الكتاب: حاشية على القوانين
المؤلف: الشيخ الأنصاري
الجزء:
الوفاة: ١٢٨١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: إعداد : لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ربيع الأول ١٤١٥
المطبعة: باقري - قم
الناشر: المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري
ردمك:
ملاحظات:

الحاشية
على استصحاب القوانين
1

المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية
لميلاد الشيخ الأنصاري (قدس سره)
الحاشية
على استصحاب القوانين
للشيخ الأعظم أستاذ الفقهاء والمجتهدين
الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)
1214 - 1281 ه‍
اعداد
لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
3

الكتاب: الحاشية على استصحاب القوانين
المؤلف: الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري قدس سره
تحقيق: لجنة التحقيق
الطبعة: الأولى - ربيع الأول 1415
صف الحروف: مؤسسة الكلام - قم
الليتوغراف: مؤسسة الهادي - قم
المطبعة: باقري - قم
الكمية المطبوعة: 2000 نسخة
جميع الحقوق محفوظة
للأمانة العامة للمؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري قدس سره.
4

بسم الله الرحمن الرحيم
5

برعاية
قائد الثورة الاسلامية ولي امر المسلمين
سماحة آية الله السيد الخامنئي دام ظله الوارف
تم طبع هذا الكتاب
6

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله
الطيبين الطاهرين.
لم تكن الثورة الاسلامية بقيادة الامام الخميني رضوان الله عليه حدثا سياسيا
تتحدد آثاره التغييرية بحدود الأوضاع السياسية إقليمية أو عالمية، بل كانت
وبفعل التغييرات الجذرية التي أعقبتها في القيم والبنى الحضارية التي شيد
عليها صرح الحياة الانسانية في عصرها الجديد حدثا حضاريا إنسانيا شاملا
حمل إلى الانسان المعاصر رسالة الحياة الحرة الكريمة التي بشر بها الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام على مدى التأريخ وفتح أمام تطلعات الانسان الحاضر أفقا باسما
بالنور والحياة، والخير والعطاء.
وكان من أولى نتائج هذا التحول الحضاري الثورة الثقافية الشاملة
التي شهدها مهد الثورة الاسلامية إيران والتي دفعت بالمسلم الإيراني إلى
اقتحام ميادين الثقافة والعلوم بشتى فروعها، وجعلت من إيران، ومن قم
المقدسة بوجه خاص عاصمة للفكر الاسلامي وقلبا نابضا بثقافة القرآن
وعلوم الاسلام.
7

ولقد كانت تعاليم الامام الراحل رضوان الله تعالى عليه ووصاياه وكذا
توجيهات قائد الثورة الاسلامية وولي أمر المسلمين آية الله الخامنئي المصدر
الأول الذي تستلهم الثورة الثقافية منه دستورها ومنهجها، ولقد كانت الثقافة
الاسلامية بالذات على رأس اهتمامات الامام الراحل رضوان الله عليه وقد أولاها
سماحة آية الله الخامنئي حفظه الله تعالى رعايته الخاصة، فكان من نتائج ذاك
التوجيه وهذه الرعاية ظهور آفاق جديدة من التطور في مناهج الدراسات
الاسلامية بل ومضامينها، وانبثاق مشاريع وطروح تغييرية تتجه إلى تنمية
وتطوير العلوم الاسلامية ومناهجها بما يناسب مرحلة الثورة الاسلامية
وحاجات الانسان الحاضر وتطلعاته.
وبما أن العلوم الاسلامية حصيلة الجهود التي بذلها عباقرة الفكر
الاسلامي في مجال فهم القرآن الكريم والسنة الشريفة فقد كان من أهم
ما تتطلبه عملية التطوير العلمي في الدراسات الاسلامية تسليط الأضواء
على حصائل آراء العباقرة والنوابغ الأولين الذين تصدروا حركة البناء
العلمي لصرح الثقافة الاسلامية، والقيام بمحاولة جادة وجديدة لعرض
آرائهم وأفكارهم على طاولة البحث العلمي والنقد الموضوعي، ودعوة
أصحاب الرأي والفكر المعاصرين إلى دراسة جديدة وشاملة لتراث السلف
الصالح من بناة الصرح الشامخ للعلوم والدراسات الاسلامية ورواد الفكر
الاسلامي وعباقرته.
وبما أن الامام المجدد الشيخ الأعظم الأنصاري قدس الله نفسه يعتبر
الرائد الأول للتجديد العلمي في العصر الأخير في مجالي الفقه والأصول
- وهما من أهم فروع الدراسات الاسلامية - فقد اضطلعت الأمانة العامة
لمؤتمر الشيخ الأعظم الأنصاري - بتوجيه من سماحة قائد الثورة الاسلامية
8

آية الله الخامنئي ورعايته - بمشروع إحياء الذكرى المئوية الثانية لميلاد
الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره وليتم من خلال هذا المشروع عرض
مدرسة الشيخ الأنصاري الفكرية في شتى أبعادها وعلى الخصوص إبداعات
هذه المدرسة واتجاهاتها المتميزة التي جعلت منها المدرسة الأم لما تلتها من
مدارس فكرية كمدرسة الميرزا الشيرازي والآخوند الخراساني والمحقق
النائيني والمحقق العراقي والمحقق الأصفهاني وغيرهم من زعماء المدارس
الفكرية الحديثة على صعيد الفقه الاسلامي وأصوله.
وتمهيدا لهذا المشروع فقد ارتأت الأمانة العامة أن تقوم لجنة مختصة
من فضلاء الحوزة العلمية بقم المقدسة بمهمة إحياء تراث الشيخ الأنصاري
وتحقيق تركته العلمية وإخراجها بالأسلوب العلمي اللائق وعرضها لرواد
الفكر الاسلامي والمكتبة الاسلامية بالطريقة التي تسهل للباحثين الاطلاع
على فكر الشيخ الأنصاري ونتاجه العلمي العظيم.
والأمانة العامة لمؤتمر الشيخ الأنصاري إذ تشكر الله سبحانه تعالى على هذا
التوفيق تبتهل إليه في أن يديم ظل قائد الثورة الاسلامية ويحفظه للاسلام
ناصرا وللمسلمين رائدا وقائدا وأن يتقبل من العاملين في لجنة التحقيق
جهدهم العظيم في سبيل إحياء تراث الشيخ الأعظم الأنصاري وأن يمن
عليهم بأضعاف من الاجر والثواب.
أمين عام مؤتمر الشيخ الأعظم الأنصاري
محسن العراقي
9

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه
وصفوة رسله محمد وآله الطاهرين.
وبعد: فما حفلت به المكتبة الشيعية من التراث الضخم، هو ما قدمته
من الجهد العلمي في علم الأصول، العلم الذي كان ولا يزال - في جميع
مراحله وتطوراته - رصيدا للاجتهاد الحي والمتطور، رغم الهزات العنيفة التي
واجهها في طول تاريخه.
وقد وصل هذا العلم إلى ذروته وأرسيت قواعده الرصينة
بيد الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره حتى صار من أدق العلوم
وأكثرها إتقانا.
ومما كتبه الشيخ قدس سره في هذا المجال هو الكتاب الحاضر الذي هو
- في الواقع - حاشية على مباحث الاستصحاب من كتاب " قوانين الأصول "
للمحقق القمي قدس سره.
11

ويبدو أنه من أوائل تأليفاته في الأصول، ولعله كان متقدما في
التأليف على فرائد الأصول (الرسائل)، وربما يؤيد ذلك ما قاله
العلامة الطهراني تحت عنوان " الحاشية على قوانين الأصول " حيث
قال: "... قال سيدنا الحسن صدر الدين - في التكملة -: رأيت نسخة
خطه، وهي من أول حجية الخبر إلى تمام الأدلة العقلية، وكأن
الرسائل منتزعة عنها " (1).
ويؤيده أيضا أنه جاء في الصفحة (154) من الكتاب عبارة:
" كما ادعاه الأستاذ مد ظله "، والظاهر أنه إشارة إلى أستاذه شريف
العلماء، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن وفاة الأستاذ كانت في سنة
(1245)، ووفاة الشيخ في سنة (1281)، وأن عمره لم يتجاوز 67 عاما،
فنستنتج أنه ألفه ولم يتجاوز عمره الشريف واحدا وثلاثين عاما.
ومهما يكن، فلم يصل إلينا سوى الحاشية على استصحاب
القوانين، ولا نعلم أن ما وصل إلينا هل هو من تلك المجموعة التي
أشار إليها السيد الصدر أو لا؟
هذا وقد تفضل بنسختها سماحة آية الله الشيخ أحمد سبط
الشيخ الأنصاري، وقال: إنها بخط المؤلف - أي الشيخ قدس سره -، ولكن
لما بدأنا بالعمل وجدنا في النسخة نقصا، إذ سقط منها مقدار ربما
لا يستهان به، لهذا السبب توقفنا عن الاستمرار في العمل فترة من
الزمن، رجاء رفع هذا النقص لكن لم نوفق لذلك، فلذا أقدمنا على طبعها
على ما هي عليه.

(1) الذريعة 6: 179.
12

وقد ألحقنا بالكتاب - إكمالا للفائدة - قسم الاستصحاب من قوانين
الأصول، لتسهل المراجعة إلى أصل الكتاب أيضا.
وختاما: نقدم شكرنا وتقديرنا لكل من كان له سهم في تحقيق هذا
الكتاب وإخراجه بالشكل المناسب، ونخص منهم بالذكر أصحاب الفضيلة:
سماحة حجة الاسلام والمسلمين الشيخ محمد إسلاميان، وسماحة حجة
الاسلام والمسلمين الشيخ محمد باقر حسن بور، وسماحة حجة الاسلام
والمسلمين السيد محمد جواد الجلالي، وحجة الاسلام السيد هادي العظيمي
الذي قام بتنظيم الفهارس الفنية.
ونبتهل إلى العلي القدير أن يوفقهم وإيانا لخدمة الدين، إنه
ولي التوفيق.
مسؤول لجنة التحقيق
محمد علي الأنصاري
13

صورة الصفحة الأولى من الحاشية على استصحاب القوانين
14

صورة الصفحة الأخيرة من الحاشية على استصحاب القوانين
15

الحاشية
على استصحاب القوانين
للشيخ الأعظم أستاذ الفقهاء والمجتهدين
الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)
1214 - 1281 ه‍
اعداد
لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
17

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله
المعصومين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
18

[تعريف الاستصحاب]
[قوله]: استصحاب الحال.
[أقول]: الاستصحاب لغة: الملازمة، واستصحاب الشئ: أخذه
مصاحبا، فعن الصحاح: " كل شئ لازم شيئا فقد استصحبه " (1)، وعن
القاموس: " إستصحبه: دعاه إلى الصحبة ولازمه " (2)، وعن المجمع:
" إستصحبه: لازمه، واستصحبت الكتاب: حملته على صحبتي " (3).
وفي اصطلاح الأصوليين قد يطلق على ما حاصله: إبقاء ما كان على
ما كان - كما يظهر من تعاريف جلهم له - وقد يطلق على نفس الكلية

الصحاح 1: 162، إلا أن فيه: " لاءم " بدل " لازم ".
(2) القاموس 2: 798 " مادة " صحب ".
(3) مجمع البحرين 2: 99، إلا أن فيه: " استصحب الشئ: لازمه، واستصحبت الكتاب
وغيره: حملته على صحبتي ".
19

المأخوذة من العقل أو الاخبار، كما في قولهم: الاستصحاب حجة أم لا؟
قال العضدي: " معنى استصحاب الحال: أن الحكم الفلاني قد كان
ولم يظن عدمه، وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء، وقد اختلف في صحة
الاستدلال به " (1) انتهى. فعرفه بنفس القضية الكلية، فتأمل (2).
وقال السيد صدر الدين في شرح الوافية - عند تعريف الماتن
للاستصحاب بأنه التمسك بثبوت ما ثبت -: " هذا التعريف كأكثر التعاريف
لا يخلو عن مسامحة، لان الاستصحاب هو المتمسك به، وليس هو التمسك
أو الاثبات أو مشاكلهما (3) " ثم قال بعيد هذا: " ولقد عبر شارح المختصر عن
المبحث بما هو أوضح من تعبير غيره " (4) فنقل ما نقلناه عنه، فتأمل.
والحق أن كلا من الاطلاقين إطلاق حقيقي في عرفهم، فإن الظاهر أن
لفظ " الاستصحاب " نقل إلى الابقاء الخاص، وبهذا الاعتبار اخذ منه
المشتقات - كقولهم: يستصحب ومستصحب - وإلى الكلية المشهورة.
فتعريفه بكل من المعنى المصدري والقاعدة تعريف له بالمعنى الحقيقي.
ثم هل حقيقيته في المعنيين اتفقت في مرتبة واحدة؟ بأن استعمل لفظ
" الاستصحاب "، من أول الامر في كل من المعنى المصدري والقاعدة حتى
صار حقيقة فيهما، أو على الترتيب؟ بأن صار حقيقة في المعنى المصدري ثم
صار حقيقة في القاعدة، وجهان، الظاهر: الثاني، وعليه: فهل صيرورته (5)

(1) شرح مختصر الأصول 2: 453.
(2) في هامش النسخة ما يلي: إشارة إلى ما سيجئ من تطبيق كلام العضدي والسيد
الصدر مع تعريف المصنف (انتهى) وسيأتي في الصفحة 49.
(3) في المصدر: أو ما شاكلهما.
(4) شرح الوافية (مخطوط): 122
(5) في هامش النسخة ما يلي: لا يقال: إن هذا الترديد مناف للقطع السابق بأن اللفظ
20

حقيقة في القاعدة مع بقائه على الحقيقية في المعنى المصدري، حتى يكون اللفظ
مشتركا تعينيا فيهما؟ أو مع هجره عن المعنى المصدري، حتى يكون منقولا
عنه إلى القاعدة، فوقع في لفظ " الاستصحاب " عند أهل الأصول نقلان
مرتبان؟
يحتمل الأول، نظرا إلى أصالة عدم الهجر، مضافا إلى تبادر المعنى
المردد بين المعنيين من لفظ " الاستصحاب "، وهو أمارة الاشتراك اللفظي.
ويحتمل الثاني، نظرا إلى ترجيح المجاز على الاشتراك، مضافا إلى ندرة
المشتركات التعينية.
والأقوى الأول، للأصل والتبادر المذكورين.
وأما ترجيح المجاز على الاشتراك: فإن كان مستنده أصالة عدم
الوضع، فقد عرفت أن الأصل هنا على الخلاف، لان الأصل بقاء آثار
الوضع، وبعبارة أخرى: ترجيح المجاز على الاشتراك إنما هو عند الشك في
حدوث الحقيقية لا في بقائها، وما نحن فيه من قبيل الثاني.
وإن كان مستنده غلبة المجاز على الاشتراك، ففيه: أنها - على
مرجوحيتها بالنسبة إلى التبادر الذي ذكرنا - معارضة في المقام بغلبة أخرى،
وهي: أن الغالب في المعاني العرفية - سيما الخاصة - عدم هجرها في ذلك
العرف، فتأمل. وهذه إن لم تقدم على تلك - من جهة أنها أخص بالنسبة

حقيقة عرفية في كل من المعنيين.
لأنا نقول: مرادنا في السابق هو الحقيقية في الجملة، بمعنى الوصول إليها، وهو أعم
من البقاء عليها، فكنا في مقام دفع توهم: أن تعريفه بالمعنى المصدري " باعتبار أنه فرد
من المعنى اللغوي وهو مطلق الابقاء والملازمة " فقلنا: إن تعريفه بالابقاء الخاص إنما هو
باعتبار أنه معنى مستقل حقيقي في الجملة، لا باعتبار أنه فرد من مطلق الابقاء،
فتدبر.
21

إليها - فلا أقل من التعارض الموجب للتساقط، فليرجع إلى الأصل الذي
ذكرنا.
وبهذا يذب أيضا عما ذكر أخيرا: من ندرة المشتركات التعينية، فتأمل.
ثم إن كون هذه الكلية من الأدلة، على فرض استفادتها من العقل
واضح، لان الأدلة العقلية - على ما صرح به بعضهم (1) - هي القواعد التي
أسسها العقل.
وأما على فرض استفادتها من الاخبار، فالظاهر أنها قاعدة مستفادة
منها - كسائر القواعد المستفادة من الأدلة، مثل قاعدة نفي الضرر، وقاعدة
نفي الحرج، وقاعدة حمل فعل المسلم على الصحة، وغيرها - لا أنه دليل
كالكتاب والاجماع.
ويؤيد ذلك أن الشهيد في قواعده عبر عنه ب‍ " قاعدة اليقين " (2).
وتعبيرهم في عناوينهم بقولهم: " الاستصحاب حجة أم لا " وإطلاق
الدليل عليه، إما جري على ممشى القدماء - حيث تكلموا في كونها من الأدلة
العقلية - وإما مسامحة، ومرادهم: أن هذه القاعدة معتبرة ومأخوذة من دليل
أم لا؟
وعلى فرض الدليلية فهو دليل مستقل، لا أنه داخل في السنة، لاخذه
منها، كما يظهر من المصنف أعلى الله مقامه في أول الكتاب حيث قال رحمه الله بعد ذكر
الأدلة الأربعة: " وأما الاستصحاب فإن أخذ من الاخبار فداخل في السنة،
وإلا في العقل " (3). إذ لا يخفى أن كل دليل ثبت حجيته بدليل فلا يدخل هذا

(1) راجع مناهج الاحكام، للنراقي قدس سره، ذيل المقصد الثالث.
(2) القواعد والفوائد 1: 132، القاعدة الثالثة.
(3) قوانين الأصول: 5.
22

الدليل الثابت الحجية في عنوان الدليل المثبت لحجيته، فلا يقال في الخبر
الواحد - على تقدير استفادة حجيته من الكتاب -: إنه داخل في الكتاب.
ثم: إن مسألة الاستصحاب هل هي من المسائل الأصولية،
أو الفرعية، أو قاعدة مشتركة كلية يدخل فيها المسائل الأصولية والفرعية،
بل وغيرها؟
لا سبيل إلى الاحتمال الأوسط.
وأما الأول والثالث: فالظاهر أنه إن جعلنا الاستصحاب من الأدلة
فيتعين الأول منهما، وإن جعلناه من القواعد فالظاهر الثالث، ولكن المقام بعد
يحتاج إلى تأمل تام، فإن تشخيص المسائل الأصولية وتمييزها عن غيرها
من مزال الاقدام، ومزالق الافهام، ومتشاجر الاعلام.
[قوله] قدس سره: " هو كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن
السابق، مشكوك البقاء في الآن اللاحق ".
[أقول]: يرد عليه أمور:
الأول: أن الاستصحاب - على ما عرفت سابقا - هو: إما الابقاء
والاثبات وما شاكلهما، أو القاعدة. وأما نفس " كون الشئ يقينيا في الآن
السابق مشكوكا في الآن اللاحق " فهو ليس باستصحاب، بل هو مورده
ومحله.
قال في المعالم: " اختلف الناس في استصحاب الحال، ومحله أن يثبت
حكم في وقت ثم يجئ وقت آخر ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم،
فهل يحكم ببقائه على ما كان؟ وهو الاستصحاب " (1) انتهى.

(1) المعالم: 227.
23

فانظر كيف جعل رحمه الله ما جعله المصنف نفس الاستصحاب، محلا له!
وجعل الاستصحاب عبارة عن الحكم ببقاء هذا المتيقن سابقا المشكوك
لاحقا، لا نفس كونه متيقنا سابقا مشكوكا لاحقا!
والحاصل: أن المتصدين لتعريف الاستصحاب طرا بين معرف له
بما يرجع حاصله إلى إبقاء ما كان على ما كان - وهم الأكثرون - وبين صرف
له بنفس القاعدة، كما اختاره شارحا الوافية (1) والمختصر (2).
اللهم إلا أن يؤول كلام المصنف بما يرجع - بالآخرة - إلى ما عرفه به
الأولون، أو يوجه تعريف الآخرين على وجه ينطبق معه تعريف المصنف.
أما الثاني: فسيأتي عند نقل المصنف لتعريف العضدي (3).
وأما الأول، فبأن يقال: إن لفظة " الكون " تامة بمعنى الثبوت، وقوله:
" يقيني الحصول في الآن السابق، مشكوك البقاء " - بالجر - صفتان لقوله:
" حكم أو وصف "، وقوله: " في الآن اللاحق " متعلق بالكون.
هذا كله مع جعل الاستصحاب المحدود مصدرا مبنيا للمفعول مضافا
إلى النائب عن الفاعل، فيصير المعنى: أن استصحاب الحال - أي
مستصحبيته - هو ثبوت الحكم أو الوصف الكذائي في الآن اللاحق، فإن
الاستصحاب بالمصدر المبني للفاعل لما كان هو إثبات الحكم الكذائي في الآن
اللاحق، كان بالمصدر المبني للمفعول ثبوت الحكم الكذائي في الآن اللاحق،
وهذا بعينه هو الذي أراده القوم، إلا أنهم عرفوا الاستصحاب بالمصدر
المعلوم الذي هو فعل الشخص، والمصنف عرف الاستصحاب الذي هو صفة

(1) شرح الوافية (مخطوط): 122.
(2) شرح مختصر الأصول 2: 453.
(3) يأتي في الصفحة: 48 - 49.
24

للحال.
لكن هذا التأويل بعيد، ونسبة الخطأ إلى المصنف أبعد.
الثاني: أن الظاهر تعلق الظرف أعني: " في الآن السابق " باليقيني، وكذا
تعلق قوله: " في الآن اللاحق "، بالمشكوك، فيصير المعنى: أن الاستصحاب هو
أن يتيقن في الآن السابق بحصول حكم أو وصف ويشك في الآن اللاحق في
بقائه.
وهذا التعريف مختل عكسا وطردا.
أما الأول: فلانه لا يعتبر في الاستصحاب أن يتيقن في السابق بشئ
ويشك في الزمن اللاحق، بل ربما يحصل اليقين والشك في الزمان اللاحق، كما
إذا قطعنا الآن بحياة زيد أمس وشككنا في هذا الآن بموته، فإنه محل
الاستصحاب قطعا، مع أنه لا يحصل اليقين في السابق بشئ. وربما يحصل
اليقين والشك في الآن السابق، كما إذا قطعنا الآن بحياة زيد وشككنا الآن
أيضا في موته غدا، فإنه محل الاستصحاب، مع أنه لم يحصل الشك في الآن
اللاحق.
وأما الثاني: فلانه يدخل في الحد ما إذا قطعنا في السابق بدخول زيد
في الدار، ثم في الآن اللاحق شككنا في دخوله السابق، أنه في السابق دخل
أو لم يدخل، وإنما كان قطعنا جهلا مركبا، وعلى فرض الدخول فهل هذا
الدخول باق أم مرتفع؟ فيصدق على هذا " أنه تيقن في السابق بشئ وشك
في اللاحق في بقائه " مع أنه ليس باستصحاب قطعا، وسيأتي تفصيل
ذلك.
اللهم إلا أن يجعل قوله: " في الآن السابق " متعلقا بالحصول لا باليقيني،
وكذا قوله: " في الآن اللاحق " متعلقا بالبقاء، فيصلح الطرد والعكس.
25

ويمكن أن يصلح الطرد أيضا، بأن نقول: المتبادر من " الشك في البقاء "
هو أن يكون الحدوث يقينيا والشك في البقاء والارتفاع، بأن يكون للشك
طرفان: بقاء الشئ وارتفاعه، لا أن يشك في الحدوث والبقاء كليهما، بأن
يكون للشك أطراف ثلاثة: عدم حدوثه أصلا، وحدوثه مع بقائه، وحدوثه
مع ارتفاعه.
الثالث: أن المراد بالشك في قوله: " مشكوك البقاء " إن كان هو
الاحتمال المساوي فيلزم اختلال التعريف عكسا، لان صورة مرجوحية البقاء
يجري فيها الاستصحاب على مسلك المصنف ومن وافقه في استفادة اعتبار
القاعدة من الاخبار، والحال أنه يخرج عن التعريف، بل يلزم اختلاله طردا
أيضا، إذ يدخل فيه ما إذا وجد دليل تعبدي لا يرفع الشك الواقعي على
خلاف الحالة السابقة، فإنه يصدق عليه التعريف، مع أنه ليس باستصحاب،
لأنه مأخوذ فيه " عدم الدليل على انتفاء الحالة السابقة " كما تقدم في
عبارة المعالم (1).
وإن كان هو الاحتمال المطلق - مساويا أو راجحا أو مرجوحا - فيلزم
الاختلال الطردي فقط، إذ يدخل فيه ما إذا قام ظن معتبر على الخلاف، فإنه
يصدق عليه الحد، مع أنه ليس باستصحاب.
والقول بأن الظن المعتبر بمنزلة القطع - بل هو قطع في مرحلة الظاهر -
لا يجدي فيما نحن بصدده، لأنه لا يرفع الاحتمال الواقعي الموهوم.
الرابع: أن التعريف غير منعكس، لخروج الاستصحاب القهقري، فإنه
وإن لم يكن حجة إلا أنه لا يخرج بذلك عن اسم الاستصحاب.

(1) تقدم في الصفحة: 23.
26

اللهم إلا أن يمنع صدق اسم الاستصحاب عليه في الاصطلاح وإن
أطلق عليه لغة، فان القدر المتيقن من المعنى المنقول إليه هو " إثبات
ما ثبت في السابق، في اللاحق " ويعبر عنه بالابقاء، لا " إثبات مطلق ما ثبت
في زمان، في زمان آخر " وكما أن الأوضاع الأولية توقيفية، فكذلك الأوضاع
الثانوية يقتصر فيها على القدر المتيقن.
مضافا إلى أنه يمكن إدعاء العلم بعدم كونه استصحابا في الاصطلاح
من جهة تبادر الغير وصحة السلب، فتأمل.
والأولى في تعريف الاستصحاب، أن يقال: إنه إبقاء ما ثبت في زمان
في ما بعده مع عدم الدليل.
والقيد الأخير للتنبيه على أن عدم الدليل مأخوذ في مفهوم
الاستصحاب، كما صرحوا به، لا أنه معتبر في اعتباره، كما يظهر من بعض (1)
حيث عده من شروط العمل بالاستصحاب، إلا أن يرجع إلى ما ذكرنا.
ثم، إن المراد بالدليل المعتبر عدمه في الاستصحاب، هو مطلق
ما يزيل الشك في مرحلة المواقع أو الظاهر " ولو كان استصحابا آخر، فعند
تعارض استصحابين يكون أحدهما - باعتبار مستصحبه - رافعا للشك في
الاخر ومزيلا له، لا يجري الاستصحاب المزال في الحقيقة، لا أنه يجري
ولكنه يطرح لمكان المعارضة.
كما أن تقديم المزيل من جهة أنه سليم عن المعارض، لا لأنه أقوى
من معارضه، فإذا غسل ثوب متنجس بالماء المستصحب الطهارة، أو لاقى
ثوب طاهر للماء المستصحب النجاسة، فلا يجري استصحاب نجاسة الثوب في

(1) هو الفاضل التوني في الوافية: 208.
27

الأول، ولا استصحاب طهارته في الثاني. وسيوضح لك هذا في مبحث تعارض
الاستصحابين (1) بما لا مزيد عليه، فانتظر.
قوله قدس سره: " والمراد بالمشكوك أعم من المتساوي الطرفين، ليشمل
مظنون البقاء وغيره، وإن كان مراد القوم هنا هو الاحتمال المرجوح في
الواقع ".
[أقول]: لا شك أن الشك الذي أخذه من أخذه من القوم في تعريف
الاستصحاب، هو الشك الذي يكون من أركان الاستصحاب ومحققا لمورده،
ويعبرون عنه بالشك البدوي، فلا ضير في أن يريدوا به الاحتمال المساوي،
فإنه إنما يصير راجحا بملاحظة الاستصحاب، كما في إلحاق المشكوك بالأعم
الأغلب.
ثم لو سلمنا أن المراد به الاحتمال بعد ملاحظة الاستصحاب،
فلا يخفى أن مرادهم هو الاحتمال الراجح لا المرجوح، إلا أن يضاف إلى
الارتفاع لا البقاء، لكن المصنف في مقام تفسير المضاف إلى البقاء، فتأمل.
[قوله] قدس سره: " لان بناءهم في الحجية على حصول الظن ".
[أقول]: هذا هو الظاهر من أكثر استدلالاتهم، ولكن لا يظهر من
بعضها الاخر إناطة الاعتبار على الظن، مثل ما استدل به المحقق في المعارج
من " أن المقتضي للحكم الأول ثابت، والمعارض لا يصلح رافعا... إلى آخر
الدليل (2). فراجعه.
ثم إن حجيته عند هؤلاء، هل هي من باب مطلق الظن، أو من جهة

(1) لم نجد بحثا تحت هذا العنوان فما بأيدينا من هذه النسخة
(2) معارج الأصول: 206، وفيه: لنا وجوه، الأول: إن المقتضي للحكم الأول ثابت،
فيثب الحكم، والعارض لا يصلح رافعا، فيجب الحكم بثبوته في الثاني ".
28

قيام الدليل الخاص من الشارع على اعتباره، وبعبارة أخرى من باب الظن
المخصوص؟
يظهر من جمهورهم: الأول، ومن نادر منهم: الثاني، حيث قال - بعد
الاستدلال على الحجية بما حاصله: " إن الاستصحاب مفيد لرجحان البقاء،
والعمل بالراجح واجب "، مجيبا عما أورد عليه: من أنه إن أريد أن العمل
بمطلق الراجح واجب فهو ممنوع، للأدلة الناهية عن العمل بغير العلم، وإن
أريد أن العمل بهذا الراجح الخاص واجب فما الدليل عليه؟ - ما حاصله:
" إن العمل بهذا الراجح الخاص واجب للاخبار الواردة في الباب... فذكر
بعضها " (1).
ثم على التقديرين: هل اعتباره مشروط بحصول الظن منه في أشخاص
الوقائع، أو يكفي فيه كونه مفيدا للظن من حيث الطبيعة؟ يعني أنه لو خلي
وطبعه يفيد الظن، فلا يقدح في ذلك التخلف لامر خارجي، كما في الخبر
الصحيح، فإنه قد لا يفيد الظن، كما إذا عارضه قياس.
وبعبارة أخرى: هل يكون حجيته من باب الظن الشخصي كالشهرة
والاستقراء والأولوية الاعتبارية - على القول باعتبارها -، أو من باب الظن
الطبعي، كالخبر الصحيح؟
وتظهر الثمرة في ما إذا عارضه قياس أو غيره من الظنون الغير
المعتبرة، فتأمل.
الظاهر من كلماتهم: الأول، كما هو صريح المصنف هنا. وممن صرح
بذلك شيخنا البهائي طاب ثراه. في الحبل المتين، فقال - في مسألة " من تيقن

(1) لم نعثر عليه.
29

الطهارة وشك في الحدث " بعد كلام له في تقرير الاستصحاب - ما هذا لفظه:
" ثم لا يخفى أن الظن الحاصل بالاستصحاب - في من تيقن الطهارة
وشك في الحدث - لا يبقى على نهج واحد، بل يضعف بطول المدة شيئا فشيئا،
بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان، بل ربما يصير الطرف الراجح
مرجوحا - كما إذا توضأ عند الصبح مثلا وذهل عن التحفظ، ثم شك عند
الغروب في صدور الحدث منه، ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة إلى
ذلك الوقت - والحاصل: أن المدار على الظن، فما دام باقيا فالعمل عليه وإن
هذا، ثم قال: " وقد ذكر العلامة في المنتهى: أن من ظن الحدث وتيقن
الطهارة لا يلتفت، لان الظن إنما يعتبر مع اعتبار الشارع له، ولان في ذلك
رجوعا عن المتيقن إلى المظنون " (1)، انتهى.
ثم قال: " وفيه نظر يعلم به المتأمل في مما تلوناه " (2)، انتهى.
أقول: ولعل نظر العلامة إلى الأخبار الواردة في من تيقن الطهارة
ولم يتيقن الحدث، فإنها عامة للشاك والظان، وليس مدرك المسألة منحصرا
في الاستصحاب المفيد للوصف، فإن من مداركها قوله عليه السلام في موثقة
بكير بن أعين: " إذا استيقنت أنك أحدثت فتوضأ، وإياك أن تحدث وضوء
حتى تستيقن أنك قد أحدثت " (3) وغيرها من الاخبار.
هذا، ومما يؤيد ذلك: أن العلامة في المنتهى قد استدل أولا على أن من
ظن الطهارة وشك في الحدث فهو متطهر، بالاخبار مثل صحيحة زرارة

(1) منتهى المطلب 1: 74
(2) الحبل المتين: 37
(3) الوسائل 1: 332، الباب 4 4 من أبواب الوضوء، الحديث الأول، مع اختلاف يسير.
30

وغيرها.
ومما يؤيد الاحتمال الأول - أيضا -: أن جملة من هؤلاء فرضوا - في
استدلالهم على إفادة الاستصحاب للظن - عدم الظن بارتفاع الحال السابق.
قال شيخنا المتقدم - في أثناء الاستدلال -: " إن العاقل إذا التفت إلى ما
حصل بيقين ولم يعلم ولم يظن طرو ما يزيله، حصل له الظن ببقائه " (1)، إنتهى.
وبمثل ذلك صرح العضدي (2) وغيره في استدلالاتهم.
ثم على التقادير السابقة إذا عارض الاستصحاب دليل ظني، فهل
يعامل معهما معاملة المتعارضين، أم يطرح الاستصحاب؟
يظهر من جملة من مشايخنا المعاصرين (3): الأول، حيث قالوا: " إذا
بني على اعتبار الاستصحاب من جهة حصول الظن، فإذا عارضه ظن آخر
فلا بد من ملاحظة التعارض والترجيح ".
وهذا (4) إنما يفيد إذا وجدت صورة يكون الاستصحاب مفيدا للظن مع
وجود دليل ظني هنا، والظاهر عدم وجود هذه الصورة، بل كلما وجد في
مورد الاستصحاب دليل ظني على الخلاف فلا يفيد الاستصحاب ظنا، ولذا
أخذوا في الاستدلال على إفادة الاستصحاب للظن: قيد عدم الظن بالخلاف.
نعم، لو استدل على ذلك بالغلبة، وأن الغالب في الموجودات البقاء
- كما فعله بعض المحققين (5) - فالانصاف أنه يمكن حصول الظن منه على

(1) الحبل المتين: 36.
(2) شرح مختصر الأصول 2: 453.
(3) منهم السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 652
(4) في هامش النسخة ما يلي: يعني الذي قالوه.
(5) نقله في مفاتيح الأصول: 641 عن النهاية، والاحكام.
31

خلاف الدليل الظني المعارض له، فإن الظن الحاصل من الغلبة قد يكون
أقوى من معارضها، ويصير المعارض موهوما، كما لا يخفى. وستتضح لك
هذه المقامات فيما بعد، فانتظر.
[قوله] قدس سره: " إلا أن يدعى أن الاخبار مبتنية على الظن
الحاصل... الخ ".
[أقول]: هذا الادعاء أنما يتطرق في الاخبار لو كان موردها مختصا
بصورة حصول الظن، وليس كذلك، لأنها بين ناه (1) عن نقض اليقين بغير
اليقين، وبين ناه عن نقضه بالشك.
أما عموم الأول، فواضح.
وأما الثاني، فنقول: إن الشك فيها أريد به مطلق الاحتمال، لأنه المتبادر
عرفا.
ولولا يكن التبادر، فيكفينا كونه - في اللغة - لمطلق الاحتمال، ونثبت
مطابقة العرف معهما بأصالة عدم النقل.
ولو قطعنا بمخالفة العرف، فيرجع الامر إلى تعارض اللغة والعرف.
ولو سلمنا تقديم العرف على اللغة، أو قطعنا بتطابقهما في كونه للاحتمال
المساوي، فنقول: لا يضرنا، إذ غاية الامر عدم موافقة هذه الجملة من
الاخبار للجملة الأولى، لكن ليس بينهما تعارض يوجب حملا، لأنهما من
قبيل العام والخاص المنفيين، كما في قولك: " لا تكرم العلماء "،
و " لا تكرم زيدا العالم ".
نعم، قد يتصور التعارض بين مفهوم بعض هذه الجملة مع مناطيق

(1) كذا في الأصل، والظاهر: ناهية، وكذا فيما يليه.
32

الجملة الأولى، وهو مقوم الخبر المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: " من
كان على يقين فشك، فليمض على يقينه " (1) وبين مفهوم هذا الخبر وتلك
المناطيق عموم من وجه، لكن الترجيح مع المناطيق من وجوه:
الأول: أن الظاهر من نفي الشك المأخوذ في المفهوم هو صورة العلم،
وليس له ظهور في مورد التعارض وهو الظن.
الثاني: أنه على فرض الظهور فهو ظهور إطلاقي، لا يعارض الظهور
العمومي، وبعبارة أخرى: التقييد أولى من التخصيص.
الثالث: أنه مفهوم، وهو لا يعارض المنطوق.
الرابع: أنه واحد، والمناطيق كثيرة.
الخامس: أن من عمل بالاستصحاب لم يفرق بين حصول الظن على
الخلاف وعدمه، وبعبارة أخرى: عمل بالمناطيق وطرح المفهوم.
هذا كله مضافا إلى أمور اخر.
[قوله] قدس سره: " لان ما يفعل في الوقت فهو بحسب الامر ".
[أقول]: إن أراد من " الامر " الدليل الدال على التكليف، ففيه: أنه قد
يكون شموله للآن الثاني غير معلوم، مثلا قام الاجماع على وجوب شئ
وشك في توسعته وتضييقه، وعلى فرض العلم بشموله فقد يقع الشك في كون
شئ غاية ومزيلا له. وعلى فرض العلم بالغاية والمزيل، فقد يقع الشك في
حدوثه.
ففي هذه الصور أين الدليل الدال على ثبوت الحكم في الآن الثاني،

(1) الخصال: 619، وعنه الوسائل 1: 5175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء،
الحديث 6.
33

حتى يجب الامتثال بحسبه؟
وإن أراد من " الامر " نفس التكليف الموجود سابقا، ففيه: أن القائل
بالاستصحاب لا يقول بأن الاستصحاب محدث للحكم الشرعي ومنشئ له
في الآن الثاني، بل يقول: إن التكليف الموجود سابقا المشكوك في بقائه من
الجهات السابقة باق من حكم الاستصحاب، فإذا كان باقيا فلا بد من امتثاله،
فهذا الامتثال ليس إلا للتكليف السابق.
وسيجئ تمام الكلام معه إن شاء الله تعالى.
[قوله] قدس سره: " إذ الشك قد يحصل في التكليف في الموقت، كمن شك
في وجوب إتمام الصوم لو حصل له المرض في أثناء النهار " وأنه هل يبيح
الفطر، أم لا؟ "
[أقول]: لا يقال: إن الحكم بوجوب الصوم ليس من جهة استصحاب
وجوبه أو من جهة استصحاب حرمة الافطار، بل إنما هو من جهة بقاء شرط
الصوم أو عدم حدوث المانع، فيثبت وجوب الصوم تبعا، وسيأتي أن هذا
القائل يقول بالاستصحاب في الأمور الوضعية - كالأسباب والشروط
والموانع - فيثبت الاحكام الطلبية تبعا لها.
لأنا نقول: استصحاب بقاء الشرط، أو عدم المانع لا يجري هنا، فإن
حكم بوجوب الصوم فليس إلا من جهة استصحاب نفس الوجوب وحرمة
الافطار.
أما وجه عدم جريان استصحاب الشرط، فلانه لا شك أن هذا
الشخص قد ارتفعت عنه حالة قطعا، وبقيت له حالة، بل حالات، ولا يعلم
أن الشرط هو الحالة المرتفعة أو الحالة الباقية، فكما تقول: الأصل بقاء
الشرط - يعني الحالة التي هي شرط - فنقول: إن الأصل بقاء غير الشرط،
34

مثلا: لو جعل المولى وجود زيد في الدار شرطا لوجوب إكرام عمرو، فخرج
شخص من الدار ولا يعلم أنه زيد أو غيره. فلا يمكن التمسك بأصالة بقاء
الشرط.
والحاصل: أن الشك في أمثال المقام إنما هو الشك في اتصاف الباقي
بالشرطية أو المرتفع، ولا يجري الاستصحاب في الشك في الاتصاف مع القطع
بارتفاع أمر مردد بين الموصوف وغيره.
فجرى استصحاب الشرط هو: ما إذا وقع الشك في أصل البقاء
والارتفاع، لا في أنه الباقي أو غيره، ففي المثال المذكور، لو شككنا في خروج
زيد من الدار مع عدم القطع بخروج شخص مردد، لحكمنا باستصحاب
الشرط.
ومن هذا علم وجه عدم جريان استصحاب عدم المانع، لان المفروض
هو وجود شئ وهو المرض، وشككنا في مانعيته، نظير ما إذا وقع الشك في
أن المذي - الموجود يقينا - هل هو مانع أم لا؟ فلا يمكن الحكم بأصالة عدم
المانع، لأنه شك في الاتصاف. نعم يجري الاستصحاب في الآثار السابقة
كالطهارة وغيرها.
والحاصل: أن في مسألة الصوم لا يمكن التمسك باستصحاب سوى
استصحاب وجوب الصوم وحرمة الافطار، ولا يجري استصحاب الشرط
ولا عدم المانع، فافهم واغتنم.
ثم إنه يمكن الخدشة في جريان استصحاب وجوب الصوم وحرمة
الافطار، نظرا إلى أن التكليف بالصوم - يعني الامساك عن الأمور المخصوصة
من أول طلوع الفجر إلى المغرب - تعلقه على الشخص في متن الواقع
مشروط بعدم اتفاق مانع من الموانع الشرعية أو العقلية في هذا البين، فاتفاق
35

واحد منها في أثناء النهار كاشف عن عدم حدوث التكليف بالصوم ابتداء،
لا أنه حدث وارتفع، كما أن المذي على تقدير مانعيته إنما يمنع من بقاء
الطهارة، لا حدوثها، فليس هو من هذا القبيل.
فالشك في أن المرض الكذائي مانع عن الصوم أم لا، يرجع إلى الشك
في أن التكليف بالصوم مع علم الامر بأنه سيتفق هذا المرض في أثناء النهار،
هل حدث أم لا؟ لا إلى الشك في أن ذلك التكليف هل ارتفع بعد الحدوث أم
لا؟ حتى يكون من قبيل الشك في مانعية المذي، فإذا رجع الشك إلى الشك
في الحدوث، فمقتضى الاستصحاب: عدم الحدوث، وهو عكس المطلوب.
والحاصل: أنه لما كان من الموانع ما يمنع عن حدوث الشئ كالحيض
للصوم، ومنها: ما يمنع من بقائه كالبول للطهارة، فكلما شك في كون شئ
مانعا بالطور الثاني - كالمذي - فيجري فيه الاستصحاب، لان مرجعه إلى
الشك في البقاء.
وكلما شك في كون شئ مانعا على النهج الأول فلا يجري فيه
الاستصحاب، لان مرجعه إلى الشك في الحدوث، بل الأصل: عدم الحدوث.
فإن قلعت: لا شك أن هذا الشخص كان قبل عروض المرض مكلفا في
مرحلة الظاهر بالصوم وحرمة الافطار، لعدم علمه بأنه سيصير مريضا،
فنستصحب هذا التكليف الظاهري.
قلت: لا ريب أن هذا التكليف الظاهري إنما كان لاعتقاده أنه
مكلف به في الواقع، والآن قد زال الاعتقاد، فيزول ما كان منوطا به.
نظير ما إذا اعتقدنا أولا بأن هذا المائع خمر، فكان حراما علينا من
جهة الاعتقاد، ثم شككنا في أنه نهر أو خل، فلا يمكن استصحاب الحرمة
السابقة، لان الحرمة الواقعية مشكوكة الحدوث من أول الامر، والظاهرية
36

مقطوعة الانتفاء، لانتفاء مناطها، وهو الاعتقاد.
ونظيره في الأحكام الشرعية: ما إذا حكم المجتهد بحرمة العصير العنبي
لدليل، ثم شك في حجية ذلك الدليل، وحصل له تردد فيها في المسألة
الأصولية، فحينئذ لا يجوز أن يستصحب الحرمة السابقة.
وتمام الكلام في ذلك سيجئ عند الكلام فيما يتراءى استصحابا وليس
باستصحاب، إن شاء الله.
وقد فصل بعض هذا الكلام في مبحث الاجزاء عند الكلام في أن
الامر الظاهري العقلي لا يقتضي الاجزاء.
فإن قلت: لعل الشارع حكم في مسألة الصوم بأن المكلف الجامع
للشرائط عند أول الوقت يجب عليه الصوم إلى أن يعلم بوجود مانع.
قلت: فعلى هذا لا يحتاج الحكم بوجوب الاتمام إلى الاستصحاب، لان
الفرض عدم العلم بالمانع، فيحكم بالوجوب بنفس الحكم الشرعي المذكور.
ثم إنه لو فرضنا مانعية المرض للصوم على نهج رافعية البول للطهارة
- بأن يكون المرض عند حدوثه رافعا لوجوب الصوم المتحقق سابقا - أمكن
استصحاب الوجوب في ما إذا شك في رافعية مرض.
[قوله] قدس سره: " ثم إن الاستصحاب في الأحكام الوضعية - على
ما ذكره المتوهم - لا يجري في كان من قبيل الموقت كالحيض، أو التأبيد
والدوام كالزلزلة، ويجري في بعض المطلقات كالتغير بالنجاسة، الذي هو
سبب لتنجس الكر، والطهارة التي هي شرط لجواز المضي في الصلاة ".
[أقول]: هذا المتوهم هو الفاضل التوني في الوافية، وعبارته لا تخلو
عن اغتشاش، قال - بعد الاستدلال على عدم جريان الاستصحاب في
الاحكام الطلبية الابتدائية، بما نقله المصنف بالمعنى هنا -: " وأما الاحكام
37

الوضعية: فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة كالدلوك
لوجوب الظهر، والكسوف لوجوب صلاته، والزلزلة لصلاتها، والايجاب
والقبول لإباحة التصرفات والاستمتاعات في الملك والنكاح، وفيه (1) لتحريم
أم الزوجة، والحيض والنفاس لتحريم الصوم والصلاة، إلى غير ذلك، فينبغي
أن ينظر إلى كيفية سببية السبب، هل هي على الاطلاق؟ كما في الايجاب
والقبول، فإن سببيته على نحو خاص وهو الدوام إلى أن يتحقق مزيل، وكذا
الزلزلة. أو في وقت معين؟ كالدلوك ونحوه مما لا يكون السبب وقتا،
وكالكسوف والحيض ونحوهما مما يكون السبب وقتا للحكم، فإنها أسباب
للحكم في أوقات معينة.
وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شئ، فإن ثبوت الحكم في شئ
من الزمان - الثابت فيه الحكم - ليس تابعا للثبوت في جزء آخر، بل نسبة
الحكم في اقتضاء السبب للحكم (2) في كل جزء نسبة واحدة. وكذا الكلام في
الشرط والمانع.
فظهر مما مر: أن الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلا في الأحكام الوضعية
، أعني الأسباب والشرائط والموانع للاحكام الخمسة من حيث إنها
كذلك، ووقوعه في الأحكام الخمسة إنما هو بتبعيتها، كما يقال، في الماء الكر
المتغير بالنجاسة إذا زال تغيره من قبل نفسه: بأنه يجب الاجتناب منه في
الصلاة، لوجوبه قبل زوال تغيره، فإن مرجعه إلى أن النجاسة كانت ثابتة
قبل زمان تغيره، فيكون كذلك بعده.

(1) في هامش النسخة ما يدل على رجوع الضمير إلى النكاح.
(2) في المصدر: بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم.
38

ويقال في المتيمم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة: إن صلاته كانت
صحيحة قبل الوجدان، فكذا بعده. أي كان مكلفا ومأمورا بالصلاة بتيممه
قبله، فكان متطهرا قبل وجدان الماء، فكذا بعده، والطهارة من الشروط.
فالحق - مع قطع النظر عن الروايات - عدم حجية الاستصحاب، لان
العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت، لا يقتضي العلم ولا الظن
بوجوده في غير ذلك الوقت، كما لا يخفى، فكيف يكون الحكم المعلق عليه
ثابتا في غير ذلك الوقت؟
فالذي يقتضيه النظر - بدون ملاحظة الروايات -: أنه إذا علم تحقق
العلامة الوضعية تعلق الحكم بالمكلف، وإذا زال ذلك العلم بطرو شك - بل
وظن أيضا - يتوقف عن الحكم بثبوت الحكم الثابت أولا.
إلا أن الظاهر من الاخبار: أنه إذا علم وجود شئ فإنه يحكم به
حتى يعلم زواله " (1) انتهى كلامه.
ثم إنه وقع الاختلاف في استفادة مراده من عبارته، وها نحن
حاصرون للجهات التي يتصور الاستصحاب من أجلها في الأحكام الوضعية
، ثم نشير إلى ما هو الجواب عن هذا القائل بأي احتمال أراد.
فنقول: إذا ثبت من الشارع حكم وضعي، بأن قال مثلا: " إن تغير
الكثير بالنجاسة سبب لتنجسه " فالاستصحاب هنا يتصور من جهات:
الأولى: نفس الحكم الشرعي الوضعي - أعني: سببية التغير للتنجس -
بأن نشك في بقائها وزوالها، إما لاحتمال النسخ أو غيره من موجبات الشك.
الثانية: موضوع هذا الحكم الوضعي، وهو نفس السبب والشرط، بأن

(1) الوافية: 202 - 203.
39

يشك في بقائهما وزوالهما، كأن ثبت التغير في زمان، فشككنا في زمان آخر في
بقائه.
الثالثة: في نفس المسبب والمشروط، بأن يقال: إنا وجدنا الأسباب بين
ما يبقى المسبب مع زواله - كالايجاب والقبول للآثار المترتبة عليهما، والزلزلة
لصلاتها - وبين ما لا يبقى مع زواله - كالحيض والجنابة لحرمة المس - فنشك
في أن التغير هل هو من قبيل الأول؟ حتى يبقى التنجس مع زواله أيضا،
أو من قبيل الثاني؟ حتى لا يبقى، فيمكن جريان الاستصحاب في نفس
المسبب، وهو التنجس.
الرابعة: الحكم التكليفي المترتب على الحكم الوضعي - كوجوب
الاجتناب - بأن نشك في بقائه لاحدى الجهات المذكورة، فنقول: الأصل
بقاؤه.
فهذه جهات أربع يتصور منها الاستصحاب فيما إذا ثبت حكم وضعي
من الشارع.
ففهم بعض الناظرين في العبارة المذكورة - على ما حكي (1) - أن مراده
جواز إجراء الاستصحاب من الجهة الأولى، فاعترض على القائل بقلب
الدليل الذي استدل به على عدم جريان الاستصحاب في الطلبيات الابتدائية
عليه في هذا المقام: بأن سبيبة شئ لشئ أو شرطيته له، إما أن يثبت في
وقت ويكون موقتا... إلى آخر الدليل الذي ذكره.
ولا يخفى أن هذا خلاف ظاهر العبارة، بل خلاف صريح آخر العبارة
- فراجعها -، وإن كان لما فيه ظهور بدوي، نظرا إلى أن ظاهر قوله: " إن

(1) لم نقف عليه ولا على من حكاه عنه.
40

الاستصحاب يجري في الأحكام الوضعية " هو ذلك، فإن الحكم الوضعي ليس
إلا سببية التغير للنجاسة، لا نفس التغير ولا نفس النجاسة.
وأما المصنف قدس الله روحه فظاهر عبارته - بعد ملاحظتها إلى الاخر - أنه
فهم من العبارة واحدة من الجهة الثانية والثالثة، ولا يستفاد منها تعيين
إحداهما، وإن كان لما ظهور في الجهة الثالثة (1) ويشهد له تقسيم ذلك الفاضل
السبب إلى ما يكون من قبيل الايجاب والقبول والزلزلة، وما يكون من قبيل
الكسوف والحيض.
ولكن الحق - وفاقا لبعض المعاصرين - كما هو صريح آخر العبارة
المتقدمة: أن مراده الجهة الثانية. وكيف كان، فليست عبارته متن حديث حتى
يجب الاهتمام في فهم مراده منها.
بل التحقيق: جريان الاستصحاب عند ثبوت حكم وضعي من
الشارع من جميع الجهات الأربع المذكورة مع الاحكام الطلبية الابتدائية
أيضا، كما ستعرف.
وأما الجواب عما هو ظاهر مراد الفاضل من جريان الاستصحاب في

(1) في هامش النسخة ما يلي: وكأن منشأ استفادته لذلك هو تمثيل الفاضل بالماء المتغير
الذي زال تغيره، وبالمتيمم الذي وجد الماء في أثناء، الصلاة، فحسب أنه يقول:
باستصحاب المسبب، وهو النجاسة بعد زوال السبب، أعني: التغير. وباستصحاب
الصحة مع زوال الشرط، أعني: فقدان الماء.
لكن ليس هذا مراد الفاضل، بل مراده - كما يفهم من كلامه - هو أن النجاسة سبب
لوجوب الاجتناب، والطهارة الترابية شرط لصحة الصلاة، ثم إذا شك في بقاء هذا
السبب وهذا الشرط لامر من الأمور يمكن أن نبقيهما بالاستصحاب، وإن كان لازم
جواز استصحاب النجاسة ونفس السبب، جواز استصحاب المسبب بعد زوال السبب
أيضا، لان نفس النجاسة مسببة عن التغير وإن كانت سببا لوجوب الاجتناب.
لكن مراد الفاضل: الملزوم لا اللازم.
41

نفس الأسباب والشروط - على ما عرفت أنه المراد لا غير - فأمور:
الأول: أن هذا ليس قولا بجريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية،
بل في موضوعاتها.
الثاني: أن الاخبار التي استدل بها للجريان في الموضوعات تدل على
الجريان في الاحكام، لان شمولها لها ليس بأدون من شمولها لها، حتى قال
بعض: إنها لا تشمل الموضوعات، بل تختص بالاحكام. كما ستعرف (1)،
فتأمل.
فالقول بأن الاستصحاب إنما يجري في وجوب الاجتناب تبعا لجريانه
في النجاسة، تحكم بحت، لتساوي الاخبار من حيث الشمول بالنسبة إلى
الكل.
الثالث: أن لازم القول بجريان الاستصحاب في نفس الأسباب
والشروط، وأن جريانه في الاحكام الطلبية من باب التبعية لها، هو لزوم
الجريان في نفس المسبب - أعني الجريان من الجهة الثالثة - ولزوم الجريان في
نفس الحكم الوضعي - أعني نفس السببية والشرطية - وهو الجريان من الجهة
الأولى، فلا وجه لتخصيص الجريان بموضوعات الأحكام الوضعية، دون
أنفسها ودون المسببات.
بيان الملازمة: أنه إذا جعل الشارع - مثلا - النجاسة سببا لوجوب
الاجتناب، وشك في بقاء النجاسة - ولذا يستصحبها - فقد يكون الشك في
البقاء من جهة الشك في أن التغير الذي هو سبب لها هل هو من قبيل
الايجاب والقبول؟ حتى لا يزول المسبب - أعني النجاسة - بزواله، أم من قبيل

(1) في الصفحة: 57.
42

الحيض والجنابة، حتى تزول النجاسة بزواله؟
فاستصحاب النجاسة استصحاب للمسبب بعد زوال سببه، وإن كانت
هي أيضا - باعتبار - سببا لوجوب الاجتناب، فرجع استصحاب السبب إلى
استصحاب المسبب.
فثبت بذلك: أن الاستصحاب في نفس السبب قد يرجع إلى
استصحاب المسبب، باعتبار كون السبب مسببا عن سبب، كما أن النجاسة
سبب لوجوب الاجتناب ومسببة عن التغير.
وأما رجوع استصحاب نفس السبب إلى استصحاب نفس الحكم
الوضعي - أعني السببية - فبأن نفرض كون الشك في بقاء النجاسة - التي
تكون سببا لوجوب الاجتناب - ناشئا عن الشك في بقاء سببية التغير، بأن
نقطع أن التغير في زمان كان سببا للتنجس دائرا معه وجودا وعدما، ثم
باعتبار تبدل بعض حالات الماء أو قيود سببية السبب، شككنا في بقاء سببية
التغير مع القطع ببقائه.
فالشك في بقاء النجاسة - أعني سبب وجوب الاجتناب - ناش عن
الشك في بقاء سببية التغير، فنقول: الأصل بقاء السببية، فإذا ثبت بقاء
السببية ثبت النجاسة، فاستصحاب النجاسة راجع إلى استصحاب سببية
التغير.
ثم إن هذا المثال مثال فرضي، فلا يناقش فيه، بأنه ليس في الفقه من
هذا عين ولا أثر.
فان قلت: لا نسلم أن استصحاب نفس السبب - أعني النجاسة - راجع
إلى استصحاب سببية التغير. بل هنا شكان: شك في بقاء النجاسة، وشك في
بقاء سببية التغير " وإن كان الثاني منشأ للأول، لكن القائل يقول باستصحاب
43

النجاسة من حيث الشك في بقائها، لا باعتبار رجوعه إلى استصحاب
السببية. ولا ضير في أن يكون في موضع شكان، يكون أحدهما ناشئا عن
الاخر، ومع ذلك يجري الاستصحاب في الناشئ لا المنشأ.
كما أن القائل بحجية الاستصحاب في الاحكام - دون الأمور
الخارجية - إذا اتفق له شك في بقاء الحكم، ونشأ شكه من جهة الشك في بقاء
أمر خارجي، يقول باستصحاب الحكم دون الامر الخارجي.
قلت: فلم لا يقول الفاضل بمثل ذلك في استصحاب وجوب
الاجتناب؟ إذ كما أن الشك في بقاء وجوب الاجتناب عن الماء ناش عن
الشك في بقاء نجاسة الماء - ولذا يقول: بأن استصحاب وجوب الاجتناب
راجع في الحقيقة إلى استصحاب بقاء النجاسة، كما عرفت من كلامه - فكذلك
الشك في بقاء النجاسة ناش عن الشك في بقاء سببية التغير، فلم
لا يقول: إن استصحاب بقائه راجع في الحقيقة إلى استصحاب سببية التغير؟
فظهر مما ذكرنا: أنه لا فرق بين الجهات الأربع التي ذكرناها في
ما إذا ثبت حكم وضعي من الشارع في شمول الأدلة لما، وليس بعضها لاخر
وراجعا إليه، وإن كان شكه ناشئا عن شكه، فاضبط واغتنم.
44

[تقسيمات الاستصحاب]
[قوله] قدس سره: ثم إن الاستصحاب ينقسم إلى أقسام كثيرة: فتارة من
جهة الحال السابق أنه الوجود أو العدم، وأنه ما ثبت من الشرع أو العقل
أو الحس، وأن ما ثبت من الشرع وضعي أو غيره.
[أقول]: اعلم أن منشأ تكثر أقسام الاستصحاب - غالبا - أمران:
الأول: اعتبار المستصحب، والثاني: اعتبار منشأ الشك.
أما تقسيمه بالاعتبار الأول:
فنقول: إن المستصحب إما حكم شرعي أو من متعلقاته، والحكم
الشرعي: إما تكليفي أو وضعي.
والمتعلق: إما أن يكون في الموضوعات الاستنباطية - كالوضع والقرينة
والنقل -، أو من غيرها - كالرطوبة واليبوسة ونحوهما -.
وأما الطهارة والنجاسة: فإن لوحظا من حيث إنهما وصفان فهما من
المتعلقات، وإن لوحظا من حيت حكم الشارع بثبوتهما لمحل فمن الاحكام.
45

وكذا نحو الحرية والعبدية والمالكية والزوجية.
ثم إن جعل الموضوعات الشرعية - كالصلاة والصوم وغيرها - قسما
مستقلا مقابلا للغوي والخارجي لا يوجب ثمرة، لأنه إن لوحظ الاستصحاب
فيها باعتبار تشخيص أوضاعها أو المرادات منها فيدخل في الموضوعات
الاستنباطية، وإن كان باعتبار نفس معانيها فيدخل في الأمور الخارجية، كأن
يشك في فعل الصلاة فيستصحب عدم فعلها.
وعلى التقادير الأربعة: إما أن يكون أمرا وجوديا - كالوجوب
والصحة والوضع والرطوبة - أو يكون أمرا عدميا - كعدم هذه المذكورات -.
وأما تقسيمه بالاعتبار الثاني:
فنقول: إن الشك في بقاء الحالة السابقة، إما أن يكون من جهة الشك
في مقتضيها - بحيث لا نعلم أن ثبوت الحكم في الزمان السابق كان على وجه
له استعداد للبقاء في هذا الزمان - أو نقطع بذلك ونشك في البقاء من جهة.
أما الشك الأول، فلا يخلو غالبا عن أن ينشأ عن أمور:
الأول: تبدل الزمان، بأن يكون سبب الشك مجرد ذلك.
الثاني: تبدل وصف من أوصاف الموضوع غير مقطوعة المدخلية في
موضوعية الموضوع أو حال من أحوال الحكم.
الثالث: تردد الموضوع بين أمرين، نقطع بعدم استعداده للبقاء إلى هذا
الزمان على فرض كون الموضوع أحدهما، وباستعداده كذلك على فرض
كون الموضوع أحدهما الاخر.
ثم إن الأول - أعني تبدل الزمان - على قسمين، لان مضي الزمان إما
أن يوجب الشك في بقاء أصل الحكم وارتفاعه كليا ورأسا، وإما أن يوجب
الشك في بقاء الحكم الخاص في الواقعة الخاصة.
46

مثال الأول: الشك في نسخ الحكم الفلاني في الشريعة.
ومثال الثاني: بقاء خيار الغبن، أو بقاء الخيار المسبب عن العيوب
الموجبة لفسخ النكاح في الزمن الثاني.
والثاني - أعني تغير الوصف - أيضا على قسمين، لان الشك إما أن
يكون في أصل مدخلية الحال أو الوصف وعدم مدخليته رأسا، وإما أن نقطع
بأصل المدخلية، لكن الشأن في كيفية المدخلية وأن المدخلية في الحدوث فقط
- بحيث يبقى الحكم وإن زال الوصف -، أو في الحدوث والبقاء كليهما - بحيث
يزول الحكم بزواله -.
مثال الأول: ما إذا قطعنا في حال حياة مجتهد بصحة تقليده، بل
وجوبه، ثم مات فشككنا في بقاء الصحة والوجوب، من جهة أن حياة
المجتهد هل لها مدخلية في الحكم المذكور، أو لا مدخلية لها أصلا، بل يجوز
تقليد الميت ولو بدوا؟
ومثال الثاني: هو هذا المثال، إلا أنه نفرض أن للحياة مدخلية في
الحكم المذكور في الجملة ولا يصح تقليد الميت بدوا، لكن شككنا في أن
مدخليتها في الحدوث فقط، فيجوز الاستمرار على تقليد المجتهد بعد موته،
أو في الحدوث والبقاء، فيدور الحكم مدار الحياة حدوثا وارتفاعا.
هذا خلاصة الكلام في أقسام الشك من جهة المقتضي، وهي خمسة
حاصلة من ضم كل من قسمي كل من تبدل الزمان وتبدل الوصف، إلى
القسم الثالث، أعني تردد الموضوع.
وأما الشك من جهة المانع فهو أقسام - أيضا -:
لأنه إما أن يكون الشك في وجود أمر معلوم المانعية - كالشك في
حدوث البول بعد الطهارة - وإما أن يكون الشك في مانعية الامر المعلوم
47

الوجود، وهذا على أقسام:
لان الشك إما من جهة اشتباه الحكم الشرعي، كالشك في كون المذي
مانعا.
وإما أن يكون من جهة الشك في المسألة اللغوية، مثل أنا نعلم أن
النوم ناقض للوضوء، لكن نشك في أن الخفقة والخفقتين من أفراده،
أو قطعنا فرضا بمانعية المذي لكن معناه مجمل.
وإما أن يكون الشك من جهة اشتباه الامر الخارجي، كما إذا قطعنا
بحدوث ما يشك في كونه وذيا أو بولا، وكالرطوبة الواقعة على الثوب
المشكوك كونه بولا أو ماء.
وإما من جهة الشك من جهة تردد الآلة السابقة بين أمر يكون هذا
رافعا له، وأمر لا يكون هذا رافعا له، كما إذا تيقنا انتقال ملك عن واحد
إلى آخر بعوض ثم فسخ أحدهما، فنشك في أن الفسخ رافع للمعاملة السابقة
أولا، للشك في كون العقد الواقع في السابق من العقود اللازمة أو من
الجائزة. وكالشك في كون الصلاة بدون السورة رافعة للاشتغال السابق، من
جهة الشك في أن الاشتغال كان بالصلاة معها أو لا؟
فهذه - أيضا - خمسة أقسام، يحصل من ضمها إلى الخمسة السابقة:
عشرة، لا أظن استصحابا يخلو منها.
وقد يقسم الاستصحاب بالنظر إلى مدرك ثبوت الحكم السابق، إلى
استصحاب حال العقل والشرع، ويقسم الثاني إلى استصحاب حال الاجماع
وغيره.
[قوله] قدس سره: " قال العضدي: " معنى استصحاب الحال: أن الحكم
الفلاني قد كان ولم يظن عدمه، وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء
48

واختلف في صحة الاستدلال به... الخ (1) ".
[أقول]: قد وعدناك سابقا (2) أن نرجع حاصل كلام العضدي وغيره
- ممن يظهر منه تعريف الاستصحاب بالقاعدة - إلى تعريف المصنف السابق،
فنقول:
قد رأيت أن كلام العضدي قياس من الشكل الأول مشتمل على
صغرى وكبرى، فلا يخلو: إما أن يكون العضدي جعل الاستصحاب عبارة
عن نفس الصغرى، وأتى بالكبرى لبيان الحكم تطفلا، دون الموضوع.
وإما أن يكون قد جعله عبارة عن مجموع القياس، كما هو الظاهر.
فعلى الأول: موافقته لتعريف المصنف ظاهرة، لأنه جعل الاستصحاب
عبارة عن " كون الشئ كائنا في الزمن الماضي غير مظنون العدم " وهذا
بعينه تعريف المصنف (3)، إلا أنه رحمه الله قد أخذ " الشك " والعضدي أخذ " عدم
الظن بالعدم ".
وعلى الثاني، نقول: لا ريب أن مناط الاستدلال بالقياس ليس إلا
الأوسط، فإنه هو الدليل والعلة لحمل الأكبر على الأصغر، لما تقرر من أن
حقيقة البرهان وسط يستلزم مطلوبا.
فالاستصحاب - الذي هو دليل لبقاء الحكم - إذا جعل عبارة عن
القياس، فهو يرجع في الحقيقة إلى أنه وسط القياس، لما عرفت أنه الدليل
حقيقة.
مثلا، إذا قلنا: إن الطهارة قد كانت ولم يظن عدمها، وكل ما كان

(1) شرح مختصر الأصول 2: 453.
(2) راجع الصفحة: 24.
(3) المتقدمة في أول الكتاب.
49

كذلك فهو مظنون البقاء، واستنتجنا من هذا أن الطهارة باقية ظنا، فالدليل
حقيقة للبقاء، هو " كون الطهارة كائنة في السابق، غير مظنونة الارتفاع في
اللاحق " ولا يعرف المصنف رحمه الله الاستصحاب إلا بهذا، غير أنه بدل " غير
مظنون الارتفاع " بقوله: " مشكوك البقاء "، فهو رحمه الله قد عرف الاستصحاب
- الذي هو من الأدلة - بحاصل تعريف العضدي - الذي هو الدليل في
الحقيقة -.
وكأن شارح الوافية - السيد صدر الدين - فهم هذا من كلام العضدي،
حيث قال - بعد تعريف صاحب الوافية للاستصحاب، بأنه التمسك بثبوت
ما ثبت في وقت على بقائه في غير ذلك الوقت (1) -: " لا يخفى أن هذا التعريف
كأكثر التعاريف لا يخلو عن مسامحة، لان الاستصحاب ليس نفس التمسك،
بل هو المتمسك به " ثم نقل تعريف العضدي واستجوده (2).
أقول: لا يخفى أن المتمسك به - الذي جعله السيد معنى الاستصحاب -
ليس إلا ثبوت ما ثبت في السابق، لان صاحب الوافية، قال: " هو التمسك
بثبوت ما ثبت على بقائه " بأن يقال: إن الحكم الفلاني قد كان ولم يعلم
عدمه، وكل ما كان فهو باق، فجعل المتمسك عليه هو البقاء، والمتمسك به
هو ثبوته سابقا.
فاستجواده تعريف العضدي يدل على أنه فهم منه ما ذكرنا من أنه
- أي العضدي - أراد أن الاستصحاب هو كون شئ في السابق وعدم الظن
بعدمه في اللاحق، لأنه المساوق للمتمسك به الذي هو ثبوت ما ثبت.

(1) الوافية: 200، مع اختلاف يسير.
(2) شرح الوافية (مخطوط): 122.
50

[الأقوال في الاستصحاب]
[قوله]: " وأكثر الحنفية على بطلانه " فلا يثبت به حكم شرعي ".
[أقول]: قال التفتازاني في شرح الشرح: " كأنه يشير بذلك إلى أن
خلاف الحنفية في إثبات الحكم الشرعي، دون النفي الأصلي، وهذا
ما يقولون: إنه حجة في الدفع (1) لا في الاثبات، حتى إن حياة المفقود
بالاستصحاب يصلح حجة لبقاء ملكه لا لاثبات الملك له في مال مورثه " (2)
انتهى.
ووجه المصنف هذا القول منهم - في مبحث أصل البراءة - بأن أصالة
عدم انتقال المال إلى المفقود ينافي ما يقتضيه استصحاب البقاء، فيحتاج في
إثبات الانتقال إلى المفقود إلى دليل آخر.

(1) في المصدر: في الرفع.
(2) تعليقة شرح مختصر الأصول 2: 284.
51

أقول: هذا الوجه - لعدم صحة التمسك بالاستصحاب في إثبات الحكم
الشرعي - إن كان مستفادا من كلمات الحنفية فلا كلام لنا معهم، وإن كان
توجيها من المصنف رحمه الله عنهم، فهو منه رحمه الله غير وجيه.
أما أولا: فلعدم جريان أصالة عدم الانتقال إلى المفقود في المقام
حتى ينافي مقتضى استصحاب البقاء، لان انتقال المال بعد موت المورث
إلى شخص - ولو كان هو الامام - مقطوع، لعدم كون الملك، بلا مالك، وإنما
الشك في المنتقل إليه هل هو هذا المفقود أو غيره؟ فكلما تقول: الأصل عدم
انتقال المال إلى المفقود، فنقول: الأصل عدم انتقاله إلى غيره " فيبقى
استصحاب بقاء المفقود - المقتضي لانتقال المال إليه - سليما عن المعارض.
وأما ثانيا: فلانا لو سلمنا عدم معارض لأصالة عدم انتقال المال إلى
المفقود، فنقول: إن هذا الأصل لا يقوى على معارضة استصحاب البقاء،
نظرا إلى أن استصحاب البقاء استصحاب في الموضوع، وذلك استصحاب في
الحكم، والأول مقدم على الثاني، نظرا إلى أن الشك في الثاني مسبب وناشئ
عن الشك في الأول، وأن ثبوت الأول مستلزم لخلاف الثاني، إذ بعد ثبوت
حياة المفقود بالاستصحاب، فيستلزم (1) ذلك ثبوت الانتقال.
بل نقل الاجماع على تقديم الاستصحاب في الموضوع عليه في الحكم.
والظاهر أن الوجه في الاجماع ما ذكرنا، وحاصله: أن استصحاب الموضوع
مزيل بالنسبة إلى استصحاب الحكم.
بل يمكن أن يقال: إن استصحاب الحكم غير جار هنا، نظرا إلى أن
الشك في الانتقال - ظاهرا وواقعا - لا يوجد في زمان، لما عرفت في تعريف

(1) كذا في النسخة.
52

الاستصحاب من أن المعتبر فيه: هو عدم دليل يزيل الشك واقعا
أو ظاهرا.
بل يمكن أن يقال: إن الجاري هنا هو استصحاب الانتقال، لا عدم
الانتقال، نظرا إلى أنا كنا قاطعين - قبل الشك في حياة المفقود - بأنه إذا
مات قريبه المورث، فماله ينتقل إلى المفقود، وليس لعدم الانتقال بالفعل وجه
إلا عدم موت المورث، فإذا شك في حياة المفقود ومات المورث، فمقتضى
القضية التعليقية المذكورة - أعني تعليق الانتقال على موت المورث - ليس
إلا هو تنجز الانتقال، نظرا إلى وجود المعلق عليه، فاضبط هذا واغتنم.
وسيجئ زيادة توضيح لذلك في باب تعارض الاستصحابين إن شاء
الله تعالى.
وأما ثالثا: فلانا لو سلمنا تعارض استصحاب عدم الانتقال مع
استصحاب البقاء - المقتضي للانتقال - وتساقطهما، فنقول: إن عدم العمل
بدليل لمكان التعارض الموجب للتساقط " ليس قولا بعدم حجية ذلك الدليل
وبطلانه، فإن الحجية بالشأن لا يستلزم الحجية بالفعل، ومعنى البطلان هو نفي
الأولى لا الثانية.
وبالجملة: معنى أنه لا يثبت به حكم شرعي: أنه ليس من شأنه
ذلك، لا أنه لا يثبت لمكان المعارضة.
[قوله] قدس سره: " بل يمكن إدراج استصحاب بقاء غير الحكم الشرعي
- كالرطوبة واليبوسة - أيضا فيه، لان استصحاب البقاء لا يتم إلا باعتبار
استصحاب عدم المزيل، فتأمل ".
[أقول]: كأن وجه التأمل أمور:
الأول: أنه قد يمكن استصحاب بقاء المذكورات مع عدم إمكان
53

استصحاب عدم المزيل، كما إذا وجد أمر وشككنا في كونه مزيلا لليبوسة
السابقة - نظرا إلى الشك في أنه ثلج أو حجر -، ومن المعلوم عدم جريان
الاستصحاب في نفس المزيل، لان الشك في مانعية الموجود، لا في وجود
المانع، فيختص استصحاب بقاء اليبوسة بالجريان.
الثاني: أنه لو سلمنا عدم افتراق بين الاستصحابين وعدم انفكاك
الأول عن الثاني، لكن من المعلوم أنهما أمران مستقلان لا يتوقف أحدهما
على الاخر، فإن استلزام الشئ للشئ لا يوجب توقفه عليه.
الثالث: لو سلمنا التوقف، لكنه لا يلزم من توقف الاستصحاب
الوجودي على العدمي دخوله فيه، بحيث يندرج تحت مفهومه ويفهم من
لفظه.
هذا كله لو أراد العقد السلبي من الحصر في قوله: " لا يتم إلا بكذا "
بأن جعل وجه اندراج الاستصحاب الوجودي تحت النفي الأصلي - الذي
وقع في كلام العضدي - هو عدم إمكانه بدونه وتوقفه عليه، كما هو الظاهر
من العبارة.
وإن أراد العقد الايجابي من الحصر، بأن جعل وجه اندراج
الاستصحاب الوجودي تحت النفي الأصلي، كون العدمي مستلزما للوجودي،
فيكون القائل باعتبار الاستصحاب في النفي الأصلي - أعني عدم المزيل -
يلزمه القول بالاستصحاب الوجودي - أعني الرطوبة - فمن هنا يندرج
استصحاب بقاء مثل الرطوبة واليبوسة تحت النفي الأصلي في كلام العضدي
والحاجي، ففيه:
أولا: إن إبقاء الرطوبة السابقة من جهة استصحاب عدم المزيل
ليس استصحابا لها، إن الاستصحاب ليس مطلق إبقاء الشئ في زمان
54

الشك، بل هو إبقاؤه فيه من جهة نفس الشك فيه، لا من جهة إبقاء
ما يوجب بقاؤه لبقائه، فيمكن أن يقول أحد باستصحاب عدم المزيل،
ولا يقول باستصحاب الرطوبة وإن استلزم الاستصحاب الأول بقاءها.
ومن هنا ترى بعضهم يقولون باستصحاب الأمور الخارجية،
ولا يقولون باستصحاب نفس الحكم، وإن كان لازم استصحاب الامر
الخارجي - إذا كان من متعلقات الحكم - بقاء نفس الحكم إذا كان الشك فيه
من جهة الشك في بقاء الامر الخارجي، لكن قد عرفت أن مطلق بقاء الشئ
في زمان الشك ليس استصحابا.
وثانيا: أنه لو تم هذا فغاية ما يثبت هو أنه يلزم القائل بحجية
الاستصحاب في النفي الأصلي القول بحجيته في الوجودي في ما إذا كان
الاستصحاب العدمي جاريا، كما إذا شك في وجود المانع. وأما في ما لم يكن
جاريا - كما إذا شك في مانعية الموجود - فلا يلزمه القول بها، فافهم واغتنم.
[قوله] قدس سره: " ولكن المحقق الخوانساري في شرح الدروس (1) في
مبحث الاستنجاء بالأحجار قال:... الخ ".
[أقول]: هذا استدراك مما استفاده رحمه الله من ظاهر كلام العضدي - بعد
تعميم النفي الأصلي في كلامه لجميع الاستصحابات العدمية - من أن كل من
قال بالاستصحاب لم يفرق بين النفي الأصلي - يعني العدمي بجميع أقسامه
الشامل للبراءة الأصلية ونفي الأمور الخارجية - وبين الحكم الشرعي.
وجه الاستدراك: أن الظاهر من كلام العضدي عدم المفصل في
الاستصحاب من جهة المستصحب، وظاهر كلام المحقق وجود المفصل بين

(1) مشارق الشموس: 76
55

الشرعيات وغيرها.
أقول: يمكن أن يكون المقسم في كلام المحقق الخوانساري، هو
الاستصحاب الوجودي، حيث قال: إنه ينقسم باعتبار الحكم ان المأخوذ فيه إلى
شرعي وغيره.
وحينئذ فوجود القائل بعدم اعتبار الاستصحاب في الأمور الخارجية
- يعني الوجودية منها - لا ينافي ما مر من عبارة العضدي: من نفي الفرق عند
القائل بالاستصحاب بين النفي الأصلي والحكم الشرعي، إذ لم يكن بين في
كلامه ما يدل على التعميم، بحيث يشمل الأمور الخارجية الوجودية.
وأما إدراجها تحت النفي الأصلي الأعم من الحكم وغيره - بناء على أن
استصحابها لا يتم إلا باعتبار استصحاب عدم المزيل - فقد عرفت أنه
لا وجه له. مع أن المصنف رحمه الله - أيضا - أمر بالتأمل (1).
[قوله] قدس سره: " وهو يستلزم كون مثل أصالة عدم النقل وأصالة بقاء
المعنى اللغوي أيضا خلافيا ".
[أقول]: يمكن أن يقال: إن نقل المحقق المذكور للخلاف في المسألة إنما
هو بعد اخراج الأصول المتفق عليها، مثل أصالة عدم النقل، وأصالة عدم
القرينة، وأصالة بقاء المفقود ونحوها، فلا يلزم من وجود القائل بعدم حجية
الاستصحاب في غير الشرعيات، وجود القائل بالعدم في الأصول المذكورة
من جهة أنها من غبر الشرعيات، لخروجها عن محل النزاع أولا.
على أنه يمكن أن يقال: إن كلام المحقق في نقل الأقوال في
الاستصحاب من باب التعبد، كما هو المعروف بين متأخري المتأخرين،

(1) تقدم في الصفحة 53.
56

فتأمل.
ويدلك على هذا: استدلال هذا المحقق - في أثناء كلامه على عدم
حجية الاستصحاب في الأمور الخارجية من قبل القائل به - بمنع شمول
الاخبار لها؟ لبعد بيان ذلك عن منصب الشارع (1).
فحينئذ لا ضير في أن يقال: بعدم حجية الاستصحاب في هذه الأصول
المتفق عليها من باب التعبد. بل مال إليه بعض مشايخنا (2)، بل لا يبعد
الميل إليه.
هذا على أنك قد عرفت إمكان أن يكون المقسم في كلام المحقق،
الاستصحاب الوجودي، فلا يلزم أيضا ما ذكر المصنف.
لكن يشكل ذلك في أصالة بقاء المعنى اللغوي. اللهم إلا أن يقال: بأن
اعتبارها لرجوعها إلى أصالة عدم النقل المتفق عليها.
[قوله] قدس سره: " واستدل عليه (3): أولا بأنه لو كان أمر أو نهي بفعل
إلى غاية مثلا، فعند الشك لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظن
بالامتثال، وما لم يحصل الظن لم يحصل الامتثال ".
[أقول]: يستفاد من عبارة هذا المحقق أمور:
الأول: أن في صورة عدم الظن والعلم بالامتثال لا يحصل الامتثال في
الواقع، وإن فرضنا وجود الغاية واقعا في زمان شكه، وأنه أتى بما أمره به
المولى إلى الغاية الواقعية، وهو التحقيق، نظرا إلى [أن] الامتثال ليس عبارة
عن مجرد إتيان ما أمر به المولى، حتى يدور مدار الاتيان الواقعي، بل هو

(1) حكاه شارح الوافية عن حاشية شرح الدروس، انظر شرح الوافية: 120.
(2) لعل المراد به السيد المجاهد قدس سره انظر مفاتيح الأصول: 657.
(3) المستدل هو المحقق الخوانساري قدس سره " في مشارق الشموس: 76.
57

إتيان المأمور به، لأنه المأمور به، وهذا فرع العلم أو الظن المعتبر بأن ما أتى به
هو المأمور به، ولا تكفي الموافقة الاتفاقية في صدق الإطاعة عرفا.
ومن هنا اتفقوا على أن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية،
لا مجرد حصول المأمور به في الخارج ولو مع جهل المأمور بكونه المأمور به
أو بعضه، أو غيره.
الثاني: يستفاد من إطلاق الظن في كلامه حكمه بكفاية الظن بالامتثال
المسبب عن الظن بوجود الغاية، وبه صرح في شرح الدروس - على
ما حكي - حيث نقل عنه ما حاصله: أنه إذا ورد دليل على ثبوت حكم
إلى غاية معينة، فلا بد من الحكم ببقائه إلى أن يحصل العلم أو الظن بوجود
الغاية (1) انتهى.
أقول: هذا الظن إن استفيد من دليل معتبر من الشارع فلا كلام، وإلا
فهو مبني على حجية مطلق الظن في الموضوعات الخارجية للأحكام الشرعية
، وهو محل تشاجر بين العلماء.
والظاهر عدم اعتباره، سيما في المقام، في مقابل هذه القاعدة - يعني
قاعدة الاشتغال واستصحابه - كما سيجئ اللهم إلا مع عدم التمكن من العلم.
وللكلام مقام آخر.
الثالث: ان صريح دليل المحقق هذا ودليله الثاني هو أن مراده إجراء
الاستصحاب في نفس الحكم الشرعي، لا في الامر الخارجي - أعني عدم
وجود المزيل - ثم إبقاء الحكم الشرعي لاجله، كما احتمله بعض المعاصرين (2)

(1) مشارق الشموس: 77.
(2) الظاهر أنه الفاضل النراقي في المناهج: 134.
58

في كلامه بعدما اختار هو هذا المذهب - يعني إبقاء الحكم في أمثال المقام من
جهة استصحاب عدم الغاية، لا من جهة استصحاب نفسه - وسنشير إليه مع
جوابه إن شاء الله تعالى.
[قوله] قدس سره: " وثانيا بما ورد في الروايات من: أن اليقين لا ينقض
إلا باليقين ".
[أقول]: الفرق بين هذا الدليل وسابقه: أن مرجع ذلك الدليل إلى
قاعدة الاشتغال، أعني ما اشتهر بينهم، وادعى هذا المحقق عليه الاجماع:
من أن الشغل اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.
ومرجع هذا الدليل إلى استصحاب الاشتغال، ولكل منهما مفهوم مبائن
لمفهوم الاخر.
نعم، الغالب عدم انفكاك الثاني عن الأول. وقد يتعارضان، كما إذا
تردد الامر بين كون واجب مضيقا أو موسعا، فإن مقتضى قاعدة الاشتغال:
الأول، ومقتضى استصحابه: الثاني، فتأمل.
[قوله] قدس سره: " وحينئذ فلا ظهور في عدم نقض الحكم وثبوت
استمراره ".
[أقول]: قال بعد ذلك معللا له - على ما حكي - ما هذا لفظه:
" إذ الدليل الأول ليس بجار فيه، لعدم ثبوت حكم العقل في مثل هذه
الصورة، خصوصا مع ورود بعض الروايات الدالة على عدم المؤاخذة
بما لا يعلم.
والدليل الثاني الحق أنه لا يخلو من إجمال. وغاية ما يسلم منه إفادة
الحكم في الصورتين اللتين ذكرناهما، وإن كان فيه أيضا بعض المناقشات،
59

لكنه لا يخلو من تأييد الدليل الأول، فتأمل " (1)، انتهى.
واعلم: أن صريح عبارته المذكورة في هذا المقام وإن كان حصر
الاستصحاب في صورتي الشك في وجود المانع والشك في صدق المانع المعلوم
المانعية. إلا أنه يظهر مما حكي عنه - في حاشية شرح الدروس - عند شرح
قول الشهيد نور الله مضجعه: " ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه " اعتبار
الاستصحاب في صورة ثالثة، وعبارته - على ما حكيت - هي هذه:
" وتوضيحه: ان الاستصحاب لا دليل على حجيته عقلا. وما تمسكوا
به ضعيف، وغاية ما يتمسك فيها ما ورد في بعض الروايات الصحيحة: " أن
اليقين لا ينقض بالشك أبدا، وأنه ينقضه بيقين آخر مثله " (2).
وعلى تقدير تسليم صحة الاحتجاج بالخبر في مثل هذا الحكم وعدم
منعها - بناء على أن الحكم الظاهر أنه من الأصول، ويشكل التمسك بالخبر
الواحد في الأصول، إن سلم جواز التمسك به في الفروع - نقول:
الظاهر أولا: أنه لا يظهر شموله للأمور الخارجية، مثل رطوبة الثوب
ونحوها، إذ يبعد أن يكون مرادهم بيان الحكم في مثل هذه الأمور التي
ليست حكما شرعيا، وإن كان يمكن أن تصير منشأ لحكم شرعي
بالعرض، ومع عدم الظهور فلا يمكن الاحتجاج به فيها، وهذا ما يقال: إن
الاستصحاب في الأمور الخارجية لا عبرة به.
ثم، بعد تخصيصه بالأحكام الشرعية، الامر على وجهين:

(1) مشارق الشموس: 76
(2) الوسائل 1: 175، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، ذيل الحديت الأول، بلفظ:
" ولا تنقض اليقين أبدا بالشك، وإنما تنقضه بيقين آخر " وفي التهذيب 1: 8، الحديث
11: " ولا ينقض... الخ ".
60

أحدهما: أن يثبت حكم شرعي في مورد خاص باعتبار حال نعلم من
الخارج أن زوال تلك المحال لا يستلزم زوال الحكم.
والاخر: أن يثبت باعتبار حال لا يعلم فيه ذلك.
مثال الأول: إذا ثبت نجاسة ثوب خاص باعتبار ملاقاته للبول - بأن
يستدل عليها بأن هذا الثوب شئ لاقاه البول، وكل ما لاقاه البول نجس -
والحكم الشرعي النجاسة، وثبوته باعتبار حال هو ملاقاة البول. وقد علم
من الخارج - لضرورة أو إجماع أو غير ذلك - بأنه لا يزول النجاسة بزوال
الملاقاة فقط.
ومثال الثاني: ما نحن بصدده، فإنه ثبت وجوب الاجتناب عن الاناء
المخصوص - باعتبار أنه شئ يعلم وقوع النجاسة فيه بعينه، وكل شئ
كذلك يجب الاجتناب عنه - ولم يعلم بدليل من الخارج أن زوال هذا الوصف
الذي يحصل باعتبار زوال المعلومية (1) بعينه لا دخل له في زوال الحكم.
وعلى هذا نقول: شمول الخبر للقسم الأول ظاهر، يمكن التمسك
بالاستصحاب فيه، وأما القسم الثاني فلا، فالتمسك فيه مشكل.
فإن قلت: بعد ما علم في القسم الأول ان الحكم لا يزول بزوال
الوصف، فأي حاجة إلى التمسك بالاستصحاب؟ وأي فائدة في ما ورد في
الاخبار من: " أن اليقين لا ينقض إلا بيقين مثله "؟
قلت: القسم الأول على وجهين:
أحدهما: أن يثبت أن الحكم - مثل النجاسة - حاصل بعد الملاقاة
ما لم يرد عليها الماء على الوجه المعتبر في الشرع، وفائدته - حينئذ - أن عند

(1) كذا في النسخة.
61

حصول الشك بورود الماء لا يحكم بزوال النجاسة.
والاخر: أن يعلم ثبوت الحكم في الجملة بعد زوال الوصف، لكن لم يعلم
أنه ثابت دائما، أو في بعض الأوقات إلى غاية معينة محدودة، وفائدته: أنه
يثبت الحكم في الجملة، فيستصحب إلى أن يعلم المزيل " (1) انتهى.
ثم اعلم أن جملة الصور التي يجرى هذا المحقق الاستصحاب فيها
- على ما هو ظاهر كلام المحكي - خمس:
الأولى: إذا شك في وجود المانع.
الثانية: إذا شك في فردية شئ للمانع المعلوم المانعية.
الثالثة: إذا تردد المانع المعلوم المانعية بين شيئين، بأن يكون من قبيل
المشترك اللفظي ونحوه من المجملات اللفظية أو اللبية، كما إذا وقع الاجماع
على كون الشئ غاية، وتردد أمره بين شيئين.
الرابعة: ما إذا شك في رافعية شئ للاشتغال، من جهة الشك في
التكليف، لتردده بين أمرين - وهو القسم الخامس من أقسام الشك في المانع
الذي ذكرناه سابقا (2) عند تقسيم الاستصحاب باعتبار سبب الشك -.
الخامسة: ما إذا ثبت حكم باعتبار حال يعلم أنه لا يزول بزوال
الحال، لكن لا يعلم أنه يبقى بعده مستمرا في جميع الأوقات، أو في بعضها
إلى غاية معينة.
بقي شئ، وهو أن الفرق بين الشك في صدق المزيل - الذي أجرى هذا
المحقق الاستصحاب فيه - وبين الشك في كون الشئ مزيلا - الذي لم يجره

(1) حكاه في شرح الوافية: 120. عن حاشية شرح الدروس للمحقق الخوانساري قدس سره.
(2) تقدم في الصفحة: 48.
62

فيه - مع رجوع كل منهما إلى الشك في ثبوت وصف الإزالة له والشك في
دخوله تحت مفهوم المزيل، هو: أن الشك في الأول متعلق أولا وبالذات
بدخول الشئ تحت العنوان الذي حكم الشارع عليه بالمزيلية، وهذا الشك
مع قطع النظر عن اتصاف ذلك العنوان بالمزيلية، ثم يعرض الشك في مزيلية
هذا المشكوك، بعد جعل ذلك العنوان - الذي شك في دخول هذا الشئ تحته -
متصفا بالمزيلية.
مثلا: الشك في كون الخفقة والخفقتين من أفراد النوم ثابت مع قطع
النظر عن كون النوم مزيلا أم لا. نعم، بعد ما جعل مزيلا فيقع الشك في كون
الخفقة مزيلا - يعني من أفراد هذا المزيل -.
والحاصل: أن الشك في هذا القسم متعلق - أولا وبالذات - بمعنى هذا
العنوان، ويرجع بالآخرة إلى الشك قي ثبوت وصف الإزالة له شرعا.
وأما الشك في الثاني: فهو متعلق أولا وبالذات بنفس الحكم الشرعي
- يعني ثبوت الإزالة لهذا الشئ - وليس شكا في صدق المزيل عليه، بمعنى أن
يشك أن العنوان الذي جعل مزيلا هل يصدق عليه؟ نعم، بمعنى أن مفهوم
المزيل - يعني المزيلية - يوجد فيه أم لا؟
مثال ذلك: المذي، فإن الشك في ثبوت المزيلية له، لا في صدق العنوان
- الذي جعل مزيلا - عليه.
نظير الأول: ما إذا حرم الشارع الغناء، وشك في صدقه على الصوت
المرجع فيه الخالي عن الطرب، من جهة الاجمال في معنى الغناء.
ونظير الثاني: ما إذا شك في تحريم صوت بالخصوص من الشارع.
وهذا الفرق بين الشكين وإن كان في غاية الظهور، إلا أن الغرض من
ذكره التنبيه على أن ما ذكره المصنف فيما سيجئ - عند ذكر أمثلة أقسام
63

الشك في المانع التي ذكرها المحقق السبزواري (1) من التمثيل للشك في صدق
المانع بالشك في كون المذي حدثا، وتبعه عليه بعض المعاصرين (2) - ليس على
ما ينبغي.
بيان ذلك: أن الشارع لم يحكم في مقام بيان روافع الطهارة بأن الحدث
رافع، حتى يقع الشك في صدق الحدث على المذي، فإن المراد بالحدث في
أحد استعماليه هو أحد الأمور الرافعة للطهارة، فمهما ثبت من الشارع أن
الشئ الفلاني رافع للطهارة، فإذن يدخل في الحدث.
فالحدث في كلام الشارع ليس موضوعا لحكمه عليه بالرافعية، لان هذا
الحكم مأخوذ في مفهوم هذا الموضوع، فالرافعية في كلام الشارع إنما حكم بها
على خصوص النوم والبول والغائط وغيرها، لا على الحدث.
ولعل منشأ ما صدر من المصنف ومن تبعه من هذا التمثيل، هو ورود
بعض الاخبار، مثل قوله عليه السلام: " إياك أن تحدث وضوء حتى تستيقن أنك
قد أحدثت " (3)، وأن الاجماع وقع على ثبوت الطهارة إلى زمان الحدث.
وأنت خبير بأن ذلك كله ليس في مقام بيان الروافع، بل مرتبة مثل
هذا الخبر وهذا الاجماع متأخرة طبعا عن الأدلة الواردة في مقام بيان
الروافع، بمعنى أن بعد ما ثبت من تلك الأدلة أن البول مثلا ناقض، فسمي
باسم الحدث، وأن النوم مثلا ناقض، فصار حدثا، وهكذا، ثم قال المعصوم
- بعد معرفة الاحداث -: " لا تحدت وضوء حتى تستيقن أنك قد أحدثت "

(1) ذخيرة المعاد: 115.
(2) انظر الفصول الغروية: 371.
(3) الوسائل 1: 176، الباب الأول من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 7، وفيه: وإياك
أن تحدث وضوء أبدا... الخ.
64

- أي صدر منك بعض الأمور التي تعلم أنها في الشريعة ناقضة -.
وكذلك ما ورد في الاخبار من أنه " لا ينقض الوضوء إلا حدث،
والنوم حدث " (1)، فإنه أيضا في مقام الرد على العامة القائلين بأن النوم ليس
بنفسه من الاحداث، فتأمل.
نعم، لو فرض أن الحدث لم يؤخذ في مفهومه رافعية الطهارة
- كما يدل عليه قوله عليه السلام " لا ينقض الوضوء إلا حدث " (2) إذ لا معنى
للحكم بناقضية الرافع، فيجعل تعريف الفقهاء للحدث بالرافع تعريفا له
بلازمه - أمكن أن يكون موضوعا للحكم بالرافعية. ومع ذلك أيضا لا يثبت
المطلوب، نظرا إلى أن الأدلة وردت في بيان رافعية خصوصيات هذا
المفهوم، فكل فرد من أفراده حكم عليه بخصوصه أنه رافع.
فالشك في رافعية المذي شك في الحكم الشرعي بالخصوص له،
لا شك في دخوله. تحت العنوان الذي حكم عليه الشارع بالرافعية، فالشك في
رافعية المذي نظير الشك في مطهرية الاستحالة للكلب، لا نظير الشك في
رافعية الخفقة والخفقتين، ومطهرية الغسل بماء السيل، للشك في أنه ماء أم لا؟
فثبت من جميع ذلك: أن المحقق الخوانساري لا يجري الاستصحاب في
مثل الشك في رافعية المذي، لأنه شك في كون المذي أيضا كالبول مزيلا،
لا في صدق المزيل عليه، فتأمل.
[قوله] قدس سره: " وعلى الأول، فالشك في رفعه أقسام " (3).

(1) الوسائل 1: 180 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 4.
(2) المصدر السابق.
(3) هذه العبارة للمحقق السبزواري قدس سره: لا في ذخير المعاد: 115، نقلها صاحب
القوانين.
65

[أقول]: هذه الأقسام الأربعة لا يجري الاستصحاب عند المحقق
السبزواري، إلا في الأول منها (1). وأما عند المحقق الخوانساري (2)، فيجري في
الأول والثاني منها، ويجري عنده أيضا في قسم خامس من أقسام الشك في
المانعية، وهو ما إذا كان المانع مترددا بحسب المفهوم بين أمور، فيستصحب
الحكم عنده إلى القطع بوجود المانع النفس الأمري.
وهذا في الحقيقة داخل في القسم الثاني من الأربعة، لان إجمال
معنى المانع قد يكون بحيث يتردد بين أمرين فصاعدا - كالمشترك اللفظي -
وقد يكون معينا في الجملة وشك في فردية بعض الأمور له وصدقه عليه.
إلا أن المحقق السبزواري خصه بالثاني - كما حكاه في المتن - فارجع.
[قوله] قدس سره: " ويظهر منه في غير هذه المواضع نفي حجية
الاستصحاب في الأمور الخارجية ".
[أقول]: قد عرفت من عبارة المحقق الخوانساري أن له أيضا تأملا
في حجية الاستصحاب فيها.
ثم: إن المحقق الوحيد البهبهاني بعد ما قسم الاستصحاب إلى قسمين:
الأول: استصحاب متعلق الحكم الشرعي - كالرطوبة واليبوسة وعدم النقل،
وغير ذلك - والثاني: استصحاب نفس الحكم الشرعي، وجعله على ضربين:
الأول: أن يثبت به حكم شرعي لموضوع معلوم، كما إذا شك في
ناقضية المذي.
الثاني: عكس الأول، أعني أن يثبت حكم شرعي لموضوع معلوم،

(1) راجع ذخيرة المعاد: 116.
(2) راجع مشارق الشموس: 76.
66

لكن لا ندري هل تحقق الموضوع أم لا؟ مثلا: نعلم بأن البول ناقض، لكن
نشك في تحققه، قال: " والأخباريون أيضا صرحوا بحجية استصحاب
موضوع الحكم الشرعي - على ما ذكره الشيخ الحر (1) - فهم يقولون بحجية
القسم الأول والضرب الثاني. والفاضل صاحب الذخيرة صرح بحجية
الضرب الثاني (2)، ولعله موافق للأخباريين " (3) انتهى كلامه رفع مقامه.
والظاهر من هذه العبارة: أن المحقق السبزواري إنما يقول
بالاستصحاب في الضرب الثاني، لأنه يرجع إلى الاستصحاب في الأمور
الخارجية - أعني عدم تحقق المانع -.
كما أن الأخباريين لما قالوا بحجية الاستصحاب في الموضوع لزمهم
القول بحجيته في الضرب الثاني، وإلا فالشيخ الحر لم يحك عنهم إلا حجيته في
الموضوع الشرعي، وهذا بظاهره ينافي ما استظهره المصنف هنا من المحقق.
وسيأتي ما يوضح لك مذهب الأخباريين ومراد العلماء من الأحكام الشرعية
، والأمور الخارجية، فانتظر.
[قوله] قدس سره: " فحاصل الأقوال يرجع إلى ثمانية ".
[أقول]: هذا الحاصل محصود من الاختلافات التي ذكرها من العلماء
الاعلام في هذا المقام.
والقول الأول: محكي عن أكثر المحققين، كالمفيد (4) والمحقق في

(1) الفصول المهمة في أصول الأئمة: 250، الباب 45.
(2) ذخيرة المعاد: 116.
(3) الرسالة الاستصحابية (مخطوط): الصفحة الأولى.
(4) حكاه عنه الشيخ في العدة: 303، والكراجكي قدس سره. في كنز الفوائد 2: 30،
والمحقق قدس سره. في المعارج: 206.
67

المعارج (1) والعلامة (2) والشهيدين (3) وشيخنا البهائي (4) ونسب إلى الشيخ في
العدة (5) وعن أكثر العامة، كالشافعية قاطبة (6) وقيل: أكثرهم (7).
والقول الثاني: محكي عن أكثر المتكلمين (8) وحكي عن السيد (9)
والشيخ (10) وذهب إليه صاحب المعالم، ونسبه فيه إلى المحقق (11)، وسيأتي
ما فيه.
والقول الثالث: إشارة إلى ما حكاه المحقق الخوانساري في شرح
الدروس من أن بعضهم يقول بحجية الاستصحاب في الشرعيات - كالطهارة -
دون غيرها - كالرطوبة (12) - وعرفت أيضا ميله إلى الجزء الثاني والتفصيل في
الجزء الأول من هذا القول.
والقول الرابع: لم يسبق من المصنف ما يكون إشارة إليه، لكنه محكي
عن الأخباريين (13).

(1) معارج الأصول 206.
(2) مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 250.
(3) القواعد والفوائد 1: 134، وتمهيد القواعد: 37.
(4) الحبل المتين: 36
(5) عدة الأصول: 304.
(6) نسبه الآمدي إلى جماعة من أصحاب الشافعي، واختاره أيضا، انظر الاحكام في
أصول الاحكام: 4: 367.
(7) القائل هو الشيخ قدس سره في العدة: 303، وفيه: وذهب أكثر الشافعية.
(8) حكاه في العدة: 303، وفيه فذهب أكثر المتكلمين... إلى أن ذلك ليس بدليل.
(9) و (10) حكاه عنهما في مفاتيح الأصول: 634.
(11) المعالم: 235.
(12) مشارق الشموس: 76.
(13) حكاه الوحيد قدس سره عن صريح الأخباريين، كما تقدم في الصفحة السابقة.
68

ثم، إن تعبير المصنف عن القول الثالث باعتبار الاستصحاب في
الأحكام الشرعية دون الأمور الخارجية، وعن القول الرابع بعكس ذلك،
لا يخلو عن تأمل.
بيان ذلك إنما يحصل بعد بيان المراد من الأحكام الشرعية والأمور
الخارجية، وأن المراد من الاستصحاب في الحكم الشرعي ماذا؟ فنقول:
يحتمل أن يراد بالحكم الشرعي: كل ما يكون في ثبوته محتاجا إلى الاستفادة
من الشارع، سواء كان من الأحكام التكليفية الخمسة، أو الوضعية، أعني:
السببية والشرطية والمانعية والجزئية والصحة والفساد، أو غيرها كالطهارة
والنجاسة والحرية والعبدية والزوجية والملكية، ونحوها.
وحينئذ يكون المراد بالخارجية غيرها - كالرطوبة واليبوسة، ونحوهما -
وهذا ظاهر بعضهم (1).
ويحتمل أن يراد بالحكم الشرعي: خصوص الأحكام التكليفية
والوضعية، وأما غيرها فيدخل في متعلق الحكم الشرعي كالطهارة وما ذكر
بعدها، وهو ظاهر بعض آخر.
ثم على التقديرين، يحتمل أن يراد بالاستصحاب في الحكم الشرعي:
إثبات الحكم الشرعي الكلي في زمان الشك والشبهة في نفس الحكم، مثل:
أنا لا ندري أن المذي ناقض أم لا؟ وإن الشخص بعد نزول المذي منه
محكوم شرعا بالتطهر أم لا؟ فهذه شبهة حكمية يكون من شأن الشارع
إزالتها.
وأما مثل الشك في الطهارة، للشك في تحقق البول، فاستصحابها ليس

(1) منهم المحقق الخوانساري على ما حكي عنه، راجع الصفحة، 60.
69

استصحاب الحكم، إذ الشك ليس شكا وشبهة في نفس الحكم، بل هو في
موضوعه، وليس إزالة هذه الشبهة من شأن الشارع، وإن كان من شأنه بيان
حكمها - من حيث إنها شبهة في الموضوع - نظير اللحم المشتبه المردد بين
المذكى والميتة.
ويحتمل أن يراد بالاستصحاب في الحكم الأعم من هذا، حتى يكون
استصحاب الطهارة عند الشك في تحقق البول استصحابا في الحكم.
والظاهر من الأخباريين - النافين لحجية الاستصحاب في الحكم - هو
الأول، كما ستعرف، وظاهر بعض الثاني.
فهذه احتمالات أربعة، حاصلة من ضرب احتمالي المراد بالحكم
الشرعي في احتمالي المراد من الاستصحاب في الحكم الشرعي.
إذا عرفت هذا فنقول: إن كان مراد المصنف رحمه الله من الاستصحاب
في الحكم الشرعي - الذي حكى حجيته في القول الثالث، وعدمها في القول
الرابع - هو الأول من الاحتمالات الأربعة.
ففيه: انك قد عرفت أن القول الثالث إشارة إلى ما حكاه المصنف
[عن المحقق الخوانساري] في شرح الدروس (1)، وظاهر على من نظر في
تضاعيف كلام هذا المحقق الحاكي أن الشك في الطهارة إذا نشأ عن الشك في
تحقق البول داخل في استصحاب الحكم الشرعي، وأهل القول الثالث يجرون
الاستصحاب فيه، مع أنه على الاحتمال الأول ليس استصحابا في الحكم
الشرعي، لعدم الشبهة في نفس الحكم.
وإن كان المراد الاحتمال الثاني، ففيه: أنه وإن كان مستقيما في طرف

(1) راجع الصفحة: 68.
70

القول الثالث، إلا أن عكس هذا القول - أعني عدم حجيته في الأحكام الشرعية
بهذا المعنى - لا يكاد يوجد قائل به، لما ستعرف: من أن الأخباريين
أيضا يقولون بحجية الاستصحاب فيما شك في بقاء وجوب شئ أو طهارة
شئ من جهة الشك في تحقق المانع، مع أن هذا على هذا الاحتمال داخل في
الأحكام الشرعية.
وإن كان مراده هو الاحتمال الثالث من الاحتمالات الأربعة، بأن يكون
المراد من الحكم الشرعي خصوص الأحكام التكليفية والوضعية، دون مثل
الطهارة، ويكون المراد باستصحابه إبقاء الحكم إذا كان الشبهة فيه نفسه،
لا في الموضوع، ففيه: أنه يلزم أيضا أن لا يقول هذا القائل - بالقول الثالث -
بحجية الاستصحاب في الشك في الطهارة، إذا نشأ من الشك في تحقق البول،
لعدم كون الشبهة في الحكم نفسه، بل لعدم كون الطهارة من الأحكام الوضعية
.
بل يلزم أن لا يقول هذا القائل بحجية الاستصحاب في صورة الشك
في الطهارة من جهة الشك في ناقضية المذي، لان الطهارة والنجاسة على
الاحتمال الثاني ليستا من الاحكام، وإن كانت الشبهة في نفس الحكم على
فرض كونهما من الاحكام، مع أن صريح كلام نفس المحقق الحاكي هو حجية
الاستصحاب في الطهارة والنجاسة.
وإن كان مراده الاحتمال الرابع، ففيه: أنه يلزم منه أيضا أن لا يقول
أرباب هذا القول الثالث باستصحاب مثل الطهارة، لأنها ليست حينئذ من
الأحكام الشرعية، وقد عرفت أن صريح كلام المحقق الحاكي، هو حجية
الاستصحاب المذكور عندهم.
ويلزم أيضا أن يكون الأخباريون - القائلون بعكس هذا القول -
71

قائلين بحجية الاستصحاب لو شك في الطهارة من جهة الشك في ناقضية
المذي، لان الطهارة على هذا الاحتمال ليست من الأحكام الشرعية، حتى
لا يقولوا بحجية الاستصحاب فيها، مع أنك قد عرفت من عبارة المحقق
الوحيد: أنهم لا يقولون بذلك.
فالتحقيق: أن القائلين بالقول الثالث لا شك في إجرائهم الاستصحاب
في مثل الشك في الطهارة مطلقا، سواء كانت الشبهة في الحكم - كما إذا كان
هذا الشك لاجل الشك في ناقضية المذي - أو كانت في الموضوع - كما إذا
كان الشك لاجل الشك في - تحقق البول - وهذا منهم قطعي.
وحينئذ، فإن قلنا بأن الطهارة والنجاسة ليستا من الأحكام الشرعية،
بل هما من الأمور الشرعية - وكذا الحرية والعبدية والزوجية والملكية - فلا بد من
التعبير عن قولهم: " بأنه حجة عندهم في الأمور الشرعية دون غيرها "
كما فعله بعض المعاصرين (1)، لا في الأحكام الشرعية دون غيرها.
وإن قلنا بكونهما من الاحكام، فتعبير المصنف عن قولهم بما ذكره
حسن، إلا أن التعبير عن مذهب الأخباريين بعكس هذا غير حسن، لان
الأخباريين أيضا يقولون - على ما حكى عنهم بعض رؤسائهم، وستعرف
حكايته (2) - بأن الاستصحاب إنما لا يجري في كل حكم يكون ثبوته مستفادا
من الشرع " إذا كان الشك والشبهة في الزمان الثاني في نفس الحكم الشرعي،
كالشك في ناقضية المذي، لا إذا كانت الشبهة في الموضوع، كالشك في تحقق
المانع للحكم الشرعي، فهم أيضا يقولون: باستصحاب وجوب الشئ

(1) الظاهر هو النراقي في المناهج، حيث قال - في عد الأقوال -: التاسع: الحجية في
الأمور الشرعية وعدمها في الخارجية.
(2) في الصفحة: 74.
72

والطهارة والنجاسة إذا شك في تحقق المانع، فهم متفقون مع أصحاب القول
الثالث في أمثال هذه، فلا وجه لجعل كل عكس الاخر في القول.
ثم: إن بعض المعاصرين (1) حكى قولا آخر للأخباريين، وجعله تاسع
الأقوال، وهو القول بالحجية في غير الحكم الشرعي - بالمعنى الذي ذكرنا - مع
القول بالحجية في الشك في النسخ - من بين صور الشك في الحكم الشرعي -.
وبعبارة أخرى: القول بالحجية في غير الحكم الشرعي وفرد واحد من
الشك في الحكم الشرعي - أعني الشك في النسخ -.
لكن الظاهر أن هذا ليس قولا مستقلا، بل جميع الأخباريين متفقون
على الاستصحاب في النسخ، كما ستعرف من الفاضل الاسترآبادي (2).
فحاصل القول الثالث: هو إجراء الاستصحاب في جميع ما من شأن
الشارع ثبوته، سواء في ذلك الوجوب والحرمة، والطهارة والنجاسة
والزوجية والملكية، وغيرها، سواء كان الشك والشبهة في نفس الحكم
الشرعي، كالشك في ناقضية المذي، أو في موضوعه، كالشك في تحقق المانع.
والقول الرابع: هو عدم إجراء الاستصحاب في الحكم الشرعي
بالمعنى الأعم من الطهارة وما ذكر بعدها، لكن إذا كان الشك والشبهة في
نفس الحكم، وأما إن كان في موضوعه، فيجرون.
نظير ذلك: قول أكثرهم - بل كلهم - في مسألة أصل البراءة إذا شك في
تحريم شئ وإباحته، حيث فصلوا بين كون الشك والشبهة في نفس الحكم
- كشرب التتن والعصير مثلا - فلا يحكمون بالبراءة، وبين كون الشك والشبهة

(1) لم نعثر عليه.
(2) في الصفحة: 75.
73

في الموضوع، كاللحم المردد بين المذكى والميتة من جهة الموضوع، لا من
جهة الشك في الحكم، بأن يشك في قابلية التذكية أو كيفيتها،
والظاهر أن مدركهم في المقامين واحد، كما ستعرف.
فلنشرع في حكاية ما حكي عن الفاضل الاسترآبادي، ليتضح جميع
ما قلنا في بيان مذهبهم، فنقول: حكي عنه أنه قال في الفوائد المدنية في مقام
بيان أغلاط المتأخرين من الفقهاء بزعمه، قال: ومن جملتها: أن كثيرا منهم
زعموا أن قوله عليه السلام: " لا تنقض اليقين بالشك أبدا، وإنما تنقضه بيقين
آخر " (1) جار في نفس أحكامه تعالى.
ومن جملتها: أن بعضهم توهم أن قوله عليه السلام: " كل شئ طاهر حتى
تعلم أنه قذر " (2) يشمل صورة الجهل بحكم الله تعالى، فإذا لم نعلم أن نطفة
الغنم طاهرة أو نجسة، يحكم بطهارتها (3)، إنتهى.
وحكي عنه: أنه قال في موضع آخر - بعد إبطال الاستصحاب في
إثبات نفس الحكم، إذا اشتبه في الآن الثاني - بما حاصله: أن الحكم الشرعي
إذا ثبت لموضوع في حال من أحواله، فبزوال الحالة المذكورة يتبدل الموضوع
ويختلف، فما سموه استصحابا راجع إلى إسراء حكم لموضوع إلى موضوع
آخر يتحد معه بالذات ويغايره بالقيد والصفات، ومن المعلوم عند الحكيم أن
هذا المعنى غير معتبر شرعا، وأن القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة.
قال - مبطلا للاستصحاب بوجه آخر، غير هذا الذي ذكرناه عنه -:
" إن استصحاب الحكم الشرعي والأصل - يعني الآلة التي لو خلي الشئ

(1) الوسائل 1: 175، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.
(2) مستدرك الوسائل 2: 583، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 4.
(3) الفوائد المدنية: 148، ونقله عنه الوافية: 214.
74

ونفسه كان عليها - إنما يعمل بهما إذا لم يظهر مخرج منهما.
بيان ذلك: أنه تواترت الاخبار عنهم بأن كل ما يحتاج إليه إلى يوم
القيامة ورد (1) مخزون عند أهل الذكر عليهم السلام بحصر الأمور في ثلاثة: بين
رشده، وبين غيه - أي مقطوع به لا ريب فيه - وما ليس هذا ولا ذاك.
وحكم بوجوب التوقف في الثالث (2) إنتهى.
وحكي عنه في موضع آخر من الفوائد، أنه قال: " اعلم أن
للاستصحاب صورتين معتبرتين باتفاق الأمة، بل أقول: اعتبارهما من
ضروريات الدين.
إحداهما: أن الصحابة وغيرهم كانوا يستصحبون جميع ما جاء به
النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يجئ صلى الله عليه وآله وسلم بنسخه.
والثانية: أنا نستصحب كل أمر من الأمور الشرعية، مثل كون الرجل
مالك أرض، وكونه زوج امرأة، وكونه عبد رجل آخر، وكونه على وضوء،
وكون ثوبه طاهرا أو نجسا، وكون الليل باقيا، وكون النهار باقيا، وكون ذمة
الانسان مشغولة بصلاة أو طواف، إلى أن يقطع بوجود شئ جعله الشارع
سببا لنقض تلك الأمور.
ثم ذلك الشئ قد يكون شهادة العدلين، وقد يكون قول الحجام
المسلم، أو من في حكمه، وقد يكون قول القصار المسلم أو من في حكمه،
وقد يكون مبيع (3) يحتاج إلى الذبح والغسل في سوق المسلمين، وأشباه ذلك

(1) سقط في النقل بعض الكلمات، راجع الوافية: 213.
(2) حكاه في الوافية: 212 - 213، عن الفوائد المكية.
(3) في المصدر: وقد يكون بيع ما يحتاج إلى الذبح.
75

من الأمور الحسية " (1) انتهى كلامه.
ولا يخفى: أن بعض هذه الأمثلة من الأمور الخارجية، كالليل والنهار.
وبعضها من الاحكام، مثل كونه على وضوء، وكون ذمة الانسان مشغولة
بصلاة أو طواف، لكن الاشتباه فيه من جهة الموضوع لا من جهة الشبهة في
أصل الحكم الشرعي.
ثم إن قوله: " إلى أن يقطع بوجود ما جعله الشارع سببا لنقض تلك
الأمور " الظاهر أن مراده منه: أن مع عدم القطع نستصحبها مطلقا، سواء كان
الشك في أصل حدوت أحد هذه الأمور - كما إذا شككنا في أصل ملاقاة
الثوب للنجاسة - أو قطعنا بحدوث شئ وشككنا من جهة الاشتباه الخارجي
أنه الناقض أو غيره، كما إذا لاقى الثوب مائع وشككنا في أنه البول أو الماء.
وعلى هذا، فيكون المحقق السبزواري مخالفا لهم أيضا، حيث إنه
لا يعتبر الاستصحاب في الصورة الثانية من هاتين الصورتين.
مضافا، إلى ما نقله المصنف من أنه يظهر منه في مواضع عدم حجية
الاستصحاب في الأمور الخارجية. وقد عرفت أن الفاضل ادعى كون
الاستصحاب في الليل والنهار من الاتفاقيات، بل من الضروريات (2).
فقول هذا المحقق أخص من جميع أقوال المثبتين، بل جميع الأقوال، إذ
لا أظن النافين ينفون هذا الذي يثبته.
اللهم إلا أن تخص العبارة المذكورة بالصورة الأولى، فحينئذ يكون
قول هذا المحقق موافقا للأخباريين، ويستقيم ما ذكره المحقق الوحيد

(1) الفوائد المدنية: 143.
(2) راجع الصفحة السابعة.
76

البهبهاني قدس سره - على ما نقلنا عنه - من أن هذا المحقق لعله موافق
للأخباريين (1).
فلنرجع إلى بيان القائلين بالأقوال الأربعة الأخرى، فنقول: إن القول
الخامس (1) محكي عن الغزالي (3)، وحكي أنه نسبه في النهاية إلى الأكثر (4)،
والظاهر أن المراد بالأكثر، المركب من القائلين بنفي الاستصحاب سنخا
وبعض مثبتيه، لا أكثر المثبتين، وسيأتي عبارة الغزالي في مقام رده إن شاء
الله تعالى (5).
والقول السادس: للفاضل التوني في الوافية (6)، وقد عرفت أن ظاهر
كلامه: إجراء الاستصحاب في موضوعات الأحكام الوضعية - أعني نفس
السبب والشرط والمانع - لا في نفس الأحكام الوضعية، من السببية
والشرطية والمانعية، ولا في مسببات الأسباب بعد زوالها عند الشك في أن
السبب سبب الحدوث كالملاقاة للتنجس، أو سبب في البقاء فيرتفع بارتفاعه،
كالجنابة لمس خط المصحف.
نعم، كان قائلا بالجريان في الاحكام، بتبعيته في الأسباب، وقد عرفت
الاحتمالات في كلامه وردها مشروحا، فراجع.
والقول السابع: للمحقق الخوانساري (7)، وقد عرفت أنه يجري

(1) تقدم في الصفحة: 67.
(2) وهو الحجية في نفس الحكم الشرعي إذا ثبت بغير الاجماع، كما في القوانين.
(3) راجع المستصفى 1: 128.
(4) حكاه في مفاتيح الأصول: 653.
(5) لم نقف على العبارة.
(6) الوافية: 202.
(7) راجع مشارق الشموس: 76.
77

الاستصحاب في صور اخر، كما يظهر من تضاعيف عباراته المحكية عنه.
والقول الثامن: للمحقق السبزواري (1)، لكن مخالفته للأخباريين إذا كان
لا يجري الاستصحاب في الأمور الخارجية - كما استظهره المصنف منه - في
مواضع، أو كان الأخباريون يجرون الاستصحاب في مثل الطهارة إذا شك في
بقائها للشك في رافعية أمر مقطوع الوجود، كالمائع الواقع على الثوب،
المشكوك كونه بولا.
وإلا فليس قول هذا المحقق قولا برأسه، بل هو قول الأخباريين، على
ما عرفت من الفاضل الاسترآبادي، وعرفت من حكاية المحقق الوحيد
البهبهاني عن الشيخ الحر العاملي قدس سره
بقي في المقام شئ، وهو: أن الاستاد مد ظله نقل عن أستاده السيد
الطباطبائي (2): أن محل النزاع في الاستصحاب هو في غير العدميات، وأما
فيها: فيحكى عن السيد أن حجية الاستصحاب فيها اتفاقي.
وأيد ذلك بأنهم لا يزالون يتمسكون بكثير من الأصول العدمية، مثل
أصالة عدم النقل، وعدم القرينة، وعدم موت زيد ونحو ذلك، من غير نكير.
وباستدلالاتهم على حجية الاستصحاب بعدم احتياج الباقي إلى المؤثر،
وأن المقتضي موجود، إلى غير ذلك من الأدلة الظاهرة في اختصاص محل
النزاع بالوجوديات.
وقد عرفت من عبارة التفتازاني في شرح الشرح أن قول العضدي - في
مقام حكاية قول الحنفية المنكرين للاستصحاب -: " إنه لا يثبت به عندهم

(1) ذخيرة المعاد: 116.
(2) لم نعثر عليه.
78

حكم شرعي " (1) إشارة إلى أن خلاف الحنفية إنما هو في إثبات الحكم به،
لا في النفي الأصلي، وأنهم يقولون به فيه.
وعرفت من المصنف: أن النفي الأصلي في كلام العضدي أعم من
البراءة الأصلية ويعم جميع العدميات - حكما أو غيره - خلافا لمن خصه بها.
أقول: وهذا كله لا بأس به، إلا أنه قد يقع الاشكال بدوا في تمييز
الاستصحاب العدمي المتفق عليه عن غيره، إذ ما من استصحاب وجودي
إلا ومعه استصحاب عدمي، وأقله استصحاب عدم ضده، فلو كان مطلق
الاستصحاب العدمي حجة بالاتفاق كفانا مؤونة الكلام في حجية
الاستصحاب الوجودي.
ولو كان المتفق عليه بعض أفراده فلا بد من معيار يميزه عن غيره.
والذي يمكن أن يقال في حل الاشكال هو أن المتفق عليه من
الاستصحابات العدمية، هو استصحاب العدم الأصلي الأزلي - الذي يكون
الشئ عليه لو خلي وطبعه - وأما غير هذا فهو محل النزاع وجوديا كان
أو عدميا، مثل عدم الوجوب، وعدم الموت، وعدم الوضع، وعدم القرينة،
وعدم البول، لا مثل عدم الطهارة في النجاسة - بناء على أن الحالة الأصلية في
الشئ الطهارة - وعدم اليبوسة في الرطوبة، من الاعدام المسبوقة.
بيان ذلك: أن كل شئ من الأشياء عرفت له حالة عدمية أو وجودية
يكون عليها لو خلي وطبعه، فلا بد من الحكم بكونه عليها دائما إلى أن تنقطع،
فما لم يحصل القطع بانقطاعها فلا بد من الحكم بها.
وهذا الأصل - يعني أصالة العدم - متفق عليه بين جميع العقلاء، فإن

(1) تقدمت في الصفحة: 51.
79

شئت سمه استصحابا، وإن شئت سمه قاعدة عقلية عقلائية.
ثم إذا قطعنا بحدوث قاطع من الزمان فنحكم بانقطاعها، ثم إذا شك في
بقاء هذا القاطع، فمع قطع النظر عن استصحابه لا يلتفت إليه، بل لا يبعد
رجوع (1) الحالة الأصلية سيما في الشرعيات.
إلا أن بعد ملاحظة وجود القاطع في السابق والشك في بقائه نحكم
باستصحابه لو قلنا بالاستصحاب.
خلافا لبعض مشايخنا المعاصرين (2) حيث حكم فيما إذا كان القاطع
للحالة الأصلية العدمية أمرا جعليا شرعيا بتعارض الاستصحابين
وتساقطهما. إلا أن يوجد مرجح لاستصحاب القاطع - من استصحاب ثالث
أو غيره -. فقال: في ما إذا قطع بوجوب شئ بزمان (3) - كوجوب الجلوس في
المسجد - وشككنا في أنه إلى الزوال أو الغروب " فمقتضى استصحاب
الوجوب وإن كان بقاؤه إلى الغروب، ولكن مقتضى استصحاب حال العقل
عدمه، لان هذا الحكم قبل حدوثه كان معلوم العدم مطلقا، وعلم ارتفاع
عدمه في الزمان الأول فيبقى الباقي.
نعم، يحكم في مسألة الشك في الطهارة - للشك في " تحقق البول،
أو في كون ما لاقى الثوب بولا، أو قي ناقضية المذي - باستصحاب الطهارة، بل
يقول (4): إن الطهارة إنما قطعت الحدث أو الخبث في الجملة، بل باعتبار
استصحاب عدم تحقق البول وعدم منجسية الملاقي وعدم ناقضية [المذي]

(1) كذا ظاهرا، والكلمة غير واضحة.
(2) هو الفاضل النراقي قدس سره في مناهج الاحكام: الفائدة الأولى.
(3) كذا في النسخة، ولعل الأنسب: في زمان.
(4) كذا في النسخة، والأنسب: بل نقول، أو: بل يقال.
80

وسيجئ الجواب عنه مفصلا.
إذا عرفت هذا، فنقول: إن المجامع لهذا الموجود - أعني الامر العدمي
الذي توهم أن استصحابه كلية ومطلقا، لكونه عدميا متفقا على اعتباره، مغن
عن التشاجر في اعتبار استصحاب ذلك الموجود - لا يخلو: إما أن يكون
حالة أصلية، مثلا فرضنا عدم النجاسة المجامع للطهارة حالة أصلية، بفرض
أن الأصل في الشئ عدم النجاسة، أو لا يكون حالة أصلية.
وعلى الأول: فإما أن يكون نفس الامر الوجودي المجامع له أيضا
حالة أصلية، بأن فرضنا أن الحالة الأصلية للشئ الطهارة، أو لا يكون هذا
الوجودي المجامع لذلك العدم [حالة أصلية] (1) بأن كان كلاما مخالفا للحالة
الأصلية، كما لو فرضنا أن الحالة الأصلية عدم الطهارة أيضا، كما أنها عدم
النجاسة، بل يكون الطهارة والنجاسة كلتاهما خلاف الحالة الأصلية.
وعلى الثاني، فإما أن يكون نفس الضد - الذي يكون الكلام في
استصحاب عدمه - حالة أصلية، أو لا.
والثاني من هذين يرجع إلى الثاني من قسمي الأول، فيكون الأقسام
ثلاثة.
فعلى الأول: نعترف بأن استصحاب هذا العدم من الاتفاقيات، ومغن
عن الكلام في استصحاب الوجودي، وإن كان هذا الامر الوجودي - نظرا
إلى كونه من الحالات الأصلية - لا خلاف ظاهرا في الرجوع إليه.
وعلى الثاني: فاستصحاب عدم الضد وإن كان جاريا واتفاقيا، إلا أنه
قد لا يغني عن استصحاب الوجودي، لأنه معارض باستصحاب عدم

(1) الزيادة اقتضتها العبارة.
81

الطهارة الأصلي أيضا، لان المفروض هو أن الأصل عدم الطهارة والنجاسة
كلتيهما، فما لم يثبت حجية استصحاب الطهارة الحادثة بعد عدمها الأصلي،
فلا يثبت المطلوب.
نعم، قد يغني عنه، كما في استصحاب عدم النقل المغني عن استصحاب
بقاء الوضع الأول، وكما في استصحاب عدم حدوث المنجس في الصورة
الأولى، لا استصحاب عدم النجاسة، إذ قد عرفت أنه معارض.
وأما على الثالث: فالحال أظهر، نظرا إلى أن المفروض هو أن الحالة
الأصلية: النجاسة، فكيف يستصحب عدمه؟
فإن قلت: إن النجاسة قد انقطعت بعدمها في الآن اللاحق - وهو آن
الطهارة -.
قلنا: إن الشك في استمرار عدمها - القاطع لها -، وهذا العدم القاطع
المجامع للطهارة حاله معها في وقوع الاختلاف في حجيته واحد، وليس
اتفاقيا حتى يغني عن الكلام في الاستصحاب الوجودي، لما عرفت من أن
العدم الذي اتفق على اعتبار استصحابه، هو العدم الأصلي الأزلي
لا المسبوق بحالة أصلية، فإنه مع الوجودي في مرتبة واحدة.
فعلم من جميع ذلك: أن كل استصحاب عدمي ليس متفقا عليه،
كما في الصورة الثالثة، وأن كل متفق عليه ليس يغني عن الاستصحاب
الوجودي المجامع له، كما في بعض صور الصورة الثانية.
نعم، بعض المتفق عليه مغن، كما في الصورة الأولى وبعض صور
الصورة الثانية.
فإن قلت: مقتضى ما ذكرت هو أن بعض الاستصحابات الوجودية
أيضا متفق عليها، وهو ما كان الامر الوجودي حالة أصلية للشئ.
82

قلت: نعم، لا مضايقة في ذلك، إذا ثبت أن الحالة الأصلية في الشئ
- لو خلي وطبعه - هو الامر الوجودي الفلاني، ثم شك في بقائها وارتفاعها،
فلا أظن أحدا ينكر وجوب الحكم ببقائه عليها.
وكذا إذا انقطعت تلك الحالة بقاطع ثم شك في بقاء القاطع.
فمن لم يقل بحجية الاستصحاب فالظاهر أنه يرجع إلى الحالة السابقة
الأصلية. وهذا أيضا أحد الاستصحابات العدمية المختلف فيها، فإن قطع
الحالة الأصلية الوجودية معناه عدمها، لكن لما كان الغالب في الحالات
الأصلية هو العدم اكتفوا بذكر الاتفاق في الاستصحابات [العدمية] (1).
هذا ما وصل إليه الفكر الكليل عند التأمل البدوي والنظر الجليل (2)،
ولكن لا بد من النظر الدقيق للوصول إلى الحق والتحقيق.

(1) ليست هذه الكلمة في الأصل، ولكن الظاهر لزومها
(2) كذا.
83

أدلة الاستصحاب
85

[الأول: الوجدان السليم]
[قوله] قدس سره: " الأول: أن الوجدان السليم يحكم بأن ما تحقق وجوده
أو عدمه في حال أو وقت ولم يحصل الظن بطرو عارض يرفعه، فهو مظنون
البقاء، وعلى هذا الظن بناء العالم ".
[أقول]: ما ذكره المصنف من حكم الوجدان وبناء العقلاء على ذلك،
وإن خدش فيه بعض (1)، من حيث احتمال كون ذلك من جهة القرائن
الخارجية، إلا أن الانصاف: أنه لو قطع النظر عن جميع الأمور الخارجية
فالظاهر أن الوجدان يترجح عنده البقاء، وكذا بناء العقلاء على مراعاة
الحالة السابقة.
بل لو اعتذر أحدهم عن ترك ترتيب أحكام الحالة اليقينية السابقة في
صورة الشك في بقائها: بأني احتملت عدمها وما تيقنت ولا ظننت ببقائها،

(1) وهو الفاضل النراقي في المناهج: 231.
87

لعد هذا الاعتذار أقبح من الترك المعتذر عنه، إلا أن يكون هناك أمور توهن
العمل بالحالة السابقة.
قال بعض الفحول (1): " لا يجوز لعاقل أن يدعي أن نسبة وجود (2) قرية
رآها على ساحل بحر - كان احتمال خرابها وبقائها متساويين - إلى عدمها
عنده، كنسبة وجود قرية أخرى إلى عدمها عنده، مع تساوي احتمالي بنائها
وعدمه، كيف، وهو يسافر بقصد التجارة إلى الأولى دون الثانية؟ " (3) انتهى.
فان قلت: إن أولوية البقاء عند الوجدان لعلها لأنسه بالشئ الموجود
في الزمان السابق وإلفته به، حيث وجده قبل ذلك موجودا فيصعب عليه
احتمال العدم، لكونه غريبا وأجنبيا بالنسبة إليه.
قلت: إنا ندعي بداهة رجحان البقاء عند الوجدان، فإن أردت أن
علته الانس والألفة، فلا مضايقة في ذلك، ولسنا في مقام تعيين علة هذا
الرجحان.
وإن أردت أنه لا رجحان، بل هو محض المؤانسة، فمع أنا لا نتعقل
شيئا آخر غير الرجحان، ربما يحكم الوجدان بالبقاء حكما راجحا مع عدم
الانس والألفة أصلا، كما لو فرضنا: أنا شاكون في زمان طويل في تولد ولد
لزيد، أو قاطعون بعدمه، أو لم نلتفت إلى ذلك أصلا، ثم نفرض أن في الزمان
اللاحق قطعنا بتولده له سابقا، وشككنا في زمان حدوث هذا القطع من غير
تراخ في بقاء ذلك الولد، فحينئذ لا يخفى على ذي وجدان أنه يترجح عنده

(1) هو شارح الوافية: السيد الصدر القمي.
(2) لا يخفى ما في العبارة من الاضطراب، ولا يستقيم إلا بحذف كلمة " وجود " هنا وفي
العبارة التالية.
(3) شرح الوافية: (مخطوط).
88

البقاء، والمفروض عدم انس الذهن وإلفته مع الوجود في السابق، لان
المفروض فيه: إما الشك في الوجود، وإما القطع بعدمه " وإما عدم الالتفات
إليه.
وكيف كان، فلا مجال لانكار كون حكم الوجدان وبناء العقلاء على
مراعاة الحالة السابقة.
وأما كون هذا البناء مسببا عن حصول الظن لهم بالبقاء فغير معلوم،
لجواز أن يكون لمحض استقرار العادة على ذلك، وبسبب الجبلة الانسانية
التي قررها الله لعمارة العالم، من غير ملاحظة ظن البقاء، كما قاله بعض
الاجلاء (1)، فتأمل.
بل، قد يستشكل في كون هذا البناء ناشئا عن ظن البقاء بوجهين:
الأول: أنا نرى كثيرا ما يكون بناء العقلاء على مراعاة الحالة
السابقة، مع امتناع حصول الظن بسبب ثبوت علم إجمالي في المقام يستحيل
معه حصول الظن بالبقاء، فتراهم يبنون على بقاء أحبائهم في بلد مع العلم
الاجمالي بموت كثير من أهله، فمع هذا العلم لا يمكن حصول الظن ببقاء الكل،
لان القطع بالسالبة الجزئية يناقض الظن بالموجبة الكلية، كما يناقض القطع
بها، ولا ببقاء البعض، لعدم المرجح بين الأبعاض، لتساويهم في تيقن الوجود
سابقا.
لا يقال: لو تم هذا لمنع عن عملهم بالاستصحاب في الصورة المذكورة
مطلقا، سواء كان من جهة حصول الظن بالبقاء، أو من محض الاتكال على
الوجود السابق.

(1) لم نقف عليه.
89

أما من جهة حصول الظن: فلما ذكرت من استحالة حصوله.
وأما من الجهة الأخرى: فلانه إذا فرضنا أن في البلد آلاف شخص
وقطع بموت بعضهم، فلو بنى على الحياة في الكل لزم مخالفة العلم الاجمالي،
وإن بنى على حياة البعض فترجيح بلا مرجح، فكلما يمكن أن يقال: الأصل
بقاء هذا البعض، يمكن أن يقال: الأصل بقاء ذلك البعض، وهكذا.
وبالجملة: العلم الاجمالي مانع عن العمل بالاستصحاب مطلقا من أية
جهة كان.
لأنا نقول: مانعية العلم الاجمالي عن العمل بالاستصحاب مطلقا، إنما
هو إذا وقع في المحصور، وأما إذا اتفق في غيره فيمكن العمل بالاستصحاب
من الجهة الأخرى، لعدم الاعتناء بشأن العلم الاجمالي بالخلاف المتفق في
أمور غير محصورة في العرف
فإن قلت: إذا بني لم الامر على عدم الاعتناء بالعلم الاجمالي وفرض
وجوده كعدمه، فلا مانع من حصول الظن أيضا.
قلت: مانعية العلم الاجمالي عن العمل بالاستصحاب من جهة حصول
الظن إنما هي لاستحالة حصوله معه، فمجرد وجوده كاف في الاستحالة، قطع
النظر عنه أو لم يقطع.
وأما مانعيته عن العمل به من الجهة الأخرى فليس إلا من جهة لزوم
طرحه لو عمل بالاستصحاب في كل تلك الأمور، ولزوم ترجيح أحد
المتعارضين بلا مرجح لو عمل في بعضها كما مر، ومع عدم الاعتناء به
فلا مانع من طرحه وعدم الاعتناء بشأن التعارض الحاصل بواسطته.
مع أن طرحه ليس إلا إذا أراد الشخص ترتيب آثار الحالة السابقة
على الكل، وهو لا يتفق غالبا في غير المحصور، ولو اتفق فلا بأس
90

بالاعتراف بعدم جواز الطرح في هذه الصورة.
فظهر الفرق بين وجه منعه هناك ووجه منعه هنا، فافهم واغتنم.
الثاني من وجهي الاستشكال: أن عمل العقلاء بالاستصحاب في
أمورهم لو كان من جهة حصول الظن منه وكان الاستصحاب عندهم إحدى
الامارات المفيدة للظن لوجب أن يكون بحيث إذا عارضته أمارة أخرى
يقوى على معارضتها، إما بأن يترجح عليها ويجعل مقتضاها موهوما،
أو يرفع ظنها، وإن لم يحصل الظن منه أيضا، فيرجع أمرهما إلى الشك،
والحال أنه ليس كذلك، بل كلما حصلت أمارة على خلافه أوجبت رجحان
الخلاف وجعلت مقتضى الاستصحاب موهوما.
وهذا - أيضا - مسلم عند القائلين بإفادته للظن، حيث اعتبروا في
الإفادة عدم طرو الظن بالارتفاع.
ودعوى: أن هذا من جهة كون الظن الحاصل منه أضعف من جميع
الامارات ولا توجد أمارة تساويه في الضعف، ظاهرة الفساد، بل قيل بالقطع
بفساد هذه الدعوى، فتأمل.
ولكن يمكن دفع الاشكالين:
أما الأول: فلان المستحيل إنما هو حصول الظن ببقاء الجميع في
الصورة التي ذكرت، أو ببقاء البعض مع عدم وجود مرجح يصرف العلم
الاجمالي إلى البعض الاخر. وأما حصول الظن ببقاء البعض مع المرجح
المذكور فغير مستحيل.
فنقول: في ما إذا قطع بموت بعض مجمل من أهل بلد، لا ندعي أن
الشخص الواحد من العقلاء يبني على بقاء الجميع، ويترتب آثار البقاء
عليهم، كلا! بل يبني على بقاء بعضهم - أعني أصدقائه مثلا، أو من له غرض
91

متعلق به من أهل ذلك البلد - لكن مع مرجح يتخيله (1) ويزعم بسببه أن
البعض الميت هو غير هؤلاء من المشايخ والمرضى وغير ذلك مما يتخيله (2)،
ولو من الخيالات الفاسدة، فإنا لسنا إلا في صدد أن بناءه على بقاء البعض
ليس إلا مع مرجح رافع للترجيح بلا مرجح، ولسنا في مقام أن ذلك المرجح
صحيح أو فاسد.
وأما الثاني: فبمنع أنه لا يقوى على معارضته أمارة من الامارات،
ولو بحيث يرجع أمرهما إلى الشك، سيما إذا جعل منشأ حصول الظن منه
الغلبة، فإن الظن الحاصل منها قد يكون أقوى من الحاصل من غيرها.
وعلى تقدير تسليم ذلك، فنمنع فساد كونه أضعف من سائر الامارات،
إذ لا دليل على استحالة ذلك، فتأمل.
والحاصل: أنه لا وجه للاستشكال في ما ادعوه - من كون بناء العقلاء
على العمل بالاستصحاب من باب الظن - بهذين الوجهين المذكورين، وإن
كان ذلك الادعاء - في نفسه - غير ثابت علينا، بل القدر الثابت هو محض
بنائهم على العمل بالاستصحاب. وأما كونه من باب الظن فلم يثبت، بل
الظاهر أنهم كثيرا ما يبنون على الحالة السابقة مع وصف الشك، كما في
الأصول العدمية.
وكيف كان، فهذا البناء منهم حجة من أي جهة كان، وذلك لأنه ليس
مختصا بأمور معاشهم، بل تراهم بانين على ذلك في تكاليفهم الشرعية
ولا يتأملون في ذلك، وهذه سجية أهل كل شريعة وملة في كل
زمان، ولم ينقل ردع الحجة إياهم عن ذلك، مع توفر الدواعي عليه

(1) و (2) في الأصل: " يخيله "، - في الموضعين -.
92

الموجب لاطلاعه عليه السلام
وكيف كان، فلا شك في حجية هذه السيرة، إلا أنها إنما تثبت حجية
الاستصحاب في الجملة " لا كلية، فتدبر.
[قوله] قدس سره: " وهذا الظن ليس من محض الحصول في الآن السابق،
لان ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم، بل لأنا لما فتشنا الأمور
الخارجية... الخ "
[أقول]: إعلم: أن كثيرا من أرباب هذا المسلك - أي مسلك العمل
بالاستصحاب من باب إفادته لظن البقاء - استندوا في حصول الظن إلى مجرد
وجود الشئ في الآن السابق، ولكن بعض المتأخرين كالسيد الصدر - في
شرح الوافية (1) - والمصنف هنا استندوا في حصول الظن إلى الغلبة.
إذا عرفت هذا فاعلم: أن كلهم أخذوا - في إفادة الاستصحاب للظن -
عدم طرو الظن بارتفاع الحالة السابقة، كما عرفت من قول المصنف.
وهذا الاعتبار من الأولين حسن، إذ لهم أن يقولوا: إن الوجود السابق
لا يفيد الظن بالبقاء إلا إذا خلي المورد عن ظن الارتفاع. وأما من مثل
المصنف رحمه الله فغير وجيه ظاهرا، نظرا إلى أن حصول الظن من الغلبة ليس
مشروطا بعدم الظن على خلافها، فرب ظن تجعله الغلبة وهما، وهو كثير.
فعلى هذا يكون الاستصحاب عند المصنف من الأدلة الاجتهادية، فقد يرجح
على بعض الظنون، وقد يرجح عليه.
لا يقال: لعل خصوص هذه الغلبة المدعاة في الاستصحاب كذلك - أي
مشروطة بخلو المورد عن الظن بالخلاف -.

(1) شرح الوافية: (مخطوط).
93

لأنا نقول: هذا فاسد، نظرا إلى أن الظن الحاصل من الغلبة لا يختلف
بحسب الموارد إلا بقوة الغلبة وضعفها، أو بمعاضدة الأمور الخارجية
ومعارضتها، لا بكون المورد بقاء الحالة السابقة أو غيره، فتأمل.
ثم: إن مراده رحمه الله من الأمور الخارجية هو القار منها، فلا يرد النقض
بأن كثيرا من الأمور غير قارة، كالأقوال والأفعال والحركات والسكنات.
[قوله] قدس سره: " ففيما جهل حاله من الممكنات القارة يثبت ظن
الاستمرار في الجملة، بملاحظة حال أغلب الممكنات مع قطع النظر عن
تفاوت أنواعها وظن مقدار خاص من الاستمرار بملاحظة حال النوع الذي
هو من جملته ".
[أقول]: هذه الغلبة لا يثبت بها إلا قليل من موارد الاستصحاب.
بيان ذلك: أنه بعدمها ثبت كون الشئ من الممكنات القارة القابلة
للبقاء في الآن المتأخر عن آن حدوثه، فإذا شك في بقائه في زمان بعد القطع
بوجوده وقراره في السابق، فالشك فيه يتصور على قسمين:
الأول: أن يكون الشك فيه من جهة الشك في مقدار استعداده، بأن
لا نعلم هل فيه من حيت الذات استعداد البقاء إلى هذا الزمان أم لا؟
الثاني: أن يكون الشك فيه من جهة الشك في طرو المانع، بأن نقطع أن
له استعداد البقاء من حيث الذات إلى هذا الزمان، لكن نشك في ارتفاعه من
جهة احتمال طرو المانع، سواء كان الاحتمال في وجود المانع كالبول، أو مانعية
الشئ الموجود كالمذي.
والقسم الأول على ضربين:
الأول: أن يكون للشئ المشكوك البقاء نوع يعلم له استعداد خاص.
الثاني: أن لا يكون له نوع كذلك، إما بأن لا يكون له نوع أصلا
94

بالفرض، أو يكون له نوع لكن لا يعلم مقدار استعداد ذلك النوع، أو يعلم
أن ليس له استعداد معين خاص، بل يختلف الافراد بعضها مع بعض
في الاستعداد وليس للنوع استعداد خاص، أو بأن يكون له نوع، لكنه تردد
بين نوعين مختلفي الاستعداد، كما إذا علمنا أن مقدار استعداد الفرس كذا
ومقدار استعداد الحمار قدر آخر، لكن نشك في أن الحيوان الغائب عنا
المشكوك في بقائه من أيها.
والضرب الأول على وجهين:
الأول: أن يكون الشك في بقاء الشئ من جهة الشك في أن استعداده
هو استعداد نوعه الغالب، أو هذا الفرد استعداد خاص أقل من استعداد نوعه
لاجل خصوصية، كما إذا علمنا أن مقدار استعداد نوع الانسان المتعارف
الغالب تسعون سنة، لكن لا ندري أن زيدا الغائب هل هو بهذا المقدار من
الاستعداد، أو أقل منه استعدادا لاجل خصوصية كضعف البنية مثلا، لاجل
ذلك نشك في بقائه قبل إكمال تسعين.
الثاني: أن نقطع بأنه بهذا الاستعداد الذي ثبت لنوعه، لكن نشك
في بقائه في زمان من جهة الشك في انقضاء ذلك المقدار، كما إذا رأينا زيدا في
وقت ثم غاب عنا مدة عشرين، فشككنا في بقائه وموته من جهة الشك في
أنه وقت رؤيتنا إياه كان في سن الثمانين، حتى يكون قد انقضى مقدار
استعداده - أعني التسعين - أو كان في سن الستين، فلم ينقض مقدار استعداده.
والقسم الثاني - أعني الشك في طرو المانع - أيضا على ضربين:
الأول: أن يكون المانع الذي شك في وجوده من الأمور الخارجة عن
اختيار المكلف. وبعبارة أخرى: من الأمور التي يمكن ملاحظتها باعتبار كثرة
الوقوع وندرته، من حث يمكن ادعاء غلبة وقوعها أو عدم وقوعها.
95

والثاني: أن يكون المانع المشكوك الوجود من الأمور التي هي باختيار
الشخص، بحيث يختلف كثرة وقوعها وندرته باختلاف الدواعي المتفقة
للشخص ولا ضبط لها، كروافع الطهارة والنجاسة، ودخول زيد في الدار
وخروجه، والملكية، واشتغال الذمة وبرائتها، ونحو ذلك، فإن الشخص قد
يدعوه الداعي إلى إيجاد تلك الأمور، وقد يدعوه إلى رفعها بروافعها، فإن
الطاهر قد يصير نجسا، والنجس طاهرا، والذمة المشغولة بريئة، والبريئة
مشغولة، ولا يمكن إدعاء غلبة الوقوع أو عدم الوقوع في شئ من ذلك،
بل. يختلف بالنسبة إلى أحوال شخص واحد في وقت واحد، فكيف بالنسبة
إلى الاشخاص المتعددة والأوقات المتعددة.
إذا عرفت هذا فاعلم: أن ما ذكره المصنف قدس سره من الغلبة إنما يثبت
به ظن البقاء في الوجه الأول من الضرب الأول من القسم الأول، والضرب
الأول من القسم الثاني. ولا يثبت في غير ما.
أما عدم ثبوته في الوجه الثاني من ذلك الضرب، فلان المفروض العلم
بثبوت الاستعداد الثابت للنوع لهذا الفرد، فلا حاجة إلى الغلبة المثبتة للظن
به، إنما الشك في أن مقدار الاستعداد المعلوم بقي في هذا الشخص
أم انقضى عنه.
وأما في الضرب الثاني من ذلك القسم: فلان الغلبة لا يفيد إلا إلحاق
هذا المشكوك بنوعه في الاستعداد، والمفروض أن النوع هنا مشكوك
الاستعداد، أو معلوم عدم ثبوت استعداد خاص له، أو متردد بين نوعين
مختلفي الاستعداد، فأي فائدة في الالحاق في الصورتين الأوليين؟ وبأي
النوعين يلحق في الصورة الثالثة؟
وأما الضرب الثاني من القسم الثاني، فلان المفروض العلم بمقدار
96

الاستعداد، وإنما الشك قي البقاء من جهة المانع، ولا يمكن أن يدعى غلبة عدم
الموانع، إذ لا ضابطة هناك، بل وقوعها تابع للدواعي الحاصلة في نفس
الشخص، فقد تكون كثيرة فيكون الوقوع كثيرا، وقد لا، فلا.
مع أن ادعاء غلبة عدم وجود المانع في الضرب الأول منه أيضا، محل
كلام.
بل يمكن أن يقال: إن ثبوت هذه الغلبة في الضرب الأول من القسم
الأول أيضا ليس مطردا، نظرا إلى أن تعيين مقادير استعدادات الأمور
الخارجية ليس مبنيا على التحقيق - بحيث تكون مضبوطة محفوظة عن الزيادة
والنقيصة ولو يسيرة - بل مبناه على التخمين والتقريب.
فمعنى أن مقدار استعداد الانسان تسعون ليس أن منتهاه هو اليوم الآخر
من الشهر الاخر من السنة الأخيرة من التسعين، حتى لو شككنا في
بقاء زيد بعد العلم ببلوغه النصف الأول من السنة الأخيرة أو أزيد، فنقول:
مقتضى الغلبة المذكورة هو بقاؤه، لعدم تمام مقدار استعداده.
بل المراد: هو أن مقدار الانسان تقريبا هو بهذه المرتبة من العمر
وما قاربها، فلو شككنا في بقاء زيد بعد بلوغ الستين يمكن الحكم بالبقاء.
وكذا الكلام في الرطوبة بالنسبة إلى الصيف والشتاء، فإنا لا نعلم إلا
أن استعدادها في الصيف أضعف منه في الشتاء، وأما تحقيق مقدار
الاستعدادين فغير معلوم، فلو شككنا في بقائها في آن قريب من آن القطع
بالارتفاع، فلا يمكننا الحكم ببقاء الاستعداد من جهة الغلبة.
فالحاصل: أن ما ذكره المصنف - من الحكم ببقاء الشخص المشكوك -
بقاؤه بمقدار استعداد نوعه من جهة الغلبة المذكورة مسلم، لكنه إنما يجري في
بعض موارد الاستصحاب.
97

فان قلت: إنا نرفع اليد عن اعتبار كل جزئي مشكوك البقاء بالإضافة
إلى نوعه، بل ندعي غلبته في جنس الموجودات على وجه الكلية، بأن نقول
عند الشك في بقاء شئ: إنا تتبعنا الأمور الموجودة في السابق حين وجود
هذا المشكوك، فوجدناها - على اختلاف استعداداتها وتفاوت مراتبها في
القرب والبعد عن معرض الارتفاع بالروافع - باقية في هذا الزمان، فنلحق
هذا المشكوك بها في البقاء.
ثم إذا اعتبرنا هذا الجزئي بالقياس إلى نوعه، فوجدنا غلبة أخرى
موجبة لظن الارتفاع فنأخذ بهذه الغلبة، نظرا إلى أن الغلبة النوعية مقدمة
على الغلبة الجنسية عند التعارض.
وإن لم نجد غلبة كذلك في النوع فنعتبره بالقياس إلى صنفه، فإن وجدنا
غلبة معارضة للغلبة الجنسية السابقة فنأخذ بها أيضا، نظرا إلى أن الغلبة
الصنفية مقدمة عند التعارض على الغلبة النوعية - التي هي مقدمة عند
التعارض على الغلبة الجنسية - فتقديمه عليها أولى.
وإن لم نجد غلبة معارضة للغلبة الجنسية - لا في النوع ولا في الصنف -
فنحكم بمقتضى الغلبة الجنسية، مثلا: إذا شككنا في بقاء زيد فبعد ملاحظة أن
غالب الأمور الموجودة معه في السابق تكون باقية، فنلحقه بها في البقاء.
ثم إذا اعتبرناه بالقياس إلى نوع الانسان، فقد يكون مقتضى الغلبة فيه
على العكس - بأن يكون زيد المشكوك بقاؤه في سن المائة والعشرين، فإن
الغالب في الانسان بعد المائة والعشرين عدم البقاء - فنحكم بأن زيدا غير
باق، نظرا إلى الغلبة النوعية.
وقد لا يكون غلبة في النوع معارضة مع الغلبة الجنسية - كأن يكون
زيد الغائب في سن الستين - فان لم يكن هناك أيضا غلبة صنفية - بأن يكون
98

زيد المذكور من صنف المدقوقين (1) الغالب فيهم عدم البقاء في مدة طويلة
عن زمان دقهم - فيكون الغلبة الجنسية سليمة عن معارضة النوعية والصنفية،
فنعمل بها.
فحاصل الكلام: أنه لا حاجة إلى ملاحظة الجزئي المشكوك البقاء
مقيسا إلى نوعه - من حيث الاستعداد - حتى يرد عليه: أنه قد لا يكون
نوعه معلوما لتردده بين نوعين، كالحيوان المشكوك البقاء المتردد بين نوعين
مختلفي الاستعداد.
وقد يكون نوعه معلوما، ولكن استعداده غير معلوم.
وقد يكون استعداده أيضا معلوما، لكن شك في انقضاء مقدار
الاستعداد عن هذا الجزئي.
وقد يكون عدم انقضائه أيضا معلوما، لكن يشك في وقوع المانع مع
فرض كون هذا المانع من الأمور التي لا انضباط لها ولا اعتناء بعدمها،
بل قد يتجدد منها أفراد كثيرة في أزمنة متعاقبة.
وقد لا، بل نلاحظ الجزئي بالنسبة إلى الموجودات السابقة المشتركة
معه في الوجود السابق المتميز عنها بالشك في البقاء، فنجد الأغلب باقيا،
وإن كان ما ارتفع منها كثيرا في نفسه، لكنه بالإضافة إلى الجميع كالقطرة
بالإضافة (2)، فنلحق هذا الجزئي بالغالب إلى أن نجد غلبة معارضة لهذه الغلبة

(1) المدقوق: اسم مفعول، ومن به حمى الدق، وهي حرارة غريبة تتشبث بالأعضاء
الأصلية ولا سميا القلب، وهي لازمة على نظام واحد، غير أنها. تشتد ليلا وبعد الغذاء،
ولا يشعر اللامس بحرارتها الشديدة إلا بعد أن يطول الجس، فتظهر بقوة (محيط
المحط: 286، مادة " دفق ").
(2) هنا كلمة ساقطة، مثل: " إلى الحوض " أو: " إلى النهر " أو: إلى البحر ".
99

أخص منها، فنقدمه عليها.
ففي جميع الصور المذكورة - التي أوردتها نقضا على غلبة المصنف -
نحكم بالبقاء، للغلبة الجنسية التي أثبتناها، إلا أن يمنع عنه غلبة معارضة
أخص.
وحاصل هذه الغلبة هو: أن كل زمان نشك في بقاء شئ فنقول:
إنا تتبعنا الموجودات في الزمان السابق، فنجد الباقي منها إلى هذا الزمان
أغلب من المرتفع منها فيه بأضعاف غير محصورة، فنلحق هذا المشكوك بها
إلى أن يوجد المعارض.
قلت: تقرير الغلبة بهذا التقرير لا يجدي في دفع النقض بالصور
المذكورة.
أما أولا: فلانه إن أريد أن يثبت بها استعداد البقاء للمشكوك فيه إلى
هذا الزمان - أي زمان الشك -، فمع أنه لا يجدي إلا لدفع النقض بالصورة
الأولى من الصور المنقوض بها - أعني صورة الشك في مقدار الاستعداد
بأقسامها - لا الشك في انقضاء مقداره بعد القطع بالمقدار، أو في طرو المانع مع
عدم انضباط في المانع.
لا يخفى: أن المقدار المشترك من الاستعداد بين الموجودات المستقرء
فيها ليس إلا الأقل بالنسبة إلى الجميع، مثلا: الاستعداد المشترك بين الفيل
والانسان والذباب والرطوبة الصيفية ليس إلا استعداد الرطوبة، لأنه مشترك
بين الجميع، وإثبات هذا القدر للمشكوك غير مجد، إذ وجوده له معلوم، بل
قد يعلم أزيد منه.
100

وإن أريد أن يثبت بها (1) بقاء ذلك المشكوك إلى هذا الزمان، مع قطع
النظر عن تشخيص مقدار الاستعداد، بأن يقال: إن الغالب باق فهذا باق،
فنقول:
لا يخفى أن اتصاف الغالب بالبقاء ليس لامر واحد مشترك بين الجميع،
حتى يظن ثبوت هذا الامر في المشكوك فيحكم عليه بالبقاء، بل لأمور
مختلفة وهي استعداداتها وقابلياتها المختلفة، وإنما اجتمعت في هذا الزمان
بضرب من الاتفاق، نظرا إلى تفاوت مبادئ حدوثها في التقدم والتأخر.
مثلا: للفيل استعداد، وللفرس آخر، وللإنسان آخر، وللذباب آخر،
وللرطوبة آخر، ولكن اتفق هذا الزمان مجمعا لوجود الجميع، فاتصف الجميع
بالبقاء، فإذا شككنا في بقاء شئ مشكوك مقدار استعداده مع القطع بزيادته
عن استعداد بعض هذه البواقي ونقصانه عن استعداد بعضها الاخر، أو شككنا
في بقاء شئ معلوم مقدار استعداده مشكوك في انقضاء هذا المقدار، فبأي
شئ يلحق؟
ولنأت لهذا بمثال ليتضح به الحال، فنقول: إذا بنى الأمير على أن
يضيف جميع أهل البلد في الليالي، لكن مع الاختلاف في عدد الليالي - بحسب
اختلافهم في الضعة والشرف - بأن يضيف بعضهم ليلة، وبعضهم ليلتين،
وبعضهم ثلاثا، وبعضهم عشرا، وهكذا، فأضاف في عدة ليال جمعا، وأضاف
زيدا أيضا عدة ليال من تلك الليالي، ثم فرضنا أنه اتفق في ليلة إضافة
أغلب أهل البلد لتصادف استعداداتهم اتفاقا فيها، فإذا شك في أن زيدا
أضيف في هذه الليلة أم لا - من جهة الشك في مقدار قابليته، هل هو ممن

(1) أي بتلك الغلبة.
101

يضاف في ثلاث ليال أو في عشر أو في شهر؟ - فلا يمكن أن يقال: إن زيدا
مضاف في هذه الليلة: من جهة أن أغلب أهل البلد مضافون، فافهم واغتنم.
فان قلت: هذا كله يدل على عدم جواز التمسك بهذه الغلبة في صور
الشك في الاستعداد من الصور المنقوض بها، أما الصورة الأخيرة منها
- وهي صورة الشك من جهة طرو المانع، مع كون المانع مما لا ينضبط من
حيت كثرة الوقوع وقلته - فلا مانع من التمسك بهذه الغلبة فيها، بأن يقال
عند الشك في بقاء شئ وارتفاعه من جهة طرو المانع الكذائي: إنا وجدنا
أغلب الموجودات المشاركة مع هذا المشكوك في الوجود السابق لم يطرء
عليها رافع، فهذا المشكوك كذلك. ولا يرد على هذه الغلبة ما ذكرت من
الايراد المستشهد عليه بالمثال العرفي.
قلت: نعم لا يرد ذلك، إلا أن بناء العرف ليس على الالحاق في مثل
هذه الصورة، مثلا إذا فرضنا أن أغلب أهل محلة بناؤهم على القرار في بيوتهم
ليلا، لكن فرضنا أن زيدا منهم ليس له انضباط وحد في هذا الامر فقد يكون
وقد لا يكون.
وأما ثانيا: فنقول - على فرض صحة الغلبة المذكورة وسلامتها من
الايراد الذي ذكرنا -: لا يخفى أن كون غالب الافراد على صفة إنما يوجب
إلحاق المشكوك بها في الاتصاف بتلك الصفة إذا كان الافراد الغير المتصفة في
نهاية القلة وغاية الندرة، ليحمل المشكوك على الأعم الأغلب ويجعل النادر
كالمعدوم، وفي ما نحن فيه ليس كذلك، نظرا إلى أن غالب الموجودات السابقة
وإن كانت باقية، إلا أنا نقطع أيضا بارتفاع كغير غير محصور منها، فليس
غير الغالب بحيث يجعل كالمعدوم، فلا تفيد مثل هذه الغلبة ظن اللحوق.
وأما ثالثا: فنقول - على فرض تسليم ثبوت الغلبة الجنسية في المقام
102

وإفادتها الظن -: لا يخفى أن العمل عليها والاخذ بها كما أنه مشروط بعدم
كون الغلبة في النوع أو الصنف على خلافها - كما اعترفت به - فكذلك
مشروط بعدم كون النوع - يعني نوع هذا المشكوك - مختلفة الافراد في
الاتصاف بتلك الصفة وعدمه.
مثلا، لو فرضنا أن الغالب في جنس الانسان البياض، لكن وجدنا
نوعا من أنواعه، بعض أفراده متصف بالبياض وبعضها متصف بغيره، وليس
أحد البعضين غالبا بالنسبة إلى الاخر، فإذا شككنا في فرد من هذا النوع أنه
أبيض أو غير أبيض، فلا يلحق بنوع الانسان في البياض، لعدم حصول الظن
في هذا الفرض.
فنقول في ما نحن فيه: إذا كان الشئ المشكوك البقاء داخلا في نوع
مختلف الافراد - في البقاء إلى هذا الزمان - مع التساوي، فلا يظن إلحاق هذا
المشكوك بجنس الموجودات في البقاء. وهذا الفرض وإن كان نادرا، إلا
أنه كاف في نقض الكلية.
فان قلت: إذا كانت الغلبة الجنسية ليعمل بها عند معارضة الغلبة
النوعية أو الصنفية، وكذا لا يعمل بها عند وجدان النوع أو الصنف مختلف
الافراد في الاتصاف بتلك الصفة - كما ذكرت من المثال - فأين - يعمل بها؟
وما الفائدة فيها؟
قلت: إذا لم يكن في النوع والصنف غلبة معارضة، ولا وجد أفرادهما
مبعضة في الاتصاف بالصفة مع تساوي البعضين في القدر تحقيقا أو تخمينا.
توضيح ذلك: أنه إذا شككنا في اتصاف فرد بصفة وتتبعنا في جنس
هذا المشكوك، فرأينا الغالب فيه الاتصاف بتلك الصفة، فلا يجوز المبادرة إلى
إلحاق المشكوك بجنسه بمجرد ذلك، بل ينبغي أن يلاحظ نوع هذا المشكوك
103

وصنفه، فإن وجد في أحدهما غلبة معارضة فيؤخذ بها، لأنها كالنص بالنسبة
إلى الغلبة الجنسية لأنها أخص، وهي كالظاهر بالنسبة إليها لأنها أعم.
وإن لم يوجد في أحدهما غلبة معارضة، فان وجدت غلبة معاضدة
فنعم الاتفاق، وإن لم توجد غلبة أصلا - بأن كان أفراد النوع أو الصنف
مبعضة، بعضها متصفا بالصفة المذكورة وبعضها غير متصف بها من غير غلبة
أحدهما على الاخر غلبة يعتنى بها - فإن وجدنا البعضين متساويين
أو كالمتساويين تحقيقا أو تخمينا، فلا يلحق الفرد المشكوك من هذا النوع
أو الصنف بالجنس، لان تساوي أفراد هذا النوع يكشف عن تغاير حكم
أفراد لافراد سائر أنواع ذلك، ولو لم يكشف عن ذلك فلا أقل من أنه يمنع
عن ظن الاتحاد كما في المثال السابق.
وإن لم نجد البعضين كذلك، بل شككنا في التساوي والغلبة، أو قطعنا
بالغلبة وشككنا في أن الغالب موافقة الجنس أو مخالفته، ففي هاتين الصورتين
نلحق الفرد بالجنس، فتأمل.
ثم اعلم أنه يمكن تقرير الغلبة بنوع آخر، بأن يقال عند الشك في بقاء
شئ: إنا تتبعنا الأمور المشكوكة البقاء فوجدنا - بعد استكشاف الحال في
ما يمكن فيه الاستكشاف من تلك الأمور، أو انكشافه في ما لا يمكن فيه
منها - أن الغالب البقاء، مثلا: شككنا في بقاء الشئ الفلاني، والفلاني، وكذا
وكذا وكذا وهكذا، ثم استكشفنا الحال في ما يمكن الاستكشاف فيه من
الأمور المذكورة، فوجدنا أن الباقي منها أغلب في الغاية من المرتفع، فكلما
شككنا في شئ فنلحقه بالغالب، وإن كان المشكوك مما لا يمكن الاستكشاف
فيه مع كون المستقرء فيها مما يمكن فيه الاستكشاف، للقطع بعدم مدخلية
إمكان الاستكشاف في ذلك.
104

فعلى هذا التقرير: لا حاجة إلى ملاحظة أن الشك في البقاء من جهة
الشك في الاستعداد بأقسامه المذكورة آنفا، أو من جهة الشك في طرو المانع
بقسميه المذكورين. ولا يرد النقض بالصور المذكورة الواردة نقضا على
السابق.
ولعل هذا هو السر في لزوم اختلال نظام العالم لو ترك العمل
بالاستصحاب، فإنه إذا شك أحدنا في بقاء أمر مترتب عليه أحكام المعاش،
فلم يرتب عليه آثار البقاء، وشك أيضا في بقاء أمر آخر من الأمور
المذكورة فلم يرتب عليه آثار البقاء، وفعل ذلك مرارا بالنسبة إلى الأمور
المذكورة، فلما كان الغالب انكشاف البقاء فيوجب ذلك فوات كثير من
مقاصد هذا الشخص. فإذا فعل شخص آخر كذلك وشخص آخر، وبالجملة
لو بنى جميع الناس على أن لا يرتبوا آثار البقاء على مشكوك البقاء مع
كشف البقاء غالبا - إما بالاستكشاف أو بالانكشاف - فيوجب ذلك فوات
أغلب مقاصدهم، وينجر إلى الاختلال، فتأمل.
ويمكن استفادة ذلك من تقرير المصنف، المذكور في المتن.
[قوله] قدس سره: " وإذا رأينا منه في مواضع غير عديدة (1) أنه
اكتفى - حين إبداء الحكم - بالأمر المطلق القابل للاستمرار وعدمه، ثم علمنا أن
مراده كان من الامر الأول: الاستمرار، فنحكم في ما لم يظهر مراده - من
الاستمرار وعدمه - بالاستمرار ".
[أقول]: لا يخفى أن هذا الاستقراء إنما يثبت ظن البقاء في ما إذا شك
في بقاء أصل الحكم الكلي الذي ألقاه الشارع إلى العباد وارتفاعه.

(1) كذا في الأصل والقوانين.
105

وأما إذا قطع ببقاء ذلك الحكم الكلي، وشك في بقاء الحكم الجزئي
المتعلق بمورد خاص - إما من جهة تبدل وصف من أوصاف الموضوع شك
في مدخليته في ثبوت الحكم، أو قطع بمدخليته لكن شك في أن لحدوثه دخلا
أو لحدوثه وبقائه كليهما مدخلا في حدوث الحكم وبقائه، وإما من جهة
الشك في وجود الرافع للحكم الجزئي المذكور، أو رافعية شئ له - فلا يثبت
ظن بقائه بالاستقراء الذي ذكره قدس سره.
مثلا: إذا شككنا في أن الماء المتغير النجس بعد زوال تغيره باق على
النجاسة أو لا - من جهة الشك في مدخلية التغير في موضوعية الموضوع -
فلا يجدينا الظن، بل القطع بأن الحكم الذي أبداه الشارع مستمر، لان
استمراره لا دخل له في بقاء النجاسة في الماء المذكور وارتفاعها، إذ لو
ارتفعت فإنما ارتفعت بارتفاع موضوعها - وهو الماء المقيد بتلبسه بالتغير -
وليس هذا ارتفاعا للحكم الذي أبداه الشارع وقطعا لاستمراره، إذ ارتفاع
الحكم الخاص عن مورد لعدم موضوعه ليس ارتفاعا لأصل الحكم الشرعي،
فإذا ارتفعت النجاسة عن كلب لاستحالته ملحا، لم يرتفع الحكم الشرعي،
أعني نجاسة الكلب.
وكذا الكلام في ما لو شك في بقاء الطهارة من جهة الشك في الحدث،
أو في بقاء وجوب شئ من جهة الشك في وجود غايته، أو في كون الشئ
غاية له.
والحاصل: أن إثبات استمرار الأحكام الكلية التي أبداها الشارع
بالاستقراء، إنما يجدي لو كان الشك في استمرار حكم من هذه الأحكام
الكلية، ولا يجدي إذا كان الشك في بقاء تعلقاتها الخاصة بالموارد الخاصة.
وظن استمرار الحكم الكلي لا يعالج به الشك في بقاء التعلق الخاص، بل
106

القطع به كذلك أيضا، كما في الأمثلة المذكورة.
اللهم إلا أن يتمسك في كل مقام باستقراء ملائم لذلك المقام، بأن يقال
مثلا في مسألة الشك في أن تغير الماء هل يكون زواله موجبا لزوال
النجاسة؟: إن أغلب الأحوال العارضة للماء المذكور - من الوجوديات
والعدميات - وجدناها غير موجبة لزوال الحكم، فهذا أيضا كذلك.
وهكذا يفعل في ما إذا كان حاضرا ودخل عليه وقت الصلاة
فلم يصل وسافر، أو كان بالعكس، وهكذا في المقامات الاخر. لكن أنى توجد
تلك الاستقراءات؟
ثم إن الغرض من هذه الغلبة المدعاة في مسألة الماء المتغير هو محض
التمثيل، وبيان أنه إن كان ولا بد من التمسك بالاستقراء فليدع في كل مقام
استقراء ملائم له، وإلا فتلك الغلبة في غاية الفساد ونهاية البعد عن السداد؟
نظرا إلى أن التغير من الأوصاف التي لها مدخل في حدوث الحكم - أعني
النجاسة - ولم يثبت بالاستقراء أن غالب الأوصاف التي لحدوثها مدخل في
حدوث الحكم لا مدخل لزوالها في زواله، بل يمكن ادعاء العكس.
نعم: الأوصاف التي لا مدخل لحدوثها في الحكم لا مدخل لزوالها
أيضا في زواله.
[قوله] قدس سره: " وكذلك الكلام في موضوعات الاحكام من الأمور
الخارجية، فإن غلبة البقاء يورث الظن القوي ببقاء ما هو مجهول الحال ".
[أقول]: هذا الكلام يشعر بأن مراده من الاستقراء هو تتبع
المشكوكات وكشف بقاء أغلبها - إما بالاستكشاف في ما يمكن فيه ذلك،
أو بالانكشاف - نظير الاستقراء في أحكام الشارع على ما سبق منه رحمه الله.
وهذا هو التقرير الذي ذكرناه أخيرا.
107

[قوله] قدس سره: " ولا يهمنا إثبات الباعث على الظن ".
[أقول]: لو تنزل إلى هذا من أول الامر كفاه وإيانا مؤونة الكلام،
فان إثبات الغلبة في أكثر موارد الاستصحاب دونه خرط القتاد.
[قوله] قدس سره: " قد بينا في مباحث الاخبار حجية ظن المجتهد مطلقا
إلا ما أخرجه الدليل ".
[أقول]: ما سبق منه قدس سره في مبحث أخبار الآحاد من الأدلة على
حجية ظن المجتهد - على فرض تسليم دلالتها على حجية كل ظن يحصل له
من أي سبب كان عدا ما خرج بالدليل، حتى مثل هذا الظن الضعيف
الحاصل في المقام من الغلبة المثبتة باللتيا والتي - فإنما يثبت حجية الظن
الاستصحابي إذا كان المستصحب من الأحكام الشرعية الكلية - التي يكون
استنباطها من شأن المجتهد - وما يتعلق بها، كالموضوعات اللغوية.
وأما غير ذلك من الموضوعات الخارجية - كبقاء كرية الماء ورطوبة
الثوب وموت الصيد الواقع في الماء القليل به، ونحو ذلك، والأحكام الجزئية
كبقاء وجوب الصوم عند الشك في تحقق الغروب، والطهارة عند الشك في
الحدث أو التنجس، ونحو ذلك - فلا يثبت حجية الظن فيها بحجية ظن
المجتهد، إذ لا دخل للاجتهاد فيها، لان تشخيصها ليس من شأن المجتهد،
ولا يحصل للمجتهد الظن بأن زيدا إذا شك في تحقق الغروب فوجوب الصوم
باق بالنسبة إليه، وكذا إذا شك زيد في بقاء طهارته، فلا يحصل للمجتهد ظن
ببقائها، ولو حصل فليس معتبرا في حق زيد.
نعم، شأن المجتهد المحكم بأن الظن الحاصل لزيد في الموضوعات
والأحكام الجزئية يجب عليه اتباعه لو كان مذهبه جواز العمل بالظن في
أمثال ذلك، أو لا يجب عليه اتباعه لو كان مذهبه عدم جواز العمل بالظن
108

فيها، كما هو التحقيق.
والحاصل: أن الدليل الدال على حجية ظن المجتهد الحاصل له في
المسائل الاجتهادية - وبعبارة أخرى: في المسائل التي يجوز تقليده فيها - غير
الدليل الدال على حجية الظن الحاصل للمقلد في الأمور غير الاجتهادية التي
لا يجوز تقليد المجتهد فيها من حيث إنه تقليد، وإن كان بيان كليهما وظيفة
المجتهد.
والذي سبق من المصنف قدس سره -. بيانه هو الأول، والذي يجدي في
حجية الظن الاستصحابي في الموضوعات والأحكام الجزئية هو الثاني.
اللهم إلا أن يقال: إن المقصود من عقد بحث الاستصحاب - الذي
جعلوه من الأدلة على الأحكام الشرعية الاجتهادية - لما كان هو بيان جواز
إثبات تلك الأحكام به وعدم جوازه وأن البحث عن جواز إثبات غيرها به
إنما وقع تطفلا، اكتفى المصنف قدس سره -. بمجرد إقامة الدليل على جواز إثبات
الاحكام الاجتهادية به بأنه يفيد الظن بالحكم الشرعي الفرعي الاجتهادي،
وكل ما يفيد الظن بالحكم الاجتهادي فهو حجة.
أما الصغرى فلما ذكره هنا، وأما الكبرى فلما بينه في مبحث أخبار
الآحاد.
فثبت من ذلك مطلبه الأصلي، وهو كون الاستصحاب من أدلة
الأحكام الشرعية الاجتهادية، وإن لم يثبت طلبه التطفلي.
لكن. ينافي ذلك أن المصنف قدس سره. بصدد إثبات حجية الاستصحاب
مطلقا في جميع الموارد، لا في خصوص الاحكام، كما هو أحد الأقوال في
المسألة، الذي اختاره وشرع في الاستدلال عليه.
والمقصود الأصلي من عقد بحث الاستصحاب وإن كان هو إثبات كونه
109

دليلا من أدلة الاحكام أو عدمه، لكن المبحوث فيه بالأصالة في هذا المبحث
ليس خصوص تلك الأحكام سيما بين المتأخرين. ولا تنافي بين كون الداعي
على عقد مبحث شيئا وكون المبحوث فيه أعم من ذلك الشئ بالأصالة،
فتأمل (1).

(1) الظاهر وجود سقط في النسخة، لان قوله " فما قل " آخر الصفحة 36 من المخطوطة،
وتبدأ الصفحة 37 بقوله: " فتدبر، قوله قدس سره ": وأن ذلك الأصل غير مسلم.. الخ ".
110

[مبحث استطرادي حول أصالة حرمة العمل بالظن]
[قوله] قدس سره: " وأن ذلك الأصل غير مسلم، فإن الدليل عليه إن
كان... الخ ".
[أقول]: إن كان مراده قدس سره من عدم تسليم أصالة حرمة العمل
بالظن: عدم تسليمها مع قطع النظر عن الانسداد - وبعبارة أخرى: مع قطع
النظر عن لزوم محذور، وبثالثة: مع قطع النظر عن الاضطرار إليه، ورابعة:
بالنظر إلى الأصل الأولي - فستعرف ضعفه وأن الحق حرمة العمل به مع
فرض عدم الاضطرار إليه.
وإن كان مراده قدس سره: عدم تسليم حرمة العمل به مع فرض الانسداد
والاضطرار ولزوم المحذور بالترك - وإن كان حرمة العمل به مع قطع النظر
عن ذلك مسلمة عنده - ففيه: أن المناسب حينئذ هو الاستدلال على إثبات
الاضطرار ولزوم المحذور والاكتفاء بقوله: " وقد بينا في مباحث الاخبار
111

حجية ظن المجتهد " (1) لا مطالبة الدليل على ثبوت حرمة العمل بالظن، إذ هو
رحمه الله - بعد تسليم أصالة حرمة العمل بالظن مع فرض عدم المحذور - مطالب
بدليل الجواز في حال الانسداد.
والحاصل: أنه على هذا التقدير يحسن المطالبة منه، ولا يحسن منه
المطالبة.
ثم: إنه لما اشتهر أنه قدس سره قائل بالاحتمال الأول، يعني أنه لا يسلم
أن الأصل الأولي أيضا حرمة العمل بالظن - وإن كان لي في صحة هذه النسبة
إليه تأملا - فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى إثبات ذلك الأصل في هذا
المقام " وإن كان خارجا عن المرام، لكن تعرض المصنف قدس سره له يكفي في
الالتئام.
فنقول - مستمدا للتوفيق من الملك العلام -:
إن الأصل الأولي - مع قطع النظر عن الدليل الوارد - هو عدم حجية
الظن من حيث هو ظن وحرمة العمل به كذلك، يعني أنا لو فرضنا عدم
لزوم محذور خارجي من عدم العمل عليه، وعدم الاضطرار بواسطة الدليل
الخارجي إليه، وعدم ثبوت الدليل على جواز العمل به عموما أو خصوصا،
فمقتضى القاعدة المستفادة من العقل والنقل هو عدم حجيته وحرمة العمل،
لا حجيته ووجوب العمل به ولو تخييرا.
بل مقتضى بعض الأدلة - كالآيات والاخبار - حرمة العمل به،
ولو مع ثبوت الدليل على جواز العمل، بمعنى أنه يقع التعارض بينه وبين
الدليل الدال على الجواز، بحيث لابد في إثبات الجواز من تخصيص دليل المنع

(1) القوانين 2: 58.
112

أو تقييده..
نعم، مقتضى بعض آخر - كالاجماع والعقل - هو المنع بشرط انتفاء
الدليل على الجواز، بحيث لو قام الدليل على الجواز فلا يقع تعارض، لانتفاء
موضوع دليل المنع.
ثم، إن العمل بالظن إما أن يكون المراد منه بناءنا وتوطين أنفسنا على
أن المظنون حكم الله في حقنا، والحكم بذلك وأخذه متبعا، والاستقرار عليه
والتكلف بمقتضاه.
وإما أن يكون المراد منه ترتيب آثار الحجية، أعني العمل في الفروع
على طبقه بالاتيان بما ظن وجوبه والاجتناب عما ظن حرمته.
والحق حرمته وعدم حجيته بكلا المعنيين.
أما بالمعنى الأول: فالدليل عليه هو الكتاب والسنة والاجماع والعقل.
أما الكتاب: فآي:
منها: قوله: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) (1).
وقوله تعالى - في موضع آخر -: (أم تقولون على الله
ما لا تعلمون) (2).
وقوله مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا تقف ما ليس لك به
علم) (3).
وقوله تعالى فيه أيضا صلى الله عليه وآله وسلم: (ولو تقول علينا بعض
الأقاويل في * لاخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين) (4).

(1) البقرة: 169. (2) البقرة: 80
(3) الاسراء: 36.
(4) الحاقة: 44 - 46.
113

وهذان وإن كان من قبيل " إياك أعني واسمعي يا جارة " لكنه يكفي
هذا القدر.
وقوله تعالى: (إن هم إلا يظنون) (1)، و (إن الظن لا يغني من الحق
شيئا) (2)، وأمثال هذه، حتى أن ببالي أن بعض الفضلاء المعاصرين (3) صرح
هو - أو حكى عن غيره - أن المجتمع من الآيات الدالة على حرمة العمل
بالظن - الأعم من الدلالة المطابقية والتضمنية والالتزامية - يقرب من مائة.
ثم، إن بيان خدشات الاستدلال بهذه الآيات واصلاحها يوجب
الخروج عما اقتضاه وضع التعليقة من الاختصار في ما كان خارجا عن
المقام، مربوطا به بأدنى مناسبة والتيام.
وأما السنة، فأخبار كثيرة:
منها: قوله عليه السلام: " إياك وخصلتين، ففيهما هلاك من هلك: إياك أن
تفتي الناس برأيك، وتدين بما لا تعلم " (4).
وعن الباقر عليه السلام: " من دان الله بما لا يعلم فقد ضاد الله، حيث
أحل وحرم في ما لا يعلم " (5).
وعنه عليه السلام: " من شك أو ظن فأقام على أحدهما فقد حبط عمله،
إن حجة الله هي الحجة الواضحة " (6).

(1) الجاثية: 24.
(2) النجم: 28.
(3) في هامش النسخة: سيد عبد الله شبر.
(4) الوسائل 18: 10، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3 وفيه: عن أبي
عبد الله عليه السلام.
114

وعنه عليه السلام: " حق الله على العباد: أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا
عما لا يعلمون " (1).
وعنه عليه السلام: " القضاة أربعة: ثلاثة في النار، وواحد في الجنة "، وعد
من الثلاثة " الذي يقضي بالحق وهو لا يعلم " (2).
إلى غير ذلك من الاخبار. حتى إن بعض الفضلاء المعاصرين - المشار
إليه سابقا (3) - صرح أو حكى عن غيره: أن المجتمع من الاخبار الدالة
بإحدى الدلالات الثلاث نحو من خمسمائة.
وأما الاجماع: فقد ادعى كثير من معاصرينا كونه من الضروريات
والبديهيات، فضلا عن كونه من الاجماعيات. والظاهر أنه كذلك.
قال رئيس المجتهدين العلامة البهبهاني - في رسالته المعمولة في
الاجتهاد والاخبار - بعد ذكر نبذ من الآيات والاخبار: " وهو - يعني عدم
حجية الظن - محل اتفاق جميع أرباب المعقول والمنقول، إذ كل من قال بحجية
ظن في موضع قال به بدليل اقتضاه " (4) انتهى.
وبمثله صرح الآخرون من مشايخنا المعاصرين (5)، بل لعل هذا مسلم

(1) الوسائل 18: 12، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10، وفيه: قلت
لابي عبد الله عليه السلام: " ما حق الله على خلقه؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا
عما لا يعلمون... الحديث "
(2) الوسائل 18: 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6، وفيه: عن
أبي عبد الله عليه السلام.
(3) راجع إليه في الصفحة السابقة، وفيها: يقرب من مائة.
(4) نقله في مفاتيح الأصول: 457، عن بعض مؤلفات جده قدس سره.
(5) منهم الفاضل النراقي قدس سره في عوائد الأيام: 120 - 121 والسيد المجاهد قدس سره.
في مفاتيح الأصول: 452.
115

عند العامة، فإنهم لم يقولوا بحجية مطلق الظن - ولو مثل القياس
والاستحسان - إلا بعد إقامة الدليل (1). ولم يقل بعضهم ببعض الظنون، لعدم
ثبوت الدليل عنده.
وأما العقل، فبيانه يحتاج إلى مقدمات:
الأولى: أن الامر في المقام دائر بين حرمة العمل بالظن ووجوبه
- ولو تخييرا بينه وبين متبع آخر - وأما إباحته بالمعنى الأخص فلا معنى له،
اللهم إلا أن يكون بمعنى أنه يباح العمل في أول الامر مع عدم وجوب له
أصلا حتى التخييري، لكن بعد العمل يجب عليه الاخذ ويحرم عليه الرجوع،
ولو في خصوص المسألة التي أخذ به فيها.
الثانية: أن الكلام في هذا المقام في وجوب العمل بالظن أو حرمته، مع
قطع النظر عن موافقة المظنون مع أحد مقتضيات الأصول - كالاحتياط
والبراءة وغيرهما من الأصول - فإياك أن تورد على دليلنا الآتي بصورة
تعلق الظن بوجوب شئ " وتقول: إن دفع الضرر المظنون لازم، لأنه من
باب الاحتياط، أو بصورة تعلق الظن بعدم وجوبه، فنقول: إن مخالفة هذا
الظن - يعني الحكم بالوجوب - يحتاج إلى دليل، لا موافقته، لأنه من باب
البراءة. وهذه الموافقة اتفاقية، فليفرض الكلام مع قطع النظر عن جميع ذلك.
الثالثة: أن المقصود تشخيص حكم العمل بالظن مع قطع النظر عن
لزوم محذور خارجي من عدم العمل به - من لزوم الخروج عن الدين بإجراء
البراءة، أو الحرج الشديد بالاحتياط، أو محذورات اخر باحتمالات اخر -
فافرض الكلام عند خلو المقام عن جميع المحاذير اللازمة من ترك العمل

(1) انظر الاحكام في أصول الاحكام، للآمدي، 4: 272 و 390.
116

بالظن، لأنا في مقام بيان الأصل الأولي، فلعلنا نقول بحجية الظن بملاحظة
تلك المحاذير.
الرابعة: أن مفاد دليلنا العقلي الآتي ليس كمفاد الآيات والاخبار
السابقة، بحيث يمنع عن العمل بالظن مطلقا، حتى لو قام دليل على حجية ظن
كان اللازم تخصيص تلك العمومات أو تقييد تلك المطلقات " بل مفاده كمفاد
الاجماع السابق في منعه عن العمل عند عدم الدليل على وجوب العمل.
إذا عرفت ما ذكرنا، فنقول: العمل بالظن بالمعنى الأول - يعني أخذه
متبعا من غير دليل من الشارع على أنه متبع، وبناءنا على أن المظنون حكم
الله في حقنا، والحكم بذلك وتكلفه - إن لا نقل بأنه مقطوع الحرمة عند
العقل، فلا أقل من أنه مظنون الحرمة والضرر، ولا أقل من أنه محتمله،
ودفع الضرر المحتمل واجب عند العقل، بمعنى أنه لو لم يوجد دليل أقوى من
العقل أو وارد من الشرع على الإباحة فيحكم بوجوب الترك وكون الشئ
على الحظر.
وبعد الالتفات إلى ما ذكرنا في المقدمة الثانية، لا أظنك تتوهم أن
التمسك بدفع الضرر المظنون على حرمة العمل بالظن، تمسك بنفس الشئ
على إبطاله، فإنه تمسك بالاحتياط على حرمة العمل بالظن.
مضافا إلى أن الشك في الضرر يكفينا، بل الوهم به إذا لم يكن بحيث
لا يعتني به العقلاء لغاية ضعفه.
فإن قلت: كما أن الضرر يحتمل في الفعل، فكذلك يحتمل في الترك،
فلا بد من التوقف، أو التخيير بين الوجوب والحرمة، أو طرحهما والرجوع
إلى الإباحة.
قلت: هذا فاسد من وجوه:
117

أما أولا: فلانه بعد ما ذكرنا لك في المقدمة الثالثة أن الكلام في حكم
العمل بالظن، مع قطع النظر عن لزوم محذور في ترك العمل به من الخارج،
فلا مجال لاحتمال وجوبه تعيينا - بحيث يترتب على تركه الضرر -، غاية
الامر احتمال الوجوب التخييري، ومن المعلوم أنه لا ضرر في تركه، فاحتمال
الضرر في الفعل سليم عن المعارض.
وبعبارة أخرى: لا فرق في حكم العقل بوجوب الترك بين دوران
الامر بين الحرمة والإباحة، أو بين الحرمة والوجوب التخييري، لعدم ضرر
على الترك فيهما.
وأما ثانيا: فلانا لو سلمنا أن في تركه أيضا احتمال الضرر، لكن نقول:
إن احتماله في الفعل أقوى من احتماله في الترك، سواء قلنا بأن احتماله في الفعل
مظنون أو مشكوك أو موهوم، لتفاوت مراتب الظن والوهم، وترك
الأقوى احتمالا للضرر متعين بحكم العقل.
وأما ثالثا: فلانا لو سلمنا تساوي الاحتمالين في القوة والضعف - بأن
فرضناهما مشكوكين أو مظنونين بمرتبة واحدة من الظن، أو موهومين كذلك
- لكان غاية ذلك: دوران الامر بين الوجوب والحرمة، ونحن وإن كنا
لا نقول بترجيح جانب الحرمة عند دوران الامر بينها وبين الوجوب بقول
مطلق، إلا أنا نقول به في ما إذا علمنا بأن الأثر المترتب على الفعل - على
فرض الحرمة - هو لزوم المفسدة، والأثر المترتب على الترك - على فرض
الوجوب - هو فوت المنفعة، أو شككنا في أنه فوت المنفعة أو لزوم المفسدة،
كما في ما نحن فيه، فإن العقل يحكم بأولوية دفع المفسدة على جلب المنفعة
عند احتمالهما، وبأولوية ترك ما يحتمل فيه المفسدة على فعل ما يحتمل في
تركه لزوم المفسدة أو فوت المنفعة.
118

نعم، لو علمنا بأن كلا من الأثرين المحتملين - على فرض الحرمة
أو الوجوب - هو لزوم المفسدة أو فوت المنفعة، أو احتملنا الامرين في كل
من الأثرين، لم نقل بترجيح الحرمة، وإن قال به كثير في الصورة الأخيرة،
نظرا إلى أن الغالب أن أثر فعل الحرام لزوم المفسدة، وأثر ترك الواجب فوت
المنفعة.
وأما رابعا: فلانا لو لم نقل بحكم العقل - بالخصوص - بترجيح جانب
الحرمة على جانب الوجوب عند احتمالهما، لكن غاية ذلك: دوران الامر بين
أن يحكم بالتخيير بينهما، وبين أن يحكم بتعيين الحرمة، لعدم الدليل على واحد
منهما، فيدور الامر بين التخيير والتعيين، ونثبت بحكم العقل التعيين، لأنه
لو كان الحكم في الواقع التخيير بين الوجوب والحرمة فأخذ الحرمة لا ينافيه.
وإن كان الحكم في الواقع تعيين الحرمة فقد أخذنا بها.
وحاصل ذلك: أنا نقول في أصل مسألة دوران الامر بين التخيير بين
الوجوب والحرمة وبين تعيين الحرمة: أن العقل يحكم بترجيح التعيين من
باب لزوم دفع الضرر المحتمل، إذ لا ضرر في، ترجيح تعيين الحرمة أصلا،
بخلاف التخيير بين الوجوب والحرمة، فإنه يحتمل فيه الضرر بأن يكون
الحكم: التعيين.
وأما العمل بالظن بالمعنى الثاني - وهو ترتيب الآثار على الظن
بالاتيان بما ظن وجوبه والترك لما ظن حرمته، وحاصله: العمل في المسائل
الفرعية على طبقه، سواء كان في العبادات أم في المعاملات أو في غيرهما من
أبواب الفقه -، فنقول في إثبات أن الأصل مع عدم الدليل حرمته - مضافا
إلى ما مر من الآيات والاخبار والاجماع -: إن الظن إذا تعلق بأحد طرفي
المسألة - من أي باب كانت من أبواب الفقه - فإما أن يكون دليل من الأدلة
119

أو أصل من الأصول الأربعة الجارية في جميع أبواب الفقه - وهي البراءة
والاحتياط والتخيير والاستصحاب - موافقا له، بأن كان المظنون موافقا
للبراءة أو الاحتياط أو غيرهما أو لدليل من الأدلة المعلومة الحجية.
وإما أن يكون دليل أو أصل مخالفا له، بأن اقتضى الظن شيئا
والاحتياط الواجب شيئا، أو البراءة شيئا، أو اقتضى الظن شيئا واقتضى
الديل الموجود في المسألة شيئا آخر.
والمنفصلة المذكورة حقيقية، فلا يمكن الجمع في مورد بين قسميها
ولا خلو مورد عن أحدهما، نظرا إلى أن كل مسألة فإما أن يوجد فيها دليل،
أو يوجد فيها أصل من الأربعة المذكورة - على سبيل منع الخلو - فإذا لم تكن
خالية عن أحدهما، فإما أن يكون الموجود فيها موافقا لمقتضى الظن،
أو مخالفا له - على سبيل المنفصلة الحقيقية -.
فإن كان الموجود في المسألة - من الأصل أو الدليل - موافقا
لمقتضى الظن، بأن كان وجوب السورة مثلا مظنونا، والاحتياط الواجب
- على القول بوجوبه في مثل هذا - يقتضيه أيضا، أو ظن حلية شرب التتن
والبراءة - على القول بها في مثلها - يقتضيها أيضا، أو ظن وجوب النية، والخبر
المتواتر - أعني قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " الأعمال بالنيات " (1) يقتضيه أيضا -
وغير ذلك من الأمثلة.
فلا شك أنه لا يترتب في هذه الصورة ثمرة عملية على العمل بالظن
وعدمه، لاجتماعه مع الأصل أو الدليل، مثلا: لا بد من الحكم بحلية شرب
التتن سواء قلنا بحجية الظن أو لا.

(1) الوسائل 1: 34، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات. الحديث 6.
120

نعم، يكون بينهما ثمرة ترجع إلى المعنى الأول للعمل بالظن الذي
ذكرناه سابقا (1) وهي: أنه لو قلنا بالظن فنحكم بالحلية من جهة اتباع الظن
وأنه أدى إليها، ولو قلنا بعدم حجيته فنحكم بها، لا من الجهة المذكورة، بل
من جهة اقتضاء البراءة إياها، فالثمرة تظهر في جهة العمل، لا نفسه.
فإن قلت: قد توجد ثمرة أخرى عملية، وهي: أنه لو كان الظن في
مسألة شرب التتن حجة، فلو فرضنا العثور على دليل محرم له، فيقع التعارض
بينهما. وإن لم يكن حجة، بل حكمنا بالحلية للأصل، فعند العثور على المحرم
فلا بد من العمل عليه، لارتفاع الأصل به.
قلت: قد غفلت هنا، فإن الامر رجع حينئذ إلى وجود الدليل المخالف
للظن في المسألة، فيخرج من هذه الصورة ويدخل في الصورة الثانية.
والحاصل: أن في صورة موافقة الظن لدليل من الأدلة أو أصل من
الأصول، فليس هناك ثمرة تظهر في العمل.
وإن كان الموجود في المسألة - من الأصل أو الدليل - مخالفا للظن،
فنحكم حينئذ بحرمة العمل بالظن المفروض عدم الدليل على حجيته.
والدليل على حكمنا هذا، نفس الدليل الدال على اعتبار ذلك الدليل
الموجود في المسألة، أو الأصل الموجود فيها، لأنها تدل على اعتبارها
ما لم يقم دليل على خلافها، والمفروض عدم الدليل على خلافها، إذ لم يوجد
إلا الظن على خلافها، والدليلية لم تؤخذ في مفهوم الظن، والمفروض أيضا
عدم صيرورته دليلا بعد، فيصدق مع وجود الظن عدم الدليل على خلافها،
فالعمل بالظن حينئذ طرح لمقتضى الأصول والأدلة من غير دليل، وطرحها

(1) تقدم في الصفحة: 117.
121

من غير دليل طرح للأدلة الدالة على اعتبارها من غير دليل، ولا شك في
بطلان هذا وحرمته.
مثلا: إذا ورد خبر معلوم الحجية بوجوب السورة مثلا، وحصل ظن
من الظنون التي يكون محل نزاعنا هنا - يعني لي يقم على اعتبارها
ولا على عدم اعتبارها دليل - بعدم وجوبها، فلا شك أن مقتضى الدليل الدال
على حجية ذلك الخبر الدال على الوجوب هو حجيته ووجوب العمل في
الفروع بمقتضاه كلية، لكن العقل يحكم بأنه إذا ورد في مقابله دليل معلوم
الدليلية فلا يتعين العمل بمقتضى الخبر الأول مطلقا وكلية، لأنه قد يكون
ترجيحا بلا مرجح، فليلاحظ ما بينهما من التعادل والترجيح.
وأما إذا ورد في مقابله ما لم يقم دليل على كونه دليلا، فلا شك أن
طرح الخبر الأول بذلك، أو ملاحظة ما بينهما من التعادل والترجيح، طرح
للدليل الدال على حجية ذلك الخبر من غير ضرورة عقلية ولا نقلية.
وهكذا الكلام في الأصول المعارضة كذا الظن الكذائي، فإن الدليل دل
على وجوب العمل إلا مع الدليل على الخلاف، فلو طرحت مع عدم الدليل
على الخلاف لطرحت أدلتها في الحقيقة.
فإن قلت: إن القدر المسلم من حجية الأصول الأربعة المذكورة هو
ما لم يكن الظن على الخلاف، ففي صورة الظن على الخلاف كما أن الظن غير
ثابت الحجية، فكذلك الأصول، وكذا الأدلة الاخر الغير المفيدة للعلم، إذ
الكلام ليس في المفيدة للعلم، لعدم تصور ثبوت الظن معها أو ثبوتها مع الظن
حتى يتصور مخالفتهما. فنقول: إنها أيضا لم يثبت حجيتها في صورة وجود
الظن على الخلاف، فمن أين نحكم بحرمة العلم بالظن في مقابلة الأصول
والأدلة بنفس أدلة اعتبار تلك الأصول والأدلة، ومن أين تعلم أن أدلة
122

اعتبارها تشمل اعتبارها في هذا الموضع؟
قلت: هذا الكلام فاسد بالنسبة إلى أدلة الأصول والأدلة معا.
أما بالنسبة إلى أدلة الأصول: فلانها تفيد التعبد بتلك الأصول مع عدم
الدليل، فكلما صدق عدم الدليل ثبت حجيتها، والمفروض أن كون الظن
الكذائي المعارض للأصول دليلا، ليس بينا ولا مبينا.
نعم، هذا لا يتمشى في أدلة التخيير، لأنها تدل، عليه عند فقد المرجح،
والظن لو لم يكن دليلا فلا أقل من كونه مرجحا، فينتفي التخيير في موضع
الظن.
لكن ذلك لم يثبت كون الظن معمولا به في هذه الصورة - بمعنى كونه
دليلا - بل ثبت كونه مرجحا، مع أنه لابد أيضا من إقامة الدليل على
صلاحية الظن للترجيح، إذ كما أن كونه دليلا يحتاج إلى الدليل، ولا يكفي فيه
عدم الدليل على عدم كونه دليلا، فكذلك كونه مرجحا، فبعد الدليل على
صلاحيته للترجيح يرفع اليد عن التخيير، لا بمجرد كونه ظنا.
وأما بالنسبة إلى أدلة اعتبار الأدلة المعارضة مع الظن في الموارد: فلان
الامر لا يخلو عن أحد أمرين: لان تلك الأدلة الدالة على اعتبار الأدلة
المعارضة مع الظن، إما أن تكون قد دلت على اعتبارها مطلقا - أي ولو كان
في مقابلها ظن غير ثابتة الحجية - أو تكون قد دلت على اعتبارها بشرط
عدم كون ظن في مقابلها.
إن كان الأول: فلا يتوجه إيرادك قطعا، ووجهه ظاهر، لان الدليل
حينئذ معتبر حتى في هذه الصورة التي يكون الظن في مقابله.
وإن كان الثاني: فغاية الامر عدم العمل بالدليل المذكور في هذه
الصورة، لكن لا يعمل بالظن، بل يتوقف ويرجع إلى الأصول، فنهاية الامر
123

صيرورة الظن موهنا للدليل لا دليلا، ألا ترى إلى صاحب المدارك: أنه
يعمل بالاخبار الصحيحة، لكن إذا خالف الأكثر لمقتضى خبر صحيح
فيتوقف في العمل به، ولا يلزمه القول بحجية ذهاب الأكثر، فتدبر.
ثم إنه قد يورد على جواز العمل بالظن بما حاصله: أن العمل بالظن
إما جائز أو غير جائز، [ف‍] إن كان غير جائز فهو المطلوب، وإن كان جائزا
فنقول: إن من جملة الظنون الظن الحاصل من آيات تحريم العمل بالظن
وأخباره بحرمة العمل بالظن، فيجب الحكم بالحرمة لاجل الظن.
ولا يخفى ما في هذا الايراد، فإن من يقول بجواز العمل بالظن، يمكن
أن يدعي عدم حصول الظن من الآيات والاخبار بعدم جواز العمل بالظن
في المسائل الشرعية العملية.
لا أقول: إن هذا الادعاء له وجه، بل أقول: لعل الخصم يدعي هذا
الادعاء الفاسد، فلا يمكن لك رده بما ذكرت من الايراد.
ويمكن - أيضا - أن يسلم حصول الظن منها بحرمة العمل بالظن - ولو في
الأحكام الشرعية العملية - لكن يدعى جواز العمل بالظن في المسائل الفرعية
فقط، وحرمة العمل بالظن الحاصلة من الآيات والاخبار مسألة أصولية.
ولكن هذا الادعاء لا يصح من المصنف قدس سره، لأنه يدعي (1) جواز
العمل بالظن في جميع الاحكام - فرعية كانت أو أصولية - بل ربما يدعي
جوازه في أصول الدين وموضوعات الاحكام الخارجية (2).
ويمكن أيضا أن يسلم حصول الظن منها بالحرمة، ويدعى جواز العمل

(1) قوانين الأصول 1: 452.
(2) لم نعثر عليه.
124

بالظن في المسائل الفرعية والأصلية إلا هذه المسالة الخاصة - يعني مسألة
حرمة العمل بالظن - من جهة اختصاص دليله الدال على الجواز
بما عداها.
نعم، لو أتى بدليل ونظرنا فيه فرأيناه شاملا - بالقابلية - لجواز العمل
بالظن في هذه المسألة أيضا، أمكن رده بما ذكرت.
وإن كان في جواز رده حينئذ أيضا بما ذكرت - من الاستدلال - تأملا،
بل منعا، ليس هنا موضع تفصيل الكلام فيه، ولكن لا بأس ببيانه هنا،
لمسيس الحاجة إليه، وكونه محل الالتباس غالبا.
فنقول: إذا ثبت حكم عام بحسب أصل القابلية لافراد، فصار ذلك
منشأ لمدافعة بعض الافراد بعضا في ثبوت الحكم - بأن كان ثبوت الحكم
لبعضها موجبا - ولو بواسطة - لعدم ثبوته للاخر - كما إذا قال المولى لعبده:
" اعمل بخبر كل عدل " ومن جملة أخبار العدول: أن المولى قال: " لا تعمل
بخبر زيد العادل " بحيث لا يحتمل أن يكون نسخا بالفرض، أو أن المولى قال:
" لا تعمل بخبر عادل " أو قام الاجماع على حجية كل خبر، ومنها نقل السيد
المرتضى الاجماع على عدم جواز العمل بخبر الواحد (1). وهكذا غيره من
الأمثلة.
فنقول: إن هذا ينقسم - أولا - إلى قسمين، لان المثبت لذلك الحكم
العام إما أن يكون لفظا، كما في المثالين الأولين، وإما أن يكون غير لفظ،
كما في المثال الثالث.

(1) راجع الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 529. الشريف المرتضى: 21. وراجع المجموعة الأولى من رسائل
الشريف المرتضى: 21.
125

فإن كان لفظا: فإما أن يكون التعارض الناشئ من عموم الحكم ظاهرا
بين بعض أفراد العام وبعض الباقي - كما في المثال الأول - فإن العمل بالخبر
الدال على عدم جواز العمل بخبر زيد ينافي جواز العمل بخبر زيد فقط.
وإما أن يكون التعارض بين بعض أفراده وبين جميع الباقي، بأن يكون
ثبوت الحكم لذلك البعض منافيا وغير مجامع لثبوته لجميع ما سواه من الباقي
- كما في المثال الثاني - فإن وجوب العمل بخبر من أخبر بأن المولى قال:
" لا تعمل بخبر عادل " ينافي وجوب العمل بغيره من الافراد.
فإن كان الأول: فلا يخفى أن الحكم التوقف والرجوع إلى الخارج،
نظرا إلى أن نسبة العام إلى المانع - أعني الخبر الدال على المنع عن العمل بخبر
زيد -، والممنوع عنه - وهو نفس خبر زيد - على السواء، فلا يمكن أن يكون
أحدهما دليلا على خروج الاخر.
وإن كان الثاني - يعني يكون التنافي بين بعض أفراد [ه] وجميع ما سواه
من الباقي - فهو على ضربين، لان هذا البعض المنافي لجميع ما سواه، إما أن
لا يكون منافيا لنفسه - ولو في بادئ النظر -، وبعبارة أخرى: كان النسبة بين
بعض الافراد وبين أصل الحكم عموما مطلقا، كما إذا قال المولى لعبده:
" اعمل بخبر العلماء " والمفروض أن كلهم فقهاء إلا واحد هو أصولي، وكان
من خبر الأصولي أن المولى قال: " لا تعمل بخبر الفقهاء " فإن وجوب العمل
بخبر الأصولي المستفاد من عموم قول المولى ينافي وجوب العمل بخبر جميع
ما سواه، ولا ينافي وجوب العمل بنفسه.
وإما أن يكون منافيا لنفسه أيضا - ولو في بادئ النظر - كما في المثال
السابق، وهو: ما إذا كان من خبر العادل أن المولى قال: " لا تعمل بخبر
عادل " فإن وجوب العمل به ينافي نفسه أيضا - ولو في بادئ النظر -، لأنه
126

عادل. وبعبارة أخرى: يكون النسبة بين هذا الفرد وبين العام تباينا كليا.
فإن كان الضرب الأول: فالحكم فيه بالنظر إلى نفس قابلية العام وإن
كان هو التوقف، نظرا إلى أنه لا يجوز أن يكون بعض أفراد العام مخصصا له
بالنسبة إلى البعض الاخر، لان الافراد متساوية الاقدام في المدلولية للعام،
لكن إذا عرض ذلك على العرف يفهمون خروج الفرد المنافي للباقي، لا الباقي
ففي المثال المذكور يفهمون خروج الأصولي، لاستهجان أن يقول: " اعمل بخبر
كل العلماء " ويكون مراده " إعمل بخبر واحد منهم " فتأمل.
وإن كان الضرب الثاني: مثل ما إذا قال المولى: " إعمل بكل ظن "
وكان من جملة الظنون: الظن بحرمة العمل بالظن، فهاهنا يحكم بخروج الفرد
المبائن، لان شمول العام له يستلزم ارتفاع العام رأسا بالنسبة إلى نفس هذا
الفرد والافراد الاخر، فيلزم التناقض.
وإن شئت فقل: لان ثبوت الحكم لهذا الفرد يوجب عدم ثبوته له
فيمتنع ثبوته.
ثم، إذا كان دلالة هذا الفرد على رفع حكم العام دلالة لفظية، كما إذا
قال المولى: " اعمل بكل خبر " وكان من جملتها الاخبار بأن المولى قال:
" لا تعمل بخبر " فهل يدل هذا العموم بلفظه على رفع حكم العام حتى بالنسبة
إلى نفسه؟ أو يدل على ارتفاعه بالنسبة إلى ما سوى نفسه، فلا يدل على رفع
حكم العام عن نفسه؟ أو تفصيل في ذلك بين الموارد؟
الحق هو التفصيل. لكن يظهر من بعض (1) " عموم الحكم (2)، بأن في مثل

(1) لم نعثر عليه.
(2) كذا في النسخة، والمناسب لسياق الكلام: " عدم عموم الحكم "، فلاحظ.
127

هذا يفهم عرفا عدم رفع نفسه - حيث إنه بعدما أورد على من جوز العمل
بالظن بالايراد الذي ذكرناه، وحاصله: أنه لو جاز العمل بالظن، لجاز العمل
بالآيات والاخبار المانعة عن العمل بالظن، فيلزم من جواز العمل بالظن
عدم جواز العمل به - قال ما حاصله: " فإن قلت: إن الظن الحاصل من
الآيات والاخبار لا يجوز العمل بها، وإلا لزم عدم جواز العمل بها، لأنها
لو دلت على تحريم العمل بالظن - والمفروض أن أنفسها ظنية - فتدل على عدم
حجية أنفسها.
قلت: إن العرف يفهم خروج أنفسها عن مدلولاتها كما في " كل كلامي
هذا اليوم كاذب " وكما إذا قال المولى لعبده: " لا تعمل بشئ مما أكلفك
هذا اليوم " فإنه يفهم خروج نفس هذا التكليف عن مدلوله ".
أقول: والتحقيق أن القول بالخروج كلية محل نظر. بل التحقيق: أنه
لا بد من ملاحظة المقامات.
فكل مقام ثبت فيه المانع عن الدخول - من فهم العرف: الخروج
أو غير ذلك - فيحكم بالخروج. مثلا في المثال السابق - أعني " كل كلامي في
هذا اليوم كاذب " - يفهم العرف خروج نفس هذا الكلام، فتأمل.
وكذا لو كان مراده أن هذا الكلام أيضا كاذب لكان ذلك في قوة أن
يقال: " ليس كل كلامي في هذا اليوم كاذبا (1) " لان هذا لازم كذب الخبر
المذكور، فتأمل.
وكذا في قوله: " لا تعمل بشئ مما أكلفك به هذا اليوم "، فإنه لو كان
مراده حتى هذا التكليف، فيكون الكلام في قوة أن يقال: " لا تعمل بهذا

(1) كذا في النسخة.
128

التكليف أيضا " - أعني به: عدم العمل بتكليف هذا اليوم - فقد أباح له العمل
بتكليفات هذا اليوم بقوله: " لا تعمل بما أكلفك اليوم " فيلزم إفادة الكلام
نقيض المقصود منه.
والحاصل: أن الموجب للخروج أمران، أحدهما: فهم العرف. والثاني:
لزوم التناقض. والأول أعم، فإنه قد يوجد فهم العرف الخروج، ولا يلزم
التناقض. كما في " كل كلامي اليوم صادق ".
وأما إذا لم يوجد شئ من الموانع، فلا ضير في دخوله تحت حكم
مدلوله. مثلا: لو فرضنا أن المولى قال لك مشافها: " لا تعمل بخبر يجيئك
عني إذا لم يفد القطع " وفرضنا أن جميع العبيد مشاركون لك في تكاليفك،
ثم وصل ذلك الخبر إليهم على وجه لا يفيد القطع، فلا ضير في أن يحكموا
بعدم العمل بهذا الخبر، بأن يقولوا: إن هذا الخبر إما أن يكون قد صدر في
نفس الامر من المولى أو لم يصدر، [ف‍] إن كان لم يصدر فعدم العمل به ظاهر،
وإن صدر فهو بنفسه دال على عدم جواز العمل به حينئذ - أي حين صار
خبرا غير مفيد للقطع - إذ لا ضير في أن يكون المولى قد أراد من قوله لذلك
المشافه: " لا تعمل بخبر لا يفيد القطع " أنه حتى لو جاءكم هذا الذي أقوله
شفاها على طريق الاخبار ولم يفد القطع فلا تعملوا به ولا تحكموا بحرمة
العمل بالخبر الغير المفيد للقطع، بل توقفوا في هذه المسألة. لا أنه يجوز لكم
العمل بالخبر الغير المفيد للقطع، إذ ليس معنى عدم جواز الحكم بالحرمة
جواز الحكم بالإباحة، حتى تقول: إنه مناف لغرضه، بل يكون أمرا بالتوقف
والتماس الدليل من الخارج.
ففي هذا المثال لا مانع من دخول نفس الشئ تحت مدلوله،
ولا يلزم منه أن يكون الشئ رافعا لنفسه.
129

والآيات والاخبار الناهية عن العمل بالظن من هذا القبيل، بمعنى أنه
يجوز أن يخاطب الله ورسوله المشافهين بأنكم: " لا تعملوا بالظن، ويحرم
عليكم العمل بالظن "، حتى أنه لو صار هذا ظنيا لم يجز لمن صار هذا عنده
مظنونا أن يعمل به ويحكم لاجله بحرمة العمل بالظن، بل لابد أن يتوقف
حينئذ عن الحكم بالحرمة، ويلتمس الدليل من الخارج على الحرمة
أو الحلية، لا أنه يباح له حينئذ العمل بالظن، حتى يلزم خلاف مقصوده من
الكلام المنساق لإفادة مقصوده، كما لزم في مثال " لا تعمل بشئ
مما أكلفك ".
والفرق بينهما: هو أن نفس هذا القول الصادر - أعني " لا تعمل
بما أكلفك " - داخل في عموم " ما أكلفك " في أن الصدور، بخلاف قوله:
" لا تعمل بالظن "، فإن هذا الكلام الشفاهي الملقى إلى المخاطب - المفروض
حصول العلم منه بالحكم - ليس داخلا في الظن حتى يرفعه مدلوله، بل قد
يصير بعد ذلك ظنا، فارتفاعه بنفس مدلوله بعد صيرورته ظنا لا يوجب
تناقضا في الكلام، وأما فهم العرف فليس هو الخروج أيضا.
فحصل من جميع ذلك: أن الفرد المنافي بعمومه اللفظي لباقي الافراد
- الذي يتراءى منافاته لنفسه أيضا - قد يكون منافيا لنفسه عند التأمل، وقد
لا يكون " فكلما كان منافيا لنفسه، فيحكم بعدم دخوله تحت العموم وعدم
ثبوت الحكم العام له، إذ لو ثبت حكم العام له - والمفروض أنه رافع لنفسه
كما أنه رافع لغيره من الافراد - فيلزم من ثبوت الحكم له عدم ثبوت
الحكم له، فيسلم الافراد الباقية عن المعارضة، كما في مسألة جواز العمل
بالظن، فإن عموم جواز العمل بالظن لو شمل الآيات والاخبار الناهية وثبت
جواز العمل بظنها فيلزم ثبوت عدم جواز العمل بظنها، لأنها تحرم العمل بكل
130

ظن - وقد عرفت: أنه لا مانع من شمولها لنفس الظن الحاصل منها - وما يلزم
من ثبوته عدمه امتنع ثبوته، فيسلم سائر الظنون عن المعارضة.
وأما ما لم يكن منافيا ورافعا لنفسه - كما إذا قال العادل: " لا تعمل
بخبر عادل " إذ هو نظير المثالين السابقين، أعني " كل كلامي " و " لا تعمل
بما أكلفك " - فالتحقيق أن حكمه أيضا حكم الضرب الأول - الذي كان الفرد
المنافي لسائر الافراد غير رافع لنفسه، ولو في بادئ النظر (1) - كما في قول
المولى: " اعمل بخبر العلماء " مع خبر العالم الأصولي بأن المولى قال: " لا تعمل
بخبر الفقهاء ".
بل الحكم بخروج ذلك الفرد المعارض هنا أقوى، لاستلزام دخوله
وخروج سائر الافراد كمال اللغوية.
مثلا، إذا قال المولى: " إعمل بكل خبر عادل " وكان من جملتها قول
عادل: " لا تعمل بخبر عادل " فحكمنا بانحصار مراد المولى من العموم في هذا
الخبر، والمفروض أن الخبر المقبول من هذا العادل منحصر في هذا الخبر
الناهي عن العمل بكل خبر عادل، إذ لو أخبر بخبر آخر فلا يقبل منه بنفس
خبره. وإنما قبل منه هذا الخبر، نظرا إلى فهم العرف خروجه وعدم إمكان
دخوله، فكان مقصود المولى من قوله: " اعمل بكل خبر عادل " لا تعمل
بخبر عادل، والتعبير عن هذا المقصود بهذا الكلام لا يخفى استهجانه،
بل قبحه.
بخلاف مثال الضرب، فإنه لو انحصر مراد المولى من العموم في قوله:
" إعمل بخبر العلماء " خصوص العمل بخبر الأصولي، فلا يخفى أن خبر

(1) في هامش الأصل: مثل الضرب الأول.
131

الأصولي غير منحصر بهذا الخبر - أي بقوله: " لا تعمل بخبر الفقهاء " -
حتى يلزم القبح والاستهجان، بل يتصور للأصولي أخبار اخر - ولو فرضا -
وكلها مقبولة، إذ لا يدل هذا الخبر على ردها.
وأما في المثال السابق فالاخبار الاخر من ذلك مردودة بنفس ذلك
الخبر منه في ذلك المثال.
وأما إذا كان المثبت للحكم العام غير لفظ كالاجماع، فنقول: إنه ليس
كاللفظي قي صلوحه بحسب الظاهر لكل من المتنافيين، بل لا يتعلق
إلا بأحدهما، فإذا كان أفراد متعددة يكون ثبوت الحكم لبعضها مانعا عن
ثبوته للاخر، فهو ينقسم حال لفظه إلى: ما يكون ثبوت الحكم لبعض تلك
الافراد مانعا عن ثبوته لبعض الباقي، وما يكون ثبوت الحكم لبعضها مانعا
عن ثبوته في جميع الباقي.
مثال الأول: ما إذا انعقد الاجماع على حجية خبر العادل، ومن
جملتها: إخبار عمرو بمنع العمل بخبر زيد.
والثاني على قسمين:
الأول: أن يكون الفرد الذي يكون ثبوت الحكم [له] رافعا لجميع
الباقي، بحيث لا يدفع نفسه، كما إذا انعقد الاجماع على حجية أخبار العلماء،
والمفروض أن كلهم فقهاء إلا واحد أصولي، فأخبر الأصولي بالمنع عن العمل
بقول الفقهاء.
الثاني: أن يكون بحيث يدفع نفسه، إما حقيقة وفي الواقع، أو في بادئ
النظر، لكن عند التأمل يعلم - إما بفهم العرف أو بلزوم التناقض - بأنه
لا يدفع نفسه.
فالأول: كما إذا انعقد الاجماع على حجية ظواهر الكتاب [و] من
132

جملتها ظاهر آيات التحريم بالنسبة إلى ظواهر الكتاب، ونفس الآيات من
جملتها، وكما لو فرضنا انعقاد الاجماع على جواز العمل بالظن، ومن جملتها
ظن آيات التحريم بحرمة العمل بالظن الذي من جملته ظن آيات التحريم.
والثاني: كما إذا انعقد الاجماع على حجية أخبار الآحاد التي من جملتها
خبر السيد بعدم حجيتها، فإنه وإن كان يشمل عدم حجية نفسه بحسب ظاهر
اللفظ، إلا أن عند التأمل وعرضه على العرف وملاحظة لزوم التناقض في
كلام العاقل - على فرض الدخول - يحكم بالخروج.
فهذه أقسام أربعة.
[قوله] قدس سره: " فإن دليله إن كان هو الاجماع فهو في ما نحن فيه
ممنوع ".
[أقول]: قد عرفت (1) أن مراد المصنف إن كان منع حرمة العمل
بالظن مع الاضطرار إليه، لفرض انسداد باب العلم ولزوم المحذور من عدم
العمل بالظن، فهو في غاية الجودة. إلا أنه لا يحسن منه حينئذ مطالبة الدليل
على دليل الحرمة في الزمان المفروض، لان الأصل الأولي فيه الحرمة أيضا،
فلا بد له رحمه الله من أن يثبت الاضطرار الموجب للجواز. وقد أثبته سابقا
وأشار إليه هنا فليكتف به.
وإن كان مراده: منع أن الأصل الأولي أيضا حرمة العمل بالظن، فقد
عرف أنه الحرمة، وأن ذلك كاد أن يعد من البديهيات، فضلا عن
الاجماعيات.
إذا عرفت هذا، فنقول: قوله " في ما نحن فيه " إن كان إشارة إلى ظن

(1) في الصفحة: 111.
133

المجتهد في حال الانسداد، فلا يخفى أن الاجماع المدعى على عدم العمل
بالظن، إنما هو مع عدم الدليل المجوز.
وبعبارة أخرى: إن الاجماع على حرمة العمل بالظن تعليقي مشروط
بعدم الدليل. يعني أن الظن الذي لم يقم على حجيته دليل عدم حجيته
إجماعي. وليس كالآيات الناهية عن العمل بالظن في إفادة الحرمة مطلقا
- بحيث لو جاء الدليل على الحجية يكون مخصصا لها -.
ففي زمان الانسداد: إن كان لك دليل على الحجية، فهو المخرج عن
الأصل الأولي. ولم يدع أحد الاجماع [على] عدم الحجية في صورة وجود
الدليل على الحجية حتى تمنعه، كيف! وهو غير معقول.
وإن لم يكن لك دليل فالاجماع ثابت، ولا فرق بين حال الانفتاح
والانسداد، ولا بين المجتهد وغيره مع عدم الدليل.
فإن منعت الاجماع فامنعه مطلقا، لا في خصوص زمن الانسداد وظن
المجتهد.
وإن كان إشارة إلى مطلق مسألة حرمة العمل بالظن - بأن يكون مراده
منع كون الأصل الأولي حرمة العمل - فقد عرفت أنه ادعى جمع أنه من
الضروريات، فضلا عن الاجماعيات.
[قوله] قدس سره: " وإن كان ظواهر الآيات والاخبار، فإن كان دليل
حجية تلك الظواهر الاجماع، فحجيتها في ما نحن فيه أول الكلام ".
[أقول]: إن كان رحمه الله لا يسلم أن دليل حجية مطلق ظواهر الآيات
هو الاجماع، بل يقول: إن دليلها هو كونها من ظنون المجتهد فلا يصح
الاستدلال بها على حرمة العمل بالظن، ففيه:
أولا: أن الظاهر أن الدليل هو الاجماع، وقد ادعاه جمع كثير، ويؤيده
134

عمل كل من عمل به - ولو كان ممن لا يعمل بالظن المطلق - إلا الأخباريين
منا. اللهم إلا أن يمنع ظهورها في المدعى.
وثانيا: لو سلمنا عدم الدليل الخاص على حجية الآيات أو عدم
ظهورها في المدعى، لكن نقول: ظهور الاخبار لا يقبل الانكار، والاتفاق
على حجية ظواهرها من جميع العلماء كالشمس في رابعة النهار.
فإن قلت: لو ثبت الاجماع على حجية ظواهر الآيات والاخبار
الناهية للزم عدم حجيتها، نظرا إلى أنها ناهية عن العمل بالظن حتى الظن
الحاصل من نفسها، ولو قيل: إن الظن الحاصل من أنفسها خارجة عنها للفهم
العرفي أو لزوم التناقض، فأنت أنكرت ذلك سابقا وقلت: إن هذا ليس من
قبيل " كل كلامي اليوم كاذب " وقول المولى: " لا تعمل بما أكلفك به اليوم ".
قلنا: نعم أنكرنا كون هذا من ذلك القبيل، ولا ندعي أنها بحسب
اللفظ غير شاملة للظن الحاصل من أنفسها، لكن نقول: قد عرفت فيما سبق
أنه إذا كان هنا أفراد يكون ثبوت حكم معين لبعضها مانعا عن ثبوت ذلك
لبعض آخر، فلا يكون الاجماع من قبيل اللفظ في صلوحه بدلالته اللفظية
لثبوت الحكم المعين لجميع الافراد حتى نرتكب مؤونة الكلام في تخصيصه إما
لفهم العرف أو للزوم التناقض، بل الاجماع أمر معنوي يستلزم حصول
القطع، فلا يمكن إدعاؤه لثبوت الحكم لجميع الافراد، للزوم تناقض القطعين،
فإذا ادعاه مدع فليس إلا على أحد البعضين المتنافيين.
إذا عرفت هذا نقول: من يدعي الاجماع على حجية ظواهر الكتاب
والاخبار فلا شك في أنه لا يمكن أن يدعي ذلك في جميع الظواهر حتى
ظهور آيات التحريم في حرمة العمل بظواهر الكتاب، لعدم إمكان حصول
ذلك له، بل لابد إما أن يحصل له الاجماع بحجية جميع الظواهر ما عدا ظاهر
135

هذه الآيات بالنسبة إلى حرمة العمل بظواهر الكتاب فقط، لا بالنسبة [إلى]
حرمة غيرها من الظنون، لعدم تنافي حرمتها مع سائر الظواهر.
وإما أن يحصل له الاجماع بالنسبة إلى ذلك الظاهر فقط، يعني ظاهر
آيات التحريم بالنسبة إلى حرمة العمل بظواهر الكتاب.
لكن هذا الثاني لا معنى له، إذ هذا يرجع إلى ادعاء الاجماع على عدم
حجية ظواهر الكتاب لا على حجيتها، فتعين الأول.
وحاصله: أن الاجماع انعقد على حجية ظواهر الكتاب غير آيات
التحريم وظواهر آيات التحريم، لكن بالنسبة إلى غير تحريم العمل بظواهر
الكتاب، فإن الاجماع المدعى على حجية ظواهر الكتاب لا يمكن أن يكون
أزيد من ذلك، بل يستحيل.
والغرض من هذا التطويل (1) والتفصيل دفع. توهم من يتخيل أن
المستدل بهذا الاجماع يدعي الاجماع كلية على حجية ظواهر الكتاب،
ثم يخرج الظن الحاصل من آيات التحريم بحرمة العمل بظواهر الكتاب عن
عموم ذلك الاجماع، بجعل دليل الاخراج الاجماع على حجية ظواهر الكتاب،
فيورد عليه إيرادان:
الأول: أن الاجماع إذا قبل التخصيص يكون ظنيا فيطالب بدليل
والثاني: أن الاجماع الدال على الاخراج هو نفس الاجماع العام، فيلزم
اتحاد المخصص والمخصص.
وقد عرفت مما ذكرنا: أنه لا تخصيص فلا إيراد، بل الاجماع لا يقبل

(1) في الأصل: الطول.
136

أزيد مما ذكره بل لو قلنا بأن الاجماع المدعى المذكور كاشف عن قول فيكون
كاشفا عن قول الشارع: " إعمل بكل ظاهر من [ال‍] ظواهر " ليقبل التخصيص.
فنقول: لا يخفى أن خروج الظن الحاصل من آيات التحريم بحرمة العمل
بظواهر الكتاب من عموم القول المذكور لا يحتاج إلى مخصص، بل الدليل
عليه هو عدم جواز إرادة هذا الفرد من العموم، لما عرفت من أنه إذا ثبت
باللفظ حكم عام بحسب القابلية اللفظية لافراد يكون ثبوت الحكم لبعضها
مناقضا ومبائنا لثبوته للباقي، بل مناقضا لثبوته لنفس ذلك الفرد بحيث كان
النسبة بين مقتضى هذا الفرد وبين أصل الحكم العام تباينا، فالعرف والعقل
- الحاكم بقبح التعبير عن مقصود بعبارة نقيضه - يحكم. بخروج ذلك الفرد عن
العام ولا يحتاج إلى مخصص، وما نحن فيه من هذا القبيل. نعم يرد على مثل
هذا الاجماع أنه ظني لقبوله التخصيص لا لفعلية تخصيص هذا الفرد.
[قوله] قدس سره ": " وأما ما استدل به الآخرون من أن ما ثبت دام، فهو
كلام خال عن التحصيل. وغاية توجيهه ما ذكره المحقق، قال: المقتضي
للحكم الأول ثابت " (1).
[أقول]: يمكن توجيه هذا الدليل منهم بالدليل الاخر الذي ذكره
المحقق في المعارج - بعد هذا الذي نقله المصنف عنه - قال: " الثابت أولا قابل
للثبوت ثانيا، وإلا لانقلب من الامكان الذاتي إلى الاستحالة، فيجب أن
يكون في الزمان الثاني جائز الثبوت كما كان أولا، فلا ينعدم إلا لمؤثر،
لاستحالة خروج الممكن عن أحد طرفيه إلى الاخر لا لمؤثر، فإذا كان
التقدير تقدير عدم العلم بالمؤثر، يكون بقاؤه أرجح من عدمه في اعتقاد

(1) معارج الأصول: 206.
137

المجتهد، والعمل بالراجح واجب " (1) انتهى.
فعلى هذا يشترك ذلك لدليل مع استدلال المصنف في التعلق بظن
البقاء. لكن المصنف استند في حصول الظن إلى الغلبة، وهم لم يستندوا فيه
إلى شئ.
فإن قلت: إن قولهم: " ما ثبت دام " ليس فيه دلالة على التعلق به،
فلا يناسب هذا الذي ذكرته عن المحقق، لأنه تعلق فيه بالظن ورجحان
الاعتقاد، بل المناسب لتوجيهه هو الدليل الذي نقله المصنف عن المحقق
رحمهما الله حيث خلا عن حيث التعلق بالظن.
قلت: يظهر من المحقق قدس سره - في آخر كلامه في المعارج (2) - أن مرجع
جميع أدلته إلى التعلق بالظن والرجحان.
[قوله] قدس سره: " وأنت خبير بما فيه، إذ المقتضي للحكم الأول إن سلم
كونه مقتضيا حتى في الآن اللاحق فلا معنى للاستصحاب، بل هو محض
النص " (1).
[أقول]: لا شك أن حكم النص بوجود الحكم في جميع الأزمنة
لا يوجب عدم وقوع الشك في ارتفاعه بسبب الشك في وجود المانع أو في
مانعية الموجود، حتى ينتفي الاحتياج إلى الاستصحاب.
بيان ذلك: أن قول الشارع: " وقوع عقد النكاح بين الرجل والمرأة
يوجب حل الوطء مطلقا " مع ما استفيد من كلامه، من " أن الطلاق موجب
للبينونة وحرمة الوطء وارتفاع سائر الآثار " يكون بمنزلة كبرى لصغرى

(1) معارج الأصول: 207.
(2) الظاهر أن مراد المصنف قدس سره ما ذكره المحقق قدس سره في معارج الأصول: 209.
138

يحصلها المكلف من نفسه، بأن يوقع العقد ولا يحدث الطلاق. فيقول حينئذ:
إني أوقعت النكاح ولم أحدث الطلاق، وكل من كان كذلك يحل له الوطء
وسائر إلاستمتاعات، فالصغرى محصلة للمكلف، والكبرى مستفادة من
حكم الشارع بكون العقد مؤثرا في الحل والطلاق رافعا له، ومن المعلوم: أن
قطع هذا الشخص بالنتيجة - وهي حل المرأة المعينة له - ليس بمجرد القطع
بالكبرى، بل لا بد من القطع بالصغرى أيضا، بأن يقطع بأنه أوقع العقد
ولم يوقع الطلاق.
فإذا شك في الصغرى، بأن شك في إحداث الطلاق بالصيغ المتفق على
كفايتها فيه، أو شك في أن الصيغة التي أتى بها للطلاق كقوله: أنت خلية
أو برية أو نحوهما، هل تكفي في الطلاق أم لا؟ فهل يكون قاطعا ببقاء حل
الوطء بمجرد النص الدال على الكبرى، أو يكون شاكا فيه؟
إن قلت: إنه قاطع بالبقاء، فقد قلت ما لا ينبغي أن تقول، وإن قلت:
إنه شاك في البقاء، فنقول: فأين فائدة النص؟ وهل ينفعك إلا الاستصحاب؟
والغرض من هذا التوضيح: هو دفع ما اعتذر به بعض المنكرين
للاستصحاب، عن تمسكهم به في أمثال هذه المواضع: من أن هذا تمسك بعموم
النص لا بالاستصحاب.
وأقول مضافا إلى ما قلت: إنه إذا قال الشارع: " إن عقد النكاح
يوجب حل الوطء "، وقال أيضا: " إن صيغة الطلاق يوجب حرمة الوطء "
فإذا قال شخص لزوجته: أنت خلية، والمفروض الاختلاف بين العلماء في أن
هذه الصيغة يقع بها الطلاق أم لا؟ فلا شك أن دخول هذا الشخص في
موضوع قوله: " عقد النكاح يوجب حلية الوطء " ليس بأولى من دخوله في
موضوع قوله: " إيقاع صيغة الطلاق يوجب حرمة الوطء " فنسبة هذا
139

الشخص إلى العامين المذكورين واحدة، غاية الامر دخوله سابقا في مدلول
العام الأول وثبوت حكمه له، وأما بعد التلفظ باللفظة المذكورة فلا يقطع
بالدخول ولا بثبوت حكم العام له، بل ولا يظن، فأي عموم يبقى بعد ذلك؟
وبأي دليل يثبت الحلية؟ إلا باستصحاب الدخول في مدلول العام، أو
استصحاب ثبوت الحكم له؟
لكن الاستصحاب الأول فاسد، كما يظهر وجهه بأدنى تأمل، فبقي
استصحاب ثبوت الحكم وهو المطلوب.
وما أحسن ما قاله رئيس المجتهدين العلامة البهبهاني - في رسالته
المعمولة في الاستصحاب -: " إن هؤلاء يتمسكون بالاستصحاب من حيث
لا يشعرون، ويسمونه تمسكا بعموم الدليل " (1).
والعجب من المصنف قدس سره -. حيث وافقهم هنا في ذلك. اللهم إلا أن
يكون رحمه الله حمل كلام المحقق على صورة كون الشك في بقاء الحكم بسبب
الشك في دلالة النص على الاستمرار واقتضائه إياه، دون صورة الشك في
وجود المانع أو مانعية الموجود، وحينئذ فيتوجه عليه ما ذكره رحمه الله: من أنه
لو علم اقتضاء المقتضي حتى في الآن الثاني لم يحتج إلى الاستصحاب، لان
المفروض أن الشك في البقاء ليس إلا من هذه الجهة دون المانع.
لكنك بعد ملاحظة كلام المحقق في المعارج (2) - حيث إنه مثل
للاستصحاب بما ذكرنا من الطلاق والعقد - تعلم أن هذا الحمل غير صحيح.
هذا كله إن حمل رحمه الله " المقتضي " في كلام المحقق، على الدليل الدال

(1) الرسالة الاستصحابية (مخطوط): الصفحة: 2 و 3.
(2) معارج الأصول: 209.
140

على الحكم، كما يفهم من قوله (1): " بل هو محض النص ".
وإن كان قد حمله على العلة المقتضية للحكم الأول المكشوف عنها
بالدليل، ففيه أيضا: أن مجرد وجود المقتضي واقتضائه حتى في الآن الثاني
لا يوجب رفع الاحتياج إلى الاستصحاب، لان المحقق رحمه الله لم يرد من
المقتضي العلة التامة، وإلا فكيف فرض الشك مع فرض ثبوته حيث قال:
" لأنا نتكلم على هذا التقدير " أي تقدير ثبوت المقتضي (2).
مع أن رد جماعة لدليله هذا ب‍ " أن مجرد وجود المقتضي مع عدم العلم
بعدم المانع لا يوجب العلم بالمقتضى، بل لابد فيه من العلم بعدمه " أصدق
شاهد على أنه لم يرد من المقتضي العلة التامة.
[قوله] قدس سره: " وإن فرض كونه مقتضيا للآن الأول فقط، فلا
معنى لاقتضائه في غيره ".
[أقول]: إن حمل " المقتضي " في كلام المحقق على العلة المقتضية للحكم
المكشوف عنها بالدليل فهو حسن، وإن كان ذلك مفسدا لقوله في السابق:
" إن المقتضي لو سلم... إلى آخره " (3).
وإن حمله على الدليل، فلا يخفى أن اختصاص اقتضائه بالآن الأول
وإن لا يكن معنى لاقتضائه في غيره، إلا أنه لا يوجب عدم جريان
الاستصحاب ولا رد المحقق.
أما عدم كونه موجبا لعدم جريان الاستصحاب، فلانه لا يشترط فيه
جريان دليل المستصحب في الآن الثاني، ولهذا هو رحمه الله يقول بحجية

(1) أي من قول صاحب القوانين قدس سره.
(2) معارج الأصول: 206.
(3) تقدم في الصفحة: 138، قوله: إذ المقتضى... الخ.
141

الاستصحاب إذا ثبت الحكم في الآن السابق بالاجماع، مع القطع بانتفاء
الاجماع في الآن اللاحق.
وأما عدم كونه موجبا لرد المحقق: فلانه صرح (1) بأن الكلام على
تقدير ثبوت المقتضي في الآن الثاني.
[قوله] قدس سره: " وإن أخذ كونه مقتضيا في الجملة، فتساوي احتمال
الرافع وعدمه وتساقطهما لا ينفع في إثبات الحكم في الأوان اللاحقة من جهة
المقتضي، بل عدم المقتضي هو مقتضي العدم ".
[أقول]: قد عرفت أن صريح كلام المحقق هو ثبوت المقتضي للحكم
الأول في الآن الثاني واقتضائه له فيه " وإنما فرض الشك في بقاء المقتضي من
جهة احتمال الرافع وعدمه.
فالأحسن في الجواب عنه ما أجاب به الآخرون، وهو: إما منع أن
المقتضي للحكم الأول ثابت في الزمن الثاني، إذ عدم العلم بعدمه ليس علما
بثبوته، وهل هو إلا مصادرة على المطلوب؟ وإما منع صحة الحكم ببقاء
المقتضي وأثره مع الشك في وجود المانع، لعدم الدليل على ذلك، فيجب
التوقف.
والجواب الأول مبني على حمل المقتضي - في كلام المحقق - على العلة
التامة، أو على أنا نفرض الكلام في ما كان الشك في الحكم من جهة الشك
في بقاء المقتضي.
والحمل الأول فاسد، إذ لو فرض المحقق بقاء العلة لم يحتج إلى دفع
احتمال المعارض بمعارضته مع احتمال عدمه الموجبة لتساقطهما وسلامة

(1) معارج الأصول: 206.
142

المقتضي عن المعارض.
وأما الحمل الثاني: فهو إنما يتم لو كان مذهب المحقق العمل
بالاستصحاب كلية، وليس كذلك، بل إنما يعط به في ما إذا كان المقتضي
للحكم يقتضيه مطلقا، بأن كان الشك في البقاء منحصرا في الشك في المانع،
صرح رحمه الله بذلك في آخر كلامه في المعارج حيث قال فيه - بعد ما اختار
حجية الاستصحاب عند تحرير النزاع - ما هذا لفظه:
" والذي نختاره نحن أن ننظر في الدليل المقتضي لذلك الحكم، فإن كان
يقتضيه مطلقا، وجب القضاء باستمرار الحكم، كعقد النكاح مثلا، فإنه يوجب
حل الوطء مطلقا، فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق كقوله:
" أنت خلية وبرية " فإن المستدل على أن الطلاق لا يقع بهما لو قال: " حل
الوطء ثابت قبل النطق بهذه، فيجب أن يكون ثابتا بعدها " لكان استدلالا
صحيحا، لان المقتضي للتحليل - وهو العقد - اقتضاه مطلقا، ولا يعلم أن
الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء، فيكون الحكم ثابتا عملا بالمقتضي " (1)
انتهى كلامه رفع مقامه.
وهو كما ترى صريح في اختياره حجية الاستصحاب في ما إذا كان
الشك في بقاء الحالة السابقة من جهة الشك في طرو المانع، دون ما إذا كان
الشك فيه من جهة الشك في ثبوت المقتضي في الآن اللاحق أيضا.
هذا، ثم إن صاحب المعالم - بعد ما نقل العبارة المذكورة - قال: " وهذا
الكلام جيد، لكنه عند التحقيق رجوع عما اختاره أولا ومصير إلى القول
الاخر - يعني نفي الحجية - كما يرشد إليه تمثيلهم لموضع النزاع بمسألة المتيمم

(1) معارج الأصول: 209.
143

وتفصح عنه حجة المرتضى (1)، فكأنه رحمه الله استشعر ما يرد على احتجاجه
بهذه (2) المناقشة، فاستدرك بهذا الكلام، واختار في المعتبر (3) قول
المرتضى رحمه الله وهو الأقرب " (4) انتهى.
والظاهر: أنه خصص موضع النزاع في الاستصحاب بما إذا كان
المقتضي للحكم في الآن السابق غير مقطوع الجريان في الآن اللاحق، ويدعي
أن الصورة التي ذكرها المحقق لا خلاف في ثبوت الحكم فيها في الآن
اللاحق، واستشهد على ذلك بأمرين: الأول: تمثيلهم لموضع النزاع بمسألة
المتيمم، الثاني: إفصاح حجة المرتضى عن ذلك.
ومحل الاستشهاد: قول السيد في أثناء الاحتجاج على ما صار إليه
- من عدم الحجية - قال: " وإذا كنا قد أثبتنا الحكم في الحالة الأولى بدليل،
فالواجب أن ننظر، فإن كان الدليل يتناول الحالين سوينا بينهما فيه، وليس
هاهنا استصحاب، وإن كان تناول الدليل للحال الأولى فقط والثانية عارية
من دليل، فلا يجوز إثبات مثل الحكم لما من غير دليل، وجرى هذه الحالة
مع الخلو عن الدليل مجرى الأولى لو خلت عن دلالة، فإذا لم يجز إثبات
الحكم للأولى إلا بدليل فكذلك الثانية " (5) انتهى كلام السيد قدس سره.
أقول: المخصص المذكور ومن وافقه - كصاحبي المدارك (6) والحدائق (7) -

(1) الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 830.
(2) في المصدر: من المناقشة.
(3) المعتبر 320.
(4) المعالم: 235.
(5) الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 830، مع اختلاف.
(6) لم نعثر عليه.
(7) انظر الحدائق 1: 143.
144

إنما يعملون بالاستصحاب في غير ما جعلوه محل النزاع، ويسمونه بالتمسك
بعموم النص وإطلاقه إلى أن يثبت المخصص والمقيد، وقد عرفت قبيل ذلك (1)
أن ذلك في الحقيقة تمسك بالاستصحاب لا بعموم النص.
مثلا: إذا قال: " الوضوء سبب للطهارة، والبول ناقض لها " فشككنا
بعد الطهارة في حدوث البول، فلا شك أن نسبة أحد العمومين إلينا كنسبة
الاخر، فالحكم بالدخول تحت الأول دون الثاني ترجيح بلا مرجح. إلا أن
يقال: إنا قبل ذلك كنا محكومين بالطهارة، والأصل بقاؤها، وليس هذا
إلا استصحابا.
وأما تخصيص النزاع بما ذكره فهو مخالف لظواهر كلمات كثير ممن تقدم
على المخصص رحمه الله (2) ومن تأخر عنه.
وأما تمثيلهم لموضع النزاع بمسألة المتيمم، فلا يدل على تخصيص محل
النزاع بمثل تلك المسائل، إذ لا يجب أن يمثلوا لكل صنف من أصناف محل
النزاع بمثال، فإن هذا غير معروف، مضافا إلى أنه يمكن تطبيق ما ذكره
المحقق - من مسألة العقد والطلاق - مع مسألة المتيمم، فتأمل (3).
وأما السيد رحمه الله فلم يزد في كلامه على " أن الدليل إن كان يتناول
الحالين سوينا بينهما، وليس هاهنا استصحاب " (4) ونحن أيضا معترفون بأن
محل النزاع مختص بما إذا لم يكن الدليل الدال على الحكم الأول مقطوع

(1) تقدم في الصفحة: 140 عن العلامة البهبهاني.
(2) في هامش الأصل - هنا - ما يلي: صاحب المعالم.
(3) في هامش الأصل - هنا - ما يلي: إشارة إلى ثبوت الفرق بين مثال التيمم ومثال عقد
النكاح: فإن الدليل على صحة التيمم يشك في دلالته في الآن الثاني.
(4) تقدم في الصفحة السابقة.
145

الشمول للآن الثاني، وإلا فلا استصحاب، فإن الدليل على " أن من أوقع عقد
النكاح ولم يوقع صيغة الطلاق فيحل له الوطء " الدال على حلية الوطء في
الزمن السابق لو شمل هذا الشخص في الآن اللاحق لم نحتج إلى الاستصحاب.
وكذا الدليل الدال على " أن من توضأ فهو متطهر إلى أن يحدث منه
أحد الروافع " الشامل للذي توضأ ولم يحدث رافعا لو شمله في الآن اللاحق
- بأن كان في الآن اللاحق أيضا داخلا في موضوع " من توضأ ولم يحدث
رافعا " - لم نحتج إلى الاستصحاب.
فإن قلت: إن الدليل الموجب للحكم ليس إلا " أن من توضأ فهو
طاهر " وكذا " أن صيغة النكاح موجبة لحلية الوطء " وهذا الدليل موجود في
حق الشخص في الآن اللاحق.
قلت: ليس كذلك، فإن كون الشخص متطهرا في الآن السابق لم يثبت
بمجرد قوله: " من توضأ فهو متطهر "، بل منه ومن عدم حدوث الروافع،
فالعلة في ثبوت طهارته أمران: التوضي وعدم حدوث رافع، لان من أجزاء
العلة التامة عدم المانع، فمحض قوله عليه السلام: " من توضأ فهو متطهر "
لا يثبت طهارة هذا الشخص إلا إذا لم يكن حدث منه رافع، ولهذا إذا
شككنا في حدوث البول مثلا نشك في الطهارة، مع عدم شك في قوله: " من
توضأ فهو متطهر " لأنا توضأنا قطعا ويشملنا هذا القول جزما، فما بالنا
لا نقطع بالطهارة؟
فإن قلت: إن كلام السيد في دليل الحكم الأول، لا في علته التامة.
قلت: قد عرفت أن كلما شك في حدوث مانع للحكم الأول أو مانعية
حادث، فيكون ذلك مانعا لشمول الدليل لهذه الحالة.
وحاصل ذلك: أنه كما أن الدليل الدال على ثبوت الحكم يفيد ثبوت
146

الحكم لكل فرد من أفراد موضوعه، فكذا الدليل الدال على مانعية الشئ
للحكم المذكور يفيد نفي الحكم عن كل فرد من أفراد موضوعه، فإذا شك في
موضوع أنه داخل في موضوع دليل ثبوت الحكم أو في موضوع دليل مانع
الحكم، فكيف يحكم بدخوله في الأول ويحكم عليه بحكمه؟ وكلما يشك في
حدوث المانع عن الحالة السابقة يكون من هذا القبيل، أي من قبيل تردد
موضوع بين دخوله في عاملين متنافيين، فتدبر.
والحاصل: أن ما ذكره المحقق قدس سره وحكم بإجراء الاستصحاب فيه
- أعني ما إذا دل الدليل على استمرار الحكم وثبت المقتضي له على الاطلاق،
ثم وجد شئ وشك في كونه رافعا للحكم المستمر بالذات ومزيلا له، كالمثال
الذي ذكره - داخل في محل النزاع وليس خارجا، كيف والمحقق السبزواري
أنكر حجية الاستصحاب في هذه الصورة؟ (1).
فإن قلت: إنه متأخر عن صاحب المعالم.
قلت: الظاهر أن الأخباريين أيضا منكرون لحجية هذه الصورة، وإن
وافقوا في ما إذا كان الشك في وجود المانع، حيث سموه استصحاب حكم
العموم إلى ثبوت المخصص، وقالوا: أنه متفق عليه، وإنه راجع إلى التمسك
بالعموم لا بالاستصحاب.
وقد عرفت أن إرجاعه إلى التمسك بالعموم فاسد، فإن ثبت الحكم
فيها فليس إلا من جهة الاستصحاب.
ومما يؤيد أن النزاع ليس مختصا بما ادعاه صاحب المعالم - بل يجري في
أمثال ما ذكره المحقق من المثال الراجع إلى الشك قي بقاء الحالة السابقة من

(1) ذخيرة المعاد: 115.
147

جهة الشك في مانعية الامر الموجود، بل وفي أدون منه، وهو الشك في بقاء
الحالة السابقة من جهة الشك في وجود المانع - أنه حكى الشيخ في العدة
- على ما حكي عنه (1) - أن بعض من نصر حجية استصحاب الحال - وكأنه
أراد به الشيخ المفيد رحمه الله - استدل عليه بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله، سلم
أنه قال: " إن الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين أليتيه، فلا ينصرف حتى يسمع
صوتا أو يجد ريحا " (2). وبأن الاتفاق واقع على أن من تيقن الطهارة ثم شك
في الحدث، فعليه أن يستصحب الحالة الأولى.
ثم حكى أن النافي للاستصحاب - وكأنه السيد رحمه الله - رد هذا
الاستدلال بأنه: إنما قلنا به في هذين الموضعين لقيام دليل، وهو قول النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وتسويته صلى الله عليه وآله وسلم بين الحالين، وكذلك الاتفاق على أن
حال الشك في الحدث مثل حال اليقين بالطهارة.
فننتظر أن يقوم في كل موضع دليل على أن الحالة الثانية مثل الحالة
الأولى حتى نصير إليه (3) انتهى.
وهذا الاستدلال كما رأيت ظاهر في دخول مثل اليقين بالطهارة
والشك في حدوث الرافع في محل النزاع، إذ لو كان خارجا عنه لا يكن
إثبات الحكم فيه مجديا لثبوت الحكم في محل النزاع. وهذا أظهر موضع يقول
صاحب المعالم ومن تابعه: بأنه ليس من الاستصحاب المختلف فيه.

(1) حكاه في مفاتيح الأصول: 639 و 648.
(2) رواد ابن أبي جمهور في عوالي اللآلي 1: 380 باختلاف في اللفظ، وقال رواه الشهيد
الأول في بعض مصنفاته، ومعناه في الوسائل 1: 175، الباب 1 من أبواب نواقض
الوضوء، الحديت 3 و 5: عن أبي عبد الله عليه السلام.
(3) عدة الأصول: 304.
148

وأصرح من استدلال المستدل جواب المجيب: بأنا إنما قلنا
بالاستصحاب في هذه الصورة لقيام الدليل على التسوية بين الحالين،
ولم يقل: إن هذا خارج عن محل النزاع، ونحن أيضا نقول بالاستصحاب فيه.
هذا، وقد كنت سابقا أظن أن مثل مورد استدلال هذا المستدل - مما
كان الشك فيه في طرو المانع - خارج عن محل النزاع، لما استظهرته من كلام
بعض كالعلامة البهبهاني - في رسالته المعمولة في الاستصحاب (1) - وكالفاضل
الاسترآبادي (2)، حيث ادعى أن الاستصحاب في مثل ذلك من الاجماعيات،
بل من الضروريات.
ثم لما اطلعت على هذا الكلام المحكي عن العدة، وأن الصورة المذكورة
وقعت موردا للاستدلال والرد بين الخصمين استظهرت دخوله.
وأما أمثال ما ذكره المحقق - مما شك فيه في مانعية الامر الموجود،
وأنكر صاحب المعالم دخوله في محل النزاع - فلم أزل مستظهرا لدخوله.
نعم، يمكن أن يستشهد لخروج الصورة الأولى - أعني الشك في طرو
المانع - عن محل النزاع، بأنه قد وردت الأخبار المستفيضة - كما ستقف
عليها - في حكم الاستصحاب، ومورد أكثرها - كما ستعرف - هي الصورة
المذكورة، ولا شك أن القدماء من أصحابنا الباحثين عن هذه المسألة. اطلعوا
عليها، بل هم شكر الله سعيهم أوقفونا عليها بتدوينها في كتبهم، فلو كان مورد هذه الأخبار
محلا لنزاع لم يعدلوا عنها إلى التمسك بالأدلة العقلية الظنية التي
لا تسمن ولا تغني من جوع.

(1) انظر الرسالة الاستصحابية (مخطوط): 3.
(2) الفوائد المدنية: 143.
149

فإن قلت: لا شك أن الحكم في تلك الأخبار عام - وإن كان موردها
خاصا - فلم لم يستدلوا بها في ما هو محل النزاع؟ - أعني غير الصورة
المذكورة التي هي موارد تلك الأخبار - فالاستبعاد مشترك، سواء أدخلت
مواردها في محل النزاع أو أخرجتها.
قلت: يمكن دفع الاستبعاد - على تقدير اخراج مواردها عن محل
النزاع - بأن نقول: لعلهم لم يفهموا عموما من هذه الأخبار بحيث تشمل غير
مواردها، بل فهموا منها اختصاصها بأمثال مواردها دون غيرها الذي هو
محل النزاع.
فإن قلت: لعل عدم تمسكهم بالاخبار إنما هو لاجل كونها من الأئمة،
ولما كان غالب خصومتهم وتشاجرهم مع العامة وكانت نسجهم في تأليفاتهم
على منوال العامة وكان تكلمهم معهم في كون الاستصحاب من الأدلة
العقلية أم لا، لم ينفع تمسكهم بأخبار أئمتهم، ولهذا تمسكوا ببعض ما ورد عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما عرفت سابقا.
والحاصل: أن عدم تمسكهم بالاخبار الآتية لم يكن لاجل فهمهم
اختصاصها بمواردها، حتى يكشف ذلك عن عدم كون مواردها الكائنة من
الصورة المذكورة - أعني صورة الشك في طرو المانع - داخلة في محل النزاع.
قلت: هذا الاحتمال فاسدة أما أولا: فلان من الأخبار الواردة في
الباب هو الخبر المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام (1) ولا شك أن التمسك به
ينفع في مقابلة العامة أيضا. واحتمال عدم اطلاعهم على خصوص هذا الخبر

(1) الوسائل 1: 175، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 6.
150

- مضافا إلى بعده غاية البعد - مدفوع بأن هذا في مروي في الخصال (1)
وصرح العلامة المجلسي قدس سره بأن أجزاء هذا الخبر متفرقة أوردها الكليني
في الكافي (2).
وأما ثانيا: فلان ما ذكرته: من أن كلامهم كان في حجية الاستصحاب
من باب العقل، مضاف لما عرفت من حكاية الشيخ في العدة: أن بعضهم
- وكأنه المفيد رحمه الله - استدل على الاستصحاب، بما روي عن النبي
صلى الله عليه وآله (3)، فتأمل.
وأما ثالثا: فلان ما ذكرته إنما يرفع استبعاد عدم تمسكهم بتلك
الاخبار، لكن نقول: إن المنكرين منهم للاستصحاب هل عملوا به في
الأحكام الفرعية أم لا؟ إن قلت: إنهم عملوا به فيها لاجل تلك الأخبار
وإن أنكروه في عنواناتهم في الأصول، فهذا خلاف الظاهر، بل المقطوع.
وإن قلت: لم يعملوا، فنقول: ما وجه عدم عملهم مع وجود تلك الأخبار
؟ غاية الامر عدم صلاحية التمسك بها في مقابلة العامة، وهل له
وجه؟ إلا أنهم لم يفهموا منها عموما بالنسبة إلى محل إنكارهم ونزاعهم،
وفهموا اختصاصها بالصورة المذكورة الخارجة عن محل نزاعهم.
وبعد ذلك كله، فلا بد أيضا من التأمل التام في فهم ما منع قدمائنا
رضوان الله عليهم عن التمسك بتلك الاخبار.
فإن قلنا: إنهم لم يطلعوا عليها، فشأنهم أجل من ذلك، بل هم أوقفونا

(1) الخصال: 619.
(2) بحار الأنوار 10: 117.
(3) تقدم في الصفحة: 148.
151

وإن قلنا: إن كلامهم في حجية الاستصحاب من جهة العقل، وإن كان
بناؤهم على حجيته من باب الاخبار - كما ادعاه بعض (1) -، فالواجب عمل
المنكرين له به في المسائل الفرعية، ولم يعملوا به.
وإن قلنا: إنهم فهموا منها اختصاصها بمواردها - وهي من قبيل الشك
في وجود المانع، ولا خلاف في حجية الاستصحاب فيه - فما وجه تمسك
بعضهم بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسألة اليقين بالطهارة والشك في
الحدث؟ (2).
مضافا إلى أن الظاهر عموم الاخبار، والمورد لا يخصص عموم الحكم.
مضافا إلى أن بعض الاخبار ابتدائية لم يرد في مورد خاص كالخبر المروي
في الخصال (3).
فلا بد من التعمق في هذا المجال، والله هو العالم بحقيقة الحال.

(1) لم نقف عليه.
(2) كنز العمال 1: 251، الحديث 1269.
(3) الخصال: 619.
152

[الثاني: الاستدلال بالاخبار]
[قوله] قدس سره: " الثاني: الأخبار المستفيضة الدالة على حجيته عموما ".
[أقول]: صحة الاستدلال بهذه الاخبار في المسألة بناء على حجية
الاخبار الآحاد - إما من جهة الظن المطلق مع فرض القول بكفايته في
المسائل الأصولية، وإما من جهة قيام الدليل الخاص على حجيتها مع عموم
ذلك الدليل بحيث يشمل الحجية في المسائل الأصولية - ظاهرة،
وبدونه مشكلة.
إلا أن يقال بعدم كون المسألة - مطلقا - من الأصول، بل هي مسألة
مشتركة بين الأصول والفروع، والغرض إثبات بعض جزئياتها بتلك
الاخبار.
ثم إما أن يكتفى بذلك، لأنه المقصود الأصلي من عقد البحث. وإما أن
يتم المطلب في غيرها بالاجماع المركب. أو يدعى تواتر تلك الأخبار معنى
153

- كما ادعاه بعض المعاصرين (1) - أو لفظا بادعاء حصول القطع - بعد ملاحظة
المجموع - بصدور بعضها عن المعصوم إجمالا، كما ادعاه الاستاد (2) مد ظله.
لكن الانصاف، أن دعوى التواتر المعنوي، بحيث يدعى حصول القطع
من هذه الأخبار بهذا المطلب - أي حجية الاستصحاب عموما وفي جميع
موارده - في غاية البعد. نعم، لا بعد في دعوى التواتر اللفظي الاجمالي.
ثم، إن التواتر مطلقا إنما يجدي في المقام بعد ثبوت دلالة كل منها على
المطلب - أعني الحجية عموما - وإلا فالمتواتر هو القدر المشترك المتفق عليه
بين الكل.
[قوله] قدس سره: " واليقين والشك (3) محمولان على العموم ".
[أقول]: يمكن أن يستدل على عموم اليقين والشك بطرق ثلاثة:
أحدها: ما اختاره المصنف قدس سره، من أن الحكم إذا تعلق بطبيعة
اقتضى وجود الحكم كلما وجدت الطبيعة (4).
الثاني: ما اختاره آخرون (5): من أن الحكم لما لم ينجز تعلقه بالطبيعة مع
قطع النظر عن الوجودات، فإما أن يكون مراد المتكلم تعليقه عليها باعتبار
جميعها، وهو المطلوب، أو بعض معين عند الله غير معين عند المخاطب، فيلزم
الاغراء بالجهل، أو الاجمال في كلام الحكيم المنافي للبيان المقصود غالبا،
أو بعض معين عند المخاطب أيضا، والمفروض عدم التعيين.

(1) ادعاه النراقي في المناهج ذيل القول. التاسع، وقال: والحق عندي الحجية مطلقا،
للأخبار المتواترة معنى.
(2) لعله شريف العلماء قدس سره في حلقة درسه.
(3) في القوانين زيادة: في الحديث.
(4) راجع القوانين 1: 217.
(5) منهم صاحب المعالم قدس سره في المعالم: 110.
154

وهذا لا يتوقف على جعل المفرد المحلى حقيقة خاصة في تعريف
الجنس.
الثالث: أن اليقين والشك مفردان معرفان وقعا في حيز النفي،
فلو لم نقل باستفادة العموم من المفرد المحلى بلام الجنس في الاثبات بأحد
الطريقين المذكورين، فلا مجال للتأمل في استفادته منه إذا وقع في حيز النفي.
ثم، إن الحاجبي عد اسم الجنس المحلى باللام من ألفاظ العموم التي
اتفق على عمومها - بعد ثبوت أن للعام ألفاظا حقيقة - ولم ينقل خلافا في
ذلك وتبعه العضدي في شرحه (1)، متمسكين بأن العلماء لم يزالوا يحتجون
بقوله: (السارق والسارقة...) (2).
وقال نجم الأئمة - على ما حكاه غير واحد (3) - في أوائل المعرفة
والنكرة: " فكل اسم دخله اللام ولا يكون فيه علامة [هي] كونه بعضا من
كل... فينظر في ذلك الاسم، فإن لم يكن معه قرينة [لا] حالية ولا مقالية
دالة على أنه بعض مجهول من كل - كقرينة الشراء في قوله: " اشتر اللحم "
الدالة على أن المشتري بعض من اللحم - ولا دالة على أنه بعض معين
- كما في فوله تعالى: (أو أجد على النار هدى) (4) - فهي اللام التي جئ بها
للتعريف اللفظي، والاسم المحلى بها لاستغراق الجنس ".
ثم شرع في الاستدلال على وجوب حمله على الاستغراق، ثم قال:
" فعلى هذا قوله: " الماء طاهر " أي كل ماء، و " النوم حدث " أي كل نوم،

(1) شرح مختصر الأصول 1: 216.
(2) المائدة: 38.
(3) منهم الفاضل التوني في الوافية: 204 والسيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 645.
(4) طه: 10.
155

إذ ليس في الكلام قرينة البعضية - لا مطلقة ولا معينة - " (1) إنتهى.
وقال التفتازاني في المطول (2) - على ما حكي (3) - في بحث تعريف المسند
إليه: " اللفظ إذا دل على الحقيقة باعتبار وجودها في الخارج، فإما أن يكون
لجميع الافراد أو لبعضها، إذ لا واسطة بينهما في الخارج. فإذا لم يكن للبعضية،
لعدم دليلها، وجب أن يكون للجميع.
وإلى هذا ينظر صاحب الكشاف، حيث يطلق لام الجنس على
ما يفيد الاستغراق، كما ذكر في قوله تعالى: (إن الانسان لفي خسر) (4) أنه
للجنس (5). وقال في قوله تعالى: (إن الله يحب المحسنين) (6): " إن اللام
للجنس، فيتناول كل محسن " (7) انتهى.
وهذه الكلمات من هؤلاء الاعلام صريحة في أنه يجب حمل اسم
الجنس المحلى على الاستغراق، إلا أن يدل دليل على إرادة البعض.
لكن الكلام في أن كلام غير الحاجبي ممن ذكر، هل هو راجع إلى حمل
المفرد المحلى على العموم من باب تعلق الحكم بالطبيعة الغير المقيدة؟ - وهو
الطريق الأول من الطرق الثلاثة التي ذكرناها - أو من باب لزوم خروج
كلام المتكلم عن الفائدة المعتنى بها، مع فرض عدم القرينة على البعضية
المطلقة أو المعينة، فيرجع إلى الطريق الثاني من الطرق المذكورة.

(1) شرح الكافية: 2، 129، مع اختلاف، والزيادات من المصدر.
(2) المطول: 65.
(3) حكاه في مفاتيح الأصول: 645.
(4) العصر: 2.
(5) الكشاف 2: 485.
(6) البقرة: 195، والمائدة: 13.
(7) الكشاف 1: 140.
156

وأما رجوعه إلى دلالته على الاستغراق وضعا، فهو خلاف ظاهر
كلماتهم المحكية سابقا، وإن لم أجد منهم غير ما حكينا، ولم يحضرني الآن
كلامهم.
فإن كان راجعا إلى الطريق الأول فهو، وكذا لو كان راجعا إلى
الدلالة الوضعية.
وأما إن كان راجعا إلى الطريق الثاني - الذي سلكه صاحب المعالم في
حمل المفرد المحلى على العموم (1) وتبعه المحقق جمال الدين الخوانساري على
ما حكي (2) - فيشكل أن يكون مجديا في هذا المقام، لان من مقدمات هذا
الطريق لزوم اللغوية أو الاجمال في كلام الحكيم لو حمل على البعض الغير
المعين، ويشكل جريانه هنا، نظرا إلى أنه لو حمل " اليقين " على البعض الغير
المعين فلا شك في دخول مورد السؤال ومحل حاجة السائل فيه، وهذا القدر
كاف في اخراجه عن اللغوية والاجمال، إذ لو سلمنا وجوب كون كلام
الشارع مبينا غير مجمل، فلا نسلم وجوب كونه مبينا من جميع الجهات، بل
لا يقدح فيه الاجمال، سيما إذا لم يكن في مورد حاجة السائل، فإذا لم يكن
محذور في إرادة البعض في الواقع، كان هو والاستغراق سواء في احتمال
الإرادة، فكما أن حمله عليه يتوقف على قرينة، فكذا حمله على الاستغراق.
نعم، هذا الطريق إنما ينفع في مثل " الماء طاهر " وشبهه مما إذا حمل
اللفظ على بعض غير معين يلزم اللغوية والاجمال رأسا، فتأمل.
وكيف كان. فمع وجود الطريقة الأولى والثالثة، فلا نحتاج إلى الكلام في

(1) المعالم: 110.
(2) لم نعثر عليه.
157

جريان الطريقة الثانية في هذا المقام.
[قوله] قدس سره: " ولا يرد عليه حينئذ أنه يصير من باب رفع الايجاب
الكلي، لوقوعه في حيز النفي، لأنه بعيد عن اللفظ، وينفيه التأكيد بقوله:
" أبدا " فيصير من باب (لا يحب كل مختال فخور) (1).
[أقول]: هذا الايراد محكي (2) عن العلامة المجلسي، حيث إنه قدس سره
منع أولا: إفادة لفظي " اليقين " و " الشك " للعموم، مستندا إلى أن اللام حقيقة
في الجنس والعهد الخارجي، مجاز في الاستغراق والعهد الذهني.
وثانيا: بأن هذا رفع للإيجاب الكلي، ويتحقق في ضمن الايجاب
الجزئي.
وبعبارة أخرى: التمسك بالعموم مخل بمقصودكم، لان المعرفة في سياق
النفي لا يفيد العموم، بل لابد لكم من إثبات النكارة حتى يفيد ذلك، اللهم
إلا أن يقال: إن التأكيد بقوله: " أبدا " ينفي ذلك (3)، انتهى.
أقول: لا شك في أن النكرة إنما تفيد العموم في سياق النفي، لان نفي
الفرد المنتشر لا يتحقق إلا بنفي جميع الافراد، ولا شك أن وقوع اسم الجنس
المحلى باللام الدال على الطبيعة بعد النفي يفيد نفي الحكم عن الطبيعة،
ولا يتحقق إلا بعد نفيه عن جميع الافراد، فهو يفيد نفي الحكم عن الافراد
بنحو أبلغ.
وأما كونه حينئذ لرفع الايجاب الكلي فمما لا يحتمله أحد، نظرا إلى أن
إفادة رفع الايجاب الكلي إنما يكون في ما إذا ثبت العموم بنفس اللفظ مع

(1) لقمان: 18.
(2) حكاه في شرح الوافية (مخطوط): 126.
(3) ملاذ الاخبار 1: 62.
158

قطع النظر عن تعلق الحكم، كما. في لفظ " كل " والجمع المحلى، والمضاف،
والفرد المحلى إذا استعمل في الاستغراق مجازا. وأما إذا ثبت العموم بملاحظة:
أن الحكم الايجابي أو السلي إذا تعلق بالطبيعة، فيفيد ثبوت الحكم أو نفيه
للطبيعة وعنها - ولا يكون ذلك إلا بثبوته لجميع الافراد أو نفيه عنها -
فلا يحتمل هذا الاحتمال.
ولعل المورد لما زعم أن التمسك بالعموم من جهة ادعاء استعمال نفس
المفرد المحلى باللام في الاستغراق يجعل اللام للاستغراق - ولهذا منع أولا كون
اللام حقيقة في الاستغراق - أورد بأنه: لو سلمنا كون اللام للاستغراق،
فيصير النفي الوارد عليه دالا على رفع الايجاب الكلي، كما في قولك: " لم آخذ
كل الدراهم " وقوله: " ما كل عدد زوجا " و " ما كل ما يتمنى المرء
يدركه " (1) كما صرح به بعض أهل المعاني.
وقد عرفت أن حملنا لفظي " اليقين " و " الشك " على العموم ليس
لادعاء كون اللام فيهما للاستغراق - لا حقيقة ولا مجازا - حتى يرد علينا
منعه الأول، بل لأنهما مستعملان في نفس الطبيعة، لكن الحكم الايجابي أو
السلبي إذا تعلق بطبيعة فيلزمه وجود الحكم في جميع محال وجود تلك
الطبيعة، ولا عموم وكلية مع قطع النظر عن الحكم، حتى يحتمل توجه الحكم
السلبي إلى نفس العموم والكلية فيفيد سلب العموم ونفي الشمول - كما في
الأمثلة المذكورة - فنحتاج إلى جعل المقام من قبيل: (لا يحب كل مختال
فخور) (2) - كما فعله المصنف - أو القول: بأن جعله من باب رفع الايجاب

(1) هو لأحمد بن الحسين، أبي الطيب المتنبي، على ما في جامع الشواهد 3: 16.
(2) لقمان: 18.
159

الكلي. موجب للاجمال بل اللغوية - كما فعله السيد صدر الدين (1) -
فيرد عليه ما أوردنا على استفادة العموم بالطريق الثاني من الطرق الثلاثة:
من أن اللغوية تدفع بدخول مورد سؤال السائل ومحل حاجته في المجمل،
ولا دليل على وجوب البيان أزيد من ذلك، مع احتمال وجود المجمل
واختفائه.
[قوله] قدس سوه: " مع أن قوله عليه السلام: " ولا ينقض اليقين أبدا بالشك "
في قوة الكبرى الكلية لاثبات المطلوب ".
[أقول]: كونه في قوة الكبرى لا يحتاج إلى أزيد من عمومه على وجه
يشمل الصغرى، وهذا القدر يحصل بجعل " اليقين " فيه عاما لكل يقين
بالوضوء السابق، لا لكل يقين متعلق بأي شئ كان.
اللهم إلا أن يقال: إنه إذا كان في قوة الكبرى، فيستفاد منه بفهم
العرف العموم بالنسبة إلى كل يقين.
[قوله] قدس سره: " وجعل الكبرى منزلة على إرادة يقين الوضوء بعيدة
لاشعار قوله: " فإنه على يقين من وضوئه " بذلك، فيكون الكبرى حينئذ
بمنزلة التكرار ".
[أقول]: لا يخفى أن التصريح بالكبرى مع إشعار الصغرى بها - لكونها
في مقام التعليل - لا يكون تكرارا، بل تصريح بما كان اللفظ السابق مشعرا به.
بل نقول: إن في التصريح فائدة مهمة، وهي: أنه لو لم يصرح بالكبرى
لكان الصغرى الواردة في مقام التعليل من باب منصوص العلة - الذي اختلف

(1) راجع شرح الوافية: 126.
160

في حجيته بالنسبة إلى غير مورد التعليل - وقال بعض المحققين (1) بعدم جواز
التعدي فيه عن الموردة نظرا إلى أنها لا تدل على كبرى كلية دالة على شمول
الحكم لغير المورد من محال وجود العلة.
فالأولى: التمسك بفهم العرف العموم على فرض كونها كبرى،
كما ذكرنا (2).
[قوله] قدس سره: " إلا أن يرتكب فيه نوع استخدام، وهو خلاف
الظاهر ".
[أقول]: لان الامر المذكور المعهود سابقا بالنسبة إلى مدخول لام
العهد كمرجع الضمير بالنسبة إليه، فيمكن أن يراد بنفس الامر المذكور شئ،
وبمدخول لام العهد ما يلابسه وما له ارتباط به، فاليقين السابق وإن كان
شخصا، إلا أن المراد باليقين نوع هذا الشخص، هذا في قوله: " ولا ينقض
اليقين ".
وأما في قوله: " ولكن ينقضه " فإن كان راجعا إلى اليقين المعرف
فلا استخدام، وإن كان راجعا إلى اليقين المنكر الشخصي فهو استخدام
[قوله] قدس سره: " وكذلك لفظ الشك، لأنه تابع لليقين ".
[أقول]: هذا إنما ينفع لدفع احتمال اختصاص الشك بالوضوء فقط،
وهو حق، إذ لا معنى لان يقول المعصوم عليه السلام: كل يقين لا ينقضه شك.
مع أنه لو كان كذلك لزم - كما قيل - أن يقول: ولكن ينقضه بيقين

(1) لم نقف عليه.
(2) في التعليقة السابقة.
161

أو شك آخر، فليتأمل.
وأما احتمال اختصاص الشك بالشك في خصوص طرو الرافع لليقين
السابق، فلا يدفعه كون الشك تابعا لليقين، إذ لا يخصص الشك ببعض موارد
اليقين، بل نقول: مراد المولى: أن كل يقين في أي مورد كان - وضوء
أو غيره - فلا ينقضه الشك في طرو الرافع له.
والحاصل: أنه يمكن أن يقال: إن معنى قوله: " وإلا فإنه على
يقين... الخ " أنه إن لم يستيقن أنه قد نام - يعني شك في حدوث النوم له -
فلا يجب عليه الوضوء، لأنه كان على يقين من وضوئه فشك في وجود الرافع
له، ولا ينقض اليقين - بأي شئ تعلق - بالشك في وجود الرافع له.
فإذا ادعى أصحاب القول باختصاص حجية الاستصحاب بصورة
الشك في وجود الرافع هذا الاحتمال، فلا يمكن نفيه بأن الشك تابع لليقين،
فيحتاج إلى إثبات عموم الشك بالنسبة إلى جميع أفراده، حتى يكون المراد
أن كل يقين سابق لا ينقض بالشك في انتفائه - أي انتفاء أثره - وأما ثبوت
عمومه بالنسبة إلى موارد اليقين - بعد عموم اليقين - فهو أمر بديهي، فتأمل.
[قوله] قدس سره: " ولما كان من البديهيات الأولية عدم اجتماع اليقين
والشك في شئ واحد، بل ولا الظن ولا الشك ".
[أقول]: لما كان ظاهر الخبر هو النهي عن نقض اليقين بالشك،
والنقض لا يتصور إلا عند التعارض - والمعلوم امتناع تعارض الشك
واليقين، لان عدم كل منهما مأخوذ في الاخر وبمجرد عروض الشك يرتفع
اليقين، فلا يتصور قدرة المكلف على النقض أو عدمه، فلا يصلح أن يكون
متعلقا للتكليف - احتاجوا إلى صرفه عن ظاهره.
فقال الشهيد في الذكرى: قولنا: " اليقين لا يرفعه الشك " لا نعني به
162

اجتماع اليقين والشك في زمان واحد، لامتناع ذلك، ضرورة أن الشك في
أحد النقيضين يرفع يقين الاخر، بل المعني به " أن اليقين الذي في الزمان
الأول لا يخرج عن حكمه بالشك في الزمان الثاني "، لأصالة بقاء ما كان،
فيؤول إلى اجتماع الظن والشك في زمان واحد، فيرجح الظن عليه، كما هو
مطرد في العبادات (1) انتهى.
وأورد عليه شيخنا البهائي في الحبل المتين: بأن قوله: " فيؤول إلى
اجتماع الظن والشك في الزمان الواحد " محل كلام، إذ عند ملاحظة ذلك
الاستصحاب ينقلب أحد طرفي الشك ظنا والاخر وهما، فلا يجمع الشك
والظن في مكان واحد " وكيف يجتمعان؟ والشك في أحد النقيضين يرفع ظن
الاخر، كما يرفع تيقنه، (2) انتهى.
فقول المصنف: " بل ولا الظن والشك " تعريض على الشهيد في
الذكرى، وموافقة لما ذكره شيخنا البهائي.
أقول: يمكن أن يكون مراد الشهيد من " الشك " محض الاحتمال
الموهوم، فتأمل.
وكيف كان: فالمراد بعدم نقض اليقين السابق لابد أن يكون عدم نقض
آثاره المترتبة عليه، ومعنى عدم نقضها من المكلف هو ترتيبها في زمان
الشك وعدم رفع اليد عنها في مرحلة الظاهر، وإلا ففي نفس الامر إما أن
تكون باقية أو مرتفعة.
أو يكون المراد من " اليقين " نفس المتيقن السابق، فمعنى عدم نقضه هو

(1) الذكرى: 89.
(2) الحبل المتين: 37.
163

إبقاؤه والحكم ببقائه في مرحلة الظاهر، مجعل عروض الشك كعدم عروضه.
لكن يحتاج هذا إلى صرف " الوضوء " عن ظاهره، بأن يجعل المراد منه هو
الحالة الحاصلة بعد الفراغ - وهي الطهارة - إذ لا معنى لابقاء نفس الوضوء،
فالأول أولى، والله هو العالم بحقائق الأمور.
بقي هاهنا شئ، وهو أن مورد الحكم المذكور في الرواية - أعني عدم
جواز نقض اليقين بالشك - هو صورة الشك في حدوث النوم،
لا الشك في رافعية الخفقة والخفقتين للطهارة وكونهما من موجبات الوضوء.
وبعبارة أخرى: مورد الرواية الشك في حدوث الرافع، لا في رافعية
الحادث، خلافا لبعض مشايخنا المعاصرين (1) حيث جعل مورد الرواية هو
الشك في رافعية الحادث، ورد بذلك المحقق السبزواري القائل بعدم حجية
الاستصحاب في هذه الصورة، لوجوه منها: عدم عموم في الحديث بحيث
يشمل هذه الصورة، بل المتيقن منها الصورة الأولى - يعني صورة الشك في
حدوث المانع -.
وما فهمه المحقق من مورد الرواية هو الحق، كما ذكرنا، والدليل عليه
أمران:
الأول: تصريح قوله عليه السلام: " حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجئ
من ذلك أمر بين، وإلا فإنه على يقين... الخ " بذلك، فإن السائل بعد ما بين له
المعصوم عليه السلام أن النوم الموجب للوضوء هو الغالب على الاذن والقلب
دون الغالب على العين فقط " سأل عن أن مجرد تحريك شئ إلى جنبه مع

(1) وهو الفاضل النراقي قدس سره في مناهجه ذيل (السادس من الوجوه المستدل بها
لحجية الاستصحاب ".
164

عدم شعوره هل يكون أمارة للنوم المذكور، يعتنى بها في وجوب الوضوء؟
فقال عليه السلام: " لا حتى يستيقن أنه قد نام " يعني حدوث النوم. " حتى "
يجئ من ذلك أمر بين " أي يحصل له دليل علمي على حدوث النوم. " وإلا "
أي وإن لم يستيقن حدوث النوم - بأن شك فيه - فلا يلتفت إلى شكه، " لأنه
كان على يقين... الخ "، فحذف جواب الشرط وأقيم علته مقامه، كما في قوله:
و (إن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) (1)، وقوله تعالى: (وإن يكذبوك
فقد كذبت...) (2)، وقوله تعالى: (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) (3).
وأمثال ذلك.
والحاصل: أن الرواية أظنها صريحة في ما قلنا.
الثاني: أنه لو كان الحكم الاستصحابي المذكور حكما في مسألة كون
" الخفقة والخفقتين " أو " تحريك الشئ إلى الجنب مع عدم الشعور " من
موجبات الوضوء، لم يصلح لان يجيب به المعصوم عليه السلام السائل عنها، بل
كان ينبغي أن يجيبه بالحكم الواقعي للخفقة والخفقتين، نظرا إلى أن إجراء
الاستصحاب في صورة الشبهة في الحكم الشرعي إنما هو للجاهل الغير القادر
على استعلام الحكم الواقعي للمسألة ولو بعد الفحص - بحيث يحس عن نفسه
العجز - فكيف يصح للمعصوم عليه السلام أن يجعله حكما لمن يستعلم الحكم
الواقعي منه؟
والحاصل: أنا نقول: إذا سئل المعصوم مثلا عن أن المذي ينقض
الوضوء أم لا؟ فلا ينبغي للمعصوم عليه السلام أن يجيبه بإجراء الاستصحاب في

(1) طه: 7.
(2) الحج: 42، فاطر: 4.
(3) يوسف: 77.
165

المسألة - الذي هو حكم المكلف في الظاهر بعد العجز عن الواقع - وهذا ظاهر
لا شبهة فيه، فتدبر.
ثم إن أبيت إلا عن أن الحكم المذكور متعلق بمسألة الخفقة والخفقتين،
فنقول حينئذ: ليس شك الراوي في كون " الخفقة والخفقتين " بنفسهما من
موجبات الوضوء حتى يرجع إلى صورة الشك في رافعية الحادث، بل شكه
في أنهما - باعتبار إيجابهما للشك في تحقق النوم الحقيقي العرفي الغالب على
الحاستين - هل يوجبان الوضوء أم لا؟ كما أن شكه في كون " تحريك شئ
إلى الجنب مع عدم الشعور به " موجبا للوضوء إنما هو من جهة إيجابه الشك
بل الظن بالنوم، لا من جهة الشك في حكمه من حيث نفسه.
ويؤيده ما روي عن البجلي قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام:
عن الخفقة والخفقتين، فقال عليه السلام: ما أدري ما الخفقة والخفقتان، إن الله
عز وجل يقول: (بل الانسان على نفسه بصيرة) (1) إن عليا عليه السلام كان يقول:
من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا فقد وجب عليه الوضوء " (2).
فإن ظاهر هذا الجواب - حيث وكل المعصوم تحقق النوم وعدمه
بالخفقة والخفقتين إلى نفسه - يعطي أن السؤال (3) لم يكن عن كونهما بأنفسهما
عند الشارع من موجبات الوضوء، لدخولهما في النوم الناقض، أو لكون
حكمهما حكم النوم في النقض وإن لم يكونا منه عرفا.
[قوله] قدس سره: " ثم إنك إذا تأملت في فقه الحديث تعلم أن نظر الإمام عليه السلام
إلى نفي تحقق النوم في الخارج ليس أقل من نظره إلى إثبات

(1) القيامة: 14.
(2) الوسائل 1: 181، الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 9.
(3) في الأصل: " يعطي عن أن السؤال " والظاهر زيادة لفظة " عن " هنا.
166

الطهارة... الخ ".
[أقول]: ها هنا مقامان من الكلام:
الأول: أن الخبر المذكور - كما أنه يظهر منه حكم المعصوم باستصحاب
الطهارة - هل يظهر منه حكمه عليه السلام باستصحاب عدم النوم؟ حتى يكون
الاستصحاب في الامر الخارجي كالاستصحاب في الحكم الشرعي من موارد
هذه الرواية، فلا يمكن القول بخروج الاستصحاب في الأمور الخارجية عن
عموم " اليقين "، - نظرا إلى أن بيان الأمور الخارجية ليس من شأن المعصوم
وإن كانت منشأ للأحكام الشرعية - أم لا؟
الثاني: أنه - بعد ما لم يثبت من أصل الرواية التفات المعصوم إلى
استصحاب عدم النوم - هل يصلح دخول الأمور الخارجية في عموم
الحديث؟ أو لا يصلح؟ نظرا إلى ما ذكرنا من عدم كون بيان ذلك من شأن
المعصوم " (1).
وكلام المصنف هنا في المقام الأول.
والانصاف: أنه لا يفهم من متن الرواية إلتفاته عليه السلام إلى استصحاب
عدم النوم، بل لا يفهم منه سوى استصحاب الطهارة.
مضافا إلى أنه لو ثبت ذلك فلا يثبت مقصود المصنف من دلالته على
الاستصحاب في الأمور الخارجية - التي هي محل مخالفة الخصم القائل بعدم
حجية الاستصحاب فيها - لان محل الخلاف ظاهرا إنما هو في استصحاباتها
الوجودية - كبقاء الرطوبة واليبوسة والكثرة والقلة ونحوها - لا في العدمية،
كعدم النوم وعدم البول ونحوهما.

(1) في الأصل زيادة: " أم لا " هنا، والظاهر عدم لزومها.
167

إلا أن يدعى: أن هذه أيضا من محل الخلاف، نظرا إلى أن الدليل الذي
استدل به المخالف - من أن شأن المعصوم ليس بيان الأمور الخارجية - يشمل
الوجوديات والعدميات، فتأمل.
[قوله] قدس سره: " وأما ما ذكره المحقق الخوانساري (1): من أن الرواية
لا تدل إلا على ما ثبت استمراره إلى غاية من جهة الشارع، تمسكا بأن عدم
نقض اليقين بالشك هو عدم النقض عند التعارض، ومعنى التعارض هو أن
يكون شئ موجبا لليقين لولا الشك ".
[أقول]: تبعه على هذا التفسير للخبر بعض المعاصرين (2) إلا أنه فرع
عليه عدم دلالتها على حجية الاستصحاب في ما إذا ثبت استمرار حكم في
الجملة، وقال بدلالته على الحجية في ما إذا ثبت الاستمرار وشك في البقاء
من جهة المزيل، سواء كان من جهة الشك في حدوث المزيل، أو في صدق
المزيل، أو في مزيلية الشئ لتردده بين المزيل وغيره - كالرطوبة المشتبهة
الموجودة في الثوب - أو للشبهة في كونه شرعا مزيلا للحكم (3) المستمر،
كالمذي.
وأما المحقق: فلا يرى دلالة الخبر - على هذا التفسير الذي ذكره له -
إلا على حجية الاستصحاب في القسمين الأولين، أعني الشك في حدوث
المزيل، أو في صدق المزيل على شئ.

(1) مشارق الشموس: 76.
(2) وهو النراقي قدس سره في مناهج الاحكام والأصول، ذيل مختاره " بعد القول التاسع "
وهو الحجية مطلقا.
(3) الموجود في الأصل " الحكم "، ولكن الصحيح ما أثبتناه.
168

قال هذا الفاضل المعاصر (1) في تفسير الخبر - تبعا للمحقق
الخوانساري - ما هذا لفظه: " فمقتضى نقض اليقين بالشك ترك حكم اليقين
ومقتضاه، أو ترك الامر المتيقن؟ استنادا إلى الشك، أي تمسكا باحتمال عدمه.
ولا يخفى أن نقض اليقين بالشك بهذا المعنى يستلزم: أنه لو لم يطرء
الامر الموجب للشك - أي احتمال زوال الامر المتيقن - ولا أمر حادث آخر
أيضا مضاد لليقين السابق - وإلا لارتفع اليقين السابق قطعا - لكان اليقين
السابق باقيا من دون احتياج إلى دليل آخر، أي بمجرد الدليل الدال على
الوجود السابق، وإلا لم يكن نقضا بالشك، إذ لولاه أيضا لكان اليقين منتفيا
أيضا.
وهذا اللازم هو بعينه مراد من قال: إن المراد من عدم نقض اليقين
بالشك عدمه عند التعارض - أي تعارض الشك مع اليقين - أي كان المورد
بحيث لو لم يطرء احتمال الزوال الموجب للشك لكان اليقين السابق باقيا من
غير احتياج إلى علة أخرى.
وعلى هذا، فلا يدل على حجية الاستصحاب في ما علم استمراره في
وقت ولم يعلم بعده، إذ عدم طريان احتمال زوال الحكم فيه من غير تجدد
دليل آخر ممتنع، وكلما فرض عدم طريان احتمال الزوال فيه، فلا محالة
يكون من جهة علة أخرى " (2) انتهى كلامه.
ويظهر من المحقق السبزواري أيضا اختيار ما اختاره هذا الفاضل
المعاصر - من عدم دلالة الخبر على حجية الاستصحاب في ما إذا ثبت

(1) أي الفاضل النراقي قدس سره.
(2) مناهج الاحكام والأصول، ذيل قوله: " والحق عندي الحجية مطلقا " مع اختلاف.
169

الاستمرار في الجملة - حيث قال في جملة كلام له في الذخيرة - على ما حكي
عنه -: " إن الخبر بظاهره مختص بحكم يكون له استمراره لان الظاهر من
النقض ذلك " (1) انتهى.
والحاصل: أن هؤلاء الاخلاء الثلاثة ينفون دلالة الخبر على ما إذا
ثبت الحكم في الجملة - من غير استمرار إلى غاية معينة - وإن افترقوا في
دلالته على جميع ما سواه من أقسام الشك أو على بعضه.
وكيف كان، فلا بد من ملاحظة أن ما ذكره المحقق الخوانساري في
تفسير الخبر وتبعه عليه بعض - من أن المراد بالنقض كذا وكذا - ينطبق على
استصحاب القوم أيضا، أو لا؟
وعلى فرض عدم الانطباق فهل ينطبق على استصحابه أو لا ينطبق
عليه أيضا، فإن جماعة ممن تأخر عنه - كالسيد صدر الدين في شرح
الوافية (2)، والعلامة البهبهاني في رسالته المعمولة في الاستصحاب (3)، ومنهم
المصنف - أجابوا عنه بأن ما ذكر في تفسير الخبر جار في استصحاب القوم
ومنطبق عليه أيضا. وهو الذي ذكره المصنف في ما بعد بقوله: " وأورد عليه ".
أقول: ويمكن الجواب عنه، بأن ما ذكر - من أن المراد بالتعارض هو أن
يكون شئ يوجب اليقين لولا الشك - لا ينطبق على استصحابه أيضا، وإن
أراد معنى آخر، فهو مشترك بين استصحابه واستصحاب القوم.
ولنقدم لذلك مقدمة، وهي: أنه يتصور في استصحاب المحقق يقينان:
الأول: اليقين بالحكم الكلي، وهو أن الطهارة مثلا مستمرة إلى أن

(1) ذخيرة المعاد: 116.
(2) شرح الوافية (مخطوط): 119.
(3) الرسالة الاستصحابية (مخطوط): 9.
170

يحدث الرافع، وهذا اليقين إنما يحصل بمجرد قول الشارع وحكه بأن الوضوء
إذا حصل فالطهارة مستمرة إلى زمان حدوث البول، أو كذا، أو كذا، فالدليل
الشرعي علة تامة لحصول هذا اليقين، ولا يحتاج معه إلى وجود شئ آخر،
أو ارتفاع شئ آخر.
الثاني: اليقين بالحكم الجزئي وهو كون نفسه متطهرا، وهذا اليقين لا
يحصل بمجرد قول الشارع، بل لابد - مضافا إلى قول الشارع - من اليقين
بتحقق موضوع حكم الشارع، فإذا حكم الشارع بأن الوضوء إذا حصل،
فالشخص المتوضئ متطهر إلى أن يحدث منه أحد الروافع، فبمجرد هذا
لا يقطع الشخص بتطهره، بل لا بد من أن. بقطع بأنه متوضئ ولم يحدث منه
أحد الروافع.
فاليقين بالحكم الجزئي لا يتحقق إلا بعد تحقق اجتماع يقينين: اليقين
بالحكم الكلي، واليقين بتحقق موضوعه.
فاليقين بالحكم الكلي يقين بالكبرى، واليقين بتحقق موضوعه يقين
بالصغرى، والمركب منهما ينتج اليقين بالحكم الجزئي، فكل من اليقينين جزء
المقتضي له.
ومما ذكرنا ظهر: أن بين اليقين بالحكم واليقين بالحكم الجزئي عموم
مطلق بحسب التحقق، فكلما تحقق اليقين بالحكم الجزئي تحقق اليقين بالحكم
الكلي، وربما يتحقق اليقين بالحكم الكلي ولا يتحقق اليقين بالحكم الجزئي، بل
يتحقق الشك، كما إذا لم يتحقق الجزء الاخر من مقتضيه، وهو اليقين بتحقق
الموضوع، كما إذا شك في أنه حدث منه الرافع أم لا.
بل قد يتحقق اليقين بالكلي مع تحقق اليقين بعدم الحكم الجزئي، كما إذا
قطع بعدم تحقق الموضوع بان قطع بحدوث البول، فإنه قاطع بالحكم الكلي
171

- يعني أن الشخص إذا توضأ فطهارته مستمرة إلى حصول الرافع - لكن لما
علم بعدم حصول الموضوع - أعني عدم حصول الرافع - يقطع بعدم الحكم
الجزئي، فاليقين بعدم الحكم الجزئي لا ينافي اليقين بالحكم الكلي. بل يؤكده.
فإن الشارع إذا حكم بأن المكلف بعد التوضي متطهر إلى حال
حدوث الحدث، فهذا الكم هو المقتضي - بمفهومه - لليقين بعدم ثبوت الطهارة
لمن حدث منه الحدث.
وإذا شك في حدوث الحدث، فالحكم الكلي بالطهارة لا يقتضي في حقه
شيئا، بل هو بالنسبة إلى منطوق الحكم " الدال على طهارة المتوضئ الغير
المحدث " ومفهومه " الدال على عدم طهارة غير المتوضئ أو المتوضئ الذي
حدث منه الحدث " سواء.
وهذان اليقينان حاصلان في استصحاب القوم أيضا، لان اليقين بالحكم
الجزئي لا يحصل إلا بهما، لاستحالة اليقين بالنتيجة بدون اليقين بالكبرى
والصغرى.
إلا أن الفرق بين استصحاب القوم واستصحاب المحقق الخوانساري،
هو أن الموجب لليقين بالحكم الكلي في استصحاب القوم ليس موجودا في
أول الامر، بمعنى أنه لا يفهم من الدليل الأول، ولهذا يشك في ثبوت الحكم
الجزئي فالشك في ثبوت الحكم الجزئي، من جهة الشك في جزء مقتضيه،
وهو الحكم الكلي الذي يكون بمنزلة الكبرى له. نعم، اليقين بتحقق الموضوع
الذي هو له بمنزلة الصغرى موجود.
وأما استصحاب المحقق، فالامر فيه بالعكس، يعني أن اليقين بالكبرى
- أعني الحكم الكلي - موجود، واليقين بتحقق الموضوع له - الذي هو بمنزلة
الصغرى لثبوت الحكم الجزئي - غير موجود، ولهذا يشك في ثبوته، فلو وجد
172

هذا اليقين لم يحتج ثبوت الحكم الجزئي بعد إلى دليل من جانب الشارع.
فكل من استصحاب القوم واستصحاب المحقق مشترك مع الاخر في
فقدان جزء من جزئي المقتضي لليقين بالحكم الجزئي الحاصل في السابق،
بحيث لو ارتفع الشك فيه وتبدل باليقين به لم يحتج إلى شئ.
نعم، قد يكون الشك في ثبوت الحكم الجزئي من جهة فقدان اليقين
بالحكم الكلي الذي هو بمنزلة الكبرى، واليقين بتحقق الموضوع الذي بمنزلة
الصغرى، كليهما، كما لو حكم الشارع في زمان باستمرار حكم إلى غاية، مع
الشك في ثبوت أصل هذا الحكم الشرعي - أعني كون الحكم المذكور مستمرا
إلى غاية - في الزمان الاخر، ثم الشك في هذا الزمان المشكوك في وجود الغاية
أيضا، فالشك من جهة الصغرى والكبرى كلتيهما، فالقوم يستصحبون،
والمحقق لا يستصحب، نظرا إلى الشك في الكبرى.
والأصل: المقصود من جميع ما ذكرنا من التكرارات والتوضيحات،
هو أن العلة الموجبة للحكم الكلي بالطهارة لا يقتضي هو بنفسه الحكم
الجزئي، بل هو جزء المقتضي. فاجعله في ذكر منك.
إذا عرفت ما ذكرنا، فنقول: قول المحقق: " إن معنى التعارض، هو أن
يكون شئ يوجب اليقين لولا الشك " إن أراد من " اليقين " اليقين بالحكم
الكلي، ففيه: أن اليقين في الرواية - الذي نهى المعصوم عن نقضه - هو اليقين
بالحكم الجزئي، لا اليقين بالحكم الكلي؟ لأنه غير قابل للنقض إلا بعروض
النسخ، ولان الموجب له هو الدليل الدال عليه. وإيجابه له لا يتوقف
على رفع الشك، بل يجامع القطع بالحدث.
ولا تعارض بينه وبين الشك ولا بين القطع بارتفاع الحالة السابقة،
فإن العلم بالحكم الكلي - الذي هو أن من توضأ فهو متطهر إلى حدوث
173

الحدث - يجامع العلم ببقاء الحالة والشك فيه والقطع بعدمه.
والحاصل: أن المراد باليقين في عبارته لا يجوز أن يكون: اليقين
بالحكم [الكلي] (1) ولا يبعد دعوى القطع بعدم إرادته أيضا.
وإن أراد منه اليقين بالحكم الجزئي - كما هو الظاهر، بل المقطوع. لأنه
الذي يعارض مع الشك - ففيه أولا: أنه لا شئ يتصور كونه موجبا له
إلا الدليل الدال على الاستمرار، وقد عرفت: أنه إنما يوجب اليقين بالحكم
الكلي الذي هو جزء موجب لهذا اليقين بالحكم الجزئي، فالموجود هو جزء
الموجب لليقين بالحكم الجزئي، لا نفسه. والدليل الدال على الاستمرار هو
دليل أحد جزئي الموجب لليقين بالحكم الجزئي، وجزؤه الاخر ليس
موجودا، وإنما يوجد بانتفاء الشك في وجود المزيل، بشرط أن لا يتبدل بالقطع
بوجوده، فأين الشئ الذي يوجب اليقين لولا الشك؟
فكما أن في استصحاب القوم لا يوجد ما يوجب اليقين، فكذلك في
استصحاب المحقق لا يوجد ما يوجبه، إذ قد عرفت: أن الموجود في
استصحابه هو الدليل الدال على الحكم الكلي والموجب لليقين به ليس إلا،
وهو ليس مقتضيا لليقين السابق، بل هو جزء المقتضي، وما يحدث بسبب
ارتفاع الشك - من اليقين بعدم وجود المزيل - جزؤه الاخر.
نعم، لو فرض أن الدليل الدال على الاستمرار مقتض لليقين، والشك
مانع، لتصور ما ذكره المحقق - من وجود ما يوجب اليقين لولا الشك - في
استصحابه، دون استصحاب القوم.
لكنك قد عرفت: أن الدليل الدال على الاستمرار ليس إلا جزء

(1) الزيادة اقتضاها السياق.
174

ما يوجب اليقين، والشك ليس من قبيل المانع، بل هو سبب لارتفاع أحد
جزئي المقتضي، وهو اليقين بعدم حدوث المزيل، لما عرفت - في المقدمة (1) -
من أن اليقين بالحكم الجزئي مركب من يقينين، أحدهما: اليقين بالحكم الكلي،
والثاني: اليقين بتحقق موضوعه، أعني وجود سبب الحكم وارتفاع مزيله.
ومما يؤيد ما ذكرنا: قوله عليه السلام في ما بعد: " ولكن ينقضه بيقين
آخر " ولا شك أن معنى نقض اليقين باليقين ليس أن يكون في آن اليقين
بالخلاف أمر موجب لليقين السابق لولا اليقين، ضرورة أنه لا يوجد في
ذلك الآن هذا الشئ.
مثلا إذا قطع المكلف بحدوث البول، فلا شك أنه ليس هنا ما يوجب
اليقين بالطهارة لولا هذا اليقين، إذ لا يتصور ذلك الشئ إلا الدليل، ومعلوم
[أنه] (1) لا يوجب الحكم بالطهارة في زمان اليقين بالبول لولا اليقين بالبول.
وكذا ورد في بعض الاخبار: " أن اليقين لا ينقض بالشك، بل الشك
ينقض باليقين " (3) فمقتضى الفقرة الأخيرة - على ما قاله المحقق - هو أن يكون
شئ يوجب الشك لولا اليقين، وهو كما ترى.
فإن قلت: إن المراد باليقين في قوله: " أن يكون شئ يوجب اليقين
لولا الشك " هو المتيقن السابق، أو الآثار المترتبة على اليقين السابق، ولا شك
أن الدليل الدال بعمومه على استمرار الحكم إلى حدوث ما جعل مزيلا يشمل
ثبوت الحكم في هذا الآن لولا الشك، فالمقتضي لثبوت الحكم في الآن الثاني

(1) راجع الصفحة: 170.
(2) الزيادة اقتضاها السياق.
(3) ما ذكره مضمون رواية زرارة الواردة في شكوك الصلاة، انظر الوسائل 5: 321،
الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.
175

موجود، وهو الدليل الدال على الاستمرار المقتضي بعموم دلالته لثبوت الحكم
في هذا الآن، إلا أن الحال طرو المزيل منع من حصول اليقين به.
قلت: هذا - بعينه - هو الذي دعى جماعة إلى القول بأن مرجع التمسك
بالاستصحاب في أمثال هذه الموارد إلى التمسك بعموم النص، فمنعوا
الاستصحاب وعملوا بمثل هذا زعما منهم ان هذا ليس باستصحاب، بل تمسك
بعموم النص، ونحن وإن بينا بطلان هذا سابقا، لكن نكرر القول هنا في
بطلانه، ونقول: لا شك أن الدليل الدال على استمرار حكم إلى حدوث ما
جعل مزيلا له مركب من قضيتين مختلفتين بالايجاب والسلب، فإن معنى
" ثبوت الحكم مستمرا إلى حدوث المزيل " هو الحكم بوجود الحكم عند عدم
حدوث المزيل وانتفائه عند حدوثه " لأنه معنى مزيلية المزيل.
لا أقول: إنه من باب مفهوم الغاية، بل إنه مأخوذ في معنى المزيل
والغاية والرافع.
فإذا جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة والبول مزيلا، وحكم بأن
الوضوء إذا حصل فالطهارة مستمرة إلى زمان حدوث البول، فمعنى ذلك: أن
كل من توضأ ولم يبل فهو باق على الطهارة، وكل من بال بعد التوضي
فطهارته مرتفعة. فإذا شك بعد الطهارة في حدوث المزيل - وهو البول - فهل
يوجد لعموم القضية الكلية الأولى اقتضاء للحكم بكون هذا الشاك متطهرا؟
أم يكون نسبته إلى القضية الدالة على ثبوت التطهر لمن لم يبل وإلى القضية
الدالة على ارتفاعه عمن بال بعد التطهر على السواء؟
لا أظنك تقول بالأول وترتكب الترجيح بلا مرجح فتعين الثاني، فإذا
لم يوجد في الدليل الدال على الاستمرار اقتضاء لثبوت الحكم بالنسبة إلى
الشك، فأين الذي يوجب الحكم المتيقن في السابق؟
176

فإن قلت: إن هذا لاجل الشك.
قلت: يعني عدم كون الدليل مقتضيا لاجل الشك؟ أو أنه مقتض لكن
الشك يمنع من المقتضى، كما هو الشأن في الموانع مع المقتضيات؟
فإن قلت: عدم كونه مقتضيا لاجل الشك.
قلت: فهو المطلوب، لأنا نقول أيضا: إن مع الشك لا يبقى للدليل الدال
على الاستمرار اقتضاء، بل يكون وجوده كعدمه، فيكون هذا الاستصحاب
مع استصحاب القوم واحدا، حيث إن الدليل لا يقتضي الحكم في الآن الثاني
لاجل الشك.
وإن قلت: إن الدليل يقتضي الحكم في الثاني، لكنه يمنع من ظهور أثره
الشك.
قلنا: رجعت إلى الترجيح بلا مرجح، فإن القول: بأن القضية الدالة
على " أن من توضأ ولم يبل فطهارته باقية " تقتضي الحكم بالطهارة في الآن
الثاني لكن الشك يمنع من ثبوت المقضى، ليس بأولى من أن تقول: إن
القضية الدالة على: " أن من توضأ ثم بال بعده فطهارته مرتفعة " تقتضي
الحكم بعدم الطهارة في الآن الثاني لكن الشك يمنع من ثبوت المقتضى.
والحاصل: أن القول بأن للدليل الدال على استمرار الحكم إلى حدوث
المزيل اقتضاء لثبوت الحكم المستمر - وهو المتيقن السابق - في الآن الثاني،
لا يخفى ما فيه.
فإذن لا فرق بين أن لا يكون الدليل الدال على الحكم في الآن الأول
شاملا للآن الثاني، يعني لا يدل الدليل على الاستمرار - كما في استصحاب
القوم - وبين أن يكون الدليل دالا على الاستمرار، لكن يكون مغيى بغاية،
وشك في الآن الثاني في وجود الغاية، أو شك في صدق الغاية على شئ، في
177

عدم اقتضاء الدليل للحكم في الزمان الثاني.
فلم يبقى إلا مجرد كون الحكم المذكور يقينيا في الآن السابق، وهذا
مشترك أيضا بين الاستصحابين.
فإن كان هذا القدر كافيا في صدق تعارض الشك واليقين، فليكتف به
في الاستصحابين، فلا وجه لرد استصحاب القوم بأن اليقين بحكم في زمان
ليس مما يوجبه في زمان آخر، كما قاله هذا المحقق.
وإن لم يكن هذا القدر كافيا، فقد عرفت أنه لا يبقى في استصحابه
أزيد منه.
ومن هنا ظهر أن ما تمسك به المحقق في رد استصحاب القوم، بأن
نقض اليقين في الآن الثاني في استصحابهم ليس بالشك، بل هو بعدم الدليل
الذي هو دليل العدم، مقلوب عليه في استصحابه، لما عرفت من عدم الدليل
على الحكم في صورة الشك فيه أيضا.
وأعلم: أن المحقق الخوانساري صرح في موضع من حاشيته على
شرح الدروس بجريان الاستصحاب في ما إذا ثبت الاستمرار في الجملة، وقد
ذكرنا عبارته سابقا (1).
ثم إنه قد ظهر مما ذكرنا ما في عبارة الفاضل المعاصر المتقدم ذكرها (2)
فإن قوله: " ولا يخفى أن نقض اليقين بالشك بهذا المعنى يستلزم: أنه
لو لم يطرء الامر الموجب للشك ولا أمر حادث آخر مضاد لليقين السابق،
لكان اليقين السابق باقيا من دون احتياج إلى دليل آخر، بل بمجرد الدليل

(1) انظر الصفحة: 58، وغيرها.
(2) تقدم في الصفحة: 68 1 - 169.
178

الدال على الوجود السابق " فيه: أن حدوث اليقين السابق إنما كان لامرين:
اليقين بالحكم الكلي الحاصل من جهة الدليل الشرعي، واليقين بتحقق
موضوع ذلك الحكم الكلي، أعني كون الشخص قد توضأ ولم يحدث له
المزيل.
ولا شك أن اليقين الأول - أعني اليقين بالحكم الكلي - باق أبدا ببقاء
دليله. وأما اليقين بتحقق الموضوع الذي هو جزء آخر من المقتضي لليقين
السابق، فإن تحقق أيضا فيتحقق اليقين السابق، وإلا فلا يتحقق، فعند الشك
في حدوث الغاية لما لم يمكن تحققه لم يتحقق اليقين السابق، ولو فرض
عدم طرو الشك.
فتحقق اليقين السابق إنما هو لتحقق هذا الجزء الاخر من المقتضي،
لا لمجرد الدليل الدال على الوجود السابق، فعدم تحقق اليقين السابق في آن
الشك ليس لوجود المانع وهو الشك، بل لعدم جزء من جزئي مقتضيه، وهو
اليقين بتحقق الموضوع للحكم الكلي.
والحاصل: أن‍ [ه] بعد ما عرفت في المقدمة من أن اليقين السابق المتعلق
بالكم الجزئي - وهو كون هذا الشخص طاهرا - لما كان حاصلا بحصول
يقينين، كل منهما جزء مقتض له، فعدم اليقين في زمان الشك - سواء كان في
استصحاب القوم أو في استصحاب المحقق - لا يكون إلا لفقد أحدهما
أو كليهما. لكن المفقود في استصحاب القوم اليقين بالكبرى - أعني الحكم الكلي
الشرعي - أو هو مع اليقين بالصغرى - أعني تحقق موضوع ذلك الكلي - أيضا،
كما عرفت من المثال في المقدمة. وأما المفقود في استصحاب المحقق فهو اليقين
بالصغرى فقط، فكلاهما يشتركان في احتياج كمال المقتضي لليقين فيهما إلى
انتفاء الشك الذي يتحقق في ضمنه وجود الجزء الاخر من المقتضي.
179

والحاصل: أنا نمنع كون بقاء اليقين السابق من أجل مجرد الدليل، بل
هو من أجل الدليل والقطع بالصغرى فهو يحتاج - مضافا إلى الدليل - إلى
القطع بالصغرى.
هذا كله إن أراد باليقين السابق - الذي ادعى بقاؤه بنفس الدليل -
نفس اليقين نفسه، أو الامر المتيقن بوصف أنه متيقن.
وإن أراد نفس الامر المتيقن مع قطع النظر عن تيقنه، ففيه: أن نفس
ذلك الامر لا يحتاج بقاؤه إلى فرض انتفاء الشك، بل لو بقي بقي مطلقا
- شككت أو لم تشك - ولو انتفى انتفى كذلك.
فإن قلت: إن المقصود أن بارتفاع الشك يكشف عن أنه كان في نفس
الامر باقيا بنفس الدليل الأول.
قلنا: فكذلك في استصحاب القوم، إذا ارتفع الشك الناشئ عن الشك
في شمول الدليل للآن الثاني، فيكشف ذلك عن بقاء الحكم بنفس الدليل
الأول.
ومن جميع ما ذكرنا يظهر ما في قوله في مقام تفسير كلام المحقق
الخوانساري: " أي كان المورد بحيث لولا يطرء احتمال زوال الامر الموجب
للشك، لكان اليقين السابق باقيا من غير احتياجه إلى علة أخرى " (1).
فإنه إن أراد أن اليقين السابق لا يحتاج مع وجود الدليل الأول إلى
شئ أصلا، فقد عرفت أنه يحتاج إلى اليقين الذي يتحقق في ضمن ارتفاع
الشك.
وإن أراد أنه مضافا إلى هذا لا يحتاج إلى شئ آخر، ففيه: أن في

(1) تقدم في الصفحة: 169.
180

استصحاب القوم أيضا لا يحتاج اليقين السابق إلى شئ سوى اليقين الذي
يتحقق في ضمن ارتفاع الشك، لكن المحتاج إليه في استصحاب المحقق هو
اليقين بالصغرى. وفي استصحاب القوم هو اليقين بالكبرى، ولا يوجب هذا
تفاوتا.
قوله: " إذ عدم طريان الحال زوال الحكم - في استصحاب القوم - من
غير تجدد دليل ممتنع، فكلما فرض عدم طريان احتمال الزوال فيه، فلا محالة
يكون من جهة علة أخرى " (1).
فيه: أن عدم طريان احتمال زوال الحكم - في استصحاب المحقق - من
غير تجدد يقين بالصغرى ممتنع، كيف! والشك لا يحصل إلا من جهته، فكلما
فرض عدم طريان احتمال زوال الحكم فيه، فلا محالة يكون من جهة دليل
موجب لليقين بالصغرى.
فإن قلت: لا نقول: إن الشك لو حصل ثم ارتفع فلا يحتاج إلى شئ
في استصحاب. بل نقول: لو فرضنا عدم طروه من أول الامر، وأن الامر كان
كما كان، لم يحتج إلى شئ.
قلنا: قد سمعت مرارا أن اليقين بالحكم السابق في كل آن فرض
لا يكون إلا بعد حصول يقينين - اليقين بالصغرى واليقين بالكبرى - ففي الآن
السابق لما اجتمع اليقينان حصل ذلك اليقين، وفي لان الثاني اليقين بالكبرى
باق ببقاء دليله الشرعي، وأما اليقين بالصغرى: فإن فرض أيضا سبب جار
في الآن الثاني فلا يشك في بقائه أيضا، فيحصل اليقين السابق في هذا الآن
أيضا. وإن لم يكن له سبب جار في هذا الزمان سار إليه، فنقول: مجرد كون

(1) تقدم في الصفحة: 169.
181

شئ يقينيا في السابق لو كان عندك موجبا للحكم ببقائه في اللاحق، فما بالك
لا تقول به في استصحاب القوم؟ فإن اليقين بالحكم الجزئي كان في السابق
لوجود يقينين، والآن لا يوجب لأحدهما - وهو اليقين بالكبرى - أو لكليهما،
فاحكم ببقائه لتحكم ببقاء اليقين السابق.
وإن لم يكن مجرد وجود شئ في السابق موجبا لبقائه، فنقول: إن
اليقين بالصغرى كان موجودا في السابق لامر غير جار في الآن الثاني،
فكيف تقول: لو فرض عدم طريان الشك لكان اليقين السابق باقيا من غير
احتياج إلى شئ آخر؟
والحاصل: أنه لا فرق بين استصحاب القوم واستصحاب المحقق في
الاحتياج إلى تجدد ما يوجب اليقين، إما بالكبرى كما في استصحاب القوم،
أو الصغرى كما في استصحاب المحقق.
وأما ما ذكره المحقق السبزواري " من أن الظاهر من النقض هو أن
يكون للحكم استمرار " (1).
فإن استند في الظهور إلى مثل ما ذكره المحقق الخوانساري من أن
النقض إنما يتصور عند تعارض اليقين والشك، والمراد بالتعارض أن يكون
شئ يوجب اليقين لولا الشك - وأوضحه الفاضل المعاصر - فقد عرفت:
أنه لا يتصور في آن الشك إلا الدليل الدال على الاستمرار، وهو لا يوجد له
اقتضاء لليقين السابق حتى يعارضه الشك، كما لا اقتضاء له، له في زمان
اليقين بوجود الغاية. بل مقتضى نفس ذلك الدليل الدال على الحكم إلى
حدوث المزيل هو الحكم بابطال أثر اليقين السابق.

(1) ذخيرة المعاد: 116.
182

مع أن المعصوم عليه السلام أطلق " النقض " على ذلك، فيكشف ذلك عن
أن المراد بالنقض المنهي عنه، هو مجرد ترك اليقين السابق والاعتناء بالشك
اللاحق.
وإن استند في الظهور إلى التبادر وفهم العرف، بأن يدعي أن المتبادر
من نقض اليقين بالشك هو ما إذا كان دليل هذا اليقين له استمرار إلى زمان
المزيل، بأن يكون الدليل بعقديه - الايجابي الحاصل من المنطوق، والسلبي
المأخوذ في مفهوم مزيلية المزيل - شاملا لحالتي المكلف الواقعتين - قبل المزيل
وبعده - فنقول:
مقتضى الانصاف أن هذا حق، لكن في الجملة، أي في بعض موارد
صورة وجود الدليل على الاستمرار، لا في جميعها.
بيان ذلك: أن الحكم المدلول عليه بذلك الدليل قد يكون مما علم من
الخارج أنه إذا تحقق فلا يرتفع إلا برافع له، ولا يكون ارتفاعه من جهة
اختصاص استعداده ببعض الزمان دون بعض، كالطهارة - مثلا - والزوجية
الدائمة والرقية والملكية، فإنها كلما تحققت فهي بحسب الاستعداد قابلة للبقاء
أبدا ولا ترتفع إلا برافع ينقض استعدادها.
وقد يكون مما لم يعلم من الخارج له ذلك، كالوجوب والتحريم
ونحوهما، فإنها ليست كالأمور السابقة في أنها إذا تحققت لا ترفع إلا بالرافع.
بل قد يكون من قبيل العقد المنقطع، والتحليل - مثلا - في ارتفاعها
بانقضاء استعداداتها، ولا يكون هنا نقض ورفع، بل انتقاض وارتفاع، بل
هما غير موجودين، لأنهما فرع الأولين.
فإذا دل دليل على ثبوت حكم يكون من القسم الأول إلى غاية،
فيعلم أن تلك الغاية إما رافعة أو كاشفة عن رافع، بحيث يكون ناقضا
183

للحكم المغيى، فيكون المعصوم قد نهى عن نقض ذلك الحكم بمجرد الشك في
تلك الغاية، وأمر بأن لا ينقض إلا بالناقض والرافع اليقيني.
وأما إذا دل الدليل على استمرار حكم يكون من القسم الثاني إلى
غاية، فيمكن أن تكون تلك الغاية رافعة أو كاشفة عن رافع، ويمكن أن
تكون آخر زمان استعداد الحكم أو كاشفا عن آخره، فلا يتصور هنا نقض
ورفع حتى ينهى عنه.
وبالجملة: نقض اليقين بالشك إنما يصدق - عرفا - إذا صدق " النقض "
في حال العلم بالغاية، كما يصدق أن الطلاق ناقض للزوجية، ولا يصدق إذا لم
يكن نقض في حال العلم بالغاية، كما لو كانت من قبيل حدوث آخر مدة
العقد المنقطع أو التحليل.
فكل حكم يكون الغاية له من قبيل الطلاق - مثلا - فيصدق النقض في
حالتي الشك واليقين، فيتصور نهي المعصوم عنه في حالة الشك، كالأمثلة
المذكورة في القسم الأول. وكل حكم يحتمل أن يكون الغاية له من قبيل
انتهاء مدة التحليل والتمتع، فلا يصدق فيه النقض.
فعلم من ذلك: أن مطلق الحكم الذي دل الدليل على استمراره إلى
غاية لا يستقيم فيه دعوى التبادر والظهور العرفي في صدق النقض هناك.
فإن أراد هؤلاء الاجلاء من الحكم المستمر إلى الغاية - الذي يخصون
مدلول الرواية به - ما كان من قبيل القسم الأول، بأن تكون الغاية مزيلة له،
فيمكن أن يصدقهم الفهم العرفي.
وإن أرادوا مطلق ما إذا ثبت حكم إلى غاية - ولو كان الغاية له من
قبيل الكاشف عن انقضاء مقدار الاستعداد - فلا نسلم الفهم العرفي.
ولكن الأولى - بل المتعين - هو تفسير النقض بمجرد ترك الامر المتيقن
184

والاعتناء بالشك، وهذا هو المعنى العرفي للنقض أيضا، لا ما ذكروه من
التدقيق، سيما بملاحظة ما ورد عنهم عليهم السلام في بعض هذه الروايات من: " أن
الشك ينقض باليقين " (1) فإن المعنى الذي ذكروه للنقض لا يستقيم هنا،
فليحمل على مجرد الترك والاعتناء بالخلاف.
[قوله] قدس سره: " وأورد عليه ".
[أقول]: هذا المورد هو السيد صدر الدين في شرح الوافية، حيت إنه
بعد ما ذكر صورا لا يحتاج إلى الاستصحاب في بعضها ولا يجري في بعضها
الاخر، قال: " وبقيت صور اخر:
منها: أن يعلم من دليل وجود الشئ في زمان أو على حالة، مع
احتمال أن لا يدوم، ويزول بانقضاء الزمان وتغير الحالة، وأن يدوم مع
الانقضاء والتغير، مع احتمال أن يكون له مزيل وغاية في الواقع، وأن
لا يكون، فعلى التقدير الأول قد يعلم وجود ما يحتمل أن يكون غاية
ومزيلا، وقد يشك فيه.
ومنها: أن يعلم وجوده واستمراره إلى غاية أو إلى حدوث مزيل،
ولم يعلم متى هي؟ وهل حدث أم لا؟
ومنها: أن يعلم وجوده واستمراره إلى غاية معينة أو إلى حدوث
مزيل معلوم، ولم يعلم هل تحققت الغاية وحدث المزيل أم لا؟
ومنها: أن يعلم وجوده واستمراره في الجملة، ولم يعلم أنه ثابت دائما
أو في بعض الأوقات إلى غاية أو حدوث أمر، ثم وجد شئ ولم يعلم هل
هو غاية ومزيل أم لا؟ وهل يصدق عليه الغاية والمزيل أم لا؟

(1) الكافي 3: 352، باب السهو في الثلاث والأربع، الحديث 3
185

وجميع هذه الصور مشتركة في حصول رجحان البقاء بعد ملاحظة
الوجود المتقدم المتيقن، فيمكن لمن عول على مثل هذا الظن إثبات الحكم
بتوسطه في الزمان الثاني، وإن جاز إثباته بغيره أيضا من دليل عقلي
أو نقلي، كما يأتي بيانه (1).
وكذا كلها مشتركة في أن الشك لو فرض عدم عروضه في الزمان
الذي عرض فيه - أو عند الحالة التي فرض عروضه عندها - لكنا قاطعين
بالبقاء، لان عدم العروض إنما يكون عند القطع بأن جزء من أجزاء علة
الوجود لم يرتفع، ومع عدم ارتفاعه يحصل اليقين بوجود المعلول، لما مر من
أن بقاء المعلول إنما هو ببقاء العلة التامة، وزواله إنما هو بعدمه.
وتفاوت الوجودين - في أن أحدهما قطعي الوجود في قطعة قصيرة من
الزمان بحيث لا يصدق على الوجود فيها أنه مستمر، والاخر قطعي الوجود
في قطعة طويلة ويصدق على الوجود فيها أنه مستمر - لا يصير منشأ
للاختلاف، حتى يقال: إن الشك لو لم يعرض في الثاني لكان هناك شئ
موجب لليقين، بخلاف الأول.
والدليل - مثل النص - لابد أن يكون في كل من هذين الشقين محتملا
لان يراد منه الدوام - بحيث يشمل ما بعد القطعة الصغيرة والكبيرة - وأن
يراد منه عدم الدوام، أعني اختصاص الوجود بنفس القطعتين " (2) انتهى
موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه.
وفي موضع آخر - عند رد ما قاله المحقق الخوانساري في مقام رد

(1) في المصدر: كما سيظهر إن شاء الله في المقدمة الثالثة
(2) شرح الوافية (مخطوط): 117 - 118، مع تفاوت في بعض العبارات.
186

استصحاب المشهور: من " أن اليقين بحكم في زمان ليس مما يوجب اليقين به
في زمان آخر لولا عروض الشك " (1) - قال: " اليقين بوجود الشئ يدل على
وجود جميع ما يتوقف عليه ذلك الشئ، فلولا عروض الشك في ارتفاع
جزء من أجزاء ما يتوقف عليه لكنا قاطعين بوجود علته التامة " (2) انتهى.
ووافقه في هذا الايراد العلامة البهبهاني - في رسالته المعمولة في
الاستصحاب - قال قدس سره -. في مقام رد المحقق الخوانساري - بعد كلام طويل
له في الرد -: " إن ما ذكره - يعني المحقق - في منع دلالة الاخبار على مطلوب
القوم قد عرفت فساده: من أن مطلوبهم وثمرة نزاعهم ليس في الحكم الاني،
بل الذي يكون شئ يوجب اليقين لولا الشك، الحاصل من تغير العلة " (3)
انتهى كلامه رفع مقامه. والمصنف قدس سره. وافقهما على الايراد المذكور.
وحاصل هذا الايراد: هو ادعاء أن ما ذكره المحقق الخوانساري في
تفسير " النقض " جار في استصحاب القوم أيضا، كما هو جار في استصحابه
- عكس ما ذكرنا من الجواب - حيث إن حاصله كان منع جريان التفسير
المذكور في استصحابه، كما هو غير جار في استصحاب القوم إلا أن يراد به
شئ يجري فيهما، وقد اتضح سابقا بما لا مزيد عليه.
ولكن الحق أن ما ذكره هؤلاء الاجلاء لا ينهض جوابا لما ذكره هذا
المحقق، نظرا إلى أنه قد فسر التعارض اللازم من النقض، بأن يكون شئ
يوجب اليقين لولا الشك، بمعنى أنه لو لم يكن الشك لثبت اليقين بنفس ما
أوجب اليقين السابق، وهو الدليل الدال على الحكم الأول، ومعلوم أن

(1) مشارق الشموس: 76.
(2) شرح الوافية (مخطوط): 120.
(3) الرسائل الاستصحابية (مخطوط): 9.
187

المفروض أن الدليل على الحكم في الزمان الأول - في استصحاب القوم -
لا يدل على الاستمرار، بل يحتمل أن يكون قد أريد منه الاستمرار، ويحتمل
أن يكون قد أريد منه بيان الحكم في الزمان الأول فقط.
وعلى التقدير الأول: فيحتمل أن تكون العلة للحكم في الزمان الأول
هي بنفسها علة للحكم في الزمان الثاني. ويحتمل أن تكون غيرها.
وعلى التقدير الثاني: فيحتمل أن يثبت الحكم في الزمان الثاني بدليل
آخر غير هذا الدليل الأول المسوق لبيان الحكم في الزمان الأول، ويحتمل أن
لا يثبت الحكم في الزمان الثاني، كما لم يكن الدليل الأول شاملا له أيضا.
فهذه أربعة احتمالات، يكون الحكم في الزمان الثاني في الثلاثة الأولى
منها هو نفس الحكم في الزمان الأول، وحينئذ فنقول:
القطع الذي يحصل - بفرض ارتفاع الشك في زمانه - بثبوت الحكم
كما كان في السابق قد يحصل بكشف كاشف عن أن الدليل الأول كان دالا
على الاستمرار، وقد يحصل بكشف كاشف عن ثبوت الحكم في الثاني - وإن
لم يكن المقصود من الدليل الأول ذلك - وكذلك قد يحصل بالكشف عن بقاء
نفس علة الوجود في الأول إلى الزمان الثاني، وقد يحصل بالكشف عن تجدد
علة أخرى غير الأولى، ولو كانت المغايرة بتبدل جزء من أجزاء العلة
الأولى.
ولا شك أن هذا القطع الحاصل على فرض ارتفاع الشك بجميع
أطواره المذكورة لم يكن له موجب في الآن الأول، إذ لم يوجد في الآن الأول
إلا أمور ثلاثة: الدليل الذي دل على الحكم في الزمان الأول، واليقين بنفس
الحكم المدلول عليه بذلك الدليل، واليقين بوجود العلة لهذا الحكم المكشوف
عنها بذلك الدليل، ومعلوم أن لا شئ من هذه الثلاثة يوجب القطع المذكور
188

لو ارتفع الشك.
أما الدليل الدال على الحكم الأول: فلان المفروض أنه لا يدل إلا
على الحكم في الزمان الأول، وإن احتمل أن يكون قد أريد به في متن الواقع
الاستمرار، بل وإن كان القطع الحاصل - عند فرض ارتفاع الشك - بالكشف
عن دلالته على الاستمرار، لكن هذه الدلالة تتجدد له بعد هذا الكشف، ففي
الحقيقة تجدد الدليل على الحكم في الزمان الثاني بوصف كونه دليلا وإن كان
ذات هذا الدليل مجردة عن وصف الدلالة موجودة في السابق، لكن الموجب
لليقين هو الدليل بوصف الدليلية لا بذاته المجردة عن هذا الوصف.
وأما الأخيران - يعني اليقين بالحكم في الزمان الأول واليقين بوجود
العلة - فلا يوجبان أيضا القطع الحاصل عند فرض ارتفاع الشك لما ذكره هذا
المحقق في استدلاله: من " أن اليقين بوجود شئ في زمان لا يوجب اليقين به
في زمان آخر لولا عروض الشك ".
والحاصل: أن الفرق بين استصحاب هذا المحقق وبين استصحاب
القوم بما ذكرناه هنا وأشرنا إليه سابقا (1) مما لا يمكن انكاره، فالمناسب
للجواب عنه ما ذكرنا سابقا، وحاصله: إن أريد بثبوت الموجب لليقين في آن
الشك ثبوت تمام المقتضى له فلا يوجد في استصحابه، وإن أريد به جزء
الموجب فلم يحصل التعارض الذي ذكره في تفسير النقض، مع أنه قد يوجد
جزء الموجب في استصحاب القوم، كما لو قطع بتحقق صغرى الحكم، وكان
الشك في ثبوت الحكم الكلي الذي هي الكبرى، عكس مورد استصحاب
المحقق، حيث إنه يوجد فيه أن الشك القطع بثبوت الكبرى من جهة الدليل

(1) انظر الصفحة: 208.
189

الدال على الاستمرار، ويكون الشك في صغراه.
نعم، يمكن أن يفرض انتفاء الشك في استصحاب القوم، بحيث يتحقق
اليقين بالحكم من جهة نفس الدليل، في ما إذا كان الشك في بقاء الحكم من
جهة الشك في كون الحالة الحادثة - كوجدان الماء للمتيمم مثلا - مغيرة
للحكم، بأن نفرض انتفاء الشك بفرض انتفاء الوجدان، لا بفرض اليقين بعدم
كونه مغيرا للحكم، وذلك لان فرض انتفاء الشك في الآن الثاني، قد يكون
بفرض تحقق القطع بعدم كون الحالة الحادثة فيه مغيرة، وحينئذ يحصل اليقين
بالحكم السابق من نفس سبب القطع المتجدد ودليله، لا من الدليل الأول.
وقد يكون بفرض انتفاء نفس الحالة أعني الوجدان - وحينئذ يكون اليقين
بالحكم بنفس الدليل الأول -.
فإن قلت: إن المقصود هو إثبات الحكم في زمان الوجدان، فلا بد أن
يكون هو مورد الشك واليقين المتحقق بفرض انتفاء الشك.
قلت: استصحاب المحقق أيضا كذلك " فإن المفروض أن زمان الشك
في وجود المزيل هو زمان الشك في بقاء الحكم، فلا بد أن يكون هو مورد
الشك واليقين المتحقق بفرض انتفاء الشك.
مع أن فرض انتفاء الشك لا يمكن إلا بإرجاعه إلى زمان عدم تحقق
الشك في المزيل، فلا بأس بفرض انتفاء الشك في استصحاب القوم، بحيث
يرجح إلى زمان عدم تلك الحالة.
هذا، مع أنه لا يوجب التسوية بين استصحابهم واستصحاب المحقق في
جميع فروض انتفاء الشك، الظاهر أنه خلاف مقصود الموردين، فإن
مقصودهم من فرض انتفاء الشك في كون الحالة مغيرة مع بقائها، كما ينادي
بذلك عبارة السيد الصدر، حيث قال: " إن الشك لو فرض عدم عروضه
190

عند الحالة التي فرض عروضه عندها، لكنا قاطعين بالبقاء " (1).
إذا عرفت ما تلونا، فلنرجع إلى ما في كلام السيد (2) فنقول:
أما قوله: " وكلها مشترك في أن الشك لو فرض عدم عروضه في
الزمان الذي عرض فيه، أو عند الحالة التي فرض عروضه عندها لكنا
قاطعين ".
ففيه: أنه لا كلام في أن ارتفاع الشك - يعني احتمال زوال الحكم
السابق - مستلزم للقطع بالبقاء، لكن الكلام في أن الموجب لهذا القطع موجود
في السابق من جهة الدليل الدال على الحكم الأول، بحيث ينتظر في حصول
موجبه ارتفاع الشك، أم لا؟ ومعلوم أن ذلك موجود في استصحاب المحقق،
دون استصحاب القوم، كما عرفت.
وأما قوله: " لان عدم العروض إنما يكون عند القطع بأن جزء من
اجزاء علة الوجود لم يرتفع ".
ففيه، أولا: منع الحصر، إذ قد يكون عدم عروض الشك بسبب القطع
بانتفاء علة الوجود الأول كلا أو بعضا مع تجدد أخرى مقامها أو جزء آخر
مقام المرتفع.
وثانيا: أن هذا القطع بعدم ارتفاع جزء من أجزاء العلة السابقة
لا يوجد ما يوجبه، إذ لم يوجد في السابق إلا القطع بوجوده في ذلك الوقت،
وقد قال المحقق: " إن القطع بوجود شئ في آن، لا يوجب القطع بثبوته في
آن آخر لولا الشك " (3) نعم، يكشف هذا القطع المتجدد عن ثبوت علة

(1) تقدم في الصفحة: 186.
(2) تقدم كلامه قدس سره في الصفحة: 185 - 187.
(3) تقدم في الصفحة: 187.
191

الوجود الثانوي في الآن الأول في نفس الامر، لكن ثبوته في نفس الامر
لا يجدي في إيجاب القطع به في الآن الثاني.
فإن قلت: استصحاب المحقق كذلك أيضا، لان في زمان الشك
لا يوجد ما يقتضي اليقين بثبوت الحكم في الآن الثاني، بل القطع المتجدد
عند ارتفاع الشك بعدم حصول الغاية يكشف عن دخول هذا الزمان في
نفس الامر في عموم الحكم الثابت لما قبل الغاية.
قلت: هذا رجوع إلى جوابنا السابق، الراجع إلى منع جريان ما ذكر
المحقق من تفسير النقض والتعارض في استصحابه أيضا.
وأما قوله: (1) " وتفاوت الوجودين في أن أحدهما قطعي الوجود في
قطعة قصيرة من الزمان... الخ ".
فإن أراد به الرد على المحقق أيضا، فلا يخفى أن المحقق لم يستند في
ما ادعاه - من الفرق بين استصحابه واستصحاب القوم - إلى تفاوت زمان
ثبوت الحكم السابق فيهما في القصر والطول، بل استند فيه إلى تحديد الزمان
في استصحابه وعدم تحديده في استصحاب القوم.
وإن أراد به التفرقة بين الصورة الأولى من الصور التي ذكرها.
والصورة الأخيرة منها، فله وجه لو ادعى أحد الفرق بينهما، فتأمل.
وأما قوله: " والدليل - كالنص - لابد أن يكون في كل منهما محتملا لان
يراد... الخ ".
ففيه: أن كون الدليل محتملا لإرادة الاستمرار " بل كونه مرادا منه في
متن الواقع، بكشف القطع الحاصل عند فرض ارتفاع الشك عن ذلك،

(1) أي قول شارح الوافية، المتقدم في الصفحة: 186.
192

لا يوجب وجود الموجب لليقين، فإن الدليل لا يكون دليلا في كل آن
إلا بالنسبة إلى ما يدل عليه بطور القطع أو الظن.
هذا إن أراد بالفقرة المذكورة رد المحقق، وإن أراد به شيئا آخر
فلا يمكننا تسليمه.
ومن جميع ذلك يظهر ما في كلام العلامة البهبهاني، فإن محل النزاع وإن
لم يكن في الحكم الاني، إلا أنه ليس منحصرا في الحكم المحدود الذي يكون
دليله موجبا لليقين لولا الشك، فتأمل.
ثم، يجوز أن يكون مراد هؤلاء الاجلاء - مما ذكروه في الرد - هو أن
الذي أراده المحقق من كلامه الجاري في استصحابه جار في استصحاب
القوم، فلا ينافي ذلك ما أجبناه به من أن ظاهر كلامه لا يجري في
استصحابه أيضا.
[قوله] قدس سره: " لضرورة عدم الواسطة بين الشك واليقين السابق ".
[أقول]: قد عرفت أن عدم الواسطة بين اليقين والشك ليس محل كلام
لاحد، لكن هذا المحقق يقول: إن اليقين المتحقق عند فرض ارتفاع الشك قد
يكون بنفس الدليل الدال على الحكم في الآن الأول - أي بنفس تلك الدلالة
وبذلك المقدار منها - وقد يكون بسبب. تجدد أمر موجب له، ولو بالكشف عن
إرادة الاستمرار من الدليل الأول.
[قوله] قدس سره: " فإن المراد بالشك هنا ما ينافي اليقين السابق... إلى
قوله: مع أن ذلك يضر المستدل أيضا، فإن الشك في ما فرضه على هذا
التقدير إذا فرض انتفاؤه فلا يثبت استصحابه، لاحتمال تحققه في ضمن القطع
بعدم الحكم السابق لا بانسحابه ".
[أقول]: أورد عليه المحقق المعاصر السابق - الموافق للمحقق
193

الخوانساري في نفي دلالة الخبر على حجية استصحاب القوم - ب‍ " أن سبب
الشك في هذا القسم الثالث - يعني به استصحاب القوم - هو عدم دليل على
شئ من البقاء والعدم، وفرض انتفائه لا يكون إلا بوجود الدليل على
أحدهما، ومن أين علم أن بانتفائه يتحقق الدليل على الوجود؟ ومتى وقع
الفراغ عن احتمال العدم؟
وذلك بخلاف الأولين، فإن دليل البقاء موجود، فلو فرض عدم طرو
موجب الشك ولا حدوث أمر مضاد للسابق لبقي اليقين السابق قطعا، لكونه
إما مستمرا أبدا، أو مغيى بغاية لا بد من حدوثها في انتفائه، بخلاف القسم
الثالث، فإنه غير معلوم البقاء ولو لم يحدث أمر مضاد أصلا، لكون ذاته
كذلك "، (1) إنتهى.
ومراده من الأولين: ما ثبت استمراره أبدا ولم يعلم له مزيل، وما ثبت
استمراره إلى غاية، وضابطهما: ما كان الدليل الدال على الحكم الأول جاريا
إلى زمان الشك لولا الشك، ولم يكن الشك من جهة الشك في دلالة الدليل
عليه بالذات.
ومراده من القسم الثالث: استصحاب القوم، أعني ما كان الشك في
الآن اللاحق من جهة الشك في شمول الدليل له.
أقول: فيه أولا: أن كلام المصنف إنما هو مع المحقق الخوانساري،
حيث إنه ادعى في استصحابه " أنه لولا الشك لثبت اليقين " ولم يكن في
كلامه قوله: " ولا حدوث أمر مضاد للسابق ". فحينئذ لا شك في أن مراده
من " الشك " مجرد احتمال الزوال، لأنه لو كان مراده منه الترديد - المركب من

(1) مناهج الاحكام والأصول: مبحث الاستصحاب، ذيل القول التاسع في الاستصحاب.
194

احتمالي الزوال والبقاء - لتوجه عليه ما أورده المصنف، من أن انتفاء الترديد
لا يلازم حصول اليقين ببقاء الحالة السابقة، بل قد يكون في ضمن اليقين
بعدم البقاء.
نعم، حيث اقترن مع انتفاء الشك انتفاء حدوث أمر مضاد للسابق - كما
فعله الفاضل المعاصر - أمكن أن يراد من الشك الترديد أيضا.
لكن مع هذا الاقتران أيضا يرد عليه: أن المراد من " الامر المضاد "
- الذي اقترن انتفاؤه مع انتفاء الشك في ثبوت اليقين - إن كان هو اليقين
بالخلاف، ففيه: أن هذا لم يجد فرقا، لان في استصحاب القوم أيضا إذا فرض
انتفاء الشك واليقين بالخلاف معا لثبت اليقين.
فإن قلت: إن اللازم من فرض انتفاء الامرين في استصحابنا بقاء
اليقين السابق - كما عرفت من العبارة - واللازم من فرض انتفائهما في
استصحاب القوم تجدد موجب لليقين، لا بقاء نفسه بالموجب السابق.
قلت: قد عرفت سابقا أن اللازم من انتفائهما في استصحابك أيضا
تجدد موجب لليقين، لا بقاؤه بالموجب السابق، نظرا إلى ما عرفت في مقدمة
جوابنا: من أن الموجب لليقين السابق جزءان، اليقين بالكبرى الحاصل من
الدليل الشرعي، واليقين بتحقق الموضوع وهي الصغرى الحاصل من الخارج،
ولا ريب أن اليقين بالكبرى ولو كان باقيا حال الشك فالشك بتحقق
الصغرى غير باق، ومن البين أن مجرد كونه يقينيا في السابق لا يجدي في
كونه يقينيا في اللاحق، لعين ما قلتم في استصحاب القوم، من أن اليقين بحكم
في زمان لا يوجب اليقين به في زمان آخر، فلم يبقى إلا أنه يتجدد الموجب
لهذا اليقين عند فرض ارتفاع الشك، وتجدد الموجب لجزء المقتضي يستلزم
تجدد المقتضى وإن كان جزؤه الاخر باقيا غير متجدد.
195

فثبت من جميع ذلك: أن اللازم في استصحابكم أيضا هو تجدد الموجب
لليقين السابق حيث ينتفي الشك في وجود المزيل والقطع بوجوده، ويوجد
القطع بعدمه، لان هذا القطع بالعدم - الحاصل من انتفاء الامرين - هو جزء
الموجب لليقين السابق، وجزؤه الاخر الدليل الشرعي، وقد أوضحنا لك هذا
بما كاد يشمئز الطباع من طوله.
وإن كان المراد من " الامر المضاد " هو نفس ذلك الامر المزيل
المشكوك الوجود، فإن أراد به عدم حدوثه في نفس الامر، ففيه: أنه
لا يجدي في استلزامه لليقين السابق، إذ مع عدم حدوثه في نفس الامر، فقد
يكون انتفاء الشك في ضمن القطع بعدم حدوثه - كما هو كذلك في نفس
الامر - وقد يكون في ضمن القطع بحدوثه مخالفا لما هو في نفس الامر.
وإن أراد به عدم حدوثه مع القطع بعدم الحدوث، ففيه: أنه راجع إلى
الاحتمال الأول، لان معنى الكلام حينئذ: لو لم يحدث شك في حدوث المزيل
وقطع بعدم حدوثه لتحقق اليقين السابق، وقد عرفت أن مثله جار في
استصحاب القوم، إذ هناك أيضا لو لم يحدث الشك في ارتفاع علة الوجود
- كلا أو جزء - أو قطع بعدم ارتفاعه لتحقق اليقين السابق أيضا.
وإن كان المراد من " الامر المضاد " أمرا مضادا آخر غير هذا المزيل
المشكوك الوجود - الذي فرض ارتفاع الشك في وجوده - فنرجع الكلام
السابق، وهو: أنه هل المراد من فرض ارتفاع الشك في هذا المزيل المشكوك
الوجود ارتفاعه في ضمن القطع بالعدم أو القطع بالوجود؟ فكلما تقول هنا
فنقول به في استصحاب القوم.
هذا كله، مضافا إلى أن ما ذكره منقوض بما إذا شك في صدق المزيل
على الشئ الحادث في الزمان الثاني، فإنه يرى دلالة الخبر على حكم الشك
196

في بقاء الحالة السابقة الناشئ عن هذا الشك، كما إذا غسل الثوب النجس
بماء السيل المشكوك صدق الماء عليه، فإن بعد الغسل المذكور الموجب للشك
في بقاء النجاسة، نقول: إذا فرض انتفاء الشك في صدق الغسل الشرعي عليه
وعدم حدوث أمر مضاد للسابق، لا يعلم منه بقاء اليقين السابق أصلا،
لاجتماعه مع اليقين بعدم الصدق أيضا، فلا بد إما أن يقيد انتفاء الشك
المفروض بعدم كونه في ضمن القطع بعد الصدق، أو تقول: إن المراد بالشك
- المفروض الانتفاء - هو احتمال عدم الصدق الموجب لاحتمال زوال اليقين
السابق - أعني النجاسة - ولما لم يقيده المحقق الخوانساري بالأول، فلا محالة
لابد أن يكون قد أراد منه الثاني، فتأمل.
والحاصل: أن ما ذكره المصنف هنا حق، وإن كان أصل الجواب الذي
ذكره رحمه الله تبعا للسيد الصدر والعلامة البهبهاني - كما عرفت (1) - لم ينهض ردا
على المحقق، من جهة أنه لم يكن موجبا للتسوية بين استصحاب القوم
واستصحاب المحقق، إلا في بعض صور فرض انتفاء الشك، كما عرفت سابقا.
[قوله] قدس سره: " لا يقال: إن الشك قد يوجبه نفس الدخول في الآن
الثاني ".
[أقول]: هذا الاعتراض في غاية الفساد، لما عرفت من أن مراد
الموردين على المحقق - من ادعاء التسوية بين استصحاب القوم واستصحابه -
هو أنه لو فرض في استصحاب القوم انتفاء الشك في الزمان الذي عرض
فيه أو عند الحال التي عرض عندها لكنا قاطعين بالبقاء، وليس مرادهم أنه
لو فرض انتفاء نفس الشئ الذي شك في كونه مغيرا للحكم، أعني نفس

(1) انظر الصفحة: 187.
197

الآن الثاني أو الحالة الحادثة فيه.
والحاصل: أن الشك في بقاء الحكم الأول لما كان حاصلا من اجتماع
أمرين: أحدهما: حدوث الزمان الثاني وانقضاء الزمان الأول. أو
حدوث الحالة الثانية المغايرة للحالة التي كان الحكم عندها متيقنا، والثاني:
هو الشك الكلي في أن حدوث الزمان الثاني أو الحالة المغايرة للأولى مغير
للحكم، وهذا الشك كان متحققا قبل حدوث الشك الأول الفعلي - كما
ستعرف في ما بعد - ففرض انتفاء الشك الفعلي المتولد من الامرين، قد يكون
بفرض انتفاء الأول، وقد يكون بفرض الثاني. وغرض الموردين على المحقق
- المدعين لعدم الفرق بين استصحاب القوم واستصحابه - هو الثاني واعتراض
المعترض باختلاف مورد الشك واليقين إنما هو على الأول، يعني فرض انتفاء
الشك الفعلي بانتفاء نفس الزمان.
نعم، للمعترض أن يقول: إن هذا لا يوجب التسوية أيضا بين
استصحاب القوم واستصحاب المحقق، بل هو عين التفرقة، نظرا إلى أن في
استصحاب المحقق كلما فرض انتفاء الشك وبأي نحو فرض يحصل اليقين في
نفس مورد الشك، بخلاف استصحاب القوم، فإنه قد يفرض انتفاء الشك
على نهج يوجب اليقين في نفس مورد الشك فيتحد مورد الشك واليقين،
وقد يفرض على نحو لا يتحقق اليقين في مورد الشك، بل يختلف موردهما.
لكن فيه: أنا نقول أيضا: إنه كلما فرض انتفاء الشك في زمانه في استصحاب
القوم يتحقق اليقين في ذلك الزمان، ففي صورة فرض انتفاء الشك بانتفاء
نفس الزمان لم يفرض انتفاء الشك في زمانه، فإن زمان الشك الذي فرض
تحقق الشك فيه لم يفرض تحقق انتفائه أيضا في هذا الزمان، لان المفروض
فرض انتفاء نفس الزمان، فلم يفرض انتفاء الشك فيه، إذ لابد حينئذ من
198

تحققه ليفرض فيه الانتفاء، فثبت الكلية من جانب استصحاب القوم أيضا،
فتأمل.
[قوله] قدس سره: " وفرض انتفاء الشك يحصل بملاحظة عدم اعتبار
ثانوية الآن الثاني، ولا يحتاج إلى اعتبار عدم الآن الثاني حتى ينتقل إلى
الآن الأول ".
[أقول]: قال في الحاشية: " يعني أن الفرض بيد الفارض، فليفرض
انتفاء الشك مع قطع النظر عن ثانوية الآن الثاني ومع عدم اعتبارها،
وحينئذ فلا يلزم منه انتقال اليقين إلى الآن الأول، بل يثبت في الآن
الثاني (1). ولا يلزم فرض انتفاء الشك بفرض انتفاء الآن الثاني (2) حتى يلزم
اختلاف المحل، إذ المفروض أنه لم يثبت أن الشارع خص الحكم بالآن
الأول ونفاه عن الآن الثاني والثابت (3) إنما هو ثبوته في الآن الأول لا بشرط
كونه فيه فقط ولا بشرط عدم كونه في الآن الثاني - كما ذكرناه (4) - فلم يلزم
اختلاف مورد الشك واليقين، فتأمل (5) " انتهى.
أقول: الظاهر أن مراده قدس سره من ثانوية الآن الثاني - الذي فرض
انتفاء الشك بفرض عدم اعتباره وعدم كونه مغيرا للحكم - هو ما به مغايرته
للآن الأول.
فلا يرد عليه أنه يمكن للمعترض أن يقول: إني أفرض نفس ذات
الآن الثاني المغاير للآن الأول موجبا للشك مع قطع النظر عن ثانويته، فإنها

(1) و (2) في حاشية القوانين زيادة: " أيضا " في الموضعين
(3) في الأصل: بل الثابت.
(4) في الأصل: كما ذكرنا.
(5) ليس في حاشية القوانين: فتأمل.
199

أمر اعتباري.
مع أنه لو قال، فنجيبه - كالسابق - بأن المراد فرض انتفاء الشك في
البقاء بانتفاء الشك في كونه مغيرا للحكم لا بانتفاء، نفسه، كما مر.
[قوله] قدس سره: " مع أنه يرد النقض فيما لو فرض في ما فرضه المستدل
أيضا أن يصير الآن المتأخر سببا للشك... الخ ".
[أقول]: لا يخفى أن المستدل لا يقول بحجية هذا الاستصحاب من
جهة هذا الشك، يعني أنه لو فرض أن الحكم باستمرار حكم إلى غاية معينة
مردد - لاجمال دليله بين كونه في جميع الآنات أو في الآن المتقدمة على الحالة
الحادثة الموجبة للتردد - فلا يجري الاستصحاب في هذه الحالة، لان هذا عين
استصحاب القوم إن كان الشك فيه من جهة الشك في بقاء أصل الحكم
المغيى.
وإن كان الشك فيه من جهة الشك في بقاء مزيلية المزيل إلى ذلك
الزمان، فهو - باعتبار ملاحظة حكم المزيلية - يرجع إلى استصحاب القوم،
لان الشك في أن الحكم بكون الشئ الفلاني مزيلا ثابت دائما أو في بعض
الأوقات - أعني الآنات المتقدمة - وباعتبار ملاحظة الحكم السابق يرجع إلى
الشك في كون الشئ مزيلا.
ولنوضح ذلك بمثال، فنقول: إذا علم من المولى وجوب إكرام زيد عند
مجيئه إلى حال كذا - بمعنى أنه مستمر إليه وهو مزيل له - فامتثل العبد هذا
التكليف في مدة ثم شك في بقاء ذلك الحكم، فقد يكون شكه في أن ذلك
التكليف هل هو جار إلى هذا الآن أم لا؟ نظرا إلى إجمال دليله وكونه قابلا
للاستمرار وللاختصاص بالآنات السابقة، وقد يكون قاطعا ببقاء وجوب
الاكرام لكنه شاك في أن مزيلية حال كذا هل هي ثابتة إلى هذا الآن
200

أو مختصة بالآنات السابقة؟
فهذا الشك بالنسبة إلى نفس الحكم بالمزيلية من قبيل الأول، لان
المزيلية حكم ثبت عن المولى، يشك في أنه مستمر أو مختص ببعض الآنات.
وأما بالنسبة إلى بقاء وجوب الاكرام عند حصول هذا الامر المشكوك
المزيلية فهو من قبيل الشك في بقاء الطهارة بعد حصول المذي.
ولا ريب أن المحقق لا يجري الاستصحاب في شئ من هذه الشكوك.
وإنما يجري عنده الاستصحاب في ما إذا علم بجميع ما ذكر من بقاء وجوب
الاكرام وبقاء مزيلية المزيل، لكن شك في حدوث ذلك المزيل المعلوم المزيلية
أو في صدقه على شئ، فتأمل.
[قوله] قدس سره: " وأما قوله في جملة ما نقلناه عنه سابقا:، قلت: فيه
تفصيل، فمرجعه ليس إلى القول بعدم التفرقة ".
[أقول]: ما فهمه المصنف قدس سره وإن كان هو الظاهر من كلامه
فراجعه، إلا أن ما فهمه المتوهم - من أن مرجع هذا التفصيل هو ما ذكره
سابقا من أن الحكم إذا كان مستمرا إلى غاية فيجري فيه، وإذا لم يكن فيه
استمرار فلا يجري، وأن حكمه بعدم جريان الاستصحاب في صورة الشك في
كون الشئ مزيلا إنما هو من جهة أنه من قبيل استصحاب القوم - حق
أيضا، فإن ما ذكره من تفسير التعارض ب‍ " أن يكون شئ يوجب اليقين
لولا الشك " إنما يجري في صورة الشك في المزيلية إذا كان الشك في صدق
المزيل، إذ يصدق هناك " أنه لولا هذا الشك لحصل اليقين بنفس الدليل
الدال على الحكم في الزمان الأول "، لأنه إذا حصل اليقين بصدق المزيل على
هذا المشكوك، فالدليل يفيد الحكم في هذا الآن من غير احتياج إلى شئ
آخر ولو بأن يكشف عن دلالته على الحكم في هذا الزمان.
201

بخلاف ما إذا كان الشك في أن هذا الشئ مزيل بالخصوص أم لا؟
فإن مرجعه إلى الشك في عموم الدليل بالإضافة إلى إفادة الحكم في زمان
حصول هذا الشئ، سواء كان ظاهره الاستمرار أبدا أو كان مغيى بغاية.
وكأن منشأ تخطئة المصنف لذلك المتوهم هو: أنه لما رأى بعض أمثلة
الشك في الصدق الذي اعتقد أنه مثال له - كالشك في مانعية المذي -
لا يجري دليل المحقق الخوانساري فيه، فحكم بأن حكمه بجريان
الاستصحاب في صورة الشك في الصدق وبعدم جريانه في صورة الشك في
كون الشئ مزيلا بالخصوص، ليس راجعا إلى ما سبق منه في رد استصحاب
القوم وإثبات استصحابه من الدليل. وليس الفرق بينهما راجعا (1) بين
استصحاب القوم وصورة الشك في وجود الغاية. وستعرف أن الشك في
المذي ليس شكا في صدق المزيل، [بل] هو شك في المزيلية بالخصوص. لكن
الانصاف ظهور عبارة المحقق في ما ذكره المصنف.
فإن قلت: إن الشك في الرافعية مرجعه إلى الشك في تخصيص العام، إذ
لا يتصور الرافعية إلا إذا ثبت للشئ استمرار بدليل.
قلت: نحن أيضا نعترف بأنه شك في التخصيص، فإنه إذا دل الدليل
بظاهره على الاستمرار - إما دائما، أو إلى غاية معينة، أو إلى إحدى غايات
معلومة - فالشك في كون هذا الشئ غاية ومزيلا شك في أن عموم ثبوت
الحكم أبدا أو إلى أن توجد تلك الغاية المعينة أو إحدى الغايات المعينة باق،
أو خصص بصورة عدم حدوث هذا الامر المشكوك في كونه مزيلا.
لكن نقول: إنه لا يخلو الامر، إما أن يكون هذا الشك معتبرا في مقابل
202

ما دل بظاهره على العموم، أو لا. [ف‍] إن كان غير معتبر فيخرج عن مجرى
الاستصحاب ويتعين العمل بالعموم. وإن كان معتبرا فلازم ذلك عدم جواز
العمل بعموم دلالة الدليل على صورة حدوث هذا الامر، فيسقط العام عن
هذه الدلالة، فيصير هذا الدليل بعينه بالنسبة إلى هذه الحالة مثل دلالة الدليل
الدال [على] (1) الحكم في الزمان الأول لا بشرطه في استصحاب القوم.
وهكذا الكلام لو حكم باعتبار العموم لكن أريد فرض قطع النظر عنه
وإجراء الاستصحاب، إذ مع قطع النظر عن العام لا دليل يدل على ثبوت
الحكم في زمان حدوث ذلك الامر، بل يتجدد الدليل لو فرض ارتفاع،
ولو كان بطريق الكشف عن إرادة الاستمرار من الدليل، فافهم.
والعجب من بعض المشايخ المعاصرين (2)، حيث وافق المحقق
الخوانساري في ما ذكر من التفسير لمورد النقض وادعاء عدم جريانه في
استصحاب القوم، ومع ذلك حكم بجريانه في هذه الصورة - أي صورة الشك
في المانعية -.
ثم: إن الشك في المانعية - الذي لا يجري فيه المحقق الاستصحاب - إنما
هو إذا كان الشك في سنخ مانعية شئ مع عدم ثبوت حكم قطعي إجمالي
من الشارع بأن للشئ الفلاني رافعا.
وأما إذا علم من الشارع إجمالا أن الحكم الفلاني مستمر إلى غاية،
والمفروض أنه غير معين، فالذي ذهب إليه هذا المحقق وارتضاه المصنف
- كما سيجئ - هو أنه: إن علم أن الحكم باستمرار الحكم المذكور إلى الغاية

(1) الزيادة اقتضاهما الشاق.
(2) هو الفاضل النراقي قدس سره كما تقدم في الصفحة: 193 - 194.
203

غير مشروط بالعلم به، فلا بد من الحكم ببقاء ذلك التكليف إلى أن يحصل
العلم بوجود الغاية الواقعية، ولا يرفع اليد عن الحكم السابق بمجرد تحقق
ما هو مشكوك الغائية، والحاصل: أنه لا بد من تحقق الامرين.
وإن لم يعلم أنه غير مشروط بالعلم، فلا يجب الحكم باستمرار الحكم
المذكور. وهذا [هو] الذي ارتضاه المصنف غير أنه قدس سره يدعي ندرة
الفرض الأول. هذا، وسيجئ الكلام في ذلك مفصلا.
بقي شئ آخر: وهو أنه إذا كان الشك في مزيلية الشئ من جهة
الاشتباه الخارجي، كالرطوبة الواقعة على الثوب المشكوك كونه (1) بولا
أو ماء، فهل يحكم هذا المحقق بجريان الاستصحاب أو لا؟ وبعبارة أخرى:
هل يرى حكمه حكم الشك في صدق المزيل أو حكم الشك في كون الشئ
مزيلا بالخصوص؟
مقتضى ما فهمه المتوهم السابق من كلامه - الذي حكم المصنف بعدم
كونه مرادا له - هو الأول، لان هذه الصورة. تشترك مع الشك في الصدق، في
صدق التفسير الذي ذكره المحقق لمورد النقض عليه.
وأما على ما ذكره المصنف، فيكون كلام المحقق [خاليا] (2) عن بيان
حكم هذه الصورة.
والتحقيق: أن مقتضى التفسير المذكور هو جريان الاستصحاب فيها،
فإن كان مذهب المحقق هو اعتباره فيها فهو، وإلا يكون النسبة بين دليله
ومطلبه عموما مطلقا.

(1) كذا في النسخة، والصحيح: كونها.
(2) الزيادة اقتضاها السياق.
204

بل بناء على ما ذكره في حاشية شرح الدروس عند كلام الشهيد:
" ويحرم استعمال الماء المشتبه بالنجس " من جريان الاستصحاب في بعض
موارد استصحاب القوم، يكون النسبة بين دليله ومطلبه عموما من وجه،
فيعمل بالاستصحاب في ما لا يجري دليله فيه، وهو ما يظهر مما ذكر في
حاشية شرح الدروس، وقد نقلنا عبارته في أول المبحث عند حكاية المصنف
لعبارته في شرح الدروس، فراجع (1).
ولا يعمل بالاستصحاب في ما يجري فيه دليله، أعني صورة الشك في
المزيلية من جهة الاشتباه الخارجي، ويعمل بالاستصحاب في ما يجري فيه
دليله، وهو الشك في وجود المزيل أو صدقه.
ولكن مع ذلك كله، فالمهم هو فهمي القاصر، وإدراكي الفاتر، والله
هو العالم بالسرائر.
[قوله قدس سره: " ومثال الثاني: استمرار الطهارة إلى زمان الحدث مع
الشك في كون المذي حدثا، إذا حصل المذي، من جهة تعارض الأدلة "] (2).
[أقول]: قد عرفت في أول المبحث: أن الشك في كون المذي رافعا
ليس من قبيل الشك في صدق المزيل، لان الشارع لم يحكم برافعية مفهوم
كلي - هو الحدث - في مقام بيان الروافع، بل حكم - مثلا - بأن البول ناقض،
والريح ناقض، والنوم ناقض. وأما المذي فقد تعارضت فيه الاخبار، فهو
مثال للقسم الرابع.
ولا فرق بين الشك في كون استحالة الكلب مطهرا والشك في كون

(1) راجع الصفحة: 60 - 62.
(2) ما بين المعقوفتين بياض في الأصل بما يقرب من سطر كامل، والظاهر أنه ترك لنقل
مقدار من المتن. وقد نقلنا المقدار المناسب له من القوانين.
205

المذي رافعا وحدثا، وإلا فيمكن أن يقال في الشك في مطهرية الاستحالة:
إنه شك في أنها فرد من المطهر أم لا، فكلما هو المناط في كونها من القسم
الرابع فهو بعينه موجود في المذي، وكذلك كلما يمكن أن يقال في المذي لجعله
مثالا للقسم الثاني فيمكن أن يقال فيه.
نعم، الفرق بينهما هو: أنه ليس في مثال الاستحالة أمر آخر يعلم
كونه طهرا سوى الاستحالة، فإذا قيل: إن الشك في فردية الاستحالة
للمطهر، لا يوجد فرد آخر، فانحصر أن يحكم الشارع على خصوصها
بالمطهرية. بخلاف مثال المذي، إذ هناك أمور اخر مقطوعة الرافعية، فيمكن
أن يحم الشارع على القدر المشترك بينها بالرافعية، فيشك في فردية المذي
لهذا القدر المشترك، فتأمل جدا (1).

(1) في هامش الأصل ما يلي: وجه التأمل: هو أنه بعد ملاحظة مثل قوله عليه السلام؟
" الا ينقض الوضوء إلا حدث، والنوم حدث " لابد أن يحكم بأن للحدث مفهوم جعلي،
وهذه النواقض أفراده، لا أن مفهومه هو الناقض، إذ لا معنى للحكم عليه حينئذ
بالنقض.
مضافا إلى ما قيل: من أن هذا الحديث رد على العاقة القائلين بأنه ينقض
الوضوء بعض ما ليس بحدث فإنه لا يستقيم جعل الحدث حينئذ بمعنى الناقض
إذ العامة لا يقولون: إن غير الناقض ناقض.
وأما تعريف الفقهاء للحدث في أحد معنييه بالناقض، فلعله تعريف باللازم.
لكن مع ذلك كله أيضا فلا يحسن جعل هذا مثالا للشك في الصدق، لان المراد به
أن يكون الشك في الحكم الشرعي - أعني الرافعية - ناشئا منه، بحيث لا بد من
تشخيصه أولا ليشخص الحكم الشرعي بتشخيصه، والمذي ليس من هذا القبيل، لان
رفع الشك في الصدق لابد أن يكون برفع الشك في الحكم الشرعي، إذ لا سبيل
لمعرفة صدق مفهوم الحدث عليه وعدمه إلا من جهة حكم الشارع عليه بالرافعية
أو عدمها، فالامر فيه بالعكس.
206

[قوله قدس سره: " فيه: أن ما كان حاصلا من قبل هو الشك... الخ "] (1).
[أقول]: حاصل ما ذكره المصنف قدس سره:. في الجواب هو أن لنا في تلك
الصور شكين ويقينا. أما اليقين: فهو بوجود ما يشك في كونه مزيلا. وأما
الشكان: فأحدهما الشك في كونه عند الشارع مزيلا، وأما الاخر فهو الشك
في بقاء الامر المتيقن السابق الذي شك في ارتفاعه بذلك المشكوك، وهذا
الشك الاخر متولد من الامرين السابقين، أعني اليقين بوجود ما يشك في
كونه مزيلا والشك في كونه مزيلا.
لكن الامر الثاني من هذين الامرين - وهو الشك في مزيلية ذلك
الشئ - كان حاصلا من قبل، ولم يكن بسببه نقض لليقين السابق، لاجتماعه
معه في السابق، إذ في حال القطع بالطهارة - مثلا - كنا شاكين في كون المذي
مزيلا، فلما وجد الامر المشكوك في كونه مزيلا بعد الطهارة - والمفروض
وجود الشك في كونه مزيلا - أوجبا شكا فعليا في بقاء الطهارة، فالذي
يعارض اليقين السابق هو هذا الشك، ولا شك أن زمانه متأخر بالطبع عن
زمان الجزء الأخير من علته التامة - وهو اليقين بوجود ما شك في كونه
مزيلا - فلو نقضنا اليقين السابق فليس إلا من جهة هذا الشك المتولد من
شك ويقين، لا بنفس اليقين، كما زعمه المحقق السبزواري.
ثم إن ما ذكرنا من الجواب جار في جميع الصور الأربع الباقية من
الصور الخمس التي ذكرها المحقق وحكم بجريان الاستصحاب في واحدة
منها. " وهي الشك في وجود الرافع من الأقسام الأربعة للشك في طرو

(1) في الأصل هنا بياض بمقدار سطر، والظاهر أنه ترك لنقل مقدار من المتن وقد أثبتنا
المقدار المناسب له، من القوانين.
207

المانع " وبعدم جريانه في الأربع الباقية " وهي ثلاث صور من صور الشك في
الرافع " وصورة واحدة " وهي صورة عدم دلالة الدليل على الاستمرار "، لما
ذكره من أن نقض اليقين في هذه الأربع باليقين بوجود ما يشك في كونه
رافعا في الصور الثلاثة من الشك في الرافع، أو بوجود ما يشك في استمرار
الحكم معه في صورة عدم دلالة الدليل على الاستمرار.
ويظهر من بعض (1): اختصاص الجواب المذكور عن المحقق بصور
الشك في الرافع - الثلاث - دون صورة عدم الدليل على الاستمرار.
وهو فاسد، لان الجواب المذكور جار في الكل، فلاحظ.
ومنشأ زعمه - هذا - زعم أن كلام المحقق السبزواري إنما هو في
التفصيل بين صور الشك في الرافع من غير تعرض لرد الاستصحاب في
صورة عدم الدليل على الاستمرار.
ولا يخفى أن عبارته صريحة في رد هذه الصورة أيضا بما ذكره من
الدليل، فإن حاصل عبارته هو: أن الدليل للحكم الأول إما أن يدل على
الاستمرار أو لا، وعلى الأول فالشك في رفعه على صور، ثم عد الصور، ثم
قال: " إن الاستصحاب يجري في الصورة الأولى من هذه الصور دون غيرها،
لان في غيرها من الصور نقض الحكم باليقين بوجود ما يشك في كونه رافعا،
أو باليقين بوجود ما يشك في استمرار الحكم معه " (2) هذا مضمون عبارته
المحكية سابقا في كلام المصنف.
ولا يخفى أن قوله: " أو باليقين بوجود ما يشك في استمرار الحكم

(1) لعله صاحب الفصول قدس سره في الفصول 2: 102.
(2) ذخيرة المعاد: 115.
208

معه " تصريح برد الاستصحاب في صورة عدم الدليل على الاستمرار.
وأما الجواب المذكور عنه، فهو أيضا دافع لدليله في جميع الصور.
هذا، ثم إنه يمكن أن يجاب عن المحقق - مضافا إلى ما ذكر من
الجواب - بوجهين آخرين:
أحدهما: النقض بصورة الشك في وجود الرافع التي قال بجريان
الاستصحاب فيها، فإن نقض اليقين فيها أيضا إنما هو باليقين بوجود ما شك
بسببه في وجود الرافع، فإن الشك في وجود الرافع لابد وأن ينشأ من سبب
يقيني الوجود، فلو كان مجرد اليقين بوجود شئ له مدخل في الشك في بقاء
الحالة موجبا لعدم صدق نقض اليقين بالشك، فهو في تلك الصورة أيضا
موجود.
فإن قلت: إن سبب النقض في هذه الصورة ليس هو ذلك الامر اليقيني
الذي صار منشأ للشك في وجود الرافع، بل هو معلوله ومسببه، أعني نفس
الشك.
قلنا: ففي غيرها من الصور أيضا سبب النقض هو نفس الشك الحاصل
من اليقين بوجود ما يشك في كونه مزيلا، لأنه الجزء الأخير من العلة التامة
للشك - كما عرفت - لا نفس ذلك الامر اليقيني.
الثاني: أن الظاهر من الأخبار الواردة في الباب هو النهي عن نقض
اليقين إلا باليقين على الخلاف، ومعلوم أنه لا واسطة بين اليقين بالخلاف
وعدم اليقين به، ففي غير صورة الشك في وجود الرافع من الصور لا شك في
عدم اليقين بالخلاف، فيشملها النهي المذكور، سواء قيل: إن النقض فيها نقض
بالشك، أو باليقين بوجود ما يوجب الشك.
وبتقرير آخر: إما أن تقول: إن نقض اليقين في الصور الباقية نقض
209

لليقين بالشك، أو تقول: بأنه نقض له باليقين على الخلاف، أو تقول: بأنه
نقض له، لا بالشك ولا باليقين على الخلاف، فلا يشمله النهي عن الأول
ولا الامر بالثاني.
إن قلت: بالأول ثبت المطلوب.
وإن قلت بالثاني فهو خلاف المفروض في تلك الصورة لان المفروض
فيها عدم كون الامر الحادث اليقيني قطعي الرفع، وإلا فكيف تكون مجاري
للاستصحاب؟
وإن قلت بالثالث، فنقول: إن الاخبار بعد ما دلت على النهي عن
نقض اليقين بغير اليقين على الخلاف، فيكون هذا أيضا داخلا في النقض
المنهي عنه.
ولا تتوهم أن هذا الجواب مبني على دلالة الاخبار على الاستصحاب
تعبدا، سواء حصل الظن [ب‍] الخلاف أم لا، فتمنع ذلك وتقول: لا نسلم أن
مدلول الاخبار النهي عن نقض اليقين بغير اليقين، وإن كان هذا المنع أيضا
فاسدا.
لكن الجواب ليس مبنيا على ذلك، فإنا إذا قلنا: بأن حجية
الاستصحاب مشروطة بإفادة الظن، وقلنا - بالفرض -: إن مدلول الاخبار
هذا، فيتم الجواب أيضا، نظرا إلى أن المفروض في تلك الصورة عدم الظن
بالخلاف أيضا، فنقول على هذا الفرض: إن الاخبار ناهية عن نقض اليقين
بغير اليقين والظن، فتشمل حرمة النقض فيها أيضا، لان المفروض عدم الظن
يكون ذلك الامر اليقيني فيها رافعا، ولو ظن بذلك فيها فتخرج عن محل
الاستصحاب على فرض حجيته من باب الظن.
210

ثم، إنه قد يجاب (1) عن المحقق بأن بعض الأخبار الواردة - كالخبر
السابق - مورده الشك في كون الشئ رافعا، فإن السؤال في الخبر السابق
كان عن كون الخفقة والخفقتين من موجبات الوضوء. وكذا قول الراوي:
" فإن حرك إلى جنبه شئ وهو لا يعلم " فكيف يمكن خروج مورد السؤال
عن عموم الجواب.
وقد عرفت فساد هذا سابقا، وأن الظاهر من الجواب الذي ذكره
المعصوم عليه السلام بقوله: " لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجئ من ذلك
أمر بين " أن سؤال الراوي كان عن الشك أو الظن في وجود النوم، وعن أن
تحريك الشئ إلى جنب المضطجع مع عدم شعوره يكون أمارة على النوم،
فيجب الوضوء، أم لا يعتد بها؟ فأجاب المعصوم بأنه لا يجب الوضوء حتى
يستيقن أنه حدث منه النوم ويدل على ذلك دليل قطعي، لا مثل هذه
الامارة التي تفيد الظن أو لا تفيد.
هذا، مضافا إلى ما عرفت سابقا: من أن سؤال السائل إذا كان عن
رافعية شئ للوضوء في الشريعة، فكان ينبغي أن يجيبه المعصوم بحكم ذلك
الشئ في الواقع أنه رافع أو غير رافع، لا أن يجيبه بالاستصحاب، فافهم.
[قوله] قدس سره: " وصحيحة أخرى مذكورة في زيادات كتاب الطهارة
من التهذيب (2) - وهي طويلة - وفيها مواضع من الدلالة ".
[أقول]: هي ما رواه الحسين بن سعيد، عن حماد، عن حريز، عن
زرارة، قال: " قلت: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شئ من مني،

(1) الظاهر أن المجيب هو صاحب الفصول قدس سره، (انظر: الفصول: 102).
(2) التهذيب 1: 421، الحديث 1335، ونقلها في الوسائل متفرقا في مواضع متعددة.
211

فعلمت أثره إلى أن أصيب له [من الماء] (1) فأصبت، وحضرت الصلاة
ونسيت أن بثوبي شيئا وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك؟
قال عليه السلام: تعيد الصلاة وتغسله.
قلت: فإن (2) لم أكن رأيت موضعه، وعلمت أنه قد أصابه، فطلبته
فلم أقدر عليه، فلما صليت وجدته؟
قال: تغسله وتعيد.
قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر شيئا،
ثم صليت فيه فرأيت فيه؟
قال: تغسله ولا تعيد.
قلت: ولا ذلك؟ (3)
قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت (4) فليس ينبغي لك
أن تنقض اليقين بالشك أبدا.
قلت: فإني قد علمت أنه قد أصابه، ولا أدر أين هو فأغسله؟
قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون
على يقين من طهارتك.
قلت: فهل علي إن شككت في أنه أصابه (5) شئ أن أنظر فيه؟
قال: لا، ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك.

(1) من المصدر.
(2) في التهذيب " فإني " بدل " فإن ".
(3) في التهذيب " قلت: لم ذلك ".
(4) في التهذيب: ثم شككت.
(5) هكذا في التهذيب. وفي عبارة المصنف قدس سره: أصاب.
212

قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟
قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته. وإن
لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته، ثم بنيت على الصلاة، لأنك
لا تدري لعله شئ أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك ".
هذا، وهذه الرواية وإن كانت مقطوعة، إلا أن القرينة قائمة على أن
مثل زرارة لا يسأل غير المعصوم، مضافا إلى ما قال في الوافي: " إنها متصلة
بأبي جعفر عليه السلام في كتاب علل الشرائع للصدوق طاب ثراه " (1).
وأما مواضع دلالتها على المطلوب:
فمنها: قوله عليه السلام في مقام تعليل عدم وجوب الإعادة: " لأنك كنت
على يقين من طهارتك فشككت، وليس ينبغي... الخ "، فإن الفقرتين في قوة
صغرى وكبرى يلزم منهما بعد إلغاء خصوصية المورد - أعني الطهارة - بفهم
العرف: أن من كان على يقين من شئ فشك في زواله، فلا ينقض يقينه
السابق بالشك.
ومنها: قوله عليه السلام في الجواب عن سؤال زرارة - حيت سأل عما إذا
علم إجمالا إصابة النجاسة ولم يعلم تفصيلا موضع الإصابة -: " حتى تكون
على يقين من طهارتك " فإن فيه دلالة على أن النجاسة إذا كانت متيقنة
فلا بد من تحصيل اليقين برفعها، ولا يكتفى فيه بالشك. وكلمة " حتى " مشعرة
بالتعليل بالعلة الغائية، فالمعنى: أن المطلوب في صورة سبق العلم بالنجاسة هو
حصول اليقين بارتفاعها.

(1) الوافي 4: 26، أبواب الطهارة عن الخبث، باب التطهير من المني، انظر: علل
الشرائع: 361، الباب 80، الحديث الأول.
213

ومنها: قوله عليه السلام أخيرا: " لأنك لا تدري لعله لشئ أوقع عليك،
فليس ينبغي لك... الخ " فإن هذا إشارة إلى استصحاب تأخر الحادث،
ومرجعه إلى وجوب إبقاء الحالة اليقينية إلى زمان اليقين بارتفاعها.
214

[الثالث: الروايات الكثيرة]
[قوله] قدس سره: " الثالث: الروايات الكثيرة الدالة باجماعها، فإنها وإن
كانت واردة في موارد خاصة، لكن استقراءها والتأمل فيها يورث الظن
القوي بأن العلة في تلك الأحكام هو الاعتماد على اليقين السابق ".
[أقول]: أورد عليه أولا: أنه إن أريد فهم العلة من اللفظ - صريحا
أو إيماء - فلا مشعر في ألفاظ تلك الأخبار بها، وإن أريد فهمها من الخارج
ظنا فهو قياس مستنبط العلة مردود باجماع الشيعة، وإن أريد قطعا حتى
يرجع إلى تنقيح المناط فهو ممنوع جدا.
وثانيا: أنه لو كان في اللفظ إيماء بالعلية فإنما يفهم علية اليقين
المخصوص، كعلية اليقين بالنجاسة للحكم ببقائها، وكذا اليقين بالطهارة.
وثالثا: أن للاستصحاب أقساما مختلفة، وتلك الموارد مختصة ببعض
الأقسام، فإن سلم ثبوت الحجية فتختص بتلك الموارد.
أقول: إذا ادعى المستدل حصول الظن من اجتماع الايماءات المفهومة
215

من الدلالات اللفظية لتلك الاخبار، فلا يمكن أن يقال في مقابله إلا: أن
العهدة على المدعي.
لكن الانصاف، أنه لا يفهم من تلك الأخبار الخاصة إلا حجية
الاستصحاب في ما إذا شك في وجود الرافع - كما هو موردها - أو شك في
رافعية الشئ من جهة الاشتباه الخارجي - كالرطوبة المشتبهة الواقعة على
الثوب - وأما غيرهما فلا.
[قوله] قدس سره: " إذا عرفت هذا وظهر لك الفرق بين المعاني عرفت: أن
المعاني متغايرة متباينة، لا يجوز إرادتها جميعا في إطلاق واحد... إلى قوله
رحمه الله: مع تفاوت إضافة الطهارة والقذارة إلى الأشياء، وكذلك سبب العلم ".
[أقول]: لا يخفى أن كل معنى من المعاني الثلاثة المذكورة بنفسه معنى
تام لا يوجب تخصيصا في عمومات الرواية، نظرا إلى أن عموم " كل شئ "
تابع لما أريد من الحكم في قوله: " طاهر حتى تعلم " وكذا عموم العلم، فإن
كان المراد بالرواية بيان حكم مشكوك الطهارة في متيقن الطهارة فيكون
المراد من قوله: " طاهر حتى تعلم أنه قذر " (1) الحكم ببقاء الطهارة إلى الغاية
المذكورة، فالمقصود بالذات الحكم ببقاء الطهارة لا ثبوتها في الجملة، لأنه
معلوم للمخاطب حينئذ، فيكون المراد ب‍ " كل شئ ": كل شئ شك في طهارته
من حيث البقاء، وليس عمومه حينئذ أزيد من ذلك، نظرا إلى أن المراد من
الشئ هو المشتبه بقرينة قوله: " حتى تعلم "، وأن المعصوم عليه السلام في مقام
بيان الحكم الظاهري، وحينئذ فجهة الاشتباه في الشئ مكشوف عنها بالحكم
بالطهارة، فإذا فرض أن المراد الحكم ببقاء الطهارة فيكشف عن أن المراد كل

(1) المستدرك 2: 583، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 4، نقلا عن المقنع.
216

شئ مشتبه البقاء على الطهارة.
وكذا يكون المراد من قوله: " حتى تعلم أنه قذر "، حتى تعلم حدوث
القذارة له وتجددها.
وإن كان المراد بها بيان حكم مشكوك الطهارة من حيث الثبوت
لا البقاء - سواء كان من جهة الشك في أصل الحكم أو من جهة الشك في
الموضوع - فالمراد بقوله: " طاهر حتى تعلم أنه قذر " الحكم بثبوت الطهارة
له إلى حين العلم بثبوت القذارة له بنفسه، أو ثبوت كونه من مصاديق القذر،
فالمراد بقوله: " كل شئ ": كل شئ مشكوك الطهارة من حيث الثبوت،
وليس عمومه أزيد من هذا القدر حينئذ.
وعلى هذا المعنى فالحكم بالبقاء ليس مقصودا أولا وبالذات، نعم بعد
ما قيد الثبوت إلى حين ثبوت العلم فيفهم البقاء إليه.
ولا شك في أنه لا يلزم من استعمال قوله: " طاهر حتى تعلم " في كل
واحد من المعنيين السابقين منفردا تخصيص ولا تقييد، وكذا من استعمال
قوله: " حتى تعلم أنه قذر " في كل من المعاني المذكورة، أعني حتى تعلم
حدوث القذارة، أو حتى تعلم ثبوت القذارة بنفسه، أو حتى تعلم ثبوت
مصداقيته للمفهوم الذي حكم بقذارته.
إذا عرفت هذا، فنقول: إن حمل هذا الكلام على ما يفيد الحكم لجميع
المشكوكات المذكورة بحيث يحكم على كل شك بحكم مطابق لحيثية ذلك
الشك - بأن يحكم على مشكوك البقاء على الطهارة بالبقاء عليها، وعلى
مشكوك الطهارة من حيث الثبوت بثبوتها له إلى حصول العلم بحدوث
القذارة في الأول، والعلم بثبوت القذارة له في بعض أفراد الثاني وهو الشك
في الحكم الشرعي، والعلم بثبوت فرديته للقذر في البعض الاخر منه وهو
217

الشك في الموضوع،
والحاصل: أن يفيد حكم جميع الشكوك على النهج الذي أفاده لو
اختص به، بأن يراد من " كل شئ " كل مشكوك الطهارة، سواء كان من
حيث البقاء أو من حيث الثبوت - لا يحصل إلا بحمل قوله: " طاهر " على
معنيين:
أحدهما: أنه باق على الطهارة، فيحمل باعتبار هذا المعنى على طائفة
من أفراد الموضوع، وهو الأشياء المشكوكة البقاء على الطهارة، ولابد حينئذ
في هذا الاستعمال من حمل قوله: " تعلم أنه قذر ": تعلم أنه حدث له
القذارة، إذ لا يخفى ركاكة حمله حينئذ على مطلق الثبوت.
والاخر: أنه ثابت له الطهارة، فيحمل بهذا الاعتبار على الطائفة
الأخرى من الأشياء المشكوكة الطهارة من حيث الثبوت، لكن يستعمل
حينئذ قوله: " تعلم أنه قذر " في معنيين: يناسب أحدهما: الشك في الحكم
الشرعي وهو ثبوت القذارة للشئ بنفسه، والاخر: الشك في الموضوع وهو
ثبوت كونه من مصاديق القذر، فيكون نظير قوله تعالى: (لا تقربوا الصلاة
وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل) (1) حيث
أريد من لفظ الصلاة معنيان: نفس الأركان المخصوصة، وبهذا الاعتبار حرم
الدخول فيها عند السكر، ومحلها - أعني المسجد - وبهذا الاعتبار حرم
الدخول فيها جنبا إلا عابري سبيل.
فحاصل الكلام: أن حمل الخبر على معنى عام يشمل جميع المعاني
الثلاثة - بحيث يفيد حكم كل من الشكوك على النهج الذي كان يفيده

(1) النساء: 43.
218

لو استعمل فيه مستقلا ومنفردا - لا يحصل بمجرد إرادة جميع الأشياء من لفظ
" كل شئ " مع تفاوت نسبة الطهارة والقذارة إلى الأشياء، فإن نسبة الطهارة
إلى مشكوك البقاء على الطهارة إنما هي على وجه البقاء، وإلى مشكوك
الثبوت على وجه الثبوت، وكذا نسبة القذارة إلى مشكوك البقاء على الطهارة
على وجه الحدوث، وإلى مشكوك الطهارة من حيث الحكم الشرعي على
وجه الثبوت، وعلى مشكوك الطهارة من حيث الفردية للطاهر على وجه
الفردية.
نعم، يمكن حمله على معنى آخر يفيد الحكم بالطهارة في جميع الشكوك،
لكن لا على وجه كان يفيد كلا منها لو استعمل فيه منفردا، بان يقال: إن
جميع هذه الطوائف الثلاثة - أعني الأشياء المشكوكة الطهارة من حيت البقاء،
والمشكوكة الطهارة من حيث أنفسها، والمشكوكة الطهارة من حيث فرديتها
للطاهر - مشتركة في أن الشك في ثبوت الطهارة لها، فإن ما شك في بقاء
طهارته يكون في أن الشك - مع قطع النظر عن كونه طاهرا في السابق -
يشك في ثبوت الطهارة، وإن كان هذا الثبوت المشكوك إذا لوحظ معه
الثبوت أولا يسمى بقاء.
وكذا إذا حصل العلم بقذارة هذا الشئ فقد حصل العلم بثبوت
القذارة، وإن كان هذا الثبوت إذا لوحظ معه عدمه في السابق يسمى حدوثا.
وكذا ما شك في كونه فردا للطاهر إذا حصل العلم بكونه قذرا،
فباعتبار تعلق علمه أولا بفردية هذا المشكوك للقذر يحصل العلم بالفردية،
وباعتبار أن هذا العلم مستلزم للعلم بثبوت القذارة الكائنة للمفهوم الكلي
وسرايتها منه إليه يكون قد حصل العلم بثبوت القذارة لذلك المشكوك.
فإذا قلنا: إن معنى الخبر هو: أن كل شئ شك في ثبوت الطهارة له
219

- من أي جهة كان - فهو ثابت له الطهارة إلى أن يحصل العلم بثبوت القذارة
له - من أي جهة كان - فقد ش حكم جميع الشكوك، لكن لا على النهج
الذي كان يفيد حكم كل منها لو استعمل فيه منفردة إذ لا يخفى ركاكة أن
يقول في مقام حاجة المخاطب إلى حكم الشك في البقاء: " كل شئ مشكوك
البقاء على الطهارة، فالطهارة ثابتة له إلى حين العلم بثبوت النجاسة له " وكذا
في الشبهة في الموضوع، كما لا يخفى. (1)

(1) هذا هو آخر الصفحة: 78 من المخطوطة.
220

[الاستصحاب في الأمور الخارجية]
وأصالة (1) عدم الاشتراك، أو في تشخيص المراد من الألفاظ كأصالة
عدم القرينة ومنه أصالة عدم السقوط والزيادة، فإن جميع ذلك مشترك مع
الموضوعات الصرفة في جريان ما ذكره من بعد بيانها عن منصب الشارع.
والجواب الذي ذكرناه هو أيضا مشترك بين الكل.
فالظاهر دلالة الاخبار على حجية الاستصحاب في الموضوعات
المستنبطة، لعين ما ذكرنا من وجه دلالتها على حجيته في الموضوعات
الصرفة، إذ الفارق غير ظاهر، فتدبر.

(1) هذا هو أول الصفحة: 79 من المخطوطة. ولا يخفى عدم ارتباط المطالب الآتية
بالمطالب السابقة، فمن المسلم سقوط أوراق من النسخة، ويؤيده عدم وجود شرح
لأزيد من صفحة من القوانين، وفي ضمنها: البحث عن الدليل الرابع، وهو الاجماع
على اعتبار الاستصحاب في بعض المسائل، واحتجاج النافين بآلات والاخبار،
وحجة القول بالحجية في غير الأمور الخارجية، تراجع.
221

خلافا لبعض مشايخنا (1) حيث منع من ظهورها بالنسبة إلى
الموضوعات المستنبطة، وادعاه بالنسبة إلى الموضوعات الصرفة فقط من
الأمور الخارجية، مستندا إلى أن ارتباطها بالأحكام الشرعية قريب، فلا. ببعد
بيان حكمها عن منصب الشارع، فإن الحكم بوجوب إبقاء زيد - المفقود - في
قوة حكمه بحرمة التصرف في ماله، بل المقصود الذاتي من ذلك الحكم هذا
الحكم - على ما عرفت سابقا - بخلاف ارتباط الموضوعات المستنبطة
بالاحكام، فإنه بعيد.
مثلا إذا حكم الشارع في ضمن قوله: " لا تنقض اليقين بالشك "
بوجوب إبقاء اللفظ على ما كان من اتحاد المعنى وأن لا يحكم عليه بنقل
أو اشتراك، فلا يفهم من ذلك أن مقصوده الذاتي من ذلك هو الحكم في
مرحلة الظاهر بأن السورة واجبة، نظرا إلى أن الامر الوارد بالسورة في
الرواية الفلانية - المشكوك في كونه موضوعا للوجوب فقط أو له
وللاستحباب - يجب بمقتضى الاستصحاب الحكم باتحاد معناه وكونه حقيقة
خاصة في الوجوب، فيترتب على ذلك وجوب حمل الامر المجرد عليه،
فيترتب على ذلك وجوب الحكم بإرادة المعصوم عليه السلام " الوجوب من الامر
بالسورة، فيترتب عليه وجوب السورة على المكلف.
أقول: وفيه نظر، أما أولا: فلان ارتباط الموضوع الصرف - الذي
يحكم المعصوم بوجوب إبقائه حين الشك - قد يمكن أن يفرض أبعد من
ارتباط الموضوع المستنبط بالحكم، كما لا يخفى، فإن من قال بدلالة الروايات
على حجية الاستصحاب في الموضوعات الصرفة لم يفصل بين كون ارتباطها

(1) لم نقف عليه.
222

بالحكم الشرعي قريبا أو بعيدا، فإذا فرضنا أن بقاء زيد - المشكوك البقاء -
يترتب عليه أمر خارجي آخر ويترتب على هذا الامر الخارجي أمر آخر،
وهكذا إلى عشر وسائط، ثم يترتب على الواسطة العاشرة حكم شرعي،
فلم يقل من قال بالاستصحاب في الموضوعات الصرفة بخروج مثل ذلك.
فإن قلت: ليس الفارق هي قلة الواسطة وكثرتها، وليس هذا
مقصودنا من قرب الارتباط بالحكم الشرعي وبعده، بل المقصود هو أن
حكم المعصوم عليه السلام في ضمن عموم " لا تنقض " بوجوب إبقاء زيد لا معنى
له يستقيم عقلا وعرفا ولا يكون معه الكلام لغوا، إلا وجوب ترتيب آثار
البقاء الشرعية عليه، فيكون الكلام دالا على الترتيب المذكور بدلالة
الاقتضاء، سواء كان ترتب الآثار الشرعية بلا واسطة، أو مع واسطة واحدة
أو متعددة، قليلة أو كثيرة، بخلاف حكمه عليه السلام " في ضمن العموم المذكور
بوجوب إبقاء اللفظ على ما كان عليه والحكم بكونه غير منقول ولا مشترك،
بل متحد المعنى، فإن مثل هذا الحكم له معنى مستقل وهو حكم لغوي، وإن
كان يترتب على هذا الحكم اللغوي حكم شرعي، كما أن المسألة الأصولية
- كحجية خبر الواحد - مسألة مستقلة، ومع ذلك يترتب عليها الأحكام الفرعية.
فبعد ما علم بالاستقراء أن شأن الشارع هو بيان الحكم الشرعي
لا الحكم اللغوي وإن كان يترتب عليه حكم شرعي، فلا يظهر من الاخبار
شمولها لحكم الموضوعات المستنبطة.
قلت: أولا: إن هذا منقوض بمثل استصحاب عدم القرينة وعدم
السقوط والزيادة، إذ الحكم بجميع ذلك ليس أمرا يمكن أن يكون مقصودا
بالذات، وليس هذه الأحكام أحكاما لغوية، وإن سلمنا كون الحكم بعدم
223

النقل والاشتراك حكما لغويا.
وثانيا: إنه كما أن حكم الشارع بوجوب إبقاء زيد ظاهرا عند الشك
في بقائه على أن يكون المقصود بالذات هو هذا القدر لا فائدة فيه، فكذلك
حكمه بوجوب إبقاء اللفظ في مرحلة الظاهر على ما كان عليه من عدم
الوضع للمعنى الفلاني على أن يكون هذا الحكم مقصودا بالذات أيضا لا
فائدة فيه.
وكما أن حكم الشارع بوجوب ترتيب جميع آثار البقاء على زيد
- حتى الآثار التي لا يختلف حكمها الشرعي بوجود زيد وعدمه - أيضا غير
مقصود، فكذلك حكمه بوجوب ترتب آثار عدم النقل والاشتراك على هذا
اللفظ - حتى الآثار التي لا يختلف حكمها الشرعي بنقل اللفظ إلى المعنى
المبحوث فيه وعدمه - أيضا غير مقصود، فإن حمل اللفظ الوارد في كتب
التاريخ على هذا المعنى المبحوث عن نقل اللفظ إليه، أو على المعنى الاخر
الذي شك في نقل اللفظ عنه إلى المعنى المبحوث عنه لا يختلف حكمه
الشرعي في حالتي النقل وعدمه، لأنك على أي تقدير بالخيار - شرعا - في
حمل اللفظ الوارد في ذلك التاريخ على أي معنى شئت، ولا يترتب على هذا
الحمل شئ من الشارع، سواء نقل هذا اللفظ إلى المعنى المبحوث أو لم ينقل،
نظير إرسال الكتابة إلى زيد.
فانحصر الامر في أن يكون المقصود الذاتي من حكم الشارع بوجوب
بقاء اللفظ على ما كان عليه (1) ترتيب الآثار المترتبة على بقائه التي رتبها
الشارع على البقاء، كما كان كذلك في الموضوعات الصرفة.

(1) في الأصل: " وترتيب " والظاهر زيادة " الواو ".
224

وبالجملة: فلم نجد فرقا بين الموضوعات الصرفة والموضوعات
المستنبطة، والظاهر أن من قال بشمول الاخبار للأمور الخارجية لا يفرق بين
القسمين.
[قوله] قدس سره: " مع أن عدم جواز نقض اليقين في كلامه عليه السلام
كما يرجع إلى الطهارة عن الحدث والخبث... إلى قوله رحمه الله: فيرجع إلى عدم
النجاسة وعدم وصول المنجس (1) وعدم حصول ما يرفع الطهارة، كالنوم...
الخ ".
[أقول]: أما رجوع عدم جواز نقض الطهارة بالمعنيين إلى عدم
النجاسة وعدم المحدثية، فيسلمه الخصم، لكنهما أيضا استصحابان في
الشرعيات لا الأمور الخارجية.
وأما رجوعه إلى عدم وصول النجس وعدم حصول ما يوجب
الحدث: فإن أريد به اتحاد مفادهما مع مفاد الطهارة، فليس محلا للكلام، لأنه
لا يوجب تعلق حكم الشارع بالاستصحاب فيهما، بل لما حكم الشارع
باستصحاب الطهارة وكون الشخص متطهرا في آن الشك، فيلزمه - من باب
عدم اجتماع الشئ مع ملزوم ضده - كونه محكوما في مرحلة الظاهر بعدم
وصول النجس وعدم حصول الرافع، فإن الخصم وإن كان لا يقول
بالاستصحاب في الأمور الخارجية، إلا أنه يقول باستصحاب آثارها
المجامعة معها في الآن السابق، فإنه يحكم أيضا بحرمة التصرف في مال
المفقود، نظرا إلى استصحابها، فيلزم [من] ذلك في مرحلة الظاهر فرض زيد

(1) في القوانين: وعدم وصول النجس وعدم حصول ما يوجب الحدث أيضا كالنوم
وغيره.
225

موجودا، ويتحد مفاد استصحاب حرمة التصرف مع استصحاب زيد، وإن
كان هذا الخصم يقول بالأولى ولا يقول بالثاني.
وإن أريد به أن الشارع لما حكم باستصحاب الطهارة فهذا راجع إلى
حكمه عليه السلام باستصحاب الامر الخارجي - أعني عدم حصول الرافع في
الخارج - فهو ممنوع عند الخصم.
[قوله] قدس سره: " مثل ما في صحيحة زرارة " (1).
[أقول]: محل استشهاد المصنف بهذه الرواية هو قوله عليه السلام: " لأنك
لا تدري لعله شئ وقع عليك " يعني في أثناء الصلاة، ولم يكن موجودا
عند افتتاح الصلاة، فكأنه عليه السلام اعتبر استصحاب تأخر الحادث عند القطع
بحدوث شئ والشك في مبدئه. ولا يخفى أن هذا الاستصحاب في الأمور
الخارجية.
لكن التحقيق والانصاف: أن هذا الكلام لا يصلح شاهدا للمصنف، إذ
كما يحتمل أن يكون قوله عليه السلام: " لأنك لا تدري لعله... الخ " بيانا ومحققا
لمورد استصحاب تأخر رطوبة الثوب بالشئ النجس، كذلك يحتمل أن
يكون بيانا ومحققا لمورد استصحاب بقاء الطهارة، لان الشك في بقاء الطهارة
ناش عن الشك في مبدء حدوث الرطوبة، فإن الشك في بقاء الامر الشرعي
قد يكون مسببا عن الشك في بقاء أمر خارجي أو في حدوث أمر خارجي
- كالشك في بقاء حرمة التصرف في مال زيد الناشئ عن الشك في بقاء زيد،
وكالشك في بقاء الطهارة الناشئ عن الشك في حدوث الرافع أو ملاقاة
النجاسة " فهذا القائل يقول بالاستصحاب في نفس الامر الشرعي، لا في

(1) التهذب 1: 420، الحديث 1335.
226

الامر الخارجي وإن كان الشك في الأول ناشئا عن الشك في الثاني.
فرب شك ينشأ عن شك لا يجوز الاستصحاب فيه ويجوز في الناشئ
عنه باعتراف الخصمين، كالشك في بقاء طهارة الثوب الناشئ عن الشك في
أن الرطوبة التي لاقته قطعا بول أو ماء، فإنه لا يمكن حينئذ التمسك
باستصحاب عدم ملاقاة البول، ويمكن التمسك باستصحاب الطهارة، فافهم.
[أقوله] قدس سره: " بل قال المحدث البارع الحر العاملي في كتابه الفصول
المهمة في أصول الأئمة... الخ " (1).
[أقول]: لا يخفى أن ما ذكره هذا المحقق لا ينفع المصنف، نظرا إلى أن
مقصود المحقق هو أن هذه الروايات لا تدل على الاستصحاب في نفس
الحكم، وقد عرفت سابقا (2): أن مقصود الأخباريين من الاستصحاب في
نفس الحكم الشرعي - الذي لا يرون حجيته وينفون دلالة الاخبار عليه -
هو ما إذا كان الشك والشبهة في نفس الحكم الكلي ومسببا عن اختفاء
الأدلة الشرعية، كالشك في بقاء جواز المضي في الصلاة بعد رؤية الماء في
أثنائها، والشك في بقاء النجاسة في الماء بعد زوال تغيره، والشك في بقاء
الطهارة بعد وقوع المذي والشك في رافعيته.
وضابطه: كل شك لابد في رفعه وإزالته في مرحلة الواقع من الرجوع
إلى المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين أو إلى أخبارهم، لا ما إذا كان الشك في بقاء
الحكم الجزئي المتعلق بموضوع خاص من جهة الشك في أمر خارجي، كشك
زيد في بقاء طهارته أو طهارة ثوبه من جهد الشك في حصول الرافع أو

(1) الفصول المهمة في أصول الأئمة: 250، الباب 45.
(2) انظر الصفحة: 72 - 73.
227

وصول المنجس، أو الشك في بقاء وجوب شئ على المكلف من جهة الشك
في وجود ما جعل مزيلا له، بل استصحاب مثل الطهارة والوجوب
- المذكورين - قد ادعى بعض فحولهم - كالمحقق البحراني في الحدائق (1)
والفاضل الاسترآبادي في الفوائد المكية (2) - الاتفاق على حجيته وخروجه
عن محل النزاع بل ادعى الثاني كون إعتبار مثله من ضروريات الدين.
فمراد المحقق الحر هو: أن الروايات لا تدل على الاستصحاب في ما إذا
كان الشك من جهة نفس الحكم الشرعي، وإنما تدل على اعتباره في ما كان
الشك من جهة موضوعاته ومتعلقاته، وإن كان هذا المشكوك من الأمور
الشرعية كالطهارة والنجاسة.
والحاصل: أن مراد المحقق ليس نفي دلالة الاخبار على اعتبار
استصحاب مثل الطهارة - التي هي من الأمور الشرعية - وإثبات حصر
دلالتها على اعتبار الاستصحاب في مثل عدم وقوع الحدث، وعدم تجدد
طهارة أو ملك أو نكاح - التي هي من الأمور الخارجية -.
وأما ذكر الأمثلة التي هي من الأمور الخارجية في كلامه، فالظاهر
أنها أمثلة لأسباب الشك لا للمستحبات، وكأن هذا واضح لمن تتبع كلام
الأخباريين في هذا الباب، فتأمل.
ثم إن قول المحقق الحر في آخر كلامه: " كما هو ظاهر أحاديث
المسألتين " (3) الظاهر أنه أراد بالمسألة الأخرى مسألة أصالة البراءة عند
الشك في تحريم شئ، حيث إن الأخباريين ذهبوا في تلك المسألة إلى أن

(1) الحدائق 1: 143.
(2) لا يوجد لدينا.
(3) الفصول المهمة في أصول الأئمة: 251.
228

الشبهة إن كانت في نفس الحكم الشرعي ومسببا عن اختفاء الأدلة الشرعية
فلا بد من التوقف في الفتوى والاحتياط في العمل، وإن كانت في موضوع
الحكم الشرعي فيحكم بالبراءة والإباحة.
[قوله] قدس سره: " ومما ذكرنا يظهر حجة القول بالعكس وجوابه أيضا ".
[أقول]: قد عرفت أن القول الذي ذهب إليه الأخباريون وظهر دليله
من كلام الشيخ الحر هنا - وحاصله: عدم دلالة الاخبار على اعتبار
الاستصحاب في الحكم الشرعي - ليس عكسا للقول الذي ذكره المحقق
الخوانساري من عدم اعتبار الاستصحاب في الأمور الخارجية، بل بين
القولين عموم من وجه، كما أشرنا إليه سابقا، فراجع.
ثم إنه زاد بعض الأخباريين (1) في الاستدلال على قولهم المذكور: بأن
الحكم الشرعي يطلب فيه العلم واليقين، ولابد فيه من الرجوع إلى كلام
المعصوم عيه السلام، فإن لم يستعلم منه فلا بد من التوقف، لما دل على وجوب
التوقف عند الشبهة وأنه خير من الاقتحام في الهلكة (2).
وأما إذا كان الشك في الموضوع والمتعلق، فلما لم يمكن استعلامه
بالرجوع إلى المعصومين أو كلامهم - ضرورة أنه لا يسئل المعصوم عليه السلام
هل توضأت؟ أو هل أحدثت؟ - فلو لم يعمل فيها بالاستصحاب يلزم
التكليف بما لا يطاق.
مضافا إلى دلالة الاخبار على اعتبار الاستصحاب فيها، بل اعتباره
فيها ضروري، هكذا حكي الاستدلال عنهم.

(1) لم نقف علبه.
(2) الوسائل 18: 86، الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 35.
229

أقول: وفيه ما لا يخفى، فإن دلالة الاخبار عامة للموضوعات
والاحكام، كما أشار إليه المصنف بقوله: " وجوابه يظهر مما ذكرنا ".
وأما لزوم التكليف بما لا يطاق: فلعمري أن دعواه أغرب دعوى!
نظرا إلى إمكان الاحتياط، كما يصنعون في الشبهة في نفس الحكم ويحكمون
بوجوبه فيها.
وأما دعوى الضرورة الدينية على حجية الاستصحاب في
الموضوعات: فهي أيضا دعوى لا شاهد عليها، يظهر ذلك مما ذكرناه سابقا
في محل النزاع عند حكاية قول صاحب المعالم، حيث ادعى أن المحقق قد
رجع في آخر كلامه في المعارج عن القول بحجية الاستصحاب (1).
قال الفاضل المولى محمد أمين الاسترآبادي في الفوائد المدنية - على
ما حكى عنه صاحب الوافية -: إن من جملة أغلاط المتأخرين من الفقهاء أن
كثيرا منهم زعموا أن قوله عليه السلام: " لا تنقض اليقين بالشك وإنما تنقضه
بيقين آخر " جار في نفس أحكامه تعالى (2) انتهى.
وقال في الفوائد المكية بعد إيراد الأخبار الواردة في الباب - على
ما حكى عنه صاحب الوافية أيضا -: " لا يقال: هذه القاعدة تقتضي جواز
العمل بالاستصحاب في أحكام الله، كما ذهب إليه المفيد والعلامة من
أصحابنا، والشافعية قاطبة.
لأنا نقول: هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الأصوليين
والفقهاء، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنية تارة بما ملخصه: أن صور

(1) راجع الصفحة: 143.
(2) الفوائد المدنية: 148، ونقله عنه في الوافية: 214.
230

الاستصحاب المختلف فيها عند النظر الدقيق، والتحقيق راجعة إلى أنه إذا
ثبت حكم بخطاب شرعي في موضع في حال من حالاته، نجريه في ذلك
الموضع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه، ومن المعلوم: أنه إذا
تبدل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين،
فالذي سموه استصحابا راجع في الحقيقة إلى إسراء حكم موضوع إلى آخر
يتحد معه بالذات ويغايره بالقيد والصفات، ومن المعلوم عند الحكم: أن هذا
المعنى غير معتبر شرعا وأن القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة له.
وتارة أخرى: بأن استصحاب الحكم الشرعي وكذا الأصل - يعني
الحالة التي إذا خلي الشئ ونفسه كان عليها - إنما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج
عنهما، وفد ظهر في محل النزاع.
بيان ذلك: أنه تواترت الاخبار عنهم بأن كل يحتاج إليه (1) إلى يوم
القيامة ورد مخزونا عند أهل الذكر عليهم السلام " بحصر المسائل في ثلاث: بين
رشده، وبين غيه - أي مقطوع به لا ريب فيه - وما ليس، هذا ولا ذاك،
وبوجوب التوقف في الثالث (2) " (3) انتهى كلامه بألفاظه.
وقد أجيب عن جوابه الأول: بأن الحكم الثابت، في موضع في حال،
إن كان ثبوته للموضع مقيدا بتلك الحال فلا خلاف في عدم جريان

(1) كذا في الأصل، والعبارة التي نقلها عنه في الوافية هكذا: إنه تواترت الاخبار عنهم
عليهم السلام " بأن كل ما يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة ورد في خطاب وحكم حتى
أرش الخدش، وكثير مما ورد مخزون عند أهل الذكر عليهم السلام فعلم أنه ورد في محال
النزاع أحكام نحن لا نعلمها بعينها، وتواترت الاخبار عنهم عليهم السلام بحصر المسائل
... إلى آخر ما في المتن.
(2) الوسائل: 18: 114، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
(3) الوافية: 212 - 213.
231

الاستصحاب فيه عند زوال تلك الحال، وإن لم يكن مقيدا بها فلم يختلف
الموضوع، إذ المفروض أنه هو ذلك الموضع بدون مدخلية تلك الحال (1).
وفي هذا الجواب نظر، إذ بعد ما فرض اختلاف الحالين وثبوت الحكم
في الحال الأول لا بشرط الموجب للشك في أنه ثابت في الحال الثاني أيضا
حتى يكون موضوع الحكم هو القدر المشترك بين الحالين فيتحد الموضوع،
أو غير ثابت فيه حتى يكون موضوع الحكم هو خصوص الأحلة الأولى
فيختلف الموضوع، فيحتاج ثبوته فيه إلى دليل موحد للموضوع.
ومجرد عدم العلم بالاختلاف لا يلزم منه العلم بالاتحاد، كيف!
ولو علم الاتحاد لم يحتج إلى الاستصحاب، كما أن في صورة العلم بالاختلاف
لا يجري.
فالأحسن في الجواب عنه وجهان: الأول: النقض بالصور التي يعترف
هذا الفاضل بجريان الاستصحاب فيها، كما إذا شك في نسخ حكم شرعي،
وكما إذا شك في الحكم الجزئي المتعلق بالموضوع الجزئي من جهة الشك في
حدوث مزيله، كشك المكلف في بقاء طهارته من جهة الشك في حدوث
البول عنه، ونحو ذلك.
بيان النقض: هو أنه لا فرق في عدم جواز تعدية الحكم الشرعي عن
موضع ثبوته فيه إلى ما لم يثبت فيه، بين أن يكون اختلافهما في الحال
أو في الزمان أو غير ذلك، فكما أن تعدية الحكم بجواز المضي - للمتيمم - في
الصلاة قبل رؤية الماء إلى جواز المضي بعد رؤيته في الأثناء يحتاج إلى دليل،
ومع عدمه لا يمكن التعدي، فكذلك تعدية الحكم الثابت في زمان مع عدم

(1) مناهج الاحكام: مبحث الاستصحاب، ذيل قوله: السادسة.
232

العلم بثبوته في الزمن المتأخر إلى هذا الزمن المشكوك يحتاج إلى دليل،
لتساوي التعديتين في كونهما خروجا عن مورد العلم واليقين. وتعديا عنه إلى
موضع الشك والتخمين.
فإن قلت: اختلاف الزمان لا يوجب تكثر الموضوع، فاسراء الحكم
الثابت في الزمن الأول إلى الزمن الثاني ليس إسراء لحكم موضوع إلى
موضوع آخر.
قلت: من المعلوم أن عدم جواز إسراء حكم موضوع إلى موضوع
ليس إلا لوجوب الاقتصار والوقوف على ما وصل من الشارع وعدم جواز
التعدي عنه بمقايسة ما لا يعلم على ما يعلم والعمل بغير المعلوم، ومن البين
وجود جميع ذلك في إسراء حكم علم ثبوته في زمان إلى زمان آخر لم يعلم
ثبوته فيه.
فإن قلت: إن جواز الاسراء هنا للاجماع، بل الضرورة على وجوب
إبقاء الحكم الثابت في الزمان الأول إلى أن يعلم بنسخه.
قلت: لا شك أن الاجماع على وجوب الابقاء لا يوجب العلم بوجود
الحكم في الزمان المشكوك ثبوته فيه في الواقع، وإنما يدل على أنه يجب
إسراء الحكم الثابت في زمان إلى الزمان المشكوك بوصف كونه مشكوكا
وأنه يجب إلحاق هذا المشكوك بذلك المعلوم.
فإن أريد أن إسراء الحكم الثابت في موضع إلى موضع لا يثبت ذلك
الحكم فيه لا يمكن أن يقع في الشرعيات - على ما هو الظاهر من كلامه،
حيث ذكر هذا في مقام منع شمول الاخبار للاستصحاب في نفس الحكم -
فننقضه بما ذكرنا من إسراء الحكم إلى الزمان الثاني عند الشك في النسخ.
وإن أريد أنه جائز لكنه موقوف على ثبوت الدليل، ففيه - مضافا إلى
233

أن هذا لا يصلح جوابا عن دلالة الاخبار -: أن من يقول بالاستصحاب
وإسراء الحكم الثابت في حال إلى حال لم يعلم ثبوته عنده فإنما يقول به
لدليل، وهي الاخبار.
الثاني: الحل، بيان ذلك: أن الحكم الثابت عند الحالة الأولى: إما أن
يعلم أن موضوعه هو الحالة الأولى، أو يعلم أن موضوعه هو القدر المشترك
بين الحالين، أو لا يعلم أحد الامرين.
فإن علم الأول، فلا خلاف لاحد في عدم جريان الاستصحاب، وإن
علم الثاني، فلا حاجة إلى الاستصحاب.
وإن لا يعلم أحد الامرين، فمع قطع النظر عن الأخبار الواردة في
الباب وإن كان لا يجوز الحاق الحالة الثانية بالحالة الأولى في ثبوت الحكم
عندها، إلا أنه بعد ورود الاخبار في الباب فنحكم لاجلها بأن الحكم
الظاهري في الحالة الثانية هو الحكم في الأولى.
وبعبارة أخرى: يصير موضوع المسألتين بالنسبة إلى الحكم الظاهري
واحدا بدلالة تلك الأخبار، وإن احتمل في الواقع أن يختلف موضوعهما.
فما ذكره - من أن مرجع الاستصحاب إلى إسراء حكم موضوع إلى
موضوع آخر - إن أراد به أن الاستصحاب إسراء للحكم الثابت لموضوع كل
يقطع بأنه الموضوع لا غير إلى موضوع آخر يقطع بعدم كونه موضوعا
لذلك الحكم الأول، ففيه: منع واضح، لأنا لو علمنا أن للحالة السابقة مدخلا
في الحكم فلا نحكم بالاستصحاب.
وإن أراد به أنه إسراء حكم من محل إلى محل آخر ومن صورة إلى
أخرى لا يعلم اشتراكهما في موضوعية الحكم - ويحتمل أن يكون للمحل
الأول مدخلا في الحكم - ففيه: أن المنع عن ذلك إنما هو مع عدم الدليل
234

المجوز، وأما معه فليس به بأس، فإن كان ولا بد من الانكار فليتكلم قي
دلالة الاخبار.
وأما الجواب عن الوجه الثاني - الذي ذكره في الجواب عن الاخبار
من دلالة أخبار التوقف على وجوب التوقف عما لا يعلم -: فهو أن الأخبار الواردة
في الباب قد أدرجت مورد الاستصحاب في قسم البين رشده، فيجب
اتباعه، لا التوقف فيه.
على أن المراد بالتوقف في أخباره يمكن، أن لكون هو التوقف عن
الحكم الواقعي للواقعة وعدم الافتاء فيها بغير العلم، ولا ينافي ذلك ثبوت
حكم ظاهري للواقعة باعتبار كون الحكم فيها مقطوع الثبوت في السابق
مشكوك البقاء قي اللاحق، مضافا إلى أجوبة اخر مذكورة في باب أصالة
البراءة.
[قوله] قدس سره: " حجة القول بنفي الحجية في الحكم الشرعي إذا ثبت
بالاجماع... الخ ".
[أقول]: اعلم أن الدليل الدال على تحقق الحكم في الآن السابق
يتصور - بحسب ملاحظته بالنسبة إلى إفادته للحكم في الزمان اللاحق
وعدمها - على وجوه:
الأول: أن يدل على الحكم في الآن السابق واللاحق معا.
الثاني: أن يدل على ثبوت الحكم في الآن السابق ولا يدل على ثبوته
في الآن اللاحق، وهذا على وجوه:
الأول: أن يكون - مضافا إلى عدم دلالته فعلا على ثبوت الحكم في
الآن اللاحق - غير قابل لان يراد منه في الواقع ثبوت الحكم في الآن اللاحق
بأن يكون محتملا لذلك، وبعبارة أخرى: نقطع بأن المتكلم لم يرد منه ثبوت
235

الحكم في الآن اللاحق.
الثاني: أن لا يكون كذلك، بأن يكون محتملا لان يكون المتكلم قد
أراد منه ثبوت الحكم [في الآن] اللاحق أيضا، ويكون أيضا محتملا لان
يكون المراد منه هو ثبوت الحكم في الآن الأول لا غير.
والأول من هذين، على وجهين:
أحدهما: أن يكون الدليل - مع عدم دلالته على ثبوت الحكم في الآن
الثاني، ومع القطع بعدم إرادة ذلك منه في الواقع - دالا على نفي الحكم عن
الآن الثاني، فيكون منحلا إلى حكمين: ثبوتي بالنسبة إلى الزمان السابق،
وسلبي بالنسبة إلى الزمان اللاحق.
والاخر: أن يكون غير دال على نفي الحكم عن الزمان الثاني، بأن
يكون مدلوله منحصرا في إثبات الحكم في الزمان الأول ولا يدل على حكم
الزمان الثاني إيجابا ولا سلبا.
فهذه أربعة وجوه بالنظر إلى دلالة الدليل، سواء كان هذا الدليل نصا
أو إجماعا، إذ قد يتصور هذه الوجوه في الاجماع على بعض الوجوه، فتأمل.
وهنا وجه خامس: وهو أن يتردد الدليل بين بعض هذه الوجوه
وبعضها الاخر.
إذا عرفت هذا، فنقول: إن كان دلالة الدليل على النهج الأول
فلا حاجة إلى الاستصحاب، كما أنها إن كانت على الوجه الثاني فلا يجري،
لان المفروض أن نفس الدليل الدال على ثبوت الحكم في الزمان الأول دل
على نفيه في الزمان الثاني. كما لو قال: " الماء المتغير بالنجس نجس ما دام
متغيرا ".
وإن كانت على الوجه الرابع - بأن يكون محتمل الدلالة على ثبوت
236

الحكم في الزمن الثاني - فهناك يجري الاستصحاب بالاتفاق.
وأما إن كانت على الوجه الثالث، فإن كان ذلك الدليل إجماعا، فهو
الذي وقع فيه الخلاف، وحكي عن الغزالي (1) عدم حجية الاستصحاب هناك،
بل حكي عن الأكثر (2)، ولكن الظاهر من كلام بعض هو المخالفة في مطلق
هذا الوجه الثالث، سواء كان الدليل إجماعا أو نصا.
قال في جملة كلامه: " والحاصل: أنه لابد أن يكون الدليل بحيث يمكن
أن يراد منه ثبوت الحكم في الزمن الأول أو الحالة الأولى، وأن يراد منه
شموله لما بعد ذلك وفي غير تلك الحالة، حتى يكون المدلول إن فرض تحققه
في ما بعد، كان الدليل على تحققه في متن الواقع هو الدليل الأول من كتاب أو
سنة أو غيرهما " (3) انتهى كلامه رفع مقامه.
ولازم هذا الكلام: المخالفة في حجية الاستصحاب إذا كان دلالة
الدليل على الوجه الخامس إذا كانت مترددة بين ما وراء الوجه الأول وبين
الثلاثة الاخر.
هذا، إذا عرفت ما ذكرنا، فنقول: لا يخفى أن بعد تسليم دلالة الاخبار
على الاستصحاب في الحكم الشرعي، لا يستقيم منها تفرقة بين الموارد
باعتبار الدليل الدال على ذلك الحكم، فالقائل بحجية الاستصحاب في غير
ما ثبت فيه الحكم بالاجماع وبعدمها في ما ثبت فيه الحكم بالاجماع، إن
استند إلى ما حكاه المصنف قدس سره في المتن عنه: من أن الحكم إذا ثبت
بالاجماع فلا يكون الدليل موجودا في الآن الثاني لمكان الخلاف، فيكون

(1) و (2) حكاهما السيد المجاهد قدس سره عن نهاية الوصول، انظر مفاتيح الأصول:
653.
(3) لم نقف عليه.
237

إثباته فيه إثباتا للحكم بغير دليل (1).
ففيه: ما ذكره المصنف (2) من أنه يستلزم عدم حجية الاستصحاب
رأسا من غير اختصاص بما إذا ثبت الحكم بالاجماع، لان المفروض في جميع
موارد الاستصحاب عدم ثبوت دلالة الدليل - الدال على الحكم في الزمان
الأول - عليه في الزمان الثاني، وإلا لم يحتج إلى الاستصحاب.
مضافا إلى أنه إن أريد بإثبات الحكم بغير دليل إثبات الحكم الواقعي
بغير دليل ففيه: أنا لا نثبت الحكم الواقعي ولا ندعيه في الآن الثاني، بل
نعترف بعدم ثبوته، لعدم الدليل عليه.
وإن أريد به إثبات الحكم الظاهري بغير دليل،
ففيه: أن الدليل موجود، وهو الأخبار الواردة في الباب الدالة على أن
الحكم الظاهري في ما إذا ثبت حكم في الزمان السابق ولم يقطع بانتفائه في
اللاحق هو إبقاء ذلك الحكم.
مضافا إلى أنه لو تم ما ذكره هذا القائل لامتنع العمل بجميع الأصول
المثبتة للاحكام الظاهرية، لان المعتبر في مواردها كلا هو عدم الدليل على
الحكم.
وان استند إلى اشتراط قابلية دلالة الدليل على الحكم في الآن الثاني،
ففيه - مضافا إلى أنه لا وجه حينئذ لتخصيص المنع بصورة كون
الدليل إجماعا، فليعمم المنع في كل دليل لا يحتمل دلالته على ثبوت الحكم في
الزمان الثاني -: أنه إن كان هذا الاشتراط لاجل أن لا يكون الحكم على

(1) و (2) قوانين الأصول 2: 67، ذيل حجة القول بنفي الحجية من الحكم الشرعي إذا
ثبت من الاجماع.
238

تقدير ثبوته في الآن الثاني في متن الواقع خاليا عن الدليل، فلا يخفى أن هذا
الغرض حاصل في ما إذا كان الدليل هو الاجماع، نظرا إلى أن الاجماع وإن
قطعنا بعدم جريانه في الآن الثاني، لكن لسنا قاطعين بعدم وجود دليل آخر
مثبت للحكم في الآن الثاني فقط، أو فيه وفي الآن الأول أيضا، كيف!
ولو قطعنا بذلك العدم لم نشك في عدم الحكم في الآن اللاحق.
وإن كان هذا الاشتراط من جهة أنه لا بد من أن يكون الحكم على
تقدير ثبوته قي الآن اللاحق ثابتا بنفس هذا الدليل الدال على الحكم الأول،
وهذا لا يتصور عند ثبوت الحكم في الآن الأول بالاجماع،
ففيه، أولا: أنه ما الدليل على هذه اللابدية؟ وأي قبح شرعي أو عقلي
يتصور في عدم ذلك؟
وثانيا: أنه لا شك أن الاجماع كاشف عن قول المعصوم عليه السلام
أو فعله أو تقريره، فنفرض أن نكون قاطعين بأن الحكم لو كان ثابتا في الآن
الثاني فليس إلا بدلالة نفس ذلك القول أو الفعل أو التقرير الذي كشف
الاجماع عن بعض مدلوله.
وإن كان هذا الاشتراط من جهة أنه لو لم يكن نفس الدليل الأول
قابلا للدلالة على الحكم في الزمان الثاني واختص مدلوله بالحكم في الزمان
الأول، فينفي ذلك الحكم في الآن الثاني بأصالة عدم الدليل عليه، بخلاف
ما إذا كان نفس الدليل الأول قابلا لذلك، فلا يمكن إجراء أصالة عدم
الدليل، لان الشك في مقدار دلالة الدليل ومدلوله، وأنه هل يكون ثبوت
الحكم في الآن الأول فقط أو مطلقا؟ ومن المعلوم عدم جواز إجراء الأصل
في مثله.
ففيه: أن حكم الزمان الثاني في ما نحن فيه لا محاله يحتاج إلى دليل
239

- سواء كان هو نفس الحكم الثابت في الزمان الأول أو خلافه - فوجود دليل
مبين لحكم الزمان الثاني معلوم إجمالا، إنما الشك في أن مدلوله هو الحكم
الثابت في الزمان الأول أو خلافه، فكما تقول: الأصل عدم الدليل على ثبوت
الحكم الأول في الزمان الثاني، فنقول: الأصل عدم الدليل على خلاف الحكم
الأول في ذلك الزمان، فيتعارضان ويتساقطان.
مضافا إلى أنه كثيرا ما يكون خلاف الحكم الأول في الزمان الثاني
محتاجا إلى الدليل، لا ثبوت نفسه، كالحكم بانتقاض التيمم والصلاة عند
رؤية الماء في الأثناء، فتأمل، والحكم بانتقاض الطهارة بخروج الخارج من
غير السبيلين، فإن المحتاج إلى الدليل كون هذا من النواقض، لا عدم كونه
منها وبقاء الطهارة السابقة.
بل قد استدل بعضهم - وهو الشيخ قدس سره، في العدة ظاهرا على
ما هو ببالي - على حجية الاستصحاب: بأنه لما لم نجد في الآن الثاني دليلا
يدل على مخالفة الحال الثاني للأول، وعلى كونه مؤثرا في الحكم ومغيرا له،
فالأصل يقتضي التسوية بين الحالين (1).
وهذا كما تراه ينادي بأن المحتاج إلى الدليل هو مخالفة الحكم في
الزمان الثاني له في الزمان الأول، لا موافقته، وليس هذا الاحتياج من جهة
دلالة الدليل الأول على الحكم في الزمان الثاني أيضا، وإلا لم يحتج إلى
الاستصحاب، بل من جهة أن كون الحالة الثانية مغيرة يحتاج إلى دليل.
وهذا الاستدلال وإن لم يكن مرضيا في النظرة نظرا إلى أن المنكر
للاستصحاب لا يدعي كون الحالة الثانية مغيرة ومؤثرة في اختلاف الحكم،

(1) عدة الأصول: 304.
240

بل يدعى عدم العلم بكون الحكم في الآن الثاني هو الحكم في الآن الأول،
فالتسوية بينهما يحتاج إلى دليل، كما أن الفرق بينهما أيضا يحتاج إلى ديل.
فاحتياج الفرق، وكون الحالة الثانية مغيرة إلى دليل، لا ينفي احتياج
التسوية بينهما وعدم مدخلية الحالة الثانية في الحكم إلى دليل، فكل منهما
يحتاج إلى الدليل " ولأجل ذلك يجب التوقف والرجوع إلى سائر الأصول.
لكن الغرض من ذكره التنبيه على عدم جواز التمسك في انتفاء الحكم الأول
في الزمان الثاني بأصالة عدم الدليل عليه، فتدبر.
والحاصل: أنا لم نجد في حجية الاستصحاب فرقا بين وجوه دلالة
الدليل الأول. إلا أنه لابد أن لا يكون مصرحا بثبوت الحكم في الآن
الثاني، وإلا لم يحتج إلى الاستصحاب، ولا بنفيه فيه، وإلا لم يجر، وبعد
ملاحظة عدم كونه كذلك فيجري الاستصحاب مطلقا.
اللهم إلا أن يكون ثبوت الحكم في الآن الثاني راجعا إلى تعدد الحكم،
بأن يرجع الشك في دلالة الدليل على الحكم في الزمان الثاني وعدمها إلى
الشك في إفادته لحكمين أو لحكم واحد.
كما إذا وقع أمر بفعل، والمفروض الشك في إفادته للمرة والتكرار، مع
فرض أنه على تقدير إفادته للتكرار ينحل إلى تكاليف متعددة بحسب
تعدد المرات، لا بأن يكون المجموع المركب تكليفا واحدا، وحينئذ فلا
يمكن جريان الاستصحاب بعد إتيان الفعل في المرة الأولى والشك في وجوب
الزائد، نظرا إلى أن الحكم الثابت أولا قد أرتفع قطعا بامتثاله، فالشك في
ثبوت الحكم في الآن الثاني شك في حدوث حكم آخر من أول الامر، لا في
بقاء الحكم السابق.
لكن عدم الاجراء في هذه الصورة ليس لاجل خلل في الدليل، بل
241

لاجل أن المدلول - وهو الحكم الثابت في الزمان الأول على فرض وجوده في
الآن الثاني - ليس باقيا بوجوده الأولي السابق، بل هو موجود آخر يكون
على تقدير وجوده في متن الواقع موجودا مغايرا للموجود السابق مجامعا معه
في الزمان السابق.
فالشك في المثال السابق ليس في أن الحكم المتحقق سابقا قطعا، هل
هو باق أم لا؟ بل هو شك في أن حكما آخر - وهو وجوب الفعل في هذا
الزمان الثاني -، هل حدث من أول الامر مع الحكم السابق - وهو وجوب
الفعل في الزمان الأول - أم لا؟
ومن هذا القبيل: ما إذا شك في أن صيغة الامر على القول بإفادتها
للفور - أو عند إفادتها له بالقرينة - هل تدل على وجوب الفعل في ما بعد
أول أزمنة الامكان إذا لم يفعله فيه، أو لا؟ فشك من أجل ذلك في الزمان
اللاحق في وجوب الفعل وعدمه.
ومنه: ما إذا شك في أن القضاء بالأمر الأول أو بفرض جديد، فافهم
[قوله] قدس سره: " وأما في الإباحة وما يستلزمها من الأحكام الوضعية،
فلان عدم اعتقاد إباحته يوجب عدم امتثال أمر الله، فإن الاعتقاد بما سننه
واجب، واجبا كان أو مباحا أو غيرها ".
[أقول]: توضيحه: أن الدليل إذا دل على إباحة فعل إلى غاية معينة
من غير اشتراط بالعلم بالغاية، فلما كان هذا الحكم مستلزما لوجوب اعتقاد
إباحة ذلك الفعل إلى تلك الغاية، نظرا إلى الأدلة الخارجية الدالة على
وجوب الاعتقاد بجميع ما شرع الله لعباده على الوجه الذي شرع فيحدث
هنا بالاستلزام تكليف طلبي وجوبي لا بد من امتثاله على وجه القطع
242

أو الظن.
فإذا شك في زمان وجود تلك الغاية، فلو لم يعتقد إباحة ذلك الفعل في
هذا الوقت، لم يحصل القطع ولا الظن بامتثال التكليف الوجوبي المذكور، إذ
قد وجب عليه اعتقاد الإباحة إلى وجود الغاية، وحيث لا يعلم ولا يظن
بوجود الغاية - كما هو المفروض - فلو لم يعتقد بعد إباحة ذلك الفعل لم يعلم
ولم يظن أنه اعتقد إباحته إلى وجود الغاية.
أقول: وفي هذا نظر، لان القدر اللازم من وجوب الاعتقاد بما سننه
الشارع هو وجوبه في زمان العلم أو الظن المعتبر بتحقق ما سننه. وأما إذا
لم يعلم أو لم يظن بالظن المعتبر تحققه، فلا يجب الاعتقاد، لو لم نقل بأنه
لا يجوز، نظرا إلى الأدلة الدالة على وجوب التوقف عند الشبهة المحمولة على
لزوم التوقف عن الحكم الواقعي، لئلا تنافي العمل بالأصول المثبتة للحكم
الظاهري.
فإذا شككنا في وجود الغاية التي غيى الشارع الإباحة بها، فنشك في
ثبوت الإباحة في متن الواقع، فلا يجب الاعتقاد بإباحته حينئذ أيضا -
نعم، بعد ما دل دليل على بقاء إباحته ظاهرا بحسب الاعتقاد بإباحته
ظاهرا - لا واقعا - لكن المفروض أن الكلام بعد في هذا الدليل.
وتحقيق الكلام في ذلك: أنه إذا دل الدليل على إباحة شئ إلى غاية
معينة فيحدث هناك أمران:
الأول: الحكم الشرعي الكلي، وهو كون الشئ مباحا إلى الغاية
المعينة: وهذا هو الذي يجب الاعتقاد به، ووجوب الاعتقاد به ليس مغيى
بغاية، بل هو ثابت دائما وفي جميع الأوقات، سواء لم يوجد زمان تحقق
الإباحة بعد أو وجد، وعلى تقدير وجوده: سواء قطع بعدم حدوث الغاية
243

المعينة، أو شك في حدوتها، أو قطع بحدوثها.
والحاصل: أن المكلف يجب عليه دائما الاعتقاد بالحكم المذكور على
الوجه الذي صدر من الشارع، فالغاية المعينة غاية للمعتقد، لا لوجوب
الاعتقاد.
والثاني: تنجز هذا الحكم الكلي وتحققه في الزمان الذي حكم بوجوده
فيه، وهو مجموع الأزمنة التي مبدؤها الزمان الذي حكم الشارع بحدوثه فيه،
وآخرها زمان حدوث الغاية.
ووجوب الاعتقاد بثبوت الحكم في كل جزء زمان من هذه الأزمنة
يدور مدار اندراج هذا الجزء من الزمان تحت الزمان الذي حكم الشارع
- حكما كليا - بثبوت الإباحة فيه مثلا، وهو زمان عدم حدوث الغاية.
فإذا قطعنا بأن هذا الجزء من الزمان داخل في أزمنة عدم حدوث
الغاية، فيلزم من الاعتقاد بذلك الحكم الكلي الشرعي - وهو إباحة الشئ
ما لم توجد الغاية -: الاعتقاد بأن الحكم المذكور متحقق في هذا الزمان.
وإذا قطعنا بعدم اندراجه فيها فيلزم من ذلك الاعتقاد، الاعتقاد بعدم
تحقق الحكم المذكور فيه.
وإذا شككنا في اندراجه فيها من جهة الشك في حدوث الغاية،
فلا يلزم الاعتقاد بتحقق هذا الحكم فيه، وإن كنا معتقدين في نفس هذا
الزمان - أي زمان الشك في حدوث الغاية - بذلك الحكم الشرعي الكلي،
وهو إباحة الشئ الفلاني ما لم توجد الغاية، بل في زمان القطع بحدوث
الغاية أيضا نعتقد وجوبا بذلك الحكم الكلي الشرعي، لما عرفت من أن
وجوب الاعتقاد بالحكم الكلي الشرعي ليس موقتا بوقت، بل هو ثابت
دائما.
244

فعلم من جميع ذلك: أن في زمان الشك في حدوث الغاية لا يجب
الاعتقاد إلا بكون الشئ مباحا إلى حدوث الغاية، وهذا الاعتقاد واجب
أيضا عند القطع بحدوث الغاية. وأما الاعتقاد في زمان الشك بأن الإباحة
متحققة ومنجزة في هذا الزمان فليس بواجب.
بل يمكن أن يقال بعدم جوازه، نظرا إلى أن الدليل المذكور كما أنه
يدل على إباحة الشئ الفلاني إلى حدوث الغاية، فكذلك يدل - بالالتزام -
على عدم إباحته بعد حدوثها، وإلا لا يكن غاية ومزيلة للحكم.
فكما يجب الاعتقاد بإباحة الشئ عند عدم حدوث الغاية، فكذلك
يجب الاعتقاد بعدم إباحته عند حدوثها، ففي زمان الشك في حدوث الغاية
لا يكون الحكم بوجوب اعتقاد إباحة الشئ فيه أرجح من الحكم بوجوب
اعتقاد عدم إباحته فيه، لان احتمال اندراج هذا الزمان تحت أزمنة عدم
حدوث الغاية - التي يجب الاعتقاد بإباحة الشئ فيها -، واحتمال اندراجه
تحت أزمنة حدوثها - التي يجب الاعتقاد بعدم إباحته فيها - متساويان
بالفرض.
هذا كله حال الاعتقاد بالإباحة الواقعية في زمان الشك في حدوث
الغاية، وأما وجوب الاعتقاد بالإباحة الظاهرية فلا يخفى أنه إنما هو بعد
ثبوتها، والمفروض أن المستدل الآن في صدد الاستدلال على ثبوتها، فافهم
واغتم، وتدبر واستقم.
[قوله] قدس سره: " ولعل نظره (1) إلى أن اشتغال الذمة مستصحب، وشغل
الذمة اليقيني مستدع لحصول البراءة اليقينية بالاجماع كما ادعاه،

(1) الظاهر أن مراده: المحقق الخونساري قدس سره.
245

... الخ ".
[أقول]: لا يقال: إن هذا الدليل أخص من المدعى، نظرا إلى أن
المدعى هو إثبات وجوب الحكم ببقاء التكليف في كل ما ثبت من الشارع
حكم إلى غاية ثم شك في وجود تلك الغاية، وقد يكون تقييده بالغاية بحيث
نعلم أن بعد حدوث الغاية يتبدل الوجوب السابق بالتحريم أو
التحريم السابق بالوجوب، ومن المعلوم حينئذ أنه عند الشك في وجود
الغاية يدور الامر بين الوجوب والتحريم، فكيف يتأتى إجراء قاعدة
الاشتغال؟ مثلا إذا أوجب الشارع فعلا إلى غاية معينة نعلم أنه بعد حدوث
الغاية يصير حراما، فكما أن الذمة مشغولة بفعله في زمان عدم حدوث الغاية
ويجب تحصيل البراءة اليقينية عنه، فكذلك الذمة مشغولة بتركه في زمان
حدوثها، ولا بد من تحصيل البراءة اليقينية عنه، فلا وجه لترجيح الوجوب في
زمان الشك، اللهم إلا باستصحاب ثبوته، لكنه غير هذا الدليل، بل هو دليل
آخر للمحقق. وكذا التمسك باستصحاب عدم حدوث الغاية.
لأنا نقول: كأنك غافل عن فرض المستدل! فاعلم: أن فرض المستدل
- الذي يجري فيه الحكم ببقاء التكليف عند الشك في وجود غايته المعينة - هو
ما إذا ثبت أن ثبوت ذلك التكليف واستمراره إلى الغاية المذكورة ليس
مشروطا بالعلم بتلك الغاية، بحيث لو ترك الامتثال في جزء من الزمان لا
يعلم بوجود الغاية وعدمها فيه، واتفق قي الواقع عدم حدوث الغاية بعد،
فيعاقب هذا الشخص، نظرا إلى كونه مكلفا بالتكليف المذكور ما لم يحدث
الغاية في الواقع، علم بعدم حدوثها أو لم يعلم.
إذا عرفت هذا، فنقول: إن الفرض الذي فرضته - من كون التكليف
مغيى بغاية، بحيث نعلم أن بعد حدوث الغاية يتبدل ذلك التكليف بخلافه،
246

فإن كان وجوبا فبالحرمة وإن كانت الحرمة فبالوجوب، - لا يخلو: إما أن
يكون التكليفان كلاما غير مشروطين بالعلم، بأن كلف الشخص بإتيان
الفعل الفلاني ما لم يحدث الغاية الفلانية وإن لم يعلم بعدم حدوثها، بحيث
لو ترك الامتثال في زمان لا يقطع بحدوث الغاية ولم تحدث الغاية في الواقع
يكون (1) معاقبا، وكلف أيضا بترك ذلك الفعل عند حدوث الغاية كذلك، - أي
غير مشروط بالعلم بحدوثه - بحيث لو ترك امتثال هذا التكليف التركي في
زمان لا يقطع بحدوث الغاية وعدمه واتفق حدوثها فبه يكون (2) معاقبا.
وإما أن يكون التكليف الأول فقط كذلك - أي غير مشروط بالعلم -
ولا يكون التكليف الثاني كذلك، بمعنى أنه لم يقم دليل على أنه لو ترك
امتثاله في زمان لا يعلم بحدوث الغاية وعدمه فيه واتفق حدوثها فيه
يكون (3) معاقبا، بل القدر الثابت هو وجوب الامتثال إذا علم بحدوث الغاية
لا إذا حدثت في الواقع.
وإما أن يكون الامر بالعكس.
وإما أن لا يكون واحد من التكليفين مشروطا بالعلم، بأن يكون القدر
الثابت من الأول هو وجوب الفعل عند العلم بعد حدوث الغاية، ومن
الثاني وجوب الترك عند العلم بحدوثها.
أما الشقان الأخيران فخارجان عن محل كلام المستدل، لان المفروض
عدم ثبوت كون التكليف المغيى بالغاية فيهما غير مشروط بالعلم، بل
الشخص مخير في زمان الشك في الغاية بين الفعل والترك على الشق الأخير
منهما، ويجب عليه امتثال التكليف الثاني على الشق الأول منهما، لان

(1) و (2) و (3) في الأصل: فيكون والظاهر أن الصحيح ما أثبتناه.
247

المفروض أنة غير مشروط بالعلم دون التكليف الأول.
وأما الشق الأول فالتكليف بمثله لا يصح عن الحكيم، لأنه إلقاء في
العقاب، لعدم التمكن من التحفظ عنه.
مثلا: إذا شك في زمان في حدوث الغاية وعدمها فلا يتمكن من
التحفظ عن مخالفة التكليفين، إذ لو أتى بالفعل فلعل الغاية قد حدثت في
الواقع فيعاقب على الفعل، ولو ترك الفعل فلعل الغاية لم تحدث فيعاقب على
الترك.
فلم يبق إلا أن يكون فرض كلام المستدل منحصرا في الشق الثاني.
ولا يخفى أن حكمه فيه بوجوب امتثال التكليف عند الشك في وجود
الغاية جيد، لان الفرض هو أن هذا التكليف غير مشروط بالعلم، فيجب
عليه الامتثال ما دام يحتمل عدم حدوث الغاية، تحصيلا للقطع بالبراءة.
وأما احتمال كون زمان الشك في وجود الغاية من أزمنة وجودها في
الواقع فلا يقدح، نظرا إلى أن المفروض أن التكليف الثابت في حال حدوث
الغاية - المخالف للتكليف الأول - لم يثبت كونه غير مشروط بالعلم، بل قد
عرفت أنه لا يجوز كونه غير مشروط بعد كون التكليف الأول غير
مشروط.
مثلا: إذا ثبت وجوب شئ إلى غاية ونعلم بحرمته بعد حدوث الغاية،
والمفروض أن التكليف الوجوبي غير مشروط بالعلم بخلاف التكليف
التحريمي، فعند الشك في وجود الغاية يجب امتثال التكليف الوجوبي تحصيلا
للقطع بامتثاله، وإن احتمل أن تكون الغاية قد حدثت في الواقع، لان مجرد
حدوثها في الواقع مع عدم علم المكلف لا يكفي في التحريم، لان المفروض أن
هذا التحريم لم يثبت كونه غير مشروط بالعلم.
248

فظهر من جميع ذلك: أنه إذا ثبت حكم إلى غاية وعلمنا بأن بعد
حدوث الغاية يحدث حكم مخالف للأول بحيث لا يمكن اجتماع امتثالها - كأن
يكون الأول الوجوب والثاني الحرمة أو بالعكس - فكلام المستدل إنما هو في
فرض واحد من الفروض المتصورة فيه، وهو أن يكون التكليف الأول غير
مشروط بالعلم دون الثاني، وفي هذا المفرض ليس الاحتياط ممتنعا، فانحصر
مدعى هذا المستدل في صورة إمكان الاحتياط، فيكون دليله - أعني حكم
العقل بالاشتغال - مساويا لمدعاه، لا أخص.
وأما إذا ثبت حكم إلى غاية ونعلم أن بعد حدوثها يحدث تكليف
لا يمتنع اجتماعه مع الحكم الأول في الامتثال - كأن يكون الأول الوجوب
والثاني الاستصحاب أو الإباحة - فيجري ادعاء المستدل من وجوب
الاحتياط يحكم العقل في جميع الفروض الأربعة السابقة المتصورة فيه،
لامكانها وإمكان الاحتياط في جميعها، فتأمل.
[قوله] قدس سره: " ولا (1) يرد عليه ما قيل: إن هذا جار،... الخ ".
[أقول]: هذا المورد القائل هو السيد صدر الدين في شرح الوافية،
حيث قال: " إن هذا الدليل جار في ما إذا ثبت تحقق حكم في الواقع مع
الشك في تحققه بعد انقضاء زمان لابد للتحقق منه، وهذا هو الذي أجرى
القوم الاستصحاب فيه.
بيانه: أنا كما نجزم في الصورة التي فرضها المستدل بتحقق الحكم في
قطعة من الزمان ونشك حين القطع في تحققه في زمان يكون حدوث الغاية
فيه وعدم حدوثها متساويين، كذلك نجزم بتحقق الحكم في زمان لا يمكن

(1) في المصدر: فلا.
249

تحققه إلا فيه، ونشك أيضا حين القطع في تحققه في زمان متصل بذلك الزمان،
لاحتمال وجود رافع لجزء من أجزاء علة الوجود.
وكما أن في صورة الشك في الصورة الأولى يكون الدليل محتملا لان
يراد منه وجود الحكم في الزمان الذي يشك في وجود الحكم فيه، وأن يراد
منه عدم وجوده فيه، كذلك حال الدليل في الصورة التي فرضناها.
وعلى هذا نقول أيضا: لو لم يحتمل التكليف المذكور لم يحصل الظن
بالامتثال والخروج عن العهدة، ولو امتثل لحصل القطع به، لان في زمان
الشك إن كان الواقع وجود الحكم فقد فعلنا ما كان علينا، وإن كان الواقع
عدمه فقد خرجنا بما فعلنا في زمان القطع من العهدة " (1) انتهى كلامه
رفع مقامه.
أقول - وبالله ثقتي -: إن القول الفصل الذي ليس بالهزل في هذا المقام،
هو أن يقال: إنه إذا تحقق حكم - كوجوب الصوم في أيام - فامتثلنا الحكم
المذكور في مدة، ثم شككنا في بقاء الحكم بعدها، بأن قطعنا بأن الصوم
الواجب لا ينقص عن ثلاثة أيام، فصمنا أياما ثلاثة، وشككنا في أن الصوم
هل يجب أزيد من ذلك، فلا يخلو الامر من أنه: إما أن يكون الصوم الزائد
الذي شك في وجوبه يكون - على تقدير وجوبه - واجبا مستقلا لا ارتباط له
بالصوم السابق، فيرجع الشك حينئذ إلى ثبوت واجب آخر في الذمة مع
القطع بارتفاع الوجوب السابق، من جهة حصول الامتثال به والبراءة عنه.
وإما أن يكون الصوم الزائد المشكوك في وجوبه - على تقدير وجوبه -
يكون جزء من الواجب السابق ومرتبطا به بأن يكون التكليف - على تقرير

(1) شرح الوافية (مخطوط): 119، مع تفاوت.
250

وجوبه - تكليفا واحدا متعلقا بصوم مجموع الأيام. وبعبارة أخرى: شك في
أن ما أتى به من الصوم في الثلاثة تمام الواجب أو جزؤه.
فإن كان على الوجه الأول، فالظاهر أنه لا يحكم بوجوب إتيان
الزائد أعني الصوم في أيام اخر، نظرا إلى القطع بارتفاع تكليف بالامتثال به
وكون الشك في تكليف آخر، ولا فرق في ذلك بين كون الشك المذكور ناشئا
عن كون وجوب الصوم مغيى إلى غاية وشك في حدوثها - كما هو فرض
المستدل - بأن قال المولى: ص إلى دخول زيد في البلد، ونعلم أن صوم كل
واحد من الأيام تكليف مستقل لا ربط له بالاخر، فشككنا في زمان في
دخول زيد.
وبين كون الشك المذكور ناشئا عن إجمال دلالة الدليل، بأن ورد الامر
بالجلوس في المجملة ولا ندري أنه إلى هذا الزمان أو إلى ما بعده أيضا، كما
هو المفروض في استصحاب القوم.
فإن قلت: إذا قال المولى: ثم إلى كذا، وشك في زمان في حدوث
ذلك، والمفروض أن التكليف أيضا غير مشروط بالعلم - بمعنى أنه لو ترك
الصوم ولم يحدث الغاية في الواقع لاستحق العقاب - فلا وجه للتأمل في حكم
العقل بوجوب الصوم حين هذا الشك، وإن كان هذا التكليف المستمر إلى كذا
تكليفات متعددة.
قلت: لو سلمنا ذلك، فنقول: إن العقل لا يحكم حينئذ بعدم حصول
الامتثال في السابق وبقاء التكليف السابق، كما هو مطلب المستدل - حيث إنه
يريد إثبات لزوم استصحاب التكليف السابق بحكم العقل - لان المفروض إذا
كان تعدد التكاليف فيرتفع التكليف السابق ويشك في ثبوت آخر.
ولو سلمنا حكم العقل بثبوت تكليف آخر، نظرا إلى إلزامه هذا
251

الاحتياط، فليس هذا إبقاء للتكليف السابق، للقطع بارتفاع ما كان موجودا
سابقا بالامتثال، بل هذا إثبات للتكليف بدليل العقل.
والحاصل: أن هذا المورد ليس موردا للاستصحاب، والكلام فيه
لا في غيره.
فإن قلت: إن هذا الدليل منه دليل آخر غير الاستصحاب، ودليله
الثاني هو الاستصحاب.
قلت: نعم، ولكن كلا الدليلين استدل بهما على إبقاء التكليف، فموردهما
مورد الاستصحاب.
وإن كان على الوجه الثاني، بأن يكون الصوم الزائد المشكوك في
وجوبه - على تقدير وجوبه في متن الواقع - جزء من المكلف به ومرتبطا
بالصوم السابق " بحيث كان المجموع من حيث المجموع تكليفا واحدا،
فالتحقيق حينئذ هو لزوم الحكم بوجوب الزائد واستصحاب التكليف، سواء
كان في فرض المستدل - وهو ما إذا كان الوجوب مغيى بغاية ونشأ الشك في
وجوب الزائد من الشك في حدوث الغاية - أو كان في فرض القوم، بأن كان
دلالة الدليل على وجوب الزائد مشكوكا فيها وحصل الشك في وجوب
الزائد من إجمال ذلك الدليل.
والوجه في ذلك: رجوع هذا الوجه في الفرضين إلى الشك في المكلف
به مع القطع بالتكليف وعدم ثبوت القدر اليقيني في البين.
فإن قلت: القدر المتيقن في فرض القوم موجود، وهو المقدار الذي بين
دلالة الدليل وتحققت بالنسبة إليه - وهو صوم ثلاثة أيام - والباقي مشكوك،
فيدفع بالأصل.
قلت: ليس القدر المتيقن موجودا، إذ صوم الثلاثة واجب أصلي على
252

تقدير عدم وجوب الزائد، وتبعي على تقدير وجوبه، لأنه حينئذ يصير جزء
الواجب فيجب من باب المقدمة، لا أصالة.
والمراد بالقدر المتيقن الذي يجري في ما سواه - من المشكوك - الأصل،
هو الذي تيقن الامتثال به وسقوط تكليف واستحقاق به،
وبعبارة أخرى: يقطع بكون إتيانه رافعا لتكليف، فيشك في تكليف
زائد على ذلك المرفوع.
وفي ما نحن فيه لا يعلم بسقوط التكليف بالصوم ثلاثة، على كل
تقديره إذ على تقدير وجوب الزائد فلا ينفع صوم الثلاثة فقط شيئا.
نعم هو القدر المتيقن، بمعنى أنه نقطع بأنه تعلق به وجوب مجمل مردد
بين الأصلي والتبعي المقدمي، بحيث نقطع أن بالاتيان به حصل واجب مردد
بين الواجبين وسقط وجوب مردد بين الوجوبين.
لكن لا يخفى: أن هذا لا ينفع في سقوط التكليف المستقل علم بتحققه
ووجب التخلص عنه وإبراء الذمة منه يحكم العقل والاجماع والكتاب - أعني
الآيات الدالة على وجوب الإطاعة التي لا تتحق إلا بالعلم بكون المأتي به
هو الذي طلبه وأمر به المولى - والسنة " أعني الاخبار الدالة على عدم جواز
نقض اليقين بغيره.
وبتقرير آخر: قولك: " والزائد مشكوك فيدفع بالأصل " إن أريد من
الأصل أصالة عدم الديل، فلا شك أن الشك في ما نحن فيه ليس في وجود
الدليل، بل في مقدار المدلول بعد القطع بوجود الدليل.
وإن أريد أصالة البراءة فإن أريد استصحابها، فلا شك أن وجوب
الزائد - لكونه مقدميا - ليس أمرا حادثا بحدوث زائد على وجوب ذيها.
ولا حاجة أيضا إلى ملاحظة الشارع له بالاستقلال ولا جعل له كذلك، بل
253

الملاحظ المجعول هو أمر واحد. والصادر طلب واحد مردد بين تعلقه بهذا
الناقص أو بهذا الزائد، فالزيادة والتعدد والكثرة في أجزاء الواجب، لا في
الوجوب ولا في الجعل ولا في الملاحظة.
وإن أريد القاعدة المستفادة من الاخبار الدالة على البراءة ما لم يعلم
التكليف، ففيه:
أولا: أن التكليف معلوم ولو إجمالا، والعلم الاجمالي كاف، وإلا لم يجب
تحصيل العلم التفصيلي على أحد، إذ هو بعد تحقق التكليف بالمعلوم - لأنه
مقدمة له - فلو لا يكف العلم الاجمالي لم يحدث التكليف بالشئ إلا بعد العلم
التفصيلي، فلم يكن تحصيله واجبا، لكونه شرط الوجوب لا الواجب.
وإن أريد القاعدة المستفادة من العقل، فإن كان من جهة حكم العقل
بقبح التكليف بما لا يعلم، ففيه، أن قبحه مع عدم العلم رأسا، لا مع وجود
الاجمالي وعدم التفصيلي.
وإن حان من جهة حكمه بقبح التكليف بالمجمل، ففيه أولا: اختصاصه
بالمجمل الذاتي، والاجمال في المقام عرضي على الظاهر أو المحتمل، وهو
يكفينا في عدم جواز الحكم بالقبح.
وثانيا: أنه إذا لم يمكن الاتيان بما يقطع معه بإتيان ذلك المجمل.
هذا كله، مضافا إلى أن غالب ما أوردت وارد في فرض استصحاب
المحقق، فما هو الجواب فهو الجواب.
فإن قلت: إن المفروض في استصحاب المحقق هو ثبوت الدليل على
أن التكليف غير مشروط بالعلم، ومع مثل هذا الدليل لا يقبح العقل هذا
التكليف، لان ذلك بمنزلة التصريح ب‍ " أني أريد منك هذا المجمل بوصف أنه
مجمل " والذي يحكم العقل به هو قبح التكليف بشئ غير معلوم تفصيلا
254

ولا يدل دليل على كونه مطلوبا بوصف الاجمال أيضا.
قلت: نحن نفرض في استصحاب القوم أيضا وصول مثل هذا الدليل،
مضافا إلى ما سيجئ من أنه لا يجب وجود الدليل على ذلك، بل نفس
الدليل الدال على أصل التكليف بالنسبة إلى المشافهين كاف في وجوب
الامتثال ولو جهل تفصيلا.
255

متن
قوانين الأصول
مبحث الاستصحاب
257

قانون (1)
استصحاب الحال (2): وهو كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن
السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق. (3)
والمراد من المشكوك أعم من المتساوي الطرفين (4) ليشمل المظنون

(1) قابلنا هذا المتن من " كتاب قوانين الأصول " على نسختين، الأولى: النسخة التي تم
استنساخها في 10 / 7 / 1280 هجرية والتي رمزنا لها بر " ج "، والثانية: النسخة التي تم
استنساخها في 10 / 9 / 1287 هجرية والتي رمزنا لها ب‍ " ط "، واخترنا من بينهما
الأنسب إلى السياق، مع الإشارة إلى أهم الاختلافات في الهامش، وميزنا العبارات
التي علق عليها المؤلف قدس سره بخط خاص، وأشرنا في الهوامش إلى مواضع شرحها في
الكتاب
(2) راجع الصفحة: 19.
(3) راجع الصفحة: 23.
(4) راجع الصفحة: 28.
259

البقاء وغيره وان كان مراد القوم من الشك هنا هو الاحتمال المرجوح في
الواقع (1)، لان بنائهم في الحجية على حصول الظن، ونحن إنما عممنا الشك
لأنا لا ننقض اليقين إلا بيقين مثله بسبب الاخبار الآتية فلا يضرنا تساوي
الطرفين، بل كون البقاء مرجوحا أيضا.
فالاستصحاب عندنا قد يستند في حجيته إلى الظن الحاصل من جهة
اليقين السابق، وقد يستند في حجيته إلى الاخبار، وهو لا يستلزم حصول
الظن إلا أن يدعى أن الاخبار أيضا مبتنية على الاعتماد بالظن الحاصل من
الوجود السابق (2)، وهو مشكل.
واعلم: أن الاستصحاب إنما يجري فيما حصل فيه الاحتمال، فما علم
استمراره أو عدم استمراره فليس باستصحاب، ولا فرق في ذلك بين
الموقت وغير الموقت، ولا بين الاحكام الطلبية والوضعية.
وربما قيل بعدم جريانه في الاحكام الطلبية، لأنها إما أمر أو نهي،
وكل منهما موقت (3) أو غير موقت، وعلى التقديرين إما أن يقال بدلالتهما
على التكرار أو لا، وكذلك الفور وعدمه. ولا معنى للاستصحاب في شئ
منها، لان ما يفعل في الوقت فهو (4) بحسب الامر (5)، وما يفعل خارج الوقت
فهو بفرض جديد، وفي غير الموقت، فإن قيل بالتكرار فهو من مقتضى
التكرار، وإن لم يقل فهو من مقتضى الامتثال اللازم للطبيعة بعد حصول

(1) في " ط ": الرافع.
(2) راجع الصفحة: 32.
(3) في مصححة " ج ": إما موقت.
(4) في النسختين: وهو.
(5) راجع الصفحة: 33.
260

الاشتغال (1) بها المستلزم لوجوب إبراء الذمة، فهو من غرائب الكلام،
إذ الشك قد يحصل في التكليف في الموقت (2)، كمن شك في وجوب إتمام
الصوم لو حصل له المرض في أثناء النهار، مع شكه في أنه هل. يبيح له
الفطر أم لا؟ وكذلك في صورة الدلالة على التكرار وغيره، وهو واضح.
ثم إن الاستصحاب في الأحكام الوضعية على ما ذكره المتوهم لا يجري
فيما كان من قبيل الموقت كالحيض " أو التأبيد كالزلزلة، ويجري في بعض
المطلقات كالتغيير بالنجاسة الذي هو سبب لتنجيس الكر، والطهارة التي هي
شرط لجواز المضي في الصلاة (3).
وأنت خبير بأن الكلام في الأول يظهر جوابه مما ذكرنا سابقا، لامكان
حصول الشك فيها والاحتياج إلى التمسك بالاستصحاب.
وأما الأخير فالجريان فيه واضح، وهو إما باجرائه في نفس السبب،
كما لو شك في بقاء التغيير، مما لو مزج المتغير جسم طاهر له لون. أو في
مسببه، والمسبب إما هو الحالة الحاصلة من النجاسة المتغيرة، وإما الحكم
الشرعي الذي هو وجوب الاجتناب عنه. وقس عليه حال الطهارة.
فظهر مما ذكرنا: أن الاستصحاب يجري في الاحكام الطلبية،
والتخييرية الابتدائية، والوضعية، وما يستتبعها من الاحكام الطلبية اللازمة
لها.

(1) في " (ج): اشتغال الذمة.
(2) راجع الصفحة 340.
(3) راجع الصفحة: 37.
261

[تقسيمات الاستصحاب]
ثم إن الاستصحاب ينقسم على أقسام كثيرة (1):
فتارة من جهة الحال السابق أنه الوجود أو العدم، وأنه ما ثبت من
الشرع أو العقل أو الحس، وان ما ثبت من الشرع وضعي أو غيره، وهل (2)
يثبت بالاجماع أو غيره من الأدلة؟
وتارة من جهة المزيل فقد يكون المزيل ثابتا، بمعنى أنا نعلم أن له
مزيلا في نفس الامر من شأنه إزالته، وهو قد يكون ماهيته معلومة لنا
ولكن وقع الشك في حصوله. وقد يكون معلوما ويحصل الشك في صدقه
على الشئ الأصل. وقد لا يكون لنا معلوما أصلا ونشك في حصوله، أو في
صدقه على شئ حاصل. وقد لا يكون ثابتا، بل نشك في أن الشئ الفلاني

(1) راجع الصفحة: 45.
(2) في هامش " ط ": هل (خ ل).
263

هل هو مزيل أم لا؟ وسيجئ أمثلتها.
وتارة من جهة حصول الحكم السابق، فقد يثبت الحكم في الجملة،
ولا يعلم شئ من الاستمرار وعدم الاستمرار أصلا. وقد يثبت الحكم مع
الاستمرار في الجملة. وقد يثبت الحكم مع الاستمرار المقيد إلى غاية معينة.
واختلف كلام القوم في حجيته وعدمها في المقامات الثلاث.
264

[الأقوال في الاستصحاب]
قال العضدي: معنى استصحاب الحال: إن الحكم الفلاني قد كان
ولم يظن عدمه، وكل ما هو كذلك فهو مظنون البقاء (1).
وقد اختلف في صحة الاستدلال به لافادته ظن البقاء، وعدمها لعدم
إفادته إياه، فأكثر المحققين كالمزني والصيرفي والغزالي على صحته. وأكثر
الحنفية على بطلانه (2)، فلا يثبت به حكم شرعي.
ولا فرق عند من يرى صحته بين أن يكون الثابت به نفيا أصليا،
كما يقال فيما اختلف في كونه نصابا: لم تكن الزكاة واجبة عليه، والأصل
بقاؤه، أو حكما شرعيا، مثل قول الشافعية في الخارج من غير السبيلين: إنه
كان قبل خروج الخارج متطهرا والأصل البقاء حتى يثبت معارض، والأصل

(1) راجع الصفحة: 48.
(2) راجع الصفحة: 51.
265

عدمه... إلى آخر ما ذكره ".
ويظهر منه: أن من قال بالحجية لم يفرق بين استصحاب حال الشرع
وغيره. والنفي الأصلي الذي ذكره أعم من البراءة الأصلية التي يسمى
استصحابها " استصحاب حال العقل ". بل يمكن إدراج استصحاب بقاء غير
الحكم الشرعي، كالرطوبة واليبوسة أيضا فيه (1)، لان استصحاب البقاء لا يتم
إلا باعتبار استصحاب عدم المزيل، فليتأمل.
ولكن المحقق الخوانساري رحمه الله في شرح الدروس في مبحث
الاستنجاء بالأحجار - قال (2): " وهو ينقسم إلى قسمين باعتبار انقسام الحكم
المأخوذ فيه إلى شرعي وغيره - ومثل للأول بنجاسة ثوب أو بدن، وللثاني
برطوبته، ثم قال -: وذهب بعضهم إلى حجيته بقسميه، وبعضهم إلى حجية
القسم الأول فقط ".
أقول: ويدخل في غير الشرعي جميع ما يتعلق بالحكم وغيره مثل
مطلق أصالة العدم التي هي أصل في كل حادث، بل في كل ممكن.
ومنها: عدم نقل اللفظ عن المعنى اللغوي، وعدم تعدد الوضع، وعدم
التغيير في الماء المتلون، وعدم التذكية في الجلد المطروح.
ومثل: أصالة بقاء المعنى اللغوي على حاله، وأصالة بقاء المفقود. وهو
يستلزم كون مثل أصالة عدم النقل وأصالة بقاء المعنى اللغوي أيضا خلافيا (3).
وبعضهم فرق في استصحاب حال الشرع بين ما ثبت بالاجماع

(1) راجع الصفحة: 53.
(2) راجع الصفحة: 55.
(3) راجع الصفحة: 56.
266

أو بغيره، فنفى الأول دون الثاني كالغزالي.
وذهب المحقق الخوانساري رحمه الله إلى منع حجية الاستصحاب بالمعنى
المشهور - يعني إثبات حكم في زمان، لوجوده في زمان سابق عليه بكلا
قسميه اللذين نقلناهما عنه - ثم قال: نعم الظاهر حجية الاستصحاب بمعنى
آخر، وهو أن يكون دليل شرعي على أن الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت إلى
حدوث حال كذا ووقت كذا مثلا، معين في الواقع بلا اشتراطه بشئ أصلا.
فحينئذ إذا حصل ذلك الحكم، فيلزم الحكم باستمراره إلى أن يعلم وجود
ما جعل مزيلا له. ولا يحكم بنفيه بمجرد الشك في وجوده.
واستدل عليه، أولا (1): بأنه إذا كان أمر - أو نهي - بفعل إلى غاية
مثلا فعند الشك بحدوث تلك الغاية، لولا يمتثل التكليف المذكور لم يحصل
الظن بالامتثال والخروج عن العهدة، وما لم يحصل الظن لم يحصل الامتثال
والخروج عن العهدة، فلا بد من بقاء ذلك التكليف حال الشك أيضا، وهو
المطلوب وثانيا: بالروايات الآتية.
ثم قال: فان قلت: هذا كما يدل على حجية ما ذكرت، كذلك يدل
على حجية ما ذكره القوم، لأنه إذا حصل اليقين في زمان، فينبغي أن
لا ينقض في زمان آخر بالشك، نظرا إلى الرواية، وهو بعينه ما ذكروه.
قلت: الظاهر أن المراد من عدم نقض اليقين بالشك، أنه عند
التعارض لا ينقض به. والمراد بالتعارض أن يكون شئ يوجب اليقين لولا
الشك. وفيما ذكروه ليس كذلك، لان اليقين يحكم في زمان ليس مما يوجب
حصوله في زمان آخر لولا عروض شك، وهو ظاهر.

(1) راجع الصفحة: 57.
267

ثم قال: فإن قلت: هل الشك في كون الشئ مزيلا للحكم مع اليقين
بوجوده كالشك في وجود المزيل " أو لا؟
قلت: فيه تفصيل، لأنه إن ثبت بالدليل أن ذلك الحكم مستمر إلى
غاية معينة في الواقع، ثم علمنا صدق تلك الغاية على شئ، وشككنا في
صدقها على شئ آخر أم لا، فحينئذ لا ينقض اليقين بالشك. واما إذا
لم يثبت ذلك، بل إنما ثبت أن ذلك الحكم مستمر في الجملة، ومزيله الشئ
الفلاني، وشككنا في أن الشئ الاخر أيضا مزيله أم لا، فحينئذ لا ظهور في
عدم نقض الحكم وثبوت استمراره (1)، انتهى.
فظهر مما ذكره، المخالفة في المقامين الآخرين (2).
وقال المحقق السبزواري في الذخيرة - بعد نقل الاستدلال على نجاسة
الماء المطلق الكر الذي سلب الاطلاق عنه بعد ممازجته بالمضاف النجس -:
بأن الماء المضاف قبل امتزاجه بالكر كان نجسا فيستصحب فيه الحكم
المذكور إلى أن يثبت الرافع، لان اليقين لا ينقض إلا باليقين، وإذا ثبت
نجاسته بعد الامتزاج يلزم منه نجاسة الجميع، لان الكر المفروض بعد سلب
اسم الاطلاق عنه ينفعل بذلك المضاف الممتزج به.
ويرد عليه: أن التحقيق أن استمرار الحكم تابع لدلالة الدليل الدال
على الحكم، فإذا دل الدليل على الاستمرار كان ثابتا، وإلا فلا. فها هنا
لما دل الاجماع على استمرار النجاسة في الماء المضاف النجس إلى زمان
ملاقاته مع الماء الكثير حكمنا به، وبعد الملاقاة فالحكم مختلف فيه، فإثبات

(1) راجع الصفحة: 59.
(2) في " ج ": الآخرين.
268

الاستمرار يحتاج إلى دليل.
لا يقال: قول أبي جعفر عليه السلام في صحيحة زرارة: " ليس ينبغي لك
أن تنقض اليقين أبدا بالشك، ولكن تنقضه بيقين آخر " يدل على استمرار
أحكام اليقين ما لم يثبت الرافع.
لأنا نقول: التحقيق أن الحكم الشرعي الذي تعلق به اليقين، إما أن
يكون مستمرا - بمعنى أن له دليلا دالا على الاستمرار بظاهره - أم لا.
وعلى الأول، فالشك في رفعه على أقسام (1):
الأول: إذا ثبت أن الشئ الفلاني رافع للحكم، لكن وقع الشك في
وجود الرافع.
والثاني: ان الشئ الفلاني رافع للحكم، لكن معناه مجمل، فوقع الشك
في كون بعض الأشياء هل هو فرد له أو لا؟
والثالث: ان معناه معلوم وليس بمجمل، لكن وقع الشك في اتصاف
بعض الأشياء به وكونه فردا له لعارض، كتوقفه على اعتبار متعذر، وغير
ذلك.
الرابع: وقع الشك في كون الشئ الفلاني هل هو رافع للحكم المذكور
أم لا؟
والخبر المذكور إنما يدل على النهي عن النقض بالشك، وإنما يعقل ذلك
في الصورة الأولى من تلك الصور الأربعة دون غيرها من الصورة لان في
غيرها من الصور لو نقض الحكم بوجود الامر الذي يشك في كونه رافعا
لم يكن النقض بالشك، بل انما حصل النقض باليقين بوجود ما يشك في كونه

(1) راجع الصفحة: 65.
269

رافعا، أو باليقين بوجود ما يشك في استمرار الحكم معه، لا بالشك، فإن
الشك في تلك الصور كان حاصلا من قبل ولم يكن بسببه نقض. وإنما حصل
النقض حين اليقين بوجود ما يشك في كونه رافعا للحكم بسببه، لان الشئ
إنما يستند إلى العلة التامة أو الجزء الأخير منها، فلا يكون في تلك الصور
نقض للحكم اليقيني بالشك، وإنما يكون ذلك في صورة خاصة غيرها،
فلا عموم في الخبر... إلى آخر ما ذكره ".
وهو أيضا يدل على أنه لا يجوز العمل بالاستصحاب إلا في بعض
الصور، الذي هو ما علم الرافع ولكن شك في وجوده.
ويظهر منه رحمه الله في غير هذا الموضع نفي حجية الاستصحاب في
الأمور الخارجية مطلقا (1).
فحاصل الأقوال يرجع إلى ثمانية (2):
الأول: الحجية مطلقا.
الثاني: عدمها مطلقا.
الثالث: الحجية في نفس الحكم الشرعي، دون الأمور الخارجية.
الرابع: العكس.
الخامس: الحجية في نفس الحكم الشرعي إذا ثبت بغير الاجماع.
السادس: الحجية فيه إذا كان وضعيا دون غيره.
السابع: الحجية فيه إذا كان مستمرا إلى غاية معينة، وحصل الشك في
حصول الغاية.

(1) راجع الصفحة: 66.
(2) راجع الصفحة: 67.
270

الثامن: الحجية فيه إذا كان الشك في حصول الرافع المعلوم الرافعية
لا غير.
والأظهر: هو القول بالحجية مطلقا كما هو ظاهر أكثر المتأخرين.
271

[أدلة الاستصحاب]
لنا وجوه من الأدلة:
الأول
إن الوجدان السليم يحكم (1) بأن ما تحقق وجوده أو عدمه في حال أو في
وقت، ولم يحصل الظن بطرو عارض يرفعه، فهو مظنون البقاء وعلى هذا
الظن بناء العالم وأساس عيش بني آدم، من الاشتغال بالحرث والتجارة،
وبناء الدار والبستان، وإرسال المكاتيب إلى الأمكنة البعيدة، والمسافرة إلى
الجزائر، والبلاد الواقعة في السواحل، والقراض، وغير ذلك مما يرتكبه العقلاء
الأذكياء من دون لزوم سفه أو منقصة عليهم.
وهذا الظن ليس من محض الحصول في الآن السابق (2)، لان ما ثبت

(1) راجع الصفحة: 87.
(2) راجع الصفحة: 93.
273

جاز أن يدوم، وجاز أن لا يدوم، بل لأنا لما فتشنا الأمور الخارجية - من
الاعدام والموجودات - وجدناها باقية مستمرة بوجودها الأول غالبا على
حسب استعداداتها وتفاوتها في مراتبها فنحكم فيما لم نعلم حاله بما وجدناها
في الغالب إلحاقها بالأعم الأغلب.
ثم إن كل نوع من أنواع الممكنات يلاحظ فيه زمان الحكم ببقائه
بحسب ما غلب فيه أفراد ذلك النوع، فالاستعداد الحاصل للجدران القويمة
يقتضي مقدارا من البقاء بحسب العادة، والاستعداد الحاصل للانسان يقتضي
مقدارا منه، وللفرس مقدارا آخر، وللحشرات مقدارا آخر، ولدود القز
والبق والذباب مقدارا آخر، وكذا للرطوبة في الصيف والشتاء، وهكذا.
فهنا مرحلتان، الأول: إثبات الاستمرار في الجملة. والثانية: إثبات
مقدار الاستمرار. ففيما جهل حاله من الممكنات القارة يثبت ظن الاستمرار
في الجملة بملاحظة حال أغلب الممكنات مع قطع النظر عن تفاوت أنواعها،
وظن مقدار خاص من الاستمرار بملاحظة حال النوع الذي هو من جملتها (1)،
فالحكم الشرعي - مثلا - نوع من الممكنات، قد يلاحظ من جهة ملاحظة
مطلق الممكن، وقد يلاحظ من جهة ملاحظة مطلق الاحكام الصادرة عن
الموالي إلى العبيد، وقد يلاحظ من جهة ملاحظة سائر الأحكام الشرعية،
فإذا أردنا التكلم في استصحاب الحكم الشرعي فنأخذ الظن الذي ادعيناه
من ملاحظة أغلب الأحكام الشرعية، لأنه الأنسب به والأقرب إليه، وإن
أمكن ذلك بملاحظة أحكام سائر الموالي وعزائم سائر العباد أيضا.
ثم إن الظن الحاصل من جهة الغلبة في الأحكام الشرعية محصله: أنا

(1) راجع الصفحة: 94.
274

نرى أغلب الأحكام الشرعية مستمرة بسبب دليلها الأول، بمعنى أنه ليس
أحكامه آنية مختصة بآن الصدور، بل يفهم من حاله من جهة أمر خارجي
عن الدليل أنه يريد استمرار ذلك الحكم الأول من دون دلالة الحكم الأول
على الاستمرار، وإذا رأينا منه في مواضع غير عديدة أنه اكتفى حين إبداء
الحكم بالأمر المطلق القابل للاستمرار وعدمه، ثم علمنا أن مراده كان من الامر
الأول الاستمرار، فيحكم فيما لم يظهر مراده من الاستمرار وعدمه بالاستمرار (1)،
ونقول: إن مراده هنا - أيضا - من الامر، الاستمرار الحاقا بالأغلب، فقد
حصل الظن بالدليل، وهو قول الشارع بالاستمرار.
وكذلك الكلام في موضوعات الاحكام من الأمور الخارجية، فإن غلبة
البقاء يورث الظن القوي ببقاء ما هو مجهول الحال (2)، ولما لم يمكن وجود
الممكن إلا بوجود علته التامة، فيعلم أن غالب الموجودات المستمر علتها
موجودة، إما بكون علة الوجود هي علة البقاء - على حسب معتاد
المعلولات -، أو بتجدد العلة للبقاء، بل يمكن أن يقال ذلك قي الحكم الشرعي
- أيضا -، فإنه كما يمكن أن يكون علة البقاء هو الامر الأول وكانت القرائن
الخارجية كاشفة عنه، يمكن أن يكون علة الاستمرار شيئا آخر وهو نفس
القرائن الخارجية من تنصيص آخر أو اجماع على الاستمرار، أو نحو ذلك.
والحاصل: أن العمدة هو إثبات الظن بالبقاء في كل ما ثبت وقد
أثبتناه من الضرورة والوجدان، ومنكره مكابر، ولا يهمنا إثبات السبب

(1) راجع الصفحة: 105.
(2) راجع الصفحة: 107.
275

الباعث على الظن (1) وإن كان الظاهر أنه هو الغلبة على حسب تفاوت العادة
المستندة خصوصا إلى علل تلك الافراد الحاصلة، وإنما اللائق بالبحث،
إثبات حجية هذا الظن، نظرا إلى أن الأصل حرمة العمل بالظن إلا ما خرج
بالدليل.
وقد بينا سابقا في مباحث الاخبار، حجية ظن المجتهد مطلقا إلا
ما أحوجه الدليل (2)، وأن هذا الأصل غير مسلم (3)، فإن دليله إن كان هو الاجماع
فهو فيما نحن فيه ممنوع (4)، إذ هو أول الكلام، وإن كان ظواهر الآيات والاخبار،
فإن كان دليل حجته تلك الظواهر الاجماع، فحجتها فيما نحن فيه أول الكلام (5)،
وإن كان غيره فإن كان هو دعوى القطع بسبب تواترها، ففيه: أن غايته
تواتر معنى اللفظ في الجملة لا عموما، إذ دعوى القطع بالمعنى، كليته فيما نحن
فيه ممنوع. وإن كان دعوى الظن والظهور فأي ديل على حجيته إلا حجية
ظن المجتهد، وهو موجود فيما نحن فيه، وفيما ذكرنا ثمة غنية عن الإعادة
فراجعها.
وأما ما استند به الآخرون من أن ما ثبت دام فهو كلام خال عن
التحصيل (6)، وغاية توجيهه ما ذكره المحقق رحمه الله، قال: " المقتضي للحكم
الأول ثابت فثبت الحكم، والعارض لا يصلح رافعا له، فيجب الحكم بثبوته

(1) راجع الصفحة: 108.
(2) راجع الصفحة: 108.
(3) راجع الصفحة: 111.
(4) راجع الصفحة: 133.
(5) راجع الصفحة: 134.
(6) راجع الصفحة: 137.
276

في الثاني، أما أن مقتضي الحكم الأول ثابت، فلانا نتكلم على هذا التقدير،
وأما أن العارض لا يصلح رافعا له، فلان العارض إنما هو الحال تجدد
ما يوجب زوال الحكم، لكن احتمال ذلك يعارضه احتمال عدمه، فيكون كل
منهما مدفوعا بمقابله، فيبق الحكم الثابت سليما عن رافع "، وأنت خبير
بما فيه، إذ المقتضي للحكم الأول إن سلم كونه مقتضيا حتى في الأوان اللاحقة
فلا معنى للاستصحاب، بل هو محض النص (1)، وان فرض كونه مقتضيا في الآن
الأول فقط فلا معنى لاقتضائه في غيره (2)، وإن أخذ كونه مقتضيا في الجملة
فتساوي احتمال وجود الرافع وعدمه وتساقطهما لا ينفع في إثبات الحكم في
الأوان اللاحقة من جهة المقتضي، بل عدم المقتضي حينئذ هو مقتض العدم
كما مر إليه الإشارة (3).

(1) راجع الصفحة: 138.
(2) راجع الصفحة: 141.
(3) راجع الصفحة: 142.
277

الثاني
الأخبار المستفيضة عن أئمتنا عليهم السلام الدالة على حجيته عموما (1)،
مثل صحيحة زرارة عن الباقر عليه السلام، قال: " قلت له: الرجل ينام وهو
على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: يا زرارة قد
تنام العين ولا ينام القلب والاذن، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب
الوضوء، قلت: فإن حرك على جنبه شئ وهو لا يعلم به، قال: لا، حتى
يستيقن أنه قد نام، حتى يجئ من ذلك أمر بين، وإلا فإنه على
يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين بالشك أبدا، ولكنه ينقضه بيقين
آخر ".
واليقين والشك في الحديث محمولان على العموم (2)، أما على ما اخترناه

(1) راجع الصفحة: 153.
(2) راجع الصفحة: 154.
278

في محله من كون المفرد المحلى باللام حقيقة في تعريف الجنس، وجواز تعليق
الاحكام بالطبائع فواضح، لعدم انفكاك الطبيعة عن الافراد.
وأما على القول بالاشتراك أو عدم تعلق الاحكام بالطبائع، فعدم
القرينة على الفرد الخاص المعين واستلزام إرادة فرد ما الاغراء بالجهل، يعين
المحمل على الاستغراق، ولا يرد عليه أنه حينئذ يصير من باب رفع الايجاب
الكلي، لوقوعه في حيز النفي، لأنه بعيد عن اللفظ وينفيه التأكيد بقوله:
" أبدا "، فيصير من باب (لا يحب كل مختال فخور) (1)، مع أن كون قوله
عليه السلام: " ولا ينقض اليقين أبدا بالشك " في قوذ الكبرى الكلية لاثبات
المطلوب (2) يعين ذلك أيضا، وجعل الكبرى منزلة على إرادة يقين الوضوء بعيد،
لاشعار قوله عليه السلام: " فإنه على يقين من وضوئه " على ذلك، فيكون
الكبرى حينئذ بمنزلة التكرار (3). ومن ذلك يظهر أن القول بأن سبق حكاية يقين
الوضوء يمكن أن يصير قرينة للعهد فيحمل عليه أيضا بعيد، سيما مع ملاحظة
أن المعهود هو الشخص لا نوع يقين الوضوء إلا أن يرتكب فيه نوع استخدام
وهو خلاف الظاهر (4).
والحاصل: أنه لا يحسن الاشكال في العموم في اليقين وكذلك لفظ
الشك، لأنه تابع لليقين (5). والمفهوم من الكلام أن موضوعهما واحد، هذا ولما

(1) راجع الصفحة: 158، والآية من سورة لقمان: 18.
(2) راجع الصفحة 160.
(3) راجع الصفحة: 160.
(4) راجع الصفحة: 161.
(5) راجع الصفحة: 161.
279

كان من البديهيات الأولية عدم اجتماع اليقين والشك في شئ واحد (1)،
بل ولا الظن والشك أيضا (2)، فلا يمكن حمل اللفظ على ظاهره " فعنى عدم
جواز نقض اليقين بالشك عدم جواز نقض حكم اليقين، وفيما كان حكم
الوضوء في حال تيقنه هو جواز الدخول في الصلاة مثلا لا يجوز نقضه بالشك
في الوضوء.
ثم إنك إذا تأملت في فقه الحديث تعلم أن نظر الإمام عليه السلام إلى
نفي تحقق النوم في الخارج ليس أقل من نظره إلى إثبات الطهارة (3). وتوجهه
عليه السلام إلى بيان ما به يتحقق النوم وغلبته باستيلائه على القلب والاذن دون
العين فقط، يفيد أنه عليه السلام اعتبر اليقين في الأمور الخارجية أيضا، وإن كان
من أسباب الأمور الشرعية فلا وجه للقول بتخصيص دلالة الحديث
باستصحاب الأحكام الشرعية دون الخارجية، لان ذلك إنما هو من شأنهم
عليهم السلام، ومن قبيل حصول النوم في الخارج حصول الجفاف والرطوبة
وأمثال ذلك مما يتعلق بها الأحكام الشرعية.
وأما ما ذكره المحقق الخوانساري رحمه الله من أن الرواية لا تدل إلا
على ما ثبت استمراره إلى غاية من جهة الشرع، تمسكا بأن المراد من عدم
نفي اليقين بالشك هو عدم النقض عند التعارض، ومعنى التعارض هو أن
يكون الشئ موجبا لليقين لولا الشك " (4).

(1) راجع الصفحة: 162.
(2) في هامش النسختين: فيه تعريض على الشهيد رحمه الله في الذكرى حيث قال: إن
مآله على اجتماع الظن والشك (منه رحمه الله).
(3) راجع الصفحة: 166.
(4) راجع الصفحة: 168.
280

فقد أورد عليه (1) بأنه كذلك في استصحاب القوم أيضا، يعني
ما لم يثبت الاستمرار إلى غاية أيضا، سواء ثبت الاستمرار في الجملة أو ثبت
الحكم على الاطلاق، إذ المفروض أن الكلام ليس فيما كان مقيدا بوقت
أوما اختص ثبوته بآن، فإن الشك لو فرض عدم عروضه في الزمان الذي
عرض فيه أو عند الحالة التي فرض عروضه عندها حينئذ لكنا قاطعين
بالبقاء أيضا، لان عدم الروض إنما يكون عند القطع بأن جزء من أجزاء
علة الوجود لا يرتفع، ومع عدم ارتفاعه يحصل اليقين بوجود المعلول، لان
بقاء المعلول إنما هو ببقاء العلة التامة. وزواله إنما هو بعدمها.
وحاصل هذا الايراد هو استدلال إني على أن علة الوجود في هذا
المعلول هو علة البقاء إلى آن حصول الشك، يعني: يظهر من فرض انتفاء
الشك أن العلة الموجدة هي المبقية، فلا يرد الاعتراض على الايراد بأن
انتفاء الشك إنما يستلزم ثبوت اليقين لو ثبت أن علة الوجود في الآن الأول
هو علة الوجود في الآن الثاني أيضا، فكما أن انتفاء الشك في الصورة التي
فرضها المستدل يوجب اليقين بالحكم بسبب الاستمرار المنصوص عليه من
الشارع فكذلك فيما ذكره القوم، انتفاء الشك يوجب اليقين بالحكم، ضرورة
عدم الواسطة بين الشك واليقين بالحكم السابق (2)، فإن المراد هنا من الشك
ما ينافي اليقين السابق (3)، وهو أعم من الظن والقطع بانتفاء الحكم السابق
أيضا، وليس كلامنا فيه حتى يقال: إنه إذا انتفى الشك فقد يثبت اليقين

(1) راجع الصفحة: 185.
(2) راجع الصفحة: 193.
(3) راجع الصفحة: 193.
281

بالوجود، وقد يثبت اليقين بالعدم، بل الكلام إنما هو في ثبوت الحكم السابق
والشك في زواله بحيث لولاه لثبت الحكم السابق مع الفراغ من انتفاء احتمال
القطع بالعدم.
والحامل: أن المراد بالشك هنا احتمال زوال الحكم السابق لا مجرد
التردد بين الاحتمالين، فإذا انتفى هذا الاحتمال لا يبقى إلا اليقين السابق مع
أن ذلك يضر المستدل أيضا، فإن الشك - فيما فرضه على هذا التقدير - إذا
فرض انتفاؤه فلا يثبت استصحابه، لاحتمال تحققه في ضمن القطع بعدم الحكم
السابق لا بانسحابه.
لا يقال: إن الشك قد يوجبه نفس الدخول في الوقت الثاني (1)، وفرض
عدمه إنما هو بفرض عدم الوقت الثاني، وهو لا يثبت إلا اليقين (2) في الآن
الأول، فلم يتحد مورد الشك واليقين، بخلاف ما ذكره المستدل فإنه إذا
فرض انتفاء الشك فيثبت اليقين في محله من جهة نص الشارع على
الاستمرار.
لأنا نقول - مع أن هذا الفرض نادر الوقوع سيما في الأحكام الشرعية
-: المفروض عدم ملاحظة اعتبار الآن الأول ولا عدم اعتبار الآن
الثاني، غاية الامر حصول اليقين في الآن الأول لا بشرط الآن الأول،
فالقدر المتحقق إنما هو ثبوته في ظرف الخارج، وانتفاء الشك يحصل مع
ملاحظة عدم اعتبار ثانوية الآن الثاني (3)، ولا يحتاج إلى اعتبار عدم الآن

(1) راجع الصفحة: 197.
(2) في " ط ": با ليقين.
(3) في هامش النسختين - هنا - ما يلي: يعني أن الفرض بيد الفارض " فليفرض انتفاء
282

الثاني حتى ينتقل إلى الآن الأول ويفيد اليقين في الآن الأول (1)، مع أنه يرد
النقض فيما لو فرض فيما فرضه المستدل - أيضا (2) - أن يصير الآن المتأخر سببا
للشك في ثبوت الاستمرار المنصوص عليه إلى غاية معينة هل هو ثابت فيه
أو ينحصر في الآنات المتقدمة عليه حرفا بحرف.
والحاصل: أن ما ذكره رحمه الله في معنى الحديث أنه لا ينقض القين
المفروض في زمان الشك الذي لولا الشك لكان ثابتا بالشك، وهو - مع أنه
يجري في استصحاب القوم - ليس بأولى من أن يقال: المراد بالحديث
لا ينقض حكم اليقين الثابت سابقا بسبب الشك كما أشرنا، بل هذا أولى
وأظهر وهو المتبادر من الحديث.
وأما قوله رحمه الله - في جملة ما نقلنا عنه سابقا -: " قلت فيه تفصيل "
فمرجعه ليس إلى القول بعدم التفرقة بين الصورتين (3)، وإن الفرق انما يتحقق
بثبوت الاستمرار إلى غاية وعدمه، كما اختاره أولا، كما قد يتوهم، بل إلى
التفصيل في الصورة الأولى، والفرق بين الشك في كون الشئ فردا من أفراد

الشك مع قطع النظر عن، ثانوية الآن الثاني ومع عدم اعتبارها، وحينئذ فلا يلزم منه
انتقال اليقين إلى الآن الأول، بل يثبت في الآن الثاني أيضا، ولا يلزم فرض انتفاء
الشك بفرض انتفاء الآن الثاني حي يلزم خلاف المحل، إذ المفروض أنه لم يثبت أن
الشارع رخص الحكم بالآن الأول ونفاه عن الآن الثاني، بل الثابت إنما هو ثبوته في
الآن الأول لا بشرط كونه فيه فقط، ولا بشرط عدم كونه في الآن الثاني كما ذكرناه
فلم يلزم اختلاف مورد الشك واليقين فليتدبر (منه رحمه الله).
(1) راجع الصفحة: 199.
(2) راجع الصفحة: 200.
(3) راجع الصفحة: 201.
283

المزيل مع العلم بكونه ماهية واحدة، والشك في تعدد ماهية المزيل، ولا
يتعرض لبيان الفرق وسنبينه.
وأما ما ذكره المحقق السبزواري من الفرق بين الأقسام المذكورة في
كلامه فهو أيضا لا يرجع إلى محصل، فلنذكر أولا أمثلة للصور المذكورة صم
نتعرض لابطال الفرق:
فمثال الأول: استمرار علاقة الزوجية مع الشك في موت الزوج
واستمرار نجاسة البدن والثوب مع الشك في الغسل.
ومثال الثاني: استمرار الطهارة إلى زمان الحدث مع الشك في كون
المذي حدثا إذا حصل المذي من جهة تعارض الأدلة (1) واستمرار نجاسة البدن
والثوب إلى زمان التطهير بالماء مع غسله بماء السيل - المشكوك كونه ماء -.
ومثال الثالث: كل شئ مجهول الحال الذي فيه حلال وحرام فهو
حلال، حتى تعرف أنه حرام، فإن الحلال والحرام ماهيتان معلومتان
وأفرادهما الواقعية - أيضا - معلومة متعينة في متن الواقع، بحيث لو علم أنه
مغصوب يقال: إنه حرام، ولو علم أنه من المباحات الأصلية المحازة من
دون تعد يقال: إنه حلال، لكن بسبب الاختلاط والاشتباه الخارجيين
- اللذين أوجبا تعذر المعرفة - لا يعلم أن هذا الشخص الموجود المجهول
الحال فرد من أي الصنفين ومتصف بأيهما.
ومثال الرابع: الشك في كون استحالة الكلب بالملح - إذا وقع في
المملحة - مطهرا.
وأقول: إن دلالة الخبر على الأقسام الأربعة واضحة ولا اختصاص له

(1) راجع الصفحة: 205.
284

بالصورة الأولى، فإن كل ذلك من موارد نقض اليقين بالشك.
قوله: " بل إنما حصل النقض باليقين بوجود ما يشك... ".
فيه: أن المتبادر من الخبر أن موضع (1) الشك واليقين وموردهما شئ
واحد، فاليقين بوجود المذي - مثلا - لم يرد على اليقين بالطهارة، بل ما
أمران متغايران، فالشك واليقين كلاما لابد أن يلاحظا بالنسبة إلى الطهارة،
فراد من لا يفرق بين الصور أن وجود المذي بعنوان اليقين لما كان يستتبع
الشك بزوال الطهارة التي كانت يقينية فقد صدق تواردهما على موضوع
واحد، وهكذا غيره من الأمثلة.
قوله: " فإن الشك في تلك الصور كان حاصلا من قبل... ".
فيه: أن ما كان حاصلا من قبل هو الشك في كون نوع هذا الشئ رافعا
لنوع ذلك الحكم (2)، وأما الشك في رفع الحكم الخاص فإنما حصل بشخص
الشك الحاصل من جهة يقين حصول هذا الشئ الخاص، فإن حصول ما هو
مشكوك في كونه من الرافعات مستلزم للشك في رفع هذا الحكم الخاص
بحصول الخاص بعد الحكم الخاص وهذا الشك لا يكن من قبل، فصدق أن
اليقين انتقض بالشك لا باليقين، وهذا ظاهر.
ومما ذكرنا ظهر أن العلة التامة أو الجزء الأخير منها هو الشك المسبب
عن هذا اليقين لا نفس اليقين.
وصحيحته الأخرى (3) وهي مذكورة في زيادات كتاب الطهارة من

(1) في " ج ": موضوع.
(2) راجع الصفحة: 207.
(3) في " ج ": وصحيحة أخرى.
285

التهذيب (1)، وهي طويلة، وفيها مواضع من الدلالة مما يقرب من صحيحته
المتقدمة. وصحيحته الأخرى - أيضا - وهي مذكورة في باب السهو في
الثلاث والأربع من الكافي عن أحدهما عليهما السلام، قال: " وإذا لم يدر في ثلاث
هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها الأخرى ولا شئ عليه،
ولا ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما
بالاخر، ولكنه ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين فيبغي عليه، ولا يعتد
بالشك في حال من الحالات ".
وما رواه الشيخ رحمه الله عن الصفار عن علي بن محمد القاساني، قال:
كتبت إليه عليه السلام وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان، هل
يصام أم لا؟ فكتب عليه السلام: " اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية
وافطر للرؤية ".
وما رواه العلامة المجلسي رحمه الله في البحار - في باب من نسي أو شك
في شئ من أفعال الوضوء - عن الخصال، عن أبيه عن سعد بن عبد الله، عن
محمد بن عيسى اليقطيني، عن القاسم بن يحيى " عن جده الحسن بن راشد،
عن أبي بصير ومحمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: " قال أمير
المؤمنين عليه السلام: من كان على يقين فشك فليمض على يقينه، فإن الشك
لا ينقض اليقين ".
وفي أواخر الخصال في حديث الأربعمائة، عن الباقر عليه السلام " عن أمير
المؤمنين عليه السلام: " من كان على يقين فشك فليمض على يقينه، فإن الشك
لا ينقض اليقين "،.

(1) راجع الصفحة: 211.
286

وعن البحار - أيضا - أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: " من كان على
يقين فأصابه الشك فليمض على يقينه، فإن اليقين لا يدفع بالشك ".
ثم قال: أصل هذا الخبر في غاية الوثاقة والاعتبار على طريقة القدماء
وإن لم يكن صحيحا بزعم المتأخرين، واعتمد عليه الكليني وذكر أكثر
أجزائه متفرقة في أبواب الكافي، وكذا غيره من أكابر المحدثين، انتهى.
ولا يخفى أن ما ذكره مع اعتضادها بغيرها من الاخبار الصحيحة
ودليل العقل يجعلها أقوى من الصحيح باصطلاح المتأخرين بكثير.
287

الثالث
الروايات الكثيرة الدالة عليها باجتماعها، فإنها وإن كانت واردة في
موارد خاصة لكن استقراؤها والتأمل فيها يورث الظن القوي بأن العلة في تلك الأحكام
هو الاعتماد على اليقين السابق (1)، وهذا ليس من القياس في شئ،
بل في كل من الروايات إشعار بالعلية لولا نقل باستقلاله في الدلالة، فلا أقل
من أنه يفيد ظنا ضعيفا بها، فإذا اجتمع الظنون الضعيفة فيقوى في غاية
القوة، ويصدق عليه أنه ظن حصل من كلام الشارع لا من الترديد أو
الدوران ونحوهما، وإن شئت جعلته من عموم ظن المجتهد الذي أثبتنا
حجيته.
والفرق بينه وبين الدليل الأول: أن المعتمد في الأول الظن الحاصل
بسبب وجود الحكم في الآن السابق، وفيما نحن فيه الظن الحاصل من، تلك

(1) راجع الصفحة: 215.
288

الاخبار بأن العمل على مقتضى اليقين السابق لازم، وإن لم يكن مظنونا في
نفسه، وبينهما فرق بين.
فمن الروايات: قول الصادق عليه السلام في موثقة عمار: " كل شئ نظيف
حتى تعلم أنه قذر "، وقوله عليه السلام - أيضا - بطرق متعددة: " كل ماء طاهر
حتى تعلم أنه قذر ".
ووجه انطباقهما على الاستصحاب ظاهر إذا جعلنا المراد أن كل شئ
أو كل ماء يحكم بطهارته حتى يحصل العلم بإصابة ما يعلم أنه نجس إياه،
مثل الشك في إصابة البول للثوب أو الماء.
وهناك معنيان آخران يمكن حمل الروايتين عليهما، نظير قوله
عليه السلام: " كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام ". كما تقدم
الكلام فيه.
فنقول - على حملهما على الشبهة في الموضوع -: إن الأشياء أو المياه
بعضها متصف به في الخارج بالنجاسة الواقعية التي يعلم أن ملاقيها نجس
وبعضها غير متصف بها، ولكن اشتبه حال فرد من الافراد أنه من أيهما،
فنقول: إن الشئ المجهول الحال أو الماء المجهول يحكم بأنه طاهر واقعا من
حيث إنه مجهول الحال وطاهرا من حيث هو هذا الفرد حتى يحصل العلم
بأنه هو الفرد النجس، وعلى حملهما على الشبهة في الحكم الشرعي، فنقول:
إن هذا الشئ المشتبه الحكم في أنه نجس أم لا؟ مثل العصير العني بعد
الغليان أو الجسم الملاقي له، هل حكمه الشرعي بالخصوص الطهارة
أو النجاسة؟ فهو طاهر حتى تعلم أنه قذر.
ومن هذا الباب ما استدل بعضهم على عدم تنجس الماء القليل بملاقاة
النجاسة بقوله عليه السلام: " كل ماء طاهر حتى تعلم أنه قذر "، وهذا المعنى
289

أبعد المعاني الثلاثة من اللفظ.
وتوضيح المقام: أن قوله عليه السلام " كل شئ نظيف حتى تعلم أنه
قذر " يحتمل معاني ثلاثة:
الأول، كل جزئي حقيقي من الأشياء علم طهارته سابقا واقعا
أو شرعا فهو محكوم بطهارته حتى تعلم أنه صار قذرا بملاقاة ما ينجسه
شرعا، كما إذا شك عند ترشش البول في اصابته الثوب.
والثاني: كل جزئي حقيقي لم يعلم أنه هل هو من الأشياء التي
اتصفت بالنجاسة بسبب ملاقاتها للنجاسة، أم من الأشياء الباقية على
طهارتها، فيحكم بكونه من الأشياء الباقية على الطهارة حتى يعلم أنه من
الأشياء التي اتصفت بالنجاسة، كما لو اشتبه الثوب النجس بالثوب الطاهر،
وكذلك الكلام فيما لو اشتبه الجزئي الطاهر العين بنجس العين، كالعذرة
المترددة بين عذرة الانسان وعذرة البقر.
والثالث: كل مجهول الحكم بكليه وبشخصيه جميعا المحتمل لان يكون
حكمه حكم الأعيان النجسة بالذات بكليها، كالكلب والعذرة، أو حكم
الأعيان الطاهرة بالذات بكليها، كالغنم والظبي، وذلك مثل ابن آوى فهو
طاهر حتى تعلم أنه نجس، وكذلك المعاني الثلاثة في قوله عليه السلام: " كل ماء
طاهر حتى تعلم أنه قذر ".
والفرق بين المعنى الثالث والمعنيين الأولين لزوم اعتبار المفهوم الكلي في
ذلك الشئ هنا، إذ الجهالة لم تتعلق بحكم الجزئي من حيث إنه جزئي،
بل من حيث إنه كلي أو فرد لكلي، نظير قوله عليه السلام: " كل شئ مطلق حتى
يرد فيه نهي "، بخلاف الأولين، وكذلك يعتبر هنا العلم بالنجاسة من حيث
الثبوت من الدليل الشرعي على الوجه الكلي بخلاف السابقين، فإن العلم
290

إنما يحصل من الأمور الخارجية، كالبينة والقرائن، فهذا من جملة الشبهة في
الحكم، والسابقان من جملة الشبهة في الموضوع.
إذا عرفت هذا وظهر لك الفرق بين المعاني (1) عرفت أن المعاني متغايرة
متبائنة لا يجوز إرادتها جميعا في اطلاق واحد، كما حققناه في أوائل الكتاب
والقول بأن " كل شئ " عام قابل لإرادة الكلي والجزئي، وكذلك " العلم "
يشمل (2) بالكلي والجزئي، فيصح إرادة معنى عام يندرج الكل فيه، لا يصح
مع تفاوت إضافة الطهارة والقذارة إلى الأشياء، وكذلك سبب العلم.
ولا ريب أن كلام المعصوم منزل على موارد حاجات المكلفين، وقد يختلف
موارد الحاجات، فقد يمكن ان يراد بسبب موضع الحاجة أن كل شئ طاهر
طاهر باليقين السابق حتى تعلم من الخارج ملاقاته للنجاسة. أو أن كل شئ
مشتبه بين أمور طاهرة ونجسة فيحكم بأنه من الأشياء الطاهرة حتى تعلم
من الخارج أنه من الأشياء النجسة، أو أن كل شئ يحتمل أن يكون حكمه
الشرعي الطهارة أو النجاسة، فيحكم أنه طاهر حتى يعلم من جانب الشرع
أن حكمه النجاسة مع أن المعنى الثالث يساوق أصل البراءة، وقد عرفت
اشتراط العمل به بالفحص والبحث عن الدليل، بخلاف المعنيين الأولين،
والرواية ظاهرة في البناء على الطهارة من دون الفحص وهو يناسب المعنيين
الأولين لا المعنى الثالث، لأنه من المسائل الاجتهادية المحتاجة إلى البحث
والفحص. وادخال المعنيين الأولين في الثالث - بأن يقال: كل شئ مجهول
طهارته ونجاسته سواء كان كابن آوى والفأرة، أو كالجسم الطاهر المشكوك

(1) راجع الصفحة: 216.
(2) في " ج ": شمل العلم.
291

الملاقاة بالنجس أو كأحد الإنائين المشتبهين، فهو طاهر حتى يعلم من الشارع
حكمه، فيصير الكل من باب الجهل بالحكم الشرعي، ولا ينافي شئ منها
لزوم الفحص عن الدليل - في غاية البعد من اللفظ والمعنى.
والأصل: أن الجهالة بالحكم الشرعي إما جهالة به من حيث
الخصوص، أو جهالة به من حيث اشتباه الحكم في الخصوص بعد (1) وضوحه
في كل من المشتبهين، أو جهالة محضة مطلقة، وكذلك العلم الذي يحصل
بالحكم يختلف باختلاف الجهالة، ولابد في إرادة كل منها من ذكر لفظ يدل
عليه، فلا بد أن يحمل اللفظ على ما هو الظاهر فيه، فنقول: ظاهر العموم هو
العموم الافرادي وإرادة الاشخاص لا الأنواع، فليس بظاهر في إرادة الكلي
ولا الجزئي بملاحظة الكلي، فهو يرجع إلى المعنيين الأولين، والثاني أظهرهما.
فالاستدلال به على المعنى الثالث غير واضح، سيما مع ملاحظة أن المتبادر
من العلم هو اليقين الواقعي، والغالب أنه محصل في الموضوع لا الحكم، لان
العلم بالحكم الشرعي غالبا إنما هو من الأدلة الظنية، غاية الامر كونها
واجب العمل، وهو لا يوجب العلمية الحقيقية، ولذلك قال عليه السلام في بيان
الحكم المجهول محضا: " كل شئ مطلق حتى فيه يرد فيه نهي " لا " حتى
يعلم أنه حرام ".
مع أن حمله على المعنى الثالث مع ورود قوله عليه السلام: " كل شئ
مطلق حتى يرد فيه نهي "، وكذلك على المعنى الأول مع ما ورد من الاخبار
الدالة علن عدم جواز نقض اليقين بالشك يشبه التأكيد، بخلاف إرادة المعنى
الثاني، فإنه تأسيس، كبيان الحل في قوله عليه السلام ": " كل شئ فيه حلال

(1) في " ط ": وبعد.
292

وحرام فهو لك حلال ".
ومما يبعد إرادة المعنى الأول ويقرب المعنى الثاني، أن الظاهر أن لفظ
القذر صفة مشبهة دالة على الثبوت، مناسبة لإرادة ما ثبت قذارته بالذات
أو بسبب الملاقاة، لا فعل ماض مفيد لتجدد حصول القذارة، فيفيد أن الشك
إنما هو أن الشئ هو الطاهر أو القذر، لا في أن التي حصل له قذارة أم لا.
وحاصل المقام: أن إرادة معنى عام يشمل المعاني الثلاثة لا يمكن إلا
مع التجوز والتكلف الذي لا يناسب الاستدلال والحمل على المعنى الثالث
دون الأولين بعيد لفظا ومعنى، وكذلك إرادة المعنى الأول دون الثاني، وفهم
هذا المرام يحتاج إلى تأمل تام.
ثم نرجع إلى ما كنا فيه ونقول: إن انطباق الرواية بالمعنى الأول على
الاستصحاب ظاهر، وكذلك على المعنيين الأخيرين (1)، ولكنهما يرجعان إلى
استصحاب حال العقل وهو البراءة الأصلية، وأما المعنى الأول فيمكن حمله
عليه وعلى استصحاب حال الشرع إذا علم طهارته سابقا شرعا.
ومنها: صحيحة عبد الله بن سنان الدالة على طهارة الثوب الذي
أعاره الذمي وعدم وجوب غسله، لأنه أعاره طاهرا ولا يستيقن نجاسته،
وقد مر صحيحته الأخرى في شبهة الموضوع وما في معناها... إلى غير
ذلك من الروايات.

(1) في " ج ": الآخرين.
293

الرابع
أنه ثبت الاجماع على اعتباره في بعض المسائل، كتيقن الطهارة
والشك في الحدث وعكسه، وتيقن طهارة الثوب والجسد والشك في نجاستهما،
وبناء الشاهد على ما شهد به ما لا يعلم رافعها، والحكم ببقاء علاقة الزوجية
في المفقود، وكذا المال في عزل نصيبه من الميراث، وغير ذلك مما لا يحصى،
فيكون حجة، لان علة عملهم فيها هو اليقين السابق فيجب العمل
فيما (1) تحققت علته، أو لأنه إذا ثبت حجيته في بعض المسائل فلا قائل
بالفصل.
وأورد عليه بأن العلة لعلها كانت في خصوصها نص أو اجماع أو غير
ذلك، فدعوى العلية ممنوعة، وكذا دعوى الاجماع المركب، إذ هي إنما تتم
لو ثبت أن عملهم إنما كان من جهة الاستصحاب.

(1) في " ج ": أينما (خ ل).
294

والانصاف أن ملاحظة هذه الموارد الكثيرة يورث الظن القوي لولا
نقل بالعلم بأن المناط هو الاستصحاب.
وبالجملة: الأدلة التي ذكرناها سيما مع اجتماعها لا يبقى معها مجال الشك
والريب في حجية الاستصحاب وجواز الاعتماد عليه.
واحتج النافون بالآيات والاخبار الدالة على حرمة العمل بالظن إلا
ما أخرجه الدليل، ولا دليل على حجية هذا الظن، وأنه لا يجوز إثبات
المسائل الأصولية بأخبار الآحاد، وربما مع بعضهم حصول الظن عنه أيضا.
وقد عرفت الجواب عن أدلة حرمة العمل بالظن في باب الخبر الواحد
وإثبات حجية ظن المجتهد كما بيناه ثمة، مع أنك قد عرفت دلالة الاخبار
عليه أيضا، بل الحق أن حجية الاخبار أيضا لا تثبت إلا بإثبات حجية ظن
المجتهد كما بيناه ثمة.
وأما أن المسألة الأصولية لا تثبت بالظن فقد عرفت أن التحقيق
خلافه ثمة أيضا. وأما إنكار حصول الظن منه، فمع أنه مكابرة لا يليق
بالجواب، مدفوع بعدم الاحتياج إليه، نظرا إلى الاخبار أيضا.
حجه القول بالحجية في نفس الحكم الشرعي دون الأمور الخارجية:
فهو دليل النافين من منع حجية مطلق الظن أو نفي الظن ومنع دلالة
الاخبار، فإنه لا يظهر شمولها للأمور الخارجية، مثل رطوبة الثوب ونحوها،
إذ يبعد أن يكون مرادهم بيان الحكم قي مثل هذه الأمور الذي ليس حكما
شرعيا وان كان يمكن أن يصير منشأ للحكم الشرعي بالعرض، ومع عدم
الظهور لا يمكن الاحتجاج بها. هكذا قرر المنع المحقق الخوانساري في حاشية
شرح الدروس، قال وهذا ما يقال: إن الاستصحاب في الأمور الخارجية
لا عبرة به.
295

أقول: وفيه أن " اليقين " و " الشك " عامان سيما في رواية الخصال، وبعد
كون المراد بيان حكم الأمور الخارجية سيما إذا كان مستلزما للأحكام الشرعية
ممنوع، مع أن عدم جواز نقض اليقين في كلامه (1) كما يرجع في
الطهارة عن الحدث والخبث إلى إبقاء الطهارة بالمعنيين فيرجع إلى عرم
النجاسة وعدم حصول النجس وعدم حصول ما يوجب الحدث أيضا كالنوم
وغيره كما لا يخفى على من تأمل في الروايات، مثل ما في صحيحة زرارة (2):
" قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا
شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة
وغسلته ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعله شئ أوقع عليك " فليس
ينبغي أن ينقض اليقين بالشك... الحديث ".
بل قال المحدث البارع الحر العاملي في كتاب " الفصول المهمة في
أصول الأئمة " (3) - بعد ما ذكر فرقة من الاخبار التي ذكرنا - أقول: هذه
الأحاديث لا تدل على حجية الاستصحاب في نفس الحكم الشرعي وإنما
تدل عليه في موضوعاته ومتعلقاته كتجدد حدث بعد الطهارة، أو طهارة بعد
الحدث، أو طلوع الشمس أو غروبها، أو تجدد ملك أو نكاح أو زوالهما ونحو
ذلك كما هو ظاهر من أحاديث المسألتين، وقد حققناه في الفوائد الطوسية ".
أقول: ويظهر مما ذكرنا حجة القول بالعكس وجوابه أيضا (4)، وحجة

(1) راجع الصفحة: 225.
(2) راجع الصفحة: 226.
(3) راجع الصفحة: 227.
(4) راجع الصفحة: 229.
296

القول بنفي الحجية في الحكم الشرعي إذا ثبت من الاجماع (1)، أن ثبوت الحكم
في الآن المتأخر يحتاج إلى دليل ولو كان الاجماع ثابتا في الآن المتأخر أيضا
لما حصل هنا خلاف، فالخلاف في مسألة المتيمم الذي أصاب الماء في أثناء
الصلاة مثلا، كاشف عن أن الاجماع لم ينعقد إلا على وجوب المضي في الحال
الأول وهو ما قبل رؤية الماء وإلا لكان المخالف خارقا للاجماع، وإذا لم
يثبت الاجماع - والمفروض عدم دليل آخر على الانسحاب - فلا يثبت الحكم
السابق في الآن المتأخر.
وفيه: إن هذا الكلام يجري في غير ما ثبت الحكم من الاجماع أيضا،
إذ لو كان النص الدال على ثبوت الحكم في الآن الأول شاملا للآن المتأخر
بعمومه، فهذا استدلال بالعموم لا بالاستصحاب، وان لا يكن فيه شمول له
فلا دليل على ثبوت الحكم في الآن المتأخر، وهذا الدليل إنما يناسب القول
بنفي حجية الاستصحاب مطلقا لا التفصيل.
والحل: أنا لا نقول في صورة استصحاب حال الاجماع إن الاجماع
موجود في الآن المتأخر، ولا نقول أيضا لابد أن يكون المسألة في الآن
المتأخر أيضا إجماعية، بل نقول إن الاجماع أيضا كالنص كاشف من حكمة
واقعية أوجبت صدور الحكم عن الشارع بثبوت الحكم ولم يقيد ثبوت
الحكم بالآن الأول بأن يكون الاجماع بشرط الآن الأول وعدم انضمام الآن
الاخر إليه، وكذلك النص، بل إنما ثبت مطلق الحكم في الآن الأول وهو
لا يفيد اختصاصه به، ثم لا نقول بأن علة حصوله في الأوان المتأخرة هو
حصوله في الآن الأول، لعدم الدليل على ذلك بل نقول إن الظن حاصل ببقاء

(1) راجع الصفحة: 235.
297

ما ثبت في الآن الأول، نظرا إلى ملاحظة أغلب الموارد فيتبع ذلك الظن ثم
يكشف ذلك عن كون مراد الشارع في إثبات الحكم هو إثباته مستمرا كما
أشرنا سابقا، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين ما ثبت بالاجماع وغيره.
وحجة التفصيل في الحكم الوضعي وغير الوضعي - مع ظهور وهنه
بحيث لا يحتاج إلى البيان - قد ظهر مع جوابه مما مر. وحجة القول بحجيته إذا
كان استمرار الحكم ثابتا من الشرع إلى غاية معينة دون غيره: فقد عرفت
مما نقلناه عن شرح الدروس.
وحاصله: أن الدليل على الحجية فيما لو ثبت استمرار الحكم إلى غاية
معينة في الواقع بدون اشتراطه بالعلم بها أمران: أحدهما: الاخبار الحاكمة
بعدم جواز نقض اليقين بالشك.
والثاني: أنه لا يحصل الظن بالامتثال إلا باستصحابه إلى حصول
اليقين بالغاية، وذلك في الوجوب والتحريم وما يستلزمهما من الأحكام الوضعية
ظاهر، وأما في الإباحة وما يستلزمها من الأحكام الوضعية (1) فلان
عدم اعتقاد اباحته يوجب عدم امتثال أمر الله تعالى، فإن الاعتقاد بما سننه
واجب، واجبا كان أو مباحا أو غيرهما.
ولعل نظره إلى أن اشتغال الذمة مستصحب (2)، وشغل الذمة اليقيني
مستدع لحصول البراءة اليقينية بالاجماع - كما ادعاه بعضهم - ورفع الاشتغال
لا يحصل إلا بالاستصحاب إلى الغاية اليقينية، فالمكلف به أمران: نفس
المحكم، وإجراؤه إلى غايته، ولا يحصل الامتثال إلا بإتيانهما معا، فلا يرد

(1) راجع الصفحة: 242.
(2) راجع الصفحة: 245.
298

عليه ما قيل (1): إن هذا الدليل جار فيما إذا ثبت تحقق حكم في الواقع مع
الشك في تحققه بعد انقضاء زمان لابد للتحقق منه، وهذا هو الذي اجرى
القوم فيه الاستصحاب بتقريب أن الدليل للحكم يحتمل أن يراد منه وجود
الحكم في الزمان الذي يشك في وجود الحكم فيه، وأن يراد منه عدم وجوده
فيه، ولا يحصل اليقين بالبراءة إلا بالامتثال في زمان الشك أيضا، فإن
الاتيان إلى الغاية جزء المأمور به - مثلا - فما فرضه، بخلاف فرض
استصحاب القوم، ففي استصحابهم لا يثبت شغل الذمة إلا بالحكم في الجملة،
ولا ما قيل: إن تحصيل القطع أو الظن بالامتثال إنما يلزم مع القطع أو الظن
بثبوت التكليف وفي زمان الشك ليس شئ منهما حاصلا لأنا نقول
لا حاجة إلى دليل آخر يدل على ثبوت التكليف في أن الشك، بل التكليف
الأول لما كان مركبا، لا يحصل الامتثال به إلا بإتيان جميع أجزائه سواء بقي
اليقين بالتكليف أو الظن أو الشك.
والحاصل: أن الاستصحاب وإن أمكن فرض تحققه فيما نحن فيه لكنه
لا حاجة إلى تحققه ولا التمسك به وذلك نظير أصل البراءة فكما أنه
- بالذات - يقتضي رفع التكليف حتى. يثبت التكليف سواء اعتبر استصحابه
أم لا، فشغل الذمة - أيضا -: يقتضي إبراءها سواء اعتبر استصحابه أم لا،
وإنما اكتفى بحصول ظن الامتثال مع أن المعتبر في رفع شغل الذمة اليقيني هو
اليقين بالرفع تنبيها على كفاية الظن الاجتهادي الذي هو بمنزلة اليقين، فلو
كان حصول الغاية الموصوفة المذكورة بظن معتبر فيكفي في الامتثال، وهذا
كلام سار في مطلق التكليف الثابت ولا اختصاص له باستمرار الحكم

(1) راجع الصفحة: 249.
299

وعدمه.
قال في شرح الدروس بعد كلام في هذا المقام: " والحاصل أنه إذا ورد
نص أو إجماع على شئ معين مثلا معلوم عندنا أو ثبوت حكم إلى غاية
معلومة عندنا فلا بد من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظن بوجود ذلك
الشئ المعلوم حتى يتحقق الامتثال، ولا يكفي الشك في وجوده، وكذا
بلزوم الحكم ببقاء ذلك الحكم إلى أن يحصل العلم أو الظن بوجود تلك الغاية
المعلومة، فلا يكفي الشك قي وجودها في ارتفاع ذلك الحكم، وكذا إذا ورد
نص أو إجماع على وجوب شئ معين في الواقع مردد في نظرنا بين أمور،
ونعلم أن ذلك التكليف غير مشروط بشئ من العلم بذلك الشئ مثلا،
أو على ثبوت حكم إلى غاية معينة في الواقع مرددة عندنا بين أشياء، ونعلم
أيضا عدم اشتراطه بالعلم، مثلا يجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردد
فيها في نظرنا وبقاء ذلك الحكم إلى حصول تلك الأشياء أيضا، ولا يكفي
الاتيان بشئ واحد منها في سقوط التكليف، وكذا حصول شئ وأحد في
ارتفاع الحكم، وسواء في ذلك كون ذلك الواجب شيئا معينا في الواقع مجهولا
عندنا، أو أشياء كذلك، أو غاية معينة في الواقع مجهولة عندنا، أو غايات
كذلك، وسواء أيضا تحقق قدر مشترك بين تلك الأشياء والغايات أو تباينها
بالكلية.
وأما إذا لم يكن كذلك، بل ورد نص مثلا على أن الواجب الشئ
الفلاني ونص آخر على أن ذلك الواجب شئ آخر، أو ذهب بعض الأمة
إلى وجوب شئ والآخرون إلى وجوب شئ آخر دونه، وظهر بالنص أو
الاجماع في الصورتين أن ترك ذينك الشيئين معا سبب لاستحقاق العقاب،
فحينئذ لم يظهر وجوب الاتيان بهما معا حتى يتحقق الامتثال، بل الظاهر
300

الاكتفاء بواحد منهما سواء اشتركا في أمر أو تباينا بالكلية، وكذلك الحكم في
ثبوت الحكم إلى الغاية ".
أقول: وقد أشرنا إلى بعض هذه المطالب قبل العثور على هذا الكلام
في المبحث السابق، وأوردنا على ما نقلنا من بعض كلماته في شرح الدروس
ما يدفعه تقييده هنا بقوله: " ونعلم أن ذلك التكليف غير مشروط بشئ من
العلم بذلك الشئ " فلاحظ وتأمل.
هذا، ولكن التمييز بين الموارد ومعرفة ما يجري فيه هذا الاستصحاب
- أعني لزوم العمل على استمرار الاشتغال حتى يحصل اليقين بالبراءة - وأن
المكلف به في المردد بين أمور هل هو أحدهما المعين عند الله المبهم عندنا،
أو المكلف به أن لا يترك مجموع المحتملات فيكفي الاتيان بالبعض أمر مبهم
مشكل.
والحق أن إثبات الأول في غاية الصعوبة ونهاية الندرة إن لم نقل بأنه
غير متحقق وكذلك الكلام في الامر المستمر إلى غاية معينة عند الله مبهمة
عندنا، وقد ذكرنا بعض الأمثلة في المبحث السابق، ونقول هنا - أيضا -:
لو استدل، القائل بوجوب ثلاثة أحجار في الاستنجاء بأن حكم النجاسة
مستمر إلى حصول المطهر الشرعي بالاجماع، ولم يتحقق المطهر إلا بالثلاثة "
فيقال: لا نسلم الاجماع على أن النجاسة ثابتة إلى أن يحصل المطهر الشرعي،
بل إنما نسلمه على أن الصلاة لا تصح بعد التغوط إلا مع حصول أحد من
أشياء ثلاثة. إما الغسل بالماء أو التمسح بثلاثة أجسام طاهرة أو التمسح
بطاهر، فلو قال: الاجماع ثبت على وجوب شئ وهو أحدهما المعين عند الله
المبهم عندنا، فيقال: الاجماع على ذلك ممنوع، بل إنما يسلم الاجماع على أن
ترك مجموع الثلاثة موجب للعقاب، وهكذا في كل ما يرد عليك، فعليك
301

بالاجتهاد في كل مورد خاص والعمل على مقتضاه.
ثم إن ما ذكرنا عن المحقق الخوانساري هو ظاهر ما اختاره المحقق
رحمه الله في آخر كلامه، بعد ما اختار أولا حجية الاستصحاب مطلقا،
واستحسنه صاحب المعالم رحمه الله إلا أنه قال: هذا رجوع عن القول
بالاستصحاب، فإن أراد الرجوع عن القول بالاستصحاب في جميع الموارد
فحسن، وإن أراد أنه رجوع عنه مطلقا كما هو ظاهر كلامه فهو غير صحيح
لما ظهر لك أنه أيضا انسحاب الحكم في زمان الشك في الاستمرار، وهذا
معنى الاستصحاب.
وأما حجة القول الأخير وجوابه فيظهر مما ذكرنا مفصلا فلا نعيد.
302

وينبغي - ها هنا - التنبيه على أمور:
الأول
إن الاستصحاب يتبع الموضوع وحد في مقدار قابلية الامتداد
وملاحظة الغلبة فيه، فلا بد من التأمل في أنه كلي أو جزئي فقد يكون
الموضوع الثابت حكمه أولا مفهوما كليا مرددا بين أمور، وقد يكون جزئيا
حقيقيا معينا، وبذلك يتفاوت الحال، إذ قد يختلف أفراد الكلي في قابلية
الامتداد ومقداره، فالاستصحاب حينئذ ينصرف إلى أقلها استعدادا
للامتداد، وها هنا لطيفة يعجبني أن اذكرها من باب التفريع على هذا الأصل
مما ألهمني الله تعالى به بركة دين الاسلام، والصادعين به عليهم الصلاة
والسلام، وهو: أن بعض سادة الفضلاء الأزكياء من أصحابنا (1) ذاكرني

(1) في هامش نسخة " ط " - هنا - ما يلي: هو السيد محمد مهدي الطباطبائي أعلى الله
مقامه
303

حكاية ما جرى بينه وبين أحد من أهل الكتاب من اليهود أو النصارى،
من أنه تمسك بأن المسلمين قائلون بنبوة نبينا ملى الله عليه وآله وسلم فنحن وهم
متفقون على حقيته ونبوته في أول الامر فعلى المسلمين أن يثبتوا بطلان
دينه، ثم ذكر أنه أجابه بما هو المشهور من أنا لا نسلم نبوة نبي لا يقول
بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فموسى أو عيسى الذي يقول بنبوته اليهود
أو النصارى نحن لا نعتقده، بل نعتقد بموسى أو عيسى الذي أخبر عن
نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه، وهذا مضمون ما ذكره الرضا عليه السلام في
جواب الجاثليق، فإنه قال له: ما تقول في نبوة عيسى وكتابه، هل تنكر
منهما شيئا؟ قال الرضا عليه السلام: انا مقر بنبوة عيسى وكتابه وما بشر به أمته
وما أقرت به الحواريون، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد
صلى الله عليه وآله وسلم وبكتابه ولم يبشر به أمته.
قال الفاضل: فأجابني بأن عيسى بن مريم المعهود الذي لا يخفى على
أحد حاله وشخصه أو موسى بن عمران المعلوم الذي لا يشتبه حاله على
أحد من المسلمين ولا أهل الكتاب جاء بدين وأرسله الله نبيا، وهذا القدر
مسلم الطرفين، ولا يتفاوت ثبوت رسالة هذا الشخص واتيانه بدين بين أن
يقول بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم لا، فنحن نقول: دين هذا الرجل المعهود
رسالته باق بحكم الاستصحاب فعليكم بإبطاله، وبذلك أفحم الفاضل المذكور
في الجواب.
فتأملت هوينا فقلت في ابطال الاستصحاب - بعد فرض تسليم جواز
التمسك به في أصول الدين -: إن موضوع الاستصحاب لابد أن يكون معينا
حتى يجري على منواله ولم يتعين هنا إلا النبوة في الجملة وهو كلي قابل
للنبوة إلى آخر الأبد بأن يقول الله أنت نبي وصاحب دين إلى يوم القيامة
304

وللنبوة الممتدة إلى زمان محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول له أنت نبي ودينك
باق إلى زمان محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولان يقول أنت نبي بدون أحد القيدين،
فعلى المخالف أن يثبت إما التصريح بالامتداد إلى آخر الأبد وأنى له باثباته
والمفروض أن الكلام ليس فيه أيضا، وإما الاطلاق فهو أيضا في معنى القيد
ولا بد من إثباته، ومن الواضح أن مطلق النبوة غير النبوة المطلقة، والذي
يمكن استصحابه هو النبوة المطلقة لا مطلق النبوة، إذ الكلي لا يمكن
استصحابه إلا بما يمكن من ابقاء أقل أفراده امتدادا واستعدادا كما ذكرنا،
ولنأت بمثال لتوضيح المقام، وهو: أنا إذا علمنا أن في هذه القرية حيوانا
ولكن لا نعلم أي نوع هو من الطيور أو البهائم أو الحشار والديدان، ثم غبنا
عنها مدة، فلا يمكن لنا الحكم ببقائه في مدة يعيش فيها أطول الحيوان عمرا،
فترى أن الفرس أطول عمرا من الغنم، والعصافير أطول عمرا من
الخطاطيف، والفيران من الديدان، وهكذا، فإذا احتمل عندنا كون الحيوان
الذي في بيت خاص، إما عصفور أو فأرة أو دود قز، فكيف يحكم بسبب
العلم بحصول القدر المشترك باستصحابها إلى زمان ظن بقاء أطولها أعمارا،
فبذلك بطل تمسك أهل الكتاب، إذ على فرض التسليم والتنزل والمماشاة
معهم نقول إن القدر الذي ثبت لنا من نبوتهما هو القدر المشترك بين أحد
المقيدات الثلاثة، فع امكان كونها النبوة الممتدة إلى زمان نبوة محمد
صلى الله عليه وآله كيف يجري الاستصحاب إلى آخر الأبد.
ثم إنك بعد ما بينا لك سابقا لا أظنك رادا علينا أمر الاستصحاب في
الحكم الشرعي بما ذكرنا في هذا المقام، بأن تقول: يمكن أن يرد الاستصحاب
فيها بمثل ذلك، ويقال: إن الاحكام الواردة في الشرع إنما يسلم جريان
الاستصحاب فيها إن ثبت كونها مطلقات ولم تكن مقيدة إلى وقت خاص
305

واختفى علينا، أو ممتدة إلى آخر الأبد، والذي يجوز إجراء الاستصحاب فيه
هو الأول، وذلك لان التتبع والاستقراء يحكمان بأن غالب الأحكام الشرعية
في غير ما ثبت في الشرع له حد ليست باقية ولا محدودة إلى حد معين وأن
الشارع يكتفي فيها فيما ورد عنه مطلقا في استمراره، ويظهر من الخارج أنه
أراد منه الاستمرار، فإن تتبع أكثر الموارد واستقرائها يحصل الظن القوي بأن
مراده من تلك المطلقات هي الاستمرار إلى أن يثبت الرافع من دليل عقلي
أو نقلي. فإن قيل: فهذا مردود عليك في حكاية النبوة.
قلنا: ليس كذلك، لان الغالب في النبوات هو التحديد، بل إنما الذي
ثبت علينا ونسلمه من الامتداد القابل لان نمده إلى الأبد هو نبوة نبينا
صلى الله عليه وآله وسلم مع أنا لا نحتاج في إثباته إلى التمسك بالاستصحاب حتى
يتمسك الخصم بأن نبوته أيضا مرددة بين الأمور الثلاثة، بل نحن متمسكون
بما نقطع به من النصوص والاجماع.
نعم لو كان تمسكنا بالاستصحاب في الدوام لاستظهر علينا الخصم
بما نبهناه عليه.
فإن قيل: قولكم بالنسخ يعين الاطلاق ويبطل التحديد، لان اخفاء
المدة وعدم بيان الاخر مأخوذ في ماهية النسخ وهو بعينه مورد
الاستصحاب.
قلنا: ما سمعت من مخاصمتنا مع اليهود في تصحيح النسخ وابطال
قولهم في بطلانه إنما هو من باب المماشاة معهم في عدم تسليمهم التحديد
وابطال قولنا بقبح النسخ، وإلا فالتحقيق أن موسى وعيسى على نبينا وآله وعليهما السلام
أخبرا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله، سلم، وكتابهما ناطق به لا أن نبوتهما مطلقة ونحن
نبطلهما بالنسخ، فلما كان اليهود منكرين لنطق كتابهم ونبيهم بذلك وزعموا
306

دوام دينهم واطلاق النبوة وتمسكوا بالاستصحاب من باب المماشاة معنا
وتمسكوا ببطلان النسخ بناء عليه أيضا، فنحن نخاصمهم على هذا الفرض في
تصحيح النسخ وهذا لا يضر ما أوردناه عليهم في تمسكهم بالاستصحاب.
فإن قيل: احكام شرع عيسى مثلا مطلقات والنسخ يتعلق بالاحكام.
قلنا: إطلاق الاحكام مع اقترانها ببشارة عيسى عليه السلام برسول يأتي
بعده اسمه احمد لا ينفعهم، لاستلزامه وجوب قبول رسالته صلى الله عليه وآله وسلم
وبعد قبوله فلا معنى لاستصحاب احكامهم كما لا يخفى، فافهم ذلك واغتنم.
307

[التنبيه] الثاني
قد عرفت أن الاستصحاب المصطلح لا يتحقق إلا مع حصول الشك
في رفع الحكم السابق، فأعلم أن ذلك الشك إنما يحصل بسبب حصول تغير
ما في الموضوع، إما في وصف من أوصافه مثلا القلة والكثرة في الماء القليل
المتنجس إذا تم كرا، أو في سببه كالكر المتغير بالنجاسة إذا زال تغيره من
قبل نفسه، أو في حال من أحواله كالإنائين المشتبهين، فإن الاجتناب عن
الاناء النجس في حال العلم به كان واجبا وحصل الشك في الوجوب بسبب
حصول الجهالة به في وقت الاشتباه.
وأما مع تغير حقيقته، فظاهرهم أنه لا مجال للاستصحاب، وذلك
مناط قولهم بأن الاستحالة من المطهرات، وربما. يستدل على ذلك بأن النجس
والحرام - مثلا - إنما هو الكلب والعذرة مثلا، لا الملح والدود أو التراب
والرماد - مثلا - إذا انقلب الكلب في المملحة بالملح أو العذرة بالدود أو
التراب أو الرماد، ومن هذا القبيل استحالة النطفة بقرا أو غنما والماء النجس
309

بولا لحيوان مأكول اللحم، وفيه إشكال من وجهين:
الأول: أن المناط في الحكم إن كان هو التسمية، فإذا تحول الحنطة
النجسة طحينا أو خبزا أو اللبن سمنا، فيلزم طهارتها وهو باطل جزما، وإن
كان المناط تبدل القيمة والماهية، فما الدليل عليه؟ ثم ماذا معيار تبدل
الماهية والحقيقة فقد تراهم يحكون بطهارة الرماد دون الفحم، وطهارة الخمر
بانقلابه خلا، فما الفرق بين الامرين؟ بل تبدل العذرة بالفحم ليس بأحق من
تبدل الخمر بالخل، وإن لوحظ فيه تبدل الخواص بالمرة ففي ذلك أيضا
عرض عريض لا يمكن ضبطه غالبا، ويمكن أن يقال: المعيار هو تبدل
الحقائق عرفا لا محض تغير الأسماء وهذا يتم فيما كان مقتضى الحكم هو نفس
الحقيقة كالعذرة والكلب، فإن علة الحرمة والنجاسة في أمثالها من النجاسات
عينا والمحرمات عينا هو ذاتها، فيتبع ثبوت الحكم بقاء الحقيقة، ومع انتفاء
الحقيقة فلا حكم، فكأنه قال الشارع: الكلب نجس أو حرام ما دام كلبا
والعذرة نجس ما دامت عذرة، فإذا استحال ماهيته فينتفي الحكم.
وألحق بعض الفقهاء المتنجس كالخشب المتنجس بالنجس بالأولوية،
وفيه نظر، فإن من الظاهر أن نجاسة الخشب حينئذ ليس لأنه خشب لاقى
نجسا " بل لأنه جسم لاقى نجاسة، وهذا المعنى لم يزل.
والحاصل: أن الحقائق المتخالفة عرفا كالعذرة والتراب والرماد لها
أحكام مستقلة برأسها سواء كانت متوافقة في الحكم أو متخالفة،
واما مسحوق ماهيته كالطحين للحنطة أو منضوجها كاللحم المطبوخ والخبز
ونحو ذلك فلا يتبدل بذلك حقيقتها عرفا كما لا تتبدل حقيقته أيضا، فما ثبت
تبدل حقيقته عرفا فينتفي فيه حكم الاستصحاب لثبوت التعارض حينئذ بين
ما دل على حكم حقيقة المستحال إليه، وما يستصحب من حكم المستحيل،
310

فعموم ما دل على طهارة التراب أو الدود أو الملح، وحليتها يعارض
استصحاب النجاسة، وسنبين أن الاستصحاب - من حيث هو - لا يعارض
الدليل من حيث هو، مع أن حصول الظن بالبقاء في مثل ذلك ممنوع، ودلالة
الاخبار أيضا غير واضحة، إذ حكم اليقين أنما كان ثابتا لشئ آخر، والذي
لا يجوز نقضه بالشك هو الحكم المتعلق بالماهية السابقة ولا تبق بحالها حتى
يحكم بعدم جواز نقض حكها، فما حصل الجزم بالاستحالة العرفية فيحكم
بانقطاع الاستصحاب فيه وما حصل الجزم بعدمه فيجزم بجريان
الاستصحاب فيه، وما حصل الشك فيه فيرجع إلى سائر الأدلة ثم إلى
الأصل.
ومما ذكرنا يعرف الكلام في الانتقال مثل انتقال دم الانسان إلى بطن
القمل والبرغوث والبق، وهنا وإن كان تبدل الحقيقة في غاية الخفاء سيما في
أول مص هذه الحيوانات للدم، وخصوصا في العلق، ولكن اطلاق دم
الحيوان الغير ذي النفس على هذا الدم مع عدم تصور دم لأغلب هذه، إلا
ما في بطنها من جهة المص يوجب الحكم بالطهارة ففي الحقيقة يرجع الكلام
في أمثال ذلك إلى وجود المعارض لا عدم امكان جريان الاستصحاب،
ولذلك توقف بعض المتأخرين في إفادة تغير الموضوع في ترك العمل
بالاستصحاب وتأمل في كون تغير الموضوع قاطعا للاستصحاب.
311

[التنبيه] الثالث
ذكر بعض المتأخرين للعمل بالاستصحاب بعض الشروط، مثل: أن
لا يكون هناك دليل شرعي آخر يوجب انتفاء الحكم الثابت أولا في الوقت
الثاني وإلا فتعين العمل بذلك الدليل إجماعا، ومثل: أن لا يعارضه
استصحاب آخر.
أقول: إن أراد من الدليل ما ثبت رجحانه على معارضه
فلا اختصاص لهذا الشرط بالاستصحاب، بل كل دليل عارضه دليل أقوى
منه، فيترجح عليه، فلا حجية فيه ويعمل على الدليل الراجح، فلا مناسبة
لذكر ذلك في شرائط الاستصحاب، وإن أراد من الدليل ما يقابل الأصل
ففيه: أن الاجماع على ذلك إن سلم في أصل البراءة وأصل العدم، فهو في
الاستصحاب ممنوع، ألا ترى أن جمهور المتأخرين قالوا: إن مال المفقود في
حكم ماله حتى يحصل العلم العادي بموته استصحابا للحال السابق مع
ما ورد من الاخبار المعتبرة بالفحص أربع سنين ثم التقسيم بين الورثة،
313

وعمل عليها جماعة من المحققين، فكيف يدعى الاجماع على ذلك.
وإن أراد أن الاستصحاب من حيث أنه استصحاب لا يعارض
الدليل النطقي من حيث هو هو اجماعا، فله وجه، كما إن العام من حيث إنه
عام لا يعارض الخاص من حيث إنه خاص، والمفهوم من حيث إنه مفهوم
لا يعارض المنطوق كذلك، وذلك لا ينافي تقديمه على الدليل من حيث
الاعتضاد الخارجي كما هو كذلك في العام والمفهوم أيضا.
ثم إن أخذنا كون الحكم مظنون البقاء في تعريف الاستصحاب،
فلا معنى لجعل عدم الدليل المعارض شرطا لفقد الظن مع الدليل على خلافه
فلا استصحاب، وإن لم نأخذ الظن في ماهيته، فنقول: إن جعلنا وجه حجية
الاستصحاب هو الظن الحاصل من الوجود الأول فإذا تحقق دليل بدل الظن
بالوهم فهذا يبطل الاستدلال به، ويصح أن يقال: عدم الدليل شرط لجواز
العمل به، إذ ليس هناك ظن بالبقاء حينئذ ولكن يرد عليه أنه لا اختصاص
له بالاستصحاب - كا أشرنا سابقا - وإن جعلنا مبناه هو عدم جواز نقض
اليقين إلا باليقين هو مدلول الاخبار، فإذا ثبت دليل على رفع الحكم،
فإن كان يقينيا واقعيا فهو ليس غير يقين يرفع اليقين، وهو مقتضى مدلول
تلك الأخبار، وكذلك إن كان ظنيا واجب العمل.
ولا ريب أن عدم اليقين بالخلاف شرط في العمل باليقين السابق وهذا
أيضا يرجع إلى اشتراط العمل بأحد الدليلين بعدم ما يوجب بطلانه من يقين
على خلافه أو ظن أقوى منه، ولا اختصاص له بالاستصحاب، وإن شئت
توجيه الكلام على نحو ما ذكرنا فقل: المراد أن الظن الاستمراري لا يقاوم
الظن الاطلاقي على الوجه الأول وعدم جواز نقض اليقين الثابت بعموم
الاخبار لا يقاوم ما يدل على نقض ذلك اليقين بالخصوص، فضعف
314

الاستصحاب إما من جهة كونه انسحابا للحكم لا حكما مستقلا، وإما من
جهة أنه عام لثبوته من عموم الاخبار الدالة على عدم جواز نقض اليقين
إلا بيقين، ولا يقاوم ما دل على نفي مورده بالخصوص، وذلك لا ينافي جواز
العمل به في بعض موارد الدليل الثاني للحكم بالخصوص من جهة المرجحات
الخارجية كما أشرنا.
ومما ذكرنا يظهر حال اشتراط عدم معارضته الاستصحاب الاخر.
ثم إن تعارض الاستصحابين قد يكون في موضوع واحد كما في الجلد
المطروح، فإن استصحاب الطهارة الثابتة حال الحياة يقتضي طهارته،
واستصحاب عدم التذكية يقتضي كونه ميتة المستلزم للنجاسة.
وقد يقرر: بأن الموت حتف الانف والموت بالتذكية كلاما حادثان في
مرتبة واحدة، وأصالة عدم المذبوحية إلى زمان الموت يقتضي النجاسة،
لاستلزام مقارنته مع الموت حتف الانف، وأصالة عدم تحقق الموت حتف
الانف إلى زمان الموت يقتضي مقارنته للتذكية المستلزمة للطهارة، فإن ثبت
مرجح لأحدهما فهو، وإلا فيتساقطان.
والتحقيق: إن تساقطهما إنما هو في محل التنافي، وإلا فيبقى كل منهما على
مقتضاه في غيره وكذلك إذا حصل الترجيح لأحدهما في محل التنافي لا ينفي
حكم الاخر في غيره، فيمكن أن يقال في مثله أنه لا ينجس ملاقيه مع
الرطوبة، ولكن لا يجوز الصلاة معه أيضا.
ومما يرجح الطهارة: الأصل واستصحاب طهارة الملاقي وغير ذلك.
ومما يعاضد عدم جواز الصلاة معه: استصحاب اشتغال الذمة بالصلاة والشك
في تحقق الساتر الشرعي، وقد يكون في موضوعين مثل الموضع الطاهر الذي
نشر عليه الثوب المغسول من المني ثم شك في إزالة النجاسة فيحكم بطهارة
315

الموضع وجواز التيمم والسجود عليه لاستصحاب طهارته السابقة ووجوب
غسل الثوب ثانيا وعدم جواز الصلاة فيه.
لا يقال: إن الثوب حينئذ محكوم بنجاسته شرعا للاستصحاب، وكل
نجس لاقى مع الرطوبة ما يقبل النجاسة فينجسه، لأنا نقول: المحل أيضا
بعد الملاقاة محكوم بالطهارة شرعا للاستصحاب، فإن كلية الكبرى ممنوعة
وإنما المسلم في منجسية المتنجس هو غير ما ثبت نجاسته من الاستصحاب،
وكون المحل مما يقبل النجاسة مطلقا - أيضا - ممنوع.
ومن هذا الباب - أيضا - الصيد الواقع في الماء القليل بعد رميه بما يمكن
موته به، واشتبه استناد الموت إلى الماء أو إلى الجرح فيتعارض استصحاب
طهارة الماء واستصحاب عدم حصول التذكية أعني الموت المذكي الشرعي
المستلزم لنجاسته، والأقرب هنا أيضا العمل بهما في غير مادة التنافي،
لاستحالة الحكم بطهارة الماء ونجاسته.
ولكن يمكن الحكم بطهارة الماء وحرمة الصيد، وأما نجاسة الصيد فيأتي
فيه الكلام السابق في الجلد المطروح، وذلك يصير مرجحا آخر لطهارة الماء
أيضا مع سائر المرجحات واعمال الأصلين المتنافيين في غير موضع التنافي في
الشرع كثير، فقد يحكم بحرمة الجماع لاحد الزوجين وحليته للاخر بأن
أقرت على نفسها بما يحرمه عليها وأنكر الزوج ونحو ذلك.
316