الكتاب: مقالات الأصول
المؤلف: آقا ضياء العراقي
الجزء: ١
الوفاة: ١٣٦١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: الشيخ محسن العراقي ، السيد منذر الحكيم
الطبعة: الأولى المحققة
سنة الطبع: ١٤١٤
المطبعة: باقري
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
ردمك:
ملاحظات:

مقالات الأصول
1

مجمع الفكر الاسلامي
، 12،
مقالات الأصول
تأليف
المحقق الأصولي الكبير آية الله العظمى
الشيخ ضياء الدين العراقي قدس سره
(1278 - 1361 هق)
الجزء الأول
تحقيق
الشيخ محسن العراقي / السيد منذر الحكيم
3

مجمع الفكر الاسلامي
جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة
مجمع الفكر الاسلامي
قم - ص. ب. 3654 / 37185
الهاتف: 28868
الكتاب: مقالات الأصول / ج 1
المؤلف: الشيخ ضياء الدين العراقي قدس سره
تحقيق: الشيخ محسن العراقي / السيد منذر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
الطبعة: المحققة الأولى / 1414 ه‍ ق.
تنضيد الحروف: مؤسسة الكلام
الاخراج الفني: حمزه نجفي
ليتوغرافي: تيزهوش
المطبعة: باقري
الكمية المطبوعة: 1000 نسخة
4

بسم الله الرحمن الرحيم
5

كلمة المجمع
و
حياة المحقق العراقي قدس سره
7

كلمة المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
يمثل علم الأصول الأداة التي يستخدمها المجتهد الفقيه لاستنباط
الحكم الشرعي. وإذا كان من الطبيعي أن يتطلب التطور الفقهي تطورا في
أساليب ومناهج الاستنباط، اتضحت ضرورة تطور الفكر الأصولي تبعا
للحاجات المستجدة في المجتمع البشري والتي تستدعي بدورها تطور الأجوبة
الفقهية التي تقدم الحلول اللازمة لتلك الحاجات.
ومن هنا يتجلى لنا أن علم الأصول ليس كما قد يتوهمه البعض مما لا
صلة له بمشاكل الحياة الانسانية وتطوراتها ومستجداتها.
ولئن كان علم الفقه يمثل دورا أساسيا في حياة الانسان بما يقدمه من
أجوبة وحلول لمشاكل الانسانية المتطورة على مر الزمن، فإن لعلم الأصول دورا
رئيسيا في إمداد علم الفقه بالعناصر والمقومات التي تمكنه من إنجاز مهمته
الكبرى في حل مشاكل الانسانية المتطورة ومواكبة مستجداتها ومتغيراتها.
ومنذ ان أغلقت سائر المذاهب الفقهية السائدة بين المسلمين - غير
مذهب أهل البيت عليهم السلام - على أنفسها أبواب الاجتهاد والذي خلف آثارا
واضحة من الجمود والركود وسبب لها كثيرا من الفشل والإخفاق في مواجهة
المشاكل المستجدة... بدأت شمعة الفكر الأصولي في تلك المذاهب يتضاءل نورها
9

حتى خمد، وتحول علم الأصول لديها إلى تاريخ لمسائل علم استنفد أغراضه،
وانقضى دوره، وولى عصره.
وأما في مذهب أهل البيت عليهم السلام وبفضل التخطيط الحكيم والبعيد
المدى الذي قام به أئمة أهل البيت عليهم السلام في الإعداد لمرحلة الغيبة الكبرى
وتصدي الفقهاء لقيادة الأمة فكريا وعمليا، فقد أخذت دائرة التفكير الفقهي
بالاتساع، وأخذت مناهج الاستدلال الفقهي تتطور على مر الزمن، فكانت
المرحلة الأولى من تطور الفكر الأصولي أن تحول إلى علم مستقل عن الفقه بعد
أن كانت مسائله تبحث ضمن مسائل علم الفقه، فأصبح علما مستقلا له قواعده
ومصطلحاته، واستمر تطور علم الأصول في إطار التفكير الشيعي - بعد أن فقد
قابلية التطور والنمو في ظل المذاهب الأخرى - إلى القرن الحادي عشر
الهجري إذ ظهرت الحركة الأخبارية التي كادت أن تعصف بحيوية التفكير
الفقهي في مذهب أهل البيت عليهم السلام، لولا المواجهة الرشيدة الصارمة التي قام
بها أبطال التفكير الأصولي وعلى رأسهم الوحيد البهبهاني قدس سره، إذ تصدى
للحركة الأخبارية وفند مزاعمها وأبطل شبهاتها، فانتقل التفكير الأصولي
وبفضل مقاومة الوحيد البهبهاني وأتباع مدرسته لحركة المضادة إلى مرحلة
جديدة من التطوير والإبداع يمكن أن تعتبرها ولادة جديدة للتفكير الأصولي،
لما نجده من عمق واتساع التغيير الذي طرأ على التفكير الأصولي بعد هذا
التاريخ.
وقد استمر الإبداع في التفكير الأصولي على يد زعماء المدرسة الأصولية
في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين، ويمكن إعتبار الشيخ الأنصاري
أبرز زعماء التجديد في التفكير الأصولي بعد عصر الوحيد البهبهاني إلى أوائل
القرن الرابع عشر الهجري.
وجاء القرن الرابع عشر الهجري جالسا على مائدة الفكر الأصولي
10

الذي ورثه من مدرسة الشيخ الأنصاري، وقد كان أبرز تلامذة الشيخ الأنصاري
تأثيرا على الفكر الأصولي بعد زمن الشيخ الأنصاري هو المحقق الآخوند
الخراساني صاحب الكفاية الذي لم يقنع بما ورثه من الإبداع والتجديد في مدرسة
أستاذه الأنصاري حتى أكمل مسيرة التجديد بنظرياته وآرائه التي جمعت بين
الدقة والمتانة والإبداع.
هذا والحق أن التفكير الأصولي في تأريخه الملئ بالتجديد والإبداع
لا سيما في القرون الثلاثة الأخيرة، إنما بلغ ذروة الكمال في العصر الذي تلا عصر
الآخوند، وعلى يد أبطال المدرسة الأصولية الحديثة الثلاثة، وهم: آيات الله
الكبرى:
1 - المحقق الميرزا حسين النائيني.
2 - والمحقق الشيخ محمد حسين الإصفهاني.
3 - والمحقق الآقا ضياء الدين العراقي قدس الله أسرارهم.
إذ فتحت على أيديهم آفاق جديدة من مسائل هذا الفن وقوي استحكام
مبانيه، وجاؤوا بنظريات وآراء جديدة في مختلف أبواب هذا العلم حتى جعلوا منه
علما قوي المباني راسخ الدعائم قادرا على استيعاب مستجدات الفقه الإسلامي
وإمداده بمناهج الاستدلال وطرائق التفكير، رغم تطورات الحياة المعاصرة
واتساع آفاقها وتعقيد مسائلها واختلاف مشاكلها.
ولكل من هؤلاء الأبطال الثلاثة من زعماء المدرسة الأصولية الحديثة
منهجيته وطريقته الخاصة التي يتميز بها عن قرينيه، والتعرف على تفاصيل هذه
المميزات بحاجة إلى دراسات معمقة ومطولة تنفذ إلى عمق آرائهم ونظرياتهم
وتلتمس الدقائق الخفية على الأكثرين من أسرار كلماتهم وأقوالهم، غير أن هناك
سمات مشتركة في تفكير هؤلاء الأعلام من أهمها:
1 - المنهجية.
11

2 - الدقة.
3 - التجديد.
ونجد هذه السمات الثلاثة بارزة في مدرسة المحقق الآقا ضياء الدين
العراقي، في كل مفردة من مفردات تفكيره الأصولي، فمن المنهجية الرائعة التي
لا يتخلف عنها، إلى الدقة المنقطعة النظير والتي قل أن تفوتها صغائر المحتملات
في كل مسألة تصدى لدراستها، إلى التجديد المستوعب حتى ليمكن القول إنه
لا تكاد تستثنى مسألة أصولية من محاولة جديدة إما في المضمون أو في طريقة
العرض، كل هذه سمات بارزة على تفكير مدرسة المحقق العراقي قدس الله سره.
وكتاب المقالات - الذي بين أيدينا - هو الكتاب الذي يجمع آخر ما
توصلت إليه المدرسة العراقية في التفكير الأصولي ويعد من أهم مصادر الفكر
الأصولي المعاصر، وقد كانت تحول دون الاستفادة الكاملة من هذا الكتاب
عوامل منها: تعقيد العبارة، ومنها الطباعة غير الفنية والمليئة بالأخطاء الفاحشة
المغيرة للمعنى، والتي كانت في كثير من مواردها تزيد تعقيد العبارة تعقيدا يجعل
الوصول إلى المعنى المراد شبه المستحيل، وقد بذل فضيلة حجة الاسلام الشيخ
محسن العراقي وفضيلة السيد منذر الحكيم جهدا كبيرا في سبيل تصحيح متن
الكتاب عن طريق عرض نسخته على النسخ المصححة تحت إشراف المصنف
نفسه وبأيدي الموثوقين من تلاميذه، وتقطيع عبائره بالشكل الذي يسهل
للمراجعين فهم النص، والتعليق عليه في بعض الموارد التي اقتضت المناسبة أو
الضرورة توضيح ما أغلق من المتن.
وقد تصدى مجمع الفكر الإسلامي لعرض هذا الأثر العلمي القيم
بالشكل الذي يتناسب والمكانة التي يحتلها في عالم الفكر، شاكرا المولى سبحانه
وتعالى على هذا التوفيق وآملا منه سبحانه الرضا وحسن القبول. ولا يسعنا إلا
أن نتقدم لسماحة حجة الاسلام والمسلمين الشيخ محمد مهدي الآصفي دام عزه
12

بجزيل الشكر لما أتحفنا به من دراسة عن حياة المحقق العراقي قدس سره راجين
منه تعالى له ولسائر الإخوة الذين شاركونا في حسن الإخراج دوام التوفيق
وحسن القبول إنه سميع مجيب.
مجمع الفكر الإسلامي
16 من ذي الحجة 1412 ه. ق
13

حياة المحقق العراقي قدس سره
1278 - 1361
نشأته العلمية
ضياء الدين علي بن المولى محمد العراقي، ولد في سلطان آباد العراق سنة
1278 في بيت علم وكان والده المولى محمد العراقي من الفقهاء الأجلاء كما
يقول الشيخ آقا بزرك في ترجمته له في نقباء البشر (1) وقد أجيز (والده) من السيد
شفيع الجابلاقي.
درس على والده بدء الأمر كما درس على لفيف من شيوخ بلده وكان
والده أول أساتذته وشيوخه في العلم، ثم هاجر من مسقط رأسه (أراك: العراق)
إلى إصفهان وأقام فيها للدراسة، درس متون أصول الفقه والفقه والكلام على
السيد ميرزا محمد هاشم الجهارسوقي والميرزا أبي المعالي الكلباسي والآخوند
الكاشي. ثم هاجر إلى النجف الأشرف لإكمال دراسة مسائله الفقهية والأصولية
وقد حدثني تلميذه المحقق الفقيه الشيخ ميرزا هاشم الآملي حفظه الله أنه جاء
إلى النجف الأشرف مجتهدا حضر فيها على كبار شيوخها وفقهائها وأساتذتها
فحضر أبحاث السيد محمد الفشاركي الأصفهاني ثم حضر دروس الميرزا حسين
الخليل والآخوند الخراساني (صاحب الكفاية) والسيد محمد كاظم اليزدي وشيخ
الشريعة الأصفهاني.

(1) نقباء البشر: 956.
15

وقد لمع اسمه في فضلاء عصره في بحث المحقق الخراساني. يقول الشيخ
آقا بزرك الطهراني رحمه الله وهو من زملائه يومئذ في درس الآخوند: (ولا أزال أتذكر
جيدا إنه كان من أجلاء تلامذة شيخنا الخراساني وكبارهم ومن مدرسي السطوح
المعروفين يومذاك) (1).
وتصدى للتدريس للسطوح العليا وخارج الفقه والأصول - كما حدثني
تلميذه الشيخ ميرزا هاشم الآملي (حفظه الله) - ستين سنة واشتغل في التدريس
على منبر الدراسات العليا (بحث الخارج) أكثر من ثلاثين سنة بعد وفاة أستاذه
الشيخ محمد كاظم الخراساني سنة 1329. وبرز في التدريس، وكان مجلس درسه
حافلا بفضلاء عصره لما به من دقة الرأي وعمق النظر وسداد التفكير وسلامة
الذوق الفقهي والإحاطة بكلمات الفقهاء والفهم أو المنهجية في البحث
وعذوبة البيان وطلاقة المنطق... وكان كل ذلك يحببه إلى تلاميذه فيؤثرون درسه
على كثير من دروس معاصريه من مشايخ النجف وفقهائها وكان رحمه الله متميزا في
مجلس درسه بإفساح الفرصة للطلاب في المناقشة الحرة ولم يكن صدره ضيقا
بمناقشة طلابه. وكان طلبته يجدون في سعة صدره فرصة مناسبة لطرح مناقشاتهم
بصورة حرة مع شيخهم في مجلس الدرس وكانت تنقل هذه المناقشات
والمطارحات من الشيخ وتلاميذه نكات طريفة كان يتفكه بها طلبة العلم في
مجالسهم الخاصة يومئذ في النجف الأشرف ولا تزال بعض هذه النكات عالقة في
ذاكرة شيوخ العلم في النجف وقم إلى اليوم الحاضر.
تخرج على يده أكثر من ثلاثة آلاف من الفقهاء والمجتهدين ومراهقي
الاجتهاد والفضلاء كما حدثني بذلك المحقق الآملي حفظه الله. ومن أبرز تلاميذه
الذين تخرجوا من مجلس درسه وبرزوا في الأوساط الدينية والسياسية والفقهية

(1) نقباء البشر: 957.
16

والتدريس والتأليف والتحقيق:
السيد عبد الهادي الشيرازي والسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم
الخوئي والشيخ محمد تقي الآملي والشيخ محمد تقي البروجردي والسيد ميرزا
حسن البجنوردي والشيخ عبد النبي العراقي والسيد يحيى اليزدي والميرزا
هاشم الآملي والسيد أحمد الخونساري والسيد اليثربي والسيد محمود الشاهرودي
والشيخ موسى الخونساري والشيخ حسين الحلي والسيد عبد الله الشيرازي وآقا
بزرك الشاهرودي وغيرهم من فقهاء العصر وقد تولى جمع منهم مرجعية الطائفة
وزعامتها في عصره وسوف نأتي بقائمة بأسماء أشهر وأبرز تلاميذه.
درس الأصول عدة دورات ودرس الفقه دورة كاملة تقريبا، وقليل من
الفقهاء من تمكن من تدريس الفقه دورة كاملة.
وكان من عادته رحمه الله أن يكتب ما يدرسه فدرس مرات عديدة وكتبها
كل مرة كما كتب المكاسب عدة مرات وكتب الرضاع مرتين.
كان من مراجع عصره ورجع إليه جمع من المؤمنين في العراق وإيران وقد
علق على رسالة الشيخ عبد الله المازندراني العملية، وطبعت تعليقته العملية لتنبيه
أمور المقلدين الذين يرجعون إليه في التقليد ولكنه بقي بعيدا عن أجواء الزعامة
الدينية وآثر أن يتفرغ للعلم والتحقيق وقد آتاه الله تعالى ما يريد وفتح عليه
فتوحا جليلة في الفقه والأصول واستمر في التدريس إلى آخر عمره. ولما غلبه
الضعف أخريات حياته لم يحب أن ينقطع عن التدريس فكان يركب من بيته
إلى مجلس درسه العامر في جامع الشيخ الطوسي في النجف الأشرف وهو أمر لم
يألفه المدرسون يومذاك في النجف الأشرف. وكان رحمه الله كثير الاشتغال عميق
النظر والرأي يعد في القمة من فقهائنا المعاصرين، بحاثا قوي الحجة دؤوبا في
الأعمال العلمية، دائم التفكير لا يفارقه العمل العلمي تفكيرا أو تدريسا أو
تأليفا إلا في أوقات العبادة والراحة وكان في حياته الشخصية زاهدا قانعا باليسير
17

من أسباب الدنيا، معرضا عن الدنيا، مقبلا على أعماله العلمية، ورعا تقيا، حلو
المعاشرة، تغمده الله برحمته.
أخلاقه:
كان الفقيه العراقي معروفا بالتواضع وطيب الأخلاق وخفة الروح
والابتعاد عن التكلفات التي يلتزم بها من شأنه مثله في الفقاهة والعلم والزعامة
الدينية. وكان تلاميذه يحبونه بسبب هذه البساطة في المعاشرة ومنهم من كان
يختص به في كل دروسه في الفقه والأصول مثل جدنا الفقيه الشيخ محمد تقي
البروجردي رحمه الله الذي اختص به ولازمه في حياته، ولم يفارقه حتى فرق بينهما
الأجل الذي لابد منه. كان يشعر تلاميذه تجاهه بعلاقة أعمق وأوسع من علاقة
التلمذة، فقد كان أستاذهم وصديقهم في وقت واحد. فكان رحمه الله إذا رقى منبر
الدراسة يهيمن على عقولهم وأفكارهم يصغون إليه باحترام فإذا نزل المنبر
وجلسوا إليه في مجالسه الخاصة أنس بهم وأنسوا به وبادلهم النكت والطرف
ويحفظ له تلاميذه نكتا ظريفة كثيرة، كانوا يتفكهون بها عندما يتذكرون شيخهم
العراقي ويترحمون عليه. وقلما رأيت في شيوخ العلم من يحفظ له تلاميذه بين
احترام العلم وتوقير الفقه وانس الخلة فيما يجري بين الأخلاء من طرف ومرح
ومزاح ليس فيه معصية الله ولا تجاوزا لحدود الأدب الذي يتطلبه مثل هذه
الحالات. وكانت مع ذلك مجالسه الخاصة مثالا للالتزام بحدود الله وتقوى
المعاشرة فلا يسمح لأحد من جالسيه أن يمس أحدا بسوء أو ينال منه أو يذكر
أحدا في غيابه بما حرم الله تعالى من الغيبة وكان لهذه التربية العملية أثرا حسنا
على نفوس تلاميذه.
مواهبه العقلية:
كان من نوابغ عصره من دون ريب وقد آتاه الله تعالى فكرا قويا ثاقبا
18

ورؤية صافية ونقية لمسائل الفقه وذوقا سليما سويا في التفكير والاستدلال كان
سريع الانتباه والانتقال قوي الحجة والعارضة وكان ذلك يمنحه موضعا متفوقا
في البحث والحوار العلمي وكان مشهودا له بذلك من قبل أقرانه. وما فتح الله
تعالى عليه في الفقه والأصول من رؤى وتصورات وأفكار جديدة وما فتح الله
تعالى على يده من آفاق جديدة يشهد له بذلك. وقد عرف رحمه الله منذ نشأته
الفكرية الأولى ومنذ شبابه المبكر بحدة الذكاء وقوة التفكير وسلامة الذوق
والرأي وكان موضع احترام وإكبار أساتذته الذين يدرس عندهم، وكان المحقق
العراقي من النفر الذين يصغي إليهم أستاذهم (الخراساني) ويسكت إذا بدأ
بالكلام أثناء الدرس، وكان (الخراساني) معروفا بقوته في ضبط نظام الدرس
وهيمنته على طلبته ومن دون ذلك لم يكن بالإمكان أن يحفظ نظام مثل هذا
الدرس المهم الذي يضم أكثر من ألف طالب فيهم الكثير من الفقهاء
والمجتهدين وأساتذة الفقه والأصول فكان يسكت تلاميذه إذا تكلموا بكلام
ضعيف. وكان بين تلاميذه نفر من الفقهاء معروفين بعمق النظر ودقة الرأي
والسداد في التفكير والسلامة في الذوق يمنحهم شيخهم الخراساني احتراما
وتقديرا أكثر من غيرهم فإذا تكلم أحدهم توقف عن الاستمرار في الدرس
وأصغى إليه باحترام. وكان من هؤلاء المحقق العراقي. وقد حدثني العلامة السيد
هبة الدين الشهرستاني رحمه الله قال كان يتفق أن شبهة أو نكتة في الدرس كانت
تثير النقاش والحوار من الطلبة فترتفع أصوات الطلبة بالاعتراض والنقاش فإذا
تكلم أحدهم (ومنهم السيد آقا حسين البروجردي رحمه الله وكان يحدثني عن فقاهة
السيد البروجردي ونبوغه في شبابه) أشار المحقق الخراساني إلى الطلبة يطلب
منهم أن يسكتوا ليستمع إليه.
وكان المحقق العراقي رحمه الله سريع الانتقال قوي العارضة قوي الحجة
بحاثا يدير الحوار العلمي بكفاءة علمية يوصل محاوره إلى النتيجة من أقرب
19

الطرق وأيسرها. كان يقول أحد الفضلاء من تلاميذ المحقق النائيني قد كنت
أسمع من أستاذنا النائيني رأيا يختلف عن رأي زميله المحقق العراقي فأقتنع
برأي شيخنا النائيني بشكل كامل، فإذا جلست إلى الشيخ العراقي وناقشته فيه
أقنعني بخلافه وقمت عنه وأنا مقتنع بصحة رأيه وعدم صحة رأي أستاذنا الشيخ
النائيني فأرجع إلى المحقق النائيني فيعيد إلي قناعتي الأولى وأعجب من نفسي
كيف تغيرت قناعتي الأولى القائمة على أسس متينة فلما أعود إلى المحقق
العراقي وأناقشه في المباني والأساس الذي سمعته من أستاذي زلزل قناعتي من
جديد ووجدتني من جديد في حيرة من أمري. وقد كان رحمه الله يواجه معضلة في
المبادئ والأفكار الأصولية فيغرق في التفكير، وينقطع عما حوله حتى يفتح الله
عليه وهو من علامات النبوغ الفكري.
تلاميذه:
تخرج من مجلس درسه الشريف - كما ذكرنا - عدد من العلماء وفيما يلي
نذكر طائفة منهم:
1. السيد أحمد المستنبط (1325 - 1399) نقباء البشر 1: 100.
2. السيد إسماعيل السدهي (1302 - 1373) نقباء البشر 1: 155
3. الشيخ محمد بن زين الدين البحراني البصري (1333 -)
نقباء البشر 1: 179
4. السيد محمد تقي الخوانساري (1305 - 1371) نقباء البشر 1: 246
5. السيد محمد تقي آل بحر العلوم (1318 - 1393) نقباء البشر 1:
249،
6. الشيخ محمد تقي البروجردي (- 1391) نقباء البشر 1:
259،
20

7. الشيخ محمد تقي الآملي (1304 - 1391) نقباء البشر 1: 267
8. السيد محمد جعفر الجزائري (1276 - 1350) نقباء البشر 1: 291
9. السيد محمد جمال الدين التبريزي (1326 - 1369) نقباء البشر 1:
307،
10. السيد محمد حسين الدزفولي (1301 - 1362) نقباء البشر 2:
521،
11. السيد حسين الشاهرودي (1315 - 1373) نقباء البشر 2: 534
12. الشيخ الميرزا محمد حسين الخياباني (1300 - 1392) نقباء البشر
2: 559
13. الشيخ حسين الهمداني النجفي (1303 - 1396) نقباء البشر 2:
622،
14. الشيخ محمد حسين آل مظفر (1312 - 1381) نقباء البشر 2:
646،
15. الشيخ خضر الدجيلي (1303 -) نقباء البشر 2: 699
16. الشيخ راضي التبريزي (1326 -) نقباء البشر 2: 717
17. الشيخ محمد رضا فرج الله النجفي (1319 - 1386) نقباء البشر
2: 756
18. الشيخ آغا رضا المدني الكاشاني (1320 -) نقباء البشر 2:
759،
19. الشيخ محمد رضا المظفر (1323 - 1383) نقباء البشر 2: 772
20. السيد محمد رضا التبريزي (1296 - 1378) نقباء البشر 2: 781
21. الشيخ سعادت حسين الهندي (1330 -) نقباء البشر 2:
810،
21

22. الشيخ محمد حسين الآيتي (1310 -) نقباء البشر 2: 890
23. الشيخ حسين الحولاوي النجفي (1313 - 1388) نقباء البشر 2:
894،
24. الشيخ محمد رضا الطبسي (1322 -) نقباء البشر 2: 899
25. الشيخ صفر علي العراقي (1303 - 1379) نقباء البشر 2: 952
26. الشيخ عباس الطهراني (1298 - 1360) نقباء البشر 2: 990
27. الشيخ عبد الصاحب الجواهري (- 1352) نقباء البشر 2:
1128،
28. الشيخ عبد الكريم مغنية العاملي (1311 - 1354) نقباء البشر
2: 1180
29. الشيخ علي الجشي (1296 - 1376) نقباء البشر: 1379
30. السيد علي اليثربي الكاشاني (1311 - 1379) نقباء البشر
: 1432
31. السيد محمد علي الجزائري (1298 - 1360) نقباء البشر: 1460
32. السيد علي مدد القائني (1301 - 1384) نقباء البشر: 1626
33. السيد أسد الله النبوي الدزفولي (1313 - 1403) تراجم الرجال:
24،
34. السيد تقي الرودباري الرشتي (- 1359) تراجم الرجال:
31،
35. الميرزا عبد الله الهشترودي (ق 13 - ق 14) تراجم الرجال: 89
36. السيد علي الإشكوري (1319 - 1398) تراجم الرجال: 96
37. السيد علي الشاهرودي (1336 - 1376) تراجم الرجال: 99
38. الشيخ كاتب الطريحي (1305 - 1388) تراجم الرجال: 122
22

39. الشيخ محمد المهدوي اللاهيجي (1317 - 1403) تراجم الرجال:
143،
40. الشيخ محمد الإشكوري (- 1356) تراجم الرجال: 160
41. الشيخ فاضل اللنكراني (1313 - 1402) تراجم الرجال: 266
آثاره العلمية:
ضاع - مع الأسف - جملة من آثار المحقق العراقي وما بقي منها في أيدينا
اليوم هو:
1. استصحاب العدم الأزلي - كتبه سنة 1348 هجرية قمرية وطبع مع
روائع اللئالي له.
2. أحكام الرضاع. (المفصل)
3. البيع. طبع في النجف وهو مستل من شرحه على التبصرة
4. تعاقب الأيدي (رسالة). ألفها سنة 1357 وطبعت مع كتاب القضاء
له.
5. تعليقات على رسائل الشيخ الأنصاري. نقلا عن المفصل في تراجم
الأعلام.
6. تعليقات " فوائد الأصول " والفوائد هو تقريرات الميرزا حسين
النائيني كتبها الشيخ محمد علي الكاظمي طبعت مع الأصل عام (1406) في قم.
7. حاشية جواهر الكلام. نقلا عن " المفصل "
8 - حاشية العروة الوثقى. ذكر في نقباء البشر أنها طبعت في إيران مع
" العروة الوثقى " مع تعليقات السيد أبي الحسن الأصفهاني والسيد آقا حسين
القمي والسيد حسين البروجردي.
وله رحمه الله حاشية استدلالية موسعة على العروة الوثقى طبعتها أخيرا
مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين في قم.
23

9. حاشية كفاية الأصول. وعليها تعليقة للسيد علي النجف آبادي
(1287 - 1362) وعليها حاشية للسيد علي التنكابني المتوفى (1362) ذكرهما
في نقباء البشر (4: 1318، 1381)
10. حاشية المكاسب نقلا عن " المفصل "
11. حجية القطع (رسالة) نقلا عن " المفصل "
12. روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي. ألفه سنة 1337 طبع
بالنجف سنة (1366) وذكره في نقباء البشر بعنوان " فروع العلم الاجمالي "
13. شرح التبصرة. طبع سنة أجزاء منه بتحقيق الشيخ محمد هادي
معرفة وقبله طبع في إيران. وذكره في الذريعة (13: 135)
14. الشرط المتأخر (رسالة) نقلا عن " المفصل "
15. الصلاة. فرغ منه في ثاني ذي الحجة (1337) وله نسخة بخط
المؤلف في مكتبة المرعشي (8: 226) برقم (3102).
16. قاعدة الحرج نقلا عن " المفصل "
17. قاعدة لا ضرر نقلا عن " المفصل "
18. القضاء ألفه سنة 1333 وطبع بالنجف وبالأفست في قم. إنتهى فيه
إلى بحث تعاقب الأيدي. وهو مستل من شرحه على التبصرة. نقلا عن
" المفصل " لكن جاء في نقباء البشر أنه فرغ منه سنة (1357).
19. اللباس المشكوك (رسالة). ألفها سنة (1342) وطبعت مع روائع
اللئالي.
20. مقالات الأصول. في جزئين. طبع الأول منهما سنة (1358) بالنجف
والثاني سنة (1369) بطهران. وذكرها في الذريعة (21: 389) كتبها تلميذه
الميرزا عبد الله بن محمد حسن الهشترودي التبريزي عام (1338) مصرحا
بتلمذته لدى المؤلف. راجع (تراجم الرجال: 89)
24

وفاته:
توفي رحمه الله ليلة الاثنين (28) من ذي القعدة 1361 في النجف الأشرف.
وكان لوفاته رحمه الله أثر الفاجعة في نفوس طلابه ومحبيه ومر يديه وشيوخ الفقه
والعلم في النجف الأشرف، وقد شيعه جماهير العلماء والطلبة والمؤمنين في النجف
وأودعوه مثواه الأخير في الجانب الغربي من صحن الروضة الحيدرية في الحجرة
الثانية على يسار الداخل إلى الصحن الشريف من الباب الغربي (المعروف
بباب العمارة). أقيمت له مجالس عزاء كثيرة في أقطار العراق وإيران ورثاه
الشعراء ومما قيل في رثائه من الشعر ما نظمه الخطيب الشيخ جواد القسام.
- ما مات من آثاره بعده * بين الورى باقية الاسم -
- لما سروا بنعشه والهدى * ظلت أسى عيونه تدمى -
- بلوعة أرخته قد دجا * بعد ضياء أفق العلم -
رحمه الله تعالى وحشره مع أوليائه الصالحين ورزقنا شفاعته وجواره في
مستقر رحمته.
قم - محمد مهدي الآصفي
في 22 صفر 1413
25

مجمع الفكر الإسلامي
، 12،
مقالات الأصول
تأليف
المحقق الأصولي الكبير آية الله العظمى
الشيخ ضياء الدين العراقي قدس سره
(1278 - 1361 هق)
الجزء الأول
تحقيق
الشيخ محسن العراقي السيد منذر الحكيم
27

المقالة الأولى
فيما يتعلق بالعلم
موضوعا وغاية وتعريفا
29

بسم الله الرحمن الرحيم
[المقالة الأولى]
[فيما يتعلق بالعلم موضوعا وغاية وتعريفا]
اعلم أن ديدن الأصحاب من الصدر الأول على تدوين شتات من
القواعد الوافية بغرض ومقصد مخصوص، وجعلها فنا خاصا يتعلق بها العلم (1)
تارة والجهل أخرى، وتكون ذواتها محفوظة في نفس الامر والواقع - وإن لم يكن
لها محصل في العالم - وبهذا الاعتبار أيضا يقال: بأن المسألة الكذائية من أجزاء
فن دون آخر، فأسامي هذه الفنون - مثلا كالنحو والصرف والفقه والأصول -
حاكيات عن نفس تلك الشتات بأجمعها - مع قطع النظر عن إدراكها - ولذلك
صحت إضافة العلم إليها تارة والجهل أخرى فيقال: فلان عالم بالنحو مثلا أو
جاهل به.
نعم قد يطلق العلم على نفس هذه العناوين (2). ويضاف الموضوع الخاص
إليه (3) فلا بد وأن يراد من العلم حينئذ نفس القواعد الواقعية، إذ لا معنى

(1) للعلم اطلاقان: أحدهما بمعنى انكشاف الواقع تصورا أو تصديقا. ثانيهما بمعنى القواعد التي
يتألف منها فن خاص، والمراد بالعلم هنا هو الأول وأشار إلى الثاني بقوله الآتي: (نعم قد يطلق
العلم على نفس هذه العناوين.
(2) المراد ب‍ (هذه العناوين): النحو والصرف والأصول، فالعلم هو نفس الفن المؤلف من
قواعد خاصة.
(3) وذلك حينما يقال مثلا: (الكلمة والكلام) موضوع علم النحو.
31

لإضافة الموضوع المزبور إلى التصديق بها (1)، لان معروض التصديق هو النفس
ومتعلقه نفس القواعد، فلا مجال لإضافة الموضوع المزبور إليه. كما أن في إضافة
الغاية (2) إليه لابد وان يراد من العلم هذا المعنى أيضا، لو أريد من الغاية ما
يترتب على نفس هذه الشتات (3)، لا الأغراض المترتبة على تحصيل العلم بها،
إذ مثلها ربما تختلف باختلاف أغراض المحصلين فقد لا يكون غرض المحصل
لعلم النحو مثلا حفظ كلامه عن الغلط بل يحصله لمقاصد اخر لا تكون تحت
ضبط - ولعل ما ذكرناه هو مقصود من (4) جعل أحد معاني العلم: المحمولات
المنتسبة (5)، وان كان الأولى (6) جعله عبارة عن نفس القواعد بموضوعاتها

(1) هذا تعليل لبيان ان (العلم) - عند إضافة الموضوع الخاص إليه - لابد ان يراد به نفس
القواعد، ولا يصح ان يراد به المعنى الأول (وهو انكشاف الواقع تصديقا)، إذ لو أريد به المعنى
الأول لكان معنى قولهم: (الكلمة والكلام موضوع علم النحو) هو: (ان الكلمة والكلام
موضوع التصديق بالنحو) ومرجعه إلى أن (معروض التصديق بالنحو هو الكلمة والكلام "
والحال ان معروض التصديق هو النفس. فلا بد أن يراد بالعلم حينئذ: نفس القواعد التي يتعلق
بها العلم تارة والجهل أخرى لا الانكشاف التصديقي.
(2) هذا بيان آخر لتوضيح ان المراد بالعلم هو المعنى الثاني أيضا وذلك حينما تضاف الغاية إلى
العلم كأن يقال: (غاية علم النحو: حفظ اللسان عن الخطأ في المقال).
(3) الغاية من علم النحو مثلا على نحوين: غاية تترتب على نفس القواعد، وغاية تترتب على
العلم بالقواعد، والغاية المطلوبة من نفس القواعد حينما تضاف إلى العلم فلا بد من إرادة المعنى
الثاني للعلم لتصح الإضافة.
(4) وهو صاحب الفصول إذ ذكر معاني العلم فقال: (ومنها - أي من معاني العلم - المسائل وهي
القضايا أو المحمولات المنتسبة واليه يرجع قولهم فلان يعلم النحو أي مسائله) الصفحة 2
الطبعة الحجرية.
(5) وهذا يشعر بخروج موضوعات القضايا عن نظام العلم - بالمعنى الثاني - ولا يخفى ما فيه،
لوضوح ان الموضوعات مقدمة للقضايا كالمحمولات، والقضايا باجزائها تكون من قوام العلم
بالمعنى الثاني بدائع الأفكار صفحة 3.
(6) وجه الأولوية.
32

ومحمولاتها لا خصوص المحمولات المنتسبة، كما لا يخفى.
تذكار فيه ارشاد: وهو ان المراد من الغرض في كل شئ هو: المقصد
الأصلي وما تعلق به قصده الأولي على وجه يكون داعيا إلى تحصيل مقدماته
وموجبا للتوصل بها إليه، فلذا لا بد من [ترتبها] [عليه] نظرا إلى أن الإرادة
التوصلية لا تكاد تتعلق الا بما يترتب عليه [ذوها] - كما سيأتي شرحه في باب
المقدمة ان شاء الله تعالى - ومن هذه الجهة نلتزم بأن دائرة الغرض دائما تكون
بمقدار دائرة المراد (1) ويستحيل أن يكون [أوسع] أو [أضيق]، وحينئذ فالغرض
من كل مقدمة عند تعددها ليس وجود الشئ بقول مطلق لاستحالة ترتبه عليها
وحدها إذ هو خلف (2)، بل لابد أن يكون الغرض منها حفظ وجود المقصد
الأصلي من قبلها وسد باب عدمه من ناحيتها (3).

(1) أي المقدمات المرادة بالإرادة التوصلية.
(2) إذ المفروض ترتب الغرض على مجموع المقدمات فترتبه على أحدها خلاف الفرض. وعليه
فالغرض المترتب على كل مقدمة ليس وجوده بقول مطلق بل جهة من جهات الغرض وعلى
حد تعبير المصنف هو: سد باب عدم الغرض من جهة تلك المقدمة.
(3) هذه إشارة إلى جواب سؤال قد يثار في المقام وحاصل السؤال: ان المسائل المدونة في العلوم
لا تنتج بنفسها الأغراض المذكورة لها، مثل: حفظ اللسان عن الخطأ في المقام - في علم النحو
مثلا -، بل لابد لهذه المسائل من ضم مقدمات أخرى إليها، كتعلم تلك المسائل وإرادة
تطبيقها - لتنتج الأغراض المذكورة لها. وعليه فلا وجه لما يقال من أن غرض علم النحو مثلا
هو حفظ اللسان عن الخطأ في المقال. لعدم حصوله من وجود مسائل علم النحو بمجردها.
وحاصل جوابه الاجمالي: ان هذه المسائل وإن لم تنتج بمجردها - تلك الأغراض، ولكنها
تشارك في تحققها. بمعنى ان وجود كل شئ باعتبار توقفه على سد جميع الأبواب التي يتطرق
العدم منها إليه، وانعدام كل مقدمة من مقدمات وجوده يعني انفتاح باب من أبواب عدمه،
فوجود كل مقدمة من مقدماته يعني انسداد باب من أبواب عدمه. فالمسائل بمجردها انما
تسد ما يخصها من أبواب عدم الغرض. وبهذا يتضح معنى: ان كل مقدمة تسد باب عدم
الغرض من ناحيتها.
واما جوابه التفصيلي فحاصله: ان غرض علم النحو - مثلا - ان كان هو حفظ اللسان
عن الخطأ فالايراد عليه بأن الحفظ لا يترتب على المسائل بمجردها، بل لا بد من معرفتها
وإرادة تطبيقها أيضا، مردود بأن معنى ترتب الحفظ على المسائل بمجردها حينئذ هو: انسداد
ما يخصها من أبواب عدم الحفظ.
وان كان الغرض من علم النحو هو اتصاف الكلام بالصحة فهذا الغرض - وهو
الاتصاف بالصحة - مترتب على ذات المسائل لا على العلم بها وإرادة تطبيقها; لان مجرد وجود
القواعد النحوية يكفي لاتصاف الكلام بالصحة لو طابق تلك القواعد.
33

وبعد ذلك نقول: ان أغراض العلوم المعروفة في كلماتهم - من مثل حفظ
الكلام هيئة في النحو، ومادة في الصرف، وحفظ فعل المكلف في الفقه، بل وحفظ
استنباط حقائق الأشياء ومعرفتها من مثل قواعد العلوم الفلسفية والرياضية
كحفظ استنباط الاحكام من القواعد الأصولية وهكذا - ليس حفظ الوجود
بقول مطلق، كيف! وهذا المعنى يستحيل ان يترتب على صرف القواعد الواقعية،
ولا على مجرد العلم بها، بل لإرادة العامل دخل فيه، وحينئذ فلا محيص ان يجعل
المقصد المزبور ما يترتب على هذه القواعد من حفظ وجود هذا المقصد من
ناحيتها ومرجعه - في الحقيقة - إلى ما ذكرنا من: سد باب عدمه من قبلها.
نعم لك ان تجعل الغرض من كل علم: تصحيح الاعمال القابلة للصدور
من فاعلها قولا أو فعلا أو استنباطا كتصحيح الكلام هيئة في النحو، ومادة في
الصرف، وأفعال المكلفين في الفقه، وهكذا.. إذ التصحيح المزبور مترتب على
نفس القواعد نظرا إلى أن القواعد المزبورة من مبادئ اتصاف هذه الأمور
المسطورة بالصحة، قبال مبادئ ايجاد هذه الأمور الصحيحة في الخارج فارغا
عن اتصافها بها (1). ومن البديهي ان مبادئ الايجاد غير مرتبطة بمبادئ
التصحيح وخارجة عنها، [فتنحصر] على هذا مبادئ التصحيح بنفس القواعد
بلا دخل شئ آخر فيها، ففي مثل هذا العنوان صح لنا دعوى ترتبها بقول
مطلق على القواعد المزبورة بلا دخل شئ آخر فيها، ويمتاز هذا العنوان عن

(1) أي بعد الفراغ عن اتصافها بالصحة.
34

الحفظ المسطور في كلماتهم بذلك، كما لا يخفى.
تذييل فيه تحقيق: (1) وهو ان دخل المسائل في الغرض المزبور ليس من
باب دخل المؤثر في المتأثر، بل انما هو من باب دخل ما [تقوم] به الإضافة
لنفسها (2)، لأن عنوان الحفظ المزبور والصحة المسطورة انما ينتزع من تطبيق
القواعد المعهودة على ما ينسب إليه الحفظ والصحة، فالقواعد الواقعية في
الحقيقة منطبقة على مواردها، فمن هذا الانطباق ينتزع العنوانان، والا فالمؤثر في
وجود هذه الاعمال الموصوفة بأحد الوصفين هو: إرادة العامل على ايجاد العمل
صحيحا أو محفوظا، مثلا صحة الصلاة وحفظها [منتزعان] من تطبيق القواعد
المضروبة [لهما] عليها (3) وقس عليه صحة الكلمة والكلام والاستنباط وهكذا..
وحينئذ فلا طريق إلى اخذ جامع بين الشتات بمحض وحدة الغرض المترتب
عليها، إذ ليس في المقام جهة تأثير وتأثر كي يبقى مجال استكشاف الجامع بين

(1) جاء في الفلسفة: ان الواحد لا يصدر منه الا الواحد. وقد حاول بعض الأصوليين الاستدلال
بهذه القاعدة لاثبات ضرورة وجود موضوع خاص لكل علم تدور حوله مسائل ذلك العلم.
بتقريب: ان لكل علم غرضا واحدا مترتبا على مسائله. والغرض الواحد لابد ان يصدر من
واحد، لا من متعدد، فلا بد من وجود وحدة نوعية بين الموضوعات المختلفة لمسائل العلم
الواحد، وهذه الوحدة النوعية هي ما يعبر عنه بموضوع العلم.
ولكن المصنف لم يرتض تطبيق هذه القاعدة الفلسفية في هذا المجال فأجاب عنه بوجوه.
الوجه الأول: ان نسبة الغرض إلى المسائل ليست نسبة المعلول إلى العلة ليقال بان
المعلول الواحد لابد ان يصدر من علة واحدة، وانما نسبة الغرض إلى المسائل نسبة الإضافة
إلى ما تقوم به الإضافة، إذ المسائل مقياس للاتصاف بالصحة وليست عللا موجدة للصحة،
فليس الغرض امرا توليديا وانما هو امر إضافي فحسب، وسوف نشير إلى سائر الوجوه حين
تعرض المصنف لها.
(2) أي لنفس الإضافة وهي انطباق القواعد المدونة على الكلام - في علم النحو - أو مطابقة
الكلام للقواعد ومنه تنتزع الصحة.
واما ما تقوم به الإضافة فهو المضاف إليه وهو نفس القواعد المدونة.
(3) لصحة الصلاة وحفظها على الصلاة.
35

الشتات بالبرهان المعروف (1)، بل (2) لو فرض كون دخلها في الغرض المسطور
دخلا تأثيريا لا يقتضي البرهان المعهود أيضا اخذ جامع بينها لأن مجرد وحدته
وجودا مع اختلاف الجهات فيه لا يوجب وحدة سنخية بين الشتات، بل من
الممكن أن يكون كل واحد من الشتات بخصوصيتها مؤثرا في جهة منه دون
جهة، نعم لو كان الغرض بسيطا من جميع الجهات لا بد من انتزاع جامع بين
[مؤثراته] بالبرهان. بل (3) بناء على ذلك لا تختص الموضوعات بالجامع المزبور،
بل لا بد من انتزاع الجامع بين المحمولات أيضا، بل وبين [المحمولات
والموضوعات] كذلك، ولكن أنى لنا بذلك في أمثال المقام، كما عرفت، فحينئذ (4)

(1) وهو برهان (ان الواحد لا يصدر الا من الواحد).
(2) من هنا يبدأ ببيان الوجه الثاني لتزييف تطبيق القاعدة الفلسفية وحاصله: انه بعد التسليم
بأن نسبة الغرض إلى المسائل نسبة المعلول إلى العلة لم يمكن تطبيق كبرى (استحالة صدور
الواحد الا من واحد) على المقام أيضا. إذ المراد بالواحد في هذه الكبرى هو الواحد البسيط
من جميع الجهات، بينما الغرض - بالرغم من وحدته وجودا - متعدد الجهات (غير بسيط).
فلا موجب لفرض وحدة سنخية بين المسائل لتكون علة لتحقق هذا الغرض (غير البسيط)،
بل يكون كل سنخ من المسائل مؤثرا في جهة من جهات هذا الغرض المركب (حقيقة)
الواحد وجودا.
(3) من هنا يبدأ ببيان الوجه الثالث لتزييف تطبيق القاعدة المزبورة وحاصله: انه لو سلمنا وحدة
الغرض من جميع الجهات (وجودا وحقيقة)، لكان اللازم من تطبيق كبرى (استحالة صدور
الواحد الا من واحد) هو: لا بدية وجود وحدة سنخية بين المسائل بما تحتوي عليه من اجزاء،
أي لا بد من افتراض وحدة سنخية بين موضوعات المسائل من جهة، وافتراض وحدة
سنخية بين محمولاتها من جهة أخرى، ووحدة سنخية بين الموضوعات والمحمولات من جهة
ثالثة.
ومن المعلوم عدم امكان افتراض جامع سنخي بين موضوعات المسائل ومحمولاتها، إذ
المحمولات عوارض للموضوعات، ولا يعقل وجود وحدة سنخية بين العارض ومعروضه.
(4) بعد امتناع فرض جامع ما هوي للموضوعات المتشتتة، يتعين الجامع العنواني وهو جامع
انتزاعي (صوري) لا حقيقي.
36

فلا طريق إلى اخذ جامع بين الموضوعات المسائل المختلفة ما لم يكن لها جهة
جامعة صورية من باب الاتفاق.
كما أنه لا مجال لجعل امتياز العلوم باطلاقها بتميز موضوعاتها، كيف! وفي
غالب العلوم لا يكون جامع صوري بين موضوعات المسائل، إذ ترى ان الكلمة
غير الكلام (1) لتقوم الكلام بنسبة معنوية خارجة عن سنخ اللفظ، وكذا التصور
غير التصديق (2)، والفصاحة غير البلاغة (3)، وهكذا الامر في ذوات الأدلة التي
هي موضوع علم الأصول، وفي بعض مسائل الفقه لا يتصور جامع ولو معنويا
مع غيرها، [ونسبتها] كنسبة الوجود والعدم، وذلك كالصوم والصلاة مثلا بعد ما
كان الصوم عبارة عن نفس التروك بشهادة انه لو تبيت في الليل ونام إلى
الغروب كان صومه صحيحا بلا اشكال، وبديهي انه ليس من سنخ الصلاة
وغيرها من سائل الأفعال، فحينئذ أين الموضوع الواحد الذي [تمتاز] به هذه
العلوم عن غيرها؟.
وعليه فلا يبقى مجال جعل امتياز كل علم يميز موضوعه، خصوصا بعد
تعريفهم إياه بما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، إذ في أمثال ما ذكرنا من العلوم
أين الموضوع الواحد الذي يبحث عن عوارضه المزبورة، لأنه ان نظرنا إلى
موضوعات مسائلها المعروضة [لعوارضها] الذاتية فلا تكون الا متكثرات بلا
جامع ذاتي غالبا بينها [مبحوث] عن عوارضه المذكورة، وان نظرنا إلى جامع
عرضي انتزاعي بينها فهو - وان كان واحدا ولكن - لا يكون معروضا لعارض
كي يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية.
نعم ربما يكون لبعض العلوم - ككثير من العلوم الفلسفية والرياضية -

(1) حينما يقال ان موضوع علم النحو: (الكلمة والكلام).
(2) حينما يقال ان موضوع علم المنطق: التصور والتصديق (أو المعرف والحجة).
(3) في علم البيان.
37

موضوع وحداني سار في موضوعات مسائلها بنحو تكون الخصوصيات المأخوذة
في مسائلها - على فرضها - (1) من قبيل الجهات التعليلية لطرو العرض على ذات
الموضوع المزبور مستقلا، نظير الفاعلية والمفعولية بالإضافة إلى عروض الرفع
والنصب مثلا على ذات الكلمة، فضلا عما [إذا] لم يكن الموضوع متخصصا
بالجهة التعليلية أيضا، بل لا يكون تخصصه إلا من قبل العارض وذلك مثل
أبحاث علم الحساب المبحوث فيه عن الاعراض الطارية على نفس
العدد - ككون العدد أوليا أو [أصم] أو كالجمع والتفريق والضرب والتقسيم
واعمال الكسور - أو كأبحاث علم الهندسة المتعرض للوازم المقدار العارضة له
غالبا بنفسه - كمبحث الأشكال والنظريات الهندسية، وحينئذ نقول: ان في
أمثال هذه العلوم أمكن دعوى وجود موضوع وحداني للعلم المبحوث فيه عن
عوارضه الذاتية ولو بجهات عديدة، بل وفيها (2) أمكن دعوى كون امتياز العلوم
صورة بها (3) نظرا إلى أن غاياتها غالبا - لما كان استنباط حقائق الأشياء
بلوازمها - كانت من سنخ واحد، ولا يكون مناط في تحديد غاية كل علم بحد
مخصوص بحسب الظاهر إلا بامتياز موضوعاتها المختلفة بنحو التباين أو العموم
والخصوص، وأين ذلك مما أشرنا إليه من العلوم الأدبية والنقلية حيث إنها في تمام
المعاكسة مع العلوم السالفة، إذ علاوة على عدم موضوع وحداني فيها كانت
غاياتها أيضا في كمال الامتياز بعضها عن الآخر لوضوح اختلافها سنخا، كيف;
وحفظ الكلام عن الغلط غير مرتبط بسنخ حفظ فعل المكلف وهكذا بمقام
حفظ الاستنباط وغير ذلك، ففي مثلها لا محيص من جعل امتياز أمثال هذه
العلوم بامتياز أغراضها لا بموضوعاتها، وحينئذ لا غرو في دعوى الفرق بين

(1) على فرض وجود هذه الخصوصيات.
(2) أي في أمثال هذه العلوم.
(3) أي بالموضوعات.
38

أنحاء كثير من العلوم العقلية من الفلسفة والرياضة، وبين غيرها من الأدبية
والنقلية، في وجه احتياج امتيازها إلى ميز الموضوع أو الغاية، فلا مجال لجري جميع
العلوم على منوال واحد فيما به الامتياز. وببالي ان [الناظرين] في العلوم النقلية
[نظروا] إلى ديدن أهل العلوم العقلية و [رأوا] انهم بنوا في امتياز علومهم غالبا
بموضوعاتها، وغفلوا عن نكتة نظرهم، فاتبعوهم رمية من غير رام، وأجروا مثل
هذه القاعدة في علومهم أيضا فوقعوا من الالتزام بهذا المسلك في علومهم الأدبية
والنقلية في حيص وبيص. وربما التزموا بمحاذير ربما نشير إليها في طي
الكلام.
فالأولى جعل العلوم [صنفين] صنف لا يكون امتيازها إلا بأغراضها
وصنف لا يكون امتيازها إلا بموضوعاتها، وحيث كان الامر كذلك فلا محيص
لنا أيضا من شرح الموضوع، وشرح العوارض الذاتية الواقعة في كلماتهم عند
تعريفهم موضوع العلم كي نكون على بصيرة في جميع العلوم فنقول وعليه
التكلان: ان توضيح هذه العويصة أيضا منوط بتمهيد مقدمتين.
إحداهما: ان الأوصاف المنسوبة إلى شئ، تارة [تنتزع] من نفس ذات
الشئ كالأبيضية والموجودية، المنتزعتين عن البياض والوجود،
وأخرى منتزعة عن جهة خارجة عن ذات الموصوف.
وفي هذه الصورة تارة يكون اتصاف الذات [بها] باقتضاء ذاته (1) وذلك
كتوصيف بعض الأنواع والفصول ببعض خواصها كتوصيف العقل بالمدركية
والانسان بقوة الضحك [والتعجب]
وأخرى لا يكون إلا باقتضاء امر خارجي وذلك أيضا:

(1) أي نفس الذات.
39

تارة يكون الامر الخارجي موجبا لعروض الوصف على شئ بلا كونه
بنفسه معروضة (1) وذلك كالمجاورة للنار الموجب لعروض الحرارة على الماء
مستقلا بمعنى كون الماء تمام المعروض للحرارة بلا دخل المجاورة فيه إلا بنحو
التعليل.
وأخرى يكون الأمر بعكس ما سبق بأن يكون العرض عارضا للواسطة
بلا عروضه لذي الواسطة. وذلك أيضا:
تارة [يكون] [قابلا] للحمل على ذي الواسطة وذلك مثل الخواص
العارضة على الفصل بالنسبة إلى جنسه مثل المدركية العارضة للنفس الناطقة
[فإنها] قابلة للحمل على الجنس بتبع [الحمل على] فصله، ولكن بالدقة لم يكن
عارضا للجنس إذ بعد كون الفصل تمام المعروض لهذا الوصف يستحيل دخول الجنس
في معروضه إذ الجنس وان كان متحصلا بالفعل، [ولكنه] في عين تحصله به، جهة
زائدة عن حيثية أخرى في معروض هذا العارض، كيف؟ وهو خلف محض، ومجرد
وحدتهما وجودا لا يضر بتعددهما جهة وحيثية، والمفروض ان العارض المزبور من
خواص الحيثية الفصلية، فجهة الجنسية حينئذ خارجة عن [هذه الحيثية] فكيف
يصح حينئذ نسبة العروض إليها حقيقة ودقة؟ ولكن بملاحظة قابلية حمل
الفصل على الجنس يصح حمل خواصه عليه ويقال: بعض الحيوان مدرك
للكليات (4)، ومن هذا الباب أيضا حمل الضحك والتعجب على الحيوان بناء على
كونهما من خواص فصله.

(1) فيكون الامر الخارجي علة لثبوت الوصف للذات وهو ما يسمى بالواسطة في الثبوت أو
الواسطة التعليلية.
(2) لا يخفى ان الموضوع في المثال هنا (بعض الحيوان) والمدعى هو حمل خاصة الفصل على
الجنس، والجنس هو الحيوان قبل تحصله وتخصصه بالحيثية الفصلية فالمقام جدير بالتأمل.
40

وتارة لا تكون الواسطة المعروضة قابلة للحمل أيضا علاوة على عدم
قابليتها للعروض على ذي الواسطة وذلك مثل السرعة والبطء العارضين للحركة
العارضة للجسم، فإنه بملاحظة عدم قابلية حمل الواسطة على الجسم لا يصح
حمل الوصفين [عليه أيضا] (1). ومن هذا الباب أيضا الاستقامة والانحناء
العارضين للخط القائم على الجسم، ومنه أيضا حركة السفينة بالنسبة إلى
جالسها ففي أمثال ذلك [تكون] نسبة الوصف إلى ذي الواسطة من باب نسبة
الشئ إلى غير ما هو له وكان توصيفه به بنحو من العناية والمسامحة العرفية.
ثم هنا قسم ثالث وهو صورة صدق العروض على الواسطة مستقلا
حقيقة وعلى ذي الواسطة ضمنا كذلك، ومنه كل مورد يكون العرض من خواص
النوع لا خصوص فصله فإنه حينئذ [يكون] العرض المزبور عارضا لجنسه
أيضا، لكن بنحو الضمنية لا الاستقلال. ومن هذا الباب الاعراض الثابتة
للعناوين الخاصة بخصوصية تقييدية، كالوجوب العارض للصلاة بخصوصية
عنوانها، وهكذا غيرها، المستلزم لعروض مثل هذا العرض لفعل المكلف الذي
هو بمنزلة الجنس له، ضمنا لا مستقلا (2).

(1) المقصود ان العرض لا يكون قابلا للحمل على ذي الواسطة باعتبار أن الغرض نفسه غير
قابل للعروض على ذي الواسطة، والواسطة أيضا غير قابلة للحمل على ذي الواسطة. فقوله
(عدم قابليتها) أي عدم قابلية الاتصاف.
(2) تخطيط ما ذكره من أقسام العرض:
العرض
1 - ما ينتزع من نفس الذات
2 - ما ينتزع من جهة خارجة عن ذات الموصوف
[ثانية] المقدمتين: انه صرح في شرح الإشارات (1) في باب تناسب العلوم ما
أ - أن يكون اتصاف الذات باقتضاء ذاته
ب - أن يكون الاتصاف باقتضاء أمر خارجي
أن يكون الامر الخارجي واسطة تقييدية وهو المعروض حقيقة
1 - أن يكون العروض على الواسطة استقلالا وعلى ذي الواسطة ضمنا
2 - ان يصحح الحمل على ذي الواسطة بلا عروض عليه (لا ضمنا ولا استقلالا)
3 - أن لا يصح الحمل ولا العروض على ذي الواسطة.
أن يكون الامر الخارجي بواسطة تعليلية لعروض الوصف على ذي الواسطة
41



(1) قال المحقق الطوسي في شرح الإشارات:
(العلوم تتناسب وتتخالف بحسب موضوعاتها، فلا يخلو اما أن يكون بين موضوعاتها
عموم وخصوص أو لا يكون، فإن كان فاما أن يكون على وجه التحقيق أو لا يكون، والذي
يكون على وجه التحقيق هو الذي يكون العموم والخصوص بامر ذاتي وهو أن يكون العام
جنسا للخاص كالمقدار والجسم التعليمي اللذين أحدهما موضوع الهندسة والثاني موضوع
المجسمات، والعلم الخاص الذي يكون بهذه الصفة يكون تحت العام وجزء منه، والذي ليس
على وجه التحقيق هو الذي يكون العموم والخصوص بامر عرضي وينقسم إلى ما يكون
الموضوع فيهما شيئا واحدا لكن وضع ذلك الشئ في العام مطلقا وفي الخاص مقيدا بحالة
خاصة كالأكر مطلقة ومقيدة بالمتحركة اللذين هما موضوعا علمين. والى ما كون الموضوع
فيهما شيئين ولكن موضوع العام عرض عام لموضوع الخاص كالوجود والمقدار اللذين
أحدهما موضوع الفلسفة والثاني موضوع علم الهندسة، والعلم الخاص الذي يكون على
هذين الوجهين يكون تحت العلم العام ولكنه لا يكون جزء منه. ج‍ 1 ص 302 ط 3177 ه‍.
وقد استفاد المحقق العراقي من صدر هذا النص - المتضمن لذكر تخالف العلوم
بموضوعاتها وجعل التخالف بين الموضوعات بالعموم والخصوص قسما من أقسام التخالف -:
ان العوارض الذاتية للأخص ليست عوارض ذاتية للأعم، والا لما جعل الأخص موضوعا
علما مستقلا في قبال العلم الأعم موضوعا.
ولكنه قد غفل عن ذيل النص إذ صرح فيه - بعد تقسيمه للتخالف بنحو العموم
والخصوص إلى قسمين: ذاتي وعرضي - بأن العموم والخصوص ان كان ذاتيا فالأخص
موضوعا داخل تحت الأعم وجزء منه، وهذا يعني ان الاعراض الذاتية للأخص اعراض ذاتية
للأعم أيضا.
وقد جاء هذا الاعتراض على المصنف في تقريرات بحث الشهيد آية الله السيد محمد
باقر الصدر الجزء الأول ص 41.
42

ملخصه: ان كثيرا من العلوم - التي لموضوعاتها عنوان وحداني مشترك بين
مسائلها - ربما تختلف موضوعاتها بنحو العموم والخصوص بنحو يكون موضوع
العلم العالي من قبيل الجنس بالنسبة إلى موضوع العلم السافل، وذلك مثل
موضوع علم الهندسة: وهو المقدار، الذي هو جنس للجسم التعليمي الذي هو
موضوع علم المجسمات، أو من قبيل العام العرضي الذي هو موضوع الفلسفة
بالنسبة إلى المقدار وغيره من سائر العناوين [الأخص] الموضوعة لسائر العلوم،
أو من قبيل المطلق والمقيد كالأكر: [مطلقه] يكون موضوع علم، ومقيده بالحركة
موضوع علم آخر. انتهى مضمون كلامه.
ومرجعه بالأخرة إلى: ان كل عرض ثابت لعنوان خاص بخصوصية
منوعة لابد وأن يبحث في علم مستقل يكون هذا العنوان موضوعه، ولا يبحث
في علم يكون موضوعه عنوانا أعم من ذلك بأحد الوجوه السابقة (1)، بل لابد
في مثل هذا (العلم (2) من البحث عن العوارض الطارئة على العنوان الأعم.
والى ذلك أيضا أشار صدر المتألهين - قدس سره - في أسفاره في مقام تمييز
الأعراض الذاتية عن الغريبة بأن كل عرض ثابت لنوع متخصص الاستعداد

(1) وهي أن يكون التخالف بأحد انحاء ثلاثة:
أ - بالعموم والخصوص الذاتي.
ب - بالعموم والخصوص العرضي.
ج - بالاطلاق والتقييد.
(2) اي العلم الذي موضوعه (العنوان الأعم).
43

من غير ناحية هذا العرض فهو من الاعراض الغريبة المبحوث عنها في علم
آخر يكون هذا لتخصصه كالبحث عن استقامة الخط وانحنائه فهو من
العرض موجبا النوع موضوعه، وكل عرض ثابت لشئ بنحو يكون هذا
العوارض الذاتية. انتهى مضمونا (1).
ومن هذا الباب أيضا (2): كل مورد اخذت الخصوصية فيه بنحو الجهة
التعليلية، نظير ما أشرنا إليه من مثل الفاعلية والمفعولية بالقياس إلى الكلمة،
فان العوارض مثل الرفع والنصب عارضة على ذات الكلمة لا على نوع

(1) الاسفار ج 1 ص 33 - 34: " نعم كل ما يلحق الشئ لأمر أخص وكان ذلك الشئ مفتقرا
في لحوقه له إلى أن يصير نوعا متهيئا لقبوله ليس عرضا ذاتيا بل عرض غريب على ما هو
مصرح به في كتب الشيخ وغيره. كما أن ما يلحق الموجود بعد أن يصير تعليميا أو طبيعيا ليس
البحث عنه من العلم الإلهي في شئ. وما أظهر لك ان تتفطن بان لحوق الفصول لطبيعة
الجنس كالاستقامة والانحناء للخط مثلا ليس بعد أن يصير نوعا متخصص الاستعداد بل
التخصص انما يحصل بها لا قبلها فهي مع كونها أخص من طبيعة الجنس اعراض أولية له ".
وغرض المصنف من هذا الاستشهاد: اثبات ان عوارض الأخص ليست عوارض ذاتية
للأعم. والمستفاد من عبارة صدر المتألهين هذه: ان مجرد كون العارض أخص لا يمنع من كونه عرضا
ذاتيا للموضوع. بل المدار في ذاتية العروض هو أن يكون الموضوع مقتضيا بنفسه عروض هذا
العارض وان كان أخص منه. نعم لو كان العارض الأخص لا يعرض على الموضوع الأعم الا
بعد تخصصه بما يجعله قابلا لعروض العارض الأخص عليه، كان عرضا غريبا. وعليه فعوارض
الموضوع الأخص تكون اعراضا غريبة للموضوع الأعم لأنها لم تعرض على الأعم الا بعد
تخصصه بالعنوان الأخص.
(2) بعد أن قسم صدر المتألهين العرض الأخص إلى قسمين:
أ - ما يعرض على الموضوع من دون تخصص سابق.
ب - ما يعرض على الموضوع بعد تخصصه بما يعده لعروض الأخص.
أضاف المصنف قسما ثالثا إليهما: وهو الأخص العارض على الأعم بواسطة تعليلية
كعروض الرفع على ذات الكلمة بسبب الفاعلية. واعتباره من العرض الذاتي انما هو بلحاظ
ان الموضوع بذاته يقبل هذا العارض الأخص وليست الواسطة إلا علة للعروض.
44

متخصص من غير ناحية هذه العوارض لما عرفت من أن الخصوصيات الخارجية
خارجة عن الموضوع بل هي جهات تعليلية لعروض العوارض المزبورة على
الذات، نظير المجاورة للنار بالإضافة إلى حرارة الماء، ففي مثلها أيضا (1) لا
يكون موضوع المسألة بالنسبة إلى ما هو موضوع العلم من قبيل النوع إلى
جنسه، بل هو نظير فرض تخصص الجنس بعرضه وإن لم يكن بالدقة منه (2).
وينبغي على مثل صدر المتألهين أن لا يقنع في العرض الذاتي بما أفاده بل
يلحق هذه الصورة أيضا إليه لاتحادهما في كون الجنس تمام المعروض للعرض
- لا جزءه كما هو الشأن في الجنس بالنسبة إلى آثار نوعه - كما لا يخفى.
إذا عرفت هاتين المقدمتين (3) فنقول: ان المستفاد من كلمات هؤلاء
الاعلام وأساطين الفن أن المدار في العرض الغريب لشئ ما هو عارض على

(1) كأنه يدفع اشكالا محصله:
ان نسبة موضوعات المسائل - كالفاعل في علم النحو مثلا - إلى موضوع العلم هي نسبة
النوع إلى جنسه، فتكون محمولات المسائل عوارض غريبة لموضوع العلم. لان ما يعرض
على الجنس بواسطة النوع عارض غريب للجنس.
والجواب: ان موضوعات المسائل هنا جهات تعليلية لثبوت محمولاتها لموضوع العلم فلا
تكون عوارض غريبة له.
(2) يشير إلى أن العارض بالواسطة التعليلية مثل ما يعرض على الموضوع من دون تخصص
سابق غير أن الثاني لا يحتاج إلى واسطة تعليلية. ولهذا لم يكن بالدقة منه وان كان عارضا ذاتيا
أيضا.
(3) اما المقدمة الأولى فقد تعرض فيها لأقسام العارض وقد أنهاها إلى ستة ذكرناها بتوضيح
سبق.
واما المقدمة الثانية فقد قصد فيها تمييز العارض الذاتي عن الغريب وقد جعل الملاك
لذاتية العارض هو العروض لا مجرد صحة الحمل وذلك بقيدين:
1 - أن يكون عروضا حقيقيا. (وبهذا القيد يخرج قسمان من ستة أقسام).
2 - أن يكون عروضا استقلاليا لا ضمنيا. (وبهذا يخرج قسم آخر فيكون العارض
الذاتي على ثلاثة أقسام.
45

نوعه المتخصص فارغا عن تخصصه (1)، ومن المعلوم ان لازم ذلك عدم الاكتفاء
في العرض الذاتي لشئ، على مجرد عروضه عليه ولو ضمنا، كيف!؟ وأعراض
النوع عارضة للجنس ولو بنحو الضمنية، ولا الاكتفاء بمجرد صحة حمل
العارض على ذي الواسطة بنحو من الحمل الحقيقي ولا (2) بصرف اتحاد
المعروض لهذا العرض مع ذي الواسطة بنحو من الاتحاد المصحح للحمل
المزبور، فضلا عن توهم الاكتفاء بصرف صحة الحمل - ولو مسامحة عرفية -
كيف؟ وفي اعراض النوع والمقيد بالنسبة إلى جنسه ومطلقه [يصدق] العروض
بالنسبة إلى الجنس والمطلق عروضا ضمنيا. بل ويصح حمل العرض على ذي
الواسطة بتبع حمل نوعه عليه، بل وكان وجود معروضه متحدا مع ذي الواسطة،
ومع ذلك أفردوا البحث عن هذه الأعراض في علم آخر يكون موضوعه هذا
النوع أو المقيد، وجعلوا مثل هذه الاعراض بالنسبة إلى علم يكون موضوعه
الأعم من الاعراض الغريبة وأخرجوها من هذا العلم.
وعليه نقول: ان الأولى بالخروج حينئذ ما لو كان العارض عارضا لفصل
هذا الجنس، لما عرفت من أن اعراض الفصل لا تكون عارضة لجنسه - ولو
ضمنا - حقيقة ودقة، وحينئذ: اعراض الفصل بالنسبة إلى جنسه أسوء حالا من
أعراض النوع بالإضافة إلى جنسه لما عرفت: ان الجنس معروض - ولو ضمنا -

(1) ان أقسام العرض الغريب - في كلام المصنف - ثلاثة:
1 - ما يعرض على الجنس بواسطة النوع فيكون العروض والحمل حقيقيان غير أن
العروض ضمني لا استقلالي.
2 - ما يعرض على الجنس بواسطة الفصل كالضحك العارض للحيوان - بناء على كونه
من خواص الفصل لا النوع - والحمل حينئذ حقيقي من دون عروض استقلالي أو ضمني.
3 - ما يحمل على الشئ بالمسامحة العرفية - لاجل عروضه على ملابسه - كعروض
السرعة على الجسم بواسطة الحركة - فلا عروض ولا حمل حقيقي.
(2) الظاهر أن قوله [ولا] زائد لا حاجة إليه.
46

لأعراض نوعه، بخلافه بالنسبة إلى اعراض الفصل فإنها خارجة عن المعروض
حقيقة.
وأولى من ذلك ما لا يكون من عوارض شئ دقة ولا [قابلا] للحمل
على ذي الواسطة، كما مثلنا بالسرعة [والبطؤ] العارضين للحركة العارضة للجسم،
وهكذا الاستقامة والانحناء العارضين للخط القائم بالجسم، فان [في] أمثال هذه
العوارض بالنسبة إلى الجسم لا يصدق العروض ولا يصح الحمل، فحينئذ عدها
من الاعراض الغريبة أولى من الأمور السابقة.
وعليه فليس المدار في الأعراض الذاتية التي في قبالها إلا كون
العرض ثابتا للشئ دقة بنحو الاستقلال - ولو يجعل الخصوصيات المأخوذة في
موضوع المسائل بنحو الجهات التعليلية لا التقييدية -.
وربما بذلك يرتفع الاشكال المشهور بان موضوع المسائل بالإضافة
إلى موضوع العلم من قبيل النوع إلى الجنس، مع أنهم جعلوا العوارض الثابتة
لعنوان أخص من الموضوع من العوارض الغريبة، لأنه يقال:
بأن ما أفيد كذلك - لو كانت الخصوصيات المأخوذة في موضوعات
المسائل من الجهات التقييدية [الدخيلة] في المعروض و [كانت] بمنزلة النوع
إلى جنسه - ولكن ذلك أول شئ ينكر إذ من الممكن كون الخصوصيات
المأخوذة في موضوعات المسائل من الجهات التعليلية الموجبة لطرو العارض على
ذات الجنس قبل تنوعه بنوع من أنواعه، كما لا يخفى، فيخرج موضوع المسألة
حينئذ من النوعية، كما أشرنا آنفا.
ومن التأمل في ما ذكرنا يظهر الميزان في واسطة العروض الراجعة إليها
الأعراض الغريبة، حيث إن المدار فيها على كون العارض عارضا للواسطة
محضا ويكون ذو الواسطة مما يصح سلب العارض عنه في مقام العروض استقلالا
47

- وان صح [حمله عليه] (1) تبعا -.
والى ذلك أيضا أمكن ارجاع ما في شرح المنظومة: بان المدار في الوساطة
في العروض على صحة سلب العارض [عن ذي] الواسطة، وان كان تمثيله بحركة
جالس السفينة يوهم كون مراده من صحة السلب: صحته في مقام الحمل أيضا،
ولكن الظاهر تصديقه خروج العلوم السافلة عن العالية بالبيان المتقدم عن
شارح الإشارات، فلا بد من حمل كلامه هنا على صحة سلبه في مقام العروض لا
الحمل، وإلا ففيه الاشكال المتقدم.
وأوضح من ذلك اشكالا ما حكي عن بعض الأساطين الأعلام من أن
المدار في العرض الذاتي على مجرد اتحاد معروض هذا العارض مع ذي الواسطة
وجودا، وجعل الضحك العارض للانسان من العوارض الذاتية للحيوان بمحض
اتحاد وجود الحيوان معه، فكأنه لاحظ مجرد صحة حمل الضاحك على الحيوان.
ولقد عرفت أنه لو كان المدار على ذلك يلزم ادخال مسائل العلوم السافلة
في [العلم] الأعلى، وهو في الحقيقة تخريب لما أسسوا من الأساس [في] كيفية
تناسب العلوم وامتياز [موضوعات بعضها] عن الآخر ومرجعه إلى خلط العلوم
الرياضية والطبيعية والفلسفة الإلهية أسفلها بأعلاها، وما أظن ارتضاءه بذلك.
وأوضح اشكالا من ذلك ما عن بعض أعاظم المعاصرين على [ما هو]
المحكي من مقرر بحثه حيث جعل ميزان الوساطة في العروض على احتياج
[عروضها] إلى واسطة أخرى في الثبوت (2) ومثل ذلك بالضحك العارض
للتعجب العارض لادراك الكلي، وظاهر كلامه التزامه بعروض الضحك للانسان
مع كونه من عوارض التعجب باعترافه.
ولا يخفى ما في هذا الكلام من مواقع النظر، إذ:

(1) اي حمل العارض على ذي الواسطة.
(2) ولا يخفى لطفه.
48

أولا في التزامه عروض الضحك للتعجب، والتعجب للادراك، مجال نظر.
كيف! ولا مجال لدعوى أن [التعجب] ضاحك، مع أن العروض ملازم مع صحة
حمل وصفه الاشتقاقي على معروضه، فلا محيص من جعل التعجب من الجهات
التعليلية، لعروض الضحك على النوع أو فصله، وهكذا الأمر بالنسبة إلى
الادراك بالإضافة إلى التعجب بعين صحة سلب الحمل المزبور فيهما أيضا.
وثانيا على فرض تسلم عروض الضحك للتعجب لا معنى بعده للالتزام
بعروضه للانسان الا بالواسطة من كونه معروض معروضه لا معروضه، وإلا فهو
لا يناسب مع كونه عارضا للتعجب إذ يستحيل لعارض شخصي واحد معروضان
بنحو الاستقلال.
نعم غاية ما في الباب صحة حمل العارض على ذي الواسطة بتبع حمل
الواسطة عليه. ولكن مجرد صحة الحمل لا يلزم العروض وإن كانت الملازمة
محفوظة في طرف العكس.
وثالثا على فرض تسليم عروض الضحك على الانسان نقول إن لازمه كون
الضحك من عوارض ذات الانسان بواسطة أمر مساو له، وظاهرهم ادخال مثل هذه
العوارض في العرض الذاتي لا العوارض الغريبة وإن كان لنا في مثل هذا التفصيل
بين الأعراض - بتوسيط المساوي أو الأعم والأخص بجعل [الأول] من
العوارض الذاتية والأخيرين من الغريبة - نظر; إذ الواسطة ان كانت من
الجهات التعليلية - كما أشرنا - فالعارض بالوسائط المزبورة من العوارض
الذاتية، بعد الجزم بعدم ارادتهم منها خصوص ما انتزع من الذات أو الثابتة
باقتضاء الذات، وان كانت من الجهات التقييدية الموجبة لتخصص الموضوع
بخصوصية خارجة معروضة لهذا العرض، فالعارض المزبور بالنسبة إلى الجامع (1)

(1) هذا الرأي للمحقق النائيني قدس سره وحاصله: ان العارض الذاتي ما يعرض على الشئ بدون
واسطة في العروض، وان احتاج إلى واسطة في الثبوت كعروض التعجب للانسان بسبب
ادراكه للكليات. والعارض الغريب ما يعرض على الشئ بواسطة في العروض: والواسطة في
العروض هي ما تحتاج إلي واسطة في الثبوت فالعارض الغريب هو ما يعرض على الشئ
بواسطتين.
جاء في تقريرات بحثه - بعد كلام في هذا الصدد - ما نصه: (فالميزان أن العارض ان احتاج
إلى واسطة غير محتاجة إلى واسطة أخرى فالواسطة في الثبوت وإلا ففي العروض). أجود
التقريرات ج 1 ص 8.
49

في ضمن هذه العناوين الخاصة من العوارض الغريبة كما أسلفنا من المؤسسين
لهذا الأساس في باب تناسب العلوم وغيره، ولذا أشكلنا على من جعل موضوع
الفقه فعل المكلف علاوة [على ما] تقدم (1): بأن نسبة الفعل إلى عنوان الصلاة
كنسبة الجنس إلى نوعه المتخصص الاستعداد، كما أن ضم حيثية الاقتضاء
والتخيير [إليه] أيضا لا يجدي شيئا: لأنه ان أريد اقتضاء نفس الفعل مستقلا
فواضح الفساد (2)، وان أريد اقتضاؤه ضمنا فغير مثمر - على ما تقدم -، وان أريد
جعل العنوان المزبور مشيرا إلى العناوين الخاصة التي هي الموضوعات للمسائل
فيخرج عن الوحدة، وان أريد جعل العنوان المشير موضوعا واحدا فلا أثر له
كي يبحث عن عوارضه.
وبالجملة نقول: ان الالتزام بكون الضحك من عوارض الانسان على
وجه يصدق عليه أنه معروضه لا يناسب مع الوساطة العروضية، كيف! وترى ان
شارح المنظومة ينادي بأن المناط في الوساطة العروضية على صحة سلب
اعراضها عن ذي الواسطة، فمع اعترافه بعدم صحة السلب حتى في مقام
العروض فضلا عن مقام الحمل كيف يدخل مثل هذه في الاعراض الغريبة

(1) لعله إشارة إلى ما تقدم منه من عدم كون فعل المكلف جامعا ماهويا لموضوعات مسائل علم
الفقه.
(2) باعتبار أن فعل المكلف بما هو ليس موضوعا لتكليف الشارع إلا بعد تخصصه بعنوان من
العناوين كالصلاة والصوم والبيع وغيرها.
50

الثابتة بالواسطة العروضية.
نعم لو كان له اصطلاح جديد لا مشاحة فيه ولكن لنا حينئذ كلام آخر
وهو أنه لو كان غرضه من هذا الاصطلاح اخراج بحث ضحك الانسان
عن علم يكون موضوعه الانسان فمع الاعتراف بعروض الضحك حقيقة
للانسان بمحض كونه بواسطة [عروضية] [باصطلاحه] فهو أول شئ ينكر
وإلا فلا ثمرة في هذا الاصطلاح أصلا (1).
وكيف كان نقول: الذي يقتضيه النظر في شرح وساطة العروض
بمقتضى التتبع في لوازم كلماتهم أن المدار فيها على صحة سلب العارض في مقام
العروض بنحو الاستقلال عن ذي الواسطة، واليه أيضا [ترجع] جميع الأعراض
الغريبة الخارجة عن مسائل العلم، وفي قباله كون ميزان الأعراض الذاتية
الداخلة في مسائل العلم بثبوتها لشئ حقيقة بنحو الاستقلال بلا اختصاص
بكونه بالذات، وبلا فرق بين كون الواسطة التي هي من الجهات التعليلية
لعروض شئ على شئ مساويا أو [أعم أو أخص] كما أن الواسطة لو كانت
من الجهات التقييدية الموجبة لسلب العروض الاستقلالي عن الجامع بينها
- أيضا لا فرق بين الأعم والأخص والمساوي، إذ مهما كان العرض قائما
بالواسطة كان [بالنسبة] إلى ذي الواسطة من الأعراض الغريبة -.
ولقد أجاد في الفصول حيث جعل الميزان في العوارض الذاتية بأن لا
تكون بالواسطة في العروض ولو كانت الواسطة مساوية. وتبعه فيه أستاذنا
العلامة رضي الله عنه في كفايته، وان كان تحديده موضوع العلم بأن نسبته إلى

(1) حاصل غرضه قدس سره: أن الثمرة المتصورة لجعل الضحك عارضا غريبا للانسان - بناء على
أن العارض الغريب: ما يعرض على الشئ بواسطتين - هي: اخراج الضحك من علم يكون
موضوعه (الانسان). لكن لازم كون الضحك - مع ذلك - عارضا على الانسان حقيقة دخوله
في العلم الذي يكون موضوعه (الانسان). فلا تترتب الثمرة المطلوبة.
51

موضوعات المسائل كنسبة الكلي إلى أفراده باطلاقه منظور فيه، كيف! وقد
أشرنا سابقا بأن كثيرا ما لا يكون لموضوعاتها جامع معنوي ذاتي، وعلى فرض
وجود جامع لها [لا تكون] عوارض نوعه عوارض لها (1).
بل الأولى أن يقال في [الموضوعات] العلوم بقول مطلق انها متحدة مع
موضوعات المسائل بنحو من الاتحاد، لا كاتحاد الجنس [بنوعه] أو [بفصله] كما
عرفت مفصلا.
[موضوع علم الأصول]
ثم بعد ما اتضح ما ذكرنا نقول: إن موضوع علم الأصول هي الأدلة
الأربعة بما لها من الخصوصية بلا موجب لانتزاع جامع بينها، وانها عين
موضوعات [مسائله] ذاتا، كعينية [موضوعات مسائل] النحو للكلمة والكلام،
وهكذا في موضوع الفقه من كون موضوعه عين موضوعات مسائله ذاتا خصوصا
في الصلاة والصوم. ومجرد عدم عنوان واحد لموضوعات هذه العلوم القابلة لجعله
مقياس تميز هذه عن غيرها لا يوجب اخراجها عن دائرة الفنون المضبوطة
والعلوم المعنونة، إذ يكفي في تميزها عن غيرها مجرد اختلاف [أغراضها] سنخا
بلا احتياج - في تحديد هذه [الأغراض] بحد ينحفظ، من قبل المسائل المعدودة
المعهودة - إلى الميز في موضوعاتها، بل لاختلافها سنخا كان كل سنخ منها مترتبا
على شطر من المسائل وسميت باسم وفن مخصوص عكس بعض العلوم
[الأخرى].

(1) ينبغي ان تكون العبارة هكذا: " لا تكون عوارض نوعه عوارض له " بأن يعود الضمير
الأخير إلى الجامع.
52

[غرض مسائل علم الأصول]
وكيف كان نقول: ان الغرض من هذا العلم هو استنباط الأحكام، فلا
جرم ترجع [مسائله] إلى (القواعد الواقعة في طريق استفادة الوظائف العملية
عقلية أو شرعية)، ولو [بجعلها] كبرى قياس ينتج حكما شرعيا كليا واقعيا
- كقولنا: هذا ما أخبر به العادل بوجوبه واقعا، وكلما كان كذلك فهو واجب
كذلك - أو ظاهريا - كقولنا: هذا مما تيقن سابقا بوجوبه وشك لاحقا وكلما كان
كذلك فهو واجب ظاهرا - أو حكما عقليا - كقولنا: هذا مما لم يرد عليه بيان وكلما
كان كذلك فهو مما لا حرج فيه عقلا أو يجب فيه الاحتياط أو تخير بين
الأمرين (1).
وهذا الميزان في تعيين المسائل أولى من جعل ميزانها [الوقوع] في طريق
استنباط الحكم الشرعي أو ما يتعلق (بالعمل بالواسطة) لخروج المسائل
الأصولية العملية عنها لأنها متعلقة بالعمل بلا واسطة لأن مضمونها أحكام
ظاهرية تكليفية منطبقة على مواردها وينحصر بالبحث عن حجية الخبر بناء على
كون مفاد أدلة اعتبارها أيضا مجرد جعل الحجية وإلا فلو جعلنا مفادها الأمر
بالمعاملة فكانت أيضا مما يتعلق بالعمل بلا واسطة. كما لا يخفى.
وأيضا ما ذكرناه أولى مما أفاده شيخنا العلامة من كون ميزان المسألة
الأصولية انحصار أمر تطبيقه بيد المجتهد إذ تطبيق عنوان مخالفة الكتاب والسنة
أيضا بيد المجتهد مع أن شرطيته للصلح أو الشروط من المسائل الفرعية فتدبر.
بقي هناك اشكال مشهور وهو: ميزان المسألة الأصولية ان كان على
وقوعها في طريق الاستنباط المزبور بلا واسطة فلازمه خروج مباحث الألفاظ

(1) هذه إشارة إلى الأصول العقلية الثلاثة. أصل البراءة العقلية واصل الاحتياط العقلي واصل
التخيير العقلي.
53

من أول الأوامر إلى آخر المطلق والمقيد من مسائله لأن نتيجة هذه المسائل تعيين
الظهور الذي هو صغرى لكبري أخرى هي المنتجة للحكم الشرعي أو الوظيفة
العملية، وان كان الميزان وقوعها في طريق الاستنباط ولو بالواسطة فلازمه
دخول مسائل كثير من العلوم الأدبية ومسائل علم الرجال في المسائل الأصولية،
إذ نتيجتها بالأخرة تنتهي إلى الوظائف العملية. هذا مضافا إلى أن ديدنهم على
اخراج مسألة المشتق عن المسائل وجعل أول المباحث مباحث الأوامر فيبقى
حينئذ سؤال الفرق بين هذه المسألة وبين بقية المباحث المزبورة خصوصا
المباحث الراجعة إلى العام والخاص إلى آخره.
وتوضيح الجواب هو: أن المدار في المسألة الأصولية على وقوعها في طريق
استنباط الحكم الشرعي بنحو يكون ناظرا إلى اثبات الحكم بنفسه أو بكيفية
تعلقه بموضوعه وذلك يقتضي عدم دخول العلوم الأدبية في المسائل الأصولية إذ
ليس المهم فيها احراز ظهور الكلمة أو الكلام في شئ، بل تمام المقصود في ظرف
الفراغ عن فاعلية كلمة أو [مفعوليتها] كون الفاعل مرفوعا و [المفعول] منصوبا
فحينئذ لا يصدق عليها كون قواعدها ممهدة للاستنباط، وعلى فرض [أن]
المقصود منها أيضا احراز الظهور في شئ، [فغاية] ما في الباب وقوعها في طريق
استنباط الموضوع للأحكام لا نفسها.
وتوهم أن مباحث العام والخاص والمطلق والمقيد أيضا كذلك، مدفوع بأن
نتيجة هذه المسائل وإن لم يكن استنباط ذات الحكم، ولكن من المعلوم أنه يستفاد
منها كيفية تعلق الحكم بموضوعه، كما أن مبحث المفاهيم أيضا موضوع لبيان
سنخ إناطة الحكم بشئ فهو أيضا من أنحاء وجود الحكم وثبوته، وهذا بخلاف
المسائل الأدبية فإنها ربما تقع في طريق استنباط موضوع الحكم بلا نظر فيها
أصلا إلى كيفية تعلق حكمه.
ومن هذا البيان أيضا ظهر وجه خروج المشتق أيضا من المسائل إذ شأنه
54

ليس إلا احراز موضوع الحكم لا نفسه، لا بذاته ولا بكيفية تعلقه بموضوعه.
ومن هنا ظهر أيضا وجه خروج مسائل علم الرجال عن المسائل
الأصولية لكونها أيضا كمبحث المشتق وسائر العلوم الأدبية واقعة في طريق
استنباط الموضوع لا نفس الحكم ولا لكيفية تعلقه بموضوعه، بل شأنه اثبات
موضوع الحكم محضا من كون السند موثوقا به كي [تشمله] أدلة التعبد به. مع
إمكان أن يقال أيضا أن كثرة مسائله كانت بمثابة موجبة لانفرادها وجعلها علما
مخصوصا مستقلا عن الأصول، وحينئذ تختص المباحث الأصولية بالبحث عن
الحجية واحراز الدلالة لأصل الحكم أو لكيفية تعلقه بموضوع.
كما أن في المقام أيضا [اشكالا] آخر وهو: أن البحث عن قاعدة الطهارة
في الشبهات الحكمية أيضا مع كونها واقعة في طريق استنباط الحكم الفرعي
الكلي داخلة عندهم في القواعد الفقهية وخارجة عن المسائل الأصولية.
ولكن اعتذر عن ذلك أستاذنا الأعظم في كفايته بازدياد قيد آخر في
المسألة الأصولية [هو] عدم اختصاصها بباب دون باب ولا يرد عليه قاعدة لا
ضرر ولا حرج غير المختصة بباب، لأن ذلك لم يكن منتجا لحكم كلي الا في
ظرف جريانهما في مقدار الفحص من الطرق أو في موارد التبعيض في الاحتياط
في الشبهات الحكمية، فهذه القاعدة من حيث عدم اختصاصها بباب دون باب
[لا تنتج] حكما كليا وانما انتاجها له أيضا من جهة خصوصية في المورد، فتدبر.
ثم إن من فحاوي ما تلوناه ظهر غاية هذا العلم من كونه الاستنباط
المعهود بين الأعلام، كما أن تعريفه أيضا لابد وأن يجعل عبارة عن نفس القواعد
المزبورة وحيث إن لتلك القواعد علاوة على واقعيتها وجودات علمية صح
تعريفه ب‍ (العلم بهذه القواعد) نظرا إلى أن العلم بشئ بعناية عين المعلوم، بل
ولها أيضا وجودات كتبية، وبهذه العناية [تطلق] هذه الفنون على الصور المنقوشة،
ولو لوحظ شغل الأصولي في استخراج قواعدها من مباديها [لناسب] تعريفه
55

ب‍ (صناعة مخصوصة) فلجميع هذه التعابير نحو مناسبة مع الفن المزبور، فكل
إلى ذلك الجمال يشير.
ثم إنه بعد ما عرفت ما يتعلق بالعلم موضوعا وغاية وتعريفا يقتضي قبل
الشروع في المقصد تقديم أمور تكون من المبادي لمسائله توطئة للبصير في دخول
المقصد، والمناسب طي هذه الأمور أيضا في مقالات فنقول وبه نستعين:
56

المقالة الثانية
حقيقة الوضع
57

[المقالة الثانية]
[في حقيقة الوضع]
لا شبهة في عدم دلالة الألفاظ على معانيها بنفس ذاتها، بحيث [يفهم]
كل أحد من اللفظ معناه بلا توسيط شئ آخر في البين، ولا أظن توهمه من
أحد، فليس نظر من التزم بأن دلالة الألفاظ [مستندة] إلى المناسبات الذاتية
إلى كون المناسبة المزبورة مما يلتفت إليها كل أحد، وبتوسطها يفهم المعنى من
نفس اللفظ بلا قرينة عامة أو خاصة بل قصارى ما يتخيل في المقام أمران:
أحدهما: أن تعيين كل لفظ لأي معنى وتخصيصه به لابد وأن يكون لخصوصية
وربط بينهما كي لا يلزم الترجيح بلا مرجح في هذا التخصيص، مع الالتزام بأن
هذه الخصوصية لابد وان تكون ملتفتا إليها حين الوضع والتخصيص لدى
الواضع والمعين. وحيث إن المحيط بهذه الجهات أليس إلا علام الغيوب فالجاعل
لا يكون الا هو، غاية الأمر قد ألهم غيره في استعماله اللفظ الخاص في معنى
مخصوص بلا التفاته [إلى] خصوصيتها. مؤيدا ذلك أيضا بأن المحيط بألفاظ غير
متناهية ومعاني كذلك لا يكون إلا الباري عز اسمه علاوة من عدم معروفية أحد
في وضع هذه الألفاظ بكثرتها واختلاف لغاتها من تاريخ أو غيره ولو كان الواضع
أحد من المخلوقين لبان.
ثانيهما: هذا المعنى مع عدم لزوم التفات الواضع إلى المناسبة المزبورة
بل المناسبة الواقعية دعته إلى التفاته [إلى لفظ مخصوص] والمعنى كذلك
59

[ف‍] عينه له بلا شعوره [بالمناسبة] المسطورة، أو ان إلهامه تعالى إياه دعاه إلى
وضع لفظ خاص لمعنى مخصوص لعلمه بمناسبة بينهما بلا وضعه تعالى له بل
أوكل الوضع إلى مخلوقه بإلهامه لوضعه [له]. هذا غاية بيان لما يتوهم.
أقول: لا يخفى ان عمدة الذي دعاهم إلى الالتزام بما ذكر هو توهم
احتياج تخصيص كل لفظ بمعناه إلى خصوصية وربط بينهما هو المرجح
للتخصيص، وأظن أن الالتزام بذلك في جميع الإضافات والاختصاصات يوجب
انكار المقارنات الاتفاقية بين الأشياء، إذ مقارنة الوجودين أو الموتين يستلزم
[ربطا] بينهما حذرا من ترجيح اختصاص هذا الوجود بحال وجود الآخر دون
غيره بلا مرجح، فلا بد وأن يكون لمرجح وربط بينهما، وهكذا الأمر في الموتين.
ورفع هذه الغائلة ليس إلا بدعوى إمكان تقارن الآجال و [تصرم] الاستعدادات
للوجودات.
بل ويمكن في المقام دعوى كون المرجح خصوصية في نفس وضع اللفظ
لمعناه لا بينهما. نظير ما قيل في الأحكام الوضعية (1) من كون الجعل لمصلحة في
نفس الجعل بلا ربط بين متعلقي الجعل أبدا، كما أن الالتزام بكون علام الغيوب
واضعا أيضا مستند إلى توهم كون [واضع جميع] الألفاظ لمعانيها شخصا واحدا
محيطا بجميع الألفاظ بمعانيها. وهذا التوهم أيضا أوضح فسادا من الأول، إذ
من الممكن إن من زمن آدم إلى زماننا في كل طبقة [أشخاصا] [عديدين] واضعين
ألفاظا مخصوصة لمقدار من المعاني التي كانت محل ابتلائهم بحيث ينتهي أمر
الواضعين بمرور الزمان إلى أشخاص غير محصورين [خارجين] عن تحت
الضبط بحيث لم يقبل نقلهم في التواريخ ولا في [غيرها].

(1) المقصود من الأحكام الوضعية: الأحكام الموضوعة بمعنى (المجعولة) لا الوضعية المقابلة
للتكليفية.
60

نعم ربما ضبطوا في التاريخ أول واضع في كل لغة، كما حكي أن المخترع
للغة العرب يعرب، وهكذا الأمر لمخترعي سائر اللغات، وان كان [الواضعون]
في كل طائفة أيضا غير محصورين.
ولعمري إن الوجدان السليم يساعد ما ذكرنا، ولا أقل من امكانه
واحتماله فينسد حينئذ طريق كشف الربط والخصوصية بين اللفظ والمعنى أو كون
الواضع هو الباري عز اسمه، فلا محيص حينئذ إلا من الالتزام [بعدم] انتهاء
دلالة الألفاظ إلى المناسبات الذاتية، ولا كون الواضع علام الغيوب، بل من
الممكن وضع الألفاظ من المخلوقين لمحض [انتقالهم] إلى لفظ من باب الإتفاق
بالنسبة إلى معنى كذلك، أو لا أقل من جهة خصوصية في نفس وضعه بلا ربط
بين اللفظ والمعنى كما نشاهد في وضع الأعلام الشخصية أو المعاني الحادثة
الاختراعية.
وما نرى أيضا من بعض المناسبات العرضية في بعض المقامات غير
مرتبط بمحل البحث إذ هي أمور عرضية ملحوظة أحيانا غير مرتبطة بالمناسبة
الذاتية المقتضية لتعيين اللفظ لمعناه بالطبيعة (1) كما هو المدعى كما لا يخفى.
وحيث اتضح لك ما تلوناه وانتهى أمر الدلالة إلى نحو علقة واختصاص
حاصل بين اللفظ والمعنى من جعل جاعل أو كثرة استعمال يبقى الكلام في
شرح حقيقة هذه العلقة فنقول:
أولا: إن هذه العلقة هي نحو من الارتباط الحاصل بين المرآة ومرئيه
بحيث لا يلتفت إلى اثنينيتهما، ويحسب أحدهما قالبا للآخر ونحو وجود له وكانا
بنحو يكون الانتقال بأحدهما عين الانتقال بالآخر، وربما [تسري] صفات
أحدهما إلى الآخر، فقبح المعنى ربما يسري إلى اللفظ، كما أن تعقيد اللفظ قد

(1) متعلق بقوله (المقتضية) أي المناسبة الذاتية المقتضية بطبيعتها لتعيين اللفظ لمعناه.
61

يسري إلى المعنى وبذلك تمتاز نسبة الألفاظ إلى معانيها عن نسبة العلامات إلى
ذيها كالبيرق الموضوع علامة للحرب أو الخشبة الموضوعة علامة للفرسخ أو
الدخان الذي هو علامة وجود النار، فان الالتفات إلى البيرق والخشب والدخان
يلازم الالتفات إلى غيره لا عينه، بل و [لا تسري] صفات أحدهما - حسنا
وقبحا - إلى الآخر كما يشهد له الوجدان السليم والذوق المستقيم.
بقي تتميم فيه تحقيق: وهو أن هذه العلقة والارتباط بعد تمامية جعلها
وصحة منشأ اعتبارها وإن سميت من الأمور الاعتبارية في قبال مالها ما بإزاء في
الأعيان من نحو هيئة قائمة بها ولكن لم [تكن] من الاعتبارات المحضة المتقومة
بالاعتبار محضا بحيث تنعدم بانقطاعه بل كانت من الواقعيات التي كان
الاعتبار طريقا إليها بحيث كانت قابلة لتعلق الالتفات إليها تارة والغفلة
أخرى، ولها موطن ذهني وخارجي [نظير] الملازمات الذاتية بين الأشياء المحفوظة
في عالم تقررها المخزونة في الذهن تارة وفي الخارج أخرى تبعا لوجود طرفيها
خارجا وذهنا، فالعقل كما يرى في الذهن الملازمة بين الطبيعتين كذلك يرى في
الخارج هذه الملازمة بين الموجودين في الخارج وهكذا نقول في العلقة المزبورة
بأنها بين الطبيعتين [ذهنية] وبين الموجودين خارجا [خارجية]، ولا نعني من
خارجية هذه الأمور إلا كونها بنفسها خارجية لا بوجودها، نظير نفس الوجود
والعدم كما أن في الذهن أيضا كذلك، إذ واقع ما هو ملازمة واختصاص بالحمل
الشايع غير مفهومهما. وما هو موجود في الذهن هو أمثال هذه المفاهيم لا
مصداقها، فمصداقيتهما التي هي قائمة بالطرفين تبعا لنفس الطرفين بنفسها
ذهنية بحيث لا يرى في الذهن وجود زائد عن الطرفين بشهادة أنه لو فرض رفع
الملازمة مثلا عنهما [لا تتغير] صورتهما في الذهن عما هما عليه حين تلازمهما كما
هو الشأن أيضا في وجودهما خارجا وبهذه الجهة نقول: إن مثل هذه العلائق [لا
توجب] تغيرا في وجود [أطرافها] لا خارجا [و] لا ذهنا، وليست من الموجودات
62

في الأعيان كالنسب الموجبة لهيئة خارجية أو ذهنية في طرفيهما كالفوقية والتحتية
[والمحاذاة] والتقابل وأمثالها، ولكن مع ذلك لا يقتضي ذلك نفي الواقعية لها، فلا
مجال حينئذ للاستشهاد بعدم تغير الوجودات بمثل هذه النسب ذهنا وخارجا
على كونها من الاعتباريات المحضة المنقطعة بانقطاع الاعتبار، كيف; وذلك
يستلزم انعدامها واقعا بانعدام الاعتبار واللحاظ، والعقل يأبى عن الالتزام
بانعدام الملازمة - ولو جعلية واقعا - بمحض الغفلة عن لحاظها أو اعتبار عدمها
في مورد ثبوتها.
ولئن شئت توضيح المقام بأزيد من ذلك فاسمع: إن حقيقة الملازمة
[تنتزع] من ملاحظة وجود شئ في ظرف وجود غيره ولو في فرضه الطريق إلى
الخارج. كما أن مرجع اختصاص اللفظ بالمعنى في مقام الابراز أيضا إلى مبرزية
اللفظ له في فرض وجوده كذلك، ومثل هذه الجهة من الأمور الواقعية كسائر
القضايا الحقيقية المبنية على فرض وجود الموضوع في فرضه الطريق إلى واقعه
لا بنحو الموضوعية وبذلك [تمتاز] أمثال هذه النسب والاختصاصات عن الأمور
الاعتبارية المحضة المتقومة بحقائقها بنفس الاعتبار، كالوجودات الادعائية
والتنزيلية حيث لا واقعية لها لولا اعتبار معتبر. ومن هذا الباب اعتبار وجود
غول وأنيابه، ومنه أيضا النسب الحاصلة بين المفاهيم التحليلية المنتزعة عن وجود
واحد حيث إن بانقطاع الاعتبار [تنعدم] مثل هذه النسب واقعا.
وبذلك أيضا أجابوا عن شبهة اعتبار إضافة أخرى بين الإضافة
والمضاف على من التزم بوجود الإضافات في الخارج. وعمدة الوجه فيها هو أن
في أمثال هذه الاعتبارات كان لحاظ المعتبر من وسائط ثبوتها لا طريقا إليها
بخلاف ما ذكرنا من أنحاء الاختصاصات الجعلية، إذ هي كانحاء الملازمات
الذاتية كان لحاظها مجددا طريقا إليها، لا من وسائط ثبوتها، ولقد أشرنا في أول
الكتاب بأن حقيقة الفنون عبارة عن القواعد التي يتعلق بها العلم تارة والجهل
63

أخرى، مع أن قوانينها غالبا جعلية، وما كان منها غير جعلي كان من سنخ أبواب
الملازمات الواقعية، ولو كانت مثل هذه أيضا من الاعتبارات المتقومة باعتبار
المعتبر لزم الالتزام بانعدام القوانين من كل فن بمحض غفلة اللاحظ عن
لحاظها فينتهي إلى انعدام الفنون واقعا بمحض الغفلة عنها وهذا مما يأبى عنه
العقل السليم والذوق المستقيم.
فان قلت: إن ذلك إنما يلزم لو كانت اعتباريتها [تابعة] [لاعتبار] أي
شخص كان. وأما لو قيل بأنها [تابعة] [لاعتبار] معتبر خاص فلا شبهة حينئذ
في أن نظر غيرهم بالنسبة إليها طريق صرف بلا موضوعية له إلا نظر شخص
الجاعل وحينئذ لا يلزم ما ذكرت من التالي من انعدام الفنون بالغفلة عنها.
قلت: إن كان الغرض من اعتبار [المعتبر] الخاص، حدوث اعتباره محضا
فلا شبهة في انعدامه خصوصا بفناء معتبره فلازمه عدم بقاء الأمر الاعتباري إذ
هو تابع اعتباره حدوثا وبقاء فلازمه حينئذ عدم تصور بقاء للفنون حتى مع
التفات غير المعتبر فضلا عن غفلته، وهذا المعنى أشد محذورا في باب الفنون
الأبدية [غير] المنسوخة.
وإن كان الغرض اعتبار المعتبر بنحو يبقى اعتباره الموجب لبقاء الامر
الاعتباري فنقول: كيف يتصور ذلك مع فناء المعتبر، وحينئذ لا يتصور البقاء في
الأمور الجعلية إلا بدعوى صيرورة الجعل منشأ لإحداث نحو اختصاص
وملازمة بين الطرفين باقية ما دام اقتضاء الجعل له نظير سائر الملازمات الذاتية،
ومرجع ذلك إلى الالتزام بنحو من الواقعية التي أشرنا إليها آنفا فراجع.
وعليه فلا غرو بدعوى أن لأمثال هذه النسبة نحو شباهة بالاعتبارات
المحضة حيث لا يوجب تغيير صورة بين الطرفين لا خارجا ولا ذهنا، بل هي
بنفسها ذهنية وخارجية، ولها أيضا نحو شباهة بالإضافات المقولية والنسب
64

الخارجية حيث إن لها واقعية بحيث [تكون] [قابلة] للالتفات إليها تارة والغفلة
أخرى.
ولئن شئت قلت: إن مثل هذه الاعتبارات بل وأنحاء الملازمات الخارجية
نحو اعتبار وسيط بين الاعتباريات المحضة المنقطعة بانقطاع الاعتبار وبين
النسب الخارجية المحدثة لأنحاء من الهيئة لطرفيها، كما لا يخفى.
بقي هنا دفع سهم آخر; لعلك تقول أيضا: ان لازم واقعية هذه الأمور
الجعلية عدم اختلاف أحد في اعتبارها بمحض جعل جاعل، مع أنا نرى
اختلافهم فيه، وربما لا يعتبر بعضهم الاختصاص المعهود مع التفاته [إلى جعل]
غيره كما ترى مخالفة الشارع مع العرف في اعتبار الملكية بل وترى الاختلاف
بين أهل العرف في ذلك.
قلت: ذلك كله لولا رجوع اختلافهم إلى صحة الجعل ومنشأه، والا
فمرجع اختلافهم إلى تخطئة بعضهم بعضا في المنشأ بملاحظة عدم كون ما يرى
غيره منشأ بمنشأ. وإلى ذلك أيضا يرجع أمر اختلاف العرف والشرع في اعتبار
الملكية، وهذا المقدار لا يقتضي نفي الواقعية لها عند واقعية منشأه وصحته، وهل
ترى [أحدا] يعتبر عدم الاختصاص واقعا بين اللفظ والمعنى في فرض كون
المنشأ كثرة الاستعمال. ولو كان أمرا اعتباريا محضا لزم امكان اعتبار خلاف
الاختصاص حتى مع كثرة الاستعمال وهو كما ترى.
هنا ايقاظ فيه إرشاد: وهو ان حقيقة الجعل عبارة عن إرادة الجاعل كون
اللفظ مبرزا وقالبا لمعناه، وهو نحو من اختصاصه به، ومرجع ذلك إلى توجه
الإرادة إلى ثبوت القالبية له، و [الباسه] لباس المبرزية. ولئن شئت فعبر عنه
بتعهد الواضع والجاعل على اتصاف اللفظ بصفة المبرزية والقالبية بحيث يكون
ارادته وتعهده متوجها إلى صيرورته قالبا ومبرزا. وحينئذ فغرض القائل بارجاع
أمر الوضع وحقيقته إلى تعهد الواضع على ذكر اللفظ عند لحاظ المعنى أو مع
65

إرادة تفهيمه، إن كان تعهده على اتصاف اللفظ بصفة المبرزية والقالبية فنعم
الوفاق إذ [القائلون] بجعلية الوضع أيضا لا يريدون أزيد من هذا، بل ذكر
اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى حينئذ مستدرك، إذ اتصاف اللفظ بالمبرزية
والقالبية لو كان قابلا للتحقق بمحض إرادة المريد فلا يحتاج تقييده بحين ذكر
اللفظ ولحاظ المعنى، وإلا فلا معنى لتعلق الإرادة بايجاد صفة المبرزية والقالبية
له مطلقا [لاستحالة] تعلق الإرادة بالمحال.
وان كان غرضه التعهد على ذكر اللفظ وايجاده فارغا عن الاتصاف
بالمبرزية والقالبية فلا محيص من كون اتصافه بهما من ناحية غير هذا التعهد
ولازمه حينئذ ان ينتهي الأمر بالأخرة إلى تعهد آخر راجع إلى حقيقة الجعل كما
أسلفنا.
نعم هنا تصور آخر لا يرجع إلى الجعل ولا ينتهي إليه وهو: أن يراد من
التعهد إرادة ذكر اللفظ لا بعنوان كونه مبرزا لمعناه اتصافا أو ايجادا بل كان
لمصلحة أخرى حاصلة عند لحاظ المعنى فإنه حينئذ ربما ينتقل إلى المعنى باللفظ
لكونه من اللوازم الاتفاقية من جهة إناطة ارادته به.
ولعمري ان هذا التوهم مما [تأبى] عنه الفطرة المستقيمة لأوله إلى كون
اللفظ مرادا لمصلحة نفسية أخرى غير ملحوظ فيه حيث آليته لتفهيم المعنى مع
أن لازمه صيرورة اللفظ حينئذ علامة لمعناه كعلامة البيرق للحرب مثلا، لا أنه
قالب له بحيث يكون انتقاله للمعنى بعين انتقاله إلى اللفظ، كما لا يخفى على
كل ذي مسكة.
تشريح فيه تحقيق: وهو انه بعد ما عرفت حقيقة الجعل والمجعول فربما
يستفاد لعنوانه بعض العناوين الخارجية فيدعى، نحو عنوان " وضع اللفظ على
معناه " لمثله تشبيها له بوضع شئ خارجي على غيره، ولكن ذلك المقدار لا يخرج
حقيقة الجعل والاختصاص عن الحقيقة الواقعية، وإنما الاعتبار والعناية في عنوانه
66

فلا مجال حينئذ لتوهم الخلط بين العناية في العنوان الجاري على الشئ
وبين جعل حقيقة الشئ أمرا ادعائيا عنائيا، وارجاع جعل الاختصاص المسمى
بالوضع بحقيقته إلى اعتبار العناية والتنزيل التي هي من الاعتبارات المحضة
المنقطعة بانقطاع الاعتبار.
ولعمري إن الفهم المستقيم أيضا يأبى عن ذلك ويرى ان حقية الجعل
هو ايجاد العلقة بين اللفظ والمعنى الراجع في الحقيقة إلى ايجاد صفة المبرزية
للمعنى بإرادته، ومرجعه إلى نحو تخصيص اللفظ بمعنى مخصوص، الراجع إلى
نحو تلازم بينهما، واجري على هذا المعنى عنوان ادعائي عنائي وعبر عنه بوضع
اللفظ على معنى، ففي هذا المورد [لوحظت] العناية في جري العنوان لا في
الحقيقة فلا معنى لجعل حقيقة الوضع الذي هو عبارة عن الجعل المعهود أمرا
اعتباريا محضا وعنائيا، كما لا يخفى على من راجع إلى ما أسلفنا في وجه فساده.
ثم إن من التأمل في ما ذكرنا ظهر حال سائر الأحكام الوضعية من
الملكية والزوجية وان روحها أيضا مثل الاختصاص الوضعي في الألفاظ يرجع
إلى نحو اعتبار واقعي بنحو [تكون] الاعتبارات الذهنية طريقا إليها لا ان قوام
حقيقتها بصرف الاعتبار الذهني كما هو الشأن في الاعتباريات المحضة
كالوجودات التنزيلية أو النسب التحليلية، كما أن مثلها أيضا غير حاكية عما
بإزاء خارجي ولو مثل هيئة خارجية كما هو شأن الإضافات المقولية من الفوقية
والتحتية ولقد أشرنا إلى ذلك سابقا أيضا، فتدبر.
تتميم للمرام بإرشاد في المقام وهو: ان حقيقة الوضع كما أنه قد يتحقق
بجعل قبل الاستعمال فقد يتحقق بنفس استعمال لفظ في معناه بقصد حصوله،
وتوهم أوله إلى اجتماع اللحاظين غلط، إذ النظر المرآتي متوجه إلى شخص اللفظ
والمعنى حال الاستعمال وهما غير ملحوظين استقلالا حين الوضع وما هو ملحوظ
67

كذلك فهو طبيعة اللفظ وطبيعة المعنى حين وضعه وأحدهما غير الآخر في مقام
اللحاظ كما لا يخفى، والعجب من صدور هذا الإشكال من بعض أعاظم
المعاصرين على ما في تقرير بعض تلامذته.
68

المقالة الثالثة
أقسام الوضع
69

[المقالة الثالثة]
[في أقسام الوضع]
قد يقسم الوضع إلى شخصي كوضع الجوامد، أو قانوني كما في المشتقات
لما سيجئ ان شاء الله تعالى، فإنه بعد البناء في وضعها على انحلاله إلى وضعين
كان وضع كل واحد من المادة والهيئة قانونيا نظرا إلى سريان المادة في ضمن أي
هيئة موضوعة، وسريان الهيئة أيضا في ضمن كل مادة موضوعة، فلكل منهما جهة
تكثر وانحلال قابل للقانونية، بخلاف وضع الجوامد، كما لا يخفى.
وقد يقسم الوضع بلحاظ تعلقه بالصور الذهنية إلى عموم الوضع
والموضوع له أو خصوصهما أو عموم الوضع وخصوص الموضوع له أو بالعكس
فمن الأول: أسماء الأجناس، ومن الثاني: الأعلام الشخصية، وقيل من الثالث:
الحروف وما يلحق بها، واستشكلوا في الرابع.
ووجه اتصاف الوضع بالعمومية والخصوصية بملاحظة تبعيته لما تعلق به
في الذهن من صور المفاهيم، إجمالية أو تفصيلية (1)، ولا أهمية في ذلك، وإنما المهم
في المقام أمور [أخرى].

(1) فإذا كانت الصورة الذهنية التي تعلق بها الوضع اجمالية كان الوضع عاما وإذا كانت تفصيلية
كان الوضع خاصا.
والظاهر أن المراد من الاجمال والتفصيل هو الكلية والجزئية. فالصورة الذهنية الكلية
اجمالية، بينما الصورة الذهنية الجزئية صورة تفصيلية.
71

أحدها (1): ان تصور عموم الوضع والموضوع له، تارة بنحو هو المشهور
من تصور معنى مستقل في الوجود (2) عاريا عن صور الخصوصيات المفردة
الخارجية كمفهوم الحيوان أو غيره مثلا ووضع اللفظ له، وأخرى بنحو آخر من
تصور معنى ملاصق مع صور الخصوصيات الفردية بحيث كان لازمه عدم مجيئه
في الذهن الا في ضمن صور أشخاص [الافراد] فيضع اللفظ لتلك الجهة
الضمنية المحفوظة في ضمن صور الأفراد بلا دخول خصوصياتها تحت اللفظ.
ولئن شئت توضيح المرام بأزيد من ذلك فاسمع:
إن الأفراد الخارجية من كل ماهية وإن لم [تكن] في الخارج إلا مشتملة
على حصة من الطبيعي غير الحصة [المشتمل] عليها [غيرها] بداهة تكثر وجود
الطبيعي خارجا ولا معنى له إلا بتخلل العدم بين مراتب وجوده في الخارج، والا
يلزم وحدة وجود الأفراد الخارجية بوحدة عددية، ولم يلتزم به ذو مسكة، ولذا قيل
بأن الطبيعي مع الأفراد كنسبة الآباء ولكن مع ذلك لا شبهة في أن جهة وجود
الطبيعي - بما هو وجوده السعي (3) - محفوظة في هذه الحصص والمراتب وهي
الواحدة بالوحدة الذاتية المنتزع [عنها] جنسه وفصله ويترتب عليه الآثار
المشتركة بل هو المنشأ لانتزاع مفهوم واحد عن الافراد، كيف; ويستحيل
انتزاعه من المتكثرات بما هي متكثرات خارجية ويعبر عنه أيضا بالوحدة
السنخية (4) بين العلتين لمعلول واحد، بل وبين كل علة ومعلول.

(1) مقصوده من هذه المقدمة تقسيم (عموم الوضع والموضوع له) إلى قسمين.
(2) وهو المعنى الاسمي.
(3) وهو وجوده المنتشر بين الأفراد.
(4) يشير بهذه العبارة لنظريته الخاصة بالنسبة للوجود الحصصي للطبيعي وحاصلها:
ان الطبيعي وإن لم يوجد في الخارج بوجود واحد عددي ولكنه موجود بوحدته الذاتية وجودا
خارجيا موزعا على افراده، فكل فرد يشكل حصة من وجود الطبيعي. ودليله يتكون من
مقدمتين
أ - انتزاع مفهوم واحد من المصاديق المتعددة.
ب - ان الواحد لا يصدر الا من واحد (وهذه قاعدة التسانخ بين العلة والمعلول المعبر
عنها بالوحدة السنخية).
اذن لا بد من وجود وحدة حقيقية في الخارج بين الافراد هي المنشأ لانتزاع ذلك المفهوم
الواحد.
72

ولئن ترد وضوح المقام فقايس وحدة وجود الانسان بوحدة حقيقة
الوجود من كونه وحدة ذاتية لا عددية وهو المتحد مع كل مرتبة من مراتبه باتحاد
ذاتي لا عددي، غاية الأمر بلحاظ حد الانسانية يمتاز عن غيره (1) ولكن لا
يخرج عما [هو] عليه من الوحدة الذاتية المحفوظة في كنه الوجود الممتاز بالنسبة
إلى المراتب المحفوظة في ضمن حدوده الشخصية وحينئذ نقول:
ان هذه الجهة المحفوظة [بوحدتها] الذاتية في ضمن الحصص الفردية:
تارة [تلاحظ] في الذهن و [ينالها] العقل معراة عن الخصوصية.
وأخرى [ينالها] العقل بنحو يكون [وجودها] في ضمن الخصوصيات
بحيث [لا تجئ] في الذهن إلا مع صور أفرادها الشخصية، ففي هذه الصورة
كانت صور الأفراد في الذهن حاكية عن نحو وجودها خارجا.
فكما أن الفرد بوجوده الخارجي متضمن للجهة المتحدة
مع خصوصيته في الوجود مع محفوظية عين تلك الجهة ذاتا في ضمن فرد آخر،
كذلك صورة هذا الفرد في الذهن أيضا [متضمنة] لجهة متحدة مع خصوصية في

(1) يقول الفلاسفة بأن الوجود مساوق للوحدة وهو في عين وحدته متكثر بلحاظ المراتب والحدود
التي يتحدد بها.
وإذا كان هذا حكم الوجود - على الاطلاق - فهو يجري في الوجود الانساني أيضا باعتباره
أحد مصاديق الوجود.
ولا يرد عليه: لزوم اتحاد الوجود الانساني وغيره من الوجودات الخارجية باعتبار أن مرتبة
الوجود الانساني - وهو حد الانسانية - تميز وجود الانسان عن سائر الوجودات.
73

الذهن مع محفوظية عين تلك الجهة بحسب الذات في [غيرها] من صور الأفراد،
كيف; ولولا ذلك لما كانت الصورة المخزونة في الذهن [تامة] الحكاية عن
الخارج، [فتماميتها] في مقام الحكاية أن تكون الصورة المنقوشة في الذهن مشتملة
على جميع الجهات المطابقة لما في الخارج كي [تصير] مثل هذه الصور فئ
الخارجيات [الحاكي] عما فيها من الجهات، فمنها حينئذ الجهة الواحدة السنخية
المتحدة مع كل خصوصية والسارية في جميعها علاوة عن الحدود الشخصية
الطارية عليها وحينئذ فلا غرو بدعوى امكان ملاحظة صورة هذه الجهة
المتحدة (1) المطابقة لما في الخارج بتوسيط مفهوم اجمالي فيوضع اللفظ له في قبال
وضع اللفظ للمعنى العام المنفصل عن الخصوصية بحيث [لا تجئ] صور
الأفراد في الذهن حين الاستعمال أصلا كما هو المشهور.
وأظن لو تأملت في ما تلوناه لا يبقى لك اشكال في البناء ولا في المبنى (2)
ولا توهم غفلة القائل به عما هو المعروف من أن الطبيعي مع الأفراد كنسبة
الآباء (3)، وتصدق بان لعموم الوضع والموضوع له [نحوين] من التصور
[مشتركين] في أن اللفظ الموضوع في أي الفرضين داخل في متحد المعنى لا
متكثره، وأن الخصوصيات المكثرة خارجة عن مدلول اللفظ ومفهومه بدال آخر
مع عدم انتقال النفس في مقام الاستعمال إلا إلى صور الأفراد الشخصية في

(1) أي الواحدة.
(2) المبنى: هو لزوم اشتراك جميع حصص الطبيعي في جهة واحدة بوحدة ذاتية.
(3) قد يتوهم بأن الطبيعي حينئذ نسبته لافراده نسبة الأب الواحد للابن الواحد وهذا خلاف ما
قيل من أن نسبته إليها نسبة الآباء للأبناء.
والجواب: ان كون نسبة الطبيعي لافراده نسبة الآباء للأبناء لا يمنع من افتراض وحدة
ذاتية بين الآباء ولازمها الوحدة الذاتية بين الأبناء. إذ الوحدة الذاتية في المنتزع تكشف عن
وحدة ذاتية في منشأ الانتزاع.
74

الفرض الثاني دون الأول وليكن ذلك في ذكر منك إلى أن يجئ الكلام في تعيين
مصداقه.
ثانيها: ان العناوين الصادقة على الكثيرين تارة [تنتزع] من الأفراد
بملاحظة ما في ضمنها من الحيثيات الذاتية المتحدة مع الخصوصيات الزائدة
عنها خارجا ووجودا كالعناوين الذاتية النوعية أو الجنسية المنتزعة عن أفرادها.
وأخرى [تنتزع] منها بملاحظة ما فيها من الجهات العرضية (الخارجة من
ذاتها) المتحدة مع خصوصياتها الشخصية الذاتية بنحو من الاتحاد نظير عنوان
(الشئ) و (الذات) و (الموجودية) وأمثالها، ففي مثلها أيضا الخصوصيات
الشخصية الذاتية جهات خارجة عما بإزاء هذه المفاهيم المستتبع (1) لكون حملها
على أفرادها كالقسم السابق حملا شائعا صناعيا،
ولذا نقول: إن في أمثال هذه العناوين لا يحكي العنوان العام أيضا إلا
عن الجهة العرضية الضمنية في الأفراد بلا حكايتها في عالم التصور عن
الخصوصيات لا اجمالا ولا تفصيلا.
وثالثة يكون العنوان بنحو يحكي عن نفس الخصوصيات المشخصة اجمالا
بحيث [لا تكون] الخصوصيات المزبورة جهة زائدة عن حقيقة هذا العنوان
المستتبع (2) [لانطباقه] على كل خصوصية بشخصها وذلك مثل عنوان الخصوصية
و (التشخص) و (الفردية)، فإنها في الخارج [تامة] الانطباق على كل خصوصية
معينة وليس حالها كسائر الكليات المنطبقة على الفرد بمحض اتحادها مع

(1) (المستتبع) وصف للخروج المقدر. أي أن الخصوصيات الشخصية الذاتية عما بإزاء هذه
المفاهيم هو الذي يستتبع كون حمل هذه المفاهيم على افرادها حملا شائعا، فلو كانت داخلة
لصح حمل هذه المفاهيم على افراده حملا أوليا.
(2) (المستتبع) وصف لمقدر ومعناه: ان عدم كون الخصوصيات المزبورة زائدة عن هذا العنوان
يستتبع انطباق العنوان على كل خصوصية بشخصها.
75

خصوصياتها خارجا بنحو من الاتحاد.
وربما يشهد لهذه الجهة من الفرق فرض وقوع العنوانين في حيز الخطاب
حيث إنه لو كان المأخوذ ما كان من قبيل الأول والثاني فلا شبهة في أنه في مقام
الامتثال ليس للمكلف قصد التقرب بالخصوصية بخلاف العنوان الأخير فان له
التقرب بأية خصوصية يأتي بها، ففي مثل هذه العناوين لا محيص من الالتزام
بكونها من العناوين الاجمالية الحاكية عن الخصوصيات التفصيلية بحيث تكون
نسبتها إلى الخصوصيات التفصيلية كنسبة الاجمال إلى التفصيل ويكون حملها
على الخصوصيات التفصيلية من قبيل حمل المجمل على المفصل ويكون الحمل
ذاتيا لا شائعا صناعيا، ومرجعها في الحقيقة إلى اختراع النفس صورة اجمالية
قبال الصورة التفصيلية المنتزعة عن كل خصوصية خارجية.
فلا يبقى حينئذ مجال دعوى أن المفهوم الواحد كيف ينتزع عن أمور
متعددة متباينة فلا بد وأن يكون بجامع ولو عرضيا زائدا على الخصوصيات
محفوظة [فيه] فيكون حال عنوان الفرد والخصوصية حال عنوان الشئ والذات
[منتزعا] عن الجهة المشتركة إذ ذلك كذلك لو كانت أمثال هذه العناوين أيضا
من المنتزعات عن الخارجيات وإلا ففي المخترعات الذهنية أمكن تصور مفاهيم
اجمالية قابلة للتطبيق على تمام الخصوصيات التفصيلية خارجا.
ويشهد لذلك سراية الحكم المتعلق بمثل هذه العناوين إلى الخصوصيات
الخارجية بشراشرها، بخلاف الحكم المتعلق بسائر العناوين إذ لا يكاد يسري
منها إلى الخصوصيات الخارجة عما [بإزائها] كما أشرنا إليه بفرض صحة التقرب
بالخصوصية وعدمها.
ثم إن هنا [عنوانا رابعا مبهما] من جميع الجهات بحيث لا يجئ في الذهن
إلا بنحو الشبح في الخارجيات القابل للانطباق على أي عنوان تفصيلي - ذاتيا
كان أم عرضيا - أو اجمالي كعنوان الشخص والخصوصية وأمثالها وهذه العناوين
76

المبهمة كالعناوين الاجمالية أيضا [تامة] الانطباق على العناوين التفصيلية
وحاكية عن الخصوصيات الشخصية بنحو الابهام والاجمال ويكون حملها أيضا
على العناوين التفصيلية حملا ذاتيا لا شائعا صناعيا، ومن تلك الجهة [كانت
تامة] الشباهة [بالعناوين] السابقة الإجمالية.
إلا أن جهة الفرق بينهما [هي]: أن العناوين السابقة فيها جهة تعيين
مانعة عن التطبيق على كل عنوان تفصيلي، بخلاف هذا العنوان المبهم فإنه
بملاحظة توغله في الابهام [قابل] للانطباق على أي عنوان تفصيلي كلية كانت
العناوين التفصيلية أو جزئية، وربما يكون وضع أسماء الإشارة والضمائر
والموصولات لمثل هذا المعنى وسيجئ الكلام أيضا في شرحها إن شاء الله تعالى.
ثم إنه بعد ما اتضح ذلك فنقول: إن ما يصلح للإشارة إلى المصاديق في
باب عموم الوضع وخصوص الموضوع له هو العناوين العامة الإجمالية لا
العمومات الحاكية عن الجوامع التفصيلية، كيف; وقد أشرنا [إلى] ان كل مفهوم
لا يحكي الا عما بإزائه من الجهة الخارجية، وحيث كانت الخصوصيات زائدة عن
هذه الجهة في أمثال هذه العمومات فلا مجال [لحكايتها] عنها لا إجمالا ولا تفصيلا
في عالم التصور.
نعم هذه الجهات المشتركة حيث كانت في الخارج ملازمة مع الخصوصيات
ربما ينتقل الذهن منها إليها بنحو الاجمال لكن مرجع هذا الانتقال أيضا إلى
مجئ احدى الصور الاجمالية من مثل الخصوصية وما يساوقها بسبب الملازمة
الارتكازية الذهنية، وهذا غير مرتبط بعالم مرآتية نفس العام بصورته التفصيلية
إلى تلك الخصوصيات. ففي الحقيقة الحاكي عن الخاص هو المفهوم الاجمالي
المخترع في النفس بإزائه، وانما شأن المفاهيم التفصيلية في أمثال المقام ليس إلا
تحديد دائرة الاجمال في مفهوم آخر هو المرآة لا [أنها] هي المرآة كما لا يخفى (1).

(1) ف‍ (الانسان) - مثلا - مفهوم تفصيلي يحدد دائرة الاجمال في مفهوم (الفرد) بحصره في دائرة
الانسان ويكون مفهوم (الفرد) هو المرآة للخصوصيات الخارجية الملازمة لما بإزاء مفهوم
الانسان، لا ان مفهوم الانسان هو المرآة لتلك الخصوصيات.
77

ثالثها: إنه من التأمل فيما ذكرنا ظهر أنه كما يستحيل حكاية المفاهيم
العامة التفصيلية عن الخصوصية كذلك يستحيل أيضا حكاية الخصوصية عن
الجهة المشتركة.
نعم ربما يلازم هنا أيضا الانتقال [إلى] [الخصوصية] [الانتقال] إلى الجهة
المشتركة للملازمة المزبورة بينهما خارجا، كما أنه (1) يصلح ان [تصير] محددا لدائرة
يشار بها إلى المفاهيم العامة [بتوسط] مفهوم اجمالي - ولو بمثل (ما ينطبق على
هذا الفرد) -، وهذه الجهات غير [مرتبطة] بعالم مرآتية الخاص - بما هو خاص
- عن العام، كما أن الامر كذلك في عكسه (2) أيضا، كما عرفت.
ولعمري ان القائل بامكانه (3) تخيل بأن الملازمة الموجبة للانتقال من
العام إليه هو أيضا موجب للانتقال من الخاص إلى العام، فلو كان مناط مرآتية

(1) أي مفهوم (الخصوصية) يصلح لأن يصير محددا لدائرة يشار بتلك الدائرة إلى مفهوم عام
تفصيلي. فلو أشرت إلى (زيد) وتصورت مفهوم (ما ينطبق على هذا الفرد) فقد حددت دائرة
مفهوم (الفرد) في (الانسان) بتوسيط مفهوم اجمالي هو (ما ينطبق عليه).
(2) العكس هو ما أشار إليه بقوله: (نعم هذه الجهات المشتركة حيث كانت في الخارج ملازمة
مع الخصوصيات) وهو: مرآتية العام بما هو عام إلى الخاص.
(3) أي الوضع العام والموضوع له الخاص.
وفهرست ما جاء في المقدمات الثلاث هو:
في المقدمة الأولى جاء بنحوين من الوضع العام والموضوع له العام.
وفي المقدمة الثانية جاء بأربعة عناوين وذكر بأن اثنين منها لا يكونا الا من الوضع العام
والموضوع له العام، وان اثنين منها فقط يصلحان لأن يكونا من الوضع العام والموضوع له
الخاص.
وذكر في المقدمة الثالثة بأن العام التفصيلي لا يكون مرآة للخاص بل يلازم عنوانا حاكيا
عن الخاص، وكذلك الخاص بما هو خاص لا يكون مرآة للعام بل يلازم عنوانا يحكي عن
ذلك العام.
78

العام عن الخاص هذا المقدار فلا محيص من التصديق بأن الخاص أيضا قابل
لأن يصير مرآة للعام، ولكن بعد ما عرفت بأن هذه الجهة غير [مرتبطة] بمقام
بمرآتية عنوان عن آخر فلا محيص من انكار المرآتية في الطرفين، فلا محيص من
أن تكون المرآة عنوانا اجماليا لا تفصيليا من دون فرق بين الكلي والجزئي كما
لا يخفى، وحينئذ لا يكون الخاص مرآة لعموماتها ولا العمومات الحاكية عن
الجوامع التفصيلية لخصوصياتها، كما لا يخفى.
79

المقالة الرابعة
المعاني الحرفية
81

[المقالة الرابعة]
في
المعاني الحرفية
لا اشكال في ثبوت عموم الوضع والموضوع له كما في أسماء الأجناس،
بل وفي ثبوت خصوص الوضع والموضوع له كما في الأعلام الشخصية. وإنما
الكلام في ثبوت عموم الوضع وخصوص الموضوع له. قيل بأن من مصاديقه وضع
الحروف والهيئات وما يشابهها من الأسماء. وتوضيح ذلك يقتضي أولا بيان سنخ
معاني الأمور المزبورة كي به ينكشف الحال في المرام فهنا مقامات:
المقام الأول: في بيان المعاني الحرفية فنقول أولا إنهم أطبقوا على كونها
غير مستقلة بالمفهومية. وربما ارجع عدم الاستقلال بالمفهومية إلى عدم استقلالها
في مقام لحاظها بجعلها آلة لملاحظة حال الغير قبال مفاهيم الأسماء الملحوظة
بالاستقلال، والى ذلك نظر من قال بأن معانيها آلية ومرآتية.
والمشهور (1) ان المعنى والملحوظ مفاهيم غير مستقلة بذاتها في عالم الذهن

(1) والحاصل ان هنا رأيين.
الأول: ان المعاني الحرفية كالمعاني الاسمية مستقلة في ذاتها، فالابتداء هو الموضوع له مثلا،
وانما الفرق في اللحاظ فقط، بمعنى ان الابتداء لوحظ آلة (رابطا بين طرفين) فوضع له الحرف
(من)، ولوحظ مستقلا فوضع له الاسم.
الثاني (المنسوب إلى المشهور): ان المعاني الحرفية بذاتها غير مستقلة أي انها عين الربط
بين الطرفين، ويلحظ هذا الربط بلحاظ مستقل تبعا للحاظ الطرفين فيوضع له لفظ الحرف،
بينما تكون المعاني الاسمية مستقلة في ذاتها وتلحظ بلحاظ مستقل بالأصالة.
83

نظير النسب الخارجية القائمة بالوجودات الخارجية المتقومة بغيرها في الخارج
مع كون اللحاظ المتوجه إليها استقلاليا بمعنى عدم كونها مرآة لغيرها الموجب
لعدم الالتفات إليها، بل [تكون] مثل هذه النسب القائمة بالغير المعبر [عنها]
بتقيدات معان أخرى (1) مما يلتفت إليها بحيث يوجه طلبه نحو الذات المتقيدة
بقيد كذا، على وجه يكون [التقيد] جزء للمطلوب والقيد خارجا. وبديهي انه لولا
الالتفات إلى [تقيدات] المعاني في حيز الخطاب فما معنى توجيه الطلب نحوها؟.
نعم [لا تكون] مثل هذه [التقيدات] مما يلتفت إليها بالأصالة، بل يكون
اللحاظ والالتفات المتوجه إليها تبعيا، ولذلك لا يقع مبتدء ولا خبرا ولا فاعلا ولا
مفعولا، [بل هذا] شأن الأسماء الملتفت إليها أصالة، ولكن ذلك المقدار لا
يقتضي مرآتيتها لغيرها - بحيث لا يلتفت إليها أصلا، بل تمام الالتفات كان
متوجها إلى غيرها -، وحينئذ هذا المسلك في تمام المعاكسة مع المسلك السابق،
بل على المسلك السابق لا يعقل أخذ الاستقلالية وعدمها في مفاهيم الأسماء
والحروف، بل لا محيص من تجريد المعنى منهما.
وحينئذ، وان قيل لازمه اتحاد [معاني] الأسماء والحروف، وانما الاختلاف
في كيفية استعمالهما، - والا يلزم الاشكالات الثلاثة المعروفة في أخذ هذه القيود
في الموضوع له (2) -، ولكن [يمكن] الالتزام أيضا باختلاف المفهومين مع عدم

(1) بيان لكيفية الالتفات إلى المعاني الحرفية وحاصله:
ان المعاني الحرفية لا يتوجه إليها اللحاظ منعزلة عن أطرافها بل يكون الالتفات إليها في
ضمن الالتفات إلى أطرافها، فمثلا في (سر من البصرة) يكون المأمور به هو (السير المتصف
بالابتداء من البصرة) فيكون (الابتداء) الحرفي ملحوظا ضمن لحاظ (السير).
(2) الاشكال الأول: ان اللحاظ الآلي لو كان جزء من المعني الموضوع له للزم لحاظ هذا اللحاظ
الآلي حين الاستعمال لتوقف الاستعمال على لحاظ المعنى الموضوع له. واللحاظ تشخص ذهني
للماهية ولا تتشخص الماهية مرتين في الذهن.
ثم إن الذي يتشخص باللحاظ في الذهن انما هو الماهية الفاقدة للتشخيص بنفسها واما
اللحاظ نفسه فهو عين التشخص الذهني فلا يقبل اللحاظ عروض اللحاظ عليه.
الاشكال الثاني: ان لازم كون اللحاظ جزء من الموضوع له هو أن يكون الموضع له أمرا
ذهنيا صرفا فلا يمكن امتثاله خارجا.
الاشكال الثالث: لو جاز أن يكون اللحاظ الآلي جزء من الموضوع له في الحروف لجاز أن يكون
اللحاظ الاستقلالي جزء من الموضوع له في الأسماء.
وحيث إن الأسماء تستعمل في نفس معانيها المجردة عن قيد اللحاظ الاستقلالي فاللحاظ
غير مأخوذة في معانيها حين الوضع.
وليكن هذا شأن الحروف أيضا.
84

[أخذ] اللحاظ في [الموضوع له] (1) بدعوى وضع الحرف لما تعلق به
اللحاظ الاستقلالي بنحو المشيرية إلى ما تعلق لا بنحو التقييد (2)، إذ حينئذ معنى
الأسماء مرتبة من المعنى التوأم مع الاستقلال والحروف كذلك في المرآتية من دون
أخذ اللحاظ [فيها] أبدا كي [ترد] الاشكالات، و [بمثل] هذا المعنى [يمكن] بيان
مراد الفصول بلا لزوم تهافت في كلماته فراجع (3).

(1) والظاهر أن الصحيح هو ما أدرجناه بين القوسين.
(2) يحاول المصنف دفع الاشكالات الثلاثة على المسلك الأول وذلك بعدم اخذ اللحاظ قيدا في
المعنى الموضوع له بل بأخذ اللحاظ مشيرا إلى المعنى في الأسماء والحروف معا، فيكون الابتداء
- مثلا - معنى ذا مرتبتين:
مرتبة الابتداء الاستقلالي ومرتبة الابتداء الآلي (المرآتي)، وقد لوحظ في وضع (من معنى
الابتداء الملحوظ مرآتا على أن يكون هذا اللحاظ مشيرا إلى تلك المرتبة. بينما الملحوظ في وضع
الاسم معنى الابتداء الملحوظ استقلالا على أن يكون هذا اللحاظ مشيرا إلى تلك المرتبة أيضا.
(3) قال في الفصول:
" فان التحقيق: ان الواضع لاحظ في وضعها معانيها الكلية ووضعها بإزائها باعتبار كونها آلة
ومرآة لملاحظة حال متعلقاتها الخاصة فلاحظ في وضع (من) مثلا مفهوم (الابتداء المطلق)
ووضعها بإزائه باعتبار كونه آلة ومرآة لملاحظة حال متعلقاتها الخاصة من السير والبصرة مثلا
فيكون مداليلها خاصة لا محالة، وكذلك لاحظ في وضع أسماء الإشارة مفهوم (المشار إليه)
ووضعها بإزاء ذاته بضميمة الإشارة الخارجة المأخوذة آلة ومرآة لتعرف حال الذات فيكون
معانيها جزئيات لا محالة لوضوح ان الماهية إذا اخذت مع تشخص لاحق لها كانت جزئية.
مع احتمال أن يكون قد لاحظ في وضع الحروف معانيها الكلية ووضعها بإزاء كل جزئي
جزئي من جزئياتها المأخوذة آلة ومرآة لملاحظة حال متعلقاتها، ولاحظ في وضع أسماء الإشارة
مفهوم (الذات المشار إليها) ووضعها بإزاء كل جزئي جزئي من خصوصيات الذات مع الإشارة
المأخوذة آلة ومرآة لتعرف حال تلك الذات وعلى هذا القياس.
والفرق بين الاعتبارين: ان الخصوصية مأخوذة في أحدهما باعتبارين وفي الآخر باعتبار
واحد وهو أقرب لسلامته عن الاعتبار الزائد، هذا على ما هو المختار وفاقا لجماعة من المحققين
لأن المتبادر منها ليس إلا المعاني الخاصة وانها لا تستعمل الا فيها، ومنهم من أنكر ذلك وجعل
الوضع في تلك الألفاظ بإزاء معانيها الكلية... " راجع الفصول: 16.
85

هذا كله على شرح التبعية في عالم اللحاظ - كما هو لازم المسلك الأول -
وهذا بخلاف المسلك الأخير حيث إنه في مقام اللحاظ الاستقلالي الملازم
للالتفات إلي الشئ هما سيان وانما الاختلاف بين المفهومين في أصل ذات المعنى
وسنخه، حيث إن مفاهيم الأسماء غير قائمة بغيرها بل هي في عالم الذهن
مستقلات في الوجود بخلاف المعاني الحرفية حيث إنها قائمة بغيرها ومتقومة
بالغير كتقوم العرض بجوهره، بل وليس سنخ المعاني الحرفية لدى المشهور من
سنخ المحمولات بالضميمة كالكيف والكم وأمثالهما بل هي من سنخ النسب
والإضافات القائمة بالطرفين فهي في الأذهان من سنخ الوجودات الرابطية
الخارجية لا الوجود الرابط - على ما [اصطلحه] صدر المتألهين رضي الله عنه - في
أسفاره (1).

(1) قسم صدر المتألهين الوجود إلى ثلاثة أقسام.
أ - الوجود المستقل كوجود الجواهر وهو ما لا يحتاج في وجوده إلى موضوع.
ب - الوجود الرابطي كوجود الأعراض وهو ما يحتاج في وجوده إلى موضوع غير أن
الوجود يحمل عليه مستقلا.
ج - الوجود الرابط كوجود المعاني الحرفية، وهو ما يكون وجوده قائما بوجود طرفيه ولا
يحمل عليه الوجود مستقلا.
راجع الأسفار ج 1 ص 78 وص 327 - 331.
هذا ما ذكره صدر المتألهين واما المحقق العراقي فيرى أن المعاني الحرفية من سنخ الاعراض
النسبية لا من سنخ مطلق الاعراض فرأيه وسط بين رأيين.
الأول رأي صدر المتألهين وهو كون معاني الحروف والهيئات مطلقا من سنخ الوجود الرابط.
الثاني رأي المحقق النائيني وهو كون معاني الحروف والهيئات مطلقا من سنخ الوجود
الرابطي. ويرى المحقق العراقي ان المعاني الحرفية من سنخ الوجود الرابطي أي من سنخ
الاعراض لكن لا مطلق الاعراض بل النسبية منها - كمقولة الأين والإضافة والفعل
والانفعال - وهي ما تحتاج في تحققها إلى موضوعين يتقوم بهما وجودها. واما مثل مقولتي الكم
والكيف فلا تحتاج الا إلى طرف واحد.
راجع بدائع الأفكار ص 49 - 51.
86

ولقد اشتبه الأمر على بعض وجعلها من سنخ مطلق الأعراض القائمة
بالجوهر في عالم الذهن كخارجه، ولعل منشأ اشتباهه تعبيرهم أن (من) للابتداء
و (إلى) للانتهاء و (لعل) للترجي و (ليت) للتمني و (لام الأمر) للطلب، إذ هذه كلها
من غير مقولة الإضافة، وجعل الفرق بين الاسم والحرف بحسب قيام هذه
المعاني بغيرها في الحرف، واستقلال وجودها في الذهن في الأسماء (1).
ولكن فيه غفلة وذهول، كيف; ولازمه عدم احتياج المعاني الحرفية إلى
الطرفين بل [يكفيها] طرف واحد هي قائمة به وهو كما ترى ينادي الوجدان
بفساده، فلا محيص من جعل سنخ معانيها على هذا المسلك (2) من سنخ النسب

(1) جاء في تقريرات المحقق النائيني قدس سره:
" ان المفاهيم الحرفية. قائمة بالمفاهيم الاسمية نظير قيام الاعراض بموضوعاتها فكما أن
الخارجيات لها جواهر واعراض فكذلك المفاهيم، فالمفاهيم الاسمية بأنواعها معان استقلالية
جوهرية والمعاني الحرفية معان عرضية قائمة بها فكما أن الاعراض في مقام تحصلها وقوامها لا
تحتاج إلى موضوع وان ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز لبساطتها فهي في كل مرتبة
بسيطة فكذلك المفاهيم الحرفية أيضا بسائط في مقام مفهوميتها ويحتاج في مقام وجودها في عالم
الاستعمال إلى مفاهيم اسمية حتى تتحقق بها ففرق بين التحصل والتحقق ". أجود التقريرات
ج 1 ص 28.
(2) أي مسلك المشهور.
87

والارتباطات المعبر عنها بتقيدات المعاني الاسمية. وأما تعبيراتهم المزبورة (1) فإنما
هي في مقام شرح اللفظ وصرف الإشارة إلى سنخ النسب الملازمة لهذه المعاني،
وان دلالة الحروف عليها لمحض الملازمة لا أنها بنفسها مأخوذة في مفاهيم
الحروف.
وأوهن من ذلك توهم انكار المعنى للحروف رأسا وجعل الحروف من قبيل
الرفع الذي هو علامة الفاعلية، فالحروف أيضا علامة خصوصيات معاني
[طرفيها] من [كونها] بنحو مخصوص بأحد انحاء التقيدات، ومثل بأن (في)
علامة لكون الدار [موجودا] في الذهن بنحو الأينية. [لا كونه] بنحو العينية (2).
وتوضيح فساده: بأن الخصوصيات الزائدة عن ذات الطرف من أنحاء
وجوده، خارجة عن مدلول لفظ الطرف ومحفوظة في الذهن [قائمة] بغيرها
وحيث إن لفظ الطرف غير حاك عنها فيحتاج إلى مبرز آخر وحينئذ: فتارة
يكون لفظ (من) قرينة على إرادة الخصوصية المزبورة من لفظ طرفه فيلزم كونه
مجازا فيه، وإلا فما هو في [قبالها] هو هذه الكلمة (3) ولا نعني من معناها إلا هذا.
وأعجب من أصل المختار تمثيله بالرفع للفاعلية إذ جهة الفاعلية - وهو
كونه طرف إضافة المادة صدورا [أو] قياما - أيضا جهة زائدة عن أصل المعنى،
ومن المعلوم أن الدال عليه ولو بالملازمة لابد وأن يكون هيئة الكلام، فهي أيضا
من حيث المعنى من سنخ الإضافات والارتباطات القائمة بالطرفين كما سيجئ
توضيح ذلك في شرح مداليل الهيئة ان شاء الله تعالى.

(1) وهي ما أشار إليه بقوله: ولعل منشأ اشتباهه تعبيرهم ان (من) للابتداء...
(2) أي ان القائل (زيد في الدار) يكون تعبيره ب‍ (في) علامة على إرادة الدار ظرفا لزيد أي
(الدار بنحو الأينية)، لا إرادة الدار بما هي أي (بنحو العينية).
(3) أي وإن لم تكن لفظة (من) قرينة على إرادة الخصوصية المزبورة من لفظ الطرف لئلا يكون
استعمال لفظ الطرف مجازيا، فاللفظ الذي هو في قبال هذه الخصوصية هو نفس كلمة (من).
88

وبالجملة نقول: إن ما هو طرف الترديد في المعاني الحرفية لدى المحققين
الصورتان السابقتان، وبعد ذلك نقول: إن لازم المسلك الأول أن المعاني الحرفية
آلة لملاحظة حال الغير، ولازم المسلك الثاني كون المعاني الحرفية بنفسها حالة
للغير فالجمع بين كونها آلة وحالة لا يخلو عن خلط بين المسلكين (1).
وكيف كان الذي يقتضيه التحقيق اختيار المسلك الثاني، وذلك لا لما توهم
من أن لازم المسلك الأول صحة استعمال (من) في مفهوم الابتداء وعكسه بعد
الجزم بعدم نفوذ شرط الواضع لكيفية الاستعمال بعد الفراغ من وضعهما لمعنى
واحد، للجزم (2) بخروج أنحاء اللحاظات الاستعمالية عن الموضوع له، لأنه
يقال، إن كيفية الاستعمال وإن لم [تكن] شرطا من الواضع مع عدم وجه لنفوذ
هذا الشرط ولكن نقول: إن غرض الواضع بعد تعلقه - في وضع الأسماء
والحروف لسنخ واحد من المعنى - بتفهيم المخاطب كيفية لحاظ المعنى حين
استعماله بنحو الاستقلال أو المرآتية فلا جرم يصير نحو استعماله بنحو مخصوص
من أغراض الوضع على وجه لا يمكنه الأخذ في الموضوع له فلازمه قهرا ضيق
دائرة الوضع والترخيص بمقدار ضيق غرضه فيصير حينئذ الموضوع له: المعنى
في حال كونه مرآة لا بشرط المرآتية ولا لا بشرطه، كما أفاده المحقق القمي
بالنسبة إلى حال الانفراد (3)، فكان ما نحن فيه من تلك الجهة حال الأوامر

(1) الظاهر أنه إشارة إلى ما ذكره المحقق الأصفهاني من أن بعض المعاني الاسمية آلة لتعقل حال
الغير كالامكان والوجوب والامتناع. راجع نهاية الدراية الجزء الأول، الطبعة الثانية، المطبعة
العلمية بقم. (2) تعليل لقوله: (بعد الفراغ...).
(3) ذكر المحقق القمي قدس سره في المقدمة الثانية من المقدمات التي ساقها لبيان مختارة في استعمال
اللفظ المشترك في أكثر من معنى: ان اللفظ المفرد - أعني ما ليس بتثنية ولا جمع - إذا وضع
لمعنى كلي أو جزئي حقيقي فمقتضى الحكمة في الوضع أن يكون المعنى مرادا في الدلالة عليه
بذلك اللفظ منفردا، ثم قال:
" لا أقول ان الواضع يصرح بأني أضع ذلك اللفظ لهذا المعنى بشرط أن لا يراد معه شئ
آخر وبشرط الوحدة، ولا يجب ان ينوي ذلك حين الوضع أيضا، بل أقوال: انما صدر الوضع
من الواضع مع الانفراد وفي حال الانفراد، لا بشرط الانفراد حتى تكون الوحدة جزء
للموضوع له كما ذكره بعضهم، فيكون المعنى الحقيقي للمفرد هو المعنى في حال الوحدة، لا
المعنى والوحدة... ".
89

العبادية بالإضافة إلى نحو امتثالها القربى، فكما أن خصوصية هذا النحو من
الامتثال [مأخوذة] في الغرض الداعي على الأمر بالذات من دون كونه قيدا
للمأمور به لاستحالته ومع ذلك صار موجبا لضيق دائرة الأمر بنحو لم يتعلق إلا
بالذات التوأمة مع التقرب في عالم الوجود لا ب‍ (شرط التقرب) ولا (لا بشرطه)،
فكذلك في المقام ولازم ذلك حينئذ قصور ترخيص الواضع من وضعه على أي
نحو من الاستعمال، بلا احتياج فيه إلى شرط خارجي في متن عقد لازم (1)،
وحينئذ يكون استعمال كل واحد بغير ما يوافق غرضه الداعي على وضعه غلطا
كما لا يخفى.
بل العمدة في وجه الاشكال أنه بعد الجزم بحسب الوجدان ان في موارد
استعمال الحروف [تنسبق] إلى الذهن النسب المخصوصة أو الابتداء الخاص
مثلا بخصوصياتها التفصيلية، لا مجال لاستفادة ذلك من مفهوم النسبة أو
الابتداء الملحوظ مرأة، إذ يستحيل مرآتية نفس الكلي عن مصاديقه بنحو
التفصيل ولا استفادة الفرد الخاص المشتمل [على الجهة] المشتركة الضمنية
[من] المفهوم المشترك المخزون بنحو الاستقلال في الذهن ولو بضميمة دال
آخر، وحينئذ فلا محيص من انكار مفهوم آخر بين اللفظ وهذه الخصوصيات
التفصيلية، فلا يبقى بإزاء اللفظ الا هذه [الصورة التفصيلية] ولا يتبادر منها إلا
هذا. فلا وجه للالتزام بمعنى آخر غير ملتفت إليه [آب] عن إرائة هذه

(1) لعله يريد بذلك: انه لا حاجة هنا إلى شرط خارجي ليقال بأنه غير ملزم إلا أن يكون في
متن عقد لازم.
90

الخصوصيات أيضا بنحو التفصيل المنسبق إلى الذهن ولو بدال آخر بشهادة
الوجدان كما عرفت.
ولعمري: ان عمدة ما دعاهم إلى هذا التصوير شهادة وجدانهم على كون
معنى (من) و (إلى) و (على) في موارد استعمالها سنخ واحد، وان استفادة
الخصوصيات بدال آخر، فالتزموا لحفظ الوحدة السنخية بمعنى كلي مستقل
وجعل ذلك مرآة إلى الحالة الطارئة على السير والبصرة، وغفلوا عن أن المفهوم
الكلي [المعرى] عن الخصوصية يستحيل ان يري الخصوصية التفصيلية ولو
بضميمة ألف دال آخر، بل لا ينسبق من المفهوم العام المعرى عن الخصوصية إلا
ما بإزائه من الوجود السعي [المعرى بلا انتقال] منه إلى الخصوصيات بصورة
انضمامها [إلى] الجهة المشتركة المطابقة لنحو وجودها خارجا.
وحينئذ التحقيق في حقيقة المعاني الحرفية، كونها عبارة عن: النسب
والارتباطات القائمة بالمعاني [المستقلة ب‍] المفهومية، على اختلاف النسب
والارتباطات من النسب الابتدائية [و] الاستعلائية والظرفية وغيرها. فحينئذ
معنى عدم استقلالها بالمفهومية: عدم استقلال ذات المفهوم المجامع مع
الاستقلال في عالم اللحاظ، كما أشرنا.
ولقد أجاد من قال في تعريفها: بان الحرف ما دل على معنى في غيره:
يعني معناه قائم بمعنى آخر لا انه تحت لفظ آخر كما توهم (1).

(1) يقصد بذلك: ان الرواية انما تفيد تعلقية الحرف بالطرفين من حيث المعنى لا من حيث اللفظ.
فالألفاظ الموضوعة للمعاني الحرفية - وهي الحروف - تفيد معانيها إفادة مستقلة بالرغم من أن
المعاني تعلقية غير قائمة بنفسها، ف‍ (من) معناه سنخ معنى قائم بغيره، لا ان معنى الحرف
مستفاد من غير لفظ الحرف.
91

نتائج ولوازم:
منها: انه بعد ما كانت حقيقة هذه من سنخ أشخاص النسب القائمة
بأشخاص الصور الذهنية كلية أم جزئية فلا محيص الا من الالتزام بكونها في
الذهن كخارجه من متكثرات الوجود; حتى جعل بعض المحققين هذه الجهة من
عيوب المعاني الحرفية بنحو يأبى عن كونها من متحد المعنى فالتزم فيها بعموم
الوضع وخصوص الموضوع له.
ولكن قد أسلفنا سابقا في تصور عموم الموضوع له نحوا لا ينافي
تكثرها في الوجود ذهنا وان الموضوع له هي الحيثية السنخية المحفوظة في
ضمن أنحاء النسب الشخصية من الابتدائية والانتهائية والظرفية وغيرها.
ولقد أجاد من التزم بوحدة مفهومها نظرا إلى تبادر جهة وحدة سنخية
من كل حرف، غاية الأمر [انه] أخطأ في تشخيص هذا المفهوم الواحد وجعله
من المفاهيم الكلية المتصورة في الذهن معراة عن الخصوصيات ثم جعل ذلك
مرآة إلى الخصوصيات الطارئة على الطرفين ولقد عرفت ما فيه.
فالأولى في حفظ الوحدة السنخية ومجئ المتكثرات في الأذهان هو
الالتزام بعموم الموضوع له بنحو نحن حققناه في قبال العام المشهوري فتدبر
فيه فإنه دقيق.
تذييل فيه تنقيح: وهو ان النسب ان كانت قائمة بالشخصين فلا تقبل
[الصدق] على الكثيرين نظرا إلى عدم صدق الطرفين على الكثيرين، وان كانت
قائمة [بالكليين]، يستتبع صدق الطرفين على الكثيرين [صدق] النسبة
المفهومية أيضا على نسب متكثرة خارجية. وهذا معنى قولهم بأن كلية المعاني
الحرفية [وجزئيتها تابعة] كلية الطرفين [وجزئيتهما] فتدبر.
ومنها: انه بعد ما ظهر سنخ المعاني الحرفية يبقى الكلام في أن الحروف
92

هل هي دالة على مثل [هذه المعاني] ومنبئة عنها كانباء الأسماء عن معانيها أو
أنها موجدة لها وكانت من قبيل الوسائط في الثبوت لها كي يكون كيفية استعمالها
على خلاف استعمال الأسماء.
اختار ذلك بعض الأعاظم من المعاصرين (1) ولعل نظره - كما استفدناه
من بعض تقريرات بحثه - ان مفاهيم الأسماء بعد ما لم يوجد فيها جهة الارتباط
إلى الغير فلا جرم كانت عارية عن الارتباط المزبور في عالم الذهن وحينئذ أين
الارتباط في البين كي يكون اللفظ حاكيا عنه؟ فلا محيص إلا من الالتزام بكون
اللفظ موجدا للارتباط بين المفهومين.
أقول: ما أفيد كذلك لو كانت المعاني الاسمية الموضوعة للماهية المهملة
موجودة في الذهن بوصف إراءتها عن التقييد والتجرد المساوق للاطلاق، وإلا
فبناء على التحقيق من استحالة تحقق المعنى اللابشرط المقسمي في الذهن إلا
بشكل التجرد أو بشكل [التقيد] فعند إرادة المقيد لابد وأن يكون المعنى الحاضر
في ذهن المتكلم [واجدا] للتقييد وبعد ذا يحكي المتكلم عن ذات الماهية المحفوظة
في المقيد بالاسم وعن [تقيدها] بالحرف، كما يحكي عن [تجردها] المساوق
[لاطلاقها] المسمى باللا بشرط القسمي بدال آخر ولو مثل مقدمات الحكمة،
وإلا فجهة الاطلاق كجهة التقييد زائدة عن ذات المعنى الاسمي فيلزم أن
[تكون] مقدمات الحكمة أيضا موجدة لاطلاق المعنى [لا حاكية] عنه ولا أظن

(1) جاء في تقريرات المحقق النائيني قدس سره في المقدمة الخامسة من مقدمات توضيح مختاره في
المعنى الحرفي: " ان الحروف بأجمعها معانيها ايجادية نسبية كانت أو غيرها فإنها لم توضع الا
لأجل إيجاد الربط بين مفهومين لا ربط بينهما كلفظ زيد والدار فكلمة (في) هي الرابطة بينهما
في الكلام في مقام الاستعمال فالموجد للربط الكلامي هو الحرف. ولا منافاة بين كون المعاني
الحرفية ايجادية وان تكون للنسبة الحقيقية واقعية وخارجية قد تطابق النسبة الكلامية وقد
تخالفها.. ". أجود التقريرات ج 1 ص 18.
93

[ان] يلتزمه أحد، فنحن حينئذ نقول: إن الحاكي عن التقييد كالحاكي عن
الاطلاق بدال آخر لا بأسباب موجدة أخرى كما لا يخفى.
نعم هنا توهم آخر (1) [هو] التفصيل في موجدية المعنى بين بعض الحروف
[و] بعض. نظرا إلى توهم كون بعض الحروف موجدة للنسب الخاصة ك‍ (لام
الأمر) و (أداة النداء والتمني والترجي) وأمثالها في قبال سائر الحروف الحاكية
[عن] نسب ثابتة.
وفيه: انه على فرض تسليم ايقاعية مفاهيم هذه الألفاظ - كما سيأتي
توضيحها - لا يقتضي ذلك أيضا كون اللفظ موجدا بل اللفظ أيضا حاك [عن]
ايقاع هذه النسب وحينئذ: لنا ان ندعي ان الحروف بقول مطلق حاكيات عن
النسب [ثبوتا] أم اثباتا (2) كما صرح به في النص المحكي بأن الحرف ما أنبأ عن
معنى لا هذا ولا ذاك، نعم في رواية أخرى: الحرف ما أوجد معنى في غيره.
و [يمكن] توجيهه بأن غالب الحروف حاكية عن نسبة محدثة للهيئة المخصوصة
بين طرفيها في الذهن كاحداثها [بينهما] خارجا وان نسبة الموجدية إلى اللفظ
بملاحظة شدة [علاقته] مع المعنى وقوة [ارتباطه] معه تراهما شيئا واحدا بحيث
تضاف صفات المعنى إلى اللفظ وبالعكس - كما أسلفناه -.
ومن التأمل فيما ذكرنا ظهر معنى الهيئات الطارئة على الكلمة أو الكلام
بعد ما كان سنخ معانيها سنخ الحروف من كونها من سنخ النسب والارتباطات،
وان كان بينهما فرق من حيث إن معاني الحروف من سنخ الإضافة بين الشيئين
القائمة بهما ومعاني [الهيئات] ربما تكون من سنخ قيام العرض بمعروضه ومنها
قيام الإضافة بطرفيها، فهذه النسبة ربما تكون معنى الهيئة، ونفس الإضافة

(1) كما عن صاحب الحاشية، راجع الفائدة الثانية من الفوائد التي ذكرها بعد تعليقته على قول
صاحب المعالم: (وان كان بدون المناسبة فهو المرتجل).
(2) أي سواء كانت على نحو الكشف أم الإيجاد.
94

القائمة بالطرفين معنى حرفي كما لا يخفى (1).
ثم إن ذلك أيضا هو الفارق بين الهيئة [في] المركبات الناقصة والحروف،
والا فالفرق بين الحروف ومعاني الجمل - اسمية أو فعلية - في غاية الظهور، إذ
لمفاد الجمل نحو إراءة [لواقعية النسب] في موقعه كما هو شأن التصديق بشئ
قبال تصوره ولذا [تسمى] هذه النسب بنسب تصديقية بخلاف معاني الحروف
ومفاد الجمل الناقصة إذ ليس فيها هذه بل هي شبيه بالتصور القابل لواقعية
متصوره وعدمه، بل في النسبة التصديقية - انشائية أم خبرية - امتياز آخر عنها
حيث [ان] مفادها ليس إلا كنفس التصديق من كون ظرف عروضها ذهنا وانما
الخارج ظرف اتصافها بخلاف النسبة التصورية فإنها ربما [يكون] ظرف
عروضها واتصافها خارجيا وأن الصور الموجودة في الذهن منتزعة عن خارجها
كما لا يخفى. ولقد أشرنا في مبحث المشتق أيضا إلى ذلك فراجع.
وحيث [ظهرت] لك هذه الجهات نقول أيضا في معاني الهيئات: فإنها
أيضا قد تحكي عن نسب ثابتة كهيئة المركبات التقييدية (2) ومنه الأوصاف
الاشتقاقية، ومنها ما يحكي عن ايقاع النسبة كالجمل التامة - حملية [أم] شرطية.
فعلية أم اسمية - بشهادة الوجدان من انه فيها ترى الموضوعات عارية عن
النسبة فيوقع المتكلم - حين استعماله محمولاتها أو مباديها - نسبة حملية أو
صدورية وأمثالهما بمعنى انه يلاحظ مفاهيمها بنظر ايقاع النسبة [بينهما] وبين
المسند إليه فكان شأن المتكلم اسناد أحدهما إلى الآخر فيصير بهذا الاسناد

(1) حاصل مقصوده: ان معنى الحرف هو العرض النسبي أي نفس الإضافة القائمة بالطرفين.
وأما معنى الهيئة فهو ربط هذا العرض النسبي بموضوعه وهو الذي عبر عنه بقيام العرض
بموضوعه وقيام الإضافة بطرفيها.
وبهذا يتطابق ما في المقالات مع ما جاء في تقريرات بحثه صفحة 49 من بدائع الأفكار،
فما جاء في تقرير بحث السيد الصدر صفحة 275 من عدم التطابق ليس في محله.
(2) أي المركبات الناقصة ك‍ (قيام زيد)؟.
95

أحدهما مسندا والآخر مسند إليه، وحيث إن في ايقاع النسبة بين المبدأ وفاعله
يرى خروج المبدأ عن فاعله ماضيا أو مستقبلا، واخراج المبدأ عن فاعله
[تسبيبا] كما في الأمر - حاضرا أم غائبا - فبالنظر المزبور يرى حركة المبدأ، والى
ذلك أشار في النص بأن الفعل ما دل على حركة المسمى لا أن المراد من الحركة:
الحركة من كتم العدم إلى الوجود كيف! ولا معنى له في مثل استحال وامتنع وعدم
إذ لا يتصور لها وجود كما لا يخفى.
بل لنا اعتبار آخر في اطلاق الحركة بلحاظ دلالة الفعل على حركة المادة
من القابلية إلى الفعلية. وبهذه العناية ربما يحسب من منافع الأعيان - قبال النظر
إلى فراغها عن الفعلية - فإنها لا تحسب من تبعات شئ آخر [يحسب] منفعته
وبذلك أجبنا عن شبهة إجارة الأراضي والبساتين بلحاظ كلائها وأثمارها كما لا
يخفى.
ثم بعد دلالة الهيئة على هذا الايقاع لا شبهة في أنه يتصف المركب
بالكلامية ويمتاز عن المركبات التقييدية الحاكية عن النسبة الثابتة وربما تكون
مفاهيمها في رتبة متأخرة عن مفاهيم الجمل تأخر الثبوت عن الاثبات. واليه
أيضا [تشير] كلماتهم من أن الاخبار بعد العلم بها أوصاف والأوصاف قبل العلم
بها أخبار، وان احتمل فيه معنى آخر أيضا.
وبالجملة نقول: بعد امتياز الجمل التامة عن المركبات الناقصة تخرج
الناقصة عن التقسيم [إلى الانشائية] والإخبارية، كيف; وهو من شؤون الجمل
والا فالمركبات الناقصة غير صالحة للاخبارية فلا يصلح للانشائية أيضا إذ
العنوانان طاريان على ما يصح السكوت عليه وما هذا شأنه ليس إلا الجمل
التامة. وبعد ذا نقول:
في مقدار دلالة الكلام على ايقاعية النسبة جهة مشتركة بين الإخبار
والانشاء فامتيازهما لابد وأن يكون بجهة زائدة عن هذا المقدار فقد يتوهم حينئذ
96

ان الفارق بينهما هو قصد الحكاية عن الواقع أو قصد موجوديته لمضمونه.
وفيه: ان جهة الموجدية مأخوذة في أطواره لا في نفسه، كيف; وفي صورة
الجد بانشائه لا بد من قصد موجودية الانشاء لمضمونه. ولو كان هذا القصد
واللحاظ مأخوذا في قوام الانشائية أيضا للزم لحاظ الموجدية مرتين ولو في طول
الآخر وهو خلاف الوجدان فلا محيص من تعرية الانشاء عن قصد الموجدية
وحينئذ فالفارق يكون بكيفية الملحوظ في محكي كل منهما من انه تارة يحكي
بالكلام المستعمل في معناه عن مبدء ثابت فارغا عن ثبوته، وأخرى يحكى عن
ايقاع المبدء الملازم لعدم وجود نسبة خارجية [تطابقها] النسبة الكلامية أو
[لا تطابقها] بخلاف الصورة السابقة إذ لنسبة الكلام خارج تطابقه أو لا
تطابقه.
ثم إنه بعد اتصاف الكلام بهذا اللحاظ بالانشائية لو [انضمت] إليه جهة
الجد يتصف بالموجدية أيضا وإلا [يبقى] على صرف انشائيته المحفوظ مع الهزل
تارة ومع السخرية أخرى كما أن الإخبار أيضا ان انضم إليه الجد بالحكاية
يتصف بصفة المبرزية للواقع وإلا فلا يكون مبرزا ويبقى على صرف اخباريته
[المجتمعة] مع الهزل والسخرية وغيرهما.
ثم إن الانشاء في غاية خفة المؤونة كالإخبار ففي كل شئ يصح الاخبار
به يصح انشاؤه. نعم في اتصافه بالموجدية [يحتاج] إلى قابلية ترتب مضمونه
بانشائه، وهذه الجهة انما [تتصور] في الأمور الاعتبارية لا في سائر الأمور من
الجواهر والأعراض ففي مثلها يستحيل اتصاف إنشائها بالموجدية.
ومن هذه الجهة ربما يفرق بين الانشاء بمادة الطلب وبين الانشاءات في
أبواب المعاملات حيث إن مضامينها لما كانت بحقائقها من الاعتبارات فصلح
ترتبها بانشائها فيصح الجد بانشائها في مقام ايجادها فيتصف هذا الانشاء بصفة
الموجدية ويكون من وسائط الثبوت لها، وهذا بخلاف الانشاء في الطلب إذ
97

الطلب سواء كان عين الإرادة أو التحريك الناشي منها غير [صالح] لأن يترتب
بالانشاء بلا واسطة اما الأول فواضح وأما الثاني فلأن التحريك ناش عن ابراز
الإرادة بانشائه فالطلب الذي هو مضمون انشائه ما نشأ عن انشاء هذا
المضمون، بل انما نشأ من مبرزيته لمضمون آخر ومن هذه الجهة قلنا بأن الانشاء
في باب الأحكام التكليفية ليس إلا من وسائط اثبات الإرادة المترتب على هذا
الاثبات عناوين اعتبارية أو غائية [ادعائية] من الوجوب أو البعث أو التحريك
وأمثالها بخلاف الانشاءات في باب المعاملات فإنها من وسائط الثبوت لمضامينها
بلا واسطة.
نعم بواسطة ترتب التحريك على مبرزيتها قد تتصف الانشاءات
المزبورة أيضا بصفة الموجدية لمضمونها من الطلب على فرض [كونه] غير
الإرادة بتوسيط موجداتها لمضمون آخر من ابراز الإرادة ولكن أين هذا [من]
موجدية [الانشاءات المعاملية] لمضامينها بلا واسطة كما لا يخفى (1).
ثم إنه قد تبرز الإرادة بواسطة الهيئة كهيئة الأمر أو بواسطة الحرف
ك‍ (لام الامر) كقوله: اضرب أو لتضرب ففي مثلها لا مجال لصيرورة الفعل
والجملة اخبارية. والنكتة فيه أن الهيئة المزبورة وضعت لالقاء الفاعل على المبدأ
المستتبع لإخراجه المبدأ [من] قبله وايقاع هذه النسبة بينهما. [وهذا] المعنى من

(1) حاصل مقصوده: ان الطلب إذا كان عين الإرادة فالإنشاء لا يكون موجدا له لأن الإرادة
موجودة قبل وجود الانشاء فلا يعقل وجودها بسبب إنشاء الطلب.
وأما إذا كان الطلب هو التحريك الاعتباري الناشئ من الإرادة، فهذا التحريك: يترتب
على ابراز الإرادة المتحقق بالإنشاء ولا يترتب على نفس الانشاء فالإنشاء باعتباره مبرزا
للإرادة - لا باعتبار انشاء موجدا لمضمونه - يوجد التحريك الاعتباري، فالإنشاء هنا واسطة
لإثبات الإرادة التي يترتب عليها التحريك وليس علة له بخلاف الانشاء في عقد البيع
- مثلا - فان انشاء البيع بنفسه يحقق البيع الاعتباري فهو العلة المباشرة بلا أية واسطة في
الاثبات.
98

لوازم طلب الامر للمادة إذ يرجع طلبه إما إلى الإرادة فيصير الالقاء المزبور من
[شؤونها] أو إلى التحريك الذي هو من شؤون الإرادة، لا نفسها، فلا شبهة في
أن من شؤون التحريك أيضا احداث هذه النسبة بين المبدأ وفاعله. وعلى أي
حال لا يبقى مجال وجود نسبة ثابتة في الخارج كي تصلح هذه النسبة الكلامية
للتطابق معها بل النسبة المتصورة منه في الخارج أيضا ليس إلا النسبة المزبورة
الايقاعية التي هي من شؤون التحريك ومن هذه الجهة كان الانشاء بالهيئة
متوغلا في الانشائية كما لا يخفى.
ومما ذكرنا ظهر حال لام الأمر [فإنها] أيضا وضعت لايقاع النسبة
المزبورة التي هي من شؤون تحريك الغائب قبال الحاضر وليس لمثل هذا المعنى
خارج [يطابقه]. نعم من جهة كون مثل هذا التحريك من شؤون الطلب
والإرادة تدل هذه الصيغ عليه (1) لا أنها موضوعة لنفس الطلب خارجيا أم ذهنيا
لإباء اللفظ - مادة وهيئة - عن هذه الجهة، بل ولا يكون التحريك الخارجي
أيضا مأخوذا فيه بل النسبة المفهومية المزبورة من تبعات التحريك الايقاعي
المفهومي وانما التحريك الخارجي من دواعي استعمالها في معناها وعليه فكم فرق
بين الانشاء بهيئة الأمر أو بحرفه وبين الانشاء بمادة الطلب والإرادة فإنهما من
حيث دلالتهما على الطلب والتحريك في طرفي المعاكسة كما لا يخفى.
ومن التأمل في ما ذكرنا ظهر حال حروف التمني والترجي بأنها أيضا لم
توضع لايجاد حقيقة هذه الصفات خارجا لعدم كونها ايجادية علاوة عما ترى تبادر
مفهوم مصداق التمني والترجي منها عند استعمالها مع الجزم بعدم كون المتكلم في
مقام التمني أو الترجي حقيقة مضافا إلى أن حرفيتها [تأبى] عن أخذ هذه
المفاهيم كلية أم جزئية في مدلولها، كيف; وشأن الحروف ليس إلا حكايتها عن

(1) أي على الطلب.
99

النسب المفهومية وعليه فليس مفادها الا حيث قيام صور مصاديق هذه المعاني
بالنسب الايقاعية في الجمل [الداخلة] عليها هذه الحروف فكأنها حينئذ موقعة
بعين ايقاع النسبة الكلامية حيث إنها في الحقيقة من شؤونها وحينئذ فدلالتها
على مثل هذه الصفات ليس إلا بالملازمة كدلالة (من للابتداء) و (إلى
للانتهاء). كما أن النظر إلى هذه المصاديق لما [كان] [مرآتيا] للخارجيات
[فيراها] الانسان خارجية مع أنها في الواقع [لا تكون] كذلك الا عند الجد
باظهارها. ولعمري ان مثل هذه الجهة ربما [أوقعت] في وهم من توهم بأنها
موضوعة لإيقاع حقائق هذه الأمور في الخارج كتوهمهم بأن الأعلام الشخصية
موضوعة للخارجيات وهو وهم محض واشتباه صرف من ناحية مرآتية الصور
المفهومية [للخارجيات] كما هو ظاهر لمن تعمق في النظر وفتح البصر.
تذييل واستنتاج وهو: ان من نتائج نسبية المعاني الحرفية والهيئات قابلية
اناطتها في عالم اللحاظ بشئ قبال اطلاقها نظرا إلى أن المعاني النسبية قابلة
لتعلق اللحاظ بها مستقلا فلا قصور في جعلها منوطة بشئ تارة ومطلقة أخرى.
ولازمه كون الجزاء المشتمل على [نسبة] كلامية [بنسبته] (1) المخصوصة
منوطا بشرطه، ولازمه ارجاع الشرط إلى تمام مضمون الكلام المشتمل على
الإسناد، ومرجعه إلى إناطة الاسناد المزبور أيضا [بالشرط]، لا إناطة ذات
المسند أو المسند إليه فقط. ومن هذه الجهة نقول: ان الظاهر من أدوات الشرط
في الجمل الشرطية رجوع القيد إلى الهيئة والمادة، لا خصوص المادة محضا.
ويترتب على هذه النتيجة ظهور [رجوع] القيد فيما كان (2) هيئة أمر أو نهي أو
[حرفاهما] إلى الجملة بتمام مدلولها ومرجعه [إلى] إناطة الجملة - هيئة ومادة -

(1) أي نسبة الجزاء المخصوصة.
(2) (كان) هنا تامة ويمكن ان تكون ناقصة بتقدير.
100

[بشرطها] لا خصوص مادتها محضا [ولذلك] نقول: ان مقتضى ظواهر أمثال
هذه الجمل الشرطية كون الطلب مشروطا لا ان الطلب مطلق تعلق بالمشروط.
نعم لو بنينا على كون مفاد الهيئة أو الحروف ملحوظات آلية بحيث لا
يلتفت الا إلى ما قامت الهيئة [به] مثلا، قيل: بأنه حينئذ يستحيل ارجاع القيد
إليها فلا محيص من ارجاع القيد إلى المادة فينتج ظهور الجمل الشرطية في كون
الطلب المطلق متعلقا بالمقيد.
وقد يقال بأن المعنى لوحظ مقيدا مرآة إلى متعلقه (1) فلا نتيجة بن المرآتية
والاستقلالية، ولكن الانصاف كونه خلاف الوجدان كما عرفته آنفا.
وقد يتوهم ابتناؤها أيضا على عموم الموضوع له في الحروف أو خصوصه،
وأنه على الثاني لا معنى لارجاع القيد إليه لعدم قابلية التكثر بخلاف الأول،
كما أنه لا معنى لتعليق السنخ في مثلها في باب المفاهيم لأن شخص الارتباط
المنسبق إلى الذهن لا سنخ له في هذا النظر (2) وان كان له سنخ بنظر آخر ثانوي
ولكن مثل هذا المعقول الثانوي غير ملتفت [إليه] في مقام الإناطة على شرط
أو غاية مثلا. بل ولئن [دققت] النظر ترى جريان هذا الاشكال (3) ولو بنينا

(1) أي ان معنى الهيئة الذي يراد لحاظه آلة، يقيد ثم يلاحظ مرآة وآلة.
(2) أي في النظر الأولي حال التكلم.
(3) وهذا الاشكال هو: كون المعاني الحرفية جزئية، والجزئي غير قابل للتقييد وهذا الاشكال
يجري حتى على القول برجوع القيد إلى الهيئة، بمعنى ان القول بالرجوع إلى الهيئة انما دفع
الاشكال الأول على تقييد الهيئة وهو (عدم قابلية الهيئة للحاظ الاستقلالي).
وتوضيح ذلك: -
انه يتوجه على رجوع القيد إلى الهيئة اشكالان:
الأول ان الهيئة باعتبارها معنى حرفيا، فهي لا تقبل تعلق اللحاظ الاستقلالي والتقييد
يتوقف على امكان اللحاظ الاستقلالي.
وقد أجاب المصنف عن هذا الاشكال بان نسبية المعنى الحرفي لا تستلزم آليته فيمكن
لحاظه مستقلا.
الثاني: ان المعاني الحرفية جزئية والجزئي لا يقبل التقييد. وأشار المصنف إلى أن هذا
الاشكال يرد حتى لو دفعنا الاشكال الأول. لأن جزئية المعنى الحرفي لا تنافي قابلية لحاظه
الاستقلالي.
ثم إنه لا يندفع هذا الاشكال بادعاء: " ان الجزئي وإن لم يقبل التقييد الإفرادي لكنه قابل
للتقييد الأحوالي " وذلك: لان الاطلاق المقيد هنا (في باب المفاهيم) هو الاطلاق الافرادي
لأن المفهوم في الحقيقة يتضمن نفي سائر مصاديق الوجوب. ولذلك قال المصنف: " فتسجل
هذا الاشكال في مفاد (الهيئات) أوضح من الاشكال الأول ".
101

على رجوع القيد - بالتقريب السابق - إلى الهيئة، وأجبنا له عن الاشكال بأن
مثل هذه القيود [مضيقة] لاطلاق الشخص حالا وهو لا ينافي شخصية مفاده كما
هو شأن كل شخص بالنسبة إلى حالاته بخلاف اعتبار السنخ في باب المفاهيم
حيث إن اطلاقها لابد وأن يكون بلحاظ افراده كي يفيد حصر الطبيعة في فرد
موجبا لنفيها في غيره ومعلوم حينئذ ان الاطلاق الفردي لا يناسب الشخصية
وحينئذ [فتسجل] هذا الاشكال في مفاد الهيئات أوضح من الاشكال الأول.
فحل هذا الاشكال أيضا بأن يقال: إنه مبني على توهم كون الغرض من
خصوصية الموضوع له هي الخصوصية الخارجية وهو بمعزل عن التحقيق كيف
وصريحهم ان الحروف قابلة للكلية تبعا لكلية طرفيها، فالمقصود من خصوصيتها
هي الخصوصية الناشئة عن خصوص المفاهيم المرتبطة إذ في ربط كل مفهوم غير
مرتبط بربط، مفهوم آخر (1). [وبذلك] لا [يتنافى] مع [كليتها] تبعا لكلية طرفيها
وحينئذ لا قصور في سنخ مادته المنتسبة ويناط بشرط أو غاية إذ لمثله اطلاق
أفرادي أيضا.
ولقد أجاد بعض الأعاظم (2) في مقام ارجاع القيد إلى الهيئة بمثل هذا

(1) فإنك إذا ربطت أي مفهوم غير مرتبط تكون قد أعطيته مفهوما جديدا بسبب هذا الربط.
(2) هو المحقق النائيني رحمه الله، راجع فوائد الأصول الجزء 1: 181.
102

التعبير ولكن يا ليته [اقتصر] في تعبيره هذا بالنسبة إلى مقام أخذ السنخ في باب
المفاهيم لا في مقام ارجاع القيد إلى الهيئة إذ في هذا المقام الهيئة بنفسها [مقيدة]
بلا تقييد في المادة وان [ضاقت] قهرا تبعا لضيق [حكمها] كما هو الشأن في
طرف العكس فتدبر. وأعجب منه أن [الذي] دعاه إلى هذا التعبير في هذا المقام
توهم مغفولية المعاني الحرفية، إذ مع المغفولية كيف [تلاحظ] المادة المنتسبة كي
يرجع القيد إليها بل حينئذ لا يلتفت إلا إلى نفس المادة. فتدبر.
بقي الكلام في أسماء الإشارة وبقية المبهمات فنقول: انه قد يتوهم أيضا
وضع أسماء الإشارة لنفس الإشارة الخارجية إلى مدلول مدخولها، وزاد بعض
آخر: دلالتها على معنى متخصص بهذه الإشارة (1) والتزم بكونها من باب الوضع
العام والموضوع له الخاص الناشئة خصوصياته من قبل الإشارة الحاصلة بنفس
اللفظ وجعل ذلك فارقا (2) بينها وبين سائر ما كان [الموضوع له] خاصا بوضعه
العام، ولكن يمكن رفض القولين بنحو [ما أشرنا] في أداة التمني والترجي من أن
لازم أخذ الإشارة الخارجية في وضعها عدم صدق استعمالها على وفق وضعها
في غير صورة إرادة الإشارة الحقيقية بها ويلزمه كون استعمالها في مثل مورد
التمثيل وغيره لقلقة لسان وهو كما ترى (3).

(1) حاصل الرأيين:
أما الأول: فهو ان " هذا " مثلا موضوع للإشارة الخارجية لا الذهنية المتوجهة نحو مدلول
كلمة (الرجل) في قولنا (هذا الرجل).
وأما الثاني: فهو ان " هذا " موضوع لمدلول الرجل المتخصص بالإشارة الخارجية.
(2) يعني ان الفارق بين معاني أسماء الإشارة - على القول الثاني - وسائر ما كان الوضع فيه عاما
والموضوع له خاصا هو ان الخصوصية هنا تنشأ من الإشارة الحاصلة باللفظ ولا تنشأ من المعنى
نفسه. بخلاف بقية الموارد.
(3) حاصل الاشكال على القول الأول:
ان الإشارة الخارجية إذا كانت دخيلة في المعنى الموضوع له فلازمه اننا حينما نستعمل
اسم الإشارة ولم نرد به الإشارة الحقيقية، كما إذا أردنا التمثيل فقلنا: (اسم الإشارة مثل
" هذا ") فحينئذ لا يكون استعمال (هذا) في المثال استعمالا حقيقيا. ويترتب عليه عدم تطابق
المثال والممثل له. فان الممثل له هو اسم الإشارة الحقيقي ولكن المثال هو اسم الإشارة
المستعمل في غير المعنى الحقيقي. ولهذا يكون هذا الاستعمال لغوا ولقلقة لسان حسب تعبيره.
103

ويؤيده انسباق صورة الإشارة الذهنية من سماع هذا اللفظ من النائم
والساهي مع الجزم بعدم إشارتهما خارجا ولو كان اللفظ موضوعا للإشارة
الخارجية فلا معنى لانسباق مفهومها في الذهن لأنه أجنبي عن الموضوع له،
والمفروض انه لا موجب لهذا الانسباق أيضا الا الوضع فذلك [أقوى] دليل
وشاهد على عدم وضعها كأمثالها من [أدوات] التمني والترجي لمعانيها بما هي
حقائق خارجية، وبعد ذلك نقول:
انه لا معنى لوضعها لصرف الإشارة إلى معنى لفظ آخر كيف! ولازمه
كون معانيها من النسب والروابط وهو لا يناسب اسميتها، وصيرورتها مبتدأ تارة
وخبرا أخرى، بل لا بد من وضعها لمعنى مستقل متعلق للإشارة لا نفس الإشارة
وهذا المعنى أيضا لا يعقل أن يكون من المفاهيم التفصيلية من مثل مفهوم
الانسان في مثل (هذا الانسان) إذ لا يكاد ينسبق في الذهن الا مفهوم واحد وهذا
المفهوم الواحد يستحيل أن يكون معنى كل واحد من اللفظين للزوم اجتماع
اللحاظين في شئ واحد (1) فلا محيص من جعله من المفاهيم الاجمالية والمبهمات
المحضة القابلة لانطباقها على أي مفهوم تفصيلي بحيث تكون المفاهيم التفصيلية
الواقعية في ذيلها بيانا لإجمالها.
ولقد أجاد النحويون حيث جعلوا هذه المفاهيم التفصيلية المتصلة بها
عطف بيان لأسماء الإشارة وجعلوا أسماء الإشارة والضمائر من المبهمات ولقد

(1) ان معنى (هذا) في (هذا الانسان) لو كان مفهوما تفصيليا يوازي مفهوم الانسان للزم لحاظ
هذا المفهوم التفصيلي مشيرا ومشارا إليه في آن واحد. وبهذا يجتمع اللحاظان في شئ واحد.
104

أسلفنا في مقام شرح المفاهيم إشارة إلى ذلك أيضا.
ثم بعد ذلك نقول: انه من الممكن دعوى وضعها لما هو معروض الإشارة
المستلزم لخروج نفس الإشارة والتقييد بها عن الموضوع له وان الموضوع له حصة
من العنوان المبهم التوأم مع الإشارة لا المقيد بها ولا المطلق فالموضوع له المعنى
في حال الإشارة لا بشرطها ولا لا بشرطها. وعليه يكون الوضع فيها والموضوع
له عامين مع استفادة الإشارة الشخصية منها بالملازمة (1) بلا احتياج إلى الالتزام
بكونها من باب عموم الوضع وخصوص الموضوع له. وعلى فرض الالتزام به
أيضا لا وجه للالتزام بكون الإشارة مدلول نفس لفظه، بل هو أمر خارج عن
مدلول اللفظ، بل المأخوذ فيه التقيدات بالصور الحاكية (2) عن الإشارات
الشخصية الموجبة لتخصص المعنى بهذه الخصوصية [الحاكي] عنها لفظه لا أن
اللفظ موجدها. بل ولو فرض أخذ صور الإشارات الخاصة أيضا في المدلول
لا يكون أيضا الا منبئا لا موجدا.
وتوهم ان الإشارة الخارجية لابد وأن [تكون] بآلة من يد أو لفظ،
والمفروض أن آلة الإشارة في موردها ليس إلا لفظه، وحينئذ كيف يحكي هذا
اللفظ عن نفسه؟ فلا محيص من كون اللفظ موجدا لها (3).

(1) أي ان القرائن الخارجية الملازمة للاستعمال هي التي تفيد الإشارة الشخصية.
(2) يقصد انه على فرض ان تكون الإشارة الشخصية مأخوذة في الموضوع فليس معنى ذلك
أخذ الإشارة الخارجية بل أخذ الصورة الحاكية عن الإشارة بحيث يكون التقييد داخلا
والقيد خارجا عن المفهوم.
(3) وعلى فرض أخذ الإشارة الخاصة قيدا في الموضوع له قد يتوهم بان لازم ذلك أن يكون معنى
اسم الإشارة ايجاديا وذلك: لأن الإشارة مأخوذة قيدا في المعنى والإشارة تحتاج إلى آلة وليست
الآلة هنا الا لفظ (هذا).
فإذا اعتبرنا (هذا) حاكيا عن الإشارة لزم اتحاد الحاكي والمحكي عنه لأن الحاكي عن
الإشارة هو (هذا) إذ الإشارة لم تتحقق الا ب‍ (هذا) فلا بد من أخذ لفظ (هذا) موجدا للمعنى
الإشاري.
105

مدفوع (1) بان حقيقة الإشارة [ليست] إلا نحوا من توجه النفس إلى شئ
معين وهذا التعيين تارة يكون بواسطة قرينة خارجية من حركة يد أو بواسطة
بيان تفصيلي بلفظه من مثل الانسان في " هذا الانسان " ففي الحقيقة في موقع
الإشارة باليد ليست اليد آلة للإشارة بل قرينة على تعيين المشار إليه، وإلا
فحقيقة الإشارة ليس إلا توجه نفسه إلى المعين باليد وإذا فرض تعيين المشار
إليه في موضع الإشارة باللفظ بواسطة ما جئ به في ذيله من عطف البيان بعنوان
آخر تفصيلي فلا تحتاج الإشارة المزبورة إلا إلى منبئ ومبرز وليس ذلك إلا لفظ
هذا مثلا بلا احتياج إلى آلة كما لا يخفى.
ومن التأمل في ما ذكرنا ظهر حال الضمائر إذ هي أيضا موضوعة للمفاهيم
المبهمة الشبحية المنطبقة مع مراجعها بنحو انطباق المجمل مع المبين من دون
فرق بين غائبها وحاضرها، كما أن الموصولات أيضا كذلك، غاية الأمر اخذ فيها
جهة معهودية ليست في الموصوفة وهي الملاك لتعريفها لا حيث التقيد بصلاتها
إذ هذا التقيد من مداليل هيئة الكلام كما هو الشأن في الموصوفة، ومرجع الفرق
بين الموصولة والموصوفة إلى قولنا بالفارسية (كس) و (آنكس) الراجع في الحقيقة
إلى إشراب جهة معهودية في الموصولة دون الموصوفة كما لا يخفى.

(1) والجواب: ان هذا التوهم ناشئ من تخيل ان الإشارة الخارجية باليد مثلا هي حقيقة الإشارة،
في حين ان حقيقة الإشارة هي توجه النفس إلى المعنى المعين، والإشارة الخارجية قرينة لتعيين
ما توجهت إليه النفس فلفظة (هذا) تكون مبرزة للإشارة النفسانية وليست آلة لايجاد
الإشارة كي يرد هذا التوهم.
106

المقالة الخامسة
وضع المركبات
107

[المقالة الخامسة]
في
[وضع المركبات]
بعد ما عرفت وضع المفردات التي هي بمنزلة المادة للمركبات، ووضع
الهيئات الطارئة على الجمل - فعلية كانت أم إسمية - لا يبقى مجال وضع
للمركبات بموادها وهيئاتها مجموعا قبال وضعهما بلا إشكال، لعدم الحاجة إليه
قطعا إذ المقصود من انفهام المعنى من المركبات بالخصوصيات الطارئة على
الذوات من أنحاء النسب والاسنادات حاصل بمحض جعل موادها وهيئاتها بلا
احتياج إلى وضع آخر لمجموع المادة والهيئة.
نعم هنا شئ آخر وهو: ان الهيئة التركيبية تارة عارضة على الجمل
الاسمية كالحملية (1) وأخرى عارضة على الجمل الفعلية ك‍ (ضرب زيد) مثلا.
ففي الأول لا اشكال في وضع هيئته للاسناد وايقاع النسبة المعهودة بين الطرفين
قبال وضع مفرداته المعروضة لهيئتها، ومن هذا القبيل أيضا هيئات المركبات
الناقصة الحاكية عن النسب الثابتة كما أسلفناه. وأما في الجمل الفعلية أو
الإسمية [غير] الحملية ك‍ (زيد ضرب) أو في مثل القضايا الشرطية قد يتوهم

(1) يبدو ان مراده من الجمل الحملية ما يصدق فيها الاتحاد بين الطرفين مثل (زيد ضارب).
ومراده من الجمل غير الحملية هي القائمة على أساس الاسناد لا الاتحاد مثل (زيد ضرب)
أو (ضرب زيد).
109

بأنه لا يبقى أيضا مجال لوضع هيئة الجملة [زائدا] عن وضع [مفرداتها] إذ مثل
هيئة الفعل واف لبيان الإسناد فيها، كما أن كلمة (أن) وأخواتها وافية لبيان إناطة
الجزاء بشرطه فلا يبقى بعد ذلك مجال لوضع هيئة المركب زائدا على وضع
[مفرداته].
أقول: لا يخفى ان غاية دلالة هيئة الفعل هو إسناد المسند إلى شئ ما،
واما كون (زيد) فاعلا و (عمرو) مفعولا [أو] كونهما من قيود الفاعل أو المفعول
فالهيئة المزبورة آبية عن هذه الدلالة فلا يكون الدال على مثل هذه الجهات
الزائدة عن وضع المفردات - اشتقاقيا أم غير اشتقاقي - إلا الرفع والنصب
والجر المقومات للهيئة الكلامية وحينئذ الغرض من الفرق بين الجمل الحملية و
[غيرها] ان كان من جهة وضع الهيئة القائمة بجميع أجزاء المركب في الحملية
وببعضها في غيره ففي غاية المتانة، إذ في غير الحملية من الجمل نفس الفعل
خارج من تحت الهيئة التركيبية الموضوعة، وان كان الغرض عدم وضع الهيئة
التركيبية في الجمل الفعلية وأمثالها بقول مطلق فهو خلاف التحقيق، إذ [لرفع]
زيد أو نصبه المقوم لهيئة الكلام في الجملة دخل في الدلالة على فاعليته أو
مفعوليته زائدا عن وضع مفرده كما لا يخفى.
ولئن شئت قلت: إنا لا نعني من الهيئة الطارئة على الكلام إلا حالة تطرأ
على المفردات زائدا عما يقتضيه وضع مفرده. ومن المعلوم أن هذا المعنى في الجمل
الحملية [طار] على مجموع مفرداته من المبتدأ والخبر، وفي الجمل غير الحملية من
الفعلية وما يشابهها لا تكون الهيئة المزبورة إلا طارئة على متعلقات الفعل من
الفاعل والمفعول وقيودهما بلا عروضها على نفس الفعل لان الرفع والنصب
والجر [الموجب] لعروض حالة مخصوصة على المفرد زائدة عما يقتضيه وضعه
مختصة في الجمل الفعلية بمتعلقات الفعل ولا يصلح طروها لنفس الفعل فيختص
وضع الهيئة فيها بمتعلقات الأفعال بلا عروضها لنفسها كما لا يخفى.
110

المقالة السادسة
علامات الحقيقة والمجاز
111

[المقالة السادسة]
في
علامات الحقيقة والمجاز
قد ذكروا لعلائم الوضع أمورا من التبادر وصحة السلب والاطراد، ولكن
هذه الأمور ليست بمساق واحد، إذ التبادر علامة لوجوب الوضع، وصحة
السلب علامة عدمه، والاطراد علامة لاستناد التبادر أو صحة السلب إلى حاق
اللفظ ورافع [احتمال] استنادهما إلى قرينة حافة بالكلام ولو بمثل الانصراف
الاطلاقي، حيث إن الاستقراء في موارد الاستعمال - سلبا أم ايجابا - ربما يكشف
بحكم ارتكاز الذهن ان فهم المعنى - سلبا أم ايجابا - مستند إلى نفس اللفظ لا
قرينة أخرى، كما أنه قد يستفاد هذه الجهة من أمر آخر بحيث لا يحتاج إلى
استقراء موارده، ومن المعلوم حينئذ انه ينتقل تفصيلا إلى وجود الوضع أو عدمه
وان كان منشأ هذا الانفهام هو الارتكاز الاجمالي.
وباختلاف العلمين تفصيلا واجمالا [ترفع] شبهة الدور المعروفة ولو
بتقريب ان مطلقهما لا يكون علامة ومقيدا باستنادهما إلى الوضع يوجب الدور،
لوضوح الجواب بأن مجرد استنادهما إلى اللفظ المجرد كاف في اثبات الوضع،
واستكشاف هذا الاستناد بالأخرة ينتهي إلى العلم الاجمالي الارتكازي ولو من
أهل المحاورة وهو الموجب للعلم التفصيلي بالوضع كما لا يخفى فتدبر (1).

(1) لشبهة الدور هنا تقريبان:
الأول: ان التبادر متوقف على العلم بالمعنى الموضوع له، فإذا كان العلم بالمعنى الموضوع له
متوقفا على التبادر لزم الدور.
وجوابه: ان العلم المتوقف على التبادر هو العلم التفصيلي، والذي يتوقف عليه التبادر هو
العلم الاجمالي. فلا دور حينئذ.
الثاني: ان مطلق التبادر لا يكون علامة على الحقيقة بل تبادر المعنى الموضوع له علامة
الحقيقة. (وكذلك عدم صحة السلب) وحينئذ فالتبادر متوقف على العلم بالوضع، والعلم بالوضع
متوقف على التبادر فيلزم الدور.
وجوابه: عدم الحاجة إلى تقييد التبادر باستناده إلى الوضع.
إذ يكفي في اثبات الوضع احراز استناد التبادر إلى حاق اللفظ وهذا لا يتوقف على العلم
113

ايقاظ نائم: وهو ان هذا البحث إنما ينتج بناء على كون مدار حجية اللفظ
على أصالة الحقيقة تعبدا الجارية حتى مع عدم انعقاد الظهور الفعلي ولو لاتصال
الكلام بما يصلح للقرينية المانع عن انعقاد الظهور والدلالة الفعلية ولو التصورية
فضلا عن التصديقية، إذ حينئذ لا بد من احراز الموضوع له بالتبادر وأمثاله
الموجب لحمل اللفظ في مورد آخر - ولو مع الشك في إرادة المجاز بلا ظهور فيه -
على المعنى الحقيقي، والا فلو كان مدار حجية اللفظ على الظهور الفعلي ولو من
جهة القرينة الحافة به - كما هو التحقيق - لا يبقى مجال ونتيجة لهذا البحث إذ
اللفظ في كل مورد استعمل ان كان ظاهرا في معنى ولو لاحتمال وجود قرينة
حافة به في البين يؤخذ به ولو لم يحرز استناد هذا الظهور إلى الوضع، وإن لم يكن
ظاهرا لا يؤخذ به وان أحرز [ما وضع له] بالتبادر أو غيره في غير هذا المورد إذ
الظهور في مورد لا يجدي بالنسبة إلى مورد لا ظهور فيه ولو لاتصاله بما يصلح
للقرينية وحينئذ لا يرى لمثل هذا البحث نتيجة عملية كما لا يخفى.
ثم إنه في المقام بعد البناء على كون مدار الحجية على الظهور الفعلي قد
يقع نزاع على أن المدار على مطلق الظهور ولو تصوريا الحاصل ولو من خرق
الصوت أو النائم، أو المدار على الدلالة التصديقية المحتاجة إلى ثبوت كون
114

المتكلم في مقام الإفادة والاستفادة، وعلى الأخير أيضا قد ينازع بأن مدار الحجية
على مجرد هذا الظهور التصديقي ولو نوعيا أو المدار على التصديق الفعلي الظني
بالمراد ونتيجة هذا البحث [ظاهرة]. وأما البحث السابق منه فنتيجته ربما تظهر
في بحث التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، وتوضيحه موكول إلى محله إن
شاء الله تعالى.
115

المقالة السابعة
حقيقة الدلالة وأقسامها
117

[المقالة السابعة]
في
حقيقة الدلالة وأقسامها
فنقول أولا:
ان حقيقة الدلالة عبارة عن إراءة شئ لشئ من جهة ارتباط خاص
بينهما ناشئة عن الجعل تارة وقائمة بذاتها أخرى. وذلك أيضا تارة على وجه لا
يكون الواسطة في ثبوتها إلا نفس ذاتها بلا دخل لشئ آخر فيه، وأخرى على
وجه يكون بجهة خارجة من ذاتها من مثل الطبيعة أو شدة الانس بينهما لكثرة
استعمال أو غيره.
ثم الطريق لاستكشاف هذا الربط تارة هو العقل وأخرى غيره من
سائر القوى الوجدانية. وعلى أي حال مثل هذه الطرق خارجة عن مقتضياتها
وانما هي منشأ لفعليتها بحيث لولاها لا إراءة له فعلا. والا فهي بمقتضاها
متحققة واقعا.
بل ولئن دققت النظر ترى ان الجهل بها مانع عن فعليتها وان شأن العلم
رفع هذا المانع لا انه بنفسه دخيل في العلة، كما يشهد الوجدان بأن في صورة
الالتفات إلى مقتضيات الدلالة بتوسيط القوة العاقلة أو سائر القوى يرى تمام
التأثير مستندا إليها بلا التفات إلى [عمله] وانما نظره إليه نظر طريقي محض.
ومن هذا البيان ظهر أن نسبة العقل إلى الدلالة ليس كنسبة الطبع أو
الوضع إليها، كيف! و [الأخيران] من وسائط الثبوت، والأول من وسائط
119

الاثبات، فحينئذ ففي تقسيمهم إلى العقلية والوضعية مثلا ليس على نسق واحد،
بل الأولى في مقام التقسيم بالنظر إلى مرحلة الاقتضاء ان يقسم إلى الذاتي
والجعلي، وبالنسبة إلى مرحلة الفعلية [إلى] العقلية وغيرها من سائر القوى
الوجدانية.
ثم إن في تقابل العقلية والوضعية جهة اختلال [أخرى] حيث إن الدلالة
العقلية ليس إلا دلالة تصديقية [توجب] الاذعان بالمدلول بخلاف ما يستند إلى
مجرد الوضع لأنه ليس إلا دلالة تصورية على وجه ينسبق المعنى من اللفظ إلى
ذهن السامع مع الجزم بعدم وجوده خارجا أم في ذهن المتكلم أو في مرحلة إرادة
تفهيمه. كيف; وأشرنا في المقالة السابقة إلى أن الدلالة التصديقية فرع تحقق
مقدمات أخرى من مثل كون المتكلم في مقام الإفادة والاستفادة على وجه
يوجب بمثلها التصديق بمرادية المعنى للمتكلم قطعيا أم ظنيا. وعليه فكم فرق
بين سنخ الدلالة الوضعية في الألفاظ أو الطبيعية والعقلية!.
بل وبينهما فرق آخر من حيث إن في دلالة اللفظ على المعنى لا يلتفت
الانسان إلى اللفظ مستقلا بل تمام الالتفات إلى معناه على وجه كان المعنى بعناية
عين اللفظ واللفظ عينه. ولذا ربما [تسري] المقبحات المعنوية إلى اللفظ وكذا
العكس، بخلاف سائر الدلالات حيث إن شأن الدال ليس إلا صيرورته موجبا
للاذعان بغيره مع كمال الالتفات إلى اثنينيتهما.
ومن هنا نقول بان سنخ استعمال الألفاظ ليس من باب سائر العلامات
الملتفت إليها مستقلا الموجبة للاذعان بغيرها، ولذا لا تسري جهات قبح العلامة
إلى ذيها وعكسه بخلاف باب الاستعمال.
ثم إنه بعد شرح حقيقة الدلالة وأقسامها من حيث مقتضياتها ثبوتا أم
اثباتا يبقى الكلام في تقسيم آخر لها من جهة الاختلاف في المدلول بكونه مطابقة
أو تضمنا أو التزاما وذلك لان إراءة الشئ بالنسبة إلى تمام ما هو مرتبط معه
120

مطابقة وعلى جزئه تضمن وعلى خارجه التزام.
ولا يخفى أيضا ان لتصوير مثل هذه الأقسام في الدلالة الغير العقلية
مجال، نظرا إلى أن العلقة الحاصلة من ناحية الوضع أو كثرة الانس وغيرهما بين
الطرفين ربما يختص بخصوص طرفه دون غيره وانما إراءته عن الغير باقتضاء
ذات الطرف المدلول معه.
واما في الدلالة العقلية فتصوير الالتزام فيه لا يخلو عن اشكال نظرا إلى أن
وجه الانتقال إلى الملزوم من الدال بعينه متحقق بالنسبة إلى لازمه ولازم لازمه
إذ جميع اللوازم بالنسبة إلى الدال كنسبة واحدة بلا جهة ميز بينها من تلك الجهة
كما هو الشأن في الدلالات الالتزامية بالنسبة إلى لازم الشئ ولازم لازمه وهكذا
كما لا يخفى. نعم لا بأس بتقسيمها اي المطابقة والتضمن كسائر الدلالات كما
لا يخفى.
نعم قد يتوهم بأن دلالة الشئ على تمام المعنى عين إراءته لجزئه لأن
المركب في الخارج عين أجزائه فلا مجال لجعل قسم ثالث يسمى بالتضمن، ولكن
نقول: ان للاجزاء اعتبارات في ظرف الانضمام بغيره:
أحدها اعتبارها بشرط لا وهو بهذا الاعتبار غير الكل و [لا تحمل] عليه
أيضا.
والآخر اعتباره بشرط الانضمام وهو بهذا الاعتبار عين الكل ويحمل عليه
بالحمل الذاتي الأولي كحمل كل شئ على نفسه.
وثالثة اعتباره لا بشرط وفي هذا الاعتبار مغاير مع الكل ولكن قابل
للحمل عليه بالحمل المتعارف.
ومن المعلوم ان دلالة الشئ على الجزء متحد مع دلالته على الكل لو
لوحظ الجزء بشرط شئ، والا فمع اعتباره لا بشرط أو بشرط لا فدلالة الشئ
على الكل قاصرة عن الإراءة [عن] الجزء بهذا الاعتبار إلا بانتقال ثانوي وهو
121

بهذه الإراءة دلالة تضمنية و [خارجة] عن المطابقة كما لا يخفى.
ثم إن الملازمة بين المعنى المطابقي وغيره تارة بينة على وجه يستلزم تصور
أحدهما تصور غيره ولا ينفك أحد المدلولين عن الآخر في مقام الانسباق إلى
الذهن، وأخرى ليس الأمر بهذه المثابة بل يحتاج في الانتقال إلى غيره إلى
الالتفات [للملازمة] بينهما تفصيلا، وهذا الالتفات أيضا تارة مستند إلى التأمل
في جهات خفية وأخرى [حاصل] بأول نظرة وتوجه إليها، وربما تسمى الأولى
بالدلالة البينة بالمعنى الأخص و [الأخيرة] بالأعم، و [الوسيطة] بغير [البينة].
ومن سنخ الأول باب المفاهيم وبه يمتاز عن دلالة الآيتين على أقل
الحمل أو دلالة [حاتم] على الجود وأمثاله من مفاد الجمل والحال أن جميع
المدلولات الالتزامية خارجة عن محل النطق فحينئذ ففي تعريفهم المفهوم
بمدلول ليس في محل النطق قبال المنطوق لا يكون باطلاقه تاما. كيف! ويلزم
طرد الأخير وعكس الأول بدلالة الايماء من دلالة الآيتين على أقل الحمل إذ
ظاهرهم إدخال مثل هذه الدلالة في المنطوقية فراجع الفصول في باب المفاهيم (1)
ترى صدق ما حكيناه والله العالم (2).

(1) الفصول الغروية: 145 و 146.
(2) يقصد بالأخير (المنطوق) كما يقصد بالأول (المفهوم).
وحاصل ايراده حينئذ: ان دلالة الآيتين على أقل الحمل من دلالة المنطوق عندهم بالرغم
من أنه يلزم من تعريفهم للمفهوم خروج دلالة الآيتين من المنطوق ودخولها في المفهوم لكون
الدلالة على أقل الحمل ليست في محل النطق.
122

المقالة الثامنة
تعارض الأحوال
123

[المقالة الثامنة]
في
تعارض الأحوال
لا شبهة في أن اللفظ بملاحظة تعدد الوضع وعدمه ينقسم إلى: مشترك
وغيره، وبملاحظة اقتران معناه بخصوصية زائدة ينقسم إلى: اطلاق وتقييد،
وبلحاظ استعماله في ما وضع له وغيره: إلى حقيقة ومجاز، ومن جهة بقائه على
الوضع الأول وعدمه إلى: منقول وغير منقول، ومن حيث احتياج صحة الكلام
إلى تقدير وعدم احتياجه إلى: إضمار وغير إضمار، ومن حيث عدم الاتحاد مع
الضمير الراجع إليه إلى: استخدام وغيره.
ولا شبهة في [أن] المصير إلى كل واحد من هذه الحالات وترتيب آثارها
عند قيام أمارة خاصة معتبرة عليها [قطعية كانت] أم ظنية. ومع عدمها فمقتضى
أصالة عدم وضع آخر في عرض الوضع الأول الحكم بعدم الاشتراك عند الشك
في أصل تحققه ولازمه حينئذ عند استعمال اللفظ الحمل على ما علم من الحقيقة
له من جهة أصالة الحقيقة المعهود بين الأعلام.
نعم لو لم يكن الأصل المزبور مورد اتكال العقلاء أشكل الحمل على
الحقيقة الأولية بناء على ارجاعه إلى أصالة الظهور لعدم احرازه.
وأما لو بنينا على التعبد بأصالة الحقيقة حتى مع عدم احراز ظهور في
الكلام: فإن قلنا بأن موضوع مثل هذا الأصل صورة احراز الوضع وعدم
الاشتراك فلا اشكال في عدم الجريان أيضا، وإن قلنا بأن مقتضى الأصل مجرد
125

احراز الوضع حتى في الاشتراك أيضا وانما المانع عن الجريان فيه هو المعارضة
مع مثله فأمكن الجريان بالنسبة إلى معلوم الحقيقة دون غيره للشك في موضوعه
فبقي الأصل في المعلوم بلا معارض. هذا كله حال دوران الأمر بين الحقيقة
المعلومة والاشتراك في كلام واحد.
وأما دورانه بين الاطلاق والتقييد أو الحقيقة والمجاز فمع عدم اقتران
الكلام بما يصلح للقرينية فلا اشكال في تقديم الاطلاق أو الحقيقة على التقييد
والمجاز، ومع الاقتران فلا مجال للرجوع إليهما الا بناء على التعبد بأصالة الحقيقة
وأصالة الاطلاق بلا احتياج إلى احراز ظهور في اللفظ ولو بمعونة مقدمات
الحكمة. واتمام هذه الحجة في باب الألفاظ في غاية الاشكال ولو للشك في بنائهم
على مثل هذه الأصول من باب التعبد المحض حتى مع الشك في الظهور فيه.
واما صورة الدوران بين الحقيقة الأولية والنقل بالمعنى الأعم فمع الشك
في أصل حدوث وضع جديد ملازم لهجر الأول فلا اشكال ظاهرا في مرجعية
الوضع الأول لأصالة عدم النقل المتقدم الذي قلنا [ان] عليه بناء الاستنباط.
وأما مع العلم به والشك في حدوثه قبل الاستعمال أو بعده فمع العلم
بتاريخ الاستعمال لا بأس بالرجوع إلى الأصل المزبور المقتضي لحمل اللفظ
على معناه الأولي ففي مثل هذا الفرض نقول:
إن مع تعارض العرف العام واللغة أو الخاص والعام السابق يحمل على
اللغة والعرف السابق ومع الشك في تاريخ الاستعمال يشكل أمر جريان الأصل
المزبور من دون فرق بين العلم بتاريخ الوضع الجديد أو عدمه لأن مثل هذا
الأصل متكفل لرفع الشك عن جهة بقائه من حيث الأزمنة المتمادية بلا نظر إلى
رفع الشك من حيث مقارنة هذا الزمان إلى جهة أخرى من استعمال أو غيره،
فمع الشك في مقارنة الزمان الباقي فيه الوضع مع الاستعمال لا يثمر مثل هذا
الأصل فبقي الشك في بقاء الوضع الأول في حين الاستعمال بحاله فلا وجه (*)
126

حينئذ للرجوع إلى الحقيقة الأولى حين الاستعمال المقتضي لحمل اللفظ عليه
كما هو ظاهر.
ولا يتوهم مثل هذا الاشكال في الفرض السابق لأن الأصل بعد ما أحرز
بقاء الأول في زمان خاص كان مقارنته مع زمان الاستعمال محرزا بالوجدان.
ومن هذا البيان ظهر أن سقوط أصالة عدم النقل في صورة الجهل
بتأريخهما ليس بملاك المعارضة مع أصالة عدم الاستعمال قبل حدوث الوضع
الجديد كي يرد عليه بعدم كونه من الأصول العقلائية، وعدم سبيل للاستصحاب
المعروف أيضا في باب الألفاظ لعدم حجية مثبته، ولا بملاك شبهة احتمال
الانتقاض باليقين بخلافه من جهة احتمال كون زمان الاستعمال ذاك الزمان كما
هو مختار العلامة الأستاذ في كفايته وذلك لما أوردنا في محله من أن المعلوم بالاجمال
بوصف معلوميته يستحيل انطباقه على المشكوك فيستحيل احتمال الانتقاض
بالعلم بخلافه، بل عمدة الوجه فيه ما ذكرنا ولقد شرحنا المرام في حاشية
الكفاية وسيأتي تتميم المقال في هذا الكتاب في محله أيضا ان شاء الله.
واما صورة الدوران بين الاضمار وعدمه فلا شبهة في أن الأصل عدمه.
نعم مع دورانه بينه وبين سائر التصرفات الاخر من التقييد أو المجاز أو
الاستخدام ففي صورة كونهما في كلام واحد فلا يصلح انعقاد ظهور في الكلام
لصلاحية كل منهما للقرينة المانعة عن انعقاد أصل الظهور، وفي الكلامين لا
يكون الترجيح لأحد الظهورين الا من جهة [الأقوائية المستندة] إلى خصوصيات
المقامات بلا كونها تحت ضبط كي يبقى مجال البحث الأصولي عن مثله.
ومن هذا البيان ظهر حال دوران الامر بين الاستخدام وغيره من سائر
الأحوال ومع عدم الدوران المزبور فالأصل عدم جزما كما لا يخفى.
وأما صورة دوران الأمر بين الاشتراك وبقية الأحوال المعارضة على
127

خلاف الحقيقة فمقتضى أصالة عدم تعدد الوضع يثبت سائر الأحوال كما هو
واضح.
ومن هنا ظهر حال دوران الأمر بين النقل وغير الحقيقة السابقة فان
أصالة عدم النقل أيضا يحرز البقية كما هو واضح.
وحيث اتضح ما ذكرنا ظهر أن في اطلاق كلام العلامة الأستاذ رضي الله عنه
في كفايته مواقع للنظر. والإعراض عن تعرضها تفصيلا أجدر كما لا يخفى على
من تأمل وتدبر.
كما أن ترجيح بعضهم بعض الطواري على بعضها مثل الأشيعية وأمثالها
لا وقع لها بعد عدم إجداء مثل هذه الجهات لإفادة ظهور في الكلام، ومع عدمه
لا يعتنى بغيره في باب الألفاظ وإن كان ظنا اطمئنانيا فضلا عن غيره كما لا
يخفى والله العالم.
128

المقالة التاسعة
الحقيقة الشرعية
129

[المقالة التاسعة]
في
الحقيقة الشرعية
في أن الحقيقة الشرعية ثابتة أم لا، فليعلم أولا: ان مركز هذا البحث
[الماهيات] المخترعة (المسماة) باسم في لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دون فرق
بين كون المخترع لها والمؤسس هو الشرع أو العرف مع عدم كون الشرع ممضيا
لتسميتهم وان كان أمضاهم في أصل اختراع الماهية.
واما لو كان الشارع ممضيا لتسميتهم وان زاد أو نقص شيئا في مخترعاتهم
فلا مجال للنزاع المزبور. فان مرجع امضاء تسميتهم إلى عدم تصرفه في هذا العالم
فيكون داخلا في العناوين العرفية المسماة عندهم باسم مخصوص.
وأولى بذلك في الخروج عن حريم النزاع: العناوين البسيطة العرفية من
دون تصرف من الشرع فيها وان كان متصرفا في موضوع حكمه بجعل بعضها
مقيدا ببعض; إذ مرجع التسمية فيها أيضا هو العرف بلا ربط من ناحية الشارع
بالنسبة إليها.
وعليه فيختص النزاع في خصوص ما كان الشارع مسميا له باسم
مخصوص سواء كان المعنى أيضا من [الماهيات] المخترعة الشرعية أم لا. وحينئذ
ربما يفرق في الدخول في حريم النزاع مثل عنوان الصلاة وأمثالها الحاكية عن
المخترعات التي [سماها] الشارع بالعنوان المزبور أو مثل عنوان التكبيرة المقيدة
بالفاتحة الملحوقة بالركوع والسجود إلى آخرها من المسميات العرفية، فان هذه
خارجة عن حريم النزاع وان كانت [الماهية] المطلوبة من مخترعات الشارع
131

محضا بلا التفات من العرف إليها.
كما أن الصورة الأولى داخلة في حريم النزاع وان كان المسمى بها من
المخترعات العرفية. إذ عمدة المدار في الدخول في حريم النزاع مرحلة تسمية
الشارع لها باسم مخصوص وعدمه، ولذا قلنا بأنه على الأول لو كانت التسمية
أيضا عرفية بحيث كان الشارع ممضيا لهم في تسميتهم أيضا لكان يخرج عن
عنوان البحث. فتمام مركز البحث هو الألفاظ [الواقعية] في لسان الشرع
الحاكية عن معنى بلا سبق العرف في هذه التسمية والحكاية سواء كانوا [سابقين]
في اختراع الماهية أم لا.
وحينئذ فما في بعض الكلمات من جعل مركز البحث الأسامي الحاكية
عن المخترعات الشرعية منظور فيه، كما أن الاستدلال بمثل: * (أوصاني
بالصلاة والزكاة) * و * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) *
لاثبات عدم الحقيقة الشرعية بظهورها في معهودية هذه المعاني في الأمم السالفة
أيضا مورد المناقشة: بأن مجرد معهودية هذه المعاني لا تقتضي معهودية التسمية
بها فمن المحتمل أن يكون التسمية من ناحية الشارع لا غيره. فلا يقتضي مثل
هذه اثبات عدم الحقيقة الشرعية في هذه الألفاظ.
اللهم [الا] أن يقال: إن غاية ما يستفاد من الدليل الآتي في اثبات الحقيقة
الشرعية إنما هو في الألفاظ الحاكية عن الماهيات [المخترعة] الشرعية. واما في
المخترعات العرفية مجرد احتمال امضاء التسمية بها عندهم [كاف] في منع الثبوت
وإن لم يكن دليلا على عدم الثبوت.
نعم الذي يسهل الخطب هو ان معهودية سنخ الماهية مع اختلاف شرعنا
معهم في الخصوصيات كما هو الشأن في أمثال المقام إنما يجدي لمنع ثبوت الحقيقة
الشرعية لو لم يكن المتبادر من هذه الأسامي الماهية المخصوصة بخصوصية، وإلا
فمع تبادر هذا المعنى منها يستكشف [إنا] بأن الألفاظ المزبورة مستعملة في
132

المخترعة الشرعية لا العرفية فيصير حالها من تلك الجهة حال ما لو استعمل
اللفظ في لسان الشرع في المخترعات الشرعية محضا.
وحينئذ فلنا في مثلها أن ندعي ان طريقة الشارع من هذه الجهات عين
طريقة العرف ولو [ببركة] مقدمات عدم ثبوت الردع عن الطريقة العرفية
الكاشفة عن اتحاد طريقه معهم في هذه الجهة، ومن المعلوم ان طريقة أهل
اختراع شئ أو صنعة كون الغرض من [تسميتهم] بلفظ مخصوص [تفهيم]
المعنى باللفظ محضا لا بقرينة خارجية فلا جرم [طريقة] الشارع أيضا في مقام
التسمية لمخترعاته بعين طريقتهم من كون غرضه من هذه التسمية [تفهيم]
المعنى به لا بشئ آخر، ومثل هذا الغرض في كل مورد أحرز كان نفس استعماله
الأولي مساوق انشاء وضعه بعمله لا بقول كي يستبعد صدوره من الشارع في
زمان إذ لو كان لبان كما لا يخفى.
وتوهم الاستحالة في عقد الوضع بنفس الاستعمال للزوم اجتماع
اللحاظين قد دفعناه سابقا بأوضح بيان فراجع.
ومن التأمل في ما ذكرنا ظهر أن مجرد كون الصلاة في العرف بمعنى
العطوفة وصلاحية انطباقه على هذه المخترعات من باب الكلي على الفرد لا
يقتضي أيضا منع ثبوت الحقيقة الشرعية إذ ذلك كذلك لو لم يكن الظاهر من
هذه الألفاظ إرادة الخصوصية من لفظها وإلا فلا معنى لحملها على المعاني
العرفية كما أشرنا.
ثم إنه لو بنينا على عدم ثبوت الوضع التعييني فثبوت الوضع التعيني
في لسان الشارع في المتداولات المعروفة ليس [بعيدا].
نعم في غيرها أمكن منعه. كما أن بلوغ استعمالها في المستحدثات إلى حد
الحقيقة في زمان الصادقين لا استبعاد [فيه] أيضا.
وعلى أي حال في كل زمان بلغ الاستعمال إلى حد الحقيقة لابد وان يحمل
133

عليه حتى مع عدم القرينة، وإلا فلا بد عند فقد القرينة من الحمل على معناه
العرفي. وهذه الجهة أيضا نتيجة ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمها أيضا.
ولكن قد يدعى بأنه ما من مورد من استعمال هذه الألفاظ إلا وهي
مستعملة في المعاني المستحدثة ولو بالقرينة وحينئذ يلغو في البين نتيجة البحث
والعهدة على المدعي، كيف; وترى استعمال لفظ الصلاة في معناه العرفي كثيرا
فلم لا ينتج مثل هذا البحث في مثله فتأمل.
بل ربما يدعى بان مجرد ثبوت الحقيقة الشرعية لا يقتضي حمل اللفظ على
معناه الشرعي بلا قرينة ما لم يكن موجبا لهجر المعنى الأول، وإلا فغاية ثبوتها
اجمال اللفظ مع فقد القرينة المعينة لاشتراكه مع معنى آخر.
وعليه فحق نتيجة البحث هو حمل اللفظ بلا قرينة على المعنى العرفي
على فرض عدم ثبوت الحقيقة الشرعية بخلافه على الثبوت.
هذا ولكن لا يخفى ان ما أفيد انما يتم بناء على عدم كون الغرض من
التسمية تفهيم المعنى بمحض اللفظ كما هو شأن كل مخترع في تسمية
[مخترعاته] بأسام مخصوصة على ما أشرنا، والا فنفس هذه الجهة من القرائن العامة
على إرادة المعنى الشرعي عند استعماله حتى مع فرض عدم هجر الوضع السابق.
اللهم [إلا] ان يقال إن ما ذكرنا من طريقة أهل الصنايع انما هو في
الألفاظ المستحدثة [غير المسبوقة] بوضع آخر إذ الغرض من تسميتهم بها
تفهيم المعنى بنفسها، وأما الألفاظ المتداولة بين العرف لا نسلم كون طريقتهم
في التسمية بها تفهيم المعنى بنفس اللفظ بل من الممكن كون الغرض احداث
الاشتراك في اللفظ بحيث يصير عند عدم القرينة مجملا ففي مثله - ولا أقل من
احتماله - لا يكون نتيجة البحث الا ما ذكر من الحمل على المعنى العرفي على
عدم الثبوت (1) لا الحمل على المعنى الشرعي على الثبوت كما لا يخفى.

(1) أي على تقدير عدم الثبوت.
134

المقالة العاشرة
الصحيح والأعم
135

[المقالة العاشرة]
في
[الألفاظ المستعملة في الماهيات المخترعة]
إن الألفاظ المستعملة في الماهيات المخترعة أعم من العرفية أو الشرعية
هل هي أسام للصحيحة منها أم الأعم.
وهذا العنوان ظاهر في كون مركز البحث الألفاظ الموضوعة [للماهيات]
المزبورة سواء كانت حقيقة عرفية أم شرعية، ولا اختصاص لها بالحقيقة
الشرعية.
وثمرة البحث أيضا [تجري] في فقد ما له دخل في التسمية على
الصحيحي دون الأعمي مطلقا.
وحينئذ فدائرة هذا البحث أوسع من دائرة البحث السابق لاختصاصها
بمورد قابل لكون التسمية شرعية وان كان المسمى عرفيا. بخلاف بحثنا [هذا]
فإنه يجري حتى مع القطع بأن التسمية كالمسمى عرفية وأن الشارع ممض لهما.
نعم مع احتمال اختلاف العرف والشرع في صحة الماهية أمكن نفي
النتيجة في اجراء البحث في الصحة والأعم شرعا لأن المرجع حينئذ ليس إلا
صدق التسمية عرفا فيستكشف باطلاقه عدم دخل ما شك دخله في صحته
شرعا.
137

كما أن مثل هذا العنوان من البحث لا يجري في العناوين الحاكية عن
المعاني البسيطة التي لا صحة لنفسها، وان أمرها يدور مدار الوجود والعدم وان
كان تقييد بعضها ببعض في لسان الدليل عند جعلها في حيز خطاب ينتج كون
موضوع الخطاب ماهية مخترعة شرعية بلا معهوديتها عند العرف أبدا لأن (1)
المرجع عند الشك في دخل قيد زائد إلى اطلاق بقية العناوين العرفية كما لا
يخفى.
نعم لو فرض وجود قرينة عامة صارفة عن المعنى العرفي أو مبينة لقيد
مضموم إليه وكانت القرينة مرددة بين تمام القيود الملازم مع الصحة أو بعضها
القابلة لغير الصحة أمكن اجراء البحث فيما يستفاد من القرينة من أنه معنى
يلازم الأعم أو خصوص الصحيح، ولكنه مجرد فرض إذ القرائن على القيود
الزائدة غالبا شخصية حاكية عن خصوص قيد دون قيد.
وعلى فرض [كليتها] فغالبا [ليست] بمثابة يستظهر منها كل طائفة شيئا
بل اما ظاهرة في طرف عند الكل أو مجملة من هذه الجهة وحينئذ فمع [اتصالها]
بالكلام يصير الكلام رأسا مجملا. الا فيبقى المقيد بالنسبة إلى المقدار المشكوك
على اطلاقه فلا يبقى على أي حال بحال لثمرة البحث كما لا يخفى.
ثم اعلم أن المراد من الصحة في العنوان هو التمامية قبال الفساد المساوق
للنقص في الوفاء بالمقصود. فمع اختلاف المقصود ربما يختلف الشئ صحة
وفسادا بملاحظة الوفاء بمقصود دون مقصود فقد ينتهي حينئذ إلى اتصاف شئ
واحد بالصحة من جهة وبالفساد من جهة أخرى، وحينئذ ليس المتكلم والفقيه

(1) لعله يقصد: اننا إذا كنا نتمسك باطلاق العنوان عرفا عند الشك في دخل قيد زائد فمن
الطبيعي أن لا يجري هذا البحث في العناوين البسيطة التي يتألف من مجموعها معنى مخترع
شرعي لان هذا المعنى المخترع ليس عرفيا ليصدق اطلاق الاسم عليه عرفا ليمكن التمسك
بهذا الاطلاق حين الشك.
138

مختلفين في حقيقة الصحة مع اختلاف كل منهما في التعبير عنه ب‍ (اسقاط
القضاء) أو (موافقة الأمر) المساوق لعنوان [الصحة] واستحقاق الثواب إذ هذا
الاختلاف انما نشأ من الاختلاف في الغرض المهم من الشئ فكل يلاحظ تمامية
الشئ بالإضافة إلى مقصوده فيعبر عنها بما يناسبه والا فهما مشتركان ومتفقان
في أن حقيقة الصحة هو التمامية، ومنه الصحة في المعاملات المساوق لترتب الأثر
المعهود على الصحيح منها قبال فاسدها.
وبعد هذا البيان نقول: إن المقصود الذي يقاس تمامية الشئ بالنسبة
إليه تارة يراد به المصلحة الداعية للأمر المحفوظة في المتعلق في الرتبة السابقة
على الأمر والمجامعة مع المفسدة في عنوان آخر متحد معه، وأخرى الغرض
الحاصل من التقرب به الملحوظ في الرتبة اللاحقة للأمر به.
كما أن المراد من التمامية بالإضافة إلى المقصود الأول أيضا تارة يراد
[تماميته] من حيث أجزائه الدخيلة في اقتضائه للأثر واستناد الأثر إليه، وأخرى
يراد [تماميته] في كل ما له دخل في ترتب المقصود جزء أم شرطا.
الظاهر بمقتضى اطلاق كلماتهم في الجهة الأخيرة كون محط البحث هو
الأخير.
وتوهم ظهور بعض أدلة الشرائط في تقييد العنوان بشئ نظير قوله: صل
متسترا أو إلى القبلة أو لا تصل كذا، وذلك يناسب خروج الشرائط عن التسمية
حتى عند الصحيحي ولازمه كون محط البحث هو التمامية من حيث الأجزاء
الدخيلة في المقتضي الذي هو المؤثر لا الشرائط التي هي دخيلة في قابلية المحل
للتأثير.
مدفوع بأن مجرد تقييد العنوان بشئ لا يقتضي صدقه بدونه، بل من
الممكن كون العنوان حينئذ عبارة عن الذات التوأم مع التقيد لا مطلقا ولا
مقيدا.
139

ويؤيده نفي الصلاة كثيرا عند فقد الشرط ك‍ (لا صلاة إلا إلى القبلة أو
بطهور وأمثالها). فلصحيحي حينئذ أن لا يلتزم بصدق العنوان مع فقد الشرط
كما لا يخفى.
نعم في الجهة الأولى أمكن اختيار الجهة الأولى فيلاحظ التمامية بالقياس
إليها بشهادة حفظ العنوان في حيز الخطاب وصلاحية ورود المزاحمات بالنسبة
إليه كما هو الشأن في باب اجتماع الأمر والنهي، بل ونزاعهم في باب الضد بأن
الأمر بالشئ هل يقتضي النهي عن الضد العبادي حتى عند الصحيحي فان
ذلك كله يشهد بصدق العنوان عند الصحيحي حتى مع فقد القربة كما هو ظاهر.
وتوهم جريان الكلام السابق من كون العنوان في هذه المقامات أيضا
اسما للذات التوأم مع القربة كسائر الشرائط.
مدفوع جدا بأن لازمه عدم امكان تصور اجتماع العنوانين في باب
اجتماع الأمر والنهي مع أن فرض اجتماع عنوان الصلاة والغصب حتى عند
القائل بالامتناع مع فرض العلم بحرمة الغصب والغصبية كالنار على المنار.
وهكذا فرض الضد العبادي حتى عند القائل بالاقتضاء، فذلك كله يكشف عن
عدم تضييق في العنوان حتى عند الصحيحي على وجه لا يشمل الفاقد للقربة
بخلاف صور فقد العنوان بقية الشرائط القابلة أخذها في حيز الخطاب فان
حكمها عندهم حكم الأجزاء في دخلها في المسمى عند الصحيحي خصوصا لو
لاحظنا جزئية التقييد في المأمور فإنه لا يبقى مجال فرق بينه وبين بقية الاجزاء
كما لا يخفى فتدبر.
ثم اعلم أن الصلوات الصحيحة للكامل المختار بعد ما كانت على
أشكال مختلفة وصور متفاوتة كما لا يخفى على من لاحظ الصلاة اليومية مع صلاة
الآيات بضميمة صلاة جعفر بل وصلاة الميت أيضا وأمثالها فلا محيص لدى من
جعل الصلاة من متحد المعنى - بشهادة صحة اطلاق قوله: بان الجماعة يصلون
140

مع فرض اشتغال كل واحد بصلاة [مخصوصة] من بين المذكورات - من أن يلتزم
بوجود جامع نوعي لهذا العنوان على وجه يشمل المصاديق المزبورة، ولا يجديه
الالتزام بصحة صلاة الكامل المختار وبدلية غيرها عنها فان ذلك انما يصح
التزامه فرضا في كل واحد من [الصلوات] المزبورة بالقياس إلى مراتبها الناقضة
لا بالنسبة إلى مجموعها، فإنه لا محيص من تصوير جامع لصلاة الكامل المختار
إذ لا معنى فيها للأصلية والبدلية كما لا يخفى.
وحينئذ فالقائل الصحيحي أيضا لابد [له] من تصوير جامع بين هذه
[الصلوات] الصحيحة أيضا كالأعمي فقط، وحينئذ فقد يدعى تصويره على
الصحيحي بتوسيط عنوان عرضي مشير إلى جهة متحدة في الجميع بملاحظة
وحدة أثره بمثل ما هو (قربان كل تقي) و (ناه من الفحشاء) بخلاف الأعمي
حيث لا أثر له بنحو يشار [به] إلى جهة واحدة بتوسيط عنوان مؤثريته في شئ.
وربما استشكل عليه بأن لازمه كون الصلاة من العناوين البسيطة
الناشئة عن الأمور الخارجية ولازمه كون المجرى عند الشك في جزئية شئ هو
الاشتغال.
وفيه أن مجرد كشف العنوان المزبور عن وحدة الحقيقة لا يقتضي خروج
الأفعال الخارجية عن [الحقيقة] كي يستلزم كون الشك في دخل شئ فيه
[شكا] في المحقق، بل الحقيقة الواحدة [متحدة] خارجا مع المتكثرات بنحو اتحاد
الطبيعي مع أفراده ولازمه عند الشك في دخل شئ زائد رجوع الأمر إلى الشك
في أن الواحد المتحد مع المتكثرات هل لوجوده سعة [تشمل] المشكوك أم لا
فينتهي الأمر في هذا الواحد البسيط أيضا إلى الأقل والأكثر.
مع أنه على فرض كون المتكثرات الخارجية من محققات الأمر البسيط
نقول من الممكن ازدياد الأمر البسيط بزيادة تحققه وقلته بقلته ولازمه أيضا عند
الشك في دخل الزائد لزوم الشك في سعة الأمر البسيط [و] ضيقه، ولا قصور
141

في جريان البراءة في مثله أيضا.
وما قرع سمعك من جريان الاشتغال عند الشك في محقق الأمر البسيط
إنما هو في صورة تعيين حدود الأمر البسيط بلا ابهام في مثله بنحو تردد أمره بين
الزائد والناقص أصلا وأين مقامنا عن هذا؟.
وأوهن من هذا الاشكال توهم آخر من عدم جهة وحدة بين أفعال الصلاة
لأن أفعالها مرددة بين مقولات متباينة [لا تكون] تحت جامع ذاتي أصلا. وبهذه
الجهة ربما يستشكل أيضا على تنظير بعض آخر باب الصلاة مثلا بباب الكلمة
والكلام حيث [إنها] مركبة من أمور مختلفة مع حفظ معنى وحداني جامع بين
مصاديقهما بجعله الصلاة أيضا عبارة [عن] عدة أمور قابلة للزيادة والنقصان
كالكلمة والكلام وصادق على مصاديق مختلفة.
وتوضيح الاشكال بأن في الكلمة والكلام كانت الأمور الملتئمة منها - مثل
هذين - كلها تحت جامع واحد ذاتي حيث إن الحروف كلها من مقولة [واحدة]
فأمكن فيهما بان يدعى تركبهما عن مقدار من الحروف بنحو الكلي في المعين مع
أخذه من حيث القلة والكثرة [منهما] بلا أخذ حد في طرفيه أو خصوص طرفه
الأكثر.
وأين ذلك [من] باب الصلاة التي لا جامع ذاتي بين أبعاضها و [أبعاض]
أفرادها لاختلافهما ذاتا ومقولة، فكيف يمكن جعل الصلاة والتيامها من الأمور
المخصوصة بنحو الكلي في المعين إذ أين [الجامع] بين المختلفات كي يلاحظ الكلية
بالنسبة إليه كما لا يخفى.
وتوضيح فساد الوهن بأن المقولات وان كانت بحسب الذات متباينة
بحيث لا يكون فوق كل مقولة جنس جامع بين هذه ومقولة أخرى ولكن من
البديهي ان كل مقولة بعد ما [كانت واجدة] لمرتبة من الوجود غير المرتبة
الأخرى الحاوي لها [غيرها] فلا جرم كان جميعها مشتركا في الحيثية الوجودية
142

الموجبة لانتزاع عنوان الموجود والوجود منها. وبعد ذلك نقول:
ان التيام الصلاة من المقولات ان كان بلحاظ دخل كل مقولة
[بخصوصيتها] الذاتية في حقيقة الصلاتية فالأمر كما تقول من عدم تصور
معنى واحد جامع بين المقولات المتباينة.
واما ان قلنا بأن دخلها في الصلاة بلحاظ دخل حيث وجوده الحاوي
للمراتب المحفوظة في المقولات المختلفة بلا دخل خصوصية المقولية في حقيقة
الصلاة فلا ضير حينئذ من جعل الصلاة عبارة عن مفهوم منتزع عن مرتبة من
الوجود الجامع بين الوجودات المحدودة المحفوظة في كل مقولة مع أخذه من
حيث الزيادة والنقصان من سنخ التشكيكيات القابلة للانطباق على القليل
تارة وعلى الكثير أخرى.
ولا يتوهم حينئذ بأن الجامع بين الوجودات المزبورة ليس إلا مفهوم
الوجود ولازمه صدق الصلاة على كل موجود.
لأنه يقال: بامكان تحديد الجامع بكونها في الدائرة المخصوصة إذ حينئذ
بمثل هذا التحديد يخرج عن سعة دائرة مفهوم الوجود.
كما أن مرجع التيام الصلاة من هذا الجامع الوجودي أيضا ليس إلى كون
مفهوم الصلاة مساوق مفهوم الوجود أو الوجود الخاص إذ مثل هذه الحيثية
الوجودية الخاصة اخذت في مفهوم الصلاة بنحو البساطة المفهومية غاية الأمر
عند التحليل ينحل إلى الوجود المحفوظ في مقدار من المقولات بنحو الكلي في
المعين في دائرة الوجودات لا في دائرة الماهيات والذوات.
وحينئذ فلا قصور أيضا في تشبيه الصلاة بالكلمة والكلام من حيث
الجامع الوجودي لا الذاتي الماهوي وان كان بينهما فرق من جهة أخرى أظهرها
عدم اخذ الحروف المخصوصة في حقيقة الكلمة مع أن في الصلاة لا بد من أخذ
الأركان فيها، مع أن في صدق الكلمة على الملتم من الحروف لا يفرق بين طائفة
143

دون طائفة بخلافه في صدق الصلاة على الملتم من الأفعال المخصوصة إذ لابد
فيها وان يفرق بين الطوائف من المسافر والحاضر والمختار وغيره من أنحاء العذر
لولا الالتزام ببدلية الناقص عن الكامل فينحصر الاختلاف حينئذ بالحاضر
والمسافر كما لا يخفى.
نعم بين الصلاة والكلمة تمام المشابهة في كونهما بالإضافة إلى الأفراد
العرضية من قبيل الكلي في المعين وبالنسبة إلى جهتي النقصان والزيادة من قبيل
التشكيكيات القابلة للصدق على الزايد والناقص.
وبمثل هذا البيان لا غرو في دعوى وجود الجامع بين الأفراد الصحيحة
ويشار إليه بتوسيط لوازمه من كونه (قربان كل تقي) الذي هو كناية عن مرتبة
من التكميل الذي لا يحصل إلا مما هو عمود الدين.
كما أن هذه الجهة من اللوازم البسيطة المترتبة [على] المتكثرات الماهوية
إنما هو بلحاظ ما فيها من [جهة] الوحدة الوجودية.
وليس حاله حال النهي عن الفحشاء القابل للتكثر المترتب كل نهي [على]
مقولة خاصة من أجزاء الصلاة بلا لزوم بساطة في أثرها كي يحتاج إلى الالتزام
بجهة وحدة في مؤثره.
بل الصلاة حينئذ على تكثرها مؤثرة في مثل هذا الأثر، وذلك أيضا، لولا
دعوى أن الردع من الفحشاء أيضا من لوازم الأثر الذي هو سنخ من الكمال
والقرب لأن مرجع الردع إلى منعه عن ترتب هذه الأمور، ومآله إلى ملازمة
كماله لعدم صدورها منه، لا أن الصلاة بما هو أمر وجودي يترتب عليه عدم صدور
الفحشاء والمنكر.
مع أن هذا الاحتمال (1) يضر بكشف الجامع بين أجزاء الصلاة لا أفرادها

(1) يشير إلى قوله آنفا: (ليس حاله حال النهي عن الفحشاء القابل للتكثر المترتب كل نهي على
مقولة خاصة من اجزاء الصلاة بلا لزوم بساطة في اثرها كي يحتاج إلى الالتزام بجهة واحدة في
موثره).
فان لازم هذا أن لا يكون هناك جامع بين اجزاء الصلاة إذ لا جامع بين المقولات ولكنه لا يتنافى
مع وجود جامع بين افراد الصلاة.
144

التي قد يتفق أيضا كونهما من مقولتين للجزم باشتراك جميع الأفراد في النهي عن
مرتبة مخصوصة من الفحشاء كما لا يخفى فتدبر.
وبالجملة نقول: لا قصور في تصور الجامع في الصلوات الصحيحة
المختلفة الصادرة عن الكامل المختار بالتقريب السابق.
بل بعد هذا التقريب لا غرو بدعوى ثبوت الجامع بين المراتب الناقصة
بالنسبة إلى كل كامل ولو بنينا بأنها أبدال لأن صدق [البدلية] فرع وفاء
الناقص بمرتبة من الغرض المترتب على الكامل. فعلى فرض بساطة الأثر كما
أشرنا إليه [لا محيص] من استكشاف وجود جامع بين هذه الأبدال، بل وبينها
وبين الكامل بوجه. ويكفي في تصوره ملاحظة الجامع الوجودي المحفوظ بين
جميع المراتب المختلفة زيادة ونقصا.
بل وعلى ما ذكرنا لا قصور أيضا في جعل جميع هذه المراتب من مراتب
الصلاة أيضا، فجميعها حينئذ داخلة في مسمى الصلاة ومن مصاديقها نظير
صلاة السفر والحضر وغيرهما من [الصلوات] الكاملة المختلفة زيادة ونقصا.
وربما يؤيد ذلك عموم قوله: الصلاة [لا تترك] بحال (1)، الوارد في مورد
الصلاة الناقصة العذرية.
وتوهم كون الاطلاق ادعائيا وعنائيا لا وجه له بعد مساعدة الارتكاز على
كون الاطلاق في المقام بنحو الاطلاق في سائر المقامات.
وحينئذ لا ريب في كون الصلاة على الصحيحي لها عرض عريض بنحو

(1) لم نعثر على حديث بهذا النص ولعله مقتنص من قوله في المستحاضة إنها لا تدع الصلاة على
حال. راجع وسائل الشيعة 2: 605، أبواب الاستحاضة، الباب 1، الحديث 5.
145

يشمل الكامل والناقص حسب اختلاف مراتب الوجود فيها الذي هو منشأ
انتزاع المفهوم الوحداني البسيط المنطبق على المقولات المختلفة بعد الالتزام
بخروج الخصوصيات المقولية عن حقيقة الصلاة.
وربما قيل [بترتب] ثمرة مهمة على هذا البحث وهي أنه: على البدلية
لازمه اشتغال الذمة في كل طائفة بالصلاة [التامة] غاية الأمر في مقام الفراغ
رخص باتيان بدله، ومع الشك في بدلية شئ لها ولو من جهة فقده لمشكوك
الجزئية أو الشرطية لا بد من تحصيل ما هو متيقن البدلية لعدم حصول الفراغ
الجزمي عن الصلاة إلا به ولازمه الاحتياط باتيان ما شك في دخله فيه.
واما على الصلاتية فكل طائفة [مكلفة] من الأول بنحو من الصلاة، فعند
شكه في دخل شئ في صلاته التي كلف [بها] مرجع أمره إلى البراءة لأول
الشك حينئذ إلى التكليف بالأقل [و] الأكثر كما لا يخفى.
هذا ولكن يمكن أن يقال: ان ما أفيد يتم في الديون الوضعية التي لا
يكون اشتغال الذمة بها منوطا بالقدرة على أداء نفسه ففي مثلها ربما يقنع في
مقام الفراغ عنه ببدله ومع الشك في البدلية حينئذ المرجع قاعدة الاشتغال.
واما في التكليفيات التي كان الاشتغال بها بمقدار استعداد التكليف فمع
عدم القدرة [على المبدل] لا مجال لتعلق التكليف به كي ينتزع منه العقل اشتغال
الذمة به ففي مثلها لا يكون متعلق التكليف من الأول إلا ما هو المقدور في
حقه من البدل، والعقل أيضا لا ينتزع الاشتغال من الأول الا للبدل وحينئذ
فمع تردد البدل بين الأقل والأكثر مرجع الأمر فيه أيضا البراءة كما لا يخفى.
وحينئذ لا ثمرة مهمة في جعل المراتب الناقصة من أبدال الصلاة أو من
مصاديقها.
نعم لنا دعوى أنه لا مجال للالتزام بالبدلية لمحض زعم عدم تصور الجامع
بين الزائد والناقص إذ لا محيص على البدلية أيضا من تصور جامع بين الأبدال
146

بل وبينها وبين مبدلاتها بناء على كونها مؤثرات في الأثر البسيط من مثل
القرب والكمال حفظا للسنخية بين الطرفين.
كما أنه لا وجه للالتزام بالبدلية رأسا بعد اطلاق الصلاة في غير مورد على
المراتب الناقصة خصوصا في قوله: الصلاة [لا تترك] بحال، حيث إنه ناظر إلى
الصلاة العذرية، وحيث إن هذه الاطلاقات بحسب الارتكاز مثل اطلاقها في سائر
المقامات لا يبقى مجال توهم المجازية فيها كي يقال: ان الاستعمال أعم من
الحقيقة والمجاز.
وحينئذ فلا غرو بدعوى أن للصلاة [عرضا عريضا قابلا] للانطباق
على أي مرتبة من مراتبها وان جميع المراتب الكاملة والناقصة من مصاديق
هذا العنوان العام المنطبق على هذه الشتات على اختلافها كما وكيفا ويشار
إلى هذا الجامع بتوسيط أثره من أنها (قربان كل تقي) و (ناهية عن الفحشاء
والمنكر) غاية الأمر لا بد من الالتزام بخروج الخصوصيات المقولية عن هذه
الحقيقة وجعلها من المشخصات الفردية.
لا يقال ان لازم خروج الخصوصيات المقولية عن دائرة المفهوم والحقيقة
خروجها عن حيز الأمر ولازمه حينئذ عدم صحة التقرب بالخصوصيات المزبورة
وهو خلاف المرتكز في أذهان المتشرعة من تقربهم بالفاتحة والسجود وأمثالها حين
[اشتغالهم] بالصلاة.
لأنه يقال: إنه كذلك لو كان بين دائرة المفهوم مع دائرة الأمر ملازمه وإلا
فلا قصور في تعلق الأمر بالخصوصيات المشخصة مع فرض خروجها عن دائرة
المفهوم كما هو الشأن أيضا في تكليف كل طائفة بصنف خاص من الصلاة على
وجه لهم التقرب بهذا الصنف بخصوصه مع خروج الخصوصيات الصنفية عن
دائرة المفهوم العام جزما.
147

ثم هنا دفع غشاوة ورفع غباوة حيث إنه بلغني عمن التزم بأن الصادر
خارجا مركب من مقولات متعددة بلا جامع بينها رأسا مع ذلك جعل الصلاة من
متحد المعنى بجعل مفهوم الصلاة أمرا مبهما من جميع الجهات بنحو كان في
الخارج متحدا مع المقولات المختلفة كما وكيفا.
وفي مقام تقريب الذهن شبه المقام بابهام سائر المفاهيم من حيث
الخصوصيات الخارجة عن الذات كالانسان المبهم من حيث شكله وجثته وهزاله
وسمنه وقامته وغيرها وكالخمر من حيث مرتبة اسكاره واتخاذه من التمر أو العنب
والزبيب وغيرها.
فكما أن ابهام هذه المفاهيم من الجهات الخارجة لا يقتضي إلا مجئ هذه
الجهات بشكل وحداني منطبق في الخارج مع أنحاء هذه الصفات الخاصة كذلك
ابهام الصلاة من الجهات الداخلية أيضا لا يوجب الا مجئ هذه الجهات في
الذهن بشكل وحداني متحد مع الخصوصيات المقولية خارجا. هذا ملخص
كلامه.
توضيح الدفع بأن الغرض من ابهام المعنى ان كان مرجعه إلى صورة
مرتبة من الذات المحفوظة في ضمن المقولات بنحو الابهام واللا حدية كما هو
شأن وجود كل جنس في ضمن نوعه، ففيه:
انه بعد اختلاف ماهيات المقولات بتمام ذاتها بلا جهة مشتركة في عالم
ما هويتها وذواتها كيف يتصور مثل هذا المعنى المبهم المحفوظ بنحو اللا حدية
بين المختلفات المزبورة؟ كيف، وتصوره فيها مساوق تصور جهة مشتركة بينها
وهو خلف.
وان أريد من المعنى المبهم جهة عرضية (1) محفوظة بين الجميع بنحو كان

(1) لا يقصد بالجهة العرضية والعنوانات العرضية: العرضي المقابل للذاتي لان للعرضي بهذا المعنى
ما بإزاء خارجي.
بل يقصد به العنوان الانتزاعي الذي ليس له ما بإزاء خارجي سوى منشأ انتزاعه.
148

خارجا عن ذواتها وكان مثل هذه الجهة بالنسبة إلى المقولات من قبيل العنوانات
العرضية بالإضافة إليها فلازمه عدم وجود ما بإزاء خارجي لها محفوظ في ضمن
الوجودات المقولية خارجا.
وحينئذ فلازم ذلك عدم قيام مصلحة في مثل هذا العنوان لأن
المصلحة قائمة بالخارجيات والمفروض حينئذ ان مثل عنوان الصلاة لا خارجية
له بل هي من سنخ العناوين العرضية التي لا يكون لها ما بإزاء وجودي في
الخارج.
ولعمري انه مما لم يلتزم به أحد لكثرة تواليه الفاسدة أقلها عدم صحة
التقرب باتيان العمل بهذا العنوان (1) وهو كما ترى.
وان أريد من المعنى المبهم ما هو بمنزلة الشبح في المرئيات الخارجية
ومحسوساتها الحاكية بنحو الاجمال عن الخارجيات كما هو متعلق العلم بها اجمالا
ومرجعه إلى اختراع الذهن معنى ينطبق على المعاني التفصيلية بنحو انطباق
المجمل على المبين لا كانطباق الكلي على الفرد ففيه:
ان لازمه كون عنوان الصلاة من العناوين المشيرة إلى عنوان آخر فيه
المصلحة لا انه باستقلاله [ذا] مصلحة كما هو الشأن في سائر العناوين الاجمالية
بالإضافة إلى العناوين التفصيلية،
وهذا المعنى أفحش فسادا من سابقه بل ومن تبعاته أيضا عدم جواز
التقرب بهذا العنوان مستقلا بل لا بد من الإشارة به إلى ما به التقرب بمثله من
سائر المقولات بعناوينها وهو كما ترى.

(1) لان المأتي به هو نفس العمل اي منشأ الانتزاع ومنشأ الانتزاع هو غير الامر المنتزع وهو
الصلاة.
149

وان أراد بالعنوان المبهم معنى آخر غير ما ذكر فعليه البيان ولا أظن في
حقه ذلك سوى اجمال الكلام لمحض فساد الأصاغر من الأذهان.
فهنا تذييل فيه تحقيق:
وهو انه: بعد ما اتضح لك شرح الجامع بين الأفراد الصحيحة خصوصا
في المصاديق المختلفة الصادرة عن الكامل المختار لنا ان نتصور نظير هذا الجامع
بين الصحيح من كل صنف وفاسده بدعوى أخذ مرتبة من الوجود الساري في
الوجودات الخاصة كما يؤخذ في مقام التسمية بأقل مما أخذ في الصحيح منها مع
حفظ سائر الجهات المقومة لصلاتية الصلاة كما وكيفا فيها، بضميمة أخذ هذه
المرتبة الذاتية أيضا لا بشرط في عالم الاتصاف بالصلاتية، المساوق لكونه مبهما
بالنسبة إلى ضم شئ زائد عليه على وجه يصدق الصلاة على الجميع كما هو
الشأن في المعاني التشكيكية التي كان ما به اشتراكها من سنخ ما به امتيازها كي
لا يبقى مجال لتوهم كون الصلاة عند ضم شئ عليه مركبا من صلاة وغيرها إذ
ذلك من لوازم أخذها بشرط لا في مرحلة الاتصاف وهو خلاف الفرض.
وبالجملة نقول: إن مدعى الأعمي من تلك الجهات بعينه هو مدعى
الصحيحي بالإضافة إلى الأفراد الكاملة والناقصة غاية الأمر هو يقصر نظره في
خصوص الدائرة المؤثرة ويجعل دائرة التسمية أوسع من المؤثرة وحينئذ لا يرد عليه
محذور إلا توهم عدم طريق إلى تشخيص هذا المعنى الوسيع بعد عدم وفاء دليل
الأثر لأزيد من الإشارة [به] إلى خصوص المؤثرة [فلا محيص] إلا من الالتزام
بالوضع لخصوص الصحيح دون الأعم. ولكن لا يخفى ما فيه.
أولا: بأن الطريق إلى وجود جامع بين الأفراد الصحيحة لا ينحصر
بالإشارة إليه بتوسيط الأثر بل تقدم انه يكفي للالتزام بوجود الجامع صحة
القول بأن الجماعة يصلون مع فرض اشتغال كل واحد منهم بصورة صلاة
صحيحة غير الآخر بعد الجزم ببطلان استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد
150

بنحو الاستقلال في مقام الانتساب كما في المقام.
ومن المعلوم ان مثل هذه الجهة جارية في فرض اشتغال بعض
بالصحيح والآخر بالفاسد ولو من باب المجاز كما هو الشأن في صحة تقسيمه
إلى الصحيحة والفاسدة ولو في استعمال مجازي إذ ليس همنا فعلا اثبات الحقيقة
بل تمام الهم في استعمال اللفظ في الجامع ولو مجازا.
بل وفي الشاهد الأخير لا يبقى مجال اعمال العناية في الصلاة بجعلها
من الحقائق الادعائية إذ بعد فرض هذه العناية لا يصح حمل الفاسد عليه (1).
نعم لا بأس بجريان هذه الشبهة في الشاهد الأول لولا دعوى
أوسعية صحة الاستعمال المزبور من العناية المسطورة.
وثانيا نقول: إن الأثر المزبور ينبئ عن المؤثرية الفعلية للواجد لتمام
الأجزاء والشرائط كذلك ينبئ عن شأنية التأثير لفاقدها بنحو يصدق عليه بأنه
لو انضم إليه بقية الأجزاء والشرائط [لأثر]، غاية الأمر للشأنية المزبورة
بملاحظة قلة الفاقد وكثرته مراتب.
وحينئذ: لك أن تقول انه ليس مناط التسمية لدى الأعمي أيضا بمطلق
الشأنية بل مرتبة منها قريبة [من الفعلية] وربما أمكن تميز هذه المرتبة بالأقربية
صورة إلى المؤثرة ولازمه كون المناط فيها أيضا الأقربية من كل طائفة بالإضافة
إلى ما يصدر منه من المؤثرة الفعلية وهو موجب لأن يكون الصلاة حتى عند
الأعمي من كل طائفة بنحو مخصوص كصحيحها فلا يرد عليهم حينئذ ان لازم
الأعمي صدق الصلاة على الإشارات الأربعة حتى عند صدورها من الكامل

(1) لعله يقصد ان الحقيقة الادعائية لا يتصور فيها الصحة والفاسد ليحمل الفاسد عليها فلا
يصح ان يقال (هذه صلاة فاسدة) ويكون اطلاق الصلاة عليها مجازا ادعاء لأن المدعى حينئذ
ان الصلاة الفاسدة (صلاة). فالفساد مقوم لهذه الصلاة الادعائية.
151

المختار وليس كذلك جزما.
وبعد ما اتضح ما تلوناه لك من تصوير الجامع على القولين يبقى الكلام
في التصديق بأيهما في مقام وضع اللفظ فنقول:
الأقوى المصير إلى الأعم وذلك لا لمحض صحة التقسيم بحسب الارتكاز
الآلي للحمل على المجاز بل من جهة ان بناء العرف عند اختراعهم لشئ
من الآلات والمعاجين ليس - في مقام التسمية - الاقتصار على خصوص
المؤثرة لما يرى بالوجدان في مثل الساعة وأمثالها من الآلات المخترعة والمعاجين
والأدوية حيث إنه ليس ديدنهم على صحة سلب الاسم عنها بمجرد اختلال جزء
يسير منها.
ومن المعلوم [انه ليس] للشارع في مقام تسميته لمخترعاته ديدن مخصوص
بل هو من هذه الجهة يمشي مشيهم حسب ارتكاز الذهن في أخذ اللاحق
طريقة السابقين في أمثال هذه الجهات النوعية، وحينئذ لو كان لأحد طريقة
مخصوصة لابد وان [يبينها]. فمع عدم البيان مقتضى الحكمة اتحاد الطريقتين.
ولقد أشرنا إلى هذا البرهان في المسألة السابقة أيضا. هذا.
مضافا إلى أن الظاهر من قوله: " لا تعاد الصلاة إلا من خمس " (1) كون
الفاقد للخمس أيضا صلاة ولازم ارتكاز الذهن بأن اطلاق الصلاة في المقام
كاطلاقها في سائر المقامات عدم احتمال عموم المجاز في خصوص المقام.
كما أن تطبيقه عليه السلام العنوان في المقام على الفاسدة أيضا يرفع الشبهة
الآتية في التمسك بالاطلاق في دليل الأثر لاثبات مذهب الصحيحي.
ويؤيد ذلك أيضا عمومات " من زاد في صلاته فعليه الإعادة ". (2) إذ على

(1) وسائل الشيعة 4: 683، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 14.
(2) وسائل الشيعة 1: 332، الباب 19 من أبواب الخلل، الحديث 2.
152

فرض حمله على الزيادة الحقيقية كما تصورنا في محله فلا محيص من اعتبار دائرة
الماهية أوسع من دائرة الأمر، ولازمه كون دائرة التسمية أوسع وهو المدعى. وعلى
فرض حمله على الزيادة التشريعية بزعم عدم تصور الزيادة الحقيقية فنقول: ان
جعل الصلاة ظرفا لها يساوق تطبيقها ارتكازا على الواجد لها ولا معنى له إلا
بناء على وضعها للأعم كما لا يخفى.
وقد يستدل للأعمي أيضا تارة بقوله: (دعي الصلاة أيام أقرائك) (1). تقريب
الاستدلال بأن توجيه هذا الخطاب إلى الحائض لا يتم إلا [في] فرض أعمية الصلاة.
وفيه أن لازمه حرمة كل ما يصدق عليه الصلاة عند الأعمي ولو لم يكن
فساده من ناحية الحيض ولا أظن التزامه به.
وحينئذ لابد إما من [حملها] على الفاسدة من خصوص ناحية الحيض
أو الصحيحة في رتبة [سابقة] عن هذا الخطاب. والأول مستلزم لتقييد الاطلاق
الثابت لدى الأعمي بخلاف الثاني فيخرج الدليل عن الشهادة على المدعى
كما لا يخفى. وأخرى بقوله: (الناس أخذوا بالأربع وتركوا الولاية).
تقريب الاستدلال: ان الأربع إشارة إلى الصلاة وغيرها، ومعلوم ان الصلاة
بل كل عبادة بلا ولاية [باطلة] جزما.
وتوهم ان الولاية من شرائط القبول لا الصحة كالتقوى كلام ظاهري
إذ كلماتهم في شرطية مقربية العمل للعامل في صحة العبادة مشحونة ومن البديهي
ان غير أهل الولاية غير صالحين للتقرب كما لا يخفى.
هذا مضافا إلى بطلان عمل غير أهل الولاية غالبا من جهة التزامهم
بالتكتف في الصلاة وعدم المتعة في الحج والافطار عند الغروب ومع ذلك أطلق
على عملهم عناوين العبادات كما لا يخفى.
هذا ولكن يمكن أن يجاب عنه بامكان إرادة الصحيحة منها وان تطبيقها

(1) عوالي اللآلي 2: 207.
153

على أعمالهم اعتقادي. كما أنه يمكن في الدليل السابق أيضا أن يقال: بأن المراد
من الصلاة أيضا هي الصحيحة التامة وان تطبيقها على عمل الحائض تشريعي
ولا ينافي ذلك أيضا مع حرمة عبادة الحائض من صلاتها وصومها ذاتا كما لا يخفى.
وثالثة بأنه لو نذر أن لا يصلي في مكان مكروه فإنه على الصحيحي يلزم
فساد نذره إذ صحته مستتبع لعدم تمكنه عن حنثه وذلك ملازم لعدم وجوب وفائه
المستتبع لفساده.
وفيه: ان هذا النقص يرد على الأعمي أيضا لو كان الناذر قاصدا
للصحيح منها كما هو الغالب، بل لا يكون الترك راجحا إلا في الصحيح منها مع
أن النذر المزبور مانع عن القربة، وقد تقدم ان الفساد من جهته خارج عن
حريم النزاع وتمام مركز البحث هو التمامية في الوفاء بالمصلحة الداعية على
الأمر به وهذه الجهة محفوظة في الصلاة حتى بعد النذر فلا بأس بحنثه حينئذ ولا
قصور أيضا في صحة نذره كما لا يخفى.
وكيف كان لا يكاد يثبت مدعى الأعمي بمثل هذه الوجوه. كما أنه لا
يكاد يثبت مدعى الصحيحي أيضا بمثل التبادر وصحة السلب إذ يمكن دعوى أن
التبادر وصحة السلب اطلاقيان بل ولا يثبت أيضا بمثل اطلاق قوله: الصلاة
قربان كل تقي (1)، وتنهى عن الفحشاء والمنكر بتقريب: ان مقتضى اطلاق ترتب
الأثر على طبيعة الصلاة كون كل ما كان صلاة واجدا للأثر فلازمه بمقتضى
عكس النقيض: ان كل ما لا يترتب عليه الأثر المزبور فليس بصلاة وهو
المطلوب. وقد تمسك بمثل هذا البيان أستاذنا الأعظم في كفايته (2).
إذ فيه: ان ذلك مبني على حجية أصالة العموم والاطلاق في ما شك في
مصداقية شئ للعام مع الجزم بخروجه عن الحكم وهو ممنوع. ولقد اعترف هو

(1) بحار الأنوار 10: 99. (2) كفاية الأصول: 45.
154

- طاب ثراه - أيضا في بحث العام والخاص من الكفاية بأن المسلم من حجية أصالة
العموم أو الاطلاق صورة الشك في الخروج مع الجزم بالمصداقية.
وأما في فرض العكس كما نحن فيه لا نسلم حجية الأصل المسطور
فراجع كلماته.
هذا كله في أسامي العبادات المركبة المخترعة.
وأما أسامي المعاملات فهي بين أن لا يكون مركبا كأسامي المسببات بناء
على مسلك تخطئة الشارع للعرف في مورد المخالفة، وبين أن لا يكون من
المخترعات الشرعية بحيث يكون العنوان المأخوذ في حيز الخطاب مسوقا لبيان
ما هو المعهود عرفا ولو بنينا على وضعها عندهم للصحيح منها كأسامي الأسباب.
ولازمه عدم جريان النزاع فيها لعدم [ترتب] ثمرة عليه من الاجمال
على الصحيحي والبيان على الأعمي، لان المفروض عدم اجمال الخطاب المنزل
على الافهام العرفية عند صدق العنوان عندهم.
ومن هنا أيضا ظهر عدم جريان النزاع المزبور لعدم الثمرة من جهة
سوق الخطاب بلحاظ الأنظار العرفية حتى على مسلك اختلاف العرف والشرع
في المسببات أو الأسباب بملاحظة دخل بعض القيود في المجعول الشرعي قبال
جعل العرف مع اشتراكهما في صدق المعنى عند العرف أيضا.
وحينئذ [تنحصر] الثمرة [المزبورة] - الباعثة على النزاع الشمهور - في
أسامي المخترعات الشرعية مع عدم سوق الخطاب أيضا بلحاظ الأنظار العرفية،
إذ حينئذ صح دعوى اجمال العنوان على الصحيحي وعدمه على الأعمي - في
غير ما هو مقوم العنوان حتى لدى الأعمي.
هذا ولكن ذلك أيضا مبني على كون الاطلاقات على الأعمي في مقام
البيان وإلا فلا بيان على الأعمي أيضا لأن المهمل بمنزلة المجمل كما لا يخفى.
155

وحينئذ لا يبقى ثمرة مهمة في مثل هذه المسألة.
وتوهم الانتاج في النذر مدفوع:
بأنه لم يكن ثمرة المسألة من حيث وقوعها في طريق استنباط حكم فرعي
كلي، كيف، ولازمه قابلية جعل النزاع في كل بر وفاجر من المسائل الأصولية أو
مباديها توطئة لترتب هذه النتيجة وهو كما ترى.
وعليك بالمراجعة إلى المطولات في توضيح هذه النكتة وتدبر فيها.
156

المقالة الحادية عشر
استعمال اللفظ
الواحد في أكثر من معنى
157

[المقالة الحادية عشرة]
في
[استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى]
لا إشكال في وقوع الاشتراك في أي لغة كما نراه بالوجدان.
وتوهم ارجاع كل مورد يوهم الاشتراك إلى معنى وحداني جامع بين
الفردين تكلف بارد لا يصلح لان ينظر إليه.
كما أن توهم منافاته لحكمه الوضع أبرد، إذ ربما يتعلق الغرض باجمال
الكلام، بل ربما يترتب عليه غرض التفهيم كما في صورة قيام القرينة على عدم
إرادة بقية المعاني فإنه مع الوضع لهذه يحمل عليه وإلا فلا بد من الحمل على أقرب
المجازات.
وأيضا توهم اقتضاء اختصاص شئ حصر استعماله فيه وانحصار إرائته
به وهو ينافي الاشتراك - ومرجعه في الحقيقة إلى منافاة الاشتراك مع حقيقة
الوضع الذي هو اختصاص اللفظ بالمعنى بنحو الطبيعة السارية في الطرفين -
مدفوع جدا.
إذ لا نعني من الوضع إلا مجرد جعل اللفظ بإزاء معنى وهذا المعنى قابل
للتحقق بالنسبة إلى المعنيين أو أزيد.
غاية الأمر نتيجة صلاحيته للإرائة بالنسبة إلى كل واحد يحتاج فعليته
إلى قرينة شخصية.
وحيث إن بنفس هذا الجعل يخرج اللفظ من اطلاق قابلية الإرائة
159

بالنسبة إلى غير المجعول، ينتزع حينئذ نحو اختصاص حاصل بينهما.
وهذا المعنى من الاختصاص لا يوجب حصر القالبية له، بل ومع تعدد
الوضع يتحقق [للفظ] أيضا نحو اختصاص بالإضافة إلى غير الموضوع له
أولا.
ولئن شئت قلت: هذا المقدار من الاختصاص لا يقتضي أزيد من
صلاحية اللفظ للإراءة لا فعليتها.
وبإزاء هذه التوهمات السابقة توهم آخر وهو:
توهم وجوب الاشتراك بخيال تناهي الألفاظ وعدم تناهي المعاني،
ولا بعد فيه في الأعلام الشخصية بعد جريان الديدن على عدم البناء في
تفهيمها على القاء الكلي بنحو الدالين إذ حينئذ لا محيص من الاشتراك فيها.
نعم امكان القاء الكلي وإراءة الخصوصية بدال آخر يمنع عن وجوب
وقوع الاشتراك على الاطلاق مع قطع النظر عن الديدن المزبور.
كما أن في غير الأعلام الشخصية أيضا أمكن دعوى عدم التناهي
بالنسبة إلى الماهيات المخترعة والمركبات الاختراعية الاعتبارية أو الحقيقية
المزجية الخارجية.
نعم في البسائط الخارجية وان كانت من المركبات التحليلية العقلية فضلا
عن البسائط العقلية أمكن دعوى تناهيها كتناهي الألفاظ لكن المفاهيم الكلية
غير مختصة بالبسائط بل يشمل المركبات والاختراعيات وحينئذ حالها حال
الأعلام الشخصية من لزوم الاشتراك بالنظر إلى الديدن وعدمه (1) على الاطلاق
لإمكان تفهيم كل مورد بالدالين كما لا يخفى.
وبالجملة لا إشكال في هذه الجهات وانما الكلام ومعركة الآراء في جواز

(1) أي وعدم لزوم الاشتراك بدون النظر إلى الديون فقوله (وعدمه) معطوف على (لزوم
الاشتراك).
160

استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد سواء كانا حقيقتين أو حقيقة ومجازا أو
مجازيين.
وتوضيح الحال في هذا المجال يقتضي رسم مقدمة لتنقيح محط هذا
البحث بين الأعلام فنقول وبه التكلان:
ان مورد نزاع الأعلام - حسب صراحة كلماتهم - إنما هو في صورة إرادة
المعنيين من اللفظ بنحو يكون كل واحد من المعنيين موضوع النفي والاثبات
ومن المعلوم ان غرضهم من النفي والاثبات هو النفي والاثبات في النسبة
الكلامية الملازمة مع الإرادة الاستعمالية لا النفي والاثبات في سائر الجهات من
مثل الأحكام الخارجية عن النسب الايقاعية (1) التي كان الكلام طريقا إليها أو
[موجدا] لها إذ مثل هذه النسب غير مرتبط بكيفية استعمال اللفظ في معناه (2).
وحينئذ نقول: ان لازم كون كل واحد من المعنيين مورد النسبة الكلامية
نفيا أو إثباتا بنحو الاستقلال توجه اللحاظ إلى كل واحد من المعنيين مستقلا
نظرا إلى أن الحكم والنسبة الايقاعية الكلامية إلى شئ بالاستقلال لا يكاد
ينفك عن النظر إلى الموضوع والمحمول كذلك. وحينئذ نقول:
إن باب استعمال اللفظ في معناه ان كان من باب العلامة بمعنى كون
الانتقال إلى اللفظ منشأ للانتقال إلى المعنى بلا مرآتية اللفظ عن معناه بل كان
المعنى متعلق اللحاظ مستقلا في عرض لحاظ اللفظ فلا قصور حينئذ لإرادة أزيد
من معنى واحد من اللفظ لعدم محذور في لحاظ كل واحد من المعاني بلحاظ
مستقل بلا توسيط مرآة في البين كما هو الشأن في لحاظ كل منهما كذلك في مورد

(1) سيوضحه هو قدس سره في نفس المتن. ومقصوده الأحكام التي هي من قبيل ما ينحل إليه الحكم
العام الاستغراقي.
(2) إذ الانحلال قهري لا لأجل استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
161

الإرادة والكراهة (1).
وأما لو كان باب استعمال اللفظ في معناه كون اللفظ مرآة لمعناه بمعنى
كون لحاظ المعنى بعين لحاظ اللفظ بنحو يعبر اللحاظ من اللفظ إلى المعنى وان
النظر إلى اللفظ عبوري على وجه لا يلتفت الانسان إليه بل تمام التفاته إلى
المعنى بحيث كأنه يوجد المعنى بلسانه فلا شبهة في أو لازم هذا المسلك عند
إرادة المعنيين بنحو الاستقلال في شخص لحاظه (2) بتوسيط لفظ واحد توجه
اللحاظين إلى لفظ واحد وهو محال لأوله إلى اجتماع المثلين في شئ واحد كما لا
يخفى (3).
وحيث إن المختار في باب الاستعمال هو المسلك الثاني فلا محيص من
المصير إلى استحالة الاستعمال في أكثر من معنى واحد بنحو الاستقلال.
نعم لا قصور في استعماله فيهما بلحاظ واحد بحيث يكون كل واحد مورد
الاستعمال ضمنا وان وقع كل منهما مورد النفي والاثبات في الأحكام الخارجية
مستقلا كما هو الشأن في العمومات الاستغراقية.
وبالجملة نقول: إن عمدة وجه الاستحالة هو لزوم اجتماع اللحاظين في
لفظ واحد بحيث لو ارتفع اللفظ من البين لا قصور في توجه اللحاظ إلى كل
واحد مستقلا لنفسه كما أشرنا إليه في مورد الإرادة والكراهة.
نعم قد يرى من بعض التقريبات في وجه الاستحالة توهم جريانه حتى
على فرض كون اللفظ علامة بحيث يكون المعنى ملحوظا في عرض لحاظ
اللفظ لا بتوسيطه.
وملخص بيانه: ان اللفظ بعد ما كان مقتضيا لافهام المخاطب فقهرا

(1) أي كما تتعلق كل من الإرادة والكراهة بكل واحد من المعاني عل نحو الاستقلال.
(2) الضمير يرجع إلى الملاحظ.
(3) إذ الشئ الواحد لا يقبل الفناء إلا مرة واحدة.
162

[يصير] فهم المعنى من آثار وجوده ولا يمكن ترتب الفهمين على [مقتض] واحد
حذرا من توارد المعلولين على علة واحدة وهو كعكسه محال.
ولا يرد عليه بان احضار اللفظ في ذهن السامع بذكره وإسماعه خارجا
غير احضار المعنى فيه فلا بأس باحضارات للمعاني بتوسيط احضار لفظ واحد
[بلا لزوم] اثنينية الواحد إذ ذلك انما يرد عليه لو كان محط الاشكال اتحاد
الاحضارين وإلا فلو كان النظر إلى وحدة السبب وتعدد المسبب، فلا يصلح هذا
الكلام لرده.
فالأولى حينئذ أن يجاب: ان اللفظ بعد ضم القرينة [كان علة] ومع تعدد
القرينة عند تعدد المعنى لا يكون [الفهمان] [مستندين] إلى لفظ واحد بل إلى
قرينتين كما هو ظاهر فتدبر.
فالمحذور كل المحذور مع وجود لفظ واحد توجه اللحاظين إلى لفظ واحد
وهو محال كتوجه الإرادتين والكراهتين إلى شئ واحد.
ولذا قلنا بان باب الاستعمال لو كان من باب العلامة - لا مرآتية اللفظ -
لا بأس بإرادة أزيد من معنى واحد من لفظ واحد.
كما أنه لو بنينا على موجدية اللفظ في مورد لمعناه كما قيل في المعاني الحرفية -
على ما أسلفناه - فلا بأس أيضا بان يلاحظ كلا من المعنيين مستقلا، ويوجدهما
بلفظ واحد مثل ما يراد في (سرت من البصرة أو إليها) [من] كون البصرة
مبتدء منه ومنتهى إليه [بايجاد] ربطي الابتداء والانتهاء بين السير والبصرة
بكلمة واحدة من قوله (من) أو (إلى).
إذ لا يلزم حينئذ اجتماع اللحاظين في شئ واحد إذ على هذا المبنى ما
تعلق [اللحاظان] باللفظ أبدا وانما [تعلقا] بالمعنيين بلا واسطة، [غاية] الأمر
جعل اللفظ الواحد الملحوظ بلحاظ واحد آلة لايقاع الربطين بين المفهومين في
الذهن. (*)
163

وعليه ربما يترتب نتيجة صحيحة بين القول بالموجدية في المعاني الحرفية
[والمنبئية] إذ على الآخر يكون حاله حال سائر الأسماء في لزوم توجه اللحاظين
إلى لفظ واحد وهو المحذور بخلافه على الأول.
ثم إن بعض أعاظم العصر بالغ في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى
واحد واستشهد بأبيات وعبارات من القصص والحكايات على مدعاه.
وذلك ليس إلا من جهة خلط المبحث بجعله محطه صورة وحدة لحاظ
المتعددات أو بجعله الاستعمال من باب العلامة.
والا فمع تنقيح مركز البحث وكيفية الاستعمال كيف يغفل عن شبهة اجتماع
النظرين في لفظ واحد فتدبر جيدا.
وأضعف منه توهم المعالم من أن وجه عدم الجواز لزوم استعمال اللفظ
[الموضوع] للكل في الجزء بتوهم أخذ قيد الوحدة في المفهوم.
إذ مضافا إلى فساد المبنى - إذ اللفظ موضوع لنفس المعنى عاريا عن
الخصوصيات الزائدة عن ذاته - يرد عليه:
بأنه كيف له أخذ مثل هذا القيد في المستعمل فيه والموضوع له؟
إذ من البديهي ان الغرض من هذه الوحدة ليس ما هو من لوازم ذات
الشئ من كونه في قبال الاثنين المعبر عنه بالوحدة العددية، كيف! ومثل هذه الجهة
غير قابل للخلع عنه في عالم من العوالم.
بل المراد الوحدة في عالم الاستعمال واللحاظ قبال الضمنية في هذا العالم،
ومن البديهي ان هذه الوحدة انما [تطرأ] عليه من قبل استقلال اللحاظ
الاستعمالي قبال ضمنيته ومثل هذه الجهة ناش عن قبل الاستعمال ويستحيل
أخذه في المستعمل فيه.
ولقد أجاد المحقق القمي حيث أخرجه عن قيد المعنى وجعله من شؤون
الوضع نظرا إلى أن لحاظ المعنى منفردا في حال الوضع مانع عن اطلاق وضعه
164

لأنه تبع لحاظه كذلك، وإن لم يكن من أغراضه، فيتبعه أيضا كيفية استعماله بلا
أخذه قيدا في المستعمل فيه.
فكان ما نحن فيه من تلك الجهة نظير أخذ الاستقلالية في اللحاظ
والمرآتية في الأسماء والحروف من أغراض الوضع المانع عن اطلاق الموضوع له
بلا تقييد فيه كما هو الشأن في باب قصد القربة بالنسبة إلى المأمور به بجعل
أمثال هذه المقامات من القضايا الحينية لا المطلقة ولا المقيدة.
والعجب عمن لم يتعمق كلام المحقق القمي وفتح باب الايراد عليه بأنه:
بعد تجريد المعنى عن [خصوصية] لا معنى لمنع الواضع عن استعماله عند فقد
الخصوصية.
إذ ذلك انما يرد في الخصوصيات القابلة أخذها في الموضوع له وإلا
فكل خصوصية طارئة على المستعمل فيه من قبل استعماله التابع لوضعه يستحيل
[أخذها] في الموضوع له مع أنه مانع عن اطلاقه أيضا.
نعم إنما يرد عليه بأن غاية نتيجته عدم جواز الاستعمال بنحو الحقيقة وأما
بنحو المجاز فلا بأس به.
ولذا قلنا بأن هذا المعنى من جواز الاستعمال عقلا ولو بنحو الضمنية
بالنسبة إلى استعمال ولحاظ واحد خارج عن محط البحث.
وانما محله في جواز استعمال اللفظ في كل منهما بنحو الاستقلال بحيث
كان بمنزلة استعمالين مستقلين.
ومن المعلوم ان في مثل هذه الصورة لو بنينا على امكانه لا يرد عليه أيضا
شبهة المعالم حتى مع الاغماض عما أسلفنا إذ كل واحد من المعنيين أريد من اللفظ
بقيد الوحدة، ولا شبهة [المحقق] القمي إذ أريد كل منهما من اللفظ في حال
الانفراد في اللحاظ.
وحينئذ العمدة فيه تصور إمكانه لما عرفت من استحالة طرو اللحاظين
165

على لفظ واحد وحينئذ فعمدة المحذور ذلك لا غيره فتدبر.
وقد يتخيل طريق آخر أقرب من ما ذكرنا وملخصه: ان استعمال اللفظ
عبارة عن ايجاد المعنى في الخارج بوجوده التنزيلي، وحيث إن ايجاد كل واحد من
المعنيين بلفظ واحد، فلا محيص من أن يكون وجود المعنيين واحدا وحينئذ لا
يعقل أن يكون لكل معنى وجود مستقل بل كلاهما تحت وجود واحد وهو يقتضي
عدم استقلال كل واحد بالوجود وهو خلاف فرض استقلال كل منهما في عالم
الايجاد والاستعمال حيث إن الايجاد عين وجود الشئ كما هو واضح (1).
[كما] أنه ذكر في ذيل مرامه بيانا آخر أتقن باعتقاده تسجيلا لمرامه بأنه
لو فرض كون الاستعمال خاليا عن اللحاظ كان [الايجادان] [محالين] وانه
[لا تناط] الاستحالة [بإمكان] اللحاظين وعدمه.
أقول: لا شبهة في أن مصحح تنزيل كون وجود اللفظ عين وجود المعنى
ليس إلا [فناؤه] فيه ومرجع فنائه إلى كونه مرآة له ومقوم مرآتيته ليس إلا عبور
نظره منه إليه.
وحينئذ فلئن فرض امكان النظرين مستقلا حسب اعترافه فقهرا
يتحقق مناط التنزيلين فيه ومرجعه إلى اعتبار العقل لفظا واحدا بالوحدة
الحقيقية متعددا بالعناية بملاحظة تعدد مناط تنزيله له وهو تعدد اللحاظين
الموجب كل لحاظ لفناء مستقل المستتبع لكونه وجودا لكل [واحد] من المعنيين
بوجود مستقل فعدم اعتبار العقل مثل هذه العنايات بملاحظة عدم تعقل منشأه
من تعدد اللحاظين.
ومن هنا ظهر انه لو فرض خلوه من اللحاظ لا معنى [لفنائه] فيه كي يبقى
مجال تنزيله منزلة وجوده كما لا يخفى.

(1) راجع نهاية الدراية 1: 88.
166

فتأمل كي لا يغشك مثل هذه التمويهات المبعدة عن الواقعيات وبعد
وضوح المقصد نقول:
انه لا مجال للفرق في منع الجواز بين المفرد والتثنية الملحق (بها) الجمع
أيضا بخيال ان الألف والنون دال على إرادة المعنيين من مدخولهما إذ مرجعه إلى
لحاظهما مستقلا بتوسيط لفظ المبدأ بقرينة أداة التثنية.
وحينئذ علاوة، عن لزوم استعمال اللفظ الموضوع للطبيعي - في تثنية
الطبائع الكلية - في خصوص الفرد وهو مجاز يلزم في لحاظ كل واحد مستقلا
اجتماع النظرين في لفظ واحد أيضا وعرفت انه محال.
وحينئذ فلا بد أن يراد في أمثال هذه المقامات من المبدأ نفس الطبيعة ومن
أداة التثنية وجودها في ضمن فردين بنحو الدالين والمدلولين فليس في البين حينئذ
استعمال لفظ في المعنيين.
نعم قد يشكل الأمر في تثنية الأعلام الشخصية كزيدين وحسنين وأمثالهما
إذ لا مجال للبيان السابق هنا لعدم صلاحية المبدأ للوجودين كي يصلح دخوله
في باب الدالين والمدلولين.
وتوهم تأويلهما بالمسمى وهو أيضا من الطبائع القابلة للتكرر مدفوع
باستلزامه نكارة العلم الشخصي عند تثنيته مع أنهم يرتبون أيضا آثار المعرفة على
مثلها
وحينئذ الأولى في أمثال المقام أن يقال:
بأن علامة التثنية فيها دالة على تكرر طبيعة مدخوله إما بنفسه أو بمعناه.
وهنا بلحاظ تكرر اللفظ في ضمن فردين الحاكي كل منهما عن شخص معناه،
بل ويمكن الالتزام بمثله في تثنية الأجناس أيضا فيراد من الانسانين لفظين من
الانسان المراد من كل واحد فرد منه لولا لزوم محذور المجاز من إرادة الفرد من
اللفظ الموضوع للطبيعة ففيها لابد وأن يكون بلحاظ تكرر معناه..
167

وعليه فيختص هذا التوجيه في تثنية الأعلام الشخصية.
بل ويجرى مثل ذلك في تثنية أسماء الإشارة المتوغلة في التعريف كهذين
مثلا بحيث لا معنى فيها للتأويل بالمسمى أصلا.
مع امكان دعوى أن مثل هذه الألفاظ لما كان وضعها للمعنى
المبهم المعروض للإشارة إليه فيكون تعيينها من قبل هذا العارض وحينئذ فلا
قصور في ذات المعنى لان يتحقق في ضمن المتكرر الحاكي عنه أداة التثنية بنحو
الدالين والمدلولين بضميمة كون المتكرر متعلق التعين بالإشارة إليها كما لا يخفى
فتدبر.
ولقد عجز في الفصول (1) عن الاشكال المزبور خصوصا في تثنية الإشارات
فأجاب بجعل مثل هذه الكلمة [بمجموعها] موضوعة للإشارة إلى الاثنتين بلا
مراعاة قواعد التثنية فيها من كونها من باب الدالين والمدلولين وهو كما ترى لا
يساعده الوجدان والذوق المستقيم.
تفريع: قد يتوهم بان إرادة التكليف والمال من الموصول في قوله تعالى (لا
يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) من باب استعمال اللفظ في المعنيين كما هو الشأن
في إرادة الإعلام والإعطاء من الايتاء علاوة عن لزوم اجتماع النظرين في إضافة
الفعل إليه حيث إن إضافة الفعل إلى المفعول المطلق نحو من الربط [غير]
المربوط (2) بإضافته إلى المفعول به.
ولكن يمكن التفصي عن الشبهة الأولى بان المراد من الموصول هو
الجامع المنطبق على كل من الفردين من باب الدالين كما هو الشأن في الايتاء
بإرادة المعنى الواحد منه وتطبيقه على مصداقه الادعائي والحقيقي من باب
الدالين.

(1) الفصول الغروية: 55، السطر 29 من الطبعة الحجرية.
(2) أي ان إضافة الفعل إلى المفعول المطلق لا ربط لها بإضافته إلى المفعول به.
168

وعن الشبهة الثانية: أولا بأن إضافة الفعل إلى الجامع بين المفعولين
إضافة ثالثة ولا يلزم في مثله اجتماع النظرين. وثانيا بامكان جعل الموصول من
باب المفعول له وان التكليف بمعنى الكلفة والمشقة الحاصلة لأجل الإعلام
بالحكم تارة وإعطاء المال أخرى، وحينئذ يخرج مثل هذا المقام من باب استعمال
اللفظ في المعنيين كما لا يخفى.
169

المقالة الثانية عشرة
المشتق
171

[المقالة الثانية عشرة]
في
[المشتق]
وهو من الشق، ولو بملاحظة كون الهيئات المختلفة الطارئة على مادة
واحدة موجبة لتشقيق المادة بشقوق محفوظة في ضمن هيئاته، كما هو الشأن في
معناها من جهة تصور جهة واحدة في ضمن خصوصيات متصورة.
وربما [تكون] المناسبة المغروسة بين اللفظ والمعنى داعية على كون
وضعها انحلاليا: منحلا إلى وضع وحداني للمادة في ضمن كل هيئة موضوعة
ووضع كل هيئة [لخصوصية] طارئة على هذه المادة وغيرها من المواد الموضوعة.
وبهذه الملاحظة يكون وضع كل منهما قانونيا قبال وضع الجوامد [غير]
الملحوظ فيها مادة في ضمن هيئات، ولا هيئة كذلك (1) بل وضع اللفظ فيها بمادته
وهيئة المخصوصة لمعنى خاص بوضع شخصي بلا تصور القانونية فيها.
وأيضا لازم كون الهيئة في المشتقات حاكية عن أنحاء الارتباطات بين
المادة الحدثية والذوات [كون] وضعها حرفيا قبال إسمية المادة.
كما أن تباين الهيئات [بعضها] عن الآخر يقتضي كون طروها على مادة
واحدة بنسبة واحدة وفي عرض فارد (2) ولكن ربما يكون اختلافها من حيث

(1) أي ولا هيئة في ضمن المواد.
(2) المقصود أن تباين الهيئات يقتضي أن تكون كل هيئة بذاتها عارضة على المادة من دون أن
تكون مأخوذة من هيئة قبلها.
173

اقتران بعضها بشئ زائد وعدمه.
بل واعتبار العقل في بعض [تأخر رتبته] عن غيره أوجب الطولية في أنحاء
المشتق حتى اعتبر الصرفيون أخذ بعضها عن بعض، ويقال فلان مشتق من
فلان، وليس ذلك إلا من العنايات المأخوذة في المعاني، وبهذه الملاحظة ربما يكون
أسبق المعاني الاشتقاقية لعرائه عن بقية الطواري هو المصدر، ولعل بهذه المناسبة
صار المصدر أصلا في المشتقات.
ثم إن مفاد الهيئة في الأفعال نحو إضافة بين المنفصلين مفهوما، وفي
الأوصاف نحو ربط اتصالي بين المبدأ والذات بحيث يرى المبدأ متحدا مع
الذات بنحو من الاتحاد الحاصل بينهما خارجا، ومن هذه الجهة كانت الأفعال
أشبه بالمعاني الحرفية الحاكية عن الإضافة بين المنفصلين.
وربما [تكون] هذه الجهة أوجبت البناء في الأفعال دون الأوصاف لكونها
أشبه بالجوامد العارية عن الإضافة بين الشيئين فصارت معربة.
وأما المصادر فلعل وجه اعرابها من جهة ان النسبة المأخوذة فيها نسبة
ايجادية متحدة مع وجوده فكأنه لا يرى منه إلا وجوده بلا نظر إلى جهة [نسبية]
إلا تبعا، فأصل النظر إلى نفس المبدأ محضا، بخلاف الأفعال فإن جهة نسبتها
إلى فاعل ما ملحوظة فيها في عرض النظر إلى المادة كما هو ظاهر.
ثم إن بين النسبة المأخوذة في الأفعال وبين المأخوذة في الأسماء بل
والمركبات الناقصة [فرقا] آخر وهو: إن في مثل هذه النسب التصديقية - إخبارية
أم انشائية - لا يكون بإزائها نسبة خارجية كانت هذه منتزعة منها، فلا يكون
في قبال اخباره بشئ نسبة ايقاعية خارجية بخلاف النسب الناقصة إذ بإزائها
في الخارج عن ظرف النسبة نسبة أخرى خارجية مثلا.
وربما بذلك (1) [تشبه] النسب الايقاعية بنفس التصديق أو الإرادة من

(1) الباء سببية.
174

عدم كون ظرف عروضها خارجا فلا يكون بإزاء نسبتها نسبة أخرى خارجية.
كما أنها أيضا من جهة أخرى [تشبه] التصديق بملاحظة ان النسبة
المأخوذة في الأفعال حاكية من نحو ثبوت خارجا كما هو شأن التصديق
الوجداني بشئ فإن مرجعه إلى الجزم بتحققه خارجا. ففي نسبة الأفعال [ترى
مفروغية] المبدأ خارجا - في عالم التصور - ولو مع الجزم بخلافه واقعا.
وهذا بخلاف النسبة المأخوذة في الأسماء إذ هي برمتها بنسبة تصورية التي
من شأنها - في عالم التصور - قابليتها للتحقيق في الخارج وعدمه بلا انسباق
مفروغية ثبوت المبدأ في الخارج منها.
وربما يترتب على النسب التصديقية من حيث اقتضاء كون الخارج ظرفا
له - أعم من أن يكون الخارج دهرا أم زمانا - أنه لو كان المبدأ زمانيا فقهرا
يلازم انسباق وقوعه في أحد الأزمنة وحينئذ فدلالتها على الوقوع في أحد الأزمنة
من لوازم تصديقية نسبتها لا أنه جهة زائدة عن النسبة مأخوذة فيه جزءا أم
شرطا.
نعم ربما يفرق بينها من حيث أخذ جهة سبق في بعضها دون غيره، الملازم
مع السبق الزماني في الزمانيات. وهذه الجهة غير مرتبطة بأخذ الزمان فيها. فما
هو المشهور في ألسنة النحاة من أن الزمان أحد مدلولي الفعل من الأغلاط
خصوصا لو أريد بذلك أخذ نفس الزمان لا التقيد به بنحو خروج القيد ودخول
التقييد.
وحينئذ ففي الفعل المضارع قبال الماضي أخذ عدم السبق، فدلالة
المضارع على أحد الزمانين من الحال أو الاستقبال انما هو من لوازم طبع نسبته
التصديقية المأخوذة فيه لا جهة [زائدة]، وانما الجهة الزائدة دلالتها على عدم
سبق وجود المبدأ قبال الماضي المأخوذة فيه جهة سبقه.
بل ولئن دققت النظر ترى أيضا ان السبق المأخوذة في الفعل الماضي أو
175

عدمه في المضارع مجرد سبق الوجود، وكونه زمانيا أو دهريا أو ذاتيا انما هو من
لوازم المبادئ الزمانية أو غيرها، لا ان السبق المأخوذ فيه هو الجامع بين السبق
الزماني وغيره فضلا عن خصوصه، كيف، وقد عرفت أن جهة [ظرفية] الزمان
والدهر [ملغاة من] المدلول رأسا حتى بجامعها.
ومن هذا البيان ظهر أيضا ان الأفعال المنسوبة إلى الباري حتى المتعلق
بالزمانيات لا يحتاج إلى التصرف في مدلولها لأن حيثية السبق الوجودي
[المأخوذة] في [الفعل] الماضي محضا [مأخوذة] فيها أيضا فضلا عن ارجاعها
أيضا إلى السبق الزماني بملاحظة معيتها مع الزمان بمعية قيومية كما توهم.
ثم إن بين النسبة المأخوذة في الأفعال مع النسبة في الأوصاف [فرقا] آخر
وهو أن نسبة الأفعال نسبة ايقاعية كسائر [نسب] الجمل التصديقية من الحملية
وغيرها، ونسبة الأوصاف نسبة وقوعية. فهيئة الأفعال تدل على ايقاع الربط بين
الشيئين وهيئة الأوصاف تدل على [وقوعه]، فمرجع الأول إلى اثبات النسبة
الذي هو شأن كل نسبة تصديقية ومرجع الثاني إلى نسبة ثابتة، ومن تبعات هذه
التفرقة كون الأول بحسب الرتبة مقدما على الثاني لحكم الوجدان بتأخر ثبوت
النسبة عن [اثباتها]. وحينئذ ربما يكون ذلك سبب تأخر مفاد الأوصاف عن
الأفعال ويقال: ان الوصف مشتق عن الفعل. وربما يشير إلى تلك الجهة أيضا
قولهم ب‍ " أن الأوصاف قبل العلم بها أخبار والاخبار بعد العلم أوصاف ". ولقد
أشرنا إلى ذلك كله سابقا (1).

(1) حاصل ما ذكره قدس سره حول الفرق بين معاني الأفعال والأسماء ثلاثة أمور:
الأول: أن النسبة الموجودة في الأفعال هي نسبة الإضافة بين المنفصلين في مرحلة المفهوم،
وأما في الأسماء فالنسبة نسبة الربط الاتصالي بين المتحدين في مرحلة المفهوم فالفرق بين (جاء
زيد) و (زيد الجائي) أن الأول لا يفترض فيه الاتحاد في مرحلة المفهوم بخلاف الثاني إذ
يفترض فيه الاتحاد في عالم الذهن.
وبهذا اللحاظ أصبحت الأفعال أشبه بالحروف من الأوصاف لأن الأفعال متمحضة في
النسبة بين الشيئين واما الأوصاف فالنسبة فيها نسبة الاتحاد فتكون بهذا الاعتبار أشبه
بالأسماء ولهذا بنيت الأفعال لشبهها بالحروف وأصبحت الأوصاف معربة لشبهها بالأسماء.
وأما المصادر مثل (مجئ زيد) فقد أعربت أيضا لشبهها بالأسماء من جهة أن الملحوظ فيها
ذات الفعل الصادر وإن كانت متضمنة للنسبة إلى الفاعل غير أن هذه النسبة لكونها نسبة
الإيجاد فهي متحدة مع وجود الفعل فتكون من هذه الناحية مشبهة بالأسماء أيضا.
الثاني: أن عالم النسب المأخوذة في الأفعال هو عالم الذهن وعالم النسبة المأخوذة في الأسماء
هو عالم الخارج. فمثلا: حينما نقول: (زيد الجائي) فإن النسبة المعبر عنها في هذا الكلام هو
اتصاف زيد بالمجئ في الواقع وهذه النسبة تنطبق على اتصاف زيد بالمجئ خارجا.
أما إذا قلنا: (جاء زيد) فقد أوجدنا نسبة بين المجئ وزيد، ومن الطبيعي أن الذي أوجدناه
ليس هو الأمر الخارجي بل هو الربط الذهني بين المجئ وزيد، ولهذا فعالم هذه النسبة هو
الذهن وليس لها نسبة خارجية توازيها. ولهذا أشبهت التصديق والإرادة من جهة كون عالم
عروضهما هو النفس وليس لهما ما يوازيهما خارجا.
وهنالك شبه آخر بين التصديق وبين النسبة المأخوذة في الأفعال وهو كون التصديق ذا
طبيعة حكائية عن الخارج وإن كان بنفسه أمرا نفسيا، وكذلك الأمر في النسب المأخوذة في
الأفعال فإنها ذات طبيعة حكائية عن الخارج، وكأن المبدأ فيها يؤخذ مفروض التحقق والوجود،
فلو قلنا: (جاء زيد) كان المجئ مفترض الوجود وإن كنا عالمين بكذب هذه القضية، لأن
القضية ذاتها تقتضي أن يكون المبدأ مفترض الوجود.
ومن هنا نعرف السر في انطواء الأفعال على معنى الزمان فإن ذلك ليس من جهة كون
الزمان عنصرا مأخوذا في مدلول الفعل وإنما طبيعة كون المبدأ في النسبة الفعلية مفترض
الوجود يقتضي الوقوع في أحد الأزمنة إذا كان المبدأ زمانيا.
الثالث: أن النسبة المأخوذة في الأفعال نسبة ايقاعية والنسبة المأخوذة في الأوصاف نسبة
وقوعية بمعنى أننا حين نقول: (جاء زيد) فهيئة الفعل تدل على إيقاع النسبة بين المجئ
وزيد. وهيئة الجائي في (زيد الجائي) تدل على وقوع النسبة بين زيد والمجئ، ولهذا كانت
الأفعال متقدمة في الرتبة على الأوصاف لتقدم الإيقاع رتبة على الوقوع. وعلى هذا يتضح معنى
قولهم: الأوصاف قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها أوصاف، فإن الإخبار إيقاع للنسبة
فإذا قال المخبر: جاء زيد وعلمنا بهذا الإخبار كان الناتج من هذا الإيقاع (والإخبار) هو
علمنا بوقوع النسبة أي علمنا بأن زيدا متصف بالمجئ فيكون الموجود في ظرف علمنا (زيد
الجائي).
ثم إن علمنا هذا بالوصف إذا قسناه بشخص آخر لم يعلم بعد بهذا الوصف فهو خبر
بالقياس إليه فإن علم به كما علمنا أصبح وصفا بالنسبة إليه أيضا.
176

وأيضا لازم ايقاعية النسبة بين المبدأ والذات المأخوذة في الأفعال: عدم
177

صلاحية جري مداليلها على الذوات لأن المبدأ فيها ملحوظ مغايرا مع الذات
بخلاف الأوصاف كما أشرنا إليها. وحينئذ نقول:
إن محط البحث في المسألة هو الأوصاف الجارية على الذوات الملازم
لكونها متحدة معها بنحو من الاتحاد وحينئذ [تخرج] الأفعال طرا عن هذا
البحث وهكذا المصادر لعدم جريها على الذات.
كما أن فرض محفوظية الذات [بخصوصيتها] الشخصية مع وجدان المبدأ
وفقدانه أوجب تخصيص البحث بما كان شأن الذات المأخوذة فيه كذلك كما هو
الشأن في كل مورد يكون الذات متصفا بأمر زائد عما به قوام ذاته فيجري فيه
احتمال كونه [حقيقة] حتى في ما انقضى عنه بالمبدأ، ولو بتوهم أن الهيئة [لا
تقتضي] إلا تلبس الذات الفعلي بالمبدأ في الجملة. وحينئذ فالذوات المتصفة
بالأوصاف العنوانية المقومة لذاتها كوصف الانسانية والحجرية وأمثالها [خارجة]
عن حريم النزاع لأن بانتفاء الوصف لا يبقى ذات بوجوده الشخصي المحفوظ
بين الحالتين.
كيف! وفي الأمثلة المزبورة ينقلب حد الذات بانتفاء وصفه فلم يبق في
البين الا الهيولى المحفوظ بين الصورتين. فلا جرم لا [تكون] هذه الهيولى إلا
في ضمن صورة أخرى، فيصير حينئذ شيئا آخر لأن شيئيته [بصورته] فبواسطة
تبدل الصورة [تتبدل] الشيئية فليس في الحالة الثانية ما هو موجود بشخصه
وبحده في الحالة الأولى، فلا يبقى حينئذ مجال توهم وضع اللفظ للذات المتلبس
بالمبدأ في الجملة الصادق بخصوصه بحده وشخصه بين حالي الوجدان والفقدان
كي يصدق مع الفقد انقضاء الوصف محضا، بل في هذه الصورة كان الذات
178

منقضيا، وهذه الجهة [هي] عمدة النكتة في تحقيق مركز البحث بالذوات المتصفة
بأوصاف خارجة عن [ذاتها] على وجه ينحصر الانقضاء بالوصف محضا مع بقاء
الذات.
وحينئذ ربما يستشكل أيضا في شمول عنوان البحث لأسماء الزمان حيث إن
تدريجية الذات فيها أيضا موجبة لعدم حصر الانقضاء بأوصافها بل الذات
منقضية فيها أيضا، وبمثل هذه الجهة استشكل أيضا في جريان الاستصحاب
فيها.
وقد يتوهم ارتفاع الاشكال في الحركة [التوسطية] وهو كون الشئ بين
المبدأ والمنتهى وهو باق حقيقة.
وفيه أن ما يكون بين المبدأ والمنتهى هو الجهة المحفوظة بين مراتب
الوجود المندرجة تحت كل مرتبة يزول بانوجاد الأخرى، وبديهي ان المحفوظ
بين هذه المراتب ليس له وجود مستقل بل هو موجود بعين هذه الوجودات
التدريجية [نظير] وجود الكلي في ضمن أفراده، وفي مثل ذلك لا يصدق عليه
البقاء مع تبدل مشخصاته ومراتب وجوداته وحينئذ لا مجال للفرار عن الاشكال
في المقامين إلا بدعوى كفاية صدق البقاء وعدم الانقضاء بعدم تخلل العدم بين
هذه المراتب الموجب لصدق وحدته الشخصية، مضافا إلى الاكتفاء في باب
الاستصحاب بصدق البقاء بالنظر العرفي، وتوضيحه أزيد من ذلك موكول بباب
الاستصحاب.
وكيف كان يكفينا في المقام أيضا صدق انقضاء الوصف مع بقاء شخص
الذات ولو في ضمن مراتب مختلفة متجددة.
نعم في أسماء الزمان كالمكان ربما ينسبق مظروفية المادة للزمان أو المكان،
وبهذه العناية ربما يختلف صدق العنوان باختلاف اعتبار دائرة الظرف، فقد يعتبر
دائرته مطلق الزمان قبال الدهر، وقد يعتبر القرن أو السنة أو الشهر أو اليوم
179

إلى أن ينتهي إلى الساعة والدقيقة ففي هذه الصور ربما لا يتصور الانقضاء قبال
التلبس الفعلي في المظروفية بلحاظ ما اعتبره ظرفا. نعم إنما يتصور الانقضاء
بالنسبة [إلى] شخص قطعة مظروفة دقة وحقيقة مع قطع النظر عن الاعتبار
السابق فتدبر.
ثم إن هنا [شيئا] آخر وهو ان هذا المقدار من عنوان البحث لا يكاد
يختص بالأوصاف الاشتقاقية بل يجري في كل ذات متصف بأمر خارج عن ذاته
كالزوج والملك وأمثالها، ولذا جعل في الايضاح والمسالك حرمة المرضعة الثانية
مع الدخول مبتنيا على النزاع في مسألة المشتق وظاهرهما تسلم الحرمة في المرضعة
الأولى و (الكبيرة) على القاعدة المسلمة لولا دعوى امكان استنادهم فيهما إلى
النص أيضا، والا فيمكن الخدشة في القاعدة بعدم جريانها في الأولى لأن
اتصافها بالأمومة في رتبة خروج الصغيرة عن الزوجية فلا يكون في زمان أم
زوجة فعلية بل يبتني حرمته أيضا على النزاع في باب المشتق كالزوجة الكبيرة
الثانية.
اللهم [إلا] أن يقال إن ما هو مركز البحث ومورد النفي والاثبات هو
صور انقضاء الوصف زمانا لا رتبة فيخرج مثل هذا الانقضاء عن حريم النزاع
وكان ملحقا بصورة عدمه، وذلك أيضا لولا دعوى أن ما هو المسلم في كونه
حقيقة هو فرض تلبس الذات بالوصف زمانا، ومع فقده - كما في المقام - ربما
يجري فيه مناط النفي والاثبات.
وبالجملة نقول: إنه يكفي في حرمته النص وما لا يشمله النص هو
الزوجة الأخيرة فجعلت حرمته مبتنية على القاعدة فتدبر (1).

(1) قال في الإيضاح: تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين بالإجماع وأما
المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف واختار والدي المصنف وابن إدريس تحريمها لأن هذه
يصدق عليها أنها أم زوجته لأنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه فكذا هنا
ولأن عنوان الموضوع لا يشترط صدقه حال الحكم بل لو صدق قبله كفى فيدخل تحت قوله
تعالى " وأمهات نسائكم ".
وقال في المسالك: وبقي الكلام في تحريم الثانية من الكبيرتين... وذهب ابن إدريس والمصنف
في النافع وأكثر المتأخرين إلى تحريهما أيضا وهو الظاهر من كلام الشيخ في المبسوط على
التباس يسير فيه لأن هذه عليها أنها زوجته وإن كان عهدها قد انفسخ لأن الأصح أنه لا
يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه فيدخل تحت قوله " وأمهات نسائكم ".
ويظهر منهما على ما يقول المصنف: إن حرمة المرضعة الأولى والزوجة الصغيرة مسلمتان
بناء على قاعدة (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). وأما المرضعة الثانية فشمول القاعدة
لها يبتني على النزاع في مسألة المشتق، فلو قلنا بجريان المشتق على من انقضى عنه المبدأ،
صدق عليها أنها أم زوجة فتحرم كما حرمت الأولى وإلا فلا.
يقول المصنف رحمه الله إننا لو كنا نحن وهذه القاعدة فشمولها للمرضعة الثانية كما يبتني على
النزاع المزبور في المشتق، كذلك شمولها للأولى يبتني عليه أيضا، وذلك لأن المرضعة الأولى إنما
اتصف بكونها أم زوجة بقاء لخروج الصغيرة عن الزوجية فلو كان المشتق حقيقة فيمن انقضى
عن المبدأ صدق عليها أنها أم زوجة وانطبقت عليها قاعدة التحريم بالرضاع وإلا فلا.
ثم يورد على هذا بقوله: (اللهم...).
ولتوضيحه نقول: إن الرضاع علة لأمرين: أحدهما: تحقق الأمومة للكبيرة (الأولى). ثانيهما:
عدم زوجية الصغيرة.
وعلى هذا فأمومة الكبيرة مقارنة في الرتبة ل‍ (عدم زوجية الصغيرة) وقد بنى دخول الكبيرة
في محل النزاع على هذا الاقتران الرتبي والذي يعني أن زوجية الصغيرة منقضية رتبة عند أمومة
الكبيرة.
ولكن قد يقال:
إن زوجية الصغيرة وإن كانت منقضية رتبة عن أمومة الكبيرة ولكن ذلك لا يعني انقضاءها
زمانا، بمعنى أن من الممكن أن تكون العلة الواحدة - وهي الرضاع هنا - علة لمعلولين متفاوتين
زمانا، فيكون المعلولان متقارنين رتبة متفاوتين زمانا، كما يمكن إفتراض ذلك بالنسبة إلى أمومة
الكبيرة وخروج الصغيرة عن الزوجية، وهما معلولان للرضاع.
وعلى هذا فيمكن أن تكون الزوجية مستمرة زمانا إلى حين تحقق الأمومة، وعليه فلا يكون
الانقضاء الزماني للزوجية متحققا عند تحقق الأمومة.
وبهذا يخرج المورد عن محل النزاع أيضا لصدق تلبس الكبيرة بالمبدأ فعلا.
لكن قد يرد على هذا الكلام أيضا بما أشار إليه بقوله: (لولا دعوى...).
وحاصله: أن ما ذكر إنما يعني أن انقضاء وصف الزوجية عن الصغيرة زمانا غير محرز وهو
لا يعني أن تلبس الكبيرة بالوصف وهو (أم الزوجة) زمانا محرز.
والذي يوجب الخروج عن محل النزاع هو إحراز التلبس الزماني الفعلي بالمبدأ لا مجرد عدم
إحراز الانقضاء الزماني. وحينئذ فجريان وصف (أم الزوجة) على الكبيرة داخل في محل النزاع
لأنا لم نحرز تلبسها بهذا المبدأ فعلا وإن لم نكن نحرز انقضاء الزوجية زمانا أيضا.
فقوله: (ومع فقده) أي مع فقد الأمر المسلم (وهو فرض تلبس الذات بالمبدأ زمانا).
180

وأيضا نقول: إن مركز البحث في المشتق بناء على وضعه الانحلالي
181

الاشتقاقي إنما هو في مدلول الهيئة بتقريب أن مرجع البحث إلى أن اللفظ
موضوع لحصة من الذات التوأم مع المبدأ بحيث لا يكاد يصدق العنوان عند
انفكاك الذات عنه أو موضوع للجامع بين ما وجد فيه المبدأ وفاقده دون ما لم
يوجد فيه المبدأ بعد.
ولازم كل واحد من الفرضين نحو من الصدق وطور من التطبيق. فإنه
على الأول لابد وأن يكون تطبيقه بلحاظ حال التلبس سواء كان سابقا عن
زمان نسبة شئ إليه ونسبته إلى شئ أو مقارنا لها أو متأخرا عنها، بخلافه على
الثاني فإنه يصح التطبيق على الفاقد تلبسه به سابقا من دون فرق فيه أيضا بين
كون زمان انقضائه سابقا عن النسبتين أو لاحقا أم مقارنا.
ومن هذا البيان أيضا ظهر أن المدار في المعنى الأول ليس على التلبس
بلحاظ حال الجري والتطبيق ولا حال النطق وحال النسبتين، بل المدار على
التلبس في ظرف ما انطبق عليه، فربما يكون التطبيق والنسبة في زمان النطق
والمنطبق عليه كان سابقا أو لاحقا عنهما، فإنه إذا طبق في زمان النسبة على
المتلبس السابق بما هو متلبس كان حقيقة على الأول أيضا وحينئذ فالمراد من
(الحال) في عنوان البحث: (بالجري بلحاظ الحال) ليس إلا حال التلبس.
كما أنه لا يكون مثل هذا التحرير إلا من باب الأخذ اللازم في كيفية
182

أخذ المدلول لا أن مركز البحث مثل هذا العنوان بنفسه، كيف; ومرحلة التطبيق
في رتبة لاحقة عن المدلول ومن تبعات كيفيته.
كيف; وبعد اقتضاء الهيئة قيام المادة بالذات يتصور حينئذ صورتان:
صورة توأمية المادة مع حصة من الذات، أو أوسعية الذات عن دائرة التلبس،
ولقد عرفت أن لكل صورة [طورا] من التطبيق فحينئذ هذا الاختلاف ناش
عن الاختلاف في مدلول الكلمة وهو ظاهر.
نعم [مثل] هذا التحرير بنفسه له وجه بناء على توهم بساطة حقيقة
المشتق على أحد الوجهين بجعله عبارة عن نفس المبدأ لا بشرط بلا أخذ ذات
ولا نسبة فيه أصلا، فإنه بناء على هذا المسلك لا مجال لجريان النزاع في حقيقة
الكلمة [ومدلولها]، إذ مدلول المشتق من المداليل فلا يتصور في مدلول الكلمة حينئذ
صورتان كي يتنازع في وضع اللفظ لأي واحد، فلا محيص حينئذ من إرجاعه إلى
البحث في اقتضاء هيئة الكلام في عالم التوصيف جري المشتق بلحاظ حال
التلبس أو الأعم، وسيجئ تحقيق الكلام في شرح حقيقة المشتق وتوضيح فساد
هذا المسلك عن قريب إن شاء الله، وحينئذ فلا محيص من جعل مثل هذا
التحرير من لوازم أصل البحث لا أنه بنفسه مركز بحث المقام.
نعم هنا شئ آخر وهو أنه لو كان القائل بالمعنى الأخص يلتزم بصدق
المشتق بنحو الحقيقة في فرض جريه بلحاظ حال التلبس السابق عن ظرف
النسبة، فليس له حينئذ أخذ نتيجة البحث في كثير من المقامات إذ كل مقام
صدق انقضاء المبدأ عنه قابل لجري المشتق فيه بلحاظ حال تلبسه ففي قوله
" يكره البول تحت الشجرة المثمرة " يصلح أن يكون المشتق جاريا على الشجرة
بلحاظ حال [إثمارها] ولو قبل إضافة البول ونسبته إلى [الشجرة] مع أن الغرض
من النفي والاثبات في هذه المسألة وأمثالها هو الحكم بعدم الكراهة أو غيرها في
183

فرض انقضاء الأثمار وغيره من المواد بالنسبة إلى زمان البول وغيره على القول
بالأخص.
ولعله لذا جعل بعضهم المراد من الحال في عنوان البحث حال النسبة.
ولكن معلوم أنه لا يمكن أخذ هذا الحال قيدا لمدلول اللفظ لتأخر رتبته عن
المدلول الذي هو المنسوب إليه.
وأخذ القضية حيثية أيضا لا وجه له في المقام بداهة أنه لو لم يكن في البين
نسبة يلزم خلو اللفظ عن المعنى لأن المفروض أن النسبة اخذت مقياسا للتلبس
بنحو يكون التلبس المأخوذ في مدلول الكلمة توأما وملازما مع النسبة، فمع عدم
النسبة أين [التلبس] [المأخوذ] في المدلول بنحو يصدق المدلول مع عدم النسبة
فلا محيص من عدم التضييق في دائرة التلبس من أمثال هذه الجهات وحينئذ
لازم التوسعة في التلبس صدق العنوان بلحاظ حال التلبس ولو سابقا كما هو
الشأن في جميع العناوين الكلية الصادقة عقلا على المصاديق السابقة أو اللاحقة
عن النسبة فعناوين الأوصاف منها أيضا كما لا يخفى.
وعليه فلا يمكن الفرار عن الغائلة المزبورة إلا بضم دعوى أخرى إلى
ظهور اللفظ في الجري بلحاظ حال التلبس أي وقت كان وهو دعوى ظهور
هيئة الكلام ولو من حيث الانصراف في وحدة ظرف النسبة مع ظرف المجرى
عليه تلبسيا كان أو انقضائيا، وان هذا الضيق إنما جاء من قبل هيئة الكلام لا
أنه مأخوذ في مدلول الكلمة، وعليه ربما [تترتب] ثمرة البحث في المثال المزبور
كما لا يخفى.
وحيث آل الأمر في أخذ نتيجة المسألة إلى الاحتياج إلى دعوى ظهور
هيئة الكلام ولو انصرافا في اتحاد ظرفي النسبة والمجرى عليه أمكن دعوى أن
هذا الانصراف انما هو في المبادئ القارة مع صلاحية كون العنوان بحدوثه
وبقائه مقتضيا للحكم المنسوب إليه أيضا حدوثا وبقاء.
184

وأما في المبادئ الغير القارة [الآنية] أمكن منع الانصراف المذكور
لكثرة التخلف بين ظرف التلبس وظرف النسبة خصوصا لو كان المنسوب من
الأمور القارة.
وهكذا في كل مورد [تكون] المادة [بحدوثها] علة للحكم إلى الأبد أو
شرطا مقدما زمانيا فإنه في مثل ذلك لا معنى للانصراف المزبور.
فبالتأمل في هذه الجهة أيضا ربما [ترتفع] شبهة القائل بالانقضاء من
حيث استدلاله ببعض الأمثلة التي [تكون] من قبل الأول أو الأخيرين المعلوم
عدم منافاة المورد لإرادة الجري بلحاظ التلبس لا بلحاظ الانقضاء ولو من جهة
منع انصراف هيئة الكلام في اتحاد ظرف النسبة مع المجرى عليه، وعليه فلا يبقى
مجال تشبث القائل بالانقضاء بمثل آية السرقة ولا آية نيل عهد الظالم وأمثال
ذلك.
كما أن في الأمور القارة كالعلم والتجارة وأمثالها أمكن أيضا دعوى كفاية
بقاء المتقضي في العناية باطلاق العنوان على الفاقد عن الفعلية خصوصا لو
كانت التخللات العدمية في منتهى القلة بحيث كانت ملحقة بالمعدوم.
وعليه فلا يبقى للقائل بالانقضاء أيضا ميدان الاستشهاد على مدعاه
بدعوى صدق العالم والتاجر وأمثالهما على مصاديقها حال فراغهم عن الشغل
كحال نومهم وغيره من دون احتياج في مثلها إلى التصرف في موادها بجعلها
عبارة عن الشأنية أو الحرفة وأمثالها إذ يكفي في صدقها بلحاظ حال التلبس
أيضا ملاحظة ما ذكرنا فيه من العناية بلا احتياج إلى أخذ المجاز في المادة أو
الالتزام باختلاف الموضوع له من مادة واحدة في ضمن هيئات مختلفة لعدم قبول
ارتكاز الذهن ذلك وان صدر من بعض الأعاظم فتدبر.
وحيث اتضح ما ذكرناه من أول الأمر إلى هنا يبقى الكلام في تأسيس
أصل المسألة وبيان أقوالها وشرح المختار فيها [فأقول] مستعينا به:
185

أما أصل المسألة فنقول:
إن الأصول العملية بملاحظة عدم حجية مثبتها ولو مع فرض تحقق
مجراها في أمثال المقام ساقطة بالمرة. نعم لا بأس بالأصول اللفظية عند فرض
عام أو مطلق في قبال مثل هذه العناوين المرددة مفهوما بين الأكثر والأقل فان
المرجع في الزائد عن المتيقن هو العموم أو الاطلاق، كما أنه مع سقوط الأصل
اللفظي لا بأس بالرجوع إلى الأصل العملي في حكمه الفرعي فلا بأس بجريان
الاستصحاب في حكمه مع العلم بحاله السابق، وإلا فالمرجع هي البراءة في
الزائد عن المتيقن كما لا يخفى.
وأما الأقوال فكثيرة من دخل خصوص حال التلبس مطلقا وعدمه كذلك
والتفاصيل المزبورة في كتبهم بأنحاء مختلفة لا يهمنا شرحها بعد ما لم يكن لها
أساس قابل للذكر فالعمدة هو القولان الأولان.
والذي يقتضيه النظر فيهما أيضا هو اختيار القول الأول، ويكفي له
مساعدة الوجدان بعدم صدق الفارغ على المشتغل وبالعكس، بل ويحكم
الوجدان بالتضاد بين العالم والجاهل وأمثالها من العناوين الاشتقاقية المضادة، إذ
على القول بالأعم يلزم صدق العنوانين المزبورين في زمان واحد على موضوع
واحد وهو كما ترى ينادي الوجدان بفساده.
وتوهم كون التضاد المزبور مستندا إلى الانصراف إلى حال التلبس
لا حاق اللفظ مدفوع بمنع وجه الانصراف المذكور بعد الجزم بصدق المضادة في
بدو زمان استعمال العنوانين أيضا لعدم المقتضي للانصراف حينئذ مع أن موارد
توهم الانقضاء فيه كثيرة ومعه كيف ينصرف اللفظ إلى خصوص حال التلبس
فلا محيص حينئذ إلا من الالتزام بأن انسباق حال التلبس مستند إلى حاق
اللفظ كما هو ظاهر.
وأوضح فسادا من هذا البيان إشكال آخر على صحة سلب العنوان [عن]
186

من [انقضى] عنه المبدأ بأن صحة السلب على الاطلاق [غير] سديد، وفي
الجملة غير مفيد.
إذ لنا أن ندعي ان الفارغ الفعلي لا يصدق على الشاغل الفعلي لمحض
فراغه سابقا وهذا المعنى مسلوب عنه بقول مطلق.
نعم ما لا يصح على الاطلاق هو الفارغ بلحاظ جريه على حال فراغه
وهذا المعنى لا يضر بالمدعى، وحينئذ لا ينتهى النوبة إلى اختيار الشق الثاني
وارجاع القيد إلى السلب لا المسلوب، إذ لو فرض تقييد المسلوب وحكم بصحة
سلب الفارغ الفعلي [عن] الشاغل يكفي في المدعى، إذ لازم القول بالانقضاء
صدقه أيضا. كما أنه لو فرض تقييد السلب بالفعلية مع أخذ الاطلاق في المسلوب
يلزم في حال الشغل صحة سلب الفارغ ولو بلحاظ زمان التلبس وهو كما ترى.
وحينئذ لا نرى لمثل هذا التشقيق [مجالا] أصلا إلا في فرض النزاع بان
المشتق بعد ما كان جريه بلحاظ حال التلبس هل يختص بالتلبس في [ظرف]
النسبة أولا بل يصح اطلاقه حتى بلحاظ حال التلبس سابقا أيضا ففي مثل
هذه الصورة صح البيان بأن سلب الأخص لا يستلزم سلب الأعم، وصح أيضا
التشقيق في جوابه من جعل الخصوصية قيدا للسلب أو المسلوب، ولكن هذا
النزاع غير مربوط بنزاع الباب المعروف بين الأعلام، ولا أظن القائلين بأخذ
ظرف التلبس نزاعهم في هذا المقام أيضا فتدبر.
والأولى دعوى صحة السلب على الاطلاق عن الفارغ الفعلي بالنسبة
إلى من اشتغل فعلا كما لا يخفى فتدبر.
ومن التأمل في ما ذكرناه سابقا ظهر بطلان استدلال الأعمي بمثل آية
السرقة وآية نيل الخلافة واطلاق كثير من العناوين على الفارغ عن المبدأ كالعالم
حال نومه وغفلته، والتاجر حال استراحته وأمثال ذلك في ذوي الحرفة وغيرهم،
لما عرفت الجواب عن جميعها بلا مزيد عليه.
187

بقي التنبيه على أمور:
أهمها شرح حقيقة المشتق وأنه بسيط أو مركب، [فأقول] مستعينا به:
انه تارة يجري الكلام في بساطة مفهومه ولو مع فرض تركب [حقيقته] بحيث
يجئ في الذهن مفهوم واحد مع قابليته للتحليل بشئ وشئ، نظير مفهوم
الانسان القابل للتحليل في الذهن [إلى] حيوان ناطق، وأخرى [يجري] النقض
والابرام في بساطة حقيقته بحيث لا يصلح تحليل مفهومه في الذهن بشئ فشئ.
وحينئذ فقد [توهم] كلمات بعض الأعلام بأن مركز بحث البساطة
والتركيب في المقام هو المقام الأول، بل هو الظاهر من كل من يأخذ الذات في
حقيقة المشتق، ولا أق من أخذ النسبة فيه وإن لم يكن الذات مأخوذا في
[حقيقته]، إذ على كلا الاحتمالين كان المفهوم على فرض البساطة قابلا للتحليل
بشئ فشئ.
ولكن يمكن أن يقال: إن توهم القول بالتركيب مفهوما لا يكاد ينسب
إلى أحد، وعلى فرض القول به لا يستأهل ردا لبداهة مساعدة الوجدان على
وحدة صورة المفهوم من القائم في الذهن بنحو [ما] يكون خارجا، وان التركيب
من تبعات التحليل [إلى ذات] له القيام، والا يلزم أخذ مفهوم المصدر في
الأوصاف وهو كما ترى.
وحينئذ فالحري أن يقال: إنه بعد الفراغ عن بساطة المفهوم ربما يقع
النقض والابرام في تركب [حقيقته] كي يقبل مفهومه البسيط [التحليل] بشئ
فشئ، أو بساطته كي لا يقبل المفهوم [التحليل] بشئ فشئ أيضا، ففي ميدان
هذا الجدال:
ربما يجعل القائل بأخذ الذات أو النسبة في حقيقة المشتق داخلا في
القول بالتركيب، قبال توهم أن ما بإزاء المشتق ليس إلا نفس المبدأ. وذلك أيضا:
بين أن يكون المدلول هو صرف المبدأ ولكن في حال كونه قائما بالذات ومن
188

شؤونه لكن لا بنحو القيدية بل بنحو القضية الحينية بلا اطلاق في المبدأ يشمل
غير هذه الحالة ولا تقييد به كي [تكون] النسبة مأخوذة فيه كما هو شأن سابقه،
وبين أن يكون المدلول هو المبدأ المنفصل عن الذات نظير المصدر، غاية الأمر
الفرق بينهما بصرف الاعتبار من كونه مأخوذا بنحو اللا بشرطية قبال مفهوم
المصدر الذي يكون عبارة عن المبدأ بشرط لا.
والى الوجه الأخير من البساطة أيضا [نظر] من جعل الفرق بين المشتق
والمصدر هو الفرق بين الجنس والهيولي من حيث كونهما حقيقة واحدة [مختلفين]
بالاعتبار الذي هو مصحح الحمل على الذات وعدمه. كيف; وفي الفرض السابق
من تصوير البساطة ليس الفرق بين المشتق والمصدر بصرف الاعتبار المزبور،
إذ من المعلوم أن في الصورة الأولى يرى المبدأ قائما بالغير ومن شؤونه بخلاف
مفهوم المصدر، وهذا النحو من الفرق انما جاء في نفس الملحوظ لا أنه بصرف
اللحاظ والاعتبار القائم به كما لا يخفى.
وبالجملة نقول: إن مثل هذا القائل مختاره أيضا بساطة حقيقة المشتق
بنحو لا يصلح مفهومه للتحليل بشئ فشئ كالفرض الأول.
ولا يتوهم بأن اختلافهما في الاعتبار موجب لأخذ جهة زائدة عن حقيقة
المبدأ في المشتق ولازمه أيضا تركب حقيقته بنحو قابل للتحليل بذات مبدأ
مقرونا باعتباره لا بشرط، لأنه يقال:
إن قوام هذا الاعتبار بشخص لحاظه كذلك. وكيف يمكن دخل شخص
اللحاظ في حقيقته جزءا أو شرطا إذ لازمه عند الاستعمال إما تجريد المعنى عن
قيده أو تعلق اللحاظ الاستعمالي بشخص لحاظه، وكل منهما كما ترى لا يستأهل
ردا.
وحينئذ ليس المعنى على هذا المسلك إلا نفس المبدأ التوأم مع لحاظه
كذلك بنحو القضية الحينية لا المطلقة ولا المشروطة كما هو الشأن في الفرض
189

الأول أيضا. وبديهي إن هذا المقدار لا ينافي البساطة [غير] القابلة للتحليل كما
هو ظاهر. وحيث اتضح ذلك فنقول:
إن الذي يقتضيه التحقيق في المقام هو المصير إلى خروج الذات عن
حقيقة المشتق، وإن حقيقته عبارة عن المبدأ المنتسب إلى الذات بنحو اتصاله
وقيامه به خارجا المستتبع لعدم انفكاك تصور مفهومه عن تصور الذات ذهنا
ومرجعه إلى تركب حقيقة المشتق [من] مبدأ ونحو نسبة وقيام بالذات مع خروج
الذات عن حقيقته ومفهومه.
وعمدة الوجه فيه: اشتمال المشتق على هيئة ومادة، والأولى حاكية عن
معنى حرفي يعبر عنه بحيث اتصاله وقيامه بالذات، والثاني عن المبدأ بذاته من
دون وجه وخصوصية في اللفظ دالة على الذات وحينئذ فلا يكون عناوين
الأوصاف إلا منتزعة عن المبادئ القائمة بالذات لا أنها منتزعة عن الذوات
بلحاظ تلبسها بمبدئها، كيف، وبناء عليه لا محيص من دعوى انحلالية وضعها
إلى ذات ومبدأ، مع أن لازم الانحلال ليس إلا ما ذكرنا بلا وجود جهة فيه حاكية
عن الذات في عالم وضعه.
كما أنه بمقتضى ما ذكرنا أيضا ظهر بطلان توهم البساطة في حقيقته
بجعل اللفظ في قبال المادة الصرفة، غاية الأمر التوأمة مع [اعتبارها] وجهة
للذات أو مجرد [اعتبارها] لا بشرط بنحو قابل للحمل على الذات، إذ لازمه
[إلغاء] وضع [هيئته] رأسا فيخرج عن الوضع الاشتقاقي أيضا وهو كما ترى
خلاف [المنساق] منها.
مع أن لازم المسلك الثاني من البساطة عدم صحة نسبة ما هو من شؤون
الذات إليه ك‍ (إطعام العالم) و (تقبيل يده) حيث إن صفة الانكشاف المنفصل
عن الذات بأي نحو من الاعتبار لا يكون مركز هذه الأمور بل هي [باعتبارها]
لا بشرط [قابلة] [لحملها] على ما هو مركز الأمور المزبورة لا [أنها بنفسها] مركز.
190

بل لازم هذا المعنى عدم كون مجئ الذات في الذهن من لوازم مفهوم
المشتق. بل ليس اعتباره لا بشرط إلا كاعتبار الحيوان في قبال الناطق القابل
للحمل عليه - كما هو شأن كل جزء معتبر بنحو يحمل على كله أو على جزء
آخر - حيث إن في أمثالها ليس اعتبار اللا بشرطية في ذات الشئ ملازما لوجود
موضوعه في الذهن فعلا، بل غاية الأمر مثل هذا الاعتبار موجب لقابليته
للحمل فذلك المقدار لا يقتضي حضور موضوعه باحضار نفسه.
مع أنه على فرض الملازمة نقول: إن قضية صحة حمل نفس المبدأ مستقلا
يلازم تغايرهما مفهوما واتحادهما خارجا، ومرجع التغاير المفهومي إلى ملاحظة كل
منهما منفصلا عن موضوعه، ومع هذه المغايرة كيف ينتسب ما هو من [شؤون]
الموضوع إلى المحمول الملحوظ خارجا عنه.
وبالجملة نقول: إن روح اعتبار المادة لا بشرط [يرجع] إلى لحاظ نفس
ذاته بلا نظر إلى حيث تقابله مع الذات. وهذا المقدار قابل لأن يجئ في الذهن
بلا مجئ ذات أصلا، وعليه فليس لمثله (يد) ولا (بطن) كي يضاف أمثال هذه
إليه.
ولا يتوهم جريان هذا الاشكال على مسلكنا من خروج الذات عن
الحقيقة أيضا، بل ولا على المسلك الآخر من تصوير بساطة الحقيقة أيضا، لأنه
يقال:
إن لازم اعتبار النسبة الاتصالية مع الذات بنحو التقييد أو الحينية عدم
انفكاك تصور حقيقته عن تصور الذات، بل يرى المبدأ قائما بالذات ومتحدا
معه بنحو اتحادهما خارجا، بل يكون النظر الأصلي إلى الذات ونرى المبدأ تبعا
له ومن [شؤونه]، كما أن النظر الأصلي في الخارجيات إلى ذات الشئ وان النظر
إلى لباسه وبقية أطواره تبعي محض.
ولقد أجادوا في تعبيراتهم في المقام بالذات المتلبس بالمبدأ إذ ذلك يشعر
191

بأن النظر إلى المبدأ بنحو النظر إلى لباس الشخص تبعي صرف، وإن النظر
الأصلي متوجه إلى الذات وحينئذ فلا غرو بدعوى أن أمثال هذه الأوصاف
اعتبرت من [شؤون] الذات وتمام التوجه في مقام نسبتها إلى شئ أو نسبة شئ
إليها إلى الذات، وان الوصف الاشتقاقي من [شؤون] الموضوع والمحمول وأن
المسند والمسند إليه هو الذات المتشأن بهذا الشأن والمتجلي بهذه الجلوة.
ومن هنا نقول: إن في عالم الحمل ما هو محمول حقيقة هو الذات وأن حمل
الوصف على غيره انما هو بملاحظة كونه من جلوات ذاته ومن [شؤونها] بحيث
لا يرى مغايرة [بينهما]، ففي هذا النظر كأن الوصف عين الذات ومن مراتبه
و [شؤونه]، وبهذه الملاحظة لا بأس بنسبة ما هو من [شؤون] الذات إليها مع
الالتزام بخروج الذات فيها.
وحينئذ ظهر أن وجه قابلية الأوصاف للحمل ليس بمحض اعتبارها
لا بشرط، بل بملاحظة صرف تبعيتها للذات الذي هو في الحقيقة مسند ومسند
إليه، غاية الأمر متشئنا بشأن ومتجليا بجلوة مخصوصة من أنحاء المبادئ
القائمة بها.
كما أن الفرق بين المشتق والمصدر حينئذ كون المبدأ ملحوظا بالأصالة في
قبال الذات في المصدر، وفي الأوصاف يلاحظ المبدأ من [شؤون] الذات ومن
تبعاته.
وحينئذ فما هو المنسوب إلى أهل المعقول من أن الفرق بينهما بصرف
اللحاظ والاعتبار بلا أخذ ذات ولا نسبة في حقيقته يناسب المسلك الأخير، ولقد
عرفت أنه أردأها.
ولعل الذي دعاهم إلى هذا المعنى ملاحظتهم صفات الباري عز اسمه
من (العالم) و (الحاكم) و (الموجود) وغيرها بعد الجزم بأنه عين العلم وعين الحكم
وعين الوجود، لا ذات له العلم وغيره من صفات جماله وجلاله، بل وفي مثل
192

الأبيض المنتزع عن نفس البياض أيضا كذلك.
ولكن يمكن أن يقال بأنه: كما يصح انتزاع المفاهيم المختلفة عنه تعالى
مع الجزم بعدم تعدد جهة في ذاته المقدسة صح أيضا انتزاع ذات متجلي بهذه
الصفات، وان وجه انتزاع هذه المختلفات مفهوما انما هو وفور وجوده بنحو
لا يحيط النظر بكنهه. فقهرا قصور النظر إلى [حقيقته] أوجب اتخاذ مفاهيم
مختلفة من جلوات وجوده. فمن كل جلوة ينال النظر إلى مفهوم دون مفهوم مع
وحدة المنشأ حقيقة وحيثية وجهة بحيث لا يكون في الحقيقة ذات مغاير مع صفة
دون صفة، ولذا كان كمال التوحيد نفي الصفات عنه.
ولكن مع ذلك لا ينافي ذلك مع اتخاذ النظر القاصر من كل جلوة لهذا
الوجود البحت البسيط على الاطلاق مفهوما غير مفهوم آخر.
وحينئذ فلا غرو في دعوى كون الصفات الجارية على ذاته المقدسة أيضا
حاكية عن ذات [متجلية] بمبدأ دون مبدأ، وان الصفات الجارية عليه تعالى في
عالم المفهوم [عين] الصفات الجارية على الممكن كما هو الشأن أيضا في الأبيض
الجاري على نفس البياض أو ماله البياض، غاية الأمر أن تجلي الذات بجلوات
صفاته في الواجب ذاتي وبعين ذاته وبوفور وجوده وفي الممكن عرضي بنحو
يكون جلوات ذاته بصفات زائدة عن الذات لقصور ذاته وعدم وفوره. ولكن
هذا المقدار لا يوجب فرقا في عالم المفهوم المتقوم بصرف اختلاف الأنظار.
وعليه فلا مجال للالتزام بمغايرة مفاهيم صفات الممكن والواجب بخلع
صفات الواجب عن الذات أو بجعل مداليل الصفات طرا حتى في الممكنات
عبارة عن صرف المبدأ لا بشرط مع تجريد الذهن عن تصور الذات معها رأسا
كي يرد عليه النقوض السابقة كما لا يخفى.
بقي هنا شئ توضيحا للمرام وتنقيحا للمقام وهو: إن لقائل أن يقول:
إن الذات الملحوظ في الذهن متصلا بالوصف القائم به:
193

إن كان هو المفهوم العام العرضي فلا شبهة في عدم كونه محط ورود
الأوصاف المختلفة حتى بحسب المقولة إذ هذا العنوان العرضي الخارج عن
حقيقة كل مقولة موضوعا ومحمولا لا يعقل أن يكون محطا ومحلا للأوصاف
المزبورة لفرض خروجه عن حقائقها المعروضة لمثلها، بل ولا يناسب نسبة اليد
والبطن إلى مثل هذا المعنى العام العرضي بنفسها فبقي النقض السابق واردا
حتى على مسلك خروج الذات ودخول النسبة، وبل وعلى دخول الذات أيضا
كما لا يخفى.
وتوهم أنه جنس الأجناس بالنسبة إلى جميع المقولات بحسب صدقه على
كل مقولة كلام ظاهري لا يستأهل ردا كيف; ولازمه الالتزام بوجود جامع بين
الجنس والفصل أيضا من جهة صدقه على كل منهما، والالتزام به تخريب لأساس
السابقين واللاحقين في عدم التزامهم بوجود جامع خارجي له حظ من الوجود
في ضمن كل مقولة أو بين جنس كل نوع مع فصله. ولذا منعوا فوق المقولات
مقولة أخرى حاوية للبقية كما هو ظاهر.
وإن كان مصاديقه المناسبة للمادة التي كان في كل مورد من مقولة
مخصوصة فيلزم اختلاف الصور الجائية في الذهن من هذه الهيئة علاوة على
اختلاف المادة وهو أيضا خلاف الوجدان ولذا لا يكون المدلول عند أخذ الذات
في حقيقته من هذه الجهة من متكثر المعنى.
أقول:
أولا: يمكن اختيار الشق الأول ويلتزم بكون هذا المفهوم العام يجئ في
الذهن مرآتا إلى المعروضات الأصلية من المقولات المختلفة حسب اختلاف
عوارضها، [فهو] من حيث وحدة المفهوم العام داخل في متحد المعنى، ومن حيث
مرآتيته لمصاديقها المناسبة للأوصاف ينسب إليه أوصافها وأحكامها ولوازمها من
اليد والبط وأمثالهما. ولا منافاة بين هذه الوحدة في عالم المرآة والتكثر في عالم
194

المرئي بنحو يناسب الأحكام والأوصاف والمواد العارضة لها.
وثانيا: يمكن اختيار الشق الثاني ويقال: ان المسلم من وحدة معنى
المشتق هو الوحدة من حيث الذات المخصوص المناسب كلكل مادة مخصوصة،
لا أنه متحد المعنى بالإضافة إلى ما هو معروض أي مادة من المواد، وحينئذ
فالوصف من كل مادة يحكي عن جامع ذاتي مناسب لمعروضه فهو من متحد
المعنى بمقدار اتحاد مادته معنى مع أي جامع ذاتي يناسبه، ومتكثر المعنى من
حيث المادة بما هو معروضه بخصوصه وهذا المقدار من تكثر المعنى لا ضير فيه،
وأمكن دعوى الوجدان أيضا على أن كل مادة يجئ في الذهن اتحاده مع سنخ
ما هو معروضه ذاتا، والذي خارج عن دائرة المعنى هو مصاديق هذه الأجناس
لا هي بنفسها هذا.
ولكن مقتضى الانصاف اختيار الشق الأول لعدم مجئ أمور مختلفة على
حسب اختلاف المواد في الذهن. علاوة عن أن بعض المواد يناسب قيامه بالجوهر
والعرض كالمحبوب والمبغوض وأمثالها، ففي مثلها لا معنى لأخذ جامع ذاتي بين
المعروضين بلا جامع بينها إلا عرضيا، وإلا يلزم تكثر المفهوم في مادة واحدة ولم
يلتزم به أحد. فلا محيص حينئذ إلا من المصير إلى الوجه الأول وهو يكفي ونعم
الوكيل.
الثاني من الأمور: ان المنسوب إلى الشريف استدلاله على خروج الذات
عن مدلول المشتق بأن أخذه بمفهومه فيه مستتبع لأخذ الأمر العرضي في
الفصل كالناطق وبمصداقه يلزم انقلاب القضايا الممكنة ضرورية.
أقول: يمكن اختيار الشق الأول ويقال: إن الإشكال انما يرد لو كان
(الذات) المأخوذ في مثل الناطق مأخوذا بمعناه العرضي بنحو الاستقلال، ولقد
عرفت أنه غير ممكن لعدم صلاحية مثل هذا العنوان العرضي لقيام المبادئ
الحاكية من الوجودات العينية بمثله، ولا لإضافة بعض الأمور إليه كما شرحناه،
195

بل لابد وأن يكون بنحو المرآتية إلى ما هو معروض هذه المبادئ.
وحينئذ فروح المشتق وحقيقته المرآتية بهذا العنوان بناء على أخذ الذات
فيه عبارة عن جهة خارجية معروضه للمبدأ، غاية الأمر في عالم انتزاع المفهوم
من باب الجمع في التعبير اعتبر مفهوما عاما عرضيا مشيرا به إلى حقيقة ما هو
معروض المبادئ بنحو الكلية لا بأشخاص مصاديقه خارجا. وأخذ هذا
المقدار من المفهوم العام العرضي في مفهوم المشتق لا يقتضي أخذه في حقيقة
[المحكي] به.
وعليه فلا غرو بدعوى كون المرئي بهذا العنوان الذي هو معروض
النطق حقيقة هو الفصل وان المادة [أخذت] وجها له بملاحظة [كونها] أظهر
خواصه. وبهذه الملاحظة لا بأس بدعوى حمل عنوان الفصل عليه حقيقة لما
عرفت سابقا بأن النظر في مقام نسبة شئ إليه أو نسبته إلى شئ آخر إلى
معروض المبدأ، وأن النظر إلى المبدأ ليس إلا تبعيا من جهة كونه من [شؤون]
المنسوب إليه ومن جلواته ووجوهه لا أنه بنفسه منسوب إليه الا بنحو من العناية
وحينئذ لك أن تجعل الناطق فصلا [حقيقيا] بهذا الاعتبار لا بجعل المبدأ
عبارة عن النفس الناطقة وأن الاشتقاق جعلي كالتحجر وأمثاله كما يوهم، إذ
مضافا إلى أن مطلق النفس لا يكون فصلا وتميزه بالناطقة موجب لعود المحذور،
انه تكلف بارد.
وأبرد منه تجريد هذا المشتق عن الذات - كما عن الفصول (1) - إذ مجرد ذلك
لا يكفي في [فصليته] إلا بالتصرف في المادة أيضا باخراجه عن الوصفية إلى
معنى جوهري، وفيه تكلفان.
وما عن العلامة الأستاذ أيضا بجعله فصلا مشهوريا منطقيا لا حقيقيا وأنه
من أظهر خواص الفصل إنما يصح أيضا لو كان المناط في فصلية مادته، والا فلو

(1) الفصول الغروية: 61، السطر 36.
196

كان المناط في اتصافه بالفصلية هو معروض مادته وان تخصيص المشتمل على
هذه المادة بالفصلية كون المادة من خواص الفصل ومن عوارضه على وجه
لا ينتقل الذهن من المادة إلا إلى الفصل فلا مجال لجعله محكوما بالعرضية الخاصة
بل كان متصفا بالفصلية حقيقة.
وبالجملة نقول: ان لمثل هذا الوصف، بل كل ما كانت مادته من خواص
الفصل وعوارضه، جهتان: [بإحداهما] يحسب من الأعراض و [بالأخرى] كان فصلا
حقيقيا.
فبالنظر إلى الذات المأخوذة فيها معروضا للوصف فصل حقيقي،
وبالنظر إلى موادها الملحوظة جلوة وشأنا ووجها للذات يحسب من الأعراض
والخواص الفصلية.
وبذلك يمتاز مثل هذه الأوصاف عن الأوصاف العارضة للنوع
كالضاحك والكاتب، أو للجنس كالحساس والمتحرك بالإرادة، فان فيها ليس
جهة الفصلية لا بمادتها ولا بهيئتها، وانما فيها جهة مشيرة إلى الحيثية الذاتية من
النوع أو الجنس، وجهة عرضية بلا جهة فصلية فيها.
نعم هنا شئ آخر وهو: أن الأوصاف المشتملة على المواد العرضية برمتها
مشتملة على جهة ذاتية معروضة لموادها، وجهة عرضية هي عين المواد، فجميعها
مشتركة في كونها من الخواص بنظر، و [ذي الخاصة] بنظر، وحينئذ فلم لوحظ في
أوصاف الفصول جهة ذاتها وسميت بالفصل، وفي أوصاف الأنواع والأجناس
لوحظت جهة عرضيتها وسميت بالخاصة أو العرض العام؟.
وحل هذه الشبهة بأن اشتهار عنوان الجنس أو النوع كان موجبا للغناء
عن الإشارة إليها في مقام البيان بعنوان اجمالي هو مضمون أمثال هذه الأوصاف،
ولذا لا يكون المقصود من ذكر أوصافها إلا بيان عوارض النوع أو الجنس بمثل
موادها فصارت خاصة.
197

وهذا بخلاف [الفصل] حيث إن حقيقته في غاية الخفاء بحيث لا يكون
في البين عنوان مخصوص به فيحتاج في مقام بيانه إلى الإشارة إليه بمثل الناطق
أو النفس الناطقة أو المدركة للكليات المعلوم بأن جميعها لا يحكي عن الفصل
إلا بحكاية إجمالية، ففي مثل هذه الأوصاف إذا صار موردا للذكر والبيان ليس
المقصود منها جهة عرضه مادته بل تمام المقصود بها بيان ما هو معروض هذه
الأعراض بمحض الإشارة بالمفهوم العام إليها بخلاف الأوصاف السابقة.
ولهذه النكتة الدقيقة [صارت الأوصاف] الاشتقاقية [مسماة] بالفصول
وقدمت فيها جهتها الذاتية على حيثية [عرضيتها] بخلاف أوصاف النوع
والجنس حيث قدمت فيها جهتها العرضية على الذاتية لغناء ذاتيتها عن البيان
وسميت بالخاصة والعوارض.
ومن التأمل في ما ذكرنا أيضا ظهر أن ما هو مأخوذ في الأوصاف الفصلية
هو نفس الفصول لا جنسها. فما عن بعض الأعلام من أن الأليق بالشرطية
الأولى هو أخذ الجنس أو النوع في الفصل منظور فيه، إذ ذلك - مضافا إلى أنه
من نتائج أخذ المصداق في حقيقة المشتق لا المفهوم وهو الشرطية الثانية -
إنما يتم بناء على جعل الفصل نفس المادة لا [معروضها]، ولقد عرفت ما فيه، إذ
لا معنى لجعل المادة فصلا إلا على التوهم البارد السابق، أو الخيال الآخر الأبرد
وكلاهما كما ترى.
هذا كله على فرض اختيار الشق الأول من الشرطية في كلامه.
ولنا أن نختار الشق الثاني ونقول: إن الأوصاف بملاحظة بساطة
مفهومها حتى بناء على أخذ الذات في حقيقتها بحيث يرجع المعنى إلى ذات
[متجلية] بجلوة مخصوصة وبوجه خاص لا يكون إلا محمولا وحدانيا بلا اشتماله
على نسبة أخرى غير هذه النسبة الحملية الوحدانية الغير [القابلة] للتحليل،
198

ومعلوم أن الحمل القائم بالذات المتجلي بوصف كذا ليس إلا بالامكان.
نعم لو بنينا على تركب مفهوم المشتق وانه عبارة عن ذات له المبدأ كان
مجال لأن يقال بأن الوصف بنفسه مشتمل على نسبة أخرى بين الذات والوصف
زائدا عن النسبة الحملية القائمة بهذه الذات [المنسوبة] إلى الوصف، ولازمه عند
الحمل كون المحمول مشتملا على نسبتين الموجب لانحلاله إلى قضيتين
[إحداهما]: حمل الذات المعروض للوصف على الذات وهو ضروري، والأخرى:
إضافة الذات إلى الوصف وهو بالامكان.
ولا يرد عليه: بأن الذات [المتقيدة] حصة من الذات أخص من [المجردة]
وحمله على الأعم أيضا بالامكان لا بالضرورة، لقابلية انفكاك الأعم عن
الأخص خارجا دون العكس.
لأنه يقال: إن ما هو حصته هو الذات في [ظرف] عروض الوصف
[عليها]، وإلا ففي المرتبة السابقة التي [هي] رتبة ذاته مساوق لما حمل عليه هذا
الذات. كيف؟ وأعمية الذات الذي هو موضوع هذا الحمل إنما هو بملاحظة
نفس ذاته، وإلا فما هو معروض هذا الحمل أيضا حصة من الذات الذي هو توأم
مع المحمول وغير منفك عنه خارجا.
وبالجملة ذات المحمول المعروض للوصف مع ذات الموضوع المعروض
للحمل إن لوحظ كل منهما من حيث المعروضية فهما حصة من الذات المتحدان
خارجا بلا انفكاك بينهما فيه، وإن لوحظ كل منهما في مرتبة ذاته مع قطع النظر
عن عالم المعروضية للنسبتين فهما أيضا مساوقان في الأعمية، فلا وجه لاعتبار
ما هو معروض الوصف في ظرف معروضه من الحصة دون الموضوع الذي هو
معروض للنسبة الحملية.
والى ذلك كله نظر أستاذنا أعلى الله مقامه في كفايته من اشكاله على الفصول
حيث أجاب عن أصل الاشكال بأن المحمول هو الذات المقيد بالوصف وحمله
199

على المطلق بالامكان فأشكل عليه بنحو ما بينا بتوضيح له منا.
ولكن مع ما ذكرنا كله يرد عليه: بأن ما أفاده الأستاذ رحمه الله على الفصول
إنما يرد في فرض كون الذات منسوبا إلى الوصف في عرض حمله على موضوعه
فإنه حينئذ نسبتان واردتان على ذات واحدة وهذا الذات في عالم ذاته - مع قطع
النظر عن نسبته إلى شئ عام - مساوق مع موضوعه. كما أن [كلا] منهما في عالم
عروض النسبة عليه حصة وخارج عن مرتبة عمومه فكانا أيضا غير منفكين
عن الآخر.
وأما لو قلنا بأن نسبة الذات إلى الوصف [مأخوذة] في رتبة سابقة على
حمله وإن الحمل وارد على الذات المقيد في [ظرف] الفراغ عن تقييده بوصفه فلا
شبهة حينئذ أن الحمل حينئذ ورد على الذات المقيد فارغا عن تقييده، ولازمه
فراغه عن صيرورته حصة من الذات، وبديهي ان حمل هذه الحصة المقيدة بوصفه
على الذات الملحوظ في الرتبة السابقة على حمله ليس إلا بالامكان.
وحينئذ فلو بنينا على تركب مفهوم الوصف واشتماله على نسبة أخرى
لا يقتضي هذا المقدار أيضا ضرورية النسبة في البين وانحلال القضية إلى
القضيتين وانما يوجب ذلك على فرض عرضية النسبتين لا طوليتهما كما لا يخفى
وجهه.
الثالث من الأمور:
إن الأوصاف تارة [تنسب] إلى ما هو له ك‍ (الماء جار) أو (السفينة
متحركة)، وتارة إلى غير ما هو له ك‍ (الميزاب جار) أو (جالس السفينة متحرك).
لا اشكال في الأول.
وانما الكلام في الأخير من أنه من باب المجاز في كلمة الوصف بإرادة قيام
المادة بغير ما هو له، أو من باب المجاز في اسناده إلى الميزاب، أو من باب اعمال
العناية في موضوع القضية بجعله من مصاديق ما له الجريان حقيقة فأسند إليه
200

الوصف حينئذ بنحو الحقيقة في الإسناد وكلمة الوصف أيضا، وجوه:
أرقها أخيرها، خلافا لمن ذهب إلى الأول أو الثاني، فتدبر جيدا وافهم
واستقم.
هذا تمام الكلام في نبذة من المبادئ العلمية واللغوية.
بقي الكلام في شرح المقاصد وفيها مباحث أيضا.
201

المقالة الثالثة عشر
شرح مادة الامر
203

[المقالة الثالثة عشرة]
في
[شرح مادة الأمر]
وربما يتوهم له معاني متعددة، ولكن أمكن ارجاع بعضها إلى بعض بجعله
مصداقا لمعنى آخر، وان أصل المعنى ربما يرجع إلى معنيين:
أحدهما: عبارة عن مفهوم عام عرضي مساوق لمفهوم " الشئ "
و " الذات " من حيث كونهما أيضا من المفاهيم العامة العرضية وإن كان له نحو
أخصية عما يساوقه من العنوانين. وبهذا المعنى كان من الجوامد، ويجمع على
" أمور ". وربما ينطبق على الغرض والحادثة، [أو الأمر] العجيب، وغير ذلك مما عد
من معانيه بواسطة اشتباه المصداق بالمفهوم.
[وثانيهما]: ما يساوق " الطلب المظهر " بالقول أو غيره من الكتابة
والإشارة، لا صرف إظهاره ولو لم يكن في الواقع طلب. وبهذه المعنى مشتق،
ويجئ فيه العناوين الاشتقاقية اسما أم فعلا ويجمع على " أوامر ".
ثم إن المراد من " الطلب المظهر " الراجع إليه حقيقة الأمر هو " الطلب
الحقيقي " وما هو بالحمل الشايع طلب. كما أن المراد من إظهاره أيضا كذلك.
ولكن هذا المعنى مأخوذ في [حقيقته] ومنشأ انتزاع مفهومه، لا مفهومه، كما هو
الشأن في شرح كل عنوان بأمر حقيقي خارجي هو منشأ انتزاع مفهومه مع عدم
أخذه في مفهومه. وحينئذ لا منافاة بين ذلك وبين استعمال لفظ الامر في معناه
ومفهومه بنحو الحقيقة مع عدم وجود طلب خارجي ولا ابرازه، كما هو الشأن في
205

استعمال سائر الألفاظ في معانيها، وحينئذ لا يكشف ذلك عن كون الأمر
بحقيقته عبارة عن الطلب الانشائي، لدلالة الوجدان على كون اللفظ مستعملا
في معناه الحقيقي مع عدم وجود طلب حقيقي في البين أصلا، وذلك لما عرفت بان
استعمال اللفظ في مفهومه لا يقتضي وجود منشأ انتزاع المفهوم خارجا كما
لا يخفى.
ثم لا اشكال في صدق الأمر بابراز الطلب بصيغة أخرى. وفي صدقه
بابراز الطلب بهذه المادة اشكال.
ووجه الإشكال: ان مفهوم هذه المادة بعدما كان منتزعا عن ابراز الطلب
فقهرا يكون هذا المفهوم في عالم التصور حاكيا [عن] الابراز، [فتكون] هذه
المادة [بمفهومها] بمنزلة الطريق إلى الابراز. [فكيف] يمكن أن يصير واسطة
لثبوته؟ إذ مرجع الطريقية إلى كونه من وسائط اثباته بحيث يرى المحكي عنه
مفروغ الثبوت. وفي هذا النظر يستحيل توجه النظر إلى اثباته بنفس هذه المادة
المستعملة في معناه.
وحينئذ لا محيص عند إرادة إظهار الطلب بهذه المادة من تجريد المعنى
عن قيد إظهاره فيراد منه حينئذ صرف الطلب كي يرد عليه إظهاره بهذه المادة.
ولازم ذلك كون مادة الأمر في مقام انشائه وابراز الإرادة به مستعملا في
نفس الطلب لا في الطلب المظهر، وانما أريد منه هذا المعنى عند اخباره بهذه المادة
عن إظهار طلبه بصيغة أخرى لا بهذه المادة، كما لا يخفى (1).

(1) حاصل الاشكال ووجهه: اننا بعد أن افترضنا ان معنى مادة الامر هو ابراز الطلب، تكون
مادة الامر حاكيه وداله على هذا الابراز، فلو قال المولى: (آمرك بالصلاة) يكون قوله: آمرك:
كاشفا عن ابراز الطلب بالصلاة اي واسطة في الاثبات للابراز، وعلى هذا فلا يجتمع مع كون
نفس هذا الكلام - وهو: آمرك - ابرازا، أو قل واسطة في الثبوت; لان كونه واسطة في الاثبات
أو كاشفا يعني ان هناك ابرازا للطلب متحققا كشف عنه قوله: آمرك، وهذا لا يجتمع مع كونه
بنفسه ابرازا للطلب وواسطة في تحقق الطلب المبرز وثبوته. وعلى هذا: فإذا أريد ابراز الطلب
بنفس المادة كما في آمرك بالصلاة لابد ان تستعمل المادة في خصوص الطلب مجردا عن الابراز،
ونتيجة ذلك أن المادة متى استعملت في الاخبار عن الطلب بصيغة أخرى كانت دالة على
الطلب المبرز كما في قوله: امرتك بالصلاة البارحة، ومتى استعملت في انشاء الطلب كانت دالة
على صرف الطلب لا الطلب المبرز.
206

ثم إن في اعتبار العلو محضا أو كفاية الاستعلاء أيضا أو عدم اعتبار شئ
منهما وجوه: أردأها الأخير لعدم صدقه من الداني إلى العالي، بل وفي المتساويين
أيضا الا من باب الاستهزاء والاستنكار.
فالعمدة حينئذ الوجهان الأولان، وأقواهما الأول، وانما صدقه مع
الاستعلاء من باب اعمال العناية في المستعلي بادعاء نفسه عاليا. فنسبة الأمر
إلى نفسه نظير " أنشبت المنية أظفارها ". فالمصحح لهذه النسبة إعمال [عناية]
وادعاء العلو لنفسه، فالمستعلي آمر بالعناية، لا ان [استعلاءه] موجب لصدق الآمر
عليه حقيقة فتدبر.
ثم إن الطلب المظهر به وجوبي أو جامع بين الوجوبي والاستحبابي؟
فيه وجهان، بل قولان:
يمكن دعوى انسباق الوجوبي منه، وأما كونه مستندا إلى حاق اللفظ
[ففيه] اشكال.
والتشبت ببعض الأخبار (1) على كونه للوجوب أشكل لكونه من باب

(1) كقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما روي عنه " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك " إذ يدل على
أن الامر موجب للمشقة، أو كقوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة
أو يصيبهم عذاب اليم) * إذ يدل على أن مخالفة الامر موجبة للعقاب، وكلاهما ملازم لاختصاص
الامر بالوجوب وبهذا تتشكل الكبرى المذكورة: كل امر ملازم للمشقة أو العقوبة على
المخالفة، فما لا يلازم إحداهما ليس امرا فلا يكون الاستحباب مصداقا للامر.
ثم إن مراده قدس سره ان أصالة العموم انما تجري عندما يكون مصداقية المشكوك للعام محرزة
فيتمسك بأصالة العموم لاثبات شمول الحكم له كما في " أكرم العلماء " عندما نعلم بكون زيد
عالما ولكن نحتمل عدم شمول الحكم له، اما إذا شككنا في كون زيد عالما فلا يمكن التمسك
بأصالة العموم لاثبات كونه مصداقا للعام. وفيما نحن فيه من قبيل الثاني; فإن القائل يريد أن
يتمسك بأصالة العموم في لفظ الامر من أجل تحديد مصداق الامر وانه منحصر في الوجوب
وليس هذا مورد التمسك بأصالة العموم إذ ليس المصداق محددا ليكون الشك في الشمول
وعدمه لتجري أصالة العموم لاثبات الشمول.
207

إعمال أصالة العموم في ما هو معلوم الخروج ومشكوك المصداقية لاثبات
المصداقية ولو بتقريب:
أن المستفاد منها ان كل امر ملازم [للمشقة] أو العقوبة على المخالفة، وما
لا يلازمه فليس بالأمر، فالأمر الاستحبابي ليس مصداقا للامر، فينحصر مصداقه
بالوجوبي، والا يلزم تخصيص الكبرى المستفاد ذلك منه.
ولقد عرفت في نظائره منع حجية أصالة العموم في مثله، وانما يتمحض
حجيته في فرض القطع بالمصداقية والشك في الخروج عن تحت الحكم، فتدبر.
وبالجملة يكفي لاثبات الوجوب ظهور اطلاقه في كونه في مقام حفظ
المطلوب ولو بكونه حافظا لمبادئ اختياره من جهة احداثه الداعي على [الفرار
من العقاب] أيضا، بخلاف الاستحبابي [فإنه] لمحض احداث الداعي على
تحصل الثواب فلا يوجب مثله حفظ مبادئ اختيار العبد للإيجاد بمقدار
ما يقتضيه الطلب الوجوبي، ولذا يكون في مقام حفظ الوجود أنقص، فاطلاق
الحافظية يقتضي حمله على ما يكون في حافظيته أشمل.
وقد يقرب الاطلاق أيضا بان مقتضى اطلاق اللفظ في مقام البيان حمل
معناه على ما هو أكمل، لما في الأضعف نقص ليس فيه.
وكلا [التقريبين] للاطلاق وان كانا خفيين ولكن بعد ارتكاز الذهن باقتضاء
الاطلاق ذلك لا ضير في خفاء وجهه، كيف وغالب الارتكازيات مخفية على
الخواص فضلا عن [العوام]، والله العالم.
208

[بحث في الطلب والإرادة]
بقي في المقام شئ آخر وهو ان الطلب المأخوذ في [حقيقته] هل هو عين
الإرادة أم غيره؟.
كانت هذه الجهة معركة الآراء بين الأعلام، وعمدة من ذهب إلى المغايرة
الأشعريون لشبهة حصلت لهم في وحدتهما.
وعمدة ما أوقعهم في الوهم زعمهم الفاسد بان العباد مجبورون في أفعالهم،
وهو أيضا أساس إنكارهم التحسين والتقبيح في أفعال العباد عقلا، نظرا إلى أن
موضوع حكم العقل هو الفعل الاختياري وحيث لا اختيار لهم في أفعالهم فلا
مجال لتحسينهم في عملهم عقلا ولا تقبيحهم فيه، بل الله يفعل في حقهم ما يشاء
بسلطانه فيعاقب المطيع ويثيب العاصي بلا قبح في نظر العقل في الفعلين ولا
حسن في عكسهما لان ذلك كله تحت حيطة سلطته وقدرته فيفعل ما يشاء ويحكم
ما يريد.
وحينئذ فمن نتائج هذا الزعم والخيال استحالة تعلق الإرادة الأزلية بفعل
المخلوق الا وهو صادر لأنه إذا أراد [شيئا] أن يقول له كن فيكون، ولازمه
حينئذ عدم تصور العاصي في العباد، فمع تحققه وجدانا يكشف عن عدم تعلق
الإرادة الأزلية في مورد الأوامر والنواهي [المتوجهة] إليهم.
ولا محيص لهم بالالتزام بمعنى آخر غير الإرادة حذرا عن كون
الخطابات المزبورة لقلقة لسان، وسمي المعنى الآخر بالطلب.
والتزموا أيضا بامكان تعلقه بالمحال وبغير المقدور، بل وبجواز أمره مع
علمه بانتفاء شرط المأمور به كأمر إبراهيم بذبح ولده مع أن الجليل ينهى السكين
عن تأثيره في قطع الأوداج وعدم قدرة إبراهيم [على الذبح] المزبور.
وحينئذ ربما يستشكل في تصوير هذا المعنى الأخير المسمى بالطلب بأنه
209

اي شئ قائم بالنفس وكان من أفعال القلوب [القابلة] لان [تكون] مضمون
الخطابات ويناسب مع مقام أمر المولى ونهي العالي، وقابلا للتعلق بالمحال ولو
لانتفاء شرطه؟.
وحيث [إن هذا المعنى قابل] للتعلق بفعل الغير فيكشف انه لا يكون من
سنخ بقية الصفات الوجدانية القائمة بالنفس من الجوع والعطش والشجاعة
وأمثالها، إذ لا مناسبة لها مع الأمر والنهي المتعلق بفعل الغير.
كما أن قابلية تعلقه بالمحال وبفعل المجبورين لا يناسب شرحه بمثل
عنوان البعث والتحريك، إذ مضافا إلى أنه ناش عن نفس الأمر لا أنه مأخوذ
في مدلوله، من المعلوم أنه يستحيل تعلقهما بالمحال ذاتا لا بمناط التحسين
والتقبيح كي يمنع ذلك في أفعاله تعالى في حق عباده.
بل ولا مجال لشرح الطلب أيضا بحملة النفس [الحاصلة] بعد تمامية
اشتياقه وقدرته، إذ مثل ذلك أيضا يستحيل انفكاكه عن العلم بالقدرة، فمع
فرض المجبورية يستحيل تحققه.
وبالجملة ما في ألسنة بعض المعاصرين (1) من تصور مغايرة الطلب مع
الإرادة بأمثال هذه البيانات أجنبية عن مرام الأشاعرة المؤسسين لهذا الأساس.
كما أن انكار بعض آخر بعدم مساعدة الوجدان على وجود معنى آخر
قابل للتعلق بفعل الغير العلم والإرادة أيضا قابل للمنع، كيف ونرى
بالوجدان معنى آخر غيرهما، ويعبر عنه بالبناء الذي هو أيضا من أفعال
القلوب وبه قوام التنزيلات عرفا وشرعا وكان تحت الاختيار بلا واسطة في قوله:
" ابن علي الأكثر " (2) مثلا قبال العلم والإرادة الذين لا يكونان كذلك، بل ومنه

(1) فوائد الأصول 1: 132 و 133.
(2) وسائل الشيعة 5: 38. الباب 8 من أبواب الخلل، الحديث 3.
210

أيضا عقد القلب المقابل للجحود القلبي مع العلم بالنبوة مثلا وغيرها، بل هو
قابل للتعلق بالمحال.
وحينئذ لا مجال لرد الأشعري بالمغايرة بين الطلب والإرادة بمثل هذا
الوجدان وحينئذ فللأشعري أن يلتزم بأن مفاد الأوامر معنى آخر غير العلم
والإرادة وانه من سنخ البناء وعقد القلب المزبورين، غاية الأمر يدعي بان هذا
السنخ من المعنى - باختلاف أنحاء متعلقاته - يختلف عنوانا فمن حيث تعلقه
بقيام شئ ثابت أو بقيامه مقام آخر مع القطع بعدمه يعبر عنه بالبناء التنزيلي،
ومن حيث تعلقه بثبوت شئ مع القطع بوجوده يعبر عنه بعقد القلب، ومن حيث
تعلقه بايجاد شئ لا بشئ فارغا عن وجوده يعبر عنه بالطلب.
كما أن الأمر في الاشتياق أيضا كذلك، إذ هو من حيث تعلقه بالوجود
الثابت يسمى عشقا وباثبات الوجود يسمى إرادة، ولا ينافي اختلاف هذه
العناوين مع وحدة الحقيقة، ومعلوم ان مثل هذا المعنى قابل للتعلق بالمحال وبغير
المقدور ومع العلم بانتفاء شرط المأمور به.
كما أنه بعد تسليم أساسهم الكاسد لا يبقى دعوى أحد عليهم بأن
العقل لا يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفة مجرد هذا البناء القابل للتعلق
بالمحال إذ حينئذ أين يبقى للعقل حكم في حق المجبورين الذين هم
[مقهورون] في حيطة سلطانه؟ وانما ذلك جاء من جهة توعيده على المخالفة كما
أن الثواب على الإطاعة انما هو من قبل وعده على طاعتهم. ولا بأس
[بالتوعيد] المذكور ولا الوعيد المزبور على مخالفة هذا البناء المحض المنفك عن
الإرادة أو موافقته مع انعزال العقل عن الحكم في هذا المقام رأسا.
وحينئذ لا ملزم عليهم ولا شاهد على وجود الإرادة والكراهة في مدلول
الأوامر والنواهي إلا تخريب أساسهم الفاسد وبيان زعمهم الكاسد فنقول وهو
المعين: أو لا يكفي في دفع شبههم حكم بداهة الوجدان بالفرق بين حركة
المرتعش وحركة المختار؟ وهو الذي عليه عقيدتي.
211

ولكن مع ذلك في مقام المناظرة معهم لنا أن ندعي شيئا آخر فنقول بان
توضيح فساد مرامهم يقتضي رسم مقدمة وهي:
ان من المعلوم ان عوارض الشئ قد لا يكون من لوازم وجوده ولا ماهيته،
وقد يكون من لوازم ماهيته كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة أو وجوده كالحرارة للنار،
فما كان من قبيل الأول فلا شبهة في أن جعل الشئ وايجاده لا يقتضي
وجود وصفه، بل يحتاج وجود الوصف أيضا إلى جعل آخر.
وأما ما كان من قبيل الثاني والثالث فما هو قابل لتعلق الجعل هو
الموصوف وأما لازمه [فيتحقق] قهرا بنفس وجود ملزومه واقتضائه بلا احتياج إلى
جعل آخر وراء جعل ملزومه، بل بعد جعل الملزوم بالإرادة الأزلية [يوجد] اللازم
بنفس اقتضاء الملزوم تبعا له بلا استناده إلى إرادة أزلية أخرى [متعلقة] بذلك
اللازم، بل هذا الوجود من لوازم وجود آخر ماهية أو وجودا بلا تعلل وجوده إلا
بوجود ملزومه [المنتهي] إلى إرادة أزلية بلا انتهائه إليها زائدا عما عليه ملزومه.
وحيث كان الأمر كذلك فنقول: ان مثل القدرة والعلم بالمصلحة وغيرها
من الصفات القابلة للانفكاك عن الانسان ربما يحتاج في تحققها إلى إعمال ارادته
تعالى ولو بايجاد أسبابها، ولا يكفي في وجودها مجرد تعلق الجعل بايجاد الانسان،
وأما صفة الاختيار من الممكن كونه من لوازم وجود الانسان بحيث
لا يحتاج في جعله إلى أزيد من جعل ملزومه، بل ولا أقل من دعوى كونه من
لوازم بعض مراتبه لو لم نقل بكونه من لوازم وجوده على الاطلاق.
ولازمه كون الاختيار موجودا بمحض اقتضاء وجود ملزومه بلا كونه
معللا بجعل آخر غير جعل ملزومه.
وحينئذ ففي ظرف القدرة والعلم بالمصلحة بلا مزاحم إذا توجه اختياره
إلى وجود شئ أو عدمه ربما يترتب العمل عليه [بتوسط] إراداته [المنتهية] إلى
اختياره.
212

وحينئذ هذا العمل له مبادئ متعددة من كونه مقدورا وكونه مما علم
بمصلحة بلا مزاحم وكونه مما اعمل فيه الاختيار الموجب لتوجه الاشتياق نحوه،
فبعضها مستند إلى ارادته الأزلية مثل قدرته وعلمه كوجود العامل وبعضها مستند
إلى اقتضاء ذات ملزومه من جهة ما عرفت من كونه من لوازم وجوده ولو في ظرف
تحقق القدرة والعلم المزبور، وذلك مثل اختياره المستتبع لاشتياقه وإرادته.
وحينئذ لهذا العمل الصادر جهتان، بجهة مستند إلى الإرادة الأزلية،
وبجهة أخرى مستند إلى ذاته بلا تعلله بشئ آخر وراء وجود ملزومه، ولازمه
عدم صحة استناد مبادئ وجوده - بقول مطلق - إليه تعالى لفرض توسيط
اختياره الذي من لوازم وجود ملزومه بلا تعلق جعل به زائدا على جعل ملزومه،
وعدم صحة استناد مباديه إليه أيضا على الاطلاق.
فلا يكون مثل هذا العمل مفوضا إلى العبد بقول مطلق ولا [مستندا] إليه
تعالى كذلك كي يكون في ايجاده مقهورا، فصح لنا حينئذ أن نقول: لا جبر في
البين من جهة الاختيار [المنتهي] اقتضاؤه إلى ذاته، ولا تفويض بملاحظة انتهاء
بقية مبادئ وجوده إلى إرادته الأزلية وجعله، وهذا معنى قولهم " لا جبر ولا
تفويض بل أمر بين الأمرين ".
ولقد أجاد بعض أعاظم المعاصرين في بيان هذا المعنى: بأن الاختيار من
الصفات الذاتية غير المحتاجة إلى جعل غير جعل الملزوم، ولكن التزم بأن
الاختيار [يتحقق] في ظرف تحقق الإرادة منه بحيث يكون الاختيار واسطة بين
العلم والإرادة بلا كون العمل [مستندا] إلى الإرادة بلا واسطة، بل العمل مستند
إلى نفس [الاختيار] بلا واسطة.
وفيه: ان انعزال الإرادة عن التأثير وكون تمام المؤثر هو [الاختيار] خلاف
الوجدان، كيف، ويعتبر في العبادات أن تكون إرادية قربية ولو انعزلت الإرادة
عن التأثير فلا معنى لإرادية العبادة، ولا لنشوئها [من] قصد القربة، وهو كما ترى. (*)
213

وأصعب من البيان الصادر عن المعاصر المزبور. خيال بعض آخر [بأنه]
لا يكون المراد من الفعل الاختياري إلا مجرد نشوه عن الإرادة بلا وجود صفة
أخرى في البين.
وذلك - مضافا إلى أن دائرة الاختيار ربما [تكون] أوسع من الإرادة، إذ
ربما يكون الفعل اختياريا ولو بتوسيط اختيارية لازمه ولا يكون إراديا ولو
بالواسطة لعدم الملازمة بين إرادة شئ وإرادة لازمه، ولذا لا يكون الأمر مقتضيا
للنهي عن ضده على منع المقدمية - ان الإرادة بعد ما لم [تكن] من لوازم وجوده
فلا محيص من كونه مستندا إلى الإرادة وجعل مستقل أزلي فقهرا يصير مجبورا
في هذه الإرادة، فأين يكون له اختيار في تركه؟
وتسميته العمل بمجرد توسط الإرادة المجبورة بالاختيارية لا يصحح
حقيقة الاختيار وروحه.
وهذا بخلاف ما لو بنينا بان في البين [صفة] أخرى وهو معنى: له أن
يفعل وله أن لا يفعل من قبل نفسه بلا اعمال جعل أزلي في هذه الصفة، ولا يعلل
مثله بإرادة أزلية متعلقة بنفسه.
فلا شبهة حينئذ أن العقل ينال من مثله روح الاختيار بحيث ينسب
ارادته إليه ولو ببعض مباديه، إذ تعلق الجعل بهذه الإرادة حينئذ ليس على
الاطلاق كي يصير مجبورا في ارادته، بل إنما يتعلق به في ظرف اعمال اختياره
بطرف الوجود أو العدم، ومعلوم ان اعمال اختياره هذا ليس إلا بعين اختياره
لا بجعل آخر أزلي.
ولئن شئت قلت: إن [صفة] " له أن يفعل وله أن لا يفعل ". بعدما كان من
لوازم وجود الانسان بحيث لا يعلل بأمر خارجي، هذه الصفة بمنزلة الهيولى
لفعلية اعماله وتوجهه إلى طرف من الوجود أو العدم، [تحتاج] هذه الفعلية إلى
قابلية المحل المعبر عنه بشرط تحققه، ومهما تحقق شرطة [تصير] هذه الهيولى
214

فعلية باقتضاء ذاته لا بمؤثر خارجي.
وحينئذ فلك أن تجعل مثل هذه الشرائط خصوصا مثل العلم بالمصلحة
بلا مزاحم مرجحا لإعمال الاختيار بطرفه بلا كونه مؤثرا فيه، وحينئذ لا يكون
هذا الإعمال في طرف وجود المرجح إلا عين اختياره الذي هو من صفات ذاته
بلا تعلل.
وهذا غاية ما لنا من البيان في دفع الشبهة المعروفة وبه التكلان من
وسوسة الشيطان في مثل هذا الميدان وحينئذ نرجع إلى المقصد فنقول:
انه بعد ما [اتضح] فساد شبهة الجبرية في اختيارية أعمال العباد [ترتفع]
أيضا شبهة انعزال العقل عن الحكم باستحقاق العاصي للعقوبة والمطيع للثواب،
إذ لا أظن انكارهم التحسين والتقبيح في موضوع الاختيار وان شبهتهم في هذا
المصداق دعاهم [إلى] الانكار، كما [نحن أيضا] معترفون بانعزال العقل عن
حكمه على فرض تسليم جبرية العباد - العياذ بالله -، وإنما همنا رفع هذه
الشبهة.
وبعد حكم العقل بالاستحقاقين لا يبقى مجال للالتزام بجعلية الثواب
والعقاب. نعم ربما لا يلتفت المكلف في المعاصي مقدار العقوبة والمثوبة ولو من
جهة جهله باهتمام الحكيم في مثله، فيرشد الحكيم إليه [تنبها] على مقدار اهتمامه
به، فليس ذلك من باب الجعل بلا استحقاق حينئذ.
والعجب ممن قال باختيارية العباد وعدم انعزال العقل عن الحكم رأسا
ومع ذلك التزم بجعلية الثواب والعقاب في باب الإطاعة والعصيان.
وما أوهمه في ذلك إلا ما ورد من الآيات والأخبار في ثواب الاعمال
وعقابها، وغفل عن كون ذلك كله ارشادا إلى حكم العقل في أصله، والى بيان
مقدار الاهتمام في تحديده كما هو الشأن في أمره بإطاعة أمره والانتهاء عن نهيه
فان ذلك كله ليس إلا [ارشادا] إلى ما يحكم به العقل بفطرته كما لا يخفى.
215

ومن البيان المزبور ظهر أيضا بطلان الالتزام بكون مفاد الخطابات أيضا
صرف البناء القابل للتعلق بالمحال. [إذ] العقل يأبى من حكمه باستحقاق العبد
على صرف البناء المزبور بلا إرادة أصلا للعقوبة أو المثوبة.
كما أن توهم ان الإرادة [تقتضي] عدم العصيان لعدم صلاحية
انفكاكه عن المراد أيضا في غاية السخافة وذلك لان متعلق الإرادة إذا كان الفعل
بتوسط اختيار عبده من قبل نفسه فيستحيل قلب هذه الإرادة العمل عن
الاختيارية إلى المجبورية في عالم الايجاد لعدم صلاحية الإرادة لقلب موضوعه،
كيف وهو خلف محض.
وحينئذ إذا بقي [الفعل] بعد الإرادة المزبورة على [الاختيارية] فيبقى له
حينئذ بعده أيضا هذا الشأن من أنه " له ان يفعل وله أن لا يفعل "، ومعلوم ان
مثل هذا الشأن ملازم لان يكون له تركه، والا فيلزم أخذ الإرادة الأزلية مثل
هذا الشأن منه فيخرج اختياره حينئذ عن التوسيط وهو خلف محض.
وبذلك البيان ظهرت النكتة الفارقة بين الإرادة التكوينية والتشريعية
حيث إن الإرادة التكوينية إنما [تتعلق] بشئ بنحو يكون سالب الاختيار ولو
من جهة سلب مبادئ اختياره من القدرة أو العلم بالمصلحة وغيرها، بخلاف
الإرادة التشريعية [فإنها] إنما [تتعلق] بالفعل الاختياري بوصف اختياريته،
ومثل ذلك يستحيل أن يكون سالب مبادئ اختياره، ومع عدم سلبها يبقى
اختياره بعد الإرادة بحالها، وحينئذ له أن يطيع مولاه وله ان يعصي، غاية الأمر
عقله يستقل بحسن اطاعته وقبح معصيته وباستحقاق العقوبة على الثاني
والمثوبة على الأول.
ولك أن تقول أيضا بان الإرادة التكوينية ما هو الحافظ لوجود الشئ
على الاطلاق ولو بسلبه مبادئ اختياره على خلافها، والإرادة التشريعية ما كان
لوجوده من قبل مبادئ اختياره من حفظ قدرته واعلامه بالمصلحة بمثل خطابه
216

واعلامه بإرادته الذي هو موضوع حكم عقله بطاعته من دون كونه سالب
اختياره.
والى ذلك يشير قوله [تعالى]: " ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي
عن بينة " (1) وان شأن الخطابات ليس إلا اتمام الحجة وتتميم مبادئ اختيار العبد
كما هو ظاهر.
وحينئذ فلنا ان نقول: ان مفاد الخطابات ليس إلا الإرادة المزبورة لعدم
حكم العقل بلزوم الإطاعة إلا في ظرف تحققها من المولى لا من جهة عدم تصور
معنى آخر في الوجدان غير الإرادة والعلم. كيف! وقد عرفت ما فيه بما لا مزيد
عليه.
وحينئذ فلك ان تقول: ان الطلب الذي هو مفاد الخطابات وكان موضوع
حكم العقل باستحقاق الثواب والعقاب على الموافقة والمخالفة ليس إلا عين
الإرادة المسطورة [المسماة] بالتشريعية، وان أمكن دعوى أوسعية دائرة الإرادة
عن الطلب لصحة سلب الطلب عن موارد التكوين فتدبر واستقم وافهم.

(1) الأنفال، الآية 42.
217

المقالة الرابعة عشر
وضع صيغة الامر
219

[المقالة الرابعة عشرة]
في
وضع صيغة الأمر
ولو بملاحظة كونها مظهرا للطلب الذي به قوام مدلولها ومناط صدق
مفهومها.
ولا اشكال في أن الصيغ المزبورة بهيئتها حاكية عن نحو نسبة بين الفاعل
والمبدأ (أي) بنسبة ارسالية [هي] شأن من يبعث إلى شئ ويحرك نحوه، وهذه
النسبة قائمة بالمفهومين كما هو شأن المفاهيم الحرفية الحاكية عما بإزائها من
التحريك والبعث الخارجي في عالم التصور وان انفك عنه في عالم التصديق، كما
هو الشأن في كل مفهوم.
غاية الأمر فرض ظهور الكلام واحتمال مطابقة هذا الظهور مع الخارج
يستفاد منه البعث الملازم للطلب من الأمر خارجا، وحينئذ فدلالة هيئة الأمر
على الطلب ليس إلا بالالتزام لا بالمطابقة لان الطلب القائم بالنفس أجنبي عن
مدلول الهيئة والمادة، كما أسلفنا الكلام فيه مستقصى (1).
ومن هذا البيان أيضا ظهر أن استعمال صيغة الأمر في معناه بنحو الحقيقة
لا يقتضي وجود الطلب أو البعث خارجا لما عرفت من أن ميزان استعمال اللفظ
في معناه حقيقة إرادة مفهومه منه، وهذا المقدار لا يقتضي وجود ما بإزاء هذا المفهوم

(1) راجع صفحة 205 قوله: ثم إن المراد من الطلب المظهر... الخ.
221

في الخارج، بل ذلك يحتاج إلى مبادئ أخرى.
وحينئذ فاستعمال صيغة الأمر في مقام التهديد، أو التعجيز أو السخرية
لا ينافي استعمال الأمر في هذه المقامات في مفهومه بنحو الحقيقة مع كون الداعي
على اجراء الصيغة المزبورة [شيئا] آخر غير الحكاية عن وجود ما بإزاء مفهومه
تصديقا.
فلا يتوهم حينئذ استعمال الصيغة في هذه المقامات في هذه المعاني، إذ إرادة
حقايقها الخارجية من اللفظ غلط وإرادة مفاهيمها أغلط لعدم مناسبة مفاهيمها
مع المعاني الحرفية فيكون مفاهيمها أجنبية عن مدلول الهيئة والمادة، بل انما
يستفاد هذه المعاني من سياق الكلام، فأمثال هذه الدلالات داخلة في الظهورات
السياقية لا اللفظية فتدبر.
ثم إن ظهورها في خصوص الطلب الوجوبي في الصيغ أشكل من ظهور
مادة الأمر، إذ في المادة كانت دلالته على الطلب بعد تجريد مفهومه عن قيد
إظهاره بنحو المطابقة وفي مثله أمكن إرادة الوجوبي منه ولو لم يكن في البين
مقدمات اطلاق لامكان إرادة مطلق الطلب منه.
واما في الصيغ فليس دلالتها على الطلب إلا بتوسيط مفاد الهيئة ومعلوم
ان مفاد الهيئة ليس إلا نسبة ارسالية بين الفاعل والمبدأ، وهذه النسبة كما
[تناسب] الوجوب [تناسب] الاستحباب أيضا، فلا وجه لتوهم وضعها لخصوص
الوجوب لعدم ميز بين النسبة الارسالية الوجوبية والاستحبابية. وحينئذ
[فاستفادة] الوجوب لا يكون إلا بتقريب الاطلاق بأحد الوجهين السابقين كما
لا يخفى (1).

(1) وهما الوجهان المذكوران في مقام دلالة المادة على الوجوب باطلاقهما في صفحة 208 بقوله
(وبالجملة يكفي لاثبات الوجوب... الخ).
222

ثم إن ديدنهم في الفقه استفادة الوجوب من [الجمل الفعلية] كقوله:
تغتسل وتصلي.
وقيل في وجهه: بان الجمل المزبورة استعملت في انشاء الطلب، وهو من
البعد بمكان.
ولذا ذهب آخرون [إلى] ان الجمل [باقية] على [اخباريتها]، وان
المصحح للاخبار وجود مقتضيه من طلب المولى فيخبر بوقوع المطلوب لمحض
وجود مقتضيه التشريعي، كما أنه قد [يخبر] بوقوع التكوينيات للإخبار بهلاك
الشخص لمحض العلم بوجود مقتضي هلاكه.
وفيه: ان المقتضي لوجود المخبر به في التشريعيات هو علم المأمور بوجود
الطلب وإن لم يكن في الواقع طلب. كما أنه لو كان ولم يعلم به المكلف لما كان
طلبه بوجوده الواقعي مقتضيا.
وحيث كان الأمر كذلك يستحيل أن يكون الموجب لهذا [الخبر] طلبه
واقعا ولا علمه به. كيف! وعلمه به من نتائج هذا الخبر لا من مباديه.
فلا مجال حينئذ لقياس المقام بالاخبار في التكوينيات بوجود المخبر به
بعناية وجود مقتضيه كالاخبار بموت الشخص مثلا لوجود مقتضيه كما لا يخفى.
والأولى ان يقال في وجهه: ان هيئة الكلام بعد ما كان دالا على ايقاع
نسبة بين الفعل وفاعله فلا شبهة في أنه قد يقصد به الحكاية عن ايقاع النسبة
بينهما تشريعيا وهذا الايقاع بالملازمة يدل على إرادة تشريعية قبال قصد الحكاية
بها عن وقوع النسبة ومفروغية ثبوته خارجا.
وما هو مقوم الخبر هو هذا القصد، ولازمه انسلاخه عن قصد حكايته عن
الأمر الثابت، وإرادة الحكاية منه عن ايقاع النسبة بينهما بتشريعه وتسبيبه.
فهذه الجمل في الحقيقة وان كانت منسلخة عن الاخبار لكن ليس المراد
منها إرادة انشاء الطلب وايقاعه، بل أريد منها انشاء مادته وايقاع نسبته إلى
223

الفاعل ولو تسبيبا بتوسط تشريعه، فقهرا يدل على ارادته التشريعية بهذه
المناسبة.
ولئن شئت قلت: إن المتكلم بهذا الكلام في مقام ايقاع نسبة المبدأ خارجا
إلى الفاعل بعناية وجود مقتضيه من ارادته التشريعية لا في مقام الحكاية عن
صدوره عن الفاعل بعناية وجود مقتضيه من إرادة المخبر; إذ من المعلوم ان مثل
إرادة المخبر أجنبي عن الاقتضاء في صدور الفعل منه كما أسلفنا، بخلاف مقام
اصداره من المخبر ولو تسبيبا، فان لإرادته التشريعية كمال الاقتضاء لهذا المعنى.
نعم في دلالتها على الوجوب مع فرض مناسبة هذه العناية للاستحباب
أيضا [تحتاج] إلى مقدمات أخرى قد [أسلفناها] في وجه دلالة الصيغ على
الوجوب، وهي بعينها جارية في المقام أيضا.
نعم عن بعض الأعاظم من المعاصرين كلام في وجه استفادة الوجوب من
الصيغ والجمل بدعوى - [ملخصها] -:
ان الصيغة بمحض صدورها عن المولى، العقل يحكم بلزوم [امتثالها]، إلا
أن يقوم قرينة على خلافه.
وأفاد في توضيح مرامه بان الوجوب بمعنى الثبوت وهو تكويني
وتشريعي. وكل منهما ينقسم إلى ما كان بالذات وبالغير. وكل ما بالغير أيضا في
المقامين ينتهي إلى ما بالذات، وان وجوب الطاعة نفسي، ووجوب غيره به. إلى أن
أفاد بعده:
إذا صدر بعث من المولى، العقل يحكم بوجوب طاعته قضاء لحق المولوية;
فالوجوب إنما هو من تبعات حكم العقل بالطاعة، ومن لوازم صدور الصيغة من
المولى أو صدور الجمل منه. انتهى كلامه (1).

(1) أجود التقريرات ج 1 صفحة 95 و 96.
224

أقول: إن أراد أن مجرد تحريك المولى وبعثه ملازم ذاتا مع وجوب امتثاله
ولو لكون ذلك باطلاقه حق المولى، فهو مع التزامه بان تحريكه مع القرينة على
إرادة غير لزومية لا يوجب الامتثال، غير خال عن المضادة.
إذ لازم كلامه الأخير عدم الملازمة بين التحريك ذاتا مع الوجوب والا
لا يجتمع التحريك مع القرينة على الخلاف، ولازمه عدم كونه مطلقا حق المولى.
ومع عدم الملازمة الذاتية فمن أين يقتضي مجرد التحريك وجوب
الطاعة؟! وهل هو إلا دعوى بلا برهان وقول بلا إتقان ولا أظن صدور ذلك منه.
وأظن ان بيان مقرره قاصر. والا مثل هذا البيان لا يصلح من ذي مسكة،
فلا بد وان يحصل مرامه من نفسه أو من غير هذا المقرر والا هذا المقدار
لا يستأهل ردا.
225

المقالة الخامسة عشر
اطلاق الامر أو الخطاب
هل يقتضي التوصلية
227

[المقالة الخامسة عشرة]
اطلاق الأمر أو الخطاب هل يقتضي التوصلية أم لا؟
فيه كلام. وتوضيح هذا المقصد يقتضي تقديم مقدمة في بيان المراد من
التعبدية والتوصلية.
المشهور بين القدماء كون المدار في توصلية المأمور به معلومية الغرض
الداعي على الأم بحيث يعلم ان المقصود للآمر أو المأمور التوصل به إلى هذا
الغرض. وفي قباله ما لا يعلم الغرض المزبور فيسمى تعبديا بملاحظة ان الاقدام
به ليس إلا من جهة التعبد [لمولاه] بلا قصده التوصل به إلى شئ معلوم
وعند أهل العصر من أمثال زماننا كون المدار في التوصلية على عدم
احتياج حصول الغرض والمصلحة القائمة بالمأمور به إلى كون الفعل قربيا،
قبال ما إذا احتاج إلى ذلك فيسمى تعبديا.
ولئن قيل: بأن المدار في التوصلية على عدم احتياج رفع اشتغال الذمة
بالمأمور به على اتيانه قربيا قبال احتياجه إليه فيسمى تعبديا لكان أشمل من
التعريف السابق، إذ حينئذ ربما يحكم بالتوصلية مع عدم العلم بحصول الغرض
والمصلحة المزبورة بلا كون العمل قربيا بخلافه على الأول.
ولكن ربما يقال: إن ذلك لا يكون إلا مع الشك في التعبدية والتوصلية
واقعا، وإلا فمع العلم بالتعبدية لا يكاد يسقط الغرض إلا بقربية العمل وحينئذ
فالتعبدية الواقعية منوطة به فتعين التعريب الأول. (*)
229

نعم هنا شئ آخر وهو ان لقائل أن يقول إن ذلك البيان إنما يتم على
كون عبادية الشئ ملازما لقربيته، بحيث لا يتصور فيه المصلحة إلا في صورة
ايجاده قربيا، ومن لوازمه أيضا عدم تصور حرمة العبادة بوصف [عباديتها] إلا
تشريعيا نظرا إلى مضادة الحرمة مع أصل العبادية.
واما لو قلنا بان حقيقة العبادة - [المقابلة للتوصلية] - عبارة عما جعلت
من وظائف العبودية ومن [أدواتها] (1) وكانت مما بها يتخضع العبد لمولاه كتقبيل
اليد والقيام في حضوره أو السجدة له وأمثالها المعمولة عند العرف لمواليهم مع
امضاء الشرع إياهم في أصل الوظيفة فربما ينفك مثل هذه الأمور عن القربية،
غاية الأمر هي [مقتضيات] للتقرب بها إلى المولى لولا نهيه [عنها]، وإلا فمع
نهيه [تخرج] عن القربية، ومع ذلك [لا تخرج] عن كونها من وظائف العبودية.
غاية الأمر هذه الوظيفة في مورد خاص وبجهة خاصة مبغوضة للمولى
ومنهي [عنها] وحينئذ [تخرج] عن القربية، لا عن كونها عبادة وعن [كونها]
وظيفة العبد من حيث خضوعه لمولاه.
والى هذا المعنى أيضا نظر من تصور حرمة العبادة مولويا لا تشريعيا
محضا.
ففي مثل هذه الصورة أمكن تصور قيام المصلحة بنفس ذات هذه
الوظيفة المجامعة حتى مع المفسدة الطارية [عليها] من العوارض الخارجية.
ولازمه حينئذ امكان استيفاء المصلحة حتى مع اتيانه محرما نظير
التوصليات التي لم يكن شأنها كونها من وظائف العبودية، ولا يسمى عبادة حتى
مع الأمر بها، وحينئذ لا يكون سقوط الأمر بها منوطا بقربيتها.
ولئن شئت توضيح المرام بأزيد من ذلك فاسمع: بان ملاك [عبادية]

(1) في الأصل هكذا: من وظائف العبودية ومن أبزاره.
230

العمل - قبال التوصليات - تارة [بكونه] إطاعة لأمره، [الذي] يكون مقربيته
ذاتية على وجه يستحيل انفكاكه عن المقربية.
وتارة [بكونه] من أدوات الخضوع لمولاه، وهذا الصنف ليست [مقربيته]
ذاتية بل [هو مقتض] للتقرب لولا نهي مولاه عنه، فمع نهي المولى لا يخرج عن
كونه خضوعا أيضا، ولا عن [كونه] من [أدوات] العبودية، ولكن يخرج عن
[كونه] مقربا. ومن شأن هذا الصنف أيضا عدم [جريانه] إلا في مجعولات
مخصوصة عرفية وشرعية، ولا يكاد ينطبق على كل عمل ولو [كان مأمورا به].
بخلاف عنوان الطاعة فإنه يجري في كل عمل امر به بلا اختصاصه
بعمل دون عمل.
كما أن من شؤون الصنف الأول أيضا قابلية [صدوره] عن النائب، بل
ويصدر عمن يقصد عمله عن قبل غيره مع رضاء الغير به ولو تقديرا بلا انشاء
توكيل منه ولا أمره به فيصير هذا العمل مقربا لغيره إلا أن ينهى الغير إياه عن
اتيانه من قبله، فإنه حينئذ لا يكون مقربا له لمنع صدق الخضوع منه أيضا.
وهذا بخلاف الصنف الثاني فان حقيقة الإطاعة من المنوب [لا تكون]
إلا بكون المنوب مأمورا بعمل غيره ولو تسبيبا. وإلا فمع عدم التسبب وعدم
إضافة ايجاد العمل إليه ولو تسبيبا لا يكاد يحصل له التقرب لعدم صدق الإطاعة
على مثله في حقه، بل ولا يكون هذا العمل مقربا للنائب أيضا لعدم أمر متعلق
بالنائب.
ومجرد تنزيل النائب نفسه منزلة المنوب لا يقتضي توجه امره إليه حقيقة،
بل غاية الأمر ادعاء الأمر في حقه بالعناية والتنزيل وهو لا يجدي إلا في ادعاء
مقربيته وتنزيله منزلة المقرب، وهذا التنزيل لا اثر له عند العقل في حكمه
باستحقاق المثوبة، بل مورد حكمه هذا ليس إلا مورد صدق الإطاعة حقيقة
والمقربية واقعا.
231

ومن هنا نقول إن النيابة في العبادات [لا تتصور] الا في الصنف الأول،
كما هو شأن كل عبادة. وإلا ففي الصنف الثاني لا مجال لمقربية العمل للمنوب
عنه بل ولا للنائب كما عرفت آنفا.
وبعد هذه البيانات ووضوح ان العبادة القابلة للصدور عن النائب
منحصرة بالعبادة بالمعنى الأول نقول:
انه لو كان المراد من التعبدي في قبال التوصلي مطلق التعبدي القابل
للصدور عن النائب أيضا أمكن في مثله دعوى امكان عدم إناطة الغرض القائم
به بقربيته وعدم ملازمة التعبد به مع القربية كما أشرنا.
ولو كان المراد من التعبدي خصوص ما كانت عبوديته بإطاعة أمره ولو
لم يكن العمل بذاته من وظائف العبودية فلا محيص حينئذ إلا من ادخال ما هو
صادر من النائب المقرب للمنوب عنه في التوصليات إذ حينئذ كل ما لم يكن
تقربه إلا بإطاعة أمره فهو من التوصليات لعدم واسطة بين التعبدي والتوصلي.
وحيث لا أظن التزام ذلك من أحد فلا محيص من اختيار الشق الأول، ولازمه
حينئذ كما عرفت عدم ملازمة سقوط الغرض بكونه قربيا، وحينئذ لابد وان
يقال:
إن المعيار في التعبدية كون العمل بنفسه أو بعنوان إطاعة امره من
وظائف العبودية، قبال التوصلي وهو ما لا يكن من وظائف العبودية لا بنفسه ولا
من جهة كونه معنونا بعنوان الإطاعة، كما لا يخفى. هذا.
ولكن مع ذلك كله نقول:
إن بناء الأصحاب ليس على الاكتفاء في العبادات بمجرد كونها
[مقتضيات] للقرب ولو لم [تكن] [مقربات] فعلا ولو لنهي عرضي متوجه
[إليها] بشهادة أعلى صوتهم بفساد العبادة في فرض [كونها] ضدا للأهم منها مع
الالتزام بان الأمر [مقتض] للنهي [عن] ضده. إذ مثل هذا الأمر عرضي محض
232

غير مناف لعبادية ما هو مجعول لوظيفة العبودية ولا لمصلحته لو فرض قيامها
بنفس ذاته، وانما هو مضر بقربيته.
فالتزامهم بفساد العبادة في هذه الصورة يكشف عن عدم التزامهم بقيام
المصلحة الداعية على الأمر بها بنفس ذاتها، بل إنما هي قائمة بها بقيد قربيتها.
وحينئذ فالتعبدي في كلماتهم قبال التوصلي ليس مطلق ما كان مقتضيا
للقرب لمحض كونه من وظائف العبودية، بل المراد منه ما كان مصلحته والغرض
الباعث على الأمر به منوطا بقربيته فعلا.
بل لنا ان نقول أيضا بأنه ليس بناؤهم على الاكتفاء بمقربيتها الذاتية
ولو لم يكن في البين مانع عن مقربيتها. كيف! ولازمه الاكتفاء باتيانها بداعي
الشهوة، إذ هذا المقدار لا يضر [بقربية] ما هو من وظائف العبودية، إذ من [دعته]
شهوته على الخضوع لمولاه ولو بتقبيل يده بداعي خضوعه له ولو كان محركه
على هذا الخضوع شهوته كان متقربا لمولاه، ولا يضر هذا المقدار بمقربيته
الذاتية.
ومع ذلك ليس بناؤهم على الاكتفاء في مثل الصلاة والصوم وغيرهما - مع
كونها من وظائف العبودية و [مقربة] ذاتا بشهادة تشريعها في نيابة العبادات -
باتيانها خضوعا لمولاه ولو بداعي شهوته، بل يحتاجون في مثلها إلى التقرب
بجهة زائدة عن مقربية ذواتها، كما لا يخفى، ولازمه قيام المصلحة في أمثالها على
الفعل باتيانها بهذا النحو من التقرب [غير] المجامع مع اتيانها بداعي الشهوة.
ولا يرد عليه حينئذ بان لازم ذلك عدم صحة نيابتها، إذ مع عدم الاكتفاء
بقربيتها بنفسها والاحتياج إلى قربيتها بعنوان آخر كيف يتصور ذلك في حق
النائب عن الميت، لما عرفت من انه لم يكن في البين جهة قابلة للتقرب بداعيها
عن الميت.
233

قلت: من الممكن التفكيك في القرب الدخيل في المصلحة بين مراتبه
بالإضافة إلى الحي والميت، وان ما هو دخيل في المصلحة في الأحياء هو الفعل
القربى بجهة زائدة حتى في وظائف العبودية، وفي غير الأحياء مجرد اتيان الوظيفة
المخصوصة على وجه قربيته من قبل نفسه لغيره عند اتيانه عن قبل الغير.
وحينئذ فلك ان تقول: إن للقرب مراتب، بمرتبة منه يجدي في فعل
النائب عن الميت وبمرتبة أخرى زائدا عن هذه المرتبة يحتاج إليه في حق
الأحياء.
وعلى اي تقدير: مصلحة العبادي منوطة بالقربة الفعلية ليس إلا.
وحينئذ فلا محيص في تعريف التعبدي أن يقال بما قالوا، ولازمه كون
القربية قيدا شرعيا لا عقليا، لان المدار في القيود الشرعية على دخلها في
[الغرض] بنحو يكون تفويتها تقصيرا مستتبعا لاستحقاق العقوبة ومن المعلوم
ان العقل قاصر عن درك هذا المعنى، فلا بد وأن يكون بيانه بيد الشرع ليس إلا.
نعم ما يدركه العقل مستقلا هو دخل القربية في استحقاق المثوبة، وفي
مثل ذلك لا يكون [أمرا] وضعه ورفعه بيد الشرع. بل لو بين ذلك كان من باب
الارشاد إلى حكم العقل محضا. ولكن هذه الجهة غير مرتبطة، بعالم دخله في
الغرض. كيف! وهو جار حتى في التوصليات كما لا يخفى.
وبعد ما اتضح هذا الامر [نقول]:
ان الجهة الزائدة عن قربيتها الذاتية الاقتضائية الموجبة لمرتبة أخرى
من القرب تتصور في طي مراتب أخرى:
إذ تارة يتصور القرب بداعي رجحان العمل عقلا المعبر عنه بداعي حسنها
المحرز لدى المولى جزما.
وأخرى بداعي رجحانه شرعا المعبر عنه بداعي محبوبية العمل لدى
الشرع.
234

وثالثة بداعي ارادتها الفعلية الذي هو مضمون أمره وهو المعبر عنه
بداعي أمره.
ورابعة بداعي كون مولاه مستحقا للعبودية مع فرض كون العمل من
وظائف العبودية ذاتا [أو] جعلا.
واما اتيان العمل بداعي تحصل الثواب أو الفرار عن العقاب فلا محيص
في العبادات من سبق داع آخر والا فيستحيل اتيانها بهذا الداعي إلا لغفلة
وذهول، وهو مما لا يعبأ به.
ثم إن الظاهر الاكتفاء بكل واحد من هذه المراتب في قرب العبادي
الزائد عن قربه الذاتي الاقتضائي.
كما أن الظاهر أيضا امكان أخذ المرتبة الأولى والأخيرة في حيز الأمر
والإرادة ولو شخصية.
نعم في أخذ القرب بالمرتبتين الأخيرتين من دعوة المحبوبية أو الامر
شخصا اشكال مشهور، وعمدة وجه الاشكال استحالة أخذ ما هو من شؤون
الأمر في موضوعه.
وتوضيح الاشكال بأزيد من ذلك بان يقال: إن من المعلوم ان ما هو
موضوع للامر ملحوظ في رتبة سابقة عنه، ومن البديهي ان ما هو ملحوظ في
الرتبة اللاحقة يستحيل في هذا اللحاظ [ان] يرى في الموضوع الملحوظ سابقا.
وحينئذ فكما أن الحكم والأمر يرى لاحقا كذلك العلم بالأمر أيضا يرى
لاحقا عن الأمر، وكذلك ما هو من شؤون هذا العلم كدعوته أيضا يرى في المرتبة
اللاحقة عن المعلوم من الأمر، وحينئذ يرى جميع هذه المراتب كنفس الأمر في
المرتبة اللاحقة عن الموضوع.
وحينئذ فيستحيل أخذ كل واحد من هذه المراتب في موضوع هذا الأمر
لان ما يراه العقل في الرتبة المتأخرة يأبى عن أن يأخذه في الرتبة السابقة عنه.
235

وبهذه الجهة نقول: إن العقل يأبى أن يأخذ العلم بحكم الشئ في
موضوع هذا الحكم، وذلك لا من جهة ما توهم من توقف الحكم على العلم بنفسه،
والعلم بنفسه على الحكم وهو دور، لإمكان دفعه بمنع التوقف الثاني لإمكان
تخلف العلم عن المعلوم.
بل عمدة الوجه هو ان العقل يرى العلم بالشئ في الرتبة اللاحقة عن
الشئ لحاظا لا واقعا، فكأنه يرى الشئ موضوع علمه ومتعلقه، وفي هذا النظر
يرى المعلوم سابقا عن علمه، ومع هذا اللحاظ يأبى عن أن يأخذ العلم به في
موضوع نفسه، إذ لازمه كون العلم به مقدما عليه رتبة في نظره مع أنه مؤخر عنه
في لحاظه.
وبعين هذا المناط أيضا يأبى عن الأخذ في الموضوع ما هو من شؤون هذا
العلم من الدعوة، وحينئذ فمجرد كون الدعوة من تبعات العلم بالأمر لا نفسه
واقعا لا يصحح الأخذ في الموضوع ولا يرفع الاشكال.
ولئن اغمض عن هذه الجهة وبنينا على عدم مانع في اخذ ما هو من
تبعات العلم بالأمر في موضوعه لا يبقى مجال لاشكال آخر:
من أن لازم أخذ الداعي في حيز الأمر كون الأمر محركا إلى محركية
شخصه، ومرجعه إلى كون الشئ علة لعلية نفسه.
إذ لنا حينئذ ان نقول إن ما يلزم في المقام محركية العلم بالأمر بالدعوة
للعلم بالأمر المتعلق بالذات إذ الأمر المتعلق بالجميع وان كان واحدا ولكن
بملاحظة قابلية التحليل بقطعة متعلقة بالذات وقطعة أخرى متعلقة بالدعوة
كان العلم بكل قطعة علما على حده فأحدهما محرك لمحركية الآخر، وحينئذ من
أين يلزم محركية الأمر إلى محركية نفسه كي يجئ ما ذكرت من المحذور؟!.
وأضعف من هذا التقرير توهم آخر من ادخال المقام في صغريات القضايا
الحقيقية من كون الحكم منوطا بفرض وجود الموضوع خارجا بنحو يصير
236

خارجيا ولازمه أخذ الحكم في موضوعه المفروض وجوده في رتبة سابقة عن
حكمه.
وتوضيح الفساد بان جعل الأحكام [المتعلقة] بأفعال المكلفين من
القضايا الحقيقية واضح الفساد إذ في فرض وجود الموضوع خارجا يرى العقل
سقوط الحكم لا وجوده، وانما يصح تصوير القضايا الحقيقية على فرضه بالنسبة
إلى متعلقات الأفعال التي هي بمنزلة شرايط الأحكام كالخمر والعالم وأمثالها
لا بالنسبة إلى فعل المكلف الذي هو معروض الحكم.
وكيف كان الأولى تقرير الاشكال بنحو [ما ذكرنا].
وبعدما ذكرنا من البيان أيضا لا يرد عليه بان ما هو متأخر عن الحكم هو
الداعي بوجوده خارجا وإما هو مقدم عليه الداعي بوجوده ذهنا وهما مختلفان.
وتوضيح الضعف بان عمدة المحذور كون الداعي علاوة عن تأخره
خارجا يرى في عالم اللحاظ أيضا متأخرا ومع تأخره عن الأمر لحاظا كيف يعقل
ان يرى في موضوعه المرئي سابقا؟!.
وأضعف من هذا الجواب توهم أخذ الداعي طبيعة لا شخصا كي يلزم
محذور لحاظ اللاحق في السابق.
ووجه الضعف هو ان لازم لحاظ الداعي الشخصي من شؤون الأمر
ومتأخرا عن الموضوع لحاظ شخص هذا الفرد خارجا عن دائرة الطبيعة وهو
يلازم لحاظ الطبيعة في دائرة لا يشمل هذا الفرد، وهو بمنزلة تخصيص الطبيعة
بغيره، وما هذا شأنه يستحيل انطباق الطبيعة عليه كما لا يخفى.
وبالجملة نقول: ان من جهة هذه الشبهة ذهب جل من الفحول إلى
امتناع أخذ هذا القيد وأمثاله في حيز الأمر والخطاب الواحد.
وهم بين من التزم بعدم تعلق الخطاب إلا بذات العمل مع عدم تعلق الأمر
بالقيد إلا ارشادا إلى حكم العقل بالاتيان. (*)
237

وبين من التزم بأخذ القيد في طي خطاب وأمر آخر غير الخطاب بذات
العمل.
وعمدة منشأ هذا الاختلاف هو ان هذا القيد مثل سائر القيود الشرعية
محتاج إلى البيان؟ أم يكفي لبيانه حكم العقل بلزوم اتيانه من قبل تمامية البيان
للأمر بنفس الذات؟ وسيجئ توضيحه عن قريب ان شاء الله.
هذا كله مما استفدته من كلمات الأعلام ولكن لنا كلام مع هؤلاء الأعاظم
قدس الله أسرارهم، وتوضيحه يقتضي رسم مقدمة [وهي]: ان شخص انشاء الأمر الوارد
في شخص الخطاب: تارة يراد منه ابراز شخص الإرادة القائمة بموضوع الأمر
ومادته. وأخرى يراد سنخه، ففي الثاني:
تارة يراد منه السنخ الموجود في ضمن أفراد [عرضية] نظير الأمر بكل
طبيعة سارية كأكرم العالم فان من شخص هذا الانشاء أريد سنخ الوجوب
القائم بطبيعة العالم السارية في ضمن أفراد [عرضية]، ولذا يقال بان مثل هذا
الخطاب قابل للانحلال بخطابات متعددة بعدد أفراد الطبيعة ومنه أيضا الانشاء
المتعلق بالعمومات الاستغراقية.
وتارة يراد منه السنخ الموجود في ضمن أفراد طولية وذلك أيضا:
تارة يكون طولية الحكم بملاحظة طولية أحد الفردين للآخر ذاتا حسب
معلولية أحدهما عن الآخر وذلك كما في قوله: (إذا دخل الوقت وجب الصلاة
والطهور) (1) حيث إن وجوب الطهور من جهة كونه معلول وجوب الصلاة - نظرا
إلى علية كل وجوب نفسي لوجوب مقدمته الغيري - كانا [فردين] من الوجوب
في طول الآخر ومع ذلك من انشاء " وجب " أريد سنخ الوجوب الموجود في ضمن
الفردين الطوليين.

(1) وسائل الشيعة 1: 261، الباب 4 من أبواب الوضوء، الحديث 8، مع اختلاف يسير.
238

وأخرى تكون طولية أحد الفردين للآخر من جهة إناطة موضوعه على
قيام الفرد الآخر من الحكم على موضوع آخر وذلك مثل قوله (وجب تصديق
العادل) الشامل باطلاقه للافراد الطولية من مثل الأخبار مع الواسطة حيث إن
موضوع هذا الانشاء كل خبر لمؤداه أثر فإذا فرض صيرورة موضوعية الخبر
بالواسطة لهذا الانشاء منوطة بشمول شخص حكم آخر وفرد وجود للفرد
السابق الذي هو محكي هذا الخبر فقهرا يصير الوجوب المتعلق به فردا [آخر]
من الوجوب في طول الفرد السابق ففي ذلك المورد أريد من الوجوب سنخ من
الوجوب الموجود في ضمن أفراد طولية حسب دخل الفرد الآخر في موضوع هذا
الفرد ولا ضير فيه أبدا، وبمثله ينحل الاشكال المعروف في باب الخبر بالواسطة.
وحيث اتضح ذلك نقول في المقام أيضا: انه لو أريد من انشاء الأمر سنخ
من الوجوب الموجود في ضمن الفردين الطوليين - بملاحظة دخل قيام أحد
الفردين بموضوعه، وهو الذات، في تحقق موضوع الآخر، وهو دعوة الأمر به -
فلا ضير حينئذ في أخذ مثل هذا القيد في حيز شخص هذا الخطاب المشتمل على
شخص هذا الانشاء.
وإنما المحذور كل المحذور في المقام وفي باب الاخبار مع الواسطة في
صورة إرادة شخص الوجوب أو الإرادة من مثل هذا الانشاء أو السنخ المتحقق
في ضمن أفراد [عرضية].
وهذا [هو] الذي أوقعهم في المقام وفي الأخبار مع الواسطة في حيص
وبيص، وإلا فلو دققوا النظر وفتحوا البصر في المقامين وجعلوهما من وادي انشاء
سنخ الحكم الموجود في ضمن أفراد طولية [لم] يرد عليهم محذور ولا محتاجين في
المقام - بناء على شرعية قيد دعوة الأمر - إلى تعدد خطاب وتكرار انشاء وجوب،
بل للمولى ان ينشئ وجوبا متعلقا بالذات عن دعوة مفاد أمره من الوجوب.
وحينئذ فلنا ان ندعي بأنه بعد امكان أخذ مثل هذا القيد في حيز شخص
239

انشائه المتعلق بالذات أيضا ففي صورة لم يؤخذ مثل هذا القيد في حيز الخطاب
فلا بأس بالأخذ باطلاق الخطاب لنفي مثل هذا القيد القابل لأخذه في حيزه
بناء على التحقيق - كما سيجئ ان شاء الله تعالى - من أن مثل هذا القيد أيضا
محتاج إلى البيان عند دخله في [الغرض].
والا فلو بنينا على أن المرجع في مثلها لزوم الاحتياط بحيث يكفي لتنجز
التكليف بها مجرد تمامية البيان في الأمر بنفس الذات أمكن دعوى عدم اقتضاء
اطلاق الخطاب أيضا نفي قيديته، لإمكان اتكال الشارع في بيانه إلى حكم
العقل بلزوم تحصيله عند تنجز الأمر بنفس الذات كما هو ظاهر.
لا يقال إن شخص هذا الخطاب لا محيص من دعوته حتى في التوصليات
نظرا إلى أن شأن الأمر المولوي بأي شئ هو الدعوة غاية الأمر [لا تكون]
هذه الدعوة [دخيلة] - في التوصليات - في المصلحة بخلاف العبادات وما هذا
شأنه كيف له اطلاق يشمل حال عدم الدعوة؟! بل مهما تحقق يكون توأما مع
الدعوة وإن لم يؤخذ مثله في حيزه.
لأنه يقال: إن هذه الدعوة التي تكون من لوازم وجوده ربما [ليست
مأخوذة] في المصلحة بل هي من الأمور العقلية التي شأن الشارع ليس [بيانها]،
وما هو شأنه بيانه هو الدعوة الدخيلة في المصلحة، والعقل لا يحكم بأن ما هو من
لوازمه عقلا دخيل في مصلحة أمره مطلقا.
وحينئذ يحتاج بيان هذه الجهة إلى أخذه في حيز خطابه، فمع عدم أخذه
يحكم - باطلاق الخطاب وتجريده عنه - بعدم دخله في المصلحة.
فكان ما نحن فيه من هذه الجهة نظير القدرة الملازمة عقلا لفعلية
الخطاب، ومع ذلك عند تجريد الخطاب عنه يستكشف - باطلاق الخطاب - عدم
دخله في المصلحة.
ولئن شئت فعبر في المقامين باطلاق المادة أيضا فتدبر.
240

ومن هذا البيان ظهر أيضا فساد زعم عدم جواز التمسك باطلاق
الخطاب لدفع قيدية دعوة الأمر ببيان:
ان هذا ليس تقييدا في دليل تلك العبادة حتى يدفع باطلاقها. إذ ذلك
الكلام أيضا من فروع زعم أن المنشأ بهذا الانشاء شخص وجوب قائم
بموضوعه.
والا فعلى ما ذكرنا [يصلح] الخطاب للتقيد به فيكون مثل هذا القيد
أيضا قابلا لتقيد الخطاب الشخصي [به] فيدفع حينئذ باطلاقه.
نعم لو بدل هذا البيان ببيان آخر من امكان اتكال الشارع في بيانه
إلى حكم العقل بلزوم تحصيله عند تنجز الأمر والخطاب بنفس الذات - كما هو
شأن من ذهب إلى الاحتياط في مثل هذه القيود عند الشك، لكان أمتن.
إذ قصور الخطاب في اطلاقه حينئذ من جهة احتمال اتكاله في بيان القيد
إلى حكم العقل بلزوم تحصيله، وهذه الجهة غير [مرتبطة] بعالم عدم قابليته لتقييد
به كي يرد عليه ما ذكرنا فتدبر.
هذا كله حال الاطلاقات لفظيا.
وفي المقام تقريب آخر للاطلاق بدعوى أن هذا القيد لما كان مغفولا عنه
عند العرف في محاوراتهم فعند تجريد الخطاب منه لا ينسبق إلى أذهانهم إلا كفاية
مجرد الاتيان بالمأمور به في الوفاء بالغرض.
ففي هذه الصورة لو لم ينبه المولى إلى القيد لنقض غرضه فالعقل يحكم
حينئذ بعدم دخله فيه.
ومثل هذا التقريب يسمى في كلماتهم بالاطلاق المقامي، وهو أوسع من
التقريب الأول الراجع إلى الاطلاق اللفظي من جهة، وأضيق منه من جهة.
وجه أوسعيته انه يجري حتى على مسلك جعل مفاد الخطاب حكما
شخصيا غير قابل للاطلاق كعدم قابليته للتقييد حيث إنهما متضايفان. (*)
241

ووجه [أضيقيته] بملاحظة اختصاصه بأمور [تكون] غالبا مغفولا [عنها]
عند العرف، وإلا فلا مجال لاتمام هذا التقريب.
وحينئذ ربما أمكن الجمع بين كلمات شيخنا العلامة في رسائله حيث منع
من الأخذ بالاطلاقات في مقام واتكل بها في مقام آخر [بحمل] الأول على
اللفظي والآخر على المقامي على ما وجه به بعض الأعاظم من المحشين.
ولكن الذي يمكن أن يقال على التقريب الثاني هو ان ذلك صحيح في
كل اطلاق وارد قبل معهودية العبادات في شرعنا، وإلا فبعد معهوديتها لا يبقى
للغفلة عن مثل هذا القيد مجال.
ومجرد عدم معهوديته في محاوراتهم لا يقتضي الغفلة عنها في الشرعيات
بعد فرض معهودية عباداته.
وحينئذ لا يكون في البين إلا الاطلاقات اللفظية بالتقريب المتقدم على
المبنى المقدم كما لا يخفى. هذا كله بمقتضى الدليل الاجتهادي.
وأما بحسب الأصول العملية، فنقول:
إنه قد يتوهم بان المرجع في المقام هو الاحتياط - وان بنينا على البراءة
في الأقل والأكثر - نظرا إلى اشتغال الذمة في المقام بالصلاة ولا يحصل الفراغ
إلا باتيانه بداعي القربة بخلافه في الأقل والأكثر إذ الاشتغال بالأكثر غير
ثابت ولو لانحلال العلم الاجمالي.
أقول: إن ثبوت الاشتغال بالصلاة في المقام بعد احتمال دخل القيد في
الغرض مساوق ثبوت الاشتغال بالأقل في باب الأقل والأكثر.
كما أن دخل وجود القيد في الجزم بالفراغ عن الأمر بذات الصلاة في
المقام كدخل وجود الجزء المشكوك في الفراغ عن التكليف بالأقل في ذاك الباب.
وعليه فهذا التقريب من الاحتياط في المقام مستتبع لجريانه في الأقل
والأكثر أيضا فلا مجال للتفكيك بينهما من هذه الجهة.
242

ولئن شئت توضيح الشبهة بأزيد من ذلك فاسمع: بأن لازم دخل كل قيد
في الغرض كون دخل بقية الأجزاء فيه دخلا ضمنيا لا مستقلا، ولازم الضمنية
قيامه بكل واحد حين انضمام القيد به، لا مطلقا، ويستتبع ذلك قيام التكليف
به على نحوه; لفرض تبعية التكليف من حيث الاطلاق وعدمه لكيفية قيام
المصلحة به.
وحينئذ فان أمكن أخذ القيد في متعلق التكليف فقهرا ينبسط التكليف
على الذوات المفروضة مع تقييدها بالقيد.
واما إن لم يمكن أخذه فيه فقهرا المصلحة القائمة به بنحو الضمنية
يوجب توجه الأمر إلى الذوات محضا ولكن بلا اطلاق فيه ولا تقييد. ونتيجته
وجوب الذوات في حال الانضمام إلى القيد لا مطلقا ولا مقيدا وهو المعبر [عنه] في
ألسنتنا بالقضية الحينية لا مطلقة ولا مشروطة.
وحينئذ لا يقتضي استقلال الأمر بنفس الذات في أمثال المقام مصلحة
مستقلة قائمة بها وراء الغرض القائم بالمقيد كما توهم، إذ هو كذلك لو كان الأمر
بها بنحو الاطلاق بوجه شامل لصورة فقد القيد أيضا.
وإلا فلو كان الأمر المتعلق بذوات الأفعال لا اطلاق له بالنحو المزبور،
بل كانت الذوات متعلقة للأمر في حال انضمامها إلى القيد بلا اطلاق ولا تقييد،
يكفي في مصلحة الأمر صرف المصلحة القائمة بالذوات المقيدة ضمنا، غاية
الأمر إباء الأمر عن التقييد أوجب قصره بنفس الذات بنحو قيام المصلحة
الضمنية به من الذات المهملة التوأم مع القيد لا مطلقا ولا مقيدا، كما لا يخفى.
ومن هذا البيان ظهر فساد خيال آخر وهو أن المصلحة المستقلة القائمة
بالذات لا يحصل بمجرد اتيان الذات بلا قربى نظرا إلى عدم كون الاتيان
بالذات علة لحصوله بل كان مقتضيا.
وتوضيح فساده بأن عدم حصول المصلحة القائمة بنفس الذات ان كان
243

من جهة ملازمته في الوجود مع المصلحة القائمة بالقربية فمرجعه إلى عدم قيامها
بالذات مطلقا بل به توأما مع القربة.
وحينئذ تكفيه المصلحة الواحدة القائمة بالمجموع بلا احتياج إلى
مصلحة أخرى لان مصلحة كل مقيد ومركب قائمة بنفس الذوات التوأمة في
الوجود مع غيره كما شرحنا.
وبالجملة نقول: إن في العبادات والتوصليات ليس إلا مصلحة واحدة
غاية الأمر في التوصليات قائمة بالذوات المطلقة ولذا [تكون] الإرادة القائمة به
[مطلقة] وإن لم يكن الخطاب به كذلك لعدم انفكاكه عن الدعوة كما هو شأن
كل أمر مولوي، بخلافه في التعبديات حيث إن المصلحة قائمة بالمقيد المستتبع
لتقطيع الإرادة بقطعة قائمة بنفس الذات وقطعة أخرى قائمة بالقيد. والعمدة
في التقطيع المزبور عدم امكان أخذ القيد في حيز الخطاب كما هو ظاهر.
وبعد هذا البيان يتضح تقرير حكم العقل بالاشتغال بأن خروج العهدة
عن بقاء الأمر في المقام وكذا من بقاء الأمر بالأقل في باب الأقل والأكثر ليس
إلا باسقاط أمرهما المنوط باتيان ما في عهدة المأمور من حصة من الذات المهملة
التوأم مع المشكوك على فرض دخله، وبديهي أنه لا يحصل الجزم به إلا باتيان
المشكوك.
ومن هنا ظهر بطلان توهم ثالث من أوضحية التزامه في المقام عن التزامه
في الأقل والأكثر إذ ذلك كله مبني على زعمه السابق من تعدد المصلحة والجعل
في المقام دون الأقل والأكثر.
إذ بعد وضوح فساد المبنى يتضح فساد هذا الخيال أيضا، ويظهر بأن مناط
الاشتغال أو البراءة في البابين واحد بلا فرق بينهما أبدا كما بينا.
وحينئذ العمدة في المقام دفع الشبهة التوأمية في البابين فنقول وعليه
التكلان:
244

أولا ان المراد من الحصة المستعملة في لساننا:
تارة يراد منه مرتبة من الطبيعي المغايرة للمرتبة الأخرى المسماة بحصة
أخرى كالحصص الموجودة في ضمن الأفراد للكلي المتواطي.
وتارة يراد مرتبة من الطبيعي معينة بنفس ذاته ولكن مقيدة بالوجدان
لغيره قبال هذه المرتبة [بعينها] المطلقة الشاملة للأعم من الواجد للقيد أو فاقده.
ومن المعلوم ان هذه الحصة [لا تكاد تتغير عما عليها] من الحدود الذاتية
لها ولا مما به قوام كونها مرتبة من الطبيعي، وانما [تتغير] بفقدان القيد ووجد انه
جهاتها العرضية الخارجة عن ذاتها بخلاف الحصص الموجودة في ضمن أفراد
المتواطي فإنها بفقد قيدها ينقلب مرتبة الطبيعي بمرتبة أخرى بلا انخفاظ
المرتبة المخصوصة في الواجد بالنسبة إلى الفاقد.
وحيث اتضح ذلك نقول:
مرجع اشتغال الذمة بالحصة التوأمة مع القيد مجئ ذات الحصة
بخصوصياته وحدوده في الذمة.
ومرجع اطلاق هذا الذات مجئ نفسه في الذمة بلا اقترانه بشئ آخر.
وحينئذ فمع الشك في دخل القيد في الغرض يشك بان ما في العهدة هو
نفس الذات فقط أو هو مع القيد. والعقل لا يحكم بالفراغ إلا عما اشتغلت الذمة
به يقينا. والمفروض عدم التعين بمجئ العهدة أزيد من هذا الذات.
واحتمال [توأميته] مع غيره لا يوجب تغييرا في ذاته وحدود نفسه وإنما يوجب
احتمال مجئ شئ آخر في عهدته أزيد من هذا الذات.
وهذا الاحتمال لا يكون مورد حكم العقل بالفراغ لعدم تمامية بيانه.
كما أن احتمال عدم سقوط التكليف المستند باحتمال دخل القيد في
الواجب أيضا لا يكون مما يعتني به العقل; إذ مرجع عدم سقوط التكليف حينئذ
إلى ملازمة التكليف بالذات مع التكليف بالقيد الذي ما تم له البيان.
245

ومعلوم أن هذه الملازمة أيضا ليس مورد اهتمام العقل بتحصيله مع الشك
به.
ولازمه عدم اهتمام العقل بالشك بالسقوط المستند إلى الشك بالملازمة
المزبورة، وإنما همه تحصيل الجزم بالسقوط عما جاء في عهدة المكلف، وهو ليس
أزيد من الذات محضا.
ولئن شئت قلت: بأن مجرد سقوط التكليف واقعا ليس هم العقل وإنما همه
سقوط ما أوجب التكليف مجيئه في عهدة المكلف وفي المفروض في المقام وباب
الأقل والأكثر ما أوجب التكليف إلا مجئ الذات، والمفروض أنه يأتي بحدوده
الذاتية كما لا يخفى. فالزايد من القيود المشكوكة ليس إلا [تحت] البراءة الأصلية
والله العالم.
246

المقالة السادسة عشر
المرة والتكرار
247

[المقالة السادسة عشرة]
ان صيغ الأوامر هل تقتضي الاتيان بالمأمور به مرة؟
أو [تقتضي] تكرارا، أو [لا تقتضي] شيئا منهما، بل العقل حاكم بالاكتفاء
بالمرة في مورد وعدمه أخرى ولو من جهة اختلاف المراد من الصيغ حسب
اختلاف المقامات؟.
المشهور هو الأخير وأظن ارجاع الأولين إليه أيضا بملاحظة نظر كل
طائفة إلى اقتضاء الصيغ في مورد معنى لا يحكم العقل فيه إلا بالاكتفاء بالمرة وفي
مورد آخر يقتضي معنى لا يحكم العقل إلا اتيانه مكررا، غاية الأمر أخطأوا في
تسرية ما فهموه على طبق مرامهم في كل مورد والتزموا بما التزموه على الاطلاق،
والا ففي غاية البعد منهم أخذ القيدين في مدلول الصيغ مع إباء [مادتها وهيئتها]
عنه كما لا يخفى. وبالجملة نقول:
إن الظاهر من العنوان كون المراد من القيدين الدفعة والدفعات
لا الوجود والوجودات.
وعلى اي تقدير [لا ترتبط] المسألة بباب تعلق الأمر بالطبيعة أو الأفراد
بخيال انه من تبعات تعلق الأمر بالفرد فإنه حينئذ ينازع بأن المراد فرد واحد
أو الافراد، إذ على تقدير كون المراد الدفعة والدفعات الأمر واضح لملائمته
مع تعلق الأمر بالطبيعة أيضا.
249

كما أنه بناء على المعنى الآخر أيضا يجئ هذا النزاع على الطبيعة
بملاحظة قابلية الطبيعة لوحدة الوجود وتكرره الآبي عن دخل الخصوصية في
المطلوب، وهذه الجهة غير مرتبطة بعالم الفرد الملازم لدخل الخصوصية الفردية في
متعلق طلبه.
كما أن هذا البحث غير مرتبط بالبحث الآتي من اقتضاء الأمر للإجزاء
وعدمه، إذ البحث الآتي في أن كل مطلوب يقتضي الاجزاء أم لا؟ وهذا البحث
في أن المطلوب اي مقدار؟ ولا يرتبط أحدهما بالآخر. وكيف كان نقول:
إن عمدة نظر القائل بالمرة إلى الأمر بالموقتات في وقتها والأمر بالحج
وأمثالها حيث لا يجب إلا مرة، ونظر القائل بالتكرار إلى الأمر بالصلاة بلحاظ
الأيام، وصوم رمضان بلحاظ السنوات وأمثالها ولا يكاد يطرد كلام كل واحد في
كل مورد.
وجواب كل واحد معلوم من امكان كون المراد من الصيغة بمادتها صرف
الطبيعة في الأول الملازم لحكم العقل بالاكتفاء بالمرة وكون المراد في الثاني من
المادة الطبيعة السارية الملازم عقلا لعدم الاكتفاء بمرة واحدة، بلا كون المرة في
الأول ولا التكرار في الثاني مأخوذا في مدلول الصيغة.
ومن هذه الجهة ذهب المشهور إلى عدم أخذ واحد من القيدين في مدلول
الصيغة وانما هما من تبعات حكم العقل في أخذ المادة صرف الطبيعة أو الطبيعة
السارية.
ومن هنا نقول: إن طبع مقدمات الحكمة أيضا يقتضي كون المراد من
المادة صرف الطبيعة إلا إذا كان في البين قرينة - ولو بمثل مناسبة الحكم مع
الموضوع - [على] كون المراد الطبيعة السارية.
ومن هذه الجهة ربما تقول: إن الأصل في الأوامر الاجزاء بالمرة إلى أن
يثبت الخلاف.
250

نعم في المقام اشكال آخر وهو: ان هذا الأصل ربما انقلب في النواهي
الشرعية النفسية حيث إن الأصل فيها كون المراد من مادتها الطبيعة السارية
بشهادة عدم سقوط النهي بالعصيان. وحينئذ يبقى مجال السؤال عن الفرق بين
الأمر والنهي بأنه: لم صار الأصل في الأمر المرة وفي النهي التكرار؟.
وقد يجاب بأن مناسبة المفسدة للطبيعة السارية والمصلحة لصرف الطبيعة
أوجب الفرق بينهما. وهو كلام ظاهري لالتيام كل من المصلحة والمفسدة لكل
نحو من الطبيعة.
والأولى أن يقال: إن طبع اطلاق المادة في المقامين وان كان مقتضيا
لموضوعية صرف الطبيعة ولكن اطلاق الهيئة بمفادها يقتضي سعة الطلب أو
الزجر المناسب قيامهما بالطبيعة السارية.
وعمدة النكتة الفارقة بين الاطلاقين هو ان الاطلاق في طرف المادة إنما
يجري في طرف موضوعية الحكم وهو منحصر [بما] قبل وجوده.
فمركز هذا الاطلاق ليس إلا نفس الطبيعة.
وبديهي أن سعة الطبيعي إنما هو بسعة قابليته للانطباق على أي مرتبة
من وجودها قليلا كان أو كثيرا.
ولذا لا يقتضي هذا الاطلاق إلا قابلية وجودها في ضمن فرد واحد، فلذا
يجتزي العقل من قبل اطلاقه بفرد واحد.
وهذا بخلاف الاطلاق في مدلول الهيئة إذ اطلاقه إنما يجري في الطبيعة
المنطبقة على الوجود وفارغا عن انطباقه.
وحينئذ مركز هذا الاطلاق الطبيعة الموجودة.
ومعلوم ان سعة الطبيعة الموجودة بسعة وجودها والطلب بهذه السعة
لا يناسب تعلقه بصرف الطبيعة القابلة للانطباق على وجود واحد، إذ الوجود
الواحد غير متحمل لسعة الطلب إلا من حيث الشدة لا حيثية [أخرى]
251

فالمناسب للسعة حتى من الحيثية الأخرى ليس إلا الطبيعة السارية، وحيث
[إن] الأمر كذلك فنقول:
لازم الاطلاقين وقوع تزاحم بين مدلولي الهيئة والمادة، وعليه فنقول: إن
المادة لما [كانت] في عالم الخارج معلول الهيئة فيحسب قهرا من تبعاتها ولا ينظر إلى
موضوعية المادة في عالم لحاظه كي [تصير] الهيئة من تبعات المادة.
ومقتضاه حينئذ تقديم اطلاق الهيئة وكشف الطبيعة السارية من المادة إلا
إذا كان في البين محذور آخر وحينئذ نقول:
إن تقديم الهيئة على المادة في النواهي مما لا محذور فيه للقدرة على التروك
بقول مطلق فلا يرى العقل محذورا في الترجيح المزبور.
وهذا بخلاف الأوامر فان محذور وقوع المكلف فيما [لا يطاق] من أعظم
المحاذير،
ولذا صار المرتكز في الأذهان تقديم اطلاق المادة فيها على الهيئة للمحذور
المغروس في الذهن، بل وربما يؤخذ باطلاق الهيئة أيضا فيها فيما لا محذور فيه،
ولذا ربما يختلف أيضا دلالة الأمر على مطلوبية الطبيعة السارية أو صرف الوجود
حسب اختلاف المقامات كما لا يخفى.
وبعين هذه النكتة أيضا ربما نستفيد في كثير من المستحبات أيضا الطبيعة
السارية المستلزم لتقديم الهيئة فيها على المادة لعدم المحذور المزبور فيها كما
لا يخفى.
ولنا في المقام بيان آخر - في وجه التفرقة بين الأوامر والنواهي - لعله أمتن
من البيان السابق وهو:
ان لفظ المادة بعدما كان موضوعا للطبيعة المهملة وبينا أيضا أن الطبيعة
المهملة لا يكون لها وجود مستقل بل هو معنى محفوظ في ضمن صور متعددة: من
صرف الطبيعة الساذجة، أو المخلوطة بقيد زائد داخلي مثل سريانه في ضمن
252

أفراده، أو خارجي كسائر قيوده من مثل قيامه وقعوده،
وإذا فرض اقتضاء مقدمات الحكمة كون ما هو مدلول اللفظ تمام
الموضوع لازمه قيام تمام الحكم الشخصي بما هو مدلول اللفظ.
وحينئذ بعد ما كان هذا المدلول في ضمن صور متعددة فإن كان الحكم
المزبور ايجابيا مقتضيا لوجود موضوعه فمع صدق الموضوع مع الطبيعة الساذجة
الصادقة على وجود واحد العقل يجتزي بامتثاله في ضمن أول الوجودات، إذ
بوجوده يصدق تحقق الطبيعة المهملة المحفوظة في ضمن صور عديدة القابلة
للانطباق على الطبيعة الساذجة أيضا.
وبعد تحقق أول وجودها يسقط الطلب لفرض تحقق تمام موضوعه. وان
كان الحكم المزبور سلبيا مقتضيا لإعدامها فلا شبهة في أن اعدام الطبيعة المهملة
بإعدام جميع صورها.
ومن الصور الطبيعة السارية، ومعلوم ان اعدام الطبيعة السارية لا
يكون الا باعدامها ولو بعد وجودها، ولذا لا يسقط النهي بعد عصيانه.
وحينئذ عمدة وجه التفرقة بين المقامين بعد اشتراك الطرفين في التعلق
بالطبيعة المهملة وان تمام الموضوع هذه الطبيعة المحفوظة في ضمن الصور:
ان الحكم الايجابي لا يقتضي إلا وجود هذه الطبيعة والعقل حينئذ يكتفي
ولو [بوجودها] في ضمن احدى الصور التي منها الطبيعة الصرفة الساذجة
القابلة للانطباق على أول الوجودات.
والحكم السلبي لا يقتضي إلا ترك هذه الطبيعة المهملة المحفوظة في
ضمن صورها، وترك هذه الطبيعة لا يكون إلا بترك جميع صورها في الخارج الذي
من جملتها الطبيعة السارية الملازمة لترك الطبيعة ولو بعد وجودها، إذ لو لم يترك
لما صدق حينئذ ترك الطبيعة المحفوظة في ضمن الطبيعة السارية أيضا، إذ
لا يصدق ترك الطبيعة السارية إلا بترك افرادها المتعاقبة.
253

وحينئذ فعمدة المحذور في وجه الفرق وعمود الاشكال في التسوية بين
الأمر والنهي خيال تعلق الأمر والنهي بالطبيعة الصرفة قبال السارية فإنه لا يبقى
حينئذ مجال فرق بينهما، إذ الموضوع في المقامين لو كان خصوص الطبيعة الصرفة
لا محيص من سقوط النهي أيضا بأول وجودها لصدق وجود تمام موضوع المبغوض
بمجرد ذلك، فلا يبقى حينئذ مجال لمبغوضية وجود الطبيعة بعد وجودها لعدم
قابلية الطبيعة الصرفة للانطباق بعد الانطباق.
وأما لو جعل مركز الأحكام الطبيعة المهملة المحفوظة في ضمن الصور
المزبورة فالتفرقة بين المقامين في غاية الوضوح.
ومن التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا مطلب آخر وهو ان نتيجة مقدمات
الحكمة في الأمر أيضا ليس مطلوبية صرف الوجود الذي [هو] معنى اللابشرط
القسمي بل النتيجة مطلوبية الطبيعة المهملة القابلة للانطباق على الصرف أيضا
وبهذه الجهة يقنع العقل في امتثاله المستتبع لسقوطه بوجود واحد.
كما أن نتيجة مقدمات الحكمة في النواهي أيضا ليس إلا مبغوضية الطبيعة
المحفوظة في جميع الصور الذي من جملتها الطبيعة السارية، والعقل في امتثال
النهي وكذا في عصيانه لا يقنع بترك مجرد أول وجود الطبيعة بل يحكم بلزوم ترك
الطبيعة السارية أيضا المستتبع لعدم سقوط المبغوض بصرف العصيان بأول
وجوده كما لا يخفى. [وستأتي] - ان شاء الله - تتمة الكلام في باب المطلق والمقيد
عند تشكيل مقدمات الحكمة، وليكن ذلك في ذكرك إلى أن يجئ محله.
254

المقالة السابعة عشر
الفور والتراخي
255

[المقالة السابعة عشرة]
[في الفور والتراخي]
هل الأمر بصيغته يقتضي فورية ايجاد المطلوب؟
أو يقتضي تراخيه أو لا يقتضي شيئا منهما؟
وجوه: أخيرها هو المشهور بين الأصحاب.
ولا يخفى ان نظر القائل بالفورية والتراخي ليس إلى دخل الزمان في
مدلول الهيئة، كيف وهو معترف بعدم دلالة صيغ الأمر على الزمان، بل هو
مساوق للتعجيل في الوجود المتصور أحيانا في المجردات الخارجة عن الزمان،
بل وفي نفس الزمان أيضا.
كما أنه يمكن ان يدعى أيضا بعدم نظرهم إلى أخذ القيدين في مدلول
الصيغة، كيف والصيغ آبية عن أخذ جهة زائدة عن مدلول المادة من الطبيعة،
والهيئة من إرسال الفاعل إلى المبدأ في مدلولها.
بل تمام النظر إلى أن المستفاد من الصيغ معنى يلازم حكم العقل بالتعجيل
في الامتثال، أو يلازم التراخي وعدم التعجيل، أولا يلازم شيئا منهما؟ بتوضيح:
أن القائل بالفورية يتخيل بأن الأمر باقتضائه طلب المولى علة تامة
تشريعية لوجود المادة، وشأن العلة عدم [انفكاكها] عن المعلول، ولازمه حكم
العقل بلزوم تعجيل العبد في امتثاله.
257

والقائل بالتراخي يتخيل بأن المادة غالبا يحتاج إلى مقدمات موجبة لعدم
كون الأمر علة تامة لوجود المادة بل هو [أحد] المقتضيات المستتبعة لتهيئة العبد
لبقية المقدمات الملازمة قهرا للتراخي المادة في الوجود.
والقائل بعدم الاقتضاء ناظر إلى أن علية الأمر ليس إلا بملاحظة دعوته
إلى متعلقه وبمقدار اقتضاء الدعوة ينتزع عنه العلية، ومن المعلوم أن الأمر إذا
تعلق بالجامع بين الأفراد الفعلية والآتية فلا يدعو إلا إلى هذا الجامع والعقل
أيضا لا يحكم إلا بايجاد الجامع بلا تعيينه في خصوص الأفراد الفعلية، ومقتضاه
ليس [إلا] حكمه بالتخيير بين الأفراد العاجلة والآجلة، ومنه ينتزع أيضا علية
الأمر لمثل هذا التخيير لا لتعين الأفراد العاجلة، أو لايجاد الطبيعة في ضمنها
بخصوصها كما لا يخفى.
وعليه فالتحقيق ما ذهب إليه المشهور.
كما أن الأمر بالاستباق والمسارعة أيضا ليس إلا ارشادا إلى حكم العقل
بحسن التعجيل إلى تحصيل الخير والفراغ من عهدة التكليف بلا [اقتضائهما]
لزوم فورية الايجاد.
بل منهما ربما يستفاد صدق المغفرة والخير مع التأخير أيضا. وهذا مساوق
عدم اقتضاء الأمر تعيين الفورية، وإلا [تعين] الخير فيه ومعه لا معنى للأمر بالاستباق
إلى الخير مثلا. فتدبر.
258

المقالة الثامنة عشر
الاجزاء
259

[المقالة الثامنة عشرة]
[في الاجزاء]
أن اتيان المأمور به هل يقتضي الاجزاء أم لا؟
وقد يقيد العنوان [بقيد] " على وجهه ".
وفسر الوجه بالنهج الذي ينبغي أن يؤتى بما أمر.
وعمدة نظره فيه إلى ادخال العبادات في العنوان بخيال أن خروج القربة
الدخيلة في سقوط الأمر والاجتزاء به عن متعلق الأمر يوجب قصور صرف
اتيان المأمور به عن الاجتزاء به لعدم كون اتيانه على النهج الذي ينبغي أن يؤتى
به.
ولكن لا يخفى أن ذلك مبني على كون الأمر - بواسطة عدم تقييده
بالقربة - متعلقا بذات العمل على الاطلاق بخيال أن عدم تقييد الموضوع بأي
شئ يقتضي اطلاقه من هذه الجهة.
ولكن قد تقدم في المبحث السابق فساد هذا الخيال. كيف! وتعلق الأمر
الضمني بكل جزء لا يكون موضوعه إلا ذات الجزء بلا كونه مقيدا بجزء آخر،
ومع ذلك لا يكون مطلقا بحيث يشمل طلبه حال فقد الجزء الآخر.
وبمثل هذا البيان نقول في كل موضوع بالنسبة إلى محموله، بل ونمشي
بمثله في المقدمة الموصلة.
وهكذا في المقام حيث بينا سابقا أن متعلق الأمر في المقام بعد ما لم يكن
مقيدا لا يكون مطلقا أيضا، بل هو حصة من الذات التوأم مع القربة لعدم
261

اقتضاء المصلحة الضمنية القائمة بالذات أزيد من ذلك.
وحينئذ فلو أتى بالذات بلا قربة ما أتى أيضا بالمأمور به فلا يشمله
العنوان كي يحتاج إلى القيد المزبور، بل لا يشمل العنوان له إلا إذا أتى بالذات
مع القربة كما هو ظاهر.
وحينئذ فتجريد [الذات] عن القيد المزبور أولى لعدم فائدة فيه إلا
التوضيح.
ثم إن ظاهر العنوان خصوصا بملاحظة اسناد اقتضاء الاجزاء إلى
الاتيان كون محط النظر الاقتضاء في عالم الثبوت عقلا ولو من جهة ظهور
الخطاب في معنى يلازم عقلا ذلك
لا أن مثل هذا المعنى مأخوذ في مدلول الصيغة - كما اخترناه نظيره في
البحثين السابقين أيضا - كيف! وقد عرفت أن مدلول الصيغ بمادتها وهيئتها
آبية عن أخذ هذه المعاني فيها.
ففي الحقيقة مرجع النزاع إلى أن مدلول الخطاب ولو من حيث السياق
كون المادة علة تامة لسقوط الغرض منه أو من غيره أم لا؟.
فعلى الأول يستقل العقل باجزائه عنه وعن غيره، بخلافه على الثاني.
ومنه يظهر أيضا أن المراد من الاجزاء هو الكفاية عن نفسه وعن غيره
لا عن خصوص نفسه.
ومعنى الكفاية اقتضاؤه سقوط الأمر به ثانيا في وقته أو خارجه قبال عدم
[كفايته]، المراد به عدم سقوط الأمر به ولو من غيره.
ومن ذلك اتضح عدم مساس هذه المسألة بمسألة اقتضاء الأمر للمرة أو
التكرار إذ اقتضاء التكرار بملاحظة أمر جديد لابقاء الأمر الأول. كما أن
اقتضاء المرة أيضا بملاحظة قصور طلبه عن الشمول لأزيد من وجود واحد،
لا من جهة علية اتيانه لسقوط غرضه بل وغرض غيره.
262

وحيث اتضح مثل هذه الجهات فنقول:
ان الكلام تارة في اقتضاء كل أمر للاجزاء عن نفسه.
وأخرى في اقتضاء الاضطراري منه أو الظاهري للاجتزاء عن الأمر
الاختياري أو الواقعي.
فهنا مقامات ثلاثة:
المقام الأول في اجتزاء كل أمر واقعيا أم ظاهريا اختياريا أم اضطراريا
عن نفسه. فنقول:
لا شبهة في أن طبع الأمر بكل شئ كونه علة تامة لسقوط الغرض
الداعي [إلى] هذا الأمر. إذ لو لم يسقط الغرض [باتيانه] محضا يكشف ذلك عن
دخل شئ آخر في سقوطه.
ولازمه كون المأمور به بنفسه غير واف بغرضه، ومرجعه إلى كون وفائه
في [ظرف] الانضمام بغيره لا مطلقا.
ومع هذا الضيق في الوافي بالغرض يستحيل تعلق الأمر به على الاطلاق،
لأوله إلى تعلق الأمر بالوجود ولو في حال عرائه عن المصلحة وهو كما ترى.
ولذلك قلنا بأن الأمر المتعلق بالعبادة لا يكاد يتعلق بالذات مطلقا بعد
عدم امكان تقييده بالقربة، بل إنما يتعلق بالذات التوأم مع القربة لا مطقا
ولا مقيدا.
وحينئذ يستحيل الأمر بالذات على الاطلاق إلا في فرض استقلاله في
الوفاء بالغرض.
ومع استقلاله كذلك - الذي لازمه عدم دخل شئ آخر في الوفاء
بالغرض - لازمه كون المأمور به تمام العلة في حصوله. ومع تمامية علته يستحيل
عدم سقوط الغرض بحصوله على الاطلاق.
نعم قد يحصل من الغرض الأصلي غرض آخر تبعي ناش عن فعل
263

العبد على الاطلاق، ولكن هذا الغرض التبعي غير واف بالغرض الأصلي بلا
واسطة بل هو شرط حصول مقدمة أخرى من قبل الآمر والمولى باختياره
الخارج عن اختيار العبد بحيث هو كان وافيا بالغرض الأصلي بلا واسطة.
ففي هذه الصورة لا شبهة في ترشح إرادة المولى إلى فعل العبد بمناط
[مقدميته] للغرض الذي هو أيضا مقدمة لاختيار المولى.
وحيث إن المختار ان الإرادة [المقدمية] مخصوصة بالمقدمة الموصلة فلا
يكاد يترشح الإرادة نحو عمل العبد إلا في ظرف ايصاله إلى ذيها، ولازمه
اختصاص تعلق الإرادة بعمل العبد بصورة [تترتب] المقدمة الأخرى عليه.
وحينئذ لو كان لعمل العبد فردان وكان كل واحد وافيا بالغرض التبعي
الملازم لكون الغرض المزبور قائما بجامع بين الفردين على وجه للمولى اختيار
أيهما في [ظرف] تمكنه من اختياره لا محيص حينئذ من اختصاص إرادة المولى
بخصوص ما اختاره من الفردين ولا يكاد يتعلق بما لا يختاره ولو كان هو أول
الوجودين، إذ غاية ما في الباب أن أول الوجودين [واف] قهرا بما هو غرض
تبعي، ولكن بعد فرض عدم كون هذا الغرض تحت الإرادة اللزومية على
الاطلاق بل ما هو مشمول إرادة المولى ما يترتب عليه [ذوها] [فما لم] يترتب عليه
اختيار المولى يستحيل ان يقع تحت الإرادة حسب الفرض، فلا جرم يخرج هذا
الفرد عن حيز الإرادة و [تختص] الإرادة بخصوص ما اختاره المولى.
وحينئذ ليس للعبد في [ظرف] بنائه لاتيان الفردين أن يأتيهما بداعي
الإرادة الجزمية بكل منهما، بل لابد وأن يأتي بأي الفردين رجاء لكونه مختار مولاه
كي يكون مرادا له.
نعم له أن يقتصر بفعل واحد ويأتيه عن الجزم بكونه مرادا، لأنه مع
اقتصاره بفرد واحد يجزم بأنه المختار قهرا، ولا يحتمل في هذه الصورة عدم
اختياره كيف! ولازمه انصراف المولى عن أصل غرضه اللزومي وهو خلاف الفرض.
264

نعم بعد اتيانه الفرد الأول عن جزم، له أيضا أن يبدو ويأتي أيضا بفرد
آخر رجاء لا جزما.
وعلى اي حال لا يعقل أن يأتي بالفرد الثاني عن جزم إلا مع جزمه باختيار
مولاه ذلك. وإلا فمهما احتمل في كل واحد من الفردين اختيار مولاه غيره ليس
له الجزم بكونه مرادا لمولاه.
فظهر من هذا البيان أيضا بطلان توهم الامتثال عقيب الامتثال واقعا
بل لا يكون الامتثال الواقعي إلا بما هو واف بغرض المولى رأسا، والمفروض أن
ما هو كذلك في مثل الفرض ليس إلا ما اختاره المولى بخصوصه دون غيره، بل
ولو أتى بكل منهما رجاء أيضا لا يكون الامتثال الواقعي إلا بما اختاره المولى
واقعا، وأما غيره فليس الا انقيادا صرفا.
ومن هذا البيان ظهر حال المعادة في باب الصلاة وأنه من هذا الباب وأنه
مصداق ما ذكرناه من الفرض بقرينة قوله صلى الله عليه وآله: " يختار الله أفضلهما ". (1)
ولئن شئت توضيح المرام وتطبيق باب المعادة على المقام فاسمع بأن
الغرض الداعي على الأمر بالصلاة هو حصول التمكن من اختياره الدخيل في
الوفاء بغرضه ولازمه - كما أسلفناه - اختصاص ارادته بخصوص ما اختاره عند
تعدده لا مطلقا.
[ونظيره] في العرفيات أيضا أمر المولى باحضار الماء لديه فيأتي العبد
بالمائين مقدمة لاختياره إياه، فيختار أصفاهما. ومثل هذا المعنى أجنبي عن
الامتثال عقيب الامتثال.
وعلى اي حال ظهر أيضا أن باب المعادة أجنبي عن قيام أول الوجودين
بالمصلحة الملزمة وثانيهما بمصلحة غير ملزمة، إذ مثل هذا المعنى لا يناسب

(1) وسائل الشيعة 5: 456، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 10، مع اختلاف يسير.
265

[اختيار] الله أفضلهما إذ لو فرض كون ثاني الوجودين هو الأفضل فهو المختار
لأمره الايجابي دون الأول، ولو كان الأمر كما ذكر يلزم سقوط ايجابه به قهرا،
فلا معنى لاختياره الثاني الأفضل في تحصل مرامه الوجوبي - كما هو الظاهر من
هذا البيان.
ولذا نقول بأن مع الجزم بأفضلية كل واحد له ان يأتي بداعي الأمر
الايجابي - كما أشرنا - فالمراد من قوله يختار أفضلهما انه يختار أفضل ما أمر به
وجوبا، لا انه يختار [ذا فضيلة] غير واجبة، ولذا كان بناؤهم على اتيان الثاني
أيضا بداعي الأمر الوجوبي، غاية الامر نحن نقول بأنه كذلك مع الجزم
بالأفضلية، وإلا فمع احتماله فلا بد وأن يكون برجاء الأمر الوجوبي لا جزمه.
وعلى أي حال لا يخرج عن دعوة الأمر الوجوبي إما جزما أو رجاء.
نعم توهم الجزم به مطلقا ليس في محله - كما لا يخفى - ولا أظن ذلك أيضا
من الأعاظم السابقين - كما لا يخفى -.
فان قلت: بناء على هذا لا معنى لاستحباب المعادة لان المفروض ان
ما يقع امتثالا لامره الوجوبي ليس إلا الفرد المختار وان الفرد الآخر [غير]
الأفضل خارج عن دائرة الأمر رأسا وان الغرض القائم بكل واحد من الفردين
أيضا ليس إلا تبعا للغرض الأصلي المقصور مطلوبيته بخصوص المختار دون
غيره. ولازمه حينئذ أنه لو فرض الأفضل [أول الوجودين] أين [تبقى] مطلوبية
للثاني كي [تكون] المعادة [راجحة] على الاطلاق الشامل لصورة عدم
أفضليته؟.
قلت: ذلك المقدار أيضا لا يقتضي الالتزام بوجوب خصوص أول
الوجودين وأن الثاني ممحض في الوفاء بالمصلحة غير الملزمة ولو كان أفضل، كما
هو لازم التوهم المزبور.
بل من الممكن الجمع بين الجهتين من وفاء الثاني بالمصلحة الملزمة عند
266

كونه [الأفضل] المختار ومع ذلك كان نفس وجوده راجحا حتى مع عدم اختياره
إلا الأول الأفضل، بدعوى أن الغرض من عمل المكلف بعد ما كان إقدار
المولى على اختياره ربما يكون توسعة الإقدار للمولى بتوسعة اختياره أيضا
مرغوبا لدى المولى، وان كان الوافي بغرضه اللزومي ليس إلا إقدار ما تعلق به
اختياره. ففي مثل هذا الغرض يجمع بين وقوع الثاني واجبا عند أفضليته
ومستحبا عند [عدمها]، كما لا يخفى.
ثم إن من التأمل في ما ذكرنا ظهر أن باب المعادة ليس من باب كون
المصلحة مقتضية للإرادة، بل من باب أن المأمور به بجامعة علة للقدرة التي هي
الغرض التبعي الناشئ عن الغرض الأصلي، وهذا الغرض التبعي متعلق
للإرادة في فرض اختيار المولى لمورده دون غيره وان كان توسعة القدرة والاختيار
للمولى أيضا [أمرا مرغوبا] في نفسه، بل في كلية المقامات لا يتصور اقتضاء
المصلحة مع فعلية الإرادة إذ مع وجود المانع لا يعقل تأثيره في فعلية الإرادة ومع
عدمه فيكون المقتضي علة تامة للتأثير لا مقتضيا محضا.
وكيف كان نقول: مهما كان العمل وافيا بالمصلحة الفعلية الداعية للأمر
سواء كان تمام المؤثر أو جزأه المنضم إليه فمجرد اتيانه موجب لسقوط غرضه
وأمره من دون فرق في ذلك بين باب المعادة وغيره.
وخلاف الجبائي الأشعري [غير] القائل بالمصالح والمفاسد وان امره
تعالى ونهيه تحت حيطة سلطانه فينهى بما يريد ويأمر بما يشاء ويبقى امره ولو مع
اتيان عبده ما امر به، وربما يرفع امره عما أمر به بلا تغيير في موضوع أمره إنما
يناسب مذهبه الفاسد وزعمه الكاسد.
وربما يلتزم بما هو أعظم من ذلك ولقد تقدم شطر من كلامهم في مسألة
الطلب والإرادة وعرفت هناك وجه فساد خيالهم وبطلان مقالهم ولا يستأهل هنا
ردا زائدا عما ذكر هناك فراجع.
267

وحينئذ ما ربما يصلح أن يقع موردا للبحث والجدال المقامان الآخران من
اقتضاء الأوامر الاضطرارية الاجزاء عن الأمر الاختياري أو الظاهري بالنسبة
إلى الأمر الواقعي وحينئذ هنا مقامان:
المقام الأول:
في اقتضاء الأوامر الاضطرارية الاجزاء عن الاختيارية
فنقول: قبل الخوض في أصل المسألة يقتضي طي أمور:
أحدها: ان وجه الاجزاء في المقام تارة من جهة وفاء الاضطراري بتمام
غرض المختار.
وأخرى من جهة كونه ملازما لفوت الزائد من مصلحة الاختياري بنحو
لا يمكن تحصيله مطلقا.
ومن لوازم الأول عدم حرمة تفويت الاختيار ولو من جهة عدم دخل
الخصوصية الاختيارية في أصل الغرض بل الغرض حينئذ قائم بالجامع بين الفعل
الاختياري وغيره وأن الاختيارية والاضطرارية [دخيلتان] في تشخصات الطبيعة
في الخارج لا [أنهما دخيلتان] في المأمور به مولويا.
وهذا بخلاف الفرض الأخير فإنه ملازم لكون الاختيارية بخصوصها
متعلق للأمر، المستتبع لوجوب حفظ الاختيار مهما أمكن، الملازم لحرمة تفويته.
وعلى كلا التقديرين في مقام تسرية النزاع إلى الاجزاء عن الإعادة في
الوقت لا بد من فرض طرو الاختيار في الوقت وإلا فمع بقاء الاضطرار إلى آخر
الوقت لا يبقى مجال لهذا البحث كما لا يخفى.
ثانيها: ان الاجزاء على الوجه الأول يقتضي خروج خصوصية الفعل
الاختياري والاضطراري عن حيز الطلب المولوي بجميع مباديه حتى مرحلة
ترخيصه في اتيانه، بل أمر ترخيصه موكول بيد العقل، كما هو الشأن في جميع
موارد الأمر بالجامع بالقياس إلى أفراده.
268

وأما الاجزاء على الوجه الأخير فلا شبهة في كونه ملازما لتعلق الأمر في
الاختياري بخصوصه كما أشرنا، كما أن لازمه أيضا تعلق الترخيص المولوي أيضا
بخصوص الاضطراري. كيف؟.
ولولاه لا يرخص العقل باتيانه لان اتيانه موجب لفوت غرض المولى،
ومعه لا يرخص العقل باتيانه وان كان المكلف لو أتاه يكون صحيحا بمناط
[المصادقة] (1) للمأمور به.
فنحن لا نقول إن اجزاءه بهذا المناط منوط بالترخيص، بل نقول إن
ترخيص العقل في الاقدام به منوط بترخيص الشارع إياه بخصوصه.
وحينئذ فلو كان الأمر متعلقا بالفعل الاضطراري بخصوصه لا وجه لرفع
اليد عن تعلق الأمر ولو ببعض مباديه عن الخصوصية.
بخلاف ما لو لم نقل بالإجزاء فإنه لا محيص من رفع الأمر عن الخصوصية
بجميع مباديه، لاستقلال العقل بترخيص مثله لأنه طرف التخيير بالنسبة إلى
مرتبة الغرض الناقص، كما هو الشأن لو قلنا بالإجزاء بالمناط الأول فإنه حينئذ
طرف التخيير بالنسبة إلى [الغرض] الكامل كما هو ظاهر.
ثالثها: ان أدلة الاضطراري من حيث الشمول لصورة طرو الاختيار في
الوقت ربما [تختلف]، فكلما كان بلسان عمومات نفي الاضطرار من مثل حديث
الرفع وما ورد في باب التقية من عموم حلية كل شئ اضطر إليه [بنو] آدم فلا
شبهة في كونها ناظرة إلى الاضطرار عن المأمور به، ولازمه في صورة كون المأمور
به الطبيعة الجامعة بين الأفراد التدريجية إلى آخر الوقت بقاء الاضطرار أيضا
إلى آخر الوقت ولا يشمل الاضطرار الطاري عليه الاختيار في الوقت، كما هو
ظاهر.

(1) الموجود في النسخة المطبوعة بالطبعة الحجرية " المضادة " بدلا من المصادقة لكن الصحيح ما
أثبتناه.
269

ومن هذا القبيل ما كان بلسان قاعدة الميسور [وأمثالها] من عمومات
الحرج والضرر ومنه الأمر بمسح المرارة للحرج أو الأمر بالاستلقاء للصلاة أو
الاضطجاع لقاعدة الميسور وأمثالها، فإنها أيضا بجميعها منصرفة إلى صورة بقاء
الاضطرار إلى آخر الوقت، ففي أمثالها لا يبقى مجال توهم الاجزاء من الإعادة
في الوقت، كما لا يخفى.
نعم في باب التقية ربما يكون ظاهر أمرها في الاتيان على طبق رأيهم مطلقا
بنحو يشمل مورد ابتلائهم بها ولو مع العلم بطرو القدرة وارتفاع التقية في الوقت
بل ولو فرض تنزيلها على صورة بقاء الابتلاء إلى آخر الوقت يوجب تنزيل
اطلاقاتها على المورد النادر، ولذا التزموا بتوسعة من حيث المندوحة في باب التقية
لم يلتزموا [بمثلها] في غيرها فراجع.
ومن هذا الباب أيضا باب التيمم حيث إن ظاهر قوله [تعالى]: " إذا قمتم
إلى الصلاة فاغسلوا - إلى قوله تعالى [فلم] تجدوا ماء فتيمموا " (1) هو عدم
الوجدان في [ظرف] القيام إلى الصلاة لا عدم الوجدان إلى آخر الوقت كما
توهم.
وبالجملة ظاهر أمثال هذه الأدلة شمولها لصورة طرو الاختيار في الوقت
أيضا بعد اضطراره، ففي مثلها ربما يجري النزاع في اقتضاء امرها [الاجزاء]
حتى عن الإعادة في الوقت، ولازمه أيضا جواز البدار حتى مع العلم بطرو
الاختيار فيما بعد، بخلاف الأدلة السابقة حيث لا يجوز [له] البدار مع العلم
بالاختيار في الوقت. نعم مع عدم العلم أمكن دعوى استصحاب بقاء الاضطرار
إلى آخر الوقت فيجوز له حينئذ البدار.
وتوهم عدم جريان الاستصحاب في المقام إذ المدار حينئذ على الاضطرار

(1) المائدة: 6.
270

عن الطبيعة وبقاء الاضطرار إلى آخر الوقت من لوازمه عقلا فيكون من
الأصول المثبتة [غير] الجارية أصلا، مدفوع بأن في [ظرف] اضطراره في أول
الوقت يصدق الاضطرار عن الطبيعة لان الطبيعة في هذا الوقت منحصر [فردها
فيما] يتمشى منه بخصوص وقته فمع الاضطرار عنه يصدق الاضطرار عن
الطبيعة في مثل هذا الوقت فيستصحب هذا المعنى.
فان قلت: إذا صدق في كل وقت اضطر فيه، إلى ترك فرد الطبيعة
اضطرار ترك الطبيعة فعمومات الاضطرار أيضا يشملها فلم [تختص] هذه
العمومات بالاضطرار الباقي إلى آخر الوقت.
قلت: وجه الاختصاص بالاضطرار الباقي هو انصراف العمومات إلى
الاضطرار عن الجامع بين الافراد التدريجية ومثل هذا الجامع أيضا بتبع [أفراده]
[تدريجي]، فقهرا يلازم الاضطرار عن هذا الأمر التدريجي بقاؤه إلى آخر الوقت،
وما عرفت من الاضطرار المتيقن سابقا المصحح للاستصحاب هو الاضطرار عن
الطبيعة دفعيا، غاية الأمر [تثبت] تدريجية اضطراره ببقاء الاضطرار إلى آخر
الوقت ولو بالاستصحاب، وحينئذ لا قصور للاستصحاب في شموله للمقام
واثباته موضوع الحكم كما هو واضح.
وعلى اي حال لا مجال لمصيرهم في المقام إلى الفرق بين الوثوق بالاختيار
البعدي وعدمه سواء قلنا بجريان الاستصحاب المزبور أم لم نقل، فما يستشم
من كلماتهم [من] الفرق بين الوثوق بطرو الاختيار وعدمه منظور فيه.
رابعها: ان مقتضى الأصل بالنسبة إلى الاجزاء في الوقت عدمه;
لأنه على الاجزاء بمناط التفويت مع الجزم بعدم الوفاء بتمام مصلحة
المختار فمرجعه إلى الشك في القدرة على [تحصيل] الزائد، والعقل في مثله مستقل
بالاحتياط.
ومع احتمال الوفاء بتمام مصلحة المختار فلأن مرجع الشك فيه إلى الشك
271

في وجوب الفعل الاختياري بخصوصه أو التخيير بينه وبين الاضطراري، ومرجع
المسألة حينئذ إلى التعيين والتخيير، والعقل مستقل بعدم حصول الفراغ الا بالمعين.
ومع ذا لا يبقى مجال توهم البراءة عن الفعل الاختياري للشك في وجوبه
بعد اتيان المضطر إليه، إذ العلم الاجمالي الأولي أثر أثره فلا يجديه الشك في
وجوب الطرف بعد اتيان طرفه كما هو الشأن في كل علم اجمالي كما لا يخفى.
وأما الاجزاء بالنسبة إلى القضاء بعد مضي الوقت فأمكن المصير فيه إلى
البراءة حتى في الاجزاء بمناط التفويت لامكان اختصاص الغرض الفائت
بخصوص الوقت وأنه بعد الوقت - منوطا بفوت المصلحة السابقة - يحدث
تكليف جديد ترتيبي لجبرانه.
نعم لو بنينا في القضاء على تعدد المطلوب يجري فيه أيضا ما ذكرنا من
الاحتياط على المسلكين، ولكن مع احتمال الترتب وحدوث تكليف جديد لا يبقى
مجال للاحتياط على المسلكين.
نعم لو تم عمومات القضاء لكل فوت تكليف اقتضائي أمكن المصير إلى
الاستصحاب المثبت لفوت المصلحة حتى على مسلك الوفاء بتمام المصلحة فضلا
عن المسلك الآخر المعلوم فيه فوت المصلحة الذي هو موضوع التكليف بالقضاء
كما لا يخفى.
وحيث اتضحت هذه المقدمات، فنقول:
أما من قبل عمومات الاضطرار فلا مجال لاثبات التكليف بالفاقد كي
ينازع في أنه يقتضي الاجزاء أم لا؟.
وذلك لان عمومات الاضطرار خصوصا في مثل حديث الرفع وعمومات
الضرر والحرج حيث كانت في مقام الامتنان فلا [تصلح] إلا لرفع فعلية التكليف
عن المضطر إليه ولا يصلح مثلها لاثبات التكليف بالفاقد.
كما أن أدلة بقية الأجزاء بعد تقيدها بما اضطر إليه في عالم المصلحة فلا
272

تكون المصلحة الداعية على أمرها إلا مصلحة ضمنية، وبديهي أن الأمر المستفاد
منها ليس إلا بتبع هذه المصلحة المعلوم عدم صلاحيتها للشمول لصورة فقد
الجزء الآخر، ولذا لم يتوهم أحد بالتمسك في موارد الاضطرار بل تمام نظرهم إلى
مثل قاعدة الميسور المنوط تطبيقها على صدق ميسور المعسور على البقية.
ولو كان النظر إلى قاعدة الاضطرار لما [كان] يحتاج إلى هذه العناية، مع
أن سوق أدلة الأجزاء في مقام بيان ماله الدخل في المركب بلا نظر فيها إلى أزيد
مما كان المركب مسوقا له ولذا نرى بناءهم على عدم التمسك بمثل اطلاق أدلة
بقية الأجزاء عند الشك في دخل شئ آخر في باب الأقل والأكثر بل كان
مرجعهم فيه البراءة أو الاشتغال.
وبالجملة من مثل هذه العمومات [لا يكاد يثبت] وجود البقية لا من قبل
نفسها ولا من قبل أدلة بقية الأجزاء والشرائط.
فإن قلت: إن ظاهر قوله (يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله امسح على
المرارة) (1) استفادة التكليف بالمسح على المرارة من نفس قاعدة الحرج ولازمه كون
مثل هذه القواعد علاوة على استفادة نفي التكليف عن المضطر إليه منها يستفاد
أيضا منها اثبات التكليف بالفاقد.
قلت: في خصوص المورد لما كان نفي التكليف عن الفاقد أيضا موجبا
لاثبات تكليف آخر من وجوب التيمم الذي هو من آثار رفع التكليف عن المائية
بالمرة ففي مثله طبع الامتنان يقتضي أن [يكون] مثبتا لأخف الأمرين. وأين
هذا وسائر الموارد التي لا يترتب على نفي التكليف رأسا شئ؟.
مع امكان أن يقال: إن نظر استشهاد الإمام عليه السلام بعموم الحرج أيضا
إلى حيث نفي التكليف بالأمر الحرجي من المسح على البشرة وان اثباته
التكليف بالمرارة بتعبد جديد فلا ينافي حينئذ ما ذكرنا كما لا يخفى.

(1) وسائل الشيعة 1: 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5.
273

نعم في بقية الطوائف من مثل عمومات التقية وأدلة التيمم وقاعدة
الميسور وأمثالها ظاهرها اثبات التكليف وحينئذ يبقى مجال البحث عن اقتضاء
أمرها للاجزاء وعدمه وحينئذ نقول:
إن في مثل قاعدة الميسور أيضا: بملاحظة انصرافها إلى صور بقاء
الاضطرار إلى آخر الوقت لا يبقى المجال إلا للبحث عن الاجزاء بالإضافة إلى
خارج الوقت من وجوب القضاء. نعم في أدلة التقية وأدلة التيمم بالتقريب
المتقدم يبقى مجال النزاع في الاجزاء وعدمه بالنسبة إلى الإعادة في الوقت أيضا.
وحينئذ قد يقال في تقريب دلالتها على الاجزاء مطلقا: بان مقتضى
سوقها حيث كانت في مقام تعيين مصداق الطبيعة المأمور بها فطبع اطلاقها
يقتضي كونها مصداقا لتمام الطبيعة المأمور بها لا لبعض مراتبها ولازمه وفاؤها
بتمام مصلحة المختار فيجزي. (1)
وهنا أيضا تقريب آخر للإجزاء: بأن الأمر بالفاقد مستلزم لعدم دخل
القيد - ولو في ظرف الاضطرار به - في المصلحة وإلا فلا معنى للأمر بالفاقد
ولازمه وفاء الفاقد لتمام مصلحة المختار.
قال أيضا: وبعبارة أخرى مع وفاء الفاقد للمصلحة فلا معنى للفوت كي
يجب اعادته أو قضاؤه ومع عدمه فلا معنى للأمر به فصدق فوت المصلحة مع
الأمر بالفاقد متضادان لا يلائم أحدهما للآخر هذا كله ما في تقريرات بعض تلامذته. (2).
وهنا تقريب ثالث للاجزاء: بأن مصلحة القيد لا يمكن [استيفاؤها] إلا
في ضمن مصلحة الذات لأنه في عالم الوجود تبع لتلك المصلحة كما هو الشأن في
مصلحة كل خصوصية قائمة بذات تبعه، نظير مصلحة الالتذاذ بالتبريد القائم
بشرب الماء وحينئذ فبعد تحصل مصلحة الذات حسب الفرض لا مجال لتحصل
مصلحة القيد فلا محيص حينئذ من إجزائه بمناط التفويت. (3).

(1) (2) (3) فوائد الأصول 1 - 2: 244 - 245.
274

بل وهنا تقريب رابع - مبني على ما سنقول من معارضة أدلة الاختيارية
مع اطلاق دليل الاضطراري وتقديم الاختيارية عليها -: بان أدلة الاضطرارية
كما يقتضي اطلاقها الوفاء بتمام المصلحة، كذلك يقتضي بمدلوله الالتزامي
إجزاؤه عن الاختياري، وحينئذ فغاية ما يقتضيه تقديم أدلة الاختيارية عليها
نفي وفائها بتمام المصلحة لا نفي اقتضائها الاجزاء لإمكان المصير إليه بمناط
التفويت المعلوم عدم اقتضاء دليل الاختياري لقابلية الباقي للتدارك كما
لا يخفى.
أقول: لا مجال لاثبات [الاجزاء] بأي المناطين بمثل هذه التقريبات
وتوضيح المقال بأن يقال:
أما [التقرير] الأول فنقول: إن ما أفيد من اقتضاء أدلة الاضطرار وفاءه
بتمام المصلحة في غاية المتانة، ولكن مقتضى اطلاقات أدلة الاختيارية أيضا دخل
القيد في المصلحة الملازم لوجوب حفظ القدرة على تحصيل القيد وحرمة تفويت
الاختيار. ولا شبهة في أن لازمه أيضا عدم وفاء المضطر إليه بتمام المصلحة [فيتعارضان].
بل ولنا أن ندعي تقديم ظهور أدلة الاختيارية في دخل القيد في المصلحة
على ظهور أدلة الاضطرارية في الوفاء بتمام المصلحة، إذ الظهور الأول مستند
إلى وضع الهيئة التركيبية في دخل ما هو موضوع الخطاب والأمر في المصلحة وهذا
الظهور أقوى من ظهور الاطلاق المزبور في أدلة الاضطرار كما لا يخفى.
هذا مضافا إلى أن اطلاق أدلة الاختيارية بعد ما اقتضى حفظ الاختيار
في تحصيل القيد فلازمه كونه ناظرا إلى رفع الاضطرار عنه ومرجعه حينئذ إلى
نظره إلى رفع موضوع أدلة الاضطرار.
وأدلة الاضطرارية لا نظر فيها إلى حفظ موضوعها بل غاية الأمر
اطلاقها يقتضي نفي وجوب القيد الملازم لعدم حرمة تفويت الاختيار، وهذا
النظر يعارض حكم أدلة الاختيارية بلا نظر له إلى رفع موضوع أدلة الاختيار.
275

وحينئذ لسان الأول بالطبع مقدم على الثاني كما هو الشأن في كلية موارد
الحكومة أو الورود.
وعليه فلا يبقى مجال للتشبث باطلاق أدلة الاضطرارية لاثبات الاجزاء
بمناط الوفاء بتمام مصلحة المختار.
ومن هذا البيان ظهر بطلان التقريب الآخر المنسوب إلى بعض الأعاظم
كما عن مقرر بحثه، (1) وتوضيحه:
إن كون الفعل الاضطراري وافيا ببعض مراتب المصلحة في غاية
الامكان، ومن جهة ذلك كان الفاقد مأمورا [به] بمرتبة من الأمر المندك في
ضمن الأمر بالمقيد بلا منافاته مع الأمر بالمقيد بمرتبة أخرى من الطلب.
كما أن المراد من وفاء الفاقد بالمصلحة الناقصة ليس وفاؤه بتمام مصلحة
الذات مع بقاء صرف مصلحة القيد والخصوصية بحياله كي يبقى مجال توهم عدم
امكان تدارك مصلحة القيد مستقلا بلا مصلحة في ذات المقيد كما هو مضمون
التقرير الثالث.
بل المراد أن المصلحة القائمة بالذات [المقيدة]، [لها] مراتب يتدارك
بعضها بالفاقد وبعضها الآخر أيضا قائمة بالذات المقيدة القابلة للتدارك
لا بصرف القيد [غير] القابل له إلا في ضمن مصلحة الذات.
وأضعف من ذلك توهم الاجزاء من الجهة الرابعة، وتوضيح الضعف: بأن
غاية دلالة أدلة الاضطرارية من جهة الملازمة هو الاجزاء بمناط الوفاء بتمام
المصلحة ولا دلالة لها على الاجزاء مطلقا.
ومن المعلوم أن الاجزاء من جهة الوفاء بتمام المصلحة منفي بأدلة
الاختيارية، وما لا ينفيه أدلة الاختيارية لا يكون من الأول مستفادا من أدلة

(1) فوائد الأصول 1 - 2: 245.
276

الاضطرارية فلا يصلح مثل هذا البيان لاثباته.
نعم الذي يقتضيه التحقيق في المقام في اثبات الاجزاء هو أن يقال بما
أشرنا إليه في المقدمة الثانية من:
أن ظاهر الاختيارية وكذلك الأوامر الاضطرارية في ظرف الاضطرار
تعلقها بكل من الفعلين بخصوصهما.
وهذا المعنى لا يناسب الاجزاء بمناط الوفاء بتمام المصلحة. كيف! ولازمه
تعلق التكليف بالجامع وخروج خصوصية كل منهما عن حيز الخطاب رأسا كما
هو الشأن في كل فرد بالنسبة إلى الجامع المأمور به.
كما أنه لا يناسب عدم الاجزاء أيضا إذ التكليف بالاختياري وان كان
متعلقا بالخصوصية حينئذ إلا أن التكليف بالاضطراري لا يمكن [تعلقه
بالخصوصية] بل [الخصوصية] خارجة عن حيز الطلب ولو الناقص منه جزما.
وهذا بخلاف ما لو قيل بالإجزاء بمناط التفويت إذ لا محيص من الأمر
به بخصوصيته دفعا لتوهم حظره عقلا.
وحينئذ حفظ ظهور الأمر بهما بخصوصهما يقتضي إجزاءه بمناط
التفويت بعد تحكيم ظهور الخطاب بالخصوصية في الطرفين على إطلاق الأمر
الاضطراري الملازم للوفاء بتمام مصلحة المختار.
ويؤيد ذلك ما ورد في باب التقية من الصلاة في بيته ثم الصلاة معهم
تطوعا (1) بضميمة الاطلاقات الآمرة باتيان العمل في [ظرف] ابتلائه بهم على وفق
مذهبهم (2) الشامل لصورة طرو الاختيار في الوقت بل هو الغالب، حيث إن
المستفاد من المجموع حرمة التفويت قبل ابتلائه بهم وجوازه في [ظرف] ابتلائه

(1) (2) وسائل الشيعة 5: 381 و 455، البابان 5 و 54 من أبواب صلاة الجماعة.
277

حتى مع علمه بالقدرة على العمل الاختياري في وقته فضلا عن خارجه.
ثم إن ذلك كله في غير ما كان بلسان قاعدة الميسور وإلا فلو كان [بلسانها]
[فاقتضاؤه] الاجزاء بمناط الوفاء بتمام المصلحة لا مجال لتوهمه، إذ هي (3)
بلسانها تنادي بأن المأتي به لا يكون تمام المعسور بل ميسوره.
ولا يفهم العرف من ذلك البيان إلا كون المأتي به وافيا ببعض مراتب
المصلحة الوافي بها تمامه لا أنه أيضا واف بتمام مصلحة المعسور.
وحينئذ لا مجال للمصير إلى إجزائه عن القضاء بصرف هذا اللسان ولو لم
يعارضه ظهور أدلة الاختيار في دخل الخصوصية في المصلحة فضلا عن وجود هذا
الدليل في المقام أيضا.
بل لا مجال لاثبات [الاجزاء] بها بالتقريب الذي نحن اخترناه إذ
الترخيص بالاتيان بخصوص الميسور بل الأمر به بخصوصه بملاحظة حفظ
الوقت لا من جهة الترخيص في تفويت المصلحة ولو في خارجه كي يستفاد منه
[الاجزاء] بمناط التفويت.
وحينئذ لا طريق إلى الاجزاء عن القضاء إلا الأصل مبنيا على أمرين: -
أحدهما: كون باب القضاء من باب الترتب لا من باب تعدد المطلوب.
وثانيهما: انصراف عمومات القضاء لما فات إلى صورة فوت تمام المصلحة
لا مطلقا ولو بفوت بعض مراتبها.
وإلا فلو بنينا على تعدد المطلوب لرجع الشك إلى الشك في القدرة على
تحصيل الفائت والعقل مستقل فيه بالاحتياط.
كما أنه لو بنينا على إطلاق الفوت في أدلة القضاء [لاقتضى] وجوب
تدارك الفائت ولو ببعض مراتب المصلحة.
وحينئذ احتمال كون باب القضاء من باب الترتب كاف في نفي حكم
العقل بالاحتياط، وانما الاشكال في انصراف أدلة القضاء إلى فوت المرتبة التامة
278

وعليه ففي اقتضاء مثل هذه القاعدة ولو بضميمة الأصل اشكال.
ولكن ظاهر كلماتهم في الصلاة إجزاؤه فان تم اجماع فيها - كما هو
الظاهر - فيقتصر عليه ويجري في غيرها على طبق ما يقتضيه عمومات القضاء.
ولكن الذي يسهل الخطب قلة [مورده] بل انعدامه (1) من مصيرهم إلى
صرف قاعدة الميسور مع ثبوت القضاء فيه بعموماته في غير باب الصلاة;
إذ في الطهارات الثلاث والصوم لا مجرى لقاعدة الميسور وفي باب الحج
وأمثاله لا يكون قضاء، ففي مثلها أمكن اثبات [الاجزاء] بالتقريب المتقدم منا.
وفي غسل الميت وكفنه أيضا كذلك إلى أن يدفن، وبعده حرمة نبشه مانع
عن إعادة الغسل بل ولا يكون أيضا مؤقتا مستفادا منه الاجزاء من الترخيص
المتعلق بخصوصه مولويا كما [أسلفنا].
ولا يبقى في البين إلا باب النذر المعين [للقائلين] بوجوب القضاء فيه،
ففي مثلها [اجزاء] [قاعدة] الميسور أشكل لكشف العسر عن عدم صحة النذر
فلا أمر بالمعسور كي يؤخذ بميسوره، وعلى فرضه فالالتزام بعدم القضاء لمحض
هذه القاعدة أشد إشكالا، فتدبر.
هذا كله في الاجزاء عن الأوامر الاضطرارية.
وأما الاجزاء بالفاقد للشرائط، أو الاجزاء نسيانا فهو خارج عن
مسألتنا، إذ المسألة بظهور [عنوانها] في اتيان المأمور به بالأمر الشرعي
والمنسيات جزءا أو شرطا داخلة في المأمور به بالأمر العقلي ولم يتوهم [الاجزاء]
فيها أحد إلا في باب الصلاة لعموم (لا تعاد) (2) المختصة بصورة النسيان عن ذات
الجزء والشرط وفي غير الخمسة أيضا.

(1) يبدو أن الضمير يرجع إلى المذكور بمعناه وتقديره " ما ذكرناه " والمراد: قلة مورد ما ذكرناه
من مصيرهم إلى صرف قاعدة الميسور... إلى آخره.
(2) وسائل الشيعة 1: 260، الباب 3 من أبواب الوضوء، الحديث 8.
279

ولذا ليس بناؤهم على الاجزاء مع الفوت جهلا بالحكم أو نسيانا حتى في
الصلاة فضلا عن غيرها كما لا يخفى.
[المقام الثالث: إجزاء الظاهري عن الواقعي]
بقي الكلام في اقتضاء الأوامر الظاهرية للاجزاء عن الواقعيات
فنقول:
إن الكلام فيها تارة في الحكم الظاهري المستفاد من أدلة الأمارات
و [أخرى] في الحكم المستفاد من الأصول.
وعلى أي تقدير تارة يقع الكلام في [صورة] كشف الخلاف قطعيا وأخرى
في فرض كشفه ظنا اجتهاديا.
أما المقام الأول من اقتضاء الأمارات للإجزاء مع كشف الخلاف قطعيا
فنقول:
إن بنينا على [طريقتيها] إلى الواقع بلا احداثها [تكليفا] حقيقيا في قبال
الواقع، فلا شبهة في عدم اقتضائها الاجزاء عن الواقعيات إذ بناء عليه ليس في
[مؤدياتها] مصلحة قابلة للجبر عن المصالح الواقعية.
غاية الأمر الالتزام بمصلحة في نفس الترخيص في العمل بها وفي أصل
جعلها، ومثل هذه المصلحة غير قابلة للجبر كي يجئ توهم الاجزاء، كيف؟.
ولازمه الالتزام بالجبر ولو قبل العمل بها، ولأن المفروض عراء العمل عن
المصلحة رأسا بل غاية ما يفيد مصلحة الجعل ملاحظة جهة أهمية التسهيل على
المكلفين عن حفظ المصالح الواقعية ومثل هذه الجهة لا يستأهل للإجزاء عن
ما فات من الواقعيات كما هو ظاهر.
وبمثل ذلك أيضا [تندفع] شبهة [ابن قبة] كما [سنقررها] بجوابها - إن
شاء الله - في محله.
280

فان قلت: إن ما أفيد إنما يتم في نفي الاجزاء بمناط الوفاء بالغرض وأما
الاجزاء بمناط التفويت بالتقريب المزبور فلا يمنعه فمن الممكن اقتضاؤه
بمناط التفويت.
قلت: مجرد الامكان لا يجدي للمصير إليه ما لم يقم لاثباته الدليل وفي
المقام لا وجه للمصير إليه بعد اختصاص الأمر بمفاد الطرق بزمان الجهل
بالواقع، إذ من مثل هذا الترخيص لا يستفاد أزيد من تسهيل أمره مع عدم
الفحص عن الواقع أو احتياطه ولا يستفاد منه كونه مفوتا للواقع مطلقا ولا وفاؤه
بشئ من مصلحته كما هو المفروض.
ولا يقاس المقام بباب الاضطرار إذ لا مقتضي للترخيص عنه مع العلم
بطرو القدرة في الوقت إلا الرضا بتفويته للتقية كما تقدم شرحه.
وأما لو بنينا على موضوعيتها، فنقول:
إن مرجع الموضوعية ان كان إلى انقلاب الواقع حتى [بمصلحته] إلى
مؤدى الطريق فلا بد وان يقتضي الاجزاء، إلا أنه تصويب محال مجمع على
خلافه.
وان كان مرجعها إلى توسعة الكبرى [الواقعية] حقيقة على وجه
[تشمل] المؤدى بأن يكون مؤدى الامارات أيضا من مصاديق الكبرى الواقعية،
وأن لها مصداقين [حقيقيين] أحدهما: واقعي والآخر: ظاهري.
فهذا المعنى أيضا موجب للإجزاء به عن الواقعي ولم يحكم العقل
باستحالته أيضا لإمكان جعل الأدلة الظاهرية شارحة للكبرى الواقعية الدالة
على تعيين الواقعية في تعلق الأمر به بخصوصه بجعلها [رافعة] لظهور الكبرى
المزبورة في دخل خصوصه في الحكم وأن لب موضوع الحكم هو الجامع بين
الواقعية والظاهرية ولكن الظاهر كونه أيضا تصويبا مجمعا على خلافه.
ولئن اغمض عن الاجماع المزبور فلا أقل من احتمال آخر [وهو] كون
281

مفاد الأدلة الظاهرية جعل حكم مماثل للواقع في مرتبة الظاهر بلا اقتضائها تغيير
الواقعيات عما هي عليها من تعلق الخطاب بموضوعاتها بخصوصياتها.
إذ مع هذا الاحتمال لا يبقى مجال للتحكيم المزبور بنحو [توجب] الأدلة
الظاهرية لرفع اليد عن ظهور الكبريات الواقعية في دخل الخصوصية، ولازمه
عدم اقتضائها الاجزاء عن الواقعيات إلا بمناط التفويت الممنوع في المقام
بملاحظة احتمال [كون] وجه اختصاص أوامرها بخصوصها في [ظرف] الجهل
من جهة المصلحة القائمة بخصوصها في هذه المرتبة، لا من جهة الرضا بتفويته
المصلحة الواقعية حتى مع كشف خلافها.
وبذلك يمتاز المقام أيضا عن باب الاضطرار إذ لا مصلحة [تلزمه]
بخصوصه بل لا مقتضي للترخيص به إلا الرضا بفوت مصلحة المختار كما
أسلفناه، فتدبر.
هذا كله في فرض الانكشاف قطعيا.
وان كان الانكشاف ظنيا بظن [معتبر] مثله فلا شبهة في أن مرجعية الظن
الثاني - لا محيص - إما من جهة ترجيحه على الأول بأحد المرجحات أو من جهة
الأخذ به من جهة التخيير الاستمراري الثابت له بدليله.
وعلى التقديرين نقول: إن لازم اختيار الثاني حصر حجيته في هذا الحال
بما أخذ ترجيحا أم تخييرا ولازم حصر حجيته هو الأخذ بخصوصه الحاكم ببطلان
العمل على طبق الأول [ولا يعنى] من عدم الاجزاء إلا هذا.
ولا فرق أيضا في مثل هذا البيان بين العبادات أو المعاملات لولا دعوى
شمول قولهم (لكل قوم نكاح) لمثل المقام، والا فبناء على انصرافه إلى صور
اختلاف الأمم في نكاحهم من حيث حكمهم واقعا لا مجرد اختلافهم في الأحكام
الظاهرية فيلحق باب النكاح أيضا بسائر الأبواب فلا بد من الحكم بفساد
النكاح السابق حين كشف الخلاف ولو بالأمارة، غاية الأمر يكون الوطء
282

السابق للشبهة، الموجب لالحاق الولد والتوارث بينهم.
وتفصيله أيضا موكول إلى محله.
وفي الفصول هنا تفصيل لا يفهم منه مقصوده بل المحكي عن بعض
الأساطين انه سئل [من] نفسه قدس سره في شرح مرامه بعبارته فتأمل كثيرا
واعترف باني لا افهم منها شيئا إلا أني حين كتبت كتبته صحيحا فيحتاج بعد إلى
تأمل جديد.
ثم إن ذلك كله في الاجزاء بمقتضى أدلة الأمارات والطرق.
وأما أدلة الأصول فهي أيضا على ألسنة مختلفة:
منها: ما كان لسانه اثبات الواقع تعبدا بما له من الآثار وذلك مثل
الاستصحاب وقاعدة التجاوز والفراغ ويلحق به مثل (كل شئ طاهر) بل و
(كل شئ لك حلال) بناء على كون مفادهما اثبات الطهارة والحلية الواقعية
تنزيلا، ويعبر عن هذه بالأصول التنزيلية.
ومنها: ما لا يكون بلسانه ناظرا إلى اثبات الواقع بل [كان مثبتا] للحكم
في ظرف الشك وذلك مثل الأصلين الأخيرين بناء على وجه آخر من كون
مفادهما مجرد اثبات الطهارة أو الحلية في [ظرف] الشك بلا نظر فيهما إلى كونهما
[واقعيتين] ولو تنزيلا، ويلحق بهما ما كان بلسان ايجاب الاحتياط عند الشك
بحكم أو موضوع.
ومنها: ما لا يكون بلسانه مثبتا لحكم أصلا بل كان لسانه نفي الحكم عن
موضوعه في ظرف الشك، وذلك من حديث الرفع والحجب وأمثالهما، وحينئذ
نقول:
أما ما كان بلسان الاستصحاب من الأصول التنزيلية فان كانت ناظرة
إلى توسعة الواقع حقيقة ولو بتحكيمها على الكبريات الواقعية في ظهورها في
دخل خصوصية موضوعها في حكمه برفع اليد عن هذا الظهور وجعل الموضوع
283

الجامع بين الواقعية والظاهرية فلا شبهة في اقتضائه الاجزاء عن الواقع ولكن
مثل هذا المعنى ممنوع في الأمارات حتى على الموضوعية فضلا عن الأصول
التنزيلية الناظرة إلى صرف توسعة الواقع في مقام العمل لمحض المصلحة في
الجعل من جهة التسهيل على المكلف، ولا أقل من كونها في مقام [جعل] المماثل
للحكم في مرتبة الظاهر بلا نظر إلى توسعة الموضوع الواقعي حقيقة، فيبقى
الواقع على ما هو عليه من دخل [خصوصية] مؤدى كبراه في موضوع حكمه
ولقد عرفت أن هذا المعنى في الطرق حتى على الموضوعية غير مقتض
[للإجزاء] فالمقام أيضا مثله.
وأما في غير الأصول التنزيلية فأمر اقتضائها [للإجزاء] فرع نظر
الكبرى الواقعية في [موضوعها] نفيا أم اثباتا إلى الأعم من الواقعي والظاهري
والا فلو كان [نظرها] إلى خصوص النفي والاثبات الواقعيين فلا يصلح
مثل هذه الأصول لاثبات موضوع الكبرى أصلا، فضلا عن اقتضائه الاجزاء
عنه.
نعم غاية ما في الباب احتمال كونه مفوتا للمصلحة الواقعية والأصل
يقتضي خلافه بعد عدم اقتضاء أدلة الأصول للإجزاء المزبور كما أشرنا [إلى]
نظيره في الامارات، فتدبر.
وفيما ذكرنا كله أيضا لا فرق بين كشف الخلاف باليقين أو بالامارة لكشف
الامارة عن فساد العمل من الأول فلا يجزي.
بقي في المقام شئ: وهو ان مثل (كل شئ لك حلال) أو (طاهر) هل
هو من الأصول التنزيلية أم لا؟ وجهان.
والظاهر أنه لا مجال للمصير في قاعدة الطهارة إلى مجرد جعل الطهارة في
مرتبة الشك بها بلا نظر فيه إلى اثبات الواقع، إذ بعد [كون مقتضى] ظهور
كبرى دخل الطهارة في شئ هو الطهارة الواقعية لو كان مفاد القاعدة اثبات
284

مجرد الطهارة الظاهرية لا يكاد يثبت بمثله الكبرى [الواقعية]، مع أن بناءهم على
احرازها بها فيجرون القاعدة في ماء شك في طهارته فيتطهر به حدثا وخبثا.
ولا مجال حينئذ لتوهم أعمية موضوع الكبرى عن الطهارة الواقعية
[والظاهرية]، كيف؟! ولازمه صحة الوضوء [بماء] كشفت بعده نجاسته وكذلك
صحة تغسيله به من البدن أو اللباس بلا احتياج إلى تغسيل جديد، ولا أظن
التزامه من أحد.
فلا محيص حينئذ إلا من دعوى نظر القاعدة إلى اثبات الطهارة الواقعية
بلحاظ التوسعة في مقام العمل محضا كي به يجمع بين ترتيب آثار الطهارة
الواقعية مع عدم اقتضاء صحة العمل واقعا عند كشف خلافها.
وحينئذ فربما أمكن حمل قاعدة الحلية عليه بمقتضى وحدة لسانه، ولازمه
أيضا اثبات حلية لحم ما يشك في حليته وحرمته ولو كان لحمه خارجا فعلا عن
محل الابتلاء مع الابتلاء بجلده وشعره وأمثالهما فعلا بلحاظ صلاته فيه.
نعم، لو بنينا على جعل صرف الحلية الظاهرية بلا نظر منه إلى اثبات
الواقع فاقتضاؤه صحة الصلاة في المشكوك مبتن على جعل الحلية في كبراه أعم
من الواقعية والظاهرية.
نعم بناء عليه أيضا لا يكاد يجري إلا في موارد يكون اللحم المشكوك
بنفسه محل ابتلاء المكلف وإلا فلا يكاد يجري الأصل إذ لا معنى لجعل الحلية
الفعلية لما هو خارج عن محل ابتلاء المكلف فعلا، فتدبر.
285

المقالة التاسعة عشر
مقدمة الواجب
287

[المقالة التاسعة عشرة}
[في وجوب مقدمة الواجب]
[نقول] قبل الخوض في المرام ينبغي بيان كون المسألة من المسائل
الفقهية أو الأصولية أو الكلامية أو أنها من المبادئ الاحكامية؟
كما أنه بناء على [كونها] من المسائل الأصولية هل هي من المباحث
العقلية أو اللفظية أو القواعد الكلية التي أمر تطبيقها بيد المجتهد؟.
أقول: قد يتوهم من ظاهر العنوان كونه من المسائل الفقهية وان ذكرها
في المقام استطرادي محض لمجرد مناسبته لمدلول الأمر من الوجوب الثابت
للشئ بصيغة الأمر أو مادته.
وأورد عليه: بان علم الفقه متكفل لبيان أحوال موضوعات خاصة
كالصلاة والصوم وغيرها والبحث عن عنوان المقدمة [غير] المنطبق على شئ
مخصوص لا يتكفله علم الفقه.
وفيه: ان كثيرا من القواعد - الاصطيادية وغيرها من القواعد الفقهية -
مع أن موضوعها بنفسها ليس عنوانا مخصوصا بل كان موضوعها مرآة للعناوين
المخصوصة.
مثل قاعدة (كلما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده) الشامل للمعاوضات
وعقود الضمانات كالقرض وغيرها إذ عنوان ما يضمن في مثلها جعل مرآة إلى
نحوي الضمان وما هو موضوع الحكم في كل باب شئ غير الآخر.
289

ومثل قاعدة الطهارة المعلوم كون موضوعها مرآة للعناوين الخاصة
كموضوع قاعدة (كل ما لاقى نجسا فهو نجس) الذي هو أيضا مرآة لعناوين
أخرى.
ومنها أيضا قاعدة مخالفة الشرط أو الصلح للكتاب والسنة بناء على أن
المراد مخالفة [مضمونها] الحاكية عن أمور مختلفة وموارد متفاوته.
وحينئذ الأولى جعل المدار في فقهية المسألة اشتمالها على محمول خاص
ثابت للعناوين المخصوصة ولو بتوسيط عنوان آخر مرآة لها، إذ حينئذ ما من
مسألة فقهية إلا وشأنها ذلك، ولا يرد حينئذ النقوض السابقة أيضا.
وحينئذ ربما يكفي هذا المقدار أيضا لاخراج مسألتنا هذه عن المسائل
الفقهية إذ مضافا إلى مرآتية موضوعها للعناوين بخصوصية أخرى كان محمولها
أيضا مرآة لأحكام خاصة ناشئة عن مناطات مخصوصة علاوة عن اختلافها
بحسب المرتبة من الشدة والضعف، بل ولئن الحق بالوجوب باقي الأحكام
الخمسة بوحدة المناط كان اختلاف المحمول في المسألة أوضح. وبهذه الملاحظة
لا [تتناسب] هذه المسألة مع المسائل الفقهية.
كما أن المهم من هذه المسألة اثبات وجوب المقدمة من ناحية وجوب ذيها
وان كان وجوب ذيها ثابتا بالأدلة اللبية فلا يناسب جعلها من مباحث الألفاظ
إذ لا خصوصية للفظ في هذه الجهة من الكلام.
وارجاع هذا العنوان إلى البحث عن الملازمة بين الوجوبين أيضا غير
وجيه فلا وجه لادراجها في المسائل العقلية [غير] المستقلة ومجرد تلازم العنوانين
لا يقتضي ارجاع أحدهما إلى الآخر بل لابد في كل عنوان ملاحظة دخوله في أي
مسألة.
وبهذه الجهة لا وجه لارجاعها إلى البحث عن المبادئ الاحكامية وان
[كان] لا يخلو عن مناسبة.
290

بل ومن هذه البيانات ظهر أيضا عدم مناسبة مثل هذا العنوان مع كون
[المسألة] كلامية كما عرفت من أن مدار ميزان المسألة من أي [المسائل] على
ملاحظة نفس العنوان لا على ملاحظة لازمه من حيث التحسين والتقبيح
خصوصا مع عدم درك العقل في الباب حسن المقدمة إلا بتوسيط وجوبه
[و] وجوب ذيه وإلا فلا يستقل العقل بحسن ذيه لولا الوجوب فضلا عن حسن
مقدمته.
وحينئذ فلا يناسب للمقام إلا بجعلها من القواعد الواقعة في طريق حكم
كلي فرعي كوجوب عنوان خاص أحرزت [مقدميته] بتوسيط هذه الكبرى، بل
في كثير من المصاديق الكلية لا يكون امر تطبيقها الا بيد المجتهد فقط نظير
مقدمية الوضوء وغيرها.
نعم قد يكون مثل هذه المسألة منتجا لحكم جزئي أيضا ولكن لا يضر ذلك
بأصوليته في موارد تطبيق هذه القاعدة على العناوين الكلية المنتجة لحكم كلي.
كما [أنه] بعد هذه النتيجة لا يضر بأصوليته عدم اختصاص المجتهد
أحيانا بتطبيقه أيضا، وبالجملة لا نعني بالمسألة الأصولية إلا القواعد الواقعة في
طريق استنباط حكم كلي لموضوع كلي كما لا يخفى. فتدبر جيدا.
وبعدما ظهر ذلك ينبغي في المقام طي أمور:
منها: أن مناط المقدمية التي هي محط البحث في المقام هو تقدم الشئ
وجودا على غيره [ورتبة] بحيث يرى العقل بين وجوديهما تخلل " فاء " وأنه وجد
فوجد. وحينئذ يخرج باب التلازم الصادق وجودهما معا بلا تخلل الفاء بينهما عن
مركز البحث.
كما أن باب الطبيعي وأفراده [المتحدين] وجودا أيضا خارج عن هذا
العنوان، فتوهم مقدمية الفرد للكلي ليس في محله.
ومنه تقدم الجزء على الكل بالماهية والتجوهر، إذ مثل هذا التقدم أيضا
291

لا يقتضي تخلل الفاء بين وجوديهما، فمثل هذا التقدم أيضا خارج عن مركز
البحث كما سنشير إليه أيضا في الأمر الآتي ان شاء الله.
بل ربما نقول بخروج التقدم الطبيعي بين الشيئين أيضا عن مركز البحث
كالواحد بالإضافة إلى الاثنين.
ومنه أيضا حدوث الشئ بالإضافة إلى بقائه إذ في أمثال ذلك لا يرى
العقل وجودين بينهما تخلل " فاء " وما هو مورد الكلام هو ذلك، كيف؟! ولو فرض
وجوب للاثنين لا يترشح منه وجوب آخر للواحد في ضمنه، كيف؟! ولازمه اجتماع
المثلين كما سنشير.
فلا محيص من كون مركز الوجوب الآخر وجود آخر وهو لا يكون الا بما
ذكرنا كما لا يخفى.
ومنها: تقسيمهم المقدمة [إلى] الداخلية والخارجية.
والغرض من الداخلية اجزاء المركبات، والظاهر أن المقصود من المركبات
أيضا المركبات الخارجية الاعتبارية، كيف؟ والمركبات العقلية لا جزء لها إلا في
موطن العقل وعالم التحليل، وهو خارج عن مصب الوجوب الغيري إذ لا وجود
لها بوصف جزئيتها إلا في الذهن [غير] القابل لتوجه الايجاب الغيري المستتبع
لامتثال مستقل خارجا، بل في الخارج لا يكون إلا وجودا واحدا محضا كما هو
ظاهر.
وهكذا الأمر في المركبات الحقيقية الخارجية كتركب الأجسام من
العناصر فان الأجزاء المحفوظة فيها لم [تبق] على حقيقتها الأولية بل بتلاقي
كل واحد بالآخر انخلعت منها صورتها الأولى وحصلت للمجموع صورة أخرى
فانقلبت شيئيتها [إلى] شيئية أخرى، فلها أيضا وجود واحد خارجي بلا وجود
لأجزائها في الخارج، فخرجت الأجزاء المزبورة أيضا عن مصب الأحكام الغيرية
القابلة لتوجه الوجوب الغيري المستتبع لامتثاله مستقلا قبال وجوبها النفسي،
292

وحينئذ لا مجال لتوهم ادخالها في حريم النزاع.
فما هو قابل لادخالها في حريمه هي المركبات الاعتبارية التي كان لكل
جزء منها وجود مستقل غير وجود الآخر خارجا غاية الأمر [شملتها] وحدة
اعتبارية من قبل وحدة عارضها من الهيئة المخصوصة كالسرير أو أثرها
المخصوص بملاحظة تأثيرها في أمر خاص كمحركية أيادي متعددة لحجر واحد،
إذ حينئذ كان مجال توهم ان كل جزء بملاحظة وجوده مستقلا في الخارج يصلح
أن يترشح إليها وجوب غيري قبال الوجوب النفسي العارض لمجموعها، وان
الفرق بين الجزء والكل حينئذ بصرف اعتبار الانضمام في الكل دونه.
فالاجزاء عبارة عن وجود كل واحد لا بشرط الانضمام، والكل عبارة عن
الوجودات المزبورة بشرط الانضمام.
والى مثل هذا البيان أيضا نظر من قال في الفرق بين الكل والجزء بأن
الأجزاء مأخوذة لا بشرط والكل مأخوذ بشرط شئ.
وفي جملة من الكلمات المنسوبة إلى المحققين جعل الفرق بين الكل
والاجزاء بأخذ الجزء بشرط لا والكل بشرط شئ.
والظاهر أن مراده من بشرط لا صرف ملاحظته في قبال الغير لا ملاحظته
مقيدا بعدم ضم الغير إليه كيف! وهو لا يجتمع مع الكل في الوجود مع أن الكل
حاو لأجزائه ويستحيل ان يفارق الجزء لكله وجودا خارجيا فلا معنى لأخذها
بشرط لا إلا بالمعنى الذي نحن أشرنا إليه الذي هو قابل للاجتماع مع غيره.
وفي قبال هذ الاعتبار اعتبار كل جزء لا بشرط الراجع إلى ملاحظة ذاته
بنفسه لا في قبال الغير وبهذه الملاحظة قابل لحمل كل جزء على الآخر وحمل كل
واحد على الكل.
وهذا المعنى من لا بشرط أيضا غير معنى اللا بشرطية من حيث الانضمام
الذي أشرنا إليه سابقا إذ مثل هذا الاعتبار أيضا لا يصحح الحمل المزبور.
293

وعلى أي حال كل واحد من هذه التعابير ناظر إلى جهة غير جهة
أخرى.
نعم اعتبار الجزء بشرط لا من حيث الانضمام بالغير كما توهم في
التقريرات المنسوبة إلى شيخنا الأعظم في غاية السخافة كما أشرنا ولا أظن
صدوره من خريط هذه الصناعة.
وبالجملة كلماتهم مشحونة في مقام الفرق بين الجزء والكل بما ذكرنا.
وعلى أي حال من المسلمات عند الكل أن الكل في الوجود الخارجي
متحد مع وجود أجزائه ولذا يقال بأن الكل عين الأجزاء بالأسر غاية الأمر
يدعى تقدم الأجزاء على الكل بالماهية وبالتجوهر وهو لا ينافي وحدة وجودهما
خارجا.
وحينئذ نقول: مع فرض تعلق الوجوب النفسي بهذه الوجودات لا يبقى
مجال لتعلق الوجوب الغيري من قبل هذا الوجوب بها إذ الوجود الواحد
[لا يحتمل] الوجوبين.
وتوهم التأكد في مثل المقام غلط إذ الوجوب الغيري معلول الوجوب
النفسي ومتأخر عنه بمقدار تخلل الفاء الحاصل بين العلة والمعلول وهذا الفاء
مانع عن اتحاد وجودهما ولو بالتأكد كما أن التقدم بالماهية والتجوهر محضا يمنع
كونه مناط ترشح الوجوب بل العقل لا يرى مناطه إلا التقدم خارجا ووجودا.
وحينئذ لا مجال لتوهم ادخال الاجزاء في مركز البحث أصلا.
ثم إن ذلك أيضا بناء على ممشى القوم في المقام من تعلق الوجوب النفسي
بالمركب والكل المحفوظة كليته وتركبه في المرتبة السابقة عن الوجوب.
ولكن لنا في المقام مسلك آخر [لا تنتهي] النوبة بناء عليه إلى ما أشرنا
سابقا.
وتوضيح المرام بأن يقال أنه لا شبهة في أن تركب الواجب بما هو واجب
294

وارتباط أجزائه بالآخر في عالم الامتثال وقصده فرع وحدة الوجوب المتعلق
بالمتكثرات بلا دخل في سائر الوحدات الطارية على الشئ من عارض خارجي
مثل هيئة خارجية وأشكال مخصوصة حاصلة من إضافات بعضها ببعض باتصالها
أو انفصالها في جهة تركب الواجب من حيث واجبيته.
كيف! ولو فرض تعدد الوجوب المتعلق بكل واحد من الوجودات
الموجودة تحت هذه الهيئة لا تكاد [تتصور] حينئذ انتزاع تركب الواجب عنه بل
كل واحد من هذه الوجودات واجب مستقل في قبال الآخر ولو كان تحت هيئة
مخصوصة دخيلا في تعلق الوجوب بها.
ويشهد له أن قصد امتثال كل واحد بما هو واجب ضمني أو غيري حينئذ
تشريع محرم غاية الأمر اعتبار كونها تحت هذه الهيئة أوجب تلازم امتثالها خارجا
ولكن مجرد ذلك لا يخرج كل واحد عن كونه واجبا مستقلا غير مرتبط في عالم
واجبيته بالآخر.
وذلك أيضا في فرض دخل الهيئة المخصوصة في تعلق الوجوب بالمتكثرات
تحتها بنحو الشرطية أو الشطرية.
والا فلو فرض قيام المصلحة بنفس الذوات على الاطلاق بلا دخل
للهيئة الخاصة في المصلحة فيصير الوجوب حينئذ [قائما] بنفس المتكثرات بلا
دخل لمثل هذه الهيئة فيها.
وفي هذه الصورة لا يكاد يتصور في متعلق الوجوب بما هو كذلك جهة
وحدة وارتباط غير الارتباط الناشئ من قبل وحدة وجوبها بحيث لو فرض
تعدد وجوبها واستقلال كل واحد بوجوبه لما كانت إلا [واجبات] مستقلة بلا
ارتباط بينها في عالم واجبيتها.
وحينئذ لا يكاد [يتعلق] الوجوب إلا بالذوات المتكثرة بلا جهة وحدة في
معروضه. كيف! والوحدة الناشئة من قبل وحدة الوجوب والارتباط الجائي من
295

قبله يستحيل أخذها في معروضه والمفروض عدم أخذ وحدة أخرى في متعلق
وجوبه ولو فرض أخذها فيه أيضا لا دخل لهذه الوحدة في الارتباط في الواجب
بما هو واجب بشهادة فرض تعدد وجوب كل واحد مقيدا بهذه الوحدة كما
أسلفناه.
وحينئذ أين كل [واحد] ارتباطي مأخوذ في متعلق الوجوب وموضوعه كي
ينازع بأن جزء الواجب هل واجب غيري بمناط المقدمية أم لا.
بل اعتبار الكلية والجزئية بما هو واجب إنما هو في الرتبة المتأخرة عن
الوجوب وفي هذه الرتبة لا يكون وجوب. وفي رتبه كان له وجوب ليس هنا صقع
الكلية والجزئية كي يصير مركز البحث والقيل والقال في وجوب جزء الواجب كما
لا يخفى.
فان قلت: لو تعلق الوجوب الواحد بمتكثرات تحت هيئة واحدة مثل
السرير وأمثاله أو الهيئات المخصوصة بأشكال من المسدس والمربع وغيرها في
فرض دخل الهيئة المخصوصة في الواجب فقهرا يكون هذا الواحد المتشكل
بشكل مخصوص [ذا] أجزاء مرتبطة في رتبة سابقة عن تعلق الوجوب بها ففي
هذه الصورة يبقى مجال البحث في أن جزء هذا الواحد المتشكل المعروض
للوجوب واجب بوجوب غيري أم لا، فنظر [المتنازعين] في وجوب المقدمات
الداخلية إلى أمثال هذا الفرض وهذه الصور.
قلت: بعد فرض عدم دخل هذه الجهة من الوحدة في تركب الواجب بما
هو واجب بشهادة فرض تعدد الوجوب لكل واحد من الذوات مع الهيئة القائمة
بها نقول:
إنه مع فرض تعدد الوجوبات فهل متعلق الوجوبات إلا ذوات [كل واحد
] مع هيئتها في عرض واحد بلا اعتبار مقدمية لأجزاء هذا الواحد الخارجي
لواجب مركب منها؟
296

بل غاية ما في الباب حينئذ مقدمية بعض الواجبات لواجب آخر نظرا
إلى مقدمية معروضات الهيئة من الذوات للهيئة التي هي أيضا واجب مستقل في
عرض وجوب البقية وذلك غير مرتبط بمقدمية الجزء للكل إذ لا يتصور حينئذ
تركب وكلية للواجب كما هو ظاهر فكذلك نقول أيضا:
إنه لو فرض تعلق وجوب واحد بعين ما تعلقت الوجوبات المتعددة به
لابد ان يقال:
ان معروض هذا الوجوب الواحد أيضا كل واحد من الذوات في عرض
وجوب الهيئة بلا جهة ارتباط في جهة وجوبه إلا وحدة وجوبه نظرا إلى عرضية
الجميع في عالم عروض الوجوب فإذا [كان] في [عروض] الوجوب على الجميع
عرضية محضة فأين مقدمية شئ لشئ بالنسبة إلى معروض الوجوب بما هو
معروضه.
ومجرد جزئية الذوات للمركب من حيث الشكل والهيئة لا يوجب جزئيتها
لما هو واجب مركب في رتبة سابقة عن وجوبه كما هو ظاهر.
نعم غاية ما في الباب أيضا مقدمية بعض الواجبات الضمنية على واجب
ضمني آخر نظير ما فرضنا مقدمية بعض الواجبات المستقلة على بعض في فرض
تعدد الوجوب من دون فرق بينهما من تلك الجهة.
نعم غاية الفرق بينهما ان هذه المقدمية في فرض تعدد الوجوب يكون
موجبا لترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى مقدمته ونتيجته تأكد وجوبه كما هو
الشأن في كل واجب نفسي مقدمة لواجب نفسي آخر.
ولكن في صورة وحدة الوجوب [لا تصلح] هذه المقدمية ان [تصير] مناط
ترشح الوجوب عن ذي المقدمة إلى مقدمته لأن الوجوب الغيري الناشي عما
هو متحد مع وجوبه يستحيل قبوله للتأكد كما أنه يستحيل اجتماع الوجوبين
أيضا في محل واحد والله العالم.
297

وبالجملة نقول إنه بعد فرض انتزاع تركب الواجب من وحدة وجوب
المتكثرات يستحيل حينئذ تعلق الوجوب بالمركب والكل بما هو مركب اعتباري
وكل، بل صقع الكلية والجزئية في المرتبة المتأخرة عن وحدة الوجوب المنشأ
لاعتبار الارتباط بين المتكثرات ولذا اشتهر في الأحكام الوضعية انتزاع الجزئية
عن الوجوب ومن المعلوم أن لازمه انتزاع الكلية أيضا منه كيف والجزئية والكلية
متضايفان منتزعان عن الشئ في رتبة واحدة فمع التزام انتزاع الكلية المساوق
للتركب عن الوجوب فلا يكون في الرتبة السابقة اعتبار تركب وكلية بل ليس
في هذه المرتبة إلا متكثرات تحت هيئة واحدة قابلة لتعلق وجوب واحد بها فيصير
مركبا أو وجوبات متعددة فيصير واجبات متعددة بلا وحدة واجب ولا تركبه.
وحينئذ فمع الالتزام بتأخر صقع الكلية والجزئية رتبة عن وجوب الشئ
كيف يبقى له مجال البحث في المقام بأن الوجوب إذا تعلق بالمركب فأجزاؤه
الداخلية تحت بحث وجوب المقدمة إذ حينئذ لنا ان نقول: أين مركب اعتباري
تعلق به الوجوب كي يبقى المجال للبحث المزبور فتدبر في المقام فإنه من مزال
الأقدام.
ومنها: تقسيمهم المقدمة [إلى العقلية] والشرعية والعادية.
وقيل بارجاع الجميع إلى العقلية وهو كذلك لو كان النظر في كل واحد
بعد الفراغ عن مرحلة الإناطة التي هي مناط المقدمية. وإلا فلا شبهة في اختلاف
المقامات بالإضافة إلى هذه المرحلة لأنه ربما يكون إناطة أحد الوجودين بالآخر
ذاتيا بحيث لو عرض على العقل يرى بينهما الترتب، وأخرى يكون الإناطة
بجعل شرعي ففي مثل هذا الفرض لا يرى العقل بنفسه بينهما إناطة وانما يرى
الإناطة بينهما من ناحية الشرع، وثالثة لا يرى الإناطة المزبورة إلا من جهة
اقتضاء العادة، وفي الأخير أيضا تارة [تكون] العادة بمثابة لا ينفك عن الإناطة
المزبورة دائما وأخرى ينفك عنه أحيانا.
298

وبهذه الملاحظة أمكن دعوى اختلاف المقدمات في الانتساب إلى العقل
والشرع والعادة بمناط اختلافهم في مناط المقدمية الذي هو جهة إناطة أحدهما
بالآخر.
ثم لا اشكال في دخول المقدمات العقلية والشرعية والعادية بالمعنى الأول
في حريم النزاع فيصير مقدمية نصب السلم من قبيل المقدمات العادية لكونه
على السطح قبال الطهارة التي [تكون] من المقدمات الشرعية و [تحصيل] الماء
الذي هو من المقدمات العقلية.
واما المقدمات العادية بالمعنى الثاني كاعتياده بحركة قبل صلاته مثلا
ففي دخوله في حريم النزاع بحث ربما يجزم بخروجه عن مركز البحث; إذ المدار
في المقدمية على اقتضاء انتفاء ذيه وهذا المعنى لا يكاد يتحقق في مثله غاية الأمر
يدخل ذلك في باب المقدمية الغالبية لا مطلقا وهو أجنبي عن محل الكلام فتدبر.
ومنها: تقسيمهم المقدمات إلى المقتضي والشرط وعدم المانع والمعد.
ومنشأ هذا التقسيم أيضا ليس إلا بلحاظ اختلاف المقدمات في أنحاء
دخلها في وجود ذيها بعد اشتراك الجميع في أصل الدخل الموجب لانتفاء ذيها
بانتفائها.
وتوضيح الحال في هذا المقام بأن يقال:
إن المقدمة تارة كان شأنها اعطاء وجود ذيها بحيث يخرج وجود ذيها من
كمونه.
وتارة ليس شأنها ذلك بل كان شأنها تحديد دائرة الوجود بنحو يكون
بهذا الحد قابلا للتحقق خارجا أو قابلا للتأثير في المقصود ومرجع هذا النحو من
الدخل ليس إلى تأثير المقدمة في وجود شئ لعدم كون الحد من سنخ الوجود
بل مرجعه إلى تضييق دائرة الوجود بحد يكون بذلك الحد قابلا للتحقق خارجا
أو قابلا للتأثير في الغرض المقصود.
299

والحد مثل هذا الحد روحه يرجع إلى انتهاء الوجود واتصاله بالعدم فلا
يكون وجودا ولا عدما بل نحو اتصال بينهما ويعبر عنه بشر التركيب وهو أيضا
لا يخلو عن مسامحة إذ ليس الحد مركبا منهما بل عبارة عن انتهاء كل منهما
بالآخر.
ولئن شئت فعبر عنه بنحو إضافة واتصال بين الوجود والعدم لا وجود
ولا عدم.
نعم له واقعية كالوجود في الخارج ولذا لا يكون موجودا ولا معدوما بل
بنفسه كالوجود في الخارج غاية الأمر يتبعه.
ثم إن هذا الحد تارة ذاتي لوجود خاص وأخرى عرضي بمعنى انه
يلاحظ من وجود الشئ مقدارا منه على قيام استعداد التأثير في هذا المقدار وربما
يقاس المقدار المزبور بمقارنته لشئ أو بسبقه به أو لحوقه بحيث يكون مثل هذه
الاعتبارات من مقدرات الوجود بنحو ينحصر استعداد التأثير فيه وفي مثله قهرا
يستند الأثر إلى أصل وجوده، وحده إلى مقداره.
وعليه ربما تكون التحديدات القياسية - كان - لطرف إضافاتها دخل في
حد الأثر أو في حد المؤثرية.
وبديهي ان هذا الدخل ليس خللا تأثيريا - بل هو نحو من الدخل
وطور من الارتباط الذي ليس شأن وجودها اعطاء الوجود بل ليس شأنها إلا
التحديد الموجب للقابلية على نحو لا يعلل كما لا يخفى وبهذه العناية يقال بأن
شأن أمثال هذه المقدمات ليس إلا اعطاء القابلية للمعلول وجودا أم تأثيرا.
ومما يوضح هذه الجهة ملاحظة الشرائط الشرعية الصادرة عن العالم
بالواقعيات في تحديد موضوعات حكمه بمقدار قابليتها للتأثير في أغراضه إذ
ترى فيها تحديد موضوعه بكونه في حال كذا وبوصف كذا.
ومعلوم أن مرجعه إلى تقييد الموضوع بأمور يكون طرف الإضافة
300

لموضوعه الموجب لإناطة الموضوع به وهذه الإناطة ما جاءت إلا من جهة دخل
المنوط به في الإضافة المزبورة المقدرة للوجود بكذا مقدار.
وليس شأنه اعطاء وجود الموضوع. كيف! وما به انوجاده ليس إلا إرادة
المكلف أو شئ آخر بل تمام شأنه اعطاء تقييد مخرج له عن سعة وجوده وكان
محددا له.
والى ذلك نظر ما اشتهر في الشرط بأن التقييد به داخل في الموضوع دون
القيد قبال الجزء الداخل فيه القيد بنفسه ومرجعه إلى ما ذكرنا بأن الشرط مما به
تقييد الشئ وهذا نحو من الدخل وطور من الإناطة الأجنبي عن دخل المؤثر
في الوجود في متأثره بل غاية دخله اعطاء حد فيه به كان قابلا للتأثير ويكون
بنحو من العناية دخيلا في قابلية الموضوع في تأثيره.
ولئن شئت قلت كان دخيلا في قابلية الموضوع بما هو موضوع للانوجاد
أيضا.
ثم إن المحدد المزبور إن كان وجوديا يسمى شرطا وان كان عدميا يسمى
وجوده مانعا، وان كان باجتماعهما يسمى معدا كالاقدام.
وبهذه الملاحظة ربما يفرق تعريف الشرط وأمثاله مع المقتضي حيث صح
أن يقال في المقتضي فإنه مما يوجب وجوده وجود معلوله ولو في المحل القابل
ولا يصح هذا المعنى في الشرط وأمثاله بل لا يصدق فيها إلا كونها مما يلزم من
عدمها عدم المعلول.
ولئن شئت فعبر فيها بأنها مما يلزم من وجودها قابلية المعلول للانوجاد
ولو لملاحظة دخلها في تحديده بحد يكون بذاك الحد قابلا له كما أشرنا.
ومن هذا البيان ظهر مطلب آخر وهو أن المعلول إذا كان وجودا محدودا
كان لحقيقته جهتان أحدهما حيث وجوده والآخر جهة حده وتقييده.
ومن المعلوم أن جهة الحد والتقيد قائمتان بحيث الوجود ومعلوم ان حيث
301

وجوده مستند إلى المقتضي، وحده إلى شرطه أو عدم مانعه.
وحينئذ لجهة وجوده نحو أولية يوجب أوليته على جهة حده في انتسابه
وجودا وعدما إليه.
ولذا اشتهر اسناد عدم المعلول إلى عدم المقتضي حتى مع وجود المانع
بلا اسناده إليه أصلا مع أنهما جزءان من العلة بنحو لا يتخلل بين المعلول وكل
واحد منهما إلا فاء واحد فاصل بين الوجود والموجد والحد والمحدد ولكن هذا
المقدار لا يتنافى مع اختلافهما في أصل الدخل ويكون أحد الدخلين في طول
الآخر حسب طولية الحيثيتين [المحفوظة] في معلولهما الموجب لأولوية استناد
المعلول إلى المقتضي وجودا وعدما.
ومن التأمل فيما ذكرنا أيضا ظهر مطلب آخر وهو ان فيما كان دخله في
المعلول من باب التأثير في وجود المعلول كالمقتضي فلا محيص من أن يكون
مقارنا زمانا مع المعلول ولا يعقل تقدمه عنه ولا تأخره لانتهاء كل منهما إلى انفكاك
المؤثر الفعلي عن المتأثر والعقل يأبى عنه ولذا اشتهر عدم انفكاك العلة بهذا
المعنى عن المعلول زمانا وان اختلفا رتبة بمقدار تخلل فاء عقلا.
وأما ما كان دخله من باب كونه مما به الحد والتقييد فلا يأبى العقل عن
تقدم ما به قوام حد الشئ وتقييده عن الشئ زمانا بل عن تأخيرهما أيضا عن
المشروط بحسب الزمان إذ الإضافة إلى الأمور المتقدمة زمانا أو المتأخرة كالنار
على المنار وكالشمس في رابعة النهار.
وعمدة ما يختلج في الأذهان في استنكاره الشرائط المتأخرة توهمه لزوم
مقاربة العلة بجميع [أجزائها] مع المعلول وهذا المعنى في غاية المتانة بالنسبة إلى
أجزاء العلة الموجدة التي شأنها اعطاء الوجود للمعلول وهو منحصر بالمقتضيات
وأما بقية أجزاء العلة المصطلحة التي منها عدم المانع فهي خارجة عن دائرة
اعطاء الوجود بل شأنها ليس إلا اعطاء القابلية للمعلول في الانوجاد.
302

ولقد تقدم أن مرجع اعطاء القابلية فيه إلى كونها طرف إضافة لشئ
يكون الشئ متحددا ومقدرا به وخارجا عن سعته بنحو يكون بهذا الحد قابلا
للانوجاد وفي مثل هذا المعنى لا يأبى العقل عن تقدمه زمانا أو تأخره.
ومن العجب عمن بالغ في انكار الشرائط المتأخرة زمانا حيث يكون
عمدة تشبثه في مدعاه بجعل الشرط متمما للمقتضي في التأثير فلنا حق السؤال
بأنه ما المراد من التتميم فإن كان الغرض كونه من أجزاء معطيات الوجود
فلازمه ارجاع الشرائط طرا إلى أجزاء المقتضي وهو كما ترى.
ثم لازمه انكار مقدمية عدم المانع لو كان مناط المقدمية منحصرا بذلك
لعدم تصور التأثير والتأثر بين الوجود والعدم.
وان كان الغرض معنى آخر غير ما ذكر وغير ما أشرنا إليه من الدخل
في القابلية بالبيان السابق [فعليه] البيان.
وأظرف من ذلك تعبيرهم الآخر من كون الشرط موصلا لتأثير المقتضي
إلى المقتضى وأن المؤثر خصوص المقتضي فهذا البيان أكثر اجمالا من البيان
الأول إذ مرجع الموصلية ان كان إلى تأثير الشرط في اتصال الأثر عن المقتضي
فهو صرف لفظ لا مفهوم له إذ لا فصل بين المقتضي ومقتضاه كي تحتاج إلى سبب
الايصال فلا محيص من عوده إلى دخل الشرط في أصل التأثير فيعود إلى
ما ذكرنا من دخله في قابلية المحل للانوجاد من قبل مؤثره وحينئذ نقول إنه خرج
كلية باب الشرط عن عالم المؤثرية وبعد ذلك لا يأبى العقل عن تقدمه أو تأخره
زمانا عن المشروط كما أسلفناه.
وبالجملة نقول إنه لا واسطة بين عنوان التأثير في الوجود المعبر عنه
بالموجدية وبين عنوان تحديد الوجود بحد قابل للانوجاد أو التأثير في المقصود
المعبر عنه باعطاء القابلية للانوجاد وما يأبى العقل عن تقدمه أو تأخره هو
الأول دون الأخير ولا يتصور في البين شق ثالث يجري عليه حكم الموجدية وما
303

في كلماتهم من التعابير المزبورة لا يكون إلا من باب اعمال نحو من العناية في
معطيات القابلية لا ان غرضهم بيان معنى ثالث خارجا عنهما فلا يغرنك حينئذ
مثل هذه البيانات لاثبات كون الشرائط أيضا بحكم معطيات الوجود في عدم
التقدم والتأخر كما لا يخفى.
ثم إن [لأستاذنا] العلامة طاب ثراه في المقام كلاما آخر وهو انه بعدما التزم
بلزوم تقارن أجزاء العلة بجميعها حتى الشرائط وعدم الموانع مع المعلول التزم
في الأحكام بصحة الشرط [المتأخر] بارجاع الشرط إلى وجودها العلمي
لا الخارجي والغرض من وجودها العلمي أيضا وجوداتها التصورية في عالم الجعل
فلا يتنافى مع ارجاع القضايا الشرعية إلى القضايا الحقيقية الراجعة إلى جعل
الحكم منوطا بوجود موضوعه خارجا.
غاية الأمر يدعى ان الجاعل في مقام جعله تارة يتصور الموضوع أو
الحكم منوطا بوجود الشئ سابقا وأخرى متأخرا كتصوره منوطا به مقارنا
فجعل تصور الحكم المجعول أو موضوعه شرط جعله فجعله حينئذ منوط بتصور
الموضوع أو حكمه لا مجعوله.
نعم لو ارجع العلم إلى شرط المجعول من الحكم أو الموضوع فلا محيص
من ارادته العلم التصديقي بهما وحينئذ [تخرج] القضية عن القضايا الحقيقية
ويدخل في الخارجية حيث إن في القضايا الخارجية لا يصلح الحكم من الحاكم إلا
في طرف جزمه بالتطبيق وذلك هو عمدة الفارق بين القضايا الخارجية والحقيقية
كما لا يخفى.
وأظن [أن] من راجع كلماته يرى منها ما شرحناه ولا يبقى مجال رده بان
ما أفيد مبني على خلط القضايا الحقيقية بالخارجية وان كلامه مبني على جعل
القضايا الشرعية من الخارجية مع أن كلية القضايا في العلوم ليست إلا من
القضايا الحقيقية.
304

وأضعف من ذلك توهم اقتضاء القضية الحقيقية إناطة الحكم بوجود
موضوعه خارجا وحينئذ يستحيل مجئ الحكم قبل وجود موضوعه بعد ارجاع
شرائط الحكم إلى الموضوع طرا.
وتوضيح الضعف انه بعد تسليم جميع ما ذكر نقول إن الموضوع تارة مقيد
بأمر مقارن مع حكم ذاته وأخرى متقدم عنه زمانا وثالثة متأخر عنه كذلك.
فتارة يكون الموضوع المستطيع الظاهر في جري المشتق بلحاظ حال
الحكم وتارة الموضوع من استطاع قبل ظرف الحكم وثالثة من يستطيع بعد ظرف الحكم.
فلا شبهة أن في جميع هذه الصور ما هو موجود في ظرف الحكم هو ذاته
المقيد بأحد القيود وهو الذي يستحيل وجود الحكم بدونه واما قيده الخارج عن
الموضوع مع دخول تقييده فيه فلا يلزم أن يكون موجودا في ظرف الحكم إلا إذا
فرض أخذه فيه بنحو المقارنة وحينئذ من أين [تقتضي] القضايا الحقيقية
استحالة الشرط المتأخر وحينئذ لا يستأهل أستاذنا الطعن بمثل هذا البيان.
نعم الذي يصلح لأن يورد عليه هو ان الجعل تعبديا لابد وأن يكون على
وفق المصلحة ففي صورة لحاظ الأمر المتأخر مقدمة لجعله فمثل هذا اللحاظ وان
كان بنفسه مقدمة الجعل ولكن بالإضافة إلى المصلحة الداعية على الجعل المزبور
لا محيص أن يكون طريقا إلى دخل القيد بوجوده المتأخر في مصلحة بحيث لولا
وجوده فيما بعد لا يكون العمل [ذا] مصلحة.
وعليه فلا محيص له إلا من التزامه بصلاحية الأمر المتأخر بوجوده
الخارجي في المصلحة الفعلية كيف وبدونه لا يصلح مجئ الجعل بتصوره أيضا ومع
التزامه بذلك لا يبقى مجال تصديقه بلزوم مقارنة اجزاء العلة خارجا وارجاع
الشرائط المتأخرة في باب الأحكام إلى شرطية وجودها العلمي كي لا ينخرم
قاعدة مقارنة أجزاء العلة مع المعلول.
ويكف كان نقول بعد اخراج الشرائط وجودية أم عدمية عن عالم المؤثر
305

في الوجود وارجاعها جميعا إلى محددات الوجود ومقيداتها لا يبقى مجال لانكار
الشرائط المتأخرة في الوجودات الخارجية أيضا فضلا عن الأمورات الجعلية
الكافي في جعلها تصور المجعول [بحدوده] الخارجية.
بل قيل بأنه ربما ينتهي الأمر في المجعولات الاعتبارية إلى توهم تقدم
المعلول على [علته نظير] جعل الملكية - السابقة عن زمان جعله - منوطا بإجازة
المالك بناء على كون أمثالها من الاعتباريات المحضة. ففي مثل هذه الصورة
ربما يتراءى تقدم الملكية التي هي معلول جعله على نفس الجعل ولكن حيث
لا يكون في البين تأثير وتأثر بل غاية الأمر كون الجعل المخصوص منشأ اعتبار
للمجعول الخاص فلا يأبى العقل بعدم المنتزع عن منشأ انتزاعه كما أنه ربما
يتأخر عنه كما في العقود التعليقية ومن هذه الجهة ربما يكون أمره أهون من
الشرائط في الأمور الواقعية.
نعم ما هو منها هو إناطة الجعل بإجازة المالك ولو من جهة دخلها في
مصلحة الجعل وفي هذا المقام ربما كان الشرط مقارنا مع مشروطه لا متأخرا.
وحينئذ فابتناء هذه المسألة على تصحيح الشرائط المتأخرة في الواقعيات
لا يخلو عن خلط كما لا يخفى.
وحينئذ فالكشف المشهوري في باب الإجازة غير مرتبط بمرحلة
الشرائط المتأخرة في الأمور الواقعية.
نعم ما هو من بابها هو الكشف المنسوب إلى صاحب الفصول من كون
الإجازة شرطا [متأخرا] لجعل الملكية من حين العقد بحيث يكون ظرف الجعل
هو حين العقد السابق على الإجازة وهذا المعنى بمعزل عن كلمات المشهور في
باب الكشف والنقل للإجازة فراجع إليه.

(1) الفصول الغروية: 55، السطر 29 من الطبعة الحجرية.
306

ولقد اختاره شيخنا العلامة أعلى الله مقامه في مكاسبه حيث أبطل كشف
الفصول وارجع الكلمات إلى الكشف بالمعنى الأول المنسوب إلى المشهور.
ولكن في ايراده عليه [بزعم] كون أمثال هذه الأمور الجعلية بالنسبة إلى
مناشئها من باب التأثير والتأثر كمال المناقشة ولا ضير فيه.
نعم لا بأس بناء على كون أمثال الملكية من قبيل الملازمات الواقعية لا
الاعتبارية المحضة كما أشرنا إليه في باب الوضع فتدبر.
تتميم فيه تحقيق
وهو انه بعدما عرفت اختلاف انحاء الدخل في المقدمات لك أن تقول
باختلاف مناط ترشح الطلب الغيري ولازمه اعتبار نحو اختلاف وميز في
الوجوبات الغيرية بملاحظة اختلاف مناطها وحينئذ يلحظ كل واحد من هذه
المناطات من حيث قيامها بواحد أو بمتعدد وبتبعه يعتبر في وجوبه أيضا كذلك.
وحينئذ يرفع بهذا البيان اشكال مشهور آخر في جعلهم - في باب
المقدمة - بعضها واجبا واحدا مركبا وبعضها غير مركب كما ترى في غسل
الاحداث والأخباث بناء على اعتبار التعدد.
وملخص الاشكال هو أن مناط المقدمية ان كان بترتب وجود المعلول
عليه مستقلا فهذا المعنى غير صادق على الغسلين وان كان المناط بترتب العدم
على العدم فهذا المعنى صادق على واحد من أجزاء الوضوء أيضا فما وجه
التفكيك بين هذه الاجزاء مع غسل الأخباث؟.
وحل ذلك ليس إلا بما ذكرنا من البيان.
وربما أجابوا عن هذه الشبهات بأن اختلاف نحوي الوجوب بكيفية
النظر إلى الجميع منضما أو منفردا ولقد عرفت أن النظر باختلافه لا يصلح لتغيير
الواجب عما هو عليه من الوجوب فراجع إلى بحث اجزاء المركب فتدبر.
307

ومنها: تقسيمها إلى مقدمة وجوب ومقدمة واجب.
وحيث إن الوجوب في الأول منوط بوجودها يستحيل تأثيره في ايجادها
إذ نتيجة التأثير كون الوجود [المتأثر] مرئيا في الرتبة المتأخرة عنه وهذا المعنى
لا يناسب مقدمية الوجوب المرئي في الرتبة السابقة على الوجوب كما لا يخفى.
ولذا اشتهر بأن الوجوب المشروط لا يقتضي حفظ شرطه.
وحينئذ فما هو داخل في حريم النزاع هو القسم الثاني من مقدمة
الواجب من دون فرق في ذلك أيضا بين أنحاء المقدمة من المقتضي أم غيره نعم
لو كان المقتضي من سنخ الإرادة ربما يكون خارجا عن دائرة الوجوب الشرعي
وان كان تحت إلزام العقل بايجاده.
وعمدة النكتة في ذلك هو ان إرادة المكلف يرى من شؤون الخطاب نفسيا
أم غيريا نظير دعوته فلا يعقل ان يقع موضوع نفسه كما أوضحناه في بحث
الدواعي القربية.
وبعبارة أخرى ان شأن الخطابات نفسية أو غيرية احداث الدواعي
والإرادة نحو متعلقاتها فلا جرم يكون مثل هذه الشؤون من معاليلها وتبعاتها
وخارجة عن موضوعاتها فلا مجال في مثلها إلا إبقاؤها تحت إلزام العقل باحداثها
مقدمة لإطاعة الخطابات من دون أن يكون موضوعا لها، وحيث ظهر مثل هذه
الجهة فنقول:
انه لا اشكال في بقية مقدمات الواجب المطلق إذ جميعها قابلة لتوجه
الخطاب إليها ولو غيريا ولذا كانت داخلة تحت حريم النزاع في وجوبها غيريا.
نعم على القول بعدم وجوبها الغيري لا مجال لتوهم توجه الخطاب النفسي
نحوها أيضا إذ الخطابات طرا لا يتوجه إلا إلى موضوعاتها ومن المعلوم ان
مقدمات الموضوعات طرا خارجة عنها والا فيصير جزء لها وهو خلاف مقدميتها
الناشئة عن ترتب أحد الوجودين على الآخر. ولقد أوضحنا شطرا منها في باب
308

أجزاء المركب عند دفع توهم وجوبها بمناط المقدمية فراجع.
[الوجوب المطلق والمشروط]
ثم إنه بعد وضوح هذه الجهات ينبغي طي الكلام في شرح الوجوب
المطلق والمشروط وتوضيح المقال في هذا المجال يقتضي طي مقامات كي به يرتفع
الظلام عن وجه الأوهام فنقول وعليه التكلان.
المقام الأول في تبعية الأحكام التكليفية بمبادئها للمصلحة في المتعلق إذ
المصلحة من الأغراض الداعية إلى جعل الاحكام فيكون من مقتضياتها بحيث
يكون الحاكم بمبادئها من الإرادة والاشتياق ناشيا منها.
وتوهم نشوها عن المصلحة في نفس الحك بمبادئه خلاف الوجدان إذ
الوجدان شاهد عدم توجه الاشتياق إلى شئ بلا لحاظ خصوصية فيه على وجه
يرى في رتبة سابقة عن اشتياقه لا لاحقة عنه كما لا يخفى. وتوضيحه بأزيد من
ذلك موكول إلى محل آخر.
المقام الثاني ان المصلحة القائمة بشئ تارة [تقوم] بوجود العمل على
الاطلاق وأخرى [تقوم] به مقيدا بشئ آخر. وفي الأخير تارة يكون القيد سببا
لاتصاف الخصوصية القائمة بالعمل بكونه مصلحة وأخرى موجبا لوجودها
فارغا عن الاتصاف بكونه مصلحة.
وبعبارة أخرى تارة يكون القيد سببا للاحتياج إلى شئ وأخرى موجب
لوجود المحتاج إليه ولا نعني من المصلحة إلا ما يحتاج إليه الانسان.
ولئن شئت توضيح الفرق بينهما فانظر إلى المرض والمنضج بالنسبة إلى
شرب المسهل أو دواء آخر فان الأول سبب للاحتياج إليه والآخر سبب لوجوده
[فارغا] عن الاحتياج إليه.
وحينئذ ظهر لك وضوح اختلاف أنحاء دخل القيود في المصلحة من دون
309

أن يكون دخلها فيها على منوال واحد كما هو ظاهر.
المقام الثالث في أن الانسان بمجرد علمه بوجود المصلحة في شئ بلا
مزاحم لمفسدة أخرى فيه يتوجه إليه اشتياقه ولازمه ملاحظة [ما قامت] به
المصلحة بجميع حدوده وقيوده.
وحينئذ فبأي نحو يكون القيد دخيلا في المصلحة بذاك النحو يكون
لحاظه دخيلا في توجه الاشتياق نحوه ولازمه حينئذ أن يلاحظ قيود الاحتياج
خارجة عن حيز اشتياقه وتوجه الشوق نحو العمل منوطا بفرض وجوده
الطريق إلى خارجه كما هو الشأن في دخله في المصلحة واتصافها بها حفظا لتبعية
الاشتياق بشئ لنحو مصلحته فقيودها علاوة عن أن الانسان - مهما أمكن -
لا يصير في مقام الاحتياج فما هو علة للاحتياج لا يشتاق إليه جزما.
نعم لابد وأن يلاحظ القيد المزبور ويجعل فرض وجوده مما أنيط به
اشتياقه تبعا لكيفية دخله في قيام المصلحة في المتعلق نعم قيود وجود المحتاج إليه
لا محيص في صيرورتها في طي اشتياقه ولو غيريا.
ومن هذا البيان ظهر أن وجه إناطة الاشتياق بقيد وعدمه ليس إلا
مستندا إلى اختلاف أنحاء دخله في المصلحة لا أنه مستند إلى اختلاف في كيفية
نفس القيد من أخذ وجوده مطلقا أو من باب الاتفاق وان قيود الوجود طرا من
قبيل الثاني كيف وهذا المقدار لا يوجب فرقا في توجه الاشتياق نحوه ولازمه
الاشتياق إلى حصول شرط الوجوب أيضا وإن لم يكن واجبا وكان خارجا عن
حيز الإرادة كغير المقدور وهو خلاف ظاهر الخطابات المشروطة بشروطها
الخارجة عن حيزها بجميع مباديها.
مع أنه كيف يلتزم في مثل الكفارة المنوطة بالعصيان إذ مقتضاه توجه
الاشتياق نحو العصيان وهو كما ترى.
المقام الرابع ان الحاكم بعد اشتياقه إلى فعل عبده فمع عدم وجود مزاحم
310

في البين يوجب هذا الاشتياق تحريكا للحاكم بابراز اشتياقه بانشائه على وفق
مرامه ومثل هذه الحركة كاشف عن مرتبة من إرادة المولى لوجود العمل وحفظه
بمقدار استعداد انشائه وخطابه بلا كونه مريدا له من سائر الجهات.
ومن هذا المقام أيضا ينتزع مقام جعل الأحكام إذ لا نعني من جعل
الأحكام التكليفية إلا مجرد ابراز اشتياقه الكاشف عن مرتبة من الإرادة المنتزع
عن حملة نفس المشتاق إلى حفظ وجود المقصود ولو من ناحية مقدمة من مقدماته
فلا جرم يصير مثل هذه الخطابات حاكيا عن مرتبة من فعلية الحكم المحفوظ في
حق العالم والجاهل وهو أيضا بنفسه قابل للتحقق ولو كان منفكا عن مقام
محركية عبده. ولذا يصلح أن [ينشئ] الأمر ويبرز اشتياقه منوطا بفرض وجود
الموضوع ولحاظه بحدوده وقيوده بلا احتياج إلى وجوده خارجا أصلا.
ثم إن الغرض من الخطاب وابراز الاشتياق لما كان هو دعوة الخطاب
لعبده فلا شبهة في أن شأن الخطابات ليس إلا مجرد صلاحيتها للدعوة وعدم
قصور فيها من ناحيتها وإلا فمن البديهي ان الدعوة الفعلية [المساوقة] لمحركية
الخطاب عقلا [منوطة] بتطبيق العبد جميع القيود المأخوذة في الخطاب حتى قيد
القدرة المأخوذة فيه عقلا على المورد. ومن البديهي أن هذه المرحلة خارجة عن
مضمون الخطاب ومتأخر عنه رتبة. وحينئذ فما هو مأخوذ فيه هي هذه الأمور
بوجوداتها اللحاظية لا الخارجية كيف ووجودها خارجا إنما كان ضم العلم بها
دخيلا في تطبيق الخطاب على المورد الخارج عن مضمونه وإلا ففي توجه اشتياق
المولى نحو العمل المقيد بأي قيد لا يحتاج إلى وجودها خارجا بل يكفي مجرد
وجودها في لحاظ المولى فلا يكون للوجودات الخارجية المزبورة مدخلية إلا في
تحريك العبد المنوط بتطبيق العبد إياها على المحل ولقد عرفت أن هذه المرحلة
خارجة عن مضمون الخطاب ومتأخرة عن مضمونه رتبة.
ومن هذا البيان ظهر أن دخل قيد القدرة أيضا في الخطابات نظير دخل
311

سائر القيود فيه من كونه بوجوده اللحاظي مأخوذا في مضمون الخطاب وبوجوده
الخارجي مأخوذا في مقام تطبيق العبد المنوط به محركية خطاب المولى.
وإن توهم من توهم في أخذ القدرة الخارجية من قيود الخطاب وشروطه
كتوهمه دخل بقية القيود بوجودها الخارجي في مضمون الخطاب ليس إلا لأجل
خياله أخذ فعلية الإرادة المساوق للمحركية للعبد في مضمون الخطاب.
والا فلو فتح البصر ودقق النظر في أن مقام محركية الخطاب ودعوته
الفعلية للعبيد إنما هو من شؤون [تطبيق] العبد خطاب مولاه بجميع قيوده حتى
القدرة على المورد لا يبقى له مجال شبهة في أخذ وجود القدرة وأمثالها خارجا في
مضمون الخطاب لبداهة أن مقام التطبيق المزبور متأخر عن مضمون الخطاب
رتبة ويستحيل أخذها فيه.
نعم كلما له بوجوده الخارجي دخل في التطبيق لابد وأن يكون بوجوده
اللحاظي مأخوذا في مضمون الخطاب لاستحالة أوسعية مضمون الخطاب عن
مرحلة تطبيقه.
فان قلت: إن غاية ما يستقل به العلق أن لتطبيق القدرة أيضا دخل في
المحركية في عرض [تطبيق] سائر القيود المأخوذة في الخطاب وذلك لا يقتضي
دخل القدرة ولو بوجودها اللحاظي في مضمون الخطاب كي يكون حال القدرة
أيضا حال سائر القيود المأخوذة في مضمون الخطاب.
قلت: إن دخل القدرة في المحركية لا يكون إلا من جهة دخلها في وجود
المرام عقلا وإن لم يكن دخيلا في مصلحته ومن البديهي ان ماله الدخل في وجود
مرام المولى لابد في مقام ابراز اشتياقه المقصود به التوصل به إلى مرامه ان
يلاحظه في مقام توجيه اشتياقه نحو مقصوده لجزمه بعدم وصوله بمقصده بدونه.
غاية الأمر منشأ هذا الدخل هو العقل قبال سائر القيود [إذ] المنشأ [لدخلها]
مدخليتها في المصلحة.
312

ومن هذا البيان أيضا ظهر معنى حكم العقل بشرطية القدرة في الخطابات
بأن مرجع هذا الحكم إلى دخل تطبيقه في محركية الخطابات لا دخله بوجوده فيه
بمضمونه. كيف؟ ولا يعقل دخله في صرف ابراز الاشتياق بحكم الوجدان
ولا تكفل الخطاب لفعلية الإرادة البالغة إلى [محركيته] لعبده إذ هذه المرتبة من
شؤون تطبيق العبد الأجنبي عن مضمون الخطاب كما عرفت والمفروض أيضا
ان العقل لا يحكم بدخل القدرة في أزيد من هذه المرتبة.
نعم لازم دخلها في مرحلة التطبيق والمحركية دخلها بوجودها اللحاظي
كسائر القيود في مضمون الخطاب.
وبذلك ربما يفرق بين القدرة والعلم مع أن كلاهما من مقومات التطبيق
ومع ذلك مثل القدرة مأخوذة في مضمون الخطاب ولو بوجودها اللحاظي كسائر
القيود الشرعية بخلاف العلم فإنه لم يكن مأخوذا في الخطاب ولو بوجوده
اللحاظي ولا يحسب أيضا من قيود الخطاب بوجه أصلا.
وتوضيح وجه الفرق هو ان العلم بالخطاب لما كان في رتبة متأخرة عن
الخطاب فيستحيل أخذه ولو في عالم اللحاظ في مضمون خطابه إذ يرى العلم
بالخطاب خارجا عنه وطريقا إليه. وكيف يرى دخيلا فيه في لحاظه الطريق إلى
الخارج بنحو لا يلتفت إلى ذهنيته؟ وهذا بخلاف نفس القدرة فإنها بملاحظة
دخلها في وجود المرام إنما [كانت] في عرض سائر القيود، فلا قصور في أخذها
بوجودها اللحاظي في مضمون الخطاب.
نعم للقدرة جهة فرق مع سائر القيود المأخوذة في الخطاب علاوة عن
عدم دخلها في المصلحة دون سائر القيود الشرعية: ان الدليل على الدخل
المزبور لما كان هو العقل المنفصل عن الخطاب فلا يوجب مثل هذا الدليل إلا
رفع اليد عن حجية الخطاب في فعلية المحركية في ظرف تطبيقه.
وأما حجية الخطاب في ثبوت المصلحة حتى في حال العجز فلا قصور
313

للخطاب عنه.
وبمثل هذا البيان نتمسك باطلاقات الخطابات لإحراز المصلحة حتى في
حال العجز لا بما يتوهم من التمسك باطلاق المادة دون الهيئة إذ التفكيك بين
الهيئة والمادة في ظهور الاطلاق وعدمه مع اتصالهما في الكلام في غاية البعد
والاشكال وسيجئ توضيح ذلك أيضا في بحث خطاب المشافهة إن شاء الله.
نعم مع انفصال القرينة العقلية في التمسك باطلاق الخطاب عند الشك
في القدرة واحرازها به مبني على جواز التمسك بالعام عند الشك في مصداق
المخصص اللبي وإلا كما هو المختار ففي التمسك باطلاق الخطاب اشكال.
نعم الذي يسهل الخطب هو ان الشك في القدرة في كلية التكاليف حتى
الثابتة بأدلة لبية كحكم العقل بالملازمة وأمثاله محكوم عند العقل بالاحتياط بل
وبالغاء احتمال عدمها قبال سائر قيود التكليف شرعا فإنها تجري البراءة عند
الشك وذلك هو الوجه في احراز القدرة مع الشك بها حتى في مورد لم يكن
للتكليف اطلاق لا بالاطلاق في الخطاب كما توهم.
وكيف كان ظهر مما ذكرنا أن حال القدرة من سائر الجهات حال سائر
القيود كانت بوجودها اللحاظي دخيلا في مضمون الخطاب وبوجودها الخارجي
دخيلة في مقام تطبيق العبد ومحركيته.
وبالجملة نقول إن ملخص الكلام في كلية المرام حرصا لتوضيح المرام:
إن شأن الخطابات ليس إلا مجرد ابراز الاشتياق توطئة لدعوة المأمور
وانبعاثه في طرف تطبيق المأمور هذا الخطاب على مورده وحينئذ من الواضح ان
ما هو لازم من وجود الموضوع وقيوده خارجا إنما هو في طرف تطبيق المأمور الذي
هو أيضا طرف محركية خطابه وبعثه الذي هو من آثار الخطاب وأما في نفس
الخطاب فلا يحتاج إلى احراز شئ من الموضوع بنفسه أو بقيده وإنما المحتاج
إليه في هذا المقام ليس إلا لحاظ الموضوع بنفسه أو بقيده، وفرض وجوده خارجا
314

بقيوده المشتاق إليه فعلا ويريدها بمرتبة منها الموجب له ابراز اشتياقه.
وحينئذ فمرتبة محركية الخطاب للعبيد أجنبية عن مدلول الخطاب بل هو
من شؤون التطبيق المتأخر عن الخطاب رتبة ولذا نقول بأن لفعلية الخطاب مقام
غير مقام فاعليته وانما مرحلة الفاعلية المساوق لتأثير الخطاب في حركة العبد
منوط بتطبيق العبد إياه على المورد الذي هو في رتبة متأخرة عن مضمون
الخطاب ويستحيل بلوغ نفس الخطاب إلى هذه المرتبة لاستحالة شموله مرتبة
متأخرة عن نفسه.
وحينئذ فما توهمه بعض بأن الخطابات حيث كانت في مقام انشاء البعث
فلا تكاد تتحقق حقيقة المنشأ إلا بوجود شرطه خارجا وان روح الحكم هو البعث
وأنه لا مجال للتفكيك بين فعلية الحكم وفاعله فاسد جدا.
إذ لنا أن نسأل ان الغرض من البعث المساوق للمحركية ما هو محفوظ
في مرتبة نفس الخطاب بلا دخل لمرحلة التطبيق المتأخر عنه رتبة فيه فهو من
الأغلاط لما عرفت أن محركية الخطاب من شؤون تطبيق العبد لا من شؤونه ولو
قبل التطبيق.
وان كان الغرض ان البعث من شؤون الخطاب ولو بشرط تحقق مقدمات
للتطبيق ففيه: ان مثل هذه المرحلة إذا كان دخيلا في البعث يستحيل أن يكون
البعث من شؤون الخطاب ومأخوذا فيه لاستحالة سعة الخطاب للمرتبة المتأخرة
عن نفسه فكيف يكون الأمر المترتب في المرتبة المتأخرة من شؤون الخطاب
ومضمونه؟.
ومما ذكرنا ظهر أيضا أن مفاد نفس الخطابات التكليفية [أجنبي] عن
القضايا الحقيقية المستلزم فيها تبعية فعلية المحمول لفعلية موضوعه وفرضه
لفرضه إذ في المقام فعلية مضمون الخطاب الذي هو المحمول تابع فرض وجود
الموضوع ولحاظه طريقا إلى خارجه وانما تخيل من تخيل كونها من القضايا
315

الحقيقية من جهة توهمه في أخذ حيثية المحركية الفعلية في مضمون الخطاب وعبر
عنها بمرتبة الإرادة والايجاب غافلا عن أن هذه المرتبة من لوازم تطبيق العبد
خطابه على المورد وبديهي أن مرحلة التطبيق المزبور أجنبي من مفاد الخطاب
ومتأخر عنه رتبة كما هو واضح.
كما أن من توهم توقف فعلية الوجوب بوجود الشرط خارجا أيضا مبني
على أخذ المحركية في مضمون الخطاب والا لو ترى - كما أشرنا سابقا - أيضا
أن شان الخطاب ليس إلا بروز مجرد الاشتياق الملازم لمرتبة من الإرادة من الآمر
المتعلق بحفظ وجود مرامه بصرف خطابه مع جعل مقدمات التطبيق في عهدة
عبده لكان يصدق ان هذا المقدار لا يقتضي فعلية وجود الشرط أو الموضوع
بقيوده خارجا بل شأنه ابراز الاشتياق المنوط بوجود الموضوع بحدوده وقيوده
في لحاظه الطريق إلى خارجه فيكتفي بقوله * (لله على الناس حج البيت من
استطاع إليه سبيلا) * من دون احتياج مضمون الخطاب الحاصل فعلا إلى وجود
مستطيع أو استطاعة وانما يحتاج إليه في مقام تطبيق العبد إياه على المورد.
وعليه فلب الواجبات ومضمون الخطابات ليس إلا إرادة المولى الموجب
لابراز اشتياقه لمحض الدعوة بمبادئها في ظرف تطبيق العبد وهذه المرتبة من
الإرادة تارة مطلقة حسب اطلاقه اشتياقه وأخرى منوطة بوجود موضوعه أو
شرط من شروطه في لحاظ الآمر حسب إناطة اشتياقه بها وصالحة للمحركية في
طرف تحقق مقدمات تطبيق المأمور هذه الكبريات على المورد بلا محركيتها للعبد
فعلا.
ولعمري انه لا يكاد ينقضي تعجبي في أخذهم المحركية المزبورة في
مضمون الخطاب وجعل الايجاب الذي هو مضمونه بزعمهم منوطا بوجود
الموضوع والشرط خارجا بحيث يوجب فرض الموضوع فرض محموله، وأدخلوا
مثل هذه الخطابات أيضا في القضايا الحقيقية مع أن مضامين الخطابات التكليفية
316

على ما عرفت بما لا مزيد عليه أجنبية عن هذه المرتبة بمراحل.
ثم إن للعلامة الأستاذ كلام في تصويره إناطة فعلية البعث في المشروطات
بوجود الشرط خارجا مع التزامه بكفاية وجوده اللحاظي في توجه اشتياقه.
وملخصه انه من الممكن قيام مفسد في بعثه قبل وجود شرطه فلا جرم
يصير بعثه منوطا بانتفاء المفسدة الملازم لوجود شرطه خارجا.
ولكن لا يخفى ما فيه - مضافا إلى أن ظاهر الخطابات المشروطة إناطة
الوجوب بجميع مباديه على الشرط كما أن الظاهر منها أيضا أن الحكم بفعليته
منوط بنفس الشرط لا بلازمه - انه ما المراد من البعث المانع عنه المفسد؟.
فان أريد مرتبة محركية الاشتياق للمولى في عالم جعل احكامه الفعلية
على العباد ففيه: ان هذه المرتبة كما تقدم منتزعة عن مجرد ابراز اشتياقه بانشائه
وخطابه ليدعو عبيده عند تطبيقه إلى العمل وبديهي أن هذا المعنى قد تحقق إذ
بخطابه أبرز اشتياقه الغير المنوط لوجود شئ خارجا حسب اعترافه.
وان أريد مرتبة محركيته للعبد فقد تقدم انه تبعات تطبيق العبد مفاد
الخطاب على المورد وهو حينئذ أجبني عن مضمون الخطابات طرا وكان منوطا
بوجود الشرط خارجا بلا احتياج إلى قيام مفسدة في نفسه كما لا يخفى.
ثم إن من شؤون كون المحركية من شؤون تطبيق العبيد كبراه على
مورده ان العبد بمحض علمه بحصول الشرط في موطنه يقطع باحتياج حفظه
مرام مولاه بحفظ مقدماته فعلا فيطبق الاشتياق الغيري على المقدمة الناشي
عن الاشتياق الفعلي الحاصل في طرف لحاظ القيد في موطنه إذ لا يرى حينئذ
قصورا في ترشح الاشتياق الغيري من الاشتياق الفعلي المنوط بوجود الشئ
المحرز في موطنه فيتحرك العبد حينئذ نحو المقدمات قبل حركته نحو ذيها.
وحينئذ لنا أيضا [ان] نقول: إنه لو كانت المحركية الفعلية للمأمور
[مأخوذة] في فعلية الإرادة ومضمون الخطاب فيلزم الالتزام بتقدم إرادة المقدمة
317

في غالب المقامات عن إرادة ذيها وهو خلاف ديدنهم من تبعية إرادة المقدمة عن
إرادة ذيها كما لا يخفى.
ومن التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا أن الخطابات بنفسها كافية في احداث
الإرادة الغيرية نحو المقدمات المفوتة بمحض تطبيق العبد الخطاب في المورد
حتى في الموقتات قبل وقتها من دون احتياج إلى خطاب آخر مسمى بمتمم
الايجاب أو بالوجوب التهيؤي إذ هذه التكلفات إنما [هي] من تبعات أخذ
المحركية الفعلية في مضمون الخطاب ولقد عرفت ما فيه بما لا مزيد عليه.
وبالجملة نقول إن الواجبات والخطابات المطلقة مع المشروطة منها
والموقتة قبل شرطيتها سيان في فعلية الاشتياق الذي هو مضمون الخطاب البالغ
إلى مرتبة من الإرادة بابرازها بها وانما الفرق بينهما في صرف إناطة الاشتياق
بوجود الوقت أو المشروط في لحاظه في الثاني دون الأول.
نعم في المقام صورة أخرى من الاشتياق المتعلق بالمقيد لكن لا به بجميع
شؤونه بل كان متعلقا به ببعض شؤونه على وجه يكون مانعا عن بعض أنحاء
تروكه، نظير ما تصورنا هذا النحو من الوجوب في الواجبات التخييرية.
ونقول إن المطلوب والمشتاق إليه هو المقيد من حيث ذاته التوأم مع قيده
بلا توجهه إلى قيده بل القيد خارج عن حيز [الاشتياق].
فهذه الصورة من حيث عدم محركيته نحو المقيد إلا في ظرف وجود القيد
[شريكة] مع الواجب المشروط.
كما [أنها] في عدم إناطة الاشتياق بوجود القيد شبيهة بالواجب المطلق
فهو حينئذ نحو من الوجوب ووسيط بين المطلق والمشروط ومرجعه إلى وجوب
الذات الملازم مع وجوب قيده من باب الاتفاق كما هو الشأن في وجوب كل طرف
من الوجوب التخييري بالنسبة إلى وجود الطرف الآخر بلا إناطة كل منهما به.
ولذا ليست الواجبات التخييرية من سنخ المشروطات بل هي ايجابات
318

مطلقة ناقصة حافظة لبعض جهات وجود المتعلق الملازم لمنعها عن بعض تروكها
لا مطلقا.
ففي ما نحن فيه أيضا قد يكون طلب المولى بالمقيد بهذا المنوال لا مطلق
حافظ لجميع أنحاء وجوده ولا مشروط بقيوده ففي هذه الصورة أيضا إذا طبق
المأمور مثل هذه الكبرى على المورد ولو باحرازه وجود القيد من باب الاتفاق
في موطنه يتحرك فعلا من قبل ارادته الحاصلة بابراز المولى اشتياقه نحو مقدماته
المفوتة من دون فرق فيه أيضا بين كون القيد الخارج عن حيز الاشتياق حاليا
أم استقباليا.
ولئن شئت فسم مثل هذه الصورة بالواجب المعلق الراجع إلى فعلية
الايجاب والإرادة بمحض ابراز المولى هذا النحو من الاشتياق لعبده متعلقا بأمر
استقبالي المستلزم لتحريك العبد عند تطبيقه نحو مقدماته المفوتة من قبل فعلية
إرادة مولاه من جهة ابراز ارادته كما هو الشأن في المشروطات الموقتات قبل
وقتها.
وبعد مثل هذه البيانات لا يبقى لك مجال حوصة وصيحة في انكار
الواجب المعلق قبال المطلق والمشروط.
نعم إنما المجال لانكاره وللالتزام بإناطة الوجوب في المشروطات بوجود
الشرط خارجا وأن القضايا المشروطة والموقتات من قبيل القضايا الحقيقية في
اقتضاء فعلية الموضوع فعلية المحمول وفرضه فرضية لو بنينا على أخذ مرتبة
المحركية للمأمور في مضمون الخطاب.
ولقد تقدم منا أيضا أن تمام حوصتنا وصيحتنا [البالغة] إلى السماء في انكار
ذلك وان هذه المحركية من شؤون تطبيق العبد بمفاد الخطاب على المورد ومن
البديهي أن مرحلة التطبيق المزبور كما تقدم أيضا متأخرة عن مضمون الخطاب
رتبة ولا يعقل أخذها في مضمونه وذلك ظاهر لمن أنصف وأعرض عن الاعتساف.
319

هذا كله في شرح حقيقة الواجبات بأنحائها.
بقي الكلام في استظهار كل منها من نحو خطابه وحكم الشك في الكيفية
عند الاجمال فنقول وعليه التكلان أيضا:
ان الخطاب تارة [مطلق] غير [مشروط] بشئ زائد عن الشرائط العامة
بمعنى عدم وقوع اللفظ الحاكي عن [الايجاب] هيئة أو مادة في حيز أداة الشرط
بل القيود المأخوذة فيه مأخوذة في طي متعلق الحكم ومعروضه.
وأخرى كانت القيود المزبورة واقعة في طي أداة الشرط مثل المجئ في
قوله إن جاء مثلا.
ونظيره ما كان من القيود [مأخوذا] في طي متعلقات الأفعال المعروضة
للطلب في صورة ظهور الخطاب في إناطة الحكم بالمتعلق المزبور.
وثالثة صورة كون القيد [مأخوذا] في الفعل مع فرض خروجه عن حيز
القدرة.
فعلى الأول فالظاهر من اطلاق الخطاب بمحموله وموضوعه كون
الوجوب المتعلق بالمقيد وجوبا مطلقا حافظا لوجود موضوعه مطلقا وسادا لجميع
أبواب عدمه.
كما أن الظاهر من الثاني في فرض وقوع الحكم المنشأ بمادته في طي الأداة
كونه من المشروط لظهور أداة الشرط في كون متلوها شرطا لما أنيط به من
الحكم.
ومن هذا الباب أيضا القيود المأخوذة في طي المتعلق المعلوم إناطة الحكم
بوجوده.
كما أن الظاهر من اطلاق الهيئة في الفرض الأخير عدم إناطته بوجود
القيد بل إنما كان متعلقا بالقيد ببعض شؤونه لا بجميع انحاء وجوده بحيث
يكون القيد المزبور خارجا عن حيز ارادته كما هو لازم القسم الأخير من
الوجوب.
320

نعم قد يبقى الاشكال في صورة كون الحكم المتلو للأداة منشأ بالهيئة فان
في كلماتهم [اختلافا عظيما] في ارجاعها إلى الهيئة أو المادة.
ومنشأ الإشكال أمران:
أحدهما توهم كون مفاد الهيئة على حذو المعاني الحرفية معاني آلية غير
ملتفت إليها وارجاع القيد إلى شئ يحتاج إلى الالتفات [إليه].
ثانيهما ان مفادها معاني خاصة غير قابلة للسعة والضيق ببركة القيد
فكيف يرجع القيد الذي شأنه [التضييق] إليها؟.
ولكن لا يخفى أن الاشكال الأول مبني على جعل المعاني الحرفية [آلية
] [مرآتية] بحيث لا يلتفت إليها مستقلا أصلا وهو خلاف التحقيق بل لب معانيها
من سنخ الإضافات والروابط بين متعلقاتها من المعاني الاسمية ومثل هذه
الروابط ربما يلتفت إليها غاية الأمر تبعا لمتعلقاتها وهذا المقدار كاف في ارجاع
القيد إليها كما لا يخفى.
وأما الشبهة الثانية فإنما [تتوجه] لو أريد من الخصوصية المأخوذة فيها
الخصوصية الناشئة حتى من قبل الحالات الطارية عليها وإلا فلو لم يؤخذ فيها
أزيد من المشخصات الفردية والخصوصيات المفردة مع قطع النظر عن طرو
الحالات الخاصة على كل فرد فرد فلا شبهة حينئذ أن كل فرد قابل للسعة
والضيق من ناحية طرو الحالات المخصوصة عليها فلا قصور حينئذ في تضييقها
بارجاع قيد إليه موجب لطرو ضيق حالي على الفرد المخصوص.
ثم إن ذلك بناء على الالتزام [بخصوص] المستعمل فيه في الحروف، وإلا
فبناء على كونها من باب عموم الموضوع له والمستعمل فيه ولو بنحو نحن
تصورناه في أمثال المقام بلا قصور أيضا في ارجاع القيد إلى الجامع الملحوظ مع
خصوصية فردية ومتحد معه في ذهنه كما لا يخفى.
وحينئذ فلا غرو في ابقاء ظهور اللفظ في رجوع القيد إلى الحكم ولو كان
321

منشأ بالهيئة وحينئذ فلا داعي على ارتكاب خلاف الظاهر في أمثالها وارجاع
القيد إلى المادة ويلتزم برجوع الواجبات المشروطة إلى المطلقة المعلقة وان كان
[المعنيان] سيان في عدم لزوم الامتثال إلا في طرف وجود القيد.
نعم هنا فذلكة أخرى و [هي] أن من التزم بارجاع الواجبات المعلقة إلى
المشروطة لابد له من جوابه عن الشبهتين في ارجاع القيود إلى الهيئة والا فيكف
يمكنه الالتزام باشتراط الوجوب الذي هو مفاد الهيئة في القضية وحينئذ فالجمع
بين المسلكين غير معقول كما لا يخفى والله العالم.
ومنها: تقسيمهم الوجوب إلى نفسي وغيري ومرجع الوجوب النفسي إلى
الايجاب الصادر [من] المولى بدوا بلا تبعية لايجاب آخر بخلاف الوجوب
الغيري فإنه ايجاب ناشئ عن ايجاب آخر ثم التزموا بأن المقدمة واجبة
بالايجاب الغيري المسبوق بايجاب شئ آخر نفسي كوجوب الوضوء مثلا
بالنسبة إلى وجوب الصلاة.
وفي هذا المقام اشكال مشهور وهو أن الغرض من هذا التقسيم ان كان
ارجاعه إلى مرتبة لب الاشتياق فروح الإرادة بها غيري ناشئ عن الأغراض
المترتبة عليها من المصالح القائمة بها.
وان كان الغرض منه ارجاعها إلى مقام ابرازهما بالخطاب الذي هو في
الحقيقة منشأ انتزاع الايجاب دون المرتبة السابقة عن هذا الابراز ففيه ان لازمه
عدم وجوب غالب المقدمات غيريا لعدم وقوعها في حيز خطاب أصلا، وحينئذ
أين مركز هذا التقسيم وما هو مقسمه؟.
وحل الاشكال بأن يقال إن هذه الشبهة إنما [ترد] لو كان المراد من
الوجوب الغيري القائم بالمقدمة وجوبا مستقلا ناشيا عن الخطاب بها مستقلا.
وأما لو كان الغرض [من] وجوب المقدمة غيريا مجرد كونه من لوازم
الخطاب لغيره بنحو يكون مدلولا التزاميا له فلا غرو حينئذ بدعوى كون مركز
322

التقسيم مقام ابراز الإرادة ولو بكونه مدلوله الالتزامي فإنه حينئذ أمكن دعوى أن
المولى بأي عنوان أبرز إرادة بخطابه بدوا ينتزع عنه عنوان الوجوب النفسي
وان كان لب ارادته غيرية وبأي عنوان، ما أبرز بخطابه بدوا بل في ابرازه أوكل
على ما هو مدلوله الالتزامي ولو عقلا انتزع من مثله الوجوب الغيري التابع
لغيره في جميع العوالم من عالم الاشتياق إلى عالم الابراز بالخطاب.
وبذلك يجاب عن النقض بصورة يكون الوجوبان النفسيان متلازمين في
الوجود، وابرز ارادته بخطابه في أحدهما وأوكل بمدلوله الالتزامي في الآخر
ولازمه تبعية هذا الوجوب للآخر في عالم الابراز فيلزم أن يكون واجبا غيريا
للآخر وهو كما ترى.
وتوضيح الجواب بأن مجرد التبعية في عالم الابراز غير كاف في غيرية
الوجوب بل الوجوب الغيري ما هو تابع غيره في جميع العوالم كما أشرنا.
نعم هنا شبهة أخرى و [هي] أن ابراز الإرادة لشئ ولو بالمدلول
الالتزامي فرع الالتفات بموضوعه فمع الغفلة يستحيل كون المغفول عنه تحت
ارادته كي يتكل في ابرازه بمدلول خطابه ولو التزاما وحينئذ فيخرج المقدمات
المغفول عنها عن حيز الوجوب الغيري بأي مرتبة منه.
ودفع الشبهة - مضافا إلى عدم [ورودها] في الشرعيات التي يأتي فيها
المولى عن الغفلة عن مقدمات مطلوبه - انه يكفي فيه التفاته الاجمالي نحو
المقدمة ولو بهذا العنوان في سراية الوجوب إلى المعنون كما هو الشأن في كثير
من الموارد الساري فيه الحكم إلى موضوعه بعنوانه الاجمالي كالأحكام السارية
إلى كل فرد ملحوظ بعنوانه الاجمالي لا التفصيلي.
وهذه الجهة من الشبهة أيضا [دعتهم] إلى تقسيم الوجوب [إلى] الأصلي
والتبعي.
وغرضهم من الأصلي ما هو منظور إليه تفصيلا، ومن التبعي ما هو منظور
323

إليه بعنوانه الاجمالي المشير إلى الموضوع بإشارة اجمالية كما لا يخفى.
ثم إن المناط في استحقاق العقوبة في نظر العقل بعد ما كان منحصرا
بتفويت الغرض الأصلي فلا يرى العقل عقوبة على تفويت كل مقدمة مقدمة
وحينئذ فليس الوجوب المتعلق بالمقدمات موجبا لاستحقاق العقوبة على كل
مقدمة مقدمة وحينئذ لا مجال لتغير الوجوب القائم بالمقدمات بما يستحق فاعله
العقاب على متعلقه بل هذا المعنى أيضا لا يجري في غالب الواجبات النفسية
التي لب ارادتها غيرية وان كان في عالم الابراز لم يكن تبع غيره.
نعم في المقام شئ وهو أن المقدمة بتفويتها كما كان علة لفوت الغرض
فالاقدام من الأول على هذا التفويت ابراز نحو جرأته على المولى وربما يستحق
بهذه الجرأة والطغيان عقوبة مولاه ولكن لا بنحو يتعدد العقوبة بتعدد تفويت
المقدمة عرضا إذ مناط الجرأة والطغيان على وحدة الغرض الأصلي فتفويت ألف
مقدمة إذا لم [ينته] إلا إلى فوت غرض واحد فلا يكون مثله إلا تجريا واحدا
فلا يستحق حينئذ إلا عقوبة واحدة.
وحينئذ فلك أن تقول باستحقاق العبد من حين تفويته لكن لا من جهة
تفويته بما هو بل من جهة دخوله به في صراط تفويت غرض المولى وهذا نحو
طغيان كان شروعه من حين تفويت المقدمة.
وربما يؤيد بناء العقلاء على ذمه بمجرد رفع يده عن الشاهق بلا انتظارهم
في لومهم إلى حين موته كما هو ظاهر لصاحب الوجدان.
ثم إنه كما كان تفويت المقدمة من حينه شروعا في الطغيان على المولى
وبه يستحق اللوم والعقوبة كذلك اتيانها بقصد التوصل بها إلى ذيها أيضا كان
شروعا في تسليمه لمولاه وكونه في صراط اطاعته وانقياده.
ومن المعلوم أن العقل في هذه الصورة أيضا يرى استحقاق المدح
والثواب بنفس شروعه بايجادها بهذا القصد.
324

نعم لا يستحق الثواب أيضا بايجاده المقدمة بما هو مقدمة ولو لم يكن في
ايجاده قاصدا للتوصل به إلى غرض مولاه كما عرفت من هم العقل في حكمه
باستحقاق الثواب والعقاب كونه في مقام التسليم وطغيانه التابعين لكونه في
صراط تفويت غرض مولاه وتحصيله وذلك لا يحصل إلا بصيرورته في مقام ايجاده
المقدمة قاصدا للتوصل به إلى الغرض وحينئذ يستحق الثواب بتسليمه من حين
ايجادها ولو لم نقل بوجوب مقدمة الواجب.
نعم أمكن دعوى استحقاقه الثواب أيضا بمحض اتيانها بداعي وجوبها
كما هو الشأن في الواجبات النفسية وان كانت لبها غيرية إذ لا شبهة في
استحقاقه الثواب باتيانه لمحض محبوبيته لدى مولاه وإن لم يكن بباله تحصيل
غرضه.
فان قلت: إن ذلك يتم بناء على وجوب ذات المقدمة وأما بناء [على]
وجوب المقدمة الموصلة كما يأتي ان شاء الله فلا يمكن الاتيان بداعي وجوبه إلا
مع قصد التوصل بذيها فلا جرم يحتاج في التقرب بأمره إلى قصد التوصل به إلى
ذيها إذ بدونه لا يكون واجبا.
ولا يرد في هذا المقام النقض بالواجبات النفسية التي لب ارادتها غيره إذ
موصليتها إلى الغرض ذاتي فيها من دون احتياج فيه إلى إرادة وقصد آخر
بخلاف بقية المقدمات فان موصليتها منوطة باعمال إرادة أخرى نحو ذيها
فحينئذ فهذه الإرادة والقصد دخيل في وجوبها وحينئذ لا يكون دعوة وجوبه إلا
في ظرف قصده لذي المقدمة [الملازم] القصد التوصل بها إلى ذيها فإذا كان كذلك
فنقول:
إن قصد التوصل مقدمة لدعوة أمره، فمع تحققه يكفي في استحقاقه
المثوبة مجرد هذا القصد السابق [على] دعوة الأمر فلا يبقى حينئذ مجال لصيرورة
دعوة الأمر موجبا لاستحقاقه الثواب بعد الجزم بعدم استحقاق واحد على المقدمة.
325

قلت: إن غاية ما يقتضي القول بايصال المقدمة عدم الجزم بوجوبها في
[ظرف] عدم العلم بالايصال لا في [ظرف] عدم قصده إليه فعلا إذ ربما لا يلتفت
الانسان إلا إلى ترتب ذيها وأما كونها منوطا بقصده لذيها فعلا فلا يلزم.
مع أنه لو فرض لزوم ذلك فلا شبهة في أن هذه الإرادة [ملازمة] للتوصل
بالمقدمة إلى ذيها لا [ملازمة] لقصده وحينئذ ربما يلتفت الانسان إلى الملزوم ولا يلتفت
إلى لازمه وعلى فرض الالتفات إليه أيضا لا يقتض الالتفات إليه قصده.
وحينئذ فملازمة وجود ذي المقدمة لوجوبها أجنبي عن ملازمة وجوبها
لقصد التوصل بها إلى ذيها بمراحل شتى ففي هذه الصورة لا بأس بدعوة وجوبها
بلا خطور قصد التوصل بها إلى البال.
وأضعف من ذلك تقريب آخر لاعتبار قصد التوصل في الامتثال وهو أن
ارادته للعمل بعدما كان تبعا لإرادة مولاه فلا محيص في كونه في مقام اطاعته
مطاوعا لمولاه كمطاوعة القابل في عقود المعاملات للموجب. ومن الواضح أن
روح المطاوعة بتبعية قصده لقصده وإذا كان قصد المولى للمقدمة التوصل به إلى
ذيها فلا جرم يكون قصد المأمور أيضا كذلك وإلا لم يكن مطاوعا له ولا مطيعا
لمثله.
وتوضيح دفعه بأن مرجع ما أفيد إلى أن الإطاعة والمطاوعة لا تكاد تتحقق
إلا بكون إرادة العبد للعمل في الكيفية من حيث النفسية والغيرية تبعا لإرادة
مولاه وهو أول شئ ينكر كيف؟ وفي هذا المقام يكفي النقض بإطاعة الأوامر
النفسية التي لب ارادتها غيرية إذا لم يلتزم أحد بلزوم ارادته لمحض التوصل به
إلى الغرض، إذ بدونه لا يكون إرادة العبد غيريا. ولازم ما أفيد حينئذ عدم تحقق
الإطاعة فيها بصرف اتيانها بداعي محبوبيتها لدى المولى وهو كما ترى
لا يستأهل ردا.
ثم إنه بعد ما ظهر نحوي التقرب في المقدمات فلا بأس حينئذ بأخذ أحد
326

النحوين في المقدمات [العبادية] كالطهارات الثلاث.
وتوهم [أن] دخلها في المقدمية مستلزم لعدم التقرب بكل واحد من
النحوين إذ حينئذ بدون التقرب لا يمكن اتيانها بقصد التوصل ولا بداعي
وجوبها فينتهي حينئذ استلزام دخل التقرب في المقدمات [العبادية] إلى توقف
التقرب بها على نفس التقرب وهو كما ترى.
مدفوع بأن دخل التقرب في المقدمية لا يخرج ذواتها عما لها من الدخل
فيها كما لا يخرج هذه الذوات عن صلاحية تعلق الوجوب بهذه الذوات في الرتبة
السابقة عن التقرب بها كما هو الشأن في دخل التقرب بدعوة الأمر في
الواجبات النفسية وبعد ذلك فلا غرو [بقصد] التوصل بنفس الذوات إلى ذيها.
وبمثل هذا القصد حينئذ [تتم] المقدمية بضم القربة.
كما لا غرو بجعل وجوب نفس هذه الذوات داعيا بنفسها ومتمما
للمقدمية.
ولئن شئت قلت: إن الاشكال المزبور إنما يتم لو كان التقرب بأحد
النحوين دخيلا في أصل المقدمية وتمامه لا دخيلا في تتميم المقدمة بعد الفراغ عن
وجدان الذات لأصل المقدمية والوجوب.
فان قلت: إن الذات على الاطلاق لا يكون واجبا بناء على دخل الايصال
فيه ومع عدم وجوبه كيف يتقرب بأمره؟.
قلت: ذلك كذلك ولكن لا يقتضي ذلك أيضا إناطة الذات في وجوبه
بالتقرب به بل غاية الأمر ما هو واجب هو الذات التوأم مع التقرب في رتبة
سابقة عنه كما هو الشأن في كلية العبادات كما لا يخفى.
وبعدما اتضح ما ذكرنا لا تحتاج هذه المسألة إلى القيل والقال والالزام بما
لا يلزم أو المخل بالمقصود فراجع الكلمات ترى أي قدر كثروا الكلام في هذه
النقطة فتعرف قدر ما قلنا.
327

بقي الكلام في تحرير المبحث فيما هو الواجب فان في هذا المقام أيضا
هوسات وصيحات عظيمة.
فمنهم ذهب إلى أن الواجب منها مطلق المقدمة ولو لم يوصل ولا قصد به
التوصل إلى ذيها.
ومنهم ذهب إلى أن الواجب ما قصد به التوصل ولو لم يوصل.
ومنهم ذهب إلى أن الواجب خصوص الموصل منها ولو لم يقصد به
التوصل.
والتحقيق هو الأخير ثم الأول.
وأردأ الوجوه هو الوسط.
وذلك لان ما هو تمام الموضوع للإرادة الغيرية ليس إلا ذات المقدمة ولذا
يترشح الإرادة من الأغراض الأصلية إلى ذوات الأفعال في كلية الواجبات
النفسية التي كانت الإرادة [المتعلقة] بها ناشئة من الغرض المترتب عليها.
كيف؟ ولو كان لقصد التوصل إلى ذيها دخلا في وجوب المقدمة يلزم عدم
ترشح الإرادة من الغرض إلى ذوات الأفعال بل لا بد من كون دخل قصد
التوصل به إلى الغرض دخيلا في وجوب العمل ولازمه في مقام التقرب في
الواجبات النفسية عدم كفاية اتيان ذات العمل بداعي محبوبيته ومراديته لدى
المولى بل لا محيص من اتيانه بقصد التوصل به إلى الغرض.
وهو مضافا إلى أنه فاسد جدا كما تقدم لازمه عدم التقرب بدعوة أمرها
إذ نفس قصد التوصل به إلى الغرض كاف في التقرب بها فلا تنتهي النوبة إلى
حصول التقرب بدعوة أمره الذي هو في الرتبة المتأخرة عن قصد التوصل
المزبور بعد الجزم بان في عبادة وعمل واحد لا يكون تقربان كما لا يخفى.
ولعمري ان هذا البيان برهان جزمي في عدم دخل قصد التوصل في
وجوب المقدمة وإنما هي من تبعات التقرب بها ولو لم [تكن] واجبة لا أنها دخيلة في
328

وجوبها.
نعم هنا وجه آخر في عدم تعدي الوجوب عن صورة قصد التوصل
بالمقدمة إلى ذيها في بعض الفروض وهو صورة انحصار المقدمة بالمحرم وأقوائية
وجوب ذيها عن حرمتها بدعوى أن مفسدة الحرمة يقتضي مبغوضية المقدمة على
الاطلاق، ولكن حيث اقترن بها جهة محسنة فقهرا يصير قوة تأثير المفسدة في
مبغوضيتها أضعف.
وبعد ذا فإذا فرضنا أن الوجوب متعلق بالجامع بين ما فيه جهة محسنة
وعدمه فالعقل يحكم بترجيح ما فيه الجهة المحسنة في ترشح الوجوب إليه على
غيره، ففي غيره على اقتضاء حرمته، ولازمه حينئذ انحصار الوجوب فيما نحن
فيه بصورة اقترانه بقصد التوصل، إذ فيها جهة محسنة حسب صلاحيتها للتقرب
بها دون غيرها. ففي غيرها على حرمتها ولا يتعدى الوجوب حينئذ إليها، وذلك
أيضا لا لعدم المقتضي فيه بل لوجود المانع من بقاء تأثير الحرمة فيها بحاله.
هذا نهاية بيان لمرام بعض الأعاظم في وجه اختصاص الوجوب في مثل
هذا الغرض بخصوص ما قصد به التوصل.
وفرع عليه بأن جواز العبور عن الأرض المغصوبة [لانقاذ] الغريق عند
حصر الطريق به إنما هو منحصر في خصوص ما قصد به التوصل لا مطلقا وهكذا
الأمر في نظايره.
ولكن لنا في المقام كلام وهو إن ذلك إنما يتم لو فر ض كون الجهة المحسنة
في أحد الفردين أو الحالين جهة محسنة ملزمة، إذ حينئذ لازم الجمع بين أغراض
المولى مهما أمكن تخصيص الوجوب بما فيه تلك الجهة.
وأما لو فرض كون الجهة المحسنة غير ملزمة كما نحن فيه فلا شبهة في
أن العقل أيضا يحكم بحفظ أغراض المولى بنحو كان المولى بصراط حفظه وإذا
فرضنا أن المزية الزائدة لم تكن لدى المولى لازمة التحصيل فالعقل حينئذ
329

لا يحكم بلزوم حفظ [أغراضه] حتى ما لا يلزم حفظه لديه بل غاية الأمر يحكم
باستحسانه لا بلزومه.
وهذا المقدار لا يقتضي - حتى فيما فرضت - اختصاص ما قصد به
التوصل بالوجوب بل كان ذلك مورد استحسانه في اختياره ولقد شرحنا نظير
هذه المقالة في العبادات المكروهة فراجع باب اجتماع الأمر والنهي ترى ما ذكرنا
في المقامين حقيقا بالقبول.
هذا كله في دفع توهم دخل قصد التوصل في وجوب المقدمة.
وأما توهم وجوب مطلق المقدمة فعمدة النظر فيه أيضا إلى عدم دخل
حيثية الايصال إلى ذيها في وجوبها لأنه ان كان من باب دخله في وجوبه فيلزم
وجوب المقدمة في [ظرف] وجوب وجوده، إذ وجود ذيها يستحيل انفكاكه منها
وهو كما ترى [واضح] فساده.
وان كان من باب دخله في الواجب فمرجعه إلى كون الواجب من المقدمة
مقيدا بوجود ذيها فلازمه تقيد الواجب بشئ يستلزم استحالة تركه وهو أفحش
فسادا من الأول فلا محيص من عدم دخل حيثية الايصال إلى ذيها في الوجوب
أو الواجب. مضافا إلى حكم الوجدان بأن تمام المناط في الوجوب الغيري هو
ذات المقدمة بلا دخل شئ زائد عن المقدمية في وجوبه كما أسلفنا ذلك سابقا
أيضا.
ثم نقول أيضا إن الغرض من كل مقدمة الذي هو الداعي على ايجابه
ليس إلا ما يترتب عليه وحينئذ ليس وجود ذيها غرضا لكل مقدمة مقدمة إذ
يستحيل ترتب ذيها بكل واحد منها فلا محيص من كون الغرض من كل مقدمة
حفظ وجود ذيها من قبله وسد باب عدمه من ناحيته.
ولازمه ترتب مثل هذا الغرض على كل مقدمة ولو لم ينضم إليه غيره
ولا يتحقق وجود ذي المقدمة ويستتبعه حينئذ وجوب ذاته وإن لم يوصل مضافا إلى
330

أن بوجود كل مقدمة يسقط وجوبه ويستحيل بقاء وجوده ولولا قيام الوجوب
بها على الاطلاق يستحيل سقوط وجوبه حتى في حال انفراده عن بقية
المقدمات.
وهذا غاية بيان لمرام القائل بوجوب المقدمة بذاتها على الاطلاق بلا دخل
شئ آخر فيه.
ولكن لنا في مقامنا هذا كلام وهو أن هذه البيانات بعد تماميتها في نفسها
إنما [تنتج] المقصود لو كان سد باب مترتب على مقدمة مطلوبا مستقلا.
واما لو بنينا على أن مطلوبية السدود إنما هو من لوازم مطلوبية وجود
الشئ فلا شبهة في عدم اقتضاء مطلوبية الوجود بطلب واحد إلا مطلوبية
مجموع السدود بنحو الارتباط ومقتضاه حينئذ تعلق الطلب الضمني بكل واحد
بنفس ذاته في حال الانضمام بسد آخر لا مطلقا ولا مقيدا كما هو الشأن في وجوب
كل جزء من أجزاء المركب وحينئذ من المعلوم ان من هذا النحو من الطلب
القائم بالسد المترتب على كل مقدمة لا يترشح إلا نحوه إلى المقدمة.
لا أقول إن مجموع المقدمات واجبة بوجوب وحداني ارتباطي.
كيف؟ ولقد أشرنا بان اختلاف انحاء دخل المقدمة أوجب استقلال كل
بإرادة.
وانما [نقول] ان مطلوبية الغرض منها إذا كان طلبا ناقصا ضمنيا لا ينتج
ذلك بالنسبة إلى كل مقدمة إلا طلبا مستقلا غير منفك عن مطلوبية الغرض.
وحيث إن المطلوب من كل سد هو ذات السد التوأم مع بقية السدود
كذلك الواجب من المقدمة أيضا هو الذات التوأم مع البقية بلا اطلاق ولا تقيد.
ولئن شئت تقول: إن عدم سراية الوجوب من المقدمة إلى حال انفراده
عن الغير إنما هو لقصور في وجوبه لا من جهة تقييد في الواجب بشئ.
وبعدما اتضح ذلك نجيب عن البرهان الأخير - مضافا [إلى النقض]
331

بأجزاء الواجب أو الواجب المشروط بأمر متأخر عنه - أن في أمثال المقام يسقط
الوجوب عن الفاعلية ولو في فرض فعليته في الواقع.
وعمدة النكتة فيه أن مؤثرية الوجوب في الايجاد إنما هو في [ظرف] عدم
وجوده، وأما بعدما وجد فلا مجال لتأثيره.
لا يقال: إنه مع وجود الموضوع لا يبقى وجوب أصلا.
لأنه يقال: ان ذلك كذلك في الواجبات المستقلة وأما في [الضمنيات]
فقهرا يكون سقوطه توأما مع سقوط غيره، وبعد فرض عدم سقوط الوجوب
عن غيره يستحيل سقوط وجوبه. غاية الأمر حيث وجد موضوعه يسقط
الوجوب عن التأثير.
وهذا معنى ما ذكرنا من التفكيك بين الفعلية والفاعلية في أمثال هذه
الأوامر فتدبر.
وحينئذ نتيجة ما ذكرنا ليس إلا وجوب ذات المقدمة في حال الايصال
[لا بشرطه] ولا لا بشرطه.
ولئن شئت تقول: إن الواجب في باب المقدمة ما هو الموصل منها بحيث
يكون هذا العنوان كعنوان نفس المقدمية من العناوين المشيرة إلى ما هو واجب
لا انه بنفس هذا العنوان كان واجبا.
وأظن أن غرض صاحب الفصول (1) أيضا ليس بأزيد من ذلك وان لا يفي
به [بيانه] فتدبر.
ثم إنه قد يقال في ثمرة المسألة بأنه على القول بالايصال يلزم تصحيح
العبادة حتى بناء على المقدمية لأنه في ظرف. اتيان العبادة لا يكون عدمها
محبوبا كي يستلزم مبغوضية وجوده لعدم تصور الايصال لعدمها حينئذ.

(1) الفصول الغروية: 86، السطر 13.
332

نعم يصح البطلان لو بني على الاطلاق في وجوب المقدمة.
وقد يتوهم بأن من طرف شرطية عدمه لوجود ضده فالأمر كما ذكرت.
وأما من جهة علية الوجود للعدم فالمقدمة موصلة فيصير الوجود مبغوضا
ناشيا من مبغوضية ترك ضده.
ولكن قد تقدم سابقا أنه مع وجود الضد لا يكون المقتضي للآخر موجودا
فالعدم حينئذ مستند إلى عدم المقتضى لا وجود المانع بل المانع في هذه الحالة
خارج عن المقدمية الفعلية وبعد ذا وجوده كيف يجلب المبغوضية من عدم ضده
هذا.
ولكن مع ذلك يمكن دعوى أن هذا الوجود لا يصير محبوبا على الاطلاق
إذ لو كان بمثابة لو ترك هذا ليريد ايجاد غيره فلا شبهة حينئذ في أن عدم هذا
الوجود محبوب لكونه في هذا الغرض موصلا ولازمه مبغوضية وجوده حينئذ.
نعم يكفي في الثمرة عدم مبغوضية الوجود ولو في فرض عدم إرادة غيره
على فرض تركه هذا لأنه حينئذ لم يكن تركه موصلا كما لا يخفى.
بقي الكلام في بيان الوجه في أصل وجوبها موصلة أم غير موصلة ويكفي
فيه شهادة الوجدان على نشوة الإرادات من ناحية الأغراض المترتبة عليها إذ
لبها في كثير من الواجبات النفسية غيرية ولولا ترشح الإرادة الغيرية من
الشئ إلى مقدمة لما يترشح الإرادة من الأغراض الأصلية على الأفعال التي
كانت مقدمة لترتب الأغراض.
ولعمري ان هذا الوجدان أصدق شاهد على المدعى بلا احتياج فيه على
إقامة البرهان بتقريب أنه لو لم يجب لجاز تركه وحينئذ، ان بقي الواجب على
وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، وإلا يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا، كي
يرد عليه بمنع الملازمة بين عدم الوجوب وجواز الترك فعلا إذ بعد حكم العقل
بلا بدية ايجادها مقدمة لامتثال ذيها لا يبقى مجال [الحكم الشرعي] بجواز تركه
333

فعلا إذ حكم هذه المقدمة حكم الغير المقدور تركه الآبي عن تعلق الحكم
المولوي ايجابا أو ترخيصا نحوه.
نعم لئن أغمض عن منع الملازمة المزبورة أمكن تصحيح التالي بلا ورود
اشكال عليه; لأنه لو فرض جواز الترك من ناحية الشرع: فلو بقي الوجوب
لزم التكليف بما رخص في تركه ومن المعلوم أن لازم الترخيص الفعلي أن له
اختيار تركه ففي هذا الظرف لو التزم بايجاد ذيها يلزم التكليف بما لا يطاق وإلا
يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا.
وحينئذ العمدة في رد البرهان المزبور منع الملازمة المسطورة، ولكن قد
عرفت أن شهادة الوجدان تكفينا لاثبات المدعى بلا احتياج فيه إلى إقامة
برهان كما لا يخفى.
خاتمة في بيان ثمرة المسألة
وأحسن ثمراتها التوسعة في دائرة التقرب بالمقدمة خصوصا إذا كانت
المقدمة [عبادية] كما أشرنا في بحث التقرب بالمقدمة في طي تقسيم الوجوب
[إلى] النفسي والغيري فراجع.
وأيضا ربما [تظهر] الثمرة فيما لو أمر بفعل له مقدمة فعلى القول بملازمة
أمره بالفعل أمره بمقدمته، ربما يستحق الفاعل المأمور الأجرة على المقدمة أيضا
لأنه أيضا تحت أمره، وأما لو لم نقل بالملازمة المزبورة فلا يقتضي أمره بالفعل
إلا استحقاق الأجرة على ذي المقدمة لا المقدمة لأنه لم يكن بأمر الآمر وإنما
الملزم له لأبدية وجوده عقلا وذلك غير مرتبط بالآمر.
ثم في هذه الثمرة ربما يفرق بين القول بوجوب مطلق المقدمة أو الموصلة
منها في فرض اتيانه بالمقدمة محضا فيستحق الأجرة عليها على الأول دون الثاني
كما لا يخفى.
334

وأما بقية الثمرات المذكورة لها من عدم جواز أخذ الأجرة عليه بناء على
وجوبه، وجوازه بناء على عدمه، أو النذر باتيان واجب أو واجبين مثلا في يومه،
وأمثال ذلك مما ذكر في المطولات فلا مجال لإتمامها; إذ النذر لا يصلح أن يقع ثمرة
في المسائل الأصولية الواقعة في طريق استخراج أحكام كلية كما أشرنا إليه في
بحث الصحيح والأعم.
كما أن جواز الأجرة على المقدمة وعدمه تابع مجانية وجوده لدى الشارع
وعدمها من دون دخل وجوبه وعدمه في جهة مجانيته إذ لا ملازمة بين الجهتين كما
لا يخفى.
وقس عليهما حال بقية الثمرات المذكورة في المقام من دون مساعدة
الفرصة لتعرضها ودفعها والله العالم.
335

المقالة العشرون
الامر بالشئ هل يقتضي
النهي عن ضده
337

[المقالة العشرون]
في
أن الأمر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده أم لا؟
على أقوال، ثالثها التفصيل بين الضد الموجود وغيره بالاقتضاء في الأول
دون غيره.
ثم إن الغرض ضمن الاقتضاء ليس إلا الاقتضاء في عالم الثبوت وأن
الاقتضاء في عالم الاثبات من تبعاته ولذا ليس البحث مختصا بصورة ثبوت الأمر
بلفظ وغيره، وبه نخرجه عن مباحث الألفاظ.
وربما يكون مثل هذا العنوان قابلا لأن يجعل هذه المسألة من مبادئ
الأحكام وأمكن ادراجها أيضا في العقليات الغير المستقلة وان كان جعلها من
القواعد الكلية الواقعة في طريق استخراج أحكام كلية - كما هو شأن المسائل
الأصولية - أوفق بالمقصود.
وأيضا نقول إن منشأ الاقتضاء لدى القائل به تارة صرف الملازمة بين
وجود ضد وعدم الآخر، وأخرى دعوى مقدمية عدم أحد الضدين لوجود ضده
[فتدخل] المسألة حينئذ في طي مقدمات المسألة السابقة.
وحيث إن العقل يأبى عن اقتضاء صرف الملازمة بين الشيئين الملازمة
بين حكميهما بشهادة الوجدان بأن الاشتياق إلى شئ لا يقتضي الاشتياق إلى
339

لوازم وجوده من احتياجه إلى زمان أو مكان. وبهذه الجهة أيضا نقول بأن الأمر
بالطبيعة لا يقتضي سراية الاشتياق إلى الخصوصية بل ربما [تكون] الخصوصية
[مبغوضة] لديه مع أنهما حيثيتان [متلازمتان] بل ومتحدان وجودا.
فالعمدة في المقام تخيل مقدمية عدم أحد الضدين لوجود ضده نظرا إلى
تمانعهما في الوجود، وأن وجود كل واحد من موانع وجود الآخر ومعلوم أن عدم
المانع من اجزاء العلة التامة. وحيث عرفت من أن دخل عدم المانع بل ووجود
الشرط ليس دخلا [تأثيريا] بل هي دخيلة في قابلية المعلول للوجود - كما فصلنا
الكلام فيه في باب المقدمة - لا يبقى مجال منع المقدمية باستحالة مؤثرية العدم
في الوجود لعدم سنخية بينهما. كيف؟ ولازم هذا الكلام اخراج عدم المانع كلية
عن أجزاء العلة وهو كما ترى.
كما أن شبهة ورود الدور في المقام من استلزام التمانع بينهما توقف كل
واحد من الوجود والعدم على الآخر نظرا إلى أن عدم كل واحد شرط وجود
الآخر ووجود كل واحد علة لعدم الآخر أيضا لا يكاد يتم كما عرفت في بحث
المقدمة بأن عدم الشئ في صورة عدم المقتضي ووجود المانع مستند إلى عدم
المقتضي لا وجود المانع ففي ما نحن فيه عدم الضد مستند إلى عدم ارادته لا وجود
الضد.
نعم الذي يرد على المقدمية في الطرفين هو استلزام كون وجود كل واحد
في رتبة متأخرة عن الآخر نظرا إلى حفظ الرتبة الواحدة بين [النقيضين]. ونفس
هذه الجهة محذور مستقل بل هو في الحقيقة وجه استحالة الدور أيضا هذا كله.
مضافا إلى امكان دعوى أن مجرد التعاند بين الوجودين لا يقتضي التمانع
المصطلح بل غاية اقتضائه عدم اجتماعهما في الوجوب. وهذا المقدار لا يقتضي
تقدم أحدهما على الآخر بل غاية الأمر اقتضاؤه وجود أحدهما مع عدم الآخر
ولو في رتبة واحدة وحينئذ لا موجب لاقتضاء أزيد من التلازم بين أحد الوجودين
340

في الضدين مع عدم الآخر بلا مقدمية لأحدهما على الآخر أصلا.
وحينئذ فلا موجب لاقتضاء الأمر بأحدهما النهي عن الآخر إذ قد
عرفت بأن ما هو مقتضي له من المقدمية فصغراه ممنوعة وما هو موجود من
صغرى الملازمة فكبري اقتضائه ممنوعة. ولذا كان نظر المشهور بين القائلين
بالاقتضاء إلى حيث المقدمية والتمانع المصطلحة ولا أظن فيهم من التزم باقتضاء
صرف تلازم الوجودين التلازم بين حكميهما فراجع كلماتهم.
نعم غاية ما يقتضي التلازم المزبور عدم اجتماع الأمر بأحد الوجودين مع
الأمر بالآخر فوجوب الشئ حينئذ لا يقتضي إلا عدم وجوب آخر لا حرمته
وهذا المقدار في الجملة مما لا اشكال فيه.
وإنما الاشكال ومعركة الآراء في أن الأمر بشئ يقتضي عدم الأمر بضده
على الاطلاق ويقتضي عدم اطلاق أمره.
وأما إذا كان مشروطا بعصيانه بنحو الشرط المقارن فلا يقتضي الأمر
بضده منعه.
وإليه ذهب جملة من أساطين الفن، مبدأهم المحقق الثاني صاحب جامع
المقاصد على ما نسب إليه وأيد هذا المسلك سيد الأساطين الميرزا الشيرازي عطر
الله مرقده وتبعه جملة من أساتيد العصر رضوان الله عليهم.
ولا يخفى أن هذا المسلك يقتضي قهرا طولية الأمرين ولعله وجه مناسبة
تسمية هذه المسألة بالترتب.
وعمدة نظرهم في وجه تصحيح الأمرين المزبورين في زمان واحد هو أن
وجه المضادة بين الأمرين على الاطلاق وقوع المطاردة بينهما حيث إن كل أمر
يقتضي وجودا طاردا لضده ولازمه ايقاع المكلف فيما لا يطاق، وأما إذا كان
أحدهما مشروطا بعصيان الآخر فلا يقتضي هذا الأمر طرد الآخر لعدم اقتضاء
الأمر المشروط حفظ شرطه كما أن الآخر أيضا لا يطارد هذا لأمر المشروط
341

بعصيانه لأنه في مرتبة وجود المشروط منعزل عن التأثير بل لا يكون في هذه
المرتبة موجودا لاستحالة اطلاقه مرتبة عصيانه أو اطاعته وحينئذ فمن قبل
هذين الأمرين لا يقع المكلف فيما لا يطاق لعدم أول أمره إلى الجمع بين الضدين.
ولئن شئت قلت: بأن كل واحد من الأمرين في اقتضائه وجود المرام
لا يزاحم الآخر لأن الأمر المطلق يقتضي طرد عصيانه الملازم لطرد نفس الأمر
الآخر لا مقتضاه، كما أن الأمر المشروط لا يقتضي طرد مقتضى الآخر لأنه
مشروط بعصيانه، ولا يقتضي الأمر المشروط حفظ شرطه كما أشرنا هذا ملخص
بيان مرامهم.
أقول ما أفيد في بيان المرام في غاية المتانة ولكن هذا المقدار لا يقتضي
طولية الأمرين واشتراط أحدهما بعصيان الآخر.
وتوضيح ذلك بأن يقال إنه لا شبهة في صورة تساوي المصلحتين في حكم
العقل بالتخيير بينهما.
ومن الواضح أن مرجع التخيير فيهما ليس إلى اشتراط وجوب كل واحد
بعصيان الآخر إذ لازمه تأخر رتبة كل واحد من الأمرين عن الآخر والعقل يأبى
عن مثله كما عرفت لزوم هذا المحذور في مقدمية كل واحد من الضدين للآخر،
وهو عمدة الوجه في ابطال التمانع المصطلح بينهما.
كما أنه ليس مرجعه أيضا إلى اشتراط كل أمر بعدم وجود غيره الذي هو
في رتبة سابقة عن التكليف، إذ في مثل هذا الاشتراط وإن لم يلتزم المحذور
السابق وليس لازمه أيضا في ظرف عدم الضدين كونه ملزما بايجاد الضدين بنحو
المطاردة، إذ لازم الاشتراط المزبور خروج جهة الوجود الملازم لسد باب العدم
من قبل الشرط عن حيز الايجاب فقهرا يكون الطلب في كل واجب مشروط
طلبا ناقصا متوجها إلى بقية جهات الوجود وسد سائر الأعدام غير سد باب
واحد ملازم مع شرطه، ومن المعلوم أنه لا ضير بتعلق مثل هذين الطلبين الناقصين
342

بوجود الضدين لعدم المطاردة بينهما بعد الجزم بأن الطلب ناقص في كل مشروط
لا يصير تاما بوجود شرطه كما هو ظاهر.
بل عمدة الوجه في منع الاشتراط أنه بعد امكان توجه الطلب الناقص
إلى سائر الجهات الملازم لتحقق الجهة الملازمة لعدم الآخر من باب الاتفاق
لا داعي على تقييد الطلب وإناطته بعدم غيره بل يبقى الطلب الناقص على
اطلاقه من هذه الجهة ولذا كان المغروس في الأذهان دخول الوجوبات التنجزية
في الواجبات المطلقة وخروجها عن الواجبات المشروطة وأن روحها يرجع إلى
طلب الفعل بنحو يقتضي المنع عن بعض أنحاء تروكه قبال الطلب التام
المقتضي للمنع عن جميع أنحاء تركوه مع اشتراكهما في اطلاق الطلب وعدم
إناطته بشئ كما هو ظاهر.
وحيث اتضح ذلك فلنا أن نقول: إن الطلب بالنحو المزبور إذا لم يكن
بينهما مطاردة لنقص فهما كذلك لم يكن بينهما المطاردة المزبورة لو فرض نقص
الطلب من طرف واحد ولو لم يشترط الطلب الناقص المزبور بعصيان الآخر أو
بعدم الضد [السابق] على العصيان.
فان قلت: كيف لم يكن حينئذ المطاردة بينهما مع أن الطلب التام في
الطرف الآخر يطرد الأمر الناقص بمقتضاه وإن لم يكن الأمر الناقص يطرد
الأمر التام، لان مقتضاه حفظ الوجود من سائر الجهات غير ما يلازم وجود
غيره.
قلت: بعد ما اعترفت أن مقتضى الطلب الناقص حفظ سائر الجهات
في طرف انسداد الباب الملازم لوجود الضد، كيف يقتضي الطلب التام طرد هذا
المقتضي، إذ نتيجة طرده منع انسداد تلك الجهة، وفي ظرفه لا اقتضاء للطلب
الناقص، فأين المطاردة ولو من طرف واحد فضلا عن الطرفين؟.
وبعد ما اتضح ذلك نقول إن اللازم بحكم العقل رفع اليد عن ظهور
343

الأمر في التمامية إذ هو المتيقن في البين سواء قلنا باشتراط الأمر بعصيان أم لا،
فيبقى جهة ظهور الطلب في عدم إناطته بشئ تحت الاطلاق، ولازمه عدم طولية
الطلب بالضدين بل كل منهما مطلوب في عرض مطلوبية الآخر غاية الأمر مع
[تساوي] المصلحتين كل واحد منهما ناقص قاصر عن اقتضاء سد باب جميع
الأعدام.
ومع أهمية المصلحة في أحد الطرفين كان الطلب في الأهم تاما وفي المهم
ناقصا بلا لزوم الالتزام بشرطية العصيان في أمر المهم أو شرطية غيره كي يوجب
ذلك طولية الأمرين كما يفصح عن مثله عنوان الترتب في كلماتهم فتدبر في المقام
فإنه من مزال الأقدام.
344

المقالة الواحدة والعشرون
شرح مفاد النهي
345

...
346

[المقالة الواحدة والعشرون]
" في شرح مفاد النهي "
والظاهر أن مفاده الردع عن العمل قبال البعث إليه في الأمر.
وهذا العنوان مثل عنوان البعث في الأمر، منتزع عن مرحلة ابراز المولى
بغضه للعمل بانشائه بقصد صلاحيته لدعوة المكلف إلى تركه في طرف تطبيق
كبراه على المحل فيردع نفسه عنه بلا أخذ الدعوة الفعلية ولا الرادعية كذلك
في مضمون الخطاب أيضا: إذ هذه كلها من شؤون تطبيق العبد الكبريات على
المورد كما أسلفناه في باب الأمر.
وحيث عرفت أن مفاد النهي هو الردع عن العمل فكان النهي مثل الأمر
متعلقا بالعنوان الحاكي عن الوجود لا بنفسه.
وحينئذ الامتياز بين هيئة النهي والأمر إنما يكون بتمام المفاد لا ببعضه كما
توهم بخيال أن مفاد النهي هو طلب الترك قبال الأمر الذي مفاده طلب وجود
الفعل فأخذ الوجود في مدلول هيئة الأمر قبال أخذ الترك في مدلول هيئة النهي
مع جعل المتعلق لهما نفس الماهية عارية عن الوجود والعدم إذ حينئذ يكون
الامتياز بين الهيئتين بجزء من مدلولهما مع اشتراكهما في دلالتهما على الطلب
347

المتعلق بوجود الماهية أو عدمه.
وتوضيح الفساد: أن من المعلوم أن العنوان المأخوذ في مادة الهيئتين إنما
اخذ بنحو الحكاية عن الخارج بلا التفات إلى ذهنيته وفي هذه الحكاية لا يرى
منه إلا الوجود كما هو الشأن في الاخبارات أيضا فاستفادة الوجود من حكاية
المادة جهة مشتركة بين الأمر والنهي فلا يبقى فارق بينهما إلا من حيث البعث
إليه أو الزجر عنه وهما مأخوذان في هيئتهما ليس إلا، بلا أخذ وجود أو عدم في
مفاد الهيئة [الذي] هو من المعاني الحرفية كما هو الظاهر وجدانا.
ثم إن ظاهر اطلاق المادة في طي الأمر لديهم كون المطلوب صرف وجود
الشئ الساقط بأول وجوده، كما أن بناءهم على استفادة الدوام في النهي بنحو
لا يسقط النهي بأول وجوده.
وحينئذ ربما يتولد في المقام اشكال وهو أن طبع اطلاق المادة ان اقتضى
كون المتعلق صرف وجود الطبيعة فلازمه سقوط الأمر والنهي المتعلق بها بأول
وجوده أيضا، وان اقتضى كون المتعلق الطبيعة السارية فلازمه عدم سقوط الأمر
كذلك بأول وجوده أيضا فما الفارق بينهما؟.
وقد يتوهم الفرق بينهما من جهة القرينة النوعية على الدوام في النهي
دون الأمر.
وفيه أنه كلام ظاهري إذ ليس نظرهم في استفادة الدوام من النهي أيضا
إلى غير طبع اطلاق المادة.
والتحقيق أن يقال - كما مر سابقا أيضا -: ان مرجع الاطلاق الذي هو
نتيجة مقدمات الحكمة ليس إلا إلى جعل الطبيعة المهملة المحفوظة في ضمن
جميع صور الماهية من المقيدة والعارية عن القيد وغيرهما تمام الموضوع للهيئة
مثلا، ومن المعلوم ان طبع تماميته للموضوع تحقق تمامه بأول وجوده ولازمه سقوط
الأمر المقصود منه الوجود بذلك إذ لا قصور في تماميته لموضوع أمره.
348

وأما في النهي حيث كان المقصود الأصلي إعدامه فطبع اطلاق الماهية
المهملة يقتضي عدم صدق الإعدام عليها إلا بإعدام جميع افرادها حتى المتعاقبة
منها إذ بوجودها ولو بعد وجوده يصدق أيضا وجود الطبيعة المهملة فلا مجال
لإعدامها الا بترك ذلك أيضا.
وحينئذ هذه الجهة من الفرق بين الأمر والنهي إنما جاء من ناحية
اختلافهما في المقتضي بالفتح لا من ناحية طبع اطلاق المادة.
نعم هذا الاشكال انما يتسجل على مسلك من تخيل أن نتيجة مقدمات
الحكمة مطلوبية الطبيعة الصرفة قبال المقيدة الذي هو مسمى باللا بشرط
القسمي، إذ حينئذ كان مجال الاشكال السابق في النواهي باقيا، إذ الطبيعة
الصرفة إذا [تحققت] لا يتصور [لها] تكرر وجود لان صرف الشئ غير قابل
للتكرر بنحو التعاقب فمهما تحقق في الخارج يسقط النهي عنه ولا يكاد يبقى في
ثاني الوجود، لعدم انطباق الصرف عليه كما هو ظاهر.
وأما بناء على ما ذكرنا من أن نتيجة المقدمات ليس إلا جعل الماهية
المهملة الجامعة للمطلقة والمخلوطة تمام الموضوع فلا يكاد مجال للاشكال المزبور.
إذ حينئذ منشأ الفرق بين الأمر والنهي اختلافهما في كيفية الاقتضاء إذ
الأمر يقتضي وجود الماهية وبديهي أن وجود الماهية الجامعة المحفوظة في ضمن
المجردة والمخلوطة بتمامه يتحقق بأول وجوده فلا يبقى حينئذ مجال لاقتضاء الأمر
شيئا. كما أن النهي يقتضي عدم هذا الجامع بين المجردة والمخلوطة ولا يكاد
يتحقق إلا بعدم تمام الأفراد حتى الأفراد المتعاقبة التدريجية ولو من جهة كونها
أحد مصاديقها وذلك عمدة الفارق بين الأمر والنهي مع فرض اتحادهما في كيفية
الاطلاق وما هو نتيجة مقدمات الحكمة كما لا يخفى وتوضيح المقام بأزيد من ذلك
موكول إلى محله إن شاء الله تعالى.
349

ثم لا يخفى أن طبع النهي لما كان الردع عن الوجود فطبع الاطلاق كما
يقتضي الدوام بنحو شرحناه كذلك يقتضي الفورية إذ لازم إعدام الطبيعة من
حين الانشاء عدم وجوده من حين النهي. وبذلك أيضا يفرق النواهي عن
الأوامر بعدم اقتضائها في الأمر فورية ولا [تراخيا] ولا الإدامة أيضا بخلافه في
النواهي فإنه يقتضي بالأخرة الإدامة والفورية كما لا يخفى والله العالم.
350

المقالة الثانية والعشرون
اجتماع الأمر والنهي
351

...
352

[المقالة الثانية والعشرون]
في
(جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد يكون مجمع الخطابين)
وقد اختلفت كلمتهم فيه بمنتهى الاختلاف بحد غير قابل للائتلاف.
وتنقيح المرام يحتاج إلى بيان مقدمة ربما نكتفي بها لتوضيح المقام بلا
احتياج إلى المبادئ التي كثرها الأعلام فنقول وبه التكلان:
إن المراد من الواحد في العنوان هو مجمع العنوانين ولو كليا، كما هو
المناسب لأصولية المسألة المستخرج منها المسألة الكلية الفقهية.
كما أن المقصود من الواحد المجمع ما كان له وجود واحد، وتحت حد
خارجي فارد. فلا يشمل الوجودين المتصل [أحدهما] بالآخر من مقولتين أو
مقولة واحدة على وجه يكون التركيب بينهما انضماميا من حيث الوجود خارجا،
إذ مثل ذلك داخل في المتلازمين وجودا، ولا اشكال لأحد في عدم مانع لمحبوبية
أحدهما ومبغوضية الآخر، بعد الفراغ عن عدم مقدمية ترك أحدهما للآخر
لفرض تلازمهما وجودا كما لا يخفى.
وحينئذ كل مورد يكون المجمع مركبا من وجودين على وجه يكون بكل
جزء مصداقا لمقولة غير الآخر فهو خارج عن محط البحث - كما هو الظاهر -.
فمركز البحث منحصر في المقام بصورة وحدة الوجود في المجمع على وجه
كان هذا الواحد مصداقا للعنوانين - ولو لما فيه من الحيثيتين -.
353

وحينئذ نقول: إن روح هذا البحث إلى أن الامر بعنوان منطبق على هذا
الوجود هل يسري باقتضاء اطلاق خطابه إلى ما هو موضوع النهي المتعلق به
- ولو ضمنا - كي يستحيل جمعهما في المجمع الواحد، أم لا يسري إليه كي
لا يكون مانع عن اجتماعهما في المجمع؟.
وحينئذ عمدة مبنى القائل بالجواز عدم السراية المزبورة، قبال مبنى
القائل بالامتناع فإنه يلتزم بالسراية المتقدمة فيدعي استحالة الاجتماع في
الواحد.
وحيث عرفت ذلك فاسمع أيضا: ان القائل بعدم السراية الذي هو مبنى
جوازه، تارة نظره إلى عدم سراية الامر من الطبيعي إلى فرده في أي مقام كان
- وفي هذه الكبرى ربما يخالفه القائل بالامتناع بلا مخالفة بينهما في الصغرى،
حتى في مثل الصلاة في الدار المغصوبة الذي هو مصداق طبيعة الصلاة -.
وعلى هذا المبنى في الجواز لا يحتاج قائله إلى اختلاف العنوان في متعلقي
الأمر والنهي بل مع اتحادهما عنوانا واختلافهما في صرف الكلية والجزئية يكتفي
به في مصيره إلى الجواز، فيلتزم - حتى في مثل " صل " و " لا تصل صلاة جعفر " -
بالجواز فضلا عن المثال السابق (1).
وأخرى نظره - بعد التزامه بسراية الحكم من الطبيعي إلى فرده - إلى
حيث مكثرية الجهات في وجود بحيث يلتزم بأن الحكم بعد سرايته إلى فرده
لا يكاد يسري من هذا الفرد إلى فرد آخر من الطبيعي المنهي عنه.
ولا يخفى ان هذا القائل لابد وان يجرى كلامه في صورة كون المجمع تحت

(1) والفرق بين الموردين، الذي جعل الالتزام بالجواز في المورد السابق أولى هو ان النسبة بين
متعلق الامر ومتعلق النهي هنا عموم وخصوص مطلق بخلاف النسبة بينهما في " الصلاة في الدار
المغصوبة " فان النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه.
354

عنوانين مختلفين منتزع كل منهما عن مرتبة من الوجود غير المرتبة الأخرى
مجتمعان في وجود واحد، ويدعي أيضا أن الصلاة في الدار المغصوبة من هذا
الباب، وأن المجمع المزبور مجمع الفردين من الطبيعتين على وجه لا يسري الحكم
من أحدهما إلى الآخر، ولا شبهة حينئذ أن القائل بالامتناع لا منازعة (له) (1) حينئذ
في الكبرى المزبورة، وإنما تمام بحثه معه في الصغرى، وان نزاعه في أن باب
الصلاة في المغصوب من هذا القبيل كي [تكون] الجهتان [فيه تقييديتين]
باصطلاحهم أم ليس كذلك بل هو من باب سراية الحكم من الطرفين إلى جهة
واحدة مصداق عنوان واحد في الحقيقة كي [تكون] الجهات الزائدة المتعددة فيه
من [قبيل] علل ترشح الحكمين إلى جهة معينة بحتة بسيطة [فتكون] الجهتان فيه
[تعليليتين].
وعليه فكم فرق بين مشربي القائل بالجواز، ففي الأول القائل بالامتناع
ينازعه في أصل الكبرى مع تسليمه صغراه وفي الثانية تمام بحثه معه في تطبيق
كبراه من العنوانين المتخالفين حتى مصداقا على مثل الصلاة في المغصوب
ويكون نزاعه معه في الصغرى المزبورة، والا ففي كبراه من عدم السراية عند
اختلاف العنوانين حتى مصداقا في المجمع لا نزاع معه في جواز الاجتماع.
وحيث اتضح لك مركز البحث فينبغي تشريحا للمرام جري الكلام في
[مقامين]:
أحدهما في شرح أنحاء اختلاف العناوين المنتزعة عن الوجود.
وثانيهما في بسط الكلام في الصلاة والغصب، كي به يتضح أن صغرى
الصلاة في الدار المغصوبة من أي واحد من العناوين كي به يتضح حكم مسألتنا
هذه في أمثال المثال جوازا وامتناعا. وحينئذ اسمع:

(1) الأولى أن تكون العبارة هكذا (ولا شبهة حينئذ أن بين القائل بالاجتماع والقائل بالامتناع
لا منازعة في الكبرى المزبورة.
355

[المقام الأول]
ان العنوانين المنطبقين على المجمع تارة من سنخ المهيات الأصلية
المأخوذة عن الحدود الذاتية الثابتة في كل مقولة في ضمن جنسه وفصله وهي التي
كانت تحت المبحث عن أصالتها (1).
وأخرى من سنخ المفاهيم العرضية المنتزعة عن تحديدات الوجود أو
الماهية المزبورة بحد اعتباري مخصوص كان من مقدرات تلك الماهية أو الوجود
و [بالفارسية] (چوب كز هر يك از وجود وماهية ذاتية) (2).
فإن كان العنوانان من [قبيل] الأول بنحو كان بأزاء كل واحد في الخارج
وجود فلا محيص من كونهما من مقولتين، إذ يستحيل لشئ واحد ومقولة فاردة
جنسان وفصلان، فلا جرم يكون لكل مقولة ماهية واحدة من جنس واحد وفصل
فارد، وحيث فرضنا ان بإزاء كل عنوان [وجودا] فلا محيص من اجتماع الوجودين
في المجمع ويكون التركيب حينئذ انضماميا لفرض تحديد وجود كل عنوان بحدود
ممتازة عن غيره، ومع هذا الامتياز يستحيل وحدة لوجود المجمع بحيث يكون
تحت حد واحد.
نعم لو بنينا ان [الإضافة] المقولية ليس [لها] حظ من الوجود في الخارج
بل هي كنفس حد الشئ بنفسها خارجية كنفس الوجود، أمكن دعوى اجتماع

(1) ولعل الأولى ان تكون العبارة هكذا: (تحت البحث)
اي وهي التي يقع البحث عن أصالتها عندما يبحث عن الأصيل ما هو؟ الوجود أم الماهية؟.
(2) والمراد ب‍ (چوب كز) المقياس الذي تقاس به الأقمشة حيث يحدد به مقدار القماش، فالحد
الاعتباري للوجود أو الماهية بمنزلة الآلة التي يتحدد بها مقدار الشئ فكأن هذا الحد هو الآلة
التي يميز بها هذا الوجود عن ذاك أو هذه الماهية عن تلك.
356

المقولتين في المجمع في وجود محدود بحد واحد بلا تعدد في وجودهما خارجا (1).
كما أنه لو بنينا أيضا ان الاعراض من مراتب وجود [معروضها] ومقام
كماله، أمكن أيضا تصوير وجود واحد للمقولتين العارض أحدهما للآخر، وفي هذا
الفرض أيضا أمكن دعوى كون التركيب بينهما في المجمع اتحاديا من حيث
الوجود وان كان انضماميا جهة وحيثية.
والا فمع غمض العين عن هذين [المبنيين] لا محيص في فرض تركب
المجمع من المقولتين من وجودين ويكون التركيب بينهما انضماميا وجودا أيضا،
ومن لوازم ذلك خروج هذه الصورة عن مركز البحث - كما أشرنا سابقا من أن
المأخوذ في عنوان البحث صورة كون المجمع وجودا واحدا تحت حد فارد -
وحينئذ فادخال فرض تعدد العناوين الذاتية المحفوظة كل في مقولة مستقلة في
مركز البحث - ولو توطئة لمورد النزاع - مبني على البنائين الأخيرين - كما
لا يخفى -.
وان كان العنوانان من العناوين العرضية المقدرة لوجودات واحدة أو
الماهية كذلك، فلا شبهة في عدم لزوم كونهما من مقولتين، بل كل مقولة [قابلة]
لتحديد مرتبة من وجوده وينتزع عنه عنوان، ومرتبة أخرى (2) من هذا الوجود
وينتزع عنه آخر، مع كون ما بإزاء العنوانين في الخارج وجود ومقولة واحدة بلا
تعدد في المجمع حينئذ وجودا ولا مقولة، وفي مثله لا يكون التركيب في المجمع من
حيث الوجود إلا اتحاديا.
نعم هنا شئ آخر وهو ان مثل هذين العنوانين تارة مأخوذ كل واحد من
مرتبة من الوجود المزبور الممتاز عن المرتبة الأخرى المأخوذ غيره منها بتمام

(1) الأصح: وجود معروضها ومقام كماله.
(2) أي وتحديد مرتبة أخرى.
357

الحقيقة بلا اشتراكهما في مرتبة محفوظة فيهما ولا في حيثية مشتركة بينهما أصلا،
وأخرى مأخوذان من مراتب الوجود الواحد مع فرض اشتراكهما في جهة من
الجهات وحيثية من الحيثيات.
وحينئذ ففي الصورة الأولى كان المجمع مركبا من الحيثيتين بتركيب
انضمامي في عالم الحيثية - وان كان التركيب فيه من حيث الوجود اتحاديا - وفي
مثله لا قصور في سراية المحبوبية من الطبيعي إلى فرده، وكذا المبغوضية، من دون
سراية من فرد كل إلى غيره (1)، إذا المفروض ان في المجمع اجتمع فرد كل واحد
في ضمن حيثية مخصوصة.
وقضية السراية من الطبيعي إلى الفرد ليس إلا كون ما [بأزائه] من الحيثية
الخارجية جالبا لما في طبيعته من الحكم بلا سراية الحكم من غيره إليه ولا منه
إلى غيره.
ومجرد وحدتهما وجودا لا يمنع عن جمع المتضادين في الحيثيتين المحفوظتين
فيه بلا لزوم اجتماع الضدين في مركز فارد وجهة واحدة.
نعم في الصورة الأخيرة بواسطة اشتراك الفردين في جهة من الجهات
وحيثية من الحيثيات لا يبقى مجال الجمع بين الحكمين في المجمع - ولو بمرتبة
المحبوبية والمبغوضية - لأن سراية الحكم من كل طبيعي إلى فرده يقتضي اجتماع
الحكمين المتضادين في جهة واحدة محفوظة في المجمع في ضمن فرد كل واحد من
الطبيعتين - كما هو ظاهر -.
هذا كله في شرح المقام الأول، وفي هذا المقام قلنا إنه لدى القائل بسراية
الحكم من الطبيعي إلى فرده لا نزاع بين الطرفين في كبرى الفرضين، بل القائل
[بالامتناع] يلتزم بالجواز في الفرض الأول، كما أن القائل بالجواز يلتزم بالامتناع
في الفرض الثاني.

(1) والمقصود من فرد كل واحد من الكليين الطبيعيين إلى فرد الكلي الطبيعي الآخر.
358

وإنما مركز بحثهم وجدالهم في أن الصغرى من مثل الصلاة في الدار
المغصوبة صغرى أي واحد من الكبريين، فتمام هم القائل بالجواز في مسألة
الصلاة في المغصوب ارجاعه المثال إلى الفرض الأول وجعل [الجهتين] في المثال
[تقييديتين] باصطلاحه وتمام هم القائل بالامتناع ارجاعه المثال المزبور إلى
صغريات الكبرى الثانية وجعل [الجهتين] فيه [تعليليتين]، بملاحظة ان تعدد
الجهات صار سببا لسراية الحكم إلى حيثية واحدة مشتركة في ضمنها وجعل
التركيب بينهما من هذه الجهة المشتركة اتحاديا وجودا وحيثية، بخلاف الأخير (1)
فإنه جعل التركيب بينهما انضماميا حيثية، وان كان اتحاديا وجودا.
نعم القائل بعدم سراية الحكم من الطبيعي إلى الفرد في [فسحة] عن
أنحاء اختلاف العناوين، بل يلتزم بالجواز في المثال المزبور بلا نظر منه إلى كونه
مصداق أي نحو من العنوانين، ولذا أشرنا سابقا أن القائل بالامتناع معارض
له في كبراه بعد فرض كونه من مصاديق الكبرى الأخيرة لديه.
وبعد ما عرفت جهات المطلب وشتات المقصد ينبغي ختم الكلام:
أولا: في اثبات كبرى السراية من الطبيعي إلى الفرد ونفيه.
وثانيا: في اثبات كون المثال - على فرض السراية - من مصداق أي
[الكبريين] وهو المقام الثاني الذي عمدة مركز البحث لدى القائلين بالسراية
المزبورة.
فنقول:
[المقام الثاني]
أما شرح كبرى السراية إلى الفرد وعدمها فبأن قصارى ما يتخيل في
وجه عدم السراية هو: ان الامر أو غيره من الاحكام إنما يتعلق بالعنوان قبل

(1) (ويحتمل أن يكون الصحيح: غير الملزمة).
359

وجوده، وان ظرف وجوده خارجا ظرف سقوط حكمه وحينئذ يستحيل سراية
الحكم من الطبيعي إلى فرده المساوق لوجوده خارجا، بل لا بد وان يقف الحكم
على العنوان بلا سرايته إلى الفرد أصلا، مضافا إلى أن صرف الطبيعي الجامع
بين الأفراد قابل للصدق على كل واحد، فقبل التطبق على الفرد كانت القابلية
محفوظة فيه وصالح لأن لا ينطبق على كل [فرد] معين يفرض، لصلاحيته
للانطباق على غيره، ففي هذا الظرف لا انطباق في البين كي يصير ساريا إليه،
وفي [ظرف] الانطباق الملازم لوجود الفرد فهو ظرف سقوط الحكم فحينئذ أين
[الحكم القابل] للسريان من الطبيعي إلى فرده؟. هذا غاية بيان لوجه عدم
السريان.
أقول: لا شبهة في أن لازم انتزاع الطبيعي من الخارج كون الفرد بوجوده
الخارجي حاويا للطبيعي والا فيستحيل انتزاع الطبيعي من الخارج إذ ليس في
الخارج إلا فرده وحينئذ لازمه أنه لو فرض تصور الفرد المزبور - ولو قبل
وجوده - لابد وان يجئ في الذهن صورة منه قبال ما هو حاو للطبيعي خارجا،
فهذه الصورة قهرا فيها جهة متحدة مع الطبيعي وجهة زائدة عنها بها قوام
خصوصيتها وتشخص الطبيعي بها، وحينئذ الحكم القائم بالطبيعي قبل وجوده
لو عرض على تلك الجهة المحفوظة في الفرد فلا محيص من سريانه إليها وإن لم
يسر الحكم إلى الخصوصية الزائدة.
حينئذ غرض القائل بعدم السراية إلى الفرد: ان كان عدم السراية إليه
بوجوده خارجا فهو متين، ولكن لا يجديه في الجواز إذ بعد سرايته إليه بوجوده
الذهني - ولو لم يوجد خارجا - يكفي لمنع العقل الجمع بين الأمر بالطبيعي والنهي
عن فرده، إذ متعلق النهي أيضا ليس الفرد بوجوده الخارجي، كيف! وهو [ظرف]
سقوط جميع الأحكام، بل المتعلق للنهي أيضا هو الفرد بوجوده التصوري
الحاكي عن الخارج - لا بوجوده خارجا -.
360

وان كان الغرض من عدم السراية عدم سرايته إلى الفرد الذهني بشراشر
[حقيقته] حتى بخصوصيته المقومة لشخصه، فهو أيضا في غاية المتانة، والقائل
بالسراية لا يدعي هذا المقدار، ولكن هذا المقدار أيضا بعد سراية الحكم إلى الجهة
الضمنية المحفوظة في الفرد الذي بإزاء وجود الطبيعي خارجا الذي ينتزع منه
لا يجديه في دفع امتناع الاجتماع، إذ حينئذ هذه الجهة المتحدة المحفوظة في
الطبيعي وفي ضمن الفرد يصير مركب الحكمين المتضادين والعقل يأبى عن
مثله.
وان كان غرضه عدم سراية حكم الطبيعي حتى إلى الجهة المتحدة معها
في ضمن الفرد، فكيف يصدق العقل بأن هذه الجهة البحتة البسيطة المتحدة ذاتا
ووجودا ومرتبة مع الطبيعي لا يسري حكمه إليه إذ مرجعه إلى عدم سراية حكم
شئ إلى ما هو عين نفسه بجميع الجهات، وبديهي ان العقل يأبى عن ذلك،
وحينئذ فتوهم الجمع بين حكم الطبيعي مع حكم الفرد الحاوي لعين الجهة
المحفوظة في الطبيعي حتى مرتبة في فرض تضاد الحكمين ببرهان عدم السراية
فاسد جدا.
نعم لو كان الوجود الخارجي حاويا للفردين من الطبيعتين بحيث
لا يكون بينهما جهة مشتركة فان السراية المزبورة [لا تضر] باجتماع الحكمين
المتضادين في هذا الوجود لعدم تعدي حكم كل عنوان عما بأزائه من فرده إلى
ما بأزائه الآخر من الوجود - كما شرحنا في المقدمة -.
وبالجملة نقول: إن مجرد الالتزام بعدم السراية حتى في الفردين
المتشاركين في جهة واحدة وان يفي بالجواز ولكن عمدة الاشكال في هذه الكبرى
كما بينا.
نعم على السراية - كما هو المختار - إنما يفي بالجواز الالتزام بالفرض
الأخير لا مطلقا - كما لا يخفى وأشرنا إليه أيضا سابقا مفصلا -. هذا كله في
361

الكلام على مبنى عدم السراية وقد اتضح في طي الكلام أيضا شرح المقصد على
مبنى السراية أيضا والله العالم.
بقي الكلام في شرح صغرى [الصلاة] والغصب بأنهما من أي العناوين
المتصورة في الباب. ولقد أشرنا سابقا أيضا أنه على السراية عمدة البحث ومركز
الجدال في [هذه] الصغرى من أنها تحت أي [واحدة] من الكبريات المتقدمة.
فنقول:
ان قصارى ما يتخيل في المقام جعل المورد تحت المقولتين وكون الوجود
الواحد حاويا للحيثيتين الممتازتين [بتمامهما] عن [الأخرى بخيال]: ان الصلاة
من مقولة الفعل أو الوضع أيضا، والغصب من مقولة الإضافة القائمة بها، نظرا
إلى أنه عبارة عن اشغال مال الغير أو الاستيلاء عليه - ولو بوضع يده عليه -
واليه أيضا يومئ تعريفاتهم للغصب في كتابه - كما لا يخفى على من راجع -.
وعليه فلا [ترتبط إحدى] الجهتين والحيثيتين [بالأخرى]، ولازمه عدم
سراية الحكم من حيثية إلى حيثية، - ولو بنينا على سراية الحكم من الطبيعي إلى
الفرد -، ولازمه دخول " الصلاة في المغصوب " في صغريات كبرى العنوانين
المنتزعين من مقولتين، واليه أيضا نظر من قال بأن [الجهتين] في مثل هذا المورد
تقييديتان بلا سراية الحكم من جهة إلى جهة.
أقول: أولا جعل المقام من باب المقولتين - مع فرض دخوله في عنوان
البحث من اجتماع الحيثيتين في وجود واحد - فرع عدم الالتزام بحظ وجود
للإضافة، أو الالتزام بكون الأعراض القائمة بمعروضاتها من مراتب وجود
معروضها ومكملاتها، وإلا لازمه تركب المجمع من الوجودين بنحو الانضمام في
الوجود، ولازمه خروج أمثال هذه الفروض [عن] عنوان البحث من فرض
انطباق العنوانين على وجود واحد واتحادهما مصداقا ووجودا - كما أشرنا إليه في
صدر المبحث -.
362

ثم مع الغض عنه وصرف النظر عن احتمال كون الغصب عبارة عن
الفعل الشاغل - لا الاشغال -، إن هذا المقدار لا يفي لاثبات مدعاه من الجواز،
لأن الصلاة حينئذ كانت مما به الاشتغال وبديهي ان حرمة الاشغال يسري إلى
ما هو مقدمته ومعروضه حيث إنه بمنزلة العلة التامة له.
ولئن اغمض عن ذلك أيضا نقول:
إن وجه حرمة الفرد المزبور ليس منحصرا بعنوان الغصب، بل من المحرم
عنوان التصرف في مال الغير، وبديهي أن التصرف المزبور عبارة عن القيام فيه
والقعود وغيرهما فقهرا يتحد مثل هذا العنوان مع الصلاة حيثية ووجودا.
ومع الإغماض عنه أيضا نقول: إن من البديهي ان منافع كل أرض أو
دار عبارة عن قيام فيه و [قعود]، وان ايجادها من الغاصب عبارة عن استيفائه
[إياها] وهذه الاستيفاءات حيث كانت بلا إذن من السلطان عليها بنفسها
كانت حراما على مستوفيها ولازمه حينئذ أيضا توجه الحرمة إلى عين قيامه
وقعوده في المغصوب وهو الذي كان الأمر بالصلاة أيضا متوجها إليها.
وحينئذ لا يبقى مجال توهم في مثل هذا المثال المعروف بجعله من سنخ
كبرى المقولتين، ولا من سنخ اختلاف كبرى الحيثيتين بتمام الحقيقة والمرتبة كي
يصير التركب فيه انضماميا وجودا أو حيثية وجهة، وكون [الجهتين] فيهما
[تقييديتين] بلا شركة بين العنوانين في جهة من الجهات وجودا أو مرتبة.
بل لا محيص من كونهما من مصاديق العنوانين الأخيرين من السابقة من
حيث كونهما [مشتركتين] (1) في جهة من الجهات و [متحدتين] (2) في حيثية من الحيثيات
وبهذه الملاحظة تكون الجهتان فيه [تعليليتين] ولو بملاحظة صيرورة الجهات

(1) متعلق بقوله (المزاحمة).
(2) اي بين هذا الفرد وهو الصلاة المخصوصة.
363

متحدة فكانا من هذه الجهة بمنزلة التعليل في هذه السراية، وبتلك المناسبة
سميت الجهتان [تعليليتين].
لا أن المقصود كون الجهات الزائدة خارجة عن مركب الحكم بالمرة، وان
تمام الموضوع هو هذه الجهة المشتركة كسائر الجهات التعليلية، كيف! ومن
البديهي ان الجهات الزائدة من الجهة المشتركة أيضا مأخوذة في عنوان الموضوع
فكانت داخلة فيه لا خارجة، وبهذه الملاحظة كانت الجهات الزائدة أيضا من
الجهات التقييدية المأخوذة في عنوان كل موضوع، غاية الأمر بواسطة اشتراكهما
في جهة واحدة ضمنية صارت بمنزلة السبب لسراية الحكم من العنوان إلى هذه
الجهة الضمنية المتحدة.
نعم ليست من الجهات التقييدية المفارقة كل منهما عن الآخر بتمام الحيثية
كما إليه نظر القائل بالجواز في جعل الجهتين تقييديتين، وان كان الأمر فيه سهلا
بعد وضوح المرام، والا كان الأولى جعل مركز البحث بعد تسليم كون الجهتين
تقييديتين [في أنه] هل هما من باب اشتراكهما في جهة ضمنية أم ليس بينهما جهة
مشتركة أصلا، لا أن الجهتين تقييديتان أم [تعليليتان] فتدبر حتى لا يختلط عليك
الأمر ولا يختلج بخاطرك توهم جواز اجتماع الحكمين بمقتضى اطلاق العنوانين
في المجمع في أمثال هذه الأمثلة [المتحد فيها العمل] العبادي مع التصرف في مال
الغير واستيفاء منفعته والله العالم بحقائق أحكامه.
وينبغي التنبيه على أمور:
منها: انه على القول بالجواز بمناط عدم السراية من الطبيعي إلى فرده
أمكن دعوى الفرق بين مقام المحبوبية والمبغوضية وبين الإرادة الفعلية
والكراهة، إذ في عالم المحبوبية والمبغوضية لا مانع في الجمع بين محبوبية الطبيعة
ومبغوضية الفرد حتى مع عدم المندوحة وانحصار أمر الطبيعة بالفرد الحرام، وهذا
364

بخلاف مقام الإرادة الفعلية، إذ مع انحصار الأمر بالفرد المحرم وتوقف امتثال
الطبيعة بايجاد فرده يستحيل حينئذ فعلية الإرادة بايجادها مع فرض [تعلق]
الإرادة الفعلية أيضا بترك فردها المنحصر بالمحرم. نعم [مع] وجود المندوحة
لا بأس بالجمع بين فعلية الإرادة بالطبيعة والكراهة [لفردها غير] المنحصر به،
والى مثل هذه الصورة نظر من قال باشتراط المندوحة في مركز البحث.
وأما على القول بالجواز بناء على السراية المزبورة ومكثرية الجهات في
الموجود، أمكن دعوى عدم اجتماع الإرادة والكراهة في الوجود الواحد حتى مع
وجود المندوحة، فضلا عن عدمها، وذلك لأن الجهتين في الوجود الواحد إذ كانا
من قبيل المتلازمين يستحيل تعلق الحكمين الفعليين المتضادين بهما فلا يمكن
حينئذ التشبث باطلاق العنوان بالنسبة إلى حيث الوجود لمثله بل لا محيص من
تقييد العقل المتعلق للوجوب بفرد آخر مباح، وعليه فاشتراط المندوحة لمثله في
مركز البحث لغو صرف.
كما أن دعوى القائل بالجواز بان الاجتماع مأموري لا آمري، في غير
محله لو أريد اجتماع الخطابين مضمونا، إذ لا يكاد يتم هذا البيان، لا في الجواز
بمعنى عدم السراية، ولا بمعنى السراية ومكثرية الجهات، إذ على الأول فلا
يكون اجتماع حتى من المأمور، وأما على مكثرية الجهات والسراية فيكون
الاجتماع آمريا أيضا بالنسبة إلى مرتبة الإرادة - ولو مع وجود المندوحة كما
عرفت - وبالنسبة إلى مرتبة المحبوبية والمبغوضية أيضا يكون الاجتماع آمريا
أيضا في فرض اتحاد الفردين في جهة مشتركة، وفي فرض عدم اشتراكهما في تلك
الجهة فلا يكون الاجتماع مأموريا أيضا إذ لا اجتماع في معروضي الحكمين على
هذا الفرض - من دون فرق في هذا المقام أيضا بين وجود المندوحة وعدمه -.
نعم أمكن الفرق في مرتبة الإرادة بين صورة وجود المندوحة وعدمه من
جهة أخرى [هي]: ان في فرض المندوحة يصدق أن الآمر ما ألقى المكلف فيما
365

لا يطاق، وإنما هو أقدم لسوء اختياره في امتثال الأمر في الفرد الحرام، بخلافه في
فرض عدم المندوحة بأن الشارع ألقى المكلف بخطابيه فيما لا يطاق وهذه الجهة
غير [مرتبطة] بمقام الاجتماع الآمري والمأموري في مضمون خطابه.
نعيم لو أريد من الاجتماع في المقام هو الاجتماع في عالم الامتثال لا
الاجتماع بين الأمر والنهي كان للتفصيل المزبور وجه فتدبر كي لا يختلط الأمر
عليك.
ومنها: انه بعد ما عرفت من فحاوي كلماتنا بل في مسألة تعلق الأوامر
بالطبايع أو الأفراد: ان أمثال هذه الصفات الوجدانية من الإرادة والكراهة
كالعلم والجهل بل والتمني والترجي وأمثالها لا يكاد أن يتعلق بالوجود خارجا،
وانما مركزها العناوين بما هي حاكيات عنه لا بما هي هي أيضا ومآلها إلي
الوجودات الزعمية لا الحقيقية الخارجية. ظهر لك أن في باب تعلق الاحكام
لا يبقى مجال للبحث في حقيقة الوجود وأنه أصيل أم ليس بأصيل، إذ مثل هذا
البحث غير مرتبط بباب موضوعات الأحكام بالمرة.
كما أن البحث عن أصالة الماهية قبال أصالة الوجود أيضا [أجنبي] عن
موضوعات الاحكام التي ليست مثل هذه الماهيات الأصلية بما هي هي في قبال
الوجود، بل بما هي حواك عن الوجود ومرائي لها على وجه لا يرى بينهما اثنينية
أصلا، علاوة عن أن العناوين المأخوذة في طي الاحكام غالبا ليست من المهيات
الأصلية المأخوذة من جنس مخصوص وفصل كذلك بل هي من مقدرات تلك
المهيات ومحدداتها بحد اعتباري مخصوص مع كون العنوانين ربما يكونان من
مقولة واحدة - كما أشرنا سابقا - وحينئذ جعل البحث عن أصالة الوجود أو
الماهية من مقدمات هذه المسألة ليس إلا تبعيدا للمسافة بلا داخله في تمامية المسألة
نفيا أم إثباتا - كما لا يخفى -.
ومنها: انه بناء على مسلكنا من عدم امكان توجه المحبوبية والمبغوضية
366

إلى جهة واحدة، قد يستشكل في العبادات المكروهة خصوصا فيما لا بدل لها إذ
فيها (1) كان مجال توهم الاجتماع الآمري.
وتوهم أن الكراهة الفعلية غير [مضرة] بالتقرب بالاتيان بداعي التوصل
به إلى الغرض الأصلي كما هو أحد المقربات في باب المقدمة على ما عرفت،
لأنها (2) [لا تصلح] للمبعدية كي [تزاحم] جهة التقرب به،
مدفوع بان الكراهة الفعلية أيضا موجبة للعتاب، وفيه أيضا مرتبة من
المبعدية المضادة مع التقرب بمثله، وحيث إن الكراهة الفعلية - حسب الفرض -
تلازم عدم الأمر لأن الاحكام بأسرها متضادة لا يكون التقرب المزبور أقوى
موجبا عن البعد الناشي عن الكراهة المسطورة.
ومن هذه الجهة ربما استظهر القائل بالجواز وجعل ذلك برهانا على
مدعاه، كما أن القائل بالامتناع وقع من هذه الجهة في حيص وبيص، ورفع اليد
عن عنوان الكراهة الفعلية، وجعل الكراهة في العبادات بمعنى أقلية الثواب ولو
لمزاحمة المفسدة [غير] اللازمة (3) لمرتبة (4) من المصلحة التي طبع العبادة [مقتض]
لها، فصارت العبادة المزبورة أقل ثوابا عما يقتضيه طبعها في فرد آخر، كي لا يرد
عليه أن بعض العبادات أقل ثوابا عن بعض آخر ومع ذلك لا يسمي مكروها،
إذ قلة الثواب لقصور الاقتضاء غير مرتبط بقلته لمزاحمة مصلحته مع المفسدة

(1) اي في العبادات المكروهة التي لا بدل لها فان التي لها بدل لا مجال فيها لتوهم الاجتماع
الآمري لان متعلق المحبوبية فيها هو الجامع ومتعلق المبغوضية فيها هو الفرد فاجتماع
المبغوضية والمحبوبية فيها مأموري لا آمري، اما التي ليس لها بدل فيأتي فيها اشكال ان متعلق
المحبوبية والمبغوضية فيها واحد فيكون اجتماعها اجتماعا آمريا وهو مستحيل.
(2) اي الكراهة الفعلية.
(3) (ويحتمل أن يكون الصحيح: غير الملزمة).
(4) متعلق بقوله (لمزاحمة).
367

[غير] الملزمة، وما هو قابل لاطلاق الكراهة عليه هو الأخير دون الأول.
ولكن التحقيق في المقام أيضا الالتزام بالكراهية الفعلية مع عدم اضراره
برجحان العمل الموجب للتقرب به، وتوضيح ذلك يقتضي طي الكلام تارة فيما
له بدل من العبادة المكروهة، وأخرى فيما لا بدل له.
أما الكلام فيما له بدل - كالصلاة في الحمام أو في مكان التهمة - فنقول:
إن المفسدة [غير] الملزمة إذا قامت في الصلاة المخصوصة فلا شبهة في أن مصلحة
ذات الصلاة الجامع بينه (1) وبين غيره سارية إلى هذا الفرد من جهة ما فيها بما
هو جامع لامن حيث خصوصه كما هو الشأن في كل أمر بالطبيعة بالإضافة إلى
خصوصيات الافراد حيث لا يسري الامر منها إليها، وبعد ما يسري الأمر إلى
الفرد من جهة الحيثية الجامعة فقهرا يصير المفسدة [غير] الملزمة بالإضافة إلى
هذه الحيثية مغلوبة غير مؤثرة، فيصير هذا الفرد من الحيثية الجامعة الصلاتية
محبوبا، وأما بالنسبة إلى الخصوصية الفردية باق على تأثيره في المبغوضية، وحينئذ
نقول:
إن هذه المصلحة الملزمة - وان [تزاحم] المفسدة [غير] الملزمة بالنسبة إلى
حيثية الطبيعة المحفوظة في الفرد، و [تصير] المفسدة في [تأثيرها مغلوبة] - ولكن
لا يزاحم مصلحة الجامع المفسدة القائمة بخصوصية الفرد، لا في مقام التأثير ولا
الايجاد، إذ بترك هذه الخصوصية لا يفوت مصلحة الجامع، فمقتضى حكم العقل
بالجمع بين الغرضين حكمه بترك الفرد المخصوص بترك تنزيهي والإتيان بالجامع
في غير هذا الفرد، ولا نعني من الكراهية الفعلية لهذا الفرد إلا هذا، مع عدم
منافاته بالتقرب بهذا الفرد من حيث ما فيه من الجامع الراجح ليس إلا لأن
المفروض بقاؤه على رجحانه ولكن لا يحكم العقل حينئذ بالتخيير بينه وبين غيره

(1) أي بين هذا الفرد وهو الصلاة والمخصوصة.
368

من الافراد بنحو التخيير في غير المقام، لأن التخيير المزبور إنما نشأ من عدم
ترجيح بين الافراد وتساويها في عالم الايجاد، وأما مع وجود مرجح فعلي ولو تنزيهي
فالعقل لا يحكم إلا بترجيح ذي المزية بمقدار مزيته من الكراهة المصطلحة
المفروضة في المقام وهو المقصود والمرام، هذا كله فيما له بدل.
وأما فيما لا بدل له - كالصلاة في أوقات مخصوصة - فيمكن دعوى أن
الكراهة الفعلية متوجهة فيها إلى ايقاعها في وقت خاص على وجه يكون
المبغوض كينونته في الظرف الكذائي مع حفظ المحبوبية في نفس ذاته ولم
يكن (1) مأمورا به بأمر فعلي ولو استحبابا لفرض تعلق الكراهية المصطلحة
بلازم وجوده بلا احتياج فيها أيضا إلى الالتزام بأقلية الثواب، وإن لم يكن فيه
أيضا محذور.
وبالجملة نقول: إن ظاهر تعلق النهي بنفس العمل ينافي فعلية رجحانه،
فالأمر يدور بين رفع اليد عن الظهور في الكراهية بحمله على أقلية الثواب
بمقتضي ما أسلفناه، أو رفع اليد عن ظهور تعلق النهي بالعمل بالمقيد وصرفه إلى
حيث تقييده واخراج العمل بذاته عن حيز النهي فبقي النهي حينئذ على ظهوره
من الكراهة المصطلحة.
وربما ترجح هذا الوجه قوة ظهور النهي في الكراهة المصطلحة وبعد حمله
على أقلية الثواب - وان كانت الكلمات [تساعده] - وعلى أي حال لا يبقى في
البين مجال لتوجهات أخرى في المقام: بارجاع النهي إلى مطلوبية نفس الترك،
أو جهة أخرى ملازمة لتركه، إذ مثل هذه أيضا ينتج مبغوضية الفعل أو أجنبية
المنهي عن هذا العمل، بل غاية الأمر كونه لازمه ولا مجال للمصير إلى الطرفين
- كما لا يخفى - فتدبر.

(1) اي التقيد وهو ايقاعها في وقت خاص.
369

ومنها: أن مقتضى اطلاق الخطابين شمول الحكم بجميع مباديه للمجمع
غاية الأمر لا بد من رفع اليد عن حجية هذا الظهور في فعلية الإرادة والكراهة
مطلقا، بل عن فعلية المحبوبية والمبغوضية أيضا على الامتناع (1).
وأما ظهورهما في جود المصلحة والمفسدة في المجمع فلا مانع عن بقاء
الاطلاقين [بحالهما] وأشرنا سابقا أيضا بأن مثل هذا التقريب في اثبات الاقتضاء
في العنوانين أولى عن التعبير باطلاق المادة دون الهيئة، إذ بعد اتصال أحدهما
بالآخر - خصوصا مع تبعية أحدهما للآخر - لا مجال للتفكيك بينهما اطلاقا وعدمه
عرفا، ولا أقل من صلاحية كل منهما [للقرينية] في غيره، فلا مجال للتفكيك بينهما
في مقام الاستظهار - كما لا يخفى -.
وهذا بخلاف مسلكنا الراجع إلى التفكيك في ظهور واحد في أنحاء
مدلوله من حيث الحجية، إذ هو غير عزيز، كما هو الديدن في موارد الجمع بين

(1) وقد سبق التعرض لذلك في التنبيه الأول، والسر في هذا التفصيل بين الإرادة والكراهة
والمحبوبية المبغوضية أن تعلق الإرادة والكراهة الفعليتين بالمجمع مستحيل على كل التقادير اي
على تقدير القول بالامتناع كما هو واضح وعلى تقدير القول بالجواز على مبنى عدم السراية من
الطبيعي إلى الفرد في صورة عدم المندوحة إذ يستحيل تعلق الإرادة الفعلية بالطبيعة المفروض
انحصار فردها بالمحرم وتعلق الإرادة الفعلية بترك الفرد المحرم في آن واحد، ويستثنى من ذلك
صورة وجود المندوحة ولذلك أخذ قيد المندوحة في موضوع البحث على هذا المبنى، وكذلك على
تقدير القول بالجواز على مبنى تكثر الحيثيات لان الحيثيتين متلازمتان في الوجود الواحد وبما أن
الاحكام متضادة فيستحيل توجه الحكمين الفعليين المتضادين إلى وجود واحد ولو كانا من جهتين،
هذا بخلاف المحبوبية والمبغوضية فلا مانع من فعليتهما على القول بالجواز على مبنى عدم السراية
إذ لا مانع من الجمع بين محبوبية الطبيعية ومبغوضية الفرد حتى مع عدم المندوحة فضلا عن وجودها.
ولهذا فلا حاجة إلى تقييد اطلاق الخطابين بالنسبة إلى مرحلة المحبوبية والمبغوضية بناء على الجواز
على مبنى عدم السراية، نعم على القول بالجواز على مبنى القول بالسراية وتعدد الحيثيات لا بد من
التقييد في مرحلة المحبوبية والمبغوضية أيضا لأن التركيب في المجمع اتحادي لا انضمامي، فان
افتراض كون التركيب في المجمع انضماميا خروج عن محل البحث.
370

الظواهر خصوصا في الاطلاقات والعمومات، وذلك هو الوجه أيضا في بقاء العام
على الحجية في الباقي بعد التخصيص - كما لا يخفى على من راجع المسألة
و [نظائرها] -.
وحيث كان الأمر كذلك فلا محيص من جعل هذه المسألة من صغريات
باب التزاحم الذي يكون المناط في ترجيح أحد الخطابين بقوة مناطه لا بقوة
سنده، فربما يقدم [الأقوى] مناطا في أمثال المقام على ما هو أقوى سندا.
وتوهم ارجاع المسألة - لمحض تزاحمهما في التأثير من حيث الرجحان لدى
المولى - إلى باب التعارض، وتخصيص باب التزاحم بالمتضادين وجودا - كما
توهم - لا يفهم له وجه، عدا ما أفيد: " بأن تزاحمهما في مثل المقام في التأثير موجب
لكون زمام بيان ما هو راجح فعلي لدى المولى بيده، وربما يوكل أمر بيانه إلى ما هو
أقواهما سندا.
وهذا بخلاف ما يكون بينهما تزاحم في التأثير كالمتزاحمين فإنه حينئذ
ليس أمر تعيين مرامه بيده إذ هو مبين، فلا محيص حينئذ من [ايكال] أمر تزاحمه
إلى العقل المستقل بالأخذ بما هو أقوى مناطا لا سندا "، وهو فاسد جدا.
وذلك لأنه الاطلاقين بعد فرض ظهورهما في أصل الاقتضاء في الطرفين،
وفرضنا أنه لا مانع في تأثير كل واحد إلا تمانعهما في التأثير فكيف للمولى ترجيح
[أقواهما] سندا على أقواهما مناطا في فرض احراز الأقوائية لدى العقل.
نعم للمولى ذلك لو فرض احتمال وجود مانع آخر عن تأثير الأقوى
بنظر العقل إذ العقل حينئذ منعزل عن الحكم في هذه الصورة، ولكن ذلك خلاف
الفرض وخلاف ظهور اطلاق الخطابين في الفعلية من جميع الجهات غير جهة
تزاحم المقتضيين في تأثيرهما فقط، إذ حينئذ ليس العقل منعزلا عن حكمه
بالأخذ بأقواهما مناطا، وفي مثله ليس للشارع الحكم على خلافه، لأن حكم
العقل في هذه الصورة تنجيزي - كما هو ظاهر - فتدبر.
371

وكيف كان، [فلا شبهة] في ادخال المقام في باب التزاحم واجراء أحكامه
فيه من الأخذ بأقواهما مناطا - ولو كان أضعف سندا عن غيره - فباب التعارض
منحصر بصورة تكاذب الخطابين في أصل الاقتضاء أيضا زائدا عن الفعلية، إذ
حينئذ زمام بيان ما فيه من الحكم باقتضائه بيده والعقل في مثله منعزل عن الحكم،
وله حينئذ ايكال بيان مرامه بالأخذ بما هو أقوى سندا كما هو شأن المتعارضين
من النصوص.
نعم هنا كلام آخر في أن الأصل في كل خطابين واردين على مورد واحد
هو التزاحم أو التعارض؟ وفي هذا المجال أيضا مقتضى التحقيق أن يقال:
إن كل مورد تعلق [الخطابان] بعنوان واحد، طبع كل خطاب يقتضي
الردع عن نقيضه، كما أن الظاهر من كل خطاب أيضا نفيا واثباتا ثبوت مباديه
في متعلقه أو عدمه.
ولازم اقتضائه عدم النقيض سلب جميع مباديه عنه. كما أن الظاهر من
ثبوته وجود جميع مباديه فيه.
وحينئذ يقع المطاردة بين الخطابين في عالم الاقتضاء أيضا، ولا نعني من
تكاذبهما في عالم الاقتضاء إلا ذلك فيجرى عليه أحكام التعارض - كما
أسلفناه -.
وأما لو كان [الخطابان] [متعلقين] بعنوانين - ولو كانا مشتركين في جهة -
فلا شبهة في أن كل خطاب لا يقتضي إلا المنع عن نقيض متعلقه بلا نظر منه
إلى نقيض المتعلق الآخر، ونتيجة منعه المزبور أيضا منع الاقتضاء في نقيض
عنوانه بماله من الخصوصية فيبقى العنوان الآخر على اقتضاء خطابه بلا موجب
لتكاذبهما في أصل الاقتضاء، فيبقى كل منهما على [ظهوره] في ظهور (1) الاقتضاء

(1) الأولى: (في ثبوت الاقتضاء).
372

في عنوانه، وباطلاقهما يحرز الاقتضاء في مجمعهما.
ولا يقال: بأن لازم نفي الاقتضاء في نقيض كل عنوان عدم امكان الأخذ
باطلاقهما في المجمع واحراز الاقتضائين في مثله.
لأنه يقال: إن غاية اقتضاء خطاب كل منهما عدم اقتضاء في نقيض
عنوانه، ومعلوم أن نقيضه بقلب العنوان بخصوصه لا بقلب كل جزء جزء من
العنوان، فلا يقتضي الخطاب المزبور إلا سلب الاقتضاء في نقيض المجموع،
ولا ينافي هذا ثبوته في جزء من أجزاء الطرفين باطلاق خطابيهما.
وحينئذ لا محيص من تفصيل المسألة بين صورة تعلق الخطابين بعنوانين
[مستقلين] يكون أحدهما بحسب العنوان غير الآخر، فيجري في مثله حكم
التزاحم، وأن الأصل فيه هو التزاحم إلى أن فيهم خلافه، وبين صورة تعلق
الخطابين بعنوان واحد [فإنه] لا محيص من اجراء حكم التعارض عليه وهو
الأصل فيه إلى أن يفهم خلافه.
وربما يلحق بذلك أيضا صورة كون العنوان المأخوذ في أحد الخطابين جزء
لموضوعه وفي الآخر تمامه، فان الخطاب المتعلق بتمامه أيضا يمنع عن النقيض
بجميع مباديه في موضوعه وهو يمانع اقتضاء الحكم ولو في جزئه فيجري عليه
أيضا حكم التعارض كما هو الشأن في غالب العموم والخصوص المطلق.
نعم لو فرض بين العنوانين المختلفين مثل هذه النسبة فلا بأس باجراء
حكم التزاحم عليه، ولكن قل ما يتفق من العمومات والخصوصات المطلقة من
هذا القبيل، كما أن الغالب [هو أن] ما كان بينهما عموم من وجه كان من باب
تعلق كل منهما بعنوانين مختلفين.
ومن ذلك أمكن دعوى أن الأصل في مثل العامين من وجه هو التزاحم،
كما أن الأصل في العموم المطلق غالبا هو التعارض.
ولعمري أن المغروس في الأذهان في أبواب الفقه أيضا هو الذي ذكرناه
373

من التفصيل المزبور، وعليك بالمراجعة في أبواب الفقه، [لترى] ديدن الاعلام
[و] تجدهم أنهم لا يتعدون أيضا مما ذكرنا من التفصيل. فتدبر وافهم.
ومنها: ان من لوازم باب التزاحم انه لو فرض تعلق الجهل به من قصور
لا يكون مخالفة خطابه مبعدا فيبقى الخطاب الآخر على مقربيته بلا مزاحم.
هكذا قيل واشتهر في ألسنتهم.
ولكن نقول: إنه لو أريد به التقرب بمضمون الخطاب من حيث
المحبوبية والرجحان لدى المولى فهو فاسد جدا، لأن الجهل بخطاب لا يغير
الواقع ومضمون الخطاب عما هو عليه من المرجوحية، وحيث فرضنا في مقامنا
امتناع الاجتماع ويغلب جانب النهي على الامر [فيبقى] العمل مبغوضا واقعيا
بلا تغيره عما هو عليه بجهله قصورا أم تقصيرا.
نعم لا بأس حينئذ بالتقرب به من حيث قصده التوصل به الا غرضه
- كما عرفت ذلك في باب المقدمة - ولكن ليس ذلك نفس مضمون خطابه، بل
هو من لوازم مضمونه، فليس مثل هذا التقرب تقربا بخطابه على ما هو ظاهر
كلماتهم.
وبالجملة لا مجال للتقرب في المقام إلا بهذا النحو أو بدعوة الأمر باعتقاده
كما في الجهل المركب بعدم النهي، أو بدعوة الأمر رجاء كما في الجهل
البسيط.
ولكن هذه كلها من التقربات الانقيادية، ولا بأس بالاكتفاء بمثلها في
المقام أيضا بعد عدم قصور في العمل من حيث وجدانه للمصلحة، فلا ينقض
بعدم الاكتفاء بمثله في غيره.
وعلى أي حال: مثل هذه التقربات أجنبية عن التقرب بمضمون
الخطابات الواقعية، إذ مرجوحية العمل واقعا لا يكاد ينقلب بطرو الجهل، وهذه
الجهة أيضا [إحدى] لوازم باب التزاحم، ولذا كان المشهور: ان إباحة المكان من
374

الشرائط العلمية، إذ ليس الغرض منه موضوعية العلم في شرطيته، بل المقصود:
ان الحرمة لا يكون مانعا عن التقرب به إلا في فرض تنجزه من دون خصوصية
للعلم فيه أيضا، بل لو كان جاهلا مقصرا أيضا لكان النهي المزبور مانعا.
وتوهم أن مانعية النهي إنما هو من جهة منعه عن قصد القربة بأمره حيث
إن بوجوده لا أمر للعالم به كي يقصد به التقرب، بخلاف الجاهل ولو كان مقصرا
إذ له التقرب بأمره الاعتقادي أو الرجائي، مدفوع بأن مبعديته مانعة عن مقربية
العمل وإن لم يمنع عن قصده القربة بخياله، وما هو معتبر في العبادة هو هذه
الجهة، لا صرف قصد التقرب - كما لا يخفى -.
ومنها: انه لو اضطر إلى الغصب، فإن كان قاصرا في اضطراره بارتكابه
فلا شبهة في صحة صلاته صلاة الكامل المختار عند عدم تمكنه من الخروج،
ويكفي للتقرب به أيضا اتيانه بقصد التوصل به إلى غرض المولى - كما عرفت
نظيره في الجاهل - ولا يمكنه في المقام التقرب بأمره ورجحانه، إذ مر أن مبغوضية
العمل [لا ترتفع] بطرو الاضطرار عليه - كما لا يخفى -.
وتوهم أن العمل وان كان مرجوحا فعلا ولكن له رجحان فاعلي، وذلك
المقدار يكفي في التقرب برجحان عمله، كلام ظاهري، إذ الغرض من رجحانه
الفاعلي: [ان كان] أن الفاعل [ذو] طينة حسنة فذلك غير مرتبط برجحان
العمل. وان كان الغرض ان العمل من حيث صدوره عن هذا الفاعل راجح،
فلا معنى لقبحه الفعلي، كيف! ومرجعه إلى التفكيك بين ايجاد العمل ووجوده،
وبعد اتحادهما خارجا فلا معنى لرجحان أحدهما ومرجوحية الآخر.
وان كان الغرض رجحان نفس صدوره منه الذي مرجعه إلى إضافة
الفعل إلى الفاعل فلا شبهة في أنه أيضا أجنبي عن التقرب بالعمل الذي هو
عبادي دون حيث اضافته إلى الفاعل - كما هو واضح -.
وبالجملة لا قصور في التقرب بالعمل من حيث قصده - ولو ارتكازا -
375

كونه بصراط تحصيل مرام المولى وغرضه.
ثم إن ذلك كله حكم صورة بقائه في المغصوب وعدم تمكنه من الخروج.
وأما صورة تمكنه منه فلا شبهة حينئذ في وجوب المبادرة إلى الخروج كي
لا يستلزم من بقائه ازدياد الغصب.
ومرجع وجوب المبادرة إلى الخروج في الحقيقة إلى حرمة ارتكاب الغصب
الزائد، حيث إن بقاءه ملازم لازدياد الغصب.
وحينئذ فهذا الوجوب ليس وجوبا شرعيا، بل هو من باب لا بدية ترك
الملزوم بملاحظة حرمة [اللازم].
فتوهم وجوب التخلص حينئذ شرعيا بل ومحسنا بحسن ملزم عقلي ليس
في محله، إذ ذلك إنما يتم لو كان الخروج مقدمة لترك الغصب وهو ليس كذلك
جزما. كيف! وهو ضد البقاء في المحل، وهما (1) في رتبة واحدة - كما عرفت في باب
الضد - بل البقاء في المحل أيضا لو كان بمقدار خروجه زمانا ليس حراما
شرعيا، إذ هو أيضا ملازم لارتكاب الغصب الزائد، لا مقدمة، فلا يقتضي حرمة
[ارتكاب] الغصب الزائد أيضا حرمة بقائه، كما هو الشأن في كلية المتلازمات في
الوجود.
وحينئذ من نتائج ذلك عدم مانع عن صحة [صلاة] الكامل [المختار]
ببقائه هذا في الدار وعدم خروجه مع تمكنه منه في سعة الوقت، إذ هذا المقدار من
الزمان مقهور في غصبه ولم يكن معاقبا عليه من الأول، فلا يكون هذا المقدار
من الغصب مبعدا في حقه وانما المبعد هو لازمه من الغصب الزائد عن هذا المقدار
من الزمان لكونه تحت اختياره ولو باختيار ملزومه من البقاء المزبور.
وعليه فلا قصور في اتيان [صلاة] الكامل المختار في هذا المقدار من

(1) أي الضدان.
376

البقاء وان استلزم ذلك غصبا زائدا حراما.
نعم لو كان زمان الخروج أقل من البقاء بمقدار [صلاة] الكامل المختار
كان بقاؤه حينئذ بالمقدار الزائد عن زمان الخروج مبعدا ولا يجوز شرعا، ولازمه
عدم صحة [الصلاة] الكامل المختار في هذا المقدار، وحينئذ مع سعة الوقت يجب
عليه الصبر ولا يأتي بالصلاة إلى أن يخرج من الغصب ولا يصح منه الصلاة حينئذ
في الغصب لا كاملا ولا ناقصا.
نعم مع ضيق الوقت يجب عليه في الفرض المزبور الصلاة ماشيا راكعا
كذلك وساجدا بايماء حال مشيه.
ولكن لنا أن نقول في الصورة المزبورة أيضا بمقتضي ما ذكرنا أن له
بقاءه بمقدار زمان خروجه والاتيان بمقدار من الصلاة كاملا واتيان البقية في
الزائد عن هذا الزمان ناقصا في حال المشي.
وتوهم أن في هذا الزمان كان الغصب مبعدا في حقه مع تمكنه عن اتمام
صلاته - ولو ناقصا - بلا غصب مبعد، فيبطل هذا المقدار منه - ولو ناقصا - فلا
مصحح لصلاته [هذه].
مدفوع بقياس المقام بصورة ارتكاب الغصب من الأول بسوء اختياره
فان بناءهم في ضيق الوقت على اتيان الصلاة ماشيا - بنحو أشرنا - ولا فرق في
مبعدية الغصب بين كونه من الأول بسوء اختياره أو من الحين باختيار بقائه.
كما أن لنا [كلاما] أيضا في الصلاة بالنحو المزبور في فرض مبعدية
الغصب من الأول أيضا مع ضيق الوقت، إذ لازم مبعدية الغصب وتقديم حق
الناس على حق الله خروج الأكوان عن الجزئية ورجوع الصلاة في حقه إلى
الإشارات المعهودة كصلاة الغريق، وذلك أيضا جمعا بين ترك الغصب وعدم ترك
الصلاة بحال.
وتوهم ان ما هو تحت اختياره من الأول هو ترك الغصب بترك الدخول،
377

وأما تركه بترك الخروج فمن الأول خارج عن اختياره فلا يكون نقيض هذا
الترك مبعدا، وإنما المبعد هو نقيض الترك بترك الدخول، والمفروض انه
بالعصيان بالدخول سقط النهي السابق، فلا يكون في طرف الخروج نهي مبعد،
فلا مانع حينئذ من حفظ الاجزاء [غير] المانعة عن الخروج. نعم المانع عنه لابد
وان [يلغى] لأن مثله أيضا تحت النهي من الأول المقدور امتثاله فيكون مبعدا
ومنهيا فعلا.
مدفوع بأن ما أفيد من التفكيك بين أنحاء التروك في المبعدية من جهة
النهي في غاية المتانة، ولكن نقول:
إن سقوط النهي الأولي بسوء الاختيار لا يقتضي سقوط المبعدية عما هو
نقيض هذا الترك، كما هو الشأن في من القى نفسه عن شاهق، فإذا بقي النقيض
المزبور على المبعدية، يكفي هذا المقدار لخروجه عن جزئية الصلاة - كما
لا يخفى -، ولازمه هو الذي ذكرنا.
ولقد أجاد في الجواهر أيضا حيث احتمل في المقام انتهاء الامر إلى
ما ذكرنا من صيرورة تكليفه بالصلاة كتكليف [الغرقى] بها من خروج الأكوان
الملازمة للغصب المبعد عن حقيقة الصلاة. فراجع الجواهر (1).
ولكن الظاهر عدم بناء الأصحاب في فرض التقصير وضيق الوقت على
ذلك، بل ظاهرهم التزامهم باتيان الصلاة حال المشي محافظا لأجزائها بمقدار
لا يستلزم الغصب الزائد بحيث لو تمكن عن الركوع أيضا ماشيا يركع [يومئ]
في سجوده ولا يقعد في تشهده وسلامه.
كما أن بناءهم أيضا في فرض القصور في غصبه - ظاهرهم - عدم صحة
صلاته كاملا حتى في الزمان الملجأ بغصبه الدائر بين خروجه وبقائه في سعة

(1) جواهر الكلام 8: 295 و 296.
378

الوقت فضلا عن ضيقه بضميمة التفكيك بين الركعات مثلا من حيث الكمال
والنقص - كما أشرنا -.
واثبات هذه الدعاوي منهم بمقتضي القواعد في نهاية الإشكال، فلا وجه
للمصير إلى ما ذهبوا إليه من التفصيل بين السعة والضيق بترك الصلاة في
المغصوب رأسا واتيانها في خارجها في الأول واتيان الصلاة ناقصا حال المشي
الخروجي محافظا لأجزائه [غير] الموجب للغصب الزائد في الثاني من دون فرق
منهم بين تقصيره في الغصب وقصوره إلا دعوى الاجماع، والا فللنظر فيما
اختاروه في هذه الفروض كمال مجال. والله العالم بحقيقة الحال.
379

...
380

المقالة الثالثة والعشرون
النهي هل يقتضي الفساد
381

[المقالة الثالثة والعشرون]
في
أن النهي عن شئ هل يقتضي الفساد أو لا؟
والظاهر أن الغرض من الفساد: عدم ترتب الأثر المقصود منه من
سقوط القضاء والإعادة - عند الفقيه - في غير المعاملات، وعدم ترتب النتيجة
المقصودة بانشائه في المعاملات.
كما أن الغرض من الفساد في هذه المسألة هو: الفساد الواقعي الناشئ
عن قصور في مصلحته، لا الفساد الناشئ عن قصوره عن التقرب به مع عدم
قصوره في المصلحة المقتضية للأمر به واقعا، وذلك لأن ظاهر العنوان في اقتضاء
النهي بوجوده الواقعي للفساد ومثل ذلك لا يشمل الصورة الثانية إذ المقتضي له
هو النهي بوجوده العلمي، والا [فهو] بوجوده الواقعي عن عذر لا يقتضي
الفساد التقربي.
ومن [هاتين] الجهتين أمكن دعوى اختصاص هذه المسألة بباب
التعارض وكانت من شؤونها وغير مرتبطة بباب التزاحم (1)

(1) لأنه بناء على هاتين الجهتين (كون المقصود بالفساد عدم ترتب الأثر والنتيجة المقصودة، وكون
المراد بالفساد هنا الفساد الاقتضائي بمعنى قصور الملاك لا الفساد القربى) يكون التكاذب
بين دليلي الأمر والنهي تكاذبا اقتضائيا فان النهي ينفي الامر اقتضاء، والتكاذب الاقتضائي
ملاك باب التعارض.
بخلاف ما إذا كان المراد ما يعم الفساد القربى فان معنى ذلك كون الفساد ناشئا عن عدم
383

وعليه فلا مساس بين هذه المسألة والمسألة السابقة - على ما أسلفنا -.
نعم لو جعلنا الفساد في العنوان أعم من الفساد التقربي فلا محيص من
جعل المسألة السابقة صغرى لهذه المسألة، إذ [مرجعها] (1) إلى أن النهي متوجه
إلى متعلق الأمر أم لا؟ والقائل بالامتناع يلتزم بالتوجه فنحقق له صغرى هذه
المسألة.
ولكن أنت خبير بأنه بعد اثبات توجه النهي إلى موضوع الأمر لا نزاع
لأحد في منعه عن التقرب بمثله، بل لا أمر له حينئذ، وكان مبعدا محضا بنهيه
فكيف يتقرب به. وحينئذ لا يبقى المجال للبحث عن هذا الفساد (2)،
وذلك أيضا
شاهد آخر لعدم شمول الفساد في العنوان الفساد التقربي، فينحصر الفساد فيه
بالفساد الواقعي الناشي عن القصور في اقتضائه، فيختص مثل هذا النزاع
بباب التكاذب في عالم الاقتضاء ولا يشمل باب التزاحم.
بخلاف المسألة السابقة، فإنه كما أسلفنا مختص بباب التزاحم ومن شؤونه
ولا يشمل باب التكاذب في المقتضي.
بل ولئن بنينا على توهم بعض: من كون المسألة السابقة أيضا داخلة في

تمشي قصد القربة من المنهي لا عدم وجود المقتضي وقصور الملاك فيكون التنافي بين دليلي
الأمر والنهي تنافيا في مقام الفعلية والتحقق لا في مقام الاقتضاء وهذا ملاك باب التزاحم.
ويترتب على ما ذكر من كون المقام هنا مقام التعارض لكون التكاذب اقتضائيا عدم ارتباط
هذه المسألة بمسألة الامتناع والاجتماع لان المفروض هناك عدم التكاذب في الاقتضاء بين
الدليلين وانما يقع البحث في الامتناع أو الاجتماع بعد الفراغ عن ذلك.
(1) اي مرجع المسألة السابقة.
(2) اي الفساد القربى، لأن البحث عن الفساد القربى متفرع على كون الأمر باقي فيبحث عن أن
تعلق النهي هل يمنع التقرب به أولا، وأما بعد اتضاح كون امتناع التقرب بالمنهي عنه مسلما
أو خارجا عن محل النزاع وانتفاء الأمر في مورد تعلق النهي فلا يبقي مجال للبحث عن الفساد
القربى.
384

باب التعارض أمكن الفرق بينهما في خصوص التعارض من التكاذب في
الاقتضاء أو التكاذب في فعلية الحكم. وربما ينتج بينهما فرقا في صورة الجهل
بالنهي الفعلي قصورا من حيث الصحة والفساد وعدمه واقعا (1) فتدبر.
ثم المراد من الاقتضاء هل هو الاقتضاء في عالم الثبوت، وأن دلالة اللفظ
عليه من مباديه، وأن تمام المقصود: ان المبغوضية الملازمة للمفسدة هل [تلازم]
عدم المصلحة المقتضية [للحكم] أم لا؟
أو المراد من الاقتضاء أعم من الاقتضاء ثبوتا وإثباتا، إذ من صغرياتها (2)
صورة ظهور النهي للارشاد إلى عدم المشروعية بلا مبغوضية فيه (3)، إذ البحث
في مثله ممحض في دلالة اللفظ ليس إلا.
الظاهر هو الثاني.
وحينئذ المراد من النهي في العنوان أيضا أعم من النهي الحقيقي الكاشف
من المبغوضية والمفسدة في المتعلق، أو مطلق صيغة النهي القابل للارشاد به على
الوجه المسطور.
وأيضا ظاهر العنوان من اقتضاء النهي الفساد لا يكون الا جري الكلام
في اقتضاء النهي بمدلوله عدم المصلحة فيه: إما لملازمة المفسدة لعدمها، أو لصرف
دلالة النهي بدوا على عدمها - ولو ارشادا - وهذا المقدار لا يقتضي وجود مقتضي
الصحة في البين.
وتوهم أن البحث المزبور لولاه (4) كان لغوا لكفاية أصالة عدم المشروعية

(1) ففي صورة التكاذب في الاقتضاء نقول بالفساد واقعا وفي صورة التكاذب في فعلية الحكم نقول
بالصحة الواقعية - كل ذلك في فرض الجهل بالنهي الفعلي قصورا -، والظاهر أن كلمة
(الصحة) أو " عدمه " زائدة في المتن.
(2) أي من صغريات مسألة الاقتضاء.
(3) الظرف متعلق بقوله (ظهور) اي من صغرياتها صورة ظهور النهي المذكور في الاقتضاء
(4) اي لولا وجود مقتضى الصحة.
385

في فساد العمل ولو لم يكن في البين نهي.
مدفوع بأن الغرض من البحث اثبات الفساد اجتهاديا بحيث لو قام
دليل على الصحة يصلح المنهي المزبور للمعارضة، وأصالة عدم المشروعية لا يفي
[بذلك] كما هو ظاهر.
وحيث اتضحت هذه الجهات نقول:
إن النهي تارة في العبادات وأخرى في المعاملات بالمعنى الأعم، وثالثة في
المعاملات بالمعنى الأخص.
أما العبادات فتارة يتعلق النهي بنفس العنوان، وأخرى [يتعلق] بجزئه،
وثالثة بشرطه، ورابعة بوصفه الملازم.
فإن تعلق النهي بنفس العنوان فلا شبهة في أن طبع النهي يقتضي المولوية
النفسية، ولازمه اقتضاؤه كون العنوان مما احتيج إلى عدمه، ولازمه استحالة
الاحتياج إلى وجوده بنفسه، فيستحيل حينئذ كون العنوان المزبور مصلحة
ومفسدة ملازمة لمحبوبيته نفسا ومبغوضيته كذلك، فقهرا يقتضي مثل هذا النهي
فساد متعلقه، فيتعارض مع الامر المقتضي لصحته.
وربما ينتهي أمرهما إلى التساقط وأصالة عدم المشروعية.
ولكن غلبة كون الأمر أو النهي في الشريعة بحسب لب المحبوبية
والمبغوضية غيرية وإنما نفسيتها كانت في مرحلة التحميل على العبادة [تمنع] عن
الحمل على هذا الظهور، وحينئذ لا يقتضي النهي المزبور إلا وجود مفسدة فيه
لا أن المتعلق بنفسه مفسدة، وهذا المقدار لا يقتضي منع المصلحة في المتعلق. وعليه
لا مقتضي لطبع هذا النهي في الفساد (1)، بل لو كان متعلق الأمر والنهي [عنوانين
متغايرين مجتمعين] في واحد، طبع واطلاق خطابي الأمر والنهي يقتضي إدخاله في
باب التزاحم.

(1) الأصح ان تكون العبارة هكذا: " لا مقتضي في طبع هذا النهي للفساد ".
386

نعم لو كان الخطابان متعلقين بعنوان واحد أمكن اثبات التعارض بينهما
بالتقريب السابق في تنبيهات المسألة السابقة.
ولكن ذلك أيضا ليس من باب اقتضاء النهي للفساد، بل إنما كان الفساد
بواسطة الأصل بعد تعارض الأمر معه في نفي محبوبية تركه بجميع مباديه كيف،
ولولا اقتضاء الأمر ذلك لما كان النهي معارضا له ولا مقتضيا لفساده فالفساد في
مثل هذا الفرض جاء من قبل المعارضة وأصالة الفساد، وحينئذ لو فرض ترجيح
النهي على الأمر لازمه منع دلالة الامر على عدم المقتضي لتركه وهذا المقدار
لا يوجب فساده مع احتماله فيكشف ذلك أن هذا الفساد ليس لاقتضاء في النهي،
كما هو ظاهر،
ثم إن ذلك كله في اقتضاء النهي الفساد الواقعي، وإلا فلا شبهة في أنه
مع تنجز [النهي] عنه لا يصلح ان يتقرب به، ولكن قد عرفت أن هذا الفساد في
ظرف تنجز النهي ليس مورد بحث حتى في موارد التزاحم فضلا عن مورد الكلام
الذي أشرنا بأنه من صغريات باب التعارض.
وبالجملة: نقول إن في (1) اقتضاء النهي المولوي النفسي بنفس العنوان
فساد المتعلق الملازم لعدم [مشروعيته] بعد فرض ظهور ثانوي في كون لب
المحبوبية والمبغوضية فيها (2) غيرية، وان نفسيتها انما [هي] في مرحلة [التحميل]
على العباد حتى في العبادات فضلا عن غيرها [دونه] خرط القتاد.
نعم ربما يوجب مع وحدة عنوان الخطابين فساد المتعلق من جهة التعارض
المنتهي إلى أصالة عدم المشروعية. فان تقنع بهذا المقدار في اقتضاء النهي للفساد
نقول به، ولكن في ذلك الفساد يشترط وجود أو معارض له، والا فلو لم يكن في

(1) (في) هنا زائدة، وكلمة " اقتضاء " فما بعدها إلى قوله " دونه " اسم لأن وقوله " دونه خرط القتاد "
خبر لأن.
(2) أي في الأوامر والنواهي الشرعية.
387

البين أمر يقتضي نفي الاقتضاء في تركه لا يقتضي صرف النهي عنه ذلك لامكان
كونها من باب التزاحم، كما لا يخفى.
هذا ولكن يمكن في أمثال هذه النواهي دعوى ظهور ثانوي في كونها في
مقام توهم المشروعية وحينئذ لا قصور في اقتضاء ظهوره فساد المتعلق لا من جهة
الملازمة العقلية الراجع إليه الوجه السابق، بل النهي بلفظه وظهوره يقتضي عدم
مشروعية مثل هذه العبادة الملازم لقصوره في اقتضائه، فتدبر.
ثم إن ذلك كله في النهي بنفس العنوان.
واما النهي بجزئه أو شرطه فالظاهر أنه لا اشكال عندهم في أن النهي أو
الامر الوارد في بيان كيفية العبادة لمحض الارشاد إلى جزئيته أو شرطيته أو
عدمهما بلا احتمال مولويته نفسيا كي يجئ منه البيانات السابقة.
نعم ليس مثل هذا النهي من الجزء أو الشرط كاشفا عن مانعيته لها، كيف!
وهو لا يناسب النهي عنها إذ لا أقل من توهم جزئيته أو شرطيته لولاه، فالنهي
عن مثله لا ينظر الا إلى دفع توهم جزئيته أو شرطيته ومشروعيته [بلا استفادة]
مخليته لها و [مانعيته] لولا دليل آخر على مانعية زيادته في العبادة، كما في
الصلاة وذلك أيضا مختص بالجزء دون الشرط كما لا يخفى.
ثم إن ذلك النهي إنما يقتضي عدم الجزئية أو الشرطية للمنهي عنه في
صورة عدم اقتضاء (المنهي) تقييد اطلاق دليل الجزء أو الشرط [بعدمه] وإلا
فلازم النهي المزبور تبديله بغيره لولا محذور الزيادة، كما هو ظاهر.
نعم لو لم يكن في البين توهم الجزئية أمكن دعوى ظهور النهي في الارشاد.
إلى مانعيته، كما هو الشأن لو كان متعلق النهي وصفا مقارنا لها أو مفارقا.
نعم لو كان النهي متعلقا بعنوان آخر مفارق مع العبادة تارة ومجتمعا معها
أخرى أمكن منع [ظهوره] في الارشاد إذ مثل هذا النهي لا ينظر إلى العبادة كي
يدعي بأنه في مقام بيان ماهيتها، بل متعلق بعنوان مستقل قابلا للانطباق عليها.
388

ففي هذه الصورة أمكن دعوى بقائه على ظهوره في المولوية، ولقد عرفت أنه
لا يقتضي فساد العبادة واقعا وإنما يقتضي فسادها من جهة القصور في التقرب
به في صورة اجتماع عنوانه مع عنوان المأمور به في جهة مشتركة بينهما، وإلا فلا
يقتضي الفساد أصلا، كما أشرنا إليه في المسألة السابقة فراجع.
ومن هذه البيانات ظهر حال النهي عن المعاملات بالمعنى الأعم إذ يجري
فيها جميع ما ذكرنا من لوازم مولوية النهي النفسي.
نعم ظهورها ثانويا في الارشاد إلى دفع توهم المشروعية محل اشكال إذ
ليس فيها غالبا مثل هذا التوهم.
نعم لو كان في البين مثله لا غرو بدعوى اقتضائه الفساد، كما لا يخفى.
كما أن النهي بجزئها أو شرطها أو بوصف مقارن لها أو مفارق ظاهره
الارشاد إلى نفي الجزئية أو المانعية على التفصيل المتقدم. نعم لو تعلق النهي
بعنوان آخر قابل للانطباق عليها لا يكون للارشاد بل على طبع ظهوره في
المولوية النفسية ولقد عرفت أنه لا يقتضي الفساد الواقعي كما أنه لا يقتضي
الفساد التقربي مع وجود أمر فيه أيضا بعد عدم اعتبار القربة في مثله وهو ظاهر.
وأما النهي عن المعاملة بالمعنى الأخص فنقول: إن النهي تارة متعلق
بنفس عنوان المعاملة الناشية عن عقده كالبيع والصلح وأمثالهما، وأخرى متعلق
بعنوان عقده الذي هو بمنزلة السبب له، وثالثة بجزء عقده أو بشرطه أو بوصفه
المقارن أو المفارق، ورابعة بالتسبب من عقده إلى نفسه وخامسة بنتيجة المعاملة
من التصرف في أحد العوضين مثلا.
وهكذا الكلام في الايقاعات غير فرض النهي عن جزئه لعدم تصور جزء
فيه لا في المسبب ولا في السبب.
أما صورة تعلق النهي بنفس المسبب عن عقد أو ايقاع فالظاهر أن نهيه
389

المولوي نفسيا أم غيريا لا يقتضي فساد المعاملة بمعنى عدم ترتبه (1) على انشائه
المقصود منه ترتبه لعدم منافاة بين مبغوضيته وترتبه ولو لاقتضاء مبغوضية وجوده
من قبل انشائه بعد عدم اعتبار قرب فيه.
نعم ما اعتبر فيه التقرب كالصدقات يشكل أمره لأن لازم التقرب
بالعنوان رجحانه المنافي مع نهيه.
فما عن أبي حنيفة من أن النهي عن الشئ يقتضي الصحة إنما يتم في
غير العبادي، والا ففيها غير قابل [للسماع].
نعم ذلك كله إنما يصح لولا كون النهي في مقام ردع العقلاء، في بنائهم
على ترتبها (2) على انشائها، وإلا أمكن دعوى كونها في مقام نفي مشروعية
المعاملة [الموجب] لفسادها شرعا، وربما يستظهر ذلك أيضا من كلية النواهي
الواردة في مورد المعاملات العقلائية، إذ هي ظاهرة في الرادعية الكافية لاثبات
الفساد.
اللهم [إلا] أن يدعى أن غاية الأمر [اقترانها] بما يصلح للقرينية من
توهم [كونها] لدفع المشروعية وذلك يقتضي نفي [ظهورها] في المولوية
[لا ظهورها] في الرادعية.
وحينئذ فمع الشك في [رادعيتها] أصالة عدم الردع [تقتضي] الصحة
[لكشفها عن امضائهم، لأن الاطلاق المقامي ولو لم يكن لفظيا يقتضي امضاء
عملهم ما لم يكن في البين ردع وأصل. فتأمل.

(1) أي وعدم ترتب المسبب - وهو عنوان المعاملة الناشئة عن العقد أو الايقاع كالبيع والصلح -
على انشائه المقصود من ذلك الانشاء ترتب المسبب - وهو البيع أو الصلح - لعدم المنافاة بين
مبغوضية المسبب وترتبه، حتى وإن كانت المبغوضية مبغوضية وجود المسبب من قبل الانشاء
بعد عدم اعتبار القربة فيه، فلا يقتضي النهي في هذه الصورة فساد المعاملة.
(2) أي المسببات أو عناوين المعاملات.
390

ومن هذه البيانات ظهر أيضا حال الصادر عن عنوان السبب من عقد
كذائي أو ايقاع كذلك، إذ جميع ما ذكرنا في المسبب جار فيه أيضا.
وأما النهي عن جزء السبب أو شرطه أمكن فيها دعوى كونها للارشاد
إلى [نفي] الجزئية أو الشرطية رأسا أو تقييدهما بغيره، كما هو الشأن في كلية
الأوامر أو النواهي الواردة في مقام بيان حقيقة شئ كما أسلفناه.
وأما النهي عن الوصف المفارق أو الملازم أمكن أيضا دعوى ظهورها في
المانعية لأنها أيضا من النواهي في مقام بيان حقيقة العنوان من العبادات أو
المعاملات مطلقا.
نعم لو كان النهي متعلقا بعنوان مستقل قابل للانطباق على المعاملة فهو
لا يقتضي فسادها كما تقدم في المعاملات بالمعنى الأعم.
ومن التأمل فيما ذكرنا أيضا ظهر حال النهي عن التسبب بالعقد أو
الايقاع إلى مسبباتها، إذ هي أيضا لا يوجب فسادها إلا إذا فرض كونها في مقام
الردع عن بناء العقلاء في هذا [التسبب] [فإنها ظاهرة] في الفساد لولا دعوى أن
مجرد توهم كونها لدفع المشروعية يمنع عن [ظهورها] في المولوية ولا يوجب
ظهورها في الرادعية، لأن الاقتران بما يصلح للقرينية بحكم المجمل، وحينئذ
يرجع الأمر إلى أصالة عدم الرادعية الكافية في صحة المعاملة امضاء فتدبر هنا
أيضا.
وأما النهي عن نتيجة المعاملة فلا شبهة في اقتضائه الفساد إذ هو ملازم
لعدم جواز التصرف في المال المضاد مع الصحة.
نعم لو كان النهي عن التصرف من عنوان ثانوي من نذر أو غيره فهو
لا يقتضي الفساد جزما.
هذا كله حال صور النواهي بحسب الاستظهارات النوعية كما هو شأن
391

الأصولي بيانها تثبيتا للقانون، والا ففي الموارد الشخصية ربما يتحقق قرائن
وخصوصيات شخصية لا محيص [فيها] من رفع اليد عن القوانين بها وتشخيص
ذلك منوط بنظر الفقيه في كل مورد مورد.
392

المقالة الرابعة والعشرون
المفهوم والمنطوق
393

...
394

[المقالة الرابعة والعشرون]
في
المفهوم والمنطوق
وعرفوهما بما دل عليه اللفظ لا في محل النطق أو في محله.
ولكن لا يخفى ما فيه من أن هذا البيان في المفهوم يشمل مطلق المداليل
الالتزامية حتى غير البينة منها فضلا عن البينة منها بالمعنى الأعم، ولازمه كون
المنطوق منحصرا بالدلالة المطابقية والتضمنية لأنها يكون مدلولها في محل النطق
لا غير، والحال أن بناءهم على حصر المفهوم المصطلح بالبينات بالمعنى الأخص
الذي كانت الملازمة بينهما بمثابة من الوضوح الموجب للانتقال من [الملزوم] إلى
اللازم في عالم التصور بلا التفات إلى الملازمة تفصيلا، بل يختص المفهوم
المصطلح أيضا بالقضايا ولا يشمل دلالة المفردات على لازمها ولو كانت بتلك
المثابة كدلالة الحاتم على الجود، بل ينحصر اصطلاح (المفهوم) بصورة تعليق
سنخ الحكم لا شخصيته، وإلا فليس ذلك بمفهوم.
وحينئذ فلو فرض حصر المعنى عندهم بالمفهوم والمنطوق لازمه دخول
غير ما هو مفهوم عندهم في المنطوق - كما صرح الفصول - حيث جعل دلالة
الآيتين على أقل الحمل في المنطوق، وحينئذ يختل أمر التعريفين [كليهما].
وأما لو بنينا كما هو الظاهر على وجود الواسطة بين العنوانين المزبورين
وتخصيص المنطوق بالمطابقة والتضمن لاختل أمر التعريف في المفهوم فقط.
395

ولكن الذي يسهل الخطب أن أمثال هذه التعريفات من باب شرح
الاسم لمحض الإشارة إلى ما هو من سنخ المعرف، فلا يضر بمثلها أمر عدم
الطرد والعكس كما لا يخفى.
ثم إن مصطلح (المفهوم) بعد ما كان في مورد تعليق السنخ فلا يشمل
موارد تعليق الشخص، ولو على العلة المنحصرة، بل وظاهرهم في التعليقات
الشخصية حتى للألقاب - المنكرين للمفهوم فيها - كون المعلق عليه بمنزلة
العلة المنحصرة لشخص الحكم، ولذا يلتزمون بانتفاء شخص الحكم عند انتفاء
موضوعه ذاتا أم وصفا.
ولولا انحصار موضوعه بخصوصية عنوانه، وكان الموضوع جامعا بينه
وبين غيره لما حكم العقل بانتفاء شخص الحكم أيضا، لامكان وجوده في فرد
آخر.
وتوهم كون المراد من شخص الحكم انشاءه المتقوم بوجود زيد مثلا في
خطابه، كلام ظاهري، إذ شخص الانشاء إذا كان متعلقا بزيد لا بما هو هو بل
بما هو انسان مثلا فلم [يبق] انشاء أيضا بانتفاء زيد مثلا، مع أن الغرض من
الحكم سنخا أم شخصا ما هو مدلول انشائه لا نفسه، وإلا فهو بانعدام كلامه
ينعدم ولا يتوقف انعدامه على انعدام زيد أيضا، فما يتوقف عليه هو مدلول هذا
الانشاء من الايجاب شخصا أم سنخا، ومثل هذا المدلول بأي نحو كان لا يكاد
ينعدم إلا بحصر موضوعه في المذكور.
وربما يفصح عما عليه بناؤهم من انتفاء شخص الحكم عقلا صريح
كلامهم في المطلق والمقيد المثبتين مثلا على التقييد عقلا بثبوت وحدة المطلوب
حتى بناء على عدم المفهوم للوصف أو اللقب. ولولا اقتضاء دليل المقيد انتفاء
شخص حكمه لما كان يعارض المطلق ولو مع احراز وحدة المطلوب، بل يؤخذ
بالمطلق ولا يقيد.
396

[فعمدة] الوجه في التقييد اقتضاء دليل المقيد انتفاء شخص حكمه كي
يعارض مع المطلق عند احراز وحدة المطلوب، وقد عرفت أن ذلك أيضا لا يتم
إلا بظهور ما علق عليه مضمون الخطاب منحصرا.
وربما يؤيد كلامهم في ذلك أيضا ظهور دخل كل عنوان مأخوذ في طي
حكم في الحكم بخصوصه، ولازمه ذلك ليس إلا الانحصار بالنسبة إلى شخص
هذا الحكم والا يلزم عدم دخل خصوصيته في شخص حكمه وهو خلف. ومن
هذه الجهة ربما يستظهر عنوان الموضوع في كل خطاب فيما هو مأخوذ في طي
الخطاب.
وحيث عرفت ذلك فنقول:
إن لمنكر المفهوم ليس انكار هذه الجهة عن ظهور دخل عنوان مأخوذ
في طي الخطاب بخصوصه في مضمون الخطاب، وإنما انكاره ممحض في كون
المضمون سنخا لا شخصا والا يلزمه عدم اقتضاء الخطاب انتفاء شخص الحكم
أيضا بانتفاء هذا العنوان بخصوصه ولو من جهة احتمال عدم دخل خصوصيته
في مضمون الخطاب شخصا أيضا كما لا يخفى.
وعليه فتمام مركز البحث بين المنكر والمثبت هو في مضمون الخطاب
المعلق على العنوان بخصوصه بأنه هو السنخ أو الشخص.
وحينئذ لا مجال في تقرير وجه الانكار من منع العلية تارة ومنع الانحصار
أخرى ومنع السنخ ثالثة، بل لابد وان يقتصر في وجه الانكار على منع خصوص
تعليق السنخ لا الشخص.
وعليه فمآل البحث في المقام إلى أن الظاهر من القضية - تعليقية كانت
أو غيرها - كونها في مقام تعليق السنخ أو الشخص بعد الفراغ عن ظهور
العنوان المأخوذ فيه في دخله في مضمون الخطاب بخصوصه الذي هو ملازم
لانحصاره فيه كي يصير انتفاء الشخص قدرا متيقنا.
397

وحيث عرفت ذلك فاسمع أيضا: ان الغرض من تعليق الشخص ليس
كون المراد من الخطاب المتعلق به شخص الحكم حتى من حيث الخصوصيات
الطارية عليه من الموضوع أو الشرط أو الوصف أو الغاية، كيف! ومثل هذه
الخصوصيات من نتائج تعلق الحكم بها، ولا يعقل أن تكون معلقة بالأمور
المزبورة.
كما أن المراد من السنخ أيضا ليس عبارة عن الطبيعة المهملة ولا الطبيعة
السارية في ضمن الوجودات المتعددة الخارجية، إذ مجرد تعليق الطبيعة المهملة
بملاحظة قابليتها للشخصية ولو بدال آخر لما يقتضي الانتفاء عند انتفاء المعلق
عليه، كما أن تعليق الطبيعة السارية في ضمن الوجودات المتعددة الخارجية على
موضوع خاص مستحيل عقلا.
وحينئذ لا محيص في مقام تعليق شخص الوجوب مثلا أن يراد من
الشخص ما هو المحدود بحدود خاصة ملازم مع ما علق عليه الحد لا الناشي من
قبله في قبال سنخه الملازم لتجريده عن هذه الخصوصية الملازم لأخذ اطلاق في
الحكم من هذه الجهة زائدا عما هو مدلول خطابه من الطبيعة المهملة، وحينئذ
يدور الأمر في هذا الاطلاق بين الحمل على معنى الاشتراط النفسي المراد منه
صرف الشئ [غير] القابل للانطباق على غير أول وجوده، أو الحمل على
الطبيعة السارية في ضمن مراتبه المتصورة في مثله، وعلى التقديرين يقتضي
التعليق المزبور انتفاء الحكم عند انتفاء ما علق عليه، إذ لو وجد الحكم عند
انتفاء المعلق عليه يلزم تحقق أول وجود الطبيعة في غيره وهو مناف للتعليق
المزبور. كما أنه يلزم وجود مرتبة من الحكم في غير المعلق عليه المنافي لتعليق جميع
المراتب بذلك في قبال اقتضائه مجرد اثبات الطبيعة المهملة لموضوعه، فلا اطلاق
في طرف المحمول أصلا.
ومنها ظهر أن طبع القضية بنفسها لا يقتضي إلا كون المراد من المحمول
398

ما يقتضيه وضعه الأولي من الطبيعة المهملة وهو الذي لا يقتضي بنفسه نفي الحكم
في غير مورده فلا يكون له مفهوم فالمفهوم حينئذ يحتاج إلى عناية زائدة في
القضايا من كونها في مقام تعليق المحمول باطلاقه على موضوعه، فإذا كان كذلك
فتحتاج هذه الجهة إلى دال آخر زائد على ما يقتضيه طبع القضية من مثل أداة
الشرط أو غاية أو حصر أو توصيف، والا فالعاري عن جميع هذه الأمور
كالألقاب ليس [له] مفهوم ولا يكون أحد يدعيه [فيه] الا في مورد قامت قرينة
شخصية خارجية ككونه في مقام التحديد وأمثاله. ومن هنا وقع النزاع نفيا واثباتا
في الموارد المعهودة المشتملة على خصوصية زائدة عما يقتضيه طبع القضية
موضوعا ومحمولا من مثل الأمور المذكورة.
ثم لا يخفى أيضا الجهة الفارقة بين أنحاء الأدوات في كيفية المفهوم، إذ
أداة الشرط [لا تقتضي] الا تجريد المحمول من الخصوصية الملازمة لشرطه مع
حفظ سائر الخصوصيات فيه. وهذا هو المراد من تعليق سنخه واطلاقه، لأن
المراد السنخ من جميع الجهات وسائر الحيثيات واطلاقه كذلك، كما أن المراد من
أداة الغاية تجريد المحمول عن الخصوصية الملازمة لغايته مع حفظ بقية
الخصوصيات فيه، وهكذا الأمر في أداة الحصر والهيئة التوصيفية.
ولئن شئت توضيح ما ذكرنا فانظر إلى مثل هذا المثال من قوله: إن جاءك
زيد قائما إلى يوم الخميس لا يجب اكرامه الا ضاحكا. إذ مقتضى مفهوم الشرط
نفي الحكم المزبور المشتمل على سائر خصوصياته عند عدم المجئ الذي هو
الشرط، ولازمه حفظ تمام الخصوصيات في طرف المفهوم حتى الوصف والغاية
والحصر، كما أن مقتضى مفهوم الغاية أيضا حفظ جميع الخصوصيات في مفهومه
حتى الشرط والتوصيف، وهكذا الأمر في طرف التوصيف وأداة الحصر.
وعليه لازم أخذ المفهوم في المثال من جميع جهاته تحقق أنحاء مختلفة في
مفهومه من عدم الوجوب ولو ضاحكا عند عدم المجئ، وعدم الوجوب كذلك
399

عند تحقق الغاية، وعدم وجوبه كذلك عند عدم الوصف، وعدم وجوبه عند فقد
الضحك.
كما أن لازم عدم أخذ المفهوم من الجمع احتمال ثبوت الحكم عند فقد
الجميع، ولازم التفكيك بينهما إلغاء المفهوم عما لم يكن في مقام تعلق السنخ الناشي
عن تجريده عما عليه بأداة شرطه أو غيره.
وبالجملة نقول: المدار في أخذ المفهوم من كل جهة ملاحظة تجريده عن
الخصوصية الملحوظة بالإضافة إلى ما يقتضيه أنحاء الأدوات كما لا يخفى.
ثم إنه بعد ما عرفت - في كيفية أخذ المفهوم من أدوات الشرط - بأن
المدار فيه على مجرد التجريد في طرف الجزاء عن الخصوصية الملازمة معه مع حفظ
بقية الخصوصيات في صورة امكان التفكيك بين أنحاء الخصوصيات فالأمر
ظاهر.
وأما مع عدم التفكيك فلا شبهة في أن الاهمال في سائر الخصوصيات
يلازم الاهمال من طرف الشرط أيضا، كما أن التجريد من طرف الشرط يلازم
التجريد في الجهات الملازمة أيضا.
مثلا: لو قال: إن وجد زيد يجب اكرامه ففي مثل هذا المقام التجريد من
ناحية الشرط الذي هو وجود زيد ملازم للتجريد عن ناحية موضوعه وهو زيد،
كما أن الاهمال من حيث زيد موجب للاهمال من حيث وجوده وشرطه، ففي هذه
الصورة ربما [يقع] البحث بعد الفراغ عن جهة مفهوم الشرط في: أن الترجيح
في ظهور القضية في الاهمال من ناحية الموضوع [يلازم] إلغاء ظهور التجريد في
طرف الشرط فيحكم بعدم المفهوم، بل كانت القضية مسوقة لبيان الموضوع أو
الترجيح في ظهور الشرط في التجريد، ولازمه التجريد عن خصوصية الموضوع
أيضا كي يصير مفهوم الشرط في المقام مساوق مفهوم اللقب.
والى الجهتين نظر العلمين في مفهوم آية النبأ، فذهب شيخنا العلامة أعلى
400

الله مقامه إلى الجهة الأولى وجعل المقام من باب سوق [القضية] لبيان وجود
الموضوع. ونظر أستاذنا العلامة إلى الجهة الثانية فالتزم في مثله بأن مفهومه
مساوق مفهوم اللقب، وحينئذ أمكن دعوى أن إهمال القضية من حيث الإضافة
إلى الموضوع إنما هو مستند إلى طبع القضايا فلا اقتضاء فيها للتجريد وحينئذ
فلو كان في البين مقتضي خارجي له فظهور القضية في الاهمال الناشي عن عدم
الاقتضاء لا يزاحم ما فيه اقتضاء التجريد.
وحينئذ فالتحقيق ما ذهب إليه أستاذنا الأعظم لولا دعوى أن الغالب
من أمثال هذه القضايا سوقها لبيان وجود الموضوع فقط، لا أن لها مفهوما،
ويكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع كما لا يخفى.
بقي في المقام فذلكة أخرى و [هي]: انه لو كان الجزاء في القضية ينحصر
مورده بصورة وجود الشرط بمعنى ملازمة حكمه مع الشرط لا موضوعه، عكس
الفرض السابق ولازمه أيضا امكان التجريد عن الشرط مع عدم التجريد عن
موضوعه، غاية الأمر التجريد عن الشرط يقتضي حصر الطبيعي بفرده المنوط
بشرطه وهو أيضا مساوق اهماله من هذه الجهة كما لو قال: إن جهلت بحرمة
شئ فهو حلال لك ففي هذه الصورة قد يبقى الكلام في أن المدار في اتحاد
المفهوم على مجرد امكان التجريد عن الشرط وإن لم يكن له فرد آخر في غير
مورده كي يطلق المفهوم المصطلح على مثله، أو المدار على التجريد في مورد
امكان فرد آخر له كي لا يدخل ذلك في المفهوم المصطلح.
لا يبعد في المقام أيضا الالتزام بكفاية امكان مجرد التجريد المزبور في
المفهوم وإن لم يفد فائدة وكان هذا التجريد بمثابة الاهمال كما لا يخفى.
ثم إن المفهوم بعد ما كان من المداليل الالتزامية البينة لا شبهة في [كونه]
من اللوازم العقلية ويحسب من الأحكام العقلية [غير] المستقلة، ولازمه استحالة
ورود تخصيص أو تقييد على مستقلا بلا تصرف في منطوقه لأنه حينئذ من توابع
401

المنطوق اطلاقا وتقييدا، وعليه فلو أريد في البين تخصيص المفهوم أو تقييده
بحال، لا محيص حينئذ من التقييد في منطوقه أو تخصيصه ليس إلا. وحيث اتضح
لك مثل الجهات يبقى الكلام في كل واحد من المفاهيم بخصوصيتها في طي
مقالة [مستقلة] فنقول:
402

المقالة الخامسة والعشرون
مفهوم الشرط
403

...
404

[المقالة الخامسة والعشرون]
في
البحث عن مفهوم الشرط
وقد اختلفت كلمتهم فيه فبين مثبت للمفهوم فيها وبين ناف.
ونسب إلى المنكرين أيضا انكار العلية تارة وانكار [الانحصار] أخرى.
ولكن قد تقدم منا بأنه بعد [التسليم] في مثل هذه القضايا [بانتفاء]
شخص الحكم لا يبقى لهم مجال انكار في الحصر بدخول أداة الشرط علة كانت
أو غيره، فلا محيص من أن يكون انكاره ممحضا في تعليق السنخ بعد الفراغ عن
ظهور الشرط في الانحصار ولو من جهة ظهور دخل خصوصية العنوان المأخوذ
في حيز الخطاب في ترتب الحكم عليه جزاء أو غيره سنخا أم شخصا.
وحينئذ لنا ان نقول: إن طبع القضية باقتضاء ذاتها ليس إلا ترتب الحكم
- مهملة - على موضوعه.
ولكن لو كان في البين جهة زائدة عن ربط الحكم بموضوعه - كما في
المقام - من حيث اقتضاء أداة الشرط ربط الحكم بشرطه زائدا [على] ربطه
بموضوعه، فهل القضية في هذه الجهة الخارجة عن مدلولها أيضا [تقتضي] إهمال
الجزاء أو [لا تقتضيه]؟. - بل مقتضى مقدمات الحكمة تعليق اطلاق حكمه الملازم
لتجريده عن هذه الجهة - أمكن أن يقال إن أصالة الاطلاق [تقتضي] التجريد
من هذه الجهة، ويبقى حيث الإضافة إلى الموضوع على طبعه [الأولي] في
405

القضايا الظاهرة نوعا في [إهمال] المحمول من حيث الإضافة إلى موضوعه.
وبعبارة أخرى نقول: إن ظهور القضايا نوعا في إهمال المحمول بالنسبة
إلى موضوعه مانع عن الأخذ بأصالة الاطلاق في مثله، ولكن ذلك لا يمنع عن
الأخذ بأصالة الاطلاق في سائر الجهات.
وبهذه العناية أيضا نقول بالمفهوم في الغاية وأداة الحصر وأما التوصيف
فحيث إنه من شؤون الموضوع وكان نسبة الحكم إليه كنسبته إلى ذات موضوعه
صار منشأ للتشكيك في أصالة الاطلاق إلى حيث إضافة الحكم إليه إذ كان
لدعوى اقتضاء طبع القضية إهمال الحكم بالإضافة إلى موضوعه بجميع شؤونه
كمال مجال. وقد مر الكلام في أمثال المقام كي لا يختلط عليك الأمر، والله العالم.
ثم إنه إذا تعدد الشرط الجزاء شخصا بحيث [يكون] غير قابل
للتكثر فلا شبهة في أنه لا محيص من رفع اليد عن ظهور الشرط في المؤثرية بنحو
الاستقلال فيحمل على مؤثرية المجموع في وجود الجزاء عند تقارنها خصوصا مع
اقتضاء ما هو أحدهما دون الآخر ترجيحا بلا مرجح. نعم مع تعاقبهما كان الأثر
لأول الوجودين قهرا. كما لا يخفى.
وأما لو كان الجزاء وجودا سنخيا قابلا للتكثر ففي هذه الصورة يدور
الأمر بين الأخذ باطلاق الجزاء الكاشف عن صرف الوجود [غير] القابل للتكثر
أيضا ولازمه أيضا رفع اليد عن ظهور الشرط في الاستقلال تأثيرا [فيجري] فيه
حكم الصورة السابقة وبين الأخذ بظهور كل شرط في المؤثرية المستقلة المستلزم
لرفع اليد عن وحدة الجزاء بحمله على وجود دون وجود والى مثل هذه النقطة
نظر المتخالفين في أمثال المقام بأن الأصل في هذه الموارد هو التداخل أو العدم،
وحيث كان كذلك نقول:
إن ظاهر كون الجزاء تبعا للشرط ثبوتا واثباتا، وان ظهور الشرط في
المؤثرية المستقلة [صالح] للبيانية المانع عن الأخذ باطلاق الوحدة في طرف الجزاء،
406

ولازمه كون الأصل في أمثال الباب هو عدم التداخل.
وتوهم أن ظهور الشرط في استقلال التأثير لا ينافي مع كون الاكتفاء
بوجود واحد لامكان تأثير كل واحد في وجوب الشئ الموجب لتأكده عند
التعدد، نعم لو فرض وجود آخر بعد وجود الجزاء يجب أن يؤثر أيضا في وجوبه،
والى ذلك نظر العلامة - أعلى الله مقامه - في مصيره إلى التفصيل بين صورة
تكرر الشرط قبل الوجود للجزاء فيتداخل، وبين فرض وجود شرط آخر بعد
الجزاء فلا يتداخل بل يؤثر في وجوب آخر.
مدفوع بأن الظاهر من الشرط كون [مقتضيا] لوجود الموضوع، وان
اقتضاءه لوجوبه من تبعات اقتضائه الوجود، حيث إن اقتضاءه التشريعي
لوجود شئ كونه موجبا لوجوبه، وحينئذ لازم ابقاء ظهور الشرط في المؤثرية
المستقلة اقتضاؤه وجودا مستقلا.
ولئن أغمض عن ذلك نقول: إن اقتضاء المؤثرية المستقلة كون [النتيجة]
الوجوب المستقل، والا فتأكد الوجوب في ظرف تكرر الشرط يوجب عدم
استقلال الشرط في التأثير لبداهة استناد الوجوب الواحد المتأكد إليهما لا إلى
كل واحد منهما وحينئذ من المعلوم اقتضاء الوجوبين المستقلين وجودين كذلك،
فلازمه أيضا عدم التداخل. فتدبر.
ثم إن ذلك أيضا في صورة كون الجزاء في القضيتين عنوانا واحدا، والا
فلو كان الجزاء في كل شرط عنوانا غير عنوان الجزاء في الآخر ففي هذه الصورة
ظهور الشرط في المؤثرية المستقلة لا يقتضي أزيد من ترتب عنوان جزائه عليه
مستقلا، وهذا المقدار لا ينافي مع قابلية انطباق العنوانين على وجود واحد، إذ تأثير
الشروط في تعدد العنوان بنحو الاستقلال غير مانع عن الانطباق المزبور، ومن
هذه الجهة ربما التزم [القائلون] بعدم التداخل في السبب مع وحدة العنوان
التداخل في المسبب عند اختلافهما عنوانا. كما لا يخفى.
407

...
408

المقالة السادسة والعشرون
مفهوم الوصف
409

[المقالة السادسة والعشرون]
في
مفهوم الوصف
وفيه أيضا اختلاف بين الأعلام، وان كان المشهور فيه عدم المفهوم
عكس المسألة السابقة.
ولعل عمدة النكتة في انكار المشهور للوصف مفهوما هو الذي أشرنا إليه
سابقا من أن الأوصاف [تحسب] من قيود الموضوع وتكون من شؤونها، وان نسبة
الحكم والمحمول إليها كنسبته إلى ذوات موضوعاتها، وحينئذ كان لدعوى
- اقتضاء طبع القضية إهمال المحمول بالإضافة إلى موضوعه بشؤونه - كمال
مجال.
وذلك بخلاف سائر المفاهيم، فان القضية فيها مشتملة على نسبة زائدة
عما يقتضيه طبع القضية من الإضافة إلى الموضوع، ولذا لا بأس بأخذ الاطلاق
[الزائد] مع ابقاء القضية على طبعها في نسبة المحمول إلى موضوعه من الاهمال.
بخلافه في الأوصاف فإنه ليس في البين نسبتان كي يؤخذ باهمال أحدهما
واطلاق [الأخرى] بل مقتضى طبع القضية ليس إلا إهمال المحمول بالنسبة
إلى موضوعه بتبعاته وشؤونه.
وتوهم أن التوصيف أيضا جهة زائدة عما يقتضيه طبع القضية من
الاحتياج إلى محمول وموضوع، وأن ما هو مقتضى طبع الكلام من الاهمال إنما
411

هو بالنسبة إلى ما به قوام كلامية الكلام والأوصاف جهة زائدة عنها ولا مانع
حينئذ من الأخذ بالاطلاق والتجريد في الأوصاف أيضا، بل ربما يدعي أيضا في
كلية الأوصاف بأن الوصف مشعر بالغلبة، وان غرضه: أن نسبة الحكم إلى
الوصف بنسبة أخرى زائدة عن نسبة الحكم إلى موضوعه فلا بأس حينئذ
بالتفكيك بينهما من حيث الاهمال والاطلاق كسائر القضايا الشرطية،
مدفوع بأن مجرد خروج الأوصاف عما به قوام كلامية الكلام لا يقتضي
اختلاف نسبة المحمول إلى ذات الموضوع أو وصفه بل نسبة المحمول إلى
الموصوف بالوصف نسبة واحدة شخصية وان اختلافها إلى الذات أو الوصف
ليس إلا [تحليليا عقليا] وإلا ففي الخارج ليس إلا شخص نسبة واحدة والعرف
يأبى عن التفكيك في هذه النسبة الشخصية من حيث التجريد وعدمه في هذا
الموضوع الشخصي الخارجي لمحض اختلافهما تحليلا.
ومن هنا ظهر أن اشعاره بالعلية لا يوجب تغيير النسبة بين الذات ووصفه
خارجا، ومع عدم اختلافهما في الخارج لا يبقى مجال للتفكيك بينهما من حيث
الاطلاق والتقييد كما هو ظاهر، وحينئذ مقتضى التحقيق ما هو المشهور [من]
عدم المفهوم في الأوصاف.
ثم على تقدير المفهوم مقتضى ما ذكرنا سابقا من ميزان كل مفهوم
ملاحظة تجريد المعلق عليه بالإضافة إلى المعلق مع حفظ بقية الخصوصيات فيه
ولازمه كون المفهوم في قوله (في الغنم السائمة زكاة) عدم الزكاة في معلوفة الغنم
لا في معلوفة الإبل، نعم لو كانت القضية في مقام تجريد الحكم عن السوم حتى
مع عدم حفظ موضوعه كان لما أفيد وجه، ولكنه كما ترى.
412

المقالة السابعة والعشرون
مفهوم الغاية
413

...
414

[المقالة السابعة والعشرون]
في
مفهوم الغاية
والظاهر أن مركز البحث المزبور في نفي الحكم عما بعد أداة الغاية.
وحينئذ ربما [اختلفت الأدوات] في ذلك.
فان كانت مثل (حتى) فالظاهر [ظهورها] في دخول [مدخولها] في المغيا
مثل: قوله أكلت السمكة حتى رأسها. وصوموا حتى [الليل].
وأما لو كانت مثل (إلى) فالظاهر عدم [دلالتها] على دخول المدخول في
المغيا و [تفارق] من تلك الجهة كلمة (حتى).
كما أنه لا كلام أيضا في [اقتضائها] انتفاء شخص الحكم في ظرف وجود
المدخول نظرا إلى كون هذه الكلمة دالة على انتهاء [سابقها] في ظرف
المدخول، كما أن كلمة (من) دالة على ابتداء سابقها في ظرف المدخول مكانا أو
زمانا أو حالا. ولازم الانتهاء المزبور انعدامه في ظرف مدخوله من دون فرق في
ذلك بين كون الغاية قيدا للموضوع أو المحمول أو النسبة الحكمية.
وأيضا لا شبهة في امكان استفادة انتفاء سنخ الحكم من الغاية المزبورة
ولو من قرينة خارجية بلا فرق في ذلك أيضا بين كونه راجعا إلى الموضوع أو
المحمول أو النسبة، إذ من الممكن استفادة كون المغيا موضوعا [أو] حكما أو
نسبة سنخها، إذ لازمه قهرا انتفاء سنخ الحكم في ظرف الغاية.
415

وإنما الكلام في المقام في أن ظاهر نفس القضية مع قطع النظر عن
القرائن الخارجية أيضا انتفاء السنخ أم لا يكون ظاهره ذلك فيكون المتيقن منه
انتفاء الشخص فقط.
ففي هذا المقام قد يفصل بين كون الغاية قيدا للموضوع أو المحمول
وبين كونه قيدا للنسبة، بالالتزام بانتفاء السنخ من ظاهر القضية في الآخر دون
الأولين.
ولعل عمدة الوجه فيه هو: ان طبع القضية - حسب ما أشرنا إليه -
لا يقتضي أزيد من اثبات المحمول [للموضوع] الخاص بنحو الاهمال، فلا نظر
فيه إلى حصر المحمول في الموضوع ولا عكسه، ولذا لا يقتضي انتفاء الحكم عن
[غيره] ولا انتفاؤه بانتفاء حكمه، وحينئذ فالغاية الواردة على مثل هذا المحمول
والموضوع لا [تقتضي] إلا تحديد انتهائهما بما هما - مهملة - من دون اطلاق في
طرف المحدود موضوعا أو حكما.
ولئن شئت [فقل]: إن طبع القضية يقتضي إهمال المحمول أو الموضوع
بشؤونه وحدوده، وأما لو كان قيدا للنسبة الكلامية ففي هذه الصورة أمكن
دعوى أن هذه الجهة أمر زائد عن المحمول والموضوع، فلا بأس بمقتضى أصالة
الاطلاق هو الأخذ باطلاق النسبة وتعليق سنخه بالغاية مع الالتزام باهمال
الحكم والموضوع بمقتضى طبعه الأولي في القضية فتدل على انتفاء سنخ النسبة
بين الطبيعتين فيدل قهرا على انتفاء سنخ الحكم في ظرف وجود المدخول.
لا يقال: كيف يمكن التفكيك بين المحمول والموضوع وبين النسبة بأخذ
الاهمال فيهما والاطلاق في الأخير مع أن النسبة [تبع] لهما اطلاقا واهمالا كما هو
الشأن في كلية المعاني الحرفية من كونها من حيث الاطلاق والاهمال تبع المتعلق
وليس [لها] قابلية التعميم والتخصيص مستقلا في قبالهما؟
لأنه يقال: إن ما [أفيد] كذلك في عالم الثبوت، وأما في عالم الاثبات
416

فأمكن أن يقال إن طبع القضية [بظهورها] النوعي لا يقتضي الاهمال
[موضوعها ومحمولها] وذلك لا ينافي وجود [مقتض] خارجي موجب لاطلاق
التعليق الموجب لانتفاء السنخ عند حصول الغاية.
وحينئذ فاطلاق التعليق في طرف النسبة يقتضي أيضا اطلاق التعليق في
طرف المحمول بل الموضوع، كما أن الاطلاق فيهما أيضا يقتضي الاطلاق في
النسبة أيضا، وإنما الفارق بينهما من حيث إجراء الاطلاق في النسبة دونهما إنما هو
من جهة كون المحمول [أو الموضوع] من شؤون الجملة [غير] المقتضية لأزيد
من اهمالهما، بخلاف النسبة الحكمية فإنها جهة زائدة عن المحمول والموضوع
فلا بأس بالاطلاق في [طرفها] مع بقاء الجملة على عدم [اقتضائها] أزيد من
[اهمالهما] بلا منافاة أيضا بين لا اقتضائية الجملة لاطلاق المحمول والموضوع مع
اقتضاء الغاية في النسبة تعليق [معناها] - باطلاقه وسنخه - وحينئذ فلك ان تختار
التفصيل المزبور في المسألة تبعا لبعض الأعلام بأخذ المفهوم في الأخير دون
الأولين فتدبر في المقام فإنه من مزال الأقدام.
ثم إن في صورة ملازمة النسبة للتحديد بما بعد الأداة ذاتا - كما في قوله:
(كل شئ لك حلال حتى تعرف) - ففي اطلاق المفهوم المصطلح عليه أم لا
كلام تقدمت الإشارة إليه في نظيره في مفهوم الشرط فراجع.
417

...
418

المقالة الثامنة والعشرون
مفهوم الحصر
419

...
420

[المقالة الثامنة والعشرون]
في
مفهوم الحصر
والظاهر عندهم كونه من أقوى المفاهيم بلا تشكيك فيه من أحد.
أقول: لو كان من جملة وجوه التشكيك في سائر المفاهيم - كما هو
المتراءى من كلماتهم - منع استفادة الانحصار في العلية أو الغاية من أداتها، كان
لما أفيد من أقوائية المقام في المفهوم وجه. إذ وضع الأداة أو الهيئة مثلا في المورد
للحصر، فلا يبقى مجال في هذا الباب لمنع الحصر في الموضوع ذاتا أم وصفا أم
غيرهما.
أما لو بنينا [على] ما أسلفنا من عدم قصور في كل قضية [في] استفادة
دخل خصوصية العنوان في الحكم الذي هو ملازم للانحصار، وإنما جهة البحث
في جميع أبواب المفاهيم إلى أن [المعلق] على قيود واردة في الكلام زائدا عن
المحمول والموضوع هل هو سنخ الشئ أو شخصه، ففي هذه الجهة لا مزية لباب
الحصر [على] غيره، لاحتمال كون طرف الحصر فيه شخص الحكم أيضا ومع
هذا الاحتمال لا ينفي الحصر المزبور [ثبوت] شخص آخر من الحكم في غير
مورد الحصر فلا يكون حينئذ له أيضا مفهوم.
فالعمدة في المقام أيضا اثبات تلك الجهة، وفي ذلك لا مجال لاثبات
الأقوائية من غيره بمجرد وضع [الأداة] للحصر كما لا يخفى.
421

اللهم [إلا] ان يدعي أقوائية الدلالة في [تعليق] السنخ في أمثال الجمل
المشتملة على أداة الحصر من غيرها، وهو أول الكلام.
نعم لا بأس باستفادة المفهوم منها بعين الوجه الذي ذكرناه في سائر
الأبواب من كون جهة الحصر أيضا خصوصية زائدة عن صرف اثبات المحمول
لموضوعه فلا بأس باطلاق ما ورد عليه الحصر، واستفادة السنخ من الاطلاق
المزبور، كما هو الشأن في غيره من سائر أبواب الشرط أو الغاية وأمثالها فتدبر.
ثم إن في باب الحصر والاستثناء فروع متشتتة [تعرضوا لها] في باب
الاقرار، وبواسطة سهولة [مأخذها] لا داعي [للتعرض لها] في المقام، بل على
الناظر أن يراجع باب الاقرار فيتأمل فيها.
422

المقالة التاسعة والعشرون
مفهوم العدد
423

...
424

[المقالة التاسعة والعشرون]
في
[مفهوم العدد]
من المفاهيم مفهوم العدد، كقوله: جئني بعشرة، وان مفهومه عدم وجوب
الزائد. وفي مثله ربما يقع الكلام بأنه من قبيل مفهوم الوصف وكون التعليق على
[العدد] مثل التعليق على [الوصف] من شؤون تعليق المحمول على موضوعه
فلا يكون الا مهملا غير مناف لثبوت شخص حكم آخر في الزائد عن العدد
أو انه جهة [زائدة] عن الموضوع والمحمول فلا يأبى عن تعليق السنخ؟
والظاهر أنه من شؤون الموضوع كالوصف ولكن ظهور كونه في مقام
تحديد المرام بتمامه أوجب المفهوم فيه، كما هو الشأن في الألقاب أيضا فضلا عن
الأوصاف لو كانت أحيانا في مقام التحديد المزبور فان لها أيضا مفهوم. والله
العالم.
425

...
426

المقالة الثلاثون
العموم والخصوص
427

[المقالة الثلاثون]
في
العموم والخصوص
وعرف العموم باستيعاب المفهوم لمصاديق مدخوله أو حالاته، أداة كانت
[كلفظتي] كل وجميع، أو [هيئة] كوقوع الطبيعة في طي النفي، أو حرفا ك‍ (لام
الاستغراق) [الداخلة] على المفرد أو الجمع. ومرجع الاستيعاب إلى الإحاطة بها
بحيث لا يشذ شئ من المصاديق عنها.
وفي قباله الخصوص الراجع إلى عدم الاستيعاب بالإضافة إلى
ما يستوعبه غيره أو على الاطلاق. فالخصوص تارة إضافي فيه جهة عموم أيضا
وأخرى حقيقي بلا جهة استيعاب فيه أصلا، كما هو الشأن في العموم أيضا.
نعم هنا اشكال مشهور [هو]: أن الاستيعاب لشئ واحاطته له من
المعاني الحرفية الراجعة إلى النسب القائمة بشئ، وهنا أيضا جهة الاستيعاب
قائمة بالمستوعب والمستوعب - بالفتح - ومع حرفية المعنى كيف [تترتب] آثار
الاسم على أداته، من مثل [لفظتي] (الكل) و [الجميع] من [جعلهما] مبتدءا تارة
وخبرا أخرى.
وحله بان الاستيعاب المزبور ملازم لحيثية [الاجتماع] تحت المستوعب
- بالكسر - و (الكل) و [الجميع] حاكيتان [عن] هذه الحيثية، [وهي] معنى اسمي
ملازم لمعنى حرفي، وما هو ممحض في الحرفية مفهوما هو الهيئة أو حرف التعريف
429

المستعمل في استغراق المعنى بنفسه.
ثم انهم قسموا العموم إلى استغراقي ومجموعي وبدلي. والظاهر أن جهة
الاستيعاب لمصاديق المدخول محفوظة.
وانما الامتياز بين البدلي وغيره بلحاظ خصوصية مدخوله من كونه
[نكرة] أو جنسا، فان في النكرة اعتبرت جهة البدلية دون الجنس، إذ صدقه
على مصاديقه ليس إلا عرضيا في قبال النكرة [غير] الصادقة على مصاديقه إلا
بنحو التبادل، وحينئذ فالاستيعاب [الوارد] على النكرة لا يفيد إلا الاستيعاب
للمصاديق بنحو التبادل، بخلاف الاستيعاب الوارد على الجنس فإنه لا يكون الا
استيعابا عرضيا، فامتياز العموم الاستغراقي مثلا [عن] البدلي ليس إلا من
جهة خصوصية في المدخول لا من جهة [خصوصية] في العموم.
نعم في الاستغراقي والمجموعي من جهة المدخول اللازم للاستيعاب
عرضيا متساويان وحينئذ امتيازهما عن الآخر ليس من ناحية المدخول بل
ميزهما ليس إلا بكيفية تعلق الحكم بهما من كونه بنحو قائم بكل واحد من
المصاديق مستقلا أو قائم بالمجموع.
فما عن بعض الأعاظم من أن هذا التقسيم ليس من جهة امتياز بين
أفراد العموم من حيث إنه عموم في غاية المتانة، إلا أن في حصر جهة الميز في
الجميع من قبل الحكم العارض على العام [إشكالا] حيث عرفت أن جهة
العرضية في الصدق و [التبادل] الذي هو الفارق بين البدلي وغيره غير مرتبط
بعالم الحكم وإنما هو ناش من قبل [نكارة] المدخول وجنسيته.
نعم صح أن يقال - كما أشرنا - بأن هذا التقسيم ليس بلحاظ خصوصية
في نفس الاستيعاب كي يصير [نظير] سائر التقسيمات حاكية عن حصص

(1) فؤاد الأصول 1 - 2: 514 و 515.
430

مخصوصة في الجهة المشتركة موجبة للامتياز بين أفرادها، بل في المقام جهة
الاستيعاب على منوال واحد، وإنما الميز بين البدلي وغيره بكيفية المتعلق، وبين
الاستغراقي والمجموعي بكيفية الحكم، ومعلوم أن هذه الامتيازات أجنبية عن
حيثية الاستيعاب والعموم وغير صالحة لأن [تصير] موجبا لتخصص العموم
[بخصوصية] كسائر التقسيمات فتدبر.
ثم إن ذلك كله في نفس العموم وأما الأدوات الدالة عليه فربما يختلف
[مدلولها]، فبعضها لا يحكي إلا عن نفس العموم الوارد على المدخول من دون
اقتضائه اثبات كيفية الحكم أو المتعلق - وذلك مثل كلمة (أي) - فإنه قابل لأن
يرد على النكرة وعلى الجنس وقابل لأن يكون الحكم الوارد على مدخوله بنحو
الاستقلال أو المجموعية وان كان الغالب فيه دخولها على النكرة وان الحكم
الوارد على مدخوله بنحو الاستقلال ولكن ليس بمثابة لو استعمل في غيره كان
مجازا.
وبعضها [مخصوص] بكون [مدخوله] جنسا صادقا على المصاديق
عرضيا ولكن من حيث كيفية الحكم لا اختصاص [له] بنحو دون نحو - وذلك
مثل (الكل) و (التمام) - ولذا يستعملان في كل واحد من موردي الاستغراقية
والمجموعية. وبعضها [مخصوص] بصورة عرضية المصداق [أو] استغراقية الحكم
[كلفظة (الجميع)] بشهادة ان استعمالها في مورد المجموع أو البدل مجاز [لتبادر]
غيرهما منه. وبعضها [مخصوص] بعرضية المصداق ومجموعية الحكم كلفظ
[المجموع] إذ مثل هذا اللفظ من جهة اختلاف الحكم تام التقابل مع (الجميع)
وان كانا مشتركين من حيث عرضية المصداق قبال البدلي كما لا يخفى.
بقي في المقام شئ آخر وهو ان حيثية الاستيعاب الطاري على الشئ
نحو نسبة بين المستوعب - بالكسر - والمستوعب - بالفتح - الذي [هو] عبارة
عن المندرجات تحت مدخوله، ولذا كان محتاجا إلى تعيين ما هو معروض
431

الاستيعاب، بذكر متعلقه فالمتعلق في الحقيقة مبين معروض الاستيعاب والا
فنفس الاستيعاب آب عن الدلالة على معروضه كما هو شأن كل معنى حرفي
بالإضافة إلى متعلقه.
وبذلك يمتاز العموم عن أسماء العدد كعشرة إذ فيها نحو حكاية
للمندرجات فيه و [الملحوظات] من مفهوم لفظه بنفسها فلا احتياج في ذلك إلى
غيرها علاوة [على] عدم تحديد في العموم بخلاف أسماء العدد.
نعم ربما يطرأ العموم عليها فيصير اسم العدد كأسماء الأجناس مبين
دائرة العموم ورافع [إبهامه] فالعموم حينئذ من أطواره كما هو من أطوار أسماء
الأجناس وإنما الفرق بينهما في صورة دخول العموم على نفس عشرة اقتضاؤه
المجموعية تبعا لاقتضاء متعلقة ذلك بخلاف صورة دخوله في الجنس إذ المتعلق
بنفسه لا يقتضي المجموعية بلا لا بد من قرينة خارجية.
نعم لو دخل العموم على الآحاد المندرجة في العشرة بأن يقال: كل واحد
منها كان مدخولها جنسا محدودا بحد خاص وفي هذا المقدار يفيد الاستغراق أيضا
وفي هذه الصورة يمتاز عن الطبيعة المطلقة بالتحديد بحد خاص في أسماء العدد
من العشرة وأمثالها دون غيرها.
نعم لو دخل على طبيعة العشرة لا [على] آحاده المندرجة فيها كان
كسائر الطبايع قابلا للانطباق على كل عشرة بلا تحديد فيه كسائر الأجناس.
ومما ذكرنا ظهر حال العموم المزبور بالنسبة إلى التثنية فان التصورات
الملحوظة في العشرة أو الاثنين جارية فيه وأن الامتياز بينهما كالامتياز بينه وبين
أسماء العدد، وان كان بين التثنية وأسماء العدد فرق فإن الاثنين في أسماء العدد
ملحوظ مستقلا من نفس اللفظ وفي التثنية ملحوظ تبعا [لملاحظة] كونه معروضا
لتقييد الطبيعة به وخارجا عن مدلوله هيئة ومادة.
ومن هنا ظهر حال الجمع أيضا فان حاله من تلك الجهات حال التثنية،
432

غاية الأمر في التثنية معروض الاستيعاب من الآحاد المندرجة محدود [من
الطرفين] بخلاف الجمع فإنه بملاحظة ما فيه نحو ابهام من طرف الكثرة لاحد
له، فالاستيعاب [الوارد] على الآحاد المندرجة فيه أيضا بتبع [ابهام] متعلقه يصير
مبهما من طرف الأكثر. نعم بالنسبة إلى طرف القلة وان كان مفاد الجمع محدودا
لكن العموم إذا ورد على الآحاد المندرجة فيه لاحد له.
نعم لو ورد العموم على نفس الجمع لابد وأن يكون عن طرف الأقل
محدودا فلا يشمله العموم تبعا لعدم شمول مدخوله إياه كما هو ظاهر.
نعم في المقام بل وفي التثنية وأسماء العدد أيضا إذا ورد عام عليهما فهل
الاستيعاب المستفاد من أداة العموم وارد على الآحاد المندرجة تحتها أو هو وارد
على نفس عنوان التثنية والجمع والعدد كي يستفاد منه العموم في عنوان الجمع
وغيره بلا نظر فيها إلى آحادها؟ فيه اشكال.
والتحقيق أن يقال: إن في التثنية وأسماء العدد بملاحظة محدودية الطرفين
فيهما ربما يفرق بين صورة ورود أداة العموم عليهما معرفا باللام مثل (كل
العشرة) أو (كل العالمين) فالمتبادر منه كون العموم ناظرا إلى الآحاد المندرجة
فيها، وربما [تكون] النكتة في مثل ذلك توهم [استفادة] معهودية العنوان من العدد
والتثنية [فلا يصلحان أنفسهما] للتعميم حينئذ فلا جرم يتوجه العموم إلى الآحاد
المندرجة تحتهما.
نعم في صورة كونهما منكرين غير معرفين باللام مثل (كل عشرة) أو (كل
عالمين) فالظاهر ورود العموم على عنوانهما بلا نظر منه إلى الآحاد المندرجة
تحتهما.
وأما في [جمع] الكثرة فحيث إنه عنوان مبهم من طرف الأكثر قابل
للصدق على مصاديق متداخلة فإذا [وردت] أداة العموم عليه فطبع العموم كونه
حاويا لجميع المصاديق حتى المتداخلات ولازمه دخول أقل الافراد فيه وأكثرها
433

ولو بواحد وحينئذ لما كان الحكم الوارد عليه لا تداخل في موضوعه فلا محيص
من شموله أقل الافراد وأكثرها ولو بواحد بلا تداخل ومرجعه إلى استيعاب
الحكم لأقل افراده وأكثرها ولو بواحد واحد ولازمه كون الحكم مستوعبا لجميع
الآحاد الموجبة كل [منها] لمصداق من الجمع زائدا على الأقل وذلك نحو قرينة
[على] صرف نظر [الحاكم] إلى الآحاد المندرجة بلا نظر فيه إلى عنوان الجمع
الملازم للتداخل كما لا يخفى.
وفي هذه الجهة لا فرق بين كون الجمع الوارد عليه العموم محلى باللام أم
لا.
ثم إن [هذا] البيان يجري في جمع القلة أيضا وان كان في طرفه الأكثر
أيضا محدودا غير مبهم كما لا يخفى فتدبر.
434

المقالة الواحدة والثلاثون
حجية العام المخصص
435

...
436

[المقالة الواحدة والثلاثون]
[في حجية العام المخصص]
لا اشكال في أن العام المخصص بالمبين حجة فيما بقي متصلا كان
التخصيص - كالاستثناء - أو منفصلا.
أما في صورة الاتصال فالأمر ظاهر من جهة ظهور المستثنى منه في غير
المستثنى كما هو الشأن في كل قرينة متصلة حيث إنه موجب لانقلاب ظهور
اللفظ بوضعه [الأولي] مثلا إلى ظهور آخر حيث إن المدار في الحجية على
الظهور الفعلي فلا يكون العام المستثنى منه إلا ظاهرا في الباقي فعلا فيتبع.
وأما إذا كان المخصص منفصلا عن العام فلا شبهة أيضا في أن القرينة
المنفصلة [لا تقلب] ظهور العام أو غيره عما يقتضيه طبع اللفظ بوضعه أو غيره وإنما
هو مانع عن حجية هذا الظاهر.
وحينئذ ربما يتولد منه اشكال معروف بأن العام لا يكون له إلا ظهور
واحد ودلالة فاردة وبعد مجئ المعارض المانع عن حجية هذا الظاهر لا يبقى
له دلالة أخرى على [الباقي] بعد التخصيص كي يؤخذ به وحينئذ من أين
يكون العام [حجة] على الباقي مع أن حجيته [ليست] الا بدلالته [و] المفروض
عدم حجية ما كان له من الدلالة الواحدة وعدم دلالة أخرى له [تكون هي]
الحجة.
437

ولكن الانصاف عدم وقع لهذا الاشكال وذلك لأن ما أفيد من عدم
[وجود] أزيد من دلالة واحدة للعام في غاية المتانة ولكن هذه الدلالة الواحدة
إذا كانت حاكية عن مصاديق متعددة تحته فلا شبهة في أن هذه الحكاية بملاحظة
تعدد محكيها بمنزلة حكايات متعددة نظرا إلى أن شأن الحكاية والمرآة جذب لون
محكيه فمع تعدد المحكي كأن الحكاية متعددة.
وربما يؤيده ملاحظة القرائن المتصلة إذ من الممكن أن الظهور في الباقي
ليس من جهة القرينة بل هو مستند إلى وضعه [الأولي] غاية الأمر [تمنع]
القرينة عن إفادة الوضع لأعلى المراتب من الظهور فيبقى اقتضاؤه للمرتبة
الأخرى دونها بحاله. وفي القرائن المنفصلة نرفع اليد عن حجية الأعلى كما
لا يخفى فتدبر.
وحينئذ مجرد رفع اليد عن حجية الحكاية المزبورة بالنسبة إلى فرد
لا يوجب رفع اليد عن حكايته عن البقية، والى ذلك نظر المشهور في مصيرهم
إلى عدم سقوط العام عن [الحجية] بالنسبة إلى الزائد عن التخصيص كما
لا يخفى.
وان كان المخصص مجملا: فإن كان مجملا مفهوما فتارة يكون مرددا بين
الأقل والأكثر، وأخرى يكون مرددا بين المتباينين، وعلى التقديرين تارة متصل
بالكلام وأخرى منفصل عنه.
فإن كان متصلا بالكلام مع تردده بين الأقل والأكثر فلا شبهة في أن
اجمال المخصص يسري إلى العام فلا يبقى مجال للتشبث بالعموم بالنسبة إلى
الزائد المشكوك لفرض انقلاب ظهوره الأولي بالاجمال.
نعم لو بنينا على مرجعية أصالة العموم والحقيقة تعبدا بلا انتهائهما إلى
الظهور أصلا كان للتمسك بالعموم بالنسبة إلى الزائد المشكوك وجه.
ولكن حيث إن حجية أمثال هذه الأصول ليس إلا من جهة بناء العرف
438

والعقلاء كان لمنع بنائهم على أزيد من أصالة الظهور كمال مجال، وحينئذ لا يبقى
مجال للتمسك بهذا العام وحجيته في الفرد المشكوك المزبور.
وان كان المخصص المزبور منفصلا عن الكلام فالظاهر عدم منعه عن
التمسك بالعام بالنسبة إلى الفرد المشكوك نظرا إلى ما أشرنا إليه من أن
المخصصات المنفصلة [لا توجب] قلب الكلام عما له ظهور بطبعه [الأولي] وحينئذ
اجمال المخصص لا يمنع عن التشبث بأصالة الظهور بالنسبة إلى ما لم [تقم]
حجة واصلة على خلافه، وعليه أيضا ديدن الأعلام في مقام استنباط الاحكام.
وان كان المخصص مرددا بين المتباينين فالظاهر سقوط العام عن الحجية
بالنسبة إلى كل واحد بخصوصه من دون فرق فيه بين اتصال المخصص
وانفصاله.
وأما سقوطه عن الحجية بالنسبة إلى الواحد المردد بين الفردين ففيه
تفصيل من حيث إن حكم العام ان كان حكما طلبيا ومحل ابتلاء فالظاهر عدم
قصور في اجزاء أصالة الظهور بالنسبة إلى الواحد المردد الزائد عن مقدار
المخصص ونتيجة هذا الأصل انتهاؤه إلى العلم الاجمالي [المنتهي] إلى حكم
العقل بالاحتياط لزوما أو استحبابا.
وأما إن لم يكن حكما طلبيا أو كان ولكن لم ينته إلى حكم العقل
بالاحتياط ولو من جهة خروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء ففي حجية أصالة
الظهور بالنسبة إلى الفرد المردد أيضا اشكال لعدم انتهاء مثل هذا الأصل إلى
عمل أصلا فلا مجال لحجيته إذ لا معنى للتعبد بشئ الا من جهة ترتب نتيجة
عملية كما هو ظاهر. وعلى أي حال في هذا المقدار أيضا لا ميز بين اتصال
المخصص [و] انفصاله كما لا يخفى.
وان كان المخصص مجملا مصداقا ومبينا مفهوما ففي حجية العام
- بالنسبة إلى الفرد المشكوك مصداقيته للمخصص مع معلومية مصداقيته للعام -
439

وعدم الحجية نزاع معروف بين الأعلام.
وتنقيح البحث فيه يقتضي رسم مقدمة موضحة لمقدار من المرام وهي:
ان باب التخصيص عبارة عن اخراج فرد من العام بنحو لا يحدث في
العام خصوصية زائدة عما فيه بالإضافة إلى بقية أفراده.
وتوضيحه: بأن العام في دلالته على دخول الأفراد مثلا تحت الحكم ليس
إلا كون كل فرد مشمولا في عرض فرد آخر من دون تقييد كل فرد - في
[معروضيته] للحكم - بوجود غيره أو عدمه.
وحينئذ تارة [تقوم] القرينة في قبال شمول العام لزيد - مثلا - على
خروج هذا الفرد عن تحت العام ومثل هذه القرينة [لا تقتضي] انقلاب العام في
دلالته على دخول بقية الأفراد مستقلا تحته، نظير موته [غير] الموجب لانقلاب
دلالة العام على استقلال بقية الافراد في الموضوعية للحكم.
وأخرى [تقوم] القرينة على تقيد العام بماله من المصاديق بحال دون
حال. [ولا شبهة] في أن شأن التقييد ليس إلا قلب المطلق عما له ظهور في تمامية
الموضوع للحكم إلى الجزئية وأن للقيد مدخلية في الموضوع.
ولقد أشرنا بأن باب التخصيص من قبيل الأول و [هو] يمتاز عن باب
[التقييد].
وتوهم ان قصر الحكم [على البقية] بالتخصيص موجب لطرو ضيق على
العام الفاقد له قبل التخصيص، ولا نعني من هذا الضيق إلا تحديد العام بحد
فقدان الفرد الخارج، ومرجعه إلى وجوب اكرام كل عالم لم يكن فيه زيد مثلا.
ولا نعني من [التقييد] إلا هذا. وحينئذ لازمه رجوع التخصيص أيضا إلى
[التقييد].
مدفوع - مضافا إلى النقض بموت بعض الأفراد [غير] الموجب
لاحداث عنوان آخر للعام زائد عما له قبل موت هذا الفرد جزما - [بأن] طرو
440

الضيق من التخصيص إنما جاء من قبل قصور الحكم [عن الشمول] لهذا الفرد،
ومثل هذا القصور وان أوجب ضيقا في العام وتحديدا له بغير هذا الفرد الخارج
الا ان هذا الضيق الناشئ من قبل ضيق الحكم يستحيل أن يكون موجبا
لتغيير العام في عالم موضوعيته للحكم المزبور لاستحالة أخذ الضيق الناشئ
عن الحكم في موضوعه، بل غاية الأمر انه مانع عن شمول العام له مع بقائه
على ما هو له من العنوان قبل التخصيص.
وبعد هذا البيان نقول: إن مركز بحثهم في المقام إنما هو في فرض
التخصيص وإلا ففي باب تقييد المطلقات لم يتوهم أحد جواز التمسك بالاطلاق
عند الشك في القيد، فبعد فرض تقييد [الرقبة] بالايمان لم يتوهم أحد التشبث
باطلاق [الرقبة] عند الشك في [ايمانها]، كما لم يتوهم أحد التمسك بالاطلاق
الصلاة عند الشك في الطهارة أو القلبة وغيرها من قيودها حتى عند [الأعمي]
وليس ذلك إلا من جهة [تميز] باب التخصيص عن باب التقييد، وان التقييد
موجب لقلب عنوان الموضوع عما [وضع] أولا قبل التقييد بخلاف التخصيص
وحينئذ لا يبقى مجال انكار التمسك بالعام في مركز البحث باقتضاء التخصيص
قلب ظهور العام في تمام [الموضوع] إلى جزئه وحينئذ لا يقتضي مثل هذا العام
الذي هو جزء الموضوع احراز جزئه الآخر المشكوك، إذ مثل هذا البيان يناسب
باب التقييد لا التخصيص كما عرفت.
كما أن مجرد كون المخصص موجبا لتضييق دائرة حجية العام بغير
ما انطبق عليه مفهومه - ومع الشك في مصداق المخصص يشك في انطباق الحجة
من العام عليه أيضا - لا يوجب رفع اليد عن العام بالمرة إذ العام إنما خرج عن
الحجية من جهة الشبهة الحكمية وأما بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية فلا قصور
للعام - بعد صدقه على هذا الفرد - أن يشمله، وبالملازمة يستكشف بأن المشكوك
خارج عن مصداق الخاص. ومن المعلوم أن دليل المخصص غير موجب لقصر
441

حجية العام - في مقام تعيين المصداق - [على غير] هذا الفرد، فأصالة الظهور
- عند احتمال مطابقة العام للواقع ولو من جهة كشفه عن تعيين المصداق -
[باقية بحالها].
وأيضا لا يبقى في المقام مجال اشكال آخر وهو ان حجية الظهور بالنسبة
إلى الشبهة الموضوعية في طول حجيته في الشبهة الحكمية: لأنها [منقحة
لموضوعه] وحينئذ لازم حجية العام في الجهتين كون العام موضوعا للتعبدين
الطوليين. ومن المعلوم ان الظهور الواحد لا يتحمل إلا حكما واحدا ولا يعقل
توارد الحكمين المتماثلين - كالضدين - على موضوع واحد محفوظ في رتبة نفسه.
وحينئذ لا محيص من صرف النظر عن التعبد بالنسبة إلى الجهة الموضوعية دون
العكس كما أشرنا.
وتوضيح الدفع بأن ما أفيد صحيح لو كان مرجع التعبد بالظهور إلى
[شخص] وجوب العمل على وفقه - طريقيا كان أم نفسيا -، وأما لو كان مرجع
[التعبد] به إلى [إلغاء] احتمال خلافه فلا شبهة - في فرض وجود الاحتمالين -
[انه] لا مانع [من إلغاء] الاحتمال الثاني في طول [إلغاء] الاحتمال الأول، إذ
موضوع [الإلغاء] حينئذ احتمالان طوليان، ومع تعددهما ولو طوليا لا قصور في
شمول دليل [إلغاء] الاحتمال لكل من الاحتمالين ولو طوليا. نظير شمول دليل
حجية خبر الواحد للأخبار بالواسطة مع أنها طولية ويكون التعبد بكل سابق
منقح موضوع اللاحق فتدبر. فلا ضير حينئذ في توجه مثل هذين التعبدين
الطوليين إلى ظهور واحد كما لا يخفى.
وأيضا لا مجال للمصير إلى عدم حجيته العام في المقام من جهة قصور
دليل حجيته من حيث تتميم كشف ظهور كلامه بتقريب انه: إنما يتم ذلك منه
في صورة اختصاص عبده بالجهل بالمرام، وأما في صورة اشتراك المولى معه فيه
ولو أحيانا فليس مثل هذا الجهل مختصا بالعبد كي يصح من المولى كشف الحال
442

على [عبده] لاحتماله إغراءه إلى خلاف الواقع لاحتمال نفسه خلافه وحينئذ
نقول:
الذي يختص [به] العبد في جهله هو الشبهة الحكمية، وأما في الشبهات
الموضوعية فكثيرا ما يكون المولى أسوء حالا من عبده في الجهل ومع ذلك كيف
يصح منه تتميم كشف هذا المصداق على العبد، ومع عدم صحته [لا يبقى] مجال
لحجية العام بالنسبة إليه بل [تنحصر] حجيته بالنسبة إلى الشبهة الحكمية.
فعمدة وجه المنع في المقام قصور دليل حجية الظهور بالنسبة إلى
الشبهات المصداقية لا شئ آخر، إذ لازم هذا البيان عدم صلاحية جعل المولى
أمارة على تعيين الموضوع الذي كان بنفسه جاهلا به كعبده لأن تتميم كشفه
ليس رافعا للجهل المختص به عبده وهو كما ترى بديهي البطلان.
نعم الذي ينبغي أن يقال هو أن الحجية بعد ما [كانت منحصرة] بالظهور
التصديقي المبني على كون المتكلم في مقام الإفادة والاستفادة فإنما يتحقق مثل
هذا المعنى في فرض تعلق قصد المتكلم بابراز مرامه باللفظ وهو فرع التفات
المتكلم بما تعلق به مرامه والا فمع جهله به واحتماله خروجه عن مرامه [كيف]
يتعلق قصده [بلفظ] كشفه وابرازه، ومن المعلوم أن الشبهات الموضوعية طرا من
هذا القبيل.
ولقد أجاد شيخنا الأعظم فيما أفاد في وجه المنع بمثل هذا البيان ومرجع
هذا الوجه إلى منع كون المولى في مقام إفادة المرام بالنسبة إلى ما كان هو بنفسه
مشتبها فيه فلا يكون الظهور حينئذ تصديقيا كي يكون واجدا لشرائط الحجية
لا إلى منع شمول دليل الحجية للظهور من حيث كونه أمارة لتعيين الموضوع كما
توهم. كيف، ومع الاغماض عما ذكرنا لا قصور في جعل المولى هذا الظهور
[التصوري] أيضا من الأمارات على تعيين الموضوعات كسائر الأمارات
المجعولة منه حتى بالنسبة إلى ما هو بنفسه جاهل بوجوده كما هو ظاهر واضح.
443

وحينئذ العمدة في وجه المنع هو الذي أشرنا [إليه] وفي ذلك أيضا لا فرق
في عدم حجية العام بين المخصص اللفظي [و] اللبي.
نعم لو كان منشأ الشبهة المصداقية أحيانا الشبهة الحكمية لا بأس
بالمصير إلى [حجيته] لأن رفع هذا الجهل بيد المولى.
من دون فرق في ذلك أيضا بين كون المخصص لفظيا أو لبيا.
نعم لو بنينا في وجه المنع على تضييق دائرة الحجة والشك في تطبيق الحجة
أمكن الفرق بين المخصص اللفظي [و] اللبي، إذ اللفظي موجب لرفع اليد عن
حجية العام بمقدار مدلوله فمع الشك في تطبيق مدلول الخاص يشك في تطبيق
مقدار حجية العام. وأما المخصص اللبي فلا يوجب [رفع] اليد عن حجية العام
الا بمقدار القطع الحاصل منه، ومن البديهي أن القطع بكل عنوان لا يسري إلى
مصداقه المشكوك فبالنسبة إلى المصاديق المشكوكة لا يكون في البين حجة على
خلاف العام واقعا فلا قصور حينئذ في تطبيق الحجة على المورد.
وفي هذا التفصيل أيضا لا فرق بين كون الشبهة المصداقية ناشئة عن
الشبهة الحكمية أم من الأمور الخارجية كما لا يخفى. وحينئذ بين مشينا وهذا
المشي تمام المعاكسة في النتيجة من حيث التفصيلين كما لا يخفى.
بقي التنبيه على أمرين:
أحدهما: ان بناء كثير من المانعين لحجية العام بالنسبة إلى الشبهة
المصداقية على التشبث بالأصل في مشكوك [المصداقية] والحاقه بالأصل السلبي
بالعام واجراء حكم العام عليه كأصالة عدم المخالفة في الشروط [المشكوكة]
المخالفة وكذا في الصلح وهكذا في غيرهما. واستراحوا بذلك عن التمسك بالعام
بل حملوا بناء المشهور على ما نسب إليهم في العمل على طبق العام في الموارد
المشكوكة على ذلك.
ولكن نقول: إن جريان هذا الأصل إنما يتم بناء على توهم اجراء حكم
444

[التقييد] على التخصيص وان المخصص يقلب العام عن تمام [الموضوع له] إلى
جزئه، والا فبناء على المختار من أن باب التخصيص غير مرتبط بباب [التقييد]،
وإنما يكون شأن المخصص اخراج الفرد الخاص مع بقاء العام على تمامية
[الموضوع له] بالإضافة إلى البقية بلا انقلاب في العام نظير صورة موت الفرد
فلا يبقى مجال لجريان الأصل المذكور، إذ الأصل السلبي ليس شأنه إلا نفي
حكم الخاص عنه لا اثبات حكم العام عليه لأن هذا الفرد حينئذ مورد العلم
الاجمالي بكونه محكوما بحكم الخاص أو محكوما بلا تغيير عنوان بحكم العام.
ونفي أحد الحكمين بالأصل لا يثبت الآخر كما هو ظاهر.
نعم في مثل الشك في مخالفة الشرط أو الصلح للكتاب أمكن دعوى أنه
من الشبهة المصداقية الناشئة عن الجهل بالمخالفة - الذي كان أمر رفعه بيد
المولى - وفي مثله لا بأس بالتمسك بالعام في الشبهة المصداقية من دون احتياج
في مثله إلى الأصل. ولعل بناء المشهور أيضا في تمسكهم بالعام في الشبهة
المصداقية [مختص] بأمثال المورد وعليك بالتتبع في كلماتهم ربما ترى ما ذكرنا حقيقا
بالقبول وهو الغاية [و] المأمول. فتدبر في المقام فإنه من مزال الأقدام.
الثاني: هو انه ربما توهم في وجه التمسك بالعام في الشبهة المصداقية
التشبث بقاعدة المقتضي والمانع بتقريب: ان ظهور العام مقتضي للحجة وإنما
المخصص المنفصل مانع عنه ومع الشك في تطبيق المانع على المورد يؤخذ
بالمقتضي لأوله إلى الشك في وجود مزاحم حجته، ومعلوم أن [في] فرض الشك
في كل مزاحم، العقل يحكم بالأخذ بالمقتضي ولا يقتصر على المقدار المعلوم عدم
المانع فيه كي يوجب رفع اليد عن المقتضي لمحض الشك في المانع.
أقول: هذه الشبهة إنما [ترد] على تقريب الشك في تطبيق الحجة على
المورد إذ [يكون] مجال لدعوى [انه] مع وجود المقتضي والشك في المانع عن
الحجية، العقل يحكم باجراء [أصالة] العلم بالعدم عليه - وإن [كانت] حجيته
445

فعلا مشكوكا [فيها] - كما هو الشأن في كل حكم يشك في فعليته من جهة وجود
المزاحم.
وأما بناء على بقية التقريبات خصوصا على المختار فالشك جار في أصل
اقتضاء الظهور للحجية فلا مجرى حينئذ لاجراء القاعدة المزبورة بالنسبة إلى
حجية العام.
وأسوء منه توهم جريان قاعدة المقتضي والمانع في مفاد العام بالقياس إلى
مفاد الخاص بتوهم: ان مفاد العام مقتضي للحكم ومفاد الخاص مانع عنه ومع
الشك في وجود المانع يؤخذ بالمقتضي.
وفيه: أن من الممكن كون مفاد الخاص موجبا لقصور مقتضي العام عن
المورد. وعلى فرض تمامية الاقتضاء إنما يصار إلى القاعدة في فرض تعلق غرض
المولى بكل منهما بحيث ينتهي أمره إلى عدم القدرة في حفظهما من قبل نفسه
أو من قبل عبده، وأما في مورد لم يتعلق غرض المولى بوجود المانع وانما هو فقط
مانع عن فعلية غرضه الآخر ففي مثله مرجعية القاعدة المزبورة أول الكلام.
وبالجملة نقول: إن قاعدة المقتضي والمانع إنما يصار إليها في فرض تعلق
غرض المولى بكل منهما مع عدم قدرته على حفظهما، إما لقصور في نفسه أو
لقصور في عبده. وأما في مورد لم يتعلق غرض المولى بوجود ما هو مزاحم لفعلية
غرضه بحيث لا ينتهي أمره إلى الشك في قدرته على حفظ الغرضين فمرجعية
القاعدة المزبورة أول شئ ينكر، ومن المعلوم أن مفاد باب العام والخاص غالبا
من باب الشك في قصور مفاد العام عن الاقتضاء كما هو شأن باب التعارض
الذي كان باب التخصيص والتقييد من سنخه. وعلى فرض تمامية العام في
اقتضاء مفاده كثيرا ما لا يكون المانع تحت غرض مستقل في قبال مفاد العام وفي
مثله لا نسلم القاعدة المزبورة والله العالم.
446

المقالة الثانية والثلاثون
التمسك بالعام
لتعيين مشكوك المصداقية
447

...
448

[المقالة الثانية والثلاثون]
في
[التمسك بالعام لتعيين مشكوك المصداقية]
هل يجوز التمسك بالعام في تعيين مشكوك المصداقية مع الجزم بالخروج
عن تحت العام، كما لو قيل، أكرم العلماء مع الجزم بحرمة اكرام زيد، وشك بان
زيدا عالم كي يكون العام مخصصا، أو ليس بعالم كي لم يرد تخصيص على العام،
فهل في مثل المورد يتمسك بأصالة العموم لاثبات ان زيدا ليس بعالم أم لا.
قد يظهر من شيخنا العلامة قدس سره في باب المعاملات كثيرا التشبث
بأصالة العموم لاثبات [خروج] ما شك في دخوله في العام [عنه] مع الجزم
بمخالفة حكمه له.
ونظيره أيضا تمسكهم بالاطلاقات في أمثال المورد في باب الاستنجاء
لاثبات طهارته، فراجع [المطولات]. ومن هذا الباب أيضا تشبثهم باطلاقات
التحذير على مخالفة الأمر لاثبات خروج الأمر الاستحبابي عن مصداق
الأوامر، ومنه أيضا تمسكهم باطلاقات ترتب الآثار على الصلاة مثل كونها ناهية
عن المنكر وقربان كل تقي وأمثالها لاثبات أن الفاسدة منها [ليست] بصلاة،
ومن المتمسكين بذلك في مسألة الصحيح والأعم لاثبات مدعاه من وضع الصلاة
للصحيحة أستاذنا الأعظم في كفايته، ومع ذلك أنكر حجية أصالة العموم في
449

المورد في بحث العام من الكفاية.
ولقد أجاد فيما أفاد في هذا المقام بأن أصالة العموم مدرك حجيتها السيرة
وهي دليل لبي يقتصر على المقدار المتيقن من قيام السيرة على الأخذ به وهو في
صورة الجزم بدخول الفرد والشك في خروجه عن حكمه لا عكسه.
أقول بتوضيح منا: ان وجه عدم حجية أصالة العموم لاخراج المشكوك
ليس من جهة عدم حجية الأصل المزبور لاثبات لعموم أفراد العنوان
واقعا إذ هو بمعزل عن التحقيق إذ مرجعه إلى عدم حجية الأصل لما هو مفروض
الفردية وشأن العمومات في أمثال القضايا الحقيقية اثبات الحكم لجميع أفرادها
الواقعية فعلية أو فرضية، وهو أيضا مورد اعترافهم بحجية الأصل فيها إذ هو
من باب التمسك بالعام في متيقن الفردية مع الشك في خروجه عنه حكما.
بل عمدة الوجه عدم قابلية هذا الأصل لاثبات اللوازم والآثار فمرجعه
إلى عدم مثبتية هذا الأصل كسائر الأصول المثبتة ولو كانت [بنفسها] أمارة
كأصالة صحة عمل الغير [غير] المثبت لملزومه مثلا مع كونه أمارة ومرجعه إلى
عدم حجية أصالة العموم مع كونه أمارة في لوازمه مع حجيته في نفسه ومورده.
وحينئذ لا يبقى أيضا مجال التشبث بقاعدة منطقية من أن من لوازم
القضية الموجبة الكلية عقلا عكس [نقيضها]، فبعد اثبات الأثر لكل صلاة
واقعية بأصالة العموم [تصير] قضية ترتب الآثار على الصلاة موجبة كلية
[مثل]: (ان كل صلاة [تنهى] عن الفحشاء) ومعلوم ان عكس [نقيضها] الذي
هو من لوازم هذا المعنى عقلا هو: ان كل ما ليس [بناه] عن الفحشاء فليس
بصلاة.
وجه البطلان هو أن ما أفيد من اللازم العقلي للعام واقعا في غاية المتانة
ولكن نقول: إن ذلك اللازم إنما يترتب في فرض حجية أصالة العموم لاثبات
لازم المدلول وإلا فلا يكون لنا طريق إلى هذه الكلية [المحكومة] عقلا [بأنها]
450

من اللوازم. هذا.
فان قلت إن بناء العرف بعد ما كان على التمسك بالأصل لاثبات الحكم
لجميع الأفراد واستفادة الموجبة الكلية من دليل الآثار لا يلتفتون إلى التفكيك
بين ثبوت الواقع وعدم ترتب لازمه عقلا من عكس نقيضه.
قلت: إن عمدة وجه التفكيك عدم نظر العموم إلى تعيين صغرى الحكم
نفيا واثباتا، وانما نظره تماما إلى اثبات الكبرى ولقد أشرنا إليه في البحث السابق
وعليه بنينا عدم حجية العام في الشبهة المصداقية. وما نحن فيه أيضا مبني على
هذه الجهة، وان كان بين ما نحن فيه والبحث السابق فرق من حيث إن المقصود.
من أصالة العموم في السابق ادخال المشكوك في العام.
وفي المقام تمام المقصود اخراجه عن العام مصداقا للجزم بخروجه حكما.
حسب الفرض.
وحيث نقول من البديهي ان اثبات عكس نقيض المقام الذي هو من
لوازم المدلول واقعا عقلا بمثل هذا الأصل فرع حجيته بالنسبة إلى الشبهة
المصداقية لنفس العام بعد التفات العرف إلى التفكيك بين الشبهة الحكمية
والمصداقية في الحجية فلا محيص لهم في أمثال هذه القضايا الظنية التعبدية من
التفكيك بين حجية الظن في أصله دون عكس نقيضه.
وحينئذ ليس غرضنا من هذا البيان التفكيك بين القضية الواقعية وعكس
[نقيضها] واقعا كي يقال إنه عقلي.
بل تمام همنا إلى عدم طريق مثبت لهذا اللازم إلا مع فرض حجية الأصل
المزبور في الشبهة الموضوعية وإلا فلا طريق لنا إليه ففي الحقيقة في جميع القضايا
الظنية التعبدية [يثبت] العموم والموجبة الكلية ولا [يثبت] عكس [نقيضها] من
جهة التفكيك في حجية أصالة العموم بين الشبهات الحكمية والمصداقية الذي
ينادي العرف بهذا التفكيك بأعلى صوته وبعد ذلك لا يبقى لك مجال أن تقول
451

بان العرف ما أثبت بالأصل الموجبة الكلية لا يرى تفكيكا بين الأصل
وعكس نقيضه في مقام الاثبات أيضا إذ ذلك صحيح لو يرون أيضا عدم التفكيك
في حجية العام بين الشبهتين وهو كما ترى فتدبر في المقام كي لا [تغشك]
القواعد المنطقية العقلية.
452

المقالة الثالثة والثلاثون
عدم حجية
الأصول الحكمية قبل الفحص
453

...
454

[المقالة الثالثة والثلاثون]
لا شبهة عندهم في عدم حجية كلية الأصول الحكمية - لفظية أو عملية -
قبل الفحص عما يعارضها أو المقدم منها حكومة أو ورودا، للاجماعات والاخبار
الواردة بلسان (هلا تعلمت) الجارية بالمناط حتى في باب الأصول اللفظية
علاوة عن معرضية الأصول اللفظية لورود القرينة على خلافها ومعرضية
شكوكها للزوال بالفحص عن المعارض أو الحاكم بنحو [تكون] أدلة اعتبارها
- خصوصا مثل السيرة وغيرها - آبية عن الشمول لمثلها، مضافا إلى العلم
الاجمالي بوجود المعارض أو الحاكم بمقدار لو تفحص [عنه] لوجد، ومثل هذا
العلم مانع عن الأخذ بها قبل الفحص، بل لابد وأن يفحص، فان ظفر
بالمعارض أو الحاكم فهو والا يكشف من الأول خروج هذا المورد عن دائرة هذا
العلم فيؤخذ به.
وبمثل هذا البيان [ترتفع] شبهة معروفة بأن الفحص لا يصلح ان يزيل
العلم المزبور ومع عدم زواله فالمانع عن الأخذ موجود فلا يجوز الأخذ بالأصل
بعد الفحص عنه بالمقدار المتعارف الموجب لخروج المورد عن معرضية وجود
المعارض أو الحاكم أيضا.
ولا يرد أيضا على مانعية هذا العلم للأخذ بالأصول مطلقا بأن الفحص
455

في مقدار من المسائل إذ أوجب الظن بالمعارض أو الحاكم بمقدار المعلوم
بالاجمال المعلوم بالبداهة انتهاء المعلوم إلى حد مخصوص لا يبقى مقتضي
للتخصص بالنسبة إلى بقية الأصول الجارية في سائر الأبواب مع أنه ليس
بناؤهم على اجراء أصل من الأصول في أبواب الفقه من أول باب الطهارة إلى
آخر باب الديات بلا فحص وحينئذ مثل هذا العلم غير كاف لاثبات هذا
المدعي.
وتوضيح الدفع بأن مقدار المعلوم كما وان كان بالأخرة معلوما بحيث
ينتهي الزائد منه إلى الشك البدوي، ولكن هذا المقدار إذا كان مرددا بين
محتملات متباينات منتشرات في أبواب الفقه من أوله إلى [آخره] [تصير] جميع
الشكوك في تمام الأبواب طرف هذا العلم فيمنع عن الأخذ به قبل فحصه وفي
هذه الصورة لا يفيد الظفر بالمعارض بمقدار المعلوم إذ مثل هذا العلم الحاصل
جديدا يكون المعلوم بالاجمال في غير هذه الشكوك الباقية التي كانت طرفا من
الأول للاحتمال في المتباينات نظيرا [للعلوم] الحاصلة بعد العلم الاجمالي غير
قابلة للانحلال فقهرا الاحتمال القائم في المورد الموجب لكونه من الأول طرفا
للعلم منجز للواقع بمقدار استعداده فلا محيص أن يفحص كي - بعدم ظفره
بالمخصص - يكشف خروجه عن دائرة العلم المزبور من الأول، وهذه الجهة
هي النكتة في أخذ هذا القيد في دائرة العلم والا فيلزم عدم الاكتفاء بالفحص
ولو ظفرنا بمقدار المعلوم فضلا عما لو لم نظفر كما هو ظاهر فتدبر في المقام فإنه
من مزال الاقدام وسيجئ ان شاء الله تتمة الكلام في طي الأصول العملية أيضا.
456

المقالة الرابعة والثلاثون
شمول الخطابات الشفاهية
للغائبين والمعدومين
457

...
458

[المقالة الرابعة والثلاثون]
في
[شمول الخطابات الشفاهية للغائبين والمعدومين]
في أن الخطابات الشفاهية شاملة للغائبين عن مجلس الخطاب بل
المعدومين أيضا أم لا؟، وجهان. ذهب إلى كل طرف فريق. وتوضيح الكلام
يقتضي أولا أن يقال:
إن محط البحث ظاهرا الخطابات المشتملة على أداتها حرفا أو هيئة. وإلا
ففي الخطاب الكلامي مع فرض اشتماله على ثبوت حكم كلي شامل لكلية
المكلفين بل ربما يصرح فيه لخصوص الغائبين بل والمعدومين كقوله: " يجب على
عامة الناس كذا أو على الغائبين والمعدومين منهم كذا " مجال لتوهم عدم
شمول الحكم للغائبين بل المعدومين أيضا غاية الأمر بواسطة تقييد الخطاب
بالقدرة بنحو شرحناه في الواجب المشروط لا يكاد تطبيق الخطاب في موردهم
الا بالنسبة إلى القادرين منهم.
وبعد ما اتضح ذلك فنقول في محل الكلام بأنه: ربما يتوهم شمول مثل قوله
" يا أيها الناس " أو مثل " قوموا " أو " صوموا " مثلا للغائبين - قادرين منهم أو
عاجزين - بل المعدومين أيضا بتوهم أن أدوات الخطاب حرفا أو هيئة أو غيرهما
موضوعة للخطابات الايقاعية لا الحقيقية، ولا قصور في الايقاعات منها للشمول
459

بالنسبة إلى غير من حضر، [فكانت هذه] الخطابات نظير: " اعلم وافهم "
المعمولة في المكاتبات المعلوم عدم القصد بها الخطاب إلى طائفة بل المقصود فيها
[يشمل] الغائبين بل المعدومين.
مضافا إلى أنه بعد تسليم كونها [خطابات] حقيقية غاية الأمر قصور
الخطاب عن الشمول لغير الحاضر وذلك لا ينافي مع الأخذ بعموم العنوان الذي
[دخلت] عليه هذه الأداة مثل " الذين آمنوا " [و] أمثاله، نظير التشبث باطلاق
المادة مع قصور الهيئة في الأوامر عن الشمول لغير القادر.
هذا مع امكان دعوى أخرى بأنه مع فرض ظهور الخطابات في الخطاب
الحقيقي أدعي ما لا يصلح للخطاب الحقيقي بمنزلة ما يصلح كادعاء كون الجبل
ذا شعور ويخاطب إياه بقوله: " أيا جبلي نعمان بالله خليا " وحينئذ يكون الخطاب
ب‍ " صوموا " نظير " اعلموا " في الكتب أيضا عاما لجميع الناس بضميمة الدعوى
المزبورة.
هذا ولكن لا يخفى ما في جميع هذه الوجوه:
أما الأول: فبأن مجرد وضع الأداة للخطاب الايقاعي لا ينافي سوقها في
مقام الجد بخطابه نظير سائر الأدوات من لام الإقرار أو هيئته وأداة التمني
والترجي وأمثالها، فجميع هذه الأدوات وان كانت موضوعه للمعاني الايقاعية إلا
أن ظهورها السياقي استقر في الجد بابراز المعاني المزبورة حقيقة كما لا يخفى.
وأما الثاني - فمضافا [إلى كونه] أخص من المدعى، إذ [لا يشمل] هذا
الوجه مالا يكون في طي الأداة عنوان عام بل الخطاب بالهيئة أو أداته - ككاف
الخطاب - بنفسهما حاكيان عن الموضوع - إن اللفظ الحاكي عن الموضوع إذا
وقع في طي هيئة قاصرة عن الشمول لمصداق يستحيل أن يحكي بأزيد من
الدائرة الواقعة في طي الهيئة: لاستحالة أو سعية دائرة الموضوع لبا عن حكمه.
نعم بالنسبة إلى مقتضيات الحكم وان كان قابلا لأوسعية الموضوع عن
460

دائرة حكمه الفعلي ولكن مع اقترانه بمثل هذه الهيئة القاصرة عن الشمول
للعاجز لا يبقى للمادة المقرونة بها ظهور في الشمول له حتى من حيث مقتضيات
الحكم بملاحظة اتصال المادة بمثل هذه الهيئة القاصرة الصالحة للقرينية.
وتوهم ان الهيئة قاصرة عن الشمول من جهة اقتضاء فعلية التكليف،
وأما من حيث دلالتها على المقتضي فلا قصور في اقتضائها أوسعية دائرة
المصلحة عن دائرة فعلية التكليف فلا يمنع عن الأخذ باطلاق المادة بل الهيئة
حينئذ في هذا المقام.
مدفوع بأن اقتضاء الهيئة للمصلحة إنما هو بتبع اقتضائه فعلية التكليف،
وكيف يمكن اقتضاؤه أوسعية دائرة المصلحة عن فعليته، غاية الأمر لا يدل أيضا
على ضيق دائرة المصلحة لا أنه يدل على [سعتها]، فإذا كانت الهيئة المزبورة
قاصرة عن الدلالة على السعة فمع [اقترانها] بالمادة كانت من باب اتصال المادة
بما يصلح للقرينة وإن لم يكن بقرينة وهذا المقدار، يكفي لمنع ظهور المادة في
الاطلاق، ولذلك أعرضنا عن هذا الوجه في وجه الأخذ باطلاق الأوامر
لاستكشاف المصلحة في حق العاجز والتزمنا بظهور الهيئة أيضا في الاطلاق
[المجرد] قابلية المحل من جهة القدرة ما لم [تقم] قرينة خارجية على عدم القدرة
وهذا أيضا لو بنينا على جواز التمسك عند الشك في مصداق المخصص اللبي.
وإلا فعلى المختار فلا مجال للتمسك باطلاق الخطاب أيضا، بل لا بد من
إجراء حكم القدرة عند الشك به من طريق آخر - كما شرحنا في طي الواجب
المشروط في مقدمة الواجب -.
وعلى أي حال لا يجري هذا الوجه في المقام إذ الهيئة بنفسها ظاهرة في
المخاطبين ولا دلالة لها على أوسعية مدلول الهيئة عن خصوص الخطاب كي يكون
تخصيصها به بدليل منفصل كما هو الشأن في هيئة الأوامر بالنسبة إلى القدرة،
وحينئذ فعلى فرض جواز التمسك بالاطلاق في المخصصات اللبية أيضا لا مجال
461

للتشبث باطلاق الهيئة في المقام ومع عدم جواز التمسك به لا يبقى مجال التمسك
باطلاق خصوص المادة لاتصالها بما يصلح للقرينية.
وأضعف من هذا الوجه الوجه الأخير إذ الادعاء والعناية المزبورة
[بنفسها] على خلاف القاعدة فنحتاج إلى قرينة صريحة في مثله، كما ناسب
القرينة المزبورة في الخطاب بالجبل، فمع عدم وجود قرينة في المقام لا مجال لرفع
اليد عن الظهور في كون التطبيق أيضا حقيقيا لا ادعائيا وهذا الظهور أيضا من
الظهورات السياقية.
نعم في المقام شئ آخر ربما أمكن التشبث باطلاق الخطاب في المقام دون
باب الأوامر بالنسبة للقدرة وهو ان كون [المخاطبة] وحضوره مجلس الخطاب
ربما يكون من القيود المغفول عنها غالبا في الحكم وفي مثل هذه القيود لابد
للمولى التنبيه على دخلها في حكمه ومع عدم التنبيه على ذلك يؤخذ باطلاق
العنوان المأخوذ في طي الأداة.
نعم لو لم يكن في البين عنوان عام في طي أداة الخطاب بل كان الحاكي
عن الموضوع نفس أداته ككاف الخطاب أو هيئة الأمر ك‍ " صوموا وقوموا " مثلا
لا يبقى حينئذ مجال للتشبث بمثله لاثبات الحكم للغائبين لعدم اطلاق يشملهم.
نعم حينئذ أمكن دعوى أن قيد حضور المجلس بعد ما كان مغفولا عنه
فلا يعتنى بهذا الاحتمال في وجه اختصاص الحكم بهم، فيبقى احتمال دخل قيد
آخر ولو مثل دخل زمان حضور الامام فيه وبالنسبة إلى مثل هذا القيد وإن لم
يكن اطلاق يشمل الحكم لنا ولكن أمكن دعوى، [الاطلاق المقامي لا اللفظي
هذا مع أنه أمكن دعوى] أن الأداة الحاكية عن الذات في الحاضرين في المجلس
لها اطلاق بالنسبة إليهم على، وجه لنا أن نتمسك به لاثبات عدم دخل قيد آخر
في حق الحاضرين، وبمثل ذلك يحرز موضوع قاعدة الاشتراك من اتحاد
الصنف.
462

نعم لو بنينا على عدم حجية الخطاب لغير من قصد إفهامه أشكل لنا
التمسك باطلاق الموضوع في حق الحاضرين فلا مجرى حينئذ لقاعدة الاشتراك
أيضا.
والعجب حينئذ ممن توهم بأن لازم اختصاص الخطاب بالحاضرين عدم
جواز التمسك باطلاقه ولو بنينا على حجية الاطلاق لغير من قصد إذ ذلك
صحيح في مقام عدم إثبات الحكم لنا بنفس اطلاق خطابهم، وأما في تمسكنا
لاثبات الاطلاق في حق الحاضرين فلا قصور للتشبث به ويحرز به موضوع
قاعدة الاشتراك وعليه فعمدة المانع عن هذه الجهة توهم اختصاص الحجية بمن
قصد ليس إلا. فتدبر.
463

......
464

المقالة الخامسة والثلاثون
تعقب العام
ضمير يرجع إلى بعض افراده
465

[...]
466

[المقالة الخامسة والثلاثون]
في
[تعقب العام ضمير يرجع إلى بعض أفراده]
إذا تعقب العام ضمير يرجع إلى بعض أفراده مع كون العام متكفلا لحكم
مستقل لا أنه ذكر توطية لحكم آخر وذلك مثل قوله: " المطلقات يتربصن ثلاثة
قروء " لا مثل قوله " المطلقات أزواجهن أحق بردهن ".
فهل يؤخذ بظهور العام [ويلتزم] في الضمير بالاستخدام؟
أو يؤخذ بظهور الضمير ويخصص العام بمورده؟ وجهان.
والظاهر أن العنوان المزبور يختص [بصورة] اتصال الضمير بالكلام.
ولو بدل الضمير باسم الإشارة ربما يشمل الكلامين المنفصلين أيضا.
وعلى أي حال لو كان محط البحث في العام المتصل بالضمير في كلام
واحد - كالمثال المذكور - فالظاهر سقوط كل منهما عن الظهور لاتصال كل منهما
بما يصلح للقرينية فلا يبقى حينئذ للعموم ظهور في الزائد عن مرجع الضمير.
نعم لو بنينا على كون أصالة العموم وأصالة عدم الاستخدام في الضمير
[أصلا مستقلا] غير راجع إلى أصالة الظهور، أو فرض ذلك في اسم الإشارة مع
كونهما في كلامين مستقلين فقد يرجح ظهور العام من جهة أن مرجع التمسك
بالعموم في المقام إلى التمسك بالعام عند الجزم بالمصداق والشك في المراد بخلاف
467

أصالة عدم الاستخدام في الضمير فإنه من باب القطع بالمراد والشك في أنه على
طبق وضعه، وأصالة الحقيقة [لا تكون] في مثله بحجة كما أشرنا إلى نظيره في
العام.
هذا ولكن يمكن أن يقال: إن مرجع أصالة عدم الاستخدام إلى أصالة
اتحاد المرجع مع الضمير، والشك في مراد العام يلازم مع الشك في المراد في أصالة
الاتحاد، إذا المراد من هذا الأصل ليس إلا اتحادهما واقعا وهو مشكوك بعين الشك
في مراد العام.
نعم بالنسبة إلى المراد من الضمير الأمر كما ذكر، ولكن لو كان مرجع
الشك في المقام [إلى الشك] في اتحاد المرجع مع المراد فهو أيضا من الأصول
السياقية فيؤخذ مثله عند الشك به مستقلا مع قطع النظر عن اجراء الأصل في
المراد من الضمير كما لا يخفى. وحينئذ فربما يقع التعارض بينهما فيصيران بحكم
المجمل المستتبع لرفع اليد عن أصالة الظهور في المقام أيضا. فتدبر.
468

المقالة السادسة والثلاثون
تخصيص العام بالمفهوم
469

[...]
470

[المقالة السادسة والثلاثون]
في
[تخصيص العام بالمفهوم]
اختلفوا في جواز تخصيص العام كتابيا أم غيره بمفهوم المخالفة بعد
اطباقهم على التخصيص بمفهوم [الموافقة] فذهب إلى كل فريق.
وتنقيح البحث أن الظهورين تارة وضعيان وأخرى إطلاقيان وثالثة
مختلفان.
وعلى أي تقدير، تارة كلاهما في كلام واحد وأخرى في كلامين مستقلين.
فإن كانا متفقين وضعا واطلاقا فلا شبهة في تصادمهما فيصيران [مجملين] أو
بحكم المجمل، ولكن ذلك لولا خصوصية موردية [توجب] أقوائية أحدهما على
الآخر وذلك ربما يختلف باختلاف المقامات ببركة المناسبات المقامية في أبواب
الفقه ولا يكون تحت ضابطة.
وان كانا مختلفين، فان كانا في كلام واحد فلا شبهة في تقدم الوضعي على
الاطلاقي لأن مقتضي ظهوره تنجزي بخلاف الاطلاقي فإن مقتضيه معلق على
عدم البيان، وبديهي أن المقتضي التنجزي في جميع المقامات مقدم على التعليقي
لأن مانعيته [دورية].
ومن هنا نقول: إن الظهور الاطلاقي لا يصلح للقرينية بالنسبة إلى
الظهور الوضعي كي يتوهم بأن اتصاله بالكلام يضر بظهور العام فتدبر.
471

وأما إن كانا في كلامين مستقلين فقد يتوهم إجراء هذا الترتيب في مثله
ويلتزم أيضا بتقدم الظهور الوضعي على الاطلاقي.
وفيه: إن ذلك إنما يتم لو كان البيان المانع عن الاطلاق مطلق البيان ولو
في كلام آخر.
واما لو كان البيان المانع عن الظهور الاطلاقي خصوص البيان في كلام
به التخاطب لا مطلقا فلا يضر العام المنفصل بظهور، الاطلاق، بل كان كل منهما
[ظاهرا بمقتض] تنجيزي، وحينئذ لا محيص من ملاحظة أقوى الظهورين في
البين، وربما يختلف ذلك أيضا حسب خصوصيات المورد في الفقه ولا يكون أيضا
تحت ضبط. ومع التساوي يصيران بحكم المجمل. وتتمة الكلام أيضا في طي بيان
مقدمات الحكمة في المطلق والمقيد.
ثم إن في تخصيص العام الكتابي بمطلق خبر الواحد منطوقا أو مفهوما
موافقا أو مخالفا كلاما آخر من جهة الأخبار الواردة في طرح المخالف للكتاب
وأنها زخرف، ولكن لا يخفى ان شمول هذه الطائفة للمخالفة بنحو العموم
والخصوص مستتبع للجزم بتخصيصها مع أن لسانها [آب] عن التخصيص فلا
محيص من حملها على المخالفة بنحو المباينة فلا يشمل المقام.
472

المقالة السابعة والثلاثون
تعقب الاستثناء
للجمل المتعددة
473

[...]
474

[المقالة السابعة والثلاثون]
في
[تعقب الجمل الاستثناء]
اختلفوا في أن الاستثناء في طي [الجمل] المتعددة يرجع إلى [الجميع] أم لا
بعد الجزم بأن الأخيرة [متيقنة] في المرجعية.
وظاهر هذا العنوان كون [الجمل] والاستثناء في كلام واحد، والا فلو كانا
في كلامين لا وجه لمتيقنية الأخيرة كما هو ظاهر.
وحينئذ فالكلام تارة يقع في فرض كون الدال على الاستثناء اسما مثل
لفظ " سوى " وأمثاله، وأخرى في فرض كون الدال عليه حرفا ك‍ " إلا " وأمثاله.
أما الصورة الأولى: فتارة يكون المستثنى قابلا للانطباق على المخرج
من كل جملة سواء كان ذلك من جهة كونه كليا صادقا على المخرج المتعدد مثل
" العالم منهم " مثلا أو من جهة كونه شخصيا داخلا في كل واحد من [الجمل]
بنحو يكون مجمع العناوين المتعددة.
وأخرى لا يكون قابل الانطباق على كل واحد وذلك مثل " زيد " المحتمل
الانطباق على زيد وزيد آخر وهكذا.
فعلى الأول فالظاهر عدم قصور في امكان الرجوع إلى البقية لا من
طرف الاستثناء ولا من طرف المستثنى، أما الأخير فواضح وهكذا الأول لفرض
إسمية الحاكي عن معنى وحداني قابل للانطباق على كل واحد من الإخراجات
475

المتعددة، كما أنه في مقام وقوعه فالظاهر أيضا عدم قصور في الأخذ باطلاق
الاستثناء والمستثنى لولا كون ظهور العام وضعيا حاكما وواردا على الاطلاق
فيقدم العموم على الاطلاق المزبور، ولا يصلح مثل هذا الاستثناء حينئذ للقرينية
على خلاف العام لأن قرينيته [دورية فتستحيل] فيبقى العموم على حجيته، ولو
قلنا بأن مرجع أصالة العموم إلى أصالة الظهور لا أنه أصل تعبدي.
نعم لو كان العام أيضا في دلالته اطلاقيا يشكل التمسك بالاطلاق في
كل واحد من الاستثناء والمستثنى منه وذلك لامن جهة اتصال كل منهما بما يصلح
للقرينية لعدم امكان قرينية كل منهما للآخر إذ في المقام ظهور كل واحد معلق
على عدم ظهور غيره فيستحيل ظهور كل منهما لذاته فلا يعقل حينئذ قرينية
كل منهما للآخر لأن قرينيته على الغير فرع ظهوره وبعد استحالة ذلك للدور
كيف يصلح كل منهما للقرينية بالإضافة إلى الآخر، بل لابد وأن يقال باستحالة
ظهور كل منهما لذاته لا لمانع خارجي كما لا يخفى.
وأما إذا كان المستثنى أشخاصا متعددة مشتركة في الاسم مثل " زيد " مثلا
فالظاهر عدم امكان الرجوع إلى غير الأخيرة من جهة المستثنى إلا بتأويل
" زيد " بمسماه وإلا يلزم استعمال المستثنى في أكثر من معنى واحد.
نعم من جهة الاستثناء لا قصور في امكان الرجوع إلى البقية كما عرفت.
هذا كله إذا كان الدال على الاستثناء اسما.
ولو كان الدال عليه حرفا فقد يشكل في امكان الرجوع إلى الغير في
جميع الفروض السابقة من جهة وضع الحروف بخيال أن الموضوع له خاص
فإرادة الاخراجات المتعددة [مستلزمة] لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
أقول: على فرض تسليم المبنى إنما يصح الإشكال لو لم يكن الاخراج
من الجميع فردا آخر قبال الإخراجات من كل واحد واحد.
هذا مضافا [إلى] فساد المبنى وأن الحروف أيضا من متحد المعنى وأريد
476

من أداة الاستثناء الجامع المتحد في ضمن إخراجات خاصة مختلفة مرادة من دال
آخر عن أداته كما هو الشأن في مداليل بقية الحروف على ما شرحناه في محله،
ولازم ذلك إجراء التفصيل السابق في الاستثناء بالأداة أيضا كالأسماء إمكانا
ووقوعا.
ونقول في المقام: إن الدلالة على الجامع في ضمن أي مقدار من الفرد ربما
يختلف بالاطلاق وعدمه، فمع فرض كون العمومات [وضعية] [تمنع] عن
الاطلاق فيها (1) فيخرج حينئذ الاطلاق المزبور عن الصلاحية للقرينية فيكون
العام باقيا على حجيته ولو بنينا على أصالة الظهور فيه، ومع [كونها اطلاقية]
يستحيل أيضا ظهور كل واحد في اطلاقه لأنه منوط بعدم ظهور الغير المتوقف
على ظهوره فظهور كل واحد دوري فيستحيل ظهور كل واحد حينئذ بذاته
لامن جهة اقتران اللفظ بمشكوك القرينية لعدم احتمال قرينية كل واحد على
الآخر ببرهان الاستحالة المزبورة فتدبر.
ثم إن ذلك كله لو كان الاستثناء متصلا بالكلام كما هو الظاهر من
عنوانهم.
وأما لو كان في كلام مستقل فتارة يكون لدليل المخصص نحو نظر إلى
مفاد العموم السابق كأن يقول: " واستثني مما ذكرت العلماء منهم " وأخرى
لا يكون له النظر بل [يعارض] العمومات السابقة تعارض العموم [للمطلق].
وعلى اي تقدير في فرض الانفصال لا وجه لمتيقنية الأخيرة، كما أن
الاخراج في المقام لما لا يكون بتوسيط الحرف لا قصور في الرجوع إلى الجميع
لولا قصور في المستثنى بمقتضى اشتراكه بين المخرجات لفظا وذلك لولا تأويله
أيضا بالمسمى كما عرفت في الفرض السابق، والا فيصير المخرج مرددا في واحد

(1) أي في الدلالة.
477

من المستثنيات ولا يصلح الشمول [للجميع]، وحينئذ نتيجة العلم الاجمالي
بتخصيص [إحدى الجمل] السابقة فيسقط (1) الجميع عن الاعتبار من دون
فرق في ذلك بين كون المستثنى وطرف الاستثناء [وضعيين] أو [اطلاقيين] كما
أسلفنا سابقا.
وأما إن لم يكن قصور في طرف المستثنى للشمول فالظاهر في صورة
النظر المزبور يؤخذ باطلاق الحاكم ولو كان أضعف دلالة من العمومات بعد قوة
نظره إليها ويطرح العمومات طرا ولو كانت أقوى.
وأما في غير صورة النظر فلا بد من ملاحظة أقوى الظهورين من
المستثنى منه والمستثنى، وربما حينئذ يختلف نسبة الأقوائية بالإضافة إلى بعض
العمومات دون بعض فيقدم على الأضعف ويعارض مع المساوي دلالة. وفي
فرض [أقوائية] بعض العمومات [من] (2) ظهور المخصص يقدم ذاك فقط عليه
ويبقى الخاص على معارضته مع البقية.
ولو انتهى الأمر حينئذ إلى طرح الخاص بالنسبة إلى بعض العمومات
بأخبار الترجيح ففي الأخذ به بالنسبة إلى بعض آخر أضعف منه دلالة أو سندا
وجه لولا دعوى عدم مساعدة العرف على التبعيض في السند في مثل المقام الذي
كان المبعض بلسان واحد ولفظ فارد، بل في مثله أمكن دعوى انصراف أدلة
الترجيح والتخيير منه كما هو الشأن في العامين من وجه لانتهاء الترجيح فيه
أيضا إما إلى طرح الرواية حتى من الجهة [غير المعارضة] أو التبعيض في السند
الذي لا يرى العرف ذلك في دلالة واحدة فتدبر في المقام بجميع شؤونه وأطرافه.

(1) الصحيح أن يقول (سقوط الجميع) لأنه خبر لقوله (نتيجة العلم الاجمالي).
(2) أي (أقوائية بعض العمومات من بعض).
478

المقالة الثامنة والثلاثون
الدوران
بين تخصيص العام ونسخه
479

[...]
480

[المقالة 38]
[في الدوران بين تخصيص العام ونسخه]
المشهور اختلاف حكم العام والخاص المتخالفين من حيث الناسخية تارة
والمخصصية أخرى والقابلية لهما ثالثة.
ولا يخفى ان هذا التفصيل مبني على مقدمتين:
[إحداهما]: قبح تأخير البيان من وقت العمل لانتهائه إلى نقض الغرض
المستحيل حتى عند الأشعري أيضا.
[ثانيتهما]: كون المراد من السنخ رفع الحكم الفعلي الثابت بلا كفاية
فعلية الملازمة بينه وبين شرطه عند عدم حصول شرطه، ولا كفاية فعلية الاشتياق
المنوط بوجود الشرط في فرضه ولحاظه، فضلا عن فرضية الحكم بفرض وجود
موضوعه كما هو الشأن في مفاد القضايا الحقيقية عند عدم موضوعها ما لم يصل
إلى الفعلية المطلقة بوجود شرطه خارجا. إذ حينئذ يمكن أن يقال بأن الخاص
إن ورد [قبل] حضور وقت العمل بالعام فلا بد وأن يكون مخصصا لا ناسخا لعدم
حكم فعلي من العام حينئذ كي يقبل النسخ، وإن ورد العام بعد وقت العمل
بالخاص فقابل لأن يكون ناسخا للخاص ولأن يكون الخاص مخصصا للعام
لعدم وجود محذور في أي طرف وحينئذ ففي هذه الصورة [تنتهي] النوبة إلى
ترجيح أي منهما على غيره.
481

هذا ولكن لا يخفى ما في كل [واحدة] من المقدمتين من الاشكال.
أما المقدمة الأولى ففيها: إن مجرد تأخير البيان عن وقت العمل بالعام
لا قبح فيه إذا كان عن مصلحة في التأخير مع إلقاء الحجة عليهم على خلاف
الواقع، كما هو الشأن في إرجاعهم إلى الطرق المخالفة للواقع، وأجبنا به أيضا
عن شبهة [ابن قبة] ببعض [تقريباتها] وحينئذ قبل البيان: المكلف محكوم
بالحكم الظاهري إلى أن يجئ بيان عن الواقع.
وليس المقصود من الحكم الظاهري كونه مرادا من العام كي يتوهم إباء
الظهور المزبور عن إفادة الحكم الظاهري المأخوذ في موضوعه الشك بالواقع.
بل المقصود منه الحكم الناشئ عن دليل حجيته في [هذه] الحال ولو من جهة
الشك في مطابقة الظهور للواقع.
ثم في إلقاء ظهور العام على خلاف مرامه واقعا لا يحتاج إلى استعمال العام
في مراد آخر قبال مرامه الجدي الواقعي ويسمى ذلك بالمراد الاستعمالي لإمكان
إلقاء الظهور المزبور بلا إرادته منه شيئا حتى في عالم الاستعمال، غاية الأمر
لجهل المكلف كان هذا الظهور الملقى على خلاف الواقع حجة على العبد إلى أن
يعلم خلافه كسائر الطرق المخالفة للواقع.
اللهم [إلا] أن يقال إن المرتكز في الذهن عند ذكر اللفظ الموضوع
لمفهوم لحاظ المفهوم من اللفظ أو جعل اللفظ فانيا فيه فناء المرآة في [ذيها]، لا أنه
مجرد لفظ بلا لحاظ معناه منه فإنه خلاف ارتكاز الذهن. غاية الامر ليس المقصود
من هذا الاستعمال إبراز [مرامه] واقعا، ولا أن اللفظ الظاهر في معنى استعمل
في معنى آخر، إذ اللفظ بعد ما استقر ظهوره في مفهوم، صرف النظر عنه وإرادة
غيره أيضا خلاف الوجدان، إذ المرتكز كون الظاهر في مفهوم، لوحظ منه هذا
المفهوم لا غيره. وحينئذ استعمال كل ظاهر في معنى في غير ما هو ظاهر فيه مثل
عدم استعماله رأسا في المفهوم في مخالفته للارتكاز. والى ذلك ربما ينظر من التزم
482

بالتفكيك بين الإرادة الاستعمالية والجدية، لا أن مراده التفكيك بين الحكم
الظاهري والواقعي في المراد من العام. ولعمري إن حمل ذلك الكلام على هذا
لا يورث [لأهل] الشعور إلا تعجبا. فتدبر فيه.
وأما المقدمة الثانية ففيها: إن كون النسخ رفع الحكم الفعلي في غاية
المتانة، وإنما الكلام في ميزان فعلية الحكم إذ قد حققنا سابقا أن الخطابات
الواقعية يستحيل أن [تكون متكفلة] لفعلية الحكم المساوق لمحركية العبد فعلا
إذ هذه المرتبة من شؤون تطبيق العبد مضمون الخطاب على المورد وهذا المعنى
مأخوذ في رتبة متأخرة عن الخطاب ويستحيل أن يؤخذ في مضمونه فلا محيص
من جعل مضمون الخطاب إبراز الاشتياق نحو الشئ المنوط بقيوده في لحاظ
الآمر وإن وجودها خارجا من شؤون تطبيق العبد إياه على المورد وحينئذ
فالخطاب بمضمونها ليس إلا مجرد الاشتياق في فرض تحقيق قيوده في لحاظه وان
فعليتها ليس إلا بمحركية هذا الاشتياق للآمر بابرازه على عبده توطئة لتطبيقه
على المورد فيتحرك من قبله.
ومن البديهي حينئذ انه لو كان المراد من النسخ رفع الحكم الفعلي فلا بد
وأن يكون المقصود رفع مضمون الخطاب بماله من الفعلية المناسبة له، لا [الفعلية
المناسبة] لتطبيق العبد مضمونه على مورده.
وحينئذ تصور النسخ في الموقتات والمشروطات قبل وقتها وشرطها بمكان
من الامكان، بل ولابد وأن يكون النسخ في الاحكام طرا من هذا الباب حتى
في ظرف وجود الشرط خارجا، إذ في هذا الظرف لا ينقلب مضمون الخطاب
الصادر على المولى، إذ يستحيل شمول مضمونه ولو بترقيه مرتبة منوطة بمقام
تطبيقه المتأخرة عنه رتبة. فما هو من شؤون التطبيق - وجد أم لم يوجد - أجنبي
عن مضمون الخطاب ولا يوجب قلب مضمونه من مرتبة إلى [مرتبة] بل الخطاب
بماله من المضمون محفوظ في مرتبة نفسه - وجد الشرط المزبور خارجا أم لم
483

يوجد -.
وحينئذ بعد بداهة توجه النسخ من المولى إلى ما هو الصادر منه فعلا بماله
من المضمون والفعلية المناسبة له، فلا يحتاج النسخ إلى أزيد من فعلية الخطاب
على حسب استعداد الخطاب لها لا أزيد.
ولعمري إن هذا التوهم من احتياج النسخ وصحته إلى فعلية وجود
الشرائط خارجا الملازم للمحركية للعبد المساوق لوقت العمل كان أيضا ناشئا
عن الاشتباه في أخذ مرتبة المحركية والبعث في مضمون الخطاب كجعلهم فعلية
الخطابات منوطة بوجود [شرائطها] خارجا وادخالهم الخطابات الشرعية الطلبية
في زمرة القضايا الحقيقية الحاكية عن فرض المحمول بفرض موضوعه، ولقد
شرحنا بما لا مزيد عليه في بحث الواجب المشروط من مقدمة الواجب بطلان
هذه المسالك طرا بنحو أشرنا هنا أيضا.
ويكفي شاهدا لما ذكرنا في المقام هو أنه لو قال المولى: إن جاءك زيد
أكرمه ثم بعد هنيئة قال: نسخت هذا الحكم ولو قبل مجئ زيد لا يرى العرف
قبح هذا الكلام واستهجانه كما لا يخفى.
ولعمري إن مثل هذا الوجدان أعظم شاهد على المدعى من عدم احتياج
صحة النسخ إلى حضور وقت العمل ووجود شرائط الحكم خارجا.
وحيث [اتضحت] لك [هاتان المقدمتان] صح لنا دعوى تساوي جميع
الفروض في صحة النسخ والتخصيص وبطلان التفصيل السابق وحينئذ يبقى
في البين وجه ترجيح النسخ على التخصيص أو العكس.
وحينئذ قد يقال: بأن النسخ تخصيص في الأزمان وهو أقل موردا من
تخصيص الأفراد فيكون التخصيص أشيع فيقدم على النسخ. وفيه:
أولا: إنا [ننقل] الكلام في أول زمان ورودهما فإنه بعد ما بلغ التخصيص
إلى الأشيعية ومع ذلك بناء الأصحاب، بل وبناء من كان في تلك الأزمنة على
484

تقدم التخصيص على النسخ.
مضافا إلى أنه لو قال: يجب عليك كذا، ثم بعد يوم قال: نسخته، ما كان
النسخ مستبشعا خصوصا مع حضور وقت العمل. ولو كان النسخ تخصيصا في
الأزمان يلزم في المثال تخصيصا مستهجنا لكونه من التخصيص الكثير القريب
بالاستيعاب، فهذا شاهد قوي على عدم كون النسخ من باب التخصيص
الزماني، بل التحقيق إن النسخ في الشرعيات كالبداء في التكوينيات الراجع
إلى الانشاء والإعلام على وفق المقتضيات مع قيام المصلحة على اختفاء الموانع
عليه، وحينئذ يريد المخبر من اللفظ نفس مدلوله ويصير في مقام الجد بإنشائه
غاية الامر غرضه من ذلك تحميل العبد على وفق المقتضيات مع علمه بوجود
الموانع في عالم التشريع والتكوين. وبمثل ذلك توجه البداء من الباري عز اسمه
بلا انتهائه إلى الجهل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وحينئذ لا محيص من أن يقال بأن النسخ ليس من باب التصرف في
الدلالة، وانما التصرف فيه نظير التورية والتقية تصرف في الجهة.
وحينئذ قد يدعى في المقام بأن وجه تقديم التخصيص عليه [بعين] وجه
تقديم التصرف الدلالي على التقية والتورية وذلك بتوهم ان في مورد دوران الأمر
بين التصرف الدلالي - مثل التخصيص - مثلا مع التقية الأمر يدور بين الحمل
على التقية - كي يطرح السند رأسا - أو الحمل على التخصيص مثلا كي يبقى
مقدار من الظهور الموجب للأخذ بالسند. وبديهي أن أصالة عدم طرح السند
مهما أمكن مرجح التصرف الدلالي على الجهتي من مثل التقية.
وفي المقام أيضا يقال: بعد مضي زمان المنسوخ وخروجه عن محل الابتلاء
لو حمل المتأخر على النسخ فمن حين وجوده لا يبقى مجال للأخذ بسند المنسوخ
لا بالنسبة إلى الزمان السابق لخروجه عن محل الابتلاء ولا بالنسبة إلى الزمان
اللاحق لفرض منسوخيته. وهذا بخلاف ما لو حمل السابق على المخصصية فإنه
485

يبقى للتعبد [بسنديهما] مجال، فعموم دليل التعبد بالسند في المقام أيضا يقتضي
الحمل على التخصيص لا النسخ. أقول:
أولا: إن هذا الكلام إنما يتم في الخاص المتأخر لو قلنا بأنه ناسخ للعام
بعمومه. وأما لو قلنا بنسخه لحكم خصوص هذا الفرد فيبقى دليل السند للعام
المنسوخ بالنسبة إلى بقية أفراده باقيا بحاله من دون فرق في تلك الجهة بين
ناسخية الخاص أو مخصصيته.
وثانيا: على فرض تسليم ناسخية الخاص لتمام العام أو فرض ناسخية
العام المتأخر للخاص أيضا ما أفيد صحيح لو لم يكن للمنسوخ السابق أثر
بلحاظ الزمان اللاحق كما لو فرض نسخ طهارة ماء توضأ به سابقا إذ حينئذ
لا قصور لدليل المنسوخ أن يشمل فعلا بلحاظ الأثر [الذي هو] المحل
للابتلاء فعلا وحينئذ لا يبقى مجال ترجيح التخصيص على [النسخ] بمناط ابقاء
عموم دليل السند بالنسبة إليهما بحاله على المخصص دون النسخ.
والأولى في وجه الترجيح أن يقال: إنه بعد ما كان مرجع النسخ إلى
التصرف في جهة الحكم كالتقية، إن النوبة إنما [تنتهي] إلى هذا التصرف في
ظرف إحراز الجد بالمراد ومن المعلوم إن التصرف الدلالي موجب لشرح المراد
على خلاف الظهور بملاحظة إجراء حكم القرينة على ما هو أقوى ظهورا،
وحينئذ لا يبقى مجال للتصرف الجهتي لعدم وجود موضوعه، ومرجع ذلك إلى
حكومة الجمع والتصرف الدلالي على التصرف الجهتي.
ولنا أيضا بيان آخر في وجه التقدم وهو: ان أصالة الظهور إنما [تجري]
في الظهورات الصادرة لبيان الحكم الحقيقي الواقعي. فالأصول الجهتية [منقحة]
موضوع الأصول اللفظية، ولازمه تقدم الأصول الجهتية على اللفظية رتبة وحينئذ
[لا تصلح] الأصول اللفظية للمعارضة مع الأصل الجهتي. فلا مجال لرفع اليد عن
الجهة باجراء الأصول اللفظية وإبقاء حجية الظهور [بحالها]، كيف و [لا تنتهي]
486

النوبة إلى أصالة الظهور بلا جهة وعلة، فالأصول الجهتية جارية في رتبة نفسها
بلا معارض، وبعد جريانها ينتهي الأمر إلى الأصل الدلالي فيؤخذ به لولا وجود
ما هو أقوى دلالة عليه كما لا يخفى.
وبذين التقريبين أيضا نلتزم في وجه تقدم التصرف الدلالي على التقية
لا بصرف ابقاء التعبد بسندهما في التصرف الدلالي دون التقية، كيف، وهذا
الوجه أيضا غير جار في مورد [تكون] التقية في عموم الحكم لفرد لا الحكم العام
إذ حينئذ لأخذ دليل العام في الأفراد الخارجة عن صورة [التقية] مجال، كما
لا يخفى فتدبر.
487

[...]
488

المقالة التاسعة والثلاثون
المطلق والمقيد
489

[...]
490

[المقالة التاسعة والثلاثون]
في
المطلق والمقيد
وعرف المطلق بما دل على معنى شايع في جنسه. والظاهر أن المراد من
الجنس ليس بمصطلح المنطقيين، كيف، واطلاق المطلق على النوع والصنف بل
الأشخاص بلحاظ الحالات كالنار على المنار.
بل المراد من الجنس في المقام مطلق ما كان سنخ الشئ المحفوظ في
ضمن قيود طارئة على الشئ من دون فرق بين كون السنخ المزبور [موجودا]
في ضمن وجودات متعددة أو في وجود واحد محفوظ في طي الحالات المتبادلة.
ومن ذلك ظهر أن الجنس في المقام ليس أيضا بمصطلح النحويين المعبر
عنه باسم الجنس أو علمه المخصوص بالكليات الصادقة على الكثيرين كما هو
ظاهر.
ثم المراد من الشياع المأخوذ في تعريف المطلق تارة بمعنى قابليته
للانطباق بتمام معناه على القليل والكثير وعلى القطرة والبحر وبهذا المعنى يراد
ما هو المأخوذ في طي غالب الأوامر، ولازمه انطباق تمام المعنى بأول وجوده
الموجب لسقوط أمره.
وتارة يراد منه الشايع بمعنى السريان في ضمن أفراد متعددة [الملازم]
لعدم انطباق تمام المعنى على القليل بل لا ينطبق الأعلى الكثير، قبال المعنى
491

السابق، ولازمه تعدد الامتثال فيه وعدم سقوط التكليف بأول وجوده، وبهذا
المعنى يراد الطبيعة المأخوذة في طي بعض الأوامر وكثير من النواهي وغالب
الأحكام الوضعية ك‍ " أحل الله البيع " وأمثاله، ومن المعلوم أن بين نحوي المعنى
لم يكن جامع محفوظ في ضمن صورة مستقلة في الذهن في قبال الصورتين. كيف،
ولو كانت الطبيعة في الذهن مجردة عن جميع العلائق - بحيث لم يلحظ
في الذهن إلا ذات الطبيعة بما هي ذاتها [عارية] عن جميع الحيثيات، بمعنى
[كونها] مصداقا لهذا العنوان [لا مقيدة] به - من البديهي أنه بهذا اللحاظ كان
موضوع حكم العقل بقابليته للانطباق على القليل والكثير وعلى القطرة والبحر
مثلا.
كما أنه لو لوحظ هذا المعنى سيالا وساريا في ضمن متكثرات من الأفراد
فهو الشايع بالمعنى الثاني. ومن البديهي أن الطبيعي حينئذ ما جاء عاريا عن
جميع الحيثيات بل لوحظ معه سريانه [الزائد] عن ذاته وهي بهذا المعنى [واجدة]
لخصوصية السريان قبال الصورة الأولى [الفاقدة] له، وحينئذ كيف يتصور في
الذهن معنى ثالث جامع بين الفاقد والواجد؟!
وحينئذ لا محيص في تصور الجامع بين الشايعين الا بدعوى: كون الجامع
هو المعنى المحفوظ في ضمن الواجد تارة والفاقد أخرى، لا أنه معنى موجود
بوجود مستقل في قبالهما.
وعليه فلك أن تقول إن في البين صورة ثالثة [للطبيعي] وهو المحفوظ في
ضمن المقيد بشخص خاص الذي لا يكاد يصدق الا على القليل في قبال
السابقين، إذ ذلك أيضا صورة ثالثة مشتملة على الطبيعي في ضمنه وكان مقيدا
في ضمن قيد خاص.
وحينئذ ما هو مشترك بين هذه الصور ليس إلا الجهة المحفوظ في ضمن
الفاقد والواجد بلا وجود له [مستقل] في الذهن قبال هذه الموجودات الذهنية.
492

ومثل هذا الجامع المحفوظ في المقام مثل المادة المحفوظ في ضمن هيئات
مخصوصة الحاكية عن مفهوم كذلك بحيث لا يتصور [فيها] مفهوم مستقل قبال
ما هو المحفوظ في ضمن الخصوصيات.
وحيث اتضح ذلك [نقول]: إن القائل بأخذ الشياع في مفهوم المطلق إن
أراد شياعا خاصا من نحوي الشياع كي يصير لازمه كون مفهوم المطلق معنى
خاصا في الذهن بحيث لو أريد غيره - ولو كان شايعا بغير هذا النحو كالمقيد
بغير الشياع من سائر القيود - لكان مجازا، فهو خلاف صريح اطلاقهم المطلق
على نحوي الشياع بلا مجاز فيه، وإنما بناؤهم على مجازية المطلق لو أريد منه
المقيد بغير الشياع من سائر القيود. و [يؤيده] اطلاق أخذ الشياع في تعريفه.
وحينئذ فلا محيص عندهم من جعل مفهوم المطلق هي الجهة [المحفوظة]
بين نحوي الشياع [المتقوم] كل واحد بصورة مخصوصة من فقدانه
للخصوصيات الزائدة عن الطبيعي أو وجدانه لجهة السريان في ضمن المتكثرات
بلا وجود مفهوم مستقل في الذهن عاريا عن الجهتين. وعليه فنقول:
إنه لك أن توسع الدائرة بنحو يشمل المفهوم المعنى المحفوظ في ضمن
المقيد بشئ آخر غير جهة الشياع أيضا فلا وجه حينئذ لاختصاص المفهوم
بخصوص الشياع، بل المنسبق إلى الذهن من اللفظ في كل مورد هو المعنى
المحفوظ في ضمن الصور العديدة المتصورة وهذا المعنى المحفوظ هو الطبيعي
المهمل المناسب مع كل لون ويكون جامعا بين الشايع وغيره، ولئن شئت فعبر
عنه ب‍ " اللابشرط المقسمي " المجتمع مع الواجد لقيد خارج عن ذاته وفاقده،
كما أن الفاقد [لجميع] العلايق الزائدة عن الطبيعي وهو المعنى الشايع
القابل للانطباق على القليل والكثير هو " اللابشرط القسمي " المحتاج إثباته
بمقدمات الحكمة بحيث لولاها لما يكون معنى اللفظ منحصرا بما يقبل الانطباق
على القليل والكثير فقط، بل هو الجامع بين ما يقبل ومالا يقبل.
493

فاللا بشرط المقسمي هو المعنى المحفوظ في ضمن القيود المتعددة من
الفاقد والواجد بلا وجود مستقل له في الذهن كما يشهد بذلك بناؤهم على
استعمال اللفظ في جميع المقامات في معنى واحد بنحو الحقيقة، وأن الخصوصية
الزائدة [مفهومة] من دال آخر ويكونان من باب الدالين والمدلولين.
ولك أن تقول: إن نسبة الطبيعة اللابشرط المقسمي بالنسبة إلى القسمي
ليس كنسبة الكلي إلى الفرد بحيث كانا في الذهن، موجودين بوجود واحد
خارجي، بل نسبته إليه كنسبة منشأ انتزاع الجامع في ضمن أفراده الخارجية من
حيث إنه كما لم يكن له في قبال المصداق وجود مستقل في الخارج بل جهته
محفوظة في ضمن خصوصيات متعددة متباينة، كذلك بهذا النحو [تلاحظ]
الطبيعة اللابشرط المقسمي بالنسبة إلى اللابشرط القسمي وبشرط شئ في عالم
الذهن وأنه لم يكن له في عالم الذهن وجود مستقل في قبال الفرد بل في الذهن
جهة محفوظة في ضمن صور خاصة متباينة. ولئن شئت فعبر عنه بما هو موجود
في الذهن بعين وجود أفراده فيه لا بوجود مستقل مباين معها كما لا يخفى.
ومن هذه البيانات ظهر بطلان الفرق بين القسمي والمقسمي بجعل
المقسمي الماهية المجردة حتى من قيد التجرد، والقسمي خصوص الماهية المقيدة
بقيد التجرد الذهني، إذ مع هذا القيد يستحيل انطباقه على الخارج مع أن بناءهم
في اللابشرط القسمي قابليته للانطباق على القليل والكثير بملاحظة مقدمات
الحكمة كما هو الشأن في المأخوذ في طي الأوامر غالبا.
وأضعف منه في الفرق بينهما أن المقسمي ما هو الملحوظ بنفس ذاته بماله
من ذاتياته قبال الملحوظ معه بما هو خارج عن ذاته وجودا [أو] عدما أو الأعم
منهما وهو اللابشرط القسمي، إذ من البديهي أنه لو لوحظ صرف الماهية بذاته
مجردة في الذهن عن عوارضها الخارجية لو عرض مثله على العقل يحكم بأنه
قابل للانطباق على القليل والكثير وهو الذي أثبتوه في طي الأوامر بمقدمات
494

الحكمة الموجبة عندهم لاثبات اللابشرط القسمي، فمن أين المقسمي؟!
ولكن سمعت من بعض تلامذته أنه فسر [اللابشرط المقسمي] بما هو
موجود في الذهن بعين وجود أفراده وحينئذ يرجع هذا الشرح إلى ما أبسطناه
وهو غير مرتبط بما كتبه في تأليفه فراجع.
وكيف كان نقول: بعد ما التزم المشهور في معنى الاطلاق الشياع الأعم
من الساري والصرف القابل للانطباق على القليل والكثير بحيث لو استعمل
[في ما] لا يقبل الانطباق على الكثير كان مجازا فلا محيص من التزامهم بمعنى
محفوظ في ضمن الشايعين وموجود في الذهن في ضمن أحدهما ولازمه أخذهم في
مفهوم المطلق معنى جامعا بين الفردين متحدا مع كل واحد منهما في الذهن،
وبديهي أنه مرتبة من اللابشرط المقسمي الموجود مع كل واحد من قسمي
الصرف والساري ضمنا، وبعد ذلك لم يلتزم في المعنى المطلق بخصوص هذه
المرتبة بل قد أشير بأن لنا أن نوسعه على وجه يجتمع مع المقيد بشئ خاص
أيضا كي يكون موجودا في ضمن جميع أنحاء الطبيعي فيكون استعمال اللفظ
فيه أيضا بنحو الدالين والمدلولين بلا التزام بالمجازية في شئ من الصور
المخصوصة.
ولقد أجاد سلطان المحققين في التزامه بهذا المعنى بلا أخذ ضيق في دائرته
على نحو لو استعمل في مورد المقيد لكان مجازا وحينئذ النزاع بين السلطان
والمشهور بعد اشتراكهم [في مفهوم] جامع بين الصرف والساري لمعنى اللفظ:
إن هذا الجامع هل هو خصوص ما يتحد مع الشايع بمعنييه أو الأعم منه ومن
غير الشايع كالمقيدات بقيود خاصة. فالسلطان أخذ بالأخير في قبالهم وهو الحق
والتحقيق، إذ كما أن المتبادر من اللفظ في مورد أحد الشايعين معنى وحداني
محفوظ في ضمن الخصوصيتين من الشياع كذلك في المقيد أيضا هذا المعنى بعينه
محفوظ فيه بلا وجه لخروجه عن مدلول اللفظ كما لا يخفى. هذا كله في مدلول
495

أسماء الأجناس.
وأما في أعلامها: فقد يدعى بأخذ نحو من الإشارة الذهنية الموجبة لنحو
من التعين فيه العاري عنه اسم الجنس، ولذا كان علم الجنس عند النحاة معرفة
ويترتب عليه أحكامها بخلاف اسم الجنس.
ولكن قد يشكل في هذا الفرق بأن الإشارة المأخوذة فيه [ليست] الا من
سنخ اللحاظ المحسوب من الوجودات الذهنية ولازم أخذ مثل هذا المعنى في
المفهوم عدم قابلية انطباقه على الخارج الا بالتجريد مع أن بالوجدان مفهوم
" أسامة " بلا تجريد ينطبق على الحيوان مثلا. ومن جهة هذه الشبهة التزم باتحاد
مفهومه مع مفهوم اسم الجنس وان الموضوع له [عين] ما هو مفهوم لفظ أسد،
وأن تعريف " أسامة " وغيره من أعلام الجنس لفظي.
أقول: أولا: إن حقيقة الإشارة عبارة عن نحو [توجه] من النفس إلى
الصور وغير مرتبط بعالم اللحاظ، ولذا يرى عند لحاظ صور متعددة قد [تتوجه]
النفس إلى بعضها دون بعض، ويشير بأنه أحسن من غيره مع فرض اجتماع
الجميع في ذهنه، ومثل هذا التوجه من الوجودات الخارجية القائمة بالنفس، نظير
العلم بها - تصديقيا أم تصوريا - وحينئذ فلو قيد المعنى بمثل هذا الوجود
كتقييده بالعلم به لا يضر ذلك بانطباق المقيد به على الخارج، كانطباق عنوان
المعلوم أو المقيد بالمعلومية على الخارج إذ مثل هذه التقييدات راجعة إلى تقييد
المعنى بكونه متعلقا بهذه الوجودات الخارجية لا مقيدا بأمر ذهني ووجوده كذلك.
وثانيا: على فرض كون هذه الإشارات أيضا من سنخ الوجودات
الذهنية نقول:
إن الاشكال إنما يرد على فرض أخذ التقيد بها في مفهوم اللفظ، والا فلو
قيل بأن اللفظ موضوع لنفس ذات [تعلقت بها] الإشارة وما هو معروضها بلا
أخذ تقيدها فيه يكفي هذا المقدار للفرق بينه وبين اسم الجنس، إذ في علم
496

الجنس اعتبر الذات بنحو لا يكون له اطلاق يشمل ما لا يشار إليه وإن لم يكن
مقيدا به أيضا، بخلاف اسم الجنس حيث إنه موضوع للذات الأعم مما يشار
ولا يشار [إليه] وهذا المقدار أيضا يكفي في تعريف علم الجنس معنويا، إذ ما هو
معروض الإشارة له نحو من التعين ليس لغيره بلا احتياج حينئذ إلى التجشم
في جعل التعريف لفظيا فقط.
ولقد حققنا نظير ذلك في الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي على مذاق
الفصول بجعل المعنى الحر في نفس ما هو معروض اللحاظ المرآتي قبال المعنى
الاسمي بجعله ما هو معروض اللحاظ الاستقلالي، ومرجعهما إلى كون الموضوع
[له] في الحروف له معنى [توأم] مع اللحاظ المرآتي لا مطلقا ولا مقيدا به، وهكذا
في معاني الأسماء. وحينئذ لا يرد عليه أيضا الاشكالات الثلاثة التي أوردها
أستاذنا العلامة في كفايته وبحثه ولا يلزم بناء عليه أيضا الالتزام باتحاد معنى
الأسماء والحروف كي ينحصر جهة الفرق بكيفية [استعمالها] في المعنى، وتتمة
الكلام في محله.
ثم إن من جملة المطلقات مفهوم النكرة. و [توضيح] مفهومه بكون الطبيعة
[مقيدة بكونها] في ضمن [إحدى] الشخصيات المفردة بنحو يكون القيد نفس
التشخص [غير] المعين المنطبق على الخارج بنحو التبادل وأن أل‍ " أحد " أخذ
كما للقيد قبال الاثنين والثلاث لا أنه بنفسه قيد بل القيد - كما قلنا - نفس
التشخص الملازم للفردية، غاية الأمر بواسطة عدم تعينه واقعا كان مثل هذا
المفهوم أيضا قابلا للصدق على الكثيرين، غاية الأمر بنحو التبادل قبال صدق
اسم الجنس إذ هو قابل للصدق على الكثيرين عرضيا وقبال الطبيعة المتشخصة
بشخص معين إذ لا [تكاد تصدق] على الكثيرين أصلا.
فالنكرة معنى وسطا بين هذا التشخص وبين الطبيعة اللابشرط العارية
عن قيد التشخص رأسا.
497

فمن حيث تقيد الطبيعة فيها بقيد التشخص يشبه الأخير من حيث عدم
صدقه على الافراد عرضا، ومن جهة عدم تعين التشخص فيه يشبه الطبيعة
اللابشرط من حيث الصدق على الكثيرين ولذا يعبر عنه بالفرد المنتشر لأنه
بملاحظة أخذ التشخص في مفهومه كان فردا ومن جهة عدم تعيين القيد المزبور
كان القيد منتشرا، بالنسبة إلى الشخصيات المعينة بنحو صالح للانطباق على
كل منها صدقا تبادليا كان منتشرا.
ومن هذا البيان ظهر فساد توهم جعل المفهوم المزبور عبارة عن الطبيعة
المقيدة بعنوان أحد [التشخصات] الذي هو أيضا كلي صادق على الكثيرين
عرضيا إذ على كل تشخص يصدق عنوان أحد [التشخصات] في عرض
واحد، إذ مثل هذا المعنى لا يخرجه عن الجنسية إلى الفردية بل هو أيضا اسم
جنس أخص من الجنس المطلق وذلك لا يناسب مع جعلهم النكرة فردا منتشرا.
فالذي يناسب ذلك هو جعل القيد ما هو مصداق التشخص لا مفهومه
العام، غاية الأمر مصداقا غير معين قبال المصداق المعين، وان لفظ " أحد " أيضا
بيان ل‍ " كم " المصداق المزبور لا قيدا لمفهوم التشخص.
وتوهم ان مصداق التشخص في الخارج يلازم التعيين وان كان صحيحا
ولكن هذه التشخصات الخارجية المتعينة بالذات في مقام أخذها قيدا للطبيعة تارة
يؤخذ فيها [واحد معين] في قبال الغير، وأخرى يؤخذ فيها [واحد] غير معين منها.
فهنا نحوان من التعيين أحدهما تعيين كل منها بحسب ذاته و [ثانيهما]
تعيين كل منها بالإضافة إلى غير بنحو يكون طاردا له. وحينئذ فالقيد في الفرد
المنتشر والمعين مشترك في التعيين الذاتي إذ مصداق كل تشخص متعين ذاتا، وانما
الفارق بينهما بأن المأخوذ في النكرة والفرد المنتشر أحد هذه المتعينات ذاتا بلا
أخذ التعيين العرضي الحاصل من لحاظه في قبال غيره، وفي الفرد المعين أخذ
التشخص حتى بهذا التعيين العرضي الملحوظ في قبال الغير الطارد لغيره، ومن
498

هذه الجهة يلتزم بفردية النكرة دون اسم الجنس ولو مقيدا بطبيعة أخرى أخص
من الطبيعة المطلقة كما لا يخفى.
وبعد ما اتضح لك ذلك نقول: من المعلوم ان لمثل هذا المفهوم بواسطة
انتشاره نحو شياع ليس لغيره فيصح اطلاق المطلق عليه حتى بلحاظ الافراد،
بخلاف المقيد بالتشخص المعين فان اطلاقه لا يكون فرديا لعدم شياع له من
حيث الفرد. نعم لا بأس في اتصافه بالاطلاق من حيث الحالات الطارية عليها
كما هو الظاهر.
ثم إن هذا المعنى من النكرة المعبر عنه بالفرد المنتشر قد عرفت أن
صدقه على الافراد تبادلي لا عرضي. وقد [تطلق] النكارة على الأجناس قبال
معهودية معناه ولو بكونه طرف الإشارة إليه ذهنا، وهذا العنوان ربما يطلق على
أسماء الأجناس العارية عن أداة التعريف من لام أو غيره ويقال اسم جنس
منكر قبال علم الجنس أو المعرف بلامه، ومثل هذه النكارة [لا تقتضي] تبادلية
الصدق بل [تصدق] على الافراد عرضيا كما هو شأن الطبيعي الصرف، وحينئذ
فدائرة عنوان النكرة بالمعنى الثاني ربما يكون أوسع من النكارة بالمعنى الأول،
ولا يكاد يطلق على الثاني عنوان الفرد المنتشر، بل ربما يكون من الكليات
البحتة البسيطة، كما أن المعرف في قبال هذه النكرة من مثل علم الجنس أو
المعرف بلامه غير المعرف في قبال الأولى، إذ المعرف المزبور لا يصدق على
الكثيرين أصلا وهو المعبر عنه بالفرد المعين، وهذا بخلاف المعرف في قبال المعنى
الأخير فإنه يصدق على الكثيرين أيضا غاية الأمر فيه جهة ضيق في خصوص
دائرة ما يشار إليه بحيث ليس في الجنس المنكر ذلك، وحينئذ فما يعرف من
الجنس قبال المنكر المعرف بلام الجنس أو العهد بأقسامه.
وحينئذ ربما يشكل في المعرف بلام الجنس والعهد الذهني نظير الاشكال
في علم الجنس بأن وجه التعريف في المعرف بلام الجنس والعهد الذهني ليس إلا
499

بجعل الطبيعة مقيدة بالإشارة الذهنية، وبديهي ان هذا المعنى غير قابل للأخذ
في مفهوم اللفظ ولو بنحو الدالين والمدلولين إذ مرجعه إلى أخذ التقييد بالوجود
الذهني في المفهوم وهذا القيد مانع عن التطبيق على الخارجيات الا بالتجريد،
والحال انا نرى انطباق عنوان الانسان أو هذا الانسان على الخارج بلا تجريد
أصلا.
هذا ولقد تقدم مثل هذه الشبهة [بعينها] في علم الجنس ولكن قد أجبنا
عن الشبهة في علم الجنس بنحو قابل للجريان في المقام وملخصه جعل الإشارة
نحو توجه من النفس إلى الصور بعد إخطارها في الذهن الذي هو أجنبي عن
وجودها الذهني على ما تقدم شرحه.
نعم هنا جهة شبهة أخرى في مثل هذا الانسان بأن " اللام " لو كان
للإشارة يلزم اجتماع الإشارتين في زمان واحد وهو محال، ولا محيص من جعل اللام
فيه للزينة ك‍ " لام " الحسن والحسين وحينئذ فربما يتوهم مثله في غير المصدر بلفظ
" هذا " أيضا.
ولا يمكن أن يقال بامكان التفكيك بين المقامين بأن في المصدر ب‍ " هذا "
كان المفهوم متعينا بالإشارة فلا يبقي للإشارة ب‍ " اللام " مجال فلا محيص من كونه
للزينة بخلاف غير المصدر فيحمل اللام على وضعه الأولي من التعريف الملازم
لكونه في المقام للإشارة إلى المعنى كما لا يخفى.
ثم إن المطلق بعد ما ظهر وضعه للماهية المبهمة بنحو يكون جميع القيود
- حتى الاطلاق والشياع - خارجة عن المفهوم فلا محيص في مقام إفادة الشياع
ولو بنحو صرف الوجود فضلا عن الوجود الساري من ضم قرينة أخرى بنحو
يستفاد منها - ولو بنحو الدالين والمدلولين - الشياع المزبور بأي نحويه من
الصرف والساري وحينئذ نقول:
إن القرينة المعروفة ليس إلا مقدمات الحكمة المشهورة في الألسن.
500

وملخص المقدمات يرجع إلى كون المتكلم في مقام البيان بكلامه الوارد
في مورد التخاطب ولم ينضم إلى اطلاق لفظه قرينة أخرى حاكية عن خصوصية
خاصة زائدة فلا محيص من إرادة الاطلاق والا يلزم الخلل في إحدى المقدمتين
لأن إرادة الخصوصية بلا إقامة القرينة مناف لمقام بيان مرامه بلفظه. كما أن إرادة
الاهمال في لب المرام بلا ضم خصوصية به غير معقول فلا محيص من إرادة
الاطلاق هذا.
ولقد توهم من هذا البيان أن نتيجة هذه المقدمات كون موضوع الحكم
[هو] اللابشرط القسمي الذي [هو] عبارة عن الطبيعة العارية عن جميع
الحيثيات الذي هو من مصاديق الطبيعة اللابشرط المقسمي المجتمع مع العارية
والمقيدة على ما أسلفناه وان طبع مقدمات الحكمة قلب اللابشرط المقسمي إلى
القسمي في الموضوعية وحينئذ نقول:
إن لازم هذه المقالة كون نتيجة المقدمات هو الشياع بمعنى الصرف
ولا يشمل الساري بداهة ان الطبيعي العاري عن جميع الخصوصيات مساوق
صرف الوجود الغير القابل للانطباق على ثاني الوجود بنفسه، ولازمه سقوط
الحكم قهرا بأول وجوده إما بالإطاعة كما في الأوامر أو بالعصيان كما في النواهي،
وحينئذ في استفادة الطبيعة السارية في كثير من المقامات خصوصا في النواهي
يحتاج إلى مقدمة زائدة عن المقدمات المزبورة، مع أن المرتكز في الأذهان الذي
هو أيضا مشي المشهور عدم احتياج النواهي أيضا في اطلاقها إلى أزيد من
مقدمات الحكمة حتى مع التزامهم بعدم سقوط النهي بعصيانه الأولي، بل
الوجودات المتعاقبة أيضا مبغوضات بمقتضى الاطلاق وحينئذ يجئ في البين
شبهة الفارق بين الأوامر والنواهي من حيث اختلاف نتيجة اطلاق بينهما كما
أشرنا إليه سابقا.
والذي يقتضيه التحقيق في حل الاشكال - على ما تقدم منا سابقا أيضا -
501

بأن يقال:
إن هذه الشبهة إنما تجرى على الزعم المزبور من اقتضاء طبع مقدمات
الحكمة قلب موضوع الحكم بخصوص اللابشرط القسمي.
وأما لو قيل بأن طبع المقدمات لا يقتضي أزيد من كون مدلول اللفظ
الجامع بين اللابشرط وبشرط شئ تمام الموضوع في الحكم بلا دخل خصوصية
زائدة فيه فلا شبهة في أن هذا المعنى في طرف الأوامر لا ينتج الا الاكتفاء بأول
وجوده.
وأما في طرف النواهي التي كان المطلوب فيها عدم هذا الوجود فلا شبهة
في أن ذلك يقتضي قلب الوجودات المتعاقبة أيضا [إلى العدم] لأن بوجود كل
يصدق تحقق مدلول اللفظ، والفرض ان ما هو تمام الموضوع في النهي هو هذا
الوجود الصادق على الوجودات المتعاقبة أيضا فترك هذا المعنى لا يكون إلا
بترك تمام أفراده العرضية والتعاقبية بخلافه في الأوامر [فإن] مقتضى طلب
وجوده مجرد ايجاد هذا المعنى وهو يتحقق بأول وجوده.
وحينئذ ليس نتيجة المقدمات المزبورة قلب اللابشرط المقسمي [إلى
القسمي] في عالم الموضوعية كيف، واللا بشرط القسمي كما أسلفناه يستحيل
انطباقه على ثاني الوجودين كما هو شأن صرف الوجود من كل شئ.
بل طبع المقدمات جعل الموضوع بتمامه نفس مدلول اللفظ غاية الأمر
هذا المدلول في طرف الايجاد بتمامه يتحقق بأول وجوده وفي طرف الترك لا يكاد
يتحقق تركه إلا بترك تمام أفراده حتى المتعاقبة، وحينئذ فهذه التفرقة [ما جاءت]
من قبل دخل السريان في مدلول المادة في النواهي دون الأوامر وانما يقتضيه
العقل من حيث وقوعه في طي النواهي فقط بملاحظة أن إعدام هذه الطبيعة
بملاحظة قابلية انطباقه على الأفراد التعاقبية لا يكون الا باعدام الأفراد
المزبورة ولا يكون الحاكم في البابين الا طبع الاطلاق بلا احتياج إلى قرينة
502

خارجية.
فان قلت: إن اللابشرط المقسمي على ما شرحت لا يمكن له وجود
مستقل في الذهن بل لا محيص أن يتحقق في ضمن إحدى الصور من المجردة
والمخلوطة وحينئذ في طي خطاب الأمر والنهي [وان] كانت صورة واحدة فلا
محيص من أن يكون في فرض تمامية المقدمات بصورة مجردة ولازمه مجئ
اللابشرط المقسمي في ضمن اللابشرط القسمي ولازمه كون متعلق الأوامر
والنواهي قهرا هي الطبيعة اللابشرط القسمي الآبي عن انطباقه على ثاني
[الوجودين] كما اعترفت وحينئذ يبقى [إشكال الفارق] بين الأوامر النواهي
من سقوط الأوامر بأول وجود الطبيعي وعدم سقوط النواهي به.
قلت: ما أفيد من اقتضاء طبع المقدمات كون الصورة الحاصلة في طي
الخطاب هي الصورة المجردة عن جميع الحيثيات في غاية المتانة، إذ لازم كونه في
مقام البيان وعدم ذكر القيد معه كون الموجود في ذهن المتكلم هي الطبيعة
المجردة ولكن نقول: إنه ليس لازمه كون المطلوب [الطبيعي] بهذه الخصوصية
بل من الممكن كون تمام المطلوب من هذه الصورة أيضا الجهة المشتركة المحفوظة
فيها لا بخصوصيتها غاية الأمر اقتضاء الخطاب ايجاده يوجب الاكتفاء بأول
وجوده نظرا إلى أن تمام المعنى منطبق عليه فقهرا يسقط الخطاب، بخلافه في
طرف النواهي إذ مقتضى الخطاب فيه إعدام هذا المعنى. وبديهي ان إعدام هذه
الجهة المحفوظة بإعدام تمام مصاديقه [التي] منها الوجودات المتعاقبة كما هو
ظاهر.
ولعمري إن توهم كون المطلوب هي اللابشرط المقسمي، وان طبع
المقدمات قلب المقسمي بالقسمي إنما ينشأ عن اقتضاء البيان وعدم ذكر القيد
كون الموجود في الذهن هي الطبيعة المجردة بتوهم أن تمام المطلوب أيضا الطبيعة
بهذه الخصوصية الملازمة لضيق في انطباقه على ثاني الوجودين والا فلو فتح
503

البصر وتدبر يرى ان اقتضاء البيان وعدم ذكر القيد كون الصورة الحاصلة هي
المجردة لا يقتضي كون المطلوب أيضا هذه الصورة بهذه الخصوصية بل طبع
المقدمات علاوة عما ذكر يقتضي كون ما هو مدلول اللفظ تمام الموضوع للخطاب
الموجب لاختلاف النتيجة في الخطابات الايجادية والإعدامية باختلاف اقتضاء
نفس الخطاب عقلا من دون اختلاف في موضوع الحكم كما هو ظاهر لمن يتدبر.
تنبيهات
منها: ان اقتضاء المقدمات المزبورة هل هو باقتضاء عقلي أجنبي عن
اللفظ بحيث لا يوجب ظهورا فيه في الاطلاق أم ليس كذلك بل كانت من
القرائن [الحافة] بالكلام الموجبة لقلب ماله من الشأن وضعا إلى ظهور موافق
لطبع ما يقتضيه القرينة.
أقول: الذي يقتضيه التحقيق في المقام هو أن يقال بأن مثل هذه
المقدمات إذا كانت من القرائن [الحافة] بالكلام فلا قصور في صيرورتها موجبة
لوجه في اللفظ حاك عن مفادها كسائر القرائن الحافة.
نعم حيث إن مرجع المقدمات المزبورة إلى حكم العقل الجزمي بالملازمة
بينهما وبين الاطلاق، فان أحرزت المقدمات المزبورة بنحو الجزم والوجدان فقهرا
يوجب ذلك الجزم بالاطلاق ولكن لا ينافي ذلك [ظهور] الكلام فيه، غاية الأمر
حينئذ ليس هذا الظهور من الظواهر الظنية كسائر ظواهر الألفاظ، فالقائل
بخروج باب الاطلاق عن الظواهر اللفظية إن أراد هذا المقدار فنعم الوفاق بل
نقول إن باب التقييد أيضا من ذلك إذ مرجعه أيضا إلى حكم جزمي عقلي
بالملازمة بين ذكر القيد في كلام مع التقيد والا يلزم عند عدم فائدة أخرى
لغويته، ولذا اعتبروا في التقييد عدم كون القيد واردا مورد الغالب أو لبيان جهة
أخرى.
504

وإن أراد أن للفظ مع المقدمات المزبورة لا يتحقق وجه ودلالة أصلا فهو
خلاف الانصاف، كما أنه لو فرض إحراز المقدمات المزبورة بأصالة البيان
الراجعة إلى الظواهر الحالية الظنية فربما أمكن أيضا دعوى كفاية هذا المقدار
أيضا في كسب اللفظ منها ظهورا في المراد فيصير حينئذ من الظواهر الظنية
كسائر ظواهر الألفاظ المحرزة بالوجدان مع ظنية مطابقتها للواقع.
ولئن بنينا بأن المقدمات المزبورة بوجودها الواقعي موجبة لظهور اللفظ
ففي هذا الفرض لم يكن الظهور في الاطلاق محرزا بالوجدان، بل أصالة البيان
يصير طريقا لاحراز ظهوره وهذا المقدار أيضا يكفي للاتكال به في مقام
الاحتجاج.
نعم لو لم يكن ظهور حال البيان من الظواهر الحالية التي هي كظواهر
الألفاظ مورد اتكال العقلاء يشكل أمر الاتكال بهذا الكلام في احراز الاطلاق
إذ مرجعه حينئذ إلى الظن بالظهور واتباعه مورد إشكال إلا لدى من التزم
بحجية الظن المطلق فتدبر.
ومنها: ان أساس المقدمات المعهودة تارة على كون المتكلم في مقام بيان
تمام مرامه باللفظ المطلق فلا شبهة في أن هذا المقدار مضاد مع التقييد أو ملازم
لعدم قرينة على خلاف الاطلاق إذ القرينة المزبورة أيضا [مضادة] مع البيان
المزبور وحينئذ لازمه كفاية هذا البيان لاثبات الاطلاق بلا احتياج إلى مقدمة
أخرى من عدم القرينة على التقييد إذ مثل هذه الجهة من لوازم البيان المزبور
في عرض الاطلاق.
وحينئذ فلو كانت المقدمة الملازمة للاطلاق عند احتفافه بالكلام موجبا
لظهور اللفظ ووجهه في الاطلاق فيكفي البيان المزبور لاكتساب اللفظ وجهة
الظهور بلا متعلقية الظهور المزبور حينئذ على أمر سلبي من عدم القرينة على
التقييد وعليه فلو أحرزت هذه المقدمة بنحو الجزم والوجدان، يقتضي ذلك الجزم
505

بمخالفة ظهور القرينة على التقييد للواقع ولو كان في كلام آخر.
كما أنه لو فرض احرازها بأصالة البيان لازمه ظهور حاله في عدم إقامة
قرينة على التقييد [و] يزاحم ظهور اطلاقه مع ظهور لفظه في التقييد ولو في هذا
الكلام بلا تعليق في أحد الطرفين على عدم الأخير كي يجئ مقام ورود أحدهما
على الآخر حتى في كلام واحد فضلا عن الكلامين وذلك ظاهر.
وتارة يكون أساس المقدمات على كون المتكلم في مقام تمام مرامه بتمام
الكلام الذي به تخاطبه لا بخصوص اللفظ المطلق ففي هذه الصورة لا شبهة في أن
هذا المقدار من البيان لا ينافي التقييد ولا مع قيام قرينة على التقييد وحينئذ
فيحتاج في إثبات الاطلاق إلى مقدمة أخرى من عدم قيام قرينة على التقييد،
ولازمه دخل هذا الأمر السلبي في القرينة على الاطلاق، فقهرا يصير هذا الأمر
السلبي دخيلا في ظهور اللفظ أيضا تبعا لدخله في المقدمة الموجبة لظهور اللفظ
على طبق نتيجته، وحينئذ قيام القرينة المزبورة على التقييد [يرفع] الظهور
المزبور من دون فرق بين كون احراز البيان المسطور بمقدمات جزمية [أو]
بأصالة البيان الناشئ عن ظهور حال المتكلم في [مخاطباته].
نعم هنا شئ آخر وهو ان الكلام الذي كان المتكلم في مقام بيان تمام
مرامه هو مطلق كلامه ولو كان منفصلا عما به تخاطبه فعلا أو خصوص هذا
الكلام الذي به تخاطبه ومشتمل على اللفظ المطلق.
فعلى الأول يكون عدم القرينة في كلام آخر أيضا واردا على ظهور اللفظ
في الاطلاق.
وأما إن كان الكلام الذي كان المتكلم في مقام بيان مرامه خصوص كلام
به تخاطبه ففي هذه الصورة لا شبهة في استقرار ظهوره في الاطلاق بمجرد عدم
ذكر القيد في هذا الكلام متصلا به. ومع استقراره يزاحم ظهوره مع ظهور القرينة
في كلام آخر، ولازمه مع احراز المقدمات جزما طرح ظهور القيد في كلام آخر
506

للجزم بخلافه، ومع احراز المقدمات بالأصل يقع مزاحمة بين ظهور هذا الكلام
في الاطلاق وظهور قرينة أخرى في كلام آخر في التقييد، فلا محيص في مثله
[من] الأخذ بأقوى الظهورين بلا ورود أحدهما على الآخر.
نعم لو كان لشئ ظهور في التقييد عند اتصاله بما فيه اللفظ المطلق
وكان به التخاطب فلا محيص في هذه الصورة من الأخذ بظهور القيد لوروده
على ظهور الاطلاق لكونه معلقا على أمر سلبي كما عرفت. وفي هذه الصورة
لا يتوهم اتصال الظهور التنجيزي في الكلام بما يصلح للقرينية، إذ ذلك إنما يتم
في المجمل لا في المبهمات [غير] الصالحة للقرينية في قبال الظهور التنجيزي كما
لا يخفى.
وحيث [إن] بناء النوع على التصوير الأخير فلا محيص في ترجيح أحد
الظهورين من المصير إلى التفصيل بين صورة الاتصال بالكلام وانفصاله كما
عرفت فتدبر.
ومنها: ان متعلق البيان في المقام تارة تمام المرام بنحو يفهم المخاطب أيضا
بأنه تمامه. وأخرى تمام المرام واقعا [وإن لم] يفهم المخاطب أنه تمامه.
فعلى الأول [لا محيص] من الأخذ بالاطلاق حتى مع وجود المتيقن في
البين إذ مع الشك في دخل الخصوصية لو كان ذلك مقصوده لكان مخلا بغرضه
فلا محيص من عدم دخلها ولازمه الأخذ بالاطلاق لأنه لازم الأمر السلبي.
وتوهم أنه من الممكن ايكال دخل الخصوصية إلى البيان العقلي من
الأخذ بالقدر المتيقن في البين،
مدفوع بأن الاطلاق والتقييد في الذهن أمران متباينان لرجوع الاطلاق
إلى عدم دخل الخصوصية في الغرض ورجوع التقييد إلى دخلها، وهما متباينان
في عالم اللحاظ بلا وجود متيقن بين الاعتبارين.
ومع فرض كون المتكلم في مقام بين متعلق غرضه بنحو يفهم المخاطب
507

أيضا ذلك لا يبقى مجال لمتيقنية أحدهما بالنسبة إلى الآخر كي يبقى مجال اتكال
المتكلم في بيان متعلق غرضه إلى حكم العقل بالمتيقن.
نعم ما هو متيقن هو دخول الخاص في المرام. وأما أنه بنحو له بخصوصيته
دخل في الغرض أم لا فلا يكاد يستفاد من الكلام [شئ] والمفروض أن المتكلم
في مقام بيان تمام مرامه بكلامه بنحو يفهم المخاطب أيضا ماله الدخل في غرضه
وعدمه، والقدر المتيقن المزبور غير واف بهذه الجهة كما لا يخفى.
نعم على الفرض الثاني لا قصور في الأخذ بالمتيقن وعدم التعدي منها إلى
غيرها لاحتمال كون الخاص تمام المقصود وإن لم يفهم المخاطب أنه تمامه، وحينئذ
إضرار وجود المتيقن بالاطلاق مبني على عدم إحراز مقام البيان من المتكلم
بالنحو الأول، والا فمع احرازه من حال المتكلم لا مجال للاقتصار بالمتيقن في
باب المطلقات كما هو ظاهر.
كما أن الميزان في احراز مقدار المتيقنية بالاطلاق أيضا تابع مقدار البيان.
فإن كان في مقام بيان تمام المرام الواصل إلى المكلف ولو من الخارج وإن
لم يفهم أنه تمام مرامه فلازمه إضرار وجود المتيقن مطلقا ولو من الخارج
بالاطلاق.
وأما إن كان في مقام تمام المرام الواصل إلى المكلف بكلام به التخاطب
فلا يضر بالاطلاق الا المتيقن من قبل الكلام المزبور ولا يضر حينئذ وجود مطلق
المتيقن في منع الاطلاق كما هو ظاهر.
والى المسلك الأخير سلك أستاذنا في المقام كما أن ظاهر بقية الكلمات هو
الأول، وأردأ الوجوه أوسطها إذ لم أر من توهم إضرار مطلق المتيقنية باطلاق
اللفظ كما لا يخفى، فافهم وتدبر.
ومنها: إنه كما يكون الاطلاق بتوسط الحكم العقلي قد أشرنا سابقا بأن
التقييد أيضا إنما هو بتوسيط حكم عقلي، وذلك لأن ذكر قيد في الكلام عند عدم
508

فائدة أخرى له من وروده مورد الغالب أو كشدة الاهتمام ببيان دخول هذا الفرد
في المقصود أو غير ذلك لا محيص حينئذ من الكشف عن دخله في غرضه والا يلزم
لغوية ذكره في الكلام.
بل وبهذا البيان يلتزم بأن كل عنوان مأخوذ في موضوع لابد وأن يكون
بخصوصيته دخيلا في المقصود والا يلزم لغوية ذكره بخصوصيته. فكما أن اطلاق
اللفظ مع عدم ذكر قيد يقتضي عدم دخل شئ في المقصود أزيد من مفاد
الاطلاق كذلك كل قيد إذا ورد في الكلام ولم يكن لذكره فائدة أخرى لا محيص
من الحكم بدخله بخصوصيته في الغرض فرارا عن اللغوية.
ولئن شئت قلت: بأن المقدمات السابقة من كون المتكلم في مقام بيان
مرامه بكلامه كما يقتضي مع عدم القرينة على التقييد إرادة الاطلاق وبه أيضا
يصير للفظ وجهة وظهور فيه، كذلك يستفاد من مقام بيانه عند عدم قرينة على
بيان فائدة أخرى لذكر القيد كون القيد بخصوصه دخيلا في المرام وبه أيضا
للفظ القيد وجه وظهور في التقييد، ولازمه أيضا كون هذا المفاد قطعيا عند قطعية
المقدمات وظنيا عند ثبوت المقدمات بالأصل الراجع إلى ظهور حال المتكلم في
كونه في مقام ذكر ماله دخل في غرضه في كلامه وهو المدرك في كون الأصل في
القيود المذكورة في الكلام هو القيدية إلى أن يعلم خلافه من قرائن خاصة.
بل قد أشرنا آنفا أيضا إلى أن هذه الجهة [هي] المدرك في كون الأصل
في كل عنوان مأخوذ في حيز الخطاب دخله بخصوصه في الخطاب سواءا كان
العنوان المزبور عنوانا لنفس الموضوع أو من قيوده أو قيود حكمه وبواسطة
ذلك ربما يستفاد انحصار العلة أو الموضوع به كيف، وعلى عدم الانحصار
يستحيل دخل خصوصية في موضوع حكم شخصي أو علته.
نعم حيث إن القضية لم تكن [ظاهرة] في أزيد من تعلق شخص الحكم
لا يكون له مفهوم وحينئذ قصور القضية عن أن يكون له المفهوم المصطلح إنما
509

هو لقصوره عن مقام تعليق سنخ الحكم على العنوان الخاص لا من جهة قصور
العنوان عن إفادة دخل الخصوصية في موضوع الخطاب، كيف، ولازمه عدم
اقتضاء انتفائه انتفاء شخص الحكم أيضا، مع أن هذا المقدار عندهم كالنار على
المنار، ولقد أشرنا إلى هذا البيان في مقدمة المفاهيم فراجع وتدبر.
510

المقالة الأربعون
أقسام المطلق والمقيد
511

[...]
512

[المقالة الأربعون]
[في أقسام المطلق والمقيد]
بعد ما اتضح شرح الاطلاق والتقييد نقول: إنه إذا ورد مطلق ومقيد.
فتارة يكونان في كلام واحد.
وأخرى في كلامين.
فعلى كل تقدير، تارة يكونان مثبتين.
وأخرى نافيين.
وثالثة مختلفين.
وعلى التقديرين الأوليين تارة يقطع [بوحدة] المطلوب.
وأخرى يحتمل تعدد المطلوب. فهذه الصور ينبغي طي البحث في جميعها.
أما الصورة الأولى من فرضهما في كلام واحد مع كونهما مثبتين مع فرض
وحدة المطلوب فيهما. فالظاهر عدم قصور في دليل التقييد ووروده على الاطلاق
لكونه بيانا واردا على ظهور المطلق المنوط بعدم بيان على التقييد.
وتوهم أن ظهور القيدية أيضا جاء من قبل حكم العقل بدخل
الخصوصية عند عدم قرينة على القائها بوجه من الوجوه ويكفي الاطلاق في
لفظه لالقاء هذه الخصوصية فيرتفع التقييد بل وظهور دليله فيه،
مدفوع بأنه، ظهور دليل التقييد في الخصوصية منوط بعدم كون ذكر
513

القيد لبيان المرام وفي هذه الجهة لا يصلح الاطلاق لرفعه، بل وظهور دليل
الاطلاق منوط بعدمه فأصالة البيان إذا [كانت وافية للبيانية كان]
الدليل
المزبور واردا على ظهور الاطلاق قهرا. هذا إذا كان من باب وحدة المطلوب.
وأما مع احتمال تعدده فلا شبهة في أن ظهور دليل التقييد في دخل
الخصوصية غير مضاد مع اطلاق دليله فلا يصلح للبيانية بالإضافة إلى اطلاق
دليله الا في فرض ظهور دليل التقييد في دخل الخصوصية بالنسبة إلى جميع
مراتب الحكم ولكنه يرجع بالأخرة إلى عدم تعدد المطلوب بين الاطلاق والتقييد.
نعم يجمع ذلك مع الاحتمال المزبور فيحكم بالتقييد أيضا مثل صورة
وحدته.
[ومما] ذكرنا ظهر حال النافيين أيضا بجميع شقوقه إذ ما ذكرنا في المثبتين
جار في النافيين أيضا لولا دعوى بعد وحدة المطلوب في النافيين، بل الظاهر من
دليلهما انتفاء الحكم عن المطلق والمقيد وفي مثله لا مقتضي للتقييد أصلا.
كما أن الظاهر من دليل المستحبات النفسية أيضا هو تعدد المطلوب ولذا
ليس بناؤهم على التقييد في المستحبات فراجع.
وأما في صورة اختلافهما فالظاهر فيه أيضا تقييد الاطلاق بلا مجئ
التفصيل المزبور عن فرض وحدة المطلوب وعدمها.
ثم إن ذلك كله عند اتصال القرينة بالكلام. وأما عند انفصاله فالظاهر
استقرار ظهور دليل المطلق في اطلاقه لما عرفت من أن الغالب كون المتكلم في
مقام بيان مرامه بكلام به التخاطب ومع عدم اقتران هذا الكلام [بالقرينة] على
التقييد يكفي ذلك المقدار في ظهور دليل المطلق في الاطلاق ولازمه قابلية
معارضته مع ظهور دليل المقيد في كلام آخر بلا صلاحية ورود دليل التقييد على
الاطلاق فيعامل معهما حينئذ معاملة الظاهرين الوضعيين من الأخذ بأقوى
الظهورين، ولقد أشرنا إلى هذه الجهة في مقدمة المرام بنحو ظهر وجه من توهم
514

ورود دليل القيد على المطلق ولو كانا في كلامين ولكن اثبات المقدمة المنتجة لمثل
هذه الجهة دونه خرط القتاد.
كما أن توهم مزاحمة قرينة التقييد مع الاطلاق حتى في كلام واحد أيضا
مبني على مقدمة لا مجال للالتزام بمثلها. ولذا نقول:
إن مقتضى التحقيق المصير إلى التفصيل بين كونهما في كلام واحد فيكون
ظهور دليل القيد واردا على الاطلاق أو كونهما في كلامين [فيكونان] من باب
تعارض الظاهرين المستقرين المستتبع للأخذ بأقواهما إن كان، وإلا [فيكونا]
بحكم المجمل كما هو ظاهر لمن تدبر.
وحينئذ فلتميز الأقوائية لم يكن ضابطة كلية [تكون] أصلا في المقام بل
منوط بخصوصيات المورد بمناسبات مغروسة في الأذهان بنحو يكون نظر الفقيه
متبعا فيها. والله العالم بأحكامه.
515

[...]
516

خاتمة
في المجمل والمبين
517

[...]
518

خاتمة
في (المجمل والمبين)
والظاهر من كلماتهم تخصيص المجمل بما لا يتضح دلالته قبال المبين.
وذلك صحيح في المجملات الذاتية وكذلك العرضية الناشئة عن اتصال الكلام
بما يصلح للقرينة. وأما الظواهر التي أريد خلافها بقرينة منفصلة عنه ففي
صدق هذا التعريف عليه نظر.
اللهم [الا] أن يقال بأن هذه بحكم المجمل لا أنه مجمل حقيقة.
وعلى اي حال في قبال ذلك يعرف حقيقة المبين وان المدار فيه أيضا على
ظهور اللفظ بنحو يصدق عليه وضوح الدلالة ولو لم يبلغ إلى حد النصوصية
[غير] المحتمل إرادة خلافه من اللفظ كما لا يخفى.
ثم إن لتميز مصاديق أحدهما عن الآخر يكفيه الوجدان السليم والذوق
المستقيم. نعم في بعض المقامات ربما يقع الكلام في ظهور اللفظ في معنى أو عدم
ظهوره فيه، وهذه الجهة أيضا [لا تكون] تحت ضبط بل أمر هذه الجهة منوط
بتشخيص المجتهد في كل مقام.
519