الكتاب: عدة الأصول (ط.ق)
المؤلف: الشيخ الطوسي
الجزء: ٣
الوفاة: ٤٦٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: محمد مهدي نجف
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: مؤسسة آل البيت ( ع ) للطباعة والنشر
الناشر: مؤسسة آل البيت ( ع ) للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات: وبذيله الحاشية الخليلية للشيخ خليل بن الغازي القزويني ١٠٠١ - ١٠٨٩ ه‍

هذا
هو الجزء الثاني من كتاب عدة الأصول في أصول الفقه للامام الهمام شيخ
الطايفة الناجية ووجه الشيعة الامام الشيخ أبي جعفر محمد بن
الحسن بن علي الطوسي تغمده الله برحمته وهذا الشيخ جليل القدر حاله
اشهر من أن يذكر ولد في شهر رمضان سنة خمس وثمانين وثلاثمائة
وتوفى ليلة الاثنين في الثاني والعشرين من المحرم سنة ستين
وأربع مائة بالمشهد الغروي على ساكنه السلام ودفن بداره وقد امر بطبعه وانتشار نسخته جناب العالم الفاضل قدوة أرباب الأدب الشيخ على
الخراساني أصلا والحايرى مسكنا ومدفنا انشاء الله
المعروف بالشيخ الرئيس دام عمره وزيد
فضله في شهر محرم 1318
هذا هو الجزء الثاني
من كتاب عدة الأصول للشيخ (لشيخ)
الطايفة الناجية أبي جعفر
محمد بن الحسن بن على الطوسي رضوان الله عليه
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل في ذكر الوجوه التي تحتاج الأشياء فيها إلى بيان وما يقع به البيان إذا كان البيان عبارة عن الدلالة على ما
قدمنا القول فيه فكل وجه لا يعلم كون الشئ عليه ضرورة فإنه يحتاج إلى بيان كما ان ذلك يحتاج إلى
دلالة وسواء كان عقليا أو شرعيا فاما ما علم كون الشئ عليه ضرورة فإنه يستغنى بحصول العلم فيه عن
بيان ذلك وكذلك ما يعلم بالدلالة إذا حصل العلم بالمعلوم فإنه يستغنى بحصول العلم به عن بيان ثان إذا ثبت
هذه الجملة فالعقليات كلما لا يعلم منها ضرورة أو ما يجرى مجرى الضرورة فلابد فيه من بيان كما لابد فيه
من دلالة والشرعيات تحتاج إلى بيان كما تحتاج بأجمعها إلى دلالة هذا إذا أردنا بالبيان الدلالة ومتى أردنا ما
يرجع إلى الخطاب والفرق بين ما يحتاج إلى بيان وما لا يحتاج فقد قدمنا القول في ذلك وقلنا ان ما يحتاج من
ذلك إلى بيان على وجوه منها ما يحتاج في تخصيصه إذا كان عاما وعلم في الجملة انه مخصوص فإنه يحتاج في
تعيين ما خص به إلى بيان ومنها ما يحتاج إلى بيان النسخ إذا كان مما ينسخ لأنه إذا قيل افعلوا كذا إلى وقت
ما ينسخ عنكم فان وقت النسخ يحتاج إلى بيان ومنها ما يحتاج إلى بيان أوصافه وشروطه إذا كانت له أوصاف (صفات خ ل)
وشروط كما قلناه في الأسماء الشرعية من الصلاة والزكاة وغيرها وقد يحتاج الفعل أيضا إلى بيان كما يحتاج
القول إليه إذا لم ينبئ بنفسه عن المراد على ما سنبينه انشاء الله فاما ما به يتبين الشئ فأشياء منها الكتابة و
ذلك نحو ما كتب النبي صلى الله عليه وآله واله إلى عماله بالاحكام التي بينها لهم ولمن بعدهم من كتب الصدقات والديات و
غيرها من الاحكام ومنها القول والكلام وقد بين النبي (ع) (نبي خ ل) الشريعة أكثرها بذلك ومنها الافعال وذلك نحو
ما ورى عن النبي صلى الله عليه وآله انه صلى وحج وتوضأ وقال صلوا كما رأيتموني أصلي وقال خذوا عنى مناسك
1

دينكم وقال هذا وضوء لا يقبل الله
الصلاة الا به فأحال جميع ذلك على افعاله عليه السلام ومنها الإشارة وذلك نحو ما بين النبي صلى الله عليه وآله
اشهر بأصابعه فقال الشهر هكذا وهكذا وهكذا بأصابعه العشرة كلها وأراد بها ان الشهر يكون ثلثيه
يوما ثم قال الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقبض ابهامه في الثالث فبين أنه قد يكون تسعة وعشرين
يوما والحق بذلك من خالفنا في القياس والاجتهاد انه قد بين احكاما كثيرة بالتنبيه على طريقة
القياس على ما يذهبون إليه وذلك عندنا باطل واما بيان الله تعالى فقد يكون بالكتابة وبالقول
لأنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ وبين ذلك للملائكة وبين بخطابه وما انزل على النبي صلى الله عليه وآله من القرآن لنا
المراد وبين أيضا بان دلنا على التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله بفعله واما الإشارة فلا تجوز عليه تعالى لأنها
لا تكون الا بآلات والله تعالى ليس بذى آلة الا أنه من حيث أوجب علينا الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وقد بين (ع)
بالإشارة جاز أن يضاف ذلك إلى الله تعالى كما ان افعال الجوارح لا تجوز أيضا عليه وقد أضفنا إليه تعالى
ما بينه النبي صلى الله عليه وآله بافعاله من حيث أوجب علينا الاقتداء به فكذلك القول في الإشارة وهذه جملة كافية
في هذا الباب فصل في ذكر جملة ما يحتاج إلى بيان وما لا يحتاج من الافعال الفعل على ضربين ضرب
منه يقع على وجه من وجوب أو ندب أو إباحة ويعلم وقوعه على ذلك الوجه فما يكون كذلك لا يحتاج
إلى بيان ليعلم به الوجه الذي وقع عليه لان ذلك قد حصل العلم به والضرب الاخر أن يعلم مجرد الفعل ولا يعلم
الوجه الذي وقع عليه ويجوز فيه وقوعه واجبا وندبا ومباحا على حد واحد فما يكون كذلك يحتاج إلى بيان
يعلم به الوجه الذي وقع عليه وجرى الفعل في هذا الباب مجرى القول لان القول لما انقسم إلى قسمين
قسم أنبأ عن المراد بظاهره وصريحه استغنى بذلك عن بيان المراد والقسم الاخر لم ينبئ عن المراد
على التعيين احتاج في العلم بتعيينه إلى بيان فساوى القول الفعل من هذا الوجه على ما بيناه ونحن
وان ذهبنا إلى ان الافعال كلها لابد من أنى عرف المراد بها ويعرف على أي وجه وقعت عليه بدليل
فذلك لا يمنع من أن يكون حالها ما وصفناه كما ان الأقوال كلها قد علم انه يحتاج في معرفة ما وضعت
له وان الحكيم مريد بها ذلك إلى الدليل ومع ذلك انقسمت إلى القسمين اللذين ذكرناهما فكذلك الفعل
على ما بيناه وإذا ثبت ذلك وكان في افعال النبي صلى الله عليه وآله ما ينبئ بظاهره عن الوجه الذي وقع عليه فينبغي
ان يستغنى ذلك عن البيان وما كان فيه من افعاله لا ينبئ بظاهره عن الوجه الذي وقع عليه احتاج
إلى بيان ونظير القسم الأول انه إذا روى انه صلى الله عليه وآله صلى صلاة باذان وإقامة جماعة علم بذلك انها واجبة
2

لان ذلك من شعار كون الصلاة واجبة دون كونها نفلا فما يجرى هذا المجرى مما وضع في الشرع لشئ
مخصوص فلا يقع على غير ذلك الوجه فإنه يحتاج إلى بيان ومثل ذلك أيضا إذا شوهد النبي صلى الله عليه وآله فعل فعلا
في الصلاة على طريق العمد علم بذلك ان ذلك الفعل من الصلاة ولذلك قلنا انه لما شوهد ركع ركوعين
وأكثر من ذلك في ركعة واحدة في صلاة الكسوف علم ان ذلك من حكم هذه الصلاة ونظائر ذلك كثيرة
واما ما يقع من افعاله (ع) على وجه الاجمال ولا يعلم الوجه الذي وقع عليه فنحو أن يرى صلى الله عليه وآله يصلى منفردا
بنفسه فإنه يجوز أن تون تلك الصلاة واجبة ويجوز أن تكون ندبا فيقف العلم بوجهها على البيان و
كذلك إذا قيل انه توضأ ومسح على رأسه احتمل انه فعل ذلك ببقية النداوة واحتمل أن يكون بماء
جديد فإذا قيل انه فعل ذلك ببقية النداوة على ما نذهب إليه أو بماء جديد على ما يذهب إليه المخالف
كان ذلك بيانا له فينبغي أن يجرى ما يرد من الافعال على القسمين اللذين ذكرناهما فليس يخرج عنهما
شئ من الافعال فصل في ان تخصيص العموم لا يمنع من التعلق بظاهره اختلف العلماء في العموم إذا
خص فذهب عيسى بن ابان البصري إلى أنه متى دخله التخصيص صار مجملا فاحتاج إلى بيان ولا يصح التعلق
بظاهره وذهب الشافعي وأصحابه وبعض أصحاب أبي حنيفة إلى انه يصح التعلق به وان خص على كل حال
وذهب أبو الحسن الكرخي إلى أنه إذا خص بالاستثناء أو بكلام متصل صح التعلق به وإذا خص بدليل
لم يصح وحكى عبد الجبار بن أحمد عن أبي عبد الله البصري انه قال يحتاج أن ينظر في ذلك فان كان
الحكم الذي تناوله العموم يحتاج إلى شروط وأوصاف لا ينبئ اللفظ عنها جرى في الحاجة إلى بيان مجرى
قول الله تعالى أقيموا الصلاة لأنه يساويه في ان المراد لا يمكن معرفته بظاهره ويقول ان اية السرقة وان كانت
جارية على موضع اللغة فقد شاركت قوله تعالى أقيموا الصلاة لأنه يساويه في ان المراد بها لا يصح أن يعرف
بالظاهر قال ولا فصل بين الا يعلم ما لا يتم قطع السارق الا به من الأوصاف بالظاهر وبين الا يعلم الصلاة
بالظاهر لان الجهل بما لا يتم الحكم الا به كالجهل بنفس الحكم فالحاجة إلى العلم بأحدهما كالحاجة إلى
العلم بالاخر ويقول كل عام خص وأمكن تنفيذ الحكم من غير شرط ووصف فيما عدا ما خص منه جرى في صحة
التعلق به مجرى العموم إذا اتصل به الاستثناء قال والظاهر من كتب أي على وأبي هاشم جميعا صحة التعليق
بعموم قوله والسارق والسارقة وما شاكله وقد صرحا بان التخصيص وان أحوج إلى شروط لا ينبئ الظاهر
عنها أنه لا يمتنع من التعلق بالظاهر وعلى ذلك بينا الكلام في الوعيد لأنهما استدلا به وان كان المعاصي
3

الذي تعلق الوعيد به يحتاج إلى شروط عندهما هذه الالفاظ بعينها حكيناها عنه على ما ذكره
في كتابه العمد والذي اذهب إليه ان العموم إذا خص صح التعلق بظاهره سواء خص بالاستثناء أو
بكلام متصل أو منفصل أو دليل وعلى كل حال الا أنه يحتاج أن ينظر في ألفاظ العموم الذي يتعلق
الحكم بها فان كانت متى استعملناها على ظاهرها وعمومها نفذنا الحكم فيما أريد منا وفيما لم يرد يحتاج
إلى أن يبين لنا ما لم يرد منا لنخصه من جملة ما تناوله اللفظ فاما ما أريد منا فقد علمنا بالظاهر
وذلك نحو قوله والسارق والسارقة واقتلوا المشركين وما يجرى مجرى ذلك لأنا لو خلينا وظاهر ذلك
لقطعنا من يستحق القطع ومن لا يستحق القطع إذا كان سارقا لكن لما كان في جملة السراق من لا يجب قطعه
وهو من لا يكون عاقلا أو يسرق من غير حرز أو سرق ما دون النصاب أو كانت هناك شبهة وغير ذلك من
الصفات والشروط المراعاة في ذلك احتاج أن يبين لنا من لا يجب قطعه فإذا بين ذلك بقي الباقي على عمومه
وشموله وعلمنا ح انه يستحق القطع وكذلك قوله واقتلوا المشركين وما جرى مجراه وان كانت ألفاظ العموم
متى خلينا وظاهرها لم يمكننا ان نستعملها فيها أريد منا على وجه كان ذلك مجملا واحتاج إلى بيان ما أريد منا
وذلك نحو قوله أقيموا الصلاة لأنا لو خلينا وظاهر الآية لم يمكننا ان نستعملها فيما أريد منا على وجه
فوقفت ذلك على البيان والذي يدل على صحة ما اخترناه ان الخطاب إذا ورد وكان الحكم متعلقا باسم
معقول في اللغة وجب حمله عليه ولا ينتظر به امر اخر الا أن يدل دليل على أنه لم يرد ما وضع له في اللغة
ولولا ذلك لما صح التعلق بشئ من الخطاب لأنه يجوز أن يراد بكل خطاب غير ما وضع له ولا مخص من
ذلك الا بأن يقال لو أريد به غير ما وضع له ليبين وذلك بعينه موجود في ألفاظ العموم ولا يلزمنا مثل
ذلك في قوله أقيموا الصلاة لأنا قد علمنا انه لم يرد بذلك ما وضع له في اللغة فلذلك وقف على البيان
والذي يبين أيضا ما ذكرناه ان ما خص بالاستثناء انما يصح التعلق به لما قدمناه من ان ما عدا
الاستثناء يمكن أن يعلم به وان كان الاستثناء قد صيره مجازا على ما دللنا عليه فيما مضى فيجب مثل ذلك في
كل عموم خص بدليل وان كان منفصلا ويدل على ذلك أيضا انه لو كان من شرط صحته التعلق بألفاظ العموم
أن لا يكون قد خصت أو ان لا يحتاج إلى معرفة أوصاف لا ينبئ الظاهر عنها أدى إلى الا يصح التعلق بشئ
من ألفاظ العموم لأنه ليس هيهنا شئ من ألفاظ العموم وهو اما مخصوص واما ان يحتاج إلى أوصاف
لا ينبئ الظاهر عنها وذلك يؤدى إلى بطلان ما تعلقت الصحابة ومن بعدهم به الا ترى ان أمير المؤمنين (ع)
4

تعلق بقوله وان تجمعوا بين الأختين في تحريم الجمع بين المملوكتين وكذلك تعلق بقوله أو ما ملكت
ايمانكم ومن ثم قال أحلتهما اية وحرمتهما أخرى وكذلك حكى عن عثمان وتعلق ابن عباس بقوله وأمهاتكم
اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة حتى رد خبر ابن الزبير لأجله وقال ان قضاء الله أولى من
قضاء ابن الزبير وغير ذلك مما لا يحصى كثرة وان كان جميع ذلك يحتاج إلى بيان أوصاف لا ينبئ
الظاهر عنها وقد جعل مجازا بدخول التخصيص فيه فعلم بذلك ان صحة التعلق بألفاظ لعموم صحيح و
ان كان مخصوصا واما من نصر خلاف ما ذهبنا إليه فقد حكى عبد الجبار عن أبي عبد الله
البصري انه ربما جمع بين قوله والسارق والسارقة وبين قوله واقتلوا المشركين وقول النبي صلى الله عليه وآله الجار أحق
بصقبه وفيما سقت السماء العشر في امتناع التعلق بظاهرها مرة وربما فرق بينهما أخرى ويقول عند الفصل
بينهما ان العشر متعلق بما سقته السماء والذي يحتاج إلى بيانه صفة الأرض لا صفته فهو كالحاجة إلى
بيان صفة المخاطب في انه لا يمنع من التعلق بالظاهر واما السارق والسارقة فالحاجة انما هي إلى بيان صفته
فهو كالحاجة التي يتعلق القطع بها من اعتبار القدر وغير ذلك فلذلك امتنع التعلق بالظاهر و
يقول الصفة المتعلق بها في الشرك هي في اسقاط قتله لا في اثبات قتله والصفة المتعلق بها في
السارق هي في اثبات قتله فلذلك افترقا وربما يقول في الجميع ان التعلق بظاهره لا يمكن وان الواجب
الا يعترض على الأصول بالفروع بل يجب بناؤها عليه وهذه ألفاظه بعينها ذكرناها وقد قلنا في
هذه الأمثلة ما عندنا وقلنا في ان قوله والسارق والسارقة وقوله اقتلوا المشركين ان القطع يتعلق
بنفس السرقة وانما يحتاج إلى بيان مراعاة الصفات والشروط فيمن لا يجب ذلك وجرى ذلك مجرى قوله
اقتلوا المشركين وان القتل يتعلق بالشرك وانما يحتاج ان يبين صفة من لا يجب قتله من أهل الكتاب
وغيرهم من النساء والصبيان فاما قوله الجار أحق بصقبه فالأولى فيه أيضا أن يحمل على عمومه
في كل شئ الا ما يخرجه الدليل وذلك يجرى مجرى ألفاظ العموم وكذلك قوله فيما سقت السماء العشر
عام في جميع ذلك فان دل الدليل على وجوب اعتبار صفات في الأرض قلنا به وخصصناه منه وبقينا
الباقي على عمومه وكلما لم يرد من هذه الأمثلة يجرى هذا المجرى والطريقة واحدة في الكلام عليه فصل
في ذكر وقوع البيان بالافعال ذهب الفقهاء بأسرهم والمتكلمون إلى ان البيان يقع بالفعل كما يقع بالقول
وقال بعض المتأخرين ان البيان لا يقع بالفعل والذي يدل على صحة مذهب الأول أشياء منها انه
5

إذا كان الفعل مما يقع به التبين كما يقع بالقول فينبغي أن يجوز وقوعه الا ترى انه لا فرق بين أن
يقول صلوا صلاة أوجبها الله عليكم ثم يبين صفتها وكيفيتها بالقول وبين أن يقوم فيصلى في انه يقع
في الحالين التبين على حد واحد ولو قيل ان التبيين يقع بالفعل اكد مما يقع بالقول لكان ذلك
سائغا ولاجل ذلك رجعت الصحابة في بيان صفة الوضوء إلى كيفية فعل النبي صلى الله عليه وآله فمن دفع وقوع البيان بالافعال
كان مبعدا فلا فرق بين قوله في ذلك وبين من دفع ثبوت الاحكام بالافعال وفي ذلك خروج عن
الاجماع فان قال أليس من حق بيان الكلام أن يكون متصلا به أو في حكم المتصل به ولا يصح في
الفعل مع القول فكيف يصح أن يكون بيانا له قيل له لا نسلم أن من حق البيان أن يكون متصلا
بالكلام على كل حال بل يجوز عندنا ان يتأخر البيان عن حال الخطاب إذا لم يكن الوقت وقت
الحاجة على ما نبينه فعلى هذا يصح ان يتأخر البيان ويقع بالفعل ومتى فرضنا ان الوقت وقت
الحاجة فذلك أيضا لا يمنع من وقوع البيان بالفعل الا ترى انه لا فرق بين أن يقول صلوا إذا زالت
الشمس صلاة أوجبها الله عليكم فإذا زالت الشمس بينها وبين كيفيتها وصفاتها وبين أن يقوم
عند الزوال فيصلى صلاة فانا نعلم به بيان تلك الصلاة بفعله كما نعلم بقوله لو بينها به وليس
يلزم من حيث كان الفعل لا يقع الا في زمان ممتد ان يمنع ذلك من وقوع البيان به كما يمنع ذلك
في القول لان البيان بالقول أيضا يمتد الزمان فيه كما يقع بالقول الذي لا يمتد الزمان فيه
من وجيز الكلام فليس امتداد أحدهما الا كامتداد الاخر وان كان أحدهما أكثر والاخر أقل فان
قيل كيف يعلم تعلق الفعل بالمبين حتى يعلم انه بيان له مع تجويز أن يكون ذلك الفعل وقع ابتداء
لا بيانا لما تقدم في هذا ارتفاع التبيين به قيل له إذا خاطب بالمجمل ولم يكن الوقت وقت الحاجة
جاز أن يقول اني أبين صفة ما أوجبت عليكم بالفعل فإذا جاء وقت الحاجة فعل فعلا يمكن أن يكون بيانا
له فانا نعلم بذلك بيان ما خاطبنا به أولا وان كان الوقت وقت الحاجة ففعل عقيب الخطاب فعلا
يمكن أن يكون بيانا له فانا نعلم به المراد ونعلم انه متعلق به لأنه لو لم يكن متعلقا به لكان قد أخلي
خطابه من بيان مع الحاجة إليه وذلك لا يصح ولهذا قلنا انه لا فرق بين أن يقول صلوا صلاة
الساعة ثم يتبعها بالقول وبين أن يقوم فيصلى عقيب هذا القول صلاة فانا نعلم تلك الصلاة بيانا
لما قدم القول فيه ولا فرق بين الموضعين فان قيل إذا قلتم انه لا يمتنع ان يقول لنا إذا خاطبتكم
بالمجمل وفعلت بعده فعلا فاعلموا انه بيان له فقد عدتم إلى ان البيان حصل بالقول ودون الفعل
قيل له ليس الامر على ذلك بل البيان لا يقع الا بالفعل
6

في الموضع الذي ذكروه وانما يعلم بقوله تعلق فعله بالقول المجمل واما بيان صفته فإنه يحصل بالفعل
دون القول على ما بيناه ويدل على ذلك أيضا رجوع المسلمين بأجمعهم في عهد الصحابة من بعدهم
في بيان صفة الصلاة والحج والطهارة إلى افعال النبي صلى الله عليه وآله ويبينوا بذلك قوله تعالى أقيموا الصلاة ولله
على الناس حج البيت فلولا انهم علموا ان ذلك يقع به البيان والا لم يجز الرجوع إليه ويدل أيضا على ذلك
ما روى عن النبي (ع) (صلى الله عليه وآله) انه قال لأصحابه صلوا كما رأيتموني اصلى وخذوا عنى مناسككم فما حالهم في بيان ذلك
على افعاله فلولا ان البيان واقع بها والا لم يجز منه ان يحيلهم عليها وقد يبين الفعل بالفعل كما بين
به القول نحو ان يقنت النبي صلى الله عليه وآله في الفجر وغيره من الصلوات ثم نراه يتركه في تلك الصلاة فيعلم بذلك
انه لم يكن واجبا لأنه لو كان واجبا لما تركه على حال ونحو جلسته إلى الركعة الثانية تارة وتركها لها أخرى فان
ذلك يدل على انها لم تكن واجبة وقد يدل تركه للشئ على حاله له أخرى نحو أن يترك الصلاة في وقت
مخصوص فان ذلك يدل على انها ليست واجبة فان كان قد تقدم دليل يدل على وجوبها في ذلك
الوقت فان تركه لها في ذلك الوقت يدل على انها قد نسخت أو خصت ومتى حدثت حادثة ولم يبين
الحكم فيها فان ذلك يدل على انها باقية على حكم العقل لأنه لو كان لها حكم شرعي لبينه أو نبه عليه
وإذا ترك النكير على من اقدم بحضرته على فعل ولم يتقدم منه بيان لقبحه دل على انه ليس بقبيح فعلى
هذه الوجوه تعتبر افعاله (ع) لا بأعيان المسائل ومتى حصل قول وفعل يمكن أن يكون كل واحدا منهما بيانا
للمجمل وجب العمل بالقول لأنه انما تلتجئ إلى الفعل ونجعله بيانا للمجمل عند الضرورة فاما مع وجود
البيان بالقول فلا حاجة بنا إلى ذلك والبيان من حقه أن يكون في حكم المبين فان كان المبين واجبا
كان بيانه واجبا وان كان ندبا كان بيانه ندبا وان كان مباحا كان بيانه مباحا ولاجل ذلك نقول ان
افعاله (ع) إذا كانت بيانا لجملة واجبة كانت واجبة وإذا كانت بيانا لجملة مندوب إليها كانت كذلك
والمجمل على ضروب منها ما يكون لازما لجميع المكلفين فما هذا حكمه يجب أن يكون بيانه في حكمه في
الظهور وذلك مثل الصلاة والطهارة وما أشبههما ومنها ما يختص بفرضه الأئمة فينبغي أن يكون للأئمة
طريق إلى العلم بها ولا يجب ذلك في غيرهم ومنها ما تختص بالعلماء فينبغي أن يكون لهم طريق إلى معرفته
وقد أجاز من خالفنا وقوع البيان بخبر الواحد والقياس كما أجازوا العمل بهما وعندنا ان ذلك غير جايز
على ما بينا القول فيه فاما على المذهب الذي اخترناه من العمل بالاخبار التي ينقلها الطايفة المحقة
فإنه لا يمتنع العمل بها في بيان المجمل ولذلك رجعت الطايفة في كثير من احكام الصلاة والوضوء و
احكام الزكاة والصوم والحج إلى الأخيار التي رووها ودونوها في كتبهم وأصولهم ومن قال من أصحابنا
انه لا يجوز العمل بها الا إذا كانت معلومة ينبغي أن يقول لا يقع بها البيان أصلا وهذا خلاف ما عليه
عمل الطايفة على ما بيناه وهذه جملة كافية في هذا الباب انشاء الله تعالى فصل فيما الحق بالمجمل وليس
7

منه وما اخرج منه وهو داخل فيه ذهب أبو عبد الله البصري وحكاه أبو الحسن الكرخي إلى ان قوله حرمت
عليكم الميتة وما أشبههما من الآيات التي علق التحريم فيها بالأعيان مجمل وذهب أبو علي وأبو هاشم إلى
ان ذلك مفهوم من ظاهره وليس بمجمل وان كان أبو هاشم ربما ذكر ان ذلك مجاز والصحيح هو القول
الأخير وشبهة من ذهب إلى القول الأول هي ان قال ان ما (انما خ ل) يعلق التحريم من الافعال في الأعيان
إذا لم يكن مذكورا في الظاهر لم يجز التعلق بظاهره فان ذلك يكون مجازا وجرى مجرى قوله واسئل
القرية وأراد أهلها وهذا الذي ذكروه غير صحيح ولا شبهة فيه وذلك ان التحليل والتحريم وان
استحال تعلقهما بالأعيان من حيث كانت موجودة كافية لا يصح وقوعها ولا هي في مقدورنا فيصح
ان نتعبد بها وانما ينصرف إلى الفعل الذي يصح ان يقع منا فقد صار بعرف الشرح يستعمل في
الأعيان ويراد به الافعال فيها وقد بينا فيما مضى ان الاسم إذا انتقل عن أصل الوضع إلى عرف
الشرع وجب حمله على ما يقتضيه عرف الشرع لان ذلك صار حقيقة فيه الا ترى انه إذا قال حرمت
عليكم أمهاتكم لا يسبق إلى فهم أحد تحريم الذوات وانما يفهم من ذلك تحريم الوطي والعقد لا غير
ولا فرق بين من دفع وبين من دفع أن يكن لفظة الغايط منتقلا عما وضع له في اللغة ويتوصل
بذلك إلى ان قول القايل اتيت الغايط لا ينبئ عن الحدث المخصوص والمعلوم خلاف ذلك وإذا
ثبت ذلك صار لفظ التحريم إذا علق بالعين فهم منه تحريم الفعل فيها فصار كفحوى الخطاب الذي
يدل على الشئ وان لم يتناوله لفظا ولا فرق بين من دفع الاستدلال بظاهر قوله حرمت عليكم
الميتة على تحريم الفعل فيها وبين من دفع الاستدلال بقوله ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما على تحريم
ضربهما وشتمهما وليس لهم ان يقولوا لو كان امره على ما ذهبتم إليه لما اختلفت فايدة مفهوم ذلك
الا ترى ان قوله حرمت عليكم أمهاتكم التحريم يتناول هيهنا العقد والوطي وليس كذلك في قوله حرمت
عليكم الميتة بل المراد هنا غير المراد هناك وذلك انه لا يمتنع ان يتعارف استعمال التحريم المعلق بالعين
في أعيان مختلفة بحسب ما جرت العادة بفعلها في الأعيان ويتعارف عن تحريم الأمهات الاستمتاع ومن تحريم
الميتة الاكل لان اللفظة الواحدة لا يمتنع ان يختلف المعقول بها بحسب اختلاف ما تعلق به الا ترى ان النظر
بالعين لا يعقل منه ما يعقل من النظر بالقلب فلما جاز أن يختلف المعقول من النظر بحسب اختلاف ما
تعلق به من العين والقلب فكذلك القول في التحريم وليس لاحد أن يقول إذا كان المحرم من الأمهات غير
المحرم من الميتة علم ان اللفظ لا يفيد إذ لو افاده لاتفق ما يفيده في الموضعين أو يكون ذلك مجازا على ما
مر (يمر خ ل) في كلام أبي هاشم وذلك ان الذي يقال في ذلك انه مجاز في اللغة وان كان حقيقة في العرف كما
تقول في الغايط والدابة وما أشبههما وذهب قوم ممن تكلم في أصول الفقه إلى ان قوله تعالى
والذين هم لفروجهم حافظون الآية وقوله والذين يكنزون الذهب والفضة
8

ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم يوم يحمى في نار جهنم فتكوى به جباههم
وجنوبهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون وغير ذلك من الآيات التي ذكر فيها المدح أو
الذم مجمل وقالوا ان القصد بها تعليق الذم بالفعل المذكور فيها أو المدح لا بيان الحكم بها وتفصيله
فالتعلق به (بها خ ل) في الحكم وفي شروطه لا يصح وذهب أكثر من تكلم في أصول الفقه إلى خلاف ذلك وقالوا
ان ذلك عموم وهو الصحيح والذي يدل على ذلك ان القصد إلى الوعيد والذم لا يمنع من القصد إلى الحكم
وبيانه فكيف يصح أن يتعلق في بطلان التعلق به (بما ظ) ما ذكروه من ان القصد به الوعيد ولا فرق بين من
قال ذلك وبين من قال ان الآية إذا قصد بها الزجر لا يصح أن يبين الحكم بها فيتوصل بذلك إلى
ابطال التعلق باية السرقة والزنا وغير ذلك وهذا بعيد من الصواب وأيضا فان ذكر الذم على الحكم المذكور
يؤكد وجوبه ويقوى ثبوت ما ذكر من أوصافه فكيف يقال ان يخرج الآية من صحة التعلق بها وذهب
قوم إلى ان قوله وامسحوا برؤوسكم مجمل وجعلوا بيانه فعل النبي صلى الله عليه وآله وامتنع آخرون من ذلك وقالوا ان الباء
تفيد الصاق المسح بالرأس من غير أن يقتضى مقدارا من المسح فمن مسح بشئ من رأسه فقد أدى ما يوجبه
الظاهر ولا حاجة به إلى البيان والذي نقوله في هذه الآية ان الباء تفيد عند التبعيض على ما بيناه فيما
مضى من انها انما تدخل للالصاق إذا كان الفعل لا يتعدى إلى المفعول به بنفسه فيحتاج إلى ادخال الباء
ليلصق الفعل به فاما إذا كان الفعل مما يتعدى بنفسه فلا يجوز أن يكون دخولها لذلك فإذا ثبت
ذلك فقوله فامسحوا برؤوسكم يتعدى بنفسه لأنه يحسن أن يقول امسحوا رؤوسكم فيجب أن يكون دخولها
لفايدة أخرى وهى التبعيض الا أن ذلك البعض لما لم يكن معينا كان مخيرا بين أي بعض شاء فان علم
بدليل انه أريد منه موضع معين لا يجوز غيره وقف ذلك على البيان وصارت الآية مجملة من هذا الوجه
ومن الناس من قال ان قوله فاقطعوا أيديهما يقتضى قطع اليد إلى المنكب لان ذلك يسمى يدا وقال آخرون
انه مجمل لاحتماله له ولغيره وقال آخرون انه ليس بمجمل لان اليد في الحقيقة تتناول جملة العضو فيجب
حمله عليها ولو كانت تقع على العضو إلى المنكب والزند جميعا لوجب حمله على أقل ما يتناوله الا أن يدل
الدلالة على خلافه فادعاء الاجمال فيه لا يصح والوجه الاخر أقرب إلى الصواب وذهب قوم إلى ان
قول القائل اعط فلانا دراهم مجمل لأنه يمكن أن يراد به أكثر من ثلاثة وقال آخرون ان هذا غلط لان
تجويز ذلك لا يمنع من أن يكون ظاهره يقتضى ما قلناه فسبيل هذا القايل كسبيل من قال ان لفظ الخاص
مجمل لجواز أن يراد به العام وهذا الوجه أقرب إلى الصواب وذهب قوم إلى ان قوله (ع) في الرقة ربع العشر
انما يدل على وجوب ربع العشر في هذا الجنس ويحتاج إلى بيان القدر الذي يؤخذ منه ذلك وقال
آخرون ان ذلك ليس بمجمل لان ظاهره يقتضى ربع العشر في الجنس كله فلا معنى للتوقف في ذلك فلولا
قوله (ع) ليس فيما دون خمسة أواق صدقة فخصصنا به ذلك العموم لكان يجب حمله على ظاهره وهذا
9

هو الصحيح دون الأول وذهب قوم إلى ان ما روى عنه (ع) من قوله لا صلاة الا بفاتحة الكتاب
ولا صلاة الا بطهور ولا نكاح الا بولي مجمل وقالوا ان حرف النفي لا يصح أن يكون داخلا على الفعل مع
صحة وقوعه عاريا من هذه الشروط فيجب أن يكون داخلا على الحكم والحكم قد يكون الاجزاء وقد
يكون التمام والفضل لأنه قد يقال يراد لا صلاة كاملة الا بفاتحة الكتاب كما يقال لا صلاة لجار
المسجد الا في مسجده وأراد بذلك ما قلنا من نفى الفضل ولم يرد نفى الاجزاء بالاتفاق ويمكن أن يريد
لا صلاة مجزية الا بفاتحة الكتاب وإذا لم يكن في اللفظ تصريح بأحديهما وجب أن تكون الآية مجملة
قالوا ولا يصح حمله على المعنيين معا لان نفى التمام والفضل يقتضى حصول الاجزاء أو نفى الاجزاء يقتضى
انه لم يحصل ذلك وذلك ينافي ان يراد بعبارة واحدة وذهب عبد الجبار بن احمد إلى ان ذلك ليس
بمجمل وقال لان حرف النفي يدخل في الفعل الشرعي وما يقع منه مع عدم الشرط المذكور لا يكون شرعيا
فكأنه (ع) قال لا صلاة شرعية الا بطهور فإذا وقعت من غير طهور لم تكن شرعية فحرف النفي قد استعمل
في الحقيقة فيما دخل فيه لكن ما ذكرناه انما يصح إذا دخل حرف النفي في الفعل الشرعي فاما إذا حصل فيما
عداه فيجب أن ينظر فيه فان دخل على الحكم في الحقيقة قضى بنفيه إذا لم يحصل الشرط المذكور وان
دخل على الفعل والمعلوم من حاله انه يقع فعلا صحيحا مع عدم الشرط فيجب أن يكون مجاز مجملا على ما
ذكروه وكذلك لا يصح التعلق بظاهر قوله (ع) انما الاعمال بالنيات لأنه إذا دخل حرف الشرط على الفعل
الذي يصح وقوعه وان خلا منه فيجب أن يسند إلى غيره إذا احتج به هذه ألفاظه بعينها ذكرها في كتابه
العمد وهي قريبة إلى الصواب فاما ما الحق بالعموم وهو من المجمل فنحو ما يتعلق به أصحاب الشافعي بقوله تعالى
أقيموا الصلاة في وجوب الصلاة على النبي (ع) في التشهد الأخير ويقول ان ذلك دعاء وان هذه اللفظة حقيقة فيه وهذا
بعيد من الصواب لان لفظة الصلاة وان كانت موضوعة للدعاء في أصل اللغة فقد صارت يعرف
الشرع موضوعة لافعال مخصوصة فالتعلق بذلك فيما وضعت في أصل اللغة لا يصح لما قدمناه
ومن ذلك أيضا حملهم قوله (ع) من رعف في صلاته فليتوضاء على غسل اليد وهذا أيضا لا يصح لان الوضوء
صار بعرف الشرع عبارة عن غسل أعضاء مخصوصة ومسحها وانما يمكن حمل اللفظ على غسل العضو
إذا علم بدليل ان الرعاف لا ينقص الوضوء فح يصرف عن ظاهره ويحمل على موجب اللغة كما يصرف
ألفاظ كثيرة عن حقيقتها إلى ضرب من المجاز لقيام دليل على ذلك ومن ذلك تعلقهم بقوله تعالى
ولا يتمموا (ولا تيمموا) الخبيث منه تنفقون في ان الرقبة الكافرة لا تجرى في الظهار وينبغي أن تكون مؤمنة لان
الكافرة خبيثة وهذا أيضا لا يصح لان المعنى بقوله ولا تيمموا أي الخبيث لا تقصدوا إلى الانفاق من الخبيث
فالقصد متعلق بالانفاق والعتق ليس من الانفاق في شئ يبين ذلك ان قوله بعد ذلك منه تنفقون
كون (يدل على كون النهي عن الانفاق خ ل) المنفق منه من بعض ما وصفه بأنه خبيث وذلك لا يتأتى (ينافي خ ل) في العتق وكذلك قوله ولستم بآخذيه الا
10

ان تغمضوا فيه إشارة إلى ما تقدم ذكره وكل ذلك لا يصح في العتق فالتعلق به لا يصح ومن ذلك تعلقهم
بقول لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة في ان المؤمن لا يقتل بكافر لان نفى الاستواء إذا اطلق فيما قد
ثبت بالدليل انه متماثل في الذات انما يعنى به في بعض أوصافه فهو إذا مجمل ومتى عقب الكلام بشئ فرق بينهما
فيه وجب حمل أوله عليه وقد ذكروا في اخر الآية قوله أصحاب الجنة هم الفائزون فينبغي أن يكون المراد
بنفي الاستواء في الفوز بالجنة ومن ذلك اعتراض من اعترض على قوله (ع) لا يقتل مؤمن بكافر وحمل ذلك
على الكافر الحربي لما عطف عليه من قوله ولا ذو عهد في عهده فجعل هذا المعطوف عليه مؤثرا
في التعلق بما تقدم وهذا لا يصح لان الجملة الأولى لا يمتنع حملها على ظاهرها وان خص بعضها في الذكر
الثاني وأكثر ما في ذلك ان يكون (ع) قال ولا ذو عهد في عهده يقتل بكافر ولو قال ذلك لم يمتنع دخول
جميع الكفار تحت قوله لا يقتل مؤمن بكافر ولو قال قايل لا يقتل عربي بعجمي ولا البالغ من العجم بالأطفال
لم يجب بوجب (بوجوب) تخصيص الكلام الأول فاما التعلق بقوله (ع) رفع عن أمتي الخطاء والنسيان فلا يصح لان المرفوع
غير مذكور ولا جرت العادة باستعمال (في استعمال خ ل) هذه اللفظة في حكم خطاء مخصوص وانما يمكن التعلق به بان يقال لا
يخلو أن يكون نفس الخطا والنسيان مرفوعا وذلك محال مع وقوعه أو يكون المرفوع العقاب والثواب
وذلك معلوم عقلا فالواجب حمل الكلام على رفع احكام الدنيا لان قول النبي (ع) إذا أمكن حمله على
ما يستفاد من جهته كان أولى من حمله على ما قد علم بالعقل وهذه الجملة تنبه على ما عداها فينبغي أن
بتأمل ليقاس عليها غيرها وجملة القول في ذلك ان ما يتعلق به من الخطاب انما يصح التعلق به أن يكون (كان ظ) اللفظ في أصل الوضع يفيد
ما يتعلق به فيه ان (أو) فحواه أو دليله أو يعلم من حال المخاطب انه يخاطب بمثله الا ويريد ذلك به والاخر ح
خطابه من أن يكون مفيدا أو يفيد بالعرف ما استعمل فيه أو بالشرع فمتى خرج من هذه الوجوه لم يصح
التعلق به وربما (انما ظ) يختلف في حال الخطاب ومواقعه فربما لطف الوجه الذي لأجله لا يصح التعلق به ربما
ظهر فالواجب للسامع أن يجتهد في البحث عنه فإنه ان تقدم لن يعدم الوقوف على ذلك إذا كان قد ضبط الأصول في هذا الباب
فصل في ذكر جواز تأخير التبليغ والمنع من جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ذهب كثير من الناس
إلى أن تأخير التبليغ لا يجوز ثم افترقوا فمنهم من حمله على تأخير البيان ومنهم من تعلق في ذلك بقوله تعالى
يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وقالوا امره (ع) على الفور وذهب أكثر المحصلين إلى ان ذلك
يجوز وهو الصحيح والذي يدل على ذلك انه صلى الله عليه وآله انما يجب أن يؤدى بحسب ما يتعبد به من تقديم
أو تأخير فان تعبد بالتبليغ (بالتتابع خ ل) عاجلا وجب عليه ذلك وان تعبد آجلا كان مثل ذلك فاما تعلقهم
في المنع من ذلك بحمله على قبح تأخير البيان فعندنا ان تأخير البيان يجوز عن وقت الخطاب وانما
لا يجوز عن وقت الحاجة وكذلك نقول في التبليغ فسقط بذلك ما قالوه ومن منع من ذلك في تأخير
البيان فرق بينهما بان قال انما قبح تأخير البيان لشئ يرجع إلى حال الخطاب والى ان لا يستفاد به شئ
11

وذلك وجه قبح فاما تأخير التبليغ فليس كذلك لان إذا لم يبلغ لم يخاطب أصلا فكيف يكون ذلك قبيحا
وأيضا فإذا جاز أن يؤخر الله تعالى خطاب المكلف إلى الوقت الذي يعلم مصلحته فيه فكك
الرسول (ع) فاما تعلقهم بقوله بلغ ما انزل إليك انما يقتضى وجوب التبليغ على الوجه الذي امر به
وليس في ذلك منع من جواز التأخير واما تأخير البيان عن وقت الحاجة فلا خلاف انه لا يجوز والوجه في
ذلك ان تأخيره عن وقت الحاجة يجرى مجرى تكليف ما لا يطاق لأنه يتعذر عليه فعل ما كلف وذلك
يمنع من صحة الأداء لان الأداء لا يصح الا بعد ان يعرف المكلف ما كلف أو يتمكن من معرفته أو معرفة ما يجب عليه
من سببه ويصح أداؤه معه واما تأخير التبين عن وقت الحاجة فجايز لان المكلف يجوز أن يخطى فلا يتبين
ولا يجب ذلك قبح الخطاب لأنه لم يؤت في ذلك من قبل المكلف وانما أتى من قبل نفسه وذلك لا
يقبح التكليف فصل في ذكر جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب وذكر الخلاف فيه ذهب
أبو علي وأبو هاشم ومن تبعهما من المتكلمين وأهل الظاهر إلى ان تأخير البيان عن حال الخطاب لا يجوز
لا في العموم ولا في المجمل وقال جماعة من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة انه يجوز تأخير البيان في الامرين و
قال كثير من أصحاب الشافعي ان تأخير بيان المجمل يجوز وامتنع من تأخير البيان في العموم وسائر
ما ينبئ ظاهره عن المراد به وهو قول أبي الحسن وكان أبو عبد الله حكى عنه جواز تأخير البيان في
المجمل وخرج على قوله الامتناع من تأخير بيان العموم والذي اذهب إليه انه لا يجوز تأخير بيان
العموم ويجوز تأخير بيان المجمل وهو الذي اختاره سيدنا المرتضى واليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله
رحمه الله والذي يدل على ذلك ان العقلاء يستحسنون خطاب بعضهم لبعض بالمجمل وان لم يبينوا
المراد به في الحال الا ترى ان القايل يقول لغلامه إذا كان يوم الجمعة ادخل السوق واشترى الثياب
والفاكهة وغير ذلك من الحوايج ما اثبته لك في رقعة وان لم يكتب الرقعة في الحال وكذلك يقول
بعض الرؤسا لوكيل له اخرج إلى القرية الفلانية أو البلد الفلاني وتول العمل بها واعمل في جباية
الأموال واستخراج الحقوق ما كتب لك به تذكرة وأثبتها لك ويكون ذلك حسنا وان لم يكتب
التذكرة في الحال ويكون الفرض بجميع ذلك ان يعزم المخاطب وينطوي على امتثال جميع ما يأمره به
ويبينه فيما بعد وإذا كان ذلك حسنا في الشاهد وجب أن يكون حسنا في كل خطاب فان قيل
لو جاز أن يخاطب بالمجمل ولا يبين المراد في الحال لجاز من العربي أن يخاطب غيره بالزنجية وان لم
يفهم منه شيئا أصلا فان قلتم ان المخاطب بالزنجية لا يفهم منه شيئا أصلا والمجمل يستفاد من امر ما
وهو انه مأمورا الا ترى انه إذا قال تعالى خذ من أموالهم صدقة وأقيموا الصلاة وغير ذلك فالمخاطب
يستفيد انه مأمور باخذ صدقة من ماله وان جهل مبلغها ووقف ذلك على البيان وهو مكلف بالعزيمة
على ذلك والانطواء عليه متى يبين له وكذلك في الصلاة يعلم انه مكلف بفعل هو صلاة وعبادة إلا أنه لا يعرف كيفية
12

هذه العبادة فهو منتظر بيانها والخطاب بالزنجية بخلاف هذا كله قيل لكم يمكن جميع ما أخرجتموه في المجمل
ان في الزنجية لان الحكيم إذا خاطب بالزنجية للعربي فلابد أن يقطع المخاطب على أنه قصد بخطابه و
ان كان بالزنجية إلى امره أو نهيه أو اخباره ويجب عليه أن يعزم على فعل ما يبين له انه امره به والكف
عما لعله يبين له انه نهاه عنه ويوطن نفسه على ذلك ويتعلق مصلحته به فأي فرق بين الامرين
فان فرقتم بين الامرين بان الفايدة بالزنجية أقل أو أشد اجمالا جاز أن يقال لا اعتبار في حسن الخطاب
بكثرة الفايدة لأنه يحسن من الخطاب ما يخرجه من كونه عبثا وقليل الفايدة كثيرها والجواب عن ذلك
ان من المعلوم قبح خطاب العربي بالزنجية صلى الله عليه وآله كما ذكرتم كما ان من المعلوم الذي لا يختلف العقلاء فيه
حسن الخطاب بالمجمل في الموضع الذي ذكرناه وإذا ثبت ما ذكرناه وقبح ما ذكروه احتجنا ان ننظر في
ذلك ونعلم لم حسن ما ذكرناه ولم قبح ما قالوه فلا نعلك قبح ما قالوه لعلة توجد في حسن ما ذكرناه
لان ذلك يؤدى إلى اجتماع وجه والقبح في شئ واحد وذلك لا يجوز ولا نعلك أيضا حسن ما ذكرناه
بعلة توجد فيما استقبحوه لمثل ذلك وانما قلنا ذلك لأنا متى عللنا قبح الخطاب بالزنجية بانا لا نفهم
بها مراد المخاطب وجدنا ذلك فيما علمنا حسنه ضرورة من خطاب الملك الخليفة والواحدة منا لغلامه
لان خليفة الملك ووكيل أحدنا لا يعرف من خطابه المجمل الذي حكيناه مراده الذي أحاله في تفصيله
على البيان وان عللنا قبحه بأنه مما لا فايدة فيه فقد بينا انه يمكن أن يدعى فيه فايدة وانه لا يعدو أحد اقسام
الكلام المعهود ولابد أن يكون مريدا إذا كان حكيما لبعضها فان عللنا حسن الأمثلة التي علمنا حسنها
انه يفيد فايدة ما أو مما يتعلق بالمخاطب به مصلحة بأن يعتقد ويعزم على الامتثال عند البيان ويوطن
نفسه على ذلك فهذا كله قائم في الخطاب بالزنجية فلابد من التعليل بما لا يقتضى قبح ما علمنا حسنه
ولا حسن ما علمنا قبحه ويمكن تعليل قبح الخطاب بالزنجية بأنه غير مفهوم منه نوع الخطاب ولا أي ضرب
هو من ضروبه الا ترى انه لا يفصل المخاطب بين كونه امرا أو نهيا أو خبرا أو استخبارا أو عرضا أو يمينا
وفي المجمل يفصل بين هذه الأنواع والضروب وانما يلتبس عليه تفصيل ما تعلق الامر به مما هو
واقف به عن البيان فهذه علة صحيحة في قبح الخطاب بالزنجية لا نجدها فيما علمنا حسنه من الأمثلة
ولا في المجمل الذي يجرى في الحسن مجراه وان شئت ان تقول العلة في قبح الخطاب بالزنجية ان المخاطب
لا يستفيد منه فايدة معينة ولابد في كل خطاب من أن يستفاد منه فايدة مفصلة وان جاز أن يقترن
بذلك فائدة أخرى مجملة والخطاب المجمل مستفاد منه فائدة معينة مفصله وان استفاد أخرى مجملة
لأنه إذا قال أقيموا الصلاة وخذ من أموالهم صدقة فقد استفاد المخاطب انه مأمور وقطع على ذلك
وانه مأمور بعبادة هي صلاة أو صدقة وان شك في كيفيتها ثم يقال لهم كيف توجبون ان يعلم المخاطب
فايدة جميع ما يخاطب به قبل زمان الحاجة ومراد المخاطب على جهة التفصيل وانكم تجوزون تأخير بيان
13

مدة الفعل المأمور به عن وقت الخطاب ولا توجبون ذلك وهو من فوايد الخطاب ومراد المخاطب لأنه إذا
قال صلوا فظاهر هذا القول عندكم يتناول كل صلاة وكل زمان بلا حصر فإذا أراد بذلك مدة معينة
والى غاية منقطعة واخر بيانه في حال الخطاب فقد أراد في حال الخطاب (الحال بالخطاب خ ل) ما لم يبينه ويفصله وهذا من هذا
الوجه نظير المجمل ومثل الخطاب بالزنجية فان قلتم ليس يجب أن يبين في حالة الخطاب كل مراد له بالخطاب
قلنا أصبتم فاقبلوا في الخطاب بالمجمل مثل ذلك لان الخطاب بالمجمل يستفاد منه فايدة معينة مفصلة
وان لم يستفد على سبيل التفصيل جميع فوايده وان قالوا لا حاجة به إلى بيان مدة النسخ وغاية العبادة
التي تخرج بالبلوغ إليها من تكون مصلحة لان ذلك بيان لما لا يجب ان يفعله وهو غير محتاج إلى بيان
ما لا يجب عليه ان يفعله وانما يحتاج في هذه الحال إلى بيان صفة ما يفعله وكلف الاتيان به قلنا
هذا خروج منكم عن السنن الذي كنا فيه لأنكم أوجبتم البيان للمراد كله في حال الخطاب لامر يتعلق
بحسن الخطاب فأوجبتم قبحه متى لم يعلم المخاطب فوايده كلها على التفصيل فلما ألزمناكم بيان عدة النسخ
عدلتم إلى شئ آخر وهو ان كان صحيحا نقض لعلتكم وهده لأعتمادكم لأنكم توجبون بيان فوايد الخطاب
ومراد المخاطب لأنه يتعلق بحسن الخطاب وإذا أجزتم تأخير بيان بعض فوايده نقصتم اعتلالكم على كل
حال وعدنا إلى انكم قد أجزتم حسن ما هو نظير للمجمل الذي أجزنا حسنه لأنا لم نجز الا تأخير بيان بعض فوايد
الخطاب ونراكم ابدا تذكرون في كتبكم ان قبح تأخير البيان لم يكن لشئ يتعلق بإزاحة علة المكلف في
الفعل وانما هو راجع إلى وقوع الخطاب على وجه يقتضى القبح وهذا ينقض قولكم الان انه لا يحتاج
في فعل ما كلف إلى معرفة غاية المصلحة ويحتاج في الفعل إلى العلم بصفته لان هذه منكم مراعاة لما به
يتمكن من ايقاع الفعل ويجب أن يعلم ان فقد القدرة أو الآلة التي لا يقع الفعل الا بها أقوى وأشد
تأثيرا في تعذر الفعل من فقد العلم بصفته وأنتم تجيزون خطاب من لا يقدر على الفعل ولا يتمكن
منه في حال الخطاب إذا كان من يقدر في حال الحاجة فأجيزوا تأخير بيان صفة الفعل في حال الخطاب ولا
حاجة به في هذه الحال إلى العلم بصفته كما لا حاجة به إلى القدرة عليه والتمكن بآلات وغيرها منه ثم
انكم ليس تخلون من ان توجبوا بيان صفة الفعل المأمور به في حال الخطاب الامر يتعلق بإزاحة العلة
في الفعل أو لامر يرجع إلى حسن الخطاب وان فوايده ومراد المخاطب به إذا لم يعلم تفصيلا في وقت
الخطاب قبح فان كان الأول لزم عليه ان يكون في حال الخطاب قادرا متمكنا وليس توجبون ذلك
وان كان الثاني فغاية الفعل من مراد المخاطب ومقصوده من الخطاب ومع ذلك فلم يبينها في حال الخطاب
وإذا جاز أن لا يبين بعض المقصود ولا يكون الخطاب قبيحا جاز في المجمل مثل ذلك بعينه ومما
يمكن أن يستدل به على جواز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب ويورد على المخالف على سبيل المعارضة
والالزام انه لا خلاف بيننا وبينهم في انه قد يجوز أن يخاطب في المخاطب في المجمل وان لم يقر هو بالبيان بل يحيله
14

في معرفة البيان على الرسول صلى الله عليه وآله والرجوع في تفصيل ذلك إليه وإذا جاز أن يخاطب بما لا يفهمه تعويلا على
انا نعرف المراد من جهة غيره والا جاز أن يخاطبنا بذلك ويعول بنا على الرجوع إليه في معرفة البيان وان
فرقوا بين الامرين بأن يقولوا إذا كان البيان عند الرسول وخاطبنا بالمجمل فنحن متمكنون من العلم بالمراد
قلنا وإذا خاطبنا بالمجمل وعول بنا على مسألة عن بيانه والرجوع إليه في تفصيله فنحن أيضا متمكنون
من العلم بالمراد ولا فرق بين الامرين وقد استويا في ان البيان لم يقترن بالخطاب وانما التعويل فيه
على الرجوع إلى مترجم ومبين فأي فرق بين أن يكون هذا المبين هو الله تعالى أو رسوله فان قال
ما ذكرتموه يقتضى أن يكون ذلك عبثا لأنه طول زمان المعرفة بغير فايدة وقد كان قادرا بدلا
من أن يخاطبه بالمجمل ثم يلزمه سؤاله عن معناه فيبين له أن يبتدى ببيان ذلك له قلنا فالا كان
ما ذكرتموه وأجزتموه أيضا عبثا لأنه كان قادرا على أن يخاطبه مقترنا بالبيان ولا تكلفه الرجوع
إلى الرسول ومعرفة المراد لأنه تطويل البيان وطريق المعرفة فان قلتم هذا التطويل يمكن أن يتعلق
به مصلحة قيل لكم فيما أنكرتموه مثل مثل ذلك ومما يضيق عليهم الكلام انهم تخيرون أن يخاطب
بالمجمل ويمكن بيانه في الأصول ويكلف المخاطب الرجوع إلى الأصول فيعرف المراد فإذا قيل لهم ما الذي
يجب أن يعتقد هذا المخاطب إلى أن يرجع إلى الأصول فيعرف المراد قالوا يجب أن يتوقف عن اعتقاد
التفصيل ويعتقد على الجملة انه يمتثل ما يبين له وهذا يطرق عليهم ما قاله مجوز تأخير بيان المجمل
من وجوب اعتقاد الجملة دون التفصيل وانتظار البيان واي فرق بين أن يكلف زمانا قصيرا من غير فهم
المراد على سبيل التفصيل الاعتقاد الذي ذكروه ويحسن ذلك وبين أن يكلف زمانا طويلا
مثل ذلك فإذا قال إذا كان البيان في الأصول فهو يتمكن من معرفة قلنا أو ليس هذا المخاطب إلى
أن يتأمل الأصول ويقع يقف ظ) على البيان يكلف الاعتقاد المجمل الذي ذكرتموه على وجه حسن
ولابد من زمان مقصود لا يمكنه معرفة المراد فيه لان تأمل الأصول والرجوع إليها حتى يعلم حصول
البيان فيها أو خلوها منه لابد فيه من زمان قصر أو طال وإذا جاز أن يخاطب بما لا يتمكن من معرفة
المراد به بالرجوع إلى الرسول أو بتأمل الأصول أن يجوزوا أن يكون متمكنا من ذلك بالرجوع إليه
تعالى ولا فرق بين الامرين وبعد فإذا كان الخطاب يحسن بالمجمل وفي الأصول بيانه متى تأمل وكذلك
إذا عول به على بيان الرسول يحسن أيضا فأي فرق بين ذلك وبين خطاب العربي بالزنجية أو ليس الموضعان
متساويين في أن المراد في حال الخطاب غير مفهوم فان قلتم الفرق بينهما ان الخطاب بالزنجية لا طريق
إلى العلم بالمراد به وهيهنا إلى العلم بالمراد طريق اما بالنظر في الأصول ومعرفة البيان منها أو بالرجوع
إلى بيان الرسول قلنا لكم فأجيزوا أن يخاطبه بالزنجية ويقول به على سؤال من يعرف في الزنجية
تفسير ذلك وبيان الغرض فيه أو يعول به على أن يتعلم لغة الزنج فذلك ممكن له وسهل عليه كما
15

كما يخاطبه من المجمل بما لا يفهم المراد به وعول على تصفح الأصول والنظر فيها حتى يعثر على البيان
فان كان ما قلتموه تمكينا من العلم فالذي ألزمناكم أيضا تمكين ولا شبهة على عاقل في قبح الخطاب بالزنجية
لمن ذكرنا حاله وهو نظير ما ذهبوا إلى جوازه ومما يدل أيضا على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب
إلى وقت الحاجة قوله تعالى ان الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون
من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال انه يقول انها بقرة لا فارض ولا بكر
عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال انه يقول
انها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا ادع لنا ربك (يبين لنا) ما هي ان البقر
تشابه علينا وانا ان شاء الله لمهتدون قال انه يقول انها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقى
الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الان جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون ووجه الدلالة
من الآية انه تعالى امرهم بذبح بقرة هذه الصفات كلها لها ولم يبين ذلك في أول الخطاب حتى
سئلوا عنه وراجعوا فيه واستفهموه فبين لهم المراد شيئا بعد شئ وهذا يدل على جواز
تأخير البيان فان قالوا لم زعمتم ان الصفات المذكورة كلها في البقرة الأولى التي أمروا في الخطاب
الأول بذبحها وما أنكرتم أن يكونوا أمروا ان الخطاب الأول بذبح بقرة من عوض البقرة من غير اشتراط
هذه الصفات فلو ذبحوا بقرة من غير أن تكون بهذه الصفات المذكورة فيما بعد لكانوا قد فعلوا
الواجب فلما راجعوا تغيرت المصلحة في تكلفهم فأمروا بذبح بقرة غير فارض ولا بكر من غير مراعاة
الصفات الباقية فملا توقفوا أيضا تغيرت المصلحة فامروا بذبح بقرة صفراء فاقع لونها فلما توقفوا
تغيرت المصلحة فامروا بذبح بقرة لها الصفات الأخيرة المذكورة وانما يكون ذلك حجة ذلك
حجة في تأخير البيان لو صح لكم ان الصفات الواردات كلها للبقرة الأولى وما أنكرتم أن يكون الامر
بخلاف ذلك قلنا هذا تأويل من لا يعرف حكم اللغة العربية وما جرت به عادة أهلها في خطابهم
وكناياتهم لان الكناية في قوله تعالى ادع لنا ربك يبين لنا ما هي لا يجوز عند محصل أن يكون
كناية الا عن البقرة التي تقدم ذكرها وأمروا بذبحها ولم يجز في الكلام ما يجوز أن يكون هذه الكناية
كناية عنه الا البقرة ويجرى ذلك مجرى قول أحدنا لغلامه أعطني تفاحة فيقول غلامه ما هي بينها لي
ولا يصرف أحد من العقلاء هذه الكناية الا إلى التفاحة المأمور باعطائها إياه ثم قال تعالى بعد ذلك انه
يقول انها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك وقد علمنا ان الهاء في قوله انه يقول هي كناية عنه
تعالى لأنه لم يتقدم ما يجوز رد هذه الكناية إليه الا اسمه تعالى فكك يجب أن يكون قوله انها كناية
عن البقرة المقدم ذكرها والا فما الفرق بين الامرين وكذلك الكلام في الكناية بقوله ما لونها وقوله
انها بقرة صفراء فاقع لونها والكناية في قوله ما هي ان البقرة تشابه علينا ثم الكناية في قوله انه
16

يقول انها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا يجوز أن تكون الكناية في قوله تعالى انها في المواضع كلها عن القصة
والحال لان الكناية في انها لابد من أن يتعلق بما تعلقت به الكناية في قوله هي ولا شبهة في ان المراد
بلفظ هي البقرة التي أمروا بذبحها فيجب أن تكون كناية الجواب يعود إلى ما كنى عنه بالهاء في السؤال
ولو جاز تعلق الهاء بالقصة والشأن جاز تعليق ما هي بذلك وجاز أيضا أن تكون الكناية في قوله انه
يقول عن غير الله تعالى ويكون عن الحال والقصة كما قالوا في انه زيد منطلق كناية عن الشأن والقصة
وكيف قوله انها كذا وكذا كناية عن غير ما كنى عنه بما هي وبما لونها أو ليس ذلك يوجب أن يكون
جوابا عن غير ما سئل عنه لأنهم سئلوا عن صفات البقرة التي تقدم ذكرها وأمرهم بذبحها وأجيبوا
عن غير ذلك وسواء جعلوا الهاء في انها عن الشأن والقصة أو عن البقرة التي أمروا ثانيا وثالثا بذبحها
فكيف يجوز أن يسألوا عن صفة ما تقدم امره لهم بذبحه فيترك ذلك جانبا ويذكر صفة ما لم يتقدم
الامر بذبحه وانما أمروا امر مستأنفا به ولو كان الامر على ما قالوه من انه تكليف بعد تكليف لكان
الواجب لما قالوا له ما هي وانما عنوا البقرة التي أمروا ابتداء بذبحها ان يقولوا لهم اي بقرة شئتم
وعلى أي صفة كانت وما أمرتكم بذبح بقرة لها صفة معينة والآن تغيرت مصلحتكم فاذبحوا الان
بقرة من صفتها كذا وكذا فإذا قالوا له ما لونها يقول أي لون شئتم وما أردت لونا بعينه والآن
قد تغيرت المصلحة والذي تؤمرون به الان بقرة صفراء ولما قالوا في الثالث ما هي ان البقرة
تشابه علينا ان يقول لهم المأمور به بقرة صفراء على أي صفة كانت وبعد ذلك وقد تغيرت
المصلحة فاذبحوا بقرة لا ذلول تثير الأرض إلى آخر الصفات فلما عدل عن ذلك إلى نعت بعد اخر
دل على انها كلها نعوت البقرة الأولى على انه لو جاز صرف الهاء في قوله انها إلى الشأن والقصة
وان كان المفسرين كلهم قد اجمعوا على خلاف ذلك فإنهم كلهم قالوا هي كناية عن البقرة المتقدم
ذكرها وقالت المعتزلة بالأمس كذا انها كناية عن البقرة التي تعلق التكليف المستقبل (المستقل خ ل) بذبحها ولم
يقل أحد انها للقصة والحال لكان ذلك يفسد من وجه اخر وهو انه إذا تقدم ما يجوز أن يكون
هذه الكناية راجعة إليه متعلقة به لم يجز للقصة والحال ذكر فالأولى أن تكون متعلقة
بما ذكر وتقدم الاخبار عنه دون ما لا ذكر له في الكلام وانما استحسن
الكناية عن الحال والقصة في بعض المواضع بحيث تدعوا لضرورة إليه ولا يقع اشتباه ولا يحصل
التباس وبعد فإنما يجوز اضمار القصة والشأن بحيث يكون الكلام تعلق الكناية بما تعلقت به
مفيدا مفهوما لان القائل إذا قال انه زيد منطلق وانها قايمة هذه فتعلقت الكناية بالحال والقصة
أفاد ما ورد من كلام وصار كأنه قال زيد منطلق وقايمة هند والآيات بخلاف هذا الموضع
لأنا متى جعلنا الكناية في قوله انها بقرة لا فارش وانها بقرة صفراء وانها بقرة لا ذلول تثير الأرض
17

متعلقة بالحال والقصة بقي معنا في الكلام ما لا فائدة فيه ولا يستقل بنفسه لأنه لا فايدة في قوله
بقرة صفراء وبقرة لا فارض ولا بكر ولابد من ضم كلام إليه حتى يستقل ويفيده فان ضممنا إلى بقرة
لا فارض أو بقرة صفراء التي امرهم بذبحها أفاد لعمري فبطل صرف الكناية إلى غير البقرة ووجب
أن تصرف الكناية إلى البقرة حتى لا يحتاج أن يحذف خبر المبتداء أو الاكتفاء بما في الكلام أولى من
تأويل يقتضى العدول إلى غيره وحذف شئ ليس موجودا في الكلام ومما يدل على صحة (وجه خ ل) ما اخترناه
ان جميع المفسرين للقرآن اطبقوا على ان الصفات المذكورات كلها للبقرة أعوز اجتماعها للقوم
حتى توصلوا إلى اتباع بقرة لها هذه الصفات كلها بملاء جلدها ذهبا ولو كان الامر على ما قال
المخالفون لوجب أن لا يعتبروا فيما يبتاعونه الا الصفات الأخيرة دون ما تقدمها ويلغى ذكر
الصفات التي ليست بفارض ولا بكر واجمعوا على ان الصفات كلها معتبرة وعلم ان البيان تأخروا
ان الصفات كلها للأولى المأمور بذبحها فان قيل فلم عنفوا على تأخيرهم امتثال الامر الأول و
عندكم ان بيان المراد بالامر الأول تأخر فلم قال فذبحوها وما كادوا يفعلون قلنا ما عنفوا
بتأخير امتثال الامر الأول وليس في القران ما يشهد بذلك أو يدل عليه بل كان البيان يأتي
شيئا بعد شئ كلما طلبوه واستخرجوه من غير تعنيف ولا قول يدل على انهم بذلك عصوه
واما قوله في آخر القصة وما كادوا يفعلون فإنما يدل على انهم كادوا يفرطون في اخر القصة وعند
تكامل البيان ولا يدل على انهم فرطوا في أول القصة ويجوز أن يكون ذبحوا بعد تثاقل ثم فعلوا
ما أمروا به وهذا كله واضح هذان الدليلان ذكرهما السيد المرتضى أوردتهما بألفاظه لأنه لا مزيد
عليهما وفيهما كفاية انشاء الله وقد استدل قوم على صحة هذا المذهب بان قالوا ليس في
العقل ما يمنع من صحة ذلك ولا في الشرع فينبغي أن يكون ذلك جايزا فمتى توزعوا في ذلك و
أشاروا إلى شئ فيما يدعونه انه وجه قبيح كلموهم بما مضى في تضاعيف الكلام مما يمكن أن يكون
جوابا عنه واستدلوا أيضا بما روى ان سائلا سئل النبي صلى الله عليه وآله عن مواقيت الصلاة فاخر بيانها
واعترض المخالف ذلك بان قال انما أحاله على بيان متقدم فمتى قيل لم لم ينقل ذلك قالوا يكفى
أن يكون ذلك جايزا وهذا الدليل لا يمكن الاعتماد عليه لان الخبر خبر واحد وهذه مسألة طريقها
العلم فكيف يمكن الاستدلال على صحتها بخبر واحد واستدلوا أيضا بما رووا من ان أهل اليمين
سألوا معاذا عن وقص البقر فلم يعرفه وقال المخالف ان ذلك مما قد بين لأنه بقي على ما كان عليه
من قبل في اسقاط الزكاة عنه وهذا أيضا نظير الأول في انه خبر واحد لا يمكن الاعتماد إليه و
نظاير ذلك لا يمكن الاعتماد على شئ منها فالمعتمد في هذا الباب الدليلان الأولان واما الذي
يدل على ان تأخير بيان العموم لا يجوز عن حال الخطاب فهو انا قد دللنا على العموم له صيغة تختص به
18

وله ظاهر فمتى خاطب الحكيم به ينبغي أن يحمل على ظاهره لأنه لو أراد غير ظاهره أو أراد بعضه لبينه
والا كان قد دل على الشئ بخلاف ما هو به وذلك لا يجوز تصديق الكذاب واظهار المعجز على
يده ولو جاز ذلك لجاز أن يخاطب بألفاظ الخاص ولا يريد حقيقتها ولا ظاهرها ويريد بها ضربا
من المجاز ولا يبين وذلك يؤدى إلى أن لا نستفيد بالخطاب شيئا أصلا فاما من قال ان
لفظ العموم مشترك فهو يجوز به تأخير بيان المراد به لأنه يكون مجملا عنده وقد بينا نحن خلاف
ذلك وهذه جملة كافية في هذا الباب فصل في ان المخاطب بالعام هل يجوز أن يسمعه
وان لم يسمع الخاص أو لا يجوز اعلم انه يجوز أن يسمع المخاطب العام دون الخاص ويلزمه طلب
الخاص والبحث عنه في الأصول فان وجده حمل العالم عليه والا اعتقد ظاهره وهو مذهب النظام
واحد قولي أبي هاشم وهو الذي يدل عليه قول الشافعي وغيره من الفقهاء وكان أبو على يقول
ان تخصيص الخطاب إذا لم يكن بدليل ولا كان المخاطب به قد عرفه فإنه لا يجوز أن يسمع العام ولا
يسمع الخاص بل يصرف عن سماع العام بضرب من الصرف وإذا اسمعه اسمع الخاص وكان يعتد لذلك
بأن يقول ان خطابه إياه بالعام يبيح له اعتقاد ما لا يقتضيه ظاهره وذلك جهل ولا يجوز من الحكيم
ان يبيح الجهل فيجب أن لا يحسن دون أن لا يسمعه الخاص وكان يقول ان ذلك بمنزلة خطاب العربي
بالزنجية لان المراد به لا يصح أن يعلم في الحال وقد قال بهذا أبو هاشم أيضا وكان يقول باسماع
المنسوخ دون الناسخ مثل ما ذكرناه أيضا والذي يدل على صحة المذهب الأول انا قد اتفقنا
على انه يجوز أن يخاطب بالعام وان كان مخصوصا بدليل العقل (العقل) وان لم يستدل المخاطب على
خصوصه بل يلزمه البحث عنه وانما حسن ذلك لأنه متمكن من معرفة ذلك فيجب أن يحسن أيضا
ان يخاطب به إذا كان له تخصيص في الأصول لم يسمع لما كان متمكنا من معرفته بالنظر في
الأصول وما ذكرناه قد اسقط ساير ما قدمناه لأنه إذا جاز عند من خالف أن يخاطب بالعموم
وان لم يستدل على خصوصه بالعقل ولم يوجب ذلك إباحة الجهل والاجراء مجرى خطاب
العربي بالزنجية فكك لا يلزمنا ان جوزنا ما قدمناه فصل في القول في دليل الخطاب
واختلاف الناس فيه اختلف أهل العالم في ان الحكم إذا علق بصفة الشئ هل يدل على
ان حاله مع انتفاء ذلك الوصف بخلاف حاله مع وجوده أم لا يدل بل يحتاج إلى بيان و
دليل سواه فذهب الشافعي وأكثر أصحابه إلى ان الحكم إذا علق في الموصوف بصفة دل
على انتفاء ذلك الحكم إذا زالت تلك الصفة قاله في مسايل كثيرة ويجاوز بعضهم إلى أن
قال ان الحكم إذا علق بعين دل على ان غيره بخلافه ومنهم من قال انه لا يدل على ان ما عداه
بخلافه وهو الذي نصره أبو عبد الله البصري وحكاه عن أبي الحسن وهو قول أبي العباس ابن
19

شريح ومن تبعه من أصحاب الشافعي كأبي بكر الفارسي وأبي بكر القفال وغيرهما وذكر أبو العباس ان الحكم
إذا علق بصفة انما يدل على ما يتناوله لفظه إذا تجرد وقد يحصل فيه قراين وأسباب يدل معها على
ان ما عداه بخلافه نحو قوله ان جائكم فاسق بنبأ فتبينوا وقوله واشهدوا ذوى عدل منكم وقوله
فلم يجدوا ماء فتيمموا وقوله وان كن أولات حمل فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن وقوله (ع) في
سايمة الغنم زكاة قال وقد يقتضى ذلك ان حكم ما عداه مثل حكمه نحو قوله ومن منكم متعمدا
وقوله ولا تقل لهما أف وقوله فلا تظلموا فيهن أنفسكم وهذا تصريح منه بان القول إذا تجرد
لم يقتضى نفيا ولا اثباتا فيما عدا المذكور وان بالقراين يعلم تارة النفي ويعلم تارة الايجاب وقد أضاف
ابن شريح هذا القول إلى الشافعي وتأول كلامه المقتضى بخلافه وبناه عليه وأكثر أصحاب الشافعي
وجلهم وجمهورهم على المذهب الأول وهذا المذهب اعني الأخير هو الذي اختاره سيد المرتضى
واليه ذهب أبو على وأبو هاشم وأكثر المتكلمين وكان شيخنا رحمه الله يذهب إلى المذهب الأول
وأقوى ما نصر به مذهب من منع من ذلك ما ذكره سيدنا المرتضى في مسألة له انا أحكيها على ما وجهها
قال قد ثبت ان تعليق الحكم بالاسم اللقب لا يدل على ان ما عداه بخلافه وثبت ان الصفة كالاسم
في الإبانة والتميز وإذا ثبت هذان الأمران صح ما نذهب إليه والذي يدل على الامر الأول ان
تعليق الحكم بالاسم لو دل على ان ما عداه بخلافه لوجب أن يكون قول القايل زيد قايم وعمرو
طويل والسكر حلو مجازا معدولا به عن الحقيقة لأنه قد يشارك زيدا وعمروا في القيام والطول
غيرهما ويشارك السكر في الحلاوة غيره ويجب أيضا ان لا يتمكن ان يتكلم بهذه الالفاظ على
سبيل الحقيقة ومعلوم ضرورة من مذهب أهل اللغة ان هذه الالفاظ حقيقة وانها مما لا يجب
ان يكون مجازا ويلزم على هذا المذهب أن يكون أكثر الكلام مجازا لان الانسان إذا أضاف
إلى نفسه فعلا من قيام أو قعود أو أكل أو تصرف وما جرى مجراه ليس يضيف إليها الا ماله فيه
مشارك والإضافة إليه تقتضي بظاهرها على مذهب من قال بدليل الخطاب نفى ذلك الامر عما
عداه ولا يكون هذا الا ما قال (هذا خ ل) قط في موضع من المواضع الا مجازا وهذا يقتضى ان الكلام كله مجاز
ويدل أيضا على ذلك ان من المعلوم انه لا يحسن ان يخبر بأنه زيد طويل الا وهو عالم بطوله لان كلامه
يقتضى تعليق الطول عليه فلابد من أن يكون عالما به والا لم يأمن أن يكون كاذبا فلو كان
قوله زيد طويل كما يقتضى الاخبار عن طول زيد يقتضى نفى الطول عن كل من عداه لوجب
أن لا يحسن منه أن يخبر بان زيدا طويل على الحقيقة الا بعد أن يكون عالما بان غيره لا يشاركه
في الطول ويجب أن يكون علمه بحال الغير شرطا في حسن الخبر كما ان علمه بحال المذكور شرط في
حسن الخبر ومعلوم خلاف ذلك عند كل عاقل وأيضا فان ألفاظ النفي مفارقة لألفاظ الاثبات
20

في لغة العرب ولا يجوز أن يفهم من لفظ الاثبات النفي كما لا يفهم من لفظ النفي الاثبات وقولنا
زيد طويل لفظه لفظ اثبات فكيف يعقل منه نفي الحكم عن غير المذكور وليس هيهنا لفظ نفى و
يمكن ان يستدل بهذه الطريقة خاصة على ان تعليق الحكم بصفة لا يدل على نفيه عما ليست له
من غير حمل الصفة على الاسم ومما يقوى أيضا ما ذكرناه ان أحدا من العلماء لم يقل في ذكر الأجناس
الستة في خبر الربا ان تعليق الحكم بها يدل على نفى الربا عن غيرها لان العلماء بين رجلين أحدهما
يقول يبقى غير هذه الأجناس على الإباحة والاخر يقيس غيرهما عليها وان تعلق من سوى بين الاسم
بان جماعة من أهل العلم استدلوا على ان غير الماء لا يطهر بقوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء
طهورا فنفوا الحكم عن غير الماء وهو معلق بالاسم لا بالصفة والجواب ان من فعل ذلك فقد
أخطاء في اللغة فقد حكينا ان في الناس من سوى مخطيا بين الاسم والصفة في تعليق الحكم
بكل واحد منهما ويمكن من استدل بهذه الآية أن يكون انما عول على ان الاسم فيها يجرى
مجرى الصفة لان مطلق الماء يخالف مضافه فأجراه مجرى كون الغنم سايمة وعامله واما الدلالة
على ان الصفة كالاسم في الحكم الذي ذكرناه فهي ان الغرض في وضع الأسماء في أصل اللغة هو التمييز
والتعريف وليمكنهم ان يخبروا عمن غاب عنهم بالعبارة كما أخبروا عن الحاضر بالإشارة فوضعوا الأسماء
لهذا الغرض ولما وقع الاشتراك بالاتفاق في الأسماء بطل الغرض الذي هو التمييز فاحتاجوا إلى ادخال
الصفة والحاقها بالاسم ليكون الاسم مع الصفة بمنزلة الاسم ولم يقع اشتراك فيه ولولا
الاشتراك الواقع في الأسماء لما احتيج إلى الصفات الا ترى انه لو لم يكن مسمى بزيد الا شخصا واحدا
لكفى في الاخبار عنه ان يقال قام زيد ولم احتيج (يحتج خ ل) إلى ادخال الصفة فبان بهذه الجملة ان الصفة كالاسم
في الغرض وان الصفات كبعض الأسماء إذا ثبت ما ذكرناه في الاسم ثبت وما يجرى مجراه ويقوم
مقامه ومما يبين ان الاسم كالصفة ان المخبر قد يحتاج إلى ان يخبر عن شخص بعينه فيذكره
بلقبه وقد يجوز أن يحتاج ان يخبر عنه في حال دون أخرى فيذكره بصفته فصارت الصفة
مميزه للأحوال كما ان الأسماء مميزة للأعيان فحلى محلا واحدا في الحكم الذي ذكرناه ومما يدل
ابتداء على بطلان دليل الخطاب ان اللفظ انما يدل على ما يتناوله أو على ما يكون بأن يتناوله
أولى فاما ان يدل على من لم يتناوله ولا هو بالتناول أولى فمحال وإذا كان الحكم المعلق بصفة لم يتناول غير المذكور
ولا هو بأن يتناوله أولى لم يدل الا على ما اقتضاه لفظه فان قيل اشرحوا هذه الجملة قلنا بقوله (ع) في سايمة الغنم
الزكاة معلوم حسا وادراكا انه لم يتناول المعلوفة ولا يمكن الخلاف فيما لا يدخل تحت الجنس ولا هو يتناولها
أولى بدلالة انه لو قال في سايمة الغنم الزكاة وفي معلوفتها لما كان مناقضا ومن شان اللفظ إذا دل على ما لم
يتناوله بلفظه لكنه بأن يتناوله أولى أن يمنع من التصريح بخلافه الا ترى ان قوله تعالى ولا تقل لهما أف لما تناول
21

النهى عن التأفف بلفظ وكان بأن يتناول ساير المكروه أولى لم يجز أن يتبعه ويلحقه بأن يقول لا
تقل لهما أف واضربهما واشتمهما لأنه نقض فبان ان قوله في سايمة الغنم الزكاة ليس يتناول المعلوفة
أولى والذي يدل على ان اللفظ لا يدل على ما لا يتناوله ولا يكون بالتناول أولى لأنه لو دل على ذلك
لم ينحصر مدلوله لان ما لا يتناوله اللفظ لا يتناهى وليس بعض ان يدل عليه اللفظ مع عدم التناول
بأولى من بعض ومما يدل أيضا على ما ذكرناه حسن استفهام القايل ضربت طوال غلماني ولقيت اشراف
جيراني فيقال له أضربت القصار من غلمانك أم لم تضربهم ولقيت العامة من جيرانك أم لم تلقهم فلو
كان تعليق الحكم بالصفة يقتضى وضعه نفى الحكم عما ليس له تلك الصفة كاقتضائه ثبوته لماله تلك
الصفة لكان هذا الاستفهام قبيحا كما يقبح ان يستفهم عن حكم ما تعلق لفظه به فلو كان الامر ان
مفهومين من اللفظ لاشتركا في حسن الاستفهام وقبحه فان قيل انما يحسن الاستفهام عن ذلك
لمن لم يقل بدليل الخطاب فاما من تكلم بما ذكرتموه من الذاهبين إلى دليل الخطاب فإنه لا يستفهم
عن مراده الا على وجه واحد وهو أن يكون أراد على سبيل المجاز والاستعارة خلاف ما يقتضيه دليل
الخلاف فيحسن استفهامه لذلك قلنا حسن استفهام كل قايل اطلق مثل هذا الخطاب معلوم ضرورة
علمنا مذهبه في دليل الخطاب أم لم تعلمه فاما تجويزنا أن يكون المخاطب عدل ان الحقيقة إلى المجاز
في الكلام الذي حكيناه وان هذا هو علة حسن الاستفهام فباطل لأنه يقتضى حسن دخول الاستفهام
في كل كلام لأنه لا كلام نسمعه ونحن نجوز من طريق التقدير أن يكون المخاطب به أراد المجاز ولم يرد
الحقيقة وفي علمنا بقبح الاستفهام في كثير من المواضع دلالة على فساد هذه العلة على ان المخاطب
لنا إذا كان حكيما وأراد المجاز بخطابه قرن كلامه بما يدل على انه متجوز به ولم يحسن منه اطلاقه وحكى
في هذه المسألة ما استدل به من خالفهم فقال واستدل المخالف بأشياء منها ان تعليق الحكم بالسوم
لو لم يدل على انتفائه إذا انتفت الصفة لم يكن لتعليقه بالسوم معنى وكان عبثا ومنها ان تعليق
الحكم بالسوم يجرى مجرى الاستثناء من الغنم ويقوم مقام قوله ليس في الغنم الا السائمة الزكاة فكما انه
لو قال ذلك لوجب أن تكون الجملة المستثنى منها بخلاف حكم الاستثناء فكك تعليق الحكم بالصفة
ومنها ان تعليق الحكم بالشرط إذا دل على انتفائه بانتفاء الشرط فكك الصفة والجامع بينهما ان
كل واحد منهما كالأخر في التمييز والتخصيص انه لا فرق بين أن يقول في سايمة الغنم الزكاة وبين أن
يقول فيها إذا كانت سايمة ومنها ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله عند نزول قوله تعالى استغفر لهم أولا
تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة لن يعفر (يغفر) الله لهم انه قال (ع) لأزيدن عن السبعين
فلو لم يعلم من جهة دليل الخطاب ان ما فوق السبعين بخلافها لم يقل ذلك ومنها تعلقهم بما
روى عن عمر بن الخطاب ان يعلى بن أمية سأله فقال له ما بالنا نقصر وقد امنا فقال له عمر عجبت
22

مما عجبت منه فسئلت رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته
فتعجبهما من ذلك يدل على انهما فيهما من تعلق القصر بالخوف ان حال الا من بخلافه ومنها ما روى عن
الصحابة كلهم انهم قالوا الماء من الماء منسوخ ولا يكون ذلك منسوخا الا من جهة دليل الخطاب و
ان لفظة الخبر يقتضى نفى وجوب الاغتسال من غير انزال الماء ومنها ان الأمة انما رجعت في ان التيمم
لا يجب الا عند عدم الماء إلى ظاهر قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا وكذلك الصيام في الكفارة وانه
لا يجرى الا عند عدم الرقبة انما رجع فيه إلى الظاهر قال والجواب عن الأول ان في تعليق الحكم
بالسوم فايدة لأنا نعلم وجوب الزكاة في السايمة وما كنا نعلم ذلك قبله ويجوز أن تكون حكم المعلوفة في
الزكاة حكم السايمة وان علمناه بدليل اخر وليس يمتنع في الحكمين بمتماثلين ان يعلما بدليلين مختلفين
بحسب المصلحة الا ترى ان حكم ما يقع النص عليه من الأجناس في الربا حكم المنصوص عليه ومع
ذلك دلنا على ثبوت الربا في الأجناس المذكورة بالنص ووكلنا في اثباته في غيرها إلى القياس أو غير
ذلك من الأدلة والجواب عن الثاني ان الاستثناء من العموم لم يدل بلفظه ونفسه على ان ما لم يتناوله
بخلاف حكمه وانما دل العموم على دخول الكل فيه فلما اخراج الاستثناء بعض ما يتناوله العموم علمنا
حكم المستثنى بلفظ الاستثناء وتناوله لما يتناوله وعلمنا ان حكم ما لم يتناوله بخلافه بلفظ العموم
مثال ذلك ان القايل إذا قال ضربت القوم الا زيدا فإنما يعلم بالاستثناء ان زيدا ليس بمضروب ويعلم
ان من عداه من القوم مضروب بظاهر العموم لا من اجل دليل الخطاب في الاستثناء وليس هذا موجودا
في قوله (ع) في سايمة الغنم الزكاة لأنه (ع) ما استثنى من جملة مذكورة ولو كان لسايمة الغنم اسم يختص بها
من غير إضافة إلى الغنم تعلق الزكاة به وليس كل شئ معناه معنى الاستثناء له حكم الاستثناء لان
للاستثناء الفاظا موضوعة له فلما لم يدخل فيه لم يكن مستثنى منه ولا يكون واردا الا على جملة مستقلة
بنفسها وكل هذا إذا وجبت مراعاته لم يجز أن يجرى قوله (ع) في سايمة الغنم الزكاة مجرى الجمل المستثنى فيها
والجواب عن الثالث ان الشرط عندنا كالصفة في انه لا يدل على ان ما عداه بخلافه وبمجرد الشرط لا يعلم
ذلك وانما نعلمه في بعض المواضع بدليل لان تأثير الشرط ان يتعلق الحكم به وليس يمتنع ان يخالفه و
ينوب عنه شرط اخر يجرى مجراه ولا يخرج من أن يكون شرطا الا ترى ان قوله تعالى واستشهدوا
شهيدين من رجالكم انما يمنع من قبول الشاهد الواحد حتى ينظم إليه الاخر فانضمام الثاني إلى
الأول شرط في القبول ثم يعلم بدليل ان ضم امر به إلى الشاهد الأول يقوم مقامه ثم يعلم بدليل ان ضم
اليمين إلى الشاهد الواحد يقوم مقام الثاني فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من ان تحصى و
الصحيح ان الحكم إذا علق بغاية أو عدد فإنه لا يدل بنفسه على ان ما عداه بخلافه لأنا انما نعلم
ان ما زاد على الثمانين في حد القاذف لا يجوز لان ما زاد على ذلك مخطور بالعقل فإذا وردت العبادة
23

بعدد مخصوص خرجنا عن الخطر بدلالة يقينا فيما زاد على ذلك العدد على حكم الأصل وهو الخطر
وكذلك إذا قال الرجل لغلامه اعط زيدا مائة درهم فإنه يعلم خطر الزايد على المذكور بالأصل ولو قال
أعطيت فلان مائة لم يدل لفظا ولا عقلا على انه لم يعط أكثر من ذلك فاما تعليق الحكم بغاية فإنما
يدل على ثبوته إلى تلك الغاية وما بعدها يعلم انتفاؤه أو اثباته بدليل وانما علمنا في قوله وكلوا
واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر وقوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل
وقوله تعالى حتى يطهرن ان ما بعد الغاية بخلافها بدليل وما يعلم بدليل غير ما يدل اللفظة عليه
كما يعلم ان ما عدا السايمة بخلافها في الزكاة بدليل ومن فرق بين تعليق الحكم بصفة وبين تعليقه
بغاية ليس معه الا الدعوى وهو كالمناقض لفرقه بين أمرين لا فرق بينهما فإذا قال فأي معنى
لقوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل إذا كان ما بعد الليل يجوز أن يكون
فيه صوم قلنا واي معنى لقوله (ع) في سايمة الغنم الزكاة والمعلوفة مثلها فإذا قيل لا يمتنع أن تكون
المصلحة في أن يعلم ثبوت الزكاة في السايمة بهذا النص ويعلم ثبوتها في المعلوفة بدليل اخر قلنا
كذلك لا يمتنع فيما علق بغاية حرفا بحرف وتعليق الحكم بالصفة لا يدل على ان ما عداه بخلافه
بخلاف قول من يقول انه يدل على ذلك إذا كان بيانا وانما قلنا ذلك لان ما وضع له القول لا
يختلف أن يكون مبتدأ وبيانا وإذا لم يدل تعليق الحكم بصفة على نفى ما عداه فإنما لم يدل على
ذلك لشئ يرجع إلى اللفظ فهو في كل موضع كذلك والجواب عن الرابع ان ما طريقة العلم لا يرجع فيه
إلى اخبار الآحاد لا سيما إذا كانت ضعيفة وهذا الخبر يتضمن انه (ع) يستغفر للكفار وذلك
لا يجوز وأكثر ما فيه انه (ع) عقل ان ما فوق السبعين (بخلاف السبعين) فمن اين انه فهم ذلك من ظاهر الآية من غير
دليل يدله ولقايل ان يقول ان الاستغفار لهم كان مباحا فلما ورد النص بخطر السبعين بقي ما
زاد عليه على الأصل وقد روى في هذا الخبر انه (ع) قال لو علمت انى ان زدت على السبعين يغفر الله
لهم لفعلت وعلى هذه الرواية لا شبهة في الخبر والجواب عن الخامس انه أيضا خبر واحد لا يحتج به في
هذا الموضع ومع ذلك لا يدل على موضع الخلاف لأنا لا نعلم ان تعجبهما من القصر مع زوال
الخوف هو لأجل تعليق القصر بالخوف ويجوز أن يكون تعجبهما لأنهما عقلا من الآيات الواردات
في ايجاب الصلاة وجوب الاتمام في كل حال واعتقدوا ان المستثنى من ذلك هو حال الخوف تعجبا
لهذا الوجه والجواب عن السادس انه إذا صح قولهم ان الماء منسوخ من اين لهم انهم عقلوا من
ظاهره نفى وجوب الغسل من غير الماء ولعلهم علموه بدليل سوى اللفظ لأنهم إذا حكموا بأنه
منسوخ فلابد من أن يكونوا قد فهموا ان ما عداه بخلافه فمن اين لهم فهموا ذلك بان اللفظ دون دليل
اخر وقد روى هذا الخبر بلفظة اخر انه (ع) قال انما الماء من الماء وبدخول لفظ انما يعلم ان ما عداه
24

بخلافه لان القايل انما لك عندي درهم يفهم من قوله وليس لك سواه وعلى الوجه تعلق ابن
عباس في نفى الربا من غير النسية بقوله (ع) انما الربا في النسية وقد روى أيضا هذا الخبر بلفظ
اخر وهو انه (ع) قال لا ماء الا من الماء وعلى هذا اللفظ لا شبهة في الخبر على ان الصحابة لم يبين جهة
قولها في هذا الخبر انه منسوخ وهذا (وهل خ ل) النسخ يتناوله أو دليله أو ما علم منه بقرينة وقد علمنا
ان المذكور من الحكم في اللفظ وهو وجوب الغسل بالماء من انزال الماء ليس بمنسوخ فمن اين ان
النسخ تناول دليل هذا اللفظ أو ما علم منه بقرينة والجواب عن السابع ان آية التيمم وآية
الكفارات بين فيها حكم الأصل وحكم البدل لأنه تعالى أوجب الطهارة عند وجوب الماء وأوجب
التيمم عند عدمه وكذلك في الكفارة لأنه أوجب الرقبة في الأصل وعند عدمها أوجب الصيام
فعلمنا حكم البدل والمبدل جميعا وليس لدليل الخطاب في هذا مدخل هذه المسألة أوردناها
على وجهها لأنها مستوفاة وفيها بيان نصرة كل واحد من المذهبين وما يمكن الاعتماد عليه لكل
فريق ولى في هذه المسألة نظر فصل في ذكر حقيقة النسخ وبيان شرايطه والفصل بينه
وبين البداء النسخ في اللغة يستعمل على وجهين أحدهما بمعنى الإزالة كما يقال نسخت الشمس الظل
ونسخت الريح اثارهم والاخر بمعنى النقل كما يق نسخت الكتاب وذهب أبو هاشم إلى انه حقيقة
في الإزالة مجازا في النقل قال لان من نسخ الكتاب لم ينقل ما فيه وانما أثبت مثله فلما كان كذلك
فيجب أن يكون مجازا والأولى ان يقال انه حقيقة فيهما لأنا وجدنا أهل اللغة يستعملون ذلك
لأنهم يعتقدون ان ذلك نقل على الحقيقة وان كان اعتقادهم فاسدا ويجرى ذلك مجرى تسميتهم
الأصنام بأنها آلهة لما اعتقدوا انها تستحق العبادة فاسدا فلو لزم هذا للزم أباها شم ان لا
يكون أيضا حقيقة في الإزالة لان الريح في الحقيقة لا تزيل شيئا وانما الله تعالى يزيل بها وكذلك القول
في الشمس فان اعتذر من ذلك بان قال لما اعتقدوا ان الريح هي التي تزيل في الحقيقة أضافوه إليها
قيل له مثل ذلك في النقل سواء فاما استعمال هذه اللفظة في الشريعة فعلى خلاف موضوع اللغة
وان كان بينهما تشبيها ووجه التشبيه ان النص إذا دل على ان مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم
زايل على وجه لولاه لكان ثابتا صار بمنزل المزيل لذلك الحكم لأنه لولاه لكان ثابتا فاجرى استعمال لفظ
النسخ فيه مجرى الريح المزيلة للآثار هذا قول أبي هاشم وقال أبو عبد الله البصري ان هذه التسمية
مستعملة على غير طريقة اللغة في الشريعة فهي لفظة شرعية منقولة عما وضعت له لان استعمالها
في ذلك غير معقول في اللغة فهي كسائر الأسماء الشرعية فاما حد الدليل الموصوف بأنه ناسخ
فهو ما دل على ان مثل الحكم الثابت بالمنسوخ الذي هو النص المتقدم غير ثابت في المستقبل
على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الأول مع تراخيه عنه والموصوف بأنه هو منسوخ هو النص
25

الأول وقد يستعمل هذه اللفظة في أشياء فيقال في الله تعالى انه ينسخ الحكم فهو ناسخ إذا نصب الدلالة
على ذلك ويقال ان النص الثاني ناسخ للأول إذا دل من حاله على ما ذكرناه وقد يقال ان الحكم الثاني
ينسخ حكم الأول وهو ناسخ له من حيث علم سقوط الأول به كقولهم نسخ التوجه إلى الكعبة الاستقبال
إلى بيت المقدس ومثل ما روى ان الزكاة نسخت كل واجب في المال ونسخ شهر رمضان صوم عاشور
وقد يتسع أيضا فيقال ان فلانا ينسخ كذا كذا إذا اعتقد ذلك وذهب إليه كما يق الشافعي لا ينسخ
القرآن بالسنة والحنفي بنسخ ذلك واما لفظ المنسوخ فإنه يستعمل في الدليل والحكم دون ما عداهما
والأغلب في استعمال هذه اللفظة الدلالة والحكم دون ما عداهما وان كان لا يستعمل في الحكم الا إذا كان
ثبوته يقتضى نفى الحكم الأول أو علم بالدليل ذلك من حاله فهذه الوجوه هي جملة ما يستعمل هذه
العبارة فيها وحقيقتها ما ذكرناه فاما شرايط النسخ فأشياء منها ان الدليل الموصوف بأنه ناسخ
وبأنه منسوخ جميعا يكونان شرعيين وانما قلنا ذلك لأنه إذا كانت الإباحة معلومة بالعقل ثم
ورد الشرع بخطره لا يسمى ذلك نسخا الا ترى انه لا يقل خطر الخمر نسخ اباحته لما كانت اباحته معلومة
عقلا فكذلك لا يق ان الجنون والموت والعجز نسخ واحد منها ما كان واجبا عليه لما كان زوال ذلك
عن المكلف معلوم عقلا وهذا الذي ذكرناه انه يمنع من اطلاق عبارة النسخ عليه فاما معنى
النسخ فحاصل فيه على كل حال الا ترى انه لا فرق في سقوط التكليف بين زوال العقل أو حصول
الموت والعجز وبين ورود النهى عنه في ان في الحالين جميعا يسقط التكليف وانما يمنع ذلك من اجرى
العبارة عليه على ما قلناه ومن شرط الناسخ أن يكون المراد به غير المراد بالمنسوخ لأنه لو كان مرادا
به لدل على البداء ولاقتضى ذلك كون الامر أو النهى قبيحا فعلى هذا يجب أن يكون الناسخ دالا على
ان ما تناوله لم يرد قط بالمنسوخ وبذلك يبطل قول من حد النسخ بأنه زوال الحكم بعد استقراره
لان الحكم إذا استقر وثبت انه مراد لم يصح ان يرفع لما يؤدى إليه من الفساد الذي قلناه وبمثل
ما قلناه يبطل قوله من حد ذلك بأنه رفع المأمور به بالنهي عنه لأنه لو كان كذلك لوجب كونه مرادا
بالامر ومكروها بالنهي وذلك يؤدي إلى ما قدمناه من الفساد ومن شرط الناسخ أيضا أن يكون منفصلا
عن المنسوخ لأنه إذا كان متصلا به لم يوصف بأنه ناسخ الا ترى انه لا يقال ان قوله تعالى فاعتزلوا
النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فاتوهن من حيث امركم الله نسخ للخطر
المتقدم لما كان متصلا به ومن شرط المنسوخ ان لا يكون موقتا بوقت يقتضى ارتفاع ذلك الحكم
لان ما يكون كذلك لا يوصف بأنه ناسخ ولذلك لا يق الافطار بالليل ناسخ الصوم بالنهار لكن
الواجب أن ينظر في الغاية فان كانت غاية معلومة كالليل لم يوصف الحكم المتعلق بها بأنه ناسخ و
ان كانت مما لا يعلم الا بنص بان يرد فتبين حاله فلولاه لوجب إدامة حكم النص الأول فإنه يوصف
26

بأنه ناسخ لأنه جار مجرى قوله تعالى افعلوا كذا وكذا ابدا إلى أن أنسخه عنكم وقد علم ان ما يرد من الدلالة بعد
ذلك يوصف بأنه ناسخ وان كان قد قيد به الكلام الأول وكذلك ما جرى مجراه من الغايات ولذلك لم يصح
ما قاله بعض أصحاب الشافعي من ان قوله تعالى فامسكوهن في البيوت حتى يتوفيهن الموت أو يجعل الله لهن
سبيلا لا يجوز أن يكون منسوخا بقوله وقد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد ماية الحديث لان
الآية وان كانت مشروطة بالسبيل فهي غاية غير معلومة الا بدليل لولاه لكان الحكم ثابتا فيه ويفارق
ذلك تعليق الحكم بغاية يجب انقطاعه عندها كتعليقه بالموت لان ذلك انما يزول بحكم ذلك
لا بدليل اخر شرعي وهذا ظاهر ومن حق الناسخ أن يكون في حكم المنسوخ في وقوع العلم به أو العمل على ما
سنذكره من ان خبر الواحد لا ينسخ به الكتاب ومن شرطه أيضا الا يكون قياسا ولا ما يجرى مجراه من الأدلة
المستنبطة عند المخالف ونحن ندل على ذلك فيما بعد انشاء الله تعالى وليس من شرط النسخ أن يكون لفظ
المنسوخ متناولا له لأنه لا يمتنع ان تدل الدلالة على ان المراد بالامر المطلق تكرار الفعل فيكون سبيله
سبيل الامر المقيد بما يقتضى التكرار في ان النسخ يصح فيه وعلى هذا أكثر النسخ في الشريعة لأنه ليس شئ
من ألفاظ المنسوخ ظاهره يقتضى التكرار وانما علم ذلك من حاله بدليل وهذا بين لأنه كما لا يمتنع نسخ
الفعل وما شاكله من الشرعيات وان لم يكن ذلك كلاما لم يمتنع ان يعلم بدليل ان المراد بالامر التكرار
فيعترضه النسخ ويفارق التخصيص الذي قد بينا انه لا يصح دخوله الا فيما يتناوله اللفظ العام من هذا
الوجه وليس من شرط الناسخ الا يتأخر عن المنسوخ كما قلنا في تخصيص العام وبيان المجمل عن وقت الحاجة
بل هو بالعكس من ذلك في وجوب تأخره عن المنسوخ على ما بيناه وليس من شرطه أن يكون متناولا
لجملة بل لا لم يمتنع أن يكون متناولا يصح نسخ الدليل الشرعي فيه وان كان متناولا لحكم في عين واحدة
ويفارق التخصيص في ذلك وفي الناس من شرط في ذلك الا يكون لفظه مقيدا مقتضيا للتأبيد
فقال لو قال الله تعالى افعلوا الصلاة ابدا لما ساغ نسخه وانما يجوز إذا اطلق ذلك وهذا بعيد لان لفظ
التأييد عندنا في الامر لا يقتضى الدوام على ما تعورف؟ استعماله لان قول القايل لغيره لازم غير مك ابدا
ولأنبه تعلم العلم ابدا لا يقتضى عندهم الدوام ويفارق ذلك حال الخبر الذي يتناول ما يصح الإدامة
فيه على ان الصحيح في الخبر أيضا انه لا يفيد الإدامة ولاجل ذلك يمنع أصحاب الوعيد من التعلق
بآيات الوعيد المتضمنة للفظ التأبيد وإذا لم يقتض ذلك فكيف المنع من نسخه في ذلك ولو انه تناول
ما قال لم يمنع ذلك من نسخه لأنه كان يدل على انه لم يرد باللفظ ما وضع له فيجرى النسخ في ذلك مجرى
التخصيص ومن شرط النسخ الا يقع الا في الاحكام الشرعية دون أجناس الافعال وضروبها
لأنه انما ينسخ عنا الفعل الذي وجب بأن يبين ان أمثاله ليست بواجبة والفعل المحظور يبين
ان أمثاله غير محظورة وليس من شرطه ان يكون للحكم المنسوخ بدل في الاحكام الشرعية على ما زعم
27

بعضهم وذلك ان ما دل على ان مثل الحكم الثابت بالنص الأول ساقط في المستقبل يكون ناسخا له وان سقط
لا إلى حكم اخر بل عاد حاله إلى ما كانت عليه في العقل وعلى هذا الوجه نسخ الله تعالى الصدقة بين يدي مناجاة
الرسول (ع) بقوله أشفقتم ان تقدموا بين يدي نجويكم صدقات فاسقط لا إلى بدل فكذلك اسقط ما زاد
على الاعتداد على أربعة اشهر وعشرا عن المتوفى عنها زوجها لا إلى بدل ولان زوال الحكم إلى بدل
لم يكن نسخا لأجل البدل وانما كان منسوخا لزواله فلا فضل بين زواله إلى بدل والى غير بدل وكذلك
وصف صوم عاشورا بأنه منسوخ وان كان صوم رمضان لا يجوز أن يكون بدلا منه لجواز وجوبه مع
وجوبه وارتفاع التنافي بينهما فاما نسخ الحكم ببدل فقد يقع على وجوه منها ان يسقط وجوبه إلى
الندب نحو نسخه ثبات الواحد للعشرة إلى اثباته للاثنين لان ثباته للعشرة مندوب إليه وكذلك نسخ
وجوب قيام الليل فجعله ندبا وقد يسقط وجوبه إلى وجوب غيره وذلك على ضربين أحدهما ان
يسقط الواجب المخير فيه إلى واجب مضيق وذلك نحو نسخ التخيير بين الصوم والفدية بحتم الصوم
بقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه وقد يسقط الواجب إلى الإباحة نحو سقوط وما وجب الله تعالى
من ترك الاكل والمباشرة في ليال الصوم إلى إباحة ذلك وقد يسقط المحظور إلى المباح نحو ما روى
عنه عليه السلام انه قال نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وادخار لحوم الأضاحي الا فادخروها فعلى
هذا يجب أن يجرى الباب وليس من شرط نسخ الحكم الا يقع الا بما هو أخف منه أو مثله على ما يذهب
عليه بعض أهل الظاهر وذلك ان الله تعالى انما ينسخ الحكم بغيره إذا علم ان صلاح المكلف في الثاني وقد
يجوز أن يكون صلاحه فيما أشق من الأول كما يجوز أن يكون صلاحه فيما هو أخف فإذا صح ذلك ولم
يكن الامر في التكليف موقوفا على اختيار المكلف لكنه بحسب المعلوم فكيف يمنع من جواز نسخ
الشئ مما أشق منه وهل يذهب ذلك الا على من لا يعرف أصل هذا الباب ولا فرق بين من قال هذا
وبين من قال لا يجوز أن يكلف الله ابتدأ ما يشق على ما يذهب إليه قوم من التناسخية والقرامطة
وقد ورد النسخ بذلك الا ترى ان قوله وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين اقتضى كون المكلف
مخير في الصوم حتم ذلك وألزمه مع ما فيه من زيادة المشقة على التخيير ونسخ عن الزاني المحصن الحد
المذكور في القران بالرجم مع ما فيه من زيادة الألم عند من لم يقل بالجمع بينهما على ان ما قالوه يقتضى
ضد قولهم في الحقيقة لأنه نسخ الحكم بما هو أشق منه كان مؤديا إلى ثواب زايد على ما يؤدى إليه الأخف
صار في الحقيقة أخف عليه وانفع له لعظم النفع الذي فيه ومن منع من ذلك فكأنه منع من ان
يعرض الله تعالى المكلف لتكليف زايد يؤديه إلى زيادة ثواب وهذا جهل فاما تعلقهم بقوله تعالى
الان خفف الله عنكم وعلم ان فيكم ضعفا وانه نبه على ان من حق النسخ أن يكون تحقيقا وبأن
النسخ مأخوذ من الإزالة فكلما كان اذهب في الإزالة كان من شرطه فيجب الأنسخ بما هو أشق منه فما
28

بيناه من ان النسخ تابع للمصلى يسقط جميع ذلك ويعارض قوله تعالى ما ننسخ من اية أو ننسها نأت بخير
منها أو مثلها لان هذه الآية تدل على ما يأتي به أشق من الأول أو في حكم الأشق حتى يصح أن يكون
خيرا منها ولم يمنع ذلك من جواز نسخ الشئ بأخف منه فكذلك القول فيما تعلقوا به من الآية واما
البداء فحقيقته في اللغة هو الظهور ولذلك يقال بدا لنا سور المدينة وبدا لنا وجه الرأي
وقال الله تعالى وبدا لهم سيئات ما عملوا وبدا لهم سيئات ما كسبوا ويراد بذلك كل ظهر وقد يستعمل ذلك في العلم بالشئ
بعد ان لم يكن حاصلا وكذلك في الظن فاما إذا أضيفت هذه اللفظة إلى الله تعالى فمنه ما يجوز اطلاقه
عليه ومنه ما لا يجوز فاما ما من ذلك فهو ما أفاد النسخ بعينه ويكون اطلاق ذلك عليه على ضرب
من التوسع وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين عليهما السلام (وهما امام محمد باقر وامام جعفر الصادق (ع)) من الاخبار المتضمنة لإضافة
البداء إلى الله تعالى دون ما لا يجوز عليه من حصول العلم بعد أن يكن ويكون وجه اطلاق ذلك فيه تعالى
والتشبيه هو انه إذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهرا لهم ويحصل لهم العلم
به بعد ان لم يكن حاصلا لهم اطلق على ذلك لفظ البداء وذكر سيدنا الاجل المرتضى قدس الله روحه
وجها اخر في ذلك وهو ان قال يمكن حمل ذلك على حقيقته بأن يقال بداله تعالى بمعنى انه ظهر له من الامر
ما لم يكن ظاهرا له وبدا من النهى ما لم يكن ظاهرا له لان قبل وجود الامر والنهى لا يكونان ظاهرين مدركين وانما يعلم انه يأمر أو ينهى في
المستقبل فاما كونه آمرا أو ناهيا فلا يصح ان يعلمه الا إذا وجد الامر والنهى وجرى ذلك مجرى أحد
الوجهين المذكورين في قوله تعالى ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم بان نحمله على ان المراد به حتى نعلم
جهادكم موجودا موجودا لان قبل وجود الجهاد موجودا وانما نعلم كذلك بعد حصوله فكذلك القول في البداء
وهذا وجه حسن جدا واما ما لا يجوز اطلاقه عليه تعالى هو أن يأمر تعالى المكلف بنفس ما نهاه عنه على
الوجه الذي نهى عنه في الوقت الذي نهاه عنه وانما شرطنا هذه الوجوه كلها لان المنهى عنه لو كان
غير المأمور به لم يمتنع ان تقتضي المصلحة الامر به والنهى عن مثله فكان لا مدخل له في البداء ولان
النهى لم تعلق به على غير الوجه الذي تناوله الامر كان حسنا نحو ان يأمر الله بالصلاة على وجه العبادة
له تعالى وينهى عنها على وجه العبادة للشيطان وانما شرطنا الوقت الواحد لان المأمور به في وقت لو نفى
عنه في وقت اخر وصح وقوعه لكان ذلك حسنا في الحكمة كما يصح ان يحسن من الله فعل الجسم في بعض
الأوقات وان كان لو فعله بعينه في وقت اخر وقد أفناه لم يمتنع أن يكون قبيحا وانما يقبح ذلك لا لأنه
يدل على البداء لكن لأنه تكليف ما لا يطاق لان ما يصح ان نفعله في وقت لا يصح ان نفعله في وقت
اخر لاختصاص مقدور القدر بالأوقات على ما دل عليه الدليل وانما جعلنا المأمور به هو المنهى
لأنه لو صح كون المقدور الواحد لقادرين لم يمتنع امر أحدهما به ونهى الاخر عنه على بعد ذلك و
انما قلنا ان ما اجتمع فيه هذه الشرايط لا يجوز على القديم تعالى لأنا قد بينا ان الله تعالى انما يأمر العبد
29

بالشئ لتعلق المصلحة به وينهاه لتعلق المفسدة به ومحال في الشئ الواحد في الوقت الواحد أن يكون
مصلحة ومفسدة واما نسخ الشريعة فمخالف لما قدمناه لأنا قد بينا في حده انه اسقاط الحكم الذي
تناوله النص المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه وذلك يقتضى ان المأمور به غير المنهى
عنه وان وقت المنهى غير وقت المأمور به وهذا بين وقد بينا أيضا الفرق بين النسخ والتخصيص و
ذكرنا ان تخصيص العموم هو ما دل على انه لم يرد به الا بعض ما تناوله اللفظ وانه لا يصح دخوله مما لم
يتناوله لفظ الخصوص والنسخ بخلافه وبينا أيضا ان شروطهما واحكامهما تختلف لان النسخ يصح
فيما يصح التخصيص فيه ويصح التخصيص فيما لا يصح النسخ به وذلك واضح والذي يعتمد في
هذا الباب ان النسخ والتخصيص جميعا يتناولان الافعال دون الأعيان والأوقات والأحوال على
خلاف ما يدعيه بعض من يتكلم في هذا الباب لان التخصيص يدل على انه لم يرد بالعموم ما لولاه
لكان يدل على انه مراد وكذلك النسخ والذي يريده المخاطب الحكيم هو الافعال دون الأعيان والأوقات
لان الأعيان لا يصح ان يراد والأوقات لا يحتاج إلى ارادتها لأنها ليست متعلقة بالتكليف وكذلك
الأحوال فإذا صح هذا صح ما قلناه وانما يقال ان التخصيص يخص الأعيان ويراد به انه أريد بالعموم الفعل
من بعض الأعيان دون بعض أو في بعض الأوقات دون بعض فيرجع التخصيص في التحقيق إلى الافعال
لكنها لما كانت تقع من الأعيان في الأوقات وجب ان تذكر فان لم تكن هي المراد بالكلام وهذا
هو الذي يجب الاعتماد عليه دون غره لان الكلام على المعاني دون العبارات فصل
في ذكر ما يصح معنى النسخ فيه من افعال المكلف وما لا يصح وبيان شرايطه افعال المتكلف على ضربين
أحدهما لا يصح معنى النسخ والاخر يصح ذلك فيه فالذي لا يصح معنى النسخ على ضربين أحدهما
لا يصح ذلك فيه لان الصفة التي يقع عليها الفعل لا يجوز خروجه عنها ولا حصول ضدها فيه
وذلك مثل وجوب الانصاف وشكر المنعم وقبح الكذب والجهل وغير ذلك من الواجبات العقلية
التي لا يجوز خروجها عن كونها على تلك الصفة فما يكون كذلك لا يصح معنى النسخ فيه لان من المحال
ان يكون الانصاف مع كونه انصافا وشكر النعمة مع كونها شكرا للنعمة يخرجان من كونهما واجبين
وكذلك لا يصح ان يخرج الجهل والكذب عن القبح إلى الحسن فعلم بذلك ان معنى النسخ لا يصح في جميع
ذلك وذهب المعتزلة إلى ان معنى النسخ يصح في شكر النعمة لأنه يجوز ان يفعل المنعم من الإساءة ما يوفى على النعمة فيبطل الشكر عليها وذلك يصح على مذهبهم في الاحباط لا على ما نذهب إليه
من فساد القول بالاحتياط لان بالإساءة عندنا لا يبطل شكر النعمة وانما يستحق بها الذم والعقاب
فيمن يصح ذلك فيه لا غير والقسم الاخر لا يصح معنى النسخ فيه لأنه لا يصح خروجه عن كونه لطفا
وذلك نحو وجوب المعرفة بالله تعالى وصفاته ونحو وجوب الرياسة التي توجبها عقلا فإنه
30

لا يصح خروج ذلك اجمع عن كونها لطفا فإذا لا يصح معنى النسخ فيها أصلا فاما ما يصح معنى النسخ
فيه فهو كل فعل يجوز أن يتغير من حسن إلى قبح فيقع على وجه فيكون حسنا وعلى اخر فيكون قبيحا ويقع
في وقت فيكون حسنا وفي اخر فيكون قبيحا ويقع من شخص فيكون حسنا ومن اخر فيكون قبيحا وذلك
نحو المنافع والمضار واعتبار في ذلك بجنس الفعل بل الاعتبار في ذلك بالوجوه التي يقع عليها الفعل
وعلى ذلك جميع الشرعيات لأنها قد تكون واجبة في وقت دون اخر وعلى شخص دون غيره وعلى وجه دون
اخر الا ترى ان القعود في موضع مباح قد يكون حسنا ثم يعرض فيه وجه قبح بأن يخاف سبعا أو لصا
أو وقوع حايط عليه وما شاكله فيصير العقود (القعود) نفسه قبيحا ولما ذكرناه اختلفت الشرايع ودخل
النسخ فيها واختص بعض المكلفين بما لم يشركه فيه غيره وذلك ان الامساك في السبت كان واجبا
في شرع موسى (ع) ثم صار قبيحا في شرع نبينا (ع) وغير ذلك وغير ذلك من الشرايع ويجب على
الحايض ترك الصلاة والصوم ولا يجب ذلك على غيرها بل يكون ذلك قبيحا منه فعلى هذا
ينبغي أن يجرى هذا الباب فاما النسخ في الاخبار فقد اختلف العلماء في ذلك فذهب أكثر من تكلم
في أصول الفقه من المعتزلة وغيرهم وهو مذهب أبي على وأبي هاشم إلى النسخ في الاخبار لا يجوز وعللوا
ذلك بأن قالوا تجويز ذلك في اخبار الله تعالى يوجب أن يكون أحد الخبرين كذبا وفصلوا بينه و
بين الامر والنهى وذهب أبو عبد الله البصري وصاحب العمد وهو الذي اختاره سيدنا المرتضى إلى
ان ذلك يجوز ولا فرق بين الخبر والامر والنهي في هذا الباب والذي ينبغي أن يحصل في هذا الباب ان
الاخبار على ضربين أحدهما يتضمن معنى الامر والنهى والاخر يتضمن ذلك بل يكون خبرا محضا عن
صفة الشئ في نفسه فما يكون معناه معنى الامر أو النهي فإنه يجوز دخول النسخ فيه لأنه لا فرق بين
ان يقول صلوا الجمعة والجمعة وبين أن يقول صلاة الجمعة يوم الجمعة واجبة في انه يجب في الحالين
الصلاة ومع ذلك يجوز معنى النسخ فيه بأن تخرج الصلاة من كونها واجبة وقد ورد القران
بمثل ذلك قال الله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وقال الطلاق مرتان وقال
من دخله كان امنا وقال ولله على الناس حج البيت وكل ذلك خبر الا انه لما كان معناه
معنى الامر جاز دخول النسخ فيه لجواز تغيره من حسن إلى قبح اما ما لا يكون معناه معنى الامر
أو النهي وهو الذي يتضمن خبرا محضا عن صفة الشئ في نفسه فهو على ضربين أحدهما ان لا
يجوز تغير موصوف تلك الصفة عما هي عليه فما يكون كذلك يجوز معنى النسخ في الاخبار عنه فاما
الانتقال إلى ضده فلا يجوز لان ذلك جهل وذلك نحو الاخبار عن صفات الله تعالى ووحدانيته فإنه
يجوز أن يتعبد تارة بالاخبار عن ذلك وتارة ينسخ عنا الاخبار عنها ولا يجوز أن يتعبد بالاخبار
عن ضدها لان ذلك جهل على ما قدمناه والضرب الاخر هو ما يجوز انتقاله عن تلك الصفة
31

فإنه لا يمتنع ان يتعبد بالاخبار عن تلك الصفة ما دام الموصوف عليها فإذا انتقل إلى غيرها يتعبد
بالنهي عن أن يخبر عمالنا ان تخبر به لتغير المخبر في نفسه وهذه جملة كافية في هذا الباب وشرحها يطول
وفيما ذكرناه ومقنع ان شاء الله فاما شرايط ان يأمر المكلف بنفس ما نهى عنه فهي انه يأمره به على
غير الوجه الذي نهاه عنه وذلك نحو نهيه تعالى المكلف أن يصلى الصلاة عبادة للشيطان و
امره إياه بان يفعلها عباده له تعالى ونحو امره تعالى بالاخبار عن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله ونهيه عن نبوة
غيره وانما قلنا ان الامر بالشئ والنهى عنه على هذا الوجه يكون قبيحا لان ذلك يدل على البداء
على ما قدمنا القول فيه ويؤدى إلى أن يكون الامر به قبيحا ان كان المأمور به قبيحا إلى وأن يكون النهى
عنه قبيحا ان كان الفعل حسنا فكذلك لا يجوز أيضا ان يأمر بالشئ وينهى عنه بعينه في وقتين لان
ذلك تكليف ما يطاق لان مقدور المكلف في أحد الوقتين لا يصح ان يفعله في الوقت الاخر
فمتى نهاه عن الوقت الاخر فقد نهاه عما لا يقدر عليه وذلك قبيح وكذلك لا يجوز أن يأمر زيد بشئ
الذي نهى عنه عمرو لان كونه مقدورا لأحدهما يمنع من كونه مقدورا للاخر وكذلك لا يحسن ان يؤمر بالشئ
على وجه يحسن عليه وينهى عنه على وجه اخر يحسن أيضا عليه لان ذلك يقتضى قبح النهى عن الحسن قبيح فاما النهى من غير المأمور به فلقد يحسن أيضا
على وجوه منها ان يأمر زيد بمثل ما نهى عنه عمروا لان ما يقع حسنا من زيد لا يمتنع ان يقع من عمرو
قبيحا وذلك نحو امر الله تعالى الطاهر بالصلاة ونهيه الحايض عنها وهذا على ضربين أحدهما ان
يقع منهما على وجه واحد والاخر ان يقع منهما على وجهين والحال فيهما سواء ومنها ان يأمر عز وجل
زيدا في الثاني بمثل ما نهاه عنه في الأول فيحسن لان كونه قبيحا في الأول لا يمنع من وقوعه حسنا
في الثاني ونسخ الشريعة على هذا الوجه ولا فصل في ذلك بين أن يقع في الوقت الثاني على الوجه
الذي وقع في الأول وبين أن يقع على غير ذلك الوجه فاما نهى زيد عن مثل ما امر به في وقت واحد
فإنما لا يحسن لأنه يبعد ان يكون الفعلان المثلان الواقعان منه على وجه واحد يختلف معهما في
الصلاح فيكون أحدهما مصلحة والاخر مفسدة وقد يصح الامر بالشئ والنهى عن غيره على وجوه اخر
وكذلك الامر بغير ما وقع الامر والنهى عن مثل ما وقع النهى عنه ولم يذكر ذلك لان الغرض بيان ما
يحسن من ذلك ليبين بذلك ان نسخ الشريعة منها وهذه جملة في هذا الباب فصل في ذكر
جواز نسخ الشرعيات الخلاف المعروف في هذه المسألة مع اليهود وقد حكى حكاية عمن لا يعتد بقوله
من أهل الصلاة الامتناع من نسخ الشرايع وقوله مطرح لا يلتفت إليه واليهود على ثلث
فرق أحدها يمنع من نسخ الشرايع عقلا والفرقة الثانية يجوز النسخ عقلا وتمنع منه سمعا
والفرقة الثالثة يجوز النسخ عقلا وسمعا وانما تنكر نبوة نبينا لان ما يدعى له من المعجزات عندهم
ليست بدلالة وإذا بين الدلالة على نبوة نبينا (ع) بالمعجزات الظاهرة على يده من القران وغيره
32

من الاياب (الآيات) التي ظهرت على يده ودل على وجه الاعجاز منها ثبت نبوته (ع) وإذا ثبت نبوته بطل قول من منع
من النسخ سمعا وقول من انكر نبوته (ع) وإذا جاز ذلك عقلا وسمعا وكذلك يبطل بصحة نبوته (ع) قول
من منع من النسخ عقلا غير انا نبين انما يدعونه من الشبهة العقلية باطل ليعلم بذلك ان الذي
تعلقوا به غير صحيح وانه لو لم يثبت نبوة نبينا (ع) ولا نبوة أحد من الأنبياء عليهم السلام لكان ما
ذكرناه جايزا سايغا وليس هذا موضع الكلام في النبوة وكنا ندل عليه وهو مذكور في كتب الأصول مستقصا
والذي يدل على جواز النسخ من جهة العقل هو انه ثبت ان العبادات الشرعيات تابعة للمصالح و
لكونها ألطافا في الواجبات العقلية ولولا ذلك لما وجبت على حال وانما قلنا ذلك لان الشئ لا يجب بايجاب
موجب وانما يجب لصفة هو عليها يقتضى وجوب الشئ وانما يدل ايجاب الحكيم له على ان له صفة
الوجوب لا بل يصير واجبا بايجابه لان ايجاب ما ليس له صفة الوجوب يجرى في القبح مجرى ايجاب الظلم
والقبيح أو اباحتهما وقد علم قبح ذلك وإذا ثبت هذه الجملة فلا يخلو وجوب هذه العبادات ان يكون
عقليا أو ما يدعيه من كونها مصالح وألطافا فلو كان وجه وجوبها عقليا لوجب أن يعلم بالعقل
وجوب هذه العبادات كما علم وجوب جميع الواجبات العقلية من وجوب شكر المنعم ورد الوديعة
وقضاء الدين والانصاف وغير ذلك لما كان وجه وجوب هذه الأشياء بيانا في العقل وقد علمنا
انا لا نعلم بالعقل وجوب الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا غير ذلك من العبادات التي جاءت الشرايع
بها بل لا يحسن فعلها بالعقل وإذا بطل أن يكون وجه وجوبها عقلا ثبت انها انما تجب لكونها
ألطافا ومصالح وإذا ثبت ذلك فلا يمتنع ان تتغير المصالح فيصير ما كان داعيا إلى فعل الواجب صارفا
عن فعله أو يصير داعيا إلى فعل القبيح وما يكون مصلحة لزيد لا تكون مصلحة لعمرو وما يكون
مصلحة في وقت يصير مفسدة في وقت اخر وذلك يوجب النسخ والأقبح التكليف فان قيل ولم
لا يجوز أن يكون وجه وجوب هذه العبادات هو ان لنا فيها ثوابا دون كونها ألطافا قيل له الشئ
لا يجب من حيث كان فيه ثواب لأنه لو كان كذلك لكانت النوافل كلها واجبة ولم يكن فرق بينها
وبين الواجبات فلابد من القول بما قلناه من انها انما وجب لكونها ألطافا وانما قلنا بذلك لان
ما يقع عنده الواجب ولولاه لم يقع يجب كوجوبه لا محالة وقد ورد القران أيضا منبها على ما قلناه
قال الله تعالى ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فبين انها انما وجبت من حيث كانت صارفة
عن فعل القبيح وقال في تحريم الخمر انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر
ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فبين ان وجه قبحها كونها صادة عن ذكر الله وموقعة
للعداوة والبغضاء وذلك يبين صحة ما قلناه فإذا صح ما قلناه حسن من الله تعالى ان يأمر
بالحسن امرا مطلقا فإذا تغير وجه الحسن فيه إلى وجه القبح نهى عنه وذلك هو النسخ الذي قلناه
33

وقد تعلق من خالف في ذلك بأشياء منها ان قالوا ان ذلك يؤدى إلى البداء ومنها ان يؤدى إلى
كون الحسن قبيحا ومنها انه يقتضى استحقاق الثواب على ما يستحق به العقاب والوعيد على ما يستحق
به الوعد ومنها انه إذا اطلق الامر دل على حسن المأمور به ابدا فلو نهى عنه لا انتقضت دلالته
على ذلك ومنها انه إذا اطلق الامر اقتضى حسن المأمور به ابدا لأنه لو كان حسنا إلى وقت ليبين
ذلك الوقت كما يجب ان يبين خصوص العام وتفسير المجمل والا كان الخطاب قبيحا فإذا لم يبين دل على
ان الفعل حسن ابدا وإذا كان حسنا ابدا فالنهي عنه قبيح ومنها إذا اطلق الامر بفعل وجب اعتقاد
لزوم المأمور به ابدا والعزم على فعله دائما والنهى عنه يقتضى كون العزم والاعتقاد قبيحين ومنها
انها إذا اطلق الامر وغرضه في الخطاب افاده المخاطب فلولا ان المأمور به يلزم ابدا ليبين له ولما أبهم
له ما امره به لان ذلك تلبيس ومنها إذا امر بالشئ مطلقا دائما فلو جوزنا النهى عنه لأدى إلى ان لا
يوصف بالقدرة على ان لا يخاطبنا بخطاب يقتضى الدوام ويقطع عليه فهذه الوجوه أقوى ما
يتعلقون به ونحن نجيب عن واحد واحد منها على وجه يزول معه الشك انشاء الله تعالى والجواب عن
الشبهة الأولى والثانية والثالثة شئ واحد وهو انا قد بينا فيما مضى ان النسخ الذي نجيزه
هو أن يكون النهى متناولا لمثل ما تناوله الامر لا لعين ما تناوله وذلك يبطل قولهم انه يؤدى إلى البداء
ويبطل قولهم انه يؤدى إلى كون الحسن قبيحا لان الحسن غير القبيح على قررناه ويبطل أيضا قولهم انه
يستحق العقاب بما يستحق به الثواب لان على التقرير الذي قررناه ما استحق به الثواب غير الذي يستحق
به العقاب والجواب عن الشبهة الرابعة وهي قولهم ان الامر باطلاقه يدل على حسن المأمور به ابدا فلو نهى
عنه لا انتقضت دلالته على ذلك فهو ان الامر عندنا لا يقتضى التكرار بمجرده وانما يقتضى
الفعل مرة واحدة فعلى هذا أسقطت الشبهة فان اقترن باللفظ قول الامر افعل ابدا فلفظ التأبيد (التأبيد)
لا يفيد الدوام على كل حال لان هذه اللفظة تستعمل في ما لا يرد الدوام الا ترى ان القايل يقول الزم
فلانا ابدا أو امض في طلب العلم ابدا أو اتجر ابدا وغير ذلك ونحن نعلم انه لا يراد بجميع ذلك الدوام لأنه
لا بد من انقطاع المأمور به وان اقرن باللفظ دليل يدل على ان المراد التكرار فذلك أيضا لا يدل
على الدوام لأنه انما يقتضى تكرار الفعل ما دام مصلحة فاما إذا تغيرت فلا يقتضيه لان دلالة
السمع تترتب على دلالة الفعل ومعلوم بالعقل ان الله تعالى انما يأمرنا بالفعل ما دام مصلحة لنا
فإذا صار مثله مفسدة وجب أن ينهى عنه ويجرى ذلك مجرى ما علم بالعقل انه يأمر بالفعل
ما دمنا قادرين فإذا عجزنا عنه سقط التكليف عنا فإذا ثبت ذلك كان امره تعالى مرتبا على دليل
العقل ويصير ذلك في حكم المنطوق به وإذا ثبت ما قلناه فقولهم ان النهى ينقض دلالة الامر كقول
القايل ان العجز المزيل للزوم المأمور به ينقض دلالة الامر وذلك بين الفساد والجواب عن الشبهة الخامسة
34

وهى انه إذا اطلق الامر فلو كان المراد به إلى وقت لبينه كما يجب بين الخصوص والمجمل فهو ان الامر انما يجب
أن يبين ما قصد بالامر إليه وما لا يصح مع عدم بيانه إذ المأمور به من المكلف فاما ما عداه فلا يجب
بيانه في الحال وقد علمنا ان المكلف متى بين صفة ما امر وأمكنه أداؤه على الوجه الذي كلفه و
ان لم يبين له الوقت الذي يزول وجوب ذلك فيه ولا يصح منه أداء المأمور به بالخطاب المجمل
الا بعد البيان وكذلك القول في تخصيص العموم فلذلك ساغ تأخير بيان النسخ عن أحال الخطاب وامتنع
ذلك في تخصيص العام وبيان المجمل والشاهد يشهد بصحة ما قلناه ولان السيد لو امر غلامه
يأخذ وظيفة له في كل يوم وفي نيته إلى غاية لم يجب ان يبينها له وان كان لابد من أن يبين له
صفة الوظيفة التي امره فاخذها وهذا بين والجواب عن الشبهة السادسة وهي قولهم إذا اطلق
الامر فقد أوجب اعتقاد لزوم المأمور به ابدا والعزم على فعله ابدا والنهى يقتضى كونهما قبيحين
فهو ان الامر إذا أورد فإنما يجب أن يعتقد المأمور فعله ما دام مصلحة والعزم على فعله على هذا
الشرط وورود النهى عن أمثاله لا يؤثر في ذلك هذا إذا كان الخطاب في حال يجوز فيها النسخ فاما
بعد انقطاع الوحي فيجب أن يعتقد فعل ذلك ويعزم عليه ما دام على صفة يلزمه ففي الحالين
لابد من دخول الشرط في العزم والاعتقاد وان كان في أحد الحالين مشترطا شيئين وفي الحال الأخرى
بوجه واحد والجواب عن الشبهة السابعة وهي قولهم إذا اطلق الامر وغرضه إفادة المخاطب فلو لم
يلزم المأمور به ابدا لبين لأنه لا يجوز أن يقصد التلبيس فإذا لم يبين علم دوامه فهو أن يقال لهم أليس الامر
لم يبين الوقت الذي يزول فيه التكليف فلابد من يعم (يعمه خ ل) فيقال له أفتنسبه إلى انه ليس فان قال نعم التزم
ما أراد إلزامنا وان قال لا لأنه قد دل من جهة العقل عليه في الجملة قيل له وكذلك قد دل على جواز النسخ من
جهة الفعل في الجملة على انه انما يقال ليس إذا لم يبين ما يجب بيانه ويحتاج المكلف إليه فيما كلف
واما إذا لم يبين ما ليس هذه حاله والمعلوم انه سيبينه في حال الحاجة فالتلبيس زائل والجواب عن
الشبهة الثامنة وهي قولهم ان امره بالشئ مطلقا لو لم يمنع من النسخ لما كان موصوفا بالقدرة
على ان يدلنا على تأبيد العبادة إلى وقت زوال التكليف فهو انه يصح ان يعرف ذلك بأن يضطر
إلى قصد الرسول (ع) فيه كما اضطررنا إلى قصده في ان شرعه دائم وفي انه لا نبي بعده ويجوز أن يعرف
ذلك بانقطاع الوحي أيضا ويعرف الرسول (ع) بأن يعرف صلاح أمته في هذا الشرع ما داموا مكلفين
على انه لو لم يصح ان يعرف ذلك على التفصيل وقد عرفنا على حمله لعلمنا انه ما دام صلاحا لنا
فلابد من أن يلزمنا لما اثر فيما نقوله على انا نعلم ان المأمور به لا يجوز دوام لزومه لان ماله يحسن من الله
تعالى الزامه انما يقتضى انقطاعه وهو استحقاق الثواب عليه ولذلك يعلم انه انما يلزم ما دام صلاحا
ولا حاجة بنا إلى علم اخر لا يفتقر التكليف إليه وهذا واضح وقد استدل الخلف على جواز النسخ بما يفعله
35

القدير تعالى من الأمراض بعد الصحة والفقر بعد الغنى وانه إذا جاز أن يختلف بحسب مصالح العباد
فكذلك ما يكلفونه (ما ينفونه خ ل) وهذا قريب وان كان الأول هو الأصل فاما من أبى النسخ من أهل الصلاة فما قدمناه يبطل
قوله ويبطله أيضا وقوع النسخ في شريعتنا بلا ارتياب لأنه لا خلاف بين الأمة ان القبلة كانت إلى بيت
المقدس وانه نسخ ذلك بالتوجه إلى الكعبة وكذلك نسخ الحول في عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة اشهر
وعشرا ونسخ أيضا تقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول وكذلك نسخ وجوب ثبات الواحد للعشرة (بثبات) الواحد للاثنين
ونظائر ذلك كثير فلا معنى للاكثار فيه وهذه جملة كافية في هذا الباب فصل في ذكر جواز
نسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دون الحكم جميع ما ذكرناه جائز دخول النسخ فيه لان التلاوة
إذا كانت عبادة والحكم عبادة أخرى جاز وقوع النسخ في إحديهما مع بقاء الاخر كما يصح ذلك في كل
عبادتين وإذا ثبت ذلك جاز نسخ التلاوة دون الحكم والحكم دون التلاوة فان قيل كيف يجوز
نسخ الحكم مع بقاء التلاوة وهل ذلك الا نقض لكون التلاوة دلالة على الحكم لأنها إذا كانت دلالة على
الحكم فينبغي أن يكون دلالة ما دامت ثابتة والا كان نقضا على ما بيناه قيل له ليس ذلك نقضا لكونها
دلالة لأنها انما تدل على الحكم ما دام الحكم مصلحة واما إذا تغير حال الحكم وخرج من كونه مصلحة إلى
غيره لم يكن التلاوة دلالة عليه وليس لهم أن يقولوا لا فايدة في بقاء التلاوة إذا ارتفع الحكم
وذلك انه لا يمتنع ان يتعلق المصلحة بنفس التلاوة وان لم يقتض الحكم وإذا لم يمتنع ذلك جاز بقائها
مع ارتفاع الحكم وليس لهم ان يقولوا ان هذا المذهب يؤدى إلى انه يجوز أن يفعل جنس الكلام بمجرد
المصلحة دون الإفادة وذلك مما تأبونه لأنا انما نمنع في الموضع الذي أشاروا إليه إذا أخلا الكلام
من فايدة أصلا وليس كذلك بقاء التلاوة مع ارتفاع الكلام لأنها إفادة في الابتداء تعلق الحكم بها و
قصد بها ذلك وانما تغيرت المصلحة في المستقبل في الحكم فنسخ وبقى التلاوة لما فيها من المصلحة
وذلك يخالف ما سأل السائل عنه واما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فلا شبهة فيه لما قلناه من جواز
تعلق المصلحة بالحكم دون التلاوة وليس لهم أن يقولوا ان الحكم قد ثبت بها فلا يجوز مع زوال التلاوة
بقائه وذلك ان التلاوة دلالة على الحكم فليس في عدم الدلالة عدم المدلول عليه الا ترى ان انشقاق
القمر ومجرى الشجرة دال على نبوة نبينا ولا يوجب عدمهما خروجه (ع) من كونه نبيا صلى الله عليه وآله كذلك القول
في التلاوة والحكم ويفارق ذلك الحكم العلم الذي يوجب عدمه خروج العلم من كونه عالما لان
العلم موجب لا انه دال واما جواز النسخ فيهما فلا شبهة أيضا فيه لجواز تغير المصلحة فيما وقد ورد
النسخ بجميع ما قلناه لان الله تعالى نسخ اعتداد الحول بتربص أربعة اشهر وعشر أو نسخ التصدق
قبل المناجاة ونسخ ثبات الواحد للعشرة وان كانت التلاوة باقية في جميع ذلك وقد نسخ ابقاء
التلاوة وبقى الحكم على ما روى من اية الرجم من قوله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله
36

وان كان ذلك مما أنزله الله والحكم باق بلا خلاف وكذلك روى تتابع صيام كفارة اليمين في قراءة عبد الله
بن مسعود لأنه قد نسخ التلاوة والحكم باق عند من يقول بذلك واما نسخهما معا فمثل ما روى عن
عايشة انها قالت كان فيما أنزله تعالى عشرة رضعات يحرمن ثم نسخت بخمس فجرت بنسخة تلاوة وحكما
وانما ذكرنا هذه المواضع على جهة المثال ولو لم يقع شئ منها لما أخل بجواز ما ذكرناه وصحته لان الذي
أجاز ذلك ما قدمناه من الدليل وذلك كاف في هذا الباب فصل في نسخ الشئ قبل وقت فعله
ما حكمه اختلف العلماء في ذلك فذهب طايفة من أصحاب الشافعي وغيرهم إلى جواز نسخ الشئ قبل
وقت فعله والى ذلك كان يذهب شيخنا أبو عبد الله وذهب المتكلمون من المعتزلة وأكثر أصحاب
أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي إلى ان ذلك لا يجوز وهو الذي يختاره سيدنا المرتضى قدس الله
روحه وهو الذي يقوى في نفسي والذي يدل على ذلك ان القول بجواز ذلك يؤذن إلى أن ينهى
الله تعالى عن نفس ما امر به لأنه إذا امر بشئ بعينه في وقت بعينه ثم نهاه عنه قبل مجيئ الوقت عن ذلك
الفعل بعينه فقد نهاه عن نفس ما امره به وذلك قبيح من وجهين أحدهما ان ذلك الفعل لا يخلو
من أن يكون قبيحا أو حسنا فالامر به قبيح وان كان حسنا فالنهي عنه قبيح وذلك (هذا خ ل) وجب كونه فاعلا
للقبح تعالى الله عن ذلك والوجه الاخر انه يؤدى إلى البداء لأنه لو كان حال ما امر به على ما كان
عليه قبل الاخر لما نهى عنه فدل نهيه على انه قد ظهر له من حاله ما لم يكن ظاهرا أو استتر عنه
ما كان عالما به وكل ذلك لا يجوز عليه تعالى لان البداء إذا لم يجز عليه لم يجز ان يفعل ما يدل على البداء
فان قيل انا انما نجيز ان ينهى قبل الوقت عن مثل ما أمر به لا عنه بعينه فلا يلزم ما ذكرتموه قيل له
ان الامر الأول اقتضى فعلا واحدا في هذا الوقت فإذا نهى عن مثله لم يوصف ذلك بأنه نسخ
أصلا فان قالوا لو اقتضى الفعلين جميعا فكيف كان جوابكم قيل له ان كان أرادهما جميعا بالامر
فإذا نهى عن أحدهما فقد نهى عما امر به وهذا هو الذي أفسدناه آنفا وان كان أراد أحدهما
فهو المأمور به دون الاخر والنهى أنبياء عن انه لم يرد (أراد خ ل) غير هذا الفعل فقط وهذا جايز عندنا
هذا إذا صح الجمع بين الفعلين فاما ان تعذر ذلك فالامر بهما مستحيل الا على وجه التخيير وامر بهما
على وجه التخيير فقد أريدا جميعا والنهى عن أحدهما كالنهي عنهما جميعا في انه نهى عما امر به
فان قال أفيجوز عندكم ان يأمر بالشئ في وقت وينهى عنه قبل وقته عن مثله وان لم يكن
ذلك نسخا قيل له إذا كانا مثلين وواقعين على وجه واحد فبعيد أن يكون أحدهما مصلحة
والاخر مفسدة فلذلك لم يحسن النهى عن مثل ما امر به في وقته فان قالوا انا انما نجوز النسخ
قبل وقت الفعل بأن يأمر الله تعالى بالفعل ويريد منا اعتقاده أو العزم عليه ثم ينهى عن
الفعل بعينه فيكون المنهى عنه غير المأمور به قيل لهم ان الاعتقاد يتبع المعتقد لأنه انما
37

يتناول الشئ على ما هو به حتى يحسن ان يؤمر به لأنه لو كان على خلاف ما هو به لكان جهلا وذلك قبيح
لا يحسن الامر فإذا لابد من أن يكون اعتقاد للشئ على ما هو به وليس يخلو أن يكون متناولا يكون (لكون خ ل)
المعتقد واجبا أو لكونه مرادا أو مأمورا أو يكون اعتقادا لان يفعله وانما قلنا ذلك لأنه لابد من
أن يكون لهذا الاعتقاد معتقد على صفة فان كان اعتقادا لوجوبه فلابد أن يكون المعتقد واجبا
والا كان الاعتقاد جهلا وإذا وجب أن يكون واجبا فالنهي عنه قبيح وكذلك ان كان اعتقادا لكونه
مرادا ومأمورا به وان كان اعتقادا لان يفعله فيجب أن يقطع على أن يفعله لا محالة وذلك لا يصح من
المكلف لأنه يجوز الاحترام دونه فان قال انه امرا بأن يعتقد كونه واجبا بشرط أن لا ينهى عنه لو أن يعتقد
انه يفعل ذلك على هذا الشرط قيل له ان تعلقت بذلك فقل مثل ذلك في نفس الفعل بأن تقول
امر به في الحقيقة بشرط أن لا ينهى عنه فإذا صح أن يتعلق بمثل ذلك في نفس المأمور به فأي حاجة
بك إلى ذكر الاعتقاد وهذا قول يدل على ان قائله لا يعرف ماله يتناول (يتأول خ ل) الامر على المراد به الاعتقاد
وقد بينا من قبل ان الاعتقاد يتبعان المعتقد في الوجوب فلا يصح وجوبهما دونه وفي ذلك اسقاط
سؤاله فان قيل انما نجوز ذلك إذا امر بالشئ وأراد الاختيار ثم نهى عنه في الحقيقة قيل له القديم
تعالى عالم بالعواقب فلا يجوز منه تعالى الاختبار لان ذلك انما يجوز على من لم يعرف حال الشئ
فيختبر هل يطيع المأمور أم لا والقديم تعالى انما يأمر العباد بمصالحهم فكيف يأمرهم بها ولا يريدها
منهم ولو جاز ذلك لجاز في النهى مثله فمن اين لهذا القائل ان النهى هو نهى عن الفعل مع قوله
في الامر انه اختبار فان قال أجوز النسخ قبل الفعل إذا امر تعالى بالفعل في وقت بشرط تبقية الامر
أو بشرط انتفاء النهى فإذا نهى عنه فقد زال الشرط فإذا قد نهى عن الفعل على غير الوجه الذي
قد امر به وهذا كقولهم انه امر بالصلاة عبادة لله ونهى عنه عبادة للشيطان في الجواز قيل له
ان تبقية الامر لا تجوز أن تكون وجها يحسن المأمور به ولا انتفاء النهى فلا يدلان أيضا على كون
الفعل وجه يحسن عليه حتى يقتضى بان في زوالهما خروج الفعل من أن يكون واقعا على ذلك الوجه
فإذا صح ذلك بطل ما سأل عنه وفارق حاله حال الصلاة التي مثل بها ومن حق الامر ان يدل
على كون المأمور به على وجه يحسن امره به فبقاء الامر وانتفاء النهى أو وجوده لا يخل بكونه
على هذه الصفة فإذا صح ذلك فالنهي عنه لا يحسن فان قالوا كما يحسن أن يأمر بالفعل بشرط
أن لا يمنع منه ولا يخترم دونه فكذلك يحسن أن يأمر بشرط أن لا ينهى عنه قيل له ان الذي جعله
أصلا في الفساد مثل ما يثبت عليه لان الامر بما يمنع منه قبيح كما يقبح الامر بما لا يطاق لان مراد الامر عز وجل أن يفعل
المأمور ما امره به من الصلاح فلو لم يكن هذا مراده لقبح ولا يصح أن يكون ذلك مقصده ومع
ذلك يأمره بما يعلم انه يمنعه منه وقد تعلق من خالف في ذلك بأشياء منها قوله يمحو الله
38

ما يشاء ويثبت فأخبر انه يمحو ما يشاء فيجب أن يكون امره بالشئ ثم ازالته عنه بنهي
أو غيره جايزا ومنها ان الله تعالى امر إبراهيم بذبح ولده ثم نسخ عنه قبل الذبح لأنه قال يا بني اني
أرى في المنام اني أذبحك فانظر ماذا ترى ثم قال بعد ذلك وناديناه ان يا إبراهيم قد صدقت
الرؤيا فمنعه من الذبح وفداه بذبح عظيم وهذا هو نسخ الشئ قبل وقت الفعل ومنها ما روى ان
الله تعالى أوجب على نبينا (ع) ليلة المعراج خمسين صلاة ثم أزالها إلى خمس قبل وقت الفعل
قالوا وقد صالح النبي (ع) قريشا على رد النساء ثم نسخه قبل وقت الفعل والجواب عن الأولى انه ليس في
الآية انه يثبت ما محى ويمحو ما أثبت ولا يمتنع عندنا ان يمحو غير ما أثبت ويثبت غير ما محا فأي
تعلق لهم بالظاهر وليس المراد بذلك النسخ لان ظاهره لا يقتضى ذلك وقد قيل انه يمحو ما يشاء مما يثبته
الملك الموكل بالعبد في الصحيفة (في المباحات) ويثبت ما يشاء مما يستحق عليه ثواب أو عقاب وقد قيل في تأويله
غير ذلك مما قد بين في التفاسير والجواب عما تعلقوا به ثانيا من امر الله تعالى إبراهيم (ع) بذبح ابنه فهو انه
انما امر بمقدمات الذبح من الاضجاع واخذ الحديد وشد اليد والرجل وغير ذلك وقد يسمى مقدمة
الشئ باسمه كما يسمى المريض المدنف بأنه ميت فجاز أن يقول انى أرى في المنام اني أذبحك ومراده
ما قلناه ويدل على صحة ذلك ما قدمناه من دليل العقل في انه لا يجوز أن يأمر بالشئ ثم ينسخه قبل
وقت فعله ويدل عليه أيضا قوله قد صدقت الرؤيا فلو كان المراد به الذبح على الحقيقة لكان لا
يكون مصدقا ولما ذبح فدل على أن المأمور ما قدمناه وليس لاحد أن يقول إذا كان الذبح غير
مأمور به فكيف يقول للذبيح فانظر ماذا ترى وهذا كلام جزع وكيف قال ان هذا لهو البلاء
المبين ومقدمة الذبح ليس فيها كل ذلك وكيف فدى بذبح عظيم وليس المأمور به الذبح و
ذلك ان إبراهيم (ع) لما امر بمقدمات الذبح وكان في العادة ان مثل ذلك يراد للذبح ظن انه سيؤمر
بالذبح فلذلك قال ما قال واما الفداء فلا يمتنع أن يكون ذبحا ويكون فداء عن الذي ظن انه
يؤمر به من الذبح أو عن مقدمة الذبح لان الفداء لا يجب أن يكون من جنس ما فدى به الا ترى
ان الهدى يفدى به حلق الرأس وان لم يكن من جنسه وقال قوم انه امر بالذبح على الحقيقة وانه كان
يذبح ثم كان يلتحم ما ذبح إذا تجاوز موضع الذبح فإذا قد فعل ما امر به ولم يسقط عنه وهذا
قريب والأول أقوى فاما من قال انه جعل صفحة عنقه نحاسا فامتنع الذبح عليه فلا يصح
لأنه يقتضى الامر بما يمنع منه وذلك قبيح لا يجوز على الله تعالى على ما قدمنا القول فيه والجواب
عما تعلقوا به ثالثا من الخبر فأول ما فيه انه خبر واحد ولا يجوز أن يتعلق بمثله فيما طريقه العلم
به على انه فاسد من وجوه منها أن يوجب نسخ الشئ قبل أن يعلم المكلف انه مأمور به لأنه في
الحديث انه نسخ عنهم ذلك تلك الليلة ومنها انه يوجب نسخ الشئ وعنهم من حيث أشار به
39

موسى (ع) وسأل به محمدا صلى الله عليه وآله أن يخفف عن أمته والتكليف لا يتعلق باختيار الأنبياء (ع) ولا يؤثر فيه
مسئلتهم التخفيف فيه ومنها ان في الخبر من التشبيه ما يقتضى انه موضوع لا أصل له وان كان
فيه مالا يمتنع أن يكون صدقا والجواب عما تعلقوا به رابعا من أنه نسخ وجوب رد النساء على المشركين
قبل فعله فهو انه (ع) لم يكن شرط لهم أن يرد عليهم النساء ابدا ولا إلى وقت بعينه فنسخ قبل ذلك بل
اطلق ذلك اطلاقا ولا يمتنع أن يكون المصلحة اقتضت امضاء ذلك إلى الوقت الذي نسخه ولو كان
قبل ذلك لم ينسخ ولو هاجرت امرأة قبل ذلك لكان يردها عليهم وهذا لا ينافي ما قدمناه فاما من تعلق
في هذا الباب بنسخ تقديم الصدقة قبل المناجاة فغلط لأنه انما نسخ عز وجل قبل الفعل لا قبل
وقته لأنهم عصوا الا عليا (ع) فلم يفعلوا ما امر الله تعالى به في وقته فنسخ عنهم وهذا جائز عندنا وقد
يتعلق في هذا الباب باخبار آحاد لا يصح التعويل عليها في مثل هذه المسائل أو بشئ ليس بنسخ قبل وقت
الفعل وانما هو نسخ قبل الفعل فينبغي أن يعرف في هذا الباب ويتأمل هو ما يرد منه انشاء الله تعالى
فإنه لا يختل على ضبط أصل هذا الباب فاما الذي يدل على ان النسخ قبل الفعل يجوز على ما قدمنا
القول فيه هو انه متى امر بالفعل في وقت وتقضى وقته فغير ممتنع أن ينهى عن أمثاله كما كان لا يمتنع
أن ينهى عن ذلك لو فعل لان ما ينهى عنه انما ينهى عنه لأنه مفسدة له في التكليف فتقدم فعله لما
امره به أو تركه له لا يؤثر في ذلك ولذلك نسخ تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول (ع) عمن أوجب عليه
وان لم يفعلوه وعصوا فيه وما روى من ان أمير المؤمنين (ع) فعله لا يخرج غيره من أن يكون حاله ما
وصفناه فالتعلق بذلك غير صحيح وانما ذكرنا هذا الفصل عقيب المسألة الأولى لان في المتفقه
من يقول ان النسخ قبل الفعل لا يجوز ويظن ان ذلك يجرى مجرى النسخ قبل وقت الفعل وبينهما من
الفرق ما قدمناه فصل في ان الزيادة في النص هل يكون نسخا أو لا ذهب أبو علي وأبو هاشم إلى
ان الزيادة في النص ليست بنسخ على كل حال وهو مذهب كثير من أصحاب الشافعي ومنهم من قال انه نسخ
إذا كان المزيد عليه قد دل على ان ما عداه بخلافه مثل أن يكون النص ثمانين في حد القاذف يدل
عنده على ان ما فوقه ليس بحد فإذا زيد عليه كان نسخا من هذا الوجه وذهب أبو عبد الله البصري
إلى ان الزيادة على النص إذا اقتضت تغير حكم المزيد عليه في المستقبل كان قبيحا وان لم تقض ذلك
لم يكن نسخا وحكى ذلك عن أبي الحسن والذي اختاره سيدنا المرتضى ره واليه كان يذهب شيخنا
أبو عبد الله ره من قبل وهو الذي ذكره عبد الجبار بن أحمد في العمد أن الزيادة على ضربين أحدهما
يغير حكم المزيد عليه حتى لو فعل بعد الزيادة على الحد الذي كان يفعل قبل الزيادة لما كان مجريا
ووجب اعادته فذلك يوجب نسخ المزيد عليه والاخر هو الذي لا يغير حكم المزيد عليه ولو فعل
بعد الزيادة على الحد الذي كان يفعل قبلها لكان مجزيا وانما يجب أن يضاف إليه الزيادة فيما هذا (فما خ ل)
40

سبيله لا يوجب نسخ المزيد عليه وهذا هو الصحيح فمثال القسم الأول ان يوجب الله تعالى صلاة ركعتين ثم
يضيفه اليهما ركعتين أخرتين حتى يصير الفرض أربعا فان ذلك يوجب نسخ الركعتين لان بعد هذه
الزيادة معلوم من حال الركعتين انهما لا يجزيان فمتى لم يضف اليهما الركعتين وجب إعادة الصلاة
من أولها فكذلك روى عن عايشة انها قالت كانت الصلاة ركعتين فزيد في صلاة الحضر وانما قلنا
ان هذا نسخ لان الفعل الأول إذا وقع على الحد الذي كان واجبا قبل الزيادة صار كأنه لم يكن ومتى
فعل مع الزيادة صح وصار هو مع الزيادة بمنزلة حكم فساد الأول في انه يجب أن يكون ناسخا له واما
مثال القسم الثاني فهو زيادة النفي على حد الزاني للبكر وزيادة الرجم على حد المحصن وانما قلنا ان هذا
ليس بنسخ لان الحد المفعول في الحالين لا يختلف وانما قلنا يجب ضم الزيادة ولم يجب استينافه لان
هذه الزيادة الواردة في حكم عبادة ثانية في انها لم تؤثر في حال المزيد عليه الا ترى انه لو فعل الأول
بعد الزيادة على الحد الذي كان يفعله قبلها لكان ذلك مجزيا وانما يجب ان يضم إليه الزيادة فحسب
ففارق حكم هذا القسم الأول وكذلك لو زيد في حد القاذف عشرون لما أوجب ذلك نسخا لان
الثمانين إذا فعلت بعد ما زيد عليه من غير ان يضم الزيادة إليها اجزاء كما كان يجزى لو فعلت و
لما زيد عليها شئ وانما يجب ضم الزيادة عليها فقط فان قيل فهذا أوجب ذلك كونه نسخا لان حد الثمانين
كان يتعلق به رد الشهادة فإذا زيد عليه العشرون لم يتعلق به ذلك فقد تغير حكمه الشرعي فوجب
أن يكون نسخا قيل له ان رد الشهادة لا يتعلق عندنا بإقامة الحد وانما يتعلق بالقذف الذي يوجب
التفسيق دون إقامة الحد كما ان رد الشهادة يتعلق بسائر (على سائر خ ل) افعال الفسق دون إقامة الحد الجواب فيه
مثل شرب الخمر واللواط والسرقة وغير ذلك فسقط السؤال ولو سلم ان رد الشهادة يتعلق بإقامة الحد
لما أوجب ذلك نسخا لان رد الشهادة عبادة أخرى منفصل عن إقامة الحد الا ترى ان الحد فيه يصح
وان لم يرد الشهادة فإذا صح ذلك لم يوجب نسخ المزيد عليه وصار ذلك بمنزلة إباحة تزويج المعتدة
إذا انقضت عدتها في ان عدتها ان زيد فيها أو نقص منها لا يوجب نسخا لذلك لأنه حكم اخر يتعلق
به انقضاء العدة طالت العدة أم قصرت فتغير العبادة لم يوجب نسخه وكذلك لو تغير حكم ستر
العورة والوضوء والقبلة في الصلاة ما أوجب ذلك نسخ الصلاة فكذلك القول في رد الشهادة
فان قيل أليس حد القذف إذا كان ثمانين فمتى فعل ذلك يكون قد استوفى الحد فإذا زيد عليه عشرون
لم يكن بفعل الثمانين استوفى الحد فوجب لذلك أن يكون نسخا قيل له هذا كلام في عبارة لان
تحصيله انه يجب على الامام أن يضم إلى الثمانين عشرين حتى يكون قد استوفى الحد الواجب وقد
بينا ان ذلك لا يوجب نسخا فان قيل فيجب على هذا ان تقولوا ان النقصان من العبادة إذا اقتضى الا
يصح العبادة إذا اتى بها على حد ما كان يؤتى بها من قبل أن يكون نسخا قيل له كذلك نقول وسنبينه
41

بعد هذا الفصل انشاء الله تعالى فاما زيادة الشرط في بعض العبادات فإنه لا يوجب النسخ إذا كان منفصلا
من العبادة ويصح من دونه لأنه إذا كان كذلك صار في حكم عبادة أخرى ويفارق ذلك ما قلناه من الصلاة
من ان زيادة ركعة فيها تقتضي النسخ لان الصلاة بعد الزيادة تصير مع المزيد في حكم الشئ الواحد فلم
يكن ذلك موجبا للنسخ فإذا ثبب ما قدمناه فكذلك زيادة تصح دون المزيد عليه أو يصح المزيد عليه
دونها فأحدهما لا يوجب نسخ الاخر كما ان زيادة صلاة على ما أوجب الله تعالى من الصلوات لا يقتضى
نسخا لها فاما الكفارات الثلاث المخير فيها فمتى فرضنا ان الله تعالى زاد فيها رابعا فان ذلك يوجب نسخ الحريم
ترك الثلاثة لأنه كان من قبل يحرم تركها اجمع والآن لا يحرم ولكن لا يقتضى ذلك نسخ الكفارات الثلاث
لما قدمناه من انها لو فعلت على الحد الذي فعلت قبل العبادة بالرابعة لكانت واقعة موقعها فلم توجب
ذلك نسخا فان قيل فما قولكم في الذي يذهبون إليه من وجوب الحكم بالشاهد واليمين يقتضى
ذلك نسخ ما أوجب الله تعالى من الحكم بالشاهدين أو بشاهد وامرأتين فان قلتم ذلك قلتم بجواز نسخ
القران بخبر الواحد وذلك خلاف مذهبكم بل هو خلاف الاجماع وان قلتم ان ذلك ليس بنسخ بينوا
القول فيه قيل له ان ذلك ليس بنسخ لان القران إذا دل على ان الحكم بالشاهد الواحد لا يتم الا بأن
يضاف إليه الثاني أو يضاف إليه امرأتان لا يمنع من قيام الدلالة على كون غيره شرطا فيه وقد اجتمعت
الطائفة المحقة على جواز ذلك فكان ذلك موجبا للعلم وخرج من باب خبر الواحد الذي ذكره السائل
واما تقييد الرقبة الواجبة في الظهار بالايمان فقد تقدم القول فيه واما من قال ان زيادة العشرين
في حد القاذف نسخ له وان تقييد الرقبة بالايمان نسخ فهو موافق لمن انكر أن يكون ذلك نسخا في المعنى
لأنهما معا يقولان ان الدليل الأول يقتضى جواز الكافرة واقتضى كون الحد ثمانين وان الدليل الثاني
دل على ان الحد مائة وان الرقبة الكافرة لا تجزى وانما يختلفان في العبارة وأحدهما يعبر عن ذلك بأنه نسخ
والاخر يعبر عنه بأنه تخصيص فلا طائل في ذلك فان قيل من جعله نسخا لا يقبل فيه خبر الواحد و
القياس ومن جعله تخصيصا يقبل خبر الواحد فيه والقياس قيل له اما على مذهبنا فلا يقبل في
الموضعين خبر الواحد ولا القياس على ما مضى القول فيه ومن أجاز خبر الواحد في التخصيص وأبى قبوله
في النسخ فلخصمه ان يقول له إذا قلت لا اقبل خبر الواحد فيه لأنه نسخ ولم يرجع في ان ذلك نسخ الا إلى ما وافقتك عليه في المعنى
الذي ليس بنسخ عندي فعليك ان تدل على ذلك وانه لا يجوز قبول خبر الواحد فيه فان عنيت
بقولك انه نسخ من حيث لا يقبل فيه خبر الواحد والقياس كنت ثابتا (بانيا خ ر) للشئ على نفسه وذلك غير صحيح
فاما من يقول ان الزيادة نسخ على كل حال فيقول فيما ثبت من الزيادة التي علم انها ليست نسخا ان ذلك اقترن
بحال الخطاب فلم يوجب ذلك نسخا وذلك نحو وجوب النية في الصلاة ونحو كون الرقبة سليمة
من العيوب التي تمنع من اجزائها وغير ذلك من المسائل ويقول ان الزيادة انما توجب النسخ إذا دل
42

عليها ما يصح النسخ به ويقول إذا دل خبر الواحد أو القياس على نسخ شئ من القران وجب رده لان نسخ
القران بذلك لا يجوز وعلى هذا يبنى المسائل في الفروع كل أحد على ما يذهب إليه وهذه جملة كافية
في هذا الباب فصل في ان النقصان من النص هل هو نسخ أم لا والخلاف فيه حكى أبو عبد الله
البصري عن أبي الحسن الكرخي انه كان يقول ان العبادة إذا نسخ بعضها لا يكون ذلك نسخا لجميعها ويجرى
ذلك مجرى العموم إذا خص أو استثنى منه فان ذلك لا يكون تخصيصا للكل فكان يعتل لذلك بان القبلة نسخت
ولم يوجب ذلك نسخا للصلاة وكان يلحق بذلك صيام عاشوراء ونسخه بشهر رمضان ويقول ان النسخ تناول
الوقت لا العبادة وان الواجب من الصوم في رمضان هو الذي كان واجبا في عاشورا كان يجعل ذلك
أصلا في ان الشرط الحاصل للعبادة الأولى يجب أن يكون حاصلا للثانية أيضا ويقول إذا كان المتفرد في
صوم عاشورا انه يجوز بنية غير مبنية فكذلك يجب في رمضان لان صوم رمضان هو صوم عاشوراء
وانما نسخ وقته وذهب بعضهم إلى ان النقصان في العبادة يقتضى النسخ وفي كلام الشافعي ما يدل
على ذلك ولا خلاف ان النقصان يقتضى نسخ ما اسقط لأنه كان واجبا في جملة العبادة ثم أزيل وجوبه
وانما الخلاف في انه يقتضى نسخ ما بقي من العبادة أم لا والذي ينبغي أن يعتمد في هذا الباب أن يقال
العبادات الشرعية قد تكون جملة ذات شروط كالصلاة ويكون فعلا واحدا وله شروط وقد
يكون فعلا مجردا عن الشرط فإذا كانت العبادة فعلا واحدا فالنسخ انما يصح فيها بأن يسقط وجوبها
ولا يصح ان ينسخ بعضها لأنه لا بعض لها فاما نسخ شروطها فإنه لا توجب نسخها وكذلك نسخ شروط
الجملة التي هي ذات شروط ولا يوجب (يجب خ ر) نسخها لان من حق الشروط أن يكون في حكم التابع للمشروط
لأنه يجب لأجله وليس في نسخه تغيير حال المشروط وهذا مثل أن ينسخ الطهارة فان ذلك لا يوجب
نسخ الصلاة بل يجب بقاء حكم الصلاة على ما كان عليه من قبل فاما إذا نسخ بعض تلك الجملة كنسخ
القبلة أو كنسخ ركوع أو سجود فان ذلك يوجب نسخ الجملة لان تلك الجملة في المستقبل لو أوقعت على الحد
الذي كانت واجبة أولا لم يجز ووجب اعادتها فصار نقصان القبلة بمنزلة اخراج الصلاة
من كونها واجبة وجائزة فلذلك وجب أن يكون نسخا وهو بمنزلة الزيادة أيضا في هذا الوجه فيجب أن
يكون مثلها في انه نسخ فان قيل ان القبلة إذا نسخت فما بقي من الصلاة هي عبارة مبتداة لم يكن مثله
من قبل واجبا فكيف يصح أن يقولوا انه نسخ قيل له انه وان لم تجب الصلاة من قبل على هذا الوجه
فما كان واجبا من قبل من الصلاة لو فعل الان لم يجز فوجب أن يكون اسقاط القبلة نسخا له من هذا
الوجه فاما صوم عاشوراء فإنما يقال انه نسخ برمضان بمعنى انه (ان خ ر) عند سقوط وجوبه امر بصيام رمضان
مما نسخ له لان الحكم انما ينسخ حكما اخر إذا لم يصح ان يجتمعا على وجه فاما إذا صح وجوب الثاني مع
الأول ويمكن فعلهما جميعا فأحدهما لا يكون ناسخا للاخر ولذلك قلنا ان قول الله تعالى ولأبويه
43

لكل واحد منهما السدس لا يعلم وجوب نسخ الوصية للوالدين والأقربين لان اجتماع الوصية والميراث لهما
غير منكر بل هو الصحيح الذي نذهب إليه ومن خالفنا في ذلك يرجع إلى ما روى من فعل النبي صلى الله عليه وآله لا وصيه
لوارث ويدعى ان ذلك مجمع عليه وعندنا ان هذا خبر واحد لا ينسخ به ظاهر القران ولو سلم ان صوم عاشوراء
نسخ في الحقيقة برمضان لما صح ان يصرف النسخ إلى الوقت لان من حق النسخ ان يتناول الافعال الواقعة في
الأوقات لا الأوقات نفسها لأنها ليست من فعل المكلف فصل في نسخ الكتاب بالكتاب والسنة
بالسنة ونسخ الاجماع والقياس وتجويز القول في النسخ بهما لا خلاف بين أهل العلم ان نسخ الكتاب بالكتاب
يجوز والعلة في ذلك بينة وذلك لأنهما في وجوب العلم والعمل سواء فكما يجوز تخصيص أحدهما بصاحبه
فكذلك يجوز نسخ أحدهما بالاخر ولا يلزم على ذلك دليل العقل الذي لا ينسخ الكتاب به لأنا قد بينا ان
من شرط النسخ أن يكون واقعا بدليل شرعي فاما معنى النسخ فقد يقع بدليل العقل وقد وقع ما قلنا
انه جائز لان الله تعالى نسخ الاعتداد حولا بالاعتداد أربعة اشهر وعشرا ونسخ الصدقة قبل المناجاة و
نسخ ثبات الواحد للعشرة كل ذلك بالكتاب وان كان المنسوخ به ثابتا واما السنة فإنما تنسخ بالسنة
أيضا إذا تساويا في الدلالة فان كانت الأولى من اخبار الآحاد فعلى مذهبنا ذلك ساقط لأنا لا
نعمل بها وعلى مذهب الفقهاء يجوز نسخها بمثلها لأنهما إذا كان طريقهما العلم فحكمهما حكم الكتاب
وإن كانا مما طريقهما العمل فحالهما أيضا متساوية فيجب صحة نسخ أحدهما بالأخرى وقد وقع ذلك
أيضا على ما روى لان النبي نهى عن ادخار لحوم الأضاحي وزيارة القبور نسخ ذلك فأباح الزيارة والادخار
للحوم الأضاحي ولا فصل بين نسخ قوله بفعله أو قوله بقوله وقد وقع ذلك عند الفقهاء لأنه كان
امر (ع) على ما روى بقتل شارب الخمر في المرة الرابعة ثم اخذه وقد شرب رابعة فحده ونسخ به قوله وعندنا
ان هذا الحكم غير منسوخ بل هو ثابت واما نسخ الكتاب بالسنة ونسخ السنة بالكتاب فسنبين
القول فيه انشاء الله تعالى واما الاجماع فعندنا لا يجوز نسخه لأنه دليل لا يتغير بل هو ثابت في جميع
الأوقات لان العقل عندنا يدل على صحة الاجماع وما هذا حكمه لا يجوز تغييره فيطرق عليه النسخ
وكذلك لا يصح النسخ به لان من شأن الناسخ أن يكون دليلا شرعيا متأخرا عن المنسوخ وذلك
لا يتأتى في الاجماع على مذهبنا فجرى ذلك مجرى أدلة العقل التي لا يجوز النسخ بها على ما مضى
القول فيه واما على مذهب الفقهاء فلا يجوز أيضا نسخه لأنه دليل قد استقر بعد ارتفاع الوحي و
معلوم ان بعده لا يصح النسخ فيجب امتناع النسخ فيه وكذلك لا يصح النسخ به لمثل ما قلناه نحن
من ان من شأن الناسخ أن يكون متأخرا عن المنسوخ والحكم إذا كان ثابتا فلا يجوز أن يجمع الأمة
بعد ذلك على خلافه لان ذلك يؤدى إلى بطلان الاجماع فاما إذا اجمعوا على شئ ثم ورد الخبر
بخلافه نحو اجماعهم على الأغسل (الغسل خ ر) على من غسل ميتا على مذهبهم ولا وضوء على حامله وقد وردت
44

السنة به فإنما يستدل بالاجماع على ان الخبر غير صحيح ولا يجب قبوله فاما أن يكون منسوخا به فلا و
انما قالوا ذلك لأنه لو كان صحيحا لما اجتمعت الأمة على خلافه لأنهم يتبعون الأدلة ولا يخالفونها
أو يستدل بالاجماع على انه نسخ بغيره لا به نفسه فان قيل فهل يجوز أن ينسخ اجماعهم على قولين
باجماعهم على أحدهما لان بهذا الاجماع قد دل على ان القول الاخر الذي سوغوه من قبل القول به
قد حرم القول به وهذا نسخ للاجماع قيل له هذا يسقط على مذهبنا لأنهم إذا اجمعوا على ان كل
واحد من القولين جائز لا يجوز أن يجمعوا بعد ذلك على أحد القولين لان ذلك ينقض الاجماع الأول و
انما يصح ذلك على مذهب من قال بالاجتهاد بأن يقول قالوا بقولين من طريق الاجتهاد ثم أداهم
الاجتهاد إلى قول واحد وعلى هذا أيضا لا يكون ذلك نسخا لأنهم انما سوغوا القول بالأول بشرط أن لا يكون
هناك ما يمنع من الاجتهاد كما ان من غاب عن الرسول صلى الله عليه وآله فإنما يجتهد في المسألة بشرط أن لا يكون من النبي صلى الله عليه وآله
نص فإذا وجد الاجماع على أحدهما عدم الشرط الذي له جوزوا القول بالاخر فحرم القول به لهذه العلة لا
لأنه منسوخ فاما القياس فعندنا انه غير معمول به في الشرع على ما ندل عليه في المستقبل فلا يصح نسخه
ولا النسخ به واما على مذهب من قال بالعمل به فلا يصح أيضا نسخه لأنه يتبع (يمنع خ ر) الأصول فما دامت الأصول ثابتة
نسخه لا يصح والنسخ به لا يصح أيضا لان من شرط صحته أن لا يكون في الأصول ما يمنع منه فلو جوزوا نسخ
الأصول بقياس لم يوجد على الشرط الذي يصح عليه فاما الاجتهاديات على مذهب الفقهاء فلا يصح
النسخ فيها لأنه يجوز أن يرجع من اجتهاد ويجوز أن لا يرجع وليس يجوز أن يقال ان أحد القولين ينسخ
الاخر ولذلك قال معاذ اجتهد رائي إذا لم أجد في الكتاب في السنة وكذلك غيره من الصحابة كانوا يتركون
اجتهادهم للنصوص واما فحوى القول فلا يمتنع نسخه لان اللفظ يدل عليه كما يدل على ما يتناوله صريحة
فان قيل هل يجوز أن ينسخ ما يقتضيه فحوى الخطاب مع ثبوت صريحه كان ينسخ ضرب الوالدين ويبقى
التحريم قوله لهما أف قيل لا يمتنع لأنهما في الحكم بمنزلة ما يتناوله العموم من المسميات فنسخ بعض
ذلك مع بقاء البعض لا يمتنع ويفارق القياس لان نسخه مع ثبات أصله لا يصح لان بصحة الأصل
يصح الفرع فما دام ثابتا فيجب صحته وكذلك لا يجوز بقاء القياس مع نسخ أصله لما ذكرناه من العلة
ومن الناس من منع من ذلك وقال لا يجوز ان يثبت صريحه ويرتفع فحواه لان ذلك مناقضة ويستحيل
في العرف لأنه لا يجوز أن يقال فلان لا يظلم مثقال ذرة وهو يظلم القناطير أو فلان لا يأكل رغيفا
ثم يقول هو يأكل مائة رطل فإذا كان كذلك فدخول النسخ في ذلك لا يصح واما النسخ باقرار النبي صلى الله عليه وآله
على الفعل فسنبين في باب الافعال انشاء الله تعالى فصل في ذكر نسخ القرآن بالسنة والسنة
بالقران ذهب المتكلمون بأجمعهم من المعتزلة وغيرهم وجميع أصحاب أبي حنيفة ومالك إلى أن نسخ
القرآن بالسنة المقطوع بها جائز واليه ذهب سيدنا المرتضى رحمه الله وذهب الشافعي وطائفة
45

من الفقهاء إلى ان ذلك لا يجوز وهو الذي اختاره شيخنا أبو عبد الله ره ولا خلاف بين أهل العلم
ان القرآن لا ينسخ باخبار الآحاد الا أن من أجاز نسخ القرآن بالسنة المقطوع بها يقول كان يجوز نسخه
أيضا باخبار الآحاد ولكن المشروع منع منه وهو الاجماع على ان خبر الواحد لا ينسخ به القران و
الا كان ذلك جائزا كما ثبت عندهم تخصيص عموم القران وبيان مجمله باخبار الآحاد ولى في هذه
المسألة نظر الا انى اذكر ما تعلق به كل واحد من الفريقين على ضرب من الايجاز فاستدل من قال بجواز
ذلك انه إذا أوجبت السنة المقطوع بها العلم والعمل ساوت الكتاب في ذلك فيجب جواز حصول نسخه
بها كما يجوز أن يبين بها ويخص بها وانما لا يجوز نسخه بخبر الواحد للاجماع الذي ذكرناه والا كان ذلك
جائزا وقالوا أيضا النسخ إذا كان واقعا في الاحكام التي هي تابعة للمصالح وكانت السنة في الدلالة على
الاحكام كالقران لا يختلفان فيجب جواز نسخه بها قالوا ومزية القران في باب الاعجاز على السنة لا يخرجها
من التساوي فيما ذكرناه يبين ذلك ان نسخ الشريعة انما يصح من حيث كان دلالة على ان الحكم المراد
بالأول أريد به إلى غاية وقد علم ان قوله تعالى كذا وإذا كان وحيا ولم يكن قرانا في باب الدلالة على ذلك
(كا) بالقران فكذلك حال السنة في ذلك يجب أن يكون حال القران في جواز نسخ القران به لان الذي
يختص القران به من الاعجاز لا تأثير له فيما به يصح النسخ من الدلالة على الحكم لان النفي كونه معجزا مع
كونه قولا له تعالى لا يخرجه من ان يدل على الحكم كهو إذا لم تكن معجزا الا ترى ان قوله (ع) دلالة على الحكم
وان لم يكن معجزا فإذا صح ذلك لم يكن لكون القران معجزا اعتبار فوجب صحة نسخه بالسنة على ما
قدمناه واستدل من امتنع من جواز نسخه بالسنة بأشياء منها قوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر
لتبين للناس ما نزل إليهم قالوا فجعله الله تعالى مبينا للقران فلو نسخه لكان قد ازاله والإزالة ضد
البيان واعترض من خالف في ذلك بأن قال انه إذا نسخه بالسنة فقد بين الوقت الذي يزول
فيه العبادة وهذا في أنه بيان جار مجرى التخصيص ولو لم يكن ذلك بيانا لم يكن في وصف الله تعالى له بأنه مبين
دليل على انه لا يفعل ما ليس ببيان كما لا يدل على انه لا يبتدى باحكام شرعها وقال أبو هاشم ان معنى
قوله لتبين للناس ما نزل إليهم أي لتبلغ وتؤدى لان الأداء بيان ومتى حملنا الآية على هذا وفينا حقها
في العموم لأنه مؤد لكل ما انزل الله ومتى حملت على البيان الذي هو التفسير حملت على التخصيص
وإذا أمكن حمل الآية على العموم كان أولى من حملها على الخصوص واستدلوا أيضا بقوله وإذا بدلنا اية
مكان اية قالوا فتبين انه يبدل الآية بالآية وذلك يمنع من أن ينسخ بالسنة واعترض على ذلك من
خالف (فبين ظ) بان قال ليس فيه انه لا يجوز أن يبدل الآية الا بالآية فالتعلق به لا يصح ولأنه لا يدل على موضع
الخلاف من نسخ حكم الآية بالسنة لأنه انما ذكر ان الآية تبدل بالآية ولم يذكر الحكم واستدلوا بقوله
تعالى وقال الذين لا يرجون لقائنا ائت بقران غير هذا أو بدله قل ما يكون لي ان أبدله من تلقاء
46

نفسي فبين ان تبديله لا يقع الا بالكتاب وقال من خالف في ذلك ان قوله تعالى قل ما يكون لي ان أبدله من
تلقاء نفسي يدل على انه لا ينسخ الآية الا بوحي من الله تعالى قرانا كان أو غير قران وكذلك نقول لان النبي صلى الله عليه وآله
لا ينسخ القران من قبل نفسه على حال وأقوى ما استدلوا به في هذا الباب قوله تعالى ما ننسخ من اية أو ننسها
نأت بخبر (بخير) منها أو مثلها فاستدلوا بهذه الآية من وجوه منها ما ذكره أبو العباس بن شريح انه قال لما
قال الله تعالى نأت بخير منها أو مثلها احتمل أن يراد به الكتاب واحتمل غيره فلما قال بعده ألم تعلم
ان الله على كل شئ قدير علم انه أراد بما تقدم ما يختص هو بالقدرة عليه وهو القرآن المعجز فكأنه قال
فات بخير منها أو مثلها مما يختص بالقدرة عليه ومنها انه تعالى قال نأت بخير منها أو مثلها فأضاف
ما نسخ به الآية إلى نفسه والسنة لا تضاف إليه تعالى في الحقيقة ومنها ان الظاهر في الاستعمال انه إذا قيل
لاحد لا اخذ منك ثوبا الا أعطيك خيرا منه انه يراد به من جنس الأول وكذلك قوله ما ننسخ من آية
أو ننسها لما ذكر في الأول اية فيجب أن تكون هي المراد بقوله نأت بخير منها أو مثلها فكأنه قال نأت بخير (نأته خير خ ر)
منها أو مثلها ومنها ان الآية انما تكون خيرا من الآية بأن تكون انفع منها والمنفعة بالآية نفع (يصح خ ر) بتلاوتها
وبامتثال حكمها فيجب أن يكون ما يأت به يزيد في النفع بالآية على ما ينسخه ولا يكون زايدا عليه الا ويحصل
به النفع من كلا الوجهين والسنة لا يصح ذلك فيها وذكر من خالف هذا المذهب في تأويل هذه الآية وجها
قويا وهو المحكى عن أبي هاشم وهو انه قال ليس في قوله نأت بخير منها دلالة على ان ما يأتي به هو الناسخ لأنه
لم يقل نأت بخير منها ناسخا فيجوز أن ينسخ الآية بشئ اخر ثم يأت بخير منها وأجاب من نصر المذهب الأول
عن هذا بان قال إذا ثبت انه لابد أن يأتي باية أخرى وكل من قال بذلك قال لأنها تكون ناسخه وليس في
الأمة من قال لابد من أن يأتي باية أخرى وان لم يكن ناسخه لان من جوز نسخ القران بالسنة قال يجوز ان ينسخه
بالسنة وان لم يأت باية أخرى وكل قول خالف الاجماع وجب اطراحه واعترضوا على الاستدلال بالآية أيضا
بان قالوا قوله ما ننسخ من اية أو ننسها نأت بخير منها يقتضى ثبوت النسخ فيها (منها خ ر) قبل الاتيان بخير منها فلو كان
النسخ بما يأتي به نفع لما صح أصلا حصول نسخ الآية قبل أن يأتي بخير منها ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال
لا يمتنع أن يقال نأت بخير منها ناسخا وأن يقوم (تقدم ظ) قوله ما ننسخ من اية أو ننسها كما ان القائل إذا قال انا لا أبطل
الحركة الا وافعل السكون ولا يعدم السواد عن المحل الا ويطرؤ عليه البياض وان كان المبطل السواد هو البياض
الطارئ وكذلك المبطل للحركة السكون الذي يطرؤ عليه فكذلك القول في الآية واعترض أيضا على الاستدلال
بالآية بأن قالوا ليس في ظاهر الآية نسخ حكم الآية وهو موضع الخلاف وهذا أيضا يسقط بالاجماع لان
أحدا لا يفصل بين نسخ الآية وبين نسخ حكمها فمن فصل بينهما كان مخالفا للاجماع وقالوا أيضا ان نسخ
الآية انسائها إذا حمل على ان المراد به انه ينسيه عن صدور الرجال فالله تعالى هو الفاعل لذلك فلا يصح
وقوع ذلك بالسنة ومتى حمل على ان المراد به أن يبين ان تلاوتها ليس بطاعة فذلك يصح بالسنة
47

والقران جميعا ولمن نصر الأول أن يقول انا احمل الآية على الامرين جميعا على انه لا ينسها عن صدور الرجال
الا الله ولا يبين ان تلاوتها ليس بطاعة الا بقران آخر خير منه أو مثله فان ذلك لا يقع بالسنة أصلا
لهذا الظاهر واعترضوا أيضا الاستدلال بها بان قالوا قولنا كذا خير من كذا يستعمل بمعنى انه انفع لنا
منه انه وقد زاد في باب النفع على غيره وإذا ثبت ذلك جاز أن يقال انه نأت بخير منها أي بأنفع لكم
منها والمنفعة في هذا الموضع هي ما استحق بالفعل من الثواب وليس ممتنع أن يكون الثواب مما يدل السنة
عليه من الفعل أكثر مما يستحقه على الفعل الذي دلت الآية عليه وعلى تلاوتها فيجب من هذا الوجه
صحة نسخ الآية بالسنة وان يستدل بنفس الآية على ما نقوله وأجاب من نصر المذهب الأول عن ذلك
بان قال وكان يجب على هذا التقدير ان يقال بالاطلاق ان السنة خير من القران ويراد بذلك انه أكثر ثوابا
وفي اطلاق ذلك خروج من الاجماع واعترضوا على الوجه الأول من الاستدلال بالآية بان قالوا قوله
نأت بخير منها مضيفا ذلك إلى نفسه لا يدل على ما قالوه لان عندنا النسخ انما يقع بالوحي الذي إلى الله تعالى
به وان كان بالسنة فنستدل عليه ونعمله وقد أعطينا الإضافة حقها وقالوا أيضا في الوجه الثاني انه لا يمتنع
أن يقول القائل اخذ منك كذا وأعطيك ما هو انفع منه وان لم يكن من جنسه لأنه قد يقول الرجل لصاحبه
مصرحا لا اخذ منك ثوبا الا وأعطيك ما هو خير منه من الدنانير ولا اخذ منك دينارا الا وأعطيك
ما هو انفع لك منه من البستان وغير ذلك وقالوا في الوجه الثالث من قوله تعالى ألم تعلم ان الله على
كل شئ قدير انما نريد به انه قادر على أن ينسخ الآية بما يعلم انه أصله للعباد من المنسوخ والذي
يختص بذلك هو الله تعالى واستدل بعض أصحاب الشافعي على صحة ما ذهبوا إليه بان قالوا لا يجوز
ذلك من جهة العقل لان في ذلك ارتيابا بالنبي صلى الله عليه وآله واستدل على ذلك بقوله وإذ بدلنا اية مكان
اية والله اعلم بما ينزل قالوا انما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ثم بين انه ليس برفع هذا بقوله
وان المبدل هو الله تعالى بما أنزله وهذا غلط لان الله تعالى ذكر انهم نسبوه إلى الافتراء عند تبديله الآية
بالآية فان كان ما يلحقهم من الارتياب قد يمنع من نسخ الآية بالسنة فيجب أن يمنع من نسخ الآية
بالآية أيضا وكيف يمنع العقل من ذلك ومن علم كون القران معجزا يعلم صدقه وعلمه بصدقه ينفى
الارتياب بقوله إذا نسخ الآية بالسنة وليس نسخه بالسنة نسخا من تلقاء نفسه بل هو نسخ له بالوحي
النازل عليه فهو في الحكم كأنه نسخ اية باية وفي الناس من قال ان العقل يجيز ذلك لكن لم يرد ذلك
في السنة ولم يثبت فهذا وجه الا انه ليس بكلام في هذه المسألة لان صاحبها مقر بجواز ذلك وانما
انكر وجوده فالواجب أن يبين له الوجود ومن يذهب إلى ذلك فله أشياء يذكرها فيتعلق بها وبما
ذكرنا ان عرض ما يحتاج إليه ولا يجوز له أن يبين ذلك وان تناوله لأنه ليس بمستند إلى دليل
يصح له التأويل واما من قال انى لا أقول ان نسخ القرآن بالسنة جايز في العقل ولا يجوز لان الجواز
48

شك وقد علمت بالشرع المنع منه بذهاب غير معنى هذه اللفظة لان المراد بها ان نسخ لقران بالسنة من
القبيل الذي شك في حاله هل يتعبد الله تعالى به أم لا وانه من قبيل ما لا يجوز ذلك فيه وهذا لا يصح الامتناع
منه كما لا يصح للانسان أن يقول كان يجوز أن يتعبد الله تعالى بصلاة سادسة أولا وان علمنا بالسمع انه
لم يتعبد الله تعالى بها وهذه جملة كافية في هذا الباب واما نسخ السنة بالكتاب فالظاهر من مذهب الشافعي
المنع منه وهو الذي صرح به في رسالتيه جميعا وفي أصحابه من يضيف إليه جواز ذلك والأظهر من قوله
الأول لكنه لما رأى هذه المسألة يضعف على النظر جعل قولا اخر على حسب ما يفعله كثير منهم
واما الباقون من الفقهاء والمتكلمين فعلى ذلك وتعلق من منع من ذلك بأنه إذا لم يجز نسخ القرآن
الا بقران لمساواته في الرتبة فكذلك لا ينسخ السنة بالكتاب لمثل ذلك ولأنه جعل (ع) مبنيا (مبينا) فلا يجوز أن
ينسخ سنة القرآن لان في ذلك اخراجا له من أن يكون مبنيا (مبينا) بل يجب كون سنته مبينة للقران والذي
يدل على ذلك انه قد ثبت ان القران أقرى (أقوى) في باب الدلالة من السنة على الاحكام فإذا كان أقوى منها
جاز نسخها به كما جاز نسخها بالسنة التي هي دونها في القول ومن ذهب إلى المنع من جواز نسخ القران بالسنة وأجاز
نسخ السنة بالقران يقول لم امنع من ذلك من حيث التساوي في باب الدلالة بل امتنعت من ذلك من الآيات التي
دلت على المنع من ذلك والا كان ذلك جايزا وان كان بعضه أدون من بعض كما إذا كانا متساويين
في باب الدلالة ومن ذهب إلى الجواز في موضعين كانت هذه الشبهة عنه ساقطة فان قالوا ان الله تعالى
لو نسخ سنة نبيه (ع) باية ينزلها لامر نبيه أن يبين سنة ثانية فينسخ بها السنة الأولى لئلا يلتبس النسخ
بالبيان قيل له ان الآية لا تخلو من أن تدل بظاهرها على نسخ السنة أو لا تدل بظاهرها على ذلك فان
دل على ذلك فالنسخ بها يقع والسنة تكون مؤكدة وان لم تدل الا ببيان السنة جاز القول فان السنة ينسخ
من حيث كانت بها يعلم نسخ السنة الأولى وإذا صح ذلك فما الذي يحوج (يحوج) إلى بيان ثانية والآية دالة بظاهرها
على نسخ السنة الأولى وكيف يلتبس ذلك بالبيان ومن حق البيان أن يكون بيانا لما لا يعرف المراد به بظاهره
والنسخ بالضد منه ومن حق الدليل أن لا يتأخر عن المبين والنسخ مخالف له واما قوله لتبين الناس ما
نزل إليهم لا يمنع من أن ينسخ سنته بالقران قالوا ولأنه ليس في نسخها به اخراج لها من أن يكون قد
بين ما أريد بها وانما يبنى على ان نظاير ما أريد بها قد زال حكمه في المستقبل ومما يبين جواز فسخ
السنة بالقران وقوع ذلك وهو ان تأخير الصلاة عن أوقاتها في الخوف كان هو الواجب
أولا ثم نسخ ذلك بالمنع من تأخيرها بقوله فإذا خفتم فرجالا أو ركابنا واما نسخ الكتاب بالكتاب
قد وقع أيضا وقد قدمنا الأمثلة في ذلك ومن ذلك انه كان حد الزانية الامساك في البيوت
حتى تموت بقوله واللاتي تأتين (يأتين) الفاحشة من نسائكم الآية وحد الرجال الايذاء ثم نسخ ذلك
بقوله الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وذهب من خالفنا في ذلك إلى ان ذلك
49

نسخ عن المحصن بالرجم فاما على ما يذهب إليه أصحابنا فإنه تجتمع له الجلد والرجم جميعا ولا يسلمون أحدهما منسوخ
وهذه جملة كافية في هذا الباب فصل في ذكر الطريق الذي يعرف به الناسخ والمنسوخ ومعرفة تاريخها
يعلم الناسخ ناسخا والمنسوخ منسوخا بشيئين أحدهما أن يكون الثاني منبئا عن نسخ الأول لفظا أو يقتضى
ذلك من جهة المعنى ولهذين الوجهين تفصيل واما يقتضيه ذلك لفظا فعلى وجوه أحدهما أن يرد
الخطاب بأن الثاني قد نسخ الأول نحو ما روى ان رمضان نسخ عاشورا وان الزكاة نسخت الحقوق الواجبة
في الأموال وثانيها أن يرد بلفظ التخفيف نحو قوله الان خفف الله عنكم في نسخ ثبات الواحد للعشرة بالواحد
للاثنين ونحو قوله تعالى أأشفقتم ان تقدموا بين يدي نجويكم (نجويكم) صدقات فان لم تفعلوا وتاب الله
عليكم فنبه بذلك على وجوب اسقاط ذلك وثالثها نحو ما روى عنه (ع) كنت نهيتكم (نهيتكم) عن زيارة القبور
الا فزوروها وعن ادخار لحوم الأضاحي الا فادخروها وكل ذلك أدلة تقتضي زوال الحكم الثابت بنص
متقدم عن نظاير ذلك على وجه لولاه لكان ثابتا بالأول فيجب أن يكون ناسخا له والأول منسوخا به
وان اختلف عبارته واما ما يعلم ذلك من جهة المعنى نحو أن يوجب (الشئ ثم يوجب) ما يضاده على وجه لا يمكن الجمع بينهما
بأي وجه علم ان ذلك من الالفاظ فيعلم بذلك انه ناسخ للأول فعلى هذا يجرى هذا الباب وقد يعلم أيضا
ان الناسخ ناسخا ببيان إذا كان اللفظ والمعنى لا ينبئان عن ذلك وذلك نحو ما تقوله الفقهاء من نسخ الوصية
للوالدين والأقربين باية المواريث لان بظاهر الآية لا يعلم نسخ ذلك وانما يعلم ذلك على تسليم بقوله (ع) ان الله تعالى
قد اعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث فهذا وان كان عندنا غير صحيح لان عندنا تصح الوصية للوارث
وانما ذكرناه لان ذلك وجه كان يمكن أن يقع به النسخ واما طاووس ره فذهب إلى أن الوالدين تثبت لهما
الوصية إذا كانا كافرين فلم ينسخ الآية وانما خصصها بالخبر واما تاريخ الناسخ والمنسوخ فيعرف
من وجوه أحدها أن يكون في لفظ الناسخ ما يدل على ان بعده مثل ما قدمنا ذكره ومنها أن يكون
الناسخ مضافا إلى وقت أو غزاة يعلم انه بعد وقت المنسوخ ومنها أن يكون المعلوم من حال الراوي لأحدهما
انه صحب الرسول (ع) بعد ما صحب الاخر أو عند صحبته انقطعت صحبة الأول والمعلوم من حال الحكم الأول انه
كان في وقت قبل وقت صحبته الثاني وذلك نحو ما روى قيس بن طلق انه جاء إلى النبي (ع) وهو يؤسس المسجد
فسأله عن مس الذكر ومعلوم من حال أبي هريرة انه صحب النبي (ع) بعده وقد يعلم التاريخ بقول الصحابي بأن
يقول أو يحكم ان أحد الحديثين كان بعد الاخر وليس يجب من حيث لم يجز أن ينسخ بقول الصحابي الكتاب الا
نعرف بقوله التاريخ لان التاريخ شرطه في صحة النسخ فطرق العلم به الحكاية فصح الرجوع إلى قوله لأنه
لا يقع فيه ليس كما صح اثبات الاحصان بالشاهدين وان لم يصح بهما الحكم بحد الزنا وليس يجب إذا علمنا التاريخ
بقول الصحابي ان نقلده إذا أخبرنا ان كذا نسخ كذا بل يجب أن ينظر فيما وصفه انه منسوخ فان علمنا انه كما
قال أخذنا به والا وقفنا فيه لان ذلك يجوز دخوله الشبهة فيه ولذلك لم يقبل كثير من الفقهاء قول من قال
50

من الصحابة ان المسح على الخفين نسخ الكتاب لما علمنا انه ليس طريقه النسخ وكذلك لم يقبل قول من قال
ان الماء من الماء منسوخ واما إذا قال الصحابي ان كذا وكذا كان حكما ثابتا من قبل وانه قد نسخ ولم يذكر ما به
نسخ فان ابا عبد الله البصري حكى عن أبي الحسن انه كان يرجع إلى قوله وذلك نحو قول ابن مسعود حين ذكر
له التشهد التحيات الزكيات فقال كان هذا مرة ثم نسخ بتشهده ونحو ما روى عن ابن عمر وابن عباس في الرضاع
انهما قالا كان الواجب التوقيت واما الان فلا وذهب غيره إلى انه لا يرجع إلى قول الصحابي في ذلك لأنه إذا جاز
فيما صرح بأنه ناسخ الا يكون ناسخا في الحقيقة فان اعتقد هو فيه ذلك فغير ممتنع ان يطلق ذلك اطلاقا ولا
يذكر ما لأجله قال لأنه (انه ظ) منسوخ لو ذكره كان مما لا يقع النسخ به ولو علم من حاله انه انما ذكر انه منسوخ لامر لا
يلتبس لوجوب (لوجب ظ) الرجوع إلى قوله وقد يعلم التاريخ بأن يكون أحد الخبرين يقتضى حكما معلوما بغير شرع
والاخر يقتضى حكما شرعيا فيكون ذلك هو الطاري على الأول نحو ما ذكر من حديث الذكر لان وجوب
الوضوء من مسه هو الطاري فيصح أن ينسخ به حديث قيس وقد يعلم ذلك بأن يكون أحد الحديثين
يقتضى حكما شرعيا معلوم من حاله انه المبتدء به في الشرع والاخر يقتضى حكما ثابتا فيعلم انه بعده
فالتاريخ لا يعلم الا بهذه الوجوه التي حصرناها واما ما كان بها فاما إذا عدم التاريخ فقد بينا القول
في ذلك في باب الاخبار المتعارضة وهذه الجملة كافية في هذا الباب فصل
في ذكر جملة من احكام الافعال ومن يضاف إليه واختلاف أحوالهم إذا أردنا أن نبين احكام الافعال فلابد من أن
نبين أولا معنى الفعل وحده ليعلم ذلك ثم يبين حكمه فحد الفعل ما حدث وقد كان مقدورا قبله وهو على ضربين منه
ما لا صفة له زايدة على حدوثه مثل كلام الساهي والنايم وحركاته التي لا تتعداه والضرب الاخر له صفة زايدة
على حدوثه وهو على ضربين أحدهما قبيح والاخر حسن فحد القبيح هو كل فعل وقع من عالم بقبحه أو متمكن
من العلم بذلك على وجه كان يمكنه ان لا يفعله فيستحق به الذم من العقلاء ولا ينقسم ذلك في كونه
قبيحا وربما (ان ظ) انقسمت أسمائه إلى كفر وفسق بكبيرة وصغيرة عند من قال بذلك واما الحسن فينقسم ستة
اقسام أحدها ما ليس له صفة زايدة على حسنه وحده ما يتساوى فعله وتركه فلا يستحق بفعله مدحا ولا
بتركه ذما وهو المسمى مباحا وطلقا وغير ذلك الا انه لا يسمى بذلك الا إذا اعلم فاعله ذلك أو دل عليه
ولذلك لا يوصف الفعل القديم العقاب بالعصاة بأنه مباح وان كان بصفته لما ذكرناه من انه (فإنه خ ر) لم
يعلم ولم يدل عليه بل هو من عالم به لنفسه والثاني ما له صفة زايدة على حسنه وحده ما يستحق بفعله
المدح وهو على ضربين أحدهما لا يستحق بتركه الذم والاخر يستحق بفعله الذم فما لا يستحق بتركه
الذم هو المسمى ندبا ومستحبا ومرغبا فيه الا أنه لا يسمى بذلك الا إذا علم فاعله ذلك بنحو ما قلناه
في المباح وينقسم هذا القسم قسمين أحدهما أن يكون نفعا أصلا لغير فاعله فيسمى بأنه تفضل واحسان
ويتساوى فيه فعل القديم والمحدث في التسمية بذلك والقسم الاخر لا يتعدى إلى الغير وهو المسمى بأنه
51

ندب ومستحب على ما قدمناه واما الذي يستحق بتركه الذم فعلى ثلاثة اضرب أحدها انه متى لم يفعله الفاعل
ولا ما يقوم مقامه استحق الذم وهو المسمى بأنه واجب مخير فيه وذلك نحو الكفارة الثلاثة وما أشبه
ذلك وقضاء الدين وغير ذلك والثاني ما إذا لم يفعله بعينه استحق الذم وهو الموصوف بأنه واجب
مضيق وذلك نحو رد الوديعة ووجوب رد ما تناوله الغصب بعينه وغير ذلك والثالث انه إذا لم
يفعله من وجب عليه ولا من يقوم مقامه فعله استحق الذم وذلك المسمى من فروض الكفايات نحو الصلاة
على الأموات وتغسيلهم ودفنهم ونحو الجهاد وغير ذلك واما قولنا في الفعل انه مفروض وواجب فعبارتان
عن معنى واحد الا انه لا يسمى فرضا الا إذا اعلم فاعله وجوبه أو دل عليه كما قلناه في المباح والندب وقد
يعبر بالفرض عما وقع في الشرع مقدرا وذلك نحو ما قيل ان ذلك من فرايض الصدقة والمراد به مقاديرها
ونحو ما روى عنه (ع) ان فرض صدقه لفطر صاعا من تمر والمعنى بذلك انه قدرها ويحتمل أن يكون
المراد به انه أوجبها واما قولنا في الشئ انه سنة فهو ان النبي (ع) قد امر بأدائه إذا كان يديم فعله ليقتدى به
وهو مأخوذ من سننت الماء إذا واليت بين صبه ولا فعل بين أن يكون واجبا أو ندبا أو مباحا وربما استعملت
الفقهاء هذه اللفظة فيما يكون مندوبا إليه من الشرعيات ليفصلوا بينه وبين الواجب فيقولون
ركعتي (ركعتا خ ر) الفجر سنة وصلاة الليل سنة وصلاة الغداة فريضة والأصل ما قدمناه فاما الفعل الحسن
فعلى جميع مراتبه يقع من كل فاعل قديما كان أو محدثا الا أنه يمنع من التسمية في بعض الاقسام في افعال
القديم لما قدمناه من الشرط المفقود منه واما القبيح فإنه مختلف أحوال الفاعلين فيه فالقديم تعالى لا يجوز أن
يقع منه شئ من القبيح لعلمه بقبحه وانه غنى عنه واما الأنبياء عليهم السلام فكذلك لا يقع منهم شئ من القبيح
أصلا وكذلك (كذا خ ر) الرسل سواء كانوا من البشر أو من الملائكة وكذلك حكم الأئمة الحافظين للشرع فاما من ليس بنبي أو رسول
أو امام فإنه يجوز أن يقع منه الفعل القبيح أو من اخبر الله عنه أنه لا يختار القبيح فيعلم ذلك من حاله وسواء
كانوا من البشر أو من الملائكة لا يختلف حالهم في ذلك وقد لا يقع من الأنبياء والمرسلين (والرسل خ ر) والأئمة عليهم السلام ما
ينفر من (عن خ ر) قبول أقوالهم وان لم يكن ذلك قبيحا وأمثلته كثيرة لا يحتاج إلى ذكرها هاهنا وقد يجوز أن تختص
الأنبياء بافعال شرعية دون غيرهم وكذلك يجوز في آحاد الأئمة أن يختص واحد منهم بشئ من
الشرع دون غيره فهذه جملة كافية في هذا الباب انشاء الله تعالى فصل في ذكر معنى التأسي
بالنبي (ع) وهل يجب اتباعه في افعاله عقلا أو سمعا وكيف القول فيه التأسي لا يكون الا باعتبار شيئين
أحدهما صورة الفعل والثاني الوجه الذي وقع عليه الفعل والذي يدل على ذلك انه (ع) لو صلى
لم يكن لنا اتباعه والتأسي به بأن نصوم أو نحج أو نعتكف وانما كان ذلك لمخالفة أفعالنا لفعله (ع) وكذلك
لو صلى (ع) على جهة الندب لم يكن من صلى على جهة الوجوب متبعا له وكذلك إذا صلى على جهة الوجوب
لم يكن من صلى على جهة الندب متبعا له ولا متأسيا به وانما كان كذلك لمخالفة فعلنا لفعله في الوجه
52

الذي وقع عليه الفعل وكذلك لو أخذ من انسان دراهم على جهة الزكاة لم يكن اخذ الدراهم منه مثلا
غصبا أو عن ثمن مبيع متبعا له لمخالفة الوجهين على ما قلناه بل متى كان فعلنا مخالفا في الوجه كان ذلك
مخالفة له كما لو خالف فعلنا لفعله في الصورة على ما بيناه وقد كان يصح من جهة العقل ان يلزمنا جميع
افعاله التي يفعلها وان لم نراع وجوه ما يفعله وسواء فعله على جهة الوجوب أو الندب ويكون واجبا
علينا ذلك على كل حال لكن ذلك يحتاج إلى دليل شرعي ولم يدل دليل على ذلك أصلا ولو دل
الدليل عليه لما كان ذلك اتباعا له ولا تأسيا به بل يكون واجبا علينا القيام الدلالة على ذلك لأنه إذا فعل
الفعل على جهة الوجوب أو الندب أو الإباحة وفعلناه على غير ذلك الوجه لا نكون متبعين له لما قلناه
فإذا ثبت ان معنى التأسي ما قلناه وجب أن يراعا فيه حصول العلم بصورة الفعل وبالوجه الذي
حصل عليه الفعل ليصح لنا التأسي به والوجه الذي حصل عليه الفعل على ضربين أحدهما ان
يقارن الفعل نحو نية الوجوب (أو الندب) أو الإباحة وهذا هو الذي ينبئ عنه هذا اللفظ على الحقيقة والثاني
المعنى الذي له ان يقوله وان يصح أن يكون مقارنا وذلك نحو أن يزيل النجاسة عن ثوبه لأجل الصلاة
وانما يكون الواحد منا متبعا له بان يزيله لما له ازاله فما من ازاله تنظيفا فلا يكون متبعا له وكذلك
ان توضأ لإزالة الحدث أو الصلاة فاتباعه له انما يكون بأن يفعله على ذلك (هذا خ ر) الوجه فاما موافقته له (ع)
في الفعل يطلق على وجهين أحدهما أن يراد به مساواته في صور الفعل والثاني مساواته في صورة
الوجه الذي وقع عليه الفعل وهذا اظهر في الاستعمال واما مخالفته فقد يكون في القول والفعل
معا فمخالفته في الفعل هو أن يعلم بالدليل وجود التأسي به فإذا لم يتأسى به كان مخالفا له فإذا لم يدل
الدليل على ذلك فان هذه اللفظة لا تستعمل على ضرب من المجاز ولذلك لا يقال ان الحايض خالفت النبي (ع)
في ذكر الصلاة واما مخالفته في القول هو أن يأمرنا بفعل فلا نفعله أو نفعل خلافه فنكون مخالفين له
واما اتباع المأموم للامام في الصلاة فعند أكثر الفقهاء جاز على الوجه الذي قدمناه ومنهم أجاز ان
يكون الامام مؤديا فرضا والمأموم أن يكون متنفلا ولمن قال ذلك ان يقول انما قلت ذلك لدليل دل
عليه والا فالظاهر من اتباعه يقتضى خلاف ذلك وله ان يقول ان اتباعه لم يصح بأن يفعل الفعل
متقربا به أو بأن يوافق في نية الصلاة فقط دون وجوبها أو ندبها فليس ذلك نقضا لما قدمناه وقد
وصف من انكر جواز التأسي به (ع) في افعاله وانه مخالف لكن هذا الخلاف يرجع إلى القول لا إلى الفعل واما
الذي يدل على انه لا يجب من جهة العقل التأسي به واتباعه في افعاله ان مصالح العباد يجوز أن تختلف
في الشرعيات كما ثبت في كثير من ذلك الا ترى ان الحايض يفارق حكمها حكم الظاهر وحكم الغنى
يخالف حكم الفقير في وجوب الحج والزكاة عليه وكذلك يخالف حكم الصحيح حكم العليل في كيفية
أداء الصلاة وكذلك يخالف حكم المسافر حكم الحاضر وأمثلة ذلك أكثر من ان تحصى وإذا
53

ثبت ذلك فلا يمتنع أيضا ان تكون مصالح النبي عليه السلام تخصه ويكون حالنا بخلاف حاله بل ربما كانت مفسده
لنا حتى متى فعلناها كنا مقبحين فإذا ثبت ذلك وجب الرجوع في مشاركتنا له في ذلك إلى السمع فان
دل الدليل عليه حكم به والا بقي على الأصل على ما بيناه ويفارق افعاله (ع) في هذا الباب أقواله لأنه بعث
ليعرفنا مصالحنا وتعريفه لنا ذلك يكون بالقول فلو لم نرجع إلى قوله لأدى إلى خروجه من أن يكون
رسولا وليس كذلك فعله ولأنه إذا أمرنا بشئ فقد اراده منا فيجب أن نفعله ان كان واجبا وان يرغب فيه
ان كان ندبا ولا يجب ان نفعل فعلا رأيناه يفعله لان ذلك لا يدل على انه اراده منا ويدل على ذلك أيضا
ان افعاله تخصه ولا تتعدى إلى غيره الا بدليل وأقواله تتناول غيره وانما يعلم انه داخل فيها بدليل
فعلم بذلك الفرق بين القول والفعل فان قيل ان هذا المذهب يجوز عليكم القول بأن تجوزوا مخالفته
في جميع افعاله الشرعية وتجويز ذلك يقتضى التنفير عن قبول قوله فيجب الحكم بفساده قيل لهم
لا خلاف ان النبي (ع) لو نص لنا على ان لنا مخالفة (مخالفته) في افعاله الشرعية لجاز ولم يوجب ذلك التنفير عن قبول
قوله فكذلك إذا دل العقل على ما ذكرناه يجب القول بجوازه ولم يوجب ذلك التنفير عن قبول قوله
وكذلك لو خص بجميع افعاله لم يوجب التنفير عن قبول قوله وصحة ما قلناه لا يبين فساد قول من قال
افعاله على الوجوب عقلا واما الذي يدل على وجوب التأسي به (ع) في جميع افعاله الا ما خص به من جهة
السمع ما لا خلاف فيه بين الأمة في الرجوع إلى افعاله (ع) في تعرف الاحكام في الحوادث كما انه يرجع إلى
قوله (ع) في مثل ذلك فإذا صح ذلك فكما ان أقواله حجة تجب أن تكون افعاله أيضا حجة ولا خلاف في انه
إذا فعل الفعل على وجه الإباحة وعلم من ذلك من حاله لا يجوز أن يفعله على وجه الوجوب ولا ان يحكم
بوجوبه علينا وانما اختلفوا في افعاله التي لا يعلم على أي وجه وقعت منه هل يحكم بوجوب مثلها
علينا أم لا ولم يختلفوا في افعاله التي هي عبارة مثل الصلاة والصيام يجب التأسي به فيها واختلفوا
فيما عدا ذلك فمنهم من يقول لا يجب التأسي به (الا بدليل يخص ذلك ومنهم من يقول ان ما دل على
وجوب التأسي به في بعضه يدل على التأسي به في سايره فجميع افعاله سواء في انه يتأسى به الا ما استثنى
منها وما قدمناه يدل على صحة ذلك وقوله لقد كان في رسول الله أسوة حسنة وقوله تعالى
فاتبعوه يدلان على ان التأسي به واتباعه فيما يصح اتباعه فيه من قول أو فعل وما ظهر من حال الصحابة
من رجوعهم إلى افعاله صلى الله عليه وآله نحو ما روى عن عمر انه قبل الحجر وقال اعلم انك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا
اني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك ورجوعهم إلى أزواجه في ثبوت ما كان يفعله فيفعلوه
يدل على ذلك أيضا نحو ما روى عن أم سلمه انها سئلت عن القبلة للصايم فأجابت ان رسول الله
صلى الله عليه وآله كان يفعل ذلك فرجع ذلك السايل إليها وقال ان الله غفر لنبيه ما تقدم من ذنبه وما تأخر وليس
سبيله سبيل غيره فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك فأنكر ذلك وقال اني لأرجوا أن أكون أخشاكم لله
54

يدل على ذلك أيضا واعلم ان التأسي به انما يكون فيما يعلم حكمه بفعله فاما إذا كان قوله بيانا أو كان
تنفيذا أو امتثالا لقول متقدم فإنه يفعله ذلك لان القول قد دل على وجوبه لأنه (ع) فعله ولا معنى
لقول من قال لنا ان نتأسى به في ذلك كما انا لا نقول انا نتأسى به في العقليات لان ماله يفعل
ذلك وبالطريق الذي عرف به (ع) وجوب الفعل به نعرف وجوبه فحاله كحالنا في ذلك فصل
في الدلالة على ان افعاله (ع) كلها ليست على الوجوب ذهب مالك وأصحابه وطايفة من أصحاب
الشافعي إلى ان افعال النبي (ع) كلها على الوجوب وذهب الباقون إلى انها على الندب واختلفوا
فقال بعضهم انها على الإباحة وقال بعضهم انها على الندب وقال بعضهم انها موقوفة على الدليل
وذهب المتكلمون وأبو الحسن الكرخي على ان افعاله (ع) على اقسام فمنها ما يكون لمجمل فذلك في حكم المبين
ان كان واجبا فعلى الوجوب وان كان ندبا فعلى الندب وان كان مباحا فعلى الإباحة ومنها ما يكون امتثالا
للخطاب وذلك لا مدخل له في هذا الباب لان الخطاب إذا كان يتناوله ويتناولنا على العموم فعلينا
امتثاله كما عليه ذلك ومنها ما يكون فاعلا له على ما يقتضيه العقل أو يفعله لمصالح الدنيا
وذلك أيضا لا مدخل له في هذا الباب ومنها ما يفعله من الشرعيات فهذا يجب أن يعلم الوجه الذي
وقع عليه فعله (ع) فيتبع فيه بأن يفعل ذلك على الوجه ولا يصح أن يقال في جملتها انه على الوجوب
أو على الندب أو على الإباحة والذي يدل على ذلك انا قد بينا ان ذلك لا يجب من جهة العقل في
الفصل الأول وأدلة السمع خالية من ذلك فينبغي أن ينتفى كونها على الوجوب ويدل على ذلك أيضا
ان فعله (ع) إذا كان يقع على وجوه كثيرة فليس يخلوا من أن يكون على الوجوب من غير اعتبار ذلك الوجه
فالواجب أن يحكم بوجوب الفعل علينا وان علمنا ان (انه خ ر) فعله على طريق الندب أو الإباحة وهذا باطل
بالاجماع وان كانت على الوجوب بأن يعتبر الوجوه التي عليها يقع فهذا تناقض لان اعتبار وجوهه
ينفى وجوب جميعه يدل على ذلك أيضا انه بظاهر فعله لا يعلم وجوبه عليه فبان لا يعلم وجوبه علينا
أولى ويخالف القول (في ذلك لان القول) منه (ع) يعلم وجوب ما تناوله علينا دونه من حيث كان امرا لنا ويختص لنا دونه
وليس كذلك فعله لأنا تبع له فيه فإذا لم يدل على وجوبه عليه فان لا يدل على وجوبه علينا أولى و
يدل على ذلك أيضا ان فعله (ع) لا يدوم في جميع الأحوال بل قد يتركه أحيانا فإذا صح ذلك فليس بان
يحكم بوجوبه لأنه فعله بأولى من أن يحكم بوجوب تركه لأنه تركه إذ القول (الترك خ ر) فعل منه فهو بمنزلة
الفعل في ذلك ويفارق ذلك الامر الذي ليس تركه بمنزلته فيما يختص به وهذا معتمد ما نستدل
به في هذا الباب دون ما أكثر الناس فيه واما من خالف في هذا الباب فليس يخلو خلافه من ان
يقول ان ذلك يجب من جهة العقل من حيث كان نبيا أو من حيث كان في مخالفته تنفير فان قال
بذلك فقد بينا في الفعل انه لا يمتنع ان يخالف حالنا لحاله في المصالح وذلك يبطل ما قالوه أو يقول
55

ان ذلك واجب لدليل سمعي دل على ذلك فالواجب علينا أن نبين ان ما ادعوه دليلا أو تعلقوا به
ليس فيه دلالة على حال لأنا لا ننكر أن يقوم على وجوب ذلك دليل لكن لم يثبت ذلك وقد استدل
القوم على ذلك بأشياء منها قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن امره قالوا فحذرنا عن مخالفته و
الامر يتناول الفعل كما يتناول القول لان الله تعالى قال يدبر الامر من السماوات إلى الأرض قال واليه يرجع
الامر كله وقال وما امر فرعون برشيد وإذا ثبت ان الامر يتناول الفعل كما يتناول القول وجب أن
تكون افعاله (ع) على الوجوب والا لم يجب التحذر عن مخالفتها والجواب عن ذلك ان الآية لا تدل على ما
قالوه من وجوه أحدها ان لفظ الامر موضوع في الحقيقة للقول بدلالة ما قلناه (قدمناه خ ر) في أول الكتاب في باب
الأوامر وإذا صح ذلك لم تتناول الآية الفعل وذلك يبطل التعلق بها وما تقدم من قوله لا تجعلوا دعاء
الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا يدل على ان المراد بالآية القول دون الفعل وانه أراد ما
ندبهم إليه وأمرهم به ومنها ما قيل ان الهاء في قوله عن امره يرجع إلى أقرب المذكورين وهو الله تعالى
وإذا ثبت ذلك فحملها على الرسول ورجوعها إليه حتى يمكن الاستدلال بها لا يصح ولا يمكن
ان يقال انها يرجع إليها لان الكناية عن واحد فكيف تحمل على الاثنين ومنها ان قوله فليحذر الذين يخالفون
عن امره لا يمكن حمله على العموم ولابد من كون القول مرادا به وإذا وجب ذلك فلا يجوز أن يراد به الفعل
فهذا انما يعتمده من ذهب إلى ان العبارة الواحدة لا يراد بها المعنيان المختلفان وقد بينا ان الصحيح
خلاف ذلك فالمعتمد إذا ما قدمناه ويجرى مجرى ذلك أيضا ان يقال ان التحذير من مخالفة
يقتضى وجوب الموافقة والموافقة له (ع) في الفعل تقتضي ان يفعل الفعل على الوجه الذي فعل
ما قدمناه القول فيه وذلك يبطل كون افعاله كلها على الوجوب واستدلوا بقوله تعالى فاتبعوه
فإنه أمرنا باتباعه وأمره تعالى على الوجوب فيجب كون اتباعه في افعاله واجبا فهذا يبطل ما قدمناه
من تفسير الاتباع لأنا قد بينا ان المتبع له انما يكون متبعا إذا فعله على الوجه الذي فعله ومتى
فعله على غير ذلك الوجه لا يكون متبعا بل يكون مخالفا ويجرى ذلك مجرى ان يفعل فعلا اخر
لان اختلاف الوجهين في الفعل الواحد يجرى مجرى فعلين وقد قال قول في الجواب عن ذلك
ان المتبع فيه محذوف ذكره لأنه لا يصح اتباعه في أشياء مختلفة وهذا ليس بصحيح لان لقايل
أن يقول ان الظاهر يقتضى وجوب اتباعه في كلما يصح ان يتبع فيه واستدلوا أيضا بقوله تعالى
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وانه إذا جعله أسوة لزمنا التأسي به سيما وقد
قال في سياق الآية لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وهذا تهديد لمن ترك التأسي وهذا أيضا
يسقط بما قدمناه من معنى التأسي وقوله لمن كان يرجو الله واليوم الاخر ليس بتهديد ولا وعيد
لان الرجاء انما يكون في المنافع فكأنه قال تعالى لمن كان يرجو أثواب الله والثواب قد يستحق بالندب
56

كما يستحق بالواجب وقد قيل في الجواب عن ذلك ان الله تعالى لما قال لقد كان لكم في رسول الله أسوة
حسنة ولم يقل عليكم دل على انه رغبنا في ذلك وذلك لا يقتضى الوجوب والأول أقوى واستدلوا
أيضا بقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول والاستدلال بذلك لا يصح لان طاعته لا تكون
الا بفعل ما امر به وليس للفعل في ذلك مدخل الا أن يقترن به قول يقتضى التأسي به واستدلوا أيضا
بقوله تعالى وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا والتعلق بذلك أيضا لا يصح لان معنى
قوله وما اتاكم وما أعطاكم وادى إليكم وذلك لا يصح الا في القول الذي نسمعه منه ونمتثله لان
سمعنا له وحفظنا إياه وامتثالنا له لم يجرى مجرى ما تناولنا منه واستدلوا باخبار رووها في هذا
الباب كلها اخبار آحاد لا يصح الاعتماد عليها في هذا الباب وما قلناه في تأويل الآيات قد نبه على طريق
القول فيما نحو ما روى عنه (ع) انه خلع نعله في الصلاة فخلعوا نعالهم وما شاكله لان ذلك انما يدل على
انما فعلوه حسن يجوز فعله ولا يدل على انه واجب لا يجوز خلافه واستدل بعضهم على ذلك بأن قال
ان الفعل اكد من القول لأنه كان (ع) إذا أراد تحقيق امر فعل ذلك ليقتدى به كذلك فعل في غير شئ من المناسك
والوضوء والصلاة وغيرها فبان يكون الفعل على الوجوب أولى وهذا يبطل بما قدمناه لان القول
يقتضى انه قد أراد منا ما يقتضيه والفعل بخلافه وانما يكون فعلا تحقيقا للامر إذا وقع عقيبه فيقع
موقع التأكيد واما إذا كان مبتدأ فلا يصح ذلك فيه واستدل بعضهم بان قال ان الوجوب
أعلى مراتب الفعل فإذا عدمنا الدليل على أي حال فعله وعلى أي وجه أوقعه لزمنا التأسي
به فيه (ع) فيجب أن نتبعه على الوجه هو أعلا مراتبه وهذا كلام ليس تحته فايدة لان كون الوجوب
أعلى على ما قاله لا يقتضى ان حالنا كحالنا ولا ان ما فعله واجب علينا فما في ذلك مما يتعلق به
واما من قال ان فعله على الندب أو الإباحة فقوله يبطل بمثل ما أبطلنا به قول من قال انها
على الوجوب سواء فلا فايدة ليزداد القول فيه وهذه جملة كافية في هذا الباب والله الموفق
للصواب فصل في ذكر الوجوه التي يقع عليها افعاله (ع) وبيان الطريق إلى معرفة ذلك فعال النبي (ع)
على ثلاثة اقسام فعل وقول واقرار للفاعل على فعله وهى اجمع على ثلاثة اقسام واجب ومندوب
ومباح فما هو له فعل له ينقسم ثلاثة اقسام إلى بيان ما هو بيان له والى امتثال الخطاب والى ابتداء
فما هو بيان المبين على ضروب منها بيان المجمل ومنها تخصيص العموم ومنها النسخ وينقسم قسمة
أخرى منها ما هو قضاء على الغير ومنها ما هو متعلق بالغير ومنها ما لا تعلق له بأحد و
ليس يخرج عن هذه الاقسام شئ من افعاله الشرعية فاما ما لا تعلق له بالشرع فلا طائل في ذكره
ونحن نبين الطريق إلى معرفة كل واحد من هذه الاقسام لان معرفة طرقها تختلف اما الذي
به يعلم ان فعله بيان فهو ان يعلم ان فعله تقدمه ما يحتاج إلى بيان وتقدم هناك قول
57

يمكن أن يكون بيانا له فيعلم حينئذ ان الذي يمكن أن يبين ذلك به والا أدى إلى عدم البيان مع الحاجة
إليه ومنها أن يعلم ثبوت ما يحتاج إلى بيان وبينه (ع) على ما ان ما فعله بيان له بقول أو غيره وقد يعلم
بان فعله تخصيص العموم بأن يقتضى رفع ما يقتضيه العام وقد تقدم القول في ذلك وكذلك
قد مضى القول فيما يكون من فعله نسخا في موضعه ويعلم ان فعله بيان على جهة الإباحة أو الندب
أو الوجوب بحسب ما يحصل لنا من العلم بالمبين لأنا بينا ان بيان الشئ في حكمه وقد مضى القول فيه
فاما ما به يعلم ان فعله امتثال فهو أن يتقدم علمنا بخطاب يقتضى وجوب ذلك الفعل عليه على
الحد الذي فعله فيعلم به انه امتثال للآية وكذلك القول إذا اقتضى الندب أو الإباحة وأما به يعلم
ان فعله ابتداء شرع فهو أن يعلم عدم هذين الوجهين وانه ليس هناك قول يقتضى ما اقتضاه ذلك
الفعل واما ما به يعلم من تركه والفضل بينهما وبين اقراره غيره على الفعل فالذي يجب أن يعلم
في ذلك حكم تركه واقراره لان ما عداه لا اشكال فيه اما تركه لما يتركه فقد يكون تاركا لامر يخصه (ع)
وليس لذلك مدخل في هذا الباب وقد يكون تركا لفعل يقتضى بعض الخطاب وجوبه له فذلك تخصيص
له وإذا ترك النبي (ع) قطع يد سارق أقل من ربع دينار مع انه لا وجه يقتضى لاسقاط قطعه وعلم بذلك
القدر الذي سرق لا يستحق به القطع فاما إذا جوزنا أن يكون ماله ترك قطعه امر اخر فلا يدل
على ذلك ولو ترك (ع) الفعل في وقت اقتضى القرآن وجوبه فيه يعد ذلك نسخا أو تخصيصا وإذا
ترك (ع) عنده قيامه إلى الثالثة الرجوع إلى القعود دل على انه ليس من أركان الصلاة واما ترك
الصلاة في وقت لعذر فليس يدل على سقوطه بل يجوز أن يؤخر إلى وقت اخر واما اقراره الغير
على فعل فإنه ان كان لم يتقدم منه بيان قبحه فان اقراره يدل على حسنه بأنه لو لم يكن حسنا لبينه
قبل فعله فضلا على (عن ظ) ذلك في حال فعله وان كان قد تقدم بيان قبحه نظر فيه فان كان قد علم من
حاله انه يظن انه إذا انكر ترك المنكر عليه فعله فلم ينكره دل على حسنه وان لم يعلم ذلك من
حاله نظر فان كان قبح ذلك مستفادا بالشرع لا لعقل فإذا لم ينكره ولم يحصل ما يجرى مجرى
الانكار دل على حسنه لأنه إذا كان قبيحا ويعلم قبحه من جهته فاقر عليه أوهم انه منسوخ فادى
تركه النكير لذلك إلى التنقير (التنفير) عن القبول منه فهذا يجب أن يجرى اقراره واما الطريق الذي
يعلم به ان فعله مباح فوجوه منها انه لو كان قبيحا لما فعله فيعلم بذلك انه حسن فإذا عدمنا
الدليل على وجوبه أو كونه ندبا علمنا انه مباح ومنها أن يعلم قبوله (بقوله ظ) انه مباح بأن ينص عليه
ومنها أن يكون فعله بيان لجملة تقتضي فعلا مباحا واما الطريق الذي يعرف به كون فعله
ندبا فبان يعلم ان ما فعله قربة شرعية ويعلم ذلك بوجوه منها أن يكون بيانا للندب
ومنها أن يكون ما يفعله (ع) تارة في وقت مخصوص ويتركه أخرى بلا عذر ومنها أن يعلم انه قصد
58

إلى فعله في الصلاة مرة ولم يفعله أخرى مع جواز الصلاة ومنها أن يعلم انه قد مدح عليه ولم يذم على تركه
ولم ينكر ذلك فاما ما يعلم انه فعله ووقع على جهة الوجوب فأشياء منها أن يكون بيانا لواجب ومنها
أن يكون مما لو لم يكن واجبا لما جاز أن يفعله نحو أن يركع في الصلاة ركوعين على سبيل القصد ومنها
ان يفعله على وجه قد صار امارة للوجوب وما شاكلها يعلم حال فعله (ع) نحو أن يؤذن للصلاة
ويأكل (ويأخذ خ ر) من مال غيره بعد العد والاحصاء فبهذه الوجوه قضى (قضا خ ر) على الغير فالحال في انه قضاء على الغير
ظاهر ويكون على وجوه لكن جميعها سواء في انه قضاه يلزم المقتضى عليه هذا إذا كان حكما واما
إذا كان جوابا لسؤال فقد سومح ويجب أن يحكم فيه بوجوب أو غيره بحسب الدلالة واما ما يتعلق
بالغير من فعله فنحو مدحه وذمه وعقابه اما المدح فإنه يدل على ان الممدوح عليه ندب واما
الذم فإنه يدل على ان الفعل الذي ذمه عليه قبيح فان ذمه لأنه لم يفعل الفعل أو تركه دل على
وجوبه واما عقابه الغير على بعض الافعال فإنه يدل على قبحه ويدل مع ذلك على انه كبيرة عند
من قال بالصغاير فينبغي أن يجرى مجرى افعاله (ع) على هذه الوجوه ويتبع فيها على الوجه الذي
عليه يقع وبالله التوفيق فصل في ذكر افعاله إذا اختلف هل يصح فيها التعارض أم لا لا يصح
التعارض بافعاله (ع) لان التعارض انما يقع في فعلين ضدين أو فعل الشئ وتركه ونحن نعلم انه لا يقع
منه (ع) الفعلان الضدان ولا الفعل وتركه في حال واحدة وانما يقع منه الفعل في حال وضده في حال اخر وما
يقع منه في حالين وان تضادا فإنه يمكن التأسي به فيهما كما يمكن امتثال الامر والنهي إذا تضمنا
فعلين في حالين وما هذه حاله لا يصح التعارض فيه فصار فعله في هذا الباب مخالفا لقوله و
لهذا لا يصح نسخ فعله في الحقيقة وذلك ان فعله الأول لا ينتظم الأوقات حتى يكون فعله الثاني
رافعا ما لولا رفعه له لتناوله الأول على ما بيناه من نسخ القول لكن الامر وان كان كذلك فان الفعل
الأول إذا علم انه قد أريد به ادامته في المستقبل صح كون ما بعده ناسخا وذلك ان الفعل إذا وقع
بهذا الموقع جرى مجرى قول يتناول ايجاب الفعل في الأوقات المستقبلة فكما يصح النسخ لقول
هذا حاله فكذلك يصح نسخ الفعل إذا كان هذه صفته وقد بينا ان النسخ قد يدخل في
غير القول من أدلة الشرع كما يدخل في القول وانه يخالف التخصيص الذي من حقه ان
يتناول الفعل إلى غاية فقط وليس لاحد أن يعترض ما قدمناه من نسخ الفعل بالفعل
بان يقول كيف يصح نسخ الافعال لان ما بيناه قد اسقط ذلك فاما تخصيص الفعل بالفعل
فلا يصح لان الافعال لا تتناول أشياء يخص منها بعضها فاما من جهة المعنى فان التخصيص
في الفعل انما يكون بان يعلم ان المراد بالفعل الأول جميع المكلفين وذلك الفعل واجب
فإذا رأيناه قد أقر بعضهم على تركه أو مدحه عليه علم انه مخصوص من جملتهم وسواء كان المدح
59

أو الإقرار منه عقيب الفعل الأول أو بعده بزمان متراخ على ما جوزناه من تأخير البيان عن وقت الخطاب فاما
من أبي ذلك فإنه لا يجوز ذلك الا إذا كان عقيب الفعل الأول على (لا ظ و) بعد ذلك عنده واما تخصيصه (ع) نفسه
فإنه لا يصح لان التخصيص يدل على انه (ع) من الجملة لم يرد وفعله (ع) قد أنبأ على انه مراد فيستحيل تخصيصه
نفسه في الحال من هذه الوجوه فاما في المستقبل فإنه لا يمتنع ذلك واما القول في فعله وأمره إذا تضادا و
تعارضا فإنه يجب أن ينظر فيهما فان كان القول متقدما وقد مضى الوقت الذي يجب فعله فيه ثم
فعل (ع) ما يعارض ذلك فهو نسخ وذلك نحو تركه قتل الشارب الخمر في المرة الرابعة بعد قوله فان شربها الرابعة
فاقتلوه على ما يرويه مخالفونا وانما ذكرناه مثالا لو ثبت فان فعل ذلك قبل مجيئ الوقت الذي تعبدنا
بالفعل فيه فلا يصح أن يكون نسخا بل يجب حمله على انه مخصوص لان النسخ قبل الوقت لا يجوز اما إذا
تقدم الفعل ثم وجد القول يقتضى رفع ما اقتضاه الفعل فذلك نسخ لا محالة لأنه متأخر عن حال
استقرار الغرض فإذا لم نعلم المتقدم من المتأخر وكان قوله يقتضى وجوب الفعل أو خطره وكان
فعله يقتضى خلاف ذلك فالاخذ بالقول أولى لان فعله لا يتعداه الا بدليل ومن حق قوله ان يتعداه
ولا يصح أن يكون مقصورا عليه فإذا صح ذلك واجتمعا فالواجب أن يتمسك بقوله ويحمل فعله
على انه مخصوص به لان قوله لا يصح قصره عليه ويصح قصر فعله عليه فإذا اجتمعا فبان يتمسك
بالقول الذي من حقه ان يتناولنا أولى من الفعل سيما وقد أثبت ان أقواله على الوجوب وان افعاله
موقوفة على الدلالة وكل ذلك يوجب ترجيح قوله (ع) على فعله فصل في انه (ع) هل كان متعبدا بشريعة
من كان قبله من الأنبياء أم لا عندنا ان النبي (ع) لم يكن متعبدا بشريعة من تقدمه من الأنبياء لا قبل
النبوة ولا بعدها وان جميع ما تعبد به كان شرعا له ويقول أصحابنا انه (ع) قبل البعثة كان يوحى
إليه بأشياء تخصه وكان يعمل بالوحي لا اتباعا لشريعة واما لفقهاء فقد اختلفوا في ذلك والمتكلمون
فالذي ذهب إليه أكثر المتكلمين من أهل العدل وهو مذهب أبي هاشم وأبي على انه لم يكن متعبدا
بشريعة من تقدمه وان جميع ما تعبد به كان شرعا له دون من تقدمه وحكى أبو عبد الله عن أبي الحسن انه
ربما نص هذا وربما نص خلافه وفي العلماء من قال انه كان متعبد بشريعة من تقدمه واختلفوا
فمنهم من قال تعبد بشريعة إبراهيم ومنهم من قال تعبد بشريعة موسى واختلف المتكلون في انه (ع)
قبل البعثة هل كان متعبدا بشئ من الشرايع أم لا فمنهم من قطع على انه كان متعبدا بشريعة بعض من
تقدمه من الأنبياء ومنهم من قطع على خلافه ومنهم من توقف في ذلك وجوز كلا الامرين والذي
يدل على ما ذهبنا إليه اجماع الفرقة المحقة لأنه لا اختلاف بينهم في ذلك وإجماعها حجة على ما نستدل
عليه انشاء الله ويدل على ذلك أيضا ما ثبت بالاجماع من انه (ع) أفضل من جميع الأنبياء ولا يجوز أن
يؤمر الفاضل باتباع المفضول على ما دللنا عليه في غير موضع فان قيل فمن اين يعلم انه كان قبل
60

النبوة أفضل من ساير الأنبياء قيل لم يخص أحد تفضيله على ساير الأنبياء بوقت دون وقت
فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات ويدل على ذلك أيضا انه لو كان متعبدا بشريعة من تقدمه فاما بان
يكون شرعا لذلك المتقدم ويكون في حكم المؤدى عنه فكان يجب أن لا يضاف جميع الشرع إليه كما لا
يضاف الشرع إلى من يؤدى عنه (ع) لما كان مؤديا عنه (ع) وفي علمنا بإضافة جميع الشرع إليه دليل على
انه لم يكن متعبدا بشرع من تقدمه ويدل على ذلك أيضا انه لو كان متعبدا بشرع من تقدم لم يخل
من أن يكون متعبدا بشريعة موسى (ع) أو عيسى (ع) لان شريعة من قبلهما مندرسة وهي مع ذلك
منسوخة بشريعتهما فان قالوا كان متعبدا بشريعة موسى (ع) فان ذلك فاسد من حيث كانت شريعته
منسوخة بشريعة عيسى (ع) وان قالوا كان متعبدا بشريعة عيسى (ع) فسد ذلك من وجهين أحدهما
ان شريعته قد انقطعت واندرس نقلها ولم تتصل كاتصال نقل المعجزة الذي تقتضي ما هي عليه
نقلها وإذا لم يتصل لم يصح ان يعلم وفي ذلك اخراج له من أين يكون متعبدا بها والثاني ان القول بذلك
يبطل ما يعتمدون عليه من رجوعه (ع) إلى التورية في رجم اليهوديين به لأنه كان يجب أن يرجع إلى الإنجيل
دونها ويدل على صحة ما قلناه ان الذي يخالف في ذلك لا يخلو قوله من ان تعبد بشريعة موسى (ع) بأن دعاه
موسى إلى شريعته ما لم ينسخ والحجة قائمة عليه بذلك أو نقول انه تعبد بشريعة موسى بأن امر بالتمسك
بها امرا مبتدأ وان كان يحتاج أن يرجع إليهم في تعرف ما يتمسك به من شريعته أو نقول انه تعبد
بشريعته بان امر بأشياء قد كانت شريعة له وان علمها هو من جهة الله تعالى فان ذهبوا إلى ما قلناه
أولا فليس يخلو من ان نقول انه (ع) كان يمكنه أن يعرف شريعتهم من غير جهة الله تعالى بل بالرجوع
إليهم في تعرف ذلك أو يقول ما كان يصلح له ذلك وانما كان يعرف ذلك من قبل الله تعالى
فان قالوا بالأول فهو خلاف بالمعنى والذي يبطل قوله أشياء منها ما استدل به أبو علي وأبو هاشم
من أنه (ع) لو كان متعبدا بشريعة من قبله لكان لا يتوقف في قصة الظهار وقصة الميراث وقصة
الافك على نزول الوحي عليه لان هذه الحوادث معلوم ان لها احكاما في التورية ظاهرة كما فيما
بينهم فلو كان متعبدا بذلك لرجع إلى التورية وبحث عن حكمها كما بحث بزعمهم عن الرجم ولو كان
توقفه على الوحي يجرى توقفه في شئ قد بين له على الوحي وفي فساد ذلك دليل على انه لم يكن متعبدا الا
بما ينزله الله عليه وكان يجب أيضا أن يرجع الصحابة في معرفة الاحكام إلى التورية وأهلها كرجوعهم
إلى القران وفي تركهم ذلك دليل على انهم لم يتعبدوا بذلك ولا النبي (ع) ومنها ان النبي (ع) صوب
معاذا في قوله اجتهد رائي عند عدم الكتاب والسنة فلو كان متعبدا بشريعتهم لعده في جملة ذلك
ولنبه معاذا على خطائه بترك ذلك وان أراد القسم الأخير فليس في ذلك خلاف ولا يوجب ذلك
أن يكون متعبدا بشرع من تقدم لان الامر بمثل شريعتهم إذا ورد عن الله تعالى أو بين المأمور به
61

فذلك تعبد من الله تعالى ابتداء وليس يجب إذا امر بفعل تعبد به موسى ان يكون النبي (ع) متعبدا
بشريعته لأنه لا فضل بين أن يتعبده بذلك الفعل بأن يذكره وبين صفته وبين أن يلزمه ويضيقه
إلى موسى (ع) لان في الحالين جميعا هو تعالى المتعبد به واما من قال انه (ع) كان متعبدا بشريعة موسى
وقال انه لا يصح أن يعرف الشريعة من جهته فقد ناقض لان التعبد بشريعة يقتضى صحة العلم
بها من جهته واما من قال انه تعبد بأشياء من شريعته بأمر مبتدء أو امر أن يرجع في معرفة
ذلك إليهم فالذي يدل على بطلان قوله ما قدمناه من الأدلة وان كان هذا الوجه لا يقتضى
كونه متعبدا بشريعتهم إذا امر بذلك امرا مبتدء لو صح ما ادعوه فكيف وذلك لا يصح واعلم ثم
انه لولا ما قدمناه من الدليل على كونه أفضل الأنبياء (ع) ما كا يمتنع غدا أن يتعبد بشريعة من
تقدم من الأنبياء لأنه كما يجوز أن يتعبد بخلاف شريعتهم جاز أيضا أن يتعبد بمثل شريعتهم لان
المصالح تختلف وتتفق وكلا الامرين يجوز فيها فلا يمتنع ان يعلم الله تعالى ان صلاح النبي
الثاني وصلاح أمته بخلاف شريعة الأول فيتعبده به وعلى هذه جرت سنة الله تعالى في أكثر
الأنبياء ولا يمتنع أيضا ان يعلم صلاح الثاني وأمته في مثل شريعة الأول فيتعبدوا بها وليس لاحد
أن يقول ذلك لا يجوز لأنه لو كان كذلك لم يكن في بعثة النبي (ع) الثاني واظهار المعجز على يديه
فايدة لان شريعته معلومة من جهة غيره وذلك انما يجوز بعثة النبي الثاني بشريعة النبي
الأول إذا كانت تلك الشريعة قد اندرست وصارت بحيث لا يعلم الا من جهة النبي الثاني
أو بأن يكون النبي الأول مبعوثا إلى قوم بأعيانهم ويبعث الثاني إلى غيرهم أو أن يراد في شريعة
الثاني زيادة لا يعلم الا من جهته فهذه الوجوه تخرج بعثته من أن تكون عبثا فان قيل كيف
يجوز هذا التقدير على ان ما تعتقدون أنتم من ان كل شرع لابد له من حافظ معصوم
لا يجوز عليه الغلط وإذا كان لابد له من ذلك على مذهبكم فمتى اندرست الشريعة أمكن الرجوع
إليه فيها فلا يحتاج إلى نبي اخر قيل له نحن انما نوجب حافظا للشرع معصوما إذا علمنا ارتفاع
الوحي وانقطاع النبوة ويعلم ان التواتر لا يمكن حفظ الشرع به لأنه يجوز أن يصير آحادا فإذا لابد
لها من حافظ معصوم وليس كذلك في الشرايع المتقدمة لأنه لا يمتنع أن تكون تلك الشرايع محفوظة
بالتواتر فمتى فرضنا انها صارت آحادا بحيث لا ينقطع عذر المكلفين بنقلها بعث الله تعالى
نبيا اخر بينها (بينها) ويستدركها هذا إذا فرضنا بقاء التكليف بالشريعة الأولة على من يجيئ فبما
بعد فاما إذا فرضنا انه يجوز أن يكون التكليف للشريعة الأولى إذا صارت آحادا قد ارتفع و
وجب التمسك بما في العقل فإذا كان ذلك لا يجب أن يكون لها حافظ ولا بعثة نبي اخر وكان
يجوز أيضا ان يتعبد باخبار الآحاد إذا صارت الشريعة إلى حد لا ينقل الا من جهة الخبر الواحد
62

وكل ذلك مفقود في شريعتنا لان الوحي قد ارتفع والرسالة قد انقطعت والتكليف باق إلى يوم
القيمة والعمل بخبر الواحد غير صحيح على ما بيناه فيما مضى فلو لم يكن لها معصوم والتواتر يجوز أن
يكون (يصير خ ر) آحادا كان ذلك يؤدى إلى ان الشرع غير محفوظ أصلا وذلك لا يجوز واستدل من خالفنا
على صحة قوله بأشياء منها انه لو لم يكن متعبدا بشريعة من تقدم لم يكن يذكى قبل بعثته ولم يأكل
اللحم المذكى ولا كان يحج ويعتمر ولا كان يركب البهايم ويحمل عليها لان جميع ذلك يحسن سمعا وفي
علمنا بأنه كان يفعل ذلك دليل على صحة ما قلناه وهذا لا يلزمنا على ما قررنا من مذهبنا
في هذا الباب لأنا قلنا انه قبل بعثته كان يوحى إليه بما يخصه فلأجل ذلك كان يفعل ما بفعله (يفعله)
من الأشياء التي ذكروها ان صح منه فعلها واما من وافقنا في هذا المذهب وخالفنا في هذه
الطريقة فإنه يقول ان تزكية البهايم وفعله الحج والعمرة لو ثبت لدل لكن ذلك لم يثبت وما
روى من ذلك فإنما طريقة اخبار الآحاد لا يعول عليها في هذا الباب واما اكله اللحم المذكى فحسن
في العقل وليس فيه دليل على ما قاله السائل لأنه بمنزلة اكل ساير المباحات ولم يثبت عنه (ع)
انه كان يأمر بالتذكية ليأكل اللحم فيسوغ التعلق به واما ركوب البهيمة والحمل عليها فذلك
بحسن عند كثير منهم لما لها في ذلك من المنافع التي يوصل إليها من العلف وغير ذلك و
يخالف الذبح لان الذبح يقطعها عن المنافع وتعلقوا أيضا برجوعه (ع) إلى التورية في رجم اليهوديين
وذلك لا يصح لان ذلك من اخبار الآحاد التي لا يعتمد في هذا الباب فلو كان كذلك لرجع إلى
التورية في ساير الاحكام ولما كان ينتظر الوحي ما بيناه وفي تركه الرجوع إليها دليل على انه لم
يرجع إليها في الرجم ان صح مما قالوه فسقط بذلك ما تعلقوا به وقد قيل في الجواب عن ذلك
انه انما رجع إليهم لأنه كان قد اخبر ان في التورية رجم الزاني فأراد أن يحقق صدقه ليدلهم على نبوته
بالرجوع إليهم ليعرف ثبوت الرجم من جهتهم قالوا ولو كان رجوعه إليهم لما قالوه لرجع في غيره أيضا
ولوجب أن يتعرف هل الرجم في التورية على كل زان أو هو على محصن فقط ولوجب أن لا يقبل قول
اليهود الذين رجع إليهم لان يقول مثلهم لا يقع العلم ولا هم على صفة تقبل قولهم في الديانات ولما
مدحهم في ان ذلك في التورية لأنه قد ظهر تحريفهم لكثير منها فدل جميع ذلك على بطلان تعلقهم به
وتعلقوا أيضا بقوله تعالى واتبع ملة إبراهيم حنيفا وبقوله فبهداهم اقتده وبقوله انا أنزلنا التورية
فيها هدى ونور يحكم بها النبيون وهو (ع) من جملتهم وذلك يقتضى صحة ما قالوه قيل له اما
الملة التي أمرنا باتباعها فهو دين إبراهيم لان الملة هي الدين لان المراد بذلك التوحيد والعدل
بين ذلك قوله ومن يرغب عن ملة إبراهيم الا من سفه نفسه وقد علمنا ان الملة التي يستحق
الراغب عنها هذا الوصف هي العقليات واما قوله فبهداهم اقتده فإنه أراد بذلك أدلتهم
63

التي تدل على العقليات لان ذلك هو الذي يضاف إليهم فاما الشريعة فقوله هو الدليل
فيها فالإضافة لا تصح فيها واما قوله تعالى فيها هدى ونور يحكم بها النبيون فالمراد به ما قدمناه
يدل على ذلك قوله تعالى يحكم بها النبيون فظاهر ذلك يقتضى ان كل من كان قبل موسى
قد حكم بذلك ولا يصح مع ذلك حمله على الشرعيات في هذا الباب الكلام في الاجماع فصل
في ذكر اختلاف الناس في الاجماع هل هو دليل أم لا ذهب المتكلمون بأجمعهم والفقهاء بأسرهم على
اختلاف مذاهبهم إلى ان الاجماع حجة وحكى عن النظام وجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر انهم قالوا
الاجماع ليس بحجة واختلف من قال حجة فمنهم من قال انه حجة من جهة العقل وهم الشذاذ وذهب
الجمهور الأعظم والسواد الأكثر صلى الله عليه وآله إلى ان طريق كونه حجة السمع دون العقل ثم اختلفوا فذهب داود
وكثير من أصحاب الظاهر إلى ان اجماع الصحابة هو الحجة دون غيرهم من أهل الاعصار وذهب مالك
ومن تابعه إلى ان الاجماع المراعى هو اجماع أهل المدينة دون غيرهم غير انه حجة في كل عصرهم
وذهب الباقون إلى ان الاجماع حجة في كل عصر ولا يختص ذلك بعصر الصحابة ولا باجماع أهل
المدينة والذي نذهب إليه ان الأمة لا يجوز أن تجتمع على خطاء وان ما يجمع عليه لا يكون الا
صوابا وحجة لان عندنا انه لا يخلو من الاعصار من امام معصوم حافظ للشرع يكون قوله حجة
يجب الرجوع إليه كما يجب الرجوع إلى قول الرسول (ع) وقد دللنا على ذلك في كتابنا تلخيص
الشافي واستوفينا كل ما يسئل على ذلك من الأسئلة وإذا ثبت ذلك فمتى أجمعت الأمة على
قول فلابد من كونها حجة لدخول الامام المعصوم في جملتها ومتى قيل جوزوا أن يكون قول
الامام منفردا عن اجماعهم قلنا متى فرضنا انفراد الامام عن الاجماع فان ذلك لا يكون اجماعا
بل لو انفرد واحد من العلماء عند من خالفنا من الاجماع أخل ذلك باجماعهم فان قيل إذا كان
المدعى في باب الحجة قول الامام المعصوم فلا فايدة في ان تقولوا ان الاجماع حجة أو تعتبروا ذلك
بل ينبغي أن تقولوا ان الحجة قول الامام ولا تذكرون الاجماع قيل له الامر وان كان على ما تضمنه السؤال
فان لأعتبارنا الاجماع فايدة معلومة وهى انه قد لا يتعين لنا قول الامام في كثير من الأوقات
فيحتاج حينئذ إلى اعتبار الاجماع ليعلم باجماعهم ان قول المعصوم داخل فيهم ولو تعين لنا قول
المعصوم الذي هو الحجة لقطعنا على ان قوله هو الحجة ولم نعتبر سواه على حال من الأحوال و
متى فرضنا ان الزمان يخلو من معصوم حافظ للشرع لم يكن الاجماع حجة على وجه من الوجوه
والذي يدل على ذلك انه لا دليل على كونهم حجة لا من جهة العقل ولا من جهة الشرع فإذا
لم يكن دليل وجب القطع على نفى كونه حجة لفقد ما يدل عليه ونحن نتبع ما يعتمده الخصوم في هذا الباب
من جهة العقل والشرع معا ونبين انه لا دلالة في شئ من ذلك اعتمد من قال انهم حجة من جهة
64

العقل على انهم مع كثرتهم وانتشارهم في البلاد واختلاف آرائهم وبعد همتهم لا يجوز أن يجمعوا على خطاء
ولو جاز ذلك لجاز أن يتفقوا على اكل طعام واحد ولبس لباس واحد وفعل واحد ويأتي الشعراء
الكثيرون بقصيدة واحدة في معنى واحد وغرض واحد وكل ذلك يعلم بطلانه ضرورة وفي
صحة ذلك دليل على انهم لا يجمعون على خطاء وهذا ليس بشئ لان جميع ما ذكروه لا يشبه مسألة
الاجماع لان جميعه تابع للدعاوى والآراء واختلاف الهمم والعادة مانعة من اتفاقهم في الدعاوى
والآراء في الأمثلة التي ذكروها وليس مسألة الاجماع من هذا الباب لأنه يجوز أن تدخل عليهم
الشبهة فيعتقدوا انه ما ليس بدليل انه دليل فيجمعوا عليه وقد دخلت الشبهة في مثل
أمتنا وأكثر منهم فيما تعلق بباب الديانات الا ترى ان اليهود والنصارى ومن خالف الاسلام
قد اتفقوا على بطلان الاسلام وتكذيب نبينا (ع) وهم أكثر من المسلمين اضعافا مضاعفة وليس اجماعهم على ذلك دليل على
بطلان الاسلام لأنهم اجمعوا لدخول الشبهة عليهم وانهم لم يمعنوا النظر في الطرق الموجبة
للقول بصحة الاسلام فكذلك القول في اجماع الأمة على ان ذلك ان منع من اجماعهم على باطل
فإنما منع من اتفاقهم على ذلك ولا يمتنع ان يتفقوا على الخطاء مع العمد والتواطئ لان التواطؤ
على أمثالهم ومن أكثر منهم جايز وانما يؤمن من ذلك إذا دل الدليل على كونهم حجة وثبت
ذلك فاما قبل ثبوته فنحن في سير ذلك فالمنع منه غير صحيح فان قالوا لو جاز عليهم الخطاء
فيما يجمعون عليه لجاز على المتواترين الخطاء فيما يخبرون به لان الأمة بأجمعها أكثر من قوم متواترين
ينقطع بنقلهم الحجة ولو أجاز ذلك في المتواترين أدى ذلك إلى الا نثق بشئ من الاخبار ولا
نعلم شيئا نقلوه وذلك يؤدى إلى ما يعلم ضرورة خلافه فقيل التواتر لم يكن حجة من حيث
انه لا يجوز عليهم الخطاء وانما كان حجة لأنهم نقلوا نقلا يوجب العلم الضروري عند من قال
بذلك أو علما لا ينخلج (يتخالج خ ل) فيه بالشكوك عند من قال الاكتساب فالحجة في نقلهم بحصول العلم
بما نقلوه لا بمجرد النقل وكان يجوز أن لا ينقلوا ما نقلوه اما خطاء أو عمدا فيخرج خبرهم
من أن يكون موجبا للعلم فيلحق حينئذ بباب الاجماع الذي نحن في اعتبار كونه حجة أم لا وهذا بين
لا اشكال فيه ولم يعتمد هذه الطريقة الا شذاذ من القائلين بالاجماع والمحصلون منهم
عولوا على أدلة السمع في هذا الباب ونحن نذكر ما اعتمدوه ونتكلم عليه وله انشاء الله
تعالى أحد ما اعتمدوا عليه قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى
ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسائت مصيرا قالوا فتوعد الله
تعالى على اتباع غير سبيل المؤمنين كما توعد على مشاقة الرسول فلولا انهم حجة يجب اتباعهم فيما اجمعوا عليه والا لم يجز ذلك
والكلام على هذه الآية من وجوه أولها ان في أصحابنا من ذهب إلى ان الألف واللام لا يقتضيان الاستغراق والشمول بل هما مشتركان
65

لهما ولغيرهما فإذا كان كذلك كانت الآية كالمجملة تحتاج إلى بيان ويحتمل أن يكون أريد بها
جميع المؤمنين ويحتمل أن يكون أراد بعضهم ولا يمكن حملها على الجميع لفقد دلالة الخصوص
لان القايل ان يقول احملها على الأقل لفقد الدليل على ان المراد بها الكل وإذا جاز ان يكون المراد
بعضهم فليس (ليسوا ظ) بان يحمل على بعض المؤمنين بأولى منا إذا حملناها على الأئمة عليهم السلام ويستدل
بذلك غرضهم ونحن نكون أحق من حيث الدليل على عصمتهم وطهارتهم وامنا وقوع الخطأ من
جهتهم وثانيها ان لفظة سبيل أيضا محتملة بل هي تقتضي الواحدة ولا يجب حملها على كل
سبيل فكيف يمكن الاستدلال بها على ان كل سبيل المؤمنين صواب فيجب اتباعه و
ليس لهم ان يقولوا إذا فقدنا دليل الاختصاص حملناها على العموم لان القايل أن يقول إذا فقدنا
دلالة العموم حملناها على الخصوص كما قلناه في الوجه الأول وثالثها انه تعالى توعد على اتباع
غير سبيلهم وليس في ذلك دلالة على وجوب اتباع سبيلهم فيجب أن يكون اتباع سبيلهم موقوفا
على الدلالة وليس لهم أن يقولوا ان الوعيد لما علقه تعالى باتباع غير سبيلهم حل محل ان تعلقه
بالعدول عن سبيل المؤمنين وترك اتباعهم في انه لا يقتضى لا محالة ان اتباع سبيل المؤمنين
صواب وان الوعيد واجب لتركه ومفارقته وذلك ان هذا دعوى محضة لأنه لا يمتنع أن يكون
اتباع غير سبيلهم محرما واتباع سبيلهم محرما أو مباحا أيضا يبين ذلك انه لو صرح بما
تأولناه حتى يقول اتباع غير سبيل المؤمنين محظور عليكم واتباع سبيلهم يجوز أن يكون
قبيحا وغير قبيح فاعملوا فيه بحسب الدلالة أو يقول واتباع سبيلهم مباح لكم لساغ هذا الكلام
ولم يتناقض وإذا كان سايغا بطل قول من قال ان النهى عن اتباع غير سبيلهم موجب
لاتباع سبيلهم وانه يجرى مجرى التحريم لمفارقة سبيلهم والعدول عنها وليس لهم
ان يقولوا ان من لم يتبع غير سبيل فلابد من أن يكون متبعا لسبيلهم فمن هيهنا حكمنا
بان النهى عن أحد الامرين ايجاب للاخر وذلك ان بين الامرين واسطة وقد يجوز أن يخرج
المكلف من اتباع غير سبيلهم واتباع سبيلهم معا بأن لا يكون متبعا سبيل أحد وليس لهم
أن يقولوا ان غير هيهنا بمعنى الا وكأنه تعالى قال لا تتبع الا سبيل المؤمنين لان أحدنا
لو قال لغيره من اكل غير طعامي فله العقوبة فالمتعارف من ذلك ان اكل طعامه مخالف
لذلك وان العقوبة انما تتعلق بخروجه عن أن يكون آكلا لطعامه لان غير هيهنا ليس بواجب
أن يكون بمعنى الا الموضوعة للاستثناء بل جايز أن يكون بمعنى خلاف فكأنه قال لا تتبع خلاف
سبيل المؤمنين وما هو غير لسبيلهم ولم يرد لا تتبع الا سبيلهم وقول القايل من اكل غير
طعامي عاقبته لا يفهم من ظاهر لفظه ومجرده ايجاب اكل طعامه بل المفهوم خطر اكل كلما هو غير
66

طعامه وحال طعامه في الخطر والإباحة موقوفة على الدليل وأقل أحوال هذا اللفظ عند
من ذهب إلى ان لفظة غير مشتركة بين الاستثناء وغيره وان ظاهرها لا يفيد أحد الامرين
أن يكون محتملا لما ذكرناه من خطر اكل غير طعامه ومحتملا لايجاب اكل طعامه ووضع لفظة
غير مكان لفظة الا وانما يكن في بعض المواضع يفهم عن مستعمل هذه اللفظة ايجاب اكل طعامه
لا بمجرد اللفظ بل بان يعرف قصده إلى الايجاب أو بغير ذلك من دلايل الحال ولولا ذلك لما حسن
أن يقول القايل من اكل غير طعامي عاقبته ومن اكل طعامي عاقبته وكان يجب أن يكون
نقضا أو جاريا مجرى قوله من اكل الا طعامي عاقبته ومن اكل طعامي عاقبته فلما حسن ذلك
مع استعمال لفظة غير ولم يحسن مع استعمال لفظة الا دل على صحة ما قلناه فان قيل لو لم يكن
اتباع سبيل المؤمنين حجة وصوابا لكان حاله في انه قد يكون صوابا أو خطاء بحسب قيام الدلالة
على ذلك حال اتباع غير سبيلهم في انه قد يكون صوابا أو خطاء ولو كان كذلك لم يصح ان يعلق
الوعيد باتباع غير سبيلهم دون اتباع سبيلهم فكان يبطل معنى الكلام قيل له غير منكر ان
يعلق الوعيد باتباع غير سبيلهم من حيث علم ان ذلك لا يكون الا خطاء ويكون اتباع سبيلهم
مما يجوز أن يكون خطاء أو صوابا ولو لم يكن كذلك وكان الامر ان متساويين لجاز أن يعلق الوعيد
بأحدهما دون الاخر ويكون الصلاح للمكلفين ان يعلموا خطر ابتاع غير سبيلهم بهذا اللفظ
ويعلموا مساواة اتباع سبيلهم له في الخطر بدليل اخر كما يقوله أكثر خصومنا ان قوله (ع) في سائمة الغنم زكاة لا يجب أن
يفهم منه دفع الزكاة عما ليس بسائم ومفارقة حاله لحال السايمة بل يجوز أن يكون الحكم واحدا ويعلم بالسائمة بهذا القول وفي غيرها
بدليل اخر فان قيل ان ذلك يجرى مجرى قول أحدنا لغيره لا تتبع غير سبيل الصالحين في انه بعث
على اتباع الصالحين والا يخرج عن ذلك قيل القول في هذا المثال كالقول فيما تقدم وظاهر
اللفظ واطلاقه لا يدل على وجوب اتباع طريقة الصالحين وانما يعقل بالدلالة ولان المخاطب
إذا كان حكيما علم من حاله انه لابد أن يوجب اتباع طريقة الصالحين ويحث عليها وما يعلم
لا من حيث ظاهر اللفظ خارج عما نحن فيه ولو ان أحدنا قال بدلا من ذكر الصالحين لا تتبع غير
طريقة زيد لم يجب أن يفهم من اطلاقه ايجاب اتباع طريقته ولولا ان الامر فيما تقدم على
ما قلناه دون ما اعاده السايل لوجب فيما قال لغيره لا تضرب غير زيد ولا زيدا أن يكون
مناقضا في كلامه من حيث كان قوله لا تضرب غير زيد ايجابا لضربه وقوله ولا زيدا خطرا
لذلك وفي العلم بصحة هذا القول من مستعمله وانه غير جار مجرى قوله اضرب زيدا ولا
تضربه دلالة على استقامة تأويلنا للآية ورابعها انه تعالى حذر من مخالفة سبيل المؤمنين
وعلق الكلام بصفة من كان مؤمنا فمن أين لخصومنا انهم لا يخرجون عن كونهم مؤمنين بهم (وهم ظ)
67

إذا خرجوا عن الايمان خرجوا عن الصفة التي تعلق الوعيد بخلاف من كان عليها وليس له أن يقول لا
يصح أن يتوعد الله تعالى وعيدا مطلقا على العدول عن اتباع سبيل المؤمنين الا وذلك ممكن في
كل حال ولا يصح دخوله في أن يكون ممكنا الا بأن يثبت في كل عصر جماعة من المؤمنين يبين
ذلك انه كما توعد على العدول عن اتباع سبيلهم فكذلك توعد على مشاقة الرسول فإذا وجب في
كل حال صحة المشاقة ليصح الوعيد المذكور فكذلك يجب أن يصح في كل حال اتباع سبيلهم والعدول
عنها لأنه ليس يجب من حيث توعد تعالى توعدا مطلقا على العدول عن اتباع غير سبيل المؤمنين
ثبوت مؤمنين في كل عصر انما تقتضي الآية التحذير من العدول عن اتباعهم إذا وجدوا وتمكن
من اتباعهم وتركه ولسنا نعلم من أي وجه ظن ان التوعد على الفعل يقتضى امكانه في كل حال و
ليس هذا مما يدخل فيه عندنا الشبهة على متكلم ونحن نعلم ان البشارة بنبينا (ع) قد تقدم على
لسان من سلفت نبوته كموسى (ع) وعيسى (ع) وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام وقد امر الله تعالى أممهم
باتباعه وتصديقه وأشار لهم إلى صفاته وعلاماته وتوعدهم على مخالفته وتكذيبه ولم يكن ما
توعد عليه من مخالفته وأوجبه من تصديقه واتباعه ممكنا في كل وقت ولا مانعا من اطلاق
الوعيد وقد قال شيخهم أبو هاشم وتبعه على هذه المقالة جميع أصحابه ان قوله تعالى السارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله الآية لا تقتضي ثبوت من يستحق
القطع على سبيل النكال ولو لم يقع التمكن ابدا والوقوف على من هذه حاله لما أخل بفائدة
الآية وعول في قطع من يقطع من السراق المشهود عليهم أو المقرين على الاجماع وإذا صح هذا
فكيف يجب من حيث اطلق الوعيد على العدول عن اتباع سبيل المؤمنين وجود المؤمنين
فيكل عصر وما المانع من أن يكون الوعيد يتعلق بحال مقدره كأنه تعالى قال لا تتبعوا غير
سبيل إذا حصلوا ووجدوا فعلم بذلك بطلان ما تعلق به السايل وخامسها انه تعالى
توعد على اتباع غير سبيلهم على تسليم عموم المؤمنين والسبيل والآية لا تدل على وجوب اتباعهم
في عصر بل هو كالمجمل المفتقر إلى بيان فلا يصح تعلق بظاهره وليس لاحد أن يقول انى احمله
على كل اعصار من حيث لم يكون اللفظ مختصا بعصر دون عصر لان هذه الدعوى نظيره
الدعوى المتقدمة التي بينا فسادها وليس لاحد أن يقول انى اعلم وجوب اتباعهم في الاعصار
كلها بما علمت به وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وآله في كل عصر فما قدح في عموم أحد الامرين قدح في عموم
الاخر لأنا لا نعلم عموم وجوب اتباع الرسول في كل عصر بظاهر الخطاب بل الآية لا يمكن دفعها
فمن ادعى في عموم وجوب اتباع المؤمنين دلالة فليحضرها وليس له أن يقول إذا لم يكون فيها
تخصيص وقت وجب حملها على جميع الاعصار لان لمخالفه أن يقول وإذا لم يكون فيها دليل
68

على عموم الاعصار وجب حملها على أهل عصر واحد وهو حال زمن الصحابة به على ما ذهب إليه
داود والا فما الفصل وسادسها ان قوله تعالى المؤمنين لا يخلو ان يريد به المصدقين
بالرسول والمستحقين للثواب على الله تعالى فان كان الأول بطل لان الآية تقتضي التعظيم والمدح
لمن تعلقت به من حيث وجب اتباعه ولا يجوز أن يتوجه إلى من لا يستحق التعظيم والمدح وفي
الأمة من يقطع على كفره وانه لا يستحق شئ منها ولأنه كان يجب لو كان المراد بالمؤمنين المصدقين
دون المستحقين للثواب أن يعتبر في الاجماع دخول كل مصدق فيه في شرق وغرب فهذا
يعلم تعذره وعموم القول يقتضيه وليس مذهب الكثير المخالفين إليه وان أراد بالمؤمنين
مستحقي للثواب والمدح والتعظيم فمن أين ثبوت مؤمنين بهذه الصفة في كل عصر يجب
اتباعهم ويجب أيضا الا يثبت الاجماع الا بعد القطع على ان كل مستحق للثواب في بر وبحر وسهل
وجبل قد دخل فيه لان عموم القول يقتضيه وهذا يؤدى إلى أن لا يثبت الاجماع ابدا وان حمل
على بعض المؤمنين وعلى من عرفناه دون من لم نعرفه جاز حمله على طائفته من المؤمنين وهم
أئمتنا عليهم السلام وسابعها انا لو تجاوزنا عن جميع ما ذكرناه لم يكن في الآية دلالة تتناول
الخلاف في الحقيقة لأنه جائز ان يكون تعالى انما امر باتباع المؤمنين من حيث ثبت بالعقول
ان في جملة المؤمنين في كل عصر اماما معصوما لا يجوز عليه الخطاء إذا جاز ما ذكرناه سقط
غرضهم في الاستدلال على صحة الاجماع لأنهم انما اخذوا بذلك إلى أن يصح الاجماع وتنحفظ
الشريعة به ويستغنى به عن الامام وإذا كان ما استدلوا به على صحة الاجماع يحتمل ما ذكرناه
بطل التعلق به وثامنها ان الله تعالى توعد على مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين
على وجه الجمع بينهما فمن اين انه لو انفرد اتباع غير سبيلهم عن المشاقة استحق به الوعيد
وليس لهم ان يقولوا ان مشاقة الرسول مما كان بانفرادها يستحق بها الوعيد فكذلك اتباع
غير سبيل المؤمنين ولو جاز أن لا يستحق عليه العقاب ويذكر مع مشاقة الرسول وتعلق
الوعيد به لجاز أن يضاف إلى مشاقة الرسول شئ من المباحات مثل الاكل والشرب وغير
ذلك وتعلق الوعيد به ولما لم يجز ذلك علم اتباع غير سبيلهم يجب أن يستحق الوعيد به
على الانفراد وذلك انما لا نعلم بظاهر الآية ان مشاقة الرسول يستحق بها الوعيد إذا انفردت
عن اتباع غير سبيل المؤمنين ولو خلينا وظاهر الآية لما علقنا الوعيد الا على من جميع بينها
لكن علمنا بالدليل ان مشاقة الرسول بها على الانفراد الوعيد فلأجل ذلك قلنا به فاما
ضم المباحات إلى مشاقة الرسول فإنما لم يجز لأنا قد علمنا ان حكم المباحات عند الانضمام حكمها
عند الانفراد في أنه لا يستحق بها الوعيد وقد كان يجوز أن يستحق بها الوعيد إذا انضم
69

إلى المشاقة ولم يكن ذلك بأبعد من شيئين مباحين على الانفراد فإذا جمع بينها صار محظورين الا
ترى انه يجوز للخبر المسلم العقد على ثلث من النسوة على الانفراد وعلى امرأتين أيضا على الانفراد ولا
يجوز له بجمع في عقد واحد ثلثا وثنتين لان ذلك مخطور ولذلك نظاير كثيرة في الشرع لكن هذا
وان كان جايزا علمنا انه لم يثبت لان علمنا ان فعل شئ من المباحات ومن الاكل والشرب وان
انضم إلى مشاقة الرسول فإنه لا يستحق (به) الوعيد فلأجل ذلك لم يجز ضم ذلك إلى المشاقة واستدلوا (تعلقوا خ ر)
أيضا بقوله تعالى وكذلك (كذلك) جعلناكم أمة وسطا قالوا والوسط العدل ولا يكون هذه حالهم
الا وهم خيار لان الوسط من كل شئ هي المعتدل منه وقوله تعالى قال أوسطهم ألم أقل لكم
المراد به خيرهم وعلى هذا الوجه يقال انه (ع) من أوسط العرب يعنى بذلك من خير لهم وأيضا
فإنه جعلهم كذلك ليكونوا شهداء على الناس كما انه (ع) شهيد عليهم فكما انه لا يكون شهيدا الا
وقوله حق فكذلك القول فيهم وهذه الآية لا تدل أيضا على ما يدعونه لا يخلو ان يكون المراد بها
جميع الأمة المصدقة بالرسول (ع) أو بعضها وقد علمنا انه لا يجوز أن يريد به جميعا لان كثيرا منها
ليس بخيار ولا يجوز من الحكيم تعالى أن يصف جماعة بأنهم خيار عدول وفيهم من ليس بعدل
ولا خير وهذا مما يوافقنا عليه أكثر من خالفنا وان كان أراد بعضها لم يخل ولك البعض أن يكون
جميع المؤمنين المحقين للثواب أو يكون بعضا منهم غير معين فان كان الأول فلا دلالة توجب
عمومها في الكل دون حملها على بعض معين لأنه لا لفظ هيهنا من الالفاظ التي تدعى للعموم
كما هو في الآيتين (الآية ظ) المتقدمتين وان كان المراد بعضا معينا (غير معين ظ) فخرجت الآية من أن يكون فيها
دلالة لخصومنا على الخلاف بيننا وبينهم ولم يكون بعض المؤمنين بأن يقتضى تناولها أولى
من بعض وساغ لنا ان نقصرها على الأئمة من آل محمد (ع) ويكون قولنا أثبت في الآية من كل قول
لقيام الدلالة على عصمة من عدلنا بها إليه وطهارته وتمييزه من كل الآية فان قيل اطلاق القول
يقتضى دخول كل الأمة فيه ولولا الدلالة التي دلت من حيث الوصف المخصوص على تخصيص
من يستحق المدح منهم والثواب فإذا خرج من لا يستحقها بدليل وجب عمومها في كل المستحقين
للثواب والمدح لأنه ليس هي بأن تتناول بعضها أولا من بعض قيل له ان اطلاق القول لا يقتضى
كل الأمة على أصلنا حتى يلزم إذا أخرجنا من لا يستحق الثواب منه أن لا يخرج غيره واقتضى ذلك
وموجب تعليق الآية بكل من عد الخارجين عن استحقاق الثواب الواجب القضا لعمومها في جميع
من كل كان بهذا الصفة في ساير الاعصار لان ظاهر العموم يقتضيه على مذهب من قال (ع) فكان
يسوغ عمل القول على الاجماع كل عصر وهذا يبطل الفروض في اجتماع الآية وليس لاحد أن يقول
كيف يكون اجتماع جميع أهل الاعصار على الشهادة حجة ولا يكون اجماع كل أهل عصر حجة
70

وصوابا فإنه يقال لهم كما تقولون ان اجماع أهل كل عصر حجة وليس اجماع كل فرضنا حجة فان قيل
بأي شئ يشهد جميعهم وهم لا يصح ان يشاهدوا كلهم شيئا واحدا فيشهدوا به قيل لهم قد
يصح الشهادة بما لا يشاهد من المعلومات كشهادتنا بتوحيد الله تعالى وعدله ونبوة أنبيائه إلى غير
ذلك مما يكثر تعداده ولو قيل أيضا فعلى من تكون الشهادة إذا كان جميع أهل الاعصار هم الشهداء
قلنا تكون شهادتهم على من لا يستحق ثوابا ولا يدخل تحت القول من الأمة ويصح أيضا أن يشهدوا
على باقي الأمم الخارجين عن المسألة وكل هذا غير مستبعد ويمكن أيضا ان يقال في أصل تأويل الآية
ان قوله تعالى جعلناكم أمة وسطا إذا سلموا ان المراد به جعلناكم عدولا خيارا لا يدل أيضا على ما
يريد الخصم لأنه لم يبين هل جعلهم عدولا في كل أقوالهم وافعالهم أو في بعضها فالقول مجمل و
يمكن أن يكون تعالى أراد انهم عدول فيما يشهدون به في الآخرة أو في بعض الأحوال فان رجع
راجع إلى أن يقول اطلاق القول ليقتضي العموم وليس هو بأن يحمل على بعض الأحوال أو الأمور أولى
من بعض فقد مضى الكلام على ما يشبه هذا مستقصى فاما حملهم الأمة على النبي صلى الله عليه وآله حجة من حيث
كان شهيدا بل من حيث كان نبيا ومعصوما فتشبيه أحد الامرين بالاخر من البعيد ومما يسقط
التعلق بالآية أيضا ان قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس يقتضى حصول واحد منهم بهذه
الصفة لان ما جرى هذا المجرى من الأوصاف لابد أن يكون حال الواحد فيه كحال الجماعة الا ترى
انه لا يسوغ ان يقال في جماعة انهم مؤمنون الا وكل واحد منهم مؤمن وكذلك لا يسوغ أن يقال في
جماعة انهم شهداء الا وكل واحد منهم شهيد لان شهداء جمع شهيد كما ان مؤمنين جمع مؤمن هذا يوجب أن يكون
كل واحد من الأمة حجة مقطوعا على صواب فعله وقوله وإذا لم يكون هذا مذهب الاحد وكان استدلال الخصم
بالآية موجبة فسد قولهم ووجب صرف الآية إلى جماعة يكون كل واحد منهم شهيدا وحجة
وهم الأئمة عليهم اللام الذين قد ثبتت عصمتهم وطهارتهم على ان الآية لو تجاوزنا عن جميع
ما ذكرناه فيها لا يقتضى كون جميع أقوال الأمة وأفعالها حجة انها غير مانعة من الصغاير وقوع
التي لا تسقط العدالة منهم فان أمكن تمييز الصغاير من غيرها كانوا حجة فيما قطع عليه وان
لم يكن وعلم في الجملة أن الخطاء الذي يكون كبيرا ويؤثر في العدالة مأمون منهم وغير واقع من
جهتهم وان ما عداه مجوز عليهم فسقط بما ذكرناه تعلق المخالف بالآية في نصرة الاجماع وليس
لاحد أن يقول ان كونهم عدولا كالعلة والسبب في كونهم شهداء وانه قد صح في (العقل ظ) التعبد انه
لا يجوز أن ينصب للشهادة الا من يعلم عدالته أو تعرف الامارات التي تقتضي غالب الظن وصح
أن من ينصبه الغالب الظن إذا تولى الله عصمته نصبه يجب أن يعلم من حاله ما يظنه وإذا
ثبت ذلك لا يخلو من أن يكونوا حجة فيما يشهدون أولا يكونون فان لم يكونوا حجة بطلت شهادتهم
71

لان من حق الشاهد إذا اخبر عما يشهد به أن يكون خبره حقا وان لم يجرى مجرى الشهادة فلابد من
أن يكون خبرهم (قولهم) صحيحا ولا يكون كذلك الا وهم حجة وليس بعض أقوالهم وافعالهم بذلك أولى من بعض
وذلك انه لو سلم جميع ما ذكروه لم يلزم أن يكونوا حجة في جميع أقوالهم وافعالهم لان أكثر ما يدل عليه
الآية فيهم أن يكونوا عدولا رشحوا للشهادة فالواجب أن ينفى عنهم ما جرح شهادتهم واثر في عدالتهم
دون ما لم يكن بهذه المنزلة وإذا كانت الصغاير على مذهبهم غير مخرجة عن العدالة لم يجب بمقتضى
الآية نفيها عنهم وبطل قوله انه ليس بعض أقوالهم وافعالهم بذلك أولى من بعض لأنا قد بينا
الفرق بين بعض الافعال المسقطة للعدالة والافعال التي لا تسقطها ثم يقال لهم أليس لرسول صلى الله عليه وآله
مع كونه شهيدا لا يمنع من وقوع الصغاير منه فهلا جاز ذلك في الأمة وليس لهم أن يقولوا ان
حالهم مخالفة لحال الرسول لان ما نجوزه عليه من الصغاير ما يؤديه عن الله تعالى مما هو الحجة
فيه من أن يكون متميزا فيصح كونه حجة وليس كذلك لو جوزنا على الأمة الخطاء في بعض ما تقوله و
تفعله لان ذلك يوجب خروج كل ما يجمع عليه من أن يكون حجة لان الطريقة في الجمع واحدة
فيسقط بما ذكرناه لأنه إذا كان تجويز الصغاير على الرسول لا يخرجه فيما يؤديه (مما) فيما يكون حجة ويتميز
ذلك للمكلف فكذلك إذا كانت الآية انما يقتضى كون الأمة عدولا فيجب نفى ما اثر في عدالتهم والقطع على
انتفاء الكبير من المعاصي عنهم وتجويز ما عدا هذا عليهم ولا تخرج هذا التجويز من أن يكونوا حجة فيما
لو كان خطاء لكان كبيرا وقد يصح تمييز ذلك على وجه فان في المعاصي ما يقطع على كونها كباير
ولو لم يكن إلى تمييزه سبيل لصح الكلام أيضا من حيث كان الواجب علينا اعتقاد نفى الكباير عنهم
وتجويز الصغاير وان شهادتهم بها (بما ظ) لو لم يكن حقا لكانت الشهادة به كبيرة لا تقع منهم وان جاز
وقوع ما لم يبلغ هذه المنزلة ويكون هذا الاعتقاد مما يجب علينا على سبيل الجملة وان تعذر
علينا تفصيل افعالهم التي يكونون فيها حجة من خالفها لا سيما وشهادة ليست عندنا
فيجب علينا تمييز خطأهم من صوابهم وانما هي عند الله تعالى إذا كانت عنده جاز أن يكون
الواجب علينا هذا الاعتقاد الذي ذكرناه فان قيل ليس المراد بالآية الشهادة في الآخرة و
انما هو القول بالحق والاخبار بالصدق كقوله تعالى شهد الله انه لا اله الا هو والملائكة
وأولوا العلم وكل من قال حقا وهو شاذ به وليس هذا من باب الشهادة التي تؤدى أو يتحمل سبيل
وان كانوا مع شهادتهم بالحق يشهدون في الآخرة بالاعمال العباد فيجب في كلما اجمعوا عليه قولا
أن يكون حقا وفعلهم يقوم مقام قولهم فيجب أن يكون هذا حاله لأنهم إذا جمعوا على الشئ خلاف
أظهره اظهار ما يعتقد انه حق حل محل الخير وهذا يوجب انه لا فرق بين الصغير والكبير في
هذا الباب قيل له هذا غير مؤثر فيما قدحنا به في الاستدلال بالآية لان التعلق من الآية انما
72

هو بكونهم عدولا لا بلفظ الشهادة لان التعليق لو كان بالشهادة لم يكن في الكلام شبهة من حيث كانت الشهادة
لا تدل بنفسها على كونها حجة كما يدل العدالة ولو تعلق متعلق بكونهم شهودا ويذكر شهادتهم لم يجد بدا
من اعتبار العدالة والرجوع إليها وإذا كانت الصغاير لا يؤثر في العدالة ولا يمتنع وقوعها على مذهب المعتزلة
من العدل المقبول الشهادة فما الموجب من الآية نفيها عن الأمة ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكونوا شهداء في الدنيا
والآخرة معا وبين أن يكونوا شهداء في الآخرة دون الدنيا واستدلوا أيضا بقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس
تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فلا يجوز ان يقع منها خطأ لان ذلك يخرجها من كونها خيار ويخرجهما أيضا
من كونها امرة بالمعروف وناهية عن المنكر الا أن يكون آمرة بالمنكر وناهية عن المعروف ولا ملجاء من
ذلك الا بالامتناع من وقوع شئ من القبايح من جهتهم والكلام على هذا الدليل مثل الكلام
على الآية التي ذكرناها قبل هذه الآية على حد واحد من المنازعة في أن تكون لفظة الأمة يستحق الجمع
والشمول ومع التسليم انها تشتمل جميع أهل الاعصار دون أهل كل عصر وفي انه لا يجوز ان يوصفوا
بأنهم خيار إلا وكل واحد منهم بهذه الصفة وفي ان أكثر ما تقتضيه الآية ان لا يقع منهم ما يخرجهم
من كونهم خيارا من الكباير ولا يجب من ذلك الا يقع منهم الصغير الذي ينحبط عقابه ولا يخرجهم
من كونهم بهذه الصفة فالكلام في الاثنين على حد واحد ويمكن أن يقال في هذه الآية وفي التي
تقدمت ان المراد بها قوم معنيين (معينون خ ر) لما يتضمنان من حرف الإشارة في المخاطبين وليس فيهما ما يقتضى
لفظ العموم لان ألفاظ العموم معلومة وليس فيهما شئ منها فان رجعوا إلى ان يقولوا لو كان المراد به ما دون
الاستغراق لبين قيل لهم ولو كان المراد بها الاستغراق لبين وإذا تقابل القولان سقط الاحتجاج بالآية
وكان ما يسئل على هذه الطعون فقد مضى الجواب عنه في الآية المتقدمة فلا وجه لتكراره واستدلوا أيضا
بقوله تعالى فاتبع سبيل من أناب إلى قالوا فأوجب الله تعالى اتباع سبيل من أناب إليه وهم المؤمنون
لهم المختصون بهذه الطريقة والكلام في هذه الآية كالكلام في الآيات المتقدمة وأكثر ما اعترضنا به عليها
فهو اعتراض على هذه الآية أيضا ومما يختص بهذه الآية ان الإنابة حقيقتها في اللغة هي الرجوع وانما
يستعمل في التايب حيث رجع عن المعصية إلى الطاعة وليس يصح اجزاؤها على المتمسك بطريقة واحدة
لم يرجع إليها من غيرها على سبيل الحقيقة ولو استعمل فيما ذكرناه لكان مستعملها متجوزا عند جميع
أهل اللغة وإذا كانت حقيقة الإنابة في اللغة هي الرجوع لم يصح اجراء قوله تعالى واتبع سبيل
من أناب على جميع المؤمنين حتى يعم بها من كان متمسكا بالايمان وغير خارج عن غيره إليه ومن
رجع عن اعتقاده وأناب إليه بعد ان كان على غيره لأنا لو فعلنا ذلك لكنا عادلين باللفظة عن
حقيقتها من غير ضرورة فالواجب أن يكون ظاهرها متناولا للتأسي من المؤمنين الذين أنابوا
إلى الايمان وفارقوا غيره وإذا تناولت هذا لم يكن دلالة على مكان الخلاف بيننا وبين خصومنا
73

في الاجماع واستدلوا أيضا بقوله تعالى فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول قالوا فأوجب علينا
الرد إلى الكتاب والسنة عند التنازع فيجب إذا ارتفع التنازع الا يجب الرد ولا يسقط وجوب الرد
اليهما الا لكونه حجة والكلام على هذه الآية من وجوه أحدها ان هذا خطاب لجماعة مواجهين
بالخطاب وليس فيها لفظ يقتضى الاستغراق لجميع الأمة وإذا لم يكن فيها ذلك لم يكن لاحد أن يحملها
على الاستغراق وليس لهم ان يقولوا نحملها على الجمع لفقد الدلالة على ان المراد بها الاستغراق
وثانيها ان أكثر ما في الآية ان تفيد (ظ) انه عند وجود التنازع يجب الرد إلى الكتاب والسنة وليس فيها ذكر
ما يرتفع التنازع فيه الا من حيث دليل الخطاب الذي أكثر من خالفنا مبطلة وفرق مبتدأ من فرق
بين تعليق الحكم بالصفة وبينه إذا علق بشرط فاسد لما بيناه فيما تقدم من هذا الكتاب وثالثها
ان ما يرتفع التنازع فيه لابد من أن يكون مردود إلى الكتاب والسنة لأنهم لا يجمعون الا عن دليل
ولا يخلو ذلك الدليل من الكتاب والسنة فكأنهم في حال وجود التنازع يجب عليهم الرد وعند ارتفاعه
يكون قد ردوا ولا فرق بين وجود التنازع وبين ارتفاعه ورابعها (ورابعها) ان المراد بالآية ان يجب الرد إلى
الكتاب والسنة فيما طريقة العلم لأنه لو كان فيما طريقة العمل وكان المنازعون مجتهدين فيما تنازعوا
فيه لم يجب عليهم الرد وانما يجب عليهم الرد على كل حال إذا كان ما اختلفوا فيه لا يسوغ الخلاف
فيه وهذه جملة كافية في ابطال التعلق بهذه الآية واستدل بعضهم على صحة الاجماع بقوله وممن خلقنا
أمة يهدون بالحق وبه يعدلون قالوا فأخبر الله تعالى ان فيمن خلق أمة تهدى بالحق وهذا يؤمننا
من اجتماعهم على ضلال وكفر والكلام أيضا على هذه الآية من وجوه أحدها انه اخبر عمن خلق فيما
مضى لان قوله خلقنا يفيد المضي في الأزمان فمن اين لهم ان هذا حكمهم في المستقبل من الزمان
وليس لهم ان يقولوا ان قوله يهدون بالحق يفيد الاستقبال وذلك ان هذه اللفظة تصلح
للحال والاستقبال وإذا أصلحت لذلك فلا يمتنع أن يكون أريد بها الحال فكأنه قال وممن
خلقنا أمة هادية للحق عادلة به وثانيها ان قوله تعالى أمة يقع على الواحد وعلى الجماعة ويقع
على جميع الأمة على وجه الاستغراق الا ترى ان الله تعالى وصف إبراهيم بأنه كان أمة وهو واحد
وقال ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يريد به جماعة وإذا كان الامر على ذلك
فمن اين للخصم ان المراد به جميع الأمة وثالثها انه لا يمتنع أن يكون أراد تعالى بقوله أمة النبي (ع)
أو من يجرى قوله مجرى قول النبي في كونه حجة وموجبا للعلم فإذا احتمل ذلك (لم يكن خ ر) فمن اين للخصم
الاحتجاج بالآية واستدلوا أيضا على صحة الاجماع بما روى عن النبي (ع) انه قال لا تجتمع أمتي
على خطاء ويلفظ آخر لم يكن الله ليجمع أمتي على خطاء وبقوله كونوا مع الجماعة ويد الله على الجماعة
وما أشبه ذلك من الالفاظ وهذه الاخبار لا يصح التعلق بها لأنها كلها لا يصح التعلق لأنها
74

اخبار آحاد لا توجب علما وهذه مسألة طريقها العلم وليس لهم أن يقولوا قد تلقتها بالقبول وعلمت به
لو سلمنا ذلك لم يكن فيها أيضا حجة لان كلامنا في صحة الاجماع الذي لا يثبت الا بعد ثبوت الخبر
والخبر لا يصح حتى يثبت انهم لا يجمعون على خطاء وليس لهم أن يقولوا قد عملوا بهذه الاخبار
وعولوا في صحة الاجماع عليها في كل زمان فقد جرت عادتهم لا يقبلوا ما جرى هذا المجرى
ولا يعملوا به الا إذا كان قاطعا لعذرهم لأنا أولا لا نسلم انهم استدلوا على صحة الاجماع بهذه
الاخبار ولا يبعد ان يكون اعتمدوا في صحة الاجماع على الآيات التي ذكرناها وان كانوا مخطئين في صحة الاستدلال
بها فمن اين لهم انهم استدلوا بها على صحة الاجماع ولو سلم انهم استدلوا لجاز أن يكونوا مخطئين
في الاستدلال بها ويكونوا اعتقدوا انها قاطعة للعذر وان لم يكن كذلك لضرب من الشبهة دخلت عليهم
وقولهم أكثر ما جرت عادتهم فيما يجرى هذا المجرى ان يقبلوا الا الصحيح فلو سلمنا غاية ما يقترحونه لم
يكن فيه ان يستدلوا الا بما يعتقدون وان طريقه العلم فمن اين ان ما اعتقدوه صحيح وذلك لا يثبت الا
بعد صحة الخبر أو غيره من الأدلة ولو سلم من جميع ذلك لجاز أن يحمل الخبر على طائفة من الأمة وهم الأئمة
من آل محمد عليهم السلام لان لفظة الأمة لا تفيد الاستغراق على ما مضى القول فيه وذلك أولى
حيث دلت الدلالة على عصمتهم من القبايح وان قالوا يجب حمله على جميع الأمة لفقد الدلالة على
ان المراد بعض الأمة كان لغيرهم أن يقول انا احمل الخبر على جميع الأمة من لدن النبي صلى الله عليه وآله إلى أن تقوم الساعة
من حيث ان لفظ الأمة يشملهم ويتناولهم فمن اين ان اجماع كل عصر حجة على انه قد قيل ان الخبر الأول
لا يمتنع أن يكون رواية سمع من النبي (ع) مجزوما ويكون المراد النهى من أن يجمعوا على خطاء وليس من عادة
أصحاب الحديث ضبط الاعراب فيما يجرى هذا المجرى وإذا كان ذلك محتملا سقط الاحتجاج به واما الخبر
الثاني من قوله لم يكن الله ليجمع أمتي على خطاء فصحيح ولا يجيئ من ذلك انهم لا يجمعون على خطاء وليس لهم
أن يقولوا ان هذا لاختصاص فيه لامتنا بذلك دون ساير الأمم لان الله تعالى لا يجمع ساير الأمم على
خطاء وذلك انه وان كان الامر على ما قالوا فيمكن أن يخص هؤلاء بالذكر ومن عداهم يعلم ان
حالهم كحالهم بدليل اخر ولذلك نظاير كثيرة في القران والاخبار على ان هذا هو القول بدليل
الخطاب الذي لا يعتمده أكثر من خالفنا فهذه جملة كافية في الكلام على الآيات والاخبار التي اعتمدوها
في نصرة الاجماع على ما يذهبون إليه فصل في كيفية العلم بالاجماع ومن يعتبر قوله فيه
إذا كان المعتبر في باب كونه حجة قول الامام المعصوم فالطريق إلى معرفة قوله شيئان أحدهما السماع
منه والمشاهدة لقوله والثاني النقل عنه بما يوجب العلم فيعلم بذلك أيضا قوله هذا إذا تعين لنا
قول الامام فإذا لم يتعين لنا قول الامام ولا ينقل عنه نقلا يوجب العلم ويكون قوله في جملة الأمة متميز منها فإنه يحتاج
أن ينظر في أحوال المختلفين فكل من خالف فيمن يعرف نسبه ويعلم منشأه وعرف انه ليس بالامام الذي
75

دل الدليل على عصمته وكونه حجة وجب اطراح قوله ولا تعتد به ويعتبر أقوال الذين لا يعرف نسبهم
لجواز أن يكون كل واحد منهم الامام الذي هو الحجة ويعتبر أقوالهم في باب كونهم حجة فان قيل
فعلى هذا التقدير هل تراعون قول من خالفكم في الأصول أم تراعون قول وافقكم فيها قلنا لا نراعي قول
من خالفنا في شئ من الأصول من التوحيد والعدل والإمامة والارجاء وغير ذلك لان جميع ذلك
معلوم بالأدلة الصحيحة التي لا يجوز خلافها ولابد أن يكون الامام قائلا بها وإذا كان لابد أن يكون
الامام قائلا بها فمن خالف الامامية في شئ من هذه الأصول فينبغي أن يكون قوله مطروحا ويكون ذلك
أبلغ من اطراح قول من علمنا لان التعيين بخلاف الحق مثل التعيين بالنسب بل بذلك اكد لأنه معلوم
من طريق لا يحتمل خلافه فان قيل ولم لا يجوز أن يكون الامام المعصوم مظهرا لبعض هذه المذاهب
المخالفة لمذاهب الامامية لضرب من التقية على ما تجوزون عليه وان كان قوله حقا فيما يرجع إلى
الفروع فلا يجب أن يقطعوا على ان المعتبر قول الامامية قيل انما يجب اطراح قول من خالفنا في
الأصول إذا علم أنه قد قائل به قد بينا ومعتقدا فاما إذا جوزنا انه قائل به لضرب من التقية فيجب
أن يطرح قوله ويعتبر قوله وقول من جوزنا ذلك فيه مع أقوال المظهرين للحق ليصح لنا العلم
بدخول قول الامام في جملة أقوالهم فان قيل فما قولكم إذا اختلفت الامامية في مسألة كيف يعلمون
ان قول الامام داخل في جملة أقوال بعضها دون بعضها قلنا إذا اختلفت الامامية في مسألة
كيف يعلمون قول الامام دخل في جملة أقوال بعضها دون بعضها قلنا إذا اختلفت الامامية في مسألة نظرنا في تلك
المسألة فان كان عليها دلالة توجب العلم من كتاب أو سنة مقطوع بها يدل على صحة بعض أقوال المختلفين قطعنا
على ان قول المعصوم موافق لذلك القول ومطابق له وان لم يكن على أحد الأقوال دليل يوجب العلم نظرنا في أحوال المختلفين فكل (وان كان خ ر)
ممن عرفناه بعينه ونسبه وقائلا بقول والباقون قائلون بالقول الاخر لم نعتبر قول من عرفناه لأنا نعلم ان ليس فيهم الامام المعصوم
الذي قوله حجة فان كان في الفريقين أقوام لا يعرف أعيانهم ولا أنسابهم وهم مع ذلك مختلفون
كان المسألة من باب ما تكون فيها مخيرين بأي القولين شئنا أخذنا ويجرى ذلك مجرى الخبرين
المتعارضين الذي لا ترجيح لأحدهما على الاخر على ما مضى القول فيما تقدم وانما قلنا ذلك لأنه
لو كان الحق في أحدهما يوجب أن يكون مما يمكن الوصول إليه فلما لم يكن دل على انه من
باب التخيير ومتى فرضنا أن يكون الحق في واحد من الأقوال ولم يكن هناك ما يميز ذلك القول من غيره
فلا يجوز للامام المعصوم حينئذ الاستتار ووجب عليه ان يظهر ويبين الحق في تلك المسألة لو يعلم
بعض ثقاته الذين يسكن إليهم الحق من تلك الافعال حتى يؤدى ذلك إلى الأمة ويقترن بقوله
علم معجز يدل على صدقه لأنه متى لم يكن كذلك لم يحسن التكليف وفي علمنا ببقاء التكليف
ولعدم ظهوره أو ظهور ما يجرى مجراه دليل على ان ذلك لم يتفق فان قيل بجواز ان يختلف الامامية
76

على قولين يكون أحد القولين قول الامام والباقون قولهم على خلافه وما أجزتم ذلك كان في ذلك تعيين
الامام وتمييزه وذلك لا تقولونه وان امتنعتم من ذلك قيل لكم وما المانع من ذلك قيل الذي نقول في ذلك
انه لا يمتنع ما فرض في السؤال على وجه ويمتنع على وجه فالجائز من ذلك هو أن يجمع كل من عدا الامام على قول
إذا لم نعرفهم كلهم بأسمائهم ويجوز أن يكون الامام فيهم ومن جملتهم ونجوز أيضا مع ذلك أن يكون
المنفرد الذي قال بالقول الاخر وهذا لا يؤدى إلى العلم بعين الامام وتمييزه والذي لا يجوز أن يكون
الجماعة الذين خالفوا الواحد المعروفين بأسمائهم وأنسابهم لأنه متى كان كذلك علم به ان الامام
هو الاخر وذلك ينافي غيبته (ع) فان قيل فإذا اتفق ما أجزتموه من القسمين كيف قولكم فيه
قيل متى اتفق ذلك وكان على القول الذي انفرد به الامام دليل من كتاب أو سنة مقطوع بهما
لم يجب عليه ظهور ولا الدلالة على ذلك لان ما هو موجود من دليل الكتاب والسنة كان في باب
إزاحة التكليف ومتى لم يكن القول على الذي انفرد به دليل على ما قلناه وجب عليه الظهور
أو اظهار من يبين الحق على تلك المسألة على ما قد مضى القول فيه والا لم يحسن التكليف ولا
ينقض هذا ما قدمناه من اختلاف الطائفة على قولين ولا يكن لاحد القولين ترجيح على الاخر
ولا دليل على ان المعصوم مع أحدهما بان قلنا تكون مخيرين في العمل بأي القولين شئنا لان هذه المسألة
مفروضة إذا كان الحق فيما عند الامام دون غيره من الأقوال ويكون من الأمور المضيقة وانما
يجوز ما قدمناه أولا إذا كان من باب ما يجوز التخيير فيه ولا تنافى بين المسئلتين وذكر المرتضى علي بن
الحسين الموسوي قدس الله روحه أخيرا انه يجوز أن يكون الحق فيما عند الامام والأقوال الاخر
تكون كلها باطلة ولا يجب عليه الظهور لأنه إذا كنا نحن السبب في استتاره فكلما يفوتنا
من الانتفاع به وبتصرفه وبما معه من الاحكام يكون قد اتينا من قبل نفوسنا فيه ولو أزلنا
سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وادى الينا الحق الذي عنده وهذا عندي غير صحيح لأنه يؤدي
إلى الا يصح الاحتجاج باجماع الطائفة أصلا لأنا لا نعلم دخول الامام فيها الا بالاعتبار الذي بينا
فمتى جوزنا انفراده (ع) بالقول ولا يجب ظهور منع ذلك بالاجماع فان قيل كيف تعلمون اجماع الامامية
على مسألة وهم منتشرون في أطراف الأرض وفي البلاد التي يكاد ينقطع خبر أهلها عن البلاد
الاخر وهل هذا الا متعذر مستحيل قيل له السائل عن هذا السؤال لا يخلو من أن يريد به الطعن في
الاجماع على كل حال فان ذلك مما لا يصح ادراك العلم به على حال أو يريد اختصاص الامامية بهذا
السؤال دون غيرهم فان أراد الأول فقوله يسقط لان من هو في أطراف الأرض وفي البلاد البعيدة
اخبارهم متصلة وخاصة العلماء منهم لان الدين يراعى أقوالهم هم العلماء دون العامة الذين
لا يعتبرون في هذا الباب ولهذا لا نشك ولا أحد من العلماء ان في أطراف الأرض من يعتقد
77

الفرض في غسل أعضاء الطهارة دفعتين دفعتين بل يعلم اجماع العلماء في جميع المواضع على ان
الفرض واحد من الغسلات وكذلك نعلم انه ليس في الأمة من يورث المال إذا اجتمع جد واخ
للأخ دون الجد لان المتقرر بين العلماء والذين اجمعوا عليه القول بان المال اما للجد كله أو بينهما
ولا يقول أحد ان المال للأخ دون الجد ونظاير ذلك كثيرة جدا من المسائل التي يعلم اجماع العلماء عليها فمن
أراد بهذا السؤال إحالة ذلك فقد أبطل وان أراد اختصاص الامامية بالسؤال فذلك لا يخصهم
لان على كل من اعتبر الاجماع مثل هذا السؤال بل ان كان ذلك محالا للامامية لانتشارهم في البلدان
كان ذلك في المسلمين كلهم أشد استحالة لأنهم أكثروا شد انتشارا فعلم بذلك ان السؤال ساقط
على الوجهين معا فان قيل من الذي يجب أن يعتبر قوله إذا لم يتميز قول الامام المعصوم أقول
جميع الامامية أم قول العلماء منهم قيل إذا لم يتميز قول المعصوم يجب ان يراعى قول العلماء
الذين يعرفون الأصول والفروع دون العامة والمقلدين وانما قلنا ذلك لان الذي قوله
حجة إذا كان هو الامام المعصوم وكان هو عالما بجميع الاحكام الشريعة ولابد أن يكون
عالما بالأصول ويجب أن يكون المراعى من يشتبه حاله بحاله (ع) ومن لا يعرف الأصول ولا الفروع
يعلم منه انه ليس بامام وإذا علم انه بامام معصوم وجب اطراح قوله ولا يلتفت إليه
وليس لاحد أن يقول ان هذا يؤدى إلى ان أصحاب الحديث والفقهاء الذين لا يعرفون الأصول
لا يعتد بأقوالهم وفي ذلك اسقاط قول أكثرهم قلنا لا يلزم ذلك لان الفقهاء وأصحاب الحديث
على ضربين ضرب منهم يعلم انه لا يعرف الأصول ولا كثيرا من الفروع فان ذلك لا محالة يجب
اطراح قوله لأنه قد علم انه ليس بامام والضرب الاخر منهم لا يعلم ذلك من حالهم بل يجوز أن يكونوا
مع كونهم متظاهرين بالحديث والفقه قيمين بالأصول وعارفين بها فإذا شككنا في
حالهم وجب اعتبار أقوالهم لجواز أن يكون الامام في جملتهم والذي يجب أن يراعى أقوالهم فيه
هو كل شئ لا يصح أن يعلم الا من جهة السمع لان ما (لا ظ) يعلم وجود قبل حصول العلم به لا يصح أن يعلم
بقول الأمة التي قول المعصوم داخل فيها وذلك مثل التوحيد والعدل وجميع صفات القديم
لان العلم بان هيهنا معصوم يفتقر إلى تقدم هذه العلوم ومتى لا يقدم لا يمكننا ان نعلم ان
هيهنا معصوم لان ذلك فرع على حكمة الله تعالى وعدله وانه لابد ان يزيح علة المكلفين
بنصب رئيس لهم معصوم وذلك لا يمكن أن يعلم بالإجماع على حال فاما النبوة فقد كان يصح
أن يعلم باجماع الأمة الذين قول المعصوم داخل في جملتها لان ذلك لا يفتقر إلى العلم بالنبوة لأنا
إذا علمنا ان الله تعالى حكيم وعدل لابد أن نعلم انه يزيح علة المكلفين في التكليف بنصب رئيس
معصوم لهم ليكونوا متمكنين مزاحي العلة فيما كلفوه فإذا علمنا ذلك واجمعوا على نبوة شخص
78

يعلم باجماعهم نبوته فان قيل كيف يصح هذا القول والامام عينه الا بنص الرسول عليه السالم
لان الله تعالى بعلمه ذلك بالوحي والامام لا يوحى إليه فيعلم انه امام فكيف يدعى انه امام وكيف
يعلم صحة دعواه قيل له اما العلم بكونه اماما فقد يحصل لنا العلم المعجز الذي يظهره الله تعالى
على يده يتضمن تصديقه فيما يدعيه ويدعى هو انه الامام المعصوم الذي لا يخلو الزمان منه واظهار
المعجزات يجوز عندنا على الأئمة والصالحين أيضا وقد دللنا على ذلك لا يوحى تلخيص الشافعي لاما
الامام نفسه فإنما يعلم كونه اماما إذا كان ممن في كتاب إليه على ما قرر في السؤال بقول نبي يتقدمه ثم
ينص هو على من بعده وكذلك في المستقبل الأوقات فإذا اجمعوا على قول كان معصوم العصر فيه على
نبوة نبي آخر علم صحة نبوته ولا يحتاج إلى علم معجز بل كان ذلك كافيا في العلم بصدقة وقد يجوز أن يكون
الامام الأول نبيا لأنه لا تنافى بين المنزلتين بل يصح اجتماعهما وإذا جاز ذلك فإذا فرضنا ان أول
الأئمة نبي جاز أن يعلم امامة من بعده وكذلك نبوة من يأتي في المستقبل بنص عليه أو باعتبار الاجماع
الذي يدخل فيهم فان قيل هذا القول يؤدى إلى ان العقل لا ينفك من السمع لأنه إذا كان لابد للمكلفين
من امام معصوم في كل حال وفي أول حال التكليف ولابد لهم من امام ولا يعلم كونه اماما الا بنبوته (اما خ ل) أو
بنبوة من بعده فينص عليه فقد صار التكليف لا ينفك من السمع وذلك يأباه كثير منكم قيل من
أصحابنا من قال بذلك فعلى مذهبه سقط السؤال ومن قال انه يجوز أن يخلو العقل من السمع فإنما
يريد بذلك السمع الشرعي الذي يتضمن العبادات والاحكام فاما سمعا يتضمن الدلالة على عين
الامام المعصوم فإنه لا يجيز أحد من الطايفة خلو التكليف منه وعلى هذا المذهب أيضا قد
سقط السؤال واما كيفية اجماعهم فيكون على ضروب منها ان يجمعوا على مسألة قولا فيعلم
بذلك صحة المسألة ومنها أن يجمعوا عليها قولا وفعلا بأن يقول بعضهم ويفعل بعضهم فيعلم
بذلك صحتها ولابد في هذه الوجوه كلها أن يعلم انهم لم يجمعوا على ذلك بضروب من التقية
لان ما يوجب التقية يحمل على اظهار القول بغير الحق وكذلك يحمل على كل فعل وان كان الحق في خلافه
فلذلك شرطنا فيه ارتفاع التقية ومنها أن يعلم رضاهم بالمسألة واعتقادهم بصحتها فان
ذلك أيضا يدل على صحتها وهذا الوجه لا يحتاج أن يعلم منه زوال التقية لان الرضا من
افعال القلوب والتقية لا تحمل على ذلك وانما تحمل على افعال الجوارح ولا يجوز ومنها ان يجمعوا على الذهاب
عما يجب ان يعلموا لان الامام يجب عندنا ان يكون عالما بجميع ما نصب فيه وجعل حاكما فيه
فلا يجوز أن يكون امر يجب أن يعلم فلا يعلمونه كلهم لان ذلك يؤدى إلى نقص كون الامام عالما
بجميع الاحكام ويؤدى أيضا إلى نقض كون المعصوم في جملتهم لان المعصوم لا يجوز أن يخل بما تجب
معرفته فاما ما لا يجب العلم فلا يمتنع ان يذهب عن جميعهم لأنه ليس هيهنا وجه يوجب علمهم
79

بذلك فان قلنا ان المراعى في اجماع الطايفة باجماع العلماء بالأصول والفروع فلا ينبغي أن يعتبر
قول من ليس هو من جملة العلماء فان كان هناك من لا يعلم حاله وهل هو عالم بذلك أم لا و
يكون قوله مخالفا لقول الباقين فينبغي أن يكون خلافه خلافا لأنا لأنا من أن يكون ممن يعلم جميع ذلك
وإذا جوزنا أن يكون عالما بجميع ذلك جوزنا أن يكون اماما وإذا جوزناه اماما لم يكن اسقاط خلافه
ومنها (واعلم خ ر) ان الطايفة إذا اختلفت على قولين وجوزنا كون المعصوم داخلا في كل واحد من الفريقين
فان ذلك لا يكون اجماعا ولأصحابنا في ذلك مذهبان منهم من يقول إذا تكافى الفريقان
ولم يكن من أحدهما دليل نوجب العلم أو يدل على ان المعصوم داخل معهم فيه سقطا
جميعا ووجب التمسك بمقتضى العقل من خطر (حظر) أو إباحة على اختلاف مذاهبهم وهذا المذهب
ليس بقوى عندي لأنهم إذا اختلفوا على قولين علم ان قول الامام موافق لأحدهما لا محالة لأنه
لا يجوز أن يكون قوله خارجا عن القولين لان ذلك ينقض كونهم مجمعين على قولين وإذا علمنا
دخول قول الامام في جملة القولين كيف يجوز اطراحها والعمل بمقتضى العقل ولو جاز ذلك
لجاز أن يتعين أيضا قول الامام ومع ذلك يجوز لنا تركه والعمل بما في العقل وذلك باطل
وبالاتفاق ومنهم من أن يقول نحن مخيرون في الاخذ بأي القولين شئنا ويجرى ذلك مجرى
خبرين تعارضا ولا يكون لأحدهما مزية على الاخر فانا نكون مخيرين في العمل بهما وهذا الذي
يقوى في نفسي ومتى قيل بالمذهب الأول فرض اجماعهم بعد ذلك على أحد القولين كان ذلك
جايزا ويعلم باجماعهم صحة ذلك القول وان الاخر لم يكن صحيحا ووجب المصير إلى ما اجمعوا عليه
ومتى قلنا بالمذهب الأخير لم يجز أن يجمعوا على أحد القولين لأنهم لو اجمعوا على أحدهما لدل ذلك على
ان القول الاخر باطل وقد قلنا انهم مخيرون في العمل بأيهما شاءوا واجماعهم على أحدهما ينقض
ذلك ولسنا ممن يقول انهم يقولون بالقولين اجتهادا ثم يؤدى اجتهادهم إلى أحد القولين
فيجمعوا عليه لان ذلك انما يصح على مذهب من يقول بالاجماع ولم يراع قول المعصوم الذي
نراعيه فاما إذا اجمعوا على قول فلا يجوز أن يراعى الخلاف الذي يحدث بعده لان بالاجماع
الأول علم قول المعصوم في تلك المسألة وإذا علم انه هو الحجة فكل قول يخالف يجب أن يحكم بفساده
وكذلك إذا اجمعوا على قولين فإحداث القول الثالث والرابع ينبغي أن يكون فاسدا لان قول المعصوم
موافق للقولين والقول الثالث والرابع يخالفه فينبغي أن يحكم بفساده ولا يجوز أن
تجمع الأمة على مسئلتين مخطئة فيهما لا على مذهبنا ولا على مذهب من خالفنا فاما على مذهبنا
فلانه لابد أن يكون قول الامام مع أحدهما ولا يجوز مع ذلك أن يكو خطاء واما على مذهب
مخالفينا فلا يجوز ذلك قالوا لان النبي صلى الله عليه وآله نفى عنهم الخطاء خطاء عاما ولم يخص واحدا دون ما زاد
80

على موجب نفيهما (نفيها) معا ولان في ضمن ذلك الاجماع على ترك القول بما هو الحق مثال ذلك ان تفترق
الأمة فرقتين فرقة تقول المال للأخ دون الجد فذلك خطاء لا محالة والأخرى تقول ان تصرف
للجد لا محالة على جميع الأحوال لان في القول بهذين المذهبين خروجا عن الاجماع الذي هو ان
المال اما للجد كله أو هو لواحد منهم وذلك بالاتفاق فصل فيما يتفرع على الاجماع من حيث
كان اجماعا عند من قال بذلك كيف القول فيه على ما نذهب إليه فمن ذلك انهم إذا اجمعوا على
الاستدلال بدليل أو بدليلين هل يجوز أن يستدل بغير ما استدلوا به أم لا فالذي نذهب
انه لا يمتنع أن يستدل بدليل آخر إذا كان مما يوجب العلم اما من حجة عقل أو قران أو سنة مقطوع
بها وانما قلنا ذلك لان اجماعهم على الاستدلال بدليل انما يدل على صحة ذلك الدليل وكونه موجبا
للعلم وذلك لا يمتنع من أن يكون هناك دليل اخر لم يجمعوا عليه اللهم الا أن نفرض المسألة فيقال
فإذا اجمعوا على انه لا دليل سواه هل يجوز الاستدلال بدليل آخر فنقول حينئذ ان ذلك لا يجوز لان اجماعهم
على انه لا دليل غير ما استدلوا به يوجب العلم بان ما عدا ذلك الدليل شبهة فلا يصح الاستدلال
بها فان قيل لو كان هناك دليل اخر لما وسع المعصوم الا يبينه ويترك الاستدلال به حتى يستدركه
انسان اخر قيل له انما يجب أن يبين المعصوم ما يقف إزاحة العلة عليه وقد بين ما هو دليل موجب
للعلم وهو ما اجمعوا عليه فاما غيره من الأدلة فقد سبق بيانه من الله تعالى ومن الرسول وجاز أن لا يجدد
المعصوم بيانه وانما يجب عليه بيان ما لا يكون هناك ما يقوم مقامه فان قيل فعلى هذا كان يجوز أن
لا يبين أيضا ما قد بيناه واجمعوا عليه لان هناك ما يقوم مقامه في إزاحة العلة في التكليف و
هو الذي استدل به من بعد قيل كذلك تقول ولو لم يبين أصلا شيئا إذا هناك طريق للمكلف
إلى علم ما كلفه لكان ذلك جائزا سائغا وانما يجب عليه بيان ما هو موقوف عليه ولا يكون
هناك ما يقوم مقامه ومن ذلك انهم إذا اجمعوا على العمل بخبر هل يقطع على صحة ذلك
الخبر أم لا وهل يعلم انهم قالوا ما قالوه لأجل الخبر أم لا فالذي نقوله في ذلك انهم إذا اجمعوا
على العمل بمخبر خبر وكان الخبر من اخبار الآحاد لأنه إذا كان من باب المتواتر فهو يوجب العلم فلا يحتاج
إلى الاجماع فيكون قرينة في صحته فإنه يحتاج أن ينظر في ذلك فان اجمعوا على انهم قالوا ما قالوه
لأجل ذلك الخبر قطعنا بذلك على ان الخبر صحيح صدق وان لم يظهر لنا من اين (ان خ ر) قالوه ولا ينص على
ذلك فانا نعلم باجماعهم ان ما تضمنه الخبر صحيح ولا يعلم بذلك صحة الخبر لأنه لا يمتنع أن
يكونوا قالوا بما وافق مخبر المخبر بدليل اخر أو خبر اخر أقوى منه في باب العلم أو سمعوه من الامام
المعصوم فاجمعوا عليه ولم ينقلوا ما لأجله اجمعوا اتكالا على الاجماع وكل ذلك جايز ويجب بذلك
التوقف في هذا الخبر لا يقطع على صحته ويجوز كونه صدقا وكذبا وان قطعنا على ان مخبره صحيح يجب
81

العمل به ومتى فرضنا على انهم اجمعوا على انه ليس هناك ما لأجله اجمعوا على ما اجمعوا عليه غير هذا
الخبر فان هذا يوجب القطع على صحة ذلك الخبر لان ذلك يجرى مجرى ان يقولوا اجمعنا لأجل هذا الخبر
لأنه لا فرق بين ان يسندوا اجماعهم إلى الخبر بعينه فبعلم به صحته وبين أن ينفوا اسناده إلى سواه
فان به يعلم أيضا صحته فان قيل كيف يجوز أن يجمعوا مخبر خبر ثم لا ينقلوه أصلا وهو أصل الصحة اجماعهم
قلنا يجوز ذلك لان اجماعهم أقوى من ذلك لأنه مقطوع به ولا يحتمل التأويل ولو نقلوا ذلك الخبر
لكان يجوز أن يصير خبرا واحدا فيخرج بذلك من باب كونه دلالة إلى أن يوجب غلبة الظن فيعلم بذلك أن
الاجماع أقوى ومن ذلك القول إذا ظهر بين الطايفة ولم يعرف له مخالف هل يدل ذلك على انه
اجماع منهم على صحة أم لا فالذي نقوله ان القول إذا ظهر بين الطايفة ولم يعرف له مخالف احتاج ان
ينظر فيه فان جوزنا أن يكون قول من نجوزه معصوما بخلافه لا ينبغي أن نقطع على صحته وان لم نجوز
أن يكون قول المعصوم بخلافه قطعنا على صحة ذلك القول فان قيل واي طريق لنا إلى أن نعلم
ان قول المعصوم يوافقه أو يخالفه قلنا قد يعلم ذلك بأن يكون هناك دليل يوجب العلم يدل
على صحة ذلك فيعلم به ان القول موافق لقول المعصوم لمطابقته للدليل الموجب للعلم وإذا هناك
دليل يدل على خلاف ذلك القول علمنا ان المعصوم قوله يخالفه وإذا خالفه وجب القطع على
بطلان ذلك القول فان عدمنا الطريقين معا ولم نجد ما يدل على صحة ذلك القول ولا على فساده
وجب القطع على صحة ذلك القول وانه موافق لقول المعصوم لأنه لو كان قول المعصوم مخالفا له
لوجب أن يظهره والا كان يقبح التكليف الذي ذلك القول لطف فيه وقد علمنا خلاف ذلك ومن
قال من أصحابنا ما حكيناه عنهم فيما تقدم انه لا يجب على المعصوم اظهار ما عليه من حيث ان
من سبب غيبته هو السبب لفوت ما يتعلق بمصلحته فيكون قد اتى من قبل نفسه كما ان ما
يفوته من الانتفاع بتصرف الامام وأمره ونهيه قد اتى فيه من قبل نفسه ينبغي أن يقول
يجب أن يتوفق (يتوقف) في ذلك القول ويجوز كونه موافقا لقول الامام ومخالفا له ويرجع في العمل إلى ما
يقتضيه العقل حتى يقوم دليل يدل على وجوب انتقاله عنه وقد قلت ان هذه الطريقة غير
مرضية عندي لأنها تؤدى إلى أن لا يستدل باجماع الطايفة أصلا لجواز أن يكون قول الامام
مخالفا لها ومع ذلك لا يجب عليه اظهار ما عنده وقد علمنا خلاف ذلك الكلام في القياس
فصل في ذكر حقيقة القياس واختلاف الناس في ورود العبادة به حد القياس هو اثبات
مثل حكم المقيس عليه في المقيس ولا فرق في ذلك بين أن يكون القياس عقليا أو شرعيا وانما
يختلفان من وجوه آخر سنذكرها لا تؤثر في ان الحقيقة ما قلناه والذي يدل على صحة ما قلناه
من الحدان الانسان متى أثبت للفرع مثل حكم الأصل كان قايسا ومتى لم يثبت له مثل حكمه
82

وان علم جميع صفاته لا يكون قايسا فعلم بذلك ان الحقيقة ما قلناه والاثبات الذي ذكرناه لامر
يرجع إلى عرف الشرع عبارة عن العلم وما جرا مجراه من الاعتقاد ثم الخبر تابع لذلك وهو في أصل
اللغة عبارة عن الايجاد كما يقال أثبت السهم في القرطاس أي أوجدته ثم يعبر عن الاعتقاد والظن
والخبر لكن بعرف الشرع يجب أن تقصر على ما قلناه وفي الناس من قال حد القياس هو اثبات مثل
حكم الأصل في الفرع بعلة جامعة بينهما وهذا أيضا نظير لما قلناه غير ان ما قلناه من العبارة أخصر
لان قولنا المقيس والمقيس عليه يغنى عن ذكر علة جامعة بينهما لان لفظة المقيس يتضمن انه جمع
بينهما بعلة فلا يحتاج ان يذكر في اللفظ لأنه متى لم يكن جمع بينهما بعلة لا يكون ذلك قياسا وقد
أكثر الفقهاء والأصوليون في حد القياس وأحسن الالفاظ ما قلناه وللقياس شروط وهى انه لابد
أن يكون الأصل الذي هو المقيس عليه وحكمه معلومين ويعلم أيضا الفرع الذي هو المقيس
والشبه الذي الحق أحدهما بالاخر وان كان القياس عقليا فلابد من كون العلة في الأصل معلومة
كونها علة وان كان شرعيا أجازوا الفقهاء ومن أثبت القياس أن تكون مظنونة ويخالف القياس
العقلي السمعي فيما يرجع إلى احكام العلة لان العلة العقلية موجبة ومؤثرة تأثير
الايجاب والسمعية عند من قال بها ليست كذلك بل هي تابعة للدواعي والمصلح المتعلقة
بالاختيار ولا دخول للايجاب فيما يجري هذا المجرى وهي في القياس العقلي لا تكون الا
معلومة وفي السمع لا يجب أن تكون معلومة بل يجوز أن تكون مظنونة ومتى في العقلي علق
الحكم بها ولم نحتج في تعليق الحكم عليها إلى دليل مستأنف وليس كذلك علة السمع فإنها
عند أكثرهم لا يكفى في تعليق الحكم بها في كل موضع ان يعلم بل يحتاج فيها إلى التعبد بالقياس
وعلة السمع قد يكون أيضا مجموع أشياء وقد يحتاج إلى شروط في كونها علة وقد يكون علة
في وقت دون وقت وفي عين دون أخرى والوقت واحد عند من أجاز تخصيص العلة وقد
تكون العلة الواحدة علة للاحكام كثيرة وكل هذا وأشباهه يفارق فيه علة العقل لعلة
الشرع واختلف الناس في القياس في الشريعة فمنهم من نفاه ومنهم من اثبته واختلف من نفاه
فمنهم من أحال ورود العبادة به جملة وانكر أن يكون طريقا لمعرفة شئ من الاحكام وربما حال
من حيث تعلق بالظن الذي يخطى ويصيب أو من حيث يؤدى إلى تضاد الاحكام وتناقضها
ومنهم من ابطله من حيث لا سبيل إلى العلم بماله يثبت الحكم في الأصل ولا إلى غلبة الظن في ذلك
لفقد دلالة وامارة تقتضيه وهذه الطريقة التي كان ينصرها شيخنا أبو عبد الله ومن الناس
من أجاز التعبد به ونفاه من حيث وقعت الشريعة على وجه لا يسوغ معه القياس وهذه الطريقة محكية
عن النظام وذهب بعض أصحاب الظاهر من داود وغيرهم إلى انه لا يجوز أن يقتصر الله تعالى بالمكلف
83

على أدون البيانين رتبة مع قدرته على أعلاهما ومنهم من نفاه مع اجازته ورود العبادة به من حيث
لم يثبت التعبد به أو من حيث ورود السمع بخلافه فاما من اثبته فاختلفوا فمنهم من اثبته عقلا
وهم شذاذ غير محصلين ومنهم من اثبته سمعا وزعم ان العقل لا يدل على ثبوته وهم المحصلون
من مثبتي القياس ومنهم الكثيرة من الفقهاء والمتكلمين وكلامهم أقوى شبهة والذي نذهب
إليه وهو الذي اختاره سيدنا المرتضى رحمه الله في كتابه في ابطال القياس ان القياس
محظور استعماله في الشريعة لان العبادة لم تأت به وهو مما لو كان جايزا في العقل مفتقرا في صحة
استعماله في الشرع إلى السمع القاطع للعذر ويلحق بهذا في القوة الطريقة التي كان ينصرها شيخنا
رحمه الله من منع حصول الظن وفقد الامارات التي يحصل عندها الظن وذكر المرتضى ره
ان لهذه الطريقة بعض القوة ونحن نتكلم على هذه المذاهب كلها على وجه الاختصار ثم نبين
نصرة ما اخترناه من بعد انشاء الله فصل في الكلام على من أحال القياس عقلا على اختلاف
عللهم اما من أحاله عقلا من حيث لا يمكن في أن يكون طريقا لمعرفة الاحكام فنحن إذا بينا
ان ذلك ممكن جرى مجرى سائر الأدلة من النصوص وغيرها من الكتاب والسنة والذي يدل
على صحته معرفة الاحكام به انه لا فرق في صحة معرفتنا بتحريم النبيذ المسكر بين أن ينص الله
على تحريم المسكر من الأنبذة وبين أن ينص على تحريم الخمر وينص على ان العلة في تحريمها شدتها
أو يدلنا بدليل غير النص على انه لهذه العلة أو ينصب لنا امارة تغلب عند نظرنا فيها
ظننا ان تحريمها لهذه العلة مع ايجاب القياس علينا في الوجوه كلها لان بكل طريق من هذه
الطرق نصل إلى المعرفة بتحريم النبيذ فمن دفع جواز العبادة بأحدها كمن دفع جواز ورودها
بسايرها ولما ذكرناه أمثال في العقليات لأنه لا فرق في العلم بوجوب تجنب سلوك بعض الطرق
بين أن نعلم فيه سبعا مشاهدة وبين أن نعلمه بخبر يوجب العلم أو خبر يقتضى الظن ولا فصل
بين جميع ذلك في الحكم الذي ذكرناه وبين أن ينص لنا على صفة الطريق الذي فيه السبع أو
ينصب لنا امارة على تلك الصفة فاما من أحاله من حيث تعلق بالظن الذي يخطى ويصيب
فينقض قوله بكثير من الاحكام في العقل والشرع يتعلق بالظن الا ترى انا نعلم بالعقل حسن
التجارة عند ظن الربح ونعلم قبحها عند الظن بالحسن ان نعلم قبح سلوك الطريق عندنا غلبة الظن
بان فيه سبعا أو لصا أو ما يجرى مجراهما ونعلم وجوب النظر في طريق معرفة الله عند دعا الداعي
أو الخاطر الذي يحصل عنده الظن والخوف ووجوب معرفة الرسل والنظر في معجزاتهم على هذه
الوجه فاما تعلق الاحكام الشرعية بالظن فأكثر من أن تحصى نحو وجوب التوجه إلى القبلة عند
الظن بأنها في جهة مخصوصة وتقدير النفقات وأرش الجنايات وقيم المتلفات والعمل بقول الشاهدين
84

ويجب أن يعلم ان الظن وان كان طريقا إلى العلم بوجوب الاحكام على نحو ما ذكرنا وساوى هذا
الوجه العلم لأنه لا فصل بين أن نظن جهة القبلة وبين أن نعلمها في وجوب التوجه إليها وكذلك
لا فصل بين أن نظن الخسران في التجارة أو نعلمه في قبحها فإنه لا يساوى العلم من وجوه اخر ولا يقوم فيها
مقامه لان الفعل الذي يلزم المكلف فعله لابد أن يكون معلوما له أو في حكمه المعلوم بأن يكون
متمكنا من العلم به أو يكون سببه معلوما إذا تعذر العلم بعينه ولابد أيضا ان يعلم وجوبه ووجه وجوبه
اما جملة أو على تفصيل والظن في كل هذه الوجوه لا يقوم مقامه لأنه متى لم يكن عالما بما ذكرناه
أولا أو متمكنا من العلم به لم يكن علته مزاحة فيما يعتدى به وجرى مجرى الا يكون قادرا لأنه متى
لم يعلم الفعل ويميزه لم يتمكن من القصد إليه بعينه وبالظن لا يتميز الأشياء وانما يتميز بالعلم ومتى
لم يكن عالما بوجوب الفعل كان مجوزا كونه غير واجب فيكون متى اقدم عليه مقدما على ما لا يأمن
كونه قبيحا والا قدم على ذلك في القبح يجرى مجرى الاقدام على ما يعلم قبحه ومتى علم كونه واجبا
فلابد من أن يعلم وجه وجوبه على جملة أو تفصيل لأنه لو كان ظانا لوجه وجوبه كان مجوزا انتفاء
وجه الوجوب عنه ودعا الامر إلى تجويز كونه غير واجب وهذه الجملة إذا تأملت بطل بها قول من انكر
تعلق الاحكام بالظنون ومن توهم على من سلك هذه الطريقة انه قد أثبت الاحكام بالظنون
فقد ابعد نهاية البعد لان الاحكام لا تكون الا معلومة ولا تثبت الا من طريق العلم لان
الطريق إليها قد يكون تارة العلم وأخرى الظن لأنا إذا ظننا في طريق سبعا وجب علينا أن تجنب (نتجنب)
سلوكه فالحكم الذي هو قبيح سلوكه وجب تجنبه معلوم لا مظنون وان كان الطريق إليه هو الظن
ومتعلق الظن غير متعلق العلم لان الظن يتعلق بكون السبع في الطريق والعلم يتعلق بقبح
سلوك الطريق والقول في العلم بوجوب التوجه إلى جهة القبلة عند الظن بأنها في بعض الجهات
يجرى على ما ذكرناه ويكون الحكم فيه معلوما وان كان الطريق إليه مظنونا فاما من منع من القياس
من حيث يؤدى إلى تضاد الاحكام فاعتماده على أن يقول إذا كان الفرع شبه بأصل محرم واصل
محلل فلابد على مذهب القائلين بالقياس من رده اليهما جميعا وهذا يؤدى في العين الواحدة
إلى أن يكون محرمة محللة ومن أثبت القياس يقول في جواب ذلك ان كان الفرع مشتبها لأصل
محرم واصل محلل عند اثنين لزم كل واحد منهما ما أداه اجتهاده إليه فيلزم التحريم من أشبه
عنده الأصل المحرم والتحليل من أشبه عنده الأصل المحلل ولا تضاد في ذلك وان أشبه الأصلين
المختلفين عند واحد فهو عند كثير منهم يكون مخيرا بين الامرين فأيهما اختاروا لزمه كما يقال في
الكفارات الثلث ولا تضاد في ذلك وعند قوم منهم انه لابد في هذه الموضع من ترجيح يقتضى
حمل الفرع على أحدهما دون صاحبه اما من أبطل القياس من حيث لا طريق إلى غلبة الظن في الشريعة
85

وهي الطريقة التي حكيناها عن شيخنا رحمه الله ووجه اعتماده عليها ان نقول قد علمنا القياس لابد
فيه من حمل فرع على أصل بعلة أو شبه والعلة التي يتعلق الحكم بها في الأصل لا يخلو أن يكون (ع)
طريق اثبات كونها علة العلم أو الظن والعلم لا مدخل له في هذا الباب وجميع من أثبت القياس في
الشرع الا الشذاذ منهم يجعلون العلة المستخرجة المستدل عليها تابعة للظن وانما يجعلها
معلومة من طريق الاستخراج من حيث اعتقد ان على العلل الشرعية أدلة توصل إلى العلم كالعقليات
وقول هؤلاء واضح البطلان لا معنى للتشاغل به ولأنا إذا بينا ان الظن لا يصح حصوله في علل الشرع
فأولى ان لا يحصل العلم وان كانت العلة تثبت علة بالظن فنحن نعلم ان الظن لابد له من امارة وطريق
أولا كان مبتدأ لا حكم له وليس في الشرع امارة على ان التحريم في الأصل المحرم انما كان لبعض صفاته فكيف
يصح ان يظن ذلك وليس هذا ما لا يزالون يمثلون به من ظن الربح والخسران أو التجارة أو الهلاك وان
القبلة في جهة مخصوصة وغلبة الظن في قيم المتلفات وأرش الجنايات التي يستند الظن فيها إلى
عادات
وتجارب وامارات معلومة متقررة ولهذا يجد من لم يتجر قط ولم يخبره مخبر عن أحوال التجارة لا يصح
ان نظر فيها ربحا ولا خسرانا وكذلك من لم يسافر ولم يخبر عن الطريق لا يظن نجاة ولا عطبا ولم يعرف امارة
في القيم وغارسها لا يظن أيضا فيها شيئا وجميع ما نعلت فيه الظنون متى تأملته وجدته مستندا
إلى ما ذكرناه مما لا يصح دخوله في الشرعيات على وجه ولا سبب ولقوة ما أوردناه ما قال قوم من
أهل القياس ان العلل الشرعية لا تكون الا منصوصا عليها اما صريحا أو تنبيها ونزل الباقون
رتبته فقالوا لا تثبت الا بأدلة شرعية والذي يمكن أن يقرض به على هذه الطريقة ان يقال
من اعتمد هذه الطريقة على هذا التلخيص لابد من أن يكون مجوزا للعبادة به ومعرفة الاحكام
من جهته لو حصل الظن الذي منع من حصوله ولابد من ان يقول من ان الله تعالى لو نص على
العلة أو امر الرسول بالنص عليها وتعبد بالقياس لوجب حمل الفروع على الأصول بل الذاهب
إلى هذه الطريقة ربما يقول لو نص الله على هذه العلة في تحريمه مثلا للخمر وذكر انها الشدة لوجب
حملها فيه هذه العلة عليها وان لم يتعبد بالقياس لأنه يجرى مجرى ان ينص على تحريم كل شديد
وان كان هذا غير صحيح لان العلل الشرعية انما تبنى (تنبئ) عن الدواعي إلى الفعل أو عن وجه المصلحة
وقد يشترك الشيئان في صفة فيكون في أحدهما داعية إلى فعله دون الاخر مع ثبوتها فيه وقد
تكون مثل المصلحة مفسدة وقد يدعو الشئ إلى غيره في حال دون حال وعلى وجه دون وجه وقدر
دون قدر وهذا مقرون في الدواعي ولهذا جاز أن نعطى لوجه الاحسان فقيرا دون فقير ودرهما
دون درهم وفي حال دون حال وان كان فيما لم نفعله الوجه الذي لأجله فعلنا بعينه فإذا صحت
هذه الجملة لم يكن في النص على العلة ما يوجب التخطي وجرى النص على مجرى النص على الحكم في قصره
86

على موضع إذ قد بينا ان ماله كان صلاحا وداعيا إلى الفعل لا يمتنع ان يشترك فيه المختلفان في هذا الحكم وليس
لاحد ان يقول إذا لم يوجب النص على العلة التخطي كان عبثا وذلك انه يفيدنا ما لم نكن نعلمه لولاه وهو ماله كان
الفعل المعين مصلحة وفي الناس من فضل بين داعى الفعل وداعي الترك فقال إذا كان النص على علة الفعل
لم يجب القياس الا بدليل مستأنف وان كان واردا العلة الترك وجب التخطي من غير دليل مستأنف وفصل بين
الامرين بان ماله يترك أحدنا الفعل له يترك غيره إذا شاركه فيه لأنه لا يجوز أن يترك اكل السكر لحلاوته ويأكل
شيئا حلوا ولا يجب هذا في الفعل لأنه يفعل الفعل لامر يثبت في غيره وان لم يكن فاعلا له وهذا صحيح
لا شبهة فيه ومتى كان النص الوارد بالعلة كاشفا عن الداعي ووجه المصلحة أو عن الداعي فقط فاما ان كان
مختصا بوجه المصلحة لم يجب ذلك لان الدواعي قد يتفق تارة وتختلف وجوه المصالح وأقوى ما يدخل
على هذه الطريقة ان يقال قد بينتم استناد الظنون إلى العادات والتجارب وان الشرع لا يتم ذلك فيه وهذا
صحيح فلم أنكرتم ان يحصل فيه طريقة يحصل عندها الظن وان لم تكن عادة ولا تجربة بل يجرى في حصول الظن
عندها مجرى ما ذكرتم وهذا مثل ان نجد العين المسمات خمرا يحصل على صفات كثيرة فتكون مباحة غير
محرمة فمتى وجدت فيها الشدة المخصوصة حرمت ومتى خرجت من الشدة بأن تصير خلا فيظن عند ذلك ان العلة هي الشدة
لان الذي ذكرناه من حالها امارة قوية على كونها علة فمتى انضم إلى هذا الظن التعبد بالقياس وان يحمل ما حصل فيه علة التحريم من الفروع
على الأصول ساغ القياس وصح ولم يمنع منه مانع وهكذا إذا رأينا بعض صفات الأصل هي المؤثرة في الحكم المعلل دون غيره كان بان
تجعل علة أولى من غيرها وقوى الظن في انها العلة مثال ذلك انا إذا أردنا ان نعلل ولاية المرأة على نفسها وملكها لأمرها وجدنا
بلوغها هو المؤثر في هذا الحكم مع سلامة أحوالها في الحرية والعقل دون كونها من وجه لان التزويج متى اعتبر لم يوجد له
تأثير من باب الولاية وما يرجع إليها والبلوغ التأثير القوى فيها جعلناه العلة دون التزويج ويكفى ان يقال لمعتمدي
هذه الطريقة لم زعمتم ان الظن إذا استند في بعض المواضع إلى عادة فإنه لا يقع في كل موضع الا على هذا الوجه وان العادة
لا يقوم مقامها غيرها بأنهم لا يجدون معتصما ويمكن أيضا ان يقال لهم خبرونا عمن ابتداه الله تعالى كاملا في بعض الدور معه صاحب
له جالس عنده وهو لا يعرف العادات ولا سمع الاخبار عنها الا انه وجد صاحبه الجالس معه حتى دخل إليه بعض الناس انصرف وخرج
عن الدار وهو مع دخول غيره من الناس لا يفارق مكانه أليس هذا مع عقله وكماله يصح ان يقوى في ظنه ان علة خروج صاحبه
انما هي دخول ذلك الرجل فان قالوا لا يصح ان يغلب ما ذكرتم في ظنه طولبوا بما يمنع منه ولن يجدوه وان أجازوه بطلت عليهم
ذكر العادات والتجارب في باب الظنون وقيل لهم فيما تنكرون من أن يكون هذه حال الظنون في الشرع ويمكن أن يقولوا من بصره
الطريقة التي قدمناها وان ما فرضتموه من جلوس بعض الناس عند من لم يعرف العادات وانصرافه إذا دخل عليه انسانا اخر وتكرر
منه ذلك انما يغلب على ظنه كون دخول صاحبه علة الخروج الاخر لان ذلك يصير عادة وليس يلزم فيمن عرف عادة في شئ
بعينه ان يعرف العادات كلها ألا ترى ان العادة تختص البلاد والأزمان ولا تكاد تتفق على حد واحد فكذلك القول فيما
فرضتموه في السؤال فاما طعن مثبتي القياس على الطريقة المتقدمة تصحيحهم غلبة الظنون في الشريعة بقولهم انا وجدنا أهل القياس
87

والاجتهاد مع كثرتهم وتدينهم يخبرون عن أنفسهم بالظنون ويعلمون عليها ومثل هؤلاء أو طايفة منهم لا يجوز أن يكذبوا
على أنفسهم فكيف مع الظنون وهذه حالها فليس بشئ لان لن نفى الظن أن يقول لست اكذب هؤلاء المجتهدين في انهم
يجدون أنفسهم على اعتقاد ما وانما أكذبهم في قولهم انه ظن وواقع عن القوم امارة والعلم بالفرق بين الاعتقاد المبتدى والظن
ليس بضرورة فكان القوم سبقوا إلى اعتقادات ليس ظنونا ودخلت عليهم الشبهة فاعتقدوا ان لها احكام الظنون
وليست كذلك على ان هذا يرجع عليهم فيمن يدعى من أهل القياس ان على الاحكام أدلة توجب العلم فيقال لهم كيف يصح على هؤلاء مع كثرتهم
أن يدعوا انهم عالمون ويخبرون عن نفوسهم بما يجدونها عليه من السكون وهم مع ذلك كذبه وهكذا السؤال عليهم في المخالفين لهم في أصول الديانات
إذا ادعوا العلم بمذاهبهم وسكونهم إلى اعتقاداتهم فلابد لهم في الجواب مما ذكرناه من ان القوم لم يكذبوا في انهم معتقدون وانما غلطوا في
ان تلك الاعتقادات علوم فاما طريقة النظام ومن تابعه في ابطال القياس فاعتمادهم على ان الشرعيات وقعت على وجوه لا يمكن معها دخول
القياس فالذي يعولون عليه أن يقولوا وجدنا الشرع واردا باختلاف المتفقين واتفاق المختلفين كإيجاب القضاء على الحايض في الصوم
واسقاطه عنها في الصلاة وهي أوكد من الصوم وايجابه على المسافر القضاء فيما قصر في الصوم واسقاطه عنه فيما قصر من الصلاة وكايجاب
الغسل بخروج الولد والمنى وهما أنضف من البول والغائط الذان يوجب ان الطهارة وإباحة النظر إلى الأمة الحسناء والى محاسنها و
خطر ذلك من الحرة وان كانت شوهاء قالوا كيف يسوغ القياس فيما هذه حاله ومن حقه ان يدخل فيما يتفق فيه احكام المتفقات وتختلف
احكام المختلفات وهذا لا يصح اعتماده في نفى القياس وذلك ان لمشبه ان يقول اما اطلاق القول بان المتفقين لا يختلفان في الحكم والمختلفين
لا يتفقان في الحكم فغلط والصحيح ان المتفقين لا يختلفان في الحكم يقتضيه اتفاقها وكذلك المختلفان في الحكم الذي يقتضيه اتصافها
لان المراعى في هذا الباب هو الأسباب والعلل والاحكام التي يجب اتفاق المتفقات واختلاف المختلفات هي الراجعة إلى صفات الذات وانما
وجب ذلك فيها لان المتفقين قد اشتركا في سبب الحكم وعلته والمختلفين قد افترقا في ذلك فلابد
مما ذكرناه فاما الدلالة إذا لم يكن الحكم راجعا إلى الذوات فهو موقوف على الدلالة فان اتفق
المختلفان في علته وسببه اتفقا فيه وان اختلف المتفقان فيهما اختلفا فيه وعلى هذا لا ينكر أن
يكون الحيض وان كان سببا لسقوط الصوم والصلاة معا واتفقا في ذلك أن يختلفا في حكم اخر
يوجب في أحدهما الإعادة ولا يوجبها الاخر فيكون الاختلاف من وجه والاتفاق من اخر وقد زال التناقض
لان القضاء إذا اختص بعلة غير علة السقوط لم يكن باتفاقهما في علة السقوط معتبر في العقل
هذا توضيح للمنع السابق وتمهيد مقدمة للنقض الاجمالي الأول المذكور بقوله فان كان ما أورده
الخ مثال ذلك لأنا نعلم ان النفع المحض إذا حصل في الفعل اقتضى حسنه وقد يحصل في الكذب
النفع فلا يكون الا قبيحا لان وجه قبحه هو كونه كذبا فصار اتفاق الكذب مع غيره من الافعال
في النفع لا يمنع من اختلافهما في القبح لان ما اختلفا فيه غير ما اتفقا من اجله فان كان ما أورده النظام
مانعا من القياس الشرعي فيجب أن يمنع من القياس العقلي أيضا على انه قد اعترف بورود النص باتفاق
المختلفين واختلاف المتفقين ولم يلزمه أن يكون متناقضا فالأسوغ القياس واعتذر له بمثل (بما خ ل)
88

ما يعتذر به للنصوص فان قال انى لم أوجب التناقض في هذه الاحكام فيلزموني ذلك في ورود النص بها
وانما منعت وحالها هذه من التطرق بالقياس إليها قيل ليس يمتنع ما ظننت امتناعه إذا نصب الله تعالى
لقضاء الصوم امارة توجبه وأخلى قضاء الصلاة من مثلها على ان للقوم أن يقولوا انا لا نثبت القياس في
كل حكم وعلى كل أصل وانما نثبته بحيث يسوغ ويصح وأكثر ما يقتضيه ما أوردته مما هو بخلاف القياس
فلا يسوغ دخوله فيه أن يمتنع فيه من القياس وفيما جرى مجراه فلم إذا امتنع القياس في هذه الأمور امتنع في
غيرها فاما من نفى القياس واعتمد في نفيه على ان الحكيم لا يجوز أن يقتصر على أدون البيانين رتبة مع
قدرته على إعلالهما وان النصوص أبلغ في البيان من القياس فيجب أن تكون العبادة في معرفة الاحكام
مقصورة عليها فالكلام عليه أن يقال له أول ما في كلامك انه اعتراف بأن القياس يوصل به إلى الاحكام
لأنه لا يجوز أن تقول انه اخفض رتبة في باب البيان من غيره الا والتبيين ويقع به وإذا ثبت كونه بيانا
فما الذي يمنع من العبادة به وان كان أدون رتبة لما يعلمه الله تعالى من صلاح المكلف فيه وانه إذا توصل
إلى الحكم به ولحقته المشقة في طريق كان أقرب إلى فعله واستحق عليه من الثواب ما لا يستحقه لو وصل
إلى معرفته بالنص على انه يلزم على هذه العلة أن يكون العلم في جميع التكليف ضروريا لأنه أقوى في
البيان من العلم المكتسب ومن يعتمد على هذه الطريقة لابد له من المناقضة لأنه تعلق كثيرا من الاحكام
في الشريعة بالظنون نحو الاجتهاد في جهة القبلة وتقدير النفقات وجزاء الصيد وما أشبه ذلك
فإذا جازت العبادة بالظنون في هذه الاحكام مع امكان ورود البيان فيهما بالنص الموجب للعلم ولم يكن
خارجا عن الحكمة جاز مثله في سائر الاحكام فاما من نفى القياس من حيث لم يأت العبادة به ولم يقطع السمع
العذر في صحته فهو الصحيح الذي نختاره ونذهب إليه لان القياس متى جاز في العقل ورد العبادة
إذا تعلقت به مصلحة في التكليف فلابد في جواز استعماله في الشرع من دليل سمعي لأنه يجرى مجرى سائر
الافعال الشرعية التي إذا جاز في العقل ان تدخل في العبادة لبعض الصالح (المصالح) فلابد في استعمالها من
دليل سمعي والذي يلزمنا ان نورد ما يعتمده مثبته من الطرق التي ظنوا انها أدلة عليه سمعية
ونبين انها مشتبهة وليست بأدلة ولا موجبة للتعبد به فاما من يذهب إلى ان العادة وردت بما يمنع
منه فهو أيضا مذهبنا ونحن نبين في الفصل الذي يلي هذا الفصل ما عندنا فيه انشاء الله تعالى
فصل في ان القياس في الشرع لا يجوز استعماله لنا في المنع من استعمال القياس في الشريعة طريقتان
أحدهما انه إذا ثبت جواز العبادة به من جهة العقل فثبوت العبادة به تحتاج إلى دليل شرعي وقد
علمنا انه ليس في الشرع دليل على ان القياس دين الله تعالى يجوز استعماله لا من جهة الكتاب ولا من جهة السنة
المتواترة بها ولا من الاجماع وانما قلنا ذلك لأنا قد استقرينا جميع ذلك فعلنا انه ليس فيه ما يدل
على وجوب العمل بالقياس ونحن نذكر المواضع التي يستدل بها من ظاهر القران على وجوب العمل بالقياس
89

ونبين انه لا دلالة في شئ منها والسنة على ضربين متواتر وآحاد فالتواتر يوجب العلم الضروري على مذهب الخصم
وعلى مذهبنا يوجب العلم الذي لا يتخالجنا فيه الشك أو كان مما يستدل على صحته إذا كان شرط التواتر فيه
والضرب الاخر اخبار آحاد فالقسم الأول مفقود في الاخبار التي يستدل بها على صحة العمل بالقياس لأنها
ليست معلومة جملة لا ضروريا ولا استدلالا والقسم الاخر لا يجوز استعماله في هذه المسألة لأنها من باب
العلم دون العمل وخبر الواحد يوجب غلبة الظن فلا يجوز استعماله فيما طريقه العلم بلا خلاف واما
الاجماع فليس فيه أيضا لان هذه مسألة خلاف ونحن نبين ما يدعونه من اجماع الصحابة ونتكلم عليه
انشاء الله والطريقة الثانية ان نقول قد ورد من الشرع بما يمنع من العمل بالقياس وأقوى ما اعتمد في
ذلك اجماع الطائفة المحقة وقد ثبت ان اجماعهم حجة لأنه يشتمل على قوم معصوم لا يجوز عليه الخطأ
على ما بيناه فيما تقدم وقد علمنا انهم مجمعون على ابطال القياس والمنع من استعماله وليس لاحد ان
يعارض هذه الاجماع لمن يذهب إلى مذهب الزيدية والمعتزلة من أهل البيت عليهم السلام وقال مع ذلك بالقياس
لان هؤلاء لا اعتبار بمثلهم لان من خالف في أصول الخلاف الذي يوجب التكفير أو التفسيق
لا يدخل قوله في جملة من يعتبر اجماعهم ويجعله حجة لأنا قد بينا ان كل من علمنا انه ليس بامام فانا
لا نعتد بخلافه ونرجع إلى الفرقة الأخرى التي نعلم كون الامام في جملتهم على انا كما نعلم من مذهب أبي
حنيفة والشافعي القياس كذلك نعلم ان من مذهب أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق عليهما السلام
نفى القياس وتظاهر الاخبار عنهما بالمنع منه والمناظرة للمخالفين فيه كتظاهرها عمن ذهب إليه
في خلاف ذلك وليس يدفع عنهما هذا الا من استحسن المكابرة وقد علما ان قولهما حجة وقول كل
واحد منهما لأنهما الامامان المعصومان ولا يجوز عليهما الخطاء في الفعل والاعتقاد وقد اعتمد من
نظر هذه الطريقة التي ذكرناها على آيات ليس فيها ما يدل على ذلك مما يمكن الاعتماد عليه وعلى
جميعها اعتراض فمن ذلك تعلقهم بقوله تعالى لا تقدموا بين يدي الله ورسوله وصار ذلك بمنزلة
ما نص عليه وانما تكون تقدما بين أيديهما لو قيل به من غير دلالة ولا استناد إلى علم وتعلقوا أيضا
بقوله ولا تقف ما ليس لك به علم وبقوله وان تقولوا على الله ما لا تعلمون وللمخالف ان يقول ما
قلنا بالقياس الا بالعلم وعن العلم فلم يخالف ظاهر الكتاب وانما ظننتم علينا ان نعلق الاحكام
بالظنون وليس نفعل ذلك بل الحكم عندنا معلوم وان كان الطريق إليه الظن على الوجه الذي
مثلنا به من العقليات وتعقلوا بقوله ما فرطنا في الكتاب من شئ وقوله تبيانا لكل شئ وقوله
اليوم أكملت لكم دينكم وللمخالف أن يقول ان القياس إذا دل الله عليه وأوجب العمل به فقد
دخل في جملة ما بين في الكتاب ولم يقع فيه تفريط لان الكتاب قد دل على صحة اجماع الأمة ووجوب
اتباع السنة فإذا علمناه بالاجماع والسنة صحة القياس جاز إضافة هذا العلم والبيان إلى الكتاب
90

وان كان على سبيل الجملة دون التفصيل لأنه ليس يمكن أن يدعى ورود الكتاب بكل شئ مفصلا فصار
العامل بالقياس عاملا بما امر الله تعالى به في كتابه وبينه وأكمله وهذه الجملة تنبيه على طريقة الطعن
فيما جرى هذا المجرى من الاستدلالات فإنهم يتعلقون بشئ كثير من هذا الجنس لا فائدة في ذكر جميعه فصل
في ان العبادة لم ترد بوجوب العمل بالقياس الذاهبون إلى القول بالقياس في الشرع فريقان أحدهما
يوجب العمل به عقلا وهم الشذاذ على ما ذكرناه والآخرون يوجبون العمل به سمعا وان لم يثبتوه عقلا
ونحن نفسد كلا القولين ليتم لنا ما قصدناه فاما من اثبته عقلا فالأصل في الكلام عليه ان يقال
ان الفعل الواجب لابد من أن يكون له وجه وجوب لولاه لم يجب لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن بالوجوب
أولى من غيره وماله يجب الفعل ينقسم قسمين أحدهما صفة تختصه ولا يتعداه إلى غيره وذلك جميع
الواجبات العقلية نحو رد الوديعة والانصاف وشكر المنعم والاخر أن يكون وجوبه لتعلقه بغيره
على سبيل اللطف نحو أن يختار المكلف عنده واجبا اخر أو يمتنع عن قبيح وليس يكون كذلك الا بعد أن
يختص بنفسه بصفة تدعو إلى اختيار ما يختار عنده وهذا القسم على ضربين أحدهما يعرف (يعلم خ ر) بالفعل
كوجوب معرفة الله لان جهة وجوبها متقررة (متقدرة خ ر) في (با خ ر) العقل وهو انا نكون عندها أقرب إلى فعل الواجب
والامتناع من القبيح وكعلمنا أيضا بان الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن يكون على أحوال
تنفر عن القبول منه نحو الفسق والأحوال الدنية المستخفة ومثل ما يلحقه بالمعرفة من وجوب الرياسة
لكونها لطفا لأنه مستقر في عقل العقلاء ان الناس في الجملة لا يجوز أن يكونوا مع فقد الرؤساء في باب
الصلاح والفساد على ما يكونون عليه مع وجودهم والضرب الثاني لا يعلم الا بالسمع لفقد الطرق
إليه من جهة العقل وهو جميع الشرعيات والسمع الذي به يعلم وجوب ذلك قد يرد تارة بوجه الوجوب
فيعلم عنده الوجوب وتارة يرد بالوجوب فيعلم عنده وجه الوجوب واحد الامرين يقوم مقام الاخر في
العلم بالوجوب الا أنه إذا ورد بوجوبه (عما خ ر) لم يعلم وجه الوجوب الا على جهة الجملة وان ورد بوجه وجوبه
مفصلا أو مجملا علمنا وجوبه مفصلا لان العلم بوجوبه لابد فيه من التفصيل لتنزاح علة المكلف
من في (ظ) الاقدام على الفعل والعلم بوجه الوجوب قد يكون مجملا ومفصلا ويقوم أحد الامرين
مقام الاخر فلو قال تعالى ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولم يوجبها لعلمنا وجوبها ولو
نص على وجوبها بلفظ الايجاب لعلمنا في الجملة انها تنهى عن قبيح أو تدعوا إلى واجب فاما ماله
قلنا إذا علمنا وجوب الفعل علمنا وجه وجوبه وإذا علمنا وجه الوجوب علمناه واجبا فهو ان
من علم بالعقل رد الوديعة مع المطالبة علم وجه ومتى لم يعلم ذلك لم يعلم وجوبه وكذلك من علم الفعل
ظلما على قبحه فان شك في كونه ظلما لم يعلم القبح وكما وجب هذا فهكذا أيضا متى علم كون الفعل
الذي هو رد الوديعة واجبا علمه رد الوديعة فتعلق كل واحد من الامرين بصاحبه كتعلق
91

صاحبه به فان قيل من اين قلتم ان الواجبات في الشرع لا تجب الا لكونها ألطافا ثم من اين قلتم ان ذلك لا
يعلم من حالها الا بالسمع ليتم ما ذكرتموه قلنا لان وجوبها إذا ثبت وكان لابد له من وجه لم يخل من القسمين
الذين قدمناهما وهما اما صفة تختص الفعل ولا يتعداه أو لتعلقه بغيره على وجه اللطف وليس يجوز
في الشرعيات الوجه الأول لأنها لو وجبت لصفة يخصها لجرى (تجري ظ) مجرى رد الوديعة في انه وجه الوجوب
أن يعلم على تلك الصفة ويعلم وجوبها متى علمناها لأنه لا يصح ان يجب لصفة تختص بها ولا يصح
أن يعلم عليها ولا يعلم وجوبها وقد علمنا ان الصلاة وسائر الشرعيات يعلم بالعقل صفاتها وان
لم يعلم وجوبها فدل ذلك على بطلان القسم الأول ولم يبق الا الثاني وإذا ثبت انها تجب الالطاف
ولم يكن في العقل دليل على ان وقوع بعض الافعال منا تختار عنده فعلا آخر لان العقل لا يدل على
ما تختاره الانسان ولان دلالة العقل أيضا طريقتها واحدة ولم يصح ان يدل على الشئ ونفيه والحكم
وضده كما تراه في الشرايع من اختلاف المكلفين والناسخ والمنسوخ فلم يبق الا ان الطريق إليها
السمع ولولا ما ذكرناه لما احتج في معرفة المصالح الشرعية إلى بعثة الأنبياء عليهم السلام فان قالوا
العقل يقتضى في كل شبيهين ان حكمهما واحد من حيث اشتبها فوجب أن يحكم في الأرز بحكم
البر عقلا وان لم يأت السمع قيل لهم الاشتباه الذي يقتضى المشاركة في الحكم هو فيما يعلم ان الحكم فيه
يجب عن ذلك الشبه أو يكون في حكم الموجب عنه نحو علمنا بان ما شارك العالم في وجوب العلم في قلبه
يجب كونه عالما وما شارك رد الوديعة في هذه الصفة كان واجبا فاما العلل التي هي أمارات أفلا
يجب بالمشاركة فيها المشاركة في الحكم لان العقل لا يعلم به كونه علة جملة ولو علم كونها علة لم
يجب فيما شاركه فيها مثل حكمها لان المصالح الشرعية مختلفة من حيث تعلقت بالاختيار فلا مدخل
للايجاب فيها ولهذا جاز أن يكون الشئ في الشرع مصلحة وما هو مثله مفسدة وجاز اختلاف الأعيان
والأوقات في ذلك فان قال إذا حرم الله (تعالى) الخمر ورأيت التحريم تابعا للشدة يثبت بثبوتها ويزول بزوالها
علمت ان علة الشدة ولا احتاج إلى السمع كما لا احتياج في العقليات إليه قيل له ليس يكون ما ذكرته
من الاعتبار أقوى من أن ينص الرسول صلى الله عليه وآله في الخمر ان علة تحريمها هي الشدة وقد بينا ان ذلك لا يوجب
التخطي ولا يقتضى اثبات التحريم في كل شديد الا بعد التعبد بالقياس لأنه غير ممتنع ان مخالفا في المصلحة
وان وافقه في الشدة وبينا ان النص على العلة الشرعية يجرى مجرى النص على الحكم في امتناع التخطي
الا بدليل مستأنف فاما من زعم ان السمع قد ورد بالتعبد بالقياس فنحن نذكر قوى ما اعتمده و
نتكلم على شئ منه أحد ما اعتمدوه قوله تعالى فاعتبروا يا أولى الابصار قالوا والاعتبار هو المقايسة
لان الميزان يسمى معيارا من حيث قيس به مساواة الشئ بغيره ولما روى عن ابن عباس من قوله
في الأسنان اعتبروا حالها بالأصابع التي ديها متساوية وربما استدلوا بالآية على وجه اخر فقالوا
92

قد دل الله تعالى في (بهذه خ ر) هذه الآية على ان المشاركة في العلة تقتضي المشاركة في الحكم وذلك انه قال هو الذي
اخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا انهم ما نعتهم
حصونهم من الله فأتاهم من حيث لا يحتسبون وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين
فاعتبروا يا أولى الابصار فذكر ما خل بهم ونبه على علته وسببه ثم امر بالاعتبار وذلك تحذير من
مشاركتهم في السبب فلو لم تكن المشاركة في السبب تقتضي المشاركة في الحكم ما كان لهذا القول
معنى والكلام على ذلك ان يقال لهم ما تنكرون أن يكون لفظ الاعتبار لا يستفاد منه الحكم
بالقياس وانما يستفاد به الاتعاض والتدبر والتفكر وذلك هو المفهوم من ظاهره واطلاقه لأنه
لا يقال لمن يستعمل القياس العقلي انه معتبر كما يقال فيمن يتفكر في معاده ويتدبر أمر منقلبه ويتعظ
بذلك انه معتبر وكثير الاعتبار وقد يتقدم بعض الناس في العلوم واثبات الاحكام من طريق
القياس وتأمل فكره في معاده وتدبره فيقال انه غير معتبرا وقليل الاعتبار وقد يستوى في المعرفة
بحال الشئ واثبات حكم اثنان فيوصف أحدهما بالاعتبار دون الاخر على المعنى الذي ذكرناه و
لهذا يقولون عند الامر العظيم ان في هذا لعبرة وقال الله تعالى وان لكم في الانعام لعبرة وما
روى عن ابن عباس خبر واحد لا يثبت بمثله اللغة ولو صح لكان محمولا على المجاز بشهادة الاستعمال
الذي ذكرناه على انا لو سلمنا جواز استعمال الاعتبار في المقايسة لم يكن في الآية دلالة الا على ما
ذكر منها من امر الكفار وظنهم ان حصونهم ما نعتهم من الله تعالى ووقوع ما وقع مكانه قال الله تعالى
فاعتبروا بذلك يا أولى الابصار وليس يليق هذا الموضع بالقياس في الاحكام الشرعية لأنه تعالى
لو صرح بعقب ما ذكر من حال الكفار بأن يقول فقيسوا في الاحكام الشرعية واجتهدوا لكان
الكلام لغوا لا فائدة فيه فلا يليق بعضه ببعض فثبت انه أراد الأتعاض والتفكر على انه يمكن
ان يقال لهم على تسليم تناول اللفظة للقياس باطلاقها ما تنكرون انا نستعمل موجب الآية بان
نقيس الفروع على الأصول في انا لا نثبت لها الاحكام الا بالنصوص لان هذا أيضا قياس فقد
ساويناكم في التعلق بالآية فمن اين لكم ان القياس الذي تناوله الآية هو ما تذكرونه دون ما
ذكرناه وكلاهما قياس على الحقيقة وليس لهم أن يقولوا نحن نجمع بين الامرين لأنهما يتنافيان
والجمع بينهما لا يصح ولا لهم أيضا ان يقولوا قولنا لنا صح (رجح خ ر) من حيث كان فيه اثبات للاحكام وقولكم
فيه نفى لها وذلك لان الترجيح بما ذكروه انما يصح متى ثبت كلا وجهي القياس فيصح الترجيح و
التفرقة فاما الخلاف فيهما هل يثبتان أو يثبت أحدهما فلا ترجيح يمكن في ذلك ويقال لهم
في تعلقهم بالآية ثانيا إذا كان الله تعالى قد نبه على ما زعمتم بالآية على ان المشاركة في السبب و
العلة تقتضي المشاركة في الحكم فيجب أن يكون كل من فعل مثل فعل الذين اخبر تعالى عنهم
93

في الآية يحل بهم مثل ما حل بهم فان قالوا هو كذلك أريناهم بطلان قولهم ضرورة ولوجودنا (وجود ما ظ) من يشارك
المذكورين في المخالفة والمعصية وان لم يصبه ما أصابهم وهذا من ضعيف ما يتمسك به وتعلقوا
أيضا بقوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم وقوله وعلى الموسر قدره
وعلى المقتر قدره قالوا والمثلية والمقدار طريقه غالب الظن وبقوله فان خفتم الا تعدلوا فواحدة
أو ما ملكت ايمانكم قالوا وذلك طريقه غالب الظن وهذه الآيات لا يخلو أن يكون المستدل بها
يعتمدها في جواز التعبد بالظنون أو في وجوب التعبد بها فان كان الأول كان ذلك صحيحا وذلك
بما قدمنا جوازه وان أراد والثاني كان ذلك باطلا لأنه ليس إذا ثبت التعبد في شئ بغالب الظن ينبغي
أن يحمل غيره لان ذلك يصير قياسا وكلامنا في مسألة القياس فكيف بالشئ على نفسه على ان
من أصحابنا من قال ان المثلية والقدر منصوص عليه فعلى هذا سقط السؤال وتعلقوا أيضا بأن
قالوا قد ظهرت عن الصحابة القول بالقياس واتفق جميعهم عليه نحو اختلافهم في مسألة الحرام و
الجد والشركة والايلاد وغير ذلك ورجوع كل منهم في قوله إلى طريقة القياس لأنهم اختلفوا في
الحرام فقالوا بأربعة أقاويل أحدها انه في حكم التطليقات الثلث وذلك مروى عن أمير المؤمنين (ع)
وزيد وابن عمر والقول الاخر قول من جعله يمينا يلزم فيهما الكفارة وهو المحكى عن أبي بكر وعمرو بن
مسعود وعايشة والثالث قول من جعله ظهارا وهو المروى عن ابن عباس وغيره والرابع قول من
جعله تطليقة واحدة وهو المروى عن ابن مسعود وابن عمرو غيرهما ثم اختلفوا فمنهم من قواه ومنهم
من جعلها واحدة رجعية وبعضهم جعلها بائنة وكل ذلك تفريع للقول الرابع وحكى في المسألة
قول خامس عن مسروق وهو انه ليس بشئ لأنه تحريم لما أحله الله تعالى ووجوده كعدمه واختلافهم
في الجد أيضا ظاهر وكذلك ما عددناه من المسائل وانما شرحنا مسألة الحرام لان الخلاف فيها أكثر
منه في غيرها قالوا وقد علمنا انه لا وجه لأقاويلهم الا طريقة القياس والاجتهاد لان من جعل الحرام
طلاقا ثلثا معلوم انه لم يرد انه طلاق ثلث على الحقيقة بل أراد انه كالطلاق الثلث وجار
مجراه وكذلك من جعله يمينا وظهار الحال ان يريد الا الشبه دون أن يكون عنده يمينا أو ظهارا في
الحقيقة ولأنه قد نقل عنهم النص الصريح في انهم قالوا بذلك قياسا لان من ذهب إلى ان الجد
بمنزلة الأب نص على انه مع فقد الأب بمنزلة ابن الابن مع فقد الابن حتى صرح ابن عباس بأن
قال الا لا يتقى الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب وقد علمنا انه لم يرجع في ذلك إلى
نص لان الجد لا نص عليه في الكتاب فلم يبق الا سلوكهم فيه طريق التمثيل والمقايسة وثبت أيضا
عمن قال بالمقايسة بين الأخ والجد انه شبههما بغصني شجرة وبجدولي نهر ولهذا يبطل قول من
يدعى انهم قالوا ذلك على طريق الصلح والبور أو لأنه أقل ما قيل فيه أو حكموا بحكم العقل أو لنص خفى
94

ويبطل ذلك زايدا على ما تقدم انهم اختلفوا فيما لا يسوغ فيه الصلح لتعلقه بتحريم الفروج وتحليلها
كمسألة الحرام والايلاء ولان ما يقال من طريق الصلح لا يفرع عليه ويبنى بحسبه المذاهب ولأنهم
اختلفوا في مواضع لا يصح أن يقال فيها بأقل ما قيل ولأنهم قد اختلفوا فيما زاد على أقل ما قيل وقالوا أيضا
بأقاويل كلها خارجة عما في أصل العقل ولو قالوا أيضا لنص لوجب أن يظهر لان الدواعي إلى اظهاره قوى
وإذا ثبت ذلك من حالهم فهم (بين) قائل بالقياس ومصوب لقائله غير منكر عليه فصاروا مجمعين على
القول به واجماعهم حجة ولا يجوز أن ينعقد على خطاء فيقال لهم لنا في الكلام عليهم وجهان أحدهما أن نبين
بطلان ما حكمتم به وقطعتم عليه من ان القول من المسائل التي ذكرتموها لم يكن الا بالقياس ونبين
انه يحتمل أن يكون النص اما بظاهره أو دليله والاحتمال في هذا الموضع يكفى ويأتي على استدلالهم والوجه
الاخر ان تنازع فيما ادعيتموه من ارتفاع النكير للقياس ونبين انه ورد عنهم من ذلك ما في بعضه
كفاية وابطال لقول من يدعى خلافه ولنا أيضا إذا سلمنا انهم قالوا في تلك المسائل بالقياس وتجاوزنا
عن الخلاف في ارتفاع النكير وفرضنا انه لم يكن ان نقول ارتفاع النكير لا يدل في كل موضع على الرضا والتسليم
وانما يدل على ذلك إذا علمنا انه لا وجه لارتفاعه الا الرضا فاما مع تجويز كونه للرضا ولغيره فلا دلالة
فيه غير ان هذه الطريقة يوحش من خالفنا في هذه المسألة لأنها تطرق عليهم فساد أصول هي أهم إليهم
من الكلام فيها وينبغي أن يتجاوز عن هذا الكلام في هذا المعنى ويقتصر على الوجهين الذين قدمناهما
لان الكلام في هذا الوجه له موضع غير هذا هو أليق به وقد ذكرناه في كتاب الإمامة مستوفا فيقال
لهم لم زعمتم ان القول في المسائل التي عددتموها انما كان بالقياس فلم نجدكم اقتصرتم الا على الدعوى
المجردة من برهان ولم إذا اختلفوا وتباينت أقوالهم وجب أن تستند تلك المذاهب إلى القياس وأنتم
تعلمون ان الاختلاف في المذاهب المستندة إلى النصوص ممكن كإمكانه في المستندة إلى القياس ولم أنكرتم
أن يكون كل واحد منهم انما ذهب إلى ما حكى عنه لتمسكه بدليل نص اعتقد انه دال على ما ذهب
إليه فان قالوا (فان كانوا قالوا خ ر) بذلك للنصوص لوجب أن تنتقل تلك النصوص وتشتهر لان الدواعي تقوى إلى نقلها
والاحتجاج بها قلنا أول ما نقوله انا لا نلزمكم أن يكونوا اعتمدوا في هذه المسائل نصوصا صريحة استدلوا
بها على المذاهب التي اعتقدوها بل ألزمناكم ان يكونوا اعتمدوا فيها أدلة النصوص التي يحتاج فيها إلى ضرب
من الاستدلال والتأول وسواء كانت تلك النصوص على هذه نصوصا ظاهرة للكل معلومة للجميع
أو كانت مختصة فلا يجب ان تفرضوا كلامنا في غير ما فرضناه فيه على انا نقول لهم ولو كانوا اعتمدوا
في ذلك على علة قياسية لوجب نقلها وظهورها لان الدواعي إلى نقل مذاهب (مذاهبهم خ ر) تدعو إلى نقل
طرقهم (طرقها خ ر) وما به احتجوا وعليه عولوا وما نجد في ذلك رواية فان كان فقد ما اعتمدوه من دليل
النص وارتفاع روايته دليلا على انهم قالوا بالقياس فكذلك يجب أن يكون فقدنا لرواية عنهم
95

تتضمن انهم قالوا بذلك قياسا دليلا على القول به من طريق النصوص فان قالوا الفرق بين الامرين ان
القياس لا يجب اتباع العالم فيه والنصوص يجب اتباعه فوجب نقل النص ولا يجب مثله في القياس
قلنا إطلاقكم ان القياس لا يجب فيه الاتباع لا يصح على مذاهبكم بل يجب فيه الاتباع إذا ظهر وجه
القول به وامارات غلبة الظن فيه وانما لا يجب القول به بارتفاع هذا الشرط وعلى العالم أن يظهر وجه
القول لمن خالفه ليظهر له منه ما يكون فرضه معه الانتقال عما كان عليه ولولا هذا ما حسنت مناظرة
أصحاب القياس والاجتهاد بعضهم لبعض ولم ينقل عن الصحابة وجه قولهم في مسألة الحرام التي
وقع النص من مخالفينا عليها لقوتها عندهم ولم يرد (يرو خ ر) عن أحد منهم العلة التي من اجلها جعله
طلاقا ثلثا أو ظهارا أو يمينا على انه انما يجب على المعتقد للمذهب أن يظهر وجه قوله عند المناظرة
والحاجة الداعية فاما أن يكون ظهور وجه القول كظهور القول والمذهب فغير واجب وكيف يقال
ذلك ونحن نعلم ان كثيرا من الصحابة والتابعين ومن كان بعدهم قد ظهرت عنهم مذاهب كثيرة
فيما طريقه العلم والدليل القاطع من غير أن يظهر عنه أو ينقل ما كان دليله بعينه ولأي طريق
قال بذلك المذاهب واعتقده فان قالوا فقد تناظروا ورد بعضهم على بعضهم ولم يذكر عنهم احتجاج
بنص قلنا ليس يمكن أن يحكى عنهم في مسألة الحرام وغيرها من المسائل انهم اجتمعوا فيها لمناظرة
والمنازعة وحاج بعضهم بعضا ورد بعضهم على بعض ولم يذكروا أدلة النص ولا وردت بشئ
من ذلك رواية وأكثر ما روى إضافة هذه المذاهب إلى القائلين بها على انهم ان كانوا تناظروا وتنازعوا
فلابد من أن يظهر كل واحد منهم وجه قوله سواء كان نصا أو قياسا وفي مثل هذه الحال لا يسوغ الاعتراض
عن ذكر وجه القول وان جاز في غيرها ولهذا لا نجد أحدا من الفقهاء ينازع خصومه ويرد مذاهبهم
عليهم على سبيل المناظرة ولا يظهر وجه قياسه والعلة التي من اجلها ذهب إلى ما ذهب إليه بل
لابد له من تحرير علله وتهذيبها والاحتراز فيها من النقض وإذا كنا لم نجد رواية منهم بوجه قياسه
وبالعلة التي من اجلها جمع بين الامرين الذي شبه أحدهما بالاخر فيجب أن ينفى عنهم القول
بالقياس ان كان ما فرضتموه صحيحا فان قالوا من شأن العلماء أن يذكروا النصوص الشاهدة
لأقوالهم ومذاهبهم ليرتفع عنهم التهمة في الخطاء أو القول بغير دليل قلنا ومن شأنهم أن يذكروا
الوجه القياس المصحح لمذاهبهم ليرتفع عنهم التهمة وبعد فلعل القوم كانوا آمنين من ان
يتهموا بالسحت والاعتقادات المبتدأة فلم يحتاجوا إلى ذلك فان قالوا ليس نجد في نصوص الكتاب
والسنة ظاهرا ولا دليلا يدل على هذه المذاهب التي حكينا اختلافهم فيها الا ان يدعوا نصوصا
غير ظاهره بان اختص كل واحد منهم بها فيظهر بطلان قولكم لكل أحد ويلزم حينئذ أن يكون تلك
النصوص قد أشيعت وأظهرت ليعلم ويعرف والا طرق ذلك ابطال الشريعة أو أكثرها
96

قلنا اما ما ضمنا لكم أن يكون كل واحد من القوم ذهب إلى مذهبه للدليل عليه من جهة النص وانما ألزمناكم
تجويز سبب كل قابل منهم بوجه اعتقده دليلا قد يجوز أن يكون فيه مخطئا ومصيبا ولو أخطأت الجماعة في استدلالها
على أقوالها الا واحدا فيها لم يضرنا فيما قصدناه لان الذي امن من اجماعهم على الخطاء لا يؤمن من اجماع أكثرهم
ففقدكم نصوص الكتاب والسنة أدلة لتلك المذاهب لا يدخل على ما قلناه اللهم الا أن يريد وإنا فقدنا ما
يمكن التعلق به أو الاعتقاد فيه انه دليل فهذا إذا ادعيتموه علمتم ما فيه وقيل لكم من اين قلتم ذلك و
كيف يحاط بمثله ويقطع عليه وهل هذا الا الحجر في الشبه طريق (طريف خ ر) وليس يجب في الشبه ما يجب في الدلالة (الأدلة خ ر) فان تلك تنحصر
والشبه لا ينحصر على انا نقول وما نجد لقول كل واحد من الجماعة علة تقتضي القول بمذهبه فيجب أن ينفى
اعتمادهم في هذه المذاهب على العلل القياسية فان قالوا انكم لم تجدوا علة يجب عندها الحكم بكل
ما حكى من المذاهب والا فأنتم تجدون ما يمكن ان يجعل علة ويعتقد عنده المذاهب قلنا وكذلك نقول
لكم فيما تقدم على انا نقول لهم لم أنكرتم ان يكون من ذهب في الحرام إلى الطلاق الثلث انما قال بذلك بحيث (من حيث خ ر)
جعله ككنايات الطلاق التي هي طلاق على الحقيقة ولها احكام للطلاق عند كثير منهم من غير اختيار الشبه
ورجع في ذلك إلى النص في الطلاق وادخله في جملة ما يتناوله الاسم ومن قال انه يمين يرجع أيضا
إلى نص الكتاب الذي يرجع إليه انها يكون في زماننا بان الحرام يمين وهو قوله تعالى يا أيها النبي لم
تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك ثم قوله بعد قد فرض الله لكم تحلة ايمانكم وان النبي صلى الله عليه وآله
حرم على نفسه مارية القبطية أو شرب العسل على اختلاف الرواية في ذلك فانزل الله ما تلوناه وسماه يمينا
بقوله قد فرض الله لكم تحلة ايمانكم فدخل فيما يتناوله اللفظ ومن عجيب الامر انهم يجدون كثيرا من
الفقهاء في زماننا يعتمدون ذلك في هذه المسألة ويعولون على هذا الظاهر ويتعجبون أن يكون بعض
الصحابة رجع في شئ من المذاهب التي حكوها إلى النص ويقطعون على انه لا مخرج لها في النصوص وهذا
يدل على قلة التأمل ويمكن أيضا مثل ذلك فيمن ذهب إلى انه ظهار وأن يكون اجراه مجرى الظهار في
تناول الاسم له وان كان لفظه مخالفا للفظ الظهار كما كانت كنايات الطلاق مخالفة للفظ الطلاق
وأجريت مجراه وكذلك لفظ الحرام مخالف لليمين واجري في تناول الاسم مجراه ومن ذهب إلى انه تطليقة
واحدة كأنه ذهب إلى الطلاق والى أقل ما يقع به والذاهب إلى الثلث ذهب إلى الأكثر والأعم وكل هذا
ممكن أن يتعلق فيه بالظواهر والنصوص ويكفى الإشارة إلى ما يمكن أن يكون متعلقا وليس يلزم أن يكون
حجة قاطعة ودليلا صحيحا فاما قول مسروق فواضح انه لم يقله قياسا وانه لما لم يجعل لهذا القول تأثيرا
تمسك في الأصل بالحكم أو ببعض الظواهر التي تخطر تحريم المحلل فان قالوا لو كانوا رجعوا في هذه
الأقوال إلى ظواهر النصوص أو أدلتها على ما ذكرتم لوجب أن يخطئ بعضهم بعضا لان الحق لا
يكون الا في أحد الأقوال قلنا لا شئ أبلغ في التخطئة من المجاهرة بالخلاف والفتوى بخلاف المذهب وهذا
97

قد كان منهم وزاد بعضهم عليه حتى انتهى إلى ذكر المباهلة والتخويف من الله فاما السباب واللعن
والشتم والرجوع عن الولاية فليس يجب عندنا بكل خطاء وسنبين القول في ذلك إذا تكلمنا على الطريقة التي
نذكرها عنهم من الاستدلال فيما بعد انشاء الله تعالى فاما قولهم في الاستدلال انهم جعلوه طلاقا تمثيلا و
تشبيها فقد بينا انه غير ممتنع أن يكونوا الحقوه بما يتناوله الاسم بناء على انهم لا يقدرون أن يحكوا عنهم
انهم قالوا قلنا بكذا تشبيها بكذا وانما روى انهم جعلوا الحرام طلاقا وحكموا فيه بحكم الطلاق فاما من
أي وجه فعلوا ذلك وهل الحقوه تمثيلا وتشبيها أو في تناول فليس بمنقول على انه لا يمتنع أن يشبه
الشئ بالشئ ويذكر له نظير لا على سبيل المقايسة بل على سبيل التعريف والافهام فيقول من ينفى
القياس مثلا المصافحة والمعانقة مجرى المجامعة في نقض الطهر وان لم يكن حاملا لهما عليهما
بالقياس بل يذهب إلى تناول ظاهر اللفظ للكل فلو نقل عنهم التصريح بالتمثيل والتشبيه لم يكن
فيه دلالة على القياس لان القياس ليس هو ان يقول القائل الحكم في هذا الشئ التحريم كما كان في غيره مما
وتناول النص تحريمه بل القياس هو أن يثبت للمسكوت عن حكمه مثل حكم المنطوق بحكمة لعلة جمعت
بينهما ويكون العلة معلوقة متميزة مستدلا على كونها علة من دون ساير صفات الأصل بالدليل
وهذا مما لا يروى عن أحد من الصحابة انه استعمله على وجه من الوجوه فكيف يدعى مع ذلك التصريح
منهم بالقياس فاما ادعائهم انهم صرحوا بالقياس وتعلقهم في ذلك بما روى عن ابن عباس من
قوله الا يبقى الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب ابا وما روى من التشبيه بغصني
شجرة وبجدولي نهر فلان تعلق بمثله لان أول ما فيه انه يجب أن يعتمد في ايجاب العمل بالقياس على
خبر واحد غير مقطوع به لان هذه المسألة من المسائل المعلومة التي لا يعتمد فيها الا الأدلة الموجبة
للعلم وما رووه عن ابن عباس وغيره من اخبار الآحاد التي لا يقطع بها فكيف يستدل بها لو كان
فيها دلالة وهي غير معلومة وليس لاحد يدعى الاجماع على صحة الاخبار من حيث تلقوا هذه
الاخبار بالقبول أو يدعوا تواترها وانتشارها وذلك انها وان ظهرت بين الفقهاء وذكرت في
كتب الفرايض فلا شبهة في انها اخبار آحاد ولا فرق بين من يدعى تواترها وبين من يدعى تواتر
جميع أخبار الآحاد التي ظهرت بين الفقهاء وكثرت احتجاجهم بها في كتبهم ومناظراتهم وان كانت
أصولها آحادا فاما الاجماع والتلقي بالقبول فإنه غير مسلم لأنه لم يكن منهم في هذه الاخبار الا ما كان
منهم في خبر مس الذكر وقوله انما الاعمال بالنيات وما شاء كل ذلك من اخبار الآحاد وقد علمنا ان
هذه الاخبار التي ذكرناها وما جرى مجراها ليس مما يوجب الحجة ولا يثبت بمثله الأصول التي طريقها
العلم فان قالوا خبر مس الذكر والاعمال بالنيات ما قبلوه من حيث قطعوا على صحته وانما عملوا به
كما يعلمون على اخبار الآحاد قلنا وهكذا خبر غصني الشجرة وما يجرى مجراه فليس يمكن بين الامرين
98

فرق وبعد فلو سلمنا قيام الحجة بما رووه وان لم يكن كذلك لم يكن فيه دليل على قولهم لان أكثر ما في
الرواية عن ابن عباس انه انكر على زيد انه لم يحكم للجد بحكم الأب الأدنى كما حكم في ابن الابن وليس في الرواية
انه انكر ذلك عليه وجمع بين الامرين بعلة قياسية أوجبت الجمع بينهما وظاهر نكيره يحتمل أن يكون
لان ظاهرا من القول أوجب عنده اجراء الأب مجرى الجد كما ان ظاهر اخر أوجب اجزاء مجرى الابن
للصلب الا ترى انه يحسن من نافى القياس العامل في مذهبه كله على النصوص أن يقول لمن خالفه
في حكم الملامسة اما تتقى الله توجب انتقاض الطهر بالتقاء الختانين ولا توجب انتقاضه بالقبلة
وهو يذهب الا ان الذي يقتضى الجمع بينهما ظاهر قوله تعالى أو لامستم النساء فلا يمنع أن يكون
ابن عباس انما ادعا زيدا إلى القول بالظاهر وقال له إذا اجرى ابن الابن مجرى ابن الصلب لوقع اسم الولد
عليه وتناول قوله يوصيكم الله في أولادكم لهما فاجرى أيضا الحد مجرى الأب لوقوع اسم الأب عليهما
وقد روى عن ابن عباس في ذلك التعلق بالقولان صريحا على ان ظاهر قول ابن عباس يشهد لمذهبنا
لأنه نسب زيدا إلى مفارقة التقوى وخوفه بالله تعالى فلولا ان زيدا عنده كان في حكم العادل عن النص
لم يصح منه اطلاق ذلك القول لان من يعدل عن موجب القياس إلى اختلاف مذاهب مثبتيه لا
ينسب إلى مفارقة التقوى لأنهم أكثرهم يقول انه مصيب ومن خطاه يقول انه معذور ولا يبلغ به إلى
هذه الحال فاما ذكرهم غصني الشجرة وجد ولى النهر فلا يوجب القول بالقياس وانما سلكوا ذلك
تقريبا للقول من الفهم وتنبيها عليه من غير أن يجعلوا ذلك علة موجبة للحكم كما يفعل المعلم
مع المتعلم من ضرب الأمثال وتقريب البعيد وإزالة اللبس عن المشتبه وكيف يصح أن يدعى في ذلك
انه على طريق المقايسة وقد علمنا ان القدر الذي اعتمدوه من ذكر الغصن والجدول لا يصح أن يكون
عند أحد أصولا في الشريعة يقاس عليها وتثبت الاحكام لها على ان الوجه في ذكرهم لما حكى ظاهر و
ذلك انهم توصلوا بما ذكر عنهم إلى معرفة أقرب الرجلين من المتوفى وألصقهما به نسبا ثم رجعوا
في توريثه إلى الدليل الموجب للأقرب الميراث وهذا كما يتنازع رجلان في ميراث ميت ويدعى كل
واحد منهما انه أقرب إليه من الاخر فيصح لمن أراد اعتبار أمرهما ان بعد الأبآئين الميت وبين كل واحد
منهما ويحصيهم ليعلم ان الأقرب هو من قل عدد الاباء بينه وبين الميت دون من كثر عددهم بينه وبينه
وله أيضا ان يوضح ذلك لمن التبس عليه بذكر الامتثال والنظائر وان كان (كل ذلك) مما لا يثبت به التوريث
وانما يعرف به الأقرب والميراث يثبت بالنصوص فاما الوجه الثاني من الكلام على استدلالهم هذا ان
نقول لهم لم زعمتم ان التكرير مرتفع وقد روى عن كل واحد من الصحابة الذين أضفتم إليهم القول بالقياس
ذمة وتوبيخ فاعله والازراء عليه فروى عن أمير المؤمنين (ع) انه قال لو كان الدين يؤخذ قياسا لكان
باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره وهذا تصريح منه (ع) بأنه لا قياس في ذلك وروى عنه (ع) انه قال من أراد
99

أن يتفحم جراثيم نار جهنم فينتقل في الجد برأيه وهذا اللفظ يروى عن عمر وما روى عنه (ع) في ذم القياس
والذم لفاعله أكثر من أن يحصى وروى عن أبي بكر انه قال أي سماء تظلني واي ارض تقلني إذا قلت في
كتاب الله برأيي وعن عمر انه إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث ان يحفظوها
فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وروى عنه انه قال إياكم والمكايلة قيل وما هي قال المقايسة وروى
عن شريح انه قال كتب إلى عمر بن الخطاب وهو يومئذ من قبله اقض بما في كتاب الله فان جائك ما ليس في
كتاب الله فاقضي بما في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله فان جائك ما ليس في سنة رسول الله فاقض بما اجمع عليه
أهل العلم فان لم تجد فلا عليك الا تقضى وروى ان عمر أيضا قال أجرأكم على الجد أجرأكم على النار وعن
عبد الله بن مسعود انه قال يذهب قراؤكم وصلحائكم ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور
برأيهم وعنه انه قال إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله وحرمتم كثيرا مما أحلل الله
وروى عن عبد الله بن عباس انه قال ان الله تعالى قال لنبيه احكم بينهم أراك الله ولم يقل بما رأيت
وروى عنه أيضا انه قال لو جعل لاحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسوله صلى الله عليه وآله يقول تعالى وان احكم بينهم
بما انزل الله تعالى وروى عنه أيضا انه قال إياكم والمقاييس فإنما عبدت الشمس والقمر بالقياس (بالمقاييس خ ر) و
روى عن عبد الله بن عمر انه قال السنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله لا تجعلوا الرأي سنة للمسلمين وقال
مسروق لا أقيس شيئا بشئ أخاف أن يزل قدمي بعد ثبوتها وكان ابن سيرين يذم القياس ويقول
أول من قاس إبليس (لعنه الله) وروى عنه انه كان لا يكاد يقول شيئا برأيه وقال الشعبي لرجل لعلك من القايسين
وقال ان أخذتم بالقياس أحللتم الحرام وحرمتم الحلال وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن لا يفتى برأيه وإذا
كان القوم قد صرحوا بذم القياس وانكاره هذا التصريح فكيف يدعى ارتفاع نكيرهم واي نكير
يتجاوز ما ذكرناه ورويناه عنهم وليس لهم ان يتأولوا الالفاظ التي رويناها ويستكرهوا التأويل
فيها ويتعسفوه مثل ان يحملوها على انكار بعض القياس دون بعض أو على وجه ليسلم لهم ما حكوه
من قولهم بالرأي والقياس لان ذلك انما يسوغ لو كان ما استدلوا به على قولهم بالقياس غير محتمل للتأويل
وكان صريحا في دلالته على ذلك فاما وقد بينا ان جميع ما تعلقوا به من اختلافهم في مسألة الحرام و
غيرها من المسائل لا يدل على القياس ولا له أيضا ظاهر في الدلالة عليه وسنبين بمشية الله مثل
ذلك في تعلقهم بالرأي وإضافة الاحكام إليه وانه لا ظاهر له في الدلالة على القياس فضلا عن ان
لا يحتمل التأويل فلا وجه لتأويلهم ما روينا من الاخبار لا سيما وجميعها له ظاهر في نفى القياس
ولابد لهم من العدول عنه إذا صح تأويلهم فكيف يعدل عماله ظاهر في الدلالة على امر لأجل ما لا
ظاهر له ولو تساوى الأمران في الظاهر أيضا لم يكن لهم ان يحملوا اخبارنا على التأويلات التي ذكروها
لتسلم دلالة ما تعلقوا به على القياس ولا كانوا بذلك أولى منا إذا تأولنا ما رووه وحملناه على ان القول
100

فيه انما كان بالنصوص وأدلتها ليسلم دلالة ما رويناه على نفس القياس وما لا يزالون يتعلقون به في
ذلك من قولهم ان المنكرين لذلك هم المستعملون له فلابد من حمل النكير على ما يوافق ما ظهر عنهم من استعمال
القياس ضرورة أو من وجه لا يسوغ فيه التأويل ولا يدخله الاحتمال وانما ادعى ذلك عليهم وتعلق
مدعيه بما لا ظاهر له ولا شهادة فيه بالقول بالقياس وأحسن أحواله أن يكون محتملا فكيف يصح ما ذكروه
وهذه الجملة التي ذكرناها تسقط قولهم ان الرأي الذي أبوه هو الذي يصدر عن الهوى أو الذي يستعمل
في غير موضعه وان أمير المؤمنين (ع) انما نفى أن يكون جميع الدين يؤخذ قياسا وكذلك أبو بكر انما استكبر
استعماله الرأي في كتاب الله على وجه لا يسوغ فيه إلى غير ذلك مما يقولونه ويفزعون إليه لان كل
ذلك منهم عدول عن الظاهر وتخصيص لاطلاقه وتأول لا يجب المصير إليه الا بعد القطع على
صحة القياس وقول القوم به بما لا يحتمل التأويل فاما قول بعضهم انهم فعلوا ذلك تشددا واحتياطا
للدين حتى لا يعول الفقهاء على القياس ويعدلوا عن تتبع الكتاب والسنة فظاهر السقوط وذلك
ان التشديد لا يجوز أن يبلغ إلى انكار ما أوجبه الله تعالى أو فسخ فيه ولا يقتضى أن يخرجوا انكارهم
المخرج الموهم لانكار الحق ولو كان ذلك غرضهم لوجب أن يصرحوا بذم العدول عن الكتاب والسنة
والاعراض عن تأملهما والتشاغل بغيرهما من غير ان يطلقوا انكار القياس والرأي الذين هما عندكم
أصلان من أصول الدين تاليان للكتاب والسنة والاجماع على انه يمكن أن (يقال) لهم مع تسليم ارتفاع
النكير لم أنكرتم ان يكون بعض الصحابة الذين حكيتم عنهم الاختلاف في مسألة الحرام وغيرها قد رجع
في مذهبه إلى القياس وهو من كان قوله منهم ابعد من أن يتناوله شئ من ظواهر الكتاب والسنة
وأن يكون الباقون رجعوا في مذاهبهم إلى النصوص وأدلتها غير ان من ذهب إلى القياس منهم لم يظهر وجه
قوله ولا علمت الجماعة انه قاله قياسا ولو علموا بذلك لأنكروه غير انهم لا يعلمونه وأحسنوا الظن بالقائل
وظنوا انه لم يقل الا عن نص أو طريق يخالف القياس وليس يجب أن يكون وجه قول كل واحد منهم
على التفصيل معلوما للجماعة ومتى أوجبوا ذلك ادعوه طالبناهم بالدليل على صحته ولن يجدوه و
هذا أيضا مما لا انفكاك لهم منه واستدلوا أيضا بأن قالوا قد ظهر عن الصحابة القول بالرأي و
إضافة المذاهب إليه ولفظة الرأي إذا أطلقت لم يفد القول بالحكم من طريق النص لان ما طريقه
العلم لا يضاف إلى الرأي جليا كان الدليل أو خفيا ولا يستفاد من ذلك الا القول من طريق القياس
والاجتهاد والاخبار الواردة في ذلك كثيرة ونحو ما روى عن أبي بكر في الكلالة أقول فيها برائي وقول
عمر اقض فيها برائي وقوله هذا ما رأى عمر ونحو قول أمير المؤمنين عليه السلام في أمهات الأولاد كان
رأى ورأى عمر الا يبيعن ثم رأيت بيعهن في هذه الجملة لا تدل على القياس والاجتهاد من الوجه الذي
ذكرناه في اطلاق لفظة الرأي وإضافة المذهب إليه ولأنه أيضا لو كان رجوعهم فيما ذكرناه من اختلافهم
101

إلى طرق العلم لما صح منهم الرجوع من رأى إلى رأى ولا التوقف فيه وتجويز كونه صوابا وخطاء ولا
ان يمسكوا عن تخطية المخالف والنكير عليه ولان الأدلة لا تناقض ولا تختلف فكيف يجوز أن يرجع
كل واحد إلى دليل مع اختلاف أقوالهم فيقال لهم قد ادعيتم في معنى الرأي ما لا يصح لان الرأي إذا اطلق
تناول كل ما كان متوصلا إليه بضرب من الاستدلال الذي يصح فيه اعتراض الشبهات واختلاف
أهل الاسلام لا يختص ما قيل قياسا دون ما قيل من جهة اعتبار الظواهر والاستدلال بها الا ترى
انهم يقولون فلان يرى العدل وفلان يرى القدر وفلان يرى الارجاء وفلان يرى القطع على عقاب
الفساق وان كان ذلك متوصلا إليه بالأدلة الموجبة للعلم وكذلك يقولون ان ابا حنيفة يرى
الوضوء بنبيذ التمر وان ذلك رأيه كما يقال ان ذلك مذهبه وان كان لا يرجع في ذلك إلى قياس واجتهاد (ويقال)
أيضا ان القضاء بالشاهد واليمين رأى الشافعي ومالكي وان كان مرجعهما فيه إلى الخبر وان الأقراء التي
تعتبر في العدة على أبي حنيفة الحيض وعلى رأى الشافعي وغيره الأطهار وان كان رجوع كل واحد
منهما في ذلك إلى ضرب من الاستدلال يخالف القياس وإذا كان معنى الرأي والمستفاد به المذهب
والاعتقاد على ما ذكرناه لم يكن في إضافة الصحابة أقوالها إلى الرأي لأدلة على ما توهمه خصوصا من القياس
لأنهم لم ينصوا على ان الرأي الذي راؤه هو الصادر عن القياس دون غيره وإذا لم ينصوا والقول
محتمل لما يقولونه لم يكن للخصم فيه دلالة فان قالوا ان كان القول في الرأي على ما ذكرتم فلم لا يقال ان المسلمين
يرون التمسك بالصلاة والصوم وما أشبه ذلك من الأمور المعلومة قلنا انما لا يقال ذلك لما قدمناه
من ان لفظ الرأي يفيد الأمور المعلومة من الطرق التي يصح أن يعترضها الشبهات ويختلف فيها
أهل القبلة ولهذا لا يضيفون الأمور المعلومة ضرورة من واجبات العقول إلى الرأي كقبح الظلم
ووجوب الانصاف ورد الوديعة ولا يضيفون أيضا إليه العلم بدعاء الرسول (ع) لامته إلى صلوات
خمس وصوم شهر بعينه لأنه معلوم ضرورة أو باستدلال لا يدخل فيه شبهة وكذلك أيضا لا يضيفون
إليه ساير الأمور المعلومة بالأدلة التي لا يختلف المسلمون فيها كوجوب التمسك بالصلاة والصوم
والعلم بنبوة الرسول صلى الله عليه وآله وصدق دعوته وقد بينا انهم يطلقون الرأي في القول بالعدول والقدر
وغير ذلك فان قالوا انما صح ان يقول العدلي فلان يرى القدر ويقول القدري وفلان يرى العدل
لان كل واحد منهما ينسب صاحبه إلى القول بغير علم وان اجتهد فشبه بالقول بالرأي الذي هو
القياس قيل لهم هذا الاطلاق الذي حكيناه ليس يختص بواحد دون اخر بل العدلي يقول في نفسه
وفيمن يقول بقوله انه يرى العدل وكذلك القدر والارجاء وسائر ما حكيناه من المذاهب على ان العدلي
لا يرى ان القدري قايل بالقدر الا عن تقليد أو شبهة وليس يرى انه قايل عن اجتهاد يقتضى غلبة
الظن حتى يطلق عليه لفظ الرأي المختص عندهم بالمذاهب الحاصلة من طريق القياس فان قالوا
102

كيف يصح ان ينازعوا في اختصاص الرأي بما ذكرناه ومعلوم ان القائل إذا قال هذا مذهب أهل الرأي
لم يفهم عنه الا القياس دون غيره قيل هذا تعارف حادث في أهل القياس لأنه حدث الاختلاف بين
الأمة في القياس فنفاه قوم وأثبته آخرون غلب على مثبتيه الإضافة إلى الرأي ومعلوم ان هذا التعارف
لم يكن في زمن الصحابة فكيف يحمل خطابهم عليه على انه ليس معنا عن أحد من الصحابة انه قال انا من أهل الرأي
وأكثر ما رووه قولهم رأينا كذا وكان رائي ورأى فلان كذا وليس يمتنع أن يكون في بعض تصرف اللفظة من
التعارف ما ليس هو في جميع تصرفها ويكون الإضافة إلى الرأي قد غلب فيها ما ذكروه وان لم يغلب في
قولهم رأيت كذا وكان كذا من رأي هذا مما لا يمكن دفعه فإنه لا شبهة على أحد في ان قولهم فلان من
أهل القياس مجرى قولهم رأى فلان كذا وكان رأى فلان أن يقول وكذا وان الثاني لا تعارف فيه يخصصه
وان كان في الأول وإذا صح ما ذكرناه لم يمتنع أن يقول أمير المؤمنين (ع) كان رائي ورأى عمر الا يبعن أي
مذهبي وما أفتى به وكذلك قول أبي بكر أقول فيها برائي أي ما اعتقده وأداني الاستدلال إليه وكذلك
قول عمر اقضي فيها برائي فان قالوا لو كان الامر على ما ذكرتم فلم قالوا ان كان صوابا فمن الله وان كان
خطاء فمنى ومن الشيطان والأدلة والنصوص لا يكون فيها خطاء قيل قد يخطى المحتج بالكتاب
والسنة والمستدل بادلتها بان يضع الاستدلال في غير موضعه مثلا (مثلان خ ر) يقدم مؤخرا أو يؤخر مقدما
أو يخص عاما أو يعم خاصا أو يتمسك بمنسوخ أو يعمل على ما هناك أولى منه فيكون الخطاء منه أو من
الشيطان فالكتاب والسنة وان لم يكن فيهما خطاء فالمستدل بهما قد يخطى من حيث قلنا على انا
إذا تأملنا المسائل التي قالوا فيها بما قالوا وأضافوه إلى رأيهم وجدنا جميعها لها مخرجا من أدلة
النصوص فالذاهب إليها متعلق بغير القياس اما بيع أم الولد فيمكن أن يعول من منع منه على
ما روى عنه (ع) في مارية القبطية لما ولدت إبراهيم اعتقها ولدها ومن ذهب إلى جواز بيعها
أمكنه التعلق بأشياء منها ان أصل الملك جواز التصرف والولادة غير مزيلة للملك بدلالة
ان لسيدها وطؤها بعد الولادة من غير ملك ثان ولا عقد نكاح وذلك يقتضى بقاء السبب المبيح
للوطئ وهو الملك ومنها انه لا خلاف ان عتقها بعد الولادة جائز ولو كان الملك زائلا لما جاز
العتق ومنها قوله تعالى وأحل الله البيع ويتعلق بعمومه في كل موضع إلى ما اخرجه الدليل فلعل
من أجاز البيع في الصدر الأول تعلق ببعض ما أشرنا إليه واعتمده ومن تأمل احتجاج أمير المؤمنين (ع)
في بيع أمهات الولد وجده مخالفا لطريقة القياس لان المروى عنه (ع) انه قال سبق كتاب الله بجواز بيعها
فأضاف جواز البيع إلى الكتاب دون غيره واما قول أبى بكر وقد سئل عن الكلالة أقول فيها برائي فان كان
حقا فمن الله وان كان خطاء فمنى هو ما عدا الوالد والولد فليس يجوز أن يكون الرأي الذي ذكره هو
القياس لان السؤال وقع عن معنى اسم والأسماء لا مدخل للقياس فيها وانما المرجع فيها إلى المواضعة
103

وتوقيف أهل اللسان وكتاب الله تعالى يدل على معنى الكلالة لأنه تعالى قال يستفتونك قل الله يفتيكم
في الكلالة وما تولى الله تفسيره والفتوى به لم يدخله الرأي والذي هو الاجتهاد والقياس ويبين
ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وآله لعمر وقد كرر عليه السؤال عن الكلالة يكفيك اية الضيف وهذا يدل على
ان الآية نفسها تفيد الحكم وكذلك ان تعلقوا بما روى عن ابن مسعود وانه سئل عن امرأة مات عنها
زوجها ولم يسم لها صداقا ولم يدخل بها فردد السايل شهرا ثم قال أقول فيها برأيي فان كان حقا
فمن الله وان كان خطاء فمنى ومن الشيطان والله ورسوله منه بريان عليها العدة ولها الميراث ولها
مهر نسائها لا وكس (الوكس كالوعد النقصان والنقيص لازم ومتعد) ولا شطط (ق شطط في سلعته شططا محركا
حاور العدو بجد - ق) فقال معقل بن بشار اشهد ان رسول الله صلى الله عليه وآله قضى في بروع بنت واشق
بما قضيت فسر عبد الله وذلك ان لقول عبد الله ظاهرا في كتاب الله يمكن أن يرجع إليه وهي
عموم قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة اشهر وعشرا
لان عموم الآية تقتضي العدة على كل زوجة توفى عنها زوجها ولم يخص بالجملة من لم يسم لها صداقا
ويمكن أن يكون أوجب الميراث لكل زوجة بقوله تعالى ولهن الرجع مما تركتم ولم يخص من لم يطأها
زوجها ولم يسم لها صداقا وأوجب المهر بقوله تعالى فانكحوهن باذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف
وذلك موجب لمهر المثل لان المسمى لا يتجاوز ولا يعتبر فيه العرف وإذا كان لكل أفتى به وجه في الظاهر
فما السبب في القطع على قوله بالقياس فان قيل لم رددهم شهرا ولم قال فان كان خطاء فمنى وكيف
يكون الحكم المحرز من ظاهر الكتاب خطأ قلنا يجوز أن يكون توقفه وتردده للسائل لطلبه ما عساه
يقتضى تخصيص الآيات التي ذكرناها والتماسا لما لعله أن يعثر عليه مما يجب له الترك الظاهر ويمكن أيضا
انه لم يتعين عليه فرض الفتيا لوجود غيره من علماء الصحابة فاثر طلب السلامة بالاعراض من
الجواب والفتيا ثم ألحوا عليه وسألوه أجاب فاما قوله ان كان خطاء فمنى فيمكن لما أن يكون لأنه جوز
أن يكون هناك ما هو لوني من الظاهر من دليل يخص أو رواية تقتضيه من الرسول في مثل ما سئل
منه يخالف قضيته أو غير ذلك مما يكون العدول إليه أولى على انهم يقولون كل مجتهد مصيب
فلابد لهم من الرجوع إلى تجويزه على نفسه التقصير في طلب خبر لو استقصى الظفر به وما جرى مجرى
ذلك ومتى تأملت جميع السائل التي حكى عنهم إضافة القول فيها إلى رأيهم وجرت لها مخرجا في
الظواهر وطرقا تخالف القياس فاما قولهم ولو كان رجوعهم في ذلك إلى طرق العلم لما صح منهم
الرجوع من رأى إلى اخر ولا التوقف فيه وتجويز كونه خطأ وصوابا فمن بعيد ما يقال وذلك ان
الرجوع عن المذاهب وأدلتها لا يدل على القول (به خ ر) فيها بالقياس والظن لان ذلك قد يصح فيما طريقة
العلم والأدلة الا ترى ان القائل بالخبر قد يعدل عنه إلى العدل وكذلك قد يعدل عن القطع
على عقاب الفساق من أهل القبلة أو القول بالارجاء وسائر المسائل الأصول ذلك ممن فيها فليس
104

التنفل من رأى إلى اخر دلالة على ما ظنوه فاما التوقف فقد يجوز أن يكون طلبا للاستدلال والتأمل كما يتوقف
الناظرون في كثير من المسائل الأصول يتوصل إليها بالأدلة المقتضية إلى العلم ويتثبتون تحرزا من
الغلط واحتياطا في إصابة الحق فاما تجويز كونه خطأ وصوابا فالوجه فيه ما ذكرناه في خبر ابن
مسعود وان ذلك يحسن (يجب خ ر) أن يقال بحيث يكون التجويز لورود ما هو أولى من الظاهر ثانيا لان الناظر
ربما كان متهما نفسه بالتقصير ومجوزا أن يكون في المسألة مخصص أو معنى يقتضى العدول
إليه ثم لم ينعم النظر في طلبه والفحص عنه فاما قولهم ولا ان يمسكوا عن تخطئة المخالف والنكير
عليه ولان الأدلة لا تتناقض ولا يختلف فكيف يجوز أن يرجع كل واحد منهم في قوله إلى دليل
فقد بينا انا لا نقول ان مع كل واحد دليلا على الحقيقة وانما قلنا يجوز أن يكون كل واحد تعلق
بطريق من الظاهر وأدلة النصوص اعتقدها دليلا لا شبهة في ان الأدلة لا تتناقض الا أن ما يعتقد
بالشبهة دليلا لا يجب ذلك فيه فاما الامساك عن النكير والتخطئة فلم يمسكوا عنها والعلم بان
بعضهم خطأ بعضا يجرى مجرى العلم بأنهم اختلفوا فدافع أحد الامرين كدافع الاخر ويدل على
ما ذكرناه ما روى عن أمير المؤمنين (ع) وقد استفتاه عمر في امرأة وجه إليها فألقت ما في بطنها وقد
أفتاه كافة من حضره من الصحابة بأن لا شئ عليه فإنه مؤدب فقال (ع) ان كان هذا جهد رأيهم
فقد أخطأ وان كانوا قاربوك فقد غشوك وهذا تصريح بالتخطئة والخبر الذي رويناه متقدما
عنه (ع) يشهد بذلك وهو قوله (ع) من أن يتفحم (يقتحم خ ر) جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه وروى عن ابن عباس انه قال
من شاء باهلته ان الذي أحصى رمل عالج ما جعل للمال نصفين وثلثا وروى عنه انه قال من شاء
باهلته ان الجد أب وقد رويت المباهلة عن ابن مسعود أيضا في قصة أخرى وروى عن ابن عباس
الخبر الذي تقدم من قوله الا يتقى الله زيد بن ثابت وهذا أيضا تصريح (صرح خ ر) بالتخطئة وتخويف بالله تعالى
في المقام على المذهب والخبر الذي رويناه أيضا عن عمر انه قال أجرأكم على الجد أجرأكم على النار واضح
في هذا الباب وروى عن عايشة انها بعثت إلى زيد بن أرقم وقد اشترى ما باعه قبل أن يقبض
الثمن انك ان لم تثبت فقد بطل جهادك مع النبي صلى الله عليه وآله وقيل لابن المسيب ان شريحا قضى في مكاتب
عليه دين ان الدين والكتابة بالحصص فقال أخطأ شريح وفي هذا من الاخبار ما لا يحصى كثرة
وفيما أوردناه كفاية لما أردناه فاما ما لا يزالون يستكرهونه ويتعسفونه من تأويل هذه الاخبار
التي ذكرناها مثل قولهم في قصة المجهضة (بولدها خ ر) ولدها ان الخطأ والغش انما أراد به ترك ما هو الأولى في
النصح وان ابن عباس دعا إلى المباهلة لأنه خطأ في اجتهاده فدعا من خطائه في ذلك لا في نفس المذهب
إلى المباهلة وان ذكر جهنم والنار على سبيل التشدد والتحرز وان ذلك تخويف لمن اقدم عليه
من غير فكر ولا تحفظ وفي حديث احباط الجهاد ان ذلك مشروط بأن يكون ذاكر للخبر المقتضى
105

بخلاف قوله إلى غير ذلك مما يتأولون به الاخبار الواردة في هذا المعنى فكله عدول عن ظواهر الاخبار
وحملها على ما لا تحتمله وذلك انما يسوغ انساع من ثبت لنا تصويب القوم بعضهم لبعض في مذاهبهم
من وجه لا يحتمل التأويل فاما ولا شئ نذكر في ذلك الا وهو محتمل للتصويب وغيره على ما ذكرناه و
سنذكره فلا وجه للالتفات إلى تأويلاتهم البعيدة فان قالوا نحن وان صوبنا المجتهدين فليس نمنع أن
يكون في جملة المسائل ما الحق فيه في واحد فلا يسوغ في مثله الاجتهاد وأكثر ما يقتضيه الاخبار
التي رويتموها أن يكون الاجتهاد غير سائغ في هذه المسائل بعينها وهذا لا يدل على ان سائر المسائل
كذلك قلنا لا فرق بين هذه المسائل التي روينا فيها الاخبار وبين غيرها وليس لها صفة تباين
بها ما عداها مسائل الاجتهاد الا ترى انه لا نص في شئ منها يقطع العذر كما ان ذلك ليس في
غيرها من مسائل الاجتهاد وإذا لم يتميز من غيرها بصفة لم يسغ ما ادعيتموه واشترك الكل في
جواز الاجتهاد فيه أو المنع منه واستدلوا أيضا بان قالوا ليس يخلوا أقوالهم في هذه المسائل التي
أضافوها إلى آرائهم وأمثالها من أن يكونوا ذهبوا إليها من طرق الأدلة الموجبة للعلم أو من جهة
الاجتهاد والقياس ولو كان الأول لوجب أن يكون الحق في واحد من الأقوال دون جميعها ولوجب
أن يكون ما عدا المذهب الواحد الذي هو الحق منها باطلا خطأ ولو كان كذلك لوجب أن يقطعوا ولاية قائله
ويبرؤا منه ويلعنوه ولا يعظموه الا ترى انهم في أمور كثيرة خرجوا إلى المقاتلة ورجعوا عن التعظيم والولاية
لما لم يكن من باب الاجتهاد (يأت خ ر) فلو كان لكل واحدا لفعلوا في جميعه فعلا واحدا ولو كان الامر على خلاف قولنا
لم يحسن ان يولى بعضهم بعضا مع علمه بخلافه عليه في مذهبه كما ولى أمير المؤمنين (ع) شريحا مع علمه بخلافه
له في كثير من الاحكام وكما ولى أبو بكر زيدا وهو يخالفه في الجد فلولا اعتقاد المولى أن المولى محق وان الذي
يذهب إليه وان كان مخالفا لمذهبه صواب لم يجز ذلك ولا جاز أيضا ان يسوغ له الفتيا ويحيل
عليه بها وقد كانوا يفعلون ذلك وكذلك كان يجب أن ينقض بعضهم على بعض الاحكام التي يخالفه فيها
لما تمكن من ذلك وان ينقض الواحد على نفسه ما حكم لهم (به خ ر) في حال ثم رجع إلى ما يخالفه في أخرى لان كثيرا
منهم قد قضى بقضايا مختلفة ولم ينقض على نفسه ما تقدم فلولا ان الكل عندهم صوابا لم يسغ
ذلك وأيضا فقد اختلفوا فيما لو كان خطأ لكان كبيرا نحو اختلافهم في الفروج والدماء والأموال
وقضى بعضهم بإراقة الدم وإباحة المال والفرج فلو كان فهم من أخطأ لم يجر ان يكون خطاه الا كبيرا
ويكون سبيله سبيل من ابتداء إراقة دم محرم بغير حق أو أخذ مالا عظيما بغير حق وأعطاه من لا يستحقه
وفي ذلك تفسيقه ووجوب البراءة منه وفي علمنا بفقد كل ذلك دليل على انهم قالوا بالاجتهاد
وان الجماعة مصيبون وهذه الطريقة هي عندهم في ان كل مجتهد مصيب في احكام الشريعة قيل لهم
ما تنكرون أن يكون الخطأ الواقع ينقسم إلى ما يوجب البراءة وحمل السلاح واللعن وقطع الولاية
106

والى ما يوجب شيئا من ذلك وان يكون اشتراك الفعلين في كونهما خطأ لا يقتضى اشتراكهما مما
يستحق عليهما ويعامل به فاعلهما إلى يرون ان الصغيرة تشارك الكبيرة في القبح والخطأ ولا يدل
ذلك على تساويهما فيما يعامل به فاعلهما والربا (والزنا خ ر) والكفر يشتركان في القبح والمعصية ولا يجب تساويهما
في سائر الاحكام وإذا أجاز اشتراك الشيئين في القبح مع اختلافهما فيما يستحق عليهما يمتنع أن يكون
الحق في أحد ما قاله القوم وما عداه خطأ ولا يجب مساواة ذلك الخطأ لما يوجب من الخطاء والتبري
واللعن وحمل السلاح والحرب ثم يقال لهم أليس الصحابة قد اختلفت قيل العقد لأبي بكر حتى قالت الأنصار
منا أمير ومنكم أمير فإذا اعترفوا به ولابد منه قيل لهم أو ليس الذي دعوا إلى ذلك مخطئين لمخالفتهم
الخبر المأثور عن النبي (ع) من قول الأئمة من قريش فلابد من الاقرار بخطائهم فيقال لهم أفتقولون انهم كانوا
فساقا ضلالا يستحقون اللعن والبراءة والحرب فان قالوا نعم لزمهم تفسيق الأنصار أو لعنهم و
البراءة منهم وهذا أقبح مما يعيبونه على من يرمونه بالرفض فان قالوا انهم لم يصروا على ذلك بل
راجعوا الحق فلم يستحقوا تفسيقا ولا براءة قيل لهم كلامنا عليهم قبل التسليم وسماع الخبر وعلى ما قضيتم
به يجب أن يكونوا في تلك الحال فساقا يستحقون البراءة واللعن والعدول عن الولاية والتعظيم وهذا
مما لم يقله أحد منهم على ان فيهم من لم يرجع بعد سماع الخبر واقام على امره فيجب أن يحكموا فيه بكل
الذي ذكرناه فان قالوا ان الأنصار لم تفسق بما دعت إليه وان كان الحق في خلاف قولها ولا (الا خ ر) استحقت
اللعن والبراءة قيل لهم فما تنكرون أن يكون الحق في أحد ما قالته الصحابة من المسائل التي ذكرتموها
دون ما عداه وان يكون من خالفه لا يستحق شيئا مما ذكرتم ويسئلون أيضا على هذا الوجه في جميع ما
اختلفت فيه الصحابة مما الحق فيه في واحد كاختلافهم فيما نعى الزكاة هل يستحقون القتال وغير ذلك
من المسائل ويقال يجب إذا كان من فارق الحق في هذه المسائل من الصحابة قد أخطأ أن يكون في تلك الحال
فاسقا منقطع الولاية ملعونا مستحقا للمحاربة ويسئلون أيضا عن قضاء عمر في الحامل المعترفة بالزنا
بالرجم حتى قال له أمير المؤمنين (ع) ان كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فيقال لهم أتقولون ان
قضاه بذلك حق فان قالوا نعم غلطوا وفارقوا ما عليه الأمة لان الكل يقولون لا يجوز رجمها وهي حامل
وفي رجوع عمر إلى قول أمير المؤمنين (ع) وقوله لولا على لهلك عمر دلالة على تنبيه الخطاء في قضيته فيتوهم
أتقولون إذا كان قد أخطاء انه مستحق للعن والبراءة والتفسيق فلابد لهم من أن ينفوا ذلك ويجعلوا
الخطأ الواقع منه مما لا يقتضى تفسيقا ولا براءة فيقال لهم في المجتهدين مثله فان قالوا ان الخطاء الذي
لم يقم الدلالة على انه فسق يجوز أن يكون فسقا وأن يكون صاحبة (صاحبه) مستحقا لقطع الولاية واللعن والبراءة
فيقولون في الصحابة مثل ذلك قلنا هكذا يجب أن يقال وانما منعنا من ايجابكم تفسيقهم والرجوع
عن ولايتهم باختلافهم في مسائل الاجتهاد وأعلمناكم ان ذلك لا يجب في كل خطأ ومعصية وليس هذا
107

مما يوحش فان تجويز كون خطائهم في حوادث الشرع كبيرا من حيث لا يعلم كتجويز كل أحد عليهم أن يكون مستسرا بكبيرة
يجب لها قطع الولاية ويستحق بها البراءة واللعن غير أن يجوز ذلك عليهم في حوادث الشرع لا يوجب الاقدام
على قطع ولايتهم أو سقاط تعظيمهم كما ان تجويز الكبائر عليهم لا يوجب ذلك وانما يوجبه تيقن وقوع الكبائر منهم
وفيمن يوافقنا في كون الحق في هذه المسائل في واحد من يقول انى آمن من كون خطائهم في حوادث الشرع كبيرا
من حيث الاجماع والأول امرا على النظر على ان مذهبنا فيمن جمع بين الايمان والمعصية معروف وعندنا
ان معاصي المؤمنين من أهل الصلاة لا يسقط ولايته وتعظيمه والمعاصي عندنا وان كان جميعها
كبيرا فإنها تسمى صغائرا بالإضافة فليس يجوز أن نلعن فاعلها ونحاربه أو نحده أو تستعمل معه الاحكام
التي تستعمل مع العصاة الا بتوقف على ذلك وانما يستعمل هذه الاحكام مع بعض عصاة أهل الغلاة بالتوقف
وما لم يرد فيه سمع من معاصيهم لا يقدم على المساواة بينه وبين غيره فيما ذكرناه بل يقتصر على الذم
المشروط أيضا ببقاء استحقاق العقاب لأنا نجوز من اسقاط الله تعالى لعقابهم تفضلا ما يمنع من استحقاقهم
الذم كما منع من استحقاق العقاب فالقول فيما ذكرناه واضح وما ألزموناه باطل على كل مذهب واما تعلقهم
بولاية (بتولية خ ر) بعضهم بعضا مع المخالفة في المذهب وان ذلك يدل على التصويب فليس على ما ظنوا وذلك
انهم لم يؤل أحد منهم واليا لا شريحا ولا زيدا ولا غيرهما الا على أن يحكم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله
وما اجمع عليه المسلمون ولا يتجاوز الحق في الحوادث ولا يتعداه وإذا قلده بهذا الشرط لم يكن ان
يقال ان يسوغ له الحكم بخلاف مذهبه لأنهم لا يتمكنون من ان يقولوا انه نص له على شئ مما يخافه فيه
وإباحة الحكم فيه بخلاف رأيه وجملة ما تقول انه ليس لاحد أن يقلد حاكما على أن يحكم بمذهب كذا
ويقضى برأي فلان بل يقلده على ان يحكم بالكتاب والسنة والاجماع وله يول القوم أحدا الا على
هذا الشرط فاما تعلقهم بتسويغ الفتيا وإحالة بعضهم على بعض بها فغير صحيح وذلك انهم يدعون
في تسويغ الفتيا ما لا نعلمه وكيف يسوغون الفتيا على جهة التصويب لها ونحن نعلم ان بعضهم
قد رد على بعض وخطأه وخوفه بالله تعالى من المقام على الهوى وهذا غاية النكير وان أرادوا انهم
سوغوها من حيث لم ينقضوها ويبطلوا الاحكام المخالفة لهم فذلك ليس بتسويغ وسنتكلم عليه
وما نعرف أيضا أحدا منهم أرشد في الفتيا إلى من يخالفه فيما يخالفه فيه ولا يقدرون على أن يعينوا
واحدا فعل ذلك وانما كان يحيلون بالفتيا في الجملة على أهل العلم والقائلين بالحق والتفصيل
غير معلوم من الجملة فاما الزامهم لنا أن ينقض بعضهم على بعض حكمه والواحد على نفسه فيما حكم به
فيرجع عنه فغير واجب لان اقرار الحكم وورود العبادة بالامساك عن نقضه لا يوجب كونه صوابا الا ترى
انا قد نقر أهل الذمة على ابتياعاتهم الفاسدة ومناكحتهم الباطلة إذا أدوا الجزية ونقتصر على انكاره
على اظهار الخلاف مع انا لا نرى شيئا من ذلك صوابا فليس مجيئ العبادة باقرار حكم من الاحكام مع
108

النهى عنه مما يفسده أو يستحيل وسبيل ذلك سبيل ابتداء العبادة به وكما يجوز ورودها بهذا الحكم ابتداء
جاز ورودها باقراره بعد وقوعه وان كان خطاء على انه قد ورد ان شريحا قضى في ابن عم أحدهما أخ لام (للميت خ ر)
بمذهب ابن مسعود فنقض أمير المؤمنين (ع) حكمه وقال في اي كتاب وجدت ذلك أفي اي سنة وهذا يبطل
دعوى من ادعى ان أحدا منهم لم ينقض حكم من خالفه على العموم والقول في نقض الواحد منهم على نفسه
يجرى على الوجه الذي ذكرناه فاما تعلقهم بان الخطاء في الدماء والفروج والأموال لا يكون الا كبيرا ولم إذا
كان كبيرا في بعض المواضع ومن بعض الفاعلين وجب أن يكون كذلك في كل حال ومن كل فاعل أو لا ترون
انه قد اشترك (يشترك خ ر) فاعلان في إراقة دم غير مستحق ويكون فعل أحدهما كفرا والاخر غير كفر وإذا جاز ذلك لم
يمتنع ان يشترك فاعلان أيضا في إراقة دم ويكون من أحدهما فسق وكبيرا ولا يكون من الاخر كذلك ثم يسئلون
عما اختلفت فيه الصحابة وكان الحق فيه في أحد الأقوال كاختلافهم في مانعي الزكاة وهل يستحقون القتال
واختلافهم في الإمامة يوم السقيفة ويقال لهم يجب أن يكون خطأوهم كبيرا لأنهم مخالفون للنصوص
وما الحق فيه في واحد ويجب أن يكونوا بمنزلة من ابتداء خلاف النصوص في غير ذلك فكل شئ يعتذرون
به ويفصلون قوبلوا بمثله على انهم يقولون ان قتلا وقع من موسى (ع) صغيرة ولا يلزمهم ان يكون كل قتل
صغيرة ولا إذا حكموا بكبر القتل منا ان يحكموا بكبره من موسى (ع) فكيف سوغ (يسوغ خ ر) مع ذلك ان يلزمهم
مخالفهم في نفى القياس ما اعتمدوه وتعلقوا أيضا بما روى عن النبي (ع) لما انفذ معاذا إلى اليمن قال له بماذا
تقضى قال بكتاب الله قال فان لم تجد في كتاب الله قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله قال فان لم تجد قال اجتهد رأيي
فقال (ع) الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وآله لما يرضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وبما قد روى عن ابن مسعود
مثل ذلك وهو انه قال له اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما فإذا لم تجد الحكم فيهما فاجتهد رأيك و
بما روى عن عمر في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الأشعري انه قال قس الأمور برأيك والكلام على
ما ذكروه من وجوه أحدها ان هذه اخبار آحاد لا يقبل في مثل هذه المسألة التي طريق اثباتها العلم
المقطوع على صحته على ان الأصول لو ثبتت باخبار الآحاد لم يجز ثبوتها بمثل خبر معاذ لان رواته مجهولون
وقيل رواه جماعة من أصحاب معاذ ولم يذكروا على ان روايته قد وردت مختلفة فجاء في بعضها
انه لما قال اجتهدوا رأيي قال له (ع) لا اكتب إلى اكتب إليك وهذا يوجب أن يكون الامر فيما لا يجده
في الكتاب والسنة موقوفا على ما يكتب إليه لا على اجتهاده فان قالوا الدليل على صحة روايته
تلقى الأمة له عصرا بعد عصر بالقبول ولان الصحابة إذا ثبت انهم عملوا بالقياس والاجتهاد
فلابد فيه من نص لان أصل القياس في الشرع لا يستدرك (يعلم خ ر) قياسا ولا نص يدل ظاهره على ذلك
الا خبر معاذ وما خبر معاذ أقوى منه فيجب من ذلك صحة الخبر قلنا اما تلقى الأمة له بالقبول فغير
معلوم وقد بينا ان قبول الأمة لأمثال هذه الاخبار كقبولهم لخبر مس الذكر وما جرى مجراه مما لا يقطع به
109

ولا يعلم صحته فاما ادعاؤهم بثبوت عملهم بالقياس وانه يجب أن يكون لهذا الخبر لأنه لا نص غيره فبناء على ما لم
يثبت ولا يثبت وقد بينا بطلان ما ظنوه دليلا على اجماعهم على ذلك ولو سلم لهم على ما فيه لجاز أن يكونوا اجمعوا
لبعض ما في الكتب أو لخبر اخر على انهم قد اعتمدوا في تصحيح الخبر على ما إذا صح لم يحتج إلى الخبر ولم يكن دليلا على المسألة
لأنا إذا أعلمنا اجماعهم على القياس والاجتهاد فأي فقر بنا إلى تأمل خبر معاذ وكيف يستدل به على ما قد علمناه
بغيره فان قالوا يعلم باجماعهم صحة الخبر ويصير الخبر دليلا كما ان اجماعهم دليل ويكون المستدل مخيرا في
الاستدلال بأيهما شاء قلنا لسنا نعلم باجماعهم صحة الخبر الا بعد أن نعلم انهم اجمعوا على القياس
والاجتهاد وعلمنا بذلك يخرج الخبر من أن يكون دلالة وانما كان يمكن ما ذكروه لو جاز أن يعلم اجماعهم
على صحة الخبر من غير أن يعلم اجماعهم على القول بالقياس وذلك لا يصح على انا إذا تجاوزنا ذلك ولم نعرض
للكلام في أصل الخبر ووروده لم يكن فيه دلالة لأنه قال اجتهد رأيي ولم يقل فيماذا ولا ينكر ان يكون
معناه اجتهد رأيي حتى أجد حكم الله تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة إذا كان في احكام الله فيهما ما
لا يتوصل إليه الا بالاجتهاد ولا يوجد في ظواهر النصوص فادعاؤهم ان الحاق الفرع بالأصل في الحكم
لعلة يستخرجها القياس هو الاجتهاد زيادة في الخبر بما لا دليل عليه ولا سبيل إلى تصحيحه فان قالوا ما
يوجد في دليل النص من كتاب أو السنة فهو موجود فيهما وقوله فان لم تجد يجب أن يحمل على عمومه
وعلى انه لم يجد على كل حال وإذا حمل على ذلك فليس وراه الا الرجوع إلى القياس الذي نقوله قلنا ليس
يجب حمل الكلام على عمومه عند أكثر أصحابنا فعلى هذا المذهب سقط هذا الكلام على انهم لا يقولون
بذلك لان القياس والاجتهاد عندهم من المفهوم بالكتاب والسنة وهما لا يدلان عليه فكيف يصح
حمل قوله فان لم تجد على العموم وهذا يقتضى انهم قائلون في المنفى أيضا بالخصوص فكيف عابوه علينا وبعد
فان جاز اثبات القياس بمثل خبر معاذ فان من نفاه يروى ما هو أقوى منه وأوضح لفظا نحو ما روى
عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور
برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام والروايات في هذا كثيرة ومن تتبعها وجدها فاما خبر ابن مسعود
الذي ذكروه فالكلام كالكلام على خبر معاذ بعينه فاما كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري وقوله اعرف الأشباه
والنظاير وقس الأمور برأيك فاضعف في باب الرواية من خبر معاذ وابعد من أن يتعلق به في مثل هذا
الباب على انه إذا سلم لم يكن فيه دلالة وذلك ان القياس الذي دعاه إليه هو الحاق الشئ بشبهة و
لهذا قال اعرف الأشباه والنظاير والمشابهة الموجبة للقياس وحمل الشئ على نظيره انما هي المشاركة
في امر مخصوص به تعلق الحكم فمن عرف ذلك وحصله وجب عليه الجمع به بين الأصل والفرع وهذا
المقدار لا ينازعون ولكن لا سبيل إلى معرفته ولو أمكن فيه ما يدعونه من الظن لم يكن في الخبر أيضا دلالة
لهم لأنه ليس فيه الامر بقياس الفرع على الأصل إذا شاركه في معنى يغلب على الظن انه علة الحكم وللمخالف
110

أن يقول لهم ان الأرز ليس بمشابه للبر ولا النبيذ التمري يشابه الخمر ولا بينهما شبه يوجب التساوي في
الحكم والخبر انما تناول المساواة بين المشتبهين ولا اشتباه هيهنا فان قالوا هيهنا اشتباه مظنون
قلنا ليس في الخبر اعمل على ما تظنه مشتبها بل قال اعرف الأشباه والنظاير وذلك يقتضى حصول العلم
بالأشباه على الامر الذي يقع به التشابه في الحكم غير مذكور في الخبر فان جاز لهم ان يدعوا انه عنى
المشابهة في المعاني التي يدعيها القايسون كالكيل في البر والشدة في الخمر جاز لخصومهم أن يدعوا انه أراد
المشابهة في اطلاق الاسم واشتمال اللفظ فيكون ذلك دعا منه إلى القول بحمل اللفظ على كل ما تحته من
المسميات لتساويهما في تناول اللفظ فكأنه تعالى إذا قال والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما و
علم ان كل سارق يقع عليه هذا الاسم وشارك سائر السراق في تناول اللفظ وجب التسوية بين
الجميع في الحكم الا أن يقوم دلالة واستدلوا أيضا بأن قالوا إذا ثبت في انه لابد في الفرع الشرعية
من حكم ولا نص ولا دليل على حكمها فيجب أن تكون متعبدين فيها بالقياس وربما استدلوا بهذه الطريقة
من وجه فقالوا قد ثبت عن الصحابة انهم رجعوا في طلب احكام الحوادث إلى الشرع فإذا علم ذلك من حالهم في
جميع الحوادث على كثرتها واختلافها وصح انه لا نص يدل على هذه الاحكام بظاهره ولا دليله فليس بعد
ذلك الا القياس والاجتهاد لان التجنب والقول بما اتفق يمنع منه العقل وهذا الاستدلال يخالف
الطريقة الأولى لأنهم لم يرجعوا في هذا إلى اجماعهم على نفس القياس والاجتهاد بل رجعوا إلى اجماعهم في طلب
الاحكام من جهة الشرع وفي الطريقة الأولى اعتبروا اجماعهم على نفس القول بالقياس فيقال لهم في الحوادث
حكم ولم يكلف معرفته أو لا حكم فيها جملة وكل ذلك جايز لا مانع منه واما تعلقهم بهذه الطريقة على الوجه
الثاني فمبنى على انه لا نص يدل بظاهره ولا دليله على احكام الحوادث فيجب لذلك الرجوع إلى القياس فيها و
دون ما ظنوه خرط القتاد (كناية است از صعوبت كندن پرگ درخت از جهة خار داشتن
اندرخت وانكه اگر بر عكس كنند لمحرره عفى عنه ولوالديه) لأنا قيد بينا ان جميع ما اختلف فيه الصحابة من الاحكام له وجه
وان القطع على انتفاء مثل ذلك لا يمكن بما يستغنى عن اعادته على أكثر ما في هذا أن يكون جميع الحوادث التي
علمنا طلبهم فيها للاحكام من جهة الشرع لا يدخل حكم العقل فيها وانه لابد فيها من حكم شرعي ثم نقول
انهم ما رجعوا فيما طلبوه من جهة الشرع الا إلى النصوص وعلى من ادعى خلاف ذلك الحجة من أين لهم ان جميع
ما يحدث إلى يوم القيمة هذا حكمه وانه لابد من أن يكون المرجع فيه إلى الشرع ولا يجوز أن يحكم فيه بحكم
العقل ولم إذا كانت الحوادث التي بليت بها الصحابة لها مخرج في الشريعة وجب ذلك في كل حادثة وهل
هذا الا تمن وتحكم على انه قد روى عن بعضهم ما يقتضى انه رجع إلى حكم العقل في مسألة الحرام وهو مسروق
لأنه جعل مسألة الحرام بمنزلة تحريم قصعة من تريد مما يعلم بالعقل اباحته استدل الشافعي وجماعة
معه على ذلك بالقبلة قالوا لما وجب طلبها بما يمكن طلبه به يقال لهم ان ما ذكرتموه ان دل قائما يدل على
جواز التعبد بالاجتهاد في الشرعيات فاما أن يعتمد في اثبات العبادة به في الشرع فباطل لان معتمد ذلك
111

لابد له من أن يقيس ساير حوادث الفروع في جواز استعمال الاجتهاد فيها على القبلة وذلك منه قياس
والكلام انما هو في اثبات القياس وهل وردت به العبادة أم لا فكيف يستسلف صحته ولمن ينفى القياس ان
يقول ان الذي يجب أن أثبت الحكم في القبلة بالاجتهاد لورود النص واقف عند ذلك ولا أتجاوزه وهذا
بمنزلة أن ترد العبادة بايجاب صلاة فيقيس قايس عليها وجوب أخرى فكما انه ممنوع من ذلك الا أن
يتعبد بالقياس فكذلك من قاس على القبلة غيرها ممنوع من قياسه ولما يثبت ورود العبادة بالقياس
على ان الحكم عند الغيبة ثابت بالنص في الجملة لان المكلف قد الزم أن يصلى إلى جهتها وإذا كان الحكم الشرعي
ثابتا في الجملة ولم يكتف المكلف في اثبات (امكان خ ر) الفعل في الجملة وجب أن يجتهد ليمكنه الفعل الواجب عليه
في الجملة فالاجتهاد منه ليس يتوصل به إلى اثبات الحكم الشرعي وانما يصل به إلى اثبات الحكم المجمل الذي
ورد النص به وتفصيله وعروض ذلك ان يرد النص في الأرز ان فيه ضربا من ضروب الربا ويكون
هناك طريق الاجتهاد في اثباته فيتوصل المكلف إلى تمييز ذلك الريا وتفصيله لأجل النص المجمل
وهذا مما لم يثبت لهم على انه يقال للمتعلق بهذه الطريقة أليس انما اجتهدت عند الغيبة في القبلة
لما ثبت بالنص حكم لا سبيل لك إلى معرفته الا بالاجتهاد فإذا اعترف بذلك قيل له فثبت في الفرع
انه لابد فيه من حكم يمكن معرفته الا بالاجتهاد حتى يتساوى الأمران ولا سبيل لك إلى ذلك وقد
علمت ان في نفاة القياس من يقول ان حكم الفرع معلوم عقلا وفيهم من يقول انه معلوم بالنصوص
اما بظواهرها أو بادلتها وبعد فليس مثبت القياس بأن يتعلق بالقبلة في اثبات الحكم للفرع
قياسا على الأصل بأولى من نافى القياس إذا تعلق بها في حمل الفرع على الأصل في انه لا يثبت له حكم الا
بالنص ومتى قيل له فاجمع بين الامرين امتنع لتنافيهما ومتى قيل له الاثبات أرجح وادخل في الغاية قال
هذا انما يصح فيما ثبت وصح لا فيما الكلام واقع فيه واستدلوا بما روى عنه (ع) من قوله للخثعمية أرأيت
لو كان على أبيك دين أكنت تقضيه قال نعم قال فدين الله أحق وأولى أن يقضى وبقوله لعمر حين سئله
عن القبلة للصايم أرأيت لو تمضمضت بماء أكنت شاربه وقوله في حديث أبي هريرة حين سئله
السائل عن رجل ولد له غلام اسود فقال له ألك إبل قال نعم قال ما ألوانها قال حمر قال فيها أزرق
قال نعم قال وانى ذلك قال لعل عرقا نزعه وغير ذلك من الأحاديث لم نذكرها لضعفها وبيان وهيهنا
يقال لهم أول ما في هذا الاخبار انها اخبار آحاد لا توجب علما وما هذا حكمه لا يثبت به أصل معلوم
عندهم مقطوع على صحته فلا يجوز اثباته بما يوجب غلبة الظن على ان تنبيهه (ع) على علة الحكم ليس
بأكثر من أن ينص صريحا عليها ولو نص على العلة لم يجب القياس بهذا القدر دون أن يدل
على العبارة به بغيره على انه (ع) بتنبيهه قد اغنى عن القياس فكيف يجعل ذلك دليلا على القياس و
لأنه أيضا مع التنبيه على العلة قد أثبت الحكم في الفرع والأصل معا وما هذا حاله لا يدخل القياس فيه
112

على انه (ع) اخبر ان الحج يجرى مجرى الدين في وجوب القضاء وكذلك ما نبه عليه في باب القبلة والمولود الأسود
ولم يذكر لأي سبب جرى مجراه وما العلة فيه وهل ظاهر نص أوجب ذلك أو طريقه من القياس وإذا كان
الامر متحملا لم يجز القطع على أحد الوجهين بغير دليل على ان اسم الدين يقع على الحج كوقوعه على المال وإذا
كان كذلك دخل في قوله تعالى من بعد وصيته (وصية) يوصون بها أو دين وهذا القدر كاف من الكلام في هذه
الاخبار وبطلان التعلق بها فان الاكثار في تأويلاتها لا فايدة فيه وقد أثبت في هذه المسألة أكثر ألفاظ
المسألة التي ذكرها سيدنا المرتضى رحمه الله في ابطال القياس لأنها سديدة في هذا الباب وأضفت إلى
ذلك مواضع لم يذكرها وحذفت أشياء يستغنى عن ايرادها وفي القدر الذي أوردناه كفاية وتنبيه على كل
ما يتعلق به في هذا الباب الكلام في الاجتهاد اعلم ان كل امر لا يجوز تغيره عما هو عليه من وجوب إلى حظر أو
من حسن إلى قبح فلا خلاف بين أهل العلم المحصلين ان الاجتهاد في ذلك لا يختلف وان الحق في واحد وان من خالفه
ضال فاسق وربما كان كافرا وذلك نحو القول بأن العالم قديم أو محدث وإذا كان محدثا هل له صانع أم لا والكلام
في صفات الصانع وتوحيده وعدله والكلام في النبوة والإمامة وغير ذلك وكذلك الامام في ان الظلم والعبث والكذب
قبيح على كل حال وان شكر المنعم ورد الوديعة والانصاف حسن على كل حال وما يجرى مجرى ذلك وانما قالوا ذلك لان
هذه الأشياء لا يصح تغيرها في نفسها ولا خروجها عن صفتها التي هي عليها الا ترى ان العالم إذا ثبت انه محدث
فاعتقاد من اعتقد انه قديم لا يكون الا جهلا والجهل لا يكون الا قبيحا وكذلك إذا ثبت ان له صانعا فاعتقاد
من اعتقد ان ليس له صانع لا يكون الا جهلا وكذلك القول في صفاته وتوحيده وعدله وكذلك إذا ثبت ان النبي صلى الله عليه وآله
صادق فاعتقاد من اعتقد كذبه لا يكون الا جهلا وكذلك المسائل الباقية وحكى عن قوم شذاذ لا يعتد بأقوالهم
انهم قالوا ان كل مجتهد فيها مصيب وقولهم باطل بما قلناه واما ما يصح تغييره في نفسه وخروجه من الحسن إلى القبح
ومن الخطر إلى الإباحة فلا خلاف بين أهل العلم انه كان يجوز أن تختلف المصلحة في ذلك فما يكون حسنا من زيد
يكون قبيحا من عمرو وما يقبح من زيد في حال بعينها يحسن منه في حالة أخرى ويختلف ذلك بحسب اختلاف
أحوالهم وبحسب اجتهادهم وانما قالوا ذلك لان هذه الأشياء تابعة للمصالح والالطاف وما هذا حكمه
فلا يمتنع ان يتغير الحال فيه ولهذه العلة جاز النسخ ونقل المكلفين عما كانوا عليه إلى خلافه بحسب ما تقتضيه
مصالحهم الا أن مع تجويز ذلك في العقل هل ثبت ذلك في الشرع أم لا فقد اختلف العلماء في ذلك فذهب
أكثر المتكلمين والفقهاء إلى ان كل مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم وهو مذهب أبي على (اي فيما
عدا ما فيه ظاهر قران أو خبر متواتر كما سيصرح به بقوله واعلم الخ) وأبي هاشم وأبي الحسن و
أكثر المتكلمين واليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه فيما حكاه أبو الحسن عنهم وقد حكى غيره من العلماء عن أبي حنيفة
وذهب الأصم وبشر المريسي إلى ان الحق في واحد من ذلك وهو ما يقولون به وان ما عداه خطأ حتى قال الأصم
ان حكم الحاكم ينقض به ويقولون ان المخطئ غير معذور في ذلك الا أن يكون خطاؤه صغيرا وان سبيل ذلك
سبيل الخطاء في أصول الديانات وذهب أهل الظاهر فيما عدا القياس من الاستدلال وغيره إلى ان الحق من ذلك
113

في واحد واما الشافعي فان كلامه مختلف في كتبه فربما قال ان الحق في واحد وعليه دليل وان ما عداه خطأ وربما
مر في كلامه ان كل مجتهد قد أدى ما كلف وربما يقول انه قد أخطأ خطأ موضوعا عنه وقد اختلف أصحابه
في حكاية مذهبه فمنهم من يقول ان الحق في واحد من ذلك وان عليه دليلا وان لم يقطع على الوصول إليه وان ما
عداه خطأ لكن الدليل على الصواب من القولين لما غمض (اغمض خ ر) ولم يظهر كان المخطئ معذورا ومنهم من يحكى ان كل مجتهد
مصيب في اجتهاده وفي الحكم وان كان أحدهما يقال فيه قد أخطأ الأشبه عند الله والذي اذهب إليه وهو مذهب
جميع شيوخنا المتكلمين من المتقدمين والمتأخرين وهو الذي اختاره سيدنا المرتضى ره واليه كان يذهب
شيخنا أبو عبد الله ان الحق في واحد وان عليه دليلا من خالفه كان مخطئا فاسقا واعلم ان الأصل في
هذه المسألة القول بالقياس والعمل باخبار الآحاد لان ما طريقه التواتر وظواهر القران فلا خلاف بين
أهل العلم ان الحق فيما هو معلوم من ذلك وانما اختلفت القائلون بهذين الأصلين فيما ذكرناه وقد دللنا
على بطلان العمل بالقياس وخبر الواحد الذي يختص المخالف بروايته وإذا ثبت ذلك دل على ان الحق في
الجهة التي فيها الطايفة المحقة واما على ما اخترته من القول في الاخبار المختلفة المروية من جهة الخاصة فلا
ينقض ذلك لان غرضنا في هذا لمكان ان نبين ان الحق في الجهة التي فيها الطائفة المحقة دون الجهة التي
خالفها وان كان حكم ما يختص به الطائفة والاختلاف التي بينها الحكم الذي مضى الكلام عليه في باب الكلام
في الاخبار فلا تنافى بين القولين وهذه الجملة كافية في هذا الباب وان (وانما خ ر) لم تتبع كلام المخالف وطرقهم التي يستدلون بها
على صحة ذلك لان فيما مضى من الكلام في ابطال القياس كلاما عليه وأكثر شبههم داخلة فيها فلا معنى للإعادة
في هذا الباب فصل في ذكر صفات المفتى والمستفتي وبيان احكامهما لا يجوز لاحد أن يفتى بشئ من الاحكام
الا بعد أن يكون عالما به لان المفتى يخبر عن حال ما يستفتى فيه فمتى لم يكن عالما به فلا يأمن أن يخبر بالشئ على غير
ما هو به وذلك لا يجوز فإذا لابد من أن يكون عالما (ولا يكون عالما) الا بعد أمور منها أن يعلم جميع ما لا يصح العلم بتلك
الحادثة الا بعد تقدمه وذلك نحو العلم بالله تعالى وصفاته وتوحيده وعدله وانما قلنا ذلك لأنه
متى لم يكن عالما بالله لم يمكنه أن يعرف النبوة لأنه لا يأمن أن يكون الذي ادعى النبوة كاذبا ومتى
عرفه ولم يعرف صفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز لم يأمن أن يكون قد صدق الكاذب فلا يصح أن يعلم
ما جاء به الرسول فإذا لابد من أن يكون عالما بجميع ذلك ولابد أن يكون عالما بالنبي الذي جاء بتلك
الشريعة لأنه متى لم يعرفه لم يصح ان يعرف ما جاء به من الشرع ولابد من أن يعرف أيضا صفات النبي
وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه لأنه متى لم يعرف جميع ذلك لم يأمن أن يكون غير صادق فيما يؤديه
أو يكون ما أدى جميع ما بعث به أو يكون أداه على وجه لا يصح له معرفته فإذا لابد من أن يعرف جميع ذلك و
إذا عرف جميع ذلك فلابد أيضا أن يعرف الكتاب فإنه يتضمن كثيرا من الاحكام التي هي المطلوبة ولابد من أن يعرف ما لا يتم
العلم بالكتاب الا به وذلك يوجب أن يعرف جملة من الخطاب العربي وجملة من الاعراب والمعاني ويعرف
114

الحقيقة والمجاز والفرق بينهما لأنه متى لم يعرف ذلك لم يمكنه معرفة ما تضمنه الكتاب ولابد ان يعرف الناسخ والمنسوخ
لأنه متى عرف المنسوخ ولم يعرف الناسخ اعتقد الشئ على خلاف ما هو به من وجوب ما لا يجب عليه وقد كان يجوز أن يعرف
الناسخ وان لم يعرف المنسوخ لان المنسوخ لا يتعلق به فرضه وان كان له في تلاوته مصلحة إلى ان ذلك على الكفاية
غير انه لو كان كذلك لم يمكنه ان يعرفه ناسخا الا بعد أن يعرف المنسوخ اما على الجملة أو التفصيل ولابد أن يعرف العموم
والخصوص والمتعلق والمقيد لأنه متى لم يعلم ذلك لا يأمن أن يكون المراد بالعموم الخصوص وبالمطلق المقيد ولابد
أن يكون عالما بأنه ليس هناك دليل يصرفه عن الحقيقة إلى المجاز لأنه متى يجوز (جوز خ ر) لم يكن عالما به ولابد أيضا أن يكون
عالما بالسنة وناسخها ومنسوخها وعامها وخاصها ومطلقها ومقيدها وحقيقتها ومجازها وانه ليس
هناك ما يمنع من الاستدلال بشئ من ظواهرها كما قلناه في الكتاب لأنه متى جوز ذلك لم يكن عالما بها و
لابد أن يكون عارفا بالاجماع واحكامه وما يصح الاحتجاج به وما لا يصح ولابد أن يكون عارفا بافعال النبي
ومواقعها من الوجوب والندب والإباحة حتى يصح أن يكون عالما بما يفتى به فان أخل بذلك أو بشئ
منه لم يأمن أن يكون ما أفتى به بخلاف ما أفتى به وذلك قبيح وقد عد من خالفنا في هذه الاقسام انه لابد
أن يكون عالما بالقياس والاجتهاد واخبار الآحاد ووجوه العلل والمقاييس واثبات الامارات المقتضية
لغلبة الظن واثبات الاحكام وقد بينا نحن فساد ذلك وانها ليست من أدلة الشرع واما المستفتى
فعلى ضربين أحدهما أن يكون متمكنا من الاستدلال والوصول إلى العلم بالحادثة مثل المفتى فمن هذه
صورته لا يجوز له أن يقلد المفتى ويرجع إلى فتياه وانما قلنا ذلك لان قول المفتى غاية ما يوجبه غلبة الظن
وإذا كان له طريق إلى حصول العلم فلا يجوز له أن يعمل على غلبة الظن على حال واما إذا لم يمكنه الاستدلال
ويعجز عن البحث عن ذلك فقد اختلفت قول العلماء في ذلك فحكى عن قوم من البغداديين انهم قالوا
لا يجوز له أن يقلد المفتى وانما ينبغي أن يرجع إليه لينبهه على طريقة العلم بالحادثة وان تقليده محرم
على كل حال وسووا في ذلك بين احكام الفروع والأصول وذهب البصريون والفقهاء بأسرهم إلى ان العامي لا يجب
عليه الاستدلال والاجتهاد وانه يجوز له أن يقبل قول المفتى فاما في أصوله وفي العقليات فحكمه حكم العالم
في وجوب معرفة ذلك عليه ولا خلاف بين الناس انه يلزم العامي معرفة الصلاة اعدادها وإذا صح ذلك
وكان علمه بذلك لا يتم الا بعد معرفة الله تعالى ومعرفة عدله ومعرفة النبوة وجب أن لا يصح له أن يقلد في
ذلك ويجب أن يحكم بخلاف قول من قال يجوز تقليده في التوحيد مع ايجابه منه العلم بالصلوات والذي نذهب
إليه انه يجوز للعامي الذي لا يقدر على البحث والتفتيش تقليد العالم يدل على ذلك انى وجدت عامة الطائفة
من عهد أمير المؤمنين (ع) والى زماننا هذا يرجعون إلى علمائها ويستفتونهم في الاحكام وفي العبادات ويفتونهم
العلماء فيها ويسوغون لهم العمل بما يفتونهم به وما سمعنا أحدا منهم قال لمستفت لا يجوز لك الاستفتاء ولا
العمل به بل ينبغي أن تنظر كما نظرت (حتى خ ر) وتعلم كما علمت ولا انكر عليه العمل بما يفتونهم وقد كان منهم الخلق العظيم
115

آثروا الأئمة (ع) ولم يحك عن واحد من الأئمة (ع) النكير على أحد من هؤلاء ولا ايجاب القول بخلافه بل كانوا
يصوبونهم في ذلك فمن خالف في ذلك كان مخالفا لما المعلوم خلافه فان قيل كما وجدناهم يرجعون إلى العلماء
فيما طريقة الاحكام الشرعية وجدناهم أيضا كانوا يرجون إليهم في أصول الديانات ولم نعرف أحدا من الأئمة
ولا من العلماء انكر عليهم ولم يدل ذلك على انه يسوغ تقليد العالم في الأصول قيل له لو سلمنا انه لم ينكر أحد
منهم ذلك لم يطعن ذلك في هذا الاستدلال لان على بطلان التقليد في الأصول أدلة عقلية وشرعية من كتاب (كتابا)
وسنة وغير ذلك وذلك كاف في النكير وأيضا فان المقلد في الأصول يقدم على ما لا يأمن أن يكون جهلا لان طريق
ذلك الاعتقاد والمعتقد لا يتغير في نفسه عن صفة إلى غيرها وليس كذلك الشرعيات لأنها تابعة للمصالح ولا
يمتنع أن يكون من مصلحتهم تقليد العلماء في جميع تلك الاحكام وذلك لا يتأتى في أصول الديانات و
ان كان مخطئا في تقليده على ان الذي يقوى في نفسي ان المقلد للمحق في أصول الديانات وان كان مخطئا في
تقليده غير مؤاخذ به وانه معفو عنه وانما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة التي قدمناها لأني لم أجد أحدا
من الطائفة ولا من الأئمة (ع) قطع موالاة من سمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم وان لم يسند ذلك إلى حجة
عقل أو شرع وليس لاحد أن يقول ان ذلك لا يجوز لأنه يؤدى إلى الاغراء بما لا يأمن أن يكون جهلا وذلك
انه لا تؤدى إلى شئ من ذلك لان هذا المقلد لا يمكنه أن يعلم ابتداء ان ذلك سايغ له فهو خائف من الاقدام
على ذلك ولا يمكنه أيضا ان يعلم سقوط العقاب عنه فيستديم الاعتقاد لأنه انما يمكنه أن يعلم ذلك
إذا عرف الأصول وقد فرضنا انه مقلد في ذلك كله فكيف يعلم اسقاط العقاب فيكون مغرى باعتقاد
ما لا يأمن كونه جهلا أو باستدامته وانما يعلم ذلك غيره من العلماء الذين حصل لهم العلم بالأصول و
سبروا أحواله وان العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا أنكروا عليهم ولم يسغ ذلك لهم الا بعد العلم بسقوط
العقاب عنه وذلك يخرجه عن باب الاغراء وهذا القدر كاف في هذا الباب ان شاء الله تعالى فصل
في ان النبي (ع) هل كان مجتهدا في شئ من الاحكام وهل كان يسوغ ذلك له عقلا أم لا وان من غاب عن الرسول
في حال حياته هل كان يسوغ له الاجتهاد أو لا وكيف حال من بحضرته في جواز ذلك اعلم ان هذه المسألة
تسقط على أصولنا لأنا قد بينا ان القياس والاجتهاد لا يجوز استعمالها في الشرع وإذا ثبت ذلك فلا يجوز
للنبي (ع) ذلك ولا لاحد من رعيته حاضرا كان أو غايبا لا حال حياته ولا بعد وفاته استعمال ذلك على حال
واما على مذهب المخالفين لنا في ذلك فقد اختلفوا فذهب أبو على وأبو هاشم إلى انه لم يتعبد بذلك في الشرعيات
ولا وقع منه الاجتهاد فيها وأوجبا كونه متعبدا بالاجتهاد في الحروب وحكى عن أبي يوسف القول بأن النبي (ع)
قد اجتهد في الاحكام وذكر الشافعي في كتاب الرسالة ما يدل على انه يجوز أن يكون في احكامه ما قاله من جهة
الاجتهاد وادعى أبو علي الاجماع على انه لم يجتهد النبي (ع) في شئ من الاحكام لم يجب ان تجعل أصلا ولا كفر من
رده بل كان يجوز مخالفته كما يجوز مثل ذلك في أقاويل المجتهدين فلما ثبت كفر من رد بعض احكامه وخالفه
116

وساغ جعل جميعها أصولا دل على انه حكم به من جهة الوحي وهذا الدليل ليس بصحيح لأنه لا يمتنع أن يقال ان في احكامه
ما حكم به (من) جهة الاجتهاد ومع ذلك لا يسوغ مخالفته من حيث أوجب الله تعالى اتباعه وسوى في اتباعه ذلك بين
ما قاله بوحي وبين ما قاله من جهة الاجتهاد كما يقول من قال ان الأمة يجوز أن تجمع على حكم من طريق الاجتهاد
وان كان لا يجوز خلافه وإذا ثبت ذلك لم يمكن التعلق بما حكيناه ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله تعالى
وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحى يوحى فحكم بان جميع ما يقوله وحى يوحى فينبغي أن لا يثبت ذلك من
جهة الاجتهاد والمعتمد ما قلناه أولا من عدم الدليل على ورود العبادة بالقياس والاجتهاد في جميع
المكلفين وعلى جميع الأحوال فاما من حضر النبي (ع) فذهب أبو علي إلى انه لا يجوز أن يجتهد ويجوز ذلك لمن
غاب ومن الناس من يقول ان لمن حضر النبي (ع) أيضا ان يجتهد ويستدل على ذلك بخبر يروى ان النبي (ع) امر عمرو بن
العاص وعقبة بن عامر ان يقضيا بحضرته بين خصمين وقال لهما ان أصبتما فلكما عشر حسنات وان
أخطأتما فلكما حسنة وهذا خبر ضعيف من اخبار الآحاد التي لا يعتمد في مثل هذه المسألة لان طريقها العلم
والمعتمد في هذه المسألة أيضا ما قدمناه من عدم الدليل على ورود العبادة بالقياس والاجتهاد وذلك
عام في جميع الأحوال الكلام في الحظر والإباحة فصل في ذكر حقيقة الحظر والإباحة والمراد
بذلك اعلم ان معنى قولنا في الشئ انه محظور انه قبيح لا يجوز له فعله الا انه لا يسمى بذلك الا بعد أن
يكون فاعله اعلم حظره أو دل عليه ولاجل هذا لا يقال في افعال الله تعالى انها محظورة لما لم يكن اعلم قبحها
ولا دل عليه وان كان في افعاله ما لو فعله لكان قبيحا فكذلك لا يقال في افعال البهايم والمجانين انها محظورة لما
لم يكن هذه الأشياء اعلم قبحها ولا دل عليه ومعنى قولنا انه مباح ليس له صفة زايدة على حسنه ولا يوصف
بذلك الا بالشرطين الذين ذكرناهما من اعلام حسن فاعله ذلك أو دلالته عليه وكذلك لا يقال ان فعل الله تعالى
العقاب باهل النار مباح لما لم يكن اعلمه ولا دل عليه وان لم يكن لفعله العقاب صفة زايدة على حسنه وهو
هي كونه مستحقا وكذلك لا يقال في افعال البهايم انها مباحة لعدم هذين الشرطين ولاجل ذلك نقول أن
المباح يقتضى مبيحا والمحظور يقتضى حاضرا وقد قيل في حد المباح هو ان لفاعله أن ينتفع به ولا يخاف
ضررا في ذلك لا عاجلا ولا اجلا وفي حد الحظر انه ليس له الانتفاع به وان عليه في ذلك ضررا اما عاجلا
أو اجلا وهذا يرجع إلى المعنى الذي قلناه فصل في ذكر بيان الأشياء التي يقال انها على الحظر والإباحة
والفصل بينهما وبين غيرها والدليل على الصحيح من ذلك افعال المكلف لا تخلو من أن تكون حسنة أو
قبيحة والحسنة لا تخلو من أن تكون واجبة أو ندبا أو مباحا وكل فعل جهة قبحه بالعقل على التفصيل فلا
خلاف بين أهل العلم المحصلين في انه على الخطر (الحظر) وذلك نحو الظلم والكذب والعبث والجهل وما شاكل
ذلك وما يعلم جهة وجوبه على التفصيل فلا خلاف أيضا انه على الوجوب وذلك نحو وجوب رد الوديعة
وشكر المنعم والانصاف وما شاكل ذلك وما يعلم جهة كونه ندبا فلا خلاف أيضا انه على الندب وذلك نحو
117

الاحسان والتفضل وانما كان الامر في هذه الأشياء على ما ذكرناه لأنها لا يصح ان تتغير من حسن إلى قبح ومن قبح إلى حسن
واختلفوا في الأشياء التي ينتفع بها هل هي على الحظر أو الإباحة أو على الوقف فذهب كثير من البغداديين
وطايفة من أصحابنا الامامية إلى انها على الحظر ووافقهم على ذلك جماعة من الفقهاء وذهب أكثر
المتكلمين من البصريين وهو المحكى عن أبي الحسن وكثير من الفقهاء إلى انها على الإباحة وهو الذي يختاره
سيدنا المرتضى وذهب كثير من الناس إلى انها على الوقف ويجوز كل واحد من الامرين فيه وينتظر ورود
السمع بواحد منهما وهذا المذهب كان ينصره شيخنا أبو عبد الله ره وهو الذي يقوى في نفسي والذي يدل على ذلك
انه قد ثبت في العقول ان الاقدام على ما يأمن المكلف كونه قبيحا مثل اقدامه على ما لم قبحه الا ترى ان من اقدم على
الاخبار بما لم يعلم صحة مخبره جرى في القبح مجرى من اخبر من علمه بأن مخبره على خلاف ما اخبر به على حد واحد
وإذا ثبت ذلك وفقدنا الأدلة على حسن هذه الأشياء قطعا ينبغي أن يجوز كونها قبيحة وإذا جوزنا
ذلك فيها قبح الاقدام عليها فان قيل نحن نأمن قبحها لأنها لو كانت قبيحة لم تكن الا لكونها مفسدة لأنه ليس
لها جهة قبح يلزمها مثل الجهل والظلم والكذب والعبث وغير ذلك ولو كانت للمفسدة لوجب على القديم
أن يعلمنا ذلك والا قبح التكليف فلما لم يعلمنا ذلك علمنا حسنها عند ذلك وذلك يفيدنا الإباحة
قيل لا يمتنع ان يتعلق المفسدة باعلامنا جهة الفعل على التفصيل فيقبح الاعلام وتكون المصلحة لنا في
التوقف في ذلك والشك وتجويز كل واحد من الامرين وإذا لم يمتنع ان يتعلق المصلحة بشكنا والمفسدة باعلامنا
جهة الفعل لم يلزم إعلامنا على كل حال وصار ذلك موقوفا على تعلق المصلحة بالاعلام أو المفسدة بالشك فحينئذ
يجب الاعلام وذلك موقوف على السمع وليس لاحد أن يقول ان هذا الذي فرضتموه يكاد يعلم ضرورة تعذره
لان الفعل لا يخلو من أن يكون قبيحا أو لا يكون كذلك فإن كان قبيحا فلا يكون كذلك الا للمفسدة وان لم يكن قبيحا
فذلك الحسن وهذه قسمة مترددة بين النفي والاثبات فكيف اخترتم أنتم قسما ثالثا لا يكاد يعقل وذلك ان
الفعل كما قالوا لا يخلو من أن يكون قبيحا أو لا يكون كذلك ولكن لا يمتنع أن يكون للمكلف حالة أخرى يتعلق
بها المفسدة والمصلحة وهي الحالة التي يقطع فيها على جهة الفعل على التفصيل وإذا كان ذلك جايزا
لم ينفعنا تردد الفعل في نفسه بين القبح والحسن واحتجنا ان نراعي حال المكلف فمتى وجدنا المصلحة تعلقت
المفسدة بذلك وجب أن لا يعلم ذلك وكان فرضه الوقف والشك وهو (هذا خ ر) الذي لخصناه ينبغي أن يتأمل جيدا
فإنه يسقط معتمد القوم في أدلتهم وربما لم يتصور كثيرا من الذين يتكلمون في هذا الباب ما بيناه ومتى
تأمله من يضبط الأصول وقف على وجه الصواب في ذلك فان قيل كيف يمكنكم ان تدفعوا حسن هذه الأشياء
ونحن نعلم ضرورة حسن التنفس في الهواء وتناول ما يقوم به الحياة طول مدة النظر في حدوث العالم واثبات الصانع
وبيان صفاته وعلى ما قلتموه ينبغي أن يمتنع في هذه الأوقات من الغذاء وغير ذلك يؤدى إلى تلفه وعطبه
ومن ارتكب ذلك علم بطلان قوله ضرورة قلنا اما التنفس في الهواء فالانسان ملجاء إليه مضطر وما يكون
118

ذلك حكمه فهو خارج عن حد التكليف فان فرضوا فيما زاد على قدر الحاجة فلا نسلم بل ربما كان قبيحا على جهة القطع
لأنه عبث لا فائدة فيه ولا نفع في ذلك يعقل واما أحوال النظر فمستثناه أيضا لأنه في تلك الأحوال ليسن بمكلف أن
يعلم حسن هذه الأشياء ولا قبحها لأنه لا طريق له إلى ذلك وانما يمكنه ذلك إذا عرف الله (ع) بجميع صفاته وانه
ينبغي أن يعلمنا مصالحنا ومفاسدنا وإذا علم جميع ذلك حينئذ تعلق فرضه بأن يعلم هذه الأشياء هل على
الحظر أو على الإباحة وفي الأحوال لا يجوز له أن يقدم الا على قدر ما يمسك رمقه ويقوم به حياته وفي أصحابنا
من قال ان في هذه الأحوال لابد من أن يعلم الله تعالى ذلك ليسمع ببعثه إليه فيعلمه ان ذلك مفسدة يتجنبه أو
مصلحة يجب عليه فعله أو مباح يجوز له تناوله وعلى ما قررته من الدليل لا يجب ذلك لأنه إذا فرضنا تعلق
المصلحة والمفسدة بحال المكلف لم يمتنع أن يدوم ذلك زمانا كثيرا ويكون فرضه فيه كله الوقف والشك والاقتصار
على قدر ما يمسك رمقه وحياته وهذا الدليل الذي ذكرناه هو المعتمد في هذا الباب والذي يلي ذلك في
القوة أن يقال إذا فقدنا الدلالة على حظر (هذه) الأشياء وعلى اباحتها وجب التوقف فيها وتجويز كل واحد
من الامرين وليس يلزمنا أكثر من أن نبين ان ما تعلق به كل واحد من الفريقين ليس بدليل في هذا الباب
فما استدل به من قال ان الأشياء على الخطر (الحظر) قطعا ان قالوا قد علمنا ان هذه الأشياء لها مالك ولا يجوز
لنا ان نتصرف في ملك الغير الا باذنه كما علمنا قبح التصرف فيما لا يملكه في الشاهد واعترف القائلون بالإباحة
هذه الطريقة بان قالوا انما قبح في الشاهد التصرف في ملك الغير لأنه يؤدى إلى ضرر مالكه بدلالة ان ما لا
ضرر عليه في ذلك جاز لنا ان نتصرف فيه مثل الاستظلال بفئ داره والاستصباح بضوء ناره والاقتباس
منها واخذ ما يتساقط من حبه عند الحصاد وغير ذلك من حيث لا ضرر عليه في ذلك فعلمنا ان الذي
قبح من ذلك انما قبح لضرر مالكه لا لكونه مالكا والقديم تعالى لا يجوز عليه الضرر على حال فينبغي أن يسوغ
لنا التصرف في ملكه ولمن نصر هذا الدليل أن يقول انما حسن الانتفاع في المواضع التي ذكرتموه لا لارتفاع
الضرر بل لان هذه الأشياء لا يصح تملكها لان فيئ الحايط ليس بشئ يملك إذا كان في طريق غير مملوك
ومتى كان الفئ في ملك صاحبه قبح الدخول إليه وكذلك القول في المصباح فاما أخذنا يتناثر من حبة فلا
نسلم انه يحسن وكيف نسلم وله أن يمنعه من ذلك وان يجمعه لنفسه ولو كان مباحا لم يجز له منعه منه
على ان على العلة التي ذكروها من اعتبار دخول الضرر على مالكه كان ينبغي أن لا يسوع له اخذ ما
يتناثر من حبة لأنا نعلم ان ذلك يدخل عليه فيه ضرر وان كان يسيرا فعلى المذهبين جميعا كان ينبغي
أن يقبح ذلك على ان ذلك لو قبح لضرر لا لفقد الاذن من مالكه لكان ينبغي ان لو اذن فيه يحسن ذلك
لان الضرر حاصل وليس لهم أن يقولوا انه يحصل له عوض أكثر منه من الثواب أو السرور عاجلا وذلك
انا نفرض في من لا يعتقد العوض على ذلك من الملحدة وليس هو أيضا مما يسر بل بما شق عليه واغتم به ومع
ذلك حسن التصرف منه إذا اذن فيه وليس لاحد أن يقول ان دليل العقل الدال على إباحة هذه الأشياء يجري
119

مجرى اذن سمعي فجاز لنا التصرف فيها وذلك ان لمن نصر هذا الدليل أن يقول لم يثبت ذلك ولو ثبت كان
الامر على ما قالوه ونحن نتبع ما يستدل به أصحاب الإباحة ونتكلم عليه انشاء الله واستدل كثير من الفقهاء
على ان الأشياء ليست على الحظر أو الوقف بقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وبقوله لئلا
يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فقالوا بين الله تعالى انه لا يستحق أحد العقاب ولا يكون لله عليهم حجة
الا بعد انفاذ الرسل وذلك يفيد ان من جهتهم يعلم حسن هذه الأشياء أو قبحها وهذا لا يصح الاستدلال
به من وجوه أحدها ان هيهنا أمورا كثيرة معلومة من جهة العقل وجوبها وقبحها مثل رد الوديعة وشكر
المنعم والانصاف وقضاء الدين وقبح الظلم والعبث والكذب والجهل وحسن الاحسان الخالص وغير ذلك فعلمنا
انه ليس المراد بالآية ما ذكروه ومتى ارتكبوه رفع كون هذه الأشياء معلومة الا بالسمع علم بطلان قولهم
وكانت المسألة خارجة عن هذا الباب ومنها ان لله حججا كثيرة غير الرسل من أدلة العقل الدال على توحيده
وعدله وجميع صفاته التي من لا يعرفها لا يصح أن يعرف صحة السمع فكيف يقال لا يقوم الحجة الا بعد انفاذ
الرسل والمعنى في الآيتين ان يحملا على انه إذا كان المعلوم ان لهم ألطافا ومصالح لا يعلمونها الا بالسمع وجب
على القديم تعالى اعلامهم إياها ولم يحسن ان يعاقبهم على تركها الا بعد تعريفهم إياها ولم تقم الحجة عليهم الا
بعد انفاذ الرسل ومتى كان الامر على ذلك وجبت بعثة الرسل لأنه لا يمكن معرفة هذه الأشياء الا من
جهتهم واستدل من قال ان هذه الأشياء على الإباحة بأن قالوا نحن نعلم ضرورة ان كل ما يصح الانتفاع
به ولا ضرورة على أحد فيه عاجلا ولا اجلا فإنه حسن كما يعلم ان كل ألم لا نفع فيه عاجلا ولا اجلا قبيح فدافع أحد
الامرين كدافع الاخر وإذا ثبت ذلك وكانت هذه الأشياء لا ضرر فيها عاجلا (ولا اجلا) فيجب أن تكون حسنة قالوا
ولا يجوز أن يكون فيها ضرر أصلا (عاجلا خ ر) لأنه لو كان كذلك لم يكن الا لكونها مفسدة في الدين ولو كان كذلك لوجب
على القديم تعالى إعلامنا ذلك فلما لم يعلمنا ذلك علمنا انها حسنة وقد مضى في دليلنا ما يمكن أن يكون
كلاما على هذه الشبهة وذلك انا قلنا ان هذه الأشياء لا نأمن أن يكون فيها ضرر اجل وإذا لم تأمن ذلك
قبح الاقدام عليها كما لو قطعنا ان فيها ضررا واجبنا عن قولهم لو كان فيها ضررا لكان ذلك لأجل المفسدة
وذلك يجب على القديم إعلامنا إياه بأن قلنا لا يمتنع ان تتعلق المفسدة باعلامنا جهة الفعل على وجه
التفصيل ويكون مصلحتنا في الوقف والشك وتجويز كل واحد من الوجهين في الفعل وإذ كان ذلك
جائزا لم يجب عليه تعالى إعلامنا ذلك وجاز ان يقتصر بالمكلف على هذه المنزلة واستدلوا أيضا بأن قالوا
إذا صح أن يخلق تعالى الأجسام خالية من الألوان والطعوم فخلقته تعالى للطعم واللون لابد أن يكون فيه وجه
حسن فلا يخلو ذلك من أن يكون لنفع نفسه أو لنفع الغير أو خلقها ليضر بها ولا يجوز أن يخلقها لنفع نفسه
لأنه يتعالى عن ذلك علوا كبيرا ولا يحسن أن يخلقها ليضر بها لان ذلك قبيح الابتداء به فلم يتق الا أنه خلقها
ليقع الغير وذلك يقتضى كونها مباحة والجواب عن ذلك من وجوه أحدها انه انما خلق هذه الأشياء إذا كانت فيها
120

ومصالح وان لم يجز لنا ان ننتفع بها بالاكل بل نفعنا بالامتناع منها فيحصل لنا بها الثواب كما انه خلق أشياء
كثيرة يصح الانتفاع بها ومع ذلك فقد حظرها بالسمع مثل شرب الخمر والميتة والزنا وغير ذلك و
ليس لهم أن يقولوا ان هذه الأشياء انما حظرها لما كانت مفسدة في الدين وإعلمنا ذلك وليس كذلك ما
يصح الانتفاع به ولا يعلم ذلك فيه وذلك انا قد بينا انه لا فرق بين أن تتعلق المصلحة
باعلامنا جهة الفعل من قبح أو حسن فيجب عليه أن يعلمنا ذلك وبين أن تتعلق المصلحة بحال لنا
جوز معها كل واحد من الامرين فيجب أن يقتصر بنا على تلك الحال لان المراعى حصول المصلحة وإذا
ثبت ذلك لحق ثبوت ما علمنا قبحه على طريق القطع والثبات في انه لا يحسن منا الاقدام عليه ومنها
ان على مذهب كثير من أهل العدل انما خلق الطعوم والأرابيح والأجسام لأنها لا تصح أن يخلو منها
فجرت في هذا الباب مجرى الأكوان التي لا يصح خلو الجسم منها وخلق الجسم إذا ثبت انه مصلحة وجب
أن يخلق معه جميع ما يحتاج إليه في وجوده ومنها ان الانتفاع بهذه الأشياء قد يكون بالاستدلال
بها على الله تعالى وعلى صفاته فليس الانتفاع مقصورا على التناول فحسب وليس لهم أن يقولوا انه
كان يمكن الاستدلال بالأجسام على وحدانية الله تعالى وعلى صفاته فلا معنى لخلق الطعوم و
ذلك انه لا يمتنع ان يخلقها لما ذكرناه وان كان الجسم يصح الاستدلال به ويكون ذلك زيادة
في الأدلة ولسنا ممن يقول لا يجوز أن ينصب على معرفته أدلة كثيرة لأنا ان قلنا ذلك أدى
إلى فساد أكثر الأدلة التي يستدل بها على وحدانيته تعالى فإذا ينبغي أن يجوز أن يخلقها
للاستدلال بها وذلك يخرجهما عن حكم العبث ويدخلهما في باب ما خلقت للانتفاع
بها وليس لهم أن يقولوا إذا صح الانتفاع بها من الوجهين بالاستدلال والتناول فينبغي
ان يقصد به الوجهين وذلك ان هذا محض الدعوى لا برهان عليها بل الذي يحتاج إليه ان
يعلم انه لم يخلقها الا لوجه فاما أن يقصد بها جميع الوجوه التي يصح الانتفاع بهما فلا يجب
ذلك على انا قد بينا انه لا يمتنع ان يفرض في أحد الوجهين مفسدة في الدين فيحسن أن يخلقها
للوجه الاخر ويعلمنا ان فيها فسادا للدين ومتى تناولناها فيجب علينا أن نمتنع منها فان قيل
إذا أمكن خلقها للوجهين ولم يقصدهما كان عبثا من الوجه الذي لم يقصد
للانتفاع به وجرى ذلك مجرى فعلين يقصد بأحدهما للانتفاع ولا يقصد بالاخر
ذلك فيكون ذلك عبثا قيل له ليس الامر على ذلك لان الفعل الواحد إذا كان
فيه وجه من وجوه الحكمة خرج من باب العبث وان كان له وجوه اخر كان يجوز
ان تقصد وليس كذلك الفعلان لأنه إذا قصد وجه الحكمة في أحدهما بقي الاخر خاليا
من ذلك وكان عبثا وليس كذلك الفعل الواحد على ما بيناه فان قيل الانتفاع بالاعتبار
121

بالطعوم لا يمكن الا بعد تناولها لان الطعم ليس مما يدرك بالعين فينتفع به من هذه الجهة
فإذا لابد من تناوله حتى يصح الاعتبار قيل الاعتبار يمكن بتناول القليل منه
وهو قدر ما يمسك الرمق وتبقى معه الحياة وقد بينا ان ذلك القدر في حكم المباح و
ليس الاعتبار موقوفا على تناول شئ كثير من ذلك ويمكن أن يقال أيضا انه يصح أن يعتبر
بها إذا تناولها غير المكلف من ساير أجناس الحيوان فإنه إذا شاهد أجناس الحيوان
الا يتناول تلك الأشياء ويصلح عليها أجسامها أو يفسد بحسب اختلافها واختلاف
طبايعها جاز معه أن يعتبر بذلك وان لم يتناولها المكلف أصلا وبمثل هذا أجاب
المخالف عمن قال بالفرق بين السموم والأغذية بان قال يرجع إلى حال الحيوان التي ليست
مكلفة إذا شاهدها يتناول أشياء ينتفع بها جعلها ذلك طريقا إلى تجربته و
ان ذلك ممن ينصلح عليه أيضا جسمه وذلك مثل ما أجبنا به عن السؤال الذي
أوردوه في هذا الباب واستدلوا أيضا بقوله تعالى قل من حرم زينة الله التي اخرج
لعباده والطيبات من الرزق وبقوله وأحل لكم الطيبات وما شاكل ذلك من الآيات
وهذه الطريقة مبنية على السمع ونحن لا نمتنع ان يدل دليل السمع على ان الأشياء
على الإباحة بعد ان كانت على الوقف بل عندنا الامر على ذلك واليه نذهب و
على هذا سقط المعارضة بالآيات واستدل كثير من الناس على ان هذه الأشياء
على الحظر أو الوقف بأن قالوا قد علمنا ان التحرز من المضار واجب في العقول إذا كان
ذلك واجبا لم يحسن منا ان نقدم على تناول ما لم نأمن أن يكون سما قاتلا فيؤدى
ذلك إلى العطب لأنا لا نفرق بين ما هو سم وبين ما هو غذا وانما ننتظر ذلك اعلام الله
تعالى لنا ما هو غذانا والفرق بينه وبين السموم القاتلة واعترض من خالف في
ذلك هذا الاستدلال بأن قال يمكننا ان نعلم ذلك بالتجربة فانا إذا شاهدنا الحيوان
الذي ليس بمكلف يتناول بعض الأشياء فيصلح عليه جسمه علمنا انه غذاء وإذا
تناول شيئا يفسد عليه علمنا انه مضار فحينئذ ما اعتبرنا بأحوالهما وقال من نصر هذا
الدليل ان الحيوان يختلف طباعه فليس ما يصلح الحيوان المستبهم يعلم انه يصلح الحيوان
الناطق لان هيهنا أشياء كثيرة تغذى كثيرا من الحيوان ويصلح عليها أجسامها و
ان كان متى تناولها ابن ادم هلك منها ان الظبا يأكل شحم الحنظل ويتغذى به ولو
اكل ذلك ابن ادم لهلك في الحال وكذلك النعامة تأكل النار وتحصل في معدتها
ولو اكل ذلك ابن ادم لهلك في الحال وكذلك (يق) ان الفارة تأكل البيش فتعيش به ورايحة ذلك تقتل
122

ابن ادم فليس طبايع الحيوان على حد واحد وإذا لم يكن على حد واحد لم يجز أن يعتبر بأحوال
غيرنا أحوال نفوسنا ولمن خالفهم في ذلك أن يقول أحسب انه لا يمكن أن يعتبر بأحوال الحيوان
المستبهم أحوال الحيوان من البشر أليس لو اقدم واحد منهم على طريق الخطاء أو الجهل على ما
يذهبون إليه على تناول هذه الأشياء يعرف بذلك الخطاء ما هو غذا وفرق بينه وبين
السم فينبغي أن يجوز لغيره أن يعتبر به ويجوز له بعد ذلك التناول منها وان لم يرد سمع
لأنه قد امن العطب والهلاك والمعتمد في هذا الباب ما ذكرناه أولا في صدر هذا الباب
فهذه جملة كافية في هذا المعنى ان شاء الله فصل في ذكر النافي هل عليه دليل
أم لا والكلام في استصحاب الحال ذهب قوم إلى ان النافي ليس عليه دليل كما ان
من قال لست عالما بالشئ لا دليل عليه وكما ان المنكر للدعوى ليس عليه بينة وكما
لا دليل على من نفى نبوة المدعى للنبوة ومنهم من قال ان على النافي للاحكام العقلية
دليلا وليس على النافي للاحكام الشرعية ذلك وذهب المحصلون من المتكلمين والفقهاء
إلى ان كل من نفى حكما من الاحكام عقليا كان أو سمعيا كان عليه الدليل واليه
اذهب لأنه الصحيح والذي يدل على ذلك ان النافي للحكم مدع للعلم بان ما نفاه
منفى لأنه ان ادعى الشك في ذلك فلا يلزمه الدلالة لان قوله لا يعد مذهبا ولا يناظر
عليه وإذا كان مدعيا للعلم وقد ثبت ان العلوم المكتسبة لابد لها من أوله وطرق
موصلة إلى العلم فإذا ثبت ذلك فمتى طولب النافي بالدلالة فإنما يطالب بما أداه النظر
إليه إلى نفى ما نفاه فعليه بيان دلالته كما يجب على المثبت ذلك لكن طريق الاستدلال
يختلف في ذلك لان النافي للحكم يستدل بأن يقول الحكم الشرعي إذا تعبد الله تعالى
به فلابد من أن يدل عليه فإذا عدمت الدلالة على ذلك من الكتاب والسنة والاجماع
وجميع طرق الأدلة علمت ان الحكم منتف فليستدل بانتفاء التعبد به على نفى
لزومه وكذلك بانتفاء ظهور العلم المعجز على يد المدعى للنبوة على نفى نبوته بأن يقال
لو كان نبيا لوجب ظهور المعجز على يده فإذا لم يظهر علمت بانتفائه انتفاء كونه نبيا وكذلك
يستدل بانتفاء احكام الصفات عن الموصوف على نفى الصفات كما يستدل على نفى المائية
على القديم تعالى بانتفاء حكم لها ونقول لو كان له مائية لوجب أن يكون لها حكم فلما لم
نجد لها حكما علمنا انتفائها وكذلك نستدل على انتفاء الصفات الزايدة على الصفات
المعقولة في الجواهر والاعراض بان نقول لو كانت لها صفات أكثر من ذلك لكانت لها
احكام معلومة اما ضرورة أو استدلالا فلما لم نجدها معلومة من هذين الطريقين علمنا
123

انتفائها وكل هذه أدلة على الحقيقة لأنا عولنا في نفى ما نفيناه على القول بانا لا نحتاج إلى
دليل فطرق الأدلة تختلف وقد طول من تكلم في هذا الباب الكلام فيه وهذا القدر الذي
لخصناه كاف فإنه يأتي على المعتمد من ذلك فاما قول من قال ليس عليه دليل كما لا بينة على المنكر
فبعيد لان طريق ذلك الشرع وليس هو مما عليه دليل عقلي أو سمعي وما هذا حكمه يحكم
فيه بحسب ما ورد الشرع به ويفارق ذلك المذهب على ما ذكرناه على ان المنكر لو كان لا دليل
عليه لما وجب عليه اليمين كما لا يحتاج النافي إلى دليل ولا غيره على انه قد قيل ان كون الشئ في
يده في حكم الدلالة ولذلك لو لم يكن في يده لكان حاله حال المدعى الاخر فقد ثبت سقوط
التعلق بذلك فاما من نفى نبوة المتنبي فقد بينا ان عليه دليلا وهو ان يقول لو كان
نبيا لوجب ظهور العلم على يده فلما لم يظهر علمت انه ليس بنبي وانه كاذب في دعواه وهذه
الجملة التي ذكرناها يبين لنا ان النافي عليه دليل فان ذلك لا يخص حكما عقليا من حكم
شرعي فيجب القضا بتساويها في ذلك فاما استصحاب الحال فصورته ما يقوله أصحاب الشافعي
من ان المتيمم إذا (شرع خ ر) دخل في الصلاة ثم رأى الماء فإنه قد ثبت انه قيل (قبل) رؤية (رؤيته) للماء يجب عليه
المضي في الصلاة بالاتفاق فإذا حدث روية الماء فيجب أن يكون على ما كان عليه من حكم
الحال الأولى وغير ذلك من المسايل وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب أكثر المتكلمين
وكثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم إلى ان ذلك ليس بدليل وهو الذي ينصره
المرتضى قدس الله روحه وذهب أكثر أصحاب الشافعي وغيرهم وهو الذي كان ينصره
شيخنا أبو عبد الله إلى ان ذلك دليل ولى في ذلك نظر غير انه يمكن أن يقال في المثال الذي
ذكروه أن يقال قد ثبت وجوب المضي في الصلاة قبل رؤية الماء ولم يدل دليل على ان رؤية
الماء حدث ولو كان حدثا لكان عليه دليل شرعي فلما لم يكن عليه دليل دل على انه ليس
بحدث ووجب حينئذ المضي في الصلاة غير ان هذا يخرج عن باب استصحاب الحال ويرجع
إلى الطريقة الأولى من الاستدلال بطريقة النفي واعترض من نفى استصحاب الحال
طريقة من قال به بأن قال الحالة الثانية غير الأولى بل الحالة الثانية مختلف فيها والحالة
الأولى متفق عليها فكيف يحكم في أحدهما بحكم الأخرى بلا دليل ولأنه لا فرق بين من
عول في ذلك على ما قالوه وبين من عول في حمل مسألة على أخرى على ان قال انها مثلها
من غير أن يبين فيها علة توجب الجمع بينهما وذلك ظاهر البطلان قالوا والذي يكشف
عن ذلك ان الذي لأجله قلناه في الحالة الأولى بما قلناه انما كان للاتفاق أو لدليل دل
على ذلك وذلك مفقود في الحالة الثانية فيجب أن لا يكون حكمها حكم الأولى بل كان يجب
124

أن لا يعول في الحالة الثانية الا بما يقوم عليه دليل كما قلنا في الأول وذلك يبطل استصحاب الحال
وقولهم انا على ما كنا عليه ليس بدليل على ان الحالة الثانية حال اجتهاد عند من قال بذلك
والحالة الأولى متفق عليها لا يجوز فيها الاجتهاد فان قالوا ان حدوث الحوادث لا يغير الاحكام
الثانية ولم يجعل في الاحكام الثانية الا حدوث حادث فيجب أن لا يزيل الحكم الأول الا
بدليل قيل ان حدوث الحوادث انما لا يؤثر في ثبوت الحكم إذا كان الدليل قد اقتضى دوامه
فاما إذا اقتضى اثباته في وقت مخصوص فطر والوقت الثاني يقتضى زوال حكمه لا محالة على
ان كل الحوادث وان كانت لا تؤثر في الحكم الثابت فان الحوادث التي اختلفت الناس عباد
حدوثها في بقاء الحكم الأول عندها مؤثر في ذلك لان الاتفاق قد زال عند حدوثه فعلى
من استصحب الحكم الأول دليل مبتدأ كما ان على المتنفل عنه دليل مبتدأ واستدل من نصر
استصحاب الحال بما روى عن النبي (ع) انه قال ان الشيطان يأتي أحدكم فينفح (فينفخ) بين أليتيه فيقول
أحدثت أحدثت فلا ينصرفن حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا فبقائه على الحالة الأولى وأيضا
فقد اتفقوا على ان من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث ان عليه أن يستصحب الحال الأولى
فينبغي أن يجعل ذلك عبرة في نظائره واعترض ذلك من نفى القول به بأن قال انما قلنا
في هذين الموضعين لقيام دليل وهو قول النبي (ع) وتسويته بين الحالين وكذلك الاتفاق
على ان حال الشك في الحدث مثل حال اليقين الطهارة فلا شك معها فنظير ذلك ان
يقوم في كل موضع دليل على ان الحالة الثانية مثل الحالة الأولى حتى نصير إليه والذي
يمكن أن ينصر به طريقة استصحاب الحال ما أومأنا إليه من أن يقال لو كانت
الحالة الثانية مغيرة للحكم الأول لكان على ذلك دليل وإذا تتبعنا جميع الأدلة فلم نجد
فيها ما يدل على ان الحالة الثانية مخالفة للحالة الأولى دل على ان حكم حالة الأولى باق على ما
كان فان قيل هذا رجوع إلى الاستدلال بطريقة النفي وذلك خارج عن استصحاب
الحال قيل الذي نريد باستصحاب الحال هذا الذي ذكرناه فاما غير ذلك فليس يكاد
يحصل غرض القائل به وهذه الجملة كافية في هذا الباب فصل في ذكر ما يعلم على ضربين
بالعقل والسمع المعلومات على ضربين ضرورية ومكتسبة والمكتسبة على ضربين
عقلي وسمعي فالعقلي على ضربين ضرب منه لا يصح ان يعلم بالعقل والضرب الاخر
يصح أن يعلم بالعقل والسمع معا فالضروريات نحو العلم بأن الواحد لا يطابق اثنين وان الجسم
الواحد لا يكون في مكانين في حال واحدة والعلم بوجوب رد الوديعة وشكر المنعم والانصاف
وقبح الظلم والكذب والعبث وما يجرى مجراه مما هو لازم لكمال العقل واما المكتسب الذي لا يصح
125

أن يعلم الا بالعقل فهو كل علم لو لم يحصل للمكلف لم يمكنه معرفة السمع وما لا يتم هذا العلم الا
به وذلك نحو العلم بان هيهنا حوادث لا يقدر عليها أحد من المحدثين وان لها محدثا قادرا
عالما حيا قديما لا يشبه الأجسام ولا تشبيه ولا الاعراض وانه غنى لا يجوز عليه الحاجة وانه يستحق
هذه الصفات لذاته لا لمعان قديمة أو محدثة سواه وانه لا يفعل الا الحسن ولا يجوز عليه شئ
من القبايح ولا الاخلال بالواجب فمتى علم هذه الجملة صح ان يعلم صحة السمع متى لم يعلمها أو لم
يعلم شيئا منها لا يصح أن يعلم صحة السمع وانما قلنا ذلك لأنه متى لم يعلم ما قلناه لم نأمن
أن يكون الذي فعل المعجزة غير الحكيم وانه ممن يجوز عليه تصديق الكذب فلا نثق بصحة
السمع واما ما يصح أن يعلم بالسمع والعقل معا فنحو ان الله تعالى لا يجوز عليه الرؤية على الحد
الذي يجوزها الأشعري وأصحابه عليه لان نفى ذلك يصح أن يعلم بالسمع كما يصح أن يعلم
بالعقل وغير ذلك مما يقدح فيما (قدمناه خ ر) قلناه واما ما لا يعلم الا بالسمع فعلى اضرب منها الاحكام
عن (من) سبب أو علة عند من قال باثبات العلل ومنها ما هي أدلة على الاحكام ومنها ما يتعلق بذلك
من شروطه وفروعه وأوصافه وكل ذلك لا يصح ان يعلم الا بالسمع فاما الاحكام فنحو الإباحة
الشرعية نحو ذبح البهايم وغير ذلك عند من قال ان الأشياء على الإباحة فاما على ما نذهب إليه
من الوقف وعلى ما نذهب إليه من الوقف وعلى مذهب من قال انها على الحظر فجميع المباحات لان
الطريق بالعلم بها السمع لا غير وكذلك القبايح الشرعية نحو شرب الخمر ونحو الاكل في أيام الصوم
ونحو الربا وما شاكلها فان جميع ذلك لولا السمع لما علم قبحها على طريق القطع فاما القتل والظلم
فمعلوم بالعقل قبحه واما ما يستفاد بالسمع نحو ما يحسن من الآلام والقتل وهو ما كان فودا
أو غيره ونحو جهاد الكفار وغير ذلك واما ما يقبح من البياعات وغيرها مما يقف التمليك على
شروط لا تعرف الا بالشرع فشرعي واما ما رغب فيه الشرع فهو كل فعل لولا الشرع لكان
قبيحا كالصوم والصلاة وما شاكلهما فاما الاحسان فإنه يعلم بالعقل انه ندب الا ما
ورد الشرع به على أوصاف يرجع إليه أو إلى المعطى واما الواجب الشرعي فهو كل ما لولا دليل
السمع لم يعلم وجوبه على الوجه الذي وجب عليه أو كان قبيحا وذلك نحو الصوم والصلاة
والزكاة وشروط جميع ذلك وأوصافه وما يفسد منه وما يصح وما يفسده أو يصححه وما
يجزى منه وما لا يجزى ويجب فيه القضاء وما يفسخ من العقود وما لا يفسخ من العقود ولا
يقع به التمليك الا بشروط أو على أوصاف ما يجب من نوع الاملاك وغير ذلك فجميع ذلك
يعلم شرعا وهذه الجملة تنبه على ما يعلم بالشرع من الاحكام اختلف الأحوال المحكوم لهم أو
عليهم أو اتفق مختارا كان أو مكرها مكلفا أو غير مكلف واما سبب الاحكام لشهادات وساير الامارات
126

التي يتعلق الاحكام بها أو يسوغ للحاكم الحكم لأجلها وكذلك ساير أسباب المواريث وكثيرا من التمليكات
من موت أو غنيمة وما شاكله وكثير من الولايات التي هي سبب لتصرف الوالي فيما يتصرف فيه من
امارة وقضاء وولاية على عجوز وغير ذلك فجميع ذلك وجميع أوصافه وشروطه يعلم بالشرع ولولاه لم يعلم واما علل
الاحكام فعباد من قال بالقياس لا يعلم الا بالشرع واما الأدلة التي يعلم بالشرع فنحو القياس و
الاجتهاد عند من أثبتها وجوز العمل بهما وما يتعلق بهما من العلل والامارات والاحكام واما
على مذهبنا فنحو الافعال الصادرة من النبي (ع) لان بالشرع يعلم كونها أدلة على ما تقدم القول فيها
فاما الأدلة الموجبة للعلم فبالعقل يعلم كونها أدلة ولا مدخل للشرع في ذلك فان كان
يتعلق الشرع في بعض الوجوه لأنا نقول الرسول (ع) يعلم ان القرآن كلام الله
وان كان علمنا بما يدل عليه أو بأنه دلالة يرجع فيه (فيها خ ر) إلى العقل واما
المباحات فقد بينا ان طريق العلم بها كلها الشرع على
ما مضى القول فيها على مذهبنا في الوقف قد ذكرنا في هذا
الكتاب جملة موجزة في كل باب خصر ما خصرنا ولو شرحنا في شروح (شرح)
ذلك لطال الكتاب وفيما لخصناه كفاية لمن ضبط
هذا الفن وتنبيه بذلك على ما عداه ونسئل الله
تعالى أن يجعله خالصا لوجهه وينفعنا بذلك
ومن نظر فيه انه ولى ذلك والقادر
عليه والحمد لله رب
العالمين.
وقد فرغت من تسويد هذه النسخة الشريفة اعني عدة الأصول للعالم المحقق والفاضل المدقق
اية الله في العالمين شيخ الطائفة المحقة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي أعلى الله مقامه ورفع في الخلد اعلامه امتثالا لامر الأديب
الأريب قدوة المحققين جناب الشيخ الرئيس آقا شيخ على
الخراساني الحايري في يوم الاثنين الثاني
من ربيع الثاني
في سنة 1318
كتبه العبد محمد
الأردكاني
مطبع دت پرساد بمبئي
127