيه.
(الامر الثاني)
هو أنه هل من الممكن شمول أخبار الباب للاستصحاب وقاعدة
اليقين كليهما أم لا فقد تقدم ما هو المختار من عدم إمكان الجمع
بينهما
وعلى فرض الامكان ظاهر أخبار الباب هو الاستصحاب لا القاعدة.
وأفاد شيخنا الأستاذ (قده) في مقام بيان عدم إمكان الجمع بين
القاعدة والاستصحاب في استعمال ولحاظ واحد من جهة اليقين و
من
جهة المتيقن ومن جهة النقض ومن جهة الحكم بأنه (أما من جهة
اليقين) فلان اليقين مختلف أخذه في البابين من حيث الطريقية و
الموضوعية ففي الاستصحاب أخذ طريقا وفي القاعدة أخذ موضوعا
ومعلوم أن لحاظ الطريقية والموضوعية بالنسبة إلى شي واحد لا
يمكن في استعمال واحد ولحاظ واحد (وفيه) أن اليقين في كلام
البابين أخذ موضوعا للحكم المجعول في القاعدة أو الاستصحاب بما
هو طريق إلى المتيقن لان المجعول في القاعدة أيضا ترتيب آثار
المتيقن
529

في ظرف الشك الساري وزوال اليقين لا آثار نفس اليقين فيكون مفاد
القاعدة أن الشارع حكم بترتيب آثار المتيقن بمحض حدوث
الطريق أي اليقين إليه إلى أن يعلم بالخلاف وأين هذا المعنى من
الموضوعية (واما من جهة المتيقن) فلان المتيقن في الاستصحاب لا
بد و
أن يكون غير مقيد بالزمان حفظا لوحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة
واما المتيقن في القاعدة فمقيد بالزمان ووحدة القضيتين في
القاعدة دقي حتى بحسب الزمان ولذلك يسمى بالشك الساري ولا
يلزم اجتماع الضدين مع وحدتهما بالدقة لاختلاف زمان اليقين و
الشك (وفيه) أن المتيقن في كليهما مقيد بالزمان مثلا في كليهما تعلق
اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة والفرق في ناحية الشك حيث أن
الشك في القاعدة أيضا تعلق بعدالة زيد في يوم الجمعة بخلاف
الشك في الاستصحاب فإنه تعلق بعدالة زيد بعد ذلك الزمان من دون
تقييدها بزمان فالأحسن كان أن يقول من جهة المشكوك بدل المتيقن
(واما من جهة النقض) فلانه في الاستصحاب باعتبار عدم جري
العملي على طبق المتيقن حيث إن اليقين فيه طريقي وأما في القاعدة
فباعتبار الجري العملي على طبق نفس اليقين فإنه فيها موضوعي
(وفيه) ما ذكرنا من كون اليقين في كليهما طريقي وصدور مثل هذا
الكلام من شيخنا الأستاذ عجيب (وأما من جهة الحكم المجعول
فيهما) فلان المجعول في القاعدة ترتيب آثار المتيقن في زمان اليقين
مثلا لو تيقن بعدالة زيد يوم الجمعة ثم بعده شك في عدالته في
نفس ذلك الزمان فبناء على اعتبار القاعدة يكون مفادها ترتيب آثار
العدالة في نفس ذلك الزمان وأما المجعول في الاستصحاب حيث
أن موضوعه الشك في البقاء فلو شك مثلا في بقاء تلك العدالة في
يوم السبت فالمجعول ترتيب آثار العدالة في زمان الشك وهو الزمان
الذي بعد زمان اليقين الذي نسميه بالشك في البقاء (وفيه) أن هذا
المقدار من الاختلاف
530

وان كان من المسلم لكن لا يضر بشمول الروايات لكلتا القاعدتين إذا
كان جامع في البين وهو هاهنا موجود أعني الحكم بترتيب آثار
المتيقن على المشكوك سواء كان المشكوك هو الحدوث حتى يكون
الشك شكا ساريا أو كان هو بقاء ذلك الشئ حتى يكون مفاد
الاستصحاب فالعمدة في عدم إمكان الجمع بينهما في مقام الجعل
هو ما ذكرنا من تنافي اللحاظين.
وقد يقال بأن قضية لا تنقض اليقين بالشك تنحل إلى قضايا متعددة
حسب تعدد أفراد اليقين والشك فكما أن اليقين بوجود الشئ و
الشك في بقاء ذلك الشئ مصداق من المصاديق الذي هو موضوع
الاستصحاب (كذلك) اليقين بوجود شي في زمان كعدالة زيد يوم
الجمعة ثم الشك في نفس ذلك الشئ أي في عدالة زيد في نفس
ذلك الزمان أي في يوم الجمعة مثلا الذي نسميه بالشك الساري وهو
موضوع قاعدة اليقين أيضا مصداق من مصاديق تلك القضية وبعد
ظهور تلك القضية في الانحلال كما تقدم أن النواهي غالبا تنحل إلى
قضايا متعددة حسب تعدد أفراد موضوعاتها ومصاديقها مثل لا
تشرب الخمر ولا تتصرف في مال الغير إلا بإذنه خصوصا إذا كان
لمتعلقاتها موضوعات خارجية كما فيما نحن فيه فالقضايا التي تشمل
موارد القاعدة غير القضايا التي تشمل موارد الاستصحاب كما أنه
بهذا نجيب عن الاشكال على حكومة الاستصحاب السببي على
الاستصحاب المسببي مع أن دليلهما واحد وهو هذه القضية.
وأجاب عن هذه المقالة شيخنا الأعظم وتبعه في ذلك شيخنا الأستاذ
(قدس سرهما) بأن اليقين في القاعدة وفي الاستصحاب ليسا
فردين من طبيعة اليقين حتى يكون كل واحد منهما موضوعا مستقلا لاحدى القضايا المنحلة بل تعددهما باعتبار انحفاضه في ظرف
الشك وعدم انحفاضه وهذا متأخر عن وجوده لا يمكن أن يكون موجبا لتعدده (وفيه أولا) ان كل
531

خصوصية - طرأت على الفرد سواء كان في أول وجوده أو بعد وجوده بزمان - يكون موجبا لتعدده (وثانيا) لا شك في تعدد القضايا
المنحلة باعتبار تعدد الشك ولا شك في تعدد الشك في القاعدة والاستصحاب لاختلاف متعلقهما لان متعلق الشك في الاستصحاب هو
بقاء الشئ بعد القطع بحدوثه وأصل وجوده وفي القاعدة أصل وجوده وحدوثه ولذلك يسمى بالشك الساري.
فالجواب الصحيح عن هذه المقالة هو أن النهي عن نقض اليقين معناه ترتيب آثار اليقين بما هو مرآة وطريق إلى المتيقن (فالنتيجة)
وجوب التعبد بوجود المتيقن من حيث الجري العملي ولكن متعلق التعبد في القاعدة هو أصل وجود الشئ في الزمان الذي كان متيقنا و
في الاستصحاب متعلق التعبد ومركزه بقاء ذلك في ظرف الشك بعد الفراغ عن أصل وجوده وجدانا فما هو مركز التعبد في القاعدة لا
يمكن التعبد به في الاستصحاب لأنه وجداني ويكون من قبيل تحصيل الحاصل بل هو أراد منه ومثل هذين الجعلين واللحاظين في
استعمال واحد لا يمكن والانحلال لا أثر له في المقام لان معنى الانحلال هو أن الحكم الوارد على الطبيعة يكون بلحاظ سريانه إلى جميع
وجوداتها وهذا فيما إذا أمكن لحاظ جميع وجوداتها ولو بعنوان إجمالي واما فيما لا يمكن كما في المقام للزوم اجتماع اللحاظين
المتنافيين في استعمال واحد فلا (نعم) لو كان هناك قضايا بصورة مفصلة لا بعنوان واحد بعضها متعلقة بالقاعدة وبعضها الاخر
بالاستصحاب لما كان محذور.
وأما ما أفاده أستاذنا المحقق (قده) في هذا المقام من أن مرجع الضمير المقدر في هذه القضية أعني كلمة فيه في قوله عليه السلام لا
تنقض اليقين بالشك أي فيه أي في ذلك الشئ (اما) أن يكون نفس ذلك الشئ بالدقة أي حتى مع قيد زمانه ومن دون مسامحة أصلا
فهذا يكون منطبقا على القاعدة ولا يشمل الاستصحاب أصلا (واما) أن يكون المرجع ذلك
532

الشئ بالنظر المسامحي العرفي لا الدقي فيكون منطبقا على الاستصحاب ولا يشمل القاعدة أصلا والجمع بين هذين اللحاظين لا يمكن
أصلا (ففي) غاية الجودة والمتانة (وأما ما ذكر في هذا المقام) من انحلال قضية لا تنقض اليقين بالشك إلى قضايا متعددة فبعضها
يكون مفاده القاعدة وبعضها الاخر مفاده الاستصحاب (فمغالطة) عجيبة لأنه ليس هناك قضايا متعددة في الخارج ملحوظة بلحاظات
متعددة باستعمالات متعددة بل استعمال واحد ولحاظ واحد وذكرنا أن معنى الانحلال هو الحكم على الطبيعة بوجودها الساري مقابل
ورود الحكم على الطبيعة المهملة أو بلحاظ صرف الوجود فإذا كان لحاظ الجعل في القاعدة باعتبار موضوعية الشك واليقين غير لحاظ
الجعل بهذا الاعتبار في الاستصحاب وكان اللحاظان متنافيين لا يمكن اجتماعهما في استعمال واحد فلا يمكن شمول قضية لا تنقض
للقاعدة والاستصحاب جمعا بل لا بد وأن يكون ملحوظا بأحد الاعتبارين إما لحاظ مفاد القاعدة وإما لحاظ مفاد الاستصحاب وحيث
أنه عليه السلام طبق هذه الكبرى على الاستصحاب في موارد عديدة فلا بد وأن يكون مساقها مساق الاستصحاب.
(الامر الثالث)
هو أن لا يكون علم وجداني على خلاف الحالة السابقة أو على وفاقها لأنه في كلتا الصورتين لا يبقى موضوع الاستصحاب الذي هو
الشك في البقاء لأن الشك في البقاء لا يجتمع مع العلم بالبقاء أو بالارتفاع وهذا واضح جدا (وكذلك) الامر لو قامت أمارة على خلاف
الحالة السابقة أو وفاقها بل وكذلك بعض الأصول الموضوعية كأصالة الصحة وقاعدتي الفراغ والتجاوز واليد وتقديم هذه
المذكورات على الاستصحاب مسلم (وإنما الكلام) في وجه التقديم وأنه هل هي الحكومة أو الورود أو التوفيق العرفي أقوال فلا بد وأن
نذكر معنى هذه الأمور والمراد من كل واحد منها والضابط لكل واحد منها حتى تعرف ان أيها وجه التقديم.
533

فنقول ان هاهنا مفاهيم أربعة دائرة في السنة الأصوليين اصطلحوا عليها (الأول) التخصص وهو عبارة عن خروج شي عن موضوع
الحكم الشرعي خروجا حقيقيا تكوينيا بلا رعاية جعل شرعي من طرف الشارع لأجل هذا الخروج كخروج غير المجتهد أو غير العادل
عن موضوع قلد المجتهد العادل فالتخصص والتضيق في موضوع وجوب تقليد المجتهد العادل بالنسبة إلى غير المجتهد وغير العادل
ليس بمخصص ومضيق خارجي بل الموضوع لهذا الحكم أعني المجتهد العادل قاصر ذاتا عن شمول من هو ليس بمجتهد أو ليس بعادل
وإلا يلزم اجتماع النقيضين فبناء على هذا جميع موارد العلم الوجداني بالحكم الشرعي أو بموضوعه خارج عن موضوع الامارات و
الأصول بالتخصص (لأن الشك) أخذ في موضوع الأصول ويكون موردا للامارات ومع العلم لا يبقى شك في البين حتى يتحقق موضوع
الأصل أو مورد الامارة فعند العلم بشي لا يبقى مجال لاستعمال الأصل أو الامارة في ذلك المورد سواء كان العلم موافقا لمؤدى الأصل
والامارة أو كان مخالفا لمؤداهما.
(الثاني) الورود وهو عبارة عن رافعية أحد الدليلين لموضوع الاخر رفعا حقيقيا واقعيا ولكن الرفع الحقيقي الواقعي يكون بواسطة
الجعل الشرعي وبرعايته (وذلك) كجميع الأدلة الشرعية بالنسبة إلى البراءة العقلية وذلك من جهة أن موضوع حكم العقل بقبح العقاب
هو عدم البيان ولا شك في أن البيان المأخوذ عدمه موضوعا لحكم العقل أعم من البيان الذاتي أي العلم ومن البيان الجعلي كالأدلة
الشرعية بل وكالاحتياط العقلي كالعلم الاجمالي في الشبهة المحصورة فهو أيضا بيان كما تقدم في مبحث الاشتغال (فجميع) هذه
المذكورات وارد على البراءة العقلية ما عدا الاحتياط العقلي فان بيانيته ليس برعاية الجعل الشرعي بل العلم الاجمالي بيان ذاتي كالعلم
التفصيلي كما
534

تقدم (فعلى) ما ذكرنا يكون التخصص والورود مشتركين في أمر وهو أنه يكون الخروج في كل واحد منهما عن موضوع الدليل الاخر
أي المورود والمتخصص خروجا واقعيا حقيقيا (ويفترقان) في أن الورود بلحاظ الجعل الشرعي وإلا لو لم يكن تشريع وجعل من
قبل الشارع لما كان خارجا وهذا بخلاف التخصص فان الخروج فيه تكويني لا مساس له بالتشريع فان العلم بالشئ خارج عن
موضوع الجهل به فإذا حكم على موضوع مشكوك الطهارة بالطهارة فمعلوم الطهارة أو معلوم النجاسة خارج عن الموضوع تكوينا
بدون أن يكون هذا الخروج متوقفا على جعل شرعي وبرعايته فخروجه عنه كخروج زيد الجاهل عن موضوع أكرم العلماء أو خروج
الفساق عن موضوع أكرم العدول.
(الثالث) التخصيص وهو عبارة عن خروج بعض أفراد العام أو بعض أنواعه عن تحت حكم العام بدون التصرف في الموضوع العام أو
محموله بل حقيقته سلب النسبة التي بين محمول العام أي حكمه وبين موضوعه عن بعض أفراده في التخصيص الافرادي أو بعض أنواعه
في التخصيص الانواعي (الرابع) الحكومة وهي عبارة عن توسعة أو تضييق ولكن تعبدا لا حقيقيا وواقعيا بل الدليل الحاكم مفاده
التوسعة أو التضييق تعبدا وفي عالم التشريع لا في التكوين فالفرق بينهما وبين الورودان تضييق الوارد لدليل المورود وإخراج فرد
أو نوع من أفراده أو أنواعه تكويني وواقعي وأما تضييق دليل الحاكم لموضوع دليل المحكوم تعبدي وفي عالم التشريع (ومما
ذكرنا) ظهر أن الحكومة والتخصيص مشتركان في عدم رفع موضوع دليل المحكوم أو المخصص أو محمولهما واقعا وإنما يفترقان
ويمتازان في أن التخصيص لا تصرف له في جانب الموضوع ولا في جانب المحمول لا واقعا ولا تعبدا وأما الحاكم فله تصرف
بالتوسعة أو التضييق ولكن تعبدا لا واقعا
535

في جانب المحمول أو الموضوع وفي الحقيقة في صورة التضييق مثل التخصيص لا ينتج إلا رفع الحكم وهذا معنى رفع التعبدي غاية
الامر أنه في التخصيص من أول الامر ليس مفاد دليل المخصص إلا رفع الحكم عن بعض الافراد أو بعض الأنواع وفي الحكومة وإن
كانت النتيجة أيضا كذلك ولكن بلسان التصرف في عقد الوضع أو في عقد الحمل مثلا أكرم العلماء إلا زيدا أو زيد ليس بعالم ينتجان
نتيجة واحدة وهو رفع وجوب الاكرام عن زيد إلا أن الأول من أول الامر بلسان نفي الحكم عن زيد بدون تصرف في كونه عالما و
الثاني بلسان نفي كونه عالما أي التصرف في عقد وضع قضية أكرم العلماء (ثم إن الحكومة) التي عرفت أنها عبارة عن التوسعة أو
التضييق في عقد وضع دليل المحكوم أو عقد حمله بأقسامها الأربعة اما واقعية أو ظاهرية والفرق بينهما أن التصرف بالتوسعة أو
التضييق في عقد الوضع أو عقد الحمل تصرفا تعبديا ان كان في ظرف الجهل بالواقع وبملاحظة استتاره فهذه حكومة ظاهرية وان
كان في ظرف عدم استتار الواقع وعدم الجهل به فهذه هي الحكومة الواقعية فيكون أقسامها ثمانية أربعة واقعية وأربعة ظاهرية وقد
بينا أمثلتها فيما تقدم.
ثم أنه لا يخفى أن ما ذكرنا في المراد من التخصص والتخصيص والحكومة بأقسامها الثمانية والورود أمور واقعية لا يمكن إنكارها
(نعم) التسمية بهذه الاسماء اصطلاحات ولا مشاحة في الاصطلاح (فالقول) بأن الحكومة عبارة عن أن يكون أحد الدليلين ناظرا بمدلوله
اللفظي إلى مدلول دليل الاخر وشارحا ومفسرا له (قول بلا بينة) ولا برهان لان لفظ الحكومة ما وردت في آية ولا رواية ولا هو
معقد إجماع وكذلك لفظ الورود حتى نتكلم ونبحث عما هو مفهومه العرفي وقلنا أنها اصطلاحات والأثر يترتب على واقع ما ذكرنا
في المراد من هذه الألفاظ (إذا عرفت)
536

ما ذكرنا فنقول في مورد تعارض الاستصحاب مع الامارة أو في مورد موافقتهما تكون الامارة حاكمة على الاستصحاب (وذلك) من
جهة أن جميع الأصول العملية ومنها الاستصحاب سواء كانت محرزة أو غير محرزة أخذ في موضوعها الشك كما تقدم وقلنا إنها
وظائف عملية للشاك وقد تقدم في باب حجية الامارات أن معنى حجيتها تتميم كشفها بمعنى جعلها علما في عالم الاعتبار التشريعي
فكان لمفهوم العلم فردان ومصداقان فرد حقيقي تحقيقي وفرد حقيقي ادعائي وقد تقدم كل ذلك تفصيلا فبناء على هذا المسلك
المختار عندنا في جعل حجية الامارات لا يبقى مجال للشك في حكومة الامارات على الأصول مطلقا محرزة أو غير محرزة من جهة أنه
بسبب قيام الامارة يرتفع موضوع الأصل مطلقا تعبدا لا حقيقة وواقعا لان الرفع الحقيقي لا يمكن إلا بالعلم الوجداني الحقيقي والعلم
التعبدي الذي هو مفاد حجية الامارات ليس مقتضاه إلا رفع الشك تعبدا (ولا يبقى) مجال للقول بورود الامارات على الاستصحاب أو
على مطلق الأصول تنزيلية كانت أو غير تنزيلية بناء على المبني المذكور الذي هو المختار.
نعم لو قلنا في باب الاستصحاب المراد من اليقين الناقض وفي سائر الأصول المراد من اليقين الذي جعل غاية أعم من اليقين الوجداني و
التعبدي أو نقول المراد من اليقين في الموردين وإن كان هو اليقين الوجداني ولكن متعلقه أعم من الحكم الواقعي والظاهري أو نقول
المراد من اليقين في الموردين هو مطلق الحجة وان كان لا مناص إلا عن القول بورود الامارات على الأصول (ولكن أنت خبير) بأن هذه
الاحتمالات أوهام لا واقعية لها بل اليقين في الموردين ظاهر في اليقين الوجداني المتعلق بالحكم الواقعي (فالصحيح) هو القول
بالحكومة لا القول بالورود.
وما ذكرنا من تقريب الحكومة بين الامارات والأصول جار بالنسبة إلى الأصول
537

التنزيلية وغير التنزيلية بمعنى أن الأصول التنزيلية التي نسميها بالأصول المحرزة حاكمة على الأصول غير التنزيلية مثل استصحاب
نجاسة مشكوك الطهارة والنجاسة حاكم على قاعدة الطهارة (والسر) في ذلك أن الاستصحاب الذي هو من الأصول التنزيلية مؤداه و
ان كان العمل على طبق الحالة السابقة ولكن ليس مجرد تطبيق العمل والجري على طبق الحالة السابقة بل على أنه هو الواقع فالأصول
التنزيلية ولو أنها ليست طرقا كاشفة لمؤدياتها و لكنها محرزة لمؤدياتها من حيث الجري العملي ولذا سميت بالأصول المحرزة فهذه
الأصول المحرزة التي من جملتها الاستصحاب أيضا مثل الامارة في إلقاء الشك لكن عملا لا أنها طرق وكواشف عن متعلقاتها (فالفرق)
بينها وبين الامارة ليس إلا من ناحية كونها طرقا إلى مؤدياتها ومتعلقاتها وإلا فلا فرق بينهما من حيث ثبوت المؤدى تعبدا والجري
العملي على أنه هو الواقع (وحيث) إن موضوع الأصول غير المحرزة هو الشك في ثبوت الموضوع واقعا فيرتفع بالأصول المحرزة
تعبدا وهذا معنى حكومتها عليها وأيضا من أجل هذه يكون الأصل السببي حاكما على الأصل المسببي وذلك لارتفاع موضوع الأصل
المسببي بالأصل السببي وذلك من جهة أن موضوع استصحاب بقاء النجاسة للثوب المغسول بالماء المشكوك موضوعه الشك في بقاء
نجاسته فإذا ارتفع هذا الشك تعبدا باستصحاب طهارة ذلك الماء - لان من آثار الشرعي لطهارة ذلك الماء الثابت بالاستصحاب تعبدا
- طهارة ذلك الثوب لا يبقى موضوع للأصل المسببي وهذا معنى حكومة الأصل السببي على أصل المسببي (وأيضا) ظهر مما ذكرنا
وجه قيام أصول التنزيلية مقام القطع الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقية (بيان ذلك) ان القطع المأخوذ على نحو الطريقية معناه
أن الموضوع ليس عبارة عن ذات المجرد بل هو عبارة عن الذات المقيد بقيد الانكشاف والاحراز فإذا أحرز تلك الذات بالأصل المحرز
تعبدا فقد تحقق الموضوع بكلا جزئيه وهذا معنى
538

قيام الأصل المحرز كالامارات مقام القطع المأخوذ في الموضوع (وخلاصة الكلام) ان الأصل المحرز مثل الامارات في إحراز المؤدى و
ثبوته به غاية الامر مع أخذ الشك في موضوعه وثبوته تعبدا أيضا من ناحية الجري العملي.
تنبيه لا يخفى أن ما ذكرنا من الحكومة الواقعية في جانب المحمول بالتضييق - مثل لا ضرر ولا حرج بناء على أن يكون المرفوع هو
الحكم الضرري والحرجي كما هو المختار لا رفع الحكم برفع موضوعه تعبدا كما يقول به صاحب الكفاية - لا فرق بينه وبين الورود
بل هو بعينه (وذلك) من جهة أن المحمولات في لا ضرر ولا حرج ليست إلا أحكام شرعية وضعية أم تكليفية وهي لا وجود لها إلا في
عالم الاعتبار التشريعي ولا واقعية لها في غير ذلك العالم فرفعها التشريعي عين رفعها التكويني فالحكومة هناك تنتج نتيجة الورود
بل هي عينها فان شئت سمه حكومة وإن شئت سمه ورودا.
الامر الرابع
بعد ما عرفت حكومة الامارات على الاستصحاب وعلى كل أصل مطلقا تنزيلي أو غير تنزيلي لما ذكرنا من أن الأصول مطلقا أخذ الشك
في موضوعها والامارة رافعة للشك تعبدا لا تكوينا وحقيقة فتكون حاكمة لا واردة عليها (وقع الكلام) في أشياء وهو أنه هل هذه
الاشياء أمارة حتى تكون حاكمة على الاستصحاب أو هي أصول تنزيلية حتى يقع التعارض بينه وبينها فلو قيل بتقديمها على
الاستصحاب كما هو كذلك في غير القرعة فلا بد من التماس وجه آخر غير الحكومة لتقديمها عليه (وهذه) الاشياء هي قاعدة اليد و
أصالة الصحة وقاعدتي الفراغ والتجاوز وقاعدة القرعة لكل أمر مجهول أو مشكل.
فنقول اما تقديم قاعدة اليد وأصالة الصحة وقاعدتي الفراغ والتجاوز على الاستصحاب فان قلنا بأنها أمارات فوجه التقديم واضح لما
ذكرنا من
539

حكومة الامارات على الأصول ولو كانت تنزيلية وأما بناء على كونها أصولا تنزيلية كما هو الظاهر في قاعدتي الفراغ والتجاوز و
أصالة الصحة فوجه تقديمها على الاستصحاب هو أن مورد جريان هذه الأصول غالبا في مورد الاستصحاب فلو قدم الاستصحاب فلا
يبقى لها مورد فبدلالة الاقتضاء يدل دليل اعتبار هذه الأصول على عدم اعتبار الاستصحاب في مواردها وقد شرحنا مفصلا وجه تقديم
هذه الأصول في كتابنا القواعد الفقهية (وأما) القرعة فالاستصحاب مقدم عليها في الموارد التي لولا الاستصحاب لكان محل القرعة
كالشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي التي لا يجوز فيها الاحتياط أو لا يجب وأما في الشبهات الحكمية فلا تجري القرعة حتى
يعارض الاستصحاب معها.
وأما الكلام في تعارض الاستصحابين فنقول إذا تعارضا ولم يمكن اجتماع مؤداهما فإما أن يكون الشك في أحدهما مسببا عن الشك
في الاخر شرعا وهذا ما يسمى بالاستصحاب السببي والمسببي واما أن لا يكون كذلك (فتارة) يكون الشك في أحدهما مسببا عن
الاخر لكن عقلا لا شرعا (وأخرى) لا سببية بينهما بل يكون الشك في كل واحد منهما مسببا عن أمر آخر أجنبي عن الشكين وأما
احتمال كون الشك في كل واحد منهما مسببا عن الاخر فمحال عقلا للزوم كون الشئ معلولا لما هو معلوله هذه أقسام تعارض
الاستصحابين إجمالا وأما التفصيل فان كان من القسم الأول أي الاستصحاب السببي والمسببي بأن يكون الشك في بقاء أحدهما مسببا
شرعا عن بقاء الشك في الاخر كغسل الثوب النجس بالماء المستصحب الطهارة حيث إن الشك في بقاء نجاسة الثوب النجس من الآثار
الشرعية للشك في طهارة الماء الذي غسل به فتكون طهارة الماء سببا شرعيا لطهارة الثوب الذي غسل بذلك الماء فيكون الشك في
تحقق السبب أي طهارة الماء
540

سببا للشك في طهارة ذلك الثوب فإن كان كذلك فلا محالة يكون الاستصحاب في الأصل السببي حاكما عليه في جانب الأصل المسببي
(ولا فرق) في حكومة الأصل المسببي على الأصل المسببي بين أن يكون الأصلان متحدي الجنس والدليل كما في المقام حيث إن كلا
الأصلين من الاستصحاب ودليل كليهما قوله عليه السلام لا تنقض اليقين بالشك أو أن يكونا مختلفي الجنس بل لو كان أحدهما أصلا
تنزيليا والاخر غير تنزيلي أيضا يكون الأصل السببي مقدما وحاكما على الأصل المسببي مثلا لو غسل الثوب النجس بماء مشكوك
الطهارة الذي ليس له حالة سابقة متيقنة من الطهارة أو النجاسة فأصالة الطهارة في طرف الماء الذي هو أصل غير تنزيلي حاكم على
استصحاب نجاسة الثوب الذي هو أصل تنزيلي.
والسر في ذلك هو أن الأصل السببي رافع لموضوع الأصل المسببي تعبدا (وبعبارة أخرى) لم يجعل لفظ الحكومة في آية أو رواية أو
معقد إجماع موضوع حكم حتى نرجع إلى العرف في تعيين مفهوم الحكومة بل الامر الواقعي هو أن في باب تعارض الأدلة سواء كانت
لفظية أو غير لفظية أو مختلفة اما يكون مفاد أحدهما رافعا أو موسعا لموضوع الاخر في عالم التعبد والتشريع لا رفعا أو توسعة في
عالم التكوين فهذا هو الذي قلنا بأنه حكومة وقسمناه على أقسام وقد تقدم تفصيل ذلك وأنت سمه ما شئت (وبهذا المعنى) دائما يكون
الأصل السببي الذي تكون السببية فيه شرعية حاكما على الأصل المسببي ورافعا لموضوعه عند التعارض (وذلك) من جهة أن
المفروض أن المشكوك أي طهارة الثوب مثلا في المثال المذكور من الآثار والأحكام الشرعية لطهارة الماء فإذا جاء تعبد بطهارة ذلك
الماء الذي غسل هذا الثوب به فمن آثاره أن شرعا خبث هذا الثوب المغسول به زال ولم يبق له نجاسة وان كانت طهارة ذلك الماء مفاد
أصالة الطهارة فلا يبقى من حيث العمل شك في
541

طهارة الثوب حتى يستصحب نجاسته ولا ندعي ارتفاع الشك حقيقة حتى تقول بأن ترتيب آثار الطهارة على الماء تعبدا لا يوجب
ارتفاع الشك حقيقة لأنه أمر تكويني لا يرتفع إلا بأسبابه التكوينية بل نقول ان الدليل الذي يقول بطهارة ذلك الماء مثلا سواء كان هو
الاستصحاب أو كان أصل الطهارة موجب لرفع الشك في مرحلة الاثبات والظاهر لا في مرحلة الثبوت والواقع وإلا كان واردا لا
حاكما.
(فمما ذكرنا ظهر) لك أن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) أن حكومة الأصل السببي على المسببي مشروط بأمرين (أحدهما) أن تكون
السببية شرعية لا عقلية (والثاني) أن يكون الأصل في جانب السبب رافعا لموضوع المسبب وإلا فلا حكومة كما ينبغي ومثل لذلك أي
لعدم كونه رافعا بالشك في مأكول اللحم والشك في جواز الصلاة فيه حيث أن الشك الثاني مسبب شرعا عن الشك الأول وأصالة الحل
في الشك الأول لا يرفع الشك الثاني الذي هو موضوع عدم جواز الصلاة لما ذكره من أن جواز الصلاة موضوعه العناوين المحللة كالغنم
وأمثاله (وهذا كلام عجيب) لان كلامنا في هذا المقام في الأصل السببي والمسببي فإذا كان الشك في الأصل المسببي مسببا شرعا عن
بقاء الشك في الأصل السببي (فإذا ارتفع) السبب أي الشك ولو تعبدا ومن حيث الجري العملي (فمحال) أن يبقى المسبب الذي هو معلول
له وإلا تخلف المعلول عن علته وأما المثل الذي ذكره فان قلنا أن الشك في جواز الصلاة مسبب عن الشك في الحلية فلا محالة يرتفع
بأصالة الحل وأما ان قلنا بأن الشك في جواز الصلاة مسبب عن الشك في أنه من العناوين المحللة فليس مسببا عن الحلية حتى يلزم منه
رفع الموضوع في جانب المسبب (والحاصل) أن كون الشك في الأصل المسببي معلولا للشك السببي شرعا ومن آثاره ومع ذلك لا
يرتفع بارتفاعه بالأصل
542

في طرف السبب من المتناقضات ومن الالتزام ببقاء المعلول مع زوال علته ولو تعبدا ومن حيث الجري العملي لا حقيقة ووجدانا.
ثم إن هاهنا إشكالان (الأول) ان ما ذكر من حكومة الأصل السببي على أصل المسببي على تقدير صحته فيما إذا كان لكل واحد منهما
دليل مستقل حتى يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع دليل الاخر وأما إذا كان لكلاهما دليل واحد يشمل بعمومه الاثنين كما في المقام
حيث أن عام واحد وهو قوله عليه السلام لا تنقض اليقين بالشك يشمل بعمومه الأصل السببي والمسببي كيف يمكن أن يكون ذلك
الدليل الواحد بالنسبة إلى الأصل السببي حاكما وبالنسبة إلى أصل المسببي محكوما وهل هذا إلا حكومة الشئ على نفسه وهو واضح
البطلان (وفيه) أن العام هاهنا عام انحلالي وفي حكم القضايا المتعددة فباعتبار انطباقه على الأصل السببي حاكم وباعتبار انطباقه
على الأصل المسببي محكوم ولا تتوهم أنه مرادنا من الانحلال أن هناك قضايا خارجية متعددة جمعها عبارة واحدة لان هذا باطل (و
قد تقدم) ان الكبريات المجعولة من قبل الشارع التي خاطب بها المكلفين من قبيل القضايا الحقيقية التي يكون الحكم فيها متعلقا بنفس
الطبيعة السارية وبلحاظ جميع وجوداتها وإلا فتلك ليست بانحلال بل جمع القضايا المتعددة الخارجية تحت مفهوم انتزاعي واحد
(فالمقصود) في المقام من الانحلال أن لها انطباقات متعددة حسب تعدد وجودات الطبيعة وهذا المقدار يكفي في حكومة العام باعتبار
انطباقه على أصل السببي على ما هو المسمى بالأصل المسببي (والسر) في ذلك ما تقدم منا مرارا من أن الحكومة لا يحتاج إلى أن يكون
دليل الحاكم بمدلوله اللفظي ناظر إلى دليل المحكوم بل معناها هو أن يكون مفاد دليل الحاكم رافعا لموضوع دليل المحكوم تعبدا و
في عالم التشريع لا حقيقة ووجدانا وإلا فيكون ورودا لا حكومة وفيما نحن فيه عرفت أن مفاد لا تنقض مثلا
543

باعتبار انطباقه على الأصل السببي رافع لما هو موضوع الأصل المسببي.
(الاشكال الثاني) هو أن نسبة دليل الاستصحاب أعني لا تنقض اليقين بالشك إلى الأصل السببي والمسببي على حد سواء فلا وجه لتقديم
إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى السبب على الاستصحاب في جانب المسبب حتى لا يبقى موضوع للأصل المسببي بل يمكن إجرأ
الاستصحاب ابتداء في الشك المسببي وموضوعه باق لم يرتفع (بل يمكن أن يقال) بارتفاع موضوع الاستصحاب في الشك السببي لو
أجري الاستصحاب أو لا في الشك المسببي بناء على حجية أصل المثبت (بيان ذلك) أن استصحاب بقاء نجاسة الثوب المغسول بالماء
المشكوك مع العلم بطهارة ذلك الماء سابقا لازمه نجاسة ذلك الماء عقلا فبناء على اعتبار الأصل المثبت يثبت نجاسة ذلك الماء
باستصحاب نجاسة ذلك الثوب المغسول بذلك الماء فتقديم الاستصحاب في جانب السبب لا وجه له (وفيه) أولا - عدم حجية مثبتات
الأصول فتقديم الاستصحاب في جانب المسبب لا يرفع موضوع الاستصحاب في جانب السبب بخلاف العكس لان الأصل السببي يرفع
موضوع أصل المسببي بمدلوله المطابقي فلا ربط له بالأصل المثبت وأما مفاد أصل المسببي أي استصحاب نجاسة ذلك الثوب - في
المثال المذكور - ليس نجاسة ذلك الماء (نعم) نجاسة الماء ملازم مع بقاء نجاسة ذلك الثوب عقلا وقلنا أن أصل المثبت ليس بحجة
(نعم) يبقى الكلام في أصل تقديم أصل السببي على المسببي حتى ينتج رفع موضوعه وانه لا وجه له إذ لا وجه لاخراج الشك المسببي عن
تحت العام أي قوله عليه السلام لا تنقض اليقين بالشك بإدخال الشك السببي مع أن نسبة العام إلى كليهما على حد سواء فمقتضى القاعدة
إجراء الاستصحاب في كليهما معا وفي رتبة واحدة بلا تقديم أحدهما على الاخر فيكون الموضوع باقيا في كلا الاستصحابين
فيتساقطان للعلم الاجمالي بكذب أحدهما فلا
544

حكومة في البين.
(ولكن يمكن) أن يقال أن العام وإن كان شموله للأصل السببي والمسببي في عرض واحد (ولكن) شموله للأصل المسببي يحتاج إلى
مئونة وهي عدم شموله للأصل السببي وخروجه عن تحته (وذلك) لما ذكرنا من أن دخوله تحت العام يوجب رفع موضوع الأصل
المسببي فيكون خارجا بالتخصص وأما خروج الأصل السببي إذا كان لا بد وأن يكون بالتخصيص ولا مخصص في البين إلا على وجه
دائر محال فالامر يدور بين خروج المسببي بالتخصص أو خروج السببي على وجه محال أي بلا مخصص أو على وجه دائر (وبعبارة
أخرى) فردية الأصل السببي للعام المذكور تنجيزي لأنه وجداني فليس شمول العام أي قوله عليه السلام لا تنقض اليقين بالشك له معلقا
على أمر بخلاف شموله للمسببي فإنه معلق على عدم شموله للأصل السببي وإلا يرفع موضوعه بالحكومة ولا يشمله (ومعلوم) أن
المقتضى التنجيزي عند التعارض مع المقتضى التعليقي دائما مقدم عليه (وذلك) لارتفاع موضوعه به (هذا كله) بناء على عدم حجية
الأصول المثبتة واضح وأما لو قلنا باعتبارها فيكون التعليق من الطرفين فيتساقطان لأنه حينئذ استصحاب المسبب أيضا يرفع الشك
عن جانب السبب تعبدا فيكون كل واحد رافع لموضوع الاخر بالحكومة أي رفعا تعبديا لا وجدانيا فلا يجريان.
(وما أفاده شيخنا الأستاذ) (قده) من حكومة الأصل السببي على المسببي ولو قلنا باعتبار الأصول المثبتة لأنه بناء على هذا المبنى أيضا
إثباتها للوازمها فرع وجودها والمفروض عدم تحقق موضوع المسببي مع جريان الأصل السببي حتى يثبت لوازمها العقلية (ليس
تماما) وذلك لما قلنا بأنه بناء على هذا المبنى حال الأصل السببي أيضا مثل المسببي إذ التعليق من الطرفين فلا يجري حتى يذهب
بموضوع المسببي وقياسه بأصالة الظهور في القرينة
545

مع أصالة الظهور في طرف ذي القرينة في غير محله لأنه مع وجود القرينة لا يتحقق ظهور في ذي القرينة فالقرينة معدمة لظهور ذي
القرينة في القرينة المتصلة تكوينا فلا يوجد ظهور هناك الذي القرينة في المعنى الحقيقي حتى يعارض ظهور القرينة وفيما نحن فيه لا
يرفع الأصل السببي موضوع الأصل المسببي حقيقة وإنما هو رفع تعبدي وبالحكومة وبناء على اعتبار الأصل المثبت الحكومة من
الطرفين كما شرحناه نعم في القرينة المنفصلة يكون الامر مثل المقام لو كان القرينة المنفصلة رافعة للظهور تعبدا لا حقيقة ولذلك
نقول بتقديم ظهورها على ظهور ذي القرينة بواسطة كونها أظهر.
(ولكن التحقيق) ان تقديم ظهور القرينة على ظهور ذي القرينة في القرينة المنفصلة من جهة أن اعتبار ظهور القرينة عند العقلا و
العرف في مقام التفهيم والتفهم تنجيزي ليس معلقا على عدم ظهور ذي القرينة بخلاف ظهور ذي القرينة فان اعتباره في مقام كشف
المراد معلق على عدم ظهور القرينة فإذا تحقق ظهور القرينة في القرينة المنفصلة فقهرا يسقط ظهور ذي القرينة عن الاعتبار لأنه كان
معلقا على عدم ظهور القرينة وقد تحقق (هذا كله) في القسم الأول أي فيما إذا كان أحد طرفي الشك والاحتمال من الآثار الشرعية لبقأ
الشك في الاخر الذي نسميه بالأصل السببي والأصل المسببي (والقسم الثاني) أي ما كان الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الاخر و
لكن عقلا لا شرعا فمن الواضح الجلي بناء على عدم اعتبار أصل المثبت عدم حكومة الأصل السببي على الاخر ويكون حال الأصلين حال
ما إذا كان الشك في كل واحد منهما مسببا عن أمر ثالث وهو القسم الثالث من الاستصحابين المتعارضين وفي هذا القسم لا بد وأن
يكون منشأ التعارض هو العلم الاجمالي بكذب أحد الاستصحابين وإلا فأي تناف وتعارض بين الحكم ببقاء شي في موضوع مع بقاء
شي آخر في موضوع آخر لولا ذلك العلم الاجمالي
546

وهذا القسم له أقسام لأنه (اما أن يلزم) من إجراء الاستصحابين مخالفة قطعية عملية أو لا يلزم ذلك ففي القسم الأول لا يجوز إجراء كلا
الاستصحابين والجمع بينهما عند المشهور بل المتفق عليهما إلا فيما نسب إلى المحققين المحقق الخوانساري والمحقق القمي (قدهما) من
القول بأن العلم الاجمالي مقتض لتنجز التكليف وليس علة تامة حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية ولكن هذا القول مع شذوذه من حيث
القائل مخالف للبرهان وقد تقدم بطلانه في مبحث الاشتغال (وأما القول) بالتخيير في إجراء أحد الأصلين أو بالتساقط فقد تقدم
تفصيل ذلك في مبحث الاشتغال.
(وأما لو لم تكن مخالفة عملية) في البين فهل هناك لا مانع من إجراء كلا الأصلين مطلقا أو لا يجوز مطلقا أو التفصيل بين الأصول
التنزيلية مثل الاستصحاب فلا يجوز وبين غير التنزيلية فيجوز وجوه ونحن رجحنا التفصيل بين الأصول التنزيلية فلا تجري وبين
غير التنزيلية وقلنا فيها بالجريان والشيخ الأعظم فرق بين الاستصحاب وغيره وقال في الاستصحاب بعدم الجريان من جهة عدم
الدليل في عالم الاثبات لا عدم إمكانه في عالم الثبوت لان الدليل على الاستصحاب هو قوله عليه السلام لا تنقض اليقين بالشك ولكن
انقضه بيقين مثله فهذه الرواية من حيث الصدر ولو كانت تشمل أطراف العلم الاجمالي لان كل واحد منها مشكوك مسبوق باليقين
الاجمالي فأركان الاستصحاب من اليقين السابق والشك اللاحق فيه تمام إلا أن ذيل الرواية أعني قوله عليه السلام ولكن انقضه بيقين
مثله ينفي الاستصحاب للعلم الاجمالي بارتفاع الحالة السابقة في أحدهما مثلا لو كان هناك كأسان نجسان فعلم بطهارة أحدهما
فاستصحاب النجاسة في الكأسين ولو كان لا يلزم منه مخالفة عملية أصلا إلا أنه مع ذلك لا يجري لتناقض صدر الرواية وذيلها
فالصدر يثبت والذيل ينفي.
547

ولكن أنت خبير أنه (أولا) لا تناقض بين الصدر والذيل لان المراد من قوله عليه السلام ولكن انقضه بيقين مثله هو اليقين التفصيلي لا
الاجمالي وذلك من جهة أنه لا بد في الاستصحاب من وحدة متعلق الشك واليقين وإلا فلا يصدق النقض ولا شك في أن متعلق الشك هو
خصوص الفرد (فلا بد) وأن يكون متعلق اليقين أيضا خصوص الفرد وحينئذ يصير اليقين يقينا تفصيلا كما هو واضح (وثانيا) ليس
دليل الاستصحاب في مقام الاثبات منحصرا بهذه الرواية التي لها هذا الذيل بل هناك روايات أخر ليس لها هذا الذيل (فالأحسن) في
وجه عدم جريان الاستصحاب في جميع الأطراف إذا كان مفاده مخالفا للعلم الاجمالي ولولا يلزم منه المخالفة العملية ما ذكرناه في
مبحث الاشتغال من أن المانع من جريان الاستصحاب بل مطلق الأصول التنزيلية بل والامارات في جميع الأطراف إذا كانت مخالفة
للمعلوم بالاجمال هو أن البناء على بقاء الحالة السابقة على أنه متيقن وإلغاء الشك وان الواقع منكشف في الامارات مع العلم بالخلاف
إجمالا لا يجتمعان وهل هذا إلا تهافت وتناقض خصوصا في الامارات بناء على القول بتتميم الكشف في وجه حجيتها.
(ولكن قد يشكل) على هذا بأنه يجري الاستصحاب عندهم في موارد كثيرة مع العلم إجمالا بمخالفة أحدهما للواقع مثلا إذا توضأ بمائع
مردد بين الماء والبول ولو غفلة حتى يتمشى منه قصد القربة فهم يجرون استصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث فهم يفككون بين
المتلازمين في الواقع في الحكم الظاهري فان طهارة البدن في الفرض وإن كان ملازما في الواقع مع ارتفاع الحدث وكذلك بقاء
الحدث ملازم بحسب الواقع مع نجاسة البدن ولكن في مقام الظاهر لا مانع من تفكيك المتلازمين والالتزام بطهارة البدن وبقأ
الحدث (والسر في ذلك) أن جعل الحكم الظاهري على خلاف الواقع لا مانع منه في صورة استتار الواقع وإن كان يعلم إجمالا ان أحد
الجعلين
548

مخالف للواقع ولكن لا يعلم بمخالفة كل واحد من الجعلين في مورده ونظائر ما ذكرنا من التفكيك بين المتلازمين في الواقع بحسب
الحكم الظاهري في الفقه كثيرة جدا.
(ولكن يمكن) أن يقال في جواب هذا الاشكال بأنه فرق بين أن يكون مؤدى الاستصحابين متفقين في أمر نعلم تفصيلا بمخالفته للواقع
كما أنه في الفرع المذكور يكون الامر هكذا فان استصحاب نجاسة الكأسين الذين يعلم بطهارة أحدهما متفقان في نجاسة ذلك الذي
نعلم تفصيلا بطهارته وكذلك الاستصحابان في عدم زوجية كل واحدة من المرأتين اللتين نعلم تفصيلا بزوجية إحداهما متفقان في
نفي زوجية من نعلم تفصيلا بزوجيتها وهي مصداق إحداهما فإنه في الصورة الأولى أي فيما إذا كان مؤدى الاستصحابين جمعا مخالفا
لما هو معلوم بالتفصيل نقول بعدم جريان الاستصحابين ولو لم يكونا مستلزمين للمخالفة العملية وفي الصورة الثانية أي فيما إذا كان
التفكيك بين المتلازمين بحسب الواقع في الحكم الظاهري إذا لم يكن مخالفا لما هو معلوم بالتفصيل ولم يكن دليل خارجي من إجماع
أو غيره على عدم جواز التفكيك ولو ظاهرا نقول بجريانهما وموارده في الفقه كثيرة.
وقد ظهر مما ذكرنا أن موارد الاستصحابين المتعارضين على خمسة أقسام (الأول) فيما إذا كان جريانهما موجبا للمخالفة القطعية
العملية وفي هذا القسم لا يجري الاستصحابان كما تقدم (الثاني) أن يكون مؤداهما جمعا مخالفا لما هو معلوم بالتفصيل ولو لم يكن
مستلزما للمخالفة العملية وفي هذا القسم أيضا لا يجري الاستصحابان جمعا (الثالث) فيما إذا كان مؤداهما ولولا يلزم منه المخالفة
العملية ولا مخالفة ما علم تفصيلا إلا أنه قام دليل خارجي من إجماع أو غيره على عدم جواز التفكيك بين المتلازمين واقعا ولو ظاهرا
وهذا القسم أيضا لا يجري فيه الاستصحابان (الرابع)
549

فيما إذا كان يلزم الاستصحابين التفكيك بين المتلازمين واقعا بحسب الظاهر ولم يكن دليل خارجي على عدم جواز التفكيك ولو
ظاهرا ولم يكونا مستلزمين للمخالفة العملية ولا لما هو معلوم بالتفصيل وفي هذا القسم يجري كلا الاستصحابان (الخامس) فيما إذا
كان لأحدهما أثر شرعي دون الاخر وفي هذا القسم يجري فيما له الأثر دون الاخر انتهى مبحث تعارض الاستصحابين وفي بعض هذه
الأقسام الخمسة مناقشات ذكرها موجب لتطويل المقام بدون أن يكون له أثر عملي.
خاتمة في التعادل والتراجيح
وفيه أمور
(الأول) في أنه من المسائل الأصولية
بل من أهمها إذ تقدم مرارا في هذا الكتاب أن المناط في كون المسألة أصولية وقوع نتيجة البحث عنها كبرى في قياس الاستنباط ولا
شك أن نتيجة البحث في هذه المسألة سواء كان هو التخيير مطلقا أو بعد فقد المرجحات وأما مع وجود المرجحات فالترجيح وتقديم
ذي المزية هو تعيين الحجة وتشخيصها اما معينا أعني خصوص ذي المزية أو مخيرا مطلقا أو في خصوص صورة فقد المرجح فيكون -
بعد تشخيص ما هو الحجة ذلك المعين أو المختار في المخير - كبرى في قياس يستنتج من ذلك القياس الحكم الفرعي الكلي الإلهي
فالانصاف أن هذه المسألة من أهم المسائل الأصولية وفائدة حجية الخبر الواحد لا يتم إلا بهذه المسألة.
(الثاني) في تعريف التعارض
وهو في اصطلاح الأصولي عبارة عن تنافي الدليلين باعتبار تنافي مدلوليهما في عالم الجعل والتشريع بأن يكون أحدهما يثبت ما هو
ضد للاخر فيصير مفادهما جمعا اجتماع الضدين أو يكون أحدهما
550

ينفي ما أثبته الاخر فيصير مفادهما جمعا اجتماع النقيضين وهذا الذي ذكرنا في خصوص التعارض في أدلة الأحكام الشرعية (وأما
أدلة الموضوعات الخارجية) كالبينة مثلا فليس تعارض البينتين عبارة عن تنافي الدليلين باعتبار تنافي مدلوليهما في عالم الجعل
التشريع لان مدلوليهما ليست حينئذ من المجعولات الشرعية حتى يكون التنافي في عالم الجعل والتشريع فإذا كان النظر في هذا البحث
إلى تعارض مطلق الأدلة سواء كانت أدلة الاحكام الكلية أو الجزئية أو كانت أدلة الموضوعات الخارجية فلا بد من ازدياد كلمة أو في
عالم التكوين في التعريف بأن يقال تنافي الدليلين باعتبار تنافي مدلوليهما في عالم الجعل والتشريع أو في عالم التكوين ولكن نظر
الأصولي إلى أدلة الاحكام الكلية أو الموضوعات المستنبطة وإلا فغيرها خارج من مسائل فنه كما هو واضح (ثم أنه) بعد ما كان منشأ
تنافي الدليلين تنافي المدلولين بحيث يكون الجمع بين المدلولين من اجتماع الضدين أو النقيضين فلا بد في وقوع التعارض بين
الدليلين من وجود الوحدات المعتبرة في تحقق اجتماع الضدين من وحدة الموضوع والمحمول والقيود المأخوذة في الموضوع أو في
جانب المحمول من الزمان والمكان وسائر الخصوصيات الطارئة عليهما (ومما ذكرنا) ظهر لك أنه لو كان التنافي في بعض المدلول
أيضا يصدق عليهما أنهما متعارضان باعتبار تلك القطعة سواء كان الافتراق من الطرفين كالعامين من وجه أو من طرف واحد كالعموم
والخصوص المطلق وإن كان العرف يجمع بينهما بحمل العام على ما عدا الخاص لكن إذا كان الخاص منفصلا فينعقد لكل واحد منهما
ظهور مناف مع ظهور الاخر (نعم) ظهور الخاص حاكم على ظهور العام (وأيضا) لا فرق في وقوع التعارض والتنافي بين الدليلين
باعتبار تنافي مدلوليهما بين أن يكون التنافي بينهما في مدلوليهما المطابقي أو الالتزامي ولا بين أن يكون التنافي بين
551

من جهة التناقض أو التضاد بين نفس المدلولين مطابقة أو التزاما أو من أمر خارج يدل على عدم الجمع بينهما في عالم الجعل والتشريع
كالخبرين الذين يدل أحدهما على وجوب صلاة الجمعة والاخر على وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة مع العلم من الخارج بعدم تشريع
كليهما في يوم واحد فإنه بعد هذا العلم يقع التنافي بين الدليلين ويتعارضان فالدليل الذي يدل على وجوب صلاة الظهر ينفي بالالتزام
بعد هذا العلم الخارجي وجوب صلاة الجمعة وكذلك الدليل الاخر الذي يدل على وجوب صلاة الجمعة ينفي وجوب صلاة الظهر بالالتزام
(وبعبارة أخرى) كل واحد من الدليلين مفاده أن تلك الصلاة الواحدة المجعولة في ذلك اليوم هي التي تكون مفادي وليس غيري (ثم أنه
قد ذكرنا) أن التنافي قد يكون باعتبار بعض المدلول فلو كان أحد الدليلين يشمل جميع حالات الشئ والخصوصيات الطارئة عليه
بالاطلاق اللحاظي أو بنتيجة الاطلاق وكان مفاد دليل الاخر نفي هذا الحكم بالنسبة إلى بعض هذه الحالات أو إثبات ضده له يقع
التعارض والتنافي بين الدليلين.
(ومن ذلك ظهر) أنه لا يمكن الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي في موضوع واحد بحمل الحكم الظاهري على حالة الشك لان الحكم
الظاهري بناء على هذا الحمل وإن لم يصعد إلى مرتبة قبل الشك لتأخر موضوعه أي الشك عن تلك المرتبة ولكن الواقعي يصل إلى
مرتبة الشك غاية الامر بنتيجة الاطلاق، وإنكار وصوله إلى مرتبة الشك بنتيجة الاطلاق مساوق للقول بالتصويب وقد شرحنا هذا
المطلب فيما تقدم من هذا الكتاب في مبحث التوصلي والتعبدي وفي مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي فراجع إن شئت (ثم أنه
من شرائط) صدق التعارض والتنافي بين الدليلين والحجتين هو أن يكون كل واحد منهما واجدا لشرائط الحجية بحيث
552

لا يكون التوقف في العمل بكل واحد منهما إلا من ناحية تعارض الاخر بحيث لو فرضنا محالا عدم وجود المعارض لكان يلزم العمل به
(وأما إذا كان) أحدهما غير المعين غير واجد لشرائط الحجية كما لو علم بكذب أحدهما وعدم صدوره عن الامام فليس من باب تعارض
الدليلين والحجتين وذلك ظاهر لفظ الدليلين والحجتين لأن المفروض أن أحدهما ليس بدليل ولا هو حجة فيكون من اشتباه الحجة
بما هو ليس بحجة لا من باب تعارض الدليلين والحجتين وذلك واضح جدا فلا يعمل فيهما بقواعد الترجيح والتخيير بل لا بد وأن يعمل
بقواعد العلم الاجمالي.
(الامر الثالث) في الفرق بين التعارض والتزاحم
قيل بأن الفرق بينهما أن في باب التعارض يشترط أن لا يكون المقتضى والملاك لكلا الحكمين جمعا بل المقتضى والملاك لأحدهما
غير المعين فقط وليس للاخر. وفي باب التزاحم يشترط أن يكون الملاك والمقتضى لكلا الحكمين (سواء كانت) مزاحمة كل واحد من
الملاكين للاخر في عالم الجعل والتشريع بحيث لا يمكن جعل كلا الحكمين وتشريعهما عرضا وتعيينا بل اما يتساقط كلا المقتضيين
عن التأثير في عالم الجعل والتشريع أو يجعل على طبق أقوى الملاكين كما ادعاه صاحب الكفاية في باب الاجتماع بناء على تقديم جانب
النهي بناء على الامتناع وقد ذكرنا هناك أن باب اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع من صغريات باب التعارض لا باب التزاحم
(نعم) هذا من تزاحم المقتضيين لا تزاحم الحكمين (وذلك) من جهة تزاحم الحكمين يتحقق بين الحكمين بعد وجودها إذ لا معنى لوقوع
التزاحم بين شيئين أحدهما غير موجود (أو كانت) مزاحمة كل واحد من الملاكين في مرحلة الامتثال وتحصيل ذلك الملاك في الخارج
بعد الفراغ عن جعل الحكم على طبق كلا الملاكين وهذا الضابط والفرق بينهما هو الذي يستظهر من صاحب الكفاية وصرح به
553

أستاذنا المحقق (قدهما).
ولكن أنت خبير بأن الفرق بينهما بأن التعارض - الذي هو في الحقيقة من صفات مدلولي الدليلين وإنما انتسابه إلى الدليلين باعتبار
مدلوليهما كما أشرنا إلى ذلك - عبارة عن عدم جعل كلا المدلولين (إما) لعدم إمكان مجعوليتهما في عالم التشريع كصحة بيع العذرة و
فساده معا للزوم اجتماع الضدين لو كان مفاد كلا الدليلين أمرين وجوديين كالوجوب والحرمة والصحة والفساد أو لزوم اجتماع
النقيضين لو كان أحدهما ثبوت حكم ومفاد الاخر نفي ذلك الحكم بالدلالة المطابقة وإلا بالدلالة الالتزامية الدليلان المتعارضان دائما
يكون مفادهما اجتماع النقيضين وإن كان كل واحد منهما يتضمن حكما وجوديا ضد الاخر للزوم كل واحد منهما نفي الاخر فيكون
مفاد الدليلين بالدلالة المطابقة في الصورة المذكورة اجتماع الضدين واجتماع النقيضين مرتين لان مفاد كل واحد من الدليلين إثبات
أحد الضدين بالمطابقة ونفي الضد الاخر بالالتزام (وإما) لتزاحم الملاكين وغلبة أحدهما على ملاك الاخر وانكسار ذلك وسقوطه
عن كونه ملاكا تاما وإلا كان الحكم هو التخيير (وأما تزاحم الحكمين) فهو عبارة عن عدم إمكان امتثالهما جمعا إما لعدم القدرة على
إتيانهما معا وإما لاشتراط وجوب أحدهما بعصيان الاخر كما أنه كذلك في مورد الترتب لو لم يكن بين متعلق الامرين المترتبين تضاد
يسلب القدرة على جمعها في حد نفسه لو تصورنا ذلك والظاهر إمكانه وإما لوجود دليل على عدم وجوب الجمع بينهما وهذا الأخير لا
يخلو عن إشكال ذكره يوجب تطويل المقام.
وبعد ما عرفت الفرق بين التعارض والتزاحم فالاشكال على هذا التعريف بأنه لا يناسب مع كون القدرة شرطا لفعلية الحكم وأصل
وجود التكليف بل يناسب مع كونها لتنجيزه وهو واضح البطلان لان توجيه
554

الخطاب إلى العاجز العالم بالخطاب (إما) غير معقول كما هو الصحيح لان الامر بعث إلى أحد طرفي المقدور فالقدرة مأخوذة في حقيقة
التكليف فالتكليف إلى غير المقدور غير معقول (وإما) قبيح فصدوره أيضا عن الحكيم محال فإذا كان وجود أصل التكليف مشروطا
بالقدرة لا تنجزه فقط والمفروض أنه غير قادر على الجمع في غالب موارد التزاحم فلا معنى للجمع في الجعل مع عدم القدرة على الجمع
في المجعول فيرجع غالب موارد تزاحم الحكمين إلى التعارض وهو كما ترى (وجواب) هذا الاشكال هو أن القدرة وإن كانت شرطا
لأصل وجود التكليف لما ذكر من الوجه لا شرط التنجز فإنه في غاية السقوط لكنهما مقدوران على الفرض والذي لا يمكن هو الجمع
بينهما لا أصل إيجاد كل واحد منهما (نعم لو كان) وجود أحدهما ملازما لوجود الاخر بحيث لا يمكن انفكاكهما فالدليلان في مثل هذا
المورد يرجعان إلى التعارض لعدم صحة جعل حكمين لا يمكن امتثالهما دائما والحاصل ان باب التعارض غير باب التزاحم وإن كان
مشتركا مع التزاحم في امتناع الاجتماع ولكن الفرق بينهما ان امتناع اجتماع الحكمين في باب التعارض في مرحلة الجعل والتشريع و
الامتناع في باب التزاحم في مرحلة الامتثال وهذا هو الضابط الكلي لتميز البابين كل من الاخر.
وبينهما فروق (منها) أن مرجحات باب التعارض ترجع إما إلى قوة السند كأوثقية الراوي وأعدليته أو كون الرواية أشهر وأمثال ذلك
مما سيأتي إن شاء الله تعالى وإما إلى قوة الدلالة ككونها أظهر من الاخر كما سيأتي وأما مرجحات باب التزاحم فقد تقدم أنها خمسة
(الأول) أن يكون أحد الحكمين أهم من حيث الملاك والمصلحة في الفعل أو الترك فان الأهم مقدم في نظر العقل على المهم إن لم يكن
سائر المرجحات الاخر (الثاني) أن يكون أحدهما مضيقا والاخر موسعا فالمضيق مقدم على الموسع
555

(لان المضيق) بالنسبة إلى الفرد المزاحم من الموسع معه يكون مخرجا للطبيعة عن تساوي أقدامها بالنسبة إلى أفرادها الطولية فان
التخيير في تطبيق الصلاة المأمور بها على أي فرد شاء بحسب الأوقات التي بين الحدين عقلي من جهة تساوي اقدام المأمور به في
تحصيل المصلحة الملزمة بالنسبة إلى تلك الأوقات فإذا كان تطبيقه على الفرد المزاحم موجبا لفوات مصلحة ملزمة يخرج بالنسبة إلى
هذا الفرد عن التساوي فلا يرخص العقل في التطبيق على هذا الفرد ولذلك يحكم بتقديم المضيق على الموسع ولو كان الموسع أقوى
ملاكا وأهم منه بألف مرتبة (الثالث) أن يكون أحدهما مشروطا بالقدرة الشرعية والاخر بالقدرة العقلية فالثاني مقدم على الأول (و
الوجه في ذلك) أن القدرة الشرعية دخيلة في الملاك ومأخوذة في موضوع الحكم وما لم يتحقق ولم يوجد لا خطاب ولا ملاك لأنها
مأخوذة في الموضوع فما هو المشروط بالقدرة العقلية يذهب بموضوع ما هو المشروط بالقدرة الشرعية ولا يمكن أن يقال بالعكس
لان موضوع المشروط بالقدرة العقلية ليس مقيدا بها بل مطلق من هذه الجهة.
(الرابع) أن يكون أحدهما له البدل دون الاخر (والوجه) في ذلك رجوع هذا المرجح إلى المرجح الثالث في الحقيقة لان معنى جعل البدل
حسب الفهم العرفي تقييد ما له البدل واشتراطه بالقدرة الشرعية (ان قلت) فلما ذا جعلوا هذا القسم من المرجح مقابل القسم الثالث و
قسيما له مع أنه من أقسامه (قلت) من جهة أن هذا القسم له ملاك آخر لتقديمه على ماله البدل وهو أن في تقديم ما ليس له البدل لا يفوت
مصلحة ما له البدل بالمرة بل الانتقال إلى البدل إما موجب لاستيفاء تمام مصلحة المبدل في حال التزاحم - ان تصورنا كون مصلحة
البدل بمقدار المبدل بعد تحقق موضوعه والانتقال إليه - وإما موجب لاستيفاء مقدار مهم من المصلحة الفائتة بواسطة
556

ترك المبدل بخلاف العكس فإنه لو قدم ما له البدل يفوت تمام مصلحة ما ليس له البدل ولا يستوفي شي منه (ولا يخفى) ان المرجح
الأول أي تقديم الأهم فيما لم يكن أحد هذه المرجحات الثلاث التي ذكرناها بعده وإلا لو كان أحد هذه الثلاث لا يبقى مجال لتقديم الأهم
فالمضيق والمشروط بالقدرة العقلية وما ليس له البدل كل واحد من هذه الثلاثة مقدم على ما يقابله من الموسع والمشروط بالقدرة
الشرعية وما له البدل ولو كانت هذه المقابلات أهم.
(الخامس) أن يكون أحد الواجبين المتزاحمين مقدما في الوجود في مقام الامتثال على الاخر مثل العاجز عن القيام في جميع ركعات
صلاته وليس قادرا إلا على القيام في بعض الركعات فلا بد له من القيام في أول ركعة من ركعات صلاته ثم إذا عجز يجلس في سائر
ركعاته (والسر) في لزوم صرف قدرته في المقدم لان التكليف بالنسبة إلى المقدم في الوجود صار فعليا في الزمان المتقدم ومحركا
نحو الامتثال والقدرة على الامتثال في ذلك الزمان موجود وليس في ذلك الزمان واجب يزاحمه في صرف القدرة بل ينبغي أن لا يعد
هذا المفروض من أقسام الواجبين المتزاحمين أ ترى أنه لو كان عاجزا عن صوم تمام الشهر في شهر رمضان مثلا ولا يقدر إلا على
صوم نصفه فيقال بأنه مخير بين أن يصوم النصف الأول وبين أن يصوم النصف الثاني فيجوز أن يفطر في النصف الأول مع كمال
قدرته أ ليس هذا مستنكرا عند كل عاقل خبير بأحكام الدين (نعم) لو كان الواجب المتأخر الذي لا يمكن جمعه في الامتثال مع الواجب
المتقدم بمكان من الأهمية بحيث أنه بسبب تقديم ذلك الواجب المقدم يفوت مصلحة لا يرضى المولى بفوته فحينئذ ربما يحكم العقل
بلزوم حفظ القدرة وسقوط الواجب المقدم عن الفعلية ولكن هذا فرض آخر لا ربط له بما نحن فيه الذي عبارة عن الواجبين
المتساويين في الملاك والمصلحة ويكون المرجح الموجب لصرف
557

القدرة فيه صرف تقدمه في الوجود.
(ومنها) أي من الفروق بين التزاحم والتعارض أن مرجحات باب التعارض أمور تعبدية وإلا فمقتضى القاعدة بناء على ما هو المختار
عندنا من حجية الروايات من باب الطريقية لا السببية هو تساقطهما وعدم وصول النوبة إلى التخيير إذا كانتا متساويين ولا إلى
الترجيح إذا كان لأحدهما مزية على الاخر ولكن الشارع حكم بالتخيير عند تساويهما وبالترجيح عند وجود مزايا مخصوصة أو
منصوصة أو مطلق المزية كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
(الامر الرابع)
يعتبر في تحقق التعارض بين الدليلين وتنافيهما أن لا يكون أحدهما حاكما على الاخر وذلك من جهة أن دليل المحكوم يثبت الحكم
على تقدير ثبوت موضوعه ولكن ليس متكفلا لاثبات ذلك التقدير أعني إثبات ما هو موضوع الحكم، مثلا دليل قاعدة البناء على الأكثر
موضوعه الشك في عدد الركعات في الصلوات الرباعية بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية (فهذه) القاعدة لا يثبت موضوعها بل
مفادها هو الحكم بالبناء على الأكثر على تقدير وجود مثل الشك المذكور فلو جاء دليل كان مفاده نفي الشك عن كثير الشك لا يمكن
أن يعارضه قاعدة البناء على الأكثر لان القاعدة تثبت شيئا غير ما ينفيه دليل (لا شك لكثير الشك) فلم يرد النفي والاثبات على محل
واحد وقد ذكرنا أنه يشترط في تحقق التعارض والتنافي بين الدليلين أن يكون النفي الذي هو مدلول أحد الدليلين مع الاثبات الذي هو
مدلول الدليل الاخر واردين على مورد واحد إذ في الحقيقة مرجع التعارض إلى التناقض في مدلولي الدليلين فيعتبر فيه الوحدات
المعتبرة في التناقض.
وأما إذا كان أحدهما واردا والاخر مورودا فلا يقع التعارض بينهما بطريق أولى وذلك من جهة أن دليل الذي هو وارد على دليل آخر
يفني موضوع المورود فناء تكوينيا فلا يبقى شي في البين حتى يكون معارضا
558

مع دليل الوارد مثلا موضوع دليل البراءة العقلية هو عدم البيان فإذا جاء بيان من قبل الشارع أو العقل سواء كان أمارة أو أصلا تنزيليا
أو غير تنزيلي شرعيا أو عقليا لا يبقى موضوع لحكم العقل حقيقة وتكوينا لا بصرف التعبد فينتفي حكم العقل من البين ولا يبقى شي
في البين حتى نقول بأنه معارض أو ليس بمعارض.
(الامر الخامس)
في أن الدليلين الذين بينهما عموم وخصوص مطلق هل يقع بينهما التعارض وتقديم الخاص علاج أو لا؟ بل حالهما حال الحاكم و
المحكوم لا تعارض بينهما، لا شك في أنه في المخصص المنفصل ينعقد الظهور في العموم للعام فإذا كان مخالفا للخاص في السلب و
الايجاب فيقع التعارض بينهما في تلك القطعة التي محل اجتماعهما فأحدهما ينفي الحكم والاخر يثبت كما هو المفروض ولكن عند
العرف لا تعارض بينهما بل يقدمون الخاص على العام ولا يتوقفون في ذلك لا كلام في هذا (إنما الكلام) في وجه الجمع عندهم وهو أنه
هل وجهه حكومة أصالة الظهور في طرف الخاص عليها في طرف العام أو التوفيق العرفي من جهة أظهرية الخاص في تلك القطعة أو
ورود دليل الخاص على العام أو تقديم الخاص على العام من جهة التخصص وهناك احتمال آخر قال به شيخنا الأعظم (قده) في بعض
صور المسألة وهي الصورة التي يكون الخاص ظني السند وظني الدلالة بأن يقدم الأقوى ظهورا منهما فلو كان ظهور العام في العموم
أقوى من ظهور الخاص يقدم العام على الخاص.
وتوضيح المقام هو أن الخاص (اما) يكون قطعي السند والدلالة كالنص المتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعية أو كان آية من القرآن
نص الدلالة وإما أن يكون ظنيا بحسب السند والدلالة جميعا وهذا هو الغالب في موارد الاخبار الصادرة عن الأئمة المعصومين (وإما)
أن يكون قطعيا
559

بحسب السند وظنيا بحسب الدلالة كالآيات التي يكون دلالتها ظنية أو الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعية الذي يكون ظاهرا
في مؤداه (واما) يكون قطعيا بحسب الدلالة وظنيا بحسب السند كالخبر الظني الصدور الذي نص في مؤداه (فان كان من القسم الأول)
فلا شك في تقديمه على العام تخصصا لان حجية العام في تلك القطعة التي هي مجمع العنوانين أي عنوان العام مع عنوان الخاص بأصالة
الظهور ولا محل لأصالة الظهور مع العلم بالعدم كما هو مدلول الخاص القطعي من حيث السند والدلالة.
(وان كان من القسم الثاني) أي كان قطعيا بحسب السند وظنيا بحسب الدلالة فهذا القسم مع القسم الثالث أي ما كان الخاص ظنيا بحسب
السند والدلالة سواء وذلك من جهة أنه بعد ما جاء الدليل القطعي على اعتبار ذلك الظن بالصدور ولو كان ظنا نوعيا يكون بحكم
القطع بالسند والقطع بالصدور وفي هذين القسمين قال شيخنا الأعظم (قده) بتقديم أقوى الظهورين في تلك القطعة التي مجمع
العنوانين، مثلا لو كان ظهور أكرم العلماء في العالم الفاسق أقوى من ظهور لا تكرم العالم الفاسق فيه فيقدم العام في مورد اجتماع
العنوانين ويطرح الخاص ولو كان ظهوره في تلك القطعة أقوى كما هو كذلك غالبا يقدم الخاص، ولو كان الخاص ولو كانا
متساويين في القوة أو الضعف فمقتضي القاعدة تساقطهما وادعى شيخنا الأستاذ أن الشيخ (قده) وان قال بهذه المقالة في الأصول و
لكنه لم يلتزم بها في الفقه وقدم الخاص على العام في جميع الموارد (ويمكن) الاعتذار عنه بأنه لم يجد أقوائية في الظهور العام تلك
الموارد كما هو كذلك في غالب الموارد (ولكن) الظاهر تقديم الخاص على العام سواء كان الخاص أقوى ظهورا من العام أو كان العام
أقوى ظهورا وذلك من جهة حكومة أصالة الظهور في طرف الخاص على أصالة الظهور في طرف العام وذلك من جهة
560

العام في العموم بمعنى كاشفيته عن إرادة العموم معلق بأن لا يكون هناك قرينة على عدم إرادة العموم فإذا كان التعبد بظهور الخاص
وانه كاشف عن مراد المتكلم قرينة على عدم إرادة العموم فيقدم على ظهور العام في العموم ولو كان ظهور العام في العموم أقوى و
أما كون الخاص من قبيل القرينة على عدم إرادة العموم وان المراد من العام ما عدا ما ينطبق عليه عنوان الخاص يعرف بأن يفرض
العام والخاص في كلام واحد من متكلم واحد فان العرف لا يتوقف في حمل العام على ما عدا الخاص فيكون ذكر الخاص قرينة على
عدم إرادة العموم من العام بحيث يشمل حتى الافراد التي ينطبق عليها الخاص ولما كانت الاخبار الصادرة عن أهل بيت العصمة مثل أن
يصدر عن شخص واحد في مجلس واحد لان كلهم من جهة بيان حكم الله كشخص واحد ولان الواقع منكشف لهم بدون خطأ ولذا ترى
أن العام صدر عن امام والخاص الذي يخصصه من امام آخر فالعام وان صدر عن امام والخاص من امام آخر مع طول المدة بينهما ومع
ذلك يكون قرينة على عدم إرادة العموم من الامام الأول كما لو كانا صادرين من امام واحد في مجلس واحد.
(وبعبارة أخرى) حال أصالة الظهور في طرف الخاص حال ظهور الرمي في قولهم رأيت أسدا يرمي بالنسبة إلى ظهور أسد حيث أن
ظهور يرمي في الرمي بالنبل حاكم على ظهور أسد في الحيوان المفترس مع أن ظهور أسد في الحيوان المفترس بالوضع وظهور
الرمي في الرمي بالنبل بالاطلاق والظهور الوضعي أقوى من الظهور الاطلاقي وذلك لما ذكرنا من أنه لا تلاحظ النسبة بين الحاكم و
المحكوم ولا قوة الظهور وضعفه بل يقدم الحاكم ولو كانت النسبة بينهما عموم من وجه وأيضا ولو كان ظهور المحكوم أقوى (و
السر في ذلك) ان ظهور أحد المتعارضين يكون معارضا مع الاخر في فرض
561

وجوده وحجيته بمعنى كشفه عند العقلا عن المراد (أما لو كان) معدوما كما في المخصص المتصل حيث إن المخصص المتصل يوجب
عدم انعقاد الظهور للعام أو لم يكن حجة وكاشفا عن المراد الواقعي كما فيما نحن فيه من جهة أن ظهور الخاص حيث أنه قرينة على
عدم حجية ظهور العام في العموم فلا يمكن أن يعارض ظهور العام ظهور الخاص ويكون كاشفا عن إرادة العام وهذا معنى حكومة
أصالة الظهور في طرف الخاص على أصالة الظهور في طرف العام (هذا كله) فيما إذا كان دلالة الخاص وسنده كلاهما ظنيين أو يكون
الدلالة ظنيا ولو كان السند قطعيا.
(وأما القسم الرابع) أي فيما إذا كانت الدلالة قطعية والسند ظنيا (فربما يتخيل) أنه حينئذ تكون أصالة الظهور في طرف العام مورودا
للخاص ويكون الخاص واردا على العموم لأن المفروض أن دلالة الخاص قطعية فبعد التعبد بصدوره بأدلة حجية خبر الواحد يكون
مراد المولى قطعيا فلا يبقى محل لاجراء أصالة الظهور لأن المفروض هو القطع بإرادة المولى على تقدير صدور الخاص ومع العلم
بالخلاف لا مورد للتعبد بأصالة ظهور العام في العموم (ولكن أنت خبير) بأن الامر يدور بين الحكومة والتخصص والصحيح هي
الحكومة (بيان ذلك) اما دوران الامر بين الحكومة والتخصص من جهة أنه لو اعتبرنا الخاص صادرا ولو بالتعبد وجعلنا مورد البحث
دلالة العام والخاص فحيث أن دلالة الخاص قطعية على الفرض فيخرج هذه القطعة التي هي مدلول الخاص عن تحت أصالة الظهور في
طرف العام خروجا تكوينيا وجدانيا بدون رعاية التعبد لان القطع حجيته ذاتية ليس فيه التعبد أصلا وهذا هو التخصص وأما لو قلنا
أن خروج تلك القطعة عن تحت العام من جهة التعبد بسند الخاص والتعبد بأنه مراد المتكلم فيكون من باب الحكومة وهذا هو الصحيح
من جهة أن ثبوت ان
562

هذا المعنى هو مراد المتكلم بعد العلم أو ما يقوم مقامه أنه بصدد بيان مراده الواقعي متوقف على أمرين (الأول) هو ثبوت صدور هذا
الكلام عنه (الثاني) ثبوت أن هذا المعنى مدلول كلامه وثبوت هذين الامرين قد يكون كلاهما وجدانيا قطعيا فليس في هذه الصورة
تعبد في البين بالنسبة إلى أن هذا المعنى هو مراد المتكلم وأما إذا كان كلاهما أو أحدهما بالتعبد فلا محالة يكون ثبوت المراد بالتعبد
لا بالوجدان وفي المفروض دلالة الخاص ولو كانت وجدانية قطعية (ولكن) حيث إن السند ظني فلا بد من إثبات صدوره بالتعبد
فتكون النتيجة أي ثبوت المراد تعبديا لان النتيجة تابعة لأخس المقدمات وما هو مانع عن جريان أصالة الظهور في طرف العام هو
ثبوت أن مراد المتكلم هو مدلول الخاص وهذا المعنى لا يثبت إلا بالتعبد لما عرفت وهذا هو معنى الحكومة لما شرحناه سابقا (وقلنا)
أن الرفع ان كان بنفس التعبد فهو الورود وأما ان كان بثبوت المتعبد به فهذه هي الحكومة.
(الامر السادس) في أحكام التعارض وأقسامه
(أما) أقسامه فهي عبارة عن أن التعارض (إما) أن يقع بين دليلين (وإما) أن يقع بين أكثر من دليلين ويمكن أن يكون بين أربعة أو
خمسة فيكون مفاد (أحدها) الوجوب (والثاني) الحرمة (والثالث) الاستحباب (والرابع) الكراهة (والخامس) الإباحة لان الأحكام الخمسة
كلها متضادة (أما) القسم الثاني وهو أن يقع بين أكثر من دليلين سيأتي البحث عنه بأقسامه مستقلا (وأما) القسم الأول وهو أن
يكون التعارض بين دليلين فاما أن يكونا متكافئين متساويين أو يكون لأحدهما مزية على الاخر والمزية الموجودة في أحدهما اما في
السند أو في جهة الصدور أو في الدلالة وذلك من جهة أن تمامية الرواية في استنباط حكم الله عنها متوقفة على الأصول الثلاث أصالة
563

الصدور وأصالة جهة الصدور وأصالة الظهور فالمزية الموجودة في الرواية (تارة) تكون في السند أي مرجحات الصدور كعدالة
الراوي وشهرة الرواية عند المحدثين وأمثالهما مما سيأتي مفصلا (وتارة) تكون في جهة الصدور أي كون الإمام عليه السلام في مقام
بيان حكم الله الواقعي لا الخوف من الأعداء الجائرين كمخالفته للعامة (وتارة) تكون في أصالة الظهور والدلالة ككون أحدهما نصا أو
أظهر (والمتساويان) أي اللذان ليس لأحدهما مزية من إحدى هذه الجهات الثلاث على الاخر فالحكم فيهما بمقتضى القواعد الأولية مع
قطع النظر عن جعل ثانوي واقعي أو ظاهري هو التساقط بناء على الطريقية والتخيير بناء على الموضوعية.
(بيان ذلك) أن حجية الروايات بناء على الطريقية ليس إلا من باب تتميم كشفها وجعلها في عالم الاعتبار كاشفا تاما وأما مؤدياتها
فيبقى على ما كان من دون احداث شي من المصلحة أو المفسدة فيها من قبل قيام الامارة عليها فإذا كان جعل كلا المؤدبين غير ممكن
كما هو المفروض في باب التعارض فلا يمكن أن يكون الاثنان جمعا طريقا فعليا إلى حكم الواقعي نعم حيث أن في كل واحد منهما
اقتضاء الطريقية ومشمول الأدلة جعلها طريقا وتساويهما في شرائط الطريقية وعدم إمكان الاخذ بهما جميعا للزوم اجتماع الضدين
أو النقيضين وعدم وجه للتخيير لعدم الملاك في الاثنين وتعيين أحدهما ترجيح بلا مرجح فلا محالة يتساقطان.
(وأما قول) ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي الجمع مهما أمكن أولى من الطرح وادعى عليه الاجماع فان كان مراده من الجمع
الجمع العرفي فهو كلام جيد تام لان الجمع العرفي إما بالورود أو بالحكومة أو بالنص والظاهر وقد يقال بالأظهر والظاهر وقد
تقدم أن موارد تعارض العام والخاص أيضا يرجع إلى الحكومة وفي مورد الورود والحكومة
564

لا تعارض في الحقيقة فالجمع العرفي عمل بمضمون كلا الدليلين فيجب فلا بد وأن يكون المراد من قوله أولى من الطرح هو وجوب
الجمع والعمل بكليهما لا أن الجمع أحسن وأفضل وأما ان كان المراد مطلق الجمع ورفع اليد عن ظاهر كليهما أو أحدهما بتأويلهما أو
تأويل أحدهما فلا وجه لكونه أولى بل لا يجوز لما فيه من ترك العمل بأصالة الظهور وليس ترك الاخذ بها أولى من ترك الاخذ بصدور
أحدهما (أولا) (وثانيا) بأنه طرح لاخبار الترجيح عند وجود المرجحات والمزايا خصوصا المنصوصة منها أو حملها على مورد النادر
أي مورد الذي لا يمكن الجمع ولو بالتأويل وارتكاب خلاف الظاهر ومن المعلوم أن عدم إمكان مثل هذا الجمع بين الاخبار المتعارضة
في غاية الندرة وأما ادعاء الاجماع لو كان المراد هو الجمع التبرعي بإلقاء ظاهر كليهما أو أحدهما والخروج عن قانون المحاورة
فعجيب لما ترى من عملهم بأخبار الترجيح والتخيير قديما وحديثا فربما يقطع المتتبع في هذا الباب بصدور بعضها عن الإمام عليه السلام
فينفي مثل هذا الجمع فحديث لزوم الجمع ان كان تبرعيا لا أساس له وإن تصدى له شيخ الطائفة الاثني عشرية في الاستبصار
(هذا كله) فيما إذا كان الدليلان متساويين لا مزية لأحدهما على الاخر وأما لو كان لأحدهما مزية فهذه المزية إما في الصدور أي في
السند وإما في جهة الصدور وسيجئ البحث عن هذين مفصلا إن شاء الله تعالى وإما في الظهور أي لدلالة أحدهما مزية على الاخر و
هذا هو الذي نريد الان أن نبحث عنه والمزية التي توجب الجمع الدلالي ويسمى بالجمع العرفي أو التوفيق العرفي في مقام الثبوت
عبارة عما ذكرنا من كون أحد الدليلين حاكما أو واردا على الاخر على التفصيل الذي تقدم في معنى الحكومة والورود أو يكون ظهور
أحدهما قرينة للتصرف في ظهور الاخر من قبيل ظهور القرينة بالنسبة إلى ظهور
565

ذي القرينة (وأما) في مقام الاثبات فقد ذكروا أمورا لترجيح أحد الدليلين على الاخر (منها) ما ذكرنا من كون أحد الدليلين عاما والاخر
خاصا فقد تقدم صور تعارض العام والخاص من كون الخاص تارة قطعي السند والدلالة جميعا فهو يقدم على العام تخصصا وفي ما
عدا هذه الصورة أي في صور الثلاث الاخر أي فيما إذا كان الخاص بحسب السند والدلالة جميعا ظنيا أو كان مختلفا بحسبهما يكون
أيضا مقدما على العام ولكن بالحكومة لا بالورود كما احتمله شيخنا الأنصاري (قده) (ومنها) ما إذا كان أحدهما عاما أصوليا والاخر
إطلاقا شموليا كقوله أكرم العلماء حيث أنه عام أصولي مقدم على قوله لا تكرم الفاسق في مادة الاجتماع أي العالم الفاسق.
والسر في ذلك أن شمول العام الأصولي لمورد الاجتماع بالوضع وشمول الاطلاق الشمولي له بالاطلاق ومقدمات الحكمة ومن تمامية
مقدمات الحكمة عدم قرينة على التقييد ويكفي في القرينية شمول العموم لمورد الاجتماع بالوضع من دون اشتراطه بشي (وقد أورد)
أستاذنا المحقق (قده) على هذا بأن كون العموم بالوضع يصير قرينة وبيانا لعدم شمول الاطلاق لمورد الاجتماع إذا قلنا بأن مطلق
البيان والقرينة ولو كانت منفصلة عن الكلام الملقى إلى المخاطب في مجلس التخاطب يكفي في منع التمسك بالاطلاق وعدم جريان
مقدمات الحكمة إذ حينئذ مع وجود تلك القرينة المنفصلة لا ينعقد للمطلق ظهور في الاطلاق وأما إذا كان أساس مقدمات الحكمة على
كون المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بخصوص الكلام الملقى إلى المخاطب في مجلس التخاطب لا به وبكلام آخر منفصل عنه ولو بعد
سنين كما عليه بناء العرف والعقلا في محاوراتهم فلا محالة ينعقد الظهور الاطلاقي للكلام وتتحقق الدلالة التصديقية النوعية التي
عليها مدار الحجية في باب الألفاظ (وحاصل) كلامه يرجع إلى أن القرينة المنفصلة لا تمنع تحقق الظهور الاطلاقي فإذا تحقق الظهور
الاطلاقي ثم جأت قرينة
566

منفصلة تصلح لان تكون مقيدا للاطلاق يقع التعارض بينها وبين الظهور الاطلاقي فيقدم أقوى الظهورين وليس من قبل المقتضى
التعليقي ومقتضى التنجيزي حتى تقول بأن مقتضى التنجيزي يرفع موضوع المقتضى التعليقي.
(وفيه) ما تقدم ان كل جملة صدر عن المتكلم فدلالته التصديقية بمعنى أن هذا هو الذي قاله المتكلم موقوف على إتمام الكلام وإلا فما
دام مشتغلا بالكلام له أن يلحق بكلامه ما شاء من القيود والقرائن وبعد أن تمم كلامه وسكت يصح أن يسند إليه مضمون الجملة ويقال
بأن هذا المضمون قاله فلان واسناد هذا المضمون إليه بعنوان أنه قاله لا يتوقف على شي وأما ان هذا مراده من هذا الكلام يتوقف على
عدم إتيان قرينة على الخلاف فلو أتى بقرينة على خلاف هذا المضمون بحيث تبدل مع وجود تلك القرينة إلى معنى آخر ولو كان تلك
القرينة منفصلة فيظهر أن مراده هذا المضمون الأخير دون المضمون الأول أي غير ما قال أولا وهذا القسم هي الدلالة التصديقية التي
قالوا أنها تابعة للإرادة ولا معنى لان يقال أن ما هو ظاهر الجملة بعد تماميتها كاشف عن المراد الواقعي حتى ولو جاء المتكلم بقرينة
منفصلة على عدم إرادته.
(وأما ما أفاد) بأن بناء أهل المحاورة على الاخذ بظاهر الجملة وعدم التوقف في العمل به فهذا حق ولكنه من جهة وجود أصول
العقلائية وهي أصالة عدم القرينة وأصالة عدم المخصص وأصالة عدم المقيد (ولكن) بعد وجود القرينة والمخصص والمقيد ولو
كانت منفصلة بل ولو كانت بعد سنين لا معنى لان يقال ما كان ظاهر الجملة قبل وجود هذه الاشياء هو المراد أو يقال يقع المعارضة
بين ما كان ظاهر الجملة وبين ظهور هذه الاشياء فيؤخذ بأقوى الظهورين فقد عرفت أن ظهور القرينة حاكم على ظهور ذي القرينة
متى وجدت متصلة كانت أم منفصلة (وإذا ظهر لك) هذا
567

تعرف أن الدلالة التصديقية بالمعنى الثاني الذي هو المناط في لزوم الاخذ والعمل على طبقه في باب ظواهر الألفاظ لان حجية الظواهر
من باب الكشف عن المراد متوقف على عدم مجئ قرينة على أن الظاهر ليس بمراد فإذا جأت قرينة على خلافه فلا يكون كاشفا عن
المراد والمناط حينئذ لملاحظة تلك الجملة مع تلك القرينة وذلك المخصص أو المقيد فحيث أن شمول الاطلاق الشمولي لمورد الاجتماع
يكون بالاطلاق وشمول العام الأصولي بالوضع فيكون العام الأصولي قرينة وبيانا لعدم تحقق الاطلاق ولو كانا في كلامين وعلى هذا
القياس حال الاطلاق البدلي مع العام الأصولي فلو قال أكرم عالما وقال أيضا لا تكرم الفساق فشمول الاطلاق البدلي لمورد الاجتماع
أي العالم الفاسق بالاطلاق وشمول العام الأصولي له بالوضع فيكون مانعا عن تحقق الاطلاق ويجي إشكال أستاذنا المحقق أيضا في
هذا المقام ولكن الجواب عين الجواب فلا نعيد.
(ومنها) ما إذا كان أحد المتعارضين من قبيل الاطلاق الشمولي والاخر من قبيل الاطلاق البدلي كما إذا قال أكرم عالما فإنه إطلاق
بدلي كما تقدم وقال أيضا لا تكرم الفاسق فإنه إطلاق شمولي لما تقدم من انحلال النهي إلى قضايا متعددة حسب تعدد أفراد موضوعه
أي متعلق متعلقه كقوله لا تشرب الخمر والمثال المذكور أي لا تكرم الفاسق فتقييد الاطلاق البدلي مقدم على تقييد الاطلاق الشمولي و
إن كان كلاهما بمقدمات الحكمة وذلك من جهة أن جريان مقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي يمنع عن جريان مقدمات الحكمة في
الاطلاق البدلي بخلاف العكس لان الاطلاق البدلي عبارة عن تعلق التكليف بصرف الوجود وحيث أن جميع وجودات الطبيعة في ضمن
وجودات جميع الافراد متساوي الاقدام في انطباق صرف الوجود عليها فالعقل يحكم بالتخيير في مقام التطبيق بواسطة إجراء مقدمات
الحكمة
568

ولكن الاطلاق الشمولي في طرف المعارض يخرج هذا الفرد الذي هو مورد الاجتماع عن كونه متساوي الاقدام مع سائر الافراد في
انطباق صرف الوجود عليه لابتلائه بالحكم المنافي مع هذا الحكم فجريان مقدمات الحكمة في الاطلاق البدلي مشروط بشرط وهي
تساوي اقدام الافراد بخلاف الجريان في الاطلاق الشمولي فإنه ليس مشروطا بشرط لان الاطلاق الشمولي عبارة عن تعلق الحكم
بوجود الطبيعة السارية وهذا المقدار مشترك بين العام الاستغراقي والاطلاق الشمولي (والفرق) بينهما هو أنه ان كان دلالة اللفظ على
الاستيعاب وشمول الحكم لجميع الافراد وعدم خروج فرد عن تحته بتوسط الوضع فهذا عام استغراقي وإن كان بتوسط مقدمات
الحكمة وإنه فرد أو صنف من افرادها خارج عن تحت هذا الحكم لعدم الملاك أو لوجود مانع فيه كان عليه البيان وإلا هو الذي أخل
بغرضه فهذا إطلاق شمولي.
(ومنها) ما إذا كان أحد المتعارضين العامين من وجه واردا في مورد الاجتماع فلا بد وأن يخصص الاخر لان تخصيص المورد قبيح بل
العام بالنسبة إلى مورده نص فيه فإذا سئل عن جواز إكرام العالم الفاسق وقال في الجواب أكرم العلماء وصدر منه أيضا قبلا أو بعدا لا
تكرم الفساق فلا بد وأن يقدم عموم أكرم العلماء ويخصص عموم لا تكرم الفساق وإن كان بينهما عموم من وجه وإلا يلزم تخصيص
المورد وهو قبيح.
(ومنها) ما إذا كان أحد العامين من وجه المتعارضين ما عدا مورد الاجتماع له أفراد قليلة بحيث لو خصص بما عدا مورد الاجتماع يكون
إلقاء العام قبيحا (وبعبارة أخرى) يكون أحد العامين من وجه تخصيصه بما عدا مورد الاجتماع من قبيل تخصيص الأكثر وربما يكون
العام مقابل الأخص منه أيضا كذلك يكون تخصيصه مستهجنا لقلة أفراد العام في غير مورد الاجتماع فيقدم الأقوى ظهورا أو يتساقطان
إذا لم يكن مرجح و
569

لأحدهما على الاخر مثلا لو قال كل حيوان طاهر ثم قال الحيوان الذي يحرك فكه الأسفل عند المضغ ليس بطاهر فلو خصص العام
يرجع الكلام إلى أن يكون المراد من كل حيوان طاهر خصوص نوع واحد وهذا قبيح (ومنها) ما قيل أن أحدهما لو كان في مقام
التحديد يقدم على الاخر ويكون قرينة على التصرف فيه وإن لم يكن أخص منه وذلك من جهة كونه نصا بواسطة كونه في مقام
التحديد (ومنها) إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقن في مقام التخاطب فيكون نصا فيه فلو كان الدليلان بحسب إطلاقهما أو إطلاق
أحدهما متعارضين فلا بد من حمل كلاهما أو أحدهما على قدر المتيقن لرفع التعارض وهذا فيما إذا كان القدر المتيقن للمطلق موجبا
لانصرافه إليه وإلا ما من مطلق إلا وله قدر متيقن بالنسبة إلى موضوعيته للحكم في عالم الثبوت ولا يضر ذلك بظهور المطلق في
الاطلاق ولزوم الاخذ بإطلاقه والعمل على طبقه.
(ومنها) إذا دار الامر بين النسخ والتخصيص فيقدم التخصيص عليه قيل لشيوع التخصيص وندرة النسخ وربما يقال بتقديم النسخ في
بعض صور المسألة ولتوضيح المقام وان أيهما يجب أن يقدم وما هو وجه التقديم ينبغي بيان صور المسألة وشقوقها فنقول العام و
الخاص المتنافيان في مؤدى الخاص إما واردين في زمان واحد أو في زمانين وعلى تقدير اختلافهما زمانا فما هو المتأخر اما هو العام
أو الخاص وعلى كل واحد من التقديرين فالعام أو الخاص المتأخر اما ورد بعد حضور وقت العمل بالمتقدم أو قبله هذه شقوق المسألة
(أما الصورة الأولى) أي ما إذا كانا واردين في زمان واحد فالظاهر تعين التخصيص لا لكثرته وندرة النسخ من جهة أن كثرة وجود
الشئ لا يوجب الخروج عما هو الظاهر بل لأنه لا شك في أن ورود الخاص مقارنا لورود العام يوجب عدم كاشفية ظهور العام في
العموم وان العموم مراده
570

لما تقدم أن أصالة الظهور في طرف الخاص حاكم على أصالة الظهور في طرف العام ويكون من قبيل ظهور القرينة مع ظهور ذي
القرينة.
(وأما الصورة الثانية) أي فيما إذا كان ورودهما في زمانين وكان الخاص هو المتأخر وكان قبل حضور وقت العمل بالعام فأيضا
يكون التخصيص هو المتعين لعين ما ذكرنا في الصورة الأولى من الوجه والاشكال عليه وجواب الاشكال (وأما الصورة الثالثة) وهي
عين الصورة الثانية مع الفرق بينهما بورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام (وربما) يتوهم في هذه الصورة تعين النسخ وإلا
يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو قبيح (ولكن) يمكن أن يقال أولا بأن تأخير البيان عن وقت العمل بالعموم لعله لوجود مصلحة
في التأخير فمفاد العمومات المتقدمة بالنسبة إلى مقدار مضمون الخاص ومصاديقه حكم ظاهري كما أن البراءة قبل صدور كثير من
الاحكام مفادها أحكام ظاهرية وبعد صدورها تكون أحكام واقعية مخالفة لتلك الأحكام الظاهرية التي هي مؤدى البراءة فلا يلزم
تأخير البيان عن وقت الحاجة بالنسبة إلى الحكم الواقعي حتى يكون قبيحا لأنه ليس حكم واقعي في البين بالنسبة إلى تلك القطعة التي
تكون مجمعا لعنواني العام والخاص والاشكال الذي يرد على هذا الوجه هو أن مفاد العام لا بد وأن يكون بالنسبة إلى القطعة التي لا
يتعنون بعنوان الخاص حكما واقعيا وبالنسبة إلى القطعة التي هي مجمع العنوانين حكما ظاهريا مع أنه دليل واحد وكلام واحد هذا
مضافا إلى أن مفاد أصالة العموم ناظرة إلى الحكم الواقعي لا أنها تكون ناظرة إلى إثبات حكم الشاك في الحكم الواقعي.
(ولكن الانصاف) أن تأخير البيان لمصلحة في التأخير لا قبح فيه أصلا كما أنه في موارد التقية ملاك الحكم الواقعي موجود ولكن
لمصلحة يسكت الشارع عن بيانه (وبعبارة أخرى) ليس قبح تأخير البيان عن
571

وقت الحاجة ذاتيا بحيث لا يمكن انفكاكه عنه بل ربما يطرأ عليه عنوان يوجب حسنه بل يكون البيان حينئذ قبيحا لان حسن الاشياء و
قبحها تابع لمصالحها ومفاسدها وتتبدل المصالح والمفاسد أي الملاكات بتبدل العناوين (وثانيا) أنه من المحتمل أن يكون العام
حين صدوره محتفا بقرائن ومخصصات متصلة اختفت تلك المخصصات المتصلة علينا وما وصلت إلينا إلا هذه المخصصات المنفصلة (و
حاصل الكلام) في هذا المقام أي فيما إذا كان الخاص واردا بعد العام وبعد حضور وقت العمل به فالاحتمالات ثلاثة (الأول) أن يكون
الخاص ناسخا لا مخصصا لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنه قبيح (وفيه) أن كون هذه المخصصات مع كثرتها ناسخة بعيد
غايته وذلك من جهة أن كثيرا من هذه المخصصات صادرة من الأئمة المتأخرين مع أن العمومات صادرة عن الأئمة السابقين فيلزم أن
يكون أكثر هذه الخاصات ناسخة لا مخصصة مع أنهم قالوا بندرة النسخ وكثرة التخصيص وحتى اشتهر ما من عام إلا وقد خص بل
قيل أنه لا يمكن أن تكون ناسخة لان النسخ لا بد وأن يكون بتوسيط الوحي من قبل الله تعالى ومعلوم انقطاع الوحي بعد النبي صلى
الله عليه وآله وإن كان هذا الكلام غير تام لان انقطاع الوحي لا يلازم عدم جواز النسخ بعده إذ من الممكن أنه صلى الله عليه وآله
أودع الحكم الناسخ عند الوصي حتى يظهره في وقته وهكذا الوصي عند وصيه وهو أيضا عند وصي آخر إلى أن يبلغ وقت تبليغه و
إظهاره فيظهره من عنده من الأئمة المعصومين عليهم السلام والدليل على ذلك أنه وردت أخبار صحيحة في تفويض دين الله إلى الأئمة
المعصومين عليهم السلام ولا معنى للتفويض إلا ذلك إذ احتمال أن يكون المراد بالتفويض أن يقولوا من عندهم من دون أن يكون من
قبل الله مخالف لأصول المذهب بل الدين واحتمال أن يكون بالالهام من قبل الله تعالى إليهم وإن كان ممكنا في حد نفسه ولكنه
572

أيضا مرتبة من الوحي والظاهر انقطاع الوحي بجميع مراتبه وعلى كل تقدير إنكار إمكان النسخ من قبل الأئمة المعصومين لا وجه له و
لا يصغى إليه.
(الثاني) ما تقدم من احتفاف العام بالمخصصات المتصلة واختفت علينا وما وصلت إلينا إلا هذه المخصصات المنفصلة واستبعد الشيخ
الأعظم هذا الاحتمال لكثرة الدواعي إلى ضبط القرائن والمخصصات المتصلة وشدة اهتمام الرواة ونقلة الاخبار في أخذ الروايات من
المعصومين عليهم السلام وضبطها بجميع خصوصياتها وإيصالها كذلك إلى من يستمع الحديث ويأخذ منهم وهكذا الامر إلى أن وصل
إلينا فجزاهم الله عن الدين والعلم خبر الجزاء فيستحيل عادة أن تكون هناك قرائن ومخصصات متصلة في موارد هذه المخصصات
الكثيرة المنفصلة واختفت علينا تلك القرائن والمخصصات المتصلة التي كانت العمومات محتفة بها كلها (والانصاف) أن النفس تطمئن
بعدم إمكان ذلك عادة فما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) - في مقام تضعيف هذا الاستبعاد من أنه انا نرى كثيرا من هذه المخصصات
المنفصلة المروية عنهم عليهم السلام مروية عن العامة بطرقهم عن النبي صلى الله عليه وآله فيكشف ذلك عن اختفاء المخصصات
المتصلة علينا - ليس مما تركن إليه النفس لان نقلهم هذه المخصصات المنفصلة عن النبي صلى الله عليه وآله يؤيد الوثوق بصدورها عن
الأئمة عليهم السلام وانها ليست مجعولة من قبل الكذابين على الأئمة الطاهرين ولا يلازم اختفاء المخصصات المتصلات حتى يكشف
ذلك عنه لان الجواب عن قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ليس منحصرا بهذا الجواب حتى يكون صدور هذه المخصصات عن النبي
صلى الله عليه وآله كاشفا عن صدور المخصصات المتصلة عنهم لانهم عليهم السلام لم يكونوا في حرية من حيث تبليغ الاحكام المودعة
عندهم وربما كانوا يخفون حتى ما صدر عن النبي صلى الله عليه وآله لمصالح يعرفونها.
(الثالث) ما ذكرناه أيضا من أن مفاد العام حكم ظاهري بالنسبة
573

إلى مصاديق الخاص والحكم الواقعي لتلك القطعة من العام هو مفاد تلك المخصصات المنفصلة وقد تأخر بيانها لمصالح تقتضي التأخير
(واستشكل) شيخنا الأستاذ على هذا الاحتمال بأن المصلحة للحكم الواقعي الذي مفاد المخصص المنفصل إن كانت تامة ولو بحسب
مقتضيات الزمان لدخلها في ملاك الحكم فيجب إظهاره وإلا يلزم تخلف المعلول عن علته وذلك من جهة أن الملاك التام علة للجعل و
ان لم يكن تامة فليس هناك حكم واقعي في البين حتى يكون مفاد العام حكما ظاهريا لان الحكم الظاهري هو في ظرف استتار الحكم
الواقعي فلا بد وأن يكون حكما واقعيا في الرتبة السابقة ويكون مستورا حتى تصل النوبة إلى جعل الحكم الظاهري (وفيه) أن الملاك
والمصلحة وان كانت تامة لكن لا ملازمة بين تمامية الملاك مع وجوب إظهار الحكم الواقعي على طبق ذلك الملاك لامكان أن يكون في
التأخير وعدم الاظهار مصلحة فيجب التأخير وادعاء ان مصلحة التأخير يزاحم المصلحة الحكم الواقعي فإذا غلب عليه يسقط الملاك
الحكم الواقعي عن كونه ملاكا تاما فليس حكم واقعي في البين دعوى بلا بينة ولا برهان بل البرهان على خلافه إذ وجود محذور في
الاظهار أو مصلحة في الاخفاء لا يقلل عن مصلحة الواقع شيئا كما هو يعلم بمراجعة الوجدان هذا أولا (وثانيا) ليس المراد من الحكم
الظاهري أن مؤدى العام ومفاده حكم ظاهري بمعنى أن الشارع بصدد إلقاء الحكم الظاهري بوسيلة إلقاء العام بل المراد أن أصالة
العموم حيث أن العموم ليس بمراده فيكون حجة ظاهرية ما لم تأت القرينة على خلافه فإذا جأت على خلافه وهو المخصص المنفصل
يكشف عن أن أصالة العموم ما كان واقعا حجة كاشفة عن المراد الواقعي ومثل هذا المعنى ليس متوقفا على وجود حكم واقعي يشمل
جميع أفراد العام ويكون مستورا حتى يجعل في ظرف استتاره مفاد العام حكما ظاهريا.
574

(بقي صورتان) من الصور الخمسة التي يدور الامر بين النسخ والتخصيص وهما فيما إذا كان الخاص واردا قبل العام سواء كان ورود
العام بعد حضور وقت العمل بالخاص أو قبله وفي كلتا الصورتين يقدم التخصيص على النسخ وتقديم التخصيص على النسخ في هاتين
الصورتين أوضح من تقديمه عليه في الصور الثلاث المتقدمة لان اعتماد المتكلم في بيان مراده على القرينة المتقدمة المنفصلة كما في
المفروض أولى من اعتماده على القرينة المنفصلة المتأخرة فإذا كان الخاص متقدما على العام فالمتكلم يلقي العام ويريد به ما عدا
الخاص معتمدا على الخاص المتقدم ومع وجود الخاص المتقدم لا يكون ظهور العام كاشفا عن إرادته العموم وذلك لحكومة أصالة
الظهور في طرف الخاص على أصالة الظهور في طرف العام وكونه من قبيل ظهور القرينة بالنسبة إلى ظهور ذي القرينة فأصالة
الظهور في طرف العام يسقط عن الحجية وإثبات أن العموم هو مراد المتكلم فليس عموم في البين حتى يكون ناسخا للخاص (فظهر)
من جميع ما ذكرنا أن في صور دوران الامر بين النسخ والتخصيص يقدم التخصيص ولا تصل النوبة إلى النسخ أصلا لما ذكرنا لا لما
ذكروا من كثرة التخصيص وقلة النسخ، لما ذكرنا من أنه لا اعتبار بصرف كثرة وجود التخصيص ما لم يكن قرينة على التصرف في
ظهور العام وان المراد منه ما عدا الخاص.
(ثم إن صور دوران الامر) بين التخصيص والنسخ ستة (لان) العام والخاص إما مجهولي التاريخ من حيث زمان الصدور أو معلوم زمان
صدورهما (والثاني) إما متقارنين أو أحدهما مقدم والاخر مؤخر، وما هو المقدم منهما فالمؤخر إما أن يصدر قبل حضور وقت العمل
بالمقدم أو بعده فتصير الصورة ستة (الأولى) فيما إذا كانا مجهولي التاريخ (الثانية) فيما إذا كان متقارنين (الثالثة) فيما إذا كان
الخاص بعد العام وبعد
575

حضور وقت العمل به أيضا (الرابعة) أيضا فيما إذا كان الخاص بعد العام ولكن قبل حضور وقت العمل به (الخامسة) فيما إذا كان العام
بعد الخاص وبعد حضور وقت العمل به أيضا (السادسة) فيما إذا كان العام بعد الخاص أيضا ولكن قبل حضور وقت العمل به، وفي
جميع هذه يكون التخصيص مقدما على النسخ لما ذكرنا من كون الخاص قرينة على عدم إرادة العموم من العام.
هذا ولكن ذكر جماعة تقديم النسخ على التخصيص عند دوران الامر بينهما معللا بأن التخصيص عبارة عن التصرف في العموم
الافرادي الذي للعام بالوضع. والنسخ عبارة عن تقييد الاطلاق (لان) الاستمرار والدوام بالاطلاق فإذا دار الامر بين التصرف فيما هو
بالوضع وبين التصرف فيما هو بالاطلاق (فالتصرف) فيما هو بالاطلاق مقدم (وإن شئت قلت) في الحقيقة الامر دائر بين التقييد و
التخصيص، لان مرجع النسخ إلى التقييد وقد تقدم أنه في دوران الامر بين التقييد والتخصيص التقييد مقدم (وفيه) أن النسخ متوقف
على شمول العام حكما لمورد الخاص حتى يكون الحكم ثابتا لافراد الخاص التي تحت دائرة العموم، وبمجي الخاص قبل العام أو بعده
يرتفع حكم العام عن تلك القطعة من التي هي مجمع العنوانين عنوان العام وعنوان الخاص (وقد عرفت) عدم شمول أصالة الظهور في
جانب العام بما هي حجة وكاشفة عن المراد الجدي لتلك القطعة (لان) وجود الخاص - سواء أ كان قبل العام أو بعد العام - قرينة على
عدم إرادة العموم ومع هذه القرينة لا يبقى موضوع للنسخ حتى تصل النوبة إلى تقديم النسخ - (لأنه) من تقييد الاطلاق الذي بمقدمات
الحكمة - على التخصيص الذي هو تصرف في العموم الافرادي الذي هو بالوضع، وقد تقدم أن الأول أولى عند الدوران.
576

هذا مضافا إلى ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من أن الدوام والاستمرار في حكم العام الذي هو موضوع النسخ ليس بإطلاق الحكم لعدم
إمكان شمول إطلاق الحكم للحالات الواردة على نفس الحكم المتأخرة عنه (لأنه) من الانقسامات الثانوية كالعلم والجهل بالحكم فكذلك
دوام الحكم واستمراره لا بد وأن يكون بدال آخر كقوله عليه السلام (حلال محمد صلى الله عليه وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه
حرام إلى يوم القيامة) فيكون النسخ أيضا تصرفا في عموم أفراد الزمان وفي الحقيقة النسخ أيضا تخصيص (ومنها) ما إذا وقع
التعارض بين مفهوم الشرط وبين مفهوم الغاية أو بينه وبين مفهوم الوصف بناء على ثبوت المفهوم للوصف (ففي الأول) يقدم مفهوم
الغاية، لأنه بالوضع ومفهوم الشرط بالاطلاق وبمقدمات الحكمة كما تقدم في مبحث المفاهيم من هذا الكتاب (وفي الثاني) يقدم مفهوم
الشرط على مفهوم الوصف، لأنه أظهر حتى قبل أن مفهوم الشرط بالوضع (فيكون) مانعا عن انعقاد الاطلاق في القضية الوصفية.
(الامر السابع) فيما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين
فهل يقدم بعضها على البعض الاخر تخصيصا أو تقييدا فيوجب انقلاب النسبة بينها بعد التقييد أو التخصيص في بعضها أم لا يقدم؟ بل كل
واحد منها يلاحظ مع غيره كما هو كذلك في حد نفسه، من دون تقييده أو تخصيصه أولا ثم ملاحظة النسبة بينه وبين غيره بعد ملاحظته
مقيدا أو مخصصا.
ولتوضيح المقام وتعيين ما هو الحق من هذين الاحتمالين نذكر مقدمة وهي أنه قد تقدم أن لظهور التصديقي مقابل التصوري معنيان
(أحدهما) ظهور الكلام فيما قال (والثاني) ظهوره فيما أراد. (والأول) ينعقد بعد تمامية الكلام والفراغ عنه وليس متوقفا على عدم
مجئ قرينة منفصلة على خلاف ظاهر الألفاظ (نعم) القرائن المتصلة المذكورة في نفس الكلام لها مدخلية
577

وجودا وعدما في انعقاد ذلك الظهور، وليس على هذا الظهور مدار الحجية بل الحجية مدارها على الظهور التصديقي بالمعنى الثاني أي:
ظهور الكلام فيما أراد، إذ إرادة المولى هي التي منشأ الآثار واستحقاق الثواب على موافقتها والعقاب على مخالفتها.
(وأما الثاني) أي: الظهور التصديقي بعنوان ما أراد المتكلم من هذا الكلام متوقف على عدم مجئ قرينة ولو كانت منفصلة على أن هذا
الظاهر ليس مراده فلو جأت قرينة منفصلة على عدم إرادة الظاهر (فالجملة) لا تدل بالدلالة التصديقية بأن ظاهر الكلام مراده، و
الخاص بالنسبة إلى العام إذا كانا في كلامين وجملتين مستقلتين من هذا القبيل أي أصالة الظهور في طرف الخاص ولو كان في كلام
منفصل قرينة على عدم إرادة العموم بنحو يشمل مجمع العنوانين أي عنوان العام وعنوان الخاص (فيكون) مقدار الخاص خارجا عن
تحت العموم (وقد عرفت) أن الحجية تدور مدار الإرادة سعة وضيقا فلو لم يكن العام شاملا للخاص من حيث المرادية كما هو
المفروض فليس بحجة في ذلك المقدار (ومعلوم) أن التعارض فرع الحجية وما ليس بحجة لا يمكن أن يكون معارضا لحجة أخرى (فلو
كان) هناك دليلان متعارضان بالتباين كقوله (أكرم العلماء) وقوله (لا تكرم العلماء) وجاء ما هو الأخص من أحدهما كقوله (يستحب
إكرام العدول من العلماء) فهذا يخصص قوله (لا تكرم العلماء) ويصير قرينة على عدم إرادة العموم من قوله (لا تكرم العلماء) بالنسبة
إلى العدول منهم فليس بحجة في العلماء العدول (فكأنه) من أول الامر قال لا تكرم العلماء غير العدول فتنقلب النسبة من التباين إلى
العموم والخصوص المطلق (فتكون) النتيجة لهذين الكلامين وجوب إكرام العلماء العدول دون الفساق منهم فلا يصح إنكار انقلاب
النسبة بقول مطلق (بل لا مناص) منه
578

بعض الموارد.
(والحاصل) أن حال المخصص المنفصل حال المخصص المتصل بالنسبة إلى حجية العام وكاشفيته عن المراد، فكما أنه لو كان عام مع
المخصص المتصل لا يكون شاملا لافراد المخصص كذلك المخصص المنفصل (نعم) الفرق بينهما أن المخصص المنفصل لا يصادم ظهور
العام بعنوان ما قال لا بعنوان ما أراد، فإذا كان عام وخاص لا يمكن أن يكون حال هذا العام مع وجود هذا الخاص في مقام معارضته مع
دليل آخر مثل حال هذا الخاص مع فرض عدم هذا الخاص (لان) العام في فرض عدم هذا الخاص يكون حجيته أوسع ويشمل جميع ما
ينطبق عليه سواء أ كان من مصاديق هذا الخاص أو لم يكن ولكن في فرض وجود هذا الخاص المخالف له في الكيف لا يشمل مصاديق
هذا الخاص (فتكون) دائرة حجيته أضيق، فكيف يمكن أن يقال أن نسبة العام في مقام المعارضة مع معارضه سواء كان التعارض بينهما
بالتباين أو بالعموم والخصوص من وجه مع وجود الخاص ومع عدمه على حد سواء وهل هذا إلا القول بأن معارضة غير الحجة مع
الحجة الأخرى ومعارضة الحجة مع الحجة على حد سواء؟ أي كون المعارض حجة وغير حجة سواء وهذا عجيب.
(إذا عرفت) هذا تعرف ما في كلام صاحب الكفاية حيث يقول في مقام رد انقلاب النسبة أن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات و
تخصيص العام بمخصص منفصل ولو كان قطعيا لا ينثلم به ظهوره وان انثلم به حجيته إلى آخر ما قال (لان) المخصص المنفصل وان
كان كما يقول لا ينثلم به ظهور العام لكن ذلك هو الظهور التصديقي بمعنى ما قال لا بمعنى ما أراد، والنسبة بين المتعارضين والأدلة
وإن كانت باعتبار الظهورات ولكن الظهورات التصديقية الكاشفة عن المراد لا صرف الظهور بعنوان ما قال فما
579

هو مناط المعارضة هو هذا الظهور الكاشف عن المراد وبه يكون الكلام حجة وما ليس بحجة كيف يمكن أن يعارض حجة أخرى؟ (و
مما ذكرنا) تعرف ما في كلام أستاذنا المحقق (قده) حيث يقول في كتابه مقالات الأصول والتحقيق أن مدار الجمع بعد ما كان على
تقديم أقوى الظهورين وان القرائن المنفصلة لا توجب انقلاب الظهور أيضا (فلا محيص) حينئذ من لا بدية ملاحظة كل واحد مع الاخر في
نفسها مع قطع النظر عن جمع كل واحد مع الغير إذ المفروض أن الجمع لا يوجب انقلاب الظهور شدة وضعفا. انتهى موضع الحاجة من
كلامه (وأنت عرفت) أن الظهور الذي لا ينثلم غير الظهور الذي عليه مدار الحجية أي: الظهور التصديقي الكاشف عن مراد المتكلم وهذا
الظهور هو الذي مناط الحجية وعليه يدور وقوع التعارض بين الأدلة وهو لا يبقى مع وجود القرينة المنفصلة على الخلاف.
(إذا ظهر لك) ما ذكرنا فلا بأس بذكر جملة من صور التعارض بين أكثر من دليلين لكي يميز بين ما تنقلب النسبة بينها وبين ما لا تنقلب
(الصورة الأولى) هي أن يكون عامين من وجه مع ما هو الأخص من أحدهما مثل قوله (أكرم العلماء ولا تكرم الفساق من العلماء و
يستحب إكرام العدول) فالنسبة بين قوله (أكرم العلماء) وقوله (يستحب إكرام العدول) عموم وخصوص من وجه وقوله (لا تكرم
الفساق من العلماء) أخص مطلقا من قوله (أكرم العلماء) فيخصص به وبعد التخصيص به تنقلب النسبة - بين قوله (أكرم العلماء) وبين
قوله (يستحب إكرام العدول) - من العموم من وجه إلى العموم والخصوص المطلق لان أكرم العلماء بعد التخصيص بلا تكرم الفساق من
العلماء يصير عبارة عن وجوب إكرام العالم العادل (فيكون) قوله يستحب إكرام العدول أعم مطلقا منه، وهذا معنى انقلاب النسبة.
580

(فبناء على ما اخترناه) يخصص قوله (يستحب إكرام العدول) بغير العالم العادل فيكون إكرام العالم العادل واجبا بدليل أكرم العلماء
العدول الذي نتيجة حصلت من التخصيص، وسائر العدول يكون إكرامهم مستحبا بدليل يستحب إكرام العدول بعد تخصيصه بغير
العلماء بواسطة قوله (أكرم العلماء العدول) الحاصل من تخصيص قوله (أكرم العلماء) بقوله (لا تكرم الفساق من العلماء) إذ نتيجة
التخصيص تقييد قوله (أكرم العلماء) بقيد كونهم عدول من حيث المراد الواقعي، وما اخترناه موافق لما اختاره الشيخ الأعظم وشيخنا
الأستاذ (قدهما) وأما على ما اختاره صاحب الكفاية وأستاذنا المحقق (قدهما) فالنسبة الأولية باقية بحالها أي:
بعد تخصيص قوله (أكرم العلماء) بقوله (لا تكرم الفساق من العلماء) العموم والخصوص من وجه بين قوله (أكرم العلماء) وبين قوله
(يستحب إكرام العدول) باق وموجود فلا يخصص قوله (يستحب إكرام العدول) بغير العلماء بل النتيجة إما التخيير أو تساقطها على
القولين.
(وكذلك) تنقلب النسبة لو كان عامان متباينان وكان دليل ثالث أخص من أحدهما مثل قوله عليه السلام (لا ترث الزوجة من العقار) و
قوله عليه السلام أيضا (ترث الزوجة من العقار) فهما عامان متباينان، فإذا ورد الدليل الثالث وكان مفاده أن الزوجة التي لها ولد من
الميت ترث من العقار وهو أخص من قوله عليه السلام (لا ترث الزوجة من العقار) فإذا خصص به لأنه أخص منه تنقلب النسبة بينه وبين
العام الاخر من التباين إلى العموم والخصوص المطلق (فالنتيجة) أن أم الولد من الزوجة ترث والزوجة التي ليس لها ولد من الزوج
الميت لا ترث منه، فهذان المثلان كان في أحدهما بين العامين عموم من وجه و بواسطة الدليل الثالث الذي أخص من أحدهما انقلبت
النسبة بينهما من العموم من وجه إلى العموم والخصوص المطلق (وفي الثاني) أي مسألة إرث الزوجة
581

بين العامين تباين كما عرفت وبواسطة الدليل الثالث الذي أخص من أحدهما أيضا انقلبت النسبة بينهما من التباين إلى العموم و
الخصوص المطلق كما عرفت (وقد تنقلب) النسبة بين العامين المتباينين إلى العموم والخصوص من وجه وذلك كالمثال الأول إذا ورد
دليل رابع كان مفاده تخصيص أكرم العلماء بالفقهاء (فإنه) بعد تخصيص قوله (أكرم العلماء بالفقهاء) وتخصيص قوله (لا تكرم العلماء)
بقوله (أكرم العلماء العدول) فالنتيجة تقييد كل واحد من العامين المتباينين بحسب المراد الواقعي بقيد أي يصير أكرم العلماء الفقهاء من
طرف ولا تكرم العلماء غير العدول من طرف والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه بعد ما كانت التباين.
(الصورة الثانية) هي ما إذا ورد عام وخاصان متباينان مثل قوله (أكرم العلماء) وقوله (لا تكرم الكوفيين من العلماء) وقوله (لا تكرم
البصريين من العلماء) فالنسبة بين الخاصين هي التباين، ولا شك في وجوب تخصيص العام بكل واحد منهما ما لم يصل إلى التخصيص
المستهجن كتخصيص المستغرق والمستوعب لجميع أفراد العام أو أصنافه أو أكثرها (ولا فرق) في لزوم تخصيص العام بالجميع ما لم
يصل إلى حد الاستهجان بين أن يكون الخاص اثنين أو كان أكثر (الصورة الثالثة) هي ما إذا ورد عام وخاصان تكون النسبة بينهما
عموم وخصوص مطلق كقوله (أكرم العلماء) وقوله (لا تكرم النحويين) وقوله (لا تكرم الكوفيين من النحويين) فحيث أن نسبة كل
واحد من الخاصين إلى العام نسبة القرينة إلى ذي القرينة فيخصص بهما جميعا.
وأما احتمال تخصيص أعم الخاصين بأخصهما - حتى يكون المراد من قوله (لا تكرم النحويين خصوص الكوفيين من النحويين)
فيخصص به العام وتكون النتيجة تخصيص العام بغير مفاد أخص الخاصين أي وجوب
582

إكرام العلماء غير الكوفيين من النحويين - فمدفوع بأن الخاصين متوافقان في حرمة الاكرام، ومفاد الأخص من الخاصين وان كان
حرمة إكرام خصوص الكوفيين من النحويين ولكن إثبات حرمة الاكرام لهم لا ينفي الحرمة عن غيرهم حتى تقع المعارضة بين الخاصين
ويخصص أعمهما بأخصهما وينتج النتيجة المذكورة، إلا إذا أحرز وحدة المطلوب فيخصص أعم الخاصين بأخصهما، والنتيجة خروج
أخص الخاصين فقط عن تحت العام (وبعبارة أخرى) الخاص الأعم المخصص بالخاص الأخص يخرج عن تحت العموم أما توهم أن تنقلب
بناء على هذا الوجه بين العام وأعم الخاصين بعد تخصيص أعمهما بأخصهما - لان قوله (أكرم العلماء) بعد تخصيصه بأخص الخاصين و
خروجه عن تحته يصير مفاده وجوب إكرام العالم غير النحوي الكوفي ونسبته مع قوله (لا تكرم النحويين) عموم وخصوص من وجه
بعد ما كانت قبل تخصيص أعمهما بأخصهما عموم وخصوص مطلق - فعجيب من جهة أن أعم الخاصين بعد تخصيصه بأخص الخاصين -
خصوصا من باب وحدة المطلوب - لا يبقى له مفاد إلا ما هو مفاد أخص الخاصين وبهذا المفاد خصص العام على الفرض وخرج عن
تحت العام (وليس) هناك شي آخر حتى تلاحظ نسبة العام معه (والحاصل) أنه توهم عجيب صدر عن أستاذنا المحقق (نعم) لو كان
أخص الخاصين من قبيل المخصص المتصل لكان بين العام وأعم الخاصين عموم من وجه، ووجهه واضح.
(الصورة الرابعة) إذا ورد عامان بينهما عموم وخصوص من وجه كقوله (يستحب إكرام العلماء) وقوله (لا تكرم الفساق) وورد خاص
(فتارة) تنقلب النسبة بين العامين من العموم من وجه إلى العموم المطلق (وأخرى) إلى التباين (فالأول) فيما إذا كان مفاد الخاص إخراج
مادة افتراق أحدهما عن تحت العموم، كما إذا كان الخاص قوله (يجب إكرام العالم غير الفاسق) فيكون المراد من قوله (يستحب إكرام
العلماء)
583

خصوص إكرام العالم الفاسق لان العالم غير الفاسق خرج عن تحت العام بالتخصيص (ومعلوم) أن بين قوله يستحب إكرام العالم
الفاسق مع قوله لا تكرم الفساق عموم وخصوص مطلق بعد ما كانت بين العامين قبل التخصيص عموم وخصوص من وجه (والثاني)
فيما إذا كان مفاد الخاص إخراج مادة الاجتماع كما أنه لو قال - بعد العامين المذكورين - يكره إكرام العالم الفاسق فيخصص هذا
الخاص كلا العامين. أما قوله يستحب إكرام العلماء فيكون مفاده بعد ورود هذا الخاص استحباب إكرام العالم غير الفاسق، ومفاد العام
الاخر أي قوله لا تكرم الفساق بعد ورود هذا الخاص وتخصيصه به حرمة إكرام الفاسق غير العالم (ومعلوم) أن بينهما تباين، وسر
انقلاب النسبة إلى أحد الوجهين في المفروض واضح فلا نطول الكلام.
(الصورة الخامسة) فيما إذا ورد عامان متعارضان بالتباين كقوله (أكرم العلماء) وقوله (لا تكرم العلماء) فلو ورد دليل آخر أي خاص
خصص أحد العامين فالنسبة تنقلب من التباين إلى العموم والخصوص المطلق مثلا لو قال بعد العامين المذكورين (لا تكرم العالم
الفاسق) فيصير مفاد أكرم العلماء وجوب إكرام العالم غير الفاسق وهو أخص مطلقا من العام الاخر أعني قوله (لا تكرم العلماء)
فيخصصه وكذلك لو كان الخاص مخصص العام الاخر كما لو قال في المثال المذكور بعد العامين ويكره إكرام العالم الفاسق فيخصص
لا تكرم العلماء به وتنقلب النسبة من التباين إلى العموم والخصوص المطلق (وقد يرد) دليل آخر يوجب انقلاب نسبة العامين من
التباين إلى العموم والخصوص من وجه، وذلك كما إذا ورد في المثال المذكور دليل رابع وخصص وجوب إكرام العلماء بالفقهاء بعد
تخصيص العام الاخر أعني قوله (لا تكرم العلماء) بخصوص
584

الفساق فنتيجة هذين التخصيصين أن يصير مفاد العام الأول أكرم العلماء الفقهاء، ومفاد العام الثاني لا تكرم العلماء الفساق (ومعلوم)
أن بينهما عموم وخصوص من وجه وهذه الصور التي ذكرناها كان التعارض بين دليلين على أحد الوجوه المتقدمة.
ثم بواسطة مجئ دليل آخر كانت تنقلب النسبة التي كانت بين الدليلين المتعارضين إلى نسبة أخرى كما عرفت وهكذا الحال لو كان
التعارض بين أكثر من دليلين كما إذا قال (أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ويستحب إكرام الشعراء) فان النسبة بين كل واحد من هذه
العمومات الثلاث هي العموم من وجه في حد نفسه، ولكن بعد مجئ دليل آخر خصص الثلاث واخرج مادة اجتماع الثلاث بأن قال
(يكره إكرام العالم الشاعر الفاسق) تنقلب النسبة بينهما من العموم من وجه إلى التباين ولو كان مفاد الدليل الرابع في المفروض
إخراج مورد الافتراق عن تحت أحد عمومات الثلاثة تنقلب نسبة ذلك العام إلى الآخرين من العموم من وجه إلى العام والخصوص المطلق
(وخلاصة الكلام) في المقام أن جهة انقلاب النسبة هو أن العام قبل تخصيصه يكون حجة كاشفة عن تمام مدلوله وبعد وجود المخصص
ولو كان منفصلا لا يكون حجة إلا فيما عدا مدلول الخاص فقهرا تتضيق دائرة حجيته (وقد تقدم) سابقا أن التعارض يقع بين حجتين أو
الحجج باعتبار كشفها عن المراد الواقعي وعدم إمكان اجتماعهما أو عدم اجتماعها إذا كانا أو كانت مرادا واقعيا (فلا محالة) بتغير
مدلولهما بما هي حجة تتغير النسبة بينهما فالقول بعدم تغير النسبة - وعدم انقلابها بعد وجود المخصص المنفصل - مساوق مع القول
بعدم حجية المخصص المنفصل وعدم تضييق دائرة حجية العام بواسطته وهو كما ترى، ولا يقول به المنكر لانقلاب النسبة.
(تتميم)
ذكر شيخنا الأعظم (قده) بمناسبة هذا البحث نسبة
585

أدلة ضمان العارية بعضها مع بعض (ونحن) أيضا نتبع الأساتيذ في ذكرها وبيان النسبة بينها فنقول: ان أدلة ضمان العارية على
طوائف (فمنها) ما يدل على عدم الضمان في العارية مطلقا من حيث المستعير والمال أو الشئ المستعار كصحيحة الحلبي عن الصادق
عليه السلام ليس على مستعير عارية ضمان وصاحب العارية والوديعة مؤتمن) ومنها ما يدل على عدم ضمان العارية مطلقا من حيث
المال المستعار ولكن من حيث المستعير مشروط بكونه مأمونا كرواية مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عليهما السلام (قال سمعته
يقول لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأمونا) ومنها ما يدل على عدم الضمان إلا في عارية
الدراهم كرواية عبد الملك عن أبي عبد الله عليه السلام قال ليس على صاحب العارية ضمان إلا أن يشترط صاحبها إلا الدراهم فإنها
مضمونة شرط صاحبها أو لم يشترط) ومنها ما يدل على عدم الضمان إلا في عارية الدنانير كرواية عبد الله بن سنان قال (قال أبو عبد
الله عليه السلام لا تضمن العارية إلا أن يكون قد اشترط فيها الضمان إلا الدنانير فإنها مضمونة وان لم يشترط فيها ضمانا) ومنها ما
يدل على عدم الضمان إلا في عارية مطلق الذهب والفضة كرواية إسحاق بن عمار عنه عليه السلام (قال العارية ليس على مستعيرها
ضمان إلا ما كان ذهب أو فضة فإنهما مضمونان اشترطا أو لم يشترطا).
(إذا عرفت) هذه الطوائف من الروايات وهي خمسة، وبعد ما عرفت أن الطائفة الأولى مع الثانية مشتركان في نفي الضمان مطلقا من
أي جنس كان المال المستعار والاختلاف الذي بينهما - في اشتراط إحداهما بكون المستعير مأمونا - لا تأثير له فيما هو المهم في
المقام. والطائفة الثالثة والرابعة لكل واحد منهما عقد سلبي وعقد إيجابي، والعقد السلبي في الطائفة الثالثة أي رواية عبد الملك عن
أبي عبد الله عليه السلام عدم الضمان في كل عارية إذا
586

لم يشترط صاحبها الضمان إلا في عارية الدراهم فكل عارية غير عارية الدراهم إذا لم يشترط صاحبها الضمان من أي جنس كان ليس
فيها ضمان) والعقد الايجابي هو أنه (في عارية الدراهم ضمان مطلقا) فهذا العقد الايجابي يخصص العمومات أو يقيد المطلقات التي كان
مفادها عدم الضمان في كل عارية من أي جنس كان (لأنه) أخص منها وكذلك الطائفة الرابعة أي رواية عبد الله بن سنان أيضا لها عقد
سلبي وعقد إيجابي فالعقد السلبي فيها عبارة عن: عدم الضمان في كل عارية لم يشترط فيها الضمان من أي جنس كان إلا أن تكون من
جنس الدنانير والعقد الايجابي فيها عبارة عن:
ثبوت الضمان في عارية الدنانير مطلقا سواء اشترط صاحبها الضمان أو لم يشترط وهذا العقد الايجابي في هذه الطائفة أيضا يخصص
العمومات التي كان مفادها عدم الضمان مطلقا من أي جنس كان (لأنه) أيضا أخص منها، وقد تقدم أنه لو كانت خصوصات متعددة
بالنسبة إلى عام يخصص العام بجميعها ما لم يصل إلى حد التخصيص المستهجن.
ثم أن هذين العقدين الايجابيين في الطائفة الثالثة والرابعة كما يخصصان العمومات والمطلقات التي في الطائفة الأولى والثانية كذلك
يخصص كل واحد منهما العقد السلبي الذي في الطائفة الأخرى (لان) كل واحد من العقدين الايجابيين أخص من العقد السلبي في الطائفة
الأخرى، وكذلك أغلب الروايات التي قيد عدم الضمان بعدم الاشتراط التي تدل على أن الاشتراط يوجب الضمان أيضا يخصص
المطلقات (فالمتحصل) من الطوائف الأربعة ما عدا الطائفة الأخيرة الخامسة (ان كل عارية لا ضمان فيها إلا أن يشترط صاحبها أو يكون
المال المستعار من الدراهم أو الدنانير) والعقد الايجابي في الطائفة الخامسة أي رواية إسحاق بن عمار عبارة عن: ثبوت الضمان في
كل عارية كانت من ذهب أو فضة مطلقا سواء أ كان مسكوكا
587

والدنانير أو لم يكن مسكوكا كالحلي للنساء والسبائك من الذهب أو الفضة (فيكون) معارضا مع العقد السلبي في روايتي الدرهم و
الدينار (لان) العقد السلبي - في كل واحد من هاتين الروايتين بعد ما خصص بالعقد الايجابي في الرواية الأخرى - يصير بعد ما كانت
الروايتين في حكم رواية واحدة عبارة عن: عدم الضمان في كل عارية ما عدا الدراهم والدنانير (والنسبة) - بين هذا العقد السلبي و
العقد الايجابي في رواية إسحاق بن عمار - عموم وخصوص من وجه فيقع التعارض في مادة الاجتماع وهو الذهب والفضة غير
المسكوكين فبمقتضى هذا العقد السلبي ليس فيه الضمان وبمقتضى رواية إسحاق بن عمار فيه الضمان فإذا قلنا بالتساقط في مادة
الاجتماع فما إذا كان المتعارضان بينهما عموم وخصوص من وجه يتساقطان والمرجع بعد التساقط عموم الفوق أي رواية الحلبي
النافية للضمان مطلقا ولكن بناء على ما اخترناه من انقلاب النسبة بواسطة المخصص ولو كان منفصلا فالعام الفوق أيضا يكون طرف
المعارضة لأنه بعد ورود الدليل على ثبوت الضمان في عارية الدراهم والدنانير تتضيق دائرة حجيته ويختص بما ليس بدرهم ولا
دينار ويكون مضمونه عدم الضمان في كل عارية ما عدا الدراهم والدنانير فيكون متحد المضمون مع العقد السلبي في روايتي الدرهم
والدينار فبناء على التساقط في المتعارضين بالعموم من وجه يتساقط الجميع أي العام الفوقاني الذي هو مضمون رواية الحلبي والعقد
السلبي في روايتي الدرهم والدنانير والعقد الايجابي في رواية إسحاق بن عمار فيصل النوبة إلى الأصل العملي وهو البراءة عن ضمان
الذهب والفضة غير المسكوكين هذا مع فقد المرجح والساقط وإلا فمع وجود المرجح يقدم ذو المزية.
(الامر الثامن)
في أنه لو لم تكن لأحد المتعارضين من ناحية الدلالة مزية وتعذر الجمع العرفي فهل مقتضى القواعد الأولية سقوطهما مع قطع
588

النظر عن أخبار الترجيح والتخيير أو لا بل مقتضى القاعدة الأولية عدم سقوطهما بل لا بد وأن يجمع بينهما ولو بضرب من التأويل و
لا بد في تنقيح هذه المسألة من التكلم في مقامين (الأول) بناء على الطريقية (الثاني) بناء على السببية (اما) المقام الأول أي بناء على
الطريقية فحيث أن مضمونهما ومؤداهما لا يمكن أن يكون مجعولا جمعا لكونه من اجتماع الضدين أو النقيضين مطابقة أو التزاما فلا
يمكن كون كليهما طريقا وكاشفا عن الحكم الواقعي لان طريقية الاثنين وكاشفيتهما جمعا فرع الامكان واحتمال أن يكون كلاهما
مجعولين وإلا فمع العلم بأنهما جمعا ليسا بمجعولين كيف يمكن أن يقول أحد بأن كلاهما جمعا طريق (وحاصل الكلام) أنه بناء على
الطريقية كل واحد منهما ليس حجة في خصوص مؤداه وأما بالنسبة إلى نفي الحكم الثالث (فان كان التعارض) بينهما من جهة تنافي
مؤداهما وعدم إمكان اجتماعهما لاستلزامه اجتماع الضدين أو النقيضين (فهما يشتركان) في نفي الثالث بالدلالة الالتزامية مثلا إذا
كان هناك روايتان مفاد إحداهما وجوب غسل الجمعة والأخرى استحبابه فهما مشتركان في نفي الكراهة والحرمة والإباحة بالدلالة
الالتزامية فالمدلول المطابقي لاحداهما الوجوب وللاخرى الاستحباب ولكن حيث أن لازم كونه واجبا وكذلك مستحبا عدم كونه
محكوما بسائر الأحكام الخمسة - (فهما معا) بالدلالة الالتزامية ينفيان غير الوجوب والاستحباب من سائر الأحكام الخمسة (ان قلت)
دلالة الجملة على معنى الالتزامي فرع دلالتها على المعنى المطابقي وفي المقام ليس الخبران حجة بالنسبة إلى مدلولهما المطابقي
لسقوطهما عن الحجية بالنسبة إليه كما هو المفروض (قلنا) ان تبعية دلالة اللفظ والكلام على مدلوله الالتزامي لدلالته على مدلوله
المطابقي في عالم الوجود لا في عالم الحجية فيمكن التفكيك في عالم الحجية بعد وجودهما معا لوجود محذور في حجية إحداهما دون
589

الأخرى كما في المقام (لأنه) في المثل المذكور لكل واحد منهما دلالة مطابقية وهي دلالتهما على نفس مؤداهما من الوجوب في إحداهما
والاستحباب في الأخرى والأخرى التزامية وهي دلالة كل واحدة منهما على نفي غير مؤداهما فبالنسبة إلى نفي غير مؤدى الاثنين
كلاهما مشتركان ولا محذور في شمول أدلة الحجية لهذه الدلالة الالتزامية التي كلاهما مشتركان فيها بخلاف حجية دلالتهما المطابقية
فان فيها استلزام اجتماع الضدين أو النقيضين ولأجل ذلك يقع التفكيك في الحجية بين الدلالتين.
(وأما ان كان التعارض) بينهما لأجل دليل خارجي على أن كلا المؤدبين غير مجعول من دون أن يكون بين نفس المؤدبين من حيث
أنفسهما تضاد أو تناقض كما في الروايتين الواردتين في صلاة يوم الجمعة حيث أن إحداهما تدل على وجوب صلاة الجمعة في يومها و
الأخرى على وجوب صلاة الظهر فيه وليس بينهما تناف وتضاد في أنفسهما ولكن من جهة وجود دليل خارجي على عدم مجعوليتهما
جميعا يقع بينهما التعارض ففي مثل هذا القسم لا يدلان إلا على إثبات مؤداهما من دون دلالتهما على نفي حكم آخر بل كل واحد منهما
يدل على مؤداه أي وجوب صلاة الظهر مثلا أو وجوب صلاة الجمعة فلو سقطا بالتعارض واحتملنا وجوب صلاة أخرى في ذلك اليوم لا
مانع من إجراء البراءة (نعم) لو علمنا بوجوب صلاة في ذلك اليوم والتعارض وقع في تعيين ذلك الواجب فأحد الدليلين كان مفاده أن
الصلاة الواجب في يوم الجمعة مثلا هو خصوص صلاة الجمعة وكان مفاد الدليل الاخر أن الصلاة الواجب المعلوم وجوبه في ذلك اليوم
هو صلاة الظهر بحيث نعلم أن الواجب المعلوم وجوبه في يوم الجمعة إما صلاة الظهر وإما صلاة الجمعة فلو تساقط الدليلان بواسطة
المعارضة لا يمكن إجراء البراءة بل لا بد من الاحتياط بالجمع بين الصلاتين أي صلاة
590

الظهر وصلاة الجمعة من باب لزوم الاحتياط ووجوب الموافقة القطعية في أطراف العلم الاجمالي ومثال ورود الروايتين اللتين تدل
إحداهما على وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة والأخرى على على وجوب صلاة الظهر من هذا القبيل هذا كله بناء على الطريقية.
(أما بناء على السببية) والموضوعية فهل مقتضى القاعدة أيضا تساقطهما أولا بل مقتضى الأصل هو التخيير فنقول أن السببية و
الموضوعية على ثلاثة أقسام بل أربع (الأول) هو كون الاحكام الواقعية تابعة لاراء المجتهدين وليس هناك في الواقع أحكاما واقعية
محفوظة بحيث قد يصيب المجتهد ويصل إليها بتوسط الامارات والأدلة وقد يخطئ ولذلك سموا بالمصوبة لأنه بناء على هذا المسلك
الباطل لا يمكن وقوع الخطأ في اجتهاداتهم وهذا هو التصويب الأشعري المحال (الثاني) أن تحدث في مؤدى الامارات والأصول
بواسطة قيامهما على الحكم الشرعي مصلحة أو مفسدة تكون غالبة على المصلحة أو مفسدة الواقع فيكون الحكم مجعولا على طبقهما
دون الواقع فيكون الحكم الواقعي الفعلي هو مؤدى الامارات والأصول ويبقى الحكم الواقعي الأصلي في مرتبة الشأن وهذا هو
التصويب المعتزلي وليس بمحال ولكن الاجماع من الطائفة منعقد على خلافه وان يظهر من كلام شيخ الطائفة وبعض آخر تصديق
هذا القسم من التصويب ومن لوازم هذا القسم هو الاجزاء فيما إذا أتى بمؤدى الامارة المخالفة للواقع (الثالث) هو القول بالمصلحة
السلوكية وقد تقدم شرح هذا القسم من السببية وعدم تنافيها مع القول بالتخطئة في بحث إمكان حجية الامارات (الرابع) ما أفاده
أستاذنا المحقق من أن متعلقات وموضوعات الاحكام لها مصالح ومفاسد في الرتبة السابقة على الجهل بتلك الاحكام وهي مناطات
الاحكام الواقعية ولها مصالح ومفاسد في الرتبة المتأخرة عن الجهل بها وهي مناطات الاحكام الظاهرية والفرق بين هذا
591

القسم الرابع والثاني أي السببية المعتزلية هو أنه في القسم الثاني تنكسر المصالح والمفاسد الواقعية فلا تقتضي جعلا على طبقها فليس
في البين إلا تلك الأحكام الظاهرية وأما في هذا القسم فلكل متعلق وموضوع جعل حكمان واقعي وظاهري ولا تضاد ولا تناقض في
البين لاختلاف رتبة الحكمين فلا الحكم الواقعي ينزل إلى رتبة الحكم الظاهري ولا الحكم الظاهري يصعد إلى رتبة الحكم الواقعي بل
كل واحد منهما يقف على موضوعه وقد تقدم وجه بطلان هذا الوجه في مسألة الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري فلا نعيد.
(فنقول) أما السببية التصويبية بكلا قسميه أي الأشعرية والمعتزلية بل السببية المخطئة التي قال بها أستاذنا المحقق (قده) فكون
مقتضى القاعدة في المتعارضين بناء عليها هو التخيير فواضح لأنه بناء على ذلك يصير من باب تزاحم الحكمين الناشئين كل واحد منهما
عن ملاك ومصلحة خاصة فالعقل يحكم بالامتثال بمقدار القدرة وهو الامتثال بأحدهما في ظرف عدم الامتثال بالآخر وهذا كسائر
موارد باب التزاحم بين الحكمين (نعم) إذا كان إحدى الامارتين يثبت حكما والأخرى ينفيه - بحيث تكون الامارتان مختلفتين في
الايجاب والسلب ويكون الجمع بين مفاديهما من قبيل الجمع بين النقيضين لا الضدين - فالقول بالتخيير مشكل لأنه إذا كان مفاد
إحدى الامارتين رفع مؤدى الأخرى فكون مؤداهما من قبيل الحكمين المتزاحمين الذي كان مبنى القول بالتخيير لا يخلو من نظر وتأمل
(بل يمكن) أن يقال أن مؤدى الامارة فيما إذا كان رفع الحكم وعدمه فليس من جهة أنه في المؤدى ملاك يقتضي العدم بل من جهة عدم
ملاك الوجوب أو الحرمة مثلا فليس حينئذ لا ملاكان ولا حكمان فلا وجه في هذه الصورة للحكم بالتخيير.
(هذا كله) فيما إذا قلنا بالسببية بأحد الوجوه الثلاثة المتقدمة (وأما بناء على السببية) على مذهب المخطئة أي بأن تكون المصلحة في
سلوك
592

الامارة (فربما يقال) بأن مقتضى الأصل أيضا هو التخيير لان في سلوك كل واحد من الطريقين المتعارضين مصلحة يجب استبقاؤها لو
كان ممكنا ولكن حيث لا يمكن سلوك كلاهما لأنه مستلزم لاجتماع الضدين أو النقيضين فالعقل يحكم بلزوم استيفاء إحدى المصلحتين
لأنه ممكن وهذا هو التخيير (وفيه) أن المصلحة السلوكية على القول بها قائم بسلوك الطريق بما هو طريق لا العمل على طبق قول الثقة
ولو لم يكن طريقا (وبعبارة أخرى) مورد هذه المصلحة ومركزها هو سلوك ما جعله حجة وطريقا فهذه المصلحة في الحقيقة عبارة
عن إعطاء المولى شيئا من كيسه لأجل تدارك ما فات من العبد من مصلحة الواقع بسبب جعل هذه الامارة حجة وطريقا فإذا سقط
طريقيته بواسطة التعارض فليس هناك طريق حتى يكون لسلوكه مصلحة ففي مورد التعارض ليس مصلحة سلوكية في البين حتى
تكون موجبة لحكم العقل بالتخيير في استيفاء إحدى المصلحتين (وحاصل الكلام) أن التخيير بحكم العقل على تقدير ثبوته بين
المصلحتين وعدم اختصاصه بمورد الحكمين المتزاحمين لا يكون إلا فيما إذا كان هناك مصلحتان لا يمكن استيفائهما ويمكن استيفاء
أحدهما غير المعين وأما فيما نحن فيه حيث أن المتعارضين سقطا عن الطريقية فليس في سلوكهما مصلحة حتى يحكم العقل بالتخيير
في استيفاء أيهما شاء.
(هذا كله) فيما إذا كان مؤدى الامارات هي الأحكام الشرعية وأما الامارات بالنسبة إلى الموضوعات الخارجية فالقول بالسببية فيها
ينبغي أن يضحك عليه لا أن يذكر أو يسطر في كتاب.
(الامر التاسع)
في أن ما قلنا من سقوط الخبرين المتعارضين كان بمقتضى الأصل والقواعد الأولية وإلا فبمقتضى الاخبار العلاجية الواردة في هذا
الباب فلا إشكال في عدم تساقطهما مع عدم وجود مرجح ومزية لأحدهما
593

في البين بل كانا متكافئين من جميع الجهات نعم وقع الخلاف في أن الحكم هل هو التخيير في الاخذ بأيهما شاء أو التوقف في الفتوى و
العمل بما يوافق الاحتياط منهما ان كان وإلا فالتخيير ومنشأ هذا الاختلاف هو اختلاف الاخبار (فمنها) ما يدل على التخيير المطلق
كرواية حسن بن جهم عن الرضا عليه السلام قلت يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق قال عليه السلام إذا
لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت وبهذا المضمون أي ما يدل على التخيير مطلقا من دون التقييد والاشتراط بشي وردت أخبار
كثيرة (ومنها) ما يدل على التخيير في زمان عدم التمكن من الوصول إلى الإمام عليه السلام إلى زمان التمكن من الوصول إليه عليه
السلام كرواية الحارث ابن مغيرة عن أبي عبد الله عليه السلام إذا سمعت من أصحابك الحديث فموسع عليك حتى ترى القائم فترد إليه و
بهذا المضمون أيضا روايات اخر.
(ومنها) ما يدل على التوقف في زمان الحضور والتمكن من الوصول إليهم عليهم السلام كما في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة حيث قال
عليه السلام إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (وقد يقال) بإمكان استفادة
التوقف مطلقا سواء كان في زمان الحضور أو زمان الغيبة من الخبر المروي في السرائر أن محمد ابن علي بن عيسى كتب إليه عليه
السلام يسأله عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك عليهم السلام قد اختلف علينا فكيف العمل به على اختلافه أو الرد إليك فيما اختلف
فيه فكتب عليه السلام ما علمتم أنه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردوه إلينا (وهذه الأخبار) بظاهرها متعارضة (فنقول) في مقام الجمع
العرفي بينهما إن لم يكن رواية تدل على التوقف مطلقا سواء كان في زمان الحضور أو في زمان الغيبة كما هو الظاهر لان رواية محمد
بن علي بن عيسى ليس ظاهرا في التوقف مطلقا بل ظاهرها لزوم الاخذ بخبر معلوم الصدور ورد المشكوك إليهم
594

عليهم السلام أي عدم العمل به لعدم حجيته فيكون هذا الخبر أجنبيا عن محل كلامنا فتكون الاخبار طوائف ثلاث لا أربع كما ذكروا،
الأولى والثانية التخيير المطلق والمقيد بحال الحضور والثالث التوقف في حال الحضور (أما الأولان) فلا تعارض بينهما لأنهما مثبتين
وقد تقدم أن التقييد إما في المتخالفين السلب والايجاب أو فيما إذا أحرز في المثبتين وحدة المطلوب وان المطلوب في المطلق صرف
الوجود وأما إذا كان المطلوب في المطلق الطبيعة المرسلة فلا وجه للتقييد نعم يدل المقيد على وجود خصوصية في مورد وجود القيد
فيقع التعارض بين ما يدل على التوقف في حال الحضور وما دل على التخيير مطلقا والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق فيقيد
مطلقات التخيير بغير حال الحضور وهو المطابق لفتوى المشهور (لكن يرد) عليه أنه تقع المعارضة بين ما يدل على التخيير في حال
الحضور مع ما يدل على التوقف في ذلك الحال بالتباين فيتساقطان فالنتيجة هو الاخذ باخبار الدالة على التخيير مطلقا سواء كان في
زمان الحضور أو الغيبة لا في خصوص زمان الغيبة وهو خلاف فتوى المشهور إلا أن يقال بأن تقييد التخيير بزمان الحضور ركيك و
بعيد عن مذاق الفقه ولو كان خبر بهذا المضمون فهو معرض عنه ولم يعمل به أحد.
(فالنتيجة) أن أخبار التوقف في زمان الحضور تكون بلا معارض فيقيد أخبار التخيير المطلق بغير حال الحضور وهو المطلوب الموافق
لفتوى المشهور هذا إذا لم يكن خبر يدل على التوقف مطلقا وأما إذا كان كما ادعى فتكون الطوائف أربع ما يدل على التخيير و
التوقف المطلقان (والثالث) ما يدل على التخيير في حال الحضور (والرابع) ما يدل على التوقف في حال الحضور فالمطلقان كل واحد
مع ما يكون أخص منه لا يتعارضان لكونهما مثبتين كما تقدم ولكن يقيد مطلقات التخيير بما يدل على التوقف
595

في حال الحضور فتنقلب النسبة بين مطلقات التخيير وبين مطلقات التوقف من التباين إلى العموم والخصوص المطلق فيقيد مطلقات
التوقف بغير حال الغيبة فيوافق فتوى المشهور (ان قلت) وكذلك يقيد مطلقات التوقف بواسطة ما يدل على التخيير في زمان الحضور
بغير زمان الحضور أي حال الغيبة فيرجع التعارض بين المطلقين بعد تقييدهما معا (قلت) ذكرنا أن تقييد التخيير بحال الحضور ركيك
جدا فلو كان هناك خبر يدل عليه لا بد من صرفه عن ظاهره (وبعبارة أخرى) مناسبة الحكم والموضوع والارتكازات العرفية تأبى من
تقييد التخيير بزمان الحضور دون زمان الغيبة ولكن الذي يسهل الخطب أن أخبار التوقف غالبا بل جميعا مقيد بزمان الحضور ويقيد
بها أخبار التقييد المطلق.
(ثم أنه) لا يخفى أن التخيير المستفاد من الاخبار في الاخذ بأحد الخبرين المتعارضين إنما يكون بعد فقد المرجحات لان حجية كل
واحد منهما متوقف على عدم كون الاخر راجحا وإلا فالمرجوح ليس بحجة فكما أن في باب الأصول العملية يجب الفحص عن الدليل في
مورد الشك في الحكم الشرعي فإذا لم يظفر به فتصل النوبة إلى الأصل العملي وذلك لان اعتبار الأصل العملي وحجيته موقوف على
عدم الدليل على الحكم الشرعي فيجب الفحص لاثبات موضوع الحجة فكذلك فيما نحن فيه يجب الفحص لاثبات ما هو الحجة وذلك من
جهة أن التخيير بمعنى كون المجتهد مخيرا في الاخذ بأية واحدة من الروايتين المتعارضتين جعله في الاخبار بعد فقد تلك المزايا
المذكورة فيها فالفحص عن وجود تلك المزايا في الحقيقة يرجع إلى الفحص عن الحجة.
(هاهنا أمران) (الأول) أن الروايات التي تدل على التخيير لا تشمل اختلاف النسخ لان ظاهر قوله يأتي عنكم الخبران المتعارضان أو
596

أو قوله يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين هو أن يكون هناك روايتين وحديثين يرويان عن الإمام عليه السلام كل واحد
منهما يناقض الاخر مطابقة أو التزاما واختلاف النسخ معناه ان ذلك الخبر الواحد المعين هو هذا أو ذاك (الثاني) الظاهر أن التخيير
المستفاد من الاخبار هو التخيير في المسألة الأصولية أي التخيير في أخذ إحدى الروايتين بعنوان أنها حجة لا التخيير في المسألة
الفرعية بمعنى كونه مخيرا في العمل على طبق أية واحدة شاء وذلك من جهة أن ظاهر قوله عليه السلام بأيهما أخذت من باب التسليم
وسعك أن المراد من الاخذ بأية واحد منهما هو الاخذ بما هو حجة لا صرف العمل على طبقه كما أن قوله عليه السلام اذن فتخير بعد قوله
عليه السلام خذ بكذا وكذا يكون أيضا ظاهرا في أن المراد من الاخذ هو أخذ إحداهما حجة لا صرف انك مخير في العمل على طبق
إحداهما وأما قوله فموسع عليك قابل لكلا المعنيين لان التوسعة لا يفرق بين أن يكون متعلقها العمل على طبق أحدهما أو أخذ أحدهما
بما هو حجة وأما قوله عليه السلام موسع عليك بأية عملت وان كان له ظهور في أن متعلق التوسعة هو العمل ولكن يمكن حمله على
الاخذ بإحداهما طريقا إلى العمل وليس بمثابة يكون موجبا لرفع اليد عن الظهورات المتقدمة ويتفرع على كون التخيير في المسألة
الفقهية أو الأصولية فروع ذكروها تركناها لوضوحها وخوفا من التطويل.
(نعم) يبقى حكم الشك في أن التخيير هل هو في المسألة الأصولية أو في المسألة الفرعية وهو أيضا واضح لان مرجع هذا الشك إلى الشك
في بقاء موضوع الاستصحاب وذلك لان موضوع الاستصحاب عن تقدير كون التخيير في المسألة الأصولية غير باق قطعا وعلى تقدير
كونه في المسألة الفرعية يقينا باق ففي مورد الشك في كونه من أي القسمين يكون شكا في بقاء موضوع الاستصحاب فلا يجري على
جميع التقادير هذا ما أفاده شيخنا
597

الأستاذ (قده) وفيه نظر واضح.
(الامر العاشر) في أن التخيير بعد فقد المرجحات أو حتى مع وجودها
ذهب المشهور إلى الأول وقال بعض بالتخيير مطلقا تمسكا بإطلاقات التخيير (ولكن أنت خبير) بأن إطلاقات أدلة التخيير يقيد بأدلة
الترجيح كما هو قانون باب الاطلاق والتقييد ويدل على قول المشهور روايات (منها) مقبولة عمر بن حنظلة قال سألت أبا عبد الله عليه
السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاء أ يحل ذلك قال عليه السلام
من تحاكم إليهم في حق أو في باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت إلى أن قال قلت فان كان كل رجل يختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن
يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم قال عليه السلام الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما و
أصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الاخر قلت فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على
الاخر قال عليه السلام ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمها ويترك
الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فان المجمع عليه لا ريب فيه إلى قال قلت فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات
عنكم قال عليه السلام ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامة قلت
جعلت فداك أ رأيت أن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والاخر مخالفا بأي الخبرين
يؤخذ قال عليه السلام ما خالف العامة ففيه الرشاد قلت جعلت فداك فان وافقهما الخبران جميعا قال عليه السلام ينظر إلى ما هم أميل
إليه حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر قلت فان وافق حكامهم الخبرين جميعا قال عليه السلام إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى
إمامك فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات) (ومنها)
598

ما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي عن العلامة مرفوعا إلى زرارة قال سألت أبا جعفر عليه السلام فقلت جعلت فداك
يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ فقال عليه السلام يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر
فقلت يا سيدي انهما مشهوران مأثوران عنكم فقال خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك فقلت: انهما معا عدلان مرضيان
موثقان فقال انظر ما وافق منهما العامة فاتركه وخذ بما خالف فان الحق في خلافهم قلت: ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف
أصنع قال عليه السلام إذا فخذ بما فيه الحائط لدينك واترك الاخر: قلت فإنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان فكيف أصنع فقال
عليه السلام: إذا فتخير أحدهما وتأخذ به ودع الاخر) (ومنها) ما رواه حسن بن جهم قلت له يعني العبد الصالح عليه السلام يروى عن أبي
عبد الله عليه السلام شي ويروى عنه أيضا خلافه فبأيهما نأخذ قال: خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتنبه وأيضا عن حسن بن
جهم عن محمد بن عبد الله قال: قلت للرضا عليه السلام كيف نصنع بالخبرين المختلفين: فقال عليه السلام إذا ورد عليكم خبران
مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه، وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه) والمروي في الاحتجاج بسنده عن سماعة
بن مهران قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والاخر ينهانا قال عليه السلام لا تعمل بواحد
منهما حتى تلقس صاحبك قلت:
لا بد أن نعمل قال عليه السلام خذ بما فيه خلاف العامة) (ومنها) أيضا عن الحسن بن جهم عن الرضا عليه السلام قلت: يجيئنا الأحاديث
عنكم مختلفة فقال عليه السلام: ما جأك عنا فقس على كتاب الله عز وجل وأحاديثنا فان كان يشبههما فهو منا وان لم يشبههما فليس
منا قلت يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق قال عليه السلام فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت و
أيضا عنه
599

عن العبد الصالح عليه السلام قال إذا جأك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا فان أشبههما فهو حق وإن لم
يشبههما فهو باطل.
(ومنها) ما رواه القطب الراوندي سعيد بن عبد الله بسنده الصحيح عن الصادق عليه السلام (قال: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان
فأعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه وإن لم تجدوهما في كتاب الله فأعرضوهما على
أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه) ولا شك في دلالة هذه الأخبار على وجوب الترجيح بالمرجحات
المذكورة فيها (وقد ذكرنا) أن إطلاقات التخيير - مهما بلغ من قوة الظهور مضافا إلى كثرتها وكونها في مقام البيان - لا تعارض
ظهور هذه المرجحات المذكورة في هذه الأخبار. وأجمع خبر للمرجحات من هذه الأخبار هي المقبولة وبعدها المرفوعة (وقد يشكل)
على الاستدلال بكل واحد منهما لوجوب الترجيح ولذلك يحملون ذكر هذه المرجحات التي في هذه الأخبار على الاستحباب (ولكن)
نحن نذكر الاشكالات ونجيب عنها إن شاء الله تعالى.
(فالأول) من الاشكالات على المقبولة: هو أن مورد المرجحات المذكورة فيها هو الحكمين في الروايتين اللتين هما مستند حكمهما وفي
ذلك المورد لا بد من الترجيح لقطع الخصوصة (لأنه) مع التخيير لا ترفع الخصومة ولا يقطع النزاع (وفيه أولا) أنه بعد ما تبين أن
التخيير في المسألة الأصولية أي: في أخذ أحدهما حجة، فالترجيح أيضا يكون معناه أخذ ذي المزية حجة فإذا كان ما هو الحجة هو ما له
المزية وغيره ليس بحجة (فلا فرق) بين أن يكون المجتهد في مقام الحكم أو في مقام الفتوى وفي كليهما يجب أن يعمل على طبق الحجة
(وأما احتمال) أن الشارع جعل ما له المزية حجة في باب الحكم دون باب الفتوى (فبعيد) بل عجيب
600

وذكر وجوب الترجيح بها في مورد الحكمين لا يدل على الاختصاص بذلك المورد كما هو الحال في غالب الاخبار فغالبا الرواة
يسألون عن الموارد الخاصة فيجيب الإمام عليه السلام بما يشمل المورد وغير المورد (وثانيا) ان صدر المقبولة وان كان في مورد
الحكمين ولكنه بعد ذلك بصدد بيان حكم الروايتين المتعارضتين كلية وفي أي مقام كان لا في خصوص مورد الحكمين كما توهم (و
ثالثا) التعليل لوجوب أخذ المشهور دون الشاذ بقوله عليه السلام (فان المجمع عليه لا ريب فيه) ولا شك في أن الحكم والفتوى
مشتركان في هذا التعليل، وحتى أن بعضهم تمسك بعموم هذا التعليل للتعدي من المرجحات المنصوصة إلى مطلق المرجحات والمزايا
وسيأتي بيان هذا المطلب إن شاء الله تعالى.
(والثاني) من الاشكالات أمره عليه السلام فيها بالتوقف بقوله (فأرجه حتى تلقى إمامك) بعد فقد المرجحات المذكورة فيها وهذا
خلاف المشهور والمقصود (لان) المقصود والمطلوب هو وجوب الترجيح بها ومع فقدها التخيير لا التوقف (ويكون) معارضا مع
سائر الأخبار التي أمر فيها بالتخيير بعد فقد المرجحات (وفيه) أن الامر بالتوقف يكون في زمان الحضور بقرينة قوله عليه السلام
(حتى تلقي إمامك) والتوقف في زمان الحضور ليس خلاف المشهور ولا خلاف المطلوب (ان قلت) فيكون وجوب الترجيح أيضا مقيدا
بزمان الحضور فلا يدل على وجوب الترجيح في زمان الغيبة الذي هو المقصود والمطلوب (قلنا) تقييد التوقف بزمان الحضور لا يوجب
تقييد وجوب الترجيح أيضا بذلك الزمان، بل مناسبة الحكم والموضوع يقتضي عدم اختصاصه بزمان الحضور بخلاف التوقف فإنها
تقتضي اختصاصه بذلك الزمان (لان) التوقف في زمان يسير لرفع الجهل وتعيين ما هو الحجة لا مانع منه بل حسن بخلاف التوقف في
زمان الغيبة فإنه غالبا
601

يكون طول عمره.
(والثالث) من الاشكالات معارضته برواية الاحتجاج عن سماعة ابن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام أن فيها أمر عليه السلام
بالترجيح بمخالفة العامة بعد عدم إمكان التوقف وفي المقبولة بعكس ذلك أي: أمر بالتوقف بعد فقد هذا المرجح (وفيه) أن رواية
الاحتجاج لم يعمل الأصحاب بها وأعرضوا عنها خصوصا في مثل هذا المرجح أي: مخالفة العامة ويقدمون دائما المخالف على غيره عند
التعارض (فالانصاف) أن المقبولة لا إشكال في دلالتها على وجوب الترجيح بالمرجحات المذكورة فيها لا من حيث السند (لان)
الأصحاب تلقوه بالقبول وعملوا بها ولا من حيث الدلالة وقد عرفت الجواب عن الاشكالات (وأما الاشكال) على مرفوعة زرارة
فعمدتها ضعف سندها، وقد طعن صاحب الحدائق على كتاب غوالي اللئالي الذي ذكر ابن أبي جمهور فيه هذه الرواية وعلى صاحبه و
انها لا توجد في كتب العلامة (ولكن) مع ذلك كله لا يخلو من تأييد للمقبولة مع أنها في نفسها حجة وفيها غنى وكفاية (وأما) سائر الأخبار
التي ذكرناها لا إشكال في دلالتها على وجوب الترجيح بالمرجح المذكور في كل واحد منها ولو كان ضعف في سند بعضها
ينجبر بعمل الأصحاب بمضمونها، ولا أقل من تأييد المقبولة التي هي حجة في نفسها بها.
ثم إن هاهنا أمور يجب التنبيه عليها
: (الأول)
في أنه بناء على وجوب الترجيح بالمرجحات المذكورة كما اخترناه هل يجب الاقتصار على المرجحات المنصوصة أو يتعدى إلى غيرها؟
وجهان بل قولان (أقواهما الأول) أي: الاقتصار وعدم التعدي وذلك من جهة أن إطلاقات التخيير يجب الاخذ بها إلا في مورد قام
الدليل على تقييدها وقيام الدليل على تقييدها يكون بالنسبة إلى المرجحات المنصوصة فقط وهو نفس هذه الأخبار
602

وقد ذكرنا أن أصالة الظهور في جانب المقيدات حاكمة على أصالة الظهور في طرف الاطلاقات فتقدم عليها وتقيد الاطلاقات بها وأما
بالنسبة إلى المزايا والمرجحات غير المنصوصة فلم يقم دليل على التقييد إلا أمور ذكروها (منها) الترجيح بالاصدقية في المقبولة و
الأوثقية في المرفوعة ولا شك في أن مناط الترجيح بهاتين الصفتين هي الاقربية إلى الصدور ففي كل مورد تحقق هذا المناط يكون
موجبا للترجيح سواء كان من المرجحات المنصوصة أو لم يكن (وفيه) أنه ليس إلا الظن بأن المناط هي الاقربية إلى الصدور وتنقيح
المناط لا اعتبار به، وأما القطع بالمناط الذي حجيته معلومة بالضرورة فليس في البيان (لأنه) من الممكن أن يكون الترجيح بهما
لخصوصية فيهما لا لصرف كونهما أقرب إلى الصدور من الفاقد لهاتين الصفتين (ومنها) التعليل الوارد في الاخذ بما يخالف العامة
(بأن) الرشد في خلافهم.
(وفيه) أن مخالفة العامة لأحد الخبرين المتعارضين مع موافقة الاخر لهم مثل كون أحدهما موافقا للكتاب وكان الاخر مخالفا له مما
يوجب الاطمئنان بصدور الموافق وعدم صدور المخالف في الموردين (ونحن) نعترف بأن الاطمئنان بصدور أحدهما المعين مع
الاقتران بالاطمئنان بعدم صدور الاخر من أي سبب حصل يكون مرجحا (ولكن) هذا غير الظن غير الاطمئناني بالصدور أو بجهة
الصدور أو بالمراد من غير المزايا المنصوصة الذي هو محل الكلام (ولذلك) اخرج بعض مخالفة العامة ومخالفة الكتاب لأحدهما مع
موافقتهما للاخر عن محل النزاع، وقالوا انهما إذا كانا كذلك فيصير من قبيل تعارض الحجة واللاحجة. (ومنها) قوله عليه السلام في
مقام الترجيح بالشهرة بالأخذ بالمشهور وترك الشاذ النادر (فان المجمع عليه لا ريب فيه) بأن يقال تعليله عليه السلام لاخذ المشهور و
ترك الشاذ النادر بعدم الريب في المشهور - يدل على مرجحية كل شي يكون موجبا لاقلية الريب
603

فيما له المزية بالنسبة إلى مقابله سواء أ كان من المرجحات المنصوصة أو لم يكن، وذلك من جهة جعله الحكم بالترجيح دائرا مدار هذا
التعليل (فكل) مزية كانت سببا لعدم الريب بالنسبة إلى ما ليس له مثل هذه المزية يكون مرجحا بحكم هذا التعليل (ولا يمكن) أن يكون
المراد نفي الريب بقول مطلق حتى يكون مساوقا للعلم بالصدور (فيكون) خارجا عن محل البحث والكلام، لان محل الكلام فيما إذا كان
المتعارضان مما لم يعلم صدورهما جميعا أو أحدهما المعين (لأنه) لو كان أحدهما المعين معلوم الصدور ولم يمكن الجمع العرفي بينهما
فما هو غير معلوم الصدور ليس بحجة قطعا فالمراد بنفي الريب أقلية الريب بالنسبة إلى الاخر بواسطة شهرته بين المحدثين و
الأصحاب، وهذا المعنى إذا كان هو التعليل للترجيح فيمكن أن يوجد مثل هذا في المزايا والمرجحات غير المنصوصة فيجب التعدي إليه.
(وفيه) أن الظاهر من هذه الكلمة - بمقتضى ظهور لا النافية للجنس في نفي الجنس والطبيعة - هو نفي الريب بقول مطلق أي الريب
مطلقا وبجميع مراتبه منفي، وهذا كناية عن حصول الاطمئنان بصدوره بواسطة الشهرة ولا نأبى عن أن تكون المزايا الموجبة
للاطمئنان بصدور ذي المزية مرجحا ولو لم يكن من المزايا المنصوصة (ولكن) هذا غير التعدي من المزايا المنصوصة إلى كل مزية
سواء أوجبت الاطمئنان بصدور ذي المزية أو لا.
(وحاصل) ما فصلناه هو أن مقتضى الأصل الأولى هو وان كان تقديم ذي المزية للقطع بحجيته على كل إما تعيينا أو تخييرا دون الاخر
(ولكن) أخبار التخيير هدم هذا الأصل فمع قوله عليه السلام - في مقام الجواب عن السؤال عن العمل بأي واحد من المتعارضين موسع
عليك أو قوله عليه السلام بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك وأمثال ذلك - لا يبقى مجال لهذا الأصل
604

أصلا (نعم) لو جاء دليل على تقييد هذه الاطلاقات كما أنه ورد بالنسبة إلى المرجحات المنصوصة فتقيد هذه الاطلاقات، لما ذكرنا من
حكومة أصالة الظهور في طرف القيد على أصالة الظهور في طرف الاطلاق (وأما بالنسبة) إلى المزايا غير المنصوصة فليس شي في
البين يوجب تقييد تلك الاطلاقات فلا مانع من الاخذ بها ويحكم بنفي التعدي من المزايا المنصوصة إلى غيرها.
(الامر الثاني) في أن المرجحات المنصوصة على أنواع:
(منها) ما هو مرجح للصدور ككون الرواية مشهورة بين الرواة والمحدثين وكصفات الراوي من كونه أوثق أو أعدل أو أصدق (ومنها)
ما يكون مرجحا لجهة الصدور أي: كون الإمام عليه السلام في مقام بيان حكم الله الواقعي لا أنه عليه السلام في مقام التقية وستر الحكم
الواقعي خوفا من الأعداء، وذلك كمخالفة أحد المتعارضين للعامة (ومنها) ما يكون مرجحا من جهة مضمون أحدهما ومفاده أنه حكم
الله كموافقة الكتاب، ثم أنه وقع الخلاف في أن هذه الأنواع هل كل واحد منها مرجح في عرض الاخر؟ بحيث لو كان أحد منها لأحد
المتعارضين والاخر للاخر يقع التزاحم بينهما (فلا بد) وأن يعمل بقواعد باب التزاحم من تقديم أقواهما مناطا وإلا فالتخيير أولا بل
أنها مترتبة في مقام الترجيح فبعض الأنواع مقدم على بعض آخر.
فهاهنا خلافان: (أحدهما) في أنها مترتبة أو عرضية (والثاني) بعد الفراغ عن أنها مترتبة وبعضها مقدم على بعض آخر وقع الخلاف
في أن المرجح الجهتي مقدم على السندي أو العكس؟ (أما بالنسبة) إلى الخلاف الأول فقد ذهب صاحب الكفاية (قده) إلى أنها عرضية ولا
ترتيب بينها بناء على التعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها، إذ بناء على التعدي يكون مناط الترجيح بشي هو أن يكون ذلك
الشئ موجبا لاقربية
605

المزية إلى الواقع (فإذا كان) لكل واحد من المتعارضين مزية توجب أقربيته إلى الواقع فيقع التزاحم بينهما ويقدم الأقوى مناطا ولو لم
يكن أحدهما أقوى (فالمرجع) إطلاقات التخيير، هذا بناء على التعدي (وأما) بناء على عدم التعدي فلكونها مرتبة وجه، وهو الترتيب
المذكور في الروايات.
ولكن أنت خبير بأن المرجح الصدوري طبعا مقدم على مرجح الجهتي والمرجح المضموني (لأنه) بعد التعبد بصدور الخبر تصل النوبة
إلى أنه هل كان المتكلم بصدد بيان مراده الواقعي أو صدر هذا الكلام عنه تقية وخوفا من الأعداء (وبعبارة أخرى) استنباط الحكم
الواقعي من الرواية متوقف على أمور ثلاثة: أصالة الصدور وأصالة جهة الصدور وأصالة الظهور والمتكفل للأول أدلة حجية خبر
الواحد كما تقدم، والمتكفل لاثبات الثاني بناء العقلا على أن كل متكلم بصدد بيان مراده الواقعي لا أنه تكلم بهذا الكلام خوفا وتقية، و
المتكفل للثالث أيضا بناء العقلا وسيرتهم على أن ظاهر الكلام هو مرادهم في مقام تفهيمهم وتفهمهم ومحاوراتهم (والثاني والثالث)
أي أصالة الظهور وأصالة جهة الصدور من الأصول العقلائية التي عليها بناء العقلا (وأما أصالة الصدور) فهو أصل تعبدي مدركه أدلة
حجية خبر العادل وإن كان المدرك له أيضا بناء العقلا وسيرتهم على قبول قول الثقة واخبارهم، والشارع أمضى هذه الطريقة فهي
أيضا تكون من الأصول العقلائية (ولكن) هذا خلاف اصطلاحهم في أصالة الصدور وعلى كل حال أصالة الصدور سواء أ كانت من
الأصول العقلائية أو كان أصلا تعبديا تكون رتبتها متقدمة على رتبة الأصلين الآخرين أعني: أصالة الظهور وأصالة جهة الصدور (و
ذلك) من جهة أن ظهور الجملة في كونه مرادا للمتكلم - وكذلك كون المتكلم بصدد بيان مراده الواقعي لا في مقام الخوف من الأعداء و
التقية - في الرتبة المتأخرة عن صدور الكلام عن المتكلم
606

(لان) مجرى الأصلين هو الكلام الصادر (فبناء) على هذا تكون مرجحات السندي - أي مرجحات الصدوري كالشهرة وأمثالها - مما
يوجب أقربية الرواية المشهورة مثلا إلى الصدور من الأخرى المعارضة لها متقدمة على المرجح الجهتي أو المضموني أي ما هو مضمون
الكلام، كموافقة الكتاب الذي هو مرجح مضموني، ومخالفة العامة الذي هو مرجح جهتي (نعم) لا ترتيب بين أصالة الصدور وأصالة
الظهور (لان) كل واحدة منهما لغو بدون الاخر، إذ لا معنى للتعبد بصدور ما لا ظهور له أو ظهور ما لم يثبت صدوره وإلا يلزم الدور
(لأنه) لا تقدم لأحدهما على الاخر يكفي كونهما معلولين لعلة واحدة.
فظهر مما ذكرنا ما في كلام صاحب الكفاية (قده) من إنكار الترتيب بين المرجحات لو قلنا بالتعدي من المزايا والمرجحات المنصوصة
إلى غيرها (لان) المرجحات الصدورية في الرتبة السابقة على المرجحات الجهتية وأيضا على المرجحات المضمونية ولو قلنا بالتعدي
(كما أنه) ظهر أيضا ما في المنقول من الوحيد البهبهاني (قده) من تقديم المرجح الجهتي على المرجح السندي (نعم) الأصل الجاري في
المضمون - أي التعبد بأن مضمون الكلام هو تمام المراد لا جزئه - متأخر عن التعبد بجهة الصدور (لان) لا معنى للتعبد بكون مضمون
الكلام هو تمام المراد ما لم يحرز أنه بصدد بيان مراده لا في مقام الخوف من الأعداء والتقية.
وحاصل الكلام أن في كل كلام صدر من الإمام عليه السلام أو من غيره أيضا جهات أربع: (الأول) إحراز صدوره وجدانا وتعبدا (و
الثاني) التعبد بظهوره وانه كاشف عن مراده (والثالث) جهة الصدور وانه في مقام بيان مراده الواقعي وليس في مقام التقية (والرابع)
ان مضمون كلامه هو تمام مراده لا أنه جز مراده، فلو نسب إليه انه قال
607

أعتق رقبة (فالمتكفل) لاثبات صدوره عنه هو أصالة الصدور، فأصالة الصدور عبارة عن التعبد بصدوره إذا لم يكن صدوره قطعيا، إذ
لا معنى للتعبد مع القطع به (والمتكفل) لاثبات ظهوره هو الفهم العرفي وبناء أهل المحاورة مثلا على إرادة المعنى الحقيقي من اللفظ مع
عدم قرينة إرادة المعنى المجازي وإرادة العموم مع عدم المخصص وإرادة الاطلاق مع عدم المقيد وسائر الامارات العرفية واللغوية
(والمتكفل) لاثبات جهة صدوره - وانه بصدد بيان مراده الواقعي لا في مقام الخوف والتقية - هو بناء العقلا على ذلك إلا أن يكون
قرينة على أنه ليس في مقام بيان مراده الواقعي بل في مقام آخر من تقية أو استهزاء أو مزاح وأمثال ذلك (والمتكفل) لاثبات أن
مضمونه تمام مراده - لا أنه جز مراده مثلا في المثال المذكور المطلق تمام مراده لا أن الرقبة جز وجزئه الاخر غير مذكور وهو
كونها مؤمنة - هو أصالة عدم المقيد والمخصص وأمثال ذلك ذكر هذا الأصل الأخير شيخنا الأستاذ (قده) وفي كونه غير أصالة
الظهور خفاء وعلى تقدير كونه كذلك فالمرجح الصدوري مقدم على المرجح الجهتي والمرجح الجهتي مقدم على المرجح المضموني و
الصدوري أي السندي مع الظهوري في عرض واحد (كما ذكرنا) كل ذلك.
ثم أن صاحب الكفاية (قده) أرجع جميع المرجحات إلى المرجح الصدوري ولذلك قال بعدم الترتب بينها إذا قلنا بالتعدي كما تقدم، و
تبعه على ذلك أستاذنا المحقق (قده) وأفاد في وجه ذلك (أنه لا معنى) للتعبد بصدور كلام ليس في مقام بيان مراده الواقعي بل في مقام
الخوف والتقية أو التعبد بصدور كلام ليس مضمونة تمام مراده بل يحتاج إلى دليل على ذلك أي: التعبد بأن مضمونه هو تمام المراد
فالذي لم يحرز أنه في مقام بيان مراده أو لم يحرز ان مضمونه تمام مراده (فالتعبد) بصدوره لغو
608

وليس بحجة فالمرجع الجهتي مثل مخالفة العامة يرجع إلى أن الخبر المخالف لهم أقرب إلى صدوره من الخبر لموافق لهم (فيكون)
مورد التعبد بصدوره دون الموافق وكذلك الامر في المرجح المضموني (فإذا كان) أحد المتعارضين موافقا للكتاب فبناء على أن يكون
موافقة الكتاب مرجحا مضمونيا يكون أقرب إلى الصدور من ذلك الاخر المخالف للكتاب، فأصالة الصدور يشمله دون ذاك فيرجع
جميع أنواع المرجحات إلى المرجح الصدوري غاية الامر يختلف مرجح الصدور (فتارة) لأجل صفات الراوي التي ترجع إلى أصدقيته
من الاخر (وأخرى) لأجل اشتهار الرواية بين المحدثين (وثالثة) لأجل مخالفة أحدهما للعامة (ورابعة) لأجل موافقة أحدهما للكتاب.
ولكن أنت خبير بأن الشهرة بين الأصحاب مخصص لأدلة حجية خبر الواحد (وكذلك) صفات الراوي الموجبة لا قريبة صدور الرواية
التي فيها هذه المزايا بمعنى أنه لو لم تكن إحداهما مشهورة أو لم يكن راويها أصدق وأوثق لكانت أدلة حجية الخبر الواحد يشمل ذلك
الاخر أيضا في عرض هذه التي لها المزايا (ولكن) الشهرة وصفات الراوي خصصت الحجية بهذه التي لها هذه المزايا وأخرجت ذلك
الاخر عن تحت أدلة حجية الخبر الواحد (وأما المرجحات) الجهتية والمضمونية فهي مخصصة للأصول العقلائية أي أصالة كون المتكلم
بصدد بيان مراده الواقعي، فإذا كان مخالفا للعامة فالمخالفة في الخبر المخالف يمنع عن جريان أصالة كون المتكلم بصدد بيان مراده
الواقعي (وكذلك) الامر في المرجح المضموني مثلا موافقة الكتاب يوجب تخصيص الأصل العقلائي بالخبر الموافق وإخراج الخبر
المخالف عن دائرة الأصل العقلائي (فالمرجحات) الصدورية لها فرق مع المرجحات الجهتية والمضمونية من حيث ما يخصص بها (فلا
يمكن) أن يكون مرجعهما إلى شي واحد (فإحداهما) موجبة للتصرف في عموم أدلة
609

حجية خبر الواحد أو إطلاقها (والأخرى) موجبة للتصرف في الأصول العقلائية كما شرحناه.
ثم إن هاهنا إشكال وهو أن من شرائط حجية الخبر الواحد أن لا يكون مخالفا للكتاب، لما ورد من الأخبار الكثيرة (بأن ما خالف قول
ربنا لم نقله أو باطل أو زخرف أو اطرحه على الجدار) وأمثال ذلك من التعبيرات، فبناء على هذا الخبر المخالف للكتاب ليس بحجة (و
كذلك) الخبر الموافق للعامة مقابل الخبر المخالف لهم ليس بحجة لعدم جريان الأصل العقلائي أي أصالة كون المتكلم بصدد بيان مراده
الواقعي بالنسبة إلى الخبر الموافق لهم مع وجود الخبر المخالف لهم الذي هو بحسب المضمون ضد هذا الموافق أو نقيضه (فكيف يمكن
أن يقال) أن موافقة الكتاب أو مخالفة العامة من المرجحات؟ إذ معنى المرجح هو أن يكون سببا لترجيح إحدى الحجتين على الأخرى بعد
شمول دليل الحجية لكليهما، وبناء على ما ذكرنا الخبر الموافق للعامة أو المخالف للكتاب لا يكون مشمولا لدليل الحجية أصلا (فلا
يكون) من قبيل تعارض الحجتين بل يكون من قبيل تعارض الحجة واللاحجة (فلا معنى) لكونهما أي المخالفة للعامة والموافقة للكتاب
من المرجحات.
وحل هذا الاشكال (أما بالنسبة) إلى موافقة الكتاب ومخالفته هو أن المخالفة للكتاب - الموجبة لسقوط الخبر المخالف عن الحجية -
عبارة عن: المخالفة بالتباين وبهذا المعنى عدمها شرط لحجية الخبر والمخالفة للكتاب التي من المرجحات هي المخالفة بالعموم
المطلق أو من وجه (وذلك) للعلم بصدور أخبار كثيرة منهم عليهم السلام التي هي تخالف عموم الكتاب من وجه أو مطلقا (لا يقال) أن
المقدار المعلوم من صدور الاخبار المخالفة تخصص بها عمومات تلك الأخبار التي مفادها عدم صدور الخبر المخالف
610

(لان) لسان تلك العمومات آب عن التخصيص فان قوله عليه السلام (ما خالف قول ربنا زخرف أو باطل أو اطرحه على الجدار) آب عن
التخصيص كما هو واضح (فلا بد) وأن يكون مرادهم من المخالفة في هذه الأخبار نوع منها الذي لم يصدر منهم عليهم السلام وهي
المخالفة بالتباين الذي لم يصدر منهم قطعا، وأما المخالفة التي مقابلها من المرجحات وهي لا تسقط الخبر عن الحجية فهي المخالفة
بالعموم من وجه فقط، إذ المخالفة بالعموم والخصوص المطلق لا يعد عند العرف مخالفة أو يكون المراد من المخالفة التي تسقط الخبر
عن الحجية هي المخالفة بالعموم من وجه لا المخالفة بالتباين (لان) صدور الاخبار المخالفة بالتباين منهم عليهم السلام لا يحتمله أحد
في حقهم حتى يحتاج إلى السؤال عنهم عليهم السلام وهم يجيبون بهذه الشدة ويقولون (بأن ما خالف قول ربنا لم نقله أو زخرف أو
باطل أو اطرحه على الجدار. (فالانصاف) أن المخالفة التي لا تسقط عن الحجية ويكون مقابلها من المرجحات هي المخالفة بالعموم
المطلق (وأما المخالفة) التي تسقط الخبر عن الحجية هي المخالفة بالعموم من وجه (اللهم) إلا أن يدعي القطع بصدور أخبار المخالف
بالعموم من وجه مع الكتاب (فلا بد) من التوجيه الأول الذي تقدم من حمل المخالفة المسقط عن الحجية على المخالفة بالتباين والمخالفة
غير المسقط بل يكون سببا لرجحان مقابله هي المخالفة بالعموم من وجه أو بالعموم المطلق ان كان يعد عند العرف مخالفة هذا
بالنسبة إلى موافقة الكتاب ومخالفته.
وأما حل الاشكال بالنسبة إلى موافقة العامة ومخالفتهم بأن الموافقة لهم أيضا على قسمين (تارة) ليس في الخبر الموافق لهم أمارة أو
قرينة حالية أو مقالية - على أن الإمام عليه السلام في مقام التقية والخوف من الجبابرة بحيث يجري ذلك الأصل العقلائي بلا ريب أي:
أصالة كون المتكلم في
611

مقام بيان مراده الواقعي (فمثل) هذه الموافقة لا توجب سقوط الخبر عن الحجية وذلك لاشتراكنا معهم في كثير من الاحكام والقطع
بصدور مئات من الاخبار الموافقة لهم منهم عليهم السلام في بيان حكم الله الواقعي، ففي مثل هذه الموافقة أي التي ليست فيها أمارات
التقية وكان الخبر الموافق حجة يجب العمل على طبقه لولا المعارض المخالف لهم (فالمخالفة) في الخبر المخالف لهذا الخبر بحيث
يكون مفاده ضد هذا الخبر الموافق لهم أو نقيضه ولا يمكن الجمع العرفي بينهما يكون من المرجحات وإلا يلزم محذور المذكور (و
أخرى) يظهر عليه آثار التقية فليس من المرجحات (لان) مقابلة المعارض له ليس بحجة فلا معنى ولا مورد للترجيح بل يكون من قبيل
تعارض الحجة واللاحجة.
الامر الثالث في أن الشهرة التي من المرجحات الصدورية ما المراد منها؟
ونحن ذكرنا ذلك في مباحث الظن إلا أنه لا بأس بالإشارة إلى أقسامها وتميز ما هو المرجح عند التعارض عن غيرها (لان) هاهنا
محل هذا البحث فنقول أنها على أقسام ثلاث: (الأول) الشهرة الروائية وهي اشتهار الرواية بين الرواة والمحدثين وروتها رواة
متعددين عن الإمام عليه السلام خصوصا إذا كان تعدد الرواة في كل طبقة وخصوصا إذا ضبطها المحدثون المصنفون في كتبهم و
جوامعهم العظام (ولا إشكال) في كون مثل هذه الشهرة من المرجحات، لان الظاهر من قوله عليه السلام - كما في المقبولة (خذ بما
اشتهر بين أصحابك) - هو هذا المعنى من الشهرة (ولا يبعد) أن يكون هذا هو القدر المتيقن في المقبولة التي صرح فيها بترجيح الخبر
المشهور على الشاذ النادر (الثاني) الشهرة العملية وهي عبارة عن عمل المشهور على طبقها مستندا إليها في مقام الفتوى أو عمل نفسه،
وظاهر أن النسبة بينها وبين الشهرة الروائية عموم وخصوص من وجه (ولا شبهة) في صحة الترجيح
612

بهذه الشهرة بل هي مدار حجية الخبر الضعيف، إذ بها ينجبر الضعف ويدخل في موضوع الحجية الذي هو عبارة عن الخبر الموثوق
الصدور (فيكون) من مرجحات الصدور كما عليه المشهور (الثالث) الشهرة الفتوائية وهي على قسمين الشهرة الفتوائية بين القدماء و
الشهرة الفتوائية بين المتأخرين (وأما الثاني) فلا شك في أنها لا تكون سببا للترجيح ولا لجبر ضعف سند الرواية سواء أ كان فتواهم
على طبق القاعدة أو لم يكن (وذلك) من جهة أن المتأخرين حيث يفتون بالأدلة العقلية والاستحسانات فلا يستكشف من كون فتواهم
على طبق الرواية أنهم استندوا في هذه الفتوى إلى تلك الرواية، إذ من الممكن أن يكون مدركهم شيئا آخر غير هذه الرواية من الظنون
والاستحسانات والأدلة العقلية، وأيضا لا يوهن الخبر المقابل المعارض (لأنه) على فرض تسليم إعراضهم عنه - بواسطة اشتهار الفتوى
عنهم على طبق مضمون هذا الخبر الاخر لكن إعراضهم مع عمل المتقدمين به لا يوجب وهنه (وأما في صورة) توافق المتقدمين معهم وان
كان الاخر يصير موهونا لكن السبب هو نفس إعراض المتقدمين ولا يكون لاعراض المتأخرين تأثير في وهنه أصلا ويصير الاخر
موهونا بصرف إعراض المتقدمين سواء انضم إليه إعراض المتأخرين أم لا.
وأما الشهرة الفتوائية بين المتقدمين هل يصح بها الترجيح في مقام التعارض أو جبر الخبر الضعيف ولو لم يكن له معارض أم لا؟ منشأ
احتمال عدم صحة الترجيح بها - أو عدم الجبر للخبر الضعيف الخارج عن تحت أدلة حجية الخبر الواحد لعدم الوثوق بصدوره - هو
عدم إحراز استناد عملهم على طبق مضمون هذه الرواية إليها (فلعل) لهم مستند آخر غير هذه الرواية فلا يوجب الترجيح في مقام
التعارض ولا الجبر في ما إذا لم يكن لها معارض (والتحقيق) في هذا المقام أي: فيما إذا كان فتوى
613

المشهور من القدماء على طبق مضمون رواية من دون الاستناد إليها أن فتواهم هذه إما على طبق القواعد أو لا (فإن كان) على طبق
القواعد فلا يمكن استكشاف أن فتواهم هذه مستندة إلى تلك الرواية لاحتمال كونهم معتمدين على تلك القاعدة (نعم) هذا فيما إذا كانت
تلك القاعدة المنطبقة على فتواهم حجة عندهم (أما لو كانت) تلك القاعدة غير مقبولة عندهم - كما أنهم لو أفتوا ببقاء نجاسة الماء البالغ
كرا بعد زوال التغير من قبل نفسه وكانت رواية ضعيفة على هذا وفتواهم على طبق مضمون هذه الرواية وإن كان على طبق قاعدة
الاستصحاب أيضا لكن لو لم يكن الاستصحاب حجة عند كلهم أو جمع كثير منهم - فيكون حال وجود هذه القاعدة حال عدمها (وأما لو
لم يكن) على طبق القاعدة فحيث نعلم أن القدماء لا يعملون بالظنون والاستحسانات ولا بد أن يكون مدرك فتواهم رواية من الروايات
(لأنه) لا يخلو الحال من أحد هذه الأمور (إما أن يكون) فتواهم هذه بلا مدرك أصلا وحاشاهم عن ذلك (وإما أن يكون) مدركهم
الظنون والاستحسانات والمفروض خلافه (وإما أن يكون) رواية أخرى صحيحة عالي السند وتلك الرواية خفيت علينا وهذا في كمال
البعد والمفروض أن فتواهم على خلاف القواعد أيضا (فلا بد) وأن يكون مستندا إلى هذه الرواية واطلاعهم على قرائن وأمارات تدل
على صحة هذه الرواية لقرب عصرهم من زمان حضور الأئمة عليهم السلام وخفيت تلك القرائن والامارات علينا لبعد زماننا وهذا أمر
ممكن عادة لا استبعاد فيه.
ثم أنه لا يخفى في عدم الاحتياج إلى انضمام الشهرة بين المتأخرين إلى الشهرة بين القدماء في كلتا الحالتين أي في حالة كونها على
طبق القاعدة وفي حالة عدم كونها على طبق القاعدة (أما في الصورة الأولى) فلا يمكن استكشاف كون الفتوى مستندا إلى تلك الرواية
الضعيفة لامكان كونهم
614

على تلك القاعدة سواء أ كان المتأخرين متفقين في الفتوى أو لا فانضمام المتأخرين إليهم لا أثر له (أما في الصورة الثانية) فنفس
الشهرة بين المتقدمين كافية لاستكشاف أن فتواهم مستندة إلى تلك الرواية الضعيفة ولا حاجة إلى انضمام الشهرة بين المتأخرين إلى
شهرتهم.
(المبحث الحادي عشر)
في أن التعارض إذا كان بين عامين من وجه فهل يكون المرجع الاخبار العلاجية فعند وجود المرجحات الترجيح وعند فقدها التخيير
أو لا؟ بل في مادة الافتراق يعمل بكل واحد منهما وفي مادة الاجتماع يحكم بالتساقط ويكون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة (و
قد فرق) شيخنا الأستاذ بين المرجحات الصدورية فقال بعدم جواز الرجوع إليها بخلاف المرجحات الجهتية والمضمونية فقال بجواز
الرجوع، ومبنى هذا الكلام على عدم إرجاع المرجحات الجهتية والمضمونية إلى المرجحات الصدورية وإلا لا يبقى مجال للفرق (لأنه)
بناء على هذا المسلك - أي مسلك إرجاع المرجحات جميعا إلى المرجحات الصدورية - لا يبقى موضوع للمرجح غير المرجحات
الصدورية (ولكن) هذا المسلك باطل كما شرحناه فيبقى مجال الفرق (بأن يقال) حيث أن الصدور والسند لا يتبعض فالرجوع إلى
المرجحات الصدورية وترجيح أحدهما مستلزم لاسقاط مادة الافتراق بلا وجه (وأما المرجحات) الجهتية والمضمونية ففي مادة
الاجتماع يمكن الاخذ بهما مع العمل بكليهما في مادة الافتراق ولا يلزم محذور أصلا مثلا لو جاء (أكرم السادات) وأيضا جاء (لا تكرم
الفساق) ففي مادتي الافتراق يعمل بكليهما فيقال بوجوب إكرام السيد غير الفاسق وبحرمة إكرام الفاسق غير السيد (وأما في مادة
الاجتماع) فإذا كان وجوب إكرام السيد الفاسق مخالفا للعامة أو كان موافقا للكتاب يؤخذ بهذين المرجحين الذين أحدهما مرجح جهتي
وهو مخالفة العامة (والثاني) مرجح مضموني وهو موافقة
615

الكتاب ويقال بوجوب (إكرام السيد الفاسق) ويطرح الدليل الاخر أعني (لا تكرم الفاسق) في مادة الاجتماع وليس إسقاط الدليل
الاخر في مادة الاجتماع من جهة التعبد بعدم صدوره من هذه الجهة أي باعتبار مادة الاجتماع حتى تقول بأن السند لا يتبعض ولا معنى
للتعبد بصدوره بالنسبة إلى بعض المدلول وعدم صدوره بالنسبة إلى بعض الاخر بل يرجع إلى عدم حجيته وكاشفيته عن مراده
الواقعي بالنسبة إلى بعض مدلوله بعد الفراغ عن صدوره.
هذا ولكن المشهور هو التساقط في مادة الاجتماع والرجوع إلى الأصول العملية الجارية في المسألة مطلقا (والحق) هو الذي قلنا من
عدم الاعتناء بالمرجحات الصدورية مطلقا والعمل بالمرجحات الجهتية والمضمونية في مادة الاجتماع والعمل بكليهما في مادتي
الافتراق (ثم) على فرض عدم مرجح في البين فالتخيير في مادة الاجتماع (اللهم) إلا أن يكون إجماع على التساقط دون التخيير (وربما
يوجه) فتوى المشهور بالتساقط في مادة الاجتماع دون التخيير بأن التخيير مفاد أخبار العلاجية الواردة في باب الروايتين
المتعارضتين (وإلا فقد تقدم) أن مقتضى القاعدة هو التساقط والاخبار العلاجية منصرفة عن مورد المتعارضين بالعموم من وجه، إذ
ظاهر قول السائل - (يأتي عنكم الخبران المتعارضان فبأيهما نعمل) - هو الخبران المتعارضان بالتباين (وأما التعارض) بالعموم و
الخصوص المطلق أو من وجه فالسؤال منصرف عنه فلا يشمله الجواب (لان) الجواب بالترجيح عند وجود المرجحات بأنواعها الثلاثة من
الصدوري والجهتي والمضموني (وإلا فالتخيير) يكون مطابقا لما سأله (وإلا لو لم يكن) هذا الانصراف لكان اللازم بمقتضى أخبار
العلاجية هو العمل على طبق جميع المرجحات حتى المرجحات الصدورية ومع فقدها التخيير (لان) الفرق بين المرجحات الصدورية و
بين
616

القسمين الآخرين - بعدم إمكان التبعض في السند لا أساس له (لان) الذي لا يمكن هو التبعض الحقيقي بالنسبة إلى الدلالة على بعض
مدلوله (وأما التبعض التعبدي) فلا مانع منه وفي التعبديات كثيرا ما يقع التفكيك بين اللوازم والملزومات فالمانع عن استعمال
المرجحات هو الانصراف لا التبعيض في السند والصدور ولا بأس به لو ساعد فهم العرف على الانصراف.
تتميم (ربما يتوهم) أنه بناء على التعدي من المرجحات المنصوصة يمكن الترجيح بالأصل العملي فإذا كان إحدى الروايتين المتعارضتين
موافقة مع الأصل، كما إذا كان مثلا الرواية التي تدل على نجاسة الماء الكر الذي زال عنه التغير من قبل نفسه لا بوصول المطهر إليه
موافقة مع الاستصحاب فيرجح على الرواية الأخرى التي تدل على طهارته بواسطة موافقته مع الأصل أي الاستصحاب (ولكن أنت خبير)
بأن الأصول العملية مطلقا سواء أ كانت شرعية أو عقلية تنزيلية أو غير تنزيلية مجراها الشك في الحكم الواقعي بعد الفحص عن الدليل و
اليأس عن الظفر به (فموضوع) الأصل لا يتحقق إلا بعد فقد الدليل ففي رتبة وجود الدليل لا موضوع للأصل وفي رتبة عدمه ولو
بواسطة سقوطه بالمعارضة وإن كان تصل النوبة إليه لكن في تلك المرتبة يكون الأصل مرجعا لا مرجحا (وعجيب) من بعض الفقهاء
العظام حيث جعلوا موافقة الأصل مرجحا لاحدى الامارتين المتعارضتين، ولعل مبناهم في باب حجية الأصول العملية غير المبني الذي
ذكرناه ويقولون باعتبارها من باب الظن خصوصا مثل الاستصحاب في الاحكام، هذا حال الترجيح بالأصل (وأما الترجيح) بالظنون
غير المعتبرة فان قلنا بعدم التعدي من المرجحات المنصوصة فحالها معلوم (وأما ان قلنا) بالتعدي فلا بأس بالترجيح بها ان لم يكن من
الظنون المنهي عنها كالقياس وان كان من المنهي عنها (فلا بد) من مراجعة دليل النهي وانه هل المنع متعلق بمطلق استعمالها أو
خصوص
617

العمل على طبقها بما أنه حجة؟ فعلى الأول لا يجوز الترجيح بها (لأنه) أيضا نوع استعمال وعلى الثاني يمكن أن يقال بعدم شمول النهي
للمقام أي الترجيح بها.
الاجتهاد والتقليد
وفيه مقامان
(المقام الأول) في الاجتهاد
وفيه أمور:
(الامر الأول) في أنه من مسائل الفقه أو الأصول
وقد عرفت أن المسألة الأصولية ما يكون واسطة للاثبات بالنسبة إلى المسائل الفقهية، ومباحث الاجتهاد بعضها عقلية كمسألة إمكان
التجزي وعدم إمكانه، وبعضها فقهية وذلك كحجية رأيه وفتواه للمقلدين بل ولعمل نفسه، وكالحكم بالاجزاء وعدمه بالنسبة إلى
الأعمال السابقة بعد تبدل رأيه.
(الامر الثاني) في تعريفه
(والحق أنه) عبارة عن: ملكة بسيطة يقتدر بواسطتها على تشكيل القياس الذي يستنتج منه الحكم الكلي الإلهي الفرعي بتحصيل
الكبريات (أولا) وضم الصغريات إليها (ثانيا) بعد تشخيصها (ومما ذكرنا) يتبين احتياج الاجتهاد إلى جملة علوم أهمها علم الأصول، إذ
هو العلم المتكفل لمعرفة كبريات مثل ذلك القياس الذي يكون واسطة لاثبات محمولات المسائل الفقهية لموضوعاتها، ولذلك عرف
بأنه العلم بالقواعد التي تقع في طريق الاستنباط، ومن جملة العلوم التي يحتاج إليها - في تحصيل الاجتهاد - هو علم المنطق لترتيب
ذلك القياس (ومن جملتها) علوم العربية من اللغة والنحو والصرف وغيرها وذلك من جهة فهم ألفاظ الآية والرواية وتشخيص
الظاهر عن غيره.
وأما احتياجه إلى علم الرجال والدراية فشديد (ان قلنا) بأن موضوع الحجة - في باب حجية الخبر الواحد - هو الخبر المزكى بتزكية
عدلين (لان) مدرك أغلب الاحكام هو الخبر الواحد ولا طريق إلى تحصيل مثل هذا الخبر إلا بالرجوع إلى الرجال ومعرفة علم الدراية
(وإن قلنا)
618

بأن موضوع الحجية هو الخبر الموثوق الصدور فالاحتياج إليه قليل (لان) الوثوق كما أنه يحصل من تزكية العدلين كذلك يحصل من
عمل الأصحاب، بل ربما يكون عمل الأصحاب خلفا عن سلف آكد في هذا المعنى، ولذلك ترى أن إعراضهم عن الخبر المزكى يوجب
خروجه عن موضوع الحجية أي: الوثوق بالصدور. ومن هذه الجهة قالوا بعد إعراضهم عنه (كلما ازداد صحة ازداد وهنا).
ثم أنه ربما يقال باحتياج الاجتهاد إلى ملكة قدسية تحصل من الممارسة على فعل الواجبات وترك المحرمات بل المواظبة على أدأ
بعض المستحبات المهمة وترك المكروهات كذلك وتحلي النفس بالأخلاق الفاضلة وتخليتها عن الرذائل (لان) العلم ليس بكثرة التعلم
بل هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء.
(وبعبارة أخرى) تحصيل الكبريات لقياس الاستنتاج مسألة فنية يحصلها من يتعب نفسه في تحصيلها بممارسة علم الأصول والجد في
طلبها مع استعداد فطري (وأما) تشخيص الصغريات وتطبيق الكبريات عليها الذي هو المدار في جودة الاستنباط فإن أجاد التطبيق و
التشخيص فهو جيد الاستنباط وإلا فلا (فلا يحصل) إلا لمن شملته العناية الإلهية ورزق توفيقا ربانيا بأن نور الله قلبه بنور العلم و
المعرفة (وحينئذ) يحصل له ملكة قدسية بعد التعب والجد وممارسة العلوم التي ذكرناها خصوصا علم الأصول وبعد الفحص في
الاخبار المروية عن أهل بيت العصمة والأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وآيات الاحكام في الكتاب العزيز والتدبر و
الفحص عن أقوال الفقهاء لتحصيل الاجماعات والشهرات وحينئذ يتمكن من استنباط الاحكام عن مداركها (وإلا ليس) كل من يتعب
نفسه - ويشتغل اشتغالا جديا في العلوم المذكورة - يحصل له هذه الملكة القدسية.
619

(ولكن أنت خبير) بأنه إن أريد من هذا الكلام إن الصور العلمية تفاض على النفوس بعناية ربانية ومن قبل الله جل وعلا والتوفيق من
الله - بتوجيه الأسباب وتهيئتها للمتعلم ولا بد في النفس من قابلية ولياقة لهذه العطايا الربانية - فهذا حق ومحض الواقع ولكن لا
اختصاص له بعلم الفقه وملكة الاجتهاد بل هذا هو الحال في جميع العلوم بل الحال في جميع العطايا الإلهية (وإن أريد) أمر زائد على هذا
في خصوص ملكة الاجتهاد وانه لا تحصل هذه الملكة إلا للورع المتقي والذي هذب نفسه عن الرذائل وتحلى بالفضائل فهذا معلوم
البطلان بالوجدان، إذ هذه الملكة أيضا كسائر ملكات العلوم تحصل للعادل والفاسق بل المؤمن والكافر، فإن كل من له استعداد فطري
وجد واجتهد في طلبها من طرقها المتعارفة سواء أ كان عادلا أم فاسقا يحصلها فان الله لا يضيع عمل عامل (نعم) ربما لا يوفق الفاسق
المتهتك لاتمام عمله، فإن التوفيق من عند الله لا يعطيه إلا لمن أراد.
وأيضا لو كان وجود هذه الملكة منوطا بالورع والعدالة فاشتراط العدالة في الحاكم والمفتي يكون لغوا (اللهم إلا أن يقال) أن حدوثها
منوط بها لا بقائها وهو كما ترى.
(الامر الثالث) في إمكان التجزي في الاجتهاد وعدمه،
لا ريب في أن ملكة الاجتهاد كسائر الملكات بسيطة لا تركيب فيها لأنها من الكيفيات النفسانية والكيف لا يقبل القسمة (فربما يتوهم)
من هذه الجهة عدم إمكان التجزي في الاجتهاد لان تلك الملكة لا تتجزأ بل يدور أمرها بين الوجود والعدم، ولكن هذا التوهم فاسد
(لأنها) وإن كانت بسيطة ولكنها ذات مراتب متفاوتة في الكمال والنقص فربما تحصل مرتبة ناقصة منها دون المرتبة الكاملة ولا
تلازم بينهما في الوجود (وربما يقال) بعدم إمكان حصول مرتبة المطلق إلا بعد حصول مرتبة التجزي وإلا يلزم الطفرة
620

والضرورة قضت ببطلانها.
(وفيه) أن الكيفيات النفسانية القابلة للاشتداد اشتدادها حركة في الكيف (والحركة) قابلة للقسمة إلى ما لا يتناهى فكل مرتبة فرضت
وجودها أولا هناك مرتبة أنزل منها (فيلزم) أن لا يوجد لبرهان بطلان الطفرة ومن الضروري إمكان وجودها (فإذا أمكن) وجود
مرتبة نازلة التي تسمى بالتجزي دفعة ولا يلزم منه الفطرة المحال فليكن كذلك المرتبة الكاملة (والتحقيق) في هذا المقام هو أنه ان
قلنا بأن حصول تلك الملكة تدريجي فهذا حق بلا كلام (وأما) ان قلنا بأنه يمكن أن يوجد دفعة - بمعنى أنه بعد الممارسة وتحصيل
العلوم التي لها دخل في حصولها توجد ملكة الاجتهاد المطلق دفعة - فلا يبقى لهذا الكلام وجه، والظاهر أن حصولها تدريجي (لان)
المسائل تختلف اختلافا كثيرا بحسب المدارك من حيث سهولتها وصعوبتها فرب مسألة لا تحتاج مثلا إلا إلى معرفة حجية الظهورات
(لان) السند مثلا قطعي إما من جهة كونه من آيات الكتاب العزيز وإما من جهة كونه متواترا أو محفوفا بالقرائن القطعية فيأخذ بظاهره
بعد الفحص وعدم وجود معارض ولا مقيد ولا مخصص ولا قرينة أخرى فتحصيل الملكة بالنسبة إلى هذه المسألة وأمثالها في غاية
السهولة (ولا محالة) تحصل للمشتغل قبل حصول الملكة المطلقة.
ثم إن هاهنا توهم آخر: وهو أن ملكة الاجتهاد المطلق لا يمكن تحصيلها (لان) الفقيه لو بلغ إلى أي مرتبة من العلم والفقاهة يبقى مع ذلك
في بعض المسائل مترددا، ولذلك يأمر بالاحتياط (ولكن أنت خبير) بأنه حسب الصناعة لا يبقى مترددا لأنه اما أن يحصل أمارة على
الحكم عنده أم لا فان حصل العلم فلا معنى للتردد واما ان حصل العلمي دون العلم وحينئذ اما يكون لها معارض أم لا فان لم يكن لها
معارض ولا قرينة
621

منفصلة على خلاف ظاهرها فيأخذ به وان كان لها معارض فيعمل بأحدهما تعيينا أو تخييرا ان كان من سنخ الاخبار وإلا فالتساقط و
الرجوع إلى الأصول العملية ومجاري الأصول معلومة لأهله (فلا يبقى) ترديد في مقام تشخيص الوظيفة الفعلية له أصلا وأما الاحتياطات
التي تصدر من بعض الفقهاء الورعين فليس من جهة عدم قدرتهم على استنباط الوظيفة الفعلية بل من جهة شدة ورعهم وتقواهم
يريدون أن لا يبعدون المكلفين حتى الامكان عن الاحكام الواقعية (فظهر) مما ذكرنا وضوح إمكان تحصيل الاجتهاد المطلق وقد
حصل لجمع كثير في كل عصر من الاعصار الماضية ويستمر إن شاء الله إلى زمان حضور مولانا صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه.
ثم أنه لا ريب في وجوب عمل المجتهد المطلق بما استنبطه من الاحكام وحرمة التقليد عليه اما وجوب العمل بما استنبطه فمن جهة تلك
الأدلة التي استنبطها منها سوأ كان أمارة أو أصلا عمليا لان مفاد تلك الأدلة بتوسط أدلة حجيتها يكون حكما ظاهريا في حقه وحق
مقلديه (وبعبارة أخرى) أدلة اعتبار الامارات مثل صدق العادل أو الأصول مثل لا تنقض اليقين بالشك مثلا مفادها لزوم العمل على
طبقها فبعد ما ثبت عنده ان مفادها كذا على ما هو المفروض يجب عليه العمل على طبقها بحكم تلك الأدلة وأما حرمة التقليد عليه فيما
اجتهد فمن جهة أنه يرى المخالف له في فتواه جاهلا مخطئا فكيف يرجع إليه (وبعبارة أخرى) بعد قيام الحجة عنده على أن ما يقوله
الاخر ليس حكم الله فكيف يمكن أن يلتزم به في مقام العمل هذا بالنسبة إلى المجتهد المطلق وهكذا الحال بالنسبة إلى المتجزي حرفا
بحرف فإنه بعد أن فرضنا إمكان وقوع التجزي فالمتجزي أيضا بالنسبة إلى المسائل التي استنبطها من الامارات أو الأصول يجب عليه
العمل بما استنبطه بحكم أدلة
622

اعتبارها كما ذكرنا في المجتهد المطلق ويحرم عليه التقليد أيضا لعين ما ذكرنا في المجتهد المطلق فلا نعيد وهكذا لا ريب في أنه
للمجتهد المطلق القضاء في عصر الغيبة بالأدلة المذكورة في الكتب الفقهية في كتاب القضاء وليس هاهنا مقام شرحها وبسطها.
ولكن الكلام الان في أنه هل للمتجزي أيضا ذلك أم لا ظاهر المقبولة حيث يقول عليه السلام ان من روى حديثنا ونظر في حلالنا و
حرامنا وعرف أحكامنا يكون له ذلك عدم كونه للمتجزي لان ظاهر جمع المضاف هو العموم غاية الامر العموم العرفي لا العموم العقلي
ومعلوم أن المتجزي ليس مشمولا لهذا الكلام لان من يعرف أغلب الاحكام معرفة فعلية هو ليس متجزئا بل هو مجتهد مطلق بل يمكن أن
يستظهر من هذه الرواية أن كل مجتهد مطلق ليس له ذلك بل مخصوص بالذي استنباط أغلب الاحكام فعلا علاوة على كونه صاحب
الملكة المطلقة وذلك لظهور كلمة عرف أحكامنا من العرفان الفعلي لا أن له ملكة يقتدر بها أن يعرف جميع الأحكام (والحاصل) أن
مفاد المقبولة هو أن القضاوة وظيفة مجعولة لمن يعرف جميع الأحكام وعامتها عرفانا فعليا بمعنى أنها تكون مستنبطة له لا أن يكون
له صرف الملكة والقدرة على استنباط الجميع وليس المراد من العرفان الفعلي الذي قلنا هو أن تكون المسائل حاضرا عنده دائما حتى
يكون الغفلة وعدم الالتفات مضرا به لان هذا المعنى مضافا إلى أنه خلاف ظاهر قوله عرف أحكامنا لا يمكن حصوله لأحد كما هو ظاهر
نعم المتجزي الذي يعرف بالفعل أغلب الأحكام الشرعية بحيث أنه يقال له انه عارف بجميع الاحكام عرفا لا بأس بدخوله في مضمون
المقبولة ولكنه على الظاهر صرف فرض لان وجود الملكة على أغلب الاحكام ملازم مع الملكة على الكل عادة خصوصا بالنسبة إلى
المستنبط الفعلي فان الاستنباط الفعلي لأكثر الاحكام
623

بنفسه مما يزيد في القوة والملكة (وبعبارة أخرى) الممارسة في الاستنباط يوجب حصول ذوق وسليقة فقهية يقتدر على حل المسائل
المشكلة بواسطتهما.
وأما التمسك بمشهورة أبي خديجة لقضأ المتجزي لان فيها قوله عليه السلام انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا أو من قضانا
على نسخة أخرى ولا شك في شمول شي من قضايانا حتى على قضية واحدة من قضاياهم عليهم السلام فالمتجزي يكون له هذا الامر
(ففيه أولا) أن المقبولة مقبولة وعليها عمل الأصحاب فلا يعارضها المشهورة (ان قلت) لا تعارض بينهما لامكان أن يكون القضاء لمن
عرف جميع الأحكام وأيضا يكون لمن عرف شيئا من قضاياهم أو قضائهم عليهم السلام (قلنا) كون الروايتين في مقام تحديد من يكون
له هذا المنصب لا يلائم مع ذلك كما هو الحال في سائر أبواب التحديد (وثانيا) من المحتمل أن يكون من بيانية لا تبعيضية فحينئذ يوافق
المشهورة مع ما في المقبولة لأنه بناء على هذا يكون قوله عليه السلام يعلم شيئا من قضايا في قوة أن يقول يعلم قضايانا لان المفسر
يقوم مقام المفسر بالفتح والبيان مقام المبين.
وأما الاشكال على كون من بيانية بأنه لو كان كذا لكان ينبغي أن يقول يعلم أشياء من قضايانا بلفظ الجمع لا بلفظ المفرد للزوم موافقة
البيان والمبين (فضعيف) إلى الغاية لان قضاياهم عليهم السلام باعتبار انتسابها إليهم وانها دين الله شي واحد ويصح أن يكنى عنها
بكلمة شيئا مع أنها مفرد (ولا شك) في أنه بعد مجئ هذا الاحتمال أعني كون كلمة من بيانية لا يبقى لرواية أبي خديجة ظهور مخالف
للمقبولة اللهم إلا أن يقال أن صرف الاحتمال ليس مما ينافي الظهور (فتلخص) مما ذكرنا أن ثبوت وظيفة القضاء للمتجزي في غاية
الاشكال خصوصا بعد ما كان مقتضى الأصل عدم ثبوته له إلا أن يقوم حجة فعلية على ثبوته له.
624

هذا كله في قضاء المتجزي (وأما) ثبوت الولاية على أموال الغيب والقصر له فنقول إن مسألة الولاية كما حققناها في محلها لها درجات
ثلاث (الأولى) أن يكون له الولاية على الحسبيات فقط أي الأمور التي نعلم بمحبوبيتها عند الشارع وعدم رضائه بتركها كحفظ أموال
الغيب والقصر وسائر ما شابههما (الثانية) الولاية على الأمور النوعية التي هي عبارة عن الأعمال التي تعمل لأجل مصالح المسلمين و
ذلك كأعمال الولاة والسلاطين فما كان من شئونهم يكون داخلا في هذا القسم (الثالثة) الولاية المطلقة حتى على الأمور الشخصية وذلك
كطلاق زوجة زيد مثلا أو بيع داره بل هبتها لشخص والولاية بهذا المعنى الثالث الأخير على الظاهر عدمه للفقيه الجامع للشرائط في
عصر الغيبة من المسلمات ولم يقل بها أحد في حق الفقيه إلا من شذ ولا يعتني بكلامه كما أن القسم الأول من المسلمات ثبوته له حتى أنه
لو لم يكن هناك مجتهد يجب أن يقوم بها عدول المؤمنين وعلى فرض عدمهم فلازم أن يقوم بها فساق المؤمنين كل ذلك لأجل ما
ذكرنا من محبوبيتها للشارع وعدم رضائه بتركها (وأما القسم الثاني) ففيه كلام طويل وهو محل الخلاف ونحن رجحنا ثبوته للفقيه
الجامع للشرائط في محله لقوله عليه السلام مجاري الأمور بيد العلماء الامنأ على حلاله وحرامه، وافهم (هذا كله) بالنسبة إلى المجتهد
المطلق وأما شموله للمتجزي في غاية الاشكال لان موضوع هذه الولاية هو عنوان العلماء والفقهاء أو رواة الحديث وكل هذه العناوين
منصرفة عن المتجزي إلا أن يكون المتجزي بمرتبة بحيث يعرف جملة مهمة ومقدارا معتدا به من الأحكام الشرعية بحيث يصدق و
ينطبق هذه العناوين أو أحدها عليه وأما لو كان المدرك للولاية هو الاجماع فمعلوم أن القدر المتيقن منه هو المجتهد المطلق.
وأما جواز تقليد المتجزي أو وجوبه على العامي في المقدار الذي استنبط مع كونه اعلم في ذلك المقدار فبنأ على أن المدرك هو بناء
العقلا
625

وسيرتهم فالانصاف هو أنه يختلف في المقامات فلو رأوا أن المتجزي اعلم وأحذق في هذا المقدار الذي استنبط من المجتهد المطلق فلا
شك انهم يرجعون إلى المتجزي دون المطلق كما أنه لو كان بنظرهم أنزل فلا شك في عدم رجوعهم إليه وأما لو كان في نظرهم
مساويا معه فهل يكون نفس الاطلاق مرجحا في نظرهم فلا يرجعون إليه أو ليس ولا يرون ترجيحا في البين حتى يكون نتيجة التخيير
احتمالات لا يبعد أن يكون الاطلاق مرجحا عندهم ولا أقل من الشك (فيكون) من قبيل دوران الامر بين التعيين والتخيير أي يكون
المطلق معلوم الحجية إما تعيينا أو تخييرا والاخر مشكوكها (ومعلوم) أن الأصل عدمها (وأما لو كان) المدرك هو الاخبار فالظاهر -
أن العناوين المأخوذة في الاخبار موضوعا للتقليد - تكون منصرفة عن المتجزي إلا أن يكون المتجزي بمرتبة يصدق عليها أحد هذه
العناوين (وأما) إرجاعه عليه السلام إلى بعض الرواة أو أمره عليه السلام بعضهم بالجلوس بين الناس وإفتائهم فليس فيه إطلاق
نتمسك به للرجوع إلى المتجزي (لأنه) من الممكن بل المحتمل القريب أن يكون ذلك الذي ارجع إليه الإمام عليه السلام أو أمره بالافتأ
بين الناس مجتهدا مطلقا، خصوصا مع كونهما من أكابر الأصحاب ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال للاطلاق (وأما لو كان) مدرك جواز
التقليد أو وجوبه هي الفطرة - وان الجاهل بحسب الفطرة يرجع إلى العالم - فيمكن أن يقال أيضا أنه يرى المطلق أولى من المتجزي
بحسب الفطرة إذا كانا متساويين في العلم كما هو المفروض (وبعبارة أخرى) كما أن الفطرة لو كانت هي المدرك لا ينافي تقديم
الأعلم على غير الأعلم كذلك لا ينافي تقديم المطلق على غير المطلق، هذا مضافا إلى ما ذكرنا أنه في كل مورد من هذه الموارد لو شككنا
تدخل المسألة في باب دوران الحجة بين التعيين والتخيير فيجري في الأصل طرف مشكوك الحجية.
626

(الامر الرابع) في أن الاجتهاد قد يخطئ وقد يصيب
وفي هذه المسألة خلاف عظيم بين العامة والخاصة، حتى عرفا بالمصوبة والمخطئة وصار هذان العنوانان عنوانا لهما (فقيل) للعامة
المصوبة وللامامية المخطئة، وتفصيل المقام وتحقيقه أنه كما يقع الخطأ في الارأ العقلية في العقليات - ولذلك ترى أن أحد العظمأ من
الفلاسفة يتخذ رأيا في مسألة والاخر يتخذ رأيا مناقضا له في عين تلك المسألة (وحيث) أن اجتماع النقيضين وارتفاعهما محال فلا بد
وأن يكون أحدهما صوابا والاخر خطأ، بل ليس مسألة من مسائل العلوم العقلية إلا ما شذ إلا وفيه خلاف بين الاعلام من الحكمأ و
المتكلمين (ولا يمكن) أن يكون جميع الارأ صوابا لما ذكرنا من لزوم اجتماع النقيضين في غالب الموارد - كذلك يقع الخطأ في
الشرعيات وآرأ المجتهدين في المسائل الفقهية وهذا واضح جدا لعين ما ذكرنا من لزوم اجتماع النقيضين كما في العقليات المحضة
(نعم) هذا الذي ذكرنا من لزوم اجتماع النقيضين مبني على أن حكم الله الواقعي في كل واقعة واحد (وأما لو قلنا) بأن حكم الله الواقعي
في كل واقعة متعددة حسب تعدد آرأ المجتهدين فلا يأتي هذا الاشكال على القول بالتصويب (نعم) يرد إشكالات اخر - وما أفادوا في
تصوير التصويب ونحو وقوعه - ذكرناها مرارا في هذا الكتاب وما هو الحق في المقام من القول بالتخطئة وبطلان التصويب فلا
نعيد.
(الامر الخامس) في تغير رأي المجتهد
بأن يضمحل الرأي الأول بلا اتخاذ رأي جديد أو معه والثاني هو المعروف بتبدل الرأي، والتبدل أيضا (قد يكون) فيما إذا كان الرأي
الأول قطعيا فانتقل إلى رأي آخر قطعي أو تعبدي أي يكون مفاد أصل أو أمارة (وقد يكون) فيما إذا كان الرأي الأول مدركه التعبد
يعني كان مفاد أصل أو أمارة فانتقل
627

إلى رأي آخر قطعي أو تعبدي (وبعبارة أخرى) التبدل قد يقع بين رأيين قطعيين أو تعبديين أو مختلفين وعلى كل تقدير إذا كان
الرأي الأول قطعيا فلا مجال للقول بصحة العمل السابق سوأ أ كان خلافه قطعيا أو كان بتوسط قيام أمارة معتبرة أو أصل على خلافه،
مثلا لو قطع بأن الصلاة في وبر الثعالب لا بأس بها فقامت أمارة معتبرة على عدم الصلاة فيها (فمثل) هذا الشخص أو أحد مقلديه إذا
صلى في ذلك الوبر - فبواسطة الاجتهاد الثاني تقوم الحجة عنده على بطلان ذلك العمل وتلك الصلاة - فيجب عليه الإعادة في الوقت و
القضاء خارجه، إلا أن يدل دليل خاص على الاجزأ وعدم لزوم الإعادة كما أنه ورد (لا تعاد) في باب الصلاة بناء على شموله لمورد
الجهل بالحكم وعدم اختصاصه بمورد النسيان (لان) القطع طريق محض ولا توجد في متعلقة بواسطة تعلقه به مصلحة أو مفسدة فيما
إذا كان طريقا محضا كما هو المفروض في المقام فلا وجه لتوهم الاجزأ.
وأما إذا كانت الفتوى الأولى مفاد أمارة أو أصل - فإذا قلنا بالطريقية كما أنه هو الصحيح وعليها المشهور وقد بينا وجهه في باب
حجية الامارات - فيكون الحال كما قلنا في القطع حرفا بحرف (وأما لو قلنا) بالسببية والموضوعية - بمعنى أنه من طرف قيام الامارة
أو الأصل توجد مصلحة في المتعلق - فان كانت نفس المصلحة التي في متعلق الحكم الواقعي فلا محالة يكون مجزيا أو صحيحا ويترتب
عليه جميع الآثار فلا معنى لإعادته لأجل تحصيل مصلحته (لأنه) يكون من قبيل تحصيل الحاصل، وهكذا لو كانت المصلحة الحادثة بدلا
عن مصلحة الواقع، لأنه لا معنى للزوم تحصيل المبدل منه مع تحصيل بدله (وأما لو كانت) من غير سنخها ولم تكن بدلا عنها فحينئذ ان
كان بينهما تضاد في عالم الوجود فقهرا لا يبقى مجال
628

للإعادة لعدم إمكان تحصيله لمكان التضاد الموجود بينهما (نعم) لو كانت المصلحة الحادثة بواسطة قيام الامارة من غير الأقسام الثلاثة
فيمكن القول بعدم الاجزأ، ولكن هذا صرف فرض بل الظاهر هو عدم إرادة الجمع بين المصلحتين ولو كانا من سنخين، مثلا نفرض
أن الواجب الواقعي هو في عصر الغيبة صلاة الظهر في يوم الجمعة فإذا قامت أمارة أو أصل مثلا على وجوب صلاة الجمعة وصلى المكلف
ثم بعد الاتيان بصلاة الجمعة عدل رأيه إلى وجوب صلاة الظهر بواسطة انكشاف الخلاف (فبنأ) على السببية لو قلنا بلزوم إتيان صلاة
الظهر أيضا بعد انكشاف الخلاف يلزم أن يكون الواجب عليه في يوم واحد صلاتان واقعيان حقيقيتان (لأنه) بناء على السببية مؤدى
الامارة حكم واقعي حقيقي ولا معنى لان يقال بأنه حكم ظاهري إلا بمجرد الاصطلاح (وأنت خبير) بأن وجوب صلاتين مثلا من سنخ
واحد في يوم واحد من الفرائض الخمسة معلوم البطلان وصلاة الجمعة مع الظهر في يوم الجمعة من سنخ واحد (نعم) بناء على الطريقية
حيث أن صلاة الجمعة التي قرأها صلاة ظاهري إثباتي لا ثبوتي فبعد كشف الخلاف يتبين أنها ليست بصلاة فيجب عليه صلاة الظهر.
ثم أن هاهنا أقوال كثيرة وتفاصيل متعددة ونسب في الكفاية إلى صاحب الفصول التفصيل بين الاحكام ومتعلقاتها والموضوعات (و
القول) بالاجزأ في الموضوعات أن الواقعة الواحدة لا يتحمل الاجتهادين (وقد أشكل) فهم مراده من هذه العبارة، حتى أنه قيل أن شيخنا
الأعظم (قده) بعث أحد عظمأ تلامذته للسؤال عن صاحب الفصول عن معنى هذه العبارة فما أتى صاحب الفصول بشي في مقام الجواب
يمكن أن يركن النفس إليه، وعلى كل تقدير أنت تعلم أنه لا فرق في وقوع الخطأ بين الاحكام ومتعلقاتها
629

ولا وجه لهذا التفصيل (وكذا لا وجه) للتفصيل بين العبارات والعقود والايقاعات وبين سائر الأحكام ولا بين أن يكون مدرك الحكم
السابق هو القطع والامارات والأصول بناء على ما هو الحق من الطريقية.
(نعم) بناء على سببية الامارات والأصول وموضوعيتها لا بد وأن يفرق لعدم إمكان السببية في القطع (فالتفصيل) لا بد وأن يكون بناء
على موضوعية الامارات والأصول (وأما) الاستدلال - على الاجزأ ولزوم ترتيب الأثر على الاجتهاد السابق - بقاعدة نفي العسر و
الحرج (ففيه أولا) إننا الان نتكلم فيما هو مقتضى القواعد الأولية وأما العناوين الثانوية مثل الضرر والحرج والاكراه والاضطرار
فيرفعن كل حكم في موردها إلا حرمة القتل، فارتفاع وجوب الإعادة والقضاء بتلك القاعدة لا ينافي عدم الاجزأ من حيث الاجتهاد
السابق، وهكذا سائر الأدلة التي ذكروها في هذا المقام (وأيضا لا فرق) بين أن تكون متعلقات الاحكام مما لها قرار وثبات بحسب
الزمان - كالحيوان الذي ذكاه الذابح بعد اجتهاده بأنه محلل الاكل ثم عدل عن اجتهاده والحيوان بعد باق - أو لا يكون لها قرار وثبات
بحسبه كاجتهاده بعدم وجوب السورة في الصلاة مثلا ثم بعد أن عدل عن رأيه فتلك الصلاة التي قرأها ليس لها قرار وثبات بحسب
الزمان حتى يقال بالاجتهاد الثاني الذي مفاده وجوب السورة أنها غير صحيحة، وحمل بعضهم كلام صاحب الفصول - أعني قوله ان
الواقعة الواحدة لا يتحمل اجتهادين - على هذا القسم (ولكن) ان ثبت بطلان ما سبق ووقع بواسطة الاجتهاد الثاني وتبين خطأ الاجتهاد
الأول (فلو كان) لبطلان العمل السابق أثر فيترتب عليه قهرا ولا يبقى مجال لان يقال بأن الواقعة الواحدة لا يتحمل اجتهادين.
(المقام الثاني في التقليد)
وهو لغة جعل القلادة في عنق الغير،
630

واصطلاحا عرف بتعاريف كثيرة أشهرها اثنان وهما: الالتزام بالعمل - برأي الغير ولو لم يعمل بعد - ونفس العمل برأي الغير
مستندا إليه (وبعبارة أخرى) تطبيق العمل على فتوى الغير (والصحيح) هو الثاني لان الذي يجب على العامل بالتكاليف الشرعية هو أن
يكون له حجة على أن عمله هذا مبرئ للذمة (وتلك) الحجة إما علم أو علمي، والعامي غير المحتاط حيث أنه عاجز عن استعمال الحجج
التفصيلية ليس شي له أقرب إلى الواقع من أن يجعل عمله مستندا إلى رأي من هو قادر على استعمال تلك الحجج واستعملها فعلا
(فحقيقة) التقليد - الذي قامت الأدلة على وجوبه على العامي - ليس إلا تطبيق عمله على فتوى من يجب تقليده أو يجوز (وأما قولهم) لا بد
وأن يكون عمل العامي عن تقليد وهذا يقتضي سبق التقليد عليه (فجوابه) أنه ليس هناك ما يدل على هذا المعنى بل الدليل يدل على أن
عمل العامي لا بد وأن يكون مستندا إلى رأي مجتهدان لم يحتط (نعم) نفس العمل بهذا العنوان مصداق المفهوم التقليد ويحمل عليه
بالحمل الشائع، وذلك كما أن إعطأ عين متمول لشخص بقصد أن يكون ملكا له بعوض مالي مصداق لمفهوم البيع - ويحمل عليه
بالحمل الشائع والتصرف لذي الخيار في ما انتقل عنه بقصد الفسخ وحل المعاملة مصداق لمفهوم الفسخ - وهكذا في سائر المقامات.
(وأما ما يقال) من لزوم الدور في باب العبادات لو كان التقليد عبارة عن نفس العمل، من جهة أن وقوعها صحيحة متوقفة على قصد
القربة وهو أي قصد القربة متوقف على قيام الحجة على أنه عبادة وهو متوقف على التقليد (لان) المفروض أنه لا حجة للمقلد إلا التقليد
(فلو كان) هو عبارة عن نفس العمل يلزم أن يكون وقوع العمل صحيحا متوقفا على وقوعه ووجوده صحيحا.
(وأنت خبير) بان هذا كلام عجيب صدر من بعض الأعاظم
631

والأفاضل (لان) قيام الحجة على أنه عبادة ليس متوقفا على التقليد والعمل بل متوقف على أن يعلم بأن فتوى المفتي حجة في حق مقلديه
وهذا لا ربط له بالتقليد وعلى كل حال التكلم في وجوب التقليد يقع في موردين (تارة) بالنسبة إلى نفس العامي (وأخرى) بالنسبة إلى
مفاد الأدلة الدالة عليه بالنسبة إلى المجتهدين وانه أي شي يستفاد منها.
فنقول أما بالنسبة إلى المقام الأول فلا شك في أن العامي إذا علم أنه يلزم عليه العمل بالأحكام الشرعية ولم يهمل في حقه تلك الأحكام
وهو عاجز عن فهم الحجج المجعولة واستعمالها ولا يجب عليه الاحتياط بل غالبا يكون عاجزا لعدم معرفة موارده وكيفية نفسه فلا
يمكن له ذلك فيحكم عقله حكما بتيا فطريا بلزوم الرجوع إلى من يقدر على استعمال تلك الأدلة بعد أن استعملها واستنبط ولا يمكن
له أن يقلد في هذه المسألة أي يرجع إلى مجتهد استنبط وجوب رجوع العامي إلى المجتهد للزوم الدور وهو توقف حجية رأيه في هذه
المسألة على حجية رأيه.
(وأما بالنسبة) إلى المقام الثاني فما قيل أو يمكن أن يقال أمور:
(الأول) بناء العقلا على أن الجاهل المحتاج إلى عمل لا يعرف حكم العمل ولا كيفية إيجاده يرجع إلى العالم به ولا يمكن إنكار ذلك
(نعم) لست أقول ان كل جاهل يرجع إلى العالم بل الجاهل في الشئ الذي يحتاج إليه وليس له أن يهمله الذي يكون لا بد له من أمر لا
شك في أنه يرجع إلى العارف بذلك الامر ومن ذلك رجوعهم إلى أهل الخبرة في أمورهم العرفية (الثاني الآيات ك آية النفر وآية الذكر
واستشكل عليهما بإشكالات (ولكن) أنت خبير بأن آية النفر لها ظهور قوي في وجوب قبول قول المجتهد المنذر على العامي وبعدم
القول بالفصل يتم المطلوب (الثالث) الاخبار ولا شك في أن الاخبار الصادرة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام في هذا الباب أي باب
632

العالم للعامي إلى العالم على اختلاف ألسنتها وعمومها وخصوصها فوق حد الاستفاضة وكلها تدل دلالة مطابقية أو التزامية على لزوم
رجوع الجاهل إلى المجتهد الواجد لشرائط معينة وذلك كقوله عليه السلام لابان بن تغلب (اجلس في مسجد الكوفة وأفت بين الناس
فاني أحب أن يرى في أصحابي مثلك) وقوله عليه السلام (وأما من كان من الفقهاء صائنا لدينه حافظا لنفسه مخالفا لهواه مطيعا لأمر
مولاه فللعوام أن يقلدوه) وكتابه عليه السلام لأحمد بن ماهويه وأخيه (فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبنا وكل كثير القدم في
أمرنا فإنهما كافوكما) وأمثالها إلى ما شاء الله.
(فصل) في أنه هل يتعين على العامي تقليد الأعلم أو يجوز له الرجوع إلى المفضول، المشهور هو الأول وادعى المحقق الثاني الاجماع
عليه ويظهر ذلك من علم الهدى في الذريعة على ما نقله شيخنا الأعظم (قدس سرهم) وذهب بعض إلى عدم وجوب الرجوع إلى الأفضل
تعيينا لوجوه (منها) إطلاق الآيات والروايات فان إطلاق وجوب التحذر عقيب إنذار المنذر سوأ كان أفضل من غيره أو مساويا أو
مفضولا يدل على عدم تعين الأفضل عند الدوران وإلا كان عليه تبارك وتعالى البيان وحمله على صورة تساوي المنذرين حمل على
الفرد النادر ان لم يكن مجالا عادة (وفيه) أنه وان سلمنا نحن دلالة آية النفر على لزوم التقليد على العامي بالدلالة الالتزامية ولكن لا
نسلم دلالتها على أنها في مقام البيان حتى من جهة اختلاف المنذرين في العلم والفضيلة مع اختلافهم في الفتوى (ثم انه أجيب) عن
التمسك بالاطلاق بأنه على فرض صحة التمسك بالاطلاق فيتعارض كل واحد منهما مع الاخر في ظرف اختلاف فتواهما كما هو
المفروض فيتساقطان فيكون المرجع هو الأصل وهو الاشتغال للشك في حصول الفراغ بالعمل بقول المفضول بخلاف العمل بقول
الأفضل لأنه يقينا يحصل به الفراغ (ان قلت) ليس التساقط في باب تعارض الفتوأين
633

بالاجماع ولو كان مقتضى القاعدة هو التساقط لولا الاجماع (قلنا) الاجماع دليل لبي والقدر المتيقن منه هو فيما إذا كانا متساويين
فمفاد الاجماع هو التخيير في هذه الصورة وأما لو كان أحدهما أفضل فلا إجماع على التخيير فمقتضى القواعد الأولية هو تساقطهما و
الرجوع إلى الأصل كما بينا وفيه (أولا) ان مقتضى الأصل على فرض التساقط ليس هو العمل بقول الأعلم بل إما الاحتياط التام أو لا أقل
من الاخذ بأحوط القولين وهذا غير ما يريده هذا القائل (وثانيا) أنه ليس التخيير في المجتهدين المتساويين عند اختلافهما في الفتوى
من باب الاجماع بل من جهة أنه من أول الامر لا تعارض في البين لان حجية فتوى المجتهد على العامي ووجوب رجوعه إليه ليس من
قبيل (صدق العادل) حتى يكون عاما أصوليا انحلاليا حتى يقع التعارض في صورة اختلاف فتواهما بل مفاد أدلة وجوب التقليد سوأ
كان بناء العقلا أو الآيات أو الاخبار ليس إلا التخيير في الاخذ بأحدهما من أول الامر فلا تعارض حتى يتساقطان (فالصحيح) في
الجواب ما بينا من عدم الاطلاق من جهة عدم كونه بصدد البيان من هذه الجهة.
(ومنها) أن سيرة المتشرعة على الرجوع إلى أصحاب الأئمة عليهم السلام مع اختلافهم في العلم والفضيلة بل ومع اختلافهم في الفتاوي
(والجواب) ان المدعي لو يدعي وجود السيرة من المتشرعة في الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل ومع العلم باختلاف فتواهما
فهذا شي ننكره أشد الانكار لأنه لا طريق لنا إلى إحراز سيرة المتشرعة في هذا الفرض ولو أراد تحقق السيرة في غير هذا الفرض فلا
يضر ما ندعي من عدم جواز الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل منه فيما إذا علم باختلاف فتواهما (ومنها) إرجاع الأئمة عليهم
السلام إلى آحاد الأصحاب مع اختلافهم في العلم والفضيلة قطعا (والجواب) منع الاطلاق بحيث يشمل صورة العلم بمخالفتهما في الفتوى
(ومنها) غير ذلك
634

مما ذكروه في الكتب المفصلة مما ينبغي أن لا يذكر ولا يسطر (والتحقيق) في هذا المقام هو أنه مع قطع النظر عن الأدلة الواردة في
هذا الباب وانه هل لها إطلاق أو ليس لها ذلك؟ مقتضى الأصل الاولي هو تعين الأعلم (وذلك) أما بالنسبة إلى العامي فمن جهة أنه إذا
احتمل أن يكون للأعلمية دخل في الحجية فيحكم عقله حكما بتيا بلزوم متابعة الأعلم للشك في أن متابعة الاخر هل مبرئ لذمته أم لا
فحكمه بلزوم تقليد الأعلم يكون من باب الاحتياط العقلي وملاك الامن من العقوبة (نعم) إذا ساوى في نظره الأعلم وغيره فيما هو مناط
التقليد ولم يحتمل أن يكون لتلك الخصوصية دخل أصلا فقهرا عقله يحكم بالتخيير.
(ثم أنه ربما يتوهم) أنه كما أن أصل وجوب التقليد ليس بتقليدي لاستلزامه للدور فكذلك مسألة وجوب تقليد الأعلم لاستلزامه الخلف لو
أفتى الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم لأنه يلزم من حكم العقل بتعين الرجوع إلى الأعلم عدم تعينه وهذا هو الخلف (ولكن أنت خبير) بأن
حكم العقل بلزوم تقليد الأعلم حكم احتياطي مثل حكمه بلزوم الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة التحريمية فإذا قام دليل على جواز
تقليد غير الأعلم وهو فتوى الأعلم فلا يبقى موضوع للحكم العقلي الاحتياطي (نعم) لو كان حكمه حكما استقلاليا نفسيا لكان يلزم هذا
المحذور (وأما بالنسبة) إلى المجتهد فمن جهة دوران الامر بين التعيين والتخيير في الحجة ولا شك في أن معلوم الحجية منهما تعيينا
أو تخييرا حجة وهو فتوى الأعلم والمشكوك وهو فتوى المفضول تجري فيه أصالة العدم (هذا كله) مع قطع النظر عن الأدلة الواردة
في هذا الباب والنظر فيها.
(وأما بملاحظتها) فهي أمور (الأول) الاجماع المدعى في المقام من المحقق الثاني وعلم الهدى وجمع آخر (قدس سرهم) على لزوم
تقليد الأعلم ولكن
635

أنت عرفت مرارا منا بأن أمثال هذه الاجماعات مما لها مدارك عقلية ونقلية واستدلوا بها في المقام مما لا اعتبار بها وليس من الاجماع
المصطلح عندنا.
(الثاني) بناء العقلا وانهم عند الاختلاف يأخذون برأي الأعلم ولا يلتفتون إلى الاخر (الثالث) أقربية فتوى الأعلم للواقع ولا شك في أنه
بناء على الطريقية الامارة التي أقرب إلى الواقع من الاخر مقدم عليه ويجب الاخذ به دون الاخر لان المناط في لزوم تبعية الامارة بناء
على الطريقية ليس هو التعبد المحض بل من جهة إيصاله إلى الواقع فإذا كان إحداهما أقوى بحسب هذا المناط من الاخر يتعين الاخذ به
دونه (وقد أشكل) على هذا الدليل (تارة) بمنع الصغرى من جهة أنه يمكن أن يكون فتوى المفضول أقرب إلى الواقع من فتوى الأفضل
(إما) من جهة كثرة فحصه وتتبعه في هذه المسألة (وبعبارة أخرى) ربما يكون فتوى المفضول بواسطة زيادة اعتنائه بمسألة في مقام
الاستنباط بعد اشتراكه مع الأفضل في المقدار اللازم أقرب إلى الواقع في نظر المقلد المطلع على هذا الامر (وإما) من جهة موافقته
لفتوى المشهور (وإما) من جهة موافقته لفتوى ميت هو أعلم من هذا الحي الأعلم (ولكن أنت خبير) بأن هذه المذكورات وإن كانت في
حد نفسها أمور صحيحة ولكن لا يضر بأقربية فتوى الأعلم غالبا أي في مورد لم يكن أحد هذه المذكورات فلا يصح منع الصغرى بطور
السلب الكلي (وتارة) بمنع الكبرى وانه ليس مناط الحجية هي الاقربية إلى الواقع بل هو التعبد بحجية ظن لأجل مصلحة في الجعل لا في
المجعول ليلزم التصويب الباطل (ولكن أنت خبير) بأن معنى الطريقية هو أنه لا مصلحة في البين إلا الايصال إلى الواقع وليس هو التعبد
المحض فدلالة هذا الدليل على لزوم تقليد الأعلم لا يخلو عن قوة.
(الرابع الاخبار) وهو العمدة (فمنها) ما في مقبولة عمر بن حنظلة
636

الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما حكم به الاخر (ومنها) رواية داود بن حصين
عن الصادق عليه السلام في مورد اختلاف الحكمين قال عليه السلام ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا (ومنها) قول أمير المؤمنين
عليه السلام في نهج البلاغة اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك. ودلالة هذه الأخبار على تقديم الأعلم على غير الأعلم ظاهرة.
لكن استشكل عليها بأنها واردة في مقام الحكومة ودفع الخصومة وفي ذلك المقام لا بد من تعيين أحدهما للاخذ بحكمه ولا معنى
للتخيير لان كل واحد ربما يختار غير ما يختار الاخر فتبقى الخصومة بحاله (ومعلوم) إذا كان التعيين لازما فالأفضل مقدم فلا تلازم
بين تقديم الأفضل في مقام الخصومة بعد صدور الحكم عن الاثنين مع تقديمه في مقام الفتوى (ولكن أنت خبير) بأن التقديم وتعيين
الأفضل في هذه الروايات وان كان في مقام الحكومة ورفع الخصومة (ولكن) هذا الترجيح والتقديم وقع باعتبار مدرك الحكم وهو
ليس إلا الفتوى هذا أولا (وثانيا) مدلول هذه الأخبار حجية قول الأفضل وفتواه دون المفضول لقوله عليه السلام في المقبولة (ولا
يلتفت إلى ما حكم به الاخر) ولا فرق في الحجية بين الحكم والفتوى (وثالثا) بالاجماع المركب لأنه كل من يقول بتقديم الأعلم في مقام
الحكم يقول بتقديمه في مقام الفتوى فالتفصيل بينهما خرق للاجماع (نعم هناك) من يقول بعدم التقديم في كليهما وأما القائل
بالتفصيل فليس في البين أصلا (والحاصل) أن هذه الأخبار لا قصور في دلالتها على لزوم الرجوع إلى الأفضل عند العلم بالاختلاف في
فتواهما وإذا ظهر ذلك لك فعلى فرض أن يكون هناك إطلاقات للآيات والروايات تدل على جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل
مع مخالفة فتواه لفتوى المفضول لا بد أن يقيد بهذه الاخبار مع أنه تقدم أنه لا إطلاق في البين أصلا.
637

(فصل) في أنه هل يجوز تقليد الميت ابتدأ أو استمرارا أم لا؟
وقبل الدخول في المسألة نقول مقتضى الأصل إذا شككنا ولم نجد دليلا لفظيا أو لبيا على الجواز هو عدم الجواز لان حجية قول الحي
معلومة إما تعيينا أو تخييرا وحجية قول الميت مشكوكة والأصل عدمها هذا إذا لم يحتمل حجية قول الميت تعيينا وإلا إذا احتمل التعيين
في كل واحد منهما بواسطة كون الميت أفضل مثلا فالأصل التخيير لأن المفروض أن المورد مورد اختلاف الفتوى ولا يمكن العمل
بكليهما.
(إذا عرفت هذا) فنقول فالكلام يقع في مقامين
(المقام الأول) في تقليده ابتدأ
وفيه أقوال (الأول) عدم الجواز مطلقا (والثاني) الجواز مطلقا (والثالث) التفصيل من المحقق القمي بين أن يكون الظن الحاصل من قوله
أقوى من الظن الذي يحصل من قول الحي فيجوز وإلا فلا (والرابع) التفصيل بين أن يكون مجتهد حي جامع لشرائط الفتوى موجودا و
أن لا يكون ففي الأول لا يجوز وعن الثاني يجوز وتفاصيل آخر منقولة ولكن عند التأمل ليست بتفاصيل في المسألة كما أن هذين
التفصيلين أيضا في الحقيقة ليسا تفصيلا في المسألة (أما) كلام المحقق القمي فمن جهة قوله بالانسداد وان النتيجة بناء على الحكومة
ليست مهملة بالنسبة إلى مراتب الظن بل العقل يحكم بأن الظن الأقوى مقدم على الظن القوي ولذلك يقول أي واحد من القولين كان
الظن الحاصل منه أقوى يجب الاخذ به فليس عنده في فتوى الميت أو الحي خصوصية أو تفصيل وأما عدم تمامية كلامه فمن جهة ان دليل
التقليد ليس هو الانسداد حتى ينتج هكذا بل الدليل عليه الفطرة والسيرة والآيات والاخبار (وأما التفصيل) الثاني المنقول من العلامة و
الأردبيلي والشيخ سليمان البحراني والشيخ علي بن هلال فليس أيضا تفصيلا في هذه المسألة لان الكلام في هذه المسألة في الجواز و
عدم الجواز بعد الفراغ
638

عن إمكان الرجوع إلى الحي وأما في مورد عدم إمكان الرجوع إلى الحي لبعد البلاد وعدم الوسيلة أو لانقراض الاجتهاد العياذ بالله
فلا مناص من الرجوع إلى الميت ان لم يمكن الاحتياط أو لم نقل بوجوبه لأدلة نفي العسر أو للاجماع ففي الحقيقة المسألة ذات قولين
(قول بعدم الجواز مطلقا) وهو المشهور بل ادعى الاجماع عليه جمع كثير من الأساطين كالمحقق الثاني و الشهيد الثاني في المسالك و
صاحب المعالم في المعالم ومحقق الداماد والعلامة في النهاية وابن أبي جمهور الأحسائي (وقول بالجواز) أيضا مطلقا وهو المشهور
بين العامة بل الان ليس فيهم من يقول بغير هذا لحصرهم المذاهب في الأربعة الذين ماتوا قبل أزيد من ألف سنة وقد ذهب إلى هذا
القول جماعتنا الأخباريين والمحقق القمي من المجتهدين الذي عرفت كلامه (ولكن أنت خبير) بأن جماعتنا الأخباريين في الحقيقة
منكرون للاجتهاد والعمل بالرأي بل يقولون أن وظيفة الفقيه تفسير كلام المعصوم وبيانه للعامي وهذا المعنى لا فرق فيه بين الحي و
الميت (وبعبارة أخرى) يقولون حيث إن العامي عاجز عن الفحص عن المخصصات والمقيدات والمعارضات وتشخيص المقيد و
المخصص والجمع بين المتعارضات فالفقيه يستنيب عنه ويفسر له فلا يبقى فرق حينئذ بين الحي والميت وهذا الكلام وان كان فاسدا
لأنه لا نعني من الاجتهاد والرأي إلا ما يستظهره الفقيه من الآيات والاخبار بعد الفحص التام عن المخصصات والمقيدات والمعارضات
ولكن كلامهم هذا لا يضر بالاجماع المدعى في المقام من أن المجتهد الميت لا يجوز العمل برأيه وفتواه لانهم أيضا لا يجوزون العمل
برأيه وفتواه ولا برأي الحي.
(حجية القول) الأول وجوه (الأول) الاجماع وقد عرفت أنه منقول عن الأساطين وأيضا عرفت أن مخالفة الأخباريين لا يضر بالاجماع
وهكذا مخالفة المحقق القمي من المجتهدين لما ذكرنا من فساد مبناه وهكذا
639

مخالفة المحقق الأردبيلي ومن يقول بمقالقته لان تجويزهم تقليد الميت ابتدأ في ظرف عدم إمكان الرجوع إلى الحي فيكون خارجا
عن محل البحث (الثاني) ما ذكره المحقق الثاني والوحيد البهبهاني وجمع آخر من عدم بقاء الرأي للمجتهد بعد موته فليس هاهنا شي
حتى يكون موضوعا للحجية وهذا الدليل هو عمدة أدلتهم لان الاجماع - مضافا إلى مخالفة الأخباريين وهم شطر كبير من علمأ
الشيعة وجمع من المجتهدين - في أمثال المقام مما يكون للمجمعين مدارك عقلية ونقلية ويسندون فتاواهم إلى تلك المدارك. ليس هو
الاجماع الاصطلاحي الذي بنينا على حجيته في الأصول (وبيانه من وجوه) (الأول) من جهة أنه بعد الموت ينكشف له الواقعيات
فاستنباطه الظني يتبدل لا محالة أما إلى العلم بخلاف ما استنبط في حال الحياة لو كان اجتهاده خطأ في تلك الحالة أو إلى العلم على
وفقه إن لم يكن خطأ فلا يبقى ذلك الاجتهاد والاستنباط (والجواب) أن هذا توهم محض لان النفس كل صورة علمية حصلت لها من
تصور أو تصديق أو ملكة من الملكات الفضيلة أو الرذيلة تحشر مع تلك الملكات والصور علمية كانت أو ظنية لا تزيد ولا تنقص كما هو
محقق في محله (وبعبارة أخرى) النفس في بدأ خلقتها ليس فيها شي من العلوم والصور حتى البديهيات بل صرف استعداد لتحصيل
العلوم ولذلك تسمى النفس في هذه المرتبة بالعقل الهيولاني وبعد ما وهبها الله تعالى البديهيات فإذا شرع في التكسب يحصل من هذه
التصورات البديهية والتصديقات البديهية التي وهبها الله لها التصورات النظرية والتصديقات النظرية فكل شي اكتسبها وحصل لها
من الصور العلمية من التصورات والتصديقات يبقى له إذا كان في حال الحياة بلغ إلى مرتبة العقل بالفعل وكل شي لم يكتسبه ولم
يحصله باقية على جهلها بالنسبة إليه ولعل هذا هو المراد من قوله صلى الله عليه وآله من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى
640

فدعوى أن جميع الواقعيات ينكشف له لا أساس له.
(هذا مع) أنه يمكن أن يقال فبنأ على ما ذكر من المحتمل بقاء الرأي غاية الامر كان ظانا به وبعد الموت يصير متيقنا واختلاف الظن و
اليقين لا يوجب تبدل الرأي فيستصحب بقائه وأثره بقاء حجيته والحاصل أن الرأي عبارة عن تلك القضية الذهنية والظن واليقين
يتعلقان بنسبة تلك القضية ومعلوم أن اختلاف نسبتها من حيث الشك واليقين لا يضر بوحدة القضية لان اليقين إما عبارة عن تأكد
الاعتقاد بوقوع النسبة أو لا وقوعها أو الاذعان بأحدهما مع عدم احتمال الخلاف وعلى كل واحد من التقديرين الاعتقاد الظني محفوظ
في ضمن الاعتقاد العلمي كما أن لنفس العلم أيضا مراتب والمرتبة الدنيا محفوظة في ضمن المرتبة العليا فلا مانع من جريان
الاستصحاب عند احتمال وجوده وبقائه أي ذلك الرأي ولو كان بقائه في ضمن اليقين به (اللهم) إلا أن يقال بعدم مساعدة العرف على
ذلك كما أنه لا يساعد على استصحاب بقاء الاستحباب في ضمن الوجوب.
(الثاني) أنه بواسطة أهوال حال الاحتضار وشدتها يذهل عن الصور التي في ذهنه وتزول تلك الصور ولا طريق إلى إرجاعها بعد
الموت لان إعادة تلك الصور لا بد وأن تكون بوسيلة قوة جسمانية وهي الحافظة وبعد الموت وخراب البدن تبطل تأثير القوى
الجسمانية الموجودة فيه (وأنت خبير) بأن كثرة الاضطراب والاهوال الشديدة توجب الذهول عن الصور الخيالية أو المدركات الوهمية
وأما إدراك الكليات والمسائل العقلية (وبعبارة أخرى) التصديقات الكلية أي القضايا الحقيقية من أي علم وفن كان لا ربط لها بالقوى
الجسمانية وأفاعيلها حتى تذهل النفس عنها (وذلك) كما أن أهوال يوم الحشر توجب (ذهول المرضعة عما أرضعت) وهو معنى وهمي
لأنه إدراك مضاف إلى المادة فالقضايا الكلية محفوظة في صقع
641

إذا كانت واصلة إلى الفعلية (وبعبارة أخرى) ملكات النفس ملكة أي علم وفن أو أي ملكة كانت باقية ببقاء النفس ولا سبيل إلى فنائها و
دثورها إلا بفناء النفس ودثورها والحاصل أن ملكة الاجتهاد إذا حصلت للنفس فهي لا تزول بواسطة الأهوال والشدائد التي تعرض
على الانسان حال الاحتضار.
(الثالث) أن الانسان بعد الموت يكون جمادا كسائر الجمادات لا إدراك ولا شعور له كما هو مشاهد بالوجدان فكيف يبقى له رأي وهل
هذا إلا وجود الصفة بدون الموصوف والعرض بلا معروض (ولكن أنت خبير) بأن هذا الكلام لا يستقيم إلا على مذهب من يقول بأن من
مات فات وينكر الحشر والنشور أو من ينكر تجرد النفس وبقائها بعد بوار البدن ولا بد له حينئذ من القول بأن المعاد خلق جديد أو
إعادة للمعدوم وهذه أمور يتنفر عنها الطبع الصحيح وينكرها العقل الصريح ومخالف لما صدر مستفيضا بل متواترا من النبي وأهل
بيت العصمة صلوات الله عليهم بل القرآن الكريم في موارد متعددة وآيات كثيرة (نعم لو وصل) الامر إلى الشك وانه هل يبقى الرأي
للميت ربما يقال بأن العرف لا يساعد على جريان الاستصحاب من جهة أنه يرى للموصوف بالرأي السابق أي في القضية المتيقنة غير من
هو صاحب الرأي في القضية المشكوكة أي يرى الحي والميت موضوعين (ولذلك) لا يجري الاستصحاب إذا قلنا بأن المناط في وحدة
القضية المتيقنة والمشكوكة بنظر العرف كما هو الصحيح (ولكن أنت خبير) بأنه لا يصل الامر إلى الشك بل الرأي باق وقد بينا أنه بعد
حصول الملكة للنفس لا تزول ببوار البدن وخرابه.
(وأما ما يقال) من أنه نرى بالعيان أنه لو حصل اختلال في البدن يؤثر هذا الاختلال في النفس كما أنه لو وقع ضرب شديد على هامته أو
سقط من مكان عال يختل أفكاره لاختلال دماغه بواسطة تلك الضربة أو
642

تلك السقطة فلا يمكن إنكار تأثير اختلال البدن في اختلال الأداء والأفكار (قلنا) لا شك أن النفس في حال تعلقها بالبدن تكون صورة
والبدن مادة لها وقد تحقق في محله أن التركيب بين المادة والصورة اتحادي فتكون متحدة مع البدن فقهرا اختلاله يسري ويوجب
اختلالها سوأ كان اختلال البدن بواسطة الاغماء والسكر أو الجنون أو سائر الأمراض وهذا بخلاف الموت فان النفس في باب الموت
تنقطع علاقتها عن البدن وهي تبقى مع ملكاتها وحالاتها الراسخة فيها فقياس الموت بالجنون وسائر الأمراض والاختلالات البدنية
ليس كما ينبغي وفي محله (وقد تلخص) مما ذكرنا أنه لو لم يكن إجماع في المسألة لم يكن مانعا عن القول بجواز تقليد الميت ابتدأ
اللهم إلا أن يقال بأن الأصل كما تقدم مقتضاه عدم الجواز إلا أن يدل دليل على الجواز وليس هاهنا دليل يدل على ذلك لان أدلة التقليد
كما عرفت أربعة أحدها الفطرة التي هي دليل العامي ولا شك أن الفطرة مقتضاها الرجوع إلى الحي بل العامي غافل غالبا عن أنه
هناك مجتهد ميت يمكن أن يرجع الانسان إليه هذا مضافا إلى أن كلامنا الان في أن مقتضى الأدلة الاجتهادية ما هو وهذا المقام أجنبي
عن دليل الفطرة التي هي دليل للعامي والأدلة الاجتهادية في هذا المقام أربعة (الأول) الاجماع وقد عرفت أنها لو لم يدل على عدم
الجواز لا يدل على الجواز (الثاني بناء العقلا) وسيرتهم والانصاف ان إحراز هذه السيرة والبنأ في التقليد الابتدائي في غاية الاشكال
نعم لا بأس بادعائه في باب البقاء على تقليد الميت كما سيأتي مفصلا (الثالث) الآيات ولا تدل منها على مسألة التقليد إلا آية النفر وآية
الذكر على تقدير بعيد خلاف الظاهر وهو أن يكون المراد من أهل الذكر هم الفقهاء والمجتهدون وهو خلاف ظاهر الآية وخلاف
تفسيره لان ظاهره أهل الكتاب وتفسيره الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين وعلى كل حال ليس
643

في الآيتين إطلاق يشمل الأموات كما هو واضح لأنهما على فرض دلالتهما على وجوب التقليد يدلان على وجوبه عقيب الانذار أو السؤال
ومعلوم اختصاصهما بحال الحياة.
(الرابع) الاخبار وهي على قسمين أخبار خاصة أرجع الإمام عليه السلام إلى بعض الاجلا من أصحابه كإرجاعه إلى زرارة بقوله عليه
السلام إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس مشيرا إلى زرارة وإرجاع ابن أبي يعفور إلى محمد بن مسلم وكإرجاع العقرقوفي إلى أبي
بصير وإرجاع علي بن مسيب إلى زكريا بن آدم بقوله عليه السلام عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا وإرجاعه إلى
يونس بن عبد الرحمن وقوله لابان بن تغلب اجلس في مسجد الكوفة وأفت بين الناس فإني أحب أن يرى في أصحابي مثلك إلى غير
ذلك من الموارد الكثيرة التي ارجع الامام إلى أحد كبرأ أصحابه وهذا الصنف بعضها لا يدل على وجوب التقليد بل مفادها الرجوع إليه
في نقل الروايات كما هو صريح كلامه في إرجاعه إلى زرارة وإلى يونس بن عبد الرحمن وإلى العمري والبعض الذي ظاهر أو صريح
في باب التقليد لا إطلاق له يشمل تقليد الأموات مثلا قوله عليه السلام لابان اجلس في مسجد الكوفة وأفت بين الناس فإني أحب أن يرى
في أصحابي مثلك هل يمكن أن يكون فيه إطلاق يشمل وجوب تقليد أبان حتى بعد موته والانصاف ان هذا الكلام لا يخلو عن مجازفة.
وأما الاخبار العامة الواردة في باب التقليد كقوله عليه السلام وأما من كان من الفقهاء صائنا لدينه حافظا لنفسه مخالفا لهواه مطيعا
لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه وما شابهه فليس فيها إطلاق يشمل صورة كون الفقيه ميتا ولا أقل من الانصراف وقد ظهر من مجموع ما
ذكرنا أنه ليس دليل تام الدلالة يوجب الاطمئنان والركون على جواز تقليد الميت ابتدأ فلو
644

لم يكن في المسألة إجماع لكان مقتضى الأصل أيضا عدم الجواز كما ذكرنا (هذا كله في التقليد الابتدائي).
(وأما الاستمراري)
فيمكن أن يقال بالجواز من جهتين (الأولى) سيرة المتشرعة بيان ذلك أنه من المعلوم ان الراجعين إلى أحد كبرأ أصحاب الأئمة صلوات
الله عليهم ما كانوا يرجعون عما أخذوا بعد ما سمعوا بموت من أخذوا منه بل كانوا يعملون بما أخذوا حتى بعد موت من أخذ منه ولو
كان غير ذلك أي كانوا لا يعملون بما أخذوا بعد موته لكان نقل إلينا بل يمكن أن يدعي سيرة العقلا على ذلك مثلا إذا راجع شخص إلى
طبيب وأعطاه وصفة لأيام يكرر عمل هذه الوصفة في كل يوم من تلك الأيام فمات بعد إعطأ الوصفة فهل يبقى ذلك المراجع متحيرا
أو يراجع إلى طبيب آخر ولا يعمل بهذه الوصفة أو لا بل يعمل على طبق هذه الوصفة في تلك الأيام المعينة لا شك في أنه لا يبقى متحيرا
بل يعمل على طبق تلك الوصفة كما لو كان أنه لم يمت وأشكل على هذا الدليل بعدم إحراز هذه السيرة ولا أقل من الشك.
ولكن الانصاف الفرق بين السيرة في هذا المقام ودعوى السيرة على جواز تقليد الميت ابتدأ فان دعوى قيام السيرة على تقليد الميت
ابتدأ لا يخلو عن مجازفة بخلاف ما نحن فيه فان هذه الدعوى هاهنا غير مستبعد بشهادة الوجدان.
(الثاني) الاستصحاب وتقريره من وجوه (الأول) استصحاب بقاء الرأي وأثره بقاء حجيته بأن يقال كان هذا المجتهد له رأي كذا
فشككنا في بقائه بواسطة احتمال إزالته من جهة الموت وأشكل عليه (أولا) بعدم بقاء الرأي يقينا لأنه بمنزلة الجماد فلا مجال
للاستصحاب أصلا وقد بينا فساد هذا الكلام فلا نعيد (وثانيا) أنه ولو نحتمل بقاء الرأي لكن
645

الموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة ليس واحدا عرفا وان كان كذلك عقلا (وثالثا) وهو الصحيح أن الرأي باق قطعا كما بيناه
مفصلا فلا مجال للاستصحاب (الثاني) استصحاب بقاء حجية الرأي بمعنى أن هذا الرأي الموجود كان سابقا في حال حياته حجة يقينا و
الان كما كان وهذا الاستصحاب بناء على عدم بقاء الرأي أو الشك في بقائه واضح عدم جريانه وأما بناء على البقاء فالاشكال عليه
بعدم وحدة موضوع القضيتين عرفا وإن كان واحدا دقة لا وجه له لأن المفروض بناء على هذا ان ذلك الرأي بعينه موجود واختلاف
ذي الرأي حياتا وموتا لا دخل له في الموضوع أصلا (الثالث) استصحاب الاحكام التي أدت إليها رأي المجتهد الميت والمستصحب
(تارة) الاحكام الواقعية باعتبار قيام الامارة عليها وتنجزها بها (وأخرى) الاحكام الظاهرية المجعولة في باب الطرق والامارات بناء
على جعل المماثل أو المؤدى فيها.
أما الأول فلا وجه له أصلا لأنه اما ليس له يقين سابق أو ليس له شك لاحق من جهة أن الحكم الواقعي إذا ثبت وتحقق فلا معنى لارتفاعه
إلا بالنسخ ولا يجي شك بعد الموت لان الحكم الواقعي في حق شخص قطعا لا يرتفع بموت المجتهد الذي يقلده وإذا كان بعد الموت
مشكوكا فلا بد وأن يكون من أول الامر مشكوكا فلا يقين سابق في البين.
وأما الثاني أي استصحاب الاحكام الظاهرية التي هي مؤدى اجتهادات الميت أو مؤدى حجية قوله وفتواه سابقا فجريانه موقوف على
أن يكون المؤدى مجعولا في باب الطرق والامارات فحينئذ يكون مفاد آرأ المجتهد أحكاما ظاهرية للمقلدين ولنفسه في حال الحياة
فيشك في بقائها بعد الموت فيستصحب وأما بناء على ما هو الحق من أن المجعول فيها هو الطريقية وتتميم الكشف والوسيطة في
الاثبات فليس هناك حكم ظاهري حتى يستصحب
646

(وبعبارة أخرى) ان قلنا بأن الشارع كما أنه جعل أحكاما واقعية يشترك فيه الجاهل والعالم كذلك جعل أحكاما ظاهرية وهي مختصة
بمن قامت الامارة أو الأصل عنده على ذلك الحكم وعلى هذا يتفرع القول بالاجزأ والتصويب فالاستصحاب لا مانع منه لان هذه الأحكام
كانت في حال الحياة يقينا ويشك في بقائها فيستصحب.
(وإن قلنا) بعدم جعل أحكام ظاهرية فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب وقد تقدم في باب حجية الظن كيفية جعل الطرق والامارات
وانه ليس هناك أحكام مجعولة ورأ الاحكام الواقعية وان ما نسميه الاحكام الظاهرية كسراب بقيعة يحسبه الضم آن ماء (نعم) الذي
يمكن أن يقال هو أننا ذكرنا سابقا في باب حجية الطرق والامارات أنها تقوم مقام القطع الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقية و
كذلك الأصول العملية المحرزة التي تسمى بالأصول التنزيلية أيضا ودليل الاستصحاب أخذ فيه القطع موضوعا على نحو الطريقية فقوله
عليه السلام لا تنقض اليقين بالشك جعل موضوع حرمة النقض هو اليقين بالحكم الشرعي أو موضوع ذي حكم كذلك فإذا قامت الامارة
أو الأصل التنزيلي على حكم شرعي يكون بمنزلة اليقين به فيجري الاستصحاب في مؤدى الامارة والأصل التنزيلي بتلك العناية وهكذا
الحجج والامارات التي تقوم عند المجتهد على حكم شرعي أو موضوع ذا حكم كذلك بمنزلة اليقين فإذا علمنا بالنسبة إلى كل واجد من
فتاواه قيام أمارة أو أصل تنزيلي يكون ذلك بمنزلة أننا قطعنا بذلك الحكم فبعد موته وحصول الشك نستصحب ذلك الحكم (وبهذا
الطريق) صححنا جريان الاستصحاب في مؤدى الطرق والامارات وبعض الأصول العملية (فقد ظهر) من مجموع ما ذكرنا أن
استصحاب الحجية واستصحاب مؤدى الطرق والأصول لا مانع منه ولكن الحق ان استصحاب الاحكام الواقعية وان كان
647

بناء على ما ذكرنا ربما يتوهم جريانه لكنه يكون من قبيل الشك الساري.
ثم أنه بناء على الجواز هل يجوز العدول إلى الحي المساوي معه في الفضيلة أو لا ربما يقال بعدم الجواز من جهة أن مقتضى الاستصحاب
سوأ كان المستصحب هي حجية آرأ الميت أو الاحكام التي أفتى بها فعلية تلك الأحكام والخطابات بالنسبة إليه فلا يبقى مجال
للرجوع إلى الحي وإلا يلزم أن يكون له في واقعة واحدة حكمان فعليان وربما ينتهي إلى اجتماع الضدين أو النقيضين (ولكن أنت
خبير) بأنه لا وجه لعدم جواز العدول إلا الاجماع وهو في الحيين وأما لو كان المعدول منه ميتا فلا إجماع في البين وأما كون عدم
جواز العدول لأجل أنه من قبيل دوران الامر بين التعيين والتخيير لان حجية فتوى الميت بناء على جريان الاستصحاب معلوم إما معينا
أو مخيرا وفتوى الحي مشكوك الحجية موقوف حجيته على جواز العدول فتجري أصالة عدم الحجية بالنسبة إلى الحي دون الميت (فغير
صحيح) لان احتمال التعيين في حجية فتوى الحي أيضا موجود (وبعبارة أخرى) مسألة دوران الامر بين التعيين والتخيير فيما إذا كان
احتمال التعيين في أحدهما دون الاخر وأما لو كان كلاهما محتمل التعيين كما في المقام فليس من ذلك الباب (ان قلت) بناء على هذا أي
بناء على العلم الاجمالي بحجية أحدهما بخصوصه فيجب الاحتياط بالأخذ بأحوط القولين (قلنا) نعم هو صحيح لو لم يكن الاجماع على
عدم وجوب الاحتياط على العامي ولو بهذا المقدار مع أن الاستصحاب يوجب انحلال العلم الاجمالي بحجية أحدهما بخصوصه مضافا إلى
إمكان إنكار هذا العلم الاجمالي لاحتمال التخيير من أول الامر (هذا كله) فيما إذا كان الحي مساويا معه في الفضل وأما لو كان أعلم
فيجب العدول إليه بناء على لزوم تقليد الأعلم حدوثا وبقأ لأنه بناء على هذا المبنى كان يجب عليه العدول لو كان حيا فضلا من أن
يكون ميتا.
648

ثم انه لو عدل عن الميت إلى الحي الذي يساوي مع الميت في الفضل فليس له الرجوع إليه ثانيا باحتمال بقاء التخيير (لان) هذا يكون من
الرجوع إلى الميت ابتدأ، وقد تقدم انعقاد الاجماع على عدم جواز الرجوع إليه ابتدأ هذا فيما إذا قلنا بشمول إطلاقات الأدلة للرجوع
إلى الميت ابتدأ وأما لو ناقشنا بظهورها أو انصرافها عن الميت وكان مدرك جواز البقاء هو استصحاب حجية فتواه فلا يحتاج في
عدم جواز الرجوع إليه بعد العدول عنه إلى هذا الاجماع بل من الواضح المعلوم عدم جريان استصحاب بقاء الحجية بعد العدول
لانقطاعها بالعدول بناء على أن يكون اختيار إحدى الحجتين في موارد التخيير بينهما موجبا لسقوط الحجة الأخرى عن الحجية، لما
تقرر في محله من أن التخيير في المسألة الأصولية بدوي وليس باستمراري فتأمل. الحمد لله الذي وفقنا لاتمام المجلد الثاني من كتابنا
منتهى الأصول ونسأله تعالى غفران العثرات.
حسن بن علي الموسوي
649