الكتاب: معجزة القرآن
المؤلف: الشيخ متولي الشعراوي
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٩٨ - ١٩٧٨ م
المطبعة:
الناشر: المختار الإسلامي للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة
ردمك:
ملاحظات:

معجزة القرآن
الشيخ محمد متولي الشعراوي
المختار الاسلامي
للطباعة والنشر والتوزيع ص. ب 1707 - القاهرة
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الطبعة الأولى 1398 ه‍ - 1978 م
2

مقدمة
معجزة القرآن الكريم هي معجزة خالدة باقية إلى يوم
القيامة... والقرآن خاتم الكتب السماوية... ليس له عصر
معين في اعجازه ولا زمن محدد في تحديد للبشرية كلها..
وهو لم يأت ككتاب علم.. هذه حقيقة يجب أن نضعها في
أذهاننا... ولكنه في نفس الوقت جاء كمعجزة خالدة باقية
... ومن هنا فان فيه اعجازا لكل العصور... اعجازا لمن
عاشوا قبلنا واعجازا لعصرنا هذا واعجازا لمن سيأتون
بعدنا... حتى تنتهي الدنيا وما فيها..
والقرآن جاء لينذر من كان حيا... ومن هنا فإنه موجه
إلى الاحياء... وتحديه هو بالنسبة لمن يقيمون على هذه
الأرض... وليس لمن انتقلوا منها إلى العالم الاخر...
فأولئك يرون عين اليقين... ويعرفون الحق بعد مغادرتهم
الدنيا..
وعندما بدأ فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي
وزير الأوقاف وشؤون الأزهر في كتابة مقالاته في اخبار
اليوم عن اعجاز القرآن.. فان هذه المقالات أثارت ضجة
كبيرة.. فإنها تناولت اعجاز القرآن منذ خلق الله الدنيا
حتى الان.. وتحدث فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي
فيها عن آدم.. وكيف علمه الله الأسماء.. ما معنى ان
يعلم الله الأسماء لادم... ثم تناول بعد ذلك كيف ان الانسان
حين يتعلم الان... يجب أن يتعلم الأسماء أولا..
3

وتناول فضيلة الشيخ الشعراوي بعد ذلك... لماذا
نزل القرآن ككتاب جامع للبشرية كلها... ولماذا كانت الكتب
السماوية تنزل إلى أمة أو شعب لتعالج داء... بينما
القرآن جمع لمشاكل البشرية كلها.. ثم روى بالتفصيل
كيف أن القرآن مزق حجب الغيب الثلاثة.. حجاب الزمن
الماضي.. وحجاب الحاضر.. وحجاب المستقبل.. بل
أنه دخل إلى داخل النفس البشرية.. ليظهر ما يخبئه
الانسان... ولا يبوح به... ولا يعلمه الا الله.. ومزق
القرآن بعد ذلك حجب المستقبل القريب والبعيد.. فأنبأ
عن أشياء لم يكن العقل يعتقد أنها ستحدث... أو أنها
يمكن أن تحدث... وتنبأ بنتائج حروب ومصائر شعوب..
وقال لنا أن الأرض كروية.. وكيف لنا علم الأجنة
قبل أن يعرفه العالم.. وتحدى البشرية في أن تخلق ذبابة
واحدة... وكشف عما هو أصغر من الذرة.. ونلاحظ أن
كلمة أصغر معناها منتهى الدقة في صغر الحجم... لان
هناك صغيرا وأصغر.. وقال: (وما تحت الثرى) مشيرا
إلى أن هناك ثروات هائلة في باطن الأرض.. ثم أنبأنا عن
معجزة الخلق.. وكيف يتم.. وأبان لنا أشياء وصلنا
إليها بالعلم الأرضي... وأشياء لم نصل إليها حتى الان..
كل ذلك أوضحه فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي
وزير الأوقاف وشؤون الأزهر في أسلوب سهل جميل..
وبطريقة مفهومة لكل انسان..
والحقيقة أن هذا الكتاب يعتبر تفسيرا علميا هاما
وعميقا لبعض معجزات القرآن.. وهو ت فسير لم يتناوله
أحد من الأئمة حتى الان بهذه الصورة.. ولم يقدمه بهذا
الأسلوب السهل الممتع.. وهو يضيف إلى المكتبة القرآنية...
مكتبة ا لتفسير إضافات هامة يعتز بها كل مسلم..
4

وقد قلت لفضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي انني
أتمنى أن تفسير القرآن كله.. وأن يصدر تفسير باسمك..
ووعد بذلك.. وأتمنى من الله أن ينجز وعده في القريب
العاجل..
ويعد انني افخر بأن أقدم هذا الكتاب الذي كتبه
فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي.. أفخر بأن أقدمه
إلى كل مسلم.. وأتمنى من الله أن يقدم فضيلة الشيخ
متولي الشعراوي تفسير القرآن كله قريبا.. وأن يبارك
الله له حتى يتم هذا العمل الجليل..
أحمد زين
5

معجزة القرآن
هل يستطيع محمد عليه السلام أن يتنبأ بنتيجة معركة
حربية ستحدث بعد سبع أو ثماني سنين... ويحدد من
الذي سينتصر... ومن الذي سيهزم.. وما الذي يجعله
يدخل في قضية غيب كهذه... كيف يخبر الكفار.. بما
تخفيه صدورهم.. ولم تهمس به شفاهم.. ويقول
لأعداء الاسلام ما سيقع لهم... ويتحدث في قضايا الغيب
.. وماذا كان يمكن أن يحدث لقضية الايمان كله.. لو لم
يصدق القرآن في كل حرف قاله ولكن القائل هو الله والفاعل
هو الله..
القرآن هو كلام الله المنزل على رسوله سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم.. والمتعبد بتلاوته.. والمتحدي به..
والقرآن يحمل أكثر من معجزة... تحدى الله به العرب أولا
... ثم تحدى به الإنس والجن.. لم يتحد به الله الملائكة..
لان الملائكة ليس لهم اختيارات ليعملوا بها.. أي أنهم
يفعلون ما يؤمرون به من الله فقط.. ومن هنا فان القرآن
يتحدى كل القوى المختارة أو التي لها اختيار.. التي
ميزها الله.. بقدرة العقل والفكر والاختيار..
وقبل أن نتحدث عن معجزة القرآن.. يجب أن نحدد
معنى كلمة معجزة.. حين يأتي انسان ويقول أنه رسول
من عند الله جاء ليبلغ بمنهجه.. أفنصدقه.. أم أننا
نطالبه باثبات ما يقول.. اذن كان لابد أن تجئ مع كل
رسول معجزة تثبت صدقه في رسالته وفي بلاغة من الله..
وأن تكون المعجزة مما لا يستطيع أحد أن يأتي به.. وأن
6

تكون أيضا مما نبغ فيه قومه.. لماذا؟.. حتى لا يقال أن
الرسول قد تحدى قومه بأمر لا يعرفونه ولا موهبة لهم
فيه.. فالتحدي يجب أن يكون في أمر نبغ فيه القوم حتى
يكون للتحدي قيمة.. ولذلك نلاحظ في معجزة كل رسول
أنها جاءت فيما نبغ فيه قومه.. وانها جاءت لتهدم من
يتخذونه الها من دون الله..
فمثلا معجزة إبراهيم عليه السلام جاءت في قوم يعبدون
الأصنام.. ويسجدون لها ويقدسونها.. ولذلك عندما
أرادوا احراق إبراهيم جاءوا به امام آلهتهم ليلقونه في النار
.. وكان المفروض ان هذه الالهة تنتقم لنفسها ممن حطمها
إذا كانت تستطيع لنفسها نفعا أو ضرا.. ولكنهم حين ألقوا
بإبراهيم الذي سفه معتقداتهم في النار لم تحرقه النار..
وخذلتهم آلهتهم..
على أن اختيار النار يمكن أن يكون له معنى آخر..
فكم من الناس عبدوا النار في الماضي.. حتى خلال هذه
الفترة.. تجد أن بعض الناس لا يزالون يتخذون النار الها
مقدسا..
ولكن معجزة إبراهيم ليست أن ينجو من النار.. فلو
أراد الله أن ينجيه من النار ما مكنهم من القاء القبض عليه..
أو لنزلت الأمطار لتطفئ النار.. ولكن الله شاء أن
تظل النار نارا متأججة.. محرقة.. مدمرة.. وأن يؤخذ
إبراهيم عيانا أمام كل الناس.. ويرمى في النار.. وهنا
يعطل ناموس أو قانون احراقها (قلنا يا نار كوني بردا
وسلاما على إبراهيم)..
7

لو أن إبراهيم نجا بأن هرب مثلا.. لقالوا لو أمسكناه
لأحرقناه.. ولو نزلت الأمطار لقالوا لو لم تنزل الأمطار
لأحرقناه.. ولكن إبراهيم لم يهرب... والأمطار لم تنزل..
والنار متأججة... ولكنها لم تحرق إبراهيم.. فكأن آلهتهم
التي كانوا يزعمون أنها ينتقمون لها.. ليست آلهة كما
يزعمون... انما هي أصنام لا تضر ولا تنفع.. وكل شئ
في هذا الكون خاضع لمشيئة الله.. وإرادة الله.. عندما
تقول (يا نار كوني بردا وسلاما) تتعطل خاصية الاحراق
وتقف قوانين الكون عاجزة أمام قدرة الله.. وتقف آلهتهم
عاجزة على أن تقول: يا نار احرقي من حطمنا..
وعيسى عليه السلام جاء والقوم يعلمون الطب..
فجاء لهم بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه.. فأبرأ الأكمه
والأبرص.. وتسامى إلى شئ آخر لم يصلوا هم إليه..
فأحيا الموتى... اذن فمعجزات الرسل هي خرق لنواميس
أو قوانين الكون... فالنار مع إبراهيم تتعطل خاصية
احراقها.. والماء مع موسى يفقد قوانينه.. وقانون الماء
هو الاستطراق.. لا يكون عاليا في مكان ومنخفضا في مكان
آخر.. لابد أن يتساوى سطحه.. فإذا ضرب موسى
بعصاه البحر.. انشق وأصبح كل فرق كالطود العظيم أي
كالجبل العظيم يقف عاليا ليخرق قوانين الماء كلها..
ولكن لماذا حدث هذا؟ لماذا انفلق البحر إلى جزءين..
وتعطلت كل قوانين الماء.. لان موسى رد الامر إلى الله..
كيف؟.. حينما تبع قوم فرعون قوم موسى.. قال قوم
موسى انا لمدركون.. وهذا كلام واقعي.. لان البحر أمامهم
.. وقوم فرعون وراءهم. والمسألة في قانون البشر
واضحة لا تحتاج إلى بيان.. ولكن موسى قال: كلا..
8

وقالها بملء ء فيه.. قالها وهو واثق تماما.. لماذا؟..
لأنه لم يزعم أنه سينجو بأسباب البشر.. لم يقل انني
سأنجو لأننا سنصعد إلى جبل كذا.. أو سنعبر البحر
بطريقة كذا.. وانما قال: (كلا.. ان معي ربي سيهدين)
... ونقل المسألة من قانون الانسان إلى قدرة الله.. وهنا
قال الله (اضرب بعصاك البحر).. فانفلق..
معجزة القرآن
وكيف تختلف
على أنه يلاحظ أن معجزة القرآن تختلف عن معجزات
الرسل السابقين.. معجزات الرسل خرقت النواميس..
وتحدت.. وأثبتت أن الذي جاءت على يديه رسول
صادق من الله.. ولكنها معجزات كونية.. من رآها فقد آمن
بها.. ومن لم يرها صارت عنده خبرا.. أن شاء صدقة
وأن شاء لم يصدقه.. ولو لم ترد في القرآن لكان من
الممكن أن يقال أنها لم تحدث.. اذن فالمعجزة الكونية
المحسة... أي التي يحس بها الانسان ويراها.. تقع مرة
واحدة.. من رآها فقد آمن بها.. ومن لم يرها تصبح
خبرا بعد ذلك.. ولكن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم
معجزة عقلية باقية خالدة.. يستطيع كل واحد أن يقول
محمد رسول الله.. وهذه معجزة وهي القرآن...
شئ آخر إذا نظرنا إلى المعجزات السابقة.. وجدنا
هذه المعجزات فعل من أفعال الله.. وفعل الله من الممكن أن
ينتهى بعد أن يفعله الله، البحر انشق لموسى ثم عاد إلى
طبيعته... النار لم تحرق إبراهيم ولكنها عادت إلى
9

خاصيتها بعد ذلك ولكن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم
صفة من صفات الله.. وهي كلامه.. والفعل باق بابقاء
الفاعل له.. والصفة باقية ببقاء الفاعل نفسه.
ويلاحظ أيضا في معجزة القرآن.. انها اختلفت عن
معجزات الرسل اختلافا آخر.. كان رسول كانت له
معجزة.. وله كتاب منهج.. معجزة موسى العصا..
ومنهجه التوراة.. ومعجزة عيسى الطب.. ومنهجه
الإنجيل.. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزته
هي عين منهجه.. ليظل المنهج محروسا بالمعجزة.. وتظل
المعجزة في المنهج.. ومن هنا فقد كانت الكتب السابقة
للقرآن داخلة في نطاق التكليف.. بمعنى أن الله سبحانه
وتعالى كان يكلف عباده بالمحافظة على الكتاب.. أما القرآن
فقد قال الله سبحانه وتعالى عنه: (انا نحن نزلنا الذكر
وانا له لحافظون) لماذا؟.. أولا: لان القرآن معجزة..
وكونه معجزة لابد أن يبقى بهذا النص وإلا ضاع الاعجاز..
وثانيا: لان الله جرب عباده في الحفاظ على الكتب السابقة
... فنسوا حظا مما ذكروا به.. والذي لم ينسوه كتموا
بعضه.. والذي لم يكتموه يلوون ألسنتهم به ويحرفونه
عن موضعه.. وهكذا نرى أنه كان هناك أكثر من نوع
المسخ والنسيان والتحريف.. ثم جاءوا بأشياء من عندهم
وقالوا أنها من عند الله ليشتروا بها ثمنا قليلا.
ومن هنا فان الله سبحانه وتعالى قرر أن يحافظ على
القرآن.. ولو أخذنا خطين.. خط تطبيق القرآن..
والعمل بتعاليمه.. وخط المحافظة على القرآن.. نرى
أن خط تطبيق القرآن كلما مر الزمن ضعف.. وخط
المحافظة على القرآن كلما مر الزمن أداد.. لو كنا نطبق
10

المنهج تطبيقا سليما لكان هذا أمرا طبيعيا.. ولكن غفلتنا
عن تعاليم القرآن كسلوك في الحياة لا تتمشى مع ازدياد
الحفاظ على القرآن.. نجد القرآن في كل مكان.. في كل
منزل ومكتب وسيارة... حتى غير المسلم يحافظ على
القرآن ويحمله.. فنجد شخصا ألمانيا مثلا يفكر في أن
يكتب القرآن في صفحة واحدة.. بشكل جميل.. فلماذا
يفعل ذلك مع القرآن.. قبل أن يفعله مع الكتب السماوية
الأخرى.. وما الذي يجعل دولة كاليابان وإيطاليا تتفننان
في طباعة المصحف بشكل جميل أنيق.. ان ذلك يحدث
لان الله سبحانه وتعالى يريد أن يدلل لنا على أنه يحفظ
القرآن.. وكلما ابتعدنا عن المنهج.. ازددنا في حفظ
القرآن والعناية به.. ليدلل على أن الذي يحفظه هو الله
.. وليس القائمين على المنهج..
معجزة القرآن للعالم كله
فإذا حددنا هذه لعناصر الثلاثة التي تمتاز بها معجزة
القرآن... ننتقل بعد ذلك إلى نقطة أخرى... القرآن
كلام الله المتعبد بتلاوته.. جاء من جنس ما نبغ فيه العرب
.. القوم الذين نزل فيهم.. قوم محمد صلى الله عليه
وسلم.. عرفوا بالبلاغة والفصاحة.. وحسن الأداء..
وجمال المنطق.. وسلالة التعبير.. فيتحداهم القرآن
في هذا.. فلما سمعوه انبهروا.. ولكن العناد أوقفهم..
.. قالوا ساحر.. والرد هنا بسيط جدا.. هل يملك
المسحور اختيارا مع الساحر.. إذا كان محمد ساحرا..
فقد سحر الناس.. فلماذا لم يسحركم أنتم حتى تتبعوه
.. ان المحسور لا يخشع للساحر بإرادته.. ولا يأتي ليقول
11

له سأصدق هذا السحر.. وأكذب بهذا السحر.. انما
المسحور مسلوب الإرادة أمام الساحر.. فكونكم تقولون
انه ساحر وأنتم لا تؤمنون به دليل على انكم كاذبون..
ثم قالوا شاعر.. محمد لم يقل الشعر في حياته..
وأنتم تعرفون.. فلماذا فجأة تتهمونه بالشعر ثم قالوا
مجنون.. هل المجنون يكون على خلق أنك لا تعرف ماذا
سيفعل معك في الدقيقة التالية.. فهل المجنون يكون على
خلق عظيم كالنبي صلى الله عليه وسلم... الذي يعرفون
خلقه جيدا.. والذي كانوا يلقبونه قبل الرسالة بالأمين..
الذي حدث انهم انبهروا.. ذهلوا.. هم ملوك البلاغة
والفصاحة وأساطينها.. فجاءهم كلام أعجزهم.. وجدوا
أنفسهم عاجزين.. فتخبطوا.. قالوا ساحر.. قالوا
مجنون.. وقالوا أشياء لا تخضع لأي منطق.. لأنهم من
قوة المفاجأة فقدوا الحجة والمنطق.. والقرآن يواصل
التحدي أن يأتوا بمثله.. ثم يمعن في التحدي ليقول بعشر
سور.. ثم يمعن في التحدي ليقول سورة من مثله..
كان هذا هو أول اعجاز للقرآن.. معجزة تحدت القوم
الذين نزل فيهم بما نبغوا فيه..
ولكن التحدي في القرآن ومعجزاته ليست للعرب
وحدهم.. بل هي للعالم أجمع.. ومن هنا فقد كان
اعجاز القرآن اللغوي.. هو تحديه للعرب فيما نبغوا فيه
.. ولكن التحدي لم يأت للعرب وحدهم.. والقرآن جاء
لكل الأجناس.. وكل الألسنة.. فأين التحدي.. لغير
العرب.. ثم هذا الكتاب سيبقى إلى أن تقوم الساعة..
12

فلابد أنه يحمل معجزة للعالم في كل زمان ومكان. ومن
هنا كانت هناك معجزات للقرآن.. وقت نزوله وفي خلال
فترة نزوله.. وبعد نزوله.. وهي مستمرة.. حتى يومنا
هذا.. ستستمر إلى قيام السعة لتظهر لنا آيات الله في
الأرض..
القرآن مزق حواجز الغيب
حينما جاء القرآن تحدى في أشياء كثيرة.. أولها أنه
مزق حواجز الغيب.. مزق حواجز الزمان والمكان..
.. كيف ذلك.. حواجز الغيب ثلاثة.. أولها حاجز
المكان.. أي أن أشياء تحدث في نفس اللحظة.. ولكن
لا أعرف عنها شيئا.. لأنها تحدث في مكان.. وأنا موجود
في مكان آخر..
ثم هناك حاجز الزمن الماضي.. وهو شئ حجبه عني
زمن مضى.. فأنا لم أشهده.. وحاجز المستقبل وهو
ما سيحدث غدا.. لان حاجز الزمان المستقبل قد حجب
عني فلم أشهده.. اذن فحواجز الغيب ثلاثة.. حاجز
المكان.. وحاجز الزمن الماضي.. وحاجز الزمن
المستقبل..
إذا قرأنا القرآن وجدنا أنه يمزق حاجز الزمن الماضي
.. فيخبرنا بما حدث للأمم السابقة.. ويروى لنا قصص
الرسل السابقين.. ويحكى لنا أشياء لم يكن أحد يعرفها
.. وعلى لسان من.. على لسان نبي أمي.. لا يقرأ ولا
يكتب.. يحكى إذا أسرار الماضي.. ويتحدى الذين
يكذبون.. مزق له الله حجاب وحاجز الزمن الماضي..
13

ويكفي أن تقرأ في القرآن.. (وما كنت وما كنت وما كنت)
.. لتعرف كم أخبر الله رسوله بأنباء من غيب الماضي..
(وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى)..
(وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم).. أي
انك لم تكن هناك يا محمد.. ولكن الله هو الذي أخبرك
ومزق لك حجاب الزمن الماضي..
(وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا..
وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر..
وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك)..
وهكذا نرى أن القرآن مزق حجاب الزمن الماضي في
أكثر من مناسبة ليخبر محمدا عليه السلام بالأخبار الصحيحة
عمن سبقوه من الرسل والأنبياء ويصحح
ما حرف من الكتب السماوية التي أنزلها الله وحرفها
الرهبان والأحبار...
بل إن الاعجاز هنا جاء في تصحيح ما حدث من تحريف
الكتب السماوية التي سبقت القرآن.. وكان محمد صلى
الله عليه وسلم يتحدى بالقرآن أحبار اليهود ورهبان
النصارى.. ويقول لهم هذا من عند الله.. في التوراة أو
الإنجيل.. وهذا حرفتموه في التوراة أو الإنجيل.. ولم
يكونوا يستطيعون أن يواجهوا هذا التحدي أن يردوا عليه
.. ذلك أن التحدي للقرآن في تمزيق حجاب الزمن الماضي
.. وصل إلى أدق أسرار الرسالات السماوية الماضية
فصححها لهم.. وبين ما حرفوه منها وما أخفوه..
وتحداهم أن يكذبوا ما جاء في القرآن فلم يستطيعوا.. ومن
ذلك قوله تعالى في سورة مريم (ذلك عيسى ابن مريم قول
الحق الذي فيه يمترون)..
14

ثم جاء الامر الثاني.. فمزق الله حجاب المكان لمحمد
عليه الصلاة والسلام.. وجاء في أمر من أدق الأمور وهو
حديث النفس..
وهنا وقبل أن نبدأ.. أحب أن نضع في أذهاننا جيدا
أن القرآن هو كلام الله المتعبد بتلاوته.. وأنه يبقى بلا
تعديل ولا تغيير لا يجرؤ أحد على أن يمسه أو يحرقه..
ومن هنا فإن هذا الكلام حجة على محمد عليه الصلاة والسلام
مأخوذة عليه.. فإذا أخبر القرآن بشئ.. واتضح أنه
غير صحيح.. كان ذلك هدما للدين كله..
يأتي القرآن وقد بينت خطورة ما يقول.. (ويقولون
في أنفسهم لولا يعذبنا الله) ما معنى هذا الكلام..
معناه امعان في التحدي.. فالقرآن هنا لا يقول لهم لقد
هتكت حاجز الماضي.. وأخبرتكم بأنباء الأولين..
ولا يقول لهم سأهتك حاجز المكان وأخبركم بما يدور في
بقعة قريبة لا ترونها بل يقول: سأهتك حاجز النفس..
وأخبركم بما في أنفسكم.. بما في داخل صدوركم.. بما لم
تهمس به شفاهكم.. وكان يكفي لكي يكذبوا محمدا
أن يقولوا لم تحدثنا أنفسنا بهذا.. لو لم يقولوها بالفعل
داخل أنفسهم لكان ذلك أكبر دليل لكي يكذبوا محمدا ويعلنوا
أنه يقول كلاما غير صحيح.. إذ فالقرآن في هتكه لحجاب
المكان.. دخل إلى داخل النفس البشرية.. والى داخل
نفوس من.. إلى داخل نفوس غير المؤمنين الذين يهمهم
هدم الاسلام.. وقال في كلام متعبد بتلاوته لن يتغير ولا
يتبدل.. قال: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون
لما نهوا عنه ويتناجون بالاثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا
جاءوا حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا
15

يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير)
.. صدق الله العظيم.. قال ما يدور في أنفس غير المؤمنين
.. فهل هناك أكثر من هذا تحديا.. لحجاب المكان.. انه
تحد فوق قدرة كل الاختراعات البشرية التي وصل إليها
العلم الان لاختراق حجب المكان..
بل إن التحدي ظهر في ما يحرص غير المؤمنين على
اخفائه.. فالانسان حين يحرص على اخفاء شئ.. ويكون
غير مؤمن.. يأتي إليك فيحلف لك بأن هذا صحيح.. وهو
غير صحيح في نفسه فقط.. ولكن حرصه في أن يخفيه على
الناس يجعله مؤكد أنه صحيح بالحلف..
ويأتي الله سبحانه وتعالى فيجعل القرآن يمزق نفوس
هؤلاء الناس.. ويظهر ما فيها امعانا في التحدي.. ويقول
الله سبحانه وتعالى (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا
معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون).. ويقول
سبحانه وتعالى (يحلفون لكم لترضوا عنهم فان ترضوا عنهم
فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين).. ويقول
سبحانه
وتعالى (ويحلفون على الكذب وهم يعلمون)..
إذا فالقرآن هنا جاء لأناس غير مؤمنين.. وهتك
حاجز النفس بالنسبة لهم فأخرج ما في صدورهم وعراهم
أمام الناس جميعا.. وفضح كذبهم.. ونشر على الدنيا
كلها ما في صدورهم من كذب ورياء ونفاق.. أي أنه أهانهم
أمام المجتمع كله.. ولو كان هذا غير صحيح لقال هؤلاء
القوم اننا لم نكذب.. اننا لصادقون.. والكلام الذي
16

يدعيه محمد بأنه يأتي من عند الله كلام غير صحيح.. ولكن
هؤلاء بهتوا من أن القرآن مزق حجاب نفوسهم فلم
يستطيعوا ردا.. وبهتوا لان الله أخرج ما في صدورهم..
وعراهم أمام الناس جميعا.. فلم يفعلوا شيئا أكثر من أنهم
تواروا بعد أن افتضحت حقيقتهم.. ولو كان هذا
القرآن من عند غير الله لما استطاع أن يصل إلى داخل
النفس البشرية.. وهي من أدق أسرار الدنيا التي لم
يستطع على أن يصل إليها حتى الان.. فإذا بالقرآن يأتي
متحديا بكلام متعبد به إلى يوم القيامة لا يستطيع أحد
تبديل حرف فيه ليكشف ما في داخل النفس.. ويعرى
ما تكتمه عن الناس جميعا.. وما هي حريصة على كتمانه
.. حتى أنها تحلف باسم الله كذبا ليصدقوها الناس.. يأتي
القرآن فيمزق هذا كله.. أتريد اعجازا أكثر من ذلك..
ثم بعد ذلك مزق القرآن حجاب المستقبل.. كان لابد
أن يكون الحديث عن المستقبل على عدة مراحل.. المرحلة
المعاصرة.. لكي يعرف أصحاب الرسالة والمؤمنون وغير
المؤمنين انه الحق.. ومرحلة المستقبل البعيد لكي يعرف
كل عصر من العصور التي ستأتي بعد نزول القرآن.. أن
هذا هو كتاب الله الحق.. ومن هنا كان التحدي..
بالنسبة للمعاصرين عن أحداث قريبة.. وبالنسبة للعالم
عن حقائق الكون كله.. وهنا أحب أن أنبه إلى شئ هام
جدا هو استخدام حرف السين في القرآن.. فحرف السين
كما نعرف في اللغة العربية لا يستخدم الا بالنسبة لاحداث
مستقبلة.. والقرآن محفوظ ومتعبد به وبتلاوته..
وسيظل محفوظا حتى يوم الساعة.. ومعنى ذلك أنه
لا يمكن تبديله أو تغييره أو انكاره من أحد من المتعبدين به..
بل سيظل يتلى هكذا كما أنزل.. إذا فأنباء القرآن بأحداث
17

مستقبلة يسجل هذه الاحداث على قضية الايمان نفسها..
ويطعن الدين في صميمه.. خصوصا إذا تبين أن ما تنبأ به
القرآن غير صحيح.. ومن هنا فلابد أن يكون قائل القرآن
متأكدا من أن هذا سيحدث في المستقبل.. من من البشر
يستطيع أن يتأكد ماذا سيحدث له بعد ساعة واحدة..
فما بالك بعد أيام وسنوات.. الجواب.. لا أحد.. ذلك
أن قدرة البشر في صنع الاحداث محدودة.. فقد حجب
عنهم الزمن.. وحجب عنهم المكان.. فلو قلت مثلا أنني
سأبني عمارة في هذه البقعة بعد عام.. أنا لا أضمن انني
سأعيش حتى الساعة القادمة.. وبذلك لا أستطيع أن
أحكم إذا كنت سأكون موجودا هناك أم لا.. هذه واحدة..
ثانيا قد تأتي الحكومة مثلا وتبنى مستشفى في هذا المكان..
أو قد يقام في هذا المكان سوق أو شارع إذا فأنا
لا أستطيع أن أجزم في شئ مادي سيحدث بعد فترة زمنية
محدودة.. ولكن الذي يستطيع أن يقول هذا يقينا هو
الذي يملك القدرة.. ومن هنا فإنه يستطيع أن يقول يقينا
أن هذا سيحدث بعد فترة من الزمن.. والذي يملك ذلك
هو الله سبحانه وتعالى.. فإذا كان الحديث عما سيحدث
بعد آلاف السنين فان ذلك فوق طاقة البشر جميعا..
ولقد أنبأ القرآن بما سيحدث بعد أعوام قليلة.. وبما
سيحدث بعد آلاف السنين.. فالذي قال هذا هو القادر
العالم بأن ذلك سيحدث يقينا وهو الله سبحانه وتعالى..
انظر إلى قوله سبحانه وتعالى.. (سيهزم الجمع
ويولون الدبر).. لقد نزلت سورة القمر هذه في مكة
والمسلمين قلة.. وأذلة.. حتى أن عمر بن الخطاب قال:
أي جمع هذا الذي سيهزم ونحن لا نستطيع أن نحمي
أنفسنا وهكذا يتنبأ القرآن بأن الاسلام سينتصر.. في مكة
18

.. وأن هؤلاء الجمع الذين تجمعوا لمحاربة الاسلام
في مكة سيهزمون ويولون الادبار.. ويتنبأ بها متى..
والمسلمون قلة.. وأذلة.. لا يستطيعون حماية أنفسهم..
ويطلقها قضية.. وهو على يقين من أن الله الذي قالها
سيحققها.. وبعد ذلك نجد عجبا.. الوليد بن المغيرة
العدو الألد للاسلام.. والمشهور بكبريائه ومكابرته وعناده
.. يأتي القرآن ويقول هذا الانسان المكابر العنيد..
(سنسمه على الخرطوم).. أي أنه سيقتل بضربة على
أنفه.. ويحدد موقع الضربة.. وبعد ذلك يأتي في بدر..
فتراه قد وسم على خرطومه.. أي ضرب على أنفه..
من الذي يستطيع أن يحدد موقع الضربة ومكانها.. من
الذي يستطيع أن يجزم.. ماذا سيحدث بعد ساعة
واحدة..
احداث المستقبل وتحدى القرآن
نأتي بعد ذلك إلى آية أخرى.. الرسول عليه الصلاة
والسلام يأتي فيقرأ.. (تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى
عنه ماله وما كسب.. سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة
الحطب في جيدها حبل من مسد).. هذا قرآن.. وفي
من.. في عم الرسول.. وفي من.. في عدو الاسلام..
ألم يكن أبو لهب يستطيع أن يحارب الاسلام بهذه الآية..
ألم يكن يستطيع أن يستخدمها كسلاح ضد القرآن.. ضد
هذا الدين.. قالت له الآية يا أبا لهب أنت ستموت كافرا
.. ستموت مشركا.. وستعذب في النار.. وكان يكفي أن
يذهب أبو لهب إلى أي جماعة من المسلمين.. ويقول أشهد
19

أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله.. يقولها
نفاقا.. يقولها رياءا.. يقولها ثم يقف وسط القوم يقوم:
أن محمدا قد أنبأكم انني سأموت كافرا.. وقال إن هذا
كلام مبلغ له من الله.. وأنا أعلن اسلامي لأثبت لكم أن
محمدا كاذب.. (لو كان أبو لهب يملك ذرة واحدة من
الذكاء لفعل هذا.. ولكن حتى هذا التفكير لم يجرؤ عقل
أبي لهب على الوصول إليه.. بل بقى كافرا مشركا..
ومات وهو كافر.. ولم يكن التنبؤ بأن أبا لهب سيموت
كافرا.. أمرا ممكنا.. لان كثيرا من المشركين اهتدوا إلى
الاسلام كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعمر بن الخطاب
.. وغيرهم.. كانوا مشركين وأسلموا.. فكيف أمكن
التنبؤ بأن أبا لهب بالذات لن يسلم ولو نفاقا.. وسيموت
وهو كافر.. المعجزة هنا أن القرآن قد أخبر بما سيقع من
عدو.. وتحداه في أمر اختياري.. كان من الممكن أن
يقوله ومع ذلك هناك يقين أن ذلك لن يحدث.. لماذا..
لان الذي قال هذا القرآن.. يعلم أنه لن يأتي إلى عقل أبي
لهب تفكير يكذب به القرآن.. هل هناك اعجاز أكثر من
هذا..
انتقل بعد هذا إلى النقطة الثانية.. وهي ماذا حمل
القرآن لغير الحرب في عصره.. ولغير العرب والدنيا كلها
بعد عصره.. أي ماذا حمل القرآن من أنباء نواميس الله
في الأرض وقوانينه.. التي كانت غيبا على البشرية كلها
في عصره وبعد عصره.. هنا الأمثلة كثيرة.. والمجال
لا يتسع لها كلها.. ولكني سأحاول أن أبين عددا منها
فيما يختص بالاعجاز في عصر القرآن لغير العرب.. فقد
كان هناك أمتان كبيرتان امبراطوريتان بجانب الجزيرة
20

العربية.. هما الروم والفرس.. الروم أمة مؤمنة.. أهل
كتاب.. ولو أنهم لا يصدقون برسالة محمد الا أن هناك
عندهم ايمانا بوجود الله. والقيم السماوية.. والفرس
كانوا أهل كفر والحاد في ذلك الوقت.. لا يؤمنون بأي دين
من الأديان.. إذا فأيهما أقرب إلى قلب المؤمنين.. الروم
باعتبارهم أهل كتاب.. وأيهما أقرب إلى قلب الملحدين
والكفار.. الفرس باعتبارهم مشركين وكفرة.. قامت
الحرب بين الدولتين.. فهزم الروم وانتصر الفرس..
وهنا فرح المشركون لان الكفر قد انتصر.. وحزن المؤمنون
لان نوعا من الايمان قد انهزم.. هنا يتدخل الله سبحانه
وتعالى ليزيل عن المؤمنين هذا الحزن.. فيقول في كلام
محفوظ متعبد بتلاوته لن يجرؤ ولن يستطيع أحد أن يغير
فيه.. يقول: (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض.. وهم من
بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين.. له الامر من قبل ومن
بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.. ينصر من يشاء وهو
العزيز الرحيم).. ثم يمضى القرآن ليمعن في التحدي..
(وعد الله لا يخلف الله وعده.. ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
ما هذا.. أيستطيع محمد صلى الله عليه وسلم أن يتنبأ
نتيجة معركة ستحدث بين الروم والفرس بعد بضع
سنين.. هل يستطيع قائد عسكري مهما بلغت قوته
وعبقريته.. ونبوغه أن يتنبأ بمصير معركة عسكرية
بعد ساعدة واحدة من قيامها.. فما بالك أن ذلك يأتي
ويقول أنه بعد بضع سنين ستحدث معركة بين الفرس
والروم وينتصر فيها الروم.. هل أمن محمد صلى الله
عليه وسلم على نفسه أن يعيش بضع سنين ليشهد هذه
المعركة.. ولقد وصل الامر بأبي بكر رضي الله عنه.. انه
راهن على صحة ما جاء به القرآن.. إذا فقد أصبحت
21

قضية ايمانية كبرى.. هذا هو القرآن.. كلام الله..
وأساس الايمان كله.. يأتي ويخبر بحقيقة أرضية
قريبة ستحدث لغير العرب.. ويقول الكفار أن القرآن
كاذب.. فيقول المؤمنون ان هذا صدق.. ويحدث رهان
بين الاثنين..
ماذا كان يمكن أن يحدث لو أنه لم تحدث معركة بين
الروم والفرس.. أو لو أنه حدثت معركة وهزم فيها الروم
أكان بعد ذلك يصدق أي انسان القرآن أو يؤمن بالدين
الجديد.. ثم إذا كان القرآن من عند محمد فما الذي
يجعله يدخل في قضية غيبية كهذه.. لم يطلب منه أحد
الدخول فيها أيضيع الدين من أجل مخاطرة لم يطلبها أحد
.. ولم يتحده فيها انسان.. ولكن القائل هو الله..
والفاعل هو الله.. ومن هنا كان هذا الامر الذي نزل في
القرآن يقينا سيحدث.. لان قائله ليس عنده حجاب
الزمان.. وحجاب المكان.. ولا أي حجاب وهو الذي
يقول ما يفعل.. ومن هنا حدثت الحرب.. وانتصر الروم
على الفرس فعلا.. كما تنبأ القرآن..
وهكذا تحدى القرآن للكفار وغير المسلمين في وقت
نزوله.. أي أنه لم يتحد العرب وحدهم.. بل تحدى
الكفار والمؤمنين من غير العرب.. بأن أنبأهم بما سيحدث
لهم قبل أن يحدث بسبع أو ثماني سنوات.. تحداهم
بهذا علهم يؤمنون..
إذا انتهينا إلى هذا نكون قد أثبتنا أن القرآن تحدى
العرب وغير العرب في وقت نزوله.. ولكننا قلنا أن القرآن
ليس له زمان.. وليس له مكان.. وأنه سيظل حتى قيام
الساعة.. فكيف يمكن أن يتحدى الأجيال القادمة.. لابد
22

أن يكون للقرآن معجزة دائمة.. أن يعطى عطاء الكل جيل لم
يعطه للأجيال السابقة..
وقد كان.. جاء في القرآن أشياء لو أن أحدا أخبر بها
وقت نزوله.. لا تهم الذين قالوها بالجنون.. ولكنها
جاءت للعصور القادمة.. جاءت لتتحدى عبر الأجيال إلى
يومنا.. والى الأيام القادمة..
23

وشهدوا للقرآن وهم كافرون
ان ظهور قانون الصدفة.. ونظرية داروين.. وان
المادة خلقت قبل الروح.. وكل ما نسمعه اليوم من
تشكيك في الايمان في وجود الله سبحانه وتعالى.. قد
سجله القرآن.. وأنبأنا به.. وقال إن المضلين سيأتون
ليقولوا لكم أكاذيب عن خلق السماوات والأرض.. وعن
قضية خلق الانسان..
وإذا لم يكن الحديث عن الأجنة في القرآن.. عن يقين
كامل.. فكان القرآن قد أعطى معه وسيلة هدمه.. ذلك أن
هذا الكتاب سيستمر إلى يوم القيامة.. فإذا جاء العلم
عبر ألوف السنين وأثبت عدم صحة ما ذكره القرآن ضاعت
قضية الايمان كله.. ولكن القائل هو الله والفاعل
هو الله..
ان اعجاز القرآن لم يتوقف.. ولن يتوقف.. وإذا
كان القرآن قد تحدى الكفار في عصر نزوله بأن أنبأهم بما
يدور داخل صدورهم.. وأنبأهم بمصائرهم.. فإنه
يتحدى الكفار حتى في هذا الزمان.. في هذا الوقت الذي
نعيش فيه بل ويستخدمهم.. في ماذا.. في إثبات قضية
الايمان.. تماما كما استخدمهم وقت نزوله في اثبات قضية
الايمان.. ان هدف الكفار والمضلين عن سبيل الله هو انكار
هذا الدين.. وانكار وجود الله.. ولكن القرآن جاء.. وبعد
أربعة عشر قرنا.. ليستخدم الكفار في إثبات أن دين الله
24

حق.. وان هذا الكتاب هو كلام الله المنزل على رسوله
محمد صلى الله عليه وسلم.. وهذا هو موضوعنا:
عندما يقول الله سبحانه وتعالى (ولكن أكثر الناس
لا يعلمون).. ويقول (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا
وهم عن الآخرة هم غافلون).. يكون قد أعطاني أن
الانسان يعلم ظاهرا عن الحياة في هذه الدنيا.. ولكنه غافل
عن أمر الآخرة.. أي أن مدى علم الانسان.. هو الحياة
الدنيا.. وان العلم نوعان.. نوع مطروح لك لايجاد
نشاطك فيه كما تريد.. وبلا قيود ولا حدود.. ونوع
ليس لك الحرية في البحث فيه لأنك لا تعلمه.. وهذا النوع
أفعل كذا.. ولا تفعل كذا.. تقرب إلى بكذا.. وأترك
كذا.. هذه ليست اجتهاداتك أنت.. لان المعبود هو الذي
يقترح على العابد ما يعظمه به.. والنقاش في شئ يجب
أن يتم بين عقول متساوية أو متقاربة في القدرة.. ومن
منا يملك عقلا يقترب من قدرة الله تعالى.. لا أحد.. إذا
فنحن نأخذ افعل ولا تفعل عن الله.. وما شرحته لنا السنة
.. اما نشاطات الحياة الأخرى.. وآيات الله في الكون..
فالمطلوب أن أبحث فيها وأتأمل.. وأصل إلى حقائق انتفع
بها.. فإذا أردنا أن نحدد هذه الموضوعات.. نجدها في
القرآن.. في قوله تعالى (ألم تر ان الله أنزل من السماء
ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد
بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود.. ومن الناس
والدواب والانعام مختلف ألوانه كذلك) وهكذا نرى أن الله
سبحانه وتعالى تكلم عن الجماد.. وتكلم عن النبات..
وتكلم عن الحيوان والانسان.. ثم يقول الله سبحانه وتعالى
(انما يخشى الله من عباده العلماء).. العلماء في ماذا..
25

فيما يتعلق بخلق الله من الجماد والحيوان والنبات
والانسان..
ولذلك جاء الله سبحانه وتعالى بالمتناقضات الموجودة
في النوع الواحد.. لو أنه جنس واحد لما وجد فيه
متناقضات.. انما قوله تعالى (ثمرات مختلفا ألوانها)
كان يجب أن نلتفت إليها.. ولماذا اختلفت ألوانها.. وما هي
العلاقة بين الألوان والطبيعة.. مثلا حينما يتغذى النبات
وجد من الدراسة أنه يتغذى بواسطة خاصية الأنابيب
الشعرية.. وهنا نقف قليلا.. هل هذه الأنابيب الشعرية
تميز.. هل تستطيع التمييز.. إذا جئنا بحوض..
ووضعنا فيه سائلا مذابا فيه أصناف مختلفة.. ثم جئنا
بالأنابيب العشرية.. نجد أن الماء قد صعد في مستوى
أعلى من مستوى الاناء.. ولكن هل كل أنبوبة ميزت عنصرا
أخذته.. أم أن كل أنبوبة أخذت من جميع العناصر..
وهي مذابة.. لكن النبات ليس هكذا.. اني أزرع
الحنظل.. بجانب القصب.. فيخرج هذا حلوا.. وهذا
مرا.. هذا يأخذ عناصره وهذا يأخذ عناصره من نفس
التربة.. إذا هناك اختيار.. ومن هنا ظهر ما سمى
بخاصية الانتخاب.. والانتخاب معناه الاختيار بين بديلات
.. أي أنك تترك هذا وتأخذ هذا.. ولذلك قال الله سبحانه
وتعالى (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في
الاكل).. لكن خاصية الأنابيب الشعرية.. تتعامل مع
السائل كله.. بلا تمييز.. ومن هنا نعرف أن الخاصية
شئ.. واختيار النبات للعناصر الغذائية التي يريدها أو
يحتاجها شئ آخر..
نأتي بعد ذلك للجماد.. يقول الله سبحانه وتعالى
(ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب
26

سود).. هذا علم الجماد.. وهو علم الان فيه مجلدات..
ثم بعد ذلك الانسان.. أجناس الوجود كلها.. ثم بعد
ذلك قال الله (انما يخشى الله من عباده العلماء).. العلماء
في ماذا.. بهذه كلها.. إذا كلمة العلماء أطلقت على من
يتفكر في خلق الله.. سواء كان جمادا أو حيوانا أو نباتا
.. والذهن النشط يستطيع أن يصل إلى هذه العلوم
الأرضية.. بالملاحظة والتجربة.. والدليل على ذلك انك
إذا استعرضت تاريخ أي مخترع من المخترعات في الكون
التي أراحت الناس.. تجد أنها نتيجة لانسان قد لاحظ
بدقة.. ولم تمر عليه المسألة كباقي الناس والعلم مكانه
المعمل والملاحظة والتجربة.
نحن نتجاوز علم الأرض
ولكننا أحيانا نتجاوز موضوع العلم.. موضع
التجربة والمعمل.. وذلك عندما أقول مثلا الروح قبل
المادة.. أو المادة قبل الروح.. فهذا بحث في عنصري
تكوين الانسان الذي لم نشهد خلقه.. ولا نستطيع أن نجري
عليه تجربة.. أن هذا يدخل في علم الله.. فهو الذي خلق
.. وهو الذي يستطيع أن يقول لنا كيف تم الخلق..
ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى (ما أشهدتهم خلق
السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم).. إذا فهذه مسألة
لا يمكن أن يصل فيها العلم البشري إلى نتيجة.. لماذا؟
لأننا لم نحضر التجربة.. ولم نرها بالعين.. ولا نستطيع
أن نجربها أو نقوم بها.. ولكن بالاذن سمعنا عن الله..
وهذا أمر غيب عنا.. وما دام الامر غيب عنا.. فان الله
الذي خلقني هو الذي يحدثني.. كيف خلقت.. أما أنا
27

فإنني لا أعرف كيف خلقت.. ومن هنا فإنني لا يمكن أن
أتحدث علميا عن العنصرين اللذين يتكون منهما الانسان..
وأيهما جاء أولا.. وإذا صمم أحد على أن يبحث في هذا..
يكون قد شغل نفسه بعلم لا ينفعه عن جهل يضره.. لأنه
لن يستطيع أن يدلل على ما يقول علميا.. وبالتجربة أنا
أستطيع أن أمسك المادة وأدخلها المعمل.. ولكني لا
أستطيع أن أمسك بالروح وأدخلها إلى المعمل..
والعلم يجب أن يتم على مادة صماء.. يمكن أن تدخل
في المعمل الأصم.. وتعطى حقائق صماء.. أليست هذه
هي الحقيقة.. والدليل على ذلك أن المعسكرات المتصارعة
لا تختلف في مذاهب العلم.. ولكنها تختلف في مذاهب
الهوى والنظريات.. لا توجد هناك كهرباء أمريكية..
وكهرباء روسية.. ولا توجد كيمياء المانية.. ولا كيمياء
انجليزية.. كل علم الكيمياء في أي دولة من دول العالم
خاضع لما تعطيه التجربة الصماء التي لا هوى لها.. وبهذا
تكون النتيجة واحدة.. سواء كان المعمل انجليزيا أو
أمريكيا أو سوفيتيا، أو أي معمل من معامل الدنيا..
ولكن الخلاف يحدث عندما تتدخل مذاهب الهوى
والنظريات.. فإذا جئنا إلى مذاهب الهوى.. هوى
النفس.. نجد أنها متناقضة.. ليست مختلفة.. ولكنها
متناقضة.. هذا على النقيض من ذلك.. رأسمالية
وشيوعية.. ايمان.. والحاد.. وانكار للديانات لماذا؟
لان هوى النفس دخل هنا فأفسد القضية العلمية وأضاع
حقائقها.
28

فإذا أخذنا خلق الانسان مثلا.. فإننا نأخذ هذا الخلق
عن الله.. الذي خلق.. ماذا قال الله سبحانه وتعالى..
قال خلقتك من تراب.. وقال من طين.. وقال من حمأ
مسنون.. وقال من صلصال كالفخار.. هذه ليست
تناقضات في الخلق.. أو تناقضات في مادة الخلق نفسها
وهي التراب.. بل إن الله سبحانه وتعالى يبين لنا أطوار
هذه المادة من التراب إلى الطين إلى الحمأ إلى الصلصال..
أنها المراحل التي مر بها خلق الجسد البشرى من تراب إلى
ما قبل نفخ الروح فيه.
الكفار يشهدون بصحة القرآن
ونعود إلى الآية الكريمة (ما أشهدتهم خلق السماوات
والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا)..
ما معنى كلمة. مضل.. كلمة مضل تعطى أن هناك قضية
حق.. وان هناك انسانا يريد أن يضللني ويعطيني عكس
القضية.. أي يعطيني غير الحقيقة وهو الضلال.. هذا
هو معنى مضل.. إذا قول الله (وما كنت متخذ المضلين
عضدا).. أي أنني في ساعة الخلق لم أطلب العون أو
المساعدة أو المشورة.. أو النصيحة.. من هؤلاء المضلين
.. والا لو كان حدث ذلك.. ثم جاءوكم يخبرونكم كيف
تم خلق السماوات والأرض.. وكيف خلقتم أنتم. لكان
لكم العذر في تصديقهم.. ولكن ما داموا لم يشهدوا الخلق
.. ولم أطلب معونتهم.. فان ما سيقولونه لكم غير واقع،
غير صحيح.. انه اضلال.. وهذه معجزة من معجزات
القرآن.. فقد قال لنا الله.. انه سيكون هناك مضلون..
وان هؤلاء المضلين سيحاولون أن يقولوا لكم غير الحق في
قضية خلق السماوات والأرض.. وفي قضية خلق
29

الانسان.. فلا تصدقوهم لأنني لم أستعن بهم ساعة
الخلق.. ولم يكونوا موجودين.. إذا لو لم يحدث أن جاء
أناس يضلون عن سبيل الله.. لقلنا ان القرآن غير صحيح
.. لأنه أين المضلون.. ولو وجد المضلون وتناولوا قضية
أخرى غير خلق السماوات والأرض.. وخلق الانسان..
لقلنا أن القرآن غير صحيح.. لأنه يوجد من يضل عن
سبيل الله.. ولكنه لا يتناول فيما يقوله قضية خلق
السماوات والأرض.. ولا قضية خلق الانسان.. ولكن
كون المضلين جاءوا وكونهم تحدثوا عن قضية خلق السماوات
والأرض وخلق أنفسهم.. وهل المادة قبل الروح.. أم
الروح قبل المادة.. وقانون الصدفة ونظرية داروين إلى
آخر هذا الكلام.. كون هؤلاء جاءوا.. وكونهم تناولوا
قضية خلق السماوات والأرض.. وخلق الانسان.. فهذا
اثبات لما جاء في القرآن عنهم.. وكان هؤلاء المضلون الذين
جاءوا ليصدوا عن سبيل الله.. انما قدموا خدمة كبيرة
للدعوة الاسلامية.. وللقرآن.. بأنهم أثبتوا بكفرهم صحة
القرآن.. وصحة آياته.. أترى اعجازا أكثر من ذلك..
يستخدم الله الكفار الذين يضلون عن سبيله.. ويحاولون
تكذيب القرآن.. يستخدمهم الله سبحانه وتعالى ليقوموا
وهم لا يدرون باثبات صحة الدين الذي يحاولون أن
يهدموه.. وباثبات وجود الله سبحانه وتعالى.. وهم
يريدون أن ينكروه.. فيقول في قرآن نزل منذ أربعة عشر
قرنا.. ان هناك من سيأتي ليضل عن سبيل الله.. ويتخذ
من قضية خلق السماوات والأرض والانسان مادة لهذا
الاضلال.. وكل ما سيقولونه هو غير الواقع.. وأنا أنفى
من الان ما سيقولونه بعد مئات.. أو ألوف السنين..
وأقول لكم أنه غير صحيح. إذا فكون هؤلاء المضلين جاءوا
اثباتا للقرآن.. وكون انهم قالوا غير الحق ولم يستطيعوا
30

أن يدللوا عليه عمليا.. وأخذوا يطلقون نظرياتهم.. كل
نظرية تهدم الأخرى.. وهم يجتهدون في محاولة هدم منهج
الله.. ونحن نقول لهم أنكم تثبتونه.. لان الله أخبرنا عنكم
في القرآن منذ أربعة عشر قرنا.. وقال إنكم ستأتون..
وستفعلون كذا وكذا في محاولة لتضليل الناس.. وهدم
القرآن.. أترى الاعجاز.. في استخدام الكفار لتثبيت
قضية الايمان في الكون..
الموت نقض لعملية الحياة
إذا فخالق الانسان هو الله.. وخالق السماوات
والأرض هو الله.. وهذا أمر غيبي نأخذه عمن خلق.. الا
أن الحق سبحانه وتعالى حين يعرض قضية غيبية، فإنه
ينير طريق العقل دائما بقضية نحسها ونشهدها.. تقرب
القضية الغيبية التي يتحدث عنها.. فالله خلقني من تراب
.. من طين.. من حمأ مسنون.. من صلصال كالفخار..
ثم نفخ في من روحه.
إذا أخذنا التراب.. ثم نضيف إليه الماء فيصبح
طينا. ثم يترك لتتفاعل عناصره فأصبح حما مسنونا
كالذي يستخدمه البشر في صناعاتهم.. ثم يجف فيصبح
صلصالا.. هذه أطوار خلق الجسد البشرى.. والبشر..
ثم خلقهم من الطين.. من الأرض..
فإذا جئنا للواقع.. فلنسأل أنفسنا: الانسان
مقومات حياته من أين.. من الأرض.. من الطين.. هذه
القشرة الأرضية الخصبة هي التي تعطى كل مقومات الحياة
التي أعيشها.. إذا فالذي ينمي المادة التي خلقت منها..
31

هو من نفس نوع هذه المادة.. وهي الطين.. ولقد حلل
العلماء جسد الانسان فوجدوه مكونا من 16 عنصرا.. أولها
الأوكسيجين.. وآخرها المنجنيز.. والقشرة الأرضية
الخصبة مكونة من نفس العناصر.. إذا عناصر الطين
المخصب هي نفس عناصر الجسم البشري الذي خلق
منه.. هذا أول اعجاز.. وهذه تجربة معملية لم يكن
هدفها اثبات صحة القرآن أو عدم صحته.. ولكنها كانت
بحثا من أجل العلم الأرضي.
ولقد جعل الله سبحانه وتعالى.. من الموت دليلا على
قضية الخلق.. فالموت نقض للحياة.. أي أن الحياة
موجودة.. وانا انقضها بالموت.. ونقض كل شئ يأتي على
عكس بنائه.. فإذا أردنا أن نبني عمارة نبدأ بالدور الأول..
وإذا أردنا أن نهدمها نبدأ بالدور الأخير.. إذا وصلت إلى
مكان وأردت أن أعود.. ابدأ من آخر نقطة وصلت
إليها.. انها تمثل أول خطوة في العودة.. ونحن لم نعلم
عن خلق الحياة شيئا.. لأننا لم تكن موجودين ساعة
الخلق.. ولكننا نشهد الموت كل يوم.. والموت نقض
الحياة.. إذا هو يحدث على عكسها.. أول شئ يحدث
في الانسان عند الموت. ان الروح تخرج.. وهي آخر
ما دخل فيه.. أول شئ خروج الروح.. إذا آخر شئ
دخل في الجسم هو الروح.. ثم تبدأ مراحل عكس عملية
الخلق.. يتصلب الجسد.. هذا هو الصلصال.. ثم
يتعفن فيصبح رمة.. هذا هو الحمأ المسنون.. ثم يتبخر
الماء من الجسد ويصبح الطين ترابا.. ويعود إلى الأرض..
إذا مراحل الأفناء التي أراها وأشهدها كل يوم هي عكس
مراحل الخلق.. فهناك الصدق في مادة الخلق.. والصدق
32

في كيفية الخلق.. كما هو واضح أمامي من قضية نقض
الحياة.. وهي الموت..
شئ آخر.. يقول الله سبحانه وتعالى (ونفخت فيه
من روحي).. ومعنى النفخ أي نفس.. أي أن هناك
نفسا خرج من النافخ إلى المنفوخ فيه.. فبدأت الحياة..
وبماذا تنتهي الحياة بخروج هذا النفس.. فأنت
إذا شككت في أن أي انسان قد فارق الحياة.. يكفي أن
يقال لك أنه لا يتنفس.. لتتأكد يقينا أنه مات إذا
دخول الحياة إلى الجسد هو دخول هذا النفس.. مصداقا
لقوله تعالى (ونفخت فيه من روحي).. وخروجها هو
خروج هذا النفس..
فالمسألة يقينا كما قال الله.. وإذا كنا نريد اعجازا
أكثر.. فلننظر ماذا قال القرآن في علم الأجنة.. علم
تكوين الجنين في بطن أمه.. هل تناول أحد هذه المسألة
قبل القرآن أو عصر القرآن.. أو بعد بفترة.. أبدا..
أول من تحدث عنها هو القرآن وأعطاني ما هو غائب عنى..
لان خلقي هو غيب عنى.. فكون الله سبحانه وتعالى يأتي
في قرآنه ويعطيني مراحل تكوين الجنين.. فهذه آية من
آيات عظمته وقدرته.. وعلمه.. يقول الله في أطوار الجنين:
(.. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة
فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام
لحما).. علم الأجنة ما عرفه الناس إلا حديثا.. والقرآن
كما قلت كلام متعبد بتلاوته.. لا تبديل فيه ولا تغيير..
أي أن القضية التي يذكرها ستبقى كما هي إلى آخر
الدنيا.. فعندما يأتي القرآن ويخبر بهذا فكأنه يتحدى
العلم والعلماء.. إلى يوم القيامة.. يقول لهم هذا هو
33

تكوين الجنين في بطن أمه.. وأنا أذكره لكم وأذكر مراحله
بالتفصيل.. لم يشهده أحد من البشر حتى ساعة نزول
هذا القرآن.. ولا حتى بعد نزوله بمئات السنين.. ولكنني
أسجله لتعلموا عندما أعطيكم من العلم ما تستطيعون به
معرفة أطوار الجنين.. لتعلموا أن القائل هو الخالق..
لأنه لا يمكن لاحد أن يقول هذا الكلام.. وأن يتحدى بصحته
على مر العصور وأن يخترق الحجب ليروى شيئا لم تكن
البشرية تعرفه أو تعلم به.. الا أن يكون ذلك هو الله..
والا فكيف يأمن أي انسان.. أي بشر مهما بلغ من العلم
كيف يأمن أنه بعد عشرات السنين.. أو مئات السنين..
لن يأتي ما يناقض هذا الحديث.. وما يثبت عدم صحته..
فإذا لم يكن الحديث هنا عن الله.. وإذا لم يكن عن يقين
كامل.. فكان القرآن قد أعطى معه وسيلة هدمه.. كان
يكفي أن يقول انسان أن القرآن يقول هذا عن أطوار
الجنين.. وقد أثبت التقدم العلمي أنه غير صحيح.. كان
يكفي أن يقال هذا ليهدم قضية الدين من أساسه.. ويكون
القرآن قد أعطى للكفار أقوى سلاح يهدموه به.. فالذي
كشف علم الأجنة متأكد تماما أن ما يقوله هو الحق.. وأن
تطور العلم مهما جاء فإنه لن يأتي ليناقض هذا الكلام..
ولقد أثبتت أحدث البحوث عن الجنين.. صحة
ما ذكره القرآن منذ أربعة عشر قرنا.. ولم تختلف
عنه.. في أي تفصيل من التفصيلات.. رغم أن
هذا كان أمرا غيبيا.. وامرا لم يتحدث عنه أي انسان
قبل أن يأتي القرآن.. ومع ذلك فقد ذكره القرآن
بالتفصيل.. وحدد أطواره.. وجاء العلم بعد ذلك ليثبت
هذه الحقيقة.. إذا فلابد أن قائل القرآن هو الله.. لان
الذي يعلم يقينا هو الله وحده..
34

آيات الله في الأرض
نأتي بعد هذا إلى نقاط سأمر عليها بسرعة.. لان آيات
الله كثيرة جدا في الأرض.. وكلها تنطق باعجاز القرآن..
يقول الله سبحانه وتعالى (كلما نضجت جلودهم بدلناهم
جلودا غيرها ليذوقوا العذاب). هذه الآية عن الكفار يوم
القيامة.. والهدف منها هو أن يقول الله ان العذاب
سيستمر في الآخرة.. وكانوا يقولون أن مراكز الاحساس
موجودة في المخ.. وأن الجلد ليس فيه مراكز احساس..
كان هذا هو الحديث حتى فترة وجيزة.. أما أيام نزول
القرآن فلم يكن أحد يعرف شيئا عن ذلك على الاطلاق..
فيأتي الله سبحانه وتعالى ويقول (كلما نضجت جلودهم
بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب).. فكان العذاب
له صلة بالجلد.. والاحساس بالعذاب يأتي من الجلد..
ثم يكتشف العلم أخيرا أن مراكز الاحساس بالألم موجودة
فعلا في الجلد.. وهي التي تحس بالعذاب.
ونأتي إلى القرآن فنجده ربما كان أول كتاب في العالم
كله.. أخبر: أنه يوجد شئ أصفر من الذرة.. فيقول
سبحانه وتعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل
مثقال ذرة شرا يره).. لان الذرة هي أدق ميزان في
العالم.. ثم يأتي في آية أخرى ويقول عن الذرة (ولا أصغر
من ذلك ولا أكبر الا في كتاب مبين). إذا فهناك شئ
أصغر من الذرة.. وهذا الشئ مقيد في كتاب عند الله
ومكتوب.. ويقول الله (فلا أقسم برب المشارق
والمغارب).. أي مشارق وأي مغارب في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم وكان كل ما يعرفه الناس عن الشمس
انها تشرق من مكان.. وتغرب من مكان آخر.. فيقولون
35

مثلا الشمس تشرق من ناحية هذا الجبل.. وتغرب من
ناحية هذه الشجرة.. ولكن الان كل بلد له مشرق ومغرب
.. فالشمس عندي تشرق من ناحية الجبل.. وبعد
دقائق تشرق في بلد أخرى.. وبعد دقائق في بلدة ثالثة..
وبعد دقائق في بلدة رابعة.. وهي تغرب من هناك وبعد
دقائق تغرب من بلدي.. وبعد دقائق تغرب من بلدة
مجاورة.. أي أن لها مشارق ومغارب.. والصلاة مثلا
.. الصلاة مستمرة في الأرض ليلا ونهارا.. توقيت الظهر
مثلا عندي.. وبعد دقائق في بلدة أخرى.. وبعد دقائق في
بلدة ثالثة.. ونصف الأرض نائم.. والنصف الثاني يسبح
الله.. بعض الناس يصلون الفجر.. وفي نفس اللحظة
غيرهم يصلون الظهر.. وفي نفس اللحظة غيرهم يصلون
العصر.. وفي نفس اللحظة غيرهم يصلون العشاء..
الصلاة هنا في القاهرة مثلا وبعد دقيقتين في بنها.. وبعد
دقيقتين اخريين هي في دمنهور.. وبعد دقيقتين هي في
الإسكندرية.. وبعد دقيقتين أو ثلاث هي في بلد آخر..
وهكذا.. بحيث لا ينقطع عن العالم أجمع ثانية واحدة ليست
فيها ذكر الله.. يأتي الله سبحانه وتعالى ليرينا كيف يعالج
قضية أخرى.. يعالجها بما يناسب عقول الذين عاصروا
نزول القرآن إلى الأرض.. وتفكير كل الأجيال القادمة..
يأتي فيقول (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة)..
أي أنه وهو يتحدث عن نعمه قد حدد للانسان ما خلقه له
ليساعده على التنقل في الأرض.. ولكن هل هذا هو نهاية
المطاف.. لو أنني أفكر بتفكير ذلك العصر.. العصر الذي
نزل فيه القرآن.. لقلت أنها نهاية المطاف.. ولكن الله
يعلم أن الانسان سيركب السيارة والصاروخ والطائرة..
وان كل جيل سيختلف عن الجيل الاخر بوسائل التنقل..
فكيف يسجل ذلك دون أن يقول ما هو فوق عقول الناس
36

في ذلك الوقت.. مما قد يذهب الايمان من نفوسهم..
يقول الله سبحانه وتعالى (والخيل والبغال والحمير لتركبوها
وزينة ويخلق ما لا تعلمون).. أترى بلاغة القرآن.. قد
سجل علم الله وفي نفس الوقت احتفظ به غيبا على الذين
عاصروا نزول القرآن.. (ويخلق ما لا تعلمون).. هنا
معناها ان ما ذكرته ليس نهاية المطاف.
ولذلك فانا أقول لكم من الان أن هذه هي وسائل
تنقلكم.. ولكني سأخلق في الأجيال القادمة ما لا تعلمون
أنتم.. سأخلق للأجيال التي بعدها ما لا تعلمه الأجيال
القادمة.. وهكذا إلى نهاية الدنيا.. ومن هنا فقد سجل
القرآن التطور الذي سيحدث.. وفي نفس الوقت احتفظ
بعبارته في مستوى العصر الذي نزل فيه..
وتأتي الدنيا كلها.. فتتهم النساء بأن لهن دخلا في أن
يلدن إناثا ويلدن ذكورا.. ويخبر الله سبحانه وتعالى انه
خلق الإناث والذكور من نطفة الرجل.. وليس للمرأة دخل
في ذلك.. ثم يأتي العلم أخيرا.. ويكتشف هذه الحقيقة
الكونية.. ويعلن أن عنصري البشرية الذكر والأنثى
موجودان معا في الرجل.. وأن تحديد النوع يأتي من
الرجل وليس للمرأة دخل فيه.. والله سبحانه وتعالى
يقول (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها
وهم عنها معرضون).. أي أن هناك أشياء عجيبة خلقها
الله في السماوات والأرض تتطلب من الانسان أن يمعن
النظر فيها.. ولكنه لا يمعن فيها النظر.. رغم أن الله
سبحانه وتعالى طلب منا أن نمعن النظر في آياته.. وأن
نستخدم نشاطات الذهن في اكتشاف نشاطات الكون..
37

الفصل الثالث
القرآن والعلم
(الاعجاز في القرآن أنه يستخدم الألفاظ التي تعبر بدقة
عما يريد.. ولا تصادم في مفهومها مع أي عنصر.. يقول الله
(والأرض مددناها).. وذلك مطابق لما تراه العين منذ
الأزل.. بأن الأرض مبسوطة.. ولكنه في نفس الوقت أكبر
دليل على كروية الأرض.. ووصف الجبال أنها تمر مر
السحاب.. يؤكد لنا أن الجبال لا تتحرك بذاتها.. بل
تدور بحركة الأرض.. تماما كالسحاب لابد أن تدفعه
الرياح ليتحرك.. وعندما يقول الله (ولا الليل سابق
النهار) فهو ينفى أن يسبق النهار الليل.. أو يسبق
الليل النهار.. أي أنهما موجودان معا على سطح الكرة
الأرضية.. لا سباق بينهما.. وعندما يتحدث القرآن
عن الذرة.. فإنه يذكر ما هو أصغر من الذرة قبل أن
يعرفه العالم..)
عندما نزل القرآن كان له أكثر من معجزة.. تحدى
العرب في بلاغتهم.. ثم مزق حواجز الغيب الثلاثة..
مزق حجاب الزمن الماضي وروى لنا بالتفصيل تاريخ
الرسل وحوادث من سبقنا من الأمم.. وتحدى فيها..
ثم مزق حجاب المكان.. وروى لنا ما يدور داخل
نفوس الكفار والذين يحاربون الاسلام وما يبيتون
للمسلمين.. روى لنا ما يدور داخل نفوسهم.. ولم
تنطق به شفاههم.. ولم يجرؤ واحد منهم أن يكذب القرآن
ويقول لم تهمس نفسي بهذا.. ثم مزق حجاب
38

المستقبل القريب.. وتنبأ بأحداث ستقع بعد شهور..
وبأحداث ستقع بعد سنوات وتحدى.. وحدث
كل ما أنبأ به القرآن.. هذا ما بينته في الفصل السابق
بالتفصيل.. وضربت الأمثلة عليه.
ثم بعد ذلك مزق القرآن حجاب المستقبل البعيد..
ليعطى الأجيال القادمة من اعجازه ما يجعلهم يصدقون
القرآن ويسجدون لقائله وهو الله.. ولكن القرآن نزل في
زمن لو أن هذه المعجزات المستقبلة جاءت تفصيلية لكفر
عدد من المؤمنين.. وانصرف آخرون.. ذلك أن الكلام
كان فوق طاقة العقول في ذلك الوقت.. ومن هنا وحتى
لا يخرج المؤمن عن ايمانه.. ويستمر الاعجاز.. جاء
القرآن بنهايات النظريات.. بقمة نواميس الكون.. إذا
تليت على المؤمنين في ذلك الوقت.. مرت عليهم.. ولم
ينتبهوا إلى مدلولها الحقيقي العلمي.. وإذا قيلت بعد ذلك
على الأجيال القادمة.. عرفوا ما فيها من اعجاز.. وقالوا
ان هذا الكلام لا يمكن أن يقوله شخص عاش منذ آلاف السنين
.. إذ لابد أن هذا القرآن حق من عند الله.. وان قائله
هو الله الخالق..
بقيت نقطة.. هل يأتي هذا في الاحكام.. الجواب:
لا.. أن أحكام الدين افعل ولا تفعل نزلت كاملة واضحة
لا لبس فيها ولا إضافة عليها ولا تبديل ولا غموض.. منهج
الله كامل فسرته الأحاديث القدسية والأحاديث النبوية..
وشرح وفسر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تفسيرا
كاملا.. بحيث أصبح واضحا لكل انسان يريد أن يعبد
الله.. وأن يعيش في الأرض طبقا لقوانين الله: افعل
ولا تفعل.. جاءت واضحة وكملت وفسرت في عهد الرسالة
.. وأصبح الحلال بينا.. والحرام بينا.. والدين بينا.
39

أما آيات الله في الكون.. فنلاحظ أنها لم تفسر تفسيرا
كاملا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.. حتى لا تكون
ملزمة للمسلمين.. لماذا؟ لان لها عطاء يتجدد في كل
الأجيال.. وهذه الآيات هي التي سنتحدث عن بعضها..
لقد تحدى القرآن العرب بالاعجاز في اللغة.. طلب ان
يأتوا بمثل القرآن.. ثم زاد في التحدي وقال بسورة من
مثله.. ولكن التحدي للعالم لا يمكن أن يكون باللغة..
فاللغات مختلفة.. اذن بماذا تحداهم.. بالعلم.. وكان
التحدي مطلقا.. ا لي يوم الدين.. قال أنتم جميعا لن
تستطيعوا أن تخلقوا شيئا.. حتى نهاية العالم.. ثم
تحداهم بخلق ماذا؟! بخلق كون كالذي خلقه.. لا..
بخلق مجموعة شمسية من عشرات المجموعات الشمسية
الموجودة في الكون.. لا.. بخلق شمس أو قمر أو نجم..
لا.. اذن تحداهم بخلق الكرة الأرضية مثلا.. أبدا..
لابد أنه تحداهم بخلق الانسان.. أبدا.. لقد تحداهم أن
يخلقوا ذبابا.. وكأنه يقول انني أنا الله أقول لكم سأعطيكم
من العلم.. وأريكم آياتي في الآفاق.. ولكنكم لن تخلقوا
ذبابة.. ولو اجتمع لذلك كل علماء الأرض في كل العصور
.. وهكذا تحدى الله البشرية كلها إلى يوم القيامة بأن يخلقوا
ذبابة.. وقال إن العلم الذي ستعبدونه من دون الله..
والذي ستؤمنون به.. هذا العلم وكل القائمين عليه..
لن يستطيعوا أن يخلقوا ذبابة ولو اجتمعوا.. ان ا لذين
تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له.. ثم
قال الله سبحانه وتعالى: (ضعف الطالب والمطلوب)..
وأضاف (وما قدروا الله حق قدره).. والعجب أن
الانسان قد وصل إلى القمر.. وقد يصل إلى المريخ..
وقد يستكشف أبعد من ذلك.. ولكنه عاجز أن يخلق
جناح ذبابة حتى الان.. وهو طلب ضعيف جدا بالنسبة
40

لقدرة الله سبحانه وتعالى في خلق ملايين الكائنات ولذلك
قال الله (ضعف الطالب والمطلوب)..
ثم أضاف سبحانه وتعالى (وما قدروا الله حق قدره)
أي أن قدرة الله سبحانه وتعالى تفوق كل الحدود
والتصورات التي قد ترد على خواطركم.. وأنتم لا تعرفون
قدرة الله.. ثم تحدى الله بعد ذلك في قرآنه.. تحدى
باستمرار الحياة.. الماء الذي خلق منه كل شئ حي..
قال الله تعالى (أفرأيتم الماء الذي تشربون.. أأنتم أنزلتموه
من المزن أم نحن المنزلون) وقال تعالى (ينزل الغيث) أي
ان الله سبحانه وتعالى هو الذي يرسل إليكم الأمطار..
والماء يأتي مدرارا ليسقي الدنيا كلها.. البشر والطيور
والوحوش والزرع وكل شئ حي.. هذا الماء الذي تعب
منه البشرية كلها عبا.. تجد الانسان عاجزا عن أن يصنع
نهرا.. مع أن عناصر تكوين الماء موجودة في الكون.. أمام
العلماء.. والمساحات الشاسعة من الصحارى في الأرض
محتاج إلى قطرة ماء.. ثم تحدى الله سبحانه وتعالى بعد
ذلك.. تحدانا بأن نهرب من الموت.. قال (أينما تكونوا
يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة).. أي أن الله
سبحانه وتعالى يتحدى.. مهما وصلتم إلى العلم.. فلن
تستطيعوا أن تنجوا من الموت.. انكم تقولون في العلم
الأرضي أن الموت يحدث بسبب جراثيم كذا وأمراض كذا
إلى آخره.. حسنا شيدوا برجا وضعوا فيه انسانا..
وأبعدوا عنه كل المخاطر التي في رأيكم وفي نظركم وفي علمكم
تسبب الموت.. فلا هو يحارب ولا يمشى في أي مكان
ليصاب في حادث.. فلا يستنشق هواء ملوثا بل يستنشق
هواء نقيا.. ويأكل من طعام مطهر على أحداث الوسائل
الصحية.. ويشرب من ماء ليس فيه جرثومة واحدة...
41

والجو الذي يعيش فيه منقى إلى آخر درجات العلم..
هنا نكون قد أبعدنا عن هذا الانسان كل مسببات الموت التي
نعرفها.. ومع ذلك هل يمكن أن يكتب لانسان مثل هذا
الخلود رغم أننا منعنا عنه كل الأسباب الظاهرية للموت..
الجواب طبعا مستحيل.. لان الله هو الذي يحيي ويميت..
والأسباب لا تفعل بنفسها ولكنها تفعل بإرادة الله.
ثم تحدى الله العالم كله في القرآن بخمس مغيبات..
(ان الله عنده علم الساعة.. وينزل الغيث ويعلم ما في
الأرحام.. وما تدري نفس ماذا تكسب غدا.. وما تدري
نفس بأرض أرض تموت..)
تحدى الله بهذه المغيبات.. تحدى البشر جميعا..
فكان القرآن كما تحدى العرب في اللغة عندما نزل.. حمل
تحديات للعالم أجمع.. وقال لهم: انكم لن تصلوا إلى كذا
وكذا إلى آخره.. عشرات التحديات التي ساقها القرآن
للبشرية جميعا.. قال لن تصلوا إلى كذا.. لن تفعلوا
كذا لن تخلقوا كذا.. وكانت هذه التحديات لكل البشرية..
ولكل العصور..
القرآن أخبرنا بحقائق الكون
وبعد أن تحدى الله البشر جميعا.. قال: (سنريهم
آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
قال (في الآفاق) أي أن الله سبحانه وتعالى سيكشف
لعباده بعضا من آياته ليتبين لهم أن هذا القرآن هو الحق..
وكيف يتبين لهم أنه الحق.. ذلك أن حقائق الكون..
التي سيصلون إليها بعد مئات السنين أو آلاف السنين
42

بنشاطات الذهن.. سيجدون القرآن قد أشار إليها..
وحينئذ يتبين لهم أن هذا القرآن هو الحق.. لان الذي
قال هو الله.. والذي خلق هو الله.
ومن هنا جاء في القرآن أن الأرض كروية.. وأنها
تدور.. وجاء فيه كيفية خلق الانسان.. وكيف تعلم
الكلام.. وجاء فيه ان هناك ما هو أصغر من الذرة.. وجاء
فيه وصف دقيق لما يحدث للجنين وهو في بطن أمه.. وجاء
فيه أن الليل والنهار يوجد أن على الأرض معا.. وحقائق
أخرى كثيرة لا يتسع المجال للحديث عنها..
على اننا قبل أن نمضي في هذا الموضوع يجب أن نحدد
معنى العلم.. العلم لابد أن يمر بمرحلتين.. مرحلة
التصور ومرحلة التصديق.. ومعنى التصور اننا قبل
أن نتكلم عن أي قضية اثباتا أو نفيا.. لابد أن نكون
متصورين للألفاظ التي سنكون منها حديثنا.. يعني كلمة
سماء مثلا.. ماذا تعنى.. وكلمة الأرض ما معناها..
وما معنى كلمة زرقاء إلى آخره.. هذا هو التصور..
وليس في هذا نسبة.. فإذا جاء النسب.. وهي أن
تحكم على شئ بشئ.. يجب أن تكون مسبوقة بعلم
التصور.
ننتقل بعد ذلك بايجاز شديد إلى مرحلة التصديق..
فأنت حين تحدثني عن حقيقة علمية أسألك هل هي واقعة..
فإذا قلت نعم أسألك أأنت جازم بها.. فإذا قلت نعم..
أسألك: هل تستطيع التدليل عليها.. فإذا قلت نعم..
فهذا هو العلم.
فالعلم نسبة واقعة مجزوم بها وعليها دليل.. ولكن
افرض انني جازم بالنسبة.. وهي ليست واقعة.. هذا
43

هو الجهل.. نسبة مجزوم بها وهي غير واقعة.. وآفة
الدنيا كلها الجهل.. فالذي لا يعرف نسبة أو حقيقة
علمية يمكن أن يتعلمها.. ولكن المصيبة في ذلك الذي يجزم
أو يصدق في قضية كاذبة.. ثم يقيم الدنيا محاولا أن يدلل
على شئ غير حقيقي.. وهذا ما تعاني منه البشرية..
وإذا تحدثنا عن القرآن والعلم.. فإن العلم هنا المراد به
علم البشر الذي يوجد في زوايا الكون المتعددة.. (يعلمون
ظاهرا من الحياة الدنيا). ونحن أحيانا ندعي حقيقة
علمية.. وهي ليست حقيقة علمية.. أو ندعي حقيقة
قرآنية وهي ليست حقيقة قرآنية.. الأولى ادعاء حقيقة
علمية وهي مجرد نظرية وتخمين.. ولكن ادعاءنا حقيقة
قرآنية وهي ليست حقيقة قرآنية.. ما هو.. مثلا يأتي
انسان ويقول الأرض مبسوطة.. ويستدل على ذلك بأن الله
سبحانه وتعالى يقول (والأرض مددناها).. أي بسطناها
.. لان المد هو البسط.. ولقد فهم أن هذه حقيقة قرآنية
حتى أنه بعد أن خرج الانسان خارج الغلاف الجوي للأرض
ورآها كروية.. فان هذا الرجل يرفض تصديق العلم..
ويقول لا.. الأرض مبسوطة.. هكذا قال القرآن.. وكل
ما عدا ذلك كفر نقول له: انك أخطأت في فهم الحقيقة القرآنية
.. وان الدليل الذي أتيت به لا يخدم ما تدعيه.. بل هو
ضد ما تدعيه.. فالأرض ان كانت مبسوطة لا تخرج عن
أشياء.. اما مربعة.. وأما مثلثة.. وأما مستطيلة...
واما متوازية.. وأما شبه منحرف.. أو شكل مختلف
الأضلاع.. وباختصار أترك لك أن تتصور أي وضع
للأرض غير وضع الكرة.. أو شكل الكرة.
44

والأرض مددنا وهي كرة
اذن ما دامت الأرض مسطحة.. فلابد أن يكون لها
حيز.. فإذا جئت في آخر السطح.. لابد أن تصل إلى
حافة.. ولكن الله سبحانه وتعالى يقول (والأرض
مددناها).. ومعنى مددناها انك أينما ذهبت فوق سطح
الكرة الأرضية.. تراها ممدودة امامك.. أي منبسطة
أمامك.. فإذا ذهبت إلى القطب الشمالي رأيت الأرض
منبسطة.. وإذا أسرعت إلى القطب الجنوبي رأيت الأرض
منبسطة.. وإذا ذهبت إلى خط الاستواء وجدت الأرض
أمامك منبسطة.. في أي مكان نذهب إليه نرى الأرض
منبسطة.. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت الأرض
كروية..
اذن فقول الله سبحانه وتعالى (والأرض مددناها)
دليل على كروية الأرض.. ولكن انسانا أخطأ وفسر ذلك
اللفظ على أنه دليل على أن الأرض مبسوطة.. وخرج من
ذلك بأن هذه حقيقة قرآنية.. وهي ليست حقيقة قرآنية
فإذا ثبت أن الأرض كروية بدأ تعارض وهمي بين حقيقة
كونية.. وحقيقة قرآنية.. وهنا يبرز دور الجهل في
محاولة النيل من كتاب الله.. ولو تعمق بعض الناس قليلا
لعرفوا أن كروية الأرض ودوران الأرض موجودان في القرآن
.. وهذا ما سنعود إليه في موضع آخر..
كذلك مثلا قول الله سبحانه وتعالى (ويعلم ما في
الأرحام) يأتي انسان ليقول أن معنى ويعلم ما في الأرحام..
ان الله يعلم هل الطفل الذي في بطن أمه ذكر أو أنثى..
فإذا جاء في نشاط العلم انهم يستطيعون بطريقة ما أن يعرفوا
قبل ولادة المولود بفترة إذا كان ذكرا أو أنثى.. يقول بعض
45

الناس أن (ويعلم ما في الأرحام) قد خرجت عن المغيبات
الخمس التي اختص الله سبحانه وتعالى بها علمه يتحدى
بها البشر أجمعين.. ويبدأ هنا الجدل.. ولكن السؤال
الذي كان يجب أن يوجه إلى قائل مثل هذا الكلام هو: من
الذي أخبرك ان معرفة نوع الجنين إذا كان ذكرا أو أنثى..
هو معنى الآية الكريمة (ويعلم ما في الأرحام) من الذي حصر
كلمة (ما) في ذكر أو أنثى.. وهي مطلقة على العموم..
انك ادعيت أن (ما) في ذكر وأنثى.. وقلت إنها الحقيقة
القرآنية.. ولكن مدلول (ما) أكثر من ذلك كثيرا.. ذكر
وأنثى حقيقة.. وطويل أم قصير حقيقة أخرى.. وأسمر
أو أبيض أو أشقر حقيقة ثالثة.. وسعيد أو شقي حقيقة
رابعة.. وذكى أو غنى حقيقة سادسة.. ومريض أم
معافى حقيقة سابعة.. وأستطيع أن أمضى إلى مئات..
بل وألوف الحقائق التي عبر الله سبحانه وتعالى عنها بكلمة
(ما) في الآية الكريمة (ويعلم ما في الأرحام).
ثم ا ن الذي يحاول العلم أن يصل إليه بالتحليل..
ما زال في دور التخمين لم يصل إلى قين بعد.. فبالنسبة
للبنت والود.. هناك 50 % نسبة مسبقة معطاة.. أي
انك إذا رأيت امرأة حاملا.. وقلت هذه ستلد بنتا.. فان
قولك صادق بنسبة 50 %.. فجاء العلم ليضيف على هذه
ل‍ 50 % أو 20 % أو 30 % فقط.. ولكن ليقل لنا العلم ما هي
أوصاف الجنين.. أو أي شئ منه ليس فيه نسبة معطاة
مسبقا.. على انني هنا أحب أن نقف قليلا حول الضجة
التي تثيرها بعض النظريات العلمية.. فمثلا حين أجريت
تجارب ما أسموه انتاج أطفال في أنابيب الاختيار.. وبدأ
الحديث عن الأطفال الذين سيولدون من أنابيب الاختيار..
46

إلى آخر هذا الكلام.. ثم انتهت إلى لا شئ.. والى فشل
ذريع.. وكذلك الحديث عن خلق المادة الحية وما إلى
ذلك.. وقد تحدى القرآن الانسان أنى خلق ذبابة..
وأعطى الله العلم للانسان ليصل به إلى القمر.. ولكنه لم
يعطه العلم ليخلق جناح ذبابة.
التصادم بين القرآن والعلم
اذن فالتصادم يحدث بين حقائق الكون والقرآن.. إذا
كان هناك تصادم.. يوجد عندما ندعي حقيقة علمية في
الكون.. وهي ليست حقيقة علمية.. أو ندعي حقيقة
قرآنية وهي ليست حقيقة قرآنية لا يمكن أن يصدم أبدا
بحقيقة علمية ثبتت بالتجربة.. لان قائل القرآن هو الله.
والفاعل هو الله.
إذا انتهينا إلى ذلك.. يكون علينا أن نوضح نقطة
صغيرة قبل أن نمضي في حديثنا.. ان الذين يقولون ان
القرآن لم يأت ككتاب علم.. صادقون.. ذلك أنه كتاب
أتى ليعلمني الاحكام.. ولم يأت ليعلمني الجغرافيا أو
الكيمياء أو الطبيعة.. وفي نفس الوقت عندما نقول ان
القرآن ذكر لي معجزات لم يصل إلى بعضها العلم حتى
الان.. فهذا صحيح أيضا.. إن هذه المعجزات هي
ما تنتهي إليه حقائق الكون.. فالقرآن وان لم يأت ليعلمني
الطب مثلا.. الا أنه يأتي فيمن قضية طبية يخبرني
بدقائقها.. ولا يصل إليها علم الطب الا بعد مئات السنين
أو ألوف السنين.. يأتي في الجغرافيا مثلا ويمس قضية
هامة لا نعرفها الا بعد مئات السنين.. وكذلك في كل علوم
الدنيا.. أي أن ما ينتهى إليه من الحقائق.. قضايا الكون
47

الأساسية... الحقائق التي خلق على أساسها الكون يمسها
القرآن على أنها حقائق علمية سواء وصلت إليها أنت بالعلم
أم لم تصل.. ولنبدأ باستعراض بعض من هذه الحقائق.
الحقيقة الأولى: كروية الأرض.. واعتقد أنه في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد من البشر يعرف
شيئا عن كروية الأرض.. أو لم يكن ذلك قد وصل إلى
علم أحد.. وهنا يأتي القرآن ويقول (والأرض مددناها)
ويلاحظ دقة تعبير القرآن في ألفاظه.. لقد اختار اللفظ
الوحيد المناسب للعصر الذي نزل فيه والعصور القادمة
فكلمة مددناها تعطى المعنى للاثنين معا. عندما يقول
(والأرض مددناها) أي بسطناها.. لا تنشأ مشكلة لان
الأرض تظهر امام الناس منبسطة في ذلك الوقت.. فإذا
مر الزمن وثبت أن الأرض كروية.. نجد هذا اللفظ هو
المناسب تماما الذي يصف لنا بدقة كروية الأرض.
ثم نتأمل قول الله تعالى (يكور الليل على النهار)..
لماذا استخدم الله سبحانه وتعالى كلمة يكور.. لماذا استخدم
الله لفظ يكور.. ولم يقل يبسط الليل والنهار.. ما دامت
الأرض منبسطة.. أو بغير الليل والنهار.. أو أي لفظ
آخر.. انك لو جئت بشئ ولففته حول كرة.. فتقول انك
كورت هذا القماش مثلا.. أي جعلته يأخذ شكل الكرة
الملفوف حولها.. وإذا أردت من انسان أن يصنع لك شيئا
على شكل كرة.. فتقول له خذ هذا وكوره.. أي اصنعه
على شكل كرة.. ومعنى قول الله تعالى يكور الليل على
النهار.. أي يجعلهما يحيطان بالكرة الأرضية.. ومن اعجاز
القرآن أن الليل والنهار مكوران حول الكرة الأرضية في كل
48

وقت.. أي أن الله لم يقل يكور الليل ثم يكور النهار..
ولكنه قال يكور الليل على النهار واستخدام كلمة (على)
هنا تستحق وقفة.. لتتصور مدى انطباقها على كروية
الأرض.. (يكور الليل والنهار) ومعناه انهما موجودان
في نفس الوقت حول الكرة الأرضية وهذا ما نبا به القرآن
منذ أربعة عشر قرنا ولم يصل إلى علم البشر الا في الفترة
الأخيرة.
وقضية كروية الأرض مسها القرآن في أكثر من مكان..
لماذا؟ لأنها حقيقة كونية كبرى.. ثم نتأمل بعد ذلك قوله
سبحانه وتعالى (ولا الليل سابق النهار) ما معنى
الآية الكريمة ولا الليل سابق النهار.. معناه أنه يرد عليهم
في قضية في عصرهم ليصححها لهم.. فهم يقولون ان النهار
يسبق الليل.. يبدأ اليوم بشروق الشمس وينتهي بغروبها،
ثم يأتي بعد ذلك الليل، أي أن النهار يسبق الليل.. فيأتي
الله سبحانه وتعالى ويقول (ولا الليل سابق النهار)
.. ومن هنا فإنه يرد على قولهم بأن النهار يسبق الليل قائلا
لا.. لا النهار يسبق الليل ولا الليل يسبق النهار..
وهذا اعلان لهم بأن الأرض كروية. وان الليل والنهار
موجودان في وقت واحد على سطحها.. فلو ان الأرض
مبسوطة فان الامر لا يخرج عن حالتين.. الحالة الأولى..
ان الله قد خلق الشمس مواجهة للأرض المسطحة.. وفي
هذه الحالة يكون النهار موجودا أولا.. ثم يغيب الله
الشمس فيأتي الليل ثانيا.. أو أنه خلق الشمس غير
مواجهة لسطح الأرض.. وفي هذه الحالة يكون الليل موجودا
أولا.. ثم تطلع الشمس على السطح فيأتي النهار..
لا يخرج الامر عن هذين الشيئين.. فعندما يأتي الله ويقول
(ولا الليل سابق النهار) أي أنه ينفى كلية ان النهار
49

يسبق الليل.. أو ان الليل يسبق النهار.. حيث إنهما
لا يسبق أحدهما الاخر منذ متى.. منذ بداية خلق الأرض
.. أو منذ خلق الله الأرض.. ولا يتأتى هذا في عالم الاحجام
أبدا الا إذا كانت الأرض مكورة.. فحين خلق الله الشمس
والأرض وجد الليل والنهار معا.. فنصف الأرض المواجهة
للشمس صار نهارا.. والنصف الاخر صار ليلا.. ثم
دارت الأرض.. فأصبح الليل نهارا.. والنهار ليلا وهكذا
.. اذن فالآية الكريمة (ولا الليل سابق النهار).. تعطيني
ان الأرض مخلوقة على هذه الصورة الكروية.
دوران الأرض في القرآن
نأتي بعد ذلك إلى قضية أخرى.. وهي دوران الأرض
.. هل يستطيع أحد أن يحكم على مكان هو جالس فيه
.. والمكان كله يتحرك كما فيه هو.. انك لا تستطيع أن
تدرك أنه متحرك.. لماذا؟.. لأنك لا تعرف حركة المتحرك
الا إذا قسته مع شئ ثابت ولا شئ ثابت لان الأرض كلها
تدور.. والمواقع فوق سطحها ثابتة.. لأننا مثلا عندما
نجلس في حجرة مغلقة تماما وهي تدور بنا جمعا..
وموقعنا عليها ثابت لا يتغير.. لا نحس بدوران هذه الحجرة
الا إذا فتحنا نافذة مثلا.. ونقيس حركة الحجرة على شئ
ثابت كعمود مثلا أو شجرة..
ومن هنا لا نستطيع أن نعرف حركة المتحرك إلا إذا
قسناه إلى شئ ثابت.. ومن يستطيع أن يقيس الأرض
كما إلى شئ ثابت ليعرف حركتها.. لا أحد يستطيع..
ما دمت أنا لا أدرك الحركة.. يأتي الله سبحانه وتعالى
ليقول لي (وترى الجابل تحسبها جامدة وهي تمر مر
50

السحاب) تحسبها معناه كان ذلك حسبان وليس حقيقة..
لان هذه الجبال التي تراها امامك جامدة ثابتة لا تتحرك
هي ليست كذلك.. فإن الله يريد أن يقول لنا أن هذه
الجبال الراسخة أوتاد الأرض التي تبدو امامك جامدة ثابتة
صلبة لا تستطيع أن تفتتها أنت ولا تزيلها.. هذه الجبال
الرهيبة تمر امامك مر السحاب وأنت لا تدرى.. ثم عندما
تتعجب وتقول وأنت تسمع هذه الآية كيف تمر هذه الجبال
مر السحاب.. وهي ثابتة أمامي هكذا لا تتحرك من مكانها
.. يقول لك الله سبحانه وتعالى.. لا تتعجب.. صنع الله
الذي أتقن كل شئ.. فان قال قائل ان هذا يحدث في
الآخرة.. فإننا نقول له أن الأرض لن تكون نفس الأرض..
وان الجبال ستمور.. مصداقا لقوله تعالى يوم تبدل
الأرض غير الأرض إلى آخر الآية الكريمة.. ثم هل يكون في
الآخرة حسبان.. أبدا.. الآخرة نرى فيها الحقائق..
نرى فيها كل شئ عين اليقين.. ونعرف كل شئ على
حقيقته.. الجنة والنار. والثواب والحساب وكل شئ..
اذن فقول الله سبحانه وتعالى (تحسبها جامدة)..
معناه.. انك وأنت امام هذه الجبال وأهم.. لأنك تظن أنها
جامدة وهي تمر مر السحاب.
ثم يأتي بعد ذلك استخدام الله سبحانه وتعالى كلمة مر
السحاب.. وكما قلت إن اختيار الألفاظ في القرآن دقيق
جدا.
مر السحاب. لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى مثلا مر
الرياح.. أو مر العواصف.. أو مر الأمواج.. أو أي
لفظ آخر.. لان السحاب لا يتحرك بنفسه.. بل تدفعه
51

قوة ذاتية هي قوة الريح فحين يتحرك السحاب من مكان
إلى مكان آخر.. لا ينطلق بذاته ويمضى.. بل تأتي الرياح
وتحمله من المكان الذي هو فيه إلى مكان آخر وهكذا..
فكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول لنا انتبهوا.. ان
حركة الجبال ليست حركة ذاتية كحركة الأرض.. وليست
حركة ذاتية كحركة الرياح.. فهي لا تتحرك بذاتها.. أي
لا تنتقل من مكانها على سطح الأرض إلى مكان آخر على
سطح الأرض.. لا.. ان مكانها ثابت.. ولكنها تمر امامكم
مر السحاب.. أي تتحرك بحركة الأرض.. تماما كما
تحرك الرياح السحاب.. والا فلماذا لم يقل الله.. وترى
الجبال تحسبها جامدة وهي تسير.. أو وهي تجرى.. أو
وهي تتحرك.. أو وهي تمر من مكان إلى آخر.. أبدا..
استبعد كل الألفاظ التي تعطى الجبال ذاتية الحركة.. أي
أن الذي يتحرك ذاتيا هي الأرض.. والجبال تتبع هذه
الحركة وهي تمر امامك مر السحاب الذي لا يملك ذاتية
الحركة.. أترى دقة التعبير.. ودقة التصوير لدوران
الأرض في القرآن.. هل كان من الممكن أن يقول محمد هذا
الكلام.. أو يصل إلى هذا العلم.. الا يعتبر هذا اعجازا
حين يقول العلماء ان الأرض تدور حول نفسها فنقول له هذه
الحقيقة مسها القرآن.. بل وأعطى تفصيلا فيها.. ان
كل شئ على الأرض يتبع الأرض في حركتها الذاتية بما في
ذلك الجبال الشاهقة الضخمة.. ذلك في الدنيا طبعا..
لان في الآخرة ينسف الله الجبال نسفا.. ولا يكون هناك
حسبان.. ولكن يكون هناك يقين..
فكون القرآن يخترق حجاب المستقبل.. وبعد ذلك
يمس قضايا كونية بما يثبت نشاط الذهن بعد أربعة عشر
52

قرنا. فهذا يدل على أن القرآن اخترق حجاب المستقبل
للبشرية كلها..
ولكن بعض الناس يجادل في خلق الانسان.. وهي
محاولة للاضلال.. وانكار آيات الله في الكون.. وهذا
أيضا من اعجاز القرآن.. وجود هؤلاء المضلين في الدنيا
ومحاولتهم الاضلال.. ومحاربة دين الله.. هو اعجاز
قرآني لان الله سبحانه وتعالى أخبرنا عنهم قبل أن يوجدوا..
ولقد شرحت ذلك بالتفصيل في الفصل الثاني.
53

وما أرسلناك الا رحمة للعالمين
(شهر رمضان.. هو شهر القرآن.. وهو شهر الرحمة
والمغفرة والتسوية.. وهو الشهر الذي نزلت فيه الرسالة
على محمد عليه الصلاة والسلام وهي رحمة.. رحمة للعالمين
.. مصداقا لقوله سبحانه وتعالى (وما أرسلناك إلا رحمة
للعالمين..) وهذا الموضوع عن تفسير معنى هذه الآية
الكريمة).
يلاحظ أن موكب الرسل حين يبعثها الله سبحانه وتعالى
لعباده.. كل رسول يأتي برحمة.. كيف ذلك.. إذا
نظرنا إلى الانسان الأول.. ونظرنا إلى العالم الان..
نخرج بحقيقة هامة.. ان الذي يزيد في المستقبل.. إذا
رجعت إليه في الماضي يقل.. فإذا نظرنا إلى السكان مثلا..
وتكاثرهم.. نجد أنهم في السبعينات قد زادوا عن الستينات
.. وفي الستينات زادوا عن الخمسينات والأربعينات..
وبذلك يزداد التكاثر مع مرور السنوات.. فإذا مشينا بخط
عكسي.. عكس الزمن.. فان هذا الخط يجب أن يقل..
ويستمر في النقصان.. حتى نصل إلى نقطة البداية..
نقطة لابد أنه قد بدأ منها هذا التكاثر البشري الذي نشهده
.. وهذه النقطة هي بداية الخلق.. أو آدم وحواء.. ذلك أن
الرسم البياني التنازلي الذي سنعده عن زيادة السكان
لابد أن يصل بنا إلى نقطة البداية.. ولكي يتكاثر هؤلاء
الناس.. ويزدادوا في العدد.. لابد أن يكون هناك ذكر
وأنثى.. فلو كانت البداية ذكرا بمفرده أو أنثى بمفردها.
54

ما حدث هذا التكاثر.. وهذا هو ما أخبرنا به القرآن الكريم
عن بداية الخلق.. خلقكم من نفس واحدة.. وجعل منها
زوجها.. وبث منهما رجالا كثيرا ونساء.. بث من الذكر
والأنثى.. ومن ذريتهم كان هناك رجال ونساء قاموا
بعملية البث أيضا.. وهكذا كل رجل وأنثى تم بواسطتهما
إضافة خلق ج ديد للبشرية حتى حدث هذا التكاثر.. ومن
ذريتهم كان هناك رجال ونساء قاموا بعملية هذا التكاثر
.. وعلى ألوف السنين. أو عشرات الألوف من السنين
وصلت البشرية إلى هذا العدد الهائل من الخلق الذي يعيش
في الأرض الان..
نأتي بعد ذلك إلى نقطة هامة جدا.. ان هذا الانسان
الذي خلقه الله.. الذي عمر الأرض.. وأقام كل ما نشاهده
الان من مدنية وحضارة.. كان يجب أن تكون هناك وسيلة
ما للتفاهم بين هؤلاء البشر.. فبدون وجود وسيلة للتفاهم
لا يمكن أن تقوم حضارة.. ولا أن يتم تعايش حقيقي..
وكانت هذه الوسيلة هي اللغة أو الكلمة كما يقول العلماء هي
ابنة المحاكاة.. ما تسمعه الاذن يتكلم به اللسان وإذا ولد
الانسان أصم لا يسمع.. فإنه لا ينطق.. اذن ليست اللغة
هي فصيلة دم.. ولا هي بيئة.. ولا هي جنس.. ولا هي وراثة
.. وإنما ما تسمعه الاذن يتكلم به الانسان.. فلو انني أتيت
بانسان فرنسي أو أمريكي أو هولندي أو إفريقي..
أو من أي جنسية في العالم.. أتيت به كطفل ووضعته في
بيئة تتكلم العربية.. وتركته دون أن يسمع غير اللغة العربية
.. فإنه سيتكلم هذه اللغة.. ورغم أن أصله وجنسه ودمه
ووراثته ليست عربية.. ولو كان الطفل في بلد عربي..
55

ومن أصل عربي.. ولا يسمع اللغة العربية.. فسيتكلم
اللغة العامية التي سمعتها اذنه.
ما تسمعه الاذن يحكيه اللسان.. اذن فلا جدوى أبدا
من النطق بألفاظ لها مدلول ومعنى الا إذا كانت قد سمعت
أولا.. فلو انك أتيت بشخص أجنبي لم يسمع اللغة العربية
.. ونطقت أمامه ألفاظا عربية.. فإنه لا يفهم شيئا..
وذلك بالنسبة للعربي الذي تنطق أمامه ألفاظا غير عربية..
فإنه لا يفهم أيضا.
وعلم آدم الأسماء كلها
ونعود بعد ذلك إلى بداية العالم.. إذا كان العالم قد
ابتدأ من ذكر وأنثى.. كما دللنا على ذلك فكيف تكلما..
كيف تفاهما.. لابد أنهما سمعا شيئا اعتادت عليه آذانهما
.. فنطق به لساناهما.. وتكلما به.. ولكن كيف سمعا
وهما الأول والبداية.. وممن سمعا.. اذن لابد أن يكون
هناك سمع ليس من جنسيهما.. لأنهما هما الأصل.. في
الجنس البشري أن من لا يسمع لا ينطق.. كما نعرف
جميعا.. اذن لابد أن يكون قد علمهما معلم آخر.. اذن
فالايمان بوجود الله ضرورة لغوية.. لأنه لابد أن الله سبحانه
وتعالى قد كلم آدم فسمع.. وكلم آدم حواء فسمعت..
وبدأت اللغة.. لغة التخاطب والتفاهم نقلا عما علمهما الله.
هذا واقع ما دامت هذه الانسانية كلها قد بدأت من
ذكر وأنثى.. وكان بين هذا الذكر وهذه الأنثى تفاهم..
فلابد أنهما سمعا الكلام.
56

وهنا يأتي قول الله سبحانه وتعالى.. (وعلم آدم
الأسماء كلها). ليشرح لنا ما حادث.. فالله سبحانه وتعالى
علم آدم الأسماء.. أي اللغة التي يتحدث بها ويتفاهم بها..
ويتكلم بها.. ومن معجزات القرآن أن ذلك لا يزال هو
المتبع حتى الان رغم مرور هذا الوقت الطويل.. وهذا
التقدم العلمي الضخم في العلام.. فنحن الان حين نريد أن
نعلم طفلا أن يتكلم فإننا نبدأ بأن نعلمه الأسماء.. ولا نبدأ بأن
نعلمه الاحداث.. أو أي شئ آخر.. انما نعلمه الأسماء
أولا.. أول شئ نقول له هذا قلم.. وهذا كراسة.. وهذا
أسد.. وهذا كوب.. وهذا طعام.. وهذا طريق..
وهذا نور.. وهذا ظلام.. نعلمه الأسماء أولا.. وبعد أن
يتعلم الأسماء تصبح الاشتقاقات من الأسماء.. أو أخذ
الاحداث منها عملية سهلة.. اذن عندما يقول سبحانه
وتعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها).. فيجب أن نعرف أن
الله قد علم آدم لغة الكلام أولا.. وان لغة الكلام حتى عصرنا
هذا تبدأ بتعليم الأسماء كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في
القرآن الكريم..
الدين بدا مع خلق الانسان
ثم نمضي بعد ذلك.. بعد أن أخبرنا الله سبحانه
وتعالى بقصة تعليم آدم الأسماء.. ليعرف كيف يتكلم
ويتفاهم في الأرض.. قال.. (اهبطوا منها جميعا) وهي
المهمة للانسان.. التي حددها الله سبحانه وتعالى بقوله
(اني جاعل في الأرض خليفة).. وأكمل الله سبحانه وتعالى
حديثه لادم فقال: (فأما يأتينكم مني هدى.. فمن تبع
هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).. وفي آية أخرى
57

(فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى).. اذن بعد أن خلق
الله الانسان.. وعلمه وسيلة التعبير عما في نفسه لغيره..
جاء الدين أو المنهج.. هذا الدين هو لتنظيم حركة خلافة
الانسان في الأرض.. والمفروض أن ينقل آدم الدين لأولاده
بما علمه الله من لغة الكلام.. وأن يقوم الأبناء بدورهم
بنقل الدين إلى أبنائهم وهكذا..
الا أن علم الدين يختلف عن كل العلوم الأخرى.. ذلك
أن التعليم في النواحي الأخرى.. أو في العلوم الدنيوية..
كالكيمياء والطبيعة والهندسة وغيرها.. لا يقتضى من
الانسان أن يغير سلوكه في الحياة.. على مقتضى ما علم..
بمعنى أنه يكفي أن يستوعب النظرية ويفهمها ويطبقها أما
حياته فهو حر فيها.. يفعل ما يريده.. ولا يفعل ما يريد
.. أي أنني لا أطلب منه شيئا يقيد حركته في الحياة..
ولكن عندما أعلمه الدين.. فأنا أعلمه شيئا يؤثر في سلوكه
وحياته.. وأقول له: افعل هذا ولا تفعل هذا.. وتأتي
كلمة لا تفعل لتتصادم مع هوى النفس وشهواتها.. اذن
مهمة العلوم الأخرى هي نقل المعلوم إلى المتعلم.. وأطالب الانسان
بأن يصوغ حركته في الحياة وفق ما قرره الله من افعل ولا
تفعل.. ولذلك عندما يقال أن علم الدين قد فشل..
فليس معنى ذلك أن الناس لا تعرف أحكام الدين.. ولكن
معناه أنها لا تطبق هذه الأحكام.
ونظرا لان الدين يتدخل في حركة الحياة لينظمها بأفعل
ولا تفعل.. والنفس دائما لا تتقبل ما يقيد هواها وشهواتها
.. فيبدأ الأبناء الذين سمعوا من آدم ومن بعدهم من ذريتهم
58

يبدأون يتناسون شيئا مما أمر به الله ومع مرور الوقت
يزداد هذا التناسي والتراخي فيما طلبه الله من خلقه..
فيرسل الله سبحانه وتعالى رسولا إليهم ليذكرهم بأن الرسل
في الأصل لم تأت.. لكي تبدأ الرسالة أو تبدأ نقل تعاليم
الله إلى خلقه.. لان الله سبحانه وتعالى قد أعطاهم المنهج
مع الخلق.. ولو ظلوا محافظين على الدين كما أنزله الله
.. ما احتاج البشر إلى الرسل.. ولكن يأتي رسول ليذكر
.. ثم ينسى الناس.. وتمر فترة من الوقت يتركون فيها
دين الله.. فيأتي رسول آخر ليذكر.. وهكذا.. بل إنه
في بعض الأزمان يبعث الله أكثر من رسول واحد في نفس
الوقت.. مثلما حدث مع إبراهيم ولوط.. فقد أرسلا
في وقت واحد.. وقد يأتي الرسول إلى بيئة محتاجة للتذكير
بمنهج الله.. ولا يأتي رسول إلى قوم آخرين يعيشون في
نفس الزمن.. ولكن في بقعة أخرى ويبعون منهج الله أتباعا سليما..
اذن فالديانات كلها.. انما تهدف إلى بقاء المنهج الإلهي
الذي صاحب الانسان الأول.. حتى ينظم حركته في
الأرض.. وتأتي الرسل تذكر من نسى أو انحرف.. أو
خالف هذا المنهج من ذرية آدم.. وذلك نظرا لان المنهج
يتطلب سلوكا يتعارض مع شهوات النفس وتحدث الغفلة
والنسيان والانحراف.
وقد عبر الرسول عليه الصلاة والسلام عن ذلك
بالنومة.. وهي الغفلة عن المنهج أو تعاليم الدين.. فقال
ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه.. فيظل أثرها
مثل أثر الوكت وهو الحرق البسيط.. ومعنى ذلك أن
59

الرجل يغفل عن دينه.. فتقبض الأمانة من قلبه.. أي
اشعاع الايمان.. فيظل أثرها مثل أثر الوكت.. ثم ينام
النومة أي يغفل مرة أخرى.. فيظل أثرها من أثر المجل -
وهو ما يحدث عندما تضع جمرة مشتعلة على يدك - كجمر
دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس به
شئ.. هذه هي كيفية دخول الغفلة إلى النفس البشرية..
ينام عن هذا قليلا.. ويغفل عن هذا قليلا.. وفي حديث
آخر تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا.. أي
بطريقة نسج الحصير العود الأول ثم الثاني ثم الثالث..
فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة.. سوداء.. وأيما قلب
أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء.. حتى تكون على قلبين..
على أبيض مثل الصفا. لا تضره فتنة ما دامت السماوات
والأرض.. والاخر أسود مرباد.. لا يعرف معروفا ولا
ينكر منكرا.. وذلك هو الراني.. الذي قال فيه الله
سبحانه وتعالى (كلا بل ران على قلوبهم) أي انتهت
صلتهم بالله بغفلتهم الكاملة عن أحكام الدين.
اذن مواكب الرسل كلها جاءت لكي تذكر بالعهد الأول
الذي أعطى لادم والذي عبر الله سبحانه وتعالى عنه
بقوله (فأما يأتينكم منى هدى).. لكن الغفلة تطرأ على
القلب.. ومن رحمة الله يرسل رسولا يذكر الناس بالمنهج..
لكل زمان وكل مكان
وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.. جاء على فترة
من الرسل.. تلاحظ ان رسالته صلى الله عليه وسلم لم
تكن لقوم معينين.. ولا لجنس بشرى معين خلافا للرسل
السابقين.. فيقول الله سبحانه وتعالى لنبيه..
60

(وما أرسلناك الا رحمة للعالمين) ثم يقول الله (للناس
كافة).. رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أخذت هنا
عمومية.. عمومية المكان.. ثم يقول الله سبحانه وتعالى
خاتم النبيين.. اذن أخذت الرسالة هنا عمومية الزمان
أيضا.. أخذت عمومية للزمان والمكان.. ولذلك يجب أن
يأتي التشريع لكل زمان.. وكل مكان..
ولكن لماذا جاءت الرسالة.. رسالة النبي صلى الله
عليه وسلم.. لها عمومية المكان.. وعمومية الزمان..
هذا أيضا من اعجاز القرآن.. ذلك أن الله سبحانه وتعالى
في علمه ان آفات البشرية كلها ستصبح آفات واحدة..
ذلك أن العالم كلما تقدم وازداد اتصاله.. توحدت الآفات
التي يشكو منها.. فقبل رسالة محمد صلى الله عليه
وسلم.. كان هناك انعزال في الدنيا.. لا توجد اتصالات
بين المجتمعات البشرية.. وكان كل مجتمع بشري يعيش
وينتهي.. دون أن يدرى مجتمع بشري آخر في مكان بعيد
عنه.. ذلك أن الاتصالات بين المجتمعات البشرية المختلفة
.. كانت شبه معدومة لبعد المسافة.. وضعف وسائل
المواصلات أو انعدامها.. وعدم تقدم العلم الذي يمكن البشر
من الاتصالات ببعضهم البعض في أوقات قصيرة.. ومن هنا
كان لكل مجتمع آفاته الخاصة.. وأمراضه.. وانحرافاته
.. وغفلته عن الدين.. وكانت الرسل تأتى إلى هذه
المجتمعات. لتذكر بمنهج الله ولكنها كانت ترسل إلى مجتمع
بعينه كعاد وثمود وآل لوط وغيرهم.. بل كما قلت في
أحيان كان يرسل الله سبحانه وتعالى أكثر من رسول في
نفس الوقت.. هذا ليعالج آفات مجتمع.. وهذا ليعالج
مجتمعا آخر.. كما حدث مع لوط وإبراهيم مثلا..
61

كان هناك انعزال... وكان هذا الانعزال يجعل الداءات
مختلفة.. ويتم ارسال الرسل إلى كل مجتمع لتذكير
أهله..
ولكن الان وبعد أن التقى العالم وارتقى.. توحدت
الداءات.. أو أصبحت كلها حول دائرة واحدة... يحدث
شئ في أمريكا فيصبح عندك بعد ساعة واحدة.. تكاد
تكون هناك وحدة الآفات في العالم كله.. آفة البشرية
واحدة في البلاد المتقدمة.. وفي البلاد غير المتقدمة.. لأنه
حدث النقاء بشري.. وعندما يحدث الحادث يعرفه العالم
كله بعد دقائق..
ما دامت الآفات قد توحدت نتيجة للاتصال البشري الكبير
الذي تم.. فلابد من وحدة المعالجة.. وهكذا أنبأنا الله
سبحانه وتعالى في القرآن الكريم منذ وقت نزوله.. ان
العالم سيتقدم ليصبح وحدة واحدة.. وان الآفات في العالم
تكاد نتوحد نتيجة الاتصال السريع بين أجزائه.. ولذلك
لابد من وحدة المعالجة.. فأرسل هذا الدين رحمة للعالمين
.. وهذا معنى كلمة رحمة للعالمين.. أي للعالم كله الذي
يستوحد داءاته وآفاته.. ولابد أن يكون المعالج واحد
يشمل الجميع.
وما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين..
فمعنى ذلك أن الدين الذي سيأتي به سيعالج آفات العالم..
وانه سيكون رحمة للعالمين في كل زمن حتى تقوم الساعة..
معنى الشفاء ومعنى الرحمة
ومعنى هذه الآية الكريمة.. انه لا توجد قضية في العالم
تمس حياة البشرية.. الا وموجودة في منهج الله ما يعالج
62

هذه القضية.. نحن نقول يعالج.. لان التشريعات عندما
تأتي تعالج واقعا موجودا في المجتمع.. وفسادا انتشر..
ولذلك فهي تعالجه لتشفي الناس منه.. وبعد ذلك عندما
نتبع تعاليم الله.. لا يأتي لنا الفساد.. ولا الآفات.. ولا
أمراض المجتمع.. وفي هذه الحالة يكون هذا الدين وقاية لنا
من آفات المجتمع وانحرافاته.. ولذلك يقول الله سبحانه
وتعالى في القرآن.. (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة)
شفاء معناها أنه سيعالج الانحرافات والفساد الموجود في
المجتمع.. ورحمة معناها انه يمنع أن تأتي هذه الداءات
إلى المجتمع.. وذلك عين الرحمة..
رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء للعالمين عموما..
زمانا ومكانا.. بمبادئ.. هذه المبادئ رحمة.. ومعنى
الرحمة اننا لو اتبعناها.. لن يقع فساد في المجتمع..
يضطرنا أن نعالج.. وعندما نغفل عن هذه المبادئ..
يوجد لهذه الغفلة آثار ضارة في المجتمع.. نبدأ في التفكير
في العلاج.. فنكتشف اننا تركنا مبدأ كذا ومبدأ كذا..
مما أمر به الله.. فيبدأ العلاج بمنهج الله..
اذن فقول الله (وما أرسلناك الا رحمة للعالمين)..
معناه انك جئت بمنهج من عندنا تبلغه للناس.. لو أنهم
اتبعوا هذا المنهج.. لعمتهم الرحمة بحيث لا يوجد شقاء
انساني في المجتمع ولا فساد..
والدين ليس موضوعه الآخرة فقط.. بل هو ينظم
حركة الانسان في الدنيا.. ينظم حركة حياته.. أما الآخرة
ففيها الجزاء.. الجزاء على اتباعك المنهج.. أما ما أمر به
الله.. أو عدم اتباعك له.. تطبيق الدين.. وتعاليم الدين
63

.. مقصود بها أولئك الموجودون في الدنيا.. مصداقا لقوله
تعالى (لتنذر من كان حيا).. والجزاء على الشئ ليس هو
عين موضوعه.. لذلك فان الدين لا يقتصر على الغيبيات
فقط.. فالغيبيات يصدقها من آمن بالله.. لأنها جاءت عن
الله اما غير المؤمن فليس له الا واقع الحياة ولابد أن يبين لنا
واقع الحياة أن هذا المنهج الذي جاء من عند الله.. لو اتبع
كما يريده الله فسيختفي الشقاء من المجتمع.. ولذلك نجد
القرآن يفسر ذلك تفسيرا دقيقا.. (فمن اتبع هداي فلا
يضل ولا يشقى.. ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة
ضنكا).. هذا في الدنيا.. ثم قال تعالى: (ونحشره يوم
القيامة أعمى).. قول الله معيشة ضنكا.. يدل على أن
تعاليم الله نزلت لتحمي الانسان من ضنك وشقاء المعيشة
في الدنيا..
والشقاء البشري ليس اقتصاديا فحسب.. لا يتعلق
بالمال وحده.. وانما معنى ضنك المعيشة هو الضيق..
في المعيشة.. وهذا له أسباب متعددة.. فقد يملك
الانسان أموالا طائلة.. ومع ذلك يضيق بحياته.. ذلك أن
جوانب النفس البشرية جوانب شتى.. قد يشبع المال
جانبا منها.. وتبقى الجوانب الأخرى في ضيق وشقاء..
ولذلك نجد أن انسانا يملك أموالا طائلة.. قد يرغمه ظرف
من ظروفه أن ينتحر.. لماذا؟.. لقد ضربت مثلا لذلك
بالسويد.. وهي أعلى دول العالم في نصيب الفرد من ترف
الحياة.. ومع ذلك فان الاحصاءات تقول انها من أعلى دول
العالم في الانتحار والأمراض العصبية والنفسية.. المسألة
ليست مسألة مادية فقط.. وشقاء الحياة لا يجب أن يؤخذ
على أنه فقط جانب المال.. بل هناك جوانب أخرى تسبب
لصاحبها شقاء انسانيا أكثر من قلة المال..
64

إذا خالفنا انكشفت العورة
نكون الان قد وصلنا إلى أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم جاء عاما لجميع الأزمان والأمكنة بمبادئ هي الرحمة
.. لو اتبعت لنجونا من الشقاء في الدنيا.. وأخذنا الجزاء
في الآخرة.. وهذه هي الرحمة..
كل هذا يفسر لنا ما حدث لادم.. وهو أن الله سبحانه
وتعالى منعه أن يقرب الشجرة فلما ذاقا الشجرة.. بدت
لهما سوأتهما.. يعني العورة بدت عند المخالفة.. فأي
عورة في مجتمع من المجتمعات.. إذا بحثت عن أسبابها
وجدت انها حدث بسبب مبدأ من مبادئ الله عطل في
الأرض.. ولو لم يحصل ذلك لما وجد الجمال في الكون..
إذا كان المستقيم وغير المستقيم أمرهما سواء في الحياة..
لا يكون هذا جمالا.. ولو أن الطالب المجتهد والطالب الذي
لا يذاكر نجحا لا يكون هذا جمالا في الحياة.. بل أنه يكون
جمالا يورث قبحا.. لأنه قد تساوى من اجتهد ومن لم
يجتهد.. وبذلك لن يجتهد أحد.. فلو لم يوجد الشقاء
والفساد في البيئات التي تبتعد عن منهج الله.. لما كان ذلك
جمالا ولا شهادة للدين.. أن الشهادة للدين ان الجماعة
التي تبتعد عن منهج الله يحدث لها شقاء وداءات وفساد
وانحرافات.. وبذلك يدلل الله سبحانه وتعالى في الحياة
الدنيا.. ومن واقع تجربتها على صدق منهجه وتعاليمه..
فتح التوبة امام البشر
الا ان هناك معنى أوسع أود أن أضيفه.. ذلك أن
السماء قبل الرسالة المحمدية.. كانت لا تطلب من الرسل
الا مجرد البلاغ.. وهي التي تتولى التأديب.. تأديب
65

المخالفين.. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذا في القرآن..
منهم من أغرقنا.. ومنهم من خسفنا به الأرض.. ومنهم
أخذته الصيحة.. السماء هي التي كانت تؤدب العاصين
.. والرسل كان عليهم البلاغ.. لكن في عهد الرسول عليه
الصلاة والسلام.. أمن الله الاسلام على أنه هو الذي يقوم
بتأديب المخالف.. فالذي يعصى تعاليم الله. فان له معيشة
صنكا في الدنيا غير عذاب الآخرة.. ولذلك كانت رسالة
محمد صلى الله عليه وسلم انه رحمة للعالمين.. للكافر
والمؤمن منهم.. ذلك أن السماء لم تعجل بعذابهم في الدنيا
.. كما كان يعجل بالمخالفين للرسل في الأمم السابقة..
تركت لهم فرصة التوبة.. وما كان الله ليعذبهم وأنت
فيهم.. وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون.. فكان الله
سبحانه وتعالى قد أرسل نبيه رحمة للعالم كله دون تمييز
بين مؤمن وغير مؤمن رحمة من عذاب السماء في الدنيا..
وليفتح أمامهم أبواب التوبة عن المعاصي فيغفر لهم في
الآخرة.. وهذا هو معنى الآية الكريمة:
(وما أرسلناك الا رحمة للعالمين).
66

ليلة القدر
(ليلة القدر هي الليلة التي نزل فيها القرآن..
والقرآن أزلي لأنه صفة من الله سبحانه وتعالى..
ولذلك فان القرآن نزل في هذه الليلة من اللوح المحفوظ إلى
السماء الدنيا ليباشر مهمته بافعل ولا تفعل..)
ولو أخذنا اختلاف السنة القمرية عن السنة الشمسية
لوجدنا أن ليلة القدر.. جاءت في كل يوم من أيام السنة..
فرمضان يأتي في الربيع والخريف والصيف والشتاء.. أي
أنه يدور في العام كله.. في كل فصل من فصوله.. ما من
شهر من شهور السنة الشمسية الا وشهد رمضان أو جزءا
من رمضان.. ومع طول الزمن نجد أن ليلة القدر هي
الأخرى قد مرت في العام كله.. في كل يوم من أيامه..
واختيار الليل هنا لأنه الوقت الذي تكون فيه العبادة
لله وحده.. فيه صفاء وهدوء.. وفيه صدق التعبير..
فالذي يرائي بعبادة الله لا يمكن أن يقوم الليل.. والذي يراد
أن يقال عنه أنه رجل صالح.. رياء أو نفاقا لا يمكن أن
يقوم الليل.. ولكن الذي يقوم الليل هو الخاشع لله سبحانه
وتعالى المؤمن به. وعندما يختار الله وقتا من الأوقات..
أو مكانا من الأمكنة أو شخصا من الأشخاص لينعم عليه
بما شاء.. ويصطفيه لرسالته أو لابلاغ خلقه منهجه..
فهذا الاختيار هو خير للبشرية كلها.. فاختيار مكة مثلا
مكانا لبيت الله الحرام هو في نفس الوقت تكريم للعالم كله
.. فالناس من جميع أنحاء العالم تذهب هناك لتحج وتؤدى
المناسك وتتوب إلى الله وتستغفره وتعود إلى بلادها مغفورة
67

الذنب.. اذن فالخير هنا لم يقتصر على مكة وحدها.. بل
امتد ليشمل رحمة الله للعالم أجمع.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ارسل رحمة للعالمين
وكلنا ندعو له بالرفعة والمقام المحمود.. فنحن ندعو
لأنفسنا.. لأنه بالمقام المحمود الذي سيكون فيه يوم
القيامة.. سيشفع لنا جميعا.. فيصيبنا الخير والرحمة
على يديه.
كذلك اختيار ليلة القدر.. هي لتعم الدنيا كلها بفضل
من الله ورحمة.. فالنفس البشرية لكي تعيش آمنة في
الحياة الدنيا يجب أن تتخلص من عدة أشياء.. أولها
الخوف، والخوف يكون من شئ معلوم.. ثم الهم والحزن
الذي يدخل القلب.. وهذا قد يأتي من شئ مجهول غير
معلوم لك.. ثم المكر أن يمكر بك غيرك.. وليلة القدر
سلام وأمن.. لأنها تذكرنا بالقرآن الذي لو اتبعناه لأذهب
عنا الخوف والهم والحزن.. وكان الإمام جعفر الصادق
يقول.. عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قول الله سبحانه
وتعالى: (حسبنا الله ونعم الوكيل).. فان الله يعقبها
بقوله (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء)
وعجبت لمن اغتم كيف لا يفزع إلى قول الله تعالى (لا إله
إلا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين) فالله يعقبها بقوله:
(فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننج المؤمنين..)
وعجبت لمن يمكر به كيف لا يفزع إلى قول الله تعالى
(وأفوض أمري إلى الله.. ان الله بصير بالعباد) فان الله
يعقبها بقوله (فوقاه الله سيئات ما مكروا) وعجبت لمن
طلب الدنيا وزينتها لا يفزع إلى قول الله سبحانه وتعالى
68

(ما شاء الله لا قوة الا بالله) فاني سمعت الله يعقبها بقوله
(ان ترن انا أقل منك مالا وولدا.. فعسى ربي أن يؤتيني
خيرا من جنتك).
كل شئ في هذا الكون لكي يحدث.. لابد أن يكون
هناك فاعل ليقوم به.. ولابد أن يكون هناك مفعول به..
وقد يوجد الفاعل والمفعول.. ولكن السبب الذي من
أجله ينشأ الفعل ينعدم.. اذن الفعل لابد له من وجود
هذه العناصر الثلاثة.. الفاعل والمفعول به والسبب..
لذلك أدبنا الله سبحانه وتعالى في الاحداث.. وأمرنا الا
نقول لشئ نريد أن نفعله غدا.. الا أن يشاء الله..
(ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله)..
لابد أن تقول الا أن يشاء الله.. لماذا؟.. لأنك لا تملك
عنصرا واحدا من عناصر الفعل.. لا تملك وجود الفاعل
الذي هو نفسك غدا.. أو بعد ساعات.. ولا تملك وجود
المفعول غدا.. ولا تملك بقاء السبب غدا.. ولا تملك بقاء
الزمان غدا.. ولا تملك بقاء المكان غدا.. ولكن قولك أن
تفعل ذلك غدا.. مجاز.. ولذلك يجب أن تردها إلى من
يملك وجود هذه الأشياء.. وتقول الا أن يشاء الله.. وفي هذه
الحالة تكون قد خرجت من الكذب إلى الصدق.. والى
الحقيقة..
وما دامت الاحداث لها هذه العناصر.. فحين نريد
حدث نزول القرآن يقتضي منزلا.. ويقتضي منزلا عليه..
ويقتضي سببا للانزال.. ويقتضي مكانا للانزال وزمانا
للانزال.. فليلة القدر تعرضت لزمان الانزال.. لكن
القرآن إذا نظرنا إليه وجدناه نزل في ليلة القدر وفي غير ليلة
القدر.. لأنه نزل منجما حسب الحوادث.. ونزل ليلا..
ونزل نهارا.. ونزل في كل وقت من الأوقات.. ولكن
69

الانزال في ليلة القدر.. معناه إرادة الحق أن يبرز القرآن
من كنزه الذي كان مكنونا فيه إلى الأرض ليباشر مهمته في
الوجود.. من عالم الغيب.. إلى عالم الشهادة.. وتنزيل
القرآن منسوب إلى الله سبحانه وتعالى مصداقا لقوله
(وبالحق أنزلناه وبالحق نزل).. ولكنه يأتي أيضا
منسوبا إلى جبريل.. نزل به الروح الأمين.. يبقى الذي
نزل به.. الروح الأمين.. ولكن الذي أنزله هو الله سبحانه
وتعالى.. ان مادة انزل لم تسند الا لله سبحانه وتعالى..
فقول الله (انا أنزلناه في ليلة القدر).. أي أخرجناه من
اللوح المحفوظ من عالم الغيب الذي كان مستورا فيه
يباشر مهمته في الوجود.. وما دام قد أنزله في ليلة القدر..
والانزال للقرآن.. يكون الانزال ليس للبلاغ وحده ولكن
لكي يبتدئ القرآن مباشرة مهمته.. وبذلك يكون ما قالوه
من أنه نزل من اللوح المحفوظ إلى الدنيا ليباشر مهمته..
وبعد ذلك من الجائز أن يكون أول نجم فيه قد نزل في هذه
الليلة.. والذي يجب أن نفهمه ان الله سبحانه وتعالى حين
نسب القرآن إلى ذاته.. والنزول به إلى جبرئيل.. معناه
ان جبريل حمله كما هو.. كما أنزله الله.. إلى النبي
صلى الله عليه وسلم.. وانه لم يجر فيه أي تعديل أو
تبديل.. بل هو كما أنزله الله سبحانه وتعالى..
يبقى ليلة القدر.. الليلة التي أنزله فيها الله سبحانه
وتعالى ليباشر مهمته في الوجود أنزله إلى السماء الدنيا
ليأخذ منه جبريل.. لينزله على محمد صلى الله عليه
وسلم.. لقد كان القرآن إلى أن أخذ منه جبريل في طي
غيب الله.. وبعد ذلك حين أوصله جبريل إلى رسول الله
كان في طي الغيب عن رسول الله.. ثم حين أخذه رسول
الله.. وأبلغه الناس كان في طب الغيب عنا.. فقول الله
70

سبحانه وتعالى (انا أنزلناه في ليلة القدر).. يدل على أن
معنى الانزال ابتداء مباشرة القرآن مهمته في الوجود..
بافعل ولا تفعل.. وذلك بأن ينزل دفعة واحدة إلى السماء
الدنيا.. ثم ينزل به جبريل بعد ذلك منجما حسب
الحوادث..
معنى الزمان ليس قائما بذاته
يلاحظ هنا أن الضمير في قول الله (انا أنزلناه) ضمير
جمع.. وفي المنزل هاء الغيبة. وإذا قرأت القرآن وجدت
ان الحق سبحانه وتعالى في كل فعل يفعله يأتي بضمير الغيبة
الجمع.. لان الفعل يتطلب تكاتف صفات متعددة لله
سبحانه وتعالى.. الحكمة والرحمة والقوة والعلم إلى
آخره.. لكن الحق إذا تكلم عن الذات.. يتكلم بالافراد..
فلم يقل سبحانه وتعالى نحن الله.. بل قال انني أنا الله..
وفي هذه الحالة فهو يتكلم عن وحدانيته ولا شريك له..
ولكن عندما يتكلم عن حدث يتطلب عدة صفات مجتمعة..
فإنه يستخدم صيغة الجمع.. انا أنزلناه.
اذن المنزل هو الله والمنزل هو القرآن والوقت
الذي تنزل فيه هو ليلة القدر.. حين يخص الله زمنا من
الأزمان باختيار.. وهو الخالق ويختار ما يشاء..
يصطفى من الملائكة رسلا.. ويصطفي من البشر رسلا..
ويصطفى من الأرض مكانا.. ويصطفى من الزمان زمانا..
هو أعلم بما خلق.. هذا الاختيار ليس لخصوصية الزمان
ذاته.. وانما جاءت الخصوصية بما حدث فيه.. اختيار
الله لزمان أو مكان أو بشر أو ملائكة، لا يعني إلا أن
يستطرق أو ينتشر أو يعم الاصطفاء فيها إلى كل شئ..
فهي ليست محاباة للزمان.. وليست محاباة للمكان..
وليست محاباة للانسان.. وليست محاباة للملائكة.. لان
71

المحاباة هنا بسبب الحدث الذي نزل.. ونحن لا نريد لهذا
الحدث الا أن ينتشر ويعم البشرية جمعاء.. رسول الله
عليه الصلاة والسلام حين اختاره الله سبحانه وتعالى فهو
يريد أن يعم هذا الاختيار البشرية كلها.. حين يختار
ملائكة.. يريد أن يعم اختيارها والاشراق فيها إلى كل
مكان.. حين يختار ليلة يريد أن يعم اختيارها كل
زمان.. فالاختيارات كلها سواء كان الاختيار فيها
زمانا أو مكانا.. المراد منها أن يعم الاختيار إلى كل
زمان.. والى كل مكان.. والى كل انسان.. الرسول
صلى الله عليه وسلم حين اختاره الله وفضله على الرسل..
وطلب منا نحن أن ندعو له بالمقام المحمود.. زيادة في
تكريمه.. ولكننا في الحقيقة حين ندعو لرسول الله صلى
الله عليه وسلم فإننا ندعو لأنفسنا.. لأنه حين يأخذ رسول
الله صلى الله عليه وسلم المقام المحمود فان أول عمل له
سيكون أن يشفع لنا في يوم القيامة.. فأنا حين أدعو..
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ادعو لنفسي.
نعود إلى ليلة القدر.. ما دام القرآن قد نزل فيها..
والقرآن يحمل هدى الله للبشر جميعا.. فيجب أن تون
محل حفاوة بما أنزل فيها.. والانسان حين يحتفي بزمان..
يحتفي بما حدث في هذا الزمان.. فالزمان ليس ملحوظا..
ولكن ما حدث في الزمان هو الملحوظ.. حين يحيى الانسان
ليلة القدر.. فهو لا يحييها الا لان الله كرمها.. لأنها كانت
ميلادا للقرآن.. فتكريمها تكريم للحدث الذي وقع فيها
وهو القرآن.. ولا يكرم الانسان حدثا وقع في زمن إلا لأنه
فرح بآثار هذا الحدث نفسه.. فقول الله (انا أنزلناه في
ليلة القدر).. معناه ابراز القرآن من اللوح المحفوظ..
الذي كان مستورا فيه إلى الوجود ليباشر مهمته.
72

لكن أكانت ليلة القدر لها وجود.. بمعنى آخر حتى أن
الله سبحانه وتعالى اختارها لينزل فيها القرآن.. من
الجائز.. فهي زمان التقدير الأصيل للاحداث.. زمان
نزول قدر الله إلى السماء الدنيا كان يتم في هذه الليلة..
فلأنها الزمان لتقدير الأشياء اختارها الله لميلاد أو لانزال
أكبر حدث بالنسبة للبشرية.. اذن أخذت كلمة ليلة القدر
من ماذا.. انها كانت ذات قدر قبل أن ينزل الله فيها القرآن
.. فاختارها الله لينزل فيها أعظم قدر.. أو أنها أخذت
القدر بنزول القرآن فيها.. (تنزل الملائكة والروح فيها
باذن ربهم من كل أمر).. وعلى هذا يمكن أن تكون هذه
الليلة زمانا لتجليات الحق سبحانه وتعالى وعطاءاته
لعباده.. وبعد ذلك أخذها لتكون محلا لتجليات الحق على
آخر ما يشرق به على عباده.. وهو القرآن.. فليلة القدر
هنا يمكن أن يكون معناها الشرف.. ويمكن أن يكون معناها
تقدير الأشياء.. فان أخذت بمعنى الشرف.. فقد أخذته
من القرآن.. وإن كانت بمعنى تقدير الأشياء.. فلا مانع
أن تكون محلا لتقدير الأشياء.. وخير ما قدر فيها القرآن.
ليلة القدر أخذت القدر من جهتين.. التقدير والقدر.. ثم
يضخم الله الليلة.. وما أدراك ما ليلة القدر.. ما أدراك..
أدرى هنا فعل ماض.. ومعناها ما أحد ادراك بليلة
القدر.. وما دام الله قد نفى أن يكون أحد قد أدرى نبيه
بليلة القدر.. فكأنه لا يعرف قدرها إلا الله سبحانه وتعالى
.. فإذا أردت أن تعرف قدرها فاسمع من الله.
ألف شهر لماذا؟
القرآن حين يتكلم في ادراك أو يدريك.. لابد أن نلاحظ
شيئا.. ما أدراك معناها انه لم يوجد أحد قد أدراك معناها
73

انه لم يوجد أحد قد ادراك قبل الان.. ويدريك معناه أن
أحدا لم يدرك في الماضي.. وأن أحدا لن يدريك في المستقبل
.. اذن ما يدريك لا يمكن أن يدرك أو يعرف.. انما ما
ادراك في الزمن الماضي.. معناها أن أحدا لم يخبرك بشئ
عنها حتى الان.. ولكن الله سيدريك الان.. وهنا ادراكه
الله وقال ليلة ا لقدر خير من ألف شهر.. فإذا قرأت في
القرآن ما أدراك فاعلم أن الله سيدريك.. وإذا قرأت
ما يدريك فاعلم أن ذلك من مكنونات الغيب.. وأن الله
لا يدريك بها.. ولا تقال هذه الكلمة.. وما أدراك ما ليلة
القدر.. إلا إذا كان القدر عظيما لا يمكن أن يستوعبه أحد
باجتهاده أو بعلمه.. إلا الله.. وهذا تفخيم لليلة القدر..
فكان الخير فيها أكثر من أن يدركه البشر.. وإنما يدركه
من اختارها لانزال خير ما أنزل..
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (ليلة القدر خير من
الف شهر).. هنا تفضيل الليلة على ألف شهر لابد أن
نقف امامه.. فما دامت ألف شهر والسنة 12 شهرا..
كان الألف شهر فيها ثمانون عاما.. أي ثمانون ليلة
قدر.. اذن هي خير من ألف شهر.. ولكن هل هي مفضلة
على مكررها.. أي أنه خلال الثمانين عامة القادمة ستتكرر
ليلة القدر ثمانين مرة.. فهل ليلة القدر التي نحن فيها
الان خير من ثمانين ليلة قدر قادمة.. ولماذا اختيرت الألف
بالذات.. لان سبحانه وتعالى كان يخاطب العرب
بعقولهم.. وقد كان العرب يعتقدون أن الألف هي نهاية
الأرقام.. ولذلك إذا زادوا عليها كرروا كذا ألفا.. فلم
يكونوا مثلا يعرفون المليون أو البليون.. اذن الألف قمة
العدد.. فكان الله أراد أن يقول (إن ليلة القدر خير من
ألف شهر).. أي أنها خير من أضخم شئ يعرفون به
74

مقاييس الاعداد.. واذن معناها ان ليلة القدر خير من
الزمن كله مهما طال.. ولكن خير من ألف شهر في ماذا..
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته.. فرسول الله
صلى الله عليه وسلم سمع أن رجلا حمل السيف في سبيل
الله ألف سنة.. فاستقصر عمر أمته.. فكأن الله أراد
أن يبشره.. فقال له.. عندكم ليلة.. لو أحسنتم القيام
فيها والعبادة لله لأغنتكم عن ألف شهر.. وألف شهر في
ماذا.. في حمل سيف في سبيل الله.. ويكون المعنى في
ذلك أن الله سبحانه وتعالى عوض أمة محمد في الزمن
اليسير.. ما يتسع له ما أخذه غيرهم في الزمن الطويل..
ولكن الله أراد أن يعطينا شيئا آخر عن ليلة القدر..
هي أنها محل لتنزلات الملائكة برحمة الله في الأرض..
تنزلات رحمة الله في الأرض هي بنواميس.. وبقوانين..
ولا يتعارض العقل أن يكون لكل ناموس أو لكل قانون نوع
من الملائكة.. الملائكة خلق من خلق الله الغيبي.. كل قانون
كالأرزاق وكالرحمة.. وكالموت.. له ملائكة.. بدليل
ان الله يقول عن الملائكة (فالمدبرات أمرا).. أي أنه خلق
الملائكة الغيبيين.. لكي يباشروا مهمة غيبية محددة في
الحياة.. ويمكن أن تكون ليلة القدر قد خصت بنزول
القرآن فيها.. لان الله قد خصها من قديم الزمان.. بأنها
محل لتنزلاته إلى الأرض.. تنزل الاحكام إلى الملائكة..
ثم يباشرونها على امتداد العام كله.. ثم يقول الله تعالى
(سلام هي حتى مطلع الفجر) الذي يدلنا على أن التنزلات
في ليلة القدر شملت غير القرآن.. قوله سبحانه وتعالى
(تنزل الملائكة والروح فيها).. فالروح الأمين وهو جبريل
تنزل بالقرآن.. والملائكة.. تنزلت لخير الله في الأرض..
أي أن الملائكة لتنزلات أخرى غير القرآن ليباشر كل ملك
75

مهمته في الناس الذي خصه الله به.. وبعد ذلك قال
(سلام هي حتى مطلع الفجر).. معنى ذلك لا ينزل فيها
الا كل ما هو خير.. وكل ما هو سلام.. لان تنزلات الله
بالخير في نواميسه جاءت خيرا للناس في كل ما يتصل
بحياتهم..
هذا فيما يتعلق بماديات الحياة.. وفيما يتعلق
بمعنوياتها.. فان خير ما ينزل في هذه الليلة هو القرآن
الذي وضع آخر منهج لحركة حياة الانسان على الأرض..
وما دام الامر كذلك.. فإذا استقبلنا ما نزل في هذه
الليلة.. وجعلناه منهجا.. في هذه الحياة ملا الكون
السلام والرحمة والبركة.. فسلام ليلة القدر هو سلام
لكل الأزمنة.. لا يختل السلام أبدا.. السلام نزل في ليلة
القدر.. لكن نحن الذين ننفذه أو لا ننفذه.. فإن نفذناه
يكون سلام ليلة القدر قد امتد لكل الأزمان.. وإذا أخذناه
وعطلنا مهمته.. يكون السلام قد نزل في ليلة القدر..
ونحن الذين امتنعنا عن أن ننتفع بذلك السلام.
والمفروض اننا نمضي ليلة القدر في عبودية صادقة لله..
فإذا أمضينا هذه الليلة ونحن نعبد الله حق عبادته.. كان
معنى ذلك اننا كررنا الزمن الذي أنزل فيه ما تحب.. وهو
القرآن.. المنهج الذي أوضح لنا صفاء العبودية للحق
سبحانه وتعالى.. فاحتفالنا بليلة القدر.. هو فرحتنا
بتلك الليلة.. بما نزل فيها.. ولا نفرح بما نزل فيها إلا إذا
كانت آثار ما نزل فيها قد نضحت على نفوسنا صفاء..
وعلى سلوكنا تضرعا.. وهنا يتجلى الله سبحانه وتعالى:
(ما دام عبدي قد فرح بمنهجي فرحا جعله يكرم ليلة البداية
في نزول هذا المنهج فليس له جزاء عندي الا أن أغفر له)
76

تحديد الليلة في رمضان
بعد ذلك نأتى إلى تحديد الليلة.. اليتيمة في شهر
رمضان.. لان الله سبحانه وتعالى قال (انا أنزلنا في ليلة
القدر) والقرآن نزل في ليلة القدر.. وفي آية أخرى
(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) القرآن نزل في
رمضان.. وفي غير رمضان.. أذن لابد أن بداية الانزال أو
الأذى لمباشرة القرآن لمهمته في الكون.. في شهر رمضان..
ولكن ليلة القدر دائرة في الزمن.. بمعنى أنها مرت في كل
يوم من أيام الزمن.. فالفرق بين العام القمري والعام
الشمسي أحد عشر يوما.. وهذا الفرق مثلا يجعل رمضان
يأتي في الشتاء.. وفي الصيف.. في الخريف.. وفي
الربيع.. أي أنه مقسم على أيام السنة كلها. وعلى
فصولها جميعا.. فإذا حسبنا الاختلاف مع طول الزمن
.. نجد أن ليلة القدر جاءت منذ بدء الخليفة حتى الان مرة
واحدة على الأقل في كل يوم من أيام السنة.. ليلة القدر
تدور في الدنيا لتشمل كل يوم فيها.. لتشمل الزمن كله.
هي بالنسبة لنا في رمضان.. ولكن بالنسبة لحساب الزمن
تدور في كل يوم منه.. والذي يقول التمسوها في العشر
الأواخر.. أو في وتر العشر الأواخر من رمضان.. لو أنه
قال التمسوها في شئ معطوف على العشرين.. يكون
الخلاف موجودا.. ولكن في العشر الأواخر من رمضان قد
يكون رمضان فيها ثلاثين يوما.. وقد يكون 29 يوما..
وعندما يكون رمضان 29 يوما ويلتمسها في العشر الأواخر
تكون بدأت من 20.. وبذلك تكون عشرين، 22، 24،
إلى آخره.. فإذا كان رمضان ثلاثين يوما.. تكون البداية
21، وبذلك نلتمسها أيام 21، 23، 25، وهكذا.. هنا
يبرز سؤال.. من يدرينا ونحن في العشرين من رمضان إذا
77

كان رمضان سيكون تسعة وعشرين يوما أو ثلاثين يوما..
من يدرينا بذلك.. طبعا نحن لا نعرف ذلك مقدما.. ومن
هنا فإننا إذا كنا نلتمس العشر الأواخر من رمضان.. فيجب
أن نلتمسها في كل ليلة من العشر الأواخر.. أو في وتر
العشر الأواخر.. نقول له أن الشفع يسبق وترا.. والوتر
يسبق شفعا باختلاف نهاية شهر رمضان.. وهل 29
يوما.. أو 30 يوما.. ومن هنا فإننا يجب أن نلتمسها في
العشر الأواخر من رمضان.. ولا خلاف على ذلك.
نأتي بعد ذلك إلى نقطة أخرى.. وهي ترقب يوم 21،
23، 25، 27 أن هذا أثر من آثار نضح الشر على الخبر..
الرسول صلى الله عليه وسلم خرج وقال كنت قد خرجت
لأخبركم بليلة القدر.. الا أنه تلاحى فلان وفلان.. أي
تشاجرا في المسجد.. فرفعت عني.. فالتمسوها في
العشر الأواخر.. فكأن الذي جاء لرسول الله صلى الله
عليه وسلم ليخبره عن تحديد ليلة القدر بالذات.. ثم بعد
ذلك حدثت المشاجرة التي قامت بين اثنين في المسجد
فأخفيت ليلة القدر.. فكأن الله يريد أن يخبرنا أن التشاجر
هو ميدان الشيطان لمعارك الشر.. وأن ذلك يمنع الخير..
والصفاء نفسه يستدعى الصفاء.. فعندما يجد الله سبحانه
وتعالى ج معا كله صفاء.. تتنزل فيه ملائكة الرحمة..
لماذا.. لان الله سبحانه وتعالى يحب من خلقه الاخاء
والصفاء.. فيقول الله سبحانه وتعالى فيهم (والذين
اهتدوا زادهم هدى).. ولكن عندما يريد الله أن ينزل
خيرا عميما على الناس.. ثم يأتي فيجد أنهم ليسوا أهلا
لهذه الرحمة.. أو لهذا الخير.. أجهزة الاستقبال عندهم
تالفة.. حينئذ يقبض عنهم الخير.. فإذا أردنا أن نكون
أهلا لعطاء الله.. فيجب أن نكون دائما على الصفاء..
78

لنستطيع أن نستقبل عطاء الله.. وبعد ذلك شاء الله رحمة
منه الا يحرمنا من الخير كله.. فأتعبنا قليلا.. قال إنها
في العشر الأواخر من رمضان.. بدلا من تحديد الليلة..
وفي ذلك حكمة من الله سبحانه وتعالى في أنه يريد أن يقف
الناس في وجه الشر مهما كان هذا الشر حتى يمكنهم أن
يستقبلوا عطاء الله ورحمته.. وفي هذه الحالة يكون
التمسك بالخير هو دفاع الانسان عن ذاتية نفسه مصداقا
لقوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)..
79

مطابع المختار الاسلامي
دار السلام
80