الكتاب: عدة الأصول (ط.ج)
المؤلف: الشيخ الطوسي
الجزء: ١
الوفاة: ٤٦٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ذي الحجة ١٤١٧ - ١٣٧٦ ش
المطبعة: ستارة - قم
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

العدة
في أصول الفقه
تأليف
شيخ الطائفة الأمام
أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (رحمه الله)
385 - 460 ه‍
الجزء الأول
تحقيق
محمد رضا الأنصاري القمي
تعريف الكتاب 1

طبع هذا الكتاب
على نفقة المحسن الكريم الحاج محمد تقي علاقبنديان
وفقه الله تعالى لكل خير
العدة
في أصول الفقه
لشيخ الطائفة الامام محمد بن الحسن الطوسي
تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمي
الطبعة الأولى: ذو الحجة 1417 هق،
1376 ه‍ ش، 3000 نسخة
تنضيد الحروف: قسم الكمبيوتر لمؤسسة البعثة
الفلم والألواح الحساسة: تيزهوش - قم
المطبعة: ستاره - قم.
حقوق الطبع محفوظة للمحقق
تعريف الكتاب 2

العدة
في أصول الفقه
مقدمة 1

مقدمة التحقيق
دراسة عن حياة
الشيخ الطوسي
وآثاره
مقدمة 4

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين
محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين
الشيخ الطوسي - حياته وآثاره (1)
هو أبو جعفر، محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي، ولد
بمدينة " طوس " في شهر رمضان عام 385 ه‍، وكانت طوس في تلك
الأزمنة إحدى مراكز العلم المهمة في خراسان. ونسبته إلى طوس ترجع
إلى ولادته - على الأرجح - بها وقضاء عقدين من عمره فيها.

(1) انظر - في ترجمة - كتبا كثيرة من أهمها:
الفهرست للطوسي: 161 - 159، رجال النجاشي: 403 رقم 1068، التبيان في تفسير القرآن
للطوسي: ج 1 / المقدمة، رجال ابن داود: 1 / 306، الكنى والألقاب: 2 / 363، كتاب الغيبة
للطوسي: 358، الفوائد الرضوية: 472، تحفة الأحباب: 325، عيون الرجال: 74، خلاصة
الأقوال: 72، مقابس الأنوار: 4، رجال بحر العلوم: 4 / 95، خاتمة المستدرك: 505، تنقيح المقال:
3 / 104، منهج المقال: 292، لؤلؤة البحرين: 593، سفينة النجف 2 / 23، وصول الأخيار: 71،
تلخيص الشافي: المقدمة / 6، ريحانة الأدب: 2 / 400، مجالس المؤمنين: 201، الأربعين حديثا
للشهيد الأول: 190 - 187 - 182، الشيخ الطوسي لحسن عيسى الحكيم، ميراث اسلامي إيران:
2 / 362 - 412، الذريعة: 2 / 14، 269، 486، و 3 / 328 و 5 / 145، اتقان المقال، نخبة المقال
للبروجردي، كشف الحجب: 35، 43، 196، 265، 310، 313، 332، 357، 383، 534،
539، 546، 581، 585، الامام الصادق والمذاهب الأربعة: 2 / 317، مجلة النجف: عدد 5 / 3،
مجلة الايمان: عدد 3 و 4 / 135، مجلة رسالة الاسلام: عدد 1 و 2 / 86، تأسيس الشيعة لعلوم
الاسلام: 304، الذكرى الألفية للشيخ الطوسي: ج 1 و 2 و 3، تلخيص مجمع الآداب: 4 ق 2
ص 815، معجم المؤلفين: 9 / 202، طبقات الشافعية: 3 / 51، البداية والنهاية: 12 / 104، النجوم
الزاهرة: 5 / 82، لسان الميزان: 5 / 135، الوافي بالوفيات: 2 / 349، طبقات المفسرين للسيوطي:
29، كشف الظنون: 452، 1581، 1973، ايضاح المكنون: 1 223، 318، 341، 604 و 2 / 95،
212، 266، 276، 286، 335، 424، 454، 573، 722، هدية العارفين: 2 / 72، دائرة المعارف
الاسلامية: 15 / 376، عقيدة الشيعة: 285، دائرة المعارف للبستاني: 4 / 240، المنتظم: 8 / 173،
الكامل لابن الأثير: 10 / 58، تاريخ الاسلام للذهبي: القرن الخامس، طبقات الشافعية للسبكي:
4 / 127 - 126، طبقات المفسرين للداودي: 2 / 126، شرح اللمع: 1 / 28، الاعلام للزركلي:
6 / 85 - 84، سير اعلام النبلاء: 18 / 334.
مقدمة 5

وتعتبر الشيعة الشيخ الطوسي - رحمه الله - أعظم شخصية علمية
بعد الأئمة المعصومين - عليهم السلام - وهو من أعلام الفكر الإسلامي في
أزهى عصوره وأبهاها، ومن النوابغ الذين أحاطوا بمجموعة من العلوم بلغ
منتهاها وغايتها، وقد أقر له الجميع بالسبق، والقدم، والفضل، وعلو
الرتبة، والإمامة، والزعامة، ولا تطلق صفة (شيخ الطائفة) بل مطلق
(الشيخ) الا عليه، وقد وصفه أعلام الإمامية بنعوت شتى وصفات قل أن
اجتمعت في غيره، فقيل فيه: إنه (شيخ الإمامية ووجههم ورئيس
الطائفة)، و (امام وقته)، وشيخ عصره، رئيس هذه الطائفة وعمدتها، بل
رئيس العلماء كافة)، و (شيخ الطائفة، ورئيس المذهب، إمام في الفقه
والحديث)، و (رئيس المذهب، شيخ الطائفة، قدوة الفرقة الناجية، وباني
مباني كل علم وعمل)، و (إمام الفقه والحديث والتفسير والكلام، لا نظير
له في كل علماء الاسلام في كل فنون العلم، وصنف كتبا لم يسبقه أحد
مقدمة 6

في الاسلام إلى مثلها)، و (وكان في زمانه المجمع على فضله، وإليه الرحلة
من جميع البلاد).
نبدأ حديثنا عن الشيخ الطوسي:
أولا: عن حياته، وذلك عن ثلاث مراحل هامة في حياته وهي:
1 - فترة خراسان
2 - فترة إقامته ببغداد: وفي هذه المرحلة نتحدث عن مشايخه، وزعامته،
والأوضاع الاجتماعية والسياسية ببغداد في
النصف الأول من القرن الخامس الهجري، وعن
خصائص مدرسته ببغداد.
3 - الشيخ الطوسي في النجف الأشرف
4 - تلاميذ الشيخ الطوسي
ثانيا: تراث الشيخ الطوسي
ثالثا: دراسة حول كتاب (العدة في أصول الفقه)
1 - دور الشيعة في تأسيس علم أصول الفقه
2 - مراحل تطور علم أصول الفقه عند الشيعة الامامية
3 - الشيخ الطوسي ودوره في تطوير علم أصول الفقه
4 - منهج الشيخ الطوسي في تدوين كتاب (العدة في أصول الفقه)
5 - مخطوطات كتاب (العدة في أصول الفقه)
رابعا: عملنا في التحقيق
مقدمة 7

أولا: حياة الشيخ الطوسي - رحمه الله -
1 - الطوسي في خراسان
لا نمتلك معلومات تفصيلية عن حياة الطوسي في الفترة التي عاش
فيها في خراسان، بل الطوسي نفسه لم يتعرض إلى هذه الفترة من حياته -
والتي دامت مدة ثلاث وعشرين سنة - سوى أنه أشار لسنة دخوله إلى
بغداد بقوله: (... من وقت دخولي إلى بغداد وهي سنة ثمان وأربعمائة) (1)،
وسوى هذه الإشارة لا نعرف كيف قضى الطوسي حياته خلال مدة ثلاث
وعشرين سنة، ولا شك أنه - وبمقتضى القاعدة - قضاها في طوس وسائر
مدن خراسان، ذلك الإقليم الواسع الذي أنجب كثيرا من المفكرين
وينسب اليه خلق كثير من العلماء في كل فن، ولم يتعرض المترجمون
لحياة الطوسي في هذه الفترة إلا إلى إشارة عابرة، واحتملوا أنه درس فيها
علوم اللغة والأدب والحديث وعلم الكلام وشيئا من الفقه والأصول على

(1) كتاب الغيبة: 358.
مقدمة 9

مشايخ خراسان، وأول من تنبه إلى أهمية هذه الفترة هو العلامة السيد
عبد العزيز الطباطبائي - رحمه الله - فإنه تتبع مشايخ الطوسي فعثر على
ثلاثة منهم تتملذ عليهم الشيخ الطوسي في نيشابور ومشهد وطوس (1).
وهكذا ظهر أن الشيخ قضى فترة من حياته العلمية في نيسابور وطوس،
وقد كانتا حاضرتين من حواضر العلم المهمة في خراسان. وتبرز أهمية
حضور الطوسي في نيسابور ومدى تلقيه العلم بها أنه حينما هاجر إلى
بغداد كان يملك قسطا وافرا من العلوم الاسلامية بحيث مكنه من
الجلوس في مجالس العلم المهمة ببغداد. وهؤلاء المشايخ الثلاثة هم:
1 - أبو حازم النيسابوري (؟ - 417 ه‍):
هو أبو حازم، عمر بن أحمد بن إبراهيم بن عبدويه بن سدوس بن
علي بن عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، العبدري، الهذلي،
الأعرج النيسابوري، الأشعري، الشافعي. وصفه الخطيب البغدادي بقوله:
(قدم بغداد قديما) (سنة تسع وثمانين وثلاثمائة) وحدت بها فسمع منه...
وبقى أبو حازم حيا حتى لقيته بنيسابور وكتبت عنه الكثير، وكان ثقة،
صادقا، عازما حافظا يسمع الناس بإفادته، ويكتبون بانتخابه...) (2). وقد
أطراه آخرون أمثال: ابن ماكولا (في الإكمال 2: 280) وعبد الغافر (في

(1) أنظر إلى مقالة (شخصيت علمي ومشايخ شيخ طوسي) بالفارسية في مجموعة (ميراث اسلامي
إيران) 2: 380 - 377.
(2) تاريخ بغداد: 11 / 272.
مقدمة 10

السياق بذيل تاريخ نيسابور) والذهبي (في تذكرة الحفاظ 3 / 1072).
وصرح الشيخ الطوسي بتلمذته عليه في كتاب (الفهرست) رقم 852
حينما قال: " أبو منصور الصرام، من جملة المتكلمين من أهل نيسابور،
وكان رئيسا مقدما، وله كتب كثيرة منها: كتاب في الأصول سماه (بيان
الدين)... قرأت على أبي حازم النيسابوري أكثر كتاب (بيان الدين)... ".
ويستفاد من أقوال هؤلاء أن أبا حازم حج سنة 387 ه‍ ودخل بغداد سنة
389 ه‍ ومكث بها قليلا وأملى أحاديثه على جماعة، ثم عاد إلى مسقط
رأسه نيسابور وبقى فيها حتى وفاته سنة 417 ه‍، فلولا حظنا عودة أبي
حازم إلى نيسابور سنة 389 ه‍ وإقامته بها إلى حين وفاته سنة 417
ه‍ وتصريح الشيخ انه قرأ عليه كتاب (بيان الدين) يثبت لدينا ان الطوسي
لم يلتقى به الا في نيسابور ولم يأخذ العلم منه الا في مجالسه بهذه
الحاضرة وذلك في الفترة الممتدة من سنة 390 ه‍ لغاية 408 ه‍ حيث ترك
الشيخ خراسان متوجها إلى بغداد.
2 - المقري النيسابوري (427 -؟):
هو أبو محمد عبد الحميد بن محمد المقري النيسابوري المتوفى
سنة 427 ه‍، عده العلامة الحلي في اجازته لبني زهرة من مشايخ الطوسي،
لكن لم يرد له ذكر في كتب الطوسي، ووصفه عبد الغافر الفارسي في
(السياق بذيل تاريخ نيسابور) بقوله: " عبد الحميد بن محمد بن أحمد بن
جعفر المشهدي، أبو محمد، مستور، قال الحسكاني: قرأت عليه
بالمشهد ونيسابور وكان يحضر أحيانا ويخرج، توفي في سنة سبع
مقدمة 11

وعشرين وأربعمائة ". ولعل الشيخ الطوسي قرأ عليه في نيسابور أو طوس
أو مشهد الرضا - عليه السلام -.
3 - أبو زكريا محمد بن سليمان الحمراني:
تعرض الطوسي له في فهرسته حيث ذكره في عداد مشايخه وذلك
في نهاية ترجمته للشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه
القمي قال: " أخبرنا بجميع كتبه ورواياته جماعة من أصحابنا منهم:
الشيخ المفيد، والحسين بن عبيد الله، وأبو الحسين جعفر بن الحسكة
القمي، وأبو زكريا محمد بن سليمان الحمراني، كلهم عنه " وقد اختلف
في ضبط لقبه: الحمراني، الحراني، الحمداني. ثم ان العلامة الحلي حينما
عدد مشايخ الطوسي في إجازته لبني زهرة قال عن الحمراني من مشايخ
الطوسي في فترة ما قبل هجرته إلى بغداد، ولم يرد ذكر وترجمة له في
كتب التراجم سوى ما ذكره ابن بشكوال في كتاب (الصلة) عن تاجر قدم
الأندلس سنة 423 ه‍ وهو محمد بن سليمان بن محمود الخولاني ثم روي
عن ابن الخزرج في (تاريخ الأندلس) وصفه: أنه عالم، حافظ، ثقة، شاعر،
تلقى الحديث عن المشايخ بالعراق وخراسان، عالي السند، وأجاز ابن
الخزرج برواية أحاديثه سنة 423 ه‍ وكان عمره آنذاك أربع وسبعون عاما.
ويحتمل اتحاد الرجلين وأن لقب الخولاني قد حرف في النسخ إلى
الحمراني والحراني والحمداني، فيكون الشيخ قد تلقى عند الحديث
والعلم بخراسان أو في العراق.
مقدمة 12

وبعد ان نال الطوسي قسطا وافرا من العلوم في الحواضر العلمية
بخراسان، اشتاقت نفسه إلى طلب المزيد فباتت خراسان بحواضرها
ومشايخها وفقهائها ومحدثيها ومتكلميها عاجزة عن اشباع رغباته
العلمية، فاتجهت أنظاره صوب العراق وعاصمتها مدينة السلام بغداد.
ولعل السبب الرئيسي وراء هجرة الشيخ الطوسي إلى بغداد هو الأجواء
التي كانت تحيط بخراسان وما وراء النهر في تلك الفترة الزمنية، فإن هذه
المنطقة المهمة والكبيرة، بمدنها العامرة وحواضرها العلمية كانت من
المعاقل الشيعية المهمة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، فإنه برغم
وجود أكثرية سنية في المنطقة (1) الا ان الشيعة كانت تتمتع بنفوذ وشأن
قويين وكانت دعاة الشيعة منتشرة في مدن خراسان وقراها تدعو الناس
إلى مذهب أهل البيت - عليهم السلام - وكانت البيوتات والعوائل العلوية
منتشرة في نيسابور وقراها وخاصة بمشهد الرضا - عليه السلام - وكانت
موضع احترام الجميع، كما أن مثوى الإمام علي بن موسى الرضا - عليه
السلام - بطوس كان له تأثير معنوي قوي على انتشار الولاء والحب لآل
البيت عليهم السلام، فقد صار قبر الامام مزارا وقصده المسلمون - سنة
وشيعة - للتبرك وقضاء الحوائج، فهذا أبو حاتم محمد بن حبان البستي،
من أعلام السنة ومن أئمة الجرح والتعديل حينما يتعرض لترجمة الامام
الرضا - عليه السلام - يقول: " وقبره بسناباد خارج النوقان، مشهور يزار

(1) المذاهب التي كانت اتباعها منتشرة في طوس وأطرافها، بل في عامة خراسان هي المذاهب
الشيعية الثلاث أي الإمامية، والزيدية، والإسماعيلية، ومن المذاهب السنية الأحناف، والشوافع،
والظاهر عدم وجود قرائن تشير إلى وجود الحنابلة والمالكية في طوس. نعم توجد دلائل على
نشاط الكرامية ووجودها في هذه المنطقة.
مقدمة 13

بجنب قبر الرشيد، قد زرته مرارا كثيرة، وما حلت بي شدة في وقت مقامي
بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات الله على جده وعليه
ودعوت الله إزالتها عني، إلا استجيب لي وزالت عني تلك الشدة، وهذا
شيء جربته مرارا فوجدته كذلك، أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل
بيته، صلى الله عليه وعليهم أجمعين " (1). وأيضا يمكن معرفة مدى نفوذ
الشيعة وانتشارها ونشاطها وحريتها في ابداء الرأي في هذه المنطقة إذا
لاحظنا المراسلات المتبادلة بين شيعة المنطقة ورؤوس الإمامية
وأعلامها ببغداد وقم والري، فالشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين
ابن بابويه القمي له رسالة كتبها جوابا على سؤال وجه اليه من أهالي
نيسابور، كما يجب ملاحظة أن كتاب (من لا يحضره الفقيه) وهو أحد
الأصول الأربعة التي عليها اعتماد الشيعة في استنباط الأحكام قد ألفها
الصدوق بما وراء النهر، فإنه حينما سافر إلى تلك المنطقة سنة 368
ه‍ طلب منه شريف الدين أبو عبد الله محمد بن حسين بن إسحاق المعروف
ب‍ نعمة أن يصف له كتابا في الحلال والحرام، وله أيضا كتاب (كمال
الدين وتمام النعمة) ألفها لإزالة بعض الشبهات حول المهدوية والتي
أثيرت عند الشيعة بما وراء النهر. وللشيخ المفيد والسيد المرتضى أيضا
مثل هذه الرسائل الجوابية (2).

(1) الثقات: 8 / 457.
(2) روى النجاشي في رجاله (الرجال: 48 رقم 100) في ترجمة الحسن بن علي بن أبي عقيل
العماني الحذاء: أنه " فقيه، متكلم، ثقة، له كتاب في الفقه والكلام منها: كتاب (المتمسك بحبل
آل الرسول (ص) كتاب مشهور في الطائفة. وقيل ما ورد الحاج من خراسان الا طلب واشترى منه
نسخ) ".
مقدمة 14

لكن وقعت الإنتكاسة الخطيرة في منتصف القرن الرابع وذلك
حينما استولى محمود الغزنوي على خراسان وما وراء النهر وبسط نفوذه
على جميع المنطقة، ولم يقنع بهذا المقدار بل أراد دعم موقفه أمام
الخصوم فرفع شعار المناصرة من أهل السنة، فاشتد الأمر على الجميع
عدا من كان معتقدا بمذاهب الدولة، وهكذا مرت فترة قاسية على الذين
كانوا يدرسون العلوم العقلية ومن كان لا يدين بمذاهب أهل السنة وخاصة
الشيعة، وقد بالغ السلطان محمود الغزنوي في قتلهم (ونفى خلقا كثيرا
من المعتزلة، والرافضة، والإسماعيلية، والجهمية، والمشبهة، وأمر
بلعنهم على المنابر) (1). وأنتهز فقهاء أهل السنة - كعادتهم في موالاة سلاطين الجور - الفرصة فأفتوا بالقتل والحرق والنفي للفلاسفة
والمتكلمين والعقلانيين والشيعة والمعتزلة، وحتى المساجد لم تسلم من
اضطهادهم، روى الحافظ عبد الغافر الفارسي في (ذيل تاريخ نيسابور -
المنتخب من السياق: 13) في ترجمة أبي بكر الواعظ أنه كان: " زعيم
أصحاب أبي عبد الله ورئيسهم، صاحب القول في وقته عند السلطان،
بسيط الجاه، كان مقربا عند الأمير يمين الدولة محمود، دعا إلى السنة
وهدم المسجد الجديد الذي بناه الروافض " (2)!!، وفي عام 420 ه‍ قام

(1) شذرات الذهب: 195، الغدير في الكتاب والسنة 4 / 276.
(2) ومن مهازل الدهر أن يعد هذا الوحش الكاسر الذي ارتكب مثل هذه الجرائم - بل أضعاف
ذلك وأخفاها المؤرخون - فقيها - محدثا - فاضلا - عالما - كما يصفه أهل السنة - يقول الحافظ
عبد الغافر في (تاريخ نيسابور - المنتخب من السياق: 680): " محمود بن سبكتكين الأمير شمس
الدولة وأمين الملة، والي خراسان أربعين سنة، رجل على الجد، ميمون الاسم، مبارك الدولة
والنوبة على الرعية، صادق النية في اعلاء كلمة الله، المظفر في الغزوات والفتوح،... وحفظت
حركاته وسكناته وأيامه وأحواله لحظة لحظة وكانت مستغرقة في الخيرات ومصالح الرعية...
قدم نيسابور قدمات وظهرت بيمين دولته آثار حسنة ورسوم مرضية، وكان مجلسه مورد العلماء
ومقصد الأئمة القضاة... ولست أشك انه قد توسل المتوسلون إلى مجلسه وتقربوا اليه بالحديث
وسمعوا الروايات "!!
مقدمة 15

السلطان محمود الغزنوي بحملة ضارية أخرى " وحول من الكتب
خمسون حملا ما خلا كتب المعتزلة والفلاسفة والروافض فإنها أحرقت
تحت جذوع المصلوبين إذ كان أصول البدع " (1).
ففي أثناء هذه المحنة عزم الشيخ الطوسي مغادرة خراسان فيمم
وجهه صوب مدينة السلام، تلك المدينة التي كانت مهبط العلماء،
ومهوى الطلاب، وموئل الفقيه والمحدث والفيلسوف والمتكلم، بل
الدهري والزنديق والملحد، حيث مجالس العلم والاملاء والاستملاء
والمناظرة عامرة، كل ذلك في ظلال الدولة البويهية، تلك الدولة الشيعية
التي إستضافت وبرحابة الصدر جميع المذاهب والفرق والنحل وحتى
تلك التي كانت تعادي الشيعة بل وتكفرها، فسلكوا سبيلا وسطا تجاه
جميع الميول والاتجاهات والفرق، فلم يتحزبوا لفئة معينة على حساب
فئة أخرى، ولم ينحازوا إلى رأي خاص بل تركوا الناس أحرارا في
معتقداتهم وآرائهم، وهكذا بسطوا الأمن في تلك الربوع الشاسعة التي
حكموها قرنا من الزمن، وسوف نعود إلى الحديث عنهم حين استعراضنا
للأوضاع الاجتماعية ببغداد في القرن الخامس الهجري.

(1) المنتظم لابن الجوزي 8: 40.
مقدمة 16

2 - الشيخ الطوسي في بغداد
غادر الطوسي خراسان نهائيا والى غير رجعة واتجه صوب
العراق (1) فوصل إلى بغداد سنة 408 ه‍، وتعتبر فترة اقامته ببغداد فترة هامة
له فقد دخلها شابا مغمورا في بدايات العقد الثاني من عمره وخرج منها شيخا بعد أربعين سنة، وهو حينذاك زعيم الشيعة وشيخها المقدم
وأمامها المطاع، وبعد ان ملأ الخافقين صيته وشهرته ومؤلفاته.
ارتبط الشيخ الطوسي في بغداد بمجموعة كبيرة من الأعلام، فحضر

(1) بالرغم من ان مدينتي قم والري كانتا تعدان من الحواضر العلمية الشيعية المهمة آنذاك وفيهما
الفقهاء والمحدثون الكبار وكانت الزعامة الدينية عند الشيعة متمركزة في قم، الا انه خلال
سنوات هجرة الشيخ الطوسي من خراسان إلى العراق كانت قد انتقلت الزعامة الدينية إلى بغداد
وذلك اثر وفاة شيخ المحدثين بقم أي الشيخ الصدوق علي بن بابويه القمي واعتلاء نجم الشيخ
المفيد زعيما للطائفة، هذا فضلا عن ان هاتين الحاضرتين - وخاصة قم - كانت موئل المحدثين
والفقهاء فقط، واما سحر بغداد وأجوائها العلمية وجامعيتها من حيث احتضانها لجميع أرباب
المذاهب الكلامية والفرق الدينية كانت تجذب إليها طلاب العلم، ولهذه الأسباب وغيرها اختار
الطوسي الهجرة إلى بغداد بدل ان يتوجه صوب قم أو الري.
مقدمة 17

مجالسهم واستمع منهم العلم وسوف نعدد أسماءهم لا حقا، لكنه ارتبط
باثنين من هؤلاء ارتباطا وثيقا فلازمهما واستفاد منهما كثيرا وكان لهما
تأثيرات بعيدة المدى في تكفير الشيخ - وإن فاقهما الشيخ لا حقا - وهما
الشيخ محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي المشهور بالمفيد
أولا، ثم الشريف المرتضى ثانيا، فحضر الطوسي أولا مجالس المفيد
(وهو يومذاك شيخ متكلمي الامامية وفقهائها وانتهت رئاستهم اليه في
وقته في العلم) مدة خمس سنوات (413 - 408 ه‍) فظهرت خلال مدة قليلة
فضائله وملكاته وشرع في تأليف كتاب (تهذيب الاحكام) يشرح فيه
كتاب (المقنعة) لأستاذه الشيخ المفيد، وقد أكثر في شرحه من عبارة (قال
الشيخ أيده الله تعالى) ويقصد به الشيخ المفيد حيث كان لا يزال حيا
وتوفي سنة 413 ه‍ وقبل أن يكمل الشيخ تأليفه، وهذا الكتاب أحد
الأصول الأربعة التي يرجع إليها المجتهدون من الامامية لإستنباط
الأحكام الشرعية. وبعد وفاة الشيخ المفيد ارتبط الطوسي بخليفة المفيد
في الزعامة وأبرز تلاميذه أي الشريف المرتضى، وكانت للمرتضى منزلة
اجتماعية راقية عند عامة الناس والدولة، فقد كان نقيب الطالبيين، وأمير
الحاج، وقاضي القضاة، ومتولي ديوان المظالم، هذا فضلا عن علمه الذي
لم يدانه فيه أحد في زمانه، وقيل عنه: إنه كان أكثر أهل زمانه أدبا وفضلا.
وأما ثروته رزقا كل حسب مرتبته العلمية، فكان للشيخ الطوسي أيام قراءته
عليه كل شهر اثنا عشر دينارا. وخلال فترة تلمذة الطوسي على الشريف
أنجز تلخيص كتاب (الشافي في الإمامة) للشريف المرتضى وحاول من
مقدمة 18

خلال تلخيصه تبسيط مسائل الشافي وتقريبه إلى أذهان المتعلمين
والتركيز على المسائل الهامة فيه، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب
الكلام عند الامامية.
1 - شيوخ الشيخ الطوسي - رحمه الله - (1)
تتلمذ الشيخ الطوسي خلال فترة عام 408 ه‍ ولغاية 436 ه‍ على
جماعة آخرين من الأعلام - فضلا عن المشايخ الثلاثة الذين سبق وان
تحدثنا عنهم - ونكتفي بذكر أسمائهم لورود تفاصيل حياتهم في أكثر
المصادر التي تحدثت عن حياة الشيخ الطوسي وهم:
4 - أحمد بن إبراهيم القزويني (؟)
5 - أحمد بن حسين بن علي الحضرمي، البيع المعروف بابن السكري
(362 - 450 ه‍)
6 - أحمد بن عبد الواحد بن عبدون البراز (؟ - 432 ه‍)
7 - أحمد بن محمد بن الصلت الأهوازي (324 0 409 ه‍)
8 - أبو الحسين جعفر بن حسين بن حسكة القمي (؟)

(1) اعتمدت في استخراج أسماء مشايخ الشيخ الطوسي على رسالة العلامة السيد عبد العزيز
الطباطبائي - رحمه الله - عن مشايخ الطوسي المخطوطة حيث وجدتها أكمل ترجمة عن حياة
هؤلاء المشايخ فقد دقق في ضبط الأسماء وأزال عنها الأخطاء والأوهام التي وقع فيها أكثر أئمة
التراجم من المتقدمين والمتأخرين كالشيخ النوري صاحب المستدرك، والطهراني وغيرهم، وقد
طبعت هذه الرسالة أخيرا في مجموعة الرسائل المسماة ب‍ (ميراث اسلامي إيران) ج 6:
412 - 361.
مقدمة 19

9 - أبو علي حسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان البراز، الأشعري،
الحنفي، المتكلم (339 - 426 ه‍)
10 - الشريف أبو محمد حسن بن أحمد العلوي (كان حيا سنة 425 ه‍)
11 - أبو علي حسن بن محمد بن إسماعيل بن أشناس البزاز المعروف بابن
أشناس وابن الحمامي (359 - 439 ه‍)
12 - أبو محمد حسن بن محمد بن يحيى السامرائي، المقري، المعروف
بالفحام وابن الفحام (؟ - 408 ه‍)
13 - أبو عبد الله حسين بن إبراهيم القزويني (؟)
14 - أبو عبد الله حسين بن إبراهيم بن علي، ابن حناط القمي (؟)
15 - أبو عبد الله حسين بن أحمد بن محمد البزاز المعروف بابن القادسي
البغدادي (356 - 447 ه‍)
16 - أبو عبد الله حسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائري البغدادي
(؟ 411 ه‍)
17 - أبو عبد الله حمويه بن علي بن حمويه البصري (؟)
18 - أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله المشهور بابن المهدي،
البزاز الفارسي (318 - 410 ه‍)
19 - أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المعروف بابن الحمامي المقري
(328 - 417 ه‍)
20 - أبو الحسين ابن جيد علي بن أحمد بن محمد الأشعري القمي (؟)
21 - أبو القاسم علي بن شبل بن أسد الوكيل (؟)
22 - أبو القاسم علي بن محسن بن علي بن محمد القاضي التنوخي
مقدمة 20

(365 - 447 ه‍)
23 - أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران (328 - 415 ه‍)
24 - أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن شاذان القمي
25 - أبو الفتح محمد بن أحمد بن محمد بن فارس المعروف بابن أبي
الفوارس البغدادي (338 - 412 ه‍)
26 - أبو الحسين محمد بن محمد بن علي المعروف بالعبيدلي النسابة
(338 - 437 ه‍)
27 - أبو الحسن محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد البزاز البغدادي
الحنفي (329 - 419 ه‍)
28 - أبو الفتح هلال بن محمد بن جعفر الكسكري البغدادي المعروف
بالحفار (322 - 414 ه‍)
29 - أبو الحسن محمد بن حسين المعروف بابن الصقال
30 - أبو طالب حسين بن علي بن محمد بن غرور الأنماطي
31 - أبو عبد الله أخو سروره
32 - أحمد بن علي بن أحمد النجاشي الأسدي (372 - 450 ه‍)
هذه الكوكبة اللامعة من الأعلام الذين قل نظيرهم كانوا مشايخ
الطوسي وبينهم الشيعي والسني، فاستفاد الطوسي من السني كما تعلم من
الشيعي، والمتتبع لتراث الشيخ الطوسي يلاحظ أثر هذا التنوع من
المعارف المتلقاة حيث استوعب معارف الطائفتين فأبرزها بجدارة فائقة
في إطار جديد. وأيضا يظهر لنا تتبع تراجم هؤلاء المشايخ أمرا آخر وهو
مقدمة 21

أن كل واحد من هؤلاء الرجال كان رأسا في فن من الفنون والمرجع
الوحيد في ذلك العلم من العلوم الاسلامية، وكان يعد قوله الحجة والقول
الفصل، فبينهم المتكلم البارع، والأديب اللامع، والأصولي، والمحدث،
والفقيه، والنحوي، والمقري والعالم بالقراءات والتفسير، والرجال
والأنساب وغيرها. ويكفي أن نتصفح " تفسير التبيان " أو " الأمالي " أو
" التهذيب " أو " العدة في أصول الفقه " لنقف على قدرة الشيخ وسعة
معلوماته وعمقها في مختلف العلوم الاسلامية.
وفي نهاية المطاف ينبغي أن نشير إلى أمرين وهما:
أولا: مجلس الشيخ المفيد وداره اللتان كان يحضرهما جماعة من
العلماء من مختلف المذاهب الاسلامية، ودار العلم لسابور بن أردشير
وخزانة كتبه حيث كانت متلقى رجال الفكر والأدب، ومنتدى العلماء
والباحثين يشدون إليها الرحال، واليها كان يتردد أبو العلاء المعري
وأضرابه، وأيضا دار علم الشريف المرتضى ومكتبته العامرة التي كانت
تحتوي على ثمانين ألف مجلد وأصحبت ملتقى العلماء والأدباء
والباحثين، كما أن دار الشريف المرتضى كانت دار علم ومناظرة. فقد
استفادة الشيخ الطوسي من جميع هذه المناهل العذبة فنمت قابلياته
وترعرعت وأنتجت مدرسة عظيمة خالدة على مر الدهور ألا وهي
مدرسة الشيخ الطوسي وتراثه الخالد.
ثانيا: نسب الذهبي في (سير اعلام النبلاء) (1)، والسبكي في
(طبقات الشافعية الكبري) الشيخ الطوسي إلى المذهب الشافعي، قال:

(1) سير اعلام النبلاء 180: 334.
مقدمة 22

" محمد بن الحسن بن علي، أبو جعفر الطوسي، فقيه الشيعة ومصنفهم،
كان ينتمى إلى المذهب الشافعي، قدم بغداد وتفقه على المذهب
الشافعي... ". أقول: إنهما أخطئا في هذه النسبة فان شهادتهما باطلة من جهات
عديدة:
1 - بشهادة الطوسي نفسه حيث يقول حين ترجمته لعثمان بن سعيد
العمري - وهو أحد النواب الأربعة للإمام الثاني عشر عليه السلام - إنه كان
يزور قبره مشاهرة منذ دخوله بغداد قادما من خراسان (1)، وكان العمري
من أعيان الإمامية وعمد الشيعة ببغداد، فمواظبة الشيخ علي زيارة قبره
مشاهرة من حين دخوله إلى بغداد سنة 408 ه‍ ولغاية عام نيف وثلاثين
وأربعمائة ينفى كونه شافعيا.
2 - فان جماعة من أعيان الإمامية ترجموا حياة الشيخ قبل الذهبي
والسبكي ولم ينسبوه للشافعية، كالنجاشي المتوفى سنة 450 ه‍ وغيره.
3 - صنف الشيخ الطوسي في بدايات دخوله إلى بغداد كتابه الشهير
(التهذيب) وهو شرح لكتاب شيخه المفيد في الفقه الإمامي واستمر في
شرحه له إلى عدة أعوام بعد وفات شيخه عام 413 ه‍ وهذا ينفى أن يكون
خلال هذه الفترة التي امتدت ما يقارب عشر سنوات شافعيا. هذا فضلا

يقول الطوسي في كتاب (الغيبة: 358) " قال محمد بن الحسن مصنف هذا الكتاب: رأيت قبره
في الموضع الذي ذكره وكان بني في وجهه حائط وبه محراب المسجد والى جنبه باب يدخل إلى
موضع القبر في بيت ضيق مظلم فكنا ندخل اليه ونزوره مشاهرة وكذلك من وقت دخولي بغداد
وهي سنة ثمان وأربعمائة إلى سنة نيف وثلاثين وربعمائة).
مقدمة 23

عن بقية مؤلفاته التي جميعها تشهد باماميته وتشيعه وأنه لا يمت
للشافعية بصلة لا من قريب ولا من بعيد.
نعم قد يكون السبكي صادقا في نسبته أنه (تفقه على المذهب
الشافعي) إذ كان من ديدن الشيخ معرفه جميع الآراء والمذاهب ولعله
حضر دروس بعض فقهاء الشافعية فظنه البعض أنه منها، كما يوجد في
عداد مشايخ الطوسي بعض أعيان الأحناف والشوافع ولعل وجودهم في
طبقة مشايخه سبب هذه النسبة الباطلة.
2 - زعامة الشيخ الطوسي
توفي الشريف المرتضى - رحمه الله - في ربيع الأول سنة 436 ه‍
فخلفه في زعامة الإمامية تلميذه الأقدم والأبرز الشيخ الطوسي. ولا يخفى
أن بلوغ الرجل إلى هذه الرتبة والمقام لا يتم إلا إذا كان يمتلك الصفات
اللازمة التي تؤهله لبلوغها، وقد أهلت المكانة العلمية التي كان الشيخ
يمتلكها أن يتصدر هذه الزعامة دون منازع، حيث مر على دخوله إلى
بغداد مدة ثمان وعشرين سنة وخلال هذه الفترة قد استفاد الشيخ واستزاد
من العلوم بحيث صار علما بارزا من أعلام مدينة السلام لا يجاريه أحد،
فمناظراته العلمية ومباحثه وآراؤه الجرئية ومؤلفاته القيمة كلها بالإضافة
إلى العناية الربانية كانت السبب في أن تشخص اليه الأبصار وتتبحه اليه
الأنظار حتى قبل وفات شيخه الشريف المرتضى، وحينما لبي الشريف -
رحمه الله - نداء ربه تفرغ الشيخ الطوسي للتدريس والتعليم وانشغل
بالأمور التي تخص الزعامة الدينية لطائفة مهمة وكبيرة، فأصبح " شيخ
مقدمة 24

الطائفة وعمدتها " والإمام الأعظم عند الشيعة الإمامية التي كانت منتشرة
في طول البلاد الاسلامية وعرضها بدءا بما وراء النهر وخراسان ومرورا
ببلاد الديلم وطبرستان وبلاد فارس وبلاد الجبل وآذربايجان وانتهاء
بالعراق والشام والحجاز واليمن ومصر، وهكذا صار الشيخ الطوسي
مرجع الإمامية على الاطلاق وبلا منازع، وقد دان الجميع له بالفضل
والعلم والقدم وسمو الرتبة والمكانة، فتقاطر عليه العلماء والطلاب
لحضور مجلسه حتى عد تلاميذه أكثر من ثلاثمائة من مختلف المذاهب
الاسلامية. ولا ريب أن شهرته العلمية المستفيضة وانعقاد الاجماع على
أهميته بالإضافة إلى تحرر الفكر الإمامي على عهده من التقية كانت وراء
هذا الاقبال الذي لا نظير له في مختلف الأوساط والمذاهب على حضور
درسه والاستماع إلى محاضراته والتعويل عليه في الأمور العلمية، وقد
منحه الخليفة العباسي القائم بأمر الله (497 - 422 ه‍) كرسي الكلام وكان هذا
الكرسي لا يعطى الا للقليلين من كبار العلماء ولرئيس علماء الوقت (1).
واستمرت زعامة الطوسي في بغداد مدة اثنتي عشرة سنة (436 لغاية
448 ه‍) وكان يتمتع بالمكانة التي كان يتمتع بها قبله استاذاه الشيخ المفيد
والشريف المرتضى، وإن فاقهما في بعض مراتب العلم والفضل والكمال.
وقد استطاع والطوسي خلال هذه الفترة أن يربى نخبة من التلاميذ وأن
يضيف إلى التراث الاسلامي مصنفات جديدة، هذا فضلا عن متابعته
لشؤون الشيعة في العراق وخارجها والاتصال بهم عبر وكلائه، والإجابة
عن أسئلتهم واستفتائاتهم، ولكن عادت المشكلة التي ترك من أجلها

(1) الشيخ الطوسي: 75 - 74.
مقدمة 25

الشيخ الطوسي خراسان إلى بغداد من جديد، إذا وصلت إلى بغداد موجة
جديدة من الأتراك الأجلاف المتعصبين الجهلة الذين لم يكن لهم هم
سوى السلب والنهب والاستيلاء على مقاليد السلطة، فأحرقوا في
طريقهم من خراسان وما وراء النهر إلى الري والعراق دور العلم
والمكتبات والمدارس وأعدموا الفلاسفة والمتكلمين والمثقفين
والعقلانيين، وأماتوا الثقافة الاسلامية الناهضة، وأحيوا الجهل والخرافة،
وزكوا نار العصبية والسلفية. وهذا الموجة كانت موجة السلاجقة وعلى
رأسهم طغرل بيك فهو بدأ حملته صوب غرب خراسان منذ سنة 429 ه‍
فاستولى على بلخ وجرجان وطبرستان والخوارزم، وخلال فترة سنة 433
ه‍ ولغاية 437 ه‍ مد نفوذه وسلطانه على بلاد الجبل وهمدان والري ودينور
وحلوان وأصفهان، وفي سنة 477 ه‍ (- 1055 م) دخل بغداد فاتحا، وهكذا
فتحت بدخول قواته صفحة جديدة من تاريخ مدينة السلام. وكان
المستهدف الأول من بين أهداف السلاجقة هم الشيعة ومدارسها ودور
علمها واعلامها، وفي سنة 448 ه‍ اشتدت الفتن وبلغ العنف والقتل
والإحراق ذروته، وبعد ان أحرقت دور الشيعة وبعض محالها وصلت
النوبة إلى الشيخ الطوسي فقد كبست داره ونهبت وأحرقت، كما وأحرقت
كتبه وآثاره ودفاتره، وأحرق كرسي التدريس الذي كان قد منحه إياه
الخليفة العباسي القائم بأمر الله، وقتل أبو عبد الله الجلاب (وهو من علماء
الشيعة) على باب دكانه. وكانت الخلافة العباسية وأجهزتها عاجزة عن
اقرار الأمن والنظام إذ كانت أنذاك في ضعيف وتدهور حيث فقدت هيبتها
وسلطانها على النفوس، هذا فضلا عن ان بعض السلفيين المتشددين الذين
مقدمة 26

كانوا يستفيد دون من الخلاف والفرقة بين عناصر المجتمع إذا هم
ما لمسوه من تقارب نسبي بين الطوائف المسلمة، فجندوا أنفسهم لتعكير
صفوا الأمن، وأظهروا كل ما تكنه نفوسهم من تعصب ضد خصومهم في
المذهب، فاعتدوا على رجال العلم، وعرضوا قسما مهما من التراث
الإسلامي إلى الضياع بإحراقهم المعاهد ودور الكتب والعلم (1).
3 - الأوضاع الاجتماعية والسياسية في بغداد في النصف الأول
من القرن الخامس الهجري
كان القرن الخامس الهجري عصر انهيار سياسي بالنسبة إلى بغداد
عاصمة الخلافة العباسية، ولكنه في الوقت ذاته كان عصر نضج فكري،
فقد احتضنت هذه المدينة نخبة صالحة من كبار المفكرين وشيوخ
المحدثين وأماثل العلماء والمتكلمين ومنهم شيخنا الطوسي الذي
دخلها سنة 408 ه‍، وقد صور الباحث الفاضل حسن عيسى الحكيم في
كتابه القيم " الشيخ الطوسي أبو جعفر محمد بن الحسن " هذه الحقبة
الزمنية والتي تبدأ بسيطرة البويهيين على العراق وينتهي بدخول طغرل
بيك إلى بغداد عام 447 ه‍ خير تصوير حيث يقول:
تميز العصر الذي نتحدث عنه بظاهرة الصراع الفكري بين أرباب

(1) لأجل الوقوف على فداحة المآسي التي وقعت في هذه الفترة والجرائم التي ارتكبت راجع:
البداية والنهاية 12: 71، المنتظم لابن الجوزي 8: 179، طبقات الشافعية 4: 127، كشف
الظنون 1: 452، الشيخ الطوسي لحسن عيسى الحكيم: 79 - 78.
مقدمة 27

المدارس الكلامية والفقهية، وكان يتأرجح بين الحرية والتزمت تبعا
لموقف السلطة الفعلية منه، وكان أهم مظهر له هو الصراع بين النزعة
السلفية والنزعة العقلية، وربما انعكس هذا الصراع على الواقع العملي
للناس، وكانت السلطة في الخلافة العباسية قد انحازت - خصوصا منذ
عصر المتوكل على الله (247 - 232 ه‍) - إلى الاتجاه السلفي المتشدد،
وأخذت تضطهد الفئات الأخرى المخالفة له وفي مقدمتها المعتزلة
والشيعة ومن على شاكلتهم ممن له ميول فلسفية ونزعة إلى التوفيق بين
أحكام العقل وأحكام الشرع، وقد انتهز السلفيون المتشددون فرصة
موقف الخلافة هذا فزادوا في تقوية نفوذهم، وصاروا يفرضون آراءهم
على الناس بالقوة، ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة، سواء ما يتعلق
بشؤون الأفراد أم الدولة، حتى كانوا حكومة داخل حكومة، فزالت هيبة
الدولة ووقعت الفتن والإضطرابات داخل الدولة مما أدى إلى استقلال
الأمر بأطرافها وأجزائها، ولم يبق للخليفة العباسي سوى بغداد
ونواحيها ما بين دجلة والفرات، فاضطر الخليفة المستكفي بالله العباسي
(334 - 333 ه‍) إلى دعوة البويهيين لتسلم السلطة في العراق، ووضع حد
للأرتباك والفوضى، والتخلص من نفوذ الأتراك، وكان البويهيون آنذاك قوة
نامية في شرق مملكة الاسلام. ودخل البويهيون بغداد سنة 334 ه‍ فسلكوا
سبيلا وسطا تجاه جميع الميول والاتجاهات والفرق فلم يتحزبوا لفئة
معينة على حساب فئة أخرى، ولم ينحازوا إلى رأي خاص، بل تركوا
الناس أحرارا في معتقداتهم وآرائهم، وذلك إنهم كانوا يدركون أنهم رجال
دولة، وأرباب سياسة، وأن همهم الأكبر يجب أن يتجه إلى إقرار الأمن
مقدمة 28

والنظام. ويدل على ذلك أنهم على الرغم من كونهم شيعة كانوا يفرضون
أوامر مشددة على هذه الطائفة التي يلتقونها في الأنتماء المذهبي لحد
منعهم من إقامة شعائرهم الدينية (1) تلك التي قد تسبب إثارة الحزازات،
ونشوب الفتنة، وقد نفوا من بغداد الشيخ المفيد وهو فقيه الشيعة في ذلك
الوقت فغادرها في عامي 393 ه‍ و 398 ه‍ بعد الحوادث الطائفية (2). ومع أن
البويهيين كانوا شيعة إلا أنهم لم يحاولوا تسليط أبناء مذهبهم على أهل
السنة، والذي مكن البويهيين من الاستقرار والأمن في البلاد سياستهم
الحكمية المتسامحة تجاه جميع السكان، فهدأت الأحوال، واستقرت
الأمور في أغلب الأوقات، وانصرف الناس إلى العمل من أجل ترقية
الحياة المادية والروحية، وعادت بغداد كعبة العلم والثقافة على النحو
الذي كانت عليه في العصر العباسي الأول (232 - 132 ه‍) أيام خلافة
المأمون. والواقع أن المجتمع الاسلامي خطا في العصر البويهي خطوات
واسعة في مضمار التقدم العلمي لا زالت آثاره باقية حتى الوقت الحاضر،
ولهذا اعتبر من أزهر العهود الثقافية في هذه البلاد لإطلاق الحرية الدينية،
والحرية الفكرية، والحرية القلمية، وقد تميز بذلك بوجه خاص عضد
الدولة (372 - 367 ه‍)، وهذه الحريات كانت السبب في كثرة من نبغ في
العلوم والآداب في ذلك العصر من مختلف المذاهب الاسلامية أمثال:
الكليني، وابن قولويه، والصدوق، والشيخ المفيد، والشريف الرضي،
والشريف المرتضى، والشيخ الطوسي، والكثير من شيوخ المذاهب

(1) المنتظم لابن الجوزي 8: 140.
(2) الكامل لابن الأثير 9: 74 و 86.
مقدمة 29

الإسلامية والفرق الكلامية أمثال: الماوردي، والشيرازي الفيروزآبادي،
وإمام الحرمين الجويني، والباقلاني وأبو الحسين البصري، وابن الصباغ
الشافعي، والدامغاني الحنفي، وأبو الوفاء البغدادي الحنبلي، وغيرهم من
العلماء الذين عج بهم القرن الخامس الهجري. والواقع أن رجال الفكر
والعلم كان الكثير منهم في عهد الدولة البويهية في مأمن من الفوضى
والإضطرابات. كما وامتاز عهد آل بويه بالخصب العلمي والأدبي
بتأثيرهم الخاص أو بتأثير وزرائهم، إذ كان بيت الوزير بمثل مدرسة بل
جامعة تحوي ألوانا مختلفة من الثقافة وضروبا من العلم والأدب، وكانوا
لا يستوزرون أو يستكتبون إلا العلماء والشعراء والكتاب (1)، وقد لعبت
دور العلم ببغداد دورا مهما وبارزا في إنعاش الحركة الفكرية، منها " دار
العلم " التي شيدها الوزير البويهي أبو نصر بن سابور بن أردشير في سنة
381 ه‍، وكان فيها أكثر من عشرة آلاف مجلد، وبقيت هذه المكتبة تؤدي
دورها في خدمة العلم والفكر حتى عام 451 ه‍ حيث احترقت عند دخول
طغرل بيك بغداد. وأنشأ الشريف المرتضى ببغداد دارا أخرى سماها " دار
العلم " وكانت دار علم ودراسة وسكن للطلاب، وألحق بها خزانة كتب
حافلة وكبيرة (2).
وهكذا غدت هذه المدينية خلال القرنين الرابع والخامس للهجرة
مركزا مهما من مراكز العلم والثقافة ومبعث الحرية الفكرية.
وقد تعكر صفو هذه الحرية مرات عدية بسبب الأحداث الطائفية

(1) تاريخ آداب اللغة العربية 2: 227.
(2) خزائن الكتب القديمة في العراق: 231.
مقدمة 30

التي كانت تثيرها الحنابلة غالبا، إلا أن السمة الغالبة لهذه الفترة هي الهدوء
والأمن، لكن حدثت الانتكاسة الخطيرة والقاضية في العقد الرابع من هذا
القرن وذلك حينما دخل طغرل بيك السلجوقي بغداد بقواته واحتلها
وطرد منها البساسيري. ونتج عن ذلك رجحان كفة السلفية والحنابلة
ودعاة طرد العقلائية، فهجموا على دور العلم، والمكتبات العامة،
والمدارس، والمجالس النظر والمناظرة، فأحرقوها وقتلوا جماعة وهدموا
بعض دروب محلة الكرخ - والتي كانت تسكنها أغلبية شيعية - وهكذا
وبدخول طغرل إلى بغداد سنة 447 ه‍ انتهى العهد الذهبي الثاني لبغداد
وإلى الأبد، ففد الكثيرون إلى أماكن أخرى نجاء بأرواحهم من القتل،
ومنهم الشيخ الطوسي حيث فر إلى النجف الأشرف بعد حوادث العنف
التي حدثت في بغداد عام 448 ه‍،.
وفي نهاية المطاف يمكن أن نلخص أسباب سقوط بغداد ونهاية عهدها الذهبي وخسران الشيعة لبغداد كمركز ديني وثقل سياسي لها إلى
العوامل التالية:
1 - ضعف الديالمة وتفرقهم وصراعهم الداخلي.
2 - ازدياد العنصر التركي ونفوذهم وميلهم إلى السلفية.
3 - اجتماع السببين السابقين أدى إلى حدوث اضطرابات خطيرة في
عموم بغداد وخاصة المحلات الشيعية.
4 - ظهور السلاجقة في خراسان وتوجههم نحو العراق أدى إلى
زيادة الضغط على الشيعة وارتفاع معنويات أعدائهم.
5 - ظهور حركة البساسيري (449 - 447 ه‍) بدعم من الخلافة الفاطمية
مقدمة 31

في مصر وبعض أمراء الشيعة في العراق، وما أعقبها من خلع
الخليفة ووزيره عميد الملك الكندري، وقيام دولة ذات ميول
إسماعيلية في بغداد زاد من الضغط على الشيعة وأوقعهم في
حرج شديد، وتحميل قويا أن الشيخ الطوسي هرب من بغداد
لئلا يضطر إلى تأييد البساسيري أو مماشاته، وحينما سحب
الخليفة الفاطمي - بتحريض من الوزير المغربي - تأييده ودعمه
من البساسيري خمدت حركته وقتل على أيدي جنود طغرل.
4 - خصائص مدرسة الشيخ الطوسي في بغداد
سبق لنا في الصفحات السابقة أن تحدثنا عن القابليات الفذة للشيخ
الطوسي حيث تمكن خلال فترة قصيرة بعد دخوله إلى بغداد من الالتحاق
بمدرسة الشيخ المفيد، وصار من أعلامها والمبرزين فيها، وقد اعتنى به
شيخه المفيد وخصه بنفسه وأودعه مواهبه وعلمه، ولا يخفى أن الذهبي
- وهو من ألد أعداء المفيد وعامة من ينتهي إلى مذهب أهل البيت عليهم
السلام - قال في وصفه: " كان أو حد زمانه في جميع فنون العلم الأصلين
الفقه والأخبار، ومعرفة الرجال، والتفسير، والنحو، والشعر، وكان يناظر
أهل كل عقيدة مع العظمة في الدولة البويهية... وكان مديما للمطالعة
والتعليم ومن أحفظ الناس، قيل إنه ما ترك للمخالفين كتابا إلا وحفظه
وبهذا قدر على حل شبه القوم، وكان من أحرص الناس على التعليم،
يدور على المكاتب وحوانيت الحاكة فيتلمح الصبي الفطن فيستأجره من
مقدمة 32

أبويه - يعني فيضله! - وبذلك كثرت تلامذته " (1)، فلا بد أن المفيد فطن في
هذا الشاب القادم من خراسان ذكاء نادرا وقدرة هائلة على تلقي العلم،
فقربه إلى نفسه ورباه خلال تلمذته عليه. ومراجعة سريعة للأجزاء الأولى
من كتاب (تهذيب الأحكام في شرح المقنعة) الذي صنفه في حياة شيخه
المفيد يدل على علمه وقدرته على التصنيف والتفريع وإرجاع الفروع إلى
الأصول، وهذا الكتاب دليل على أن المفيد اختار من بين تلاميذه - وبينهم
من هو أسن من الطوسي وأسبق في التلمذة - أقربهم إلى نفسه وأقدرهم
على شرح كلماته. ولا حاجة للإطالة في الحديث عن عظمة الطوسي
وعلو مقامه بل تكفى الإشارة إلى أن كتابه هذا والذي ألفه ولم يبلغ الثلاثين
من عمره عد من يوم تأليفه إلى الآن أحد الأصول الأربعة الذي يعول عليه
الإمامية.
وينبغي التنبيه على نقطة هامة أخرى ألا وهي أن الشيخ الطوسي لم
يتخصص في فروع من فروع العلوم الإسلامية، بل استوعب جميعها وفاق
فيها، وقد انعكست هذه الميزة على مدرسته، ويمكن لنا التركيز على
المميزات الهامة لمدرسة الطوسي في بغداد وهي:
1 - تغييره للمنهجية التي كانت متبعة عند الامامية وهي المنهج
والأسلوب الروائي حيث كان الحديث عماد أبحاثهم في الفقه والأصول
والتفسير وغيرها فقد أدخل الشيخ الطوسي عنصر العقل والأدلة العقلية
في تفسير الروايات ورفع التعارض بينها، ومن الملفت أن اعتماده على
العقل والأدلة العقلية لم يكن على حساب النقل أو التقليل من أهمية في

(1) سير اعلام النبلاء 17: 344.
مقدمة 33

عملية الاستنباط، بل جعلهما ركيزتان للوصول إلى نتائج مرضية دون
الإخلال بجوهر العقيدة.
2 - ومن نتائج وآثار تغيير الشح للأسلوب الروائي هو اعتماده
المتزايد على علم أصول الفقه حيث استلزم ذلك أن يطور هذه القواعد
التي كانت موجودة عند الإمامية لكنها لم تتطور لعدم ممارستها، بخلاف
المذاهب السنية التي كانت قد عملت بها لمدة قرنين قبل أن تتداول عند
الشيعة، فكان من نتائج هذا التطور أن خلق الشيخ الطوسي كتابه الأصولي
الخالد (العدة في أصول الفقه) ولعله أول كتاب مبسوط في هذا العلم عند
الإمامية.
3 - إن تعدد المذاهب واختلاف الطوائف وتنافسها في بغداد خلق
أجواء علمية منقطعة النظير وتسبب في تطور علم الكلام الذي برع فيه
الإمامية والمعتزلة، وكان الشيخ الفيد وتبعه الشيخ الطوسي من
المتكلمين البارزين الذين لا يجاريهما أحد، وفي هذه الأجواء اضطر
الشيخ الطوسي إلى ممارسة علم الكلام في مدرسته، ولم يقتصر في ذلك
على الأبحاث الكلامية، بل استعمله في أغلب أبحاثه الفقهية والأصولية
والتفسيرية وغيرها، ثم تطور بعد ذلك، ونتيجة للحاجة الملحة التي كانت
تتطلبها أجواء بغداد والمدارس الفقهية المتنوعة فيها اضطر الشيخ
الطوسي إلى إدخال عنصر آخر في أبحاثه ومدرسته ألا وهو الفقه
المقارن، والأصول المقارن، وقد برع الشيخ في هذا المجال أيضا وأبدى
استعدادا فائقا فخلف لنا في مجال الفقه المقارن كتابه الخالد (كتاب
الخلاف) حيث بسط فيه الكلام عن الفقه الإمامي وقارنه مع آراء معظم
مقدمة 34

المذاهب الفقهية السنية، فكان في عرضه لآراء المذاهب السنة دقيقا
وصادقا لا تفوته حتى أقوالهم النادرة وفتاويهم الشاذة.
4 - مما امتاز به الشيخ الطوسي هو قدرته الفائقة والفريدة في طرح
أفكاره الجديدة وآرائه المتميزة على طلابه في مجالس درسه، وعلى
الآخرين من خلال تراثه المكتوب، فقد كان للشيخ الطوسي أسلوبا وبيانا
متميزا وفريدا جعله محط أفئدة طلابه حيث كان يسحرهم ببيانه، ويأخذ
بألبابهم، ويقودهم إلى حيث كان يريد، ويفرض عليهم بقدراته العلمية
الفائقة وسعة معلوماته في جميع المجالات آراءه وأفكاره، ومراجعة
متعمقة ودقيقة لتراثه تكفي للوقوف على جانب من قدرات الشيخ الهائلة
ألا وهو تمكنه من تصنيف المسائل واستقصاء كل ما يتعلق بمسألة معينة
ودعمها بأدلة نقلية وعقلية ودحض أدلة المخالفين بردود عديدة بحيث
لا تقوم لهم بعدها قائمة، بحيث لا يبقي في النهاية مجالا أمام القارئ إلا
الاستسلام والخضوع لمنطقه العلمي القويم.
وكانت هذه الميزة هي السبب في انبهار فقهاء الشيعة امام فتاوى
الشيخ الطوسي وعدم جرأتهم على مخالفته مما أدى إلى انغلاق باب
الإجتهاد عندهم - كما قيل وسموا فقهاء هذه الفترة بالمقلدة - مدة قرن من
الزمن أي منذ وفاة الشيخ الطوسي سنة 460 ه‍ وحتى بزوغ نجم الفقيه
الشيعي الكبير أبي جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي
(المتوفى سنة 598 ه‍) حيث تمكن هذا الفقيه من كسر طوق التقليد وأعاد
إلى مدرسة الامامية روح الإجتهاد والتجدد.
5 - ومما تمتاز به مدرسة الشيخ الطوسي ببغداد هو النشاط
مقدمة 35

والحيوية التي كان الشيخ يتمتع بهما، فقد جد الشيخ ودأب ونشط نشاط
منقطع النظير فكان لا يتوانى ولا يكل عن إلقاء الدروس والمحاضرات في
مختلف العلوم الاسلامية والكتابة عنها وتربية الطلاب وتنشئتهم، فخلال
فترة أربعة عقود (448 - 408 ه‍) أنتج الشيخ 45 مؤلفا، وربى عشرات
الطلاب، وساهم مساهمة جليلة في تنمية الحضارة الاسلامية ببغداد في
داره ونهبت كتبه وأحرق كرسيه ونجا بنفسه ولجأ إلى النجف الأشرف
خبت تلك الشعلة الوهاجة، وأطفأت اشعاعاته الفكرية، واقتصر نشاطه
على إلقاء بعض المحاضرات - وفي فترات متباعده - على مجموعة
صغيرة من الطلاب، وتلك المحاضرات لم تكن من حيث الشمول والسعة
والتنوع كما كانت ببغداد. وخلال السنوات الإثنتي عشرة التي قضاها
الشيخ في النجف لم يؤلف سوى كتابين - إن صدقت التسمية - الأول وهو
كتاب " اختبار معرفة الرجال " حيث لخص كتاب " رجال الكشي "، وتأليفه
هذا لا يعدو تلخيصا وتهذيبا لكتاب الكشي دون أن يضيف إليه الشيخ من
نفسه شيئا، والآخر كتاب " الأمالي " وهو عبارة عن مجموعة الروايات التي
كان الشيخ يقررها على مستمعيه وأغلبها روايات في فضائل أهل البيت -
عليهم السلام - سمعها الشيخ من مشايخه ببغداد وقد جمع معظمها ولده
الشيخ أبي علي الطوسي - رحمه الله - ويتحدث الباحث حسن عيسى
الحكيم عن هذه الفترة بقوله: (ويلا حظ الدارس ظاهرة غريبة في حياة
الشيخ الطوسي في الفترة الأخيرة التي عاشها في النجف الأشرف وخلص
فيها كليا للدرس والمحاضرة، هي قلة انتاجه الفكري رغم أنها فترة
امتدت نحو اثني عشر عاما... ولعل هذا ناتج من قناعته لكفاية إنجازاته
مقدمة 36

الفكرية في بغداد) (1).
6 - برغم النشاءة الفارسية والمحتد غير العربي للشيخ الطوسي، فان
الملاحظ في سيرته الذاتية، وخاصة بعد هجرته إلى العراق انصهاره
وذوبانه في الثقافة العربية الإسلامية، فبرغم أن مدينة السلام كانت في
تلك الأزمنة مدينة تعج بمختلف المذاهب والقوميات والملل، وبرغم أن
العنصر الفارسي كان من أهم العناصر الناشطة في بغداد، إلا أن الغلبة كانت
للعنصر العربي وللثقافة العربية الإسلامية، وهذا ما أدى إلى أن يصطبغ -
قليلا أو كثيرا - كل من دخل إلى بغداد بالصبغة العربية وأن تصير الثقافة
العربية الاسلامية جزءا من كيانه ومقوماته كما هو الحال بالنسبة إلى معظم
أعلام الفكر والثقافة ببغداد من الفرس أو ممن انحدروا من أصول فارسية،
إلا أن الملاحظ أن الشيخ الطوسي بالرغم من أنه ولد بطوس وهي قاعدة
هامة من قواعد العنصر الفارسي حيث ولد ونشأ وترعرع فيها الفردوسي -
أعظم شاعر فارسي على الإطلاق وصاحب أكبر ملحمة فارسية وهي
(الشاهنامه = كتاب الملوك) - لكن الشيخ الطوسي حين دخل مدينة
السلام ارتبط بمجموعة من مشايخه الأعلام من العرب أو المستعربين
الذين أنسوه الفارسية وثقافتها فهجرهما نهائيا ولم يعد إليهما إلى حين
وفاته، فدرس، وناظر بالعربية، وكتب جميع مؤلفاته بها حيث لم يعهد له
كتاب أو رسالة باللغة الفارسية.

(1) الشيخ الطوسي: 105.
مقدمة 37

3 - الشيخ الطوسي في النجف الأشرف
تعد هذه المرحلة الأخيرة في حياة الشيخ الطوسي - رحمه الله -
حيث امتدت فترة أثنى عشر عاما (460 - 448 ه‍) وكانت النجف حين هاجر
إليها الشيخ قرية صغيرة نائية على مشارف البادية وليس ما يغري أحدا
بالبقاء فيها الا مثوى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه أفضل
الصلاة والسلام - فاختار الشيخ دارا بالقرب من المقام الشريف، فاجتمع
حوله جماعة صغيرة من الطلاب بعضهم من الهاربين وممن نجوا
بأرواحهم من أحداث بغداد، وآخرون جذبتهم شهرة الشيخ وصيته،
وهكذا وضع الشيخ اللبنات الأولى للمدرسة التي بقيت تشع لمدة عشرة
قرون ولا زالت إلى أن يشاء الله. وقد واجه الشيخ الطوسي في النجف ظرفا
غير الذي كان قد ألفه ببغداد، وينبغي لنا أن نتعرض للحياة والظروف
التي واجهها الشيخ في النجف حيث كان له الأثر البالغ في منحى حياته
وأسلوب دراسته وخصائص مدرسته ومستقبلها.
مقدمة 38

واجه الشيخ الطوسي بعد هجرته إلى النجف الأشرف عام 448 ه‍
ظروفا جديدة تختلف من أوجه عدة عن ظروف بغداد منها خلو النجف
من تنافس مذهبي، وصراع فكري، وعدم وجود طبقة من كبار العلماء
الذين يرتكز عليهم فن المناظرة والجدل، والهدوء الذي تمتعت به
النجف بفضل ابتعادها عن التيارات السياسية، كل هذه الأمور أتاحت
للشيخ الطوسي فرصة العمل بحرية كاملة، فأنشأ في النجف مدرسة ذات
خصائص، من أهمها أن تكون الدراسة فيها ضمن حلقات يجتمع الشيخ
فيها بتلاميذه ويملي عليهم معارفه في التفسير والحديث والرجال والفقه
والأصول وغيرها، وقد قرأ بعض طلابه جميع تصانيفه بالغري وعند
مشهد الامام علي بن أبي طالب عليه السلام ودونت أمالي الشيخ الطوسي
التي كان يلقيها على تلاميذه بكتاب يعرف اليوم " بأمالي الشيخ الطوسي "
الذي احتوى على عدد مما يدود في تلك المجالس من أحاديث متنوعة.
فبناء على ما ذكرناه نستطيع أن نعد مدرسته الشيخ في النجف من
المدارس المسجدية وليس من المدارس المستقلة عن الجوامع.
ومن الخصائص البارزة الأخرى لمدرسة النجف العلمية أنها
أحاديثه المذهب تقوم فقط بتدريس علوم آل البيت عليهم السلام، ولم
يكن ما ينافس المذهب الجعفري من المذاهب الاسلامية الأخرى في
النجف ولذا اختلفت هذه المدرسة عن مدارس بغداد المعاصرة لها إذ
كانت بعضها ثنائية المذهب أو أكثر، وقد أخذت مدرسة النجف منذ عام
448 ه‍ في التقدم والتوسع حتى أصبحت أوسع وأهم جامعات
مقدمة 39

العالم الدينية (1)، ولعل الحوزة التي ضمتها مدرسة النجف والتي أنشأها
الشيخ الطوسي فيها كانت فتيه لأنه في أغلب الظن قد انفصل الشيخ عن
تلامذته وحوزته العلمية في بغداد بدليل أنه لم يكن هربه من بغداد
ولجوؤه إلى النجف اعتياديا، بل كان فيه مطلوبا مطاردا (2) ومبتعدا عن
الفتن والإضطرابات التي تجددت هناك. وعدا كتاب (الأمالي) فقد إختصر
الشيخ الطوسي كتاب (اختيار الرجال) وهذا الكتاب تهذيب لكتاب
(رجال الكشي المعروف، وقد أخبرنا عنه الشيخ الطوسي بقوله: " هذه
الأخبار إختصرتها من كتاب الرجال لأبي عمرو محمد بن عمر بن
عبد العزيز واخترت ما فيها " (3). والظاهر أن الشيخ استمر في تدريسه
وإلقاء محاضراته حتى أواخر حياته.
فيقول ابن شهريار الخازن - من تلاميذ الشيخ الطوسي " حدثنا
الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي رحمه الله بالمشهد
المقدس الغروي وعلى ساكنه أفضل الصلوات في شهر رمضان من سنة
ثمان وخمسين وأربعمائة " (4) وبينما كان الشيخ الطوسي مشغولا باعداد
كتابه (شرح الشرح) إذ وافته المنية فحالت دون إكماله.
يقول الحسن بن مهدي السليقي - من تلاميذ الشيخ الطوسي - (وإن
من مصنفاته التي لم يذكرها في الفهرست كتاب (شرح الشرح) في

(1) العراق في العصر السلجوقي: 379.
(2) مجلة البيان: عدد 6 السنة الأولى ص 133 مقالة الدكتور مصطفى جواد.
(3) فرج المهموم لابن طاووس: 131.
(4) مهج الدعوات لابن طاووس: 218.
مقدمة 40

الأصول، وهو كتاب مبسوط، أملى علينا منه شيئا صالحا، ومات ولم
يتمه، ولم يصنف مثله) (1).
ويلاحظ الدارس ظاهرة غريبة في حياة الشيخ الطوسي في الفترة
الأخيرة التي عاشها في النجف الأشرف وخلص فيها كليا للدرس
والمحاضرة، هي قلة انتاجه الفكري رغم أنها فترة امتدت نحو اثني عشر
عاما ولم نعرف له من الكتب خلالها سوى (الأمالي) و (اختيار معرفة
الرجال) (وشرح الشرح) الذي شرع بتأليفه دون أن يتمه، ولعل هذا ناتج
عن قناعته، بكفاية إنجازاته الفكرية في بغداد إذ هو بما تميزت به آثاره من
غزارة وتنوع قد شارك بكثير من الأصالة والابداع والتجديد في تحديد
الاتجاه العام للثقافة الاسلامية في زمنه وتحديد مستقبلها كذلك. وقد
بقيت آراء الشيخ الطوسي في القضايا الرئيسية الفقهية والأصولية تتمتع
بنوع من الأكبار لدى الأصوليين والفقهاء دهرا طويلا، وقد تحاشى
العديدون الخروج عليها أو نقصها إلا بعد أجيال عدة وقد إتسمت
محاولاتهم هذه بالجرأة (2).
ويستفاد من تتبع تواريخ محاضرات الشيخ الطوسي والتي دونت
في كتابه (الأمالي) أنه قد ضعفت قوى الشيخ، وحل له الوهن في السنتين
الأخيرتين من عمره الشريف، فآخره محاضرة للشيخ (هذا بناء على أن
الأمالي يحتوي على آخر محاضرات الشيخ حيث يعد كتاب " شرح
الشرح " مفقودا) كان يوم التروية من سنة 458 ه‍ وأملي فيها ثلاث روايات،

(1) رجال السيد بحر العلوم 3: 233.
(2) الشيخ الطوسي: 106 - 102.
مقدمة 41

وقبلها محاضرته يوم 6 صفر سنة 458 ه‍ وأملى فيها 4 روايات، وقبلها
محاضرته في مجلس يوم الجمعة 3 ذي القعدة سنة 457 ه‍ أملى فيها 5
روايات، فالعبد الزمني الشاسع بين هذه المجالس فضلا عن قلة الروايات
التي أملاها الشيخ على مستمعيه بالقياس إلى مجالسه السابقة التي كان
يملي فيها عشرات الأحاديث وفي فترات متقاربة خير دليل على ما قلناه.
وأخيرا توفي الشيخ الطوسي - رحمه الله تعالى - ليلة الاثنين الثاني
والعشرون من محرم سنة 460 ه‍ - كما هو المتفق عليه عند مترجمي الشيخ
من الإمامية - عن خمس وسبعين سنة، وتولى غسله ودفنه عدد من تلاميذه
كالشيخ حسن بن مهدي السليقي، وأبي محمد الحسن بن عبد الواحد العين
زربي، والشيخ أبو الحسن اللؤلؤي، ودفن في داره بوصية منه، ثم تحولت
الدار بعده مسجدا - حسب وصيته - فصار من أشهر مساجد النجف
الأشرف حيث عقدت فيه منذ تأسيسه حتى اليوم عشرات حلقات
التدريس من قبل كبار علماء الشيعة ومجتهديهم، وظل قبر الشيخ طيلة
القرون العشرة الماضية مزارا يتبرك به عامة الناس (1). وبقيت الجامعة
الإسلامية والحوزة العلمية التي أسسها الشيخ حية، نابضة، فعالة، تمد
العالم الاسلامي بمجموعة صالحة من العلماء الاعلام، وكان الشيخ أبي
علي الطوسي أول من سد الفراغ الذي أحدثته وفاة أبيه في النجف
الأشرف فتولى الحفاظ على استمراريتها وبقائها (وكانت الرحلة اليه
والمعول عليه في التدريس والفتيا وإلقاء الحديث وغير ذلك من شؤون

(1) مقدمة تفسير البيان ص: م ن، الشيخ الطوسي: 183 و 185، الرجال للعلامة الحلي: 148.
مقدمة 42

الرئاسة العلمية) (1)، وهكذا استمرت نشاطات الجامعة بعده وطوال
القرون العشرة الماضية، فنمت وتطورات الدراسات فيها، وبرغم تأسيس
مدارس وحوزات عليمة شيعية كبيرة في انحاء أخرى من البلدان
الاسلامية كمدرسة الحلب، والحلة، وجبل عامل، وأصفهان، وخراسان،
وشيراز، والأحساء، والبحرين، وكربلاء، وسامراء، وأخيرا قم، وكانت
بعض هذه الحوزات تحتضن المرجعية الشيعية العليا في بعض الفترات،
لكن ظلت جامعة النجف الدينية لها سحرها الخاص تجذب إليها أفئدة
الألوف من طلاب العلوم الدينية ولا زالت إلى أن يشاء الله تعالى.

(1) مقدمة كتاب (الغيبة للطوسي): 11، الشيخ الطوسي: 183.
مقدمة 43

4 - تلاميذ الشيخ الطوسي
لا نملك معلومات دقيقة عن السنة التي فيها بدأ الشيخ القاء
محاضراته ودروسه ببغداد، وبرغم انه كان مؤهلا لان يتصدر حلقة طلابه
ويلقى عليهم دروسه بعد وفاة الشيخ المفيد، لكن لم تصلنا معلومات تفيد
حصول ذلك، ولعل الشيخ كان متفرغا للإستزادة من العلوم خاصة أيام
زعامة الشريف المرتضى (413 - 336 ه‍)، حيث لحق به، ولازمه ملازمة
قريبة، وكان من المقربين عنده، والمويدين لزعامته، ويستبعد أن لا يكون
للشيخ طلاب أو حلقة دراسية في هذه الفترة الطويلة التي دامت ثلاث
وعشرين سنة، خاصة إذا لا حظنا أن الشيخ كان مؤهلا لذلك في بداية هذه
الفترة، ويكفي للدلالة على أهليته أنه شرع تصنيف كتاب (تهذيب
الأحكام) في حياة شيخه المفيد وأكمله بعد وفاته، والكتاب بنفسه كاف
لإبراز شخصيته العلمية وتبحره في الفقه. وفي كل الأحوال فان الشيخ
تصدر زعامة الإمامية عام 436 ه‍، فصار شيخ الطائفة، وزعيمها، ومعلمها
مقدمة 44

الأول، فتقاطر الطلاب إليه، وتحلقوا حوله يستزيدون من علومه، ثم بعد
ذلك حينما هاجر إلى النجف الأشرف عام 448 ه‍ استمر فيها بالتدريس
إلى حين وفاته، فخلال هذه الفترة التي استمرت مدة ربع قرن تتملذ على
الشيخ مئات الطلاب، لكننا لم نعثر على أسمائهم في كتب التراجم
والرجال إلا قلة قليلة لا تتعدى أسماء ثلاثين أو أربعين من مشاهيرهم،
وهؤلاء ينقسمون، إلى ثلاثة أقسام: قسم يعدون من طلابه ببغداد،
وآخرون في النجف الأشرف، وقسم ثالث يشك في تلمذتهم على الشيخ
نفسه ولعل بعضم تتملذ على ولده الشيخ أبو علي الحسن بن محمد بن
الحسن الطوسي. وإليك أسمائهم:
القسم الأول:
1 - آدم بن يونس بن أبي المهاجر النسفي
2 - أحمد بن الحسين بن أحمد النيسابوري (ت 480 ه‍)
3 - إسحاق بن محمد بن بابويه القمي
4 - إسماعيل بن محمد بن الحسن بن بابويه القمي (ت 500 ه‍)
5 - بركة بن محمد بن بركة الأسدي
6 تقي بن نجم الحلبي المكنى بأبي الصلاح الحلبي (ت 447 ه‍)
7 - جعفر بن علي بن جعفر الحسيني
8 - الحسن بن عبد العزيز بن الجبهاني
9 - الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي (توفى حدود سنة 515 - 511 ه‍)
10 - السيد ذو الفقار بن محمد بن معبد الحسيني المروزي
مقدمة 45

11 - زيد بن علي بن الحسين الحسيني
12 - السيد زيد بن الداعي الحسيني
13 - سليمان بن الحسن بن سلمان الصهرشتي
14 - صاعد بن ربيعة بن أبي غانم
15 - عبد الرحمن بن أحمد النيسابوري
16 - عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز البراج (ت 481 ه‍)
17 - علي بن عبد الصمد التميمي السبزواري
18 - غازي بن أحمد بن أبي منصور الساماني الكوفي
19 - كرد بن عكبر بن كردي الفارسي الحلبي
20 - محمد بن عبد القادر بن محمد أبو الصلت
21 - محمد بن علي بن الحسن الحلبي
22 - محمد بن هبة الله بن جعفر الوراق الطرابلسي
23 - المطهر بن أبي القاسم علي بن أبي الفضل الديباجي
24 - منصور بن الحسين الآبي (ت 422 ه‍)
25 - ناصر بن عبد الرضا بن محمد بن عبد الله العلوي الحسيني
القسم الثاني:
1 - الحسن بن الحسين بن بابويه القمي المشهور بحسكا (ت 512 ه‍)
2 - الحسن بن مهدي السليقي العلوي
3 - الحسين بن المظفر بن علي الحمداني أو الهمداني
4 - عبد الجبار بن علي النيسابوري المقري (ت 506 ه‍)
مقدمة 46

5 - محمد بن أحمد بن شهريار الخازن
6 - المنتهى بن أبي زيد بن كيابكي الحسيني الجرجاني
القسم الثالث:
1 - أبو الحسن اللؤلؤي (كان أحد الذين تولوا تغسيل الشيخ الطوسي
ودفنه)
2 - الحسين بن الفتح الواعظ البكر آبادي الجرجاني
3 - الشيخ شهر آشوب المازندراني السروي
4 - أبو محمد بن الحسن بن عبد الواحد العين زربي (كان أحد الذين تولوا
تغسيل الشيخ الطوسي ودفنه)
5 - محمد بن الحسن بن علي الفتال الفارسي (ت 508 ه‍)
6 - محمد بن أبي القاسم الطبري الآملي (ت 525 ه‍)
7 - محمد بن علي بن حمزة الطوسي المشهدي
8 - محمد بن علي بن عثمان الكراجكي (ت 449 ه‍)
9 - عبيد الله بن الحسن بن بابويه القمي (ت 442 ه‍)
مقدمة 47

ثانيا: تراث الشيخ الطوسي
يعد الشيخ الطوسي من النوابغ الذين أحاطوا بمجموعة من العلوم
إحاطة تامة وكاملة بلغ منتهاها وغايتها، فألف في جميع أصناف العلوم
وصارت تصانيفه المنبع الأول والمصدر الوحيد لمعظم المؤلفين في
القرون اللاحقة، لأنها كانت تحتوي على الأصول القديمة المفقودة
وإضافات الشيخ وإبداعاته، وقد صنف الشيخ في كافة العلوم الإسلامية
وخلف بذلك تراثا ضخما إستفاد منه الشيعة خلال القرون العشرة
الماضية ولا زال. وللدلالة على أهمية مصنفات الشيخ الطوسي يكفي أن
نشير إلى أن الشيعة تمتلك 8 أصول، أربعة في علم الحديث وأربعة في
علم الرجال، وقد صنف الشيخ خمسة (2 في علم الحديث و 3 في علم
الرجال) من هذه الأصول الثمانية وهي: (التهذيب) (والاستبصار)
و (الفهرست) و (الرجال) و (اختيار معرفة الرجال). وأيضا يعد الطوسي
منتهى إجازات علماء الشيعة في علم الحديث حيث أن انتشار ونقل
مقدمة 49

أحاديث الكتب الأربعة وغيرها في الأصول القديمة يبدأ بالشيخ الطوسي
وينتهي إليه، فالشيعة تنقل روايات (الكافي) للشيخ الكليني - رحمه الله -
و (من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق القمي بأسانيد الشيخ الطوسي
وطرقه إلى هذه الكتب، وجميعها مذكورة في كتبه الرجالية ومشيخته.
واليك سرد مؤلفاته مرتبا حسب العلوم التي صنف فيها وهي (1):
الف: علم الحديث
1 - تهذيب الأحكام: وهو أول تصنيف للشيخ ببغداد ويتضمن 13590
حديثا ويعد أحد الأصول الأربعة المعروفة عند الإمامية.
2 - الإستبصار فيما اختلت من الاخبار: ويحتوي على 5511 حديثا.
ب: علم الفقه
1 - كتاب النهاية في مجرد الفقه والفتاوي
2 - كتاب مسائل الخلاف
3 - كتاب المبسوط في الفقه
4 - كتاب الجمل والعقود في العبادات
5 - كتاب الإيجاز في الفرائض
6 - كتاب مسألة في تحريم الفقاع

(1) راجع كتاب) الفهرست) للشيخ الطوسي والمصادر الواردة في ترجمة حياة الشيخ والمذكورة
في بداية هذه المقدمة. وعلامة (*) إشارة إلى المصنفات التي لم يرد لها ذكر في (كتاب
الفهرست) بل ورد في مصادر أخرى.
مقدمة 50

7 - كتاب المسائل الجنبلائية
8 - كتاب المسائل الدمشقية
9 - كتاب المسائل الحائرية
10 - كتاب مسألة في وجوب الجزية على اليهود (*)
ج: علم الكلام
1 - كتاب المفصح في الإمامة
2 - كتاب تلخيص الشافي في الإمامة
3 - كتاب مختصر ما لا يسع المكلف الإخلال به
4 - كتاب ما يعلل وما لا يعلل
5 - كتاب مقدماته في المدخل إلى علم الكلام
6 - كتاب شرح مقدمة في المدخل إلى علم الكلام (قيل إن اسمه
رياضة العقول)
7 - كتاب مسألة في الأحوال
8 - كتاب شرح ما يتعلق بالأصول من جمل العلم والعمل (= تمهيد
الأصول)
9 - كتاب المسائل الرازية في الوعيد
10 - كتاب المسائل في الفرق بين النبي والإمام
11 - كتاب النقض على ابن شاذان في مسألة الغار
12 - كتاب الإقتصاد فيما يجب على العباد
13 - كتاب الغيبة
مقدمة 51

14 - كتاب في الأصول كبير خرج منه الكلام في التوحيد وبعض
الكلام في العدل
15 - كتاب الكافي في الكلام (*)
16 - كتاب تعليق ما لا يسع (*)
17 - كتاب مسألة في الحسن والقبح (*)
18 - كتاب ثلاثون مسألة كلامية (*)
19 - كتاب اصطلاحات المتكلمين (*)
20 - كتاب الاستيفاء في الإمامة (*)
د: علم أصول الفقه
1 - كتاب العدة في أصول الفقه
2 - كتاب مسألة في العمل بخبر الواحد
3 - كتاب شرح الشرح
ه‍: علم الرجال
1 - كتاب الرجال الذين رووا عن النبي والأئمة الاثني عشر عليهم
السلام ومن تأخر عنهم
2 - كتاب فهرست كتب الشيعة وأصولهم، وأسماء المصنفين منهم،
وأصحاب الأصول والكتب، وأسماء من صنف لهم وليس هو
منهم
3 - كتاب اختيار الرجال أو اختيار معرفة الرجال المعروف برجال
مقدمة 52

الكشي
و: التفسير وعلوم القرآن
1 - كتاب تفسير التبيان (*)
2 - كتاب المسائل الرجبية في تفسير القرآن
ز: الأدعية
1 - كتا مختصرة في عمل يوم وليلة
2 - كتاب مناسك الحج في مجرد العمل والأدعية
3 - كتاب مصباح المتهجد في عمل السنة
4 - كتاب أنس الوحيد
5 - كتاب مختصر المصباح في عمل السنة
6 - كتاب هداية المسترشد وبصيرة المتعبد
ج: التاريخ والأخبار
1 - كتاب مختصر أخبار المختارين أبي عبيدة رحمه الله
2 - كتاب المجالس في الأخبار (= الأمالي)
3 - كتاب مقتل الحسين عليه السلام
ط: الكتب المتفرقة
1 - كتاب المسائل الألياسية، وهي مئة مسألة في فنون مختلفة
مقدمة 53

2 - كتاب مسائل ابن البراج (*)
3 - كتاب المسائل القمية (*)
مقدمة 54

ثالثا: دراسة حول كتاب (العدة في أصول الفقه)
1 - دور الشيعة في تأسيس علم أصول الفقه
يعد أصول الفقه من العلوم التي أبدعها فقهاء الاسلام، وهو علم
يعطي الفقيه القدرة الكافية واللازمة لإستنباط الأحكام الشرعية عن عدد
معين من المصادر الشرعية. ويرجع تاريخ نشأة هذا العلم إلى القرون
الهجرية الأولى، وبالتحديد فإنه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم أحس الفقهاء بالخلل الذي حصل لهم، حيث كان الرسول (ص) هو
المرجع الأول والأخير في بيان الأحكام الشرعية، وكان الصحابة لا
يواجهون مشكلة إلا وسألوا عنها الرسول (ص) فكانت تأتيهم الأجوبة
وافية شافية، لكنهم بعد أن فقدوه عليه الصلاة والسلام أحسوا بعظم
المصيبة وفداحتها خاصة وأن الإسلام بدأ ينتشر وواجهوا مشاكل
ومستجدات لابد من العثور على الجواب المناسب لها بحيث لا يتعارض
مع الأصول الثابتة للإسلام. ومن هنا انقدحت وبرزت عندهم بذرة علم
مقدمة 55

الأصول فبدأ فقهاء الصحابة بإعمال بعض القواعد الأصولية المستقاة
كالأدلة اللفظية والعقلية، واستعانوا في استخراج بعضها بالسنة النبوية
الشريفة، فكانوا يحملون الأوامر الواردة في الكتاب والعام بحمل العام على
الخاص وتخصيصه، والمطلق على المقيد وتقييده، والعمل بظواهر
الكتاب والسنة وحجيته ظاهرهما، وحمل المتشابه من الآيات على
محكماتها، والاعتماد على الإجماع، وخبر الثقة، والمتواتر، وغيرها من
القواعد الأصولية التي بدأت تتطور شيئا فشيئا كلما بعد المسلمون عن
عصر الرسالة، وتطورات الأمور والأحداث عندهم وواجهوا مشاكل
ومستحدثات جديدة. وينبغي التنبيه إلى نقطة هامة في تاريخ نشأة علم
الأصول وتطورها ألا وهو الفاروق الزمني بين المذاهب السنية والشيعة
الإمامية في استعمال علم الأصول وتطبيقه على الوقائع والأمور
المستحدثة، فإنه لا شك أن فقهاء العامة ومذاهبهم أقدم من الشيعة في
استعمال القواعد الأصولية وتطبيقها والاستفادة من معطياتها وذلك
لسبب بسيط وهو أن ابداع علم الأصول جاء نتيجة (ابتعاد عملية
الاستنباط عن عصر التشريع وانفصالها عن ظروف النصوص الشرعية
وملابساتها، لأن الفاضل الزمني عن ذلك الظرف هو الذي يخلق الثغرات
والفجوات في عملية الاستنباط، وهذه الثغرات هي التي توجد الحاجة
المحلة إلى علم الأصول والقواعد الأصولية (1)، فالعامة فقدوا بموت
النبي صلى الله عليه وآله مصدر التشريع فاضطروا للاعتماد على مصدر

(1) المعالم الجديدة: 25.
مقدمة 56

آخر يستقي مادته من الكتاب وسنة الرسول صلى الله عليه وآله ولا
تتعارض معطياته مع القواعد العامة التي شرعها النبي (ص)، فبدأ وشيئا
فشيئا بتطبيق القواعد الأصولية مثل تقديم الخاص على العالم، والمقيد
على المطلق، وحمل الأمر على الوجوب، والنهي على الحرمة،
والاعتماد على الإجماع وأقوال الصحابة، والقياس، والاستحسان،
وحجية الظواهر في ألفاظ الكتاب والسنة وغيرها، ومع تطور الأمور
والأحداث وتعقيدها وابتعاد المسلمين عن عصر التشريع والصحابة
ازدادت صعوبة فهم ظواهر الآيات والأحاديث فتطور علم الأصول أكثر
من ذي قبل وتتمثل قمة التطور في علم الأصول في تلك العصور عند
أهل السنة بظهور كتاب (الرسالة) للشافعي الذي عده أهل السنة أول
مدونة في هذا العلم. يقول الشيخ محمد أبو زهرة: " والجمهور من الفقهاء
[من أهل السنة] يقرون للشافعي بأسبقية بوضع علم الأصول " (1) ثم ينقل
في كتابه الذي وضعه عن حياة (الإمام الشافعي) عن فخر الدين الرازي
قوله: " إعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطو إلى علم
المنطق، وكنسبة الخليل ابن أحمد إلى علم العروض) (2).
أما الشيعة الإمامية فإنهم كانوا في غني عن هذه القواعد
واستعمالاتها إلى بداية عصر الغيبة الكبرى (سنة 329 ه‍) لاعتقادهم بأنه
وإن انتهى عصر التشريع بوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الأئمة
المعصومين عليهم السلام كانوا امتدادا له (ص) في بيان الأحكام وتبليغه

(1) محاظرات في أصول الفقه الجعفري: 6.
(2) الشافعي: 197 - 196.
مقدمة 57

وتفسير القرآن والسنة وبيان المقصود من ظاهرهما، فكانت الإمامية
مستغنية مدة قرنين ونصف عن قواعد علم الأصول ومعطياتها لسبب
بسيط ألا وهو وجود المرجع والمصدر الذي يمكن الركون اليه والاعتماد
عليه حين مواجهة المستحدثات، وهذا المرجع هو الامام المعصوم.
واستمر استغناء الإمامية إلى حين غيبة الإمام الثاني عشر (ع) حيث بدأوا
بتطبيق القواعد الأصولية التي كانوا قد أخذوها وتلقوها عن الأئمة
ولكنهم لم يطبقوها لعدم حاجتهم إليها حينذاك، وعند ذاك بدأ العصر
التمهيدي في علم الأصول عند الإمامية - بعد ان كانت العامة وأهل السنة
قد إجتازت هذا العصر وخطت خطوات كبيرة في مجال تطبيق القواعد
الأصولية ودخلت عصر التصنيف - وهو عصر وضع البذور الأساسية
وجمع شتات القواعد العامة الصادرة عن الأئمة عليهم السلام والتي كانت
متفرقة في أبواب الفقه المختلفة، ويبدأ هذا العصر بعلمين من متقدمي
أعلام الإمامية وهما: ابن أبي عقيل العماني، وابن الجنيد وينتهي بظهور
الشيخ الطوسي.
والملاحظ هنا تقدم أهل السنة في تطبيق قواعد الأصول وتأخر
الإمامية في ذلك، لكن لا يعني تقدم أولئك وتأخر هؤلاء سبق الأول في
ابداع علم الأصول وانتسابه اليه حتى يعد الإمامية تابعا لهم في ذلك، بل إن
الامامية أسبق من العامة في مجال وضع الأبحاث الأصولية وان كانت
العامة أسبق في مجال الممارسة والتطبيق بل وحتى تأليف جامع مثل
كتاب (الرسالة) للشافعي.
يقول الباحث الدكتور أبو القاسم گرجي: " إن لعلم الأصول أدوارا
مقدمة 58

تاريخية عديدة ولك مرحلة سماتها ومزاياها وخصائصها المعينة،
وتختص بعض هذه المراحل التاريخية بأهل السنة وبعضها بالشيعة
الإمامية وبعضها مشتركة بينهما، وأول هذه الأدوار هو مرحلة التأسيس
حيث يصر أهل السنة على أن مؤسس علم الأصول وواضعه هو الشافعي،
يقول الشيخ أبو زهرة: (والجمهور من الفقهاء يقرون للشافعي باسيقيته
بوضع علم الأصول).
أقول: ان الحقيقة تباين هذا الرأي، فأمه لو كان مقصودة من (وضع
علم الأصول) التأسيس والابداع فلا ينبغي الترديد في بطلان هذا
الانتساب في أمثال هذه العلوم، لأن علم الأصول علم مركب من مسائل
عديدة ومن مواضيع وأبحاث شتى، ففيه أبحاث اللغة والأدب والعلوم
العقلية وبناء العقلاء والتعبد الشرعي وغيرها، فانتساب علم الأصول إلى
واضعي هذه العلوم أصح وأولى من انتسابه إلى الشافعي، إذ كيف يعقل أن
ننسب ابداع وتأسيس قاعدة دلالة الأمر على الوجوب والنهي على
الحرمة، وحكم العقل بحسن الأفعال وقبحها، والعمل بخبر الثقة، وحجية
الاستصحاب، وغيرها إلى الشافعي؟
وإن كان مقصوده من (وضع علم الأصول) الكشف عن قواعده
وتبيينها وتطبيقها في مجال الاستنباط، فإنه وإن فرضنا صدق انتسابه
للشافعي في بعض الموارد، لكن لا يمكن تعميمه على جميع قواعد علم
الأصول، لأنه من المتفق عليه عند الجميع أنه بعد وفاة الرسول (ص) كانت
جماعة من فقهاء الصحابة والتابعين مجتهدون، فكانوا يمارسون عملية
الاستنباط باعمال القواعد الأصولية - ولو على نحو الإرتكاز - فكانوا
مقدمة 59

يحملون الأوامر الشرعية على الوجوب، ونواهيها على الحرمة، والعام
على الخاص، والمطلق على المفيد، والمنسوخ على الناسخ، فهل يعقل
أن نقول أن ابن عباس أو ابن مسعود، أو الشعبي، أو ابن سيرين، أو ابن أبي
ليلي، أو أبي حنيفة، أو مالك، أو محمد بن الحسن الشيباني، وغيرهم ممن
سبقوا الشافعي في الإجتهاد واعمال القواعد الأصولية لم يكونوا
مجتهدين، أو كانوا ولكنهم لم يعرفوا القواعد الأصولية!! وهذا يعني ان
الحكم على مثل أبي حنيفة بأنه: (فقيه، أو صاحب الرأي والقياس)،
سيكون حكما مجازيا، وبطلانه من أوضح البديهيات. نعم كانت الأمور
والمستحدثات قد تطورات وتعقدت أيام الشافعي واستعصى حلها الا
بامعان النظر والتدقيق وافراغ الوسع في استنباط أحكامها، خلافا
للبساطة التي كانت عليها الأمور والأحداث في زمن الصحابة. ومن
المناسب أن نشير إلى نصين يفيدان وجود عملية الإجتهاد منذ عصر
الرسالة وهما:
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابن مسعود: " إقض بالكتاب
والسنة إذا وجدتهما، فان لم تجد الحكم فيها اجتهد رأيك " (1).
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: " بم
تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فان لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله
عليه وآله، قال: فان لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي " (1).
ونتسائل أليس هذا الإجتهاد هو إعمال القواعد الأصولية لأجل

(1) الترمذي: أبواب الأحكام، عارضة الأحوذي 6: 68، سنن أبي داود: كتاب الأقضية، مسند أحمد
5: 230 و 236 و 242.
مقدمة 60

استنباط الحكم الشرعي بعد خلو الكتاب والسنة من الحكم الصريح في
الموضوع أو الحكم المشتبه؟
وأيضا لو كان مقصود الشيخ أبو زهرة بقول: (وضع علم الأصول)
أن الشافعي أول من صنف في أصول الفقه، فإنه أيضا لا يخلو عن المناقشة
إذ ان هشام بن الحكم (شيخ متكلمي الإمامية)، ويونس بن عبد الرحمان
وهما من أصحاب الإمامين الصادق جعفر بن محمد والكاظم موسى بن
جعفر عليهما السلام وتلامذتهما قد ألفا رسالتين في مباحث الأصول
وهما: (كتاب الألفاظ ومباحثها) و (كتاب اختلاف الحديث) وهما أسبق
زمانا من الشافعي ورسالته الشهيرة. وقد تحدث العلامة آية الله السيد
حصن الصدر في كتابه (تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام) عن هذين الكتابين
أو الرسالتين وعن مؤلفيهما طويلا وأثبت سبق الشيعة في هذا العلم،
وعلق الشيخ أبو زهرة على كلام السيد الصدر بقوله: " إن الصدر يقول إن
الامامين أمليا ولكنه لم يقل إنهما صنفا وأن الكلام في أسبقية الشافعي
إنما هو في التصنيف وان مثل الإمامية في نسبتهم القول في هذه الأصول
إلى الامامين الكبيرين كنسبة الحنفية في أصولهم أقوالا لأئمة المذهب
الحنفي كقولهم في العام أن دلالته قطعية، وقولهم في الخاص انه لا
يخصص العام الا إذا كان مستقلا ومقترنا به في الزمن إلى آخره. فان هذه
الآراء أثرت عن الأئمة مطبقة على الفروع، ولقد سلم السيد الجليل (أي
الصدر) بأنه لم يكن ثمة تصنيف للإمامين الجليلين وان ثمة املاء غير
مرتب. فإذا قيل إنهما قد سبقا الشافعي في الفكر؟ فقد قررنا أن المناهج
كانت مقررة ثابتة لدى المجتهدين من الصحابة والتابعين وجرت على
مقدمة 61

ألسنة بعضهم واستقام عليها فقههم، فإذا كان الامام جعفر قد أملى بعضها
على صحابته وتناولوه بعده بالترتيب والتبويب فقد كان الزمن كله ينحو
في الجملة إلى ناحية ملاحظة المناهج وتمييز المدارس الفقهية في
مناهجها.
وإذن فالامامان لم يسبقا الامام الشافعي بالتأليف، وأما سبق هشام بن
الحكم بكتاب الألفاظ، ويونس بن عبد الرحمن بكتاب اختلاف الحديث،
فنحن لا نستطيع أن نقرر بهذا أنهما سبقا الشافعي إلى تدوين علم الأصول
لأن الكتابة في جزء من هذا العلم هو مشترك بينه وبين غيره كبحث الألفاظ
وكاختلاف الحديث لا يعد تأسيسا لهذا العلم بمباحث الألفاظ،
والدلالات من المباحث المشتركة بين الأصول وبين اللغة وهي في
الأصول جزء مكمل لفهم القرآن والسنة... لا يعد هذان العالمان بهذين
البحثين قد أسسا علم الأصول كما فعل الشافعي ذلك، ان الشافعي رتب
أبوابه، وجمع فصوله، ولم يقتصر على مبحث دون مبحث بل بحث في
الكتاب والسنة وطرق روايتهما ومناهج الإستدلال بها، ومقامها من
القرآن، وبحث الدلالات اللفظية فتكلم في العام والخاص، والمشترك
والمجمل والمفصل، كما بحث الإجماع... وهو بهذا لم يسبق، أو على
التحقيق لم يعلم إلى الآن أن أحدا قد سبقه) (1).
وهكذا يقر الشيخ أبو زهرة بأسبقية الإمامين عليهما السلام
وتلميذيهما في فتح باب الأصول وفتق مسائله لكنه يرى:
أولا: أن رسالة الشافعي كتاب جامع يحتوي على معظم مسائل

(1) محاضرات في أصول الفقه الجعفري: 6.
مقدمة 62

أصول الفقه، واما كتابي هشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن فهما
يتحدثان عن موضع معين من مباحث الأصول.
وثانيا: يمكن عدهما من أمالي الإمامين لا تصنيفا مستقلا.
وثالثا: لا يمكن عد تصنيفهما كتاب أصوليا مجردا عن بقية العلوم،
بل هما مشتركان مع علوم أخرى.
ورابعا: وعلى فرض اختصاصهما بعلم الأصول فإنهما يعدان
تصنيفا في مسألة من مسائل علم الأصول لا جميعها.
أقوال أولا: في رأيي يمكن ايراد نفس هذه المناقشات على مصنف
الشافعي، فان الشافعي لم يكن مبدع هذا العلم ولا كان صاحب أول
تصنيف عنه، وانما أضاف من نفسه وعلمه الغزير إلى ما كان قد توصل اليه
أسلافه من مشايخ وفقهاء أهل السنة.
ثانيا: اما كتاب (الرسالة) فإنه أيضا لا يعد تصنيفا مستقلا كتبه
الشافعي بنفسه، بل هو أيضا مجموع أماليه التي أملاها في مجالس
متعددة على تلاميذه، والشاهد عليه عبارة راوي الكتاب في بداية كثير من
فصوله وأبوابه: (قال الشافعي) واستنتج أحمد شاكر - محقق كتاب
الرسالة - في مقدمته أن الكتاب من امالي الشافعي وليس تصنيفه (1).
ثالثا: لم تكن المواضيع المطروحة في (الرسالة) أبحاث مستقلة
- كما هو الشائع في التصانيف الأصولية في الأدوار اللاحقة - وإنما طرح
الشافعي أبحاثه في إطار الكتاب والسنة، ويتضح لنا حقيقة أسلوبه
بملاحظة عناوين الأبواب في (الرسالة) مثل: (باب ما نزل من الكتاب عاما

(1) أنظر: مقدمة (الرسالة) للشافعي ص 12.
مقدمة 63

يراد به العام ويدخله الخصوص)، و (باب ما أنزل من الكتاب عام الظاهر
وهو يجمع العام والخاص) و (باب بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد
به كله الخاص) وغيرها.
ورابعا: بالرغم من اشتهار كون (الرسالة) مدونة أصولية لكنها
مجموعة خليطة من مباحث في علم الأصول وغيره وليس فيها غلبة
للمباحث الأصولية على غيرها، مثلا يمكن أن نقرأ هذه العناوين فيها:
(باب فرض الله طاعة رسوله مقرونة بطاعة الله ومذكورة وحدها)، و (باب
ما أمر الله من طاعة رسوله)، و (باب ما أبان لخلقة من فرضه على رسوله
اتباع ما أوحى اليه وما شهد له من اتباع ما أمر به ومن هداه وانه هاد لمن
اتبعه) و (باب فرض الصلاة الذي دل الكتاب ثم السنة على من تزول عنه
بالعذر وعلى من لا تكتب صلاته بالمعصية)، و (باب الفرائض التي أنزله
الله نصا)، و (الفرائض المنصوصة التي سن رسول الله معها) و (جمل
الفرائض)، و (في الزكاة)، و (في الحج)، و (في العدد)، و (في محرمات
النساء)، و (في محرمات الطعام)، وغيرها من العناوين، وفي الحقيقة
يمكن عد (الرسالة) خليطا من أبحاث أصولية، وكلامية، وفروع فقهية،
وآيات الأحكام وتفسيرها (1).
وهكذا ثبت أن الشيعة الإمامية سبقت غيرها في مجال التدوين في
علم الأصول، لكنها تأخرت عن المذاهب السنية في مجال الممارسة
والتطبيق للسبب الذي مر ذكره.

(1) تحول علم الأصول: 24 - 15.
مقدمة 64

2 - مراحل تطور علم الأصول عند الشيعة الإمامية
قلنا إن الشيعة بدأت بممارسة علم الأصول عمليا وتطبيقيا في
بدايات القرن الرابع الهجري، أي منذ حدوث الغيبة الكبرى عام 329 ه‍
ولكنهم سبقوا هذا التاريخ بقرنين من الزمن بالتصنيف والتأليف واملاء
الأبحاث الأصولية - لكن الملاحظ في مدونات هذه الفترة، أي منذ ظهور
أول مدونة أصولية للشيعة في القرن الثاني الهجري وهي رسالة هشام بن
الحكم وحتى عصر الشيخ المفيد (توفي 413 ه‍):
أولا: اختصاصها بموضوع معين وبحث مفرد من الأبحاث الأصولية
مثل خبر الواحد، القياس، مباحث الألفاظ وغيرها.
وثانيا: اختلاط علم الأصول مع علم الكلام، بل كون الأبحاث
الأصولية فرعا وتابعا لأبحاث علم الكلام، والظاهر أن منشأ هذا
الاختلاط هو تسرب آراء أصولي أهل السنة إلى مدونات الشيعة، إذ أن
مقدمة 65

أعيان الأصوليين عند أهل السنة كانوا من المتكلمين فملأوا مصنفاتهم
الأصولية بالمباحث الكلامية التي كانت السبب في تنمية علم الأصول
وتطوره، ويمكن عد الباقلاني، والجبائيان، والقاشي عبد الجبار، وأبو
الحسين البصري من أعيان هذه الطبقة، وقد تناول أصوليو الشيعة في
مصنفاتهم آراء هؤلاء بالبحث والتمحيص والمناقشة والقبول أو الرد.
واليك أسماء مصنفي الإمامية في علم الأصول منذ عصر التدوين
في القرن الثاني الهجري وحتى عصر تدوين كتاب (العدة في أصول الفقه)
للشيخ الطوسي:
1 - هشام بن الحكم الشيباني الكوفي، من أصحاب الإمامين الصادق
جعفر بن محمد والكاظم موسى بن جعفر عليها السلام، له مصنفات
عديدة في علم الكلام والجدل والحديث، ويعد أول من صنف في علم
الأصول وله (كتاب الألفاظ) توفي عام 199 ه‍ ببغداد (1).
2 - يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين، وصفه النجاشي بقوله:
(كان وجها في أصحابنا، متقدما، عظيم المنزلة، ولد في أيام هشام بن
عبد الملك، ورأى جعفر بن محمد عليهما السلام بين الصفا والمروة ولم
يرو عنه، وروى عن أبي الحسن موسى والرضا عليهما السلام، وكان
الرضا عليه السلام يشير اليه في العلم والفتيا) له تصانيف كثيرة في
الحديث والفقه والتفسير والكلام، واما تصنيفه في علم الأصول فهو
(كتاب علل الحديث) أو (كتاب اختلاف الحديث) (2).

(1) رجال النجاشي: 433 رقم 1164.
(2) رجال النجاشي: 446 1208.
مقدمة 66

3 - الحسن بن موسى النوبختي، وصفه النجاشي بأنه (شيخنا المتكلم
المبرز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدها)، وقال عنه النديم في
الفهرست: (متكلم، فيلسوف، كان يجتمع اليه جماعة من النقلة لكتب
الفلسفة مثل أبي عثمان الدمشقي وإسحاق بن ثابت وغيرهم) له مصنفات
عديدة في أصناف الفنون، وله تصانيف في علم الأصول وهي: كتاب
الخصوص والعموم) و (كتاب في خبر الواحد والعمل به) (1).
4 - إسماعيل بن علي بن إسحاق النوبختي، شيخ متكلمي الإمامية في
القرن الثالث كان عالما، فاضلا، متكلما، وله جلالة في الدين والدنيا، له
مصنفات عديدة في مختلف الفنون، وصنف في الأصول (كتاب
الخصوص والعموم والأسماء والأحكام)، و (كتاب نقض رسالة
الشافعي) و (كتاب إبطال القياس)، و (كتاب النقض على عيسى بن أبان في
الإجتهاد) (2).
5 - الحسن بن علي بن أبى عقيل العماني الحذاء، ففيه، متكلم، ثقة،
في القرن الثالث الهجري، ويعد ابن أبي عقيل أول من أبدع نظام الإجتهاد
في الفقه الإمامي وصنف كتابا في الفقه باسم (المتمسك بحبل آل
الرسول) وهذا كتاب اجتهادي في الفقه الإمامي حيث أدرج فيه آراءه
الأصولية، قال عنه النجاشي: كتاب مشهود في الطائفة، وقيل: ما ورد
الحاج من خراسان الا طلب واشترى منه نسخ) (3).

(1) رجال النجاشي: 63 رقم 148، الفهرست للنديم: 255.
(2) رجال النجاشي: 31 رقم 68، الفهرست للنديم: 255.
(3) رجال النجاشي: 48 رقم 100.
مقدمة 67

6 - محمد بن أحمد بن الجنيد أبو علي الكاتب الإسكافي، من أعيان
الإمامية، ثقة، جليل القدر، له مصنفات كثيرة، وله مصنف في الأصول وهو
(كتاب كشف التمويه والالتباس في ابطال القياس) (1). توفي عام 381 ه‍.
7 - أبو منصور الصرام النيسابوري، من المتكلمين ومن مشايخ
الطوسي بخراسان، كان رئيسا مقدما وله كتب كثيرة، مدحة الشيخ
الطوسي في فهرسه وذكر له كتابا في علم الأصول وهو (كتاب ابطال
القياس) (2).
8 - الشيخ المفيد محمد بن محمد النعمان العكبري البغدادي، شيخ
الإمامية وزعيمها ببغداد في أواخر القرن الرابع وبدايات القرن الخامس
الهجري، يعد أعظم متكلمي المسلمين، وقد مدحه كل من ترجم له
ووصفوه بالإجلال والإكرام، وكان ملوك آل بويه ووزاؤهم يزورونه.
توفي ببغداد سنة 413 ه‍. له تصانيف كثيرة في شتى الفنون والعلوم ومنها
علم الأصول، ويبدو أنه أول من ألف تصنيفا يتضمن جميع مباحث علم
الأصول عند الإمامية، وقد أشار الشيخ الطوسي إلى كتابه في مقدمة
(العدة في أصول الفقه) وقد وصلنا مختصرة الذي صنعه الشيخ أبو الفتح
الكراجكي (ت 449 ه‍) وأدرجه في كتابه (كنز الفوائد) وسماه (المختصر
في أصول الفقه).
9 - الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي، تلميذ الشيخ
المفيد وزعيم الشيعة بعده، ومن أعيان ومشاهير علماء المسلمين في

(1) رجال النجاشي: 385 رقم 1047.
(2) رجال النجاشي: 190 رقم 852.
مقدمة 68

القرنين الرابع والخامس الهجريين ببغداد، توفي عام 436 ه‍، وتصنيفه
الأصولي هو كتاب (الذريعة إلى أصول الشريعة) حيث جمع فيه جميع
مباحث الأصول عند الإمامية في عصره.
10 - الشيخ محمد بن الحسن الطوسي مصنف كتاب (العدة في أصول
الفقه).
مقدمة 69

3 - الشيخ الطوسي ودوره في تطوير علم الأصول
يمكن عد الشيخ الطوسي من الرواد الأوائل في علم الأصول ومن
منظريه، فبالرغم من أنه عاش في القرن الخامس الهجري وسبقه آخرون
من الإمامية ومن أهل السنة في تدوين مصنفات في علم الأصول، لكن نبوغ
الشيخ أدى إلى أن يتطور علم الأصول على يديه تطورا ملحوظا بحيث
(جاء كتابه " العدة في أصول الفقه " فريدا في بابه لم يصنف مثله قبله، في
غاية البسط والتحقيق) (1)، فلو لا حظنا المدونات الأصولية عند الإمامية
والتي سبقت كتاب (العدة) وهما كتابا (المختصر في أصول الفقه) للشيخ
المفيد و (العدة) لتمكنا من معرفة مدى التطور الحاصل في هذا العلم
خلال هذه الفترة القصيرة التي لم تتجاوز ربع قرن، فاما (المختصر)

(1) الشيعة وفنون الاسلام: 57.
مقدمة 70

للمفيد فإنه كما وصفه الشيخ الطوسي بأنه (لم يستقصه وشذ منه أشياء
يحتاج إلى استدراكها وتحريرات غير ما حررها) (1). واما كتاب (الذريعة)
فبالرغم من أنه يعد قمة الفكر الأصولي عند الإمامية وتطورا ملحوظا
مقارنة عما سبقه من مؤلفات المسلمين في علم الأصول، لكن فيه من
الثغرات مما كان من الضروري أن يستدرك بتصنيف آخر يمثل رأي
الشيعة ويتوافق مع التطورات الحاصلة في الفكر الأصولي الإمامي، هذا
فضلا عن أنه يبدوا أن (الذريعة) لم تكن قد دونت بعد حينما شرع الشيخ
الطوسي في تأليف (العدة)، وقد وصف الطوسي الآراء الأصولية عند
شيخه الشريف المرتضى بقوله: (وإن سيدنا الأجل المرتضى - أدام الله
علوه - وإن كثر في أماليه وما يقرء عليه شرح ذلك، فلم يصنف في هذا
المعنى شيئا يرجع اليه ويجعل ظهرا يستند اليه) (2). ويمكن ارجاع جانب
من التطورات الحاصل في الفكر الأصولي عند الشيخ الطوسي والمتمثل في
كتابه (العدة) إلى ضلوعه وتعمقه في الأبحاث الفقهية، فقد كان الطوسي
فقيها قبل كل شيء وقد أدى غوره في البحوث الفقهية الوقوف على
الثغرات الموجودة في الفروع الفقهية مما يصعب على الفقيه تجاوزها
وحلها الا بالاعتماد على قواعد أصولية متينة مبنية على الأسس
الصحيحة والتي تؤدي ممارستها إلى سد تلك الثغرات وايجاد الحلول
المناسبة وتسهيل عملية الإجتهاد والفتوى.
وقد وصف الامام الخوئي - رحمه الله - هذا التطور بقوله: (قد فرض

(1) العدة في الأصول: 3.
(2) العدة في الأصول: 4.
مقدمة 71

التفاعل الفكري بين الفقه والأصول أن يواكب هذا التوسع الفقهي نحو
محسوس في الفكر الأصولي تمثل هو الآخر في كتاب (العدة) للشيخ
الطوسي قدس سره، ولم يحق هذا مرحلة جديدة في تطوير الفكر
الفقهي الشيعي ومناهجه الأصولية فحسب، بل حقق مكسبا عقائديا
كبيرا إذ رد على ذلك الاتهام الذي وجهه الخصوم الفكريون إلى مدرسة
أهل البيت وتحميلها مسؤولية عجز الفقه الشيعي عن النمو والإمتداد) (1).
ويكفي لملاحظة التطور الهائل في كتاب (العدة) أن نقارن بين أبحاث
وآراء الشيخ الطوسي فيه وآراء شيخه المرتضى في (الذريعة)، فالعدة
جامع لكل مباحث الأصول ومسائله وعلى غاية البسط والإستقصاء
والتحقيق، وقد لاحظت خلال تحقيقي عمقه في عرض الأبحاث
والمسائل، ودقته وبعد نظره في فرز الآراء الأصولية ومناقشة ما لا يتطابق
مع رأيه وفكره الأصولي، وقبوله للآراء الصائبة ثم إبداء آرائه التي لا
يصدرها إلا بعد تمحيص وتدقيق لآراء عامة الأصوليين وخاصة المعتزلي
منهم، وللطوسي عشرات النظريات الأصولية التي تفرد بها مثل: نظريته
عن الخبر الواحد، وعن حد العلم، وعن تقسيمه للعلوم الضرورية، وعن
مفهوم الظن عند الشيعة، وعن معنى الدلالة، والدال، والشاك، والمقلد،
والعقل، والإمارة، والحسن والقبح، والاستعارة، وعن حكم الأمر الوارد
عقيب الحظر، وعن الأمر المعلق بصفة أو شرط، وعن الأمر المعلق بوقت،
وفي اقتضاء الأمر، وعن حقيقة النهي، وعن معني الخاص، والاستثناء،

(1) مقطع من رسالة الامام الخوئي (ره) إلى المرجان الألفي للشيخ الطوسي.
مقدمة 72

والشرط والغايات، وعما ألحق بالعموم وليس منه، وعن تخصيص
العموم، وعن الألفاظ المجملة، وعن شرائط النسخ والمنسوخ، وكيفية
نسخ الكتاب والسنة، وعن مفهوم البداء عند الشيعة، وشروط تحقيق
الإجماع عند الإمامية ومدى حجيته، وعن القياس، والاجتهاد (بالمعنى
المصطلح عليه عند المذاهب السنية) وعدم حجيتهما عند الإمامية
وغيرها من الآراء التي كانت لها تأثيرات كبيرة في الفكر الأصولي الشيعي،
ولقوة هذه الآراء وعلو مكانة الشيخ الطوسي عند الإمامية بقيت آراؤه
الأصولية إلى قرون عديدة تمثل رأي الشيعة (وإن حصلت فيها تغييرات
في فترات لاحقة في عصر العلامة الحلي وبعده) وبقي كتاب (العدة) مادة
أساسية في المناهج المدرسية لطلاب مدارس العلوم الإسلامية عند
الشيعة، وقام بعض أصولي الإمامية بالتعليق عليه وشرح غوامضه.
وفي نهاية هذا البحث ينبغي التنبيه إلى نقطة هامة ألا وهي الإشارة
إلى التطور الهائل الذي حصل في الفكر الأصولي عند الشيعة بعد الشيخ
الطوسي وخاصة منذ القرن السابع الهجري وحتى عصرنا الحاضر -
خلافا للركود والجمود الذي حصل في الفكر الأصولي عند أهل السنة
والذي لازال مستمرا - حيث لو أردنا بيان النسبة بين علم الأصول في
عصر الشيخ الطوسي وعصرنا الحاضر لما كنا مجازفين ولا مفالين في
القول بأن النسبة بينهما نسبة الواحد إلى الألف!! وللحديث عن هذا التطور
وأسبابه وعوامله مجال آخر. والله تعالى هو الهادي إلى الصواب.
مقدمة 73

4 منهج الشيخ الطوسي في تدوين كتاب (العدة في أصول الفقه)
يحتوى كتاب (العدة) على اثني عشر بابا، ويتضمن كل باب على
فصول عديدة تقل ويكثر تعدادها حسب سعة أبحاث الباب وقلته. وقد
تحدث المصنف في الباب الأول وخلال ستة فصول عن ماهية أصول
الفقه، وعن أمور أخرى خارجة عن موضع علم الأصول ولكنها مرتبطة به
ارتباطا وثيقا، كما حاول تحديد بعض المفاهيم اللغوية والاصطلاحات
الكلامية ومباحث الألفاظ، مثل مفهوم العلم، والعلم الضروري، والظن،
والشك، والدلالة، والعقل، والإمارة، والحسن والقبح، والحقيقة،
والاستعارة، والمجاز، والأسماء، واللفظ المشترك والكناية وغيرها.
ثم تكلم المصنف في الباب الثاني عن الخبر وحده وأقسامه، ثم
تحدث طويلا عن الخبر الواحد وخالف فيه مذهب شيخه الشريف
المرتضى فذهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد وأقام على مذهبه أدلة
مقدمة 74

عديدة ودحض خلال أربعين صفحة أدلة خصومه.
وأوسع الأبواب في كتاب (العدة) هو الباب الخامس الذي عقده
للتكلم عن العموم والخصوص خلال 22 فصلا، وفي هذه الأبواب ومن
خلال فصوله وأبحاثه يبدو لنا شيخ الطائفة بحاثا قديرا، وأصوليا ماهرا،
وعالما نحريرا، عارفا بأساليب الأصوليين وأدلتهم وطرق مناقشاتهم،
فالطوسي في بداية كل فصل يطرح آراء جميع الأصوليين من الشيعة
وأهل السنة، وآراء أرباب المذاهب، فهو أمين في طرحه لآرائهم
ويحاول أن ينقله كما طرحه صاحبه دون أن ينقص منه شيئا أو يزيد
عليه، ثم يبدأ بمناقشة الأدلة الواحدة تلو الأخرى ويحاول أن يدعم رأيه
ومذهبه بالكتاب والسنة واللغة وأدلة العقل. وأخيرا وبعد أن يرد قول
الخصم يبرز رأيه المختار. والمصنف خلال أبحاث الكتاب يتعرض
لآراء مجموعة من فقهاء أهل السنة وأئمة مذاهبهم أمثال: أبي حنيفة،
الشافعي، داود بن علي الظاهري، مالك بن أنس، أبو الحسن الكرخي،
محمد بن الحسن الشيباني وغيرهم. كما يتعرض المصنف لآراء جماعة
من أعيان الأصوليين من أهل السنة - المعتزلي منهم والأشعري - أمثال أبو
عبد الله البصري، القاضي عبد الجبار، أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم،
وأبو القاسم البلخي، وأبو العباس بن سريج وآخرون. وأما من الشيعة فان
الطوسي يطرح رأي شيخيه الشيخ المفيد والمرتضي - رحمهما الله - في
جميع أبواب الكتاب تقريبا، والملاحظ أنه يهتم كثيرا برأي المرتضى
وينقل مقاطع كبيرة من عباراته لكن لم يشر إلى المصدر المنقول عنه بل
يكتفي بالإشارة إلى أنه: قال سيدنا المرتضى - أدام الله علوه - أو - قدس الله
مقدمة 75

روحه - بل يتجاوز الطوسي في بعض الاحيال الحدود المتعارفة في نقل
النصوص، فينقل فصلا كاملا عن المرتضى، كما هو الحال في باب
القياس، حيث أورد فقرة طويلة بدأت من صفحة 649 وختمت في صفحة
721، ولم يشر المصنف في هذا المورد أيضا إلى مصدره الذي نقل عنه
سوى قوله في نهاية الفقرة: (وقد أثبت في هذه المسألة أكثر ألفاظ
المسألة التي ذكرها سيدنا المرتضى رحمه الله في إبطال القياس لأنها
سديدة في هذا الباب)، وجميع هذه النصوص والفقرات مأخوذة من
كتاب (الذريعة إلى أصول الشريعة) (1). ولا نعرف السبب في عدم إشارة
الطوسي لكتاب المصدر، وأظن أن المصنف نقل هذه النصوص مشافهة
عن شيخه المرتضى في أيام تلمذته عليه وقبل أن يكتمل ترتيب،
وتبويب، وتصنيف (الذريعة)، ويستنتج من هذا الأمر أن الطوسي صنف
كتابه ببغداد قبل عام 430 ه‍ وهي السنة التي أكمل الشريف المرتضى
تصنيف كتابه (الذريعة) وأخرجه إلى الملأ العلمي (2). وهكذا يبدو أن
الطوسي رحمه الله قد سبق شيخه الشريف المرتضى في تأليفه، فصدور
كتاب (العدة) أسبق زمانا من (الذريعة)، بالرغم من سبق المرتضى في
طرح أبحاث كتابه على طلابه ومنهم الطوسي الذي استفاد مما كتبه في
مجالس درس المرتضى في أبحاث كتابه، وهناك قرينة أخرى دالة على
سبق صدور (العدة) على (الذريعة) وهي قول الشيخ الطوسي في ديباجة

(1) وقد استخرجت جميع هذه النصوص من (الذريعة) وأشرت إلى مواضعها فيها.
(2) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 10: 26.
مقدمة 76

(العدة): " فان سيدنا الأجل المرتضى - قدس الله روحه (1) - وإن كثر في
أماليه وما يقرأ عليه شرح ذلك، فلم يصنف في هذا المعنى شيئا يرجع
اليه، ويجعل ظهرا يستند اليه) (2)، حيث يصرح بأنه لم يصدر للمرتضى -
رحمه الله - كتاب في مباحث الأصول سوى بعض الأبحاث المتفرقة
المذكورة في أماليه.

(1) في الحجرية: أدام الله علوه.
(2) العدة في أصول الفقه: 4.
مقدمة 77

5 - مخطوطات كتاب " العدة في أصول الفقه "
توجد لكتاب (العدة) مخطوطات عديدة في المكتبات الخاصة
والعامة، فبعضها مدرجة في ضمن كتاب (حاشية العدة في أصول الفقه)
للمولى خليل بن غازي القزويني، وبعضها مستقلة، وهنا نحاول إحصاء
مخطوطات الكتاب مجردة عن حاشيته، واما نسخه مع الحاشية فإنها
كثيرة والسبب في ذلك أنها كانت تعد من الكتب الدراسية في الحوزات
العلمية الشيعية، ومؤلف الحاشية - كما وصفه العلامة الشيخ آقا بزرك
الطهراني - بقوله: " المولى خليل بن الغازي القزويني المولود في 3 رمضان
1001 ه‍ والمتوفى 1089 ه‍، ترجمة وأرخه وفصل تصانيفه صاحب
(الرياض) وذكر انه لم يوفق لملاقاته في حياته لكن وفق لزيارته بعد
وفاته، وذكر أن حاشيته على (العدة) التي عبر عنها في (الأمل) بالشرح
في مجلدين يعرف أحدهما بالحاشية الأولى والآخر بالحاشية الثانية
مقدمة 78

أورد فيها مسائل كثيرة من الأصول والفروع وغيرهما... وقد طبعت
(حاشية العدة) مع (العدة) في إيران في 1314 ه‍ وذلك بعد طبع العدة في
بمبي في 1312 ه‍ " (1). ونظرا لأهمية كتاب (العدة) فقد طبع لأول مرة في
الهند قبل أكثر من قرن من الزمن على الحجر (سنة 1312 ه‍) ثم تلتها طبعة
أخرى حجرية أيضا بطهران عام 1314 ه‍ (2) حيث ألحق بآخرها حاشية
القزويني.
واليك سرد لمخطوطات هذا الكتاب وهي:
1 - نسخة كاملة بخط النسخ، كتبها عبد الصمد بن عبد الله بن الحسين بن
أحمد سنة 518، وهي من مخطوطات (كتابخانه آستان قدس
رضوي) ورقمها 2916.
2 - نسخة كاملة بقلم نسخي مؤرخة سنة 1050 ه‍، مجهولة الكاتب في
(كتابخانه آستان قدس رضوي) ورقمها 3003.
3 - نسخة ناقصة الأواخر، كتبها محمد مؤمن مشهدي بن علي سراج
الأسفراييني في ذي القعدة سنة 1055 ه‍ وهي من مخطوطات
(كتابخانه ملي ملك) بطهران برقم 1966.
4 - نسخة كاملة في مكتبة (مدرس يزدي) بمدينة يزد، كتبها محمد شفيع
بن محمد شريف حسني فدكي بتاريخ 1057 ه‍.
5 - نسخة ناقصة الأوائل، كتبها شمس الطالقاني سنة 1080 ه‍ وهي من

(1) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 6: 148 رقم 807.
(2) قام صديقنا المحقق الفاضل الشيخ محمد مهدي نجف بتحقيق الفصل الأول والثاني من
الكتاب سنة 1403 ه‍، وهو مطبوع في قم، ولم يكمل تحقيق باقي الكتاب، بل تركه.
مقدمة 79

مخطوطات (كتابخانه آستان قدس رضوي) برقم 2917.
6 - نسخة كاملة، بخط نسخي، مجهولة الناسخ، مؤرخة جمادي الثاني سنة
1051 ه‍ وهي من مخطوطات (كتابخانه وزيري يزد) ورقمها 1033.
7 - نسخة بقلم نسخ، كتبها حسين بن هلال مؤرخة سنة 723 ه‍، وهي من
مخطوطات (كتابخانه وزيري يزد).
8 - نسخة كاملة، كتبها كمال الدين محمد بتاريخ 1090 ه‍، وهي من
مخطوطات (كتابخانه آستان قدس رضوي) ورقمها 2913.
9 - نسخة ناقصة الأواخر، مجهولة الكاتب، وهي من مخطوطات القرن
العاشر في (كتابخانه ملي إيران) بطهران.
10 - نسخة كاملة، مجهولة الناسخ، كتبت في محرم عام 1126 ه‍ وهي من
مخطوطات (كتابخانه ملي ملك) ورقمها 6360.
11 - نسخة بقلم نسخي، كتبها محمد بن محمد مهدي سنة 1231 ه‍ وهي
من مخطوطات (كتابخانه آستان قدس رضوي) ورقمها 6913.
12 - نسخة كاملة، في مكتبة (مدرسة الإمام البروجردي) في النجف
الأشرف، كتبها محمد حسين بن شيخ علي بقزوين يوم الخميس 14
جمادي الآخرة سنة 1240 ه‍، ورقمها 282.
13 - نسخة كاملة، بقلم نسخي، كتبها علي محمد ديزي لنجاني بتاريخ
5 ربيع الثاني سنة 1226 ه‍، وهي من مخطوطات (كتابخانه آية الله
مرعشي) بقم ورقمها 5295.
14 - نسخة كاملة، بقلم نسخي، كتبها محمد علي بتاريخ 19 رجب 1207 ه‍،
مقدمة 80

وهي من مخطوطات (كتابخانه وزيري يزد) ورقمها 1592.
15 - نسخة كاملة، بقلم نسخي، نسخها محمد تقي الكاشاني في جمادي
الأول سنة 1262 ه‍ وهي من مخطوطات (كتابخانه وزيري يزد)
ورقمها 1908.
16 - نسخة بقلم نسخي، ناقصة الآخر من القرن الثالث عشر، وهي من
مخطوطات (كتابخانه آية الله مرعشي) ورقمها 142.
17 - نسخة ناقصة الآخر كتبها محمد أمي بن صفي قلي خان، مجهولة
التاريخ والظاهر أنها من نسخ القرنين الأخيرين، وهي من مخطوطات
(كتابخانه آستان قدس رضوي) في خراسان.
18 - نسخة بقلم نسخي، كتبها سعيد بن علي بن حسين الحسيني التنكابني
في غرة جمادي الأول سنة 1311 ه‍ (الجزء الأول) و 1312 ه‍ (الجزء
الثاني)، وهي من مخطوطات (كتابخانه آية الله مرعشي) ورقمها 5140.
19 - نسخة بقلم نسخي، كتبها محمد جعفر بتاريخ 4 شعبان 1272 ه‍، وهي
من مخطوطات (كتابخانه سيد محمد علي روضاتي) بأصفهان.
20 - نسخة بقلم نسخي، كتبها علي رضا يزدي بتاريخ الثلاثاء 16 رمضان
1279 ه‍، وهي من مخطوطات مكتبة (مدرس يزدي) في يزد.
21 - نسخة بقلم نسخي، مجهولة الناسخ، كتبت بتاريخ 22 رجب 1282 ه‍
وهي من مخطوطات (كتابخانه دامغاني) في مدينة همدان.
22 - نسخة كاملة من مخطوطات (مكتبة كاشف الغطاء) في النجف
الأشرف، مجهولة الناسخ والتاريخ.
23 - نسخة في مكتبة منچستر ببريطانيا، وهي مجهولة التاريخ، ورقمها
مقدمة 81

24 - نسخة مجهولة الناسخ والتاريخ في مكتبة الموصل بالعراق.
25 - نسخة ناقصة الأواخر، مجهولة الناسخ والتاريخ، وهي في (كتابخانه
آستان قدر رضوي) ورقمها 2912.
26 - نسخة ناقصة الأواخر، مجهولة الناسخ والتاريخ، وهي في (كتابخانه
آستان قدس رضوي) ورقمها 2914.
27 - نسخة بقلم نسخي، مجهولة الناسخ والتاريخ، وهي في (كتابخانه
آستان قدس رضوي) ورقمها 2915.
28 - نسخة بقلم نسخي، مجهولة الناسخ والتاريخ، وهي في (كتابخانه
آستان قدس رضوي) ورقمها 8497.
29 - نسخة ناقصة، بقلم نسخي، مجهولة الناسخ والتاريخ، وهي من
مخطوطات (كتابخانه آية الله مرعشي) ورقمها 6339 (1).

(1) فهرست الفبايي كتب خطي كتابخانه مركزي آستان قدس رضوي: 401، مقالة (نسخه هاى
خطي مؤلفات شيخ طوسي در كتابخانه ملي ملك) في (الذكرى الألفية للشيخ الطوسي) 1:
116 - 115 و 3: 655 - 653، الشيخ الطوسي لحسن عيسى الحكيم: 570 - 568، فهرست
نسخه هاى خطي كتابخانه ملي ملك، فهرست نسخه هاى خطي كتابخانه ملي إيران، فهرست
نسخه هاى خطي كتابخانه وزيري يزد، فهرست نسخه هاى خطي كتابخانه عمومي حضرت آية الله
العظمى نجفي مرعشي، نشريه كتابخانه مركزي دانشكاه تهران.
مقدمة 82

6 - أوصاف النسخة التي اعتمدتها
بالرغم من الكثرة النسبية لنسخ مخطوطات كتاب (العدة في أصول
الفقه) لكن تاريخ جميعها لا يتجاوز القرن العاشر الهجري، إلا نسخة
واحدة وهي تعد من نفائس وأعلاق المخطوطات في خزانة مخطوطات
(كتابخانه آستان قدس رضوي) في مدينة مشهد المقدسة بخراسان، وقد
اعتمدت في تحقيقي للكتاب على هذه النسخة اليتيمة والتي مر ذكرها
برقم (1) عند عرضي لمخطوطات الكتاب، وأوصاف هذه النسخة كما
يلي:
النسخة بقلم نسخي قديم، 205 ورقة، قياس 10 * 19 سم، 24 سطر.
أوراق هذه النسخة نظيفة وخطها مقروء، ويبدو أن الناسخ الذي نسخها
كان من أهل العلم والفضل والمعرفة وذلك بدليل سلامة النسخة عن
التصحيف، والتحريف، واللحن، والأغلاط الفاحشة، والأخطاء الإملائية
التي غالبا ما تبتلى بها النسخ التي ينسخها الورافون. يوجد في آخر هذه
مقدمة 83

النسخة سقط بمقدار ورقتين، ونتيجة لذلك خفي علينا تاريخ نسخها
الحقيقي واسم الناسخ، لكن قام ناسخ آخر باكمال هذا السقط فنسخ
الصفحة الأخيرة وأثبت فيها اسمه وتاريخ كتابته حيث قال: "
تم الكتاب وربنا محمود * وله المكارم والعلى والجود
على النبي محمد صلواته * ما ناح قمري وأورق عود
وقع الفراغ من كتبه عبد الصمد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد في
ذي الحجة سنة ثمان عشر وخمس مائة هجرية، حامدا لله، ومصليا على
نبيه محمد [وآله] الطاهرين ".
ويستفاد من هذه الخاتمة أن السقط الذي كان موجودا في النسخة
قد أكمل سنة 518 ه‍. واما الناسخ فلا نعرف شيئا عن تفاصيل حياته ولم
يرد له ذكر في تراجم الأعلام إلا ما ذكره العلامة الطهراني بقوله:
" عبد الصمد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد، من فضلاء عسره، وقد كتب
بخطه (عدة الأصول) لشيخ الطائفة في 528 ه‍ والنسخة موجودة في
الخزانة الرضوية " (1). هذا وينبغي التنبيه إلى ان عبد الصمد بن عبد الله لم
يكن ناسخا لتمام الكتاب بل أكمل الورقتين الأخيرتين من النسخة وأورد
في نهايتها اسمه، وأيضا لم يكن تاريخ نسخه سنة 528 ه‍ (وقد انتقل هذا
الخطاء من مفهرس مخطوطات المكتبة إلى جميع من تحدث عن مؤلفات
الشيخ الطوسي) بل هو سنة 518 ه‍ كما يظهر لمن يلاحظ تصوير النسخة.
وأما تاريخ كتابة أصل المخطوطة فإنه كما قال لي مفهرس المكتبة
وخبير المخطوطات فيها، أقدم من تاريخ الإكمال، وانه توجد في النسخة

(1) طبقات اعلام الشيعة ق 6: 151.
مقدمة 84

قرائن وشواهد على أنها نسخت في النصف الثاني أو الربع الأخير من
القرن الخامس الهجري. وتوجد على هوامش بعض أوراق النسخة
تصحيحات وتصويبات لكنها ليست كثيرة وخطها ليس بقدم قلم النسخة.
ويبدو أن النسخة كانت من ممتلكات حفيد السيد نعمت الله الجزائري،
حيث أثبت ملكيته لهذه النسخة على الصفحة الأولى بقوله: (انتقل إلى
أقل عباد الله عملا، وأكثرهم زللا، عبد الله بن نور الدين بن نعمت الله بن
عبد الله الموسوي الجزائري التستري في سنة 1145 ه‍).
هذا وقد استعنت في تحقيقي بنسختين من مخطوطات (كتابخانه
آية الله مرعشي) أشرت اليهما عند إحصائي لمخطوطات الكتاب برقم
13 و 16 و كانت استفادتي منهما قليلة ويسيرة، فقد راجعتهما للتأكد من
بعض الكلمات وإملائها أو صحة الإعراب وحركاتها، وجميع ذلك في
موارد قليلة جدا حيث ان جل اعتمادي في التحقيق كان على النسخة
الأصلية لقدمها، وقربها من عصر المؤلف، وسلامتها من النقص
والتحريف والتصحيف واللحن.
وقد اعتمدت أيضا في تحقيق على الطبعة الحجرية، وهي الطبعة
الثانية للكتاب والتي طبعت بطهران سنة 1314 ه‍، وسبب اختياري لهذه
الطبعة أنها طبعت في طهران قبل قرن من الزمان وباشراف فضلائها وقد
اعتمدوا في طبعها على نسخ عديدة مصححة فتداولت النسخة بعد الطبع
ولم يرد عليها أي ايراد خلال هذه الفترة بل مدحوها واعتمدوا عليها في
أبحاثهم وارجاعاتهم.
مقدمة 85

رابعا: عملنا في التحقيق
1 - قمت بنسخ المخطوطات الأصلية، مع تقطيع الأسطر، والأبواب،
والأقوال، والأجوبة وجعلها في المواضع المناسبة لها حسب الأسلوب
الحديث في طباعة المخطوطات، ثم بعد ذلك قمت بعملية مقابلة النص
الأصلي المنسوخ مع الطبعة الحجرية وتثبيت الاختلافات، وقد توخيت
الحذر والدقة في المقابلة لئلا يفوتني شئ وان كان اختلافا بسيطا فثبت
جميع ذلك في الهامش، ولكنني حين مراجعتي للكتاب لاحظت في
بعض الموارد أن اللفظة أو العبارة المستعملة في النسخة الثانية أصح
وأسلم وأبعد عن اللحن من التي في نسخة الأصل، فلأجل سلامة النص
وجعله أقرب ما يكون من الصورة الأصلية التي وضعها الشيخ الطوسي
أبدلت ما في نسخة الأصل بما في النسخة الثانية وأشرت إلى ذلك في
الهامش بقولي: (في الأصل...).
مقدمة 87

2 - ثم وبعد أن فرغت من المرحلة الأولى شرعت في المرحلة الثانية
والأصلية من تحقيق الكتاب، ألا وهي مراجعة النص من البداية حيث
قمت بقراءة النص قراءة متأنية ووقفت عند كل قول نسبه الشيخ
الطوسي رحمه الله إلى قائل ما أو لمذهب ما فراجعت المصادر المتاحة
وحاولت العثور على مصدر القول والإشارة إليه في الهامش، وعند فقد
المصدر الأصلي للقائل - كما هو الحال بالنسبة إلى بعض مصنفات
القاضي عبد الجبار المعتزلي (كالعمد) أو الجبائيين أبي على وابنه أبي
هاشم وغيرهما - حاولت اسناد قول الشيخ بذكر مصادر ثانوية تنسب هذا
القول للقائل، وقد أشرت إلى أرقام صفحات بعض المصادر التي أخذ
منها الشيخ الطوسي نصا طويلا أو قصيرا كما هو الحال بالنسبة إلى
(الذريعة إلى أصول الشريعة) للشريف المرتضى و (المعتمد في أصول
الدين) لأبي الحسين البصري وغيرهما.
3 - قمت بتحقيق النصوص الفقهية التي يذكرها المصنف في كتابه
أثناء المناقشة والاستدلال وذلك بالرجوع إلى كتب الفقهاء ومصنفاتهم - سواء
من الإمامية أو من المذاهب السنية - وأشرت إلى مكان وجودها في تلك المراجع.
4 - قمت بتحقيق الأحاديث والروايات التي ذكرها المصنف أو
اعتمدها في أثناء الإستدلال واستخرجتها من أقدم المصادر وأصحها،
ولم اكتف في ذلك بمصدر واحد أو مصدرين، بل حاولت قدر الإمكان
ارجاعها إلى جميع صحاح أهل السنة وغيرها من المسانيد والمجاميع
مقدمة 88

الروائية، وكذلك الحال إلى مصادر الحديث المعتبرة عند الإمامية، وقد أشرت
في بعض الموارد إلى رجال الحديث وأقوال الرجاليين في توثيقهم أو تضعيفهم.
5 - بما أن هذا الكتاب يعد فريدا من نوعه ووحيدا في بابه وأسلوبه
حيث عرض فيه المصنف علم أصول الفقه المقارن، وبالرغم من أن الشيخ
الطوسي يتعرض لأقوال وآراء جل الأصوليين المعاصرين له أو
المتقدمين عليه لكنه لم يستقصهم، فرأيت تتميما للفائدة أن أذكر في
بداية كل فصل جميع الأقوال والمذاهب المعروفة في تلك المسألة عند
أهل السنة - سواء من سبق المصنف أو عاصره أو تأخره عنه - واقارنها
بأقوال أصولي الشيعة وبالمذهب المختار عند مشهورهم.
6 - ربما أطلق المصنف العبارة في بعض المسائل دون أن يشير إلى
محل النزاع ويحاول تحريره، ولذلك قمت بتحقيق محل النزاع وتنقيحه
وبيان موطن الخلاف فيه حتى يسهل على القارئ فرز الأقوال والآراء
ومعرفة سبب الخلاف.
7 - استعنت بكتاب (حاشية عدة الأصول) للمولى خليل بن الغازي
القزويني المطبوعة في نهاية طبعة طهران الحجرية لتوضيح ورفع الإبهام
والغموض عن بعض كلمات المصنف وعباراته أو اصطلاحاته في الجزء
الأول من (العدة)، وقد أشرت إلى عبارة الحاشية في الهامش بعلامة (*).
مقدمة 89

8 - ترجمت لكل رجل من الرجال الذين ذكرهم الشيخ الطوسي
ترجمة موجزة تبين قدر الرجل ومنزلته وسنة وفاته وأهم مؤلفاته إن كانت
له مؤلفات، ولكنني إستثنيت منهم من يعد من المشاهير كالخلفاء الأربعة
والمعصومون عليهم السلام.
9 - قمت بتخريج الآيات القرآنية وأشرت في موارد معدودة إلى
أماكن وجودها في بعض التفاسير المهمة.
10 - لم يستشهد المصنف بالأبيات الشعرية إلا في ثلاثة موارد حيث
بيت شعر ورجزين، فقمت بتخريج ما أمكن من ذلك وترجمت لقائلها
ترجمة موجزة مع بيان مصادر الترجمة والتخريج.
12 - قمت بترقيم فصول الكتاب وذلك لأجل تسهيل عملية الرجوع
والفهرسة، فجعلت لفصول كل باب رقما خاصا في داخل المعقوفتين [].
13 - لاحظت ألفاظا ملحوظة ولكنها نادرة جدا وفي موارد غير مهمة
مثل تكون ويكون، كان وكانت، فصححتها دون الإشارة إليها لوضوح الأمر فيها.
مقدمة 90

14 - بالنسبة للرسم الإملائي قمت بكتابة النص على الرسم
المتعارف اليوم لا على ما جرى عليه الناسخ قبل عشرة قرون، فكتبت بدل
الصلاة الصلاة، والوطي الوطء، وغيرهما، وذلك ايثارا للتسهيل على من
يطالع الكتاب، وجريا على المتعارف عليه اليوم.
15 - حاولت قد الإمكان تحريم المواضع المهمة في الكلمات
بالحركات الإعرابية خاصة في الموارد التي لا يتميز اسم الفاعل عن اسم
المفعول الا بالفتح أو الكسر مثل المخبر والمخبر، وذلك لأجل تسهيل
القراءة وفهم مضمون اللفظ ومراد المصنف.
16 - مما يكثر المصنف استعماله في الكتاب الإرجاع، فهو كثيرا ما
يقول: (سبق وأن ذكرناه) أو (قد مر ذكره) أو (سوف يأتي ذكره)
ونظائرهما، فقمت بارجاع جميع الموارد إلى مواضعها الأصلية، بل
أشرت إلى مواضع بعض الأبحاث المهمة، وآراء الفقهاء والأصوليين في
الهامش عند تكرار البحث من المصنف أو إشارته إليها.
17 - ذكر المصنف أثناء المناقشة والبحث أقوالا لم ينسبها لقائل
معين بل اكتفى بالقول: (قالوا - فان قيل - قيل) وقد راجعت جميع المصادر
المتاحة وعثرت على أغلب القائلين وأشرت إلى أسمائهم ومصادر
أقوالهم في الهامس، وفي موارد نادرة أشرت إلى اننا لم نتحقق من قائله.
مقدمة 91

18 - وأخيرا قمت باستخراج فهارس تفصيلية عديدة وهي كما يلي:
فهرس الآيات، فهرس الأحاديث، فهرس الآثار وأقوال الصحابة،
فهرس الأعلام، فهرس الفرق والطوائف والمذاهب، فهرس الكتب
الواردة في المتن، فهرس الأشعار، فهرس الأماكن والبقاع، فهرس مصادر
البحث والتحقيق، فهرس محتوى الكتاب.
وفي الختام أبتهل إلى الله العلي القدير لتوفيقه إياي
أن أعيش في رحاب هذا الكتاب المبارك،
وأسأله تعالى أن يتقبل عملي، ويخلص نيتي،
ويجعله ذخرا لي يوم لا ينفع
مال ولا بنون... كما أود أن أهدى
هذا الجهد المتواضع
إلى والدي العلامة الحجة الشيخ
أحمد الأنصاري القمي الذي لا يزال
يرزح تحت نير الظالمين في سجون العراق،
شاكرا أياديه الكريمة في تربيتي وبري، سائلا
المولى القدير أن يمن عليه بالفرج العاجل، أمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
غرة ذو القعدة الحرام 1417 ه‍
محمد رضا الأنصاري القمي
مقدمة 92

صورة الصفحة الأولى من النسخة المخطوطة
مقدمة 93

صورة احدى صفحات النسخة المخطوطة
مقدمة 94

صورة الصفحة الأخيرة من النسخة المخطوطة
مقدمة 95

صورة الصفحة الأولى من الطبعة الحجرية
مقدمة 96

صورة الصفحة الأخيرة للجزء الأول من الطبعة الحجرية
مقدمة 97

صورة الصفحة الأخيرة للجزء الثاني من الطبعة الحجرية
مقدمة 98

العدة في أصول الفقه
تأليف الشيخ الطائفة: أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي رحمه الله
385 - 460 ه‍
الجزء الأول
تحقيق محمد رضا الأنصاري
1

الطبعة الأولى ذو الحجة 1417 ه‍.
المطبعة ستاره - قم
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة على خير خلقه محمد، وآله الطيبين.
قد سألتم أيدكم الله، املاء مختصر في أصول الفقه، يحيط بجميع أبوابه على وجه
الاختصار والايجاز (1)، على ما تقتضيه مذاهبنا،
وتوجبه أصولنا فان من صنف في هذا الباب
سلك كل قوم منهم المسالك التي اقتضاها (2) أصولهم، ولم يصنف أحد (3) من أصحابنا
في هذا المعنى، إلا ما ذكره شيخنا أبو عبد الله رحمه الله (4) في المختصر الذي له في أصول

(1) على سبيل الإيجاز والاختصار.
(2) المسلك الذي اقتضاه.
(3) ولم يعهد لأحد.
(4) هو الشيخ المفيد، أبو عبد الله، محمد بن محمد بن النعمان، العكبري، البغدادي. يعد أعظم متكلمي الإمامية.
ولد عام 336 ه‍ [أو 338] بعكبري، وعاش ببغداد، وحضر دروس أعلامها، كانت له مجالس درس ونظر، فربي
جماعة من الاعلام أمثال الشريفين الرضي، والمرتضى، والطوسي، وغيرهم. مدحه المترجمون له، فقال عنه ابن
أبي طي الحلبي في تاريخه: (هو شيخ مشايخ الطائفة، ولسان الإمامية، ورئيس الكلام والفقه والجدل، وكان يناظر
أهل كل عقيدة مع الجلالة العظيمة في الدولة البويهية، وكان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، خشن اللباس، وكان عضد الدولة ربما زار الشيخ المفيد، عاش ستا وسبعين سنة، وله أكثر من مئتي مصنف) توفي
في رمضان عام 413 ه‍ وشيعه ما يزيد على مئة ألف ودفن بمقابر قريش، وفي ذكراه الألفية أقيم مؤتمر عالمي
في مدينة قم شارك فيه وفود خمسون دولة وطبعت كتبه ورسائله في 14 مجلد. قد صارت عند دراسته مفصلة
باللغة الانكليزية وهي كتاب:
(نظريات علم الكلام عند الشيخ المفيد = The Theology of AL - Shaik - AL - Mufid) حيث نال بها
كاتبها الأب اليسوعي مارتن مكدرموت شهادة الدكتوراه من جامعة شيكاغو، وقد ترجم الكتاب إلي اللغة العربية
3

الفقه (1) ولم يستقصيه، وشذ منه أشياء يحتاج إلي استدراكها، وتحريرات غير ما حررها فإن (2)
سيدنا الاجل المرتضى (3) قدس الله روحه (4) وإن كثر في أماليه، وما يقر عليه، شرح ذلك، فلم
يصنف في هذا المعنى شيئا يرجع إليه، ويجعل ظهرا يستند إليه.
وقلتم: إن هذا فن من العلم، لابد من شدة الاهتمام به، لان] الشريعة كلها مبنية عليه ولا
يتم العلم بشئ منها من دون إحكام أصولها، ومن لم يحكم أصولها فإنما يكون حاكيا ومقلدا،
ولا يكون عالما وهذا منزلة يرغب أهل الفضل عنها.
وأنا مجيبكم إلى ما سألتم عنه، مستعينا بالله وحوله وقوته وأسأله أن يعني (5) على ما
يقرب من ثوابه ويبعد من عقابه.
وأقدم (6) في أول الكتاب فصلا يتضمن ماهية أصول الفقه وانقسامها وكيفية ترتيب
أبوابها وتعلق بعضها ببعض، حتى أن الناظر إذا نظر فيه وقف على الغرض المقصود بالكتاب
وتبين من أوله إلى آخره (7). والله تعالى الموفق للصواب.

و الفارسية. [الفهرست النديم: 178 و 197، تاريخ بغداد 3: رجال النجاشي 3: 40 - 399، ط جماعة
المدرسين، الفهرست للطوسي: 186 ط نجف، العير في خبر من غير 3: 115 - 114].
(1) واسمه (التذكرة بأصول الفقه) وهو كتاب مختصر في علم أصول الفقه، ألفه الشيخ المفيد لبعض إخوانه - كما
جاء في مقدمتها - ثم لخصه العلامة الشيخ أبي الفتح محمد بن علي الكراجكي المتوفي عام 449 ه‍ وسماه
(مختصر التذكرة) وأدرجه في كتابه (كنز الفوائد)، قد وصل إلينا المختصر دون الأصل، وطبع لأول مرة عام
1322 ه‍ وتلاها طبعات عديدة أخرى.
(2) وإن.
(3) هو الشريف المرتضى، أبو القاسم علي بن الحسين بن موسي بن محمد.... ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
من الأعلام المشاهير، وصفه تلميذه النجاشي بقوله: (حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه، وسمع من
الحديث فأكثر، وكان متكلما، شاعرا، أديبا، عظيم المنزلة في العلم، والدين، والدنيا). ولد ببغداد عام 355 ه‍ وفيها
تلقي العلم عند جماعة منهم الشيخ المفيد والمرزباني، عاش في عز ومنعة وثراء واسع، وتولي زعامة الشيعة بعد
وفاة المفيد، ربي في مدرسته جماعة من الفقهاء الأعلام كالطوسي وابن البراج وغيرهما، وصنف عشرات الكتب
و الرسائل، توفي ببغداد في ربيع الأول سنة 436 ه‍ ودفن بمقابر قريش ثم نقل إلي كربلاء.
[رجال النجاشي: 270، ط جماعة المدرسي، تاريخ بغداد 11: 402، الفهرست للطوسي 97، معجم
الأدباء 13: 146].
(4) أدام الله علوه.
(5) يعين.
(6) وأبدء.
(7) وآخره.
4

الباب الأول
5

فصل [1]
(في ماهية أصول الفقه وانقسامها وكيفية ترتيب أبوابها)
أصول الفقه هي أدلة الفقه، وإذا (1) تكلمنا في هذه الأدلة فقد نتكلم فيما
تقتضيه من إيجاب وندب وإباحة وغير ذلك من الأقسام على طريق الجملة وليس
يلزم على ذلك (2) أن تكون الأدلة الموصلة إلى فروع الفقه الكلام فيها كلاما في أصول
الفقه (3) لان هذه الأدلة (6) أدلة على تعيين المسائل والكلام في الجملة غير الكلام في
التفصيل وليس المراد بذلك، مالا يتم العلم بالفقه الا معه لأنه لو كان
كذلك لزم أن
يكون الكلام في حدوث الأجسام، وإثبات الصانع، والعلم بصفاته، وايجاب عدله،
وتثبيت الرسالة، وتصحيح النبوة، كلاما في أصول الفقه، لان العلم به لا يتم من دون العلم
بجميع ذلك، وذلك لا يقوله أحد، فعلم بهذه الجملة، ان المراد بهذه العبارة ما قلناه.
والأصل في هذه الأصول الخطاب، أو ما كان طريقا إلى اثبات الخطاب، أو ما
كان الخطاب طريقا إليه.
فأما الخطاب فهو الكلام الواقع على بعض الوجوه وليس كل كلام خطابا،

(1) فإذا.
(2) عليها.
(3) الكلام على ما في أصول الفقه.
7

وكل خطاب كلام.
والخطاب يفتقر في كونه كذلك إلى إرادة المخاطب، لكونه خطابا لمن هو
خطاب له ومتوجه إليه، لأنه قد يوافق الخطاب في جميع صفاته من وجود وحدوث،
وصيغة، وترتيب ما ليس بخطاب، فلا بد من أمر زائد، وهو ما قلناه.
والكلام في الخطاب، كلام في بيان أدلة الكتاب، والسنة وذلك ينقسم خمسة أقسام:
أحدها: الكلام في الأوامر والنواهي.
والثاني: الكلام في العموم والخصوص.
والثالث: الكلام في المطلق والمقيد.
والرابع: الكلام في المجمل والمبين.
والخامس: الكلام في الناسخ والمنسوخ.
أما ما هو طريق إلى اثبات الخطاب من هذه الطرق، فهو قسم واحد وهو
الكلام في الاخبار، وبيان أقسامها.
وأما ما الخطاب طريق إليه، فهو أيضا قسم واحد، وهو الكلام في أحكام الافعال.
وألحق قوم بهذا القسم الكلام في الاجماع، والقياس، والاجتهاد، وصفة
المفتى والمستفتي، والحظر، والإباحة.
وذلك غير صحيح على قاعدة مذاهبنا، لان الاجماع عندنا إذا اعتبرناه، من
حيث كان فيه معصوم، لا يجوز عليه الخطأ، ولا يخلو الزمان منه، وطريق ذلك العقل
دون السمع، فهو خارج عن هذا الباب.
وأما القياس والاجتهاد (1) فعندنا انهما ليسا بدليلين، بل محظور استعمالهما،

(1) يقول العلامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر (ره) في تفسير مصطلح الاجتهاد وبيان الفارق بين مصطلح
الاجتهاد عند فقهاء مدرسة الإمامية وعند أهل السنة في كتابه (دروس في علم الأصول: 1 / 157 - 154).
[(الإجتهاد) في اللغة مأخوذة من (الجهد) وهو «بذل الوسع للقيام بعمل ما» وقد استعملت هذه الكلمة
- لأول مرة - على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن قاعدة من القواعد التي قررتها بعض مدارس الفقه السني
وسارت على أساسها وهي القاعدة القائلة «إن الفقيه إذا أراد ان يستنبط حكما شرعيا ولم يجد نصا يدل عليه
8



في الكتاب أو السنة رجع إلي الاجتهاد بدلا عن النص» و (الاجتهاد) هنا يعني التفكير الشخصي، فالفقيه
حيث لا يجد النص يرجع إلي تفكيره الخاص ويستلهمه ويبني على ما يرجح في الكتاب أو السنة ويستدل
بهما معا، كذلك يستند في حالات عدم توفر النص إلي الاجتهاد الشخصي ويستدل به. وقد نادت بهذا المعني
للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني وعلي رأسها مدرسة أبي حنيفة، ولقي في نفس الوقت معارضة
شديدة من أئمة أهل البيت عليهم السلام والفقهاء الذين ينتسبون إلي مدرستهم. وتتبع كلمة (الاجتهاد) يدل
علي ان الكلمة حملت هذا المعني وكانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الأئمة إلي القرن السابع، فالروايات
المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تذم الاجتهاد [وسائل الشيعة: باب 6 من أبواب صفات القاضي]
و تريد به ذلك المبدأ الفقهي الذي يتخذ من التفكير الشخصي مصدرا من مصادر الحكم، وقد دخلت الحملة
ضد هذا المبدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الأئمة أيضا والرواة الذين حملوا آثارهم، وكانت الحملة
تستعمل كلمة (الاجتهاد) غالبا للتعبير عن ذلك المبدأ وفقا للمصطلح الذي جاء في الروايات، فقد صنف
عبد الله بن عبد الرحمن الزبيد كتابا أسماه «الاستفادة في الطعون عي الأوائل والرد على أصحاب الاجتهاد
والقياس» وصيف هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح المدني [الدلفي] كتابا في الموضوع باسم كتاب «الرد علي
من رد آثار الرسول واعتمد نتائج العقول» وصنف في عصر الغيبة الصغرى أو قريبا منه إسماعيل بن علي بن
إسحاق بن أبي سهل النوبختي كتابا في الرد على عيسى بن أبان في الاجتهاد، كما نص على ذلك كله النجاشي
صاحب الرجال في ترجمة كل واحد من هؤلاء. وفي أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن
الرابع يواصل تلك الحملة، ونذكر له - على سبيل المثال - تعقيبة على قصة موسي والخضر إذ تب يقول: «...
فإذا لم يصلح موسي للاختيار - مع فضله ومحله - فكيف تصلح الأمة لأختيار الإمام وكيف يصلحون
لاستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة؟!» وفي أواخر القرن الرابع
يجيء الشيخ المفيد فيسير على نفس الخط ويهجم على الاجتهاد ويكتب كتابا في ذلك باسم «النقض علي
ابن الجنيد في اجتهاد الرأي». ونجد المصطلح نفسه لدي السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس إذ كتب
في «الذريعة» يذم الاجتهاد ويقول: «إن الاجتهاد باطل، وإن الإمامية لا يجوز عندهم العمل بالظن ولا الرأي
و لا الإجتهاد»، واستمر هذا الاصطلاح في كلمة (الاجتهاد) بعد ذلك أيضا فالشيخ الطوسي الذي توفي في
أواسط القرن الخامس يكتب في كتاب «العدة» قائلا: «وأما القياس والاجتهاد فعندنا أنهما ليسا بدليلين، بل
محظور في الشريعة استعمالها» وأواخر القرن السادس يستعرض ابن إدريس في مسالة تعارض البينتين
من كتابه «السرائر» عددا من المرجحات لأحدي البينتين على الأخرى ثم يعقب ذلك قائلا: «والقياس
والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا» وهكذا تدل هذه النصوص بتعاقبها التاريخي المتتابع على أن كلمة
(الاجتهاد) كانت تعبيرا عن ذلك المبدأ الفقهي المتقدم إلي أوائل القرن السابع، وعلي هذا الأساس اكتسبت
9

ونحن نبين ذلك فيما بعد، ونبين أيضا ما عندنا في صفة المفتى والمستفتي.
وأما الكلام في الحظر والإباحة، فعندنا وعند أكثر من خالفنا طريقه العقل
أيضا (1)، فهو - أيضا - خارج من هذا الباب.
والأولى في تقديم هذه الأصول الكلام في الاخبار، وبيان أحكامها، وكيفية

الكلمة لونا مقيتا وطابعا من الكراهية والاشمئزاز في الذهنية الفقهية الإمامية نتيجة لمعارضة ذلك المبدأ و
الإيمان ببطلانه.
و لكن كلمة «الاجتهاد» تطورت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا ولا يوجد لدينا الآن نص شيعي يعكس
هذا التطور أقدم تاريخا من كتاب «المعارج» للمحقق الحلي المتوفي سنة 676 ه‍ إذ كتب المحقق تحت
عنوان حقيقة الاجتهاد يقول: «و هو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية، وبهذا
الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلة الشرع اجتهادا لأنها تبتني على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من
ظواهر النصوص في الأكثر، سواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام
الاجتهاد.
فإن قيل: يلزم - على هذا - أن يكون الإمامية من أهل الاجتهاد؟
قلنا: الأمر كذلك لكن فيه إيهام من حيث إن القياس من جملة الاجتهاد، فإذا استثنى القياس كنا من أهل
الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس» ويلاحظ على هذا النص بوضوح أن
كلمة (الاجتهاد) كانت لا تزال في الذهنية الإمامية مثقلة بتبعة المصطلح الأول، ولهذا يلمح النص إلي أن
هناك من يتحرج من هذا الوصف ويثقل عليه أن يسمي فقهاء الامامية مجتهدين، ولكن المحقق الحلي لم
يتحرج من اسم الاجتهاد بعد أن طوره أو تطور في عرف الفقهاء تطويرا يتفق مع مناهج الاستنباط في الفقه
الإمامي، إذ بينما كان الإجتهاد مصدرا للفقيه يصدر عنه ودليلا يستدل به كما يصدر عن آية أو رواية، أصبح
في المصطلح الجديد يعبر عن الجهد الذي يبذله الفقيه في استخراج الحكم الشرعي من أدلته ومصادره فلم
يعد مصدرا من مصادر الاستنباط، بل هو عملية استنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه. والفرق بين
المعنيين جوهري للغاية، إذ كان على الفقيه - على أساس المصطلح الأول للاجتهاد - أن يستنبط من تفكيره
الشخصي وذوقه الخاص في حالة عدم توفي النص، وأما المصطلح الجديد فهو لا يسمح للفقيه أن يبرر أي
حكم من الأحكام بالاجتهاد لأن الاجتهاد بالمعني الثاني ليس مصدرا للحكم بل هو عملية استنباط الأحكام
من مصادرها]
(1) زيادة في نسخه الأصل.
10

أقسامها، لأنها الطريق إلى اثبات الخطاب. ثم الكلام في أقسام الخطاب. ثم الكلام في الافعال
لأنها متأخرة عن العلم بالخطاب. ثم الكلام في تتبع ما عده المخالف أصلا وليس منه.
ولما كان المبتغى (1) بهذه الأصول العلم، فلا بد من أن نبين فصلا يتضمن بيان
حقيقته، و (2) الفرق بينه وبين الظن وغيره، وما يصح من ذلك أن يكون مطلوبا، وما لا يصح.
ولا بد أيضا من بيان ما لا يتم العلم الا به: من حقيقة النظر، وشرايط الناظر، وما
يجب أن يكون عليه، وبيان معنى الدلالة، وسائر متصرفاته، واختلاف العبارة عنه.
ولما كان الأصل في هذا الباب الخطاب، وكان ذلك كلاما فلا بد من بيان فصل
يتضمن معنى الكلام، وبيان الحقيقة منه والمجاز، وانقسام أنواعه.
ولما كان الكلام صادرا من متكلم، فلا بد من بيان من يصح
الاستدلال بكلامه
ومن لا يصح، ويدخل في ذلك الكلام فيما يجب أن يعرف من صفات الله تعالى وما
لا يجب، وصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصفات الأئمة القائمين مقامه
الذين يجرى قولهم مجرى قوله عليه السلام.
ونحن نبين جميع ذلك في أبوابه على غاية من الاختصار حسب ما تقتضيه
الحاجة، ونقتصر (3) فيما نذكره على الإشارة إلى ذكر ما ينبغي أن يعتمد عليه،
ويحصل العلم به دون أن يقرن (4) ذلك بالأدلة المفضية إليه، لان لشرح ذلك موضعا
غير هذا، والمطلوب من هذا الكتاب بيان ما يختصه من تصحيح أصول الفقه التي
ذكرناها، وبيان الصحيح منها والفاسد، إن شاء الله تعالى.

(1) المبتني.
(2) زاد في الأصل: ثم.
(3) يفتقر.
(4) يقترن.
11

فصل [2]
(في بيان حقيقة العلم، وأقسامه،
ومعنى الدلالة، وما يتصرف منها)
حد العلم ما اقتضى سكون النفس.
وهذا الحد أولى من قول من قال: (انه اعتقاد للشئ على ما هو به، مع سكون
النفس) لان الذي يبين به العلم من غيره من الأجناس هو سكون النفس، دون كونه
اعتقادا، لان الجهل أيضا اعتقاد، وكذلك التقليد.
ولا يبين أيضا بقولنا: (للشئ على ما هو به) لأنه يشاركه فيه التقليد أيضا، إذا
كان معتقده على ما هو به. والذي يبين به هو سكون النفس، فينبغي أن نقتصر (1) عليه،
وليس من حيث إن ما اقتضى سكون النفس لا يكون الا اعتقادا للشئ على ما هو به،
ينبغي أن يذكر في الحد.
كما أنه لا بد من أن يكون عرضا، وموجودا، ومحدثا، وحالا في المحل، ولا
يجب ذكر ذلك في الحد من حيث لا يبين به،
فكذلك ما قلناه.
ولا يجوز أن يحد العلم بأنه المعرفة، لان المعرفة هي العلم بعينه، ولا (2) يجوز

(1) يقتصر.
(2) فلا.
12

أن يحد الشئ بنفسه.
ولا يجوز أن يحد بأنه اثبات، لان الاثبات في اللغة هو الايجاب (1)، ولأجل
ذلك يقولون: (أثبت السهم في القرطاس) أي: أوجبته (2) فيه. ويعبر أيضا في الخبر عن
وجوب الشئ كما يقال في المجبرة (3)
انهم مثبتة.
ثم إن ذلك ينتقض بالتقليد، لأنه أيضا إثبات للشئ على ما هو به، ان أريد
بهذه اللفظة الاعتقاد، وان أريد بها العلم فقد حد الشئ بنفسه.
والعلوم على ضربين: ضروري، ومكتسب.
فحد الضروري ما كان من فعل غير العالم به، على وجه لا يمكنه دفعه عن
نفسه بشك أو شبهة.
وهذا الحد أولى مما قاله بعضهم من أنه: (ما لا يمكن العالم به دفعه عن نفسه
بشك أو شبهة إذا انفرد) (4) * لان ذلك تحرز ممن (5) اعتقد بقول النبي صلى الله عليه
وآله وسلم ان زيدا في الدار، ثم شاهده، فإنه لا يمكنه أن يدفع ذلك عن نفسه، و (6)
مع هذا فهو اكتساب.

(1) في أغلب مصادر اللغة التي بين أيدينا أن «الإثبات» بمعني الدوام، والاستقرار، والإقامة، والتحقق، والتأكد،
و لم يرد بمعني «الإيجاب» ولا يخفي أن الإيجاب من مرادفات المعاني التي ورد ذكرها في المصادر.
(2) في الأصل: أوجدته.
(3) المجبرة أو الجبرية، والجبر هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلي الله سبحانه وتعالي، والجبرية
مذهب، وهم على أصناف، فالجبرية الخالصة هي التي لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا،
و الجبرية المتوسطة هي التي تثبت للعبد قدرة غير موثرة أصلا.
(4) * قوله: «إذا انفرد» يعني إن انفرد، والمراد بالانفراد الانفراد عن غير ما أوجبه مما يوجب علما لا يمكن
دفعه عن نفسه، أو مما يوجب العلم مطلقا، أو من جميع ما عداه. والعلم الحاصل بالبرهان إذا انضمت إليه
براهين كثيرة دالة على ما تعلق به منفرد على الأول دون الثانيين.
(5) لمن.
(6) في الأصل: أو.
13

وهذا لا يصح عندنا، لان العلم بالبلدان، والوقائع، وما جرى مجراهما، هذا
الحد موجود فيه، وعند كثير من أصحابنا مكتسب قطعا، وعند بعضهم هو على
الوقف، فلا يصح ذلك على الوجهين معا.
على أن ذلك انما يصح على مذهب من يقول ببقاء العلوم، فأما من قال إن
العلم لا يبقى فلا معنى لهذا الكلام عنده، لأنه لا يبقى وقتين، فيصح طرو الشبهة في
ذلك أو الشك، فيعتبر صحة انتفائه بهما أولا، وانما يتجدد حالا بعد حال، اللهم الا أن
يراد بذلك انه لا يصح أن يمنع منه ابتداءا، فان أريد به ذلك فذلك يوجد في العلم
الاستدلالي الذي لم يقارنه الضروري (1) *، لأنه في حال حصول العلم أيضا لا يمكنه
دفعه عن نفسه، وإن لم يكن ضروريا. وانما يصح أن يدخل الشبهة أو الشك عليه
فيمنعا من وجود مثله في الثاني، أو يدخلا في طريقه قبل حصوله، فيمنعا من توليده،
فأما حال حصوله فلا يصح على حال، فعلم بذلك ان الصحيح ما قلناه.
اللهم [الا] أن يراد بذلك ما أمكن ذلك فيه على وجه، فان أريد ذلك كان
صحيحا على مذهبه، ولا يصح ذلك على مذهبنا، لما قلناه من العلم الحاصل بالبلدان
والوقايع.
والعلوم الضرورية على ضربين:
ضرب منهما: يحصل في العاقل ابتداءا (2) *، وهو مثل العلم بان الموجود لا
يخلو من أن يكون قديما أو غير قديم، وان الجسم الواحد لا يخلو من أن يكون في
مكان أو لا يكون فيه، وان الذات لا بد من أن يكون على صفة أو لا يكون عليها، وتعلق

(1) * قوله: «الذي لم يقارنه الضروري» أي لم يقارنه ما يقتضي العلم الضروري.
(2) * قوله: «ابتداء» المراد بحصوله ابتداء أن لا يتوقف على الإدراك بقرينة المقابلة، ولا ينافي ذلك توقفه علي
تصور النسبة، أو عليه وعلي الواسطة اللازمة على القول بضرورية المتوقف عليها، والمراد بالإدراك إدراك
الحواس الظاهرة والباطنة فيدخل فيه البديهيات والفطريات عند القائل بضروريتها والوجدانيات في الغير
المتوقفة على إدراك الحواس الباطنة، وهي ما نجده لا بالالآت البدنية كشعورنا بذواتنا وأحوالنا.
14

الكتابة بالكاتب، والبناء بالباني، وما يجرى مجرى ذلك مما يعد (1) في كمال العقل،
وهي كثيرة.
والضرب الثاني: ما يقف على شرط، وهو العلم بالمدركات، لان العلم بها
ضروري، الا أنه واقف على شرط، وهو الادراك مع ارتفاع اللبس، وهذا العلم واجب
حصوله مع الشرط الذي ذكرناه في العاقل، لأنه مما يدخل به في كونه كامل العقل،
ومتى لم يحصل، أخل ذلك بكمال عقله.
وزاد قوم في هذا القسم الذي يقف على شرط - وان لم يكن ذلك واجبا - العلم
بالصنائع عند الممارسة، والعلم بالحفظ عند الدرس.
ولنا في ذلك نظر، ليس هذا موضع الكلام فيه.
وذكروا فيه أيضا العلم بمخبر الأخبار المتواترة ونحن نبين ما عندنا فيها (2)
عند الكلام في الاخبار إن شاء الله تعالى.
وأما العلم المكتسب: فحده أن يكون فعل من العالم به، وهذا الحد أولى من
حد من قال إنه: (ما أمكن العالم به دفعه عن نفسه لشبهة في دليله، أو طريقه إذا
انفرد)، لان ذلك لا يصح على مذهبنا، على ما قلناه من العلم باخبار البلدان والوقايع.
والعلم المكتسب على ضربين:
أحدهما: لا يقع إلا متولدا عن نظر في دليل.
والاخر يفعله العالم في نفسه ابتداءا.
فالقسم الأول على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن ينظر في شئ فيحصل له العلم بغيره، نحو نظرنا في الحوادث
لنعلم ان لها محدثا، وهذا الوجه يختص العقليات،
لأنها الطريق إلى اثبات ذوات

(1) نعده.
(2) فيه.
15

الأشياء، دون الشرعيات التي هي طريق إلى اثبات أحكامها.
وثانيها: أن ينظر في حكم لذات، فيحصل له العلم بصفة لها، وذلك نحو نظرنا
في صحة الفعل من زيد، فيحصل لنا العلم بأنه قادر.
وهذا أولى مما قاله قوم: من أنه ينظر في شئ فيحصل له العلم بغيره، ومثل
ذلك بالنظر في فعل زيد، فيحصل له العلم بأنه قادر.
وانما قلنا انه أولى، لان الذي يدل على كونه قادرا، صحة الفعل منه على وجه
دون وقوعه، فتمثيله بما قلناه أولى.
والضرب الثالث: أن ينظر في حكم لذات، فيحصل لنا العلم بكيفية صفة لها،
نحو نظرنا في جواز العدم على بعض الذوات، فيحصل لنا العلم بأنها محدثة.
وهذا الذي ذكرناه أولى مما قاله قوم من انا ننظر في صفه لذات، فيحصل لنا
العلم بصفة أخرى لها، لأن جواز العدم ليس هو صفة، وانما هو حكم من أحكامها،
وكونها محدثة ليس أيضا بصفة، وانما هو كيفية في الوجود، فعلم بذلك ان ما قلناه أولى.
ومثاله في الشرعيات: ان ننظر في أن شيئا منها واجب، فيحصل لنا العلم بأن له
جهة وجوب.
وأما الضرب الثاني من العلوم المكتسبة التي تحصل من غير نظر: فهو ما
يفعله المنتبه من نومه، وقد سبق له النظر في معرفة الله تعالى، فحينئذ يعقل (1) العلم
عند ذكره الأدلة.
وطريق النظر في الوجوه الثلاثة، التي قدمنا ذكرها.
وقال قوم: في العلوم التي تقع عن نظر ما يسمى استدلالا، وهو ما يكون
المستدل به غير المستدل عليه.
ومنه ما يسمى اكتسابا فقط، واطلاق الاكتساب على جميع ذلك لا خلاف فيه.

(1) نعقل.
16

ولا يمتنع أن يسمى أيضا جميع ذلك استدلالا، وانما يختص بتسميته الاكتساب ما
يفعله ابتداءا، على ما بيناه عند الانتباه، فان ذلك لا يجوز أن يسمى استدلالا.
ومن حق العلوم المكتسبة أن تتأخر عن الضرورية، لأنها فرع عليها، أو كالفرع.
وأما الظن: فعندنا وان لم يكن أصلا في الشريعة تستند الاحكام إليه (1)، فإنه
تقف أحكام كثيرة عليه، نحو تنفيذ الحكم عند الشاهدين، ونحو جهات القبلة، وما
يجرى مجراها، فلا بد أن نذكر (2) حده.
وحده: (ما قوى عند الظان كون المظنون على ما ظنه، ويجوز مع ذلك كونه
على خلافه).
وهذا أولى مما قاله قوم من أنه: (ما أوجب كون من وجد في قلبه ظنا) (3)، لأنه
بهذا (4) لا يبين (5) من غيره، لأنه يحتاج بعد إلى تفسير، فالأولى ما ذكرناه.
وبما قلناه يبين من العلم، لان العالم لا يجوز كون ما علمه على خلافه. وكذلك
به يتميز من الجهل، لان الجاهل يتصور نفسه بصورة العالم فلا يجوز خلاف ما
اعتقده، وان كان يضطرب عليه حاله فيما (6) يجهله، من حيث لم يكن ساكن النفس،
ولأنه اعتقاد لا على ما هو (7) * به، وليس كذلك الظن.

(1) * إشارة إلي أنه مجمع بين الإمامية وان المخالفين هم القائلون بصحة الاجتهاد في نفس الأحكام
الفقهية، والأصل هنا الدليل، والاستناد الاعتماد الكلي، والمراد بالأحكام الأحكام الفقهية الواصلية. وقوله:
(تستند الأحكام إليه) تفسير لكونه أصلا يعني كون الحكم الفقهي الواقعي مظنونا ليس دليلا على الحكم
الفقهي الواصلي، اي ليس الاجتهاد من أدلة الفقه ومستلزما للعلم بالفقه في مسالة من المسائل.
(2) يذكر.
(3) ظانا.
(4) اي بهذا التعريف المذكور ثانيا لا يتميز الظن عن غيره إلا بتوضيح وتفسير.
(5) يتبين.
(6) مما.
(7) * قوله: «ولأنه اعتقاد» كذا في النسخ، وكأنه عطف تفسير لقوله (من حيث لم يكن ساكن النفس)، والأولي
17

وأما المقلد (1) *: فان كان يحسن الظن بمن قلده (2) * فهو سيظن أن الامر على ما
قلده فيه.
وإذا قلد من لا يجوز عليه الخطأ، فكذلك لا يجوز كون ما قلده فيه على خلاف
ما قلده.
وإذا قلد من لا يقوى في ظنه حال ما قلده فيه ففارق الظن، لان ذلك يكون قد
سبق إلى اعتقاد لا مزية لكونه على ما اعتقده، أو على خلافه (3)، فقد فارق حال الظن.
وأما الشاك: فهو الخالي من اعتقاد الشئ على ما هو به، ولا على ما هو به مع
خطوره بباله، وتجويزه كل واحدة من الصفتين عليه.
وأما الدلالة: فهي ما أمكن الاستدلال بها على ما هي دالة (4) عليه، الا أنها لا
تسمى بذلك الا إذا قصد فاعلها الاستدلال.
وانما قلنا ذلك لان ما لا يمكن الاستدلال به، لا يكون دلالة ألا ترى ان طلوع
الشمس من مشرقها لا يكون دلالة على النبوة، لأنه لا يمكن ذلك فيها من حيث كان
ذلك معتادا، وطلوعها من مغربها يكون دلالة، لامكان ذلك فيه.
وأثر اللص لا يسمى دلالة، وان أمكن الاستدلال به عليه، من حيث لم يقصد
بذلك استدلال (5) عليه، وان سمى ذلك دلالة على بعض الوجوه، فعلى ضرب من

ترك الواو ليكون علة له.
(1) * قوله: «وأما المقلد» المراد بالتقليد العمل بقول الغير من حيث أنه قوله، سواء كان الغير معصوما أو لا،
وعلى الثاني، سواء كان مظنون الصدق أو لا، والمقصود بهذا الكلام بيان أن حال المقلد ليس منحصرا في
الظن بالحكم الفقهي الواقعي فيما قلد فيه، وإن كان الغالب ذلك، ولذا قدمه على القسمين الآخرين، بل قد
يكون عالما به، وقد يكون غير ظان به ولا عالم به.
(2) * قوله: (فإن كان يحسن الظن) أي إن كان ظانا بأن مفتيه لم يشهد إلا بالحق.
(3) وعلي خلافها.
(4) في الأصل: دلالة.
(5) الاستدلال.
18

المجاز، لأنه لو كان حقيقة لوصف بأنه دال وذلك لا يقوله أحد، لأنا نعلم أنه يجتهد
في اخفاء أمره، وان لا يعلم به، فكيف يجوز وصفه بأنه دال!، وتستعمل هذه اللفظة
في العبارة عن الدلالة، ولهذا يقول أحد الخصمين لصاحبه أعد دلالتك، وانما يريد به
كيفية عبارتك عنها، وذلك مجاز.
وانما استعير ذلك من حيث كان السامع لذلك إذا تأمله كان أقرب إلى معرفة
المدلول عليه، كما أنه عند النظر في الدلالة كذلك.
وتوصف الشبهة بأنها دلالة مجازا، ولهذا يقال دلالة المخالف.
ومن حق الدلالة أن تكون معلومة للمستدل بها على الوجه الذي تدل على ما
تدل عليه، حتى يمكنه الاستدلال بها، ولا فرق بين أن يعلم ذلك ضرورة أو استدلالا.
ولا يجب في الأدلة أن تكون موجودة، ولأجل ذلك صح الاستدلال (1) *
بمجئ الشجرة، وحنين الجذع على نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبكلامه
على الاحكام، وان كان ذلك كله معدوما.
ولا يجب في الأدلة أن يعلم بدلالة أخرى، ويجوز ذلك فيها الا أنها لا بد أن
تنتهي إلى دلالة يعلم صفتها ضرورة، والا أدى إلى ما لا يتناهى من الأدلة.
والدال: هو من فعل الدلالة، لأنه مشتق منها، فجرى في ذلك مجرى الضارب
في أنه مشتق من الضرب، وعلى هذا يصح أن يقال: ان الله تعالى دلنا على كذا، فهو
دال، وكذلك (2) النبي صلى الله عليه وآله وسلم دلنا على كذا وكذا فهو دال. وقد
يتجوز في ذلك فيعبر به عن الدلالة فيقولون: قول الله تعالى، وقول النبي (3) دال على
كذا وكذا من الاحكام، وان كان الدال في الحقيقة هو الله تعالى والرسول على ما بيناه،

(1) * قوله: (صح الاستدلال) أي استدلالنا، وظاهر هذا أن العلم الحاصل بالمعجز نفسه كسبيا كما في زماننا
عند من يذهب إلي كسبية التواتر.
(2) وكذا.
(3) الرسول.
19

وكذلك يتجوز في العبادة عن الدلالة.
والدليل: هو الدال في الأصل قال الشاعر:
إذا الدليل استاف أخلاف الطرق (1)
فوصف الدال على الطريق بأنه دليل، من حيث فعل أشياء استدل بها على
الموضع المقصود. وقد يتجوز في ذلك فيستعمل في الدلالة، فيقولون في الأجسام
انه دليل على خالقها، وبأن القرآن دليل على الاحكام، ولا يمتنع أن يقال أيضا انه
حقيقة فيهما (2) *.
والمدلول: هو الذي نصبت له الدلالة ليستدل (3) بها، وهو المكلف، وقد يتجوز
بذلك في المدلول عليه فيقولون: هذا مدلول الدلالة، وذلك مجاز.
والمدلول عليه: هو ما يؤدى النظر في الدلالة إلى العلم به.
والمستدل: هو الناظر، ولا يسمى بذلك الا إذا فعل الاستدلال.
والمستدل به: هو الدلالة بعينها، ولا يسمى بذلك قبل الاستدلال بها.
والمستدل عليه: هو المدلول عليه بعينه، غير أنه لا يسمى بذلك قبل حصول
الاستدلال.
والنظر ينقسم إلى:
تقليب الجارحة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته.

(1) شطر من الرجز لابن العجاج، وهو أبو محمد رؤبة بن العجاج، البصري، التميمي، وكنيته أبو الحجاف وأبو
العجاج، توفي سنة 145 ه‍.
إذا: هنا ظرف وليست شرطية، واستاف: شم، يقال: ساف يسوف سوفا، إذا شم وذلك بالليل إذا شم
الدليل التراب. وأخلاق الطرق: الدارس منها التي قد أخلقت، شبهها بالثوب الخلق لأن الاستدلال بشم
التراب يكون في الطرق القديمة التي كثر المشي فيها فيوجد رائحة الأرواث والأبوال.
انظر: «خزانة الأدب 1: 85، لسان العرب 9: 165، الأغاني 20: وفيات الأعيان: 2: 303».
(2) * أي في الدال على الطريق، وفي الدلالة، والأول حقيقة عرفية لغوية، والثاني حقيقة في عرف المتكلمين.
(3) في الأصل: لثستدل.
20

وإلى معنى الانتظار.
وإلى معنى التعطف والرحمة.
وإلى معنى الفكر.
والواجب من ذلك هو الفكر (1) *.
والناظر يعلم نفسه ناظرا ضرورة، ويفصل بين هذا الحال وبين سائر صفاته من
كونه معتقدا، وظانا، ومريدا، وغير ذلك من الصفات.
ومن شرط الناظر أن يكون عالما بالدليل على الوجه الذي يدل على ما يدل
عليه، حتى يصح أن يولد نظره العلم.
ولأجل ذلك نقول: ان من لا يعلم صحة الفعل من زيد لا يعلمه قادرا، ومن لا
يعلم وقوع الفعل محكما منه، لا يمكنه أن يستدل على كونه عالما، لما لم يكن عالما
بالجهة التي لكونه عليها يدل، ولهذا نقول: ان من لا يعلم أن قوله تعالى: " وأقيموا
الصلاة وآتوا الزكاة " (2) كلام الله، وان الله تعالى لا يجوز عليه القبيح، ولا التعمية
والألغاز في الكلام، لا يمكنه الاستدلال به على وجوب الصلاة ولا الزكاة، ولذلك
ألزمنا المجبرة أن لا يمكنهم الاستدلال بكلام الله تعالى من حيث جوزوا (3) * عليه
القبائح كلها.
وكذلك من لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صادق، وانه لا يجوز
عليه الكذب، ولا التعمية، والألغاز في الكلام، لا يصح له أن يستدل بقوله صلى الله
عليه وآله وسلم على شئ من الاحكام.
وهذه العلوم التي ذكرناها، شرط في توليد النظر للعلم، لا في صحة وجوده، لان

(1) * أي الواجب من ذلك على كل مكلف هو الفكر، أو الواجب، أو الواجب، لتوقف العلم المبتغي بالأصول عليه هو
الفكر.
(2) البقرة: 43.
(3) * أي عقلا وإن لم يجوزوه بخبر النبي صلي الله عليه وآله وسلم.
21

من اعتقد الدليل، أو ظنه على الوجه الذي يدل - وان لم يكن عالما به - جاز منه فعل
النظر، وان لم يولد (1) * العلم. وإنما قلنا انه متى لم يكن عالما، لا يولد نظره العلم، لأنه
إذا لم يكن عالما بالدليل على الوجه الذي يدل عليه، جوز ألا (2) يكون دليلا (3) على
الوجه الذي يدل، فكيف يجوز حصول العلم عن الدليل مع تجويز ما قلناه فيه؟
والنظر في الدليل من الوجه الذي يدل يوجب العلم، لأنه يكثر بكثرته، ويقل
بقلته، ولأنه يقع العلم عنده مطابقا لما يطلبه بالدليل، ألا ترى ان من نظر في صحة
العقل من زيد لا يصح أن يقع له العلم بان عمرا قادر، وكذلك من نظر في أحكام
الفعل، لا يصح أن يقع له العلم بالهندسة وغيرها، فعلم بوجوب هذه المطابقة انه
متولد عن (4) النظر.
والنظر لا يولد الجهل (5) * على وجه، لأنه لو ولده لم يخل أن يكون النظر في
الدليل يولده، أو النظر في الشبهة. ولا يجوز أن يولد النظر في الدليل الجهل، لأنا قد
بينا ان النظر في الدليل يولد العلم، ولا يجوز في شئ أن يولد الشئ وضده. ولو ولد
النظر في الشبهة الجهل، لكان يجب كل من نظر فيها أن يولد له الجهل، كما أن كل من
نظر في الدليل ولد له العلم. ونحن نعلم انا ننظر في شبه (6) المخالفين فلا يتولد لنا

(1) * المراد بالاعتقاد التقليد، أي التصديق المطابق الشبيه بالجزم، أو المراد الاعتقاد المبتدأ الحاصل بالإمارة
الشبيهة بالظن، أو الأعم منهما، وكذا الناظر في الشبهة أو الإمارة، والناظر في الدليل بالنظر الفاسد، أو بالنظر
غير التام يقع منهم النظر ولا يتولد العلم.
(2) أن لا.
(3) الدليل.
(4) من.
(5) * أي ليس شيء من النظر موجبا عقلا للجهل المركب بشيء، من حيث أنه نظر، أي بدون أن ينضم إليه
شيء خارج عن حقيقة النظر، ليس من جنس النظر، ولا لازم لما هو من جنس النظر، كالاعتقاد الباطل ونحو
ذلك.
(6) شبهة.
22

الجهل، ولأنه لو كان شئ من النظر يولد الجهل، لأدى إلى قبح كل نظر لان الانسان لا
يفرق بين النظر الذي يولد العلم، والنظر الذي يولد الجهل، ولا بين الدليل والشبهة،
وانما يعلم كون الدليل دليلا إذا حصل له العلم بالمدلول، فاما قبل حصوله، فلا يعلمه
دليلا.
وما أدى إلى قبح كل نظر، ينبغي أن يحكم بفساده لأنا نعلم ضرورة حسن نظر
كثير من أمر الدين والدنيا معا.
والنظر الذي ذكرناه لا يصح إلا من كامل العقل (1) *، فلا بد أن نبين ماهية العقل.
والعقل: هو مجموع علوم إذا حصلت كان الانسان عاقلا، مثل أن يجب أن
يعلم المدركات إذا أدركها وارتفع عنها اللبس، وأن يعلم أن الموجود لا يخلو من قدم
أو حدوث، وأن المعلوم لا يخلو من وجود أو عدم، ويعلم وجوب كثير من
الواجبات، وحسن كثير من المحسنات، مثل وجوب رد الوديعة، وشكر النعمة،
وحسن الاحسان، ويعلم قبح كثير من المقبحات، مثل الظلم المحض، والكذب
العاري من نفع ودفع ضرر، والعبث وغير ما عددناه، ويعلم تعلق الفعل بالفاعل (2) *
وقصد المخاطبين، ويمكنه معرفة ما يمارسه من الصنايع، ويمكنه أيضا معرفة مخبر
الاخبار، وغير ذلك.
فإذا حصلت هذه العلوم فيه كان كامل العقل يصح منه الاستدلال على الله
تعالى، وعلى صفاته، وعلى صدق الأنبياء عليهم السلام.
ووصفت هذه العلوم التي ذكرناها بالعقل لوجهين:
أحدهما: انه لما كان العلم بقبح كثير من المقبحات صارفا له عن فعلها، وعلمه

(1) * أي لا يتحقق ولا يصدر إلا من كامل العقل، ويمكن أن يراد أنه لا يخلو عن الفساد إلا من كامل العقل،
المراد بكامل العقل العاقل، وهذا إشارة إلي رد ما ذهب إليه ابن سينا وأتباعه من أنه يشترط في إفادة النظر في
الدليل من الوجه الذي يدل تفطن الاندراج أي الاندراج الأصغر تحت الأوسط حين الحكم في الكبري.
(2) * أي كون كل حادث له محدث أما بلا واسطة أو بواسطة.
23

بوجوب (1) كثير من الواجبات، داعيا له إلى فعلها، وصارفا عن الاخلال بها، سمى
عقلا تشبيها بعقال الناقة الذي يمنعها (2) من السير.
والثاني: انه لما كانت العلوم الاستدلالية لا تثبت الا مع ثبوت هذه العلوم،
سميت عقلا تشبيها أيضا بعقال الناقة، ولأجل ما قلناه لا يصح وصف القديم تعالى
بأنه عاقل، لان هذا المعنى لا يصح فيه.
وأما الامارة فليست موجبة للظن، بل يختار الناظر فيها عندها الظن ابتداءا،
لأنا نعلم أنه ينظر جماعة كثيرة في امارة واحدة من جهة واحده، فلا يحصل لجميعهم
الظن، فلو كانت مولدة لوجب ذلك، كما يجب ذلك في الدليل، ألا ترى ان الجماعة
إذا نظرت في الدليل من الوجه الذي يدل، حصل لجميعهم العلم، ولم يحصل
لبعضهم دون بعض، وليس كذلك الظن.

(1) لوجوب.
(2) التي تمنعها.
24

فصل [3]
(في ذكر أقسام أفعال المكلف)
أفعال المكلف (1) * إذا كان عالما بها، أو متمكنا من العلم بها، وهو غير ساه
عنها، ولا ملجأ إليها (2) *، لا تخلو من أن تكون حسنة أو قبيحة، وانما قلنا ذلك لان
فعل الساهي والنائم لا يوصف بذلك.
وقال قوم: يوصف بذلك إذا كان فيه جهة الحسن أو القبح.
فالحسن على ضربين:
ضرب منه: ليس له صفة زائدة على حسنه، وذلك يوصف بأنه مباح، إذا دل
فاعله على حسنه، ويوصف - أيضا - في الشرع بأنه حلال وطلق وغير ذلك.

(1) * هذا يشعر بأن المقصود بيان أقسام الحكم الشرعي دون العقلي، وحينئذ يراد بالمدح والذم ما يساوق
الثواب والعقاب الأخرويين، فإنه لا تخصيص للحكم العقلي بفعل المكلف، لجريانه في أفعال الصبيان
المراهقين ونحوهم.
(2) * ليس المراد بالإلجاء ما تجري فيه التقية ونحوها، فإنه قد يكون واجبا كما اشتهر من جواز أكل الميتة في
المخمصة، وقد يكون محضورا كما في ارتكاب الدم المعصوم، بل المراد ما يكون فعل العبد معه صادرا
عنه بالإيجاب المحض أو تابعا لداع موجب باعتبار مجامعته مع أمر خلقي أو نحوه حاصل من غير العبد فيه
يمنع المجموع من الترك، فإنه حينئذ فعل اضطراري شبيه بالاختياري، وليس من شأنه أن يتصف بالحسن
و القبح ولا يصلي التكليف به.
25

والضرب الاخر: له صفة زائدة على حسنه، وهو على ضربين:
أحدهما: أن يستحق المدح بفعله، ولا يستحق الذم بتركه (1) *، فيوصف بأنه
مرغب فيه، ومندوب إليه، ونفل، وتطوع، وهذا الضرب إذا تعدى إلى الغير سمى بأنه
احسان وانعام.
والضرب الثاني: هو ما يستحق الذم بتركه، وهو أيضا على ضربين:
أحدهما: انه متى لم يفعله بعينه استحق الذم، وذلك مثل رد الوديعة،
والصلوات المعينة المفروضة، فيوصف بأنه واجب مضيق.
والضرب الثاني: هو ما إذا لم يفعله، ولا ما يقوم مقامه استحق الذم، فيوصف
بأنه واجب مخير فيه، وذلك نحو الكفارات في الشريعة، وأداء الصلوات في الأوقات
المخير فيها، وقضاء الدين من أي درهم شاء، وما شاكل ذلك.
ومن الواجب ما يقوم فعل الغير مقامه (2) *، وذلك نحو الجهاد والصلاة على
الأموات، ودفنهم، وغسلهم، ومواراتهم، فيوصف بأنه فرض على الكفاية.
وأما القبيح: فلا ينقسم انقسام الحسن، بل هو قسم واحد، وهو كل فعل
يستحق فاعله الذم على بعض الوجوه، ويوصف في الشرع بأنه محظور، ومحرم إذا
دل فاعله عليه أو اعلمه.
وفي الافعال ما يوصف بأنه مكروه، وان لم يكن قبيحا، وهو كل فعل كان
الأولى تركه واجتنابه، وان لم يكن قبيحا يستحق بفعله الذم، فيوصف بأنه مكروه.
وفي أفعال الشريعة ما يوجب على غير فاعلها حكما، كفعل الطفل،
والمجنون، وما أشبههما، فإنه يلزم المكلف أن يأخذ من مال الطفل والمجنون عوض ما
أتلفه ويرده على صاحبه، ويأخذ الزكاة مما يجب فيه من جملة ماله عند من قال بذلك.

(1) * المراد بالمدح الثواب الأخروي، وبالذم العقاب الأخروي، فإنه لو لا أن المراد ذلك لكان استحقاق المدح
علي الفعل مستلزما الذم على الترك، لأن تفويت المنافع مذموم عقلا.
(2) * هذا يسمي بالواجب الكفائي.
26

وفي الافعال ما يوجب على فاعلها أحكاما، وذلك على أقسام:
منها: قولهم (أن الصلاة باطلة)، فمعناه انه يجب علينا (1) اعادتها.
وقولهم: (ان الشهادة باطلة) انه لا يجوز للحاكم تنفيذ الحكم عندها، وإذا قالوا:
(انها صحيحة) معناه انه يجوز تنفيذ الحكم عندها.
وقول من قال: (ان الوضوء بالماء المغصوب غير جائز) انه يجب عليه اعادته
ثانيا بماء مطلق، وعند من قال: (انه جائز) معناه انه وقع موقع الصحيح.
وقولهم: (ان البيع صحيح) معناه ان التمليك وقع به، وقولهم: (انه فاسد)
خلاف ذلك، وانه لا يصح التملك به، ولا استباحة التصرف به.
وهذه الألفاظ إذا تؤملت رجع (2) * معناها إلى ما قدمناه من الأقسام، غير أن لها
فوائد في الشريعة تكشف عن أسباب أحكامها.
فهذه الجملة كافية في هذا الفصل.
وإذ قد بينا ما أردناه من حقيقة العلم، والنظر، والدليل، وصفة الناظر، وغير
ذلك، وحقيقة الافعال، فلا بد من أن نبين حقيقة الكلام ونشرح أقسامه، وما ينقسم
إليه من حقيقة أو مجاز.
ثم نبين الأسماء اللغوية، والعرفية، والشرعية، وكيفية ترتيبها.
فإذا فعلنا ذلك بينا صفات من يصح أن يستدل بخطابه ومن لا يصح.
ثم نشرع فيما ذكرناه من ترتيب الأصول على ما قدمنا القول فيه إن شاء الله
تعالى.

(1) عليه.
(2) يرجع.
27

فصل [4]
(في حقيقة الكلام، وبيان أقسامه،
وجملة من أحكامه، وترتيب الأسماء)
حقيقة الكلام ما انتظم من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المعقولة، إذا وقع
ممن يصح منه، أو من قبيله (1) * الإفادة، وهو على ضربين:
مهمل، ومفيد.
فالمهمل: هو الذي لم يوضع ليفيد في اللغة شيئا.
والمفيد على ضربين:
ضرب منهما: له معنى صحيح وان كان لا يفيد فيما وضع له، (2) * وذلك نحو
أسماء الألقاب وغيرها.
والضرب الثاني: يفيد فيما وضع له. وهو على ضربين: حقيقة، ومجاز.
فحد الحقيقة: ما أفيد به ما وضع في اللغة، ومن حقه أن يكون لفظه منتظما

(1) * إنما ذكره ليدخل نحو كلام النائم حال نومه.
(2) * أي له إذا استعمل فيه اللفظ كان حقيقة في اصطلاح التخاطب، وإن كان اللفظ لا يفيد هذا المعني
فيما وضع له، أي في اللغة.
28

لمعناه من غير زيادة، ولا نقصان، ولا نقل إلى غير موضعه، وذلك مثل قوله تعالى:
" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله لا بالحق " (1) إلى ما شاكل ذلك من الحقائق.
وأما المجاز: فهو ما أفيد به ما لم يوضع له في اللغة، ومن حقه أن يكون لفظه لا
ينتظم معناه، اما بزيادة، أو نقصان (2) *، أو بوضعه في غير موضعه.
والمجاز الذي دخلته الزيادة نحو قوله تعالى: " ليس كمثله شئ " (3) لان
معناه ليس مثله شئ، فالكاف زائدة.
والمجاز بالنقصان، نحو قوله تعالى: " وسئل القرية " (4) " واسئل العير " (5)، لان
معناه واسئل أهل القرية، وأهل العير، فحذف ذلك اختصارا ومجازا، ونحو قوله
تعالى: " إلى ربها ناظرة " (6) * على تأويل من قال إلى ثواب ربها ناظرة. و " جاء
ربك " (7) لان معناه، وجاء أمر ربك، وما أشبه ذلك.
والمجاز الثالث، نحو قوله تعالى: " وأضلهم السامري " (8) فنسبة إليه من
حيث دعاهم، وان كانوا هم ضلوا في الحقيقة، لا انه فعل فيهم الضلال.
ويجب حمل الحقيقة على ظاهرها، ولا يتوقع في ذلك دليل يدل على ذلك.
والمجاز لا يجوز حمله عليه، الا ان يدل دليل على كونه مجازا.

(1) الأنعام: 151.
(2) * فيه دلالة على أن الحقيقة والمجاز كما يتحققان في المفردات يتحققان في المركبات، ففي نحو (واسئل
القرية) «اسئل» استعمل في معناه الحقيقي، «والقرية» مستعمل في معناها الحقيقي، وبتقدير الأهل صار
المجموع مستعملا في غير ما وضع له.
(3) الشورى: 11.
(4) يوسف: 82.
(5) يوسف: 82.
(6) القيامة: 23.
(7) الفجر: 22.
(8) طه: 85.
29

والحقيقة إذا عقلت فائدتها، فيجب حملها على ما عقلت من فائدتها (1) * أين
وجدت، ولا يخص به موضع دون آخر، ويطرد ذلك فيها الا لمانع من سمع أو عرف
أو غير ذلك، الا أن يكون وضعت (2) لتفيد في معنى جنس دون جنس، فحينئذ يجب
أن يخص ذلك الجنس به نحو قولهم: (خل) انه يفيد الحموضة في جنس
مخصوص، وقولهم: (بلق) يفيد اجتماع اللونين في جنس دون جنس. وعلى هذا
المعنى يقال ان الحقايق يقاس عليها.
واما المجاز فلا يقاس عليه وينبغي أن يقر حيث استعمل، ولذلك لا يقال: (سل
الحمير) ويراد مالكها كما قيل: (واسئل القرية)، وأريد أهلها، لان ذلك لم يتعارف فيه.
والحقيقة لا يمتنع أن يقل استعمالها فتصير كالمجاز، مثل قولنا (الصلاة) في
الدعاء وغير ذلك.
وكذلك لا يمتنع في المجاز أن يكثر استعماله فيصير حقيقة بالعرف (3) نحو
قولنا: (الغائط) في الحدث المخصوص، وقولنا: (دابة) في الحيوان المخصوص، وما
هذا حكمه، حكم له بحكم الحقيقة.
والمفيد من الكلام لا يكون الا جملة من اسم واسم، أو فعل واسم، وما عداهما
ما لا يفيد الا بتقدير واحد من القسمين فيه ولأجل ذلك قلنا يا زيد في النداء انما
يفيد لان معنى (يا) ادعوا فصار معنى هذا الحرف معنى الفعل، فلأجل ذلك أفاد.
وينقسم (4) ذلك إلى أقسام:
إلى الامر وما معناه معنى الامر (5) من السؤال، والطلب والدعاء.

(1) * المراد بالفائدة مجموع الوصف المعتبر في استعمال أهل اللغة له لا مجموع وضع له سواء كان وصفا أو
ذاتا.
(2) وضعه.
(3) في العرف.
(4) فينقسم.
(5) في الأصل: ومعناه ما معني الأمر.
30

وإلى النهى.
وإلى الخبر، ويدخل في ذلك الجحود، والقسم، والأمثال، والتشبيه وما شاكله،
والاستخبار، والاستفهام، والتمني [والترجي] (1) شبيه بالاخبار.
هذا ما قسمه أهل اللغة، وطول كثير من الفقهاء في اقسام الكلام.
وقال قوم: (2) الأصل في ذلك كله الخبر، لان الامر معناه معنى الخبر، لان معناه
أريد منك أن تفعل وذلك خبر، والنهى معناه أكره منك الفعل وذلك أيضا خبر،
وكذلك القول في سائر الأقسام.
والأسامي المفيدة على ضربين:
اما أن تكون مفيدة لعين واحدة، أو تفيد أكثر من ذلك، فما أفاد الفائدة في عين
واحدة فهو أسماء الأجناس. وما أفاد أكثر من ذلك على ضربين:
أحدهما: نحو قولنا: (لون) فإنه لا يفيد في عين واحدة، بل يفيد في أعيان
فائدة واحدة.
والضرب الثاني: يفيد معاني مختلفة وهو جميع الأسماء المشتركة نحو قولنا:
(قرؤ) و (جون) و (عين)، وغير ذلك.
وفي الناس من دفع ذلك وقال: ليس في اللغة اسم واحد لمعنيين مختلفين.
وهذا خلاف حادث لا يلتفت إليه، لان الظاهر من مذهب أهل اللغة خلافه.
ويدخل على الجمل (3) حروف تغير معانيها وتحدث فيها فوائد لم تكن قبل

(1) زيادة من الحجرية.
(2) انظر: «دلائل الأعجاز: 408 - 403، الذريعة إلي أصول الشريعة 1: 41، وراجع أيضا المصادر الواردة في
التعليقة رقم (8) صفحة 149».
(3) الجملة.
31

ذلك وهي كثيرة قد ذكرها أهل اللغة ولا نحتاج إلى ذكر جميعها، ونحن نذكر منها ما
له تعلق بهذا الباب.
فمنها: (الواو) فذهب قوم إلى انها توجب الترتيب، وهو المحكى عن الفراء
وأبى عبيدة، واحتج كثير من الفقهاء به (1).
والصحيح انها لا تفيد الترتيب بمقتضى اللغة (2)، ولا يمتنع أن يقال انها تفيد
ذلك بعرف الشرع، بدلالة ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال لمن
خطب فقال: (من يطع الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقد هدى ومن يعصهما
فقد غوى) " بئس خطيب القوم أنت "
فقال: يا رسول الله، كيف أقول؟ فقال عليه السلام قل: " ومن يعص الله ورسوله فقد غوى " (3).
فلولا الترتيب لما كان لهذا الكلام معنى، ولكان يفيد قوله: " ومن يعصهما ما
أفاد " ومن يعص الله ورسوله " عند من قال بأنها تفيد الجمع، وقد علمنا خلاف ذلك.
ومنها ان القائل إذا قال لزوجته التي لم يدخل بها " أنت طالق وطالق "، لا

(1) وهو مختار جماعة منهم الشافعي - وإن لم يصرح به في رسالته - حيث نقل عنه ذلك، وعليه أكثر أصحابه،
و هو اختيار الفراء، وثعلب، وقطرب وابن هشام وغيرهم، راجع: «المغني لابن هشام 2: 31 (حاشية الأمير)،
و نهاية السؤل 1: 220، التبصرة: 231».
(2) الرأي الغالب عند أئمة اللغة عدم الترتيب، وقد ادعي الفارسي اجماع نحاة البصرة والكوفة عليه (راجع
المقتضب 1: 10) وهو مختار سيبويه في كتابه وابن الحاجب والرازي وابن هشام في المغني (2: 31 مع
حاشية الأمير)، و أيضا لاحظ كلمات الأصوليين في مصنفاتهم: الإحكام: 58، التبصرة: 232، منتهي
السؤل 1 / 14، نهاية السؤل 1 / 218، المستصفي 2 / 39، المنخول: 83، أصول السرخسي 1 / 200،
فواتح الرحموت: 7 / 229) وغيرها.
(3) سنن النسائي 6: 90، باب ما يكره من الخطبة، سنن أبي داود 2: باب 77، صحيح مسلم: كتاب
الجمعة 6: 158 شرح النووي.
32

خلاف بين الفقهاء انه لا يقع الا طلقة واحدة (1)، فلو كانت الواو تفيد الجمع لجرى
مجرى قوله: (أنت طالق تطليقتين) (2). وقد علمنا خلاف ذلك.
وقال قوم (3): ان الواو تفيد الجمع والاشتراك (4) * وهو الظاهر في اللغة نحو
قولهم: " رأيت زيدا وعمرا " ومعناه رأيتهما، وتستعمل بمعنى استئناف جملة من
الكلام، وان لم تكن معطوفة على الأول في الحكم نحو قوله تعالى: " والراسخون
في العلم يقولون آمنا به " (5) على قول من قال إن المراد به الاخبار عن الراسخين
بأنهم يقولون آمنا به، لا أنهم يعلمون تأويل ذلك.
وقد تستعمل بمعنى (أو)، كقوله تعالى في وصف الملائكة: " أولى أجنحة
مثنى وثلث ورباع " (6)، وكقوله: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلث
ورباع " (7)، والمراد بذلك أو. والأشبه في ذلك أن يكون مجازا لأنه لا يطرد في كل
موضع.
ومنها: (الفاء) ومعناها الترتيب والتعقيب (8) *، نحو قول القائل: " رأيت زيدا
فعمرا، فإنه يفيد ان رؤيته له عقيب رؤيته لزيد مع أنه بعده، ولذلك ادخل الفاء في
جواب الشرط لما كان من حق الجزاء أن يلحق (9) بالشرط من غير تراخ. وقلنا: ان قوله

(1) المغني لابن قدامه 8: 402 مسالة رقم (6006)، التبصرة: 233.
(2) طلقتين.
(3) الإحكام في أصول الأحكام 1: 51.
(4) * أي تفيدهما في اللغة بدون ترتيب.
(5) آل عمران: 7.
(6) فاطر: 1.
(7) النساء: 3.
(8) * أي إفادة كون المعطوف بالفاء بعد المعطوف عليه بهاء، وهو على قسمين: الأول الزماني نحو (شرب
مريضي الدواء فصح)، الثاني الذكري وهو في شيء من حقه ان يذكر بعد شيء آخر باعتبار كونه مدلولا له
نحو (وجد زيد فأوجده).
(9) في نسخة الأصل: يستحق.
33

تعالى: " انما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " (1) ان ظاهر الكلام
يقتضى كون المكون عقيب كن لموضع الفاء، وهذا يوجب ان كن محدثة، لان ما تقدم
المحدث بوقت واحد لا يكون قديما، وذلك يدل على حدوث الكلام بالضد مما
يتعلقون به (2) *.
وذهب المرتضى رحمه الله إلى أنها تفيد الترتيب، وخالف في أنها تفيد
التعقيب من غير تراخ، بل قال: ذلك موقوف على الدليل ويجب التوقف فيه، وخالف
في جميع ما يمثل به في هذا الباب.
وأما (ثم): فإنها تفيد الترتيب والتراخي، فهي مشاركة للفاء في الترتيب
وتضادها في التراخي. وقد استعملت (ثم) بمعنى (الواو) في قوله تعالى: " فالينا
مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون " (3) لان معناه والله شهيد، وذلك مجاز.
وأما (بعد): فإنها تفيد الترتيب من غير تراخ ولا تعقيب.
وأما (إلى) فهي للحد، وقد يدخل الحد في المحدود تارة، وتارة لا يدخل،
فهو موقوف على الدليل، وان كان الأقوى انه لا يدخل فيه.
وأما (من): فلها (4) أربعة أقسام:
أحدها: التبعيض، نحو قولهم: (أكلت من الخبز واللحم)، يعنى أكلت بعضهما،
ونحو قولهم: (هذا باب من حديد، وخاتم من فضة) لان المراد به أنه من هذا الجنس.
وثانيها: معنى ابتداء الغاية، نحو قولهم: (هذا الكتاب من فلان إلى فلان)، أي

(1) النحل: 40.
(2) * الظاهر أن الأشاعرة تعلقوا به في أن كلامه تعالي قديم، لأن قول (كن) حين الإرادة وهي قديمة بزعمهم،
لأن الكلام لو كان حادثا لكان شيئا مرادا مسبوقا بقول (كن) ويلزم الدور أو التسلسل، وفي هذا الكلام إشارة
إلي أن ما ذكر ليس استدلالا مستقلا على حدوث الكلام، بل هو نقض إجمالي لتعلقهم به فلا يرد ان لا كلام
هنا حقيقة بل هو استعارة تمثيلية لنفوذ إرادته تعالي.
(3) يونس: 46.
(4) فإن لها.
34

ابتداء غايته منه، وعلى هذا حمل قوله تعالى: " نودي من شاطئ الواد الأيمن في
البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى " (1) فان (2) معناه ان ابتداء النداء كان من
الشجرة، فذلك دليل على حدوث النداء.
وثالثها: أن تكون زائدة مثل قولهم: (ما جائني من أحد) معناه ما جائني أحد.
ورابعها: أن تبين تبيين الصفة، نحو قوله تعالى: " فاجتنبوا الرجس من
الأوثان " (3) معناه فاجتنبوا (4) الرجس الذي هو الأوثان، ذكر ذلك أبو على الفارسي
النحوي (5).
وقال بعضهم: ان معناها في جميع المواضع ابتداء الغاية، وأنكر ما عدا ذلك
من الأقسام
وأما (الباء): فتستعمل على وجهين:
أحدهما: التبعيض، وهو إذا استعملت في موضع الذي (6) يتعدى الفعل إلى
المفعول به بنفسه، ولأجل هذا قلنا ان قوله تعالى: " وامسحوا برؤوسكم " (7) يقتضى
المسح ببعض الرأس، لأنه لو كان المراد مسح الرأس كله لقال: (امسحوا رؤوسكم) لان
الفعل يتعدى بنفسه إلى الرؤس.
والثاني: أن تكون للالصاق، وهو إذا كان الفعل لا يتعدى إلى المفعول بنفسه

(1) القصص: 30.
(2) وإن.
(3) الحج: 30.
(4) اجتنبوا.
(5) هو أبو علي، الحسن بن أحمد الفسوي النحوي، الفارسي. نسبة إلي ولاية فارس في جنوب إيران، اللغوي
و الأديب المشهور، كان عالما بالعربية وآدابها، واللغة وأصولها، تتلمذ عليه جماعة كبيرة، كان مصاحبا لعضد
الدولة الديلمي مقربا عنده، عالي المنزلة، وصنف له كتاب (الإيضاح) و (التكملة) و (المسائل
الشيرازيات)، توفي ببغداد سنة 377 ه‍ ودفن بمقبرة الشونيزي بالكرخ.
(6) في موضوع يتعدى الفعل.
(7) المائدة: 6.
35

مثل قولهم: (مررت بزيد)، لأنه لو قال: (مررت زيدا) لم يكن كاملا.
وأما (أو): فالأصل فيها التخيير كقولهم: (جالس الحسن أو ابن سيرين). وعلى
هذا حملت آية الكفارة (1).
وتستعمل بمعنى الشك، كقول القائل: (أكلت كذا أو كذا)، ورأيت فلانا أو فلانا، الا أن هذا القسم لا يجوز في كلام الله تعالى.
وقد تستعمل بمعنى (الواو) كما قال تعالى: " وأرسلناه إلى مائة ألف أو
يزيدون " (2) وانما أراد به ويزيدون.
وقد تستعمل بمعنى الابهام، مثل قول القائل: (فعلت كذا وكذا) إذا كان عالما
بما فعله، وانما يريد ابهامه على المخاطب به.
وأما (في): فإنها تفيد الظرف نحو قولهم: (زيد في الدار)، وان استعملت في
غير ذلك (الموضع) (3) فعلى ضرب من المجاز.
وإذ قد بينا ان الكلام ينقسم إلى حقيقة ومجاز فلا بد من اثباته، لان في الناس
من دفع أن يكون في الكلام مجاز أصلا (4). وهذا قول شاذ لا يلتفت إليه، لان من

(1) وهي قوله تعالي: (فمن كان منكم مريضا أو به أذي من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك)، البقرة:
196.
(2) الصافات: 147.
(3) زيادة في الأصل.
(4) نسب هذا الرأي للحشوية، والظاهرية، ولأبي إسحاق الإسفراييني، ولأبي بكر بن داود، ولأبي العباس بن
العاص، وأبي علي الفارسي، انظر: «المنخول: 74، المستصفي 1: 67، التبصرة: 177، شرح اللمع 1: 169،
ميزان الأصول 1: 543 - 527».
و يمكن تلخيص الأقوال في هذه المسالة بما يلي:
القول الأول: الجواز مطلقا، وهو رأي الإمامية وجمهور أهل السنة.
القول الثاني: المنع مطلقا، وهو رأي الحشوية والظاهرية وشر ذمة من الأصوليين.
القول الثالث: المنع في القرآن خاصة والجواز في غيره: وهو المشهور عن بعض المذاهب السنية.
القول الرابع: المنع في القرآن والحديث والجواز في غيرهما: وهو المنقول عن ابن داود.
36

المعلوم من دين أهل اللغة ان استعمالهم لفظة الحمار في البليد، والأسد في الشجاع
مجاز دون الحقيقة.
وكذا قوله تعالى: " ان الذين يؤذون الله " (1) بمعنى يؤذون أولياء الله، " و: جاء
ربك " (2) بمعنى جاء أمر ربك، وقوله: " واسئل القرية " (3) بمعنى أهل القرية، ان كل
ذلك مجاز.
فان دفع ذلك استعمالا، فما ذكرناه دلالة عليه.
وان قال: لا أدفعه استعمالا الا أنى أقول إنه حقيقة، كان مخالفا لاستعمال أهل
اللغة واطلاقهم، ويحتج عليه بالرجوع إلى الكتب المصنفة في المجاز (4).
والوجه الذي يستعمل عليه المجاز كثير و (لا) ينضبط، وقد ذكر بعضه في الكتب.
ولا يجوز أن يكون مجاز ولا حقيقة له، وانما قلنا ذلك لما بيناه من أن المجاز هو ما
استعمل في غير ما وضع له، وإذا لم يكن له حقيقة لم يثبت هذا المعنى فيه. ويجوز

القول الخامس: المنع من جواز استعمال المجاز في خطاب الله ورسوله إلا ورد به النص أو قام عليه
الإجماع أو الضرورة. وأما الإمامية فإنهم مطلقا يذهبون إلي جواز استعمال المجاز ووقوعه في اللغة
و القرآن والحديث كما صرح بذلك الشيخ الطوسي.
(1) الأحزاب: 57.
(2) الفجر: 22.
(3) يوسف: 82.
(4) ويمكن الإشارة إلي بعض هذه المصنفات:
1 - كتاب (مجازات الآثار النبوية) وكتاب (تلخيص البيان في مجازات القرآن) للشريف الرضي محمد بن
الحسين بن موسي العلوي (المتوفي: 406).
2 - كتاب (الحقيقة والمجاز) لعلي بن عيسى الرماني (المتوفي 384 ه‍).
3 - كتاب (مجاز القرآن) لأبي عبيدة (المولود 110 ه‍).
4 - كتاب (مجاز القرآن) وكتاب (المجاز من كلام العرب) لقطرب (المتوفي 206 ه‍)
5 - كتاب (مجاز الكلام وتصاريفه) لأحمد بن يحيي المشهور بثعلب (المتوفي 291 ه‍)
6 - كتاب (مجاز ما جاء في شعر العرب) لابن السكيت (المتوفي 243 ه‍).
37

أن تكون حقيقة
ولا مجاز لها.
ومن حق الحقيقة أن يعلم المراد بها بظاهرها، ومن حق المجاز أن يعلم المراد
به بدليل غير الظاهر، والله تعالى قد خاطب بالمجاز كما خاطب بالحقيقة، وكذلك
الرسول عليه وآله السلام، ومن دفع ذلك لا يلتفت إلى قوله، وليس ذلك بمؤدى إلى
الحاجة، لان الله تعالى استعمل ذلك على عادة العرب في خطابها في استعمال
الحقيقة والمجاز، كما استعمل الإطالة تارة والايجاز أخرى، كما استعملت هي، فإذا
جاز أحدهما جاز الاخر.
فأما لفظ الاستعارة فالأولى أن لا يطلق على كلام الله تعالى من حيث (1) يوهم
ان فاعلها استعارها لحاجة، وان أريد بذلك ما ذكره بعضهم من أن المخاطب بتلك
اللغة يقتضى حسن استعمالها في المجاز كحسن ذلك في الحقيقة فعلى هذا لا يمتنع
اطلاق هذه اللفظة على كلام الله تعالى. فإذا (2) ثبت ان الله تعالى خاطب بالحقيقة
والمجاز معا فلا بد من أن يدل على الفصل بينهما، والا أدى إلى تكليف ما لا يطاق،
كما لا بد من أن يدل على الفصل بين الألفاظ المختلفة لتعرف معانيها.
والفصل بين الحقيقة والمجاز يقع من وجوه:
منها: أن يوجد نص من أهل اللغة، أو دلالة على أنه مجاز.
ومنها: أن يعلم بأنهم وضعوا تلك اللفظة لشئ ثم استعملوها
في غيره (3) على
وجه التشبيه.
ومنها: أن يعلم أنها تطرد (4) في موضع، ولا تطرد في آخر، ولا مانع فيعلم انها
مجاز في الموضع الذي لا تطرد فيه. وانما شرطنا المانع لان الحقيقة قد لا تطرد لمانع

(1) من حيث إنه.
(2) وإذا.
(3) غيرهما.
(4) * لما كان الاطراد بلا مانع لازما للحقيقة كما مر في هذا الفصل، وعدم اللازم يدل عدم الملزوم، كان
عدم الإطراد بلا مانع علامة للمجازية.
38

عرفي أو شرعي، ألا ترى ان لفظة (الدابة) ووضعت في الأصل لكل ما دب، ثم
اختصت في العرف بشئ (1) بعينه، وكذلك لفظة (الصلاة) في الأصل للدعاء، ثم
اختصت في الشرع بأفعال بعينها، وكذلك لفظة (النكاح) وما جرى مجرى ذلك،
فيعلم أنه حقيقة وان لم تطرد، لما بيناه من العرف والشرع.
ومنها: أن يعلم أن للفظه حكما وتصرفا من اشتقاق، أو تثنية، أو جمع، أو تعلق
بالغير (2) *، فإذا استعملت في موضع هذه الأحكام منتفية عنه علم أنه مجازا، ولذلك
قلنا: ان لفظة الامر حقيقة في القول ومجاز في الفعل، لان الاشتقاق لا يصح في الفعل
ويصح في القول.
ومنها: أن يعلم أن تعلقها بالمذكور لا يصح، فيحكم ان هناك حذفا وان اللفظ
مجاز ولذلك قلنا إن قوله: " واسئل القرية " (3) مجاز، وكذلك قوله: " إلى ربها
ناظرة " (4) على أحد التأويلات.
ومنها: أن يستعمل في الشئ من حيث كان جزاءا لغيره، نحو قوله تعالى:
" وجزاء سيئة سيئة مثلها " (5) لان الجزاء في الحقيقة لا يكون سيئة، ولهذا قال أهل
اللغة الجزاء بالجزاء، ومعلوم ان الأول ليس جزاء، ولذلك نظائر كثيرة.
ومنها: ان يستعمل في الشئ لأنه يفضى إلى غيره كقولهم: (حضره الموت) (6) *
إذا خيف عليه من مرضه، ونحو قولنا: ان النكاح اسم للوطء، حقيقة ومجاز في العقد لأنه
موصل إليه، وان كان بعرف الشرع قد اختص بالعقد كلفظة (الصلاة) وغيرها.

(1) في الأصل لشيء.
(2) * كالفاعل والمفعول ونحوهما.
(3) يوسف: 82.
(4) القيامة: 23.
(5) الشورى: 40.
(6) * فإن الموت مجاز في المرض الشديد، وكذا النكاح مجاز لغة في العقد فلو استعمل فيه لغة لكان العلاقة
أنه يفضي إلي الوطء.
39

وقد يستعمل اللفظ في الشئ لأنه مجاور لغيره، أو هو منه بسبب.
وهذه الجملة كافية في هذا الباب فإنها تنبه على ما عداها وقد انتقلت أسماء
كثيرة مما كانت عليه في اللغة إلى العرف تارة وإلى الشرع (1) أخرى، فما انتقل منه
إلى العرف نحو قولنا: (دابة) و (غائط) فان هذا وان كان اسما في اللغة لكل ما يدب و
للمكان المطمئن من الأرض منه، صار في العرف عبارة عن حيوان مخصوص
وحدث مخصوص، ونظائر ذلك كثيرة لا فائدة في ذكر جميعها وانما أردنا المثال.
واما ما انتقل منه إلى الشرع فنحو قولنا: (الصلاة) فإنها في اللغة موضوعة
للدعاء، وقد صارت في الشريعة عبارة عن أفعال مخصوصة، وكذلك (الزكاة) في
اللغة عبارة عن النمو، وفي الشريعة عبارة عن أخذ شئ مخصوص، ونظائر ذلك
كثيرة. واما لفظة (الايمان) فعند قوم انها منتقلة، وعند آخرين انها على ما كانت
عليه (2)، وليس هذا الكتاب موضوعا لأعيان الأسماء التي انتقلت والتي لم تنتقل فان
شرح ذلك يطول، وانما كان غرضنا أن نبين ثبوت ذلك.
والسبب في استعمال ذلك أنه حدثت أحكام في الشريعة لم تكن معروفة في
اللغة، فلا بد من العبارة عنها، فلا فرق بين أن توضع لها عبارة مبتدأة لا تعرف، وبين أن
ينقل بعض الأسماء المستعملة في غير ذلك، كما أن من يرزق ولدا يجوز له أن يضع
له اسما لا يعرف، ويجوز أن ينقل بعض الأسماء المستعملة إليه، الا أن (3) الامر وان
كان على ما قلناه، فمتى نقل الاسم من مقتضى اللغة إلى شئ لا يعرف فيها لا يكون
المتكلم به متكلما باللغة، بل يكون متكلما بالشرع، وان سمى متكلما باللغة يكون
مجازا من حيث إنه استعمل ما كانوا استعملوه، وان كان قد استعملوه في غير ذلك.
ومتى لم نقل ذلك لزم أن يكون من تكلم باللغة المعروفة ووافق بعض أسمائها أسماء

(1) في الأصل: الشريعة.
(2) لسان العرب 1: 223، مادة (امين).
(3) في الأصل: لأن.
40

العجم أن يكون متكلما بالعجمية، وذلك لا يقوله أحد. فعلم أن الصحيح ما قلناه.
وإذا ثبتت هذه الجملة، فمتى ورد خطاب من الله تعالى أو من الرسول عليه
السلام (1) نظر فيه، فان كان استعماله في اللغة والعرف، والشرع سواء، حمل على مقتضى اللغة، وان كان له حقيقة في اللغة، وصار في العرف حقيقة في غيره وجب
حمله على ما تعورف في العرف، وكذلك ان كان له حقيقة في اللغة أو العرف وقد
صار بالشرع (2) حقيقة لغيره (3)، وجب حمله على ما يعرف (4) بالشرع (5)، وكذلك
إذا (6) كانت اللفظة منتقلة عن اللغة إلى العرف ثم استعملت في الشرع على خلاف
العرف، وجب حملها على ما تقرر في الشرع، لان خطاب الله تعالى وخطاب النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ينبغي أن يحملا على ما تقتضيه الشريعة، لأنه المستفاد من
هاتين الجهتين. ومتى نقل الله تعالى أو رسوله عليه وآله السلام اسما من اللغة إلى
الشرع وجب عليه أن يبينه لمن هو مخاطب به (7) * دون من لم يخاطب به، لان من
ليس بمخاطب به لا يجب بيانه له، ولأجل هذا لا يجب أن يبين الله تعالى لنا مراده
بالكتب السالفة لما لم نكن مخاطبين بها، وهذا وإن لم يجب فإنه يحسن أن يبين لغير
المخاطب كما يبين الله تعالى أحكام الحيض لمن ليس هو مخاطب بها من الرجال،
وذلك جائز غير واجب على ما قلناه، وانما قلنا ذلك لأنه كما يجب أن يقدر من ليس
بمخاطب به، فكذلك لا يجب أن يعلمه لان القدرة آكد من العلم، لان الفعل يستحيل
من دونها أصلا، فإذا لم تجب القدرة فكذلك لا يجب العلم على ما بيناه.

(1) النبي صلي الله عليه وآله.
(2) في الشرع.
(3) في غيره.
(4) تعورف.
(5) في الشرع.
(6) إن.
(7) * المراد بالمخاطب أعم من المكلف ومن توجه إليه الكلام.
41

فصل [5]
(في ذكر ما يجب معرفته من صفات الله تعالى، وصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصفات الأئمة
عليهم السلام حتى يصح معرفة مرادهم)
اعلم أنه لا يمكن معرفة المراد بخطاب الله تعالى الا بعد ثبوت العلم بأشياء:
منها: أن يعلم أن الخطاب خطاب له، لأنا متى لم نعلم أنه خطاب له لم يمكنا
أن نستدل على معرفة مراده.
ومنها: أن نعلم أنه لا يجوز أن لا يفيد بخطابه شيئا أصلا (1) *.
ومنها: أن نعلم أنه لا يجوز أن يخاطب (2) بخطابه على وجه يقبح.
ومنها: أنه لا يجوز أن يريد بخطابه غير ما وضع له ولا يدل عليه.
فمتى حصلت هذه العلوم صح الاستدلال بخطابه على مراده، ومتى لم
يحصل جميعها، أو لم يحصل بعضها لم يصح ذلك، ولذلك ألزمنا المجبرة (3) * الا (4) *

(1) * المراد أن لا يريد به معني يكون مستعملا فيه.
(2) في الأصل والنسخة الحجرية «يخطاب» وهو تصحيف وصحيحه ما أثبتناه.
(3) * المجبرة: هم القائلون بأن أفعال العباد صادرة عن الله تعالي، سواء كانوا قائلين بالكسب _ وهم جمهور
الأشاعرة _ أم لا وهم الجهمية.
(4) * أن لا.
42

يعرفوا بخطابه شيئا ولا مراده أصلا من حيث جوزوا على الله تعالى القبائح.
ولشرح هذه الأشياء موضع غير هذا يحتمل أن نبسط الكلام فيه، غير انا نشير
إلى جمل منه موصلة إلى العلم.
انما قلنا: أنه لا يجوز أن يخاطب ولا يفيد بخطابه شيئا أصلا، لان ذلك عبث لا
فائدة فيه، تعالى الله عن ذلك.
وليس لاحد أن يقول: يجوز أن لا يفيد بخطابه شيئا أصلا ويكون وجه حسنه
المصلحة، لان ذلك يؤدى إلى أن لا يكون طريق إلى معرفة المراد بخطابه أصلا (1) *،
لأنه لا خطاب الا وذلك مجوز فيه وذلك فاسد، فجرى ذلك مجرى المعجزات الدالة
على نبوة الأنبياء عليهم السلام في أنه لا يجوز أن تفعل للمصلحة (2) * دون
التصديق (3)، لان ذلك يؤدى إلى انسداد الطريق علينا من الفرق بين الصادق
والكاذب، ولأجل ذلك قلنا: أنه لا يجوز فعل المعجز الا للتصديق (4) * فكذلك القول

(1) * إشارة إلي ضابطة هي أن كل قضية يحصل لنا العلم القطعي بها بطريق من الطرق، فيمكن لنا أن نستدل
عقلا بالعلم بصدقها على استحالة ما ينافي حصول ذلك العلم من ذلك الطريق، وإن لم تكن جهة الاستحالة
معلومة لنا، وذلك لأن العلم سواء كان ضروريا أو كسبيا لابد له من موجب مخصوص يمتنع عقلا تحققه بدون
ذلك العلم، ولابد لمتعلقه في تعلقه به من موجب مخصوص يمتنع تحقق ذلك الموجب بدون صدق متعلق
العلم، فما ينافي العلم إما مناف لأحد الموجبين وإما مناف لايجابه واستلزامه، فالأول يستحيل عقلا
اجتماعه مع الموجب، والثاني يستحيل عقلا تحققه مطلقا.
(2) * المراد أن العقل يحكم بامتناع صدور المعجز عن الله لا للتصديق بل لمصلحة أخرى، وهذا العلم إما
ضروري للمكلف كالعلم بأنه يمتنع صدور خرق العادة عن غير الله تعالي، أو كسبي يلهم الله المكلف النظر
في دليله، وهو أنه قبيح في نفسه ويمتنع اضطراره تعالي إلي القبيح في نفيه للمصلحة.
(3) في الأصل: تصديقه.
(4) * فيه رد على من زعم أن العيان والبرهان إذا دل على شيء جاز فعل المعجز على طبق دعوى خلافه اعتمادا
علي العلم، ولعله ربما تمسك في ذلك باحتياج نبينا عليه السلام إلي التحدي والتمسك بعدم إمكان
المعارضة، وهذا لا يتوجه على مذهب من قال إن إعجاز القران للصرفة، فإن خارق العادة على مذهبه هو
نفس عجز هم عن المعارضة، لا أنه تتميم لدلالة خارق العادة على الصدق.
43

في الخطاب: انه لا يجوز أن يصدر منه الا للإفادة.
وليس لهم أن يقولوا: أنه تعبد بتلاوته (1)، وذلك لا يمكن الا بخطاب آخر،
والكلام في ذلك الخطاب كالكلام فيه.
وذلك يؤدي إلى أن لا نعلم بخطابه شيئا أصلا، على أن التعبد بتلاوة ما لا يفهم
عبث، لأنه يجرى مجرى التعبد بالتصويب من الصراخ.
ولأن التعبد به انما يجوز إذا كان للمتعبد به طريق إلى معرفة مراده فيدعوه
ذلك إلى فعل الواجب، أو يصرفه عن فعل القبيح، فأما إذا لم يكن كذلك فلا تحسن
العبادة بالتلاوة.
أيضا: فلو كان لمجرد التلاوة لم يحسن أن يجعل بعضه أمرا، وبعضه نهيا،
وبعضه خبرا، وبعضه وعدا، وبعضه وعيدا، ولا أن يكون خطابا لقوم بأولى من أن
يكون خطابا لغيرهم، وكل ذلك يبين انه لا يحسن لما قالوه.
فأما الذي يدل على أنه لا يجوز أن يخاطب على وجه يقبح ما ثبت من كونه
عالما بقبحه، ومن انه غنى عنه، ومن هذه صفته لا يجوز أن يفعل القبيح، ألا ترى أن
من علم أنه إذا صدق توصل إلى مراده، وكذلك إذا كذب وصل إليه على حد ما كان
يفعل إليه لو صدق من غير زيادة لم يجز أن يختار الكذب على الصدق، ولا وجه في
ذلك إلا لعلمه بقبح الكذب، وبأنه غنى عنه بالصدق، فكذلك القديم تعالى.
وأما الذي يدل على أنه لا يجوز أن يريد بخطابه غير ما وضع له ولا يدل عليه،
فان ذلك يؤدى إلى أن لا نعلم بخطابه شيئا أصلا، لأنه لا خطاب الا وذلك يجوز فيه،
ولا يمكن أن يدعى العلم بقصده ضرورة في بعض خطابه، لان ذلك يمنع من التكليف
وليس لهم أن يقولوا: انه يؤكد ذلك الخطاب فيعلم به مراده، وان كان هذا عاريا منه

(1) وليس لهم أيضا يقولوا أنه يقولوا أنه متعبد بتلاوته فيكون ذلك وجه الحسن فإنه لا طريق إلي أن يعرف أنه تعبد
بتلاوته.
44

لان التأكيد أيضا خطاب فيلزم فيه ما لزم في المؤكد، وأن يكون فعل لمثل ما
فعل له المؤكد. [زيادة من الأصل....... نفسه، وذلك يؤدي إلى ما قلناه.
ولا لهم أن يقولوا: إنه يخاطبه بخطاب لا يحتمل أصلا، لأنه لا خطاب إلا
ويمكن أن يراد به غير ظاهره على وجه التجوز، فإذا جوز أن لا يدل عليه لزم أن لا
نفهم بخطابه شيئا أصلا، ولا يلزمنا ذلك فيما نقوله في الأسماء المنقولة إلى الشرع،
لأنه قد دللنا على المراد بجميع ذلك، ففارق ذلك ما قالوه.
وهذه جملة كافية في هذا الباب، لان شرح ذلك يطول ويخرج عن بغية الكتاب.
وإذا ثبت ما قلناه، فمتى ورد خطاب من الله تعالى وجب حمله على ظاهره
فيما تقتضيه اللغة، إلا أن يدل دليل على خلافه.
وأما معرفة مراد الرسول عليه وآله السلام بخطابه فيكون على ضربين:
أحدهما: لمن يشاهده ويضطر إلى قصده بخطابه، فمن هذه صفته أغناه علمه
بقصده، ومراده عن اعتبار صفاته.
أما من غاب عنه، ولا يعلم قصده ضرورة، فلا يصح أن يعرف مراده إلا بعد
العلم ما شاء.
منها: أن نعلم أنه لا يجوز أن يكذب فيما يؤديه عن الله تعالى.
ومنها: أنه لا يجوز أن يكتم ما يجب أداؤه.
ومنها: أنه لا يؤدي على وجه يقتضي التفسير عنه فيم حصلت له عدة علوم،
صح أن يعلم بخطابه مراده. ومتى لم تحصل له لم يصح ذلك.
ولم نذكر في جملة هذه الأقسام العلم بنبوته، لان الكلام في خطاب من ثبت
نبوته، دون من لم تثبت نبوته، فذلك خارج عن هذا.
وإنما شرطنا هذه العلوم، لان العلم المعجز إذا دل على صدقه أنه رسول الله
- صلى الله عليه وآله - دل على أنه صادق فيما يؤديه عن الله تعالى، لأنه لا يجوز أن
يعلمه صادقا في أنه رسول الله صلى الله عليه وآله ويجوز أن يكذب فيما بلغ، لان
ذلك يوجب أن يكون الله تعالى أرسله مع علمه أنه لا يؤدي ما حمله من الرسالة على
45

وجهها أو يكذب عليه فيها، وهذا لا يجوز لان ذلك مناقضة للغرض يتعالى الله عن ذلك.
وقد أجمعت الأمة على هذا القسم، وأنه لا يجوز على النبي صلى الله عليه
وآله الكذب فيما يؤديه عن الله تعالى، فيمكن الاعتماد عليه أيضا.
وإذا ثبت كونه صادقا، دل على أن أوامره أوامر محسن، ونواهيه عن قبيح،
لأنهما في المعنى بمعنى الخبر، فلو لم يكونا كذلك لكانا كذبين، وقد بينا خلاف ذلك.
وأما الكذب في غير ما يؤديه عن الله تعالى، فلا يجوز عليه لأنه يقتضي التنفير
عن قبول قوله، وذلك لا يجوز.
وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكتم عنا ما أمر بأدائه إلينا، لأنه لو جاز ذلك لأدى إلى
أن لا يكون لنا طريق يعرف به مصالحنا، فلا يجوز من الحكيم تعالى أن يبعث رسولا
غرضه أن يعرفنا مصالحنا، وهو يعلم أنه لا يؤدينا.
ولا يمكن أن يقال: أنه يجوز عليه الكتمان إلا أنه يبعث نبيا آخر فيؤدي به.
لان الكلام في ذلك النبي كالكلام فيه في أنه يجوز عليه أن يكتم عنا ولا يبين ما
يجب بيانه، وفي ذلك ما قلناه.
ولا يلزم على ذلك وجوب البيان قبل الحاجة، لان قبل الحاجة ليس يجب
عليه تعريفنا في ذلك الحال.
فلو قيل: لو خوف بالقتل عند الحاجة إلى الفعل كان يجوز أن لا يؤدي أم لا؟
قيل له: إذا دفع إلى ما قدر في السؤال لم يخل حاله من أمرين:
أحدهما: أن يكون الذي يجب أن يبينه وهو صفة ذلك الشئ فقط، وما عدا
ذلك قد بينه.
[الثاني] (1): أو لم يجب بيانه عليه على وجه، فإن كان كذلك وجب عليه بيانه
وإن قتل دونه. ولا يجوز أن يكتم لان في كتمانه ما قدمنا ذكره.
ولا يلزم على ذلك وجوب إظهار الايمان على المكره على الكفر، لان ذلك لا

(1) زيادة تقتضيها العبارة.
46

يتعداه، ففارق حاله حال ما قلناه.
وإن كان مما يلزمه بيان أشياء أخرى في المستقبل ولا يكون في معلوم الله
تعالى من يقوم مقامه: فإن الله تعالى يمنع منه ولا يمكن من قبله، فسقط الاعتراض.
وإنما قلناه: إنه لا يجوز أن يؤدي على وجه لا يمكن معرفة مراده، لأنه متى أدى
على هذا الوجه لم يمكنا أن نعلم ما هو مصلحة لنا، وذلك بشرائط حسن التكليف..... نهاية الزيادة في الأصل] (1)
وليس يمكن أن يقال: انه وان لم نعلم مراده في الحال،
فإنه يمكن أن نعلم
مراده في المستقبل ضرورة بأن نضطر إلى قصده، لان ذلك لا يخلو اما أن يكون وقت
الحاجة إلى ما تضمنه الخطاب، أو لا يكون كذلك فان كان وقت الحاجة فإنه يؤدي
إلى ما قلناه. وان لم يكن وقت الحاجة فلا يجوز أيضا، لان فيه التنفير عن قبول قوله،
لأنه متى جوز عليه التعمية والألغاز في كلامه - وان أمكن معرفة المراد في الحالة
الأخرى - نفر ذلك عن قبول قوله حالة أخرى، ولا يقبح هذا الوجه للأول بل لما قلناه (2).
فأما ما لا تعلق له بالشريعة فيجوز أن يعمى فيه من مصالحه الدنياوية، وعلى
هذا يتأول قوله عليه السلام لما سأله الأعرابي في مسيره إلى بدر: مم أنتم؟ قال مما
تورى في نفسه ولم يصرح (3) (4) *، وذلك لا يجوز في الشرعيات، وليس هذا من جواز

(1) زيادة من الأصل.
(2) في الأصل: ولا يقبح هذا الوجه الأول لما قلنا ه‍.
(3) قال ابن هشام في سيرته (2 / 267): «... ثم ارتحل رسول الله صلي الله عليه وعليه وآله وسلم من ذفران فسلك
علي ثنايا يقال لها: الأصافر، ثم إنحط منها إلي بلد يقال له: الدبة، وترك الحنان بيمين، وترك الحنان بيمين، وهو كثيب عظيم
كالحبل العظيم، ثم نزل قريبا من بدر، فركب هو ورجل من أصحابه حتى وقف على شيخ من العرب، فسأله
عن قريش، وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم: فقال الشيخ: لا اخبر كما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال
رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: إذا أخبرتنا أخبرناك. قال: أذاك بذاك؟ قال: نعم، قال الشيخ: فإنه بلغني أن
محمد ا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا كذا، للمكان الذي
به رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني
فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه قريش. فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما: فقال رسول الله
47

تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب في شئ على ما نذهب إليه، لان المجمل له
ظاهر مقصود مستفاد، ففارق ذلك حال المعمى الذي يوهم (1) به شئ على حال.
وانما قلنا: انه لا يجوز أن يؤدى إلينا على وجه يقتضى التنفير، لان الغرض في
بعثه إذا كان القبول منه فما أدى إلى التنفير عن ذلك يجب أن يجنب، ولأجل ما قلناه
جنبه الله تعالى الفظاظة والغلظة وفعل القبائح، لما في ذلك من التنفير.
فإذا ثبتت الجملة التي ذكرناها، فمتى ورد من الرسول خطاب، وجب حمله
على ظاهره، الا أن يدل دليل على أن المراد به غير ظاهره فيحمل عليه، وعلى هذا
يعلم مراد الرسول
وأما ما يجب أن يكون الامام - عليه الاسلام - عليه حتى يصح أن يعلم مراده
بخطابه فيما لا يعلم الا من جهته، فجميع الشرائط التي شرطناها في النبي صلى الله
عليه وآله وسلم لا بد من أن تكون حاصلة في الامام، فالطريقة فيهما واحدة فلا معنى
لإعادة القول فيه.

صلي الله عليه وآله وسلم: نحن من ماء، ثم انصرف عنه. قال يقول الشيخ: ما من ما ء أمن ماء العراق؟».
(4) * أي أراد غير الظاهر ولم يدل عليه، فإنه أراد أنهم مخلوقون من الماء أي من النطفة وظاهره أنهم من
العراق فإنهم كانوا يسمون أهل العراق أهل الماء لكثرة الماء في ناحيتهم.
(1) في الأصل: يفهم.
48

فصل [6]
(في ذكر الوجه الذي يجب أن يحمل عليه مراد الله بخطابه)
إذا ورد خطاب عن الله تعالى، فلا يخلو من أن يكون محتملا أو غير محتمل،
فان كان غير محتمل، بأن يكون خاصا أو عاما وجب أن نحمله على ما يقتضيه
ظاهره، الا أن يدل على أنه أراد به غير ظاهره دليل، فيحمل عليه. فان دل دليل على
أنه أراد بالخاص غيره (1) * وجب حمله على ما دل عليه، وإن دل على أنه لم يرد
الخاص نظر فيه، فان كان ذلك الخاص مما لا يتسع الا في وجه واحد، وجب أن
يحمل على أنه مراد به، والا أدى ذلك إلى أن يكون ما أراد بالخطاب شيئا أصلا. وان
كان ذلك مما لا يتسع به في وجوه كثيرة وجب التوقف فيه، ولا يقطع على أنه أريد به
البعض لعدم الدليل، ولا أنه أريد به الجميع لأنه لا دليل أيضا عليه.
وهذا أولى مما قاله قوم: من أنه يجب حمله على أنه أريد به جميع تلك
الوجوه لأنه لا يمتنع أن يكون أراد بعض تلك الوجوه وأخر بيانه إلى وقت الحاجة
على ما نذهب إليه في جواز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب.

(1) * اي إذا أطلق الخاص، فأما أن يعلم عدم إرادة معناه الموضوع له أم لا، فعلي الأول أما أن يعلم بظاهر أنه
قصد إرادة معني معين غير الموضع له أم لا، وعلي، الثاني وهو أن لا يعلم عدم إرادة معناه الموضوع له، أما أن
يعلم إرادة غير الموضوع له معه أم لا، فهذه أربعة احتمالات تصدي المصنف لبيان حالها، إلا الرابع فإنه
معلوم مما مر وهو قوله: «وجب أن يحمله على ما يقتضيه ظاهره».
49

وقولهم: (إنه لو أراد به بعض الوجوه لبينه) ينعكس عليهم بأن يقال: ولو أراد به
جميع الوجوه لبينه، وليس أحد القولين أولى من الاخر، فالأولى الوقف.
فان فرضنا ان الوقت وقت الحاجة ولم يبين المراد من تلك الوجوه، وجب
حمله على جميعه لأنه ليس حمله على بعضه بأولى من بعض فان دل الدليل على
أنه أراد بعض تلك الوجوه وجب حمله عليه والقطع على أنه لم يرد غيره، لأنه لا
ظاهر هناك يمكن حمله على جميعه بخلاف ما نقوله في العموم، أو ماله ظاهر. ومتى
دل (1) على أنه أراد به الخاص وغيره، وجب القطع على أنه أراد الخاص باللفظ، وما عداه
مراد بدليل، وذلك نحو قوله تعالى: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " (2) الآية، فإنه قد
علم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مراد باللفظ، ومن عداه من الأمة مراد بدليل.
وأما العام: فإذا ورد ينبغي حمله على ظاهره، فان دل الدليل على أنه أراد غير
ما اقتضاه الظاهر وجب حمله عليه، وان دل الدليل على أنه أراد جميع تلك الأشياء
وجب حمله عليها (3).
وان دل الدليل على أنه ما أراد به بعضها، وجب القطع على أنه مراد، وما عداه
يتوقف فيه، لان كون أحدها مراد لا يمنع من أن يريد به الاخر، على ما سنبينه فيما بعد (4).
وان دل الدليل على أنه لم يرد أحدهما، وكان اللفظ مشتركا
بين شيئين وجب
القطع على أنه أراد به الاخر، والا خلا الخطاب من أن يكون أريد به شئ أصلا.

(1) يدل.
(2) الطلاق: 1.
(3) وإن دل الدليل على أنه أراد بعض ما يتناوله اللفظ، لم يكن ذلك مانعا من أن يريد الباقي، وجب حمله علي
أنه أراد به الكل بحكم اللفظ.
(4) وإن دل الدليل على أنه ما أراد به بعض ما تناوله اللفظ، فينبغي ان يخرج ذلك منه ويقطع على أن الباقي مراد
بحكم اللفظ، ولا يجب التوقف فيه لأن له ظاهرا بخلاف ما تقدم في الخاص، ومتي ورد لفظ مشترك بين
شيئين أو أشياء، فإن دل الدليل على أنه أراد جميع تلك الأشياء وجب حمله عليها، وإن دل الدليل على أنه أراد
بعضها وجب القطع على أنه مراد وما عداء يتوقف فيه لأن كون أحدها مرادا لا يمتنع من أن يريد به الآخر
على ما سنبينه فيما بعد.
50

وان كان مشتركا بين أشياء قطع على أنه لم يرد ما خصه بأنه غير مراد، وتوقف
في الباقي وانتظر البيان.
ومتى كان اللفظ مشتركا ولم يقرن به دلالة أصلا وكان مطلقا وجب التوقف
فيه وانتظار (1) البيان لأنه ليس بأن يحمل على بعضه بأولى من أن يحمل على
جميعه، وتأخير البيان عن وقت الخطاب جائز.
فان كان الوقت وقت الحاجة وأطلق اللفظ، وجب حمله على جميعه لأنه
ليس بأن يحمل على بعضه بأولى من بعض، ولو كان أراد بعضه لبينه، لان الوقت وقت
الحاجة.
وهذا الذي ذكرناه أولى مما ذهب إليه قوم من أنه إذا أطلق اللفظ وجب حمله
على جميعه على كل حال (2) *، لأنه لو أراد بعضه لبينه لان لقائل (3) أن يقول:
لو أراد الجميع لبينه فيجب حمله على بعضه، ويتعارض القولان ويسقطان.
وانما حملهم على هذا قولهم: ان تأخير بيان المجمل لا يجوز عن وقت
الخطاب وعندنا ان ذلك جائز على ما نستدل (4) عليه فيما بعد فمتى كان الوقت
وقت الحاجة وجب حمل اللفظ على أنه أراد به الجميع، ثم ينظر فيه فان أمكن
الجمع بينها وجب القطع على أنه أراد ذلك عن طريق الجمع بينها، وان لم يمكن
الجمع بينها وجب القطع على أنه أراد به الجميع على وجه التخيير.
وذهب قوم إلى أنه يجوز أن يريد من كل مكلف ما يؤديه اجتهاده إليه.
وهذا يتم لمن قال: ان كل مجتهد مصيب، وعندنا ان ذلك باطل، فلا وجه غير
التخيير وعلى هذا ينبغي ان تحمل القرائتين المختلفتا (5) المعنى إذا لم يكن هناك

(1) انتظر.
(2) * اي سواء كان وقت الحاجة أو قبلة.
(3) في الأصل: للقائل.
(4) سندل.
(5) القرائتين المختلفي.
51

دليل على أنه أراد أحدهما، وكذلك القول في الخبرين المتعارضين إذا لم يكن هناك
ما يرجح به أحدهما على الاخر، ولا ما يقتضى نسخ أحدهما للاخر من التاريخ.
وهذا الذي ذكرناه كله فيما يصح أن يراد باللفظ الواحد (1) *.
فأما ما لا يصح أن يراد باللفظ الواحد، فإنه لا بد فيه من اقتران بيان به، لان
الوقت وقت الحاجة على ما فرضناه.
ومتى كان اللفظ شرعيا منقولا مما كان عليه في اللغة، وجب حمله على ما
تقرر في الشرع، فان دل الدليل على أنه لم يرد به ما وضع له في الشرع نظر فيما عداه،
فان كانت (2) الوجوه التي يمكن حمل الخطاب عليها محصورة، وكان الوقت وقت
الحاجة وجب حمله على جميعها لأنه ليس حمله على بعضها بأولى من حمله على
جميعها ولو كان المراد بعضها لبينه لان الوقت وقت الحاجة.
وان لم يكن الوقت وقت الحاجة، توقف في ذلك إلى أن يراد البيان حسب ما
قدمناه في الألفاظ المشتركة سواء.
وان دل الدليل على أنه أراد بعض تلك الوجوه، لم يكن ذلك مانعا من أن يراد
به الوجوه الاخر، فان كان الوقت وقت الحاجة وجب حمله على أن المراد به جميعه،
وان لم يكن وقت الحاجة يوقف (3) على البيان على ما بيناه.
فاما كيفية المراد باللفظ الواحد للمعاني المختلفة، فالذي ينبغي أن يحصل في
ذلك أن نقول: لا يخلو اللفظ من أن يكون يتناول الأشياء على الحقيقة، ويفيد في
جميعها معنى واحدا، أو يفيد في كل واحد منها خلاف ما يفيده في الاخر:
فان كان الأول فلا خلاف بين أهل العلم في أنه يجوز أن يراد باللفظ ذلك (4) * كله.

(1) * أي على سبيل التخيير.
(2) في الأصل: كان.
(3) أوقف.
(4) * بأن يكون كل واحد من أفراد الكل مرادا من حيث عمومه لا من حيث الخصوص، فإنه يصير اللفظ
مجازا.
52

وان كان القسم الثاني فقد اختلف العلماء في ذلك:
فذهب أبو هاشم (1)، وأبو عبد الله (2) ومن تبعهما (3) إلى أنه لا يجوز أن يراد
المعنيان المختلفان بلفظ واحد فان دل الدليل على أنه أرادهما جميعا قالوا لا بد من
أن نفرض انه تكلم باللفظ مرتين أراد كل مرة منهما معنى واحدا، وعلى هذا حملوا
آية القرء بأن قالوا: لما دل الدليل على أنه أرادهما جميعا بحسب ما يؤدى اجتهاد
المجتهد (4) * إليه علمنا أنه تكلم بالآية مرتين، ثم أنزله على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وقالوا (5) في الحقيقة والمجاز والكناية (6) *، والصريح مثل ذلك، وقالوا: لا
يجوز (7) * أن يريد بقوله: " أو لامستم النساء " (8) الجماع، واللمس باليد وبقوله:

(1) هو أبو هاشم، عبد السلام، بن محمد، بن عبد الوهاب الجبائي، من كبار مفكري مدرسة الاعتزال والمنظرين
لها، ولد سنة 277 ه‍ وعاش ببغداد، وكان أشهر من أبيه، وصار أستادا للصاحب بن عباد، اطلق على أصحابه
و المنتمين إلي مدرسته اسم البهشمية. توفي سنة 321 ه‍ ببغداد، له تصانيف كثيرة.
(2) هو الشيخ أبو عبد الله، الحسين، بن علي البصري، المتكلم، الفقيه، أخذ الكلام عن أبي علي بن خلاد وأبي
هاشم، والفقه عن أبي الحسن الكرخي، وألف في الفقه عدة كتب منها (شرح مختصر أبي الحسن الكرخي)،
و له مؤلفات عديدة في علم الكلام، وصفه ابن النديم بقوله: (إليه انتهت رياسة أصحابه في عصره، وكان
فاضلا، فقيها، متكلما، عالي الذكر، نبيه القدر)، كان معتزليا ويميل إلي أهل البيت عليهم السلام، ويقدم أمير
المؤمنين عليه السلام على من سواه، وصنف كتاب (التفضيل) ولد سنة 308 ه‍ وتوفي ببغداد سنة 369 ه‍.
(3) وهذا مذهب جماعة مثل مالك، وأبي حنيفة، وأبي الحسن الكرخي، وأبي حامد الغزالي، وفخر الدين
الرازي، والجويني، وجماعة آخرون.
راجع: «المعتمد في أصول الفقه 1: 307 - 300، الإبهاج 1: 166، المستصفي 2: 71، أصول السرخسي 1: 126 و 162».
(4) * هذا بناء على القول بالتصويب على تفسيره بعض العامة، وسيجئ بطلان القول به في الكلام في الاجتهاد.
(5) في الأصل: فقالوا.
(6) * الفرق بين المجاز والكناية، أن المجاز مستعمل في غير الموضوع له بقرينة، والكناية ما يستعمل في
الموضوع له، لكن المقصود الأصلي أن ينتقل ذهن السامع إلي لازم له لا لأن اللازم مستعمل فيه.
(7) * إن الجواز هنا يستلزم الوجوب، لأن المراد بالجواز بالنسبة إلي كل فرد من الكناية لا بالنسبة إلي نوعه، وإلا
لم يتحقق التباين الكلي بين المجاز والكناية وهم بصدده.
(8) النساء: 43.
53

" ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " (1) العقد والوطء.
وقال: لا يجوز أن يريد باللفظ الواحد الاقتصار على الشئ وتجاوزه وقال في
قوله تعالى: " وان كنتم جنبا فاطهروا " (2) ولا يجوز ان يريد به الغسل والوضوء.
وقال أيضا: لا يجوز أن يريد باللفظ الواحد نفى الاجزاء والكمال.
وقال: في قوله عليه السلام (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب) (3) لا ينبئ عن نفى
الاجزاء، وانه إذا جاز أن يريد به نفي الاجزاء ونفى الكمال، وثبت ان كليهما لا يصح
أن يراد بعبارة واحدة، فيجب أن لا يدل الظاهر على نفى الاجزاء.
وقال: يصح أن يريد عز وجل بقوله: " فلم تجدوا ماءا فتيمموا " (4) الماء
والنبيذ، لأنهما يتفقان فيما يفيده هذا الاسم، وان كان أحدهما شرعيا والاخر لغويا.
وقال: قولنا بان النص الدال على أن الفخذ عورة، المراد به الفخذ والركبة لا
ينقض هذا، لان ذلك علمناه بغير اللفظ بل بدليل آخر.
واعتل في ذلك بأن قال: لا يصح أن يقصد المعبر باللفظ الواحد استعماله فيما
وضع له، والعدول به عن ذلك فكذلك لم يصح أن يريد باللفظ الواحد الحقيقة
والمجاز وذكر ان تعذر ذلك معلوم لنا، وان الواحد منا إذا قصده لم يصح منه فدل
على أن جميع ذلك غير صحيح (5).
وذهب أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد (6) إلى: أنه (يجب أن تعتبر العبارة،

(1) النساء: 22.
(2) المائدة: 6.
(3) وسائل الشيعة: الباب 1: أبواب القراءة، كنز العمال 7: 443، و 7: 113.
(4) النساء: 43.
(5) المعتمد في أصول الفقه 1: 307 - 300.
(6) هو القاضي عبد الجبار المعتزلي، الهمداني، الأسد آبادي، ولد سنة 325 ه‍ وعاش ببغداد إلي أن عينه
الصاحب بن عباد قاضيا بالري سنة 367 ه‍ ومن ثم لقب بقاضي القضاة، وكان شافعي المذهب، ويعد آخر
علماء المعتزلة النابهين، كان مؤلفا كثير التصانيف وأشهر كتبه كتاب (المغني) وكتاب (الأمالي)، وقد رد
الشريف المرتضى على كتاب المغني في كتاب (الشافي في الإمامة). توفي بالري سنة 415 ه‍.
54

ويعتبر ما به صارت عبارة عنه فان كانت مشتركة بين الشيئين المختلفين، فمتى (1)
أراد أحدهما لم يصح ان يريد الشئ (2) الاخر، ويستحيل ذلك فيه قطع به.
وان لم يمنع من ذلك جوز أن يراد به المعنيان معا، لأنه إذا كان المخاطب
يصح أن يريد كل واحد منهما بالعبارة، ولا مانع يمنع من أن يريدهما جميعا، فيجب
أن يصح أن يريدهما معا.
قال: وقد علمنا أن القائل إذا قال لصاحبه (لا تنكح ما نكح أبوك) يصح أن يريد
بذلك العقد والوطء وارادته لاحد الامرين لا يمنع من ارادته للاخر.
وانما قلنا: انه لا يجوز أن يريد بلفظ الامر، الامر والتهديد، لان ما به يصير أمرا
وهي إرادة المأمور به يضاد ما به يصير تهديدا وهي كراهته (3) ويستحيل أن يريد
الشئ الواحد، في الوقت الواحد، على وجه واحد، من مكلف واحد، ويكرهه على
هذه الوجوه.
وقلنا: انه لا يصح أن يريد بالعبارة الاقتصار على الشئ وتجاوزه، لأنه يتنافى
أن يريد الزيادة على ذلك الشئ وألا يريده ولذلك استحال ذلك.
وانما نقول: انه لا يريد بالعبارة ما لم يوضع له على وجه، لأنه لا يصح أن
يستعمل العبارة في الشئ الا بأن يفيده في الحقيقة أو المجاز، لا لأنه يتنافى أن
يريدهما جميعا لأنه يصح أن يريد بقوله: " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله " (4) قتل
النفس والاحسان إلى الناس، ولا يتنافى ذلك وانما يصح أن يراد ذلك به لان العبارة لم
توضع له، وإذا صح ذلك ووجدنا عبارة قد وضعت لمعنيين مختلفين نحو القرء في
أنه (5) موضوع للطهر والحيض لا يتنافى من المخاطب أن يريدهما جميعا، فلا وجه

(1) ومتي.
(2) في الأصل: المعني.
(3) كراهية ذلك.
(4) الإسراء: 33.
(5) فإنه.
55

لإحالة القول في ذلك. وقد وضع قولنا: (النكاح) للوطء حقيقة، والعقد (1) مجازا،
وإرادة أحدهما لا تمنع من إرادة الاخر، فلا مانع من أن يراد جميعا بالنكاح (2).
فان قيل: الذي يمنع من ذلك أنه لا يجوز استعمال العبارة فيما وضعت له
والعدول بها عما وضعت له في اللغة، فلذلك منعت من أن يراد جميعا بها، لان ذلك
يتنافى استعمالها (في ما وضعت له) (3).
قيل له: ان العبارة تستعمل فيما وضعت له إذا قصد بها إفادة ذلك، وان لم
يقصد المعبر إلى (4) ان يستعملها فيما وضعت له.
فان قيل: فان إرادة الوطء والعقد بهذه الكلمة يتعذر، ونجد تعذر ذلك من
أنفسنا، فلذلك منعت من أن يرادا جميعا بها!
قيل له: انه ان ما ادعيت تعذره نحن نجده منا مأتيا فلا معنى لتعلقك به.
هذه ألفاظه بعينها قد سقناها على ما ذكرها في كتاب (5) (العمد) (6).
وهذا المذهب (7) * أقرب إلى الصواب من مذهب أبي عبد الله (8) وأبى
هاشم (9)، وما ذكره سديد واقع موقعه.
والقول في الكناية والصريح يجرى أيضا على هذا المنهاج.
وقوله: " أو لامستم النساء " (10) ما كان يمتنع أن يريد به الجماع واللمس باليد،

(1) العقد.
(2) في الأصل: بالكلام.
(3) الزيادة من النسخة الثانية.
(4) على.
(5) كتابه.
(6) انظر التعليقة رقم (2) صفحة 502.
(7) * أي القول بالجواز العقلي، أو به وبالجواز اللغوي أقرب إلي الصواب.
(8) الشيخ أبو عبد الله الحسين بن على البصري.
(9) هو أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي.
(10) النساء: 43.
56

لكن علمنا بالدليل (1) * انه أراد أحدهما وهو الجماع.
وأما ما ذكره أبو عبد الله (2) من قوله عليه السلام: (لا صلاة الا بفاتحة
الكتاب) (3) وان ذلك لا يمكن حمله على نفى الاجزاء والكمال من حيث كان نفى
أحدهما يقتضى ثبوت الاخر، فليس على ما ذكره لأنه متى نفى الاجزاء، فقد نفى
أيضا الكمال، لأنه إذا لم يكن مجزئا كيف يثبت كونها كاملة؟ فكيف يدعى ان في نفى
أحدهما اثباتا للاخر؟ وكذلك إذا نفى الكمال لا يمتنع أن ينفى معه الاجزاء أيضا، لأنه
ليس في نفيه اثبات الاجزاء، فلا يمكن ادعاء ذلك فيه. وينبغي أن يكون الكلام في
ذلك مثل الكلام فيما تقدم.
وأما ما ذكره عبد الجبار (4) من أنه لا يجوز أن يريد باللفظ الواحد الاقتصار على
الشئ وتجاوزه، لأنه يتنافى أن يريد الزيادة وألا يريدها، فالذي يليق بما ذكره من
المذهب الصحيح غير ذلك، وهو أن يقال: ان ذلك غير ممتنع لأنه لا يمتنع أن يريد
الاقتصار على الشئ ويريد أيضا ما زاد على ذلك على وجه التخيير وليس بينهما
تناف، وليس ذلك بأكثر من إرادة الطهر والحيض باللفظ الواحد، وقد أجاز ذلك
فكذلك القول في هذا.
ومتى كان اللفظ يفيد في اللغة شيئا، وفي العرف شيئا آخر، وفي الشرع شيئا
آخر لا يمتنع أن يريدهما معا، وكذلك القول في الحقيقة، والمجاز، والكناية،
والصريح.
فان قيل: إذا كان جميع ما ذكرتموه (5) * غير ممتنع أن يكون مرادا باللفظ،

(1) * أراد بالدليل ما يدل على عدم الجواز لغة، أو القرينة الدالة على عدم إرادة الصريح، ويؤيد الأخير قوله
«وهو الجماع».
(2) الشيخ أبو عبد الله الحسين بن علي البصري.
(3) وسائل الشيعة: الباب 1 أبواب القراءة، كنز العمال 7: 443 و 8: 113.
(4) أي القاضي عبد الجبار المعتزلي.
(5) * أي استعمال اللفظ في المعنيين الحقيقيين، وفي الحقيقي والمجازي، وفي الكناية والصريح، وفي المعني
اللغوي، والعرفي، والشرعي، وغير ذلك من الصور الآتية في قوله: (وكذلك إن كان اللفظ يفيد في اللغة
57

فكيف الطريق إلى القطع على أن الجميع مراد بظاهره (1) * أم بدليل؟ وكيف القول فيه؟.
قيل له: لا يخلو أن (2) يكون اللفظ حقيقة في الامرين، (وحقيقة في أحدهما
ومجازا في الاخر فان كان اللفظ حقيقة في الامرين) (3) فلا يخلو أن (4) يكون وقت
الخطاب وقت الحاجة إلى الفعل أو (5) لا يكون كذلك:
فان كان الوقت وقت الحاجة ولم يقترن به ما يدل على أنه أراد أحدهما،
وجب القطع على أنه أرادهما باللفظ وان اقترن به ما يدل على أنه أراد أحدهما، قطع
به وحكم بأنه لم يرد الاخر. وكذلك ان دل على أنه لم يرد أحدهما قطع على أنه أراد
الاخر كل ذلك باللفظ.
وان لم يكن الوقت وقت الحاجة توقف في ذلك، وجوز كل واحد من الامرين
وانتظر البيان على ما نذهب إليه من جواز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب.
وان كان اللفظ حقيقة في أحدهما ومجازا في الاخر قطع على أنه أراد الحقيقة،
الا أن يدل دليل على أنه أراد المجاز، أو أراد الحقيقة والمجاز، فيحكم بذلك.
فان دل الدليل على أنه أراد المجاز لم يمنع ذلك من أن يكون أراد الحقيقة
أيضا فينبغي أن يحمل عليهما الا أن يدل الدليل (6) على أنه (لم يرد الحقيقة أو لا
يمكن الجمع بينهما، فيحمل حينئذ على أنه) (7) * أراد المجاز لا غير وكذلك ان كان
اللفظ يفيد في اللغة شيئا وفي الشرع شيئا آخر، وجب القطع على أنه أراد ما اقتضاه
الشرع الا أن يدل دليل على أنه أراد ما وضع له في اللغة أو أرادهما جميعا (7) *،

شيئا...)، وتداخل الصور، غير مضر.
(1) * حرف الاستفهام محذوف، اي أبظاهره وهو بيان لقوله: «فكيف الطريق» متعلق بالقطع لا بمراد.
(2) إما أن.
(3) زيادة من النسخة الحجرية.
(4) إما أن.
(5) في الأصل: أم.
(6) دليل.
(7) * مقتضي ما ذكره سابقا أنه إن دل الدليل على أنه أراد ما وضع له في اللغة لم يمنع ذلك من أن يكون أراد ما
58

فيحكم بذلك.
وكذلك القول في الكناية والصريح، ينبغي أن يقطع على أنه أراد الصريح الا
أن يدل دليل على أنه أراد الكناية أو أرادهما جميعا.
هذا إذا لم يكن اللفظ حقيقة في الكناية والصريح. فاما إذا كان اللفظ حقيقة
فيهما على ما نذهب إليه في فحوى الخطاب ودليل الخطاب، فينبغي أن يكون
الحكم حكم الحقيقتين على التفصيل الذي قدمنا.
والقول في الاسم اللغوي والعرفي، أو العرفي والشرعي مثل القول في اللغوي
والشرعي على ما قدمنا القول فيه.
واعلم أن الدليل إذا دل على وجوب حكم من الاحكام، ثم يرد نص يتناول
ذلك الحكم فلا يخلو من أحد أمرين:
اما أن يتناوله حقيقة أو مجازا فان كان متناولا له حقيقة وجب القطع على أنه
مراد (1) * بالنص لأنه يقتضى ظاهره ولو أراد غيره لبينه فمتى لم يبين وجب
القطع على أنه مراد به، والا خلا اللفظ من فائدة ولهذا نقول: إذا دل الدليل على
وجوب الصلاة، ثم ورد قوله تعالى: " أقيموا الصلاة " (2) وجب القطع على انها مرادة
بالنص لتناول اللفظ لها.
وان كان اللفظ متناولا لذلك الحكم على جهة المجاز لم يجب القطع على أنه
مراد (3) * لان الخطاب يجب حمله على ظاهره الا أن يدل دليل على أن المراد به
المجاز، وليس ثبوت الدليل على وجوب حكم يتناوله اللفظ على جهة المجاز
بموجب للقطع على أنه مراد باللفظ ولذلك قلنا: انه لا يمكن ابطال مذهب

وضع له في الشرع أيضا، فإن المعني اللغوي مجازي في الألفاظ الشرعية.
(1) * أي لا يجب كون النص مفيدا فائدة جديدة يعلم قبله.
(2) البقرة: 43.
(3) * أي لا يجب كون النص منطبقا على ما علم قبله.
59

الشافعي (1) في تعلقه بقوله تعالى: " أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءا فتيمموا " (2)
بأن يقال: لما دل الدليل على أن الحكم المذكور في الآية يتعلق بالجماع، وجب حمل
الآية على أنه المراد به دون غيره من وجهين:
أحدهما: انا قد بينا ان اللفظ إذا تناول شيئين فليس في ثبوت كون أحدهما
مرادا ما ينافي أن يكون الاخر أيضا مرادا.
والذي يقتضيه عندنا الوقف ان لم يكن الوقت وقت الحاجة، وان كان الوقت
وقت الحاجة وجب حمله عليهما جميعا.
والوجه الثاني: ان تسمية الجماع باللمس انما هو على طريق المجاز دون
الحقيقة، وقد بينا ان اللفظ يجب حمله على الحقيقة، الا أن يدل دليل على أنه أراد
المجاز. ولو دل أيضا الدليل على أنه أراد المجاز، لم يكن ذلك مانعا من أن يريد به ما
تقتضيه حقيقته الا أن يدل دليل على أنه لم يرد حقيقته على ما قدمنا القول فيه.
وكذلك القول في قوله تعالى: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " (3)
ان ثبوت الوطء مراد بالآية لا يمنع من إرادة العقد بها أيضا على ما قدمناه، فينبغي أن
يجرى الباب على ما حررناه، فان أعيان المسائل لا تنحصر، وأصولها ما حررناه
ونعود الان إلى الترتيب الذي وعدنا به في أبواب أصول الفقه على ما قررناه
إن شاء الله تعالى.

(1) هو محمد بن إدريس القرشي، ولد عدم 150 ه‍ بغزة. تلقي العلم في حلقات مكة والمدينة واليمن والعراق
على تسعة عشر شيخا وله رحلات علمية عديدة، بلغ مرتبة عالية في الفقه والحديث السني وصار له مقام
مرموق وتتلمذ عليه جماعة. يقال إنه كان يؤيد العلويين ويساندهم في نضالهم ضد العباسيين فاعتقل في
اليمن بأمر الرشيد وسيق مكبلا إلي بغداد. له أشعار عديدة في مدح أهل البيت عليهم السلام. تنقسم حياة
الشافعي إلي مرحلتين. فترة مكوثه في العراق، وفترة إقامته بمصر، وحينما غادر العراق متوجها إلي مصر
تبدلت آراؤه الفقهية فقسم اتباعه فتاواه إلي القديم ويقصدون به فتاواه في العراق، وإلي الجديد ويقصدون به
فتاواه في مصر، له مؤلفات أهمها كتاب (الرسالة) وكتاب (الأم)، توفي الشافعي بمصر عام 204 ه‍. يعد
الشافعي من أئمة المذاهب السنية الأربعة، وينتشر أتباعه في بعض الأقطار الإسلامية.
(2) النساء: 43.
(3) النساء: 22.
60

الباب الثاني
الكلام
في الاخبار
61

فصل [1]
(في حقيقة الخبر، وما به يصير خبرا،
وبيان أقسامه)
حد الخبر ما صح فيه الصدق أو الكذب، وهذا أولى مما قاله بعضهم من أنه ما
صح فيه الصدق والكذب، لان ذلك محال، لأنه لا يجوز أن يكون خبر واحد صدقا
وكذبا، لأنه لا يخلو أن يكون مخبره (1) * على ما تناوله الخبر فيكون صدقا أو لا يكون
على ما تناوله الخبر فيكون كذبا.
فاما احتمالهما جميعا فمحال على ما بينا.
ثم لو صح لكان منتقضا، لان ههنا مخبرات كثيرة لا يصح فيها الكذب،
ومخبرات كثيرة لا يصح فيها الصدق، نحو الاخبار عن توحيد الله وصفاته، فان جميع
ذلك لا يصح فيها الكذب، والاخبار عن ثان ومعه ثالث لا يصح فيها (2) الصدق أصلا،
فعلم أن الأولى ما قلناه.
اللهم الا أن يراد بهذه اللفظة: (أن يحتمل الصدق والكذب) انه يحتمل
أحدهما فان أريد ذلك كان مثل ما قلناه.

(1) * المراد بالمخبر - بفتح الباء - هنا المحكوم عليه، وبما تناوله الخبر المحكوم به.
(2) في الأصل: فيه.
63

وينبغي ان يذكر في اللفظ ما يزيل الابهام، لان الحدود مبنية على الألفاظ دون
المعاني.
وقد حد قوم: بأنه ما احتمل التصديق والتكذيب.
وهذا صحيح غير أن ما ذكرناه أولى من حيث إن التصديق والتكذيب يرجع
إلى غير الخبر. وينبغي أن يحد (1) * الشئ بصفة هو عليها، لا بما يرجع إلى غيره.
وتوصف الإشارة والدلالة، بأنهما خبران، وذلك مجاز وانما يدخل في كونه
خبرا بقصد المخاطب إلى ايقاع كونه خبرا، وانما قلنا ذلك، لأنه لا توجد الصيغة، ولا
يكون خبرا فلا بد من أن يكون هناك أمر خصصه.
ومن الناس من جعل القصد من قبيل الإرادة، ومنهم من جعله من قبيل
الداعي، وليس هذا موضع تصحيح أحدهما.
والخبر لا يخلو من أن يكون مخبره (2) * على ما هو به فيكون صدقا، أو لا يكون
مخبره على ما هو به فيكون كذبا وهذا أولى مما قاله بعضهم في الكذب أن يكون
خبره على خلاف ما هو به، لان ذلك بعض الكذب وقد يكون الخبر كذبا وان لم يكن
متناولا (3) * للشئ على خلاف ما هو به ألا ترى ان القائل إذا قال: (ليس زيد قاعدا)
وهو قاعد يكون خبره كذبا وان لم يكن قد أخبر بصفة تخالف كونه قاعدا، فعلم
بذلك (4) ان الحد بما ذكرناه أولى لأنه أعم.
وعلى هذا التحرير يكون قول القائل: (محمد بن عبد الله ومسيلمة صادقان أو
كاذبان) ينبغي أن يكون كذبا، لأنه في الحالين جميعا ليس مخبره على ما تناوله الخبر

(1) * أي الأولي أن يكون كل ما يذكر فيه من أوصافه سواء كان محمولا عليه في الحد كالاحتمال فيما نحن
فيه، أو متعلقا للمحمول كالصدق والكذب فيه.
(2) * المراد بالمخبر - بفتح الباء - هنا أيضا المحكوم عليه وضمير هو للخبر، يدل عليه قوله بعد ذلك «ليس
مخبره على ما تناوله الخبر» إلي آخره.
(3) * المراد «بالشيء» المحكوم عليه، والجار في قوله «عني خلاف» يتعلق بالتناول، وضمير «هو» هنا للشئ.
(4) زيادة من الأصل.
64

لأنه ان أخبر عنهما بالصدق فأحدهما كاذب، وان أخبر عنهما بالكذب فأحدهما
صادق فعلى الوجهين جميعا يكون الخبر كذبا. وهذا أولى مما قاله أبو هاشم (1): من أن
تقدير هذا الكلام تقدير خبرين: أحدهما يكون صدقا، والاخر يكون كذبا، لان
ظاهر ذلك أنه خبر واحد، فتقدير كون الخبرين فيه ترك الظاهر. وليس من شرط كون الخبر صدقا أو كذبا علم المخبر بما أخبر به وانما ذلك
شرط في حسن (2) * اخباره به ويفارق ذلك حكم (3) العلم، لان الاعتقاد قد يخلو من
أن يكون علما أو جهلا بأن يكون تقليدا ليس معه سكون النفس.
والخبر على ضربين:
أحدهما: يعلم أن مخبره على ما تناوله الخبر.
والاخر: لا يعلم ذلك فيه. وهو على ضربين.
أحدهما: يعلم أنه على خلاف ما تناوله الخبر. والاخر: متوقف فيه.
فأما الخبر الذي يعلم أن مخبره على ما تناوله الخبر فعلى ضربين:
أحدهما: يعلم ذلك، ويجوز أن يكون ضرورة أو اكتسابا.
والاخر: يقطع على أنه يعلم ذلك استدلالا (4).
فالأول: نحو العلم بالبلدان، والوقائع، والملوك، ومبعث النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، وهجرته، وغزواته، وما يجرى مجرى ذلك فان كل ذلك (5) من الامرين

(1) المعتمد في أصول الفقه 2: 74.
(2) * هذا يدل على أن الإخبار بما يكون مظنونا ليس بحسن.
(3) حال.
(4) بالاستدلال.
(5) واحد.
65

جائز فيه على ما سنبينه
فيما بعد.
فأما (1) ما يعلم مخبره بالاستدلال فعلى ضروب:
منها: خبر الله تعالى، وخبر الرسول، وخبر الامام عليهما السلام.
ومنها: خبر الأمة (2) * إذا اعتبرنا كونها حجة.
ومنها: خبر من أخبر بحضرة جماعة كثيرة لا يجوز على مثلها (3) الكتمان،
والتواطؤ، وما يجرى مجرى ذلك، وادعى عليهم المشاهدة ولا صارف لهم عن
تكذيبه، فيعلم ان خبره صدق.
ومنها: خبر المخبر إذا أخبر بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وادعى
عليه العلم بذلك فلم ينكره.
ومنها: خبر المتواترين الذين يعلم خبرهم إذا حصلت الشرائط فيهم.
ومنها: ان تجتمع الأمة أو الفرقة المحقة على العمل بخبر الواحد، وعلم أنه لا
دليل على ذلك الحكم الا ذلك الخبر، فيعلم انه صدق.
ومنها: خبر تلقته الأمة أو الطائفة المحقة بالقبول وان كان الأصل فيه واحدا.
وأما (4) ما يعلم أن مخبره على خلاف ما تناوله فعلى ضربين أيضا:
أحدهما: يعلم ذلك من حاله، ويجوز كونه ضروريا ومكتسبا مثل ما قلناه فيما

(1) واما.
(2) * أي نظرنا إليه بعين الاعتبار وعلمنا جهة حجية بالدليل، وهو تعريض بالمخالفين بأنهم لا يعلمون صدقه
لعدم وصولهم إلي دليل صدقه كما سيجيء في الكلام في الإجماع.
(3) مثله.
(4) في الأصل: فأما.
66

يعلم صحته، وذلك مثل ما يعلم أنه ليس بين بغداد والبصرة بلد أكبر منهما، وانه لم
يكن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبي آخر، ولا أن له هجرة إلى خراسان، وما
جرى مجرى ذلك.
والثاني: يعلم أنه على خلاف ما تناوله بضرب من الاستدلال، وهو على
ضروب:
منها: أن يعلم بدليل عقلي أو شرعي انه على خلاف ما تناوله.
ومنها: أن يعلم أن مخبره لو كان صحيحا لوجب نقله على خلاف الوجه الذي
نقل عليه، بل على وجه تقوم به الحجة، فإذا لم ينقل كذلك علم أنه كذب.
ومنها: أن يكون مخبره مما لو فتش عنه من يلزمه العمل به لوجب أن يعلمه،
فإذا لم تكن هذه حاله علم أنه كذب.
ومنها: أن يكون مخبر الخبر حادثة عظيمة مما لو كانت لكانت الدواعي إلى
نقلها يقتضى ظهور نقلها إذا لم يكون هناك مانع، فمتى لم ينقل علم أنه كذب.
ومنها: أن يعلم أن نقله ليس كنقل نظيره، والأحوال فيهما متساوية فيعلم
حينئذ انه كذب.
وأما ما لا يعلم أن مخبره على ما تناوله، ولا انه على خلافه،
فعلى ضربين:
أحدهما: يجب العمل به والاخر لا يجب العمل به. فعلى (1) ضربين:
أحدهما: يجب العمل به عقلا.
والاخر: يجب ذلك فيه سمعا.
فما يجب العمل به عقلا نحو الاخبار المتعلقة بالمنافع والمضار الدنيوية، فإنه

(1) علي.
67

يجب العمل بها عقلا.
وما يجب العمل به شرعا كالشهادات والأخبار الواردة في فروع الدين إذا
كانت من طرق (1) مخصوصة ورواها من له صفة مخصوصة.
والضرب الثاني من الضربين الأولين، وهو ما لا يجب العمل به فعلى ضربين:
أحدهما: يقتضى ظاهره الرد.
والثاني: يجب التوقف فيه، ويجوز كونه كذبا وصدقا على حد واحد، ونحن
نبين شرح ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

(1) في الأصل: طريق.
68

فصل [2]
(في أن الاخبار قد يحصل عندها العلم
وكيفية حصوله، وأقسام ذلك)
حكى عن قوم يعرفون بالسمنية (1) انهم أنكروا وقوع العلم بالاخبار وعندها،
خصوا العلم بالادراكات (2) دون غيرها. وهذا مذهب ظاهر البطلان، لا معنى للتشاغل بإبطاله والاكثار في رده، لان
المشكك فيما يحصل من العلم عند الاخبار، كالمشكك فيما يحصل عند المشاهدة
وغيرها من ضروب الادراكات من السوفسطائية (3) وأصحاب العنود ومدخل
الشبهات في هذا كمدخل الشبهات في ذلك لان نفوسنا تسكن إلى وجود البلدان

(1) أو الشمنية وهي من مذاهب الهند البائدة، وبناء على رواية ابن النديم في الفهرست فإنه كان لهم نبي يسمي
بوداسف، وقد انتشرت هذه الديانة في الهند وما رواء النهر وخراسان إلي أن ظهر زرادشت (نبي المجوس)
فزالت السمنية عن هذه البلاد كلها وبقيت لها شر ذمة قليلة. ومن عقائد السمنية: القول بالتناسخ، وقدم العالم،
و إبطال النظر والاستدلال، وزعموا أنه لا معلوم إلا من جهة الحواس الخمس، وأنكر أكثر هم المعاد والبعث،
و كانوا يعتقدون بأن (أعظم الأمور التي لا تحل ولا يسع الإنسان أن يعتقدها ولا يفعلها قول لا في الأمور كلها).
انظر: تحقيق ما للهند للبيروني: 19 الفهرست: 408.
(2) في الأصل: الإدراك.
(3) وهم الذين يعتقدون بأنه لا محسوس ولا معقول في العالم الخارجي، وما هو محسوس ومعقول فهو من نتاج
الوهم والخيال.
69

التي لم نشاهدها، مثل الصين، والهند، والروم، وغير ذلك مما لم نشاهدها، وإلى
وجود الملوك وغيرهم، وإلى هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى وقوع
المغازي، وحصول الوقائع الحادثة في الأيام الماضية، كما تسكن إلى العلم بالمشاهدات،
فمن ادعى فيما يحصل عند الاخبار انه ظن وحسبان، كمن ادعى ذلك في المشاهدات.
وهذا القدر كاف في إبطال هذا المذهب، لأنه ظاهر البطلان.
فأما كيفية حصول هذا العلم، فقد اختلف العلماء في ذلك:
فذهب أبو القاسم البلخي (1) ومن تبعه إلى أن الأخبار المتواترة التي تحصل
عندها العلوم لكل عاقل كلها مكتسبة (2).
وإلى ذلك
يذهب شيخنا أبو عبد الله (3) رحمه الله.
وذهب أبو علي (4) وأبو هاشم، والبصريون، وأكثر الفقهاء، وأصحاب
الأشعري إلى أن العلم بهذه الاخبار يحصل ضرورة من فعل الله تعالى لا صنع للعباد
فيها (6).

(1) هو أبو القاسم عبد الله، بن أحمد، بن محمود الكعبي البلخي، من أعلام المعتزلة، وأعيانها، أصله من بلخ،
عاش ببغداد وتتلمذ بها على الخياط مدة طويلة ثم عاد إلي مسقط رأسه وتوفي عام 317 ه‍ (أو 319 ه‍)
و عرف أتباعه باسم الكعبية. له كتاب (المقالات) و (قبول الاخبار ومعرفة الرجال)
(2) انظر: «المعتمد في أصول الفقه 2: 81، التبصرة: 93، المنخول: 236، شرح اللمع 575: 2، الذخيرة في
علم الكلام: 345، وهو مختار الغزالي في (المنخول: 236 ولكن تراجع عن ذلك في المستصفى
1: 85،
وادعى فيه الضرورة) وكذلك الرازي والجويني».
(3) يقصد به الشيخ المفيد رحمه الله، وقد صرح المفيد بقوله هذا في كتابه أوائل المقالات ص 89 باب 73.
(4) هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، ولد سنة 235 ه‍ في جبا بخوزستان، درس علي أبي يعقوب
الشحام الذي كان رأس المعتزلة بالبصرة، وأصبح الجبائي رئيسا لهذه المدرسة بعد موت شيخه، وظل هكذا
إلي أن توفي، ومن تلاميذه أبو الحسن البصري. كان الجبائي يعتقد أن صفات الله هي عين ذاته، له تصانيف كثيرة.
(5) أي متكلموا البصرة من أتباع مدرسة الاعتزال البصري.
(6) انظر: «أوائل المقالات: 89 باب 73، المعتمد في أصول الفقه 2: 81، المنخول: 238 - 235، الذخيرة في
علم الكلام: 345 التبصرة: 293، الأحكام للآمدي 2: الإبهاج 2: 186».
70

وذهب المرتضى رحمه الله (1) إلى تقسيم ذلك فقال: ان أخبار البلدان
والوقائع والملوك وهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومغازيه وما يجرى هذا
المجرى يجوز أن يكون ضرورة من فعل الله تعالى، ويجوز أن يكون مكتسبة من فعل
العباد وأما ما عدا أخبار البلدان وما ذكرناه مثل العلم بمعجزات النبي صلى الله عليه
وآله، وكثير من أحكام الشريعة، والنص الحاصل على الأئمة عليهم السلام، فيقطع
على أنه مستدل عليه (2).
وهذا المذهب عندي أوضح من المذهبين جميعا وإنما قلنا بهذا المذهب
لأنه لا دليل هاهنا يقطع به على صحة أحد المذهبين دون الاخر، فالأدلة فيها
كالمتكافئة وإذا كان كذلك وجب الوقف، وتجويز كل واحد من المذهبين.
ونحن نعترض ما استدل به كل فريق من الفئتين، ونبين ما في ذلك.
ولأنه أيضا لا يمتنع أن يكون العالم بهذه الاخبار قد يقدم له على الجملة العلم
بصفة الجماعة التي لا يجوز أن يتفق منها الكذب، فلا (3) يجوز على مثلها أيضا
التواطؤ، لان علم ذلك مستند إلى العبادة، فجائز أن يكون قد عرف ذلك، وتقرر في
نفسه، فلما أخبره عن البلدان وأخبار الملوك والوقائع من هو على تلك الصفة، فعل
لنفسه اعتقاد الصدق لهذه الأخبار، وكان ذلك الاعتقاد علما للجملة المتقدمة،
فيكون كسبيا لا (4) ضروريا فيه.
وليس لاحد أن يقول: ان ادخال التفصيل في الجملة، إنما يكون فيما له أصل
ضروري على سبيل الجملة، كما نقول: (إن من شأن الظلم أن يكون قبيحا) علم على
الجملة ضروري فإذا علمنا في ضرر بعينه انه ظلم فعلنا اعتقادا لقبحة وكان علما

(1) وذهب سيدنا المرتضى أدام الله علوه.
(2) إن مذهب الشريف المرتضى - وتبعه الشيخ الطوسي - هو التوقف عن الحكم على صفة العلم الحاصل بأنه
ضروري أو مكتسب، وقد صرح بمذهبه حيث قال: (والذي يقوي في نفسي التوقف عن القطع على صفة
هذا العلم بأنه ضرري أو مكتسب، وتجويز كونه على كل واحد من الوجهين).
راجع: (الذخيرة في علم الكلام: 345، الذريعة 2: 485.)
(3) ولا.
(4) كسبيا له.
71

لمطابقته للجملة المتقررة، وأنتم قد جعلتم علم الجملة مكتسبا والتفصيل كذلك.
وذلك أنه لا فرق بين أن يكون علم الجملة حاصلا بالضرورة أو الاكتساب في جواز
ان يبنى عليه التفصيل، لان من علم منا بالاكتساب ان من صح منه الفعل يجب أن
يكون قادرا، ثم علم في ذات بعينها، انه يصح منها (1) الفعل فعل اعتقادا لكونها قادرة
فيكون ذلك الاعتقاد علما لمطابقته للجملة المتقدمة وإن كانت تلك الجملة مكتسبة.
وكذلك إذا علم بالاكتساب، ان من شأن القادر أن يكون حيا، ثم علم في ذات
بعينها انها قادرة فعل اعتقادا لكونها حية فيكون علما لمطابقته للجملة المتقررة. فلا
فرق إذا في ادخال التفصيل في الجملة المتقدمة بين الضروري والمكتسب.
وكما أن ما ذكرناه ممكن، يمكن أيضا أن يكون الله تعالى أجرى العادة، بأن
يفعل العلم فينا عند سماع الاخبار عن البلدان وما شاكلها على ما ذهب إليه آخرون،
وليس في العقل دليل على أحد القولين، فلا يخل الشك في ذلك بشئ من شرائط
التكليف، فيجب أن يجوز كلا الامرين.
ونحن نتتبع أدلة كل فرقة من الفريقين ليتم لنا ما قصدناه:
فما استدل به أبو القاسم البلخي ومن تبعه على أن هذه العلوم مكتسبة أن قال:
(لا يجوز أن يقع العلم الضروري بما ليس بمدرك ومخبر الاخبار عن البلدان أمر
غائب عن الادراك، فلا يجوز أن يكون ذلك ضروريا، لأنه لو جاز كون العلم بالغائبات
ضروريا، جاز أن يكون العلم بالمشاهدات مستدلا عليه) (2).
واستدل أيضا: (بأن العلم بمخبر الاخبار، انما يحصل بعد تأمل أحوال
المخبرين بها وصفاتهم، فدل ذلك على أنه مكتسب) (2).
فيقال له فيما ذكره أولا: لم زعمت أن العلم بالغائب عن الحس لا يكون
ضروريا، أو ليس الله تعالى قادرا على فعل العلم بالغائب مع غيبته، فما المنكر من أن

(1) في الأصل: منه.
(2) اللمع: 39، شرح اللمع 575: 2، التبصرة: 293، المنخول 23: 6.
72

يفعل بمجرى العادة عند اخبار جماعة مخصوصة؟
وليس له أن يدعى: أن ذلك غير مقدور له تعالى، كما يقول: ان العلم بذاته
تعالى لا يوصف بالقدرة عليه. لأنه يذهب إلى أن العلم بالمدركات قد يكون من فعل
الله تعالى على بعض الوجوه وليس يفعل العلم بذلك الا وهو في مقدورة وليس
كذلك على مذهبه العلم بذاته تعالى، لأنه لا يصح وقوعه منه على وجه من الوجوه،
وعلى هذا أي فرق بين أن يفعل العلم بالمدرك عند إدراكه، وبين أن يفعل هذا العلم
بعينه عند بعض الاخبار عنه؟.
وانما لم يجز أن يكون المشاهد مستدلا عليه، لان
المشاهد معلوم ضرورة للكامل العقل.
ولا (1) يصح أن يستدل وينظر فيما يعلمه لان من شرط صحة النظر ارتفاع
العلم بالمنظور إليه.
وأما الشبهة الثانية فبعيدة عن الصواب، لأنها مبنية على الدعوى لان
خصومه لا يسلمون أن العلم بمخبر الاخبار عن البلدان، وما جرى مجراها يقع عقيب
التأمل لصفات المخبرين بل يقولون إنه يقع من غير تأمل لأحوال المخبرين، وانه
انما يعلم أحوال المخبرين بعد حصول العلم الضروري له بما أخبروا عنه (2).
وتعلق من (3) ذهب إلى أن هذا العلم ضروري بأشياء:
منها: ان العلم بمخبر هذه الأخبار لو كان مكتسبا وواقعا عن تأمل حال
المخبرين وبلوغهم إلى الحد الذي لا يجوز أن يكذبوا، لوجب أن يكون من لم
يستدل على ذلك ولم ينظر فيه من العوام والمقلدين وضروب من الناس لا يعلمون

(1) فلا.
(2) هذا النص منقول عن كتاب «الذخيرة في علم الكلام: 351 - 350» للشريف المرتضى.
(3) قال أبو الحسين البصري المعتزلي: «اختلف الناس في العلم الواقع عند التواتر، فقال شيخانا أبو علي وأبو
هاشم: إنه ضروري غير مكتسب، وقال أبو القاسم البلخي: إنه مكتسب...» ثم ينتقل أدلة القائلين بالضرورية
و هي هذه الأدلة الثلاثة التي يفصلها الشيخ الطوسي، انظر: «المعتمد في أصول الفقه 2: 82 - 81، اللمع: 39،
شرح اللمع 2: 575 والمنخول: 236».
73

البلدان والحوادث العظام ومعلوم ضرورة الاشتراك في ذلك.
ومنها: ان حد العلم الضروري قائم في العلم بمخبر الاخبار، ولأنا لا نتمكن من
إزالة ذلك عن نفوسنا ولا التشكيك فيه، وهذا حد العلم الضروري.
ومنها: ان (1) من ذهب إلى أن هذا العلم ضروري صارف عن النظر فيه
والاستدلال عليه، فكان يجب أن يكون كل من اعتقد ان هذا العلم ضروري غير
عالم بمخبر هذا الاخبار، لان اعتقاده يصرفه عن النظر، فكان يجب خلو جماعتنا من
العلم بالبلدان وما أشبهها، ومعلوم ضرورة خلاف ذلك.
فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا: ان طريق اكتساب العلم بالفرق بين الجماعة
التي لا يجوز أن تكذب في خبرها وبين من يجوز ذلك عليه قريب لا يحتاج إلى دقيق
النظر وطويل التأمل، وكل عاقل يعرف بالعادات الفرق بين الجماعة التي قضت
العادات بامتناع الكذب عليها فيما ترويه، وبين من ليس كذلك، والمنافع الدنيوية من
التجارات وضروب التصرفات مبنية على حصول هذا العلم فهو مستند إلى العادة
ويسير التأمل كاف في ذلك، فلا يجب في المقلدين والعامة ألا يعلموا مخبر هذه الأخبار
من حيث لم يكونوا أهل تحقيق وتدقيق لما ذكرناه.
ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: لا نسلم لكم ان حد العلم الضروري هو ما
يمتنع على العالم دفعه عن نفسه، بل حده ما فعله فينا من هو أقدر منا على وجه لا
يمكننا دفعه عن أنفسنا، ولا ينبغي أن يجعلوا ما تفردوا به من الحد دليلا على موضع
الخلاف.
ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا: ان العالم بالفرق بين صفة الجماعة التي لا يجوز
عليها الكذب لامتناع التواطؤ عليها، واستحالة
الكذب منها كالملجأ عند كمال عقله
وحاجته إلى التفتيش والتصرف إلى العلم بذلك والدواعي إليه قوية، والبواعث على
فعله متوفرة وقد حصل للعقلاء هذا العلم. وهذا الفرق قبل أن يختص بعضهم

(1) أن اعتقاد من ذهب.
74

بالاعتقاد الذي ذكروه انه صارف لهم، فاذن لا يجب خلو مخالفينا من هذه العلوم
لأجل ما ادعى من الاعتقاد.
وقيل: أنه صارف، لأنا قد بينا انه غير ممتنع أن يكون العلم بما قلناه قد سبقه
وتقدم عليه ويلزم على هذا الوجه، أن لا يكون أبو القاسم البلخي عالما بأن المحدثات
تفتقر إلى محدث، لأنه يعتقد ان العلم بذلك ضروري واعتقاده ذلك صارف له عن
النظر فيجب أن لا يكون عالما بذلك، ويجوز أن يكون غير عارف بالله تعالى وصفاته
وأحواله! فأي شئ قالوه فيه (1) قلنا مثله فيما تعلقوا به.
وفي الناس من قال: ان العلم الحاصل عند الاخبار متولد عنها، وهو من فعل
فاعل الاخبار.
والذي يدل على بطلان هذا المذهب انه لو كان العلم الحاصل عند الاخبار متولدا، لوجب أن يتولد عن خبر آخر المخبرين (2) * لان العلم عند ذلك يحصل، فلو
كان كذلك، لوجب أن يكون لو أخبرنا (3) * ابتداءا، أن يحصل لنا العلم بخبره. لان خبره
هو الموجب للعلم وكان يجب إذا أخبرنا عما يعلم باستدلال أيضا أن يحصل لنا
العلم به كما يحصل لنا العلم بما يعلم ضرورة، لان خبره هو الموجب واختلاف
حاله في كونه عالما ضرورة واستدلالا يؤثر في ذلك فإذا بطل ذلك، ثبت ما قلناه.
فان قيل: إذا جوزتم حصول هذا العلم ضرورة فما شرائطه؟ وهل هي التي
راعاها البصريون أم لا؟
قيل: الشرائط التي اعتبروها نحن نعتبرها ونعتبر شرطا آخر لا يعتبرونه
فالشرائط التي اعتبروها هي:

(1) أي في البلخي.
(2) * لأنه لو تولد من المجموع لكان فاعله مجموع المخبرين وهو باطل، لأنه لو أخبر المخبر الأول ومات ثم
أخبر الباقون يحصل العلم مع أن الفاعل يجب وجوده في زمان حدوث الأثر بالاتفاق.
(3) * هذا مبني على ما ذهبوا إليه من أن شخص الفعل المولد - بالكسر - لو وجد وجد الفعل المولد - بالفتح - من
غير توقف على شرط منتظر أو معد خارج عن مشخصات المولد - بالكسر.
75

أن يكون المخبرون أكثر من أربعة، ولا يقطعون على عدد منهم دون عدد.
ومنها: أن يكونوا عالمين بما يخبرونه ضرورة.
ومنها: أن يكونوا ممن إذا وقع العلم بخبر عدد منهم أن يقع العلم بكل عدد
مثلهم.
وأما ما نختص به فهو أن نقول: لا يمتنع أن يكون من شرطه أن يكون من
يسمع الخبر لا يكون قد سبق إلى اعتقاد يخالف ما تضمنه الخبر بشبهة أو تقليد
ونحن ندل على وجوب جميع ذلك إن شاء الله تعالى.
انما قلنا انه لابد أن يكونوا أكثر من أربعة، لأنه لو جاز أن يقع العلم بخبر أربعة،
لكان شهود الزنا إذا شهدوا بالزنا وهم أربعة كان يجب أن يحصل العلم للحاكم بصحة
ما شهدوا به انهم كانوا صادقين ومتى لم يحصل له العلم، علم أنهم كاذبون، فكان
يجب ان يرد شهادتهم، ويقيم حد القذف عليهم، وان كان ظاهرهم ظاهر العدالة
مزكين وقد أجمع المسلمون على خلاف ذلك.
وليس لاحد أن يقول: انهم لا يأتون بلفظ الخبر، فلذلك لا يقع العلم بشهادتهم.
لأنه لا اعتبار عندنا بالألفاظ، لأنه لو أخبر المخبر بالأعجمية (1) أو النبطية، لكان
كاخباره بالعربية، بل لو عرف قصد المشير، لكان حاله حال المخبر في وجوب العلم
عنده، فما ذكروه لا يصح (2).
وليس لهم أيضا أن يقولوا: ان الشهود يشهدون مجتمعين غير متفرقين،
وكونهم كذلك يوجب أن يكونوا في حكم من تواطأ على ما أخبر به، ومن شرط من
يقع العلم بخبرهم ألا (3) يتواطؤوا، فلذلك لا نعلم بشهادتهم.
وذلك أن هذا فاسد من وجهين:

(1) بالعجمية.
(2) المعتمد في أصول الفقه 2: 89.
(3) أن لا.
76

أحدهما: انا لو فرقنا الشهود - وهو الأفضل عندنا - لما وقع العلم بخبرهم،
فكونهم مجتمعين ككونهم متفرقين في انتفاء العلم عند شهادتهم.
والوجه الاخر: انا لا نجعل من شرط من يقع العلم بخبره أن لا يتواطؤوا، فان
ذلك انما يشترط (1) في الخبر الذي يستدل على صحة مخبره دون ما يقع العلم عنده
ضرورة، ولا فرق فيما يخبرون به بين أن يكونوا مجتمعين، أو متفرقين، أو متواطئين، أو
غير ذلك إذا علموا ما أخبروا به ضرورة في وجوب حصول العلم عند خبرهم. ولولا
هذا الدليل لما وقف على أربعة أيضا فكان يجب أن يحصل العلم عند كل عدد دون
ذلك كما أن ما زاد على أربعة لم يقف على عدد دون عدد، بل جوزنا أن يحصل
العلم عند كل عدد زاد على الأربعة، فنظير هذا أن يجوز حصول العلم عند كل عدد
دون الأربعة، لأنه ليس هاهنا دليل على وجوب مراعاة هذا العدد المدعاة فلما لم
نقطع على عدد زاد على الأربعة - لفقد الدليل على ذلك - فكذلك هاهنا (2).
وقول من قال: انهم عشرون تعلقا بقوله تعالى " ان يكن منكم عشرون
صابرون " (3) وانه لما أوجب الجهاد عليهم، وجب أن يكونوا ممن إذا دعوا إلى
الدين علم ما دعوا إليه.
لا يصح من وجهين:
أحدهما: ان البغية بالآية، التنبيه على وجوب ثبات الواحد للعشرة، لا ايجاب
الجهاد على هذا العدد. بل قد اتفقت الأمة على وجوب الجهاد على الواحد إذا كان له
غنا، ولم يوجب وقوع العلم بخبره.
والوجه الثاني: ان ما يدعون إليه من الدين معلوم باستدلال ونحن نبين ان ما
يعلم بالدليل لا يقع العلم بخبرهم وان كثروا، ولابد من أن يكون عالمين به ضرورة.

(1) يشترط.
(2) انظر: «المعتمد في أصول الفقه 2: 89، روضة الناظر وجنة المناظر: 88، التبصرة: 312».
(3) الأنفال: 65.
77

وأما من قال: انهم سبعون مثل عدد الذين أحضرهم موسى عليه السلام عند
الميقات، لأنه انما أحضرهم ليقوم بخبرهم حجة على غيرهم (1).
لا يصح أيضا لاخر الوجهين الذين دل ما (2) في الشبهة الأولى أنه (3) لا
يمتنع (4) أن يكون من دونهم بمنزلتهم، سيما وخبر موسى عليه السلام عن ربه كان
يغنى عن خبرهم فإذا جاز أن يختاروا مع أن خبره يغنى عن خبرهم، فيجب أن يكون
اختيار السبعين وان وقع العلم بمن دونهم، أو لم يقع العلم بخبرهم أصلا كذلك، فمن
أين ان سبب اختيارهم كان ما ادعاه السائل؟
فأما من اعتبر الثلاثمائة (5) [وثلاثة عشر] لأنهم العدد الذين جاهد بهم النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة بدر فليس له تعلق بوقوع العلم بخبرهم.
والكلام عليه يقارب الكلام على الوجهين الأولين.
وأما الشرط الثاني: وهو انه يجب أن يكونوا عالمين بما أخبروا به ضرورة.
فإنما اعتبرناه، لان جماعة من المسلمين يخبرون الملحدة بأن الله تعالى أحد، ويخبرون
اليهود والنصارى بنبوة النبي (6) صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يحصل لهم العلم
بصحة ذلك. ويخبر بعضهم عن البلدان وما أشبهها فيحصل العلم بخبرهم.
والعلة في ذلك على التقريب ان العلم الضروري لو وقع بذلك، لأدى إلى أن
يكون حال المخبر أقوى من حال المخبر وهذا لا يجوز وإذا لم يقع العلم بخبر من
يعلم ما أخبر عنه باكتساب فبان لا يقع بخبر من لا يعلم المخبر عنه أصلا من المقلدين

(1) شرح اللمع 2: 574.
(2) ذكرناهما.
(3) لأنه.
(4) يمنع.
(5) شرح اللمع 2: 574.
(6) نبينا صلي الله عليه وآله وسلم.
78

والمبختين (1) أولى وأحرى (2).
وأما الشرط الثالث: وهو ان كل عدد وقع العلم عند خبرهم، فيجب أن تطرد
العادة فيه، فيقع العلم عند كل عدد مثله إذا ساووهم في الاخبار بما علموه ضرورة.
وانما قلنا ذلك: لأنا لو جوزنا خلاف ذلك لم نأمن أن يكون في الناس من تخبره
الجماعة الكثيرة ولا يعلم بخبرها، وهذا يوجب أن يصدق من أخبر عن نفسه مع
مخالطته الناس انه لا يعلم أن في الدنيا مكة، بل يجب أن يصدق المقيم في الجانب
الشرقي ان لا يعلم الجانب الغربي إذا لم يعبر إليه وذلك سفسطة لا يصير إليه عاقل.
وأما الشرط الذي نختص بمراعاته، فإنما قلنا: انه لا يمتنع (3) (لأنه إذا كان هذا
العلم مستندا إلى العادة وليس بموجب عن سبب جاز وقوعه على شروط زائدة
وناقصة (4) * بحسب ما يعلمه الله تعالى من المصلحة وأجرى به العادة.
وانما احتجنا إلى زيادة هذا الشرط، لئلا يقال: أي فرق (5) * بين خبر البلدان، والأخبار الواردة
بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوى القرآن كحنين الجذع (6)،

(1) البخت: بالفتح الحظ وزنا ومعني، وهو فارسي معرب ((لسان العرب، المصباح المنير، مجمع البحرين)).
(2) المعتمد في أصول الفقه 2: 91 - 90.
(3) بداية لفقرة ينقلها المصنف عن كتاب (الذخيرة) للشريف المرتضى.
(4) * يدل على أن هذا الشرط ليس شرطا في جميع صور إفادة التواتر للعلم الضروري، بل قد يكون
شرطا بحسب مصلحة فيزيد به الشروط كما في أقل عدد التواتر المفيد للعلم الضروري وما في حكم الأقل
و قد يكون شرطا فينتقص الشروط به كما في الأعداد الزائدة على أقل حد التواتر المفيدة للعلم الضروري بكثير.
(5) * قوله: «أي فرق» يدل على أنه تكامل في أخبار المعجزات عدد التواتر المفيد للعلم الضروري ولا احتياج
إلي هذه الشروط، وأنه إذا لم يتكامل العدد الذي أجري الله تعالي أن يفعل عنده العلم الضروري كان نظريا
بدون هذا الشرط.
(6) قال الماوردي الشافعي في (أعلام النبوة): 194 «ومن آياته صلي الله عليه وآله وسلم انه كان يخطب إلي
جذع كان يستند إليه، فلما اتخذ منبرا تحول عن الجذع إليه، فحن إليه الجذع حتى ضمه إليه فسكن» وقد
عده السيوطي والقاضي عياض متواترا وأخرجه الشيخان، والبخاري، والدارمي، والترمذي، والبيهقي،
و جماعة من الصحابة.
79

وانشقاق القمر (1)، وتسبيح الحصى (2) وغير ذلك؟
وأي فرق أيضا بين أخبار البلدان، وبين خبر النص الجلي (3) الذي يتفرد بنقله
الامامية؟ وألا أجزتم أن يكون العلم بذلك كله ضروريا كما أجزتموه في أخبار
البلدان وما أشبهها؟
وليس يمتنع أن يكون السبق إلى اعتقاد مانعا من فعل العلم الضروري بالعادة،
كما أن السبق إلى الاعتقاد بخلاف ما يولده النظر عند مخالفينا مانع من توليد النظر
والعلم، وإذا جاز ذلك فيما هو سبب موجب فأولى أن يجوز فيما طريقه العادة.
وليس لاحد أن يقول: فيجب على هذا أن لا يفعل العلم (الضروري) (4) لمن
سبق إلى اعتقاد لنفي ذلك المعلوم. ويفعل لمن لم يسبق. وهذا يقتضى أن يفعل

(1) قال الشيخ أبو الفضل علي بن الحسن الطبرسي في تفسيره في ذيل تفسير قوله تعالي: (اقتربت الساعة
و انشق القمر) [القمر: 1]: «قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلي رسول الله (ص) فقالوا ان كنت صادقا فشق لنا
القمر فرقتين، فقال لهم رسول الله (ص) إن فعلت تؤمنون؟ قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله (ص) ربه أن يعطيه
ما قالوا فانشق القمر فرقتين ورسول الله ينادي يا فلان يا فلان اشهدوا اشهدوا. وروي أيضا عن ابن مسعود أنه قال: والذي
نفسي بيده لقد رأيت حراء بين فلقي القمر، وعن جبير بن مطعم قال: إنشق القمر على عهد رسول الله (ص) حتى صار
فرقتين على هذا الجبل، فقال ناس: سحرنا محمد!!، فقال رجل: ان كان سحركم فلم يسحر الناس كلهم.
وقد روي حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة منهم عبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك،
وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وابن عباس، وجبير بن مطعم، وعليه جماعة المفسرين»
انظر: «التبيان في تفسير القرآن للطوسي، مجمع البيان للطبرسي، تفسير الطبري، تفسير فخر الرازي، تفسير الآلوسي،
تفسير الكشاف، وأيضا: صحيح البخاري، كتاب المناقب باب 27 ح 3627 وكتاب مناقب الأنصار باب 36 ح 3868،
فتح الباري 6: 631 و 7: 183 و 8: 617، صحيح مسلم، كتاب المنافقين باب انشقاق القمر ح 43 - 47 - 48. مسند أحمد بن
حنبل 1: 377 و 413 و 447، 3: 275 و 278، 4: 82، البداية والنهاية 3: 121، دلائل النبوة للبيهقي 2: 268 - 262».
(2) قال الماوردي الشافعي في (أعلام النبوة): 195: «ومن آياته صلي الله عليه وآله وسلم أن مكرزا العامري أتاه فقال: هل
عندك من برهان نعرف به أنك رسول الله؟ فدعا بتسع حصيات فسبحن في يده فسمع نغماتها من جمودتها».
(3) وهي النصوص الدالة صراحة على وصاية علي بن أبي طالب عليه السلام لرسول الله صلي الله عليه وآله،
و تقدمه على من سواه في أمر الخلافة الشرعية.
(4) زيادة من النسخة الحجرية.
80

العلم الضروري بالنص الجلي للشيعة لأنهم لم يسبقوا إلى اعتقاد يخالفه، وكذلك
المسلمون في المعجزات التي ذكرناها. وذلك أنه يمكن أن يقال:
ان المعلوم في نفسه إذا كان من باب ما يمكن السبق إلى الاعتقاد لنفيه أما
لشبهة أو تقليد، لم يجر الله تعالى العادة بفعل العلم الضروري. وان كان مما لا يجوز أن
يدعوا العقلاء داع إلى اعتقاد نفيه، ولا تعرض لشبهة في مثله، - كالخبر عن البلدان -
وجاز أن يكون العمل به ضروريا عند الخبر على ما ذكرناه.
وليس لاحد أن يقول: أجيزوا أن يكون في العقلاء المخالطين لنا السامعين
للاخبار من سبق إلى اعتقاد منع (1) من فعل العلم الضروري له فإذا أخبركم بأنه لا
يعرف بعض البلدان الكبار، والحوادث العظام، مع سماعه الاخبار، وكمال عقله، كان
صادقا.
وذلك انا نعلم ضرورة انه لا داعي للعقلاء يدعوهم إلى سبق اعتقاد نفي بلد
من البلدان، أو (حادث عظيم من الحوادث، ولا شبهة تدخل في مثل ذلك ففارق هذا
الباب) (2) أخبار المعجزات والنص، لان كل ذلك مما يجوز السبق فيه إلى الاعتقادات
الفاسدة للدواعي المختلفة) (3).
وليس من شرط المخبرين أن يكونوا مؤمنين، ولا أن يكون فيهم حجة حتى
يقع العلم بخبرهم لان الكفار قد يخبرون عن أشياء يعلمونها ضرورة، فيحصل لنا
العلم عند خبرهم، فلو (4) كان ذلك شرطا صحيحا لاستحال ذلك.
وليس أيضا من شرط وقوع العلم تصديق جميع الناس لخبرهم لان العلم
بتصديقهم كلهم لا يقع الا بمشاهدتهم، وذلك متعذر، أو بالخبر عن حالهم وذلك
يوجب وقوع العلم بخبر طائفة وان لم يعلم أن غيرهم مصدقون لهم.

(1) منع بالعادة.
(2) زيادة من النسخة الحجرية.
(3) نهاية الفقرة المنقولة عن كتاب (الذخيرة: 350 - 349) للشريف المرتضى.
(4) ولو.
81

وهذه الجملة كافية في جواز أن يعلم مخبر الاخبار ضرورة واكتسابا.
فأما الاخبار التي نعلم مخبرها استدلالا فقد ذكر سيدنا المرتضى رحمه الله (1)
جملة وجيزة في هذا الباب في كتابه (الذخيرة) (2) أنا أذكرها بألفاظه لأنها كافية في
هذا الباب والزيادة عليها يطول به الكتاب.
قال: (الخبر إذا لم يكن (3) * من باب ما يجب وقوع العلم عنده واشتراك
العقلاء فيه، وجاز وقوع الشبهة فيه، فهو أن يرويه جماعة قد بلغت من الكثرة إلى حد
لا يصح معه أن يتفق الكذب منها عن المخبر الواحد فأن (4) يعلم - مضافا إلى ذلك -
انه لم يجمعها (5) على الكذب جامع كالتواطؤ وما يقوم مقامه ويعلم أيضا ان اللبس
والشبهة زائلان عما خبروا عنه.
هذا إذا كانت الجماعة تخبر بلا واسطة عن المخبر فان كان بينهما واسطة
وجب اعتبار هذه الشروط المذكورة في جميع من خبرت (6) عنه من الجماعات، حتى
يقع الانتهاء إلى نفس المخبر.
وتأثير هذه الشروط المذكورة في العلم بصحة هذا الخبر ظاهر، لان الجماعة
إذا لم تبلغ من الكثرة إلى الحد الذي يعلم معه انه لا يجوز أن يتفق الكذب منها عن
المخبر الواحد، لم نأمن أن تكون كذبت على سبيل الاتفاق، كما يجوز ذلك في
الواحد والاثنين.
وإذا لم يعلم أن التواطؤ وما يقوم مقامه مرتفع عنها، جوزنا أن يكون الكذب

(1) أدام الله علوه.
(2) في الأصل: أنا قد.
(3) * أما لعدم تكامل العدد الذي أخبر الله تعالي عادته بفعل العلم الضروري عنده، أو لكون المخبر مما يتطرق
إليه شبهه.
(4) وأن.
(5) في الأصل: (يجمعا) وفي الحجرية و (الذخيرة) يجمعهما.
(6) من خبرت من المتوسطات عنه.
82

وقع منها على سبيل التواطؤ.
والشبهة أيضا تدعوا إلى الكذب، وتجمع عليه، كأخبار الخلق الكثير من
المبطلين عن مذاهبهم الباطلة لأجل الشبهة الداخلة عليهم فيها، وان لم يكن هناك
تواطؤ منهم.
ولا فصل فيما اشترطناه من ارتفاع اللبس والشبهة بين أن يكون المخبر عنه
مشاهدا أو غير مشاهد في أن الشبهة قد يصح اعتراضها في الامرين ألا ترى ان
اليهود والنصارى مع كثرتهم نقلوا صلب المسيح عليه السلام وقتله، لما التبس عليهم
الامر فيه (1)، وظنوا ان الشخص الذي رأوه مصلوبا هو المسيح عليه السلام ودخلت
الشبهة عليهم، لان المصلوب قد تتغير حليته، وتتبدل صورته، فلا يعرفه كثير ممن كان
عارفا به، ولبعد المصلوب أيضا عن التأمل، تقوى الشبهة في أمره.
والوجه (في) (2) اشتراط هذه الشروط في كل الجماعات المتوسطة بيننا وبين
المخبر، لان ذلك لو لم يكن معلوما في جميعهم، جوزنا كون من ولينا من المخبرين
صادقا عمن أخبر عنه من الجماعات، وان كان الخبر في الأصل باطلا من حيث لم
تتكامل الشرائط في الجميع ومتى تكاملت هذه الشروط، فلابد من كون الخبر صدقا،
لأنه لا ينفك عن كونه صدقا أو كذبا ومتى كان كذبا، فلابد أن يكون وقع اتفاقا، أو
لتواطؤ، أو لأجل شبهة وإذا قطعنا على فقد ذلك كله فلابد من كونه صدقا.
فأما الطريق إلى العلم بثبوت الشرائط فنحن نبينه:
أما اتفاق الكذب عن المخبر الواحد فلا يجوز أن يقع من الجماعات، والعلم

(1) في الأصل: فيهم.
(2) زيادة من الأصل.
83

بحال الجماعة، وان ذلك لا يتفق منها، وانها مخالفة للواحد والاثنين ضرورة (1) ولا
يدخل على عاقل فيه شبهة، ولهذا أجزنا أن يخبر واحد ممن حضر الجامع يوم
الجمعة بأن الامام تنكس على أم رأسه من المنبر كاذبا ولا نجوز أن يخبر عن مثل
ذلك على سبيل الكذب جميع من حضر المسجد الجامع أو جماعة منهم كثيرة الا
لتواطؤ أو ما يقوم مقامه.
وقد شبه امتناع ما ذكرناه من الجماعات باستحالة اجتماع الجماعة الكثيرة
على نظم شعر على صفة واحدة، واجتماعهم على تصرف مخصوص، وأكل شئ
معين من غير سبب جامع.
وشبه أيضا بما علمناه من استحالة أن يخبر الواحد أو الجماعة من غير علم
عن أمور كثيرة، فيقع الخبر بالاتفاق صدقا.
وجواز اخبار الجماعة الكثيرة (2) بالصدق من غير تواطؤ مفارق لاخبارها
بالكذب من غير سبب جامع لان الصدق يجرى في العادة مجرى ما حصل فيه سبب
جامع من تواطؤ، أو ما يقوم مقامه، وعلم المخبر بكون الخبر صدقا داع إليه، وباعث
عليه وليس كذلك الكذب، لان الكذب لابد في اجتماع الجماعة عليه من أمر جامع
لها (3)، ولم يستحل أن يخبروا بذلك وهو صادقون من غير تواطؤ.
وأما الطريق إلى العلم بفقد التواطؤ على الجماعة، فربما كان كثرة الجماعات
يستحيل معها التواطؤ عليها مراسلة أو مكاتبة وعلى كل وجه وسبب لأنا نعلم

(1) ضروري.
(2) جماعة كثيرة.
(3) وردت زيادة من (الذخيرة) أسقطها المصنف وهي قوله: [... ولهذا الذي ذكرناه استحال أن يخبرنا الخلق
العظيم عن حادثة جرت وهم كاذبون من غير سبب جامع لهم، ولم يستحل...]
84

ضرورة ان جميع أهل بغداد لا يجوز أن يواطئوا جميع أهل الشام لا باجتماع
ومشافهة، ولا بمكاتبة أو مراسلة، على أن التواطؤ فيمن يجوز ذلك عليه من الجماعة
بمشافهة أو مكاتبة أو مراسلة لابد بمجرى العادة من أن يظهر لمن خالطهم ظهورا
يشترك كل من خالطهم في علمه، وهذا حكم مستند إلى العادات لا يمكن دفعه.
وأما ما يقوم مقام التواطؤ من الأسباب الجامعة كتخويف السلطان وما يجري
مجراه، فلابد أيضا من ظهوره وعلم الناس به، لان الجماعة لا تجتمع على الامر
الواحد لأجل خوف السلطان الا بعد أن يظهر لهم غاية الظهور، وما هذه حاله لابد من
العلم به والقطع على فقده إذا لم يعثر عليه.
وأما ما به يعلم ارتفاع اللبس والشبهة عن مخبر الخبر الذي خبرت به الجماعة،
فهو أن تخبر الجماعة عن أمر مدرك اما بمشاهدة أو بسماع، ويعلم انتفاء أسباب
اللبس والشبهة عن ذلك المخبر، فان أسباب التباس المدركات معلومة محصورة
يعلم انتفاؤها حيث ينتفى ضرورة.
وأما (1) ما به يعلم ثبوت الشرائط التي ذكرناها في الطبقات التي تروي الخبر،
فهو ان العادات جارية بأن المذاهب أو الأقوال التي تقوى بعد ضعف، وتظهر بعد خفاء،
وتوجد بعد فقد لابد أن يعرف ذلك من حالها، ويفرق العقلاء المخالطون لأهلها بين
زماني فقدها ووجودها، وضعفها وقوتها، ولهذا علم الناس كلهم ابتداء حال الخوارج (2)،

(1) فأما.
(2) هي فئة باغية خرجت على أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام بعد معركة صفين، واجتمعوا
بحروراء (من قري الكوفة) ومن رؤوسهم عبد الله بن الكواء، وعتاب بن الأعور، وعروة بن جرير، وحرقوص
بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية، وغير هم، فحاربهم الإمام بالنهروان واستأصل شأفتهم، ولكن بقيت
منهم شرذمة، وقد وصفهم الرسول صلي الله عليه وآله وسلم في حديث أنهم (قوم يمرقون من الدين كما
يمرق السهم من الرمية) فاشتهروا بالمارقين، وهم فرق عديدة منها: المحكمة، الأزارقة، النجدات،
الأباضية، الصفرية، وجميعهم يتبرأون من علي عليه السلام ويكفرون أصحاب الكبائر، بل جميع المسلمين،
و المسلمون يعتقدون بكفر هذه الطائفة. ولهذا الجماعة تاريخ طويل في محاربة المسلمين والإغارة علي
بلدانهم.
85

وظهور مقالة الجهمية (1) والنجارية (2) ومن جرى مجراهم، وفرق العقلاء من سامعي
الاخبار بين زمان حدوث مقالاتهم وبين ما تقدمها.
وإذا صحت هذه الجملة التي ذكرناها في صفة الخبر الذي لابد أن يكون
المخبر به صادقا من طريق الاستدلال) (3) بنينا عليها صحة تلك المعجزات
والنصوص على الأئمة عليهم السلام على ما نذهب إليه، وغير ذلك من أحكام
الشريعة وغيرها.
فأما خبر الله تعالى، فإنما يعلم صدقه إذا علم أولا انه لا يلغز في أخباره، ولا
يريد بها غير ظاهرها ولا يدل عليه وانه لا يجوز عليه الكذب ولا يعلم ذلك من حاله
الا من علم أنه عالم بقبح القبيح وغني عن فعله وانه إذا كان كذلك لا يجوز أن يختار
القبيح، وقد بينا جملة من القول فيه.
وأما خبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يعلم به (4) صدقه لان العلم
المعجز قد دل على أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجوز أن يرسل الله
من يكذب فيما يؤديه عنه وقد أمرنا بتصديقه في كل أخباره، فيجب أن يكون
صدقا، لان تصديق الكذاب قبيح، والله يتعالى عن ذلك، فعلم عند ذلك أن أخباره
عليه السلام صدق.
والقول في أخبار الإمام عليه السلام القائم مقامه كالقول في أخباره لان الدليل
الدال على وجوب عصمته أمننا من وقوع القبيح من جهته، وفي ذلك أمان من أن

(1) هم أتباع محرز جهم بن صفوان الراسبي. و تعد الجهمية من معارض المعتزلة، ولكنهما متفقان في
القول بنفي الصفات عن ذات الله تعالي، وبخلق القرآن. حاربت الجهمية الخلافة الأموية حيث قتل جهم عام
127 ه‍ بمرو، وقد للجهمية بقية إلي القرن الخامس الهجري.
(2) أتباع الحسين بن محمد النجار (مات حدود عام 230 ه‍) وأكثرهم من معتزلة الري، ولكنهم يختلفون معهم في بعض
المسائل، وهم على أصناف برغم اتفاقهم في الأصول، وهم ينقسمون إلي: برغوثية، وزعفرانية، ومستدركة.
(3) نهاية الفقرة المنقولة عن كتاب (الذخيرة في علم الكلام): 355 - 351
(4) أي بالرسول صلي الله عليه وآله وسلم.
86

يكون خبره كذبا.
وأما خبر الأمة إذا اعتبرناه فإنما يعلم مخبره (1) لما تقدم لنا من العلم بكون
المعصوم فيها (2).
وأما خبر الواحد بمحضر من الجماعة الكثيرة وادعاؤه عليهم المشاهدة كنحو
من ينصرف من الجامع ويخبر بوقوع الامام من المنبر، ويدعى على جميع
المنصرفين من الجامع مشاهدة ذلك، ويعلم انه لا صارف لهم عن تكذيبه، فمتى لم
يكذبوه، علمنا أنه صادق لأنه لو لم يكن صادقا لأنكروه على مقتضى العادة.
فأما خبر المخبر [بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الشئ، إذا لم
ينكر عليه، فان كان هذا المخبر يدعي] (3) المشاهدة لذلك ولم ينكر عليه، فذلك
دليل على صدقه وان أطلق الخبر اطلاقا، فإنه لا يدل على ذلك.
فأما الأمة إذا تلفت الخبر بالقبول وصدقت به، فذلك دليل على صحته، لأنه لو
لم يكن صحيحا لأدى إلى اجتماعها على خطأ، وذلك لا يجوز مع كون المعصوم فيها.
ومتى تلقت الخبر بالقبول ولم تصدق به فذلك لا يدل على صدقه، لان هذا
حكم أكثر أخبار الآحاد.
وأما الخبر إذا روى وعلمت الأمة بأجمعها بموجبه لأجله فعند من قال: لا
يجوز العمل بخبر الواحد ينبغي أن يكون دلالة على صحته، لأنه لو لم يكن صحيحا
لأدى إلى اجماعهم على العمل به وهو خطأ وذلك غير جائز عليهم.
وأما من قال: يجوز العمل بخبر الواحد (4) فلا يمكنه أن يقول إن ذلك دلالة على

(1) في الأصل: مخبرها.
(2) راجع بحث الاجماع وشروط حجيته عند الامامية.
(3) زيادة من النسخة الثانية.
(4) انظر: «المعتمد في أصول الدين 123: 2 - 98، اللمع: 40، شرح اللمع 583: 2، الرسالة: 401، التبصرة:
301، المنخول: 252، المستصفي 146: 1».
87

صحته، لأنهم إذا اعتقدوا جواز العمل بخبر الواحد جاز أن يجمعوا عليه وان لم يكن
صحيحا في الأصل كما أنهم يجوز أن يجتمعوا (1) على شئ من طريق الاجتهاد
عندهم وان لم يكن طريق ذلك العلم (2).
وأما الخبر إذا ظهر بين الطائفة المحقة وعمل به أكثرهم، وأنكروا على من لم
يعمل به، فان كان الذي لم يعمل به علم أنه امام، أو الامام داخل في جملتهم، علم أن
الخبر باطل.
وان علم أنه ليس بامام، ولا هو داخل معهم، علم أن الخبر صحيح، لان الامام
داخل في الفرقة التي عملت بالخبر.
وهذه جملة كافية في هذا الباب.

(1) يجمعوا.
(2) المعتمد في أصول الدين 84: 2.
88

فصل [3]
(في أن في الاخبار المروية ما هو كذب (1)، والطريق الذي
يعلم به ذلك من المعلوم الذي لا يتخالج فيه شك)
ان في الاخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذبا، كما أن فيها
صدقا، فمن قال: ان جميعها صدق فقد أبعد القول فيه ومن قال: انها كلها كذب

(1) إن الكثير من الشواهد والأدلة التاريخية تثبت - و بوضوح - دخول كثير من الأحاديث الكاذبة والروايات
الموضوعة في صحاح أهل السنة ومسانيدهم، بل إن من الأمور الواضحة التي لا يمكن لأحد نكرانها أنه بعد
أن سيطر الحزب الأموي على مقاليد السلطة والخلافة، سعت وبكل الوسائل المتاحة من بذل الأموال وشراء
الذمم في خلق جيل من الوضاعين الكذابين الذين لم يتورعوا عن اختلاف الأحاديث ونشرها بين المسلمين،
كل ذلك في سبيل تثبيت دعائم الخلافة المغصوبة، ولفت الأنظار عن أهل البيت عليهم السلام، ولعل أفصح
من شرح الموقف في تلك الأيام هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال لسليم بن قيس الهلالي
الكوفي حينما سأله قائلا: «إني سمعت من سلمان ومقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي
الله صلي الله عليه وآله وسلم غير ما في أيدي الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في
أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله صلي الله عليه وآله وسلم أنتم
تخالفونهم فيها وتزعمون أن ذلك كله باطل، أفتري الناس يكذبون على رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم
متعمدين، ويفسرون القرآن بآرائهم؟ قال: فأقبل على فقال: قد سألت فافهم الجواب:
إن في أيدي الناس حقا وباطلا، وصدقا وكذبا، وناسخا, منسوخا، وعاما وخاصا، ومحكما ومتشابها،
و حفظا ووهما، وقد كذب على رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم على عهده حتى قام خطيبا فقال: أيها
89

فكذلك، لفقد الدلالة على كلا القولين وقد توعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
على الكذب عليه بقوله: " من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " (1). وتجنب
كثير من أصحابه الرواية نحو الزبير (2) والبراء بن عازب (3) لما تبينوا انه وقع فيها
الكذب فروى عن البراء انه قال: سمعنا كما سمعوا لكنهم رووا ما لم يسمعوا)
وروى عن شعبة (4) انه قال: (نصف الحديث كذب) (5) ولأجل ما قلنا، حمل أصحاب

الناس قد كثرت على الكذابة فمن كذب على متعمدا فليتبوء مقعده من النار، ثم كذب عليه من بعده وإنما
أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس: رجل منافق يظهر الإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج أن
يكذب على رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم متعمدا، فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم
يصدقوه، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ورآه وسمع منه وأخذوا عنه وهم
لا يعرفون حاله، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم، ثم بقوا بعده فتقربوا إلي أئمة
الضلالة والدعاة إلي النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا به
الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله فهذا أحد الأربعة...» [أصول الكافي 62: 1 باب
اختلاف الحديث ح 1].
(1) أصول الكافي 62: 1 باب اختلاف الحديث، ح 1، البخاري: كتاب العلم، باب 38، مسند أحمد بن حنبل 3:
303،
(2) هو الزبير بن العوام الأسدي القرشي، أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم.
صحابي شهد بدرا وما بعدها وهاجر الهجرتين وروي عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم. انحرف عن أهل
البيت عليهم السلام ونكث بيعته لأمير المؤمنين عليه السلام وحاربه في معركة الجمل لكنه ندم على ذلك
واعتزل المعركة فباغته عمرو بن جرموز وقتله بوادي السباع عام 36 ه‍.
(3) صحابي، روي عن النبي وغزا معه صلي الله عليه وآله وسلم، وشهد مع أمير المؤمنين عليه السلام وصفين
و النهروان، نزل الكوفة ومات بها سنة 72 ه‍ زمن مصعب بن الزبير.
(4) هو شعبة الحجاج الأزدي، من كبار المحدثين الثقات, وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث وإمام
الأئمة في معرفة الحديث، ولولاه لما عرف الحديث بالعراق. كان من سادات زمانه حفظا وإتقانا وورعا،
مولده سنة 82 ه‍ (أو 83) ووفاته سنة 160 ه‍ بالبصرة.
(5) قال أبو الحسين البصري: (حكي عن شعبة أنه قال: «ثلث الحديث كذب»)، المعتمد في أصول
الفقه 80: 2.
90

الحديث نفوسهم على نقد (1) الحديث، وتمييز الصحيح منها من الفاسد (2).
وليس لاحد أن يقول: ان ما يتعلق بالدين إذا لم يقم به الحجة وجب القطع
على كذبه كما نعلم كذب المدعى للنبوة إذا لم يظهر عليه المعجز، وذلك أنه لا
يمتنع أن يتعبد بالخبر وان لم تقم به الحجة كما تعبد بالشهادات وان لم تعلم صحتها.
ولا يجوز أن يتعبد بتصديق نبي ولا علم له، أو بتصديق كذاب، فلذلك كذبنا المدعي
للنبوة إذا لم يكن له معجزة. وغاية ما في هذا ألا يجب العمل به وليس إذا لم يجب
العمل به وجب القطع على كذبه، بل ينبغي أن يتوقف فيه إلى أن يدل دليل عقلي أو
شرعي على كذبه أو كذب بعضه.
وأما (3) الطريق الذي به يعلم كذب الخبر فلا يجوز أن يكون الخبر سواء
أوجب العلم ضرورة أو اكتسابا. ويفارق الكذب في هذا الباب الصدق، لأنا بالخبر
نعلم صدق الخبر ولا نعلم به كذبه، بل العلم بكذبه يحتاج إلى أمور اخر.
والاخبار على ضربين.
أحدهما: يعلم كونه كذبا (ضرورة، وهو أن يعلم) (4)، ضرورة ان مخبره على

(1) فقد.
(2) نظرا لكثرة الأحاديث الموضوعة والساقطة وكثرة الرواة الضعفاء والمجاهيل والمتروكين والكذابين
و المدلسين في كتب أهل السنة وخاصة ما يعرف منها بالصحاح والمسانيد - فقد صنف جماعة من أعلام
أهل السنة كتبا محاولة منهم في تهذيب الروايات وتشذيبها من هذه الموضوعات نذكر قسما منها وهي:
كتاب الأباطيل: للحسين بن إبراهيم الجوزقاني، تمييز الطيب من الخبيث: لابن الربيع، المقاصد الحسنة في
كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: للسخاوي، تذكرة الموضوعات: لأبي الفضل المقدسي، اللآلي ء
المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: لجلال الدين السيوطي، العلل المتناهية في الأحاديث الواهية: لابن
الجوزي، علل الحديث: للرازي، الكامل في ضعفاء الرجال: لابن عدي، كتاب الضعفاء والمتروكين: لابن
الجوزي، الجرح والتعديل: للرازي، الضعفاء الكبير: للعقيلي كتاب المجروحين من المحدثين والضعفاء
و المتروكين: لمحمد بن حيان البستي، وغيرها.
(3) فأما.
(4) زيادة ساقطة من الأصل.
91

خلاف ما تناوله فيعلم انه كذب ولذلك قلنا ان المخبر عن كون فيل بحضرتنا يعلم
بطلان خبره بالاضطرار (1)، لأنه لو كان هناك فيل لرأيناه.
والضرب الاخر: يعلم كونه كذبا باكتساب، وهو كل خبر نعلم أن مخبره على
خلاف ما تناوله بدليل عقلي، أو بالكتاب والسنة أو الاجماع وقد يعلم ذلك بأن
يكون لو كان صحيحا لوجب قيام الحجة به على المكلفين أو بعضهم فإذا لم تقم به
الحجة علم أنه باطل والعلة في ذلك أن الله تعالى لا يجوز أن يكلف عباده فعلا ولا
يزيح علتهم في معرفته، فإذا صح ذلك، وكان ذلك الفعل مما طريقه العلم لا العمل، أو
مما علم بالدليل انه مما يجب أن يعلمه المكلف، وان كان طريقه العمل، فيجب ورود
الخبر به على وجه يعلم مخبره، إذا لم يعرف (2) من جهة المكلفين، مما يمنع من وروده
فإذا لم يكن ذلك حاله علم بطلانه اللهم الا أن يكون هناك طريق آخر يعلم به صحة
ما تضمنه ذلك الخبر، فيستغنى بذلك الطريق عن الخبر، ولا يقطع على كذبه ولذلك
نقول: ان الخبر إذا صار بحيث لا تقوم به الحجة قام قول الإمام في ذلك مقامه إذا
أوجب العلم وصارت الحجة به قوله دون الخبر والعلة في ذلك أن ما تضمنه الخبر
إذا كان من باب الدين ومصلحة المكلف، فلابد من أن يكون للمكلف طريق إلى العلم
به فان كان حاصلا من طريق النقل، والا فما ذكرناه من قول الإمام، لأنه ان لم يكن
أحد هذين أدى إلى أن لا يكون للمكلف طريق يعلم به ما هو مصلحة له، وذلك لا
يجوز.
ومنها: أن يكون المخبر عنه مما لو كان على ما تناوله الخبر لكانت الدواعي
تقوى إلى نقله، وقد جرت العادة بتعذر كتمانه فإذا لم ينقل ذلك، نقل مثله علم كذبه
وهو أن يخبر المخبر بحادثة عظيمة وقعت في الجامع، ورؤية الهلال والسماء
مصحية في أنه إذا لم يظهر النقل فيه علم أنه كذب.

(1) في الأصل (باضطراب) والصحيح ما أثبتناه من النسخة الثانية.
(2) يعرض.
92

ومنها: أن تكون الحاجة في باب الدين إلى نقله ماسة، فإذا لم ينقل نقل نظيره
في هذا الباب علم أنه كذب نحو ما نقول ان العرب لو عارضت القرآن لوجب نقله
كنقل نظيره، لان الحاجة إلى نقله كالحاجة إلى نقل القرآن، وحالهما في قرب العهد
سواء ولذلك نقول: انه لا يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم شرائع اخر
لم تنقل إلينا، لأنها لو كانت لنقلت نقل نظيرها لمساواتها لها في الحاجة إليها وقرب
العهد بها هذا إذا فرضنا ان الموانع والصوارف عن نقله كلها مرتفعة يجب ذلك.
فأما إذا جوزنا أن يمنع من نقل بعض الاخبار مانع من خوف وما يجرى مجراه
فلم يجب القطع على كذب ذلك الخبر، لان هذا الذي ذكرناه حكم أكثر الفضائل
المروية لأمير المؤمنين عليه السلام والنص عليه والعلة فيها ما قلناه من اعتراض
موانع من خوف وتقية وغير ذلك.
فأما ما يعم البلوى به أو ما وقع في الأصل شائعا ذائعا فيجب (1) نقله على
وجه يوجب العلم ما لم يعرض فيه ما يمنع من نقله فمتى لم يعرض هناك ما يمنع
من نقله وكان في الأصل شائعا ذائعا علم أنه باطل.
والخبر إذا كان ظاهره يقتضي الجبر والتشبيه، أو أمرا علم بالدليل بطلانه ولا
يمكن تأويله على وجه يطابق الحق غير متعسف ولا بعيد من الاستعمال، وجب
القطع على كذبه. فان أمكن تأويله على وجه قريب، أو على ضرب من المجاز
(الذي) (2) جرت العادة باستعماله يقطع على كذبه.
فأما ما تكلفه محمد بن شجاع الثلجي (3) من تأويل الأخبار الواردة من الجبر
والتشبيه من التعسف والخروج عن حد الاستعمال فلا يحتاج إليه، لأنه لو ساغ ذلك

(1) يجب.
(2) زيادة في الأصل.
(3) الوارد في الأصل والنسخة المطبوعة محمد بن شجاع البلخي، والظاهر أن الصحيح هو محمد بن شجاع
الثلجي أو ابن الثلجي البغدادي الذي كان فقيه العراق في وقته ومن أصحاب أبي حنيفة وقد عده ابن
المرتضى من أعلام المعتزلة.
93

لم يكن لنا طريق نقطع على كذب أحد، وذلك باطل.
والفائدة في نقل ما علم كذبه هو أن ينحصر المنقول من الأحاديث ليعلم ان ما
ادخل فيه معمول كما حصر (1) الخلاف في الفقه ليعلم به الخلاف الحادث فيطرح
ولا يلتفت إليه.
وليس لاحد أن يقول: ان في تجويزكم (2) الكذب على هذه الأخبار أو في
بعضها طعنا على الصحابة، لان ذلك يوجب تعمدهم الكذب.
وذلك أنه: لا يمتنع أن يكون وقع الغلط من بعض الصحابة، لأنه ليس كل واحد
منهم معصوما لا يجوز عليه الغلط، وانما يمنع من اجماعهم على الخطأ دون أن يكون
ذلك ممتنعا من آحادهم.
وأيضا فإنهم كانوا يسمعون الحديث من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا
يكتبونه فيسهون (3) عنه أو عن بعضه فيقع الغلط في نقله (4).
وأيضا: انهم كانوا يحضرونه عليه السلام وقد ابتدأ الحديث فيلحقه بعضهم
فينقلونه بانفراده فيتغير معناه لذلك ولذلك كان عليه السلام إذا أحسن برجل داخل
ابتدأ الحديث (4)، ولهذا أنكرت عائشة (5) على من روى عن النبي صلى الله عليه وآله

(1) خص.
(2) تجوير.
(3) ويسهون.
(4) المعتمد في أصول الفقه 80: 2
(5) هي عائشة بنت أبي بكر، أم المؤمنين، بني بها النبي صلي الله عليه وآله وسلم في بداية هجرته إلي المدينة،
و كانت عاقرا فلم تنجب مولودا، وحينما توفي النبي صلي الله عليه وآله وسلم كانت هي بنت ثماني عشره
سنة، وقد نشطت أيام عثمان ودخلت السياسة وحرضت الناس على عثمان ثم بعد مقتله وخلافه علي بن أبي
طالب عليه السلام قادت معركة الجمل حيث كانت السبب في مقتل آلاف المسلمين، كانت من ألد أعداء
أهل البيت تكره فاطمه وأمها خديجة وتعادي عليا، ومنعت من دفن الحسن عليه السلام عند جده صلي الله
عليه وآله وسلم، وقد روت هي (وغيرها من الوضاعين) أحاديث عن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم في
فضائل نفسها وأبيها أكثرها موضوعة. ماتت عام 58 ه‍ بالمدينة.
94

وسلم أنه قال: " الشؤم في ثلاث: الفرس، والمرأة، والدار " (1)، وذكرت أنه عليه السلام
كان حاكيا لذلك فلم يسمع الراوي أول كلامه وكذلك خطأت من روى عنه عليه
السلام أنه قال: (2) " التاجر فاجر " (3) و " ان ولد الزنا شر الثلاثة " (4) وذكرت ان كلامه
خرج على تاجر قد دلس، وولد زنا قد سب أمه (5). وعلى هذا الوجه أنكرت وابن
عباس (6) جميعا ما رواه ابن عمر (7) ان الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " (8) وغير ذلك،
فقالا وهل (9) ابن عمر وإنما قال عليه السلام: " ان الميت ليعذب، وإن أهله يبكون
عليه ".
وقد كان منهم من ينقل الحديث بالمعنى دون اللفظ، فيقع الغلط فيه من هذا
الوجه.
وهذه الوجوه التي ذكرناها أو أكثرها تنفي الطعن عن ناقل الخبر وان كان كذبا.

(1) قال العجلوني: رواه البخاري والسيوطي في ذيل الجامع الصغير والترمذي والنسائي وغيرهم. أنظر: ((كشف
الخفاء ومزيل الإلباس)) 12: 2.
(2) المعتمد في أصول الفقه 80: 2.
03) اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 142: 2 كتاب المعاملات.
(4) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 257: 6.
(5) لأمه.
(6) هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، حبر
الأمة والصحابي الجليل. ولد بمكة عام 3 للهجرة، شهد مع علي بن أبي طالب عليه السلام الجمل وصفين، له
روايات صحيحة عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. كف بصره وسكن الطائف فتوفي بها سنة 68 ه‍.
(7) هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، صحابي، ولد بمكة، اشتهر بكثرة العبادة
و الصلاة واشتغل بالفقه والحديث، كان منحرفا عن أهل البيت عليهم السلام فقد امتنع عن البيعة لعلي عليه
السلام ولكنه بايع الحجاج، مات بمكة سنة 73 ه‍.
(8) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم [يعذب الميت ببكاء بعض
أهله عليه] كنز العمال 610: 15 رقم 42426 ورواه الرازي في (علل الحديث 348: 1 حديث رقم
1027)، أيضا المعتمد في أصول الفقه 80: 2، أمالي المرتضى 200: 2.
(9) يقال: وهلت إليه وهلا، أي ذهب إليه وهمك وأنت تريد غيره.
95

فأما من تأخر عن زمان الصحابة والتابعين فلا يمنع من أن يكون فيهم من يدخل
في الأحاديث الكذب عمدا ويكون غرضه الافساد في الدين كما روى عن
عبد الكريم بن أبي العوجاء (1) انه لما صلب (4) وقتل قال: (اما انكم ان قتلتموني لقد
أدخلت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة) وهذا واحد من الزنادقة
والملحدين، فكيف الصورة في الباقين.
فأما الاخبار التي هي من باب العمل كالاخبار الواردة في فروع الدين فسنذكر
القول فيها - إن شاء الله تعالى - في الفصل الذي يليه.

(1) من كبار الزنادقة، إتهم بالمانوية والقدرية واعتقاده بالتناسخ والحلول، فقبض عليه وعذب ثم صلب سنة
155 أو 160 ه‍ أيام المهدي العباسي.
96

فصل [4]
(في ذكر الخبر الواحد وجملة من القول في أحكامه)
اختلف الناس في خبر الواحد، فحكى عن النظام (1) انه كان يقول: انه يوجب
العلم الضروري إذا قارنه سبب (2). وكان يجوز في الطائفة الكثيرة ألا يحصل العلم بخبرها.
وحكى عن قوم من أهل الظاهر أنه يوجب (3) العلم (4)، وربما سموا ذلك علما

(1) هو أبو إسحاق، إبراهيم، بن سيار، بن هاني، البصري النظام، تربي بالبصرة، ثم رحل إلي بغداد، وأسس
مدرسة لمحاربة الدهريين، كما حارب في بغداد المرجئة، والجبرية، والمحدثين، والفقهاء، وكان يذهب إلي
خلق العالم، كان متكلما، فقيها، جدليا، فيلسوفا، شاعرا. كما اهتم بدراسة أصول الفقه، وكان يذهب إلي
بطلان الرأي والقياس والإجماع. توفي ببغداد ما بين سنتي 230 - 220 ه‍ له كتب عديدة.
(2) المقصود من السبب هو اقتران الخبر الواحد بقرينة أو قرائن تفيد حصول العلم، مثل أن يري رجلا مخرق
الثياب ثم يخبر بموت أبيه. ممن تابع النظام في مذهبه هذا إمام الحرمين الجويني، وأبو حامد الغزالي،
و الآمدي، والرازي، والبيضاوي، وابن حجر العسقلاني وآخرون، راجع: «التبصرة في أصول الفقه: 298،
المستصفي 136: 1، المنخول: 239، المعتمد في أصول الفقه 93: 2 - 92، شرح اللمع 580: 2،
الذريعة 517: 2».
(3) روي ابن حزم الأندلسي (الأحكام: 1 / 112) عن جماعة من أهل الظاهر: «أن خبر العدل عن مثله إلي
رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يوجب العلم والعمل معا، وبهذا نقول، وقد ذكر هذا القول أحمد بن
إسحاق المعروف بابن خويذ منذاد عن مالك بن أنس» وأيضا راجع: (التبصرة في أصول الفقه: 298،
المعتمد في أصول الفقه 92: 2، شرح اللمع 579: 2)
(4) يوجب العلم مطلقا.
97

ظاهرا.
وذهب الباقون من العلماء، من المتكلمين والفقهاء، إلى أنه لا يوجب العلم (1)،
ثم اختلفوا:
فمنهم من قال: لا يجوز العمل به (2).
ومنهم من قال: يجب العمل به (3).
واختلف من قال: لا يجوز العمل به.
فقال قوم: لا يجوز العمل به عقلا (4).
وقال آخرون: انه لا يجوز العمل به، لان العبادة لم ترد به وان كان جائزا في
العقل ورودها به (2). وربما قالوا وقد ورد السمع بالمنع من العمل به.
واختلف من قال يجب العمل به:
فمنهم من قال: يجب العمل به عقلا (3) وحكي هذا المذهب عن ابن سريج (5)

(1) قال ابن حزم الأندلسي: «قال الحنفيون، والشافعيون، وجمهور المالكيين، وجميع المعتزلة، والخوارج، إن
خبر الواحد لا يوجب العلم، ومعني هذا عند جميعهم أنه قد يكون كذبا أو موهوما فيه، واتفقوا كلهم في هذا»
انظر: «الأحكام: 112: 1، التبصرة في أصول الفقه: 298، المعتمد في أصول الفقه 92: 2، شرح اللمع 2:
583».
(2) وهو قول محمد بن إسحاق القاساني، وابن داود من أهل السنة، راجع: «التبصرة: 303، شرح اللمع 584: 2
- 587»، وهو أيضا مذهب الشريف المرتضى (الذريعة: 2 / 528)
(3) وهو مذهب أحمد بن حنبل، والقفال، وابن سريج، وأبو الحسين البصري، وابن حزم الأندلسي، راجع:
«الأحكام 139: 1 - 112، المعتمد في أصول الفقه 106: 2، التبصرة في أصول الفقه: 303، روضة الناظر
و جنة المناظر: 92 - 93».
(4) نسب هذا القول إلي بعض أهل البدع من القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر. راجع: «التبصرة: 301،
شرح اللمع: 583: 2 روضة الناظر: 93، الذريعة 519: 2، المعتمد في أصول الفقه 123: 2»
(5) في الأصل والحجرية: (ابن شرح) والصحيح ما أثبتناه، وهو أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج، من كبار
فقهاء الشافعية ومتكلميهم، وله تصانيف عديدة، وكان مقدما على جميع أصحاب الشافعي، له مناظرات مع
محمد بن داود الظاهري، توفي سنة 306 ه‍.
98

وغيره.
وقال آخرون: انما يجب العمل به شرعا والعقل لا يدل عليه، وهو مذهب
أكثر الفقهاء والمتكلمين ممن خالفنا (1).
ثم اختلفوا:
فمنهم من قال: يجب العمل به ولم يراع في ذلك عددا (2).
ومنهم من راعى في ذلك العدد وهو أن يكون رواته أكثر من واحد (3) وهذا

(1) جمهور الفقهاء والمتكلمين من أهل السنة على جواز، بل وجوب العمل بخبر الواحد، راجع: «شرح
اللمع 603: 2 - 583، التبصرة: 303، الأحكام 112: 1 و 103، روضة الناظر: 93، الذريعة 529: 2».
(2) قال ابن حزم الأندلسي: «القسم الثاني من الأخبار ما نقله الواحد، عن الواحد فهذا إذا اتصل برواية العدول
إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وجب العمل به ووجب العلم بصحته أيضا» انظر: «الأحكام 103: 1،
التبصرة 301 و 312، المعتمد في أصول الفقه 98: 2 و 138 شرح اللمع 603: 2».
(3) واختلفت الآراء عند هؤلاء، فقد قال أبو علي الجبائي: «لا يجوز حتى يرويه اثنان عن اثنين إلي النبي صلي
الله عليه وآله وسلم»، ثم إن القاضي عبد الجبار نقل عن الجبائي أيضا قوله: انه لا يقبل خبر الواحد إذا رواه أقل
من أربعة وقد نسب ابن السبكي هذا الرأي للقاضي عبد الجبار نفسه، ونقل ابن السبكي عن أبي منصور
البغدادي قوله: إن هناك من يذهب إلي اشتراط رواية خمسة عن خمسة، وآخرون إلي اشتراط سبعة عن
سبعة. ونسب أبو الحسين البصري إلي الجبائي تفصيل مفاده قبوله لرواية الواحد لكن بشروط، يقول: «إذا
روي العدلان خبرا وجب العمل به، وإن رواه واحد فقط لم يجز العمل به إلا بأحد شروط، منها أن يعضده
ظاهر، أو عمل بعض الصحابة، أو اجتهاد، أو يكون منتشرا» فقد تمسك الجبائي لإثبات مذهبه في التفصيل
بشواهد عديدة من أخبار الآحاد وموقف الصحابة تجاهها. وبالقياس حيث قاس الخبر بالشهادة، وقد رد
جمهور الأصوليين على أدلة الجبائي، وعلق الغزالي على مذهب الجبائي قائلا: «ذهب الجبائي إلي انه لا
يعمل إلا بما ينقله رجلان. ثم شرط عند تكرر العصر ان يتحمل قول كل رجل رجلان هكذا إلي حيث
ينتهي، وهذا استئصال لهذه القاعدة، إذ لا يستقيم على هذا المذاق حديث في عصرنا!!» راجع: «المعتمد في
أصول الفقه 138: 2، التبصرة في أصول الفقه: 312، شرح اللمع: 603 الذريعة 529: 2، المنخول: 255،
روضه الناظر وجنه المناظر: 99 - 98»، وهنا تفصيل آخر نقله ابن حزم الأندلسي عمن سماهم ببعض
المتحكمين في الدين حيث فصلوا بين الخبر إذا كان مما يعظم به البلوي فلم يقبل فيه خبر الواحد، وبين ما لم
يعظم فيقبل فيه الخبر الواحد (الأحكام في أصول الإحكام 109: 1).
99

المذهب هو المحكي عن أبي علي (1).
والذي أذهب إليه (2): ان خبر الواحد لا يوجب العلم (3) *، وانه كان يجوز أن ترد
العبادة بالعمل به عقلا وقد ورد جواز العمل به في الشرع، الا أن ذلك موقوف على
طريق مخصوص وهو ما يرويه من كان من الطائفة المحقة، ويختص بروايته، ويكون
على صفة يجوز معها قبول خبره من العدالة وغيرها.
وأنا أبتدئ أولا فأدل على فساد هذه المذاهب التي حكيتها ثم أدل على
صحة ما ذهبت إليه.
أما الذي يدل على أن خبر الواحد لا يوجب العلم، فهو انه لو أوجب العلم
لكان يوجبه كل خبر واحد إذا كان المخبر صادقا وإلى ما أخبر به مضطرا (4). ولو كان كذلك لوجب أن يعلم صدق أحد المتلاعنين وكذب الاخر.

(1) هو أبو علي، محمد، بن عبد الوهاب، بن سلام الجبائي، المعتزلي، يعد هو وابنه أبي هاشم من مشايخ
الاعتزال المرموقين وممن ساهموا في تطوير نظريات المعتزلة، وقد تتلمذ أبو الحسن البصري عليه في
البصرة حينما كان على الاعتزال وقبل أن يفترقا، وإليه تنسب الجبائية، وتوفي سنة 303 ه‍.
(2) ويمكن تلخيص أقوال فقهاء الشيعة ومتكلميهم إلي عصر الطوسي بما يلي:
1 - عدم الحجية مطلقا، وإليه ذهب الشيخ المفيد، لكنه استثني الخبر المقترن بسبب أو قرينة، يقول: «لا
يجب العلم والعمل بشيء من أخبار الآحاد... إلا أن يقترن به ما يدل على صدق راويه». راجع:» أوائل
المقالات: 132 رقم 130، التذكرة بأصول الفقه: 28».
2 - جواز التعبد به عقلا لا شرعا، وإليه ذهب الشريف المرتضى حيث يقول: «الصحيح أن العبادة ما
وردت بذلك، وإن كان العقل يجوز التعبد بذلك» راجع: الذريعة 528: 2.
3 - التفصيل بين الأخبار، فبعضها تصح العبادة به شرعا وعقلا، وهي أخبار الطائفة المحققة لكن بشروط
منها العدالة، وأما غيرها فلا تصح شرعا وإن كان يجوز عقلا، وهو مذهب الشيخ الطوسي.
(3) * إن خبر الواحد لا يوجب العلم وإن قارنه بسبب، والمراد أنه لا يجوز أن يكون للخبر دخل في إفادة العلم
بحيث لو لم ينضم إلي السبب لم يفد ذلك السبب العلم، لا أنه لا يجوز أن يفيد بعض الأسباب والعلم لما
سيجيء من بيان القرائن المفيدة للعلم.
(4) المقصود من الاضطرار اللابدية، أي قد يوجب الخبر الواحد علم الإنسان بصحته اضطرارا، إلا أن اضطراره
ليس بمطرد.
100

وكان يجب أن لا يصح الشك في خبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه
اسرى به إلى السماء.
وقد علمنا خلاف ذلك لأنا لا نعلم صدق أحد المتلاعنين ونجوز أن تدخل
الشبهة في نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يعتقد صحة نبوته، فيشك في خبره
عن الاسراء به، ولو كان يوجب العلم الضروري لما صح ذلك، ولكان يجب أيضا أن
يحصل لنا العلم بصدق كل رسول ادعى رسالة بعضنا إلى بعض، لان ذلك يعلم
ضرورة، فكان يجب حصول العلم به، وقد علمنا خلاف ذلك.
فإذا بطل جميع ذلك، علم أنه لا يوجب العلم.
فأما ما اعتبره النظام من اقتران السبب به (1)، فليس يخلو من:
أن يقول: يقع العلم به وبالسبب جميعا.
أو يقول: ان العلم يقع به بشرط أن يقارنه السبب.
أو يقول: ان العلم يقع به الا أن لا يكون (2) السبب حاصلا (3) *.
وكل هذه الوجوه يبطل، لأنه يوجب أن لا يمتنع أن يخبر الجماعة العظيمة عن
الشئ (4) ولا يقترن بها ذلك السبب، فلا يحصل عند خبرها العلم وهذا يؤدي إلى
تجويز أن نصدق من يخبرنا عن نفسه بأنه لا يعلم أن في الدنيا مكة مع اختلاطه
بالناس ونشوئه بينهم وقد علمنا خلاف ذلك.
فأما ما يذكره من مشاهدة من رأى مخرق الثياب يلطم (5) على وجهه، وقد كان

(1) راجع هامش رقم (2) صفحة 97.
(2) في الحجرية: لا يكون، وهو خطاء وا ضح.
(3) * المراد بالشق الأول أن يكون العلم بالسبب شرطا، وبالثاني أن يكون السبب باعتبار تحققه في الواقع
شرطا، وبالثالث أن يكون السبب باعتبار تحققه في الواقع كاشفا عن عدم المانع الذي هو ضد السبب،
و يمكن أن يراد بالأول أن يكون السبب جزءا من المؤثر فيه.
(4) في الأصل النبي.
(5) في الأصل (محرق يلطم...)
101

علم أن له عليلا ويخبر بموته، انا نعلم عند خبره انه ميت، فدعوى (1) لا برهان عليها،
لان مثل ذلك قد يفعله العقلاء لأغراض كثيرة، ثم ينكشف الامر عن خلاف ذلك.
فمن أين ان الذي يعتقده عند خبره علم لا يجوز التشكك فيه؟
فأما من قال: انه لو لم يوجب العلم لما صح أن يتعبد (2) به، لان العبادة لا تصح
الا بما نعلمه دون ما لا نعلمه. فإنما (3) كان يدل لو ثبت ان في العقل لا يجوز العبادة
بما طريقه الظن، ثم يثبت انه تعبد به، ولم يثبت لهذا القائل واحد من الامرين، فلا
يصح التعلق به.
فأما تعلقه بقوله: " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " (4).
فهو لا يدل على ايجاب خبر الواحد العلم، لان معنى الآية النهي عن الكذب
على الله تعالى، وليس من عمل بخبر الواحد يضيف إليه ان الله تعالى قد قال ما
تضمنه الخبر، وانما يضيف إليه انه تعبده بالعمل بما تضمنه الخبر، وذلك معلوم
عنده بدليل دل عليه، فيسقط بجميع ذلك هذا المذهب.
ولو كان خبر الواحد يوجب العلم، لما كان اختلاف الناس في قبوله وشكهم
في صحته صحيحا. ولا صح التعارض في الاخبار (5) * ولا احتيج إلى اعتبار صفات

(1) في الأصل: دعوى.
(2) نسب الشريف المرتضى هذا القول إلي بعض الناس ولم يسمهم وقال: «كان النظام يذهب إلي أن العلم
يجوز أن يحصل عنده وإن لم يجب، لأنه يتبع قرائن وأسبابا يجعل تابعا للعلم، فمهما لم يحصل علم
فلا عمل. وقال بعضهم: إن خبر الواحد يوجب العلم الظاهر)) [الذريعة 517: 2] وهذا المذهب مختار ابن
حزم الأندلسي حيث نسبه إلي جماعة منهم مالك بن أنس، وأحمد بن إسحاق المعروف بابن خويذ. انظر:
((الأحكام 112: 1، المعتمد 106: 2 و 123، التبصرة: 303)).
(3) في الأصل: إنما.
(4) البقرة: 169.
(5) * بأن يكون صدق أحد الخبرين مستلزما لكذب الآخر أن يكون مخبريهما نقيضين، لجواز ذلك في
أخبار الأئمة عليه السلام للتقية ونحوه.
102

الراوي، ولا ترجيح بعض الاخبار على بعض، وكل ذلك يبين فساد هذا المذهب.
فأما تسميته من سماه علما ظاهرا (1): فربما عبر عن (الظن) بأنه علم، لان
العلم لا يختلف حاله إلى أن يكون ظاهرا وباطنا فان أراد ذلك فهو خلاف في العبارة
لا اعتبار به.
فأما من قال لا يجوز العمل به عقلا (2): فالذي يدل على بطلان قوله ان يقال:
إذا تعبد الله تعالى بالشئ فإنما يتعبد به لأنه مصلحة لنا، وينبغي أن يدلنا عليه وعلى
صفته التي إذا (3) علمناه عليها كان مصلحة لنا، وصح منا أداؤه على ذلك الوجه. لا
يمتنع ان تختلف الطرق التي بها يعلم أن الله سبحانه تعبدنا به، كما لا يمتنع اختلاف
الأدلة التي بها تعلم صحة ذلك فإذا صحت هذه الجملة لم يمتنع أن يدلنا على أنه قد
أمرنا بأن نفعل ما ورد به خبر الواحد إذا علمناه على صفة ظننا انه صادق كعلمنا انه
تعبدنا بما أنزله من القرآن، وان كان أحدهما قد علق بشرط والاخر لم يعلق به.
وإذا صح هذا، وكان صورة خبر الواحد هذه الصورة، فيجب أن لا يمتنع ورود
العبادة بالعمل به. والذي يبين ذلك أيضا ورود العبادة بالشهادات وان لم يعلم
صدقهم، وجرى وجوب الحكم بقولهم في أنه معلوم مجرى الحكم بما علمناه بقول
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وليس لاحد أن يقول: إذا لم يصح ان يتعبد الله تعالى بالقبول من النبي بلا علم
معجز يظهر عليه، فبان لا يجوز القبول من غيره أولى. وذلك أن فقد ظهور العلم على
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقتضي الجهل بالمصالح التي لا تعلم الا من جهته،
وليس في فقد الدلالة على صدق خبر الواحد ذلك، لأنه يصح أن يعلم بقول النبي

(1) راجع هامش رقم (3) صفحة 97 رقم (2) صفحة 102.
(2) راجع هامش رقم (4) صفحة 98.
(3) زيادة من النسخة الثانية.
103

صلى الله عليه وآله وسلم وجوب ما أخبر به الواحد، فيصير في حكم علم قد ظهر
عليه، وان جوزنا كونه كاذبا فيه، لأنه لا يمتنع أن تكون المصلحة لنا في العمل به وان
كان هو كاذبا كما لا يمتنع أن يكون الواجب علينا ترك سلوك الطريق إذا خوفنا
الواحد من سبع فيه أو لص وان كان كاذبا.
ثم هذا يوجب عليه ألا (1) يحكم بشهادة الشهود مع تجويز أن يكونوا كذبة،
كما لا تقبل من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الشريعة الا بعلم يدل على نبوته.
فان قالوا: ولم لا يجوز ان يعلم أيضا بقول نبي متقدم وجوب تصديق نبي آخر
يجئ بعده؟ والعمل بما معه مثل (2) ما قلتموه في خبر الواحد من أنه يعلم وجوب
العمل به بقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
قيل له: ان كان سؤالك عن وجوب العمل بما يجئ به انسان في المستقبل
فهذا هو معنى قبول خبر الواحد وجواز العمل به بعينه، فذلك جائز وان كان
(سؤالك) (3) عن تصديق نبي يجيئ فذلك طريقه العلم لا العمل، فلا يجوز أن يعمل
بقوله لأنا بينا ان خبر الواحد لا يوجب العلم. اللهم الا أن يفرض المسألة فيقال: ان
النبي المتقدم، ينص على صفة من يدعي النبوة ويقول: " من كان عليها وادعى النبوة
فاعلموا انه صادق " فان ذلك جائز، ويكون ذلك نصا على نبوته، وما دل على صدقه
دال على تصديق هذا وان كان بواسطة فبطل بهذا التجويز جميع ما تعلق به في هذا
الباب.
فان قالوا (4): لو جاز قبول خبر الواحد في الفروع لجاز ذلك في الأصول وفي
ثبوت القرآن، لان جميع ذلك من مصالح الدين، فإذا لم يصح ذلك في بعضه، لم يصح
في سائره.

(1) أن لا.
(2) في الأصل (قيل).
(3) زيادة من الحجرية.
(4) انظر: ((المعتمد في أصول الفقه 101: 2، التبصرة: 299، الذريعة إلي أصول الشريعة 47: 2)).
104

قيل له: انه ما كان يمتنع ان يتعبد بقبول خبر الواحد في أصول الدين كما
تعبدنا الان بقبوله في فروعه، وان كان لابد من قيام الحجة ببعض الشرائع (1) *.
فأما اثبات القرآن، فان كان لم يرد (2) مثل القرآن وعلى صفته في الاعجاز،
صح أن يتعبد به، لان كونه على هذه الصفة يوجب العلم.
وان كان ما يرد لا يكون بصفة القرآن في الاعجاز فإنه لا يمتنع أيضا وورد
العبادة بالعمل به من غير قطع على أنه قرآن مثل ما قلناه في خبر الواحد.
وكذلك ما كان يمتنع أن يتعبد بتخصيص عموم القرآن ونسخه بخبر الواحد،
وان كان لم يقع ذلك أصلا، لان الكلام فيما يجوز من ذلك وما لا يجوز فليس لأحد أن
يقول: أوجبوا العمل به كما أجزتموه، لان ايجاب العمل يحتاج إلى دليل منفصل من
دليل الجواز.
فأما من ذهب إلى أن العبادة لم ترد به (3):
فان أراد انها لم ترد به بالاطلاق، فهو مذهبنا الذي اخترناه.
وان أراد انها لم ترد على التفصيل الذي فصلناه (4)، فسندل نحن فيما بعد على
ورود العبادة به إذا انتهينا إلى الدلالة على صحة ما اخترناه.
وأما من قال: ان العبادة منعت منه (5) وتعلقهم في ذلك بقوله: " وأن تقولوا
على الله ما لا تعلمون " (6) وبقوله: " ولا تقف ما ليس لك به علم " (7) وما أشبه ذلك

(1) * كتصديق النبي صلي الله عليه وآله وسلم الذي يستند إليه باقي أصول الدين بعد إثبات الواجب، وعلمه،
و قدرته بالعقل.
(2) ما يرد على مثل القرآن.
(3) انظر هامش رقم (2) صفحة 98.
(4) قال المصنف شارحا مختاره في صفحة 100 بقوله: ((والذي أذهب إليه أن خبر الواحد لا يوجب العلم،
و أنه كان يجوز أن ترد العبارة بالعمل به عقلا، وقد ورد على صفة يجوز معها قبول خبره من العدالة وغيرها)).
(5) راجع هامش رقم (2) صفحة 102.
(6) البقرة: 169.
(7) الإسراء: 36.
105

من الآيات (1). فقد بينا تأويل الآية الأولى (2).
فأما قوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " فلا يدل على ذلك أيضا، لان
من عمل بخبر الواحد، فإنما يعمل به إذا دله دليل (3) * على وجوب العمل به اما من
الكتاب أو السنة أو الاجماع، فلا يكون قد عمل بغير علم، وانما الآية مانعة من العمل
بغير علم أصلا، وقد بينا انا لا نقول ذلك، لان من علم وجوب العمل بخبر الواحد فهو
عالم بما يعمل به، فسقط التعلق بهذه الآية أيضا.
وأما (4) من أوجب العمل به عقلا (5): فالذي يدل على بطلان قوله انه ليس في
العقل ما يدل على وجوب ذلك وقد سبرنا (6) أدلة العقل فلم نجد فيها ما يدل على
وجوبه فينبغي أن لا يكون واجبا وأن يكون مبقى (7) على ما كان عليه.
وأيضا: فان الشريعة مبنية على المصالح، فإذا لم نجد ما يدل على قبول خبر
الواحد في العقل، فينبغي أن يكون مبقى (7) على ما كان عليه في العقل، من الحظر أو
الإباحة.

(1) كقوله تعالي: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف: 86، وقوله تعالي: (إن يتبعون إلا الظن
و إن الظن لا يغني من الحق شيئا) النجم: 28.
(2) انظر كلام المصنف عن تأويل الآية صفحة 102.
(3) * يريد أن يبين أنه لا تنافي بين ظاهر الآية وبين العمل بخبر الواحد بناء على أن الباقي في به للسبية (كما هو
الأظهر) أو صلة علم، وعلي الأول ظاهر الآية النهي عن اتباع القرائن المفيدة للظن دون الأدلة المفيدة للعلم،
و من يعمل بخبر الواحد لا يجب عليه أن يجعل مناط العمل به حصول الظن بمضمونه عن القرائن، وعلي
الثاني ظاهر الآية النهي عن ارتكاب ما لا يعلم جواز ارتكابه جوازا عقليا وأصليا أو جواز شرعيا وأصليا.
(4) في الأصل: فأما.
(5) انظر هامش رقم (3) صفحة 98.
(6) السبر: استخراج كنه الأمر. لسان العرب 150: 6.
(7) في الأصل: مبقيا.
106

وليس لاحد أن يقول (1) *: ان في العقل وجوب التحرز من المضار، وإذا لم
نأمن عند خبر الواحد، أن يكون الامر على ما تضمنه الخبر، يجب علينا التحرز منه
والعمل بموجبه كما أنه يجب علينا إذا أردنا سلوك طريق أو تجارة وغير ذلك فخبرنا
مخبر أن في الطريق سبعا أو لصا، أو يخبرنا بالخسران الظاهر، وجب علينا أن نتوقف
عليه ونمتنع من السلوك فيه، فحكم خبر الواحد في الشريعة هذا الحكم.
وذلك أن الذي ذكروه غير صحيح من وجوه:
أحدها: ان الاعتبار الذي اعتبروه يوجب عليهم قبول خبر من يدعي النبوة من
غير علم يدل على نبوته، لان العلة قائمة فيه، وهي وجوب التحرز من المضار، فأي
فرق فرقوا في ذلك، فرقنا بمثله في خبر الواحد.
والثاني: ان الذي ذكروه انما يسوغ فيما طريقه المنافع والمضار الدنيوية، فأما
ما يتعلق بالمصالح الدينية، فلا يجوز أن يسلك فيها الا طريق العلم (2) * ولهذه العلة
أوجبنا بعثة الأنبياء واظهار الاعلام (3) * على أيديهم، ولولا ذلك لما وجب ذلك كله.
والثالث: ان خبر الواحد لا يخلو أن يكون واردا بالحظر أو الإباحة.
فان ورد بالحظر لا نأمن أن تكون المصلحة في اباحته وان كونه محظورا
يكون مفسدة لنا.
وكذلك ان ورد (بالإباحة) لا نأمن أن تكون المصلحة تقتضي حظره، وأن تكون

(1) * لا يخفي أن هذا الدليل عقلي على وجوب العمل بخبر الواحد المفيد للظن بحكم الله الواقعي فيما استفرغ
الوسع فيه، ولا يجري فيه الاحتياط الخالي عن الضرر بحيث يعارض سواء كان في الأصول أو الفروع، وسواء
كان في الأمور الأخروية أو الدنيوية، وتقريره: أن العقل يحكم بأن الإقدام على ما فيه ضرر مظنون قبيح،
فيجب إما تحصيل القطع والعمل بمقتضاه أو الاحتياط إن لم يكن فيه ظن ضرر يساوي ما في ترك العمل
بخبر الواحد ظنا وضررا.
(2) * هذا مسلم بحسب أصل الشرع لوجوب صب الأنبياء أو الأوصياء المعصومين وهو لطف من الله تعالي،
و أما مع التقية وفقد العلم والاحتياط فالجواز معلوم.
(3) * أي المعجزات.
107

اباحته مفسدة لنا، فنقدم على ما لا نأمن أن يكون مفسدة لنا، لان الخبر ليس بموجب
للعلم، فنقطع به على أحد الامرين، وذلك لا يجوز في العقول.
وليس لاحد أن يقول (1): إذا لم يكن في السمع دلالة على الحادثة الا ما تضمنه
خبر الواحد، وجب العمل به بحكم العقل لأنا متى لم نعمل به أدى إلى أن تكون
الحادثة لا حكم لها، وذلك لا يجوز لأنه إذا لم يكن في الشرع دليل على حكم تلك
الحادثة وجب تبقيتها على مقتضى العقل من الحظر، أو الإباحة، أو الوقف ويحتاج
إلى خبر الواحد، فعلم بهذه الجملة بطلان هذا المذهب.
وأما من أوجب العمل (2) به على ما يذهب إليه مخالفونا في الاحكام فالذي
يبطله أن نقول:
إذا لم يكن في العقل ما يدل على ذلك فالطريق إلى ايجابه السمع، وليس في
السمع دليل على وجوب العمل بخبر الواحد - على ما يذهبون إليه - لان جميع ما
يدعونه دليلا ليس في شئ منه دليل على وجه ونحن نذكر شبههم في ذلك ونتكلم
عليها بموجز من القول:
أحد ما استدلوا به على وجوب العمل بخبر الواحد قوله تعالى: " فلولا نفر
من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم
يحذرون " (3).
قالوا: فحث الله تعالى كل طائفة على التفقه، وأوجب عليهم الانذار والطائفة

(1) لم نتحقق من قائله، إلا أن الشريف المرتضى أدرجه في جملة أدلة من خالفه في نفي التعبد بخبر الواحد
فقال: ((وقد تعلق مخالفونا (ويقصد بهم الفقهاء من أهل السنة وأكثر المتكلمين القائلين بورود العبادة بالخبر
الواحد) بأشياء...)) إلي أن يقول: ((وثامنها: أن الضرورة تقود إلي قبول أخبار الآحاد إذا حدثت الحادثة،
و ليس فيها حكم منصوص)) ثم يقول بالرد عليه، انظر: ((الذريعة 53: 2 و 55 و 58 و 73)).
(2) انظر هامش رقم (1) صفحة 99.
(3) التوبة: 122.
108

يعبر بها عن عدد قليل لا يوجب خبرهم العلم (1)، فلولا أنه يجب العمل بخبرهم لما
أوجب عليهم الانذار، لأنه لا فائدة فيه (2).
وربما قووا ذلك بأن قالوا: لما أوجب الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم الانذار وجب علينا القبول ولو لم يجب علينا القبول لما وجب عليه الانذار (2).
وهذه الآية لا دلالة فيها لان الذي يقتضيه ظاهر الآية وجوب الانذار على
الطائفة وليس في وجوب الانذار عليهم وجوب القبول منهم، لأنه غير ممتنع (3) * ان
تتعلق المصلحة بوجوب الانذار عليهم ولا تتعلق بوجوب القبول منهم، الا إذا انضاف
إليه شئ آخر ألا ترى انه قد يجب التحذير والانذار من ترك معرفة الله ومعرفة
صفاته وان لم يجب القبول من المخبر في ذلك، بل يجب الرجوع إلى أدلة العقل وما
يقتضيه. وكذلك يجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الانذار، وان لم يجب
القبول منه الا إذا دل العلم المعجز على صدقه، فيجب حينئذ القبول منه.
فكذلك القول في تحذير الطائفة انه يجب عليهم التحذير، ويجب على المنذر
الرجوع إلى طرق العلم.
وأيضا: يجب على أحد الشاهدين إقامة الشهادة، ولا يجب على الحاكم تنفيذ
الحكم بشهادته، الا إذا انضاف إليه من تتكامل الشهادة به ثم يعتبر أيضا بعد تكاملهم
صفاتهم، وهل هم عدول أو لا؟ حتى يجب عليه الحكم بشهادتهم.
وكذلك يجب على آحاد المتواترين النقل فيما طريقه العلم، وان كان لا

(1) قال ابن حزم الأندلسي (الأحكام: 1 / 104): ((والطائفة في لغة العرب اتي بها خوطبنا يقع على الواحد
فصاعدا، وطائفة من الشيء بمعني بعضه، هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة)) ونسب أبو الحسين البصري
(المعتمد: 2 / 110) للقاضي عبد الجبار قوله: «والطائفة من الثلاثة واحد أو اثنان»، وقال الشريف المرتضى
في (الذريعة: 2 / 55) «أن اسم الطائفة يقع على الواحد كما يقع على الجماعة». انظر أيضا: «لسان العرب 8:
223، المفردات في غريب القرآن: 311، المصباح المنير 2: 381».
(2) راجع: ((التبصرة: 304، الأحكام 103: 1 و 104، المعتمد 110: 2، شرح اللمع 588: 2، الذريعة 55: 2))
(3) * كما إذا تعلقت المصلحة بالتدريس ولا تتعلق المصلحة بقبول التلميذ قول المدرس بدون دليل.
109

يحصل العلم بخبره، ولا يجب علينا أن نعتقد صحة ما أخبر به الا بعد أن ينضاف من
يتكامل به التواتر إليهم فحينئذ يوجب العلم، ولذلك نظائر كثيرة في العقليات (1) *
ألا ترى انه قد يجب على الواحد منا العطية إلى غيره، وان كان ذلك الغير لا يجوز له
أخذها، ألا ترى ان من ألجأ غيره ظلما بتخويف القتل إلى اعطائه المال أو الثياب
يجب عليه اعطائه بحكم العقل خوفا من القتل، ولا يجوز للظالم الملجئ أخذ ذلك
على وجه من الوجوه (2).
وليس لاحد أن يقول: ان هذا يبطل فائدة الانذار، لأنه متى لم يجب القبول فلا
وجه لوجوب الانذار عليهم وذلك انا قد بينا انه قد يجب الانذار في مواضع ذكرناها،
وان لم يجب القبول من المنذر لما بيناه، فكذلك القول فيما قالوه.
فأما حملهم (3) * ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذلك دليلنا لأنا قد
بينا أنه لا يجب القبول منه الا بعد أن يدل العلم المعجز على صدقه، فحينئذ يجب
القول منه.
فنظير هذا أن يدل دليل على وجوب العمل بما أنذروا به حتى يجب علينا
العمل به.
وفي هذا القدر كفاية في ابطال التعلق بهذه الآية.
واستدلوا أيضا بقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ

(1) * المراد بالعقليات ما يعلم ترتب ضرر دنيوي أو نفع دنيوي عليه بالعادة من حيث هو كذلك، أو الأمور التي
يعلم وجوبها أو حرمتها بالعقل بدون إخبار الشارع من حيث هي كذلك.
(2) جميع هذه الوجوه المذكورة في استدلا ل الشيخ الطوسي (ره) لبيان عدم دلالة الآية الشريفة على حجية
خبر الواحد، تفصيل واستعراض ورد لما ذكره أبو الحسين البصري، فهو قد عرضها وحاول الإجابة عنها.
راجع ك ((المعتمد في أصول الفقه 2: 113)).
(3) * أي قياسهم.
110

فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " (1).
قالوا: أوجب علينا التوقف عند خبر الفاسق، فينبغي أن يكون خبر العدل
بخلافه وأن يجب العمل به وترك التوقف فيه (2).
وهذا أيضا لا دلالة فيه لان هذا أولا استدلال بدليل (3) * الخطاب (4) ومن
أصحابنا (5) من قال: ان دليل الخطاب ليس بدليل، فعلى هذا المذهب لا يمكن

(1) الحجرات: 6.
(2) انظر: ((التبصرة: 304 و 312، شرح اللمع 2: 588 _ 587 و 604، الذريعة 2: 56، المعتمد 2: 116)) فإن
جميع القائلين بحجية الخبر الواحد استدلوا بظهور وبدليل الخطاب في هذه الآية الشريفة على أن خبر غير
الفاسق حجة، ما عدا ابن حزم الأندلسي فإنه ذهب (الأحكام: 1 / 106 و 5 / 116) إلي حجية خبر غير
الفاسق، إلا أنه لم يتمسك بظاهر الآية للدلالة على لزوم خبر الواحد، بل استدل بها مع مقدمتين، يقول: ((وقد
توهم من لا يعلم أنا إنما أوجبنا قبول خبر العدل من قوله تعالي: ((إن جاءكم فاسق بنباء فتبينوا) فقط.
و قد أغفل من تأول علينا ذلك، ولو لم تكن إلا هذه الآية وحدها لما كان فيها ما يدل على قبول خبر العدل ولا
علي المنع من قبوله، بل إنما منع منها من قبول خبر الفاسق فقط وكان يبقي خبر العدل موقوفا على دليله،
ولكن لما استفاضت هذه الآية التي فيها المنع من قبول خبر الفاسق إلي الآية التي فيها قبول نذارة النافر
للتفقه، صارتا مقدمتين أنتجتا قبول خبر الواحد العدل دون الفاسق بضرورة البرهان)).
(3) * دليل الخطاب مفهوم المخالفة وهو فيما نحن فيه مفهوم الصفة، وربما بقال إنه مفهوم الشرط بان يقال
مفهومه: إن جاءكم عادل بنبأ فلا تتبينوا.
(4) وصف الشيخ المفيد (ره) دليل الخطاب (التذكرة: 39) بقوله: ((هو أن الحكم إذا علق ببعض صفات
المسمي في الذكر، دل ذلك على أن ما خالفه في الصفة مما هو داخل تحت الاسم بخلاف ذلك الحكم، إلا
ان يقوم دليل على وفاقه فيه، كقول النبي صلي الله عليه وآله وسلم: (في سائمة الإبل الزكاة) فتخصيصه
السائمة بالزكاة دليل على أن العاملة ليس فيها زكاة)).
(5) وهو الشريف المرتضى (ره) حيث أنكر دليليه دليل الخطاب إلا بمقدار ما يقتضيه لفظ الخطاب، يقول:
((ومما يدل ابتداء على بطلان دليل الخطاب أن اللفظ إنما يدل على ما يتناوله، أو على ما يكون بان يتناوله
أولي، فأما أن يدل على ما لم يتناوله ولا هو بالتناول أولي فمحال)) [الذريعة 399: 1 - 398 و 59: 2] وهذا
المذهب مختار أبي على الجبائي وابنه أبي هاشم، وأكثر المتكلمين - إلا من شذ منهم - وأبي العباس بن
سريج، وجماعة من شيوخ أصحاب الشافعي، كأبي بكر الفارسي، وأبي حامد المروزي، والقفال، وغيرهما،
و جمهور الظاهريين، وطوائف من المالكيين، فإن جميعهم يعتقدون أن الخطاب إذا ورد وكان معلقا بصفة ما
111

الاستدلال بالآية.
وأما من قال بدليل الخطاب (1) فإنه يقول لا يصح أيضا الاستدلال بها من
وجوه (2) *.
أحدها: ان هذه الآية نزلت في (3) * فاسق (4) أخبر بردة قوم (5) وذلك لا خلاف

أو بزمان ما أو بعدد ما لم يدل على أن ما عداه بخلافه، بل كان موقوفا على دليل، انظر: «الذريعة 392: 1،
الإحكام 323: 7، المعتمد 116: 2، روضة المناظر: 246، التبصرة: 218 شرح اللمع 428: 1».
(1) وهو مذهب جمهور أهل السنة كالشافعي، ومالك، وأحمد، والأشعري، وأكثر أصحابه، وأبي عبيدة معمر
بن المثني وجماعة من اللغويين، وشواذ من المتكلمين، وللجويني تفصيل - وتابعه الغزالي - حيث فرق بين
الصفة المناسبة للحكم وغيرها. وقد نسب الشريف المرتضى لابن سريج قوله أن الشافعي لم يكن علي
مذهب الجمهور، وكان يعتقد أن القول إذا تجرد لم يقتض نفيا ولا إثباتا فيما عدا المذكور (الذريعة 393: 1)،
لكن صريح كلام الشافعي في (الام 4: 2) يخالفه ويدل على اعتقاده بمذهب الجمهور انظر: «التبصرة في
أصول الفقه: 218، الذريعة 394: 1 - 392».
(2) * إشارة إلي أنه يمكن الدفع بوجه آخر غير الوجهين المذكورين في الكتاب ويمكن بيانه: بأن من شرط
حجية دليل الخطاب أن لا يعلم من الخارج بدليل مساواة المسكوت عند المذكور في الحكم، وهاهنا ليس
كذلك لأن التبين هو التعرف، وتطلب البيان أي العلم الحادث عن دليل كما سيجيء في فصل في ذكر حقيقة
البيان، ولو كان خبر الفاسق موجبا لطلب العلم والتوقف ما لم يحصل علم دون خبر العدل، لكان خبر العدل
علي طبق خبر الفاسق وبعده غير مسموع وكان قبله مسموعا، مع أن الأول أقوي من الثاني، ولعله لم يذكر
المصنف هذا الوجه صريحا، لأنه يمكن أن يستنبط من الوجه الثاني، وهاهنا وجه رابع هو الاستدلال علي
المساواة بين المسكوت عنه والمذكور بقوله: (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) لأن جواز الندم حاصل
في خبر العدل أيضا، وهو أيضا مثل الثالث في أنه يمكن أن يستنبط من الثاني.
(3) * الوليد بن عقبه أخو عثمان لأمه، وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص فصلي بالناس وهو
سكران صلاة الفجر أربعا، ثم قال: هل أزيدكم!!
(4) هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط (أخو عثمان لأمه)، وقال ابن حجر [تهذيب التهذيب 125: 11]: «لا
خلاف بين أهل العلم بالتأويل أن قوله عز وجل: (إن جاءكم فاسق...) نزلت في الوليد».
(5) روي عمر بن شبه في «كتاب الكوفة» في أخبار الوليد، بإسناده عن قتادة، في قول الله سبحانه: (يا أيها
الذين آمنوا إن جاءكم فاسق...) قال: هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه النبي صلي الله عليه وآله وسلم
إلي بني المصطلق مصدقا، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم، فرجع إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم فأخبر
112

انه لا يقبل فيه أيضا خبر العدل، لأنه لا يجوز أن يحكم بارتداد أقوام بخبر الواحد
العدل.
والثاني: ان تعليل الآية يمنع من الاستدلال بها، لان الله تعالى علل خبر الفاسق
فقال: " أن تصيبوا قوما بجهالة " وذلك قائم في خبر العدل، لان خبره إذا كان لا
يوجب العلم، فالتجويز في خبره حاصل مثل التجويز في خبر الفاسق.
وليس لاحد أن يقول: اني أمنع من تجويز ذلك في العدل، لأنه لو كان ذلك
جائزا لما علق تجويز الجهالة بالفاسق؟
لان ذلك لا يصح من وجهين:
أحدهما: ان هذا يقتضي أن يقطع على أنه يعلم بخبر العدل، لان الجهل لا
يرتفع الا ويحصل العلم، وذلك لا يقوله أحد.
والثاني: انه ليس من يمنع من تجويز الجهالة في خبر العدل من حيث علق
الحكم بخبر الفاسق بأولى ممن قال: أنا أمنع بحكم التعليل من دليل الخطاب في
تعليق الحكم بخبر الفاسق، لأنه لا يمتنع ترك دليل الخطاب لدليل، والتعليل دليل،
فيسقط على كل حال التعلق بالآية.
واستدل قوم: بقوله تعالى: " ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى
من بعد ما بيناه " (1) الآية.
وقالوا: حظر الكتمان يقتضي وجوب الاظهار، ووجوب ذلك يقتضي وجوب
القبول، والا فلا فائدة في الآية (2).

أنهم ارتدوا عن الإسلام... فأنزل الله سبحانه الآية» انظر: «المعتمد في أصول الفقه 117: 2، تفسير
الطبري 79: 26 - 78، الإصابة 321: 6».
(1) البقرة: 159.
(2) المعتمد 2: 118، ونسب الشريف المرتضى (ره) الاستدلال بهذه الآية إلي الفقهاء، وأكثر المتكلمين من
أهل السنة: [الذرية 2: 53 و 55]، وأما فحر الدين الرازي فقد نسبها إلي بعض الناس، [التفسير الكبير 4:
181]، وقال المصنف في تفسير [التبيان 2: 46]: «واستدل قوم بهذه الآية على وجوب العمل بخبر
113

وهذه الآية أيضا لا دلالة فيها من وجوه (1):
منها: ما قدمناه في الآية الأولى من أن هاهنا مواضع كثيرة يجب الانذار فيها
والتخويف، وان لم يجب القبول على المنذر الا أن ينضاف إليه امر آخر فكذلك
القول في الاظهار.
ومنها: انه ليس في الآية الا تحريم كتمان ما أنزله الله تعالى في الكتاب، وظاهر
ذلك يقتضي ان المراد به القرآن وذلك يوجب العلم (1) دون خبر الواحد الذي لا
يوجبه.
وليس لاحد أن يقول: فقد قال بعد ذلك " والهدى " فيدخل فيه سائر الأدلة.
لان ذلك لا يصح من وجهين:
أحدهما: انه قال بعد ذلك " من بعد ما بيناه للناس في الكتاب " فقد عاد
الامر إلى أنه أراد به الكتاب.
والثاني: انه يقتضي وجوب اظهار ما هو دليل، ويحتاج أن يثبت أولا ان خبر
الواحد دليل بغير الآية حتى يتناوله قوله " والهدى " فإذا لم يثبت دليل لا يمكن
حمل الآية عليه، وإذا أثبت استغنى عن الاستدلال بالآية.
وقد استدل الخلق منهم من الفقهاء والمتكلمين (2) باجماع الصحابة بأن قالوا:

الواحد من حيث أن الله تعالي توعد على كتمان ما أنزله، وقد بيا في أصول الفقه أنه لا لا يمكن الاعتماد
عليه...»
(1) انظر الأقاويل واختلاف آراء المفسرين حول تفسير وتأويل هذه الآية ا لشريفة «التفسير الكبير 4:
182 _ 179».
(2) انظر: «المعتمد 2: 115 _ 113، التبصرة: 305، شرح اللمع 2: 590، المنخول: 250، روضة المناظر: 93،
الذريعة 2: 56 و 61 و 63». وقد ادعي ابن حزم الأندلسي - فضلا عن الإجماع - حصول اليقين والعلم
الضروري، بأن جميع الصحابة أولهم عن آخرهم قد اتفقوا دون اخلاف من أحد منهم ولا من أحد منهم ولا من أحد من
التابعين على العمل بخبر الواحد، ولم يكتف بهذا المقدار بل أدخل جميع الفرق والمذاهب الإسلامية في
إجماعه يقول: «فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الوحد الثقة عن النبي صلي الله عليه واله وسلم
يجري على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنة، والخوارج، والشيعة، والقدرية، حتى حدث متكلمو
114

وجدنا الصحابة قد عملت بأخبار الآحاد وشاع ذلك فيما بينهم، نحو ما روي عن عمر
انه قبل خبر حمل بن مالك (1) في الجنين وقال: (كدنا أن نقضي فيه برأينا) (2) وخبر
الضحاك (3) في توريث المرأة من دية زوجها (4)، وخبر عبد الرحمن في أخذ الجزية
من المجوس (5). وكانوا في ذلك بين طائفتين، طائفة تعمل بهذه الاخبار، والأخرى لا

المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالوا الإجماع في ذلك»!! [الإحكام 1: 108 _ 107]، وعلق الشريف
المرتضى (ره) على هذا الإجماع ودعوى الضرورة بقوله: «الإمامية تدفع هذه الطريقة وتقول: إنما عمل
بأخبار الآحاد من الصحابة المتأمرون الذين يحتشم التصريح بخلافهم والخروج عن جملتهم، فالإمساك عن
النكير عليهم لا يدل على الرضا بما فعلوه، لأننا كلنا نشترط في دلالة الإمساك علس الرضا أن لا يكون له وجه
سوي الرضا من التقية وخوف وما أشبه ذلك)!! [الذريعة 2: 61]، ثم نقل مخالفة الإمامية، والنظام، وأبي
علي الجبائي، ومن تابعهم وجماعة من شيوخ متكلمي المعتزلة كالقاساني للاجماع الذي ادعوه.
(1) في الأصل (ملك)، وهو حمل بن مالك بن مالك بن النابغة الهذلي، أبو نضلة. صحابي نزل البصرة، ويقال: إن النبي
صلي الله عليه واله وسلم كان قد استعمله على صدقات قومه، أي هذيل. وقد روي ابن حجر في الإصابة عن
الطبراني وأبي نعيم: «أن النبي صلي الله عليه واله وسلم اتي بامرأتين كانتا عند رجل من هذيل يقال له حمل
بن مالك فضربت إحداهما الأخرى بعمود خباء فألقت جنينها ميتا فأتي مع الضاربة أخ لها يقال له عمران بن
عويم، فقضي عليه رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بالدية. فقال: يا نبي الله: أدي من لا شرب ولا أكل ولا
صاح فاستهل حمله بطل؟ فقال: لا سجع كسجع الجاهلية، نعم فيه غرة عبد أو أمه...» ورواه البخاري ومسلم
في صحيحيهما والبيهقي في السنن الكبري [الإصابة 38: 2، 27: 5، السنن الكبري 114: 8].
(2) السنن الكبري 114: 8، سنن أبي داود: 2 / 256 باب دية الجنين، سنن النسائي 47: 8، ولفظ الحديث في
مصادر السنة: (لو لم أسمع بهذا - بغير هذا - لقضينا)، وفي «المعتمد 115: 2» (كدنا نقضي فيه بآرائنا).
(3) هو الضحاك بن سفيان بن عوف، يكني أبا سعيد، صحابي، وصف بالشجاعة، وقيل كان يقوم على رأس
رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم متوشحا سيفه.
(4) روي الترمذي في سننه: (أن عمر كان يقول: الدية على العاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا، حتى
أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم كتب إليه أن ورث امرأة أشيم
الضبابي من دية زوجها) [الجامع الصحيح 27: 4 باب 19] ورواه أيضا أبو داود، وابن ماجة، ومالك في
الموطأ، وابن حنبل في مسنده.
(5) روي البخاري بإسناده انه لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول
الله صلي الله عليه وآله وسلم أخذها من مجوس هجر [صحيح البخاري: كتاب الجزية والموادعة، ح 1،
115

تنكر عليهم فلولا ان العمل بها كان صحيحا جائزا والا كانوا قد أجمعوا على الخطأ
وذلك لا يجوز.
والاستدلال بهذه الطريقة لا يصح من وجوه.
أحدها: ان هذه الأخبار التي رووها كلها أخبار آحاد، والطريق إلى أنهم عملوا
بها أيضا أخبار آحاد، لأنها لو كانت متواترة لكانت توجب العلم الضروري عندهم (1)،
ونحن لا نعلم ضرورة أن الصحابة عملت بأخبار الآحاد، فإذا لا يصح الاعتماد على
هذه الأخبار، لان المعتمد عليها يكون أوجب العمل بخبر الواحد وذلك لا يجوز.
ولا خلاف أيضا بين الأصوليين في أن وجوب العمل بأخبار الآحاد طريقة
العلم دون الظن واخبار الآحاد قد (2) دللنا على انها لا توجب العلم، فسقط من هذا
الوجه الاحتجاج بهذه الطريقة.
والثاني: انا لو سلمنا انهم عملوا بهذه الاخبار، من أين لهم انهم عملوا بها من
حيث كانت اخبار آحاد ومن أجلها؟ وما ينكرون على من قال: انهم عملوا لدليل
دلهم على صحة ما تضمنته هذه الأخبار؟ أو قرينة اقترنت إليها أوجبت صحتها؟ أو
يكون العامل بها كان قد سمع كما يسمع الراوي، فلما روي له ذلك تذكر ما كان نسيه
فعمل به لأجل علمه لا لأجل روايته (3).

المغني 570: 10]، ورواه أيضا مالك في الموطأ، والترمذي في كتاب السير، وابن حنبل، وأبو داود،
و الشافعي.
(1) هذه الإجابة رد على استدلال أبي إسحاق الشيرازي ومن تابعه حيث أقر بأن الأخبار المروية في هذه
القضا أخبار آحاد لكنه دافع عن صحة الطريق إليها بادعاءه حصول التواتر المعنوي، يقول: «هذا تواتر من
طريق المعني، فإنها وإن وردت في قصص مختلفة فهي متفقة على إثبات خبر الواحد، فصار ذلك كالأخبار
المتواترة في سخاء حاتم, شجاعة على كرم الله وجهه». [التبصرة: 307، شرح اللمع: 594: 2].
(2) وقد دللنا...
(3) هذه الإجابة رد آخر على استدلال أبي إسحاق الشيرازي ومن تابعه حيث أدعي أنه لا دليل على أن الذين
عملوا باخبار الآحاد عملوا بذلك لأسباب اقترنت بها (التبصرة: 307، شرح اللمع 595: 2)، وحجة الشيخ
الطوسي (ره) هي أن مجرد ورود هذه الاحتمالات الثلاث تكفي لسقوط صحة دعوى إنكار الاقتران
116

وليس لاحد أن يقول إذا عملوا عند سماع هذه الأخبار، ولم يعملوا قبل ذلك،
علم أن عملهم لأجلها دون أمر آخر ويبين ذلك قول عمر في خبر الجنين: (كدنا أن
نقضي فيه برأينا) (1) وفي خبر آخر: (لولا هذا لقضينا فيه برأينا (1)). فنبه (2) انه عدل عن
الرأي إلى ما عمل به لأجل الخبر لا لأجل علمه أو أمر آخر.
وكذلك روى عنه انه كان ممن يرى المفاضلة في دية الأصابع حتى أخبر عن
كتاب عمرو بن حزم ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " في كل إصبع عشرة من
الإبل " (3) فسوى بين الكل وفي ذلك ابطال قول من قال جوزوا أن يكونوا عملوا بهذه
الاخبار لأمر آخر.
وذلك: انه لا يمتنع انهم قبل رواية هذه الأخبار لم يعملوا لأنهم كانوا ناسين
لذلك فلما روى لهم الخبر ذكروا ما كانوا نسوه فعملوا به لأجل الخبر.
فأما قول عمر: (كدنا ان نقضي فيه برأينا) (1) فلا يمتنع أيضا أن يكون لما كان
نسي الخبر وبعد عهده به أراد أن يقضى برأيه فيه، فلما روى له الخبر تذكر ما تضمنه
الخبر فرجع إلى ما علمه، وأخبر انه لولا هذا الخبر الذي كان سببا لتذكاره كاد أن
يقضي برأيه.
وأما رجوعه إلى كتاب عمرو بن حزم في الدية (3)، فان كتاب عمرو بن حزم (4)

بالأسباب.
(1) راجع تخريج الحديث في هامش رقم (2) صفحة 115.
(2) في الأصل (فبينه).
(3) قال ابن قدامة: وفي كتاب النبي صلي الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم «وفي كل إصبع من أصابع اليدين
و الرجلين عشر من الإبل» [المغني 631: 9] وفي سنن الدارمي: حدثني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم كتب إلي أهل اليمن في كل من أصابع اليد والرجل
عشرة من الإبل» سنن الدارمي: كتاب الديات 194: 2.
(4) هو عمرو بن حزم بن زيد الأنصاري، صحابي، شهد الخندق وما بعدها، وكان عامل النبي صلي الله عليه
و آله وسلم على نجران، توفي سنة 51 ه‍. قال ابن حجر في الإصابة: «روي عنه كتابا كتبه (أي النبي صلي الله
عليه وآله وسلم) له فيه الفرائض والزكاة والديات وغير ذلك أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن حبان،
117

كان معلوما بين الصحابة، وانه من املاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن
طريق ذلك خبر الواحد، فلأجل ذلك رجع إليه.
والثالث: انا لو سلمنا انهم عملوا بهذه الاخبار لأجلها لم يكن أيضا فيه دلالة،
لأنه ليس جميع الصحابة عمل بها، وانما عمل بها بعضهم وليس فعل بعضهم حجة،
وانما الحجة في فعل جميعهم.
وليس لهم أن يقولوا: انهم بين طائفتين طائفة عملت بها وطائفة لم تنكر
عليهم العمل بها، فلو لم يكن صحيحا لكانوا قد أجمعوا على الخطأ (1).
وكذلك (2) ان هذا لا يصح من وجهين:
أحدهما: انه من أين لهم حيث لم ينكروا كانوا راضين بأفعالهم مصوبين
لهم ما عملوا؟ وما المانع من أن يكونوا كارهين لذلك منكرين بقلوبهم، ومنع من
اظهار ذلك بعض الموانع (3).
وانما يمكن الاعتماد على سكوتهم إذا لم يكن لسكوتهم وجه غير الرضا
فحينئذ يحمل عليه فاما ويمكن غير ذلك فينبغي أن لا يقطع به على الرضا.
وأيضا فإنما يجب عليهم انكار ذلك إذا علموا انهم عملوا بهذه الاخبار
لأجلها وغير ممتنع أن يكونوا شاكين في حال العاملين بها مجوزين، لأنهم عملوا بها
لدليل دلهم على صحة هذه الأخبار أو لتذكرهم، فلأجل ذلك لم ينكروهم.
والوجه الثاني: انهم قد أنكروا أجمع العمل بأخبار (4) الآحاد، ألا ترى إلى ما

و الدارمي، وغير واحد...».
(1) المعتمد 115: 2.
(2) وذلك.
(3) قال الشريف المرتضى (ره): «إنما عمل بأخبار الآحاد من الصحابة، المتأخرون الذين يحتشم التصريح
بخلافهم، والخروج عن جملتهم، فالإمساك عن النكير عليهم لا يدل على الرضا بما فعلوه، لأننا كلنا نشترط في
دلالة الإمساك على الرضا أن لا يكون له وجه سوي الرضا من تقية وخوف وما أشبه ذلك»
[الذريعة 61: 2].
118

روى عن أبي بكر انه لم يقبل خبر المغيرة بن شعبة (1) في الجدة حتى شهد معه
محمد بن مسلمة (2).
وما روى عن عمر انه لم يقبل خبر أبي موسى (3) في الاستئذان (4) حتى شهد
معه أبو سعيد (5).
وما روى عن علي عليه السلام انه لم يقبل خبر ابن سنان الأشجعي (6) وغير

(1) هو المغيرة بن شعبة، صحابي شهد الحديبية وما بعدها. كان من أعداء أهل البيت عليهم السلام ومن
الموالين للحزب الأموي، ولاء عمر البصرة ثم الكوفة وأقره عثمان عليها. ساند معاوية في بغيه علي أمير
المؤمنين عليه السلام فولاه الكوفة ومات سنة 50 أو 51 ه‍. وأما خبر الجدة فقد رواه أبو داود في سننه،
و الترمذي، وابن ماجة، ولفظ الحديث لأبي داود: (أنه قال: جاءت الجدة إلي أبي بكر الصديق تسال ميراثها،
فقال: ما لك في كتاب الله تعالي شيء، وما علمت لك في سنة نبي الله صلي الله عليه وآله وسلم شيئا فارجعي
حتى أسال الناس، فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم
و أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك، فقام محمد بن مسلمة فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبه،
فأنفذه لها أبو بكر) سنن أبي داود 16: 2 باب 5.
(2) هو محمد بن مسلمة الأوسي المدني الأنصاري، صحابي من المخضرمين، ولد قبل البعثة باثنين وعشرين
سنة ويقال إنه ممن كان يسمي في الجاهلية محمدا، أسلم على يد مصعب بن عمير وشهد بدرا وما بعدها إلا
تبوك. كان من المتخاذلين عن نصرة الحق في الجمل وصفين فلم يشهدهما. قتله أهل الشام بالمدينة سنة 64 ه
(3) هو أبو موسي الأشعري، عبد الله بن قيس بن سليم، صحابي، استعمله عمر على البصرة وولي الكوفة زمن
عثمان، كما ولي قضاء الكوفة أعواما طويلة، وهم علي عليه السلام أن يعزله. كان ممن يخذل الناس عن
نصرة علي عليه السلام يوم الجمل. اختاره الخوار حكما في صفين برغم معارضة الإمام له ووصفه إياه
بالتائه عن الحق فاحتال عليه عمرو بن العاص وغلبه، والقضية مشهورة. مات سنة 42 أو 44 أو 50 أو 51 أو
53 هجرية.
(4) حديث أبي موسي الأشعري: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع» رواه البخاري في كتاب
الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثا، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة، وأبو داود.
(5) هو سعد بن مالك بن سنان، أبو سعيد الخدري، صحابي جليل، إستصغر يوم أحد وغزا بعد ذلك اثنتي عشرة
غزوة، روي عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم وجماعة من الصحابة ما يزيد على ألف رواية. كان من
الموالين لأهل البيت عليهم السلام توفي سنة 63 أو 64 أو 65 أو 74 ه‍ بالمدينة ودفن بالبقيع.
(6) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وأحمد بن حنبل، والبيهقي، وابن ماجة في كتاب النكاح، باب إباحة
119

ذلك مما لا يحصى كثرة.
ورد هذه الأخبار ظاهر بينهم كما ظهر بينهم العمل بما ذكروه من الاخبار فان
كان عملهم بما عملوه دليلا على جوازه، فردهم لما ردوه يجب أن يكون دليلا على
المنع منه، ولا فرق بينهما على حال.
وليس لاحد أن يقول (1): نحن لا ننكر رد كثير من الاخبار إذا لم يكن شرط
وجوب القبول فيه ثابتا.
وذلك: ان هذا التأويل في رد هذه الأخبار انما يسوغ إذا ثبت انهم عملوا بخبر
الواحد فاما ولما يثبت ذلك بل نحن في سبر (2) ذلك فلا يمكن تأويل ذلك.
ولا فرق بين من تأول هذه الأخبار وقال: انهم ردوها لبعض العلل، ليسلم له
العمل بتلك الأخبار وبين من عكس ذلك فقال: انهم عملوا بتلك الأخبار لقيام دليل
دلهم على ذلك غير نفس الاخبار، لتسلم له ظواهر هذه الأخبار ولا فرق بينهما على
حال.
على أن هذه الطريقة التي اعتمدوها توجب عليهم وجوب النسخ بخبر
الواحد لأنهم نسخوا القبلة بخبر الواحد، لأنه روى أن أهل قباء كانوا في الصلاة

التزوج بغير صداق، باختلاف في راوي الخبر وفي المسؤول عنه، فالحديث روي مره عن معقل بن سنان
الأشجعي، أو رجل من أشجع، أو أناس من أشجع، أو معقل بن يسار، أو بعض أشجع، أو أبي سنان، وجميعهم
نسبوا الحديث لابن مسعود وانه كان المسؤول عنه، إلا البيهقي فإنه روي عن طريق سعيد بن منصور عن هيثم
عن أبي إسحاق الكوفي عن فريدة بن جابر «أن عليا رضي الله عنه قال: لا يقبل قول أعرابي من أشجع علي
كتاب الله», ولفظ الحديث عندهم هو: علقمة عن ابن مسعود «أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها
صداقا، ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها مثل صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة
و لها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في بردع بنت
واشق امرأة منا مثل ما قضيت، ففرح بها ابن مسعود)) انظر: ((النسائي 121: 6، سنن ابن ماجة 609: 1 رقم
1891، سنن الترمذي 450: 3 باب 44، السنن الكبري 247: 7)).
(1) هذا القول لأبي إسحاق الشيرازي: انظر: «التبصرة: 308، شرح اللمع 598: 2».
(2) السير: استخراج كنه الأمر، وذلك بطريق التقسيم وحصر الأمر في قسم واحد.
120

متوجهين إلى بيت المقدس فجاءهم مخبر فقال لهم: ان النبي صلى الله عليه وآله
وسلم حول قبلته إلى الكعبة، فداروا إلى التوجه إلى الكعبة (1)، وكان ذلك في عصر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم نجده عليه السلام أنكر عليهم ذلك، فينبغي أن
يكون على قانون طريقتهم يجوز النسخ بخبر الواحد، وذلك لا يقوله أحد (2).
وليس لهم أن يقولوا: ان أهل قباء كانوا قد علموا نسخ القبلة
بغير ذلك الخبر،
فلأجل ذلك عملوا به.
لان عليهم فيما استدلوا به من الاخبار مثله بأن يقال: وانما عملوا بتلك الأخبار
لأنه كان سبق لهم العلم بما تضمنته تلك الأخبار، فذكروه عند حصولها كما قلتموه في
أهل قباء حذو النعل بالنعل.
واستدلوا أيضا بما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعثه رسله إلى
الأطراف، وعماله، وسعاته إلى النواحي وأمره إياهم بالدعاء إلى الله تعالى وإلى
رسوله وشريعته، فلولا ان القبول كان واجبا منهم، والا لم يكن لذلك فائدة (3).
وهذا لا يمكن الاعتماد عليه، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث
برسله ويأمرهم أولا بالدعاء إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولا
خلاف ان ذلك طريقة الدليل، وانه لا يجوز قبول خبر الواحد فيه، بل يجب الرجوع

(1) سيرة ابن هشام 257: 2، تاريخ الطبري: حوادث السنة الثانية للهجرة، تاريخ اليعقوبي 42: 2، الرسالة:
109، السيرة الحلبية 128: 2.
(2) إن مذهب جمهور أهل السنة عدم جواز نسخ القرآن بأخبار الآحاد شرعا، وإن جوزه بعضهم عقلا، إلا
الظاهرية فإن مذهب داود الظاهري وجل أصحابه على نسخ القرآن بمطلق السنة آحادا كانت أو متواترة،
و عليه ابن حزم الأندلسي في (الأحكام 505: 4) يقول: «والقرآن ينسخ بالقرآن وبالسنة... وبهذا نقول وهو
الصحيح، وسواء عندنا السنة المنقولة بالتواتر والسنة المنقولة باخبار الآحاد، كل ذلك ينسخ بعضه بعضا».
انظر: «شرح اللمع 501: 1، أصول الدين: 228، المنخول: 296، روضة الناظر: 79، الرسالة: 106، ميزان
الأصول: 2 / 1006، المعتمد: 1 / 398».
(3) راجع: «الإحكام 107: 1 - 105، المعتمد 120: 2، شرح اللمع 589: 2 - 588، التبصرة: 304، المنخول:
253، الذريعة 58: 2 - 57».
121

في ذلك إلى الأدلة الواضحة فيه فكذلك القول في الأحكام الشرعية.
فان قالوا: إنهم كانوا يدعونهم إلى معرفة الله تعالى وينبهونهم على ما هو
مركوز في عقولهم من الأدلة الدالة على توحيده وعدله، وكذلك يدعونهم إلى النبوة
والاقرار به، ويقرأون عليهم القرآن الدال على صدقه في دعواه.
قيل لهم: فإذا قد صار لدعائهم إلى ما يدعون إليه فائدة غير وجوب القبول
منهم، وإذا جاز ذلك في المعرفة والنبوة، جاز له أن يقول في أحكام الشريعة مثله. بأن
يقول إنهم كانوا ينبهونهم على الطرق الدالة على أحكام الشريعة من الكتاب والسنة
المتواترة بها ويجب عليهم النظر فيها ليحصل لهم العلم بصحة ما يتضمنه.
ثم يقال لهم: طريق التعبد بخبر الواحد ووجوب العمل به الشرع، لان العقل
قد بينا انه لا يدل على ذلك، فمن أين يعلمون انهم قد تعبدوا بوجوب (1) القبول من
الرسل والعمال وغيرهم، حتى يجب عليهم القبول منهم؟
فان أحالوا على جهة من الجهات من تواتر أو غير ذلك، قلنا مثله في سائر الأحكام
، وسقط التعلق بهذه الطريقة.
فان قيل: فما قولكم في المواضع النائية التي يقطع على أنه لا تواتر اتصل بهم
بأحكام الشريعة، أليس كان يجب عليهم القبول من الرسل والعمال، وليس هناك
طريق يعلمون به أحكام الشريعة.
قيل له: إذا فرضت المسألة في الموضع الذي ذكر في السؤال فلأصحابنا عن
ذلك جوابان:
أحدهما: انه لا يجب عليهم القبول منهم، وينبغي أن يكونوا متمسكين بحكم
العقل إلى أن ينقطع عذرهم بأحكام الشريعة فحينئذ يجب عليهم العمل به.
والجواب الثاني: انه إذا كان القوم بحيث لم يتصل بهم الشريعة على وجه
ينقطع العذر، وكانت المصلحة لهم في العمل بتلك الشريعة، فإنه لا يجوز ان يبعث

(1) وجوب.
122

إليهم الا معصوما لا يجوز عليه التغير والتبديل، ويظهر على يده علم معجز يستدلون
به على صدقه، فإذا علموا صدقه وجب عليهم القبول منه.
وعلى الوجهين جميعا سقط السؤال.
ثم يقال لهم: إذا كان القوم بحيث فرضتم من البعد، من أين يعلمون انهم
متعبدون بوجوب قبول قول الرسل والرجوع إلى ما يقولونه في أحكام الشريعة؟
فلابد لهم من أن يحيلوا على جهة أخرى غير مجرد أقوالهم فنقول لهم مثل ذلك في
سائر الأحكام، وسقط السؤال.
واستدلوا أيضا بأن قالوا: لا خلاف في أنه يجب على المستفتي الرجوع إلى
المفتي مع تجويزه الغلط عليه، فكذلك أيضا يجب الرجوع إلى خبر الواحد وإن جوز
على المخبر الغلط (1).
وهذا أيضا لا يصح الاستدلال به، لان لأصحابنا في هذه المسألة مذهبين.
أحدهما: انه لا يجوز للمستفتي القبول من المفتي، بل يلزمه طلب الدليل كما
لزم (2) المفتي، فعلى هذا سقط السؤال.

(1) التبصرة: 309، شرح اللمع 585: 2 و 600، المعتمد 123: 2 - 122، الذريعة 58: 2.
(2) لم نعثر في المصادر المتاحة من صرح بهذا الرأي أو اعتقد ه‍ من فقهاء الإمامية إلا ما نسب إلي علماء حلب
من اعتقادهم بلزوم الاجتهاد عينا وحرمة التقليد ويبدو أن اعتمادهم على ظواهر الآيات الرادعة عن التقليد
[راجع الأصول العامة للفقه المقارن 64: 2] و لازم قولهم عدم حجية قول المفتي بالنسبة للمستفتي، وأيضا
نسب الشريف المرتضى إلي (أن في الناس من منع من الاستفتاء وزعم أن العامي يجب عليه أن يكون عالما
بأحكام فروع الحوادث وإنما يرجع المستفتي إلي المفتي لينبه على طريقه الاستدلال) [الذريعة 320: 2]،
ولا شك انه لم يقصد بهؤلاء الناس بعض فقهاء الإمامية، لأن من عادته انه حينما ينوي الإشارة إلي قول من لا
يعتقد به ولا يعبأ بقوله من غير الإمامية يقول (بعض الناس)، واما الشيخ الطوسي (ره) فإنه سوف يفصل
لاحقا في فصل صفات المفتي والمستفتي - بين المستفتي المتمكن من الاستدلال ومن هو عاجز عنه، وفي
القسم الثاني ينقل (عن قوم من البغداديين) أنهم قالوا: لا يجوز له ان يقلد المفتي وإنما ينبغي أن يرجع إليه
لينبه على طريقه العلم بالحادثة وأن تقليده محرم على كل حال إلا أن البصريين والفقهاء [يقصد بهم فقهاء
العامة] بأسرهم على جواز ذلك. ثم ينقل الشيخ (ره) رأيه في المسألة ويقول: ((والذي نذهب إليه أنه يجوز
123

والمذهب الاخر: انه يجوز ذلك.
والجواب عنه: على هذا المذهب (1): ان هذا قياس، ولا خلاف ان هذه
المسألة لا تثبت بالقياس لان طريقها العلم.
ولم إذا وجب ذلك في المستفتي والمفتي يجب مثل ذلك في خبر الواحد؟
فان جمعوا بينهما بعلة انه يجوز على كل واحد منهما الخطأ كان ذلك قياسا،
وقد اتفقنا على أن طريق وجوب العمل بخبر الواحد العلم دون القياس.
على أن ذلك انما يمكن أن يستدل به على جواز ورود العبادة بخبر الواحد
دون أن يجعل طريقا إلى وجوب ذلك.
وهذه الجملة كافية في ابطال هذه الشبهة.
وقد استدلوا بأشياء يجري مجرى ما ذكرناه مثل حملهم ذلك على الشهادة
وغير ذلك (2).
والجملة التي ذكرناها تنبه على طريقة الكلام على جميع ذلك، فلا فائدة في
التطويل.

للعامي الذي لا يقدر على البحث والتفتيش تقليد العالم، ويدل على ذلك أني وجدت عامة الطائفة من عهد
أمير المؤمنين عليه السلام إلي زماننا هذا يرجعون إلي علمائها ويستفتونهم في الأحكام والعبادات ويفتونهم
فيها ويسوغون لهم العمل بما يفتونهم به، وما سمعنا أحدا منهم قال للمستفتي: لا يجوز ذلك الاستفتاء ولا
العمل به بل ينبغي أن تنظر كما نظرت وتعلم كما علمت، ولا أنكر عليه العمل بما يفتونهم، وقد كان منهم
الخلق العظيم عاصروا الأئمة عليهم السلام ولم يحك عن واحد من الأئمة النكير على أحد من هؤلاء ولا
إيجاب القول بخلافه، بل كانوا يصوبونهم في ذلك، فمن خالفه في ذلك كان مخالفا لما هو المعلوم خلافه»
و هكذا يبدو أن تصريح الشيخ (ره) بان (لأصحابنا في هذه المسألة مذهبين) سهو من قلمه الشريف.
(1) أي لو سلمنا اتفاق الإمامية على جواز رجوع المستثني للمفتي، وحجية قوله، فإنه يرد على من استدل بهذا
الوجوب على وجوب الاعتماد على خبر الواحد انه قياس بالطل.
(2) حيث حملوا قبول خبر الواحد والعمل به مع تجويز الغلط عليه على الشهادات. راجع: «المعتمد 122: 2،
شرح اللمع 584: 2، التبصرة
: 309، الذريعة 58: 2».
124

فأما من راعى أن يكون الراوي أكثر من واحد (1)، واستدلاله على ذلك بخبر
أبي بكر في الجدة (2) وخبر عمر في الاستئذان (3)، وحديث ذي اليدين (4) في سهو
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانه لم يقبل منه حتى سأل غيره من الصحابة
وحمله ذلك على الشهادة وغير ذلك.
فما ذكرناه من الكلام على من لم يراع العدد كلام عليه لأنا اعتبرنا المنع من كل

(1) اختلف الفقهاء والأصوليون من أهل السنة في مقدار عدد الناقلين للخبر بحيث إذا بلغوا ذلك العدد يقبل
الخبر وإلا فيرد، وإليك نص كلام ابن حزم الأندلسي الذي يتضمن جل آراء أهل السنة، يقول: «اختلف الناس
في مقدار عدد النقلة للخبر، فطائفة قالت: لا يقبل الخبر إلا من جميع أهل المشرق والمغرب، وقالت طائفه:
لا يقبل إلا من عدد لا نحصيه نحن. وقالت طائفة: لا يقبل إلا من سبعين. وقالت طائفة: لا يقبل إلا من
خمسين، عدد القسامة. وقالت طائفة: لا يقبل إلا من أربعين لأنه العدد الذي لما بلغه المسلمون اظهر والدين
و قالت طائفة: لا يقبل إلا من عشرين. وقالت طائفة: لا يقبل إلا من اثني عشر وقالت طائفة: لا يقبل إلا من
خمسة وقالت طائفة: لا يقبل إلا من أربعة. وقالت طائفة: لا يقبل إلا من ثلاثة، لقول رسول الله صلي الله عليه
و آله وسلم: «حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجي من قومه أنه قد نزل به جائحة)). وقالت طائفة: لا يقبل إلا من
اثنين».
انظر: «الإحكام 100: 1، التبصرة: 312، شرح اللمع 603: 2»، وعند هم تفصيل آخر نقله أبو الحسين
البصري عن قاضي القضاة والجبائي وأبو يوسف القاضي، حيث فصلوا بين ما ينتفي بالشبه، وابتداء الحدود
و إثباتها، وابتداء النصب، وأركان الصلوات، وثبوت هلال شوال، والحقوق المالية، ورد الحكم لما تعلق بعين
و غيرها، فلم يقبلوا فيها خبر الواحد دون غيرها.
(2) انظر تخريج الحديث في صفحه (119) هامش رقم (1).
(3) انظر تخريج الحديث في صفحه (119) هامش رقم (4).
(4) في الأصل: الثديين، وهو كما قيل خرباق بن عمر، سمي بذي اليدين لطول كان في يديه، وحديث سهو
النبي صلي الله عليه وآله وسلم رواه النسائي في سننه (20: 3 و 66)، ومسلم في صحيحه، ولفظ الحديث كما
جاء في «صحيح مسلم 403: 1 حديث رقم 97» بإسناده عن أبي هريرة: ((سمعت ابا هريرة يقول: صلي بنا
رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم إحدى صلاتي العشي، إما الظهر وإما العصر. فسلم في ركعتين، ثم أتي
جذعا في قبلة المسجد فاستند إليه مغضبا، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يتكلما وخرج سرعان الناس
قصرت الصلاة. فقام ذو اليدين فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي صلي الله عليه وآله
و سلم يمينا وشمالا فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق, لم تصل إلا ركعتين. فصلي ركعتين وسلم...))
125

خبر لا يوجب العلم، فلا وجه لاعتبار هذا العدد.
وقلنا: ان هذه الأخبار كلها أخبار آحاد لا يصح التعلق بها.
ومنعنا من أنهم عملوا بها لأجلها ومنعنا أيضا من أن يكونوا كلهم عملوا بها
وبينا أيضا انهم أنكروا أيضا العمل باخبار الآحاد في مواضع، فالطريق إلى ابطال ذلك
واحد.
فأما ما اخترته من المذهب فهو:
ان خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ذلك
مرويا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن واحد من الأئمة عليهم السلام وكان
ممن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله ولم تكن هناك قرينة تدل على
صحة ما تضمنه الخبر، لأنه ان كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك كان الاعتبار
بالقرينة، وكان ذلك موجبا للعلم. - ونحن نذكر القرائن فيما بعد - التي جاز العمل بها.
والذي يدل على ذلك: اجماع الفرقة المحقة، فاني وجدتها مجمعة على
العمل بهذه الاخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم، لا يتناكرون ذلك
ولا يتدافعونه (1) حتى أن واحدا منهم إذا أفتى بشئ لا يعرفونه سألوه من أين قلت
هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف، أو أصل (2) مشهور، وكان راويه ثقة لا ينكر
حديثه سكتوا وسلموا الامر في ذلك وقبلوا قوله، وهذه عادتهم وسجيتهم من عهد

(1) في الأصل: يتدافعون.
(2) المقصود من الأصل عند الإمامية: هو الكتاب الذي جمع فيه مصنفه الأحاديث التي رواها عن الإمام
المعصوم مباشرة أو عن الراوي من الإمام المعصوم، لا منقولا عن كتاب مدون فيه روايات الإمام عليه
السلام. ولم يعرف بالضبط عدد أصحاب الأصول المؤلفين لها، إلا أن المشهور عند قدماء الإمامية أنهم لم
يكونوا أقل من أربع مئة رجل وهم أصحاب وتلاميذ الإماميين الصادق والكاظم عليهما السلام، وقد
اعتمدت الإمامية على هذه الأصول في استنباط الأحكام الشرعية، وتعتبر هذه الأصول المادة الأساسية
للمدونات الروائية الكبري عند الإمامية أي الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب، الاستبصار. راجع:
[الذريعة 135: 2 - 125].
126

النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده من الأئمة عليهم السلام ومن زمن
الصادق جعفر بن محمد عليه السلام الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته،
فلولا ان العمل بهذه الاخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه، لان
اجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو.
والذي يكشف عن ذلك أنه لما كان العمل بالقياس محظورا في الشريعة
عندهم لم يعملوا به أصلا، وإذا شذ منهم واحد (1) عمل به في بعض المسائل، أو
استعمله على وجه المحاجة لخصمه، وان لم يعلم اعتقاده تركوا قوله وأنكروا عليه
وتبرأوا من قوله، حتى أنهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لما كان عاملا
بالقياس (1) فلو كان العمل بخبر الواحد يجرى ذلك المجرى، لوجب أيضا فيه مثل
ذلك وقد علمنا خلافه.
فان قيل: كيف تدعون الاجماع على الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد،
والمعلوم من حالها انها لا ترى العمل بخبر الواحد، كما أن المعلوم من حالها انها لا
ترى العمل بالقياس، فان جاز ادعاء أحدهما جاز ادعاء الاخر.
قيل لهم (2): من حالها الذي لا ينكر ولا يدفع انهم لا يرون العمل بخبر

(1) ممن نسب إليه العمل بالقياس فتركوا لذلك العمل بتصانيفه وآرائه محمد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي
(توفي قبل 377 ه‍) فهو من متقدمي فقهاء الإمامية وأعاظمهم، وصفه النجاشي بأنه: (وجه في أصحابنا ثقة،
جليل القدر، صنف فأكثر) ثم ذكر له ما يزيد على مئة كتاب، ولكنه نبه أخيرا بقوله: (سمعت شيوخنا الثقات
يقولون عنه: إنه كان يقول بالقياس). وأيضا وصفه الشيخ الطوسي بأنه (كان يري القول بالقياس فتركت لذلك
كتبه ولم يعول عليها) ثم ذكر له عدة كتب ولم يذكر جميعها وبرر ذلك بقوله: (وفهرست كتبه صنفها هو بابا
بابا وهو طويل ولم نذكره لأنه لا فائدة فيه) وذلك لمجرد احتمال عمله بالقياس في بعض تصانيفه وآرائه. بل
توقف البعض في وثاقته وقدح في عدالته. وقد دافع ابن الجنيد عن معتقده في العمل بالقياس فألف كتابا
سماه (كشف التمويه والإلباس على أغمار الشيعة في أمر القياس). ولكن دون جدوي.
انظر: «رجال النجاشي، رجال الشيخ الطوسي، رجال العلامة، رجال المامقاني، ومعجم رجال
الحديث 323: 14 - 318».
(2) يقال لهم.
127

الواحد الذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد ويختصون بطريقه فأما ما يكون راويه
منهم وطريقة أصحابهم، فقد بينا ان المعلوم خلاف ذلك، وبينا الفرق بين ذلك وبين
القياس أيضا وانه لو كان معلوما حظر العمل بخبر الواحد، لجرى مجرى العلم بحظر
القياس وقد علم خلاف ذلك.
فان قيل: أليس شيوخكم لا تزال يناظرون خصومهم في أن خبر الواحد لا
يعمل به، ويدفعونهم عن صحة (1) ذلك، حتى أن منهم من يقول: (لا يجوز ذلك
عقلا) ومنهم من يقول: (لا يجوز ذلك لان السمع لم يرد به) (2) وما رأينا أحدا منهم
تكلم في جواز ذلك، ولا صنف فيه كتابا، ولا أملى فيه مسألة، فكيف تدعون أنتم
خلاف ذلك؟
قيل له: من (3) أشرت إليهم من المنكرين لاخبار الآحاد انما كلموا من خالفهم
في الاعتقاد ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الاخبار المتضمنة الاحكام
التي يروون هم خلافها، وذلك صحيح على ما قدمناه ولم نجدهم اختلفوا فيما بينهم
وأنكر بعضهم على بعض العمل بما يروونه، الا مسائل دل الدليل الموجب للعلم
على صحتها، فإذا خالفوهم فيها، أنكروا عليهم لمكان الأدلة الموجبة للعلم، والأخبار المتواترة
بخلافه.
فأما من أحال ذلك عقلا (4)، فقد دللنا فيما مضى على بطلان (5) قوله وبينا ان
ذلك جائز فمن أنكره كان محجوجا بذلك.
على أن الذين أشير إليهم في السؤال أقوالهم متميزة من بين أقوال الطائفة

(1) التذكرة بأصول الفقه: 38، أوائل المقالات: 122.
(2) قال الشريف المرتضى: «الصحيح أن ذلك (أي جواز التعبد بالعمل بخبر الواحد) جائز عقلا وإن كانت
العبادة ما وردت به» [الذريعة 43: 2]
(3) الذين.
(4) راجع التعليقة صفحة (98) هامش رقم (4).
(5) انظر أجوبة المصنف وردوده في صفحة (101).
128

المحقة، وعلمنا انهم لم يكونوا أئمة معصومين وكل قول علم قائله وعرف نسبه (1)
وتميز من أقاويل سائر الفرقة المحقة، لم يعتد بذلك القول لان قول الطائفة انما كان
حجة من حيث كان فيها معصوم فإذا كان القول صادرا من غير معصوم علم أن قول
المعصوم داخل في باقي الأقوال، ووجب المسير إليه على ما نبينه في باب الاجماع.
فان قيل: إذا كان العقل يجوز العمل بخبر الواحد، والشرع قد ورد به، ما الذي
حملكم على الفرق بين ما ترويه الطائفة المحقة وبين ما يرويه أصحاب الحديث من
العامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ وهلا عملتم بالجميع، أو منعتم من الكل؟
قيل: العمل بخبر الواحد إذا كان دليلا شرعيا فينبغي أن نستعمله بحيث قررته
الشريعة، والشرع يرى العمل بما يرويه طائفة مخصوصة فليس لنا أن نتعدى إلى
غيرها، كما أنه ليس لنا ان نتعدى من رواية العدل إلى رواية الفاسق.
وان كان العقل مجوزا لذلك أجمع على أن من شرط العمل بخبر الواحد، أن يكون
راويه عدلا بلا خلاف وكل من أسند إليه ممن خالف الحق لم تثبت عدالته، بل
ثبت فسقه، فلأجل ذلك لم يجيز العمل بخبره.
فان قيل: هذا القول يؤدى إلى أن يكون الحق في جهتين مختلفتين إذا عملوا
بخبرين مختلفين، والمعلوم من حال أئمتكم وشيوخكم خلاف ذلك (2).
قيل له: المعلوم من ذلك أنه لا يكون الحق في جهتهم وجهة من خالفهم في
الاعتقاد، فاما أن يكون المعلوم انه لا يكون الحق في جهتين إذا كان ذلك صادرا من
خبرين مختلفين، فقد بينا ان المعلوم خلافه، والذي يكشف عن ذلك أيضا ان من منع
من العمل بخبر الواحد يقول: ان هاهنا أخبارا كثيرة لا ترجيح لبعضها على بعض،
والانسان فيها مخير، فلو أن اثنين اختار كل واحد منهما العمل بواحد من الخبرين

(1) في الأصل: عرف نفسه.
(2) المقصود أنه إذا عمل كل من العامي والإمامي بخبر يخالف مضمونه الخبر الآخر، فبناء على معتقد الإمامية
يكون الحق في جهتهم، وبناء على معتقد العامة يكون الحق في جانبهم، فيحصل التصويب الذي ذهبت
الإمامية إلي بطلانه.
129

أليس كانا يكونان مختلفين وقولهما حق على مذهب هذا القائل؟ فكيف يدعى ان
المعلوم خلاف ذلك؟
ويبين ذلك أيضا: انه قد روى عن الصادق عليه السلام انه سئل عن اختلاف
أصحابه في المواقيت وغير ذلك؟ فقال عليه السلام: (انا خالفت بينهم) (1) فترك
الانكار لاختلافهم، ثم أضاف الاختلاف إلى أنه أمرهم به، فلولا ان ذلك كان جائزا لما
جاز ذلك عنه (2).
فان قيل: اعتباركم الطريقة التي ذكرتموها في وجوب العمل بخبر الواحد
يوجب عليكم قبولها فيما طريقه العلم، لان الذين أشرتم إليهم إذا قالوا قولا طريقه
العلم من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة وغير ذلك فسألوا عن الدلالة على صحته
أحالوا على هذه الأخبار بعينها فان كان هذا القدر حجة فينبغي أن يكون حجة في
وجوب قبولهما فيما طريقه العلم، وقد أقررتم بخلاف ذلك.
قيل له (3): لا نسلم ان جميع الطائفة تحيل على أخبار الآحاد فيما طريقه العلم
مما عددتموه، وكيف نسلم ذلك وقد علمنا بالأدلة الواضحة العقلية ان طريق هذه
الأمور العقل، أو ما يوجب العلم من أدلة الشرع فيما يمكن ذلك فيه؟!
وعلمنا أيضا: ان الامام المعصوم لابد أن يكون قائلا به فنحن لا نجوز أن
يكون المعصوم داخلا في قول العاملين في هذه المسائل بالاخبار، وإذا لم يكن
قوله داخلا في جملة أقوالهم، فلا اعتبار بها، وكانت أقوالهم في ذلك مطرحة.
وليس كذلك القول في أخبار الآحاد، لأنه لم يدل دليل على أن قول الإمام

(1) لم يرد بهذا اللفظ في أحاديث الإمامية، بل ورد ما يفيد هذه المعني، فقد روي الشيخ الطوسي (ره) في
التهذيب 252: 2 رقم 1000 بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام أنه سأله إنسان وأنا حاضر فقال ك ربما
دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلي العصر وبعضهم يصلي الظهر؟ فقال: أنا أمرتهم بهذا، لو صلوا علي
وقت واحد لعرفوا فأخذوا برقابهم» انظر أيضا الكافي 62: 1 ح رقم 4 و 5 و 6 و
(2) منه (عليه السلام).
(3) نحن لا نسلم.
130

داخل في جملة أقوال المنكرين لها، بل بينا ان قوله عليه السلام داخل في جملة
أقوال العاملين بها، وعلى هذا سقط السؤال.
على أن الذي ذكروه مجرد الدعوى من الذي أشير إليه ممن يرجع إلى الاخبار
في هذه المسائل، فلا يمكن اسناد ذلك إلى قوم علماء متميزين، وان قال ذلك بعض
غفلة أصحاب الحديث، فذلك لا يلتفت إليه على ما بيناه.
فان قيل: كيف تعملون بهذه الاخبار، ونحن نعلم أن رواتها أكثرهم كما رووها
رووا أيضا أخبار الجبر (1) والتشبيه (2)، وغير ذلك من الغلو (3) والتناسخ (4) وغير ذلك
من المناكير، فكيف يجوز الاعتماد على ما يرويه أمثال هؤلاء؟
قيل لهم: ليس كل الثقات نقل حديث الجبر والتشبيه وغير ذلك مما ذكر في
السؤال، ولو صح انه نقله لم يدل على أنه كان معتقدا لما تضمنه الخبر ولا يمتنع أن
يكون انما رواه ليعلم انه لم يشذ عنه شئ من الروايات، لا لأنه يعتقد ذلك.
ونحن لم نعتمد على مجرد نقلهم، بل اعتمادنا على العمل الصادر من جهتهم،
وارتفاع النزاع (5) بينهم، فأما مجرد الرواية فلا حجة فيه على حال.
فان قيل: كيف تعولون على هذه الأخبار وأكثر رواتها المجبرة (6)، والمقلدة

(1) وهي الأخبار الدالة على نفي الفعل عن العبد حقيقة وإضافة صدوره إلي الله سبحانه وتعالي.
(2) وهي الأخبار التي تشبه الخالق بالمخلوقات في الصفات الثبوتية، وأن المعبود جسم، وله جوارح، وأعضاء من
يد ورجل ورأس و... واستدلوا على مقالتهم ببعض الآيات كقوله تعالي: (يد الله فوق أيديهم) [الفتح:
10] وبعض الأحاديث. و أكثر المشبهة من أهل السنة وممن يسمون أنفسهم بأصحاب الحديث أمثال أحمد
بن حنبل وأتباعه.
(3) هو التجاوز عن الحد في وصف الأئمة وإخراجهم عن حدود الخليقة وتوصيفهم بصفات الألوهية
و الخالقية، والمعتقدون بالغلو يسمون بالغالية والغلاة.
(4) هو الاعتقاد بتعلق وحلول روح الإنسان المتوفي في جسم إنسان آخر.
(5) ارتفاع النزاع فيما بينهم.
(6) هم الذين يعتقدون بأن جميع الأفعال الصادرة من الإنسان تصدر عنه بإرادة الله تعالي وليس بإرادته، وأن
البشر مسيرون بتسيير الله تعالي لهم وليس لهم إرادة مستقلة وذاتية.
131

والغلاة (1) والواقفة (2)، والفطحية (3) وغير هؤلاء من فرق الشيعة المخالفة (4)
اعتقادهم للاعتقاد الصحيح.
ومن شرط خبر الواحد أن يكون راويه عدلا عند من أوجب العمل به،
وهذا مفقود في هؤلاء.
وان عولتم على عملهم دون روايتهم، فقد وجدناهم عملوا بما طريقه هؤلاء
الذين ذكرناهم و (5) ذلك لا يدل على جواز العمل بأخبار الكفار والفساق.
قيل لهم: إنا لا نقول ان جميع أخبار الآحاد يجوز العمل بها، بل لها شرائط نحن
نذكرها فيما بعد ونشير ها هنا إلى جملة من القول فيه:
فأما ما ترويه العلماء المعتقدون للحق، فلا طعن على ذلك بهذا السؤال.
وأما ما يرويه قوم من المقلدة فالصحيح الذي اعتقده ان المقلد للحق وان كان
مخطئا في الأصل معفو عنه، ولا أحكم فيه بحكم الفساق. فلا يلزم على هذا ترك ما
نقلوه.
على أن من أشاروا إليه لا نسلم انهم كلهم مقلدة، بل لا يمتنع أن يكونوا عالمين
بالدليل على سبيل الجملة، كما تقوله جماعة أهل العدل في كثير من أهل الأسواق

(1) انظر هامش رقم (3) صفحة 131.
(2) وهم جماعة من الشيعة الامامية توقفوا بعد وفاة الإمام موسي بن جعفر عليه السلام عن متابعة جمهور
الشيعة والقول بإمامة الإمام علي بن موسي الرضا عليه السلام، واعتقدوا بحياة الإمام الكاظم وأنه لم يمت.
(3) أو الأفطحية نسبة إلي عبد الله الأفطح بن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، وقد ظهرت هذه الفرقة
بعد وفاة الصادق عليه السلام، وادعت أنه الإمام، وكان عبد الله أكبر أولاد الإمام الصادق، ولكنه عاش سبعين
يوما بعد أبيه، ومات ولم يعقب ولدا ذكرا، وبعد موته أذعن الجميع بإمامة الإمام موسي بن جعفر عليه
السلام، ولم يستفحل أمرهم.
(4) كالكيسانية (رجال الكشي: رقم 149، 152، 204)، والناووسية (رجال الكشي: رقم 384، 660، 676)،
و الخطابية (رجال الكشي: رقم 510، 581، 55، 907) والجهمية (رجال الكشي: رقم 476)، والبترية
(رجال الكشي: رقم 422، 429، 430). وغيرها من الفرق والمذاهب البائدة.
(5) وهل.
132

والعامة، وليس من حيث يتعذر عليهم ايراد الحجج في ذلك، ينبغي أن يكونوا غير
عالمين، لان ايراد الحجج والمناظرة صناعة، وليس يقف حصول المعرفة على
حصولها كما قلناه في أصحاب الجمل.
وليس لاحد أن يقول: أن هؤلاء ليسوا من أصحاب الجمل لأنهم إذا سئلوا عن
التوحيد أو العدل أو صفات الله تعالى أو صحة النبوة، قالوا كذا روينا ويروون في
ذلك كله الاخبار.
وليس هذا طريقة أصحاب الجمل (1) * وذلك لأنه لا يمتنع أن يكون هؤلاء
أصحاب الجمل وقد حصلت لهم المعرفة (2) بالله تعالى، غير أنهم لما تعذر عليهم
ايراد الحجج في ذلك، أحالوا على ما كان سهلا عليهم، وليس يلزمهم (3) * أن يعلموا ان
ذلك لا يصح أن يكون دليلا الا بعد أن يتقدم المعرفة بالله تعالى وانما الواجب عليهم
أن يكونوا عالمين، وهو عالمون على الجملة كما قررناه (4)، فما يتفرع عليه الخطأ (5) *
فيه لا يوجب التكفير ولا التضليل.
وأما الفرق الذين أشاروا إليهم من الواقفة، والفطحية وغير ذلك، فعن ذلك
جوابان (6) *.

(1) * فإن طريقتهم أنهم علموا الدليل الصحيح الدال على المطلوب وما قد روا على تفصيله، وهؤلاء يستدلون
بدليل غير موصل إلي المطلوب الذي هو القطع بالأصول.
(2) المعارف.
(3) * يعني لا يشترط في كونهم مؤمنين وخارجين عن التقليد علمهم بأن الاستدلال بالروايات على شيء إنما
يصح بعد المعرفة بالله على ما هو المشهور، فالاستدلال بها على المعرفة دور وإن كانت متواترة ومشافهة.
(4) في الأصل: قدرناه.
(5) * أي فالاستدلال الذي يتفرع عليه الخطأ في أن ذلك لا يصح أن يكون دليلا إلا بعد المعرفة لا يوجب
تكفيرهم لأنه ليس من الأصول.
(6) * لعل المراد أن الأصحاب مختلفون في الجواب عن ذلك، وكلام المصنف في آخر الدليل الثاني يدل علي
أن مرتضاه الجواب الثاني، وكلامه في بحث العدالة المراعاة في ترجيح أحد الخبرين على الآخر يدل علي
أن مرتضاه الجواب الأول.
133

أحدهما: ان ما يرويه هؤلاء يجوز العمل به إذا كانوا ثقات في النقل - وان كانوا
مخطئين في الاعتقاد (من القول بالوقف) (1) - إذا علم من اعتقادهم تمسكهم
بالدين، وتحرجهم من الكذب ووضع الأحاديث، وهذه كانت طريقة جماعة
عاصروا الأئمة عليهم السلام، نحو عبد الله بن بكير (2) وسماعة بن مهران (3) ونحو
بني فضال (4) من المتأخرين عنهم وبني سماعة (5) ومن شاكلهم.
فإذا علمنا أن هؤلاء الذين أشرنا إليهم وان كانوا مخطئين في الاعتقاد من
القول بالوقف وغير ذلك، كانوا ثقات في النقل فما يكون طريقة هؤلاء جاز العمل به.
والجواب الثاني: ان جميع ما يرويه هؤلاء إذا اختصوا بروايته لا يعمل به
وانما يعمل به إذا انضاف إلى روايتهم رواية من هو على الطريقة المستقيمة والاعتقاد
الصحيح، فحينئذ يجوز العمل به. فأما إذا انفرد، فلا يجوز ذلك فيه على حال.

(1) زيادة من الأصل.
(2) هو عبد الله بن بكير بن أعين الشيباني، من الفقهاء الأجلاء ومن الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام، من
أصحاب الصادقين عليهم السلام، عده الكشي ممن أجمعت الإمامية على تصحيح ما يصح عنهم. وقد عده
الشيخ الطوسي في الفهرست (رقم 464) فطحيا، كما تري تصريحه هنا بأنه كان فاسد العقيدة، لكن الجميع
متفقون على صدقه ووثاقته، وجلالة قدره، وكون حديثه بحكم الصحيح.
(3) هو سماعة بن مهران بن عبد الرحمن الحضرمي، كان تاجرا للقز، روي عن الإمامين الصادق والرضا عليهما
السلام وقد وثقه الجميع وصدقوا رواياته برغم أنه كان واقفيا. سكن الكوفة ومات بالمدينة، وفي سنة وفاته
خلاف.
(4) من البيوتات العلمية الشيعية التي عاشت في القرن الثالث الهجري، ورأس هذه العائلة الحسن بن علي بن
فضال، كان من العباد والزهاد وممن أكثر من رواية أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام، ومنهم أيضا أحمد
و على ابني الحسن بن علي بن فضال، وبرغم أن هذه العائلة كانت فطحية وتعتقد بإمامة عبد الله الأفطح إلا أن
الجميع ذهبوا إلي توثيقهم، وتصديقهم، وتصحيح رواياتهم. وقيل أن الحسن بن علي استبصر في أواخر حياته
وعد رجوعه ضربة قاصمة ومميتة للفطحية.
(5) من البيوتات العلمية الشيعية في القرن الثالث، فقد برز فيهم محدثين وفقهاء ثقات منهم الحسن بن محمد
بن سماعة، وصفه النجاشي بقوله «من شيوخ الواقفة، كثير الحديث، فقيه، ثقة، وكان يعاند في الوقف
و يتعصب».
134

وعلى هذا سقط الاعتراض.
فأما ما رواه الغلاة، ومن هو مطعون عليه في روايته، ومتهم في وضع
الأحاديث، فلا يجوز العمل بروايته إذا انفرد. وإذا انضاف إلى روايته رواية بعض
الثقات جاز ذلك، ويكون ذلك لأجل رواية الثقة دون روايته.
وأما المجبرة والمشبهة فأقل (1) ما في ذلك انا لا نعلم أنهم مجبرة ولا مشبهة،
وأكثر ما معنا انهم كانوا يروون ما يتضمن الجبر والتشبيه، وليس روايتهم لها دليلا على أنهم
كانوا معتقدين لصحتها، بل بينا الوجه في روايتهم (2) لها، وانه غير الاعتقاد
لمتضمنها، ولو كانوا معتقدين للجبر والتشبيه كان الكلام على ما يروونه كالكلام على
ما ترويه الفرق المتقدم ذكرها وقد بينا ما عندنا في ذلك.
وهذه جملة كافية في ابطال هذا السؤال.
فان قيل: ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الاخبار
لمجردها (3)؟ بل انما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلتهم على صحتها [و] لأجلها
عملوا بها ولو تجردت لما عملوا بها وإذا جاز ذلك لم يكن الاعتماد على عملهم
بها.
قيل له: القرائن التي تقترن بالخبر وتدل على صحته أشياء مخصوصة - نذكرها
فيما بعد - من الكتاب والسنة، والاجماع، والتواتر. ونحن نعلم أنه ليس في جميع
المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك لأنها أكثر من أن تحصى موجودة في
كتبهم وتصانيفهم وفتاواهم، لأنه ليس في جميعها يمكن الاستدلال بالقرآن، لعدم ذكر
ذلك في صريحه وفحواه، أو دليله ومعناه، ولا في السنة المتواترة لعدم ذلك في أكثر

(1) في الأصل: فأول.
(2) في روايتهم لها.
(3) بمجردها.
135

الاحكام (1) * بل لوجودها في مسائل معدودة، ولا في الاجماع لوجود الاختلاف في
ذلك فعلم أن ادعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة.
ومن ادعى القرائن في جميع ما ذكرناه وكان السبر (2) بيننا وبينه بل كان معولا
على ما يعلم ضرورة خلافه، مدافعا لما يعلم من نفسه ضده ونقيضه.
ومن قال عند ذلك: اني متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه
العقل (3) *. يلزمه أن يترك أكثر الاخبار وأكثر الاحكام ولا يحكم فيها بشئ ورد الشرع
به.
وهذا حد يرغب أهل العلم عنه، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته، لأنه يكون
معولا على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه.
ومما يدل أيضا على جواز العمل بهذه الاخبار التي أشرنا إليها ما ظهر بين
الفرقة المحقة من الاختلاف الصادر عن العمل بها فاني وجدتها مختلفة المذاهب
في الاحكام، يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة
إلى أبواب الديات من العبادات، والاحكام، والمعاملات، والفرائض، وغير ذلك،
مثل اختلافهم في العدد والرؤية (4) * في الصوم.
واختلافهم في أن التلفظ بثلاث تطليقات هل يقع واحدة أم لا؟
ومثل اختلافهم في باب الطهارة وفي مقدار (5) * الماء الذي لا ينجسه شئ.

(1) عمن.
(2) السبر: استخراج كنه الأمر.
(3) * أي الحظر أو الإباحة أو التوقف، وتوهم بعض المتأخرين أن المراد القرائن العقلية الدالة على صحة
متضمن تلك الأخبار وقال: مراده بقوله: يلزمه أن يترك أكثر الأحكام الخ، أنه يلزم من ذلك استقلال العقل
بأكثر الفروع الفقهية، وهذا مما لا يقول به أحد.
(4) * حيث ذهب بعض الأصحاب إلي أن هلال رمضان يثبت بالرؤية لا بالعدد، وبعضهم إلي أنه يثبت بكل
منهما. واعتبار العدد له معنيان: الأول عد شعبان تسعة وعشرين أبدا ورمضان ثلاثين أبدا، والمعني الثاني عد
خمسة من أيام رمضان الماضي وصوم الخامس من الحاضر.
(5) * حيث ذهب بعض الأصحاب إلي أنه يشترط في عدم انفعال الماء مقدار يسمي بالكر، وذهب بعض آخر
136

ونحو اختلافهم في حد الكر.
ونحو اختلافهم في استئناف (1) * الماء الجديد لمسح الرأس والرجلين.
واختلافهم في اعتبار أقصى مدة النفاس.
واختلافهم في عدد فصول الأذان والإقامة (2) * وغير ذلك في سائر أبواب
الفقه حتى أن بابا منه لا يسلم الا (وقد) (3) وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في
مسائل منه أو مسألة متفاوتة الفتاوى!
وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام من الأحاديث المختلفة التي تختص
الفقه في كتابي المعروف ب‍ (الاستبصار) (4) وفي كتاب (تهذيب الأحكام) (5) ما يزيد

كابن أبي عقيل إلي عدم الاشتراط، وقال بأن القليل لا ينجس بالملاقات، والذاهبون إلي الاشتراط اختلفوا في
مقدار الكر.
(1) * حيث جوز بعضهم الاستئناف، ولم يجوزه الأكثر.
(2) * حيث ذهب أكثر الأصحاب إلي أن التكبير في أول الأذان أربع وفي آخره اثنان، وذهب بعض الأصحاب
إلي تربيع التكبير في أواخره، حكاه الصنف في «الخلاف»، والمشهور في الإقامة أنها كالأذان إلا أن
فصولها مثني ويزاد فيها (قد قامت الصلاة) مرتين ويسقط التهليل من آخره مرة، وحكي المصنف في
«خلاف» عن بعض الأصحاب أنه جعل فصول الإقامة مثل فصول الأذان ويزاد فيها (قد قامت الصلاة)
مرتين.
(3) زيادة من الأصل.
(4) من مؤلفات الشيخ الطوسي المهمة، وأحد الكتب الأربعة المعول عليها في استنباط الأحكام الشرعية عند
الإمامية. يقتصر الطوسي في كتابه هذا على نقل الأخبار والرويات المتعارضة ويحاول أن يزيح عنها
التعارض بالجمع والتوفيق على طبق القواعد المقررة في علم أصول الفقه.
(5) من أشهر كتب الشيخ الطوسي وأحد الكتب الأربعة المعول عليها في الحديث عند الإمامية، وهو شرح
لكتاب (المقنعة) للشيخ المفيد، ويرجع تأليفه إلي مرحلة مبكرة من حياة الطوسي حيث شرع به في بغداد أو
أثناء تلمذته على الشيخ المفيد حيث كان عمره لم يتجاوز الثلاثين عاما وهنا تكمن عبقرية الطوسي، وقد تم
تأليف «التهذيب» في الفترة الممتدة من سنة 408 - 413 ه‍ وجمع الطوسي فيه ثلاثة وعشرين كتابا مع
23000 حديث التي اشتملت كل أبواب الفقه، ولأهمية الكتاب في مجالي علم الفقه والحديث فقد اهتم به
علماء الإمامية فتناولوه بالشرح والتعليق.
137

على خمسة آلاف حديث، وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها وذلك
أشهر من أن يخفى حتى انك لو تأملت اختلافهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على
اختلاف (1) * أبي حنيفة (2)، والشافعي، ومالك (3) ووجدتهم مع هذا الاختلاف
العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه، ولم ينته إلى تضليله وتفسيقه والبراءة من
مخالفته، فلولا ان العمل بهذه الاخبار كان جائزا لما جاز ذلك، وكان يكون من عمل
بخبر عنده انه صحيح يكون مخالفه مخطئا مرتكبا للقبيح يستحق التفسيق بذلك
وفي تركهم ذلك والعدول عنه دليل على جواز العمل بما عملوا به من الاخبار.

(1) * ليس المقصود أن اختلاف الفرقة المحقة واختلاف مخالفهم من قبيل واحد وهو الاختلاف في الإفتاء
و القضاء الحقيقين، وذلك لأنه متضمن للقول على الله بغير علم وهو منهي عنه في محكمات كثيرة من
الكتاب والسنة... بل المقصود أن اختلاف الفرقة المحققة في الإفتاء والقضاء غير الحقيقيين أكثر من اختلاف
المخالفين في الإفتاء والقضاء الحقيقيين، والمراد بالإفتاء غير الحقيقي رواية الحديث الجامع الشروط الصحة
ليعمل به أحد في نفسه، والمراد بالقضاء غير الحقيقي رواية الحديث الجامع لشروط الصحة ليعمل به
المتعاملان في دين أو ميراث أو نحوهما، فاختلاف الفرقة المحققة يرجع إلي الاختلاف في استجماع
الحديث لشروط الصحة فقط كعدالة رواية، وهو ليس نفس حكم الله تعالي.
(2) هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي، أصله من فارس، ولد حوالي سنة 80 ه‍ بالكوفة، سمع على عدد
من التابعين منهم الشعبي، وعطاء بن أبي رياح، وحماد، والإمام جعفر الصادق عليه السلام، يقال أنه كان يميل
إلي المرجئة وقد أيد العلويين في نضالهم ضد الخلافة العباسية فاعتقل وعذب أيام المنصور، ينسب اليه
المذهب الحنفي وقد نشر تلاميذه - وخاصة محمد بن الحسن الشيباني - آراءه الفقهية وينسب إليه بعض
المؤلفات، ولكن الرأي السائد يميل إلي أن أبا حنيفة لم يؤلف كتابا قط. مات ببغداد سنة 150 ه‍.
(3) هو مالك بن أنس الأصبحي الحميري، إمام المذهب المالكي، ولد عام 93 ه‍ بالمدينة، طلب العلم صغيرا
فأخذه عن جماعة من علماء المدينة أمثال ابن شهاب الزهري، وربيعة، ونافع، كما يذكر المؤرخون أن
الإمام الصادق عليه السلام كان من شيوخ مالك، وكان لمالك ميول عثمانية وأموية، كما تقرب إلي العباسيين
فاتخذوا منه سندا وعونا في توطيد حكمهم، فزاره بعض الخلفاء العباسيين وأجزلوا له العطاء ومنحوه
سلطات واسعة فكان يأمر بحبس من يشاء أو بضرب من يريد، كما أجبروا الناس على أخذ الفتوى عنه
وروجوا لكتابه (الموطأ) الذي جمعه بطلب من المنصور وأكثر فيه الرواية عن خصوم أهل البيت عليهم
السلام، وقد روي الطبري عن العباس بن الوليد عن إبراهيم بن حماد، قال: سمعت مالكا يقول: قال لي
المهدي: يا أبا عبد الله ضع كتابا أحمل الأمة عليه...!! مات عام 179 ه‍ بالمدينة.
138

فان تجاسر متجاسر إلى أن يقول: كل مسألة مما اختلفوا فيه عليه دليل قاطع،
ومن خالفه مخطئ فاسق!
يلزمه أن يفسق الطائفة بأجمعها! ويضلل الشيوخ المتقدمين كلهم! فإنه لا
يمكن أن يدعى على أحد موافقته في جميع أحكام الشرع، ومن بلغ إلى هذا الحد لا
يحسن مكالمته، ويجب التغافل عنه بالسكوت.
وان امتنع من تفسيقهم وتضليلهم، فلا يمكنه الا أن العمل بما عملوا به كان
حسنا جائزا خاصه وعلى أصولنا (1) * ان كل خطأ وقبيح كبير (2) فيمكن أن يقال: ان
خطأهم كان صغيرا فانحبط (3) على ما تذهب إليه المعتزلة (4) فلأجل ذلك لم
يقطعوا الموالاة وتركوا التفسيق فيه والتضليل.
فان قال قائل (5) *: أكثر ما في هذا الاعتبار أن يدل على أنهم غير مؤاخذين
بالعمل بهذه الاخبار، وانه قد عفى عنهم، وذلك لا يدل على صوابهم، لأنه لا يمتنع

(1) * إشارة إلي أنه على أصول المعتزلة أيضا لا يمكن: إن يقال أن خطاءهم منحبط، لأنه وإن كان صغيرا يصير
مع الإصرار كبيرا عندهم، ولا شك دن الإصرار فيما نحن فيه متحقق.
(2) قال الشيخ المفيد (ره): «إنه ليس في الذنوب صغيرة في نفسه، وإنما يكون فيها بالإضافة إلي غيره، وهو
مذهب أكثر أهل الإمامة والإرجاء، وبنو نوبخت - رحمهم الله - يخافون فيه ويذهبون في خلافه إلي مذهب
أهل الوعيد والاعتزال. أوائل المقالات: 83، انظر أيضا الذخيرة: 534 - 533.
(3) انظر تفصيل مسألة (التحابط بين الطاعة والمعصية) في «الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد»: الفصل 2 ص
206 - 193.
(4) ويسمون أصحاب العدل والتوحيد أو القدرية والعدلية، المشهور أن مؤسس المعتزلة هو واصل بن عطاء
الغزال فإنه كان في أول أمره يحضر مجلس الحسن البصري فاختلفا في الفاسق، فقال واصل وتبعه عمرو بن
عبيد: إن الفاسق من أمه الإسلام لا مؤمن ولا كافر بل هو في منزلة بين المنزلتين، فاعتزلا مجلس البصري، ثم
عظم أمرهما وأمر المعتزلة في التاريخ الإسلامي، وكانت لها تأثيرا بعيدة المدي في مسار الفكر والثقافة
الإسلامية.
(5) * حاصله أن ما ذكرتم إنما يدل على عدم ارتفاع استحقاق العقاب وهو لا ينافي العفو، فيمكن دن يكون عدم
تفسيقهم لأنه معفو عنهم لا لعدم استحقاقهم العقاب.
139

أن يكون من خالف الدليل منهم أخطأ وأثم واستحق العقاب، الا انه عفى له عن
خطئه وأسقط عنه ما استحقه من العقاب.
قيل له: الجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: ان غرضنا (1) * بما اخترناه من المذهب هو هذا، وان من عمل بهذه
الاخبار لا يكون فاسقا مستحقا للعقاب، فإذا سلم لنا ذلك ثبت لنا ما هو الغرض
المقصود.
والثاني: (2) * ان ذلك لا يجوز: لأنه لو كان قد عفى لهم عن العمل بذلك مع أنه
قبيح يستحق به العقاب وأسقط عقابهم، لكانوا مغيرين بالقبيح وذلك لا يجوز لأنهم
إذا علموا انهم إذا عملوا بهذه الاخبار لا يستحقون العقاب لم يصرفهم عن العمل بها
صارف فلو كان فيها ما هو قبيح العمل به لما جاز ذلك على حال.
فان قيل: لو كانت هذه الطريقة دالة على جواز العمل بما اختلف من الاخبار
المتعلقة بالشرع من حيث لم ينكر بعضهم على بعض ولم يفسق بعضهم بعضا
ينبغي أن تكون دالة على صوابهم فيما طريقه العلم فإنهم قد اختلفوا في الجبر،
والتشبيه، والتجسيم، والصورة (3) وغير ذلك، واختلفوا في أعيان الأئمة ولم نرهم
قطعوا الموالاة، ولا أنكروا على من خالفهم، وذلك يبطل ما اعتمدتموه.
قيل: جميع ما عددتموه من الاختلاف الواقع بين الطائفة، فان النكير واقع فيه
من الطائفة والتفسيق حاصل فيه، وربما تجاوزا ذلك أيضا إلى التكفير، وذلك أشهر
من أن يخفى، حتى أن كثيرا منهم جعل ذلك طعنا على رواية من خالفه في المذاهب
التي ذكرت في السؤال وصنفوا في ذلك الكتب وصدر عن الأئمة عليهم السلام

(1) * حاصله أن التفسيق لازم لاستحقاق العقاب وإن كان معفوا عنه، فبقاء استحقاق العقاب كاف في غرضنا،
فإن نسبة جميع الشيوخ المتقدمين إلي استحقاق العقاب - وهو بالمراد بالفسق - قبيح.
(2) * حاصله أن العفو وإن كان جائزا فليس يجوز أن يعلم المكلفون التزام الله تعالي إياه في نوع مخصوص من
الذنب سوي ما استثنى، فيمتنعوا من تفسيق مرتكبه لأجل علمهم بالعفو، لأنه إغراء بالقبيح.
(3) هم الذين يعتقدون بجسمية الله سبحانه وتعالي ويصفونه بالصورة وبالتخطيط.
140

أيضا النكير عليهم، نحو إنكارهم على من يقول بالتجسيم والتشبيه، والصورة،
والغلو (1) وغير ذلك وكذلك من خالف في أعيان الأئمة عليهم السلام لأنهم جعلوا
ما يختص الفطحية، والواقفة، والناووسية (2) وغيرهم من الفرق المختلفة بروايته لا
يقبلونه ولا يلتفتون إليه فلو كان اختلافهم في العمل باخبار الآحاد يجرى مجرى
اختلافهم في المذاهب التي أشرنا إليها لوجب أن يجروا فيها ذلك المجرى، ومن نظر
في الكتب وسبر أحوال الطائفة وأقاويلها وجد الامر بخلاف ذلك.
وهذه أيضا طريقة معتمدة في هذا الباب.
ومما يدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه، انا وجدنا الطائفة ميزت الرجال
الناقلة لهذه الأخبار، ووثقت الثقات منهم، وضعفت الضعفاء وفرقوا بين من يعتمد
على حديثه وروايته، ومن لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم، وذموا
المذموم وقالوا فلان متهم في حديثه، وفلان كذاب، وفلان مخلط، وفلان مخالف في
المذهب والاعتقاد، وفلان واقفي، وفلان فطحي وغير ذلك من الطعون التي
ذكروها وصنفوا في ذلك الكتب، واستثنوا (3) * الرجال من جملة ما رووه من
التصانيف في فهارستهم، حتى أن واحدا منهم إذا أنكر حديثا نظر في اسناده وضعفه
بروايته (4).

(1) راجع الروايات الواردة في: أصول الكافي 112: 1 - 92، ومعجم رجال الحديث 255: 14 - 244.
(2) من الفرق البائدة، ويقال: إنهم يتبعون رجلا يقال له ناووس، وقيل نسبوا إلي قرية ناووسا، وكانوا يعتقدون
بأن الإمام جعفر بن محمد بن الصادق عليه السلام حي ولن يموت وأنه القائم المهدي.
(3) * أي التصانيف التي رواها الرجال مثل ما روي عن ابن الوليد انه قال: ما تفرد به محمد بن عيسى من كتب
يونس لا يعتمد عليه.
(4) لاحظ ما كتبه أصحاب السير والرجال والتراجم من الإمامية عن هؤلاء الرواة الضعفاء والمغموزين، راجع:
رجال الكشي (= اختيار معرفة الرجال)، رجال النجاشي، رجال الطوسي، الفهرست للطوسي، الفهرست
للشيخ منتخب الدين الرازي، رجال العلامة، جامع الرواة، ايضاح الاشتباه، رجال ابن داود، معالم العلماء،
التحرير الطاووسي، الرجال الكبير، مجمع الرجال، نقد الرجال، أمل الآمل، رجال بحر العلوم، خاتمة
مستدرك وسائل الشيعة، معجم رجال الحديث، قاموس الرجال، و...
141

هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم فلولا ان العمل بما يسلم من
الطعن ويرويه من هو موثوق به جائز، لما كان بينه وبين غيره فرق، وكان يكون خبره
مطروحا (1) مثل خبر غيره، فلا يكون فائدة لشروعهم فيما شرعوا فيه من التضعيف
والتوثيق وترجيح الاخبار بعضها على بعض، وفي ثبوت ذلك دليل على صحة ما
اخترنا.

(1) مطرحا.
142

فصل [5]
(في ذكر القرائن التي تدل على صحة أخبار الآحاد (1) *
أو على بطلانها، وما يرجح به الاخبار بعضها على بعض،
وحكم المراسيل)
القرائن التي تدل على صحة متضمن الاخبار التي لا توجب العلم أربع (2) أشياء.
منها: أن تكون موافقة لأدلة العقل وما اقتضاه، لان الأشياء في العقل إذا كانت
اما على الحظر أو الإباحة - على مذهب قوم - أو الوقف على ما نذهب إليه.
فمتى ورد الخبر متضمنا للحظر (3) * أو الإباحة، ولا يكون هناك ما يدل على
العمل بخلافه، وجب أن يكون ذلك دليلا على صحة متضمنه عند من اختار ذلك.
وأما على مذهبنا الذي نختاره في الوقف، فمتى ورد الخبر موافقا لذلك،

(1) * أي على صحة متضمنها مستقلة عن تلك القرائن، بدون مدخلية الأخبار في العلم بالصدق، وهذا فيما
ليس له معارض من الأخبار بقرينة ذكر حكم التعارض على حدة.
(2) أشياء أربعة.
(3) * المراد وروده على قاعدة كلية يشمل حظر جميع ما لم يعلم حاله، لا وروده على حظر أمر مخصوص
كالكذب مثلا وإن أوهمه قوله.
143

وتضمن وجوب التوقف كان دليلا (1) أيضا على صحة متضمنه، الا أن يدل دليل على
العمل بأحدهما فيترك (2) * له الخبر والأصل (3).
ومتى كان الخبر متناولا للحظر ولم يكن هناك دليل يدل على الإباحة، فينبغي
أيضا المصير إليه، ولا يجوز العمل بخلافه، الا أن يدل دليل يوجب العمل بخلافه،
لان هذا (4) * حكم مستفاد بالعقل، ولا ينبغي أن يقطع (5) على حظر ما تضمنه ذلك
الخبر، لأنه خبر واحد لا يوجب العلم فنقطع به، ولا هو موجب (6) * العمل فنعمل به.
وان كان الخبر متضمنا للإباحة ولا يكون هناك خبر آخر أو دليل شرعي يدل
على خلافه، وجب الانتقال إليه والعمل به وترك ما اقتضاه الأصل (7) * لان هذا فائدة
العمل باخبار الآحاد، ولا ينبغي أن يقطع على ما تضمنه لما قدمنا من (8) وروده
موردا لا يوجب العلم.
ومنها: أن يكون الخبر مطابقا لنص الكتاب (9) * اما خصوصه أو عمومه، أو
دليله، أو فحواه فان جميع ذلك دليل على صحة متضمنه الا أن يدل دليل يوجب
العلم (10) * يقترن بذلك الخبر يدل على جواز تخصيص العموم به، أو ترك دليل
الخطاب فيجب حينئذ المصير إليه.

(1) كان ذلك دليلا.
(2) * فالمراد بترك الخبر والأصل عدم إعمالها في شيء ليس من جزئياتهما.
(3) فترك الخبر والأصل.
(4) * يعني دليل العقل.
(5) في الأصل: نقطع.
(6) * أي ليس القطع بحظره من باب العمل حتى يكون هذا الخبر موجبه فيعمل به، فالتقدير ولا هو موجب
العمل من هذه الحيثية.
(7) * أي عدم إعماله لأنه ليس من جزئياته.
(8) في الأصل: (مني).
(9) * المراد بالنص، المتواتر دون القراءة الشاذة، فهو القدر المشترك بين الصريح والظاهر.
(10) * أي العلم بجواز العمل به سواء أوجب العلم بكون متضمنه حكم الله في الواقع فيجوز الفتوى به أيضا أم لا.
144

وانما قلنا ذلك لما نبينه فيما بعد من المنع من جواز تخصيص العموم بأخبار
الآحاد إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن يكون الخبر موافقا للسنة المقطوع بها من جهة التواتر، فان ما يتضمنه
الخبر الواحد إذا وافقه مقطوع على صحته أيضا وجواز (1) * العمل به وان لم يكن
ذلك دليلا على صحة نفس الخبر لجواز (2) أن يكون الخبر كذبا وان وافق السنة
المقطوع بها.
ومنها: أن يكون موافقا لما أجمعت الفرقة المحقة عليه، فإنه متى كان كذلك
دل أيضا على صحة متضمنه.
ولا يمكننا أيضا أن نجعل اجماعهم دليلا على صحة نفس الخبر، لأنهم يجوز
أن يكونوا أجمعوا على ذلك عن دليل غير هذا الخبر، أو خبر غير هذا الخبر ولم
ينقلوه استغناءا باجماعهم على العمل به، ولا يدل ذلك على صحة نفس هذا الخبر.
فهذه القرائن كلها تدل على صحة متضمن أخبار الآحاد، ولا يدل على صحتها
أنفسها لما بينا من جواز أن تكون الاخبار مصنوعة وان وافقت هذه الأدلة فمتى
تجرد الخبر عن واحد من هذه القرائن كان خبر واحد محضا ثم ينظر فيه فان كان ما
تضمنه هذا الخبر هناك ما يدل على خلاف متضمنه من كتاب أو سنة أو اجماع وجب
اطراحه والعمل بما دل الدليل عليه وان كان ما تضمنه ليس هناك ما يدل على العمل
بخلافه ولا يعرف فتوى الطائفة فيه نظر فان كان هناك خبر آخر يعارضه مما يجرى
مجراه وجب ترجيح أحدهما على الاخر، وسنبين من بعد ما يرجح به الاخبار بعضها
على بعض.
وان لم يكن هناك خبر آخر مخالفه (3) وجب العمل به لان ذلك اجماع منهم

(1) * في النسخ (وجواز) والظاهر (جاز) بدل (وجواز) وعلي ما في النسخ اسم إن.
(2) في الأصل (بجواز).
(3) يخالفه.
145

على نقله.
وإذا (1) أجمعوا على نقله وليس هناك دليل
على العمل بخلافه، فينبغي أن
يكون العمل به مقطوعا عليه.
وكذلك ان وجد هناك فتاوى مختلفة من الطائفة، وليس القول المخالف له
مستندا إلى خبر آخر، ولا إلى دليل يوجب العلم (2) وجب اطراح القول الاخر والعمل
بالقول الموافق لهذا الخبر، لان ذلك القول لا بد أن يكون عليه دليل.
فإذا لم يكن هناك دليل يدل على صحته، ولسنا نقول بالاجتهاد (3) والقياس
يسند ذلك القول إليه، ولا هناك خبر آخر يضاف إليه، وجب أن يكون ذلك القول
مطروحا، ووجب العمل بهذا الخبر، والاخذ بالقول الذي يوافقه.
وأما القرائن التي تدل على العمل بخلاف ما يتضمنه الخبر الواحد، فهو أن
يكون هناك دليل مقطوع به من كتاب، أو سنة مقطوع بها، أو اجماع من الفرقة المحقة
على العمل بخلاف ما تضمنه، فان جميع ذلك يوجب ترك العمل به.
وانما قلنا ذلك لان هذه الأدلة توجب العلم، والخبر والواحد لا يوجب العلم
وانما يقتضى غالب الظن (4) * والظن لا يقابل العلم.
وأيضا فقد روى عنهم عليهم السلام انهم قالوا: (إذا جائكم عنا حديثان
فاعرضوهما على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فان وافقهما فخذوا به،
وما لم يوافقهما فردوه إلينا) (1) فلأجل ذلك رددنا هذا الخبر، ولا يجب على هذا أن
نقطع على بطلانه في نفسه لأنه لا يمتنع أن يكون الخبر في نفسه صحيحا وله وجه

(1) فإذا.
(2) في الأصل: ولا إلي ذلك موجب العلم.
(3) انظر هامش رقم (1) صفحة 9.
(4) * أي مع قطع النظر عن المعارض أو مع المعارض أيضا.
(5) عيون أخبار الرضا 21: 2 حديث رقم 45، ونحوه في: الكافي 67: 1 ح 10 - التهذيب 301: 6. ح 52 -
من لا يحضره الفقيه 5: 3 - فروع الكافي 7: 412:، ح 5.
146

من التأويل لا نقف عليه، أو خرج على سبب خفى علينا الحال فيه أو تناول شخصا
بعينه، أو خرج مخرج التقية وغير ذلك من الوجوه، فلا يمكننا أن نقطع على كذبه،
وانما يجب الامتناع من العمل به حسب ما قدمناه.
فأما الاخبار إذا تعارضت وتقابلت، فإنه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح،
والترجيح يكون بأشياء:
منها: أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنة المقطوع بها والاخر
مخالفا لهما، فإنه يجب العمل بما وافقهما وترك العمل بما خالفهما.
وكذلك ان وافق أحدهما اجماع الفرقة المحقة، والاخر يخالفه، وجب العمل
بما يوافق اجماعهم ويترك (1) العمل بما يخالفه.
فان لم يكن مع أحد الخبرين شئ من ذلك، وكانت فتيا الطائفة مختلفة، نظر
في حال رواتهما، فما كان راويه عدلا وجب العمل به وترك العمل بما لم يروه العدل،
وسنبين القول في العدالة المراعاة في هذا الباب.
فان كان رواتهما جميعا عدلين، نظر في أكثرهما رواة عمل به وترك العمل
بقليل الرواة.
فان كان رواتهما متساويين في العدد والعدالة، عمل بأبعدهما من قول
العامة (2) ويترك العمل بما يوافقهم.

(1) ترك.
(2) إن السياسات الظالمة التي اتخذتها الخلافة الأموية والعباسية، كانت تهدف إلي النيل من أئمة أهل البيت
عليهم السلام والطعن فيهم وأبعادهم ليس عن الحياة السياسية والاجتماعية فحسب، بل حتى عن تداول
آرائهم الفقهية ومروياتهم عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم عند عامة المسلمين، وبناء على هذه السياسية
بذلوا الأموال الطائلة واشتروا ذمم كثير من الرواة والمحدثين وأصحاب السنن والمسانيد - بل وحتى أئمة
المذاهب - كل ذلك في سبيل نسيان ذكرهم وإبعاد المسلمين عنهم، فأقدموا على معارضة سنتهم - وهي سنة
النبي صلي الله عليه وآله وسلم وفتاواهم الفقهية بوضع ما يقابلها، وصونا لسنته صلي الله عليه وآله وسلم
و أحكامه أمر أئمة أهل البيت عليهم السلام أتباعهم بمخالفة ما وافق مذاهبهم ومروياتهم، لاحظ كلام الإمام
الصادق جعفر بن محمد عليه السلام حيث قال: «إن عليا لم يكن يدين الله إلا خالفته عليه الأمة إلي غيره.
147

وان كان الخبران يوافقان العامة أو يخالفانها جميعا نظر في حالهما:
فان كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالخبر الاخر على وجه من
الوجوه وضرب من التأويل، وإذا عمل بالخبر الاخر لا يمكن العمل بهذا الخبر، وجب
العمل بالخبر الذي يمكن مع العمل به العمل بالخبر الاخر، لان الخبرين جميعا
منقولان مجمع على نقلهما، وليس هناك قرينة تدل على صحة أحدهما، ولا ما يرجح
أحدهما به على الاخر فينبغي أن يعمل بهما إذا أمكن ولا يعمل بالخبر الذي إذا عمل
به وجب اطراح العمل بالخبر الاخر.
وان لم يمكن العمل بهما جميعا لتضادهما وتنافيهما وأمكن حمل كل واحد
منهما على ما يوافق الخبر (الاخر) (1) على وجه كان الانسان مخيرا في العمل بأيهما
شاء.
وأما العدالة المراعاة في ترجيح أحد الخبرين على الاخر فهو (2): أن يكون
الراوي معتقدا للحق، مستبصرا ثقة في دينه، متحرجا من الكذب غير متهم فيما

إرادة لإبطال أمره وكانوا يسألون أمير المؤمنين عن الشيء لا يعلمونه، فإذا أفتاهم جعلوا له ضدا من عندهم
ليلبسوا على الناس».
و في حديث آخر يقول عليه السلام: «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة
فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة.
قلت: جعلت فذلك إن رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين
موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟
فقال: ما خالف العامة ففيه الرشاد.
فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟
فقال: ينظر إلي ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم وفيترك ويؤخذ بالآخر...»
راجع: «وسائل الشيعة: باب 9 من أبواب صفات القاضي»، وأيضا راجع أبواب التعادل والتراجيح من
كتب أصول الفقه للإمامية.
(1) زيادة من النسخة الثانية.
(2) كذا، والظاهر: فهي.
148

يرويه.
فأما إذا كان مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب وروى مع ذلك عن الأئمة
عليهم السلام نظر فيما يرويه.
فان كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه وجب اطراح خبره.
وان لم يكن هناك ما يوجب اطراح خبره ويكون هناك ما يوافقه وجب العمل
به.
وان لم يكن من الفرقة (1) المحقة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه، ولا يعرف لهم
قول فيه، وجب أيضا العمل به، لما روى عن الصادق عليه السلام انه قال: (إذا أنزلت
بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روى عنا فانظروا إلى ما رووه عن علي عليه السلام
فاعملوا به) (2) ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث (3)، وغياث ابن
كلوب (4)، ونوح بن دراج (5)، والسكوني (6)، وغيرهم من العامة عن أئمتنا عليهم

(1) وإن لم يكن (هناك) من الفرقة.
(2) في «وسائل الشيعة 91: 27 و بحار الأنوار 253: 2 عن العدة».
(3) هو حفص بن غياث بن طلق بن معاوية القاضي، ولي القضاء ببغداد الشرقية (= الرصافة) لهارون، ثم
ولاه الكوفة، كان عاميا ثقة، صدوقا وله روايات عن الإمام محمد الباقر والإمام جعفر بن محمد الصادق
عليهما السلام.
(4) هو غياث بن كلوب بن فيهس البجلي، كان عاميا ثقة وله روايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
(5) هو نوح بن دراج النخعي، الكوفي، القاضي. ولاه الرشيد قضاء المصرين الكوفة والبصرة، وكان من
أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ومن رواة أحاديثه ولم يثبت عاميته، بل صرح الجميع _ إلا الطوسي في
كتابه هذا _ بتشيعه. قال الخوئي: إن الرجل شيعي صحيح الاعتقاد وكان يفتي ويقتضي بالحق ولكنه مع ذلك
فقد عده الشيخ في كتاب العدة (من العامة ولكن الطائفة عملت برواياته إن لم يعارضها رواية أخرى من
طرقنا) ولم يظهر لنا وجه ما ذكره _ قدس سره.
(6) هو إسماعيل بن أبي السكوني الشعيري (نسبة إلي الشعير باعتبار كونه بائعا له، أو إلي باب الشعير
ببغداد، أو إلي الشعير موضع ببلاد هذيل) من أصحاب الإمام الباقر والصادق عليهما السلام عده الطوسي
و العلامة من العامة، لكن تو جد قرائن على تشيعه.
149

السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه.
وإذا (1) كان الراوي من فرق الشيعة مثل الفطحية، والواقفة، والناووسية
وغيرهم نظر فيما يرويه:
فان كان هناك قرنية تعضده أو خبر آخر من جهة الموثوقين بهم، وجب العمل
به.
وان كان هناك خبر آخر يخالفه من طريق الموثوقين، وجب اطراح ما اختصوا
بروايته والعمل بما رواه الثقة.
وان كان ما رووه ليس هناك ما يخالفه ولا يعرف من الطائفة العمل بخلافه،
وجب أيضا العمل به إذا كان متحرجا في روايته موثوقا في أمانته، وان كان مخطئا في
أصل الاعتقاد.
ولأجل (2) ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره،
وأخبار الواقفة مثل سماعة بن مهران، وعلي بن أبي حمزة (3)، وعثمان بن عيسى (4)،
ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضال وبنو سماعة والطاطريون (5) وغيرهم، فيما لم يكن

(1) وأما.
(2) فلأجل.
(3) هو علي بن أبي حمزة البطائني الكوفي، من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام ومن رواة
أحاديثهما، ويعد البطائني من أعمدة الوقفية، وثقه جماعة وضعفه آخرون لوقفه، وتعمل الإمامية بأخباره
إذا لم يكن هناك خبر آخر يخالفه من طريق الموثوقين.
(4) هو أبو عمرو عثمان بن عيسى العامري الكلابي، من أصحاب الإمام الكاظم والرضا عليهما السلام ومن
الفقهاء والمحدثين الثقات، عد من أعمدة الواقفة وشيوخهم ولكنه تاب وعاد إلي الحق، سكن الكوفة ومات
بالحائر الحسيني ودفن هناك.
(5) من البيوتات الشيعية المعروفة في القرن الثاني إذ برزت منهم شخصيات معروفة في الفقه والحديث
وأشهرهم أبو الحسن علي بن الحسن بن محمد الطائي المعروف بالطاطري (اشتهر بهذا اللقب لبيعه ثيابا
يقال لها الطاطرية)، الفقيه، المحدث ومن أصحاب الإمام الكاظم عليه اسلام، كان واقفيا شديد العناد في
150

عندهم فيه خلافه.
وأما ما ترويه الغلاة والمتهمون والمضعفون وغير هؤلاء، فما يختص الغلاة
بروايته، فان كانوا ممن عرف لهم حال استقامة وحال غلو، عمل بما رووه في حال
الاستقامة، وترك ما رووه في حال خطاءهم (1)، ولأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه
أبو الخطاب محمد ابن أبي زينب (2) في حال استقامته وتركوا ما رواه في حال تخليطه
وكذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي (3)، وابن أبي عذاقر (4) وغير هؤلاء.
فأما ما يرويه في حال تخليطهم فلا يجوز العمل به على كل حال.
وكذلك القول فيما ترويه المتهمون والمضعفون.
وان كان هناك ما يعضد روايتهم ويدل على صحتها وجب العمل به.
وان لم يكن هناك ما يشهد لروايتهم بالصحة وجب التوقف في اخبارهم،
ولأجل (5) ذلك توقف المشايخ عن أخبار كثيرة هذه صورتها ولم يرووها واستثنوها
في فهارستهم من جملة ما يروونه من التصنيفات (6).

مذهبه وبرغم ذلك وصف الصدق والوثاقة وعملت الإمامية برواياته.
(1) تخليطهم.
(2) هو محمد بن مقلاص الأسدي الكوفي، بائع البرد ومن أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، عد من الغلاة
الملعونين، وبرغم ذلك فإن الإمامية عملت برواياته التي رواها حال استقامته وتركوا ما رواه حال تخليطه
و خطاءه.
(3) هو أحمد بن هلال العبرتائي (نسبة إلي عبرتا قرية كبيرة بنواحي النهروان ببغداد) ولد عام 180 ه‍ وتوفي
عام 267 ه‍. كان غاليا متهما في دينه، وله روايات كثيرة.
(4) هو أبو جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن آبي العزاقر، وصفه النجاشي بقوله: «كان متقدما في
أصحابنا، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح علي ترك المذهب والدخول في المذاهب الرديئة
(الردية) حتى خرجت فيه توقيعات، فأخذه السلطان وقتله وصلبه» في يوم الثلاثاء 29 ذي القعدة سنة 322 ه‍.
(5) فلأجل.
(6) انظر مشيخة «من لا يحضره الفقيه» 539: 4 - 422، ومشيخة «تهذيب الأحكام» 88: 10 - 2.
151

فأما من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال (1) الجوارح وكان ثقة
في روايته، متحرزا فيها، فان ذلك لا يوجب رد خبره، ويجوز العمل به لان العدالة
المطلوبة في الرواية حاصلة فيه، وانما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته
وليس بمانع من قبول خبره، ولأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم.
فأما ترجيح أحد الخبرين على الاخر من حيث إن أحدهما يقتضى الحظر
والاخر الإباحة والاخذ بما يقتضيه (2) الحظر أولى أو الإباحة (3).
فلا يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب إليه في الوقف، لان الحظر والإباحة
عندنا (4) مستفادان بالشرع فلا ترجيح بذلك، وينبغي لنا التوقف فيهما جميعا، أو
يكون الانسان فيهما مخيرا في العمل بأيهما شاء.
وإذا كان أحد الراويين يروى الخبر بلفظه والاخر بمعناه ينظر في حال الذي
يرويه بالمعنى، فان كان ضابطا عارفا بذلك فلا ترجيح لأحدهما على الاخر، لأنه قد
أبيح له الرواية بالمعنى واللفظ معا فأيهما كان أسهل عليه رواه.
وان كان الذي يروى الخبر بالمعنى لا يكون ضابطا للمعنى أو يجوز أن يكون
غالطا فيه، ينبغي أن يؤخذ بخبر من رواه باللفظ.
وإذا كان أحد الراويين أعلم وأفقه وأضبط من الاخر، فينبغي أن يقدم خبره
على خبر الاخر ويرجح عليه ولأجل ذلك قدمت الطائفة ما يرويه زرارة (5)، ومحمد

(1) في الأصل: في أفعال.
(2) يقتضي.
(3) في الأصل (والإباحة).
(4) جميعا عندنا.
(5) هو زرارة بن أعين الشيباني، من متقدمي شيوخ الإمامية في الفقه والحديث والكلام، كان قارئا، فقيها،
متكلما، شاعرا، أديبا، وأجمعت الإمامية على تصحيح ما يرويه، ويعد زرارة من أشهر فقهاء ومحدثي
الإمامية حيث روي مئات الأحاديث الصحيحة، وكان من أصحاب الإمامين محمد الباقر وجعفر بن محمد
الصادق عليهما السلام توفي سنة 150 ه‍.
152

بن مسلم (1)، وبريد (2)، وأبو بصير (3) والفضيل بن يسار (4) ونظراؤهم من الحفاظ
الضابطين على رواية من ليس له تلك الحال.
ومتى كان أحد الراويين متيقظا في روايته والاخر ممن يلحقه غفلة ونسيان في
بعض الأوقات، فينبغي أن يرجح خبر الضابط المتيقظ على خبر صاحبه، لأنه لا يؤمن
أن يكون قدسها أو دخل عليه شبهة أو غلط في روايته - وان كان عدلا لم يتعمد ذلك -
وذلك لا ينافي العدالة على حال.
وإذا كان أحد الراويين يروى (الخبر) (5) سماعا وقراءة والاخر يرويه إجازة،
فينبغي أن يقدم رواية السامع على رواية المستجيز.
اللهم الا أن يروى المستجيز بإجازته أصلا معروفا، أو مصنفا مشهورا، فيسقط
حينئذ الترجيح.
وإذا كان أحد الراويين يذكر جميع ما يرويه ويقول إنه سمعه وهو ذاكر
لسماعه، والاخر يرويه من كتابه، نظر في حال الراوي من كتابه، فان ذكر ان جميع ما
في كتابه سماعه فلا ترجيح لرواية غيره على روايته، لأنه ذكر على الجملة انه سمع
جميع ما في دفتره وان لم يذكر تفاصيله، وان لم يذكر انه سمع
جميع ما في دفتره وان وجده بخطه أو وجد سماعه عليه في حواشيه بغير خطه، فلا

(1) هو محمد بن مسلم بن رباح الطحان، من متقدمي شيوخ الإمامية في الفقه والحديث، وكان من أصحاب
الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام وروي عنهما مئات الروايات الصحيحة، كان ورعا، صدوقا ومن أوثق
الناس، وأجمعت الإمامية على تصحيح ما يرويه توفي سنة 150 ه‍.
(2) هو بريد بن معاوية العجلي، من متقدمي شيوخ الإمامية في الفقه والحديث، وكان من أصحاب الإمامين
الباقر والصادق عليهما السلام ومن المقربين عندهما وروي عنهما توفي سنة 150 ه‍.
(3) هو يحيي بن القاسم الأسدي، من وجوه الشيعة ومن أصحاب الإمام الباقر والصادق والكاظم عليهم السلام
و روي عنهم، كان فقيها، محدثا وقد أجمعت الإمامية على توثيقه وتصحيح ما يرويه. توفي سنة 150 ه
(4) هو الفضيل بن يسار النهدي البصري، من الفقهاء والمحدثين الثقات، ومن الذين أجمعت الإمامية علي
توثيقهم وتصحيح ما يروونه. روي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام توفي قبل عام 148 ه
(5) زيادة من الأصل.
153

يجوز له أولا أن يرويه ويرجح خبر غيره عليه.
وإذا كان أحد الراويين معروفا والاخر مجهولا، قدم خبر المعروف على خبر
المجهول، لأنه لا يؤمن أن يكون المجهول على صفة لا يجوز معها قبول خبره.
وإذا كان أحد الراويين مصرحا والاخر مدلسا، فليس ذلك مما يرجح به خبره،
لان التدليس هو: (أن يذكره باسم أو صفة غريبة أو ينسبه إلى قبيلة أو صناعة وهو
بغير ذلك معروف) فكل ذلك لا يوجب ترك خبره.
وإذا كان أحد الراويين مسندا والاخر مرسلا، نظر في حال المرسل، فان كان
ممن يعلم أنه لا يرسل الا عن ثقة موثوق به فلا ترجح لخبر غيره على خبره، ولأجل
ذلك سوت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير (1) وصفوان بن يحيى (2)،
وأحمد بن محمد ابن أبي نصر (3) وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا
يرسلون الا عمن (4) يوثق به وبين ما أسنده غيرهم، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا
انفردوا عن رواية غيرهم.
فاما إذا انفرد وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به.

(1) هو محمد بن زياد بن عيسى الأزدي البغدادي، من متقدمي شيوخ الإمامية ومن أصحاب الإمامين الكاظم
و الرضا عليهما السلام جليل القدر، عظيم المنزلة ومن الثقات. كان جلدا في تشيعه، حبس أربع سنوات أيام
الرشيد والمأمون وعذب ليدل على أسماء الشيعة لكنه صبر وقاوم ففرح الله عنه، وقيل أن أخته دفنت كتبه
أيام حبسه فهلكت الكتب، فكان يحدث من حفظه، والإمامية تعتمد على مراسيله وتعتبرها مسانيد، صنف
94 كتابا في مختلف المجالات، وتوفي ببغداد سنة 217 ه‍.
(2) هو صفوان بن يحيي البجلي، الكوفي، من الفقهاء والمحدثين الثقات، كان بياعا للسابري (نوع من الثياب)،
عد من أورع الناس وأتقاهم وكانت له منزلة من الزهد والعبادة كثير الخشوع والصلاة. كان من أصحاب
الإمامين الكاظم والرضا عليهما السلام وروي عنهما، صنف ثلاثين كتابا _ توفي سنه 210 ه‍.
(3) هو أحمد بن محمد بن عمرو البزنطي الكوفي، من الفقهاء والمحدثين الثقات، صحب الإمامين علي بن
موسي الرضا والجواد عليهما السلام وروي عنهما، توفي سنة 221 ه‍.
(4) في الأصل: ممن.
154

فاما إذا انفردت المراسيل فيجوز العمل بها على الشرط الذي ذكرناه ودليلنا
على ذلك: الأدلة التي قدمناها على جواز العمل بأخبار الآحاد، فان الطائفة كما
عملت بالمسانيد عملت بالمراسيل، فما يطعن في واحد منهما يطعن في الاخر، وما
أجاز أحدهما أجاز الاخر، فلا فرق بينهما على حال.
وإذا كان إحدى الروايتين أزيد من الرواية الأخرى، كان العمل بالرواية الزائدة
أولى، لان تلك الزيادة في حكم خبر آخر ينضاف إلى المزيد عليه.
فإذا كان مع إحدى الروايتين عمل الطائفة بأجمعها فذلك خارج عن الترجيح
بل هو دليل قاطع على صحته وابطال الاخر.
فان كان مع أحد الخبرين عمل أكثر الطائفة، ينبغي أن يرجح على الخبر الاخر
الذي عمل به قليل منهم.
وإذا كان أحد المرسلين متناولا للحظر والاخر متناولا للإباحة فعلى مذهبنا
الذي اخترناه في الوقف يقتضى التوقف فيهما، لان الحكمين جميعا مستفادان شرعا
وليس أحدهما بالعمل أولى من الاخر.
وان قلنا: انه إذا لم يكن هناك ما يترجح به أحدهما على الاخر كنا مخيرين
كان ذلك أيضا جائزا كما قلناه في الخبرين المسندين سواء.
وهذه جملة كافية في هذا الباب.
155

الباب الثالث
الكلام
في الأوامر
157

فصل [1]
(في ذكر حقيقة الامر وما به بصيرا أمرا)
الامر عبارة عن قول القائل لمن هو دونه (1): افعل (2).
والفعل لا يسمى أمرا (3) الا على وجه المجاز والاستعارة وهذا مذهب أكثر
المتكلمين والفقهاء (4).

(1) إن اشتراط الشيخ الطوسي (ره) العلو والإستعلاء في الأمر الصادر من الامر مخالف لرأي جمهور
الأصوليين من العامة، وموافق لمذهب الشيخ المفيد (انظر «التذكرة» 33 _ 30، فإن فحوى كلامه
والمصاديق المشار إليها جميعها دالة على ضرورة العلو والاستعلاء) والشريف المرتضى (الذريعة 1: 35)
وهو مذهب المعتزلة (المعتمد 1: 43، المغني 17: 120) وأحمد بن حنبل (روضة الناظر 176) وبعض
الأصوليين من العامة كالشيرازي وأبو نصر بن الصباغ وأبو المظفر بن السمعاني (التبصرة: 17، شرح اللمع 1:
192 - 191).
(2) قال ابن فارس: الأمر الذي هو نقيض النهي، قولك إفعل كذا. قال الأصمعي: يقال: لي عليك إمرة مطاعة،
أي لي عليك أن آمرك مرة واحدة فتطيعني «معجم مقاييس اللغة 1: 137، انظر أيضا: لسان العرب 1:
203».
(3) يقصد المصنف أنه لا شبهة في أن إطلاق لفظ (الأمر) على القول المخصوص (= قول القائل لمن هو دونه:
إفعل) إطلاق حقيقي، وأما في إطلاقه على الفعل فمختلف فيه، وجل الأصوليين والفقهاء على أن الإطلاق
مجازي، إلا شرذمة من أصحاب الشافعي القائلين بحقيقة الإطلاق.
(4) انظر: «المعتمد في أصول الفقه 1: 39، ميزان الأصول 1: 200».
159

وقال قوم (1): هو مشترك بين القول وبين الفعل.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: ان أهل اللغة قسموا اقسام الكلام فسموا
من جملتها قول القائل لمن هو دونه: (افعل) أمرا فينبغي أن يكون ذلك عبارة عنه
ولو جاز لمخالف أن يخالف في ذلك لجاز أن يخالف في سائر ما سموه من اقسام
الكلام مثل النهى والتخصيص والتمني والسؤال والخبر وغير ذلك فإذا كان
جميع ذلك صحيحا مسلما فينبغي أن يكون ما ذكرناه مثله.
وأيضا: فإنهم فرقوا في هذه الصيغة بين كونها أمرا ودعاء ومسألة باعتبار الرتبة
بان قالوا: إذا كان القائل فوق المقول له سمى أمرا وان كان دونه سمى سؤالا وطلبا
ودعاء فلو جاز المخالفة في تسميته أمرا جاز المخالفة في تسميته سؤالا وطلبا
وذلك لا يقوله أحد.
وليس لاحد ان يقول: ان تسميتهم لذلك بأنه امر لا خلاف فيه بل هو مسلم
وانما الخلاف في أن غيره هل يسمى بذلك أم لا؟
لان من قال: ان (2) هذه الصيغة مشتركة بين القول والفعل يسلم صحة ذلك
ويقول إنها تستعمل في الفعل (3) أيضا لأنا ندل على فساد هذه الدعوى فيما بعد انشاء الله تعالى.
والذي يدل على ما قلناه من أن هذه الصيغة حقيقة في القول دون الفعل

(1) وهو مذهب بعض أصحاب الشافعي وعد منهم أبو العباس بن سريج، وأبو سعيد الإصطخري، وأبو علي بن
أبي هريره، وأبو علي بن جيران، ومذهب أبي الحسين البصري من المعتزلة حيث يعتقد أن الأمر مشترك بين
الشيء والصفة والشأن والطرائق والقول المخصوص. انظر (المعتمد 1: 40 _ 39، ميزان الأصول 1: 197 _
196) والشريف المرتضى (ره) من الإمامية (الذريعة 1: 68 _ 27) حيث يذهب إلي الاشتراط بينهما [إلا أن
يقوم دليل قاهر يدل على أنه مجاز في أحدهما].
(2) بأن.
(3) قال الشريف المرتضى (ره) (الذريعة 1: 27): «لا خلاف في استعمال لفظة «الأمر» في اللغة العربية تارة
في القول، وأخرى في الفعل.
160

اطرادها في القول ووقوفها في الفعل لأنه ليس كل فعل يسمى أمرا (1) الا ترى انه لا
يسمى الأكل والشرب والقيام والقعود بأنه امر وانما يقال لجملة أحوال الانسان انه
امر فيقال (امره مستقيم) وأمره مضطرب وأما (2) تفاصيل الافعال فلا توصف
بذلك.
وليس كذلك القول لان كل قول يحصل لمن هو دونه بهذه الصيغة يسمى
أمرا فعلمنا بذلك انه حقيقة فيما قلناه ومجاز فيما ذكروه.
وأيضا: فان هذه اللفظة لها اشتقاق لأنها يشتق منها اسم الفاعل فيقال امر
واسم المأمور وفعل الماضي والمستقبل وكل ذلك لا يتأتى في الفعل فعلم بذلك
انها مجاز في الفعل وحقيقة في القول.
فاما من تعلق بالاستعمال في كون هذه الصيغة مشتركة (3) وقال: وجدت هذه
اللفظة قد استعملت في الفعل كما استعملت في القول فينبغي أن تكون حقيقة
فيهما وقد قال الله تعالى: (وما أمرنا الا واحدة كلمح بالبصر) (4) وقال: (وما امر
فرعون برشيد) (5) وغير ذلك من المواضع.
فان الجواب عنه أن يقال: ان ذلك مجاز وليس لنفس الاستعمال دلالة (6) *
على الحقيقة لان المجاز أيضا مستعمل كالحقيقة (7) * ونحن نبين ذلك فيما بعد،

(1) قولا.
(2) فأما.
(3) انظر التعليقة في صفحة 160 هامش رقم (1)، إلا أن الطوسي (ره) هنا يوجه نقده لكلام شيخه الشريف
المرتضى (ره).
(4) القمر: 50.
(5) هود: 97.
(6) * لا دلالة ظاهرية ولا قطعية.
(7) * أي الاستعمال المجازي ليس مرجوحا بالنسبة إليه، ويؤيده ما اشتهر من أن أكثر اللغة مجازات.
161

وإذا لم يكن ذلك دالا على الحقيقة بطل التعلق به.
وقد أبطلنا أن يكون ذلك على وجه الحقيقة بما ذكرناه من الأدلة.
واما قوله تعالى (1) *: (وأمرنا الا واحدة كلمح بالبصر) (2) وقوله: (وما امر
فرعون برشيد) (3) فقد قيل فيه وجهان:
أحدهما: انه لا نسلم ان ذلك عبارة عن الفعل بل لا يمتنع أن يكون أراد بذلك
امره الذي هو قوله: (وما امر فرعون) الذي هو قوله.
ولا يطعن على هذا الوجه مساواة أفعاله في هذا الوصف وفي كونها (كلمح
بالبصر) في سرعة تأتيها منه.
لان ذلك يعلم بدليل اخر بخبر اخر وكك يعلم بشئ اخر ان أفعال
فرعون مثل أقواله في كونها غير رشيده فلا يمكن التعلق بذلك.
والوجه الاخر: ان ذلك مجاز لما دللنا عليه من قبل (4).
واما من تعلق في ذلك بان أهل اللغة جمعوا (الامر) الذي هو من قبيل الأقوال
(أوامر) وجمعوا الامر الذي هو من قبيل الافعال (أمورا) فينبغي أن يكون ذلك
دلالة على كونها مشتركة فيهما.
فقوله يبطل لأنه يقال له: الصحيح ان (الامر) لا يجمع (أوامر) فعلا وانما
يجمع (أمور) مثل (فلس) و (فلوس) و (زرع) و (زروع) وغير ذلك فاما (أوامر) فخارج
عن القياس فان سمع ذلك فإنه يكون على أنه جمع الجمع فكأنه جمع أولا أمورا ثم
جمع أمور أوامر وعلى هذا لا يدل على مخالفتهم بين ذلك لاختلاف المعنيين.
وإذا ثبت ما قلناه لا يمكن التعلق بقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن

(1) * تغيير الأسلوب لأنه مناقشة في المثال بإبداء احتمال آخر فيه.
(2) القمر: 50.
(3) هود: 97.
(4) راجع: ((تفسير التبيان 6: 59 _ 58)).
162

امره) (1) في وجوب اتباع أفعاله عليه السلام لان ذلك غير داخل فيه على وجه
الحقيقة.
وكونها مرادة على وجه المجاز يحتاج إلى دليل غير الظاهر فبطل التعلق به
على كل حال.
واعلم أن هذه الصيغة التي هي قول القائل (افعل) وضعها أهل اللغة لاستدعاء
الفعل (2) وخالفوا بين معانيها باعتبار الرتبة:
فسموها إذا كان القائل فوق القول له أمرا وإذا كان دونه سؤالا وطلبا ودعاء.
ومتى استعملوها في غير استدعاء الفعل في التهديد نحو قوله: (واستفزز من
استطعت) (3) وقوله: (اعملوا ما شئتم) (4) وفي الإباحة نحو قوله: (وإذا حللتم
فاصطادوا) (5) ونحو قوله: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) (6) وفي

(1) النور: 63.
(2) هذا مذهب الشيخ الطوسي (ره) وخلا صته: أن الأمر (= قول القائل إفعل) حقيقة في استدعاء الفعل وطلبة
و مجاز في غيره من التهديد، والإباحة، والتحدي، وتكوين الشئ ء، وما أشبه ذلك، فيصرف إليه عند الإطلاق.
و هذا الرأي يخالف مذهب الشريف المرتضى (الذريعة 1: 50 _ 41) ومذهب المعتزلة القائلين بضرورة
وجود الإرادة، فإن أعيان المعتزلة (البصريين منهم، لأن البغداديين من المعتزلة والنجارية يقولون إن الأمر
الأمر لعينه وصيغته) كالجبائيان والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري فرقوا بين الأمر والإرادة، وقالوا: إن
الأمر مخالف لإرادة المأمور به ومثلوا بأن الله تعالي يأمر بالطاعة ولا يريد ها، ولكنهم جعلوا الإرادة شرطا
في دلالة الأمر على المأمور به، وذلك لأجل أن يتميز الأمر عند التهديد.
انظر: (المعتمد 69: 1 و 50 - 43، التبصرة 18 ك 1، الإبهاج 8: 2، ميزان الأصول 202: 1، شرح اللمع: 1
196).
(3) الإسراء: 64.
(4) فصلت: 40.
(5) المائدة: 2.
(6) الجمعة: 10.
163

التحدي نحو قوله: (فأتوا بعشر سور مفتريات) (1) وفي تكوين الشئ نحو
قوله: (كونوا قردة خاسئين) (2) وما أشبه ذلك من الوجوه كانت مجازا خارجة عن
باب ما وضعت له وهذا مذهب كثير من الفقهاء والمتكلمين (3).
وقال جماعة من الفريقين (4): ان هذه الصيغة مشتركة بين جميع ذلك حقيقة
فيه وانما يختص ببعضها بالقصد فإذا أراد المأمور به كان أمرا وسؤالا بحسب الرتبة
وان كره الفعل كان ذلك نهيا وتهديدا.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه (5) * ان أهل اللغة فرقوا بين صيغة الامر
وصيغة النهى وصيغة الخبر فقالوا:
صيغة الامر قول القائل لمن هو دونه: افعل.
وصيغة النهى قول القائل لمن هو دونه: لا تفعل.
والخبر مركب من مبتدأ وخبر ومن فعل وفاعل نحو قولهم: (زيد في الدار)
ونحو (قام زيد).

(1) هود: 13.
(2) البقرة: 65.
(3) انظر: «شرح اللمع 199: 1، ميزان الأصول 200: 1، التبصرة ك 22، الإحكام: 3: 273».
(4) نسب أبو إسحاق الشيرازي إلي بعض الأشعرية تارة (شرح اللمع 199: 1) وأخرى إلي عامتهم (التبصرة:
22) بأن الأمر «لا صيغة له تدل على الفعل، بل هذا اللفظ يحتمل الفعل ويحتمل الترك» وأن «قوله افعل لا
يدل على الأمر إلا بقرينة». وهنا تفصيل للغزالي حيث يقول (المستصفي 164: 1)، لا خلاف أنه لو قال
الشارع: أمرتكم بكذا، أو لستم بمعاقبين تدلان على الوجوب والندب، «وإنما الخلاف في قوله: (إفعل) هل
يدل على الأمر بمجرد صيغته إذا تجرد عن القرائن؟ فإنه قد يطلق على أوجه منها الوجوب...»، وأما الشريف
المرتضى (ره) فإنه ذهب (الذريعة: 1 / 38) «إلي أن هذه اللفظة، مشتركة بين الأمر وبين الإباحة وهي حقيقة
فيهما، ومع الإطلاق لا يفهم أحدهما وإنما يفهم واحد دون صاحبه بدليل».
(5) * ما ذهب إليه أمران: الأول: عدم العبرة بالإرادة على نحو ما ذهبوا إليه من كون «إفعل» أمرا بالإرادة ونهيا
بالكراهة. والثاني: عدم مدخلية الإرادة في كون «إفعل» أمرا. ولم يتعرض في الدليل للثاني لأنه موافق
للأصل، وظاهر من اكتفائهم في صيغة الأمر «يقول القائل لمن دونه إفعل» من دون اشتراط إرادة.
164

ولو كان الامر على ما قالوه لما كان لفرقهم بين هذه الصيغ معنى وقد علمنا أنهم
فرقوا.
انما (1) قلنا ذلك لأنه إذا كان الاعتبار بإرادة المأمور على قولهم فلو
صادف (2) ذلك قول القائل (لا تفعل) لكان أمرا (3) * وكك لو صادف كراهة ذلك
لقوله (افعل) لكان نهيا وهذا يؤدى إلى أنه لا فرق بين هذه الصيغ والمعلوم من حال
أهل اللغة خلاف ذلك.
ولا يلزمنا مثل ذلك بان يقال: أليس قد استعمل صيغة الخبر في الامر نحو قوله
تعالى: (من دخله كان امنا) (4) ونحو قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن
بأنفسهن) (5) وما أشبه ذلك.
وكذلك استعمل صيغة الامر في النهى وغيره من الأقسام نحو الإباحة
والتحدي والتكوين وغير ذلك.
لأنا نقول انما استعملوا ذلك على وجه المجاز دون الحقيقة.
فان قيل: ظاهر استعمالهم يدل على أنه حقيقة (6) * في الموضعين.
قيل له: لا نسلم ان نفس الاستعمال يدل على الحقيقة لان المجاز أيضا
مستعمل وانما يعلم كون اللفظ حقيقة بان ينصوا لنا على انها حقيقة أو نجد اللفظة
تطرد في كل موضعين أو غير ذلك من الأقسام التي قدمنا ذكرها فيما مضى للفرق
بين الحقيقة والمجاز وليس مجرد الاستعمال من ذلك.

(1) في الأصل: وإذا ما.
(2) في الأصل: فلو أرضاه.
(3) * أي لجاز أن يكون أمرا بالنظر إلي مجرد فرقهم.
(4) آل عمران: 97.
(5) البقرة: 228.
(6) * أي ظاهره.
165

وليس لهم أن يقولوا ان المجاز طار والحقيقة هي الأصل بدلالة انه يجوز أن
تكون حقيقة لا مجاز لها ولا يجوز أن يكون مجاز لا حقيقة له فعلم بذلك ان أصل
الاستعمال الحقيقة وذلك أن الذي ذكروه غير مسلم لأنه لا يمتنع أن يكون
الواضعون للغة وضعوا اللفظة ونصوا على أنه إذا استعملت في شئ بعينه كانت
حقيقة ومتى استعملوها في غيره كانت مجازا.
وان لم يقع استعمال اللفظة (1) في واحد من المعنيين ثم يطرء على الوضع
الاستعمال فربما استعملوها أولا في الحقيقة وربما استعملوها أولا في المجاز.
وانما كان يتم ذلك (2) * ان لو جعلوا الاستعمال نفسه طريقا إلى معرفة الحقيقة
فيجعل ما ابتدئ باستعماله حقيقة قد بينا انا لا نقول ذلك.
فان قيل: أليس القائل إذا قيل لغيره (أريد منك أن تفعل كذا) ناب ذلك مناب
قوله: (افعل) فينبغي أن يكون معناهما واحدا (3) *.
قيل له: نحن لا نمنع أن يكون لاستدعاء الفعل لفظة أخرى لأنا ادعينا انه لا
لفظة يستدعى بها الفعل الا قول القائل (افعل) بل الذي ادعيناه ان هذه اللفظة
يستدعى بها الفعل وان شاركها غيرها في فائدة هذه اللفظة الا أنه متى قال: (أريد ان
تفعل كذا) لا يسمى أمرا بل يكون مخبرا والخبر غير الامر.
وليس لهم أن يقولوا: ان السؤال أيضا لا يسمى أمرا وهو لاستدعاء الفعل (4)
على ما قررتموه.
لأنا قد بينا ان معناهما (5) * واحد وانما فرقوا بينهما في التسمية لشئ يرجع

(1) في الأصل: لفظة.
(2) * أي قولهم «ولا يجوز أن يكون مجاز لا حقيقة له».
(3) * أي يلزم دن تكون صيغة الخبر أمرا فلا تكون صيغة الخبر، مختصا بالخبر وأنتم تدعون أن فرقهم بين هذه
الصيغ يدل على الاختصاص.
(4) في الأصل: الأمر.
(5) * أي معني «افعل» الذي للسؤال، و «افعل» الذي الأمر.
166

إلى اعتبار الرتبة (1) * وليس يمكن مثل ذلك في صيغة الخبر لأنهم فرقوا بينها وبين
صيغة الامر في أصل الوضع دون اعتبار امر اخر.
فان قيل: أليس القائل إذا قال لغيره: (أريد ان تفعل كذا) وكان دون المقول له
يسمى سائلا فينبغي إذا قال ذلك وهو فوقه أن يسمى أمرا.
قيل له: هذا اثبات بالقياس وذلك لا يجوز لأنه ليس إذا كان للسؤال
لفظتان يطلق على مستعملهما لفظ السائل ينبغي أن يكون حكم الامر مثل ذلك ولو
جاز ذلك لأدى إلى بطلان ما بيناه من اعتبار أهل اللغة الفرق بين هذه الصيغ ولو لزم
ذلك للزم أن يسمى الإشارة أمرا لان المشير قد يشير بما يفهم منه استدعاء الفعل
ويسمى سائلا ولا يقول أحد انه امر على حال.
فان قيل: فلو لم يحتج في كونه أمرا إلى إرادة المأمور به جاز ان يكون كارها له
وقد علمنا استحالة ذلك.
قيل له: ان أردت بأنه إذا استدعى الفعل لا يجوز أن يكون كارها له بمعنى ان
ذلك مستحيل فليس الامر كذلك بل ذلك يمكن.
وان أردت ان ذلك لا يحسن فهو مسلم لأنه متى استدعى الفعل وكان كارها له
كان مناقضا لغرضه.
وان فرضنا ان الامر حكيم يدل على حسن المأمور به فلو كرهه لكان
مقبحا (2) * وذلك لا يجوز على الحكيم فلأجل ذلك لا يجوز ومتى فرض فيمن
ليس بحكيم فان جميع ذلك جائز غير مستحيل.
واما حملهم ذلك على النهى بان قالوا: لما كان من شرط النهى أن يكون كارها
للمنهي عنه وجب في الامر أن يكون مريدا للمأمور به.
فالجواب عنه: ان الكلام في النهي كالكلام في الامر في أن ذلك ليس

(1) * أي خارج عن حقيقة إفعل.
(2) * يقال: أقبح فلان إذا أتي بقبيح.
167

بمستحيل ولا يخل بكونه نهيا (1) وانما يقبح لان من نهى عن فعل وكان حكيما
دل نهيه على قبح المنهي عنه فلأجل ذلك وجب أن يكون كارها له ولم يحسن منه
ان يريده لان إرادة القبيح قبيحة ومتى فرض فيمن ليس بحكيم فان ذلك جائز.
فان قيل: فبأي شئ (2) * يدخل في أن يكون مستعملا لما وضعه أهل اللغة
حقيقة دون المجاز.
قلنا: بأن يقصد إلى استعماله فيما وضعوه ويطلق (3) القول فإنه إذا كان حكيما
فانا نعلم أنه امر لأنه لو أراد غير ما وضع له على وجه التجوز لبينه فمتى لم يفرق به
البيان دل على أنه أراد ما وضع له حقيقة.
ومتى لم نعرف ان القائل حكيم لا يفهم (4) مراده الا بقرينة أو يضطر إلى
قصده (5) * لأنه يجوز أن يكون أراد غير ما وضع له وان لم يبين ذلك في الحال لان
القبيح غير مأمون منه.
فاما الكلام في القصد وهل هو من قبيل الاعتقادات أو هو جنس مفرد؟ فليس
هذا موضع ذكره وبيان الصحيح منه.
ولا يمكن أن يدعى ان الامر أمر بجنسه (6) لأنا نجد من جنسه ما ليس بأمر ما

(1) في الأصل: نهي.
(2) * أي إذا ثبت استعمال «افعل» في القرآن وغيره في المعاني المذكورة، فبأي شيء يتحقق ويعلم كون
«افعل» مستعملا فيما وضعه أهل اللغة وهو الأمر دون أن يكون مستعملا في المعني المجازي كالتهديد.
(3) أطلق.
(4) نفهم.
(5) * أي يعلم قصده ضرورة.
(6) اختلفت آراء الأصوليين في حقيقة الأمر وأنه بماذا صار الأمر أمرا؟، ولخص الشريف المرتضى (ره)
مذاهبهم بقوله: «اختلف الناس في ذلك، فذهب قوم إلي أن الأمر كان أمرا بجنسه ونفسه، وقال آخرون:
إنما كان كذلك بصورته وصفته، وقال آخرون: إنما كان كذلك لأن الآمر أراد كونه أمرا، وأجروه في هذه
القضية مجري الخبر، وقال آخرون: إنما كان الأمر أمرا لأن الآمر أراد الفعل المأمور به» [الذريعة 41: 1]،
و أما الشيخ الطوسي (ره) فإنه يعتقد ببطلان جميع هذه الوجوه والاحتمالات ويقول، إن صيغة الأمر وضعها
168

هو في مثل صورته (1) *.
فان ادعى ان ذلك غير ما هو موضوع (2) * للامر كان ذلك فاسدا من وجهين:
أحدهما: انهما يشتبهان على الحاسة ولا يفصل السامع بينهما من جهة
الادراك الا ترى ان السامع لا يفصل بين قوله: (أقيموا الصلاة) (3) وبين قوله:
(اعملوا ما شئتم) (4) من حيث الادراك وان كان أحدهما أمرا والاخر تهديدا.
والوجه الثاني: ان ذلك يبطل التوسع والمجاز لان معنى المجاز أن تستعمل
اللفظة الموضوعة لشئ في غير ما وضعت له فمتى قيل إن هذه اللفظة ليست تلك
بطل هذا الاعتبار.
ولا يمكن أيضا ان يقال: انه يكون أمرا لأنه خطاب ولا انه علم الامر ما امر
به ولا انه بصورته لان جميع ذلك يثبت فيما ليس بأمر فبطل اعتبار جميع ذلك.

أهل اللغة حقيقة لاستدعاء الفعل، ومجازا في غيره من التهديد والإباحة.
(1) * تفسير لما ليس بأمر باعتبار أنه من جنسه، والمراد بالصورة الهيئة فقط، بل ما يظهر على الجنس منه.
(2) * أي مغاير له باعتبار الجنس.
(3) البقرة: 110.
(4) فصلت: 40.
169

فصل [2]
(في ذكر مقتضى الامر هل هو الوجوب أو الندب
أو الوقف والخلاف (1) فيه).
نسب أكثر المتكلمين من المعتزلة وغيرهم وقوم من الفقهاء إلى أن الامر لا
يقتضي الايجاب وانما يقتضى ان الآمر أراد المأمور به ثم ينظر فيه فان كان حكيما
علم أن المأمور به حسن وليس بقبيح.

(1) تعد هذه المسالة من موارد الاختلاف وتضارب الآراء بين المتكلمين والأصوليين والفقهاء. والخلاف
بينهم يأتي بعد الاتفاق والتسليم على دلالة صيغة «افعل» على الأمر. ولا حاجة للتطويل في المقام وعد
الأقوال الشاذة والنادرة (والتي أوصلها ابن السبكي إلي أربعة وعشرين) بل نقتصر على أقوال أعيان القوم
الذين يعتد بآرائهم في المقام، وهي:
1) الوجوب = و هو مذهب جل الفقهاء وطائفة من المتكلمين، وهو مختار الشيخ مفيد، والشيخ
الطوسي (ره) من الإمامية، والشافعي وأتباعه، وأحمد بن حنبل، والجويني، والغزالي (في المنخول)، وأبي
الحسين البصري، وأحد قولي أبي على الجبائي، وفخر الدين الرازي ومن تبعه، وهو أيضا مذهب الأشعرية
فإن أبا التحسن الأشعري أملي على أصحاب أبي إسحاق المروزي ببغداد أن الأمر يقتضي الوجوب - كما رواه
الشيرازي في شرح اللمع، - وكذلك مذهب جميع الظاهرية - كما قاله ابن حزم - ومنهم ابن حزم الأندلسي،
و مشايخ العراق أصحاب أبي حنيفة كالكرخي والجصاص.
انظر: (الذريعة 51: 1، المعتمد 51: 1 - 50، شرح اللمع 206: 1، المستصفي 165: 1، المنخول: 134 و
105، والإبهاج 16: 2، الإحكام 269: 3، التذكرة: 30، روضة الناظر: 170، ميزان الأصول 213: 1).
170

وان كان قديما علم أن له صفة زائدة على الحسن وهي صفة الندب لان المباح
لا يجوز أن يريده الله تعالى.
وان كان الامر غير حكيم لا يعلم بأمره حسن الفعل أصلا لأنه يجوز أن يريد
القبيح والحسن جميعا (1).
وذهب قوم من المتكلمين وجل الفقهاء إلى أن الامر يقتضى الايجاب (2).

2) الندب = نسب هذا القول إلي كثير من المتكلمين وجماعة من الفقهاء كالشافعي في أحد قوليه
، و بعض المعتزلة وقد نفي الشيرازي في شرحه على اللمع هذه النسبة. إلا أن صريح كلام أبي الحسن البصري
في المعتمد يفيد اعتماد جماعة من المعتزلة هذا الرأي (المعتمد 69: 1).
انظر: (ميزان الأصول 215: 1، روضة الناظر: 170، شرح اللمع 206: 1، التبصرة: 27، المستصفي 1:
165، الإبهاج 2: 15).
3) إرادة المأمور به = وهو مذهب بعض الفقهاء، ومعتزلة البصرة كالجبائيين.
انظر: (المعتمد 51: 1، شرح اللمع 206: 1، الذريعة 51: 1، ميزان الأصول 216: 1).
4) الوقف بين الوجوب والندب = وأنه لا حكم للأمر بدون الفرينة، وهو مذهب الشريف المرتضى
(ره) من الإمامية، والقاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي في المستصفي.
انظر: (ميزان الأصول 213: 1، التبصرة: 27، الذريعة 51: 1، شرح اللمع 206: 1، روضة الناظر: 170،
المستصفي 165: 1، الإبهاج 15: 2).
5) الاشتراك اللفظي بين الوجوب والندب = وهو مذهب الشافعي - كما نسبه إليه الغزالي - ومذهب
مشايخ سمرقند كما تريدي، ومختار بعض الأشعرية.
انظر: (المستصفي 165: 1، ميزان الأصول 214: 1 و 216).
6) الإباحة = و هو مذهب بعض أصحاب مالك.
انظر: (شرح اللمع 215: 1، ميزان الأصول 215: 1، المستصفي 165: 1، روضة الناظر: 170).
(1) نقل أبو الحسين البصري عن أبي هاشم الجبائي قوله حول مختار معتزلة البصرة (المعتمد 51: 1): «إنها
تقتضي الإرادة، فإذا قال القائل لغيره: «افعل» أفاد ذلك أنه مريد منه الفعل، فإن كان القائل لغيره «افعل»
حكميا وجب كون الفعل على صلة زائدة على حسنه يستحق لأجلها المدح إذا كان المقول له في دار
التكليف، وجاز أن يكون واجبا، وجاز أن لا يكون واجبا، بل يكون ندبا» انظر أيضا التعليقة رقم (1) في
صفحه 170.
(2) النظر التعليقة رقم (1) صفحه 170.
171

وذهب كثير من المتكلمين إلى الوقف (1) في ذلك (2) وقالوا: لا نعلم بظاهر
اللفظ أحد الامرين ويحتاج في العلم بأحدهما إلى دليل وهو الذي اختاره سيدنا
المرتضى (3) رحمه الله (4) غير أنه وان قال ذلك بمقتضى اللغة فإنه يقول:
(انه استقر في الشرع أوامر الله تعالى وأوامر الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم وأوامر الأئمة عليهم السلام على الوجوب) (5).
والذي يقوى في نفسي ان الامر يقتضى الايجاب لغة وشرعا ويحتاج أن ينظر
في حكم الامر فان كان حكيما علم أن له صفة الوجوب وان لم يكن حكيما لم يعلم
بأمره صفة الفعل لأنه يجوز أن يوجب ما هو قبيح وما هو واجب وما ليس بواجب
ولا قبيح فظاهر امره لا يدل على أحدهما.
والذي يدل على ذلك: انى وجدت العقلاء بأسرهم يوجهون الذم إلى العبد إذا
خالف امر سيده ويوبخونه على ذلك فلولا انهم علموا ان الامر يقتضى الايجاب لما
جاز منهم ذمه على حال لأنه ان كان مقتضيا للندب فلا يستحق تاركه الذم وان كان
مشتركا احتاج إلى بيان المراد فلا يستحق الذم إذا تركه وخالفه وفي علمنا بذلك
دليل على صحة ما اخترناه.
وليس لاحد ان يعلق ذم العقلاء للعبد بقرينة تنضاف إلى الامر عقل منها

(1) ليس المقصود من الوقف هو الامتناع عن اتخاذ الموقف العملي تجاه صيغة الأمر مطلقا، بل المقصود هو
تفسير الغزالي (في المستصفي 1: 165) حيث يقول: «لسنا نقول: التوقف مذهب لكنهم أطلقوا هذه الصيغة
للندب مرة وللوجوب أخرى، ولم يوقفونا على أنه موضوع لأحد هما دون الثاني، فسبيلنا أن لا ننسب إليهم ما
لم يصرحوا به، وأن نتوقف عن التوقف والاختراع عليهم.
(2) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 170.
(3) الذريعة إلي أصول الشريعة 1: 51.
(4) قدس الله روحه.
(5) يقول الشريف المرتضى (ره) (الذريعة: 1 / 53): «نحن وإن ذهبنا إلي أن هذه اللفظة مشتركة في اللغة بين
الندب والإيجاب، فنحن نذهب إلي أن العرف الشرعي المتفق المستمر قد أوجب أن يحمل مطلق هذه
اللفظة إذا وردت عن الله تعالي، أو عن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم على والوجوب دون الندب».
172

الايجاب ولأجل (1) ذلك ذموه لان ذلك يفسد من وجهين:
أحدهما: (ان العقلاء) (2) إذا ذموه علقوا الذم بمخالفة الامر دون غيره حتى
إذا استفسروا عن ذلك عتبوا عليه وقالوا: لأنه خالف امر مولاه.
والثاني: انه لو كان الامر على ذلك لوجب أن لا يذمه الا من عرف تلك القرينة
وفي علمنا بذمهم له - وان لم يعلموا أمرا اخر أكثر من مخالفته للامر - دليل على تعليق
الذم بذلك حسب ما قلناه.
فاما قول من قال: انه يقتضى إرادة المأمور به فحسب (3) فقد بينا في الفصل
الأول ان الامر لا يدل على إرادة المأمور به من حيث كان أمرا وانه إذا دل فإنما دل
لأمر اخر غير مطلق الامر فسقط الاعتراض بذلك.
ولا يمكن ان يدعى الاشتراك (3) من حيث وجدت أوامر كثيرة مستعملة في
الندب لان ذلك انما يكون كذلك على ضرب من المجاز وقد بينا ان الاستعمال
ليس بدلالة على الحقيقة لأنه حاصل في الحقيقة والمجاز.
فان قيل: ما أنكرتم على من قال: انهم عقلوا هناك قرينة لأجلها ذموا العبد إذا
خالف سيده؟ وذلك أنه إذا امره بمنافع نفسه فان فوتها يضربه فلابد أن يكون موجبا
عليه وإذا امره بمنافع يعود إلى العبد ولا يستضر هو بفوتها لم يدل على ذلك ولا
يذمونه متى خالف.
قيل له: هذا يسقط بالوجهين الذين قدمناهما:
أحدهما: انهم علقوا (4) الذم بمخالفة الاخر دون غيره وكان ينبغي على ما
اقتضى هذا السؤال أن يعلقوا الذم بدخول الغرم على السيد أو فوت المنفعة وقد
علمنا خلاف ذلك.

(1) فلأجل.
(2) زيادة في النسخة الثانية.
(3) انظر التعليقة في صفحة 170 هامش رقم (1).
(4) في الأصل: تعلقوا.
173

والاخر: انه يذمه من لا يعلم أن السيد يستضر بمخالفته وانه ينتفع بامتثاله فلو
كان الامر على ما قيل لما جاز ان يذمه الا من عرف ذلك وقد علمنا خلاف ذلك.
على انا لا نم ذلك لان السيد قد لا يستبصر بمخالفة عبده ويستحق العبد
مع ذلك الذم إذا خالفه الا ترى إلى من قال لغلامه: (اسقني الماء) فلم يسقه وكان
هناك غلامه آخر فسقاه فان العقلاء يذمون العبد المخالف وان كان السيد لم يدخل
عليه ضرر لأنه قد بلغ غرضه ومراده فلو كان لما قالوه لما حسن ذلك على حال.
وكذلك يذمونه وان خالف منافع يرجع إلى العبد الا ترى انه لو قال له: (اغسل
ثيابك وادخل الحمام وكل الخبز) وما أشبه ذلك فلم يفعل يحسن منه أن يؤدبه
على ذلك ويذمه فلولا ان ذلك كان يجب عليه والا لم يحسن ذلك.
وليس لهم ان يقولوا: انه إذا خالفه فيما عددتموه عاد ذلك بالضرر عليه
فلأجل ذلك حسن ذمه.
وذلك: انه ان كان الامر على ما قالوه سقط فرقهم بذلك بين منافع تخصه وبين
منافع يرجع إلى السيد لأنهم راموا بذلك ان يفصلوا بين ان يستحق الذم بمخالفة امر
سيده لمنافع تعود إليه وبين منافع ترجع إلى العبد وعلى هذا الفرض لا فصل بينهما
لان في كلا الحالين (1) يعود إلى الضرر بالمخالفة على السيد فبطل الفصل. ومن سوى
بينهما كان الجواب عنه ما تقدم.
ويدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى مخاطبا لإبليس: (ما منعك الا
تسجد إذ أمرتك) (2) فقرعه (3) على مخالفته الامر فلولا ان امره كان يقتضى
الايجاب والا لم يستحق التوبيخ.
وليس لهم ان يقولوا: انه انما ذمه لأنه كان قد دله على أن ما امره به واجب

(1) في الأصل: كلا الحالتين.
(2) الأعراف: 12، أيضا راجع: «التبيان في تفسير القرآن 359: 4 - 357».
(3) التقريع: التأنيب والتعنيف. وقيل: هو الإيجاع باللوم، وقرعت الرجل إذا وبخته وعذلته. (لسان
العرب 121: 11).
174

بقرينة اقترنت إلى الخطاب لان الذي ذكروه مخالف للظاهر لان الله تعالى انما علق
ذمه بمخالفة الامر دون القرينة فمن ادعى قرينة احتاج إلى دلالة.
وليس لهم أن يقولوا: ان قوله: (ما منعك الا تسجد) (1) ليس بتوبيخ وانما
هو تقرير على الذي حمله على مخالفه الامر وذلك أن هذا خلاف الاجماع لأنه لا
خلاف بين الأمة في أن هذا القول ذم لإبليس فمن قال ليس كذلك سقط قوله.
ويدل أيضا على ذلك قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن امره) (2)
فحذرنا من مخالفة أوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلولا انها كانت مقتضية
للايجاب والا لم يجب الحذر من مخالفته.
فان قالوا: المخالفة ليس هو ان لا يفعل ما اقتضاه الامر بل المخالفة هو رد
القول وان يقال: ليس كذلك لان الذي ذكروه ضرب من المخالفة وقد يكون
المخالفة ترك المأمور به الا ترى ان القائل إذا قال لغيره (قم أو اقعد) فمضى وقام
يقال انه خالفه فكل واحد من الامرين مخالفة ونحن نحمل الآية عليهما جميعا.
وليس لهم ان يقولوا: ان قوله: (فليحذر) قرينة تدل على أن امره على
الوجوب دون أن يكون ذلك بمقتضى اللغة لأنه متى لم يكن الامر مقتضيا للايجاب
لم يحسن التحذير (3) * من مخالفته الا ترى انه لا يحسن ان يحذرنا من مخالفه ما
ندبنا إليه لما لم يكن لها (4) صفة الوجوب ويحسن ذلك فيما يوجبه علينا فعلم

(1) الأعراف: 12، أيضا راجع: «التبيان في تفسير القرآن 359: 4 - 357».
(2) النور: 63، وأيضا راجع: «التبيان في تفسير القرآن 467: 7 - 465».
(3) * يعني المقصود من قوله تعالي (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) توبيخ للمخالفين لا بيان كون أمره
علي الوجوب، فهو إنما يحسن لو علم أن أمره دال على الوجوب قبل هذا التوبيخ والتحذير، لأنا نعلم أنه لا
يحسن أن يحذرنا مخالفة ما ظاهره الندب من دون قرينة على الوجوب.
(4) له.
175

بذلك ان التحذير انما يحسن إذا كان الامر مقتضيا للايجاب.
ويدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه ما روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال لبريرة (1) *: (ارجعي إلى زوجك فإنه أبو ولدك وله عليك حق).
فقالت يا رسول الله: أتأمرني بذلك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا وانما انا شافع) (2) فعدل عن الامر إلى
الشفاعة فلولا انه كان يقتضي الايجاب والا لم يكن فرق بينه وبين الشفاعة لان
شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرغب في اجابتها فعلم بذلك ان امره كان
يقتضي الإيجاب، فلأجل ذلك لم يأمرها لأنه أراد ترغيبها في ذلك ولم يرد الايجاب.
ويمكن أن يعتمد في أن الامر يقتضى الايجاب على أن يقال: ان الاحتياط
يقتضى ذلك لأنه متى امتثل المأمور به فان كان مقتضاه الندب فقد فعله على كل
حال وان كان مشتركا فقد امن الذم والعقاب من مخالفته لو كان واجبا وان كان واجبا
فقد امتثل المأمور به فالاحتياط يوجب عليه ذلك على المذاهب كلها.
الا ان هذا وان أمكن فإنما يمكن أن يقال: يحجب عليه ان يفعل المأمور به ولا
يعتقد فيه ان له صفة الوجوب لأنه ان اعتقد ذلك وهو لا يامن أن لا يكون كذلك
يكون اعتقاده جهلا وانما يسلم له ذلك إذا خلا من اعتقاد في المأمور به واقتصر على
نفس الفعل فإذا فعل ذلك كان ذلك معتمدا.

(1) * بريرة بم الموحدة وفتح المهملتين وسكون الخاتمة كانت جارية لعائشة ولها زوج، فلما أعتقتها عائشة
اختارت مفارقة زوجها.
(2) روي المتقي الهندي في كنز العمال: «عن ابن عباس: أن زوج بريرة كان عبدا لبني فلان ناس من الأنصار
يقال: له مغيث، والله لكأني انظر إليه الآن يتبعها في سكك المدينة وهو يبكي! فكلم رسول الله صلي الله عليه
و آله وسلم بريرة أن ترجع إلي زوجها، فقالت: يا رسول الله، أتأمرني بذلك؟ فقال: إنما أنا شفيع له، فقالت: لا
والله لا أرجع إليه أبدا» [كنز العمال 547: 16 رقم 45838] والحديث أخرجه البخاري في كتاب الطلاق
باب (شفاعة النبي في زوج بريرة)، وابن ماجة في كتاب الطلاق باب (خيار الأمة إذا أعتقت)، وأبو داود في
باب (المملوكة تعتق تحت حر أو عبد).
176

ويدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه رجوع المسلمين بأجمعهم من عهد رسول
الله (1) إلى زماننا (2) هذا في وجوب الافعال واحتجاجهم في ذلك إلى أوامر الله تعالى
وأوامر رسوله الله (3) فلولا انهما يقتضيان الايجاب والا لم يجز ذلك.
وكان للمحتج عليه ان يقول: وأي شئ في ذلك مما يقتضى الايجاب؟ في الامر
لا يقتضى الايجاب.
وفي علمنا باجماعهم على ذلك دليل على صحة ما قلناه.
وليس لاحد ان يقول: انهم عقلوا ذلك بقرينة دلتهم على ذلك. لان هذا دعوى
محضة ومن ادعى القرينة فعليه ان يوردها ولم نر المحتجين بأوامر الله تعالى وأوامر
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ذكروها على حال فهذه أيضا طريقة معتمدة.
ومن الفقهاء والمتكلمين (4) من استدل على أن الامر يقتضى الايجاب بان
قالوا: ان الايجاب حكم معقول فلابد من أن يكون أهل اللغة وضعوا له عبارة لان
الحاجة إليه ماسة وليس نجد عبارة تستعمل في ذلك الا هذه اللفظة فينبغي أن تكون
مفيدة للايجاب.
واعترض على هذا الدليل من خالفهم بان قالوا: هذه محض الاقتراح ولم
يجب على أهل اللغة ان يضعوا لذلك عبارة الا انهم قد وضعوا لكل امر معقول عبارة
فان ادعيتم ذلك كان الوجوب (5) بخلافه لأنا نعلم أن اختلاف الآراء يبيح أمورا

(1) النبي صلي الله عليه وآله وسلم.
(2) زماننا هذا.
(3) رسوله صلي الله عليه وآله وسلم.
(4) هذه إحدى الأدلة التي نسبها الشريف المرتضى (ره) (الذريعة: 1 / 55) إلي القائلين بالوجوب واحتج بها
أبو الحسين البصري (المعتمد 59: 1 - 58) للدلالة على أن صيغة الأمر للوجوب، يقول: «دليل آخر:
الإيجاب معقول لأهل اللغة، وتمسهم الحاجة إلي العبارة عنه، فلو لم يفده الأمر، لم يكن له لفظ!».
(5) الوجود.
177

معقولة ولم يضعوا لكل واحد منها عبارة تخصه كما فعلوا ذلك في الألوان وكك لم
يضعوا لاختلاف الأكوان (1) اسما كما وضعوا لاختلاف ألوان وأمور كثيره معقولة لم
يضعوا لها عبارة فما المنكر من أن يكون حكم الايجاب ذلك الحكم؟
ولو سلم ذلك لقد وضعوا لذلك وهو قولهم: (أوجبت عليك) و (الزمتك إياه) أو (فرضت عليك) أو متى لم تفعله استحقت الذم والعقاب وهذه عبارات تفيد ما
اقترحتموه (2).
على أن الندب أيضا معنى معقول والإباحة معنى معقولة ولم يضعوا لها
عبارة.
فان قلتم: قد وضعوا لهما عبارة وهي قولهم (3): (ندبتك إليه) أو (أبحتك إياه).
قيل لكم: في الايجاب مثله.
فان قلتم: قولهم: (أوجبت) و (الزمت) انما هو خبر وليس بأمر.
قيل لكم: وكذلك قولهم (4) (ندبت) و (أبحت) خبر محض وليس بأمر فاستوى
القولان.
فاما الاستدلال بقوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) (5) على أن
أمرهما يقتضيان الايجاب.
فلا يصح لان الآية تضمنت الامر بالطاعة لهما والكلام في الامر وقع هل
مقتضاه الايجاب أم لا؟ فالاستدلال بها لا يصح (6).

(1) المقصود من الكون هو ما يحصل للشيء بسبب تحيزه في ظرف معين من المكان، وقد قسم المتكلمون
الكون إلي أربعة أقسام الحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق.
(2) انظر: الذريعة 55: 1 و 60.
(3) في الأصل: قولك.
(4) في الأصل: قولكم.
(5) النساء: 59.
(6) انظر: المعتمد في أصول الفقه 65: 1.
178

واما قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك) إلى قوله: (مما
قضيت ويسلموا تسليما) (1) فلا يمكن الاعتماد عليه أيضا في أن الامر يقتضى
الايجاب لان القضاء في الآية بمعنى الالزام وليس بمعنى الامر والالزام هو
الايجاب (2).
وكذلك قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن
يكون لهم الخيرة من أمرهم) (3) لا يمكن الاعتماد عليه لان القضاء بمعنى الالزام
على ما بيناه.
على أن من قال: ان الامر يقتضى الندب لا يقول: ان لهم الخيرة بل يقول: ان
الفعل بصفة الندب والأولى فعله والتخيير انما يثبت في المباح المحض وليس ذلك
قولا لاحد.
وقوله: (ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) (4) لا يمكن أيضا
الاعتماد عليه والذي قلناه هو الاعتراض عليه لان العصيان قد يكون بمخالفة المندوب إليه ولأجل هذا حملنا
قوله: (وعصى آدم ربه فغوى) (5) على أنه خالف ما ندب إليه وقد يتجاوز ذلك إلى
أن يقال فيمن خالف المشورة بأنه عصى فيقولون: (أشرت عليك فعصيتني) فلا
يمكن الاعتماد عليه.
والذي قلناه: هو الاعتراض على قول من قال (6): لو لم يقتض الامر الايجاب لما
سمي من خالفه عاصيا لأنا قد بينا أن العصيان قد يطلق على مخالفة المندوب إليه.

(1) النساء: 65.
(2) انظر: المعتمد في أصول الفقه 65: 1.
(3) الأحزاب: 36.
(4) الأحزاب: 36.
(5) طه: 121.
(6) نسب الشريف المرتضى (ره) (الذريعة: 1 / 55) هذا الدليل إلي من ذهب إلي وجوب الأمر واستدل عليه
بطرق اعتبارية،
179

فاما وصف الله تعالى إبليس بالعصيان فإنه علم أنه فعل قبيحا بتركه
السجود المأمور به وقد دللنا على أن الامر يقتضى الايجاب فلم يخرج من بابه.
ومن قال بالندب قال علم ذلك بدليل غير الامر فلا يمكن الاستدلال به.
فاما من اعتمد على أن الامر بالشئ نهى عن ضده لفظا أو معنى فلأجل ذلك
اقتضى الايجاب فلا يمكن الاعتماد عليه لان عندنا ليس الامر بالشئ نهيا عن
ضده وسنبين ذلك فيما بعد (1) فلا يمكن الاعتماد على ذلك.
ولا يمكن أيضا ان يعتمد على أن يقال (2): إن الامر يدل على أن الامر مريد
للمأمور به وإذا كان كذلك فلابد أن يكون كارها لضده (2) لان ذلك يفسد من وجهين:
أحدهما: انا قد بينا (3) ان الامر لا يقتضى إرادة المأمور به أصلا فلا يصح ذلك
ثم لو اقتضى ذلك لم يجب ان يكون كارها لضده.
والوجه الثاني: ان ذلك يقتضى أن تكون النوافل واجبة لأنها مرادة وقد علمنا أنها
ليست مكروهة الضد (4).
ولا يمكن أيضا ان يقال: ان نفس الإرادة للشئ كراهية لضده (5) لان ذلك
يفسد من وجهين أيضا:

(1) انظر تفصيل الأقوال واختلاف الآراء في هذه المسالة في صفحة 196 هامش رقم (1).
(2) هذا دليل أبي إسحاق الشيرازي لإثبات أن الأمر يقتضي النهي عن ضده، يقول في (التبصرة: 90،
و شرح اللمع 262: 1 - 261: «ويدل عليه هو أن الأمر يقتضي كراهية ضده وقبحه، وذلك يقتضي تحريمه،
فيجب أن يكون الأمر بالشيء تحريما لضده» انظر أيضا: (المعتمد 98: 1).
(3) انظر التعليقة رقم (1) في صفحة 170
(4) أجاب أبو إسحاق الشيرازي عن هذا الاعتراض بجوابين، ومختاره في المقام هو تعميم حكم النهي عن
الضد ليشمل المستحبات أيضا. انظر: (التبصرة: 90 - 91)
(5) الذريعة إلي أصول الشريعة 56: 1.
180

أحدهما: ان الشئ الواحد لا يجوز أن يكون بصفتين ضدين فكيف يمكن أن
يدعى ان لإرادة بصفة الكراهة.
والثاني: ان ذلك ينتقض بالنوافل لأنها مرادة وليس مكروهة الضد.
ولا يمكن أيضا ان نعتمد بأن يقال: ان الامر يقتضى المأمور به وليس على
جواز تركه دليل.
لان للقائل ان يقول: انه لعمري يقتضى المأمور به ولكن الكلام في أنه كيف
يقتضيه هل هو على جهة الوجوب أو جهة الندب؟
ولا يمكن أيضا ان يقال: ان الامر أراد المأمور به على جهة الايجاب لان ذلك
متى لم يشر به إلى ما قلناه من أن الامر يقتضى الايجاب أو ان يقال: انه إذا أراد المراد
فلابد من أن يكون كارها لضده أو إرادة الشئ كراهة لضده لا يعقل فان أريد بذلك
الوجه الأول [فذلك صحيح وينبغي أن يقتصر على أن يقال ان الامر يقتضى
الايجاب] (1) ولا يتعرض في العبارة.
وان أريد به ما عدا ذلك فقد أبطلنا صحة ذلك.
ولا يلزم القائلين بالندب ان يقال لهم: ينبغي على قولكم الا يكون فرق بين
الامر بالنوافل والفرائض.
لأنهم يقولون: ان بمجرد الامر لا فرق بينهما وانما علمنا حكم الفرائض وانه
يستحق بتركه العقاب بدليل غير الامر.
ولا يلزمهم أيضا ان يقال لهم: ينبغي أن يكون الامر لا يدل على أكثر من حسن
المأمور به فقط إذا كان صادر من حكيم ويلزم على ذلك أن يكون الله تعالى مريدا
للمباحات (2) * لأنها حسنه.

(1) زيادة من النسخة الثانية.
(2) * أي جائزا أمره بالمباحات.
181

لأنهم يقولون: المباحات (1) * وان كانت حسنة فلا يحس من القديم تعالى ان
يريدها في دار التكليف لان ذلك عبث لا فائدة فيه.
فالاعتماد على ما قلناه وأحكمناه.

(1) * حاصله أن مجرد الأمر يمكن تعلقه بالمباح، لكن أمر الله تعالي في دار التكليف لا يمكن تعلقه بالمباح
بدليل من خارج.
182

فصل [3]
(في حكم الامر الوارد عقيب الحظر)
ذهب أكثر الفقهاء ومن صنف أصول الفقه إلى أن الامر إذا ورد عقيب الحظر
اقتضى الإباحة (1) * (2).
وقال قوم (3): ان مقتضى الامر على ما كان عليه من ايجاب أو ندب أو وقف (4) ولا (5) اعتبار بما تقدم وهذا هو الأقوى عندي.
والذي يدل على ذلك: ان الاعتبار في هذه الألفاظ بظواهرها وموضوعها في
اللغة لأنا متى لم نراع ذلك لم يمكننا الاستدلال بشئ من الكلام وإذا ثبت ذلك
وكانت صيغة الامر وصورته بعد الحظر كما كانت قبل الحظر وجب أن يكون

(1) * أي رفع الحظر فقط لا الإباحة الاصطلاحية.
(2) وهذا مختار الشيخ المفيد، والشافعي (نص على الندب في أحكام القرآن، والأصح أنه يذهب إلي
الوجوب) ومن تابعه، ومالك وأصحابه، وأحمد بن حنبل. انظر: (التبصرة: 38، الذريعة 73: 1، المعتمد 1: 75،
ميزان الأصول 228: 1، التذكرة 30، روضة الناظر: 174).
(3) وهذا مذهب الشريف المرتضى، والمعتزلة، والشافعي، وابن السمعاني، والقاضي أبي الطيب، وأبي إسحاق
الشيرازي، انظر: (الذريعة 73: 1، التبصرة: 38، المعتمد 75: 1، الإحكام 333: 3 روضة الناظر: 174، ميزان
الأصول 228: 1).
(4) في الأصل: من الإيجاب والندب والوقف.
(5) فلا.
183

مقتضاها على ما كان الا أن يدل دليل (1) * على خلاف ذلك فتحمل عليه كما إذا دل
دليل ابتداء على خلاف مقتضاها في أصل الوضع حمل مما عليه.
والذي يدل أيضا على ذلك: ان كون الامر واردا عقيب الحظر اللفظي ليس
بأكثر من كونه واردا عقيب الحظر العقلي الا ترى ان الصلاة ورمى الجمار وغير ذلك
من الشرعيات قبيح بالعقل فعلها ومع ذلك لما ورد الشرع بها وتناولها الامر حمل
ذلك على الوجوب أو الندب على الخلاف فيه ولم يكن ما تقدمها من الحظر العقلي
موجبا لا باحتها.
وكذلك حكم الامر إذا ورد عقيب الحظر اللفظي ينبغي أن يكون حكمه حكم
ما ورد ابتداء ولا يؤثر في تغيير ذلك ما تقدم من الحظر الا بدليل.
فاما تعلقهم في ذلك بان قالوا (2): الحظر لما كان منعا من الفعل ينبغي أن يكون
الامر رافعا لذلك وذلك يفيد الإباحة.
فان الذي يقتضيه هذا الاعتبار انه ينبغي أن يكون الامر مخالفا لحكم الحظر
وكذلك نقول وقد يكون مخالفا له بأن يقتضى الوجوب أو الندب أو الإباحة فمن
أين ان المراد أحدهما دون الاخر؟ وكل ذلك يزيل حكم الحظر فسقط التعلق بذلك.
فاما تعلقهم في ذلك بان أوامر القران الواردة عقيب الحظر كلها كذلك نحو قوله
تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا) (3) ونحو قوله: (وإذا حللتم فاصطادوا) (4)
وما جرى مجرى ذلك (5) فينبغي أن يكون حقيقتها ذلك (6). فليس (7) بصحيح لأنا

(1) * الظاهر أن المراد به الدليل الدال على كون المعني المجازي كالإباحة مستعملا فيه في بعض الأفراد،
و يحتمل أن يكون المراد الدليل الدال على أن هذا الأمر حقيقة في الإباحة مطلقا.
(2) انظر التبصرة: 38.
(3) الجمعة: 10.
(4) المائدة: 2.
(5) نحو قوله تعالي: (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله) [البقرة: 222].
(6) انظر: (التبصرة: 40، المعتمد 77: 1، ميزان الأصول 228: 1).
(7) في الأصل: ليس.
184

نقول: انما علم ذلك بدليل غير الظاهر ولو خلينا والظاهر لحكمنا في هذه الأوامر ما
كنا نحكم فيها ابتداء من غير أن يتقدمها حظر فالتعلق بذلك لا يصح.
على أنه قد ورد في القران عقيب الحظر الامر وان لم يوجب الإباحة نحو قوله
تعالى: (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله) (1) (2) * وحلق الرأس بعد بلوغ
الهدي محله ليس بمباح بل هو نسك وذلك يخالف ما أصلوا القول فيه.

(1) البقرة: 196، انظر أيضا: «التبيان في تفسير القرآن 160: 2 - 154».
(2) * ليس فيها لفظ الأمر فلعل المراد أنه لو لم يكن فيه صريح الأمر وكان واجبا يدفع الحظر، فصريح الأمر
بطريق الأولي.
185

فصل [4]
(في أن الامر بالشئ هل هي امر بما لا يتم الا (1) * به أم لا (2) *؟)
اعلم أن الامر إذا ورد فلا يخلو من أن يكون متناولا لمن كان على صفة
مخصوصة أو يكون مطلقا:
فان كان متناولا لمن كان على صفة وجب أن يكون مقصورا على من كان
عليها ومن ليس عليها لا يلزمه ان يجعل نفسه عليها ليتناوله الامر الا أن يدل دليل

(1) * يستثني إلا به قسمان: الأول ما لا يمكن عقلا وجود ذلك الشيء إلا به ويسمي مقدمة عقلية، الثاني ما لا
يفيد ذلك الشيء فائدته المطلوبة إلا به ويسمي مقدمة شرعية.
(2) اختلف الأصوليون في حكم هذا الأمر، أما الشيخ المفيد (ره) فقد أطلق القول بالوجوب ولم يفصل، يقول:
«ما لا يتم الفعل إلا به فهو واجب كوجوب الفعل المأمور به»، (التذكرة: 31)، وهو مذهب الغزالي (في
المنخول ص 117)، أما الشريف المرتضى (الذريعة: 1 / 83) فقد فرق بين السبب والشرط فإن «كان الذي
لا يتم ذلك الشيء إلا به سببا فالأمر بالمسبب يجب أن يكون أمرا به، وإن كان غير سبب وإنما هو مقدمة
للفعل وشرط فيه، لم يجب أن يعقل من مجرد الأمر أنه أمر به». وأما الشيخ الطوسي فإنه فصل بين ورود الأمر
مطلقا و وروده متناولا لمن كان على صفة مخصوصة، وهذا مذهب بعض العامة كالشيرازي [شرح اللمع 1:
259]. وأما المعتزلة فلهم تفصيل فيما لا تتم العبادة إلا معه حيث ميزوا بين ما لا يمكن المكلف تحصيله
كالقدرة وما يمكنه تحصيله، فالأول لا يدل الأمر بالعبادة على وجوبه دون الثاني (المعتمد 95: 1 - 94)،
و هذا مذهب بعض متقدمي فقهاء العامة، وآخرون منهم فصلوا بين السبب الشرعي والعقلي فأوجبوه في
الأول دون الثاني (ميزان الأصول 258: 1 - 254).
186

على وجوب تحصيل تلك الصفة له فحينئذ يلزمه لمكان الدليل وذلك نحو قوله
تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (1) فأوجب الحج على
من كان مستطيعا فمن ليس بمستطيع لا يلزمه تحصيل الاستطاعة ليدخل تحت
الامر وكك لما أوجب الزكاة على من ملك مائتي درهم أو عشرين دينارا فمن
ليس معه النصاب لا يلزمه تحصيل النصاب ليدخل تحت الامر.
وان كان الامر مطلقا نظر فيه فان كان لا يصح على وجه ما الا بفعل اخر وجب
تحصيل ذلك الشئ ليتم معه المأمور به وذلك نحو الامر بالمسبب وهو لا يحصل
الا عن سبب فلابد من أن يكون السبب واجبا عليه الا ترى ان من أوجب على غيره
ايلام غيره وذلك لا يحصل الا من ضرب فلابد من أن يلزمه الضرب ليحصل عنده
الألم ولهذه الجملة قلنا: ان الكافر إذا كان مخاطبا بالشرائع على ما نبينه يلزمه
الاسلام لأنه لا يصح منه ايقاع الفعل على وجه القربة وكونها شرعية وكونه كافر
يمنع من ذلك.
وان كان ذلك المأمور يصح على وجه ما حصوله الا انه قد علم بالشرع انه لا يكون
شرعيا الا بفعل اخر جرى مجرى الأول في وجوب تحصيل ذلك الامر حتى
يصح المأمور به وذلك نحو قوله: (أقيموا الصلاة) (2) وقد علمنا أن الصلاة لا تصح
الا بالطهارة وستر العورة وغير ذلك من الشرائط ولا شرعية الا كذلك وجب
عليه تحصيل كل ما لا يتم الصلاة الا بها من الطهارة وغيرها.
وان لم يدل دليل على وجوب فعل اخر غير أنه قيل: (إذا كان امر من الأمور
وجب عليك كذا) فإنه لا يجب عليه تحصيل ذلك الامر ليلزم ما أوجب عليه عند
حصوله ولذلك قلنا ان قوله تعالى: (واتوا الزكاة) (3) لا يقتضى وجوب تحصيل

(1) آل عمران: 97.
(2) البقرة: 43.
(3) البقرة: 43.
187

النصاب لما لم يدل دليل شرعي على ذلك وفرقنا بينه وبين قوله: (وأقيموا
الصلاة) (1) على ما بيناه.
فاما استدلال أهل العراق (2) على أن ستر الركبة واجب لان ستر العورة (3) * لا
يتم إلا به (4) فبعيد لان ذلك ليس بمستحيل بل يمكن ستر العورة وان لم تستر الركبة
إذا سلم لهم ان الفخذ عورة وان كان عندنا الامر بخلافه اللهم إلا (5) * ان يدل دليل
اخر على أن ستر العورة لا يتم الا بستر الركبة فحينئذ يجب عليه الامر بستر العورة.
واما ما قاله الشافعي في قوله: (أو عدل ذلك صياما) (6) في أنه إذا كان بدل
كل يوم مدا من طعام فنقص عن المد يجب صوم يوم تام لان صوم بعضه لا يتم الا
بصوم جميعه (7) فصحيح لأنا قد علمنا بالشريعة ان بعض اليوم لا يكون صوما
فأوجبنا تمام اليوم لذلك وجرى ذلك مجرى الامر بالصلاة وانه لا تكون كذلك الا
بالطهارة فأوجبنا الطهارة ولو لم يدل دليل على ذلك لما كنا نوجب عليه إلا ذلك
القدر الذي يصيبه.

(1) البقرة: 43.
(2) المقصود بهذا الاصطلاح أبو حنيفة وأصحابه وأتباعه العراقيين ممن يتبعون الرأي والقياس أمثال حماد بن
سليمان (المتوفي سنة 120 ه‍) وربيعة الرأي (المتوفي سنة 136 ه‍) وزفر بن الهذيل المتوفي سنة 158 ه‍)
و ابن أبي ليلي (المتوفي سنة 148 ه‍) وأبو يوسف القاضي (المتوفي 182 ه‍) ومحمد بن الحسن الشيباني
(المتوفي سنة 189 ه‍) وآخرون غيرهم.
(3) * القوم يتسامحون في جعل ما يتوقف عليه العلم بالشيء من جملة ما يتوقف عليه ذلك الشيء من حيث
دلالة الدليل على أن الذمة لا تبرأ من المأمور به إلا مع العلم بالإتيان، فكان العلم به هو المأمور به.
(4) الفتاوي الهندية 58: 1.
(5) * بأن يكون شرطا كما يدل دليل على أن الصلاة لا تتم إلا بالوضوء.
(6) المائدة: 95.
(7) الأم 185: 2 باب كيف يعدل الصيام.
188

فاما دخول المرفقين في باب وجوب غسلهما أو غسل اليدين فخارج عن هذا
الباب لان اسم اليدين (1) واقع على عضوين المرفقان داخلان فيهما فليس ذلك من
باب ما لا يتم الشئ الا به فمن ظن ذلك فقد أبعد.
واما ما يحكى عن ابن عباس في قوله: (وأتموا الحج والعمرة لله) (2) انه لما
كان الاتمام يقتضى الدخول وجب الدخول الذي لا يصح الاتمام (3) الا به.
فالذي يقوى عندي خلاف ذلك لأنه لا يمتنع ان يكون الامر متناولا لمن كان
قد دخل في الحج فحينئذ يلزمه اتمامه واما من لم يدخل فيه فليس يجب عليه
الدخول اللهم الا ان يدل دليل على وجوب الدخول غير الامر بالاتمام فحينئذ
يجب المصير إليه ولأجل ما قلنا وجب على من دخل في الحج تطوعا اتمامه وان
كان الدخول لم يكن واجبا عليه. وحجة الاسلام يجب الدخول فيها واتمامها لما دل
الدليل على ذلك.
وهذه جملة كافية ينبغي ان يجرى هذا الباب على هذا المنهاج انشاء الله
تعالى.

(1) * يعني تمام المرفق جزء من مسمي اليد، وذهب بعضهم إلي أن المرفق مركب من جزء من اليد وجزء من
العضد فيكون غسله من باب المقدمة.
(2) البقرة: 196.
(3) راجع: «التبيان في تفسير القرآن 155: 2 - 154».
189

فصل [5]
(في أن الامر يتناول الكافر والعبد كما يتناول المسلم والحر)
ذهب أكثر المتكلمين والفقهاء إلى أن الكافر مخاطب بالشرائع وكذلك العبد (1).

(1) مما اتفق عليه جل فقهاء العامة ومتكلميهم أن الكفار مخاطبون بالإيمان ومعاقبون على إنكار هم له يوم
القيامة، لكنهم اختلفوا في أن الخطابات الشرعية هل تشمل الكافر بحيث يجب عليه الأداء أم لا؟ فالجمهور
علي أن الخطابات الشرعية متوجهة إليهم، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، ومالك، ومشايخ الأحناف من أهل
الرأي في العراق، وبخارى بما وراء النهر، وعامة أهل الحديث، ورأي المعتزلة، والكرخي، وبه قال ابن حزم
الأندلسي، والشيرازي.
و ذهب شرذمة منهم إلي أن الكفار غير مخاطبين أصلا لا بالعبادات ولا بالمحرمات إلا ما قام عليه دليل
شرعي تنصيصا، وهذا مذهب السرخسي، والبزدوي، وأبي زيد الدبوسي، وأبي حامد الإسفرايني (أو
الرازي) من أهل الحديث.
وفصل بعضهم بين المنهيات والمأمورات في أن تشملهم دون الثاني، وهو مختار بعض أصحاب
الشافعي، انظر: (التبصرة: 81 - 80، شرح اللمع 277: 1، ميزان الأصول 309: 1 - 306).
واما الإمامية فقد ذهب الشريف المرتضى والطوسي (ره) إلي أن الكفار مخاطبون بالعبادات الشرعية
(الذريعة 75: 1). وأما العبيد فإن رأي جمهور العامة على شمول الخطابات الشرعية لهم وهو مذهب
الشافعي، والشيرازي، وابن حزم الأندلسي، والغزالي. وقال بعضهم لا يدخلون فيه إلا بدليل.
انظر: (المستصفي 24: 2، المنخول: 143، التبصرة: 75، شرح اللمع 272: 1، الإحكام 342: 3) وأما
الإمامية فإن مذهب الشريف المرتضى (الذريعة: 1 / 81) - وتابعه الشيخ الطوسي - هو أن (العبد يدخل في
190

وقال قوم شذاذ ليسوا بمخاطبين بها.
والذي اذهب إليه هو الأول والذي يدل على ذلك:
ان المراعى في كون المكلف مخاطبا بالشريعة ان يرد الخطاب على وجه
متناول (1) ظاهره ويكون متمكنا من ذلك فإذا ثبت هذا فمتى ورد الخطاب يحتاج
ان ينظر فيه فان كان خطابا للمؤمنين مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين امنوا) (2)
فينبغي ان يكون الخطاب يختصهم ولا يتناول الكافر الا ان يدل دليل على أنهم
مخاطبون به مثل المؤمنين فيحكم بذلك لأجل الدليل.
ومتى كان الخطاب متعلقا باسم يتناول الكافر والمسلم مثل قوله: (يا أيها
الناس) (3) و (لله على الناس) (4) و (وخذ من أموالهم) (5) وما جرى مجرى
ذلك فينبغي ان يحمله على عمومه وشموله في دخول الكافر والمسلم تحته الا ان
يدل دليل على خلافه فيحكم به ويخرج من جملة العموم.
وليس لاحد ان يقول: ان الكافر لا يصح منه فعل الصلاة ولا فعل الحج مع
كفره فلا يجوز ان يكون مرادا بالخطاب (6) وذلك أن الذي يجب ان يكون عليه حتى يصح تناول الخطاب له ان يكون
على صفة يصح معها أداء ما تناوله الامر أو يكون متمكنا من تحصيلها ويحسن
تكليفه في الحالين على حد واحد وإذا ثبت ذلك فالكافر وان لم يكن بصفة الايمان

الخطاب إذا تكامل شروطه في نفسه وكان ظاهر الخطاب يصح أن يتناوله)
(1) يتناوله.
(2) البقرة: 153.
(3) الأعراف: 158.
(4) آل عمران: 97.
(5) التوبة: 103.
(6) نسب الشريف المرتضى (الذريعة: 1 / 7) هذا القول إلي من خالفه فقال: «وقد تعلق من خالفنا بأن الكافر
لا يصح منه مع كفره شئ من العبادات، فيجب أن لا يكون مخاطبا بها».
191

فتصح منه العبادة فهو متمكن من فعل الايمان ويجب عليه تحصيله ليصح منه
العبادة لان ايجاب الشئ ايجاب ما لا يتم الشئ الا به على ما بيناه في الفصل الأول
في السبب والمسبب والطهارة والصلاة (1) وانه لا فرق بين ان يكون متطهرا في أنه
يلزمه فعل الصلاة وبين ان يكون متمكنا منها في أنه يلزمه كذلك وكذلك القول في
الكافر.
وليس يجري مجرى من قطع رجل نفسه في سقوط فرض الصلاة عنه قائما
لان مع قطع رجلهم يستحيل منه فعل الصلاة قائما فلأجل ذلك سقط عنه وليس
كذلك الكافر لان الايمان ممكن فيه ويجرى في هذا الباب مجرى من شد رجل نفسه
في أنه يلزمه فعل الصلاة قائما لأنه متمكن من حلها فيتمكن من فعل الصلاة قائما.
ويدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: (فويل للمشركين الذين لا
يؤتون الزكاة) (2) فذم الله تعالى المشركين بمنعهم الزكاة فلولا انهم يخاطبون بها
والا ما كانوا يستحقون الذم إذا لم يفعلوها.
ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى حاكيا عن الكفار: (قالوا لم نك من
المصلين) (3) فلولا انهم مخاطبون بها والا لم يعدوه من جملة ما عوقبوا عليه.
وليس ان يقولوا: انهم عدوا (4) من جملة ذلك قوله: (ولم نك نطعم
المسكين) (5) وان كان ذلك غير واجب عليهم.
وذلك أنه لا يمتنع ان يكونوا أرادوا بذلك منع الزكاة عن المساكين أو منع ما
وجب عليهم من الكفارات من اطعام المساكين على ما تضمنته الآية الأولى فلأجل
ذلك عوده في جملة ما عوقبوا عليه.

(1) انظر الفصل رقم (4) ص 189 - 186.
(2) فصلت: 7.
(3) المدثر: 43.
(4) في الأصل: عدوا.
(5) المدثر: 44.
192

ويدل أيضا على ذلك: ما لا خلاف فيه بين المسلمين من وجوب حد الزاني
عليهم إذا زنوا ووجوب القطع عليهم إذا سرقوا فلولا انهم مخاطبون بترك الزنا وترك
السرقة والا لم يجب عليهم الحد كما لا يجب على المجانين والأطفال لما لم يكن
ذلك واجب عليهم.
وتعلق من خالفنا في ذلك بان قال: الصلاة لا تصح منه فينبغي ان لا يكون
مخاطبا بها كما أن المقطوع الرجل لم يصح منه فعل الصلاة قائما لم يكن مخاطبا
بها.
وقد قلنا ما عندنا في ذلك فأغنى عن الإعادة (1).
وتعلقوا أيضا بان قالوا: لو كان الكافر مخاطبا بالصلاة لوجب عليه قضاؤها إذا
أسلم مثل المسلم إذا لم يصل وجب عليه قضاؤها (2).
وهذا أيضا غير صحيح لان القضاء فرض ثان يحتاج إلى دليل مستأنف
وليس ما دل على وجوب الفعل دل على قضائه الا ترى من فاتته الجمعة وصلاة
العيدين لا يلزمه قضاؤها وان كان مخاطبا بها في حال الأداء وكك ما دل على
وجوب القضاء لا يدل على وجوب المقضى لان الحائض يلزمها قضاء الصوم وان لم
يكن ذلك واجبا عليها في حال الحيض.
فان قالوا: الصوم وان لم يجب عليها في حال الحيض فهو واجب عليها على
وجه (3) *.
قلنا: ذلك ينتقض بالصلاة فإنها يجب عليها على وجه ومع ذلك لا يلزمها
أداؤها في حال الطهر.

(1) انظر ما قاله الشيخ الطوسي (ره) ردا على هذه الشبهة في صفحة 191.
(2) هذا الاحتجاج نسبه أبو إسحاق الشيرازي لبعض أصحابه القائلين عدم شمول الخطاب للكافرين، وقصد
بهذا البعض السمرقنديين من أهل الرأي. انظر: (التبصرة: 83 _ 80، شرح اللمع 1: 281).
(3) * لعل المراد به توجه الخطاب التكليفي إليها مع تخلف الذم على تركها للمانع، وليس المراد توجه الطلب
بالفعل إليها.
193

والكلام في العبد كالكلام في الكافر سواء لا فرق بينهما إذا كان داخلا تحت
الاسم.
وليس لهم ان يقولوا: ان العبد لا يملك تصرفه فكيف يجب عليه فعل
ذلك (1).
لأنا لا نسلم انه لا يملك تصرفه على كل حال لان الأوقات التي هي أوقات
مستثناة من جملة ما يملك منه من الأوقات فسقط الاعتراض بذلك.
واما الصبي الذي ليس بكامل العقل ولا مميز لما يجب عليه وان كان الاسم
يتناوله غير مراد لأنا نخصه من ذلك من حيث لا يحسن تكليف من ليس بكامل
العقل ومن لا يتمكن من فعل ما كلفه على الوجه الذي كلف.
فاما ما يتعلق بالأموال فهم داخلون تحت الاسم الذي يوجب ذلك من
الزكوات وقيم المتلفات وأروش الجنايات وغير ذلك لان قوله: (خذ من أموالهم
صدقة) (2) يدخل تحته البالغ والطفل فينبغي ان يجب ذلك وعلى هذا يجرى
الباب.
فاما المرأة فان كان الخطاب يختص النساء فلا خلاف انها داخلة تحت
الخطاب.
وان كان الخطاب يتناول اسم الجنس مثل قوله: (ولله على الناس حج
البيت) (3) فكمثله.
وان كان الخطاب يختص بالذكور (4) فمن الناس من قال إن النساء لا يدخلن فيه

(1) هذا الاحتجاج نسبه أبو إسحاق الشيرازي لبعض أصحابه القائلين بأن العبيد لا يدخلون في أوامر صاحب
الشرع إلا بدليل. انظر: (التبصرة: 76، شرح اللمع 273: 1).
(2) التوبة: 103.
(3) آل عمران: 97.
(4) أكثرا الأصوليون من العامة على عدم دخول النساء في خطاب الرجال، وممن اختار هذا المذهب الشافعي
و من تابعه من أئمة الشوافع، والأشاعرة، والمعتزلة، وجمهور الأحناف، والحنابلة، وبعض المالكية، وابن
194

الا بدليل وهو الظاهر من مذهب الشافعي وعليه كثير من الفقهاء.
وذهب الباقون إلى أنه يدخل مع الرجال لان الرجال والنساء إذا جمعوا في
الخطاب غلب حكم التذكير وهو الظاهر على مذهب أهل اللغة فينبغي ان يعتمد
عليه.
وهذه جملة كافية في هذا الباب.

حزم الأندلسي. وذهب شر ذمة منهم إلي دخولهن في جمع الرجال وهو مذهب أبي بكر بن داود الظاهري،
و بعض الأحناف كالسرخسي. انظر: (التبصرة: 77، شرح اللمع 273: 1، أصول السرخسي 234: 1،
الإحكام 342: 3 - 336).
وأما الإمامية فقد ذهب المفيد (ره) (التذكرة: 31) إلي أنه «إذا ورد الأمر بلفظ المذكر فهو متوجه
بظاهره إلي الرجال دون النساء ولا يدخل تحته شيء من الإناث إلا بدليل سواء». وأما الشريف المرتضى
(الذريعة: 1 / 82) فقد خالف شيخه وذهب إلي أن المرأة «لا تدخل بالظاهر ومن غير حاجة إلي دليل في
خطاب المذكر «وأما الشيخ الطوسي فإنه تابع مذهب المرتضى ورجحه. وبرغم هذا الاختلاف فإنهم اتفقوا
علي دخول المرأة إذا كان الخطاب بصيغة الجمع المذكر لأن مذهب أهل اللغة تغليب التذكير.
195

فصل [6]
(في أن الامر بالشئ هل هو نهى عن ضده أم لا (1))
ذهب أهل العدل من المتكلمين وكثير من الفقهاء إلى أن الامر بالشئ ليس
بنهي عن ضده (1).

(1) يمكن تلخيص أقوال واختلاف آراء فقهاء العامة ومتكلميهم كما يلي:
1 - الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضده
و هذا مذهب المعتزلة - حيث أنكروا الكلام النفسي - كالقاضي عبد الجبار، وأبي هاشم، وأبي الحسين
البصري، وهو مختار إمام الحرمين الجويني، وتبعه على ذلك الغزالي، وابن الحاجب.
2 - الأمر بالشيء نهي عن ضده لفظا
و هذا مذهب الأشاعرة المجبرة تبعا لشيخهم أبي الحسن الأشعري، وهو مختار القاضي أبي بكر
الباقلاني، وأبي بكر محمد بن أحمد السمرقندي، وأبي منصور الماتريدي، والجصاص، وابن حزم
الأندلسي، ونسب إلي عامة العلماء من الشافعية، والحنفية، والمحدثين بضدية الأمر لمطلق الأضداد.
3 - الأمر بالشئ نهي عن ضده معنا أي بالالتزام وا لتضمن
و هذا مذهب جمهور الفقهاء، وبعض المعتزلة كالكعبي، ومختار الأسفراييني، وأبي إسحاق الشيرازي،
و فخر الدين الرازي، وغيرهم.
هذه عمدة أقوالهم ومذاهبهم، ولهم في المسالة أقوال كثيرة وتفسيرات عديدة لا طائل تحتها.
انظر: «الإحكام للآمدي 252: 2، المعتمد 97: شرح اللمع 261: 1، الإحكام في أصول الأحكام 3:
326، المنخول: 114، المستصفي 52: 1، الإبهاج 76: 2، التبصرة: 90 - 89، ميزان الأصول 264: 1،
258».
196

ومنهم من قال: انه نهى عن ضده معنى (1).
والذي اذهب إليه ان الامر بالشئ ليس بنهي عن ضده لفظا واما من جهة
المعنى فعلى المذهب الذي اخترناه وهو ان الامر يقتضى الايجاب (1) وإذا كان صادرا
من حكيم دل على وجوب ذلك الشئ يقتضى ان تكون تركه قبيحا وسواء كان له
ترك واحد أم تروك كثيرة في أنه يجب أن يكون كلها قبيحة إذا كان الامر مضيقا.
وان كان الامر مخيرا فيه بينه وبين ضد له اخر دل على أن ما عدا ذلك قبيح
من تروكه.
وان لم يكن له الا ترك واحد فيجب القطع على أنه قبيح إذا لم يدل على أنه
واجب مثله مخيرا فيهما.
الا ان مع هذا التفصيل أيضا لا يجوز ان يسمى نهيا عن ضده لان النهى من
صفات الأقوال دون المعاني وليس كل ما علم قبحه سمى منهيا عنه الا على ضرب
من المجاز.
والذي يدل على صحة ما اخترناه ان أهل اللغة فرقوا بين صيغة الامر وصيغة
النهى فقالوا: صيغة الامر لمن دونه (افعل) والنهى قوله: (لا تفعل) وهما
يدركان بحاسة السمع وليس يسمع من قوله: (افعل) (لا تفعل) فلا ينبغي ان يكون
نهيا من حيث اللفظ لأنه لو كان كذلك لوجب ان يسمعا معا كما يسمع لو جمع بين
اللفظين وقد علمنا خلاف ذلك.

و أما الإمامية فقد ذهب الشيخ المفيد - رحمه الله - (التذكرة: 31) إلي أنه ((ليس بالشئ هو بنفسه
نهيا عن ضده، ولكنه يدل على النهي عنه بحسب دلالته على حظره، وباستحالة اجتماع الفعل وتركه يقتضي
صحة النهي العقلي عن ضد ما امر به»، وأما الشريف المرتضى فقد نفي الاقتضاء لفظا ومعنا (الذريعة:
1 / 86 - 85) و أما الشيخ الطوسي (ره) فإنه يذهب إلي أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده معنا لا لفظا،
و لكنه اقتضاء مجازي لاعتقاد الشيخ أن النهي من صفا ت الأقوال دون المعاني.
(1) راجع كلام المصنف واستدلاله على أن الأمر يقتضي الإيجاب صفحه 172.
197

فاما اقتضاء للنهي من حيث (1) المعنى فقد بينا ما عندنا في ذلك وفيه كفاية
وذلك ينبئ على أن الامر يقتضى الايجاب وقد ذللنا عليه فيما مضى (2).
ونبين أيضا صحة ما قلنا: ان الامر بالشئ لو كان نهيا عن ضده لجاز لقائل ان
يقول: (ان العلم بالشئ جهل بضده) وذلك جهالة ولا يلزمنا مثل ذلك فيما اخترناه
من دلالته على قبح تركه لأنه لا يمتنع ان يدل الشئ على حسن امر وقبح شئ اخر
من وجهين وليس ذلك بمتضاد (3) ويستحيل ان يكون العلم جهلا لان الصفتين
متضادتان فبان الفرق بينهما (4).
فاما شبهة من خالف في ذلك فهو ان قال: ان الامر يقتضى إرادة المأمور به
وإرادة الشئ كراهة ضده والحكمة تقتضي الا يريد الشئ الا ويكره ضده.
فان ذلك يسقط بما قلناه من أن الامر لا يدل على إرادة المأمور به ولو دل لم
يكن إرادة الشئ كراهة ضده لان إرادة النوافل حاصلة وليست بكراهة لضدها
ومتى بنى على أن الامر يقتضى الايجاب وإذا كان صادرا من حكيم دل على وجوبه
وان ما عداه قبيح إذا لم يدل على أنه واجب مخير فيه مثله (5) فهو هو المعتمد عليه على
ما بيناه.

(1) جهة.
(2) راجع كلام المصنف واستدلاله في صفحة 172.
(3) بمستضاد.
(4) زيادة من الأصل.
(5) أي أمر مثله صادر من الآمر الحكيم.
198

فصل [7]
(في أن الامر بالشئ يقتضى الفعل مرة أو يقتضى التكرار (1)؟)
ذهب أكثر المتكلمين والفقهاء إلى أن الامر بالشئ لا يقتضى بظاهره أكثر من

(1) إن الجميع متفقون على أنه لا ريب في أن الخطاب لو كان مقيدا بقرينة تقتضي التكرار وجب فيه التكرار
كما لو قال: (صل ابدا)، وكذلك لو كان الخطاب مقيدا بقرينه تفيد المرة الواحدة حمل على الفعل مرة
واحدة، وإنما الخلاف فيما إذا ورد الخطاب مطلقا فإنه يمكن أن نقسم آراء الفقهاء والمتكلمين من العامة
في هذه الصورة إلي أربعة وهي:
1 - الأمر بالشيء لا يقتضي إلا مرة واحدة ولا يحمل على ما زاد إلا بدليل
و هذا مذهب جماعة من الفقهاء، والشافعية، وأبي الحسن الشيباني - كما نسب الطوسي إليهما - وأبو
حنيفة وجماعة من اتباعه، والقاضي أبو الطيب الطبري، وأبو حامد الإسفراييني.
2 - الأمر بظاهرة يقتضي تكرار الشيء ابدا
أي لو توجه الأمر بشيء فإن على المكلف أن يكرره مدة حياته (ما طرد الليل النهار وما وجد السبيل
إلي الفعل) بشرط الإمكان، وهذا مذهب أبي حاتم الرازي (القزويني)، والقاضي أبي بكر الباقلاني - كما
نسب إليهم الشيرازي في (شرح اللمع) - والمزني، جماعة من الفقهاء والمتكلمين، ونسب الغزالي في
(المنخول) هذا القول إلي المعتزلة وأبي حنيفة، والذي يفيده مصنفاتهم أنه لمطلق الطلب.
3 - الوقف
و قد اختلفوا في معني الوقف ومفهومه، فذهب جماعة إلي أنهم توقفوا في الصيغة المطلقة في مقدار
الفعل حتى يقول الدليل على المرة أو الكلي أو على مقدار معلوم.
و قال الشريف المرتضى (الذريعة 100: 1):
«أراد المرة بلا شك وما زاد عليها لست أعلم هل أراده أو لم يرده فأنا واقف فيما زاد على المرة لا فيها نفسها.»
199

فعل مرة ويحتاج في زيادته إلى دليل اخر وهو المحكى عن أبي الحسن (1) والظاهر
من قول الشافعي (2).
وقال قوم شذاذ ان الامر بظاهره يقتضى التكرار (1).
وذهب قوم إلى الوقف في ذلك وقالوا نقطع أن إرادة المرة الواحدة مرادة وما
زاد عليه فمشكوك فيه متوقف فيه (2).
فالذي اختاره المذهب الأول والذي يدل على ذلك: ان الامر في الشاهد
على وتيرة واحدة إذا سبرناه يقتضى الفعل مرة واحدة ولا يفهم من ظاهره الا ذلك
الا ترى ان من قال لغلامه (اسقني ماء) لا يعقل منه أكثر من مرة واحدة حتى أنه لو

و هذا مذهب الباقلاني وجماعة آخرون.
4 - الأمر بالشيء لا يقتضي التكرار
هذا مذهب جماعة حيث يعتقدون أن الأمر إنما يفيد طلب الماهية من دون دلالة على الوحدة أو
الكثرة، ولكن بما أن الطبيعة لا تحصل في الخارج إلا بإحضارها مرة واحدة صارت المرة من ضروريات
الإتيان بالمأمور به، وإلا فإن الأمر لا يدل بذاته على المرة أو التكرار. وهو مختار الجويني، والشيرازي، وأكثر
أصحابه من الشافعية، وأبي الحسين البصري من المعتزلة، والغزالي، وفخر الدين الرازي، ومن تابعه،
و الآمدي، وأبي الخطاب، وابن الحاجب، وابن حزم الأندلسي وأبي منصور الماتريدي، وغيرهم من الفقهاء
و المتكلمين. ولبعض العامة أقوال وتفصيلات أخرى في كل واحد من هذه الصور الأربع لا يسع المقام
لذكرها.
انظر: «الإبهاج 29: 2، التبصرة: 42 - 41، شرح اللمع 220: 1 - 219، الأحكام للآمدي 143: 2، أصول
السرخسي 20: 1، المنخول: 108، الإحكام في أصول الأحكام 3 - 330 - 328 -، المعتمد 98: 1 ميزان
الأصول 231: 1 - 230، روضة الناظر: 175».
و أما الإمامية: فإن مختار الشيخ المفيد (ره) - (التذكرة: 30) وتبعه على ذلك الشيخ الطوسي - هو أنه «لا
يجب ذلك أكثر من مرة واحدة ما لم يشهد بوجوب التكرار الدليل»، وأما الشريف المرتضى (ره) (الذريعة:
1 / 100) فهو من الواقفية، أي واقف فيما زاد على المرة لا فيها نفسها إذ لا يشك في إرادة المرة من الأمر
وإنما توقف في الزيادة.
(1) أبو الحسن الكرخي، المتكلم الفقيه.
(2) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 199.
200

كرر عليه الماء دفعه ثانية لعدوه سفيها.
وليس لاحد ان يقول: ان ذلك عقل بشاهد الحال وبقرينة اقترنت إلى الامر
دلت على المرة الواحدة.
وذلك أن ما ذكرناه يعقله من لا يعرف القرينة أصلا ولا تخطر بباله ثم القرينة
تحتاج ان تكون معقولة وليس هناك قرينة تدل على ذلك.
فان قالوا: القرينة انه يعلم استكفائه بشربة واحدة وما زاد عليها لا يحتاج إليه
[قلنا] (1): لان هذا لا طريق له إلى العلم به لأنه قد لا يكتفى بشربة واحدة
ويحتاج في زيادتها إلى تجديد الامر فلو كان ذلك معقولا بالامر الأول لما احتاج إليه.
وإذا ثبت ذلك في الأوامر في الشاهد وجب ان يكون حكم أوامر الله تعالى
ذلك الحكم.
ويدل على ذلك أيضا: ان الامر لو اقتضى استغراق الأوقات لا اقتضى استغراق
الأحوال والأماكن فلو كان وجب فعله في سائر الأوقات لوجب فعله على سائر الأحوال وفى سائر الأماكن وذلك لا يقوله أحد.
وانما قلنا ذلك لان الأوقات ظروف الزمان فكما ان الفعل لابد له من ذلك
فكذلك لابد له من ظروف المكان والأحوال.
ويدل على ذلك أيضا: ما لا خلاف فيه بين الفقهاء من أن الرجل إذا امر وكيله
بطلاق زوجته لم يكن له ان يطلقها أكثر من واحدة فلو كان الامر يقتضى التكرار لجاز
له أكثر من مرة وذلك خلاف الاجماع.
ويدل على ذلك أيضا: ان الامر بالشئ امر باحداثه فجرى في ذلك مجرى
الخبر عن احداثه فكما ان الخبر عن احداثه لا يقتضى أكثر من مرة واحدة فكذلك
الامر.
ويدل على ذلك أيضا: ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه لما قال

(1) زيادة تقتضيها الجملة.
201

له سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي (1) (2) في الحج:
ألعامنا هذا يا رسول الله أم للأبد؟
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا بل لعامنا هذا ولو قلت نعم لوجب) (3)
فبين صلى الله عليه وآله وسلم ان ما يقتضى الامر لذلك العام وما زاد على
ذلك انما يثبت بقوله نعم لو قاله ولو كان الامر يقتضى التكرار لما احتاج إلى
ذلك.
فان قيل: إذا كان الامر يقتضى الفعل مرة واحدة فلم استفهمه سراقة وهلا قطع
بظاهره على أنه لذلك العام ولا يحتاج إلى الاستفهام؟
قيل له: انما استفهم عن ذلك لأنه جوز ان يكون ذلك للأبد بدليل غير ظاهر
الامر كما وجد مثل ذلك أوامر كثيرة مثل الصلاة والزكاة وغيرهما من أفعال الشرع
فلأجل ذلك حسن استفهامه عليه السلام.
وتعلق من خالف في ذلك بأشياء:
منها: انهم حملوه على النهى وقالوا ان النهى لما اقتضى التكرار فكك يجب
في الامر لأنه ضده (3).
والجواب عن ذلك: انا نقول في النهى مثل ما نقوله في الامر وان الذي
يقتضيه ظاهره ان لا يفعل دفعة واحدة وما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل اخر. ومن

(1) في الأصل والمطبوع: المذجحي.
(2) وهو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، كان ينزل قديدا، وروي البخاري ومسلم قصتة في إدراكه النبي
صلي الله عليه وآله وسلم لما هاجر إلي المدينة جائزة قريش، فساخت رجلا فرسه بدعاء النبي صلي
الله عليه وآله وسلم فطلب منه الخلاص وأن لا يدل عليه. أسلم يوم الفتح ومات في خلافة عثمان سنة 24 ه‍.
و قد جاء هذا الخبر بألفاظ اخر في مسلم، وابن ماجة والنسائي، وأبي داود، وغير هم [سنن ابن ماجة 2:
993 باب 41 ح 2980 و 1024: 2 باب 84 ح 3074، صحيح البخاري، باب 6 كتاب العمرة]، وقد نسبه
البعض إلي الأقرع بن حابس بن عقال التميمي (ميزان الأصول 232: 1، التبصرة: 43).
(3) انظر: (التبصرة: 44، شرح اللمع 228: 1).
202

الناس من فرق بينهما فقال: في الاستعمال فرق بين الموضعين لان النهى يعقل منه في
الشاهد التكرار الا ترى ان من قال لغلامه: (لا تفعل كذا وكذا) يعقل منه الامتناع على
كل حال وليس كذلك الامر على ما بيناه.
وقالوا أيضا: ان النهى لما كان يقتضى الكف والكف عن المنهي عنه لا ضيق
فيه ولا حرج فاقتضى لذلك الدوام وليس كذلك الامر لأنه لو اقتضى الدوام للحق في
ذلك المشقة والضيق.
وقالوا أيضا: ان من انتهى عن الفعل في الأزمان كلها يقال فيه انه انتهى عما
نهى عنه وإذا امر بالشئ وفعله ثم فعل مرة أخرى لا يقال انه فعل ما امر به.
والمعتمد هو الأول وبعده الفرق الثاني وهو الرجوع إلى الشاهد.
وتعلقوا أيضا بان قالوا: انه إذا أطلق الامر فليس يقتضى الفعل في وقت
بأولى من أن يقتضى في وقت آخر فيجب ان يحمل على الأوقات كلها.
والجواب عن ذلك: انا نقول: انه يجب عليه ان يفعله في الثاني (1) على ما
نذهب إليه في الفور فسقط السؤال.
ومن قال بالتراخي (2) * يقول: هو مخير في الأوقات كلها.
ومن قال بالوقف قال: ينتظر بيان وقت الفعل وليس لاستغراق الأوقات فيه
ذكر فيدعى فيه العموم.
وتعلقوا أيضا بان قالوا: لو لم يقتض التكرار لما صح النسخ لان معنى النسخ
هو إزالة مثل الحكم الثابت بالنص الأول في الثاني بنص اخر على وجه لولاه لكان
ثابتا به مع تأخره عنه ولو كان الامر يقتضى الفعل مرة واحدة لما صح ذلك على حال.
والجواب عن ذلك: ان النسخ انما يصح إذا دل دليل غير الظاهر على أنه أريد

(1) أي في الزمان الثاني.
(2) * حاصله أنه إنما يلزم الترجيح من غير مرجح لو وجب عليه مرة في وقت دون آخر، أما لو وجب عليه مرة
و استوي نسبة جميع الأوقات إليه بمقتضي ذلك الأمر فلا يلزم.
203

التكرار فاما إذا تجرد عن ذلك فلا يصح فيه النسخ على حال.
وتعلقوا أيضا بان قالوا: وجدنا أوامر القران كلها على التكرار فوجب أن يكون
ذلك بمقتضى الامر (1).
والجواب عن ذلك: انا لا نسلم ان أوامر القران كلها على التكرار لان فيها ما
يقتضى الفعل مرة واحدة وهو الامر بالحج على ما بيناه فاما ما يقتضى منها التكرار
فبدليل غير الظاهر وهو الاجماع فمن أين لهم ان ذلك بمقتضى الامر؟
فهذه الجملة التي ذكرناها تأتى على جميع ما يتعلق بهذا الباب.

(1) انظر: (شرح اللمع 225: 1، التبصرة: 44).
204

فصل [8]
(في أن الامر المعلق بصفة أو شرط (1) هل
يتكرر بتكررهما (2) أم لا؟)
ذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أنه لا يتكرر بتكرر الشرط والصفة وانه

(1) * المشهور عند الفقهاء أن الشرط ما يمكن وقوعه وعدمه كدخول الدار ونحوه، والصفة ما يكون وجوده في
المستقبل محققا كطلوع الشمس، والظاهر هنا أن المراد بالشرط ما يكون مع أدوات الشرط نحو (إن كنتم
جنبا فاطهروا)، وبالصفة ما ليس كذلك نحو (الزانية والزاني فاجلدوا) و (أقم الصلاة لدلوك
الشمس)
(2) إن محل النزاع بين الأعلام هو فيما إذا كان الأمر معلقا على صفة أو شرط ولم يثبت كونهما علة للحكم، هذا
وحكم هذه المسألة مبنية على الحكم في المسألة السابقة، فمن قال بالتكرار لمجرد الأمر قال به هنا
بالأولوية، ومن قال أنه يفيد مرة واحدة لا أكثر قال بها هنا.
وفي المسألة قولان:
1 - إنه لا يقتضي التكرار بل يقتضي الفعل مرة واحدة عند أول الشرط أو الصفة.
وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين كأحمد بن حنبل، والشيرازي، والماتريدي، والسمرقندي، وابن
حزم الأندلسي، والغزالي، والآمدي، وابن الحاجب، والقاضي عبد الوهاب المالكي، وهو أيضا مذهب
المعتزلة.
2 - إنه يقتضي التكرار، أي متي وجد الوصف أو الشرط وجد أصل الأمر، وعلي المكلف إحضار
متعلقة.
205

يقتضى الفعل مرة واحدة عند أول الشرط والصفة (1).
ومنهم من قال: ان ذلك يوجب التكرار (1).
والذي اذهب إليه هو الأول والذي يدل على ذلك:
ان القائل إذا قال لغلامه: (إذا دخلت السوق اشتر الفاكهة) لو يعقل منه شراء
الفاكهة كلما دخل السوق وانما يعقل ذلك مرة واحدة حتى أنه لو فعل دفعة أخرى
لاستحق التوبيخ والذم.
ويدل أيضا على ذلك: انه إذا ثبت ان الامر المطلق يقتضى الفعل مرة واحدة
فتعليقه بشرط أو صفة انما يقتضى ايقاع ذلك الفعل عند حصول الشرط أو الصفة
وتخصيصه بهما ولو اقتضى ذلك التكرار لاقتضى مطلق الامر وقد دللنا على خلاف
ذلك.
ويدل أيضا على ذلك: ان القائل إذا قال لوكيله: (طلقها إذا دخلت الدار) فلا
خلاف ان ذلك لا يقتضى جواز طلاقها كلما دخلت الدار وانما يقتضى جواز ايقاع
الطلاق عند دخولها الدار أولا.
وإذا ثبت ذلك فأوامر الله تعالى ينبغي أن يكون هذا حكمها لان حقيقة
الامر (2) لا تتغير.
وقد تعلق من خالف في ذلك بأشياء (1):

و نسب هذا القول إلي بعض الفقهاء، منهم أبو حنيفة وأتباعه - نسبة إليهم ابن قدامة.
انظر: «التبصرة: 47، شرح اللمع 228: 1، المستصفي 7: 2، الإحكام للآمدي 149: 2، ميزان الأصول 1:
242 الإحكام 331: 3، روضة الناظر: 176، المعتمد 106: 1».
وأما الإمامية: فإن مختار الشيخ المفيد (ره) - وتبعه الشريف المرتضى والطوسي - هو عدم
اقتضاء التكرار.
انظر: «التذكرة: 30، الذريعة 110: 1 - 109».
(1) راجع التعليقة رقم (2) صفحة 205.
(2) هذا الأمر.
206

منها: ان قالوا ان الحكم المعلق بالصفة أو الشرط يجرى مجرى تعليله بالعلة
فكما ان الامر بالمعلق بالعلة يقتضى التكرار عند تكرار العلة وكذلك القول في الشرط
والصفة (1).
والجواب عن ذلك: ان هذا السؤال ساقط عنا لأنا لا نقول (2) * بالقياس
والعلل (3) ومن قال بذلك يقول إن العلة دالة على الحكم فلذلك يتكرر الحكم
بتكررها لأنها لا يجوز حصول الدليل مع ارتفاع المدلول لان ذلك يكون نقصا لكونها
دلالة والصفة والشرط شرط ولا يجب أن يكون مثل الشرط شرطا في كل موضع كما
لا يجب أن يكون دخول الدار شرطا في جواز الطلاق كلما دخلت الدار.
وتعلقوا أيضا بان قالوا: لو لم يتكرر بتكرر الشرط والصفة لكان إذا لم يفعل مع
الشرط الأول وفعل مع الشرط الثاني عد قاضيا (4) * لا مؤديا فلما كان ذلك باطلا علم أنه
مراد (5).
والجواب عن ذلك: ان ذلك قضاء في الحقيقة فان منع من اطلاق هذه العبارة
عليه في بعض المواضع فلا اعتبار بذلك لان المعول (6) * على المعاني دون
العبارات.

(1) انظر: «التبصرة: 48، شرح اللمع 230: 1، المعتمد 108: 1».
(2) * يعني نحن إذا سلمنا أنه يجري مجري تعليله بالعلة، نجيب بأنا لا نوجب وجود الحكم كلما وجدت العلة،
لجواز كون خصوصية الأصل شرطا أو خصوصية الفرع مانعا، ومن يوجب وجود الحكم كلما وجد العلة
يمنع أنه يجري مجري تعليله مستندا بالفرق المذكور.
(3) انظر التعليقة رقم (1) صفحة (9).
(4) * بناء على أن الأمر المطلق يقتضي الفور كما سيجئ فمقتضاه باعتبار المتعلق الفعل مع الشرط الأول، فما
فعل مع الشرط الثاني ليس باقتضاء هذا الأمر بلا واسطة، بل بواسطة تدارك ما فات، وهو المعين من القضاء
عندنا.
(5) انظر: «المعتمد 109: 1».
(6) * أي التعويل، والحاصل أن من يمنع من إطلاق القضاء عليه يعني بالقضاء غير ما ذكر، ولا مشاحة في
الاصطلاح.
207

وتعلقوا أيضا بان قالوا: لما كان النهى المعلق بصفة يقتضى تكرره عند تكرر
الصفة فكك القول في الامر (1).
والجواب عن ذلك: ان قولنا في النهي مثل قولنا في الامر في أنه لا يقتضى
ذلك بظاهره فسقط الاحتجاج بذلك.
وتعلقوا أيضا بأن قالوا: وجدنا أوامر القران المتعلقة بالصفات والشروط
يقتضى التكرار نحو قوله: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) (2) ونحو
قوله: (وان كنتم جنبا فاطهروا) (3) و (إذا أقمتم الصلاة فاغسلوا) (3) وقوله
تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (4) وغير ذلك (5).
والجواب عن ذلك: ان جميع ذلك عقل بغير الظاهر وبدليل دل على ذلك من
الاجماع وغيره.
ومن الناس من فرق بين بعض ذلك وبنى الامر المعلق بالشرط (6) * فقال في
قوله تعالى: (وان كنتم جنبا فاطهروا) وقوله (الزانية والزاني) ان ذلك تعليل لا
تعليق بصفة (7) فكأنه قال: (ان كنتم جنبا فاطهروا لأنكم جنب) لما علم أنه لا يمكن
أداء الصلاة مع الجنابة وكذلك: (فاجلدوا الزاني والزانية لأنهما زنيا) فصار ذلك
تعليلا لا شرطا وإذا كان كذلك جاز حمله على التكرار (5).
ولم يسع ذلك في الامر المعلق بالصفة والشرط على ما بيناه (8).

(1) انظر: «التبصرة: 49، شرح اللمع 231: 1».
(2) الإسراء: 78.
(3) المائدة: 6.
(4) النور: 2.
(5) انظر: «التبصرة: 49، شرح اللمع 230: 1، المعتمد 108: 1».
(6) * أي من حيث هو من دون ملاحظة دليل من خارج.
(7) * كذا في النسخة والأولي لا تعليق بشرط وصفة.
(8) راجع جواب الشيخ الطوسي (ره) عن الدليل الأول الذي تعلق به المخالفون لمذهبه في صفحة 207 حيث
قال: «والجواب عن ذلك أن هذا السؤال ساقط عنا...»
208

فصل [9]
(في الامر المعلق بوقت متى لم يفعل المأمور به فيه
هل يحتاج إلى دليل في ايقاعه في الثاني أم لا؟ (1))
ذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أن الامر المعلق بوقت إذا لم يفعل المأمور

و هنا جواب آخر على هذا الاعتراض أجابه ابن الحاجب نقله الشيرازي في «التبصرة: 48» حيث
يقول: «لا نسلم هذا. بل بينهما فرق ظاهر، وهو أن العلة دلالة تقتضي الحكم فتكرر الحكم بتكررها.
و الشرط ليس بدلالة على الحكم، ألا تري أنه لا يقتضيه وإنما هو مصحح له فدل على الفرق بينهما».
(1) يدور الخلاف حول الأمر الأول، وأنه هل يستفاد منه حتما الأمر بالقضاء، أم أن القضاء يثبت بأمر ثان؟ فيه
قولان:
1 - إن الأمر المعلق بوقت إذا لم يفعل المأمور به فيه احتاج إلي دليل آخر في وجوب فعله وقضائه في
وقت آخر.
و هذا مذهب جماعة من الفقهاء والمتكلمين من أهل السنة كابن الحاجب، وابن السبكي، والشيرازي،
و الجويني، والغزالي، والآمدي، والرازي، وأبي الخطاب، وهو مختار جمهور المعتزلة، و مختار عامة أصحاب
الشافعي. وهو أيضا مختار مشايخ الإمامية كالشريف المرتضى والشيخ الطوسي.
2 - ان الأمر الأول يقتضي ضرورة إتيان متعلقه في الأوقات اللاحقة.
و هذا الرأي مذهب جمهور الأحناف كالسرخسي، والبزدوي، وابن الهمام، وأبي زيد الدبوسي
و السمرقندي، ومختار المالكية، والحنابلة، وبعض المعتزلة، وبعض أصحاب الشافعي، وعامة أصحاب
الحديث.
209

به فيه احتياج إلى دليل اخر في وجوب فعله في وقت اخر وكذلك قال في الامر
المطلق من ذهب إلى أنه متى لم يفعل في الثاني أو ذلك الوقت يجب عليه فعله في
الثالث أو الوقت الاخر فكأنهم قالوا: يقتضى الفعل في الثاني فان لم يفعل في الثاني اقتضى (2) في الثالث ثم كذلك في الرابع إلى أن يحصل المأمور به.
والذي اذهب إليه ما ذكرته أولا والذي يدل على ذلك: هو ان الامر إذا كان
معلقا بوقت دل على أن ايقاعه في ذلك الوقت مصلحة فمتى لم يفعل في ذلك
الوقت فمن أين يعلم (4) * انه مصلحة في وقت اخر؟ ويحتاج في العلم بذلك إلى دليل
اخر وعلى هذا قلنا ان القضاء فرض ثان يحتاج إلى دليل اخر غير الذي دل على
وجوب المقضي.
وليس لاحد ان يقول: ان الامر يدل على وجوب المأمور به وانه مصلحة وليس
للأوقات (5) * تأثير في ذلك فينبغي أن يكون ايقاعه مصلحة أي وقت شاء وذلك أنه
لا يمتنع أن يكون للأوقات تأثير (5) * في كون الفعل مصلحة فيه حتى إذا فعل في غيره
كان مفسدة.
والذي يكشف عن ذلك (6) * ان صلاة الجمعة لا خلاف انها مصلحة وواجبة

انظر:» التبصرة: 64، شرح اللمع 250: 1، الأحكام للآمدي 166: 2، المستصفي 10: 2، المنخول: 120
أصول السرخسي 46: 1، المغني للقاضي عبد الجبار 121: 17، ميزان الأصول 340: 1، روضة الناظر: 180
المعتمد 135: 1 - 134، الذريعة 116: 1».
(1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 209.
(2) اقتضاء.
(3) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 209.
(4) * استفهام انكار والمقصود انه لا يعلم بنفس ذلك الأمر، نعم لو ثبت أن الأمر بالمركب من الجزءين مثلا في
حكم أمرين مستقلين كل واحد منهما متعلق بجزء ثبت دلالته عليه فإنه إذا لم يدرك مقتضي أحدهما لم يجز
ترك الآخر لكن لم يثبت.
(5) * أي دخل في كونه واجبا ومصلحة.
(6) * إشارة إلي ما في قوله «لا يمتنع»، أو إلي ما في قوله «حتى».
210

في وقت بعينه ومن لم يفعلها فإنها تسقط عنه لا يجوز له فعلها في وقت اخر.
وكذلك من قال: (لله على صوم يوم بعينه) فإنه يلزمه صوم ذلك اليوم ولا يجوز له أن
يصوم يوما اخر فعلم بذلك ان للأوقات تأثيرا في كون الفعل مصلحة وسقط السؤال.
فاما تسميته قضاء فكلام في عبارة فربما أطلق عليه ذلك وربما امتنع منه
لضرب من الابهام.
وليس لهم أن يقولوا: لو اقتضى ايقاع الفعل في ذلك الوقت ولم يقتض ايقاعه
في وقت اخر لبطل النسخ.
وذلك انا قد بينا (1) انه لا يصح النسخ إذا كان الفعل مطلقا أو مقيدا بوقت الا
أن يدل دليل اخر على أن ما بعده من الأوقات حكمه حكم ذلك الوقت فبطل بذلك
أيضا هذا السؤال.

(1) راع جواب الشيخ (ره) عن هذا الاحتجاج في صفحة 202 حيث يقول: «والجواب عن ذلك ان النسخ إنما
يصح إذا....»
211

فصل [10]
(في أن الامر هل يقتضى كون المأمور به مجزيا أم لا (1)؟)
ذهب الفقهاء بأجمعهم وكثير من المتكلمين (1) إلى أن الامر بالشئ يقتضى

(1) ينبغي لنا قبل بيان اختلاف آراء الفقهاء والمتكلمين حول هذه المسألة أن نحرر محل النزاع، فنقول يفهم
من كلمات الأصوليين أنه لا خلاف أن المكلف لو أتي بالمأمور به على الوجه الصحيح مع تمامية الأجزاء
والشرائط يكون مجزيا ويسقط التكليف عن ذمته، كما انه لا خلاف في عدم الأجزاء لو أتي بالمأمور به
مختل الأجزاء والشرائط يكون عليه القضاء. و إنما الخلاف كما يستفاد من كلام الشيخ الطوسي حين
استدلاله على مذهبه المختار - فيما إذا أتي المكلف بالمأمور به على الوجه الذي تناوله الأمر، أي على صفة
الكمال، فهل الإتيان بالمأمور به على هذا الوجه يستلزم سقوط القضاء، أو يبقي احتمال ضرورة القضاء
باقيا؟ قولان في المسالة:
1 - الاجزاء: وهو مذهب عامة الفقهاء وجمهور الأصوليين وكثير من المتكلمين.
2 - عدم الاجزاء، بمعني أنه لا يمتنع أن يكون مجزيا وبرغم ذلك يحتاج إلي القضاء، أو أن اجزاءه يفتقر
إلي دليل آخر، وهذا مذهب جماعة كثيرة من المتكلمين كالقاضي عبد الجبار (في كتابه «العمد» كما نقله
الشيرازي وغيره) وأبو هاشم الجبائي وأتباعه.
انظر: «التبصرة: 85، الأحكام للآمدي 162: 2، الإبهاج 117: 1، شرح اللمع 264: 1، ميزان الأصول 1:
252 - 251، المنخول: 118 - 117، المستصفي: 2: 5، روضة الناظر: 181، المعتمد في الأصول 90: 1».
أما الإمامية: فقد ذهب الشيخ المفيد (ره) (التذكرة: 30) - وتابعه على ذلك الشيخ الطوسي - إلي أن
امتثال الأمر مجز لصاحبه ومسقط عنه فرض ما كان وجب من الفعل عليه. وأما الشريف المرتضى (ره)
(الذريعة: 1 / 122 - 121) فإنه ذهب إلي أن الامتثال في عرف يقتضي الاجزاء دون وضع اللغة الذي
212

كونه مجزيا إذا فعل على الوجه الذي تناوله الامر.
وقال كثير من المتكلمين: انه لا يدل على ذلك ولا يمتنع أن لا يكون مجزيا
ويحتاج إلى القضاء (1).
والصحيح هو الأول.
والذي يدل على ذلك: ان الامر يدل على وجوب المأمور به وكونه مصلحة
إذا فعل على الوجه الذي تناوله الامر فإذا فعل كذلك فلابد من حصول المصلحة (2) *
به واستحقاق الثواب عليه لأنه لو لم تكن مصلحة لم يحسن من الحكيم ايجابه
ولبطل (3) * كونه مصلحة على ما تناوله الامر.
وليس لهم ان يقولوا: انه لا يمتنع أن يوقع الفعل على الوجه الذي تناوله الامر
وتحصل مصلحة ويستحق الثواب عليه الا انه يحتاج إلى أن يقضيه دفعة أخرى كما أن
المفسد للحج يلزمه المضي فيه ومع ذلك يلزمه قضائه وكذلك الظان لكونه
متطهرا في اخر الوقت يلزمه الصلاة ثم إذا علم أنه كان غير متطهر يلزمه قضاؤه (4).
وذلك الذي ذكروه لا يدل على أنه غير مجز وانما يدل على أن مثله مصلحة
في الثاني ونحن لا نمتنع من ذلك وجرى ذلك مجرى ان يؤمر بالفعل في وقتين فإنه
متى فعل المأمور فيهما فلا يقول أحد ان ما فعل في الثاني مجز وما فعل في الأول
غير مخبر فكذلك (5) ما يفعل بأمر اخر.

لا يدل إلا على أن الفاعل مطيع مستحق للمدح والثواب ليس إلا.
(1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 212.
(2) * لابد من ضم مقدمة مطوية هي: أنه إذا حصلت المصلحة واستحقاق الثواب، استحال عدم الإجزاء
و وجوب القضاء، لأن القضاء إنما هو استدراك ما فات بالاتفاق.
(3) * كذا في النسخة، والأولي: وكذا لو بطل كونه مصلحة على ما تناوله الأمر.
(4) انظر: «التبصرة: 86، شرح اللمع 265: 1».
(5) وكذلك.
213

فاما تسميته قضاء للأول فكلام في العبارة وقد بينا انه لا اعتبار به (1).
فاما المضي (2) * في الحج الفاسد ووجوب الصلاة على الظان لكونه متطهرا
في اخر الوقت فالذي تناوله الامر في هذين اتمام الحج (3) * وأداء تلك الصلاة (4) *
وقد فعلهما وأما ما يجب عليه من قضاء تلك الصلاة إذا تيقن انه كان محدثا وإعادة
الحج فإنه علم ذلك بدليل اخر وقد بينا انه لا اعتبار بتسميته قضاء (1) فيتعلق بذلك
في هذا الباب.
فان قيل: انما أردنا لكونه غير مجز انه لا يعلم إذا فعل انه لا يلزمه مثله في
المستقبل.
قيل له: وانما أردنا بكونه مجزيا انه لا يعلم أنه يجب عليه مثله في المستقبل
ويسقط حينئذ الخلاف.
ويدل أيضا على ما ذهبنا إليه: انه ثبت ان النهى يقتضى فساد المنهي عنه على
ما سندل عليه (5) فينبغي أن يكون الامر يقتضى كونه مجزيا لأنه ضده.

(1) راجع كلام الشيخ حول بطلان تسمية الفعل الثاني في صفحة 207.
(2) * تقرير الجواب عن النقض على ما يوافق الحق أن يقال: إن المكلف بإتمام الحج الفاسد توجه إليه أمران،
الأول الأمر بالحج الصحيح، والثاني الأمر بإتمام الحج لو أفسده، فمتي أتي بالمأمور به بالأمر الثاني فقد
أجزأه وأما ما يجب عليه من القضاء فليس من الأمر الثاني، والدليل الدال على وجوب قضاء ما فات، بل
يعلم من الأمر الأول، ودليل وجوب قضاء ما فات وذلك دليل آخر فهو قضاء بالنسبة إليه لا بالنسبة إلي
الثاني.
(3) * أي بعد إفساده وهو المأمور به بالأمر الثاني فيه.
(4) * أي مع ظن الطهارة كما هو المأمور به بالأمر الثاني فيها.
(5) راجع رأي المصنف في صفحة 260.
214

فصل [11]
(في حكم الامر إذا تكرر بغير واو العطف (1)
وبواو العطف ما القول فيه؟)
اعلم أن الصحيح ان الامر إذا تكرر بغير واو العطف تكرر المأمور به ووجب
كوجوبه وهو مذهب أكثر المتكلمين والفقهاء.
وقال قوم: انه ينبغي أن يحمل الثاني على الأول وعلى انه تأكيد له.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه: ان كل واحد منهما لو انفرد لاقتضى فعل
المأمور به اما وجوبا أو ندبا على الخلاف فيه فينبغي أن يكون ذلك حكمه إذا تكرر.

(1) محل النزاع والخلاف في المسالة فيما إذا تكرر الأمر الواحد، بأن تعاقب الأمر الثاني الأمر الأول وذلك بعد
مضي فترة من صدور الأمر الأول دون أن يربط الأول الثاني بالأول بواو العطف، ففيه عدة أقوال:
1 - يقتضي تكرار المأمور به: وهو رأي جمهور الفقهاء والمتكلمين من العامة، ومختار الشيخ المفيد،
والشريف المرتضى، والشيخ الطوسي من الإمامية.
2 - لا يقتضي التكرار بل يحمل الثاني على الأول ويعد تأكيدا له: وهو مذهب أبي بكر الصيرفي، وأحد
قولي الشافعي.
3 - الوقف: وهو مختار أبي الحسن البصري، وابن الهمام، والآمدي.
انظر: «التبصرة: 51 - 50، شرح اللمع 232: 1 - 231، الأحكام 350: 3 - 349، المعتمد 161: 1 -
160، التذكرة: 30، الذريعة 125: 1».
215

وليس ذكره بعد ذكر الأول مقتضيا لحمله على التأكيد (1) * الا أن يدل دليل
على أنه تأكيد فيحمل عليه أو يكون الأول معرفا أو إشارة إلى معهود والثاني مثله
فيحمل على ذلك نحو ان يقول الله تعالى: (صلوا صلاة صلوا صلاة) فإنه يجب أن
تحمل اللفظة الثانية على صلاة غير الصلاة الأولى.
واما ما يكون معرفا فنحو ما روى عن ابن عباس في قوله (فان مع العسر
يسرا * ان مع العسر يسرا) (2) فقال: (لن يغلب عسر واحد يسرين) (3) فحمل العسر
على أنه واحد لما كانا معرفين واليسر على أنهما مختلفان لما كانا منكرين.
وقال قوم (4) في تأويل هذه الآية: ان التعريف في العسر ليس بتعريف العهد
وانما هو تعريف الجنس فكأنه قال: مع جنس العسر يسرا وكذا مع جنس العسر يسرا
وعلى هذا يكون الثاني غير (5) * الأول.
والذي يدل أيضا على ما قلناه: ان الخبرين (6) إذا تكررا اقتضيا مخبرين
فوجب أن يكون حكم الامرين مثل ذلك لأنهما في المعنى واحد.
فاما قول القائل لغيره: (اضرب اضرب) فالظاهر من ذلك أن الثاني غير الأول
الا أن يدل دليل على أنه أراد تأكيد الأول من شاهد الحال وغير ذلك فيحمل عليه.

(1) * لأن التأسيس خير من التأكيد.
(2) الإنشراح: 5 و 6.
(3) تفسير الطبري (= جامع البيان في تفسير القرآن): ج 30: 151، انظر أيضا: (المعتمد 161: 1).
(4) القائل هو الشريف المرتضى (ره) (الذريعة 127: 1) حيث رفض تأويل ابن عباس - رحمه الله - للآية
الشريفة وقال: «مما يربأ بابن عباس - رحمة الله عليه - عنه، لموضعه من الفصاحة والعلم بالعربية، والمراد
بالآية أن مع جنس العسر جنس اليسر، وإن عرف أحدهما ونكر الآخر. ولا فرق بين ذلك وبين أن يقول: إن
مع العسر اليسر ويكرر، أو يقول: إن مع عسر يسرا ويكرره، لأن المنكر يدل على الجنس كالمعرف كما
يقول القائل: مع خير شر، ويقول تارة أخرى، إن مع الخير الشر، وأراد الله - تعالي - أن يبين أن العسر واليسر لا
يفترقان».
(5) * كذا في النسخة والأظهر أن يقال: عين الأول.
(6) كذا في النسخ، والصحيح: أن الخبر إذا تكرر اقتضي...
216

وأما إذا عطف أحدها على الاخر نظر فيه:
فان كان الثاني يقتضى ما يقتضيه الأول من غير زيادة ولا نقصان فالكلام فيه
كالكلام في الأول سواء لأنه لا فرق بين أن يفترق ذلك ويقترن ويصير ذلك بمنزلة أمر
واحد بفعلين ولذلك قال الفقهاء (1) في قول القائل لامرأته: (أنت طالق وطالق) على أنه
أوقع الثنتين الا أن يدل دليل على أنه أراد تأكيد الأول فيحمل عليه.
وان كان الثاني يقتضى غير ما يقتضيه (2) * الأول حمل على ظاهره ولا تنافى
بينه وبين الأول.
وان كان الثاني يقتضى بعض ما تناوله الأول فالظاهر من الاستعمال أن يحمل
على أنه أريد بالثاني غير البعض الذي تناوله الأول لان من حق المعطوف أن يتناول
غير ما يتناوله المعطوف عليه ثم ينظر في ذلك فان كان إذا جعل هذا البعض مرادا
بالثاني كان هو بعينه يمتنع أن يكون مرادا بالأول أيضا فالواجب ان يحمل الأول
على ما عداه وان كان لا يمتنع ان يراد بالأول ما يقتضيه أيضا حمل الأول على
جميعه والثاني على البعض الذي تناوله ولذلك قلنا ان قوله: (حافظوا على
الصلوات والصلاة الوسطى) (3) يقتضى ظاهره ان المراد بالصلوات غير الوسطى
ليصح عطف ما عطف به عليه.
اللهم إلا أن يدل دليل على أن الثاني ذكر تأكيدا أو تعظيما وتفخيما فان كان
كذلك حمل عليه كما قيل في قوله: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل
وميكال) (4) ان المراد بذكر جبريل وميكال تعظيم لهما وتفخيم وكذلك قال أكثر
أهل العلم (5) في قوله تعالى: (فيهما فاكهة ونخل ورمان) (6).

(1) وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والحديد من قولي الشافعي, انظر: «المغني لابن قدامة: 8 / 401».
(2) * أي بحيث لا يكون أحدهما بعضا من الآخر بقرينة المقابلة.
(3) البقرة: 238.
(4) البقرة: 98.
(5) راجع: «التبيان في تفسير القرآن 484: 9، تفسير الطبري 91: 27، الكشاف 453: 4».
217

وقال قوم: انه لم يقصد بلفظ الملائكة جبريل وميكال ولا بلفظ الفاكهة النخل
والرمان فلأجل ذلك حسن عطف ذلك عليه. وذلك موقوف على الدليل.
فاما إذا كان الثاني أعم من الأول فالقول فيه كالقول إذا كان الأول أعم سواء
لا فيما ذكرناه أخيرا من حمله على التعظيم والتفخيم لان ذلك قد يكون نسخا وقد لا
يكون كذلك.
ونحن نبين ذلك في الناسخ والمنسوخ إن شاء الله تعالى.

(1) الرحمن: 68.
218

فصل [12]
(في ذكر الامر بالأشياء على جهة التخيير كيف القول فيه (1)؟)
ذهب كثير من المتكلمين إلى أن الكفارات الثلاث كلها واجبة مخير فيها وهو

(1) محل النزاع في الواجب المخير هو فيما إذا ورد الأمر بشيئين أو بثلاثة أشياء أو أكثر وخير المكلف في
العمل بأي واحد منها شاء، فهنا عدة أقوال:
1 - الواجب واحد لا بعينه: وهو مذهب أئمة المذاهب وأكثر فقهاء العامة، ونقل إجماع سلف الأمة
عليه.
2 - الواجب منها واحدة وأنها تتعين بالفعل: وهو مذهب بعض الفقهاء، كما قاله أبو الحسن البصري.
3 - الأشياء كلها واجبة، ولكن المكلف مخير فيها، فإذا فعل أحدها سقط سائرها: وهو مذهب جماعة
من أعيان المعتزلة كالجبائيان وأتباعهما، ومختار ابن خويز منداد من المالكية.
وقد اختلف في معني هذا القول حيث نسب الأشاعرة إلي المعتزلة أنهم يقولون: (إنه واجب عند الله
تعالي عينا وإن كان مجهولا في حق العباد) ولكن المعتزلة أيضا نسبوه إلي الأشاعرة وتبرءوا منه وقالوا:
«معني قولنا إن الأشياء واجبة على البدل، فهو إنه لا يجوز للمكلف الإخلال بجميعها، ولا يلزمه الجمع بينها،
و يكون فعل كل واحد منها موكولا إلي اختياره لتساويها في الوجوب».
انظر: «التبصرة: 70، الأحكام للآمدي 94: 1، الإبهاج 53: 1، شرح اللمع 255: 1، ميزان الأصول 1:
245 - 244، المنخول: 119، المعتمد 79: 1 - 77، الإحكام 332: 3».
أما الإمامية: فإن مختار الشيخ المفيد (ره) هو القول الأول (التذكرة: 31)، ومذهب المرتضى (ره) هو
القول الثالث (الذريعة 99: 1 - 88)، وأما الشيخ الطوسي فإنه ذهب غلي وجوب الأشياء، لكنه أوجب علي
المكلف اختيار أحدها.
219

المحكى عن أبي علي وأبي هاشم واليه ذهب أصحابهما (1).
وقال أكثر الفقهاء (1): ان الواجب منها واحد لا بعينه وذهب إليه جماعة من
المتكلمين (1).
وحكى أبو عبد الله (2) عن أبي الحسن (3) القولين (1).
والذي اختاره شيخنا أبو عبد الله (4) ان الواجب واحد لا بعينه على ما يذهب
إليه الفقهاء (1).
وذهب سيدنا المرتضى (رحمه الله) (5) إلى أن ان الثلاث لها صفة الوجوب (6) *
على وجه التخيير.
والذي اذهب إليه: ان الثلاثة لها صفة الوجوب الا أنه يجب على المكلف
اختيار أحدها.
وهذه المسألة إذا كشف عن معناها ربما زال الخلاف فيها واعلم (7) ان المعنى

(1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 219.
(2) هو الشيخ أبو عبد الله الحسين بن علي البصري المعروف بالجعل.
(3) هو أبو الحسن عبيد الله بن الحسن الكرخي: المتكلم الفقيه، ومن أشهر فقهاء أهل الرأي انتهت إليه رياسة
الحنفية، وصفه ابن النديم بقوله: «ممن يشار إليه ويؤخذ عنه، وعليه قرد المبرزون من فقهاء الزمان، وكان
أوحد عصره غير مدافع ولا منازع». قرأ عليه جماعة كثيرة من الفقهاء والمتكلمين، له كتاب: المختصر في
الفقه والجامع الكبير، والجامع الصغير توفي سنة 340 ه‍.
(4) قال الشيخ المفيد «التذكرة: 31»: «وإذا ورد الأمر بفعل أشياء على طريق التخيير، كوروده في كفارة اليمين،
فكل واحد من تلك الأشياء واجب بشرط اختيار المأمور، وليست واجبة على الاجتماع، ولا بالإطلاق.»
(5) زيادة في الأصل.
(6) * أي قبل صدور شئ منهما من المكلف، وأما حين الصدور فسيجئ تفصيله في آخر هذا الفصل،
و المراد بصفة الوجوب كونه صالحا لترتب المصلحة المطلوبة للشارع طلبا متأكدا عليه كما إذا فعل منفردا
قبل الباقي، وهذا مبني على ما ذهب إليه أصحابنا من التحسين والتقبيح العقليين.
(7) قوله: (واعلم) هو ما جرت عليه عادة المتقدمين من استعمال الواو بدل الفاء مع أن المقام مقام الفاء، قد
220

بقولنا: (ان الثلاثة لها صفة الوجوب) ان الله تعالى قد علم أن كل واحد منها يقوم مقام
صاحبه في كونه مصلحة ولطفا للمكلف فاعلمنا ذلك وخيرنا بين فعلها فالمخالف
في ذلك لا يخلو: اما ان يوافق على ذلك ويقول: مع هذا ان الواجب واحد لا بعينه
فذلك يكون خلافا في عبارة لا اعتبار به.
وان قال: ان الذي هو لطف ومصلحة واحد من الثلاثة (1) * والثنتان ليس لهما
صفة الوجوب فذلك يكون خلافا في المعنى.
والذي يدل على فساد هذا القول: انه لو كان الواحد منها لها صفة الوجوب
والباقي ليس له ذلك لوجب أن يدل الله تعالى على ذلك ويعينه لأنه لا (2) طريق
للمكلف إلى معرفة ماله صفة الوجوب وتمييزه مما ليس له ذلك ومتى لم يفعل ذلك
والامر على ما قلناه يكون قد كلفه ما لا دليل عليه وذلك لا يجوز ولذلك قلنا: انه لا
يجوز أن يكلف الله تعالى اختيار الرسل والشرائع ولا ينصب على ذلك دليلا (3) لان
ذلك قبيح.
وليس لاحد أن يقول (4): انه يتميز له باختياره لان بعد اختياره قد سقط عنه
التكليف وينبغي أن يتميز له في حال ما وجب عليه حتى يصح منه الاقدام عليه
وتميزه له من غيره وذلك يكون قبل اختياره.

تكرر هذا الاستعمال كثيرا في أبواب الكتاب.
(1) * أي واحد مخصوص لا القدر المشترك.
(2) زيادة من النسخة الثانية.
(3) وهو مذهب مويس بن عمران، المتكلم. «انظر: الذريعة 91: 1».
(4) وهو مذهب بعض الفقهاء كما قال أبو الحسين البصري. انظر: المعتمد 79: 1.
221

ولا يلزم (1) * على ذلك تعين البيع عند اختيار العقد لان ذلك في الأصل تابع
لاختياره دون كونه مصلحة فكان ما يتبع ذلك مثله.
ويدل على ذلك أيضا: انه لو كان الواحد من ذلك له صفة الوجوب والثاني (2)
ليس له ذلك (3) لكان ينبغي أن لو فرضنا ان المكلف اختار غيره انه لا يجزيه وفي
ذلك خروج عن الاجماع لأنه لا خلاف بين المسلمين انه لو اختار أي الثلاثة كان
أجزأه وفي ذلك بطلان هذا المذهب.
وأيضا: فلو كان الواجب واحدا لا بعينه (3) لما جاز من الحكيم ان يخير
المكلف بينه وبين ما ليس له صفة الوجوب كما لا يحسن ان يخيره بين الواجب
والمباح.
وليس علمه بأنه لا يختار الا ما هو الواجب بمحسن لذلك لأنه لو كان محسنا
له لحسنه إذا خيره بينه وبين المباح إذا علم أنه لا يختار الا الواجب وقد اتفقنا على
خلاف ذلك.
فاما من نصر ما قلناه وقال: نعنى ان الله تعالى أراد كل واحد منها وكره ترك كل
واحد منها مع ترك الاخر ولم يكره تركه مع فعل الاخر (3).
فلا يمكننا الاعتماد عليه لأنا قد بينا ان الامر لا يقتضى [إلا] (4) الايجاب لأنه
أراد الامر المأمور به وكره تركه وبينا ما عندنا في ذلك (5) مع أن هذا المذهب يكاد لا
يتصور ولا يتحقق لأنه لا يخلو ان يكره ترك واحد منها ولا يكره ترك الثاني (2) فان

(1) * ولا يلزم من الإلزام أي لا يورد نقضا.
(2) في الأصل: (الباقي).
(3) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 219.
(4) زيادة تقتضيها العبارة لتتطابق مع مذهب الشيخ الطوسي.
(5) انظر مختار الشيخ (ره) واستدلاله على ذلك في صفحة 170.
222

أرادوا ذلك فذلك قول من قال: (ان الواجب واحد لا بعينه) وان قالوا: انه كره تركه
وترك الاخر فقد جمعهما للكراهة فينبغي أن يكونا جميعا واجبين على الجمع
وذلك لا يقوله أحد.
وقولهم: (ولم يكره ترك واحد مع فعل الاخر) يكاد يستحيل لأنه إذا كرهه مع
ترك الاخر فقد حصلت الكراهة له وتعلقت به لنفسها فكيف لا تكون حاصلة إذا
قدرنا فعل الاخر؟
وتعلق من خالف في ذلك بان قال: لو فرضنا انه فعل الثلاث لكان الواجب
منها واحدا فكذلك قبل الفعل.
وقالوا أيضا: لو لم يفعل الثلاثة لا يستحق العقاب على واحدة منها فعلم بذلك
ان الواجب هو الواحد.
والجواب عن ذلك: ان هذا يسقط بما حررناه لأنه إذا فعل فالذي كان واجبا
عليه واحد وان كان الباقي له صفة الوجوب لأنه كان مخيرا فيها فلأجل ذلك استحق
ثواب الواحد على جهة الوجوب والثنتان فعلهما تبرعا ولا يمتنع أن يكون الشئ له
صفة الوجوب إذا فعل مفردا فإذا فعل مع غيره كان الواحد منها لا يتغير وجه كونه
واجبا والباقي (1) يصير ندبا فلأجل ذلك يستحق عليه ثواب الندب وكذلك إذا لم
يفعل الثلاث فإنما يستحق العقاب على واحد لان واحدا منها كان واجبا عليه دون
الثلاثة.
فان قيل: فأيها يستحق عليه الثواب إذا جمعت وأيها يستحق عليه العقاب إذا
لم يفعل شئ منها؟
قيل له: لا يلزمنا بيان ذلك بل ما يعلمه الله تعالى من أنه لا يتغير كونه واجبا إذا

(1) في الأصل: الثاني.
223

فعله مع غيره يثيبه عليه ثواب الواجب واستحق العقاب بترك ذلك بعينه.
ومن (1) الناس من قال: انه يستحق الثواب على الأشق ثواب الواجب والعقاب
على الأخف.
والأول عندي هو المعتمد.

(1) في.
224

فصل [13]
(في أن الامر هل يقتضى الفور أو التراخي (1)؟)
ذهب كثير من المتكلمين والفقهاء إلى أن الامر يقتضى الفور وهو المحكى

(1) محل النزاع هو الأمر المطلق - لا الموقت أو المقيد بوقت أو المشروط بشئ - وبناء على مذهب من يقول
بأن مطلق الأمر لا يقتضي التكرار، إذ بناء على مذهب القائلين باقتضائه للتكرار، فإن الفورية تعد من
ضروريات الأمر، وقد اختلف الأصوليون في حكم هذه المسالة وإليك أقوالهم:
1 - الأمر لا يقتضي الفعل فورا = وهو مذهب كثير من الفقهاء والمتكلمين كالشافعي، وابن حزم
الأندلسي، والشيرازي، والغزالي، والآمدي، والرازي وأتباعه، وابن الحاجب، وأبي بكر القفال، وابن أبي
هريرة، وابن خيران، و أبي على الطبري، والإسفراييني، وابن السمعاني، وهو مختار أعيان المعتزلة ورؤوسها
كالقاضي عبد الجبار، والجبائيان، وأبي الحسين البصري، وهو أيضا مختار بعض الأحناف كالشيباني،
والسرخسي.
2 - الأمر يقتضي الفعل فورا = وهو مذهب جماعة من الفقهاء كأبي الصيرفي، وأبي يوسف
القاضي، والقاضي أبي حامد المروزي، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة كأبي الحسن الكرخي (إلا أن
الشيرازي نسب للكرخي أن مذهبه عدم الفورية)، وهو مختار مالك، وعليه جمهور فقهاء المالكية غير
المغاربة، وكذلك مختار الحنابلة، والظاهرية، و عامة أهل الحديث.
3 - التوقف إلي أن يقوم دليل على إرادة الفور أو التراخي = وهو مذهب جماعة كالجويني، و الغزالي (في
المنخول) وأبي منصور الماتريدي وغير هما. ثم أن الواقفة انقسموا بين من مذهب إلي أن من بادر في أول
الوقف عد متمثلا، وبين من قال إنه حتى لو بادر لا يقطع بكونه ممتثلا.
وتوجد في هذه المسألة تفصيلات وأقوال أخرى لا طائل تحتها لكونها أقوال شاذة.
225

عن أبي الحسن الكرخي (1).
وذهب كثير منهم إلى أنه على التراخي وهو المحكى عن أبي علي وأبي
هاشم (1).
وذهب قوم إلى أنه على الوقف (1) (2) * وقال يحتمل أن يكون مقتضاه الفور
أو (3) التراخي ويحتاج إلى الدليل. واختلفوا:
فمن أجاز منهم تأخير البيان عن حال الخطاب في المجمل قال: متى لم يدل
دليل (4) في حال الخطاب على أنه أراد الفعل في الثاني قطعت على أنه غير مراد فيه
وتوقف في الثالث والرابع وما زاد عليه وكذلك إذا جاء الوقت الثاني ولم يبين له انه
مراده في الثالث قطعت على أنه غير مراد فيه ثم على هذا التدريج.
هذا الذي اختاره سيدنا المرتضى (5) رحمه الله (6).
ومن لم يجز تأخير بيان المجمل عن حال الخطاب لم يجوز ذلك (7) *.

انظر: «التبصرة: 53 - 52، المستصفي 5: 2 و 4، الإبهاج: 2 / 35، المنخول: 113 - 111، الأحكام
للآمدي 153: 2، الأصول للسرخسي 26: 1، شرح اللمع 235: 1 - 234، روضة الناظر: 178، الإحكام 3:
307، المعتمد 111: 1، ميزان الأصول 332: 1 - 329».
و أما الإمامية: فقد ذهب المفيد (ره) - وتابعه الشيخ الطوسي - إلي أن الأمر يقتضي الفورية ولزوم
المبادرة والتعجيل، وأما الشريف المرتضى فهو من الواقفة ويقول أن تبيين الوقت موقوف على دلالة الدليل
انظر: التذكرة: 30، الذريعة 131: 1 - 130.
(1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 225.
(2) * بأن يكون مشتركا لفظيا بين الفور والتراخي، أو يكون موضوعا لأحدهما ولا يعلم أيهما الموضوع له،
و الاحتياج إلي الدليل في الصورة الأولي ظاهر.
(3) في الأصل: و.
(4) زيادة من النسخة الثانية.
(5) انظر: الذريعة إلي أصول الشريعة 131: 1 - 130.
(6) زيادة من الأصل.
(7) * أي عدم الدلالة في حال الخطاب، على أنه أراد الفعل في الثاني أم لا، وكذا في الثالث فصاعدا.
226

والذي اذهب إليه هو الأول.
والذي يدل على ذلك: انه قد ثبت بما دللنا عليه ان الامر يقتضى الايجاب
فلو لم يقتضى الفعل في الثاني لم ينفصل مما ليس بواجب في هذه الحال لأن ما ليس
بواجب هذا حكمه من أنه يجوز تركه وهذا لا حق به وهذا يؤدى إلى نقض كونه
موجبا (1) *.
فان قالوا: انه وان جاز تأخيره فلا يجوز ذلك الا إلى بدل وهو العزم.
وربما قالوا: انما يجوز له أن يؤخر بشرط أن يفعل في الثالث وكذلك فيما بعد.
قيل له: على الوجه الأول اثبات العزم يحتاج إلى دليل حتى يصح أن يكون
مخيرا بينه وبين الفعل فأما إذا لم يثبت ذلك فكيف يجعل مخيرا بينه وبينه ولا فرق
بين من أثبته من غير دليل وبين من أثبت فعلا اخر وجعله مخيرا بينه وبينه فلما كان
هذا فاسدا بلا خلاف كان العزم مثله.
وليس لهم أن يقولوا: نحن لا نثبت العزم الا بدليل وذلك أنه لما ثبت ان الفعل
واجب وكانت الأوقات في أدائها متساوية أثبتنا العزم والا انتقض كونه واجبا.
وذلك أن هذا انما يتم إذا ثبت لهم ان الأوقات متساوية في الأداء ودون ذلك
خرط القتاد.
وأيضا: فلو كان مخيرا بينه وبين العزم لجاز له أن يقتصر عليه ولا يفعل
الواجب لان هذا حكم سائر الابدال وفي ذلك إغراء له بترك الواجب وألا يفعل

(1) * تقريره: أن الأمر إذا تعلق بفعل ولم يذكر معه شئ آخر يدل على إيجاب الفعل إيجابا منجزا، والإيجاب
تأثير في الوجوب، والوجوب أثر له، والأثر لا ينفك عن التأثير المنجز، فيجب أن يتحقق الوجوب بلا فاصلة،
أي في الوقت الثاني، ولو لم يكن الأمر للفور لم يكون الوجوب متحققا بلا فاصلة فلا يرد النقض بما لو صرح
بالتأخير، ونظيره أن يقال: إذا قال رجل للآخر «آجرتك الدار إلي سنة بكذا» وقال الآخر «قبلت» يتبادر منه
انتقال منافعها في الوقت الثاني إلي المستأجر، لأن الإجارة المطلقة تأثير منجز في انتقال المنافع، فالانتقال
يترتب عليه بلا واسطة، وهذا لا ينافي أنه لو قال له «آجرتك الدار من راس الشهر الآتي إلي سنة» لم ينتقل
إليه في الوقت الثاني.
227

شيئا منه أصلا ويقتصر على العزم ابدا وفي ذلك خروج عن الدين.
فاما من قال: انه يجوز له تأخيره بشرط أن يفعل في الثالث فقوله يفسد من
وجهين.
أحدهما: ان على هذا القول صار مخيرا في الوقت الثاني بين فعله وان لا
يفعل وهذه صفة الندب.
والثاني: انه لا يعلم أنه يفعل في الثالث حتى يصح منه تأخيره عن الثاني إليه.
وفي بطلان الوجهين معا ثبوت ما قصدناه.
ومما يدل أيضا على أن الامر يقتضى الفور: ان الامر في الشاهد يعقل منها
الفور الا ترى ان من امر غلامه بفعل فلم يفعل استحق الذم فلو (1) كان يقتضى
التأخير لجاز له أن لا يفعل ويعتل بذلك ويقول: انا مخير بين الفعل وبين العزم عليه
فلم أذم.
وفي علمنا ببطلان هذا لاعتلال دليل على أنه اقتضى الفور.
وليس لهم أن يدعوا قرينة دلت على أنه يقتضى الفور لأجلها ذم وذلك أن
القرينة المدعاة غيره معقولة فيحتاجون إلى أن يبينوها.
وأيضا فإنه يذمه من لا يعرف القرينة أصلا.
فعلم أنه انما يذمه لأنه عقل من مقتضى الامر الفور دون التراخي.
ومما يدل أيضا على أن الامر يقتضي الفور: انه لا يخلو من أن يكون المأمور
يجوز له تأخير الفعل لا إلى غاية أو إلى غاية فان جاز له تأخيره ابدا لا إلى غاية ففي
ذلك إخراج له من كونه واجبا وان كان يجوز له تأخيره إلى غاية كان ينبغي ان يكون
تلك الغاية معلومة وكانت تكون مثل الأوامر الموقتة ومتى لم يعلم ذلك كان مكلفا
لايقاع الفعل في وقت لا طريق له إلى معرفته وذلك تكليف بما لا يطاق (2) *.

(1) ولو.
(2) * لأنه إن وجب حينئذ الفور من باب المقدمة فهو رجوع إلي قولنا، وإن لم يجب كان الفعل جائز الترك لا إلي
228

فان ذكروا: انه يكون مخيرا بين الفعل والعزم لا إلى غاية.
كان الكلام عليهم ما تقدم (1) من أن في ذلك افساد (2) * التكليف وان يقتصر
المكلف من فعل الواجبات على العزم فحسب فلا يفعل شيئا منها وذلك خلاف
المعقول والدين جميعا.
فاما من قال هربا (3) * من ذلك: انه يتعين الوقت عليه إذا غلب في ظنه انه متى
لم يفعل اخترم أو عجز عنه.
فإنه يقال له: وأي امارة توجب هذا الظن المدعى؟ وذلك لا سبيل له إليه على أنه
إذا كان مخيرا بين الفعل والعزم فلو غلب في ظنه فوت الفعل لم يغلب في ظنه
فوت العزم فينبغي ان يجوز له الاقتصار عليه.
وفيمن وافقنا على هذا المذهب (4) من استدل على ذلك بقوله تعالى:
(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) (5) وبقوله: (فاستبقوا الخيرات) (6).
وذلك يضعف الاحتجاج (7) به لان الظاهر من الآية انه امر بالتوبة لأنها هي

غاية، فحينئذ إن سقط أصل التكليف كان خلاف المفروض، وإن بقي إلي غاية غير معلومة - والمفروض أنه
جائز الترك إلي غير غاية - كان تكليفا بما يجوز تركه لا إلي غاية، والتكليف يتضمن وجوب الإتيان بالفعل
على وجه الامتثال، وقصد الامتثال فيما يجوز تركه لا إلي غاية محال، فهذا تكليف بالمحال.
(1) انظر استدلال الشيخ (ره) في رد هذه الشبهة في صفحة 227 حينما يقول: «وأيضا فلو كان مخيرا بينه وبين
العزم...»
(2) * أي انتفاءه، وقوله «وان يقتصر» تفسير له.
(3) * إشارة إلي إفساد التكليف إن لم نجعل وقت ظن الاخترام غاية.
(4) راجع التعليقة رقم (1) صفحه 225، وانظر أيضا: «التبصرة: 54، وشرح اللمع 238: 1، الإحكام 307: 3».
(5) آل عمران: 133.
(6) البقرة: 148.
(7) ضعف جماعة من المفسرين والمتكلمين والأصوليين الاحتجاج بهذه الآية الشريفة للدلالة على فورية
الأمر منهم: أبو إسحاق الشيرازي في «التبصرة: 54، وشرح اللمع 239: 1»، والشريف المرتضى في
«الذريعة 141: 1 - 140»، وفخر الدين الرازي في تفسيره وكذلك البيضاوي وابن الحاجب وغيرهم.
229

التي يحصل عندها الغفران وذلك متفق عليه انه على الفور.
فاما الفعل الواجب الذي لم يتقدمه غيره من المعاصي حتى يغفر فكيف
يحمل عليه؟
فان حمل على أن المراد بذلك استحقاق الثواب تصير الآية مجملة (1) * لأنه
يستحق الثواب بالواجب والندب وليس الندب واجبا أصلا.
ومنهم من استدل على ذلك بان قال: ان الامر يقتضى ايقاع الفعل في وقت من
جهة الحكمة وان لم يكن مذكورا في اللفظ فأشبه ما يقتضيه العقود والايقاعات من
الطلاق والعتاق فكما ان ذلك كله على الفور وجب مثله في الامر.
وهذا لا يصح الاستدلال به من وجهين.
أحدهما: ان هذا قياس ونحن لا نقول بالقياس أصلا فكيف يمكننا ان نعتمد
على ذلك؟
ومن قال بالقياس لا يمكنه أيضا ان يعتمد هذه الطريقة لان القياس يوجب
غلبة الظن وهذه المسألة طريقها العلم (2) * فلا يمكن الاعتماد فيها على القياس.
[الثاني] (3): ولو جاز استعمال القياس في ذلك لكان هذا الاستدلال قرينة
اقترنت إلى ظاهر الامر والقوم لا يمتنعون من ذلك وانما الخلاف في الأوامر
المطلقة الخالية من القرائن فعلم أن المعتمد ما قدمناه.
وإذا ثبت ان الامر على الفور فمتى لم يفعله في الثاني احتاج إلى دليل اخر
في وجوبه عليه في الثالث على ما بيناه فيما تقدم (4) وفى ذلك بطلان مذهب (5) من

(1) * جواب عن كلا الآيتين، وحاصله أنه لا يمكن حمل المغفرة والخيرات على العموم لأنه يستلزم وجوب
المندوبات وهو باطل، فالمراد بعض مما يوجب المغفرة وبعض الخيرات ولم يتعين في الآية، فتصير
مجملة.
(2) * لأنها من مسائل الأصول، لا لأنها لغوية فلا يجري القياس فيها.
(3) زيادة تقتضيها الجملة لما قال في القسم الأول من الوجهين (أحدهما) فالأولي أن يقول هنا: الثاني.
(4) انظر استدلال الشيخ على هذه المسالة في صفحة 210.
(5) وهذا القول مذهب جمهور الأحناف كالسرخسي، والبزدوي، وابن الهمام، وأبي زيد الدبوسي،
230

قال: ان بالامر الأول يلزمه الفعل في الثالث والرابع إلى أن يحصل الفعل.
واستدل من قال (1): ان الامر يقتضى التراخي (2) بان قال: ان الامر انما يقتضى
كون الفعل واجبا وليس للأوقات ذكر في اللفظ وليس بعضها بان يوجب ايقاعه فيه
بأولى من بعض فينبغي ان يكون مخيرا فيه لأنه لو أراد ايقاعه في بعضها لبينه
فمتى لم يبينه دل على أنه مخير في ذلك كله (3).
والجواب عن ذلك أن يقال: ان الأوقات وان لم تكن مذكورة في اللفظ فوقت
الفعل هو الثاني وهو معلوم بالأدلة التي ذكرناها (4) فيجب المصير إلى مقتضاها.
وقولهم: انه لو أراد ايقاع الفعل في الثالث (5) لبينه.
فعندنا انه بينه بالأدلة التي قدمناها (3).
ثم لأصحاب الوقف ان يقولوا: ولو أراد التراخي لبينه فيجب ان يتوقف في
ذلك وينتظر البيان.
ومتى اعتمد ذلك أصحاب الوقف كان الكلام عليهم ما تقدم من أن الدليل قد

والسمرقندي, هو مختار المالكية، والحنابلة، وبعض المعتزلة، وبعض أصحاب الشافعي، وعامة الحديث،
انظر أيضا التعليقة رقم (1) صفحة 209.
(1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 225.
(2) قال شارح كتاب «التبصرة في أصول الفقه» لأبي إسحاق الشيرازي [ص: 52] معلقا على قول الشيرازي
«الأمر المطلق لا يقتضي الفعل على الفور» بقوله: (وهذه العبارة التي عبر بها الشيرازي هنا، وهي انه لا
يقتضي الفور، هي العبارة الفصيحة في هذه المسالة كما نقله ابن السبكي في «رفع الحاجب» عن الشيخ أبي
حامد. وبعض الأصوليين يعبرون عنها بقولهم، إنه يقتضي التراخي، بمعني أن التأخير جائز، وأن مدلول إفعل
طلب الفعل فقط من غير تعرض للوقت، لا بمعني أن البدار لا يجوز على ما تقضيه ظاهر عبارة التراخي، فإن
هذا لم يذهب إليه أحد منهم كما قال ابن السبكي في «رفع الحاجب» والسعد في «التلويح».
(3) انظر: «التبصرة: 53، شرح اللمع: 1 / 235».
(4) انظر إلي أدلة الشيخ أقامها على مذهبه لفورية الأوامر في صفحة 227 حينما يقول: «والذي يدل على
ذلك أنه قد ثبت...».
(5) في الأصل «الثاني» وهو خطا.
231

دل على أنه يقتضى الفعل في الثاني (1).
وان اعتمدوا على أنهم وجدوا الأوامر مستعملة في الفور والتراخي (2).
فقد بينا ان نفس الاستعمال لا يدل على أن ما استعملوه حقيقة (3) وذلك
مجاز عندنا إذا استعمل على ما قالوه.
وهذا جملة كافية في هذا الباب.

(1) لاحظ الأدلة التي أقامها الشيخ على مذهبه حول فورية الأوامر في صفحة 227.
(2) قال الشريف المرتضى مستدلا على مذهبه في الوقف [الذريعة: 1 / 132 - 131]: «لا خلاف في أن الأمر
قد يرد في القرآن واستعمال أهل اللغة ويراد به تارة الفور وأخرى التراخي».
(3) راجع كلامه في صفحة 161 حينما يقول: «فإن الجواب عنه أن يقال: أن ذلك كله...».
232

فصل [14]
(في الامر المؤقت ما حكمه؟ (1))
يجوز ان يرد الامر من الحكيم بعبارة معلقة بوقت يقصر الوقت عن أدائها

(1) إذا توجه الأمر إلي المكلف بفعل موقت في زمان معين، فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه:
1 - أن لا يتسع الوقت للفعل المأمور به:
و هذا النوع من الأمر مما لا خلاف بين الأصوليين في استحاله صدوره من الحكيم تعالي، لأنه تكليف
بما لا يطاق فيقبح صدوره منه، ولوضوح استحالته فقد أهمله أغلب الأصوليين ولم يتعرضوا لحكمه، إلا أن
بعضهم فصل فيما إذا اتسع الوقت لبعض الفعل، كما لو كان الوقت بمقدار ركعة من الصلاة فإنه يكون سببا
للقضاء.
2 - أن يتسع الوقت للفعل المأمور به بحيث يكون الوقت مطابقا للعبادة، ولا يفضل عليها ولا تفصل عنه،
و هذا الوجه أيضا مما تطابقت آراء الأصوليين على وجوبا الأداء فيها، كاليوم في حق الصوم فإنه يجب
الإمساك والصيام في جميع أجزاء الوقت لأن جميعه وقت للوجوب.
3 - أن يتسع الوقت للفعل المأمور به ويفضل عنه كوقت صلاة الظهر:
اختلفت أقوال العلماء وآراؤهم في حكم وقت الوجوب:
الف: الوجوب معلق بأول الوقت: وهذا مذهب الشيخ المفيد - من الإمامية - و أبي إسحاق الشيرازي ومن
تابعه من الشوافع، و هؤلاء لا يقصدون أن الصلاة في أول الوقت واجبه بحيث لو أخرها عليه القضاء، بل إن
مرادهم هو أن الوجوب تعلق بأول الوقت على نحو التوسع.
ب: الوجوب معالق بآخر الوقت قبل أن يتضيق الوقت، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه العراقيين
من أهل الرأي والقياس.
233

فيه (1) فان لم يقصر عن ذلك نظر فيه:
فان كان مما يستغرق أداء العبادة فيه وجب أداؤه فيه بلا خلاف (1) وذلك نحو
الصوم المعلق بالنهار فإنه يجب أداؤه في جميعه.
وان كانت العبادة يمكن أداؤها في بعضه فاختلف العلماء في ذلك:
فمنهم من قال: الوجوب متعلق بأول الوقت (1).
ومنهم من قال: يجب أداؤه في اخره (1).
ومنهم: من جعله مخيرا بين أدائه في أوله واخره وفيما بين ذلك فان اخره
إلى آخره تضيق عليه الأداء (1) فيه ثم اختلفوا:
فقال قوم منهم: يجب عليه الفعل في أوله فمتى لم يفعل يجب عليه العزم
على فعله في اخره (2).

ج: إن الوقت كله وقت الفرض وعليه أداؤه في وقت مطلق من جميع الوقت، وهو مخير في الأداء في
وله ووسطه وآخره، وإنما يتعين الوجوب أما بالأداء في الأول أو بتضيق الوقت في الآخر.
أصحاب هذا الرأي أيضا مختلفون في تفاصيل كجعل البدل إن لم يودي في أوله بان يعزم على الأداء
في وقت آخر، وهم على مذاهب عديدة، وقد تعرض لها الشيخ الطوسي في هذا الفصل.
وهذا القول مذهب الشريف المرتضى والشيخ الطوسي - من الإمامية - والكرخي، ومحمد بن شجاع
الثلجي، وابن حزم الأندلسي، والسمرقندي، و هو مذهب الشافعي وأصحابه، والمالكية، والحنابلة، وأعيان
المعتزلة كالجبائيان وأصحابهما كالباقلاني، والقاضي عبد الجبار، وأبي الحسين البصري، وعامة أصحاب
الحديث.
انظر: «الذريعة 146: 1 - 145، ميزان الأصول 340: 1 - 333، المعتمد 125: 1 - 124، التذكرة: 30،
المنخول: 121، التبصرة: 60، المغني 121: 17، الإبهاج 60: 1، المستصفي 69: 1، الأحكام للآمدي 98: 1،
أصول السرخسي 31: 1، شرح اللمع 245: 1، الإحكام 323: 3».
(1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 233.
(2) وهذا رأي أعيان المعتزلة كالباقلاني، والقاضي عبد الجبار، و الجبائيان حيث قالا: «إن بدل الصلاة في أول
الوقت ووسطه هو العزم على أدائها في المستقبل» انظر: (المعتمد 125: 1، ميزان الأصول 339: 1) وعليه
الغزالي في المستصفي، والآمدي، والماوردي، والنووي والشيرازي في (التبصرة: 60).
234

ومنهم من قال: هو مخير في الأوقات كلها ولا يجب عليه العزم (1).
ومن العلماء من وقف في ذلك وانتظر البيان وقال: كل ذلك جائز.
والذي يقوى في نفسي: انه إذا وردت العبادة معلقة بوقت له أول واخر من
جهة اللفظ فإنه يكون مخيرا بين أدائها في أوله واخره فان لم يفعل في أوله وجب
عليه العزم على أدائه في اخره ثم يتضيق في اخر الوقت وذلك نحو ان يقول الله:
(تصدق اليوم بدرهم) (وصم في هذا الشهر يوما) فإنه يكون مخيرا بين ان يتصدق
في أول النهار أو وسطه أو اخره وكك يكون مخيرا بين ان يصوم في أول الشهر أو
وسطه أو اخره الا ان يقوم دليل على أنه واجب في أوله فيخرج عن هذا الباب.
والذي يدل على ذلك: ان الوقت الثاني مثل الوقت الأول في تناول الامر له
بأداء العبادة فيه فليس لنا ان نجعل (2) أحدهما هو الواجب فيه دون الاخر فينبغي
ان يكون مخيرا في الأوقات كلها.
وليس لهم ان يقولوا: ان هذا يرجع عليكم في اخر الوقت فإنكم جعلتموه
مضيقا!
فان ذلك لابد منه في اخر الوقت لأنه ان لم يفعل (3) ذلك أدى إلى فوات
العبادة وليس كذلك الوقت الأول لأنه إذا لم يفعل فيه فالوقت الثاني وقت له.
وليس لاحد ان يقول: ان هذا ينتقض بما ذكرتموه في الباب الأول من أن الامر
يقتضى الفور وانه يجب المأمور به عقيبه.
وذلك انا انما قلنا ذلك في الأوامر المطلقة التي لها وقت واحد فحملناه على
الفور وحمل مخالفونا على التراخي لما لم يكن في اللفظ تعيين الوقت وليس كذلك

(1) وهو قول جماعة من الفقهاء والمتكلمين كالرازي وأتباعه، ومحمد بن شجاع البلخي الحنفي، والغزالي في
المنخول، وأبي الحسن البصري من البصري من المعتزلة. راجع المصادر الواردة في التعليقة رقم (1) صفحة 233.
(2) في الأصل: فليس أن نجعل.
(3) نقل.
235

في الامر الموقت لأنه عين (1) فيه الوقت وذكر أوله واخره فقلنا انه مخير فيهما.
فان قيل: فكيف أوجبتم العزم بدلا منه في الوقت الأول ولم يذكر العزم في
اللفظ؟ وهلا لزمكم ما ألزمتموه من خالفكم في الامر المطلق وانه يقتضى التراخي
وأوجب العزم بدلا منه في كل الأوقات؟
قيل له: إذا ثبت ان الامر يتناول الوقت الثاني كتناوله الوقت الأول وهو يقتضى
الوجوب فمتى لم يثبت العزم بدلا منه في الأول أدى ذلك إلى خروجه عن كونه
واجبا فلأجل ذلك أوجباه وليس كذلك في الامر المطلق لأنه لم يثبت للخصم انه
يجب في الأوقات ولا ان الامر تناول الأوقات على جهة البدل فيثبت العزم بدلا منه
في الأول بل كان الوقت الذي يلزمه أداء الفعل فيه هو الثاني لم يجز ان يثبت العزم
بدلا منه واحتاج المخالف في اثبات ذلك إلى دليل.
فاما من قال: انه يجب تأخيره فمتى فعل في الأول كان نفلا (2).
فذلك نقض لاقتضاء الامر الايجاب وانتقال إلى مذهب من يقول إنه يقتضى
الندب وذلك خلاف الصحيح على ما دللنا عليه.
فإن قال: لو كان واجبا في أوله لكان متى لم يفعله فيه استحق الذم لان بذلك
يتميز الواجب من النفل فلما لم يستحق الذم بالا يفعل في الأول علمت (3) انه نفل
فيه.
قيل له: انما يجب ان نقول بسقوط الذم عمن لم يفعل فعلا بعينه على أنه ندب
فيه إذا لم يكن هناك امر يسند ذلك إليه الا كونه نفلا فاما إذا كان هناك امر يسند إليه
ذلك فلا يصح الا ترى انه إذا فرضنا ان هناك ما يقوم مقامه ويسد مسده من الواجب
فمتى لم يفعله وفعل ذلك الامر لم يستحق الذم وانما يتم ذلك في الامر المضيق اما

(1) قد عني.
(2) نسب السمرقندي هذا القول لأبي الحسن الكرخي، ونسبه أبو الحسن البصري للكرخي ولأكثر أصحابه من
المعتزلة. راجع: «ميزان الأصول: 1 / 338، المعتمد 1: 125».
(3) علمنا.
236

بفعل واحد أو وقت واحد فمتى لم يفعله بعينه أو في ذلك الوقت استحق الذم وقد
بينا ان هذه المسألة بخلاف ذلك وان هناك عزما يقوم مقامه.
فان عادوا إلى أن يقولوا: العزم ليس عليه دليل كرر عليهم الكلام الأول وهو
انه إذا تناول الامر الوقت الثاني كتناوله للوقت الأول فلابد - متى لم يفعل في الأول -
من عزم والا خرج من كونه واجبا إلى (1) ان يكون نفلا وقد ثبت انه واجب.
فان قالوا: إذا جاز لكم ان تعدلوا من ذلك إلى فعل العزم جاز لنا ان نعدل إلى أنه
نفل والا فما الفرق؟
قيل له: حمله على كونه نفلا نقض لكونه واجبا وليس في ايجاب العزم نقض
لكونه واجبا على ما بيناه فكان ذلك فرق بين الموضعين.
فان قيل: فعلى هذا المذهب ما قولكم في صلاة الظهر التي لها وقتان أول
واخر وكذا سائر الصلوات؟
قيل له: اختلف العلماء في ذلك وأصحابنا أيضا:
فمن الفقهاء من جعل الفرض متعلقا باخر ومتى فعل في الأول كان نفلا
وربما سماه (موقوفا) على أن يأتي عليه الوقت الأخير وهو على الصفة التي يحب
عليه معها فعل الصلاة ويخرج الوقت فيحكم له بالوجوب ومع تسميته نفلا يكون قد
أجزأ عن الواجب (2) وهذا هو المحكى عن أبي الحسن الكرخي من أصحاب أبي
حنيفة (3).
وذهب باقي الفقهاء إلى أنه مخير في الأوقات كلها ثم اختلفوا:

(1) في الأصل: إلا.
(2) في الأصل: أجري على الواجب، وفي الحجرية: أجزأت.
(3) قال السمرقندي «ميزان الأصول: 1 / 338»: روي الجصاص عن الكرخي: «أنه إذا أدي في أوله فهو
موقوف إن بقي إلي آخر الوقت بصفة المكلفين - بأن بقي حيا، عاقلا، مسلما ونحوها - يقع واجبا. وإن فات
شئ من شرائط التكليف يكون نفلا. وحكاه أبو الحسين البصري عن الكرخي أيضا (المعتمد 1: 125).
237

فمنهم من رجح الوقت الأول بالفضل (1).
ومنهم من لم يرجح وسوى بين الأوقات (2).
وأصحابنا اختلفوا: فكان شيخنا أبو عبد الله (3) يذهب إلى أن الوجوب يتعلق
بأوله وانه متى لم يفعل استحق الذم والعقاب الا انه متى تلافاه سقط عقابه (4).
وذهب سيدنا المرتضى إلى أنه مخير في الأوقات كلها أولها واخرها غير أن
أداؤها في أول الوقت أفضل (5).
وإذا نصرنا المذهب الأول نقول: انما قلنا ذلك لأنه لم يخير على كل حال بين
الصلاة في أول الوقت واخر الوقت وانما فرضه الوقت الأول فلا يصح ان يجعل
مخير بينه وبين ما لم يجعل له وجرى ذلك مجرى الامر المضيق المعين بوقت
متضيق (6).
وليس لهم ان يقولوا: ان ذلك ينقض ان تكون الصلاة لها وقتان.
وذلك انا نقول: إذا نصرنا هذا المذهب ان لها وقتين في الجملة وبالإضافة إلى
مكلفين واما (7) إذا أضفناها إلى كل واحد من المكلفين فان لها وقتا واحدا فيكون
الوقت الأول لمن لا عذر له ولا مانع يمنعه من فعل الصلاة فيه من علة أو مرض أو
شغل ديني أو دنياوي والوقت الثاني يكون وقت من له بعض هذه الموانع فتكون
للصلاة وقتان بالإضافة إلى من وصفناه.

(1) وهو قول بعض المعتزلة. (انظر: المعتمد 1: 125)، وكذلك الشريف المرتضى - من الإمامية -.
(2) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 233.
(3) الشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي رضي الله تعالي عنه.
(4) روي الكراجكي في «مختصر التذكرة بأصول الفقه: 30» مختار الشيخ المفيد بقوله: (وإذا علق الأمر بوقت
وجب الفعل في أول الوقت، وكذلك إطلاقه يقتضي المبادرة بالفعل والتعجيل).
(5) الذريعة 1: 150 - 149.
(6) في الأصل: المعبر بوقت مضيق.
(7) فأما.
238

فان قالوا: هذا خلاف الاجماع لان الأمة كلها تقول: ان كل صلاة لها وقتان فلا
يفصلون هذا التفصيل.
قيل له 6 هذا اجماع مدعى (1) لان من خالف في هذا يخالف فيه ويرجع في
ذلك إلى الروايات الصادرة عن أئمة الهدى عليهم السلام.
ومتى نصرنا المذهب الاخر فالمعتمد فيه على ظاهر الامر وان النبي صلى الله
عليه وآله وسلم بين لكل صلاة وقتين وقال: (ما بينهما وقت) (2) ولم يفصل فينبغي ان
يكون مخيرا فيها ويقوى ذلك باخبار كثيرة وردت عن أئمة الهدى عليهم السلام
متضمنة لذلك وتعارض تلك الأخبار.
والكلام في تعيين هذه المسألة كلام في فرع والذي ذكرناه أولا كلام في
الأصل فلا ينبغي ان يخلطهما جميعا (3).
ويمكن ان ينصر المذهب الأول في الصلوات بان يقال: الاحتياط يقتضى
أداءها في الأول لأنه إذا تناول الامر ذلك والاخبار تقابلت في جواز تأخيرها عن أول
الوقت والمنع من ذلك فينبغي ان يتعارض ويرجع إلى ظاهر الامر في وجوب الصلاة
في الوقت الأول.
فان قيل: لو كانت الصلاة واجبة في أول الوقت لا غير لكان متى لم يفعل فيها
استحق العقاب وأجمعت (4) الأمة على أنه لا يستحق العقاب ان لم يفعلها في أول
الوقت.
فان قلتم: انه أسقط عقابه.

(1) أي إن هذا الإجماع منقول - وليس بالإجماع المحصل - ولا حجية فيه.
(2) التهذيب 2: 252 ح 38، 2: 235 ح 40، الإستبصار 1: 257 ح 49، 1: 257 ح 51.
(3) وقد تعرض الشريف المرتضى (ره) (الذريعة: 1 / 159 - 158) إلي هذه المسألة الفرعية وأطال فيها ثم
اعتذر عن الإطالة فيها بقوله: «وليس لأحد أن يعيبنا بتشعيب هذه المسألة والخروج منها إلي الكلام في
الفرع، لأن قصدنا إنما كان إلي إيضاح الأصل بهذا التفريع، فرب فروع أعان شرحها على تصور الأصل»
(4) اجتمعت.
239

قيل لكم: وهذا أيضا باطل لأنه يكون اغراء بالقبيح لأنه إذا علم أنه متى لم
يفعل الواجب في الأول - مع أنه يستحق العقاب عليه - سقط عقابه كان ذلك اغراء
قيل له: ليس ذلك اغراء لأنه انما علم اسقاط عقابه إذا بقي إلى الثاني وأداها
وهو لا يعلم أنه يبقى إلى الثاني حتى يؤديها فلا يكون مغرا بتركها.
وليس لهم ان يقولوا: فعلى هذا لو مات عقيب الوقت الأول ينبغي ان لا يقطع
على أنه غير مستحق للعقاب وذلك خلاف الاجماع ان قلتموه.
وذلك أن هذا الاجماع غير مسلم بل الذي نذهب إليه ان من مات في الثاني
مستحق للعقاب وأمره إلى الله تعالى ان شاء عفا عنه وان شاء عاقبه فادعاء الاجماع
في ذلك لا يصح.
فاما من خير بين الأوقات ولم يوجب العزم في الأول بدلا (1) منه فان ذلك
ينقض كونه واجبا لان هذا حكم الندب فما (2) أدى إلى مساواة الواجب للندب
ينبغي ان يحكم ببطلانه.
ومن قال: انه نفل في الأول (3) فقوله يبطل بما ثبت من اقتضاء الامر الايجاب
فمن خالف في ذلك كان الكلام في مسألة أخرى وقد مضى الكلام فيها (4).
ويدل أيضا على بطلان هذا القول: ان الصلاة في أول الوقت لو كانت نفلا لكان

(1) وهو قول جماعة من الفقهاء والمتكلمين كالرازي وأتباعه وبه قال أصحاب الشافعي، ومحمد بن شجاع
البلخي الحنفي، وأبو الحسين البصري من المعتزلة، و الغزالي في «المنخول». راجع المصادر الواردة في
التعليقة رقم 1 صفحة 233.
(2) في الأصل: مما.
(3) هذا مذهب العراقيين من أهل الرأي والقياس من أصحاب أبي حنيفة، فإن أكثر هم ذهبوا إلي أن الوجوب
يتعلق بآخر الوقت ثم اختلفوا في صفة المؤدي في أول الوقت، فاختار جماعة منهم أن الأداء في الأول يقع
نفلا وهذا يمنع من لزوم الغرض إياه في آخر الوقت إذا كان على صفة يلزمه الأداء فيها بحكم الخطاب، لأن
بأدائه حصل ما هو المطلوب من المأمور به. انظر المصادر الواردة في التعليقة رقم 1 ص 233.
(4) راجع كلام المصنف حول مقتضي الأمر في صفحة 172 حيث يقول: «والذي يقوي في نفسي أن الأمر
يقتضي الإيجاب لغة وشرعا...»
240

متى نوى بها النفل لكانت تجزئ عن الفريضة لان النية المطابقة للصلاة أولى بأن
تجزئ معها الصلاة من النية المخالفة لها وقد اجمعوا على أنه متى نوى بها النفل لم
يجزه فبطل بذلك كونها نفلا في الأول.
وأما إذا قال: انها موقوفة فكلامه غير محصل لان الوجوه التي تقع عليها
الافعال فتكون واجبة أو ندبا لا تتأخر (1) عن حال الحدوث ولا تكون أمورا منتظرة
فان وقعت الصلاة في الوقت الأول على وجه الندب فينبغي ان يكون ندبا - وان خرج
الوقت - وقد اجمعوا على خلاف ذلك وان وقعت واجبة فان ذلك يبطل كونها ندبا.
فاما ما يتفرع على هذه المسألة من وجوب القضاء على الحائض إذا طهرت في
اخر الوقت أو سقوطه عنها فكلام في الفرع وقد بينا الصحيح من ذلك في كتب
المصنفة في الفقه (2) فمن أراد ذلك وقف عليه من هناك.
وهذه جملة كافية كافية في هذا الباب.

(1) في الأصل: لا يتخير.
(2) انظر: (النهاية في مجرد الفقه والفتاوي)، كتاب الظهارة، باب حكم الحائض والمستحاضة والنفساء.
241

فصل [15]
(في أن الامر هل يدخل تحت امره أم لا (1))
اعلم أن الصحيح انه لا يجوز ان يدخل الامر تحت امره ويفارق ذلك الخبر.
والذي يدل على ذلك: ان الامر لا يكون آمرا الا باعتبار الرتبة فيه على ما بيناه

(1) موضوع الخلاف بين الأصوليين في أن الآمر والمخاطب هل يدخل في عموم متعلق خطابه أم لا؟ وهذا
الخلاف نشأ من الخلاف في مسألة أخرى وهي أنه هل يتصور وجود الأمر من الآمر لنفسه أم لا؟ فمن ذهب
إلي تصوره حكم بدخول الآمر نفسه في عموم حكم الأمر. وأغلب الأصوليين حينما يتعرضون لبيان الحكم
في هذه المسألة يأتون على ذكر الخبر ومقتضاه واختلافه مع الأمر في شموله للمخبر نفسه.
و في المسألة ثلاثة أقوال:
1 - لا يدخل الآمر في الأمر: وهذا مذهب جماعة من العامة كالشيرازي ومن تابعه، والمعتزلة، وأبي
الخطاب، والسمرقندي الذين ذهبوا إلي اشتراط العلو في الآمر وإن الأمر استدعاء للفعل ممن هو دونه
بالقول. فلا يعقل دخول الآمر في أمر نفسه. وهو مختار الشيخ الطوسي وشيخيه أبي عبد الله المفيد والشريف
المرتضى - رحمهما الله -.
2 - يدخل الآمر في الأمر خاصة إذا كان الأمر صادرا من النبي صلي الله عليه وآله وسلم: وهذا رأي
جمهور الأصوليين من العامة كابن حنبل، والغزالي، والآمدي، وابن الحاجب، وبعض المعتزلة.
3 - التفصيل: حيث فصلوا بينما إذا لحق الأمر قرينة دلت على دخول الآمر أو عدمها، وهو مذهب
الرازي، وأمام الحرمين، وأبي الحسين البصري.
انظر: «روضة الناظر: 211، الذريعة 160: 1، التذكرة: 32، المعتمد 138: 1 - 136، المنخول: 143،
المستصفي 26: 2، الأحكام للآمدي 55: 2، التبصرة: 73، ميزان الأصول 277: 1، شرح اللمع 269: 1».
242

فيما تقدم (1) وهي ان يكون الامر فوق المأمور وهذا لا يصح ان يدخل بين الانسان
وبين نفسه والخبر ليس كذلك فإنه يجوز ان يخبر الانسان عن نفسه ويجمع بينه
وبين غيره في تناول الخبر لهما لان الرتبة غير مراعاة في الخبر.
وليس لهم ان يقولوا: ليس هذا المثال مثالا للامر لأنكم قلتم (لا يحسن ان يأمر
الانسان نفسه) ومثل هذا موجود في الخبر لأنه لا يحسن أيضا ان يخبر نفسه فاما
الاخبار عنها فليس بمشبه (2) لذلك وذلك أنه انما لا يحسن ان يخبر الانسان نفسه
لأنه عبث لان الخبر انما وضع للإفادة فإذا كان عالما بما يخبر به فاخباره نفسه بذلك
لا فائدة فيه وكان عبثا. وليس كذلك الامر لأنه انما قبح لفقد الرتبة المراعاة في كونه
آمرا.
وكذلك القول إذا أخبر غيره بلفظ فلا يجوز ان يقصد باللفظ اخبار نفسه لما
قلناه من أنه عبث وانما قلنا انه يصح ان يخبر عن نفسه ليعلم بذلك ان الرتبة غير
مراعاة في الخبر أصلا.
فإذا ثبتت هذه الجملة فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا امر غيره بفعل لا
يدل ذلك على أنه مأمور به أيضا الا ان يدل دليل على ذلك فيحكم به لأجل الدليل
ويفارق ذلك أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم لأنها بالعكس من أوامره لان أفعاله
تختصه ولا يعلم أنها متعدية إلى غيره الا بدليل وأوامره متعدية ولا يعلم تناولها له الا
بدليل فاختلف الأمران.

(1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 159.
(2) يشبه.
243

فصل [16]
(في ذكر الشروط التي يحسن معها الامر).
اعلم أنه لا يحسن الامر الا بعد أن يكون:
الآمر على صفة.
والمأمور على صفة.
والمأمور به على صفة.
والامر على صفة.
فإذا اجتمع ذلك كله حسن الامر ومتى اختل شئ من ذلك لم يحسن ونحن
نبين جميع ذلك.
واما ما يجب ان يكون عليه الآمر:
فان كان ممن يعلم العواقب وهو الله تعالى فلابد من أن يكون (1):

(1) الشروط التي يذكرها المصنف للآمر إذا كان هو الباري تعالي، مبنية على مذهب العدلية - من الإمامية
و المعتزلة - القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين، وأنه تعالي حكيم، ولا يفعل القبيح، ويقبح أن يصدر منه
الأمر على وجه المفسدة، بل يجب أن يصدر منه الأصلح تجاه العباد، انظر: «المعتمد 166: 1، الذريعة 1:
161، أوائل المقالات: 56، الذخيرة: 107». وأما على مذهب مطلق العامة - من الأشاعرة، وأهل الحديث -
فإنهم يقولون: إن الأفعال كلها خيرها وشرها صادرة عن خلقه وإحداثه، والحسن ما وافق الأمر من الفعل،
و القبيح ما وافق النهي من الفعل، ولا يجب على الله تعالي فعل الأصلح لأنه إما أن يكون الوجوب شرعيا أو
244

عالما بان المأمور يتمكن من أداء ما امر به (1).
ويعلم ان المأمور به على وجه يحسن (2) الامر به.
ويعلم انه مما يستحق بفعله الثواب (3).
ويكون غرضه وصوله إلى الثواب (4).
وأما إذا كان الآمر ممن لا يعلم العواقب من الواحد منا فإنه يحسن منه الامر إذا
ظن في المأمور ما ذكرناه بان يشترط أداؤه ان قدر عليه لأنه إذا لم يعلم العواقب فان
الظن يقوم له مقام العلم ولو لم يحسن مع الظن لما حسن من الواحد منا ان يأمر غيره

عقليا، وكلاهما باطلان ممنوعان، إذ الأول يقتضي أن يكون هنا من أوجب على الله وكلفه وهو محال،
و الثاني يقتضي عدم التخلف، وقد ثبت تخلفه تعالي في الكافر الفقير الذي قضي عمره في الفقر والكفر فإنه
لم يفعل معه الأصلح. انظر: «ميزان الأصول 278: 1، الاعتقاد على مذهب السلف: 74، الانصاف فيما
يجب اعتقاده: 74، أصول الدين: 209».
(1) ويدخل في التمكن القدر والآلات والعلوم وما أشبه ذلك، كما شرطه المرتضى (الذريعة 1: 161) أما أبو
الحسين البصري فقد ذهب إلي أبعد من ذلك حيث قسم القدر والآلات والعلوم والإرادة إلي قسمين: ما
يتمكن الإنسان من تحصيله فيجوز تكليفه وأمره به، ما لا يتمكن من ذلك فلا يجوز أن يفوض إلي الإنسان
تحصيله، ثم ذهب إلي ضرورة «حصول جميع ما يحتاج الفعل إليه في الوقت الذي يحتاج الفعل أن يوجد
فيه، فإن كان الشئ يحتاج الفعل إليه في وقت وجوده، وجب وجوده في ذلك الوقت، وإن احتاج إليه قبل
وجوده، أو في حال وجوده وقبل وجوده معا، وجب وجوده كذلك.» ثم يفصل الأشياء التي يجب وجودها
إلي ضربين فيدخل في بيان ضرورة وجود العلم والإرادة وفقد الموانع والسبب الذي يؤدي إلي حصول المسبب، ولزوم وجود الدلالة على العلم وتقدمها عليه... الخ. (انظر: المعتمد 1: 165)، وهذه التفاصيل
سيتعرض لها المصنف لاحقا، انظر ص 247.
(2) بأن يكون للفعل صفة زائدة على حسنه من جهة صفة الندب أو الوجوب أو يتعلق به نفع أخروي أو دفع
ضرر دنيوي، انظر: (الذريعة 1: 162، المعتمد 1: 164) هذا بناء على مذهب العدلية، وأما الأشاعرة وأهل
الحديث فيعتقدون أنه (ليست الحكمة مقصورة على النفع للآمر والمأمور، ولكن يجب أن تتعلق به عاقبة
حميدة) انظر: «ميزان الأصول 1: 278. وأيضا المصادر الواردة في التعليقة رقم 1 صفحة 244».
(3) بأن يكون واجبا أو ندبا، انظر: «الذريعة 1: 162».
(4) أي أن يكون قصد الله سبحانه وتعالي وداعيه في توجيه الأمر إلي المكلف هو إيصاله إلي الثواب.
245

البتة لأنه لا طريق له إلى العلم بأنه يقدر عليه أو لا يقدر عليه في المستقبل.
ولابد ان يعلم حسن المأمور به ويقصد بذلك وجها حسنا ولا يقوم الظن في
ذلك مقام العلم والشرط لا يدخل في ذلك كما دخل في كونه قادرا ولأجل هذا لا
يحسن منا ان نأمر غيرنا بفعل في الغد الا بشرط ان يكون قادرا عليه في الغد ولا
يجوز ان نأمره بفعل لا نعلم حسنه في الحال فبان الفرق بين الامرين.
ولو أن قائلا سوى بين حسن الشرط في الامرين لم يكن ذلك بعيدا لان
الواحد منا يأمر غلامه بان يرد وديعة انسان عليه في الغد ولابد من اشتراط كونه قادرا
عليه في حال الرد ولابد من شرط كونه حسنا في ذلك الوقت أيضا لأنه لو عرض في
حال الرد وجه من وجوه القبح من غصب ظالم لها أو غير ذلك من وجوه الفساد لم
يحسن ردها في تلك الحال.
واما القصد بذلك وجها من وجوه الحسن فلابد منه على كل حال.
ومن الناس (1) من جوز في القديم تعالى أيضا (2) ان يأمر المكلف بشرط ان
يبقى على كونه قادرا قبل حال الفعل بوقت والا يمنعه منه.
والصحيح الأول لان الشرط انما يصح فيمن لا يعلم العواقب فاما من يعلمها
فلا يحسن منه ذلك.
ومتى قيل: انه يحسن ذلك ويكون ذلك الامر لطفا لغير هذا المكلف كان ذلك
أيضا فاسدا لأنه لا يخلو من أن يكون المأمور نفسه ذلك الفعل مصلحة له أو لا يكون
كذلك، فإن كان مصلحة له فيجب إقداره عليه والا يمنع منه وان لم يكن مصلحة له
فلا يحسن ان يوجب عليه ما هو لطف للغير فلأجل ذلك قلنا ان النبي صلى الله عليه
وآله وسلم لابد ان يكون له في تحمله أعباء الرسالة لطف ولولا ذلك لما وجب عليه

(1) قال الشريف المرتضى (الذريعة 1: 163): «في الفقهاء والمتكلمين من يجوز أن يأمر الله تعالي بشرط أن
لا يمنع المكلف في المستقبل من الفعل، أو بشرط أن يقدره».
(2) زيادة من النسخة الثانية.
246

الأداء فكذلك القول ههنا.
ولابد ان يكون القديم تعالى عالما بان المكلف يفعل ما امر به ولا يعصيه
فيه (1) أو يكون في ذلك لطف للغير ان علم أنه يعصى على ما نقوله في قبح تكليف
من علم الله انه يكفر إذا لم يكن فيه لطف للغير.
ومن خالف في ذلك لم يشترط هذا الشرط (2).
ومن الناس من شرط في حسن امر الله تعالى ان لا ينهى عنه في المستقبل
ومنهم من لا يشترط ذلك ونحن نبين الصحيح في ذلك في باب الناسخ والمنسوخ
إن شاء الله.
واما الصفات التي يجب كون المأمور عليه فهي:
ان يكون متمكنا من ايقاع الفعل على الوجه الذي امر به (3) فان كفى في ذلك
مجرد القوة (4) اقتصر عليه وفعلت فيه قبل الفعل بحالة واحدة أو قبل ذلك
بأحوال (5).

(1) هذا الشرط بناء على مذهب العدلية من أنه تعالي حكيم وعالم بما يكون، فيعلم بقدرة المكلف علي
إحضار المأمور به، وانه لا يعصيه فيما إذا أمره به، فيأمره بذلك، وأما بناء على مذهب الأشاعرة وأهل
الحديث فإنه ليس عندهم شرط كون الأمر الحكيم أمرا وناهيا وجوب إتيان المكلف بالمأمور به أو وجوب
امتناعه عن المنهي عنه.
(2) المخالفون لهذا الشرط هم المجبرة من الأشاعرة، وأهل الحديث، وقد وافقهم في نفي هذا الشرط الشريف
المرتضى (ره) انظر: «الذريعة 1: 169».
(4) القدرة.
(5) لا خلاف عند أعيان الأصوليين والمتكلمين أن المأمور لابد أن يكون متمكنا من إتيان الفعل المأمور به
حين توجه الوجوب إليه، وذلك بأن يكون قادرا عليه من حيث الأسباب وعالما به، أو يكون سبب العلم
حاصلا وقائما عنده. ولكنهم اختلفوا في كيفية القدرة، فإن العدلية - الإمامية والمعتزلة - على أن المقصود من
القدرة هي القدرة الحقيقية، ويشترطونها سابقة على الفعل حتى يقع التكليف عليها، إذ لولاها يكون التكليف
متوجها إلي العاجز. وأما الأشاعرة فلا يشترطونها لأنها لا تحصل عندهم إلا عند إحضار الفعل وأداء التكليف
247

وان كان الفعل يحتاج إلى العلم فلابد من حصوله في حال وقوع الفعل فان
كان العلم من فعله مكن قبل ذلك من سببه بأوقات يمكنه تحصيل العلم فيها في حال
الفعل.
وان كان يحتاج إلى نصب الأدلة نصبت له لينظر فيها فيعلم ما كلف.
وان كان محتاجا إلى آلة مكن منها فان كانت محلا للفعل مثل اللوح في الكتابة
والسكين في القطع وغير ذلك أو ما يكون في حكم المحل مكن منها في حال الفعل.
وان كانت الآلة مما يحتاج إلى تقدمها مكن منها قبل الفعل مثل القوس في
الرمي.
وان كان الفعل يحتاج إلى آلة (1) في حال الفعل وقبله مكن منها في الحالين
على ما قلناه في السكين في القطع وغير ذلك.
وان كان الفعل يحتاج في ايقاعه على وجه إلى الإرادة (2) مكن فيها ولا يصح
منعه منها عند من قال بالإرادة (3).
وما يحتاج إلى النظر والسبب فلابد من تمكينه منهما.
ومن شرائطه أيضا اللازمة: الا يكون ملجئا إلى ما امر به هذه صفته لا
يحسن أمره (4) الا ترى انه لا يحسن ان يكلف الانسان ان لا يقتل نفسه لأنه ملجأ إلى

لاقبله.
(1) الآلة.
(2) المقصود من هذه الإرادة التي يريد المكلف بها إيقاع الفعل المأمور به على وجه هي الاختيار، والذي قد
يعبر بها عن المعني الذي يكون المكلف قاصدا لأحد الضدين، أي أنه متمكن من الفعل وبضده - كما صرح
بهذا المعني الشيخ المفيد (ره)، انظر: «أوائل المقالات 113 - 112».
(3) قال الشيخ المفيد (ره) (أوائل المقالات: 114): «لقد أطلق بعض أهل النظر من أصحابنا أن الإرادة مرادة
بنفسها، وعني به أفعال الله تعالي الواقعة من جهته واختراعه وإيجاده، لأنها هي نفس إرادته وإن لم تكن واقعة
منه بإرادة غيرها... وهذا مذهب أبي القاسم البلخي، وكثير من البغداديين قبله، وجماعة من الشيعة، ويخالف
فيه آخرون منهم ومن البصريين، والمجبرة كافة».
(4) قال الشريف المرتضى (ره) (الذريعة 1: 168): «لأن بالإلجاء يلحق الملجأ بالممنوع، ومع فقد تردد
248

ذلك وكذلك الواقف بين يدي السبع لا يحسن ان يكلف العدو.
فاما من قال: لا يحسن ان يكلف الانسان قتل نفسه لأنه ملجأ إلى ذلك فغلط
لان الالجاء انما هو إلى أن لا يقتلها فاما إلى قتلها فليس بحاصل. وعلى هذا يحسن
ان يكلف قتل نفسه ولهذا أخبر الله تعالى عن قوم فيما مضى انه كلفهم قتل نفوسهم
بقوله تعالى: (اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم) (1) وكذلك يحسن ان
يكلف من شاهد السبع الوقوف لان الالجاء انما هو إلى الهرب لا إلى الوقوف.
واما الصفات التي يجب كون الامر عليها:
فان يكون متقدما على الوقت الذي كلف المأمور ان يفعل فيه (2) لأنه متى لم

الدواعي لا يستحق الثواب هو الفرض بالتكليف». وقد أضاف أبو الحسن البصري علاوة على الإلجاء
- شرطا آخر وهو عدم الاستغناء (راجع: المعتمد 1: 165).
(1) البقرة: 54.
(2) اختلف الأصوليون والمتكلفين حول وقت صدور الأمر بالتكليف بلحاظ وقت وجوب الفعل على قولين:
1 - يجب تقديم الأمر على وقت وجوب الفعل: هو مذهب عامة المتكلمين، والأصوليين، والمعتزلة،
ولكنهم اختلفوا في مدة التقديم، فالأشاعرة بناء على معتقدهم من أزلية أوامر الله تعالي يقولون: إنه ليس به
بداية ووقت، بل هو ثابت أزلي سابق على وقت وجوب المأمور به بلا نهاية. وأما المعتزلة فقد اختلفوا فقال
بعضهم: إنه لا يجوز التقديم إلا بوقت واحد، وقال آخرون: يجوز التقدم بوقت وأوقات كثيرة. ولهم
تفصيلات أخرى في هذا المجال.
(2) يجب تقارن الأمر مع وجوب الفعل: وهو مذهب شرذمة كابن الراوندي، وعباد الصيمري - من
المعتزلة - وابن عقيل الحنبلي، والأشعري، والبيضاوي، وقالوا: يجب أن يكون الأمر مقارنا للفعل المأمور به،
و إذا سبق الأمر زمان الفعل المأمور به يكون ذلك إعلاما لا أمرا.
أما الإمامية فقد ذهب المفيد (ره) إلي أن (الأمر بالشئ لا يكون إلا قبله لاستحالة تعلق الأمر
بالموجود)، وتابعه على ذلك الشريف المرتضى لكنه لم يقيد فترة تقدم الأمر بموقت واحد بل قال: (لا يحد
في ذلك حدا معينا، بل يعلق ذلك بصفة معقولة، وهو أن يتم بذلك التقدم الفرض في الأمر من دلالة علي
وجوب الفعل ترغيب فيه وبعث عليه) وهذا التفصيل هو مختار الشيخ الطوسي.
انظر: «المعتمد 1: 166، ميزان الأصول 1: 289 - 286، الذريعة 1: 171 - 170، التذكرة: 32».
249

يتقدم لم يفد الترغيب (1) في الفعل. ولا يصح منه ان يستدل به على وجوبه عليه
فيجب تقدمه عليه من هذا الوجه.
فأما قول من قال من المجبرة: إن ما يتقدم يكون إعلاما ومن شرط الأمر أن
يقارن الفعل (2) فغلط لأنه ان أرادوا بقولهم: انه اعلام انه مما يصح ان يعلم به لزوم
المأمور به في وقته فهو خلاف في عبارة (3).
وان قالوا: يعلم به ان الآمر سيحدث في وقته أمرا اخر فليس في الامر المتقدم
دلالة على ذلك.
على أن هذا القول من قائله دفع لما يعلم ضرورة خلافه لان الأوامر في
الشاهد لا يكون قط الا متقدمة ومتى لم تكن كذلك لم تحسن فكك أوامر الله
تعالى الا ترى انه انما يحسن من الواحد منا ان يأمر غلامه ان يسقيه ماء قبل ان
يسقيه ويصح (4) منه ان يسقيه فاما في حال ما سقاه فلا يحسن ذلك فمن ارتكب
حسن ذلك كان دافعا للضرورات.
واما تقدمه قبل وقت الفعل بأوقات (5) فليس بواجب لكنه يحسن إذا كان فيه
معنى نحو ان يكون فيه صلاح لمن خوطب به بان يكلف أداؤه إلى من امر به ممن
يوجد في المستقبل نحو أوامر الله تعالى لنا في وقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بقوله: (أقيموا الصلاة) (6) لأنه لا خلاف بين الأمة انه امر لسائر المكلفين وان أهل
كل عصر قد كلفوا أداؤه إلى أهل العصر الثاني.

(1) في الأصل: التركيب.
(2) وهو قول المجبرة - كما نسبه إليهم المرتضى - وابن الراوندي وعباد الصيمري - من المعتزلة - راجع التعليقة
رقم (2) صفحة 249.
(3) انظر: الذريعة 1: 172.
(4) في الأصل: أيصح.
(5) انظر التعليقة رقم (2) صفحة 249.
(6) الروم: 31.
250

ويدل على حسن ذلك أيضا:
انه يحسن في الشاهد ان يأمر الواحد منا غلامه بفعل بعد أوقات كثيرة.
ويحسن من الموصى ان يوصى لولد ولده ولمن يجئ بعدهم من النسل
ويأمرهم ان يفعلوا في الوصية ما يريده وهذا لا يدفع حسنه منصف.
وعلى هذا قلنا: انه يحسن امر المعدوم والعاجز بان يفعل الفعل في الوقت
الذي قد علم أنه علته ستزاح فيه ويمكن من فعله.
ويبين ذلك أن الفعل الذي امر به لا يحتاج إلى تقدم القدرة في حال الامر لأنها
لو وجدت في تلك الحال وعدمت في حال الحاجة إلى الفعل لم يحسن امره فدل
على أن الحاجة إليه تقع قبل حال الفعل بحال ولو لم يحسن ذلك (1) لم يحسن من
الواحد منا ان يأمر غيره بان يفعل في غد فعلا يحتاج إلى آلة مع عدمها وان علم أنه
يتمكن منها في غد حتى يجب الا يحسن منا ان نأمر النجار باصلاح الباب الا والآلة
التي بها يصلحه في يده وهذا مما لا يحتاج إلى افساده لأنه معلوم ضرورة خلافه.
وهذه جملة كافية في هذا الباب.

(1) أي تقدم الأمر قبل وقت الفعل بأوقات وفترة زمنية طويلة.
251

الباب الرابع
الكلام
في النهى
253

فصل [1]
(في ذكر حقيقة النهى وما يقتضيه وجملة من أحكامه) (1)
النهى هو: (قول القائل لمن دونه: لا تفعل) كما أن الامر قوله له: (افعل) وما
دل على أحدهما دل على الاخر فالطريقة واحدة وانما يكون نهيا إذا أكره الناهي
المنهي عنه عند من قال بذلك (2).
والذي أقوله في ذلك: ما قدمت ذكره في باب حقيقة الامر (3) من أن هذه
الصيغة وضعها أهل اللغة ليدلوا على ايجاب الامتناع من الفعل ثم ينظر في ذلك فان
كان صادرا من حكيم دل على أن ذلك الشئ قبيح لأنه لا يوجب الامتناع مما هو
حسن فهو إذا دلالة على القبح.
وقد ترد هذه الصورة ولا تفيد النهى على الحقيقة على ضرب من المجاز مثل ما قلناه

(1) إن النهي يقارن ويشترك مع الأمر في معظم الأبحاث والاستدلالات، ولهذا وبرغم أن الأصوليين أفردوا له
بابا لكنهم اختصروا القول فيها واقتصروا على ذكر المختار دون بيان الدليل بل أحاطوا على الأدلة التي
أوردها في الأمر.
(2) القائل بذلك هم المعتزلة حيث يذهبون إلي أن إرادة عدم المنهي عنه وكراهة الآمر للفعل شرط في صحة
النهي، وأما الأشاعرة فلا يشترطونها. انظر: «المعتمد 1: 168، ميزان الأصول 1: 348 الذريعة 1: 175».
(3) انظر استدلال المصنف على مذهبه به في صفحة 172.
255

في صيغة الامر ولأجل هذا قلنا في قوله تعالى: (لا تقربا هذه الشجرة) (1) ان
صورته صورة النهى وليس ما تناوله قبيحا بل الأولى تركه وعبر عن ذلك بأنه نهى
بقوله تعالى: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة) (2) مجازا من حيث كانت صورته
صورة النهى على الحقيقة الا ان هذا مجاز لا يثبت الا بدليل والأول هو الحقيقة.
والدلالة على ذلك ما دللنا به على صورة الامر سواء (3).
وشرائط حسن النهى تقارب شرائط (4) الامر على السواء.
فاما اقتضائه التكرار أو الامتناع مرة واحدة فأكثر المتكلمين والفقهاء ممن
قال: ان الامر يقتضى مرة واحدة ومن قال: انه يقتضى التكرار قالوا في النهى
انه يقتضى التكرار (5).
ومنهم من سوى بينهما وقال الظاهر يقتضى الامتناع مرة واحدة وما زاد على
ذلك يحتاج إلى دليل.
ومنهم من وقف في ذلك كما وقف في الامر.
والذي يقوى في نفسي: ان ظاهره يقتضى الامتناع مرة واحدة وما زاد على
ذلك يحتاج إلى دليل وانما قلنا ذلك من حيث إن النهى إذا كان دلالة على قبح
المنهي عنه إذا صدر من حكيم انما يدل على أنه قبيح في الثاني لان مقتضاه الفور
وما بعد ذلك من الأوقات لا يعلم أن الفعل فيها قبيح بل يحتاج إلى دليل فمن ادعى
تساوى الأوقات في ذلك كمن ادعى تساوى الأوقات في اقتضاء الامر الفعل فيها
وذلك باطل على ما بيناه (6).

(1) البقرة: 35.
(2) الأعراف: 20.
(3) راجع استدلال المصنف على مختاره في صفحة 161.
(4) زيادة من النسخة الثانية.
(5) انظر التعليقة رقم 1 صفحة 199.
(6) انظر بيان المصنف في صفحة 235، والتعليقة رقم 1 في صفحة 233.
256

وشبهة من قال: انه يقتضى التكرار الرجوع إلى الشاهد وان النهى يقتضى ذلك
وذلك غير مسلم بالاطلاق فان استعمل في ذلك بقرينة من شاهد الحال وغيرهما فلا
يمكن ادعاء الحقيقة في ذلك (1) فإذا ثبت ذلك فإنما قلنا انه يقتضى الفور دون
التراخي لمثل ما دللنا عليه من أن الامر يقتضى الفور فالأدلة فيها سواء (2).
وأيضا: فلو لم يقتضى ذلك في الثاني لوجب ان يقترن به البيان فمتى لم يقترن
به البيان دل على أنه قبيح في الثاني.
فاما النواهي الواردة في القران والسنة وانها تقتضي التأبيد فإنما علمنا ذلك
بدليل من اجماع وغيره فلا يمكن الاعتماد على ذلك كما أن بمثل ذلك علم أن
الأوامر على التكرار عند الأكثر.
فاما النهى القيد بوقت: فلا خلاف بين المحصلين انه لا يقتضى وجوب
الانتهاء في غير ذلك الوقت وانما يعلم ذلك بدليل مثل ما قلنا في الامر المقيد (3).
فاما النهى عن الشئ فليس بأمر ضده (4) لا لفظا ولا معنى لمثل ما قلناه في الامر
سواء وانما يدل على أن ما عدا المنهي عنه من أضداده مخالفا له إذا كان صادرا
من حكيم لأنه إذا كان دلالة على القبح فما عدا ذلك الشئ لو كان قبيحا مثله لوجب
ان ينهى عنه أيضا كما نهى عن ذلك فلما لم ينه عن جميع أضداده ولا عن بعضها دل
على أنه مخالف له.
وقد تكون (5) مخالفته له بان تكون واجبة وندبا ومباحا فلا يمكننا ان نقول: انه
لو كان في أضداده ما هو واجب أو ندب لوجب بيانه فلما لم يبين دل على انها

(1) هذا مبني على مذهب الشيخ الطوسي من أن الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز، وأن الاستدلال بقرينة
تدل على استعمال النهي في التكرار لا يفيد ولا يثبت الاستعمال الحقيقي.
(2) راجع استدلالات الشيخ الطوسي في صفحة 236.
(3) انظر إلي أدلة الشيخ الطوسي في الأمر المؤقت في صفحة 233.
(4) النهي عن الشئ فليس بأمر بضده.
(5) كان.
257

مباحة فان ذلك يمكن الاعتماد عليه.
هذا إذا كان له اضداد كثيرة ويمكنه الانفكاك من جميعها فاما إذا لم يمكنه
الانفكاك عن جميعها ولابد من أن يكون فاعلا لواحد منها فإنه لا يكون أيضا واجبا
عليه لأنه انما يجب الشئ إذا كان مما يصح ان يفعل والا يفعل فاما ما لا ينفك عنه
فلا يصح وصفه بالوجوب ولأجل هذا قلنا أيضا إذا لم يكن للمنهي عنه إلا ضد واحد
ويصح انفكاكه منهما جميعا فمتى لم يوجب عليه ذلك الشئ أو يندب إليه يجب
ان يكون مباحا كما قلناه في الأضداد الكثيرة سواء.
فاما النهى إذا تناول أشياء فلا تخلو من أن يكون متضادة أو مختلفة:
فان كانت متضادة فلا تخلو من أن يصح انفكاكه من جميعها إلى امر اخر أو لا
يصح ذلك فيها:
فان كان يصح انفكاكه من جميعها جاز ان ينهى عنها أجمع على جهة التخير
ولا يجوز ان ينهى عنها جميعا على وجه الجمع لان كونها متضادة يمنع من صحة
الجمع بينها وما لا يصح الجمع بينها لا يصح النهي عنه.
وان كان لا يصح انفكاكه من جميعها فلا يجوز ان ينهى عن جميعها على
حال لان ذلك تكليف لما لا يطاق.
وكذلك إذا نهى عن ضدين ولهما ثالث جاز ان ينهى عنهما جميعا على وجه
التخيير ولا يجوز ان ينهى عنهما جميعا على الجمع لمثل ما قلناه.
وان كان ما تناوله النهى أشياء مختلفة أو شيئين مختلفين فإنه يصح ذلك على
وجه الجمع والتخيير معا.
وقول من قال: لا يصح ذلك على وجه التخير (1) غير صحيح لأنه كما لا يمتنع ان

(1) وهو قول المعتزلة حيث قالوا: إن كان النهي تناول أشياء مختلفة أو شيئين فإنه يكون نهيا عنهما ولا
يجوز فعل واحد منهما على وجه التخيير. انظر: (المغني، قسم الشرعيات 17: 135)، وقد خالف أبو الحسين
البصري «المعتمد 1: 104» مذهب القاضي عبد الجبار ومن تابعه وذهب إلي جواز فعل أحدهما.
258

يكون فعلهما مفسدة إذا جمع بينهما فينهى عنهما جميعا على وجه الجمع.
وكذلك لا يمنع ان يكون فعل كل واحد منهما إذا انفرد كان مفسدة وإذا
اجتمع مع غيره لا يكون كذلك فيصح ان ينهى عنه على وجه التخيير مثل ما نقوله
في الامر فالفرق بين النهى والامر في هذا الباب لا يمكن.
والقول في الامر إذا تناول ضدين مثل القول في النهى سواء لأنه إذا كان
لهما ثالث جاز ان يؤمر بهما على التخير فلا يجوز ان يؤمر بالجمع بينهما لان
ذلك مستحيل وكذلك ان لم يكن لهما ثالث جاز ان يؤمر بهما على وجه التخير فلا
يجوز ان يؤمر بهما على وجه الجمع لما قلناه.
فاما إذا تناول الامر أشياء مختلفة فإنه يجوز ذلك على وجه الجمع والتخيير بلا
خلاف وانما الخلاف في أنه تكون الجميع واجبة أو واحد لا بعينه وقد قلناه ما عندنا
في ذلك فأغنى عن الإعادة.
وهذه جملة كافية في هذا الباب وما عدا ما ذكرناه احكام النهى فيه احكام
الامر على السواء فلا معنى لتكرار القول فيه.
259

فصل [2]
(في أن النهى يدل على فساد المنهي عنه أم لا (1)؟)
ذهب أهل الظاهر وكثير من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة وكثير

(1) اختلف الفقهاء والمتكلمون والأصوليون من العامة في دلالة النهي على فساد المنهي عنه، وقبل الدخول
في تفاصيل الأقوال ينبغي التنبيه إلي أن الأمور الاعتبارية تنقسم إلي قسمين: فبعضها لا يصح فيه معني الفساد
و الصحة كالجهل والعلم وغيرهما، والقسم الآخر يصح فيه كالأحكام الاعتبارية والشرعية مثل الصلاة
و الصوم والنكاح، فالبحث والخلاف في هذا الفصل يدور حول هذا القسم الثاني. واليك أقوالهم:
1 - النهي يقتضي فساد المنهي عنه: ويقصدون إطلاق الفساد سواء أكان النهي في المعاملات أو
العبادات، أو كان لذات المنهي عنه، أو لجزئه، أو بوصف الخارجي اللازم معه أو المفارق عنه. وهذا القول
مذهب الأكثر إذ ذهب إليه الشافعي وأتباعه كالشيرازي، والغزالي، واختاره مالك، وأبو حنيفة وأصحابهما،
وابن حنبل وجماعة الحنابلة، وجميع أهل الظاهر، وهو مختار جماعة من المتكلمين.
2 - النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه: وهو مذهب جماعة كالقفال، وأبي الحسن الكرخي، والجويني،
و الأشعري، وجماعة من الأحناف، وهو أحد قولي الشافعي، ومختار أبي عبد الله البصري، والقاضي
عبد الجبار، وأبي هاشم الجباني وآخرين من شيوخ المعتزلة.
3 - التفصيل: بأن يدل النهي على الفساد في العبادات دون العقود والإيقاعات، وهو مذهب أبي الحسين
البصري، والغزالي (في المستصفي) وفخر الدين الرازي، وآخرين.
وأيضا عندهم تفصيلات أخرى كقول أبي حنيفة (أن النهي يقتضي الصحة)!! ولا يتسع المقام لذكرها.
أما الإمامية: فإن مذهب المرتضى (ره) هو التوقف لأنه يقول: «إن النهي من حيث اللغة وعرف أهلها لا
يقتضي فسادا ولا صحة، وإنما نعلم في متعلقة الفساد بدليل منفصل»، وخالفه في ذلك الشيخ الطوسي (ره)
260

من المتكلمين إلى أن النهى يدل على فساد المنهي عنه (1).
وذهب أكثر المتكلمين والباقون من الفقهاء إلى أن ذلك لا يدل على كونه غير
مجز (2) وهو الذي حكاه أبو عبد الله البصري عن أبي الحسن الكرخي وذهب إليه
بعض أصحاب الشافعي (1).
وينبغي ان نبين أولا تحقيق الخلاف في ذلك وما المراد به ثم نتكلم في صحة
ذلك أو فساده.
فمعنى قولنا: (ان المنهي عنه غير مجز) هو ان الذمة إذا تعلقت بها عبادة يجب
أداؤها على شروط فمتى أداها على وجه قبيح منهي عنه فان ذمته لا تبرأ ويجب
عليه قضاؤها.
ومن خالف في ذلك يقول: لا يعلم بمخالفته الامر وارتكابه النهى ان ذمته غير
بريئة بل لا يمتنع ان تبرأ ذمته بفعل القبيح كما تبرأ بفعل ما هو حسن.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه ان كون الشئ مأمورا به يقتضى كونه
حسنا ومصلحة للمكلف (3) * وكونه منهيا عنه يدل على أنه مفسدة له ومحال ان
يكون ما هو مفسدة يقوم مقام ما هو مصلحة (4) * لان ذلك متضاد.

و ذهب إلي أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه.
انظر: «التبصرة: 100، الإحكام 2: 174، المنخول: 126، المستصفي 2: 11 - 9، المعتمد: 1:
171 - 170، أصول السرخسي 1: 80، شرح اللمع 1: 297، روضة الناظر: 190، الذريعة 180: 1».
(1) انظر التعليقة رقم 1 صفحة 260.
(2) مجزي.
(3) * هذا الدليل إنما يتم لو ثبت أنه تعالي إذا أمر بشئ فإنما يطلبه في ضمن أفراده الحسنة لتحصل بها
المصلحة، فكأن الأفراد القبيحة ليست أفرادا للمأمور به حقيقة فيكون مبنيا على قاعدة التحسين والتقبيح
العقليين، ويدل دلالة قطعية على دلالة النهي في العبادات على فساد المنهي عنه بمعني عدم الإتيان بالمأمور
به، ودلالة ظاهرة على عدم سقوط وجوب الإتيان به في وقته، ويدل بانضمام دليل وجوب القضاء على من لم
يأت بالمأمور به في وقته على وجب القضاء.
(4) * أي بأن يحصل بفعله المصلحة المترتبة على الإتيان بالمأمور به.
261

فان قالوا: لكان يمتنع ان يقول الله تعالى أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا
تفعل كيت وكيت ولكن ان فعلته قام ذلك ذلك مقام المصلحة)؟
قيل له: الذي فرضته في السؤال غير ممتنع لكن ثبوت ذلك يحتاج إلى دليل
والظاهر من النهى انه متى ارتكبه المأمور به لم يحصل وإذا لم يحصل فلم تحصل
براءة الذمة.
فان قالوا: وكذلك وجوب القضاء عليه يحتاج إلى دليل.
قيل له: إذا فعل المأمور به على الوجه المنهي عنه يدل على أن ما امر به لم
يفعله وإذا ثبت انه لم يفعل ما امر به فلا خلاف بين الأمة انه يجب عليه قضاؤه لأنه
لا فرق بين ان لا يصلى في أنه يجب عليه القضاء وبين ان يصلى بغير طهارة في أنه
أيضا يجب عليه القضاء في الحالين معا.
فان قالوا: الطهارة شرط في صحة الصلاة وكل موضع يثبت ان المنهي عنه
شرط في صحة العبادة فإنه يدل على أنه غير مجزية وانما الخلاف فيما ليس بشرط
في صحة العبادة هل يكونا مجزيا أو لا؟
قيل له: فعلى هذا ينبغي ان يسقط الخلاف فإنه متى فرضنا ان النهى لا يتعلق
بشئ يتعلق بالعبادة ولا بشئ من شرائطها فانا لا نحكم بفساد العبادة لان على هذا
التقدير يكون قد أدى العبادة على الوجه الذي امر بها والنهى انما يتعلق بشئ اخر
منفصل عنها فلا تعلق بينه وبينها على حال.
فان قيل: لو كان الامر على ما ذكرتم لما قام دليل على أن كثيرا من الأشياء
المنهي عنها قام مقام الواجب الحسن مثل الوضوء بالماء المغصوب وغير ذلك
من الأشياء التي تقرر في الشرع كونها مجزية.
قيل له: إن الذي نذهب إليه ان جميع ذلك غير مجز ولا محكوم بصحته فان
دل دليل على أن بعضه مجز وقام مقام الصحيح صرفا إليه بدليل.
ونحن نبين جميع ذلك فيل بيان
262

اما الوضوء بالماء المغصوب فلا يصح (1) لان الوضوء لا يصح عندنا الا بنية
القربة وذلك يقتضى كون الفعل حسنا وزيادة وذلك لا يمكن في المغصوب لأنه
قبيح فلا يصح التقرب به وإذا ثبت ذلك فلا يصح وضوؤه وإذا لم يصح وضوؤه
فكأنه صلى بغير طهارة وإذا صلى بغير طهارة فلا خلاف انه يلزمه قضاؤها.
وليس لهم ان يقولوا: ما كان يمتنع ان يقال ان هذا الفعل وان كان قبيحا فقد قام
مقام ما هو حسن.
قيل له: ذلك يحتاج إلى دليل ولو أن قائلا قال ذلك في الصلاة بغير طهارة
وانها ما كانت يمتنع ان تقوم مقام الصلاة بطهارة فما كان جوابكم يكون جوابنا (2)
وليس ذلك الا ما قلناه من أن ذلك يحتاج إلى دليل.
وكذلك الصلاة في الدار المغصوبة لا تصح لان نية القربة بها لا تصح.
وليس لهم ان يقولوا: ليست الصلاة هي الغصب بل الصلاة تشتمل على
أفعال لا تعلق لها بالغصب وهي حسنة تصح القربة فيها.
وذلك أن الصلاة هي الأركان المخصوصة في الدار من القيام والقعود وتلك
قبيحة بلا خلاف وليست الصلاة أمرا آخر منفصلا من ذلك وإذا كان كذلك ثبت ما
قلناه.
واما الطلاق البدعي فعندنا انه غير واقع أصلا (3) * ومن قال بوقوعه في
موضع - وان وافقنا في هذا الأصل - يقول إن ذلك لقيام دليل ولو خليت وظاهر النهى
يحكم (4) بأنه غير مجز.

(1) زيادة من النسخة الثانية.
(2) في الأصل: فما كان يكون جوابنا.
(3) * الظاهر من السياق أنه أراد بعدم وقوعه عدم ترتب أحكامه الوضعية عليه مثل العدة وجواز نكاحها لزوج
آخر بعده وغير ذلك... ويمكن أن يراد بقوله: «غير واقع أصلا» أنه لو كان الذمة مشغولا بطلاق واجب فلا
تبرأ الذمة عن الطلاق بإيقاع الطلاق البدعي.
(4) لحكمت.
263

واما الوطي في الحيض وما يتعلق به من لحوق الولد وتحليل المرأة للزوج
الأول ووجوب المهر كاملا ووجوب العدة وغير ذلك من الاحكام فان جميع ذلك
انما يثبت بدليل ولو خلينا وظاهر النهى لما أجزنا شيئا منه على حال.
فاما الذبح بالسكين المغصوبة فيمكن ان يقال: ان القبح هو التصرف في
السكين فما يحصل في السكين من الافعال قبيحة وليس الذبح حالا في السكين (1) *
ولا يمتنع أن يكون الذبح حسنا وان كان سببه الذي أوجبه قبيحا الا ترى ان من رمى
مؤمنا فأصاب كافرا حربيا فان رميه يكون قبيحا وان كان ما حصل عنه من قتل الكافر
حسنا فكك القول فيما قلناه.
ويدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه: رجوع الأمة من عهد الصحابة إلى يومنا
هذا في فساد الأمور وبطلانها إلى تناول النهى لها فلولا انهم عقلوا ذلك من النهى والا
لم يرجعوا إليه على حال.
وليس لهم ان يقولوا: انهم رجعوا إلى ذلك لدليل دلهم على ذلك.
وذلك أن هذا القول ينقض رجوعهم إلى النهى لأنهم إذا حكموا ببطلان
الشئ وفساده لدليل دلهم على ذلك فلا تعلق للنهي بذلك ولا معنى لرجوعهم إليه.
فان نازعوا في رجوعهم إلى ذلك كان ذلك دفعا لما هو معلوم خلافه وقيل
لهم بينوا في شئ من الأشياء انهم رجعوا إلى العمل به لا يمكننا ان نقول في النهى
مثله؟
ويدل على ذلك أيضا: انا قد دللنا على أن الامر يقتضى إجزاء المأمور به
فينبغي أن يكون النهى يقتضى كونه غير مجز لأنه ضده.
فان خالفونا في الامر فقد دللنا على ذلك فيما مضى (2) فأغنى عن الإعادة.

(1) * يعني أن الذبح الواجب في الهدي مثلا ليس نفس التصرف في السكين لا مفهوما ولا فردا ولذا ينفرد كل
منهما عن الآخر كما إذا وكل غيره.
(2) انظر استدلال المصنف على أن الأمر يقتضي أجزاء المأمور به في صفحة 213.
264

ويمكن (1) الاستدلال - بما روى عنه عليه السلام من قوله: (من ادخل في ديننا ما ليس
منه فهو رد) (2) - على صحة ما ذهبنا إليه لان ارتكاب النهى خلاف الدين بلا خلاف.
فان قالوا: معنى الرد في الخبر انه غير مقبول ولا يستحق عليه الثواب وذلك
لما تعلق له بالاجزاء لأنا قد بينا انه مع كونه غير مقبول فلا يستحق عليه الثواب لا
يمتنع ان يقع موقع الصحيح.
قيل لهم: ذلك تخصيص للخبر وينبغي ان يحمل الخبر على عمومه وشموله
فيحكم بان ذلك لا يقبل ولا يستحق عليه الثواب ولا يقع به الاجزاء فمن ادعى
تخصيصه احتاج إلى دلالة.
وليس لهم ان يقولوا: انما يمكن الاستدلال بالخبر إذا ثبت ان ارتكاب النهى
ليس من الدين ومن خالف في أن ذلك مجز يقول إنه من الدين.
وذلك أنه لا خلاف في أن ذلك قبيح وما هو قبيح لا يكون من الدين لان كونه
من الدين يقتضى كونه حسنا وزيادة وانما الخلاف في أن ذلك وان كان كذلك هل
يجوز ان يقوم مقامه ما هو حسن أم لا؟ وذلك يحتاج إلى دليل.
وقد استدل قوم على ذلك أيضا بان قالوا: كونه مجزيا لا يخلو ان يعلم ذلك
بلفظ الامر أو الإباحة (3).
فان قلتم بذلك فكونه قبيحا يعلم من كونه مأمورا به ومن كونه مباحا.

(1) في الأصل: (في) بدل (يمكن).
(2) لم نعثر على هذا الحديث في المصادر المعتمدة عند الطائفة، وقد رواه ابن أبي جمهور الإحسائي في كتاب
«عوالي اللئالي «: ج 1: 240 ح 160. ورواه أيضا مسلم في صحيحه ج 3 كتاب الأقضية، باب 8 باب نقض
الأحكام ورد محدثات الأمور حديث 17. ولفظ الحديث عنده «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو
رد»، وكذلك رواه بهذا اللفظ البخاري، وأبو داود، وابن ماجة.
(3) نسب الشريف المرتضى (الذريعة 1 / 186 - 184) وأبو الحسين البصري (المعتمد 174: 1) هذا القول
إلي من حكم بفساد المنهي عنه، فقال المرتضى: «وقد تعلق من حكم بفساد المنهي عنه وعلقه بظاهر النهي
بأشياء.... وخامسها: أن المنهي عنه لو كان مجزيا لكان الطريق إلي معرفة ذلك الشرع، وإنما ينبئ الشرع عن
اجزائه إما بالأمر والإيجاب أو الإباحة، وكل ذلك مفقود في المنهي عنه».
265

واعترض من خالف في ذلك بان قال: يعلم ذلك بغير الامر أو الإباحة وهو ان
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تفعل كذا وكذا فان فعلت ذلك فقد أجزأ
عنك) وقام مقام الحسن الواجب والمباح (1).
واستدلوا أيضا بان قالوا: قد ثبت ان النهى عن الربا في القران دل على فساد
المنهي عنه فينبغي ان يكون سائر النواهي مثل ذلك (2).
واعترض من خالف في ذلك بان قال: لم نعلم ذلك بظاهر النهى بل بقرينة
وهي قوله: (لا تأكلوا الربوا) (3) فلو كان ذلك مجزيا لما نهى عن اكله (2).
وقالوا: النهى عن ذلك مثل النهى عن تلقى الركبان وعن البيع يوم الجمعة
وغير ذلك وكل ذلك لا يدل على فساد المنهي عنه.
ولمن نصر الاستدلال بالآية ان يقول: هذه المواضع لو خليت والظاهر
لحكمت بفساد المعنى (4) فيها لكن دل الدليل على أن ذلك جائز فقلت به لمكان
الدليل.
فاما من خالف في المذهب الذي ذكرناه من أن النهى يقتضى فساد المنهي
عنه وجعل الطريق الذي به يعلم فساد المنهي عنه كونه مجزيا فحكى أبو عبد الله
البصري (5) عن أبي الحسن الكرخي انه متى كان وقوع المنهي عنه على الوجه الذي
نهى عنه يقتضى انه واقع على غير الشرط الذي اقتضاه الشرع [ف‍] وجب فساده لأنه
انما يصح إذا اتى به على شروطه والنهى (6) عنه قد أحل بذلك وما لم تكن هذه
حاله من الأشياء المنهي عنها فإنه يكون مجزيا.

(1) انظر: «الذريعة 186: 1 و المعتمد 174: 1».
(2) انظر: «الذريعة 189: 1 و 184 و 183، المعتمد 177: 1».
(3) آل عمران: 130.
(4) البيع.
(5) أتي أبو الحسين البصري في: «المتعمد 179: 1» بهذه الحكاية ونسبها للشيخ أبي عبد الله البصري نفسه.
(6) في الأصل: المنهي.
266

وذكر عن الشافعي انه ذكر في كتابه (1): ان فيما نهى عنه فاسدا وفيه ما لا
يفسد ان كان النهى يقتضى كون جميعه معصية ما لم يكن المراد به التأديب.
فالذي يفسد هو ان يصل إليه من طريق محرم نحو ملك الغير أو الفروج لأنه
إذا كان مجزيا فيتوصل إليه بما نهى عنه فيجب الاستباح.
وحكى عنه قول اخر وهو: انه إذا نهى عن الفعل بوجه يختصه فوجب ان
يفسد.
وكلما ذكرناه انما هو على مذهب من قال إن النهى لا يدل على فساد المنهي
عنه ويحتاج في الفرق بين ما هو فاسد وما ليس كذلك إلى امر اخر.
ومن قال بما قلناه لا يحتاج إلى شئ من ذلك.
وهذه جملة كافية في هذا الباب.

(1) الرسالة: 355 - 343.
267

فصل [3]
(فيما يقتضيه الامر من جمع وآحاد)
اعلم أن الواجب اعتبار ظاهر الامر فان اقتضى تناوله جميع المكلفين لزمتهم
تلك العبادة وكان ذلك من فروض الأعيان وذلك مثل قوله: (أقيموا الصلاة واتوا
الزكاة) (1) وما يجرى مجرى ذلك فان دل الدليل على أن المراد به بعضهم حمل
عليه ولأجل هذا قلنا ان قوله: (فاقطعوا أيديهما) (2) يختص الأئمة عليهم السلام ومن يقوم
مقامهم في النيابة عنهم لما دل الدليل على أن ذلك من فروض الأئمة وكذلك قوله:
(خذ من أموالهم صدقة) (3) حملناه على أن المراد به الأئمة والسعاة من قبلهم لما
كان ذلك من فروضهم.
وان دل الدليل على أن المأمور به مشروط بشروط حمل وجوبه على من اجتمعت
تلك الشرائط فيه ولهذا قلنا: ان الامر بصلاة الجمعة مخصوص بمن كان على صفات
مخصوصة واجتمعت شرائط الجمعة كلها هنا ومن لم يكن كذلك لا يجب عليه.
وان دل الدليل على أن المراد بالامر حصول امر وعلم حصول ذلك الامر

(1) البقرة: 43.
(2) المائدة: 38.
(3) التوبة: 103.
268

ببعض من تناوله الخطاب قلنا: ان ذلك من فروض الكفايات وذلك نحو الجهاد لما
كان البغية به حفظ بيضة الاسلام ودفع الأعداء عن المسلمين وكان ذلك يحصل
ببعضهم كان ذلك من فروض الكفايات وكذلك القول في الصلاة على الأموات
ودفنهم وحملهم إلى المقابر ومتى قام بذلك من يحصل البغية به سقط عن الباقين
واجري مجرى ذلك الفقهاء طلب الفقه لان ذلك عندهم من فروض الكفايات لأنهم
جوزوا تقليد العلماء والرجوع إليهم ومن لم يجوز ذلك جعله من فروض الأعيان ولم
يجعله من فروض الكفايات وكذلك اجرى هذا المجرى اختيار الأئمة من أجاز
اختيار الأئمة فاما على مذهبنا فطريقة معرفة الأئمة النص الثابت على أعيانهم على
ما ذكرناه في كتب الإمامة.
فهذه الجملة كافية في هذا الباب لأنها تنبه على ما زاد عليها وما يتفرع انشاء الله تعالى.
269

الباب الخامس
الكلام
في العموم والخصوص
271

فصل [1]
(في ذكر حقيقة العموم والخصوص وذكر ألفاظه)
اعلم أن معنى قولنا في اللفظ (انه عام) يفيد انه يستغرق جميع ما يصلح له
وبهذا الذي ذكرناه يتميز من غيره مما لا يشركه في هذا الحكم كما أن الأمر والنهي
وسائر اقسام الكلام يتميز بعضها من بعض بما يفيد كل واحد من الأقسام ولذلك
يقال: (عم الله تعالى المكلفين بالخطاب) لما كان متوجها إلى جميعهم (1).

(1) اختلف الأصوليون والمتكلمون في العموم وهل لها صيغة تخصه أم لا؟ وهم على مذاهب:
1 - للعموم صيغة بمجردها تخصها وتدل على الاستيعاب والاستغراق والكثرة: وهذا القول عليه
جمهور الأصوليين كالشافعي، وابن حنبل، وأبي حنيفة، والجبائي، ومحمد بن شجاع الثلجي، وأبي إسحاق
الشيرازي، والسمرقندي وغيرهم.
2 - الوقف، أي ليس للعموم صيغة تخصها وألفاظ الجمع لا تحمل على العموم إلا بدليل: وهو قول أبي
الحسن الأشعري، والباقلاني، ونسبه أبو الحسين البصري للمرجئة، والغزالي للجهمية المرجئة والخوارج.
3 - الاشتراك بين العام والخاص: وهو منقول عن أبي الحسن الأشعري.
انظر: (الرسالة: 53 - 52، أصول السرخسي 125: 1، التبصرة: 105، المنخول: 140 - 138،
الإحكام 185: 2، المعتمد 192: 1 - 189، شرح اللمع 335: 1، روضة الناظر: 194، الأحكام 3 و 4:
419 - 403».
و أما الإمامية: فإن الشيخ المفيد ذهب إلي أن للعموم صيغة تخصها، وتابعه في هذا الرأي الشيخ
الطوسي، وأما الشريف المرتضى فإنه اختار المذهب الثالث أي الاشتراك.
273

فاما استعمال هذه اللفظة في المعاني (1) نحو قولهم: (عمهم البلاء والقحط
والمطر) وغير ذلك فالأقرب في ذلك أن يكون مجازا لأنه لا يطرد في سائر المعاني
فلو ان قائلا قال: ان ذلك مشترك لم يكن بعيدا (2) * وقد ذهب إليه قوم من الأصوليين.
ومعنى قولنا في اللفظ: (انه خاص) يفيد انه يتناول شيئا مخصوصا دون غيره
مما كان يصح ان يتناوله ولذلك يقال: (خص الله تعالى زيدا بالخطاب) لما كان
متوجها إليه دون غيره من المكلفين الذين كان يصح ان يتوجه إليهم الخطاب.
فاما ألفاظ التثنية وألفاظ الجموع وألفاظ النكرات وغير ذلك فلا توصف
بالعموم لما لم تكن متناولة لها على وجه الاستغراق.
فاما ألفاظ العموم فكثيرة نحن نذكر منها طرفا:
فمنها: (من) في جميع العقلاء (3) إذا كانت نكرة في المجازاة والاستفهام ومتى
وقعت معرفة لم تكن للعموم وكانت بمعنى (الذي) وهي خاصة بلا خلاف.

راجع: (التذكرة: 34 - 33، الذريعة إلي أصول الشريعة 201: 1).
(1) اختلف الأصوليون في أن المعاني هل لها عموم، أي أنه هل يمكن استعمال اللفظ العام للدلالة علي
استيعاب المعني وشموله أم لا؟ بعد اتفاق الجمهور الأكثر من الأصوليين على أن الألفاظ لها عموما،
و أقوالهم كما يلي:
1 - المعاني لها عموم: وهذا مذهب من قال أنه يجوز تخصيص العلة وإن تخصيصها دليل علي
عمومها، وإنها ليست لفظا بل هي معني عام يثبت حكمها في المنصوص عليه وغيره. فكل من جوز العموم
بها وهي ليست لفظا جوز ذلك في سائر المعاني، وقد ذهب إليه جمهور الأصوليين.
2 - إن المعاني لا عموم لها واستعمال اللفظ فيها مجاز: وهو قول أبي الحسين البصري، والغزالي،
و القاضي زكريا، والبزدوي، الشوكاني من العامة، والشريف المرتضى من الإمامية.
3 - استعمال اللفظ في عموم المعاني مشترك: وهو مذهب الشيخ المفيد من الإمامية.
انظر: (ميزان الأصول 386: 1، أصول السرخسي 125: 1، المستصفي 320: 2، المتعمد 193: 1،
الذريعة 200: 1، التذكرة: 35 - 34).
(2) * إما لعدم ثبوت عدم الإطراد، وإما لأن عدم الإطراد إمارة المجاز لا نص عليه، فالمراد لم يكن بعيدا كل
البعد.
(3) أوضح المسالك 147: 1.
274

ومنها: (ما) في ما لا يعقل إذا وقعت الموقع الذي ذكرناه من المجازاة
والاستفهام (1) ومتى كانت معرفة لم تكن مستغرقة كما قلناه في (من) سواء.
ومن الناس من قال: ان (ما) يعم ما يعقل وما لا يعقل وهي أعم من (من)
وذلك محكى عن قوم من النحويين (2).
ومنها (أي) فإنها تستغرق ما يعقل وما لا يعقل وهي أعم من اللفظتين معا
ولأجل هذا إذا قال: (أي شئ عندك) يحسن ان يجاب بما يعقل وما لا يعقل الا
انها لا تفيد الاستغراق كما تفيد (من) (وما) الا ان يدل دليل على ذلك فيحكم له
بحكم الاستغراق.
ومنها: (متى) في الأوقات لأنها تجرى في تناول جميع الأوقات مجرى (من)
في تناولها لجميع العقلاء وذلك نحو ان يقول القائل: (متى جئتني جئتك) فان ذلك
لا يختص وقتا دون وقت بل يتناول جميع الأوقات.
ومنها: (أين) في المكان نحو قول القائل: (أين زيد) يحسن ان يجيبه بذكر كل
مكان فعلم أنه متناول له.
ومنها: لفظي النفي إذا دخل على النكرات نحو قول القائل: (ما رأيت أحدا)
و (ما جاءني من أحد) فان ذلك يفيد الاستغراق.
ومنها: أسماء الأجناس إذا دخلها الألف واللام ولم يرد بها التعريف نحو قوله
تعالى: (والعصر ان الانسان لفي خسر) (3) ونحو قولهم: (أهلك الناس الدنيا
والدرهم) لان ذلك يفيد الجنس كله ومتى كان التعريف كان مختصا بما عرف به
نحو قول القائل: (رأيت الانسان) يشير به إلى انسان معهود متقدم.
فاما إذا كان خاليا من الألف واللام فإنه يفيد واحدا لا بعينه نحو قول القائل:

(1) لكن قد تستعمل في الكلام كلمة «ما» مكان كلمة «من» مثل قوله تعالي: (أو ما ملكت أيمانكم)
(النساء: 3)، وكلمة «من» مكان كلمة «ما» مجازا واستعارة.
(2) انظر: شرح ابن عقيل 147: 1.
(3) العصر: 1.
275

(رأيت رجلا وإنسانا) وما يجرى مجراه وهذا يسميه أهل اللغة النكرة لأنه لا
يخصص واحدا من غيره.
ومنها: الأسماء المشتقة نحو قوله تعالى: (والسارق والسارقة) (1) وقوله
تعالى: (الزانية والزاني) (2) وما يجرى مجرى ذلك فإنه متى كان فيها الألف واللام
ولم يكن المراد بهما المعهود والمعرف أفاد الاستغراق ومتى كان العهد أفاد
التعريف نحو قول القائل: (رأيت ضاربا وقاتلا) فإنه يفيد واحدا لا بعينه.
ومنها: ألفاظ الجموع إذا دخلها الألف واللام فإنها تفيد الاستغراق نحو
قولهم: (رأيت الرجال) وما يجرى مجرى ذلك فان ذلك يفيد جميع الرجال الا ان
يراد بذلك التعريف والعهد فيحمل على ذلك.
ومتى خلت ألفاظ الجموع من الألف واللام فإنها تفيد ثلاثة فصاعدا لا
بأعيانهم ويكون الثلاثة مقطوعا بهم وما زاد على ذلك مشكوكا فيه مجوزا.
وقد اختلف المتكلمون فيما ذكرناه من ألفاظ الجموع وألفاظ
الأجناس فذهب أبو على وأكثر المتكلمين إلى أن هذه الألفاظ إذا كان فيها الألف
واللام وجب حملها على الاستغراق إذا لم يكونا للعهد الا أن يدل دليل على أنه
أريد بهما البعض فيحمل عليه (3).
وذهب أبو هاشم إلى أن ذلك لا يفيد الاستغراق وانما يفيد في أسماء
الأجناس تعريف الجنس المخصوص وفي أسماء الجموع الثلاثة فقط لان الحكيم
لو أراد أكثر من ذلك لبينه (3) ونحن نبين الصحيح من ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
واتفق هؤلاء وغير هؤلاء على تناول الجموع الثلاثة فصاعدا حقيقة وان أقل
الجمع ثلاثة وذهب قوم إلى أن أقل الجمع اثنان والأول هو مذهب أكثر الفقهاء (4).

(1) المائدة: 38.
(2) النور: 2.
(3) انظر: «ميزان الأصول 396: 1 - 395، المعتمد 223: 1، الذريعة 222: 1».
(4) انظر التعليقة رقم (2) صفحة 298.
276

ومنها لفظ (كلا): إذا دخلت في الكلام فإنها تفيد الاستغراق سواء دخلت
للتأكيد أو لغير ذلك واما ما يدخل للتأكيد نحو قول القائل: (رأيت الرجال كلهم) فان
ذلك يفيد الاستغراق وما يدخل لغير التأكيد نحو قول القائل: (كل رجل جائني
أكرمته) و (كل عبد لي فهو حر) وعلى هذا قوله: (كما ألقى فيها فوج سئلهم
خزنتها) (1).
فهذه جملة من الألفاظ المستعملة في العموم ونحن ندل على انها تفيد
العموم على ما قلناه ونذكر اختلاف الناس في ذلك والكلام على شبههم في فصل
يلي هذا الفصل انشاء الله تعالى.

(1) الملك: 8.
277

فصل [2]
(في ذكر الكلام على أن العموم (1) * له صيغة في اللغة)
ذهب الفقهاء بأسرهم وأكثر المتكلمين إلى أن العموم له صيغة موضوعه في
اللغة تختص به (2).
وقال قوم من المرجئة (3) وغيرهم: إنه ليس للعموم صيغة أصلا بل كلما
يدعى انه للعموم فهو للخصوص وانما يفيد أقل ما يمكن ان يكون مرادا (4).
وقال أكثر المرجئة: ان هذه الألفاظ مشتركة بين العموم والخصوص حقيقة
فيهما معا.
وفي الناس من قال: انه يجب حمل اللفظ على الاستغراق فيما يتعلق بالامر

(1) * المراد بصيغة العموم هنا ما يكون حقيقة في العموم مجازا في غيره.
(2) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 273.
(3) المرجئة من الفرق التي أبدعتها السياسة في عصر الأمويين، وهي تعتقد بعدم تكفير أي إنسان اعتنق
الإسلام مهما ارتكب من المعاصي ويكون أمره لله وحده يوم القيامة. وقد ارتضت هذه الفرقة حكم بني
أمية وأيدتها. قد أثرت هذه الفرقة تأثيرات بعيدة المدي في عقائد مذاهب أهل السنة.
(4) قال شارح (التبصرة في أصول الفقه) ص 105: «هو منقول عن أبي الحسن الأشعري لا عن كل أشعري،
و تبعه القاضي أبو بكر الباقلاني على الوقف، بمعني أنا لا نعلم أوضع له أم لا؟ أو على معني أنه وضع له إلا أنا
لا نعلم أمشترك هو أم ظاهر؟ وهذا الثاني ارتضاه ابن الهمام ولم يرتض التفسير الأول)، راجع أيضا التعليقة
رقم (1) صفحه 273.
278

والنهى ولا يجب ذلك في الاخبار. والذي اذهب إليه هو الأول والذي يدل على ذلك أن (من) إذا استعملت في
المجازات يحسن ان يستثنى منها كل واحد من العقلاء فلولا انها مستغرقة لهم والا
لم يجز ذلك يبين ذلك انها لما لم يكن متناولة لغير العقلاء لم يحسن ان يستثنى منها
من ليس بعاقل ومن دفع حسن الاستثناء في هذا لا يحسن مكالمته.
فان قيل: انما حسن الاستثناء في هذا الموضع لأنه يصلح ان يكون متناولا
لجميع العقلاء وان لم يكن ذلك واجبا وغير العقلاء انما لم يحسن استثناؤهم لان
اللفظ لا يصلح ان يتناولهم أصلا.
قيل لهم: لو كان الاستثناء انما حسن للصلاح دون الوجوب لحسن الاستثناء
من النكرات وقد علمنا أنه لا يحسن ان يقول القائل: (رأيت رجلا الا زيدا) وان كان
لفظ (رجل) يصلح ان يقع على زيد وعلى غيره من الرجال صلاحا لما لم يكن
متناولا له على طريق الوجوب.
فان ارتكبوا حسن الاستثناء من لفظ (رجل) لم يحسن كلامهم لان ذلك
معلوم من دين أهل اللغة خلافه.
وان قالوا: انما لم يحسن الاستثناء من ذلك لان من شان الاستثناء ان لا يدخل الا
على جملة ذات عدد وان لم تكن مستغرقة الا ترى انها تدخل على ألفاظ الجموع
التي ليست للاستغراق الا ترى انه إذا قال القائل: (رأيت رجالا) يحسن ان يستثنى
منها زيدا وعمروا وخالدا وبكرا ولا يقول أحد: ان ألفاظ الجمع الخالية من الألف
واللام مستغرقة لجميع الرجال فبطل ان يكون الاستثناء دلالة على الاستغراق.
قيل لهم: ان قولكم (1) ان من شان الاستثناء ان لا يدخل الا على جملة
باطل لأنها تدخل على لفظ الواحد المنفى الا ترى انه يحسن ان يقول القائل: (ما
جاءني من أحد) ثم يستثنى كل واحد من العقلاء وليس لفظ (أحد) لفظ جمع.

(1) في الأصل: إما.
279

واما ألفاظ الجموع فمن الناس من يقول: انها محمولة على الاستغراق لان
المتكلم بها لو أراد أقل الجموع أو جمعا دون جمع لبينه فلما لم يبين ذلك دل على أنه
أراد الجميع (1).
ومن قال هذا سقط عنه السؤال ومن لم يقل ذلك ويقول: انها تصلح للثلاثة
فصاعدا يقول لا يحسن الاستثناء من ألفاظ الجموع لان من حق الاستثناء ان يخرج
من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه ولما لم يكن ذلك في ألفاظ الجموع لم يحسن.
وربما أكدوا ذلك بان قالوا: لو حسن ذلك لحسن ان يقول: (رأيت رجالا الا
رجلا) يستثنون واحدا منكرا من ألفاظ الجمع فلما لم يحسن ذلك دل على أن
حكم المعرف مثله وانما ذلك أبين.
وليس لهم ان يقولوا: انما لم يحسن استثناء المنكر لأنه لا يفيد وذلك أنه لو
كان (2) * يحسن لما قالوه لما حسن استثناؤه من ألفاظ الجموع إذا كان فيها الألف
واللام وذلك نحو قول القائل: (لقيت الاشراف) فإنه يحسن منه ان يقول: (الا واحدا)
وان كان منكرا لما كان لفظ (الاشراف) مستغرقا من حيث كانت فيه الألف واللام
فعلم بذلك (3) * انه انما امتنع في الموضع الذي امتنع لمكان الصلاح (4) * لا لعلة

(1) الخلاف في الجمع المنكر في الإثبات لا الجمع المنكر في النفي، وقد فصل الأصوليون بين أسماء
الجموع إذا كانت مجردة عن الألف واللام وبينما إذا لم تكن مجردة، فاختار جماعة أنها مع تجردها لا
تقتضي العموم وهو مذهب الشيرازي ومن تابعه من الشافعية (التبصرة: 118)، وقال آخرون: إن ألفاظ
الجموع تحمل على الاستغراق، وهو مذهب أبي على الجبائي - من المعتزلة - ومختار البزدوي، وطائفة من
الأحناف وغيرهم. انظر: «المتعمد 223: 1، ميزان الأصول 397: 1 - 392».
(2) * تحريره أنه لو كان انتفاء حسن استثناء المنكر من الجمع المنكر لانتفاء الإفادة بدون مدخلية انتفاء
استغراق المستثني منه في انتفاء إفادته، لم يحسن استثناؤه من الجمع المحلي باللام أيضا نحو «لقيت
الأشراف إلا واحدا» لانتفاء كونه مستغرقا بناء على الفرض.
(3) * أي بأنه إنما يحسن أن يقول: «لقيت الأشراف إلا واحدا» لما كان لفظ «الأشراف» مستغرقا من حيث
كانت فيه الألف واللام.
(4) * أي في استثناء المنكر من الجمع المنكر بدون الاستغراق.
280

أخرى.
فاما من قال: انه انما لم يحسن الاستثناء من لفظ الواحد المنكر في الاثبات
من حيث إنه كان من حق الاستثناء ان يميز ذاتا من ذات وإذا قال: (رأيت رجلا) ثم
قال: (الا زيدا) فلم يميز ذاتا من ذات لان الذات واحدة وانما ميزها بصفة كأنه قال:
ليس صفتها ان يكون زيدا وذلك ضد حقيقة الاستثناء.
فان ذلك يبطل بما قلناه من لفظ النكرة في النفي وقولهم: (ما جاءني من أحد)
فان اللفظ واحد والتميز يقع ها هنا بالتسمية والصفة ومع ذلك فإنه يحسن الاستثناء
بلا خلاف على أن الذي ذكروه غير صحيح لان لفظ (رجل) يقع على كل رجل
صلاحا فإذا استثنى بعض الرجال فقد ميز ذاتا من غيرها على ما تقتضيه حقيقتها.
فان قالوا: كيف يكون الاستثناء دليلا في هذا الموضع ونحن نعلم أن القائل إذا
قال: (من دخل داري أكرمته) لم يحسن ان يقول: (الا الشياطين) وان كانوا من
العقلاء؟
وكذلك إذا قال: (من دخل داري ضربته) لم يحسن ان يقول: (الا الملائكة) وان
كانوا من جملة العقلاء؟
فعلم بذلك ان الاستثناء ليس بدلالة على أن اللفظ متناول لجميع العقلاء.
قيل لهم: ان الذي ذكرتموه لا ينقض استدلالنا لان هذا السؤال يتضمن ان
اللفظ قد يشمل على من لم يحسن استثناؤه وذلك لا يضرنا وانما كان ينقض دليلنا
لو تبينوا حسن الاستثناء من لفظ لا يتناول ما استثنى وذلك متعذر على ما بيناه.
على أنه انما لم يحسن استثناء واحد من الفريقين المذكورين في السؤال من
حيث علمنا بالعادة انه لم يقصدهما باللفظ فصار الفريقان في حكم ما لم يتناوله
اللفظ أصلا ومتى فرضنا ان الكلام صادر من الحكيم تعالى حسن ان يقول:
(من عصاني عاقبته الا إبليس) لما كان اللفظ متناولا له وجاز أن يكون مقصودا به
وانما امتنع في الواحد منا لما قلناه.
فان قالوا: لو كان قول القائل: (من دخل داري ضربته) متناولا لجميع العقلاء لم
281

يحسن ان يستفهم فيقال: (وان دخلها نبي) أو (وان دخلها أبوك)؟ فلما حسن هذا
الاستفهام دل على أن اللفظ مشترك وانما يستفهم عن مراده بها.
قيل لهم: لا نم انه يحسن الاستفهام في هذا الموضع على كل حال وعلى
كل وجه وهو انه إذا كان المخاطب عالما باللغة وكان حكيما لا يجوز عليه التعمية
ولم يقرن بخطابه ما يدل على أنه أراد بعضه أو تخصيصه وكان المخاطب أيضا عالما
باللغة وبموضوعها لم يحسن ان يستفهم وانما يحسن الاستفهام إذا اختلف بعض
الشرائط اما بان يكون أحدهما غير عالم باللغة وموضوعها أو مع كونهما عاملين
يجوز السامع أن يكون المتكلم أراد به المجاز ولم يبينه في الحال أو غير ذلك من
الأمور فان عند ذلك يحسن الاستفهام وإذا خلا من ذلك لم يحسن على ما بيناه.
على أن الاستفهام قد يحسن في المواضع التي ليست للاشتراك الا ترى ان
القائل إذا قال: (لقيت الأمير) أو (ضربت أبي) يحسن ان يقال: (ألقيت الأمير نفسه أو
بعض أصحابه)؟ وكذلك يقال: (أضربت أباك نفسه)؟ وذلك لا يدل على أن اسم
(الأمير) مشترك بينه وبين صاحبه ولا اسم (الأب مشترك) بينه وبين غيره.
فان امتنعوا من حسن الاستفهام ههنا امتنعنا هناك.
وان قالوا: ذلك ليس باستفهام وانما هو استعظام واستكبار.
قيل لهم: وكذلك قول السائل لمن قال: (من دخل داري أهنته وان دخلها نبي
أو أبوك) انما هو استعظام واستكبار وليس باستفهام ولا فرق بينهما على حال.
والذي يدل أيضا على أن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله
تحته لا ما يصلح حسن الاستثناء من الاعداد لان القائل إذا قال: (اعط فلانا عشرة
دراهم) يحسن ان يستثنى منه ان يقول: (الا واحدا).
ولا يمكن ان يقال: ان لفظة عشرة مشتركة بين العشرة والتسعة.
فان ارتكبوا ذلك وقالوا: اللفظ مشترك الزموا أن يكون مشتركا بين العشرة
والثمانية والسبعة والستة والخمسة والى الواحد لأنه يحسن استثناء جميع ذلك
من لفظ العشرة لأنه يحسن بلا خلاف ان يقول: (اعط عشرة دراهم الا خمسة)
282

وعلى (1) الصحيح من المذهب وان كان فيه خلاف - ان يقول: (اعط عشرة الا تسعة)
وأي الامرين ارتكبوا كان ذلك خلافا لما هو معلوم ضرورة من دين أهل اللغة.
فان قالوا: وما العلة الجامعة بين الاعداد وغيرها؟ ولم إذا ثبت في الاعداد وما
قلتم يجب أن يكون حكم غيرها هذا الحكم؟
قيل لهم: انما جمعنا بينهما من حيث إن حقيقة الاستثناء كان أن يخرج من
الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته فلما كان هذا حقيقة الاستثناء وجب ذلك في كل
موضع.
فان قالوا: الوجوب الذي ثبت في الاعداد امر زائد على الصلاح وإذا كان
الامر كذلك عاد الامر إلى أنه انما يحسن الاستثناء فيها للصلاح دون الوجوب.
قيل لهم: الصلاح وان كان حاصلا في الاعداد فإنه لا ينفصل من الوجوب
فينبغي أن يكون حقيقة الاستثناء ان يدخل على الصلاح الذي هو الواجب. وكذلك
نقول في جميع المواضع التي نقول فيها بالعموم ولا يجب أن يحكم بان هذا الحكم
بمجرد الصلاح لان ذلك ليس بحاصل في الاعداد وانما كان يجوز أن لو ثبت
الصلاح بمجرده وحسن مع ذلك الاستثناء لزمنا ان نحكم بحسن ذلك الصلاح فاما
ولما يثبت ذلك فلا يجوز على حال.
ومما يدل أيضا على ما قلناه: ان القائل إذا قال: (من عندك)؟ مستفهما يحسن
ان يجاب بذكر كل عاقل فلولا ان اللفظة مستغرقة لجميع العقلاء والا لم يحسن ذلك
وانما قلنا ذلك لان من شأن الجواب مطابقا للسؤال ولا يكون مطابقا الا بأن
يجيب المجيب عما سأل عنه السائل وفي ذلك ثبوت الاستفهام عن جميع العقلاء.
ولأجل ذلك حسن الجواب بذكر كل واحد منهم.
فان قالوا: لا يحسن ان يجيب بذكر كل عاقل بل ينبغي أن يستفهم ويقول: (من
الرجال أو من النساء أو من الاشراف أو من العامة) فإذا بين مراده اجابه حينئذ.

(1) في الأصل: على.
283

قيل له: من مذهب أهل اللغة خلاف هذا لأنهم يستحسنون الجواب بذكر
العقلاء في الموضع الذي ذكرناه وان لم يستفهموا أصلا فمن أوقف حسن ذلك على
الاستفهام كان مكابرا مدافعا للضرورات.
على أن هذا يوجب ان يستفهموا ابدا حتى ينتهى إلى أقل من يمكن أن يكون
مرادا لأنه لو قال: (من الرجال) كان ذلك غير مستغرق في الرجال على مذهب
الخصم ويحسن أن يستفهم دفعة أخرى فيقال: (امن أهل الاشراف أو من غيرهم أو
من شيوخهم أو شبانهم أمن صناعهم أو غيرهم؟) وكذلك ابدا وهذا يؤدى إلى أن
لا يحسن الجواب الا بعد ذكر جميع ذلك والمعلوم ضرورة خلاف ذلك.
وليس لهم ان يقولوا: انما حسن الجواب بجواز أن يكون مستفهما عنه لا
بوجوب ذلك وذلك أن الصلاح لا يصير الكلام مطابقا للجواب وانما يصير كذلك
بالوجوب الا ترى انه إذا سأل سائل (1) المفتى فقال: (هل يجوز وطء المرأة في حال
قرئها؟) لم يحسن من المفتى ان يجيب عن ذلك بنعم أو لا بل يحتاج ان يستفهمه
فيقول: (ما الذي أردت بالقرء)؟ فان أردت الحيض فلا يجوز ذلك وطئها وان أردت
الطهر كان ذلك جائزا والعلة في قبح الجواب بما ذكرناه هو ان السؤال يمكن أن
يكون عن كل واحد من المعنيين (2) * ولم يجب أن يكون سؤالا عنهما (3) * فكذلك
لو كان ألفاظ العموم من الاستفهام جارية ذلك المجرى لوجب أن لا يحسن الجواب
بذكر آحاد العقلاء وقد علمنا خلاف ذلك.
فان قالوا: إذا ثبت ذلك في الاستفهام لم زعمتم ان حكم غير الاستفهام
حكمه في المجازات وغيرها؟
قيل لهم: غرضنا بهذا الدليل ان يثبت ان ها هنا لفظا موضوعا للاستغراق في

(1) في الأصل: السائل.
(2) * أي على سبيل البدلية.
(3) * أي عن واحد منهما بخصوصه، ويحتمل أن يراد سؤالا عنهما على سبيل الاجتماع بأن يكون المشترك
مستعملا في جميع معانيه.
284

اللغة ليبطل به مذهب من قال إنه ليس كذلك أو قال بالاشتراك.
فاما ثبوتها في كل حال فنعلمه بالاجماع (1) وهو ان كل من قال: ان هذه
اللفظة مستغرقة في الاستفهام قال: انها كذلك في المجازاة فمن فرق بينهما كان
مخالفا للاجماع.
والقول في لفظة (ما) و (متى) و (أين) و (أي) إذا وقعت للمجازاة أو الاستفهام
حكم ما ذكرناه في (من) على السواء.
فاما إذا وقعت (من) و (ما) معرفة فلا يدل على الاستغراق بل تكون مصروفة
إلى ذلك المعروف بعينه ولأجل هذا يحتاجون إلى صلة كصلة (الذي) لما كانت
(الذي) معرفة وذلك نحو قول القائل: (ضربت من عندك) أو (اكلت ما أكلت) وما
يجرى مجرى ذلك ولا يتم فائدتهما الا بالصلة على ما بيناه.
ويدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه: ان أهل اللغة عدوا العموم من اقسام
الكلام وكذلك الخصوص وفرقوا بينهما وقالوا هذا الكلام خرج مخرج العموم
وهذا الكلام خرج مخرج الخصوص فدل ذلك على أن فائدتهما تختلف.
وعلى مذهب الخصم كلاهما سواء فينبغي أن نحكم ببطلان ذلك وجرى
مجرى فصلهم بين صيغة الأمر والنهي والخبر وغير ذلك من اقسام الكلام (2) *
فكما ان لكل شئ من ذلك صيغة موضوعة ينبغي أن يكون حكم العموم مثله
سواء.
وان نازعوا في جميع ذلك فقد دللنا على ثبوته فيما تقدم فلا فائدة في
اعادته.
واستدل كثير من الفقهاء والمتكلمين (3) على ذلك بان قالوا: قد ثبت ان العموم

(1) انظر دعوى الإجماع من الأصوليين والنحويين في: «التبصرة: 107، ميزان الأصول 399: 1 - 398».
(2) * أي لا من أقسام المعاني.
(3) انظر أقوالهم في: «ميزان الأصول 417: 1 - 415، المنخول: 138، شرح اللمع 317: 1، روضة الناظر:
194، المعتمد 206: 1 - 194، الإحكام 379: 3».
285

أمر معقول والحاجة إلى استعماله ماسة فلابد أن يكونوا وضعوا لذلك عبارة
يلتجئون إليها عند الحاجة إلى ذلك كما أنهم وضعوا لسائر اقسام الكلام وقد قلنا ما
عندنا في هذه الطريقة.
واستدلوا أيضا بان قالوا: لا يخلو لفظة (من) أن تكون موضوعة لغير العقلاء
أو لبعض العقلاء أو لكل واحد منهم على البدل أو لجميعهم على جهة الاستغراق.
قالوا: ولا يجوز أن تكون موضوعة لغير العقلاء لان ذلك معلوم خلافه وهو
متفق عليه أيضا ولا ان تكون موضوعة لبعضهم لأنه ليس بعضهم بان يتناوله أولى
من بعض ولا أن تكون موضوعة لواحد لا بعينه لمثل ما قلناه ولأنه لو كان كذلك
لجرى مجرى أسماء النكرات وقد علمنا خلاف ذلك.
وأيضا: فلو كان لواحد لا بعينه لكان السائل إذا استفهم فقال: (من عندك؟) لم
يحسن ان يجاب بذكر نفسين أو ما زاد عليهما لان السؤال وقع عن واحد وقد
علمنا خلاف ذلك. فلم يبق بعد ذلك الا انها مستغرقة لجميع العقلاء.
وقد استدلوا أيضا على ذلك بأن قالوا: وجدنا العموم قد اكد بلفظ لا يؤكد به
الخصوص وكذلك الخصوص أكد بلفظ لا يؤكد به العموم الا ترى انهم يقولون:
(رأيت القوم أجمعين) و (رأيت زيدا نفسه) ولا يحسن ان يقول القائل: (رأيت القوم
نفس) ولا (رأيت زيدا أجمعين).
فلما ثبت هذا دل على معنيهما يختلف كما أن تأكيديهما يختلف ولا
يختلفان الا بأن يكون أحدهما عاما والاخر يكون خاصا (1).
ويمكن الاعتراض على هذا الدليل بأن يقال: انما لم يحسن ان يقال: (رأيت
زيدا أجمعين) لان زيدا يختص شخصا واحدا فلا يجوز ان يؤكد بما يختص الجماعة
وان كانت غير مستغرقة وكذلك انما لم يحسن ان يقال: (رأيت القوم نفسه) لان

(1) قال أبو الحسين البصري في (المعتمد 207: 1): «وما استدل به في المسالة هو أن أهل اللغة خالفوا بين
تأكيد العموم وبين تأكيد الخصوص، فجعلوا تأكيد أحدهما مفارقا لتأكيد الآخر...».
286

القوم يفيد جماعة وان لم يفد جميعهم فلا يجوز أن يؤكد بما يؤكد به شخص واحد.
وربما رتبوا دليل الاستفهام على وجه اخر فقالوا: قد علمنا أنهم لما استطالوا
ان يستفهموا عن العقلاء بذكر أسمائهم فيقولوا: (أزيد عندك أعمرو عندك أخالد
عندك؟) وضعوا لفظة (من) نائبة من تعداد الأسماء لما شق عليهم ذلك فيجب ان
تكون مستغرقة لجميعهم كما أنهم لو عدوا ذكر جميعهم على التفصيل - لو أمكن -
لكان ذلك شاملا لهم.
ورتبوا مثل هذا في المجازات وقالوا: لما استطالوا ان يقولوا: (ان دخل زيد
وعمرو وبكر داري أكرمتهم) وضعوا لفظ (من) عوضا عنه فقالوا: (من دخل داري
أكرمته) فينبغي أن تكون مستغرقة.
وهذه طريقة قريبة غير أنه يمكن أن يقال عليها: لا نسلم انهم وضعوا هذه
اللفظة بدلا عن تعداد جميع الأسماء بل لا يمتنع أن يكونوا وضعوها لجماعة لا
بأعيانهم.
فان قلنا جوابا عن ذلك، لو كان كذلك لم يحسن ان يجاب بذكر كل واحد من
العقلاء كان ذلك رجوعا إلى الطريقة الأولى التي قدمناها.
وقالوا أيضا: لما كان الاستفهام بلفظ الخاص يختص شخصا بعينه ولا يتعدى
إلى غيره فينبغي أن يكون الاستفهام بلفظ العموم بالعكس من ذلك وهو ان يتعدى
إلى غيره وليس بأن يتعدى إلى قوم أولى من أن يتعدى إلى آخرين فيجب أن
يتعدى إلى جميعهم.
وهذا أيضا مثل الأول لأنه يمكن أولا ان يقال:
ان هذا قياس والقياس في اللغة لا يجوز.
والثاني ان يقال: غاية ما في هذا ان يجب ان يتعدى إلى أكثر من لفظ
الخاص ولا يجب من ذلك تعدية إلى جميعهم.
فان قلنا: لو لم يجب لم يحسن ان يجاب بذكر كل واحد منهم كان رجوعا إلى
الدليل الذي قدمناه.
287

وان قلنا: ليس بعضهم بذلك أولى من بعض كان ذلك رجوعا إلى دليل
التقسيم الذي قدمناه.
وقد استدل المخالف (1) على صحة مذهبه بأن قال (2):
وجدت هذه الألفاظ تستعمل في الخصوص كما تستعمل في العموم بل
استعمالها في الخصوص أكثر لأنه ليس في جميع ألفاظ القرآن لفظة تفيد الاستغراق
الا قوله: (والله بكل شئ عليم) (3) فوجب أن تكون اللفظة مشتركة فيهما.
قيل له: قد بينا ان مجرد الاستعمال لا يدل على الاشتراك لان المجاز
مستعمل كما أن الحقيقة مستعملة فلا يمكن ان يستدل بالاستعمال على واحد من
الامرين ويحتاج في اثبات أحدهما إلى الرجوع إلى امر اخر.
واما قولهم: (انهم لم يجدوا في ألفاظ القران لفظة تفيد الاستغراق الا لفظة
واحدة).
فليس إذا قل استعمال الحقيقة فيما هو حقيقة فيه وكثر استعماله في المجاز
دل على أنه ليس بحقيقة فيه الا ترى انه لم تجر عادتهم في استعمال لفظة (الدابة) في
كل ما دب بل صار بالعرف لا يستعمل الا في دابة بعينها ولا يدل ذلك على أنهم لم

(1) وهؤلاء المخالفون هم الذين يسمون بأصحاب الوقف، قال السمرقندي في (ميزان الأصول 410: 1 -
409): «أما أصحاب الوقف فهم الذين يتوقفون في حق العمل والاعتقاد جميعا، وهو مذهب ابن
الراوندي، ومحمد بن شبيب، وعامة المرجئة، وعامة الأشعرية، وإليه مال أبو سعيد البردعي - من أصحابنا -
و هو فريقان:
فريق قالوا: لا حكم للفظ ما لمجرد الصيغة ما لم يقترن به قرينة، بمنزلة الألفاظ المشتركة من القرط،
و ا لعين، والجارية ونحوها.
وقال بعضهم من أهل التحقيق: إن ألفاظ العموم في أصل وضع اللغة للعموم حقيقة، ولكن لكثرة
استعمالها في الخصوص صارت مشتركة في عرف الاستعمال».
(2) انظر: «المعتمد 223: 1 - 206، الأحكام: 2: 185، التبصرة: 105، ميزان الأصول 409: 1، الذريعة 1:
201، روضة الناظر: 196».
(3) البقرة: 282.
288

يضعوا هذه اللفظة في الأصل لكل ما يدب.
فعلم بذلك ان قلة الاستعمال لا يدل على أن اللفظة ليس بحقيقة.
وعندنا ان الحكيم تعالى إذا استعمل هذه اللفظة فيما دون الاستغراق فلابد
من أن يدل عليه دالا لم يحسن منه ذلك.
واستدلوا أيضا بحسن الاستفهام عن هذه الألفاظ قالوا: فلولا انها مشتركة
والا لم يحسن (1).
وقد قلنا ما عندنا في ذلك فيما مضى فأغنى عن الإعادة.
واستدلوا أيضا بان قالوا: لو كان ذلك مفيدا للاستغراق لما حسن أن يؤكد
لان المؤكد قد أنبأ عن المراد فتأكيده عبث.
والجواب عن ذلك: انا قد بينا ان التأكيد دليل لمن قال بالاستغراق ولو لزم
هذا الاعتبار أن لا يكون اللفظ موضوعا للاستغراق لوجب في ألفاظ الخصوص
وألفاظ الاعداد مثله لأنا وجدناهم يؤكدون ألفاظ الخصوص وألفاظ الاعداد كما
يؤكدون ألفاظ العموم فأي شئ أجابوا به عن ذلك فهو جوابنا بعينه.
واستدلوا أيضا بان قالوا: لو كانت هذه الألفاظ تفيد الاستغراق لما حسن
الاستثناء منها وكانت تكون نقصا لان هذه اللفظة تجرى عندكم مجرى تعداد
الأسماء فكما لا يجوز ان تعد الأسماء ثم يستثنى منها فكذلك لفظ العموم لو كان
جاريا مجرى ذلك لما حسن الاستثناء منه.
والجواب عن ذلك أن يقال: الاستثناء انما يحسن إذا قصد المتكلم بالخطاب
بعض العموم فيحتاج ان يبين من لم يعنه بالخطاب وانما كان يكون نقضا لو قصد
به الاستغراق ثم استثنى منها ونحن لا نقول ذلك.
وليس كذلك تعداد الأسماء لأنه إذا عددها فقد قصدها كلها فلا يجوز بعد
ذلك أن يستثنى منها لأنه يؤدي إلى نفى ما أثبته بعينه وذلك لا يجوز على حال.

(1) انظر: «المعتمد 216: 1».
289

وليس كذلك لفظ العموم لأنه يجوز ان يستعمل في بعض ما وضع له على
ضرب من المجاز إذا بين معه المراد بذلك وفي ذلك سقوط هذا السؤال.
فاما من فرق بين الأوامر والاخبار فقوله يبطل بما دللنا عليها من أن هذه
الألفاظ تفيد الاستغراق في الاخبار كإفادتها في الأوامر وإذا ثبت ذلك فمتى ورد
خطاب من الله تعالى وجب حمله على عمومه سواء كان أمرا أو خبرا الا ان يدل
دليل على أن المراد به التخصيص فتحمل عليه ولأجل هذا قلنا: ان ما أخبر الله
تعالى به من عقاب العصاة المراد به بعضهم لا جميعهم لما دل الدليل عندنا على
ذلك فلا يظن ظان ان في القول بالعموم تركا لهذا المذهب وتصحيحا لمذهب
الخصم لان الخصم يدفع ان يكون ها هنا دليل يدل على تخصيص آيات الوعيد
ونحن نثبته وإذا ثبت ما ندعيه بطل مذهب الخصم في ذلك.
فاما من فرق بين الامر والخبر بان قال: ان الامر تكليف والخبر ليس كذلك فلا
يمتنع أن لا يكون مفيدا للاستغراق وان لم يعلمه فقد أخطأ وذلك أنه لا فرق بينهما
في تعلق تعليق التكليف بهما لان الامر يوجب علينا فعل ما تناوله والخبر يوجب علينا
اعتقاد ما تضمنه فلابد من أن يكون مفيدا للاستغراق ان كان مطلقا.
وان كان المراد به الخصوص فلابد من أن يقترن به البيان والا أدى ذلك إلى
إباحة الجهل والاعتقاد الذي لا نأمن كونه جهلا وكل ذلك منفى عن القديم تعالى.
وهذه جملة كافية في هذا الباب.
290

فصل [3]
(في ذكر ألفاظ الجمع والجنس وغير ذلك (1))
ذهب أكثر من قال بالعموم إلى أن اسم الجنس إذا دخله الألف واللام اقتضى

(1) قبل أن نعدد مذاهب القوم في المقام ينبغي تحرير محل النزاع، فنقول: اتفقوا على أنه إذا دخلت لام
المعرفة على اسم الجنس المفرد (كالمسلم، المشرك) وكان هناك عهد متحقق أو عهد محتمل بسبب وجود
قرائن حالية أو مقالية فينصرف إلي مدلول العهد في هذه الحالة جزما، إذ مع وجود القرينة لا مجال لدلالة
الألف واللام على العموم والاستغراق، بناء على هذا ينحصر الخلاف ويدور النزاع حول اسم الجنس الذي
دخلت لام المعرفة عليه مع عدم وجود قرينة متحققة ولا محتملة تفيد العهد، ففي هذه الصورة تكون
مذاهبهم وأقوالهم كما يلي:
الأول: اسم الجنس يقتضي استغراق الجنس، وهذا مذهب الجمهور من العامة كالشافعي، وأبي علي
الجبائي، وابن الحاجب، وأبي إسحاق الشيرازي، وابن برهان، والمبرد، والقاضي أبي زيد، وأبي علي
الفسوي، وهو قول منسوب لأبي هاشم، وهذا مختار الشيخ الطوسي من الإمامية.
الثاني: يفيد الجنس والعهد دون الاستغراق إلا أن تقوم قرينة على العموم، و هذا مذهب أبي هاشم
الجبائي، وتابعه أبو الحسين البصري، وهو مختار فخر الدين الرازي وبعض أتباعه.
الثالث: التفصيل بين ما دخل عليه الهاء «كالتمرة» وبين ما لم تدخل عليه «كالتمر»، فإنه في الأخيرة
يفيد الاستغراق في الجنس كقوله: (لا تبيعوا البر بالبر) فيعم كل بر: وهذا مذهب إمام الحرمين الجويني،
و الغزالي.
انظر: «التبصرة: 115، ميزان الأصول 396: 1 - 394، المتعمد 228: 1 - 227، شرح اللمع 304: 1 -
303، الإبهاج 60: 2، المنخول: 144، المستصفي 18: 2، روضة الناظر: 203 - 195».
291

استغراق الجنس وذلك مثل قوله تعالى: (والعصر ان الانسان لفي خسر) (1)
وكذلك قالوا في ألفاظ الجموع والأسماء المشتقة (2) نحو قولهم: (رأيت الرجال)
وقوله: (اقتلوا المشركين) (3) و (ان الفجار لفي جحيم) (4) و (يقول الكافر يا
ليتني كنت ترابا) (5).
هذا إذا لم يكن هناك ما يدل على أنهما دخلا للعهد فان دل دليل على ذلك
حمل اللفظ عليه.
قال أبو على: مثل ذلك في اسم الجنس وأسماء الجموع وامتنع من القول به
في الأسماء المشتقة (6).
وقال أبو هاشم خاصة (7): لا يدل في هذه المواضع كلها على الاستغراق بل
يدل الألف واللام اما على العهد أو على تعريف الجنس فاما الاستغراق فلا يدل
على ذلك الا ان يقترن به دليل يدل عليه نحو قوله (والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما) (8) وقوله: (ان الفجار لفي جحيم) (4) وقوله: (اقتلوا المشركين) (3)
ان جميع هذه المواضع المراد بها الاستغراق لان الكلام خرج مخرج الزجر (9)
والزجر حاصل في الجميع كما هو حاصل في كل واحد منهم فلأجل ذلك حملته

(1) العصر: 1.
(2) انظر المصادر الواردة في التعليقة رقم (1) صفحة 291.
(3) التوبة: 5.
(4) الانفطار: 14.
(5) النبأ: 40.
(6) راجع: «المعتمد في أصول الفقه 230: 1 - 123».
(7) * أي منفردا عن أبيه أبي علي.
(8) المائدة: 38.
(9) * أي زجر الناس عن الإقدام إلي السرقة والفجور والشرك، والزجر حاصل في كون الحكم على كل واحد
مع الاحتمال كما هو حاصل في كل واحد مع الانفراد.
292

على الجميع (1).
وفي الناس من قال: ان الذي ادعاه أبو هاشم من تعريف الجنس غير معقول
أصلا ولا يفهم من الألف واللام الا الاستغراق أو العهد (1).
فهذا جملة الخلاف بين من قال بالعموم في هذه الألفاظ.
فاما من قال بالخصوص أو بالوقف فقولهم في هذه الألفاظ مثل قولهم فيما
مضى على السواء (2).
والذي اذهب إليه هو الأول والذي يدل على ذلك حسن الاستثناء في جميع
هذه الألفاظ (3) الا ترى انه يحسن ان يقال: (ان الانسان لفي خسر الا زيدا وعمرا)
فيستثنى كل واحد من الناس من اللفظ الأول.
وكذلك إذا قال: (رأيت الرجال) يحسن ان يستثنى كل واحد منهم.
وكذلك يحسن الاستثناء من قوله: (اقتلوا المشركين) (4) وقوله: (ان الفجار
لفي جحيم) (5) وقوله: (ويقول الكافر) (6) وما جرى مجرى ذلك من الألفاظ.
وقد بينا في الباب الأول ان من حق الاستثناء ان يخرج من الكلام ما لولاه
لوجب دخوله تحته وفي ذلك اقتضاء هذه الألفاظ الاستغراق.
فان دفعوا حسن الاستثناء في هذه المواضع دفعهم أصحاب الخصوص
والوقف عن دخوله فيما مضى من الألفاظ.

(1) المعتمد في أصول الفقه 228: 1 - 227.
(2) انظر هامش رقم (1) في صفحة 273.
(3) هذا الدليل احتج به كل من ذهب إلي الرأي الأول سواء من العدلية - المعتزلي منهم مثل أبي الحسين
البصري (المعتمد 215: 1) أو الإمامي كالشيخ الطوسي - أو الأشاعرة كأبي إسحاق الشيرازي (التبصرة 1:
108)، ولاحظ أيضا المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 291.
(4) التوبة: 5.
(5) الانفطار: 14.
(6) النبأ: 40.
293

فان قالوا: يحسن دخوله ولا يدل على الاستغراق.
قال لهم: أصحاب الخصوص والوقف مثل ذلك في (من) و (ما).
وإذا كان الكلام مع أصحاب الخصوص والوقف يكون الكلام على ما رتبناه في
(من) و (ما) على حد سواء (1).
فاما الذي اختاره أبو هاشم من أنهما يقتضيان تعريف الجنس (2) فلسنا نمنع
من أن ذلك قد يراد في بعض الأحوال كما لا نمنع من أن يراد بهما المعهود على
بعض الأحوال ولا يدل ذلك (3) * على أنه يجب حملها عليه ابدا كما لا يجب ذلك
في حمله على العهد ابدا.
فاما من دفع أبا هاشم عن ذلك وقال: ان ذلك غير معقول (4) فباطل لأنا نحن
نعلم أن القائل إذا قال: (اكلت اللحم ولبست الجباب (5) أو الثياب أو جاء وقت
لبس الجباب) لا يريد بذلك اكله لحما بعينه ولا انه اكل جميع اللحوم وانما أراد
تعريف هذا الجنس بعينه وكذلك لا يريد لبس جميع الجباب ولا جبابا بأعيانها
وانما يريد تعريف هذا الجنس والكلام في ذلك بين فمن دفعه كان دافعا لما هو
معلوم.
ويدل أيضا على ذلك: ان أهل اللغة نصوا فقالوا أسماء الأجناس تدل على
القليل والكثير (6) * ولأجل ذلك قالوا: ان لفظ الجنس لا يجوز ان يجمع لأنه بنفسه
يدل على القليل والكثير فجمعه عبث وانما يحسن جميعه إذا اختلفت الأجناس

(1) انظر كلام المصنف حول هذين اللفظين ودلالتهما في صفحة 274 و 275.
(2) قال أبو الحسين البصري (المعتمد 227: 1): «قال الشيخ أبو هاشم رحمه الله: إن ذلك (أي الألف واللام
إذا دخلا على الاسم المفرد المشتق وغير المشتق) يفيد الجنس دون استغراقه».
(3) * أي إرادة الجنس في بعض الأحوال.
(4) المعتمد في أصول الفقه 228: 1.
(5) الجباب: بالفتح والكسر من الملابس، معروفة.
(6) * أي على القدر المشترك بينهما، وهو الجنس من حيث هو.
294

ولا يدل بعضهما على بعض فحينئذ يستفاد بالجمع أجناس مختلفة.
فاما في الجنس الواحد فلا يحسن على حال ولا يجب من حيث إن الألف
واللام يدخلان للعهد أو لتعريف الجنس - على ما ذهب إليه أبو هاشم (1) - ان لا يفيد
الاستغراق كما لا يجب ذلك في (من) و (ما) لأنهما قد يستعملان في المعهود ولا
يدل ذلك على أنهما لا يستعملان في الاستغراق على حال.
واستدل أبو علي على أن لفظ الجمع يقتضى الاستغراق إذا لم يدل دليل على أنه
أراد البعض بأن قال: انه قد ثبت انه حقيقة في الاستغراق (2) * كما أنه حقيقة في أقل
الجمع فإذا كان كذلك - ولا يكون هناك دلالة - وجب حمله على الاستغراق (3).
وقال أيضا: إذا كان الكلام صادرا من حكيم فلو أراد أقل الجمع لبينه فلما لم
يبين دل على أنه أراد الاستغراق (4).
واعترض على ذلك أبو هاشم وأصحاب الخصوص والوقف بان قالوا: إذا
كان ذلك حقيقة في أقل الجمع كما هو حقيقة في الاستغراق وجب حمله على الأقل
لأنه مقطوع به والاستغراق لا دلالة عليه فوجب أن لا يكون مرادا (5).
وقالوا: إذا كان الكلام صادرا من حكيم ولا يدل على أنه أراد الاستغراق ودل
على أنه أراد أقل الجمع وتعارض القولان ووقف الدليل.

(1) المعتمد في أصول الفقه 228: 1 - 227.
(2) * يعني إما بأن يكون موضوعا للقدر المشترك بينهما، أو بكونه موضوعا للاستغراق، ويكون حقيقة في
أقل الجمع لا بشرط لا، كما سيحققه المصنف في فصل في أن العموم إذا خص كان مجازا.
(3) المعتمد في أصول الفقه 224: 1 - 223 و 230.
(4) المعتمد في أصول الفقه 225: 1 - 223.
(5) نقل أبو الحسين البصري في (المعتمد 1: 230) اعتراض أبي هاشم على أبيه أبي علي الجبائي حيث قال:
«ثم يقال له: ولم زعمت أنه ينبغي أن يحمل هذا الاسم [أي الجنس] على كل ما وجدت فيه حقيقة؟ وما
أنكرت أنه يحمل على أقل ما يوجد فيه معني الجمع، لأنه متحقق».
295

والمعتمد عندي هو الأول (1) *.
واستدل أبو هاشم على أن لفظ الجمع لا يفيد الاستغراق بان قال:
لو اقتضى ذلك لاقتضى أكثر الاعداد وذلك يوجب أن يكون مقتضيا لما لا
يتناهى أو أن يكون حقيقة في كل عدد يوجد الجموع وكل ذلك فاسد (2) (3) *.
والكلام على ذلك أن يقال: أكثر ما في هذا ان يقتضى انه لا يجوز ان يفيد ما لا
يتناهى لان ذلك محال ولا يدل على أنه لا يفيد استغراق ما يمكن ولو لزم هذا ها هنا
للزمه في (من) و (ما) بأن يقال لو أفاد الاستغراق لتعلقا بما لا يتناهى وذلك باطل.
ولا جواب عن ذلك الا ما قلناه من أنه ينبغي أن يحمل على الاستغراق فيما
يمكن فاما ما هو محال فكيف يحمل عليه.
واما استدلاله على أنه حقيقة في الثلاثة من حيث كان أقل الجمع (1) فصحيح
لا ينازع فيه وليس ذلك بمانع عند من خالفه من أن يفيد الاستغراق أيضا حقيقة
وانما يحمل على أحد الحقيقتين لضرب من الاعتبار (4) *.
واعلم أن الذي اعتبرناه من دليل الاستثناء في ألفاظ الجموع انما يدل على
انها تفيد الاستغراق حقيقة ردا على أصحاب الخصوص ولا يمكننا ان نقول انها لا
تتناول أقل الجمع أيضا حقيقة لان ذلك يكون مكابرة فإذا ثبت كونها حقيقة في
الامرين وصدر الكلام من حكيم ولم يقرن به ما يدل على أنه أراد به أقل الجمع

(1) * أي دليل أبي علي، لكن بعد انضمام مقدمات إليه كما سيحققه المصنف بقوله: واعلم أن الذي اعتبرناه
الخ، ويحتمل أن يراد بالأول كونه للاستغراق لكن لا بدليل أبي علي بل بما سبق من دليل الاستثناء.
(2) قال أبو الحسين البصري في (المعتمد 1: 229): «وعند الشيخ أبي هاشم رحمه الله أنه لا يحمل علي
الاستغراق، بل يحمل إذا تجرد على ثلاثة فصاعدا... وقد احتج لذلك بأنه لو حمل ذلك على الاستغراق لم
يستقر، لأنه لا عدد من الرجال إلا ويمكن أن يوجد أكثر منه».
(3) * أي محال.
(4) * فإنه يحمل على الاستغراق باعتبار أنه كل الموضوع له، ويحمل على أقل الجمع لا بشرط باعتبار أنه
داخل في الموضوع له.
296

وجب حمله على أنه أراد الكل.
وليس لهم ان يقولوا: اجعلوا فقد دلالة الاستغراق دلالة على أنه أراد أقل
الجمع كما جعلتم فقد دلالة الأقل دلالة على أنه أراد الاستغراق ويتعارض القولان
وذلك أن هذا انما يمكن ان يقال في ألفاظ الجموع الخالية من الألف واللام
فاما إذا كانت فيها الألف واللام فلا يفيدان الا استغراق لأنه لو أراد أقل الجمع لم يكن
لادخالهما في الكلام فائدة وكان اللفظ مع عدمهما يفيد أقل الجمع كما يفيد أكثر
الجمع فإذا لابد من حمله على الاستغراق والا كان ذلك لغوا.
فان عادوا إلى أن يقولوا: ان ذلك يفيد العهد أو تعريف الجنس.
قلنا: نحن انما نتكلم في الموضع الذي لا نعلم أنه أريد بهما العهد أو تعريف
الجنس فاما إذا علمنا أنه أراد العهد أو تعريف الجنس وجب حمله عليه وذلك لا
ينافي ما قلناه.
وهذه جملة كافية في هذا الباب.
297

فصل [4]
(في أن أقل الجمع (1) * ما هو؟ (2))
ذهب المتكلمون وأكثر الفقهاء إلى أن أقل الجمع ثلاثة (3).

(1) * أي بحسب الحقيقة اللغوية إذا لا شك في استعمال الجمع في التثنية في الجملة نحو: (فقد صغت
قلوبكما).
(2) ينبغي قبل الخوض في بيان الأقوال واختلاف الآراء التنبيه على أن البحث عن أقل الجمع يتصور علي
نحوين: فتارة يدور البحث حول مفهوم (الجمع) لغة وأنه ما الذي يفيده؟
و أخري: عن الدلالة والإفادة في الألفاظ الموضوعة في اللغة بوصف أنها جمع؟
أما الأول: فإن المفهوم اللغوي ل (الجمع) من جهة الاشتقاق هو مختار الجمهور حيث نسب إلي ابن عباس،
و ابن مسعود، و الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وابن حنبل، وابن حزم الأندلسي، وأعيان المعتزلة ومشايخهم،
و أبي إسحاق الشيرازي، والرازي وأتباعه، والغزالي.
2 - أقل الجمع اثنان، أي تطلق عليه حقيقة، وهو مذهب عمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، ونفطويه،
و الخليل بن أحمد، وسيبويه، ومالك، وجمهور الظاهرية، والإسفراييني، والباقلاني، والغزالي (في
المستصفي)، وبعض الشوافع.
3 - أقل الجمع واحد، نسب الآمدي للجويني قوله: لا يمتنع رد لفظ الجمع إلي الواحد، وأنكر السبكي
298

وقال من شذ منهم ان أقل الجمع اثنان (1).
والصحيح هو الأول.
والذي يدل على ذلك: ان أهل اللغة فرقوا بين التثنية والجمع وخصوا كل
واحد منهما بأمر لا يشركه فيه الاخر فقالوا: التثنية تكون بالألف والنون والياء والجمع
يكون بالواو والألف والتاء كما فرقوا بين الواحد والاثنين فان جاز أن يدعى
في التثنية انهما جمع جاز ان يدعى في الواحد انه تثنية أو جمع وقد علمنا خلاف
ذلك.
ويدل على ذلك أيضا: انهم يقولون للاثنين (افعلا) إذا أمروهما وللجماعة
(افعلوا) وثينون بالألف ويجمعون بالواو وعلى مذهب الخصم كان يجب أن لا
يكون بينهما فرق.
ويدل أيضا على ذلك: انهم يفسرون بلفظ الجمع عدد الثلاثة فيقولون: (ثلاثة
رجال) ولا يفسرون به الاثنين بل يقولون: (ورجلان) فعلم بجميع ذلك الفرق بينهما.
وأيضا: فان السامع إذا سمع المتكلم يقول: (رأيت رجالا) لا يفهم من ذلك
ولا يسبق إلى قلبه الا ثلاثة ولا يسبق إلى قلبه اثنان أصلا فعلم أن الحقيقة ما قلناه.
فاما من خالف في ذلك فإنه يستدل بأشياء.
منها: ان الجمع مأخوذ من ضم شئ إلى شئ وذلك موجود في الاثنين
فينبغي أن يكون جمعا.

هذه النسبة.
انظر: «التبصرة: 127، الإبهاج 77: 2، الإحكام 413: 4، الأحكام 204: 2، المستصفي 226: 2،
المعتمد 231: 1، ميزان الأصول 428: 1 - 427، المنخول: 148، شرح اللمع 330: 1، روضة
الناظر: 203».
و أما الإمامية: فقد اختار الشيخ المفيد المذهب الثاني، واختار الشريف المرتضى والشيخ الطوسي
المذهب الأول. انظر: «التذكرة: 33، الذريعة 229: 1 «.
(1) انظر التعليقة رقم (2) صفحة 298.
299

والجواب عن ذلك انا لا ننكر ان يكون أصل الاشتقاق ما ذكروه لكن صار
بعرف اللغة ومواضعتهم مخصوصا ببعض ذلك وهو إذا كانوا ثلاثة منضمين وجرى
ذلك مجرى قولهم (دابة) في أنه موضوع في أصل اللغة لكل ما يدب ثم صار بعرف
اللغة مخصوصا لدابة بعينها فكك لفظ الجمع على أنه انما نريد بقولنا: أقل
الجمع ثلاثة ان احكام الثلاثة لا تجرى على الاثنين واحكام الاثنين لا تجرى على
ثلاثة على ما بيناه.
فان سلموا ذلك وقالوا مع ذلك الاثنان من حيث الاشتقاق كان ذلك
خلافا في عبارة لا يعتد بمثله.
واستدلوا أيضا: بما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (الاثنان
فما فوقهما جماعة) (1) فسماهما جماعة.
والجواب عن ذلك: ان قوله عليه السلام ينبغي ان يحمل على الاحكام لأنها
المستفادة من جهته ولا يحمل على الأسماء لأنها مستفادة معلومة باللغة.
وقد قيل في معناه شيئان: أحدهما: انه كان نهى عن خروج الرجل وحده في
السفر ثم أباح ذلك في الاثنين فخبر عند ذلك أن حكم الاثنين في جواز السفر
حكم الثلاثة وما زاد على ذلك.
والوجه الاخر: انه أراد بذلك فضيلة الجماعة بالصلاة لان حكم الاثنين في
انعقاد الجماعة بهما وحصول الفضل لهما حكم الثلاثة وما زاد على ذلك فينبغي أن
يحمل الخبر عليهم.
ومنها: قوله تعالى: (وكنا لحكمهم شاهدين) (2) وعنى بذلك داود
وسليمان وهما اثنان.

(1) كنز العمال 555: 7 رقم 20224: «اثنان فما فوقهما جماعة».
(2) الأنبياء: 78.
300

ومنها: قوله تعالى: (إذ دخلوا على داود) (1) وانما أراد به الخصمين.
والجواب عن ذلك من وجهين أحدهما: ان ذلك مجاز وكلامنا في الحقيقة
وجرى ذلك مجرى قولنا: (انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون) (2) ونحو قوله: (وكنا لحكمهم شاهدين) (3) ولا خلاف ان لفظ الجماعة في الواحد مجاز فلو لزم
ما قالوه للزم أن يكون ذلك حقيقة في الواحد وللزم في قوله: (وهل اتاك نبؤ الخصم إذ
تسوروا المحراب) (4) لان لفظ (الخصم) لفظ الواحد ومع ذلك قد أخبر عنه بلفظ
الجمع وذلك مجاز بلا خلاف.
والوجه الثاني: ان قوله: (وكنا لحكمهم شاهدين) أراد به داود وسليمان
والمحكوم عليه والخصم وهم جماعة فلأجل ذلك أخبر عنهم بلفظ الجمع.
وكذلك قالوا في قوله تعالى: (خصمان بغى بعضنا على بعض) (5) انه أراد
به جنس الخصمين لان لفظ (الخصم) لفظ المصدر ويقع على الواحد والجماعة
والذكر والأنثى على حد واحد لأنهم يقولون: (رجل خصم) و (رجال خصم)
و (امرأة خصم) و (نساء خصم) كل ذلك بلفظ واحد.
وإذا ثبت ذلك كان قوله (خصمان) لا يختص بالاثنين دون ما زاد عليهما
فلأجل ذلك أخبر عنهما بلفظ الجماعة.
وقووا ذلك بان قالوا: قال في أول الآية: (وهل اتاك نبؤ الخصم إذا تسوروا
المحراب) فأخبر عن (الخصم) بكناية الجماعة فعلم بذلك انه أراد الجنس دون
الواحد.
وعلى الوجهين جميعا سقط التعلق بالآيات.

(1) ص: 22.
(2) الحجر: 9.
(3) الأنبياء: 78.
(4) ص: 21.
(5) ص: 22.
301

فصل [5]
(في معنى قولنا ان العموم مخصوص وان الله تعالى
يجوز أن يريد بالعام الخاص (1))
معنى قولنا: (العموم مخصوص) هو انه استعمل في بعض ما وضع له دون
بعض وذلك مجاز لان حقيقة المجاز ثابتة فيه وشبه ذلك بالمخصوص الذي وضع
في الأصل للخصوص وإذا استعمل في بعض ما وضع له في الأصل لا يصير حقيقة
فيه لأنا قد دللنا على أن للعموم صيغة فان حقيقتها الاستغراق (2) فمتى استعمل في
غير ذلك ينبغي أن يكون مجازا لان حقيقة المجاز هو أن يستعمل اللفظة في غير ما
وضعت له وهذا موجود في العموم إذا أريد به الخصوص فينبغي أن يكون مجازا

(1) هذا الفصل معقود لبيان مفهوم العام المستعمل في بعض ما وضع له، وقد اختلف الأصوليون في هذا
المفهوم فمذهب الشيخ الطوسي أن إطلاق القول بأن العموم خصوص استعمال في بعض ما وضع له وجوبا
و هو مجاز، وأما الشريف المرتضى (ره) فقد ذهب (الذريعة 234: 1) إلي أن إطلاق قولنا (العموم
مخصوص) يفيد أن المتكلم به أراد بعض ما يصلح له هذا اللفظ دون بعض لأنه إذا اطلق صلح لأشياء كثيرة
علي سبيل العموم لها، فإذا دل الدليل على أنه أراد بعض ما وضعت هذه اللفظة لأن تستعمل فيه على سبيل
الصلاح قيل إن العموم مخصوص.
(2) راجع استدلال المصنف في صفحة 273 و 274، وانظر أيضا التعليقة رقم (1) صفحة 273.
302

ولهذا لا يقولون لمن خاطب بالعموم وأراد به بعض ما يتناوله: انه مخاطب
بالخصوص ولا انه خص الخطاب كما يقولون ذلك في الألفاظ الخاصة فعلم أن
ذلك مجاز.
فاما إذا قيل: (فلان خص العموم) فالمراد بذلك انه علم من حالة المخصوص
بدليل دله على ذلك. ويقال فيمن اعتقد ذلك أيضا فيه وان لم يكن اعتقاده علما.
وقد استعمل كثير من الفقهاء لفظ التخصيص فيما ليس بعام إذا علم بالدليل
انه عام مثل الافعال وغيرها ونحن نبين ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ويفارق قولنا: (ان العام مخصوص) لقولنا: (ان الخطاب منسوخ) في الحكم
والحد جميعا وقد ظن بعضهم انهما سواء وذلك خطأ من وجوه:
لان حد التخصيص: ما دل على أن المراد باللفظ بعض ما يتناوله دون بعض.
وحد النسخ: ما دل على أن مثل الحكم الثابت بالخطاب زائل في المستقبل
على وجه لولاه لكان ثابتا بالخطاب الأول مع تراخيه عنه.
فحدهما مختلف على ما ترى.
ولأن التخصيص يؤذن بان المراد بالعموم عند الخطاب ما عداه والنسخ
يحقق ان كل ما تناوله اللفظ كان مرادا في حال الخطاب وان كان غير مراد في ما عداه.
وأيضا: فان من حق التخصيص ألا يصح الا فيما تناوله اللفظ والنسخ قد
يصح فيما علم بالدليل انه مراد منه وان لم يتناوله اللفظ.
وأيضا: فان النسخ يدخل في النص على عين واحدة والتخصيص لا يدخل
فيه.
وأيضا: فالنسخ في الشرع لا يقع بأشياء يقع التخصيص بها نحو أدلة العقل
والأدلة المتصلة بالخطاب من الاستثناء وغيرها من اخبار الآحاد والقياس والأدلة
المستنبطة عند من أجاز التخصيص بها والتخصيص قد لا يقع ببعض ما يقع به
النسخ.
فعلم بجميع ذلك ما مفارقة التخصيص النسخ.
303

ولا يجب من حيث شارك التخصيص النسخ في بعض الأحكام ان يكونا
بمعنى واحد كما أن مشاركة بيان المجمل للتخصيص في بعض الأحكام لا يدل
على أن معناهما واحد.
وكون النسخ في المعنى تخصيصا من حيث إنه تخصيص للأوقات لا يوجب
انه تخصيص لأنه أخص منه والتخصيص أعم وكل ذلك يوجب افتراقهما في الحد
والحكم.
فإذا ثبت ذلك فالقديم تعالى يجوز أن يريد بالعام الخاص لان أهل اللغة إذا
كانوا استجازوا ذلك وتعارفوه وجرت عادتهم باستعماله وكان القديم تعالى متكلما
بلغتهم وجب أن يجوز أن يتكلم بذلك ويريد به الخصوص كما أنه يجوز أن يتكلم
بالمجاز والحقيقة والإطالة تارة والايجاز أخرى ويؤكد كلامه تارة ولا يؤكد أخرى
لما كان ذلك من عادة أهل اللغة وكان القديم تعالى متكلما بلغتهم فينبغي أن يتكلم
على طريقتهم.
الا انه متى تكلم بلفظ العام وأراد به الخاص فلابد من أن يدل عليه ويقرن به
ما يدل على تخصيصه والا كان موجبا لاعتقاد الجهل كما أنه إذا أراد بالحقيقة
المجاز فلابد من أن يدل عليه.
وأيضا: فإذا جاز أن يتكلم بالعام ويستثنى منه جاز أن يدل عليه دليل غير
الاستثناء يعلم به انه أراد الخصوص لان الاستثناء دليل التخصيص كما أن غيره من
الأدلة كذلك.
ويدل على جواز ذلك أيضا: ان الله تعالى تكلم في مواضع بلفظ العام وقد
علمنا أنه أراد الخصوص فلولا ان ذلك كان حسنا والا لم يحسن منه ذلك.
وليس لاحد أن يقول: كما لا يحسن منه الاخبار الا على القطع والامر الا على
الشروط في بعض الوجوه وحسن ذلك فينا فكذلك لا يمتنع استعمال العام في
الخاص فينا وان لم يحسن فيه تعالى.
وذلك أن هذا أولا: باطل بما قلناه من وجودنا مواضع كثيرة من القران ظاهرها
304

العموم وقد علمنا أنه أراد بها الخصوص بل أكثر القران كذلك.
ثم انه انما حسن منا الاخبار والأوامر بالشروط لما لم يكن لنا طريق إلى العلم
بما يمنع من الشروط ولم يحسن ذلك في القديم تعالى العالم بالعواقب ولذلك لا
يحسن منا ان نخبر عما نعلمه بشرط لما كان العلم حاصلا لنا.
وهذه جملة كافية في هذا الباب.
305

فصل [6]
(في أن العموم إذ خص كان مجازا
وما به يعلم ذلك وحصر أدلته (1))
ذهب كثير من أصحاب الشافعي (2) وأصحاب أبي حنيفة (2) إلى أن العموم
مع الدليل الذي خص به حقيقة فيما عدا ما خص منه سواء كان ذلك الدليل لفظا
متصلا أو منفصلا أو غير اللفظ.
وذهب أبو عبد الله البصري (3) إلى أنه: ان كان ذلك الدليل لفظا (4) متصلا من

(1) إن هذا البحث يتم على مذهب من يعتقد أن للعموم صيغة مستغرقة متناولة لجميع أفراده، متي استعملت
في غيره كانت مجازا، وأما على مذهب القائلين بالوقف أو بالاشتراك فلا يأتي لأنهم لا يحملون اللفظ علي
العموم أو الخصوص إلا بدليل، لاحظ التعليقة رقم (1) صفحة 273.
(2) كابن السمعاني، وأبي إسحاق الشيرازي، وأبي حامد الأسفراييني، وابن السبكي وغيرهم من الشافعية، و
السرخسي، والسمرقندي من الأحناف، وهو مذهب الحنابلة، ومختار الشيخ المفيد من الإمامية.
راجع: «التبصرة: 122، ميزان الأصول 422: 1 - 420، شرح اللمع 344: 1، الإبهاج 80: 2، أصول
السرخسي 144: 1، روضة الناظر: 210 - 209 التذكرة: 35».
(3) المعتمد في أصول الفقه 264: 1 - 262.
(4) إن المعتمد عند أبي الحسين البصري (المعتمد: 1 / 263 - 262) غير مقيد باللفظ وغيره بل عام يشمل
جميع الأدلة، يقول: «إعلم أن القرينة المخصصة إما أن تستقل بنفسها في الدلالة، أو لا تستقل بنفسها، فإن
استقلت بنفسها فهي ضربان: عقلية ولفظية...» والتقييد باللفظ هنا في عبارة الشيخ الطوسي جري على العادة
306

استثناء وغيره (1) كان حقيقة فاما إذا لم يكن متصلا فإنه يصير مجازا (2).
وذهب أبو علي وأبو هاشم ومن تبعهما وأكثر المتكلمين وباقي الفقهاء إلى أنه
يصير مجازا بأي دليل خص (3) وهو الصحيح (4).
والذي يدل على ذلك: انا قد بينا في هذا الكتاب ان حقيقة المجاز ان يستعمل
اللفظ في غير ما وضع له فإذا ثبت ذلك - وقد دللنا على أن للعموم صيغة تختصه
يفيد الاستغراق (5) - فينبغي (6) * إذا استعملت فيما دون الاستغراق أن يكون مجازا
لثبوت حقيقته فيه وهذا يبين أنه يصير مجازا بأي دليل خص سواء كان لفظا متصلا

والغالب، إذ أن أغلب المخصصات لفظية.
(1) الاستثناء المتصل بالعام كقول القائل: «أكرم بني تميم إلا زيدا منهم»، وغيره كالشرط كقوله: «من دخل
داري أكرمته إن كان عالما» أو الصفة المقيدة كقوله: «من دخل داري من الشجعان أكرمته».
(2) وهذا الرأي مختار جماعة كالباقلاني، وفخر الدين الرازي، وأبي الحسن الكرخي وغيرهم.
(3) وهذا القول مختار مشاهير المعتزلة وأعلامهم كأبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم، وأتباعهما، مذهب
جمهور الأشاعرة، وجماعة من الفقهاء أمثال: عيسى بن أبان، والغزالي (في المستصفي)، والآمدي، وابن
الحاجب، والشيخ صفي الدين الهندي، والبيضاوي، وابن الهمام من العامة، والشيخ الطوسي من الإمامية.
انظر: «التبصرة: 122 والمصادر الواردة في هامشها، الإبهاج 80: 2، المستصفي 54: 2، الإحكام 2:
290، المتعمد 262: 1، الإحكام 390: 3».
(4) هذه المذاهب الثلاثة التي نقلها الشيخ الطوسي (ره) هي مختار جل الفقهاء والمتكلمين والأصوليين - من
العامة والخاصة - إلا أن الآمدي وابن السبكي نقلا خمسة مذاهب أخرى هي مختار شرذمة من الأصوليين
و المتكلمين، وهذه المذاهب الخسمة لا تعد أصلا وإنما هي تفريعات وتفصيلات على الثلاثة الأولي كقول
القاضي عبد الجبار الذي فصل بين التقييد بالشرط وبين التقييد بالصفة وغيره. انظر: «الأحكام 209: 2،
الإبهاج 80: 2، الذريعة 239: 1».
(5) انظر استدلال المصنف في صفحة 273 و 274، ولاحظ أيضا التعليق رقم 1 صفحة 273».
(6) * هنا مقدمة مطوية هي. لكن استعملت فيما دون الاستغراق، وهذه إنما يتم لو ثبت مقدمتان الأولي: أن
المخصص في نحو قولنا: «له على عشرة إلا ثلاثة» صلة للحكم فليس شطرا للمسند إليه فيبطل الاحتمال
الأول من احتمالي كونه حقيقة كما مر، والثانية: أن كل مراد من اللفظ يجب ان يستعمل لفظ فيه فيبطل
الاحتمال الثاني.
307

أو منفصلا أو غير لفظ.
وليس لاحد أن يقول: ان العموم إذا خص فلم يتناول غير ما كان يتناوله (1) *
بل ما تناوله في حال الخصوص ما تناوله في حال الاستغراق فكيف يكون
مجازا؟ (2).
وذلك انا لم نقل انه يصير مجازا لتناوله ما تناوله وانما صار مجازا لأنه لم
يتناول ما زاد عليه من الاستغراق فصار في ذلك كأنه استعمل في غير ما وضع له (3) *.
فان قيل: أليس الكلام إذا انضم بعضه إلى بعض تغير معناه ولا يكون ذلك
مجازا وذلك نحو الخبر (4) * إذا انضم إلى المبتدأ والحروف الداخلة على الجمل من
حرف شرط (5) * أو استفهام أو نفى أو تمن وما أشبه ذلك فقولوا في العموم أيضا
مثل ذلك إذا خص انه لا يصير مجازا بما قارنه من الدليل الذي اقتضى تخصيصه.
قيل لهم: أول ما في هذا ان الشبهة توجب أن لا يكون في الكلام مجازا
أصلا لأنه يقال: ان اللفظ وما دل على أنه مجاز كلاهما حقيقة فيما أريد به وهذا
واضح البطلان.
ثم إن هذه الأمثلة انما يمكن أن تكون شبهة لمن قال إذا خص بدليل لفظي
متصل لا يصير مجازا فاما إذا خص بدليل غير مقترن باللفظ أو بدليل منفصل وان
كان لفظيا فلا يكون ذلك نظيرا لهذه الأمثلة.
ونحن نجيب عن جميع ذلك ونفصل بينه وبين العموم.

(1) * أي ما لم يكن يتناوله.
(2) التبصرة: 123.
(3) * حاصله أن المراد بغير ما وضع له في تعريف المجاز ما يشتمل مغايرة الجزء الكل كما هو المتبادر،
فجزء ما وضع له كأنه مما لم يوضع له أصلا في دخوله في التعريف.
(4) * فإنه زاد في المبتدأ كونه مخبرا عنه.
(5) * فإنها زادت في الجملة معني الشرط، والمراد زادت فيها هذا ونقصت عن كونها إخبارا وعلي هذا القياس
الباقي.
308

اما ما ذكروه من الخبر إذا انضاف إلى المبتدأ فإنما كان كذلك (1) * لان المبتدأ
بانفراده لا يفيد شيئا بل يحتاج في الفائدة إلى الخبر الذي تكمل الفائدة به وجرى
ذلك مجرى بعض الاسم في أنه لا يفيد حتى يتكامل جميع حروفه.
ولا يقال: ان انضمام بعض الحروف إلى بعض لتكامل الفائدة مجاز وقبل
تكاملها يكون حقيقة. لان ذلك كله فاسد لان الفائدة انما تتم عند اخر حرف منها
فكذلك القول في المبتدأ والخبر وليس كذلك القول في العموم (2) * لان لفظ العموم
مستقل بنفسه ويفيد فائدته الذي وضع له ولا يحتاج إلى امر اخر وانما دخل عليه ما
اقتضى استعماله في غير ما وضع له ينبغي ان يحكم بكونه مجازا.
فاما الحروف الداخلة على الجمل فإنما تحدث فيها معنى من المعاني فتغير
معناها ان كانت خبرية ودخل عليها حرف الاستفهام أحدث فيها معنى الاستخبار
وكذلك لفظ المتمني وحروف الشرط وغيره لم يغير هذه الحروف احكام الجملة
من زيادة إلى نقصان أو نقل إلى غير ما وضع له فلا ينبغي أن يكون مجازا.
وليس كذلك ألفاظ العموم لأنها بعد التخصيص لا تفيد ما كانت تفيده قبل
التخصيص فينبغي ان يكون مجازا.
على أن هذا يوجب الا يكون قول القائل: (رأيت سبعا) ثم قال عقيب ذلك:
انى أردت رجلا شجاعا أو قال: (رأيت حمارا أو حائطا) ثم قال: أردت بليدا مجازا
لأنه قد وصل بالكلام لفظا دل به على مراده وجرى ذلك مجرى الحروف الداخلة
على الجمل حسب ما سئلنا في العموم سواء وهذا لا يقوله أحد.

(1) * يمكن منع كون المبتدأ مستعملا فيما زاد فيه من كونه مخبرا عنه لا بانفراد ولا مع الخبر، بل هو إنما يفهم
من التركيب الخبري.
(2) * حاصله أنه لم يزد في العموم معني من المعاني يكون لفظ العموم بالنسبة إليه كزاء زيد فإنه مستقل في
إفادة ما وضع له وفي إفادة كل جزء من أجزاء ما وضع له، فقصره على جزء منه لا يصيره بالنسبة إليه كزاء
زيد، فللمانع أن يجعله مناط الفرق.
309

وإذا لم يلزم ذلك فكذلك ما يلزم في العموم إذا خص بدليل متصل به أو
منفصل إذا كان لفظا.
فان تعاطوا الفرق بين ذلك فكل شئ أوردوه في ذلك أمكننا ان نورد مثله
فيما سئلنا عنه.
فاما ما به يصير العام خاصا: فهو قصد المخاطب لان اللفظ إذا كان موضوعا
للاستغراق فإذا أراد استعماله فيها وضع له يحتاج أن يقصد إلى ذلك وكذلك إذا أراد
أن يستعمله في بعض ما وضع له يحتاج إلى أن يقصد إلى ذلك وجرى ذلك مجرى
اللفظ الموضوع للامر في أنه يحتاج أن يقصد به ما وضع من استدعاء الفعل فإذا
أراد استعماله في التهديد أو النهي يحتاج إلى القصد إلى ذلك.
فإذا ثبت هذه الجملة فالتخصيص في الحقيقة يقع بالقصد لا بالأدلة الدالة
على ذلك من الكتاب أو السنة أو العقل لان هذه الأدلة للكشف عن غرض المتكلم
بالخطاب وهل قصد العموم أو الخصوص؟ وليست موجبة لذلك.
وانما قلنا ذلك لان التخصيص مضاف إلى المتكلم فيقال: انه مخصص
بخطابه فينبغي أن يكون وقع ذلك بشئ من فعله ولا يقع بالدليل الذي ربما كان من
فعل غيره وجرى ذلك مجرى قصده إلى استعمال اللفظ فيما وضع له في أن القصد
يفيد تعلقه فيما وضع له أو غير ما وضع له في المجاز دون الدليل الدال على ذلك.
وعلى هذا سقط قول من قال: ان من شأن التخصيص الا يقع الا بأمر متصل
بالخطاب مجاور له ولا يجوز أن يقع بالأدلة المنفصلة لان على هذا التحرير الذي
قلنا: ان التخصيص يقع بالقصد قد أجبنا إلى ما قاله فالقصد (1) مقترن بالخطاب غير
منفصل منه.
فاما الأدلة الدلالة على ذلك فلا يجب ذلك فيها لأنها قد تكون متصلة به وقد
تكون متقدمة عليه الا ترى ان أدلة العقل يخص بها الخطاب العام على بعض

(1) والقصد.
310

الوجوه ومع هذا فهي متقدمة لحال الخطاب وليست الأدلة الدالة على التخصيص
تجرى مجرى نفس التخصيص.
وقد يقال في الأدلة انها هي المخصصة وذلك مجاز والحقيقة ما قلناه وانما
يسوغ لهم ذلك من حيث يوصل بها إلى العلم بالخصوص فأطلق عليها انها
المخصصة وذلك مجاز على ما بيناه.
فاما الأدلة الدالة التي يعلم بها التخصيص فعلى ضربين:
أحدهما: ما يتصل بالخطاب من الكلام.
والاخر: ما ينفصل منه من الأدلة وما يتصل بالخطاب فينقسم أقساما:
منها: الاستثناء وله حكم نفرد له بابا (1).
ومنها: الشرط وله أيضا احكام سنبينها (2).
ومنها: تقييد الخطاب بالصفات ولذلك أيضا باب مفرد نذكره (3).
وما ينفصل من الخطاب من الأدلة فعلى ضربين:
أحدهما: دليل يوجب العلم من دليل العقل أو الكتاب أو السنة المقطوع
بها أو الاجماع.
وهذه الأدلة كلها لا خلاف بين أهل العلم في جواز تخصيص العموم بها وانما
قالوا ذلك لأنه لا يجوز القول بتكافؤ الأدلة فإذا كان العام دليلا على الاستغراق وما
دل على الخصوص دالا على تخصيصه فلابد من تخصيص العام به والا أدى إلى
اسقاط أحد الدليلين وابطاله أو ابطالهما معا والعدول إلى الاخر وكل ذلك فاسد.
والضرب الاخر: وهو الذي لا يوجب العلم وهو على ضربين.
خبر واحد وقياس.

(1) راجع كلام المصنف في الفصل الوارد بعنوان (في ذكر جمل من أحكام الاستثناء) صفحة 313.
(2) راجع كلام المصنف في الفصل الوارد بعنوان (في ذكر جملة من أحكام الشرط، وتخصيص العموم به)
صفحة 326.
(3) ألحق المصنف فيما بعد قسما رابعا وهو التخصيص بتعليق الحكم بالغاية، انظر صفحة 327.
311

فاما الخبر الواحد فنذكر ما عندنا في ذلك في باب مفرد (1).
واما القياس فلا يجوز العمل به أصلا لا في تخصيص العام ولا غيره من
الاحكام ونحن ندل على ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ومن خالفنا من الفقهاء الذين أوجبوا العمل بالخبر الواحد والقياس اختلفوا في
جواز تخصيص العموم به وسنذكر اختلافهم من ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وهذه جملة كافية في هذا الباب.

(1) راجع كلام المصنف في الفصل الوارد بعنوان (في ذكر تخصيص العموم بأخبار الآحاد) في صفحة 343.
312

فصل [7]
(في ذكر جمل من احكام الاستثناء (1))
ذهب المتكلمون بأجمعهم والفقهاء المحصلون إلى أن من شرط الاستثناء أن
يكون متصلا بالكلام ولا يجوز انفصاله عنه (2).

(1) في هذه المسالة عشرة آراء وهي:
1 - شرط الاستثناء أن يكون متصلا، وأنه لا يجوز التخصيص بالمنفصل،
2 - جواز التخصيص بالمنفصل مطلقا، وهذا القول منسوب لابن عباس.
3 - يجوز التخصيص بالمنفصل إلي شهر، وهذا القول ثان منسوب لابن عباس.
4 - جواز التخصيص بالمنفصل إلي سنة، وهذا رأي ثالث منسوب لابن عباس.
5 - أنه يصح ما دام في المجلس، وهذا رأي أبي سعيد البصري وعطاء.
6 - الجواز إلي أربعة أشهر، وهو قول سعيد بن جبير.
7 - الجواز إلي سنتين، وهو رأي مجاهد.
8 - جواز الانفصال ما دام مستمرا في كلامه ولم يقطعه بكلام آخر.
9 - جواز الانفصال إذا نوي المستثني في الكلام.
10 - جواز الانفصال مختص بالله تعالي دون العباد.
انظر: «المستصفي 165: 2، الأحكام 421: 2، التبصرة: 162 و 163، روضة الناظر: 132، ميزان
الأصول 456: 1 - 455، المعتمد 242: 1، المنخول: 157».
(2) هذا الرأي للجمهور الأكبر من الأصوليين وقد نقل فيه الاجماع، حيث نقل الشريف المرتضى عن
المتكلمين والفقهاء، والشيخ الطوسي عن المتكلمين، والغزالي عن أهل اللغة، والبزدوي عن الفقهاء،
313

وحكى عن ابن عباس انه كان يذهب إلى أنه يجوز تأخيره عن حال الخطاب
وذلك مستبعد من قوله (1).
والذي يدل على صحة ما قلناه:
أولا: ان أهل اللغة لا يعدون ما انفصل عن الكلام استثناء كما لا يعدون ما
تقدم كذلك فلو جاز لاحد أن يخالف في المتأخر فيسميه استثناء جاز لغيره أن
يخالف في المتقدم فيسميه استثناء!
ويدل أيضا: على أن الاستثناء متى انفصل عن حال الخطاب لا يفيد أصلا
فكيف يجوز أن يكون استثناء من الكلام المتقدم؟
فان قالوا: الاستثناء إذا تأخر ولا يستقل بنفسه فلا يفيد فإنه يجوز أن يقرن به
من الكلام ما يدل على أنه متعلق بالكلام الأول فيفيد ويتعلق به.
قيل له: إذا كان لا يفيد بنفسه وانما يتعلق بالكلام الأول بلفظ يقترن به فقد
صار المخصص للكلام الأول اللفظ الذي اقترن بالاستثناء وإذا كان كذلك فلا معنى
للاستثناء وكان استعماله لغوا.
وليس لهم أن يقولوا: ان القائل إذا قال: (رأيت القوم) ثم قال بعد زمان: (الا
زيدا) وقال أردت بهذا استثناؤه من اللفظ الأول أفاد انه غير داخل في الجملة الأول ولو لم يذكر الاستثناء أصلا واقتصر على هذا القول المقترن به لما أفاد ذلك

و البيضاوي عن الأدباء.
انظر: «المستصفي 165: 2، الإبهاج 89: 2، المتعمد 242: 1، شرح اللمع 399: 1، الذريعة 244: 1،
ميزان الأصول 456: 1».
(1) نسب لابن عباس - رحمه الله - ثلاثة آراء: الجواز مطلقا، والجواز إلي شهر، والجواز إلي سنة [راجع
المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 313]، وأما استبعاد المصنف نسبة هذا الرأي لابن عباس فإنه
في محله، وتابعه آخرون حيث نقل (شرح اللمع: 1 / 399) عن الباقلاني قوله: «هذه الحكاية بعيدة عنه مع
فصاحته وبلاغته» وكذلك استبعده أبو إسحاق الشيرازي والغزالي وغيرهم. انظر تعليقة شارح كتاب
(التبصرة) في هامش صفحة 162.
314

فعلم بذلك ان التخصيص يقع بلفظ الاستثناء وانما يعلم بالكلام المقترن به تعلقه
بالأول.
وذلك أن هذا متى كان على (1) * ما ذكر يفيد غير أنه لا يحسن من وجهين:
أحدهما: ان بيان تخصيص العموم لا يجوز ان يتأخر عن حال (2) * الخطاب
على ما نبينه فيما بعد وإذا لم يجز ذلك لم يحسن هذا.
والثاني: انه يؤدي إلى أنه لا يفهم بشئ من الكلام امر أصلا ولا باخبار النبي
صلى الله عليه وآله وسلم إذا أخبر عن نفسه أو اخبار الله تعالى إذا أخبر عما يفعله
لأنا لا نأمن أن يأتي بعد ذلك استثناء يدل على أنه أراد المجاز وهذا يؤدى إلى ما
قدمناه من أن لا يفهم بالكلام شئ أصلا وذلك فاسد.
على أن الذي ذكروه لو حسن تأخير الاستثناء لحسن تأخير خبر المبتدأ (3)
مثلا أن يقول القائل اليوم: (زيد) ويقول غدا: (قائم) ويقرن به من الكلام ما يدل على أنه
متعلق بما تكلم به أمس.
فان ارتكبوا ذلك كان قبحه معلوما وان راموا الفصل لم يجدوه.
وإذا ثبت ما قلناه عن وجوب اتصاله بالكلام فمن حقه أن يخرج من الكلام ما
لولاه لوجب دخوله تحته وقد دللنا على ذلك في باب (ان (4) العموم له صيغة
بما
بيناه من أن الاستثناء في الاعداد يفيد ذلك فينبغي ان يكون ذلك حقيقة واستوفينا
الكلام فيه.
فاما استثناء الأكثر من اللفظ والأقل:
فذهب أكثر المحصلين من المتكلمين والفقهاء وأهل اللغة إلى أن استثناء

(1) * كأنه إشارة إلي أنه يمكن دعوى أن احتياج أجزاء الكلام في ربط بعضها إلي بعض إلي كلام آخر باطل
لغة.
(2) * إنما يفيد في المقام عدم الجواز لغة.
(3) خبر المبتدأ عن المبتدأ.
(4) في الأصل: في باب العموم.
315

الأكثر من اللفظ يجوز (1).
وقال بعضهم: انه انما يحسن استثناء الأقل فاما استثناء الأكثر فلا يجوز لان
ذلك لم يوجد مستعملا (2) والذي يدل على صحة ذلك:
ان الاستثناء تخصيص للكلام الأول فكما يجوز أن يخصص اللفظ أو يخرج
منه الأكثر فكذلك حكم الاستثناء لأنه بعض أدلة التخصيص.
وأيضا: إذا كان من حقه ان يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته فلا
فرق بين أن يخرج الأكثر والأقل في أنه على حد واحد.
فاما قول من خالف في ذلك لم يستعمل (3) فلا يبطل ما قلناه لأنه
ليس كلما قل استعماله لم يحسن ولو لزم ذلك للزم أن لا يحسن استثناء النصف من
الكلام وما يقارب النصف لان ذلك أيضا غير مستعمل وذلك لا خلاف في جوازه.
واما (4) الاستثناء من غير الجنس فلا يمكن دفع استعماله لأنهم قالوا: (ما في
الدار أحد الا وتد) وقالوا: وبلدة ليس بها أنيس * الا اليعافير والا العيس (5)

(1) وهو مذهب الجمهور، حيث جوزوا الاستثناء وإن كان المستثني أكثر من نصف ما يتناوله المستثني منه
كقوله لفلان (على عشرة دراهم إلا ثمانية). و ممن اختار هذا الرأي جمهور الشافعين كأبي إسحاق الشيرازي،
و إمام الحرمين الجويني، والغزالي، والآمدي، و غيرهم، وابن السبكي، وابن الحاجب، وأبي الحسين
البصري، وابن حزم الأندلسي، وجميع أهل الظاهر، وفخر الرازي وأتباعه، والبيضاوي، وغيرهم.
انظر: «التبصرة: 168، المستصفي 175: 2، المنخول: 158، الإحكام 275: 2، الإبهاج 90: 2، شرح
اللمع 404: 1، روضة الناظر: 245، المعتمد 244: 1، الإحكام 425: 4، ميزان الأصول 459: 1»
(2) إلي هذا القول ذهب أحمد بن حنبل، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وابن درستويه - من اللغويين - وغيرهم،
و هؤلاء لهم تفصيل في المقام وهو منع الاستثناء إن كان المستثني أقل من النصف، وتجويزه في النصف،
راجع المصادر الواردة في التعليقة السابقة.
(3) التبصرة: 169.
(4) فأما.
(5) من الشواهد المشهورة في الشعر العربي حيث استشهد بها اللغويون والنحويون والمفسرون والشعراء، وقد
316

و (وتد) ليس من أحد ولا (اليعافير) من جملة الأنيس وغير ذلك.
غير أنه وان كان مستعملا فإنه مجاز وذهب قوم إلى أنه حقيقة (1).
والذي يدل على ما قلنا: انا قد بينا ان من حق الاستثناء أن يخرج من الكلام ما
لولاه لوجب دخوله تحته ونحن نعلم أن القائل لو قال: (ما في الدار أحد) ولم يستثن
لم يفهم من ذلك الا نفي العقلاء ولا يفهم منه نفي الأوتاد فإذا قال: (الا وتد) فينبغي
الا يكون استثناء حقيقة وتكون مجازا لأنه لم يدخل في الكلام الأول (2) * وكذلك
لو قال: (وبلدة ليس بها أنيس) وسكت لم يفهم من ذلك الا أنه ليس بها انسان ولم
يفهم من ذلك أنه ليس بها بهائم. فكذلك إذا قال: (الا اليعافير والا العيس) يجب أن
يكون مجازا وانما حسن عندهم هذا النوع من الاستثناء لأنه فيه معنى من الكلام
الأول لأنه إذا قال: (ما في الدار أحد) أفاد انه ليس فيها أحد ثابت فلما كان الوتد
ثابتا في الدار حسن أن يستثنى من الثبوت لا من لفظ أحد.

ورد ذكره في بابين من أبواب كتاب سيبويه (باب الإضمار وباب الاستثناء) وكذلك استشهد بها الفراء
و الزمخشري في تفسيريهما. والبيتان من رجز لجران العود عامر بن الحارث وأوله.
(قد ندع المنزل يا لميس * يعتس فيه السبع الجروس
الذئب أو ذو لبد هموش * وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس * وبقر ملمع كتوس
كأنما هن الجواري الميس)
و (البلدة): القطعة من الأرض، أو مطلق الأرض و (الأنيس): من يونس به من الناس، و (اليعافير): جمع
يعفور وهو ولد الظبية، وولد البقر الوحشية أيضا، أو تيس الظباء. و (العيس): إبل بيضاء يخالط بياضها شقرة.
و جران العود لقب شاعر من بني ضنة بن نمير بن عامر بن صعصعة، واسمه عامر بن الحارث بن كلفة
[أو كلدة]. خزانة الأدب: 10: 20 - 15.
(1) ميزان الأصول 458: 1.
(2) * يعني علاقة المجاز هنا المشابهة لدخول المستثني في معني من معاني الكلام الأول عام أي جزء من
أجزاء الجملة الواقعة قبل الاستثناء ولو جزاء مقدرا فكأنه لم يلاحظ خصوصية المذكور وجعل كالعدم
و جعل هذا الجزء العام مستثني منه، هذا في مثال النفي كما في «ليس في الدار أحد إلا وتد» ظاهر.
317

وكذلك قالوا في قولهم: (وبلدة ليس بها أنيس) انه نفى كون الناس مقيمين
فيها فلما كانت اليعافير والعيس مقيمة فيها حسن أن يستثنيهما من الإقامة.
وقال قوم: انه لم يرد بالأنيس الناس وانما أراد ما يؤنس به ويسكن إليه ولما
كانت اليعافير والعيس مما يسكن إليها على بعض الوجوه ويستأنس بها حسن أن
يستثنى منها وعلى هذا الوجه فالاستثناء ما وقع الا من جنسه.
فاما قوله تعالى: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون الا إبليس) (1) فقد قيل فيه
وجهان:
أحدهما: ان إبليس كان من جملة الملائكة (2) * الا انه عصى بترك السجود
فحسن أن يستثنيه من جملة الملائكة هذا على مذهب من جوز على جنس الملائكة
المعاصي.
ومن لم يجوز ذلك عليهم قال: انما استثناه لأنه كان أيضا مأمورا بالسجود كما أنهم
كانوا مأمورين كذلك فاستثناه من جملة المأمورين لا من جملة الملائكة
ويكون ذلك حملا على (3) * المعنى (4).
والوجهان جميعا قريبان.
فاما قوله: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ) (5) فقد قيل فيه: ان
المؤمن لا يقتله الا خطأ لأنه لو قتله متعمدا لم يكن مؤمنا لان الفسق يخرج من
اطلاق اسم الايمان عليه.

(1) ص: 73 و 74.
(2) * بناء على أن قسما منهم يسمي بالجن ويصير الاستثناء متصلا.
(3) * فكأنه قيل: فسجد المأمورون بالسجود كلهم أجمعون إلا إبليس، ولا يخفي أن الاستثناء يصير بهذا
التوجيه متصلا كما يقتضيه السياق.
(4) انظر: «المعتمد في أصول الفقه 244: 1، ميزان الأصول 458: 1».
(5) النساء: 92.
318

ومن قال: الفسق (1) لا يخرج من الايمان قال: قوله (الا خطأ) معناه بمعنى
لكنه ان قتل خطأ كان حكمه كذا وكذا (2).
وكذلك قوله: (لا عاصم اليوم من امر الله الا من رحم) (3) منقطع عن الأول
لان (من رحم) معصوم وليس بعاصم يدخل في الكلام الأول.
فاما من خالف في ذلك وحمل الاستثناء على الاقرار وقال: كما يحسن أن
يستثنى في الاقرار (4) * من غير جنس ما أقر به فكذلك في الاخبار وغيرها (5).
فقوله يبطل لان هذا طريقة القياس وليس يجوز أن تثبت اللغة واحكام
ألفاظها بالقياس.
ثم الصحيح في الاقرار ما نقوله في الاستثناء انه لا يحسن أن يستثنى فيه من
غير جنسه فان دل دليل من اجماع وغيره على خلافه حكمنا بجوازه وعلمنا انه
استثناء منقطع كما قلناه فيما تقدم من الألفاظ.
فاما إذا تعقب جملا كثيرة فإلى أيها ترجع؟ فسنذكره في باب مفرد انشاء الله وحده.

(1) بأن الفسق.
(2) المعتمد في أصول الفقه 244: 1.
(3) هود: 43.
(4) * يعني إذا قال: (له على عشرة إلا دينارا) لا يعد إقرارا بتسعة دنانير ويكلف تفسير العشرة، ولو كان
المنقطع مجازا لوجب حمله على أن المراد (له على عشرة دنانير إلا دينارا) فيعد إقرار بتسعة دنانير، وكذا لو
قال: (له على عشرة دراهم إلا ثوبا) يعد اقرارا بالعشرة دراهم ولا ينقض منه شئ بسبب الاستثناء، ولو كان
مجازا في المنقطع لوجب حمله على قيمه ثوب فينقص من العشرة دراهم شئ.
(5) المعتمد في أصول الفقه 245: 1.
319

فصل [8]
(في أن الاستثناء إذا تعقب جملا كثيرة
هل يرجع إلى جميعها أو إلى ما يليه؟ (1))
ذهب الشافعي وأصحابه إلى الاستثناء إذا تعقب جملا كثيرة وكان يصح

(1) لا خلاف بين الأصوليين في عدة موارد من الاستثناء حيث اتفقوا على مرجع الاستثناء وهي:
1 - اتفقوا على أنه لا نزاع في رجوع الاستثناء إلي الجملة الأخيرة.
2 - اتفقوا على أنه لا ينبغي النزاع في رجوع الاستثناء إلي الجملة الأولي إذا دل الدليل على اختصاصه
بالأولي دون بقية الجمل المعطوفة.
3 - واتفقوا أيضا على رجوع الاستثناء إلي جميع الجمل المعطوفة، وذلك بدلالة الدليل عليه كما في
قوله تعالي: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو
تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب
عظيم إلا الذين تابوا) الآية.
4 - واتفقوا أيضا على رجوع الاستثناء إلي الجملة الأخيرة فقط وذلك لدلالة الدليل.
و أما موضوع الخلاف فينحصر فيما إذا أمكن عود الاستثناء إلي الجميع وكان يصح أن يرجع إلي كل
واحدة من الجمل بانفرادها مع عدم وجود قرينة - حالية أو مقالية - أو دليل تدلان على مرجع الاستثناء
و أقوالهم كما يلي:
1 - رجوع الاستثناء إلي الجميع: وهذا مذهب الجمهور، كالشافعي وأتباعه كأبي إسحاق الشيرازي
و غيره، وهو مختار أحمد بن حنبل، وابن حزم الأندلسي - من الظاهرية - والشيخ الطوسي من الإمامية.
320

أن يرجع إلى كل واحدة منها بانفرادها يجب أن يرجع إليها كلها (1).
وذهب أبو الحسن الكرخي وأكثر أصحاب أبي حنيفة إلى أنه يرجع إلى ما
يليه من المذكور (1).
وقال سيدنا المرتضى رحمه الله (2): انه يرجع إلى ما يليه قطعا ويجوز مع ذلك
رجوعه إلى ما تقدمها من الجمل ويقف ذلك على البيان (3).
ويقوى في نفسي المذهب الأول والذي يدل على ذلك:
ان الكلام إذا عطف بعضه على بعض بالواو الموضوعة للجمع صار كأنه مذكور
بلفظ واحد الا ترى انه لا فرق بين أن يقول القائل: (رأيت زيدا وعمرا وخالدا) وبين

2 - رجوع الاستثناء إلي الجملة الأخيرة ثبوتا وإلي ما قبل الأخيرة أو الأولي اثباتا وبدلالة الدليل: نسب
هذا الرأي لأصحاب أبي حنيفة، ونسبه آخرون لأهل الظاهر (لكنه خطأ فإن ابن حزم الأندلسي اختار
المذهب الأول ورجوع الاستثناء إلي الجميع ولم ينسب رأيا آخر لأصحابه)، وهو مختار أبي الحسن
الكرخي.
3 - التوقف والتماس الدليل في تعيين مرجع الاستثناء: وهذا مذهب الأشعرية، والقاضي أبي بكر
الباقلاني، والغزالي، والشريف المرتضى (لكنه يذهب إلي القول بالاشتراك اللفظي وتجويز رجوعه إلي
التجميع وإلي الجملة الأخيرة).
و بناء على مذهب الوقف فقد فصل جماعة من الأصوليين كأبي الحسين البصري، والغزالي، والقاضي
عبد الجبار، وبعض الأشعرية، وابن الحاجب والآمدي وغيرهم بعض التفصيلات.
انظر: «التبصرة: 173 - 172، الأحكام: 4 / 430، الاحكام للآمدي: 2 / 278، الإبهاج: 2 / 95، روضة
الناظر: 227 - 226، ميزان الأصول 460: 1، المستصفي 174: 2، المنخول: 160، أصول السرخسي 45: 2
- 44، المعتمد 245: 1، الذريعة 249: 1، شرح اللمع 407: 1».
(1) انظر ذيل التعليقة رقم (1) صفحة 320.
(2) قدس الله روحه.
(3) قال الشريف المرتضى (الذريعة 249: 1): «والذي أذهب إليه أن الاستثناء إذا تعقب جملا وصح رجوعه
إلي كل واحدة منها لو انفردت، فالواجب تجويز رجوعه إلي جميع الجمل - كما قال الشافعي - وتجويز
رجوعه إلي ما يليه - على ما قال أبو حنيفة - وألا يقطع على ذلك إلا بدليل منفصل، أو عادة، أو إمارة، وفي
الجملة لا جوز القطع على ذلك الشئ يرجع إلي اللفظ». وانظر أيضا ذيل التعليقة رقم 1 صفحة 320.
321

أن يقول. (رأيتهم) بلفظ يشملهم فإذا صح ذلك فالاستثناء لو ذكر عقيب الجملة
المتناولة لجميعهم كان متعلقا بهم فكذلك إذا ذكر عقيب الجمل المعطوف بعضها
على بعض لأنها في حكم الجملة الواحدة.
ويدل أيضا على ذلك: ان الشرط إذا تعقب جملا كثيرة ولا خلاف في أنه يرجع
إلى جميعها والعلة الجامعة بينهما ان كل واحد منهما لا يستقل بنفسه ويحتاج إلى
تعليقه بغيره ليفيد فلما اتفقا في هذا الحكم وجب اتفاقهما في وجوب رجوع كل
واحد منهما إلى ما تقدم.
فان قيل: انما وجب ذلك في الشرط لان له صدر الكلام فهو وان ذكر اخر
الكلام فكأنه مذكور (1) في أوله فالجمل كلها معطوفة عليه
وهو داخل عليها ووجب تعلقه بها كلها فكذلك (2) حكمه إذا تأخر.
قيل لهم: لا نسلم ان له صدر الكلام حتى لا يجوز أن يؤخر بل الموجود
بخلافه وانما يستعمل تارة في صدر الكلام وتارة في آخره وليس مخالفته للاستثناء
في جواز تقدمه بموجب مخالفته في كل وجه الا ترى انه قد خالف الاستثناء أيضا
في أنه لا يدخل الا على أفعال مستقبلة أو ما يقدر فيها الاستقبال وليس كذلك
الاستثناء فإنه يدخل على ما كان ماضيا أو مستقبلا أو يكون اسما وليس فيه معنى
الفعل أصلا وكل ذلك لا يصح في الشرط ولم يجب بذلك أن يكون (3) حكم
الاستثناء حكمه فكذلك فيما قلناه.
ويدل أيضا على ما ذهبنا إليه: ان الاستثناء بمشية الله (4) * إذا تعقب جملا كثيرة
وجب رجوعه إلى جميعها فكذلك يجب أن يكون حكم الاستثناء الاخر مثله
والعلة الجامعة بينهما قدمناها من افتقار كل واحد منهما إلى ما يتعلق به وكونه غير

(1) في الأصل: مذكورا.
(2) وكذلك.
(3) أن لا يكون.
(4) * هو (إلا أن يشاء الله) وقد يطلق على (إن شاء الله).
322

مستقل بنفسه.
واستدل من خالف على صحة ما ذهب إليه بان قال:
ان الاستثناء انما وجب تعليقه بما تقدم لأنه لا يستقل بنفسه ولو استقل
بنفسه لما وجب ذلك فيه فإذا علقناه بما يليه فقد أفاد واستقل بنفسه فلا معنى
لرده إلى جميع ما تقدم (1) *.
والجواب عن ذلك: ان هذا أولا ينتقض بالشرط والاستثناء بمشيئة الله لأنهما
انما علقا بما تقدم لأنهما لا يستقلان بأنفسهما ومع هذا لا يجب تعليقهما بما
يليهما فحسب دون ما تقدم فكذلك (2) القول في الاستثناء.
ثم إذا وجب تعليقه بما تقدم لكونه غير مستقل بنفسه فلم صار (3) * بان يعلق
بما يليه من أن يعلق بما قبله؟ وإذا لم يكن هناك ما يخصصه بما يليه وجب
تعليقه بجميع ما تقدم لفقد الاختصاص.
واستدلوا أيضا بان قالوا: قد ثبت ان الاستثناء من الاستثناء لا يرجع إلا إلى ما
يليه ولا يرجع إلى الجملة الأولى فكذلك القول في الجمل الكثيرة يجب أن يكون
حكمه ذلك الحكم في رجوعه إلى ما يليه.
والجواب عن ذلك من وجوه:
أحدها: انا انما أوجبنا في الجمل الكثيرة أن يرجع إلى جميعها لما كانت
معطوفة بعضها على بعض بواو العطف التي يوجب الاشتراك ويصير الجمل الكثيرة
في حكم الجملة الواحدة على ما بيناه وليس هذا موجودا في الاستثناء من
الاستثناء لأنه ليس هناك ما يوجب اشتراك الجملة الثانية للجملة الأولى فلا يجب
أن يرجع إلى الجملة الأولى.

(1) * حاصله: أن التعليق بالغير خلاف الأصل، فليقتصر فيه على قدر الضرورة.
(2) وكذلك.
(3) * حاصله: منع كون التعليق بالغير خلاف الأصل.
323

والثاني: انه إنما لم يحسن ذلك لأنه لا يفيد شيئا لان القائل إذا قال: (لزيد
عندي عشرة الا ثلاثة) فقد أقر له بالسبعة فإذا قال بعد ذلك: (الا واحدا) فان رددناه
إلى الجملتين معا لكان يجب ان ينقص من الثلاثة واحدا فيصير المستثنى منه
ثمانية وكان يجب ان ينقص من الجملة الأولى أيضا واحدا فيرجع إلى السبعة فلا
يفيد الا ما أفاد الاستثناء الأول ولا يكون لدخول الاستثناء الثاني فائدة.
قلنا (1): انه لابد أن يكون استثناء من الجملة التي يليها فيصير اقرارا بالثمانية
ويكون ذلك مفيدا.
وليس لاحد ان يقول: هلا رددتموه إلى الجملة الأولى فحسب وجعلتم كأنه
أقر بستة.
وذلك أن هذا لم يعتبره أحد لان أحدا لم يقل: انه يرجع إلى ما تقدم ولا
يرجع إلى ما يليه ومع امكان أن يرجع إليه لان الناس بين قائلين: قائل يقول: انه
يرجع إلى ما يليه وهو مقصور عليه وقائل يقول: يرجع إليهما وليس هاهنا من
يقول: انه يرجع إلى ما تقدم ولا يرجع إلى ما يليه وذلك باطل بالاتفاق.
ولأن ذلك لو كان مردودا إليها لوجب دخول واو العطف (2) * فيه فيقول: (له
عندي عشرة الا ثلاثة والا واحدا) حتى يكون اقرارا بالستة.
وقد أجاب بعض من نصر المذهب الذي اخترناه عن شبهة الاستثناء من
الاستثناء بأن قال (3): الاستثناء من الايجاب نفى ومن النفي ايجاب ومحال أن
يكون الشئ الواحد مثبتا ومنفيا.
وهذا ليس بصحيح وذلك أن المحال هو أن ينفى الشئ عن الحد الذي

(1) في الأصل: قولنا.
(2) * لأن تقدير واو العطف في موضع الاشتباه غير جائز آو خلاف الظاهر.
(3) قال الشريف المرتضى (ره) (الذريعة 258: 1): «ووجدت بعض من تكلم في أصول الفقه من المجوزين
المحققين يقول... إن الاستثناء الثاني لو رجع إليهما، لصار نفيا واثباتا وذلك مستحيل، لأن الاستثناء من
الإثبات نفي، ومن النفي إثبات».
324

أثبت وذلك ليس بموجود هاهنا لان الاستثناء من الجملة الأولى التي هي مثبتة
نفى والاستثناء من الجملة المنفية اثبات وهما جملتان متباينتان فلا تنافى بين ذلك
فيهما.
والمعتمد ما قلناه من الوجهين (1).
وقد استدل كل واحد من الفريقين (2) بأشياء وجدوها موافقة لما يذهبون إليه
اما من رجوع الاستثناء إلى ما يليه أو رجوعه إلى جميع ما تقدم.
[و] لا يمكن الاعتماد عليها لان لقائل أن يقول: ان ذلك انما علم بدليل اخر
غير الوجود فالمعول على الوجود (3) * لا يمكن لأنه يعارض الوجود لمخالف له
وهذه شبهة من خالف وقال بالوقف في ذلك على ما قلناه فعلم بذلك ان المعول
على ما قلناه.

(1) انظر استدلال المصنف بقوله: «والجواب عن ذلك من وجوه: أحدهما... والثاني» في صفحة 323 و 324.
(2) لاحظ أقوالهم واستدلالاتهم في المصادر المذكورة ذيل التعليقة رقم 1 صفحة 320.
(3) * لأن الموافقة إنما تسلم فيما فيه دليل، وليس الأصل في الإطلاق الحقيقة - كما مر -، فالمعول أي
التعويل، على الوجود أي وجدان الاستعمال فيما يوافق مذهبنا، لا يمكن لإمكان المنع المذكور.
325

فصل [9]
(في ذكر جملة من احكام الشرط وتخصيص العموم به) (1)
اعلم أن من حكم (2) * الشرط الا يدخل الا على المنتظر اما لفظا أو تقديرا لان
ما وجد مما قد قضى أو وجد في الحال لا يصح دخول الشرط فيه.
ومن حقه أن يخص المشروط الا أن يقوم دليل على أنه دخل للتأكيد (3)
فيحمل عليه ويخرج في المعنى من أن يكون شرطا.
فاما ما يخص للشروط فنحو قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا
صعيدا) (4) ونحو قوله: (فمن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا) (5).
ولا فرق بين أن يكون الشرط متقدما أو متأخرا في أنه يخصص المشروط.

(1) إن الشرط لا يخصص العموم من ناحية تأثيره في تقليل ونقصان عدد المشروط كالاستثناء، وانما يخصص
المشروط بشكل آخر وهو الأحوال فإن قول القائل: (أكرم العلماء إن دخلوا الدار) يعمم الحكم لجميع
العلماء، ولكن يخصص إكرامهم بحال دخول الدار لا مطلقا.
(2) * في الذريعة: «من حق الشرط»، والمراد من شأنه والغالب فيه، لأن الماضي لا يخصه في محقق الوجود،
بل قد يكون محقق العدم كقوله تعالي: «لو علم الله فيهم لأسمعهم»، وقد يكون مشكوكا فيه كقولك: «إن
كان وجد أمس في الدار دخان وجد نار فيها».
(3) كان يقول: (أكرم القوم أبدا، ان استطعت).
(4) النساء: 43.
(5) المجادلة: 4.
326

وذهب النحويون إلى أنه متى تأخر فالمراد به المتقدم لان له صدر الكلام.
ويقوى في نفسي انه لا فرق بين تقدمه وتأخره ولا يمتنع أن يجعل الشرط
الواحد شرطا في أشياء كثيرة كما لا يمتنع أن يكون الشرط الواحد مشروطا
بشروط كثيرة وذلك مثل قول القائل: (من دخل داري واكل طعامي وشرب
شرابي فله درهم) فإنه يستحق الدرهم إذا دخل الدار واكل وشرب فاما بواحد
منها فلا يستحق ذلك.
وكذلك يصح أن يقول: (ان دخلت الدار فلك خلعة ودراهم وطعام) فإنه متى
دخل استحق جميع ذلك.
فتارة يكون الشرط واحد والمشروط أشياء وتارة يكون الشرط أشياء
والمشروط واحد وكل ذلك جائز.
وقد الحق بهذا الباب تعليق الحكم بغاية لأنها تصير بمنزلة الشرط في ثبوت
ذلك أو نفيه وذلك نحو قوله: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) (1) لأنه جعل تعالى نفى التطهير
شرطا في حظر قربهن ووجوده مبيحا لذلك.
ونحو قوله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر) إلى قوله: (حتى
يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (2) فجعل اعطاء الجزية حدا يجب عنده
الكف عن قتالهم وزواله شرطا في ثبوت القتل.
وكذلك قوله: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود
من الفجر) (3) فجعل طلوع الفجر حدا يجب عنه الكف عن الطعام والشراب لمن
أراد الصوم وعدمه مبيحا لذلك.
ونظائر ذلك كثيرة.

(1) البقرة: 222.
(2) التوبة: 29.
(3) البقرة: 187.
327

وقد يجعل للحكم الواحد غايتان وأكثر وقد يجعل غاية واحدة لاحكام كثيرة
كما قلناه في الشرط سواء.
والشرط والغاية جميعا يدخلان في جميع احكام الافعال من واجب وندب
ومباح فينبغي أن يجرى الكلام على ما قلناه (إن شاء الله تعالى) (1).

(1) زيادة من النسخة الثانية.
328

فصل [10]
(في ذكر الكلام في المطلق والمقيد)
التقييد يخص العام ويخص المطلق الذي ليس بعام فمثاله تخصيصه للعام
قول القائل: (من دخل داري راكبا أكرمته) و (لقيت الرجل الاشراف).
فقوله: (راكبا) خص لفظة (من) لأنه لو لم يذكره لوجب عليه اكرام كل من
يدخل داره سواء كان راكبا أو ماشيا وكذلك لو لم يقيد لفظة (الرجال) بالاشراف
لكان متناولا لجميع الرجال سواء كانوا أشرافا أو غير اشراف.
وأما تخصيصه المطلق وان لم يكن عاما فمثل قوله تعالى: (فتحرير رقبة
مؤمنة) (1).
فقوله: (مؤمنة) قد خص (رقبة) لأنه لو لم يكن يذكر ذلك لكان يجوز تحرير أي رقبة
كانت سواء كانت مؤمنة أو غير مؤمنة.
وكذلك قوله: (شهرين متتابعين) (2) لأنه لو لم يذكر ذلك لكان يجوز متتابعين
وغير متتابعين.

(1) النساء: 92.
(2) النساء: 92.
329

والتقييد (1) لا يخلوا من أن يكون متصلا بالمطلق أو منفصلا منه (2) *.
فان كان متصلا فلا خلاف في أنه يخص المطلق.
وإذا كان منفصلا فلا يخلو من أن يكون ما أطلق في موضع هو بعينه (3) * الذي
قيد في موضع اخر أو غيره.
فان كان هو هو بعينه فلا خلاف أيضا في أنه يجب تخصيصه به.
وان كان غيره فلا يخلو من أن يكون من جنسه أو من غير جنسه.
فإن كان من غير جنسه فلا خلاف أيضا في أنه لا يجب تخصيصه به وأنه
ينبغي أن يحمل المطلق على اطلاقه ويحمل المقيد على تقييده ومثال (4) ذلك أن
يرد تحرير الرقبة مقيدا بالايمان في كفارة قتل الخطأ ويرد مطلقا في باب النذر أو

(1) يقوم المصنف في هذه التقسيمات بذكر أربعة أقسام من المطلق الذي لحقه المقيد، واتفق الأصوليون في
حكمه، ثم يذكر قسما خامسا اختلفوا فيه، وهذه الصور الخمسة هي:
1 - إذا كان المقيد متصلا بالمطلق، فلا خلاف في أنه تقيد المطلق.
2 - إذا كان المقيد منفصلا عن المطلق وكان مخالفا لحكمه ومن غير جنسه، فإن التقيد لا يتعدى إلي
المطلق بل يبقي المطلق على إطلاقه.
3 - المقيد المنفصل إذا كان قد سبق له تقييد مطلق مشابه للحكم المطلق، ففي هذه الصورة لا خلاف أنه
يجب تقييده.
4 - المقيد المنفصل إذا خالف حكم المطلق وكان من جنسه في مواضع أخرى مقيدا ومطلقا، فلا
خلاف أنه لا ينبغي أن يقيد المطلق.
5 - المقيد المنفصل إذا خالف حكم المطلق وكان من جنسه، وكان قد وجد من جنسه في مواضع
أخرى ما هو مقيد فحسب كقوله تعالي في آية الظهار (المجادلة: 2) (والذين يظاهرون من نسائهم ثم
يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) فإن «الرقبة» مطلقة في هذا الحكم ولكنها وجدت مقيدة في مواضع
أخرى ككفارة قتل الخطأ.
و قد اختلف الأصوليون في حكم هذا المقيد على أربعة أقوال رئيسية.
(2) * المراد بالاتصال أن لا يرد إلا مع التقييد، وبالانفصال أن يرد مرة مقيد به ومرة بدون تقييد به.
(3) * بأن يتحدا في جميع الوجوه إلا الاطلاق والتقييد.
(4) بيان.
330

العتق المتبرع به فان كل واحد منهما ينبغي أن يحمل على ظاهره على ما بيناه.
وان كان من جنسه فلا يخلو من أن يكون من جنسه في موضع اخر مقيدا
فحسب أو يكون في موضع مقيدا وفي موضع اخر مطلقا.
فان وجد من جنسه مطلقا ومقيدا في موضعين فلا خلاف أيضا في أنه لا
ينبغي حمله على أحدهما لأنه ليس أن يقيد لأجل ما قيد من جنسه بأولى من أن
يحمل ما على اطلاقه لاطلاق ما أطلق من جنسه ومثاله صوم كفارة اليمين.
قالوا: ليس أن يحمل على ما شرط فيه التتابع من كفارة الظهار بأولى من أن
يحمل على ما شرط فيه التفريق من صوم المتمتع (1) * ويجب أن يترك على ظاهره.
وان كان من جنسه ما هو مقيد فحسب نحو اطلاق الله تعالى الرقبة في الظهار
وتقييده لها بالايمان في كفارة قتل الخطأ فاختلف العلماء في ذلك:
فمنهم من قال: ان المطلق على اطلاقه لا يؤثر تقييد المقيد فيه وهو مذهب
أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي.
ومنهم من قال: ان المطلق يصير مقيدا لتقييده ما قيد من جنسه واختلفوا:
فمنهم من قال: يجب حمل المطلق على المقيد لغة وعرفا ولا يحتاج إلى
قياس.
ومنهم من قال: ان اللغة لا تقتضي ذلك وانما يحمل عليه قياسا وهو قول
جماعة من أصحاب الشافعي.
ومن ذهب إلى القول الأول (2) اختلفوا.
فمنهم من قال: المطلق لا يجوز أن يقيد بأن يقاس على المقيد قالوا: لان ذلك
يقتضى زيادة في النص وذلك نسخ ولا يصح النسخ بالقياس وهو المحكى عن

(1) * وهو كفارة عن الهدي والتفريق فيه لقوله تعالي: (ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة
كاملة).
(2) * وهو وجوب حمل المطلق على المقيد لغة.
331

المتقدمين من أصحاب أبي حنيفة وعن أبي الحسن.
ومنهم من قال: انه لا يجوز (1) أن يقيد ثم اختلفوا.
فمنهم من قال: يقتضي تخصيص المطلق لا الزيادة فيه.
ومنهم من قال: انه يقتضى الزيادة فيه وجوز الزيادة بالقياس ولم يعده نسخا
فهذه جمله الخلاف فيه (2) والوفاق.
والذي اذهب إليه: انه ينبغي أن يحمل المطلق على اطلاقه والمقيد على
تقييده ولا يخص أحدهما بالآخر.
وانما قلت ذلك لان حمل أحدهما على الاخر قياسا انما يسوغ ذلك لمن
جوز العمل به فاما على ما نذهب إليه في المنع منه وحظر استعماله فلا يجوز لا في
هذا الموضع ولا في غيره.
واما حمل المطلق على المقيد من غير قياس فبعيد والذي يدل على ذلك أن
من حق الكلام ان يحمل على ظاهره الا أن يمنع منه مانع وإذا كان المقيد غير
المطلق وهما حكمان مختلفان (3) * فكيف يؤثر أحدهما في الاخر؟
فان قالوا: لان الله تعالى انما أطلق الشهادة في موضع (4) وقيدها بالعدالة في
موضع اخر عقل من ذلك تقييدها بالعدالة في الموضع الذي أطلقها فيه فيجب أن
يجعل ذلك عبرة في أمثاله.
قيل لهم: ان المطلق من الشهادة انما قيد بالعدالة لدليل دل على ذلك من
اجماع أو غيره ولم يجعل بالعدالة شرطا في الشهادة لأنها قيدت في موضع اخر

(1) قوله: (لا يجوز) غلط، والصحيح يجوز، لأن المصنف في مقام بيان مذاهب القائلين بوجوب حمل المطلق
علي المقيد والقول الأول هو عدم الجواز، وهذا هو القول الثاني وهو الجواز، ولعل (لا) من زيادة النساخ.
(2) انظر: «أصول السرخسي 267: 1، التبصرة: 216، ميزان الأصول 595: 1 - 584، شرح اللمع 418: 1 -
416، المعتمد 291: 1 - 288، روضة الناظر: 232 - 230، الذريعة 275: 1».
(3) * أي نوعان وإن إتحدا جنسا.
(4) كقوله تعالي البقرة: 282: (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا)، وأيضا قوله تعالي: النور: 4 (والذين
يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء).
332

بالعدالة فمن ادعى ذلك فعليه الدلالة ونحن لو خلينا والظاهر لما قيدنا الشهادة
المطلقة وتركناها على اطلاقها.
فان قالوا: القران كله كالكلمة الواحدة وقد روى ذلك عن أمير المؤمنين عليه
السلام فيجب أن يكون المقيد وان انفصل من المطلق فكأنه متصل به ويصير ذلك
بمنزلة قوله: (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) (1) انه مقيد بما تقدم كأنه قال: (والذاكرات الله كثيرا).
قيل لهم: إذا سلمنا ما ذكرته لم يجب ما ذهبت إليه لان المطلق والمقيد لو
افترقا لما وجب تقييد المقيد إذا كانا حكمين مختلفين.
يدل على ذلك أنه لو قال: (من قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) (2)
(والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) (3) لما وجب أن
يكون الثانية مقيدة لأجل كون الأولى مقيدة فالتعليق بقولهم: ان القران كالكلمة
الواحدة لا معنى له.
فاما قوله تعالى: (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) انما حملناه على الأول
لأنه لا يستقل بنفسه ولا يفيد شيئا وانما حذف منه لفظ (الله) لدلالة الأول عليه
اختصارا. وليس كذلك المطلق لأنه مفيد ومستقل بنفسه فلا يحتاج إلى حمله على
المقيد بل ترك على حاله.
على أنه يلزم من خالف فيما قلناه وجوز تخصيص المطلق لمكان المقيد ان
يزيد في كفارة القتل الاطعام لما كان ذلك ثابتا في كفارة الظهار وفي التيمم مسح
الرأس والرجلين لما كان ذلك ثابتا في الوضوء وغير ذلك من المواضع وذلك لا
يرتكبه أحد.
فاما من حمل أحدهما على الاخر قياسا فعلى مذهب من أوجب القياس

(1) الأحزاب: 35.
(2) النساء: 92.
(3) المجادلة: 3.
333

قوله أولى من قول من منع من ذلك.
وانما قلنا ذلك لان (الرقبة) المطلقة وان كانت من جهة اللفظ ليست عامة فهي
في المعنى عامة لأنها تقتضي دخول جميع الرقاب (1) فيه فإذا علم بالقياس ان من
شرطها أن تكون مؤمنة عند من قال بالقياس صار المجزى منها أقل مما كان يقتضيه
اطلاقها فصار تخصيصا من هذا الوجه فينبغي أن يسوغ استعمال القياس فيه.
وليس لهم أن يقولوا: ان ذلك زيادة لا تخصيص لان المعقول من (الرقبة) هو
الشخص دون الايمان فإذا شرط فيه الايمان فقد شرط فيها ما لا يقتضيه لفظها
ومن حق التخصيص أن يكون متناولا لما يتناوله لفظ المخصوص فيجب أن يكون
زيادة وذلك أن الايمان وان لم يعقل من (الرقبة) فقد عقل منها المؤمنة والكافرة
التي كانت معقولة من الكلام لولا هذا التقييد فصح (2) ان ذلك تخصيص لا زيادة.
وقد يكون التخصيص على ضروب:
أحدها: أن يكون التخصيص بلفظ المخصوص منه نحو قول القائل: (رأيت
الزيدين إلا زيد بن خالد) وما شاكل ذلك.
وقد يكون بخلاف لفظ المخصوص منه وما يتناوله داخل تحت المخصوص
منه لفظا نحو قوله تعالى: (فلبث فيهم الف سنة إلا خمسين عاما) (3).
وقد يكون التخصيص بأن يعلم أن اللفظ يتناول جنسا من غير اعتبار صفته
ويخص بعد ذلك بذكر صفة من صفاته نحو قول القائل: (تصدق بالورق إذا كان
صحاحا) ويستثنى منه ما ليس بصحاح.
وان كان اللفظ الأول لم يتناول ذلك على التفصيل وقد علم أن الرقبة إذا
ذكرت منكرة لم تختص عينا دون عين فصح تخصيص الكافرة منها وتخصيص
ذلك قد يكون بان يقترن إلى الرقبة صفة تقتضي اخراج الكافرة وقد يكون باستثناء

(1) في الأصل: الرقبات.
(2) في الأصل: لصح.
(3) العنكبوت: 14.
334

الكافرة فلا فصل بين قوله عز وجل: (فتحرير رقبة مؤمنة) (1) وبين قوله: (الا أن
تكون كافرة) وهذا بين.
ولو سلم ان ذلك زيادة لكان لا يمتنع ان يقال به قياسا عند من قال به إذا لم
يكن نسخا وليس كل الزيادة (2) * في النص تكون نسخا على ما نبينه في باب الناسخ
والمنسوخ وهذه الزيادة مما لا توجب نسخا على ما نبينه.
وقد الزم القائلون بتقييد المطلق قياسا ما ألزمنا من قال ذلك من غير قياس
من ايجاب مسح الرأس في التيمم والاطعام في كفارة قتل الخطأ.
وأجابوا عن ذلك بجوابين:
أحدهما: ان ذلك كان جائزا لكنه منع الاجماع منه.
وهذا انما يصح على مذهب من أجاز تخصيص العلة فاما من لم يجز ذلك
فلا يمكنه هذا الجواب.
والجواب الثاني: قالوا القياس انما يصح أن يستعمل في اثبات صفة الحكم
وتقييده لا في اثبات نفس الحكم لان اثبات عدد الشهود بالقياس لا يجوز وان جاز
اثبات عدالتهم قياسا.
واعترض هذا الجواب بان قالوا: ان الامرين واحد في جواز القول بهما
قياسا وقد استعمل الشافعي القياس (3) في اثبات عبادات نحو اثبات الصوم بدلا من
هدي المحصر وغير ذلك كما استعمله في التقييد وفي اثبات الصفات فلا يمكنه
أن ينكر هذا على مذهبه.
فالتعليق بما قالوه بعيد والأولى ما قالوه أولا.
وهذه جملة كافية في هذا الباب.

(1) النساء: 92.
(2) * لا سيما إذا لم يتأخر في الزمان.
(3) انظر استدلالات الشافعي حول القياس في كتابه: «الرسالة: 486 - 476».
335

فصل [11]
(في ذكر ما يدل على تخصيص العموم
من الأدلة المنفصلة إلى توجب العلم) (1)
تخصيص العموم بأدلة العقل والكتاب والسنة والاجماع صحيح وافعال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم صحيح.

(1) اتفقت الإمامية على أن مطلق الأدلة المنفصلة توجب تخصيص العموم، لكن بشرط أن تكون الأدلة موجبة
لحصول العلم كدليل العقل والقرآن والسنة الثابتة (سواء القولية منها أو الفعلية) والإجماع، وأما الأدلة التي لا
توجب العلم كالقياس والرأي (والخبر الواحد على خلاف في حجيته) فلا تخصص، لأن الدليل الخاص إذا
دل على ضد حكم العام يفيد أن المتكلم به أراد به الخصوص لا العموم، فبناء على أن كل واحد من الدليلين
علم وحجة ولا يجوز تناقض الحجتين، فلا يسلمان ولا يتبعان على حجتهما إلا بالجمع بينهما وحمل العموم
علي الخصوص وتخصيصه.
وأما العامة فقد قسموا الدليل المنفصل إلي عقلي وسمعي، والعقلي إلي القطعي (ويقصدون به مجرد
العقل) وما ليس بقطعي (وهو القياس الشرعي) والسمعي، وذهب جمهور فقهائهم وأصولييهم إلي أن العام
يخصص بدليل العقل، لكنهم اختلفوا في القياس فالأحناف منعوه عن التخصيص، وأما أصحاب الشافعي،
و أصحاب الحديث، والمعتزلة، (سوي أبي هاشم في رأيه الأول وأبي علي الجبائي حيث منعاه وقالوا بتقديم
العام على مطلق القياس سواء كان جليا أو خفيا) خصصوا به العام، وأما الدليل السمعي فقد جوزوا الخصيص
فيه إذا كان العام مثله كتخصيص الكتاب بالكتاب، والخبر المتواتر بالمتواتر، والكتاب بالخبر المتواتر،
و المتواتر بالكتاب، وتوجد عندهم تفصيلات وآراء متعددة أخرى. راجع هامش ميزان الأصول: 1 / 471.
336

وذهب بعضهم إلى أن تخصيص العموم لا يقع بأدلة العقل (1).
والذي يدل على صحة المذهب الأول ان هذه الأدلة التي ذكرناها إذا كانت
موجبة للعلم ومقتضية له وجب تخصيص العموم بها والا تناقصت الأدلة وذلك لا
يجوز [و] لهذه الجملة خصصنا قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم) (2)
وحملناه على العقلاء لما دل دليل العقل على أن الأطفال (3) * والمجانين ومن لا
عقل له لا يحسن تكليفه.
وكذلك خصصنا قوله تعالى: (الله خالق كل شئ) (4) وقلنا: ان المراد به
أفعال نفسه لما دل الدليل على أن الواحد منا فاعل ومحدث.
ويدل على ذلك أيضا: ان ظاهر الكتاب وحقيقته يترك إلى المجاز لدليل
العقل كما تركنا ظاهر قوله: (وجاء ربك) (5) وقوله: (هل ينظرون الا أن يأتيهم
الله في ظلل من الغمام) (6) وقلنا: ان المراد به امر ربك وامر الله لما دل دليل العقل
على أن المجيئ لا يجوز على الله.

انظر: «المعتمد 252: 1، ميزان الأصول 472: 1 - 467، التذكرة بأصول الفقه: 38 - 37، الذريعة 1:
278 - 277».
(1) قال أبو الحسين البصري: إن المانعين عن تخصيص العموم بدليل العقل على قسمين:
1 - امتنع قوم من القول بأن أدلة العقل تخص الكتاب، وقالوا: إن الموم مرتب عليها.
2 - وقوم أطلقوا المنع من ذلك إطلاقا.
ولم يرد ذكر لأسماء هؤلاء المانعين، إذ لعلهم من شذوذ المتكلمين المعمورين الذين لا يعتد بآرائهم،
وقد وصفهم إمام الحرمين الجويني ب (بعض الناشئة).
انظر: «المعتمد 252:، ميزان الأصول 467: 1 والمصادر الواردة في الهامش».
(2) النساء: 1.
(3) * أي الذين لا تمييز لهم منهم ومن لاعقل له، تعميم بعد التخصيص، ويشمل النائم والمغمى عليه.
(4) الزمر: 62.
(5) الفجر: 22.
(6) البقرة: 210.
337

وإذا ثبت ذلك وقد دللنا (1) على أن العموم إذا خص كان مجازا فينبغي أن
يجوز ذلك بأدلة العقل لان غاية ما في ذلك أن يترك حقيقة إلى المجاز.
فان قالوا: دليل العقل يجب تقدمه على الكتاب وما هذا حكمه لا يجوز أن
يخص به العموم لان ما يقتضى الخصوص يجب أن يكون مقارنا له.
قيل لهم: نحن قد بينا ان الذي يخص العموم هو قصد المخاطب إلى بعض ما
تناوله اللفظ وذلك مقارن لحال (2) الخطاب وأدلة العقل انما يتوصل بها إلى معرفة
القصد الذي وقع التخصيص به وعلى هذا يسقط هذا السؤال.
وليس لهم أن يقولوا: ان دليل العقل وان دل على قصد فقد تقدمه وذلك لا
يجوز (وذلك) (3) أن الذي أنكروه جائز عندنا غير منكر لان الدليل (4) كما يتأخر
ويقارن تارة كذلك قد يتقدم على بعض الوجوه فاستبعاد ذلك لا معنى له.
ولأجل ما قلناه علمنا بالعقل ان الله تعالى يثيب المؤمن على طاعته ويعوضه
على آلامه وان كان ذلك متقدما له.
ثم يقال لمن خالف في ذلك: ليس يخلو من أن يحملوا قوله تعالى: (يا أيها
الناس) على عمومه وشموله حتى يحمله على العقلاء وغير العقلاء أو يحمله
على العقلاء.
فان قال: أحمله على جميعهم ظهر بطلان قوله بما دل الدليل على خلافه.
وان قال: أحمله على العقلاء خاصة غير انى لا اسمى ذلك تخصيصا كان
ذلك خلافا في عبارة لا يعتبر بها. ومن الناس من قال (5): أن عموم الكتاب يترتب على أدلة العقل فلا يصح ان

(1) انظر دليل المصنف صفحة 306 في «فصل ((أن العموم إذا خص كان مجازا».
(2) بحال.
(3) زيادة من النسخة الثانية.
(4) في الأصل: دليل.
(5) انظر هامش رقم 1 صفحة 337.
338

يقال انه يخص به وجوز تخصيصه بالكتاب وان تقدمه.
وهذا غير صحيح لان الغرض بقولنا: انه مخصوص بالكتاب هو انه قد دل على أن
المراد به الخصوص ولدليل العقل هذا الحظ فكيف لا يقال انه مخصوص به؟
فان قالوا: لو جاز تخصيص العموم بدليل العقل جاز نسخه بدليل العقل فلما
اتفقنا على أن النسخ لا يجوز أن يقع به كان العموم مثله.
قيل لهم: معنى النسخ (1) * يصح عندنا بأدلة العقل لكنه لا يسمى نسخا يدل
على ذلك أن الله تعالى إذا امر المكلف بفعل ثم عجز عنه المكلف علمنا أنه قد
سقط عنه فرضه كما أنه لو نهاه عنه في أنه يسقط فرضه عنه فمعنى النسخ حاصل
لكنه منع من اطلاق هذه التسمية لان حد النسخ ليس بحاصل فيه على ما سنبينه
فيما بعد ويسمى تخصيصا لان فائدة التخصيص حاصلة ولا مانع يمنع من اطلاقه.
اما تخصيص الكتاب بالكتاب فيدل على صحته ما دل على صحة تخصيصه
بأدلة العقل سواء.
فاما أمثلته فأكثر من أن تحصى نحو قوله: (اقتلوا المشركين) (2) وقوله:
(فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) (3) ثم قال في موضع اخر: (حتى يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون) (4) فخص بذلك (5) * من عدا أهل الكتاب.
ونحو قوله: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) (6) فخص من ذلك (7) *

(1) أي الجزء العمدة المعتبر فيه وهو رفع الحكم وليس المراد تمام معناه، والحاصل: أنه إن أريد بقوله جاز
نسخه تحقق تمام حقيقة النسخ فالشرطية ممنوعة، وإلا فكذب التالي ممنوع.
(2) التوبة: 5.
(3) محمد: 4.
(4) التوبة: 29.
(5) * أي خص بالآية الأخيرة في الآيتين الأوليين من عدا أهل الكتاب.
(6) البقرة: 221.
(7) * أي أخرج الآية الثانية بعض المشركات من حكم الآية الأولي وهن الكتابيات، فإن الكتابي مشرك.
339

بعضهم في نكاح الدوام عند من خالفنا وعندنا في نكاح المتعة وملك اليمين.
ونحو قوله أيضا: (وأولات الأحمال أجلهن ان يضعن حملهن) (1) فخص
بهذا الحكم المطلقات عندنا وعند بعض الفقهاء خص الآية الأولى بمن عد
الحوامل من النساء وله نظائر كثيرة ولو لم يرد له نظير لكنا نعلم أن ذلك جائز لما
قدمناه من الدليل.
وليس لاحد أن يقول: ان الله تعالى وصف نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه
يبين للناس ما نزل إليهم فلا يجوز أن يثبت لغيره (2).
وذلك أن هذا يسقط من وجهين:
أحدهما: انه ليس في وصفه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يبين للناس ما
يمنع من أن يبين هو أيضا بعض كلامه ببعض.
والثاني: انه كما وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا فلا وجه يوجب
كون السنة تبيانا للكتاب ومخصصا له الا وهو بعينه يوجب كون الكتاب تبيانا له
ومخصصا.
فاما تخصيص الكتاب بالسنة فلا خلاف فيه بين أهل العلم (3) وقد وقع منه
أيضا في مواضع كثيرة لان الله تعالى قال: (يوصيكم الله في أولادكم) (4) وقال:

(1) الطلاق: 4.
(2) ورد هذا الوصف في قوله تعالي: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) [النحل: 44] و
(3) وهو مذهب الإمامية، والمعتزلة، وأئمة المذاهب السنية الأربعة، وهو مختار الجويني، والغزالي، وأبي
الحسين البصري، والرازي، وابن الحاجب وآخرين.
انظر: «التبصرة: 132، المستصفي 29: 2، الأحكام 301: 2، الإحكام لابن حزم 401: 3،
المنخول 174: روضة الناظر: 217 - 215، الذريعة 279: 1، ميزان الأصول 472: 1، المعتمد 255: 1،
شرح اللمع 352: 1».
(4) النساء: 11.
340

(للرجال نصيب مما ترك الوالدان) (1) وغير ذلك من آيات المواريث وخصصنا
من ذلك القاتل والكافر بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرث القاتل) (2) (ولا
يتوارث أهل ملتين) (3) وغير ذلك.
فاما تخصيص بعض السنة ببعض: أيضا جائز لمثل ما قدمناه من الأدلة وقد
وجد أيضا في مواضع لا تحصى كثيرة.
وفي الناس من أنكر ذلك وقال: ان الله تعالى جعله صلى الله عليه وآله وسلم
مبينا فلا يجوز أن يكون قوله يحتاج إلى بيان فأوجب فيه التعارض وأبطله (4).
وهذا خطأ لان حال السنة مع السنة حال الكتاب مع الكتاب وكونه صلى الله
عليه وآله وسلم مبينا يقتضى جواز أن يبين سنته كما يقتضى جواز أن يبين الكتاب
وكما لم يمنع ذلك من أن يبين أحكاما مبتدأة فكذلك لا يمنع من أن يبين سنة
يحتاج إلى أن يبينها بسنة أخرى.
فاما (5) تخصيص الكتاب بالاجماع (6): فيصحح أيضا لمثل ما قدمناه من الأدلة
وقد وقع أيضا في مواضع كثيرة نحو اتفاقهم على أن العبد لا يرث فخص بذلك اية
المواريث ونحو اجماعهم على أن العبد كالأمة في تنصيف الحد فخص به قوله

(1) النساء: 7.
(2) روي الشيخ الكليني - رحمه الله - بسنده عن محمد بن يحيي، عن أحمد وعبد الله ابني محمد، عن ابن أبي
عمير، عن هاشم بن سالم عن أبي عبد الله - عليه السلام -: «لا ميراث للقاتل» الكافي 141: 7، رقم 5.
و روي المتقي الهندي: (لا يرث قاتل من دية من قتل)، كنز العمال: 11: 7، رقم 30435.
(3) الكافي 142: 7 رقم 1، كنز العمال 16: 11 رقم 30430 و 30431.
(4) المعتمد 255: 1.
(5) وأما.
(6) فإن كل من يذهب إلي حجية الإجماع يقول بتخصيصه للكتاب، يقول الشريف المرتضى (الذريعة 1:
279: «وأما تخصيصه (أي الكتاب) بالإجماع فصحيح لأن الإجماع عندنا لا يكون إلا حجة».
انظر أيضا: «المعتمد 255: 1، وميزان الأصول 473: 1».
341

تعالى: (الزانية والزاني) (1) وغير ذلك.
واما تخصيص الكتاب بأفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فصحيح أيضا
لان الدليل قد دل على أن فعله كقوله في وجوب الرجوع إليه في معرفة الاحكام
فإذا ورد الكتاب بتحريم أشياء ثم وجدناه عليه السلام فاعلا لبعضها علمنا بفعله
خصوص الكتاب ولذلك خص قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد
منهما مائة جلدة) برجمه عليه السلام ماعزا (2).
وتخصيص قوله عليه السلام بفعله صحيح أيضا لمثل ما قلناه وسندل فيما
بعد على أن فعله ليس بمقصور عليه وانه كقوله وصحة ذلك يقتضى جواز
التخصيص به.
وهذه الجملة كافية في هذا الباب.

(1) النور: 2.
(2) هو ماعز بن مالك الأسلمي، قال ابن حجر العسقلاني في (الإصابة 16: 6): «له صحبه، وهو الذي رجم
في عهد النبي صلي الله عليه وآله وسلم، ثبت ذكره في الصحيحين وغيرهما.... وأن النبي صلي الله عليه وآله
و سلم قال: لقد تاب توبة لو تابها طائفة من أمتي لأجزأت عنهم، وفي صحيح أبي عوانه وابن حبان
و غيرهما: دن النبي صلي الله عليه لما رجم ماعز بن مالك قال: لقد رايته يتحصص في أنهار
الجنة. ويقال: ان اسمه غريب وماعز لقب».
342

فصل [12]
(في ذكر تخصيص العموم باخبار الآحاد)
اعلم أن من قال إن خبر الواحد لا يجوز العمل (1) به فقوله خارج عن هذا
الباب وانما الخلاف في ذلك من أوجب العمل به (2).
واختلف القائلون باخبار الآحاد في اثبات الاحكام في هذه المسألة:
منهم: من أجاز تخصيص العموم بها على كل حال ما لم يمنع من ذلك مانع
وهو مذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين وهو الظاهر عن الشافعي وأصحابه وعن أبي
الحسين (3) وغيرهما (4).

(1) انظر هامش رقم 1 صفحة 99.
(2) انظر هامش رقم 2 صفحة 99.
(3) هو أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي، أحد الأئمة الاعتزال، وله مصنفات معروفة في
الأصول وأشهرها كتابه (المعتمد في أصول الفقه) شرح به (العمد) للقاضي عبد الجبار الأسد آبادي، ويعد
كتاب «المعتمد» من أركان الأصول عند السنة، توفي ببغداد سنة 436 ه‍.
(4) إن جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد منسوب منقول عن أكثر الفقهاء والمتكلمين من العامة
كالشافعي، ومالك، وابن حنبل، وأبي الحسين البصري، وأبي إسحاق الشيرازي، والجويني، والغزالي،
الآمدي، وابن الحاجب، والرازي، وغيرهم: انظر: «التبصرة: 132، المستصفي 29: 2، المنخول: 174.
الأحكام لابن حزم: 3 / 401، الذريعة: 1 / 279، الإحكام 301: 2 المعتمد 255: 1، ميزان الأصول 1:
343

ومنهم من قال: يجوز تخصيصه بخبر الواحد إذا كان قد خص لأنه قد صار
مجملا ومجازا وإذا لم يدخله التخصيص لا يجوز أن يخص بها (1) وهو مذهب
عيسى بن ابان (2).
ومنهم من قال: إذا خص العموم بدليل متصل مثل الاستثناء وما جرى مجراه
لم يجز تخصيص العموم به لان ذلك حقيقة - على ما حكيناه فيما تقدم (3) - وإذا
خص بدليل منفصل جاز تخصيصه باخبار الآحاد لأنه قد صار مجازا (4).
والذي أذهب إليه: أنه لا يجوز تخصيص العموم بها على كل حال سواء
خص أو لم يخص بدليل متصل أو منفصل وكيف كان والذي يدل على ذلك:
ان عموم القرآن يوجب العلم وخبر الواحد يوجب غلبة الظن ولا يجوز أن
يترك العلم للظن على حال فوجب لذلك أن لا يخص العموم به.
فان قيل: إذا دل الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد كان وجوب

473، شرح اللمع 354: 1 - 350، روضة الناظر: 217 - 216».
(1) وهذا الرأي هو مذهب الأحناف - ما عدا أحناف ما وراء النهر ومشايخ سمرقند - ويبدو أن عيسى بن أبان -
و هو من أصحاب أبي حنيفة - أول من صرح بهذا الرأي فنسب إليه، فهم بنوا علي أن العامي قطعي الدلالة
وا لخبر الواحد طني، وبناء على هذا يكون العام باقيا على عمومه ولا يجوز تخصيصه إلا إذا كان اللفظ العام
كان قد دخله التخصيص بمثله فتجوز الزيادة في تخصيصه بخبر الواحد، وإن لم يكن قد دخله التخصيص
سابقا لم يجز أن يبتدي تخصيصه بخبر الواحد.
انظر: «التبصرة: 132، أصول السرخسي 141: 1، ميزان الأصول 473: 1، شرح اللمع 352: 1».
(2) هو عيسى بن أبان بن صدقة بن عدي بن مردان شاه الفسوي، كان فقيها على مذهب أهل الرأي والقياس
ببغداد ومن أصحاب أبي حنيفة، لازم المنصور وولي القضاء عشر سنين، له مصنفات عديدة في علم الأصول
مات في محرم سنة 220 ه‍.
(3) راجع كلام المصنف في فصل (7) صفحة 313.
(4) وهذا المذهب منسوب لأبي الحسن الكرخي. انظر هامش رقم (6) من «التبصرة: 133».
344

التخصيص معلوما (1) - وان كان نفس الخبر مظنونا - ويجرى ذلك مجرى قيام الدلالة
على وجوب التنفيذ الحكم عند الشهادة وان كانت الشهادة غير معلومة وكذلك إذا
ظن كون القبلة في جهة من الجهات وجب علينا التوجه إليها وان كان ذلك معلوما
وان كان كون القبلة فيها مظنونا فما المنكر من أن يكون خبر الواحد مع العموم يجرى
هذا المجرى.
والجواب عن ذلك: أن السائل عن هذا السؤال لا يخلو من أن يكون مخالفا لنا
في الأصول أو موافقا:
فان كان مخالفا فلا يصح له هذا السؤال لأنه تضمن قيام الدلالة على وجوب
العمل بخبر الواحد ونحن قد أفسدنا سائر ما يدعيه مخالفونا من الأدلة على وجوب
العمل بخبر الواحد (2) فإذا فسد العمل بها بتلك الأدلة فلا يمكن أن يدعى جواز
التخصيص بها وقد مضى الكلام على أدلتهم مستوفى.
على أنه لو سلم لهم العمل بخبر الواحد على غاية اقتراحهم لم يجز
تخصيص العموم به لأنه ليس ما دل على وجوب العمل بها يدل على جواز
التخصيص كما أن ما دل على وجوب العمل بها لا يدل على وجوب النسخ بها بل
احتاج ذلك إلى دليل غير ذلك فكك التخصيص فلا فرق بينهما.
فان قالوا: إذا دل الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد فينبغي أن يكون
خبر الواحد دليلا في كل موضع الا أن يمنع منه مانع والنسخ الذي ذكرتموه قد كان
يجوز أن يقع بخبر الواحد الا أنه منع الاجماع منه فبقى كونه دليلا فيما عدا النسخ.
قيل لهم: خبر الواحد دليل شرعي وليس بعموم يخص منه بعضه ويبقى ما
عداه وإذا ثبت ذلك كان الذي يدل على وجوب العمل به من الاجماع انما هو

(1) في الأصل: معلوم.
(2) راجع الاستدلال المصنف حول عدم حجية خبر الواحد وأنه لا يوجب العلم في صفحة 100.
345

حاصل فيما طريقه العمل فحسب مما لا نص فيه في الكتاب فينبغي أن يحتاج في
اثبات كونه دليلا في تخصيص العموم به إلى دليل.
فان قال (1): الصحابة الذين (2) عملوا بخبر الواحد عملوا بها وان خص العموم.
قيل لهم: هذا محض الدعوى ما الذي يدل عليها؟ فانا لا نسلم ذلك.
فان ذكروا: انهم خصوا اية المواريث (3) بالخبر الذي روى: (ان القاتل لا
يرث) (4) وكان خبرا واحدا؟ وكذلك عملوا بخبر أبي هريرة في نكاح المرأة على
عمتها وخالتها (5) وخصوا بذلك قوله تعالى: (أحل لكم ما وراء ذلكم) (6) ونظائر
ذلك كثيرة.
قيل لهم: انما تركوا عموم اية الميراث بالخبر الذي تضمن (ان القاتل لا يرث)
لأنهم اجمعوا على صحته فلما اجمعوا على صحته وعملوه خصوا العموم به
وليس ذلك موجودا في الاخبار التي لا يعلم صحتها.
واما نكاح المرأة على عمتها وخالتها فعندنا يجوز على وجه (7) فلا يخصص
العموم به.
ومن أجاز ذلك أيضا انما اجازه لان عنده انهم اجمعوا على صحة هذا الخبر

(1) زيادة من النسخة الثانية.
(2) في الأصل: التي.
(3) وهي قوله تعالي (النساء: 11): (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين).
(4) انظر تخريج الحديث في هامش رقم 2 صفحة 341.
(5) روي البخاري ثلاث روايات بسنده عن أبي هريرة أنه نهي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أن تنكح
المرأة على عمتها أو خالتها».
(6) النساء: 24.
(7) الوجه الذي يشير إليه المصنف هو جواز نكاح المرأة على عمتها أو خالتها لكن بإذن العمة والخالة، يقول
الشيخ المفيد - رحمه الله - (تهذيب الأحكام: 1 / 339 باب 29): «ولا بأس أن ينكح الرجل المرأة وعمتها
و خالتها ويجمع بينهما، غير أنه لا يجوز أن ينكح بنت الأخ على عمتها إلا بإذن العمة ورضاها، ولا ينكح
بنت الأخت على خالتها إلا باختيار الخالة وإذنها».
346

فلما اجمعوا عليه دل ذلك على صحته (1) * وليس هذا موجودا في اخبار الآحاد
التي لا يعلم صحتها.
على أن المعلوم من حال الصحابة انهم ردوا اخبارا كثيرة نافت عموم القرآن
واقتضت تخصيصه نحو ما روى عن عمر وغيره انهم ردوا خبر فاطمة بنت قيس (2)
في أنه لا نفقة لها ولا سكنى وقالوا: (لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة لا ندري صدقت أم
كذبت)؟ (3) وهذا تصريح بأنه لا يجوز تخصيص العموم بخبر الواحد.
وليس لهم أن يقولوا: انما ردوا الخبر إذا كان يخالف القرآن لا أنه يخصه وما
يخص العموم به لا يقتضى ترك القرآن بل يقتضى القول به فدل ذلك على سقوط ما
ذكرتموه.
وذلك أن سقوط نفقة المبتوتة (4) كفاطمة خاصة (5) * تخصيص القرآن لان
عموم القرآن اقتضى النفقة لها ولغيرها ومع ذلك لأنهم علموا ان حكم فاطمة وغيرها
من النساء حكم واحد وكان ذلك عندهم معلوما ولو قبلوا خبرها لأدى عندهم إلى
دفع القران فلذلك ردوه.

(1) * كذا في النسخة، والظاهر أن المراد فلما أجمعوا على صحة هذا الخبر دل الإجماع على صحة التخصيص به.
(2) هي فاطمة بنت قيس بن خالد القرشية، وأمها أميمة بنت ربيعة من كنانة، هي أخت الضحاك بن قيس
و كانت أسن منه بعشر سنين. صحابية ومن المهاجرات الأول، وكانت ذات جمال وعقل، تزوجها أولا أبو
بكر بن حفص المخزومي ثم طلقها، فتزوجت بأسامة بن زيد، قيل، وفي بيتها اجتمع أهل الشورى لما قتل
عمر بن الخطاب، وروي أصحاب السنن والحديث روايات عديدة عنها في أبواب الطلاق والنكاح
و الطهارة والحيض والعدة والزكاة.
(3) روي أحمد بن حنبل في مسنده: «... قال عمر بن الخطاب: لا ندع كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلي الله
عليه وآله وسلم لقول امرأة لعلها نسيت». مسند أحمد بن حنبل 415: 6.
(4) المبتوبة: وهي المطلقة طلاقا بائنا، ومنه الحديث (لا تبيت المبتوتة إلا في بيتها). النهاية في غريب
الحديث والأثر 93: 1.
(5) * خاصة متعلق بالمبتوتة.
347

قيل لهم: هذا محض الدعوى ومن أين انهم علموا أن حكم فاطمة حكم
غيرها على حد واحد الا بعموم القران؟ ولذلك صرح (1) * بهذا التعليل عمر ولو كان
ذلك معلوما بغير عموم القران لكان يقول قد علمنا أن حكمك في هذا الباب حكم
غيرك من النساء ولا يحتاج ان يقول: (لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة لا ندري صدقت
أم كذبت) وذلك يسقط هذا السؤال.
ثم يقال لهم: أليس قد قيل أهل قبا خبر الواحد (2) فيما طريقة النسخ وانتقلوا
بذلك عن القبلة التي كانوا عليها ولم يدل ذلك على جواز النسخ بخبر الواحد؟
فان قالوا: انما قبلوا ذلك بدليل دلهم على ذلك دون مجرد الخبر.
قيل لهم مثل ذلك في الاخبار التي تعلقوا بها.
فان قالوا: أليس خبر الواحد قد قبل فيما يقتضى العقل خلافه فما المنكر من
أن يجوز قبوله فيما يقتضى عموم القران خلافه؟
قيل لهم: هذا انما يمكن أن يستدل به على من أبى من تخصيص العموم به
عقلا فيقال له: إذا جاز الانتقال عما يقتضى العقل خلافه بخبر الواحد جاز أن ينتقل
عما يقتضيه العموم بمثل ذلك.
فاما من أجاز ذلك عقلا وانما امتنع منه لفقد (3) الدلالة عليه فهذا السؤال
ساقط عنه وانما ينبغي أن يتشاغل بان هاهنا دليلا يدل على جواز تخصيص العموم
به وهو نفس المسألة التي اختلفنا فيها.
على أن مثل هذا يمكن أن يقال في جواز النسخ به لان الانتقال عن موجب
العقل من حظر إلى إباحة أو من إباحة إلى حظر في معنى النسخ وان لم يسم نسخا

(1) * وحاصله أنه لو كان رده لعلمهم بالاتحاد في الحكم لوجب عليه التصريح به في الرد لأن التصريح بالمناط
أهم مما ليس بمناط وهو منافاته للكتاب في الجملة إذ هو معلوم لكل أحد فلا حاجة إلي التصريح به، إنما
الحاجة إلي التصريح بالمنافاة رأسا ببيان مناطه وهو الاتحاد في الحكم.
(2) انظر: «المعتمد 116: 2».
(3) فقد.
348

فينبغي أن يجوز على موجب ذلك النسخ بخبر الواحد وهذا لا يقوله أحد.
ولا جواب عن ذلك الا ما ذكرناه من أن ذلك دليل على جواز ذلك لا على
وجوبه بل وجوبه يحتاج إلى دليل مفرد.
وفي الناس من قال: ان العموم ثبت اجتهادا (1) * فجاز الانتقال عنه بخبر
يوجب غلبة الظن.
وهذا القول باطل لان الدليل على القول بالعموم دليل يوجب العلم وليس
من باب الاجتهاد في شئ وقد دللنا على ذلك فكيف يجوز أن يترك بما طريقه
غلبة الظن.
ثم يقال لهم: لا خلاف (2) * ان خبر الواحد لا يجوز قبوله فيما طريقه العلم
والاعتقاد وإذا ثبت ذلك فخبر الواحد إذا خص العموم اقتضى شيئين.
أحدهما: العمل بمتضمنه وذلك من باب العمل.
والثاني: وجوب الاعتقاد في ظاهر العموم انه مخصوص وذلك لا يجوز لأنه
اقدام على مالا نأمن كونه جهلا.
فان قالوا: انا نأمن كونه جهلا بما قام من الدليل على جواز قبوله فيما خص
العموم.
فقد مضى الكلام على ذلك وبينا ان ذلك محض الدعوى وصريح الاقتراح.
فاما من قال: لا يجوز تخصيص العموم به الا إذا خص على حسب اختلافهم
في ذلك من تخصيصه بدليل متصل أو منفصل أو استثناء وغير ذلك ومتى خص
بشئ من ذلك جاز تخصيصه.
فما دللنا به من المنع من جواز تخصيصه بخبر الواحد يبطل هذا الفصل.

(1) * المراد بالاجتهاد اتباع الظن من حيث إنه ظن استفراغ الوسع في تحصيله.
(2) * ومستند الإجماع هنا عقلا ما ذكره من أنه إقدام على ما لا نأمن كونه جهلا مركبا.
349

على أنهم انما أجازوا تخصيصه بخبر الواحد إذا خص لأنه يصير مجملا (1) *
ومجازا.
فأما كونه مجازا فنحن نقول به ولا نسلم ما انه يصير مجملا فيما عداه بل ما
عدا ما خص منه معلوم. كما أنه لو لم يخص منه شئ كان الجميع معلوما وذلك
يبطل ما قالوه.
فاما إذا كان السائل عن السؤال الذي قدمناه من موافقينا وسئل ذلك على
طريقتنا التي اعتمدناها من جواز العمل بالاخبار التي تختص بنقلها (2) الطائفة
المحققة فالكلام عليهم أيضا مثل ذلك بأن يقال:
ما دل على عمل الطائفة المحقة بهذه الاخبار من اجماعهم على ذلك لم يدل
على العمل بما يخص القران ويحتاج في ثبوت ذلك إلى دلالة بل قد ورد عنهم
عليهم السلام ما لا خلاف فيه من قولهم: (إذا جاءكم عنا حديث فاعرضوه على كتاب
الله فان وافق كتاب الله فخذوه وان خالفه فردوه أو فاضربوا به عرض الحائط (3)) على
حسب اختلاف الألفاظ فيه وذلك صريح بالمنع من العمل بما يخالف القران.
فان قالوا: أليس قد عملت الطائفة باخبار كثيرة طريقها الآحاد وعموم الكتاب
بخلافها فهلا دل ذلك على جواز تخصيص العموم بها على كل حال؟
قيل لهم (4) *: لا نسلم ان الطائفة عملت باخبار آحاد يقتضى تخصيص القران
وعلى من ادعى ذلك أن يبينه.
على انا قد بينا (5) * ان الاخبار الصادرة من جهتهم عليهم السلام على ضربين.

(1) * هذا غير مذكور صريحا في مذهب غير عيسى بن أبان.
(2) في الأصل: نقلها.
(3) تهذيب الأحكام 274: 7 حديث 5.
(4) * حاصله أن الأخبار المخصصة التي عملت بها الطائفة متواترة.
(5) * يعني لو سلم أن الطائفة عملت بأخبار آحاد تقتضي تخصيص القرآن، فنقول إنما عملوا بأخبار آحاد
يكون فتيا الطائفة بها معلومة، وهذا خارج عن المتنازع فيه، فإن التخصيص حقيقة حينئذ بالإجماع سواء كان
350

أحدهما: أن يكون خبرا وليس هناك ما يخالفه ويكون فتيا الطائفة به فما هذا
حكمه يكون مجمعا على صحته ويجوز العمل به وتخصيص العموم به.
وان كان هناك ما يخالفه من الاخبار فالعمل بما يطابق العموم أيضا أولى لأنه
يصير معلوما صحته مثل العموم وبينا ان ذلك وجه يرجح به أحد الخبرين على
الاخر.
وان كان خبر لا يعلم فتيا الطائفة أصلا فيه وهناك عموم يقتضى خلافه
فالعمل بما يقتضى العموم أولى بما قدمناه من الدلالة.

لها مخالف أم لا، وأما أخبار الآحاد والتي لم يعلم فتيا الطائفة بها فلا يجوز جعلها مخصصة سواء كان لها
مخالف أو لم يكن.
351

فصل [13]
(في ذكر تخصيص العموم بالقياس)
اعلم أن الكلام في هذه المسألة قد سقط عنا لأنا لا نجيز العمل بالقياس لا
ابتداء ولا فيما يخص العموم.
وانما الخلاف في ذلك بين من أثبت القياس لان (1) فيهم من أجاز تخصيص
العموم به على كل حال إذا صح القياس بشروطه وهو مذهب أكثر الفقهاء وهو
مذهب الشافعي والمحكي عن أبي الحسن واليه ذهب أبو هاشم أخيرا (2).
ومنهم من أبي تخصيص العموم به على كل وجه وهو مذهب أبي على وبه
قال أبو هاشم أولا وقد قال به بعض الفقهاء (3).

(1) فإن.
(2) وهو رأي جمهور الفقهاء والمتكلمين وبه قال الشافعي، ومالك، وأبو حنيفة، وأبو الحسين البصري، وأبو
الحسن الأشعري، وأبو هاشم الجبائي وأبو إسحاق الشيرازي.
انظر: «التبصرة: 137، الإبهاج 111: 2، الإحكام للآمدي 313: 2، ميزان الأصول 470: 1،
المستصفي 30: 2، المعتمد 260: 1، الذريعة 284: 1».
(3) وهذا القول منسوب للباقلاني، ولطائفة من المتكلمين، ولابن مجاهد، وأحد اختيارات الرازي، وكذلك لا
يجوز عند أحمد بن حنبل، وعند ابن حزم الأندلسي.
انظر: «التبصرة: 138، ميزان الأصول 470: 1، الأحكام لابن حزم 368: 7، روضة الناظر: 220،
الذريعة 284: 1».
352

ومنهم من قال: يخص بالقياس الجلي ولا يخص بالخفي (1) وهو مذهب
بعض أصحاب الشافعي (2).
ومنهم من قال: انه يخص بذلك إذا دخله التخصيص وسوغ فيه الاجتهاد (3)
ولا يجوز تخصيصه إذا كان باقيا على عمومه (4).
والأقوى من هذه الأقاويل - إذا فرضنا العبادة بالقياس - قول أبي علي وهو أنه
لا يجوز تخصيص العموم به على كل حال.
والذي يدل على ذلك: ان العموم دليل يوجب العلم والقياس عند من قال به
يوجب غلبة الظن ولا يجوز أن ينتقل عما طريقة العلم إلى ما يقتضى غلبة الظن (5).
فليس (5) لهم أن يقولوا: إذا ثبت ان القياس دليل كان تخصيص العموم به
معلوما.

(1) اختلف الأصوليون في تفسير القياس الجلي والخفي، فبعضهم فسره بأن القياس الجلي هو قياس العلة.
والخفي قياس الشبه، وفسره آخروه بأن الجلي هو قياس العلة، والخفي عامة الأقيسة، وتوجد عندهم
تفسيرات أخرى، راجع: «التبصرة: 137 وما ورد من التعليقات في هذه الصفحة، وميزان الأصول 817: 2».
(2) وهذا الرأي مذهب بعض الشافعية كما نص عليه أبو إسحاق الشيرازي في (التبصرة: 138 - 137، شرح
اللمع 385: 1 - 384) وغيره في (الذريعة 284: 1)، وهو منقول عن ابن سريج، وإسماعيل بن مروان.
(3) المقصود من الاجتهاد هنا (وسوف يتكرر هذا الاصطلاح عند المصنف مرارا) معناه اللغوي لا الأصولي
و الاصطلاحي وما اصطلح عند الإمامية منذ القرن السادس الهجري (راجع التعليقة رقم 1 صفحة 9)،
و الحاصل من قول المصنف: (وسوغ فيه الاجتهاد)، هو اتباع الظن واستفراغ الوسع في تحصيله، أي انه إذا
أفاد القياس الظن، وتمكنا من استفراغ الوسع في تحصيل الظن به فعند ذاك يجوز تخصيص العموم به.
(4) وهذا مذهب أصحاب أبي حنيفة أمثال عيسى بن أبان، وهو مختار البزدوي حيث نقله عن عامة مشايخه
الأحناف، وأيضا اختاره السرخسي، وابن الهمام، وصدر الشريعة، وجماعة آخرون من أحناف العراق وما
وراء النهر.
انظر: «التبصرة: 138 وما ورد من التعليقات في هامش هذه الصفحة، وشرح اللمع 385: 1، أصول
السرخسي، 141: 1 ميزان الأصول 471: 1، الذريعة 284: 1».
(5) في الأصل: ليس.
353

وذلك انا قد بينا الجواب عن مثل هذا السؤال في الباب الأول (1) بأن قلنا: خبر
الواحد دليل شرعي وكذلك نقول ان القياس دليل شرعي فينبغي أن يثبت في
الموضع الذي استعملته الصحابة وقررته الشريعة وانما ثبت عنهم - على زعمهم -
استعمل القياس فيما لا نص فيه من احكام الحوادث.
ولا يمكنهم أن يدعوا انهم استعملوه فيما يخص العموم.
لان هذه الدعوى لا برهان عليها ودون ذلك خرط القتاد.
ويدل أيضا على ذلك: ان النسخ قد ثبت انه لا يجوز به فكذلك يجب أن
يكون حكمه حكم التخصيص.
وليس لهم ان يقولوا: لا يجوز من الحكيم تعالى أن ينزل نصا ويجعل القول به
والعمل بمقتضاه موقوفا على اجتهادنا وانما يسوغ الاجتهاد (2) في صرفه إلى وجه
دون وجه.
فان قالوا: هذا الذي ذكرتموه من الجواب عن هذا السؤال يمكن أن يجعل فرقا
بين النسخ وتخصيص العموم وسقط بذلك أصل الدليل.
وذلك انهم إذا جعلوا ذلك فرقا بين التخصيص والنسخ.
قيل لهم: لا فرق بين النسخ والتخصيص في المعنى لان التخصيص هو: (اخراج بعض ما يتناوله لفظ العموم من الأعيان منه) والنسخ: (اخراج بعض ما يتناوله دليل
النص من الأزمان منه) فهما سواء في المعنى فما منع من أحدهما منع من الاخر.
على أنه لا يمكن أن يجوز النسخ بالقياس الا من يقول بتخصيص العلة ومن
لم يجز تخصيص العلة لا يمكنه ارتكابه على حال.
وقد أجاب بعض أصحاب الشافعي (3) عما ألزمناهم: بان النسخ انما لم يصح

(1) انظر كلام المصنف في صفحة 100.
(2) راجع التعليقة رقم (3) صفحة 353.
(3) انظر: «التبصرة في أصول الفقه: 140 و 142».
354

فيه لان كونه ناسخا للنص ينبئ عن أن النص بخلافه والقياس لا يصح إذا دفعه
النص وخصه (1) * فكأن النسخ به يوجب النسخ بقياس فاسد وهذا لا يجوز.
وهذا بعينه يمكن أن يقال في المنع من تخصيص العموم به لان العموم أيضا
نص وما يؤدى إلى تخصيصه ينبئ عن أن ظاهره بخلافه والقياس لا يصح إذا دفعه
النص وكان التخصيص به يوجب التخصيص بقياس فاسد وهذا ما لا فصل فيه.
ويدل أيضا على ذلك: على أن القياس انما يسوغ (2) * مع عدم النص للاضطرار إليه
وعموم الكتاب نص يغنى عنه ولا يسوغ استعماله وخلافه نص حتى يخص به.
وليس لهم ان يقولوا: انه إذا خص العموم به يكون مستعملا فيما لا نص عليه
لأنه قد يبين به انه لم يرد ذلك بالعموم وإذا لم يكن (3) مرادا به فقد استعمل القياس
فيما لم يدخل تحت النص.
وذلك أن الذي قالوه غير صحيح لأنه لو لم يستعمل ذلك القياس لكان ما
يتناوله داخلا تحت النص فيجب بطلانه لأنه قد استعمل فيما لولاه لدخل تحت
النص.
فان قالوا: النص انما يتناول ذلك لو لم يصح القياس فاما إذا صح ذلك القياس
لم يدخل تحته فقد حصل ان القياس إذا استعمل فيما يخص به العموم لا يكون
مستعملا فيما تناوله.
قيل لهم: ومن سلم ان القياس الذي يوجب تخصيص العموم قياس صحيح؟
وليس يعلم أن من قال بالمنع من تخصيص العموم به يقول: ان بظاهر العموم
احكم بأن كل قياس يؤدى إلى تخصيصه قياس باطل.
ولو سلم ان ذلك قياس صحيح لكان قد سلمت المسألة.

(1) * المراد خص النص القياس بما عدا الزمان السابق، أو المراد خص القياس النص بما عدا الزمان اللاحق.
(2) * في «الذريعة» لا خلاف بين مثبتيه في أن الشرط في استعمال الضرورة إليه وسلامته من أن يكون
الظواهر دافعة له.
(3) في الأصل والحجرية: يكون.
355

فعلم بجميع ذلك صحة ما نصرناه ويدل أيضا على صحة ما قدمناه: خبر معاذ وان النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لما بعثه إلى اليمن قال له: (بم تقضى؟ قال: بكتاب الله ثم قال: بسنة رسول
الله (1). فقال له عليه السلام فان لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي) (2) (3) فصوبه رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وهذا يقتضى ان القياس انما يسوغ استعماله إذا
لم يوجد في الكتاب ما يدل على الحكم الذي يستعمل فيه فمتى وجد فيه بطل
استعماله وإذا بطل استعماله لم يصح أن يخص به العموم لان القياس الفاسد لا
خلاف انه لا يخص به العموم.
وليس لهم أن يقولوا: ان المراد بذلك ان لم أجد في كتاب الله نصا على
المسألة اجتهدت رأيي فاما إذا كان فيه عموم فإنه لا يمتنع اجتهاد الرأي معه لأنه
إذا خص بالقياس كان ما استعمل فيه القياس غير موجود في الكتاب.
وذلك أن هذا الذي ذكروه تخصيص للخبر لأنه انما صوبه في استعمال
القياس إذا لم يكن الحكم موجودا في الكتاب والسنة وقد يكون الحكم ثابتا فيهما
بنص معين ويكون أيضا موجودا بأن يكون داخلا في العموم فمن خص الخبر
بأحدهما احتاج إلى دلالة.
وفي الناس من استدل على صحة ما ذهبنا إليه بأن قال: القياس فرع على
النص من عموم وغيره فمتى اعترض به عليه كان قد اعترض على الأصل بفرعه
وهذا لا يجوز (4).

(1) سنة رسوله.
(2) برأيي.
(3) سنن الدارمي 1: 70، عون المعبود 3: 330، مع اختلاف يسير، ورواه أيضا أحمد، وأبو داود، والترمذي
لكنه قال: ليس إسناده عندي متصلا، وقال البخاري: لا يصح، وحاول جماعة تصحيحه لكن دون جدوي.
(4) قال أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في (التبصرة: 140): «قالوا: ولأن القياس فرع النطق، فلا يجوز أن
يسقط الفرع أصله».
356

وهذا غير صحيح لان لهم ان يقولوا: ان أصل القياس هو الذي ثبت صحته
به أو ما يحمل عليه الفرع من الأصول وكلاهما لا يجب الاعتراض بالقياس عليه
وانما يجوز أن يقاس ما دخل تحت اية محرمة ما دخل تحت اية محللة فتحلله
وتخرجه من جملة ما يقتضى التحريم نحو قياس العقد في الأرز (1) في التحريم
ويخص به قوله: (أحل الله البيع) (2) وفي ذلك سقوط الاستدلال بهذه الطريقة.
وقد استدل من خالف ما اخترناه بان قال: الذي دل على اثبات القياس دليل
مقطوع عليه وهو اجماع الصحابة (3) فصار العمل بما يقتضيه معلوما وجوبه كما أن.
العمل بما يقتضيه العموم معلوم وجوبه فإذا تساويا في هذا الوجه جاز تخصيص
العموم به.
وهذا الذي ذكروه غير صحيح لأنا إذا سلمنا اجماع الصحابة على العمل
بالقياس انما نسلمه فيما لا نص فيه من الكتاب من العموم وغيره فاما إذا كان ما يدل
عليه (من الكتاب) (4) لا نسلم انهم استعملوا فيه ولا يمكنهم ان يبينوا ان الصحابة
استعملت القياس في تخصيص العموم وإذا لم يثبت ذلك لم يجب من حيث
استعملوا القياس في موضع أن يجوز استعماله في كل موضع لأنا قد بينا انه دليل

(1) في النسختين (الأرف) وهو خطاء كما يظهر من سياق الجملة، والصحيح ما أثبتناه لأن المصنف في مقام
بيان مذهب القائلين بالقياس في الأحكام الشرعية، فبناء على مذهبهم فإنه يجوز أن يقاس ما دخل تحت
آية محرمة، ما دخل تحت آية محللة فتحلله وتخرجه من جملة ما يقتضي التحريم، وقول الخصم يفيد
تنظير قياس عقد البيع في البر بعقد البيع في الأرز، وهو غير جائز على مذهبه، وقد أجاد أبو الحسين البصري
في إبطال مذهب الخصم حين قال في (المعتمد 260: 1): «أن أصل القياس إن كان متقدما على الخبر
العام، وكان منافيا له، فإنه لا يجوز القياس عليه عند الخصم لأنه منسوخ بالعام مثاله: أن يقول النبي صلي الله
عليه وآله وسلم: «لا تبيعوا البر» ثم يقول بعد مدة: «أحللت لكم جميع البياعات» فإنه المخالف ينسخ
تحريم البر ولا يجيز قياس الأرز عليه في التحريم».
(2) البقرة: 275.
(3) في الأصل: للصحابة.
(4) زيادة من الأصل.
357

شرعي ينبغي أن لا يتجاوز به الموضع الذي قررته الشريعة كما أن ثبوته في الموضع
الذي ثبت لا يجوز أن يتجاوز به إلى أن ينسخ به لأنه لم يثبت ذلك فيه ذلك.
وكذلك القول في التخصيص ولا فرق بينهما على حال.
واستدلوا أيضا بأن قالوا: قد ثبت ان القياس يقبل فيما يقتضى العقل خلافه
وان كان دليل العقل يوجب العلم والقياس غلبته الظن وكذلك العمل به فيما يخص
الكتاب وان كان يوجب العلم.
يقال لهم: هذا الدليل انما يمكن أن يستدل به على من أبى تخصيص العموم
بالقياس عقلا (1) فيقال له إذا جاز العمل به فيما يقتضى العقل خلافه (جاز العمل به
فيما يقتضى العموم خلافه).
فاما من جوز ذلك وانما امتنع من القول به لأنه لم يثبت ورود العبادة به فلا
يمكن أن يعتمد ذلك في هذا الباب بل يحتاج إلى أن يشتغل بالدلالة على ثبوت ما
كان جائزا لأنه ليس كل ما كان جائزا في العقل ثبت العمل به على كل حال فعلم
بذلك سقوط هذا الاستدلال.
وفي الناس من اعترض [على] هذا الدليل وقال: انا لا نعمل بالقياس إذا اقتضى
العقل خلافه (2) * بل انما نعمل به فيما يجوزه العقل دون ما يقتضى قبحه أو حسنه.
وهذا ليس بشئ لان غرض القوم بذلك ان الفعل إذا كان يقتضى تحليل
شئ أو تحريمه ثم ثبت بالقياس في الشرع تحريم ما كان مباحا أو إباحة ما كان
محظورا فقد عملوا بخلاف ما كان يقتضيه العقل.
ولا يمكن أن يقال: ان دليل العقل يقتضى إباحة شئ أو حظره بشرط أن لا يدل
الشرع بخلافه فالقياس ان يستعمل في خلافه المبين به (3) ان العقل لم يقتضى ما

(1) زيادة من النسخة الثانية.
(2) * أي بخصوصه بأن يقتضي قبحه كما في الكذب الضار، أو حسنه كما في الصدق النافع.
(3) إذا استعمل في خلافه يبين به.
358

أدى القياس إلى خلافه وليس كذلك العموم لأنه اقتضى تحريم الشئ مطلقا بلا
شرط فيه فلو قبل القياس في خلافه لكان فيه اعتراض به عليه.
وهذا لا يجوز لان لهم ان يقولوا: الحال فيهما واحد لان دليل العقل يقتضي
تحليل الأنبذة ما لم يقتضى دليل سمعي (1) تحريمه والعموم أيضا يقتضى ذلك ما لم
يحصل دليل سمعي على خلافه فهما في هذا الباب من جهة المعنى سواء وانما
الخلاف بينهما ان العموم يدل على ما يدل عليه لفظا وليس كذلك دليل العقل وهذا
لا يقتضى الفرق بينهما من جهة المعنى.

(1) شرعي.
359

فصل [14] (في تخصيص العموم بأقاويل الصحابة
وبالعادات وبقول الراوي) (1)
القول إذا ظهر بين الصحابة واتفقوا كلهم انه يخص العموم فلا خلاف عن أهل
العلم انه يخص به العموم لان ذلك اجماع وقد بينا ان الاجماع يخص به العموم.

(1) أما قول الصحابي ومذهبه:
1 - فمذهب الجمهور من العامة على عدم جواز التخصيص بها بناء على عدم حجية قولهم، وهو مختار
الشافعي وأصحابه، ومذهب أعيان الحنفية كالكرخي، والسرخسي، والبزدوي وغيرهم، كما ذهب إليه
الجويني، والآمدي، والغزالي، وابن الحاجب، والرازي، وآخرون.
2 - جواز التخصيص بهما: وهو مذهب بعض أصحاب أبي حنيفة، وأيضا القاضي عبد الجبار، وأبي
الحسين البصري.
انظر: «التبصرة: 149، أصول السرخسي 5: 2، الأحكام 309: 2، الإبهاج 120: 2، المعتمد 175: 2».
و أما العادات والعرف المتداول فقد قسم الأصوليون العادات إلي قسمين:
1 - عادة في الفعل: كما لو اعتاد الناس أن يفعلوا فعلا ثم منعه الله سبحانه وتعالي بخطاب عام، فإن
الأصوليون على أن العام لا يخصص بالعادة الفعلية.
2 - عادة في الاستعمالات اللفظية: كما لو اعتاد الناس استعمال لفظ العام المستغرق في اللغة في بعض
أفراده مثل «الدابة» التي هي موضوعة لكل ما يدب، ولكن استعمله العرف في بعض الدواب، فقد ذهب
الأصوليون إلي أن العام يخصص به.
360

فاما إذا ظهر القول ولم يعرف له مخالف فمن جعله اجماعا أو في حكم
الاجماع خص به أيضا العموم ومن لم يجعله اجماعا من حيث جواز أن يكون
الساكت لو استفتى لأفتى بخلافه لجرى ذلك مجرى القول المختلف فيه والقول
المختلف فيه بين الصحابة اختلفوا في جواز تخصيص العموم به:
فذهب أبو على إلى أنه يجوز الاخذ بقول بعضهم وان خالفه غيره فيه قال:
(لان بعضهم كان يرجع إلى قول بعض من غير حجاج وهو المحكى عن محمد بن
الحسن (1) لأنه حكى عنه انه قال: (ما اجمعوا عليه واختلفوا فيه جاز أن يقاس عليه
ويتخذ أصلا تجعل اختلافهم كاجتماعهم في أنه أصل).
وقد حكى عن الشافعي قديما انه كان يقول ذلك ويرتب أقاويل الصحابة
فيقدم أقاويل الخلفاء ثم قول أقدمهم في العلم فعلى هذه الوجوه لا يمتنعون من
تخصيص الكتاب به لأنه حجة كالقياس وخبر الواحد عندهم.
واما من قال: ان قولهم ليس بحجة فإنه لا يخص العموم به وهو مذهب أكثر
الفقهاء (2) وقول الشافعي في الجديد (3) لأنه قدم القول بالعموم على القول بقول
الصحابي إذا اختلف فيه.

انظر: «الذريعة 306: 1، المعتمد 278: 1، شرح اللمع 391: 1».
و أما قول الراوي: كما لو احتمل الخبر أمرين، وهو في أحدهما أظهر، لكن صرفه الراوي إلي الآخر،
فقد اختلف الأصوليون من العامة، فإن جماعة منهم ذهبوا إلي أنه لا يخصص به العموم مطلقا، وقال
آخرون: إنه يقبل منه لأنه أعرف بمعني الخطاب، وتوقف قوم في ذلك. انظر: «شرح اللمع 390: 1».
(1) هو أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، الفقيه العراقي، ولد بواسط سنة 131 ه‍ ونشأ بالكوفة وجالس
جماعة من الفقهاء والمحدثين وتأثر بأبي حنيفة وآرائه، فصار من أصحاب الرأي والقياس. سكن بغداد
و ارتبط بالبلاد العباسي فولاه الرشيد قضاء الرقة، ثم صاحب الرشيد في خروجه إلي خراسان، فمات بالري
سنة 189 ه‍. تزيد مصنفات الشيباني على السبعين، والمعتقد أن لآرائه تأثيرا كبيرا في تطور الفقه الحنفي.
(2) انظر التعليقة رقم 1 صفحة 360.
(3) فقد نسب للشافعي قوله في الجديد: «كيف آخذ بقول من لو عاصرته لحججته».
361

والصحيح عندنا من هذه الأقاويل انه لا يخص العموم الا بما كان اجماعا
موجبا للعلم أو يكون قول من دل الدليل على عصمته (1) فان ذلك يخص به العموم
وما عدا ذلك لا يجوز تخصيصه به وسنبين فيما بعد أن ما ادعوه اجماعا أو في
حكم الاجماع من القول الذي لا يعرف له مخالف ليس باجماع إن شاء الله.
واما العادات فعلى ضربين (2):
ضرب منها: هي من جهة الافعال فما هذا حكمه لا يخص به العموم بل (3) *
يجب على المخاطبين أن ينتقلوا عن تلك العادات لأجل العموم واستدلوا به على
تركها فكيف يخص به العموم؟
والضرب الاخر: ان يكون العادة جارية في استعمال لفظ العموم في بعض ما
تناوله فما هذا حكمه ينبغي أن يخص به العموم لأنا قد بينا فيما تقدم ان الخطاب
ينبغي أن يحمل على ما تعورف ويترك ما كان موضوعا له لأنه بالعادة قد صار
حقيقة فيما اعتيد فيه وقد استوفينا ما يتعلق بذلك فيما مضى (4).
فاما إذا روى الراوي الحديث العام ثم صرفه إلى بعض ما تناوله فمن
الناس من قال: يجب حمله على الخصوص لأنه اعرف بمراد الرسول من غيره
لمزية المشاهدة التي عندها تعرف المقاصد وهو المحكى عن بعض أصحاب أبي

(1) قال الشريف المرتضى (الذريعة 289: 1): «وأما نحن فنذهب إلي أن في الصحابة من قوله بانفراده حجة،
و هو أمير المؤمنين عليه السلام، لقيام الدليل على عصمته».
(2) انظر التعليقة رقم 1 صفحة 360.
(3) * العادة من جهة الأفعال قد تكون بأن يعتاد في فرد من العام العمل بخلاف حكم العام مثل أن يقول
«حرمت الربا في كل مكيل وموزون» ونفرض أن عادتهم الربا في البر، فلا يخص العام بما عدا البر سواء
كان العادة قبل ورود هذا الخطاب العام أو بعده، وقد يكون بأن يرد عام يشمل أنواعا من المأكولات مثلا.
و المعتاد ممن يخاطبون إنما هو أكل نوع مما يشمله اللفظ بعمومه مثاله أن تقول: «حرمت الربا في
المأكولات» ومن عادتهم أكل البر فقط، فلا يخص العام بالبر، فينبغي أن تحمل كلمة (بل) على الترقي،
(4) راجع كلام المصنف في صفحة 35 لغاية 42.
362

حنيفة لأنه كان يحمل ما رواه أبي هريرة من خبر ولوغ الكلب (1) على أن السبع ليس
على الوجوب من حيث كان يذهب إلى جواز الاقتصار على ثلاث.
وحكى أبو عبد الله عن أبي الحسن (2): أن التعلق بظاهر الخبر أولى.
ومنهم من قال: انه يجب أن ينظر فيه فان كان الراوي عدل عن ظاهر ما رواه
وجب التمسك بما رواه من اللفظ وان كان قال بأحد محتملاته حملت عليه وهذا
الذي يدل عليه ظاهر قول الشافعي واليه يذهب كثير من أصحابه (3) لأنه حمل ما
رواه ابن عمر في حديث الافتراق (4) على الافتراق بالبدن لان ابن عمر حمله على
ذلك وحمل قوله في حديث الربا: (يدا بيد) (5) ان المراد به أن لا يفترق الا بعد
التقابض من حيث حمله ابن عمر على ذلك ولم يصرف قوله: صلى الله عليه وآله
وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) (6) إلى الرجال وان كان ابن عباس صرفه إليهم.
والذي يجب أن يقول عليه في ذلك: ان الراوي إذا روى الخبر العام وحمله
على بعض ما تناوله وقال: انه علم ذلك من قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ضرورة وجب حمله على ما ذهب إليه لان وجوب حسن الظن به في نفس الخبر
يوجب حسن الظن به في قوله انه علم ذلك ضرورة من قصد الرسول صلى الله عليه

(1) روي البخاري بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: «إذا شرب الكلب في
إناء أحدكم فليغسله سبعا»، صحيح البخاري: باب ولوغ الكلب ح 37.
(2) أي أبي عبد الله البصري الفقيه (ت 369 ه‍) عن شيخه أبي الحسن الكرخي (ت 340 ه‍).
(3) ومنهم الشيخ أبي إسحاق الشيرازي حيث صرح بهذا الرأي في كتاب «شرح اللمع 390: 1».
(4) روي البخاري بإسناده عن ابن عمر قال: بعت من عثمان مالا بالوادي بمال له بخيبر فلما تبايعنا رجعت
على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يفترقا...»
صحيح البخاري: باب ما جاء في بيع الخيار حديث 67، المغني 7: 4.
(5) ويقصد بهذا الحديث قول النبي عليه السلام «بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر
كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالشعير كيف شئتم يدا بيد» وفي لفظ «إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا
كيف شئتم إذا كان يدا بيد» المغني 130: 4.
(6) كنز العمال 1: ح 378.
363

وآله وسلم.
وان كان ما ذهب إليه انما قاله بضرب من الاستدلال أو بخبر اخر أو قياس أو
غير ذلك فينبغي أن يتمسك بظاهر الخبر ويترك ما ذهب إليه لأنه يجوز أن يكون
أخطأ في جميع ذلك لشبهة دخلت عليه.
ومتى لم يظهر لنا ما حمله عليه وهل فعل ذلك لأنه علم ذلك من قصد
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة أو لوجه آخر من الاستدلال؟ وجب
التمسك بظاهر الخبر وان جاز أن يكون في الأصول ما لأجله حمله عليه.
ومتى كان ما رواه مجملا وصرفه إلى أحد الوجهين فمن الناس من قال: انه
يجب حمله عليه لان حسن الظن به يوجب ذلك إلا أن يكون قد حصل من الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم بيان يخالف ذلك فيعيد عليه.
ومنهم من قال: ان الجميع بمنزلة سواء في أنه يجب التمسك بقول الرسول
ودون قول الراوي بأنه لو عرف قصد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة
لرواه ولأزال عن نفسه ايهام مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا هو الأقوى.
364

فصل [15]
(في تخصيص الاجماع وتخصيص قول
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)
الاجماع لا يخلو من أن يكون على فعل (1) * أو على قول أو على رضا
بالشئ.
فان كان الاجماع فعلا التخصيص لا يسوغ فيه كما لا يسوغ في أفعال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك ان كان رضا بالشئ.
وان كان اجماعهم على القول فان كان عاما (2) * نظر فيه:
فان اضطررنا (3) * إلى قصدهم بذلك امتنع أيضا التخصيص فيه.
وان لم نضطر إلى قصدهم جاز التخصيص كما يجوز في عموم الكتاب.
وان كان ذلك القول نصا (4) * فالتخصيص فيه لا يجوز وان كان في حكم

(1) * بأن يفعل كل واحد من المجمعين الفعل المخصوص.
(2) * أي بدون أن يكون نصا في فرد.
(3) * أي علمناه قطعا بشئ خارج.
(4) * أي وإن كان ذلك القول عاما ونصا في فرد فصاعدا كان يخرج العام على سبب خاص سواء كان سؤالا أو
غيره، فالتخصيص فيه أي باعتبار الفرد المنصوص عليه لا يجوز، وإن كان له حكم العموم غير النص في فرد
365

العموم من حيث كان حال غير المنصوص عليه حاله.
واما قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
إذا ورد عنه فاقتضى (1) تحريم أشياء على المكلفين ثم وجد فاعلا لبعضها:
فمن الناس من قال: انه عليه السلام مخصوص بذلك الا أن يدل دليل على
خلافه فيخص به العموم لان الظاهر منه ان حاله كحال غيره الا أن يدل دليل على
أنه مخصوص به وهذا هو مذهب الشافعي (2) ولذلك خص به نهيه عليه السلام عن
استقبال القبلة لغائط أو بول لقعوده عليه السلام على لبنتين مستقبل بيت المقدس (3).
ويقول: ان فعله صلى الله عليه وآله وسلم قد علم بالدليل مساواة أمته له
فيصير كقول اخر عام في جواز تخصيص القول الأول به والقول الأول يحكى عن
بعض أصحاب الشافعي وانه حمل ما روى من تزويج ميمونة (4) وهو محرم على أنه
مخصوص به وانه لا يعترض على نهيه عن نكاح المحرم وهو الذي حكاه أبو

و هو جواز التخصيص من حيث كان حاله باعتبار الفرد غير المنصوص عليه حال العموم غير النص في فرد.
(1) واقتضى.
(2) قال شارح «التبصرة في أصول الفقه ص 240»: «مشاركة الأمة فيه فيما أمر به هو ظاهر كلام الشافعي في
البويطي «كما نقله الإسنوي في نهاية السؤل (71: 2) عنه، ونسبه ابن السبكي في رفع الحاجب (1: ق 420 -
ا) لابن السمعاني، وهو مذهب الحنفية وأحمد بن حنبل، ولكن جمهور الشافعية والأصوليين من المتكلمين
علي خلافه، وهو أنه خاص به حتى يقوم الدليل على مشاركة أمته له.
انظر: «المستصفي 22: 2، الإحكام 239: 2، رفع الحاجب 1: ق 420 ا، نهاية السؤل 71: 2، تيسير
التحرير 251: 1 تقرير التحبير 224: 1، اللمع: 12».
(3) صحيح البخاري: باب 13 كتاب الوضوء ح رقم 11.
(4) إن رواية تزويج النبي صلي الله عليه وآله وسلم ميمونه وهو محرم (السنن الكبري 66: 5) رواية شاذة لا
يعتد بمثلها في مقابل الروايات المتضافرة عن أصحاب السنن على أنه صلي الله عليه وآله وسلم تزوج
ميمونة وهو محل.
انظر: «سنن الترمذي: كتاب الحج، باب 23 ح 841، سنن ابن ماجة: كتاب النكاح باب 45 ح 1964،
صحيح البخاري: كتاب النكاح، باب نكاح المحرم: حديث 50».
366

عبد الله عن أبي الحسن (1) لأنه حمل ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
كشفه فخذه بحضرة بعض أصحابه (2) وما روى أنه استقبل بيت المقدس على أنه
مخصوص به فلم يخص قوله به ودل على ذلك بأن قال: ان فعله لا يتعداه الا
بدليل ولا يجوز أن يعترض به على القول الذي يقتضى تعديه إلينا.
والصحيح هو الأول لان الدلالة قد دلت على أن حكمنا وحكمه في فعله
واحد على ما نبينه فيما بعد فإذا فعل شيئا صار كأنه قال لنا هو مباح وقد علمنا أنه لو
قال ذلك لوجب تخصيص العموم به فكذلك يخص بفعله لأنه وقع هذا الموقع (3).

(1) أي أبي عبد الله البصري الفقيه (ت 369 ه‍) عن شيخه أبي الحسن الكرخي (ت 340 ه‍).
(2) صحيح البخاري باب 12 من كتاب الصلاة.
(3) وهذا مذهب الشريف المرتضى (ره) انظر: «الذريعة 306: 1».
367

فصل [16]
(في أن العموم إذا خرج على سبب خاص لا يجب قصره عليه)
اختلف الفقهاء في ذلك:
فمنهم من قال: انه يجب قصره عليه والى ذلك ذهب طائفة من أصحاب
الشافعي (1) وان كان كلام الشافعي محتملا له ولغيره (2).

(1) وهم إمام الحرمين الجويني، وأبو إبراهيم المزني، وأبو ثور الكلبي، ومحمد بن جعفر الدقاق، وأبو بكر
القفال وغيرهم.
انظر: «التبصرة: 145، ميزان الأصول 481: 1».
(2) قال محقق كتاب «التبصرة في أصول الفقه ص 145» (نسب إمام الحرمين في البرهان - كما قاله ابن
السبكي - نسب هذا القول [أي الاقتصار على السبب الخاص] للإمام الشافعي فقال: وهو الذي صح عندنا
من مذهب الشافعي، وتبع ابن الحاجب إمام الحرمين في هذه النسبة، ولكن الحق الصريح والقول الصحيح أن
الإمام الشافعي لم يقل به أبدا، والفروع الفقهية التي أوردها في الام وغيره تدل على أنه كان يذهب مذهب
الجمهور في هذه المسألة، ومن فهم منه أنه يقول بخصوص السبب إنما فهمه على غير حقيقته، وقد أطال
ابن السبكي في الكلام عنه في كتابيه رفع الحاجب (1: ق 378 ب) والإبهاج (2: 117) وبين أن مذهبه
مذهب الجمهور.
و قال الأسنوي في شرحه على البيضاوي ردا على دعوى الجويني [انظر: ميزان الأصول 481: 1]: (وما
قاله الإمام مردود فإن الشافعي قد نص على أن السبب لا أثر له، فقال في الام في باب ما يقع به الطلاق: وما
يصنع السبب شيئا إنما تصنعه الألفاظ).
368

وذهب الباقون (1): إلى أن الواجب حمل الكلام على ظاهره دون السبب إذا
أمكن ذلك فيه وهو مذهب جماعة من أصحاب الشافعي (2) ومذهب أبي
الحسن (3).
وقال: انه إذا لم يمكن حمله على ظاهره ولم يفد الا إذا علق به قصر عليه.
والذي نذهب إليه: ان كلامه عليه السلام لا يخلو من أن يكون مطابقا للسبب
من غير زيادة عليه أو يكون أعم منه:
فان كان مطابقا له من غير زيادة فلا خلاف انه يجب حمله عليه.
ومتى كان أعم منه وجب حمله على ظاهره ولا يقصر على سببه وهو على
ضربين:
أحدهما: أن يكون أعم منه في الحكم (4) * الذي يسأل عنه نحو ما روى عنه
عليه السلام انه سئل عن من ابتاع عبدا فاستغله ثم وجد فيه عيبا فقال عليه السلام:
(الخراج بالضمان) (5) وذلك يتناوله ويتناول كل بيع وكل مضمون.
ومنه ما يكون عاما في ذلك الحكم وفي حكم اخر يسأل عنه نحو ما روى
عنه عليه السلام انه سئل عن ماء البحر أيتوضأ به؟ فقال: (هو الطهور ماؤه والحل
ميتته) (6) فأجاب بما يقتضى جواز التوضؤ به وبما يقتضى جواز سائر الأحكام من
الشراب وإزالة النجاسة وغير ذلك.
فاما إذا كان كلامه متى لم يعلق بالسبب لم يفد وجب تعليقه به على كل

(1) راجع: «المعتمد 283: 1 - 279، أصول السرخسي 271: 1، روضة الناظر: 205، ميزان الأصول 481: 1».
(2) أمثال إمام الحرمين الجويني، وأبي إسحاق الشيرازي، وأبي حامد الغزالي، والرازي وغيرهم.
(3) هو أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي من أئمة الحنفية.
(4) * المراد أن يكون الحكم واحدا ومحل الحكم أعم.
(5) كنز العمال 93: 4 رقم 9698.
(6) كنز العمال 572: 9 رقم 27473.
369

حال (1) * وذلك نحو ما روى عنه عليه السلام انه سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال:
(أينقص إذا يبس؟) قيل له: نعم فقال: (فلا إذا) (2).
فاما إذا سئل عن أشياء فلا يخلو ان يكون الوقت وقت الحاجة أو لا يكون
كذلك:
فان كان وقت الحاجة فلا يجوز الا أن يجيب عن جميعه في الحال وان كان
قد تقدم منه بيان اخر يمكن الوصول إليه لان الوقت وقت الحاجة فلا يسوغ منه
عليه السلام الا بين له الوجوب عما سئل عنه. الا ترى ان المستفتي إذا استفتى
عن شئ مست الحاجة إليه لم يسع إليه الا يفتى فيه؟ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم
بذلك أولى.
وإذا لم يكن الوقت وقت الحاجة فلا يخلو السائل من أن يكون من أهل
الاجتهاد أولا يكون كذلك فان كان ممن يمكنه الوصول إلى ذلك وقد تقدم منه عليه السلام بيان لذلك جاز أن لا يجيب عنه ويحيله على ما تقدم من البيان
وكذلك قال عليه السلام لعمر لما سأله عن الكلالة فقال: (تكفيك اية الصيف) (3)
وقال له أيضا وقد سئله عن القبلة للصائم فقال: (أرأيت لو تمضمضت بماء ثم
مججته (4) * أكان يضرك؟) قال: قال: (ففيم إذا؟) (5) فنبهه على الجواب.
ان كان السائل عاميا يجوز أيضا أن يحيله على بيان ظاهر ويكون في حكم

(1) * أي وجب قصره عليه وليس فيه تقسيم.
(2) الإحسان بترتيب صحيح ابن حيان 234: 7 حديث 4982.
(3) قال القرطبي في تفسيره (29: 6) للآية 176 من سورة النساء: «هذه الآية تسمي بآية الصيف، لأنها نزلت
في زمن الصيف، قال عمر: إني والله لا أدع شيئا أهم إلي من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله صلي الله
عليه وآله وسلم عنها فما أغلظ لي في شئ ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بإصبعه في جبني أو في صدري ثم
قال: «يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء»!
(4) * مج الشراب من فيه رمي به.
(5) كنز العمال 615: 8 رقم 24401.
370

المجيب وذلك في نحو قوله عليه السلام للسائل: (توضأ كما امرك الله تعالى) (1)
فاحاله على الآية.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وجوه:
منها: ما ذكره أبو عبد الله البصري (2) وهو: (ان كلامه عليه السلام هو الدلالة
على الحكم فيجب أن يعتبر صفته في الدلالة دون صفة غيره فإذا كان عاما دل على
حسب دلالة العموم وكذلك ان كان خاصا كما أنه يعتبر صفته في كونه أمرا ونهيا
وإباحة).
ومنها: ان العموم لو انفرد عن السبب لوجب حمله على عمومه فكك إذا
أخرج عند السبب لان ذلك ممكن فيه لان السبب لم يؤثر فيه لأنه ليس ينافي
السبب بيانه عليه السلام لحكم غيره كما لا ينافي بيانه لحكمه فيجب حمله على
جميعه.
ومنها: انه لو ابتدأ عليه السلام لكم النهى والسبب حاصل فخاطب بالعموم
ولما سئل عنه لوجب حمله عليه فكذلك إذا سئل عنه لان قصده عليه السلام في
الحالين لم يختلف وان كان مبتدئا للحكم في أحدهما ومجيبا للاخر وعلى ذلك
حمل الفقهاء خطاب الله تعالى في اية اللعان (3) وان خرجت على سب هلال بن أمية
العجلاني على كل رام زوجته وآية القذف (4) وردت فيمن تكلم في عائشة وحملت

(1) نصب الراية لأحاديث الهداية 367: 1.
(2) هو الشيخ أبو عبد الله الحسين بن على البصري الكاغذي المعروف بالجعل، تتملذ على أبي على بن خلاد
و أبي هاشم ولازم مجلس أبي الحسن الكرخي، ولكنه بلغ بجده واجتهاده مرتبة عالية، عد من أعيان المعتزلة
و في الطبقة العاشرة من أعلامهم، كان يميل إلي العلويين ويقدم أهل البيت عليهم السلام على من سواهم
و صنف في ذلك كتاب «التفضيل» توفي سنه 367 أو 369 ه‍ عن عمر ناهز الثمانين.
(3) وهي قوله تعالي: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء...) النور: 6.
(4) وهي قوله تعالي: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء...) النور: 4.
371

على الجميع وكذلك اية الظهار (1) وردت في سلمة بن صخر (2) وحملت على كل
مظاهر وهذا بين وانما حملناه على السبب إذا لم يفد بنفسه لان الظاهر (3) أوجب
ذلك فليس يجب حمل ما استقل بنفسه من الجواب على ما لا يستقل بنفسه
لمفارقته في علته.
فاما تعلقهم بأنه لو لم يرد السبب لم يكن يتأخر الخطاب إلى وقت حدوثه
فلما اخره إلى ذلك الوقت علم أنه المراد فبعيد لأنه لا يمتنع أن يكون الصلاح في
تأخيره إلى ذلك الوقت ولا يمتنع ذلك من بيان حكم غير السبب معه ولو وجب
ذلك لوجب حمل الكلام على عين السائل وعلى ذلك الوقت والمكان لهذه العلة
وذلك ظاهر الفساد.
وقولهم: ان من حق الجواب ان يطابق السؤال وان ذلك يوجب حمل الكلام
على السبب فغلط لان من حق الجواب أن ينتظم بيان ما سئل عنه وانه لا يقتضى
غيره غلط لان فيه اخراجه من كونه جوابا. فاما إذا اقتضى بيان حكمه وحكم غيره
فقد حصل جوابا له وزاد عليه ولا يمنع هذه الزيادة من كونه جوابا لما لو بين حكمه
فقط لكان جوابا لأنه في الحالين حصل به بيان السؤال.
وهذه جملة كافية في هذا الباب.

(1) وهي قوله تعالي: (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن...) المجادلة: 2 - 4.
(2) هو سلمة [أو سلمان] بن صخر بن سلمان الخزرجي البياضي، صحابي، ويقال هو الذي ظاهر امرأته
فنزلت آية الظهار، ولم يرو عنه إلا حديث مسند واحد في صحاح أهل السنة وهو حديث الظهار.
(3) في الأصل: الضرورة.
372

فصل [17]
(في ذكر ما الحق بالعموم وليس منه وما اخرج منه وهو منه)
الافعال لا يصح ادعاء العموم فيها لأنها لا تقع الا على وجه واحد فينبغي أن
يراعى (1) الوجه الذي وقع عليه الفعل فان علم صح التعلق به وجرى ذلك مجرى
النص على عين واحدة وان لم يعلم الوجه الحق بالمجمل.
وإذا ثبت ذلك فلا يصح ان يتعلق بما روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(قضى بالشاهد واليمين) (2) وقضى (ان الخراج بالضمان) (3) لان ذلك حكاية فعل.
ومن الناس من فرق فقال: إذا روى أنه (قضى بكذا وكذا) لا يصح التعلق به
لأنه ينبئ عن الفعل وإذا روى أنه (قضى كذا وكذا فيه كذا وكذا) صح التعلق به
لأنه ينبئ عن انه قال ذلك.
ومن الناس من سوى بين اللفظين وقال: لا فرق بينهما في أنه لا يصح التعلق به
وقال: لا يمتنع ان يقال في القضاء الذي هو الحكم في القضية المقضى فيها هذا القول.
والأولى عندي أن يكون بينهما فرق لأنه إذا قال: (قضى رسول الله صلى الله

(1) في الأصل: تراع.
(2) المغني لابن قدامة 13: 12.
(3) كنز العمال 93: 4 رقم 9698.
373

عليه وآله وسلم بالشاهد واليمين) فهم منه حكاية فعل لا غير وليس كذلك إذا روى أنه
: (قضى ان الخراج بالضمان) (1) (وان الشفعة للجار) (2) لأنه يسبق إلى الفهم انه
قال ذلك قولا لا فعلا.
الا أنه وان كان كذلك لا يقتضى صحة التعلق به لأنه لا يعلم أنه قال ذلك بقول
يقتضى العموم أو بقول يقتضى الخصوص ويفيد الحكم في تلك العين وإذا كان
كذلك صار مثل الأول في أنه ينبغي أن يلحق بالمجمل.
وإذا ثبت هذه الجملة فلا يصح التعلق بما روى أنه: (قضى بالشاهد واليمين)
و (ان الخراج بالضمان) لما قلناه الا أن يدل دليل على الحاق غيره به فيحكم به.
وعلى هذا لا يصح لأصحاب مالك ان يحتجوا فيمن أفطر في شهر رمضان بأي
وجه كان فعليه الكفارة بما روى أن رجلا أفطر فأمره صلى الله عليه وآله وسلم
بالكفارة (3) لان الرجل انما سأله عن حكاية فعل ولم يسأله عن حكم من أفطر
وأطلق القول فقال عليه السلام (فعليه الكفارة) (3) لأنه لو كان كذلك لكان يصح
التعلق به ولكان يجرى مجرى أن يقول: (من أفطر فعليه الكفارة) فإذا قال ذلك أفاد
العموم في كل ما يفطر به.
وكذلك لا يصح التعلق بما روى عنه عليه السلام انه جمع بين الصلاتين (4)
في السفر في جواز الجمع لان ذلك حكاية فعل.
ولمن خالف في ذلك أن يحمله على جمع مخصوص في بعض الاسفار أو

(1) كنز العمال 93: 4 رقم 9698.
(2) كنزل العمال 8: 7 رقم 17710.
(3) زوي مالك في موطأه 1 / كتاب الصيام، باب (9) حديث رقم 28 بسنده عن أبي هريرة: «أن رجلا أفطر
في رمضان، فأمره رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أن يكفر...».
(4) روي البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: «قال: كان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يجمع
بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء». صحيح البخاري: كتاب
الصلاة، ب 6 أبواب تقصير الصلاة - باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء.
374

إلى أنه جمع بينهما بعرفة فلا يصح ادعاء العموم فيه.
فاما إذا روى أنه كان يجمع بين الصلاتين في السفر (1) فيصح التعلق به
لان ذلك يفيد تكرار ذلك في حال السفر وان ذلك عادته.
فاما من ضعف هذا الوجه بان قال: انما يفيد لفظة (كان) انه فعل ذلك فيما
مضى ولا يفيد التكرار فلا يصح التعلق به فغير صحيح لأنه وان أفاد الاخبار عما
مضى فإنه يفيد تكرار الفعل مع ذلك الا ترى ان القائل إذا قال: (كان فلان القاضي
يحكم بالشاهد واليمين) لا يفهم من ذلك الا أنه كان ذلك عادته في جميع الأحكام؟
وكذلك إذا قال: (كان أبو حنيفة يقول بتحليل النبيذ وكان الشافعي يقول بتحريمه) لم
يفهم من ذلك الا أن ذلك كان عادتهما وقولهما في جميع الأحوال ولا يسبق إلى
قلب أحد انهما قالا ذلك دفعه واحدة وانما كانت فيما مضى فعلم بذلك ان الأولى
ما ذكرناه.
وان كان يفيد الحكم فيما يسأل عنه نظر فيما سئل عنه:
فان كان واقعا على وجه واحد فالجواب بحسبه وان كان ذلك غير معلوم من
حاله كان الجواب في حكم العموم وذلك نحو ان يسأل عليه السلام عن رجل أفطر
في رمضان عليه الكفارة أو لا ولا يعلم بماذا أفطر فمتى أجاب بايجاب الكفارة صار
كأنه قال: (كل من أفطر فعليه الكفارة) واقتضى ذلك عموم وجوب الكفارة على كل
مفطر.
ومتى كان المعلوم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم انه أفطر بوجه واحد
وكان سؤاله ينبئ عن ذلك لفظا أو معنى فجوابه عليه السلام مصروف إليه ولا يتعدى
به إلى غيره الا بدليل.
وعلى هذا إذا سئل عليه السلام عمن زنا فامر برجمه كان قوله - وان لم يكن
عاما في اللفظ - فهو في حكم العموم في أنه يقتضى رجم كل زان.

(1) لاحظ تخريج الحديث في هامش رقم (4) صفحة 374.
375

وقد الحق قوم بهذا الباب اثباته عليه السلام الحكم في عين وتعليله له بعلة
يقتضى التعدي إلى غيره (1) نحو قوله عليه السلام في الهرة: (انها من الطوافين
عليكم والطوافات) (2) وقالوا: هذا وان لم يمكن أن يدعى فيه العموم فهو في حكمه
في أن ذلك الحكم متعلق بكل ما فيه تلك العلة حتى يصير بمنزلة تعليق الحكم باسم
يشتمل جميعه.
وهذا انما يمكن ان يعتبره من قال بالقياس فاما على مذهبنا في نفى القياس
فلا يمكن اعتبار ذلك أصلا.
على أن فيمن قال بالقياس من منع من ذلك (3) وقال: (ان النبي صلى الله عليه
وآله وسلم لو نص على العلة في شئ بعينه لم يجب الحاق غيره به الا بعد اثبات
التعبد بالقياس فاما قبل العبادة فلا يصح ذلك فيه ولذلك لو قال: (حرمت المسكر
لأنه حلو) لم يجب أن يحكم بتحريم كل حلو الا بعد العبادة بالقياس) (4).
وكذلك ينبغي أن يكون قوله فيما ذكرنا.
فاما ما روى عنه عليه السلام من ليس الامر فيه على ما ظن بعضهم (5) من أنه يفيد

(1) قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في «التبصرة في أصول الفقه ص 436»: «إذ حكم صاحب الشرع بحكم
في عين، ونص على علته، وجب إثبات الحكم في كل موضع وجدت فيه العلة، وهو قول النظام، والقاشاني،
و النهرواني، وغيره من نفاة القياس، وهو مذهب الكرخي».
(2) روي المتقي الهندي انه صلي الله عليه وآله وسلم قال: «إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم
و الطوافات، يعني الهرة» كنزل العمال 399: 9 حديث رقم 26677.
(3) قال الشيرازي في «التبصرة» ص 437: «ومن أصحابنا من قال: لا يجوز إجراء العلة في كل موضع
وجدت حتى يدل الدليل على ذلك، وهو قول البصري من أصحاب أبي حنيفة».
و علق محقق «التبصرة في أصول الفقه» على قول الشيرازي: «وهذا هو مذهب أكثر أصحاب الشافعي،
و به قال أبو إسحاق الإسفراييني، وجعفر بن مبشر، وجعفر بن حرب، وأهل الظاهر.
قال ابن السبكي: وإليه ذهب المحققون، كالأستاذ، والغزالي، والرازي وأتباعه، والآمدي».
(4) انظر: «التبصرة في أصول الفقه ص 437، المعتمد 235: 2، الذريعة 294: 1».
(5) وهذا مذهب الشريف المرتضى (الذريعة 294: 1) حيث قال: «و مثله (الزعيم غارم) لأن فيه معني التعليل
376

العموم من جهة التعليل لأنه دل على أن غرمه انما كان لأجل كونه زعيما فيكون
عاما في الحكم وان لم يكن عاما في اللفظ لأنا قد بينا ان ذلك يفيد الاستغراق
وكذلك القول في الأسماء المشتقة التي دخل عليها الألف واللام نحو قوله:
(والسارق والسارقة) (1) (والزانية والزاني) (2) كل ذلك يفيد الاستغراق على
ما بيناه لفظا ولم يفد ذلك تعليلا على ما ذهب إليه قوم.
وإذا روى عنه عليه السلام انه سهى فسجد بان علم أن سجوده كان لأجل
السهو كان ذلك جاريا مجرى قوله صلى الله عليه وآله وسلم (من سهى فليسجد) (3)
لما دل الدليل على أن حكم غيره حكمه في الشرعيات.
ويلحق بهذا الباب فحوى الخطاب ودليل الخطاب في أنهما يفيدان العموم
من جهة المعنى وان لم يفيدا ذلك أيضا الا ترى ان قوله تعالى: (ولا تقل لهما
أف) (4) يجرى مجرى قوله ولا تؤذهما؟
وكذلك قوله: (ولا يظلمون فتيلا) (5) يفهم منه انهم لا يظلمون القناطير فهو
وان لم يفد ذلك لفظا فقد أفاد ذلك معنى على أبلغ الوجوه (6) *.
وكذلك إذا قال: (في سائمة الغنم زكاة) (7).

و الإشارة إليه.
(1) المائدة: 38.
(2) النور: 2.
(3) انظر الأحاديث الواردة في سجدتي السهو والمشهورتين بسجدتي السهو المرغمتين في (كتاب السهو) من
المستدرك على الصحيحين 325: 1 - 322.
(4) الإسراء: 23.
(5) النساء: 49.
(6) * لما مر «في فصل في ذكر الوجه الذي يجب أن يحمل عليه مراد الله بخطابه» من أن فحوى الخطاب
و دليل الخطاب من قبيل الكناية، ومشهور أن الكناية أبلغ من الصريح.
(7) وسائل الشيعة: باب 7 أبواب زكاة الأنعام، حديث رقم 1 و 2.
377

ومن قال: ان تعليق الحكم من تحليل أو تحريم إذا علقا (1) بالأعيان اقتضيا (2)
العموم في المعنى وان لم يكن عاما من جهة اللفظ فسنبين ما عندنا في ذلك فيما
بعد إن شاء الله.
وهذه الجملة كافية في هذا الباب.

(1) علق.
0 2) اقتضى.
378

فصل [18]
(في ذكر غاية ما يخص العموم إليها) (1)
يجوز تخصيص العموم إلى أن لا يبقى من اللفظ الا واحد ولا فرق في ذلك

(1) اختلف الأصوليون في الغاية التي يمكن أن يبلغها تخصيص العموم، ويمكن عد المذاهب الموجودة فيها
كما يلي:
1 - يجوز تخصيص العموم إلي أن يبقي من اللفظ واحد، وهذا مذهب المصنف من الإمامية، وأبي
إسحاق الشيرازي والحنابلة من العامة.
2 - يجوز تخصيصها إلي أن يبقي ثلاثة ولا يجوز أكثر من ذلك. وهذا مذهب أبي بكر القفال، وتبعه
الغزالي في المستصفي.
3 - لابد من بقاء جمع كثير، وقد اختلفوا في معني الجمع الكثير بين قائل إنه لابد أن يقرب من مدلوله
قبل التخصيص، وبين لزوم أن لا يكون الباقي بعد التخصيص محصورا ومعدودا، وهذا مذهب أبي الحسين
البصري المعتزلي، وإمام الحرمين الجويني، والرازي وجمع كثير من الأصوليين.
4 - جواز التخصيص إلي أن يبلغ الواحد مطلقا، أي سواء كان من صيغ الجموع أم لا.
5 - التفصيل بين المخصص المتصل والمنفصل، فإن كان المخصص متصلا وبالاستثناء أو البدل جاز
إلي الواحد، وإن كان بالصفة أو الشرط فيجوز إلي اثنين، وإن كان التخصيص منفصلا فإن الأمر يختلف بين
المحصور وغيره، ففي الأول يجوز التخصيص إلي اثنين وفي الثاني يجوز التخصيص، لكن بشرط أن يبقي
الباقي قريبا من مدلول العام، وهذا المذهب منسوب لابن الحاجب.
انظر: «الذريعة 297: 1، التبصرة: 125، المستصفي 26: 2، المنخول: 48، الإبهاج 76: 2، الأحكام 2:
261، المعتمد 236: 1، ميزان الأصول 440: 1 - 439، شرح اللمع 342: 1، روضة الناظر: 210».
379

بين ألفاظ الجموع وبين لفظة (من) و (ما) وغير ذلك إذا دل الدليل عليه.
وفي الناس من قال: يجوز أن يخص إلى أن تبقى ثلاثة ثم لا يجوز دخول
التخصيص فيه نحو قوله: (اقتلوا المشركين) (1) لا يجوز أن يريد به أقل من ثلاثة
وفصل بين ذلك وبين من قال: جاز تخصيص لفظة (من) إلى أن يبقى منها واحد (2).
والذي يدل على ما اخترناه: انا قد دللنا (3) على أن لفظ العموم متى استعمل
في غير الاستغراق كان مجازا وإذا كان مجازا فلا فرق بين استعماله في الواحد وبين
استعماله فيما هو أكثر منه يبين ذلك أنه لما جاز ذلك في لفظه (من) كان تجويز ذلك
في ألفاظ الجمع مثله سواء وقد أجاز أحدهما المخالف فينبغي أن يكون حكم
الاخر مثله.
على أن استعمال ذلك لأهل اللغة ظاهر لأنهم استعملوا لفظ العموم في
الواحد كما استعملوه في الثلاثة وأكثر من ذلك قال الله تعالى: (انا نحن نزلنا الذكر
وانا له لحافظون) (4) فأخبر عن نفسه بنون الجمع وبالواو والنون وهو واحد.
وقال الشاعر:
انا وما أعني سوى أني (5).
فعبر عن نفسه بلفظ الجمع.
وقد تجاوزوا ذلك إلى أن عبروا بلفظ الألف عن الواحد كما روى عن عمر انه لما

(1) التوبة: 5.
(2) انظر التعليقة رقم (1) ص 379.
(3) راجع الفصل رقم (2) ص 278.
(4) الحجر: 9.
(5) لم نعثر عليه في المجاميع الشعرية المتوفرة لدينا.
380

كتب إلى سعد بن أبي وقاص (1) وقد انفذ إليه القعقاع بن شور (2) مع الف رجل:
(قد أنفذت إليك ألفي رجل) (3) فعبر عن القعقاع وحده بعبارة الألف لما اعتقد انه
يسد مسد الألف في الحرب وهذا واضح.

(1) هو سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري، الصحابي وقائد جيوش المسلمين في معارك فتح العراق وبلاد
فارس، ومن أصحاب الشورى بعد مقتل عمر بن الخطاب، ولد عام 23 ه‍ أسلم وهو ابن 17 سنة وشهد
بدرا، وهو الذي بني مدينه الكوفة وخططها وظل عليها واليا أيام خلافة عمر وفترة من خلافة عثمان، ثم
عزله فعاد إلي المدينة وسكن فصره بالعقيق ومات فيه سنه 55 ه‍.
(2) الظاهر أن المقصود من القعقاع بن عمرو التميمي لا ابن شور وذلك بقرينه مشاركته في معارك
فتح العراق فالمشهور أنه القعقاع بن عمرو التميمي فقد قيل في وصفه إنه من الصحابة، وأحد فرسان
العرب وشجعانهم في الجاهلية والإسلام وإنه شهد معارك صفين وفتح العراق والشام وإنه كان يتقلد سيف
هرقل (ملك الروم) ودرع بهرام (ملك الفرس) متفاخرا بذلك!! ويقال إن جميع هذه الأساطير كان من نسيج
خيال راو كذاب وضاع وهو سيف بن عمر، حيث اختلق أسطورة القعقاع ونسب إليه العجائب والخوارق في
كتابه المسمي ب (الفتوح)، وقد أكثر الطبري الرواية عنه في تاريخه مما سبب في إشاعة أسطورته.
(3) المعتمد 237: 1.
381

فصل [19]
(في ذكر ما يخص في الحقيقة وما يخص في المعنى
وما لا يجوز دخول التخصيص فيه)
الأدلة على ثلاثة اضرب:
منها: ما هو عام من جهة اللفظ.
ومنها: ما هو عام من جهة المعنى.
ومنها: ما ليس بعام لا لفظا ولا معنى.
فاما ما هو عام لفظا: فالتخصيص يجوز أن يدخله بجميع الأدلة التي ذكرناها
التي يخص بها العموم وذلك لا خلاف فيه.
واما ما هو عام من جهة المعنى فعلى ضربين:
أحدهما: قياس.
والاخر: استدلال.
فاما القياس: فعندنا انه ليس بدليل أصلا ومن قال إنه دليل وأجاز تخصيص
العلة جوز تخصيصه ومن لم يجز تخصيص العلة لم يجز ذلك.
فاما الاستدلال: فنحو دليل الخطاب وفحوى الخطاب ونحو ان ينص النبي
صلى الله عليه وآله وسلم على حكم في عين ثم علم بالدليل ان حكم غيره حكمه
382

فان التخصيص في جميع ذلك يجوز في المعنى وان لم يسم ذلك تخصيصا.
ومثل ذلك: استدلالنا بجواز وطء أم الولد على أن الملك باق وإذا كان
الملك باقيا وجب أن يتبعه جميع أحكامه الا ما يخصه الدليل وغير ذلك من
المسائل.
واما ما لا يدخله التخصيص أصلا: لأنه ليس بعام لا لفظا ولا معنى فنحو أن
ينص عليه السلام على عين واحدة أو يقدم على فعل واحد ويخصص ذلك العين
بذلك الحكم فان معنى التخصيص لا يسوغ فيه وذلك نحو تخصيصه عليه السلام
أبا بردة بجواز أضحيته (1) وما شاكله.
فإذا ثبتت هذه الجملة فمتى ورد عام لفظا جاز تخصيصه لفظا بالأدلة التي
قدمناها.
وما ليس بعام: فان كان المحتج به يحتج باللفظ منع من التعلق به وان احتج به
في المعنى جاز أن يعترض عليه بجميع ما يخص به العموم وان لم يسم ذلك
مخصصا وما كان خاصا بعين واحدة لا يتعداه فالتخصيص في المعنى واللفظ لا
يصح فيه.
وهذه جملة كافية في هذا الباب.

(1) روي البخاري بسنده عن البراء بن عازب قال: «ضحي خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة، فقال له رسول
الله صلي الله عليه وآله وسلم: شاتك شاة لحم، فقال: يا رسول الله إن عندي داجنا جذعة من المعز، قال:
اذبحها ولن تصلح لغيرك...)). صحيح البخاري، باب 7 كتاب الأضاحي حديث 12.
383

فصل [20]
(في أن الشرط والاستثناء إذا تعلقا ببعض ما دخل تحت العموم لا
يجب أن يحكم ان ذلك هو المراد بالعموم لا غير)
إذا ورد لفظ عام وتعقبه شرط (1) * علم أنه راجع إلى بعضه لا يجب أن يحمل
اللفظ العام على ما تعلق به (2) ذلك الشرط بل لا يمتنع أن يكون العام على عمومه
وان ذكر بعده شرط يرجع إلى بعضه وذلك نحو قوله: (يا أيها النبي إذا طلقتم
النساء فطلقوهن لعدتهن) (3) فان ذلك عام في الطلاق والمطلقات ثم قال بعد ذلك:
(لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) (4) وذلك يختص الرجعي (5) * ولا يجب من ذلك

(1) * إنما اكتفي به هنا لأن الاستثناء كالوصف يرجع إلي الشرط ف (إلا أن يعفون) يرجع إلي بشرط أن لا
يعفون.
(2) على ما تعلق ذلك الشرط به.
(3) الطلاق: 1.
(4) الطلاق: 1.
(5) * اختلفوا في «أمرا» ففسره بعضهم بالأعم من إرادة الرجعة والاستئناف وعلي هذا ليس مما نحن فيه،
والأكثر على أن المراد منه إرادة الرجعة ويؤديه أن إرادة الاستئناف لا تعلق بأيام العدة حتى يكون مصلحة
وحكمه للسكنى والنفقة فيها، ثم اختلفوا على تقدير إرادة الرجعة في تخصيصه العام السابق، قال في مجمع
البيان: «ويجب السكني والنفقة للمطلقة الرجعية بلا خلاف، فاما المبتوتة ففيها خلاف، فذهب أهل العراق
384

حمل أول الآية عليه.
ومثل قوله: (لا جناح عليكم ان طلقتم النساء) (1) ثم قال بعد ذلك (الا أن
يعفون) (2) فكان أول الآية عاما في جميع النساء وان كان جواز العفو مخصوصا
بمن يملك امره منهن ويصح عفوهن دون من لا يصح ذلك منه فلا يجب تخصيص
أول الآية بهن بل كان عاما في سائر النساء.
وكذلك إذا ذكرت جملة عامة وعطف عليها جملة خاصة لا يجب من ذلك
حمل الأدلة عليها بل يجب حمل الأولى على عمومها والثانية على خصوصها
وذلك نحو قوله: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) (3) ثم قال بعد ذلك
عاطفا على ذلك: (وبعولتهن أحق بردهن) وذلك يختص الرجعيات ولا يجب من
ذلك حمل أول الآية عليه بل كان عاما فيهن وفي غيرهن ممن لا يمكن مراجعتهن.
ومثل ذلك قوله تعالى: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم) (4) كان
ذلك عاما في جميعهن ثم قال: (وأولات الأحمال أجلهن ان يضعن حملهن)
ولا يجب من ذلك حمل أول الآية عليهن ولذلك نظائر كثيرة.
والذي ينبغي ان يحصل في هذا الباب (5) * انه إذا ورد لفظ عام ثم وصف

إلي أن لها النفقة والسكنى معا، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وذهب الحسن وأبو ثور إلي
أنه لا سكني لها ولا نفقة وهو المروي عن أئمة الهدي عليهم السلام، وذهب إليه أصحابنا، ويدل عليه ما رواه
الشعبي قال: دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة فسألتها عن قضاء رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم؟
فقالت: طلقني زوجي البتة فخاصمته إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في السكني والنفقة فلم يجعل
لي سكني ولا نفقة وأمرني أن أعتد في بيت أم مكتوم».
(1) البقرة: 236.
(2) البقرة: 237.
(3) البقرة: 228.
(4) الطلاق: 4.
(5) * حاصله: أن الشرط والصفة إذا علم أنهما لا يتحققان في جميع ما تناوله اللفظ بحسب الوضع أي علم أنهما
مخصصان لا لمحض البيان أو التأكيد أو نخوهما، فإن تعلقا بجميع اللفظ يكون المشروط والموصوف
385

بصفة أو شرط بشرط وعلم أنه لا يصح ذلك الشرط ولا تلك الصفة في جميع ما
تناوله اللفظ العام وجب حمل اللفظ العام عليه إذا كان الشرط والصفة متعلقين
بجميع اللفظ فإن كان الشرط والصفة متعلقين ببعض ما تناوله اللفظ العام لم يجب
ذلك وكان حكمه ما قدمناه في أول الباب.
فاما إذا كان الكلام في جملتين قد عطفت إحداهما على الأخرى فينبغي أن
ينظر في الجملة الثانية فلا يخلو أن يكون متناولة لمثل ما تناولته الجملة الأولى أو لا
يكون كذلك.
وان كانت متناولة لمثل ما تناولته الأولى فلا يخلو أن يكون موافقة أو مخالفة
فان كانت موافقة له في الحكم فان ذلك يكون تأكيدا ويجب حملها على مثل ما
حملت عليه الجملة الأولى.
وان كانت الجملة الثانية متناولة لمثل ما تناولته الأولى وكانت مخالفة لها في
الحكم فلا تعلق لها بالجملة الأولى وكانت كآية أخرى يجب حملهما على
ظاهرهما.
وان كانت متناولة لمثل ما تناولته الأولى وكانت مضادة (1) لها في الحكم
فذلك لا يجوز وقوعه من الحكيم تعالى لأنه يؤدي إلى التناقض والبداء (2) وهما

جميع ما أريد باللفظ نحو (اضرب الرجال إن ضربوك)، و (اضرب الرجال السود) وجب حمل العموم علي
المتحقق فيه ذلك الشرط والصفة وقد مر دليله في فصل «في أن العموم إذا خص كان مجازا»، وإن تعلقا
ببعض ما أريد باللفظ بأن يكون المشروط والموصوف بعضا منه والباقي من الأفراد باقيا على الحكم
السابق عليهما نحو (اضرب الرجال) بشرط الضرب في علمائهم، فلا يجب أن يحمل العام على المتحقق
فيه هذا الشرط بل يجب حمله على جميع الجهال من الرجال والضاربين من العلماء ويجعل العلماء غير
الضاربين خارجين عن المراد، وهذا أيضا ظاهر مما مر في الفصل المذكور، فقوله: «لا يصح» معناه لا
يتحقق.
(1) في الأصل: متضادة.
(2) إن لفظ البداء يطلق ويراد منه معنيين:
الأول: معناه اللغوي الموضوع له وهو الظهور والانكشاف.
386

منفيان عنه تعالى. فنظير الجملة المؤكدة ان يقول: (اقتلوا المشركين) ثم يعطف على ذلك
فيقول: (واقتلوا الكفار).
ونظير الجملة المخالفة ان يقول: (اقتلوا المشركين وخذوا غنائمهم واسبوا
ذراريهم) أوما يجرى مجرى ذلك.
ونظير المتضادة أن يقول: (اقتلوا المشركين ولا تقتلوا الكفار) فان ذلك ينفى
ما أثبتته الجملة الأولى وذلك لا يجوز على الحكيم تعالى.
وإذا كانت الجملة الثانية أخص من الجملة الأولى أو أعم منها وان كانت
تقتضي مثل حكم الأولة كانت تأكيدا أو ذكر التفخيم ما ذكر في الأولى وعلى ذلك
يحمل قوله: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل) (1) وكذلك قوله: (فيها
فاكهة ونخل ورمان) (2) فان ذلك اما ان نحمله على التأكيد أو على تفخيم سائر ما
أفرد بالذكر.
وعند من قال بدليل الخطاب من أصحاب الشافعي وغيرهم ان افراد بعض ما
تناوله لفظ العموم بالحكم يدل على أنه أراد بالعموم الخصوص (3) وعلى هذا حمل

الثاني: هو الانتقال والتحول من عزم إلي عزم بحصول العلم أو الظن بالشئ بعد ما لم يكن حاصلا.
و البداء بالمعني الثاني مما لا يجوز إطلاقه على الله سبحانه وتعالي لاستلزامه حدوث العلم وتجدده له وهما
منفيان عنه تعالي بدلالة الأدلة العقلية والنقلية، فمتي ما أضيفت إليه تعالي لفظة «البداء» فالمراد منه يكون
ظهور أمر غير مترتب أو حدوث شئ لم يكن في حسبان المكلفين حدوثه ووقوعه، نظير ما ورد في قوله
تعالي (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) [الزمر: 47].
(1) البقرة: 98.
(2) الرحمن: 68.
(3) اختلف الأصوليون في حكم الكلام العام إذا لحقه خصوص في آخره وشمل بعض ما يتناوله النص، فهل
يوجب سلب عمومه أم لا؟
1 - قال بعضهم: إن الخصوص لا يوجب سلب عموم الكلام، ومنهم القاضي عبد الجبار، والآمدي، وابن
الحاجب، والسبكي.
387

قوله: (لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة
ومتعوهن على الموسع قدره) (1) على أن المتعة إنما يجب لغير المدخول بها إذا لم
يسم لها مهرا.
ومن خالفه قال: يجب المتعة لكل مطلقة (2).
وسنذكر ما عندنا في دليل (3) الخطاب فيما بعد [إن شاء الله.
والأقرب على مذهب من يقول بدليل الخطاب] (4) ان يقال: إن الآية تصير
مجملة وتفتقر إلى البيان لأنه ليس بأن يقال ان العموم في الأولى يمنع من دليل
الخطاب في الثانية بأولى من أن يقال ان دليل الخطاب في الثانية يمنع من حمل
الأولى على العموم فإذا (5) تساوى القولان وجب أن يوقف ذلك على البيان ويكون
مجملا على ما بيناه.
وان كانت الجملة الثانية مخالفة للأولى في الحكم كانت كآية أخرى لا تعلق

2 - قال آخرون: إنه يوجب سلب العموم ويصير النص خاصا من الابتداء، وقد نسب هذا القول
لبعض الأحناف وأبي ثور.
3 - قالت جماعة ثالثة: إنه يوجب سلب العموم ويصير النص العام خاصا ولا يبقي العام موجبا للحكم
بل يثبت الكلام بدليل آخر، وإلا فيبقي على أصل العدم، وهذا قول أصحاب الشافعي.
4 - وذهب جماعة إلي القول بالوقف: وهو قول أبي الحسين البصري، والرازي، وإمام الحرمين الجويني
و غيرهم.
انظر: «ميزان الأصول 479: 1 - 478، الأحكام 488: 2، المعتمد 283: 1، الذريعة 299: 1 - 298».
(1) البقرة: 236.
(2) قال أبو الحسين البصري «المعتمد 284: 1»: (إن الظاهر يفيد رجوع ذلك إلي جميع النساء، هو أن العفو
معلق بكناية، والكناية يجب رجوعها إلي المذكور المتقدم، والمذكور المتقدم هن المطلقات لا بعضهن
فقط».
(3) في الأصل: بدليل.
(4) زيادة من النسخة الثانية.
(5) في الأصل: إذا.
388

لها بالجملة الأولى على ما بيناه في الجملتين المتماثلتين في العموم.
وان كانت ضدا للجملة الأولى فان كانت الجملة الأولى أعم والثانية أخص
وذلك على أنه أراد بالجملة الأولى وما عدا ما ذكر في الجملة الثانية.
وان كانت الجملة الثانية أعم دل ذلك على أنه أراد بالثانية ما عدا ما ذكر في الجملة
الأولى.
ونظير الأول ان يقول: (اقتلوا المشركين) ويقول بعده: (ولا تقتلوا اليهود
والنصارى) فإن ذلك يفيد أنه أراد بلفظ المشركين ما عدا اليهود والنصارى وإلا كانت
مناقضة أو بداء وذلك لا يجوز.
ونظير الثاني ان يقول أولا: (لا تقتلوا اليهود والنصارى) ثم يقول بعده: (اقتلوا
المشركين) فان ذلك يدل على أنه أراد بلفظ المشركين في الثانية ما عدا ما ذكر في
الجملة الأولى ولولا ذلك لأدى إلى ما قدمناه وأبطلناه.
وليس لاحد أن يقول: هلا حملتم الثانية على انها ناسخة؟
لان من شان النسخ أن يتأخر عن حال الخطاب على ما نبينه وانما ذلك من
أدلة التخصيص التي (1) يجب مقارنتها للخطاب على ما تقدم القول فيه فعلى هذا
ينبغي أن يجرى كل ما يرد من هذا الكتاب.

(1) الذي.
389

فصل [21]
(في جواز تخصيص الاخبار وانها تجرى
مجرى الأوامر في ذلك) (1)
الصحيح انه يجوز تخصيص الاخبار سواء أكان معناها معنى الامر أو لم يكن
كذلك كما يجوز تخصيص الأوامر.
وفي الفقهاء من قال: ان ذلك لا يجوز كما لا يجوز نسخ الاخبار.

(1) تحدث المصنف في هذا الفصل عن جواز تخصيص الأخبار وخصص البحث بالخبر ولم يشر إلي الإنشاء،
و لعل إعراضه عن الإشارة إليه أن الأصوليين جلهم أجمعوا على جواز تخصيص الإنشاء وأنه لا خلاف في
ذلك مطلقا (عدا ما ادعاه الرازي، والبيضاوي، وابن الحاجب، من وقوع الخلاف في تخصيص الإنشاء، وهو
مردود لإجماع من قبلهم على وقوع التخصيص وانه لا خلاف في ذلك) كما هو الحال بالنسبة إلي الأمر
و النهي.
و برغم هذا الإجماع في الخبر فإن لشرذمة من الأصوليين آراء أخرى في المسالة وهي:
1 - المنع مطلقا، وهو منسوب لابن الهمام.
2 - الجواز في الأمر والنهي دون الخبر.
3 - المنع من تخصيص خبر من لا يجوز الكذب في خبره كالله سبحانه والرسول صلي الله عليه وآله
و سلم، وجوازه في خبر من يجوز عليه الكذب، وفي الأمر والنهي.
انظر: «التبصرة ص 143 هامش رقم (1)، الأحكام 219: 2، الإبهاج 75: 2، المستصفي 27: 2،
المعتمد 237: 1، الذريعة 313: 1، شرح اللمع 341: 1، ميزان الأصول 440: 1».
390

وأكثر الفقهاء والمتكلمين على المذهب الأول والذي يدل على ذلك: ان
التخصيص هو ما دل على مراد المخاطب بالعموم وذلك لا يمتنع في الاخبار كما
لا يمتنع في الأوامر لأنه لا يمتنع ان يريد المخاطب بالعموم باللفظ العام بعض ما
وضع له كما لا يمتنع ان يأمر باللفظ العام ويريد بعض ما يتناوله فالأمران سواء.
فاما ثبوت ذلك فأكثر من أن يحصى نحو الاخبار المتضمنة للوعيد (1) فإنها
خاصة وكك آيات الوعد عند بعضهم.
وقوله تعالى: (والله على كل شئ قدير) (2) وقد علمنا أنه لا يقدر على ذات
نفسه ولا مقدورات غيره.
وكذلك قوله: (وأوتيت من كل شئ) (3) وقد علمنا أنه ما أوتيت أشياء كثيرة.
وذلك أكثر من أن يحصى.
على انا قد بينا ان الأمر والنهي في معنى الخبر فلا فرق بين أن يأمر بالشئ
في انا نعلم وجوبه وبين أن يخبرنا بان له صفة الوجوب في انا نعلم مثل ما علمناه
بلفظ الامر وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه امتنع من دخول بيت فيه
تصاوير وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ان الملائكة لا تدخل بيتا فيه تصاوير) (4)

(1) * المراد أنه مخصصه عرفا بما إذا لم يعف عنه، بخلاف آيات الوعد فإن نحو هذا التخصيص فيها قبيح
عندنا وإن جوزته المرجئة... وليس المراد أن آيات الوعيد مخصصة بآية أخرى أو نحوها بخلاف آيات
الوعد، فإنه لافرق بينهما فيه، وفي قواعد العقائد: والقائلون بالحسن والقبح والوجوب العقلي اختلفوا: فقال
أكثر المعتزلة بوجوب العوض والثواب واللطف على الله تعالي، وهكذا العقاب لمن يستحقه، وذلك لأن الله
تعالي وعدهم وأوعدهم والوفاء بما وعد وأوعد واجب عقلا، وقال غير المعتزلة من القائلين بالحسن والقبح
و الوجوب العقلي: الوفاء بالوعد واجب، وأما بالوعيد فغير واجب، لأنه حق الله تعالي ولا يجب أن يأخذ حق
نفسه وإنما ذلك إليه يعفو عمن يشاء ويعاقب من يشاء.
(2) البقرة: 284.
(3) النمل: 23.
(4) نحوه في وسائل الشيعة: كتاب الصلاة باب 3 و 4 أبواب أحكام المساكين، كنز العمال 15: حديث
41561 و 41563 و 41565 - 41566 - 41567 - 41572 و 41572 مع اختلافات يسيرة،
391

ثم خص ذلك بان دخل بيتا فيه تصاوير توطأ (1).
واما حملهم ذلك على النسخ فالصحيح ان النسخ يجوز أن يدخل في
الاخبار ونحن نبين ذلك في باب الناسخ والمنسوخ فبطل بذلك تعلقهم به.

(1) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة: باب 4 أبواب احكام المساكين، حديث رقم 5.
392

فصل [22]
(في ذكر بناء الخاص على العام وحكم العمومين إذا تعارضا)
اعلم أنه إذا ورد عام يتناول اثبات حكم وورد خاص يتناول نفى ذلك الحكم
عن بعض ما تناوله العام نظر في تاريخهما:
فان كان أحدهما سابقا للاخر كان المتأخر ناسخا والمتقدم منسوخا سواء
كان المتقدم عاما في أن الخاص الذي يجئ بعده ويتأخر عنه يكون ناسخا له لان
تأخير بيان العموم لا يجوز عن حال الخطاب على ما نبينه (1) فيما بعد.
وكذلك لو كان المتقدم خاصا والمتأخر عاما فإنه يكون ناسخا الا أن يدل
دليل على أنه أريد به ما عدا ما تقدمه من الخاص وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
ومتى لم يعلم تاريخهما فالصحيح انه ينبغي أن يبنى العام على الخاص
ويجمع بينهما وهو مذهب الشافعي وأصحابه وأهل الظاهر وبعض أصحاب أبي
حنيفة (2).

(1) انظر بيان المصنف عن هذا الموضوع في ص 170.
(2) وهو أيضا مذهب، والآمدي، والغزالي، والرازي، والبيضاوي، وابن الحاجب.
انظر: «التبصرة: 153 - 151، والمصادر المذكورة في هامش هذه الصفحة، الإبهاج 105: 2،
الأحكام 296: 2، شرح اللمع 378: 1 - 358، ميزان الأصول 477: 1 - 474، الذريعة 315: 1، روضة
الناظر: 222، المعتمد 261: 1 - 256، أصول السرخسي 233: 1».
393

وفي الناس من قال: إذا عدم التاريخ فالواجب ان يرجع في الاخذ بأحدهما
إلى دليل ويجريهما مجرى عامين تعارضا (1) وهو مذهب عيسى بن ابان وأبي
الحسن الكرخي (2).
والذي يدل على صحة المذهب الأول: ان من حق من ثبتت حكمته أن لا
يلغى كلامه إذا أمكن حمله على وجه يفيد وإذا صح ذلك فمتى أوجبنا استعمال
العام لأدى إلى الغاء الخاص ومتى استعملنا الخاص لم يوجب اطراح العام بل
يوجب حمله على ما يصح ان يريده الحكم فوجب بهذه الجملة بناء العام على
الخاص.
ونظير ذلك: ما روى عنه عليه السلام انه قال: (في الرقة ربع العشر) (3) فكان
هذا عاما في قليله وكثيرة ثم قال: (ليس فيما دون خمس أواق من الورقة صدقة) (4)
فأوجب هذا ان ما نقص عن خمس أواق ليس فيه (5) صدقة وهو أخص من الأول.
فلو عملنا بموجب الخبر الأول لاحتجنا إلى اسقاط الخبر الأخير ومتى
استعملنا الأخير أمكننا استعمال الأول على ما يطابقه.
فان قيل: هلا حكمتم فيهما بالتعارض كالعمومين؟ لان ما تناوله الخاص قد

و ذهب بعض أصحاب أبي حنيفة إلي أن العام لا يبني على الخاص بل يقضي العام على الخاص.
(1) وهنا مذهب ثالث وهو: أن العام والخاص إذا تعارضا، ولم يعرف تاريخ صدورهما، وارتفع العلم بتقدم
أحدهما أو تأخره، وجب التوقف فيهما، ولا يعمل بواحد منهما، بل يسقطان ويجب الحكم من دليل آخر.
(انظر: شرح اللمع 363: 1) وهذا قول القاضي أبي بكر الباقلاني، وبعض المتكلمين من العامة، وذهب إليه
الشيخ المفيد - من الإمامية - (وتبعه الشريف المرتضى). لكنه قيد هذا التفوق بما إذا لم يمكن الجمع
بينهما، انظر: «التذكرة: 36، الذريعة: 1 / 315».
(2) انظر «الذريعة: 1: 315، ميزان الأصول 477: 1، التبصرة: 153، المعتمد 262: 1 - 256، شرح اللمع 1:
362» وقد نسب الشيرازي هذا الرأي لأبي عبدلله الحسين بن على البصري الملقب بالجعل.
(3) مسند أحمد بن حنبل 12: 1.
(4) صحيح البخاري: كتاب الزكاة، باب زكاة الورق حديث رقم 49.
(5) زيادة في الأصل.
394

تناوله الخبر العام وانما زاد عليه العام بتناوله شيئا اخر لم يتناوله الخاص فكان
الزائد على ذلك في حكم خبر اخر وما تناوله العام مما عارضه الخبر الخاص في
حكم خبر اخر فوجب ان يعارض ذلك لما تناوله الخاص ويقف العمل على
أحدهما على الدليل (1).
قيل: هذا لا يجوز لأنه يؤدى إلى ابطال أحد الخبرين مع صحة حمله على وجه
ممكن وليس كذلك حكم العمومين إذا تعارضا لأنه لا يمكن الجمع بينهما على
وجه.
فاما قولهم: ان ما تناوله العام في حكم الخبرين يتناول أحدهما مثل ما تناول
الخبر الخاص والاخر يتناول ما زاد على ذلك وانه ينبغي أن يحكم بالتعارض
فيهما فليس بصحيح لان العام إذا كان جملة واحدة صح فيه من صرفه إلى أن
المراد بعضه ما لا يصح فيه إذا كان خبرين لأنه إذا كان (2) خبرين فمتى قيل إن المراد
ما تناوله أحدهما أدى ذلك إلى ابطال ما تناوله الخبرين الذين يتناولان ما تناوله
العام.
فان قيل: هلا حملتم أحدهما على أنه ناسخ للاخر؟ وتكونون قد استعملتم
الخبرين على وجه الحقيقة ويكون ذلك أولى من بناء العام على الخاص لان
استعمال العام في الخاص يكون مجازا.
يقال (3): انما يمكن حمل ذلك على النسخ إذا علمنا تاريخهما وان أحدهما
متقدم والاخر متأخر فيحمل ذلك على النسخ فاما مع عدم التاريخ فلا يمكن حمل
ذلك فيه.

(1) أي يتوقف إلي أن يوجد دليل الرجحان لأحدهما، فإن انعدم الدليل فالوقف، وهذا مذهب جمهور
الأحناف.
(2) زيادة من النسخة الثانية.
(3) في الأصل: قيل.
395

ويدل على ذلك أيضا (1) *: ان على مذهب الخصم لو ثبت بالقياس (2) * اخراج
بعض ما يتناوله العام من عمومه وجب أن يخرج منه وخص به العموم فالخبر
الخاص إذا أوجب اخراج بعض ما تناوله (3) العام بذلك أولى لان السنة أقوى (4) من
القياس عنده.
ويدل على ذلك أيضا: ان العام والخاص لو وردا معا لعلمنا ان المراد بالعام ما
عدا ما تناوله الخاص لان ذلك دليل التخصيص فإذا وردا مفترقين ولا دليل يدل
على تقدم أحدهما وتأخر الاخر كانا في حكم ما وردا في وقت واحد ويجرى مجرى
الغرقى في أنه وان جاز تقدم أحدهم على الاخر فمتى عدم التاريخ في ذلك حكم بأنهم
كانوا ماتوا في حالة واحدة على مذهب الخصم.
واستدل بعض من نصر ما اخترناه بان قال: ما تناوله الخاص مقطوع به وما
تناوله العام مشكوك فيه فلا ينبغي أن يزال اليقين بالشك.
وهذا انما يمكن أن يعتمده من قال: ان العموم ليس له صيغة تفيد الاستغراق
فاما على ما ثبت عليه من أن له صيغة تفيد ذلك فلا يمكن لان ما تناوله العام عندنا
مقطوع به (5) * مثل ما تناوله الخاص فلا فرق بينهما على حال.
وقد استدل بوجوه اخر تضعف (6) وما ذكرناه أقوى ما يستدل به.
فاما المخالف لذلك فإنما عول في ذلك على أن من قال: انما تضمنه العام
في حكم ما تضمنه خبران أحدهما تضمن ما تضمنه الخاص والاخر تضمن غيره
فكان ما تضمنه الخاص معارضا له.

(1) * أي على صحة المذهب الأول، ويمكن بعيدا أن يشار به إلي عدم إمكان الحمل على النسخ.
(2) * أي مع الجهل بتاريخ المقيس عليه.
(3) يتناوله.
(4) أولي.
(5) * أي بشرط عدم الصارف.
(6) انظر الوجوه الاخر في المصادر الواردة في التعليقة رقم 2 صفحة 393 ورقم 1 صفحة 394.
396

وقد أوردنا في دليلنا ما هو جواب عنه فأغنى عن الإعادة.
وقد تعلق كل فريق (1) منهما لوجود مواضع من العام والخاص بنى أحدهما
على الاخر أو حكم فيهما بالتعارض لا يمكن أن يعول (2) عليه لان لمن يخالفه أن
يقول انما حكمت بذلك لدليل دل عليه لولا الدليل لما قلت به.
وينبغي أن يكون المعتمد ما قدمناه من الأدلة وفيه كفاية إن شاء الله.
فاما العمومان إذا تعارضا (3) *: فلا يخلو من أن يكون طريق اثباتهما العلم أو لا
يكون كذلك:
فان كان طريق اثباتهما العلم يصح وقوعهما من حكيم على وجه ولا يصح
على اخر فما يصح وقوعه منه فوجوه:
أحدها: ان يقترن بهما التاريخ وان أحدهما متقدم والاخر متأخر فيحكم بان
المتأخر ناسخ والمتقدم منسوخ.
والثاني: أن يمكن الجميع بينهما على وجه من التأويل (4) *.
والثالث: أن يكونا وردا مورد التخيير (5) *.
فهذه الوجوه التي يصح أن يقع العمومان المعلومان عليه من الحكيم.
ومتى خلا من ذلك بان يعدم (6) التاريخ ولا يصح الجمع بينهما لتضادهما
علم أنه لم يرد التخيير فإنه لا يجوز وقوعهما من حكيم لأنه يؤدى إلى أن يدل

(1) واحد.
(2) يقول.
(3) * أي مطلقا، والمراد بتعارض العمومين مطلقا هنا تساويهما في الأفراد مع تضاد حكميهما.
(4) * كقوله (إقتل الكفار) و (لا تقتل الكفار) فإنه يمكن الجمع بإرادة الحربي من الأول والذمي من الآخر، أو
بإرادة القتل بالحديد ونحوه من الأول والقتل بالسم ونحوه من الآخر.
(5) * نحو (اقتل من قتل أباك) و (ولا تقتل من قتل أباك).
(6) في النسختين «يقدم» والصحيح ما أثبتناه، والمقصود منه العدم أي لم يقترن بهما التاريخ، وهو قسيم
الصورة الأولي.
397

الدليل على خلاف ما هو دليل عليه وذلك لا يجوز على حال.
فاما إذا عارض كل واحد من العمومين صاحبه من وجه ولا يعارضه من وجه
نحو قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم) (1) وقوله: (وان تجمعوا بين
الأختين) (2) لان أحدهما يقتضى تحليل الجمع بين الأختين (3) والاخر يقتضى
حظره ويصح أن يكون المراد باية الجمع ما عدا المماليك ويحتمل أن يراد باية
المماليك ما عدا الأختين فقد استويا في التعارض وفي صحة الاستعمال على وجه
واحد فما هذه حالة وجب الرجوع في العمل بأحدهما إلى دليل ولذلك روى عن
أمير المؤمنين عليه السلام انه قال: (أحلتهما آية وحرمتهما أخرى وانا انهى عنهما
نفسي وولدي) (4) فأخبر ان ظاهرهما يقتضى التعارض وانه عمل بأحدهما لعلمه
بذلك وان العمل به هو الواجب وروى عن عثمان انه وقف في ذلك وقال: (أحلتهما اية وحرمتهما أخرى) (5) وحكى انه رجح تحريمها.
فاما إذا كان طريق اثباتهما الآحاد فإنه يرجع في العمل بأحدهما إلى الترجيح
وقد قدمنا (6) ما يرجح به أحد الخبرين على الاخر بما يرجع إلى اسناده أو متنه فأغنى
عن الإعادة مثال ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (من نام

(1) النساء: 3.
(2) النساء: 23.
(3) الأختين المملوكتين.
(4) انظر: المعتمد 267: 1، الجامع لأحكام القرآن 117: 5، التهذيب 289: 7 ح 1251»، وعلق الشيخ
الطوسي على هذا الحديث بقوله: «أحلتهما آية يعني آية الملك دون الوطء، وقوله عليه السلام: وحرمتهما
آية أخرى يعني في الوطء دون الملك، ولا ينافي بين الآيتين ولا بين القولين، وقوله عليه السلام: (أنا أنهي
عنهما نفسي وولدي)، يجوز أن يكون أراد به عن الوطء على جهة التحريم، ويجوز أيضا أن يكون أراد
الكراهية في الجمع بينهما في الملك».
(5) راجع: «المحلي 522: 9، المعتمد 268: 1، الجامع لأحكام القرآن 117: 5».
(6) راجع كلام المصنف عما ترجح به الأخبار في صفحة 143.
398

عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها) (1) ونهى عن الصلاة في الأوقات
المخصوصة (2).
وكذلك روى عنه عليه السلام انه قال: (من بدل دينه فاقتلوه) (3) وكان ذلك
عاما في الرجال والنساء والصبيان ثم نهى عن قتل النساء والولدان (4).
والطريقة في الكلام على ذلك ما قدمناه من الوقف والرجوع في العمل
بأحدهما إلى دليل.
ومن الناس من رجح (5) العمل بأحد هذين الخبرين دون الاخر بأنه خرج
على سبب فإذا عارضه الاخر وجب أن يقصر ذلك على سببه ولا يعدى ذلك لان
الاخر يمنع منه.
ولنا في عين هذه المسألة نظر وليس ذلك بمانع مما قلناه لان هذا مثال ولو
لم يرد هذا المثال لكان ما فرضناه صحيحا.

(1) مجمع الزوائد 322: 1 ونحوه في كنز العمال 20142: 7.
(2) راجع الأحاديث الناهية عن الصلاة في أوقات مخصوصة في «التهذيب الأحكام 243: 2» باب المواقيت.
(3) كنز العمال 1: ح 387.
(4) الكافي 256: 7، التهذيب الأحكام 140: 10 و 143، الإستبصار 255: 4.
(5) يرجح.
399

الباب السادس
الكلام
في
البيان والمجمل
401

فصل [1]
(في ذكر حقيقة البيان والمجمل وماهية النص وغير ذلك)
البيان عبارة عن الأدلة التي تبين بها الاحكام (1).
وعليه يدل كلام أبي على وأبي هاشم (2) واليه ذهب أكثر المتكلمين
والفقهاء.
ويعبر عنه بأنه (هداية) وبأنه (دلالة) وبأنه (بيان) كل ذلك يراد به معنى
واحد.
وذهب أبو عبد الله البصري إلى أن البيان: (هو العلم الحادث الذي به يبين

(1) البيان في اللغة يستعمل في معني الظهور والانكشاف والإظهار والقطع [الصحاح 308: 5، لسان
العرب 64: 13] وفي عرف الشرع عام وخاص، فالعام يشمل الدليل العقلي والنقلي، وقد جمع المصنف
بهذا التعريف بين البيان العام الذي وصفه الأصوليون بأنه (الدلالة) وبين البيان الخاص الذي هو الفعل أو
الكلام الدال على المراد بالخطاب، وذهب أبو علي وأبو هاشم الجبائيان إلي أن البيان هو الدلالة [أو الأدلة
علي اختلاف أحولها كما عرفه الشريف المرتضى]، ولم يقصد المصنف بتعريفه البيان أنه (الأدلة التي
تبين بها الأحكام) إلا الأدلة التي تدل على الشئ ويتوصل بها إلي معرفة المدلول، وقد ذهب إلي هذا
المعني أكثر الفقهاء والمتكلمين. وقد حده بعضهم بتعاريف لم تكن جامعة مانعة.
انظر: «المعتمد 293: 1، الذريعة 329: 1، ميزان الأصول 508: 1 - 507، شرح اللمع 469: 1، روضة
الناظر: 163، المنخول: 64 - 63، الاحكام 24: 3.»
(2) المعتمد 293: 1، الذريعة: 329، الأحكام 24: 3.
403

الشئ) (1).
وفي الناس من جعل البيان هو: (الأدلة من جهة القول والكلام دون ما عدا ذلك
من الأدلة (2).
وذهب الصيرفي (3) إلى أن البيان هو: (ما اخرج الشئ من حد الاشكال إلى
التجلي) (4).
وقال الشافعي: (البيان اسم جامع لمعان متشعبة (5) الأصول متشعبة الفروع
وأقل ما فيه انه بيان لمن نزل القران بلسانه (6).
وقال من فسر كلامه (7): ان غرض الشافعي بهذا الكلام كان إلى ذكر ما هو بيان
في اللغة التي نزل بها القران لا ان يعينه وذكر اقسام ذلك ولذلك قال: انه متشعب.
ثم قال: ان أقل ما فيه انه مما يتبين به من نزل القران بلسانه المراد ويبين بذلك
ان فيه ما يكون في باب الدلالة على أن المراد أقوى وأظهر من بعض وان كان جميعه
قد اشترك فيما ذكرناه.
وقال: هذا أقرب ما يحمل عليه كلامه.
والذي يدل على ما ذهبنا إليه: من أنه عبارة عن الدلالة على اختلاف أقسامها
ان بالأدلة يتوصل إلى معرف المدلول والبيان هو الذي يصح ان يبين ما هو بيان له

(1) المعتمد 294: 1 - 293، الذريعة 330: 1، الأحكام 24: 3.
(2) نسب الغزالي هذا التعريف للقاضي عبد الجبار (المنخول: 64.)
(3) هو محمد بن عبد الله الصيرفي، الشافعي، البغدادي، الفقيه، أخذ الفقه عن أبي سريج، وكان عالما بالأصول،
و قيل كان أعلم الناس به بعد الشافعي، وله مصنفات في أصول الفقه، أهمها كتاب «البيان في دلائل الأعلام
علي أصول الأحكام» توفي سنة 330 ه‍.
(4) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 403.
(5) في «المعتمد 294: 1»: مجتمعة الأصول.
(6) المعتمد 294: 1.
(7) وهو أبو الحسين البصري المعتزلي في كتابه: «المعتمد 294: 1».
404

ولأجل (1) * ذلك يقال: قد بين الله تعالى الاحكام والمراد بذلك انه دل عليها بان
نصب عليها الأدلة فكان بذلك في حكم المظهر لها فكما يقال لما قد ظهر بان
فكذلك يقال للمدلول عليه قد بان ويوصف الدال بأنه مبين يعلم بصحة تصرفها في
جميع المواضع ان المراد به ما قلناه وتجاوزوا ذلك إلى أن قالوا في الامارات التي
تقتضي غلبة الظن انه بيان كما قالوا فيها انها أدلة على ضرب من المجاز.
فان قيل: ما أنكرتم أن يكون البيان عبارة عن العلم الحادث الذي يتبين به
الحكم دون الأدلة التي لا يتبين بها الحكم ولأجل ذلك (2) * لا يوصف الله تعالى بأنه
متبين لما لم يكن له علم حادث ولا يقال في الواحد منا فيما يعلمه ضرورة انه متبين
له لما لم يكن علمه حادثا وانما يوصف بما يتجدد له من العلوم التي تحدث حالا
بعد حال.
قيل: لا يجوز أن يكون البيان عبارة عن العمل لأنه لو كان كذلك لكان من فعل
هذه العلوم يكون هو المبين كما أن الدال يكون من فعل الدلالة ونحن نعلم انا نصف
الله تعالى بأنه قد بين لنا الاحكام فهو مبين كما يقول إنه دلنا فهو دال ويسمى
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أيضا بذلك قال الله تعالى: (لتبين للناس ما نزل
إليهم) (3) فجعله عليه السلام المبين لنا الاحكام وعلى ما سأل السائل كان يجب أن
يكون نحن المبينين لان العلوم الحادثة فينا هي من فعلنا (4) * وذلك لا يقوله أحد
فعلم بذلك ان الأولى ما قلناه.
واما التبين فلا يقع الا بالعلم على ما ذكره السائل (5) * ولأجل ذلك لم نصف الله

(1) * هذا دليل آخر على كون البيان في العرف هو الأدلة، وبيانه: أن صحة تصاريف البيان في الدليل وعدمها
في غيره تدل على كونه حقيقة فيه مجازا في غيره.
(2) * أي لأجل كون التبين منقولا إلي العمل الحادث، وهذا إشارة إلي منع دعوى المستدل في الدليل الثاني،
(3) النحل: 44.
(4) * هذا مبني على ما ذهبوا إليه من أن العلوم الكسبية فاعلها العباد، والعلوم الضرورية فاعلها الله تعالي.
(5) * يحتمل أن يكون متعلقا بالعمل فيكون المراد بما ذكره السائل كون العمل حادثا، ويحتمل أن يكون
405

تعالى بأنه متبين وان كان في الناس من ارتكب ذلك ولم يسلم ان التبين لا يقع الا
بالعلم الحادث وحد العالم انه مبين (1) للشئ على ما هو به واجري ذلك على الله
تعالى والواحد منا.
والأولى ما قلناه ولا ينقض ذلك ما نصرناه من أن البيان عبارة عن الأدلة لأنا
جعلنا ذلك عبارة عما يمكن الاستدلال به لا ما يقع به التبين وذلك حاصل في
الأدلة فينبغي أن يكون عبارة عنها.
وما أوردناه سؤالا هو شبهة أبي عبد الله من أن البيان عبارة عن العلم وقد
تكلمنا عليه.
فاما من حد البيان بأنه: (ما اخرج الشئ من حد الاشكال إلى حد التجلي)
فقد حد البيان بعبارة هي أشكل منها وينبغي أن يحد الشئ بما هو أظهر منه على أن
ما ذكروه انما هو بعض البيان لان البيان قد يكون مبتدأ وان لم يكن هناك مشكل
يخرج به إلى التجلي فعلم بذلك ان الأولى ما اخترناه.
وهذه المسألة الكلام فيها (2) كلام في عبارة فلا معنى للإطالة فيه.
فاما المجمل فيستعمل على ضربين:
أحدهما: ما يتناول جملة من الأشياء وذلك مثل العموم وألفاظ الجموع وما
أشبههما ويسمى ذلك مجملا لأنه يتناول جملة من المسميات.
والضرب الاخر: هو ما أنبأ عن الشئ على جهة المجملة دون التفصيل ولا
يمكن ان يعلم المراد به على التفصيل نحو قوله: (خذ من أموالهم صدقة) (3)

متعلقا بالحصر فالمراد بالعمل، العلم الحادث.
(1) متبين.
(2) في الأصل: وهذه المسألة فيها كلام.
(3) التوبة: 103.
406

(وفي أموالهم حق معلوم) (1) وقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) (2) وما أشبه ذلك
مما سنبينه فيما بعد.
واما النص: (فهو كل خطاب يمكن أن يعرف المراد به).
وحد الشافعي النص بأنه: (كل خطاب علم ما أريد به من الحكم كان مستقلا
بنفسه أو علم المراد به بغيره) (3) وكان يسمى المجمل نصا (3).
والى ذلك ذهب أبو عبد الله البصري.
والذي يدل على صحة ما اخترناه: ان النص انما يسمى نصا لأنه يظهر المراد
ويكشف عن الغرض تشبيها (4) بالنص (5) المأخوذ من الرفع نحو قولهم: (منصة
العروس) إذا أظهرت ونحو ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه كان حين
أفاض من عرفات إلى جمع يسير على هينته (6) فإذا وجد فجوة نص (7) يعنى انه بلغ
فيه الغاية فعلم بذلك صحة ما قلناه.
واما المفسر: (فهو ما يمكن معرفة المراد به). وهو موضوع في الأصل لما له
تفسير لكنه لما كان ما له تفسير يعلم بتفسيره مراده وكان ما يعلم المراد به بنفسه
بمنزلته سمى مفسرا.

(1) المعارج: 24.
(2) الأنعام: 141.
(3) المعتمد 294: 1.
(4) شبيها.
(5) أي الارتفاع، فيسمي ما تجلس عليه العروس «منصة» لأرتفاعها.
(6) أي على عادته في السكون والرفق. والنص: التحريك حتى يستخرج أقصي سير الناقة، وأصل النص: أقصي
الشئ وغايته، ثم سمي به ضرب من السير سريع.
النهاية: 5: 290 و 64.
(7) روي البخاري بسنده عن عروة عن أبيه أنه قال: «سئل اسامة وأنا جالس، كيف كان رسول الله صلي الله
عليه وآله وسلم يسير في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص».
صحيح البخاري، باب السير إذا دفع من عرفة، كتاب الحج، حديث 250.
407

واما المحكم: (فهو ما لا يحتمل الا الوجه الواحد الذي أريد به) ووصف
محكما لأنه قد احكم في باب الإبانة عن المراد.
واما المتشابه: فهو ما احتمل من وجهين فصاعدا.
فاما وصف القران بأنه متشابه كله في قوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث
كتابا متشابها) (1) فالمراد به انه متماثل في باب الدلالة والهداية والاعجاز وقد
وصفه الله تعالى بأنه محكم بقوله: (الر كتاب أحكمت آياته) (2) والمعنى بذلك انه
أحكمه على وجه لا يقع فيه تفاوت ويحصل به الغرض المقصود ولذلك وجب
حمل المتشابه على المحكم ويجعل المحكم أصلا له.
وقد وصف الله تعالى القرآن بان بعضه محكم وبعضه متشابه بقوله: (هو
الذي انزل عليكم الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات) (3)
والمعنى بذلك ما قدمناه.
واما الظاهر: (فهو ما يظهر المراد به للسامع) فمن حيث ظهر مراده وصف هو
بأنه ظاهر.
وقد بينا فيما تقدم معنى العام والخاص والامر والنهى فأغنى الإعادة
إن شاء الله تعالى.

(1) الزمر: 23.
(2) هود: 1.
(3) آل عمران: 7.
408

فصل [2]
(في ذكر جملة ما يحتاج إلى البيان وما لا يحتاج)
الخطاب على ضربين:
أحدهما: يستقل بنفسه ويمكن معرفة المراد به بظاهره وان لم يضف إليه
امر اخر.
والاخر: لا يستقل بنفسه ولا يفهم المراد به بعينه الا أن يقترن به بيان يدل
عليه.
فاما ما يستقل بنفسه فعلى أربعة اقسام:
أولها: ما وضع في أصل اللغة لما أريد به وكان صريحا فيه سواء أكان عاما أو
خاصا أمرا كان أو نهيا فان جميع هذه الألفاظ يمكن معرفة المراد بظاهرها فمتى
خاطب الحكيم بها وأراد به ذلك أمكن أن يعلم مراده بها ونظير ذلك قوله تعالى: (ولا
تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق) (1) وقوله: (ولا يظلم ربك أحدا) (2)
وقوله (والله بكل شئ عليم) (3) وغير ذلك.

(1) الأنعام: 151.
(2) الكهف: 49.
(3) البقرة: 282.
409

وثانيها: ما يفهم المراد به بفحواه لا بصريحه وذلك نحو قوله: (ولا تقل لهما
أف ولا تنهرهما) (1) فان فحواه يدل على المنع من أذاهما على كل وجه.
وكذلك قوله: (ولا يظلمون فتيلا) (2) لأنه يقتضى فحواه نفى الظلم لهم
بذلك وما زاد عليه.
وفي الفقهاء من الحق هذا الوجه بالقياس وزعم أن جميع ذلك يفهم بضرب
من الاعتبار (3) وذلك خطأ لان دلالة ما قدمناه من الألفاظ على ما قلناه أقوى من
دلالة النص لان السامع لا يحتاج في معرفة المراد به إلى تأمل فهو إذا كالأول.
والذي يكشف عما قلناه انه لو قال: (ولا تقل لهما أف واضربهما أو اقتلهما
أو اصفقهما) يعد بذلك مناقضا وكذلك لو قال رجل لغيره: (انا لا أعطيك حبة) ثم
قال: (لكني أعطيك الدراهم واخلع عليك) كان ذلك مناقضة ظاهرة. ولو أن قائلا
قال: (فلان يؤتمن على قنطار) ثم قال: (ويخون (4) فيما قدر دانق) كان ذلك مناقضة
فعلم بجميع ذلك صحة ما قلناه.
الا انه ربما كان بعضه اخفى (5) من بعض وبعضه أظهر من بعض حتى يظن
فيما ليس منه انه منه وفيما هو منه انه ليس منه ولأجل ذلك اعتقد أكثر الفقهاء في
قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر) (6) فقال: انه
يعقل منه فأفطر فعدة من أيام اخر.

(1) الإسراء: 23.
(2) الإسراء: 71.
(3) وهو مذهب الشافعي وبعض أتباعه، كما نسبه إليه أبو إسحاق الشيرازي في شرحه على اللمع 424: 1،
(انظر أيضا، التبصرة: 227)، وقال: إن الشافعي سمي هذا النوع من المفهوم في الخطاب بالقياس الجلي.
(4) في الأصل: يجوز.
(5) في الأصل: أجلي.
(6) البقرة: 184.
410

وهذا ليس بصحيح لان عندنا ان وجوب القضاء في هذه الآية يتعلق بنفس
السفر والمرض المخصوصين وان لم يفطر الانسان فتقدير (الافطار) لا يحتاج إليه.
ومن قال من الفقهاء: ان وجوب القضاء في هذا الموضع متعلق بالافطار.
فالمحصلون منهم قالوا: ان ذلك طريقة الدليل وليس هو من باب فحوى
الخطاب في شئ.
وثالثها: تعليق الحكم بصفة الشئ فإنه يدل على أن ما عداه بخلافه على ما
ندل (1) عليه وان كان فيه خلاف.
ورابعها: ما ذهب إليه كثير من الفقهاء وهو ما تدل فائدته عليه لا صريحه ولا
فحواه ولا دليله وهو على ضروب عندهم:
منها: ما يدل عليه تعليله نحو قوله عليه السلام في الهر: (انها من الطوافين
عليكم والطوافات) (2) لان اللفظ لا يتناول ما عدا الهر ولا يعقل ذلك بفحواه ولا
بدليله وانما يحكم ذلك بالتعليل.
ومنها: قوله: (والسارق والسارقة) (3) (والزانية والزاني) (4) انه لما أفاد
الزجر بالآيتين أفاد ان القطع تعلق بالسرقة والجلد بالزنا فعلم ذلك في جميع
السراق والزناة هذا عند من قال: ان الألف واللام لا يستغرقان.
فاما من قال بذلك فلا يحتاج إلى هذا التمحل بل يوجب ذلك بلفظ العموم.
ومنها: ما قدمناه من أن الامر بالشئ يقتضى الامر بما لم (5) يتم الا به وان
فائدة القول يدل على ذلك.
وقد قلنا ما عندنا في جميع هذه الأمثلة بما (6) اغنى عن الإعادة.

(1) يدل.
(2) كنز العمال 400: 9 رقم 26684.
(3) المائدة: 38.
(4) النور: 2.
(5) لا.
(6) ما.
411

فاما ما لا يستقل بنفسه في إفادة المراد ويحتاج إلى ما يقترن به من البيان
فعلى ضربين:
أحدهما: يحتاج إلى بيان ما لم يرد به مما يقتضى ظاهر كونه مرادا ولا يحتاج
إلى بيان ما أريد به بل يعلم ذلك بظاهره وذلك نحو العام إذا علم أنه دخله
التخصيص فإنه يحتاج في معرفة ما اخرج منه إلى دليل لا فيما أريد به لان ما أريد به
علم ذلك باللفظ المتناول له ويحتاج ان يعلم ما لم يرد به منه وذلك نحو قوله:
(والسارق والسارقة) (1) (والزاني والزانية) (2) (واقتلوا المشركين) (3) وانه
لما علمنا أن في السراق من لا يجب قطعه مثل أن يكون سارقا من غير حرز أو سرق
ما دون النصاب أو لم يكن عاقلا أو كان هناك شبهة وغير ذلك من الشرائط
المراعاة في ذلك احتيج إلى بيان من لا يقطع لان عمومه يقتضى ان يقطع كل سارق
من حصلت فيه الصفات التي ذكرناها ومن لم يحصل فإذا دل الدليل على أن من لم
تكمل هذه الصفات فيه لا يجب قطعه اخرج من ذلك وقطع الباقون بظاهر (4) الآية.
وكذلك القول في اية الزنا والشرك فالطريقة واحدة.
ومن الناس (5) من الحق هذا الباب بالمجمل الذي يحتاج إلى بيان المراد منه

(1) المائدة: 38.
(2) النور: 2.
(3) التوبة: 5.
(4) في الأصل: فبظاهر.
(5) هذا مذهب جماعة من الأصوليين والفقهاء، لكنهم اختلفوا في كيفية إلحاق العموم بالمجمل وأسبابه علي
أقوال:
1 - قال عيسى بن أبان: إن العموم إذا دخله التخصيص الحق بالمجمل فلا يجوز التعلق بظاهره، وقد
حكي هذا القول عن أبي ثور أيضا.
2 - قال أبو الحسن الكرخي: إن العموم إذا خص بدليل منفصل لم يصح التعلق به وصار مجملا، وهو
مذهب البلخي أيضا.
3 - قال أبو عبد الله البصري: إن الحكم الذي يتناوله العموم إذا كان يحتاج إلي شرائط وأوصاف لا ينبئ
اللفظ عنها كقوله تعالي: (والسارق والسارقة) صار مجملا، وجري في الحاجة إلي البيان مجري قوله:
412

وقال: لا يصح التعلق بظاهره وسنبين ما عندنا في ذلك فيما بعد انشاء الله تعالى.
والضرب الثاني: هو ما يحتاج إلى البيان في معرفة ما أريد به وهو على ضروب:
منها: ما وضع في أصل اللغة ليدل على المراد على طريق (1) الجملة دون
التفصيل وذلك نحو قوله: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (2) (وفي
أموالهم حق معلوم) (3) وقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده (4) وقوله: (لا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق) (5) ونحو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
(عصموا منى دمائهم وأموالهم الا بحقها) (6) وغير ذلك من الأمثلة:
ومنها: ما وضع في اللغة محتملا لمعان نحو قوله: (ومن قتل مظلوما فقد
جعلنا لوليه سلطانا) (7) لان ذلك يحتمل وكذلك قوله (يتربصن بأنفسهن ثلاثة
قروء) (8) فان ذلك يحتمل الحيض والطهر.

(وأقيموا الصلاة) فلا يحتج به إلا بدليل.
4 - إذا كان العام بحيث لو ترك وظاهره من غير بيان التخصيص لم يمكنا أن نمتثل ما أريد منا، لم يجز
التمسك به كقوله تعالي: (وأقيموا الصلاة) لأنه لو لم يبين مراده لم يمكنا فعل ما أراده من الصلاة
الشرعية.
انظر: «التبصرة: 188 - 187، الأحكام 214: 2، المعتمد 308: 1 - 307، شرح اللمع 450: 1 - 449،
الذريعة 333: 1 - 332».
(1) في الأصل: طريقة.
(2) التوبة: 29.
(3) المعارج: 24.
(4) الأنعام: 141.
(5) الأنعام: 151.
(6) روي البخاري أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله
إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم
إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» صحيح البخاري 22: 1 باب 12 حديث رقم 24.
(7) الإسراء: 23.
(8) البقرة: 228.
413

ومنها: الأسماء الشرعية لأنها أجمع تحتاج إلى بيان ما أريد به نحو قوله:
(وأقيموا الصلاة واتوا الزكاة) (1) لأنه قد علمنا بالدليل أنه أراد غير ما وضعت هذه
الألفاظ في اللغة له إلا أن ذلك على ضربين:
أحدهما: ما يراد به ما لم يوضع في اللغة له البتة نحو الصلاة والزكاة.
والثاني: ما أريد به بعض ما وضع له في اللغة لكنه جعل اسما في الشرع لما
يقع منه على وجه مخصوص أو يبلغ حدا مخصوصا فصار كأنه مستعمل في غير
ما وضع له نحو الصيام والوضوء وغير ذلك.
ومنها: ما وضع في اللغة لينبئ عن المراد به لكنه قد علم أنه لم يرد به بعض
ما تناوله من غير تعيين لذلك البعض فهذا لا يعلم المراد به لأنه لا شئ يشار إليه
مما يتناوله الا ويجوز أن يكون مخصوصا منه وذلك نحو قوله: (وأوتيت من كل
شئ) (2) فإنه لما علمنا أنها لم تؤت أشياء كثيرة على طريق الجملة احتجنا في
معرفة ما أوتيت إلى دليل.
وقد الحق قوم بهذا الوجه قوله تعالى: (وافعلوا الخير) (3) وقالوا: انه إذا لم
يصح ان يريد بذلك جميع الخير لان فيه ما ليس بواجب فالواجب يحتاج إلى
بيان أو يراد بالامر الندب.
وهذا ليس بصحيح لان الخير الذي قد علم نفى وجوبه معلوم وذلك هو
الذي لم يرد فاما ما عداه فمعلوم وجوب فعله بظاهر اللفظ كما يقول في سائر ألفاظ
العموم الذي يخص بعضها.
ومنها: ما وضع في اللغة ليدل على المراد بظاهره الا انه إذا تعقبه شرط أو
استثناء مجمل يرجع إليه صار ما تقدمه مجملا وذلك نحو قوله تعالى: (وأحل لكم

(1) البقرة: 43.
(2) النمل: 23.
(3) الحج: 77.
414

ما وراء ذلكم) (1) فان ذلك يقتضى إباحة كل ما وراء المحرمات فلما قال بعده
(محصنين غير مسافحين) وكان مجملا افتقرت الآية إلى بيان وصارت مجملة.
ومثل ذلك أيضا قوله: (أحلت لكم بهيمة الأنعام الا ما يتلى عليكم) (2) لان
ما يتلى لما كان مجملا فالأول بمنزلته.
ومنها: لفظ العام إذا ورد واقتضى حكما والمعلوم من حال ذلك الحكم انه لا
يتم فعله الا بشئ اخر وذلك الشئ لا يعلم بالظاهر اقتضى ذلك اجمال العام
لأنه لا يمكن الاقدام على ذلك مع الجهل بما لا يتم الا به.
فهذه جملة مقنعة في ذكر ما يحتاج إلى البيان وما لا يحتاج لان شرح ذلك طويل.
فاما الذي لأجله قلنا: ان ما يمكن أن يعلم المراد به بظاهره لا يحتاج إلى بيان
فهو انه لو احتاج إلى بيان لكان يحتاج إليه فيما يقوم ويسد مسده فإذا كان هو
بنفسه مع أنه قام مقامه لا يبين به المراد فكذلك بيانه وفي ذلك اخراج بيانه أيضا
من أن يستقل بنفسه وايجاب إلى بيان اخر وذلك يوجب اثبات ما لا
يتناهى من البيان وذلك محال.
وانما قلنا: ان القسم الأخير يحتاج إلى بيان لأنه لا يمكن معرفة المراد به فكان
ذلك في حكم كل من لم يعرف حاله من الحاجة إلى بيانه ليتبين له المراد وذلك ظاهر.
والله الموفق للصواب (3)

(1) النساء: 24.
(2) المائدة
: 5.
(3) جاء في نهاية الجزء الأول من النسخة الحجرية: «قد تم الجزء الأول من كتاب العدة في أصول الفقه
تصنيف شيخ الطائفة المحققة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي قدس سره في شهر جمادي الأولي
سنة
1314، على يد أقل الجاني محمد صادق بن محمد رضا التويسركاني غفر الله له ولوالديه».
415