الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ١٠
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليت‍امى والمس‍اكين وابن السبيل إن كنتم ءامنتم بالله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شىء قدير) *.
* (واعلموا أنما غنمتم) * روى عن الكلبى أنها نزلت في بدر وهو الذي يقتضيه كلام الجمهور، وقال الواقدي: كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة. و * (ما) * موصولة والعائد محذوف، وكان حقها أن تكون مفصولة وجعلها شرطية خلاف الظاهر وكذا جعلها مصدرية، وغنم في الأصل من الغنم بمعنى الربح، وجاء غنم غنما بالضم وبالفتح وبالتحريك وغنيمة وغنمانا بالضم؛ وفي " القاموس " المغنم والغنيم والغنيمة والغنم بالضم الفىء، والمشهور تغاير الغنيمة والفىء، وقيل: اسم الفىء يشملهما لأنها راجعة إلينا ولا عكس فهي أخص، وقيل: هما كالفقير والمسكين، وفسروها بما أخذ من الكفار قهرا بقتال أو إيجاف فما أخذ اختلاسا لا يسمى غنيمة وليس له حكمها، فإذا دخل الواحد أو الاثنان دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام فأخذوا شيئا لم يخمس، وفي الدخول بإذنه روايتان والمشهور أنه يخمس لأنه لما أذن لهم فقد التزم نصرتهم بالإمداد فصاروا كالمنعة، وحكى عن الشافعي رضي الله تعالى عنه في المسألة الأولى التخميس وإن لم يسم ذلك غنيمة عنده لإلحاقه بها، وقوله سبحانه: * (من شيء) * بيان للموصول محله النصب على أنه حال من عائده المحذوف قصد به الاعتناء بشأن الغنيمة وأن لا يشذ عنها شيء، أي ما غنمتموه كائنا مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط والمخيط خلا أن سلب المقتول لقاتله إذا نفله الإمام، وقال الشافعية: السلب للقاتل ولو نحو صبي وقن وإن لم يشترط له وإن كان المقتول نحو قريبه وإن لم يقاتل أو نحو امرأة أو صبي إن قاتلا ولو أعرض عنه للخبر المتفق عليه " من قتل قتيلا فله سلبه " نعم القاتل المسلم القن لذمي لا يستحقه عندهم وإن خرج بإذن الإمام.
وأجاب أصحابنا بأن السلب مأخوذ بقوة الجيش فيكون غنيمة فيقسم قسمتها، وقد قال صلى الله عليه وسلم لحبيب بن أبي سلمة: " ليس لك من صلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك " وما رووه يحتمل نصب الشرع ويحتمل التنفيل فيحمل على الثاني لما رويناه، والأسارى يخير فيهم الإمام وكذا الأرض المغنومة عندنا وتفصيله في الفقه، والمصدر المؤول من أن المفتوحة مع ما في حيزها في قوله تعالى: * (فأن لله خمسه) * مبتدأ خبره محذوف أي فحق أو واجب أن لله خمسه، وقدر مقدما لأن المطرد في خبرها إذا ذكر تقديمه لئلا يتوهم أنها مكسورة فأجرى على المعتاد فيه، ومنهم من أعربه خبر مبتدأ محذوف أي فالحكم أن الخ، والجملة خبر لأن الأولى، والفاء لما في الموصول من معنى المجازاة، وقيل: إنها صلة وأن بدل من أن الأولى، وروى الجعفي عن أبي عمر * (فإن) * بالكسر وتقويه قراءة النخعي فلله خمسه ورجحت المشهورة بأنها آكد لدلالتها على إثبات الخمس وأنه لا سبيل لتركه مع احتمال الخبر لتقديرات كلازم وحق وواجب ونحوه، وتعقبه صاحب التقريب بأنه معارض بلزوم الإجمال. وأجيب بأنه إن أريد بالإجمال ما يحتمل الوجوب والندب والإباحة فالمقام يأبى إلا الوجوب وإن أريد ما ذكر من لازم وحق وواجب فالتعميم يوجب التفخيم والتهويل. وقرىء * (خمسه) * بسكون الميم والجمهور
2

على أن ذكر الله تعالى لتعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) * أو لبيان أنه لا بد في الخمسية من إخلاصها له سبحانه وأن المراد قسمة الخمس على ما ذكر في قوله تعالى: * (وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) * قيل ويكون قوله تعالى: * (للرسول) * معطوفا على * (لله) * على التعليل الأول وبتقدير مبتدأ أي وهو أي الخمس للرسول الخ على التعليل الثاني، وإعادة اللام في القربى دون غيرهم من الأصناف الباقية لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلى الله عليه وسلم لمزيد اتصالهم به عليه الصلاة والسلام، وأريد بهم بنو هاشم وبنو المطلب المسلمون لأنه صلى الله عليه وسلم وضع سهم ذوي القربى فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس، وأخيهما لأبيهما نوفل مجيبا عن ذلك حين قال له عثمان. وجبير بن مطعم: هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله تعالى منهم أرأيت إخواننا من بني عبد المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة نحن وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه رواه البخاري، أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلى الله عليه وسلم جاهلية ولا إسلاما.
وكيفية القسمة عند الأصحاب أنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم. سهم له عليه الصلاة والسلام. وسهم للمذكورين من ذوي القربى. وثلاثة أسهم للأصناف الثلاثة الباقية، وأما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فسقط سهمه صلى الله عليه وسلم كما سقط الصفي وهو ما كان يصطفيه لنفسه من الغنيمة مثل درع وسيف وجارية بموته صلى الله عليه وسلم لأنه كان يستحقه برسالته ولا رسول بعده صلى الله عليه وسلم وكذا سقط سهم ذوي القربى وإنما يعطون بالفقر وتقدم فقراؤهم على فقراء غيرهم ولا حق لأغنيائهم لأن الخلفاء الأربعة الراشدين قسموه كذلك وكفى بهم قدوة، وروى عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه منع بني هاشم الخمس وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوج أيمكم ويخدم ما لا خادم له منكم فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن السبيل غنى لا يعطي من الصدقة شيئا ولا يتيم موسر. وعن زيد بن علي كذلك قال: ليس لنا أن نبني منه القصور ولا أن نركب منه البراذين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعطاهم للنصرة لا للقرابة كما يشير إليه جوابه لعثمان. وجبير رضي الله تعالى عنهما وهو يدل على أن المراد بالقربى في النص قرب النصرة لا قرب القرابة، وحيث انتهت النصرة انتهى الإعطاء لأن الحكم ينتهي بانتهاء علته واليتيم صغير لا أب له فيدخل فقراء اليتامى من ذوي القربى في سهم اليتامى المذكورين دون أغنيائهم والمسكين منهم في سهم المساكين، وفائدة ذكر اليتيم مع كون استحقاقه بالفقر والمسكنة لا باليتيم دفع توهم أن اليتيم لا يستحق من الغنيمة شيئا لأن استحقاقها بالجهاد واليتيم صغير فلا يستحقها.
وفي التأويلات لعلم الهدى الشيخ أبي منصور أن ذوي القربى إنما يستحقون بالفقر أيضا، وفائدة ذكرهم دفع ما يتوهم أن الفقير منهم لا يستحق لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم، وفي " الحاوي القدسي " عن أبي يوسف أن الخمس يصرف لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وبه نأخذ انتهى، وهو يقتضي أن الفتوى على الصرف إلى ذوي القربى الأغنياء فليحفظ، وفي " التحفة " أن هذه الثلاثة مصارف الخمس عندنا لا على سبيل الاستحقاق حتى لو صرف إلى صنف واحد منهم جاز كما
في الصدقات كذا في " فتح القدير "، ومذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أن الخمس لا يلزم تخميسه وأنه مفوض إلى رأي الإمام كما يشعر به كلام خليل؛ وبه صرح ابن الحاجب فقال: ولا يخمس لزوما بل يصرف منه لآله عليه الصلاة والسلام بالاجتهاد
3

ومصالح المسلمين ويبدأون استحبابا كما نقل التتائي عن السنباطي بالصرف على غيرهم، وذكر أنهم بنو هاشم وأنهم يوفر نصيبهم لمنعهم من الزكاة حسبما يرى من قلة المال وكثرته، وكان عمر بن عبد العزيز يخص ولد فاطمة رضي الله تعالى عنها كل عام باثني عشر ألف دينار سوى ما يعطي غيرهم من ذوي القربى، وقيل: يساوي بين الغني والفقير وهو فعل أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يعطي حسب ما يراه، وقيل: يخير لأن فعل كل من الشيخين حجة.
وقال عبد الوهاب: أن الإمام يبدأ بنفقته ونفقة عياله بغير تقدير، وظاهر كلام الجمهور أنه لا يبدأ بذلك وبه قال ابن عبد الحكم، والمراد بذكر الله سبحانه عند هذا الإمام أن الخمس يصرف في وجوه القربات لله تعالى والمذكور بعد ليس للتخصيص بل لتفضيله على غيره ولا يرفع حكم العموم الأول بل هو قار على حاله وذلك كالعموم الثابت للملائكة وإن خص جبريل وميكائيل عليهما السلام بعد. ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه في قسمة الغنيمة أن يقدم من أصل المال السلب ثم يخرج منه حيث لا متطوع مؤنة الحفظ والنقل وغيرهما من المؤن اللازمة للحاجة إليها ثم يخمس الباقي فيجعل خمسة أقسام متساوية ويكتب على رقعة لله تعالى أو للمصالح وعلى رقعة للغانمين وتدرج في بنادق فما خرج لله تعالى قسم على خمس مصالح المسلمين كالثغور والمشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدين والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء وسائر من يشتغل عن نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم وألحق بهم العاجزون عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبرا سعة المال وضيقه، وهذا هو السهم الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه مؤنة سنة ويصرف الباقي في المصالح، وهل كان عليه الصلاة والسلام مع هذا التصرف مالكا لذلك أو غير مالك قولان ذهب إلى الثاني الإمام الرافعي وسبقه إليه جمع متقدمون قال: إنه عليه الصلاة والسلام مع تصرفه في الخمس المذكور لم يكن يملكه ولا ينتقل منه إلى غيره إرثا. ورد بأن الصواب المنصوص أنه كان يملكه، وقد غلط الشيخ أبو حامد من قال: لم يكن صلى الله عليه وسلم يملك شيئا وإن أبيح له ما يحتاج إليه، وقد يؤول كلام الرافعي بأنه لم ينف الملك المطلق بل الملك المقتضي للإرث عنه.
ويؤيد ذلك اقتضاء كلامه في الخصائص أنه يملك. وبنو هاشم. والمطلب، والعبرة بالانتساب للآباء دون الأمهات ويشترك فيه الغني والفقير لإطلاق الآية، وإعطائه عليه الصلاة والسلام العباس وكان غنيا والنساء، ويفضل الذكر كالإرث واليتامى، ولا يمنع وجود جد، ويدخل فيهم ولد الزنا والمنفى لا اللقيط على الأوجه؛ ويشترط فقره على المشهور ولا بد في ثبوت اليتم والإسلام والفقر هنا من البينة، وكذا في الهاشمي. والمطلبي، واشترط جمع فيهما معها استفاضة النسبة والمساكين وابن السبيل ولو بقولهم بلا يمين. نعم يظهر في مدعي تلف مال له عرف أو عيال أنه يكلف بينة. ويشترط الإسلام في الكل والفقر في ابن السبيل أيضا وتمامه في كتبهم.
وتعلق أبو العالية بظاهر الآية الكريمة فقال: يقسم ستة أسهم ويصرف سهم الله تعالى لمصالح الكعبة أي إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة وقع فيها الخمس كما قاله ابن الهمام: وقد روى أبو داود في " المراسيل " وابن جرير عنه أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منه قبضة فيجعلها لمصالح الكعبة ثم يقسم ما بقي خمسة أسهم، ومذهب الإمامية أنه ينقسم إلى ستة أسهم أيضا كمذهب أبي العالية إلا أنهم قالوا: إن سهم الله تعالى وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى للإمام القائم مقام الرسول عليه الصلاة
4

والسلام. وسهم ليتامى آل محمد صلى الله عليه وسلم. وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم لا يشركهم في ذلك غيرهم ورووا ذلك عن زين العابدين. ومحمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهم، والظاهر أن الأسهم الثلاثة الأول التي ذكروها اليوم تخبأ في السرداب إذ القائم مقام الرسول قد غاب عندهم فتخبأ له حتى يرجع من غيبته، وقيل: سهم الله تعالى لبيت المال، وقيل: هو مضموم لسهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا ولم يبين سبحانه حال الأخماس الأربعة الباقية وحيث بين جل شأنه حكم الخمس ولم يبينها دل على أنها ملك الغانمين، وقسمتها عند أبي حنيفة للفارس سهمان وللراجل سهم واحد. لما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك، والفارس في السفينة يستحق سهمين أيضا وإن لم يمكنه القتال عليها فيها للتأهل، والمتأهب للشيء كالمباشر كما في " المحيط "، ولا فرق بين الفرس المملوك والمستأجر والمستعار وكذا المغصوب على تفصيل فيه، وذهب الشافعي. ومالك إلى أن للفارس ثلاثة أسهم لما روى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس ذلك وهو قول الإمامين.
وأجيب بأنه قد روى عن ابن عمر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفارس سهمين فإذا تعارضت روايتاه ترجح رواية غيره بسلامتها عن المعارضة فيعمل بها، وهذه الرواية رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وفي " الهداية " أنه عليه الصلاة والسلام تعارض فعلاه في الفارس فنرجع إلى قوله عليه الصلاة والسلام وقد قال صلى الله عليه وسلم: " للفارس سهمان وللراجل سهم " وتعقبه في العناية بأن طريقة استدلاله مخالفة لقواعد الأصول فإن الأصل أن الدليلين إذا تعارضا وتعذر التوفيق والترجيح يصار إلى ما بعده لا إلى ما قبله وهو قال: فتعارض فعلاه فنرجع إلى قوله، والمسلك المعهود في مثله أن نستدل بقوله ونقول فعله لا يعارض قوله لأن القول أقوى بالاتفاق، وذهب الإمام إلى أنه لا يسهم إلا لفرس واحد وعند أبي يوسف يسهم لفرسين، وما يستدل به على ذلك محمول على التنفيل عند الإمام كما أعطى عليه الصلاة والسلام سلمة بن الأكوع سهمين وهو راجل ولا يسهم لثلاثة اتفاقا * (إن كنتم آمنتم بالله) * شرط جزاؤه محذوف أي إن كنتم آمنتم بالله تعالى فاعلموا أنه تعالى جعل الخمس لمن جعل فسلموه إليهم واقنعوا بالأخماس الأربعة الباقية، وليس المراد مجرد العلم بذلك بل العلم المشفوع بالعمل والطاعة لأمره تعالى، ولم يجعل الجزاء ما قبل لأنه لا يصح تقدم الجزاء على الشرط على الصحيح عند أهل العربية، وإنما لم يقدر العمل قصرا للمسافة كما فعله النسفي لأن المطر في أمثال ذلك أن يقدر ما
يدل ما قبله عليه فيقدر من جنسه، وقوله سبحانه: * (وما أنزلنا) * عطف على الاسم الجليل و * (ما) * موصولة والعائد محذوف أي الذي أنزلناه * (على عبدنا) * محمد صلى الله عليه وسلم، وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من التشريف والتعظيم، وقرىء * (عبدنا) * بضمتين جمع عبد، وقيل: اسم جمع له وأريد به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون فإن بعض ما نزل نازل عليهم * (يوم الفرقان) * هو يوم بدر فالإضافة للعهد، والفرقان بالمعنى اللغوي فإن ذلك اليوم قد فرق فيه بين الحق والباطل، والظرف منصوب بأنزلنا، وجوز أبو البقاء تعلقه بآمنتم، وقوله سبحانه: * (يوم التقى الجمعان) * بدل منه أو متعلق بالفرقان، وتعريف الجمعان للعهد، والمراد بهم الفريقان من المؤمنين والكافرين؛ والمراد بما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام من الآيات
5

والملائكة والنصر على أن المراد بالإنزال مجرد الإيصال والتيسير فيشمل الكل شمولا حقيقيا فالموصول عام ولا جمع بين الحقيقة والمجاز خلافا لمن توهم فيه، وجعل الإيمان بهذه الأشياء من موجبات العلم بكون الخمس لله تعالى على الوجه المذكور من حيث أن الوحي ناطق بذلك وأن الملائكة والنصر لما كانا منه تعالى وجب أن يكون ما حصل بسببهما من الغنيمة مصروفا إلى الجهات التي عينها الله سبحانه: * (والله على كل شيء قدير) * ومن آثار قدرته جل شأنه ما شاهدتموه يوم التقى الجمعان.
* (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميع‍اد ول‍اكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة وإن الله لسميع عليم) *.
* (إذ أنتم بالعدوة الدنيا) * بدل من يوم أو معمول لاذكروا مقدرا، وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفا لقدير وليس بشيء، والعدوة بالحركات الثلاث ششط الوادي وأصله من العدو التجاوز والقراءة المشهورة الضم والكسر وهو قراءة ابن كثير. وأبي عمرو. ويعقوب.
وقرأ الحسن. وزيد بن علي وغيرهما بالفتح وكلها لغات بمعنى ولا عبرة بإنكار بعضها و * (الدنيا) * تأنيث الأدنى أي إذ أنتم نازلون بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة * (وهم) * أي المشركون * (بالعدوة القصوى) * أي البعدى من المدينة وهو تأنيث الأقصى، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما * (القصيا) * ومن قواعدهم أن فعلى من ذوات الواو إذا كان اسما تبدل لامه ياء كدنيا فإنه من دنا يدنو إذا قرب، ولم يبدل من قصوى على المشهور لأنه بحسب الأصل صفة ولم يبدل فيها للفرق بين الصفة والاسم، وإذا اعتبر غلبته وأنه جرى مجرى الأسماء الجامدة قيل قصيا وهي لغة تميم والأولى لغة أهل الحجاز، ومن أهل التصريف من قال: إن اللغة الغالبة العكس فإن كانت صفة أبدلت اللام نحو العليا وإن كانت اسما أقرت نحو حزوى؛ قيل: فعلى هذا القصوى شاذة والقياس قصيا، وعنوا بالشذوذ مخالفة القياس لا الاستعمال فلا تنافي الفصاحة، وذكروا في تعليل عدم ازبدال بالفرق أنه إنما لم يعكس الأمر وإن حصل به الفرق أيضا لأن الصفة أثقل فأبقيت على الأصل الأخف لثقل الانتقال من الضمة إلى الياء، ومن عكس أعطى الأصل للأصل وهو الاسم وغير في الفرع للفرق * (والركب) * أي العير أو أصحابها أبو سفيان وأصحابه وهو اسم جمع راكب لا جمع على الصحيح * (أسفل منكم) * أي في مكان أسفل من مكانكم يعني ساحل البحر، وهو نصب على الظرفية وفي " الأصل " صفة للظرف كما أرنا إليه ولهذا انتصب انتصابه وقام مقامه ولم ينسلخ عن الوصفية خلافا لبعضهم وهو واقع موقع الخبر، وأجاز الفراء. والأخفش رفعه على الاتساع أو بتقدير موضع الركب أسفل، والجملة عطف على مدخول إذ، أي إذ أنتم الخ وإذ الركب الخ.
واختار الجمهور أنها في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور قبل، ووجه الإطناب في الآية مع حصول المقصود بأن يقال: يوم الفرقان يوم النصر والظفر على الأعداء مثلا تصوير ما بدر سبحانه من أمر وقعة بدر والامتنان والدلالة على أنه من الآيات الغر المحجلة وغير ذلك وهذا مراد الزمخشري بقوله فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين وأن العير كان أسفل منهم الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته. وتكامل عدته وتمهد أسباب العدة له وضعف شأن المسلمين والتباث أمرهم وإن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعا من الله تعالى ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله سبحانه وقوته وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضا لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل وكانت العير وراء ظهر العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم
6

وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم وتوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ولا يخلو مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر تلك الوقعة، وليس السؤال عن فائدة الإخبار بما هو معلوم للمخاطب ليكون الجواب بأن فائدته لازمة كما ظنه غير واحد لما لا يخفى، وعلى هذا الطرز ذكر قوله تعالى: * (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميع‍اد) * أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال وعلمتم حالهم وحالكم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم ويأسا من الظفر عليهم، وجعل الضمير الأول شاملا للجمعين تغليبا والثاني للمسلمين خاصة هو المناسب للمقام إذ القصد فيه إلى بيان ضعف المسلمين ونصرة الله تعالى لهم مع ذلك، والزمخشري جعله فيهما شاملا للفريقين لتكون الضمائر على وتيرة واحدة من غير تفكيك على معنى لو تواعدتم أنتم وأهل مكة لخالف بعضكم بعضا فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله تعالى من التلاقي وسبب له ولا يخفى عدم مناسبته، وأمر التفكيك سهل * (ول‍اكن) * تلاقيتم على غير موعد * (ليقضيع الله أمرا) * وهو نصر المؤمنين وقهر أعدائهم * (كان مفعولا) * أي كان واجبا أن يفعل بسبب الوعد المشار إليه بقوله سبحانه: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) * (الروم: 47) أو كان مقدرا في الأزل.
وقيل: كان بمعنى صار الدالة على التحول أي صار مفعولا بعد أن لم يكن، وقوله سبحانه: * (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) * بدل من * (ليقضي) * بإعادة الحرف أو متعلق بمفعولا.
وجوز أبو البقاء أيضا تعلقه بيقضي، واستطيب الطيبي الأول، والمراد بالبينة الحجة الظاهرة، أي ليموت من يموت عن حجة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها
فلا يبقى محل للتعلل بالأعذار، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة والحجج الغر المحجلة، ويجوز أن يراد بالحياة الإيمان وبالموت الكفر استعارة أو مجازا مرسلا، وبالبينة إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدافعة أي ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة، وإلى هذا ذهب قتادة. ومحمد بن إسحاق، قيل: والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله تعالى وقضائه، والمشارفة في الهلاك ظاهرة، وأما مشارفة الحياة فقيل: المراد بها الاستمرار على الحياة بعد الوقعة، وإنما قيل ذلك: لأن من حي مقابل لمن هلك، والظاهر أن * (عن) * بمعنى بعد كقوله تعالى: * (عما قليل ليصبحن نادمين) * (المؤمنون: 40)، وقييل: لما لم يتصور أن يهلك في الاستقبال من هلك في الماضي حمل من هلك على المشارفة ليرجع إلى الاستقبال، وكذا لما لم يتصور أن يتصف بالحياة المستقبلة من اتصف بها في الماضي حمل على ذلك لذلك أيثضا، لكن يلزم منه أن يختص بمن لم يكن حيا إذ ذاك فيحمل على دوام الحياة دون الاتصاف بأصلها، فيكون المعنى لتدوم حياة من أشرف لدوامها، ولا يجوز أن يكون المعنى لتدوم حياة من حي في الماضي لأن ذلك صادق على من هلك فلا تحصل المقابلة إلا أن يخصص باعتبارها، وتكلف بعضهم لتوجيه المضي والاستقبال بغير ما ذكر مما لا يخلو عن تأمل، واعتبار المضي بالنظر إلى علم الله تعالى وقضائه والاستقبال بالنظر إلى الوجود الخارجي مما لا غبار عليه، و * (عن) * لا يتعين كونها بمعنى بعد بل يمكن أن تبقى على معنى المجاوزة الذي لم يذكر البصريون سواه.
ونظير ذلك قوله تعالى: * (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) * (هود: 53) بناء على أن المراد ما نتركها صادرين عن قولك كما هو رأي البعض، ويمكن أن تكون بمعنى على كما في قوله تعالى: * (فإنما يبخل عن نفسه) * (محمد: 38) وقول ذي الأصبع:
7

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب * عني ولا أنت دياني فتخزوني
وقرأ الأعمش * (ليهلك) * بفتح العين، وروي ذلك عن عاصم وهي على ما قال ابن جني في " المحتسب " شاذة مرغوب عنها لأن الماضي هلك بالفتح ولا يأتي فعل يفعل إلا إذا كان حرف الحلق في العين أو اللام فهو من اللغة المتداخلة.
وفي " القاموس " أن هلك كضرب ومنع وعلم وهو ظاهر في جواز الكسر والفتح في الماضي والمضارع.
نعم المشهور في الماضي الفتح وفي المضارع الكسر، وقرأ ابن كثير. ونافع. وأبو بكر. ويعقوب * (حي) * بفك الإدغام قال أبو البقاء: وفيه وجهان أحدهما: الحمل على المستقبل وهو يحيى فكما لم يدغم فيه لم يدغم في الماضي. والثاني: أن حركة الحرفين مختلفة فالأول مكسور والثاني مفتوح واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين، ولذلك أجازوا في الاختيار ضبب البلد إذا كثر ضبه، ويقوي ذلك أن الحركة الثانية عارضة فكأن الياء الثانية ساكنة ولو سكنت لم يلزم الإدغام فكذلك إذا كانت في تقدير الساكن، والياآن أصل وليست الثانية بدلا من واو، وأما الحيوان فالواو فيه بدل من الياء، وأما الحواء فليس من لفظ الحية بل من حوى يحوي إذا جمع * (وإن الله لسميع عليم) * أي بكفر من كفر وعقابه وإيمان من آمن وثوابه، ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الكفر والإيمان على الاعتقاد والقول، أما اشتمال الإيمان على القول فظاهر لاشتراط إجراء الأحكام بكلمتي الشهادة، وأما اشتمال الكفر عليه فبناء على المعتاد فيه أيضا.
* (إذ يريكهم الله فى منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتن‍ازعتم فى الامر ول‍اكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور) *.
* (إذ يريكهم الله في منامك قليلا) * مقدر باذكر أو بدل من يوم الفرقان، وجوز أن يتعلق بعليم وليس بشيء، ونصب قليلا على أنه مفعول ثالث عند الأجهوري أو حال على ما يفهمه كلام غيره.
والجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم أرى ما أرى في النوم وهو الظاهر المتبادر، وحكمة إراءتهم إياه صلى الله عليه وسلم وسلم قليلين أن يخبر أصحابه رضي الله تعالى عنهم فيكون ذلك تثبيتا لهم، وعن الحسن أنه فسر المنام بالعين لأنها مكان النوم كما يقال للقطيفة المنامة لأنها ينام فيها فلم تكن عنده هناك رؤيا أصلا بل كانت رؤية، وإليه ذهب البلخي ولا يخفى ما فيه لأن المنام شائع بمعنى النوم مصدر ميمي على ما قال بعض المحققين أوفى موضع الشخص النائم على ما في " الكشف " ففي الحمل على خلاف ذلك تعقيد ولا نكتة فيه، وما قيل: إن فائدة العدول الدلالة على الأمن الوافر فليس بشيء لأنه لا يفيد ذلك فالنوم في تلك الحال دليل إلا من لا أن يريهم في عينه التي هي محل النوم، على أن الروايات الجمة برؤيته صلى الله عليه وسلم إياهم مناما وقص ذلك على أصحابه مشهورة لا يعارضها كون العين مكان النوم نظرا إلى الظاهر، ولعل الرواية عن الحسن غير صحيحة فإنه الفصيح العالم بكلام العرب، وتخريج كلامه على أن في الكلام مضافا محذوفا أقيم المضاف إليه مقامه أي في موضع منامك مما لا يرتضيه اليقظان أيضا، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة الغريبة، والمراد إذا أراكهم الله قليلا * (ولو أراكهم كثيرا لفشلتم) * أي لجبنتم وهبتم الإقدام، وجمع ضمير الخطاب في الجزاء مع إفراده في الشرط إشارة كما قيل: إلى أن الجبن يعرض لهم لا له صلى الله عليه وسلم إن كان الخطاب للأصحاب فقط وإن كان للكل يكون من إسناد ما للأكثر للكل * (ولتنازعتم في الأمر) * أي أمر القتال وتفرقت آراؤكم في الثبات والفرار * (ولكن الله سلم) * أي أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع.
8

* (إنه عليم بذات الصدور) * أي الخواطر التي جعلت كأنها مالكة للصدور، والمراد أنه يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع ولذلك دبر ما دبر.
* (وإذ يريكموهم إذ التقيتم فىأعينكم قليلا ويقللكم فىأعينهم ليقضى الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور) *.
* (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا) * مقدر بمضمر خوطب به الكل بطريق التلوين والتعميم معطوف على ما قبل، والضميران مفعولا يرى وقليلا حال من الثاني، وإنما قللهم سبحانه في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إلى من بجنبه: أتراهم سبعين؟ فقال: أراهم مائة تثبيتا لهم وتصديقا لرسول عليه الصلاة والسلام * (ويقللكم في أعينهم) * حتى قال أبو جهل: إنما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أكلة جزور، وكان هذا التقليل في ابتداء الأمر قبل التحام القتال
ليجترؤا عليهم ويتركوا الاستعداد والاستمداد ثم كثرهم سبحانه حتى رأوهم مثليهم لتفاجئهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا.
* (ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور) * كرر لاختلاف الفعل المعلل به إذ هو في الأول اجتماعهم بلا ميعاد وهنا تقليلهم ثم تكثيرهم، أو لأن المراد بالأمر ثم الالتقاء على الوجه المحكي، وههنا إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه، هذا وذكر غير واحد أن ما وقع في هذه الواقعة من عظائم الآيات فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلا والقليل كثيرا لكن لا على ذلك الوجه ولا إلى ذلك الحد وإنما يتصور ذلك بصد الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي في الشرائط. واعترض بأن ما ذكر من التعليل مناسب لتقليل الكثير لا لتكثير القليل، وأجيب بأن تكثير القليل من جانب المؤمنين بكون الملائكة عليهم السلام ومن جانب الكفرة حقيقة فلا يحتاج إلى توجيه فيهما وإنما المحتاج إليه تقليل الكثير، وذكر في " الكشاف " طريقين لإبصار الكثير قليلا أن يستر الله تعالى بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير كما خلق في عيون الحول ما يستكثرون به القليل فيرون الواحد اثنين، وعليه فيمكن أن يقال: إن رؤيتهم للمؤمنين مثليهم من قبيل رؤية الأحول بل هي أعظم على تقدير أن يراد مثلي أنفسهم وحينئذ لا يحتاج إلى حديث رؤية الملائكة مع المؤمنين، وفي الانتصاف أن في ذلك دليلا بينا على أنه تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة أو قرب أو ارتفاع حجب أو غير ذلك، إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا لما أمكن أن يستتر عنهم البعض وقد أدركوا البعض، والسبب الموجب مشترك فعلى هذا يجوز أن يخلق الله تعالى الإدراك مع انتفاء هذه الأسباب ويجوز أن لا يخلقه مع اجتماعها فلا ربط إذن بين الرؤية وبينها في مقدور الله تعالى، وهي رادة على القدرية المنكرين لرؤيته تعالى لفقد شرطها وهو التجسم ونحوه، وحسبهم هذه الآية في بطلان زعمهم لكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، ثم إن رؤياه عليه الصلاة والسلام كانت في قول على طرز رؤية أصحابه رضي الله تعالى عنهم المشركين، وذكر بعض المحققين أنها كانت في مقام التعبير فلا يلزم أن تكون على خلاف الواقع، والقلة معبرة بالمغلوبية، والواقعة من الرؤية منها ما يقع بعينه ومنها ما يعبر ويؤول، وتحقيق الكلام فيها يقتضي بسطا فتيقظ واستمع لما يتلى فنقول:
اعلم أن النفس الناطقة الإنسانية سلطان القوى البدنية وهي الآت لها وظاهر أن القوة الجسمانية تكل بكثرة العمل كالسيف الذي يكل بكثرة القطع فالنفس إذا استعملت القوى الظاهرة استعمالا كثيرا بحيث يعرض لها الكلال تعطلها لتستريح وتقوى كما أن الفارس إذا أكثر ركوب فرسه يرسله ليستريح ويرعى.
9

وهذا التعطل الحاصل باسترخاء الأعصاب الدماغية المتصلة بالآت الإدراك هو النوم وما يتراىء هناك هو الرؤيا إلا أن المتكلمين والحكماء المشائين والمتألهين من الإشراقيين والصوفية اختلفوا في حقيقتها إلى مذاهب، فذهب المعتزلة وجمهور أهل السنة من المتكلمين إلى أن الرؤيا خيالات باطلة، ووجه ذلك عند المعتزلة فقد شرائط الإدراك حالة النوم من المقابلة وانبثاث الشعاع وتوسط الشغاف والبنية المخصوصة إلى غير ذلك من الشرائط المعتبرة في الإدراك عندهم وعند الجماعة، وهم لم يشترطوا شيئا من ذلك أن الإدراك حالة النوم خلاف العادة وأن النوم ضد الإدراك فلا يجامعه فلا تكون الرؤيا إدراكا حقيقة، وقال الأستاذ أبو إسحاق: إن الرؤيا إدراك حق إذ لا فرق بين ما يجده النائم من نفسه من إبصار وسمع وذوق وغيرها من الإدراكات وما يجده اليقظان من إدراكاته فلو جاز التشكيك فيما يجده النائم لجاز التشكيك فيما يجده اليقظان ولزم السفسطة والقدح في الأمور المعلومة حقيقتها بالبديهة، ولم يخالف في كون النوم ضدا للإدراك لكنه زعم أن الإدراكات تقوم بجزء من أجزاء الإنسان غير ما يقوم به النوم من أجزائه فلا يلزم اجتماع الضدين في محل. وذهب المشاءون إلى أن المدرك في النوم يوجد في الحس المشترك الذي هو لوح المحسوسات ومجمعها فإن الحواس الظاهرة إذا أخذت صور المحسوسات الخارجية وأدتها إلى الحس المشترك صارت تلك الصور مشاهدة هناك ثم إن القوة المتخيلة التي من شأنها تركيب الصور إذا ركبت صورة فربما انطبعت تلك الصورة في الحس المشترك وصارت مشاهدة على حسب مشاهدة الصورة الخارجية فإن مدار المشاهدة الانطباع في الحس المشترك سواء انحدرت إليه من الخارج أو من الداخل، ثم إن القوة المتخيلة من شأنها التصوير دائما لا تسكن نوما ولا يقظة فلو خليت وطباعها لما فترت عن رسم الصور في الحس المشترك إلا أنه يصرفها عن ذلك أمران. أحدهما توارد الصور من الخارج على الحس المشترك إذ بعد انتقاشه بهذه الصورة لا يسع أن ينتقش بالصورة التي تركبها المتخيلة. وثانيهما تسلط العقل أو الوهم عليها بالضبط عندما يستعملانها في مدركاتهما، ولا شك في انقطاع هذين الصارفين عند النوم فيتسع لانتقاش الصور من الداخل فيكون ما يدركه النائم صورا مرتسمة في الحس المشترك وموجودة فيه وهو الرؤيا إلا أن منها ما هو صادق ومنها ما هو كاذب. أما الأولى فهي التي ترد تلك الصور فيها على الحس المشترك من النفس الناطقة، وبيانه أنه صور جميع الحوادث ما كان وما يكون مرتسمة في المبادىء العالية التي يعبر عنها أرباب الشرع بالملائكة ومنطبعة بالنفوس المجردة الفلكية واتصال النفس المجردة بالمجرد لعلة الجنسية أشد من اتصالها بالقوى الجسمانية فمن شأنها أن تتصل بذلك وتنتق بما فيه إلا أن اشتغالها بالحواس الظاهرة والباطنة واستغراقها بتدبير بدنها يمنعانها عن ذلك الاتصال والانتقاش لأن اشتغال النفس ببعض أفاعيلها يمنعها من الاشتغال بغيره، فءن الذي لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى الواحد القهار، ولا يمكن إزالة العائق بالكلية إلا أنه يسكن اشتغالها بالإدراكات الحسية حالة النوم إذ في اليقظة ينتشر الروح إلى ظاهر البدن بواسطة الشرايين وينصب إلى الحواس الظاهرة حالة الانتشار ويحصل بها الإدراك فتشتغل النفس بتلك الإدراكات، وأما في النوم الذي هو أخ الموت فينحبس الروح إلى الباطن ويرجع عن الحواس الظاهرة بعد انصبابه إليها فتتعطل فيحصل للنفس أدنى فراغ فتتصل بتلك المبادىء اتصالا روحانيا معنويا وتنتقش ببعض ما فيها مما استعدت هي له كالمرايا إذا حوذي بعضها ببعض فانتقش في بعضها ما يتسع
10

له مما انتقش في البعض الآخر فتدرك النفس مما ارتسم في تلك المبادىء ما يناسبها من أحوالها وأحوال ما يقارنها من الأقارب والأهل والولد والإقليم والبلد ماضيه وآتيه إلا أن هذا الإدراك لعدم تأديه من طرف الحس كلي فتحاكيه القوة المتخيلة التي جبلت محاكية لما يرد عليها بصور جزئية مثالية خيالية مناسبة إياه فتحاكي ما هو خير بالنسبة إليها في صورة جميلة وما هو شر كذلك في صورة قبيحة هائلة على مراتب مختلفة ووجوه متعددة ومن ثمة قد ترى ذاتها بصفة جميلة صورية ومعنوية من
الجمال والعلم والكرم والشجاعة وغير ذلك من الصفات المحمودة، وقد ترى ذاتها متصفة بأضداد ما ذكر، وقد ترى تلك الصفات في صورة ما غلبت الصفات عليه، بل قد ترى أنها نفسها صارت نوعا آخر لغلبة صفاته عليها، ومتى غلبت عليها الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة ترى صورا جميلة وأضخاصا حميدة كذوي الجمال والعلماء والأولياء والملائكة، بل قد ترى أنها صارت عالما أو ملكا مثلاف، ومتى غلبت عليها الصفات الذميمة ترى صورا هائلة كصورة غولية أو سبعية، وكذا رؤية حال من يقاربه من الأهل والولد والإقليم مثلا فإنها تراها باعتبار اختلاف المراتب والمناسبات على ما هي عليه في المضي أو الحال أو الاستقبال حتى لو اهتمت بمصالح الناس رأتها ولو كانت منجذبة الهمة إلى المعقولات لاحت لها أشياء منها، فمتى لم يكن اختلاف بين تلك الصورة وبين ما هي مأخوذة منه إلا بالكلية والجزئية كانت الرؤية غير محتاجة إلى التعبير، والتجاوز عنها إلى ما يناسبها بوجه من المماثلة أو الضدية التي يقتضيها نحو الألف والخلق والأسباب السماوية وغير ذلك من وجوه خفية لا يطلع عليها إلا الأفراد من أئمة التعبير، وإن كانت مخالفة لها لقصور يقع في المتخيلة إما لذاتها أو لعروض دهشة وحيرة لها مما ترى أو لغير ذلك كانت محتاجة إلى التعبير، وهو أن يرجع المعبر القهقرى مجردا لما يراه النائم عن تلك الصور التي صورتها المتخيلة إلى أن ينتهي بمرتبة أو مراتب إلى ما تلقته النفس من تلك المبادىء فيكون هو الواقع، وقد يتفق سيما إذا كان الرائي كثير الاهتمام بالرؤيا أن يعبر رؤياه في النوم الذي رآها فيه أو غيره، فهو إما بتذكره لما كانت الرؤيا حكاية عنه، وإما بتصوير المتخيلة حكاية رؤياه بحكاية أخرى، وحينئذ يحتاج إلى تعبيرين.
وأما الثانية: فهي تكون لأشياء أما لأن النفس إذا أحست في حال اليقظة بتوسط الآلات الجسمانية بصور جزئية محسوسة أو خيالية وبقيت مخزونة في قوة الخيال فعند النوم الذي يخلص فيه الحس المشترك عما يرد عليه من الحواس الظاهرة ترسم في الحس المشترك ارتسام المحسوسات إما على ما كانت عليها وإما بصور مناسبة لها، أو لأن النفس أتقنت بواسطة المتخيلة صورة ألفتها فعند النوم تتمثل في الحس المشترك، أو لأن مزاج الدماغ يتغير فيتغير مزاج الروح الحاملة للقوة المتخيلة فتتغير أفعال المتخيلة بحسب تلك التغيرات، ولذلك يرى الدموي الأشياء الحمر والصفراوي النيران والأشعة والسوداوي الجبال والأدخنة والبلغمي المياه والألوان البيض، ومن هذا القبيل رؤية كون بدنه أو بعض أعضائه في الثلج أو الماء أو النار عند غلبة السخونة أو البرودة عليه، ورؤية أنه يأكل أو يشرب أو يبول عند عروض الاحتياج إلى أحدها.
ومن العجائب في هذا الباب أنه إذا غلب المني واحتاجت الطبيعة إلى دفعه تحتال باستعانة القوة المتخيلة إلى تصوير ما يندفع به من الصور السحنة وفي إرسال الريح الناشرة لآلة الجماع وإرادة حركاتها حتى يندفع بذلك ما أرادت اندفاعه، وقد يكون ذلك التوجه والاعتياد لا لغلبة المني فلهذا قد لا يندفع به شيء، وقد يعرض
11

للروح اضطراب وتحريك من الأسباب الخارجة والداخلة فترى أمورا متغيرة متفرقة غير منضبطة فربما يتركب من المجموع صورة غير معهودة قلما يتصورها أحد أو يقع مثلها في الخارج، وقد يكون ذلك لاتصالات فلكية وأوضاع سماوية، فإذا كانت الرؤيا لأحد هذه الأمور تسمى أضغاث أحلام ولا تعبير لها ولا تقع.
وقد ذكروا أن أصدق الناس رؤيا أعدلهم مزاجاف ومن كان مع ذلك منقطعا عن العلائق الشاغلة والخيالات الفاسدة معتادا للصدق متوجها إلى الرؤيا واستثباتها وكيفيتها كانت رؤياه أصح وأصدق وأكثر أحلام الكذاب والسكران والمغموم ومن غلب عليه سوء مزاج أو فكر أو خيالات فاسدة ومقتضيات قوى غضبية وشهوية كاذبة لا يعتمد عليها، ومن هنا قالوا: لا اعتماد على رؤيا الشاعر لتعوده الأكاذيب الباطلة والتخيلات الفاسدة.
وذهب بعض أصحاب المكاشفات وأرباب المشاهدات من الحكماء المتألهين والصوفية المنكرين لارتسام الصور في الخيال إلى أن الرؤيا مشاهدة النفس صورا خيالية موجودة في عالم المثال الذي هو برزخ بين عالم المجردات اللطيفة المسمى عندهم بعالم الملكوت، وبين عالم الموجودات العينية الكثيفة المسمى بعالم الملك، وقالوا: فيه موجودات متشخصة مطابقة لما في الخارج من الجزئيات مثل لها قائمة بنفسها مناسبة لما في العالمين المذكورين، إما لعالم الملك فلأنها صور جسمانية شبحية، وإما لعالم الملكوت فلأنها معلقة غير متعلقة بمكان وجهة كالمجردات حتى أنه يرى صورا مثالية لشخص واحد في مرايا متعددة بل في مواضع متكثرة كما يرى بعض الأولياء في زمان واحد في أماكن متعددة شرقية وغربية، ثم إن لتلك الصور مجالي مختلفة كالمرايا والماء الصافي، والقوى الجسمانية سيما الباطنة إذا انقطعت عن الاشتغال بالأمور الخارجية العائقة إذ بذلك يحصل لها زيادة مناسبة لذلك العالم كما للمتجردين عن العلائق البشرية، وإذا قويت تلك المناسبة كما للأنبياء عليهم السلام والأولياء الكمل قدس الله تعالى أسرارهم تظهر في القوى الظاهرة أيضا، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاهد جبريل عليه السلام حين ما ينزل بالوحي والصحابة رضي الله تعالى عنهم حوله كانوا لا يشاهدونه. هذا واستشكل قول المتكلمين: أن الرؤيا خيالات باطلة بأنه قد شهد الكتاب والسنة بصحتها بل لم يكن أحد من الناس إلا وقد جربها من نفسه تجربة توجب التصديق بها. وأجيب بأن مرادهم أن كون ما يتخيله النائم إدراكا بالبصر رؤية وكون ما يتخيله إدراكا بالسمع سمعا باطل فلا ينافي كونها أمارة لبعض الأشياء. وذكر حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة في شرح قوله عليه الصلاة والسلام: " من رآني في المنام فقد رآني " الحديث أنه ليس المراد بقوله عليه الصلاة والسلام فقد رآني رؤية الجسم بل رؤية المثال الذي صار آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه إليه، ثم ذكر أن النفس غير المثال المتخيل، فالشكل المرئي ليس روحه صلى الله عليه وسلم ولا شخصه بل مثاله على التحقيق، وكذا رؤيته سبحانه نوما فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة لكن تنتهي تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره وهو آلة حقا في كونه واسطة في التعريف، فقول الرائي: رأيت الله تعالى نوما لا يعني به أنه رأى ذاته تعالى.
وقال أيضا: من رآه صلى الله عليه وسلم مناما لم يرد رؤيته حقيقة بشخصه المودع روضة المدينة بل رؤية مثاله وهو مثال روحه المقدسة عليه الصلاة والسلام.
قيل: ومن هنا يعلم جواب آخر للأشكال وهو أن مرادهم أن ما يرى في المنام ليس له حقيقة ثابتة في
12

نفس الأمر كما أن المرئي في اليقظة كذلك بل هو مثال متخيل يظهره الله تعالى للنفس في المنام كما يظهر لها الأمور الغيبية بعد الموت والنوم والموت أخوان، ووصف
ما ذكر بالباطل لعله من قبيل وصف العالم به في قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وأنت تعلم أن ما ذكره حجة الإسلام ليس مما اتفق عليه علماؤه فقد ذهب جمع إلى أن رؤيته صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة وبغيرها إدراك للمثال، على أن كلام المتكلمين ظاهر المخالفة للكتاب والسنة ولا يكاد يسلم تأويله عن شيء فتأمل. ولعل النوبة تقضي إلى ذكر زيادة كلام في هذا المقام.
وبالجملة إنكار الرؤيا على الإطلاق ليس في محله كيف وقد جاء في مدحها ما جاء. ففي " صحيح مسلم " أيها الناس لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها مسلم أو ترى له. وجاء في أكثر الروايات أنها جزء من ست وأربعين. ووجه ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام عمل بها ستة أشهر في مبدأ الوحي وقد استقام ينزل عليه الوحي ثلاثا وعشرين سنة، ولا يتأتى هذا على رواية خمس وأربعين، وكذا على رواية سبعين جزأ؛ أو رواية ست وسبعين وهي ضعيفة ورواية ست وعشرين وقد ذكرها ابن عبد البر ورواية النووي من أربعة وعشرين والله تعالى أعلم.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) *.
* (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة) * أي حاربتم جماعة من الكفرة ولم يصفها سبحانه لظهور أن المؤمنين لا يحاربون إلا الكفار، وقيل: ليشمل بإطلاقه البغاة ولا ينافيه خصوص سبب النزول، ومنهم من زعم أن الانقطاع معتبر في معنى الفئة لأنها من فأوت أي قطعت والمنقطع عن المؤمنين إما كفار أو بغاة، وبنى على ذلك أنه لا ينبغي أن يقال: لم توصف لظهور الخ وليس بشيء كما لا يخفى، واللقاء قد غلب في القتال كالنزال. وتصدير الخطاب بحرفي النداء والتنبيه إظهارا لكمال الاعتناء بمضمون ما بعده * (فاثبتوا) * للقائهم * (ولا تولوهم الأدبار) * (الأنفال: 15) والظاهر أن المراد إلا وأو على ما مر * (واذكروا الله كثيرا) * أي في تضاعيف القتال، وفسر بعضهم هذا الذكر بالتكبير، وبعضهم بالدعاء ورووا أدعية كثيرة في القتال منها اللهم أنت ربنا وربهم نواصينا ونواصيهم بيدك فاقتلهم واهزمهم، وقيل: المراد بذكره سبحانه إخطاره بالقلب وتوقع نصره، وقيل: المراد اذكروا ما وعدكم الله تعالى من النصر على الأعداء في الدنيا والثواب في الآخرة ليدعوكم ذلك إلى الثبات في القتال * (لعلكم تفلحون) * أي تفوزون بمرامكم من النصر والمثوبة، والأولى حمل الذكر على ما يعم التكبير والدعاء وغير ذلك من أنواع الذكر، وفي الآية تنبيه على أن العبد ينبغي أنه لا يشغله شيء عن ذكر مولاه سبحانه، وذكره جل شأنه في مثل ذلك الموطن من أقوى أدلة محبته جل شأنه، ألا ترى من أحب مخلوقا مثله كيف يقول: ولقد ذكرتك والرماح نواهل * مني وبيض الهند تشرب من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها * برقت كبارق ثغرك المتبسم
* (وأطيعوا الله ورسوله ولا تن‍ازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الص‍ابرين) *.
* (وأطيعوا الله ورسوله) * في كل ما تأتون وما تذرون ويندرج في ذلك ما أمروا به هنا * (ولا تنازعوا) *
13

باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر وأحد. وقرىء * (ولا تنازعوا) * بتشديد التاء * (فتفشلوا) * أي فتجبنوا عن عدوكم وتضعفوا عن قتالهم، والفعل منصوب بأن مقدرة في جواب النهي، ويحتمل أن يكون مجزوما عطفا عليه، وقوله تعالى: * (وتذهب ريحكم) * بالنصب معطوف على * (تفشلوا) * على الاحتمال الأول. وقرأ عيسى بن عمر * (ويذهب) * بياء الغيبة والجزم وهو عطف عليه أيضا على الاحتمال الثاني، والريح كما قال الأخفش مستعارة للدولة لشبهها بها في نفوذ أمرها وتمشيه. ومن كلامهم هبت رياح فلان إذ دالت له الدولة وجرى أمره على ما يريد وركدت رياحه إذا ولت عنه وأدبر أمره وقال: إذا هبت رياحك فاغتنمها * فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها * فما تدري السكون متى يكون
وعن قتادة. وابن زيد أن المراد بها ريح النصر وقالا: لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى تضرب وجوه العدو. وعن النعمان بن مقرن قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تميل الشمس وتهب الرياح، وعلى هذا تكون الريح على حقيقتها، وجوز أن تكون كناية عن النصر وبذلك فسرها مجاهد * (واصبروا) * على شدائد الحرب * (إن الله مع الصابرين) * بالإمداد والإعانة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم بناء على المشهور من حيث أنهم المباشرون للصبر فهم متبوعون من تلك الحيثية.
* (ولا تكونوا ك الذين خرجوا من دي‍ارهم بطرا ورئآء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط) *.
* (ولا تكونوا كالذين خعرجوا من ديارهم) * بعد أن أمروا بما أمروا من أحاسن الأعمال ونهوا عما يقابلها، والمراد بهم أهل مكة أبو جهل وأصحابه حين خرجوا لحماية العير * (بطرا) * أي فخرا وأشرا * (ورئاء الناس) * ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة. روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره أرسل إلى قريش أن أرجعوا فقد سلمت العير فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا ونشرب الخمور وتعزف علينا القينات ونطعم بها من حضرنا من العرب فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا بدل الخمور وناحت عليهم النوائح، بدل القينات وكانت أموالهم غنائم بدلا عن بذلها، ونصب المصدرين على التعليل، ويجوز أن يكونا في موضع الحال، أي بطرين مرائين، وعلى التقديرين المقصود نهى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم في البطر والرياء وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص إذا قلنا: إن النهي عن الشيء أمر بضده.
* (ويصدون عن سبيل الله) * عطف على * (بطرا) * وهو ظاهر على تقدير أنه حال بتأويل اسم الفاعل لأن الجملة تقع حالا من غير تكلف وأما على تقدير كونه مفعولا له فيحتاج إلى تكلف لأن الجملة لا تقع مفعولا له، ومن هنا قيل: الأصل أن يصدوا فلما حذفت أن المصدرية ارتفع الفعل مع القصد إلى معنى المصدرية بدون
سابك كقوله:
ألا أيها الزاجري أحضر الوغى أي عن أن أحضر وهو شاذ
واختير جعله على هذا استئنافا؛ ونكتة التعبير بالاسم أولا والفعل أخيرا أن البطر والرياء دأبهم بخلاف الصد فءنه تجدد لهم في زمن النبوة * (والله بما يعملون محيط) * فيجازيهم عليه.
* (وإذ زين لهم الشيط‍ان أعم‍الهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما ترآءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برىء منكم إنيأرى ما لا ترون إنيأخاف الله والله شديد العقاب) *.
* (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) * مقدر بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين على ما قيل، ويجوز أن يكون المضمر
14

مخاطبا به المؤمنون والعطف على لا تكونوا، أي واذكروا إذ زين لهم الشيطان أعمالهم في معاداة المؤمنين وغيرها بأن وسوس إليهم * (وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) * أي ألقى في روعهم وخيل لهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم وعددهم وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم وحافظ عن السوء حتى قالوا: اللهم أنصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين، فالقول مجاز عن الوسوسة، والإسناد في * (إني جار) * من قبيل الإسناد إلى السبب الداعي و * (لكم) * خبر * (لا) * أو صفة * (غالب) * والخبر محذوف، أي لا غالب كائنا لكم موجود و * (اليوم) * معمول الخبر ولا يجوز تعلق الجار بغالب وإلا لانتصب لشبهه بالمضاف حينئذ، وأجاز البغداديون الفتح وعليه يصح تعلقه به، و * (من الناس) * حال من ضمير الخبر لا من المستتر في * (غالب) * لما ذكرنا، وجملة إني جار تحتمل العطف والحالية * (فلما تراءت الفئتان) * أي تلاقى الفريقان وكثيرا ما يكنى بالترائي عن التلاقي وإنما أول بذلك لمكان قوله تعالى: * (نكص على عقبيه) * أي رجع القهقرى فإن النكوص كان عند التلاقي لا عند الترائي، والتزام كونه عنده فيه خفاء. والجار والمجرور في موضع الحال المؤكدة أو المؤسسة أن فسر النكوص بمطلق الرجوع، وأيا ما كان ففي الكلام استعارة تمثيلية، شبه بطلان كيده بعد تزيينه بمن رجع القهقرى عما يخافه كأنه قيل: لما تلاقتا بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم.
* (وقال إني برىء منكم إني أرى ما لا تعرون إني أخاف الله) * تبرأ منهم إما بتركهم أو بترك الوسوسة لهم التي كان يفعلها أولا وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله تعالى المسلمين بالملائكة عليهم السلام، وإنما لم نقل خاف على نفسه لأن الوسوسة بخوفه عليهم أقرب إلى القبول بل يبعد وسوسته إليهم بخوفه على نفسه، وقيل: إنه لا يخاف على نفسه لأنه من المنظرين وليس بشيء.
وقد يقال: المقصود من هذا الكلام أنه عظم عليهم الأمر وأخذ يخوفهم بعد أن كان يحرضهم ويشجعهم كأنه قال: يا قوم الأمر عظيم والخطب جسيم وإني تارككم لذلك وخائف على نفسي الوقوع في مهاوي المهالك مع أني أقدر منكم على الفرار وعلى مراحل هذه القفار، وحينئذ لا يبعد أن يراد من الخوف الخوف على نفسه حيث لم يكن هناك قول حقيقة، وقال غير واحد من المفسرين: أنه لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينها وبين كنانة من الأحنة والحرب فكاد ذلك يثبطهم فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وكان من أشراف كنانة فقال لهم لا غالب لكم اليوم وإني جار لكم من بني كنانة وحافظكم ومانع عنكم فلا يصل إليكم مكروه منهم فلما رأى الملائكة تنزل من السماء نكص وكانت يده في يد الحرث بن هاشم فقال له: إلى أين أتخذ لنا في هذه الحالة؟ فقال له: إني أرى ما لا ترون فقال: والله ما نرى إلا جعاسيس يثرب فدفع في صدر الحرث وانطلق وانهزم الناس فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغه الخبر فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان، وروى هذا عن ابن عباس. والكلبي. والسدي. وغيرهم، وعليه يحتمل أن يكون معنى قوله: إني أخاف الله إني أخاف أن يصيبني بمكروه من الملائكة أو يهلكني، ويكون الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم ير قبله، وفي " الموطأ " ما رؤي الشيطان يوما هو أصغر فيه ولا أدخر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر فإنه قد رأى جبريل عليه السلام يزع الملائكة عليهم السلام، وما في كتاب " التيجان " من أن إبليس قتل ذلك اليوم مخرج على هذا وإلا فهو تاج سلطان الكذب،
15

وروى الأول عن الحسن واختاره البلخي. والجاحظ، وقوله سبحانه: * (والله شديد العقاب) * يحتمل أن يكون من كلام اللعين وإن يكون مستأنفا من جهته سبحانه وتعالى، وادعى بعضهم أن الأول هو الظاهر إذ على احتمال كونه مستأنفا يكون تقريرا لمعذرته ولا يقتضيه المقام فيكون فضلة من الكلام، وتعقب بأنه بيان لسبب خوفه حيث أنه يعلم ذلك فافهم.
* (إذ يقول المن‍افقون والذين في قلوبهم مرض غر ه‍اؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) *.
* (إذ يقول المنافقون) * ظرف لزين أو نكص أو شديد العقاب، وجوز أبو البقاء أيضا أن يقدر اذكروا * (والذين في قلوبهم مرض) * أي الذين لم تطمئن قلوبهم بالإيمان بعد وبقي فيها شبهة، قيل: وهم فتية من قريش أسلموا بمكة وحبسهم آباؤهم حتى خرجوا معهم إلى بدر. منهم قيس بن الوليد بن المغيرة. والعاص بن منبه بن الحجاج. والحرث بن زمعة. وأبو قيس بن الفاكه، فالمرض على هذا مجاز عن الشبهة.
وقيل: المراد بهم المنافقون سواء جعل العطف تفسيريا أو فسر مرض القلوب بالأحن والعداوات والشك مما هو غير النفاق، والمعنى إذ يقول الجامعون بين النفاق ومرض القلوب، وقيل: يجوز أن يكون الموصول صفة المنافقين، وتوسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف لأن هذه صفة للمنافقين لا تنفك عنهم، أو تكون الواو داخلة بين المفسر والمفسر نحو أعجبني زيد وكرمه، وزعم بعضهم أن ذلك وهم وهو من التحامل بمكان إذ لا مانع من ذلك صناعة ولا معنى، والقول بأن وجه
الوهم فيه أن المنافقين جار على موصوف مقدر أي القوم المنافقون فلا يوصف ليس بوجيه إذ للقائل أن يقول: إنه أجرى المنافقون هنا مجرى الأسماء مع أن الصفة لا مانع من أن توصف وقيام العرض بالعرض دون إثبات امتناعه خرط القتاد، ومن فسر الذين في قلوبهم مرض بأولئك الفئة الذين أسلموا بمكة قال: إنهم لما رأوا قلة المسلمين قالوا: * (غر هؤلاء) * يعنون المؤمنين الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم * (دينهم) * حتى تعرضوا لمن لايدي لهم به فخرجوا وهم ثلثمائة وبضعة عشر إلى زهاء الألف، وعلى احتمال جعله صفة للمنافقين يشعر كلام البعض أن القول لم يكن عند التلاقي، فقد روى عن الحسن أن هؤلاء المنافقين لم يشهدوا القتال يوم بدر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هم يومئذ في المسلمين، وفي القلب من هذا شيء، فإن الذي تشهد له الآثار أن أهل بدر كانوا خلاصة المؤمنين * (ومن يتوكل على الله) * جواب لهم ورد لمقالتهم * (فإن الله عزيز) * غالب لا يذل من توكل عليه ولا يخذل من استجار به وإن قل * (حكيم) * يفعل بحكمته البالغة ما تستبعده العقول، وتحار في فهمه ألباب الفحول. وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه أو أنه قائم مقامه.
* (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا المل‍ائكة يضربون وجوههم وأدب‍ارهم وذوقوا عذاب الحريق) *.
* (ولو ترى) * خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب، والمضارع هنا بمعنى الماضي لأن * (لو) * الامتناعية ترد المضارع ماضيا كما أن إن ترد الماضي مضارعا، أي ولو رأيت * (إذ يتوفى الذين كفروا الملئكة) * الخ لرأيت أمرا فظيعا، ولا بد عند العلامة من حمل معنى المضي هنا على الفرض والتقدير، وليس المعنى على حقيقة المضي، قيل: والقصد إلى استمرار امتناع الرؤية وتجدده وفيه بحث، وإذ ظرف لترى والمفعول محذوف، أي ولو ترى الكفرة أو حالهم حينئذ، و * (الملائكة) * فاعل يتوفى، وتقديم المفعول للاهتمام به، ولم يؤنث الفعل لأن الفاعل غير حقيقي التأنيث، وحسن ذلك الفصل
16

بينهما، ويؤيد هذا الوجه قراءة ابن عامر * (تتوقى) * بالتاء. وجوز أبو البقاء أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى، والملائكة على هذا مبتدأ خبره جملة * (يضربون وجوههم) * والجملة الاسمية مستأنفة، وعند أبي البقاء في موضع الحال، ولم يحتج إلى الواو لأجل الضمير، ومن يرى أنه لا بد فيها من الواو وتركها ضعيف يلتزم الأول، وعلى الأول يحتمل أن يكون جملة يضربون مستأنفة وأن تكون حالا من الفاعل أو المفعول أو منهما لاشتمالها على ضميريهما وهي مضارعية يكتفي فيها بالضمير كما لا يخفى. والمراد من وجوههم ما أقبل منهم، ومن قوله سبحانه: * (وأدبارهم) * ما أدبر وهو كل الظهر. وعن مجاهد أن المراد منه أستاههم ولكن الله تعالى كريم يكنى والأول أولى، وذكرهما يحتمل أن يكون للتخصيص بهما لأن الخزي والنكال في ضربهما أشد ويحتمل أن يراد التعميم على حد قوله تعالى: * (بالغدو والآصال) * لأنه أقوى ألما، والمراد من الذين كفروا قتلى بدر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره.
وروي عن الحسن أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك ضرب الملائكة. وفي رواية عن ابن عباس ما يشعر بالعموم. فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: آيتان يبشر بهما الكافر عند موته وقرأ * (ولو ترى) * الخ، ولعل الرواية عنه رضي الله تعالى عنه لم تصح * (وذوقوا عذاب الحريق) * عطف على * (يضربون) * بإضمار القول، أي ويقولون ذوقوا، أو حال من ضميره كذلك أي ضاربين وجوههم وقائلين ذوقوا، وهو على الوجهين من قول الملائكة، والمراد بعذاب الحريق عذاب النار في الآخرة، فهو بشارة لهم من الملائكة بما هو أدهى وأمر مما هم فيه، وقيل كان مع الملائكة يوم بدر مقامع من حديد كلما ضربوا المشركين بها التهبت النار في جراحاتهم، وعليه فالقول للتوبيخ، والتعبير بذوقوا قيل: للتهكم لأن الذوق يكون في المطعومات المستلذة غالبا، وفيه نكتة أخرى وهو أنه قليل من كثير وأنه مقدمة كأنموذج الذائق. وبهذاالاعتبار يكون فيه المبالغة، وإن أشعر الذوق بقلته.
وذكر بعضهم: وهو خلاف الظاهر أنه يحتمل أن يكون هذا القول من كلام الله تعالى كماف ي آل عمران * (ونقول ذوقوا عذاب الحريق) * وجواب * (لو) * محذوف لتفظيع الأمر وتهويله وتقديره ما أشرنا إليه سابقا، وقدره الطيبي لرأيت قوة أوليائه ونصرهم على أعدائه
* (ذالك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظل‍ام للعبيد) *.
* (ذالك) * أي الضرب والعذاب اللذان هما هما وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: * (بما قدمت أيديك) * والباء للسببية، وتقديم الأيدي مجاز عن الكسب والفعل، أي ذلك واقع بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي، وقوله سبحانه: * (وأن الله ليس بظلام للعبيد) * قيل خبر مبتدأ محذوف، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب من قبلهم، والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم قطعا على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من الظلم.
وقال البيضاوي بيض الله غرة أحواله: هو عطف على * (ما) * للدلالة على أن سببيته مقيدة بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم. لا أن لا يعذبهم بذنوبهم، فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا
17

حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب وأراد بذلك الرد على الزمخشري عامله الله تعالى بعدله حيث جعل كلا من الأمرين سببا بناء على مذهبه في وجوب الأصلح، فقوله: لا أن لا يعذبهم عطف على أن يعذبهم والمعنى أن سبب هذا القيد دفع احتمال أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا احتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم فإنه أمر حسن، وقوله للدلالة الخ على معنى أن تعينه للسببية إنما يحصل بهذا القيد إذ بإمكان تعذيبهم بغير ذنب يحتمل أن يكون سبب التعذيب إرادة العذاب بلا ذنب، فحاصل معنى الآية أن عذابكم هذا إنما نشأ من ذنوبكم لا من شيء آخر. فلا يرد عليه ما قيل: كون تعذيب الله تعالى للعباد بغير ذنب ظلما لا يوافق مذهب الجماعة، وما قيل: إن هذا يخالف ما في آل عمران من أن سببيته للعذاب من حيث أن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضى إثابة المحسن ومعاقبة المسىء مدفوع بأن لنفي الظلم معنيين: أحدهما ما ذكر من إثابة المحسن إلخ،
والآخر عدم التعذيب بلا ذنب وكل منهما يؤول إلى معنى العدل فلا تدافع بين كلاميه. وأما جعله هناك سببا وهنا قيدا للسبب فلا يوجب التدافع أيضا فإن المراد كما ذكرنا فيما قبل بالسبب الوسيلة المحضة وهو وسيلة سواء اعتبر سببا مستقلا أو قيدا للسبب. ولمولانا شيخ الإسلام في هذا المقام كلام لا يخفى عليك رده بعد الوقوف على ما ذكرنا. وقد تقدم لك بسط الكلام فيه، ومن الناس من بين قول القاضي: للدلالة الخ بقوله يريد أن سببية الذنوب للعذاب تتوقف على انتفاء الظلم منه تعالى فإنه لو جاز صدوره عنه سبحانه لأمكن أن يعذب عبيده بغير ذنوبهم. فلا يصلح أن يكون الذنب سببا للعذاب لا في هذه الصورة ولا في غيرها؛ ثم قال: فإن قلت: لا يلزم من هذا إلا نفي انحصار السبب للعذاب في الذنوب لا نفي سببيتها له والكلام فيه إذ يجوز أن يقع العذاب في الصورة المفروضة بسبب غير الذنوب، ولا ينافي هذا كونها سببا له في غير هذه الصورة كما في أهل بدر. فلا يتم التقريب.
قلت: السبب المفروض في الصورة المذكورة إن أوجب استحقاق العذاب يكون ذنبا لا محالة. والمفروض خلافه وإن لم يوجب فلا يتصور أن يكون سببا إذ لا معنى لكون شيء سببا إلا كونه مقتضيا لاستحقاقه له فإذا انتفى هذا ينتفي ذلك، وبالجملة فمآل كون التعذيب من غير ذنب إلى كونه بدون السبب لانحصار السبب فيه انتهى.
ورد بأن قوله: وإن لم يوجب فلا يتوصر أن يكون سببا ممنوع فإن السبب الموجب ما يكون مؤثرا في حصول شيء سواء كان عن استحقاق أو لم يكن، ألا يرى أن الضرب بظلم والقتل كذلك سببان للإيلام والموت مع أنهما ليسا عن استحقاق، فاعتراض السائل واقع موقعه ولا يمكن التقصي عنه إلا بما قرر سابقا من معنى الآية، فإن المقام مقام تعيين السببية وتخصيصها للذنوب وذلك لا يحصل إلا بنفي صدور العذاب بلا ذنب منه سبحانه وتعالى، ومن هنا علم أن قوله: وبالجملة الخ ليس بسديد فإن مبناه كون الاستحقاق شرطا للسببية وقد مر ما فيه مع ما فيه من المخالفة لكلام الاجلة من كون نفي الظلم سببا آخر للتعذيب لأن سببية نفي الظلم موقوفة على إمكان إرادة التعذيب بلا ذنب وكونها سببا للعذاب فكيف يكون مآل كون التعذيب بلا ذنب إلى كونه بدون السبب فتأمل فالمقام معترك الإفهام، ثم أن المراد في الآية نفى نفس الظلم وإنما كثر توزيعا على الآحاد كأنه قيل: ليس بظالم لفلان ولا بظالم لفلان وهكذا فلما جمع هؤلاء عدل إلى ظلام لذلك، وجوز أن يكون إشارة إلى عظم العذاب على سبيل الكناية وذلك لأن الفعل يدل بظاهره على غاية الظلم إذا لم يتعلق بمستحقه فإذا صدر ممن هو أعدل العادلين دل على أنه استحق أشد العذاب لأنه أشد المسيئين. قال في " الكشف ": وهذا أوفق للطائف
18

كلام الله تعالى المجيد، وفيه وجوه أخر مر لك بعضها [بم وقوله تعالى:
* (كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كفروا بآي‍ات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوى شديد العقاب) *.
* (كدأب ءال فرعون) * خبر مبتدأ محذوف أي دأب هؤلاء كائن كدأب الخ؛ والجملة استئناف مسوق لبيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرهم لا بشيء آخر حيث شبه حالهم بحال المعروفين بالإهلاك لذلك لزيادة تقبيح حالهم وللتنبيه على أن ذلك سنة مطردة فيما بين الأمم المهلكة، والدأب العادة المستمرة ومنه قوله: وما زال ذاك الدأب حتى تجادلت * هوازن وارفضت سليم وعامر
والمراد شأنهم الذي استمروا عليه مما فعلوا وفعل بهم من الأخذ كدأب آل فرعون المشهورين بقباحة الأعمال وفظاعة العذاب والنكال * (والذين من قبلهم) * أي من قبل آل فرعون وأصحابه من الأمم الذين فعلوا ما فعلوا ولقوا من العذاب ما لقوا كقوم نوح. وعاد. واضرابهم، وقوله تعالى: * (كفروا بئاي‍ات الله) * تفسير لدأبهم لكن بملاحظة أنه الذي فعلوه لا لدأب آل فرعون ومن بعدهم فإن ذلك معلوم منه بقضية التشبيه.
والجملة لا محل لها من الاعراب لما أشير إليه، وكذا على ما قيل: من أنها مستأنفة استئنافا نحويا أو بيانيا، وقيل: انها حالية بتقدير قد فهي في محل نصب، وقوله سبحانه: * (فأخذهم الله بذنوبهم) * عطف عليها وحكمة في التفسير حكمها لكن بملاحظة الدأب الذي فعل بهم، والفاء لبيان كونه من لوازم جناياتهم وتبعاتها المتفرعة عليها.
وذكر الذنوب لتأكيد ما أفدته الفاء من السببية من الإشارة إلى أن لهم مع كفرهم ذنوبا أخر لها دخل في استتباع العقاب، وجوز أن يراد بذنوبهم معاصيهم المتفرعة على كفرهم فيكون الباء للملابسة أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غير تائبين عنها، وجعل العذاب من جملة دأبهم مع أنه ليس مما يتصور مداومتهم عليه واعتيادهم إياه كما هو المعتبر في مدلول الدأب كما عرفت اما لتغليب ما فعلوه على ما فعل بهم أو لتنزيل مداومتهم على ما يوجبه من الكفر والمعاصي بمنزلة مداومتهم عليه لما بينهما من الملابسة التامة، وإلى كون المراد بدأبهم مجموع ما فعلوه وما فعل بهم يشير ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن آل فرعون أيقنوا بأن موسى عليه السلام نبي الله تعالى فكذبوه كذلك هؤلاء جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالصدق فكذبوه فأنزل الله تعالى لهم عقوبة كما أنزل بآل فرعون، وإلى ذلك ذهب ابن الخازن وغيره، وقيل: المراد بدأبهم ما فعلوا فقط، وقيل: ما فعل بهم فقط، وليس بشيء.
وقوله سبحانه: * (إن الله قوي شديد العقاب) * اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ أي أنه سبحانه لا يغلبه غالب فيدفع عقابه عمن أراد معاقبته.
* (ذالك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) *.
* (ذلك) * اشارة إلى ما يفيده النظم الكريم من كون ما حل بهم من العذاب منوطا بأعمالهم السيئة غير واقع بلا سابقة ما يقتضية، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: * (بأن الله) * إلى آخره، والباء للسببية، والجملة مسوقة لتعليل ما أشير إليه أي ذلك كائن بسبب أن الله سبحانه * (لم يك مغيرا نهمة أنعمها) * أي لم ينبغ له سبحانه ولم يصح في حكمته أن يكون بحيث يغير نعمة أي نعمة كانت جلت أو هانت أنعم بها * (على قوم) * من الأقوام * (حتى يغيروا ما بأنفسهم) * أي ذواتهم من الأعمال والأحوال التي كانوا عليها وقت ملابستهم للنعمة ويتصفوا بما ينافيها سواء كانت أحوالهم السابقة مرضية صالحة أو أهون من الحالة الحادثة كدأب كفرة قريش المذكورين
حيث كانوا قبل البعثة كفرة عبدة أصنام
19

مستمرين على حال مصححة لافاضة نعم الامهال وسائر النعم الدنيوية عليهم كصلة الرحم والكف عن تعرض الآيات والرسل عليهم السلام فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم غيروها على أسوء حال منها وأسخط حيث كذبوه عليه الصلاة والسلام وعادوه ومن تبعه من المؤمنين وتحزبوا عليهم وقطعوا أرحامهم فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من نعمة الامهال ووجه إليهم نبال العقاب والنكال، وقيل: إنهم لما كانوا متمكنين من الايمان ثم لم يؤمنوا كان ذلك كأنه حاصل لهم فغيروه كما قيل في قوله تعالى: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * ولا يخلو عن حسن. وجعل بعضهم الإشارة إلى ما حل بهم ثم أنه لما رأى أن انتفاء تغيير الله تعالى حتى يغيروا لا يقتضي تحقق تغييره إذا غيروا وأن العدم ليس سببا للوجود هنا وأيضا عدم التغيير صارف عما حل بهم لا موجب له بحسب الظاهر قال: إن السبب ليس منطوق الآية بل مفهومها، وهو جرى عادته سبحانه على التغيير حين غيروا حالهم فالسبب ليس انتفاء التغيير بل التغيير، قيل: وإنما أوثر التعبير بذلك لأن الأصل عدم التغيير من الله تعالى لسبق إنعامه ورحمته ولأن الأصل فيهم الفطرة وأما جعله عادة جارية فبيان لما استقر عليه الحال من ذلك لا أن كونه عادة له دخل في السببية، ولا يخفى أن ما ذكرناه أسلم من القيل والقال على أن ما فعله البعض لا يخلو بعد عن مقال فتدبر، وأصل * (يك) * يكن فحذفت النون تخفيفا لشبهها بأحرف العلة في أنها من الزوائد وهي تحذف من أحرف المجزوم فلذا حذفت هذه وهو مختص بهذا الفعل لكثرة استعماله * (وان الله سميع عليم) * عطف على * (أن الله) * الخ داخل معه في حيز التعليل، أي وسبب أنه تعالى سميع عليم يسمع ويعلم جميع ما يأتون ويذرون من الأقوال والأفعال السابقة واللاحقة فيرتب على كل منها ما يليق من إبقاء النعمة وتغييرها. وقرىء * (وإن الله) * بكسر الهمزة فالجملة حينئذ استئناف مقرر لمضمون ما قبله.
* (كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآي‍ات ربهم فأهلكن‍اهم بذنوبهم وأغرقنآ ءال فرعون وكل كانوا ظ‍المين) *.
* (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بئاي‍ات ربهم فأهلكن‍اهم بذنوبهم) * استئناف آخر على ما ذكره بعض المحققين مسوق لتقرير ما سيق له الاستئناف الأول بتشبيه دأبهم بدأب المذكورين لكن لا بطريق التكرير المحض بل بتغيير العنوان وجعل الدأب في الجانبين عبارة عما يلازم معناه الأول من تغيير الحال وتغيير النعمة أخذا مما نطق به قوله تعالى: * (ذلك بأن الله لم يك مغيرا) الخ أي دأب هؤلاء وشأنهم الذي هو عبارة عن التغييرين المذكورين كدأب أولئك حيث غيروا حالهم فغير الله تعالى نعمته عليهم فقوله سبحانه: * (كذبوا بآيات ربهم) * تفسير لدأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم، وأشير بلفظ الرب إلى أن ذلك التغيير كان بكفران نعمه تعالى لما فيه من الدلالة على أنه مربيهم المنعهم عليهم، وقوله سبحانه: * (فاهلكناهم) * تفسير لدأبهم الذي فعل بهم من تغييرهم تعالى ما بهم من نعمته جل شأنه.
وفي الاهلاك رمز إلى التغيير ولذا عبر به دون الأخذ المعبر به أولا وليس الأخذ مثله في ذلك، ألا ترى أنه كثيرا ما يطلق الاهلاك على إخراج الشيء عن نظامه الذي هو عليه ولم نر اطلاق الأخذ على ذلك، وقيل؛ إنما عبر أولا بالأخذ وهنا بالاهلاك لأن جنايتهم هنا الكفران وهو يقتضي أعظم النكال والاهلاك مشير إليه ولا كذلك ما تقدم وفيه نظر، وأما دأب قريش فمستفاد مما ذكر بحكم التشبيه فلله تعالى در التنزيل حيث اكتفى في كل من التشبيهين بتفسير أحد الطرفين، وفي الفرائد أن هذا ليس بتكرير لأن معنى الأول حال هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر فأخذهم وأتاهم العذاب، ومعنى الثاني حال هؤلاء كحال آل فرعون
20

في تغييرهم النعم وتغيير الله تعالى حالهم بسبب ذلك التغيير وهو أنه سبحانه أغرقهم بدليل ما قبله وما ذكرناه أتم تحريرا، واعترضه العلامة الطيبي بأن النظم الكريم يأباه لأن وجه التشبيه في الأول كفرهم المترتب عليه العقاب فكذلك ينبغي أن يكون وجه في الثاني ما يفهم من قوله سبحانه: * (كذبوا) * الخ لأنه مثله لأن كلا منهما جملة مبتدأة بعد تشبيه صالحة لأن تكون وجه الشبه فتحمل عليه كما في قوله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) * (آل عمران: 59) وأما قوله سبحانه: * (ذلك بأن الله) * الخ فكالتعليل لحلول النكال معترض بين التشبيهين غير مختص بقوم بل هو متناول لجميع من يغير نعمة الله تعالى من الأمم السابقة واللاحقة فاختصاصه بالوجه الثاني دون الأول وايقاعه وجها للتشبيه مع وجوده صريحا كما علمت بعيد عمن ذاق معرفة الفصاحتين ووقف على ترتيب النظم من الآيتين انتهى.
ولا يخفى أن هذا غير وارد على ما قدمناه عند التأمل. والقول في التفرقة بين الآيتين أن الأولى لبيان حالهم في استحقاقهم عذاب الآخرة والثانية لبيان استحقاقهم عذاب الدنيا، أو أن المقصود أولا تشبيه حالهم بحال المذكورين في التكذيب والمقصود ثانيا تشبيه حالهم في الاستئصال، أو أن المراد فيما تقدم بيان أخذهم بالعذاب وهنا بيان كيفيته مما لا ينبغى أن يعول عليه. وقال بعض الأكابر: إن قوله سبحانه: * (كدأب) * في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا كائنا كدأب آل فرعون أي كتغييرهم على أن دأبهم عبارة عما فعلوه كما هو الأنسب بمفهوم الدأب، وقوله تعالى: * (كذبوا) * الخ تفسير له بتمامه، وقوله سبحانه: * (فأهلكناهم) * الخ إخبار بترتب العقوبة عليه لا أنه من تمام تفسيره ولا ضير في توسط قوله عز شأنه: * (وأن الله سميع عليم) * بينهما سواء عطفا أو استئنافا، وفيه خروج الآية عن نمط أختها بالكلية. وأيضا لا وجه لتقييد التغيير الذي يترتب عليه تغيير الله تعالى بكونه كتغيير آل فرعون على أن كون الجار في محل النصب على أنه نعت بعيد مع وجود ذلك الفاصل وإن قلنا بجواز الفصل، ومن أنصف علم أن بلاغة التنزيل تقتضي الوجه الأول، والالتفات إلى نون العظمة في أهلكنا جريا على سنن الكبرياء لتهويل الخطب، وهذا لا ينافي النكتة التي أشرنا إليها سابقا كما لا يخفى، والكلام في الفاء وذكر الذنوب على طرز ما ذكرنا في نظيره، وقوله سبحانه: * (وأغرقنا آل فرعون) * عطف على * (أهلكنا) * وفي عطفه عليه مع اندراج مضمونه تحت مضمونه إيذان بكمال هول الاغراق وفظاعته * (وكل) * أي كل من الفرق المذكورين أو كل من هؤلاء وأولئك أو كل من آل فرعون وكفار قريش على ما قيل بناء على أن ما قبله في تشبيه دأب كفرة قريش بدأب آل فرعون صريحا وتعيينا وأن مثله يكفي قرينة للتخصيص * (كانوا ظ‍المين) * أي أنفسهم بالكفر والمعاصي ولو عمم لكان له وجه أو واضعين للكفر والتكذيب مكان الإيمان
والتصديق ولذلك أصابهم ما أصابهم.
* (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون) *.
* (إن شر الدوآب عند الله) * أي في حكمه وقضائه * (الذين كفروا) * أي أصروا على الكفر ورسخوا فيه، وهذا شروع في بيان أحوال سائر الكفرة بعد بيان أحوال المهلكين منهم ولم يقل سبحانه شر الناس إيماء إلى أنهم بمعزل عن مجانستهم بل هم من جنس الدواب وأشر أفراده * (فهم لا يؤمنون) * حكم مترتب على تماديهم في الكفر ورسوخهم فيه وتسجيل عليهم بكونهم من أهل الطبع لا يلويهم صارف ولا يثنيهم عاطف جيء به على وجه الاعتراض، وقيل:
21

عطف على الصلة مفهم معنى الحال كأنه قيل: إن شر الدواب الذين كفروا مصرين على عدم الإيمان، وقيل: الفاء فصيحة أي إذا علمات أن أولئك شر الدواب فاعلم أنهم لا يؤمنون أصلا فلا تتعب نفسك، وقيل: هي للعطف وفي ذلك تنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف حيث جعل ذلك مترتبا عليه ترتب المسبب على سببه والكل كما ترى.
* (الذين ع‍اهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون) *.
* (الذين عاهدت منهم) * بدل من الموصول الأول أو عطف بيان أو نعت أو خبر مبتدأ محذوف أو نصب على الذم، وعائد الموصول قيل: ضمير الجمع المجرور، والمراد عاهدتهم و * (من) * للإيذان بأن المعاهدة التي هي عبارة عن إعطاء العهد وأخذه من الجانبين معتبرة ههنا من حيث أخذه صلى الله عليه وسلم إذ هو المناط لما نعى عليهم من النقض لا اعطاؤه عليه الصلاة والسلام إياهم عهده كأنه قيل: الذين أخذت منهم عهدهم، وإلى هذا يرجع قولهم: إن * (من) * لتضمين العهد معنى الأخذ أي عاهدت آخذا منهم.
وقال أبو حيان: انها تبعيضية لأن المباشر بعضهم لأكلهم، وذكر أبو البقاء أن الجار والمجرور في موضع الحال من العائد المحذوف، أي الذين عاهدتهم كائنين منهم، وقيل: هي زائدة وليس بذاك، وقوله سبحانه: * (ثم ينقضون عهدهم) * عطف على الصلة، وصيغة الاستقبال للدلالة على تعدد النقض وتجدده وكونهم على نيته في كل حال، أي ينقضون عهدهم الذي أخذ منهم * (في كل مرة) * أي من مرات المعاهدة كما هو الظاهر واختاره غير واحد، وجوز أن يراد في كل مرة من مرات المحاربة وفيه بحث * (وهم لا يتقون) * في موضع الحال من فاعل ينقضون، أي يستمرون على النقض والحال أنهم لا يتقون سبة الغدر ومغبته، أو لا يتقون الله تعالى فيه، وقيل: لا يتقون نصرة المسلمين وتسلطهم عليهم، والآية على ما قال جمع نزلت في يهود قريظة عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه فاعانوا المشركين بالسلاح فقالوا نسينا ثم عاهدهم عليه الصلاة والسلام فنكثوا ومالؤهم عليه عليه الصلاة والسلام يوم الخندق وركب كعب إلى مكة فحالفهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج أبو الشخ عن سعيد بن جبير أنها نزلت في ستة رهط من يهود منهم ابن تابوت، ولعله أراد بهم الرؤساء المباشرين للعهد.
* (فإما تثقفنهم فى الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون) *.
* (فإما تثقفنهم) * شروع في بيان أحكامهم بعد تفصيل أحوالهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والثقف يطلق على المصادفة وعلى الظفر، والمراد به هنا المترتب على المصادفة والملاقاة، أي إذا كان حالهم كما ذكر فأما تصادفنهم وتظفرن بهم دفي الحرب) * أي في تضاعيفها * (فشرد بهم * (أي فرق بهم * (من خلفهم) * أي من وراءهم من الكفرة، يعني افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك فعلا من القتل والتنكيل العظيم يفرق عنك ويخافك بسببه من خلفهم ويعتبر به من سمعه من أهل مكة وغيرهم، وإلى هذا يرجع ما قيل: من أن المعنى نكل به ليتعظ من سواهم، وقيل: إن معنى شرد بهم سمع بهم في لغة قريش قال الشاعر: أطوف بالاباطح كل يوم * مخافة أن يشرد بي حكيم
وقرأ ابن مسعود. والأعمش * (فشرذ) * بالذال المعجمة وهو بمعنى شرد بالمهملة، وعن ابن جنى أنه لم يمر بنا في اللغة تركيب شرذ والأوجه أن تكون الذال بدلا من الدال، والجامع بينهما أنهما مجهوران ومتقاربان، وقيل: إنه قلب من شذر، ومنه شذر مذر للمتفرق، وذهب بعض أهل اللغة إلى أنها موجودة ومعناها التنكيل
22

ومعنى المهمل التفريق كما قاله قطرب لكنها نادرة، وقرأ أبو حيون * (من خلفهم) * بمن الجارة، والفعل عليها منزل منزلة اللازم كما في قوله: يجرح في عراقيبها نصلي
فالمعنى افعل التشريد من ورائهم، وهو في معنى جعل الوراء ظرفا للتشريد لتقارب معنى * (من) * و * (فيذ تقول: اضرب زيدا من رواء عمرو وورائه أي في وراءه، وذلك يدل على تشريد من في تلك الجهة على سبيل الكناية فإن إيقاع التشريد في الوراء لا يتحقق إلا بتشريد من وراءهم فلا فرق بين القراءتين الفتح والكسر إلا في المبالغة * (لعلهم يذكرون) * أي لعل المشردين يتعظون بما يعلمونه مما نزل بالناقضين فيرتدعون عن النقض قيل: أو عن الكفر.
* (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخ‍ائنين) *.
* (وإما تخافن من قوم خيانة) * بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد اثر بيان أحكام الناقضين له بالفعل، والخوف مستعار للعلم، أي واما تعلمن من قوم معاهدين لك نقض عهد فيما سيأتي بما يلوح لك منهم من الدلائل * (فانبذ آليهم) * أي فاطرح إليهم عهدهم، وفيه استعارة مكنية تخييلية * (على سواء) * أي على طريق مستو وحال قصد بأن تظهر لهم النقض وتخبرهم اخبارا مكشوفا بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد كيلا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلا، فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المستكن في * (انبذ) * أي فانبذ إليهم ثابتا على سواء، وجوز أن يكون حالا من ضمير إليهم أو من الضميرين معا، أي حال كونهم كائنين على استواء في العلم بنقض العهد بحيث يستوي فيه أقصاهم وادناهم، أو حال كونك أنت وهم على استواء في ذلك، ولزوم
الإعلام عند أكثر العلماء الأعلام إذا لم تنقض مدة العهد أو لم يستفض نقضهم له ويظهر ظهورا مقطوعا به أما إذا انقضت المدة أو استفاض النقض وعلمه الناس فلا حاجة إلى ما ذكر، ولهذا غزا النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة من غير نبذ ولم يعلمهم بأنهم كانوا نقضوا العهد علانية بمعاونتهم بني كتانة على قتل خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم * (إن الله لا يحب الخائنين) * تعليل للأمر بالنبذ باعتبار استلزامه للنهي عن المناجزة التي هي خيانة فيكون تحذيرا للنبي صلى الله عليه وسلم منها.
وجوز أن يكون تعليلا لذلك باعتبار استتباعه للقتال بالآخرة فتكون حثا له صلى الله عليه وسلم على النبذ أولا وعلى قتالهم ثانيا، كأنه قيل: وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ثم قاتلهم إن الله لا يحب الخائنين وهم من جملتهم لما علمت حالهم، والأول هو المتبادر، وعلى كلا التقديرين المراد من نفي الحب إثبات البغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض بالنسبة إليه تعالى:
* (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) *.
* (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا) * بياء الغيبة وهي قراءة حفص. وابن عامر. وأبي جعفر. وحمزة، وزعم تفرد الأخير بها وهم كزعم أنها غير نيرة، فقد نص في التيسير على أنه قرأ بها إلا ولان أيضا، وفي المجمع على أنه قرأ بها الأربعة، وقال المحققون: إنها أنور من الشمس في رابعة النهار لأن فاعل يحسبن الموصول بعده ومفعوله الأول محذوف أي أنفسهم وحذف للتكرار والثاني جملة سبقوا، أي لا يحسبن أولئك الكافرون أنفسهم سابقين أي مفلتين من أن يظفر بهم.
والمراد من هذا إقناطهم من الخلاص وقطع أطماعهم الفارغة من الانتفاع بالنبذ، والاقتصار على دفع هذا التوهم وعدم دفع توهم سائر ما تتعلق به أمانيهم الباطلة من مقاومة المؤمنين أو الغلبة عليهم للتنبيه على أن ذلك مما لا يحوم عليه عقاب وهمهم وحسبانهم وإنما الذي يمكن أن يدور في خلدهم حسبان المناص فقط، ويحتمل أن يكون الفاعل ضميرا مستترا، والحذف لا يخطر بالبال كما توهم، أي لا يحسبن هو أي
23

أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو الحاسب أو من خلفهم أو أحد، وهو معلوم من الكلام فلا يرد عليه أنه لم يسبق له ذكر، ومفعولا الفعل الذين كفروا وسبقوا، وحكى عن الفراء أن الفاعل الذين كفروا وان سبقوا بتقدير أن سبقوا فتكون أن وما بعدها سادة مسد المفعولين، وأيد بقراءة ابن مسعود * (أنهم سبقوا) *.
واعترضه أبو البقاء. وغيره بأن أن المصدرية موصول وحذف الموصول ضعيف في القياس شاذ في الاستعمال لم يرد منه إلا شيء يسير - كتسمع بالمعيدي خير من أن تراه - ونحوه فلا ينبغي أن يخرج كلام الله تعالى عليه.
وقرأ من عدا من ذكر * (تحسبن) * بالتاء الفوقية على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من له حظ في الخطاب * (والذين كفروا سبقوا) * مفعولاه ولا كلام في ذلك.
وقرأ الأعمس * (ولا تحسب الذين) * بكسر الباء وفتحها على حذف النون الخفيفة، وقوله تعالى: * (إنهم لا يعجزون) * أي لا يفوتون الله تعالى أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم تعليل للنهي على طريق الاستئناف. وقرأ ابن عامر * (أنهم) * بفتح الهمزة وهو تعليل أيضا بتقدير اللام المطرد حذفها في مثله.
وقيل: الفعل واقع عليه، و * (لا) * صلة ويؤيده أنه قرىء بحذفها و * (سبقوا) * حال بمعنى سابقين أي مفلتين هاربين.
وضعف بأن * (لا) * لا تكون صلة في موضع يجوز أن لا تكون كذلك وبأن المعهود كما قال أبو البقاء في المفعول الثاني لحسب في مثل ذلك أن تكون أن فيه مكسورة، وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى أن يحذر من عاقبة النبذ لما أنه ايقاظ للعدو وتمكين لهم من الهرب والخلاص من أيدي المؤمنين، وفيه نفي لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغ وجه وآكده كما يشير إليه. وذكر الجبائي أن * (لا يعجزون) * على معنى لا يعجزونك على أنه خطاب أيضا للنبي عليه الصلاة والسلام ولا يخلو عن حسن، والظاهر أن عدم الاعجاز كيفما قدر المفعول اشارة إلى أنه سبحانه سيمكن منهم في الدنيا، فما روي عن الحسن أن المعنى لا يفوتون الله تعالى حتى لا يبعثهم في الآخرة غريب منه ان صح. وادعى الخازن أن المعنى على العموم على معنى لا يعجزون الله تعالى مطلقا اما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة بعذاب النار. وذكر أن فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيمن فاته من المشركين ولم ينتقم منه. وهو ظاهر على القول بأن الآية نزلت فيمن أفلت من فل المشركين، وروي ذلك عن الزهري. وقرىء * (يعجزون) * بالتشديد.
وقرأ ابن محيصن * (يعجزون) * بكسر النون بتقدير يعجزونني فحذفت إحدى النونين للتخفيف والياء اكتفاء بالكسرة، ومثله كثير في الكتاب.
* (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شىء فى سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) *.
* (وأعدوا لهم) * خطاب لكافة المؤمنين لما أن المأمور به من وظائف الكل أي أعدوا لقتال الذين نبذ إليهم العهد وهيئوا لحرابهم كما يقتضيه السباق أو لقتال الكفار على الاطلاق وهو الأولى كما يقتضيه ما بعده * (ما استطعتم من قوة) * أي من كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان، وأطلق عليه القوة مبالغة، وإنما ذكر هذا لأنه لم يكن له في بدر استعداد تام فنبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير القوة بأنواع الأسلحة، وقال عكرمة: هي الحصون والمعاقل. وفي رواية أخرى عنه أنها ذكور الخيل.
وأخرج أحمد. ومسلم. وخلق كثير عن عقبة بن عامر الجهني قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول
24

وهو على المنبر: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة إلا أن القوة الرمي قالها ثلاثا " والظاهر العموم إلا أنه عليه الصلاة والسلام خص الرمي بالذكر لأنه أقوى ما يتقوى
بها فهو من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة ".
وقد مدح عليه الصلاة والسلام الرمي وأمر بتعلمه في غير ما حديث، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام " كل شيء من لهو الدنيا باطل إلا ثلاثة انتضالك بقوسك وتأدبك فرسك وملاعبتك أهلك فانها من الحق " وجاء في رواية أخرها النسائي وغيره " كل شيء ليس من ذكر الله تعالى فهو لغو وسهو إلا أربع خصال مشى الرجل بين الغرضين وتأديب فرسه وملاعبته أهله وتعليم السباحة " وجاء أيضا " انتضلوا واركبوا وأن تنتضلوا أحب إلي ان الله تعالى ليدخل بالسهم والواحد ثلاثة الجنة صانعه محتسبا والمعين به والرامي به في سبيل الله تعالى ".
وأنت تعلم أن الرمي بالنبال اليوم لا يصيب هدف القصد من العدو لأنهم استعلموا الرمي بالبندي والمدافع ولا يكاد ينفع معهما نبل وإذا لم يقابلوا بالمثل عم الداء العضال واستد الوبال والنكال وملك البسيطة أهل الكفر والضلال فالذي أر اده والعلم عند الله تعالى تعين تلك المقابلة على أئمة المسلمين وحماة الدين، ولعل فضل ذلك الرمي يثبت لهذا الرمي لقيامه مقامه في الذب عن بيضة الإسلام ولا أرى ما فيه من النار للضرورة الداعية إليه إلا سببا للفوز بالجنة إن شاء الله تعالى، ولا يبعد دخول مثل هذا الرمي في عموم قوله سبحانه: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) * * (ومن رباط الخيل) * الرباط قيل: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله تعالى على أن فعال بمعنى مفعول أو مصدر سميت به يقال: ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا. واعترض بأنه يلزم على ذلك اضافة الشيء لنفسه.
ورد بأن المراد أن الرباط بمعنى المربوط مطلقا إلا أنه استعمل في الخيل وخص بها فالإضافة باعتبار المفهوم الأصلي. وأجاب القطب بأن الرباط لفظ مشترك بين معاني الخيل وانتظار الصلاة بعد الصلاة والإقامة على جهاد العدو بالحرب، ومصدر رابطت أن لازمت فاضيف إلى أحد معانيه للبيان كما يقال: عين الشمس وعين الميزان، قيل: ومنه يعلم أنه يجوز أضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركا، وإذا كانت الإضافة من إضافة المطلق إلى المقيد فهي على معنى من التبعيضية، وجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال أو جمع ربط ككعب وكعاب وكلب وكلاب. وعن عكرمة تفسيره بإناث الخيل وهو كتفسيره القوة بما سبق قريبا بعيد، وذكر ابن المنيران المطابق للرمي أن يكون الرباط على بابه مصدرا، وعلى تفسير القوة بالحصون يتم التناسب بينه وبين رباط الخيل لأن العرب سمت الخيل حصونا وهي الحصون التي لا تحاصر كما في قوله: ولقد علمت على تجنبي الردا * أن الحصون الخيل لا مدر القرى
وقال: وحصنى من الأحداث ظهر حصاني
وقد جاء مدحها فيما لا يحصى من الأخبار وصح " الخيل معقود في نواصها الخير إلى يوم القيامة ".
وأخرج أحمد عن معقل بن يسار. والنسائي عن أنس لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل. وميز صلى الله عليه وسلم بعض أصنافها على بعض. فقد أخرج أبو عبيدة عن الشعبي في حديث رفعه " التمسوا الحوائج على الفرس الكميت الارثم المحجل الثلاث المطلق اليد اليمنى ".
وأخرج أبو داود. والترمذي وحسنه عن ابن عباس رضي الله تعالى تعالى عنه قال: " كان رسول الله / صلى الله عليه وسلم
25

يكره الشكال من الخيل " واختلف في تفسيره ففي النهاية الشكال في الخيل أن تكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة تشبيها بالشكال الذي يشكل به الخيل لأنه يكون في ثلاث قوائم غالبا وقيل: هو أن تكون الواحدة محجلة والثلاث مطلقة، وقيل: هو أن تكون احدى يديه وإحدى رجليه من خلاف محجلتين، وإنما كرهه عليه الصلاة والسلام تفاؤلا لأنه كالمشكول صورة، ويمكن أن يكون جرب ذلك الجنس فلم يكن فيه نجابة، وقيل: إذا كان مع ذلك أغرب زالت الكراهة لزوال شبه الشكال انتهى.
ولا يخفى عليك أن حديث الشعبي يشكل على القول الأول إلا أن يقال: إنه يخصص عمومه وإن حديث التفاؤل غير ظاهر، والظاهر التشاؤم وقد جاء " إنما الشؤم في ثلاث في الفرس والمرأة والدار " وحمله الطيبي على الكراهة التي سببها ما في هذه الأشياء من مخالفة الشرع أو الطبع كما قيل شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وشؤم المرأة عقمها وسلاطة لسانها وشؤم الفرس أن لا يغزي عليها، لكن قال الجلال السيوطي في فتح المطلب المبرور: أن حديث التشاؤم بالمرأة والدار والفرس قد اختلف العلماء فيه هل هو على ظاهره أو مؤول؟ والمختار أنه على ظاهره وهو ظاهر قول مالك انتهى. ولا يعارضه ما صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ذكر الشؤم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: " إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس فانه ليس نصا في استثناء نقيض المقدم وان حمله عياض على ذلك لاحتمال أن يكون على حد قوله صلى الله عليه وسلم: " قد كان فيمن قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتى منهم أحد فإنه عمر بن الخطاب " وقد ذكروا هناك أن التعليق للدلالة على التأكيد والاختصاص ونظيره في ذلك إن كان لي صديق فهو زيد فإن قائله لا يريد به الشك في صداقة زيد بل المبالغة في أن الصداقة مختصة به لا تتخطاه إلى غيره ولا مخطور في اعتقاد ذلك بعد اعتقاد أن المذكورات أمارات وأن الفاعل هو الله تبارك وتعالى: وقرأ الحسن * (ومن ربط الخيل) * بضم الباء وسكونها جمع رباط، وعطف ما ذكر على القوة بناء على المعنى الأول لها للايذان بفضلها على سائر افرادها كعطف جبريل وميكال على الملائكة عليهم السلام * (ترهبون به) * أي تخوفون به، وعن الراغب أن الرهبة والرهب مخافة مع تحرز واضطراب وعن يعقوب أنه قرأ * (ترهبون) * بالتشديد.
وقرأ ابن عباس. ومجاهد * (تخزون) * والضمير المجرور لما استطعتم أو للاعداد وهو الأنسب، والجملة في محل النصب على الحالية من فاعل أعدوا أي أعدوا مرهبين به، أو من الموصول كما قال أبو البقاء، أو من عائدة المحذوف أي أعدوا ما استطعتموه مرهبا به، وفي الآية إشارة إلى عدم تعين القتال لأنه قد يكون لضرب الجزية ونحوه مما يترتب على ارهاب المسلمين بذلك * (عدو الله) * المخالفين لأمره سبحانه * (وعدوكم) * المتربصين بكم الدوائر، والمراد بهم على ما ذكره جمع أهل مكة وهم في الغاية القصوى من العداوة، وقيل: المراد هم وسائر كفاء العرب * (وءاخرين من دونهم) * أي من غيرهم من الكفرة، وقال مجاهد: هم بنو قريظة، وقال مقاتل: وابن زيد: هم المنافقون، وقال السدى: هم أهل فارس.
وأخرج الطبراني. وأبو الشيخ. وابن المنذر. وابن مردويه. وابن عساكر. وجماعة عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هم الجن ولا يخبل الشيطان إنسانا في داره
26

فرس عتيق " وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا، واختاره الطبري وإذا صح الحديث لا ينبغي العدول عنه، وقوله سبحانه: * (لا تعلمونهم) * أي لا تعرفونهم بأعيانهم * (الله يعلمهم) * لا غير في غاية الظهور وله وجه على غير ذلك وإطلاق العلم على المعرفة شائع وهو المراد هنا كما عرفت ولذا تعدى إلى مفعول واحد، وإطلاق العلم بمعنى المعرفة على الله تعالى لا يضر. نعم منع الأكثر إطلاق المعرفة عليه سبحانه وجوزه البعض بناء على إطلاق العارف عليه تعالى في " نهج البلاغة " وفيه بحث، وبالجملة لا حاجة إلى القول بأن الإطلاق هنا للمشاكلة لما قبله، وجوز أن يكون العلم على أصله ومفعوله الثاني محذوف أي لا تعلمونهم معادين أو محاربين لكم بل الله تعالى يعلمهم كذلك وهو تكلف، واختار بعضهم أن المعنى لا تعلمونهم كما هم عليه من العداوة وقال: إنه الأنسب بما تفيده الجملة الثانية من الحصر نظرا إلى تعليق المعرفة بالأعيان لأن أعيانهم معلومة لغيره تعالى أيضا وهو مسلم نظرا إلى تفسيره، وأما الاحتياج إليه في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم ففيه تردد.
* (وما تنفقوا من شيء) * جل أو قل * (في سبيل الله) * وهي وجوه الخير والطاعة ويدخل في ذلك النفقة في الإعداد السابق والجهاد دخولا أوليا، وبعضهم خصص اعتبارا للمقام * (يوف إليكم) * أي يؤدي بتمامه والمراد يؤدي إليكم جزاؤه فالكلام على تقدير المضاف أو التجوز في الإسناد * (وأنتم لا تظلمون) * بترك الإثابة أو بنقص الثواب، وفي التعبير عن ذلك بالظلم مع أن له سبحانه أن يفعل ما يشاء للمبالغة كما مر.
* (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) *.
* (وإن جنحوا) * الجنوح الميل ومنه جناح الطائر لأنه يتحرك ويميل ويعدى باللام وبإلى أي وإن مالوا * (للسلم) * أي الاستسلام والصلح. وقرأ ابن عباس. وأبو بكر. بكسر السين وهو لغة * (فاجنح لها) * أي للسم، والتأنيث لحمله على ضده وهو الحرب فإنه مؤنث سماعي. وقال أبو البقاء: إن السلم مؤنث ولم يذكر حديث الحمل وأنشدوا: السلم تأخذ منها ما رضيت به * والحرب تكفيك من أنفاسها جرع
وقرأ الأشهب العقيلي * (فاجنح) * بضم النون على أنه من جنح يجنح كقعد يقعد وهي لغة قيس والفتح لغة تميم وهي الفصحى، والآية قيل مخصوصة بأهل الكتاب فإنها كما قال مجاهد. والسدي نزلت في بني قريظة وهي متصلة بقصتهم بناء على أنهم المعنيون بقوله تعالى: * (الذين عاهدت) * (الأنفال: 56) الخ، والضمير في * (وأعدوا لهم) * لهم، وقيل: هي عامة للكفار لكنها منسوخة بآية السيف لأن مشركي العرب ليس لهم إلا الإسلام أو السيف بخلاف غيرهم فإنه تقبل منهم الجزية، وروي القول بالنسخ عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة، وصحح أن الأمر فيمن تقبل منهم الجزية على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا أو يجابوا إلى الهدنة أبدا، وادعى بعضهم أنه لا يجوز للإمام أن يهادن أكثر من عشر سنين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صالح أهل مكة هذه المدة ثم إنهم نقضوا قبل انقضائها كما مر فتذكر، * (وتوكل على الله) * أي فوض أمرك إليه سبحانه ولا تخف أن يظهروا لك السلم وجوانحهم مطوية على المكر والكيد * (إنه) * جل شأنه * (هو السميع) * فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع * (العليم) * فيعلم نياتهم
27

فيؤاخذهم بما يستحقونه ويرد كيدهم في نحرهم.
* (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذىأيدك بنصره وبالمؤمنين) *.
* (وإن يريدوا أن يخدعوك) * بإظهار السلم * (فإن حسبك الله) * أي محسبك الله وكافيك وناصرك عليهم فلا تبال بهم، فحسب صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل والكاف في محل جر كما نص عليه غير واحد وأنشدوا لجرير: إني وجدت من المكارم حسبكم * أن تلبسوا حر الثياب وتشبعوا
وقال الزجاج: إنه اسم فعل بمعنى كفاك والكاف في محل نصب، وخطأه فيه أبو حيان لدخول العوامل عليه وإعرابه في نحو بحسبك درهم ولا يكون اسم فعل هكذا * (هو) * عز وجل * (الذي أيدك بنصره) * استئناف مسوق لتعليل كفايته تعالى إياه صلى الله عليه وسلم فإن تأييده عليه الصلاة والسلام فيما سلف على الوجه الذي سلف من دلائل تأييده صلى الله عليه وسلم فيما سيأتي، أي هو الذي أيدك بإمداده من عنده بلا واسطة، أو بالملائكة مع خرقه للعادات * (وبالمؤمنين) * من المهاجرين والأنصار على ما هو المتبادر.
وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه. والنعمان بن بشير. وابن عباس. والسدي أنهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم.
* (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الارض جميعا مآ ألفت بين قلوبهم ول‍اكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) *.
* (وألف بين قلوبهم) * مع ما جبلوا عليه كسائر العرب من الحمية والعصبية والانطواء على الضغينة والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة.
وقيل: إن الأنصار وهم الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب ما أهلك ساداتهم ودق جماجمهم ولم يكن لبغضائهم أمد وبينهم التجاور الذي يهيج الضغائن ويديم التحاسد والتنافس فأنساهم الله تعالى ما كان بينهم فاتفقوا على الطاعة وتصافوا وصاروا أنصارا وعادوا أعوانا وما ذاك إلا بلطيف صنعه تعالى وبليغ قدرته جل وعلا. واعترض هذا القول بأنه ليس في السياق قرينة عليه. وأجيب بأن كون المؤمنين مؤيدا بهم يشعر بكونهم أنصارا ولا يخفى ضعفه ولا تجد له أنصارا، وبالجملة ما وقع من التأليف من أبهر معجزاته عليه الصلاة والسلام * (لو أنفقت ما في الأرض جميعا) * أي لتأليف ما بينهم * (ما ألفت بين قلوبهم) * لتناهي عداوتهم وقوة أسبابها، والجملة
استئناف مقرر لما قبله ومبين لعزة المطلب وصعوبة المأخذ، والخطاب لكل واقف عليه لأنه لا مبالغة في انتفاء ذلك من منفق معين، وذكر القلوب للإشعار بأن التأليف بينها لا يتسنى وإن أمكن التأليف ظاهرا * (ول‍اكن الله) * جلت قدرته * (ألف بينهم) * قلبا وقالبا بقدرته البالغة * (إنه عزيز) * كامل القدرة والغلبة لا يستعصى عليه سبحانه شيء يما يريد * (حكيم) * يعلم ما يليق تعلق الإرادة به فيوجده بمقتضى حكمته عز وجل، ومن آثار عزته سبحانه تصرفه بالقلوب الأبية المملوءة من الحمية الجاهلية، ومن آثار حكمته تدبير أمورهم على وجه أحدث فيهم التواد والتحاب فاجتمعت كلمتهم، وصاروا جميعا كنانة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذابين عنه بقوس واحدة، والجملة على ما قال الطيبي كالتعليل للتأليف هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: * (واعلموا أنما غنمتم من شيء) * إلى قوله سبحانه: * (والله شديد العقاب) * (الأنفال: 41 - 48) طبقه بعض العارفين على ما في الأنفس فقال: * (واعلموا) * أي أيها القوى الروحانية * (أنما غنمتم من شيء) * من العلوم النافعة * (فأن لله خمسه) * وهي كلمة التوحيد التي هي الأساس الأعظم للدين * (وللرسول) * الخاص وهو القلب * (ولذي القربى) * الذي هو السر * (واليتامى) * من القوة النظرية والعملية * (والمساكين) * من القوى
28

النفسانية * (وابن السبيل) * الذي هو النفس السالكة الداخلة في الغربة السائحة في منازل السلوك النائية عن مقرها الأصلي باعتبار التوحيد التفصيلي والأخماس الأربعة الباقية بعد هذا الخمس من الغنمية تقسم على الجوارح والأركان والقوى الطبيعية * (إن كنتم آمنتم بالله) * تعالى الإيمان الحقيقي جمعا * (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) * وقت التفرقة بعد الجمع تفصيلا * (يوم التقى الجمعان) * من فريقي القوى الروحانية والنفسانية عند الرجوع إلى مشاهدة التفصيل في الجمع * (والله على كل شيء قدير) * فيتصرف فيه حسب مشيئته وحكمته * (إذ أنتم بالعدوة الدنيا) * أي القريبة من مدينة العلم ومحل العقل الفرقاني * (وهم بالعدوة القصوى) * أي البعيدة من الحق * (والراكب) * أي ركب القوى الطبيعية الممتارة * (أسفل منكم) * معشر الفريقين * (ولو تواعدتم) * اللقاء للمحاربة من طريق العقل دون طريق الرياضة * (لاختلفتم في الميعاد) * لكون ذلك أصعب من خرط القتاد * (ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا) * قدرا محققا فعل ذلك * (ليهلك من هلك عن بينة) * وهي النفس الملازمة للبدن الواجب الفناء * (ويحيي من حي عن بينة) * وهي الروح المجردة المتصلة بعالم القدس الذي هو معدن الحياة الحقيقية الدائم البقاء، وبينة الأول تلك الملازمة وبينة الثاني ذلك التجرد والاتصال * (إذ يريكهم الله) * أيها القلب * (في منامك) * وهو وقت تعطل الحواس الظاهرة وهدوء القوى البدنية * (قليلا) * أي قليل القدر ضعاف الحال * (ولو أراكهم كثيرا) * في حال غلبة صفات النفس * (لفشلتم ولتنازعتم في الأمر) * أمر كسرها وقهرها لانجذاب كل منكم إلى جهة * (ولكن الله سلم) * من الفشل والتنازع بتأييده وعصمته * (إنه عليم بذات الصدور) * أي بحقيقتها فيثبت علمه بما فيها من باب الأولى * (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم) * وهم القوى النفسانية خرجوا من مقارهم وحدودهم * (بطرا) * فخرا وأشرا * (ورئاء الناس) * وإظهارا للجلادة.
وقال بعضهم: حذر الله تعالى بهذه الآية أولياءه عن مشابهة أعدائه في رؤية غيره سبحانه * (ويصدون عن سبيل الله) * وهو التوحيد والمعرفة * (وإذ زين لهم الشيطان) * أي شيطان الوهم * (أعمالهم) * في التغلب على مملكة القلب وقواه * (وقال لا غالب لكم اليوم من الناس) * أوهمهم تحقيق أمنيتهم بأن لا غالب لكم من ناس الحواس وكذا سائر القوى * (وإني جار لكم) * أمدكم وأقويكم وأمنعكم من ناس القوى الروحانية * (فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه) * لشعوره بحال القوى الروحانية وغلبتها لمناسبته إياها من حيثية إدراك المعاني * (وقال إني برىء منكم) * لأني لست من جنسكم * (إني أرى ما لا ترون) * من المعاني ووصول المدد إليهم من سماء الروح وملكوت عالم القدس * (إني أخاف الله) * سبحانه لشعور ببعض أنواره وقهره، وذكر الواسطي بناء على أن المراد من الشيطان الظاهر، أن اللعين ترك ذنب الوسوسة إذ ذاك لكن ترك الذنب إنما يكون حسنا إذا كان إجلالا وحياء من الله تعالى لا خوفا من البطش فقط وهو لم يخف إلا كذلك * (والله شديد العقاب) * إذ صفاته الذاتية والفعلية في غاية الكمال اه‍ بأدنى تغيير وزيادة. وذكر أن الفائدة في مثل هذا التأويل تصوير طريق السلوك للتنشيط في الترقي والعروج * (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا) * وهم الذين غلبت عليهم صفات النفس * (الملائكة) * أي ملائكة القهر والعذاب * (يضربون وجوههم) * لإعراضهم عن عالم الأنوار ومزيد الكبر والعجب * (وأدبارهم) * لميلهم إلى عالم الطبيعة ومضاعف الشهوة والحرص ويقولون لهم * (ذوقوا عذاب الحريق) * وهو عذاب الحرمان وفوات المقصود * (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) * أي حتى يفسدوا استعدادهم فلا تبقى لهم مناسبة للخير وحينئذ يغير سبحانه النعمة
29

إلى النقمة لطلبهم إياها بلسان الاستعداد وإلا فالله تعالى أكرم من أن يسلب نعمة شخص مع بقاء استحقاقها فيه.
* (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) * لجهلهم بربهم وعصيانهم له دون سائر الدواب * (فهم لا يؤمنون) * لغلبة شقاوتهم ومزيد عتوهم وغيهم * (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة) * من مرات المعاهدة لأن ذلك شنشنة فيهم مع مولاهم، ألا ترى كيف نقضوا عهد التوحيد الذي أخذ منهم في منزل * (ألست بربكم) * * (وهم لا يتقون) * العار ولا النار * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) * قال أبو علي الروزباري: القوة هي الثقة بالله تعالى، وقال بعضهم: هي الرمي بسهام التوجه إلى الله تعالى عن قسي الخضوع والاستكانة * (هو الذي أيدك بنصره) * الذي لم يعهد مثله * (وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم) * بجذبها إليه تعالى وتخليصها مما يوجب العداوة والبغضاء، أو لكشفه سبحانه لها عن حجب الغيب حتى تعارفوا فيه والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف * (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) * لصعوبة الأمر وكثافة الحجاب * (ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) * والتأليف من آثار ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
* (ي‍اأيها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) *.
* (يا أيها النبي) * شروع في بيان كفايته تعالى إياه عليه الصلاة والسلام في جميع أموره وحده أو مع أمور المؤمنين أو في الأمور المتعلقة بالكفار كافة إثر بيان الكفاية في مادة خاصة؛ وتصدير الجملة بحرفي النداء والتنبيه للنداء والتنبيه على الاعتناء بمضمونها، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان النبوة للإشعار بعلية الحكم كأنه قيل: يا أيها النبي * (حسبك الله) * أي كافيك في جميع أمورك أو فيما بينك وبين الكفرة من الحراب لنبوتك.
* (ومن اتبعك من المؤمنين) * قال الزجاج: في محل النصب على المفعول معه كقوله على بعض الروايات: فحسبك والضحاك سيف مهند * إذا كانت الهيجاء واشتجر القنا
وتعقبه أبو حيان بأنه مخالف لكلام سيبويه فإنه جعل زيدا في قولهم: حسبك وزيدا درهم منصوبا بفعل مقدر أي وكفى زيدا درهم وهو من عطف الجمل عنده انتهى، وأنت تعلم أن سيبويه كما قال ابن تيمية لأبي حيان لما احتج عليه بكلامه حين أنشد له قصيدة فغلطه فيها ليس نبي النحو فيجب اتباعه، وقال الفراء: إنه يقدر نصبه على موضع الكاف، واختاره ابن عطية، وورده السفاقسي بأن إضافته حقيقية لا لفظية فلا محل له اللهم إلا أن يكون من عطف التوهم وفيه ما فيه.
وجوز أن يكون في محل الجر عطفا على الضمير المجرور وهو جائز عند الكوفيين بدون إعادة الجار ومنعه البصريون بدون ذلك لأنه كجزء الكلمة فلا يعطف عليه، وأن يكون في محل رفع إما على أنه مبتدأ والخبر محذوف أي ومن اتبعك من المؤمنين كذلك أي حسبهم الله تعالى، وإما على أنه خبر مبتدأ محذوف أي وحسبك من اتبعك، وإما على أنه عطف على الاسم الجليل واختاره الكسائي. وغيره. وضعف بأن الواو للجمع ولا يحسن ههنا كما لم يحسن في ما شاء الله تعالى وشئت والحسن فيه ثم وفي الإخبار ما يدل عليه اللهم إلا أن يقال بالفرق بين وقوع ذلك منه تعالى وبين وقوعه منا. والآية على ما روي عن الكلبي نزلت في البيداء في غزوة بدر قبل القتال، والظاهر شمولها للمهاجرين والأنصار. وعن الزهري أنها نزلت في الأنصار.
وأخرج الطبراني. وغيره عن ابن عباس. وابن المنذر عن ابن جبير. وأبو الشيخ عن ابن المسيب أنها نزلت يوم أسلم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مكملا أربعين مسلما ذكورا وإناثا هن ست وحينئذ تكون مكية.
30

و (من) يحتمل أن تكون بيانية وأن تكون تبعيضية وذلك للاختلاف في المراد بالموصول.
* (ياأيها النبى حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون ص‍ابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) *.
* (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) * بعد أن بين سبحانه الكفاية أمر جل شأنه نبيه صلى الله عليه وسلم بترتيب بعض مباديها، وتكرير الخطاب على الوجه المذكور لإظهار كمال الاعتناء بشأن المأمور به، والتحريض الحث على الشيء.
وقال الزجاج: هو في اللغة أن يحث الإنسان على شيء حتى يعلم منه أنه حارض أي مقارب للهلاك، وعلى هذا فهو للمبالغة في الحث، وزعم في " الدر المصون " أن ذلك مستبعد من الزجاج، والحق معه، ويؤيده ما قاله الراغب من أن الحرض يقال لما أشرف على الهلاك والتحريض الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل الخطب فيه كأنه في الأصل إزالة الحرض نحو قذيته أزلت عنه القذى ويقال: أحرضته إذا أفسدته نحو أقذيته إذا جعلت فيه القذى، فالمعنى هنا يا أيها النبي بالغ في حث المؤمنين على قتال الكفار.
وجوز أن يكون من تحريض الشخص وهو أن يسميه حرضا ويقال له: ما أراك إلا حرضا في هذا الأمر ومحرضا فيه، ونحوه فسقته أي سميته فاسقا، فالمعنى سمهم حرضا وهو من باب التهييج والإلهاب، والمعنى الأول هو الظاهر. وقرىء * (حرص) * بالصاد المهملة من الحرص وهو واضح.
* (إن يكن منكم عشرون ص‍ابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا) * شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد العشرة والوعد بأنهم إن صبروا غلبوا بعون الله تعالى وتأييده، فالجملة خبرية لفظا إنشائيا معنى، والمراد ليصبرن الواحد لعشرة وليست بخبر محض، وجعلها الزمخشري عدة من الله تعالى وبشارة وهو ظاهر في كونها خبرية، والآية كما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى منسوخة، والنسخ في الخبر فيه كلام في الأصول، على أنه قد ذكر الإمام أنه لو كان الكلام خبرا لزم أن لا يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين ومعلوم أنه ليس كذلك، والاعتراض عليه بأن التعليق الشرطي يكفي فيه ترتب الجزاء على الشرط في بعض الأزمان لا في كلها ليس بشيء كما بينه الشهاب، وذكر الشرطية الثانية مع انفهام مضمونها مما قبلها للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف وكذا يقال فيما يأتي.
و * (يكن) * يحتمل أن يكون تاما والمرفوع فاعله و * (منكم) * حال منه أو متعلق بالفعل ويحتمل أن يكون ناقصا والمرفوع اسمه و * (منكم) * خبره، وقوله تعالى: * (من الذين كفروا) * بيان للألف، وقوله سبحانه: * (بأنهم قوم لا يفقهون) * متعلق بيغلبوا أي بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون احتسابا وامتثالا لأمر الله تعالى وإعلاء لكلمته وابتغاء لرضوانه كما يفعل المؤمنون وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية واتباع خطوات الشيطان وإثارة ثائرة البغي والعدوان فلا يستحقون إلا القهر والخذلان، وقال بعضهم: وجه التعليل بما ذكر أن من لا يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر لا يؤمن بالمعاد والسعادة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيا فيشح بها ولا يعرضها للزوال بمزاولة الحروب واقتحام موارد الخطوب فيميل إلى ما فيه السلامة فيفر فيغلب، وأما من اعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة الفانية وإنما السعادة هي الحياة الباقية فلا يبالي بهذه الحياة الدنيا
31

ولا يلتفت إليها فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح فيقول الواحد من مثله مقام الكثير انتهى.
* (الا‍ان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الص‍ابرين) *.
وتعقب بأنه كلام حق لكنه لا يلائم المقام * (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله) * أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت * (إن يكن منكم عشرون) * الخ شق ذلك على المسلمين إذ فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء التخفيف، وكان ذلك كما قيل بعد مدة، وقيل: كان فيهم قلة في الابتداء ثم لما كثروا بعد نزل التخفيف وهل يعد ذلك نسخا أم لا؟ قولان اختار مكي الثاني منهما وقال: إن الآية مخففة؛ ونظير ذلك التخفيف على المسافر بالفطر، وذهب الجمهور إلى الأول وقالوا: إن الآية ناسخة وثمرة الخلاف قيل تظهر فيما إذا قاتل واحد عشرة فقتل هل يأثم أم لا فعلى الأول لا يأثم وعلى الثاني يأثم، والضعف الطارىء بعد عدم القوة البدنية على الحرب لأنه قد صار فيهم الشيخ والعاجز ونحوهما وكانوا قبل ذلك طائفة منحصرة معلومة قوتهم وجلادتهم أو ضعف البصيرة والاستقامة وتفويض النصر إلى الله تعالى إذ حدث فيهم قوم حديثو عهد بالإسلام ليس لهم ما للمتقدمين من ذلك، وذكر بعضهم في بيان كون الكثرة سببا للضعف أن بها يضعف الاعتماد على الله تعالى والتوكل عليه سبحانه ويقوى جانب الاعتماد على الكثرة كما في حنين والأول هو الموجب للقوة كما يرشد إليه وقعة بدر، ومن هنا قال النصراباذي: إن هذا التخفيف كان للأمة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه الذي يقول بك أصول وبك أحول، وتقييد التخفيف بالآن ظاهر وأما تقييد علم الله تعالى به فباعتبار تعلقه، وقد قالوا: إن له تعلقا بالشيء قبل الوقوع وحال الوقوع وبعده وقال الطيبي: المعنى الآن خفف الله تعالى عنكم لما ظهر متعلق علمه أي كثرتكم التي هي موجب ضعفكم بعد ظهور قلتكم وقوتكم. وقرأ أكثر القراء * (ضعفا) * بضم الضاد وهي لغة فيه كالفقر والمكث.
ونقل عن الخليل أن الضعف بالفتح ما في الرأي والعقل وبالضم ما في البدن. وقرأ أبو جعفر * (ضعفاء) * جمع ضعيف، وقرأ ابن كثير. ونافع. وابن عامر يكن المسند إلى المائة في الآيتين بالتاء اعتبارا للتأنيث اللفظي، ووافقهم أبو عمرو. ويعقوب في يكن في الآية الثانية لقوة التأنيث بالوصف بصابرة المؤنث وأما * (إن يكن منكم عشرون) * فالجميع على التذكير فيه. نعم روي عن الأعرج أنه قرأ بالتأنيث * (ولالله مع الصابرين) * تذييل مقرر لمضمون ما قبله، وفي النظم الكريم صنعة الاحتباك قال في " البحر ": انظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيدا في الجملة الأولى وهو صابرون وحذف نظيره من الثانية وأثبت قيدا في الثانية وهو * (من الذين كفروا) * وحذفه من الأولى ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ثم ختم الآية بقوله سبحانه: * (والله مع الصابرين) * مبالغة في شدة المطلوبية ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر اكتفاء بما قبله انتهى.
وذكر الشهاب أنه بقي عليه ابه سبحانه ذكر في التخفيف بإذن الله وهو قيد لهما وأن قوله تعالى: * (والله مع الصابرين) * إشارة إلى تأييدهم وأنهم منصورون حتما لأن من كان الله تعالى معه لا يغلب، وأنا أقول: لا يبعد أن يكون في قوله تعالى: * (والله مع الصابرين) * تحريض لهم على الصبر بالإشارة إلى أن أعداءهم إن صبروا كان الله تعالى معهم فأمدهم ونصرهم، وبقي في هذا الكلام الجليل لطائف غير ما ذكر فلله تعالى در التنزيل ما أعذب ماء فصاحته وأنضر رونق بلاغته.
* (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة والله عزيز حكيم) *.
* (ما كان لنبي) * قرأ أبو الدرداء. وأبو حيوة * (للنبي) * بالتعريف والمراد به نبينا
32

صلى الله عليه وسلم وهو عليه الصلاة والسلام المراد أيضا على قراءة الجمهور عند البعض، وإنما عبر بذلك تلطفا به صلى الله عليه وسلم حتى لا يوجه بالعتاب، ولذا قيل: إن ذاك على تقدير مضاف أي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى الآتي: * (تريدون) * ولو قصد بخصوصه عليه الصلاة والسلام لقيل: تريد، ولأن الأمور الواقعة في القصة صدرت منهم لا منه صلى الله عليه وسلم وفيه نظر ظاهر، والظاهر أن المراد على قراءة الجمهور العموم ولا يبعد اعتباره على القراءة الأخرى أيضا وهو أبلغ لما فيه من بيان أن ما يذكر سنة مطردة فيما بين الأنبياء عليهم السلام، أي ما صح وما استقام لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أي ما صح وما استقام لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام * (أن يكون له أسرى) *. قرأ أبو عمرو. ويعقوب * (تكون) * بالتاء الفوقية اعتبارا لتأنيث الجمع، وعن أبي جعفر أنه قرأ أيضا * (أسارى) * قال أبو علي: وقراءة الجماعة أقيس لأن أسيرا فعيل بمعنى مفعول، والمطرد فيه جمعه على فعلى كجريح وجرحى وقتيل وقتلى، ولذا قالوا في جمعه على أسارى: إنه على تشبيه فعيل بفعلان ككسلان وكسالى، وهذا كما قالوا كسلى تشبيها لفعلان بفعيل ونسب ذلك إلى الخليل، وقال الأزهري: إنه جمع أسرى فيكون جمع الجمع، واختار ذلك الزجاج وقال: إن فعلى جمع لكل من أصيب في بدنه أو في عقله كمريض ومرضى وأحمق وحمقى * (حتى يثخن في الأرض) * أي يبالغ في القتل ويكثر منه حتى يذل الكفر ويقل حزبه ويعز الإسلام ويستولي أهله، وأصل معنى الثخانة الغلظ والكثافة في الأجسام ثم استعير للمبالغة في القتل والجراحة لأنها لمنعها من الحركة صيرته كالثخين الذي لا يسيل، وقيل: إن الاستعارة مبنية على تشبيه المبالغة المذكورة بالثخانة في أن في كل منهما شدة في الجملة، وذكر في الأرض للتعميم، وقرىء * (يثخن) * بالتشديد للمبالغة في المبالغة * (تريدون عرض الدنيا) * استئناف مسوق للعتاب، والعرض ما لا ثبات له ولو جسما. وفي الحديث " الدنيا عرض حاضر " أي لا ثبات لها، ومنه استعاروا العرض المقابل للجوهر، أي تريدون حطام الدنيا بأخذكم الفدية، وقرىء * (يريدون) * بالياء، والظاهر أن ضمير الجمع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم * (والله يريد الآخرة) * أي يريد لكم ثواب الآخرة أو سبب نيل الآخرة من الطاعة بإعزاز دينه وقمع أعدائه، فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وذكر نيل في الاحتمال الثاني قيل: للتوضيح لا لتقدير مضافين، والإرادة هنا بمعنى الرضا، وعبر بذلك للمشاكلة فلا حجة في الآية على عدم وقوع مراد الله تعالى كما يزعمه المعتزلة، وزيادة لكم لأنه المراد، وقرأ سليمان بن جماز المدني * (الآخرة) * بالجر وخرجت على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جره، وقدره أبو البقاء عرض الآخرة وهو من باب المشاكلة وإلا فلا يحسن لأن أمور الآخرة مستمرة، ولو قيل: إن المضاف المحذوف على القراءة الأولى ذلك لذلك أيضا لم يبعد، وقدر بعضهم هنا كما قدرنا هناك من الثواب أو السبب، ونظير ما ذكر
قوله: أكل امرىء تحسبين أمرأ * ونار توقد في الليل نارا
في رواية من جرنار الأولى، وأبو الحسن يحمله على العطف على معمولي عاملين مختلفين * (والله عزيز) * يغلب أولياءه على أعدائه * (حكيم) * يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها كما أمر بالإثخان ونهى عن أخذ الفدية حيث كان الإسلام غضا وشوكة أعدائه قوية، وخير بينه وبين المن بقوله تعالى: * (فإمامنا بعد وإما فداء) * (محمد: 4) لما تحولت الحال واستغلظ زرع الإسلام واستقام على سوقه.
33

أخرج أحمد. والترمذي وحسنه. والطبراني. والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: " لما كان يوم بدر جىء بالأسارى وفيهم العباس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله تعالى أن يتوب عليهم، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فاضرمه عليهم نارا. فقال العباس وهو يسمع ما يقول: قطعت رحمك، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال أناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال: * (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) * (إبراهيم: 36) ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال: * (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) * (المائدة: 118) ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذا قال: * (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) * (يونس: 88) * (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) * (يونس: 88) ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * (نوح: 26) أنتم عالة فلا يفلتن أحد إلا بفداء أو ضرب عنق، فقال عبد الله رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع على الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء ".
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: " قال عمر رضي الله تعالى عنه: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر قاعدان يبكيان قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه صلى الله عليه وسلم ".
واستدل بالآية على أن الأنبياء عليهم السلام قد يجتهدون وأنه قد يكون الوحي على خلافه ولا يقرون على الخطأ، وتعقب بأنها إنما تدل على ذلك لو لم يقدر في * (ما كان لنبي) * لأصحاب نبي ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر مع أن الإذن لهم فيما اجتهدوا فيه اجتهاد منه عليه الصلاة والسلام إذ لا يمكن أن يكون تقليدا لأنه لا يجوز له التقليد، وأما أنها إنما تدل على اجتهاد منه عليه الصلاة والسلام إذ لا يمكن أن يكون تقليدا لأنه لا يجوز له التقليد، وأما إنها إنما تدل على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم لا اجتهاد غيره من الأنبياء عليهم السلام فغير وارد لأنه إذا جاز له عليه الصلاة والسلام جاز لغيره بالطريق الأولى، وتمام البحث في كتب الأصول، لكن بقي ههنا شيء وهو أنه قد جاء من اجتهد وأخطأ فله أجر ومن اجتهد وأصاب فله أجران إلى عشرة أجور فهل بين ما يقتضيه الخبر من ثبوت الأجر الواحد للمجتهد المخطىء وبين عتابه على ما يقع منه منافاة أم لا؟ لم أر من تعرض لتحقيق ذلك، وإذا قيل: بالأول لا يتم الاستدلال بالآية كما لا يخفى.
لولا كت‍ابمن الله سبق لمسكم فيمآ أخذتم عذاب عظيم) *.
* (لولا كتاب من الله سبق) * قيل: أي لولا حكم منه تعالى سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أن لا يعذب قوما قبل تقديم ما يبين لهم أمرا أو نهيا، وروى ذلك
34

الطبراني في الأوسط. وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ورواه أبو الشيخ عن مجاهد أو المخطىء في مثل هذا الاجتهاد، وقيل: هو أن لا يعذبهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أوان لا يعذب أهل بدر رضي الله تعالى عنهم، فقد روى الشيخان وغيرهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه في قصة حاطب وكان قد شهد بدرا: وما يدريك لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر، وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وقريب من هذا ما روي عن مجاهد أيضا. وابن جبير وزعم أن هذا قول بسقوط التكليف لا يصدر إلا عمن سقط عنه التكليف، والعجب من الإمام الرازي كيف تفوه به لأن المراد أن من حضر بدرا من المؤمنين يوفقه الله تعالى لطاعته. ويغفر له الذنب لو صدر منه ويثبته على الإيمان الذي ملأ به صدره إلى الزوافاة لعظم شأن تلك الوقعة إذ هي أول وقعة أعز الله تعالى بها الإسلام وفاتحة للفتوح والنصر من الله عز وجل، وليس الأمر في الحديث على حقيقته كما لا يخفى، وقيل: هو أن الفدية التي أخذوها ستصير حلالا لهم. واعترض بأن هذا لا يصلح أن يعد من موانع مساس العذاب فإن الحل اللاحق لا يرفع حكم الحرمة السابقة كما أن الحرمة اللاحقة كما في الخمر مثلا لا ترفع حكم الإباحة السابقة، على أنه قادح في تهويل ما نعى عليهم من أخذ الفداء كما يدل عليه قوله سبحانه: * (لمسكم) * أي لأصابكم * (فيما أخذتم) * أي لأجل أخذكم أو الذي أخذتموه من الفداء * (عذاب عظيم) * لا يقادر قدره.
وأجيب بأنه لا مانع من اعتبار كونها ستحل سببا للعفو ومانعا عن وقوع العذاب الدنيوي المراد بما في الآية وإن لم يعتبر في وقت من الأوقات كون المباح سيحرم سببا للانتقام ومانعا من العفو تغليبا لجانب الرحمة على الجانب الآخر، وحاصل المعنى أن ما فعلتم أمر عظيم في نفسه مستوجب للعذاب العظيم لكن الذي تسبب العفو عنه ومنع ترتب العذاب عليه إني سأحله قريبا لكم، ومثل ذلك نظرا إلى رحمتي التي سبقت غضبي يصير سببا للعفو ومانعا عن العذاب، وكأن الداعي لتكلف هذا الجواب أن ما ذكر أخرجه ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه واخرجاهما. والبيهقي. وابن جرير. وابن المنذر. وغيرهم عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أيضا، ولا يبعد عندي أن يكون المانع من مساس العذاب كل ما تقدم، وفي ذلك تهويل لمانعي عليهم حيث منع من ترتب مساس العذاب عليه موانع جمة ولولا تلك الموانع الجمة لترتب، وتعدد موانع شيء واحد جائز وليس كتعدد العلل واجتماعها على معلول واحد شخصي كما بين في موضعه، وبهذا يجمع بين الروايات المختلفة عن الحبر في بيان هذا الكتاب، وذلك بأن يكون في كل مرة ذكر أمرا واحدا من تلك الأمور، والتنصيص على الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه وليس في شيء من الروايات ما يدل على الحصر فافهم، وقال بعضهم: إن المعنى لولا حكم الله تعالى بغلبتكم ونصركم لمسكم عذاب عظيم من أعدائكم بغلبتهم لكم وتسليطهم عليكم يقتلون ويأسرون وينهبون وفيه نظر، لأنه إن أريد بهذه الغلبة المفروضة الغلبة في بدر فالأخذ الذي هو سببها إنما وقع بعد انقضاء الحرب، وحينئذ يكون مآل المعنى لولا حكم الله تعالى بغلبتكم لغلبكم الكفار قبل بسبب ما فعلتم بعد وهو كما ترى، وإن أريد الغلبة بعد ذلك فهي قد مست القوم في أحد فإن أعداءهم قد قتلوا منهم سبعين عدد الأسرى وكان ما كان؛ فلا يصح نفي المس حينئذ. نعم أخرج ابن جرير عن محمد بن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية: " لو أنزل من السماء عذاب لما نجا منه غير عمر بن الخطاب. وسعد بن معاذ لقوله: كان الأثخان في القتل أحب إلي " وأخرجه ابن مردويه عن ابن عمر لكن لم يذكر فيه سعد بن معاذ وذلك يدل على أن المراد
35

بالعذاب عذاب الدنيا غير القتل مما لم يعهد لمكان نزل من السماء، وحينئذ لا يرد أنه استشهد منهم بعدتهم لأن الشهادة لا تعد عذابا، لكن هذا لا ينفع ذلك القائل لأنه لم يفسر العذاب إلا بالغلبة وهي صادقة في مادة الشهادة.
* (فكلوا مما غنمتم حل‍الا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم) *.
* (فكلوا مما غنمتم) * قال محيي السنة: روي أنه لما نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزلت هذه الآية، فالمراد مما غنمتم إما الفدية وإما مطلق الغنائم، والمراد بيان حكم ما اندرج فيها من الفدية وإلا فحل الغنيمة مما عداها قد علم سابقا من قوله سبحانه: * (واعلموا أنما غنمتم) * الخ بل قال بعضهم: إن الحل معلوم قبل ذلك بناء على ما في كتاب " الأحكام " أن أول غنيمة في الإسلام حين أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه لبدر الأولى ومعه ثمانية رهط من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم فأخذوا عيرا لقريش وقدموا بها على النبي صلى الله عليه وسلم فاقتسموها وأقرهم على ذلك.
ويؤيد القول بأن هذه الآية محللة للفدية ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مما هو نص في ذلك، وقيل: المراد بما غنمتم الغنائم من غير اندراج الفدية فيها لأن القوم لما نزلت الآية الأولى امتنعوا عن الأكل والتصرف فيها تزهدا منهم لا ظنا لحرمتها إذ يبعده أن الحل معلوم لهم مما مر وليس بالبعيد والقول بأن القول الأول مما يأباه سباق النظم الكريم وسياقه ممنوع ودون إثباته الموت الأحمر.
والفاء للعطف على سبب مقدر، أي قد أحبت لكم الغنائم فكلوا مثلا، وقيل: قد يستغني عن العطف على السبب المقدر بعطفه على ما قبله لأنه بمعناه، أي لا أؤاخذكم بما أخذتم من الفداء فكلوه، وزعم بعضهم أن الأظهر تقدير دعوا والعطف عليه، أي دعوا ما أخذتم فكلوا مما غنمتم وهو مبني على ما ذهب إليه من الإباء، وبنحو هذه الآية تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، وضعف بأن الإباحة ثبتت هنا بقرينة أن الأكل إنما أمر به لمنفعتهم فلا ينبغي أن تثبت على وجه المضرة والمشقة، وقوله تعالى: * (حلالا) * حال من * (ما) * الموصولة أو من عائدها المحذوف أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا، وفائدة ذكره وكذا ذكر قوله تعالى: * (طيبا) * تأكيد الإباحة لما في العتاب من الشدة * (واتقوا الله) * في مخالفته * (إن الله غفور رحيم) * ولذا غفر لكم ذنبكم وأباح لكم ما أخذتموه، وقيل: فيغفر لكم ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل ورود الإذن ويرحمكم ويتوب عليكم إذا اتقيتموه.
* (ي‍اأيها النبى قل لمن فىأيديكم من الاسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا ممآ أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم) *.
* (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم) * أي في ملكتكم واستيلائكم كأن أيديكم قابضة عليهم * (من الأسرى) * الذين أخذتم منهم الفداء، وقرأ أبو عمرو. وأبو جعفر من * (الأسارى) * * (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا) * إيمانا وتصديقا كما قال ابن عباس * (يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) * من الفداء.
والآية على ما في رواية ابن سعد. وابن عساكر نزلت في جميع أسارى بدر وكان فداء العباس منهم أربعين أوقية وفداء سائرهم عشرين أوقية، وعن محمد بن سيرين أنه كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهما وستة دنانير.
وجاء في رواية أنها نزلت في العباس رضي الله تعالى عنه، وقد روي عنه أنه قال: كنت مسلما لكن استكرهوني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن يكن ما تذكر حقا فالله تعالى يجزيك فإما ظاهر أمرك فقد كان علينا فاد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحرث. وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو فقلت: ما ذاك عندي يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: فأين الذي دفنت أنت وأم الفضل؟ فقلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في
36

وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله وقثم فقلت: وما يدريك فقال صلى الله عليه وسلم: أخبرني ربي فعند ذلك قال العباس: أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك رسول الله إنه لم يطلع على ذلك أحد إلا الله تعالى ولقد دفعته إليها في سواد الليل "، وروى عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال بعد حين: أبدلني الله خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربكم بتأويل ما في قوله تعالى: * (ويغفر لكم والله غفور رحيم) * فإنه وعد بالمغفرة مؤكد بالاعتراض التذييلي، وروي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مال البحرين ثمانون ألفا فتوضأ صلى الله عليه وسلم وما صلى حتى فرقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله، وكان رضي الله تعالى عنه يقول: هذا خير مما أخذ مني
وأرجو المغفرة، والظاهر أن الآية عامة لسائر الأسارى على ما يقتضيه صيغة الجمع، ولا يأبى ذلك رواية أنها نزلت في العباس لما قالوا من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقرأ الأعمش * (يثبكم خيرا) * والحسن وشيبة * (مما أخذ منكم) * على البناء للفاعل.
* (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم) *.
* (وإن يريدو ا) * أي الأسرى * (خيانتك) * أي نقض ما عاهدوك عليه من إعطاء الفدية أو أن لا يعودوا لمحاربتك ولا إلى معاضدة المشركين، ويجوز أن يكون المراد وإن يريدوا نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردة واستحباب دين آبائهم * (فقد خانوا الله من قبل) * بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ على كل عاقل بل ادعى بعضهم أنه الأقرب * (فأمكن منهم) * أي أقدرك عليهم حسبما رأيت في بدر فإن أعادوا الخيانة فاعلم أنه سيمكنك الله تعالى منهم أيضا فالمفعول محذوف، وقوله سبحانه: * (فقد خانوا) * قائم مقام الجواب، والجملة كلام مسوق من جهته تعالى لتسليته عليه الصلاة والسلام بطريق الوعد له صلى الله عليه وسلم والوعيد لهم، * (والله عليم) * فيعلم ما في نياتهم وما يستحقونه من العقاب * (حكيم) * يفعل كل ما يفعله حسبما تقتضيه حكمته البالغة.
* (إن الذين ءامنوا وهاجروا وج‍اهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أول‍ائك بعضهم أوليآء بعض والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ول‍ايتهم من شىء حتى يهاجروا وإن استنصروكم فى الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير) *.
* (إن الذين ءامنوا وهاجروا) * هم المهاجرون الذين هجروا أوطانهم وتركوها لأعدائهم في الله لله عز وجل * (وج‍اهدوا بأموالهم) * فصرفوها للكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج من المسلمين * (وأنفسهم) * بمباشرة القتال واقتحام المعارك والخوض في لجج المهالك * (في سبيل الله) * قيل: هو متعلق بجاهدوا قيد لنوعي الجهاد، ويجوز أن يكون من باب التنازع في العمل بين هاجروا وجاهدوا ولعل تقديم الأموال على الأنفس لما أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعا وأتم دفعا للحاجة حيث لا يتصور المجاهدة بالنفس بلا مجادة بالمال، وقيل: ترتيب هذه المتعاطفات في الآية على حسب الوقوع فإن الأول الإيمان ثم الهجرة ثم الجهادب المال لنحو التأهب للحرب ثم الجهاد بالنفس * (والذين ءاووا ونصروا) * هم الأنصار آووا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وآثروهم على أنفسهم ونصروهم على أعدائهم * (أولئك) * أي المذكورون الموصوفون بالصفات الفاضلة، وهو مبتدأ وقوله تعالى: * (بعضهم) * إما بدل منهم، وقوله سبحانه: * (أولياء بعض) * خبر وإما مبتدأ ثان و * (أولياء) * خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول أي بعضهم أولياء بعض في الميراث على ما هو المروى عن ابن عباس رضي الله
37

تعالى عنهما. والحسن. ومجاهد. والسدي. وقتادة فإنهم قالوا: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بالنسب بعد إذ لم تكن هجرة، فالولاية على هذا الوراثة المسببة عن القرابة الحكمية.
والآية منسوخة، وقال الأصم: هي محكمة، والمراد الولاية بالنصرة والمظاهرة وكأنه لم يسمع قوله تعالى: * (فعليكم النصر) * بعد نفي موالاتهم في الآية الآتية * (والذين ءامنوا ولم يهاجروا) * كسائر المؤمنين * (ما لكم من ول‍ايتهم من شيء) * أي توليهم في الميراث وإن كانوا أقرب ذوي قرابتكم * (حتى يهاجروا) * وحينئذ يثبت لهم الحكم السابق. وقرأ حمزة. والأعمش. ويحيى بن وثاب * (ولايتهم) * بالكسر، وزعم الأصمعي أنه خطأ وهو المخطىء فقد تواترت القراءة بذلك، وجاء في اللغة الولاية مصدرا بالفتح والكسر وهما لغتان فيه بمعنى واحد وهو القرب الحسي والمعنوي كما قيل، وقيل: بينهما فرق فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه والكسر ولاية السلطان ونسب ذلك إلى أبي عبيدة. وأبي الحسن، وقال الزجاج: هي بالفتح النصرة والنسب وبالكسرة للإمارة، ونقل عنه أنه ذهب إلى أن الولاية لاحتياجها إلى تمرن وتدرب شبهت بالصناعات ولذا جاء فيها الكسر كالإمارة، وذلك لما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة من أن فعالة بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء ويجعل فيه كاللفافة والعمامة وفي المصادر يكون في الصناعات وما يزاول بالأعمال كالكتابة والخياطة والزراعة والحراثة، وما ذكره من حديث التشبيه بالصناعات يحتمل أن يكون من الواضع بمعنى أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك فتكون حقيقة ويحتمل أن يكون من غيره على طرز تشبيه زيد بالأسد فحينئذ يكون هناك استعارة، وهي كما قال بعض الجلة: استعارة أصلية لوقوعها في المصدر دون المشتق وإن كان التصرف في الهيئة لا في المادة، ومنه يعلم أن الاستعارة الأصلية قسمان ما يكون التجوز في مادته وما يكون في هيئته * (وإن استنصروكم إلا على قوم) * منهم * (بينكم وبينهم ميثق) * فلا تنصروهم عليه لما في ذلك من نقض عهدهم * (والله بما تعملون بصير) * فلا تخالفوا أمره ولا تتجاوزوا ما حده لكم كي لا يحل عليكم عقابه.
* (والذين كفروا بعضهم أوليآء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة فى الارض وفساد كبير) *.
* (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) * آخر منهم أي في الميراث كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال قتادة. وابن إسحاق: في المؤازرة، وهذا بمفهومه مفيد لنفي الموارثة والمؤازرة بينهم وبين المسلمين وإيجاب ضد ذلك وإن كانوا أقارب، ومن هنا ذهب الجمهور إلى أنه لا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما، وأخرج ذلك ابن مردويه. والحاكم وصححه عن أسامة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك وقرأ الآية، ومن الناس من قال: إن المسلم يرث الكافر دون العكس وليس مما يعول عليه والفتوى على الأول كما تحقق في محله * (إلا تفعلوه) * أي إلا تفعلوا ما أمرتم به في الآيتين، وقيل: الضمير المنصوب للميثاق أو حفظه أو الإرض أو النصر أو الاستنصار المفهوم من الفعل والأولى ما ذكرنا، وفي الأخير ما لا يخفى من التكلف.
* (تكن فتنة في الأرض) * أي تحصل فتنة عظيمة فيها، وهي اختلاف الكلمة وضعف الإيمان وظهور
38

الكفر * (وفساد كبير) * وهو سفك الدماء على ما روي عن الحسن فالمراد فساد كبير فيها، وقيل: المراد في الدارين وهو خلاف الظاهر، وعن الكسائي أنه قرأ * (كثير) * بالمثلثة.
* (والذين ءامنوا وهاجروا وج‍اهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أول‍ائك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم) *.
* (والذين ءامنوا وهاجروا وج‍اهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أول‍ائك هم المؤمنون حقا) * كلام مسوق للثناء على القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة للمؤمنين وهم المهاجرون والأنصار بأنهم الفائزون بالقدح المعلى من الإيمان مع الوعد الكريم بقوله سبحانه: * (لهم مغفرة) * لا يقادر قدرها * (ورزق كريم) * أي لا تبعة له ولا منة فيه، وقيل: هو الذي لا يستحيل نجوا في الأجواف وهو رزق الجنة.
* (والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وج‍اهدوا معكم فأول‍ائك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كت‍ابالله إن الله بكل شىء عليم) *.
* (والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وج‍اهدوا معكم) * أي في بعض أسفاركم، والمراد بهم قيل: المؤمنون المهاجرون من بعد صلح الحديبية وهي الهجرة الثانية، وقيل: من بعد نزول الآية، وقيل: من بعد غزوة بدر، والأصح أن المراد بهم الذين هارجوا بعد الهجرة الأولى * (فأول‍ائك منكم) * أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار، وفيه إشارة إلى أن السابقين هم السابقون في الشرف وأن هؤلاء دونهم فيه، ويؤيد أمر شرفهم توجيه الخطاب إليهم بطريق الالتفات، وبهذا القسم صارت أقسام المؤمنين أربعة، والتوارث إنما هو في القسمين الأولين على ما علمت؛ وزعم الطبرسي أن ذلك الحكم يثبت لهؤلاء أيضا فيكون التوارث بين ثلاثة أقسام، وجعل معنى * (منكم) * من جملتكم وحكمهم حكمكم في وجوب الموالاة والموارثة والنصرة ولم أره لأصحابنا.
* (وأولوا الأرحام) * أي ذوو القرابة * (بعضهم أولى ببعض) * آخر منهم في التوريث من الأجانب * (في كت‍ابالله) * أي في حكمه أو في اللوح المحفوظ، أخرج الطيالسي. والطبراني. وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الآية فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب، وأخرج ابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه قال: توارث المسلمون لما قدموا المدينة بالهجروة ثم نسخ ذلك بهذه الآية، واستدل بها على توريث ذوي الأرحام الذين ذكرهم الفرضيون، وذلك لأنها نسخ بها التوارث بالهجرة ولم يفرق بين العصبات وغيرهم فيدخل من لا تسمية لهم ولا تعصيب وهم - هم - وبها أيضا احتج ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم. والحاكم على أن ذوي الأرحام أولى من مولى العتاقة، ولما سمع الحبر قال: هيهات هيهات أين ذهب؟ إنما كان المهاجرون يتوارثون دون الاعراب فنزلت، وخالفه سائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضا على ما قيل. وأنت تعلم أنه ءذا أريد بكتاب الله تعالى آيات المواريث السابقة في سورة النساء أو حكمه سبحانه المعلوم هناك لا يبقى للاستدلال على توريث ذوي الأرحام بالآية وجه، وكذا ما قاله ابن الفرس من أنه قد يستدل بها لمن قال: إن القريب أولى بالصلاة على الميت من الوالي * (إن الله بكل شيء عليم) * ومن جملته ما في تعليق التوارث بالقرابة الدينية أولا على الوجه السابق وبالقرابة النسبية آخرا من الحكم البالغة.
هذا ومن باب ازشارة: * (والذين آمنوا) * الإيمان العلمي * (وهاجروا) * من أوطان نفوسهم * (وجاهدوا بأموالهم) * بإنفاقها حتى تخللوا بعباء التجرد والانقطاع إلى الله عز وجل * (وأنفسهم) * باتعابها بالرياضة ومحاربة الشيطان وبذلها في سبيل الله تعالى وطريق الوصول إليه * (والذين آووا) * إخوانهم في الطريق ونصروهم على عدوهم بالإمداد * (أولئك بعضهم أولياء بعض) * بميراث الحقائق والعلوم النافعة * (والذين آمنوا ولم يهاجروا) *
39

عن وطن النفس * (ما لكم من ولايتهم من شيء) * فلا توارث بينكم وبينهم إذ ما عندكم لا يصلح لهم ما لم يستعدوا له وما عندهم يأباه استعدادكم * (حتى يهاجروا) * كما هاجرتم فحينئذ يثبت التوارث بينكم وبينهم * (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) * فإن الدين مشترك، وعلى هذا الطرز يقال في باقي الآيات والله تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق.
سورة التوبة
مدنية كما روي عن ابن عباس. وعبد الله بن الزبير. وقتادة. وخلق كثير وحكى بعضهم الاتفاق عليه.
وقال ابن الفرس: هي كذلك إلا آيتين منها * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * (التوبة: 128) الخ، وهو مشكل بناء على ما في المستدرك عن أبي بن كعب. وأخرجه أبو الشيخ في تفسيره عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن آخر آية نزلت * (لقد جاءكم) * الخ، ولا يتأتى هنا ما قالوه في وجه الجمع بين الأقوال المختلفة في آخر ما نزل، واستثنى آخرون * (ما كان للنبي) * (التوبة: 113) الآية بناء على ما ورد أنها نزلت في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ". وقد نزلت كما قال ابن كيسان على تسع من الهجرة ولها عدة أسماء، التوبة لقوله تعالى فيها: * (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار) * إلى قوله سبحانه: * (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) * (التوبة: 117، 118)، والفاضحة. أخرج أبو عبيد. وابن المنذر. وغيرهما عن ابن جبير. قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما سورة التوبة قال: التوبة بل هي الفاضحة ما زالت تنزل ومنهم ومنهم حتى ظننا أنه لا يبقى أحد منا إلا ذكر فيها، وسورة العذاب. أخرج الحاكم في مستدركه عن حذيفة قال: التي يسمون سورة التوبة هي سورة العذاب.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن جبير قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا ذكر له سورة براءة وقيل سورة التوبة قال: هي إلى العذاب أقرب ما أقلعت عن الناس حتى ما كادت تدع منهم أحدا، والمقشقشة. أخرج ابن مردويه. وغيره عن زيد بن أسلم أن رجلا قال لعبد الله: سورة التوبة فقال ابن عمر: وأيتهن سورة التوبة فقال براءة فقال رضي الله تعالى عنه: وهل فعل بالناس الأفاعيل إلا هي ما كنا ندعوها إلا المقشقشة أي المبرئة ولعله أراد عن النفاق، والمنقرة. أخرج أبو الشيخ عن
عبيد بن عمير قال: كانت براءة تسمى المنقرة نقرت عما في قلوب المشركين، والبحوث بفتح الباء صيغة مبالغة من البحث بمعنى اسم الفاعل كما روي ذلك عن الحاكم عن المقداد، والمبعثرة. أخرج ابن المنذر عن محمد بن إسحاق قال: كانت براءة تسمى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعده المبعثرة لما كشفت من سرائر الناس، وظن أنه تصحيف المنقرة من بعد الظن.
وذكر ابن الفرس أنها تسمى الحافرة أيضا لأنها حفرت عن قلوب المنافقين وروي ذلك عن الحسن، والمثيرة كما روي عن قتادة لأنها أثارت المخازي والقبائح، والمدمدمة كما روي عن سفيان بن عيينة، والمخزية والمنكلة والمشردة كما ذكر ذلك السخاوي. وغيره، وسورة براءة. فقد أخرج سعيد بن منصور. والبيهقي في الشعب. وغيرهما عن أبي عطية الهمداني قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورة النور، وهي مائة وتسع وعشرون عند الكوفيين ومائة وثلاثون عند الباقين.
ووجه مناسبتها للأنفال أن في الأولى قسمة الغنائم وجعل خمسها لخمسة أصناف على ما عملت وفي هذه قيمة
40

الصدقات وجعلها لثمانية أصناف على ما ستعلم إن شاء الله تعالى، وفي الأولى أيضا ذكر العهود وهنا نبذها وأنه تعالى أمر في الأولى بالإعداد فقال سبحانه: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) * (الأنفال: 60) ونعى هنا على المنافقين عدم الإعداد بقوله عز وجل: * (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) * (التوبة: 46) وأنه سبحانه ختم الأولى بإيجاب أن يوالي المؤمنين بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية وصرح جل شأنه في هذه بهذا المعنى بقوله تبارك وتعالى: * (براءة من الله ورسوله) * الخ إلى غير ذلك من وجوه المناسبة.
وعن قتادة، وغيره أنها مع الأنفال سورة واحدة ولهذا لم تكتب بينهما البسملة، وقيل: في وجه عدم كتابتها أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في كونها سورة أو بعض سورة ففصلوا بينها وبين الأنفال رعاية لمن يقول هما سورتان ولم يكتبوا البسملة رعاية لمن يقول هما سورة واحدة، والحق أنهما سورتان إلا أنهم لم يكتبوا البسملة بينهما لما رواه أبو الشيخ. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن علي كرم الله تعالى وجهه من أن البسملة أمان وبراءة نزلت بالسيف، ومثله عن محمد ابن الحنفية. وسفيان بن عيينة، ومرجع ذلك إلى أنها لم تنزل في هذه السورة كأخواتها لما ذكر، ويؤيد القول بالاستقلال تسميتها بما مر.
واختار الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته أنهما سورة واحدة وأن الترك لذلك قال في الباب الحادي والثلثمائة بعد كلام: وأما سورة التوبة فاختلف الناس فيها هل هي سورة مستقلة كسائر السور أو هل هي وسورة الأنفال سورة واحدة فإنه لا يعرف كمال السورة إلا بالفصل بالبسملة ولم تجىء هنا فدل على أنها من سورة الأنفال وهو الأوجه وإن كان لتركها وجه وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ولكن ماله تلك القوة بل هو وجه ضعيف.
وسبب ضعفه أنه في الاسم الله من البسملة ما يطلبه والبراءة إنما هي من الشريك لا من المشرك فإن الخالق كيف يتبرأ من المخلوق ولو تبرأ منه من كان يحفظ وجوده عليه والشريك معدوم فتصح البراءة منه فهي صفة تنزيه، وتنزيه الله تعالى من الشريك والرسول صلى الله عليه وسلم من اعتقاد الجهل، ووجه آخر من ضعف هذا التأويل الذي ذكرناه وهو أن البسملة موجودة في أول سورة * (ويل لكل همزة) * و * (ويل للمطففين) * وأين الرحمة من الويل انتهى، وقد يقال: كون البراءة من الشريك غير ظاهر من آيتها أصلا وستعلم إن شاء الله تعالى المراد منها، وما ذكره قدس سره في الوجه الآخر من الضعف قد يجاب عنه بأن هذه السورة لا تشبهها سورة فإنها ما تركت أحدا كما قال حذيفة إلا نالت منه وهضمته وبالغت في شأنه، أما المنافقون والكافرون فظاهر، وأما المؤمنون ففي قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم) * إلى * (الفاسقين) * (التوبة: 23 - 24) وهو من أشد ما يخاطب به المخالف فكيف بالموافق، وليس في سورة - ويل - ولا في سورة - تبت - ولا ولا، ولو سلم اشتمال سورة على نوع ما اشتملت عليه لكن الامتياز بالكمية والكيفية مما لا سبيل لإنكاره ولذلك تركت فيها البسملة على ما أقول، والاسم الجليل وإن تضمن القهر الذي يناسب ما تضمنته السورة لكنه متضمن غير ذلك أيضا مع اقترانه صريحا بما لم يتضمنا سوى الرحمة، وليس المقصود هنا إلا إظهار صفة القهر ولا يتأتى ذلك مع الافتتاح بالبسملة، ولو سلم خلوص الاسم الجليل له. نعم إنه سبحانه لم يترك عادته في افتتاح السور هنا بالكلية حيث افتتح هذه السورة بالباء كما افتتح غيرها بها في ضمن البسملة وإن كانت باء البسملة كلمة وباء هذه السورة جزء كلمة وذلك لسر دقيق يعرفه أهله هذا، ونقل عن السخاوي أنه قال في جمال القراء: اشتهر ترك التسمية
41

في أول براءة، وروي عن عاصم التسمية أولها وهو القياس لأن إسقاطها إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة بل من الأنقال، ولا يتم الأول لأنه مخصوص بمن نزلت فيه ونحن إنما نسمى للتبرك، ألا ترى أنه يجوز بالاتفاق بسم الله الرحمن الرحيم * (وقاتلوا المشركين) * (التوبة: 36) الآية ونحوها، وإن كان الترك لأنها ليست مستقلة فالتسمية في أول الأجزاء جائزة، وروي ثبوتها في مصحف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وذهب ابن منادر إلى قراءتها، وفي الإقناع جوازها، والحق استحباب تركها حيث أنها لم تكتب في الإمام ولا يقتدى بغيره. وأما القول بحرمتها ووجوب تركها كما قاله بعض المشايخ الشافعية فالظاهر خلافه، ولا أرى في الإتيان بها بأسا لمن شرع في القراءة من أثناء السورة والله تعالى أعلم.
* (برآءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) *.
* (برآءة من الله ورسوله) * أي هذه براءة والتنوين للتفخيم و * (من) * ابتدائية كما يؤذن به مقابلتها بإلى متعلقة بمحذوف وقع صفة للخبر لفساد تعلقه به أي واصلة من الله، وقدروه بذلك دون حاصله لتقليل التقدير لأنه يتعلق به * (إلى) * الآتي أيضا، وجوز أن تكون مبتدأ لتخصيصها بصفتها وخبره قوله تعالى: * (إلى الذين ع‍اهدتم من المشركين) *.
وقرأ عيسى بن عمرو * (براءة) * بالنصب وهي منصوبة باسمعوا أو الزموا على الإغراء، وقرأ أهل نجران * (من الله) * بكسر النون على أن الأصل في تحريك الساكن الكسر، لكن الوجه الفتح مع لام التعريف هربا من توالي الكسرتين، وإنما لم يذكر ما تعلق به البراءة حسبما ذكر في قوله تعالى: * (أن الله برىء من المشركين) * (التوبة: 3) اكتفاء بما في حيز الصلة فإنه منبىء عنه إنباء ظاهرا واحترازا عن تكرار لفظ من، والعهد العقد الموثق باليمين، والخطاب في * (عاهدتم) * للمسلمين وقد كانوا عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن الله تعالى واتفاق الرسول صلى الله عليه وسلم فنكثوا إلا بني ضمرة وبني كنانة، وأمر المسلمون بنبذ العهد إلى الناكثين وأملهوا أربعة أشهر ليسيروا حيث شاءوا.
وإنما نسبت البراءة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مع شمولها للمسلمين في اشتراكهم في حكمها ووجوب العمل بموجبها وعلقت المعاهدة بالمسلمين خاصة مع كونها بإذن الله تعالى واتفاق الرسول عليه الصلاة والسلام للإنباء عن تنجزها وتحتمها من غير توقف على رأي المخاطبين لأنها عبارة عن إنهاء حكم الأمان ورفع الخطر المترتب على الع، السابق عن التعرض للكفرة وذلك منوط بجانب الله تعالى من غير توقف على شيء أصلا، واشتراك المسلمين إنما هو على طريق الامتثال لا غير، وأما المعاهدة فحيث كانت عقدا كسائر العقود الشرعية لا تتحصل ولا تترتب عليها الأحكام إلا بمباشرة المتعاقدين على وجه لا يتصور صدوره منه تعالى وإنما الصادر عنه سبحانه الإذن في ذلك وإنما المباشر له المسلمون، ولا يخفى أن البراءة إنما تتعلق بالعهد لا بالإذن فيه فنسبت كل واحدة منهما إلى من هو أصل فيها، على أن في ذلك تفخيما لشأن البراءة وتهويلا لأمرها وتسجيلا على الكفرة بغاية الذل والهوان ونهاية الخزي والخذلان، وتنزيها لساحة الكبرياء عما يوهم شائبة النقص والبداء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وأدراجه صلى الله عليه وسلم في النسبة الأولى وإخراجه عن الثانية لتنويه شأنه الرفيع صلى الله عليه وسلم في كلا المقامين كذا حرره بعض المحققين وهو توجيه وجيه. وزعم بعضهم أن المعاهدة لما لم تكن واجبة بل مباحة مأذونة نسبت إليه بخلاف البراءة فإنها واجبة بإيجابه تعالى فلذا نسبت للشارع وهو كما ترى. وذكر ابن المنير في سر ذلك أن نسبة الع. د إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في مقام نسب فيه النبذ من المشركين لا يحسن أدبا.
42

ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا حيث يقول لهم: " إذا نزلتم بحصن فطلبوا النزول على حكم الله تعالى فأنزلوهم على حكمكم فانكم لا تدرون أصادفتم حكم الله تعالى فيهم أم لا، وإن طلبوا ذمة الله تعالى فأنزلوهم على ذمتكم فلأن تخفر ذمتكم خير من أن تخفر ذمة الله تعالى " فانظر إلى أمره صلى الله عليه وسلم بتوقير ذمة الله تعالى مخافة أن تخفر وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع، فتوقير عهد الله تعالى وقد تحقق من المشركين النكث وقد تبرأ منه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بأن لا ينسب العهد المنبوذ إليه سبحانه أحرى وأجدر فلذلك نسب العهد للمسلمين دون البراءة منه ولا يخلو عن حسن إلا أنه غير واف وفاء ما قد سبق، وقيل: إن ذكر الله تعالى للتمهيد كقوله سبحانه: * (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) * (الحجرات: 1) تعظيما لشأنه صلى الله عليه وسلم ولولا قصد التمهيد لأعيدت * (من) * كما في قوله عز وجل: * (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله) * (التوبة: 7) وإنما نسبت البراءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والمعاهدة إليهم لشركتهم في الثانية دون الأولى. وتعقب بأنه لا يخفى ما فيه فإن من برأ الرسول عليه الصلاة والسلام منه تبرأ منه المؤمنون، وما ذكر من إعادة الجار ليس بلازم، وما ذكره من التمهيد لا يناسب المقام لضعف التهويل حينئذ، وقيل: ولك أن تقول: إنه إنما أضاف العهد إلى المسلمين لأن الله تعالى علم أن لا عهد لهم وأعلم به رسوله عليه الصلاة والسلام فلذا لم يضف العهد إليه لبراءته منهم ومن عهدهم في الأزل، وهذه نكتة الاتيان بالجملة اسمية خبرية وإن قيل: إنها إنشائية للبراءة منهم ولذا دلت على التجدد.
وفيه أن حديث الأزل لا يتأتى في حق الرسول عليه الصلاة والسلام ظاهرا وبالتأويل لا يبعد اعتبار المسلمين أيضا، ونكتة الاتيان بالجملة الاسمية وهي الدلالة على الدوام والاستمرار لا تتوقف على ذلك الحديث فقد ذكرها مع ضم نكتة التوسل إلى التهويل بالتنكير التفخيمي من لم يذكره.
* (فسيحوا فى الارض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزى الك‍افرين) *.
* (فسيحوا في الأرض) * أي سيروا فيها حيث شئتم، وأصل السياحة جريان الماء وانبساطه ثم استعملت في السير على مقتضى المشيئة، ومنه قوله: لو خفت هذا منك ما نلتني * حتى ترى خيلا أمامي تسيح
ففي هذا الأمر من الدلالة على كمال التوسعة والترفية ما ليس في سيروا ونظائره وزيادة * (في الأرض) * زيادة في التعميم، والكلام بتقدير القول أي فقولوا لهم سيحوا، أو بدونه وهو الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والمقصود الإباحة والاعلام بحصول الامان من القتل والقتال في المدة المضروبة، وذلك ليتفكروا ويحتاطوا ويستعدوا بما شاءوا ويعلموا أن ليس لهم بعد إلا الإسلام أو السيف ولعل ذلك يحملهم على الاسلام، ولأن المسلمين لو قاتلوهم عقيب إظهار النقض فربما نسبوا إلى الخيانة فامهلوا سدا لباب الظن وإظهارا لقوة شوكتهم وعدم اكتراثهم بهم وباستعدادهم، وللمبالغة في ذلك اختيرت صيغة الأمر دون فلكم أن تسيحوا، والفاء لترتيب الأمر بالسياحة وما يعقبه على ما يؤذن به البراءة المذكورة من الحرب على أن الأول مترتب على نفسه للثاني بكلا متعلقيه على عنوان كونه من الله العزيز جل شأنه، كأنه قيل: هذه براءة موجبة لقتالكم فاسعوا في تحصيل ما ينجيكم وإعداد ما يجديكم * (أربعة أشهر) * وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم عند الزهري لأن الآية نزلت في الشهر الأول، وقيل: إنها وإن نزلت فيه إلا ان قراءتها على الكفار وتبليغها إليهم كان يوم الحج الأكبر فابتداء المدة عاشر ذي الحجة إلى انقضاء عشر شهر ربيع الآخر، وروي ذلك عن
43

أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه. ومجاهد. ومحمد بن كعب القرظي.
وقيل: ابتداء تلك المدة يوم النحر لعشر من ذي القعدة إلى انقضاء عشر من شهر ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسىء الذي كان فيهم
ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض " وإلى ذلك ذهب الجبائي، واستصوب بعض الأفاضل الثاني وادعى أن الأكثر عله، روي من عدة أخبار متداخلة بعضها في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ودخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها وأعانتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم خرج عمرو الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فانشد: لاهم إني ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه الا تلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا * ثمت أسلمنا ولم ننزع يد
فانصر هداك الله نصرا أعتدا * وادعو عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا * إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا * أن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا مبثاقك المؤكدا * وجعلوا لي من كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا * وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالحطيم جهدا * وقتلونا ركعا وسجدا
فقال عليه الصلاة والسلام: " لانصرت إن لم أنصرك " ثم تجهز إلى مكة ففتحها سنة ثمان من الهجرة فلما كانت سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج فقال: إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة فبعث عليه الصلاة والسلام تلك السنة أبا بكر رضي الله تعالى عنه أميرا على الناس ليقيم لهم الحج وكتب له سننه ثم بعث بعده عليا كرم الله تعالى وجهه على ناقته العضباء ليقرأ على أهل الموسم صدر براءة فلما دناه علي كرم الله تعالى وجهه سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم وقام علي كرم الله تعالى وجهه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: أيها الناس إني رسول الله تعالى إليكم فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية من السورة ثم قال: أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده، واختلفت الروايات في أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه هل كان مأمورا أو لا بالقراءة أم لا والأكثر على أنه كان مأمورا وأن عليا كرم الله تعالى وجهه لما لحقه رضي الله تعالى عنه أخذ منه ما أمر بقراءته، وجاء في رواية ابن حبان. وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه حين أخذ منه ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخله من ذلك محافة أن يكون قد أنزل فيه شيء فلما أتاه قال: مالي يا رسول الله؟ قال: خير أنت أخي وصاحبي في الغار وأنت معي على الحوض غير أنه لا يبلغ عني غيري أو رجل مني.
44

وجاء من رواية أحمد. والترمذي وحسنه. وأبو الشيخ، وغيرهم عن أنس قال: " بعث النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه ثم دعاه فقال: لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا عليا كرم الله تعالى وجهه فاعطاه اياه " وهذا ظاهر في أن عليا لم يأخذ ذلك من أبي بكر في الطريق وأكثر الروايات على خلافه، وجاء في بعضها ما هو ظاهر في عدم عزل أبي بكر رضي الله تعالى عنه عن الأمر بل ضم إليه علي كرم الله تعالى وجهه. فقد أخرج الترمذي وحسنه. والبيهقي في الدلائل. وابن أبي حاتم. والحاكم وصححه عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليا وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات فحجا فقام علي رضي الله تعالى عنه في أيام التشريق فنادى أن الله برىء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فكان علي كرم الله تعالى وجهه ينادي فإذا أعيا قام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فنادى بها " وأيا ما كان ليس في شيء من الروايات ما يدل على أن عليا رضي الله تعالى عنههو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يبلغ عني غيري أو رجل مني سواى كان بوجي أم لا " جار على عادة العرب أن لا تولى تقرير العهد ونقضه إلا رجل من الأقارب لتنقطع الحجة بالكلية، فالتبليغ المنفى ليس عاما كما يرشد إلى ذلك حديث أحمد. والترمذي.
وكيف يمكن إرادة العموم وقد بلغ عنه صلى الله عليه وسلم كثيرا من الأحكام الشرعية في حياته وبعد وفاته كثير ممن لم يكن من أقاربه صلى الله عليه وسلم كعلي كرم الله تعالى وجهه ومنهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه فانه في تلك السنة حج بالناس وعلمهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سنن الحج وما يلزم فيه وهو أحد الأمور الخمسة التي بنى الإسلام عليها، على أن من أنصف من نفسه علم أن في نصب أبي بكر رضي الله تعالى عنه لإقامة مثل هذا الركن العظيم من الدين على ما يشعر به قوله سبحانه: * (ولله على الناس حج البيت) * (آل عمران: 97) الآية إشارة إلى أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة شعائر دينه لا سيما وقد أيد ذلك بإقامته مقامه عليه الصلاة والسلام في الصلاة بالناس في آخر أمره عليه الصلاة والسلام وهي العماد الأعظم والركن الأقوم لدينه عليه الصلاة والسلام في الصلاة بالناس، والقول بأنه رضي الله تعالى عنه عزل في المسألتين كما يزعمه بعض الشيعة لا أصل له وعلى المدعى البيان ودونه الشم الراسيات. وبالجملة دلالة " لا ينبغي " الخ على الخلافة مما لا ينبغي القول بها، وقصارى ما في الخبر الدلالة على فضل الأمير كرم الله تعالى وجهه وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمن لا ينكر ذلك لكنه بمعزل عن اقتضائه التقدم بالخلافة على الصديق رضي الله تعالى عنه. وقد ذكر بعض أهل السنة نكتة في نصب أبي بكر أميرا للناس في حجهم ونصب الأمير كرم الله تعالى وجهه مبلغا نقض العهد في ذلك المحفل وهي أن الصديق رضي الله تعالى عنه لما كان مظهرا لصفة الرحمة والجمال كمال يرشد إليه ما تقدم في
حديث الاسراء وما جاء من قوله صلى الله عليه وسلم أرحم أمتي بأمتي أبو بكر أحال إليه عليه الصلاة والسلام أمر المسلمين الذين هم مورد الرحمة، ولما كان علي كرم الله تعالى وجهه الذي هو أسد الله مظهر جلاله فوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر فكانا كعينين فوارتين يفور من احداهما صفة الجمال ومن الأخرى صفة الجلال في ذلك المجمع العظيم الذي كان انموذجا للحشر وموردا للمسلم والكافر انتهى. ولا يخفى حسنه لو لم يكن في البين تعليل النبي صلى الله عليه وسلم.
45

وجعل المدة أربعة أشهر قيل لأنها ثلث السنة والثلث كثير، ونصب العدد على الظرفية لسيحوا أي فسيحوا في أقطار الأرض في أربعة أشهر * (واعلموا أنكم) * لسياحتكم تلك * (غير معجزي الله) * لا تفوتونه سبحانه بالهرب والتحصن * (وأن الله مخزي الك‍افرين) * في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالعذاب المهين، وأظهر الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل أمر الاخزاء وهو الاذلال بما فيه فضيحة وعار، والمراد من الكافرين اما المشركون المخاطبون فيما تقدم والعدول عن مخزيكم إلى ذلك لذمهم بالكفر بعد وصفهم بالاشراك وللاشعار بأن علة الاخزاء هي كفرهم واما الجنس الشامل لهم ولغيرهم ويدخل فيه المخاطبون دخولا أوليا.
* (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر أن الله برىء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) *.
* (وأذان من الله ورسوله) * أي إعلام وهو فعال بمعنى الأفعال أي إيذان كالأمان والعطاء. ونقل الطبرسي أن أصله من النداء الذي يسمع بالأذن بمعنى أذنته أو صلته إلى أذنه، ورفعه كرفه براءة والجملة معطوفة على مثلها.
وزعم الزجاج أنه عطف على براءة، وتعقب بأنه لا وجه لذلك فإنه لا يقال: أن عمرا معطوف على زيد في قولك: زيد قائم وعمرو قاعد. وذكر العلامة الطيبي أن لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يعطف على براءة على أن يكون من عطف الخبر على الخبر كأنه قيل: هذه السورة براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم خاصة وأذان من الله ورسوله * (إلى الناس) * عامة. نعم الأوجه أن يكون من عطف الجمل لئلا يتخلل بين الخبرين جمل أجنبية ولئلا تفوت المطابقة بين المبتدأ والخبر تذكيرا وتأنيثا، ونظر فيه بعضهم أيضا بأنهم جوزوا في الدار زيد والحجرة عمرو وعدوا ذلك من العطف على معمولي عاملين، وصرحوا بأن نحو زيد قائم وعمرو يحتمل الأمرين، وأجيب بأنه أريد عطف أذان وحده على براءة من غير تعرض لعطف الخبر على الخبر كما في نحو أريد أن يضرب زيد عمرا ويهين بكر خالدا فليس العطف إلا في الفعلين دون معموليهما هذا الذي منعه من منع؛
وإرادة العموم من * (الناس) * هو الذي ذهب إليه أكثر الناس لأن هذا الاذان ليس كالبراءة المختصة بالناكثين بل هو شامل للكفرة وسائر المؤمننين أيضا، وقال قوم: المراد بهم أهل العهد، وقوله سبحانه: * (يوم الحج الأكبر) * منصوب بما تعلق به * (إلى الناس) * لا باذان لأن المصدر الموصوف لا يعمل على المشهور، والمراد به يوم العيد لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ولأن الأعلام كان فيه.
ولما أخرج البخاري تعليقا. وأبو داود. وابن ماجه. وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وابن جبير. وابن زيد. ومجاهد. وغيرهم، وقيل: يوم عرفة لقوله صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة " ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا، وأخرج ابن أبي حاتم عن المسور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن أبي الصهباء أنه سأل عليا كرم الله تعالى وجهه عن هذا اليوم فقال: هو يوم عرفة، وعن مجاهد. وسفيان أنه جميع أيام الحج كما يقال: يوم الجمل. ويوم صفين ويراد باليوم الحين والزمان والأول أقوى رواية ودراية، ووصف بالحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر أو لأن المراد بالحج ما وقع في ذلك اليوم من أعماله فانه أكبر من باقي الأعمال فالتفضيل نسبي وغير مخصوص بحج تلك السنة. وعن الحسن أنه وصف بذلك لأنه اجتمع فيه المسلمون والمشركون ووافق عيده أعياد أهل الكتاب، وقيل: لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين
46

فالتفضيل مخصوص بتلك السنة؛ وأما تسمية الحج الموافق يوم عرفة فيه ليوم الجمعة بالأكبر فلم يذكروها وإن كان ثواب ذلك الحج زيادة على غيره كما تقله الجلال السيوطي في بعض رسائله * (أن الله بريء من المشركين) * أي من عهودهم. وقرأ الحسن. والأعرج * (إن) * بالكسر لما أن الأذان فيه معنى القول، وقيل: يقدر القول، وعلى قراءة الفتح يكون بتقدير حرف جر وهو مطرد في إن وأن، والجار والمجرور جوز أن يكون خبرا عن أذان وأن يكون متعلقا به وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة له، وقوله سبحانه: * (ورسوله) * عطف على المستكن في برىء، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف وأن يكون عطفا على محل اسم إن لكن على قراءة الكسر، لأن المكسورة لمالم تغير المعنى جاز أن تقدر كالعدم فيعطف على محل ما عملت فيه أي على محل كان له قبل دخولها فانه كان إذ ذاك مبتدأ، ووقع في كلامهم محل أن مع اسمها والأمر فيه هين. ولم يجيزوا ذلك على المسهور مع المفتوحة لأن لها موضعا غير الابتداء، وأجاز ابن الحاجب ههنا العطف على المحل في قراءة الجماعة أيضا بناء على ما ذكر من أن المفتوحة على قسمين ما يجوز فيه العطف على المحل وما لا يجوز، فإن كان بمعنى إن المكسورة كالتي بعد أفعال القلوب نحو علمت أن زيدا قائم وعمر وجاز العطف لأنها لاختصاصها بالدخول على الجمل يكون المعنى معها ان زيدا قائم وعمرو في علمي، ولذا وجب الكسر في علمت إن زيدا لقائم، وإن لم تكن كذلك لا يجوز نحو أعجبني أن زيدا كريم وعمرو ويتعين النصب فيه لأنها حينئذ ليست مكسورة ولا في حكمها، ووجه الجواز بناء على هذا أن الاذن بمعنى العلم فيدخل على الجمل أيضا كعلم.
وقرأ يعقوب برواية روح. وزيد * (ورسوله) * بالنصب وهي قراءة الحسن. وابن أبي اسحق. وعيسى بن عمرو، وعليها فالعطف على اسم ان وهو الظاهر،
وجوز أن تكون الواو بمعنى مع ونصب * (ورسوله) * على أنه مفعول معه أي برىء معه منهم.
وعن الحسن أنه قرأ بالجر على أن الواو للقسم وهو كالقسم بعمره صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: * (لعمرك) * وقيل: يجوز كون الجر على الجوار وليس بشيء، وهذه القراءة لعمري موهمة جدا وهي في غاية الشذوذ الظاهر أنها لم تصح. يحكى أن إعرابيا سمع رجلا يقرؤها فقال: إن كان الله تعالى بريئا من رسوله فانا منه بريء فلببه الرجل إلى عمر رضي الله تعالى عنه فحكى الاعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعليم العربية، ونقل أن أبا الأسود الدؤلي سمع ذلك فرفع الأمر إلى علي كرم الله تعالى وجهه فكان ذلك سبب وضع النحو والله تعالى أعلم.
وفرق الزمخشري بين معنى الجملة الأولى وهذه الجملة بأن تلك اخبار بثبوت البراءة وهذه اخبار بوجوب الاعلام بما ثبت، وفي الكشف أن هذا على تقدير رفعهما بالخبرية ظاهر إلا أن في قوله اخبار بوجوب الاعلام تجوزا وأراد أن يبين أن المقصود ليس الاخبار بالاعلام بل أعلم سبحانه أنه بريء ليعلموا الناس به، وعلى التقدير الثاني وجهه أن المعنى في الجملة الأولى البراءة الكائنة من الله تعالى حاصلة منتهية إلى المعاهدين من المشركين فهو إخبار بثبوت البراءة كما تقول في زيد موجود مثلا: إنه إخبار بثبوت زيد، وفي الثانية إعلام المخاطبين الكائن من الله تعالى بتلك البراءة ثابت واصل إلى الناس فهو إخبار بثبوت الاعلام الخاص صريحا ووجوب أن يعلم المخاطبون الناس ضمنا، ولما كان المقصود هو المعنى المضمن ذكر أنها إخبار بوجوب الاعلام، وزعم بعضهم لدفع التكرار أن البراءة الأولى لنقض العهد والبراءة الثانية لقطع الموالاة والاحسان
47

وليس بذلك
* (فان تبتم) * من الكفر والغدر بنقض العهد * (فهو) * أي التوب * (خير لكم) * في الدارين والالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التهديد والتشديد، والفاء الأولى لترتيب مقدم الشرطية على الاذان المذيل بالوعيد الشديد المؤذن بلين عريكتهم وانكسار شدة شكيمتهم * (وإن توليتم) * عن التوبة أو ثبتم على التولي عن الإسلام والوفاء * (فاعلموا أنكم غير معجزي الله) * غير سابقيه سبحانه ولا فائتيه * (وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) * أي في الآخرة على ما هو الظاهر.
ومن هنا قيد بعضهم غير معجزي الله بقوله في الدنيا، والتعبير بالبشارة للتهكم، وصرف الخطاب عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: لأن البشارة إنما تليق بمن يقف على الاسرار الالهية، وقد يقال: لا يبعد كون الخطاب لكل من له حظ فيه وفيه من المبالغة ما لا يخفى.
* (إلا الذين ع‍اهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظ‍اهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) *.
* (إلا الذين عاهدتم من المشركين) * استثناء على ما في الكشاف من المقدر في قوله: * (فسيحوا في الأرض) * الخ لأن الكلام خطاب مع المسلمين على أن المعنى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم فأتموا إليهم عهدهم، وهو بمعنى الاستدراك كأنه قيل: فلا تمهلوا الناكثين غير أربعة أشهر ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجرى الناكثين، واعترض بأنه كيف يصح الاستثناء وقد تخلل بين المستثنى والمستثنى منه جملة أجنبية أعني قوله سبحانه: * (وأذان من الله) * فإنه كما قرر عطف على براءة، وأجيب بأن تلك الجملة ليست أجنبية من كل وجه لأنها في معنى الأمر بالاعلام كأنه قيل: فقولوا لهم سيحوا واعلموا أن الله تعالى بريء منهم لكن الذين عاهدتم الخ، وجعله بعضهم استدراكا من النبذ السابق الذي أخر فيه القتال أربعة أشهر والمآل واحد، وقيل: هو استثناء من المشركين الأول وإليه ذهب الفراء، ورد بأن بقاء التعميم في قوله تعالى: * (إن الله بريء من المشركين) * ينافيه، وقيل: هو استثناء من المشركين الثاني. ورد بأن بقاء التعميم في الأول ينافيه، والقول بالرجوع إليهما والمستثنى منهما في الجملتين ليستا على نسق واحد لا يحسن، وجعل الثاني معهودا وهم المشركون المستثنى منهم هؤلاء فقيل مجيء الاستثناء يبعد ارتكابه في النظم المعجز، وقوله سبحانه: * (فاتموا إليهم) * حينئد لا بد من أن يجعل جزاء شرط محذوف وهو أيضا خلاف الظاهر والظاهر الخبرية، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وكون المراد به أناسا بأعيانهم فلا يكون علما فيشبه الشرط فتدخل الفاء في خبره على تقدير تسليمه غير مضر فقد ذهب الاخفش إلى زيادة الفاء في خبر الموصول من غير اشتراذ العموم، واستدل القطب لما في الكشاف بأن ههنا جملتين يمكن أن يعلق بهما الاستثناء جملة البراءة وجملة الامهال، لكن تعليق الاستثناء بجملة البراءة يستلزم أن لا براءة عن بعض المشركين فتعين تعلقه بجملة الامهال أربعة أشهر، وفيه غفلة عن أن المراد البراءة عن عهود المشركين لا عن أنفسهم، ولا كلام في أن المعاهدين الغير الناكثين ليس الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بريئين من عهودهم وإن برئا عن أنفسهم بضرب من التأويل فافهم، وقال ابن المنير: يجوز أن يكون قوله سبحانه: * (فسيحوا) * خطابا للمشركين غير مضمر قبله القول ويكون الاستثناء
48

على هذا من قوله تعالى: * (إلى الذين عاهدتم) * كأنه قيل: براءة من الله تعالى ورسوله إلى المعاهدين إلا الباقين على العهد فأتموا إليهم أيها المسلمون عهدهم، ويكون فيه خروج من خطاب المسلمين في * (إلا الذين عاهدتم) * إلى خطاب المشركين في * (فسيحوا) * ثم التفات من التكلم إلى الغيبة في * (وعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله) * والأصل غير معجزي واني، وفي هذا الالتفات بعد الالتفات الأول افتنان في أساليب البلاغة وتفخيم للشأن وتعظيم للأمر، ثم يتلو هذا الالتفات العود إلى الخطاب في قوله سبحانه: * (إلا الذين عاهدتم) * الخ وكل هذا من حسنات الفصاحة انتهى، ولا يخفى ما فيه من كثرة التعسف و * (من) * قيل بيانية، وقيل: تبعيضية، وثم في قوله تعالى: * (ثم لم ينقصوكم شيئا) * للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة وينقصوا بالصاد المهملة كما قرأ الجمهور يجوز أن يتعدى إلى واحد فيكون شيئا منصوبا على المصدرية أي لم ينقصوكم شيئا من النقصان لا قليلا ولا كبيرا، ويجوز أن يتعدى إلى اثنين فيكون * (شيئا) * مفعوله الثاني أي لم ينقصوكم شيئا من النقصان لا قليلا ولا كثيرا، ويجوز أن يتعدى إلى اثنين فيكون * (شيئا) * مفعوله الثاني أي لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد وأدوها لكم
بتمامها، وقرأ عكرمة. وعطاء * (ينقضوكم) * بالضاد المعجمة، والكلام حينئذ على حذف مضاف أي لم ينقضوا عهودكم شيئا من النقض وهي قراءة مناسبة للعهد إلا أن قراءة الجمهور أوقع لمقابلة التمام مع استغنائها عن ارتكاب الحدف * (ولم يظ‍اهروا) * أي لميعاونوا * (عليكم أحدا) * من أعدائكم كما عدت بنو بكر على خزاعة فظاهرتهم قريش بالسلاح كما تقدم * (فأتموا اليهم عهدهم) * أي أدوه إليهم كملا * (إلى مدتهم) * أي إلى انقضائها ولا تجروهم مجرى الناكثين قيل: بقي لبني ضمرة. وبني مدلج حيين من كنانة من عهدهم تسعة اشهر فأتم إليهم عهدهم، وأخرج ابن أبي حاتم أنه قال: هؤلاء قريش عاهدوا نبي الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر فأمر الله تعالى شأنه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم ذلك إلى مدتهم وهو خلاف ما تظافرت به الروايات من أن قريشا نقضوا العهد على ما علمت والمعتمد هو الأول * (إن الله يحب المتقين) * تعليل لوجوب الامتثال وتنبيه على أن مراعاة العهد من باب التقوى وأن التسوية بين الغادر والوفي منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا.
* (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءاتوا الزكواة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) *.
* (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) * أي انقضت، وأصله من السلخ بمعنى الكشط يقال: سلخت الاهاب عن الشاة أي كشطته ونزعته عنها، ويجيء بمعنى الاخراج كما يقال: سلخت الشاة عن الاهاب إذا أخرجتها منه، وذكر أبو الهيثم أنه يقال: أهللنا شهر كذا أي دخلنا فيه فنحن نزداد كل ليلة لباسا إلى نصفه ثم نسلخه عن أنفسنا جزأ فجزأ حتى ينقضي وأنشد: إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله * كفى قاتلا سلخى الشهور واهلالي
والانسلاخ فيما نحن فيه استعارة حسنة وتحقيق ذلك أن الزمان محيط بما فيه من الزمانيات مشتمل عليه اشتمال الجلد على الحيوان وكذا كل جزء من أجزائه الممتدة كالأيام والشهور والسنين، فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه، وفي ذلك مزيد لطف لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهر كانت حرزا لأولئك المعاهدين عن غوائل أيدي المسلمين فنيط قتالهم بزوالها، ومن هنا يعلم أن جعله استعارة من المعنى الأولى للسلخ أولى من جعله من المعنى الثاني باعتبار أنه لما انقضى كأنه أخرج من الأشياى الموجودة إذ لا يظهر هذا التلويح عليه ظهوره على الأول * (وأل) * في الأشهر للعهد فالمراد بها الأشهر الأربعة المتقدمة في قوله سبحانه: * (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) * (التوبة: 2) وهو المروى عن مجاهد. وغيره. وفي الدر المصون أن العرب إذا ذكرت نكرة ثم أرادت ذكرها ثانيا أتت بالضمير أو باللفظ معرفا بأل ولا يجوز أن تصفه حينئذ بصفة تشعر بالمغايرة
49

فلو قيل رأيت رجلا وأكرت الرجل الطويل لم ترد بالثاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز كقولك فأكرمت الرجل المذكور والآية من هذا القبيل، فإن * (الحرم) * صفة مفهومة من فحوى الكلام فلا تقتضي المغايرة، وكأن النكتة في العدول عن الضمير ووضع الظاهر موضعه الاتيان بهذه الصفة لتكون تأكيدا لما ينبىء عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم مع ما في ذلك من مزيد الاعتناء بشأن الموصوف. وعلى هذا فالمراد بالمشركين في قوله سبحانه: * (فاقتلوا المشركين) * الناكثون فيكون المقصود بيان حكمهم بعد التنبيه على إتمام مدة من لم يكنث ولا يكون حكم الباقين مفهوما من عبارة النص بل من دلالته، وجوز أن يكون المراد بها تلك الأربعة مع ما فهم من قوله سبحانه: * (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) * من تتمة مدة بقيت لغير الناكثين. وعليه يكون حكم الباقين مفهوما من العبارة حيث إن المراد بالمشركين حينئذ ما يعمهم والناكثين إلا أنه يكون الانسلاخ وما نيط به من القتال شيئا فشيئا لا دفعة واحدة، فكأنه قيل: فإذا تم ميقات كل طائفة فاقتلوهم، وقيل: المراد بها الأشهر المعهودة الدائرة في كل سنة وهي رجب. وذو العقدة. وذو الحجة. والمحرم. وهو مخل بالنظم الكريم لأنه يأباه الترتيب بالفاء وهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر. وقيل: إنه مخالف للإجماع أيضا لأنه قام على أن هذه الأشهر يحل فيها القتال وأن حرمتها نسخت وعلى تفسيره بها يقتضي بقاء حرمتها ولم ينزل بعد ما ينسخها. ورد بأنه لا يلزم أن ينسخ الكتاب بالكتاب بل قد ينسخ بالسنة كما تقرر في الأصول، وعلى تقدير لزومه كما هو رأي البعض يحتمل أن يكون ناسخه من الكتاب منسوخ التلاوة. وتعقب هذا بأنه احتمال لا يفيد ولا يسمع لأنه لو كان كذلك لنقل والنسخ لا يكفي فيه الاحتمال، وقيل: إن الاجماع إذا قام على أنها منسوخة كفى ذلك من غير حاجة إلى نقل سند إلينا، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم، وكما أن ذلك كاف لنسخها يكفي لنسخ ما وقع في الحديث الصحيح وهو " إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله تعالى السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب " فلا يقال: إنه يشكل علينا لعدم العلم بما ينسخه كما توهم، وإلى نسخ الكتاب بالإجماع ذهب البعض منا. ففي النهاية شرح الهداية تجوز الزيادة على الكتاب بالإجماع صرح به الإمام السرخسي، وقال فخر الإسلام: إن النسخ بالإجماع جوزه بعض أصحابنا بطريق أن الإجماع يوجب العلم اليقيني كالنص فيجوز أن يثبت به النسخ، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المسهور والنسخ به جائز فبالاجماع أولى. وأما اشتراط حياة النبي صلى الله عليه وسلم في جواز النسخ فغير مشروط على قول ذلك البعض من الأصحاب اه‍. وأنت تعلم أن المسألة خلافية عندنا، على أن في الإجماع كلاما، فقد قيل: ببقاء حرمة قتال المسلمين فيها إلا أن يقاتلوا ونقل ذلك عن عطاء لكنه قول لا يعتد به، والقول بأن منع القتال في الأشهر الحرم كان في تلك السنة وهو لا يقتضي منعه في كل ما شابهها بل هو مسكوت عنه فلا يخالف الإجماع، ويكون حله معلوما من دليل آخر ليس بشيء، لأن الظاهر أن من يدعي الإجماع يدعيه في الحل في تلك السنة أيضا، وبالجملة لا معول على هذا التفسير، وهذه على ما قال الجلال السيوطي هي آية السيف التي نسخت آيات العفو والصفح والاعراض والمسالمة.
وقال العلامة ابن حجر: أية السيف * (وقاتلوا المشركين كافة) * (التوبة: 36) وقيل: هما، واستدل الجمهور بعمومها على قتال الترك والحبشة كأنه قيل: فاقتلوا الكفار مطلقا * (حيث وجدتموهم) * من حل وحرم * (وخذوهم) * قيل: أي أسروهم
50

والأخيذ الأسير، وفسر الأسر بالربط لا لاسترقاق، فان مشركي العرب لا يسترقون. وقيل: المراد إمهالهم للتخيير بين القتل والإسلام. وقيل: هو عبارة عن أذيتهم بكل طريق ممكن، وقد شاع في العرف الأخذ على الاستيلاء على مال العدو، فيقال: إن بني فلان أخذوا بني فلان أي استولوا على أموالهم بعد أن غلبوهم * (واحصروهم) * قيل أي أحبسوهم.
ونقل الخازن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد امنعوهم عن الخروج إذا تحصنوا منكم بحصن.
ونقل غيره عنه أن المعنى حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام * (واقعدوا لهم كل مرصد) * أي كل ممر ومجتاز يجتازون منه في أسفارهم، وانتصابه عند الزجاج ومن تبعه على الظرفية. ورده أبو علي بأن المرصد المكان الذي يرصد فيه العدو فهو مكان مخصوص لا يجوز حذف - في - منه ونصبه على الظرفية إلا سماعا. وتعقبه أبو حيان بأنه لا مانع من انتصابه على الظرفية لأن قوله تعالى: * (واقعدوا لهم) * ليس معناه حقيقة القعود بل المراد ترقبهم وترصدهم، فالمعنى ارصدوهم كل مرصد يرصد فيه، والظرف مطلقا ينصبه باسقاط - في - فعل من لفظه أو معناه نحو جلست وقعدت مجلس الأمير، والمقصور على السماع ما لم يكن كذلك، و * (كل) * وإن لم يكن ظرفا لكن له حكم ما يضاف إليه لأنه عبارة عنه.
وجوز ابن المنير أن يكون مرصدا مصدرا ميميا فهو مفعول مطلق والعامل فيه الفعل الذي بمعناه، كأنه قيل: وارصدوهم كل مرصد ولا يخفى بعده، وعن الأخفش أنه منصوب بنزع الخافض والأصل على كل مرصد فلما حذف على انتصب، وأنت تعلم أن النصب بنزع الخافض غير مقيس خصوصا إذا كان الخافض على فانه يقل حذفها حتى قيل: إنه مخصوص بالشعر * (فان تابوا) * عن الشرك بالإيمان بسبب ما ينالهم منكم * (وأقاموا الص‍الوة وءاتوا الزك‍اوة) * تصديقا لتوبتهم وإيمانهم، واكتفى بذكرهما لكونهما رئيسي العبادات البدنية والمالية * (فخلوا سبيلهم) * أي فاتركوهم وشأنهم ولا تتعرضوا لهم بشيء مما ذكر.
وقيل: المراد خلوا بينهم وبين البيت ولا تمنعوهم عنه والأول أولى، وقد جاءت تخلية السبيل في كلام العرب كناية عن الترك كما في قوله: خل السبيل لمن يبني المنار به * وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر
ثم يراد منها في كل مقام ما يليق به، ونقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه استدل بالآية على قتل تارك الصلاة وقتال مانع الزكاة، وذلك لأنه تعالى أباح دماء الكفار بجميع الطرق والأحوال ثم حرمها عند التوبة عن الكفر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فما لم يوجد هذا المجموع تبقى اباحة الدم على الأصل، ولعل أبا بكر رضي الله تعالى عنه استدل بها على قتال مانعي الزكاة. وفي الحواشي الشهابية أن المزني من جلة الشافعية رضي الله تعالى عنهم أورد على قتل تارك الصلاة تشكيكا تحيروا في دفعه كما قاله السبكي في طبقاته فقال إنه لا يتصور لأنه إما أن يكون على ترك صلاة قد مضت أو لم تأت والأول باطل لأن المقضية لا يقتل بتركها والثاني كذلك لأنه ما لم يخرج الوقت فله التأخير فعلام يقتل؟ وسلكوا في الجواب مسالك.
الأول: أن هذا وارد أيضا على القول بالتعزير والضرب والحبس كما هو مذهب الحنفية فالجواب - الجواب - وهو جدلي. يا رسول الله والثاني: أنه على الماضية لأنه تركها بلا عذر، ورد بأن القضاء لا يجب على الفور وبأن الشافعي
51

رضي الله تعالى عنه قد نص على أنه لا يقتل بالمقضية مطلقا. والثالث: أنه يقتل للمؤداة في آخر وقتها. ويلزمه أن المبادرة إلى قتل تارك الصلاة تكون أحق منها إلى المرتد إذ هو يستتاب وهذا لا يستتاب ولا يمهل إذ لو أمهل صارتمقضية وهو محل كلام فلا حاجة إلى أن يجاب من طرف أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كما قيل: بأن استدلال الشافعية مبني على القول بمفهوم الشرط وهو لا يعول به، ولو سلمه فالتخلية الاطلاق عن جميع ما مر، وحينئد يقال: تارك الصلاة لا يخلى ويكفى لعدم التخلية أن يحبس، على أن ذلك منقوض بمانع الزكاة عنده، وأيضا يجوز أن يراد باقامتهما التزامهما وإذا لم يلتزمهما كان كافرا إلا أنه خلاف المتبادر وإن قاله بعض المفسرين.
وأنت تعلم أن مذهب الشافعية إن من ترك صلاة واحدة كسلا بشرط اخراجها عن وقت الضرورة بأن لا يصلي الظهر مثلا حتى تغرب الشمس قتل حدا، واستدل بعض أجلة متأخريهم بهذه الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس " الحديث وبين ذلك بأنهما شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة الإسلام وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لكن الزكاة يمكن الإمام أخذها ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا منها وقاتلونا فكانت فيها على حقيقتها بخلافها في الصلاة فانه لا يمكن فعلها بالمقاتلة فكانت فيها بمعنى القتل، ثم قال: فعلم وضوح الفرق بين الصلاة والزكاة وكذا الصوم فإنه إذا علم انه يحبس طول النهار نواه فاجدي الحبس فيه ولا كذلك الصلاة فتعين القتل في حدها ولا يخفى أن ظاهر هذا قول بالجمع بين الحقيقة والمجاز في الآية والحديث لأن الصلاة والزكاة في كل منهما، وفي الآية القتل وحقيقته لا تجري في مانع الزكاة وفي الحديث المقاتلة وحقيقتها لا تجري في تارك الصلاة فلا بد أن يراد مع القتل المقاتلة في الآية ومع المقاتلة القتل في الحديث ليتأتى جريان ذلك في تارك الصلاة ومانع الزكاة، والجمع بين الحقيقة والمجاز لا يجوز عندنا، على أن حمل الآية والحديث على ذلك مما لا يكاد يتبادر إلى الذهن فالنقض بمانع الزكاة في غاية القوة. وأشار إلى ما نقل عن المزني مع جوابه بقوله: لا يقال: لا قتل بالحاضرة لأنه لم يخرجها عن وقتها ولا بالخارجة عنه لأنه لا قتل بالقضاء وان وجوب فورا لأنا نقول: بل يقتل بالحاضرة إذا أمر بها من جهة الإمام أو نائبه دون غيرهما فيما يظهر في الوقت عند ضيقه وتوعد على اخراجها عنه فامتنع حتى خرج وقتها لأنه حينئذ معاند للشرع عنادا يقتضي مثله القتل فهو ليس لحاضره فقظ ولا لفائتة فقط بل لمجموع الأمرين الأمر والاخراج مع التصميم ثم انهم قالوا: يستتاب تارك الصلاة فورا ندبا، وفارق الوجوب في المرتد بأن ترك استتابته توجب تخليده في النار إجماعا بخلاف هذا، ولا يضمن عندهم من قتله قبل التوبة مطلقا لكنه يأثم من جهة الافتيات على الإمام وتمام الكلام في ذلك يطلب من محله.
واستدل بالآية أيضا - كما قال الجلال السيوطي - من ذهب إلى كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة، وليس ذلك بشيء والصحيح أنهما مؤمنان عصيان وما يشعر بالكفر خارج مخرج التغليظ * (إن الله غفور رحيم) * يغفر لهم ما قد سلف منهم ويثيبهم بإيمانهم وطاعتهم وهو تعليل للأمر بتخلية السبيل.
* (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذالك بأنهم قوم لا يعلمون) *.
* (وإن أحد) * شروع في بيان حكم المتصدين لمباي التوبة من سماع كلام الله تعالى والوقوف على شعائر الدين اثر بيان حكم التائبين عن الكفر والمصرين عليه، وفيه إزاحة ما عسى يتوهم من قوله سبحانه: * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) *
52

إذ الحجة قد قامت عليهم وأن ما ذكره عليه الصلاة والسلام قبل من الدلائل والبينات كاف في إزالة عذرهم بطلبهم للدليل لا يلتفت إليه بعد و * (إن) * شرطية والاسم مرفوع بشرط مضمر يفسره الظاهر لا بالابتداء ومن زعم ذلك فقد أخطأ كما قال الزجاج لأن إن لكونها تعمل العمل المختص بالفعل لفظا أو محلا مختصة به فلا يصح دخولها على الاسماء أن وإن استجارك أحد * (من المشركين استجارك) * أي استأمنك وطلب مجاورتك بعد انقضاء الأجل المضروب * (فأجره) * أي فآمنه * (حتى يسمع كل‍ام الله) * ويتدبره ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه والاقتصار على ذكر السماع لعدم الحاجة إلى شيء آخر في الفهم لكونهم من أهل اللسن والفصاحة، والمراد بكلام الله تعالى الآيات المشتملة على ما يدل على التوحيد ونفي الشبه والشبيه، وقيل: سورة براءة، وقيل: جميع القرآن لأن تمام الدلائل والبينات فيه، و * (حتى) * للتعليل متعلقة بما عندها، وليست الآية من التنازع على ما صرح به الفاضل ابن العادل حيث قال: ولا يجوز ذلك عند الجمهور لأمر لفظي صناعي لأنا لو جعلناها من ذلك الباب واعلمنا الأول أعني استجارك لزم إثبات الممتنع عندهم وهو إعمال حتى في الضمير فانهم قالوا: لا يرتكب ذلك إلا في الضرورة كما في قوله: فلا والله لا يلفي أناس * فتى حتاك يا ابن أبي زياد
ضرورة أن القائلين بأعمال الثاني يجوزن إعمال الأول المستدعى لما ذكر سيما على مذهب الكوفيين المبني على رجحان إعماله ومن جوز إعماله في الضمير يصح ذلك عنده لعدم المحذور حينئذ، ويفهم ظاهر كلام بعض الأفاضل جواز التعلق باستجارك حيث قال: لا داعي لتعلقه بأجره سوى الظن أنه يلزم أن يكون التقدير على تقدير التعلق بالأول وإن أحد من المشركين استجارك حتى يسمع كلام الله فأجره حتاه أي حتى السمع وهل يقول عاقل بتوقف تمام قولك إن استأمنك زيد لأمر كذا فآمنه على أن تقول لذلك الأمر كلا فرضنا الاحتياج ولزوم التقدير ولكن ما الموجب لتقدير حتاه الممتنع في غير الضرورة ولم لا يجوز أن يقدر لذلك أوله أو حتى يسمعه أو غير ذلك مما في معناه، وقال آخر: إن لزوم الاضمار الممتنع على تقدير إعمال الأول لا يعين إعمال الثاني فلا يخرج التركيب من باب التنازع بل يعدل حينئد إلى الحذف فإن تعذر أيضا ذكر مظهرا كما يستفاد من كلام نجم الأئمة وغيره من المحققين.
وقد يقال: إن المانع من كونه من باب التنازع انه ليس المقصود تعليل الاستجارة بما ذكر كما أن المقصود تعليل الاجارة به. نعم قال شيخ الاسلام ان تعق الإجارة بسماع كلام الله تعالى يستلزم تعلق الاستجارة أيضا بذلك أو ما في معناه من أمور الدين، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه انه أتاه رجل من المشركين فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله تعالى أو لحاجة قتل قال: لا. لأن الله تعالى يقول: و * (إن أحد من المشركين استجارك فأجره) * الخ فالمراد بما فيه من الحاجة هي الحاجة المتعلقة بالدين لا ما يعمها وغيرها من الحاجات الدنيوية كما ينبىء عنه قوله أن يأتي محمدا صلى الله عليه وسلم فإن من يأتيه عليه الصلاة والسلام إنما يأتيه للأمور المتعلقة بالدين انتهى، لكنه ليس بشيء لأن الظاهر من كلام ذلك القائل العموم فيكون جواب الأمير كرم الله تعالى وجهه مؤيدا لما قلناه. ويرد على قوله قدس سره أن يأتيه عليه الصلاة والسلام انما يأتيه للأمور المتعلقة بالدين منع ظاهر فلا يتم بناء الانباء، وجوز غير واحد كون حتى للغاية والخبر المذكور وجزالة المعنى يشهدان بكونها للتعليل بل قال المولى سرى الدين المصري:
53

إن جعلها للغاية يأباه قوله تعالى: * (ثم أبلغه) * بعد سماعه وكلام الله تعالى إن لم يؤمن * (مأمنه) * أي مسكنه الذي يأمن فيه أوموضع أمنه وهو ديار قومه على أن المأمن اسم مكان أو مصدر بتقدير مضاف والأول أولى لسلامته من مؤنة التقدير، والجملة الشرطية على ما بينه في " الكشف " عطف على قوله سبحانه: * (فاقتلوا المشركين) * ولا حجة في الآية للمعتزلة على نفي الكلام النفي لأن السماع قد ينسب إليه باعتبار الدال عليه أو يقال: إن الكلام معقول بالاشتراك أو بالحقيقة والمجاز على الكلام النفسي والكلام اللفظي ولا يلزم من تعين أحدهما في مقام نفي ثبوت الآثر في نفس الأمر، وقد تقدم في المقدمات من الكلام ما يتعلق بهذا المقام فتذكر * (ذلك) * أي الأمن أو الأمر * (بأنهم) * أي بسبب أنهم * (قوم لا يعلمون) * ما الإسلام وما حقيقة ما تدعوهم إليه أو قوم جهلة فلا بد من إعطاء الأمان حتى يفهموا ذلك ولا يبقى لهم معذرة أصلا، والآية كما قال الحسن محكمة.
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن أبي عروبة أنها منسوخة بقوله تعالى: * (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) * وروى ذلك عن السدي. والضحاك أيضا وما قاله الحسن أحسن، واختلف في مقدار مدة الإمهال فقيل: أربعة أشهر وذكر النيسابوري أنه الصحيح من مذهب الشافعي، وقيل: مفوض إلى رأي الإمام ولعله الأشبه.
* (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين ع‍اهدتم عند المسجد الحرام فما استق‍اموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) *.
تبيين للحكمة الداعية لما سبق من البراءة ولو أحقها والمراد من المشركين الناكثون لأن البراءة إنما هي في شأنهم، والاستفهام لإنكار الوقوع، ويكون تامة وكيف في محل النصب على التشبيه بالحال أو الظرف.
وقال غير واحد: ناقصة و (كيف خبرها وهو واجب التقديم لأن الاستفهام له صدر الكلام و * (المشركين) * متعلق بيكون عند من يجوز عمل الأفعال الناقصة بالظروف أو صفة لعهد قدمت فصارت حالا و * (عند) * أما متعلق بيكون على ما مر أو بعهد لأنه مصدر أو بمحذوف وقع صفة له، وجوز أن يكون الخبر (
للمشركين) و * (عند) * فيها الأوجه المتقدمة، ويجوز أيضا تعلقها بالاستقرار الذي تعلق به * (للمشركين) * أو الخبر * (عند الله) * وللمشركين إما تبيين كما في - سقيا لك - فيتعلق بمقدر مثل أقول هذا الإنكار لهم أو متعلق بيكون وأما حال من عهد أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، ويغتفر تقدم معمول الخبر لكونه جارا ومجرورا، و * (كيف) * على الوجهين الأخيرين شبيهة بالظرف أو بالحال كما في احتمال كون الفعل تاما وهو على ما قاله شيخ الإسلام الأولى لأن في إنكار ثبوت العهد في نفسه من المبالغة ما ليس في إنكار ثبوته للمشركين لأن ثبوته الرابطي فرع ثبوته العيني فانتفاء الأصل يوجب انتفار الفرع رأسا وتعقب بأنه غير صحيح لما تقرر أن انتفاء مبدأ المحمول في الخارج لا يوجب انتفاء الحمل الخارجي لاتصاف الأعياف بالاعتباريات والعدميات حتى صرحوا بأن زيدا عمى قضية خارجية مع أنه لا ثبوت عينا للعمى وصرحوا بأن ثبوت الشيء للشيء وإن لم يقتض ثبوت الشيء الثابت في ظرف الاتصاف لكنه يقتضي ثبوته في نفسه ولو في محل انتزاعه، وتحقيق ذلك في محله نعم في توجيه الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة مال يس في توجيهه إلى ثبوته لأنه إذا انتفى جميع أحوال وجود الشيء وكل موجود يجب أن يكون وجوده على حال فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني أي في أي حال يوجد لهم عهد معتد به عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم يستحق أن يراعى حقوقه ويحافظ عليه إلى تمام المدة ولا يتعرض لهم بحسبه قتلا وأخذا.
54

وتكرير كلمة عند للإيذان بعدم الاعتداد عند كل من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام على حدة * (إلا الذين ع‍اهدتم) * وهم المستثنون فيما سلف والخلاف هو الخلاف والمعتمد هو المعتمد، والتعرض لكون المعاهدة * (عند المسجد الحرام) * لزيادة بيان أصحابها والأشعار بسبب وكادتها، والاستثناء منقطع وهو بمعنى الاستدراك من النفي المفهوم المفهوم من الاستفهام الانكاري المتبارد شموله بجميع المعاهدين ومحل الموصول الرفع على الابتداء وخبره مقدر أو هو * (فما استق‍اموا لكم فاستقيموا لهم) * والفاء لتضمنه معنى الشرط على ما مر و * (ما) * كما قال غير واحد إما مصدرية منصوبة المحل على الظرفية بتقدير مضاف أي فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم وإما شرطية منصوبة المحل على الظرفية الزمانية أي أي زمان استقاموا لكم فاستقيموا لهم وهو أسلم من القيل صناعة من الاحتمال الأول على التقدير الثاني، ويحتمل أن تكون مرفوعة المحل على الابتداء وفي خبرها الخلاف المشهور واستقيموا جواب الشرط والفاء واقعة في الجواب، وعلى احتمال المصدرية مزيدة للتأكيد.
وجوز أن يكون الاستثناء متصلا ومحل الموصول النصب أو الجر على أنه بدل من المشركين لأن الاستفهام بمعنى النفي، والمراد بهم الجنس لا المعهودون، وأيا ما كان فحكم الأمر بالاستقامة ينتهى بانتهاء مدة العهد فيرجع هذا إلى الأمر بالاتمام المار خلا أنه قد صرح ههنا بما لم يصرح به هناك مع كونه معتبرا فيه قطعا وهو تقييد الاتمام المأمور به ببقائهم على ما كانوا عليه من الوفاء، وعلل سبحانه بقوله تعالى: * (إن الله يحب المتقين) * على طرز ما تقدم حذو القذة بالقذة.
* (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون) *.
* (كيف) * تكرير لاستنكار ما مر من أن يكون للمشركين عهد حقيق بالمراعاة عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لاستبعاد ثباتهم على العهد وفائدة التكرار التأكيد والتمهيد لتعداد العلل الموجبة لمالا ذكرل لا خلال تخلل ما في البين بالارتباط والتقريب؛ وحذف الفعل المستنكر للايذان بأن النفس مستحضرة له مترقبة لورود ما يوجب استنكاره، وقد ثر حذف الفعل المستفهم عنه مع كيف ويدل عليه بجملة حالية بعده، ومن ذلك قوله كعب الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار: وخبر تماني أنما الموت في القرى * فكيف وهاتا هضبة وقليب
يريد فكيف مات والحال ما ذكر، والمراد هنا كيف يكون لهم عهد معتد به عند الله وعند رسوله عليه الصلاة والسلام * (و) * حالهم أنهم * (إن يظهروا عليكم) * أي يظفروا بكم * (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) * أي لم يراعوا في شأنكم ذلك، وأصل الرقوب النظر بطريق الحفظ والرعاية ومنه الرقيب ثم استعمل في مطلق الرعاية، والمراقبة أبلغ منه كالمراعاة، وفي نفي الرقوب من المبالغة ما ليس في نفيهما، وما ألطف ذكر الرقوب مع الظهور و * (الال) * بكسر الهمزة وقد يفتح على ما روي عن ابن عباس الرحم والقرابة وأنشد قول حسان: لعمرك إن الك من قريش * كال السقب من رأل النعام
وإلى ذلك ذهب الضحاك، وروي عن السدى أنه الحلف والعهد، قيل: ولعله بهذا المعنى مشتق من الأل وهو الجوار لأنهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا أصواتهم ثم استعير للقرابة لأن بين القريبين عقدا أشد من عقد التحالف، وكونه أشد لا ينافي كونه مسبها لأن الحلف يصرح به ويلفظ فهو أقوى من وجه آخر وليس التشبيه من المقلوب كما توهم، وقيل: مشتق من ألل الشيء إذا حدده أو من أل البرق إذا لمع وظهر ووجه المناسبة ظاهر.
55

وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ عن عكرمة. ومجاهد أن الال بمعنى الله عز وجل، ومنه ما روي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قرىء عليه كلام مسيلمة فقال لم يخرج هذا من أل فأين تذهب بكم؟ قيل: ومنه اشتق الال بمعنى القرابة كما اشتقت الرحمن من الرحمن، والظاهر أنه ليس بعربي إذ لم يسمع في كلام العرب ال بمعنى اله. ومن هنا قال بعضهم انه عبري ومنه جبرال: وأيده بأنه قرىء إيلا وهو عندهم بمعنى الله أو الاله أي لا يخافون الله ولا يراعونه فيكم. والذمة الحق الذي يعاب ويذم على اغفاله أو العهد، وسمي به لأن نقضه يوجب الذم، وهي في قولهم في ذمتي كذا محل الالتزام ومن الفقهاء من قال: هو معنى يصير به الآدمي على الخصوص أهلا لوجوب الحقوق عليه، وقد تفسر بالأمان والضمان وهي متقاربة، وزعم بعضهم أن الال والذمة كلاهما هنا بمعنى العهد والعطف للتفسير، ويأباه إعادة لا ظاهرا فليس هو نظير. فالفي قولها كذبا ومينا
فالحق المغايرة بينهما، والمراد من الآية قيل: بيان أنهم اسراء الفرصة فلا عهد لهم، وقيل: الإرشاد إلى أن وجوب مراعاة حقوق العهد على كل من المتعاهدين مشروط بمراعاة الآخر لها فإذا لم يراعها المشركون فكيف تراعونها فهو على منوال قوله: علام تقبل منهم فدية وهم * لا فضة قبلوا مناولا ذهبا
ولم أجد لهؤلاء مثلا من هذه الحيثية المشار إليها بقوله سبحانه: * (وإن يظهروا) * الخ إلا أناسا متزينين بزي العلماء وليسوا منهم ولا قلامة ظفر فافهم معي وحسبي الله وكفى على هذا الطرز فرفعهم الله تعالى لا قدرا وحطهم ولا حط عنهم وزرا وقوله سبحانه: * (يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم) * استئناف للكشف عن حقيقة شؤونهم الجلية والخفية دافع لما يتوهم من تعليق عدم رعاية العهد بالظفر أنهم يراعونه عند عدم ذلك حيث بين فيه أنهم في حالة العجز أيضا ليسوا من الوفاء في شيء وإن ما يظهرونه أخفاهم الله تعالى مداهنة لا مهادنة، وكيفية ارضائهم المؤمنين أنهم يبدون لهم الوفاء والمصافاة ويعدونهم بالإيمان والطاعة ويؤكدون ذلك بالأيمان الفاجرة والمؤمن غر كريم إذا قال صدق وإذا قيل له صدق ويتعللون لهم عند ظهور خلاف ذلك بالمعاذير الكاذبة.
وتقييد الارضاء بالأفواه للإيذان بأن كلامهم مجرد ألفاظ يتفوهون بها من غير أن يكون لها مصداق في قلوبهم، وأكد هذا بمضمون الجملة الثانية وزعم بعضهم أن الجملة حالية من فاعل * (يرقبوا) * لا استئنافية، ورد بأن الحال تقتضي المقارنة والارضاء قبل الظهور الذي هو قبل عدم الرقوب الواقع جزاء فاين المقارنة، وأيضا أن بين الحالتين منافاة ظاهرة فإن الارضاء بالافواه حالة إخفاء الكفر والبغض مداراة للمؤمنين وحالة عدم المراعاة والوقوف حالة مجاهدة بالعداوة لهم وحيث تنفيا لا معنى لتقييد إحداهما بالأخرى * (وأكثرهم فاسقون) * خارجون عن الطاعة متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردهم وتخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التحامي عن العذر والتعفف عما يجر أحدوثة السوء، ووصف الكفرة بالفسق في غاية الذم.
* (اشتروا بااي‍ات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم سآء ما كانوا يعملون) *.
* (اشتروا بآيات الله) * أي المتضمنة للأمر بايفاء العهود والاستقامة في كل أمر أو جميع آياته فيدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا، والمراد بالاشتراء الاستبدال، وفي الكلام استعارة تبعية تصريحية ويتبعها مكنية حيث شبهت الآيات بالشيء المبتاع، وقد يكون هناك مجاز مرسل باستعمال المقيد وهو الاشتراء في المطلق وهو الاستبدال على حد ما قالوا في المرسن أي استبدلوا بذلك * (ثمنا قليلا) * أي شيئا حقيرا من حطام الدنيا وهو أهواؤهم وشهواتهم التي اتبعوها
56

والجملة كما - قال العلامة الطيبي - مستأنفة كالتعليل لقوله تعالى: * (وأكثرهم فاسقون) * فيه أن من فسق وتمرد كان سببه مجرد اتباع الشهوات والركون إلى اللذات، وفسر بعضهم الثمن القليل بما أنفقه أبو سفيان من الطعام وصرفه إلى الاعراب * (فصدوا) * أي عدلوا وأعرضوا على أنه لازم من صد صدودا أو صرفوا ومنعوا غيرهم على أنه متعد من صده عن الأمر صدا، والفاء للدلالة على أن اشتراءهم أداهم إلى الصدود أو الصد * (عن سبيله) * أي الدين الحق الموصل إليه تعالى، والإضافة للتشريف، أو سبيل بيته الحرام حيث كانوا يصدون الحجاج والعمار عنه، فالسبيل إما مجاز وإما حقيقة، وحينئذ إما أن يقدر في الكلام مضاف أو تجعل النسبة الإضافية متجوزا فيها * (انهم سآء ما كانوا يعملون) * أي بئس ما كانوا يعملونه أو عملهم المستمر، والمخصوص بالذم محذوف.
وقد جوز أن يكون كلمة ساء على بابها من التصرف لازمة بمعنى قبح أو معتدية والمفعول محذوف أي ساءهم الذي يعملونه أو عملهم، وإذا كان جارية مجرى بئس تحول إلى فعل بالضم ويمتنع تصرفها كما قرر في محله [بم وقوله سبحانه:
* (لا يرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة وأول‍ائك هم المعتدون) *.
* (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) * نعى عليهم عدم مراعاة حقوق عهد المؤمنين على الاطلاق بخلاف الأول لمكان * (فيكم) * فيه. وفي * (مؤمن) * في هذا فلا تكرار كما في المدارك، وقيل: إنه تفسير لما يعملون، وهو مشعر باختصاص الذم والسوء لعملهم هذا دون غيره، وقيل: إن الأول عام في الناقضين وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود والاعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم للاستعانة بهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه فالمراد بالآيات ما يشمل القرآن والتوراة، وفي هذا القول تفكيك للضمائر وارتكاب خلاف الظاهر. والجبائي يخص هذا باليهود وفيه ما فيه * (وأول‍ائك) * أي الموصوفون بما عدد من الصفات السيئة * (هم المعتدون) * المجاوزون الغاية القصوى من الظلم والشرارة.
* (فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءااتوا الزكواة فإخوانكم في الدين ونفصل الاي‍ات لقوم يعلمون) *.
* (فان تابوا) * عما هم عليه من الكفر وسائر العظائم كنقض العهد وغيره، والفاء للإيذان بأن تقريعهم بما نعى عليهم من فظائع الأعمال مزجرة عنها ومظنة للتوبة * (وأقاموا الصلواة وءاتوا الزكواة) * على الوجه المأمور به * (فاخوانكم) * أي فهم اخوانكم * (في الدين) * لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، والجار والمجارور متعلق باخوانكم - كما قال أبو البقاء - لما فيه من معنى الفعل، قيل: والاختلاف بين جواب هذه الشرطية وجواب الشرطية السابقة مع اتحاد الشرط فيهما لما أن الأولى سيقت إثر الأمر بالقتل ونظائره فوجب أن يكون جوابها أمرا بخلاف هذه، وهذه سيقت بعد الحكم عليهم بالاعتداء وأشباهه فلا بد من كون جوابها حكما البتة، وهذه الآية أجلب لقلوبهم من تلك الآية إذ فرق ظاهر بين تخلية سبيلهم وبين إثبات الأخوة الدينية لهم، وبها استدل على تحريم دماء أهل القبلة، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجاء في رواية ابن جرير. وأبي الشيخ عنه أنها حرمت قتال أو دماء أهل الصلاة والمآل واحد، واستدل بها بعضهم على كفر تارك الصلاة إذ مفهومها نفي الأخوة الدينية عنه، وما بعد الحق إلا الضلال، ويلزمه القول بكفر مانع الزكاة أيضا بعين ما ذكره، وبعض من لا يقول باكفارهما التزم تفسير إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالتزامهما والعزم على إقامتهما ولا شك في كفر من لم يلتزمهما بالاتفاق.
وذكر بعض جلة الأفاضل أنه تعالى علق حصول الأخوة في الدين على مجموع الأمور الثلاثة التوبة وإقام الصلاة
57

وإيتاء الزكاة والمعلق على الشيء بكلمة * (إن) * ينعدم عند عدم ذلك الشيء فيلزم أنه متى لم توجد هذه الثلاثة لا تحصل الأخوة في الدين وهو مشكل، لأن المكلف المسلم لو كان فقيرا أو كان غنيا لكن لم ينقض عليه الحول لا يلزمه إيتاء الزكاة فإذا لم يؤتها فقد انعدم عنه ما توقف عليه حصول أخوة الدين فيلزم أن لا يكون مؤمنا، إلا
أن يقال: التعليق بكلمة * (إن) * إنما يدل على مجرد كون المعلق عليه مستلزما ما علق عليه ولا يدل على انعدام المعلق عليه بانعدامه بل يستفاد ذلك من دليل خارجي لجواز أن يكون المعلق لازما أعم فيتحقق بدون تحقق ما جعل ملزوما له، ولو سلم أن نفس التعليق يدل على انعدام المعلق عند انعدام المعلق عليه، لكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن لا يكون المسلم الفقير مؤمنا بعدم إيتاء الزكاة وإنما يلزم ذلك أن لو كان المعلق عليه ايتاؤها على جميع التقادير وليس كذلك، بل المعلق عليه هو الايتاء عند تحقق شرائط مخصوصة مبينة بدلائل شرعية انتهى.
وأنت تعلم ما في القول بمفهوم الشرط من الخلاف والحنفية يقولون به، والظاهر أن هذا البحث كما يجري في إيتاء الزكاة يجري في إقامة الصلاة. واستدل ابن زيد باقترانهما على أنه لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة.
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزل فلا صلاة له * (ونفصل الآي‍ات) * أي نبينها، والمراد بها إما ما مر من الآيات المتعلقة بأحوال المشركين من الناكثين وغيرهم وأحكامهم حالتي الكفر والإيمان واما جميع الآيات فيندرج فيها تلك الآيات اندراجا أوليا * (لقوم يعلمون) * ما فصلنا أو من ذوي العلم على أن الفعل متعد ومفعوله مقدر أو منزل منزلة اللازم، والعلم كما قيل كناية عن التأمل والتفكر أو مجاز مرسل عن ذلك بعلاقة السببية، والجملة معترضة للحث على التأمل في الآيات وتدبرها [بم وقوله تعالى:
* (وإن نكثوا أيم‍انهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فق‍اتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيم‍ان لهم لعلهم ينتهون) *.
* (وإن نكثوا) * عطف على قوله سبحانه: * (فإن تابوا) * أي وإن لم يفعلوا ذلك بل نقضوا * (أيم‍انهم من بعد عهدهم) * الموثق بها وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر وأخرجوه من القوة إلى الفعل، وجوز أن يكون المراد وإن ثبتوا واستمروا على ما هم عليه من النكث، وفسر بعضهم النكث بالارتداد بقرينة ذكره في مقابلة * (فإن تابوا) * والأول أولى بالمقام * (وطعنوا في دينكم) * قدحوا فيه بأن أعابوه وقبحوا أحكامه علانية.
وجعل ابن المنير طعن الذمي في ديننا بين أهل دينه إذا بلغنا كذلك، وعد هذا كثير ومنهم الفاضل المذكور نقضا للعهد، فالعطف من عطف الخاص على العام وبه ينحل ما يقال: كان الظاهر أو طعنوا لأن كلا من الطعن وما قبله كاف في استحقاق القتل والقتال، وكون الواو بمعنى أو بعيد، وقيل: العطف للتفسير كما في قولك: اسخف فلان بي وفعل معي كذا، على معنى وان نكثوا إيمانهم بطعنهم في دينكم والأول أولى، ولا فرق بين توجيه الطعن إلى الدين نفسه إجمالا وبين توجيهه إلى بعض تفاصيله كالصلاة والحج مثلا، ومن ذلك الطعن بالقرآن وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحاشاه بسوء فيقتل الذمى به عند جمع مستدلين بالآية سواء شرط انتقاض العهد به أم لا. وممن قال بقتله إذا أظهر الشتم والعياد بالله مالك. والشافعي وهو قول الليث وأفتى به ابن الهمام، والقول بأن أهل الذمة يقرون على كفرهم الأصلي بالجزية وذا ليس بأعظم منه فيقرون عليه بذلك أيضا وليس هو من الطعن المذكور في شيء ليس من الانصاف في شيء، ويلزم عليه أن لا يعزروا أيضا كما لا يعزرون بعد الجزية على الكفر الأصلي، وفه لعمري بيع يتيمة الوجود صلى الله عليه وسلم
58

بثمن بخس والدنيا بحذافيرها بل والآخرة بأسرها في جنب جنابه الرفيع جناح بعوضة أو أدنى، وقال بعضهم: إن الآية لا تدل على ما ادعاه الجمع بفرد من الدلالات وإنها صريحة في أن اجتماع النكث والطعن يترتب عليه ما يترتب فكيف تدل على القتل بمجرد الطعن وفيه ما فيه، ولا يخفى حسن موقع الطعن من القتال المدلول عليه بقوله تعالى: * (فق‍اتلوا أئمة الكفر) * أي فقاتلوهم، ووضع فيه الظاهر موضع الضمير وسموا أئمة لأنهم صاروا بذلك رؤساء متقدمين على غيرهم بزعمهم فهم أحقاء بالقتال والقتل وروي ذلك عن الحسن، وقيل: المراد بأئمتهم رؤساؤهم وصناديدهم مثل أبي اسفيان. والحرث بن هشام، وتخصيصهم بالذكر لأن قتلهم أهم لا لأنه لا يقتل غيرهم، وقيل: للمنع من مراقبتهم لكونهم مظنة لها أو للدلالة على استئصالهم فإن قتلهم غالبا يكون بعد قتل من دونهم، وعن مجاهد أنهم فارس والروم وفيه بعد. وأخرج ابن أبي شيبة، وغيره عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد وما أدرى ما مراده والله تعالى أعلم بمراده، وقرأ نافع. وابن كثير. وأبو عمرو * (أئمة) * بهمزتين ثانيتهما بين بين أي بين مخرج الهمزة والياء والألف بينهما، والكوفيون. وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما من غير ادخال ألف، وهشام كذلك إلا أنه أدخل بينهما الألف هذا هو المشهور عن القراء السبعة. ونقل أبو حيان عن نافع المد بين الهمزتين والياء.
وضعف كما قال بعض المحققين قراءة التحقيق وبين بين جماعة من النحويين كالفارسي، ومنهم من أنكر التسهيل بين بين وقرأ بياء خفيفة الكسرة، وأما القراءة بالياء فارتضاها أبو علي. وجماعة، والزمخشري جعلها لحنا، وخطأه أبو حيان في ذلك لأنها قراءة رأس القراء والنحاة أبو عمرو، وقراءة ابن كثير. ونافع وهي صحيحة رواية، وعدم ثبوتها من طريق التيسير يوجب التضييق؛ وكذا دراية فقد ذكر هو في المفصل وسائر الأئمة في كتبهم أنه إذا اجتمعت همزتان في كلمة فالواجه قلب الثانية حرف لين كما في آدم وأئمة فما اعتذر به عنه غير مقبول. والحاصل أن القراآت هنا تحقيق الهمزتين وجعل الثانية بين بين بلا إدخال ألف وبه والخامسة بياء صريحة وكلها صحيحة لا وجه لانكارها، ووزن أئمة أفعلة كحمار وأحمرة، وأصله أئمة فنقلت حركة الميم إلى الهمزة وأدغمت ولما ثقل اجتماع الهمزتين فروا منه ففعلوا ما فعلوا * (إنهم لا أيم‍ان لهم) * أي على الحقيقة حيث لا يراعونها ولا يفون بها ولا يرون نقضها نقصا وإن أجروها على ألسنتهم، وإنما علق النفي بها كالنكث فيما سلف لا بالعهد المؤكد بها لأنها العمدة في المواثيق، والجملة في موضع التعليل إما لمضمون الشرط كأنه قيل: وإن نكثوا وطعنوا كما هو المتوقع منهم إذ لا أيمان لهم حقيقة حتى ينكثوها فقاتلوا أو لاستمرار القتال المأمور به المستفاد من السياق فكأنه قيل: فقاتلوهم إلى أن يؤمنوا إنهم لا أيمان لهم حتى يعقد معهم عقد آخر، وجعلها تعليلا للأمر بالقتال لا يساعده تعليقه بالنكث والطعن لأن حالهم في أن لا أيمان لهم حقيقة بعد ذلك كحالهم قبله، والحمل على معنى عدم بقاء أيمانهم بعد النكث والطعن مع أنه لا حاجة إلى بيانه خلاف الظاهر، وقيل: هو تعليل لما يستفاد من الكلام من الحكم عليهم بأنهم أئمة الكفر أي إنهم رؤساء الكفرة وأعظمهم شرا حيث ضموا إلى كفرهم عدم
مراعاة الأيمان وهو كما ترى، والنفي في الآية عند الإمام أبي جنيفة عليه الرحمة على ما هو المتبادر، فيمينيي الكافر ليست يمينا عنده معتدا بها شرعا، وعند الشافعي عليه الرحمة هي يمين لأن الله تعالى وصفها بالنكث في صدر الآية وهو لا يكون حيث لا يمين
59

ولا أيمان لهم بما علمت. وأجيب بأن باعتبار اعتقادهم أنه يمين، ويبعد أن الأخبار من الله تعالى والخطاب للمؤمنين، وقال آخرون: إن الاستدلال بالنكث على اليمين إشارة أو اقتضاء ولا أيمان لهم عبارة فتترجح، والقول بأنها تؤول جمعا بين الأدلة فيه نظر لأنه إذا كان لا بد من التأويل في أحد الجانبين فتأويل غير الصريح أولى، ولعله لا يعتبر في ذلك التقدم والتأخر، وثمرة الخلاف أنه لو أسلم الكافر بعد يمين انعقدت في كفره ثم حنث هل تلزمه الكفارة فعند أبي حنيفة عليه الرحمة لا وعند الشافعي رحمه الله تعالى نعم.
وقرأ ابن عامر * (إيمان) * بكسر الهمزة على أنه مصدر آمنه إيمانا بمعنى أعطاه الأمان، ويستعمل بمعنى الحاصل بالمصدر وهو الأمان، والمراد أنه لا سبيل إلى أن تعطوهم أمانا بعد ذلك أبدا، قيل: وهذا النفي بناء على أن الآية في مشركي العرب وليس لهم إلا الإسلام أو السيف؛ ومن الناس من زعم أن المراد لا سبيل إلى أن يعطوكم الأمان بعد، وفيه أنه مشعر بأن معاهدتهم معنا على طريقة أن يكون إعطاء الأمان من قبلهم وهو بين البطلان، أو على أن الإيمان بمعنى الإسلام، والجملة على هذا تعليل لمضمون الشرط لا غير على ما بينه شيخ الإسلام مأنه قيل، إن نكثوا وطعنوا كما هو الظاهر من حالهم لأنه إسلام لهم حتى يرتدعوا عن نقض جنس إيمانهم وعن الطعن في دينكم، وتشبث بهذه الآية على هذه القراءة من قال: إن المرتد لا تقبل توبته بناء على أن الناكث هو المرتد وقد نفى الإيمان عنه، ونفيه مع أنه قد يقع منه نفي لصحته والاعتداد به ولا يخفى ضعفه لما علمت من معنى الآية، وقد قالوا: الاحتمال يسقط الاستدلال، وقال القاضي: بيض الله تعالى غرة أحواله في بيان ضعفه: أنه يجوز أن يكون المراد نفي الإيمان عن قوم معينين والأخبار عنهم بأنه طبع على قلوبهم فلا يصدر منهم إيمان اصلا، أو يكون المراد أن المشركين لا إيمان لهم حتى يراقبوا ويمهلوا لأجله، ويفهم من هذا أنه لم يجعل الجملة تعليلا لمضمون الشرط كما ذكرنا والظاهر أنه جعلها تعليلا لقوله سبحانه: * (فقاتلوا) * يعني أن المانع من قتلهم أحد أمرين إما العهد وقد نقضوه أو الإيمان وقد حرموه، وربما يؤول ذلك إلى جعلها علة لما يفهم من الكلام كأنه قيل: إن نكثوا وطعنوا فقاتلوهم ولا تتوقفوا لأنه لا مانع أصلا بعد ذلك لأنهم لا إيمان لهم ليكون مانعا ولا يخفى ما فيه.
وإن قيل: إنه سقط به ما قيل: إن وصف أئمة الكفر بأنهم لا إسلام لهم تكرار مستغنى عنه، وجعل الجملة تعليلا لما يستفاد من الكلام من الحكم عليهم بأنهم أئمة الكفر أي رؤساؤه على احتمال أن يراد الأخبار عن قوم مخصوصين بالطبع أظهر من جعلها تعليلا لها على القراءة السابقة. نعم يأبى حديث الأخبار بالطبع قوله تعالى: * (لعلهم ينتهون) * إذ مع الطبع لا يتصور الانتهاء وهو متعلق بقوله سبحانه: * (فقاتلوا) * أي قاتلوهم إرادة أن ينتهوا، أي ليكن غرضكم من القتال انتهاؤهم عما هم عليه من الكفر وسائر العظائم لا مجرد إيصال الأذية بهم كما هو شنشنة المؤذين، ومما قرر يعلم أن الترجى من المخاطبين لا من الله عز شأنه.
* (ألا تق‍اتلون قوما نكثوا أيم‍انهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) *.
* (ألا تق‍اتلون) * تحريض على القتال لأن الاستفهام فيه للانكار والاستفهام الانكاري في معنى النفي وقد دخل النفي ونفى النفي إثبات، وحيث كان الترك مستقبحا منكرا أفاد بطريق برهاني أن إيجاده أمر مطلوب مرغوب فيه فيفيد الحث والتحريض عليه، وقد يقال: وجه التحريض على القتال أنهم حملوا على الإقرار بانتفائه كأنه أمر لا يمكن أن يعترف به طائعا لكمال شناعته فليجؤون إلى ذلك ولا يقدرون على الإقرار به فيختارون القتال فيقاتلون * (قوما نكثوا أيم‍انهم) * التي حلفوها عند المعاهدة لكم
60

على أن لا يعاونوا عليكم فعاونوا حلفاءهم بني بكر على خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خزاعة، والمراد قريش * (وهموا بإخراج الرسول) * من مكة مسقط رأسه عليه الصلاة والسلام حين تشاوروا بدار الندوة حسبما ذكر في قوله تعالى: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا) * وقال الجبائي: هم اليهود الذين نقضوا العهد وخرجوا مع الأحزاب وهموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة، ولا يخفى أنه بأباه السياق وعدم القرينة عليه، والأول هو المروي عن مجاهد. والدذى. وغيرهما، واعترض بأن ما وقع في دار الندوة هو الهم بالإخراج أو الحبس أو القتل والذي استقر رأيهم عليه هو القتل لا الإخراج فما وجه التخصيص، وأجيب بأن التخصيص لأنه الذي وقع في الخارج ما يضاهيه مما ترتب على همهم وإن لم يكن بفعل منهم بل من الله تعالى لحكمة وما عداه لغو فخص بالذكر لأنه المقتضى للتحريض لا غيره مما لم يظهر له أثر. وقيل: إنه سبحانه اقتصر على الأدنى ليعلم غيره بطريق أولى، ولا يرد عليه أنه ليس بأدنى من الحبس كما توهم لأن بقاءه عليه الصلاة والسلام في يد عدوه المقتضى للتبريح بالتهديد ونحوه أشد منه بلا شبهة * (وهم بدءوكم) * بالمقاتلة * (أول مرة) * وذلك يوم بدر وقد قالوا بعد أن بلغهم سلامة العير: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا صلى الله عليه وسلم ومن معه، وقال الزجاج: بدأوا بقتال خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وإليه ذهب الأكثرون، واختار جمع الأول لسلامته من التكرار، وقد ذكر سبحانه ثلاثة أمور كل منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد فكيف بها حال الاجتماع ففي ذلك من الحث على القتال ما فيه ثم زاد ذلك بقوله سبحانه: * (أتخشونهم) * وقد أقيم فيه السبب والعلة مقام المسبب والمعلول، والمراد أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم * (فالله أحق أن تخشوه) * بمخالفة أمره وترك قتال عوده، والاسم الجليل مبتدأ و * (أحق) * خبره و * (أن تخشوه) * بدل من الجلالة بدل اشتمال أو بتقدير حرف جر أي بأن تخشوه فمحله النصب أو الجر بعد الحذف على الخلاف، وقيل: إن * (أن تخشوه) * مبتدأ خبره * (أحق) * والجملة خبر الاسم الجليل، أي خشية الله تعالى أحق أو الله أحق من غيره بالخشية أو الله حشيته أحق، وخير الأمور عندي أوسطها * (إن كنتم مؤمنين) * فإن مقتضى إيمان المؤمن الذي يتحقق أنه لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى ولا يقدر أحد على مضرة ونفع إلا بمشيئته أن لا يخاف إلا من الله تعالى، ومن خاف الله تعالى خاف منه كل شيء، وفي هذا من التشديد ما لا يخفى.
* (ق‍اتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) *.
* (ق‍اتلوهم) * تجريد للأمر بالقتال بعد بيان موجبه على أتم وجه والتوبيخ على تركه ووعد بنصرهم وبتعذيب أعدائهم واخزائهم وتشجيع لهم * (يعذبهم الله بأيديكم) * بالقتل * (ويخزهم) * ويذلهم بالاسر، وقد يقال: يعذبهم قتلا وأسرا ويذلهم بذلك * (وينصركم عليهم) * أي يعجلكم جميعا غالبين عليهم أجمعين ولذلك أخر - كما قال بعض المحققين - عن التعذيب والاخزاء * (ويشف صدور قوم مؤمنين) * قد تألموا من جهتهم، والمراد بهم أناس من خزاعة حلفائه عليه الصلاة والسلام كما قال عكرمة. وغيره، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة وأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال عليه الصلاة والسلام: " أبشروا فإن الفرج قريب ".
61

وروي عنه رضي الله تعالى عنه أن قوله سبحانه: * (ألا تقاتلون) * الخ ترغيب في فتح مكة وأورد عليه أن هذه السورة نزلت بعد الفتح فكيف يتأتى ما ذكر. وأجيب بأن أولها نزل بعد الفتح وهذا قبله، وفائدة عرض البراءة من عهدهم مع أنه معلوم من قتال الفتح وما وقع فيه من الدلالة على عمومه لكل المشركين ومنعهم من البيت فتذكر ولا تغفل، قيل: ولا يبعد حمل المؤمنين على العموم لأن كل مؤمن يسر بتقل الكفار وهوانهم.
* (ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشآء والله عليم حكيم) *.
* (ويذهب غيظ قلوبهم) * بما نالهم منهم من الأذى ولم يكونوا قادرين على دفعه، وقيل: المراد يذهب غيظهم لانتهاك محارم الله تعالى والكفر به عز وجل وتكذيب رسوله عليه الصلاة والسلام.
ظاهر العطف أن اذهاب الغيظ غير شفاء الصدور. ووجه بأن الشفاء بقتل الاعداء وخزيهم واذهاب الغيظ بالنصرة عليهم أجمعين. ولكون النصرة مدار القصد كان أثرها اذهاب الغيظ من القلب الذي هو أخص من الصدر. وقيل: اذهاب الغيظ كالتأكيد لشفاء الصدر وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمن الله تعالى عليهم من تعذيبه أعداءهم واخزائهم ونصرته سبحانه لهم عليهم، ولعل اذهاب الغيظ من القلب أبلغ مما عطف عليه فيكون ذكره من باب الترقي ولا يخلو عن حسن. وقيل: إن شفاء الصدور بمجرد الوعد بالفتح واذهاب الغيظ بوقوغ الفتح نفسه وليس بشيء، وقد أنجز الله تعالى جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون فالآية من المعجزات لما فيها من الأخبار بالغيب ووقوع ما أخبر عنه. واستدل بها على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وقيل: إن أسناد التعذيب إليه سبحانه مجاز باعتبار أنه جل وعلا مكنهم منه وأقدرهم عليه.
وفي الحواشي الشهابية قيل: إن قوله سبحانه: * (بأيديكم) * كالصريح بأن مثل هذه الأفعال التي تصلح للباري فعل له تعالى وإنما للعبد الكسب بصرف القوى والآلات، وليس الحمل على الإسناد المجازي بمرضى عند العارف بأساليب الكلام، ولا الالزام بالاتفاق على امتناع كتب الله تعالى بأيديكم وامتناع كذب الله تعالى شأنه بألسنه الكفار بوارد لأن مجرد خلق الفعل لا يصحح إسناده إلى الخالق ما لم يصلح محلا له، وإمتناع ما ذكر للاحتراز عن شناعة العبارة إذ لا يقال: يا خالق القادورات ولا المقدر للزنا والممكن منه، ثم قال: ولا يخفى ما فيه فإنه تعالى لا يصلح محلا للقتل ولا للضرب ونجوه ما قصد بالاذلال وإنما هو خالق له، والفعل لا يسند حقيقة إلى خالقه وإن كان هو الفاعل الحقيقي للفرق بينه وبين الفاعل اللغوي إذ ر يقال: كتب الله تعالى بيد زيد على أنه حقيقة بلا شبهة مع أنه لا شناعة فيه لقوله سبحانه: * (كتب الله) * فما ذكره غير مسلم ا ه‍. وأنا أقول: ءن مسألة خلق الأفعال قد قضى العلماء المحققون الوطر منها فلا حاجة إلى بسط الكلام فيها، وقد تكلموا في الآية بما تكلموا لكن بقي فيها شيء وهو السر في نسبة التعذيت إليه تعالى وذكر الأيدي ولم يذكروه، ولعل ذلك في النسبة ارادة المبالغة فانه تعذيب الله تعالى القوى العزيز وإن كان بأيدي العباد وفي ذكر الأيدي إما التنصيص على أن ذلك في الدنيا لا في الآخرة وإما لتكون البشارة بالتعذيب على الوجه الأتم الذي يترتب عليه شفاء الصدور ونحوه على الوجه الأكمل إذ فرق بين تعذيب العدو بيد عدوه وتعذيبه لا بيده، ولعمري أن الأول أحلى وأوقع في النفس فافهم. ولا يخفى ما في الآية من الانسجام حيث يخرج منها بيت كامل من الشعر * (ويتوب الله على من يشآء) * ابتداء إخبار بأن بعض هؤلاء الذين أمروا بمقاتلتهم يتوب من كفره فيتوب الله تعالى عليه وقد كان كذلك حيث أسلم منهم
62

أناس وحسن أسلامهم. وقرأ الأعرج. وابن أبي إسحاق. وتعيسى الثقفي. وعمرو بن عبيد * (ويتوب) * بالنصب ورويت عن أبي عمرو. ويعقوب أيضا، واستشكلها الزجاج بأت توبة الله تعالى على من يشاء واقعة قاتلوا أو لم يقاتلوا والمنصوب في جواب الأمر مسبب عنه فلا وجه لادخال التوبة في جوابه، وقال ابن جنى: إن ذلك كقولك: إن تزرني أحسن إليك وأعطى زيدا كذا على أن المسبب عن الزيارة جميع الأمرين لا أن كل واحد مسبب بالاستقلال، وقد قالوا بنظير ذلك في قوله تعالى: * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخبر) * (الفتح: 1) الخ وفيه تعسف.
وقال بعضهم: إنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على البعض فإذا قاتلوا جرى قتالهم جرى التوبة من تلك الكراهية فيصير المعنى إن تقاتلوهم يعذبهم الله ويتب عليكم من كراهة قتالهم، ولا يخفى أن الظاهر أن التوبة للكفار، وذكر بعض المدققين أن دخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى لأنه يكون منصوبا بالفاء فهو على عكس * (فاصدق وأكن) * وهو المسمى بعطف التوهم، ووجهه أن القتال سبب لغل شوكتهم وإزالة نخوتهم فيتسبب لذلك لتأملهم ورجوعهم عن الكفر كما كان من أبي سفيان. وعكرمة. وغيرهما، والتقييد بالمشيئة للاسارة إلى أنها السبب الأصلي وأن الأول سبب عادي وللتنبيه إلى أن إفضاء القتال إلى التوبة ليس كافضائه إلى البواقي؛ وزعم بعض الأجلة أن قراءة الرفع على مراعاة المعنى حيث ذكر مضارع مرفوع بعد مجزوم هو جواب الأمر ففهم منه أن المعنى ويتوب الله على من يشاء على تقدير المقابلة لما يرون من ثباتكم وضعف حالهم.
وأما على قراءة النصب فمراعاة اللفظ إذ عطف على المجزوم منصوب بتقدير نصبه وليس بشيء، والحق أنه على الرفع مستأنف كما قدمنا * (والله عليمذ لا تخفى عليه خافية * (حكيم) * لا يفعل ولا يأمر إلا بما فيه حكمة ومصلحة فمتثلوا أمره عز وجل، وأيثار إظهار الاسم الجليل على الاضمار لتربية المهابة وإدخاله الروعة.
* (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين ج‍اهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون) *.
أم حسبتم) * خطاب لمن شق عليه القتال من المؤمنين أو المنافقين * (وأم) * منقطعة جيء بها للانتقال عن أمرهم بالقتال إلى توبيخهم أو من التوبيخ السابق إلى توبيخ آخر، والهمزة المقدرة مع بل للتوبيخ على الحسبان المذكور أي بل أحسبتم وظننتم * (أن تتركوا) * على ما أنتم عليه ولا تؤمروا بالجهاد ولا تبتلوا بما يمحصكم * (ولما يعلم الله الذين ج‍اهدوا منكم) * الواو حالية و * (لما) * للنفي مع التوقع ونفي العلم، والمراد نفي المعلوم وهو اجلهاد على أبلغ وجه إذ هو بطريق البرهان إذ لو وقع جهادهم علمه الله تعالى لا محالة فإن وقوع ما لا يعلمه عز وجل محال كما أن عدم وقوع ما يعلمه كذلك وإلا لم يطابق علمه سبحانه الواقع فيكون جهلا وهو من أعظم المحالات، فالكلام من باب الكناية، وقيل: إن العلم مجاز عن التبيين مجازا مرسلا باستعماله في لازم معناه. وفي الكشاف ما يشعر أولا بأن العلم مجاز عما ذكر وثانيا ما يشعر بأنه من باب الكناية. وأجيب عنه بأنه أشار بذلك إلى أنه استعمل لنفي الوجود مبالغة في نفي التبيين، وما ذكره أولا من قوله: إنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلص منكم وهو الذين جاهدوا في سبيل الله تعالى لوجهه جل شأنه حاصل المعنى، وذلك لأنه خطاب للمؤمنين إلهابا لهم وحثا على ما حضهم عليه بقوله سبحانه: * (قاتلوهم يعذبهم الله) * فإذا
63

وبخوا على حسبان أن يتركوا ولم يوجد فيما بينهم مجاهد مخلص دل على أنهم إن لم يقاتلوا لم يكونوا مخلصين وأن الاخلاص إذا لم يظهر أثره بالجهاد في سبيل الله تعالى ومضادة الكفار كلا إخلاص، ولو فسر العلم بالتبين لم يفد هذه المبالغة فتدبر، وقوله تعالى: * (ولم يتخذوا) * عطف على جاهدوا وداخل في حيز الصلة أو حال من فاعله، أي جاهدوا حال كونهم غير متخذين * (من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) * أي بطانة وصاحب سر كما قال ابن عباس، وهي من الولوج وهو الدخول وكل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة، ويكون للمفرد وغيره بلفظ واحد وقد يجمع على ولائج، و * (من دون) * متعلق بالاتخاذ إن أبقى على حاله أو مفعول ثان له إن جعل بمعنى التصيير * (والله خبير بما تعملون) * أي بجميع أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقرىء على الغيبة وفي هذا إزاحة لما يتوهم من ظاهر قوله سبحانه: * (ولما يعلم) * الخ من أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها كما ذهب إليه هشام مستدلا بذلك.
ووجه الازاحة أن * (تعملون) * مستقبل فيدل على خلاف ما ذكره.
* (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شهدين على أنفسهم بالكفر أول‍ائك حبطت أعم‍الهم وفى النار هم خ‍الدون) *.
دما كان للمشركين) * أي لا ينبغي لهم ولا يليق وإن وقع * (أن يعمروا مس‍اجد الله) * الظاهر أن المراد شيئا من المساجد لأنه جمع مضاف فيعم ويدخل فيه المسجد الحرام دخولا أوليا، وتعميره مناط افتخارهم، ونفي الجمع يدل على النفي عن كل فرد فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية، وعن عكرمة. وغيره أن المراد به المسجد الحرام واختاره بعض المحققين، وعبر عنه بالجمع لأنه قبلة المساجد وأمامها المتوجهة إليه محاريبها فعامره كعامرها، أو لأن كل مسجد ناحية من نواحيه المختلفة مسجد على حياله بخلاف سائر المساجد، ويؤيد ذلك قراءة أبي عمرو. ويعقوب. وابن كثير. وكثير * (مسجد) * بالتوحيد، وحمل بعضهم * (ما كان) * على نفي الوجود والتحقق، وقدر بأن يعمروا بحق لأنهم عمروها بدونه ولا حاجة إلى ذلك على ما ذكرنا * (ش‍اهدين على أنفسهم بالكفر) * باظهارهم ما يدل عليه وإن لم يقولوا نحن كفار، وقيل: بقولهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقيل: بقولهم كفرنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو حال من الضمير في * (يعمروا) * قيل: أي ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة البيت والكفر بربه سبحانه، وقال بعضهم: ءن المراد محال أن يكون ما سموه عمارة بيت الله تعالى مع ملابستهم لما ينافيها ويحبطها من عبادة غيره سبحانه فإنها ليست من العمارة في شيء، واعترض على قولهم: إن المعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين متنافيين بأنه ليس بمعرب عن كنه المرام، فإن عدم استقامة الجميع بين المتنافيين إنما يستدعي انتفاء أحدهما لا بعينه لا انتفاء العمارة الذي هو المقصود، وظاهره أن النفي في الكلام راجع إلى المقيد، وحينئد لا مانع من أن يكون المراد من * (ما كان) * نفي اللياقة على ما ذكرنا، والغرض ابطال افتخار المشركين بذلك لاقترانه بما ينافيه وهو الشرك. وجوز أن يوجه النفي إلى القيد كما هو الشائع وتكلف له بما لا يخلو عن نظر. ولعل من قال في بيان المعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا الخ جعل محط النظر المقارنة التي أشعر بها الحال، ومع هذا لا يأبى أن يكون المقصود نظرا للمقام نفي صحة الافتخار بالعمارة والسقاية فتدبر جدا.
64

ومما يدل على أن المقام لنفي الافتخار ما أخرجه أبو الشيخ. وابن جرير عن الضحاك أنه لما أسر العباس عيره المسلمون بالشرك وقطيعة الرحمن وأغلظ عليه علي كرم الله تعالى وجهه في القول، فقال: تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونقرى الحجيج ونفك العاني فنزلت: وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه * (أولئك) * أي المشركون المذكورون * (حبطت أعم‍الهم) * التي يفتخرون بها بما قارنها من الكفر فصارت كلا شيء * (وفي النار هم خ‍الدون) * لعظم ما ارتكبوه، وإيراد الجملة اسمية للمبالغة في الخلود، والظرف متعلق بالخبر قدم عليه للاهتمام به ومراعاة للفاصلة.
وهذه الجملة قيل: عطف على جملة * (حبطت) * على أنها خبر آخر لأولئك، وقيل: هي مستأنفة كجملة * (أولئك حبطت) * وفائدتهما تقرير النفي السابق الأولى من جهة نفي استتباع الثواب والثانية من جهة نفي استدفاع العذاب.
* (إنما يعمر مس‍اجد الله من ءامن بالله واليوم الاخر وأقام الصلواة وءاتى الزكواة ولم يخش إلا الله فعسى أول‍ائك أن يكونوا من المهتدين) *.
إنما يعمر مس‍اجد الله) * اختلف في المراد بالمساجد هنا كما اختلف في المراد بها هناك، خلا أن من قال هناك بأن المراد المسجد الحرام لا غير جوز هنا إرادة جميع المساجد قائلا: إنها غير مخالفة لمقتضى الحال فإن الإيجاب ليس كالسلب وادعى أن المقصود قصر تحقق العمارة على المؤمنين لا قصر لياقتها وجوازها وأنا أرى قصر اللياقة لائقا بلا قصور، وقرىء بالتوحيد أي إنما يليق أن يعمرها * (من ءامن بالله واليوم الآخر) * على الوجه الذي نطق به الوحي * (وأقام الصلاة وءاتى الزكواة) * التي أتي بهما الرسول صلى الله عليه وسلم فيندرج في ذلك الإيمان به عليه الصلاة والسلام حتما إذ لا يتلقى ذلك إلا منه صلى الله عليه وسلم.
وجوز أن يكون ذكر الإيمان به عليه الصلاة والسلام قط طوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى دلالة على أنهما كشيء واحد إذا ذكر أحدهما فهم الآخر، على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى ما جيب الإيمان به أجمع ومن جملته رسالته صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنما لم يذكر عليه الصلاة والسلام لأن المراد * (بمن) * هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه أي المستحق لعمارة المساجد من هذه صفته كائنا من كان، وليس الكلام في إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام والإيمان به بل فيه نفسه وعمارته المسجد واستحقاقه لها، فالآية على حد قوله سبحانه: * (إني رسول الله إليكم جميعا) * إلى قوله تعالى: * (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته) * (الأعراف: 158) والوجه الثاني أولى. والمراد بالعمارة ما يعم مرمة ما استرم منها وقمها وتنظيفها وتزيينها بالفرش لا على وجه يشغل قلب الالمصلي عن الحضور، ولعل ما هو من جنس ما يخرج من الأرض كالقطن والحصر السامانية أولى من نحو الصوف إذ قيل: بكراهة الصلاة عليه، وتنويرها بالسرج ولو لم يكن هناك من يستضيء بها على ما نص عليه جمع، وإدامة العبادة والذكر ودراسة العلوم الشرعية فيها ونحو ذلك، وصيانتها مما لم تبن له في نظر الشارع كحديث الدنيا، ومن ذلك الغناء على مآذنها كما هو معتاد الناس اليوم لا سيما بالأبيات التي غالبها هجر من القول. وقد وري عنه عليه الصلاة والسلام " الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش " وهذا الحديث في الحديث المباح فما ظنك بالمحرم مطلقا أو المرفوع فوق المآذن. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن سلمان رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من توضأ في بيته ثم أتى المسجد فهو زائر الله تعالى وحق على المزور أن يكرم الزائر " وأخرج سليم الرازي في الترغيب عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
65

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أسرح في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه " وأخرج أبو بكر الشافعي. وغيره عن أبي قرصافة قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين " وسمعته عليه الصلاة والسلام يقول " من بنى لله تعالى مسجدا بنى الله تعالى له بيتا في الجنة فقالوا: يا رسول الله وهذه المساجد التي تبنى في الطرق. فقال عليه الصلاة والسلام: وهذه المساجد التي تبنى في الطرق " وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الغدو والرواح إلى المسجد من الجهاد في سبيل الله تعالى " وأخرج أحمد. والترمذي وحسنه. وابن ماجه. والحاكم وصححه. وجماعة عن أبي سعيد الخدري قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان وتلا صلى الله عليه وسلم إنما يعمر " الآية.
واستشكل ذكر إيتاء الزكاة في الآية بأنه لا تظهر مدخليته في العمارة، وتكلف لذلك بأن الفقراء يحضرون المساجد للزكاة فتعمر بهم وأن من لا يبذل المال للزكاة الواجبة لا يبذله لعمارتها وهو كما ترى. والحق أن المقصود بيان أن من يعمر المساجد هو المؤمن الظاهر إيمانه وهو إنما يظهر بإقامة واجباته، فعطف الإقامة والإيتاء على الإيمان للإشارة إلى ذلك * (ولم يخش) * أحد * (إلا الله) * فعمل بموجب أمره ونهيه غير آخذ له في الله تعالى لومة لائم ولا مانع له خوف ظالم فيندرج فيه عدم الخشية عند القتال الموبخ عليها في قوله سبحانه: * (أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه) * (التوبة: 13) وأما الخوف الجبلي من الأمور المخوفة فليس من هذا الباب ولا هو مما يدخل تحت التكليف، والخطاب والنهي في قوله تعالى: * (خذها ولا تخف) * ليس على حقيقته.
وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فاريد نفي تلك الخشية عنهم * (فعسى أولئك) * المنعوتون بأكمل النعوت * (أن يكونوا من المهتدين) * أي إبى الجنة وما أعد الله تعالى فيها لعباده كما روي عن ابن عباس. والحسن، وإبراز اهتدائهم لذلك مع ما بهم من تلك الصفات الجليلة في معرض التوقع لحسم أطماع الكافرين عن الوصول إلى مواقف الاهتداء لأن هؤلاء المؤمنين وهم - هم - إذا كان أمرهم دائرا بين لعل وعسى فما بال الكفرة بيت المخازي والقبائح، وفيه قطع اتكال المؤمنين على أعمالهم وما هم عليه وإرشادهم إلى ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء، وهذا هو المناسب للمقام لا الاطماع وسلوك سنن الملوك مع كون القصد إلى الوجوب، وكون الكفرة يزعمون أنهم محقون وأن غيرهم على الباطل فلا يتأتى حسم أطماعهم لا يلتفت إليه بعد ظهور الحق وهذا لا ريب فيه.
وقيل: إن الأوصاف المذكورة، وإن أوجبت الاهتداء، ولكن الثبات عليها مما لا يعلمه إلا الله تعالى وقد يطرأ ما يوجب ضد ذلك والعبرة للعاقبة، فكلمة التوقع يجوز أن تكون لهذا ولا يخفى ما فيه فان النظر إلى العاقبة هنا لا يناسب المقام الذي يقتضي تفضيل المؤمنين عليهم في الحال،
* (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله واليوم الاخر وج‍اهد فى سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدى القوم الظ‍المين) *.
* (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله واليوم الآخر وج‍اهد في سبيل الله) * السقاية والعمارة مصدر أسقي وعمر بالتخفيف إذ عمر المشدد يقال في عمر الإنسان لا في العمارة كما يتوهمه العوام، وصحت الياء في سقاية لأن بعدها هاء التأنيث، وظاهر الآية تشبيه الفعل بالفاعل والصفة بالذات وأنه
66

لا يحسن هنا فلا بد من التقدير، إما في جانب الصفة أي أجعلتم أهل السقاية والعمارة كمن آمن، ويؤيده قراءة محمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنه. وابن الزبير. وأبي جعفر. وأبي وجزة السعدي وهو من القراء وإن اشتهر بالشعر * (أجعلتم سقاة الحاج) * بضم السين جمع ساق * (وعمرة المسجد) * بفتحتين جمع عامر، وكذا قراءة الضحاك * (سقاية) * بالضم أيضا مع الياء والتاء * (وعمرة) * كما في القراءة السابقة، ووجه سقاية فيها أن يكون جمعا جاء على فعال ثم أنث كما أنث
من الجموع نحو حجارة فإن في كلا القراءتين تشبيه ذات بذات، وإما في جانب الذات أي أجعلتموهما كإيمان من آمن وجهاد من جاهد، وقيل: لا حاجة إلى التقدير في شيء وإنما المصدر بمعنى اسم الفاعل، والمعنى عليه كما في الأول، وأيا ما كان فالخطاب إما للمشركين على طريقة الالتفات واختاره أكثر المحققين وهو المتبادر من النظم، وتخصيص ذكر الإيمان في جانب المشبه به واستدل له بما أخرجه ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله تعالى والقيام على السقاية خير من الإيمان والجهاد فذكر الله تعالى خير الإيمان به سبحانه والجهاد مع نبيه صلى الله عليه وسلم على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية، وبما أخرجه ابن جرير. وأبو الشيخ عن الضحاك قال: أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك، فقال العباس: أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونفك العاني ونحجب البيت ونسقي الحاج فأنزل الله تعالى: * (أجعلتم) * الآية، وهذا ظاهر في أن الخطاب لهم وهم مشركون.
وإما لبعض المؤمنين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد، واستدل له بما أخرجه مسلم. وأبو داود. وابن جرير. وابن المنذر. وجماعة عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل عملا لله تعالى بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله تعالى خير مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله تعالى عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيه فيما اختلفتم فيه فأنزل الله تعالى الآية إلى قوله سبحانه: * (والله لا يهدي القوم الظالمين) * (الجمعة: 5) وبما روي من طرق أن الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه. والعباس، وذلك أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال له: يا عمر لو هاجرت إلى المدينة فقال له: أولست في أفضل من الهجرة وألست أسقي الحاج وأعمر البيت، وهذا ظاهر في أن العباس رضي الله تعالى عنه كان إذ ذاك مسلما على خلاف ما يقتضيه غيره من الأخبار المتقدم بعضها، وأيد هذا القول بأنه المناسب للاكتفاء في الرد عليهم ببيان عدم مساواتهم عند الله تعالى للفريق الثاني وبيان أعظمية درجتهم عند الله تعالى الظاهر دخوله في الرد على وجه يشعر بعدم حرمان الأولين بالكلية لمكان أفعل التفضيل، وجعل المشتمل على ذلك استطرادا لتفضيل من اتصف بتلك الصفات على غيره من المسلمين خلاف الظاهر، وكذا القول بأنه سيق لتفضيلهم على أهل السقاية والعمارة من الكفرة وهم وإن لم يكن لهم درجة عند الله تعالى جاء على زعمهم ومدعاهم، على أنه قيل عليه: إنه ليس فيه كثير نفع لأنه إن لم يشعر بعدم الحرمان فليس بمشعر بالحرمان، والكلام على الأول توبيخ للمشركين ومداره إنكار تشبيه أنفسهم من حيث اتصافهم بوصفيهم المذكورين مع قطع النظر عما هم عليه من الشرك بالمؤمنين من حيث اتصافهم بالإيمان والجهاد، أو على
67

إنكار تشبيه وصفيهم المذكورين في حد ذاتهما مع الإغماض عن مقارنتهما للشرك بالإيمان والجهاد.
والقول باعتبار المقارنة مما أغمض عنه المحققون لإباء المقام إياه، كيف لا وقد بين حبوط أعمالهم بذلك الاعتبار وكونها بمنزلة العدم، فتوبيخهم بعد على تشبيهها بالإيمان والجهاد، ثم رد ذلك بما يشعر بعدم حرمانهم عن أصل الفضيلة بالكلية مما لا يساعده النظم الكريم، ولو اعتبر لما احتيج إلى تقرير إنكار التشبيه وتأكيده بشيء آخر إذ لا شيء أظهر بطلانا من نسبة المعدوم إلى الموجود، وقيل: لا مانع من اعتبارها ويقطع النظر عما تقدم من بيان الحبوط، وعدم الحرمان المشعور به مبني على ذلك وفيه ما فيه، والمعنى أجعلتم أهل السقاية والعمارة في الفضيلة وعلو الدرجة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما في ذلك كالإيمان والجهاد وشتان ما بينهما فإن السقاية والعمارة وإن كانتا في أنفسهما من أعمال البر والخير لكنهما وإن خلتا عن القوادح بمعزل أن يشبه أهلهما بأهل الإيمان والجهاد أو يشبه نفسهما بنفس الإيمان والجهاد وذلك قوله سبحانه: * (لا يستوون عند الله) * أي لا يساوي الفريق الأول الثاني وبظاهره يترجح التقدير الأول، وإذا كان المراد لا يستوون بأوصافهم يرجع إلى نفي المساواة في الأوصاف فيوافق الإنكار على التقدير الثاني، وإسناد عدم الاستواء إلى الموصوفين لأن الأهم بيان تفاوتهم، وتوجيه النفي ههنا والإنكار فيما سلف إلى الاستواء والتشبيه مع أن دعوى المفتخرين بالسقاية والعمارة من المشركين أو المؤمنين إنما هي الأفضلية دون التساوي والتشابه للمبالغة في الرد عليهم فإن نفي التساوي والتشابه نفي للأفضلية بالطريق الأولى، لكن ينبغي أن يعلم أن الأفضلية التي يدعيها المشركون تشعر بثبوت أصل الفضيلة للمفضل عليه وهم بمعزل عن اعتقاد ذلك، وكيف يتصور منهم أن في جهادهم وقتلهم فضيلة أو أن في الإيمان المستلزم لتسفيه رأيهم فيما هم عليه فضيلة، فلا بد أن يكون ذلك من باب المجاراة فلا تغفل.
والجملة استئناف لتقرير الإنكار المذكور وتأكيده، وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من مفعولي الجعل والرابط ضمير الجمع كأنه قيل: سويتم بينهم حال كونهم متفاوتين عند الله * (والله لا يهدي القوم الظ‍المين) * أريد بهم المشركون وبالظلم الشرك أو وضع الشيء في غير موضعه شركا كان أو غيره فيدخل فيه ظلمهم في ذلك الجعل وهو أبلغ في الذم، والمراد من الهداية الدلالة الموصلة لا مطلق الدلالة لأنه لا يناسب المقام، وهذا حكم منه تعالى أنه سبحانه لا يوفق هؤلاء الظالمين إلى معرفة الحق وتمييز الراجح من المرجوح ولعله سيق لزيادة تقرير عدم التساوي.
[بم وقوله سبحانه:
* (الذين ءامنوا وهاجروا وج‍اهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأول‍ائك هم الفائزون) *.
* (الذين ءامنوا وهاجروا وج‍اهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله) * استئناف لبيان مراتب فضلهم زيادة في الرد وتكميلا له، وزيادة الهجرة وتفصيل نوعي الجهاد للإيذان بأن ذلك من لوازم الجهاد لا أنه اعتبر بطريق التدارك أمر لم يعتبر فيما سلف، والظاهر من السياق أن المفضل عليه أهل السقاية والعمارة من المشركين، وقد أنشرنا إلى ماله وما عليه حسبما ذكره بعض الفضلاء. وأنا أقول: إذا أريد من - افعل - المبالغة في الفضل وعلو المرتبة والمنزلة فالأمر هين وإذا
أريد به حقيقته فهناك احتمالان الأول: أن يقال: حذف المفضل عليه إيذانا بالعموم، أي إن هؤلاء المتصفين بهذه الصفات أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم يتصف بها كائنا من كان ويدخل فيه أهل السقاية والعمارة، ويكفي في تحقق حقيقة أفعل
68

وجود أصل الفعل في بعض الأفراد المندرجة تحت العموم كما يقال: فلان أعلم الخلق مع أن منهم من لا يتصف بشيء من العلم بل لا يمكن أن يتصف به أصلا، وهذا مما لا ينبغي أن يشك فيه سوى أنه يعكر علينا أن المقصود بالمفضل عليه في المثال من له مشاركة في أصل الفعل ولا كذلك ما نحن فيه، فإن لم يضر هذا فالأمر ذاك وإلا فهو كما ترى. الثاني: أن يقال: ما أفهمته الصيغة من أن للسقاة والعمار من المشركين درجة جاء على زعم المشركين وحسن ذلك وقوع مثله في كلامهم مع المؤمنين فإنهمق الوا كما دل عليه بعض الأخبار السابقة: السقاية والعمارة خير من الإيمان والجهاد ولا شك أن ما يشعر به - خير - من أن في الإيمان والجهاد خيرا إنما جاء على زعم المؤمنين فما في الآية خارج مخرج المشاكلة مع ما في كلامهم وإن اختلف اللفظ، وما قيل: من أن جعل معنى التفضيل بالنسبة إلى زعم الكفرة ليس فيه كثير نفع ليس فيه كثير ضرر كما لا يخفى على من ذاق طعم البلاغة ولو بطرف اللسان، ويشعر كلام بعضهم أن التفضيل مبني على ما تقدم من قطع النظر وإغماض العين أي المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة أعلى رتبة ممن خلا منها وإن حاز جميع ما عداها مما هو كمال في حد ذاته كالسقاية والعمارة، والمراد بسبيل الله هنا الإخلاص أو نحوه لا الجهاد فالمعنى جاهدوا مخلصين * (وأول‍ائك) * الموصوفون بما ذكر * (هم الفائزون) * أي المختصون بالفوز العظيم أو بالفوز المطلق كأن فوز من عداهم ليس بفوز بالنسبة إلى فوزهم.
والكلام على الثاني توبيخ لمن يؤثر السقاية والعمارة من المؤمنين على الهجرة والجهاد، أي أجعلتم أهلهما من المؤمنين في الفضيلة والكرامة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما كالإيمان والجهاد، قالوا: وإنما لم يذكر الإيمان في جانب المشبه مع كونه معتبرا فيه قطعا تعويلا على ظهور الأمر وإشعارا بأن مدار إنكار التشبيه هو السقاية والعمارة دون الإيمان، وإنما لم يترك ذكره في جانب المشبه به أيضا تقوية للإنكار وتذكيرا لأسباب الرجحان ومبادىء الأفضلية وإيذانا بكمال التلازم بين الإيمان وما تلاه. ومعنى عدم الاستواء عند الله تعالى وأعظمية درجة الفريق الثاني على هذا التقرير ظاهر.
والمراد بالظلم الظلم بوضع كل من الراجح والمرجوح في موضع الآخر لا الظلم الأعم، وبعدم الهداية عدم هدايته تعالى للمؤثرين إلى معرفة ذلك لا عدم الهداية مطلقا، والقصر في قوله سبحانه: * (أولئك هم الفائزون) * بالنسبة إلى درجة الفريق الثاني أو إلى الفوز المطلق إدعاء كما مر اه‍.
وأنت تعلم أن عدم ذكر الإيمان في جانب المشبه ظاهر لأن المؤمنين ما تنازعوا كما يدل عليه حديث مسلم السابق إلا فيما هو الأفضل بعده فمن قائل السقاية ومن قائل العمارة ومن قائل الجهاد، نعم يحتاج ذكره في جانب المشبه به إلى نكتة، والتوبيخ في الآية على هذا التقدير أبلغ منه على التقدير الأول فتأمل.
* (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجن‍ات لهم فيها نعيم مقيم) *.
* (يبشروهم ربهم) * أي في الدنيا على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. وقرأ حمزة * (يبشرهم) * بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين والتخفيف على أنه من بشر الثلاثي وأخرجها أبو الشيخ عن طلحة بن مصرف، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم وكونه سبحانه هو المبشر ما لا يخفى من اللطافة واللطف * (برحمة منه) * واسعة * (ورضوان) * كبير * (وجنات) * عالية قطوفها دانية * (لهم فيها) * أي الجنات وقيل: الرحمة * (نعيم مقيم) * لا يرتحل ولا يسافر عنهم، وهو
69

استعارة للدائم.
* (خ‍الدين فيهآ أبدا إن الله عنده أجر عظيم) *.
* (خ‍الدين فيها) * أي الجنات * (أبدا) * تأكيد لما يدل عليه الخلود ودفع احتمال أن يراد منه المكث الطويل * (إن الله عنده أجر عظيم) * لا قدر بالنسبة إليه لأجور الدنيا أو للأعمال التي في مقابلته والجملة استئناف وقع تعليلا لما سبق. وذكر أبو حيان أنه تعالى لما وصف المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة. الرحمة. والرضوان. والجنة. وبدأ سبحانه بالرحمة في مقابلة الإيمان لتوقفها عليه ولأنها أعم النعم وأسبقها كما أن الإيمان هو السابق، وثنى تعالى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي فيه بذل الأنفس والأموال، وثلث عز وجل بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها بدلهم بدار الكفر الجنان الدار التي هي في جواره.
وفي الحديث الصحيح يقول الله سبحانه: " يا أهل الجنة هل رضيتم فيقولون كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك فيقول سبحانه: لكم عندي أفضل من ذلك فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول جل شأنه: أحل لكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا " ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيم مقيم على هذا التوزيع في غاية اللطافة لما أن في الهجرة السفر الذي هو قطعة من العذاب.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءابآءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا الكفر على الإيم‍ان ومن يتولهم منكم فأول‍ائك هم الظ‍المون) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءاباءكم واخوانكم أولياء) * نهى لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة فرد من المشركين لا عن موالاة طائفة منهم فإن ذلك مفهوم من النظم الكريم دلالة لا عبارة، والآية على ما روى الثعلبي عن ابن عباس نزلت في المهاجرين فأنهم لما أمروا بالهجرة قالوا: إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشيرتنا وذهبت تجاراتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا وبقينا ضائعين فنزلت فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم في ذلك. وروي عن مقاتل أنها نلزت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا مكة نهيا عن موالاتهم. وروي عن أبي جعفر. وأبي عبد الله رضي الله تعالى
عنهما أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى قريش يخبرهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزم على فتح مكة، وهذا ونحوه يقتضي أن هذه الآية نزلت قبل الفتح. واستشكل ذلك الإمام الرازي بأن الصحيح أن هذه السورة إنما نزلت بعد فتح مكة فكيف يمكن أن يكون سبب النزول ما ذكر. وأجيب بأن نزولها قبل الفتح لا ينافي كون نزول السورة بعده لأن المراد معظمها وصدرها، وعلى القول بأنها نزلت في حاطب فالمعتبر عموم اللفظ لا خصوص السبب ويدخل حاطب في النهي عن الاتخاذ بلا شبهة * (أن لآستحبو ا) * أي اختاروا * (الكفر على الايم‍ان) * وأصروا عليه إصرارا لا يرجى معه إقلاع أصلا، ولتضمن استحب معنى ما ذكر تعدى بعلى، وتعليق النهي عن الاتخاذ بذلك لما أنه قبل ذلك ربما يؤدي بهم إلى الإسلام بسبب شعورهم بمحاسن الدين * (ومن يتولهم) * أي واحدا منهم، والضمير في الفعل لمراعاة لفظ الموصول وللإيذان باستقلال كل واحد منهم بالاتصاف بالظلم الآتي لأن المراد تولى فرد واحد منهم و * (من) * في قوله سبحانه: * (منكم) * للجنس لا للتبعيض * (فأول‍ائك) * أي المتولون * (هم الظ‍المون) * بوضعهم الموالاة في غير موضعها فالظلم بمعناه اللغوي، وقد يراد به التجاوز والتعدي عما حد الله تعالى إن كان المراد ومن يتولهم بعد النهي، والحصر ادعائي كأن ظلم غيرهم كلا ظلم عند ظلمهم
70

وفي ذلك من الزجر عن الموالاة ما فيه.
* (قل إن كان ءاباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتج‍ارة تخشون كسادها ومس‍اكن ترضونهآ أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الف‍اسقين) *.
* (قل) * تلوين للخطاب وأمر له صلى الله عليه وسلم بأن يثبت المؤمنين ويقوي عزائمهم على الانتهاء عما نهوا عنه من موالاة الآباء والإخوان ويزهدهم فيهم وفيمن يجري مجراهم ويقطع علائقهم عن زخارف الدنيا الدنية على وجه التوبيخ والترهيب أي قل يا محمد للمؤمنين * (إن كان ءاباؤكم وإخوانكم وأزواجكم) * لم يذكر الأبناء والأزواج فيما سلف وذكرهم هنا لأن ما تقدم في الأولياء وهم أهل الرأي والمشورة والأبناء والأزواج تبع ليسوا كذلك وما هنا في المحبة وهم أحب إلى كل أحد * (وعشيرتكم) * أي ذووا قرابتكم، وقيل: عشيرة الرجل أهله الأدنون، وأيا ما كان فذكره للتعميم والشمول وهو من العشرة أي الصحبة لأنها من شأن القربى، وقيل من العشرة العدد المعروف وسميت العشيرة بذلك على هذا لكمالهم لأن العشرة كما علمت عدد كامل أو لأن بينهم قد نسب كعد العشرة فإنه عقد من العقود وهو معنى بعيد.
وقرأ أبو بكر عن عاصم * (عشيراتكم) *، والحسن * (عشائركم) * وأنكر أبو الحسن وقوع الجمع الأول في كلامهم وإنما الواقع الجمع الثاني * (وأموال اقترفتموها) * أي اكتسبتموها، وأصل الاقتراف اقتطاع الشيء من مكانه إلى غيره من قرفت القرحة إذا قشرتها. والقرف القشر، ووصفت الأموال بذلك إيماء إلى عزتها عندهم لحصولها بكد اليمين وعرق الجبين * (وتج‍ارة) * أي أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح * (تخشون كسادها) * بفوات وقت رواجها بغيبتكم عن مكة المعظمة في أيام المواسم * (ومس‍اكن ترضونها) * منازل تعجبكم الإقامة فيها، والتعرض للصفات المذكورة للإيذان بأن اللوم على محبة ما ذكر من زينة الحياة الدنيا لا ينافي ما فيها من مبادىء المحبة وموجبات الرغبة فيها وأنها مع مالها من فنون المحاسن بمعزل عن أن تكون كما ذكر سبحانه بقوله: * (أحب إليكم من الله ورسوله) * بالحب الاختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وتقديم الطاعة لا ميل الطبع فإنه أمر جبلي لا يمكن تركه ولا يؤاخذ عليه ولا يكلف الإنسان بالامتناع عنه * (وجهاد في سبيله) * أي طريق ثوابه ورضاه سبحانه، ولعل المراد به هنا أيضا الإخلاص ونحوه لا الجهاد وإن أطلق عليه أيضا أنه سبيل الله تعالى، ونظم حب هذا في سلك حب الله تعالى شأنه وحب رسوله عليه الصلاة والسلام تنويها بشأنه وتنبيها على أنه مما يجب أن يحب فضلا عن أن يكره وإيذانا بأن محبته راجعة إلى محبة الله عز وجل ومحبة حبيبه صلى الله عليه وسلم فإن الجهاد عبارة عن قتال أعدائهما لأجل عداوتهم فمن يحبهما يجب أن يحب قتال من لا يحبهما * (فتربصوا) * أي انتظروا * (حتى يأتي الله بأمره) * أي بعقوبته سبحانه لكم عاجلا أو آجلا على ما روي عن الحسن واختاره الجبائي، وروي عن ابن عباس. ومجاهد. ومقاتل أنه فتح مكة.
* (والله لا يهدي القوم الف‍اسقين) * أي الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين وتقديم محبة من ذكر على محبة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أو القوم الفاسقين كافة ويدخل المذكورون دخولا أوليا، أي لا يهديهم إلى ما هو خير لهم، والآية أشد آية نعت على الناس ما لا يكاد يتخلص منه إلا من تداركه الله سبحانه بلطفه، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله تعالى ويبغض في الله تعالى حتى يحب في الله سبحانه أبعد الناس ويبغض في الله عز وجل أقرب الناس " والله تعالى الموفق لأحسن الأعمال.
71

ومن باب الإشارة: أنه سبحانه أشار إلى تمكن رسوله عليه الصلاة والسلام ووصول أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلى مقام الوحدة الذاتية بعد أن كانوا محتجبين بالأفعال تارة وبالصفات أخرى وبذلك تحققت الضدية على أكمل وجه بينهم وبين المشركين فنزلت البراءة وأمروا بنبذ العهد ليقع التوافق بين الباطن والظاهر وأمر المشركون بالسياحة في الأرض أربعة أشهر على عدد مواقفهم في الدنيا والآخرة تنبيها لهم فإنهم لما وقفوا في الدنيا مع الغير بالشرك حجبوا عن الدين والأفعال والصفات والذات في برزخ الناسوت فلزمهم أن يوقفوا في الآخرة على الله عز وجل ثم على الجبروت ثم على الملكوت ثم على النار في جحيم الآثار فيعذبوا بأنواع العذاب. ومن طبق الآيات على ما في الأنفس ذكر أن هذه المدة هي مدة كمال الأوصاف الأربعة النباتية والحيوانية والشيطانية والإنسانية ثم قال سبحانه لهم: * (واعلموا أنكم غير معجزي الله) * إذ لا بد من حبسكم في تلك المواقف بسبب وقوفكم مع الغير بالشرك * (وأن الله مخزي الكافرين) * (التوبة: 2) المحجوبين عن الحق بافتضاحهم عند ظهور رتبة ما عبدوه من دونه ووقوفهم معه على النار * (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر) * أي وقت ظهور الجمع الذاتي في صورة التفصيل * (أن الله برىء من المشركين ورسوله) * (التوبة: 3) المراد بذلك كمال المخالفة والتضاد وانقطاع المدد الروحاني، والمراد من قوله سبحانه: * (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا) * (التوبة: 4) الذين بقيت فيهم مسكة من الاستعداد وأثر من سلامة الفطرة وبقايا من المروءة أمر المؤمنون أن يتموا إليهم عهدهم إلى
مدتهم وهي مدة تراكم الدين وتحقق الحجاب إن لم يرجعوا ويتوبوا ثم قال سبحانه بعد أن ذكر ما ذكر: * (الذين آمنوا) * أي علما * (وهاجروا) * أي هجروا الرغائب الحسية والأوطان النفسية * (وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم) * وهي أموال معلوماتهم ومراداتهم ومقدوراتهم، والجهاد بهذه إشارة إلى محو صفاتهم، والجهاد بالأنفس إشارة إلى فنائها في الله تعالى أولئك * (أعظم درجة) * في التوحيد * (عند الله) * (التوبة: 20) تعالى * (يبشرهم ربهم برحمة منه) * وهو ثواب الأعمال * (ورضوان) * وهو ثواب الصفات * (وجنات لهم فيها نعيم مقيم) * (التوبة: 21) وهو مشاهدة المحبوب الذي لا يزول وذلك جزاء الأنفس، ووجه الترتيب على هذا ظاهر وإنما تولى الله تعالى بشارتهم بنفسه عز وجل ليزدادوا حبا له تبارك وتعالى لأن القلوب مجبولة على حب من يبشرها بالخير. ثم إنه سبحانه بين أن القرابة المعنوية والتناسب المعنوي والوصلة الحقيقية أحق بالمراعاة من الاتصال الصوري مع فقد الاتصال المعنوي واختلاف الوجهة وذم سبحانه التقيد بالمألوفات الحسية وتقديمها على المحبوب الحقيقي والتعين الأول له والسبب الأقوى للوصول إلى الحضرة وتوعد عليه بما توعد تسأل الله تعالى التوفيق إلى ما يقربنا منه إنه ولي ذلك.
* (لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين) *.
* (لقد نصركم الله في مواطن) * خطاب للمؤمنين خاصة وامتنان عليهم بالنصرة على الأعداء التي يترك لها الغيور أحب الأشياء إليه، والمواطن جمع موطن وهو الموضع الذي يقيم فيه صاحبه، وأريد بها مواطن الحرب أي مقاماتها ومواقفها ومن ذلك قوله: كم موطن لولاي طحت كما هوى * بأجرامه من قلة النيق منهوي
والمنع من الصرف لصيغة منتهى الجمهوع، واللام موطئة للقسم أي قسم والله لقد نصركم الله في مواقف ووقائع * (كثيرة) * منها وقعة بدر التي ظهرت بها شمس الإسلام، ووقعة قريظة. والنضير. والحديبية وأنهاها بعضهم إلى ثمانين. وروي أن المتوكل اشتكى شكاية شديدة فنذر أن يتصدق - إن شفاه الله تعالى - بمال كثير
72

فلما شفي سأل العلماء عن حد الكثير فاختلفت أقوالهم فأشير إليه أن يسأل أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم وقد كان حبسه في داره فأمر أن يكتب إليه فكتب رضي الله تعالى عنه يتصدق بثمانين درهما ثم سألوه عن العلة فقرأ هذه الآية وقال: عددنا تلك المواطن فبلغت ثمانين * (ويوم حنين) * عطف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على المكان وعكسه جائز على ما يقتضيه كلام أبي علي ومن تبعه. نعم ظاهر كلام البعض المنع لأن كلا من الظرفين يتعلق بالفعل بلا توسط العاطف، ومتعلقات الفعل إنما يعطف بعضها على بعض إذا كانت من جنس واحد، وقال آخرون: لا منع من نسق زمان على مكان وبالعكس إلا أن الأحسن ترك العاطف في مثله. ومن منع العطف أو استحسن تركه قال: إنه معطوف بحذف المضاف أي وموطن يوم حنين، ولعل التغيير للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثبات من أول الأمر.
وقد يعتبر الحذف في جانب المعطوف عليه، أي في أيام مواطن، والعطف حينئذ من عطف الخاص على العام، ومزية هذا الخاص التي أشار إليها العطف هي كون شأنه عجيبا وما وقع فيه غريبا للظفر بعد اليأس والفرج بعد الشدة إلى غير ذلك، وليس المراد بها كثرة الثواب وعظم النفع ليرد أن يوم حنين ليس بأفضل من يوم بدر الذي نالوا به القدح المعلى وفازوا فيه بالدرجات العلا فلا تتأتى فيه نكتة العطف؛ وقيل: إن موطن اسم زمان كمقتل الحسين فالمعطوفان متجانسان وهو بعيد عن الفهم. وأوجب الزمخشري كون * (يوم) * منصوبا بمضمر والعطف من عطف جملة على جملة أي ونصركم يوم حنين، ولا يصح أن يكون ناصبه * (نصركم) * المذكور لأن قوله سبحانه: * (إذ أعجبتكم كثرتكم) * بدل من يوم حنين فيلزم كون زمان الإعجاب بالكثرة ظرف النصرة الواقعة في المواطن الكثيرة لاتحاد الفعل ولتقييد المعطوف بما يقيد به المعطوف عليه وبالعكس.
واليوم مقيد بالإعجاب بالكثرة والعامل منسحب على البدل والمبدل منه جميعا، ويلزم من ذلك أن يكون زمان الإعجاب ظرفا وقيدا للنصرة الواقعة في المواطن الكثيرة وهو باطل إذ لا إعجاب في تلك المواطن.
وأجيب بأن الفعل في المتعاطفين لا يلزم أن يكون واحدا بحيث لا يكون له تعدد أفراد كضربت زيدا اليوم وعمرا قبله وأضربه حين يقوم وحين يقعد إلى غير ذلك بل لا بد في نحو قولك: زيد وعمرو من اعتبار الأفراد وإلا لزم قيام العرض الواحد بالشخص بمحلين مختلفين وهو لا يجوز ضرورة فلا يلزم من تقييده في حق المعطوف بقيد تقييده في حق المعطوف عليه بذلك، ولا نسلم أن هذا هو الأصل حتى يفتقر غيره إلى دليل، وقال بعضهم: إن ذلك إنما يلزم لو كان المبدل منه في حكم التنحية مع حرف العطف ليؤول إلى نصركم الله في مواطن كثيرة إذ أعجبتكم وليس كذلك بل يؤول إلى نصركم الله في مواطن كثيرة وإذ أعجبتكم ولا محذور فيه، وفي كون البدل قيدا للمبدل منه نظر، وحنين واد بين مكة والطائف على ثلاثة أميال من مكة حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون هوزان. وثقيفا. وحشما وفيهم دريد بن الصمة يتيمنون برأيه وأناسا من بني هلال وغيرهم وكانوا أربعة آلاف وكان المسلمون على ما روى الكلبي عشرة آلاف وعلى ما روي عن عطاء ستة عشر ألفا، وقيل: ثمانية آلاف، وصحح أنهم كانوا اثني عشر ألفا العشر الذين حضروا مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء فلما التقوا قال سلمة بن سلامة أو أبو بكر
73

رضي الله تعالى عنهما: لن نغلب اليوم من قلة إعجابا بكثرتهم، وقيل: إن قائل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستبعد ذلك الإمام لانقطاعه صلى الله عليه وسلم عن كل شيء سوى الله عز وجل. ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي في الدلائل عن الربيع أن رجلا قال يوم حنين: لن نغلب من قلة فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن هذه الكلمة إذا لم ينضم إليها أمر آخر لا تنافي التوكل على الله تعالى ولا تستلزم الاعتماد على الأسباب، وإنما شقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انضم إليها من قرائن الأحوال مما يدل على الإعجاب، ولعل القائل أخذها من قوله عليه الصلاة والسلام: " خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة كلمتهم واحدة " لكن صحبها ما صحبها من الإعجاب، ثم إن القوم اقتتلوا قتالا شديدا فأدرك المسلمون إعجابهم،
والجمع قد يؤخذ بفعل بعضهم فولوا مدبرين وكان أول من انهزم الطلقاء مكرا منهم وكان ذلك سببا لوقوع الخلل وهزيمة غيرهم، وقيل: إنهم حملوا أولا على المشركين فهزموهم فأقبلوا على الغنائم فتراجعوا عليهم فكان ما كان والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء تزول الجبال ولا يزول ومعه العباس. وابن عمه أبو سفيان بن الحرث. وابنه جعفر. وعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه. وربيعة بن الحرث. والفضل بن العباس. وأسامة بن زيد. وأيمن بن عبيد. وقتل رضي الله تعالى عنه بين يديه عليه الصلاة والسلام وهؤلاء من أهل بيته. وثبت معه أبو بكر. وعمر رضي الله تعالى عنهما فكانوا عشرة رجال، ولذا قال العباس رضي الله تعالى عنه:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة * وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا
وعاشرنا لاقي الحمام بنفسه * بما مسه في الله لا يتوجع
وقد ظهر منه صلى الله عليه وسلم من الشجاعة في تلك الوقعة ما أبهر العقول وقطع لأجله أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأنه عليه الصلاة والسلام أشجع الناس، وكان يقول إذ ذاك غير مكترث بأعداء الله تعالى: أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
واختار ركوب البغلة إظهارا لثباته الذي لا ينكره إلا الحمار وأنه عليه الصلاة والسلام لم يخطر بباله مفارقة القتال فقال للعباس وكان صيتا: " صح بالناس " فناد يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقا واحدا لهم حنين يقولون: لبيك لبيك، ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: " هذا حين حمى الوطيس " ثم أخذ كفا من تراب فرماهم ثم قال صلى الله عليه وسلم: " انهزموا ورب الكعبة " فانهزموا، وتفصيل القصة على أتم وجه في كتب السير * (فلم تغن عنكم) * أي لم تنفعكم تلك الكثرة * (شيئا) * من النفع في أمر العدو أو لم تعطكم شيئا يدفع حاجتكم * (وعضاقت عليكم الأرض بما رحبت) * أي برحبها وسعتها على أن * (ما) * مصدرية والباء للملابسة والمصاحبة أي ضاقت مع سعتها عليكم. وفيه استعارة تبعية إما لعدم وجدان مكان يقرون به مطمئنين أو أنهم لا يجلسون في مكان كما لا يجلس في المكان الضيق * (ثم وليتم) * أي الكفار ظهوركم على أن ولي متعدية إلى مفعولين كما في قوله سبحانه: * (فلا تولوهم الأدبار) * (الأنفال: 15) ويدل عليه كلام الراغب، وزعم بعضهم أنه لا حاجة إلى تقدير مفعولين لما في " القاموس " ولى تولية أدبر بل لا وجه له عند بعض وليس بشيء، والاعتماد على كلام
74

الراغب في مثل ذلك أرغب عند المحققين بل قيام: إن كلام " القاموس " ليس بعمدة في مثله، وقوله تعالى: * (مدبرينع) * حال مؤكدة وهو من الإدبار بمعنى الذهاب إلى خلف والمراد منهزمين.
* (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذالك جزآء الك‍افرين) *.
* (ثم أنزل الله سكينته على رسوله) * أي رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن اطمئنانا كليا مستتبعا للنصر القريب، وأما مطلق السكينة فقد كانت حاصلة له صلى الله عليه وسلم * (وعلى المؤمنين) * عطف على رسوله وإعادة الجار للإيذان بالتفاوت، والمراد بهم الذين انهزموا، وفيه دلالة على أن الكبيرة لا تنافي الإيمان.
وعن الحسن أنهم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد ما يعم الطائفتين ولا يخلو عن حسن، ولا ضير في تحقق أصل السكينة في الثابتين من قبل، وفسر بعضهم السكينة بالأمان وهو له صلى الله عليه وسلم بمعاينة الملائكة عليهم السلام ولمن معه بظهور علامات ذلك وللمنهزمين بزوال قلقهم واضطرابهم باستحضار إن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أو نحو ذلك، والظاهر أن * (ثم) * في محلها للتراخي بين الانهزام وإنزال السكينة على هذا الوجه.
وقيل: إذا أريد من المؤمنين المنهزمون فهي على محلها، وإن أريد الثابتون يكون التراخي في الأخبار أو باعتبار مجموع هذا الإنزال وما عطف عليه، وجعلها للتراخي الرتبي بعيد * (وأنزل جنودا لم تروها) * بأبصاركم كما يرى بعضكم بعضا وهم الملائكة عليهم السلام على خيول بلق عليهم البياض، وكون المراد لم تروا مثلها قبل ذلك خلاف الظاهر ولم نر في الآثار ما يساعده، واختلف في عددهم فقيل: ثمانية آلاف لقوله تعالى: * (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف) * مع قوله سبحانه بعد: * (يمددكم ربكم بخمسة آلاف) * (آل عمران: 124، 125) وقيل: خمسة آلاف للآية الثانية والثلاثة الأولى داخلة في هذه الخمسة، وقيل: ستة عشر ألفا بعدد العسكرين اثنا عشر ألفا عسكر المسلمين وأربعة آلاف عسكر المشركين، وكذا اختلفوا في أنهم قاتلوا في هذه الوقعة أم لا، والجمهور على أن الملائكة لم يقاتلوا إلا يوم بدر. وإنما نزلوا لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطر الحسنة وتأييدهم بذلك وإلقاء الرعب في قلوب المشركين. فعن سعيد بن المسيب قال حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكنافنا.
واحتج من قال: إنهم قاتلوا بما روي أن رجلا من المشركين قال لبعض المؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق والرجال عليهم ثياب بيض؟ ما كنا نراهم فيكم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: " تلك الملائكة " وليس له سند يعول عليه * (وعذب الذين كفروا) * بالقتل والأسر والسبي * (وذلك) * أي ما فعل بهم مما ذكر * (جزآء الكافرين) * لكفرهم في الدنيا.
* (ثم يتوب الله من بعد ذالك على من يشآء والله غفور رحيم) *.
* (ثم يتوب الله من بعد ذلك) * التعذيب * (على من يشاء) * أن يتوب عليه منهم لحكمة تقتضيه والمراد يوفقه للإسلام * (والله غفور) * يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي * (رحيم) * يتفضل عليهم ويثيبهم بلا وجوب عليه سبحانه. روى البخاري عن المسور بن مخرمة أن أناسا منهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس
75

وأبر الناس وقد سبى أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا، وقد سبى يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى فقال عليه الصلاة والسلام: إن عندي ما ترون إن خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاؤنا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا فمن كان بيده شيء وطابت به نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه قالوا: قد رضينا وسلمنا، فقال عليه الصلاة والسلام: إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا فرفعت إليه صلى الله عليه وسلم العرفاء أنهم قد رضوان.
* (ياأيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم ه‍اذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شآء إن الله عليم حكيم) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا إنما المخشركون نجس) * أخبر عنهم بالمصدر للمبالغة كأنهم عين النجاسة، أو المراد ذو ونجس لخبث بواطنهم وفساد عقائدهم أو لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم، وجوز أن يكون * (نجس) * صفة مشبهة وإليه ذهب الجوهري، ولا بد حينئذ من تقدير موصوف مفرد لفظا مجموع معنى ليصح الإخبار به عن الجمع أي جنس نجس ونحوه، وتخريج الآية على أحد الأوجه للذكورة هو الذي يقتضيه كلام أكثر الفقهاء حيث ذهبوا إلى أن أعيان المشركين طاهرة ولا فرق بين عبدة الأصنام وغيرهم من أصناف الكفار في ذلك. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وأخرج أبو الشيخ. وابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صافح مشركا فليتوضأ أو ليغسل كفيه ". وأخرج ابن مردويه عن هشام بن عروة عن أبيه عن جده قال: " استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام فناوله يده فأبى أن يتناولها فقال: يا جبريل ما منعك أن تأخذ بيدي؟ فقال: إنك أخذت بيد يهودي فكرهت أن تمس يدي يدا قد مستها يد كافر فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ فناوله يده فتناولها " وإلى ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مال الإمام الرازي وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا بدليل منفصل. قيل: وعلى ذلك فلا يحل الشرب من أوانيهم ولا مؤاكلتهم ولا لبس ثيابهم لكن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلف خلافه، واحتمال كونه قبل نزول الآية فهو منسوخ بعيد، والاحتياط لا يخفى. والاستدلال على طهارتهم بأن أعيانهم لو كانت نجسة ما أمكن بالإيمان طهارتها إذ لا يعقل كون الإيمان مطهرا، ألا ترى أن الخنزير لو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله لا يطهر، وإنما يطهر نجس العين بالاستحالة على قول من يرى ذلك وعين الكافر لم تستحل بالإيمان عينا أخرى ليس بشيء وإن ظنه من تهوله القعقعة شيئا، لأن الطهارة والنجاسة أمران تابعان لما يفهم من كلام الشارع عليه الصلاة والسلام وليستأمر بوطتين بالاستحالة وعدمها فإذا فهم منه نجاسة شيء في وقت وطهارته في وقت آخر أو ما بالعكس كما في الخمر اتبع وإن لم يكن هناك استحالة وذلك ظاهر. وقرأ ابن السميقع * (أنجاس) * على صيغة الجمع. وقرأ أبو حيوة * (نجس) * بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف نجس ككبد في كبد، ويقدر حينئذ موصوف كما قررناه آنفا فيما قاله الجوهري، وأكثر ما جاء هذا اللفظ تابعا لرجس، وقول الفراء وتبعه الحريري في درته إنه لا يجوز ذلك بغير اتباع ترده هذه القراءة إذ لا اتباع فيها * (فلا يقربوا المسجد الحعرام) * تفريع على نجاستهم والمراد النهي عن الدخول إلا أنه نهي عن القرب للمبالغة. وأخرج عبد الرزاق والنحاس عن
76

عطاء أنهم نهوا عن دخول الحرم كله فيكون المنع من قرب نفس المسجد على ظاهره، وبالظاهر أخذ أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ صرف المنع عن دخول الحرم إلى المنع من الحج والعمرة، ويؤيده قوله تعالى: * (بعد عامهم هذا) * فإن تقييد النهي بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسعة من الهجرة حين أمر أبو بكر رضي الله تعالى عنه على الموسم ويدل عليه نداء علي كرم الله تعالى وجهه يوم نادى ببراءة ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك وكذا قوله سبحانه: * (وإن خفتم عيلة) * أي فقرا بسبب منعهم لما أنهم كانوا يأتون في الموسم بالمتاجر فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم كما لا يخفى.
والحاصل أن الإمام الأعظم يقول بالمنع عن الحج والعمرة ويحمل النهي عليه ولا يمنعون من دخول المسجد الحرام وسائر المساجد عنده، ومذهب الشافعي. وأحمد. ومالك رضي الله تعالى عنهم - كما قال الخازن - أنه لا يجوز للكافر ذميا كان أو مستأمنا أن يدخل المسجد الحرام بحال من الأحوال فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام فيه لم يأذن له في دخوله بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارجه، ويجوز دخوله سائر المساجد عند الشافعي عليه الرحمة، وعن مالك كل المساجد سواء في منع الكافر عن دخولها وزعم بعضهم أن المنع في الآية إنما هو عن تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه وهو خلاف الظاهر جدا والظاهر النهي على ما علمت، وكون العلة فيه نجاستهم إن لم نقل بأنها ذاتية لا يقتضي جواز الفعل ممن اغتسل ولبس ثيابا طاهرة لأن خصوص العلة لا يخصص الحكم كما في الاستبراء، والكلام على حد - لا أرينك هنا - فهو كناية عن نهي المؤمنين عن تمكينهم مما ذكر بدليل أن ما قبل وما بعد خطاب للمؤمنين، ومن حمله على ظاهره استدل به على أن الكفار مخاطبون بالفروع حيث إنهم نهوا فيه والنهي من الأحكام وكونهم لا ينزجرون به لا يضر بعد معرفة معنى مخاطبتهم بها. يروى أنه لما جاء النهي شق ذلك على المؤمنين وقالوا: من يأتينا بطعامنا وبالمتاع فأنزل الله سبحانه * (وإن خفتم عيلة) * * (فسوف يغنيكم الله من فضله) * أي عطائه أو تفضيله بوجه آخر * (فمن) * على الأول ابتدائية أو تبعيضية وعلى الثاني سببية، وقد أنجز الله تعالى وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا ووفق أهل نجد وتبالة وجرش فأسلموا وحملوا إليهم الطعام وما يحتاجون إليه في معاشهم ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من كل فج عميق، وعن ابن جبير أنه فسر الفضل بالجزية، ويؤيد بأن الأمر الآتي شاهد له وما ذكرناه أولى وأمر الشهادة هين وقرىء * (عائلة) * على أنه إما مصدر كالعاقبة والعافية أو اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر أي حالا عائلة أي مفتقرة وتقييد الإغناء بقوله سبحانه: * (إن شاء) * ليس للتردد ليشكل بأنه لا يناسب المقام وسبب النزول بل لبيان أن ذلك بإرادته لا سبب له غيرها حتى ينقطعوا إليه سبحانه
ويقطعوا النظر عن غيره، وفيه تنبيه على أنه سبحانه متفضل بذلك الإغناء لا واجب عليه عز وجل لأنه لو كان بالإيجاب لم يوكل إلى المشيئة، وجوز أن يكون التقييد لأن الإغناء ليس مطردا بحسب الأفراد والأحوال والأوقات * (إن الله عليم) * بأحوالكم ومصالحكم * (حكيم) * فيما يعطي ويمنع.
* (ق‍اتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكت‍ابحتى يعطوا الجزية عن يد وهم ص‍اغرون) *.
* (ق‍اتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) *
77

أمر بقتال أهل الكتابين إثر أمرهم بقتال المشركين ومنعهم من أن يحوموا حول المسجد الحرام، وفي تضاعيفه تنبيه لهم على بعض طرق الإغناء الموعود، والتعبير عنهم بالموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلاة للأمر بالقتال وبانتظامهم بسبب ذلك في سلك المشركين وإيمانهم الذي يزعمونه ليس على ما ينبغي فهو كلا إيمان * (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) * أي ما ثبت تحريمه بالوحي متلوا وغير متلو، فالمراد بالرسول نبينا صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد به رسولهم الذي يزعمون اتباعه فإنهم بدلوا شريعته وأحلوا وحرموا من عند أنفسهم اتباعا لأهوائهم فيكون المراد لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم وإن كان التحريف بعد النسخ ليس علة مستقلة * (ولا يدينون دين الحق) * أي الدين الثابت فالإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف. والمراد به دين الإسلام الذي لا ينسخ بدين كما نسخ كل دين به، وعن قتادة أن المراد بالحق هو الله تعالى وبدينه الإسلام، وقيل: ما يعمه وغيره أي لا يدينون بدين من الأديان التي أنزلها سبحانه على أنبيائه وشرعها لعباده والإضافة على هذا على ظاهرها * (من الذين أوتوا الكت‍اب) * أي جنسه الشامل للتوراة والإنجيل و * (من) * بيانية لا تبعيضية حتى يكون بعضهم على خلاف ما نعت * (حتى يعطوا) * أي يقبلوا أن يعطوا * (الجزية) * أي ما تقرر عليهم أن يعطوه، وهي مشتقة من جزى دينه أي قضاه أو من جزيته بما فعل أي جازيته لأنهم يجزون بها من من عليهم بالعفو عن القتل. وفي " الهداية " أنها جزاء الكفر فهي من المجازاة، وقيل: أصلها الهمز من الجزء والتجزئة لأنها طائفة من المال يعطى، وقال الخوارزمي: إنها معرب - كزيت - وهو الخراج بالفارسية وجمعها جزى كلحية ولحى * (عن يد) * يحتمل أن يكون حالا من الضمير في * (يعطوا) * وأن يكون حالا من الجزية؛ واليد تحتمل أن تكون اليد المعطية وأن تكون اليد الآخذة و * (عن) * تحتمل السببية وغيرها أي يعطوا الجزية عن يد مؤاتية أي منقادين أو مقرونة بالانقياد أو عن يدهم أي مسلمين أو مسلمة بأيديهم لا بأيدي غيرهم من وكيل أو رسول لأن القصد فيها التحقير وهذا ينافيه ولذا منع من التوكيل شرعا أو عن غنى أي أغنياء أو صادرة عنه ولذلك لا تؤخذ من الفقير العاجز أو عن قهر وقوة أي أذلاء عاجزين. أو مقرونة بالذل أو عن إنعام عليهم فإن إبقاء مهجهم بما بذلوا من الجزية نعمة عظيمة أي منعما عليهم أو كائنة عن إنعام عليهم أو نقدا أي مسلمة عن يد إلى يد أو مسلمين نقدا، واستعمال اليد بمعنى الانقياد إما حقيقة أو كناية، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه، هذي يدي لعمار أي أنا منقاد مطيع له، واستعمالها بمعنى الغنى لأنها تكون مجازا عن القدرة المستلزمة له، واستعمالها بمعنى الإنعام وكذا النعمة شائع ذائع، وما أمعنى النقدية فلشهرة يدا بيد في ذلك، ومنه حديث أبي سعيد الخدري في الربا، وما في الآية يؤول إليه كما لا يخفى على من له اليد الطولى في المعاني والبيان.
وتفسير اليد هنا بالقهر والقوة أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة، وأخرج عن سفيان بن عيينة ما يدل على أنه حملها على ما يتبادر منها طرز ما ذكرناه في الوجه الثاني، وسائر الأوجه ذكرها غير واحد من المفسرين، وغاية القتال ليس نفس هذا الإعطاء بل قبوله كما أشير إليه، وبذلك صرح جمع من الفقهاء حيث قالوا: إنهم يقاتلون إلى أن يقبلوا الجزية، وإنما عبروا بالإعطاء لأنه المقصود من القبول * (وهم ص‍اغرون) * أي أذلاء
78

وذلك بأن يعطوها قائمين والقابض منهم قاعد قاله عكرمة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تؤخذ الجزية من الذمي ويوجأ عنقه، وفي رواية أنه يؤخذ بتلبيبه ويهز هزا ويقال: أعط الجزية يا ذمي، وقيل: هو أن يؤخذ بلحيته وتضرب لهزمته، ويقال: أد حق الله تعالى يا عدو الله. ونقل عن الشافعي أن الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم، وكل الأقوال لم نر اليوم لها أثرا لأن أهل الذمة فيه قد امتازوا على المسلمين والأمر لله عز وجل بكثير حتى أنه قبل منهم إرسال الجزية على يد نائب منهم، وأصح الروايات أنه لا يقبل ذلك منهم بل يكلفون أن يأتوا بها بأنفسهم مشاة غير راكبين وكل ذلك من ضعف الإسلام عامل الله تعالى من كان سببا له بعدله، وهي تؤخذ عند أبي حنيفة من أهل الكتاب مطلقا ومن مشركي العجم والمجوس لا من مشركي العرب؛ لأن كفرهم قد تغلظ لما أن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم وأرسل إليهم وهو عليه الصلاة والسلام من أنفسهم ونزل القرآن بلغتهم وذلك من أقوى البواعث على إيمانهم فلا يقبل منهم إلا السيف أو الإسلام زيادة في العقوبة عليهم مع اتباع الوارد في ذلك، فلا يرد أن أهل الكتاب قد تغلظ كفرهم أيضا لأنهم عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم معرفة تامة ومع ذلك أنكروه وغيروا اسمه ونعته من الكتاب، وعند أبي يوسف لا تؤخذ من العربي كتابيا كان أو مشركا وتؤخذ من العجمي كتابيا كان أو مشركا. وأخذها من المجوس إنما ثبت بالسنة، فقد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يأخذها منهم حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، وقال الشافعي: رضي الله تعالى عنه إنها تؤخذ من أهل الكتاب عربيا كان أو عجميا ولا تؤخذ من أهل الأوثان مطلقا لثبوتها في أهل الكتاب بالكتاب وفي المجوس بالخبر فبقي من وراءهم على الأصل.
ولنا أنه يجوز استرقاقهم وكل من يجوز استرقاقه يجوز ضرب الجزية عليه إذا كان من أهل النصرة لأن كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس أما الاسترقاق فظاهر لأن نفع الرقيق يعود إلينا جملة. وأما الجزية فلأن الكافر يؤديها من كسبه والحال أن نفقته في كسبه فكان أداء كسبه الذي هو سبب حياته إلى المسلمين راتبة في معنى أخذ النفس منه حكما، وذهب مالك. والأوزاعي إلى أنها تؤخذ من جميع الكفار ولا تؤخذ عندنا من امرأة ولا صبي ولا زمن ولا أعمى، وكذلك المفلوج والشيخ، وعن أبي يوسف أنها تؤخذ منه إذا كان له مال ولا من فقير غير معتمل خلافا للشافعي ولا من مملوك ومكاتب ومدبر، ولا تؤخذ من الراهبين الذين لا يخالطون الناس كما ذكره
بعض أصحابنا، وذكر محمد عن أبي حنيفة أنها تؤخذ منهم إذا كانوا يقدرون على العمل وهو قول أبي يوسف.
ثم إنها على ضربين جزية توضع بالتراضي والصلح فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق كما صالح صلى الله عليه وسلم بني نجران على ألف ومائتي حلة ولأن الموجب التراضي فلا يجوز التعدي إلى غير ما وقع عليه.
وجزية يبتدىء الإمام بوضعها إذا غلب على الكفار وأقرهم على أملاكهم فيضع على الغنى الظاهر الغنى في كل سنة ثمانية وأربعين درهما يؤخذ في كل شهر منه أربعة دراهم، وعلى الوسط الحال أربعة وعشرين في كل شهر درهمين وعلى الفقير المعتمل وهو الذي يقدر على العمل وإن لم يحسن حرفة اثني عشر درهما في كل شهر درهما، والظاهر أن مرجع الغنى وغيره إلى عرف البلد.
وبذلك صرح به الفقيه أبو جعفر، وإلى ما ذهبنا إليه من اختلافها غنى وفقرا وتوسطا ذهب عمر. وعلي. وعثمان رضي الله تعالى عنهم. ونقل عن الشافعي أن الإمام يضع على كل حالم دينارا أو ما يعدله والغني والفقير في ذلك سواء، لما أخرجه ابن أبي شيبة عن مسروق أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى
79

اليمن قال له: خذ من كل حالم دينارا أو عدله مغافر ولم يفصل عليه الصلاة والسلام، وأجيب عنه بأنه محمول على أنه كان صلحا. ويؤيده ما في بعض الروايات من كل حالم وحالمة لأن الجزية لا تجب على النساء، والأصح عندنا أن الوجوب أول الحول لأن ما وجب بدلا عنه لا يتحقق إلا في المستقبل فتعذر إيجابه بعد مضي الحول فأوجبناها في أوله، وعن الشافعي أنها تجب في آخره اعتبارا بالزكاة. وتعقبه الزيلعي بأنه لا يلزمنا الزكاة لأنها وجبت في آخر الحول ليتحقق النماء فهي لا تجب إلا في المال النامي ولا كذلك الجزية فالقياس غير صحيح، واقتضى - كما قال الجصاص - في أحكام القرآن وجوب قتل من ذكر في الآية إلى أن تؤخذ منهم الجزية على وجه الصغار والذلة أنه لا يكون لهم ذمة إذا تسلطوا على المسلمين بالولاية ونفاذ الأمر والنهي لأن الله سبحانه إنما جعل لهم الذمة بإعطاء الجزية وكونهم صاغرين فواجب على هذا قتل من تسلط على المسلمين بالغضب وأخذ الضرائب بالظلم وإن كان السلطان ولاه ذلك وإن فعله بغير إذنه وأمره فهو أولى وهذا يدل على أن هؤلاء اليهود والنصارى الذين يتولون أعمال السلطان وأمرائه ويظهر منهم الظلم والاستعلاء وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة ولو قصد المسلم مسلما لأخذ ماله أبيح قتله في بعض الوجوه فما بالك بهؤلاء الكفرة أعداء الدين.
وقد أفتى فقهاؤنا بحرمة توليتهم الأعمال لثبوت ذلك بالنص، وقد ابتلى الحكام بذلك حتى احتاج الناس إلى مراجعتهم بل تقبيل أيديهم كما شاهدناه مرارا، وما كل ما يعلم يقال فإنا لله وإنا إليه راجعون. هذا وقد استشكل أخذ الجزية من هؤلاء الكفرة بأن كفرهم هن أعظم الكفر فكيف يقرون عليه بأخذ دراهم معدودات.
وأجاب القطب بأن المقصود من أخذ الجزية ليس تقريرهم على الكفر بل إمهال الكافر مدة ربما يقف فيها على محاسن الإسلام وقوة دلائله فيسلم، وقال الاتقاني: إن الجزية ليست بدلا عن تقرير الكفر وإنما هي عوض عن القتل والاسترقاق الواجبين فجازت كإسقاط القصاص بعوض، أو هي عقوبة على الكفر كالاسترقاق، والشق الأول أظهر حيث يوهم الثاني جواز وضع الجزية على النساء ونحوهن. وقد يجاب بأنها بدل عن النصرة للمقاتلة منا، ولهذا تفاوتت لأن كل من كان من أهل دار الإسلام يجب عليه النصرة للدار بالنفس والمال، وحيث إن الكافر لا يصلح لها لميله إلى دار الحرب اعتقادا أقيمت الجزية المأخوذة المصروفة إلى الغزاة مقامها، ولا يرد إن النصرة طاعة وهذه عقوبة فكيف تكون العقوبة خلفا عن الطاعة لما في النهاية من أن الخليفة عن النصرة في حق المسلمين لما في ذلك من زيادة القوة لهم وهم يثابون على تلك الزيادة الحاصلة بسبب أموالهم، وهذا بمنزلة ما لو أعاروا دوابهم للغزاة. ومن هنا تعلم أن من قال: إنها بدل عن الإقرار على الكفر فقد توهم وهما عظيما.
* (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النص‍ارى المسيح ابن الله ذالك قولهم بأفواههم يض‍اهئون قول الذين كفروا من قبل ق‍اتلهم الله أنى يؤفكون) *.
* (وقالت اليهود) * استئناف سيق لتقرير ما مر من عدم إيمان أهل الكتابين بالله سبحانه وانتظامهم بذلك في المشركين، والقائل * (عزير ابن الله) * متقدمو اليهود ونسبة الشيء القبيح إذا صدر من بعض القوم إلى الكل مما شاع، وسبب ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عزيرا كان في أهل الكتاب وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله تعالى أن يعملوا ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق وكان التابوت عندهم. فلما رأى الله سبحانه وتعالى أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء رفع عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم فدعا عزير ربه عز وجل
80

وابتهل أن يرد إليه ما نسخ من صدره. فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله عز وجل نزل نور من الله تعالى فدخل جوفه فعاد الذي كان ذهب من جوفه من التوراة فأذن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله تعالى التوراة وردها إلي فطفق يعلمهم فمكثوا ما شاء الله تعالى أن يمكثوا وهو يعلمهم. ثم إن التابوت نزل عليهم بعد ذهابه منهم فعرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم فوجدوه مثله فقالوا: والله ما أوتي عزير هذا إلا لأنه ابن الله سبحانه. وقال الكلبي في سبب ذلك: إن بختنصر غزا بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة وكان عزير إذ ذاك صغيرا فلم يقتله لصغره فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله تعالى عزيرا ليجدد لهم التوراة وليكون آية لهم بعد ما أماته الله تعالى مائة سنة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فشرب منه فمثلت له التوراة في صدره فلما أتاهم قال: أنا عزير فكذبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة فكتبها لهم من صدره. فقال رجل منهم: إن أبى حدثني عن جدي أنه وضعت التوراة في خابية ودفنت في كرم فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر حرفا فقالوا: إن الله تعالى لم يقذف التوراة في قلب عزير إلا لأنه ابنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وروي غير ذلك ومرجع الروايات إلى أن السبب حفظه عليه السلام للتوراة، وقيل: قائل ذلك جماعة من يهود المدينة منهم سلام بن مشكم. ونعمان بن أبي أوفى. وشاس بن قيس. ومالك بن الصيف. أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله؟. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أن قائل ذلك فنحاص بن عازوراء وهو على ما جاء في
بعض الروايات القائل: * (إن الله فقير ونحن أغنياء) * (آل عمران: 181).
وبالجملة أن هذا القول كان شائعا فيهم ولا عبرة بإنكارهم له أصلا ولا بقول بعضهم: إن الواقع قولنا عزير أبان الله أي أوضح أحكامه وبين دينه أو نحو ذلك بعد أن أخبر الله سبحانه وتعالى بما أخبر. وقرأ عاصم. والكسائي. ويعقوب. وسهل * (عزير) * بالتنوين والباقون بتركه. أما التنوين فعلى أنه اسم عربي مخبر عنه بابن. وقال أبو عبيدة: إنه أعجمي لكنه صرف لخفته بالتصغير كنوح ولوط وإلى هذا ذهب الصغاني.
وهو مصغر عزار تصغير ترخيم، والقول بأنه أعجمي جاء على هيئة المصغر وليس به فيه نظر. وأما حذف التنوين فقيل لالتقاء الساكنين فإن نون التنوين ساكنة والباء في ابن ساكنة أيضا فالتقى الساكنان فحذفت النون له كما يحذف حروف العلة لذلك، وهو مبني على تشبيه النون بحرف اللين وإلا فكان القياس تحريكها، وهو مبتدأ وابن خبره أيضا ولذا رسم في جميع المصاحف بالألف؛ وقيل: لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا. وتعقب بأنه تمحل عنه مندوحة ورده الشيخ في دلائل الإعجاز بأن الاسم إذا وصف بصفة ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف تكذيبه إلى الخبر وصار ذلك الوصف مسلما، فلو كان المقصود بالإنكار قولهم عزير ابن الله معبودنا لتوجه الإنكار إلى كونه معبودا لهم وحصل تسليم كونه ابنا لله سبحانه وذلك كفر. واعترض عليه الإمام قائلا: إن قوله يتوجه الإنكار إلى الخبر مسلم لكن قوله: يكون ذلك تسليما للوصف ممنوع لأنه لا يلزم من كونه مكذبا لذلك الخبر كونه مصدقا لذلك
81

الوصف إلا أن يقال: ذلك بالخبر يدل على أن ما سواه لا يكذبه وهو مبني على دليل الخطاب وهو ضعيف. وأجاب بعضهم بأن الوصف للعلية فإنكار الحكم يتضمن إنكار علته. وفيه أن إنكار الحكم قد يحتمل أن يكون بواسطة عدم الإفضاء لا لأن الوصف كالأبنية مثلا منتف.
وفي الإيضاح أن القول بمعنى الوصف وأراد أنه لايحتاج إلى تقدير الخبر كما أن أحدا إذا قال مقالة ينكر منها البعض فحكيت منها المنكر فقط، وهو كما في " الكشف " وجه حسن في رفع التمحل لكنه خلاف الظاهر كما يشهد له آخر الآية. وقال بعض المحققين: إنه يحتمل أن يكون * (عزير ابن الله) * خبر مبتدأ محذوف أي صاحبنا عزير ابن الله مثلا، والخبر إذا وصف توجه الإنكار إلى وصفه نحو هذا الرجل العاقل وهذا موافق للبلاغة وجار على وفق العربية من غير تكلف ولا غبار، ولم يظهر لي وجه تركه مع ظهوره، والظاهر أن التركيب خبر ولا حذف هناك، واختلف في عزير هل هو نبي أم لا والأكثرون على الثاني * (وقالت النص‍ارى المسيح ابن الله) * هو أيضا قول بعضهم، ولعلهم إنما قالوه لاستحالة أن يكون ولد من غير أب أو لأنهم رأوا من أفعاله ما رأوا.
ويحتمل - وهو الظاهر عندي - أنهم وجدوا إطلاق الابن عليه عليه السلام وكذا إطلاق الأب على الله تعالى فيما عندهم من الإنجيل فقالوا ما قالوا وأخطأوا في فهم المراد من ذلك. وقد قدمنا من الكلام ما فيه كفاية في هذا المقام.
ومن الغريب - ولا يكاد يصح - ما قيل: إن السبب في قولهم هذا أنهم كانوا على الدين الحق بعد رفع عيسى عليه السلام إحدى وثمانين سنة يصلون ويصومون ويوحدون حتى وقع بينهم وبين اليهود حرب وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولص قتل جماعة منهم ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى عليه السلام فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون أن دخلنا النار ودخلوا الجنة وإني سأحتال عليهم وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا ثم إنه عمد إلى فرس يقاتل عليه فعقره وأظهر الندامة والتوبة ووضع التراب على رأسه وأتى النصارى فقالوا له من أنت فقال: عدوكم بولص قد نوديت من السماء أنه ليست لك توبة حتى تتنصر وقد تبت وأتيتكم فأدخلوه الكنيسة ونصروه ودخل بيتا فيها فلم يخرج منه سنة حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال: قد نوديت إن الله تعالى قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم، ثم إنه عمد إلى ثلاثة رجال منهم نسطور. ويعقوب. وملكا فعلم نسطور أن الإله ثلاثة. الله. وعيسى. ومريم تعالى الله عن ذلك، وعلم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان ولكنه ابن الله سبحانه، وعلم ملكا أن عيسى هو الله تعالى لم يزل ولا يزال فلما استمكن ذلك منهم دعا كل واحد منهم في الخلوة وقال له: أنت خالصتي فادع الناس إلى ما علمتك وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد، ثم قال لهم: إني رأيت عيسى عليه السلام في المنام، وقد رضي عني وأنا ذابح نفسي تقربا إليه ثم ذهب إلى المذبح فذبح نفسه، وتفرق أولئك الثلاثة فذهب واحد منهم إلى الروم. وواحد إلى بيت المقدس. والآخر إلى ناحية أخرى وأظهر كل مقالته ودعا الناس إليها فتبعه من تبعه وكان ما كان من الاختلال والضلال * (ذلك) * أي ما صدر عنهم من العظيمتين * (قولهم بأفوههم) * أي أنه قول لا يعضده برهان مماثل للألفاظ المهملة التي لا وجود لها إلا في الأفواه من غير أن يكون لها مصداق في الخارج، وقيل: هو تأكيد لنسبة القول المذكور إليهم ونفي التجوز عنها وهو الشائع في مثل ذلك، وقيل: أريد بالقول الرأي والمذهب، وذكر الأفواه إما للإشارة إلى أنه لا أثر له في قلوبهم وإنما يتكلمون به جهلا وعنادا وإما للإشعار بأنه مختار لهم غير متحاشين عن التصريح
82

به فإن الإنسان ربما ينبه على مذهبه بالكتابة أو بالكناية مثلا فإذا صرح به وذكره بلسانه كان ذلك الغاية في اختياره، وادعى غير واحد أن جعل ذلك من باب التأكيد كما في قولك: رأيته بعيني وسمعته بأذني مثلا مما يأباه المقام، ولو كان المراد به التأكيد مع التعجيب من تصريحهم بتلك المقالة الفاسدة لا ينافيه المقام ولا تزاحم في النكات * (يش‍اهئون) * أي يضاهي قولهم في الكفر والشناعة * (قول الذين كفرو ا) * فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وصير مرفوعا، ويحتمل أن يكون من باب التجوز كما قيل في قوله تعالى: * (وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) * (يوسف: 52) لا يهديهم في كيدهم، فالمراد يضاهئون في قولهم قول الذين كفروا * (من قبل) * أي من قبلهم وهم كما روي عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة واختاره الفراء المشركون الذين قالوا: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون، وقيل: المراد بهم قدماؤهم فالمضاهي من كان في زمنه عليه الصلاة والسلام منهم لقدمائهم وأسلافهم، والمراد الإخبار بعراقتهم في الكفر.
وأنت تعلم أنه لا تعدد في القول حتى يتأتى التشبيه، وجعله بين قولي الفريقين ليس فيه مزيد مزية، وقيل: المراد بهم اليهود على أن الضمير للنصارى، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وإن أخرجه ابن المنذر. وغيره عن قتادة مع أن مضاهاتهم قد علمت من صدر الآية، ويستدعي أيضا اختصاص الرد والإبطال بقوله تعالى: * (ذلك
قولهم بأفواههم) * بقول النصارى، وقرأ الأكثر * (يضاهون) * بهاء مضمومة بعدها واو، وقد جاء ضاهيت وضاهأت بمعنى من المضاهاة وهي المشابهة وبذلك فسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعن الحسن تفسيرها بالموافقة وهما لغتان، وقيل: الياء فرع عن الهمزة كما قالوا فريت وتوضيت، وقيل: الهمزة بدل من الياء لضمها. ورد بأن الياء لا تثبت في مثله حتى تقلب بل تحذف كرامون من الرمي، وقيل: إنه مأخوذ من قولهم: امرأة ضهيا بالقصر وهي التي لا ثدي لها أو لا تحيض أو لا تحمل لمشابهتها الرجال، ويقال: ضهياء بالمد كحمراء وضهياءة بالمد وتاء التأنيث وشذ فيه الجمع بين علامتي التأنيث، وتعقب بأنه خطأ لاختلاف المادتين فإن الهمزة في ضهياء على لغتها الثلاث زائدة وفي المضاهاة أصلية ولم يقولوا: إن همزة ضهياء وياؤها زائدة لأن فعيلاء لم يثبت في أبنيتهم، ولم يقولوا وزنها فعلل كجعفر لأنه ثبت زيادة الهمزة في ضهياء بالمد فتتعين في اللغة الأخرى، وفي هذا المقام كلام مفصل في محله. ومن الناس من جوز الوقف على * (قولهم) * وجعل * (بأفواههم) * متعلقا بيضاهئون ولا توقف في أنه ليس بشيء، وفي الجملة ذم للذين كفروا على أبلغ وجه وإن لم تسق لذمهم * (ق‍اتلهم الله) * دعاء عليهم بالإهلاك فإن من قاتل الله تعالى فمقتول ومن غالبه فمغلوب. وأخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس أن المعنى لعنهم الله وهو معنى مجازي لقاتلهم، ويجوز أن يكون المراد من هذه الكلمة التعجب من شناعة قولهم فقد شاعت في ذلك حتى صارت تستعمل في المدح فيقال: قاتله الله تعالى ما أفصحه.
وقيل: هي للدعاء والتعجب يفهم من السياق لأنها كلمة لا تقال إلا في موضع التعجب من شناعة فعل قوم أو قولهم ولا يخفى ما فيه مع أن تخصيصها بالشناعة شناعة أيضا * (أنى يؤفكون) * أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل بعد وضوح الدليل وسطوع البرهان.
* (اتخذوا أحب‍ارهم ورهب‍انهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إل‍اها واحدا لا إل‍اه إلا هو سبح‍انه عما يشركون) *.
* (لتخذوا أحبارهم) * زيادة تقرير لما سلف من
83

كفرهم بالله تعالى، والأحبار علماء اليهود، واختلف في واحده فقال الأصمعي: لا أدري أهو حبر أو حبر، وقال أبو الهيثم: هو بالفتح لا غير، وذكر ابن الأثير أنه بالفتح والكسر وعليه أكثر أهل اللغة، والصحيح إطلاقه على العالم ذميا كان أو مسلما فقد كان يقال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما الحبر ويجمع كما في " القاموس " على حبور أيضا وكأنه مأخوذ من تحبير المعاني بحسن البيان عنها * (ورهب‍انهم) * وهم علماء النصارى من أصحاب الصوامع، وهو جمع راهب وقد يقع على الواحد ويجمع على رهابين ورهابنة وفي " مجمع البيان " أن الراهب هو الخاشي الذي تظهر عليه الخشية وكثر إطلاقه على متنسكي النصارى وهو مأخوذ من الرهبة أي الخوف، وكانوا لذلك يتخلون من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: " لا رهبانية في الإسلام " والمراد في الآية اتخذ كل من الفريقين علماءهم لا الكل الكل * (أربابا من دون الله) * بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله تعالى وتحليل ما حرمه سبحانه وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد روى الثعلبي. وغيره عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فقلت له: يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم فقال عليه الصلاة والسلام. أليس يحرمون ما أحل الله تعالى فيحرمونه ويحلون ما حرم الله فيستحلون؟ فقلت بلى. قال: ذلك عبادتهم. وسئل حذيفة رضي الله تعالى عنه عن الآية فأجاب بمثل ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظير ذلك قولهم: فلان يعبد فلانا إذا أفرط في طاعته فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة وهي طاعة مخصوصة على مطلقها والأول أبلغ، وقيل: اتخاذهم أربابا بالسجود لهم ونحوه مما لا يصلح إلا للرب عز وجل وحينئذ فلا مجاز إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام لكلام علمائهم ورؤسائهم والحق أحق بالاتباع فمتى ظهر وجب على المسلم اتباعه وإن أخطأه اجتهاد مقلده * (والمسيح ابن مريم) * عطف على * (رهبانهم) * بأن اتخذوه ربا معبودا أو بأن جعلوه ابنا لله كما يقتضيه سياق الآية على ما قيل وفيه نظر. وتخصيص الاتخاذ به عليه السلام يشير إلى أن اليهود ما فعلوا ذلك بعزير، وتأخيره في الذكر مع أن اتخاذهم له كذلك أقوى من مجرد الإطاعة في أمر التحليل والتحريم لأنه مختص بالنصارى، ونسبته عليه السلام إلى أمه للإيذان بكمال ركاكة رأيهم والقضاء عليهم بنهاية الجهل والحماقة.
* (وما أمروا) * أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في الكتب الإلهية وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام * (إلا ليعبدوا إلاها واحدا) * جليل الشأن وهو الله سبحانه ويطيعوا أمره ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه فإن ذلك مناف لعبادته جل شأنه، وأما إطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر من أمر الله بطاعته فهي في الحقيقة إطاعة لله عز وجل، أو وما أمر الذين اتخذهم الكفرة أربابا من المسيح عليه السلام والأحبار والرهبان إلا ليطيعوا
84

أو ليوحدوا الله تعالى فكيف يصح أن يكونوا أربابا وهم مأمورون مستعبدون مثلهم، ولا يخفى أن تخصيص العبادة به تعالى لا يتحقق إلا بتخصيص الطاعة أيضا به تعالى ومتى لم يخص به جل شأنه لم تخص العبادة به سبحانه * (لا إله إلا هو) * صفة ثانية لإلها أو استئناف، وهو على الوجهين مقرر للتوحيد وفيه على ما قيل فائدة زائدة وهو أن ما سبق يحتمل غير التوحيد بأن يؤمروا بعبادة إله واحد من بين الآلهة فإذا وصف المأمور بعبادته بأنه هو المنفرد بالألوهية تعين المراد، وجوز أن يكون صفة مفسرة لواحدا * (سبح‍انه عما يشركون) * تنزيله له أي تنزيه عن الإشراك به في العبادة والطاعة.
* (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الك‍افرون) *.
* (يريدون أن يطفؤا نور الله) * إطفاء النار على ما في " القاموس " إذهاب لهبها الموجب لإذهاب نورها لا إذهاب نورها على ما قيل، لكن لما كان الغرض من إطفاء نار لا يراد بها إلا النور كالمصباح إذهاب نورها جعل إطفاؤها عبارة عنه ثم شاع ذلك حتى كان عبارة عن مطلق إذهاب النور وإن كان لغير النار، والمراد بنور الله
حجته تعالى النيرة المشرقة الدالة على وحدانيته وتنزهه سبحانه عن الشركاء والأولاد أو القرآن العظيم الصادع الصادح بذلك، وقيل: نبوته عليه الصلاة والسلام التي ظهرت بعد أن استطال دجا الكفر صبحا منيرا، وأيا ما كان فالنور استعارة أصلية تصريحية لما ذكر، وإضافته إلى الله تعالى قرينة، والمراد من الإطفاء الرد والتكذيب أي يريد أهل الكتابين أن يردوا ما دل على توحيد الله تعالى وتنزيهه عما نسبوه إليه سبحانه * (بأفواههم) * أي بأقاويلهم الباطلة الخارجة عنها من غير أن يكون لها مصداق تنطبق عليه أو أصل تستند إليه بل كانت أشبه شيء بالمهملات، قيل: ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن يشبه حالهم في محاولة إبطال نبوته صلى الله عليه وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق ويكون قوله تعالى: * (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) * ترشيحا للاستعارة لأن إتمام النور زيادة في استنارته وفشو ضوئه فهو تفريع على المشبه به معنى الإفراط والتفريط حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم، ونسب النور إلى الله تعالى العظيم الشأن ومن شأن النور المضاف إليه سبحانه أن يكون عظيما فكيف يطفىء بنفخ الفم، وتمم كلا من الترشيح والتجريد بما تمم لما بين الكفر الذي هو ستر وإزالة للظهور والإطفاء من المناسبة وبين دين الحق الذي هو التوحيد والشرك من المقابلة انتهى.
ولا يخلو عن حسن. والظاهر أن المراد بالنور هنا هو الأول إلا أنه أقيم الظاهر مقام الضمير وأضيف إلى ضميره سبحانه لمزيد الاعتناء بشأنه وللإشعار بعلة الحكم، والاستثناء مفرغ فالمصدر منصوب على أنه مفعول به والمصحح للتفريغ عند جمع كون * (يأبى) * في معنى النفي، والمراد به إما لا يريد لوقوعه في مقابلة يريدون كما قيل أو لا يرضى كما ارتضاه بعض المحققين بناء على أن المراد بإرادة إتمام نوره سبحانه إرادة خاصة وهي الإرادة على وجه الرضا بقرينة * (ولو كره الكافرون) * لا الإرادة المجامعة لعدم الرضا كما هو مذهب أهل الحق خلافا لمن يسوي بينهما. وقال الزجاج: إن مصحح التفريغ عموم المستثنى منه وهو محذوف ولا يضر كون ذلك نسبيا إذ غالب العموميات كذلك بل قد قيل: ما من عام إلا وقد خص منه البعض، أي يكره كل شيء يتعلق بنوره إلا إتمامه، وقرينة التخصيص السياق.
85

ولا يجوز تأويل الجماعة عنده إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بالنفي فيلزم جريان التفريغ في كل شيء وهو كما ترى، والحق أنه لا مانع من التأويل إذا اقتضاه المقام، وإتمام النور بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز دين الإسلام * (وعلو كره الكافرون) * جواب * (لو) * محذوف لدلالة ما قبله عليه أي يتم نوره.
والجملة معطوفة على جملة قبلها مقدرة أي لو لم يكره الكافرون ولو كره وكلتاهما في موضع الحال، والمراد أنه سبحانه يتم نوره ولا بد.
* (هو الذيأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) *.
* (هو الذي أرسل رسوله) * محمدا صلى الله عليه وسلم متلبسا * (بالهدى) * أي القرآن الذي هو هدى للمتقين * (ودين الحق) * أي الثابت، وقيل: دينه تعالى وهو دين الإسلام * (ليظهره) * أي الرسول عليه الصلاة والسلام * (على الدين كله) * أي على أهل الأديان كلها فيخذلهم أو ليظهر دين الحق على سائر الأديان بنسخه إياها حسبما تقتضيه الحكمة. فأل في الدين سواء كان الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم أم للدين الحق للاستغراق. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام وأل للعهد أي ليعلمه شرائع الدين كلها ويظهره عليها حتى لا يخفى عليه عليه الصلاة والسلام شيء منها، وأكثر المفسرين على الاحتمال الثاني قالوا: وذلك عند نزول عيسى عليه السلام فإنه حينئذ لا يبقى دين سوى دين الإسلام، والجملة بيان وتقرير لمضمون الجملة السابقة لأن مآل الإتمام هو الإظهار * (ولو كره المشركون) * على طرز ما قبله خلا إن وصفهم بالشرك بعد وصفهم بالكفر قيل: للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الشرك بالله تعالى، وظاهر هذا أن المراد بالكفر فيما تقدم الكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبه وبالشرك الكفر بالله سبحانه بقرينة التقابل ولا مانع منه.
وقد علمت ما في هذين المتممين من المناسبة التي يليق أن يكون فلك البلاغة حاويا لها فتدبر.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا إن كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالب‍اطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا) * شروع في بيان حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم إثر بيان سوء حال الأتباع في اتخاذهم لهم أربابا، وفي ذلك تنبيه للمؤمنين حتى لا يحوموا حول ذلك الحمى ولذا وجه الخطاب إليهم * (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالب‍اطل) * يأخذونها بالارتشاء لتغيير الأحكام والشرائع والتخفيف والمسامحة فيها، والتعبير عن الأخذ بالأكل مجاز مرسل والعلاقة العلية والمعلولية أو اللازمية والملزومية فإن الأكل ملزوم للأخذ كما قيل.
وجوز أن يكون المراد من الأموال الأطعمة التي تؤكل بها مجازا مرسلا ومن ذلك قوله: يأكلن كل ليلة أكافا
فإنه يريد علفا يشتري بثمن أكاف. واختار هذا العلامة الطيبي وهو أحد وجهين ذكرهما الزمخشري، وثانيهما أن يستعار الأكل للأخذ وذلك على ما قرره العلامة أن يشبه حالة أخذهم أموال الناس من غير تمييز بين الحق والباطل وتفرقة بين الحلال والحرام للتهالك على جمع حطامها بحالة منهمك جائع لا يميز بين طعام وطعام في التناول، ثم ادعى أنه لا طائل تحت هذه الاستعارة وأن استشهاده بأخذ الطعام وتناوله سمج، وأجيب بأن الاستشهاد به على أن بين الأخذ والتناول شبها وإلا فذاك عكس المقصود، وفائدة الاستعارة المبالغة في أنه أخذ بالباطل لأن الأكل غاية الاستيلاء على الشيء ويصير قوله تعالى: * (بالباطل) * على هذا زيادة مبالغة ولا كذلك لو قيل يأخذون * (ويصدون) * الناس
86

* (عن سبيل الله) * أي دين الإسلام أو عن المسلك المقرر في كتبهم إلى ما افتروه وحرفوه بأخذ الرشا.
ويجوز أن يكون * (يصدون) * من الصدود على معنى أنهم يعرضون عن سبيل الله فيحرفون ويفترون بأكلهم أموال الناس بالباطل * (والذين يكنزون الذهب والفضة) * أي يجمعونهما ومنه ناقة كناز اللحم أي مجتمعته، ولا يشترط في الكنز الدفن بل يكفي مطلق الجمع والحفظ، والمراد من الموصول إما الكثير من الأحبار والرهبان
لأن الكلام في ذمهم ويكون ذلك مبالغة فيه حيث وصفوا بالحرص بعد وصفهم بما سبق من أخذ البارطيل في الأباطيل وإما المسلمون لجى ذكرهم أيضا وهو الأنسب بقوله تعالى:
* (ولا ينفقونها في سبيل الله) * لأنه يشعر بأنهم ممن ينفق في سبيله سبحانه لأنه المتبادر من النفي عرفا فيكون نظمهم في قرن المرتشين من أهل الكتاب تغليظا ودلالة على كونهم أسوة لهم في استحقاق البشارة بالعذاب، واختار بعض المحققين حمله على العموم ويدخل فيه الأحبار والرهبان دخولا أوليا، وفسر غير واحد الإنفاق في سبيل الله بالزكاة لما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أنا أفرج عنكم فانطلق فقال: يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم.
وأخرج الطبراني. والبيهقي في سننه. وغيرهما عن ابن عمر قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدى زكاته فليس بكنز " أي بكنز أوعد عليه فإن الوعيد عليه مع عدم الإنفاق فيما أمر الله تعالى أن ينفق فيه، ولا يعارض ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها " لأن المراد بذلك ما لم يؤد حقه كما يرشد إليه ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوي بها جنبه وجبينه " وقيل: إنه كان قبل أن تفرض الزكاة وعليه حمل ما رواه الطبراني عن أبي أمامة قال توفي رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي صلى الله عليه وسلم كية ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه الصلاة والسلام كيتان، وقيل: بل هذا لأن الرجلين أظهرا الفقر ومزيد الحاجة بانتظامهما في سلك أهل الصفة الذين هم بتلك الصفة مع أن عندهما ما عندهما فكان جزاؤهما الكية والكيتين لذلك، وأخذ بظاهر الآية فأوجب إنفاق جميع المال الفاضل عن الحاجة أبو ذر رضي الله تعالى عنه وجرى بينه لذلك وبين معاوية رضي الله عنه في الشام ما شكاه له إلى عثمان رضي الله تعالى عنه في المدينة فاستدعاه إليها فرآه مصرا على ذلك حتى إن كعب الأحبار رضي الله عنه قال له: يا أبا ذر أن الملة الحنيفية أسهل الملل وأعدلها وحيث لم يجب إنفاق كل المال في الملة اليهودية وهي أضيق الملل وأشدها كيف يجب فيها فغضب رضي الله تعالى عنه وكانت فيه حدة وهي التي دعته إلى تعيير بلال رضي الله عنه بأمه وشكايته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله فيه: * (إنك امرؤ فيك جاهلية) * فرفع عصاه ليضربه وقال له: يا يهودي ما ذاك من هذه المسائل فهرب كعب فتبعه حتى استعاذ بظهر عثمان رضي الله تعالى عنه فلم يرجع حتى ضربه. وفي رواية أن الضربة وقعت على عثمان، وكثر المعترضون على أبي ذر في دعواه تلك، وكان الناس يقرؤون له آية المواريث ويقولون: لو وجب إنفاق كل المال لم يكن للآية وجه، وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حل مستغربين منه ذلك فاختار العزلة فاستشار عثمان فيها فأشار إليه بالذهاب إلى الربذة فسكن فيها حسبما
87

تريد، وهذا ما يعول عليه في هذه القصة، ورواها الشيعة على وجه جعلوه من مطاعن ذي النورين وغرضهم بذلك إطفاء نوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره * (فبشرهم بعذاب أليم) * خبر الموصول، والفاء لما مر غير مرة.
وجوز أن يكون الموصول في محل نصب بفعل يفسره * (فبشرهم) * والتعبير بالبشارة للتهكم [بم وقوله تعالى:
* (يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ه‍اذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) *.
* (يوم) * منصوب بعذاب أليم أو بمضمر يدل عليه ذلك أي يعذبون يوم أو باذكر. وقيل: التقدير عذاب يوم والمقدر بدل من المذكور فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه * (يحمى عليها في نار جهنم) * أي توقد النار ذات حمى وحر شديد عليها، وأصله تحمى بالنار من قولك حميت الميسم وأحميته فجعل الإحماء للنار مبالغة لأن النار في نفسها ذات حمى فإذا وصفت بأنها تحمي دل على شدة توقدها ثم حذفت النار وحول الإسناد إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود بأتم وجه فانتقل من صيغة التأنيث إلى التذكير كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير فإذا طرحت القصة وأسند الفعل إلى الجار والمجرور قلت رفع إلى الأمير. وعن ابن عامر أنه قرأ * (تحمي) * بالتاء الفوقانية بإسناده إلى النار كأصله وإنما قيل * (عليها) * والمذكور شيئان لأنه ليس المراد بهما مقدارا معينا منهما ولا الجنس الصادق بالقليل والكثير بل المراد الكثير من الدنانير والدراهم لأنه الذي يكون كنزا فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة ولو أتى بضمير التثنية احتمل خلافه، وكذا يقال في قوله سبحانه: * (ولا ينفقونها) * وقيل: الضمير لكنوز الأموال المفهومة من الكلام فيكون الحكم عاما ولذا عدل فيه عن الظاهر، وتخصبص الذهب والفضة بالذكر لأنهما الأصل الغالب في الأموال لا للتخصيص أو للفضة، واكتفى بها لأنها أكثر والناس إليها أحوج ولأن الذهب يعلم منها بالطريق الأولى مع قربها لفظا * (فتكوعى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم) * خصت بالذكر لأن غرض الكانزين من الكنز والجمع أن يكونوا عند الناس ذوي وجاهة ورياسة بسبب الغنى وأن يتنعموا بالمطاعم الشهية والملابس البهية فوجاهتهم كان الكي بجباههم ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها ولما لبسوه على ظهورهم كويت، أو لأنهم إذا رأوا الفقير السائل زووا ما بين أعينهم وازوروا عنه وأعرضوا وطووا كشحا وولوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى، أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسة التي هي الدماغ والقلب والكبد، وقيل: لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخيره وجنبتاه فيكون ما ذكر كناية عن جميع البدن، ويبقى عليه نكتة الاقتصار على هذه الأربع من بين الجهات الست وتكلف لها بعضهم بأن الكانز وقت الكنز لحذره من أن يطلع عليه أحد يلتفت يمينا وشمالا وأماما ووراء ولا يكاد ينظر إلى فوق أو يتخيل أن أحدا يطلع عليه من تحت؛ فلما كانت تلك الجهات الأربع مطمح نظره ومظنة حذره دون الجهتين الأخريين اقتصر عليها دونهما، وهو مع ابتنائه على اعتبار الدفن في الكنز في حيز المنع كما لا يخفى.
وقيل: إنما خصت هذه المواضع لأن داخلها جوف بخلاف اليد والرجل، وفيه أن البطن كذلك، وفي جمعه مع الظاهر لطافة أيضا، وقيل: لأن الجبهة محل الوسم لظهورها والجنب محل الألم والظهر محل الحدود لأن الداعي للكانز على الكنز وعدم الإنفاق خوف الفقر الذي هو الموت الأحمر حيث أنه سبب للكد وعرق الجبين
والاضطراب يمينا وشمالا وعدم استقرار الجنب لتحصيل المعاش مع خلو المتصف به عما يستند إليه
88

ويعول في المهمات عليه فلملاحظة الأمن من الكد وعرق الجبين تكوى جبهته ولملاحظة الأمن من الاضطراب والطمع في استقرار الجنب يكوى جنبه ولملاحظة استناد الظهر والاتكال على ما يزعم أنه الركن الأقوى والوزر الأوقى يكوي ظهره، وقيل غير ذلك وهي أقوال يشبه بعضها بعضا والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وأيا ما كان فليس المراد أنه يوضع دينار على دينار أو درهم على درهم فيكوى بها ولا أنه يكوى بكل بأن يرفع واحد ويوضع بدله آخر حتى يؤتي على آخرها بل أنه يوسع جلد الكانز فيوضع كل دينار ودرهم على حدته كما نطقت بذلك الآثار وتظافرت به الأخبار * (ه‍اذا ما كنزتم) * على إرادة القول وبه يتعلق الظرف السابق في قول أي يقال له يوم يحمى عليها هذا ما كنزتم * (لأنفسكم) * أي لمنفعتها فكان عين مضرتها وسبب تعذيبها، فاللام للتعليل، وأنت في تقدير المضاف في النظم بالخيار، ولم تجعل اللام للملك لعدم جدواه * (وما) * في قوله سبحانه: * (فذوقوا ما كنتم تكنزون) * يحتمل أن تكون مصدرية أي وبال كنزكم أو وبال كونكم كانزين ورجح الأول بأن في كون كان الناقصة لها مصدر كلاما وبأن المقصود الخبر وكان إنما ذكرت لاستحضار الصورة الماضية، ويحتمل أن تكون موصولة أي وبال الذي تكنزونه، وفي الكلام استعارة مكنية وتخييلية أو تبعية. وقرىء * (تكنزون) * بضم النون فالماضي كنز كضرب وقعد.
* (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كت‍ابالله يوم خلق السماوات والارض منهآ أربعة حرم ذالك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يق‍اتلونكم كآفة واعلموا أن الله مع المتقين) *.
* (إن عدة الشهور) * أي مبلغ عدد شهور السنة * (عند الله) * أي في حكمه * (اثنا عشر شهرا) * وهي الشهور القمرية المعلومة إذ عليها يدور فلك الأحكام الشرعية * (في كت‍ابالله) * أي في اللوح المحفوظ.
وقيل: فيما أثبته وأوجب على عباده الأخذ به، وقيل: القرآن لأن فيه آيات تدل على الحساب ومنازل القمر وليس بشيء * (يوم خلق السماوات والأرض) * أي في ابتداء إيجاد هذا العالم، وهذا الظرف متعلق بما في كتاب الله من معنى الثبوت الدال عليه بمنطوقه أو بمتعلقه أو بالكتاب إن كان مصدرا بمعنى الكتابة، والمراد أنه في ابتداء ذلك كانت عدتها ما ذكر وهي الآن على ما كانت عليه، و * (في كتاب الله) * صفة * (اثنا عشر) * وهي خبر * (إن) * و * (عند) * معمول * (عدة) * لأنها مصدر كالشركة و * (شهرا) * تمييز مؤكد كما في قولك: عندي من الدنانير عشرون دينارا، وما يقال: إنه لرفع الإبهام إذ لو قيل عدة الشهور عند الله اثنا عشر سنة لكان كلاما مستقيما ليس بمستقيم على ما قيل. وانتصر له بأن مراد القائل إنه يحتمل أن تكون تلك الشهور في ابتداء الدنيا كذلك كما في قوله سبحانه: * (وإن يوما عند ربك كألف سنة) * ونحوه ولا مانع منه فإنه أحسن من الزيادة المحضة، ولم يجوزوا تعلق * (في كتاب) * بعدة لأن المصدر إذا أخبر عنه لا يعمل فيما بعد الخبر. ومن الناس من جعله بدلا من * (عند الله) * وضعفه أبو البقاء بأن فيه الفصل بين البدل والمبدل منه بخبر العامل في المبدل، وجوز بعض أن يجعل * (اثنا عشر) * مبتدأ و * (عند) * خبر مقدم والجملة خبر إن أو إن الظرف لاعتماده عمل الرفع * (في اثنا عشر) *، وقوله سبحانه: * (منها أربعة حرم) * يجوز أن يكون صفة لاثنا عشر وأن يكون حالا من الضمير في الظرف وأن يكون جملة مستأنفة وضمير * (منها) * على كل تقدير لاثنا عشر، وهذه
89

الأربعة ذو القعدة، وذو الحجة. والمحرم. ورجب مضر. واختلف في ترتيبها فقيل: أولها المحرم وآخرها ذو الحجة فهي من شهور عام، وظاهر ما أخرجه سعيد بن منصور. وابن مردويه عن ابن عباس يقتضيه.
وقيل: أولها رجب فهي من عامين واستدل له بما أخرجه ابن جرير. وغيره عن ابن عمر قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال: " يا أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان. وذو القعدة. وذو الحجة. والمحرم ".
وقيل: أولها ذو القعدة وصححه النووي لتواليها. وأخرج الشيخان " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ورجب مضر " الحديث وأضيف رجب إليهم لأن ربيعة كانوا يحرمون رمضان ويسمونه رجب ولهذا بين في الحديث بما بين.
وقيل: إن ما ذكر من أنها على الترتيب الأول من شهور عام وعلى الثاني من شهور عامين إنما يتمشى على أن أول السنة المحرم وهو إنما حدث في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وكان يؤرخ قبله بعام الفيل وكذا بموت هشام بن المغيرة ثم أرخ بصدر الإسلام بربيع الأول وعلى هذا التاريخ يكون الأمر على عكس ما ذكر ولم يبين هذا القائل ما أول شهور السنة عند العرب قبل الفيل، والذي يفهم من كلام بعضهم أن أول الشهور المحرم عنده من قبل أيضا إلا أن عندهم في اليمن والحجاز تواريخ كثيرة يتعارفونها خلفا عن سلف ولعلها كانت باعتبار حوادث وقعت في الأيام الخالية، وأنه لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ لاالمسلمون هجرته مبدأ التاريخ وتناسوا ما قبله وسموا كل سنة أتت عليهم باسم حادثة وقعت فيها كسنة الأذن. وسنة الأمر. وسنة الابتلاء وعلى هذا المنوال إلى خلافة عمر رضي الله تعالى عنه فسأله بعض الصحابة في ذلك وقال: هذا يطول وربما يقع في بعض السنين اختلاف وغلط فاختار رضي الله تعالى عنه عام الهجرة مبدأ من غير تسمية السنين بما وقع فيها فاستحسنت الصحابة رأيه في ذلك. وفي بعض شروح البخاري أن أبا موسى اوشعري كتب إليه إنه يأتينا من أمير المؤمنين كتب لا ندري بأنها نعمل، وقد قرأنا صكا محله شعبان فلم ندر أي الشعبانين الماضي أم الآتي.
وقيل: إنه هو رضي الله تعالى عنه رفع إليه صك محله شعبان فقال: أي شعبان هو؟ ثم قال: إن الأموال قد كثرت فينا وما قسمناه غير مؤقت فكيف التوصل إلى ضبطه فقال له ملك الأهواز وكان قد أسر وأسلم على يده: إن للعجم حسابا يسمونه - ماهروز - يسندونه إلى من غلب من الأكاسرة ثم شرحه له وبين كيفيته فقال رضي
الله تعالى عنه: ضعوا للناس تاريخا يتعاملون عليه وتضبط أوقاتهم فذكروا له تاريخ اليهود فما ارتضاه والفرس فما ارتضاه فاستحسنوا الهجرة تاريخا انتهى.
وما ذكر من أنهم كانوا يؤرخون في صدر الإسلام بربيع الأول فيه إجمال ويتضح المراد منه بما في النبراس من أنهم كانوا يؤرخون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بسنة القدوم وبأول شهر منها وهو ربيع الأول على الأصح فليفهم، والشهر عندهم ينقسم إلى شرعي. وحقيقي. واصطلاحي؛ فالشرعي معتبر برؤية الهلال بالشرط المعروف في الفقه، وكان أول هلال المحرم في التاريخ الهجري ليلة الخميس كما اعتمده يونس الحاكمي المصري وذكر أن ذلك بالنظر إلى الحساب، وأما باعتبار الرؤية فقد حرر ابن
90

الشاطر أن هلاله رؤي بمكة ليلة الجمعة. والحقيقي معتبر من اجتماع القمر مع الشمس في نقطة وعوده بعد المفارقة إلى ذلك ولا دخل للخروج من تحت الشعاع إلا في إمكان الرؤية بحسب العادة الشائعة، قيل: ومدة ما ذكر تسعة وعشرون يوما ومائة وأحد وتسعون جزءا من ثلثمائة وستين جزءا لليوم بليلته، وتكون السنة القمرية ثلثمائة وأربعة وخمسين يوما وخمس يوم وسدسه وثانية وذلك إحدى عشر جزءا من ثلاثين جزءا من اليوم بليلته، وإذا اجتمع من هذه الأجزاء أكثر من نصف عدوه يوما كاملا وزادوه في الأيام وتكون تلك السنة حينئذ كبيسة وتكون أيامها ثلثمائة وخمسة وخمسين يوما، ولما كانت الأجزاء السابقة أكثر من نصف جبروها بيوم كامل، واصطلحوا على جعل الأشهر شهرا كاملا وشهرا ناقصا فهذا هو الشهر الاصطلاحي، فالمحرم في اصطلاحهم ثلاثون يوما وصفر تسعة وعشرون وهكذا إلى آخر السنة القمرية الأفراد منها ثلاثون وأولها المحرم والأزواج تسعة وعشرون وأولها صفر إلا ذا الحجة من السنة الكبيسة فإنه يكون ثلاثين يوما لاصطلاحهم على جعل ما زادوه في أيام السنة الكبيسة في ذي الحجة آخر السنة.
وحيث كان مدار الشهر الشرعي على الرؤية اختلفت الأشهر فكان بعضها ثلاثين وبعضها تسعة وعشرين في بعض آخر منها. وما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي بكرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة " محمول على معنى لا ينقص أجرهما والثواب المرتب عليهما وإن نقص عددهما، وقيل: معناه لا ينقصان جميعا في سنة واحدة غالبا، وقيل: لا ينقص ثواب ذي الحجة عن ثواب رمضان حكاه الخطابي وهو ضعيف، والأول كما قال النووي هو الصواب المعتمد * (ذلك) * أي تحريم الأشهر الأربعة وما فيه من معنى البعد لتفخيم المشار إليه، وقيل: هو إشارة لكون العدة كذلك ورجحه الإمام بأنه كونها أربعة محرمة مسلم عند الكفار وإنما القصد الرد عليهم في النسىء والزيادة على العدة، ورجح الأول بأن التفريع الآتي يقتضيه، ولا يبعد أن تكون الإشارة إلى مجموع ما دل عليه الكلام السابق والتفريع لا يأبى ذلك * (الدين القيم) * أي المستقيم دين إبراهيم: وإسماعيل عليهما السلام، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما. وكانوا يعظمون الأشهر الحرم حتى إن الرجل يلقى فيها قاتل أبيه وأخيه فلا يهجه ويسمون رجب الأصم ومنصل الأسنة حتى أحدثوا النسىء فغيروا، وقيل: المراد من * (الدين) * الحكم والقضاء ومن * (القيم) * الدائم الذي لا يزول أي ذلك الحكم الذي لا يبدل ولا يغير ونسب ذلك إلى الكلبي، وقيل: الدين هنا بمعنى الحساب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم. " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " أي ذلك الحساب المستقيم والعدد الصحيح المستوي لا ما تفعله العرب من النسىء واختار ذلك الطبرسي، وعليه فتكون ازشارة لما رجحه الإمام * (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) * بهتك حرمتهن وارتكاب ما حرم فيهن، والضمير راجع إلى الأشهر الحرم وهو المروي عن قتادة واختاره الفراء وأكثر المفسرين، وقيل: هو راجع إلى الشهور كلها أي فلا تظلموا أنفسكم في جميع شهور السنة بفعل المعاصي وترك الطاعات أو لا تجعلوا حلالها حراما وحرامها حلالا كما فعل أهل الشرك ونسب هذا القول لابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والعدول عن فيها الأوفق بمنها إلى * (فيهن) * مؤيد لما عليه الأكثر، والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيهن منسوخة وأن
91

الظلم مؤول بارتكاب المعاصي، وتخصيصها بالنهي عن ارتكاب ذلك فيها مع أن الارتكاب منهي عنه مطلقا لتعظيمها ولله سبحانه أن يميز بعض الأوقات على بعض فارتكاب المعصية فيهن أعظم وزرا كارتكابها في الحرم وحال الإحرام. وعن عطاء بن أبي رباح أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم والأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا، واستثنى هذا لأنه للدفع فلا يمنع منه بالاتفاق أو لأن هتك الحرمة في ذلك ليس منهم بل من البادي.
ويؤيد القول بالنسخ أنه عليه الصلاة والسلام حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال. وذي القعدة سنة ثمان * (وق‍اتلوا المشركين كافة كما يق‍اتلونكم كافة) * أي جميعا، واشتهر أنه لا بد من تنكيره ونصبه على الحال وكون ذي الحال من العقلاء، وخطأوا الزمخشري في قوله في خطبة المفصل: محيطا بكافة الأبواب ومخطؤه هو المخطىء لأنا إذا علمنا وضع لفظ لمعنى عام بنقل من السلف وتتبع لموارد استعماله في كلام من يعتد به ورأيناهم استعملوه على حالة مخصوصة من الإعراب والتعريف والتنكير ونحو ذلك جاز لنا على ما هو الظاهر أن نخرجه عن تلك الحالة لأنا لو اقتصرنا في الألفاظ على ما استعملته العرب العاربة والمستعربة نكون قد حجرنا الواسع وعسر التكلم بالعربية على من بعدهم ولما لم يخرج بذلك عما وضع له فهو حقيقة، فكافة - وإن استعملته العرب منكرا منصوبا في الناس خاصة - يجوز أن يستعمل معرفا ومنكرا بوجوه الإعراب في الناس وغيرهم وهو في كل ذلك حقيقة حيث لم يخرج عن معناه الذي وضعوه له وهو معنى الجميع، ومقتضى الوضع أنه لا يلزمه ما ذكر ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابر، على أنه ورد في كلام البلغاء على ما ادعوه، ففي كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لآل بني كاكلة قد جعلت لآل بني كاكلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مائتي مثقال عينا ذهبا إبريزا، وهذا كما في " شرح المقاصد " مما صح، والخط كان موجودا في آل بني كاكلة إلى قريب هذا الزمان بديار العراق، ولما آلت الخلافة إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه عرض عليه فنفذ ما فيه لهم وكتب عليه بخطه لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون أنا أول من تبع أمر من الإسلام ونصر الدين والأحكام عمر بن الخطاب ورسمت بمثل ما رسم لآل بني كاكلة في كل عام مائتي دينار ذهبا إبريزا واتبعت أثره وجعلت لهم مثل ما رسم عمر إذ وجب على وعلى جميع المسلمين اتباع ذلك كتبه علي بن أبي طالب، فانظر كيف استعمله عمر بن الخطاب معرفة
غير منصوبة لغير العقلاء وهو من هو في الفصاحة وقد سمعه مثل علي كرم الله تعالى وجهه ولم ينكره وهو واحد الأحديث، فأي إنكار واستهجان يقبل بعد.
فقوله في " المغني " - كافة - مختص بمن يعقل ووهم الزمخشري في تفسير قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا كافة للناس) * (سبأ: 28) إذ قدر كافة نعتا لمصدر محذوف أي رسالة كافة لأنه أضاف إلى استعماله فيما لا يعقل إخراجه عما التزم فيه من الحال كوهمه في خطبة المفصل مما لا يلتفت إليه، وإذا جاز تعريفه بازضافة جاز بالألف واللام أيضا ولا عبرة بمن خطأ فيه كصاحب القاموس وابن الخشاب، وهو عند الأزهري مصدر على فاعلة كالعافية والعاقبة ولا يثنى ولا يجمع، وقيل: هو اسم فاعل والتاء فيه للمبالغة كتاء رواية وعلامة وإليه ذهب الراغب، ونقل أن المعنى هنا قاتلوهم كافين لهم كما يقاتلونكم كافين لكم، وقيل: معناه جماعة، وقيل للجماعة الكافة كما يقال لهم الوزعة لقوتهم باجتماعهم، وتاؤه كتاء جماعة. والحاصل أنهم رواية ودراية لم يصيبوا
92

فيما التزموه من تنكيره ونصبه واختصاصه بالعقلاء، وأنهم اختلفوا في أصله هل هو مصدر أو اسم فاعل من الكف وأن تاءه هل هي للمبالغة أو للتأنيث، ثم إنهم تصرفوا فيه واستعملوه للتعميم بمعنى جميعا وعلى ذلك حمل الأكثرون ما في الآية قالوا: وهو مصدر كف عن الشيء، وإطلاقه على الجميع باعتبار أنه مكفوف عن الزيادة أو باعتبار أنه يكف عن التعرض له أو التخلف عنه، وهو حال إما من الفاعل أو من المفعول، فمعنى قاتلوا المشركين كافة لا يتخلف أحد منكم عن قتالهم أو لا تتركوا قتال واحد منهم، وكذا في جانب المشبه به، واستدل بالآية على الاحتمال الأول على أن القتال فرض عين.
وقيل: وهو كذلك في صدر الإسلام ثم نسخ وأنكره ابن عطية * (واعلمو اأن الله مع المتقين) * بالولاية والنصر فاتقوا لتفوزوا بولايته ونصره سبحانه فهو إرشاد لهم إلى ما ينفعهم في قتالهم بعد أمرهم به، وقيل: المراد أن الله معكم بالنصر والإمداد فيما تباشرونه من القتال، وإنما وضع المظهر موضع المضمر مدحا لهم بالتقوى وحثا للقاصرين على ذلك وإيذانا بأنه المدار في النصر، وقيل: هي بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم كما يشعر بذلك التعليق بالمشتق، وما ذكرناه نحن لا يخلو عن حسن إلا أن الأمر بالتقوى فيه أعم من الأحداث والدوام ومثله كثير في الكلام.
* (إنما النسىء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعم‍الهم والله لا يهدي القوم الك‍افرين) *.
* (إنما النسىء) * هو مصدر نسأه إذا أخره وجاء النسي كالنهي والنسء كالبدء والنساء كالنداء وثلاثتها مصادر نسأه كالنسىء، وقيل: هو وصف كقتيل وجريح، واختير الأول لأنه لا يحتاج معه إلى تقدير بخلاف ما إذا كان صفة فإنه لا يخبر عنه بزيادة إلا بتأويل ذو زيادة أو إنساء النسىء زيادة، وقد قرىء بجميع ذلك.
وقرأ نافع * (النسي) * بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء، والمراد به تأخير حرمة شهر إلى آخر، وذلك أن العرب كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر فيستحلون المحرم ويحرمون صفرا فإن احتاجوا أيضا أحلوه وحرموا ربيعا الأول وهكذا كانوا يفعلون حتى استدال التحريم على شهور السنة كلها، وكانوا يعتبرون في التحريم مجرد العدد لا خصوصية الأشهر المعلومة، وربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت ويجعلوا أربعة أشهر من السنة حراما أيضا، ولذلك نص على العدد المعين في الكتاب والسنة، وكان يختلف وقت حجهم لذلك، وكان في السنة التاسعة من الهجرة التي حج بها أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالناس في ذي القعدة وفي حجة الوداع في ذي الحجة وهو الذي كان على عهد إبراهيم عليه السلام ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام. ولذا قال صلى الله عليه وسلم: " ألا إن الزمان قد استدار " الحديث، وفي رواية أنهم كانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين وهكذا، ووافقت حجة الصديق في ذي القعدة من سنتهم الثانية، وكانت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي كان من قبل ولذا قال ما قال، أي إنما ذلك التأخير * (زيادة في الكفر) * الذي هم عليه لأنه تحريم ما أحل الله تعالى وقد استحلوه واتخذوه شريعة وذلك كفر ضموه إلى كفرهم.
وقيل: إنه معصية ضمت إلى الكفر وكما يزداد الإيمان بالطاعة يزداد الكفر بالمعصية.
وأورد عليه بأن المعصية ليست من الكفر بخلاف الطاعة فإنها من الإيمان على رأي. وأجيب عنه بما لا يصفو عن الكدر * (يضل به الذين كفروا) * إضلالا على إضلالهم القديم، وقرىء * (يضل) * على البناء للفاعل
93

من الأفعال على أن الفاعل هو الله تعالى، أي يخلق فيهم الضلال عند مباشرتهم لمباديه وأسبابه وهو المعنى على قراءة الأولى أيضا، وقيل الفاعل في القراءتين الشيطان، وجوز على القراءة الثانية أن يكون الموصول فاعلا والمفعول محذوف أي أتباعهم، وقيل: الفاعل الرؤساء والمفعول الموصول. وقرىء * (يضل) * بفتح الياء والضاد من ضلل يضلل، و * (نضل) * بنون العظمة * (يحلونه) * أي الشهر المؤخر، وقيل: الضمير للنسىء على أنه فعيل بمعنى مفعول * (عاما) * من الأعوام ويحرمون مكانه شهرا آخر مما ليس بحرام * (ويحرمونه) * أي يحافظون على حرمته كما كانت، والتعبير عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالهم في العام الماضي أو لإسنادهم له إلى آلهتهم كما سيجىء إن شاء الله تعالى * (عاما) * آخر إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم، قال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان إذا هم الناس بالصدور من الموسم يقوم فيخطب ويقول لا مرد لما قضيت أنا الذي لا أعاب ولا أخاب فيقول له المشركون: لبيك ثم يسألونه أن ينسئهم شهرا يغزون فيه فيقول: إن صفر العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة وإن قال حلال عقدوا الأوتار وركبوا الأزجة وأغاروا. وعن الضحاك أنه جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعا في الجاهلية وكان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوته إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم يقوم في العام القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت: عليكم المحرم فحرموه، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت النساءة حي من بني مالك بن كنانة وكان آخرهم رجلا يقال له القلمس وهو الذي أنسأ المحرم وكان ملكا في قومه وأنشد شاعرهم: ومنا ناسىء الشهر القلمس
وقال الكميت: ونحن الناسئون على معد * شهور الحل نجعلها حراما
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أول من سن النسىء عمرو بن حلي بن قمعة بن خندف. والجملتان تفسير للضلال فلا محل لهما من الإعراب، وجوز أن تكونا في محل نصب على أنهما حال من الموصول والعامل عامله * (ليواطئوا) * أي ليوافقوا، وقرأ الزهري * (ليوطئوا) * بالتشديد * (عدة ما حرم الله) * من الأشهر الأربعة، واللام متعلقة بيحرمونه أي يحرمونه لأجل موافقة ذلك أو بما دل عليه مجموع الفعلين أي فعلوا ما فعلوا لأجل الموافقة، وجعله بعضهم من التنازع * (فيحلوا ما حرم الله) * بخصوصه من الأشهر المعينة، والحاصل أنه كان الواجب عليهم العدة والتخصيص فحيث تركوا التخصيص فقد استحلوا ما حرم الله تعالى: * (زين لهم سوء أعمالهم) * وقرىء على البناء للفاعل وهو الله تعالى أي جعل أعمالهم مشتهاة للطبع محبوبة للنفس، وقيل: خذلهم حتى رأوا حسنا ما ليس بالحسن، وقيل: المزين هو الشيطان وذلك بالوسوسة والإغواء بالمقدمات الشعرية * (والله لا يهدي القوم الك‍افرين) * هداية موصلة للمطلوب البتة وإنما يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكه وهم قد صدوا عنه بسوء اختيارهم فتاهوا في تيه الضلال، والمراد من الكافرين إما المتقدمون ففيه وضع الظاهر موضع الضمير أو الأعم ويدخلون فيه دخولا أوليا.
* (ياأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الارض أرضيتم بالحيواة الدنيا من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا فى الاخرة إلا قليل) *.
* (يا أيها الذين ءامنوا) * عود إلى ترغيب المؤمنين وحثهم على المقاتلة بعد ذكر طرف من فضائح أعدائهم * (ما لكم) * استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ * (إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله) * أي اخرجوا للجهاد، وأصل النفر على ما قيل الخروج
94

لأمر أوجب ذلك * (اثا قلتم) * أي تباطأتم ولم تسرعوا وأصله تثاقلتم وبه قرأ الأعمش فأدغمت التاء في الثاء واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن ونظيره قول الشاعر: تؤتى الضجيع إذا ما اشتاقها خفرا * عذب المذاق إذا ما أتابع القبل
وبه تتعلق * (إذا) * والجملة في موضع الحال، والفعل ماض لفظا مضارع معنى أي مالكم متثاقلين حين قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم انفروا، وجوز أن يكون العامل في * (إذا) * الاستقرار المقدر في * (لكم) * أو معنى الفعل المدلول عليه بذلك أي أي شيء حاصل أو حصل لكم أو ما تصنعون حين قيل لكم انفروا، وقرىء * (أثاقلتم) * بفتح الهمزة على أنها لاستفهام الإنكاري التوبيخي وهمزة الوصل سقطت في الدرج، وعلى هذه القراءة لا يصح تعلق * (إذا) * بهذا الفعل لأن الاستفهام له الصدارة فلا يتقدم معموله عليه، ولعل من يقول يتوسع في الظرف ما لا يتوصع في غيره يجوز ذلك، وقوله سبحانه: * (إلى الأرض) * متعلق باثاقلتم على تضمينه معنى الميل والإخلاد ولولاه لم يعد بإلى، أي أثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه المستتبعة للراحة الخالدة والحياة الباقية أو إلى الإقامة بأرضكم ودياركم والأول أبلغ في الإنكار والتوبيخ ورجح الثاني بأنه أبعد عن توهم شائبة التكرار في الآية، وكان هذا التثاقل في غزوة تبوك وكانت في رجب سنة تسع فإنه صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من الطائف أقام بالمدينة قليلا ثم استنفر الناس في وقت عسرة وشدة من الحر وجدب من البلاد وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليه الشخوص لذلك.
وذكر ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قلما يخرج في غزوة الأكنى عنها وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه عليه الصلاة والسلام بينها للناس ليتأهبوا لذلك أهبته * (أرضيتم بالحيواة الدنيا) * وغرورها * (من الآخرة) * أي بدل الآخرة ونعيمها الدائم * (فما مت‍اع الحيواة الدنيا) * أي فما فوائدها ومقاصدها أو فما التمتع بها وبلذائذها * (في الآخرة) * أي في جنب الآخرة * (إلا قليل) * مستحقر لا يعبأ به، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير، و * (في) * هذه تسمى القياسية لأن المقيس يوضع في جنب ما يقاس به، وفي ترشيح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها ويسدعي الرغبة فيها وتجريد الآخرة عن مثل ذلك مبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخرة ورفعتها.
وقد أخرج أحمد. ومسلم. والترمذي. والنسائي. وغيرهم عن المسور قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثم يرفعها فلينظر بم ترجع ".
وأخرج الحاكم وصححه عن سهل قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فرأى شاة شائلة برجلها فقال: أترون هذه الشاة هينة على صاحبها؟ قالوا: نعم. قال عليه الصلاة والسلام " والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله تعالى من هذه على صاحبها ولو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء " ولا أرى الاستدلال على رداءة الدنيا إلا استدلالا في مقام الضرورة. نعم هي نعمت الدار لمن تزود منها لآخرته.
* (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شىء قدير) *.
* (إلا تنفروا) * أي ألا تخرجوا إلى ما دعاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج له * (يعذبكم) *
95

أي الله عز وجل * (عذبا أليما) * بالإهلاك بسبب فظيع لقحط. وظهر رعد، وخص بعضهم التعذيب بالآخرة وليس بشيء، وعممه آخرون واعتبروا فيه الإهلاك ليصح عطف قوله سبحانه: * (ويستبدل) * عليه أي ويستبدل بكم بعد إهلاككم * (قوما غيركم) * وصفهم بالمغايرة لهم لتأكيد الوعيد والتشديد في التهديد بالدلالة على المغايرة الوصفية والذاتية المستلزمة للاستئصال، أي قوما مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا ليسوا من أولادكم ولا أرحامكم وهم أبناء فارس كما قال سعيد بن جبير أو أهل اليمن كما روي عن أبي روق أو ما يعم الفريقين كما اختاره بعض المحققين * (ولا تعضروه شيئا) * من الأشياء أو شيئا من الضرر، والضمير لله عز وجل أي لا يقدح تثاقلكم في نصرة دينه أصلا فإنه سبحانه الغني عن كل شيء وفي كل أمر، وقيل: الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل وعده العصمة والنصر
وكان وعده سبحانه مفعولا لا محالة، والأول هو المروي عن الحسن وأختاره أبو علي الجبائي. وغيره، ويقرب الثاني رجوع الضمير الآتي إليه عليه الصلاة والسلام اتفاقا * (والله على كل شيء قدير) * فيقدر على إهلاكهم والإتيان بقوم آخرين، وقيل: على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مدد فتكون الجملة تتميما لما قبل وتوطئة لما بعد.
* (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم) *.
* (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا) * من مكة، وإسناد الإخراج إليهم إسناد إلى السبب البعيد فإن الله تعالى أذن له عليه الصلاة والسلام بالخروج حين كان منهم ما كان فخرج صلى الله عليه وسلم بنفسه * (ثاني اثنين) * حال من ضميره عليه الصلاة والسلام. أي أحد اثنين من غير اعتبار كونه صلى الله عليه وسلم ثانيا، فإن معنى قولهم ثالث ثلاثة ورابع أربعة ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقا لا الثالث والرابع خاصة، ولذا منع الجمهور أن ينصب ما بعد بأن يقال ثالث ثلاثة ورابع أربعة، فلا حاجة إلى تكلف توجيه كونه عليه الصلاة والسلام ثانيهما كما فعله بعضهم. وقرىء * (ثاني) * بسكون الياء على لغة من يجري الناقص مجرى المقصور في الإعراب، وليس بضرورة خلافا لمن زعمه وقال: إنه من أحسن الضرورة في الشعر. واستشكلت الشرطية بأن الجواب فيها ماض ويتشرط فيه أن يكون مستقبلا حتى إذا كان ماضيا قلب مستقبلا وهنا لم ينقلب، وأجيب بأن الجواب محذوف أقيم سببه مقامه وهو مستقبل أي إن لم تنصروه فسينصره الله تعالى الذي قد نصره في وقت ضرورة أشد من هذه المرة وإلى هذا يشير كلام مجاهد، وجوز أن يكون المراد إن لم تنصروه فقد أوجب له النصرة حين نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره، وفرق بين الوجهين بعد اشتراكهما في أن جواب الشرط محذوف بأن الدال عليه على الوجه الأول النصرة المقيدة بزمان الضعف والقلة في السالف وعلى الوجه الثاني معرفتهم بأنه صلى الله عليه وسلم من المنصورين، وقال القطب: الوجهان متقاربان إلا أن الأول مبني على القياس والثاني على الاستصحاب فإن النصرة ثابتة في تلك الحالة فتكون ثابتة في الاستقبال إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان، وقيل: إنه على الوجه الأول يقدر الجواب وعلى الثاني هو نصر مستمر فيصح ترتيبه على المستقبل لشموله له * (إذ هما في الغار) * بدل من * (إذ أخرجه) * بدل البعض إذ المراد به زمان متسع فلا يتوهم التغاير المانع من البدلية، وقيل: إنه ظرف * (لثاني اثنين) * والمراد بالغار ثقب في أعلى ثور وهو جبل في الجهة اليمنى لمكة على مسير ساعة، مكثا فيه كما روي عن ابن عباس رضي الله
96

تعالى عنهما ثلاثة أيام يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة؛ وعلي كرم الله تعالى وجهه يجهزهما فاشترى ثلاثة أباعر من إبل البحرين واستأجر لهما دليلا، فلما كانا في بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم علي كرم الله تعالى وجهه بالإبل والدليل فركبوا وتوجهوا نحو المدينة، ولاختفائه عليه الصلاة والسلام في الغار ثلاثة اختفى الإمام أحمد فيما يروى زمن فتنة القرآن كذلك لكن لا في الغار، واختفى هذا العبد الحقير زمن فتح بغداد بعد المحاصرة سنة سبع وأربعين بعد الألف والمائتين خوفا من العامة وبعض الخاصة لأمور نسبت إلي وافتراها بعض المنافقين علي في سرداب عند بعض الأحبة ثلاثة أيام أيضا لذلك ثم أخرجني منه بالعز أمين وأيدني الله تعالى بعد ذلك بالغر الميامين * (إذ يقول) * بدل ثان، وقيل: أول * (لصاحبه) * وهو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
وقد أخرج الدارقطني. وابن شاهين. وابن مردويه. وغيرهم عن ابن عمر قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: أنت صاحبي في الغار، وأنت معي على الحوض " وأخرج ابن عساكر من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأبي هريرة مثله، وأخرج هو. وابن عدي من طريق الزهري عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: هل قلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه شيئا؟ قال: نعم. قال: قل وأنا أسمع. فقال حسان رضي الله تعالى عنه) وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العدو به إذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا * من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: صدقت يا حسان هو كما قلت "، ولم يخالف في ذلك أحد حتى الشيعة فيما أعلم لكنهم يقولون ما ستعلمه ورده إن شاء الله تعالى * (لا تحزن إن الله معنا) * بالعصمة والمعونة فهي معية مخصوصة وإلا فهو تعالى مع كل واحد من خلقه. روى الشيخان. وغيرهما عن أنس قال: حدثني أبو بكر قال: " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه. فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله تعالى ثالثهما ". وروى البيهقي وغيره. " أنه لما دخلا الغار أمر الله تعالى العنكبوت فنسجت على فم الغار وبعث حمامتين وحشيتين فباضتا فيه وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجلا بعصيهم وسيوفهم حتى إذا كانوا قدر أربعين ذراعا تعجل بعضهم فنظر في الغار ليرى أحدا فرأى حمامتين فرجع إلى أصحابه فقال: ليس في الغار أحد ولو كان قد دخله أحد ما بقيت هاتان الحمامتان ". وجاء في رواية قال بعضهم: إن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم فانصرفوا، وأول من دخل الغار أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فقد أخرج ابن مردويه عن جندب بن سفيان قال: لما انطلق أبو بكر رضي الله تعالى عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار قال أبو بكر: لا تدخل يا رسول الله حتى استبرئه فدخل الغار فأصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن أصبعه وهو يقول: ما أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت
97

روى البيهقي في الدلائل. وابن عساكر " أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا تبعه أبو بكر فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا أبا بكر؟ فقال: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك واذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه فلما رأى ذلك أبو بكر حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى أتى
فمالغار فأنزله ثم قال: والذي بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخل فلم ير شيئا فحمله فأدخله وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاعي فخشي أبو بكر أن يخرج منهن شيء يؤدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقمه قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه وجعلت دموعه تتحدر وهو لا يرفع قدمه حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ". وفي رواية " أنه سد كل خرق في الغار بثوبه قطعه لذلك قطعا وبقي خرق سده بعقبه " رضي الله تعالى عنه * (فأنزل الله سكينته) * وهي الطمأنينة التي تسكن عندها القلوب * (عليه) * أي على النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ. وابن مردويه. والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للصاحب. وأخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت نحوه، وقيل: وهو الأظهر لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينزعج حتى يسكن ولا ينافيه تعين ضمير * (وأيده بجنود لم تروها) * له عليه الصلاة والسلام لعطفه على * (نصره الله) * لا على * (أنزل) * حتى تتفكك الضمائر على أنه إذا كان العطف عليه كما قيل به يجوز أن يكون الضمير للصاحب أيضا كما يدل عليه ما أخرجه ابن مردويه من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: " يا أبا بكر إن الله تعالى أنزل سكينته عليك وأيدك " الخ وأن أبيت فأي ضرر في التفكيك إذا كان الأمر ظاهرا.
واستظهر بعضهم الأول وادعى أنه المناسب للمقام، وإنزال السكينة لا يلزم أن يكون لدفع الانزعاج بل قد يكون لرفعته ونصره صلى الله عليه وسلم، والفاء للتعقيب الذكرى وفيه بعد، وفسرها بعضهم على ذلك الاحتمال بما لا يحوم حوله شائبة خوف أصلا، والمراد بالجنود الملائكة النازلون يوم بدر. والأحزاب. وحنين، وقيل: هم ملائكة أنزلهم الله تبارك وتعالى ليحرسوه في الغار. ويؤيده ما أخرجه أبو نعيم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى تنه " أن أبا بكر رأى رجلا يواجه الغار فقال: يا رسول الله إنه لرآنا قال: كلا إن الملائكة تستره الآن بأجنحتها فلم ينشب الرجل أنقعد يبول مستقبلهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر لو كان يرانا ما فعل هذا "، والظاهر أنهما على هذا كانا في الغار بحيث يمكن رؤيتهما عادة ممن هو خارج الغار، واعترض هذا القول بأنه يأباه وصف الجنود بعدم رؤية المخاطبين لهم إلا أن يقال: المراد من هذا الوصف مجرد تعظيم أمر الجنود، ومن جعل العطف على * (أنزل) * التزم القول المذكور لاقتضائه لظاهر حال الفاء أن يكون ذلك الإنزال متعقبا على ما قبله وذلك مما لا يتأتى على القول الأول في الجنود * (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) * أي كلمتهم التي اجتمعوا عليها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة حيث نجاه ربه سبحانه على رغم أنوفهم وحفظه من كيدهم مع أنهم لم يدعوا في القوس منزعا في إيصال الشر إليه، وجعلوا الدية لمن يقتله أو يأسره عليه الصلاة والسلام، وخرجوا في طلبه عليه الصلاة والسلام رجالا وركبانا فرجعوا صفر الأكف سود الوجوه، وصار له بعض
98

من كان عليه الصلاة والسلام. فقد أخرج ابن سعد. وأبو نعيم. والبيهقي كلاهما في الدلائل عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: " لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم. وأبو بكر التفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال: يا نبي الله هذا فارس قد لحق بنا فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اصرعه فصرع عن فرسه فقال: يا نبي الله مرني بما شئت قال: فقفت مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر النهار مسلحة " وكان هذا الفارس سراقة، وفي ذلك يقول لأبي جهل: أبا حكم والله لو كنت شاهدا * لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا * رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
وصح من حديث الشيخين وغيرهما " أن القوم طلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبا بكر، وقال أبو بكر: ولم يدركنا منهم إلا سراقة على فرس له فقلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فقال: * (لا تحزن إن الله معنا) * حتى إذا دنا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت قال: لم تبكي؟ قلت: أما والله ما أبكي عل نفسي ولكن أبكي عليك فدعا عليه عليه الصلاة والسلام وقال: اللهم أكفناه بما شئت فساخت فرسه إلى بطنها في أرض صلدة ووثب عنها وقال: يا محمد إن هذا عملك فادع الله تعالى أن ينجيني مما أنا فيه فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهما فانك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لي فيها ودعا له فانطاق ورجع إلى أصحابه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة " الحديث، ويجوز تفسير الكلمة بالشرك وهو الذي أخرجه ابن المنذر. وابن أبي حاتم. والبيهقي في الأسماء والصفات ن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فهي مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به، وفسرها بعضهم بدعوة الكفر فهي بمعنى الكلام مطلقا، وزعم شيخ الإسلام بأن الجعل المذكور على التفسيرين آب عن حمل الجنود على الملائكة الحارسين لأنه لا يتحقق بمجرد الانجاء بل بالقتل والأسر ونحو ذلك، وأنت تعلم أنه لا إباء على التفسير الذي ذكرناه نحن على أن كون الانجاء مبدأ للجعل بتفسيريه كاف في دفع الإباء بلا امتراء * (وكلمة الله هي العليا) * يحتمل أن يراد بها وعده سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم المشار إليه بقوله تعالى: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) * وإما كلمة التوحيد كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإما دعوة الاسلام كما قيل، ولا يخفى ما في تغيير الأسلوب من المبالغة لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت مع الإيذان بأن الجعل لم يتطرق لتلك الكلمة وأنها في نفسها عالية بخلاف علو غيرها فانه غير ذاتي بل بجعل وتكلف فهو عرض زائل وأمر غيرقار ولذلك وسط ضمير الفصل.
وقرأ يعقوب * (كلمة الله) * بالنصب عطفا على * (كلمة الذين) * وهو دون الرفع في البلاغة، وليس الكلام عليه كأعتق زيد غلام زيد كما لا يخفى * (والله عزيز) * لا يغالب في أمرهه * (حكيم) * لا قصور في تدبيره هذا. واستدل بالآية على فضل أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو لعمري مما يدع الرافضي في حجر ضب أو مهامه قفر فانها خرجت مخرج العتاب للمؤمنين ما عدا أبا بكر رضي الله تعالى عنه. فقد أخرج ابن
99

عساكر عن سفيان بن عيينة قال: عاتب الله سبحانه المسلمين جميعا في نبيه صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر وحده فانه خرج من المعاتبة ثم قرأ * (إلا تنصروه) *
الآية، بل أخرج الحكيم الترمذي عن الحسن قال: عاتب الله تعالى جميع أهل الأرض غير أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: * (إلا تنصروه) * الخ.
وأخرج ابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه بلفظ إن الله تعالى ذم الناس كلهم ومدح أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال: * (الا تنصروه) * الخ، وفيها النص على صحبته رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يثبت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام سواه، وكونه المراد من الصاحب مما وقع عليه الإجماع ككون المراد من العبد في قوله تعالى: * (سبحان الذي أسري بعبده) * (الإسراء: 1) رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا قالوا: إن إنكار صحبته كفر، مع ما تضمنته من تسلية النبي عليه الصلاة والسلام له بقوله: * (لا تحزن) * وتعليل ذلك بمعية الله سبحانه الخاصة المفادة بقوله: * (إن الله معنا) * ولم يثبت مثل ذلك في غيره بل لم يثبت نبي معية الله سبحانه له ولآخر من أصحابه وكأن في ذلك إشارة إلى أنه ليس فيهم كأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وفي انزال السكينة عليه بناء على عود الضمير إليه ما يفيد السكينة في أنه هو - هو - رضي الله تعالى عنه ولعن باغضيه، وكذا في انزالها على الرسول عليه الصلاة والسلام مع أن المنزعج صاحبه ما يرشد المنصف إلى أنهما كالشخص الواحد، وأظهر من ذلك إشارة ما ذكر إلى أن الحزن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهد لذلك ما مر في حديث الشيخين. وأنكر الرافضة دلالة الآية على شيء من الفضل في حق الصديق رضي الله تعالى عنه قالوا: إن الدال على الفضل إن كان * (ثاني اثنين) * فليس فيه أكثر من كون أبي بكر متما للعدد، وإن كان * (إذ هما في الغار) * فلا يدل على أكثر من اجتماع شخصين في مكان وكثيرا ما يجتمع فيه الصالح والطالح، وإن كان * (لصاحبه) * فالصحبة تكون بين المؤمن والكافر كما في قوله تعالى: * (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك) * (الكهف: 37) وقوله سبحانه: * (وما صاحبكم بمجنون) * (التكوير: 22) و * (يا صاحبي السجن) * (يوسف: 39) بل قد تكون بين من يعقل وغيره كقوله: إن الحمار مع الحمير مطية * وإذا خلوت به فبئس الصاحب
وإن كان * (لا تحزن) * فيقال: لا يخلو إما أن يكون الحزن طاعة أو معصية لا جائز أن يكون طاعة وإلا لما نهى عنه صلى الله عليه وسلم فتعين أن يكون معصية لمكان النهي وذلك مثبت خلاف مقصودكم على أن فيه من الدلالة على الجبن ما فيه، وإن كان * (إن الله معنا) * فيحتمل أن يكون المراد إثبات معية الله تعالى الخاصة له صلى الله عليه وسلم وحده لكن أتى - بنا - سد الباب الايحاش، ونظير ذلك الإتيان بأوفى قوله: * (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) * (سبأ: 24) وإن كان * (فأنزل الله سكينته عليه) * فالضمير فيه للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يلزم تفكيك الضمائر، وحينئذ يكون في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بالسكينة هنا مع عدم التخصيص في قوله سبحانه: * (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) * (الفتح: 26) إشارة إلى ضد ما ادعيتموه، وإن كان ما دلت عليه الآية من خروجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلمفي ذلك الوقت فهو عليه الصلاة والسلام لم يخرجه معه الا حذرا من كيده لو بقي مع المشركين بمكة، وفي كون المجهز لهم بشراء الإبل عليا كرم الله تعالى وجهه إشارة لذلك، وإن كان شيئا وراء ذلك فبينوه لنتكلم عليه انتهى كلامهم.
ولعمري انه أشبه شيء بهذيان المحموم أو عربدة السكران ولولا ان الله سبحانه حكى في كتابه الجليل عن اخوانهم اليهود والنصارى ما هو مثل ذلك ورده رحمة بضعفاء المؤمنين ما كنا نفتح في رده فما أو نجري
100

في ميدان تزييفه قلما لكنى لذلك أقول: لا يخفى أن * (ثاني اثنين) * وكذا * (إذ هما في الغار) * إنما يدلان بمعونة المقام على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ولا ندعي دلالتهما مطلقا ومعونة المقام أظهر من نار على علم ولا يكاد ينتطح كبشان في أن الرجل لا يكون ثانيا باختياره لآخر ولا معه في مكان إذا فر من عدو ما لم يكن معولا عليه متحققا صدقه لديه لا سيما وقد ترك الآخر لأجله أرضا حلت فيها قوابله وحلت عنه بها تمائمه وفارق أحبابه وجفا أترابه وامتطى غارب سبسب يضل به القطا وتقصر فيه الخطا. ومما يدل على فضل تلك الاثنينية قوله صلى الله عليه وسلم مسكنا جأش أبي بكر: " ما ظنك باثنين الله تعالى ثالهما "، والصحبة اللغوية وان لم تدل بنفسها على المدعي لكنها تدل عليه بمعونة المقام أيضا فاضافة صاحب إلى الضمير للعهد أي صاحبه الذي كان معه في وقت يجفو فيه الخليل خليله ورفيقه الذي فارق لمرافقته أهله وقبيله، وأن * (لا تحزن) * ليس الالمقصود منه حقيقة النهي عن الحزن فانه من الأمور التي لا تدخل تحت التكليف بل المقصود منه التسلية للصديق رضي الله تعالى عنه أو نحوها، وما ذكروه من الترديد يجري مثله في قوله تعالى خطابا لموسى. وهارون عليهما السلام: * (لا تخافا انني معكما) * (طه: 46) وكذا في قوله سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم: * (ولا يحزنك قولهم ان العزة لله جميعا) * (يونس: 65) إلى غير ذلك، أفترى ان الله سبحانه نهى عن طاعته؟ أو أن أحدا من أولئك المعصومين عليهم الصلاة والسلام ارتكب معصية سبحانك هذا بهتان عظيم، ولا ينافي كون الحزن من الأمور التي لا تدخل تحت التكليف بالنظر إلى نفسه انه قد يكون موردا للمدح والذم كالحزن على فوات طاعة فانه ممدوح والحزن على فوات معصية فانه مذموم لأن ذلك باعتبار آخر كما لا يخفى، وما ذكر في حيز العلاوة من أن فيه من الدلالة على الجبن ما فيه فيه من ارتكاب الباطل ما فيه فانا لا نسلم أن الخوف يدل على الجبن وإلا لزم جبن موسى وأخيه عليهما السلام فما ظنك بالحزن؟ وليس حزن الصديق رضي الله تعالى عنه بأعظم من الاختفاء بالغار، ولا يظن مسلم أنه كان عن جبن أو يتصف بالجبن أشجع الخلق على الإطلاق صلى الله عليه وسلم؟، ومن أنصف رأى أن تسليته عليه الصلاة والسلام لأبي بكر بقوله: * (لا تحزن) * كما سلاه ربه سبحانه بقوله: * (ولا يحزنك قولهم) * (يونس: 65) مشيرة إلى الصديق رضي الله تعالى عنه عنده عليه الصلاة والسلام بمنزلته عند ربه جل شأنه فهو حبيب حبيب الله تعالى بل لو قطع النظر عن وقوع مثل هذه التسلية من الله تعالى لنبيه النبيه صلى الله عليه وسلم كان نفس الخطاب بلا - تحزن - كافيا في الدلالة على أنه رضي الله تعالى عنه حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فكيف تكون محاورة الاحباء وهذا ظاهر إلا عند الاعداء. وما ذكر من ان المعية الخاصة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده والاتيان - بنا - لسد باب الايحاش من باب المكابرة الصرفة كما يدل عليه الخبر المار آنفا، على أنه إذا كان ذلك الحزن اشفاقا على رسول الله عليه الصلاة والسلام لا غير فأي
ايحاش في قوله لا تحزن على أن الله معي، وإن كان اشفاقا على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى نفسه رضي الله تعالى عنه لم يقع التعليل موقعه والجملة مسوقة له ولو سلمنا الإيحاش على الأول ووقوع التعليل موقعه على الثاني يكون ذلك الحزن دليلا واضحا على مدح الصديق، وإن كان على نفسه فقط كما يزعمه ذو النفس الخبيثة لم يكن للتعليل معنى أصلا، وأي معنى في لا تحزن على نفسك إن الله معي لا معك.
على أنه يقال للرافضي هل فهم الصديق رضي الله تعالى عنه من الآية ما فهمت من التخصيص وأن التعبير
101

* (بنا) * كان سدا لباب الإيحاش أم لا؟ فإن كان الأول يحصل الإيحاش ولا بد فنكون قد وقعنا فيما فررنا عنه، وإن كان الثاني فقد زعمت لنفسك رتبة لم تكن بالغها ولو زهقت روحك، ولو زعمت المساواة في فهم عبارات القرآن الجليل وإشاراته لمصاقع أولئك العرب المشاهدين للوحي ما سلم لك أو تموت فكيف يسلم لك الامتياز على الصديق وهو - هو - وقد فهم من اشارته صلى الله عليه وسلم في حديث التخيير ما خفي على سائر الصحابة حتي علي كرم الله تعالى وجهه فاستغربوا بكاءه رضي الله تعالى يومئذ، وما ذكر من التنظير في الآية مشير إلى التقية التي اتخذها الرافضة دينا وحرفوا لها الكلم عن مواضعها، وقد اسلفنا لك الكلام في ذلك على أتم وجه فتذكره، وما ذكر في أمر السكينة فجوابه يعلم مما ذكرناه، وكون التخصيص مشيرا إلى إخراج الصديق رضي الله تعالى عنه عن زمرة المؤمنين كما رمز إليه الكلب عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم - لو كان - ما خفي على أولئك المشاهدين للوحي الذين من جملتهم الأمير كرم الله تهالى وجهه فكيف مكنوه من الخلافة التي هي أخت النبوة عند الشيعة وهم الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم، وكون الصحابة قد اجتمعوا في ذلك على ضلالة، والأمير كان مستضعفا فيما بينهم أو مأمورا بالسكوت وغمد السيف إذ ذاك كما زعمه المخالف قد طوى بساط رده وعاد شذر مذر فلا حاجة إلى اتعاب القلم في تسويد وجه زاعمه، وما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرجه الا حذرا من كيده فيه أن الآية ليس فيها شائبة دلالة على إخراجه له أصلا فضلا عن كون ذلك حذرا من الكيد، على أن الحذر - لو كان - في معيته له عليه الصلاة والسلام وأن فرصة تكون مثل الفرصة التي حصلت حين جاء الطلب لباب الغار؟ فلو كان عند أبي بكر رضي الله تعتالى عنه وحاشاه أدنى ما يقال لقال: هلموا فههنا الغرض، ولا يقال: إنه خاف على نفسه أيضا لأنه يمكن أن يخلصها منهم بأمور ولا أقل من أن يقول لهم: خرجت لهذه المكيدة، وأيضا لو كان الصديق كما يزعم الزنديق فأي شيء منعه من أن يقول لابنه عبد الرحمن أو ابنته أسماء أو مولاه عامر بن فهيرة فقد كانوا يترددون إليه في الغار كما أخرج ابن مردويه عن عائشة فيخبر أحدهم الكفار بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أنه على هذا الزعم يجيء حديث التمكين وهو أقوى شاهد على أنه هو - هو - وأيضا إذا انفتح باب هذا الهذيان أمكن للناصبي أن يقول والعياذ بالله تعالى في علي كرم الله تعالى وجهه: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالبيتوتة على فراشه الشريف ليلة هاجر الا ليقتله المشركون ظنا منهم أنه النبي صلى الله عليه وسلم فيستريح منه، وليس هذا القول بأعجب ولا أبطل من قول الشيعي: إن إخراج الصديق إنما كان حذرا من شره فليتق الله سبحانه من فتح هذا الباب المستهجن عند ذوي الألباب، وزعم أن تجهيز الأمر كرم الله تعالى وجهه لهم بشراء الاباعر اشارة إلى ذلك لا يشير بوجه من الوجوه، على أن ذلك وإن ذكرناه فيما قبل إنما جاء في بعضالروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمعول عليه عند المحدثين غير ذلكد ولا بأس بايراده تكميلا للفائدة وتنويرا لفضل الصديق رضي الله تعالى عنه فنقول:
أخرج عبد الرزاق. وأحمد. وعبد بن حميد. والبخاري. وابن المنذر. وابن أبي حاتم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمرر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية ولما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك العمادلقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال ابن الدغنة: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدغنة: مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم
102

وتصل الرحم وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق فانا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلدك فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف ابن الدغنة في كفار قريش فقال: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقرى الضيف ويعين على نوائب الحق فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصل فيه ما شاء وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا ولا يستعلن باللاة والقراءة في غير داره ففعل ثم بدا لأبي بكر فابتني مسجدا بفناء دار فكان يصلي فيه ويقرأ فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك اشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنما أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وانه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن بالصلاة والقراءة وإنا خشينا أن يفتتن نساؤنا وأبناؤنا فان أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وأن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فأنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: يا أبا بكر قد علمت الذي عقدت لك عليه فاما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلى ذمتي فاني لا أحب أن تسمع العرب إني أخفرت في عقد رجل عقدت له فقال أبو بكر: فاني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يومئذ قال للمسلمين: قد أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما حرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة إلى أرض الحبشة من المسلمين وتجهز أبو بكر مهاجرا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك فانى أرجو أن يؤذن لي. فقال أبو بكر: وترجو ذلك بأبي أنت قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحبته وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر فبينما نحن جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر: فداه أبي وأمي إن جاء به في هذه الساعة إلا أمر فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلمفاستأذن من عندك؟ فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانه قد أذن لي بالخروج. فقال أبو بكر:
فالصحابة بأبي أنت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: بالثمن قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها فأوكت به الجراب فلذلك كانت تسمى ذات النطاق. ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل يقال له ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيخرج من عندهما سحرا فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حتى يختلظ الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى لأبي بكر منيحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب بغلس ساعة من الليل فيبيتان في رسلها حتى ينعق بها عامر بغلس يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الدئل من بني عبد بن عدي هاديا خريتا قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما
103

وواعداه غار ثور بعد ثلاث فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث ليال فأخذ بهم طريق أذاخر وهو طريق الساحل " الحديث بطوله، وفيه من الدلالة على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ما فيه، وهو نص في أن تجهيزهما كان في بيت أبي بكر وأن الراحلتين كانتا له، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لميقبل إحداهما إلا بالثمن يرد على الرافضي زعم نهمة الصديقة وحاشاها في الحديث.
هذا ومن أحاط خبرا بأطراف ما ذكرناه من الكلام في هذا المقام علم أن قوله: كان شيئا وراء ذلك فبينوه لنا حتى نتكلم عليه ناشىء عن محص الجهل أو العناد * (ومن يضلل الله فما له من هاد) * وبالجملة إن الشيعة قد اجتمعت كلمتهم على الكفر بدلالة الآية على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ويأبي الله تعالى إلا أن يكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا.
* (انفروا خفافا وثقالا وج‍اهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون) *.
* (إنفروا) * تجريد للأمر بالنفور بعد التوبيخ على تركه والإنكار على المساهلة فيه، وقوله سبحانه: * (خفافا وثقالا) * حالان من ضمير المخاطبين أيعلى كل حال من يسر أو عسر حاصلين بأي سبب كان من الصحة والمرض أو الغنى والفقر أو قلة العيال وكثرتهم أو الكبر والحداثة أو السمن والهزال أو غير ذلك مما ينتظم في مساعدة الأسباب وعدمها بعد الامكان والقدرة في الجملة. أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن أبي يزيد المديني قال: كان أبو أيوب الأنصاري. والمقداد بن الأسود يقولان: أمرنا أن ننفر على كل حال ويتأولان الآية. وأخرجا عن مجاهد قال: قالوا إن فينا الثقيل وذا الحاجة. والصنعة، والشغل. والمنتشر به أمره فأنزل الله تعالى: * (انفروا خفافا وثقالا) * وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافا وثقالا وعلى ما كان منهم، فما روي في تفسيرهما من قولهم: خفافا من السلاح وثقالا منه أو ركبانا ومشاة أو شبانا وشيوخا أو أصحاء ومراضا إلى غير ذلك ليس تخصيصا للأمرين المتقابلين بالإرادة من غير مقارنة للباقي. وعن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعلى أن أنفر؟ قال: نعم. حتى نزل: * (ليس على الأعمى حرج) * (النور: 61) وأخرج ابن أبي حاتم. وغيره عن السدى قال: لما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله تعالى فقال: * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) * (التوبة: 91) الآية. وقيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * (التوبة: 122) وهو خلاف الظاهر، ويفهم من بعض الروايات أن لا نسخ فقد أخرج ابن جرير. والطبراني. والحاكم وصححه عن أبي راشد قال: رأيت المقداد فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص يريد الغزو فقلت: لقد أعذر الله تعالى إليك قال: أبت علينا سورة البحوث يعني هذه الآية منها.
* (وج‍اهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) * أي بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما والجهاد بالمال انفاقه على السلاح وتزويد الغزاة ونحو ذلك * (ذالكم) * أي ما ذكر من النفير والجهاد، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة * (خير) * عظيم في نفسه * (لكم) * في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، ويجوز أن يكون المراد خير لكم مما يبتغي بتركه من الراحة. والدعة. وسعة العيش. والتمتع بالأموال والأولد. * (إن كنتم تعلمون) * أي إن كنتم تعلمون الخير علمتم أنه خير أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ لا احتمال لغير الصدق في أخباره تعالى فبادروا إليه، فجواب إن مقدر. وعلم اما متعدية لواحد بمعنى عرف تقليلا للتقدير أو متعدية لاثنين على بابها هذا.
104

ومن باب الإشارة في الآيات أن قوله سبحانه * (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إد أعجبتكم كثرتكم) * (التوبة: 25) الخ اشارة إلى أنه لا ينبغي للعبد أن يحتجب بشيء عن مشاهدة الله تعالى والتوكل عليه ومن احتجب بشيء وكل إليه، ومن هنا قالوا: استجلاب النصر في الذلة والافتقار والعجز، ولما رأى سبحانه ندم القوم على عجبهم بكثرتهم ردهم إلى ساحة جوده وألبسهم أنوار قربه وأمدهم بجنوده وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) * (التوبة: 26) الآية، وكانت سكينته عليه الصلاة والسلام - كما قال بعض العارفين - من مشاهدة الذات وسكينة المؤمنين من معاينة الصفات، ولهم في تعريف السكينة عبارات كثيرة متقاربة المعنى فقيل: هي استحكام القلب عند جريان حكم الرب بنعت الطمأنينة بخمود آثار البشرية بالكلية والرضا بالبادي من الغيب من غير معارضة واختيار، وقيل: هي القرار على بساط الشهود وبشواهد الصحو والتأدب بإقامة صفاء العبودية من غير لحوق مشقة ولا تحرك عرق بمعارضة حكمد وقيل: هي المقام مع الله تعالى بفناء الحظوظ. والحنود روادف آثار قوة تجلي الحق سبحانه، ويقال: هي وفود اليقين وزوائد الاستبصار.
والإشارة في قوله تعالى: * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) الخ إلى أن من تدنس بالميل إلى السوى وأشرك بعبادة الهوى لا يصلح للحضرة وهل يصلح لبساط القدس الا المقدس. وذكر أبو صالح حمدون أن المشرك في عمله من يحسن ظاهره لملاقاة الناس ومخالطتهم ويظهر للخلق أحسن ما عنده وينظر إلى نفسه بعين
الرضا عنها وينجس باطنه بنحو الرياء. والسمعة. والعجب. والحقد. ونحو ذلك فالحرم الإلهي حرام على هذا وهيهات هيهات أن يلج الملكوت أو لج الجمل في سم الخياط، وقال بعض العارفين: من فقد طهارة الإسراء بماء التوحيد وبقي في قاذورات الظنون والأوهام فذلك هو المشرك وهو ممنوع عن قربان المساجد التي هي مشاهد القرب. وفي الآية إشارة إلى منع الاختلاط مع المشركين، وقاس الصوفية أهل الدنيا بهم، ومن هنا قال الجنيد: الصوفية أهل غيب لا يدخل فيهم غيرهم. وقال بعضهم: من بقي في قلبه نظر إلى غير خالقه لا يجوز أن يدنو إلى مجالس الأولياء غير مستشف بهم فإن صحبته تشوش خواطرهم وينجس بنفسه أنفاسهم، وصحبة المنكر على أولياء الله تعالى تورث فتقا يصعب على الخياط رتقه وتؤثر خرقا يعيي الواعظ رقعه، ومن الغريب ما يحكى أن الجنيد قدس سره جلس يوما مع خاصة أصحابه وقد أغلق باب المجلس حذرا من الاغيار وشرعوا يذكرون الله تعالى فلم يتم لهم الحضور ولافتح لهم باب التجلي الذي يعهدونه عند الذكر فتعجبوا من ذلك فقال الجنيد. هل معكم منكر حرمنا بسببه؟ فقالوا: لا. ثم اجتهدوا في معرفة المانع فلم يجدوا الا نعلا لمنكر فقال الجنيد: من هنا أوتينا، فانظر يرحمك الله تعالى إذا كان هذا حال نعل المنكر فما ظنك به إذا حضر بلحيته؟
ثم إنه سبحانه ذم أهل الكتابين بالاحتجاب عن رؤية الحق سبحانه حيث قال جل شأنه: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * (التوبة: 31) وفيه إشارة إلى ذم التقليد الصرف وذم البخلاء بقوله سبحانه: * (والذين يكنزون الذهب والفضة) * (التوبة: 34) الآية، ولعمري انهم أحقاء بالذم، وقد قال بعضهم: من بخل بالقليل من ملكه فقد سد على نفسه باب نجاته وفتح عليها طريق هلاكه.
ولا يخفى أن جمع المال وكنزه وعدم الإنفاق لا يكون الا لاستحكام رذيلة الشح وكل رذيلة كية يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا. ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال كان هو الذي يحمى عليه في نار جهنم الطبيعة وهاوية الهوى فيكوى صاحبه به، وخصت هذه الأعضاى لأن
105

الشح مركوز في النفس تغلب القلب من هذه الجهات لا من جهة العلو التي هي جهة استيلاء الروح وممد الحقائق والأنوار ولا من جهة السفلى التيهي جهة الطبيعة الجسمانية لعدم تمكن الطبيعة من ذلك فبقيت سائر الجهات فيؤذى بذلك من الجهات الأربع ويعذب، وهذا كما تراه يعاب في الدنيا ويخزي من هذه الجهات فيواجه بالذم جهرا فيفضح أو يسار في جنبه أو يغتاب من وراء ظهره قاله بعض العارفين. ولهم في قوله سبحانه: * (إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا) * (التوبة: 36) تأويل بعيد يطلب من محله، وقوله سبحانه: * (ألا تنصروه) * الخ عتاب للمتثاقلين أو لأهل الأرض كافة وارشاد إلى أنه عليه الصلاة والسلام مستغن بنصرة الله عن نصرة المخلوقين. وفيه إشارة إلى رتبة الصديق رضي الله تعالى عنه فقد انفرد برسول الله صلى الله عليه وسلم انفراده عليه الصلاة والسلام بربه سبحانه في مقام قاب قوسين، ومعنى * (إن الله معنا) * (التوبة: 40) على ما قال ابن عطاء إنه معنا في الازل حيث وصل بيننا بوصلة الصحبة وأثر هذه المعية قد ظهر في الدنيا والآخرة فلم يفارقه حيا ولا ميتا، وقيل: معنا بظهور عنايته ومشاهدته وقربه الذي لا يكيف، ولله تعالى در من قال: يا طالب الله في العرش الرفيع به * لا تطلب العرش أن المجد للغار
ولا يخفى ما بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: * (إن الله معنا) * وقول موسى عليه السلام: * (إن معي ربي) * من الفرق الظاهر لأرباب الأذواق حيثقدم نبينا صلى الله عليه وسلم اسمه تعالى عليه وعكس موسى عليه السلام، وأتى صلى الله عليه وسلم بالاسم الجامع وأتى الكليم باسم الرب، وأتى عليه الصلاة والسلام - بنا - في * (معنا) * وأتى موسى عليه السلام بياء المتكلم لأن نبينا صلى الله عليه وسلم على خلق لم يكن عليه موسى عليه الصلاة والسلام. والضمير في قوله تعالى: * (فأنزل الله سكينته عليه) * (التوبة: 40) إن كان للصاحب فالأمر ظاهر وإن كان للنبي عليه الصلاة والسلام فيقال: في ذلك إشارة إلى مقام الفناء في الشيخ إذ ذاك. وقال بعض الأكابر: أنزلت السكينة عليه عليه الصلاة والسلام لتسكين قلب الصديق رضي الله تعالى عنه وإذهاب الحزن عنه بطريق الانعكاس والإشراق ولو أنزلت على الصديق بغير واسطة لذاب لها ولعظمها فكأنه قيل: أنزل سكينة صاحبه عليه. * (انفروا خفافا وثقالا) * أي انفروا إلى طاعة مولاكم خفافا بالأرواح ثقالا بالقلوب، أو خفافا بالقلوب وثقالا بالأجسام بأن يطيعوه بالأعمال القلبية والقالبية، أو خفافا بأنوار المودة وثقالا بأمانات المعرفة، أو خفافا بالبسط وثقالا بالقبض، وقيل: خفافا بالطاعة وثقالا عن المخالفة. وقيل غير ذلك * (وجاهدوا بأموالكم) * بأن تنفقوها للفقراء * (وأنفسكم) * بأن تجودوا بها لله تعالى * (ذلكم خير لكم) * في الدارين * (إن كنتم تعلمون) * (التوبة: 41) ذلك والله تعالى الموفق للرشاد.
* (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ول‍اكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لك‍اذبون) *.
* (لو كان) * أي ما دعوا إليه كما يدل عليه ما تقدم * (عرضا قريبا) * أي غنما سهل المأخذ قريب المنال، وأصل العرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومتاعها. وفي الحديث " الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر " * (وسفرا قاصدا) * أي متوسطا بين القرب والبعد وهو من باب تامر ولابن * (لاتبعوك) * أي لوافقوك في النفير طمعا في الفوز بالغنيمة، وهذا شروع في تعيدي ما صدر عنهم من الهنات قولا وفعلا وبيان قصور همهم وما هم عليه من غير ذلك، وقيل: هو تقرير لكونهم متثاقلين مائلين إلى الإقامة بأرضهم، وتعليق الاتباع بكلا الأمرين يدل على عدم تحققه عند توسط السفر فقط
106

* (ول‍اكن بعدت عليهم الشقة) * أي المسافة التي تقطع بمشقة. وقرأ عيسى بن عمر * (بعدت) * بكسر العين * (والشقة) * بكسر الشين، وبعد يبعد كعلم يعلم لغة واختص ببعد الموت غالبا، وجاء لا تبعد للتفجع والتحسر في المصائب كما قال: لا يبعد الله إخوانا لنا ذهبوا * أفناهم حدثان الدهر والأبد
* (وسيحلفون) * أي المتهلفون عن الغزو * (بالله) * متعلق بسيحلفون، وجوز أن يكون من جمة كلامهم ولا بد من تقدير القول في الوجهين أي سيحلفون عند رجوعك من غزوة تبوك بالله قائلين * (لو استطعنا) * أو سيحلفون قائلين بالله لو استطعنا الخ، وقيل: لا حاجة إلى تقدير القول لأن الحلف من جنس القول وهو أحد
المذهبين المشهورين، والمعنى لو كان لنا استطاعة من جهة العدة أو من جهة الصحة أو من جهتيهما معا حسبما عن لهم من التعلل والكذب * (لخرجنا معكم) * لما دعوتمونا إليه وهذا جواب القسم وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم وهو اختيار ابن عصفور، واختار ابن مالك أنه جواب * (لو) * ولو وجوابها جواب القسم، وقيل: إنه ساد مسد جوابي القسم والشرط جميعا، والقسم على الاحتمال الأول ظاهر وأما على الثاني فلأن * (لو استطعنا) * في قوة بالله لو استطعنا لأنه بيان لسيحلفون بالله وتصديق له كما قيل.
واعترض القول الأخير بأنه لم يذهب إليه أحد من أهل العربية. وأجيب بأن مراد القائل أنه لما حذف جواب * (لو) * دل عليه جواب القسم جعل كأنه ساد مسد الجوابين. وقرأ الحسن. والأعمش * (لو استطعنا) * بضم الواو تشبيها لها بواو الجمع كما في قوله تعالى: * (فتمنوا الموت) * و * (اشتروا الضلالة) * وقرىء بالفتح أيضا * (يهلكون أنفسهم) * بايقاعها في العذاب، قيل: وهو بدل من * (سيحلفون) * واعترض بأن الهلاك ليس مرادفا للحلف ولا هو نوع منه، ولا يجوز أن يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفا له أو نوعا منه. وأجيب بأن الحلف الكاذب إهلاك للنفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع " وحاصله أنهما ترادفان ادعاء فيكون بدل كل من كل، وقيل إنه بدل اشتمال إذ الحلف سبب للاهلاك والمسبب يبدل من السبب لاشتماله عليه، وجوز أن يكون حالا من فاعله أن سيحلفون مهلكين أنفسهم، وأن يكون حالا من فاعل * (لخرجنا) * جيء به على طريقة الأخبار عنهم كأنه قيل: نهلك أنفسنا أي لخرجنا مهلكين أنفسنا كما في قولك: حلف ليفعلن مكان لأفعلن ولكن فيه بعد. وجوز أبو البقاء الاستئناف * (والله يعلم إنهم لكاذبون) * في مضمون الشرطية وفيما ادعوا ضمنا من انتفاء تحقق المقدم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا.
واستدل بالآية على أن القدرة قبل الفعل.
* (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الك‍اذبين) *.
* (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * أي لأي سبب أذنت لهؤلاء الحالفين المتخلفين في التخلف حين استأذنوا فيه معتذرين بعدم الاستطاعة، وهذا عتاب لطيف من اللطيف الخبير سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم على ترك الأولى وهو التوقف عن الاذن إلى انجلاء الأمر وانكشاف الحال المشار إليه بقوله سبحانه: * (حتى يتبين لك الذين صدقوا) * أي فيما أخبروا به عند الاعتذار من عدم الاستطاعة * (وتعلم الكاذبين) * أي في ذلك. فحق سواء كانت بمعنى اللام أو إلى متعلقة بما يدل عليه * (لم أذنت لهم) * كؤنه قيل: لم سارعت إلى الاذن لهم ولم تتوقف حتى ينجلي الأمر كما هو قضية الحزم اللائق بشأنك الرفيع يا سيد أولي العزم.
ولا يجوز أن تتعلق بالمذكور نفسه مطلقا لاستلزامه أن يكون أذنه عليه الصلاة والسلام لهم معللا أو مغيا بالتبين
107

والعلم ويكون توجه الاستفهام إليه من تلك الحيثية وهو بين الفساد، وكلتا اللامين متعلقة بالاذن وهما مختلفتان معنى فإن الأولى للتعليل والثانية للتبليغ والضمير المجرور لجميع من أشير إليه.
وتوجيه الإنكار إلى الاذن باعتبار شموله للكل لا باعتبار تعلقه بكل فرد فرد لتحقق عدم استطاعة البعض على ما ينبىء عنه ما في حيز * (حتى) * والتعبير عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام للايدان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين وأن ما صدر من الآخرين وإن كان كذبا جادثا متعلقا بأمر خاص لكنه جار على عادتهم المستمرة ناشىء عن رسوخهم في الكذب، والتعبير عن ظهور الصدق بالتبين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما اشتهر من أن مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي وإسناد علم له صلى الله عليه وسلم دون المعلومين بأن يبنى الفعل للمفعول مع إسناد التبين للأولين لما أن المقصود ههنا علمه عليه الصلاة والسلام بهم ومؤاخذتهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذة عليهم؛ وإسناد التبين إليهم وتعليف العلم بالآخرين من أن مدار الإسناد والتعلق أولا وبالذات هو وصف الصدق والكذب كما أشير إليه لما أن القصد هو العلم بكلا الفريقين باعتبار اتصافهما بوفيهما المذكورين ومعاملتهما بحسب استحقاقهما لا العلم بالوصفين بذاتيهما أو باعتبار قيامهما بموصوفيهما قاله شيخ الإسلام ولا يخفى حسنه. وفي تصدير الخطاب بما صدر به تعظيم لقدر النبي صلى الله عليه وسلم وتوقير له وتوفير لحرمته عليه الصلاة والسلام، وكثيرا ما يصدر الخطاب بنحو ما ذكر لتعظيم المخاطب فيقال: عفا الله تعالى عنك ما صنعت في أمرى؟ ورضي الله سبحانه عنك ما جوابك عن كلامي؟ والغرض التعظيم، ومن ذلك قول علي بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه: عفا الله عنك ألا حرمة * تجود بفضلك يا ابن العلا
ألم تر عبدا عدا طوره * ومولى عفا ورشدا هدى
أقلني أقالك من لم يزل * يقيك ويصرف عنك الردي
ومما ينظم في هذا السلك ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: " لقد عجبت من يوسف عليه السلام وكرمه وصبره والله تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني ". وأخرج ابن المنذر. وغيره عن عون بن عبد الله قال: سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا بدأ بالعفو قبل المعاتبة. وقال السجاوندي: إن فيه تعليم تعظيم النبي صلوات الله سبحانه عليه وسلامه ولولا تصدير العفو في العتاب لما قام بصولة الخطاب. وعن سفيان بن عيينة أنه قال: انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو. ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب صاحب الكشاف كشف الله تعالى عنه ستره ولا أذن له ليذكر عذره حيث زعم أن الكلام كناية عن الجناية وأن معناه أخطأت وبئسما فعلت. وفي الانتصاف ليس له أن يفسر هذه الآية بهذا التفسير وهو بين أحد الأمرين إما أن لا يكون هو المراد أو يكون ولكن قد أجل الله تعالى نبيه الكريم عن مخاطبته بذلك ولطف به في الكناية عنه أفلا يتأدب بآداب الله خصوصا في حق المصطفى صلى الله عليه
وسلم، فعلى التقديرين هو ذاهل عما يجب من حقه عليه الصلاة والسلام.
ويا سبحان الله من أين أخذ عامله الله تعالى بعد له ما عبر عنه ببئسما، والعفو لو سلم مستلزم للخطأ فهو
108

غير مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء ويسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة بئسما المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها، واعتذر عنه صاحب الكشف حيث قال: أراد أن الأصل ذلك وأبدل بالعفو تعظيما لشأنه صلى الله عليه وسلم وتنبيها على لطف مكانه ولذلك قدم العفو على ذكر ما يوجب الجناية، وليس تفسيره هذا بناءا على أن العدول إلى عفا الله لا للتعظيم حتى يخطأ.
وأما المستعمل لمجرد التعظيم فهو إذا كان دعاء لا خبرا، على أن الدعاء قد يستعمل للتعريض بالاستقصاء كقوله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله تعالى أخي لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد " وتحقيقه أنه لا يخلو عن حقارة بشأن المخاطب أو الغائب حسب اختلاف الصيغة، وأما التعظيم أو التعريض فقد وقد انتهى، ولا يخفى ما فيه فهو اعتذار غير مقبول عند ذوي العقول، وكم لهذه السقطة في الكشاف نظائر، ولذلك امتنع من إقرائه بعض الأكابر كالإمام السبكي عليه الرحمة، وليت العلامة البيضاوي لم يتابعه في شيء من ذلك، هذا واستدل بالآية من زعم صدور الذنب منه عليه الصلاة والسلام، وذلك من وجهين:
الأول: أن العفو يستدعي سابقة الذنب. الثاني: أن الاستفهام الانكاري بقوله سبحانه: * (لم أذنت) * يدل على أن ذلك الاذن كان معصية، والمحققون على أنها خارجة مخرج العتاب كما علمت على ترك الأولى والأكمل قالوا: لا يخفى أنه لم يكن كما في خروجهم مصلحة للدين أو منفعة للمسلمين بل كان فيه فساد وخبال حسبما نطق به قوله تعالى: * (لو خرجوا) * الخ، وقد كرهه سبحانه وتعالى كما يفصح عنه قوله جل وعلا: * (ولكن كره الله انبعاثهم) * الآية، نعم كان الأولى تأخير الاذن حتى يظهر كذبهم ويفتضحوا على رؤوس الأشهاد، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم بأنهم غروه صلى الله عليه وسلم وأرضوه بالأكاذيب على أنهم لم يهنأ لهم عيش ولا قرت لهم عين إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان.
ومن الناس من ضعف الاستدلال بالآية على ما ذكر بأنا لو نسلم أن * (عفا الله) * يستدعي سابقة الذنب والسند ما أشرنا إليه فيما مر سلمنا لكن لا تسلم أن قوله سبحانه: * (لم أذنت لهم) * مقول على سبيل الإنكار عليه عليه الصلاة والسلام لأنه لا يخلو إما أن يكون صدر منه صلى الله عليه وسلم ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر وعلى التقديرين يمتنع أن يكون ما ذكر إنكارا، أما على الأول فلأنه إذا لم يصدر عنه ذنب فكيف يتأتى الإنكار عليه، وأما على الثاني فلأن صدر الآية يدل على حصول العفو وبعد حصوله يستحيل توجه الإنكار فافهم.
واستدل بها جمع على أن له صلى الله عليه وسلم اجتهادا وأنه قد يناله منه أجر واحد والوجه فيه ظاهر، وما فعله صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة أحد أمرين فعلهما ولم يؤمر بفعلهما كما أخرج ابن جرير. وغيره عن عمرو بن ميمون، ثانيهما أخذه صلى الله عليه وسلم الفداء من الاسارى وقد تقدم. وادعى بعضهم الحصر في هذين الأمرين، واعترض بأنه غير صحيح فإن لهما ثالثا وهو المذكور في سورة التحريم وغير ذلك كالمذكور في سورة عبس، وأجيب بأنه يمكن تقييد الأمرين بما يتعلق بأمر الجهاد والله تعالى ولي الرشاد.
* (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الاخر أن يج‍اهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين) *.
* (لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر) * تنبيه على أنه ينبغي أن يستدل عليه الصلاة والسلام باستئذانهم على حالهم ولا يأذن لهم أي ليس من شأن المؤمنين وعادتهم أن يستأذنوك في * (أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم) *
109

فإن الخلص منهم يبادرون إليه من غير توقف على الاذن فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف عنه، أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعا طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه " ونفى العادة مستفاد من نفي الفعل المستقبل الدال على الاستمرار نحو فلان يقرى الضيف ويحمى الحريم، فالكلام محمول على نفي الاستمرار، ولو حمل على استمرار النفي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فيكون المعنى عادتهم عدم الاستئذان لم يبعد، ومثل هذا قول الحماسي: لا يسألون أخاهم حين يندبهم * في النائبات على ما قال برهانا
قيل: وهذا الأدب يجب أنيقتفي مطلقا فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي إليه معروفا ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما فإن الاستئذان في مثل هذه المواطن أمارة التكلف والتكره، ولقد بلغ من كرم الخليل صلوات الله تعالى وسلامه عليه وأدبه مع ضيوفه أنه لا يتعاطى شيئا من أسباب التهيىء للضيافة بمرأى منهم فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة فقال سبحانه: * (فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين) * (الذريات: 26) أي ذهب على خفاء منهم كيلا يشعروا به، وجوز أن يكون متعلق الاستئذان محذوفا و * (أن يجاهدوا) * بتقدير كراهة أن يجاهدوا، والمحذوف فيل: التخلف عليه، والمعنى لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد، والنفي متوجه للاستئذان والكراهة معا، وقال بعض: إنه متوجه إلى القيد وبه ويمتاز المؤمن من المنافق وهو وإن كان في نفسه أمرا خفيا لا يوقف عليه بادىء الأمر لكن عامة أحوالهم لما كانت منبئة عن ذلك جعل أمرا ظاهرا مقررا.
وقيل: الجهاد أي لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد كراهة أن يجاهدوا، وتعقب بأنه مبني على أن الاستئذان في الجهاد بما يكون لكراهة، ولا يخفى أن الاستئذان في الشيء لكراهته مما لا يقع بل لا يعقل، ولو سلم وقوعه فالاستئذان لعلة الكراهة مما لا يمتاز بحسب الظاهر من الاستئذان لعلة الرغبة، لو سلم فالذي نفى عن المؤمنين يجب أن يثبت للمنافقين وظاهر أنهم لم يستأذنوا في الجهاد لكراهتهم له بل إنما استأذنوا في التخلف فتدبر * (والله عليم بالمتقين) * شهادة لهم بالتقوى لوضع المظهر فيه
موضع المضمر أو إرادة جنس المتقين ودخولهم فيه دخولا أوليا وعدة لهم بالثواب الجزيل، فإن قولنا: أحسنت إلى فانا أعلم بالمحسن وعد بأجزل الثواب وأسأت إلى فانا أعلم بالمسيء وعيد باشد العقاب، قيل: وفي ذلك تقرير لمضمون ما سبق كأنه قيل: والله عليم بأنهم كذلك وإشعار بأن ما صدر عنهم معلل بالتقوى.
* (إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الاخر وارتابت قلوبهم فهم فى ريبهم يترددون) *.
* (إنما يستأذنك) * أي في التخلف * (الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر) * تخصيص الإيمان بهما في الموضعين للايذان بأن الباعث على الجهاد والمانع عنه الإيمان بهما وعدم الإيمان بهما فمن آمن بهما قاتل في سبيل دينه وتوحيده وهان عليه القتل فيه لما يرجوه في اليوم الآخر من النعيم المقيم ومن لم يؤمن بمعزل عن ذلك، على أن الإيمان بهما مستلزم للإيمان بسائر ما يجب الإيمان به * (وارتابت قلوبهم) * عطف على الصلة، وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الريب وتقرره * (فهم في ريبهم) * وشكهم المستمر في قلوبهم * (يترددون) * أي يتحيرون، وأصل معنى التردد الذهاب والمجيء وأريد به هنا التحير مجازا أو كناية لأن المتحير لا يقر في مكان. والآية نزلت كما
110

روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في المنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر وكانوا على ما في بعض الروايات تسعة وثلاثين رجلا. وأخرج أبو عبيد. وابن المنذر. وغيرهما عنه أن قوله تعالى: * (لا يستأذنك) * الخ نسخته الآية التي في النور * (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله) * إلى * (إن الله غفور رحيم) * فجعل الله النبي صلى الله عليه وسلم باعلى النظرين في ذلك من غزا غزا في فضيلة ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء.
* (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ول‍اكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع الق‍اعدين) *.
* (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) * أي أهبة من الزاد والراحلة وسائر ما يحتاج إليه المسافر في السفر الذي يريده.
وقرىء * (عده) * بضم العين وتشديد الدال والإضافة إلى ضمير الخروج، قال ابن جنى: سمع محمد بن عبد الملك يقرأ بها، وخرجت على أن الأصل عدته إلا أن التاء سقطت كما في إقام الصلاة وهو سماعي وإلى هذا ذهب الفراء، والضمير على ما صرح به غير واحد عوض عن التاء المحذوفة، قيل: ولا تحذف بغير عوض وقد فعلوا مثل ذلك في عدة بالتخفيف بمعنى الوعد كما في قول زهير: إن الخليط أجدوا البين فانجردوا * وأخلفوك عدى الأمر الذي وعدوا
وقرىء * (عده) * بكسر العين بإضافة وغيرها * (ول‍اكن كره الله انبعاثهم) * أي خروجهم كما روي عن الضحاك أو نهوضهم للخروج كما قال غير واحد * (فثبطهم) * أي حبسهم وعوقهم عن ذلك: والاستدراك قيل عما يفهم من مقدم الشرطية فإن انتفاء إرادة الخروج يستلزم انتفاء خروجهم وكراهة الله تعالى انبعاثهم يستلزم تثبطهم عن الخروج فكأنه قيل: ما خرجوا لكن تثبطوا عن الخروج، فهو استدراك نفي الشيء بإثبات ضده كما يستدرك نفي الاحسان بإثبات الإساءة في قولك: ما أحسن إلى لكن أساء، والاتفاق في المعنى لا يمنع الوقوع بين طرفي لكن بعد تحقق الاختلاف نفيا وإثباتا في اللفظ، وبحث فيه بعضهم بأن * (لكن) * تقع بين ضدين أو نقيضين أو مختلفين على قول وقعت فيما نحن فيه بين متفقين على هذا التقرير فالظاهر أنها للتأكيد كما أثبتوا مجيئها لذلك وفيه نظر: واستظهر بعض المحققين كون الاستدراك من نفس المقدم على نهج ما في الأقيسة الاستثنائية، والمعنى لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن ما أرادوه لما أنه تعالى كره انبعاثهم من المفاسد فحبسهم بالجبن والكسل فتثبطوا عنه ولم يستعدوا له.
* (وقيل اقعدوا مع الق‍اعدين) * تمثيل لخلق الله تعالى داعية القعود فيهم والقائه سبحانه كراهة الخروج في قلوبهم بالأمر بالقعود أو تمثيل لوسوسة الشيطان بذلك فليس هناك قول حقيقة، ونظير ذلك قوله سبحانه: * (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) * أي أماتهم، ويجوز أن يكون حكاية قول بعضهم لبعض أو أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في العقود فالقول على حقيقته، والمراد بالقاعدين الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت كالنساء والصبيان والزمنى أو الرجال الذين يكون لهم عذر يمنعهم عن الخروج، وفيه على بعض الاحتمالات من الذم ما لا يخفى فتدبر.
* (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولاوضعوا خل‍الكم يبغونكم الفتنة وفيكم سم‍اعون لهم والله عليم بالظ‍المين) *.
* (لو خرجوا فيكم) * بيان لكراهة الله تعالى انبعاثهم أي لو خرجوا مخالطين لكم * (ما زادوكم) * شيئا من الأشياء * (إلا خبالا) * أي شرا وفسادا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عجزا وجبنا. وعن الضحاك غدرا ومكرا، وأصل الخبال كما قال الخازن: اضطراب ومرض يؤثر في العقل كالجنون، وفي مجمع البيان أنه الاضطراب في الرأي، والاستثناء مفرغ متصل والمستثنى منه ما علمت
111

ولا يستلزم أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء. وقال بعضهم: توهما منه لزوم ما ذكر هو مفرغ منقطع والتقدير ما زادوكم قوة وخيرا لكن شرا وخبالا،
واعترض بأن المنقطع لا يكون مفرغا وفيه بحث لأنه مانه منه إذا دلت القرينة عليه كما إذا قيل: ما أنيسك في البادية فقلت: ما لي بها إلا اليعافير أي ما لي بها أنيس إلا ذلك، وأنت تعلم أن في وجود القرينة ههنا مقالا.
وقال أبو حيان: إنه كان في تلك الغزوة منافقون لهم خبال فلو خرج هؤلاء أيضا واجتمعوا بهم زاد الخبال فلا فساد في ذلك الاستلزام لو ترب * (ولأوضعوا خلالكم) * الايضاع سير الابل يقال: أوضعت الناقة تضع إذا أسرعت وأوضعتها أنا إذا حملتها على الإسراع، والخلال جمع خلل وهو الفرجة استعمل ظرفا بمعنى بين ومفعول الإيضاع مقدر أي النمائم بقرينة السياق، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبهت النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها وأثبت لها الأيضاع على سبيل التخييل، والمعنى ولسعوا بينكم بالنميمة وإفساد ذات البين. وقال العلامة الطيبي: فيه استعارة تبعية حيثي شبه سرعة افسادهم ذات البين بالنمائم بسرعة سير الراكب ثم استعير لها الإيضاع
وهو للابل والأصل ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم ثم حذف النمائم وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل لأوضعوا اركائبهم ثم حذفت الركائب. ومنع الأخفش في كتاب الغايات أن يقال: أوضعت الركائب ووضع البعير بمعنى أسرع وإنما يستعمل ذلك بدون قيد، وجوز ذلك غيره واستدل له بقوله: فلم أر سعدى بعد يوم لقيتها * غداة بها أجمالها صاح توضع
وقرىء * (ولأرقصوا) * من رقصت الناقة إذا أسرعت وأرقصتها ومنه قوله: يا عام لو قدرت عليك رماحنا * والراقصات إلى منى فالغبغب
وقرىء * (لأوفضوا) * والمراد لأسرعوا أيضا يقال: أوفض واستوفض إذا استعجل وأسرع والوفض العجلة، وكتب قوله تعالى: * (لأوضعوا) * في الامام بألفين الثانية منهما هي فتحة الهمزة والفتحة ترسم لها ألف كما ذكره الداني، وفي الكشاف كانت الفتحة تكتب ألفا قبل الخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحتها ألفا أخرى ومثل ذلك * (أو لأذبحنه) * (النمل: 21) * (يبغونكم الفتنة) * أي يطلبون أن يفتنوكم بايقاع الخلاف فيما بينكم وتهويل أمر العدو عليكم وإلقاء الرعب في قلوبكم وهذا هو المروى عن الضحاك. وعن الحسن أن الفتنة بمعنى الشرك أي يريدون أن تكونوا مشركين، والجملة في موضع الحال من ضمير أوضعوا أي باغين لكم الفتنة، ويجوز أن تكون استئنافا * (وفيكم سم‍اعون لهم) * أي نمامون يسمعون حديثكم لأجل نقله إليهم كما روي عن مجاهد. وابن زيد أو فيكم أناس من المسلمين ضعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم كما روي عن قتادة. وابن اسحق. وجماعة.
واللام على التفسير الأول للتعليل وعلى الثاني للتقوية كما في قوله تعالى: * (فعال لما يريد) * (البروج: 16)، والجملة حال من مفعول * (يبغونكم) * أو من فاعله لاشتمالها على ضميرهما أو مستأنفة.
قال بعض المحققين: ولعل هؤلاء لم يكونوا في كمية العدد وكيفية الفساد بحيث يخل مكانهم فيما بين المؤمنين بأمر الجهاد اخلالا عظيما ولم يكن فساد خروجهم معادلا لمنفعته ولذلك لم تقتض الحكمة عدم خروجهم فخرجوا مع المؤمنين، ولكن حيث كان انضمان المنافقين القاعدين إليهم مستتبعا لخل كلي كره الله تعالى انبعاثهم فلم
112

يتسن اجتماعهم فاندفع فسادهم انتهى، والاحتجياج إليه على التفسير الأول أظهر منه على التفسير الثاني لأن الظاهر عليه أن القوم لم يكونوا منافقين، ووجه العتاب على الاذن في قعودهم مع ما قص الله تعالى فيهم أنهم لو قعدوا بغير إذن منه عليه الصلاة والسلام لظهر نفاقهم فيما بين المسلمين من أول الأمر ولم يقدروا على مخالطتهم والسعي فيما بينهم بالاراجيف ولم يتسن لهم التمتع بالعيش إلى أن يظهر حالهم بقوارع الآيات النازلة * (والله عليم بالظالمين) * علما محيطا بظواهرهم وبواطنهم وأفعالهم الماضية والمستقبلة فيجازيهم على ذلك، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والاشعار بترتبه على الظلم، ويجوز أن يراد بالظالمين الجنس ويدخل المذكورون دخولا أوليا، والمراد منهم إما القاعدون أو هم والسماعون.
* (لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جآء الحق وظهر أمر الله وهم ك‍ارهون) *.
لقد ابتغوا الفتنة) * تشتيت شملك وتفرق أصحابك * (من قبل) * أي من قبل هذه الغزوة، وذلك كما روي عن الحسن يوم أحد حين انصرف عبد الله بن أبي بن سلول بأصحابه المنافقين، وقد تخلف بهم عن هذه الغزوة أيا بعد أن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريب من ثنية الوداع، وروي عن سعيد بن جبير، وابن جريج. أن المراد بالفتنة الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وذلك أنه اجتمع اثنا عشر رجلا من المنافقين ووقفوا على الثنية ليفتكوا به عليه الصلاة والسلام فردهم الله تعالى خاسئين * (وقلبوا لك الأمور) * أي المكايد تقليبها مجاز عن تدبيرها أو الآراء وهو مجاز عن تفتيشها، أي دبروا لك المكايد والحيل أو دوروا الآراء في إبطال أمرك. وقرىء * (وقلبوا) * بالتخفيف * (حتى جاء الحق) * أي النصر والظفر الذي وعده الله تعالى * (وظهر أمر الله) * أي غلب دينه وعلا شرعه سبحانه * (وهم كارهون) * أي في حال كراهتهم لذلك أي على رغم منهم، والاتيان كما قالوا لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن تخلف المتخلفين وبيان ما ثبطهم الله تعالى لأجله وهتك أستارهم وإزاهة أعذارهن تداركا لما عسى يفوت بالمبادرة إلى الاذن وإيذنا بأن ما فات بها ليس مما لا يمكن تلافيه تهويلا للخطب.
* (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنى ألا فى الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالك‍افرين) *.
ومنهم من يقول ائذن لي) * في القعود عن الجهاد * (ولا تفتني) * أي لا توقعني في الفتنة بنساء الروم.
أخرج ابن المنذر. والطبراني. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجد بن قيس: يا جد بن قيس ما تقول في مجاهدة بني الاصفر؟ فقال: يا رسول الله إني امرأ صاحب نساء ومتى أرى نساء بني الاصفر أفتتن فائذن لي ولا تفتني فنزلت، وروي نحوه عن عائشة. وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أولا توقعني في المعصية والاثم بمخالفة أمرك في الخروج إلى الجهاد، وروي هذا عن الحسن. وقتادة. واختاره الجبائي، وفي الكلام على هذا إشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له صلى الله عليه وسلم أو لم يأذن. وفسر بعضهم الفتنة بالضرر أي لا توقعني في ذلك فاني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي لعدم من يقوم بمصالحهم، وقال أبو مسلم: أي لا تعذبني بتكليف الخروج في شدة الحر، وقرىء * (ولا تفتني) * من أفتنه بمعنى فتنة * (ألا في الفتنة) * أي في نفسها وعينها وأكمل أفرادها الغنى عن الوصف بالكمال الحقيق باختصاص اسم الجنس به * (سقطوا) * لا في شيء مغاير لها فضلا عن أن يكون مهربا ومخلصا عنها، وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءة على هذا الاستئذان والقعود بالإذن المبني عليه وعلى الاعتذارات الكاذبة، وفي
113

مصحف أبي * (سقط) * بالافراد مراعاة للفظ * (من) * ولا يخفى ما في تصدير الجملة بأداة التنبيه من التحقيق، وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في دركات الردي أسفل سافلين، وتقديم الجار والمجرور لا يخفى وجهه * (وإن جهنم لمحيطة بالك‍افرين) * وعيد لهم على ما فعلوا وهو عطف على الجملة السابقة داخل تحت التنبيه، أي جامعة لهم من كل جانب لا محالة وذلك يوم القيامة، فالمجاز في اسم الفاعل حيث استعمل في
الاستقبال بناء على أنه حقيقة في الحال، ويحتمل أن يكون المراد أنها حيطة بهم الآن بأن يراد من جهنم أسبابها من الكفر والفتنة التي سقطوا فيها ونحو ذلك مجازا.
وقد يجعل الكلام تمثيلا بأن تشبه حالهم في إحاطة الأسباب بحالهم عند إحاطة النار، وكون الأعمال التي هم فيها هي النار بعينها لكنها ظهرت بصورة الأعمال في هذه النشأة وتظهر بالصورة النارية في النشأة الأخرى كما قيل نظيره في قوله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) * منزع صوفي، والمراد بالكافرين إما المنافقون المبحوث عنهم، وإيثار وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر والاشعار بأنه معظم أسباب الإحاطة المذكورة وإما جميع الكافرين ويدخل هؤلاء دخولا أوليا.
* (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون) *.
* (إن تصبك) * في بعض مغازيك * (حسنة) * من الظفر والغنيمة * (تسؤهم) * تلك الحسنة أي تورثهم مساءة وحزنا لفرط حسدهم لعنهم الله تعالى وعداوتهم * (وإن تصبك) * في بعضها * (مصيبة) * كانكسار جيش وشدة * (يقولوا) * متبجحين بما صنعوا حامدين لآرائهم * (قد أخذنا أمرنا) * أي تلا فينا ما يهمنا من الأمير يعنون به التخلف والقعود عن الحرب والمداراة مع الكفرة وغير ذلك من أمو الكفر والنفاق قولا وفعلا * (من قبل) * أي من قبل إصابة المصيبة حيث ينفع التدارك، يشيرون بذلك إلى أن نحو ما صنعوه إنما يروج عند الكفرة بوقوعه حال قوة الإسلام لا بعد إصابة المصيبة * (ويتولوا) * أي وينصرفوا عن متحدثهم ومحل اجتماعهم إلى أهليهم وخاصتهم أو يتفرقوا وينصرفوا عنك يا رسول الله * (وهم فرحون) * بما صنعوا وبما أصابك من السيئة، والجملة في موضع الحال من الضمير في * (يقولوا ويتولوا) * فإن الفرح مقارن للأمرين معا، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على دوام السرور، وإنما لم يؤت بالشرطية الثانية على طرز الأولى بأن يقال: وإن تصبك مصيبة تسرهم بل أقيم ما يدل على ذلك مقامه مبالغة في فرط سرورهم مع الايذان بأنهم في معزل عن إدراك سوء صنيعهم لاقتضاء المقام ذلك، وقل: إن إسناد المساءة إلى الحسنة والمسرة إلى أنفسهم للايذان باختلاف حالهم حالتي عروض المساءة والمسرة بأنهم في الأولى مضطرون وفي الثانية مختارون، وقوبل هنا الحسنة بالمصيبة ولم تقابل بالسيئة كما قال سبحانه في سورة آل عمران: * (وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) * (آل عمران: 120) لأن الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو هناك للمؤمنين وفرق بين المخاطبين فإن الشدة لا تزيده صلى الله عليه وسلم إلا ثوابا فإنه المعصوم في جميع أحواله عليه الصلاة والسلام، وتقييد الإصابة في بعض الغزوات لدلالة السياق عليه، وليس المراد به بعضا معينا هو هذه الغزوة التي استأذنوا في التخلف عنها وهو ظاهر. نعم سبب النزول يوهم ذلك، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا في المدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم
114

أخبار السوء يقولون: إن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه فأنزل الله تعالى الآية فتأمل.
* (قل لن يصيبنآ إلا ما كتب الله لنا هو مول‍انا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) *.
* (قل) * تبكيتا لهم * (لن يصيبنا) * أبدا * (إلا ما كتب الله لنا) * أي ما اختصنا بإثباته وإيجابه من المصلحة الدنيوية أو الأخروية الكنصرة أو الشهادة المؤدية للنعيم الدائم، فالكتب بمعنى التقدير، واللام للاختصاص، وجوز أن يكون المراد بالكتب الخط في اللوح واللام للتعليل والأجل، أي لن يصيبنا إلا ما خط الله تعالى لأجلنا في اللوح ولا يتغير بموافقتكم ومخالفتكم، فتدل الآية على أن الحوادث كلها بقضاء الله تعالى وروي هذا عن الحسن. وادعى بعضهم أنه غير مناسب للمقام وأن قوله تعالى: * (هو مولي‍انا) * أي ناصرنا ومتولى أمورنا يعين الأول لأنه يبين أن معنى اللام الاختصاص ويخصص الموصول بالنصر والشهادة أي لن يصيبنا إلا ذلك دون الخذلان والشقاوة كما هو مصير حالكم لأنا مؤمنون وأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم، وقد يقال: هو تعليل لما يستفاد من القول السابق من الرضا أي لن يصيبنا إلا ما كتب من خير أو شر فلا يضرنا ما أنتم عليه ونحن بما فعل الله تعالى راضون لأنه سبحانه مالكنا ونحن عبيده. وقرأ ابن مسعود * (هل يصيبنا) * وطلحة * (هل يصيبنا) * بتشديد الياء من صيب الذي وزنه فيعل لا فعل بالتضعيف لأن قياسه صوب لأنه من الواوي فلا وجه لقلبها ياء بخلاف ما إذا كان صيوب على وزن فيعل لأنه إذا اجتمعت الواو والياء والأول منهما ساكن قلبت الواو ياءا وهو قياس مطرد، وجوز الزمخشري كونه من التفعيل على لغة من قال صاب يصيب، ومنه قول الكميت: واستبى الكاعب العقيلة إذ * أسهمي الصائبات والصيب
* (وعلى الله) * وحده * (فليتوكل المؤمنون) * بأن يفوضوا الأمر إليه سبحانه، ولا ينافي ذلك التشبث بالأسباب العادية إذا لم يعتمد عليها، وظاهر كلام جمع أن الجملة من تمام الكلام المأمور به، وتقديم المعمول لإفادة التخصيص كما أشرنا إليه، وإظهار الاسم الجليل في مقام الاضمار لإظهار التبرك والاستلذاذ به.
ووضع المؤمنين موضع ضمير المتكلم ليؤذن بأن شأن المؤمنين اختصاص التوكل بالله تعالى، وجيء بالفاء الجزائية لتشعر بالترتب أي إذا كان لن يصيبنا إلا ما كتب الله أي خصنا الله سبحانه به من النصر أو الشهادة وأنه متولى أمرنا فلنفعل ما هو حقنا من اختصاصبه جل شأنه بالتوكل، قال الطيبي: وكأنه قوبل قول المنافقين * (قد أخذنا أمرنا) * بهذه الفاصلة، والمعنى دأب المؤمنين أن لا يتكلوا على حزمهم وتيقظ أنفسهم كما أن دأب المنافقين ذلك بل أن يتكلوا على الله تعالى وحده ويفوضوا أمورهم إليه، ولا يبعد تفرع الكلام على قوله سبحانه: * (هو مولانا) * كما لا يخفى، ويجوز أن تكون هذه الجملة مسوقة من قبله تعالى أمرا للمؤمنين بالتوكل إثر أمره صلى الله عليه وسلم بما ذكر، وأمر وضع الظاهر موضع الضمير في الموضعين حينئذ ظاهر وكذا إعادة الأمر [بم في قوله تعالى:
* (قل هل تربصون بنآ إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون) *.
* (قل هل تربصون بنا) * لانقطاع حكم الأمر الأول بالثاني وإن كان أمرا لغائب، وأما على كلام الجماعة فالاعادة لإبراز كمال العناية بشأن المأمور به، والتربص
الانتظار والتمهل واحدى التاءين محذوفة، والباء للتعدية أي ما تنتظرون بها * (إلا إحدى الحسنيين) * أي إحدى العاقبتين اللتين
115

كل منهما أحسن من جميع العواقب غير الأخرى أو أحسن من جميع عواقب الكفرة أو كل منهما أحسن مما عداه من جهة، والمراد بهما النصرة والشهادة، والحاصل أن ما تنتظرونه لا يخلو من أحد هذين الأمرين وكل منهما عاقبته حسنى لا كما تزعمون من أن ما يصيبنا من القتل في الغزو سوء ولذلك سررتم به.
وصح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تكفل الله تعالى لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة " * (ونحن نتربص بكم) * إحدى السوأيين من العواقب إما * (أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) * فيهلككم كما فعل بالأمم الخالية قبلكم، والظرف صفة * (عذاب) * وكونه من عنده تعالى كناية عن كونه منه جل شأنه بلا مباشرة البشر، ويظهر ذلك المقابلة بقوله سبحانه: * (أو بأيدينا) * أي أو بعذاب كائن بأيدينا كالقتل بكونه على الكفر لأنه بدونه شهادة، وفيه إشارة إلى أنهم لا يقتلون حتى يظهروا الكفر ويصروا عليه لأنهم منافقون والمنافق لا يقتل ابتداء * (فتربصوا) * الفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتنا * (إنا معكم متربصون) * ما هو عاقبتكم فإذا لقي كل منا ومنكم ما يتربصه لا نشاهد إلا ما يسؤوكم ولا تشاهدون إلا ما يسرنا، وما ذكرناه من مفعول التربص هو الظاهر، ولعله يرجع إليه ما روي عن الحسن أي فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعد الله تعالى من إظهار دينه واستئصال من خالفه، والمراد من الأمر التهديد.
* (قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين) *.
قل أنفقوا) * أموالكم في مصالح الغزاة * (طوعا أو كرها) * أي طائعين أو كارهين، فهما مصدران وقعا موقع الحال وصيغة * (أنفقوا) * وإن كانت للأمر إلا أن المراد به الخبر، وكثيرا ما يستعمل الأمر بمعنى الخبر كعكسه، ومنه قول كثير عزة: أسيئى بنا أو أحسني لا ملومة * لدينا ولا مقيلة ان تقلت
وهو كما قال الفراء والزجاج في معنى الشرط أي إن أنفقتم على أي حال ف * (لن يتقبل منكم) *.
وأخرج الكلام مخرج الأمر للمبالغة في تساوي الأمرين في عدم القبول، كأنهم أمروا أن يجربوا فينفقوا في الحالين فينظروا هل يتقبل منهم فيشاهدوا عدم القبول، وفيه كما قال بعض المحققين: استعارة تمثيلية شبهت حالهم في النفقة وعدم قبولها بوجه من الوجوه بحال من يؤمر بفعل ليجربه فيظهر له عدم جدواه، فلا يتوهم أنه إذا أمر بالإنفاق كيف لا يقبل. والآية نزلت كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما جوابا عما في قول الجد بن قيس حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل لك في جلاد بني الأصفر؟ إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن لكن أعينك بمالي "، ونفي التقبل يحتمل أن يكون بمعنى عدم الأخذ منهم، ويحتمل أن يكون بمعنى عدم الإثابة عليه، وكل من المعنيين واقع في الاستعمال، فقبول الناس له أخذخ وقبول الله تعالى ثوابه عليه ويجوز الجمع بينهما، وقوله سبحانه: * (إنكم كنتم قوما فاسقين) * تعليل لرد انفاقهم، والمراد بالفسق العتو التمرد فلا يقال: كيف علل مع الكفر بالفسق الذي هو دونه وكيف صح ذلك مع التصريح بتعليله بالكفر [بم في قوله تعالى:
116

* (وما منعهم أن تقبل منهم نفق‍اتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلواة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم ك‍ارهون) *.
* (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله) * وقد يراد به ما هو الكامل وهو الكفر ويكون هذا منه تعالى بيانا وتقريرا لذلك، والاستثناء من أعم الأشياء أي ما منعهم أن تقبل نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم، ومنه يتعدى إلى مفعولين بنفسه وقد يتعدى إلى الثاني بحرف الجبر وهو - من - أو - عن -، وإذا عدى بحرف صح أن يقال: منعه من حقه ومنه حقه منه لأنه يكون بمعنى الحيلولة بينهما والحماية، ولا قلب فيه كما يتوهم، وجاز فيما نحن فيه أن يكون متعديا للثاني بنفسه وأن يقدر حرف وحذف حرف الجر مع إن وأن مقيس مطرد.
وجوز أبو البقاء أن يكون * (أن تقبل) * بدل اشتمال من - هم - في * (منعهم) * وهو خلاف الظاهر، وفاعل منع ما في حيز الاستثناء، وجوز أن يكون ضمير الله تعالى * (وأنهم كفروا) * بتقدير لأنهم كفروا.
وقرأ حمزة. والكسائي * (يقبل) * بالتحتانية لأنه تأنيت النفقات غير حقيقي مع كونه مفصولا عن الفعل بالجار والمجرور. وقرىء * (نفقتهم) * على التوحيد.
وقرأ السلمى * (أن يقبل منهم نفقاتهم) * ببناء * (يقبل) * للفاعل ونصب النفقات؛ والفاعل إما ضمير الله تعالى أو ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام بناء على أن القبول بمعنى الأخذ * (ولا يأنون الصلاة) * المفروضة في حال من الأحوال * (إلا وهم كسالى) * أي إلا حال كونهم متثاقلين * (ولا ينفقون إلا وهم كارهون) * الانفاق لأنهم لا يرجون بهما ثوابا ولا يخافون على تركهما عقابا، وهاتان الجملتان داخلتان في حيز التعليل. واستشكل بأن الكفر سبب مستقل لعدم القبول فما وجه التعليل بمجموع الأمور الثلاثة وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر. وأجاب الإمام بأنه إنما يتوجه على المعتزلة القائلين بأن الكفر لكونه كفرا يؤثر في هذا الحكم وأما على أهل السنة فلا لأنهم يقولون: هذه الأسباب معرفات غير موجبة للثواب ولا للعقاب واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز، والقول بأنه إنما جيء بهما لمجرد الذم وليستا داخلتين في حيز التعليل وإن كان يندفع به الاشكال على رأي المعتزلة خلاف الظاهر كما لا يخفى.
* (فلا تعجبك أموالهم ولا أول‍ادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيواة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم ك‍افرون) *.
* (فإن قيل) * الكراهية خلاف الطواعية وقد جعل هؤلاء المنافقون فيما تقدم طائعين ووصفوا ههنا بأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون وظاهر ذلك المنافاة. أجيب بأن المراد بطوعهم أنهم يبذلون من غير الزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أنهم يبذلون رغبة فلا منافاة. وقال بعض المحققين في ذلك: إن قوله سبحانه: * (أنفقوا طوعا أو كرها) * لا يدل على أنهم ينفقون طائعين بل غايته أنه ردد حالهم بين الأمرين وكون الترديد ينافي القطع محل نظر، كما إذا قلت: إن أحسنت أو أسأت لا
أزورك مع أنه لا يحسن قطعا، ويكون الترديد لتوسع الدائرة وهو متسع الدائرة.
* (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) * أي لا يروقك شيء من ذلك فإنه استدراج لهم ووبال عليهم حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: * (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) * والخطاب يحتمل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون لكل من يصلح له على حد ما قيل في نحو قوله تعالى: * (لا تشرك بالله) * ومفعول الإرادة قيل: التعذيب واللام زائدة وقيل: محذوف واللام تعليلية، أي يريد إعطاءهم لتعذيبهم، وتعذيبهم بالأموال والأولاد في الدنيا لما أنهم يكابدون بجمعها وحفظها المتاعب ويقاسون فيها الشدائد والمصائب وليس عندهم من الاعتقاد بثواب الله تعالى ما يهون عليهم ما يجدونه، وقيل: تعذيبهم في الدنيا بالأموال لأخذ الزكاة منهم والنفقة في سبيل الله
117

تعالى مع عدم اعتقادهم الثواب على ذلك، وتعذيبهم فيها بالأولاد أنهم قد يقتلون في الغزو فيجزعون لذلك أشد الجزع حيث لا يعتقدون شهادتهم وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وأن الاجتماع بهم فريب ولا كذلك المؤمنون فيما ذكر، وقيل: تعذيبهم بالأموال بأن تكون غنيمة للمسلمين وبالأولاد بأن يكونوا سببا لهم إذا أظهروا الكفر وتمكنوا منهم. وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن قتادة أن في الآية تقديما وتأخيرا أي لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة * (وتزهق أنفسهم) * أي يموتون وأصل الزهوق الخروج بصعوبة * (وهم كافرون) * في موضع الحال أي حال كونهم كافرين، والفعل عطف على ما قبله داخل معه في حيز الإرادة. واستدل بتعليق الموت على الكفر بإرادته تعالى على أن كفر الكافر بإرادته سبحانه وفي ذلك رد على المعتزلة.
وأجاب الزمخشري بأن المراد إنما هو إمهالهم وإدامة النعم عليهم إلى أن يموتوا على الكفر مشتغلين بما هم فيه عن النظر في العاقبة، والامهال والإدامة المذكورة مما يصح أن يكون مرادا له تعالى. واعترضه الطيبي بأن ذلك لا يجديه شيئا لأن سبب السبب سبب في الحقيقة، وحاصله أن ما يؤدي إلى القبح ويكون سببا له حكمه حكمه في القبح وهو في حيز المنع، وأجاب الجبائي بأن معنى الآية أن الله تعالى أراد زهوق أنفسهم في حال الكفر وهو لا يقتضي كونه سبحانه مريدا للكفر فإن المريض يريد المعالجة في وقت المرض ولا يريد المرض والسلطان يقول لعسكره: اقتلوا البغاة حال هجومهم ولا يريد هجومهم. ورده الإمام بأنه لا معنى لما ذكر من المثال إلا إرادة إزالة المرض وطلب إزالة هجوم البغاة وإذا كان المراد إعدام الشيء امتنع أن يكون وجوده مرادا بخلاف أرادة زهوق نفس الكافر فإنها ليست عبارة عن إرادة إزالة الكفر فلما أراد الله تعالى زهوق أنفسهم حال كونهم كافرين وجب أن يكون مريدا لكفرهم، وكيف لا يكون كذلك والزهوق حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر، وأرادة الشيء تقتضي أرادة ما هو من ضرورياته فيلزم كونه تعالى مريدا للكفر.
وفيه أن الظاهر أن إرادة المعالجة شيء غير إرادة إزالة المرض وكذا أرادة القتل غير إرادة إزالة الهجوم ولهذا يعلل إحدى الإرادتين بالأخرى فكيف تكون نفسها، وأما أن كون إرادة ضروريات الشيء من لوازم إرادته فغير مسلم؛ فكم من ضروري لشيء لا يخطر بالبال عند أرادته فضلا عما ادعاه، فالاستدلال بالآية على ما ذكر غير تام.
* (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ول‍اكنهم قوم يفرقون) *.
* (ويحلفون بالله إنهم لمنكم) * أي في الدين والمراد أنهم يحلفون أنهم مؤمنون مثلكم * (وما هم منكم) * في ذلك لكفر قلوبهم * (ول‍اكنهم قوم يفرقون) * أي يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلوا بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة، وأصل الفرق انزعاج النفس بتوقع الضرر، قيل: وهو من مفارقة الأمن إلى حال الخوف.
* (لو يجدون ملجئا أو مغ‍ارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون) *.
* (لو يجدون ملجا) * أي حصنا يلجأون إليه كما قال قتادة * (أو مغارات) * أي غير أن يخفون فيها أنفسهم وهو جمع مغارة بمعنى الغار، ومنهم من فرق بينهما بأن الغار في الجبل والمغارة في الأرض. وقرىء * (مغارات) * بضم الميم من أغار الرجل إذا دخل الغور، وقيل: هو تعدية غار الشيء وأغرته أنا أي أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم، ويجوز أن تكون من أغار الثعلب إذا أسرع بمعنى مهارب
118

ومغار * (أو مدخلا) * أي نفقا كنفق اليربوع ينجحرون فيه، وهو مفتعل من الدخول فأدغم بعد قلب تائه دالا. وقرأ يعقوب. وسهل * (مدخلا) * بفتح الميم اسم مكان من دخل الثلاثي وهي قراءة ابن أبي اسحق. والحسن، وقرأ سلمة بن محارب * (مدخلا) * بضم الميم وفتح الخاء من أدخل المزيد أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم أو يدخلهم الخوف فيه، وقرأ أبي بن كعب * (متدخلا) * اسم مكان من تدخل تفعل من الدخول، وقرىء * (مندخلا) * من اندخل، وقد ورد في شعر الكميت ولا يدي في حميت السمن تندخل
وأنكر أبو حاتم هذه القراءة وقال: إنما هي بالتاء بناء على إنكار هذه اللغة وليس بذاك * (لولوا) * أي لصرفوا وجوههم وأقبلوا. وقرىء * (لوألوا) * أي لا لتجأوا * (إليه) * أي إلى أحد ما ذكر * (وهم يجمحون) * أي يسرعون في الذهاب إليه بحيث لا يردهم شيء كالفرس الجموح وهو النفور الذي لا يرده لجام، وروي الأعمش عن أنس بن مالك أنه قرأ * (يجمزون) * بالزاي وهو بمعنى يجمحون ويشتدون، ومنه الجمازة الناقة الشديدة العدو، وأنكر بعضهم كون ما ذكر قراءة وزعم أنه تفسير وهو مردود.
والجملة الشرطية استئناف مقرر لمضمون ما سبق من أنهم ليسوا من المسلمين وأن التجاءهم إلى الانتماء إليهم إنما هو للتقية اضطرارا، وإيثار صيغة الاسقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم الوجدان حسبما يقتضيه المقام، ونظير ذلك - لو تحسن إلي لشكرتك - نعم كثيرا ما يكون المضارع المنفي الواقع
موقع الماضي لإفادة انتفاء استمرار الفعل لكن ذلك غير مراد ههنا.
* (ومنهم من يلمزك في الصدق‍ات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) *.
* (ومنهم من يلمزك في الصدقات) * أي يعيبك في شأنها. وقرأ يعقوب * (يلمزك) * بضم الميم وهي قراءة الحسن. والأعرج، وقرأ ابن كثير * (يلامزك) * هو من الملامزة بمعنى اللمز، والمشهور أنه مطلق العيب كالهمز، ومنهم من فرق بينهما بان اللمز في الوجه والهمز في الغيب وهو المحكي عن الليث وقد عكس أيضا وأصل معناه الدفع * (فان أعطوا منها) * بيان لفساد لمزهم وأنه لا منشأ له إلا حرصهم على حطام الدنيا أي إن أعطيتهم من تلك الصدقات قدر ما يريدون * (رضوا) * بما وقع في القسمة واستحسنوا علك * (وإن لم يعطوا منها) * ذلك المقدار * (إذا هم يسخطون) * أي يفاجؤونالسخط، و * (إذا) * نابت مناب فاء الجزاء وشرط لنيابتها عنه كون الجزاء جملة اسمية، ووجه نيابتها دلالتها على التعقيب كالفاء، وغاير سبحانه بين جوابي الجملتين إشارة إلى أن سخطهم ثابت لا يزول ولا يفنى بخلاف رضاهم. وقرأ أياد بن لقيط * (إذا هم ساخطون) * والآية نزلت في ذي الخويصرة واسمه حرقوص بن زهير التميمي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم هوازن يوم حنين فقال: يا رسول الله اعدل. فقال عليه الصلاة والسلام: " ومن يعد إذا لم أعدل " فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " الحديث. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين سمعت رجلا يقول: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله تعالى فأتيت النبي عليه الصلاة والسلام فذكرت ذلك له فقال: " رحمة الله تعالى على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر " ونزلت الآية.
119

وأخرج ابن جرير. وغيره عن داود بن أبي عاصم قال: " أوتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت ووراءه رجل من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل فنزلت "، وعن الكلبي أنها نزلت في أبي الجواظ المنافق قال: ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاء الغنم ويزعم أنه يعدل.
وتعقب هذا ولي الدين العراقي بأنه ليس في شيء من كتب الحديث، وأنت تعلم أن أصح الروايات الأولى إلا أن كون سبب النزول قسمته صلى الله عليه وسلم للصدقة على الوجه الذي فعله أوفق بالآية من كون ذلك قسمته للغنية فتأمل.
* (ولو أنهم رضوا مآ ءات‍اهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنآ إلى الله راغبون) *.
* (ولو أنهم رضوا ما آت‍اهم الله ورسوله) * أي ما أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من الصدقات طيبي النفوس به وان قل - فما - وإن كانت من صيغ العموم إلا أن ما قبل وما بعد قرينة على التخصيص، وبعض أبقاها على العموم أي ما أعطاهم من الصدقة أو الغنيمة قيل لأنه الأنسب، وذكر الله عز وجل للتعظيم وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام كان بأمره سبحانه * (وقالوا حسبنا الله) * أي كفانا فضله وما قسمه لنا كما يقتضيه المعنى * (سيؤتينا الله من فضله ورسوله) * بعد هذا حسبما نرجو ونأمل * (إنا إلى الله راغبون) * في أن يخولنا فضله جل شأنه، والآية بأسرها في حيز الشرط والجواب محذوف بناء على ظهوره أي لكان خيرا لهم وأعود عليهم، وقيل: إن جواب الشرط * (قالوا) * والواو زائدة وليس بذلك، ثم إنه سبحانه لما ذكر المنافقين وطعنهم وسخطهم بين أن فعله عليه الصلاة والسلام لإصلاح الدين وأهله لا لأغراض نفسانية كأغراضهم [بم فقال جل وعلا:
* (إنما الصدق‍ات للفقرآء والمس‍اكين والع‍املين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغ‍ارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) *.
إنما الصدق‍ات للفقراء والمساكين) * الخ يعني أن الذي ينبغي أن يقسم مال الله عليه من اتصف باحدى هذه الصفات دون غيره إذ القصد الصلاح والمنافقون ليس فيهم سوى الفساد فلا يستحقونه وفي ذلك حسم لأطماعهم الفارغة ورد لمقالتهم الباطلة، والمراد من الصدقات الزكوات فيخرج غيرها من التطوع، والفقير على ما روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب أو قدر نصاب غير نام وهو مستغرق في الحاجة، والمسكين من لا شيء له فيحتاج للمسألة لقوته وما يوراى بدنه ويحل له ذلك بخلاف الأول حيث لا تحل له المسألة فإنها لا تحل لمن يملك قوت يومه بعد ستر بدنه، وعند بعضهم لا تحل لمن كان كسوبا أو يملك خمسين درهما. فقد أخرج أبو داود. والترمذي والنسائي عن ابن مسعود قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سألنا وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب " وإلى هذا ذهب الثوري. وابن المبارك. وأحمد واسحق، وقيل: من ملك أربعين درهما حرم عليه السؤال لما أخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف " وكان الأوقية في ذلك الزمان أربعين درهما. ويجوز صرف الزكاة لمن لا تحل له المسألة بعد كونه فقيرا، ولا يخرجه عن الفقر ملك نصب كثيرة غير نامية إذا كانت مستغرقة للحاجة، ولذا قالوا: يجوز للعالم وإن كانت له كتب تساوي نصبا كثيرة إذا كان محتاجا إليها للتدريس ونحوه أخذ الزكاة بخلاف العامي وعلى هذا جميع آلات المحترفين.
وعلى ما نقل عن الإمام يكون المسكين أسوأ حالا من الفقير، واستدل بقوله تعالى: * (أو مسكينا ذا متربة) * (البلد: 16) أي
120

ألصق جلده بالتراب في حفرة استتر بها مكان الإزار وألصق بطنه به لفرط الجوع فإنه يدل على غاية الضرر والشدة ولم يوصف الفقير بذلك، وبأن الأصمعي. وأبا عمرو بن العلاء وغيرهما من أهل اللغة فسروا المسكين بمن لا شيء له، والفقير بمن له بلغة من العيش. وأجيب بأن تمام الاستدلال بالآية موقوف على أن الصفة كاشفة وهو خلاف الظاهر، وأن النقل عن بعض أهل اللغة معارض بالنقل عن البعض الآخر. وقال الشافعي عليه الرحمة: الفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته، والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه، فالفقير عنده أسوأ حالا من المسكين، واستدل له بقوله تعالى: * (وأما السفينة فكانت لمساكين) * (الكهف: 79)
فأثبت للمسكين سفينة، وبما رواه الترمذي عن أنس. وابن ماجه. والحاكم عن أبي سعيد قالا: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين " مع ما رواه أبو داود عن أبي بكرة أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو بقوله: " اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر " وخبر " الفقر فخري " كذب لا أصل له. وبأن الله تعالى قدم الفقير في الآية ولو لم تكن حاجته أشد لما بدأ به، وبأن الفقير بمعنى المفقور أي مكسور الفقار أي عظام الصلب فكان أسوأ. وأجيب عن الأول بأن السفينة لم تكن ملكا لهم بل هم أجراء فيها أو كانت عارية معهم أو قيل لهم مساكين ترحما كما في الحديث " مساكين أهل النار " وقوله: مساكين أهل الحب حتى قبورهم * عليها تراب الذل بين المقابر
وهذا أولى، وعن الثاني بأن الفقر المتعوذ منه ليس إلا فقر النفس لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل العفاف والغنى والمراد به غنى النفس لا كثرة الدنيا، وعن الثالث بأن التقديم لا دليل فيه إذ له اعتبارات كثيرة في كلامهم، وعن الرابع بأنا لا نسلم أن الفقير مأخوذ من الفقار لجواز كونه من فقرت له فقرة من مالي إذا قطعتها فيكون له شيء، وأيا ما كان فهما صنفان، وقال الجبائي: إنهما صنف واحد والعطف للاختلاف في المفهوم، وروي ذلك عن محمد. وأبي يوسف، وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى بثلث ماله مثلا لفلان وللفقراء والمساكين فمن قال: إنهما صنف واحد جعل لفلان النصف ومن قال: إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك * (والعاملين عليها) * وهم الذين يبعثهم الإمام لجبايتها، وفي البحر أن العامل يشمل العاشر والساعي. والأول من نصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار المارين بأموالهم عليه.
والثاني هو الذي يسعى في القبائل ليأخذ صدقة المواشي في أماكنها، ويعطي العامل ما يكفيه وأعوانه بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم ما دام المال باقيا إلا إذا استغرقت كفايته الزكاة فلا يزاد على النصف لأن التصنيف عين الإنصاف.
وعن الشافعي أنه يعطي الثمن لأن القسمة تقتضيه وفيه نظر، وقيد بالوسط لا يجوز أن يتبع شهوته في المأكل والمشرب والملبس لكونه إسرافا محضا، وعلى الإمام أن يبعث من يرضي بالوسط من غير إسراف ولا تقتير، وببقاء المال لأنه لو أخذ الصدقة وضاعت من يده بطلت عمالته ولا يعطي من بين المال شيئا وما يأخذه صدقة، ومن هنا قالوا: لا تحل العمالة لهاشمي لشرفه، وإنما حلت للغني مع حرمة الصدقة عليه لأنه فرغ نفسه لهذا العمل فيحتاج إلى الكفاية، والغنى لا يمنع من تناولها عند الحاجة كابن السبيل كذا في البدائع، والتحقيق أن في ذلك شبها بالاجرة وشبها بالصدقة، فبالاعتبار الأول حلت للغنى ولذا لا يعطى لو أداها صاحب المال إلى الإمام، وبالاعتبار الثاني لا تحل للهاشمي. وفي النهاية رجل من بني هاشم استعمل على الصدقة فأجرى له منها
121

رزق فإنه لا ينبغى ه أن يأخذ من ذلك، وإن عمل فيها ورزق من غيرها فلا بأس به، وهو يفيد صحة توليته وأن أخذه منها مكروه لإحرام، وصرح في الغاية بعدم صحة كون العامل هاشميا أو عبدا أو كافرا، ومنه يعلم حرمة تولية اليهود على بعض الأعمال وقد تقدمت نبذة من الكلام على ذلك * (والمؤلفة قلوبهم) * وهم كانوا ثلاثة أصناف. صنف كان يؤلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا. وصنف أسلموا لكن على ضعف كعيينة بن حصن. والأقرع بن حابس. والعباس بن مرداس السلمي فكان عليه الصلاة والسلام يعطيهم لتقوى نيتهم في الإسلام. وصنف كانوا يعطون لدفع شرهم عن المؤمنين، وعد منهم من يؤلف قلبه بإعطاء شيء من الصدقات على قتال الكفار ومانعي الكاة. وفي الهداية أن هذا الصنف من الأصناف الثمانية قد سقط وانعقد إجماع الصحابة على ذلك في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه. روي أن عيينة والأقرع جاءا يطلبان أرضا من أبي بكر فكتب بذلك خطا فمزقه عمر رضي الله تعالى عنه وقال: هذا شيء يعطيكموه رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليفا لكم فأما اليوم فقد أغز الله تعالى الإسلام وأغني عنكم فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف. فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟ بذلت لنا الخط ومزقه عمر، فقال رضي الله تعالى عنه: هو إن شاء ووافقه، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع احتمال أن فيه مفسدة كارتداد بعض منهم وإثارة ثائرة. واختلف كلام القوم في وجه سقوطه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثبوته بالكتاب إلى حين وفاته - بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام - فمنهم من ارتكب جواز نسخ ما ثبت بالكتاب بالإجماع بناء على أن الإجماع حجة قطعية كالكتاب وليس بصحيح من المذهب؛ ومنهم من قال: هو من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار. ورد بأن الحكم في البقاء لا يحتاج إلى علة كما في الرمل والاضطباع في الطواف فانتهاؤها لا يستلزم انتهاءه وفيه بحث. وقال علاء الدين عبد العزيز: والأحسن أن يقال: هذا تقرير لما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث المعنى، وذلك أن المقصود بالدفع إليهم كان إعزاز الإسلام لضعفه في ذلك الوقت لغلبة أهل الكفر وكان الإعزاز بالدفع، ولما تبدلت الحال بغلبة أهل الإسلام صار الإعزاز في المنع، وكان الإعطاء في ذلك الزمان والمنع في هذا الزمان بمنزلة الآلة لإعزاز الدين والإعزاز هو المقصود وهو باق على حاله فلم يكن ذلك نسخا، كالمتيمم وجب عليه استعمال التراب للتطهير لأنه آلة متعينة لحصول التطهير عند عدم المار فإذا تبدلت حاله فوجد الماء سقط الأول ووجب استعمال الماء لأنه صار متعينا لحصول المقصود لا يكون هذا نسخا للأول فكذا هذا وهو نظير إيجاب الدية على العاقلة فإنها كانت واجبة على العشيرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده على أهل الديوان لأن الإيجاب على العاقلة بسبب النصرة والاستنصار في زمنه صلى الله عليه وسلم كان بالعشيرة وبعده عليه الصلاة والسلام بأهل الديوان، فإيجابها عليهم لم يكن نسخا بل كان تقريرا للمعنى الذي وجبت الدية لأجله وهو الاستنصار ا ه‍. واستحسنه في النهاية.
وتعقبه ابن الهمام بأن هذا لا ينفي النسخ لأن إباحة الدفع إليهم حكم شرعي كان ثابتا وقد ارتفع، وقال بعض المحققين: إن ذلك نسخ ولا يقال: نسخ الكتاب بالإجماع لا يجوز على الصحيح لأن الناسخ دليل الإجماع لا هو بناء على أنه لا إجماع إلا عن مستند فإن ظهر وإلا وجب الحكم بأنه ثابت، على أن الآية التي أشار إليها عمر رضي الله تعالى عنه وهي قوله سبحانه: * (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * (الكهف: 29) يصلح لذلك وفيه نظر، فإنه إنما يتم لو ثبت نزول
هذه الآية بعد هذه ولم يثبت، وقال قوم: لم يسقط سهم هذا الصنف، وهو قول الزهري وأبي جعفر
122

محمد بن علي. وأبي ثور، وروي ذلك عن الحسن، وقال أحمد: يعطون أن احتاج المسلمون إلى ذلك.
وقال البعض: إن المؤلفة قلوبهم مسلمون وكفار والساقط سهم الكفار فقط. وصحح أنه عليه الصلاة والسلام كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله صلى الله عليه وسلم * (وفي الرقاب) * أي للصرف في فك الرقاب بأن يعان المكاتبون بشيء منها على أدار نجومهم، وقيل: بأن يبتاع منها الرقاب فتعتق، وقيل: بأن يفدي الأساري، وإلى الأول ذهب النخعي. والليث. والزهري. والشافعي، وهو المروى عن سعيد بن جبير وعليه أكثر الفقهاء، وإلى الثاني ذهب مالك. وأحمد. وإسحق، وعزاه الطيبي إلى الحسن، وفي تفسير الطبري أن الأول هو المنقول عنه * (والغارمين) * أي الذين عليهم دين، والدفع إليهم كما في الظهيرية أولى من الدفع إلى الفقير وقيدوا الدين بكونه في غير معصية كالخمر والإسراف فيما لا يعنيه، لكن قال النووي في المنهاج قلت: والأصح أن من استدان للمعصية يعطي إذا تاب وصححه في الروضة، والمانع مطلقا قال: إنه قد يظهر التوبة للأخذ، واشترط أن لا يكون لهم ما يوفون به دينهم فاضلا عن حوائجهم ومن يعولونه، وإلا فمجرد الوفاء لا يمنع من الاستحقاق، وهو أحد قولين عند الشافعية وهو الأظهر.
وقيل: لا يشترط لعموم الآية. وأطاق القدوري. وصاحب الكنز من أصحابنا المديون في باب المصرف، وقيده في الكافي بأن لا يملك نصابا فضلا عن دينه ووذكر في البحر أنه المراد بالغارم في الآية إذ هو في اللغة من عليه دين ولا يجد قضاء كما ذكره العتبي. واعتذر عن عدم التقييد بأن الفقر شرط في الأصناف كلها إلا العامل وابن السبيل إذا كان له في وطنه مال فهو بمنزلة الفقير، وهل يشترط حلول الدين أولا قولان للشافعية. ويعطي عندهم من استدان لإصلاح ذات البين كأن يخاف فتنة بين قبيلتين تنازعتا في قتيل لم يظهر قاتله أو ظهر فأعطي الدية تسكينا للفتنة، ويعطى مع الغنى مطلقا، وقيل: إن كان غنيا بنقد لا يعطى * (وفي سبيل الله) *. أريد بذلك عند أبي يوسف منقطعوا الغزاة، وعند محمد منقطعوا الحجيج. وقيل: المراد طلبة العلم واقتصر عليه في الفتاوي الظهيرية، وفسره في " البدائع " بجميع القرب فيدخل فيه كل من سعي في طاعة الله تعالى وسبل الخيرات. قال في البحر: ولا يخفى أن قيد الفقر لا بد منه على الوجوه كلها فحينئد لا تظهر ثمرته في الزكاة. وإنما تظهر في الوصايا والأوقاف انتهى. وفي النهاية فإن قيل: إن قوله سبحانه * (وفي سبيل الله) * مكرر سواء أريد منقطع الغزاة أو غيره لأنه إما أن يكون له في وطنه مال أم لا فإن كان فهو ابن السبيل وإن لم يكن فهو فقير، فمن أين يكون العدد سبعة على ما يقول الأصحاب أو ثمانية على ما يقول غيرهم. وأجيب بأنه فقير إلا أنه ازداد فيه شيء آخر سوى الفقر وهو الانقطاع في عبادة الله تعالى من جهاد أو حج فلذا غاير الفقير المطلق فإن المقيد يغاير المطلق لا محالة، ويظهر أثر التغاير في حكم آخر أيضا وهو زيادة التحريض والترغيب في رعاية جانبه وإذا كان كذلك لم تنقص المصارف عن سبعة وفيه تأمل انتهى، ولا يخفي وجهه. وذكر بعضهم أن التحقيق ما ذكره الجصاص في الأحكام أن من كان غنيا في بلده بداره وخدمه وفرسه وله فضل دراهم حتى لا تحل له الصدقة فإذا عزم على سفر جهاد احتاج لعدة وسلاح لم يكن محتاجا له في إقامته فيجوز أن يعطي من الصدقة وإن كان غنيا في مصره وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " الصدقة تحل للغازي الغني " فافهم
123

ولا تغفل * (وابن السبيل) * وهو المسافر المنقطع عن ماله، والاستقراض له خير من قبول الصدقة على ما في الظهيرية. وفي " فتح القدير " أنه لا يحل له أن يأخذ أكثر من حاجته، وألحق به كل من هو غائب عن ماله وان كان في بلده. وفي المحيط وإن كان تاجرا له دين على الناس لا يقدر على أخذه ولا يجد شيئا يحل له أخذ الزكاة لأنه فقير يدا كابن السبيل. وفي الخانية تفصيل في هذا المقام قال: والذي له دين مؤجل على إنسان إذا احتاج إلى النفقة يجوز له أن يأخذ من الزكاة قدر كفايته إلى حلول الأجل، وإن كان الدين غير مؤجل فإن كان من عليه الدين معسرا يجوز له أن يأخذ الزكاة في أصح الأقاويل لأنه يمنزلة ابن السبيل، وإن كان المديون موسرا معترفا لا يحل له أخذ الزكاة وكذا إذا كان جاحدا وله عليه بينة عادلة، وإن لم تكن عادلة لا يحل له الأخذ أيضا ما لم يرفع الأمر إلى القاضي فيحلفه فإذا حلفه يحل له الأخذ بعد ذلك ا ه‍، والمراد من الدين ما يبلغ نصابا كما لا يخفي. وفي " فتح القدير " ولو دفع إلى فقيره لها مهر دين على زوجها يبلغ نصابا وهو موسر بحيث لو طلبت أعطاها لا يجوز، وإن كان بحيث لا يعطى لو طلبت جاز ا ه‍. وهو مقيد لعموم ما في الخانية، والمراد من المهر ما تعورف تعجيله لأن ما تعورف تأجيله فهو دين مؤجل لا يمنع أخذ الزكاة، ويكون في الأول عدم إعطائه بمنزلة إعساره، ويفرق بينه وبين سائر الديون بأن رفع الزوج للقاضي مما لا ينبغي للمرأة بخلاف غيره، لكن في البزازية دفع الزكاة إلى أخته وهي تحت زوج إن كان مهرها المعجل أقل من النصاب أو أكثر لكن الزوج معسر له أن يدفع إليها الزكاة وإن كان موسرا والمعجل قدر النصاب لا يجوز عندهما وبه يفتي للاختياط، وعند الإمام يجوز مطلقا هذا، والعدول عن اللام إلى * (في) * في الأربعة الأخيرة على ما قال الزمخشري للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق الصدقة ممن سبق ذكره لما أن * (في) * للظرفية المنبئة عن إحاطتهم بها وكونهم محلها ومركزها وعليه فاللام لمجرد الاختصاص، وفي الانتصاف أن ثم سرا آخر هو أظهر وأقرب وذلك أن الأصناف الأوائل ملاك لما عساه أن يدفع إليهم وإنما يأخذونه تملكا فكان دخول اللام لائقابهم، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون لما يصرف نحوهم بل ولا يصرف إليهم ولكن يصرف في مصالح تتعلق بهم، فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون أو البائعون فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بملكهم لما يصرف نحوهم وإنما هم محال لهذا الصرف ولمصالحه المتعلقة به، وكذلك الغارمون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم، وأما في سبيل الله فواضح فيه ذلك، وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعا.
وعطفه على المجرور باللام ممكن ولكن عطفه على القريب أقرب، وما أشار إليه من أن المكاتب لا يملك وإنما يملك المكاتب هو الذي أشار إليه بعض أصحابنا. ففي المحيط قالوا: إنه لا يجوز إعطاء الزكاة لمكاتب هاشمي لأن الملك يقع للمولى من وجه والشبهة ملحقة بالحقيقة في حقهم وفي " البدائع " ما هو ظاهر في أن الملك يقع
للمكاتب وحينئذ فبقية الأربعة بالطريق الأولى.
والمشهور أن اللام للملك عند الشافعية وهو الذي يقتضيه مذهبهم حيث قالوا: لا بد من صرف الزكاة إلى جميع الأصناف إذا وجدت ولا تصرف إلى صنف مثلا ولا إلى أقل من ثلاثة من كل صنف بل إلى ثلاثة أو أكثر إذا وجد ذلك، وعندنا يجوز للمالك أن يدفع الزكاة إلى كل واحد منهم وله أن يقتصر على صنف واحد
124

لأن المراد بالآية بيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا تعيين الدفع لهم، ويدل له قوله تعالى: * (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) * (البقرة: 271) وأنه صلى الله عليه وسلم أتاه مال من الصدقة فجعله في صنف واحد وهو المؤلفة قلوبهم ثم أتاه مال آخر فجعله في الغارمين فدل ذلك على أنه يجوز الاقتصار على صنف واحد، ودليل جواز الاقتصار على شخص واحد منه أن الجمع المعرف بال مجاز عن الجنس، فلو حلف لا يتزوج النساء ولا يشتري العبيد يحنث بالواحد؛ فالمعنى في الآية أن جنس الصدقة لجنس الفقير، فيجوز الصرف إلى واحد لأن الاستغراق ليس بمستقيم، إذ يصير المعنى إن كل صدقة لكل فقير وهو ظاهر الفساد، وليس هناك معهود ليرتكب العهد، ولا يرد - خالعني على ما في يدي من الدراهم ولا شيء في يدها - فإنه يلزمها ثلاثة، ولو حلف لا يكلمه الأيام أو الشهور فإنه يقع على العشرة عند الإمام وعلى الأسبوع والسنة عند الإمامين لأنه أمكن العهد فلا يحمل على الجنس. فالحاصل أن حمل الجمع على الجنس مجاز وعلى العهد أو الاستغراق حقيقة، ولا مساغ للخلف إلا عند تعذر الأصل، وعلى هذا ينصف الموصى به لزيد والفقراء كالوصية لزيد وفقير.
وما ذهبنا إليه هو المروى عن عمر. وابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وبه قال سعيد بن جبير. وعطاء. وسفيان الثوري. وأحمد بن حنبل. ومالك علليهم الرحمة. وذكر ابن المنير أن جده أبا العباس أحمد بن فارس كان يستنبط من تغاير الحرفين المذكورين دليلا على أن الغرض بيان المصرف واللام لذلك فيقول: متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوفا فإما أن يكون التقدير إنما الصدقات مصروفة للفقراء كما يقول مالك ومن معه أو مملوكة للفقراء كما يقول الشافعي لكن الأول متعين لأنه تقدير يكتفي به في الحرفين جميعا ويصح تعلق اللام * (وفي) * معا به فيصح أن يقال: هذا الشيء مصروف في كذا ولكذا بخلاف تقدير مملوكة فإنه إنما يلتئم مع اللام وعند الانتهاء إلى * (في) * يحتاج إلى تقدير مصروفة ليلتئم بها فتقديره من الأول عام التعلق شامل الصحة متعين ا ه‍. وبالجملة لا يخفى قوة منزع الأئمة الثلاثة في الأخذ.
ولذا اختار بعض الشافعية ما ذهبوا إليه، وكان والد العلامة البيضاوي عمر بن محمد - وهو مفتي الشافعية في عصره - يفتى به * (فريضة من الله) * مصدر مؤكد لمقدر مأخوذ من معنى الكلام أي فرض لهم الصدقات فريضة، ونقل عن سيبويه أنه منصوب بفعله مقدرا أي فرض الله تعالى ذلك فريضة، واختار أبو البقاء كونه حالا من الضمير المسكن في قوله تعالى: * (للفقراء) * أي إنما الصدقات كائنة لهم حال كونها فريضة أي مفروضة، قيل: ودخلته التاء لإلحاقه بالأسماء كنطيحة * (والله عليم) * بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم * (حكيم) * لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي من جملتها سوق الحقوق إلى مستحقيها.
* (ومنهم الذين يؤذون النبى ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) *.
* (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) * أخرج ابن أبي حاتم عن السدى أنها نزلت في جماعة من المنافقين منهم. الحلاس بن سويد بن صامت. ورفاعة ابن عبد المنذر. ووديعة بن ثابت. وغيرهم قالوا ما لا ينبغي في حقه عليه الصلاة والسلام فقال رجل منهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغ محمدا صلى الله عليه وسلم ما تقولون فيقع بنا. فقال الحلاس: بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإن محمدا صلى الله عليه وسلم أذن، وفي رواية أذن سامعة، وعن محمد بن إسحاق أنها نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحرث، وكان رجلا آدم أحمر العينين أسفع الخدين
125

مشوه الخلقة وكان ينم حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل. فقال: إنما محمد صلى الله عليه وسلم أذن من حدثه شيئا صدقه نقول شيئا ثم نأتيه ونحلف له فيصدقنا، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: " من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحرث " وأرادوا سود الله تعالى وجوههم وأصمهم وأعمى أبصارهم بقولهم أذن أنه عليه الصلاة والسلام يسمع ما يقال له ويصدقه فيكون وصف * (أذن) * بما يفيد ذلك في كلامهم كشفا له، وهي في الأصل اسم للجارحة، وإطلاقها على الشخص بالمعنى المذكور - كما يؤيده بعض الروايات - من باب المجاز المرسل على ما في المفتاح كإطلاق العين على ربيئة القوم حيث كانت العين هي المقصودة منه، وصرح غير واحد أن ذلك من إطلاق الجزء على الكل للمبالغة كقوله: إذا ما بدت ليلى فكلى أعين * وإن هي ناجتني فكلى مسامع
وقيل: إنه مجاز عقلي كرجل عدل وفيه نظر، والمبالغة هنا على ما قيل في أنه يسمع كل قول باعتبار أنه يصدقه لا في مجرد السماع، وما قيل: إن مرادهم بكونه عليه الصلاة والسلام أذنا تصديقه بكل ما يسمع من غير فرق بين ما يليق بالقبول لمساعدة أمارات الصدق له وبين ما لا يليق به فليس من قبيل إطلاق العين على الربيئة. ولذا جعله بعضهم من قبيل التشبيه بالأذن في أنه ليس فيه وراء الاستماع تمييز حق عن باطل ليس بشيء يعتد به وقيل: إنه على تقدير مضاف أي ذو أذن ولا يخفى أنه مذهب لرونقه، وجوز أن يكون * (أذن) * صفة مشبهة من أذن يأذن إذنا إذا استمع وأنشد الجوهري لقعنب: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا * مني وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
وعلى هذا هو صفة بمعنى سميع ولا تجوز فيه وما تأذى به النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون ما قالوه في حقه عليه الصلاة والسلام من سائر الأقوال الباطلة فيكون قوله سبحانه: * (ويقولون) * الخ غير ما تأذى به. ويحتمل أن يكون نفس قولهم * (هو إذن) * فيكون عطف تفسير و * (يؤذون) * مضارع آذاه والمشهور في مصدره أذى وأذاة وأذية وجاء أيضا الإيذاء كما أثبته الراغب وقول صاحب القاموس ولا تقل إيذاء خطأ منه.
* (قل أذن خير لكم) * من قبيل رجل صدق فهو من إضافة الموصوف إلى الصفات للمبالغة في الجودة والصلاح كأنه قيل: نعم هو إذن ولكن نعم الاذن، ويجوز أن تكون الإضافة على معنى في أي هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بأذن في غير ذلك، ويدل عليه قراءة حمزة * (ورحمة) * فيما يأتي بالجر عطفا على خير فإنه لا يحسن وصف الأذن بالرحمة ويحسن أن يقال أذن في الخير والرحمة، وهذا كما قال ابن المنير أبلغ أسلوب في الرد عليهم لأن فيه اطماعا لهم بالموافقة على مدعاهم ثم كر عليهم بحسم طمعهم وبت أمنيتهم وهو كالقول الموجب. وقرأ نافع * (أذن) * بالتخفيف في الموضعين وقرأ * (أذن) * بالتنوين - فخير - صفة له بمعنى خير المشدد أو أفعل تفضيل أو مصدر وصف به للمبالغة أو بالتأويل المشهور، وقوله سبحانه: * (يؤمن بالله) * تفسير لكونه عليه الصلاة والسلام أذن خير لهم، أي يصدق بالله تعالى لما قام عنده من الأدلة والآيات الموجبة لذلك، وكون ذلك صفة خير للمخاطبين كما أنه خير للعالمين مما لا يخفى * (ويؤمن للمؤمنينذ أي يصدقهم لما علم فيهم من
126

الخلوص، والظاهر أن هذا مندرج في حيز التفسير لكن الغالب من المفسرين لم يبينوا وجهه كونه صفة خير للمخاطبين، نعم قال مولانا الشهاب: إن المعنى هو أذن خير يسمع آيات الله تعالى ودلائله فيصدقها ويسمع قول المؤمنين فيسلمه لهم ويصدقهم به، وهو تعريض بأن المنافقين أذن شر يسمعون آيات الله تعالى ولا ينتفعون بها ويسمعون قول المؤمنين ولا يقبلونه، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع قولهم إلا شفقة عليهم لا أنه يقبله لعدم تمييزه عليه الصلاة والسلام كما زعموا، وبهذا يصح وجه التفسير فتدبر انتهى، ولا يخفى أن في إرادة هذا المعنى من هذا المقدار من الآية بعدا، وربما يقال: إن المراد أنه عليه الصلاة والسلام يسمع قول المؤمنين الخلص ويصدقهم ولا يصدق المنافقين وإن سمع قولهم، وكون ذلك صفة خير للمخاطبين ءما باعتبار أنه قد ينجر إلى إخلاصهم لما أن فيه انحطاط مرتبتهم عن مرتبة المخلصين وإما باعتبار أن تصديقه صلى الله عليه وسلم للمؤمنين الخلص فيما يقولونه من الحق من متممات تصديقه آيات الله تعالى ولا شك في خيرية ذلك للمخاطبين بل ولغيرهم أيضا فليفهم.
والأيمان في قوله تعالى: * (يؤمن بالله) * بمعنى الاعتراف والتصديق كما أشرنا إليه ولذا عدى بالباء، وأما في قوله سبحانه: * (ويؤمن للمؤمنين) * فهو بمعنى جعلهم في أمان من التكذيب فاللام فيه مزيدة للتقوية لأنه بذلك المعنى متعد بنفسه كذا قيل، وفيه أن الزيادة لتقوية الفعل المتقدم على معموله قلية. وقال الزمخشري: إنه قصد من الإيمان في الأول التصديق بالله تعالى الذي هو نقيض الكفر فعدى بالباء الذي يتعدى بها الكفر حملا للنقيض على النقيض، وقصد من الإيمان في الثاني السماع من المؤمنين وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقهم لكونهم صادقين عنده فعدى باللام ألا ترى إلى قوله سبحانه: * (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) * حيث عدى الإيمان فيه باللام لأنه بمعنى التسليم لهم، وظاهر هذا أن اللام ليست مزيدة للتقوية كما في الأول، وكلام بعضهم يشعر ظاهره بزيادتها، وقوله سبحانه: * (ورحمة) * عطف على * (أذن خير) * أي وهو رحمة، وفيه الأخبار بالمصدر والكلام في ذلك معلوم * (لذين آمنوا منكم) * أي للذين أظهروا الإيمان حيث يقبله منهم لكن لا تصديقا لهم في ذلك بل رفقا بهم وترحما عليهم ولا يكشف أسرارهم ولا يهتك أستارهم.
وظاهر كلام الخازن أن المراد * (من الذين آمنوا) * المخلصون وذكر * (منكم) * باعتبار أن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون والحق حمل ذلك على المنافقين وإسناد الإيمان إليهم بصيغة الفعل بعد نسبته إلى المؤمنين المخلصين بصيغة الفاعل المنبئة عن الرسوخ والاستمرار للإيذان بأن إيمانهم أمر حادث ماله من قرار ولعل العدول عن - رحمة - لكم إلى ما ذكر للإشارة إلى ذلك. وقرأ ابن أبي عبلة * (رحمة) * بالنصب على أنه مفعول له لفعل مقدر دل عليه * (أذن خير) * أي يأذن لك م ويسمع رحمة وجوز عطفه على آخر مقدر أي تصديقا لهم ورحمة لكم * (والذين يؤذون رسول الله) * أي بأي نوع من الإيذاء كان وفي صيغة الاستقبال المشعرة بترتب الوعيد على الاستمرار على ما هم عليه إشعار بقبول توبتهم * (لهم عذاب أليم) * أي بسبب ذلك كما ينبىء عنه بناء الحكم على الموصول وجملة الموصول وخبره مسوق من قبله عز وجل على نهج الوعيد غير داخل تحت الخطاب وفي تكرير الإسناد بإثبات العذاب الأليم لهم ثم جعل الجملة خبرا ما لا يخفى من المبالغة وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة مع الإضافة إلى الاسم الجليل لغاية التعظيم والتنبيه على أن أذيته عليه الصلاة والسلام راجعة إلى جنابه عز وجل موجبة لكمال السخط والغضب منه
127

سبحانه. وذكر بعضهم أن الأيذاء لا يختص بحال حياته صلى الله عليه وسلم بل يكون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أيضا وعدوا من ذلك التكلم في أبويه صلى الله عليه وسلم بما لا يليق وكذا إيذاء أهل بيته رضي الله تعالى عنهم كإيذاء يزيد عليه ما يستحق لهم وليس بالبعيد.
* (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) *.
* (يحلفون بالله لكم ليرضوكم) * الخطاب للمؤمنين وكان المنافقون يتكلمون بما لا يليق ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالأيمان ليعذروهم ويرضوا عنهم. أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ولئن كان ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم حقا لهم شر من الحمر، فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم لحق ولأنت شر من الحمار، فسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال: ما حملك على الذي قلت؟ فجعل يلتعن ويحلف بالله تعالى ما قال ذلك وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل سبحانه في ذلك: * (يحلفون) * الخ أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا ما نقل عنهم مما يورث أذاة النبي صلى الله عليه وسلم ليرضوكم بذلك. وعن مقاتل والكلبي أنها نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم منها أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلفهم ويعتلون ويحلفون.
وأنكر بعضهم هذا مقتصرا على الأول ولعله رأى ذلك أوفق بالمقام، وإنما أفرد إرضاءهم بالتعليل مع أن عمدة أغراضهم إرضاء الرسول صلى الله عليه وسلم للإيذان بأن ذلك بمعزل عن أن يكون وسيلة لإرضائه عليه الصلاة والسلام وأنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يكذبهم رفقا بهم وسترا لعيوبهم لا عن رضى بما فعلوا وقبول قلبي لما قالوا دوالله ورسوله أحق أن يرضوه) * أي أحق بالإرضاء من غيره ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والموافقة لأمره وإيفاء حقوقه عليه الصلاة والسلام في باب الإجلال والاعظام حضورا وغيبة، وأما الإيمان فإنما يرضى بها من انحصر طريق علمه في الأخبار إلى أن يجيء الحق ويزهق الباطل، والجلمة في موضع الحال من ضمير * (يحلفون) * والمراد ذمهم بالاشتغال فيما لا يعنيهم والاعراض عما يهمهم ويجديهم.
وتوحيد الضمير في * (يرضوه) * مع أن الظاهر بعد العطف بالواو التثنية لأن إرضاء الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينفك عن إرضاء الله تعالى و * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * (النساء: 80) فلتلازمهما جعلا كشيء واحد فعاد إليهما الضمير المفرد، أو لأن الضمير مستعار لاسم الإشارة الذي يشار به إلى الواحد والمتعدد بتأويل المذكور، وإنما لم يثن تأدبا لئلا بجمع بين الله تعالى وغيره في ضمير تثنية: وقد نهى عنه على كلام فيه، أو لأنه عائد إلى رسوله والكلام جملتان حذف خبر الأولى لدلالة خبر الثانية عليه كما في قوله:
نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف
أو إلى الله تعالى على أن المذكور خبر الجملة الأولى وخبر الجملة الثانية محذوف، واختار الأول في مثل ذلك التركيب سيبويه لقرب ما جعل المذكور خبرا له مع السلامة من الفصل بين المبتدأ والخبر، واختار الثاني المبرد للسبق، وقيل: إن الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام والخبر له لا غير ولا حذف في الكلام لأن الكلام في إيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام وإرضائه فيكون ذكر الله تعالى تعظيما له عليه الصلاة والسلام وتمهيدا فلذا لم يخبر عنه وخص الخبر بالرسول صلى الله عليه وسلم، ونظيره قوله تعالى: * (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم) * (النور: 48) ولا يخفى
128

أن اعتبار الأخبار عن المعطوف وعدم اعتبار خبر للمتدأ المعطوف عليه أصلا مع أنه المستقل في الابتداء في غاية الغرابة، والفرق بين الآيتين مثل الشمس ظاهر * (إن كانوا مؤمنين) * جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كانوا مؤمنين إيمانا صادقا في الظاهر والباطن فليرضوا الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بما ذكر فإنهما أحق بالإرضاء.
* (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذالك الخزى العظيم) *.
* (ألم يعلموا) * أي أولئك المنافقون، والاستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من العظيمة مع علمهم بما سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم بو خامة عاقبتها. وقرىء * (تعلموا) * بالتاء على الالتفات لزيادة التقريع والتوبيخ إذا كان الخطاب للمنافقين لا للمؤمنين كما قيل به. وفي قراءة * (ألم تعلم) * والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل واقف عليه، والعلم يحتمل أن يكون المتعدي لمفعولين وأن يكون المتعدي لواحد * (أنه) * أي الشأن * (من يحادد الله ورسوله) * أي يخالف أمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، وأصل المحادة مفاعلة من الحد بمعنى الجهة والجانب كالمشاقة من الشق والمعاداة من العدوة بمعناه أيضا فإن كان واحد من مباشري كل من الأفعال المذكورة في حد وشق وعدوة غير ما عليه صاحبه، ويحتمل أن تكون من الحد بمعنى المنع، و * (من) * شرطية جوابها قوله سبحانه: * (فأن له نار جهنم) * على أن خبره محذوف أي فحق أن له نار جهنم، وقدر ذلك لأن جواب الشرط لا يكون إلا جملة وأن المفتوحة مع ما في حيزها مفرد تأويلا، وقدر مقدما لأنها لا تقع في ابتداء الكلام كالمكسورة، وجوز أن يكون المقدر خبرا أي الأمر أن له الخ، وقيل المراد فله نار جهنم وأن تكرير * (أن) * في قوله سبحانه: * (أنه) * توكيدا قيل: وفيه بحث لأنه لو كان المراد فله وأن توكيدا لكان نار جهنم مرفوعا ولم يعمل * (أن) * فيه، ولما فصل بين المؤكد والمؤكد بجملة الشرط، ولما وقع أجنبي بين فاء الجزاء وما في حيزه. وأجيب بأنه ليس من باب التوكيد اللفظي بل التكرير لبعد العهد وهو من باب التطرية ومثل ذلك لا يمنع العمل ودخول الفاء. ونظيره قوله تعالى: * (إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) * وقوله: لقد علم الحي اليمانون أنني * إذا قلت أما بعد أني خطيبها
وكم وكم. وجعل الآية من هذا الباب نقله سيبويه في الكتاب عن الخليل وهو - هو - وليس * (زعم) * في كلامه تمريضا له لأنه عادته في كل ما نقله كما بينه شراحه وجوز أن يكون معطوفا على * (أنه) * وجواب الشرط محذوف أي ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فان له الخ. وحاصله ألم يعلموا هذا وهذا عقيبه ولا يخفى بعده مع أن أبا حيان قال: إنه لا يصح لأنهم نصوا على أن حذف الجواب إنما يكون إذا كان فعل الشرط ماضيا أو مضارعا مجزوما بلم وما هنا ليس كذلك. وتعقبه بعضهم بأن ما ذكره ليس متفقا عليه فقد نص ابن هشام على خلافه فكأنه شرط للأكثرية، والقول بأن حق العطف فيما ذكر أن يكون بالواو قال فيه الشهاب ليس بشيء إلا أن استحقاقه النار بسبب المحادة بلا شبهة، وقرىء. * (فإن) * بالكسر ولا يحتاج إلى توجيه لظهوره، وقوله سبحانه: * (خالدا فيها) * حال مقدرة من الضمير المجرور ان اعتبر في الظرف ابتداء الاستقرار وحدوثه وانه اعتبر مطلق
129

الاستقرار فالأمر واضح * (ذالك) * أي ما ذكر من العذاب * (الخزي العظيم) * أي الذل والهوان المقارن للفضيحة، ولا يخفى ما في الحمل من المبالغة، والجملة تذييل لما سبق.
* (يحذر المن‍افقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون) *.
* (يحذر المنافقون أن تنزل) * أي من أن تنزل. ويجوز أن يكون يحذر متعديا بنفسه كما يدل عليه ما أنشد سيبويه من قوله: حذر أمورا لا تضير وآمن * ما ليس
ينجيه من الأقدار
وأنكر المبرد كونه متعديا لأن الحذر من هيئات النفس كالفزع، والبيت قيل: إنه مصنوع، ورد ما قاله المبرد بأن من الهيآت ما يتعدى كخاف وخشي فما ذكره غير لازم * (عليهم) * أي في شأنهم فإن ما نزل في حقهم نازل عليهم، وهذا إنما يحتاج إليه إذا كان الجار والمجرور متعلقا بتنزل، وأما إذا كان متعلقا بمقدر وقع صفة لقوله سبحانه: * (سورة) * كما قيل أي تنزل سورة كائنة عليهم من قولهم: هذا لك وهذا عليك فلا كما لا يخفى إلا أنه خلاف الظاهر جدا. والظاهر تعلق الجار بما عنده، وصفة سورة بقوله تعالى شأنه: * (تنبئهم) * أي المنافقين * (بما في قلوبهم) * من الأسرار الخفية فضلا عما كانوا يظهرونه فيما بينهم خاصة من أقاويل الكفر والنفاق، والمراد أنها تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم فينتشر فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة فكأنهم تخبرهم بها وإلا فما في قلوبهم معلوم لهم والمحذور عندهم إطلاع المؤمنين عليه لهم، وقيل: المراد تخبرهم بما في قلوبهم على وجه يكون المقصود منه لازم فائدة الخبر وهو علم الرسول عليه الصلاة والسلام به، وقيل: المراد بالتنبئة المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه فتنبئهم بها وتنعى عليهم قبائحهم، وجوز أن يكون الضميران الأولان للمؤمنين والثالث للمنافقين، وتفكيك الضمائر ليس بممنوع مطلقا بل هو جائز عند قوة القرينة وظهور الدلالة عليه كما هنا، أي يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوب المنافقين وتهتك عليهم أستارهم وتفشي أسرارهم، وفي الأخبار عنهم بأنهم يحذرون ذلك إشعار بأنهم لم يكونوا على بت في أمر الرسول عليه الصلاة والسلام. وقال أبو مسلم: كان إظهار الحذر بطريق الاستهزاء فإنهم كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر كل شيء ويقول: إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهزئون به لقوله سبحانه: * (قل استهزءوا) * فإنه يدل على أنه وقع منهم استهزاء بهذه المقالة. والأمر للتهديد والقائلون بما تقدم قالوا: المراد نافقوا لأن المنافق مستهزىء وكما جعل قولهم: آمنا وما هم بمؤمنين مخادعة في البقرة جعل هنا استهزاء، وقيل: إن * (يحذر) * خبر في معنى الأمر أي ليحذر. وتعقب بأن قوله سبحانه: * (إن الله مخرج مصا تحذرون) * ينبو عنه نوع نبوة إلا أن يراد ما يحذرون بموجب هذا الأمر وهو خلاف الظاهر، وكان الظاهر أن يقول: إن الله منزل سورة كذلك أو منزل ما تحذرون لكن عدل عنه إلى ما في النظم الكريم للمبالغة إذ معناه مبرز ما تحذرونه من إنزال السورة، أو لأنه أعم إذ المراد مظهر كل ما تحذرون ظهوره من القبائح، وإسناد الإخراج إلى الله تعالى للإشارة إلى أنه سبحانه يخرجه إخراجا لا مزيد عليه، والتأكيد لدفع التردد أو رد الإنكار.
* (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أب الله وءاي‍اته ورسوله كنتم تستهزءون) *.
ولئن سألتهم) * عما قالوه * (ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) * أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن قتادة قال: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك إذ نظر إلى أناس بين يديه من المنافقين يقولون: أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على ذلك فقال: احبسوا على هؤلاء الركب فأتاهم فقال صلى الله عليه وسلم
130

قلتم: كذا وكذا قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب. فنزلت " وأخرج ابن جرير. وابن مردويه. وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رجل في غزوة تبوك ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، قال عبد الله: فأنا رأيت الرجل متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكيه وهو يقول: يا رسول الله إنا كنا نخوض ونلعب ورسول الله عليه الصلاة والسلام يقول ما أمره الله تعالى به في قوله سبحانه: * (قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزؤون) * وجاء في بعض الروايات أن هذا المتعلق عبد الله بن أبي رأس المنافقين وهل أنكروا ما قالوه واعتذروا بهذا العذر الباطل أو لم ينكروه وقالوا ما قالوا فيه خلاف والإمام على الثاني وهو أوفق بظاهر النظم الجليل.
وأصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ثم كثر حتى صار اسما لكل دخول فيه تلويث وإذاء وأرادوا إنما نلعب ونتلهى لتقصر مسافة السفر بالحديث والمداعبة كما يفعل الركب ذلك لقطع الطريق ولم يكن ذلك منا على طريق الجد، والاستفهام للتوبيخ، وأولى المتعلق إيذانا بأن الاستهزاء واقع لا محالة لكن الخطاب في المستهزأ به، أي قل لهم غير ملتفت إلى اعتذارهم ناعيا عليهم جناياتهم قد استهزأتم بمن لا يصح الاستهزاء به وأخطأتم مواقع فعلكم الشنيع الذي طالما ارتكبتموه، ومن تأمل علم أن قولهم السابق في سبب النزول متضمن للاستهزاء المذكور.
* (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيم‍انكم إن نعف عن طآئفة منكم نعذب طآئفة بأنهم كانوا مجرمين) *.
* (لا تعتذروا) * أي لا تشتغلوا بالاعتذار وتستمروا عليه فليس النهي عن أصله لأنه قد وقع، وإنما نهوا عن ذلك لأن ما يزعمونه معلوم الكذب بين البطلان، والاعتقدار قيل: إنه عبارة عن محو أثر الذنب من قولهم: اعتذرت المنازل إذا درست لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه واندراسه.
وقيل هو القطع ومنه يقال للقلفة عذرة لأنها تعذر أي تقطع وللبكارة عذرة لأنها تقطع بالافتراع، ويقال: اعتذرت المياة إذا انقطعت فالعذر لما كان سببا لقطع اللوم سمي عذرا، والقولان منقولان عن أهل اللغة وهما على ما قال الواحدي متقاربان * (قد كفرتم) * أي أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن فيه * (بعد إيم‍انكم) * أي إظهاركم الإيمان وهذا وما قبله لأنه القوم منافقون فأصل الكفر في باطنهم ولا إيمان في نفس الأمر لهم.
واستدل بعضهم بالآية على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء ولا خلاف بين الأئمة في ذلك * (إن نعف عن طائفة منكم) * لتوبتهم وإخلاصهم على أن الخطاب لجميع المنافقين أو لتجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء على أن الخطاب للمؤذين والمستهزئين منهم، والعفو في ذلك عن عقوبة الدنيا العاجلة * (نعذب طائفة بأنهم
كانوا مجرمين) * أي مصرين على النفاق وهم غير التائبين أو مباشرين له وهم غير المجتنبين.
أخرج ابن إسحق. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال من خبر فيه طول: كان الذي عفى عنه محشي بن حمير الأشجعي فتسمى عبد الرحمن وسأل الله تعالى أن يقتل شهيدا لا يعلم مقتله فقتل يوم اليمامة فلم يعلم مقتله ولا قاتله ولم ير له عين ولا أثر.
وفي بعض الروايات أنه لما نزلت هذه الآية تاب عن نفاقه وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقشعر منها
131

الجلود وتجب منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة واستجيب دعاؤه رضي الله تعالى عنه. ومن هنا قال مجاهد: إن الطائفة تطلق على الواجد إلا الألف، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الطائفة الواحد والنفر، وقرىء * (يعف) * و * (يعذب) * بالياء وبناء الفاعل فيهما وهو الله تعالى. وقرىء * (أن تعف) * و * (تعذب) * بالتاء والبناء للمفعول. واستشكلت هذه القراءة بأن الفعل الأول مسند فيها إلى الجار والمجرور ومثله يلزم تذكيره ولا يجوز تأنيثه إذا كان المجرور مؤنثا فيقال سير على الدابة ولا يقال سيرت عليها. وأجيب بأن ذلك من الميل مع المعنى والرعاية له فلذا أنث لتأنيث المجرور إذ معنى * (نعف عن طائفة) * ترحم طائفة وهو من غرائب العربية، وقيل: لو قيل بالمشاكلة لم يبعد، وقيل: إن نائب الفاعل ضمير الذنوب والتقدير ان تعف هي أي الذنوب، ومن الناس من استشكل الشرطية من حيث هي بأنه كيف يصح أن يكون * (نعذب طائفة) * جوابا للشرط السابق ومن شرط الشرط والجزاء الاتصال بطريق السببية أو اللزوم في الجملة وكلاهما مفقود في الجملة، وقد ذكر ذلك العز بن عبد السلام في أماليه ونقله عنه العلامة ابن حجر في ذيل الفتاوي وذكر أنه لم ير أحدا نبه على الجواب عنه لكنه يعلم من سبب النزول، وتكلم بعد أن ساق الخبر بما لا يخلو عن غموض، ولقد ذكرت السؤال وأنا في عنفوان الشباب مع جوابه للعلامة المذكور لدى شيخ من أهل العلم قد حلب الدهر أشطره وطلبت منه حل ذلك فأعرض عن تقرير الجواب الذي في الذيل وأظن أن ذلك لجهله به وشمر الذيل وكشف عن ساق للجواب من تلقاء نفسه فقال: إن الشرطية اتفاقية نحو قولك: إن كان الإنسان ناطقا فالحمار ناهق وشرع في تقرير ذلك بما تضحك منه الثكلى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأجاب مولانا سري الدين: بأن الجزاء محذوف مسبب عن المذكور أي فلا ينبغي أن يفتروا أو فلا يفتروا فلا بد من تعذيب طائفة، ثم قال: فإن قيل هذا التقدير لا يفيد سببية مضمون الشرط لمضمون الجزاء. قلت: يحمل على سببيته للأخبار بمضمون الجزاء أو سببيته للأمر بعدم الاغترار قياسا على الأخبار، وقد حقق الكلام في ذلك العلامة التفتازاني عند قوله تعالى: * (قل من كان عدوا لجبريل فانه نزله على قلبك) * من سورة البقرة في حاشية الكشاف.
* (المن‍افقون والمن‍افقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المن‍افقين هم الف‍اسقون) *.
* (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) * أي متشابهون في النفاق كتشابه أبعاض الشيء الواحد، والمراد الاتحاد في الحقيقة والصورة كالماء والتراب، والآية متصلة بجميع ما ذكر من قبائحهم، وقيل: هي متصلة بقوله تعالى: * (يحلفون بالله انهم لمنكم) * والمراد منها تكذيب قولهم المذكور وإبطال له وتقرير لقوله سبحانه: * (وما هم منكم) * وما بعد من تغاير صفاتهم وصفات المؤمنين كالدليل على ذلك، و * (من) * على التقريرين اتصالية كما في قوله عليه الصلاة والسلام: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى "، والتعرض لأحوال الإناث للإيذان بكمال عراقتهم في الكفر والنفاق * (يأمرون بالمنكر) * أي بالتكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم * (وينهون عن المعروف) * أي شهادة أن لا إله إلا الله وإلا قرار بما أنزل الله تعالى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج عن أبي العالية أنه قال: كل منكر ذكر في القرآن المراد منه عبادة الأوثان والشيطان، ولا يبعد أن يراد بالمنكر والمعروف ما يعم ما ذكر وغيره ويدخل فيه المذكور دخولا أوليا، والجملة استئناف مقرر
132

لمضمون ما سبق مفصح عن مضادة حالهم لحال المؤمنين أو خير ثان * (ويقبضون أيديهم) * عن الانفاق في طاعة الله ومرضاته كما روي عن قتادة. والحسن، وقبض اليد كناية عن الشح والبخل كما أن بسطها كناية عن الجود لأن من يعطي يمد يده بخلاف من يمنع، وعن الجبائي أن المراد يمسكون أيديهم عن الجهاد في سبيل الله تعالى وهو خلاف الشائع في هذه الكلمة * (نسوا الله) * النسيان مجاز عن الترك وهو كناية عن ترك الطاعة فالمراد لم يطيعوه سبحانه * (فنسيهم) * منه لطفه وفضله عنهم، والتعبير بالنسيان للمشاكلة * (إن المن‍افقين هم الف‍اسقون) * أي الكاملون في التمرد والفسق الذي هو الخروج عن الطاعة والانسلاخ عن كل حتى كأنهم الجنس كله، ومن هنا صح الحصر المستفاد من الفصل وتعريف الخبر وإلا فكم فاسق سواهم.
والاظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير، ولعله لم يذكر المنافقات اكتفاء بقرب العهد، ومثله في نكتة الاظهار [بم قوله سبحانه:
* (وعد الله المن‍افقين والمن‍افقات والكفار نار جهنم خ‍الدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) *.
* (وعد الله المن‍افقين والمن‍افقات والكفار) * أي المجاهرين فهو من عطف المغار، وقد يكون من عطف العام على الخاص * (نار جهنم خ‍الدين فيها) * حال مقدرة من مفعول * (وعد) * أي مقدرين الخلود، قيل: والمراد دخولهم وتعذيبهم بنار جهنم في تلك الحال لما يلوح لهم يقدرون الخلود في أنفسهم فلا حاجة لما قاله بعضهم من أن التقدير مقدري الخلود بصيغة المفعول.
والإضافة إلى الخلود لأنهم لم يقدروه وإنما قدره الله تعالى لهم، وقيل: إذا كان المراد يعذبهم الله سبحانه بنار جهنم خالدين لا يحتاج إلى التقدير، والتعبير بالوعد للتهكم نحو قول سبحانه: * (فبشرهم بعذاب أليم) * (الإنشقاق: 24) * (هي حسبهم) * عقابا وجزاء أي فيها ما يكفي من ذلك، وفيه ما يدل على عظم عقابها وعذابها فإنه إذا قيل للمعذب كفى هذا دل على أنه بلغ غاية النكاية * (ولعنهم الله) * أي أبعدهم من رحمته وخيره وأهانهم؛ وفي إظهار الاسم الجليل من الإيذان بشدة السخط ما لا يخفى * (ولهم عذاب مقيم) * أي نوع من العذاب غير عذاب النار دائم لا ينقطع أبدا فلا تكرار مع ما تقدم، ولا ينافي ذلك * (هي حسبهم) * لأنه بالنظر إلى
تعذيبهم بالنار، وقيل: في دفع التكرار إن ما تقدم وعيد وهذا بيان لوقوع ما وعدوا به على أنه لا مانع من التأكيد، وقيل: إن الأول عذاب الآخرة وهذا عذاب ما يقاسونه في الدنيا من التعب والخوف في الفضيحة والقتل ونحوه، وفسرت الإقامة بعدم الانقطاع لأنها من صفات العقلاء فلا يوصف بها العذاب فهي مجاز عما ذكر.
وجوز أن يكون وصف العذاب بها كما في قوله تعالى: * (عشية راضية) * (القارعة: 7) فالمجاز حينئذ عقلي.
* (ك الذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأول‍ادا فاستمتعوا بخل‍اقهم فاستمتعتم بخل‍اقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخل‍اقهم وخضتم ك الذي خاضوا أول‍ائك حبطت أعم‍الهم في الدنيا والاخرة وأول‍ائك هم الخ‍اسرون) *.
* (كالذين من قبلكم) * التفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد، والكاف في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم مثل الذين من قبلكم من الأمم المهلكة أو في حيز النصب بفعل مقدر أي فعلتم مثل الذين من قبلكم، ونحوه قول النمر يصف ثور وحش وكلابا: حتى إذا الكلاب قال لها * كاليوم مطلوبا ولا طالبا
فإن أصله لم أر مطلوبا رأيته اليوم ولا طلبة كطلبة رأيتها اليوم فاختصر الكلام فقيل لم أر مطلوبا كمطلوب اليوم لملابسته له ثم حذف المضاف اتساعا وعدم الباس، وقيل: كاليوم وقدم على الموصوف فصار
133

حالا للاعتناء والمبالغة وحذف الفعل للقرينة الحالية ووجه الشبه المعمولية لفعل محذوف، وقوله سبحانه: * (كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا) * الخ تفسير للتشبيه وبيان لوجه الشبه بين المخاطبين ومن قبلهم فلا محل لها من الاعراب، وفيه إيذان بأن المخاطبين أولى وأحق بأن يصيبهم ما أصابهم * (فستمتعوا بخلاقهم) * أي تمتعوا بنصيبهم من ملاذ الدنيا، وفي صيغة الاستفعال ما ليس في التفعل من الاستفادة والاستدامة في التمتع، واشقاق الخلاق من الخلق بمعنى التقدير وهو أصل معناه لغة * (فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم) * ذم الأولين باستمتاعهم بحظوظهم الخسيسة من الشهوات الفانية والتهائهم فيها عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقية تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم، ولذلك اختير الاطناب بزيادة * (فاستمتعوا بخلاقهم) * وهذا كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مقله، ومحل الكافالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي استمتعتم استمتاعا كاستمتاع الذين * (وخضتم) * أي دخلتم في الباطل * (كالذي خاضوا) * أي كالذين فحذفت نونه تخفيفا كما في قوله: إن الذين حانت بفلج دماؤهم * هم القوم كل القوم يا أم خالد
ويجوز أن أكون الذي صفة لمفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق فلوحظ في الصفة اللفظ وفي الضمير المغنى أو هو صفة مصذر محذوف أي كالخوض الذي خاضوه ورجح بعدم التكلف فيه، وقال الفراء: إن الذي تكون مصدرية وخرج هذا عليه أي كخوضهم وهو كما قال أبو البقاء نادر، وهذه الجملة عطف على ما قبلها وحينئذ إما أن يقدر فيها ما يجعلها على طرزه لعطفها عليه أو لا يقدر إشارة إلى الاعتناء بالأول * (أولئك) * إشارة إلى المتصفين بالصفات المعدودة من المشبهين والمشبه بهم، وكونه إشارة إلى الأخير يقتضي أن يكون حكم المشبهين مفهوما ضمنا ويؤدي إلى خلو تلوين الخطاب عن الفائدة إذ الظاهر حينئد أولئكم والخطاب لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام أو لكل من يصلح له أي أولئك المتصفون بما ذكر من القبائح * (حبطت أعمالهم) * أي التي كانوا يستحقون بها أجورا حسنة لو قارنت الإيمان، والحبط السقوط والبطلان والاضمحلال؛ والمراد لم يستحقوا عليها ثوابا وكرامة * (في الدنيا والآخرة) * أما في الآخرة فظاهر وأما في الدنيا فلأن ما حصل لهم من الصحة والسعة ونحوهما ليس الا بطريق الاستدراج كما نطقت به الآيات دون الكرامة * (وأولئك) * الموصوفون بحبط الأعمال في الدارين * (هم الخ‍اسرون) * أي الكاملون في الخسران الجامعون لمباديه وأسبابه طرا.
وإيراد اسم الإشارة في الموضعين للأشعار بعلية الأوصاف المشار إليها للحبط والخسران.
* (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصح‍ابمدين والمؤتفك‍ات أتتهم رسلهم بالبين‍ات فما كان الله ليظلمهم ول‍اكن كانوا أنفسهم يظلمون) *.
* (ألم يأتهم) * أي المنافقين * (نبأ الذين من قبلهم) * أي خبرهم الذي له شأن واستفهام للتقرير والتحذير * (قوم نوح) * أغرقوا بالطوفان * (وعاد) * أهلكوا بالريح * (وثمود) * أهلكوا بالرجفة، وغير الأسلوب في القومين لأنهم لم يشتهروا بنبيهم، وقيل: لأن الكثير منهم آمن * (وقوم إبراهيم) * أهلك نمروذ رئيسهم ببعوض وأبيدوا بعده لكن لا بسبب سماوي كغيرهم * (وأصح‍ابمدين) * أي أهلها وهم قوم شعيب عليه السلام أهلكوا
134

بالنار يوم الظلة أو بالصيحة والرجفة أو بالنار والرجفة على اختلاف الروايات * (والمؤتفكات) * جمع مؤتفكة من الائتفاك وهو الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفل بالخسف، والمراد بها إما قريات قوم لوط عليه السلام فالائتفاك على حقيقته فإنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها وأمطر على من فيها حجارة من سجيل وإما قريات المكذبين المتمردين مطلقا فالائتفاك مجاز عن انقلاب حالها من الخير إلى الشر على طريق الاستعارة كقول ابن الرومي: وما الخسف أن تلقى أسافل بلدة * أعاليها بل أن تسود الأراذل
لأنها لم يصبها كلها الائتفاك الحقيقي * (أتتهم رسلهم بالبينات) * استئناف لبيان نبئهم، وضمير الجمع للجميع لا للمؤتفكات فقط * (فما كان الله ليظلمهم) * أي فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى فما كان الخ، فالفاء للعطف على ذلك المقدر الذي ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام، أي لم يكن من عادته سبحاته ما يشبه ظلم الناس كالعقوبة بلا جرم، وقد يحمل على استمرار النفي أي لا يصدر منه سبحانه ذلك أصلا بل هو أبلغ كما لا يخفى. وقول الزمخشري: أي فما صح منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح مبني على الاعتزال. * (ول‍اكن كانوا أنفسهم يظلمون) * حيث عرضوها بمقتضى استعدادهم للعقاب بالكفر والتكذيب، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار، وتقديم المفعول على ما قرره بعض الأفاضل لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي
من لا يرى التقديم موجبا للقصر كابن الأثير فيما قيل.
* (والمؤمنون والمؤمن‍ات بعضهم أوليآء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة ويطيعون الله ورسوله أول‍ائك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) *.
والمؤمنون والمؤمنات) * بيان لحسن حال المؤمنين والمؤمنات حالا ومآلا بعد بيان حال أضدادهم عاجلا وآجلا، وقوله سبحانه: * (بعضهم أولياء بعض) * يقابل قوله تعالى فيما مر: * (بعضهم من بعض) * (التوبة: 67)، وتغيير الأسلوب للإشارة إلى تناصرهم وتعاضدهم بخلاف أولئك؛ وقوله عز وجل: * (يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) * ظاهر المقابلة * (ليأمرون بالمنكر) * الخ والكلام في المنكر والمعروف معروف، وقوله جل وعلا: * (ويقيمون الصلاة) * في مقابلة * (نسوا الله) * (التوبة: 67) وقوله تعالى جده: * (ويؤتون الزكواة) * في مقابلة * (يقبضون أيديهم) * (التوبة: 67) وقوله تعبارك وتعالى: * (ويطيعون الله ورسوله) * أي في سائر الأمور في مقابلة وصف المناقين بكمال الفسق والخروج عن الطاعة وقيل: هو في مقابلة * (نسوا الله) *، وقوله سبحانه: * (ويقيمون الصلاة) * زيادة مدح، وقوله تعالى شأنه: * (أولئك سيرحمهم الله) * في مقابلة * (فنسيهم) * (التوبة: 67) المفسر بمنع لطفه ورحمته سبحانه، وقيل: في مقابلة * (أولئك هم الفاسقون) * (النور: 4) لأنه بمعنى المتقين المرحومين، والإشارة إلى المؤمنين والمؤمنات باعتبار اتصافهم بما سلف من الصفات الجليلة، والاتيان بما يدل على البعد لما مر غير مرة.
والسين على ما قال الزمخشري وتبعه غير واحد لتأكيد الوعد وهي كما تفيد ذلك تفيد تأكيد الوعيد، ونظر فيه صاحب التقريب ووجه ذلك بأن السين في الإثبات في مقابلة لن في النفي فتكون بهذا الاعتبار تأكيدا لما دخلت عليه ولا فرق في ذلك بين أن يكون وعدا أو وعيدا أو غيرهما. وقال العلامة ابن حجر: ما زعمه الزمخشري من أن السين تفيد القطع بمدخولها مردود بأن القطع إنما فهم من المقام لا من الوضع وهو توطئة
135

لمذهبه الفاسد في تحتم الجزاء ومن غفل عن هذه الدسيسة وجهه، وتعقبه الفهامة ابن قاسم بأن هذا لا وجه له لأنه أمر نقلي لا يدفعه ما ذكر ونسبة الغفلة للأئمة إنما أوجبه حب الاعتراض، وحينئذ فالمعنى أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة يرحمهم الله تعالى لا محالة * (إن الله عزيز) * قوي قادر على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريده * (حكيم) * يضع الأشياء مواضعها ومن ذلك النعمة والنقمة؛ والجملة تعليل للوعد [بم وقوله تعالى:
* (وعد الله المؤمنين والمؤمن‍ات جن‍ات تجري من تحتها الأنه‍ار خ‍الدين فيها ومس‍اكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذالك هو الفوز العظيم) *.
* (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) * في مقابلة الوعيد السابق للمنافقين المعبر عنه بالوعد تهكما كما مر، ويفهم من كلام البعض أن قوله سبحانه: * (سيرحمهم) * بيان لإفاضة آثار الرحمة الدنيوية من التأييد والنصر وهذا تفصيل لآثار رحمته سبحانه الأخروية، والاظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير والأشعار بعلية الإيمان لما تعلق به الوعد، ولم يضم إليه باقي الأوصاف للإيذان بأنه من لوازمه ومسيتبعاته، والكلام في - خالدين - هنا كالكلام فيما مر * (ومساكن طيبة) * أي تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش فالاسناد اما حقيقي أو مجازي.
وأخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن الحسن قال: سألت عمران بن حصين. وأبا هريرة عن تفسير * (ومساكن طيبة) * فقالا: على الخبير سقطت سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة في كل مائدة سبعون لونا من كل طعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة فيعطي المؤمن من القوة في كل غداة ما يأتي على ذلك كله " * (في جن‍ات عدن) * قيل: هو علم لمكان مخصوص بدليل قوله تعالى: * (جنات عدن التي وعد الرحمن) * (مريم: 61) حيث وصف فيه بالمعرفة، ولما أخرجه البزار. والدارقطني في المختلف والمؤتلف. وابن مردويه من حديث أبي الدرداء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عدن دار الله تعالى لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون. والصديقون. والشهداء يقول الله سبحانه طوبى لمن دخلك " وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. وعن ابن مسعود أنها بطنان الجنة وسرتها. وقال عطاء بن السائب: عدن نهر في الجنة جناته على حافاته. وقيل: العدن في الأصل الاستقرار والثبات ويقال: عدن بالمكان إذا أقام. والمراد به هنا الإقامة على وجه الخلود لأنه الفرد الكامل المناسب لمقام المدح أي في جنات إقامة وخلود، وعلى هذا الجنات كلها جنات عدن * (لا يبغون عنها حولا) * (الكهف: 108) والتغاير بين المساكن والجنات المشعر به العطف إما ذاتي بناء على أن يراد بالجنات غير عدن وهي لعامة المؤمنين وعدن للنبيين عليهم الصلاة والسلام والصديقين والشهداء أو يراد بها البساتين أنفسها وهي غير المساكن كما هو ظاهر، فالوعد حينئذ صريحا بشيئين والمساكن فلكل أحد جنة ومسكن وإما تغاير وصفي فيكون كل منهما عاما ولكن الأول باعتبار اشتمالها على الأنهاء والبساتين والثاني لا بهذا الاعتبار، وكأنه وصف ما وعدوا به
136

أولا بأنه من جنس ما هو أشرف الأماكن المعروفة عندهم من الجنات ذات الأنهار الجارية لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن سوائب الكدورات التي لا تكاد تخلو عنها أماكن الدنيا وأهلها وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ثم وصف بأنه دار إقامة بلا ارتحال وثبات بلا زوال ولا يعد هذا تكرارا لقوله سبحانه: * (خالدين فيها) * كما لا يخفى ثم وعدهم جل شأنه كما يفهم من الكلام هو ما أجل وأعلى من ذلك كله بقوله تبارك وتعالى: * (ورضوان من الله) * أي وقدر يسير من رضوانه سبحانه * (أكبر) * ولقصد إفادة ذلك عدل عن رضوان الله الأخضر إلى ما في النظم الجليل، وقيل: إفادة العدول كون ما ذكر أظهر في توجه الرضوان إليهم، ولعله إنما لم يعبر بالرضا تعظيما لشأن الله تعالى في نفسه لأن في الرضوان من المبالغة ما لا يخفى ولذلك لم يستعمل في القرآن إلا
في رضاء الله سبحانه، وإنما كان ذلك أكبر لأنه مبدأ لحلول دار الإقامة ووصول كل سعادة وكرامة وهو غاية أرب المحبين ومنتهى أمنية الراغبين.
وقد أخرج الشيخان. وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعذ أحدا من خلقك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك يا ربنا؟ فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا " ولعل عدم نظم هذا الرضوان في سلك الوعد على طرز ما تقدم مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موجود ولأنه مستمر في الدارين * (ذالك) * أي جميع ما ذكر * (هو الفوز العظيم) * دون ما يعده الناس فوزا من خظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظر عن فنائها وتغيرها وتنغصها بالآلام ليست بالنسبة إلى أدنى شيء من نعيم الآخرة إلا بمثابة جناج البعوض، وفي الحديث " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي منها كافرا شربة ماء " ولله در من قال: تالله لو كانت الدنيا باجمعها * تبقى علينا وما من رزقها رغدا
ما كان من حق حر أن يذل بها * فكيف وهي متاع يضمحل غدا
وجوز أن تكون الإشارة إلى الرضوان فهو فوز عظيم يستحقر عنده نعيم الدنيا وحظوظها أيضا أو الدنيا ونعيمها والجنة وما فيها، وعلى الاحتمالين لا ينافي قوله سبحانه: * (أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم) * (التوبة: 89) فقد فسر فيه - العظيم - بما يستحقر عنده نعيم الدنيا فتدبر.
* (ياأيها النبى ج‍اهد الكف‍ار والمن‍افقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) *.
* (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) * ظاهره يقتضي مقاتلة المنافقين وهم غير مظهرين للكفر ولا نحكم بالظاهر لأنا نحكم بالظاهر كما في الخبر ولذا فسر ابن عباس. والسدى. ومجاهد جهاد الأولين بالسيف والآخرين باللسان وذلك بنحو الوعظ والزام الحجة بناء على أن الجهاد بذل الجهد في دفع ما لا يرضى وهو أعم من أن يكون بالقتال أو بغيره فإن كان حقيقة فظاهر والأحمل على عموم المجاز. وروي عن الحسن. وقتادة أن جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم. واستشكل بأن إقامتها واجبة على غيرهم أيضا فلا يختص ذلك بهم. وأشار في الأحكام إلى دفعه بأن أسباب الحد في زمنه صلى الله عليه وسلم أكثر ما صدرت عنهم، وأما القول بأن المنافق بمعنى
137

الفاسق عند الحسن فغير حسن. وروي - والعهدة على الراوي - أن قراءة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم * (جاهد الكفار بالمنافقين) * والظاهر أنها لم تثبت ولم يروها إلا الشيعة وهم بيت الكذب * (واغلظ عليهم) * أي على الفريقين في الجهاد بقسميه ولا ترفق بهم. عن عطاء نسخت هذه الآية كل شيء من العغو والصفح * (ومأواهم جهنم * (استئناف لبيان آجل أمرهم إثر بيان عاجله. وذكر أبو البقاء في هذه ثلاثة أوجه: أحدها أنها واو الحال والتقدير افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنم وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم، والثاني أنها جيء بها تنبيها على إرادة فعل محذوف أي واعلم أن مأواهم جهنم، والثالث أن الكلام محمول على المعنى وهو أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة وعذاب الآخرة بجعل جهنم مأواهم * (وبئس المصير) * تذييل لما قبله والمخصوص بالذم محذوف أي مصيرهم.
* (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسل‍امهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما فى الدنيا والاخرة وما لهم فى الارض من ولي ولا نصير) *.
يحلفون بالله ما قالوا) * استئناف لبيان ما صدر منهم من الجرائم الموجبة لما مر.
أخرج ابن جرير. وابن المندر. وابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة خلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهيني فقال عبد الله بن أبي للأوس انصروا أخاكم والله ما مثلنا ومثل محمد صلى الله عليه وسلم وحاشاه مما يقول هذا المنافق إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فجعل يحلف بالله تعالى ما قاله فنزلت. وأخرج ابن اسحق وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال: لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين الجلاس بن سويد: والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير فسمعهما عمير بن سعدفقال: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم عندي أثرا ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن سكت عنها لتهلكني ولاحداهما أشد علي من الأخرى فمشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس فحلف بالله تعالى ما قال ولقد كذب علي عمير فنزلت:
وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين أنها لما نزلت أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذن عمير قال: وفت اذنك يا غلام وصدقك ربك وكان يدعو حين حلف الجلاس اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب. وأخرج عن عروة أن الجلاس تاب بعد نزولها وقبل منه، وأخرج ابن جرير. وأبو الشيخ. والطبراني. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال: انه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاء فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله تعالى ما قالوا حتى تجاوز عنهم وأنزل الله تعالى الآية، وإسناد الحلف إلى ضمير الجمع على هذه الرواية ظاهر وأما على الروايتين الأوليين فقيل: لأنهم رضوا بذلك واتفقوا عليه فهو من إسناد الفعل إلى سببه أو لأنه جعل الكلام لرضاهم به كأنهم فعلوه ولا حاجة إلى عموم المجاز لأن الجمع بين الحقيق والمجاز جائز في المجاز العقلي وليس محلا لخلاف، وإيثار صيغة الاستقبال في * (يحلفون) * على سائر الروايات لاستحضار الصورة أو للدلالة على تكرير الفعل وهو قائم مقام القسم، و * (ما قالوا) * جوابه * (ولقد قالوا كلمة الكفر) *
138

هي ما حكي من قولهم والله ما مثلنا الخ أو والله لئن كان هذا الرجل صادقا الخ أو الشتم الذي وبخ عليه عليه الصلاة والسلام، والجملة مع ما عطف عليها اعتراض * (وكفروا بعد اسلامهم) * أظهروا ما فيقلوبهم من الكفر بعد إظهار الإسلام وإلا فكفرهم الباطن كان ثابتا قبل والإسلام الحقيق لا وجود له * (وهموا بما لم ينالوا) * من
الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من غزوة تبوك. أخرج البيهقي في الدلائل عن حذيفة بن اليمان قال كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به وعمار يسوق أو أنا أسوق وعمار يقود حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثنى عشر راكبا قد اعترضوا فيها فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ بهم فولوا مدبرين فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عرفتم القوم؟ قلنا: لا يا رسول الله كانوا متلثمين ولكن قد عرفنا الركاب قال: هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة. هل تدرون ما أرادوا؟ قلنا: لا، قال: أرادوا أن يزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة فيلقوه منها قلنا: يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث لك كل قوم برأس صاحبهم قال: أكره أن يتحدث العرب عنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم يقتلهم، ثم قال: اللهم ارمهم بالدبيلة، قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك وكانوا كلهم كما أخرج ابن سعد عن نافع بن جبير من الأنصار أو من حلفائهم ليس فيهم قرشي، ونقل الطبرسي عن الباقر رضي الله تعالى عنه أن ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب لا يعول عليه. وقد ذكر البيهقي من رواية ابن إسحاق أسماءهم وعد منهم الجلاس بن سويد، ويشكل عليه رواية أنه تاب وحسنت توبته مع قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر " هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة " إلا أن يقال: إن ذلك باعتبار الغالب، وقيل: المراد بالموصول إخراج المؤمنين من المدينة على ما تضمنه الخبر المار عن قتادة، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى. وأبو الشيخ عنه وعن أبي صالح أنهم أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي بتاج ويجعلوه حكما ورئيسا بينهم وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: أرادوا أن يقتلوا عميرا رده على الجلاس كما مر.
) * وما نقموا) * أي ما كرهوا وعابوا شيئا * (إلا أن أغن‍اهم الله ورسوله من فضله) * فالاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي وما نقموا الإيمان لأجل شيء إلا لإغناء الله تعالى إياهم فيكون الاستثناء مفرغا من أعم العلل وهو على حد قولهم: مالي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك. وقوله: ما نقم الناس من أمية إلا * أنهم يحملون إن غضبوا
وهو متصل على إدعاء دخوله بناء على القول بأن الاستثناء المفرغ لا يكون منقطعا، وفيه تهكم وتأكيد الشيء بخلافة كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
البيت، وأصل النقمة كما قال الراغب الإنكار باللسان والعقوبة والأمر على الأول ظاهر وأما على الثاني فيحتاج إلى الاتكاب المجاز بأن يراد وجدان ما يورث النقمة ويقتضيه، وضمير * (أغناهم) * للمنافقين على ما هو الظاهر، وكان إغناؤهم بأخذ الدية، فقد روي أنه كان للجلاس مولى قتل وقد غلب على ديته فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها اثنى عشر ألفا فأخذها واستغنى، وعن قتادة أن الدية كانت لعبد الله بن أبي وزيادة الألفين كانت على عادتهم في الزيادة على الدية تكرما وكانوا يسمونها شنقا كما في الصحاح. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال: كان جلاس تحمل حمالة أو كان عليه دين فأدى عنه
139

رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك قوله سبحانه: * (وما نقموا) * الآية، ولا يخفى أن الاغناء على الأول أظهر، وقيل: كان إغناؤهم بما من الله تعالى به من الغنائم فقد كانوا كما قال الكلبي قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة محاويج في ضنك من العيش فلما قدم عليه الصلاة والسلام أثروا بها، والضمير على هذا يجوز أن يكون للمؤمنين فيكون الكلام متضمنا ذم المنافقين بالحسد كما أنه على الأول متضمن لذمهم بالكفر وترك الشكر، وتوحيد ضير فضله لا يخفى وجهه * (فإن يتوبوا) * عما عم عليه من القبائح * (يك) * أي التوب، وقيل: أي التوبة ويغتفر مثل ذلك في المصادر.
وقد يقال: التذكير باعتبار الخبر أعني قوله سبحانه: * (خيرا لهم) * أي في الدارين، وهذه الآية على ما في بعض الروايات كانت سببا لتوبته وحسن إسلامه لطفا من الله تعالى به وكرما * (وأن يتولوا) * أي استمروا على ما كانوا عليه من التولي والاعراض عن إخلاص الإيمان أو أعرضوا عن التوبة.
* (يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا) * بمتاعب النفاق وسوء الذكر ونحو ذلك، وقيل: المراد بعذاب الدنيا عذاب القبر أو ما يشاهدونه عند الموت، وقيل: المراد به القتل ونحوه على معنى أنهم يقتلون إن أظهروا الكفر بناءا على أن التولي مظنة الإظهار فلا ينافي ما تقدم من أنهم لا يقتلون وأن الجهاد في حقهم غير ما هو المتبادر.
* (والآخرة) * وعذابهم فيها بالنار وغيرها من أفانين العقاب * (وما لهم في الأرض) * أي في الدنيا، والتعبير بذلك للتعميم أي ما لهم في جميع بقاعها وسائر أقطارها * (من ولى ولا نصير) * ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة، وخص ذلك في الدنيا لأنه لا ولي ولا نصير لهم في الآخرة قطعا فلا حاجة لنفيه.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * (التوبة: 43) الخ فيه إشارة إلى علو مقامه صلى الله عليه وسلم ورفعة شأنه على سائر الأحباب حيث آذنه بالعفو قبل العتاب، ولو قال له: لم أذنت لهم عفى الله عنك لذاب، وعبر سبحانه بالماضي المشير إلى سبق الاصطفاء لئلا يوحشه عليه الصلاة والسلام الانتظار ويشتغل قلبه الشريف باستمطار العفو من سحاب ذلك الوعد المدرار، وانظر كم بين عتابه جل شأنه لحبيبه عليه الصلاة والسلام على الأذن لأولئك المنافقين وبين رده تعالى على نوح عليه السلام قوله: * (إن ابني من أهلي) * (هود: 45) بقوله سبحانه: * (يا نوح إنه ليس من أهلك) * إلى قوله تبارك وتعالى: * (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) * (هود: 46) ومن ذلك يعلم الفرق - وهو لعمري غير خفي - بين مقام الحبيب ورتبة الصفى، وقد قيل: إن المحب يعتذر عن حبيبه ولا ينقصه عنده كلام معيبه، وأنشد: ما حطك الواشون عن رتبة * كلا وما ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا ولم يعلموا * عليك عندي بالذي عابوا
وقال الآخر: في وجهه شافع يمحو إساءته * عن القلوب ويأتي بالمعاذير
وقال: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد * جاءت محاسنه بألف شفيع
140

وقوله سبحانه: * (لا يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر) * (التوبة: 44) فيه إشارة إلى أن المؤمن إذا سمع بخبر خير طار إليه وأتاه ولو مشيا على رأسه ويديه ولا يفتح فيه فاه بالاستئذان، وهل يستأذن في شرب الماء ظمآن؟
وقال الواسطي: إن المؤمن الكامل مأذون في سائر أحواله إن قام قام بإذن وإن قعد قعد بإذن وإن لله سبحانه عبادا به يقومون وبه يقعدون، ومن شأن المحبة امتثال أمر المحبوب كيفما كان: لو قال تيها قف على جمر الغضى * لوقفت ممتثلا ولم أتوقف
* (إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر) * (التوبة: 45) الخ أي إنما يستأذنك المنافقون رجاء أن لا تأذن لهم بالخروج فيستريحوا من نصب الجهاد * (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) * (التوبة: 46) فقد قيل: لو صح منك الهوى أرشد للحيل
ولكن كره الله انبعائهم فثبطهم إشارة إلى خذلانهم لسوء استعدادهم * (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) * (التوبة: 49) لأن الأخلاق السيئة والأعمال القبيحة محيطة بهم وهي النار بعينها غاية الأمر انها ظهرت في هذه النشأة بصورة الأخلاق والأعمال وستظهر في النشأة الأخرى بالصورة الأخرى، وقوله تعالى: * (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) * (التوبة: 54) فيه إشارة إلى حرمانهم لذة طعم العبودية واحتجابهم عن مشاهدة جمال معبودهم وأنهم لم يعلموا أن المصلي يناجي ربه وأن الصلاة معراج العبد إلى مولاه، ومن هنا قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " وجعلت قرة عيني في الصلاة ". وقال محمد بن الفضل: من لم يعرف الآمر قام إلى الأمر على حد الكسل ومن عرف الآمر قام إلى الأمر على حد الاستغنام والاسترواح، ولذا كان عليه الصلاة والسلام يقول لبلال: ارحنا يا بلال وقول تعالى: * (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) * فيه تحذير للمؤمنين أن يستحسنوا ما مع أهل الدنيا من الأموال والزينة فيحتجبوا بذلك عن عمل الآخرة ورؤيتها، وقد ذكروا أن الناظر إلى الدنيا بعين الاستحسان من حيث الشهوة والنفس والهوى يسقط في ساعته عن مشاهدة أسرار الملكوت وأنوار الجبروت، وقوله سبحانه: * (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله) * (التوبة: 59) الخ فيه إرشاد إلى آداب الصادقين والعارفين والمريدين، وعلامة الراضي النشاط بما استقبله من الله تعالى والتلذذ بالبلاء، فكل ما فعل المحبوب محبوب.
رؤى أعمى أقطع مطروح على التراب يحمد الله تعالى ويشكره، فقيل له في ذلك فقال: وعزته وجلاله لو قطعني إربا إربا ما اذددت له إلا حبا، ولله تعالى در من قال: أنا راض بالذي ترضونه * لكم المنة عفوا وانتقاما
ثم إنه سبحانه قسم جوائز فضله على ثمانية أصناف من عباده فقال سبحانه: * (إنما الصدقات للفقراء) * الخ، والفقراء في قول المتجردون بقلوبهم وأبدانهم عن الكونين * (والمساكين) * هم الذين سكنوا إلى جمال الانس ونور القدس حاضرين في العبودية بنفوسهم غائبين في أنوار الربوبية بقلوبهم فمن رآهم ظنهم بلا قلوب ولم يدر أنها تسرح في رياض جمال المحبوب، وأنشد: مساكين أهل العشق ضاعت قلوبهم * فهم أنفس عاشوا بغير قلوب
* (والعاملين) * هم أهل التمكين من العارفين وأهل الاستقامة من الموحدين الذين وقعوا في نور البقاء فأورثهم البسط والانبساط، فيأخذون منه سبحانه ويعطون له، وهم خزان خزائن جودة المنفقون على أوليائه، قلوبهم معلقة بالله سبحانه لا بغيره من العرش إلى الثرى * (والمؤلفة قلوبهم) * هم المريدون السالكون طريق محبته تعالى برقة قلوبهم وصفاء نياتهم وبذلوا مهجهم في سوق شوقه وهم عند الأقوياء ضعفاء الأحوال * (وفي الرقاب) *
141

هم الذين رهنت قلوبهم بلذة محبة الله تعالى وبقيت نفوسهم في المجاهدة في طريقه سبحانه لم يبلغوا بالكلية إلى الشهود فتارة تراهم في لجج بحر الإرادة، وأخرى في سواحل بحر القرب، وطورا هدف سهام القهر، ومرة مشرق أنوار اللطف ولا يصلون إلى الحقيقة ما دام عليهم بقية من المجاهدة والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم والأحرار ما وراء ذلك وقليل ما هم أتمنى على الزمان محالا * ان ترى مقلتاي طلعة حر
* (والغارمين) * هم الذين ما قضوا حقوق معارفهم في العبودية وما أدركوا في إيقانهم حقائق الربوبية، والمعرفة غريم لا يقضي دينه * (وفي سبيل الله) * هم المحاربون نفوسهم بالمجاهدات والمرابطون بقلوبهم في شهود الغيب لكشف المشاهدات * (وابن السبيل) * هم السافرون بقلوبهم في بوادي الأزل وبأرواحهم في قفار الأبد وبعقولهم في طرق الآيان وبنفوسهم في طلب أهل الولايات * (فريضة من الله) * على أهل الإيمان أن يعطوا هؤلاء الأصناف من مال الله سبحانه لدفع احتياجهم الطبيعي * (والله عليم) * بأحوال هؤلاء وغيبتهم عن الدنيا * (حيكم) * (التوبة: 60) حيث أوجب لهم ما أوجب، ومن الناس من فسر هذه الأصناف بغير ما ذكر ولا أرى التفاسير بأسرها متكفلة بالجمع والمنع * (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) * عابوه عليه الصلاة والسلام وحاشاه من العيب بسلامة القلب وسرعة القبول والتصديق لما يسمع، فصدقهم جل شأنه ورد عليهم بقوله سبحانه: * (قل) * هو * (أذن خير لكم) * أي هو كذلك لكن بالنسبة إلى الخير، وهذا من غاية المدح فإن النفس القدسية الخيرية تتأثر بما يناسبها، أي أنه عليه الصلاة والسلام يسمع ما ينفعكم وما فيه صلاحكم دون غيره، ثم بين ذلك بقوله تعالى: * (يؤمن بالله) * الخ، وقد غرهم - قاتلهم الله تعالى حتى قالوا ما قالوا - كرم النبي صلى الله عليه وسلم لم يشافههم برد ما يقولون رحمة منهم بهم، وهو عليه الصلاة والسلام الرحمة الواسعة، وعن بعضهم أنه سئل عن العاقل فقال: الفطن المتغافل وأنشد: وإذا الكريم أتيته بخديعة * فرأيته فيما تروم يسارع
فاعلم بأنك لم تخادع جاهلا * إن الكريم لفضله متخادع
* (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) * أي هم متشابهون في القبح والرداءة وسوء الاستعداد * (يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم) * أي يبخلون أو يبغضون المؤمنين فهو إشارة إلى معنى قوله سبحانه: * (وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) * أو لا ينصرون المؤمنين أو لا يخشعون لربهم ويرفعون أيديهم في الدعوات * (نسوا الله) * لاحتجابهم بما هم فيه * (فنسيهم) * (التوبة: 67) من رحمته وفضله * (ولهم عذاب مقيم) * (التوبة: 68) وهو
عذاب الاحتجاب بالسوى * (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تحري من تحتها الأنهار) * هي جنات النفوس * (ومساكن طيبة) * مقامات أرباب التوكل في جناب الأفعال * (ورضوان من الله أكبر) * إشارة إلى جنات الصفات * (ذلك) * أي الرضوان * (هو الفوز العظيم) * (التوبة: 72) لكرامة أهله عند الله تعالى وشدة قربهم ولا بأس بإبقاء الكلام على ظاهره ويكون في قوله سبحانه: * (ومساكن طيبة) * إشارة إلى الرؤية فإن المحب لا تطيب له الدار من غير رؤية محبوبه: أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم * إذا غبتم عنها ونحن حضور
ولكون الرضوان هو المدار لكل خير وسعادة والمناط لكل شرف وسيادة كان أكبر من
142

هاتيك الحنات والمساكن. إذا كنت عني يا منى القلب راضيا * أرى كل من في الكون لي يتبسم
نسأل الله تعالى رضوانه وأن يسكننا جنانه.
* (ومنهم من ع‍اهد الله لئن ءات‍انا من فضله لنصدقن ولنكونن من الص‍الحين) *.
* (ومنهم من ع‍اهد الله لئن ءات‍انا من فضله لنصدقن ولنكونن من الص‍الحين) * بيان لقبائح بعض آخر من المنافقين، والآية نزلت في ثعلب بن حاطب ويقال له ابن أبي حاطب وهو من بني أمية بن زيد، وليس هو البدري لأنه قد استشهد بأحد رضي الله تعالى عنه.
أخرج الطبراني. والبيهقي في الدلائل. وابن المنذر. وغيرهم عن أبي أمامة الباهلي قال: جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يرزقني مالا. فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك يا ثعلبة أما تحب أن تكون مثلي فلو شئت أن يسير الله تعالى ربي هذه الجبال معي ذهبا لسارت. قال: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يرزقني مالا فوالذي بعثك بالحق أن آتاني الله سبحانه مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تطيق شكره خير من كثير لا تطيقه. قال: يا رسول الله ادع الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أرزقه مالا فاتخذ غنما فبورك له فيها ونمت كما ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشهدها بالليل ثم نمت كما ينمو الدود فضاق به مكانه فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشهدها بالليل ثم نمت كما ينمو الدود فتنحى وكان لا يشهد الصلاة بالليل ولا بالنهار إلا من جمعة إلى جمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نمت كما ينمو الدود فضاق به مكانه فتنحى بها فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يتلقى الركبان ويسألهم عن الأخبار فقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فأخبروه أنه اشترى غنما وأن المدينة ضاقت به. فقال عليه الصلاة والسلام: ويح ثعلبة بن حاطب ويح ثعلبة بن حاطب قم إن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الصدقات وأنزل * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) * (التوبة: 103) الآية فبعث رجلين رجلا من جهينة ورجلا من بني سلمة بأخذان الصدقات وكتب لهما اسنان الإبل والغنم ويكف يأخذانها وأمرهما أن يمرا على ثعلبة ورجل من بني سليم فخرجا فمرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال: أرياني كتابكما؟ فنظر فيه فقال: ما هذا إلا جزية انطلقا حتى تفر غائم مرابي فانطلقا وسمع بهما السليمي فاستقبلهما بخيار ابله فقالا: إنما عليك دون هذا فقال: ما كنت أتقرب إلى الله تعالى إلا بخير مالي فقبلا فلما فرغا مرا بثعلبة فقال: أرياني كتابكما؟ فنظر فيه فقال: ما هذا إلا جزية انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى قدما المدينة فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يكلمهما: ويح ثعلبة بن حاطب ودعا للسليمي بالبركة وأنزل الله تعالى: * (ومنهم من عاهد الله) * الآيات الثلاث فسمع بعض من أقاربه فأتاه فقال: ويحك يا ثعلبة أنزل فيك كذا وكذا فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه صدقة مالي. فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله قد منعني أن أقبل منك فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك بنفسك أمرتك فلم تطعني فلم يقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى، ثم أتى أيا بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا بكر أقبل مني صدقتي فقد عرفت منزلتي من الأنصار. فقال أبو بكر: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلها فلم يقبلها أبو بكر، ثم ولى عمر
143

رضي الله تعالى عنه فأتاه فقال: يا أبا حفص يا أمير المؤمنين اقبل من صدقتي فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر أقبلها أنا فأبى أن يقبلها، ثم ولى عثمان رضي الله تعالى عنه فلم يقبلها منه وهلك في خلافته.
وفي بعض الروايات أن ثعلبة هذا كان قبل ذلك ملازما لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم حتى لقب حمامة المسجد ثم رآه النبي صلى الله عليه وسلم يسرع الخروج منه عقيب الصلاة فقالا عليه الصلاة والسلام له: مالك تعمل عمل المنافقين؟ فقال: إني افتقرت ولي ولامرأتي ثوب واحد أجيء به للصلاة ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي به فادع الله تعالى أن يوسع على رزقي إلى آخر ما في الخبر. والظاهر أن منع الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام عن القبول منه كان بوحي منه تعالى له بأنه منافق والصدقة لا تؤخذ منهم وان لم يقتلوا لعدم الإظهار، وحثوه للتراب ليس للتوبة من نفاقه بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين.
ومعنى هذا عملك هذا جزاء عملك وماقلته، وقيل: المراد بعمله طلبه زيادة رزقه وهذا إشارة إلى المنع أي هو عاقبة عملك، وقيل: المراد بالعمل عدم إعطائه للمصدقين. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ثعلبة أتى مجلسا من مجالس الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله تعالى من فضله تصدقت منه وآتيت كل ذي حق حقه فمات ابن عم له فورث منه مالا فلم يف بما عاهد الله تعالى عليه فأنزل الله تعالى فيه هذه الآيات. وقال الحسن: إنها نزلت في ثعلبة. ومعتب بن قشير خارجا على ملأ قعود فحلفا بالله تعالى لئن آتانا من فضله لنصدقن فلما آتاهما بخلا. وقال السائب: إن حاطب بن أبي بلتعة كان له مال بالشام فأبطأ عليه فجهد لذلك جهدا شديدا فحلف بالله لئن أتانا الله من فضله - يعني ذلك المال - لأصدقن ولأصلن فلما آتاه ذلك لم يف بما عاهد الله تعالى عليه وحكى ذلك عن الكلبي، والأول أشهر وهو الصحيح في سبب النزول، والمراد بالتصدق قيل: إعطاء الزكاة الواجبة وما بعده إشارة إلى فعل سائر أعمال البر من صلة الأرحام ونحوها. وقيل: المراد بالتصدق إعطاء الزكاة وغيرها من
الصدقات وما بعده إشارة إلى الحج على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو إلى ما يعمه والنفقة في الغزو كما قيل. وقرىء * (لنصدقن ولنكونن) * بالنون الخفيفة فيهما.
* (فلمآ ءاتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون) *.
* (فلما ءات‍اهم من فضله بخلوا به) * أم منعوا حق الله تعالى منه * (وتولوا) * أي أعرضوا عن طاعة الله سبحانه، * (وهم معرضون) *. أي وعم قوم عادتهم الأعراض عن الطاعات فلا ينكر منهم هذا؛ والجملة مستأنفة أو حالية والاستمرار المقتضى للتقدم لا ينافي ذلك، والمراد على ما قيل: تولوا باجرامهم وهم معرضون بقولبهم.
* (فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) *.
* (فأعقبهم) * أي جعل الله تعالى عاقبة فعلهم ذلك * (نفاقا) * أي سوء عقيدة وكفرا مضمرا * (في قلوبهم إلى يوم يلقونه) * أي الله تعالى، والمراد بذلك اليوم وقت الموت؛ فالضمير المستتر في أعقب لله تعالى وكذا الضمير المنصوب في * (يلقونه) *، والكلام على حذف مضاف، والمراد بالمفاق بعض معناه وتمامه إظهار الإسلام وإضماء الكفر، وليس بمراد كما أشرنا إلى ذلك كله، ونقل الزمخشري عن الحسن. وقتادة أن الضمير اوول للبخل وهو خلاف الظاهر بل قال بعض المحققين: إنه يأباه قوله تعالى:
* (بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) * إذ ليس لقولنا أعقبهم البخل نفاقا بسبب اخلافهم الخ
144

كثير معنى، ولا يتصور على ما قيل أن يعلل النفاق بالبخل أولا ثم يعلل بأمرين غيره بغير عطف، ألا ترى لو قلت: حملني على إكرام زيد علمه لأجل أنه شجاع وجواد كان خلفا حتى تقول حملني على إكرام زيد علمه وشجاعته وجوده.
وقال الإمام: ولأن غاية البخل ترك بعض الواجبات وهو لا يوجب حصول النفاق الذي هو كفر وجهل فيالقلب كمل في حق كثير من الفساق، وكون هذا البخل بخصوصه يعقب النفاق والكفر لما فيه من عدم إطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وخلف وعده كما قيل لا يقتضي الأرجحية بل الصحة ولعلها لا تنكر، واختيار الزمخشري كان لنزغة اعتزالية هي أنه تعالى لا يقضي بالنفاق ولا يخلقه لقاعدة التحسين والتقبيح، وجوز أن يكون الضمير المنصوب للبخل أيضا، والمراد باليوم يوم القيامة، وهناك مضاف محذوف أي يلقون جزاءه و * (ما) * مصدرية.
والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للإيذان بالاستمرار أي بسبب اخلافهم ما وعدوه تعالى من التصدق والصلاح وبسبب كونهم مستمرين على الكذب في جميع المقالات التي من جملتها وعدهم المذكور، وقيل: المراد كذبهم فيما تضمنه خلف الوعد فإن الوعد وإن كان إنشاء لكنه متضمن للخبر فإذا تخلف كان قبيحا من وجهين الخلف والكذب الضمني، وفيه نظر لأن تخصيص بذلك يؤدي إلى تخلية الجمع بين الصيغتين عن المزية، وقد اشتملت الآية على خصلتين من خصال المنافقين، فقد أخرج الشيخان. وغيرهما عن أبي هررة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان " ويستفاد من الصحاح آية أخرى له " إذا خاصم فجر ". واستشكل ذلك بأن هذه الخصال قد توجد في المسلم الذي لا شك فيه ولا شبهة تعتريه بل كثير من علمائنا اليوم متصفون بأكثرها أو بها كلها، وأجيب بأن المعنى أن هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها يشبه المنافقين في التخلق بها، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات الصحيحة " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا " أنه كان شديد الشبه بالمنافقين لا أنه كان منافقا حقيقة.
وقيل: إن الأخبار الواردة في هذا الباب إنما هي فيمن كانت تلك الخصال غالبة عليه غير مكترث بها ولا نادم على ارتكابها ومثله لا يبعد أن يكون منافقا حقيقة، وقيل: هي في المنافقين الذين كانوا في زمنه عليه الصلاة والسلام فانهم حدثوا في أيمانهم فكذبوا واؤتمنوا على دينهم فخانوا ووعدوا في النصرة للحق فأخلفوا وخاصموا ففجروا، وروي هذا عن ابن عباس. وابن عمر، وهو قول سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وإليه رجع الحسن بعد أن كان علا خلافه، قال القاضي عياض: وإليه مال أكثر أئمتنا، وقيل: كان ذلك في رجل بعينه وهو خارج مخرج قوله صلى الله عليه وسلم: " ما بال أقوام يفعلون كذا " لأناس مخصوصين منعه كرمه عليه الصلاة والسلام أن يواجههم بصريح القول. وحكى الخطابي عن بعضهم أن المقصود من الأخبار تحذير المسلم أن يعتاد هذه الخصال ولعله راجع إلى ما أجيب به أولا، وبالجلمة يجب على المؤمن اجتناب هذه الخصال فإنها في غاية القبح عند ذوي الكمال. مساو لو قسمن على الغواني * لما أمهرن إلا بالطلاق
وقرى * (يكذبون) * بتشديد الذال.
* (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله عل‍ام الغيوب) *.
* (ألم يعلموا) * أي المنافقون أو من عاهد الله تعالى، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ بالتاء على أنه خطاب للمؤمنين، وقيل: للأولين على الالتفات ويأباه قوله تعالى:
145

* (أن الله سرهم ونجواهم) * وجعله التفاتا آخر تكلف، والمراد من السر على تقدير أن يكون الضمير المنافقين ما أسروه في أنفسهم من النفاق ومن النجوى ما يتناجون به من المطاعن، وعلى التقدير الآخر المراد من الأول العزم على الاخلاف ومن الثاني تسمية الزكاة جزية، وتقديم السر على النجو ى لأن العلم به أعظم في الشاهد من العلم بها مع ما في تقديمه وتعليق العلم به من تعجيل إدخال الروعة أو السرور على اختلاف القراءتين وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ينفعك هنا أيضا * (وأن الله علام الغيوب) * فلا يخفى عليه سبحانه شيء من الأشياء. والهمزة إما للإنكار والتوبيخ والتهديد أي ألم يعلموا ذلك حتى اجترأوا على ما اجترأوا عليه من العظائم أو للتقرير
والتنبيه على أن الله سبحانه مؤاخذهم ومجازيهم بما علم من أعمالهم، واظهار الاسم الجليل لإلقاء الروعة وتربية المهابة أو لتعظيم أمر المؤاخذة والمجازاة، وفي إيراد العلم المتعلق بسرهم ونجواهم احلادثين شيئا فشيئا بصيغة الفعل الدال على الحدوث والتجدد والعلم المتعلق بالغيوب الكثيرة بصيغة الاسم الدال على الدوام والمبالغة من الفخامة والجزالة ما لا يخفى.
* (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) *.
الذين يلمزون) * مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين وقيل: أي منهم الذين، وقيل: مبتدأ خبره * (فيسخرون) * والفاء لما في الموصول من شبه الشرط أو * (سخر الله منهم) * أو منصوب بفعل محذوف أعني - أعني - أو أذم أو مجرور على الدلية من ضمير * (سرهم) * على أنه للمنافقين مطلقا. وقرىء بضم الميم وهو لغة كما علمت أي يعيبون * (المطوعين) * أي المتطوعين، والمراد بهم من يعطي تطوعا * (من المؤمنين) * حال من الضمير، وقوله سبحانه: * (في الصدق‍ات) * متعلق بيلمزون، ولا يجوز كما قال أبو البقاء تعلقه بالمطوعين للفصل، أخرج البغوي في معجمه. وأبو الشيخ عن الحسن قال " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما للناس فقال: يا أيها الناس تصدقوا أشهد لكم بها يوم القيامة ألا لعل أحدكم أن يبيت فصاله رواء وابن له طاو إلى جنبه ألا لعل أحدكم أن يثمر ماله وجاره مسكين لا يقدر على شيء ألا رجل منح ناقة من إبله يغدو برفد ويروح برفد يغدو بصبوح أهل بيته ويروح بغبوقهم ألا إن اجرها لعظيم فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي أبعرة عندي أربعة ذود فقام آخر قصير القامة قبيح الشبه يقود ناقة له حسناء جملاء فقال له رجل من المنافقين كلمة خفية لا يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعها ناقته خير منه فسمعها عليه الصلاة والسلام فقال: كذبت هو خير منك ومنها، ثم قام عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله عندي ثمانية آلاف تركت منها أربعة لعيالي وجئت بأربعة أقدمها إلى الله تعالى فتكاثر المنافقون ما جاء به ثم قام عاصم بن عدي الأنصاري فقال: يا رسول الله عندي سبعون وسقا من تمر فتكاثر المنافقون ما جاء به وقالوا: جاء هذا بأربعة آلاف وجاء هذا بسبعين وسقا للرياء والسمعة فهلا أخفياها فهلا فرقاها، ثم قام رجل من الأنصار اسمه الحبحاب يكنى أبا عقيل فقال: يا رسول الله مالي من مال غير اني آجرت نفسي البارحة من بني فلان أجر الجرير في عنقي على صاعين من تمر فتركت صاعا لعيالي وجئت بصاع أقربه إلى الله تعالى فلمزه المنافقون وقالوا: جاء أهل الإبل بالإبل وجاء أهل الفضة بالفضة وجاء هذا بتميرات يحملها فأنزل الله تعالى الآية، ولم يبين الآلاف التي ذكرها عبد الرحمن في هذه الرواية وكانت على ما أخرجه ابن المنذر عن
146

مجاهد - دنانير - وفي رواية أنها دراهم، وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن عبد الرحمن جاء بأربعمائة أوقية من ذهب وهي نصف ما كان عنده وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك له فيما أعطى وبارك له فيما أمسك، وجاء في رواية الطبراني أن الله بارك له حتى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم، وفي الكشاف وعزاه الطيبي للاستيعاب أن زوجته تماضر صولهت عن ربع الثمن على ثمانين ألفا، فعلى الأول يكون له زوجتان وعلى الثاني يكون له أربع زوجات، ويختلف مجموع المالين على الروايتين اختلافا كثيرا، وفي رواية ابن أبي حاتم عن ابن زيد أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان أحد المطوعين وأنه جاء بمال كثير يحمله فقال له رجل من المنافقين: أترائي يا عمر؟ فقال: نعم أرائي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فأما غيرهما فلا. وقوله سبحانه: * (والذين لا يجدون إلا جهدهم) * عطف على * (المطوعين) * وهو من عطف الخاص على العام، وقيل: عطف على المؤمنين. وتعقبه إلا جهوري بأن فيه ايهام أن المعطوف ليس من المؤمنين.
وقال أبو البقاء: هو عطف على * (الذين يلمزون) * وأراه خطأ صرفا. والجهد بالضم الطاقة أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا طاقتهم وما تبلغه قوتهم وهم الفقراء كأبي عقيل واسمه ما مر آنفا، وعن ابن إسحاق أن اسمه سهل بن رافع، وعن مجاهد أنه فسر الموصول برفاعة بن سعد، ولعل الجمع حينئذ للتعظيم، ويحتمل أن يكون على ظاهره والمذكور سبب النزول، وقرأ ابن هرمز * (جهدهم) * بالفتح وهو إحدى لغتين في الجهد فمعنى المضموم والمفتوح واحد، وقيل: المفتوح بمعنى المشقة والمضموم بمعنى الطاقة قاله القتبي، وقيل: المضمون شيء قليل يعاش به والمفتوح العمل، وقوله تعالى: * (فيسخرون منهم) * عطف على * (يلمزون) * أو خير على ما علمت أي يستهزئون بهم، والمراد بهم على ما قيل الفريق الأخير * (سخر الله منهم) * أي جازاهم على سخريتهم، فالجملة خبرية والتعبير بذلك للمشاكلة وليس إنسائية للدعاء عليهم لأن يصيروا ضحكة لأن قوله تعالى جده: * (ولهم عذاب أليم) * جملة خبرية معطوفة عليها فلو كانت دعاء لزم عطف الاخبارية على الإنشائية وفي ذلك كلام، وإنما اختلفتا فعلية واسمية لأن السخرية في الدنيا وهي متجددة والعذاب في الآخرة وهو دائم ثابت، والتنوين في العذاب للتهويل والتفخيم.
* (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذالك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الف‍اسقين) *.
* (استغفر لهم أولا تستغفر لهم) * الظاهر أن المراد به وبمثله التخيير، ويؤيد إرادته هنا فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ستعلم إن شاء الله تعالى ذلك منه فكأنه قال سبحانه له عليه الصلاة والسلام. إن شئت فاستغفر لهم وإن شئت فلا، وكلام النسفي تنسفه صحة الأخبار نسفا. واختار غير واحد أن المراد التسوية بين الأمرين كما في قوله تعالى: * (أنفقوا طوعا أو كرها) * (التوبة: 53) والبيت المار. أسيئي بنا أو أحسني
الخ، والمقصود الأخبار بعدم الفائدة في ذلك وفيه من المبالغة ما فيه، وقال بعض المحققين بعد اختياره للتسوية في مثل ذلك: إنها لا تنافي التخيير فإن ثبت فهو بطريق الاقتضاء لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما فلا بد من أحدهما ويختلف الحال فتارة يكون الإثبات كما في قوله تعالى: * (سواء عليه أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (البقرة: 6) وأخرى النفي كما هنا وفي قوله سبحانه: * (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم) * (المنافقون: 6) * (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) * بيان لعدم المغفرة وإن استغفر لهم حسبما أريد إثر التخيير أو بيان لاستحالة المغفرة بعد المبالغة في الاستغفار اثر بيان الاستواء بين الاستغفار
وعدمه.
147

وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله سبحانه: * (سخر الله منهم) * الخ سأله عليه الصلاة والسلام اللامزون الاستغفار لهم فهم أن يفعل فنزلت فلم يفعل. وقيل: نزلت بعد أن فعل، واختار الإمام عدمه وقال: إنه لا يجوز الاستغفار للكافر فكيف يصدر عنه صلى الله عليه وسلم. ورد بأنه يجوز لأحيائهم بمعنى طلب سبب الغفران، والقول بأن الاستغفار للمصر لا ينفع لا ينفع لأنه لا قطع بعدم نفعه إلا أن يوحي إليه عليه الصلاة والسلام بأنه لا يؤمن كأبي لهب، والقول بأن الاستغفار للمنافق إغراء له على النفاق لا نفاق له أصلا وإلا لامتنع الاستغفار لعصاة المؤمنين ولا قائل به، وقال بعضهم: إنه على تقدير وقوع الاستغفار منه عليه الصلاة والسلام والقول بتقديم النهي المفاد بقوله تعالى: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * (التوبة: 113) لا اشكال فيه إذ النهي ليس للتحريم بل لبيان عدم الفائدة وهو كلام واه لأن قصارى ما تدل عليه الآية المنع من الاستغفار للكفار وهو لا يقتضي المنع عن الاستغفار لمن ظاهر حاله الإسلام، والقول بأنه حيث لم يستجب يكون نقصا في منصب النبوة ممنوع لأنه عليه الصلاة والسلام قد لا يجاب دعاؤه لحكمة كما لم يجب دعاء بعض إخوانه الأنبياء عليهم السلام ولا يعد ذلك نقصا كما لا يخفى، ومناسبة الآية لما قبلها على هذه الرواية في غاية الوضوح إلا أنه قيل: إن الصحيح المعول عليه في ذلك أن عبد الله وكان اسمه الحباب وكان من املخلصين ابن عبد الله بن أبي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام: لأزيدن على السبعين فنزلت * (سواء عليهم أستغفرت لهم) * (المنافقون: 6) الخ، وفيه رد على الإمام أيضا في اختياره عدم الاستغفار وكذا في إنكاره كون مفهوم العدد حجة كما نقله عنه الاسنوي في التمهيد مخالفا في ذلك الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه قائل بحجيته كما نقله الغزالي عنه في المنخول وشيخه إمام الحرمين في البرهان وصرح بأن ذلك قول الجمهور.
وفي المطلب لابن الرفعة أن مفهوم العدد هو العمدة عندنا في عدم تنقيص الحجارة في الاستنجاء على الثلاثة والزيادة على ثلاثة أيام في الخيار، وما نقل عن النووي من أن مفهوم العدد باطل عند الأصوليين محمول على أن المراد باطل عند جمع من الأصوليين كما يدل عليه كلامه في " شرح مسلم " في " باب الجنائز " وإلا فهو عجيب منه.
وكلام العلامة البيضاوي مضطرب، ففي المنهاج التحصيص بالعدد لا يدل على الزائد والناقص أي انه نص في مدلوله لا يحتمل الزيادة والنقصان، وفي التفسير عند هذه الآية بعد سوق خبر سبب النزول أنه عليه الصلاة والسلام فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل فجاز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه فبين عليه الصلاة والسلام أن المراد به التكثير لا التحديد، وذكر في تفسير سورة البقرة عند قوله سبحانه: * (فسواهن سبع سموات) * (البقرة: 29) أنه ليس في الآية نفي الزائد، وإرادة التكثير من السبعين شائع في كلامهم وكذا إرادته من السبعة والسبعمائة، وعلل في " شرح المصابيح " ذلك بأن السبعة مشتملة على جملة أقسام العدد فإنه ينقسم إلى فرد وزوج وكل منهما إلى أول ومركب فالفرد الأول ثلاثة والمركب من خمسة والزوج الأول إثنان والمركب أربعة، وينقسم أيضا إلى منطق كالأربعة وأصم كالستة؛ والسبعة تشتمل على جميع هذه الأقسام، قم إن أريد المبالغة جعلت آحادها اعشارا واعشارها مئات، وأريد بالفرد الأول الذي لا يكون مسبوقا بفرد آخر عددي كالثلاثة إذ الواحد ليس بعدد بناء على أنه ما ساوى نصف مجموع حاشيته الصحيحتين، وبالفرد المركب الذي يكون مسبوقا بفرد آخر فإن الخمسة مسبوق بثلاثة، وأريد بالزوج الأول الغير مسبوق بزوج آخر كالاثنين وبالمركب
148

ما يكون مسبوقا به كالأربعة المسبوقة بالاثنين، وقد يقسم العدد ابتداء إلى أول ومركب ويراد بالأول ما لا يعده إلا الواحد كالثلاثة والخمسة والسبعة وبالمركب ما يعده غير الواحد كالأربعة فإنه يعدها الاثنان والتسعة فإنه يعدها الثلاثة، وللمنطق اطلاقان فيطلق ويراد به ما له كسر صحيح من الكسور التسعة، والأصم الذي يقابله ما لا يكون كذلك كأحد عشر، ويطلق ويراد به المجذور وهو ما يكون حاصلا من ضرب عدد في نفسه كالأربعة الحاصلة من ضرب الاثنين في نفسها والتسعة الحاصلة من ضرب الثلاثة في نفسها والأصم الذي يقابله ما لا يكون كذلك كالاثنين والثلاثة وهذا مراد شارح المصابيح حيث مثل الأصم بالستة مع أن لها كسرا صحيحا بل كسران النصف والسدس لكنها ليست حاصلة من ضرب عدد في نفسه، ومعنى اشتمال السبعة على هذه الأقسام أنه إذا جمع الفرد الأول مع الزوج المركب أو الفرد المركب مع الزوج الأول كان سبعة، وكذا إذا جمع المنطق كالأربعة مع الأصم كالثلاثة كان الحاصل سبعة وهذه الخاصة لا توجد في العدد قبل السبعة، فمن ظن أن الأنسب بالاعتبار بحسب هذا الاشتمال هو الستة لا السبعة لأنها المشتملة على ما ذكر فهو لم يحصل معنى الاشتمال أو لم يعرف هذه الاصطلاحات لكونها من وظيفة علم الاتماطيقي.
ومما ذكرنا من معنى الاشتمال يندفع أيضا ما يتوهم من أن التحقيق ان كل عدد مركب من الوحدات لا من الاعداد التي تحته إذ ليس المراد من الاشتمال التركيب على أن في هذا التحقيق مقالا مذكورا في محله.
وقال ابن عيسى الربعي: إن السبعة أكمل الأعداد لأن الستة أول عدد تام وهي مع الواحد سبعة فكانت كاملة إذ ليس بعد التمام إلا الكمال، ولذا سمي الأسد سبعا لكمال قوته، وفسر العدد التام بما يساوي مجموع كسوره وكون الستة كذلك ظاهر فإن كسورها سدس وهو واحد وثلث وهو إثنان ونصف وهو ثلاثة ومجموعها ستة، لكن استبعد عدم فهو من هو أفصح الناس وأعرفهم باللسان صلى الله عليه وسلم إرادة التكثير من السبعين هنا، ولذا قال البعض: إنه عليه الصلاة والسلام لم يخف عليه ذلك لكنه خيل بما قال إظهارا لغاية رأفته ورحمته لمن بعث إليه كقول إبراهيم عليه السلام: * (ومن عصاني فإنك غفور رحمي) * (إبراهيم: 36) يعني أنه صلى الله عليه وسلم أوقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص دون التكثير فجوز الإجابة بالزيادة قصدا إلى إظهار الرأفة والرحمة كما جعل إبراهيم عليه السلام جزاء من
عصاني أي لم يمتثل أمر ترك عبادة الأصنام قوله: * (فإنك غفور رحيم) * دون إنك شديد العقاب مثلا فخيل أنه سبحانه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم وحثا على الاتباع، وتعقب بأن ذكره للتمويه والتخييل بعد ما فهم عليه الصلاة والسلام منه التكثير لا يليق بمقامه الرفيع، وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه لا ينافي الفصاحة والمعرفة باللسان فإنه لا خطأ فيه ولا بعد إذ هو الأصل، ورجحه عنده عليه الصلاة والسلام شغفه بهدايتهم ورأفته بهم واستعطاف من عداهم، ولعل هذا أولى من القول بالتمويه بلا تمويه، وأنكر إمام الحرمين صحة ما يدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام فهم على أن حكم ما زاد على السبعين بخلافه وهو غريب منه، فقد جاء ذلك من رواية البخاري. ومسلم. وابن ماجه. والنسائي وكفى بهم، وقول الطبرسي: إن خبر " لأزيدن " الخ خبر واحد لا يعول عليه لا يعول عليه، وتمسك في ذلك بما هو كحبل الشمس وهو عند القائلين بالمفهوم كجبال القمر، وأجاب المنكرون له بمنع فهم ذلك لأن ذكر السبعين للمبالغة وما زاد عليه مثله في الحكم وهو مبادرة عدم المغفرة فكيف يفهم منه املخالفة، ولعله علم صلى الله عليه وسلم أنه غير مراد ههنا بخصوصه سلمناه لكن لا نسلم فهمه منه، ولعله
149

باق على أصله في الجواز إذ لو لم يتعرض له بنفي ولا إثبات والأصل جواز الاستغفار للرسول عليه الصلاة والسلام وكونه مظنة الإجابة ففهم من حيث أنه الأصل لا من التخصيص بالذكر، وحاصل الأول منه فهمه منه مطلقا بل إنما فهم من الخارج، وحاصل الثاني تسليم فهمه منه في الجلمة لكن لا بطريق المفهوم بل من جهة الأصل.
وأنت تعلم أن ظاهر الخبر مع القائلين بالمفهوم غاية الأمر أن الله سبحانه أعلم نبيه عليه الصلاة والسلام بأية المنافقين أن المراد بالعدد هنا التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفا لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحدا وهو عدم المغفرة لهم مطلقا، لكن في دعوى نزول آية المنافقين بعد هذه الآية اشكال، أما على القول بأن براءة آخر ما نزل فظاهر وأما على القول بأن أكثرها أو صدرها كذلك وحينئذ لا مانع من تأخر نزول بعض الآيات منها عن نزول بعض من غيرها فلأن صدر ما في سورة المنافقين يقتضي أنها نزلت في غير قصة هذه التي سلفت آنفا، وظاهر الأخبار كما ستعلم إن شاء الله تعالى يقتضي أنها نزلت في ابن أبي ولم يكن مريضا، وما تقدم في سبب تزول ما هنا نص في أنه نزل وهو مريض، والقول بأن تلك تزلت مرتين يحتاج إلى النقل ولا يكتفي في مثله بالرأي وأنى به، على أنه يشكل حينئذ قوله عليه الصلاة والسلام " لأزيدن على السبعين " مع تقدم تزول المبين للمراد منه، والقول بالغفلة لا أراه إلا ناشئا من الغفلة عن قوله تعالى: * (سنقرئك فلا تنسى) * بل الجهل بمقامه الرفيع عليه الصلاة والسلام ومزيد اعتنائه بكلام ربه سبحانه، ولم أر من تعرض لدفع هذا الإشكال، ولا سبيل إلى دفعه إلا بمنع نزول ما في سورة المنافقين في قصة أخرى ومنع دلالة الصدر على ذلك. نعم ذكروا أن الصدر نزل في ابن أبي ولم يكن مريضا إذ ذاك؛ ولم نقف على نص في أن العجز نزل فيه كذلك، والظاهر نزوله بعد قوله سبحانه: دولا تصل على أحد منهم) * الخ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يؤيد ذلك عند تفسير الآية فافهم * (ذالك) * أي امتناع المغفرة لهم ولو بعد ذلك الاستغفار * (بأنهم) * أي بسبب أنهم * (كفروا بالله ورسوله) * يعني ليس الامتناع لعدم الاعتداد باستغفارك بل بسبب عدم قابليتهم لأنهم كفروا كفرا متجاوزا للحد كما يشير إليه وصفهم بالفسق في قوله سبحانه: * (والله لا يهدي القوم الف‍اسقين) * فإن الفسق في كل شيء عبارة عن التمرد والتجاوز عن حدوده، والمراد بالهداية الدلالة الموصلة لا الدلالة على ما يوصل لأنها واقعة لكن لم يقبلوها لسوء اختيارهم، والجملة تذييل مؤكد لما قبله من الحكم فإن مغفرة الكفار بالاقلاع عن الكفر والإقبال إلى الحق والمنهمك فيه المطبوع عليه بمعزل من ذلك، وفيه تنبيه على عذر النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لهم وهو عدم يأسه من إيمانهم حيث لم يعلم إذ ذاك أنهم مطبوعون على الغي لا ينجع فيهم العلاج ولا يفيدهم الإرشاد، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم بموتهم كفارا كما يشهد له قوله سبحانه: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) * (التوبة: 113) ولعل نزول قوله سبحانه: * (بأنهم) * الخ متراخ عن نزول قوله سبحانه: * (استغفر لهم) * الخ كما قيل وإلا لم يكن له صلى الله عليه وسلم عذر في الاستغفار بعد النزول.
والقول بأن هذا العذر إنما يصح لو كان الاستغفار للحي كما مر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيه نظر.
* (فرح المخلفون بمقعدهم خل‍افرسول الله وكرهوا أن يج‍اهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله وقالوا لا تنفروا فى الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون) *.
* (فرح المخلفون) * أي الذين خلفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأذن لهم في التخلف أو خلفهم الله تعالى بتثبيطه إياهم
150

لحكمة علمها أو خلفهم الشيطان باغرائه أو خلفهم الكسل والنفاق * (بمقعدهم) * متعلق بفرح وهو مصدر ميمي بمعنى القعود. وقيل: اسم مكان، والمراد منه المدينة، والأكثرون على الأول أي فرحوا بقعودهم عن الغزو * (خلاف رسول الله) * أي خلفه عليه الصلاة والسلام وبعد خروجه حيث خرج ولم يخرجوا، فهو نصب على الظرفية بمعنى بعد وخلف وقد استعملته العرب في ذلك، والعامل فيه كما قال أبو البقاء * (مقعد) * وجوز أن يكون * (فرح) *. وقيل: هو بمعنى المخالفة فيكون مصدر خالف كالقتال وحينئذ يصح أن يكون حالا بمعنى مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يكون مفعولا له والعامل إما * (فرح) * أي فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود وإما * (مقعدهم) * أي فرحوا بقعودهم لأجل المخالفة، وجعل المخالفة علة باعتبار أن قصدهم ذلك لنفاقهم ولا حاجة إلى أن يقال قصدهم الاستراحة ولكن لما آل أمرهم إلى ذلك جعل علة كما قالوا في لام العاقبة وجوز أن يكون نصبا على المصدر بفعل دل عليه الكلام.
* (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) * إيثارا للراحة والتنعم بالمآكل والمشارب مع ما في قلوبهم من الكفر والنفاق، وبين الفرح والكراهة مقابلة معنوية لأن الفرح بما يحب.
وإيثار ما في النظم على أن يقال وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذان بأن اجلهاد في سبيل الله تعالى مع كونه من أجل الرغائب التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه كما فرحوا بأقبح القبائح وهو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الكلام تعريض بالمئمنين الذين آثروا ذلك وأحبوه ابتغاء
لرضا الله تعالى ورسوله * (وقالوا) * أي لاخوانهم تثبيتا لهم على القعود وتواصيا بينهم بالفساد أو للمؤمنين تثبيطا لهم على الجهاد ونهيا عن المعروف وإظهارا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به، والقائل رجال من المنافقين كما روي عن جابر بن عبد الله وهو الذي يقتضيه الظاهر.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي أن القائل رجل من بني سلمة، ووجه ضمير الجمع على هذا يعلم بما مر غير مرة * (لا تنفروا) * لا تخرجوا إلى الغزو * (في الحر) * فإنه لا يستطاع شدته * (قل) * يا محمد ردا عليهم وتجهيلا لهم * (نار جهنم) * التي هي مصيركم بما فعلتم * (أشد حرا) * من هذا الحر الذي ترونه مانعا من النفير فما لكم لا تحذرونها وتعرضون أنفسكم لها بإيثار القعود والمخالفة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام * (لو كانوا يفقهون) * تذييل من جهته تعالى غير داخل على القول المأمور به مؤكد لمضمونه، وجواب * (لو) * مقدر وكذا مفعول * (يفقهون) * أي لو كانوا يعلمون أنها كذلك أو أحوالها وأهوالها أو أن مرجعهم إليها لما آثروا راحة زمن قليل على عذاب الأبد، وأجهل الناس من صان نفسه عن أمير يسير يوقعه في ورطة عظيمة، وأنشد الزمخشري لابن أخت خالته. مسرة أحقاب تلقيت بعدها * مساءة يوم أريها شبه الصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة * وراء تقضيها مساءة أحقاب
151

وقدر بعضهم الجواب لتأثروا بهذا الالزام وهو خلاف الظاهر، وجوز أن تكون * (لو) * لمجرد التمني المنبىء عن امتناع تحقق مدخولها، وينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم فلا جواب ولا مفعول ويؤول المعنى إلى أنهم ما كانوا من أهل الفطانة والفقه، ويكون الكلام نظير قوله تعالى: * (قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون * (وهو خلاف الظاهر أيضا.
* (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزآء بما كانوا يكسبون) *.
* (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا) * اخبار عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل في الدنيا والبكاء الكثير في الأخرى، وإخراجه في صورة الأمر للدلالة على تحتم وقوع المخبر به وذلك لأن صيغة الأمر للوجوب في الأصل والأكثر فاستعمل في لازم معناه أو لأنه لا يحتمل الصدق والكذب بخلاف الخبر كذا قرره الشهاب ثم قال: فإن قلت: الوجوب لا يقتضي الوجود وقد قالوا: إنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة لاقتضائة تحقق المأمور به فالخبر آكد وقد مر مثله فما باله عكس. قلت: لا منافاة بينهما كما قيل لأن لكل مقام مقالا والنكت لا تتزاحم فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة أن المأمور لشدة امتثاله كأنه وقع منه ذلك وتحقق قبل الأمر كان أبلغ، وإذا عبر عن الخبر بالأمر لإفادة لزومه ووجوبه كأنه مأمور به أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى، وقيل: الأمر هنا تكويني كما في قوله تعالى: * (إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * ولا يخفى ما فيه.
والفاء لسببية ما سبق للأخبار بما ذكر من الضحك والبكاء لا لنفسهما إذ لا يتصور في الأول أصلا، وجعل ذلك سببا لاجتماع الأمرين بعيد، ونصب * (قليلا * (و * (كثيرا) * على المصدرية أو الظرفية أي ضحكا أو زمانا قليلا وبكاء أو زمانا كثيرا، والمقصود بإفادته في الأول على ما قيل هو وصف القلة فقط وفي الثاني هو وصف الكثرة مع الموضوف، فيروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم.
وجوز أن يكون الضحك كناية عن الفرح والبكاء كناية عن الغم والأول في الدنيا والثاني في الأخرى أيضا، والقلة على ما يتبادر منها، ولا حاجة إلى حملها على العدم كما حملت الكثرة على الدوام. نعم إذا اعتبر كل من الأمرين في الآخرة احتجنا إلى ذلك إذ لا سرور فيها لهم أصلا، ويفهم من كلام ابن عطية أن البكار والضحك في الدنيا كما في حديث الشيخين، وغيرهما " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا وليكيتم كثيرا " أي أنهم بلغوا في سوء الحال والخطر مع الله تعالى إلى حيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلا وبكاؤهم من أجل ذلك كثيرا.
* (جزاء بما كانوا يكسبون) * أي من فنون المعاصي، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددي، و * (جزاء) * مفعول له للفعل الثاني ولك أن تجعله مفعولا له للفعلين أو مصدر من المبني للمفعول حذف ناصبه أي يجزون مما ذكر من البكاء الكثير أو منه ومن الضحك القليل جزاء بما استمروا عليه من المعاصي.
* (فإن رجعك الله إلى طآئفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معى أبدا ولن تق‍اتلوا معى عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخ‍الفين) *.
* (فان رجعك الله) * أي من سفرك، والفاء لتفريع الأمر الآتي على ما بين من أمرهم و * (رجع) * هنا متعد بمعنى رد ومصدره الرجع وقد يكون لازما ومصدره الرجوع، وأوثر استعمال المتعدي وإن كان استعمال اللازم كثيرا إشارة إلى أن ذلك السفر لما فيه من الخطر يحتاج الرجوع منه لتأييد الهي ولذا أوثرت كلمة * (إن) * على إذا أي فإن ردك الله سبحانه * (إلى طائفة منهم) * أي إلى المنافقين من المتخلفين بناء على أن منهم من لم يكن منافقا أو إلى من بقي من المنافقين المتخلفين بأن ذهب بعضهم بالموت أو بالغيبة عن البلد أو بأن لم
152

يستأذنك البعض، وقيل: المراد بتلك الطائفة من بقي من المنافقين على نفاقه ولم يتب وليس بذاك.
أخرج ابن المنذر. وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلا من المنافقين وفيهم قيل ما قيل. * (فاستأذنوك للخروج) * معك إلى غزوة أخرى بعد غزوتك هذه التي ردك الله منها بتأييده * (فقل) * لهم إهانة لهم على أتم وجه * (لن تخرجوا معى أبدا) * ما دمت ودمت * (ولن تقاتلوا معي عدوا) * من الأعداء، وهو أخبار في معنى النهي للمبالغة.
وذكر القتال كما قال بعض المحققين لأنه المقصود من الخروج فلو اقتصر على احدهما لكفي إسقاطا لهم عن مقام الصحبة ومقام الجهاد أو عن ديونا الغزاة وديوان
المجاهدين وإظهارا لكراهة صحبتهم وعدم من الجند أو ذكر الثاني للتأكيد لأنه أصرح في المراد والأول لمطابقته للسؤال، ونظير ذلك. أقول له ارحل لا تقين عندنا
فإن الثاني أدل على الكراهة * (إنكم رضيتم بالقعود) * عن الخروج معي وفرحتم به * (أول مرة) * أي من الخروج فنصب أفعل المضاف على المصدرية، وقيل: على الظرفية الزمانية واستبعده أبو حيان، والظاهر أن هذا الاختلاف للاختلاف في * (مرة) * ونقل عن أبي البقاء أنها في الأصل مصدر مر يمر ثم استعملت ظرفا، واختار القاضي البيضاوي بيض الله غرة أحواله النصب على المصدرية وأشار إلى تأنيث الموصوف حيث قال: وأول مرة هي الخرجة إلى عزوة تبوك وذكر أفعل لأن التذكير هو الأكثر في مثل ذلك. وفي الكشاف أن * (مرة) * نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل، وذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات لأن أكثر اللغتين - هند أكبر النساء وهي أكبرهن -، وهي كبرى مرأة لا تكاد تعثر عليه ولكن هي أكبر امرأة وأول مرة وآخر مرة، وعلل في الكشف عدم العثور على نحو هي كبرى امرأة بأن أفعل فيه مضاف إلى غير المفضل عليه بل إلى العدد المتلبس هو به بيانا له فكأنه قيل: هي امرأة أكبر من كل واحدة واحدة من النساء، وفي مثله لا يختلف أفعل التفضيل، فالتحقيق أنه لا يشبه ما فيه اللام وإنما المطابقة بين موصوفة وما أضيف إليه ولا مدخل لطباقه في اللفظ والمعنى فتدبر، والجملة في موضع التعليل لما سلف فهي مستأنفة استئنافا بيانيا أي لأنكم رضيتم * (فاقعدوا مع الخالفين) * أي المتخلفين لعدم لياقتهم كالنساء والصبيان والرجال العاجزين، وجمع المذكر للتغليب، واقتصر ابن عباس على الأخير، وتفسير الخالف بالمتخلف هو المأثور عن أكثر المفسرين السلف، وقيل: إنه من خلف بمعنى فسد. ومنه خلوف فم الصائم لتغير رائحته، والظرف متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا من ضمير الجمع، والفاء لتفريع الأمر بالقعود بطريق العقوبة على ما صدر منهم من الرضا بالقعود أي إذا رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا من بعد.
وقرأ عكرمة * (الخافين) * بوزن حذرين ولعله صفة مشبهة مثله، وقيل: هو مقصور من الخالفين إذ لم يثبت استعماله كذلك على أنه صفة مشبهة.
* (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) *.
* (ولا تصل على أحد منهم مصات أبدا) * إشارة إلى إهانتهم بعد الموت.
أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه
153

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال: * (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة) * (التوبة: 80) وسأزيده على السبعين قال: إنه منافق قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله سبحانه: * (ولا تصل على أحد منهم) * الآية. وفي رواية أخرى له عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أنه لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول دعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فلما قام وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " أخر عني يا عمر " فلما أكثرت عليه قال: " أخر عني لو أعلم لو زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها " قال فصلي عليه عليه الصلاة والسلام ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة * (ولا تصل على أحد منهم) * إلى قوله: * (وهم فاسقون) * فعجبت من جراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهر هذين الخبرين أنه لم ينزل بين * (استغفر لهم أولا تستغفر لهم) *، وقوله تعالى: * (ولا تصل على أحد منهم) * شيء ينفع عمر رضي الله تعالى عنه وإلا لذكر، والظاهر أن مراده بالنهي في الخبر الأول ما فهمه من الآية الأولى لا ما يفهم كما قيل من قوله تعالى: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * لعدم مطابقة الجواب حينئذ كما لا يخفى، وأخرج أبو يعلى. وغيره عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على ابن أبي فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال: دولا تصل) * الآية، وأكثر الروايات أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه وأن عمر رضي الله تعالى عنه أحب عدم الصلاة عليه وعد ذلك أحد موافقاته للوحي وإنما لم ينه صلى الله عليه وسلم عن التكفين بقميصه ونهى عن الصلاة عليه لأن الضنة بالقميص كانت مظنة الإخلال بالكرم على أنه كان مكافأة لقميصه الذي ألبسه العباس رضي الله تعالى عنه حين أسر ببدر فإنه جيء به رضي الله تعالى عنه ولا ثوب عليه وكان طويلا جسيما فلم يكن ثوب بقدر قامته غير ثوب ابن أبي فكساه إياه، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أنهم ذكروا القميص بعد نزول الآية فقال عليه الصلاة والسلام: " وما يغنى عنه قميصي والله إني لأرجو أن يسلم به أكثر من ألف من بني الخزرج " وقد حقق الله تعالى رجاء نبيه كما في بعض الآثار، والأخبار فيما كان منه عليه الصلاة والسلام مع ابن أبي من الصلاة عليه وغيرها لا تخلو عن التعارض، وقد جمع بينهما حسبما أمكن علماء الحديث، وفي لباب التأويل نبذة من ذلك فليراجع.
والمراد من الصلاة المنهى عنها صلاة الميت المعروفة وهي متضمنة للدعاء والاستغفار والاستشفاع له قيل: والمنع عنها لمنعه عليه الصلاة والسلام من الدعاء للمنافقين المفهوم من الآية السابقة أو من قوله سبحانه: * (ما كان للنبي) * الخ، وقيل: هي هنا بمعنى الدعاء، وليس بذاك، و * (أبدا) * ظرف متعلق بالنهي، وقيل: متعلق بمات، والموت الأبدي كناية عن الموت على الكفر لأن المسلم يبعث ويحيا حياة طيبة، والكافر وإن بعث لكنه للتعذيب فكأنه لم يحي، وزعم بعضهم أنه لو تعلق بالنهي لزم أن لا تجوز الصلاة على من تاب منهم ومات على الإيمان مع أنه لا حاجة للنهي عن الصلاة عليهم إلى قيد التأبيد، ولا يخفى أنه أخطأ ولم يشعر بأن دمنهم) * حال من الضمير في مات أي مات حال كونه منهم أي متصفا بصفتهم وهي النفاق كقولهم: أنت مني يعني على طريقتي وصفتي كما صرحوا به على أنه لو جعل الجار والمجرور صفة لأحد لا يكاد يتوهم ما ذكر وكيف يتوهم مع قوله تعالى الآتي * (إنهم كفروا) * الخ، وقوله: مع أنه لا حاجة إلى النهي الخ لظهور ما فيه لا حاجة إلى ذكره، و * (مات) * ماض باعتبار
154

سبب النزول وزمان انلهي ولا ينافي عمومه وشموله لمن سيموت، وقيل: إنه بمعنى المستقبل وعبر به لتحققه؛ والجملة في موضع الصفة لأحد * (ولا تقم على قبره) * أي لا تقف عليه ولا تتول دفنه من قولهم: قام فلان بأمر فلان إذا كفاه إياه وناب عنه فيه، ويفهم من كلام بعضهم أن * (على) * بمعنى عند، والمراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة، والقبر في المشهور مدفن الميت ويكون بمعنى الدفن وجوزوا إرادته هنا أيضا.
وفي فتاوي الجلال السيوطي هل يفسر القيام هنا بزيارة القبور وهل يستدل بذلك على أن الحكمة في زيارته صلى الله عليه وسلم قبر أمه أنه لاحيائها لتؤمن به بدليل أن تاريخ الزيارة كان بعد النهي؟
الجواب المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة، ويحتمل أن يعم الزيارة أيضا أخذا من الإطلاق وتاريخ الزيارة كان قبل النهي لا بعده فإن الذي صح في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم زارها عام الحديبية والآية نازلة بعد غزوة تبوك، قم الضمير في * (منهم) * خاص بالمنافقين وإن كان بقية المشركين يلحقون بهم قياسا، وقد صح في حديث الزيارة أنه استأذن ربه في ذلك فأذن له وهذا الاذن عندي يستدل به على أنها من الموحدين لا من المشركين كما هو اختياري، ووجه الاستدلال به أنه نهاه عن القيام على قبور الكفار وأذن له في القيام على قبر أمه فدل على أنها ليست منهم وإلا لما كان يأذن له فيه، واحتمال التخصيص خلاف الظاهر ويحتاج إلى دليل صريح، ولعله عليه الصلاة والسلام كان عنده وقفة في صحة توحيد من كان في الجاهلية حتى أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بصحة ذلك، فلا يرد أن استئذانه يدل على خلاف ذلك وإلا لزارها من غير استئذان اه‍ وفي كون المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة خفاء إذ المتبادر من القيام على القبر ما هو أعم من ذلك نعم كان الوقوف بعد الدفن قدر تحر جزور مندوبا ولعله لشيوع ذلك إذ ذاك أخذ في مفهوم القيام على القبر ما أخذ.
وفي جواز زيارة قبور الكفار خلاف وكثير من القائلين بعدم الجواز حمل القيام على ما يعم الزيارة ومن أجاز استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة " فإنه عليه الصلاة والسلام علل الزيارة بتذكير الآخرة ولا فرق في ذلك بين زيارة قبور المسلمين وقبور غيرهم، وتمام البحث في موضعه والاحتياط عندي عدم زيارة قبور الكفار * (إنهم كفروا بالله ورسوله) * جملة مستأنفة سيقت لتعليل النهي على معنى أن الصلاة على الميت والاحتفال به إنما يكون لحرمته وهم بمعزل عن ذلك لأنهم استمروا على الكفر بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مدة حياتهم * (وماتوا وهم فاسقون) * أي متمردون في الكفر خارجون عن حدوده.
* (ولا تعجبك أموالهم وأول‍ادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها فى الدنيا وتزهق أنفسهم وهم ك‍افرون) *.
* (ولا تعجبك أموالهم وأول‍ادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) * تأكيد لما تقدم من نظيره والأمر حقيق بذلك لعموم البلوى بمحبة ما ذكر والاعجاب به، وقال الفارسي: إن ما تقدم في قوم وهذا في آخرين فلا تأكيد، وجيء بالواو هنا لمناسبة عطف نهى على نهي قبله أعنى قوله سبحانه: * (ولا تصل) * الخ، وبالفاء هناك لمناسبة التعقيب لقوله تعالى: قبل * (ولا ينفقون إلا وهم كارهون) * (التوبة: 54) فإن حاصله لا ينفقون إلا وهم كارهون للانفاق فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد فنهى عن الإعجاب المتعقب له.
155

وقيل: هنا * (وأولادهم) * دون - لا - لأنه نهى عن الإعجاب بهما مجتمعين وهناك بزيادة لا لأنه نهى عن كل واحد واحد فدل مجموع الآيتين على النهي عن الاعجاب بهما مجتمعين ومنفردين وهنا * (أن يعذبهم) * وهناك * (ليعذبهم) * للإشارة إلى أن إرادة شيء لشيء راجعة إلى إرادة ذلك الشيء بناء على أن متعلق الإرادة هناك الإعطاء واللام للتعليل أي إنما يريد إعطاءهم للتعذيب، وأما إذا قلنا: إن اللام فيما تقدم زائدة فالتغاير يحتمل أن يكون لأن التأكيد هناك لتقدم ما يصلح سببا للتعذيب بالأموال أوقع منه هنا لعدم تقدم ذلك وجاء هناك * (في الحياة الدنيا) * وهنا * (في الدنيا) * تنبيها على أن حياتهم كلا حياة فيها ويشير ذلك هنا إلى أنهم بمنزلة الأموات.
وبين ابن الخازن سر تغاير النظمين الكريمين بما لا يخفى ما فيه، وتقديم الأموال على الأولاد مع أنهم أعز منها لعموم مساس الحاحة إليها دون الأولاد، وقيل: لأنها أقدم في الوجود منهم.
* (وإذآ أنزلت سورة أن ءامنوا بالله وج‍اهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع الق‍اعدين) *.
* (وإذا أنزلت سورة) * من القرآن والمراد بها على ما قيل: سورة معينة وهي براءة، وقيل: المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد وهو أولى وأفيد لأن استئذانهم عند نزول آيات براءة علم مما مر، و * (إذا) * تفيد التكرار بقرينة المقام وإن لم تفده بالوضع كما نص عليه بعض المحققين، وجوز أن يراد بالسورة بعضها مجازا من باب إطلاق الجزء على الكل، ويوهم كلام الكشاف إن إطلاق السورة على بعضها بطريق الاشتراك كإطلاق القرآن على بعضه وليس بذاك، والتنوين للتفخيم أي سورة جليلة الشأن * (أن آمنوا) * أي بأن آمنوا * (فأن) * مصدرية حذف عنها الجار وجوز أن تكون مفسرة لتقدم الإنزال وفيه معنى القول دون حروفه، والخطاب للمنافقين، والمراد أخلصوا الإيمان * (بالله وجاهدوا مع رسوله) * لإعزاز دينه وإعلاء كلمته، وأما التعميم أو إرادة المؤمنين بمعنى دوموا على الإيمان بالله الخ كما ذهب إليه الطبرسي وغيره فلا يناسب المقام ويحتاج فيه ارتباط الشرط والجزاء إلى تكلف ما لا حاجة إليه كاعتبار ما هو من حال المؤمنين الخلص في النظم الجليل * (إستأذنك) * أي طلب الاذن منك وفيه التفات * (أولوا الطول منهم) * أي أصحاب الفضل والسعة من المنافقين وهم من له قدرة مالية ويعلم من ذلك البدنية بالقياس وخصوا بالذكر لأنهم الملومون * (وقالوا ذرنا) * أي دعنا * (نكن مع القاعدين) * أي الذين لم يجاهدوا لعذر من الرجال والنساء ففيه تغليب، والعطف على استأذنك للتفسير مغن عن ذكر ما استأذنوا فيه وهو القعود.
* (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) *.
* (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) * أي النساء كما روي عن ابن عباس. وقتادة وهو جمع خالفة وأطلق على المرأة لتخلفها عن أعمال الرجال كالجهاد وغيره، والمراد ذمهم والحاقهم بالنساء في التخلف عن اجلهاد، ويطلق الخالفة على من لا خير فيه، والتار فيه للنقل للاسمية، وحمل بعضهم الآية على ذلك فالمقصود حينئذ من لا فائدة فيه للجهاد وجمعه على فواعل على الأول ظاهر وأما على الثاني فلتأنيث لفظه لأن فاعلا لا يجمع على فواعل في العقلاء الذكور إلا شذوذا * (وطبع على قلوبهم فهم) * بسبب ذلك * (لا يفقهون) * ما ينفعهم وما يضرهم في الدارين.
* (ل‍اكن الرسول والذين ءامنوا معه ج‍اهدوا بأموالهم وأنفسهم وأول‍ائك لهم الخيرات وأول‍ائك هم المفلحون) *.
* (لكن الرسول والذين ءامنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم) * استدراك لما فهم من الكلام، والمعنى إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فلا ضير لأنه قد نهض على أتم وجه من هو خير منهم فهو على حد قوله تعالى:
156

* (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) * وفي الآية تعريض بأن القوم ليسوا من الإيمان بالله تعالى في شيء وإن لم يعرضوا عنه صريحا اعراضهم عن اجلهاد باستئذانهم في القعود * (وأولئك) * أي المنعوتون بالنعوت الجليلة * (لهم) * بواسطة ذلك * (الخيرات) * أي المنافع التي تسكن النفس إليها وترتاح لها، وظاهر اللفظ عمومها هنا لمنافع الدارين كالنصر والغنيمة في الدنيا والجنة ونعيمها في الأخرى، وقيل. المراد بها الحور لقولهتعالى: * (فيهن خيرات حسان) * فإنها فيه بمعنى الحور فتحمل عليه هنا أيضا. ونص المبرد على أن الخيرات تطلق على الجواري الفاضلات وهي جمع خيرة بسكون الياء مخفف خيرة المشددة تأنيث خير وهو الفاضل من كل شيء المستحسن منه * (وأولئك هم المفلحون) * أي الفائزون بالمطالب دون من حاز بعضا يفنى عما قليل، وكرر اسم الإشارة تنويها بشأنهم.
* (أعد الله لهم جن‍ات تجري من تحتها الانه‍ار خ‍الدين فيها ذالك الفوز العظيم) *.
* (أعد الله لهم) * استئناف لبيان كونهم مفلحين، وقيل: يجوز أن يكون بيانا لما لهم من المنافع الأخروية ويخص ما قبل بمنافع الدنيا بقرينة المقابلة، والاعداد التهيئة أي هيأ لهم * (جن‍ات تجري من تحتها الأنه‍ار خ‍الدين فيها) * حال مقدرة من الضمير في * (لهم) * والعامل * (أعد) * * (ذالك) * إشارة إلى ما فهم من الكلام من نيل الكرامة العظمى * (الفوز) * أي الظفر * (العظيم) * الذي لا فوز وراءه.
* (وجآء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم) *.
* (وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم) * شروع في بيان أحوال منافقي الاعراب إثر بيان أحوال منافقي أهل المدينة. والمعذرون من عذر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد، وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له، ويحتمل أن يكون من اعتذر والأصل المعتذون فادغمت التاء في الذال بعد نقل حركتها إلى العين، ويجوز كسرها لالتقاء الساكنين وضمها إتباعا للميم لكن لم يقرأ بهما، وقرأ يعقوب * (المعذرون) * بالتخفيف وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فهو من اعذر إذا كان له عذر. وعن مسلمة أنه قرأ * (المعذرون) * بتشديد العين والذال من تعذر بمعنى اعتذر.
وتعقب ذلك أبو حيان فقال: هذه القراءة إما غلط من القارىء أو عليه لأن التاء لا يجوز إدغامها في العين لتضادهما، وأما تنزيل التضاد منزلة التناسب فلم يقله أحد من النحاة ولا القراء فالاستغال بمثله عيب، ثم إن هؤلاء الجائين كاذبون على أول احتمالي القراءة الأولى، ويحتمل أن يكونوا كاذبين وإن يكونوا صادقين على الثاني منهما وكذا على القراءة الأخيرة، وصادقون على القراءة الثانية. واختلفوا في المراد بهم فعن الضحاك أنهم رهط عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله إنا إن غزونا معك أغارت طي على أهالينا ومواشينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله سبحانه عنكم. وقيل: هم أسد. وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال. وأخرج أبو الشيخ عن ابن إسحاق أنه قال: ذكر لي أنهم نفر من بني غفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أهل العذر ولم يبين من هم؛ ومما ذكرنا يعلم وقوع الاختلاف في أن هؤلاء الجائين هل كانوا صادقين في الاعتذار أم لا، وعلى القول بصدقهم يكون المراد بالموصول في قوله سبحانه: * (وقعد الذين كذبوا الله ورسوله) * غيرهم وهم أناس من الاعراب أيضا منافقون والأولون لا نفاق فيهم، وعلى القول بكذبهم يكون المراد به الأولين، والعدول عن الاضمار إلى الإظهار إظهار لذمهم بعنوان الصلة، والكذب على الأول بإدعاء الإيمان وعلى الثاني بالاعتذار، ولعل
157

القعود مختلف أيضا. وقرأ أبي * (كذبوا) * بالتشديد * (سيصيب الذين كفروا منهم) * أي من الاعراب مطلقا وهم منافقوهم أو من المعتذرين، ووجه التبعيض أن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره أي سيصيب المعتذرين لكفرهم * (عذاب أليم) * وهو عذاب النار في الآخرة ولا ينافي استحقاق من تخلف لكسل، ذلك عندنا لعدم قولنا بالمفهوم ومن قال به فسر العذاب الأليم بمجموع القتل والنار والأول منتف في المؤمن المتخلف للكسل فينتفي المجموع، وقيل: المراد بالموصول المصرون على الكفر.
* (ليس على الضعفآء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم) *.
* (ليس على الضعفاء) * كالشيوخ ومن فيه نحافة خلقية لا يقوى على الخروج معها وهو جمع ضعيف ويقال: ضعوف وضعفان وجاء في الجمع ضعاف وضعفة وضعفي وضعافي * (ولا على المرضى) * جمع مريض ويجمع أيضا على مراض ومراضي وهو من عراه سقم واضطراب طبيعة سواء كان مما يزول بسرعة ككثير من الأمراض أولا كالزمانة وعدوا منه ما لا يزول كالعمى والعرج الخلقيين فالأعمى والأعرج داخلان في المرضى وان أبيت فلا يبعد دخولهما في الضعفاء، ويدل
لدخول الأعمى في أحد المتعاطفين ما أخرج ابن أبي حاتم. والدارقطني في الافراد عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت براءة فإني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاءه أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) *.
* (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون) * أي الفقراء العاجزين عن أهبة السفر والجهاد قيل هم مزينة. وجهينة. وبنو عذرة * (حرج) * أي ذنب في التخلف وأصله الضيق وقد تقدم الكلام فيه * (إذا نصحوا الله ورسوله) * بالإيمان والطاعة ظاهرا وباطنا كما يفعل الموالي الناصح فالنصح مستعار لذلك، وقد يراد بنصحهم المذكور بذل جهدهم لنفع الإسلام والمسلمين بأن يتعهدوا أمورهم وأهلهم وإيصال خبرهم إليهم ولا يكونوا كالمنافقين الذين يشيعون الأراجيف إذا تخلفوا، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال: نصحته ونصحت له، وفي النهاية النصيحة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له وليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة يجمعه غيرها، والعامل في الظرف على ما قال أبو البقاء معنى الكلام أي لا يخرجون حينئذ.
* (ما على المحسنين من سبيل) * أي ما عليهم سبيل فالإحسان النصح لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ووضع الظاهر موضع ضميرهم اعتناء بشأنهم ووصفا لهم بهذا العنوان الجليل، وزيدت * (من) * للتأكيد، والجملة استئناف مقرر لمضمون ما سبق على أبلغ وجه وألطف سبك وهو من بليغ الكلام لأن معناه لا سبيل لعاتب عليهم أي لا يمر بهم العاتب ولا يجوز في أرضهم فما أبعد العتاب عنهم وهو جار مجرى المثل، ويحتمل أن يكون تعليلا لنفي الحرج عنهم و * (المحسنين) * على عمومه أي ليس عليهم حرج لأنه ما على جنس المحسنين سبيل وهم من جملتهم، قال ابن الفرس: ويستدل بالآية على أن قاتل البهيمة الصائلة لا يضمنها * (والله غفور رحيم) * تذييل مؤيد لمضمون ما ذكرو فيه إشارة إلى أن كل أحد عاجز محتاج للمغفرة والرحمة إذ الإنسان لا يخلو من تفريط ما فلا يقال: إنه نفى عنهم الإثم أولا فما الاحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب فإن أريد ما تقدم من ذنوبهم دخلوا بذلك الاعتبار في المسيء.
* (ولا على الذين إذا مآ أتوك لتحملهم قلت لا أجد مآ أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون) *.
* (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) * عطف على المحسنين كما يؤذن به
158

قوله تعالى الآتي إن شاء الله تعالى * (إنما السبيل) * الخ، وهو من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنهم وجعلهم كانهم لتميزهم جنس آخر. وقيل: عطف على الضعفاء وهم - كما قال ابن إسحق وغيره - البكاءون وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير. وعلية بن زيد أخو بني حارث. وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار. وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة. وعبد الله بن معقل المزنى. وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف. وعرباض بن سارية الفزاري أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحملوه وكانوا أهل حاجة فقال لهم عليه الصلاة والسلام ما قصه الله تعالى بقوله سبحانه: * (قلت لا أجد ما أحملكم عليه) * فتولوا وهم يبكون كما أخبر سبحانه، والظاهر أنه لم يخرج منهم أحد للغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن قال ابن إسحاق: بلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضرى لقي أبا ليلى. وابن معقل وهم يبكيان فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحا له فارتحلا وزودهما شيئا من تمر فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أن الباقين أعينوا على الخروج فخرجوا. وعن مجاهد أنهم بنو مقرن: معقل. وسويد. والنعمان، وقيل: هم أبو موسى الأشعري وأصحابه من أهل اليمن وقيل وقيل: وظاهر الآية يقتضي أنهم طلبوا ما يركبون من الدواب وهو المروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأخرج ابن المنذر عن علي بن صالح قال: حدثني مشيخة من جهينة قالوا: أدركنا الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان فقالوا: ما سألناه إلا الحملان على النعال، ومثل هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن إبراهيم بن أدهم عمن حدثه إنه قال: ما سألوه الدواب ما سألوه إلا النعال، وجاء في بعض الروايات إنهم قالوا: احملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو معك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، ومن مال إلى الظاهر المؤيد بما روي عن الحبر قال: تجوز بالخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة عن ذي الخف والحافر فكأنهم قالوا: احملنا على ما يتيسر أو المراد احملنا ولو على نعالنا وأخفافنا مبالغة في القناعة ومحبة للذهاب معه عليه الصلاة والسلام.
وأنت تعلم أن ظاهر الخبرين السابقين يبعد ذلك على أنه في نفسه خلاف الظاهر نعم الأخبار المخالفة لظاهر الآية لا يخفى ما فيها على من له اطلاع على مصطلح الحديث ومغايرة هذا الصنف بناءا على ما يقتضيه الظاهر من أنهم واجدون لما عدا المركب للذين لا يجدون ما ينفقون إذا كان المراد بهم الفقراء الفاقدين للزاد والمركب وغيره ظاهرة وبينهما عموم وخصوص إذا أريد بمن لا يجد النفقة من عدم شيئا لا يطيق السفر لفقده وإلى الأول ذهب الإملم واختاره كثير من المحققين، واختلف في جواب * (إذا) * فاختار بعض المحققين أنه * (قلت) * الخ فيكون قوله سبحانه: * (تولوا) * الخ مستأنفا استئنافا بيانيا، وقيل: هو الجواب و * (قلت) * مستأنف أو على حذفل حرف العطف أي وقلت أو فقلت وهو معطوف على * (أتوك) * أو في موضع الحال من الكاف في * (أتوك) * - وقد - مضمرة كما في * (جاؤوكم حصرت صدورهم) * (النساء: 90) وزمان الاتيان يعتبر واسعا كيومه وشهره فيكون مع التولي في زمان واحد ويكفي تسببه له وإن اختلف زمانهما كما ذكره الرضى في قولك: إذا جئتني اليوم أكرمتك غدا أي كان مجيئك سببا لإكرامك غدا؛ وفي إيثار * (لا أجد) * على ليس عندي من تلطيف الكلام وتطييب قلوب السائلين ما لا يخفى
159

كأنه عليه الصلاة والسلام يطلب ما يسألونه على الاستمرار فلا يجده وذلك هو اللائق بمن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم صلى الله عليه وسلم وقوله سبحانه: * (وأعينهم تفيض من الدمع) * في موضع الحال من ضمير * (تولوا) * والفيض انصباب عن امتلاء وهو هنا مجاز عن الامتلاء بعلاقة السببية، والدمع الماء المخصوص
ويجوز إبقاء الفيض على حقيقته ويكون إسناده إلى العين مجازا كجرى النهر والدمع مصدر دمعت العين دمعا و * (من) * للأجل والسبب، وقيل: إنها للبيان وهي مع المجرور في محل نصب على التمييز وهو محول عن الفاعل. وتعقبه أبو حيان بأن التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن وأيضا لا يجيز تعريف التمييز إلا الكوفيون. وأجيب عن الأول بأنه منقوض بنحو قوله: عز من قائل وعن الثاني بأنه كفى إجازة الكوفيين، وذكر القطب أن أصل الكلام أعينهم يفيض دمعها ثم أعينهم تفيض دمعا وهو أبلغ لإسناد الفعل إلى غير الفاعل وجعله تمييزا سلوكا لطريق التبيين بعد الإبهام ولأن العين جعلت كأنها دمع فائض ثم * (أعينهم تفيض من الدمع) * أبلغ مما قبله بواسطة - من - التجريدية فإنه جعل أعينهم فائضة ثم جرد الأعين الفائضة من الدمع باعتبار الفيض. وتعقب بأن * (من) * هنا للبيان لما قد أبهم مما قد يبين بمجرد التمييز لأن معنى تفيض العين يفيض شيء من أشياء العين كما أن معنى قولك: طاب زيد طاب شيء من أشياء زيد والتمييز رفع إبهام ذلك الشيء فكذا من الدمع فهو في محل نصب على التمييز وحديث التجريد لا ينبغي أن يصدر ممن له معرفة بأساليب الكلام وقد مر بعض الكلام في المائدة على هذه الجملة فتذكر.
وقوله تعالى: * (حزنا) * نصب على العلية والحزن يستند إلى العين كالفيض فلا يقال: كيف ذاك وفاعل الفيض مغاير لفاعل الحزن ومع مغايرة الفاعل لا نصب، وقيل: جاز ذلك نظرا إلى المعنى إذ حاصله تولوا وهم يبكون حزنا وجوز نصبه على الحال من ضمير * (تفيض) * أي حزينة وعلى المصدرية لفعل دال عليه ما قبله أي لا تحزن حزنا والجملة حال أيضا من الضمير المشار إليه وقد يكون تعلق ذلك على احتمالات بتولوا أي تولوا للحزن أو حزنين أو يحزنون حزنا * (ألا يجدوا) * على حذف اللام وحذف الجار في مثل ذلك مطرد وهو متعلق بحزنا كيفما كان، وقيل: لا يجوز تعلقه به إذا كان نصبا على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل ولعل من قال بالأول يمنع ذلك ويقول: يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره وجوز تعلقه بتفيض وقيل: وهذا إذا لم يكن * (حزنا) * علة له وإلا فلا يجوز لأنه لا يكون لفعل واحد مفعولان لأجله والإبدال خلاف الظاهر أي لئلا يجدوا * (ما ينفقون) * في شراء ما يحتاجون إليه في الخروج معك إذا لم يجدوه عندك وهذا بحسب الظاهر يؤيد كون هذا الصنف مندرجا تحت قوله سبحانه: * (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون) *.
160