الكتاب: تنقيح الأصول
المؤلف: تقرير بحث آقا ضياء ، للطباطبائي
الجزء:
الوفاة: ١٣٦١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٧١ - ١٩٥٢ م
المطبعة: المطبعة الحيدرية - نجف الأشرف
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: خلاصة ما استفاده من أبحاث العلامة آية الله العظمى ضياء الدين العراقي

هذا كتاب
تنقيح الأصول
للسيد الحجة آية الله
الحاج سيد محمد رضا الطباطبائي
دام ظله
خلاصة ما استفاده من أبحاث العلامة الكبير
الأصولي الشهير آية الله الشيخ ضياء الدين العراقي
قدس سره
المطبعة الحيدرية في النجف
1371 ه‍ - 1952 م
1

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
نحمده على آلائه، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأنبيائه،
وآله الطاهرين، أوصيائه وخلفائه.
وبعد: فإن من حب العلم وأهله، وحماة الحق وقادته، وحملة الفقه وقادته، هو
توقير حامليه، والتعرف بهم، وضبط تراجمهم وتاريخ شؤون حياتهم، تقديرا لخدماتهم
التي أدوها إلى العالم الديني والمجتمع المذهبي، وشكرا لهم في قبال أتعاب أنفسهم
الطاهرة في سبيل الدين، وإحياء المذهب، خاصة الذين سهروا ليلهم بالتفقه في الدين،
وأتعبوا نفوسهم الشريفة في تنقيح قواعد الفقه، وتهذيب أصوله، وتلخيص فصوله،
وتشييد دلائله ومعالمه، فنقحوا المبادي، وهذبوا القوانين، وشيدوا المباني والضوابط،
ونضدوا الدرر والفرائد، وأحسنوا صنعا، فجزاهم الله خيرا.
فلذلك أردت بكلمتي هذه أن أحوم حول ترجمة شخصية بارزة، من تلك
الشخصيات الجليلة، الذين رباهم معهد التشيع في جامعة الكبرى للشيعة الإمامية، والذي
هو من أسرة عريقة بالمجد والشرف، ومن بيت هاشمي علوي حسني، ونريد أن ننشر
2

صحيفة بيضاء من صحفه العلمية، ومن نتائج بحوثه القيمة، التي استفادها من أبحاث
أستاذه العلامة الكبير الأصولي المحقق الشهير آية الله الشيخ ضياء الدين العراقي
النجفي، المتوفى 1361 ه‍.
فإليك أيها القارئ الكريم، أشعة موجزة، من ترجمة هذا السيد الفذ المؤلف،
وهو السيد السند، والعالم المعتمد، حجة الاسلام، وآية الملك العلام، الحاج سيد محمد
رضا الطباطبائي التبريزي، نزيل النجف الأشرف، وخريج مدرستها - أدام الله علينا
بركاته، ومتعنا بطول حياته وبقائه -.
فنقول: ينتهي نسبه الشريف إلى الامام السبط الحسن المجتبى صلوات الله عليه،
بثلاثين واسطة، نسرد ذلك النسب المبارك إلى الامام سلام الله عليه، تيمنا وتبركا.
1 - هو الحاج سيد محمد رضا، 2 - بن الحاج ميرزا يوسف المجتهد، 3 - بن
السيد ميرزا محمد باقر، 4 - بن الفقيه الكبير ميرزا محمد تقي القاضي، 5 - بن ميرزا
محمد القاضي، 6 - بن الفقيه الشهيد ميرزا محمد علي القاضي، 7 - بن ميرزا صدر
الدين محمد المعروف بميرزا صدرا القاضي، 8 - بن ميرزا يوسف نقيب الاشراف
الكبير، 9 - بن ميرزا صدر الدين محمد الكبير، 10 - بن السيد مجد الدين.
11 - بن الأمير سيد إسماعيل، 12 - بن الأمير الفقيه محمد أكبر الشهير بمير شاهمير (*)

* هو من أعاظم العلماء، صاحب تآليف ممتعة، وكان متصديا للقضاء، وذكر اسمه
الشريف، في أغلب كتب الأنساب، لهذه الأسرة الحسنية (علي أكبر) ولكن
الصحيح على ما حققناه في كتابنا (خاندان عبد الوهاب)، ووجدناه بخطه الشريف،
إنه محمد أكبر)، وهو والد سيدنا الفقيه العلامة الشهير الأمير نعمة الله القاضي
الحسني، الملقب ب‍ (بواب)، الذي كان مع فقاهته العالية، ومكانته السامية، وزعامته
الدينية، من مشاهير الخطاطين، وأستاذا ماهرا في خط النسخ والثلث وغيرهما، وخطوطه باقية إلى اليوم في العمارة المظفرية (كوك مسجد) بتبريز، كتبها سنة 870 ه‍،
ورحل في أواخر أمره، وقد ناهز عمره التسعين، في زمن غلبة العثمانيين على آذربيجان،
إلى قاشان، وتصدى فيها لمنصب مشيخة الاسلام، ثم صار قاضي القضاة بأصفهان، وقفل
في أواخر أيام حياته، إلى آذربيجان، وتوفي في قرية (أنارجان)، من محال (سرد
صحراء)، من أعمال تبريز، على مسافة عدة فراسخ منها، ودفن في تلك القرية، وأخوه
العلامة الأمير أبو القاسم بن السيد شاهمير، كان قاضيا بتبريز، قدس الله سرهما.
3

13 - بن الأمير عبد الوهاب شيخ الاسلام، 14 - بن الأمير عبد الغفار شيخ الاسلام
15 - بن الأمير سيد عماد الدين أمير الحاج 16 - بن السيد فخر الدين حسن
17 - بن الأمير كمال الدين محمد، 18 - بن الأمير سيد حسن، 19 - بن السيد
شهاب الدين علي، 20 - بن السيد عماد الدين علي، 21 - بن السيد أحمد، 22 -
بن السيد عماد الدين الكبير، 23 - بن أبي الحسين علي العالم الشاعر الأصفهاني
الملقب ب‍ (شهاب)، 24 - بن السيد أبو الحسن محمد العالم الشاعر الذائع الصيت الشهير
بابن طباطبا العلوي، 25 - بن أبي عبد الله أحمد الشاعر الأصفهاني (1)، 26 -
ابن أبي جعفر محمد الأصغر المعروف بابن الخزاعية (2)، 27 - بن أبي عبد الله
أحمد الرئيس، 28 - بن أبي إسحاق إبراهيم طباطبا، 29 - بن إسماعيل الديباج
الأكبر، 30 - بن إبراهيم الغمر المدفون بالكوفة (3) 31 - بن الحسن المثنى

(1) توفى رحمه الله بأصبهان، ودفن في محلة (غازيان)، من توابع (جوبارة)،
ويظهر من (منتقلة الطالبيين) - المخطوط - للسيد النسابة الأقدم أبو إسماعيل
إبراهيم بن ناصر الطباطبائي، إن أبا عبد الله أحمد بن أبي جعفر محمد، هو أول من
انتقل من الكوفة إلى أصفهان من أولاد إبراهيم الغمر، وصرح بعض المؤرخين، إنه
فر من الكوفة خوفا من بعض فراعنة زمانه بالعراق. فما يظهر من بعض كتب
الأنساب إنه ولد بأصفهان أيضا، لم يعلم صحته، وكذا ما ذكروه في هامش بعض
كتب الأنساب المطبوع في النجف، إن أجداد أبي عبد الله، أحمد وآبائه أيضا دفنوا
في أصفهان، لم يتضح لي مستنده، والله الموفق.
(2) فان أمه عباسة، كانت بنت علي بن مالك بن الهيثم الخزاعي، ووصفه بعض
العلماء في كتابه ب‍ (محمد الأكبر).
(3) يزار قبره الشريف اليوم، في طريق الكوفة، على يسار الذاهب من النجف
إليها وكانت أمه فاطمة بنت الحسين عليه السلام، وقد ذكرنا تاريخها وترجمتها في
(حديقة الصالحين) تفصيلا. وقد وصف (ماسينيون) إبراهيم الغمر في كتاب
خطط الكوفة، وكذا مترجمة في الهامش ص 5 ب‍ (طباطبا)، وهو اشتباه، بل (طباطبا)
لقب حفيده إبراهيم بن إسماعيل، ولم يكن في زمن إبراهيم الغمر من لقب (طباطبا)
اسم ولا رسم.
4

بن الإمام أبو محمد السبط المجتبى، بن أمير المؤمنين وإمام الموحدين، صلوات الله وتسليماته
عليهم أجمعين:
نسب كأن عليه من شمس الضحى * نورا ومن فلق الصباح عمودا
ونعم ما قال الشاعر الشهير أبو نواس الحسن بن هاني، جزاه الله تعالى عن أهل
بيت النبي صلى الله عليه وآله خيرا:
مطهرون نقيات ثيابهم * تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
من لم يكن علويا حين تنسبه * فما له من قديم الدهر مفتخر
والله لما برى خلقا فأتقنه * صفاكم واصطفاكم أيها البشر
وهؤلاء العظماء، الذين أوعزنا في سلسلة هذا النسب الشريف، إلى أساميهم
الشريفة، كل واحد منهم، إما من العلماء والفقهاء، أو الامراء والشرفاء، أو الأدباء
والشعراء المفلقين.
وهذه الأسرة في صحة انتسابها إلى بيت النبوة والولاية، من البداهة بمكان
لا يحتاج معها - إلى بيان، وقد من الله تعالى لجل بني الحسن عليه السلام، ومنهم هذه
الأسرة، أن جعل سلاسل نسبهم واضحا معلوما، إلى اليوم لا يداخلها شك ولا ريب،
وجعل فيهم المشاهير على مدى القرون، كما نشاهد اليوم، أن منهم الأكابر من فقهاء
الشيعة، ومنهم الملوك الهاشميين، في العراق والأردن واليمن، ونسئل الله تعالى أن يوفقهم
لخدمة طريقة أجدادهم الطاهرين عليهم السلام.
وقد اهتم خداق هذه الأسرة، ومفكريهم من السلف إلى اليوم، في ضبط أسامي
أشخاصهم وأفرادهم، وسرد أنسابهم، وذكر المعقب منهم والدارج، وكتبوا في ذلك
5

وفي تواريخهم كتبا ورسائل، وتحملوا العناء الشديد في هذا السبيل، وحفظوا في
عملهم هذا ما للأنساب من الأهمية الاجتماعية، وخاصة ما للأنساب الهاشمية عند الإمامية
من الوجهة الدينية، فإن لهم في اعتقادها حقا شرعيا ماليا، وأحكاما أخرى
في الفقه الاسلامي (1)
وهذه الأسرة الحسنية، من أعظم البيوتات العلوية العريقة بالمجد والنجابة في
آذربيجان - إيران. وذوي شهرة طائلة في صفحات التاريخ، وكانوا قبل أن يرتحل
جدهم الاعلى إلى آذربيجان، في أصفهان من الأسر الشهيرة بالعلم والفضل والأدب،
ولا غرو حينئذ إن قلت - بالرغم من بعض من لا خبرة له - إنهم من أقدم البيوتات
النبوية في إيران (2)، ولهم الانتساب إلى جدهم العلامة الفقيه الشهيد في أعماق
السجون، المصلح الأكبر، الأمير عبد الوهاب شيخ الاسلام، بعنوان (آل أمير عبد
الوهاب) كما في التواريخ. انظر إلى رياض العلماء للأفندي التبريزي، و (عالم آراء
عباسي) وحبيب السير وغيره (3).

(1) امتازت هذه الأسرة في التحفظ بأنسابها، ولا يمكن لاحد من النفوس الشريرة
أو العباسيين من البيت الهاشمي، الذين يتظاهرون بالانتساب إلى بني فاطمة [ع]، أن
يدخل نفسه في حلقاتهم وسلاسلهم، فإن أقدم أحد إلى هذا العمل، نعرف كذبه، من
دون أي تأمل من أحد، فالمرجو عن بعض من يدعي الانتماء إلى علم النسب، أن
لا يتعرض لثبت أسامي بعض من يدعي أنه منهم، في زمرتهم، فإن التسامح في هذه
الأمور يفضي إلى فساد عظيم، وأمور لا تحمد عقباها.
(2) قال ياقوت الحموي في معجم الأدباء، في ترجمة أبي الحسن محمد الأصفهاني، الشهير
بابن طباطبا العلوي المتوفي 322 ه‍ ج 6 - 284 - ط - د. س. مر جليوث (وله
عقب كثير بأصفهان، فيهم علماء وأدباء ونقباء ومشاهير)، وقريب منه في معاهد
التنصيص للعباسي وغيره، ولابن طباطبا ترجمة ضافية في (الغدير) ج 3 ص 298
لعلامتنا الأميني، وللسيد الأمين العاملي، في أعيان الشيعة اشتباه في حقه فراجع.
(3 قال العلامة الخبير ميرزا عبد الله التبريزي: ثم الأصفهاني الشهير بالأفندي
في رياض العلماء، ما لفظه (السيد الأمير عبد الوهاب الحسني التبريزي الفاضل العالم
العامل الفقيه الكامل جد السادات العبد الوهابية في تبريز وصاحب الكرامات
والمقامات، استشهد في حبس ملك الروم، في بلاد قسطنطينية وقصته طويلة - إلى
أن يقول - المشهور المتداول، أنه عززه ملك الروم أولا، ثم حبسه في قعر بئر مظلمة،
إلى أن مات بها).
6

وقال هذا السيد الكبير، والامام المصلح بالشهادة في سبيل المذهب والاصلاح
بين المسلمين، في سجن السلطان سليم العثماني، فإنه بعد ما وقعت الثورة الطاحنة، في سنة
920 ه‍، بين السلطان شاه إسماعيل الصفوي، والسلطان سليم، في المحل المعروف ب‍
(جالدران)، من نواحي تبريز - تلك الوقعة المشهورة، والكارثة المفجعة، والحرب
الفظيعة - نهض هذا السيد الكبير (1) مجازفا بروحه واضعا نفسه الشريفة في كفه،
مجاهدا في سبيل الدين، ومحاميا عن حريمه، ومجاهرا بكلمته الحقة، صادعا بها لما يرى
من واجبه النصح لملوك الأمة والاشفاق على المسلمين، فرحل إلى قسطنطينية، بإيعاز
من الشاه إسماعيل في الظاهر، وبانبعاث من الايمان والحمية الدينية، في نفسه في الباطن،
ورحل معه جمع من العلماء والامراء. فرحل مرتديا بالوقار والسكينة، ومتوشحا
بالهيبة والجلالة، فحظى بالاقبال والاجلال العظيم، من السلطان سليم، وكان محط نظره،
قبل هذه الرحلة أيضا، كما ينبئ عن ذلك منشوره الذي كتبه في الثاني من رجب
سنة 920 ه‍ عند بعثه أحمد باشا واليا إلى تبريز، بعد وقعة (جالدران)، انظر إلى كتاب
(منشآت السلاطين) ج 1 ص 391، المطبوع بإسلامبول.
فموقف سيدنا هذا، سجله التاريخ بكل إكبار واعجاب، تقديرا لمواقفه العظيمة

" 1 " وكان هذا السيد الجليل، صهرا للأمير الكبير، أبو النصر، السلطان حسن
بك آق قيونلو - من مشاهير سلاطين إيران والعراق - كما أن السلطان حيدر الموسوي
الصفوي، والد شاه إسماعيل، كان صهرا له أيضا، ولذا تنتسب هذه الأسرة من طرف
الام، إلى هذا الأمير المتشرع، وكانت تولية موقوفاته المشهورة ب‍ (النصرية)، في
أيديهم، على حسب وصية جدهم، ويطلب تفصيل ما ذكر من محله.
7

ونزعاته الهاشمية، وغيرته العلوية، المغروسة في غريزته الطيبة، فلا غرو إذا وقف رابط
الجأش، قوي الجنان، صلب الايمان، وخاطب السلطان سليم بأمثال تلك الكلمات الذهبية،
صادعا بالحق، ومجاهرا برسالته المقدسة، قائلا: إن هذه الحروب وإراقة الدماء وإتلاف
النفوس، وإزهاق الأرواح، والمضاربات والمشاغبات، بين المسلمين، وإلهاب نار القتال،
والنضال بين الدولتين، إيران - العثمانية تورث النتائج السيئة، والأضغان السارية،
والجراثيم المهلكة، والداء العضال، والتأثير الوبيل، والثمار المرة، والآثار المورثة
للندامة، التي تعود كلها على جامعة المسلمين وبالا، وتوجب فشلها، وترفع الاخاء بينها،
وتهيائها والممالك الاسلامية، طعمة للأجانب، ومحطا لأطماعهم. أمن العدل أيها السلطان
صدور أمرك بقتل شيعة أهل البيت " ع "، قتلا عاما، وائذانك باستئصالهم، واتلاف
نفوسهم، وإهدار دمائهم، أينما وجدوا، وفي أي مكان قطنوا؟ أليست الشيعة من
المسلمين؟ أفلا يقرون بأجمعهم بالشهادتين؟ أو لا يصلون إلى الكعبة المعظمة؟ أو
لا يؤدون الفرائض والسنن الدينية، بل هم ملتزمون بجميعها، وعاملون بها، ومتمسكون
بأصولها وفروعها، ولكن ليس لهم ذنب لا يغتفر، إلا موالاتهم وتشيعهم لأخ
الرسول " ص "، وزوج البتول (ع)، وباب مدينة العلم والحكمة، أمير المؤمنين علي
وأولاده عليهم السلام. ولكن الأسف، إنه لم يؤثر هذا الخطاب العلوي، في نفس
هذا السلطان، ولم يقنع به، بل أمر بإغلال يديه، ورجليه، وعنقه، وأرسله إلى السجن
المدهش الموحش. سبحان الله أفهكذا يصنع بالمصلحين والصادعين بالحق، والمجاهرين
بالصدق؟
والمشهور بين المؤرخين، إن السلطان سليم عززه أولا، وأكرمه، ثم رجع عن
رويته، وأمر بسجنه في قلعة (ينكي حصار)، على ثغر إسلامبول، وسجن الملازمين
لخدمته، في حصن (ديمتوقة)، ثم شدد عليه الامر، وحبسه في غيابة الجب، إلى أن
فاضت نفسه المقدسة فيها. فاز بروح وريحان وجنة نعيم.
وبين المؤرخين أقوال أخرى، في كيفية حبسه ووفاته، نقلناها في محلها وتركنا
ذكرها خيفة الإطالة. فحري أن يكتب مداد الفجر، وقلم الاعجاب، له العظمة النفسية
8

والحياة الأبدية، والذكر الطيب الخالد، في زمرة المجاهدين والمصلحين، ويثبت اسمه في
سلسلة من ضحوا أنفسهم في سبيل الخدمة للشرع المقدس، واعلاء كلمته، وفازوا
بالشهادة في نصح الأمة عامة، وملوكهم خاصة، فصار اسمه حيا خالدا إلى الأبد، بسبب
ما قاساه من الأذى والكوارث في طريق دعوته، والويلات أمام مقاصده واهدافه
المقدسة، وهو يرى بطرفه العقلي، عواقب تلك الحروب الداخلية بين الأمة، ونتائجها
الوخيمة. فمضى متلهفا إلى لقاء ربه، بعد أن دق عظمه، ورق جلده، وهرم جسمه، في
أعماق السجون، وظلمات الجباب.
ولكن لم تمنعه تلك الأمكنة الموحشة، وهاتيك الأذى عن تبليغ أفكاره العالية،
والدعوة إلى الحق والصراط السوي، فدأب في نصح الأمة بقلمه وعلمه، ووعظهم
بقوله وعمله، خاصة لعشيرته وأولاده، فكتب رسالة وجيزة، ونضد درة يتيمة، باللغة
العربية في الوصايا والنصايح الحكمية، وخاطب بها أولاده، مخاطبة أب مشفق بار بهم،
وأرسلها إليهم، كما سجلها التاريخ النزيه في ألواحه الذهبية (1). ولم يتضح لي إلى
اليوم على نحو التحقيق عام شهادته، ولكن لاشك إنه فاز بالشهادة بين سنة 926 ه‍
و 921 ه‍، نعم ذكر في كتاب (روضات الجنان) - المخطوط - للحافظ حسين (ره)
إنه توفى عام 927 ه‍، ودفن عند أبي أيوب الأنصاري، الصحابي الشهير، في مقبرته
المعروفة في قسطنطينية. ولكن ينافيه بعض التواريخ والقرائن القوية كالاعتراض
الذي صدع به إبراهيم باشا الصدر الأعظم، في المجلس الرسمي للسلطان سليمان العثماني،
كما في تاج التواريخ، حيث يظهر منه أنه توفى في زمن السلطان سليم المتوفي 926 ه‍،
وما نسبه صاحب كتاب (رجال آذربيجان) ص 40 إلى رياض العلماء للأفندي،
إنه ذكر أن سيدنا توفى سنة 927 ه‍، فهو من الأغلاط، وليس في الرياض منه عين

(1) نقل تلك الرسالة الشريفة برمتها، الحافظ حسين المعاصر للشيخ البهائي قده
في كتابه (روضات الجنان) - المخطوط - إعجابا بها وبمواعظها، وكتبها سيدنا.
الشهيد في سجن السلطان سليم، وأرسلها إلى أولاده بتبريز، والحامل لها فيما يقال هو
عز الدين أفندي الأناطولي من أمراء العثمانيين.
9

ولا أثر كهفواته في ترجمة سيدي الوالد الماجد قدس سره (1)، وسائر زلاته الكثيرة،
في ذاك الكتاب، بحيث لا تحصى، وقد تعرضنا لدحضها في محله، لئلا تصير سببا لاشتباه
النسل الآتي.
ومما هو جدير بالذكر أن بعض المؤرخين الذي يدور قلمه التاريخي الرسمي على
وفق مقاصد سياسة عصره، دون إرادة نفسه، أراد أن يسدل الستار على الحقيقة في
رحلة سيدنا إلى لقاء السلطان سليم، فذكر في سببها بعض الأفائك والمفتريات
والأكاذيب الفاضحة وليس هنا موضع ذكرها، وقد تعرضنا لها في محله وأوضحنا
حقيقة تلك الأكاذيب وعللها، ومن العجب أن بعض المعاصرين، أيضا لهج بها تبعا
لأسلافه المتعصبين من عمال السياسة الغاشمة، في كتابه المطبوع في تاريخ العراق
وهو وإن لم يتعرض لرحلة سيدنا إلى اسلامبول، ولكن تبع في نقل الأكذوبة
والأفيكة لمن تقدمه من أرباب الأقلام المستأجرة. وتوجد ترجمة سيدنا الشهيد في
غالب كتب التراجم والتواريخ، خاصة في كتب أنساب هذه الأسرة الجليلة، وذكره
الأستاذ الكبير الحجة علامتنا الأميني، من شهداء فقهاء الشيعة في كتابه (شهداء
الفضيلة) 129، ولكن توصيفه له ب‍ (الحسيني) تحريف (الحسني)، وغلط مطبعي،
وذكرنا تاريخ هذه الأسرة، وتراجم رجالهم البارزين، وفقهائهم المجتهدين في كتابنا
(خاندان عبد الوهاب)، ونسأل الله تعالى التوفيق لطبعه.
وأما ميرزا صدر الدين محمد الكبير، فهو كان من أعاظم العلماء، وله شرح على

(1) توفى حضرة سيدي الوالد الماجد قدس الله سره، في عاشر رجب سنة 1366 ه‍
وله ترجمة صحيحة في ج 10 من العرفان، المجلد 33، لسنة 1366 ه‍، بقلم الفاضل الألمعي
السيد محمد حسين الطباطبائي، بن السيد الحجة المرحوم الحاج ميرزا محمد المجتهد، المتوفي
1327 ه‍، الأخ الأكبر لسيدنا مؤلف تنقيح الأصول. وأيضا له قدس سره ترجمة
ضافية خالية عن الأغلاط والعثرات، في (ريحانة الأدب) ج 3 ص 263 لأستاذنا
العلامة المدرس التبريزي فراجع، ولا تعتمد على الترجمة المشحونة من الأغلاط في
كتاب (رجال آذربايجان).
10

خلاصة الحساب لشيخ البهائي " قده " وإليه يتصل أيضا نسب السيد الاجل المجتهد
الشهير، الحاج ميرزا يوسف، المعروف بالكبير، المتوفى 1242 ه‍، من مفاخر هذا البيت،
وصاحب تآليف في الفقه، وعده الفاضل الدربندي " قده " من تلامذة الوحيد
البهبهاني قده، وذكره الكشميري في كتابه نجوم السماء، المطبوع بهند، وذكرنا تاريخ
حياته في محله، وانتهت الرياسة التامة في آذربيجان إليه، وإلى معاصره الحاج ميرزا محمد
مهدي القاضي المتوفى 1241 ه‍ الآتي اسمه الشريف.
وأما العلامة الشهيد ميرزا محمد علي القاضي، فقد قتله العثمانيين حين احتلوا تبريز
في أخريات الدولة الصفوية، وهو من أكابر فقهاء هذا البيت، ومن المتصدين للقضاء
في آذربيجان، بزعامة تامة، وهو الجد الاعلى لعدة من شعب هذه الأسرة كبيت
القاضي، والشيخ الاسلامي، والوكيلي، والأميني وغيرهم. وابنه ميرزا محمد القاضي، المتوفي
حدود 1176 ه‍، كان من أعاظم العلماء في عصره، وقاضيا في آذربيجان، وله قصة في
مجلس نادر شاه معروفة، وقد صنف في الفقه وبعض العلوم الغريبة، ودفن في مقبرته
المعروفة ب‍ (مسجد القاضي) بتبريز في دمشقية. وابنه ميرزا محمد تقي القاضي، كان من
أكابر فقهاء زمانه، ومن تلامذة الوحيد البهبهاني، والشيخ مهدي الفتوني العاملي، وتوفى
1220 ه‍، وله الرواية عن أستاذه الأخير، وقد وصفه الشيخ الأكبر الشيخ جعفر
كاشف الغطاء قدس سره بقوله: (المتولي لمنصب القضاء بأمر الله ورسوله العالم
العلامة) الخ، وكان لميرزا محمد تقي القاضي عدة أنجال علماء وأعاظم، ومنهم وهو أكبرهم
سنا وعلما وجلالة جدنا العالم الرباني آية الله الحاج ميرزا محمد مهدي القاضي الكبير
(القاضي القضاة) المتوفى 1241 ه‍، والمدفون في مقبرته المشهورة بتبريز المتصلة بمسجد
المقبرة، وهو من تلامذة سمييه الآيتين، السيد محمد مهدي بحر العلوم، وميرزا محمد مهدي
الشهرستاني، وله الرواية عن أستاذه ميرزا الشهرستاني، وكان من مفاخر هذا البيت
الجليل، ومن أقوام جمع الله لهم الدنيا والآخرة، وكانت له الزعامة العظمى في عصره،
وسبقت له المساعي المشكورة في نشر الفضائل، وبث الحنيفية البيضاء، والخدمات
الجليلة في الدين والدنيا، لا تنسى على مر القرون، قال شيخنا البحاثة الحجة الشيخ
11

آقا بزرك الطهراني دام ظله، في كتابه (الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة)
- المخطوط - في ترجمته (كان من العلماء الأخيار، والفقهاء الأبرار، مربيا للعلماء في
عصره، تنسب إليه الكرامات، وله صدقات جارية إلى اليوم، وأحفاد علماء أجلاء، ومن
تصانيفه الموجودة، رسالة في التوحيد مبسوطة - إلى أن يقول - وكان من أساطين
الدين، ورؤساء المسلمين، حتى أن دولة الروس كانت تقول: ما نتمكن من دخول
آذربيجان وفيها الميرزا مهدي، وصار الامر كذلك، حيث تمكن الروس من دخول
تبريز، بعد وفاته، وله إجازة عن الميرزا الشهرستاني بخطه، في 1198 ه‍، وتاريخ وفاته
في مجمع الفصحاء ج 2 ص 184 الخ)، وهو والد العلامة النحرير الشهير، الحاج ميرزا
عبد الجبار القاضي، المتوفى 1257 ه‍، الذي كان له اليد الطولى في العلوم الدينية، خاصة
في التفسير والتأويل، وكان نافذ القضاء في عصره، وهو أيضا مدفون مع والده، في
مقبرته المعروفة، ودفن معه أيضا ابنه، العالم العارف الرباني، الحاج ميرزا محسن القاضي
، المتوفى 1306 ه‍، ومن أولاد ميرزا محمد تقي القاضي أيضا، هو السيد الزعيم الشهير
الحاج ميرزا علي أصغر، شيخ الاسلام الكبير، المتوفى 1178 ه‍، وهو صاحب الرياسة
والجلالة المعروفة، وقد ناهز عمره الشريف التسعين، وبلغ إلى 96، وهو والد جدي
الفقيه الأوحد ميرزا محمد حسين الشهير ب‍ (شيخ آقا)، صاحب المؤلفات ومنها منهج
الرشاد في شرح الارشاد في الفقه الاستدلالي 12 مجلد، وتوفى 1294 ه‍، وكان من
تلامذة الشيخ صاحب الجواهر، والشيخ الأفقه الشيخ موسى بن جعفر كاشف
الغطاء، وأخواه الفقيهان الشيخ علي، والشيخ حسن، صاحب أنوار الفقاهة، وله إجازات
كثيرة من أساتيذه، وأيضا شيخ الاسلام الكبير، كان والد العلامة المتبحر الحاج ميرزا
محمود شيخ الاسلام المتوفى 1310 ه‍، صاحب التصانيف الممتعة، ومنها غاية الآملين،
التي وصفها شيخنا العلامة المامقاني قدس سره في مقباس الهداية، وكان من تلامذة
الشيخ الأنصاري، والشيخ مهدي كاشف الغطاء، والفاضل الإيرواني، وثالث أنجال
الميرزا محمد تقي القاضي، هو السيد ميرزا رحيم، وكان عالما فاضلا، ومن تلامذة الشيخ
الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء، وتصدى مدة لنقابة الاشراف، وعده معاصره
12

آغا أحمد الكرمانشاهي، في كتابه مرآت الأحوال، من أفاضل تلاميذ كاشف الغطاء
في أواسط العشر الثاني بعد المائتين والألف، كما نقل عنه في نجوم السماء أيضا (1)
ورابع أنجال الميرزا محمد تقي القاضي، هو السيد السند الجليل المعتمد، آقا ميرزا محمد باقر،
من أفاضل هذه الأسرة وعلمائها وهو جد سيدنا المترجم له، ولد سنة 1215 ه‍، وتوفى
1262 ه‍، وخلف ولدان عالمان جليلان، أحدهما هو الزعيم الكبير مفخرة هذه الفرقة
الحسنية، الحاج ميرزا يوسف أغا، المعروف بالمجتهد - وهو والد سيدنا المترجم له -
وكان من رؤساء العلماء، ومن الأعاظم والكبراء، وقد انقادت له الزعامة الكبرى،
وخضعت لديه الرياسة العظمى، في آذربيجان، وتصدى للمرافعات والمحاكمات والفصل
بين الخصوم، والحكم والفتيا في القضايا والمشاحنات، وكان ملجاء للناس، وملاذا في
الملمات، مع تحليه بالورع والتقوى، وسداد الرأي، والاهتمام الشديد في ترويج الدين،
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الفضائل، وإرشاد الناس إلى الطريقة المثلى

(1) ذكر آغا أحمد الكرمانشاهي، إن ميرزا رحيم كان من أفاضل تلاميذ كاشف
الغطاء، وعبر عنه (بالميرزا رحيم خلف الميرزا تقي القاضي بتبريز)، وتخيل السيد شهاب
الدين التبريزي، المشتهر بالنجفي، نزيل قم، أن كلمة (القاضي) وصف لميرزا رحيم - مع
أنها صفة لأبيه - فكتب إلى صاحب أعيان الشيعة، إن ميرزا رحيم كان قاضيا ببلدة
تبريز، انظر إلى أعيان الشيعة ج 31 ص 312، فكتبت إلى صاحب أعيان الشيعة، أن
هذا اشتباه وتسامح منه - كما يتسامح في سرد أنساب بعض من يدعي الانتماء إلى بني
فاطمة " ع "، لان ميرزا رحيم لم يكن قاضيا فيها، وفي ذلك التاريخ كان والده ميرزا محمد تقي
حيا، ومتصديا للقضاء في آذربيجان، وميرزا رحيم يحضر بحث الشيخ كاشف الغطاء في
النجف، ونقل صاحب أعيان الشيعة، انتقادي الذي كتبت إليه في ج 34 ص 249
وادعى أنه عثر على إشكال أدبي نحوي في انتقادي وأصلحه. مهلا أيها السيد الجليل
فإنه لم يقع إشكال أدبي فيما كتبته، وعلى فرض الوقوع، فلعله وقع سهوا، فلو كانت
هذه النسبة صادرة من غير هذا السيد الجليل لأرخينا عنان القلم، وابنا سهوه
واشتباهه وأغراضه، ولكن حبسنا القلم على مضض حفظا لمكانته، وحرصا على كيانه.
13

وكانت لموافقته مع السيد الإمام ميرزا محمد حسن الشيرازي في فتواه بحرمة التنباك
أثرا عظيما في إيران، ولولا مساعدته معه، وكذا مساعدة معاصره المجتهد الزعيم الشهير
الحاج ميرزا جواد التبريزي في تلك الحادثة المعروفة، لم يكن لفتواه ذلك الأثر
العظيم، ولم يحدث في الشعب الإيراني ذلك الهياج المدهش، ولد في تبريز سنة 1243 ه‍،
وتوفى في (مهر) على ستة فراسخ تقريبا من بلدة (سبزوار) في سفره إلى خراسان
لزيارة مشهد الإمام أبو الحسن الرضى صلوات الله عليه، وذلك في عاشر صفر سنة
1310 ه‍، وأودع جثمانه الطاهر في مقبرة الفيلسوف الحكيم الفقيه الحاج مولى هادي
السبزواري، صاحب شرح المنظومة، وبعد مضى سنة نقل إلى المشهد المقدس، ودفن
في رواق الحرم المطهر الرضوي " ع "، الرواق المعروف بدار السعادة - وفضائله
ومناقبه أكثر من أن تحصى، حشره الله مع أجداده الطاهرين " ع ".
وثانيهما العلامة المحقق الأصولي المدقق ميرزا محمد تقي، صاحب حاشية القوانين،
كان من أعاظم تلامذة الشيخ الأنصاري " قده "، ومقرري بحثه، ومن جلة الفقهاء
والمحققين، توفى عند مراجعته عن زيارة بيت الله تعالى في طريق الجبل، سنة 1276 ه‍،
ونقل جثمانه الشريف إلى النجف الأشرف، ودفن بها، ولم يكن له عقب - وذكره
نادر ميرزا القاجاري في تاريخ تبريز وأثنى عليه. وطبعت أكثر حواشيه على
هامش القوانين المطبوع بتبريز، طبعة عبد الرحيم " ره "، وتوجد نسخة مخطوطة
منها، منقولة عن نسخة الأصل في مكتبتنا الشخصية. وقد ذكرنا تراجم هؤلاء
الأعاظم على نحو البسط في كتابنا الذي أوعزنا إليه.
وأما سيدنا المترجم له أعني (الحاج سيد محمد رضا) مؤلف الكتاب، فقد ولد بتبريز
سنة 1296 ه‍، وربى في حجر والده المعظم له، إلى سبعة عشر سنة من عمره الشريف،
ولما شب وترعرع تعلم الكتابة والأدب الفارسي عند معلم خاص، وبعد مضى زمن
قليل درس عند بعض الأفاضل العلوم العربية، والكتب المعروفة في النحو والصرف
والمنطق والمعاني والبيان والفقه وأصوله، وقرأ رسائل الشيخ الأنصاري " قده "
عند الفاضل الكامل الشيخ عبد الحسين المرندي، الذي كان من تلامذة الشيخ
14

الأنصاري وحضر في دراسة بعض كتب الشيخ " ره " بحث العالم الفاضل ميرزا
عبد الرحيم الكليبري " قده "، وفي ذلك الوقت سنة 1330 ه‍، قفل أخوه الأكبر
السيد العلامة الفقيه الحجة الحاج ميرزا محمد المجتهد المتوفى 1337 ه‍، من النجف الأشرف،
وقد بلغ إلى المرتبة الأسنى في الفقه والاجتهاد، وكانت رحلته إلى النجف سنة 1316 ه‍،
وكان من أعاظم تلامذة آية الله العلامة الشيخ الشريعة الأصفهاني الشهير، وتلمذ أيضا
عند جمع من الفطاحل والأكابر، كالعالم الرباني آية الله الشيخ محمد حسن المامقاني، وآية الله
الفاضل الشرابياني، والآيتين الكاظمين الطباطبائي اليزدي والهروي الخراساني، والعالم
الرباني صاحب الكرامات المولى إسماعيل القره باغي، المتوفى 1323 ه‍، وقد تحمل
المشاق في سبيل الدين، وأسهر ليله في خدمة العلم، وبلغ إلى الدرجة العليا، والمكانة
السامية في الفضائل، وكتب عدة مجلدات في الفقه وأصوله، وكان شريك الدرس
والمباحثة مع سيدي الوالد الماجد قدس سره مدة إقامة الوالد الماجد " قده " في
النجف الأشرف، وقد رأيته دائما يتأسف لفقده غاية التأسف، ولكن الأسف إن
الاجل لم يمهله حتى يبث علومه، وينشر فضائله كما ينبغي. فحضر سيدنا المترجم له
بحث أخيه المعظم له في الفقه وأصوله خارجا، وكتب من أبحاثه قدس سره نحبه. وبعد وفاته تصدى سيدنا المترجم له بعض الشؤون الدينية، وصلى
جماعة في مكان أبيه وأخيه قدس سرهما في المسجد المعروف بتبريز ب‍ (مسجد حاج
ميرزا يوسف آقا)، وقد بنى والده المعظم له هذا المسجد في سنة 1290 ه‍، وله في بناء
هذا المسجد قضايا واتفاقات لطيفة، ذكرها النادر ميرزا القاجاري في تاريخ تبريز، كما
ذكرناها في محلها على نحو التفصيل، وقد صلى سيدنا المترجم له في هذا المسجد، لاقبال
الناس إليه، وائتمامهم به في فرائضهم، لغاية ورعه، وعدالته، وأمانته، وتقواه، مع اشتغاله
بالبحث والتدريس، ولكنه لم يكتف بهذه الأمور، فنهض إلى تكميل الكمالات النفسانية،
والرقي إلى درجات الانسانية، التي هي الغاية الأسنى، والنهاية الأقصى للانسان، فشمر
عن ساعديه، وشد الرحال إلى جانب الطور الأيمن، وخلع نعليه حينما وصل إلى وادي
المقدس، والأرض الأقدس، النجف الأشرف، ودخل في جامعة التشيع تحت لواء
15

القبة العلوية البيضاء كالشمس على أرجاء الغبراء، وذلك في سنة 1344 ه‍، فحضر في هذه
الجامعة، عند أساتذتها الاعلام، ومدرسيها العظام، فقرأ خارج الفقه وأصوله عند الشيخ الأجل
، الشيخ أسد الله الزنجاني، والعلامة السيد أبو تراب الخونساري، وحضر في
علمي الدراية والرجال أيضا عنده، واختص به، وكان وصيه بعد وفاته، ثم حضر في
بحث الآيتين، السيد أبو الحسن الأصفهاني، وميرزا محمد حسين النائيني، واهتم في
أصول الفقه ببحث العلامة المحقق الأصولي الأكبر، آية الله الشيخ ضياء الدين
العراقي، المشهور بتحقيقاته الأصولية، ونظرياته البديعة، بين العلماء كافة، وحضر في
المعقول والكلام والعقائد عند السيد الحكيم السيد حسين باد كوبي، والعلامة الحجة
الشهير نابغة العصر، الشيخ جواد البلاغي، وكتب من أبحاث أساتيذه الاعلام، مجلدات
كثيرة في الفقه وأصوله، وكتب دورة كاملة من الأصول من أبحاث أستاذه المحقق
العراقي، في عدة مجلدات، لكل مبحث من مباحث هذا العلم مجلد كامل، غير ما كتبه
من أبحاث سائر أساتيذه، وكتب في الفقه رسالة في المكاسب المحرمة، ورسالة في
شرائط العقد، ورسالة في شرائط المتعاقدين، ورسالة في قاعدة من ملك شيئا ملك
الاقرار به، ورسالة في الصوم، ورسالة في الطهارة، ورسالة في منجزات المريض، ورسالة
في إرث الزوجة.
وكتب عن أبحاث أخيه العلامة الذي أوعزنا إلى اسمه الشريف، رسالة في الرضاع
ورسالة في الربا، وإلى غير ذلك من الكتب والرسائل الكثيرة، الموجودة كلها بخطه
الشريف، وقيض الله تعالى في هذه الآونة الأخيرة بعض أهل الخير والصلاح
لطبع بعض تأليفاته الشريفة، ورأى دام ظله، أن ما كتبه في أصول الفقه من المجلدات
الكثيرة لا يتلائم طبعها ونشرها من غير اختصار وتنقيح وتهذيب، مع روح هذا
العصر، وذوق أغلب الطلاب في هذا الزمان، الذين يميلون إلى المختصرات، مضافا إلى
قصر الأعمار القيمة، وعدم الفرصة لطلاب الفضيلة، في صرف أوقاتهم النيرة إلى أزيد
مما هو لازم من هذا العلم، فإن الزائد تضييع للوقت، الذي هو أشرف الأشياء للانسان
الطالب للحقائق، والساعي للرقي إلى درجات الكمال الحقيقي، وأضف إلى ذلك إن صرف
16

العمر القيم كله في المقدمة، وعدم الوصول إلى ذي المقدمة - أعني الفقه - مما لا يقدم
عليه ذو مسكة ومعرفة، من ذوي الأفكار الطامحة، والعقول المشرقة، فلابد من سلوك
طريق موصل إلى الهدف الأقصى، والنتيجة الأسنى، ولا يحصل ذلك إلا بأخذ اللب،
ورفض القشر.
ولذا نهض سيدنا المترجم له إلى اختصار بعض ما كتبه من أبحاث أستاذه
العلامة العراقي، وتحقيقاته في الأدلة العقلية، والأصول العملية، وتنقيحها وتهذيبها
ورفض حشوها، ونبذ زوائدها، ليسهل تناولها لطالبها، وقام لتخريجها إلى مرحلة
الجود وابرازها إلى عالم المطبوعات، ليعم نفعها، ويكثر الانتفاع بها، ولذا سمى كتابه
ب (تنقيح الأصول)، ونسأل الله تعالى أن يكثر أمثال سيدنا في هذا البيت العلوي
الحسني وأن يوفقه وإيانا لخدمة العلم والدين، فإنه خير موفق ومعين.
16 - ج 1 - 1371
النجف الأشرف: محمد على القاضي الطباطبائي
17

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه، محمد وآله الطاهرين، واللعنة
الدائمة على أعدائهم أجمعين، إلى يوم الدين
وبعد: فيقول العبد المذنب العاصي محمد رضا بن محمد يوسف الطباطبائي التبريزي
عفى الله عنهما، هذا هو الجزء الثاني مما سميناه ب‍ (تنقيح الأصول)، المشتمل على
مباحث الحجج وما يصح به الاعتذار، ومباحث الأدلة والاجتهاد والتقليد، وهذا
خلاصة ما استفدناه من أبحاث شيخنا الأعظم، وملاذنا الأقدم، المحقق الخبير، والمدقق
النحرير، قبلة المشتاقين، وآية الله في العالمين، الشيخ ضياء الدين العراقي أدام الله ظله
العالي، وقد كنت اذخرتها لنفسي، وأبرزتها لغيري، عسى أن ينفعني الله تعالى به، فإنه
ولي العون والتوفيق، قال دام ظله العالي مطابقا لما أفاده شيخ مشايخه قدس سره.
إعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي، فإما أن يحصل له القطع، أو الظن،
أو الشك، لا اشكال في أن المكلف هو خصوص البالغ العاقل، وإنما الاشكال في
أن المراد منه، هل هو مطلق من وضع عليه قلم التكليف، أو خصوص المجتهد، ومنشأ الإشكال
اختصاص أدلة الحجية بخصوص المجتهد، أو تعميمها له ولغيره، فنقول:
أما القطع الطريقي، فلا ريب في عدم اختصاص حجيته بأحد دون أحد، بل هو حجة
لمن حصل له، وتترتب عليه الآثار مطلقا، وأما المأخوذ في الموضوع، فتابع لدليل
الاخذ تعميما وتخصيصا، وأما أدلة اعتبار الأمارات والأصول، وإن أمكن تعميمها
بالنسبة إلى المقلد أيضا، لكن مقتضى القرائن الداخلية والخارجية من اعتبار الاقتدار
على الفحص عن المعارض في حجية الامارات، وعن الحكم الواقعي في موارد الأصول
18

هو اختصاصها بالمجتهد، فعلى هذا لا مجال للقول بأن هذه التكاليف أعم من المجتهد
والمقلد، حتى يكون المجتهد نائبا عن المقلد، فيستفيد الاحكام من الأدلة، ويفتي بها،
وللمقلد العمل على طبق رأيه وافتائه، بل العقل يحكم باختصاص الخطابات بمن كان
قادرا ومتمكنا فعلا من استفادة الاحكام عن أدلتها، وهو ليس إلا للمجتهد، ثم
إن التقسيم كان بلحاظ نفس هذه الصفات فلتثليث الأقسام وجه، وأما إذا كان
بلحاظ الآثار المترتبة عليها، فلا وجه للتثليث، فإن أثر الظن المعتبر أثر العلم، وأثر الغير
المعتبر منه، أثر الشك، كما هو واضح، ويمكن أن يقال: بأن التثليث باعتبار إمكان
الطريقية إلى الواقع، فالظن مطلقا له هذا الشأن بخلاف الشك، إذ لاشك لاحد في عدم
إمكان الطريقية له بوجه، وعلى كل حال، فإن حصل له القطع فهو مجبول على اتباعه، وإن
جعل له الظن وأحرز اعتباره، فله اتباعه، وإلا فيرجع إلى الوظايف المقررة للشاك، فهنا مقاصد
المقصد الأول في القطع
لا ريب في أن القطع منشأ للعمل على طبقه، وجرى القاطع على وفق قطعه، وهذا
لادخل له بالتحسين والتقبيح العقليين، بل هو من الأمور الجبلية التكوينية، نعم فيما إذا
كان المقطوع به هو الحكم الشرعي، فحينئذ يحكم العقل بحسن متابعة قطعه، زائدا
على ما في فطرته، من جرى القاطع على وفق قطعه، فيدخل هذا الحكم من العقل في
التحسين والتقبيح العقليين، من باب حسن الإطاعة، وقبح المعصية، كما لا يخفى فاصل
الجري على وفق القطع من الجبليات الفطرية لكل أحد، بل لكل حيوان، ووجوب
الجري على وفقه، فيما إذا كان المقطوع به من الاحكام المستقلة العقلية، ولا يصح
الردع بالنسبة إلى كل واحد منهما، أما بالنسبة إلى الثاني، فلانه من الترخيص في
المعصية، ولا يصح على المولى ذلك، وأما بالنسبة إلى الأول، فهو مساوق لمنع طريقية
القطع إلى الواقع، وهو ضروري الفساد، هذا كله فيما طريقيته وارائته لمتعلقه ذاتية،
وأما الظن فحيث لا يغني من الحق شيئا، ويحتاج اعتباره إلى جعل واعتبار، فلا
حكم للعقل فيه، بل هو تابع لجعل الطريقية فيه، واعتبار من يثبت له الحجية وينفيه
19

ولا بأس بالإشارة إلى كيفية اعتبار الظن، وإنه بأي نحو من أنحاء الاعتبار يكون
أولى وأحق، فنقول: اعتبار الظن تارة يكون بتنزيله منزلة القطع واليقين، بأن يترتب
عليه كلما لليقين من الاحكام والآثار، كتقديمه على الأصول، التي جعل العلم غاية
لها، ودخله في الموضوع فيما لليقين دخل فيه، وأخرى يكون المراد من اعتبار تنزيله
منزلة اليقين في وجوب اتباعه، ثم لا إشكال في كفاية دليل الاعتبار للجهة الأولى
لان الكاشفية الناقصة التي في الظن، إذا تمت بدليل الاعتبار، يكون غير الواقع
لو صادف بمنزلة الكاشف التام الغير المنجعل بلا كلام، وهل يكفي نفس دليل الاعتبار
المستفاد منها بتتميم الكشف فقط في تكفل الجهة الثانية بأن يقال أن تنجز الواقع
يدور مدار وصوله بالحجة، سواء كان بالحجة المنجعلة، أو المجعولة، يترتب تنجز الواقع
على مجرد جعل المحرزية وتتميم كشف ما كان كشفه ناقصا، أو، لا، بل لابد من سبب
آخر، وعناية أخرى؟ ذهب بعض أعلام العصر إلى الأول، وخلاصة ما استدل به على
ذلك، أن تتميم الكشف ليس له جهة موضوعية، بل هو طريق إلى تنجيز الواقع مع
المصادفة، فتتميم الكشف إنما هو مقدمة للعمل على الواقع المكشوف، لا أن له جهة
نفسية وموضوعية، فكل طريق مجعول منجز للواقع كالطريق المنجعل هذا، ولكن
يرد عليه، أنه إن أريد أن نفس البناء على المحرزية وتتميم الكشف كاف في تنجيز
الواقع، ولو مع قطع النظر (*) عن الاستطراق به، ففيه أنه لأربط لجعل المحرزية
من حيثين مع قطع النظر عن الاستطراق به إلى تنجز الواقع، لان تنجيز الواقع
لا يحصل إلا بلحاظه في مورد الطريق من حيث هو طريق إليه، ومن حيث أن الواقع
ملحوظ في طريقية الطريق، وإن أريد، أن جعل المحرزية لغرض الاستطراق به إلى
الواقع، موجب للتنجيز، لا مطلق جعل المحرزية من حيث هو، فيرد عليه، أنه دور
صريح، لتوقف المحرزية على غرض الاستطراق، ويتوقف حصول غرض الاستطراق
على جعل المحرزية، فلا يترتب تنجز الواقع على مجرد جعل المحرزية، بل لابد من عناية

* هذا ما أفاده شيخنا الأستاذ، ويمكن الخدشة فيه، بأن قطع النظر عن الاستطراق
قطع النظر عن جعل الطريق، والمفروض أن المولى في مقام جعل الطريق، فكيف
يمكنه قطع النظر عنه فتدبر.
20

أخرى، تكون هي الموجبة لتنجز الواقع وجعل المحرزية، ولا يمكن أن تكون تلك
العناية هي جعل الحجية من حيث هي من الوضعيات، بداهة أنها إن كانت بمعنى السببية
لاستحقاق الثواب، أو العقاب، فليست قابلة للجعل، بل هي بهذا المعنى من التكوينيات،
وإن كانت بمعنى تتميم الكشف، فقد مر ما فيه، وإن كان بمعنى أخرى، فليبين حتى يتأمل
فيه، فالتحقيق أن يقال: أن الأوامر الطريقية، ليست إلا انشاءات مبرزة للإرادة
الحقيقية المتعلقة بالمراد الواقعي، في ظرف الجهل به، وحيث أن تلك الانشاءات لا تكون
إلا في ظرف الجهل بالواقع، فلا محالة تكون دائرة انشائها أوسع من دائرة نفس
الإرادة الواقعية، لعدم الملازمة بين تلك الانشاءات والإرادة الواقعية، لأنه ربما يكون
في البين انشاء بلا تصادف الواقع أصلا، نعم انشاء الاحكام الحقيقية ملازم واقعا
للإرادة الواقعية، وجودا وعدما، بخلاف المقام، فإن انشاء الحكاية لشئ، لا يستلزم
تحقق المحكي الواقعي دائما في مورد الحكاية، كما لا يخفى، ويترتب على هذا أمران.
أحدهما، صحة وقوع الأوامر الطريقية واسطة في إثبات متعلقاتها واقعا فيما
صادفت الواقع، فيقال: هذا ما قامت الامارة على وجوبه، وكل ما قامت الامارة على
وجوبه، فهو واجب، فهذا واجب، وذلك لأوسعية الانشاء الطريقي عن الواقع، بخلاف
نفس انشاء الواقعيات، إذ لا معنى لوقوعها واسطة لاثبات متعلقاتها، لأنه وساطة للشئ
في إثبات نفسه.
ثانيهما، إن مثبتيتها للواقع فيما إذا صادفته، تكون حقيقيا لا عنائيا ادعائيا، لان
الانشاءات المبرزة عن الواقع، متحد معه في صورة المصادفة، فتكون مثبتة لمتعلقها حقيقة
وواقعا، كما لا يخفى.
(اشكال ودفع)
أما الأول، فهو إنك قلت إن الأوامر الطريقية انشاءات في ظرف الجهل بالواقع
وحينئذ نقول لا تنجيز للواقع، إلا بالبيان الواصل، والبيان الواصل ينافي الجهل بالواقع،
فلا تكون الأوامر الطريقية في ظرف الجهل بالواقع منجزا للواقع.
وأما الثاني، فنقول: نعم لا تنجيز للواقع، إلا بالبيان الواصل، وأما أن البيان الواصل
21

ينافي الجهل بالواقع فهو غير مسلم، فيما إذا اكتفى المولى بالظن، وجعله بيانا واصلا
للمكلف، فيخرج الموضوع حينئذ عن موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان
ويدخل في موضوع قاعدة دفع الضرر المحتمل.
إن قيل، إن كان المدار على الدخول تحت قاعدة دفع الضرر، فهو يتحقق مع
الاحتمال أيضا، ولا يختص بموارد قيام الطرق.
قلنا: بينهما فرق واضح، لان الانشاء المبرز عن الواقع، بيان للواقع عرفا، بل عقلا،
فقد تم البيان وأقيمت الحجة، والمصادفة للواقع وعدمها، لا دخل لها بتمامية البيان،
كما لا يخفى، وهذا بخلاف مورد الاحتمال الخالي عن الطريق، هذا مع إنه من عدم اكتفاء
الشارع بنفس إرادته الواقعية، وجعله الأوامر الطريقية، نستكشف كثرة اهتمامه
بالواقعيات في مورد الطرق والامارات، فمن كثرة الاهتمام بالواقع نستكشف تنجيز
الواقع في موارد الطرق، كما أن من كثرة الاهتمام بالواقع، يحكم العقل بوجوب النظر
بالمعجزة، ومن كثرة الاهتمام به يحكم العقل بحجية الظن عند الانسداد، ولا نحتاج
إلى جعله حجة من قبل الشارع، حتى نقول بالكشف، ثم لا يخفى أن الحجة إن كانت
بمعنى قطع العذر، فلا إشكال في صحة اطلاقها على القطع، ضرورة كونه قاطعا للعذر،
وإن كانت بمعنى وقوعها وسطا لاثبات المتعلق، فلا إشكال في عدم جواز إطلاقها
على القطع الطريقي، لان في القطع الطريقي لا إثبات للقطع لشئ، بل لا يلتفت القاطع
إليه غالبا، لأنه لا يرى إلا المقطوع، وأما في القطع الموضوعي، فلاطلاق الحجة، بمعنى
وقوعه وسطا لاثبات متعلقه، وجه كما لا يخفى.
(القول)
(فيما يتعلق بالقطع من الأقسام والاحكام)
منها إنه تارة طريقي، وأخرى مأخوذ في الموضوع، لا شبهة في قيام الامارة مقام
الطريقي بنفس دليل اعتبارها، وكذلك مقام الموضوعي، إن كان دخله في الموضوع
لأجل الكشف، بحيث كانت حيثية دخله في الموضوع حيثية كشف ليس إلا، وإن
كان لأجل خصوصية القطع من حيث هو، فلا وجه لقيام الامارة مقامه، كما هو
22

واضح، وكذا لا شبهة في قيام الامارة مقام القطع في جميع ماله من الآثار الشرعية
من حيث الكشف والطريقية.
ومنها، أن حكم العقل بوجوب موافقة القطع عند حصوله، ليس على الاطلاق حجة،
فيما إذا قصر في تحصيله، ولو من جهة علمه بأكثرية مخالفة قطعه للواقع، قبل حصول
قطعه، فحينئذ لا يراه العقل معذورا لتقصيره، مع أنه بعد حصول القطع مجبول على
الموافقة، فيكون من قبيل إلقاء النفس من شاهق عال، مع القطع بأنه لا يضره في الحال
والمال، فدعوى من ادعى عدم حجية بعض أقسام القطع، يمكن أن يحمل على هذا،
أي فيما إذا قصر في المقدمات، أو على أن ما يحصل منه القطع غالبا من البراهين العقلية،
لا ينبغي الركون إليه، لامكان الخدشة فيه بالتأمل والنظر، أو على منع القطع بالحكم
الفعلي بقاعدة الملازمة، بل لابد من دلالة ولي الله وبيانه، وبالجملة لابد من توجيه
مقالة من منع حجية بعض أقسام القطع، أو خصوص قطع القطاع، وإلا، فظاهر
كلماتهم ينافي شأنهم ومقاماتهم رضوان الله تعالى عليهم.
ومنها، أن الالتزام بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله، والتصديق له في مجموع أحكامه
إجمالا واجب بلا إشكال، لأنه من شؤون التصديق بأصل نبوته، ويدل عليه كل
ما دل على التصديق بالنبوة، وأما لزوم الالتزام تفصيلا بكل شخص من أحكامه،
فلا دليل عليه، لا عقلا، لان هم العقل ليس إلا الموافقة عملا لما قامت عليه الحجة، قطعا
كان أو غيره، ولا نقلا لعدم عين له ولا أثر.
ثم إن الموافقة الالتزامية على القول بوجوبها لا تنافي جريان الأصول المنافية لها
في موردها، لو كانت جارية بنفسها، لان الموافقة الالتزامية لو كانت واجبا، إنما هي
بالنسبة إلى الواقع إجمالا على ما هو عليه، وهو يجتمع مع جريان الأصول في مرحلة
الظاهر، كما لا يخفى.
القول فيما يتعلق بالعلم الاجمالي
لا شبهة في أن العنوان المقطوع بما هو مقطوع، لا يصح الردع عنه، ويحكم
العقل بلزوم الحركة نحوه، فيما إذا كان له الأثر، سواء كان الأثر للمقطوع بخصوصه،
23

أو للأطراف التي ينطبق المقطوع عليها، بحيث كان تحقق الأثر لكل واحد من
الأطراف، لأجل انطباق الجامع المقطوع عليه، وهذا هو الذي يجده العقل بفطرته
وارتكازه، فالعقل يرى تنجز المقطوع بما هو مقطوع، ويرى انطباق المقطوع على
الأطراف، فهو يرى تنجز الأطراف فعلا، ومع تنجزها فعلا، فهل يصح ورود الترخيص
على الخلاف من الشارع، بالنسبة إلى جميع الأطراف، وهل يكون ورود الترخيص
بالنسبة إليه، إلا مساوقا للردع عن نفس المقطوع، وهل يكون ورود الترخيص
بالنسبة إلى بعض الأطراف، إلا من الترخيص في محتمل المعصية وهو كمقطوعها
محال بالنسبة إلى الحكيم، وبعد ملاحظة هذه الأمور الارتكازية للعقل، فهل يصح
دعوى التفرقة بين الموافقة القطعية ومخالفتها.
فدعوى أن مرتبة الحكم الظاهري في مورد العلم الاجمالي محفوظة، بخلافها في
العلم التفصيلي، فيصح ورود الترخيص في الأول، دون الثاني.
مدفوع، بأنه لا إشكال في تحقق الجهل في كل الأطراف فيتحقق موضوع
الحكم الظاهري، وهو الجهل، لكن لا إشكال أيضا في تحقق المانع في كل واحد من
الأطراف عن الترخيص، وهو احتمال انطباق ما هو متنجز واقعا عليه بالخصوص،
وأغرب من ذلك، إثبات عدم علية العلم الاجمالي للتنجز، بإنه من الممكن، بل الواقع
قيام أمارة على تعيين المعلوم في أحد الطرفين، أو قيام أصل مثبت للتكليف في أحدهما،
فأنه لا شبهة حينئذ في عدم وجوب الطرف الآخر، وذلك شاهد قطعي على عدم
علية العلم الاجمالي للموافقة.
وجه الغرابة، أن المراد من علية العلم إجماليا كان أو تفصيليا، إنما هو عليته عقلا،
لاشتغال الذمة، وأما في مرحلة الامتثال والفراغ، فيقنع العقل بكل ما اكتفى الشارع
به، في الخروج عن عهدة التكليف، أعم من الوجداني والتنزيلي، كما هو واضح، فلا وجه
لالحاق صورة الشك بالفراغ، بما إذا قامت الامارة عليه، أو جرى أصل اكتفى به
الشارع في الخروج عن العهدة، وقد يقال: لاشك في عدم سراية العلم بالجامع إلى
الأطراف، لتحقق الجهل فيها وجدانا، فلا يسري تنجز العلم إليها أيضا، فيصح الترخيص فيها،
ولكنه مردود، بأنه كما أن الشك والجهل متحقق في الأطراف وجدانا، احتمال وجود
24

المتنجز الواقعي متحقق في كل واحد منها وجدانا، فيصير كل منها محتمل التنجز،
الملازم لاحتمال الضرر، فيخرج عن موضوع حكم العقل، بقبح العقاب بلا بيان،
إذ يكتفي العقل في البيان بالعلم، ولو كان إجماليا.
وقد يتوهم صحة إجراء الأصل في بعض الأطراف، وجعل الطرف الآخر
بدلا عن الواقع، ولكنه توهم فاسد، لان جعل الطرف الآخر بدلا عن الواقع، إن
كان بالأصل فهو مثبت، وشأن الأصل ليس ذلك، وإن كان المراد بدليته في صورة
موافقته للواقع، فهو باطل أيضا، لأنه مع حكم العقل باشتغال الذمة في صورة العلم
بالتكليف، كما هو المفروض، لا يكتفي العقل إلا بإتيان ما في الذمة، ومع عدم اليقين
بالموافقة للواقع، كيف يكتفي العقل بذلك؟ هذا مع إن الترخيص وجريان الأصل في
طرف، يتوقف على بدلية الطرف الآخر، والفرض أن البدلية أيضا حاصلة من
الترخيص وجريان الأصل، وهذا دور كما هو واضح، فتلخص مما ذكرنا أن العلم
بالتكليف جهة تعليلية لتنجز متعلقه، بلا فرق بين العلم التفصيلي والاجمالي، وحكم
العقل بوجوب الخروج عن عهدة التكليف المنجز، حكم تنجيزي لا تعليقي، فلا يصح
الترخيص بالنسبة إلى أطراف العلم الاجمالي، لأنه من الترخيص بالنسبة إلى التكليف
المنجز، وحينئذ فكل ما توهم أنه من الترخيص بالنسبة إلى التكليف المنجز لابد
من توجيهه، كما فصل في المطولات، هذا كله بالنسبة إلى إثبات التكليف بالعلم الاجمالي،
وأما بالنسبة إلى مرحلة الاسقاط والامتثال، فسيأتي إن شاء الله تعالى.
القول في التجري
قد أطيل الكلام في ذلك، والذي ينبغي أن يكون تحريرا للمقام، هو أن يقال
أن المخالفة الاعتقادية كالمخالفة الواقعية، توجب استحقاق العقاب عقلا أم لا، ثم
هل يصح الحكم بالحرمة شرعا في الفعل المتجري به أم لا، فهيهنا مقامان.
أما المقام الأول، فالحق هو أن المخالفة الاعتقادية كالواقعية، من غير فرق بينهما
عقلا أصلا، إذ العقل لا يرى مناطا لمبغوضية المعصية، والمخالفة الواقعية، إلا كونها
هتكا لحرمة المولى، وظلما بالنسبة إليه، وهو موجود في التجري، والمخالفة الاعتقادية
25

وجدانا، وليس مناط مبغوضية المعصية، هو ترك الواقع بما هو ترك الواقع، وإلا
لتحققت المعصية فيما لو ترك الواقع نسيانا، أو جهلا عن قصور، مع أنه ليس كذلك،
فلا مناط في مبغوضية المعصية إلا الهتك والظلم، المتحققين في مورد التجري حقيقة
، وليست المبغوضية في مورد التجري ناشئة عن مفسدة في ذات العمل من حيث هو،
حتى تعارض مصلحته إن كان في الواقع ذا مصلحة، بل هي لانطباق عنواني الهتك
والظلم على العمل المتجري به، مع القطع النظر عما في ذات العمل من حيث هو،
فالمتجري هاتك وظالم بالنسبة إلى المولى، والفعل المتجري به من حيث أنه متجري
به مبغوض، وموجب للعقاب.
إن قيل استحقاق العقوبة على العمل بعنوان التجري، ملازم لمبغوضيته لدى
المولى، وذلك ملازم لانقلاب الواقع عما هو عليه، فيصير محبوب المولى مبغوضا له،
بمحض تخلف قطع عبده عن الواقع، مع أن الوجدان يشهد بخلافه.
قلنا، قد أشرنا إلى أن عروض عنوان التجري لا يقلب الواقع عما هو عليه،
إذ المصلحة الواقعية قائمة بالذات، من حيث هي، ومع قطع النظر عن عروض عنوان
التجري، ثم انطباق نفس هذا العنوان، من حيث هو، مما يستقل العقل بقبحه، فلا
مضادة، ولا انقلاب، لاختلاف موردي المحبوبية والمبغوضية، فالفعل المتجرى به، من
حيث أنه كذلك، غيره من حيث ذاته، وبحسب طبعه، وقد يدفع الاشكال باختلاف
المرتبة، فيقال، أن المصلحة إن كانت، ففي مرتبة الواقع والمبغوضية، في مرتبة الجهل
بالواقع، كما هو الشأن في كل أمارة قامت على خلاف الواقع، ولكنه مخدوش بأنه
صحيح، لو لم تعم المصلحة حالة الجهل بالواقع أيضا، وأما إن كانت شاملة لها، فلا يدفع
الاشكال باختلاف المرتبة، كما لا يدفع بأن يقال، إن ما هو مبغوض هو إضافة الفعل
إلى الفاعل، دون نفس الفعل من حيث هو، فلا تنافي بين المبغوضية الفاعلية، والمحبوبية
الفعلية، إذ يرد عليه، أن ما هو مبغوض هو عنوان التجري، وهو عبارة عن نفس
الفعل المضاف، لا إضافة الفعل، ولو سلم ذلك، فلا إشكال في مبغوضية نفس الفعل أيضا،
لكونه مقدمة للإضافة الحاصلة في البين، واضعف من ذلك، هو القول بعدم المبغوضية
في الفعل المتجرى به، وإنما يدل التجري على سوء سريرة الفاعل فقط، وهو مردود
26

بمخالفته للوجدان الحاكم بأن المتجرى بفعله طاغ بالنسبة إلى المولى، وهاتك بالنسبة
إليه، وأضعف من الجميع، هو القول بأن استحقاق العقاب إنما هو على العزم فقط، نظير
التشريع، إذ يرد عليه، أن استحقاق العقاب على العزم، ليس لخصوصية فيه، بل لان
العزم طريق إلى حصول الظلم والهتك، فهو من حين العزم مستحق للعقاب، إلى آخر
تمام العمل من جهة الهتك والظلم.
إن قيل كيف يكون الفعل المقطوع الحرمة مبغوضا ومستحقا عليه العقاب،
مع أنه في الواقع لا مفسدة فيه، وبعنوان أنه مقطوع الحرمة غير ملتفت إليه حتى،
يصح موضوع حكم العقل بالاستحقاق، وهل يكون الاستحقاق إلا بالنسبة إلى
الفعل الاختياري الملتفت إليه.
قلنا، لا إشكال في التفات المتجرى إلى المبغوضية الاعتقادية، وارتكاب الفعل بانيا
عليها باختيار منه، وهذه المبغوضية الاعتقادية الملتفت إليها، كافية عند العقل في حصول
الطغيان والهتك والظلم. وأما المقام الثاني وهو قابلية الفعل للحرمة الشرعية وعدمها.
فنقول، لباب القول فيه أنه لا مجال للحرمة المولوية الشرعية في المقام، لا بالنسبة
إلى عنوان التجري، ولا بالنسبة إلى الفعل المتجرى به، لان الحكم المولوي لا يصلح
للدعوة، إلا باعتبار ما يتوقف على موافقته ومخالفته من المثوبة والعقوبة، ومع حكم
العقل باستحقاق الذم والعقاب، لا مجال حينئذ لأعمال المولوية، فيكون من اللغو
الباطل، فتلخص من جميع ما ذكر أن واقع الفعل على ما هو عليه، وعروض عنوان
التجري عليه، يوجب مبغوضيته، ولا تزاحم بين الواقع وما عرض عليه من العنوان،
كما هو واضح، فلا وجه لما يقال من تحقق التزاحم بين الواقع وعنوان التجري،
فقد يصير التجري راجحا، وقد يصير متساوي الطرفين، فهو قابل لعروض الأحكام الخمسة
، بملاحظة وقوع التزاحم، وتحقق الجهات المرجحة، هذا كله بحسب ملاحظة
العقل، وأما بحسب ما ورد من النصوص، فهي على طائفتين، فمنها ما دل على العقوبة
على النية المحضة، ومنها ما دل على عدمها، وطريق الجمع، حمل الطائفة الأولى على
الارشاد إلى حكم العقل بالاستحقاق، وحمل الثانية على عدم الفعلية أو غير ذلك
من المحامل المذكورة في المطولات فراجع.
27

المقصد الثاني في الطرق الظنية
لا ريب في أن الطرق الغير العلمية، ليست الحجية ذاتية لها، بل بالنسبة إليها
لا اقتضاء، كما لا ريب في إمكان جعل الاستطراق بها إلى الاحكام الواقعية، بمعنى
عدم استلزام ذلك الجعل بمحال ينشأ منه، وهذا هو المعبر عنه بالامكان الوقوعي،
وأما بالامكان الذاتي، الذي هو عبارة عن تساوى نسبة جعل الحجية وعدمها
بالنسبة إلى ذات الطرق الغير العلمية، فالظاهر بل المقطوع عدم كونه محلا للخلاف،
بل تسالم الكل على ذلك، والمخالف إنما خالف في الامكان الوقوعي، بزعم أن جعل
الاستطراق للطريق الغير العلمي، يوجب تحليل الحرام، أو بالعكس، أو موجب لاجتماع
الضدين، الذي أطبق العقلاء على استحالة تحققه، ثم إن أصحابنا اتفقوا على جواز
الجعل للطرق الغير العلمية، وعدم لزوم محذور من ذلك، لكنهم ردوا زعم ابن قبة
بأقوال مختلفة، فمن قائل، بأنه لا معنى لجعل الطريق إلا تتميم كشفه الناقص، المستتبع
عقلا لوجوب الموافقة، فلا حكم إلا للعقل، ولا حكم للشرع في موارد الطرق، حتى
يلزم تحليل الحرام، أو العكس، ومن قائل، بأنه لا معنى للجعل إلا جعل الحجية، التي
هي من الأحكام الوضعية، فلا تكليف غير الواقع في البين، حتى يلزم المحذور، ويرد
عليهما، إنهما لا يفيان برد الشبهة من جميع الجهات، لان من تقريرات الشبهة، أن الجعل
مطلقا يستلزم تفويت الواقع على المكلف، وهو قبيح على الحكيم تعالى عن ذلك،
مع أن الحجية عبارة عن المنشائية لاستحقاق العقوبة، ومثل هذا المعنى غير قابل للجعل
بلا توسيط شئ وابتداء كما لا يخفى، ومن قائل بأن الاحكام الواقعية ليست فعلية،
بل هي انشائية محضة، ولا فعلية لها إلا في موارد الطرق والامارات بلا تصويب،
لمكان الواقع الانشائي المشترك فيه الكل، وهذا المقدار يكفي في رفع محذور التصويب،
ولا اجتماع للضدين، لمكان اختلاف المرتبة، ولا تفويت للمصلحة، وعلى فرض
الامكان، فمجبور بما هو أهم، ولكن يرد عليه أنه خلاف ظواهر أدلة الاحكام، حيث
أنها ظاهرة عرفا في أن مفاهيمها نفس الاحكام الواقعية، وهي بنفس أدلتها تصير
28

فعلية، لا بعناية أخرى، كما لا يخفى، فالحق في الجواب، أن يقال بعد البناء على طريقية
الامارات، كما هو بناء العقلاء فيما يعتمدون عليه فيما بينهم من الامارات العرفية، التي
بها قوام معاشهم، إذ المغروس في أذهانهم ليس إلا الطريقية، ولا يخطر ببالهم
الموضوعية أبدا، إن مرجع الامر الطريقي بحسب ما هو المرتكز في الأذهان، ليس
إلا الترخيص في عدم لزوم إتيان الواقع عند الجهل به، وعدم مصادفة الطريق
المجعول له، من دون اشتياق وحب في موردها أبدا، مع بقاء الشوق والمحبة
الاقتضائية بالنسبة إلى الواقع، لاطلاق مصلحته الشاملة لجميع المراتب والحالات،
وهذه المصلحة ليست علة تامة لتشريع الخطاب في الواقع مطلقا، بحيث يقبح
التفويت، وجعل ما يتخلف منه أحيانا واتفاقا، بل هي تامة للتشريع والجعل، بقدر
استعداد الخطاب فقط، وهو فقط مقصود المولى بجميع المقدمات التي في الرتبة
السابقة على الخطاب، وأما الأمور المتأخرة عن نفس الخطاب، كالعلم به، وتطبيق
العبد خطاب مولاه على المورد، مقدمة لجريه على طبقه، فالخطاب تأخر عنه، وحيث
يقصر الخطاب الأولى عن شمول المرتبة المتأخرة، مع ابتلاء نوع المكلفين بها، فللمولى
الحكيم أن يعتني بهذه المرتبة، بإيجاد خطاب آخر يشمل مرتبة الجهل بالخطاب الأول
لقصوره بنفسه عن الشمول له، فالخطابات الأولية الواقعية فعلية بمقدار استعدادها،
والخطاب الثاني الطريقي مظهر لفعليتها عند المصادفة، ومصحح اعتذار العبد عند
المخالفة، فلا تعدد في الحكم، حتى يلزم اجتماع المثلين، أو الضدين، ولا علية للمصلحة
الواقعية مطلقا، حتى بالنسبة إلى مرتبة الجهل، حتى يلزم تفويت المصلحة الحاصلة، نعم
هي ثابتة ثبوتا اقتضائيا، فمن الجائز تحقق مصلحة نوعية أخرى أهم من المصلحة
الاقتضائية الواقعية، فيتدارك بها ما فات من المصلحة الاقتضائية الواقعية، هذا
لباب القول في وجه حجية الامارات، ورد ما ورد عليها من الشبهات، وأما الفرق
بينها وبين الأصول، فلابد فيه أيضا من الرجوع إلى العرف، واستكشاف ما هو
المرتكز في أذهان العقلاء، فنريهم يبنون على مكشوفية الواقع تارة، والبناء على العمل
على أحد طرفي الشك في ظرف عدم الانكشاف أخرى، وعلى طبق هذا الارتكاز
العرفي، ورد مثل قوله " ع ": ما أديا فعنى يؤديان، لان مثل هذه التعبيرات كناية عن
29

وصول الواقع إلى المكلف، بخلاف ما يدل على اعتبار الأصول، كما هو واضح، وعلى
هذا، فاصطلاح تتميم الكشف بالنسبة إلى الامارات من أحسن التعبيرات الفارقة
بينها وبين الأصول.
(تتمة)
مقتضى ما هو المرتكز في أذهان العقلاء، عدم صحة الاحتجاج بشيء، إلا إذا
أحرزوا حجيته، فمع الشك في حجية شئ لا يحتجون به، بل ينكرون الاحتجاج
به غاية الانكار، فيرون صحة الاحتجاج مع الشك في الحجية متنافيين، فما هو المعروف
بين الاعلام، من أن مقتضى الأصل عدم حجية كل ما شك في حجيته، مطابق لما
هو المركوز في الأذهان، وإن استدلوا بشئ فليس إلا إرشادا إليه، ثم إنه قد خرج
عن هذا الأصل موارد، نتعرض لها إن شاء الله تعالى.
(القول في حجية الأصول اللفظية)
وما يستند إليه العرف والعقلاء في استكشاف المراد من الأصول الجارية في
مباحث الألفاظ، كأصالة الحقيقة، أو العموم، أو الاطلاق، وفيها جهات من الكلام.
الأولى، إنه قد يرجع هذه الأصول الوجودية إلى أصل عدمي واحد، وهو
أصالة عدم القرينة على خلاف الحقيقة، ولكن الارجاع مبني على مبنى أبطلناه سابقا،
وهو قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأنه بناء على عدم جواز ذلك، وقبحه
يكون عدم القرينة كاشفا عن واقع المراد، ويثبت بها الحقيقة، وأما بناء على الجواز،
وأن المصلحة قد تكون في تأخير المراد، فلا يكون عدم القرينة كاشفا عن إرادة
الحقيقة، كما هو واضح، إذ يصح للمتكلم حينئذ أن لا يريد الحقيقة مع عدم نصب
قرينة على المجازية، فليس مرجع تلك الأصول إلى الأصل العدمي، بل هي أصول
معمول بها عند العرف والعقلاء، بحيال ذاتها، من غير أن ترجع إلى شئ، نعم لا بأس
بأن يكون الأصل العدمي منقحا لموضوع تلك الأصول الوجودية.
الثانية، هل المدار في حجية الأصول اللفظية على الظهور الفعلي، فلا تجري عند
اتصال الكلام بما يحتمل القرينية، أو يكفي الشك في إرادة الحقيقة فقط، ولو لم يكن
30

هناك ظهور فعلي، فتجري فيما إذا احتف الكلام بما يصلح للقرينية، وعلى الأول،
هل المدار هو الظهور التصديقي، بأن يكون المتكلم في مقام الإفادة والاستفادة، أو
يكفي الظهور التصوري، ومجرد ظهور اللفظ في انسباق المعنى منه إلى الذهن لتبادر،
أو غيره، وجهان، أوجههما الأول، من كل من الشقين، لان عمدة الدليل على حجية
الأصول اللفظية، إنما هي السيرة العقلائية، ولابد في مثلها من الأدلة اللبية، من
الاقتصار على المتيقن، نعم ليس المدار على التصديقي الفعلي الشخصي منه، بل المدار
على النوعي دون الشخصي، لقيام السيرة على ذلك، كما لا يخفى.
الثالثة، هل المدار في حجية الظهور على خصوص من قصد إفهامه، أو يعمه
وغيره، الحق هو الثاني، لقضاء العرف والسيرة بذلك، بلا فرق في ذلك بين ظواهر
كلام الآدميين والكتاب المبين، وما جاء عن سيد المرسلين والأئمة المعصومين، وما يقال
فيها من إنا نعلم إجمالا بإرادة خلاف الظاهر في جملة منها، وهذا مانع من حجيتها، مدفوع بأنا
نعلم إجمالا بإرادة خلاف الظاهر فيها بمقدار، لو تفحصنا لظفرنا بها، وقد تفحصنا وظفرنا
بموارد خلاف الظاهر، والحمد لله تعالى، فمقتضى الحجية موجود، ولا مانع في البين.
ثم إنه ما أقصر نظر من قصر حجية الظواهر بغير الكتاب، بزعم أن نزوله لمحض
الاعجاز، لا الإفادة والاستفادة، أو للعلم الاجمالي بوقوع التحريف فيه، أو لما ورد
من حرمة تفسيره، إذ كيف نزل القرآن لغير الإفادة، مع إنه قانون عام لحفظ نظام
المعاش والمعاد، مع إن الامام " ع " قد أحال جمعا من أصحابه في موارد كثيرة إلى
الاستفادة منه، والعلم بالتحريف على فرض قبوله، ليس مانعا، لخروج جملة من آيات
القرآن عن مورد الابتلاء، كالقصص والحكايات ونحوها، وفي مثله لا أثر للعلم
الاجمالي، كما حققناه في محله، ثم منع كون العمل بالظواهر من التفسير الممنوع، كيف
أرجعوا " ع " أصحابهم إلى استنباط الاحكام من ظواهر الكتاب، كما لا يخفى على
من راجع كتب الاخبار والأحاديث، وما ظاهره المنع اتباع ظواهر الكتاب،
مخصوص بمن قال: حسبنا كتاب الله، وأصحابه لا مثل من يأخذ ظواهر الكتاب
عمن خوطب بالكتاب، ثم إنه لو اختلفت القراءة في كلمة من القرآن، فالظاهر هو
التساقط، كما هو الأصل في تعارض كل حجة، ما لم يقم دليل على الخلاف.
31

(القول في الاجماع المنقول)
لا دليل على اعتباره، إلا دعوى شمول أدلة اعتبار الخبر الواحد له، فلا بد من
التأمل في أن أدلة اعتبار الخبر الواحد تختص بالحسي المحض، أو يعم المشكوك
الحسية، أو يعمها والحدس المحض، فنقول حيث أن عمدة الدليل على اعتبار الخبر
الواحد ليست إلا السيرة العقلائية، والمتيقن منها هو الحسى المحض، أو ما هو قريب
منه عرفا، ولا يبعد تحقق البناء على الاخذ بمحتمل الحسية أيضا، فيبقى الحدس المحض
على أصالة عدم الحجية، والأدلة اللفظية التي تمسك بها على حجية الخبر الواحد، وإن
لم يكن قصور في شمول اطلاقها، أو عمومها للحدس أيضا، إلا أن الحق كلها ليست
إلا في مقام الامضاء، لما عليه العرف والعقلاء، فلا يفيد شيئا غير ما أفادته السيرة
العقلائية، وقد مر ما تدل عليه السيرة.
(وينبغي التنبيه على أمور)
الأول، لا مناط لحجية إجماع الاعلام، إلا لتضمنه بوجود الإمام عليه السلام،
وطريق إحراز وجوده، إما حسي، كما إذا وجد اتفاق الكل، وكان ملازما قطعيا
عنده بوجود الإمام عليه السلام، أو أخبره أحد سفرائه أنه داخل في جماعة كذا
مثلا، وكذا إذا كان قريبا من الحس، أو مشكوك الحسية، أو حدس محض، وحكم
الأولين هو الحجية، بناء على جريان السيرة في قبول مشكوك الحسية أيضا، وحكم
الأخير عدم الحجية، من حيث المنكشف، وتعمه أدلة اعتبار الخبر الواحد من الكاشف،
حسيا كان أو مشكوكه، كما مر، وحينئذ فإن كان المنقول ملازما قطعيا عند المنقول
إليه، لثبوت رأي الإمام عليه السلام، أو ملازما ظنيا مع اعتبار ذلك الظن، فلا إشكال
في صحة الاخذ به، لأنه من الاحراز الوجداني لقوله " ع "، وإن لم يكن ملازما
له، لا قطعا، ولا ظنا، فلا حجية في البين، ثم إنه لا يبعد أن يكون طرق إحراز
رأي الإمام عليه السلام في جملة المجمعين، قرب العهد بزمان الغيبة الصغرى، فالا جماعات
المنقولة عن الاعلام الذين قاربت عصرهم عصر النواب والسفراء بضميمة القرائن
32

الخارجية والداخلية، ليست من الحدس المحض الذي لا تشمله أدلة الاعتبار، نعم في
الطبقات اللاحقة التي حدثت فيهم قاعدة اللطف ونحوها، يقوى ذلك فيها، كما لا يخفى.
الثاني، يجري جميع ما ذكر في نقل التواتر أيضا، فمورده إما حسي، أو قريب منه،
أو مشكوكه، أو حدس محض، فيؤخذ في القسمين الأولين، ويترك في الأخير، وأما
من حيث نفس السبب، فيؤخذ في الجميع، ويعامل معه في الأخير، كما يعامل بالاجماع
المنقول عن حدس فقط.
الثالث، إذا تعارض نقل الاجماعين، أو المتواترين، فلا إشكال في أن التعارض
إنما هو بلحاظ المنكشف لا السبب، لاحتمال صدقهما في مرحلة نقل السبب، وحينئذ
فمع فرض كونهما حدسيين، يطرح كلاهما، لما مر من عدم دليل على اعتبار الحدس،
ومع فرض كونهما حسيا، أو محتمله، فإن كان أحدهما ملازما عند المنقول إليه لقول
الإمام عليه السلام، يأخذه ويطرح الاخر، وإن كان كل واحد منهما ملازما
لقول الامام " ع " عنده، فتتساقطان، كما هو الأصل في تعارض الامارات.
تتمة، قد يقال بحجية الشهرة الفتوائية، إما بأن الظن الحاصل منها أقوى مما يحصل
بالخبر الواحد، أو بأن ما ورد في المقبولة، من قوله خذ بما اشتهر بين أصحابك، يشملها،
والأول ممنوع، صغرى وكبرى، والثاني مختص بالرواية دون الشهرة مطلقا، فالحق
عدم حجية الشهرة في الفتوى.
(القول في حجية الخبر الواحد)
ليعلم أن عمدة ما يقع في طريق الاستنباط، واستخراج الاحكام، هو الخبر الواحد،
وهي من أهم المباحث الأصولية، ومع ذلك قد استشكل في كونها من المسائل، بأن
موضوع علم الأصول، إن كانت ذوات الأدلة، مع قطع النظر عن عنوان الدليلية،
فالبحث في المقام ليس من عوارض السنة، حتى يكون من العوارض الذاتية لها،
ويكون من المسائل، بل هو من عوارض الخبر، فيكون من العوارض الغريبة بالنسبة
إلى السنة، وإن كان الموضوع الأدلة مع عنوان الدليلية، فيرد مضافا إلى ما مر، أن
البحث عن كلية الحجج على هذا ليس من المسائل، بداهة إن البحث عن ثبوت
33

الموضوع من المبادي، لا من المسائل، هذا ولكن الاشكال مبنى على ما أبطلناه سابقا،
من لزوم تعين موضوع خاص لعلم الأصول، وحينئذ فيقع الاشكال في خروج
جملة من المباحث، ولابد من إتعاب النفس في إدخالها، ولكن إن قلنا بأن مدار كل علم
ليس إلا على تدوين كليات وافية لغرض مخصوص، من دون لزوم موضوع يبحث
عن عوارضه، فلا مجال لورود الاشكال، حتى يتكلف في الجواب، وكيف كان، اختلفت
الأقوال في حجية الخبر الواحد، والحق الذي يوافق ارتكاز العرف والعقلاء، هو
الحجية في الجملة، واستدل المانعون بعد الأصل، بالأدلة الثلاثة، فمن الكتاب مثل ما دل
على إن الظن لا يغنى من الحق شيئا، ومن السنة، بما دل على النهي عن أخذ ما لا يوافق
القرآن، أو طرح المخالف، ونحو ذلك، ومن الاجماع بما ادعاه السيد واتباعه، من جعل
العمل بالخبر الواحد بمنزلة القياس، ولكن لا يخفى ما في هذه الأدلة، لان الأصل غير
أصيل بالنسبة إلى ما يأتي من الأدلة على الحجية، وكذا الآيات الناهية عن العمل بغير
العلم، لان ما يأتي من أدلة الجواز، حاكمة عليها، كما لا يخفى، وأما الأخبار الدالة على النهي
عن أخذ ما لا يوافق الكتاب، فالمنساق منها عرفا هي الاخبار المتباينة مع الكتاب،
لا ما ورد تفسيرا له، وكشفا عن معناه، وكذا ما دل على طرح المخالف، إذ المنساق
منها هي المخالفة بالتباين، لا بما لا يراه العرف وأبناء المحاورة مخالف بحسب ارتكازاتهم
العرفية، وأما إجماع السيد فموهون بالاجماع المدعي من الشيخ " ره " على الخلاف،
مع قوة احتمال أن يكون مورد اجماع السيد هو الخبر الغير الموثوق بصدوره، فضلا
عن الموثوق بعدمه، لان حجية الموثوق به، من مرتكزات العرف والعقلاء، فكيف
يدعي مثل السيد الاجماع على خلافه، وأما ما يقال من أن القول بحجية الخبر الواحد،
افتراء على الله تعالى، فهو مع ما يأتي من الأدلة على الحجية افتراء محض، فيكف يكون
افتراء على الله ما تطابق عليه العقلاء، من لدن حدوث العالم إلى قيام الساعة.
(القول فيما يستدل به لحجية الخبر الواحد)
قد استدل على حجية الخبر الواحد الغير المحفوف بالقرائن القطعية بالأدلة الأربعة،
فمن الكتاب بآيات عمدتها آية النبأ، من حيث مفهوم الشرط تارة، ومفهوم الوصف
34

أخرى، وخصوصية المقام ثالثة، أما من حيث مفهوم الشرط، فلان وجوب التبين
علق على مجئ الفاسق بالخبر، فينتفي بانتفائه، ثم إنه إن كان المراد من التبين هو التبين العلمي،
فلا إشكال في كون وجوبه إرشادا إلى تحصيل العلم بالمرام، وطرح خبر الفاسق، إذ لا
يحصل منه العلم، ولا معنى للبحث من أن وجوبه نفسي أو غيري، فطريق الاستدلال
حينئذ إن الفاسق، إن أخبر يجب تحصيل العلم بحاله، وأما العادل، أما أن يرد بلا تحصيل
العلم به، أو يقبل كذلك لحجيته، والأول يستلزم أسوئية العادل من الفاسق، والثاني
هو المطلوب، وإن كان المراد بالتبين هو الظني الوثوقي، فلا ريب إن وجوبه يكون
غيريا مقدميا للعمل بالخبر الفاسق، فطريق الاستدلال حينئذ، أن يقال يجب التبين في
خبر الفاسق، مقدمة للعمل به، وأما العادل، فأما أن لا يعمل بما أخبر أو يعمل به بلا تبين،
والأول يستلزم الأسوئية، والثاني هو المطلوب، فظهر أن الاحتياج إلى ضم مقدمة
الأسوئية كما هو المشهور هو المنصور أيضا، وكيف كان قد استشكل على
المفهوم بوجوه.
منها، أن الآية مسوقة لبيان الموضوع، فلا مفهوم لها، مثل إن رزقت ولدا فاختنه،
ونحو ذلك، مما يكون الحكم عقلا دائرا مدار تحقق الموضوع، ويرد عليه، إنه مسلم
في مثل المثال، مما يكون تحقق الجزاء عقلا ملازما لتحقق الشرط، ففي مثله لا مفهوم
للقضية، ولا محيص إلا من سوق القضية لبيان الموضوع، وأما أن علق الجزاء على
ذات الموضوع الخاص المتحقق أيضا بدون الخصوصية، فالسلب الوارد عليه حينئذ،
يكون بحسب انتفاء المحمول، لا الموضوع، كما لا يخفى، فالمعنى إن النبأ المتخصص
بخصوصية صدوره من الفاسق، يتبين فيه، لا ذات النبأ من حيث هو، فينتفي التبين
عند انتفاء الخصوصية لا محالة.
ومنها، أن الشرطية في المقام معللة بعلة جارية في مورد المنطوق والمفهوم، وهي الجهالة
المذكورة في ذيل الآية، فيدور الامر بين رفع اليد عن عموم العلة بالمفهوم، أو العكس،
ولا ريب في أولوية الثاني، لأظهرية العلة في العموم، من دلالة القضية على المفهوم،
وفيه، أنه ليس المراد بالجهالة عدم العلم مطلقا، حتى يجري في كل من المنطوق والمفهوم،
بل المراد بها الاعتماد على مالا يثق النفس ويطمئن به، ولا ريب في حصول الوثوق
35

والاطمينان في خبر العادل دون الفاسق.
ومنها، أن مورد الآية هو الموضوعات الخارجية، فيلزم أن لا يكون حجة في
الاحكام، مع إن المورد مما لا يكتفي فيه إلا بالبينة، فيلزم تخصيص المورد، وفيه، إن
المستفاد من الآية هو حجية خبر العادل مطلقا، إذ المورد لا يكون مخصصا، وتخصيصه
من الخارج بالبينة لا يستلزم تخصيص الحجية.
ومنها، أن المفهوم معارض مع العمومات الناهية عن العمل بغير العلم، والجواب
إن المفهوم حاكم عليها.
ومنها، إن المراد بالفسق مطلق الخروج عن طاعة الله تعالى، وغيره منحصر
بالمعصوم، والجواب، إن المراد ما هو المصطلح عليه عند العرف من المتشرعة.
ومنها، إن المفهوم حجية خبر العادل، وادعاء السيد الاجماع على عدم حجية خبر
الواحد من الخبر العادل، فيشمله دليل الحجية فيلزم من وجودها عدمها، وفيه مضافا
إلى انصراف الآية عن شمول مثل ذلك، إن مورد الآية هو إثبات الحجية، ومورد
كلام السيد هو الشك في الحجية وعدمها، ولا ريب إن مرتبة الشك في شئ متأخر
عنه طبعا، وإذا كان مضمون الآية هو الحجية، فلا تشمل المرتبة المتأخرة
عن مضمونها.
ومنها، إنه لا يشمل الاخبار مع الواسطة، إذ لا معنى للتعبد الشرعي والحجية
الشرعية للخبر، إلا وجوب ترتب الأثر عليه، ولا أثر في الوسائط، إلا التعبد ووجوب
القبول مطلقا، فيلزم أن يكون الحكم داخلا في موضوع نفسه، وفيه إن مفاد
الخطاب ليس الحكم الشخصي، بل مفاده سنخ الحكم الجامع بين الافراد الطولية
والعرضية، فيشمل الدليل الفرد السابق رتبة واللاحق كذلك، ثم إن هيهنا إشكالات
أخر منعنا عن ذكرها ظهور وهنها، والخدشة فيها، هذا كله في مفهوم الشرط، وأما
الاستدلال بها بمفهوم الوصف، فبأن يقال: إنه قد اجتمع في المورد أمران، خبر الواحد
وكونه من الفاسق، والأول ذاتي، والثاني عرضي، ومقتضى التفاهم العرفي إنه لو اجتمع
ذاتي وعرضي، فالتعليل بالذاتي أولى، بل متعين، وحيث إن المذكور في الآية هو
العرضي، وهو كون المخبر به فاسق، فيستفاد منه عدم وجوب التبين في غيره، وفيه إنه
36

قد مر في محله عدم المفهوم للوصف، خصوصا الوصف الغير المعتمد على الموصوف،
فإنه أشبه بمفهوم اللقب المتسالم على عدم حجيته.
وأما الاستدلال من جهة خصوصية المقام، ففيه إنه إن رجع إلى مفهوم الشرط،
أو الوصف، فقد مر ما فيه، وإن كان أمرا آخر، فهو لا يستأهل أن يعتمد عليه ما لم يكن
من الظهور العرفي المعتمد عليه.
ومما يستدل بها آية النفر، قال تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا
في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، بيان الاستدلال، هو أن
مقتضى (لولا) التحضيضية، مطلوبية مدخوله، فيكون النفر مطلوبا، فيكون التفقه في
الدين أيضا مطلوبا، لأنه غاية المطلوب، ومعلوم إن غاية التفقه هو الانذار، وغايته هو
التحذر والعمل بما أنذر، فيستفاد منه مطلوبية التحذر والعمل بما أنذر، وهو المراد
بحجية الخبر الواحد، وفيه مضافا إلى إمكان دعوى إهمال الآية من جهة مطلوبية
التحذر والعمل بما أنذر، إذ لعلهما مشروط بحصول العلم، وليست الآية في مقام البيان
في تلك الجهة، إن المنصرف من الانذار معنا أخص من مطلق الخبر عرفا، فلا تدل
الآية على حجية مطلق الخبر، لمطلوبية قسم خاص منه.
إن قيل هل يمكن استفادة مطلوبية التحذر بغير ما ذكرت، بأن يقال: إن كلمة
(لعل) تدل على مطلوبية مدخوله.
يقال فيه، منع لان استعمال كلمة (لعل) أعم من ذلك، لأنها تستعمل في مقام كلمة
(أميد) في اللغة الفارسية، كما في قوله: لعل الله يحدث بعد ذلك أمر، أو استعمالها حينئذ
بالنسبة إلى فهم المخاطب، لا بالنسبة إلى المتكلم، حتى يستلزم النقص في المبدأ تعالى.
ومما يستدل به قوله تعالى: (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وفيه بعد
تسليم أعمية أهل الذكر عن المعصوم عليه السلام، إنه أخص من المدعى، لان أهل
الذكر عرفا لا يشمل العامي المحض الذي نقل الرواية ولا يعلم معناها، إلا أن يستند
إلى عدم القول بالفصل، فيرد عليه حينئذ، إنها مهمل من جهة القبول، إذ لعل القبول
يكون مشروطا بما إذا أفاد العلم، وقد استدل بآيات أخر أغنانا عن التعرض لها
وضوح الاشكال فيها.
37

وأما السنة، فادعى تواتر الاخبار إجمالا على حجية الخبر الواحد، ولعله كذلك،
ولكن لابد من الاخذ بما اتفق عليه الكل، من خبر العادل الموثوق صدوره على
وجه يطمئن به النفس لا مطلقا، كما لا يخفى، وحينئذ فإن كان فيما يثبت حجيته ما يدل
على حجية غيره، يؤخذ به، وإلا فيقتصر على ما اتفق عليه الكل، ولا يبعد وجود
مثل هذا الخبر فيما بين الاخبار التي اتفق الكل على حجيتها.
وأما الاجماع، فقد تكرر نقله عن الاعلام على حجية خبر الواحد، كما نقل
الاجماع عن السيد " ره " على عدم الحجية، وحيث إنه يكمن أن يكون مدرك
نقل الاجماع على الحجية، هو ما ارتكز في أذهان المجمعين من حيث أنهم عقلاء،
من العمل بخبر الواحد، ويحتمل أيضا أن يكون المراد بالاجماع على العدم، هو
ما ارتكز في أذهانهم أيضا، من عدم العمل بما لا يثق به النفس، فالبحث عن الاجماع
وكيفية التعارض والترجيح في المقام لا وجه له، فالأولى هو البحث عن الطريقة
العرفية الارتكازية العقلائية، لا ريب في تحقق السيرة العقلائية في قبول خبر الواحد،
وترتيب الأثر عليه في أمورهم العرفية والشرعية، بل المتشرعون بما هم متشرعون
ومتدينون استقرت طريقتهم على العمل بخبر الواحد في أمورهم الدينية، بل استقرت
سيرة الاعلام في مقام استنباط الاحكام على التمسك بخبر الواحد من أول تأسيس
الاجتهاد ورد الفروع إلى الأصول، نعم بواسطة بعض الشبهات العلمية، صارت
المسألة الارتكازية بحثية نظرية، إن قيل لا ريب فيما قلت من تحقق السيرة في جميع المراتب،
لكن تكفي في ردعها الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم، يقال مع تحقق السيرة
العقلائية والمتشرعية على العمل بما وراء العلم في مهماتهم تكون لك السيرة بمنزلة
القرينة المتصلة لتلك الآيات المخصصة لها بغير مورد السيرة، مع إمكان أن يقال إن
المراد بالعلم ليس خصوص ما اصطلح عليه فعلا، بل الأعم من العلم العادي الذي
يعتمد عليه نوع العقلاء، فلا تخصيص ولا مخصص كما لا يخفى.
38

(القول في الاستدلال)
(على الحجية بدليل العقل وله تقريبات)
منها العلم بصدور جملة من الاخبار التي بأيدينا، ونقطع بالتكليف بما تضمنته تلك الأخبار
، فلا بد إما من الاحتياط بالأخذ بجميع ما يحتمل صدوره، أو الاخذ
بخصوص مظنون الصدور، والأول باطل، للعسر والحرج، فيتعين الثاني، وأجيب بأوسعية
دائرة العلم بالتكليف عن دائرة خصوص الاخبار، فاللازم حينئذ الاخذ بكل مظنون
التكليف، أعم من الاخبار والاجماعات والشهرات، إن قيل نعم لولا الانحلال، فيقال
لا مجال في المقام للانحلال، لان الانحلال الموجب لعدم الالتفات إلى العلم الاجمالي
الكبير، إنما هو فيما إذا احتمل انطباق المعلوم الكبير بتمامه على الصغير، وفى المقام ليس
كذلك، لأنه إذا بدلت طائفة من الخبر بطائفة من سائر الامارات يحصل علم إجمالي
آخر غير ما كان أولا، نعم إن أحرز من الخارج أن ما هو مفاد المبدل إليه عين ما هو
المبدل منه من الحكم، فلا أثر حينئذ للعلم الاجمالي الكبير، كما لا يخفى، ثم لا وجه لجريان
الأصول النافية لمانعية العلم الاجمالي بالتكاليف عنه، وأما الأصول المثبتة فهل تجري
لوجود المقتضى وعدم المانع، أو لا تجري، لان العلم الاجمالي بالصدور، علم بحجية ظهور
في البين، ومع تحقق الظهور الذي هو الحجة المعتبرة، لا وجه لجريان الأصل العملي،
لحكومة الأصول اللفظية عليها، كما لا يخفى، وجهان لا يخلو الأول منهما من رجحان،
لان مورد الأصول العملية المثبتة أعم من مورد الأصول اللفظية، ومجرد وجود العلم
الاجمالي بتحقق أمارة في البين، لا يوجب سقوط الأصل مع إطلاق دليله.
ومنها، إنا نعلم إجمالا بتكاليف في الشريعة، خصوصا بالأصول الضرورية، ولا
يحصل الفراغ منها إلا بالرجوع إلى الاخبار المروية عن الأئمة عليهم السلام، وفيه
إن هذا التقريب كالتقريب السابق، والجواب الجواب.
ومنها، إنا نعلم بوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة، فمع التمكن من تحصيل العلم
التفصيلي، فهو وإلا فينزل إلى لزوم تحصيل الظن، وفيه إنه يجب الاقتصار على المتيقن
فالمتيقن، لا التنزل إلى الظن، إلا إذا لم يف المتيقن بذلك، وتمت مقدمات الانسداد
فيؤخذ بالظن حينئذ.
39

(القول فيما يستدل به لحجية)
(مطلق الظن وهي أمور)
منها، إن مخالفة المجتهد لما ظنه مظنة للضرر، ودفع الضرر المظنون واجب، وفيه
منع الصغرى، إن أريد بالضرر الضرر الدنيوي، وعدم تمامية الكبرى لو أريد به
الأخروي، إلا بضم مقدمات الانسداد وتماميتها، كما لا يخفى.
ومنها، إنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح، وفيه إنه يلزم
إن كان الاخذ بأحد الطرفين واجبا تعينا، وإلا فلا.
ومنها، إن مقتضى العلم الاجمالي بالتكاليف وعدم التمكن من الموافقة القطعية، هو
التنزل إلى الموافقة الظنية، وفيه إنه ليس من حجية الظن في شئ، بل هو من التبعيض
في الاحتياط والاخذ بخصوص المظنون فقط.
ومنها، ما هو المعروف بدليل الانسداد المركب من مقدمات، 1 - العلم إجمالا
بتكاليف في الشرعية، 2 - عدم قيام حجة عليها، 3 - عدم جواز إهمالها رأسا
4 - عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه، 5 - قبح ترجيح المرجوح على
الراجح، بأخذ المشكوك، أو الموهوم، فيتحقق بعد ثبوت هذه المقدمات حجية الظن،
ولابد أولا من بيان اختلافهم في تعداد المقدمات، فبعضهم عددها كما سمعت، وبعضهم
أسقطوا العلم الاجمالي عن المقدمية، ومنشأ ذلك هو أنه إن كان مدرك عدم جواز
الاهمال هو العلم بالتكاليف ولو إجمالا، المانع عن إجراء الأصول فلا محيص عن
جعل العلم من المقدمات، ولكن النتيجة حينئذ ليست إلا التبعيض في الاحتياط، إذا
لزم من الاحتياط في الكل الحرج، ولا تصل النوبة إلى حجية الظن في إثبات
التكليف، إذ المفروض كون العلم ولو إجمالا مثبتا له، نعم يكون الظن مرجعا في
إسقاط ما ثبت بالعلم، ويكون ذلك بحكم العقل، ولا معنى للكشف حينئذ، إذ لا مجال
للجعل المولوي في تحصيل الفراغ الحاكم به العقل، فلا وجه لنزاع الكشف والحكومة
على هذا المبنى، إلا إذا قام الظن على تعيين المعلوم بالاجمال في مورد المظنون، فإن
للشارع جعل ذلك، بأن يكتفي عن الواقع المعلوم بالاجمال بالمظنونات، ويجعلها بدلا
40

عن الواقع، وأما مع قطع النظر عن ذلك وكون الظن في مرحلة الفراغ فقط، فحكم
الشارع مولويا من اللغو الباطل، كما هو واضح، وإن كان مدرك عدم جواز الاهمال
الاجماع الكاشف عن إن إهمال الوقايع وعدم التعرض لها محذور مستقل مبغوض
شرعا، يسقط العلم الاجمالي عن المقدمية حينئذ، بل تكون المقدمة الأولى إن إهمال
الوقايع وعدم التعرض لها مبغوض شرعا، ولازمه حينئذ حجية الظن، إن تمت سائر
المقدمات، ولا وجه للتبعيض في الاحتياط لسقوط العلم بالتكاليف عن المقدمية حينئذ،
وتبعيض الاحتياط كان من لوازم المقدمية، كما مر، ولنزاع الكشف والحكومة
على هذا المبنى يكون مجالا واسعا، كما هو واضح.
إذا عرفت ذلك، فاعلم إنه إن قلنا بأن طريق تنجز الواقع منحصر بالعلم بالواقع،
أعم من العلم الوجداني والتنزيلي، وقلنا أيضا بقيام الاجماع على عدم مرجعية الاحتياط،
ولو لم يكن في الرجوع إليه حرج، فلا محيص من استكشاف جعل طريق من
الشارع واصل إلى المكلف، ولو من جهة إيكال تعيينه إلى العقل، بمعنى تعيين طريق
إيصال البيان الشرعي إلى المكلف بتوسط عقله، وحينئذ فتارة يكون الطريق المجعول
واصلا بنفسه، مع احتمال أن الشارع جعل للمكلف طرقا عرضية، وأوكل تعيين تلك
الطرق إلى عقل المكلف، فيكون تعيين الطريق بالظن بالواقع، أو بالظن بالطريق
المحتمل جعله، من غير ناحية مقدمات الانسداد، لان ما هو مجعول من ناحيتها داخل
في الطريق المجعول ولو بطريقه، والمفروض كون الطريق مجعولا وواصلا بنفسه،
وأخرى يكون الطريق المجعول واصلا ولو بطريقه إذا كان في البين جعل طرق
طولية، ولو من جهة إيكال تعيينه إلى العقل بالمعنى الذي مر آنفا، فيكون تعيين
الطريق الواصل إلى العقل أعم مما إذا قام ذلك الطريق على طريق مجعول آخر، وهذا
من جعل الطريق الواصل ولو بطريقه، وثالثة يكون المجعول هو الطريق، ولو لم
يصل أصلا بأن لم يوكل تعيين الطريق إلى العقل، فتصل النوبة حينئذ إلى العلم الاجمالي
في دائرة الطريق، فلا بد من الاخذ بالمتيقن، ولو بالإضافة، ومع العدم تصل النوبة
إلى التبعيض في الاحتياط في دائرة الطرق، هذا مع قطع النظر عن الاجماع على
عدم وجوب الاحتياط، وأما مع ملاحظته فلا تصل النوبة إلى الاحتياط أصلا، فيتعين
41

أن يكون المجعول هو الطريق الواصل بنفسه، أو الواصل ولو بطريقه، فتسقط
مقدمية الاحتياط رأسا من مقدمات الانسداد كما عرفت، ثم إن من لوازم كون المنجز
منحصرا في العلم الأعم من الوجداني والتنزيلي، كون حجية الظن على هذا المبنى ممحضا
في الكشف فقط، ولا مجال لتوهم الحكومة أصلا، إذ ليس للعقل نصيب في إثبات
المنجز، بل هو شأن الشارع فقط، هذا كله إن قلنا بأن طريق تنجز الواقع منحصر
بالعلم الأعم من الواقعي والتنزيلي، وأما لو قلنا بإمكان منجز آخر غير العلم التنزيلي،
ولو مثل الامر الطريقي الكاشف عن اهتمام الشارع بحفظ مرامه حتى في مرتبة
الجهل به، فلا شبهة في أن التنجز يدور مدار هذا الاهتمام، وحيث إن بطلان الخروج
من الدين الذي هو ضروري الفساد، يكفي في إثبات هذا المعنى، فيكون احتماله منجزا
عقليا في التعرض لما يحتمل كونه مراد المولى، ولا وجه حينئذ لجعل الشارع أصلا،
بل لو جعل حجة يكون تقريرا لما حكم به العقل، ولا نعنى من الحكومة إلا هذا،
وحينئذ فمجرد احتمال إيكال الشرع أصل الطريق لا تعيينه، كما في المبنى السابق
إلى العقل، يكفي في منع كشف المقدمات المزبورة عن جعل شرعي، فلا تصل النوبة إلى
القول بالكشف، كما لا يخفى،
ثم إنه لا إشكال في اختلاف مراتب الاهتمام في حفظ مرام الشارع، فتارة
يكون الاهتمام بمثابة في مقام حفظ مراده ومرامه، حتى في أبعد المحتملات، وأخرى
لا يكون الاهتمام بهذه المثابة، بل يكون في مقام حفظ مرامه في أقرب المحتملات
أما الأول، فلا طريق لنا إلى إثباته، كيف وهو مستلزم للحرج، فيستكشف من لزومه
عدم اهتمام الشارع بهذه المثابة في حفظ مراده ومرامه، فتعين الأخير فلا محيص
حينئذ من مرجعية الظن دون غيره لعدم إحراز الاهتمام في غيره، فيحكم العقل
حينئذ بمرجعية الظن بلا احتياج إلى مقدمية الاحتياط، تلخيص الكلام في المقام هو
إن الدليل المعروف بدليل الانسداد، يمكن أن يقرر بطرق مختلفة لكل واحد من
تلك الطرق مقدمات خاصة.
الأول، طريق التبعيض في الاحتياط، وعمدة مقدمات هذا الطريق العلم الاجمالي
بثبوت تكاليف في الواقع، ولزوم الحرج في الجمع بين المحتملات، فيحكم العقل حينئذ
42

عند الدوران بين الاخذ بالأقرب إلى الواقع، وبين الاخذ بالأبعد، بالأخذ بالأقرب،
وهذا الطريق كما ترى لا يحتاج إلى مقدمة بيان الخروج من الدين، إذ يكفي في
بطلانه نفس العلم الاجمالي، من دون احتياج إلى جعل مقدمة أخرى لابطاله،
والاستنتاج من هذا الطريق منوط ببقاء العلم الاجمالي على صفة المنجزية، وكونه
هو المدرك لبطلان الخروج من الدين، أما إذا ورد الترخيص في بعض الأطراف
على نحو اليقين، فلا محالة لا تبقى المنجزية للعلم، وكذا لو كان مدرك بطلان الخروج
من الدين، هو الاجماع، ولو لم يكن علم في البين، فلا محالة يستكشف حجة أخرى،
فلا تبقى للعلم منجزية حينئذ أيضا، فنتيجة هذا الطريق بضم قاعدة نفي الحرج، هو
التبعيض في الاحتياط في الأقرب، وملاحظة ما ورد من الترخيص من قبل الشرع
في الابعد.
الثاني، طريق مرجعية الظن في مرحلة إثبات التكاليف مع كشف المقدمات عن
جعل الحجية للظن شرعا، وهذا الطريق أيضا منوط بمقدمات، منها قيام الاجماع
على بطلان الخروج من الدين، ومنها انحصار المنجز في العلم، أو جعل حكم طريقي
من قبل الشارع، ومنها، قيام الاجماع على عدم مرجعية الاحتياط، ولو تبعيضا،
وإن لم يكن في البين حرج، ومنها، جواز إيكال تعيين الطريق إلى العقل، ومقتضى
هذه المقدمات مرجعية الظن بنفسه في تشخيص الحكم، أو في تعيين الطريق إليه،
وعلى هذا المسلك، يخرج العلم الاجمالي ونفي الحرج عن المقدمية رأسا.
الثالث، طريق مرجعية الظن في مقام إثبات التكاليف بحكومة العقل من دون
جعل شرعي في البين، وهو أيضا منوط بمقدمات، منها كون الخروج من الدين
محذورا مستقلا ولو لم يكن العلم الاجمالي منجزا، ومنها إنه يكفي في المنجز القطع
باهتمام الشارع في حفظ مرامه، حتى في ظرف الجهل بالخطاب، ومنها كون المتيقن
من الاهتمام هو حفظ المرام في أقرب الطرق إلى الواقع، فحينئذ يحكم العقل بمرجعية
الظن في الاحكام بلا احتياج إلى قاعدة نفي الحرج ولا بطلان الاحتياط، ثم إن
النتيجة على الطريق الأول تابعة لمقدار دائرة العلم الاجمالي بتبعية مرحلة الفراغ
لمرحلة الاشتغال، وحينئذ فإن كانت دائرة العلم الاجمالي خصوص الاحكام والواقعية،
43

فحجية الظن تكون فيها أيضا فقط، وإن كانت أعم من الحكم الواقعي والظاهري
فتكون الحجية أيضا كذلك، كما إن نتيجة الطريق الثاني هي تعين جعل الطريق من
الشارع على حكمه مطلقا، أعم من الواقعي والظاهري، ونتيجة الطريق الثالث هي
تبعية حجية الظن مقدار الاهتمام، وقد عرفت أن المتيقن هو الاهتمام في حفظ المرام
في دائرة الأقرب.
وينبغي التنبيه على أمور، الأول، لا يخفى إنه على الطريق الأول، وهو التبعيض
في الاحتياط يكون حكم العقل بالأخذ بالأقرب تنجيزيا، وحينئذ فالظنون القياسية
الواقعة في أطراف العلم الاجمالي، لا يكاد يشملها أدلة منعها، إن قيل يستكشف من
أدلة المنع بالقياس، إن الحكم المعلوم بالاجمال شأني قابل للنهي في مورده لمصلحة، فيقال
لا دليل على ذلك، بل مقتضى كون النهي القياسي في طول الواقعيات عدمه، إن قيل
حكم العقل بالأخذ بالأقرب يمكن أن يكون معلقا على عدم ورود المنع عنه، فيقال
لا يمكن ذلك، لان حكمه بذلك من لوازم العلم الوجداني الحاصل، وكيف يمكن
التعليق في العلم، وأما على الطريق الثاني أو الثالث، فلا إشكال في خروج الظنون
القياسية، أما على الطريق الثاني، فلان الكشف عن الحجية شرعا يستلزم عدم كون
الكشف مما نهى عنه الشارع، وأما على الطريق الثالث، فلان المنجزية عقلا للظن
تابعة لاحراز اهتمام الشارع بمرامه، ومع النهي الصريح كيف يحرز الاهتمام الثاني،
بناء على المسلك الأول وحكم العقل بالأخذ بأقرب الطرق إلى المعلوم، لابد من أخذ
الممنوع في مورد الظن المانع والممنوع، وطرح المانع لما مر، من أن حكم العقل
حينئذ يكون منجزا لا يقبل ورود الترخيص على الخلاف، والاخذ بالمانع وطرح
الممنوع ينافي المنجزية، وأما على الطريق الثاني، فلا وجه للاخذ بالمانع، لان بالأخذ به
يستكشف خروج الممنوع عن الجعل بخلاف جعل الاخذ بالممنوع، فإن لازمه طرح
المانع بلا وجه، فيكون المقام من الدوران بين التخصيص والتخصص، فتدبر، وكذا على
الطريق الثالث لابد من الاخذ بالمانع، لعدم إحراز الاهتمام في غيره الثالث مما أحرز
العقل كثرة الاهتمام به، ولو في ظرف الجهل به لزوم شكر المنعم، ووسائط النعم
المتوقف على المعرفة بالمنعم وبوسائط نعمه عقلا، ومع عدم التمكن فإن أمكنه عقد
44

القلب بالمنعم وبوسائط رجاء، فهو، وإلا ففي وجوب تحصيل الظن مقدمة لعقد
القلب وجه قوى، هذا خلاصة الكلام فيما للظن من الاحكام والأقسام، ومن الله
الإعانة، وبه الاعتصام.
المقصد الثالث
في مباحث الأصول العملية
إعلم إن الشك وعدم العلم بالواقع تارة يكون موردا لجعل حجة، وأخرى يكون
موضوعا لاثبات حكم، ولازم الأول هو انقلاب الشك، وعدم العلم بالواقع بواسطة
الحجة المجعولة في المورد، بخلاف الثاني، لأن الشك بالواقع إذا كان موضوعا لشئ،
فهو لا ينقلب، ولو بعد تحقق ذلك الشئ، وهذا هو الفرق بين الامارة والأصل، من
حيث أخذ الشك موردا لحجية الامارة، وموضوعا للأصول العملية، وبعبارة أخرى،
إن الامارة رافعة لستار الواقع تعبدا، والأصول العملية وظيفة في ظرف الاستتار،
وعدم انكشاف الواقع، فكم فرق بين أن يقول المولى، أيها المكلف عند الجهل بالواقع
وعدم العلم به، جعلت خبر الثقة طريقا لك إلى الواقع، وبين أن يقول عند عدم العلم
بالواقع وظيفتك العمل بالحالة السابقة، إذ لا حكم لك ظاهرا، فعلى هذا لا تعارض
بين الأصل والامارة، بل تقدم الامارة عليه، بلا كلام، لأنه بعد ما كان مورد الامارة
هو انعدام الشك في الواقع تعبدا بواسطة الحجة، فلا محالة لا يبقى موضوع للأصل،
بل لو قلنا بأن الامارة لا تعدم موضوع الأصل، لتقدمت الامارة عليه أيضا، لان
مفاد دليل الامارة حينئذ، إن الحكم الواقعي بيدك أيها المكلف، فالحكم الثابت للشك
في الواقع لا مورد له حينئذ، وعلى أي حال يكون مفاد دليل الامارة، أما أن لا جهل
لك أيها المكلف، أو أن الحكم الواقعي بيدك، وعلى أي منهما لا مورد لحكم الأصل، ولا
معنى لحكومة الامارة على الأصل، إلا هذا، فعلى هذا لا مجال لتوهم التداخل في
موضوع الامارة والأصول، لان موضوعهما طولي لا عرضي، حتى يتوهم التداخل،
بداهة إن الامارات مجعولة لرفع السترة عن الواقع، والأصول مجعولة في ظرف سترة
45

الواقع، وبعبارة أخرى، إن موضوع الامارات هو نفي احتمال الخلاف ببركة التتميم،
وموضوع الأصول ما لم يتمم كشفه فالقيد العدمي دائما مأخوذ في موضوعها،
وهذا هو السر في تقديم الامارات على الأصول، كما لا يخفى.
وبعبارة أخرى إن الأصول وظيفة وحكم تعبدي في ظرف لم تثبت طريقية
الظن وموصليته إلى الواقع ببركة تتميمه، وبعد الثبوت لا يبقى مجال لجريان الأصل،
وعليه إذا قامت أمارة على نجاسة شئ مثلا، بعد كونه مسبوقا بالطهارة، فحينئذ مقتضى
الامارة نجاسة هذا الشئ، ومقتضى الاستصحاب طهارته، ففي المقام قد يتوهم
التعارض بينهما، ولكنه مدفوع، لان التعارض في مورد لم يكن الظن كاشفا عن الواقع،
فإذا بنى على كشفه ببركة التتميم، ولو تنزيلا، لا يبقى مجال حينئذ لجريان الأصل، حتى
يقع التعارض بينهما، لذهاب موضوع الأصل، وهو الشك بعد مكشوفية الواقع، غاية
الامر فرق بين المكشوفية الحقيقية وبين المكشوفية التنزيلية، ففي الصورة الأولى
يرتفع موضوع الأصل حقيقة، ويعبر عن الرافع بالوارد، وفى الثانية يرتفع تنزيلا،
ويعبر عنه في لسان الشرع بالحاكم، فلسان التنزيل والحكومة له جهة توسعة
وتضييق، فمن حيث إنه ناظر إلى رفع ما يصلح أن يقع موضوعا للأصول، وهو الشك،
يكون مضيقا لدائرتها، ومن حيث توسعته للعلم إلى الوجداني والتنزيلي، يكون موسعا،
ومن هذا البيان ظهر أن تقديم الامارة على الأصول ليس إلا من جهة الحكومة،
لا الورود كما توهم، ولا من جهة التخصيص، لان النسبة بينهما عموم من وجه على
ما قرر في الرسائل، والتمسك بالاجماع المركب بعد التفكيك بين تقديم الامارة على
الأصل في مورد الاجتماع والافتراق غير سديد، إذ الظاهر إن هذا الاجماع غير
مستند إلى تعبد شرعي.
(وينبغي التنبيه على أمور)
الأول، كما تقدم الامارات على الأصول، تقدم الأصول التنزيلية أيضا على غير التنزيلية،
لان جعل شئ في مورد الشك فقط من دون نظر إلى جعل المشكوك منزلة الواقع، كما هو مفاد
الأصول الغير التنزيلية، يكون هذا متأخرا طبعا عما إذا جعل فيه المشكوك منزلة الواقع
46

كما هو مفاد الأصول التنزيلية. ثم إنه لا إشكال في كون الاستصحاب
من الأصول التنزيلية، وأما قاعدتي الحلية والطهارة، ففي كونهما من الأصول التنزيلية
كلام، مر إجماله في ذيل مبحث الاجزاء فراجع، ثم إنه لا إشكال في تقديم
الاستصحاب على الأصول الغير التنزيلية، لما مر آنفا، وأما تقديمه على قاعدتي الحلية
والطهارة، فإن كان النظر في مورد الاستصحاب إلى إبقاء اليقين عند الشك، فالظاهر
تقدمه عليهما، إذ يثبت بذلك غايتهما، وحينئذ يكون في الاستصحاب جهتان من جهة
الابقاء لليقين، تقدم على القاعدتين، ومن جهة أخذ الشك في موضوعه تقدم الامارات عليه،
الثاني، الظاهر إنه ليس الأصل والامارة من مخترعات الشارع، بل هما من المرتكزات
العرفية العقلائية، فتريهم يعتمدون على العلم، ثم على مطلق ما يوجب الاطمينان
والوثوق، ثم يبنون على أحد طرفي الشك تنزيلا، أو بلا تنزيل في البين، وما ورد من
الشرع في حجية الامارة أو الأصل إنما هو إمضاء لما عليه الارتكاز العقلائي، وليس
بينهما اختلاف في أصل الجعل، وإن كان اختلاف بين الشارع والعقلاء، فإنما هو في
المصاديق وصغريات الجعل، كمنع الشارع عن بعض الظنون، كالظن الحاصل عن
القياس والاستحسانات العقلية، مع إن العقلاء يرتبون على تلك الظنون الآثار في مقام
العمل، لعدم إحاطتهم بالمصالح والمفاسد الواقعية، إن قيل هل للعرف بناء على العمل
بالأصل مع الامارة، أم لا؟ فعلى الأول يلزم خلف الفرض، لما ذكر من أن بنائهم
بالترتيب، وعلى الثاني يلزم ورود الامارة على الأصل، لعدم بنائهم عليه معها، وحينئذ
على القول بحكومة الامارات على الأصل، يتحقق الاختلاف بين الامارات والأصول
الشرعية، وبينهما إن كانا عقلائية، يقال بنائهم على العمل بالامارة ينحل إلى بنائين،
الأول، أصل بنائهم الحقيقي على العمل بها، والثاني بنائهم على تنزيل مؤديها منزلة
الواقع، ويتحقق الحكومة من حيث البناء الثاني دون الأول.
الثالث، مقتضى تقدم القطع على الظن المعتبر، وهو على الأصول التنزيلية، وهي
على الأصول الغير التنزيلية، هو تقديم بحث الأصول التنزيلية على غيرها، فاللازم
هو تقديم بحث الاستصحاب على البراءة والاشتغال، ولكن أوقعنا في خلاف الترتيب
الاقتداء بأسلافنا الصالحين، وحفظ طريقتهم رضوان الله عليهم أجمعين، مع إن أكثرية
47

الجهات في بحثي البراءة والاشتغال، توجب مزيد الاهتمام به، فيقدمان من هذه الجهة
أيضا، ثم إن الأولى في بيان مجرى الأصول، أن يقال أنه إن لم تلاحظ الحالة السابقة،
إما أن لا يكون بيان في البين مطلقا، ولو بمثل الأصول الموضوعية، فهو مجرى
البراءة، سواء أمكن الاحتياط التام، أو لم يمكن، كدوران الامر بين الوجوب
والحرمة والإباحة، وإن تحقق البيان، فمع التمكن من الاحتياط تماما أو بعضا، فهو
مجرى قاعدة الاشتغال، وإلا فهو مجرى التخيير، وإن لوحظت الحالة السابقة، فهو
مجرى الاستصحاب، فيقع البحث في كل واحد من الأصول.
(القول في أصل البراءة)
ومحط البحث فيها هو الشبهات الحكمية التي كان أمر وضعها ورفعها بيد الشارع،
بلا فرق بين كون الشك في نفس الحكم مع العلم بموضوعه، أو من جهة الشك في
مفهوم الموضوع، أو من جهة الشك في مقدار الموضوع، قلة وكثرة، مع عدم كون
المورد ارتباطيا، وأما إن كان ارتباطيا ففيه كلام يأتي في محله، ولا فرق أيضا بين
كون الشبهة تحريمية أو وجوبية، والمجتهدون على البراءة في جميع ما مر، والأخباريون
على الاحتياط في الجميع، إلا في الشبهة الوجوبية، ولا يخفى إن النزاع بين الطائفتين
صغروي لا كبروي، لان من المسلمات بين العقلاء قبح العقاب بلا بيان، كما إنه من
المسلمات بينهم وجوب دفع الضرر الأخروي، كما لا شبهة ظاهرا بينهم في تقدم قاعدة
قبح العقاب على قاعدة الضرر، لعدم احتمال الضرر في مورد جريانها، وحينئذ فالمجتهد
يدعي بأن الشبهات البدوية صغرى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، والأخباري يدعي
إنها صغرى لقاعدة دفع الضرر للعلم الاجمالي بالتكليف، أو من جهة دلالة الاخبار
والآيات على ذلك، فعلى المجتهد نفي العلم الاجمالي ونفي دلالة الاخبار والآيات على
ذلك، فعلى هذا لا وجه لتمسك المجتهد بقاعدة قبح العقاب، ولا وجه أيضا لتمسك
الاخباري بقاعدة دفع الضرر، لأنها من الكبريات المسلمة فيما بين الطرفين، وإنما المهم
هو إثبات أن الصغرى من الكبريين، فإذا انتفى العلم الاجمالي، وثبت عدم دلالة الاخبار
والآيات على تحقق الضرر الأخروي، فلا محالة يكون الصغرى صغرى لقاعدة قبح
48

العقاب، كما لا وجه لتمسك الطرفين بالاجماع أيضا، لان إجماع الأخباريين من جهة
ما ارتكز في أذهانهم من العلم الاجمالي، وإجماع المجتهدين من جهة اتكالهم على قاعدة
قبح العقاب، فيلغو مثل هذا الاجماع عن صحة الاستدلال به، فعمدة أدلة البراءة
هي الآيات والاخبار التي يستند بهما على إنه لا ضرر في مورد الشبهة.
(القول في الآيات التي استدل بها على البراءة)
منها قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا ما آيتها) الظاهرة في أن المراد بالاتيان
هو الاعلام والابلاغ، وحينئذ ففي ظرف الجهل، لو كان تكليف طريقي لابد من
وصوله، ومع عدمه فلا تكليف ظاهرا في البين، ويرد عليه إن الاخباري يدعى
وصول التكليف الطريقي بواسطة، أوامر الاحتياط.
ومنها قوله تعالى: (ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) الظاهرة في أنه ما كان
عذاب قبل البعث كلية، بلا اختصاص له بأمة دون أمة، فالمنساق من الآية هو نفي
الاستحقاق، لا الفعلية، والمنساق من الآية، إنما هو نفي الاستحقاق قبل بعث الرسول،
وإتمام الحجة الظاهرية، وإناطة الاستحقاق بالبيان ولو ظاهريا، هذا ولكن يرد عليه
إن هذا هو عين كبرى قبح العقاب بلا بيان، مع تخصص البيان بالرسول الظاهري،
أو مطلق البيان، مع كون التخصص بالرسول الظاهري واردا مورد الغالب، وقد
عرفت إن الاخباري لا ينكر ذلك، كما مر، نعم لو كان المراد من بعث الرسول
خصوص الاعلام بالواقع، ومن نفي التعذيب نفي الاستحقاق من قبله، ولو بعدم إيجاب
الاحتياط، يصح الاستدلال بها في مقابل الأخباريين، وأما مع احتمال كون المراد
من بعث الرسول مطلق إقامة الحجة، ومن نفي التعذيب عدم جريان عادته تعالى على
ذلك، ولو لكونه قبحا وظلما عقلا، فالأخباري لا ينكر ذلك أيضا، ثم إنه قد تجعل
الآية الشريفة ردا على القائلين بالملازمة بين حكم العقل والشرع، ببيان إن الملازمة
تقتضي تحقق العذاب عند استقلال العقل بقبح شئ، ولو مع عدم بعث الرسول،
والآية تنفي العذاب مع عدم البعث، فلا ملازمة بين حكم العقل والعذاب، ويلزمه
عدم الملازمة بين حكم العقل والشرع أيضا، ويرد عليه إن المنساق من الآية إنما
49

هو نفي الاستحقاق، كما إن الظاهر من الرسول هو الحجة، فيعم الرسول الباطني
والظاهري، مع إنه لو كان المراد منه خصوص الرسول الظاهري، لا دلالة له على نفي
الملازمة أيضا، لوروده مورد الغالب.
ومن الآيات آية الوجدان وهي قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما
على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الخ)، فإن من المسلمات بين أهل الاستنباط إن
أخذ عنوان في حيز الخطاب، يدل على دخله في الحكم، ما لم تقم قرينة قطعية على الخلاف،
وحينئذ فأخذ عنوان عدم الوجدان في الآية دليلا لعدم الحرمة، ظاهر في أن نفس
عدم الوجدان مناط الترخيص وجواز الارتكاب، وعدم وجدان النبي صلى الله عليه وآله، وإن
كان ملازما لعدم الوجود، لكن الاستظهار بمناط نفس العنوان، لا بخصوصية المورد،
وفيه إن التمسك بالعنوان المأخوذ مسلم إذا كان المتكلم في مقام البيان، من جهة دخل
العنوان، وإلا فلا وجه للتمسك بالعنوان المأخوذ، كما هو واضح، وليست الآية في
مقام البيان من هذه الجهة.
ومن الآيات قوله تعالى: (وما لكم أن لا تأكلوا ما ذكر اسم الله عليه وقد
فصل لكم ما حرم عليكم)، إذ يستفاد منها إن عدم دخول شئ فيما فصل منشأ
لجواز الارتكاب، ولو كان في الواقع حراما، وفيه إن ظهور التفصيل إن كان في
مقام البيان، فيصح التمسك حينئذ بالظهور المستفاد من الحصر، ولا ربط له بالأصل
وإن لم يكن في مقام البيان، فلا وجه للتمسك به أصلا، ومنها غير ذلك من الآيات
التي لا ظهور لها يعتد به للاستدلال على البراءة.
(القول فيما استدل على البراءة من السنة)
منها قوله صلى الله عليه وآله في المستفيض: رفع عن أمتي تسعة أشياء، الخطأ، والنسيان،
وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والطيرة،
والحسد، والوسوسة في الخلق، الحديث، وحيث إن المنساق من مثل هذا الحديث كونه
واردا مورد الامتنان والرأفة على الأمة، فمقتضاه رفع إنشاء الحكم الظاهري، ولو
لحفظ الواقع في ظرف الجهل به مع كمال تمكنه من إنشائه، فيعارض الحديث الشريف
50

الأخبار الدالة على إيجاب الاحتياط، فتحمل على الاستحباب، أو الارشاد، جمعا، فهذا
الحديث أتم دليل للقائلين بالبرائة، في مقابل ما استدل به الأخباريين، وتتميم القول
في الحديث الشريف يقتضى الكلام في جهات.
الأولى، كثر النزاع في أن المرفوع هل هو خصوص المؤاخذة، أو جميع
الآثار، أو الأثر المختص بكل واحد مما ذكر في الحديث، ولكن الظاهر إن النزاع
مما لا جدوى تحته، بعد المحافظة على أمرين، هما من المتفق عليه بينهم، الأول، لزوم
كون المرفوع مما يناسب الامتنان، الثاني كونه مما تناله يد الوضع والرفع الشرعي،
ولو بالواسطة، وحينئذ فلك أن تقول إن المرفوع في الجميع هو المؤاخذة ولو بمنشائها،
أو تقول إن المرفوع هو الآثار الشرعية القابلة للرفع، إذا كانت فيه المنة، أو تقول
إن المرفوع ما هو المناسب لكل واحد مما ذكر في الحديث، ففي الخطأ والنسيان
إيجاب التحفظ المستتبع لرفع وجوب الاتيان بالمنسى وما أخطأ، وفى مالا يعلمون
إيجاب الاحتياط، وفيما لا يطاق، وفي الاضطرار، رفع الأحكام التكليفية، نفسية أو
غيرية، مع ملاحظة كون الرفع موافقا للامتنان، وكذا بالنسبة إلى الاكراه وباقي
الفقرات المذكورة في الحديث.
الثانية، إطلاق الحديث كما يشمل الحكم التكليفي يشمل الوضعي أيضا، مع
كونه تحت يد الشارع وضعا ورفعا، إن قيل، فعلى هذا لا وجه للإعادة في الحكم
المنسي، أو الجزئية المنسية، إذ برفع الحكم الوضعي يستكشف إنا رفع الامر المتعلق
بالإعادة، مع كونه موافقا للمنة أيضا، فيقال نعم هو كذلك، لو كان رفع المنسي مطلقا
ولو بلحاظ حال انقلابه إلى الالتفات، وأما لو كان الرفع ما دام النسيان فلا وجه
لاستكشاف عدم الإعادة، إذ المقتضى للتكليف وهو المصلحة، موجب لاحداث
التكليف بالإعادة بعد الانقلاب إلى الالتفات، إن قيل ورود الحديث مورد الامتنان
يقتضي رفع الامر بالإعادة بعد الالتفات أيضا، لأنه ما دام النسيان متحققا مرفوع
بحكم العقل، من دون احتياج إلى الحديث، يقال لو كان النسيان بغير اختياره، فالعقل
يحكم برفع الحكم حينئذ، وأما لو كان باختياره ولو لتمكنه من حفظه، فالعقل لا يحكم
برفعه، وحينئذ ففي رفعه من الشارع كمال المنة، نعم لابد وأن لا يكون الحفظ حرجيا،
51

إن قيل ظاهر الحديث رفع الحكم في حال النسيان، ومن المعلوم إن في ظرف النسيان
لا يعقل جعل مولوي، فأي شئ يكون مرفوعا في هذا الحال، إذا لم يكن قابلا للوضع
فيه، يقال المرفوع إنما هو وجوب حفظ الالتفات بمقدماته الاختيارية، حيث إن
للشارع إيجاب حفظ الالتفات، حتى لا يقع المكلف في النسيان، فرفع الوجوب رأفة للأمة.
الثالثة، لا ريب في إن الامتنان قد يقتضي صحة المعاملة، مثلا المعاملة التي أقدم
عليها المكلف لاضطراره إليها، لا وجه لبطلانها والحكم بفسادها، لحديث الرفع، لان
بطلانها يوجب الضيق عليه، حتى فيما إذا كان اضطراره بسوء اختياره، وقد يقتضي
الامتنان عدم صحة المعاملة، كما في مورد الاكراه، فإن مقتضى الامتنان عدم صحة
المعاملة المكره عليها.
الرابعة، من التسعة المرفوعة الطيرة والحسد والوسوسة، ومعنى رفع الأول
ردعهم عما التزموا على أنفسهم بتطيراتهم المعروفة في عصر الجاهلية، ومعنى رفع الثاني
عدم لزوم رفعه بالرياضات والمجاهدات، وإن كان ممدوحا في علم الأخلاق، لكنه
ليس بواجب في علم الفقه، ومعنى رفع الوسوسة رفع مرتبتها، ففي هذه الثلاثة مقتضى
التكليف كان ثابتا، ولكن رفعه الشارع تسهيلا ورأفة، هذا بعض ما يتعلق بالحديث
الشريف، وسنشير إلى بعض ما يتعلق به في المقام المناسب إن شاء الله.
ومنها حديث الحجب وهو قوله عليه السلام: ما حجب الله علمه عن العباد فهو
موضوع عنهم، الحديث، ومعناه إن في كل مورد حجب الله علمه التشريعي عن العباد
ولم يبلغ مرامه إليهم، فهو موضوع عنهم، ولو بإيجاب الاحتياط، فمعنى قوله موضوع
عنهم عدم إنشاء الحكم في ظرف الجهل، ولو بإيجاب الاحتياط، رأفة للعباد، ورحمة عليهم
مع تحقق الاقتضاء لجعل الاحتياط، فالمستفاد من قوله فهو موضوع عنهم، غير ما هو
المستفاد من قوله ما حجب الله علمه عن العباد، لان الثاني ناظر إلى عدم إبلاغ
الواقع، والأول ناظر إلى عدم جعل الاحتياط حفظا للواقع، فهو مثل حديث الرفع،
دال على نفي إيجاب الاحتياط، لكنه أخص موردا من حديث الرفع، لعدم شموله
للشبهات الموضوعية، لعدم صدق حجب العلم عنه في مقام التشريع، فيحتاج في التعميم
إلى عدم القول بالفصل، نعم لو أريد من حجب العلم حجبه في مقام التكوين، أي لم
52

يوجد أسباب علم المكلف بالتكليف، فيشمل الجميع، فيساوق مفاده مفاد حديث الرفع،
لكنه بعيد.
ومنها قوله عليه السلام: كل شئ لك حلال حتى تعرف إنه حرام بعينه فتدعه
الحديث، وهو ظاهر في حلية الشبهات الحكمية، خلافا للأخباريين، إن قيل مقتضى قوله
بعينه، هو اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية، فلا يشمل الشبهات الحكمية،
فيكون مساقه مساق قوله عليه السلام كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى
تعرف الحرام منه بعينه، الظاهر في كون القسمة إلى الحلال والحرام فعليا لا فرضيا،
قلنا يمكن تحقق فعلية القسمة في الكليات أيضا، ولا تختص بالشبهات الموضوعية
كاللحم، بالإضافة إلى لحم الغنم والأرنب، فيشمله الحديث، ويثبت به حلية الفرد
الثالث المشتبهة، مثل لحم الحمير مثلا، فإن وجود الفردين المشتبهين في اللحم منشأ الاشتباه
الفرد الثالث من اللحم، كما هو الشأن في الشبهات المصداقية، فالمراد من الغاية معرفة
الحرام في دائرة الشبهات، كلية كانت أو جزئية، ثم إن موارد تحقق الامارة على
الحرمة خارجة عن مورد الحديث، لأنها مما عرف إنها حرام بعينه، لان المراد بالمعرف
أعم من المعرفة الوجدانية، أو ما كانت بحجة معتبرة.
ومنها قوله: كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي، وتقريبه بعين التقريب السابق،
من غير فرق، وقد يستدل بجملة أخرى من الاخبار، هي وإن أمكن الخدشة في كل
واحد منها، إلا إن مجموعها بضميمة ما ذكرنا، يصح أن يحتج بها على المطلب.
قد استدل على البراءة بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولا إشكال فيه، لكن قد
توهم معارضته بقاعدة دفع الضرر المحتمل، ويرد عليه إن مورد قاعدة دفع الضرر فيما
احتمل الضرر من الخارج لا من إجراء نفس القاعدة، إذ يستحيل مجئ الموضوع
من قبل حكمه، والمفروض عدم احتمال الضرر من غير ناحية نفس قاعدة الضرر، هذا
وقد مر إن التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان أيضا لا وجه له، لعدم النزاع فيها
بين الطائفتين، وإنما النزاع في الصغرى، كما لا يخفى، كما إنه لا وجه للتمسك بالاجماع
لتحقق الخلاف العظيم، وقد يستدل باستصحاب البراءة، فإن كان المراد منها
استصحاب براءة ذمة المكلف من غير ما تعلقت به من الاحكام، ففيه إن حكم العقل
53

بتحصيل البراءة اليقينية حينئذ حكم تنجيزي لا يمكن الترخيص على خلافه، وإن
كان المراد به استصحاب عدم اللزوم في ظرف الجهل، أو عدم اللزوم واقعا، فالظاهر
عدم محذور فيه.
(القول فيما استدل به للاحتياط)
في الشبهات الحكمية، وقد استدلوا على ذلك بالأدلة الثلاثة، فمن الكتاب بآيات
منها قوله تعالى: (فاتقوا الله حق تقاته وجاهدوا في الله حق جهاده واتقوا الله
ما استطعتم ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله
ورسوله)، ومنها الآيات الناهية عن القول بغير علم، والجواب أما عما دل على النهي
عن القول بغير علم، فهو إن المراد من العلم هي الحجة المعتبرة، وبعد إثبات البراءة في
الشبهات التكليفية بالحجة المعتبرة، لا تكون تلك الآيات شاملة للمقام، بل تكون
أدلة البراءة واردة عليها، كما لا يخفى، وأما آيتي التقوى والمجاهدة، فمحمولة على الارشاد،
وإلا فظاهرها لزوم المرتبة الأخيرة من التقوى والمجاهدة، مع إنها غير لازمة قطعا،
وأما آية التهلكة، فهي مثل قاعدة دفع الضرر المحتمل في ورود قبح العقاب بلا بيان
عليها، وأما آية الرد إلى الرسول، فموردها عدم التمكن من إزالة الشبهة، والاستناد
فيها إلى حجة ظاهرية، مع إمكان حملها على صورة تعارض النصين، والترجيح بالكتاب
والسنة، هذا ما استدلوا به من الكتاب، وأما السنة، فاستدلوا أيضا بطوائف منها
الامرة بالوقوف عند الشبهة، معللة بالاقتحام في التهلكة، أو الامر بالوقوف مطلقا
من دون تعليل بذلك، ومنها الامرة برد حكم الشبهة إلى الله والرسول، ومنها
الامرة بالاحتياط، ومنها الناهية من القضاء بغير علم، والجواب إما عن الطائفة
الأولى المعللة بالتهلكة، فهو إنها مختصة بما إذا تم البيان حين يحتمل فيه التهلكة، وأما
مع عدم تمامية البيان، فلا تهلكة بحكم العقل، وأما عن الامرة بالتوقف مطلقا،
فهي محمولة على الندب، بقرينة ما دل من أدلة البراءة، وأما عما يدل على رد حكم الشبهة
إلى الله والرسول، فقد مر ما يرد عليه في آية الرد، وأما عما يدل على لزوم الاحتياط،
فبأن الامر فيها محمول على مطلق الرجحان، لقرائن داخلية فيها، مع أدلة خارجية تدل
54

على عدم لزومه، وأما النهي عن القضاء بغير علم، فهو لا ينافي معذورية المكلف عند
عدم العلم، لما مر من أدلة البراءة، وأما العقل فللعلم الاجمالي بوجود أحكام منجزة في
الشريعة، لا تحصل فراغ الذمة عنها إلا بالاحتياط في جميع الشبهات، والجواب منع
تنجز مثل هذا العلم الاجمالي، لانحلاله بالظنون الخاصة بمقدار المعلوم بالاجمال، كما عليه
الأخباريون، أو لان الاحتياط التام في أطرافه، حيث إنه يوجب الحرج فيستكشف
بضميمة قاعدة الحرج وجود طريق معتبر بمقدار ما ينحل به المعلوم بالاجمال، فلا
تصل النوبة إلى وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية بواسطة العلم الاجمالي، كما لا يخفى
(وينبغي التنبيه على أمور)
الأول، قد ذهب بعض إلى أن حصول العلم التفصيلي، أو قيام الطرق الغير العلمية
بالنسبة إلى بعض أطراف العلم الاجمالي، يوجب انحلال العلم الاجمالي حقيقة، فيحقق
الشك البدوي بالنسبة إلى الطرف الآخر، ويرد عليه إنه مسلم فيما إذا كان متعلق
العلم الاجمالي والعلم التفصيلي أو الطريق المعتبر متحدا حقيقتا واقعا وخارجا، وأما
إذا كان متعلق كل منهما غير متعلق الاخر، فلا يكون من الانحلال الحقيقي في شئ،
لاختلاف المتعلقين، وكل منهما متقدم بمتعلقه، ولا موجب لانقلاب أحدهما إلى
الاخر، فالتحقيق إن قيام المنجز أو المعذر بالنسبة إلى أحد الطرفين أو الأطراف،
يخرج العلم الاجمالي عن تمام المؤثرية، فلا استقلال له في التأثير في الجامع لا محالة، لان
معنى الاستقلال في الجامع صحة سريان الاستقلال إلى كل واحد من الأطراف،
والمفروض عدمها، فيخرج العلم بالجامع عن المؤثرية الفعلية مطلقا، فالانحلال في جميع
موارد الطرق والامارات والأصول حكمي لا حقيقي، مع اختلاف متعلقها مع متعلق
العلم الاجمالي، بأن يحتمل كونه غير المعلوم بالاجمال، ثم إن من شرط الانحلال فعلية
تنجيز ما قام على أحد الأطراف حين تحقق العلم الاجمالي، سواء كان قيامه على أحد
الأطراف قبل حصول العلم الاجمالي أو بعده أو مقارنا له، وأما عدم التنجيز حال
حصول العلم الاجمالي، فلا وجه للانحلال حينئذ، سواء كان حدوثه سابقا أو لاحقا
أو مقارنا، ثم لا يخفى الفرق بين الانحلال وبين جعل البدل، فأن الأول إنما هو مانع
55

عن تأثير العلم في مرحلة الاشتغال، والثاني تصرف في مرحلة الفراغ بعد تحقق الاشتغال.
الامر الثاني انحلال العلم الاجمالي تارة بالطريق العلمي، وأخرى بالطريق
التعبدي، وثالثة بالأصل العلم الاجمالي، كالاشتغال بالصلاة المشكوك إتيانها في وقتها، مع العلم الاجمالي
بوجوبها، أو وجوب صلاة أخرى خارج الوقت، فإن الاشتغال بالصلاة في مثل
الفرض، يوجب انحلال العلم الاجمالي، كما لا يخفى، ومن موارد الانحلال أيضا، ما إذا
كان هناك علمان إجماليان، أحدهما أوسع دائرة من الاخر، وكان الاخر بمقدار
المعلوم فيما هو أوسع دائرة، ومن موارد الانحلال أيضا، ما نحن فيه، وهو ما إذا قامت
طرق منجزة على بعض أطراف العلم الاجمالي، مقارنا له، وإن كان الظفر بأشخاصها
متأخرا عنه بالزمان، فإن بالظفر بها يستكشف انحلال العلم الاجمالي من حين حدوثه،
حيث إنه كان مقارنا مع حدوثه أمارات قائمة على بعض أطرافه، موجبة لانحلاله،
فمثل هذا القسم من العلم الاجمالي لا يؤثر شيئا.
الامر الثالث، لا ريب في أن مفاد أصالة البراءة هو نفي التكليف في مرحلة
الشك، بلا ملاحظة الحالة السابقة فيها، ولا النظر إلى نفي الواقع، فلا ربط لها بقاعدة
الاستصحاب، ولا قاعدة عدم الدليل، دليل على العدم، فجعل أصل البراءة من مصاديق
الاستصحاب، والتعبير عنه باستصحاب حال العقل مخدوش، وكذا التفصيل فيها بين
ما يعم به البلوى وعدمه، بالقول بها في الثاني دون الأول، لعدم جريان عدم الدليل،
دليل على العدم فيه دون الثاني، مما لا وجه له أيضا.
الامر الرابع، لا وجه لجريان الأصول الحكمية مطلقا، براءة كانت أو غيرها،
مع تحقق أمارة أو أصل موضوعي في البين، فلا تجري أصالة الحلية والبراءة في
اللحم المشكوك تذكيته مع موجود سوق المسلم أو يده مع معاملته له معاملة المذكى،
من دون فرق في ذلك بين كون الشك من جهة الشك في القابلية، أم لا، كما لا تجريان
مع جريان أصالة عدم التذكية، بأن كانت التذكية أمرا معنويا، مسببا عن قابلية المحل،
وفري الأوداج والتسمية وغير ذلك، مما يعتبر فيها، فتجري أصالة عدم التذكية،
وتثبت الحرمة مطلقا، وإن كانت التذكية نفس فرى الأوداج بشرائطها الاخر،
56

وكانت قابلية المحل شرطا لتأثيرها، فمع كون القابلية مسبوقة بالوجود فلا إشكال في
استصحابها، وحينئذ فمع تحقق سائر الأمور يحكم بالحلية، ومع عدمها يحكم بالحرمة،
ومع عدم سبقها بالوجود، فلا وجه لأصالة عدم التذكية، إذ لا أثر لها مع عدم إحراز القابلية،
والمفروض عدم طريق لاحرازها، نعم إن كانت القابلية من الجهات العارضة على الذات، غير
مأخوذة فيها، وقلنا بجريان الأصل في الاعدام الأزلية، فبأصالة عدم القابلية تتحقق الحرمة
أيضا، وإن قلنا بعدم جريان الأصل في الاعدام الأزلية، فلا مجري لهذا الأصل أيضا، فتصل
النوبة إلى أصالة الحلية لعدم أصل موضوعي في البين، كما إنه لو أحرزت القابلية، وشك في
تأثير التذكية في الحلية، مع القطع بتأثيرها في الطهارة، فلا إشكال في جريان أصالة الحلية،
لعدم أصل حاكم في البين، نعم، لو شك في تحقق فرى الأوداج بشرائطه، فيكفي هذا
في الحكم بالحرمة، لأصالة عدمه.
الامر الخامس، من القضايا التي قياساتها معها، رجحان الاحتياط عقلا، وإنما الكلام
في إنه هل يصح أن يكون هذا الرجحان منشأ لحمل الأوامر الاحتياطية الواردة
شرعا على الاستحباب المولوي، أو عدم صحة ذلك، فتحمل الأوامر المزبورة على
الارشاد إلى حكم العقل، والحق أن يقال إنه إن كان عنوان الاحتياط عبارة عن
نفس إتيان ما هو محتمل الوجوب مثلا، فلا بأس بحمل الأوامر المزبورة على
الاستحباب المولوي، طريقيا أو نفسيا، فتكون بمنزلة سائر الأوامر الطريقية، في إنها
مع المصادفة للواقع، يتنجز الواقع بها، ومع المخالفة يكون ترخيصا للمخالفة في
مرتبة الجهل بالواقع، وحينئذ فمنع استقلال العقل برجحان الاحتياط بهذا المعنى
ممكن، وأما إن كان عنوان الاحتياط عبارة عن إتيان الفعل بداعي احتمال وجوبه
مثلا، فحيث إن منشائية الداعي لاتيان الفعل مأخوذ فيه، فينطبق عليه عنوان الانقياد،
وهو مما يستقل العقل بحسنه، فلا مجال حينئذ للامر المولوي من الشارع، مثل الامر
الوارد من الشارع بالنسبة إلى الإطاعة، فكما إن أمر الإطاعة لابد وأن يحمل
على الارشاد، فكذا أوامر الاحتياط في المقام، وحيث إن الظاهر من عنوان
الاحتياط هو الثاني، فأوامر الاحتياط كلها إرشاد إلى حكم العقل، نعم ظاهر بعض
الاخبار إثبات الحكم لعنوان مشتبه الحكم، مثل قوله من ترك الشبهات فهو لما
57

استبان له أترك. وفى مثله يتجه الاستحباب المولوي، بخلاف ما ورد الحكم فيه بعنوان
الاحتياط، أو غيره من العناوين المنطبقة على اتيان العمل بداعي دعوة الامر، فإنه
حينئذ مما يستقل العقل بحسنه، والأوامر الشرعية الواردة منه إرشادي، كأوامر
الإطاعة، وبمثل هذا الاختلاف وقع الخلاف في أخبار من بلغه ثواب عن النبي صلى الله عليه وآله،
مع تعدد مضامينها، ففي بعضها من بلغه ثواب على عمل فعمل رجاء ذلك الثواب، وفي
بعضها الاخر فعمل التماس ذلك الثواب، وفى ثالث فعمل طلب قول النبي صلى الله عليه وآله،
وخلاصة وجه الخلاف في أخبار من بلغ، هو أن الامر المستفاد من نحو قوله عليه السلام
له مثل ذلك الثواب، هل هو متعلق بعنوان العمل البالغ فيه الثواب، حتى يكون
مستحبا مولويا ولو طريقيا، أو إنه متعلق بالعمل المأتى بداعي البلوغ ورجاء وجود
الثواب واقعا، حتى لا يبقى مجال لأعمال جهة المولوية، وبحمل الامر على الارشاد
إلى حكم العقل، والظاهر من أخبار الباب، هو الثاني، حيث إن ظاهر قوله عليه السلام من
بلغه ثواب على عمل فعمل، إن العمل المصدر بفاء الترتيب متأخر عن العمل البالغ
فيه الثواب، فهو معلول بلوغ الثواب، فالمقام من قبيل أن يقال: لو أردت الضرب
فضربت كان كذا، حيث إن الضرب الأول موضوع الإرادة، والضرب الثاني معلول
الإرادة، فيكون العمل حينئذ مسوقا لعنوان الإطاعة والانقياد، الذي يستقل العقل
بحسنه، فالامر المتعلق به على هذا، ليس إلا للارشاد، بداهة طولية العملين، وإن العمل
الثاني مترتب على الأول وفى طوله، فلا بأس بأن يكون العمل الثاني موردا لحكم
العقل، حسنا أو قبحا، مع بقاء العمل الأول المعروض على ما هو عليه.
(تنبيه)
إن ما ذكرناه من طولية العملين، كما يستفاد منه ظهور الامر في المقام وفى باب
الاحتياط في الارشاد بلا شائبة المولوية أبدا، كذلك ينفع في باب التجري والانقياد
أيضا، بداهة أن العمل المتجري به، من حيث هو كذلك، مترتب على ذات العمل وفى
طوله، ولا بأس حينئذ باختلاف حكمهما في نظر العقل، من دون سراية حكم الأول
إلى الثاني، وتوضيح ذلك إجمالا، إن الصفات الوجدانية من العلم، والإرادة، والكراهة
58

والتمني، والترجي ونحوها، لا تعلق لها بالوجود الخارجي، كيف وفي القطع المخالف
الواقع، أو الظن كذلك، لا خارج حتى يتعلق به، وكذا التمني والترجي لا خارج لهما
في البين، بل ربما يكون المتمني محالا، كما في قول الشاعر فياليت الشباب يعود يوما الخ
وكذا في الإرادة والكراهة، يكون الخارج ملازما لسقوطهما، فكيف تتعلقان
بالخارج، وعلى هذا فمتعلق هذه الصفات هي العناوين المتصورة من حيث المرآتية
إلى الخارج، التي اصطلحنا عليها بالوجود الزعمي لا الحقيقي، وتمام هذه الصفات من
الصفات التي ظرف عروضها الذهن، وظرف اتصافها الخارج، وصاحب هذه الصفات
لا يرى إلا الوجود خارجا زعما، مع إنه لا وجود في البين في الخارج، وليس ذلك إلا لمرآتية
هذه الصفات للخارج، واعتبار الوحدة بينهما، ولأجل اعتبار هذه الوحدة، ربما يسرى
ما لأحدهما من الخصوصية إلى الاخر، وكل واحد يكتسب من الاخر لونه المختص به،
فالخارج يصير مراد أو معلوما ومكروها، بالوجود اللحاظي، واللحاظي يصير ذا مصلحة
بواسطة الخارجي، ففي تمام الخطابات يكون معروضها نفس العنوان والمعنون، خارج
عن مصب الخطاب، فلا بأس حينئذ في لحاظهما طوليين، وكون كل واحد من الاخر،
بلا سراية في البين أصلا، إن قيل فهل يصح ابتناء جواز اجتماع الأمر والنهي على هذا
المبنى؟ قلنا: لا يصح لان الجهتين في باب الاجتماع عرضيتين متحدتين موجودتين في الجامع
فعلا، وتفصيل هذا الاجمال له مقام آخر.
(إشكال ودفع)
قد استشكل في جريان الاحتياط في العبادات، بناء على احتياجها إلى أمر جزمي،
بإنه لا أمر كذلك في البين، فكيف يتحقق الاحتياط؟ وعمدة الدفع عدم احتياج عبادية
العبادة إلى الامر الجزمي، بل يكفي في حصول التقرب والمثوبة إتيان العمل بداعي المحبوبية
والمطلوبية، وصريح الوجدان في هذا يغنى عن إقامة البرهان، فلا محذور في الاحتياط في العبادات
(تتميم يذكر فيه أمران)
الأول، إن قلنا أن مفاد أخبار من بلغ ليس إلا الارشاد إلى حكم العقل بحسن
الاحتياط، فلا مجال حينئذ للفقيه أن يفتي بالاستحباب شرعا، بل ليس له إلا الارشاد إلى
59

الرجحان لمن وصل إليه الخبر، وأما بالنسبة إلى من لم يصل إليه، أو من كان غافلا عنه،
فله إبداء الاحتمال بالنسبة إليهما، وإن قلنا باستفادة الاستحباب النفسي. ومنها إنه يفتي
الفقيه بالاستحباب النفسي لمن تحقق الموضوع بالنسبة إليه، وهو من وصل الثواب
بالنسبة إليه، وأما بالنسبة إلى من لم يصل إليه الثواب أبدا، أو غفل عنه، فلا وجه
للفتوى بالاستحباب النفسي بالنسبة إليه، وكذا لو قلنا باستفادة الاستحباب الطريقي،
فإن ذلك ثابت لعنوان من بلغه الثواب، نعم إن كان مفادها راجعا إلى تتميم الكشف
للخبر الضعيف، وإثبات حجيته، فللفقيه حينئذ أن يفتي بالاستحباب، ولو بالنسبة إلى
من لم يصل إليه الثواب، لان دليل تتميم الكشف متحقق بالنسبة إلى الفقيه
كسائر الأدلة والحجج، ثم إنه من ثمرات الاختلاف في الارشادية والمولوية بالنسبة إلى
أخبار من بلغ، إنه بناء على الارشادية، لا بأس في شمول الاخبار لفتوى الفقيه، أو غيره،
مما يوجب احتمال تكليف في البين، وأما بناء على الاستحباب، ففي الشمول إشكال، إذ
القدر المتيقن منها هو الروايات، وكذا بناء على الارشاد لا يجري حكم الجزئية شرعا،
على ما دلت الرواية على جزئيته، بخلافه على الاستحباب، فليس لمسترسل اللحية أخذ
البلة منها للمسح، بناء على الارشادية، بخلافه على الاستحباب.
الثاني، لا ريب في اختلاف كيفية تعلق الأوامر بالافراد، فتارة يكون بنحو
الاستغراق، وأخرى بنحو الطبيعة السارية، وثالثة بنحو الطبيعة الصرفة، وهذه تارة
بنحو يجب تحصيل الموضوع، كما في قوله إشرب الدواء، وأخرى بنحو لا يجب
ذلك، كما في قوله له أكرم العالم، والضابط الكلي في جميع هذه الأقسام، إنه كلما كان
الخطاب انحلاليا، يكون مورد الشك في الموضوع من مجاري البراءة، سواء كان
الموضوع مما أنيط به الخطاب، أو لا، بداهة أن عهدة تطبيق التكليف على الافراد
على المولى، بناء على الانحلال، فمع الشك في التطبيق يكون من موارد الشك في التلكيف،
فيتحقق مجرى البراءة، وكل مورد لم يكن التكليف انحلاليا، فإن لم يكن الموضوع
في حيز الخطاب، كما في مثل أكرم العالم، كان مجرى البراءة للشك فيما أنيط به التكليف،
وإن كان موضوع الخطاب أيضا في حيز التكليف، فلابد فيه من الاحتياط إلى
أن يعلم الخلاف، لان تطبيق التكليف على الفرد حينئذ يكون على عهدة المكلف، ولذا
60

نقول: بإنه في موارد الشك في القدرة، يجب على المكلف إحراز الفراغ والخروج
عن العهدة، هذا كله حال الأوامر، وأما النواهي، فهي أيضا يكون متعلقها تارة الطبيعة
السارية، وأخرى صرف الوجود، وعلى كل منها تارة يكون الخطاب متعلقا بموضوع
خارجي كلا تشرب الخمر مثلا، وأخرى بخلافه، وفيما كان للموضوع
تحقق خارجي تارة، يكون الخطاب منوطا به، وأخرى لا يكون كذلك والضابط
الكلي إن في جميع موارد الشك في تحقق النهي، بجميع أقسامه يرجع إلى البراءة، بلا
فرق بين جميع ما مر من الأقسام، لدخول المصداق المشكوك كونه مورد النهي
وعدمه في باب الأقل والأكثر، والحق فيه هو البراءة أيضا، نعم تفترق النواهي عن
الأوامر، بأن الأوامر عند عدم تعلقها بموضوع خارجي، أو تعلقها به بنحو يكون في
حيز التكليف، يستقل العقل حينئذ بعدم الاكتفاء بمشكوك المصداقية، بل يحكم
بوجوب تحصيل الفراغ اليقيني، ولو كان الامر منوطا بوجود المتعلق، فمع الشك في
تحقق ما أنيط به، يشك في توجه الخطاب، فيرجع إلى البراءة، ومع العلم به، وعدم الشك
في المصداق، فمع القدرة على الامتثال يتنجز التكليف، أمرا كان أو نهيا، ومع عدم
القدرة على الامتثال، فإن قدر على تفويت ما أنيط به التكليف، فلا يبعد القول بلزوم
إعدامه، نظرا إلى حفظ مقام المولى عن الوقوع في تفويت غرضه، فيلزم تفويت
الشرط حتى لا يكون له غرض فيفوت غرضه، بعدم قدرة العبد على امتثاله. مثلا إذا
علم الشخص بإنه إذا دخل دار الخمار يجبر على شرب الخمر، ولا يقدر على تركه،
فيحكم العقل حينئذ بعدم جواز الدخول، نعم لو فرض كون المتعلق في حيز التكليف،
يمكن الفرق بين الأمر والنهي، بإنه مع عدم المتعلق يجب إيجاده في الأول، وأما لو كان
موجودا، ففي النواهي لا يجب إعدامه ما دام إعدام نفس المنهي عنه مقدورا
له وإنما يجب إعدام المتعلق في ظرف عدم القدرة على إعدام المنهي عنه، كما مر، ومما
ذكرنا يظهر ما في كلام شيخنا الاجل الأنصاري قدس سره، حيث جعل الأوامر
والنواهي على نسق واحد، من لزوم تحصيل الطبيعة في الأول، وتركها في الثاني، غاية
الامر إنه يكفي في تحصيل الترك، استصحاب الترك مع تحقق أركانه.
(نقل كلام ونقض وإبرام) إن في تقريرات بعض أعاظم العصر، كلاما، لبابه إن
61

معروض التكليف لو لم يكن له تعلق بموضوع، كالصلاة مثلا، كان المرجع فيه، بعد
إحراز شرائط التكليف، وجوب الاتيان، ولا يتصور فيه الشبهة الموضوعية، وإن
كان له تعلق به، ففصل بين ما إذا كان المتعلق مما أنيط به التكليف، وبين ما إذا كان
في حيز التكليف، ولم يبين حكم التفصيل، وساق الكلام في التكاليف التحريمية المتعلقة
بأمر خارجي، والتزم فيها بكون التكليف دائما مشروطا بوجود المتعلق، وكونه
انحلاليا من هذه الجهة، بمقتضى القضايا الحقيقية، ثم بين الفرق بين السالبة المحصلة،
والمعدولة، بأن السلب المحصل يكون التكليف فيه انحلاليا، والمرجع فيه البراءة، بخلاف
المعدولة، فإن النظر فيه إلى تحصيل العنوان، فإنه على هذا يكون معنى لا تشرب الخمر،
كن لا شارب الخمر، فيكون ترك الافراد من محققات حصول هذا العنوان، والمرجع
عند الشك في المحقق هو الاحتياط، ويرد عليه أولا، إن التكاليف التحريمية ليس لها
تعلق بأمر خارجي كالغنا، ليست في سياق التكاليف الوجوبية كالصلاة، حتى يكون
المرجع فيهما قاعدة الاشتغال، مع إنه جعلهما في سياق واحد، بل المرجع في النواهي،
سواء كانت معتلقة بصرف الوجود، أو بالطبيعة السارية عند الشك في مصداقية
شئ، للمنهي عنه، هو البراءة، نعم بناء على تعلقها بصرف الوجود، يكون مرجع الشك
إلى الأقل والأكثر الارتباطي، وبناء على تعلقها بالطبيعة السارية، يرجع الشك إلى
الأقل والأكثر الاستقلالي، ولا فرق بينهما في جريان البراءة، كما لا يخفى، وثانيا قد
أفاد إن التكاليف التحريمية المتعلقة بأمر خارجي، تكون دائما انحلالية، لأنها من
سنخ القضايا الحقيقية، مع إن النواهي بملاحظة أن المقصود فيها، ترك الطبيعي المردد
بين شموله للمصداق المشكوك وعدمه، دائما تكون انحلالية، تعلقت بأمر خارجي
أم لا، أنيط به أم لا، وهذا النحو من الانحلال في ترك الطبيعي المردد بين الأقل
والأكثر، لأربط له بالقضايا الحقيقية، على فرض كون باب التكاليف منها، مع إنه غير
مسلم، كما مر مفصلا في بحث المقدمة، وثالثا، ما أفاد في الفرق بين السالبة المعدولة
والمحصلة، من جعل الأولى مجرى البراءة، والثاني مجرى الاحتياط، لأنه يكون الشك
حينئذ، من قبيل الشك في المحصل والمحقق، فمردود بأن العنوان إذا كان عين الافراد
خارجا، كما هو قضية الطبيعي وأفراده، فيكون ترك العنوان حينئذ، عين ترك الافراد،
62

ومع كون الافراد مرددة بين الأقل والأكثر، يكون نفس العنوان أيضا كذلك، نعم
في المحصلة يكون نفس المكلف به، مرددا بين الأقل والأكثر، وفى المعدولة قيده،
وهو العدم المضاف، المردد بين الأقل والأكثر، بمقتضى ترديد أفراده، نعم لو كان الفرد
سببا لتحقق الطبيعة، لكان الشك فيه، من قبيل الشك في المحصل والمحقق، ولكنه باطل،
كما هو واضح، ولقد بسط الكلام بأكثر من ذلك، فيما ألف في اللباس المشكوك، تعرضناه
فيما ألفناه فيه، مع ما يرد عليه شكر الله سعيه، وسعي كل مؤلف في الفقه وأصوله.
(القول في دوران الامر بين المحذورين)
لو دار التكليف بين المحذورين، فلا شبهة في حكم العقل بالتخيير بينهما، عند
تساويهما ملاكا، وإلا فلا بد من تقديم احتمال أهمهما مناطا، ومع حكم العقل لا مجال
لجريان أدلة البراءة، كما لا يخفى، وهل التخيير بدوي، أو استمراري؟ قد يقال بالأول،
لان الثاني يستلزم المخالفة القطعية، وفيه إن علية العلم للموافقة القطعية، أو عدم
المخالفة كذلك، إنما هو فيما إذا أمكن للمكلف ذلك، وفي المقام ليس كذلك، بداهة
إن تحصيل الموافقة القطعية، يستلزم المخالفة القطعية، كما إن الامر كذلك في طرف
العكس، وحيث لا ترجيح في البين، فلا بأس باستمرار التخيير، هذا كله في التوصليات
الغير القابلة للمخالفة القطعية الدفعية، وأما في التعبديات القابلة لها، ولو بإتيانها بلا قربة،
فلا شبهة في منع العقل عن المخالفة القطعية، ولازمه الاضطرار إلى أحد المحتملين،
فيدخل المقام في الاضطرار إلى أحد طرفي العلم الاجمالي بلا تعيين، وسيجئ حكمه
إن شاء الله تعالى.
(القول في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي)
لا ريب في ثبوت التكليف بدليله، في مورد العلم الاجمالي، فالبحث عن ثبوته
وعدمه في المقام، لا مجال له، والذي ينبغي أن يجعل موردا للبحث في المقام، هو أن
العلم الاجمالي، هل هو قاصر عن تنجيز ما علم ثبوته، أو لا قصور فيه؟ واستيفاء البحث
في طي مقامات.
63

الأول، إن من المعلوم، إن في العلم الاجمالي جهة انكشاف متعلقه بصورة إجمالية
حاكية عن الواقع، وجهة سترة، متعلقة بالأطراف الخارجية، من حيث طرفيتها للمعلوم
الواقعي، وكل واحدة من تلك الجهتين متباينة عن الأخرى، وإن كانتا متحدتين
خارجا، ولا سراية منهما إلى الأخرى أبدا، وظرف عروضهما الذهن، واتحادهما الخارجي
لا يوجب السراية، بحيث يكون مورد الانكشاف هو مورد الستار بعينه، وحينئذ
فيقع الكلام في أن تعلق العلم بالصورة الاجمالية، كتعلقه بالتفصيلية الحاكية عن
جميع خصوصيات مورده في تنجيز المتعلق، أو ليس كذلك، بل جهة الاجمال مانعة
عن التنجيز؟ وعلى الأول، هل هو مقتضي وقابل لمنع المانع، أو علة تامة ليست قابلة
له؟ وعلى فرض العلية، هل هي بالنسبة إلى المخالفة القطعية والموافقة كذلك، أو بالنسبة
إلى خصوص المخالفة فقط؟.
الثاني، لا ريب في إطلاق حكم العقل، واستقلاله بوجوب الامتثال، حتى في مورد
العلم الاجمالي، وصريح الوجدان يكفي في كونه منجزا كالتفصيلي، وإن ما هو المناط
في تنجيز التفصيلي، موجود في مورد العلم الاجمالي، من غير فرق، نعم لو كان لخصوصية
الأوامر دخل في الامتثال، لكان بينهما فرق، ولكن دون إثبات ذلك خرط القتاد
، وبالجملة، بعد إحراز طبيعة مراد المولى، يحكم العقل بلزوم الامتثال، إلا إذا ثبت من
الخارج، دخل في خصوصية الأطراف، في تحقق الامتثال.
الثالث، بعد ما عرفت إن مناط حكم العقل بلزوم الامتثال في مورد العلم الاجمالي،
هو إحراز طبيعة أمر المولى، بلا دخل لخصوصية فيه، فلا ريب إن هذا الحكم
تنجيزي من العقل، غير قابل للترخيص على الخلاف، كما هو الحال في المعلومات التفصيلية،
فيكون العلم الاجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية، إذ لا معنى للعلية التامة، إلا منجزية
حكم العقل، وعدم صحة ورود الترخيص على الخلاف، إن قيل تنجز حكم العقل، إنما
هو بالنسبة إلى ما تعلق به العلم الاجمالي، وهو نفس طبيعة مراد المولى، فكما إنه لا يسري
نفس العلم إلى خصوصيات الأطراف، فكذا لا يسرى منجزية حكم العقل بالنسبة
إليها أيضا، فالعلم الاجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية فقط، دون الموافقة القطعية،
قلنا: لا ريب إن تنجز الاحكام، إنما هو باعتبار وجودها الواقعي، لا باعتبار صورها
64

الذهنية، ففي كل واحد من الأطراف كما يحتمل وجود المعلوم فيه، يحتمل وجود
الحكم المنجز فيه أيضا، ولازمه احتمال العقوبة بمخالفته، فيحكم العقل بوجوب الموافقة،
بمقتضى حكمه بوجوب دفع الضرر، ولا يقبح مجئ الترخيص في محتمل المعصية،
وهو في نظر العقل مثل الترخيص في المعصية القطعية، فلا مقتضى لجريان الترخيص،
لا أنه يجري ويسقط بالمعارضة، كما لا يخفى، نعم لو قامت حجة معتبرة، على تطبيق المعلوم
على المورد، كان لترخيص العقل في الاكتفاء به مجال، من غير فرق في ذلك بين
المعلوم التفصيلي والاجمالي، وذلك هو المراد من جعل البدل الجاري في المقامين، لا أن
المراد الاكتفاء بترك أحد الطرفين، ولو مع عدم قيام طريق وحجة على التطبيق،
والحاصل إن العلم الاجمالي كالتفصيلي، في عدم جواز الاقتحام في المشكوك، مع عدم
قيام حجة، وطريق على تطبيق المعلوم على المورد، وجواز الاقتحام مع قيام الطريق
على ذلك، ولباب القول في ذلك، إن العلم الاجمالي بمنزلة العلم التفصيلي، في عدم جواز
الاقتحام فيما احتمل تطبيقه عليه، وهذا معنى علية العلم للتنجز، لا بمعنى عدم القابلية
لتعيين المعلوم، في طرف خاص، كيف وهذا المعنى من العلية، ليس ثابتا في العلم التفصيلي،
كما لا يخفى، فالعلم مطلقا، تفصيليا كان أو إجماليا، يؤثر في الاشتغال عقلا، ويحكم العقل
بوجوب الخروج عن العهدة، وتحصيل اليقين بالفراغ، الأعم من الحقيقي أو الجعلي،
ففي صورة الشك في الفراغ، يحكم العقل بوجوب تحصيل اليقين به، كما إن في صورة
تعيين المصداق شرعا، يحكم بصحة الاكتفاء، فجعل البدل في أطراف العلم الاجمالي،
تصرف من الشارع في ناحية المفرغ، لا في تأثير العلم ومنجزيته، فالاكتفاء بالفرد
المجعول، لا يكون مستندا إلى قصور في العلم، بل إلى التوسعة في الموضوع المفرغ،
فلا يصح استكشاف كون العلم مقتضيا للموافقة القطعية، من ناحية جعل البدل،
وبعد ما اتضح لك ذلك، فراجع إلى تقريرات بعض أعاظم العصر، تجد فيها الأعاجيب
(وينبغي التنبيه على أمور)
الأول، في الشبهة الغير المحصورة، والظاهر إن الضابط فيها، أن يكون احتمال
وجود التكليف في كل واحد من الأطراف الكثيرة، في غاية الضعف، بحيث يكون
65

خارجا عن مورد بناء العقلاء، على الاعتناء بمثله في مقاصدهم العقلائية، فيقع الكلام
في أن وجود العلم الاجمالي، مع هذا النحو من الضعف كالعدم، فيجوز المخالفة القطعية،
أو هو باق على تأثيره، ولو في الجملة، المستتبع لحرمة المخالفة القطعية، ولابد من
فرض البحث في خصوص إن كثرة الأطراف، هل هو مانع تأثير العلم، أم لا، مع
قطع النظر عن تحقق الموانع الاخر، كالاضطرار إلى بعض الأطراف، أو الخروج
عن مورد الابتلاء، ونحو ذلك مما هو مانع مستقل عن تنجز العلم، ولو في غير مورد
كثرة الأطراف، وتوهم إن كثرة الأطراف ملازم غالبا للخروج عن مورد الابتلاء
مدفوع، بأنه لو سلم، إنما يكون في العلم الاجمالي المتعلق بالفعل، لا الترك، والأقوى
في مفروض البحث، عدم وجوب الموافقة القطعية، وحرمة المخالفة القطعية، لان
ضعف احتمال وجود التكليف في كل طرف، ملازم نوعا للاطمينان بكونه في
الأطراف الاخر، وهو بمنزلة جعل البدل، إن قيل: إذا كان ضعف احتمال وجود
التكليف ملازما بعدمه فيه، فهو مستلزم للاطمينان بعدم التكليف، في جميع الموارد،
وهو مناف للعلم الاجمالي بوجوده في الأطراف، قلنا: المراد هو الاطمينان بعدمه في كل
طرف، بنحو التبادل، وهو يجتمع مع العلم الاجمالي به، كما لا يخفى، وحينئذ مرجع ضعف
الاحتمال وحصول الاطمينان، إلى جعل بدل في بقية الأطراف، ويمكن أن يكون
هذا المعنى الارتكازي، مدرك بنائهم على عدم وجوب الموافقة القطعية، وحرمة المخالفة
كذلك، لا أن في البين إجماعا تعبديا، فلا بد أن يكون المعيار في غير المحصور، هو ذلك،
أو إيكاله إلى نظر العرف، وببيان أوضح، إذا كانت الأطراف كثيرة غير محصورة،
فأما أن يكون المعلوم بالاجمال أيضا كثيرا، فتكون الشبهة من الكثير في الكثير، كالمأة
في أربعمأة مثلا، أو لا يكون كذلك، كالواحد في الآلاف مثلا، فإن كان من الأول،
فهو من قبيل المحصورة حقيقة، لان نسبة المعلوم إلى الأطراف، نسبة الواحد إلى
الأربع، ولا ريب في أنه إذا دار الامر بين وجوب واحد من الأربعة، فهو من المحصورة،
ففي المثال لو ظفر بمقدار المعلوم بالاجمال، من بين أطرافه، ينحل هذا العلم على ما بيناه
في جواب من أراد إثبات حجية الظن بدعوى العلم الاجمالي، بوجوب واجبات
ومحرمات، وهي مشتبهة بين المظنونات، والمشكوكات، والموهومات، ونبهنا هناك أيضا
66

على إنه لو لم يكن مقدار مؤدى الامارات المعتبرة بالخصوص، بضميمة المقطوعات
، مقدار المتيقن من المعلوم بالاجمال، لا تتم دعوى الانحلال، وإذا لم ينحل، فيلزم
الاحتياط بالأخذ بكافة المحتملات، لو لم يلزم عسر، أو معذر آخر، وإلا فيترك بمقدار
يندفع به العسر، وإن كان من الثاني، بأن يكون المعلوم من الواحد في الكثير، فيظهر
حاله بعد التكلم في مقامات ثلاث، الأول: في تشخيص مورد النزاع، الثاني: في تمييز غير
المحصور من المحصور، والثالث: في أثر هذا العلم المتكثر الأطراف، من كونه علة تامة
لحرمة المخالفة القطعية فقط، أو بوجوب الموافقة أيضا كذلك، أو لا علية له بالنسبة
إلى شئ منهما.
أما الأول، فالظاهر إن مورد النزاع، هو أن نفس عدم محصورية الأطراف،
من دون نظر إلى الموانع الاخر المشتركة بينه وبين المحصور، هل هو مانع عن تأثير
العلم في التنجيز، كما هو واضح، لمن راجع الكلمات في الفقه، فإنهم إذا أرادوا بيان وجه
لعدم المنجز في أطراف الشبهة الغير المحصورة، كثيرا ما يقولون بعد ذكر وجه، أو
أزيد، هذا مضافا إلى أن الشبهة غير محصورة، فلو لم يكن غير المحصورة بنفسه مؤثرا
في منع التنجيز، لم يكن لذكره وجه في هذه المقامات، وبالجملة ظاهر الأصحاب، من
ذكرهم هذا العنوان في مورد النزاع، وفى موارد دعوى نفي التكليف عن الأطراف
الكثيرة في الغاية، إن غير محصورية أطراف الشبهة، دخيل في نفي المنجزية ومنعها،
لا لأنه ملازم، لا أقل مع أحد الموانع الاخر، كخروج بعض الأطراف عن محل
الابتلاء، أو كون بعضها المعين، أو المردد، مضطرا إليه، أو لزوم الحرج من إتيان
الجميع، أو تركه، فإن هذه الأمور مانعة عن التنجيز في المحصورة، بل عن تنجيز العلم
التفصيلي أيضا، فلا اختصاص لها بمورد كون الأطراف غير محصورة، وبالجملة، إن
نفس غير محصورية الأطراف، مانع مستقل في قبال هذه الأمور.
وأما المقام الثاني: أي تمييز غير المحصور من المحصور، فقد قيل في ضابطه، وجوه
لا يخلو أكثرها عن المناقشة، منها إنه لو كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء
دائما، فهي غير محصورة، وإلا فلا، ولا يخفى ما فيه، لان ضابط غير المحصور، على ما ذكر
منطبق على مورد تردد المعلوم بالاجمال بين ثلاثة أو أربع مثلا، وكان بعضها خارجا
67

عن مورد الابتلاء دائما، وكذا المحصور على هذا ينطبق على مورد اشتباه المعلوم
الواحد في عشرة آلاف مثلا، عند كون جميعها موردا للابتلاء، ومنها إن كثرة
الأطراف، لو بلغت حدا معه يضعف احتمال كون المعلوم بالاجمال، هو هذا الطرف
المخصوص، فالشبهة غير محصورة، وإلا فلا، ثم قيس احتمال العقوبة، في كل من
الاحتمالات، باحتمال الضرر الدنيوي، وقيل كما إنه في صورة ضعفه لا يحكم بلزوم
التحرز منه، فكذلك الامر في صورة ضعف احتمال العقوبة، فلا تنجيز للعلم الاجمالي،
في الأطراف الخارجة عن الحصر، ولا يخفى إنه لا يكون الامر كذلك في المقيس
عليه كليا، إذ ربما يكون الضرر المحتمل مهما، كالمال الكثير الخارج عن حيز التحمل
عادة، وكالعرض للغيور، أو النفسي، فإنه يعتني في هذه الموارد بمطلق احتماله، ولو كان
في غاية الضعف، ولو سلم إن المراد غير هذه الموارد، فيورد عليه إن القياس مع الفارق،
وذلك لان الاضرار الدنيوية لما كانت مما لا بقاء لها، ومتوجهة إلى الأمور الفانية، فلا يهتم
العقل بلزوم دفعها، حتى في صورة كانت موهومة، وناشئة من الاحتمال الضعيف، وأما
العقوبة من المولى، فهي أخروية، ومسببة عن البعد من المولى، مع إن المطلوب أن
يتقرب إليه بأي نحو كان، فيهتم العقل بالتحرز عنها، ويعتني بأضعف احتمال لها، ويلزم
المرتكب المحتمل منها، ولو ضعيفا، كما يلزمه عند قوة الاحتمال لها، ومع الغض عن
هذا، أيضا نقول إن احتمال العقوبة، من لوازم تنجز التكليف، لأنك قد عرفت، إن
حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، لا يبقى مجالا لهذا الاحتمال، فلو كان في البين بيان،
ولو ضعيفا، فهو يكشف عن تنجيز هذا العلم، وعليه فكيف يحكم العقل بجواز ارتكاب
ما يحتمل فيه العقوبة، وكيف يمكن أن يكون هذا الحكم رافعا لموضوع نفسه،
المقتضى للعدم، نعم لو كان المحتمل، هو الالزام، لا العقوبة، فلا يرد من الاشكالات
عليه، إلا الأول، ومنها، إنه لو بلغت كثرة الأطراف، حدا لا قدرة معه على الجمع بينها،
في مقام المخالفة القطعية، فالشبهة غير محصورة، وإلا فلا، كحبة في لقمة، أو لقمات، فإن
نسبة الحبة إلى اللقمة، أو اللقمات، ولو كانت كنسبة الواحد إلى الآلاف، ومع
ذا يمكن المخالفة بجمعها في لقمة، أو لقمات، ففي هذه الصورة لا تكون الكثرة مانعة
عن التمكن من الجمع، ولا يخفى إن لازم هذا الضابط، خروج كثير مما عد من الشبهة
68

الغير المحصورة، ودخول ما يكون من المحصورة في غيرها، مثل ما إذا علم بنجاسة
ما في كأس، مشتبهة بين ألف كأس، المطلوب ترك صرف شربه، ولو بقطرة منه، فلا
ريب في أن هذه الشبهة من غير المحصورة، مع إنه لو تم الضابط المذكور، لزم أن
تكون من المحصورة، بداهة ثبوت التمكن، من الجمع بين الكؤوس العديدة، بأخذ قطرة
بكل واحد منها، وشرب القطرات المأخوذة المجموعة دفعة، فالمخالفة القطعية مقدورة
بهذا النحو من الجمع، ولو لم تكن مقدورة بشرب تمام ما في كل الكؤوس، وكذا
الامر في اشتباه كيس لبن متنجس بين الآلاف من سنخه، إذا كان من مورد الابتلاء،
فإنه يمكن مخالفة العلم، بالأخذ من كل كيس شيئا، ولو بمقدار خردل، ثم جمعها وأكلها،
وكذا الثوب المشتبهة بين الثياب الكثيرة غاية الكثرة، فإنه يمكن أخذ قطعة صغيرة
من كل ثوب، وخيطها ولبسها، فلا بد حينئذ من القول بأن تمام هذه الصور، من
قبيل الشبهة المحصورة، لا الغير المحصورة، لا مكان المخالفة القطعية، في جميع هذه الصور،
ولو أغمضنا، وقلنا إن المراد من القدرة على الجمع، هو القدرة على تمام الوجود، لا صرفه،
فلازم ذلك، إن الانسان إذا علم بغصبية ذراع من الثوب من عشرة أذرع، ولا يقدر
على إشغال جميعها بالتمام، أن نقول بكونها من الشبهة الغير المحصورة، لعدم القدرة على
الجمع، مع بداهة إنها من المحصورة، هذا إذا اعتبرت المخالفة دفعة، وأما إذا لم يقيد بذلك،
واعتبر عدم القدرة، ولو تدريجا وبالدفعات، فالشبهات الخارجة أكثر، لان الانسان
يكون في جميع صور الشبهات، أو جلها قادرا على الجمع، ولو لم يكن قادرا دفعة على
المخالفة القطعية، نعم الأشياء التي يفسدها البقاء، مثل الألبان، والفواكه، والخضروات،
إذا كان شئ منها مغصوبا، أو نجسا، لا يمكن الانسان من جمعها، بخلاف ما إذا
كان من قبيل الألبسة والفراء، فيمكن لبسها وجمعها، ولو تدريجا، فبناء على هذا الضابط،
يدخل غالب الشبهات الغير المحصورة، في المحصورة، وبعض المحصورة في غيرها، فليس الميزان
هو الكثرة والقلة، بل كل مورد لا يتمكن على العصيان، فهو داخل في الشبهات الغير
المحصورة، وكل مورد يتمكن من العصيان، فهو داخل في الشبهات المحصورة، وإلا
فليس ذاك الميزان تحت الضابط، ويمكن أن يقال: إن الضابط للشبهة الغير المحصورة،
هو ضعف احتمال انطباق المعلوم بالاجمال، على كل من الأطراف، بدلا لكثرتها وبلوغها
69

إلى حد يظن بعدم كون كل منها منفردا عن البقية، ذاك المعلوم بالاجمال، فإنا نرى
بالوجدان فرقا بين كثرة المحتملات، وقلتها في القوة والضعف، احتمالا يختلف احتمال
انطباق المعلوم بالاجمال بين الاثنين والثلاث، وبين واحد في الألف، كاحتمال
رضيعة له في تمام العراق، التي كانت محتملة الانطباق على كل من نسوان العراق، قوة
وضعفا، بداهة إن احتمال انطباق الواحد على الواحد، من الاثنين والثلاث، بمرتبة من
القوة لا يكون بهذه المرتبة، في صورة اشتباه الواحد في الألف وجدانا، فكلما كانت
المحتملات كثيرة يصير احتمال الانطباق ضعيفا، وبالعكس، ولا أظن أحدا يقول
بعدم الفرق بينهما من جهة قوة الانطباق وضعفه في الصورتين، فإذا علمنا إجمالا، بأن
امرأة واحدة كانت رضيعة له، وهي مرددة بين تمام نسوان العراق، أو علمنا بأنها
مرددة بين المرأتين، فضعف احتمال انطباق المعلوم بالاجمال في الصورة الأولى، وقوته
في الثانية، مما لا يكاد يخفى على ذو مسكة، بل احتمال الانطباق يكون في الصورة
الأولى مرجوحا، فيحصل الظن بعدم الانطباق على كل بالانفراد، بخلاف الصورة
الثانية، فتحصل إن الضرورة والوجدان، حاكمان على إنه إذا كثرت المحتملات يحصل
ضعف في عالم احتمال انطباق المعلوم بالاجمال، على كل من المحتملات الكثيرة، كما إن
في الظهورات الحاصلة للعمومات، أيضا يكون الامر كذلك، فإنه كلما كثرت أفراد
العام، يضعف ظهور العام بالنسبة إليها، بخلاف ما إذا كان للعام أفراد قليلة، كعشرة
أفراد مثلا، فتكون حينئذ دلالة العام على الافراد قوية، فقلة أفراد العام، توجب قوة
للانتقال من العام إلى الافراد، كما إن كثرتها توجب ضعف الانتقال إليها، ففيما نحن
فيه، انطباق المعلوم بالاجمال على كل من المحتملات، في صورة كثرتها، يصير ضعيف
الاحتمال، بخلاف صورة قلتها، وبالجملة إن الميزان الاخر للحصر وعدمه، إنه إذا بلغت
كثرة الأطراف إلى حد يرى بالوجدان ضعف الاحتمال في كل واحد من الأطراف،
فتكون الشبهة غير محصورة، وإلا فلا، بداهة الفرق بين احتمال الانطباق، عند قلة
الأطراف وكثرتها، فتارة يكون احتمال انطباق المعلوم بالاجمال وعدمه، على كل من
الأطراف متساويا، ويعبر عنه بالشك، وتارة تبلغ الكثرة إلى حد لا يكون احتمال
الانطباق مع عدمه مساويا، بل يصير احتمال الانطباق راجحا على عدمه، فإذا علم
70

إجمالا بوجود رضيعة له في تمام العراق، كانت جميع نسوانه بكثرتها في مورد
الابتلاء، أو خارجا عن محل الابتلاء، فلا ريب في ضعف احتمال كون كل من
النسوان، تلك المعلومة بالاجمال، ولا ربط بقياسه على احتمال انطباقها على المرأة المرددة
بين المرأتين، والحاصل إنه نجد أن الوجدان لا يساعد لتساوي الاحتمال، الذي يكون
منشائه العلم الاجمالي بوجود شئ من الأطراف الكثيرة جدا، والاحتمال الناشئ من
العلم بوجوده في الأطراف القليلة، فليس في البين برهان سوى الوجدان، ولازم
ضعف الاحتمال صيرورة احتمال العدم أقوى وأشد، فحال المعلوم بالاجمال المشتبه بين
الآلاف، نظير العام الذي كان له أفراد كثيرة في ضعف الاحتمال، فإنه كلما كانت
دائرة العام أوسع، تكون دلالة الظهور على الافراد أضعف، والسر في ذلك، انتقال
الانسان من العام، أي من الجامع إلى الفرد، يكون حينئذ ضعيفا، فإذا كان العام كثير
الافراد، تضعف دلالته على مرادية كل منها بالخصوص، في عالم الظهور، مثل انطباق
المعلوم بالاجمال على كل من الأطراف، في كثرة المحتملات، ومن المعلوم إنه كلما ضعف
الاحتمال، يقوى احتمال العدم، فعنوان كأس زيد في صورة كونه مرددا بين الكؤوس
الكثيرة، يكون احتمال الوجوب فيه أضعف، فيظن بعدم كونه ذاك المعلوم بالاجمال،
فضعف احتمال وجود التكليف بين كل من المحتملات، يلازم مع قوة احتمال العدم،
وقد يتوهم عدم إمكان اجتماع الظن بعدم كون كل من الأطراف ذاك المعلوم
بالاجمال، مع العلم الاجمالي بثبوته فيها، بداهة إن مقتضى العلم، كذلك احتمال كل منها
ذاك المعلوم بالاجمال، والظن بعدم كون الأطراف غير ذلك المعلوم، مناف لاحتمال أن
كل منها هو المتعلق للعلم، لأنه يلزم أن يكون المعلوم في ضمن الأطراف موجودا،
وأن لا يكون فيها، وهذا من الجمع بين النقيضين، كما لا يخفى، وببيان آخر، كما لا يمكن
اجتماع العلم بالثبوت مع العلم بالعدم، وإن اختلف متعلقهما ذهنا لا خارجا، فكذا
لا يجتمع الظن بالعدم مع العلم بالثبوت، فلا وجه لهذا التقريب وجعله ضابطا لتمييز
المحصورية من غيرها، ولكنه مدفوع بأن كل واحد منفردا عن الغير، يكون متعلقا
بالظن، بعدم كونه ذاك المعلوم بالاجمال، ولازمه الظن بوجود التكليف في البقية، فما
كان مضادا مع العلم الاجمالي، هو الظن بالعدم في المجموع، لا الظن بعدم كل واحد
71

منفردا عن الاخر، فلا منافاة بين العلم الاجمالي، وهذا الظن، والذي كان سببا للاشتباه،
هو اشتباه هذا الظن بالظن بمجموع الاعدام، وقد ظهر إن الظن بكل واحد
لا ينافي العلم بثبوت التكليف في البقية مما عداه، وأما الكلام في المقام الثالث، وهو
حكم الشبهة الغير المحصورة، فلا يخفى إنه ربما يقال بعدم حرمة المخالفة القطعية، الملازم
لعدم لزوم الموافقة كذلك في الشبهة التحريمية، ويجوز إجراء قاعدة الحلية، بل
الاستصحاب في مقدار المقدور، بناء على أن المدار في غير المحصورة، لما كان عدم
القدرة على الجمع من جهة كثرة الأطراف، فلا حرمة للمخالفة القطعية، وذلك لان
ارتكاب بعض الأطراف حينئذ، يصير موجبا للاضطرار إلى ترك البقية، وعليه
لو كان الالزام المعلوم بالاجمال، في هذه البقية، لا يتنجز بالعلم، ومع إخراجها عن
طرف العلم، لا يبقى علم بالحرمة، بل ثبوتها يصير محتملا، كما في الشبهة البدوية، فلا مانع
من التمسك بقاعدة الحلية، أو أصل آخر، يرخص في ارتكاب البعض المقدور، لكنك
خبير بأن هذا التقريب، إنما يتم لو قيل: بأن العلم الاجمالي، مقتضى للموافقة القطعية،
وقابل للمنع منه، بأن يرخص في تركها، كما هو أيضا مختار لمن ذكر هذا ضابطا
لتشخيص غير المحصورة عن المحصورة، وأما لو قيل بعليته، فلا لان المكلف قبل
الارتكاب عالم بحرمة أحد الأطراف، وقادر على ترك جميعها، فبه يتنجز التكليف
ومعه لا يبقى مجال للترخيص على الخلاف، ولو في طرف واحد، لأنه من الترخيص
في المعصية احتمالا، وهو مقطوع العدم من الشارع، هذا بالنسبة إلى التحريمية، وأما
في الشبهة الوجوبية، فيقول السالك لهذا المسلك، لما كانت المخالفة القطعية محرمة،
والموافقة كذلك خارجة عن القدرة، فلذا نحكم بوجوب الموافقة الاحتمالية، فرارا
عن المخالفة المحرمة، فتحصل أنه لا بأس بإجراء أصالة الإباحة، وكذا الاستصحاب،
في بعض أطراف العلم بالحرمة في الشبهة الغير المحصورة، على مذاق من يقول بكون
العلم مقتضيا، لا علة، وبأن المميز لغير المحصورة هو عدم القدرة على الجمع من جهة
الكثرة، لأنه وأن قال بكون العلم الاجمالي مانعا من جريان الأصل التنزيلي في أطرافه،
لكنه لا يعمم هذا الوجه، حتى في صورة لا يلزم منه المخالفة العلمية، كما في المقام،
لأنه لو أجري الأصل في مقدار من الأطراف، يتمكن من الجمع بينها في مقام العمل
72

والارتكاب، فإذا ارتكب، يصير مضطرا إلى ترك البقية ويزول احتمال التكليف
الفعلي فيها، فلا يحتاج إلى الأصل في إثبات الرخصة، حتى يقال بأن العلم السابق بعدم
حرمة شئ من الأطراف، قد انتقض بهذا العلم الاجمالي بالحرمة، والملخص إن في
هذه الصورة، يجري الأصل في بعض الأطراف، الذي اختار المكلف، لا في الجميع،
وهكذا الامر في القضية الثانية، فلو اختار فيها غير المختار في الأولى، فقد ارتكب
بالجميع، وأجرى الإباحة كل مرة في بعضها، لا في الجميع، كي يضاده العلم، فعلى هذا
تجوز المخالفة القطعية التدريجية في الشبهة التحريمية، لكنا قد أشرنا إلى عدم تمامية
التقريب، على المختار من علية العلم، وأما في الشبهة الوجوبية، فنحن نشاركه في لزوم
الموافقة الاحتمالية، وعدم حجية الأصل فيها، لأنه مستلزم للمخالفة العملية، إذ لو ترك
الجميع، اتكالا على الأصل المرخص، لزم الوقوع في ترك الواجب المعلوم في البين،
فيضاد هذا العلم، لدليل الترخيص، ونحن نقول لما كان العلم علة تامة لحرمة المخالفة
القطعية، ولو لم يمكن الموافقة كذلك، فلا مورد للترخيص الشرعي، لأنه من الترخيص
في محتمل المعصية، وهو قبيح أيضا، وبالجملة لو بنينا على أن الضابط لغير المحصورة،
هو ما قلنا، من إنه إذا بلغت الأطراف في الكثرة، إلى حد كان احتمال وجود التكليف
فيها، عند لحاظها منفردة موهوما، وعدم التكليف فيها مظنونا، يمكن حمل كلام الشيخ
رضي الله عنه، وإرجاعه إلى هذه الجهة أيضا، حتى في الصورة التي كان مضطرا، كما
إنه إذا نذر أكل مقدار من اللبن، أو الجبن، وكان له علما إجماليا بأن مقدارا من
الألبان الموجودة في السوق، كان موردا للنذر، فيمكن أن يأخذ مقدارا قليلا من
كل واحد منها ويأكله، ويمكن أن لا يأكل شيئا منها، فكان قادرا على العصيان، بعدم
أكل شئ منها، وقادرا على الموافقة القطعية، بجمع شئ من جميعها وأكله دفعة، أو
دفعات، فالقدرة حاصلة على الموافقة القطعية، مع إن المفروض، أن الشبهة كانت غير
محصورة، مثلا إذا كانت الكؤوس ثلاثة آلاف، أو أربعة آلاف، والمنذور كان واحدا
منها، فنسبة الواحد إلى الألوف، باتفاق من الكل داخلة في الشبهة الغير المحصورة،
ولا يجعلها التمكن من الاتيان، شبهة محصورة، أي لا يتغير، ولا يتبدل، الغير المحصور
بواسطة الامكان بالمحصور، فتحصل أن الضابط والميزان في غير المحصور، بلوغ الكثرة
73

إلى حد يكون ظن بعدم وجود التكليف، وكان احتمال التكليف في كل واحد
موهوما، ولازمه الظن بالعدم في كل واحد من الأطراف، كما إن قلة الأطراف،
توجب كون وجود التكليف قويا، أي ليس المايز بين المحصورية وغيرها، إلا قلة
الأطراف وكثرتها، أي لا يكون حرجيا، ولا خارجا عن الابتلاء، فإذا كان كل
الأطراف محلا للابتلاء، مثل النقطة في البيت إذا كانت نجسة، فبالتكرار تكون محلا
للابتلاء، أي بالصلاة في كل طرف منه، حتى يستوعب تمام الأمكنة من البيت، فيكون
قادرا على العصيان، ويكون أيضا قادرا للامتثال بترك كلها، مع إن المناط في الشبهة
الغير المحصورة موجود هنا، فإن نسبة النقطة إلى تمام البيت، ليست إلا كنسبة الواحد
إلى الألوف، فكثرة الأطراف لا توجب كونها حرجيا، كالمثال المذكور، ثم إنه
لو شك في المحصور وغيره، فيلحق بالمحصور، لعدم إحراز جعل بدل في البين، فيؤثر
العلم أثره لا محالة.
الثاني: لو اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف، فتارة يكون إلى طرف معين
بالخصوص، وأخرى إلى غير معين، وعلى كلا التقديرين، فتارة يكون الاضطرار قبل
العلم، وأخرى يكون بعده، فإن كان الاضطرار حين حدوث العلم، وكان بطرف معين
بخصوصه، فهو مانع عن تنجز العلم، لاحتمال كون المضطر إليه، هو مورد التكليف،
فتقصر العلم الاجمالي بالخطاب الواقعي، عن بلوغه مرتبة الفعلية، نعم لو كان الاضطرار
بسوء الاختيار، فلا يبعد القول بعدم مانعيته عن بلوغ العلم مرتبة الفعلية، وإن كان
الاضطرار إلى المعين، بعد حدوث العلم، فلا يسقط العلم عن التنجز بمثل هذا الاضطرار،
وأما الاضطرار إلى غير المعين، سواء كان قبل حدوث العلم، أو بعده، فلا إشكال
في منعه عن الموافقة القطعية، وأما منعه عن المخالفة كذلك، ففيه إشكال، بل منع، وقد
مر فيه دليل الانسداد، ما ينفع المقام فتذكر.
الثالث: من شرائط منجزية العلم الاجمالي، بقاء الخطاب على فعليته في كل واحد
من الأطراف، مستجمعا للشرائط العقلية، فلو حصل مانع عن الفعلية قبل حصول
العلم، فلا يصلح مثل هذا العلم للتنجز، نعم لو كان المانع بعد حصول العلم، فلا يمنع عن
فعليته على التفصيل الذي مر آنفا، والمانع تارة تلف أحد الأطراف قبل العلم،
74

فلا يبقى له التنجز، وبعده يبقى على تنجزه، وأما لو تلف أحد الطرفين من دون تعيين،
حتى يفصل فيه بين الموافقة القطعية، والمخالفة كذلك، فالظاهر إنه مجرد فرض،
وأخرى العجز العقلي عن الموافقة، لعدم القدرة العقلية الوجدانية، وهذه الصورة
كصورة الاضطرار، حرفا بحرف، وثالثة خروج المورد عن الابتلاء، لعدم القدرة
العرفية العقلائية، على جميع الأطراف، بحيث يكون الخطاب بالجميع تركا، أو إيجادا،
قبيحا عرفا، وهذه الصورة كصورة تلف أحد الأطراف، من حيث الاشكال في
تحقق عدم الابتلاء بواحد غير معين، ويشترط في جميع هذه الصور، ما مر في
الاضطرار، من عدم حصول المانع بسوء اختيار المكلف.
الرابع: لو لاقى أحد المشتبهين المعلوم، نجاسة أحدهما إجمالا شئ طاهر، فهل
يحكم بنجاسة الملاقى بالكسر مطلقا، أو لا يحكم، أو فيه تفصيل؟ وتحقيق القول
يقتضي رسم أمور.
الأول، وجه نجاسة الملاقى بالكسر، هل هو تعبد محض، أو من باب سراية
النجاسة من الملاقي إليه، وهل معنى السراية مجرد السببية، أو الانبساط منه إلى الملاقي
بالكسر؟ وهذه الوجوه تتصور أيضا في ملكية المنافع والنماءات، من أنها محض تعبد
عقلائي، أو السراية الملكية من العين إليها سببية، أو انبساطا.
الثاني: كلما كان للمعلوم إجمال أثران، أحدهما ثابت لنفسه، والاخر لملاقيه، كما
فيما نحن فيه، فلا شبهة في أن العلم الاجمالي، كما هو حاصل بين الطرفين أولا، كذلك
هو حاصل بينهما، وبين ما هو من توابعهما، كالملاقي بالكسر، فيما نحن فيه، إنما الكلام
في أنهما طوليين، أو عرضيين؟ فعلى الأول، يكون أحدهما مسببا عن الاخر، بخلاف
الثاني، كما لا يخفى.
الثالث: العلم بالمعلول تارة سبب للعلم بعلته، كالعلم بالدخان، الموجب للعلم بوجود
النار، وأخرى يكون مسببا عن العلم بوجود العلة، وثالثة يكون كلا العلمين مسببا
عن ثالث، كإخبار من يفيد قوله القطع، بنجاسة شيئين، تكون نجاسة أحدهما مستندا
إلى الاخر، وحينئذ فيقع الكلام في أن مجرد ترتب أفراد العلم المتعلق بالموضوعات، يكفي
في سبق التنجز وترتبه مطلقا، سواء كان أفراد العلم المتعلق بالحكم مترتبين، أو عرضيين،
75

أو لا يكفي؟ هذا في سبق التنجز، بل هو تابع لسبق العلم بالحكم، لأنه المنجز حقيقة،
دون العلم بالموضوع، وسبق زمان المعلوم على زمان العلم، إنما يقتضى سبق أثر المعلوم،
لا سبق أثر العلم، فإن أثر العلم مقارن له زمانا، كما هو الشأن بين كل معلول وعلته، الحق هو
الثاني، وحينئذ فيتعين الفرق بين صورة حدوث العلم، الذي أحد طرفيه الملاقي، بعد العلم
الذي
حد طرفيه الملاقى، وبين ما إذا تقدم عليه، أو اقترن، ففي الأولى، لا يجب الاجتناب عن
الملاقي، لان التنجز مستند إلى العلم السابق عرفا، فيكون الملاقي بلا منجز، وفى الثاني، لا يجب
الاجتناب عن الملاقى، لان طرفه قد تنجز بالعلم السابق، فالعلم القائم به، لا ينجز، وفي الثالث،
يجب الاجتناب عنهما، لعلية العلم الاجمالي بوجوب الموافقة، من دون ترتب وسبق ولحوق
في البين، فظهر إن الرجوع إلى الأصل المسببي في المقام، فيما إذا تعارض الأصل السببي،
مسلم، لكن لا بقول مطلق، بل في الصورة الأولى فقط، وإلا فمقتضى علية العلم الاجمالي
لوجوب الموافقة، هو التفصيل كما مر، نعم لو قلنا بأن العلم الاجمالي، مقتضى للتنجز لا علة
تامة، كان لاطلاق القول بالرجوع إلى الأصل المسببي، وجه كما لا يخفى.
(فرع) إذا تلف أحد طرفي العلم الاجمالي، يقوم الملاقي مقامه في وجوب
الاجتناب، إذا كان العلم الاجمالي حاصلا بعد تلف الملاقى، بناء على علية العلم الاجمالي،
لوجوب الموافقة، لحصول العلم الاجمالي بالفرض، وعدم علم سابق مانع عن تنجزه،
وأما بناء على كونه مقتضيا، لا علة تامة، فهو أيضا كذلك، فيما إذا كانت الأصول
الجارية في الأطراف، أصولا غير تنزيلية، كقاعدة الحلية، بناء على إنها من الأصول
الغير التنزيلية، وبناء على كون حلية اللازم من آثار حلية الملزوم، فنقول حينئذ إن
في صورة عدم التلف، تجري القاعدة في الطرفين، وتسقط بالمعارضة من البين، فتصل
النوبة إلى الأصل في اللازم، فتجري بلا معارض، وأما في صورة التلف، فلا وجه
لجريان القاعدة في التالف، لعدم صلاحية التالف لجعل الحلية الظاهرية فيه، فتنتهي
النوبة قهرا إلى أصالة الحلية في الملاقي، فتقع المعارضة، فتتساقطان، فيؤثر العلم أثره،
وأما في الأصول التنزيلية، كالاستصحاب مثلا، فلا شبهة في جريانه، حتى في التالف.
والخارج عن محل الابتلاء، بلحاظ ماله من الآثار التي كانت مورد الابتلاء، فتقع
المعارضة لا محالة، فيسقط الأصلان، ويرجع إلى الأصل الجاري في الملاقي بلا معارض،
76

فظهر أن إطلاق القول بقيام الملاقي مقام الملاقى، ليس كما ينبغي، وبعبارة أبسط، ليس
تنجز التكليف بالاجتناب عن الملاقي، عين تنجز الاجتناب عن الملاقى، ولا تبعا له،
ضرورة أن النجاسة السارية إليه، حتى على السراية الحقيقية، لها حكم، أو مرتبة من
الحكم، لا يكون تابعا، أو ملازما مع الحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقى ومرتبته،
نعم غاية ما يتصور وجها لايجاب الاجتناب عن المتلاقيين، والطرف الآخر، أن يقال
بعد العلم بنجاسة أحد الامرين، وملاقات ثالث لأحدهما، يحصل علم آخر بنجاسة
واحد من الملاقي، والطرف الآخر للملاقي، في العلم الأول، فبه يتنجز التكليف، ويجب
الاجتناب عن جميع الثلاثة، لكن غير خفى، إنه لو التزم بالعلم الاخر، في عرض العلم
بنحاسة الملاقى، أو طرفه، وأريد إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقي، بهذا العلم، يلزم
أن يراعى وجود ما يعتبر في تنجيز العلم، من عدم كون الطرف خارجا عن محل
الابتلاء، وعدم انتفائه من البين، من حين العلم، وغيرهما، وبالجملة لا يكون وجوب
الاجتناب على هذا، دائرا مدار وجوب الاجتناب عن الملاقى، إذ ربما يجب الاجتناب
عنه، لوجود شرائط التنجيز للعلم به، ولكن لا يجب عن ملاقيه، لارتفاع طرفه من
حين حصول العلم الثاني، ثم لا يخفى إنه لو كان العلم الثاني في عرض العلم الأول،
وكان شرط تنجيزه متحققا أيضا، ينجز تكليف الملاقي مطلقا، كانت نجاسته عين
نجاسة الملاقى، أو مسببا عنها، وفى طولها، بأحد الوجهين المتقدمين، ولا يصح أن يتمسك
بالأصل في شئ من طرفي العلمين في الصورتين، أما في صورة كون الأثر للملاقي،
في عرض ما للملاقي، كما على السراية الحقيقية، فلان العلم بنفسه مناف للأصل، ومضاد
له، على ما مر من تقرير بعض، ولأنه تقع المعارضة بين الأصل الجاري في الطرفين،
ويسقطان عن الحجية، فلا بد من الاخذ بالعلم، ومقتضاه وجوب الاجتناب عن
الثلاثة جميعا، وأما في صورة كون أثر الملاقي، أو موضوعيته له، مترتبا على أثر الملاقى،
وفى طوله، فللمضادة المدعاة أولا، وللزوم المعارضة بين الأصول في الأطراف، في
صورة كونها جميعا بشرائط التنجيز، نعم لو قيل بأن العلم الاجمالي مقتضى له، لا علة،
أمكن أن يتمسك بالأصل في بعضها، إذا لم يعارض بالمثل، كالأصل الجاري في المسبب،
بعد سقوط الأصل في السبب بالمعارضة، وأما على العلية، فلا يبقى مجال لجريانه، ولو
77

لم يكن معارضا بالمثل، هذا كله على تقدير كون العلم الثاني في عرض الأول، وأما
إذا كان في طوله، وفي الرتبة المتأخرة عنه، كنفس المعلوم على التصويرين الآخرين
في التنجس، فلا ينبغي أن يرتاب في عدم تأثير ما في الرتبة المتأخرة من العلم، سواء
كان متعلقة أيضا مثله في هذه الجهة، أو متأخرا عن متعلق الاخر، كما في العلم بنجاسة
الملاقي من العلم بنجاسة الملاقى، أو لم يكن، بل كان الامر باعتبار المتعلق بالعكس،
والمثال له، عكس المثال السابق، وذلك لأنه يتنجز التكليف المتعلق للعلم المتقدم رتبة
في أطرافه، فلا يبقى مورد لتأثير العلم المتأخر في تنجيز متعلقه، إذ الطرف لمتعلق العلم
الأولى، قد تنجز حكمه قبل هذا العلم، فهو لازم الاجتناب على تقديري لزوم
الاجتناب عن طرف آخر للعلم المتأخر، وعدمه، وقد تحقق في غير مقام، إنه لا تأثير
لمثل هذا العلم الاجمالي، ولو قيل: كيف يتصور كون العلم بالمعلول علة للعلم بعلته،
فإنه يقال: لا عجب فيه، ولذا قيل البرهان، إما لمى، أو إني، فكون شئ متقدما على غيره
رتبة، وفي مرحلة الثبوت، لا يقتضي أن يكون كذلك في مقام الاثبات، فتارة يحصل
من العلم بالعلة، العلم بمعلولها، كما في برهان اللم، وتارة ينعكس الامر، كما عند التمسك ببرهان
الان، وثالثة يحصلان في عرض واحد، من دون تقدم وتأخر بين العلمين، وهذا مثل
ما أخبر من يفيد قوله القطع، بنجاسة أمرين، ثم علم بكون نجاسة أحدهما أثرا
للاخر، ولما كان العلم بالشئ كسائر الأمور، باقيا على وحدته، ما لم يتخلل العدم
بين حدوثه وبقائه، وكان التأثير في الرتبة المتقدمة للعلم فيها، فلا تصل النوبة إلى العلم
المتأخر، كان متعلقه متقدما على متعلق الأول ثبوتا، أو متأخرا عنه، وحينئذ لو قيل
بالمنافاة بين الأصل وذات العلم، فلا بد من الالتزام بعدم صحة إجرائه في الطرف
المختص بالعلم المتأخر، مع عدم تنجزه، وأما على مختارنا من إنه لا بأس به، ويرجع
إليه في صورة عدم المعارض له، فيؤخذ به فيه، فظهر من جميع ما مر، إنه لا يتنجز التكليف
في الملاقي، عند كونه متعلقا بعلم في عرض العلم، بوجوب الاجتناب عن الملاقى،
وطرف له دائما على الاطلاق، وأن لازم القول بمنافاة العلم للأصل، أن يرجع إليه،
حتى في المسبب، في صورة لا معارض له، وأنه لا يدور تنجز التكليف للمسبب، مدار
تنجز التكليف في السبب، في صورة كان أحد العلمين مسببا عن الاخر، إذ ربما
78

يعلم بحكم المسبب أولا، ثم يحصل العلم بحكم السبب منه، فحينئذ يتنجز المعلوم الأولى، دون
الثانوي، وربما يعلم بهما في رتبة واحدة، فيحنئذ يتنجز التكليفان، ولا يصح أن يسند
إلى واحد من العلمين، لبطلان الترجيح بلا مرجح، ففي الصورة أيضا، لا استناد
لتنجز حكم المسبب إلى تنجز ما للسبب، كما لا يخفى، هذا تحرير ما أفيد، ثم لا ريب
في أنه إذا علم بنجاسة أحد الامرين، ثم لاقى أحدهما ثالثا، فحينئذ يتحقق علم إجمالي
آخر بنجاسة الثالث، أو الطرف للملاقى، وهذا أمر وجداني، يصدقه كل من راجع
وجدانه، ولا يخفى أن نجاسته، إما في عرض ما يكون في الملاقى، أو في طوله، بأن يكون
الثالث بعد كونه ملاقيا للنجس، محكوما وموضوعا لها، أو يكون متأثرا عن الملاقى،
على ما مر في وجه التنجس، وعلى أي تقدير لما كان في المقام علمان إجماليان، وكان
المبنى في تنجيزه مختلفا، إذ بعض يقول بأنه مؤثر بنحو الاقتضاء، وبعض آخر يقول
بعليته، فلا يخفى أنه لا احتياج لمن يقول بتعليقية حكم العقل على وجوب الموافقة
القطعية، في اجراء الأصل في بعض الأطراف، إذا لم يعارض بمثله، كالأصل في المسبب
إلى دعوى الانحلال في المقام، إذ يجوز له القول بصحة إجراء الأصل السالم عن
المعارض، لأنه ترخيص شرعي، لا مانع منه عقلا مع وجود العلم بالالزام إجمالا، فعلى
هذا تحرم المخالفة القطعية له، دون الموافقة كذلك، فعلى من يقول بالاقتضاء، أن
يثبت السببية والمسببية، لو أراد أن يتمسك باستصحاب الطهارة للملاقي مثلا، مع كونه
طرفا للعلم الاجمالي، ولا احتياج له يدعوه إلى دعوى الانحلال، وأما من يقول بعلية
العلم، فلا تفيده طولية الأثر، وعدم كون الأصل في المسبب معارضا بمثله، لأنه إنما
تصل النوبة إليه، إذا لم يجرى أصل يتبع في السبب، كما في صورة تساقط الأصل فيه
مع الأصل في عدله بالتعارض، وإذا تساقطا فلا يبقى في عدل الملاقي أصل يعارض
الأصل في السبب، فهو من هذه الجهة لا بأس به، إلا إنه لا مجال له على علية العلم
الاجمالي، فالقائل بالعلية، لو أراد أن يتمسك بأصل في بعض الأطراف، أو يصححه،
لابد له من دعوى الانحلال، وبه لا يبقى للعلم تأثير في التنجيز والاشتغال، ثم لا يخفى
أنه قد قيل بانحلال العلم الاجمالي السابق، بالعلم التفصيلي اللاحق بالتكليف السابق
على العلمين، وبالأمارة أو الأصل المفيدين لثبوته لأحدهما، المعين قبل العلم الاجمالي
79

لوجهين، أحدهما مختص بالعلم التفصيلي، وهو إنه لما حصل هذا العلم، ينقلب الاجمالي
السابق إليه والى شك بدوي، ولا يبقى معه أصلا، ثانيهما، ما هو مشترك بين العلم
والامارة والأصل المثبت، من الاشتغال أو استصحاب التكليف، وهو دعوى إنها
ولو كانت متأخرة عن العلم الاجمالي حدوثا، لكنها تؤثر في تنجيز متعلقها من حين
ثبوت السابق على الاجمالي، فهو من حين حدوثه، لا يتعلق بمورد قابل لان يتنجز به
على أي تقدير، فينحل ولا يؤثر في التنجيز أصلا، وبتقرير آخر أوضح من الأول،
قرره الشيخ الأستاذ أطال الله بقاه، ثانيا: هو إنه يفرض كان في البين كاسان أبيضان،
طرفا للعلم الاجمالي، ولاقى أحدهما كأس أسود، فبعد الملاقاة يحدث علم آخر بنجاسة
أحد الكأسين، وهو الطرف للملاقي في العلم الأول، والكأس الأسود الملاقي لأحدهما،
فيحصل وجدانا علمان إجماليان، أحدهما متعلق بالكأسين الأبيضين، والاخر متعلق
بأحد طرفي المعلوم بالاجمال أولا، وبالكأس الأسود الملاقي لعدل ذاك، ولا إشكال
في حصول هذين العلمين الاجماليين بالوجدان، كما إنه لا ريب في أن بعض أطراف العلم
الثاني، يكون في طول أطراف العلم الأول، بناء على كون التنجس بالسراية الحكمية،
أو التعبد بنجاسة الملاقي للنجس، وأما على السراية الحقيقية فأطراف العلمين في عرض
واحدا، فحينئذ إن بنينا بكون العلم الاجمالي مقتضيا بالنسبة إلى الموافقة القطعية،
وقابلا لجريان الأصل الغير المعارض في بعض أطرافه، فلا نحتاج أن ندور مدار
الانحلال، لأن المفروض تعليقية حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية، فلا يمنع عن
جريان الأصل في بعض الأطراف، فإذا أجرى الأصل في طرف واحد، فيحكم بحرمة
المخالفة القطعية فقط، دون الموافقة كذلك، ففيما نحن فيه إذا أجرى الأصل في طرفي
العلم الأول، وسقطا بالتعارض، تنتهي النوبة إلى الأصل المسببي الجاري في الكأس
الأسود بلا معارض، وحينئذ فلا احتياج لصاحب هذا المسلك، إلى دعوى الانحلال
وإثباته، تصحيحا لاجراء الأصل المسببي بعد تساقط الأصلين السببين، لان العلمين
ولو كانا عرضيين، لكن لم يكن أحدهما منحلا بالآخر، ومع ذلك يجرى الأصل في
الكأس الأبيض بلا معارض، فإن الأصل في طرفه قد صار معارضا بالأصل في الملاقى،
فلا تنتهي النوبة إلى التعارض، ولكن مسألة السببية والمسببية تقتضي انتهاء النوبة
80

إلى الكاس الأسود، بعد ذهاب الأصلين في الكاس الأبيض، نعم إذا بنينا على العلية، فما
دام العلم على منجزيته باق، يستحيل جريان الأصل في أطرافه، كلا أو بعضا، فلا بد
من العلاج بالانحلال، فعلى هذا المسلك، لا يصح القول بجريان الأصل في المسبب،
بلا معارض، إلا بعد إثبات الانحلال، ففي المسلك الأول لابد من دعوى السببية
والمسببية، ولا يهمه إثبات الانحلال، بخلاف المسلك الثاني، فإنه لابد فيه من الانحلال، لان
العلم لو كان باقيا على صلاحيته للتنجز، يمنع جريان الأصل، ولا يكون زوال الصلاحية عنه،
إلا بالانحلال، فهذان المسلكان في غاية الاختلاف، فصاحب المسلك الأول لا يحتاج إلى
انحلال، بل يحتاج إلى إعمال السببية والمسببية، وصاحب المسلك الثاني يحتاج إلى الانحلال،
لان العلم ما دام منجزا، لا يعقل جريان الأصل من دون تعارض، وقد يتوهم الانحلال بأحد
أمرين، من العلم التفصيلي بالتكليف، المماثل لمتعلق الاجمالي، والمتحد معه زمانا، ومن الامارة
التفصيلية، أو الأصل المثبت للحكم، من استصحاب، أو اشتغال، القائمة على ثبوت الحكم من
حين حصول العلم الاجمالي، فإذا حصل لنا علم إجمالي على تكليف، ثم حصل بعد ذلك علم
تفصيلي، بتكليف سابق على الاجمالي، أو يقارن له، فيدعى إن هذا العلم اللاحق، المتعلق بتكليف
سابق على العلم الاجمالي، يوجب انحلال العلم الاجمالي، فيكون العلم التفصيلي موجبا للانحلال،
ولو كان لاحقا، ويستدل على ذلك بأمرين، أحدهما: إن العلم التفصيلي إذا تعلق بأحد طرفي
العلم الاجمالي، فينحل العلم الاجمالي حقيقة، ويرتفع وجدانا، فلا يبقى أثره، وهو تنجز
الطرفين، فإن كل علم يكون منجزا، ما لم ينقلب، وبعد انقلابه لا يكون كذلك، فالعلم
الجديد التفصيلي المتأخر، منشأ لانقلاب العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي،
وثانيهما: إن الامارة اللاحقة، أو الاستصحاب، قام على التكليف السابق، في أحد طرفي
العلم معينا، وذلك يوجب تنجز ذلك التكليف من حين ثبوته، المحرز بالامارة، فتحصل حينئذ
قاعدة اشتغال، مقارنة للعلم الاجمالي، فلا يكون متعلقه قابلا للتنجز به على الاطلاق،
فالوجه الأول مبني على دعوى انقلاب العلم وانحلاله حقيقة، وثانيهما إن العلم اللاحق،
أو الامارة التفصيلية، إذا تعلق بالتكليف السابق، أحدث قاعدة الاشتغال المقارن للعلم
الاجمالي، فالعلم المتأخر أو الامارة، يوجب الانحلال الحكمي للعلم الاجمالي السابق،
وبالجملة بناء على علية العلم الاجمالي لتنجيز متعلقه، فلابد من دعوى انحلال أحد
81

العلمين المترتبين، حتى يصح التمسك بالأصل في بعض أطرافه، كالأصل المسببي بعد
تساقط السببين، وإلا فجريان الأصل بلا معارض لا يكون مثمرا، فلا بد من دعوى
انحلال العلم، وسقوطه عن درجة الاعتبار، حتى يجوز جريان الأصل بلا معارض
في طرف الملاقي، وتقدم إن في الانحلال مسلكين، أحدهما مبني على أن العلم التفصيلي
اللاحق الذي متعلقه سابق زمانا على العلم الاجمالي المتقدم، يوجب انحلال العلم وانقلابه
من حين حصول العلم اللاحق، فلا يكون منجزا لغيره، فيكون ما عدا متعلقه من
الأطراف، مشكوكا بدويا، وذلك لان العلم الاجمالي، إنما يكون منجزا إذا كان باقيا،
ولا يكون بحدوثه مؤثرا في التنجيز إلى الأبد، فإذا زال العلم الاجمالي، وحصل علم
تفصيلي جديد، فتنحصر المنجزية في الأخير، فتجري البراءة بالنسبة إلى ذلك الطرف
بلا معارض، وصاحب هذا المسلك لا يحتاج إلى أن يقول أن العلم اللاحق منجز
للتكليف السابق، فيما قبل تعلقه به، بل يكفيه البرهان السابق في دعواه الانحلال،
وهو إن العلم منجز ما دام وجوده، وإذا انقلب فلا ينجز متعلقه، فإذا حدث التفصيلي
بعده، فلا يكون في البين منجز، إلا العلم الثاني، فينحصر تشبثه بأن العلم ما دام كونه باقيا
منجز، وإذا انقلب لا يكون منجزا، كما أن على المسلك الثاني في دعوى الانحلال،
وهو أن العلم الثاني، أو العلمي، أو الأصل الحاكم بثبوت الحكم في طرف معين من
الأطراف، يوجب تنجز التكليف السابق في طرف ثبوته، لا يحتاج إلى المبنى السابق،
أي انحلال العلم، بل لا يصح منه هذا الدعوى، فيما إذا قامت أمارة، أو أصل على الحكم
في الطرف المعين، بداهة إنه بقيامها لا ينحل العلم الأول حقيقة، بخلاف الصورة
الأولى، فإنه يمكن أن يدعى الانحلال فيها، بأن العلم الاجمالي إنما يكون منجزا، إذا
لم يحدث العلم اللاحق الاشتغال في الرتبة السابقة، يعني من حين حدوث العلم اللاحق
، يسقط العلم الأول وينحل، فعلى المسلك الأول، يلتزم بأن العلم الأول ما دام كونه
باقيا منجز لاطرافه، وإذا انقلب فلا تأثير له، وأما على المسلك الثاني، فيلزم القول بعدم
منجزية العلم الاجمالي السابق في شئ من الأزمنة، إذ المفروض تعلقه بأمر يحتمل
انطباقه على أطراف، قد تنجز الحكم في بعضها بواسطة الامارة اللاحقة، فلا تأثير
له في تنجيز متعلقه من أول ثبوته، هذا غاية تقريب دعوى الانحلال، والجواب
82

عن الأول، منع انقلاب العلم الاجمالي المتقدم، بواسطة العلم التفصيلي المتأخر، بحكم
أحد الطرفين، على ما بين فيما سبق، ولو سلم فلا ربط له بالمقام، إذ المفروض إن العلم
الثانوي إجمالي كالأولى، فلا يحصل علم تفصيلي بحكم شئ، من طرف العلم الأول، فكيف
يحصل الانقلاب ويتوهم الانحلال، حتى لا يتنجز بعد، إلا متعلق الثاني، وعن الثاني،
فمع إنه واضح الفساد، لا يخفى على أحد منع تأثير الطريق المتأخر في تنجيز الحكم
المتقدم إلا من حين وصوله وقيامه إلى ما بعده، وذلك لان ذي الطريق، وإن كان
ثابتا في طرف العلم الأول، وقابلا للتنجز لو قام عليه طريق في ذلك الزمان لكن العلم
المتأخر لما كان دخيلا في التنجيز، وعلة له، فلا يعقل أن يؤثر، إلا من حين ثبوت نفسه،
وإلا لزم تأثير المعدوم في الموجود، وتقدم المعلول على علته، فالعلم الثاني لا ينجز
شيئا يكون متقدما عليه، إلا من حين ثبوته، باعتبار الآثار التي بحسب ترتيبها عليه،
من هذا الان، فلا تأثير له في التنجيز باعتبار ما مضى، ولا في المرتبة المتقدمة على
نفسه، فلو تولد الثاني من العلم السابق، ونشأ منه، مثل ما إذا حصل العلم بنجاسة
الملاقى، وأمر آخر من العلم بنجاسة الملاقي وذاك إجمالا لا يكون للعلم المتأخر تأثير في التنجيز
أصلا، أما فيما قبل حصوله، فللزوم تقدم المعلول على علته و
ما فيما بعد، فلانه وأن
كان متعلقا بالمسبب، وما في رتبة سابقة على متعلق الأول، بناء على كون تنجس
الملاقي بأحد الوجهين الأخيرين من السراية، لكنه ما دام البقاء متأخر رتبة عن
العلم الأول، ضرورة إن الباقي عين الحادث وهو متأخر عن الأول، حسب المفروض،
فما لم يتخلل العدم لا تتفاوت الرتبة، فيكون الأول مؤثرا في تنجيز حكم أحد
الطرفين للثاني، في رتبة متقدمة عليه، فلا يرد إلا على طرفين، أحدهما مثبت الاشتغال
به، فلا يتنجز بالمتأخر شئ، فلهذا نقول لا يحصل الانحلال بالمتأخر، بشئ من
الوجهين، بل الامر بالعكس، وإنما التأثير للعلم المتقدم رتبة، لو كان بينهما تقدم وتأخر،
وإلا فالتأثير لكليهما في المتلاقيين وطرفهما، وبالجملة إن كل طريق، قطعيا كان أو ظنيا،
أو أصلا من الأصول، إذا تعلق على حكم، فلا إشكال ولا ريب، إن ذاك الحكم
المتعلق للطريق كان في رتبة سابقة على الطريق، لان الطريق في رتبة متأخرة عن
الواقع، ولذا يقال تعلق الشك بالواقع، وتعلق القطع والظن به، فتمام الطرق في طول
83

الواقع، فإذا كان الطريق علة للتنجز، فالتنجز الحاصل من قبل قيام الطريق، الذي
هو عين حكم العقل بوجوب الطاعة للامر المعلوم سابقا، واستحقاق العقوبة على ترك
الامتثال، يقع في الرتبة المتأخرة عن العلم المتأخر عن الحكم الواقعي، فحكم العقل
بوجوب الإطاعة، متأخر عن الحكم، وكذا عن الطريق إليه، لأنه قبل قيام الطريق
إلى الحكم، لا مجال لحكم العقل بوجوب الإطاعة، فإنه حكم بقبح العقاب بلا بيان، فلو
حدث علم إجمالي آخر بنجاسة ثالث، أو طرف الملاقى المتعلق بهما العلم الأول، فلا
يعقل أن يوجب العلم المتأخر، تنجز متعلقه في الطرفين، حتى بالنسبة إلى ما قبل
حصوله، كي يوجب انحلال الأول، وذلك لما عرفت من أن التنجز متأخر عن
العلم، فيستحيل أن يتقدم عليه آنا ما، أو رتبة، وإذا كان الثاني متولدا عن الأول، كما
في المقام، فلا يعقل تأثيره في التنجيز عند حصوله أيضا، لأنه مسبوق بالمنجز في بعض
أطرافه، ومتأخر عنه بحسب الرتبة، فليس متعلقه قابلا للتنجز به على أي تقدير، فإن
العلم الواقع في طول الاخر، متأخر عنه رتبة في عالم الحدوث، وإن كان متعلقا بالعلة
لمتعلق الأول، وكذلك في عالم البقاء، لان الباقي عين الحادث، ولا تتعدد رتبتهما، ويستحيل
أن تختلف رتبة الحادث مع رتبة الباقي، من دون تخلل العدم، فما لم يتخلل العدم، يستحيل
أن يكون اختلاف بينهما حدوثا وبقاء، وتوهم إن الحدوث يكون مقدما على البقاء،
لان البقاء فرع الحدوث، فهما مختلفان رتبة، فمدفوع بأن للحدوث تقدم ذاتي على
البقاء، لكن الحادث والباقي يكونان في رتبة واحدة، فإن الحدوث والبقاء من
أحوال الموجود الواحد، وليس للحدوث تقدما رتبيا على البقاء، ما لم ينته إلى تخلل
العدم، ففي الخارج ليس إلا لوجود واحد، وحد واحد، فبقاء الشئ في الرتبة التي
كان فيها الحدوث، يعني إن الوجود في أي رتبة كان، فالعدم أيضا في تلك
الرتبة، فيستحيل انقلاب أحد العلمين، فإذا لم ينقلب العلمان، فحينئذ إذا تعلق العلم
المتأخر، على التكليف السابق فلا يوجب التنجز، إلا في الرتبة اللاحقة، لا السابقة،
فإذا كان العلم متعلقا بالتكليف، بأن كان ظرف التكليف سابقا على العلم، فلا يؤثر
في عالم التنجز، إلا من حينه، فتحصل إن العلم بالعلة، وإن كان في رتبة متأخرة عن
المعلول، لكنه لا يعقل أن يكون تنجيزه لها في رتبة سابقة على هذا العلم، فالعلم
84

الأول في رتبة لا وجود للعلم بالعلة المتحقق في الرتبة المتأخرة، فيؤثر في تنجيز
متعلقه على الاطلاق، فيصير بعض أطراف العلم الثاني، منجزا بقاعدة الاشتغال
بالعلم المتقدم، فإذا تحقق الاشتغال فلا يعقل أن يكون العلم الثاني مؤثرا، فالعلم
الأول إذا أحدث قاعدة الاشتغال، فحينئذ لا نتيجة لتعلق العلم على تكليف في الرتبة
السابقة، لان التكليف السابق بوجوده الواقعي، لأنه تنجز له في الرتبة السابقة، بل
تنجزه في الرتبة المتأخرة.
ومن هنا القدح إنه لا مجال لدعوى انحلال العلم الاجمالي السابق بنجاسة
الملاقي، أو طرف الملاقى، بالعلم الاجمالي اللاحق، بنجاسة الملاقى، أو طرفه، بتقريب
كون الثاني مؤثرا له في تنجيز الطرف، فيما قبل حصول العلم الأول، وفي رتبة متقدمة
على تنجس الملاقي، فلا يتعلق العلم الأول بما لم يثبت الاشتغال في شئ من طرفيه،
فلذا يجوز التمسك بالأصل في الملاقي، بعد سقوطه بالتعارض في الملاقى والطرف الآخر
، فهذا الوجه فاسد، وغير مفيد، لصحة الرجوع إلى الأصل في طرف من
الأطراف، فلا بد من التمسك بمبنى تعليقية حكم العقل، أو الالتزام بعد مؤثرية العلم
المتأخر، لو لم يحصل العلمان دفعة واحدة، فيحكم بجواز التمسك بالأصل في السبب
عند مسبوقية العلم به، بالعلم بالمسبب والثالث، وفى المسبب في صورة انعكاس الامر،
وبعدم الجواز في شئ منهما، لو حصل العلمان الاجماليان من سبب واحد، ثم علم
بطولية متعلق واحد منهما لمتعلق الاخر، ومن ذلك كله ظهر إن إظهار العجب
من صاحب الكفاية في تجويز الرجوع إلى الأصل في طرف، عند فقدان المعارض،
مع قوله بأن تنجس الملاقي بالسراية، وفى تصويره جواز الرجوع إلى الأصل في
السبب تارة، وفي المسبب أخرى، ولا في شئ منهما ثالثة، عجيب غريب لا منشأ له،
إلا حمل السراية على المعنى الأول، والغفلة عن الثاني المتقدم، إنه الظاهر من كلمات
الأصحاب، وتعبيراتهم، فإنه يستفاد من تعبير الانفعال والتنجس، وتفريع نجاسة
الملاقى على ملاقاة النجس، إن النجاسة تحدث في الملاقي من قبل الملاقى، فالطولية بينهما
ثابتة ومرتكزة، فلا بأس بالرجوع إلى الأصل في المسبب، بعد تساقط الأصلين
في السبب، ولا عجب في تجويزه، كما لا يخفى، ومنشأ العجب في تخيل انحلال العلم
85

بالمسبب، بواسطة العلم بالسبب دائما، وتصور إنه لو كان الثاني حاصلا من الأول يرفع
الأثر عنه في ظرفه وموطنه، وتمسكا بالتقريب المتقدم، وقد عرفت إنه لا محيص عما
التزم به صاحب الكفاية، ولا معقولية لما تمسك به المقرر المتعجب، هذا فتحصل
إنه إذا كان أحد العلمين متأخرا عن الاخر بحسب الحدوث، فيكون كذلك بقاء،
فإن الحادث والباقي شئ واحد، ينطبق عليه العنوانان باعتبارين، فيستحيل أن تكون
مرتبة بقائه مقدما على الحدوث، أي لا يعقل أن يكون الباقي مقدما على الحادث
المتحد معه، وإلا يلزم تقدم الشئ على نفسه، فالعلم المتأخر متأخر حدوثا وبقاء، سواء
تعلق بالعلة لمتعلق الأول، أو معلوله، مثلا إذا علمنا بالنار للعلم بالدخان، فيكون العلم
بالدخان علة للعلم بالنار، فإن كان الامر بالعكس في المتعلقين، فالعلم بالدخان معلول
للعلم بالنار، فإن العقل يحكم بإنه وجد العلم بالدخان، فوجد العلم بالنار، ومتأخر عنه
رتبة، حدوثا وبقاء، فيما لم يتخلل العدم بين العلمين، ولم يتبدل العلم بالجهل، فلا تنقلب
مرتبة العلم الثاني في عالم البقاء، ولا يلزم عدم كون بقائه في رتبة حدوثه، فحفظا
لوحدة الرتبة بين الباقي والحادث، لابد من الالتزام بعدم مشاركة العلم الطولي في بقائه
مع العلم المتولد منه أولا في الرتبة، وعلى هذا فلا يتعلق المتأخر بأطراف لم يثبت
الاشتغال بها قبله، فلا يؤثر في التنجيز، ولا يوجب انقلاب المتقدم عليه وانحلاله،
ولهذا قلنا بعدم تأثير العلم التفصيلي بوجوب الأقل، الناشي من العلم الاجمالي
بوجوبه فقط، أو في ضمن الأكثر، فإنه بناء على كون وجوب الاجزاء غير ما يحصل،
علم تفصيلي بوجوب الأقل عند الدوران، غاية الامر يتردد وجوبه بين أن يكون
غيريا أو نفسيا، وقد نبهنا هناك على إن هذا العلم، لما كان متأخرا في الرتبة عن
الأولى، ومتولدا منه، كان متعلقا بما اشتغلت الذمة به في الرتبة المتقدمة، بالعلم في تلك
المرتبة بوجوب الأقل أو الأكثر، ويقتضي إتيان الأكثر احتياطا، فلا أثر له في
المفروض أصلا، ثم إن ههنا إشكال عويص من بعض الفضلاء، لا ينحل على مسلك
القائل بالاقتضاء، على تقدير كون المرجع في طرفي العلم ما يفيد طهارتهما، من
الاستصحاب فيهما، أو قاعدة الطهارة كذلك، أو استصحابها في البعض، والطهارة في
الاخر، وتقريب الاشكال، إنه لو فرض الملاقي كأس أسود، والملاقى بالفتح أحد
86

الكأسين الأبيضين، فحينئذ تجري قاعدة الطهارة في الطرفين، للعلم الأول، فيسقطان
بالتعارض، فتنتهي النوبة إلى الأصلين المسببين، أحدهما قاعدة الطهارة في الكاس الأسود
الملاقي، والاخر قاعدة الحلية في الملاقى مع طرفه، فإنهما أصلان عرضيان، يعلم بمخالفة
أحدهما للواقع أيضا، فيتعارضان، وبعد تساقطهما تبقى قاعدة الحلية للملاقي قابلة للجريان
بلا معارض، فإن الشك في حليته مسبب عن الشك في طهارته، وإذا سقط ما يقتضي
طهارته بالمعارضة، مع ما يقتضي حلية طرفي العلم الأول، فتصل النوبة إلى الأصل
المسببي، ونتيجة قاعدة الحلية في الملاقي، هي إنه يجوز شربه، فيلزم أن يكون الماء الواحد
الشخصي، جائز الشرب، مع إنه لا يجوز التوضي به، فيكف يعقل التكليف، لان كل من
قال بالحلية، وجواز الشرب، قال بجواز التوضي به، فتلخص إن في البين أصول طولية
وعرضية، أما الأولى فهي قاعدة الطهارة في طرف العلم المقدم، وأما الثانية فهي
قاعدة الطهارة في طرف الملاقي بالكسر، وقاعدتا الحلية في طرفي العلم الأول، فإنها
أصول ثلاثة عرضية في طول قاعدة الطهارة، فالأصول الثلاثة، أحدها حلية ذاك
الطرف، والآخرين حلية هذا الطرف، وقاعدة الطهارة في الملاقي، فتسقط أصالة الطهارة
في الملاقي بالمعارضة، مع أصل الحلية في الطرفين، فلا يبقى إلا أصالة الحلية في الملاقي،
ومقتضى جريانها التفكيك بين جواز الشرب، وعدم التوضي به، ولم يلتزم به أحد،
فبناء على مذاق من لا يرجع إلى الأصل في طرفي العلم، لا محيص عن هذا الاشكال،
وأما على المسلك المختار، وهو كون العلم الاجمالي بذاته مانعا عن جريان الأصلين،
ولو كان بلا معارض، لكونه علة لتنجز متعلقه، فلا مجال لوروده، لوجود مانع آخر
عن إجراء الأصل، فهذه النتيجة من النتائج العظيمة بين المسلكين، فإن قلنا بعلية
العلم الاجمالي، فينحل الاشكال، لأنه لا تجري قاعدة الطهارة، ولا أصالة الحلية في
أطراف العلم، حتى يعارض بعضها قاعدة الطهارة في الملاقي، فتبقى قاعدة الطهارة فيه
بلا معارض ومانع آخر، فتجري فيه ويحكم بطهارته، وحلية شربه، فلا يلزم التفكيك
بين الحكمين، ثم إن ههنا فرعان لا بأس بذكرهما تتميما للفائدة.
أحدهما: لو تلف الملاقى بالفتح بعد العلم بنجاسته، أو نجاسة أمر آخر، حينئذ
يجوز الرجوع إلى الأصل في الملاقي، وإن كان طرفا للعلم الاخر بنجاسته، أو
87

نجاسة صاحب الملاقى، كما في صورة بقاء طرفي العلم الأول، إما لما تقدم، من أن
الأصل إذا لم يعارض، لا مانع من جريانه في طرف العلم، ولو كان منجزا بنحو
الاقتضاء، وإما لان العلم الثاني، لم يتعلق بطرفين لم يكن شئ منهما موردا للاشتغال،
فلذا لا يؤثر في التنجيز، ولا يمنع عن جريان الأصل في الملاقي، فهو يجري فيه بلا
مانع ومزاحم، ومسببيته أيضا لا تقتضي عدم الجريان، إلا بعد سقوط الأصل في
السبب عن الحجية بالمعارض، بداهة إن المسببي محكوم بالسببي، لو كان قابلا للجريان،
وأما لو لم يكن كما في المقام، لعلية العلم الأول للتنجيز، فهو كالساقط بالمعارضة،
فتصل النوبة إلى المسببي بلا كلام، فمقتضى القاعدة في الفرض المذكور، لزوم الاجتناب
عن طرفي العلم الأول، والحكم بطهارة الملاقي، وجواز شربه، أو أكله والتوضي به
على كل حال من المبنيين في منجزية العلم، والفرق هنا في أن القائل بتعليقية حكم
العقل بلزوم الاحتياط، يرجع إلى الأصل المسببي، بعد إسقاط الأصل السببي بالتعارض،
ونحن نقول: لما لم يكن مع العلم المنجز مجرى له أصلا، فلا نحتاج إلى دعوى التساقط،
بل نتمسك في الملاقي بالأصل، لأنه مشكوك، ولا حكومة لأصل على أصله، فحال
تلف الملاقى بعد العلم بحكمه، نظير حاله عند عدم التلف، وما أظن أن يكون نظر من
فرق بين التلف والبقاء إلى هذا الفرض.
وثانيهما: أن يكون العلم بحكم الملاقى وصاحبه إجمالا حاصلا أيضا بعد تلف
الملاقى، وقد قيل في غير واحد من الكتب، تبعا للرسائل، إن الملاقي حينئذ يقوم
مقام التالف، ويجب الاجتناب عنه وعن الطرف المشترك، ففي الصورة لم يفرقوا بين
كون التالف موردا للاستصحاب في حال وجوده، وعدم كونه كذلك، ولعلهم
تخيلوا إنه لا معنى لاستصحاب حكم التالف بعد تلفه، وأنت خبير بإنه لو كان شئ
تلف في الأمس، أو قبله، ولو بسنة أو أكثر، وكان مجرى للاستصحاب في موطنه،
ومنشأ للشك في حكم في الان الحاضر، يجري الاستصحاب في التالف، وبه يترتب
أثره المشكوك في الحال، ولذا لو شك في طهارة ماء غسل به ثوب، أو توضى به في
حال تلفه، يتمسكون باستصحاب طهارته، باعتبار الأثر الفعلي لهما، من طهارة المغسول،
وأعضاء الوضوء، وحصول الطهارة الحديثة، وكذا يتمسك استصحاب الطهارة،
88

دفعا لوجوب الكفارة، في مورد شك بعد سنة في طهارة ما اغتسل به عن الجنابة، في
ليلة من الرمضان، فإن الشك فيه، يوجب الشك في صحة الصوم، وهذا موجب للشك
في وجوب القضاء، وهو موجب للشك في وجوب الكفارة حين دخول رمضان
المقبل، ففي الفرض أيضا يتمسك باستصحاب طهارة ذاك الماء، ولو لم يكن باقيا بنفسه،
لعدم كونه بلا أثر في الوقت، وليس هذا إلا لان الطهارة المستصحبة، لها أثران،
أحدهما طهارة الملاقي لموضوعها، والاخر جواز شربه، أو أكله مثلا، فلو كان
موضوعها باقيا حين الاستصحاب، يترتب عليه الاثران معا، ويفيد الأصل بثوب
كليهما تنزيلا، وأما لو انتفى وتلف، فالأصل إنما يفيد ثبوت الأثر الاخر تنزيلا، ولا
ريب في إنه لو لم يكن للمستصحب إلا أثر واحد بالوسائط المتعددة الشرعية حين
إجرائه، لكفى في صحته، فإطلاق كلام الشيخ " ره " ومن تبعه، وقولهم بأن الملاقي
في الفرض واجب الاجتناب، وليس مورد للأصل المسببي، محل نظر، ومورد منع،
لأنه ربما يكون التالف معلوم الطهارة، قبل العلم بنجاسته، أو نجاسة صاحبه، فحينئذ
يستصحب طهارته بعد تلفه، باعتبار أثر شرعي لها، وهو طهارة ملاقيه، فتعارض
بالطهارة الجارية في عدله، وتنتهي النوبة إلى الأصل في المسبب، كما في الصورة
السابقة، وكذا الامر فيما إذا كان الطرفان معلومي النجاسة، ثم تلف الملاقى منهما، ثم
علم بطهارة أحدهما إجمالا، فإنه تستصحب نجاسته، باعتبار أثرها حينئذ، وهو نجاسة
الملاقي، وكذا نجاسة العدل لها، وبعد التعارض والتساقط، يرجع إلى الأصل المسببي،
بل يمكن أن يقال الامر كذلك، حتى في مجهولية الحالة السابقة فيهما أو في أحدهما،
لان قاعدة الطهارة أيضا تجري في التالف، باعتبار أثره، وهو طهارة الملاقي، فتعارض
بالاستصحاب، أو بمثلها الجاري في العدل الاخر، فيتسع المجال للأصل المسببي،
فالتفرقة بين هذه الصورة، وما تقدمتها، لا وجه لها ظاهرا، نعم قصارى ما يتخيل في
المقام، أن يقال: لما كانت طهارة الملاقي تبعا لطهارة التالف، ومجعولة بجعلها، فلا تكون
له طهارة أخرى، وإلا لزم أن تكون الطهارة مجعولة مرتين، ولا يعقل ذلك مع وحدة
الموضوع، فإذا سقط الأصل المفيد لطهارة السبب، لا يكون بعده ما يجعل الطهارة
للمسبب، فلا أصل له، حتى يرجع إليه، فيؤثر العلم في التنجيز، ويحكم العقل بوجوب
89

الاجتناب عنه، وهذا كما ترى لا سداد له أصلا، وإلا لزم عدم الرجوع إلى أصالة
الطهارة في المسبب، عند بقاء الملاقى، لجريان الدليل فيه بعينه، مع إنك قد عرفت إنه
مما لا نزاع فيه على المسلكين، في التنجيز، ولما عرفت سابقا، إن جعل الطهارتين في
موضوع واحد، إنما لا يصح، ويكون من اللغو والعبث، إذا كان المجعول بهما عرضيا
وفي ظرف مجعولية الاخر للموضوع، وأما إذا كان لكل موطن غير موطن
الاخر، كما في المقام، فإن الطهارة التي هي أثر الطهارة الملاقى، ثابتة للملاقي في موقع
لا مجرى لأصالة الطهارة فيه بنفسه، لأنها محكومة بالأصل السببي، فلا محذور فيه،
بل هو معقول قد دلت عليه الأدلة الشرعية، ولذا يؤخذ بالمحكوم بعد سقوط
الحاكم عن الحجية، فما أفيد في الرسائل والكتب المطبوعة بعدها، لا يوجد له وجه،
ولا يناسب القول بعلية العلم، ولا بتعليقيته، كما لا يخفى، ثم إنه لا وجه لذكر إن
العلم علة، أو مقتضى للتنجيز في الفرض الأخير، لأنه إنما تعلق بالتالف الخارج عن
الابتلاء، فلا تأثير له بشئ من النحوين.
(تنبيه)
لو علم إجمالا بثبوت الأثر، إما في أمرين، أو أمر ثالث، فحينئذ إما أن يقال
بوجوب ترتيب الأثر على الجميع، وأما على الأكثر، والمثال لذلك هو ما إذا كان العلم
متعلقا بمغصوبية هذه الشجرة المثمرة، أو الشئ الاخر، بناء على قول في الغصب،
من أن اليد على الشئ، يد عليه وعلى منافعه، فإن مقتضاه الحكم بحرمة التصرف في
الشجرة ومنافعها، حرمة تنحل إلى حكمين عرضيين، كل منهما ليس دائرا مدار الاخر،
ثبوتا وسقوطا، ولذا ربما يجوز التصرف في أحديهما دون الأخرى للاضطرار، أو
الاجبار وغيرهما، ففي الحقيقة والمأل يعلم بالحرمتين في موضوعين، وبحرمة لموضوع
ثالث بنحو الاجمال، ولا يخفى إن الصور المحتملة ثلاثة منها، أن لا يعلم بنحو الاجمال،
بعدم طولية أحد الاثرين في طرف لاخر، بل يحتمل كونهما عرضيين أيضا،
ومنها أن يعلم ب
ن أحدهما المعين، ليس في طول الاخر، ومسببا عنه، فلا يحتمل الطولية
إلا في الاخر، والصورة الثالثة ما إذا علم بالتقدم والتأخر، لكن لا يكون شئ
90

منهما متميزا ومتعينا، فلهذا يكون احتمال تسبب كل منهما عن الاخر، كاحتمال عكسه،
وحيث إن الأوسط منها مما يحتمل قويا، أن لا يجب ترك ما شك في مسببيته، نظرا إلى أن
العلم المتعلق بالمسبب والطرف، كما لا ينجز شيئا، فكذلك المتعلق بما احتمل تسببه
وتأخره، فلا بأس بالتعرض لحكمها على مبنى من يجوز جريان الأصل في أطراف
العلم المنجز، عند فقدان المعارض، وعلى المختار من ما نعيته لجريانه، ولا يخفى مقدمة إن
وجه تقدم الأصل السببي على المسببي، إنما هو للحكومة التي له عليه، إذ لو أخذ بالثاني،
للزم تخصيص دليل الأصل بالنسبة إلى السببي، بلا مخصص، أو بوجه دائر، بخلاف
العكس، فإنه لا يلزم منه إلا التخصيص الجعلي والتنزيلي، فهذا التقديم من باب حفظ
الظهور وأصالة العموم، في دليل الأصل القابل للجريان في السبب والمسبب، ففي كل
مورد أحرزت السببية لا يرجع إلى الأصل في المسبب، حتى على مذاق من لا يجوز
جريان الأصل في أطراف العلم، وأما لو لم يحرز في هذه الصورة وغيرها من السابقة
واللاحقة، فأصالة العموم لا تنخرم بالأخذ بها في الأطراف للعلم، فيؤخذ بالأصل في
الجميع، ويسقط بالتعارض، فيبقى العلم بالحرمة المرددة بين أمرين لا مع ثالث، وتنقطع
اليد عن الأصل المرخص، فيؤثر العلم مع كونه مقتضيا للتنجيز، أثره ويوجب العقل
ترك الجميع، وأما على المختار، فالامر واضح، وذلك لان العلم يمنع عن جريان الأصل
في أطرافه، وينجز متعلقه فيها ابتداء، أما فيما لا يحتمل مسببيته، فواضح، وأما فيه،
فلان العقل لاحتماله كونه في عرض الآخرين، يجوز تنجزه ويصحح العقاب عليه،
وقد تقدم إن احتمال التنجز أيضا لا ينفك عن التنجيز، فعلى أي تقدير يجب الاجتناب
عن الجميع، والوجه ما قلناه، لا ما أطيل الكلام في تقريره في بعض المطبوعات الجديدة،
ثم إن الكلام في الشبهة الوجوبية، هو الكلام في الشبهة التحريمية، من غير فرق
بين جميع أقسامها، من فقدان النص، أو تعارض النصين، أو إجمال النص، ومن غير فرق
أيضا بين الانحصار وعدمه، والابتلاء وعدمه، فيجرى فيها جميع ما مر في المتبائنين
من الشبهة التحريمية، نعم هنا فروع متعلقة بالعلم الاجمالي، لا يخلو ذكرها عن مناسبة
للمقام، فنقول.
الأول أنه إذا صلى ظهرا، ثم علم إجمالا بوجوبه، أو وجوب الجمعة في هذا
91

اليوم، هل ينجز علمه هذا ما تعلق به، مع إنه كالعلم المتعلق بعنوان قد تلف بعض
ما ينطبق عليه احتمالا، أم لا؟ وعلى تقدير عدم تنجيزه، لعدم القطع بالاشتغال فعلا، إذ
لو كان الظهر واجبا، فقد أتى به، فلم يبق وجوبه، فهل يصح إجراء الاستصحاب في
المقام، كي يفيد فائدة العلم الاجمالي، قبل تلف الطرف له من وجوب مراعاة الاحتياط
في الطرف الباقي، أم لا. أما في المقام الأول، فلا ينبغي النزاع في عدمه، لما مر من
أن العلم الاجمالي لا تنجيز له، إلا إذا تعلق بالحكم العقلي على أي تقدير، وفي الفرض
ليس كذلك، كما لا يخفى، وأما في الثاني، فربما يتصور جريان الأصل المثبت، إما في
الموضوع، أو في الحكم، إما في الموضوع، فتقريبه إن الصلاة الشخصية المرددة بين
الظهر والجمعة، صارت معلومة الوجوب من أول الوقت، وقبل الاتيان بالظهر، وبعده
يشك في بقائها تحت الإرادة والوجوب، فتستصحب لان أركان الاستصحاب من
اليقين السابق، والشك اللاحق في الموضوع الواحد ذي الأثر متحققة في المقام،
وتشهد بها وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة، فلا بأس باستصحاب ذلك الموضوع،
والحكم بوجوب الاتيان بالجمعة أيضا، وربما يرد بأن مقتضاه التعبد بوجوب الاتيان
بالظهر والجمعة جميعا، مع إن وجوب الظهر مقطوع العدم فعلا، إذ لو كان لسقط
بالاتيان به قبلا، فلا حجية لهذا الأصل في المقام، لأنه يلزم التعبد به في صورة القطع
بالخلاف، والحال أنه يتعبد بشئ من الأصول والامارات في مورد عدم العلم بالوفاق
أو الخلاف، وأنت خبير بأن هذا الجواب لو تم، للزم أن يقال بعدم حجية
الاستصحاب الكلي أيضا، لأنه على تقدير تحققه في ضمن السبق قطعي الانتفاء، وعلى
تقدير الاخر قطعي البقاء فلا وجه للتعبد ببقاء الكلي المنطبق على المحتملين، لأنه
مستلزم للتعبد ببقاء الشئ المعلوم انتفائه، على تقدير، وبقائه على التقدير الاخر، ولا
وجه مع العلم، وهذا الجواب إنما نشأ من الغفلة عن أن متعلق العلم والشك، أمران
متغايران ذهنا، متحدان خارجا، ولا يسرى شئ من الحالين إلى شئ من متعلق الاخر،
وإلا لزم أن يكون الشئ الواحد معلوما ومجهولا، أو مشكوكا بعنوان واحد، مع
إن التضاد بين العلم والشك، مما لا يخفى على أحد، فيما تعلق العلم بعدم بقائه تحت
الوجوب، هي الظهر بعنوانها الخاص، وما شك في خروجه عن تحته هذه الصلاة المرددة
92

بينها وبين الجمعة ولا يلزم من التعبد بها التعبد ببقاء خصوص الظهر وانما تنحصر
فائدة التعبد بها في الفرض في وجوب اتيان ما لم يؤت بها كالجمعة فلا يلزم من الاستصحاب
هذا المحذور المذكور ولكنه ممنوع بوجه آخر لا يتأتى في استصحاب الكلي وهو
أن المستصحب لابد أن يكون، اما بنفسه أثرا شرعيا أو موضوعا للأثر في الدليل
وفي المقام لا يكون الأثر وهو الوجوب لهذا العنوان الجامع العرضي وهو إحدى
الصلاتين من الظهر والجمعة أو الصلاة الشخصية المرددة بينهما وأمثالها وانما هو
لخصوص الظهر والجمعة فلذا لا يصح استصحاب بقاء الجامع العرضي تحت الوجوب
المعلوم لأنه ما جعل للأثر إلا لما ينطبق عليه هذا الجامع لا لنفسه وهذا بخلاف مورد
استصحاب الكلي كالحدث فإنه بعنوانه جعل مانعا من الصلاة فلو صار متعلقا للعلم
بعد الوضوء ودار الامر بين الأصغر والأكبر يصح استصحابه والحكم بعد ارتفاعه
إلا بعد الغسل فكم فرق بين استصحاب الكلي والفرد المردد ولذا ترى الأصحاب
يجرونه في الأول دون الثاني ومن هنا ظهر جواب ما ربما يتوهم من أن الجامع
المحرز بالاستصحاب يكون كالمحرز بالعلم الاجمالي وكما أن الثاني ينجز الحكم في
طرفيه فكذلك الأصل وعليه فيلزم ان يتعبدنا الشارع ببقاء الظهر تحت الوجوب
مع القطع بارتفاعه لو كان فإنه مبني على جريان الاستصحاب فيه وهو ممنوع لما
عرفت من عدم كون الأثر لهذا الجامع الانتزاعي العرضي، واما العلم الاجمالي فمع
انه مسلم بهذا الجامع العرضي انما ينجز التكليف في الطرفين لكونه موجبا لاحتمال
التنجز وقد تقدم حكم العقل بوجوب الامتثال عنده فالصلاة الاجمالية وان كانت
بنفسها متعلقة للعلم إلا انها ليست ملحوظة بما هي كذلك بل بما هي مرآة وفان
في الامر الخارجي المتميز فالنظر إليها آلي لا استقلالي ولا يجمع اجمالي مع الشك
في الطرفين بخصوصهما مع ظهور المضادة بينهما، فالحق انه لا وجه للاستصحاب
الموضوعي في المقام لما قلناه من فقد ما يعتبر في مثله من كون الموضوع ذا أثر في
لسان الشرع لا لما قيل من أنه لا شك في المقام وعلى تقدير ثبوته لا وجه لاجراء
الأصل لأنه مستلزم للتعبد ببقاء ما يعلم بارتفاعه على تقدير وببقائه على آخر فإنه
منقوض باستصحاب الكلي ومدفوع بان متعلق الشك هو الجامع العرضي المعلوم
93

اجمالا فيما قبل تلف واحد من الطرفين ومتعلق العلم بالبقاء وكذا الارتفاع صورتان
أخريان متباينان لمتعلق الشك ذاتا متحدان معه صدقا وموردا فلا يسرى الشك إلى
متعلق العلمين ولا شئ منهما إلى متعلقة وإلا لزم اجتماع الشك واليقين في متعلق
واحد وعنوان فارد فلا مانع من اجتماع الشك في الصورة الاجمالية مع القطع
بالصورتين التفصيليتين كما في العكس، فظهر ان المانع من استصحاب الفرد المردد
في المقام هو انتفاء شرط الاستصحاب الموضوعي فإنه يعتبر فيه أن يكون المستصحب
بنفسه كليا ذا أثر في لسان الشارع أو مصداقا للكلي، ولذا اشتهر ان الاستصحاب تارة
يكون في الموضوعات ونتيجته ليست إلا ترتيب الأثر وتارة يكون في الاحكام ونتيجته
ليست إلا جعل المماثل أي نتيجته أثر عقلي أعم من الأثر الظاهري والواقعي وهذه القاعدة
من القواعد المسلمة فبالنسبة إلى الصورة الأولى نتيجة الاستصحاب هي ترتيب اثره على
مورده وبالنسبة إلى الصورة الثانية جعل المماثل فحينئذ استصحاب الفرد المردد بين ما يعلم
بعدم وجوبه فعلا بواسطة الاتيان وما يشك في وجوبه لا يكون موضوعا للأثر
الشرعي وقد تقدم انه لابد من كون موضوع المستصحب من مصاديق الكبرى
التي لها أثر في الشرع وحيث قد أشرنا إلى أنه تحصل في صورة تعلق العلم الاجمالي
بشئ مردد بين الامرين عناوين ثلاثة، أحدها هذا الطرف بخصوصه وبعنوانه
المختص به، وثانيها ذاك الطرف كذلك، والثالث عنوان عار عن الخصوصيتين
قابل للانطباق على الطرفين على البدل والذي يكون معروضا للعلم هو الثالث
والمعروض للشك هو المعنون باعتبار كل من الخصوصيتين فالعنوان المتعلق للعلم
مبائن لما تعلق به الشك فهنا وان كانا متصادقين على الواحد خارجا فبالعلم الاجمالي
بالحكم نحتمل تنجيز التكليف في أي من الطرفين فيحكم العقل بالاحتياط مع الشك
في خصوصية موضوع الحكم المعلوم اجمالا فعلم أنه لا منافاة بين معلومية حكم مع
مشكوكيته إذ يمكن أن يكون معلوم الحكم بواسطة عنوان صالح للانطباق عليه
وعلى غيره ومشكوكا باعتبار عنوانه المختص به، وبعبارة أخرى ان الصور الثلاث
في عالم العروض كانت متباينة لكن المرئي بهذا الصور الاجمالية محتمل لان يكون
هذا بخصوصه أو ذلك كذلك أي بصورته التفصيلية ففي المقام وان قطع بزوال
94

أحد الطرفين وارتفاعه كما أنه يعلم ببقاء الآخر ولكن يشك في أن الكاس الذي
ورد عليه البول مثلا باق أم لا أو الصلاة التي اشتغلت الذمة بها هي المأتى بها على
الفرض أو المتروكة بعد فتعلق الشك بعنوان لا يكاد يكون متحدا مع العنوان
الذي كان معروضا للعلم فالشك قد تعلق بالعنوان الشخصي التفصيلي وهو عنوان
صلاة الجمعة مثلا وهذا باق مع القطع بعدم وجوب صلاة الظهر وهو لا يسرى إلى
متعلق العلم ويجتمع مع العلمين وهما العلم بالوجوب اجمالا والعلم بعدم وجوب الظهر
بعد الاتيان فعلا فان كان الاستصحاب كانت محققة من دون اشكال في أنه يعلم بارتفاع
الوجوب على تقدير وببقائه على آخر فلا شك في البين فلا وجه للاستصحاب
فالمناط الذي قلنا به في صورة ورود البول على أحد الكأسين ثم تلف أحدهما ببقاء
الشك يجئ ههنا أيضا فمع اتيان الظهر والجمعة وزوالها يشك أيضا في بقاء ما اشتغلت
الذمة به ونظير ذلك ما إذا ورد شخص على مجلس المردد بين زيد وعمرو ومات
زيد وبقى عمرو فالآن يشك في بقائه أي الشبح الذي مردد بين زيد وعمرو الآن
يشك في بقائه مع أنه في المقام علمان أي العلم بموت زيد والعلم بحياة عمرو فعلى
النحو الذي يجتمع العلم الاجمالي مع الشكين فكذا يجتمع مع العلمين فإذا اجتمع
الشك مع العلمين فيجرى الاستصحاب، واما الحكمي فهو على قسمين فتارة يراد
استصحاب شخص الحكم القائم بأحد الموضوعين وأخرى يستصحب الحكم الكلي
الجامع بين القائم على هذا أو ذاك، ولا يخفى ان حكم قسم الأول بعينه حكم
الموضوعي في عدم الجريان إذ الحكم المجعول هو الجامع لا تشخصه وتميزه فشخص
الحكم بما انه كذلك ليس مجعولا حتى يجعل الاستصحاب مماثله ولابد من أثر
مجعول كما هو المفروض واما القسم الثاني فهو خال عن هذا الاشكال إلا أنه ربما
يستشكل في استصحابه من جهة ان شأن هذا الأصل إذا جرى في الحكم ان يجعل
المماثل لمجراه ومطلق الوجوب المجرد عن الفصل والمقوم لا يمكن ان يتحقق فكيف
يجعل بالاستصحاب فبحكم العقل بامتناع وجود الجنس بلا فصل والنوع بلا
تشخص خارجي يدور الامر بين رفع اليد عن استصحاب مطلق الوجوب أو
الالتزام بالأصل المثبت بان يقال لازم جعل الوجوب للأعم من التالف والباقي مع
95

انه لا يعاد تكوينا هو جعله متعلقا بالباقي الذي تحت القدرة وفى مورد الابتلاء
فالعقل يحكم بجعله كذلك وهذا التزام بالأصل المثبت، ولكن يمكن ان يجاب
عنه بأنه جعل الوجوب في مثل المقام مخصصا بفصل مخصوص ليس من لوازم
المجعول الأولي حتى يصير الأصل مثبتا كما قد يتوهم بل إنه من لوازم هذا الجعل
ولا ريب في أن لوازم الحكم الظاهري المجعول مرتبة عليه في جميع الموارد ولا
يكون القول به من الالتزام بالمثبت فاطلاق لا تنقض الخ. يشمل المقام ولا يلزم
منه محذور على ما بين فلا بأس بالتمسك والقول بصحة استصحاب كلي الحكم
المعلوم المقتضي لوجوب الاتيان بالجمعة، فتحصل انه لا بأس باستصحاب الجامع بين
الوجوبين بناء على كون مفاده جعل المماثل في الاحكام، وجعل الأثر المماثل لما
كان للموضوع في الموضوعات ان المحذور المتصور فيه انه لا يمكن ان يجعل الجامع
ولو في مرتبة الحكم الظاهري بلا فصل وخصوصية بداهة ان الجامع بما هو غير
آب عن الاشتراك والتفصل والتشخص ومجردا عنها ليس قابلا للتحقق والجعل
فلو أريد جعله بالاستصحاب كذلك فهو كما ترى ولو أثبت له الفصل الذي كان
لاحد الوجوبين بين الشخصين والمحتملين صار الأصل مثبتا خارجا عن تحت دليل
حجية الاستصحاب وهذا مندفع بان الفصل ثابت لنفس الحكم الظاهري المجعول
بالاستصحاب ومن لوازمه العقلية لا انه لازم للحكم الواقعي المستصحب وذلك
لان تحقق الحكم الظاهري مجردا عن الفصل غير ممكن مثل الواقعي وإذا جعل
الجامع بالاستصحاب يستكشف عن جعله متفصلا بأحد الفصلين وحيث إن
المفروض انتفاء أحد من المحتملين فبحكم من العقل يتعين كون جعل الجامع متفصلا
بفصل الموجود منهما فالاستصحاب على هذا لا يعد من المثبت بشئ لان الفصل
الثابت به من لوازم الحكم الظاهري المرتب عليه عند الكل فيجرى فيه الأصل
ولا يعتنى بقاعدة الاشتغال لأنها محكومة به إذ هي محكمة في صورة لا يكون دليل
على ثبوت المفرغ وعدمه في نظر الشارع. فتفطن واما بناء على غير المشهور
في الاستصحاب من أنه لا يجعل به الأثر والمماثل بل يكون لا تنقض الخ
مفيدا للامر بالبناء على المتيقن السابق وتنزيل المشكوك منزلة المتيقن فلا يتصور
96

فيه هذا الاشكال إذا امتناع الانفكاك بين المتلازمين انما يكون بحسب الواقع
ونفس الامر لا في صورة التنزيل ولذا يفكك بينهما فينزل الملزوم باعتبار اثر من
اثاره الشرعية ولا ينزل لازمه وملازمه ولا يترتبان عليه فلا تلازم بين تنزيلهما كما بين
أنفسهما فعدم امكان تحقق الجامع واقعا مجردا عن الفصل وتلازمه له بحسبه لا يقتضى
تلازمهما في مقام التنزيل والبناء على ثبوته فلا يحتاج إلى فصل حتى يتخيل انه إذا
استصحب وحكم بثبوت الفصل له يصير الأصل مثبتا فعلى هذا المبنى وان لم يكن
لتوهم المثبتية مجال إلا أنه لا يمكن ان يمنع عن جريانه لوجه آخر يختص به وهو ان
الامر بالبناء المدعى استفادته من (لا تنقض الخ) يقتضي ان يكون لما يبني على بقائه
اثر يترتب عليه والأثر المترتب على بقاء الوجوب أحد الامرين من الإطاعة والعصيان
ولا شك في أن الإطاعة عبارة عن الاتيان بمصداق المأمور به وما يقطع انطباقه
عليه بصدق الامتثال كما أن العصيان عبارة عن ترك جميع ما هو كذلك عن مخالفة
وهذا الفرد الباقي في مفروض الكلام ليس مما يقطع باتحاده مع ذاك المحكي بالعنوان
الجامع الاجمالي إذ من المحتمل اتحاده مع ما تلف فلا يكون الاتيان بالباقي اتيانا
بالأثر المقتضى للبناء على بقاء الوجوب فلا يبقى مورد للتنزيل والقول (بأنه يعامل معاملة
بقاء الوجوب) فعلى هذا المبنى لا يصح القول بشمول دليل الاستصحاب بمثل
ما نحن فيه إذ لا عمل للمكلف لأنه لا اثر للمستصحب والمتنزل حتى يعامل مع
المشكوك بقائه معاملة يتيقن البقاء فلذا لا يصح استصحاب الجامع ولو لم يكن لقاعدة
الاشتغال مجرى فيه أصلا فليس المحذور على هذا المبنى ما يتخيل من أنه لا فائدة فيه
إذا الاشتغال كاف في البعث على الاتيان الباقي أو الاجتناب عن التالف لأنه مندفع
بمحكومية القاعدة على تقدير جريانه فتحصل انه لا مصحح لجريان الاستصحاب في
الجامع بناء على عدم جعله للمماثل واما على مذاق المشهور من أن مفاده جعله فلا مانع
منه فيجرى ويجب الاتيان بالباقي الغير التالف ولا يصغي إلى ما يدعي من أنه أردء
الأصول المثبتة لما ظهر من أنه ليس مثبتا اصطلاحيا.
الثاني إذا انحصر ثوب فيما يعلم اجمالا بنجاسته في أطراف محصورة فهل تجب
الصلاة عاريا لسقوط شرطية الستر في مثله أو يجب تكرارها في أكثر من واحد
97

حتى يحصل له القطع بوقوع الصلاة منه في الثوب الطاهر وجهان ويمكن ان يقال
تقريبا للأول هو ان الأصحاب قد التزموا بوجوب الصلاة عاريا إذا انحصر الثوب
في واحد غير طاهر وليس هذا التقديم دليل مانعية نجاسة الثوب عن الصلاة فعند
الانحصار في الواحد النجس لا يتمكن المكلف على الاتيان بالصلاة الواجدة لشرط
الستر الخالي ولذا لولا قاعدة الميسور ومثل الصلاة لا تترك بحال لكنا نقول بسقوط
الصلاة عنه رأسا لكنها يفيد وجوبها حينئذ مجردة عن هذا الشرط فيسقط الستر عن
الشرطية في هذا المقام وهذا الوجه بعينه جار في مفروض العنوان أو مقتضى مانعية
نجاسة ثوب من الأثواب هو الاجتناب عن جميعها لمنجزية العلم الاجمالي وجوبه فيكون
المكلف مأمورا بالاجتناب عن الجميع وغير قادر على لبس شئ منها في الصلاة شرعا
وحيث إن غير المقدور الشرعي كالعقلي فلا يبقى له قدرة على الصلاة في الثوب الذي
لم ينه عن لبسه فيسقط شرطية الستر ويجب الاتيان بالصلاة عاريا هذا غاية ما ربما
يتصور تقريبا لدعوى عدم وجوب التكرار في الثياب بل لا يجب حينئذ الصلاة
واحدة عاريا ومجردا ومآل هذا إلى دعوى علمين اجماليين في مثل المقام أحدهما قد
تعلق بشرطية لبس واحد من الأثواب الثلاثة للصلاة والآخر متعلق بمانعية بعضها
عنها وان العلم بمانعية بعضها ينجز الاجتناب عن الجميع فترتفع شرطية الستر لواحد
منها للصلاة لان تحصيلها مع الستر غير مقدور شرعا فتحصل انه لو علم اجمالا بنجاسة
أحد الثوبين المنحصرين فظاهر اطلاق الأصحاب انه يصلى عاريا واستشكل عليهم
بأنه لا وجه لذلك على الاطلاق لأنه ان كانت شرطية طهارة الساتر مقيدة بكونها
معلومة تفصيلا فالادعاء في محله فيسقط الستر حينئذ عن الشرطية فيلزم الصلاة عاريا
لعدم التمكن من تحصيل الشرط وان كان الشرط طهارة الستر واقعا ولو لم يعلم بها
تفصيلا فلا وجه لتجويز الصلاة عاريا مع التمكن من تكرارها في الثوبين تحصيلا للعلم
بوقوعها في الطاهر الواقعي وأما إذا لم يتمكن من التكرار اما لضيق الوقت كما إذا
لم يبق من الوقت إلا مقدار أربع ركعات مثلا فصح الاجتزاء حينئذ بالصلاة الواحدة
عاريا فإنه سيجئ في المقام مناط المزاحمة بين شرطية طهارة الساتر وبين مانعية نجاسته
فان الصلاة في جميع الأثواب دفعة مستلزم للمخالفة القطعية فيدور الامر بين الصلاة
98

في الساتر النجس الاحتمالي وبين الصلاة عاريا حتى يحصل الاجتناب عن الساتر النجس
الواقعي فيقع التزاحم بين شرطية طهارته ومانعية نجاسته كما في صورة انحصار الثوب
في الواحد النجس ولذا حكموا بالصلاة عاريا تقديما لمانعية النجاسة على شرطية الطهارة
فلو كان اطلاقهم في تجويز الصلاة عند الشبهة في النجاسة بلحاظ هذه الصورة أي
صورة عدم الانحصار مع عدم سعة الوقت لأزيد من صلاة واحدة فالامر كذلك
فإنه يقع التزاحم بين حفظ جهة مانعية النجاسة وبين حفظ شرطية الستر والعلم الاجمالي
يثبت المانعية فإذا كان العلم الاجمالي منجزا يسقط هذا النحو من الساتر من الشرطية
فلا يكون قادرا على ايجاد الصلاة في الساتر الطاهر فيسقط الساتر عن الشرطية لان
عدم القدرة الشرعية كعدم القدرة العقلية فلا فرق في هذه الجهة بين العلم الاجمالي
والتفصيلي فكما انهم حكموا في ذاك المقام بالصلاة عاريا فلابد من الحكم به في هذا
المقام أيضا وبالجملة إذا ثبت منجزية العلم الاجمالي وحكم العقل بوجوب الاجتناب
عن النجس فبمقتضى حكم العقل تكون الصلاة في الساتر الطاهر غير مقدور في هذا المقام ولولا
قاعدة الميسور وان الصلاة لا تترك بحال لحكمنا بعدم وجوب الصلاة رأسا إلا انهما
لما دلتا على وجوبها في جميع الأحوال فنحكم بسقوط شرطية الساتر وبوجوب الصلاة
عاريا فرارا عن وقوعها مقرونة بالمانع المعلوم اجمالا وهكذا لو كان عدم التمكن
من التكرار مستندا إلى عدم القدرة على أزيد من صلاة واحدة لضيق الوقت بل لأمر
آخر فان الضابط انحصار المقدور في الواحد وأما إذا لم يكن منحصرا بان كان
الوقت باقيا وكان المكلف قادرا على تكرار الصلاة في ثوبين أو أكثر فحينئذ لا دوران
للامر بين رفع اليد عن شرطية الساتر وحفظ التحرز عن المانع وبين حفظ الشرطية
ورفع اليد عن مانعية النجس إذ يمكن الجمع بين شرطية الساتر ومانعية النجس بتكرار
الصلاة في الأثواب أو الثوبين فحينئذ يعلم بأنه ان كان الساتر شرطا فقد أتى بالمشروط
به وان كان النجس مانعا فقد أتى بالخالي عنه فبتكرار الصلاة يقطع بوقوعها في
الساتر الطاهر واقعا ولا يكون الباب من باب التزاحم حتى يحكم العقل بتقديم الأهم
وسقوط الساتر عن الشرطية فيكتفى بالصلاة عاريا لعدم كون الصلاة في الساتر الطاهر
مقدورا في الفرض فان غير المقدور شرعا كغير المقدور عقلا فمقتضى العلم الاجمالي
99

بوجوب الاجتناب عن النجس من الثوبين وعدم استعمال شئ منهما في الصلاة فبذلك
يصير المصلى كمن لا ساتر له فالأولى في المسألة التفصيل إذ لا مجال للالتزام بسقوط
الساتر عن الشرطية بقول مطلق لفقدان مناط التزاحم في جميع الصور.
الثالث لو علم اجمالا بوجوب أحد الامرين من العبادات كالظهر والجمعة مثلا فهل
يعتبر في مقام النية ان يؤتى بهما بداعي الامر الاجمالي المجزوم به أم يصح الاكتفاء
بالاتيان بكل منها رجاء وبدعوة الامر الاحتمالي له كما في مورد الشبهة البدوية، قد
يتوهم انه لا وجه للأول بعد تسليم ان للقرب مصاديق ومراتب بعضها فوق بعض
وأدناه ان يؤتى بالعمل وجاء لمطلوبيته وبدعوة الامر الاحتمالي كما أن أظهر مصاديقه
ان يؤتى بالعمل بدعوة امره الجزمي مع التميز وقصد وجه الوجه بل يقال انا نجد
من أنفسنا في مورد الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي انه لا داعي لنا إلا درك الامر
الاحتمالي لا الامر المعلوم اجمالا لأنه لو صار داعيا للزم ان يكون العبد بانيا على اتيان
سائر الأطراف عند الاتيان ببعضهما أولا وإلا فلو اتى به من دون البناء لزم ان يكون
ذاك الامر الاجمالي داعيا إلى اتيان هذا البعض لا دعوته إلى متعلقه الجزمي وهو
العنوان المردد يستحيل ان ينفك عن البناء على اتيان الأطراف والمحتملات جميعا لكن
لا يخفى ان لكل مبنى يلائمه فمن قال بان قيد قصد القربة وما يعتبر فيه ليس من
القيود التي يمكن تقييد الامر به لفظا حتى يدفع ما احتمل دخله فيه بالاطلاق فلابد
له من القول بالاحتياط ولذا لو احتمل دخالة قصد التمييز والوجه مع الجزم
في النية لابد له من الصلاة المقرونة بالنية كذلك لو أمكن حفظ جميعها وإلا فبالمقدار
المقدور ففي صورة لم يتمكن إلا من الجزم كما في مورد العلم الاجمالي فإنه يمكنه
الجزم في النية للاتيان بالمعلوم الاجمالي بان يأتي بالطرف الواحد عازما على اتيان
الطرف الآخر يتعين الجزم احتياط بخلاف مورد الشبهة البدوية فإنه لا جزم عندها
بالامر ولو اجمالا فلذا يصح الاكتفاء بالعمل الرجائي على المبنيين والظاهر أن الشيخ " قده "
يختار الاحتياط في مثل قصد القربة وقيود فما قواه في المقام تمام على مبناه، واما
من قال بالبراءة عما شك في دخله في قصد القربة أيضا كسائر الأمور فله القول
بالاكتفاء بالعمل المأتى به بداعي الامر الاحتمالي عند وجود العلم الاجمالي أيضا لكن
100

ليس له اطلاق القول بذلك والرد على القول بعدم جواز الاكتفاء على ما مر من
دون تعرض لمبناه ففي الحقيقة هذا نزاع في المبنى لا في المدعى كما لا يخفى وهنا
فروع كثيرة أخرى تعرضنا لها في رسالتنا في العلم الاجمالي فليراجع إليها.
(القول في الأقل والأكثر)
وهو اما استقلالي بمعنى ان امتثال الأقل على وجوب الأكثر ليس منوطا به
واما ارتباطي بمعنى ان امتثال الأقل منوط بامتثال الأكثر على فرض وجوبه ولا
اشكال في البراءة عن الأكثر في القسم الأول لانحلال الخطاب في مثله إلى خطابات
مستقلة لكل منها إطاعة وعصيان وحيث إن وجوب الأكثر غير معلوم فيحكم العقل
فيه بالبراءة نعم فيما إذا كان المورد يزول الشك بمجرد الفحص فالظاهر عدم صحة
الاستناد إلى البراءة قبل الفحص اللازم كما عليه طريقة العقلاء فإنه لو شك في الدين
مثلا بين الأقل والأكثر وكان الشك بحيث يزول بمجرد الرجوع إلى الدفتر فيحكمون
العقلاء في المقام بصحة الزام الداين رجوع المديون إلى الدفتر وهذا مخالف بقاعدة
وجوب الفحص في الموضوعات لو قلنا به كلية فنقول به في المقام لبناء العقلاء وأما
لو قلنا بوجوب الفحص كلية في كل شبهة هي معرض للزوال فلا مخالفة في البين
أيضا فلا اشكال في البراءة عن الأكثر خصوصا بعد الفحص في الموضوعات فضلا
عن الاحكام الكلية.
وأما الكلام في القسم الثاني وهو الأقل والأكثر الارتباطي فلابد أولا من
التفرقة بينه وبين مورد التعيين والتخيير لاختلافهما في الحكم ثم بيان ما هو الحق في
المقام فنقول ان الأقل ان اخذ من حيث الأقلية موردا للحكم وكان حد الأقل
داخلا في الواجب فيكون حينئذ مع الأكثر من صغريات المتبائنين مثل القصر والاتمام
لان مورد المتبائنين ما إذا كان كل واحد من طرفي العلم الاجمالي مأخوذا بحده
الخاص موردا للحكم وان كان أحد الطرفين مأخوذا من حيث الطبيعة المتحققة في
ضمن الطرفين والطرف الآخر مأخوذا من حيث الحد الخاص والخصوصية
المخصوصة فهو من صغريات التعيين والتخيير كما إذا تردد الامر بين وجوب اكرام
101

زيد أو عمرو بالخصوص وان كل واحد من الطرفين موردا للحكم من حيث الحصة
المعينة ولكن كان الأقل بنفس ذاته وحصته المعينة محفوظا في ضمن الأكثر بحيث
كان نسبة إليه نسبة الضعيف إلى الشديد والقصير إلى الطويل ففي طرف القلة نفس
الذات التوأم مع القلة مورد للحكم لا انها مورد للحكم بشرط القلة فالأقل بحده وان
كان فرد الجامع كالأكثر إلا أنه فرد الجامع الضعيف والأكثر فرد الجامع الشديد
من دون جامع اخر يجمعهما حتى يكون المقام من العلم بأصل التكليف والشك في
المحصل حتى يجب الاحتياط وليس حد القلة مأخوذا في طرف القلة أيضا حتى يكون
من الصغريات المتبائنين فيجب فيجب فيه الاحتياط أيضا وبالجملة فلا منشأ للاحتياط
في باب الأقل والأكثر إلا في اخذ حد القلة طرفا للعلم الاجمالي بالواجب حتى يكون
من المتبائنين وهو غير محله مضافا إلى أنه يقتضي تكرار العمل تارة في ضمن
الأقل وأخرى في ضمن الأكثر لا الاكتفاء باتيان خصوص الأكثر كما هو مراد
القائل بالاحتياط في المقام واضعف من ذلك توهم اخر في المقام هو انا نعلم بأصل
الوجوب وجدانا ولكنه مردد في الخارج بين الطويل والقصير وفي مثله يجب
الاحتياط والجواب انه قد مر انه لا جامع في البين حتى نعلم به فيجب الاحتياط نعم
لا شبهة في أصل الوجوب الشخصي بمرتبة خاصة وهو مردد بين الطويل والقصير
وفى مثله لا يأبى العقل عن اجراء البراءة كما لا يخفى.
ان قلت لا شبهة في أن وجوب الأقل في فرض وجوب الأكثر غيري لا نفسي
واجراء البراءة عن الأكثر تنفي الوجوب الغيري عن الأقل لا تابع له بتبعية وجوب
المقدمة لذيها فلا يبقى للأقل حينئذ إلا احتمال وجوبه النفسي وهو أيضا منفي بالأصل
فالبراءة عن الأكثر توجب المخالفة القطعية لا يحصل إلا بالاحتياط باتيان الأكثر
كما هو واضح فلا علم تفصيلي بوجوب الأقل حتى يكون الأكثر مشكوكا بالشك
البدوي لان العلم التفصيلي بوجوبه معلول العلم بالوجوب النفسي وإذا انتفى الوجوب
النفسي بما ذكرنا فلا علم بوجوب الأقل تفصيلا.
قلت قد مر مفصلا في بحث مقدمة الواجب ان الاجزاء واجبة بعين وجوب
المركب فلا مغايرة بين وجوبهما بالنفسية والغيرية فالشك في وجوب كل جزء في
102

المركب شك في أصل التكليف وما ينفي بالأصل ليس إلا أصل التكليف وما يبقى
فهو أيضا أصل التكليف كما هو واضح.
ان قلت من المسلم ان الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ كذلك ومن المسلم ان
الاشتغال اليقيني حاصل في المقام فلا بد من تحصيل الفراغ اليقيني وهو لا يحصل
إلا باتيان الأكثر.
قلت نعم الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني فيما إذا ثبت أصل الاشتغال ولا اشكال
في ثبوته بالنسبة إلى الأقل واما الأكثر فاصل ثبوت الاشتغال به محل شك فينفي بالأصل
ان قلت إذا كان الأكثر بحيث لو اتى لاحتمال وجوب خلل في المأمور به غير
قابل للتدارك مثل ايجاد مشكوك المانعية أو ترك مشكوك الشرطية كالترتيب
والموالاة ونحوهما مثلا فلا شبهة في رجوع مسألة الأقل فيها إلى وجوب اتمام هذا
الفرد الموجود وإيجاد فرد اخر مباين له فيكون المقام من المتبائنين الذي مر فيه
وجوب الاحتياط بالتكرار.
قلت قبل حدوث هذا الخلل كان اتمام هذا الفرد المتلبس به من جهة البراءة من
المشكوك واجبا وبعد طروه لا ينقلب وجوبه إلى وجوب اخر فالعلم الحادث تعلق
بما تنجز أحد طرفيه سابقا ومثله لا يصلح للمنجزية.
ان قلت نعم ولكن بعد الاتيان بالفرد ينقلب العلم الاجمالي السابق بالعلم الاجمالي
بين المتبائنين فلا مانع حينئذ من تأثيره الموجب لتكرار العمل.
قلت أي اثر في الطرفين مع اتيان أحدهما فيكون الاخر مشكوكا بدوا فالعلم
الاجمالي الحادث وان كان حدث بعد زوال الأول ولكن اثره كان في ظرف الأول
والمناط في تنجز العلم الاجمالي ان يكون له اثرا غيريا كان للأول فتدبر فلا مجال
للاحتياط في الأكثر بل هو مجرى البراءة عقلا ونقلا ثم انه ذهب بعض إلى القول
بالاحتياط عقلا والبراءة نقلا لعموم أدلتها ولكنه مبتن على عدم علية العلم الاجمالي
للتنجز وإلا فعليه فلا وجه للتفكيك بينهما ولو أسقط العلم الاجمالي عن التأثير فلا
مجال للتفكيك بينهما أيضا كما لا يخفى بل تجريان معا من غير محذور أصلا هذا كله
في دوران الامر بين الأقل والأكثر بمعنى محفوظية الأول بحده في ضمن الأكثر
103

كالكليات المشككة المحفوظة ضعيفها في ضمن قويها واما لو كان الواجب دائرا
بين الطبيعي على الاطلاق أو فرد منه بالخصوص بحيث لا تكون بينهما جهة قلة
وكثرة بان يكون العلم الاجمالي بحرمة ترك هذا الفرد مستقلا أو ترك فرد اخر مباين
معه فالظاهر كونه من المتبائنين كما لا يخفى ففي موارد دوران الامر بين التعيين والتخيير
الحكم هو الاحتياط على خلاف دوران الامر بين الأقل والأكثر ولا فرق في
الأقل والأكثر بين الجزء والشرط كما هو واضح ففي القسمين تجري البراءة عن
الأكثر والله العالم.
ثم انه لا باس بالإشارة إلى نخبة القول عند دوران الشئ بين المانعية والقاطعية
فنقول ان الفعل الذي وقع موضوعا للامر قد يقيد بالامر الوجودي ويعبر عنه
بالشرط مثل كون الصلاة عن طهارة حدثية وخبثية وستر وغير ذلك فكل امر وجودي
قيد المأمور به بذاك الامر الوجودي فيعبر عنه بالشرط ولا يكون نفسه داخلا في
المأمور به بل يكون خارجا عنه لكن التقيد به داخل قبال الجزء الذي يكون بنفسه
داخلا في المأمور به وقد يقيد المأمور به بعدم شئ فتارة بلسان الوضع أو بلسان النهي
مثل لا تضحك في الصلاة يعني يقيد بأمر عدمي ويعبر عن وجود ذلك بالمانع لأنه
إذا اخذ عدمه يكون وجوده مانعا ثم إن ما اخذ قيدا على نحوين فتارة يعتبر عدمه
في تمام الصلاة كما إذا كانت مقيدة بعدم التكلم والاكل والضحك مثلا في تمام
الأوقات سواء كان في خلال الافعال أو حالهما فما بين التكبير والتسليم من الصلاة
مقيد بعدم ذلك الشئ فيحرمها التكبير ويحللها التسليم، وأخرى يعتبر عدمه مقارنا
للأفعال لا خلالها ففرق بين القيدين، ففي الصورة الأولى إذا وجد ذاك الشئ
المأخوذ عدمه في المأمور به وجد مانعا مطلقا وينتفي المأمور به عند وجوده لأنه
مقيد بعدمه، بخلاف الصورة الثانية لان العدم الذي اعتبر التقيد به، هو العدم المقارن
للأفعال لا حال السكوت وفي خلالها فلو وجد في خلالها لم يكن مانعا وبعبارة أخرى
قد يكون نقيض العدم المقارن بالافعال فقط مانعا عن المشروط وقد يكون مانعا
بقول مطلق سواء كان مقارنا بالافعال أو واقعا في خلالها وإلا فكلاهما يشتركان
في المانعية فظهر من هذا البيان أن ما يقال من أن لازم المانع ان يكون وجوده
104

مخللا في حال أفعال الصلاة لا خلالها ليس على ما ينبغي ثم لا يخفى انه قد لا تكون
الصلاة مقيدة بعدم شئ بل تكون مقيدة بشئ وجودي كالهيئة الاتصالية التي
بقائها منوط بعدم شئ اخر لذلك الشئ كالقهقهة والبكاء وغير ذلك في الصلاة
وهذا المعدم ما يعبر عنه بالقاطع وهو معدم لما هو شرط في الصلاة، وعدمه لازم
من لوازم الهيئة الاتصالية أو مقدمة لها فوجوده كان موجبا للفصل قبال الوصل
أي وجوده علة النقيض الوصل فلم يعتبر عدم القاطع في الصلاة ابتداء بل وجوده
معدم لما اعتبر في الصلاة وهو الشرط الموجب عدمه بطلان الصلاة فابطاله للصلاة
واخلاله بها يكون مع الواسطة وهو اعدام الشرط وإلا فليس مبطلا للصلاة بلا
واسطة مثل نقيض الشرط العدمي فليس القاطع من قيود الصلاة بل معدم لما اعتبر
في الصلاة من الهيئة الاتصالية فكم فرق بين المانع والقاطع فان المانع مفن للصلاة بلا
واسطة والقاطع مفن لها مع الواسطة، ومجمل القول إنه يتصور الوجهان في تمام القيود
العدمية، ولكن تشخيص أحدهما عن الاخر نزاع صغروي، ومورده الفقه، وليس شأن
الأصولي، بيان الفرق بينهما بما هو ملاكه حقيقة، ثم إن القاطع للهيئة يختلف حاله
بحسب الاعتبار، فيمكن أن يكون وجوده قاطعا لها مطلقا، سواء كان بين الافعال
والأقوال، أو مقارنا لهما، وقد لا يكون كذلك، بل يكون القاطع هو خصوص المقارن،
لا ما وقع في الخلال، وقد ينعكس الامر، فاعتبار القاطعية ليس ملازما مع الاطلاق،
إذ يمكن أن لا يكون وجوده قاطعا في الخلال، أو في حال الافعال، فظهر من هذا
البيان، إن تعريف القاطع بأنه عبارة عما كان وجوده مضرا، ولو كان واقعا في خلال
الافعال، والمانع ما كان مخلا لو وقع في خلالها، لا يخلو عن مسامحة، فإن جهة القاطعية
والمانعية، لا تقتضي هذا الاختلاف، نعم نحن لا ننكر أن تكون الموانع الشرعية من
باب الانفاق، مما اعتبر عدمه، بنحو واحد من الأنحاء الثلاثة، والموانع من القسم الأخير
منها، إلا إن هذا خارج من مهم الأصولي، وتعيينه من موكول إلى الفقه، ولا يخفى أيضا
إن كلا من الشرطية والمانعية والقاطعية، قابل لان يفاد بلسان الوضع، أو التكليف،
كالأمر بالطهارة، والنهي عن الضحك والتكلم، فهذه صور كبريات المطلب، وأما الصغرى
لكل منها، فربما يسلم في بعض، وينكر في الأخرى من بعض، ولا يهمنا تعيينها في
105

المقام، ثم لا يخفى إن ما يدور أمره بين المانعية والقاطعية، إما أن يعلم بالنهي عنه، أو لا،
وعلى كل فإما أن يكون اعتبار الهيئة الاتصالية في المكلف به محرزا بالقطع، أو
باستكشافه عن ثبوت القاطع القطعي له، أم لا، فهذه صور أربعة، منها أن يكون اعتبار
الهيئة معلوما، ولو من جهة العلم بقاطعية شئ آخر لهذا العمل، كالنهي عن هذا المنافي،
ولا شك في أنه لا يلزم من الترديد في المانعية والقاطعية، شك في الأقل والأكثر، وذلك
لان اعتبار أحد الامرين من الهيئة، أو عدم ما نهى عنه، غيريا مولويا، أو إرشاديا معلوم
إجمالا، فلا يتصور اليقين بالأقل، والشك في الزايد، وحكم هذه الصورة بطلان العمل
بإيجاد هذا المنافي، للعلم بإبطاله، لأنه موجب لفوت الشرط، أو تفويته، ومنها أن يكون
النهي معلوما، دون اعتبار الهيئة، ولا يخفى أن هذه الصورة مشابهة للصورة السابقة،
من حيث إن الامر فيها، لا يدور بين الأقل والأكثر، وذلك لاحراز تقيد المأمور به
بأحد الامرين، من عدم هذا الشئ، فيكون وجوده منهيا عنه، لمانعيته، والهيئة التي هذا
قاطعها، وصارت منهية بملاك القاطعية، من هذا النهي المعلوم، فلا وجه للرجوع إلى
الاستصحاب، أو البراءة في شئ من المحتملين، ومنها أن يشك في النهي عن الشئ في
الصلاة، ثم يشك في إنه على تقدير كونه منهيا عنه، يكون مانعا أو قاطعا للهيئة الاتصالية
المعتبرة المحرزة بالقاطع القطعي، ولا بأس بإجراء البراءة عن الالزام بعدمه، لشرطية،
أو عن نفس شرطية، وباستصحاب بقاء الهيئة في ظرف وجوده، ومنها أن لا يكون
النهي ولا اعتبار الهيئة معلوما ومحرزا أصلا، ويكون الشك في القاطعية على تقدير
تعلق النهي به، مسببا عن الشك في اعتبار الهيئة الاتصالية في العمل المأمور به، وفي
هذه الصورة لما كان كل من قيدية الهيئة، وعدم هذا النهي مشكوكا بالشك البدوي،
ويدور الامر بين وجوب العمل مقيدا بأحدهما، وبين عدم تقيده بشئ منهما، وتقدم
إن المختار جواز إجراء البراءة عن الأكثر عند التردد في وجوبه، ووجوب الأقل،
فتجري في كليهما، ويحكم بعدم إخلال المشكوك، وبصحة العمل من دون احتياج إلى
استصحاب الهيئة والصحة، حتى يخدش فيه، ويمنع عن جريانه، لفقد العلم بالحالة السابقة،
ثم لا يخفى إنه قد يقال لا دلالة للنهي عن الشئ في أثناء العمل، حتى في صورة القطع
بعدم نفسية هذا النهي على قاطعية المنهي، إذ يمكن أن يكون لمانعيته، وعلى تقدير
106

تسليمها، لا دلالة للنهي بملاك القاطعية، على اعتبار الهيئة الاتصالية شرطا للمأمور به، وعلى
تقدير إحراز الشرطية، يصح الرجوع إلى استصحاب عدم تحقق القاطع، عند الشك
في وجوده، لكن هذا الكلام غير منزه عن القصور والخلط، أما عدم دلالة مجرى النهي
عن شئ في أثناء العمل على القاطعية فمسلم، لكن النهي قد يكون معللا بأنه يقطع
الصلاة، كالنهي عن الضحك فيها، فتحرز القاطعية من التعليل، وإن لم يدل عليها النهي
المجرد، وأما ما أفيد في التسليم الأول، فممنوع، لا النهي الغيري عن القاطع يدل
على مطلوبية خلاف القطع والفصل، من الاتصال والوصل، وهذا إما نقيضه أو ضده،
وعلى كل يعلم إن مبغوضية شئ غيريا، لا يكون إلا من جهة مطلوبية نقيضه، أو ضده،
وما قيل في التسليم الثاني، من جواز الرجوع إلى استصحاب عدم وجود القاطع
في بعض الموارد، فلا ينبغي صدوره ممن لا يقول بالأصل المثبت، فإن استصحاب عدم
الوجود، لا يجدى في بقاء الهيئة الاتصالية، وهي الشرط، إلا على هذا المبنى الفاسد،
فالصحيح أن يتمسك باستصحاب الهيئة، ومورد الشك المسببي، بعد الالتفات إلى عدم
كون السببي من مجاريه، ومحصل ما تقدم من الكلام في الكبريات، التي بيانها شأن
الأصولي، أن كل قيد عدمي أخذ في المأمور به، قابل لان يكون نقيضه قاطعا في حال
أفعال الصلاة، دون خلالها، وقابل لان يكون قاطعا بقول مطلق، وكذلك في طرف
المانع، فقابل لان يكون خصوص المقارن بالافعال مانعا، أو يقول مطلق، فليست
القاطعية ممتازة عن المانعية بالاخلال بالصلاة، لو وقع في الخلال، دون أحوالها، كما توهم،
ثم لا يخفى إن النهي عن الشئ الدال على مانعيته، أو قاطعيته، على نحوين، فتارة يكون
لسان الدليل بعنوان لا تصل متكتفا، أو ضاحكا مثلا، فيتعلق النهي بنفس الصلاة،
لا بالضحك فيها، ولازم هذا النهي، إنه لو حدث الضحك في الخلال، لا يكون مخلا بها،
فإن حال السكوت ليس من الصلاة، كما لا يخفى، وكذا إذا قال مثلا لا تصل في الحرير،
فإن الظاهر في هذه الصورة، إن الذي انطبق عليه عنوان الصلاتية، يعتبر أن لا يكون
مقرونا بالحرير، فإذا لبس الحرير في حال السكوت، ثم نزعه، لم يكن مضرا بالصلاة، لان
الصلاة عبارة عن نفس الافعال والأقوال، فإذا لبس في خلالها فيصدق إنه ما صلى
في الحرير، وما وقعت الصلاة فيه، وكذا إذا قال لا تصل إلا بطهور، ثم قال الحدث
107

مبطل للصلاة، فهذه العبارة في حد نفسها لا تقتضي بطلان الصلاة، لو أحدث في خلال
الافعال، وجدد الطهارة، فلو لم تكن هذه العبارة. إن الحدث يقطع الصلاة، لم يكن
صدور الحدث مبطلا لها، وبالجملة فكل ما كان بهذا اللسان، لا يكون مضرا، إلا أن
يكون مقارنا للأفعال، وتارة لا يكون اللسان كذلك، بل تجعل الصلاة ظرفا للمنهيات،
كما إذا قال لا تلبس الحرير في الصلاة، ولا تضحك فيها، ولا تكفر، ولا يخفى أن إطلاق
النهي، يقتضي أن لا تكون هذه المنهيات في الصلاة، ولو خلال الافعال، فإن العرف
يحكم بأن ظرف النهي، مبدئه من أول الصلاة منتهيا إلى التسليم، فالتوسعة في الظرفية
تقتضي أن المنهيات لو وقعت من أول الصلاة، وهي التكبيرة، إلى آخرها، لكانت مضرة
بالصلاة مطلقا، سواء وقعت في خلال الافعال، أو مقارنا لها، وعلى كل من التقديرين،
سواء كانت الصلاة ظرفا للمنهيات، أم كانت بنفسها متعلقة للنهي حال السكوت، ولبس
الحرير مثلا في تلك الحالة، فربما يكون النهي معللا بالقاطعية، وقد لا يكون كذلك،
فإن لم يكن معللا بشئ، فيمكن أن لا يقتضي القاطعية، ولا يقتضي أزيد من المانعية،
فيرجع هذا النهي إلى المانعية، وأما إذا كان معللا، بأن يقول لا تضحك في الصلاة، فإنه
قاطع للصلاة، فنكشف من هذا النسخ من التعليلات، الارشاد إلى أن عدم الضحك، ليس
بنفسه شرطا في الصلاة، بل من جهة أن وجوده مخل بالاتصال المطلوب، وقاطع للهيئة
المعتبرة فيها، فيكون مبغوضا من هذه الجهة، ولازم هذه المبغوضية، أن فعله يضاد مع
الوصل المطلوب وجوده، فيكون تركه إما لازم للمقدمة، أو مقدمة للمقدمة، ولهذا قلنا
أن لسان القاطعية يقتضي أن نفس العدم له دخل في تحقق القيد، لا أنه بنفسه قيد
للمأمور به، بلا واسطة، فإن كان الفصل الحاصل بنفسه، اعتبر عدمه كذلك نقيض
الوصل، فيكون المنهي مقدمة للنقيض، وإن كان ضدا له، لكان ملازما لعدم القيد
والمقدمة، فالقاطعية إنما تقتضي، أن نفس نقيض الامر العدمي، الذي أخذ قيدا في
الصلاة، له دخل في إعدام القيد، لا أنه بنفسه قيد لها، وبالجملة فجهة القاطعية المطلقة، أو
بوجه موقوفة على لسان الدليل، فإن كان لسانه النهي عن الشئ، بمناط أنه قاطع،
فتستفاد القاطعية المطلقة، وإلا فالقاطعية الناقصة، ثم لا يخفى إنه قد ظهر مما تقدم،
إن استصحاب عدم القاطع، لا ينبغي أن يرجع إليه، إلا على القول بالأصل المثبت، ضرورة
108

إن بقاء الهيئة المعتبرة شرطا في الواجب، يكون من اللوازم العقلية لعدم القاطع، ولكن
يمكن ابقائها، باستصحاب نفسها، كما لا يخفى، هذا كله في صورة دوران أمر شئ بين
المانعية والقاطعية، وأما إذا شك في مانعية شئ واقع في الأثناء، كالتبسم مثلا، أو شك
في حدوث المانع القطعي في البين، كالقهقهة، بعد الدخول في العمل، فربما يتصور أن
المرجع هو استصحاب الصحة للاجزاء المقدمة، وربما يرد ويمنع عن الاستصحاب
بالصحة، كما في الرسائل وغيره من كتب من تأخر عن الشيخ " ره "، بأن الصحة
إما عبارة عن الصحة التأهلية، التي هي عبارة عن قابلية كل من الاجزاء في المؤثرية،
لو انضمت إليه سائر الأجزاء، وهذه القضية الشرطية صادقة، على تقدير ثبوت الملازمة،
ومعلوم إن القطع يجتمع مع الجزم بانتفاء المتلازمين، وعلى هذا فالصحة بهذا المعنى
معلومة، لا تصير مشكوكة أبدا، حتى يجري فيها الاستصحاب، وإما عبارة عن التمامية
والمؤثرية الفعلية، كالصحة في المعاملات، وهي بهذا المعنى غير معلومة من حين الشروع
وقبل الاتمام، لعدم القطع بخلوها عن الموانع، وواجدة للشرائط، مضافا إلى إنه قد أشرنا سابقا،
إلى أن الشيخ " ره " ومن تبعه من مقرري بحثه وغيرهم، منعوا عن هذا الاستصحاب
باختلال أحد ركنيه، وهو العلم بالحالة السابقة، كما على تقدير إرادة المؤثرية الفعلية من
الصحة، وفقد الشك وانتفائه، على تقدير إرادة الصحة التأهلية في المقام، لكن لا يخفى
إن الوجه المصحح للاستصحاب هنا، ليس منحصرا في الاحتمالين، وعلى تقدير الانحصار،
يمكن أن يكون له مجرى على بعض التقادير المتصورة، وهو إن ما يكون وجوده
مانعا من المأمور به، كالصلاة، إما أن يكون عدمه قيدا، أو شرطا لتمام الاجزاء، أي
كل منها مقيدا بعدم هذا الشئ، من أول التكبيرة إلى آخر التسليمة، كان موردا
للطلب والامر، ولازمه إنه لو وقع المانع عند السلام المخرج عن الصلاة، يلزم منه
انتفاء الشرط المتأخر للاجزاء السابقة، وهو عدم هذا الشئ فيما بعدها في الأثناء، بناء
على إن الشرط المتأخر والمتقدم كالمقارن، فتصل الصلاة بتمام أجزائها، وإما أن يكون
عدم هذا الشئ قيدا لجزئية ما وقع بقصدها قبيل هذا المعنى، لا لجميع الاجزاء، وهذا
مثل أن يكون وقوع الركوع الواقع بقصد الجزئية جزء للصلاة، مشروطا بعد
الركوع الاخر بعده، أي اعتبرت جزئية بشرط لا، أو بتعقبه لهذا العدم على المسلكين
109

في الشرط، وعلى هذا فلو وقع المانع بعد هذا الجزء، لا يلزم منه انتفاء تقيد غيره من
الاجزاء، ولا يستكشف منه فاقديتها لشرطها، وإنما يحكم بالبطلان حينئذ لفقد شرط
جزء من الصلاة، لا لمفقودية شرطها بالتمام، وعلى التقدير الثاني، إما أن يكون كل من
التكبيرة وما يؤتى به عقيبها، مؤثرا في حصول شئ من الغرض الداعي إلى الامر
بالصلاة، متدرجا بتدريج الاجزاء، ويستكمل بكمالها وتمامها، فتبلغ المرتبة التي صارت
داعية إلى البعث، أو لا يكون كذلك، وبعبارة أخرى إما أن يكون الغرض تدريجي
الحصول، وذا مراتب متدرجة، وإما أن يكون آني الحصول بعد تمام العمل، فإن
كان من الأول، فلا ريب في وقوع كل من الاجزاء السابقة على المانع المحتمل، صحيحا
ومؤثرا فعليا في الغرض ببعض مراتبه، فتكون الحالة السابقة محرزة، والشك اللاحق
متحققا، فللاستصحاب حينئذ وجه ومجال، وإما إن كان من الثاني، فليس في البين يقين
سابق، كما أفيد وقرر، وأما عدم انحصار المصحح للاستصحاب هنا في الامرين، فلان
الصحة لها معنى آخر، وهو موافقة أمر المولى، وهي معلومة الحصول للاجزاء جميعا
بالشروع في العمل التدريجي، قبل وجود ما يحتمل مانعيته، ومشكوكة البقاء لها
بعده، فتستصحب، فالصلاة المركبة من عدة أمور مترتبة تدريجية، تكون مثل سائر
الأمور التدريجية التي لا يتحقق عنوانها إلا بتمامها وكمالها، ومع هذا لو وجد أول
جزء منها، يرونها العرف متحققة وموجودة خارجا، كالليل والنهار، فإنهما بتحقق الجزء
الأول منهما، يعد الشك في بلوغهما إلى النهاية، من الشك فيما كان متيقن الثبوت، ولولا
هذه المسامحة، لم يتصور اليقين بعنوان اليوم، والشك فيه فيما قبل العلم بدخول الليل،
وبالجملة الصلاة أمر واحد تدريجي الحصول، وترى موجودة بالشروع في تكبيرها،
فإذا صارت مأمورا بها، فلا يخلو حال الامر بها من أحد الشقين، من فعلية الامر بجميع
أجزائها دفعة واحدة، وتركبها من الفعلية والانشائية، فتكون فعلية بالنسبة إلى الجزء
الأول، وإنشائيا إلى ما عداها، وبالجملة تصير فعلية بالنسبة إلى كل لاحق بعد وجود
السابق حقيقة، أو حكما، ومن المعلوم إن مبنى الوجهين على قبول الواجب التعليقي
وإنكاره، فإن قيل به يقال بفعلية أمر الجميع دفعة، مع ترتب بعضها على بعض، ثم يحلل
هذا الامر الفعلي إلى أوامر مرتبطة بمقدار عدد الاجزاء، وعند وجود التكبيرة
110

بقصد الصلاة، يعلم بوجود المقصود ووقوعه موافقا لأمر الفعلي، ومتصفا بالوجوب،
فإذا شك في بقائه على الموافقة للامر، وعلى اتصافه الخارجي بالوجوب، يستصحب
المعلوم السابق إلى آخر العمل، وأما إذا منع الواجب التعليقي، فلا بد من الالتزام بالشق
الثاني، وعليه وإن لم تكن الموافقة للامر الفعلي محرزة بالشروع، إذ لا فعلية لأمر
الاجزاء المرتبة التدريجية، إلا إن اتصاف الواقع منه فيما قبل الشك بالوجوب خارجا
معلوم، فيستصحب وتضم إليه سائر الأجزاء الباقية، لا يقال إن شيئا من الموافقة
والاتصاف بالوجوب، ليس مجعولا، أو ذا أثر كذلك، فكيف يجري فيه الاستصحاب،
فإنه يقال عدم كونها من أثر المجعول، بعد تسلم إن ما يكون
أمره بيد الشارع وضعا
ورفعا، ولو بوضع المنشأ، أو رفعه، ممنوع فإن الموافقة والاتصاف، فرع جعل الحكم
وثبوته، فيكونان من الأثر المجعول بالواسطة، فتحصل إن الصحة بمعنى المؤثرية الفعلية،
يصح استصحابها على تقدير كون الغرض البسيط، مما يحصل بشئ من مراتبه
بالشروع، ثم يتدرج في المراتب إلى الاتمام، لتحقق ركنيه من اليقين السابق والشك
اللاحق، وكذا الصحة بمعنى موافقة الامر الفعلي، أو الاتصاف خارجا بالوجوب الفعلي،
أيضا يصح استصحابها لتمامية الأركان له، فلا يصغي إلى ما قد يقال إن الصحة بمعنى
المؤثرية الفعلية، لم يعلم حالتها السابقة، وبمعنى قابلية الانضمام، المعبر عنها بالصحة التأهلية،
معلومة لاشك فيها، فلا وجه لاستصحاب الصحة، والرجوع إليه، فما أدرى ما أعظم أمر هذا.
القول في نسيان الجزء، أو ترك بعض الاجزاء،
القول في نسيان الجزء أو ترك بعض أجزاء المركب نسيانا، فإن كان لدليل
الجزء اطلاق، حتى في حال النسيان، فالظاهر سقوط وجوب البقية حال النسيان، إن
لم يكن لدليل وجوب البقية اطلاق، على وجه يثبت وجوبها حتى في ظرف سقوط
بعض الاجزاء بالنسيان ونحوه، والمنساق من أدلة نوع المركبات، عدم تحقق إطلاق
لها من هذه الجهة، لأنها في مقام بيان أجزاء ذات المركب، من دون نظر إلى الحالات،
نعم بعد ثبوت إطلاق لها من هذه الجهة، يمكن إثبات وجوب البقية، بإطلاقها، إن قلت:
فعلى هذا يلزم تخصيص خطاب أقيموا الصلاة ونحوه، بالناسي، قلت: لا يلزم ذلك
111

لامكان دخل خصوصية الحالات في اختلاف مصاديق الطبيعة، لان المأمور بالطبيعة
الجامعة، هو المكلف بعنوان عام منطبق على الناسي وغيره، وبالجملة يمكن تعميم الخطاب
للناسي، بدون دخل عنوان النسيان في ذلك، فمع إطلاق الامر بالمركب وعدم إطلاق
في دليل جزئية المنسي، يمكن إثبات وجوب البقية في حال النسيان، وأما مع إطلاق
دليل الجزئية، فلا مجال ذلك بمقتضى الأدلة الاجتهادية، إلا إذا فرض ظهور الأمر
بالمركب في تعدد المطلوب، وإلا فمع عدمه، لا طريق لاثبات وجوب الباقي من الأدلة
الأولية، فتصل النوبة حينئذ إلى الأصول العملية، كالاستصحاب بعد زوال النسيان،
مع سبق القدرة والالتفات، وتقريبه بوجوه.
منها: استصحاب الوجوب الجامع بين النفسي والغيري، الثابت لنفس الجزء السابق،
وفيه مضافا إلى إنه مبتن على القول بالوجوب الغيري للاجزاء، وقد مر بطلانه، إن
ذلك صحيح، لو كان كل واحد من نحوي الوجوب، ثبوته من الأول مشكوكا،
ودار أمر الثابت بين ما هو مقطوع الزوال، وهو الوجوب الغيري، وبين ما هو
مشكوك الحدوث، وهو النفسي، فيكون حينئذ من صغريات استصحاب القسم الثاني،
ولكن المقام ليس كذلك، للجزم بالوجوب الغيري للاجزاء سابقا، وإنما المحتمل
حدوث وجوبه مقارنا لزوال الوجوب الغيري، فيكون من استصحاب القسم الثالث،
والحق فيه عدم جريان الاستصحاب، كما حقق في محله.
ومنها: استصحاب الوجوب النفسي الثابت للأكثر، بناء على مسامحة العرف، بجعل
موضوعه الأعم من الواجد للمنسي والفاقد له، وفيه إنه حينئذ يكون مورد اليقين
والشك مختلفا حقيقة، لان الوجوب السابق كان متقوما بالمنسي وسائر الاجزاء،
والفاقد غير الواجد بنظر العرف أيضا.
ومنها: استصحاب نفس الوجوب الثابت للجزء سابقا، لعدم العلم بزوال مناطه،
وفيه إن احتمال مغايرة المناط، يوجب عرفا اختلاف نفس الوجوب وعدم ما كان
متحققا سابقا، فلا مجال لاثبات وجوب البقية حال النسيان بالاستصحاب، ثم على
فرض إثبات الوجوب بمثل هذه الاستصحابات، للأقل لا يثبت بها عنوان الصلاتية،
لأنه مثبت، فلا تفرغ ذمة المكلف، عما اشتغلت به من الصلاة، فلا يقتضي مثل هذه
112

الاستصحابات إجزاء أصلا فيتضح حينئذ وجه آخر لعدم جريان الاستصحاب
في المقام، وهو عدم ترتب الأثر العملي عليه، لان حال النسيان لا يتوجه إليه الخطاب
الثابت بالأصل، وبعده لا يتحقق أثر علمي من حيث التوسعة والتضيق على المكلف، ولعل
هو الفارق بين المقام، وما يأتي في مسألة الاضطرار، حيث لم يتعرضوا للاستصحاب
في المقام، مع تعرضهم له في المسألة الآتية، لترتب الأثر العملي عليه في تلك المسألة، كما
يأتي إن شاء الله تعالى، نعم يمكن تقريب الاجزاء في المقام، بأن يقال: إن استصحاب
الوجوب مع الجزم بعدم ثبوت واجبين في حق المكلف، لكن يرد عليه، إن عدم
وجوب شئ آخر ليس حينئذ من آثار نفس المستصحب، حتى يترتب عليه الاستصحاب،
وما لم يترتب الأثر العملي على المستصحب، لا يجري الاستصحاب، وأما حديث الرفع،
فلا يجدي بالنسبة إلى ما بعد رفع النسيان، إلا بناء على ما عن العلامة الأستاذ " قده "
من كون مساق حديث الرفع، تعين الواجب في الأقل، فيحرز به مصداق الواجب،
فلا يبقى وجه حينئذ لجريان الاشتغال هذا، ولكن تقدم عدم صلاحية مثل هذا
الحديث، لاثبات وجوب الأقل، وكونه تمام مصداق الواجب، نعم يثبت به كونه
بعض مراتب الواجب، فلا يكون حينئذ حاكما على دليل وجوب المركب، الشامل لما
بعد رفع النسيان بإطلاقه، فاطلاقه يقتضي الإعادة، أو القضاء بعد رفع النسيان، وأما دليل
النسيان، فهو أيضا لا يثبت وجوب الأقل، لان ظاهره صورة نسيان أصل الطبيعة في
تمام الوقت، لا بعضه، وبالجملة إطلاق دليل وجوب المركب محكم ما لم تقم حجة أخرى
على الخلاف، ومع عدم إطلاقه، فالجزم بوجوب التكليف، والشك في المفرغ كاف في
حكم العقل لتحصيل الجزم بالفراغ، هذا كله مقتضى الأصول والقواعد الأولية،
وأما مقتضى القواعد الثانوية، فهو موكول إلى مباحثنا الفقهية، ولا بأس بالإشارة الاجمالية
إلى قاعدة لا تعاد الصلاة.
(في قاعدة لا تعاد)
فنقول هي ما يستفاد من قوله عليه السلام (لا تعاد الصلاة إلا من خمسة)، فإنه دليل
على الصحة في صورة ترك شئ من غير الخمسة، أو زيادته سهوا، أو على البطلان في صورة
113

ترك واحد منها، أو زيادة الركوع، أو السجود، الذين تتصور الزيادة فيهما أيضا، دون
الوقت، والقبلة، والطهور، ولكون ما دل على الإعادة بالزيادة مطلقا، في عرض سائر
أدلة الاجزاء والشرائط، والموانع، والقواطع، وشاملا للزيادة السهوية أيضا، لكن لتوهم
المعارضة بينه وبين لا تعاد، بالنسبة إلى زيادة الركوع والسجود سهوا مجال لو لم يكن
حديث نفي الإعادة حاكما عليه، وعلى ما في عرضه، فهذه الحاكمية بالنسبة إلى جميع أدلة
الاجزاء والشرائط والموانع والقواطع وحكومته عليها، مقدم على الكل، من دون رعاية
نسبة بينهما، فالمستفاد من حديث لا تعاد، هو صحة الصلاة المشتملة على الزيادة والنقيصة،
إذا كانتا بغير الخمسة المستثناة، وبطلانها إذا كانتا بإحدى الخمسة، ولا ينافي مدلوله
الأحاديث الأخرى.
منها ما في الحديث (يسجد سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة)، فإنه لاشتماله على
وجوب السجدتين، لكل زيادة كانت من الخمسة، أو لم تكن، وكذا النقيصة، ولاختصاص
مورده في الصلاة الصحيحة، إذ لا تجب سجدة السهو لاصلاح الباطلة منها بالضرورة،
يكون منافيا لاثبات الإعادة، عند زيادة الركوع، أو السجود سهوا، فإنه مستلزم
للحكم بالبطلان، ووجوب السجدتين مستلزم للصحة، فيتعارضان، ولا ريب في إنه
لا حكومة لحديث لا تعاد، على هذا الحديث، لأنه أيضا مثله، ناظر إلى سائر الأدلة،
وقد يقال في وجه تقديم لا تعاد، أنه لما كان بظاهره مختصا بصورة الاخلال السهوي
بالزيادة، أو النقيصة، وكان دليل الصحة مطلقا شاملا لهذه الصورة وغيرها، من صورة
وقوع الزيادة جهلا بالحكم، فتكون النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا، فيخصص
الثاني بالأخص منه، وهو حديث (لا تعاد)، للسهو والجهل بالحكم أيضا، غاية الامر
ثبت انحصار مورده بالقرينة المنفصلة في الاخلال السهوي، فعلى هذا يكون كل من
الحديثين، أعم من الاخر من وجه، فإن لا تعاد بظاهره يشمل صورة الجهل بالحكم، دون
ما يحكم بوجوب سجدتي السهو لكل زيادة، فإنه مختص بالاخلال السهوي، كما لا يخفى،
والثاني يشمل الخمسة وغيرها، ويفيد صحة الصلاة مطلقا، التزاما بخلاف لا تعاد، فيلزمنا
الالتزام بالمعارضة، وعدم تقديم أحدهما على الاخر في مادة الاجتماع، ولكن مع هذا
يتصور التقصي عن هذه المعارضة بوجوه.
114

الأول: إن خبر الصحة مطلقا، ليس متكفلا لبيان حكم السهو، من حيث صحة العمل
وما يترتب على السهو في العمل الصحيح من سجدتي السهو، بل هو مسوق لبيان
وظيفة الساهي في العمل الصحيح، وأما إن كلما وقع فيه زيادة أو نقيصة سهوية، فهو
صحيح، فليس ناظر إليه، فمفاده إن الزيادة والنقيصة السهويتين، موجبتان للسجدتين،
فيما إذا كان ما وقعتا فيه صحيحا، غير مختل الركن، لا إنهما لا يخلان بالصحة أصلا،
وببيان آخر يمكن منع إطلاق هذا الخبر، بالنسبة إلى دلالته على صحة المنسي منه، والمزيد
فيه، وعليه فلا معارضة بين (لا تعاد) وخبر سجدتي السهو، فإن أحدهما متكفل لبيان
الصغرى، والاخر للكبرى.
الثاني: من الوجوه إنه لو سلم هذا الاطلاق، وقيل بدلالة خبر السجدتين على كلتا
الجهتين، إحديهما صحة العمل مطلقا مع كل زيادة ونقيصة، ركنية كانتا أو غيرها،
والأخرى وظيفة الساهي بإتيان السجدتين، أمكن أن يقال بأنه لما كان من المقرر في
محله، إنه إذا وقع التعارض فيما بينهما العموم من وجه، إنما يحكم بالتساقط بالنسبة إلى
مادة الاجتماع، فيما إذا لم يكن مرجح للاخذ بأحدهما بالخصوص، ورفع اليد عن
الاخر، وأما على تقدير ثبوته، فلا يحكم به، وفي المقام لو أخذ بخبر الصحة، مع أي زيادة
ونقيصة، يلزم لغوية الاستثناء، لان المستثني في (لا تعاد) زيادة الركوع والسجود
ونقصهما سهوا، فلو لم تكونا موجبتين للبطلان بمقتضى خبر الصحة، لكان استثنائهما
عن غير الأركان لغوا، فتصير صيانة الاستثناء عن اللغوية، مرجحة للاخذ (بلا تعاد)،
صدرا وذيلا، وتخصيص خبر الصحة بغير مورد الاستثناء.
الثالث: إنه لو أغمض عن هذا أيضا، أمكن أن يقال إنه ولو لم يكن مقتضى قاعدة
التعارض، رعاية النسبة المنقلبة بين المتعارضين، إلا أنه ربما يكون في بعض تعارض
العلمين من وجه، ما يوجب الاخذ بأحدهما في مادة الاجتماع، لصيرورته كالخاص،
فعنده يترتب على ما كان مترتبا، عند رعاية النسبة المنقلبة، ويشاركها في الثمرة والنتيجة،
مثلا إذا ورد أكرم العلماء، ثم ورد لا تكرم الفساق، ثم ورد أكرم فساق العلماء، فحينئذ
يخصص النهي بفساق غير العلماء، وتكون معارضة النهي عن إكرام الفساق، الشامل
للعالم وغيره، مع الامر بإكرام العلماء، كانوا عدولا أو فساقا، بالنسبة إلى الفاسق من
115

العلماء، من قبيل معارضة الحجة مع اللاحجة، فيؤخذ بعموم دليل وجوب الاكرام،
من دون التزام رعاية النسبة المنقلبة، فإنا نسلم ظهور الفساق في العموم، لكن لا نأخذ
به في العلماء، لعدم حجيته، وفيما نحن فيه يكون الامر كذلك، فإن زيادة الركن سهوا،
التي هي مادة اجتماع لا تعاد وخبر السجدة، قد خرجت من دائرة خبر السجدة والصحة
حكما، فإنه شامل لزيادة الركن وغيره، وما يدل على إخلال ترك الفريضة كمفهوم
قوله عليه السلام (من ترك السنة غير متعمد فلا شئ، أو لا إعادة عليه، أو لا بأس به)،
وكذا الزيادة لعدم القول بالفصل، فإن كل من أبطل الصلاة بترك الركن، أبطلها
بزيادته أيضا، فهو أخص، لأنه لا يعم غير الركن، فبه يخصص عموم خبر السجدة، بالنسبة
إلى زيادة الركن، فيصير ساقطا عن الحجية بالنسبة إليها، فلا يقاوم ما يستفاد من
الاستثناء من قوله لا تعاد، فيؤخذ به، ويحكم بأن مقتضى القاعدة الشرعية، بطلان الصلاة
بزيادة الركن، والفريضة سهوا، لا بطلانها بالسنة وغير الركن، فإن صدر لا تعاد موافق
لخبر السجدة في الدلالة على الصحة، ولو أغمض عن هذا البيان والتقريب، ولم يرجع
إلى المرجحات السندية، لأنه يلزم منه التفكيك في دلالة العام على مصاديقه وهذا بعيد،
لا يساعده الذهن، ولهذا لم يرجع إليها الأصحاب في العامين من وجه، فغاية ما يلزم
من تعارض لا تعاد مع خبر السجدة، تساقط كليهما بالنسبة إلى زيادة الركن، فتصل
النوبة إلى الرجوع إلى عموم من زاد في صلاته، فعليه الإعادة، ويؤخذ به في الأركان،
دون غيرها، فإنه بالنسبة إلى غيرها، معارض بصدر لا تعاد وخبر السجدة مطلقا وأمثالها،
ثم إن قوله عليه السلام (من استيقن إنه زاد في المكتوبة، فليستقبل الصلاة)، وإن كان مورده
الزيادة السهوية فقط، مورد لا تعاد، إلا أنه يحكم بالإعادة مطلقا، كانت الزيادة
من الركن، أو غيره، فهذا يكون أعم من (لا تعاد) من هذه الجهة، كما إنه يكون أعم
من جهة عمومه للزيادة والنقيصة، فتكون النسبة بينهما العموم من وجه، ومورد
اتفاقهما زيادة الركن، فإنهما متفقان على لزوم الإعادة بها، وأما في صورة زيادة غير
الركن فمتنافيان، فإن لا تعاد يقتضي عدم الإعادة، خلاف ما اقتضاه خبر الاستيقان،
ونبهان إلى إن النسبة بين هذا وخبر السجدة، تبائن محض، فإن أحدهما يدل على الإعادة
بمطلق الزيادة السهوية، والاخر على لزومها بها مطلقا، وقلنا أيضا بأن النسبة المنقلبة
116

ولو لم تكن ملحوظة عندنا، وبأن المتكافئين يسقطان عن الحجية بالتعارض، إلا إنه
لا يخفي إن مآل المتبائنين إلى التساقط، في مثل أكرم زيدا، ولا تكرم زيدا، فإنه لا يحتمل
التخصيص في شئ ومنهما، وأما إذا كانا عامين، فيلزم أن لا يكون الموضوع للامر
والنهي، صريحا ونصا في إرادة جميع الافراد، بل غاية دلالتهما عليها، هو ظهورهما في
إرادة الجميع، ويمكن أن يكون كل من موضوعي الأمر والنهي، لمناسبة بين الحكم
والموضوع ظاهرا، في بعض ما يندرج فيه، ونصا في البعض الاخر، مثلا إذا قيل
أكرم العلماء، يعلم عادة بأنه لو أريد تخصيص هذا الحكم والعموم، فإنما يخرج عنه العالم
الذي لا يستجمع الهاشمية، والأعلمية، والأروعية، وسائر الكمالات الزائدة، وأما إخراج
المستجمع، وإبقاء غيره، ففي غاية البعد، وكذا إذا قيل: لا تكرم العلماء، يكون احتمال
إخراج غير المستجمع أقوى، دون العكس، فدليل النهي إنما يدل بفحوى الخطاب،
على إن العالم الغير المستجمع مراد في موضوع النهي قطعا، وأما غيره، فالظهور مقتضى
لمراديته، فيكون نصا بالنسبة إلى غير الكامل، وظاهرا بالنسبة الكامل، بعكس دليل
وجوب الاكرام، ففي الصورة يطرح بنص كل ظاهر الاخر، ويجتمع بينهما من
دون انتهاء إلى التساقط، وهذا مقرر في باب التعارض، والظاهر إنه لا منكر له، وإذا
كان الامر كذلك، فلا يخفى إن خبري الاستيقان والسجدة، من هذا القبيل، فإنه لو لم
يخل زيادة الركن، فغيره لا يخل بطريق أولى، ولو أخل زيادة غير الركن، فزيادة
الركن مخل، بالطريق الأولى، فالخبر الأول نص وصريح في إخلال زيادة الركن، وظاهر
في إخلال زيادة ما عداه، والثاني صريح في صحة العمل، عند زيادة غير الركن، وظاهر
فيها، مع زيادته، فبنص كل يطرح ظاهر الاخر، ويصير مقتضى الجمع بطلان الصلاة
بزيادة ركن، دون غيره، وأما ما احتملناه سابقا، من إنه لو سقطا بالتعارض، لكان المرجع
قوله عليه السلام: (من زاد في صلاته فعليه الإعادة)، فهو في غير محله، لأنه في عرض أدلة
الاجزاء والشرائط، ولا يشمل مرتبة العلم، أو السهو، أو الشك في الموضوع، أو الحكم،
وإلا لزم أن يكون العلم الطريقي موضوعيا، هذا تمام الكلام بما يناسب المقام.
117

(القول في الاضطرار إلى ترك بعض الاجزاء)
لو اضطر إلى ترك بعض الاجزاء، فمع إطلاق دليل المركب، وعدم إطلاق دليل
الجزء لحال الاضطرار، فلا إشكال في وجوب البقية، وفي غير هذه الصورة، مقتضى
القاعدة الأولية سقوط الوجوب، إلا مع حجة أخرى على الخلاف، وهي إما
الاستصحابات بالتقريبات المتقدمة، وقد تقدم جوابها أيضا، وإما حديث الرفع، فإيجاب
الباقي به خلاف المنة، وفع المضطر إليه لا يثبت إيجاب غيره، نعم لا بأس بالتمسك بما ورد
من الاخبار في باب الاضطرار، لاثبات كون الباقي مصداق الواجب، فترفع اليد بها
عن قاعدة الاشتغال الجارية في مثل المقام، نظير قولهم عليهم السلام: ليس شئ مما
حرم الله، إلا وقد أحله لمن اضطر إليه، الخبر، حيث استشهد به الإمام عليه السلام، لرفع
شرطية القيام، وجزئية الركوع، لمن لم يتمكن منهما، ومثل قوله عليه السلام: ما غلب الله
على العباد، فالله أولى بالعذر، الخبر، حيث استشهد الإمام عليه السلام بمثل هذا العموم في
المسلوس، على نفي قاطعية القطرات في وضوئه، أو صلاته، ثم الظاهر أن المنساق من
هذه الأخبار، ما هو مأخوذ جزءا، أو شرطا، وأما المقدمات العقلية، أو العادية، فمع
تحقق الاضطرار عن بعضها، يشكل شمول مثل هذه الأخبار لها، فيشكل التمسك
لوجوب الهوى للسجود بمقدار الامكان، عند عدم مثل أصل السجود، نعم يصح ذلك
في الركوع، مع عدم التمكن من البلوغ إلى المقدار الواجب منه، إذ الانحناء داخل
في حقيقة الركوع، غاية الامر له مراتب، فمع عدم التمكن من مرتبة خاصة، يسقط
دخل تلك الخصوصية فقط، ويجب الباقي من مراتب الانحناء الركوعي، وهذا بخلاف
الانحناء السجودي، فإن الانحناء خارج عن حقيقته بالمرة، فمع الاضطرار عن السجود،
لا وجه لوجوب بقية مراتب الانحناء، التي هي مقدمة، ولا دخل لها في حقيقة السجود
أصلا، ولو قلنا في الركوع، بأن ما هو الجزء، هو المرتبة الخاصة من الانحناء، بنحو
وحدة المطلوب لا تعدده، كان حال الركوع حينئذ حال السجود أيضا، ثم إن مقتضى
عموم الاخبار، وجوب الباقي الغير المضطر إليه، وإن لم يصدق عليه إنه ميسور الكل،
الذي كان واجبا، إلا أن يقال إن الأخبار المذكورة ليست في مقام البيان من كل
118

جهة، وإنما هي في مقام بيان نفس الوجوب عن المضطر إليه فقط، وأما إثبات وجوب
الباقي، فلا بد فيه من المراجعة إلى العرف، والظاهر اختصاص حكم العرف بالوجوب،
بخصوص صورة يصدق عليه إنه ميسور الواجب، ومن مراتب وجوده عرفا،
لا مبانيا محضا مع الكل بالأنظار العرفية، وحينئذ يمكن إثبات وجوب الباقي بالقاعدة
المعروفة، بقاعدة الميسور المستفادة من قوله عليه السلام: الميسور لا يسقط بالمعسور، أي
بسقوط المعسور، ومقتضى عدم سقوطه بقائه في عهدة المكلف، بالنحو الذي كان
سابقا في العهدة، وجوبا أو استحبابا، إن قيل النهي عن السقوط، إن كان مولويا وجوبيا،
فلا يشمل المندوبات، وإلا فلا تقتضي الوجوب في الواجبات أيضا، يقال أن جملة
(لا يسقط) في مقام الاخبار عن عدم سقوط العهدة، بما اشتغلت به، واجبا كان
أو مندوبا، ولا ريب في إن عدم السقوط، عبارة أخرى عن الثبوت، واشتغال الذمة
به، فيستفاد طلب تفريغ الذمة بنحو اشتغلت به، واجبا كان أو مندوبا، ثم إن المنصرف
من قوله عليه السلام، الميسور الخ، هو ما يصدق عليه أنه ميسور للكل عرفا، وقد ظهر من
جميع ما مر في القاعدة، صحة التمسك بقوله عليه السلام (مالا يدرك كله لا يترك كله)،
فإن الجملة الانشائية فيه، أيضا إخبار عن عدم فراغ الذمة عما اشتغلت به، وبقاء طلب
تفريغه، بنحو اشتغلت به، ولا ريب أن المستفاد منه عرفا، هو سلب العموم، لا عموم
السلب، كما لا يخفى، وقد يستدل أيضا بقوله صل الله عليه وآله (إذا أمرتكم بشئ، فأتوا منه
ما استطعتم)، ولكنه مخدوش بظهورها في أفراد الطبيعة، لا إجزائها، كما لا يخفى، وإن
كان إرادة الجامع من الشئ ممكنا، والموصول على وجه يشمل الافراد والاجزاء،
وكيف كان ففيما سواه كفاية، فيستفاد منها تعين ما هو مصداق الواجب في حال
الاضطرار، فتكون حاكمة على دليل المركب، بشرح مصداقه بحسب حال الاضطرار،
ولازمه الاجزاء أيضا، إذا لم يدل دليل خارجي على حرمة تفويت الاختيار، وإلا فلا
مجال لاستكشاف تمام المصداق للواجب، مما مر من الأدلة، وحينئذ إطلاق دليل
المركب يقتضي إتيانه ثانيا.
119

(ولا بأس بالإشارة إلى أمور الأول)
يعتبر في جريان الأصل النافي للتكليف في الشبهات الحكمية، الفحص بالمقدار
المتعارف، المخرج للمورد عن معرضية تحقق الدليل على الحكم، وذلك للعلم الاجمالي
بوجود أحكام في المسائل المشتبهة، بحيث لو تفحص منها، لظفر بها، فلا يصح إجراء
البراءة قبل الفحص. وبعده مع عدم الظفر بالدليل يصح بلا إشكال، ويستكشف
خروج المورد عن دائرة المعلوم بالاجمال، من أول الامر، فالمانع إنما هو العلم الاجمالي،
ويزول بعدم الظفر بالدليل، ولو ظفرنا بالفحص على المقدار المعلوم بالاجمال، فإن
كان ذلك المقدار المعلوم بالاجمال، عين ما علم أولا بالاجمال، فيصح إجراء البراءة بعده،
وأما إن كان ذلك المقدار متأخرا عما علم أولا، فلا مجال لاجراء البراءة حينئذ، لبقاء
العلم الاجمالي الأولى، المانع عن الجريان على حاله هذا، ويصح الاعتماد في لزوم الفحص
إلى حكم العقل أيضا، لان الظاهر أن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنما هو فيما
إذا لم يتمكن المكلف من إزالة جهله بالفحص والبحث، وإلا فيكون المورد داخلا
في حكمه بدفع الضرر المحتمل، فقبل الفحص لا موضوع لحكم العقل بقبح العقاب
بلا بيان، ولا يخفى أن حكم العقل لمحض الارشاد إلى إحراز عدم الضرر، ولا يبقى له
مجال، لو فرض الجزم بعد الضرر، من قبل ترخيص الشارع، فلا يصلح هذا الحكم
العقلي للمعارضة مع الترخيصات الشرعية، وحينئذ فلولا العلم الاجمالي السابق، فالجزم
بعد جريان أدلة البراءة مشكل، كما لا يخفى، ويمكن أن يكون مثل قوله عليه السلام: هلا
تعلمت، إرشادا إلى حكم العقل، وحينئذ فلا وجه لكونه مخصصا لعمومات البراءة،
نعم لو قلنا بأن مثل هذه الأخبار، سيقت للتعبد بوجوب الفحص، بقرينة تطبيق
الإمام عليه السلام هذه الأخبار على الشبهات البدوية، فيكون تطبيقه كاشفا إنيا عن عدم
جريان عمومات البراءة فيها، وحينئذ فتكون تلك الأخبار كافية في وجوب الفحص
لولا العلم الاجمالي السابق، كما لا يخفى، ثم إن الظاهر، إن مثل هذه الأخبار ليس فيها
إعمال جهة تعبدية، بل هو إرشاد إلى ما هو المغروس في الأذهان، من لزوم الفحص
لتحصيل استقرار الجهل، وعدم البيان، الذي هو موضوع العذر العقلي، وهذا لا يختص
120

بالواجبات المنجزة، بل يشمل غيرها من الموقتات، والواجبات المشروطة، قبل حصول
شرطها، لان العقل في حكمه بعدم المعذورية، مع التقصير في تحصيل الواقع، لا يفرق
بين الموارد، فلا مجال حينئذ للاشكال في المشروطات والموقتات أصلا، نعم بناء على
كون التعلم واجبا غيريا، يصح الاشكال بأنه مع تبعية الوجوب الغيري والنفسي في
الاطلاق والاشتراط، كيف يصح القول بوجوب التعلم والفحص فعلا غيريا، مع كون
ذي المقدمة موقتا، يجب بعد حضور الوقت، أو مشروطا بشرط لم يحصل بعد، فيصح
التفصي حينئذ، بناء على مذهب من أرجع الواجبات المشروطة، إلى وجوب فعلى منوط
بوجود الشئ، في لحاظ الامر، بأن من قبل الطلب الفعلي المنوط بالشرط الفلاني، يترشح طلب
غيري منوط بهذا الشئ في لحاظ الامر، فيكون من الشرط المقارن، نعم في المقدمات
المفوتة، التي يتوقف تحصيل غرض الامر عليها، يكون وجوبها بنحو الشرط المتأخر،
كما لا يخفى، فلا نحتاج إلى التصرف في ظاهر القضايا الشرطية، بإرجاعها إلى المعلقة.
ثم إنه لو كان منشأ الاشكال في وجوب المقدمات المفوتة في الموقتات، بتبعية وجوبها
لوجوب ذيها في حاق الإرادة، وإن واقع الإرادة غير حاصل قبل الوقت، كيف يمكن
الالتزام بوجوبها نفسيا تهيئيا، لان مرجع الوجوب التهيئ، إلى مطلوبية الشئ لأجل
المقدمية، فيسئل حينئذ أن إيجاب هذا الشئ تهيئا، لابد وأن يكون لفعلية الإرادة
إليه، فهل يمكن كون التهيأ مطلوبا نفسيا، مع كونه باطلا، وإن كان لأجل الوجوب
المستقبل، ولأجل التوصل به إلى وجوده، فهو ليس إلا الوجوب الغيري، وليس في
البين إلا تغيير الأسلوب، نعم لو أريد منه مرتبة التحصيل على المكلف، كان لتصور
الوجوب التهيائي مجال، ولكنه حينئذ خارج عن بحث وجوب مقدمة الواجب، كما هو
واضح، ثم إن المدار في صحة العمل وفساده، مطابقته الواقع وعدمه، فما طابقه صحيح
ومجز. وما خالفه فاسد وباطل، فما اشتهر من بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد،
لا وجه له، وما يذكر له من الوجه، من جهة اعتبار قصد التميز والوجه، فقد مر مفصلا
في المباحث السابقة عدم مساعدة دليل عليه، بل مقتضى الاطلاقات والعمومات، عدم
اعتبارهما، فراجع، فمقتضى القاعدة صحة العمل المطابق للواقع وإجزائه، وعدم صحة
المخالف له، وعدم إجزائه، إلا إذا دل دليل على الخلاف، كما قام الدليل على الاجزاء
121

على الاتمام في موضع القصر، والجهر أو الاخفات في موضع الاخر.
إن قلت ظاهر الأدلة صحة العمل، وتقرير العامل في عمله المتعارف، كونه عن
داعي الامر الفعلي، مع إن مقتضى مضادته مع المأمور به واقعا، عدم الامر به.
قلنا: يمكن الجواب بعدم كون المأتى به، مضادا للمأمور به في أصل المصلحة، بل
التضاد إنما هو في الخصوصية الحدية، التي تكون بينهما على وجه لا يبقى لتحصيل
أحدهما مع تحصيل الاخر مجال، وحينئذ فلا بأس بإتيان المأتى به، بداعي الامر بالجامع
بينهما، والتعبد به في صورة التقصير، إنما هي لتفويت المقدار الزايد بالاختيار، فلا نحتاج
حينئذ في تصحيح الامر إلى قاعدة الترتب، كما لا يخفى، ثم إن تفصيل القول، إنه قد
يذكر من شروط البراءة عدم استلزامها إيجاب شئ آخر، أو إضرارا على الغير، وأورد
على الأول، إنه إذا كانت البراءة موضوعا لا يجاب شئ، كالبراءة عن الدين الموضوع
لوجوب الحج مثلا، فكيف يعقل تحقق الموضوع، وعدم تحقق الحكم، وقد استشكل
عليه بأن جميع الموارد، التي يستلزم البراءة من التكليف تكليفا آخر، كان من صغريات
العلم الاجمالي بأحد التكليفين، وفى مثله لا وجه لجريان البراءة في رتبة سابقة عن انحلال
العلم بأمارة، أو
أصل مثبت، أو جعل يدل، والحق أن يقال أن ثبوت التكليف تارة
من تبعات نفس البراءة عن التكليف، وأخرى من تبعات عدمه واقعا، والأول مثل
ما مر من البراءة عن الدين بالنسبة إلى وجوب الحج، والثاني مثل ما إذا نذر تصدق
درهم، في ظرف عدم تكليفه في يوم كذا مثلا، أما الأول فلا وجه لتنجز العلم الاجمالي،
لما مر في مبحث العلم الاجمالي، من إن منجزيته إنما هو فيما إذا أحدث العلم لايجاب
الحركة عقلا، على وفق المحتملين، وهذا المعنى يستحيل تحققه في المقام، لان منجزية
العلم للدين، يستلزم القطع بعدم الحج، وكذا العكس، فمنجزية العلم لكل واحد من
الطرفين، مستلزم لعدمها، فلا مفر حينئذ إلا إلى البراءة، وأما في المثال الثاني فهو وإن
لم يكن من قبيل الأول، لان منجزية العلم في أحد الطرفين، غير مناف لبقاء العلم
الاجمالي وتأثيره، إلا أنه لا ينافي إجراء الأصل، لنفي التكليف بلحاظ خصوص الامر
الوجودي، من إثبات وجوب الطرف الآخر، فهو تبعيض في مجرى الأصل، بلحاظ
أثر دون أثر، نظير الاستصحاب الجاري في الخارج عن مورد الابتلاء بلحاظ أثره،
122

الذي هو محل ابتلاء المكلف، وأما الشرط الثاني، فمرجعه إلى اشتراط عدم دليل حاكم
على البراءة، وهو ليس شرطا خارجا عن حقيقة البراءة، بل هو بيان تحقق موضوعها،
كما لا يخفى، وحيث انجر الكلام إلى قاعدة الضرر، فالمناسب بيان بعض ما أودعناه في
الرسالة المستقلة، في هذه القاعدة، بنحو الايجاز والاختصار.
(الكلام في قاعدة لا ضرر)
وتوضيح الحال في طي مقامات، المقام الأول: في معنى لا ضرر ولا ضرار، وبيان
الفرق بينهما، والمقام الثاني: في مدركها، والمقام الثالث: في مقدار دلالتها، والمقام الرابع:
في نسبتها إلى أدلة الاحكام والتكاليف، من الحكومة وعدمها، والمقام الخامس: في إنه
هل ورد عليها التخصيص كثيرا، بحيث صارت موهونة لا يؤخذ بها، إلا في مورد
أخذ الأصحاب، أم لا، والمقام السادس: في إن تطبيقاتها على الموارد صحيحة، أم لا؟
فهنا نتكلم في مقامات.
أما المقام الأول، فنقول إن معنى الضرر كان معروفا، وهو عبارة عن النقص
الوارد في المال، أو العرض، أو النفس، فيقال: فلان ورد عليه ضرر مالي، أو ضرر نفسي،
أو عرضي، في قبال النفع، فإذا كان الانسان واجدا لمرتبة خاصة من المراتب، وحصل
نقص منها، فيصدق إنه ورد عليه ضرر، ويقابله النفع، والضرر أعم من أن يحصل من
قبل الغير، أو باختياره، أو من قبل الله تعالى، وأما الفرق بين الضرر والضرار، هو إن
الضرر ما يرد على الانسان نفسه، والضرار هو إضراره بالغير جزاء. أو إصراره على
ضرر الغير، ولذا ورد في قوله صلى الله عليه وآله لسمرة بن جندب: أنت رجل مضار، حين ما أصر
على إبقاء النخلة، والدخول عليها متى أراد. وتوهم أن الضرار مصدر باب المفاعلة، ويعتبر
فيه تكرر المبدء من الطرفين، فينحصر مدلوله في الضرار الواقع جزاء، لا ضرار الغير
، مدفوع بعدم لزوم كون المبدء من باب المفاعلة بين الا ثنين دائما، بل المعتبر فيه تكرر
المبدء، سواء كان من شخصين، أو من واحد، ولذا يقال المطالع والمعالج، والمسافر
وغيرها، لمن لا يكافي بالمثل من طرفه، وفيما نحن فيه يكون المراد، أنك رجل مضار،
أي مصر على الاضرار، وحاصل الفرق، إن لا ضرر ناظر إلى نفس المضارة القهرية،
123

ولا ضرار ناظر إلى الاصرار على إضرار الغير، هذا بالنسبة إلى معنى اللفظين، وبيان
الفرق بينهما، وظهر من ذلك إن الضرار ليس توكيدا للضرر المذكور أولا كما قيل.
والمقام الثاني في مدرك القاعدة، وهو أخبار كثيرة وردت في موارد مختلفة، وحيث
إنها مستفيضة، وقد عمل الأصحاب بها، فيوثق بصدورها في الجملة، فلا داعي إلى لحاظ
سند كل منها بالخصوص، والالتجاء إلى التصحيحات السندية، والعمدة منها في المقام،
هو خبر سمرة، لأنه أصح سندا ودلالة، والاشكال الوارد عليه، هو إن الانسان، إذا
كان له نخل في دار رجل، فله السلطنة على الدخول عليها وإصلاحها، والتردد إليها
، والمفروض إن قاعدة لا ضرر، بملاحظة سوقها في مقام الامتنان، لا تنفي سلطنة المالك
على ماله، لأنه خلاف الامتنان، فمقتضى هذه القاعدة أن تكون حاكما على جميع أدلة
الاحكام والتكاليف، إلا مثل السلطنة من الاحكام الارفاقية، فإنها أيضا امتنانية، لا منة
في نفيها، لأنه خلاف الامتنان، ولكن الشيخ الأجل الأنصاري " قده " قال بحكومتها
على تمام أدلة الاحكام، حتى السلطنة، وبالجملة إن لا ضرر لا ينفي الحكم الارفاقي،
والمفروض إن السلطنة حكم إرفاقي، فلا يكون رافعا لها، ولذا قالوا بالخيار في المعاملة
الغبنية، ومنع الخيار ينافي الارفاق، والقاعدة لو سلم تقدمها على تمام الخطابات، بملاك
الحكومة، لكن موردها منحصر في الخطاب الذي لا ينافي رفعه الارفاق، فلا يمكن
تطبيق لا ضرر على هذا المورد، ولذا استشكلوا على تطبيقه في قضية سمرة، فلا بد من
حل هذا الاشكال، ويمكن حله بأن تطبيقه صلى الله عليه وآله على المورد، من جهة إضرار سمرة،
حيث قال له النبي صلى الله عليه وآله: أعطيك في الجنة مثلها، الخ، فلم يقبل، فقال صلى الله عليه وآله حينئذ: أنت
رجل مضار. لو كان تطبيقه على المورد صحيحا، لما احتاج إلى ذلك الالتماس، بل كان
يقول صلى الله عليه وآله: إن أول الامر لا حق لك، بمقتضى لا ضرر، ويقدم القاعدة على السلطنة،
فنكلف من ذلك إن تحكيمه صلى الله عليه وآله، كان بنحو الولاية، لا بملاك تقديم
القاعدة على السلطنة، ولذا قال صل الله عليه وآله: أنت رجل مضار، أي كنت مصرا على
الاضرار بالغير، وكيف كان فمدرك القاعدة معتبر، لا خدشة فيه، غاية الامر إنه يكون
التطبيق في هذه الموارد مجملا، وهذا الاجمال لا يكون مضرا بالتمسك بالقاعدة، ولو
كنا عاجزين عن وجه التطبيق، فلعله كانت خصوصية في تطبيقه على هذا المورد،
124

لا نتعدى إلى غيره، والمقام الثالث في بيان دلالتها، فنقول إنها تحتمل وجوها، منها أن
يكون المراد، لا حكم في الشرع ينشأ منه الضرر، فيكون المنفي هو الحكم الضرري،
ومنها أن يكون المنفي هو نفس الضرر بحقيقته، لكن لا كل ضرر، سواء استند إلى
تشريع الحكم، أو عدم تشريعه، أو إلى غيرهما من الأسباب التكوينية، وثالثها أن يكون
الضرر المنفي، كناية عن الموضوعات الضررية، كالوضوء الضرري، والغسل الضرري،
والمعاملة الغبنية وغيرها، وعلى هذا يكون نفي الموضوع، باعتبار نفي أثره المجعول.
ورابعها أن يكون النفي، واردا في مقام النهي، كما في قوله تعالى (لا رفث ولا فسوق
ولا جدال في الحج)، فالمقام من قبيل نفي المقتضى بالفتح، بنفي مقتضيه، فلما كان
الاضرار منهيا عنه، ونهيه مقتضى لعدمه، فنفي بهذا الاعتبار، فهذه وجوه أربعة، أولها
ظاهر من الرسائل، والثاني مختارنا، والثالث مختار الكفاية، والرابع مختار الشيخ
الشريعة " قده "، أما أول الوجوه، وهو كون النفي متوجها إلى الحكم الضرري، فظاهره
الالتزام بالمجاز في الحذف، كما إن لازمه عدم شمول القاعدة، لمورد يلزم من عدم جعل
الضرر، كما في مورد خيار الغبن مثلا، حيث لا حكم ضرري من الشارع، حتى يرتفع
بالقاعدة، ولزوم العقد، وهو عبارة عن وجوب الوفاء، ليس إلا حكم تكليفي يدور
مدار بقاء العقد وعدمه، فلا يمكن إثبات موضوعه به، فما لم ينحل يجب الوفاء به، وأما
ثاني الوجوه، وهو احتمال أن يكون المنفي حقيقة الضرر، لكن لا مطلقه، بل الضرر
الذي بيد الشارع اثباته ونفيه، بإثبات منشائه ونفيه تشريعا، نظير النسيان، ومالا يطاق،
وما اضطر إليه، وغيرها مما في فقرات حديث الرفع، فلا يلزمه الالتزام بالمجاز في الحذف،
ولا عدم اندراج صورة استلزام عدم الجعل للضرر على أحد، كالمغبون لو لم يجعل
له الخيار، فهذا أعم من الأول بهذا الاعتبار، ولذا لو أردنا إرجاع كلام الشيخ (ره)
إلى الوجه المختار، فلا بد من توجيه كلامه، بأن الضرر في الغالب، لما كان مسببا عن
المجعول، لا عن غيره، فلذا خص الحكم بالذكر في مقام بيان المنشأ، وإلا فمراده أعم.
وأما الثالث فهو مثل ظاهر الأول من هذه الجهة، فإن نفي الموضوع تشريعا، إنما يكون
بلحاظ نفي أثره الشرعي، وهو ما كان مجعولا له، وجوديا كان أم عدميا، وأما غير
المجعول القابل للجعل، فلا يعد من الآثار الشرعية لذاك الموضوع، نعم لهذا الوجه
125

عموم من جهة أخرى، وهي شموله لجميع الآثار المجعولة للموضوع المنفي، كالمعاملة
والغسل الضرريين، من الصحة واللزوم، أو الوجوب، أو الندب، وغيرهما، والظاهر إنهم
لا يلتزمون بإفادة القاعدة لنفي الصحة، لكن هذا لتسالمهم على ورودها في مقام
الارفاق والامتنان، فإن ما كان كذلك، كحديث الرفع، لا ينفي ولا يرفع ما لا يكون في
ثبوته خلاف منة، كصحة المعاملة من المضطر، أو المغبون، والوضوء أو الغسل الضرريين،
فلا ينبغي عد عدم الالتزام بنفي الصحة، مع إنها من آثار الموضوع الضرري، موهنا
للوجه الثالث، ثم لا يخفى إن جميع الوجوه الثلاثة، غير منافية لحمل القاعدة على ما ارتكز
في الأذهان، من كونها امتنانية، بل كل منها يلائم الامتنان، وأما الوجه الرابع، وهو
كون النفي بمعنى النهي، فلا ملائمة بينه وبين ورودها في مقام الامتنان، فإن تحريم
الاضرار كتحريم الخمر والكذب وغيرهما من المحرمات، حكم تكليفي مولوي، يلزم
اتباعه، كان منة على أحد أم لا، هذا كله في مقام التصور، وخلاصة الكلام فيه إنه
يحتمل في لا ضرر احتمالات أربعة، منها أن يكون نفيه كناية عن نفي منشائه، بأن يراد
منه إن الحكم الضرري، تكليفيا كان أو وضعيا، منفي في الاسلام، فنفي الضرر على هذا،
إنما يكون بنفي الحكم الضرري فقط، ثانيهما أن يكون الضرر بحقيقته منفيا، ولكن لا مطلقا،
بل الضرر الذي منشائه بيد الشارع وضعا ورفعا، سواء كان مجعولا، حتى ينفي باستلزامه
للضرر، أو لم يكن مجعولا، وكان الضرر مرتبا على عدم جعله، فينفيه بإثبات ذلك الحكم،
وجعله، كما في حق الخيار للمغبون، وعلى هذا فنفي الضرر تارة يكون بنفي الحكم المجعول،
وتارة بإثباته وجعله، وكلا القسمين مندرجان في قوله عليه السلام (لا ضرر الخ)، ثالثها أن
يكون من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، ومعلوم إن القائل بهذا، لا يريد من
الموضوع نفس الضرر، حتى يرد عليه إن لازمه، إن نفي الحكم به أحكام الضرر، من
الحرمة والضمان وغيرهما، بل مراده إن الضرر عنوان للموضوع الضرري، كالصوم
والغسل والوضوء والحج وغيرها، فمعنى لا ضرر، إنه لا وضوء ضرري، وهكذا سائر
الموضوعات المستلزمة له، ولازم هذا المعنى أيضا، أن يكون لا ضرر متعرضا لإفادة
نفيه بنفي الحكم والأثر الشرعي للموضوع، وأما نفيه بإثبات الحكم، وجعل ما لولاه
للزم الضرر، فلا، فإن عدم الجعل وغير المجعول، لا يكون من الآثار الشرعية لشئ، حتى
126

يشمله النفي، ورابعها أن تكون الاخبار عن النفي، ورادا في مقام الانشاء والنهي،
نظير لا رفث ولا فسوق الخ، لكن لا باستعمال لفظة (لا) في النهي، ولا باستعمال الخبر
في الانشاء مجازا، بل يكون الاخبار بالنفي، ناشئا من جهة ثبوت المقتضى لانتفائه
بالتشريع، وهو تحريم الضرر، فإخبار الشارع عن العدم، كاشف عن ثبوت ما يقتضيه
بجعله، فالحرمة والنهي مستكشف إنا عن نفي الضرر في الشرع، فالاخبار في المقام نظير
الاخبار بالعدم في لا تعاد، ولا يقال وبالثبوت في مثل تعيد وتأتي بالاحتياط، وتسجد
سجدتي السهو، فإن شيئا منها مع إنها مفيدة للامر والنهي، ما استعملت في شئ منها
مجازا، وعلى هذا، فمفاد نفي الضرر مستلزم لثبوت المقتضى لهذا النفي، فلا يكون ضرر،
لوجود ما يقتضي عدمه، ثم لا يخفى إن النفي على الاحتمالات الثلاثة المتقدمة، قابل لان
يكون للامتنان، حتى على تقدير عدم كون لفظة في الاسلام، من تتمة بعض أحاديث
الباب، كما إنه يمكن أن لا يكون كذلك، فيتوجه النفي إلى كل حكم ضرري، سواء
كان في نفيه خلاف امتنان على الغير، أو لم يكن، ووجه إمكان امتنانيته، إنه متوجه
إلى حكم، يكون المقتضى لثبوته وبقائه متحققا، ومع هذا قد رفع ونفي ارفاقا ورعاية
لجانب العبيد، وأما على الوجه الأخير، فلا وجه لدعوى وروده مورد الامتنان، إذ بتحريم
الاضرار، لا ينفي ولا يرفع حكم، أو إلزام للارفاق، بل نفس التحريم لكونها تكليفا،
أو موقعا في المشقة والكلفة، مما هو على خلاف الامتنان، وحيث إن المرتكز في
الأذهان، إن نفي الضرر امتناني، فلا يتمسك به بالنسبة إلى المقدم على الضرر، وأما الكلام
في مقام التصديق، فليعلم إن القول بأن الحكم منفي بلسان نفي موضوعه، بعد ما وجه،
بأن المقصود منه، إن الضرر عنوان مشير إلى الموضوعات الضررية، وهي منفية حقيقة،
فلا يخلو عن شئ، فإن المصدر لا يكون عنوانا للذات المتلبس به، ولا يحمل عليه، فكيف
يكون حاكيا عنه ومشيرا إليه؟ نعم إن المضر والقاطع والمحرق، عناوين ثانوية للدواء
والسكين والنار مثلا، ومنطبقة عليها، وصح جعلها حاكية عنها، وأما الضرر فلا انطباق
له، إلا على مصاديقه، لا على الموضوعات والذوات، فلا ينبغي عده عنوانا ثانويا لشئ
من الأمور، حكما كان أو غيره، وكان منشأ له وعلته التامة، أو لم يكن، فما عن بعض،
من إنه عنوان ثانوي للحكم الذي سبب للضرر، قياسا بالالقاء في النار والاحراق، كلام
127

لا ظاهر له، فضلا عن المحصل، وبالجملة فلما لم يكن الضرر عنوانا للموضوعات، وقابلا
للحمل عليها، فلا يمكن أن يشار إليها بجعله مرآة لها، وآلة للحاظها، فلا وجه لهذا
الوجه أصلا، وعلى تقدير تسليم قابليته للحمل، فالأصل في العناوين المأخوذة في الخطابات،
عدم كونها مرآة وآلة للإشارة إلى المصاديق، وليس في المقام ما يخرج عنه، فهذا
الوجه لا يخلو عن إشكال ومحذور على أي تقدير، وما عن بعض أعاظم المعاصرين، من
إنه عنوان ثانوي لعلة حصوله ومنشائه، لا وجه له ظاهرا، هذا مضافا إلى إن الضرر
على تقدير كونه مما فيكون، يكون قابلا لان يشار به إلى الحكم، أو الفعل الضرري،
ويحكي به عنهما، لاتحاده معها في الجملة، نظير عنوان العالم بالنسبة إلى زيد وغيره، فإنهما
عنوانان لشئ واحد، أحدهما أولى، والاخر ثانوي، فلا وجه لحمل هذا العنوان
الثانوي للحكم، أو العمل، على المرآتية، وجعله مشيرا به إلى شئ قابل لانطباقه عليه،
مع إن الأصل في العناوين الواقعة في الخطاب، هو العنوانية لا المشيرية والمرآتية،
ولا يعدل عنه إلا بقرينة معتبرة، فالحق إن هذا الوجه بعيد في الغاية، وأما ما ذكره
الشيخ الأجل الأنصاري (قده)، فهو مستلزم للمجاز في الحذف، نظير قوله تعالى
(واسئل القرية)، ولا داعي إلى الالتزام به، مع ثبوت وجه لا يلزم منه ذلك، فبقى الوجهان
الآخران، وهما مشتركان في السلامة، عما يرد على الأولين، من منع عنوانية الضرر
لأسبابه، ومنع مرآتيته لها، على تقدير التسليم، ومن لزوم الالتزام بالمجاز في الحذف
من دون قرينة، والجاء إلى ذلك، إما سلامتهما عما ذكر، فلان الضرر بحقيقته منفي على
كليهما، غاية الامر نفيه على المختار، بإثبات الحكم الدافع، أو نفيه إذا كان ضررا، وعلى
الأخير بأثبات المقتضى للعدم، وهو تحريمه، ولا يخفى إن الضرر المنفي ليس على إطلاقه،
سواء كان من قبل الشارع بتشريعه له، أم لا، وسواء كان باختيار العبد، أم لا، بل
المنفي على المختار، هو الضرر الذي بيد الشارع رفعه، ونفيه برفع منشائه المجعول، أو
اثبات ما ينفيه ووضعه، وعلى الوجه الأخير يكون المنفي منحصرا فيما ينتفي بالنهي،
وبعبارة أخرى، ما يكون اختياريا وقابلا للتحريم، وهذا المقدار من التقييد، مما لا بد
منه على أي تقدير، وإنما الفارق بينهما، إن الاخبار بالنفي غير مبتن على الادعاء والعناية
على المختار، فإنه لما رفع الشارع ما يوجب الضرر من أحكامه وغيره، مما أمره بيده
128

في مقام التشريع، فقد انتفى الضرر من قبله حقيقة، وبلا عناية، وأما إذا جعل المقتضى
لعدمه، مع إنه ربما يوجد ما يمنع تأثيره، كالطغيان وغلبة الدواعي الشهوية، فلا يصح
أن يخبر بداعي الجد عن انتفائه، إلا بتنزيل المانع القابل للتحقق، منزلة العدم، فالاخبار
على الانتفاء على هذا، مبني على الادعاء والعناية، بخلاف ما على المختار، والفرق الاخر، بأن
المختار يلائم ورود هذا النفي في مقام الامتنان، كما هو المرتكز في الأذهان، وأما كون
النفي بلحاظ ثبوت مقتضيه، من النهي عن الضرر، ومفيدا لكونه الغرض من هذا
النفي لبا وواقعا، فلا يلائم الامتنانية، لان حرمة الاضرار حكم تكليفي في عرض
سائر التكاليف، نظير حرمة الشرب والكذب والسرقة والغصب، وليست ناظرة إلى
الاحكام الثابتة للموضوعات الضررية، بأن ينفيها امتنانا، مع ثبوت مقتضياتها، فلا يصح
حمل لا ضرر على الحكومة أصلا، إذ لأنظر إلى تلك الأحكام، ولا قابلية له لذلك على
هذا الوجه، فلا ينبغي أن يتمسك به في أكثر موارد ما يتمسك به، فيمكن أن يجعل
فهم الأصحاب منه الحكومة، واعترافهم بأنه وارد في مقام المنة، دليلا على عدم وجه
لهذا الوجه، فبقى المختار في معنى لا ضرر سالما عن جميع ما يرد على غيره من الوجوه،
حتى على الأخير، فإن نفي الضرر من قبل الشارع، بما إنه شارع، وإن أمكن أن يكون
باعتبار عدم جعل حكم ضرري، غير منفك عنه أبدا كوجوب الوضوء الضرري
والغسل والصوم كذلك وغيرهما، حتى لا يكون ناظرا إلى الاحكام المجعولة، التي قد
يترتب على اتباعها الضرر، ولا حاكما على أدلتها، بل يكون لا ضرر، مفيدا للمخصص
لتلك العمومات، إلا إنه يمكن أن يكون سوقه لبيان حال الاحكام المجعولة، وإنها
لا ثبوت لها عند إيجابها للضرر، فيكون حاكما عليها، نظير ما يفيد عدم جعل الحرج في
الدين، ثم لا يخفى إن الحكومة قد تكون بنفي المضوع، كما إذا قيل هذا ليس بعالم،
بعد قوله: أكرم كل عالم، وتارة يكون بنفي الحكم، كما في المقام، ونظائر الشارحية والحاكمية، لأنه غير منفك عن النظر
إلى الحكم الاخر، بخلاف ما ينفي الحكم، فإنه يمكن أن لا يكون ناظرا إلى العام، فيكون
من مخصصاته، وأن يكون ناظرا إليه، فيقدم عليه بالحكومة، ومن فهم القوم والتزامهم
بحكومة القاعدة، يستكشف عن أن النفي في المقام، غير مسوق لإفادة نفي حكم مستقل،
129

غير ما جعل للموضوعات عموما، أو إطلاقا، فلو قيل بما قلناه، لا يلزم محذور، وارتكاب
خلاف الظاهر، أو خلاف ما عليه التسالم، وأما لو قيل بأن النفي لإفادة النهي، كما أصر
عليه الشيخ الشريعة (قده)، فأمر الحكومة يبقى بلا أساس، ثم لا يخفى إن الوجوه
المحتملة في معنى الحديث، أقربها إلى ظاهر لفظه وسياقه ما اخترناه، فإنه لا يستلزم
المجاز في الحذف، ولا خلاف الامتنان، ولا جعل الضرر عنوانا للفعل المنشأ له، ويقرب
منه الوجه الأخير، فإنه خال عن المحذور الأول والثالث، ثم احتمال المجاز في الحذف، مما
اختاره صاحب الكفاية، في غاية البعد عن الظهور، ولا تصل النوبة إليه، إلا بعد القرينة
على عدم سوق الخبر، إلا لهذا الوجه، وبعد ما ظهر إن محتملات الحديث أربعة، وإن
سياقه يقتضي وروده في مقام الامتنان، ونفي ما كان إثباته خلاف الامتنان، بخلاف
نفيه، وإن مقتضى الظاهر عدم كون الضرر عنوانا لمنشائه من الافعال، ومقتضى الأصل
والقاعدة عدم الحذف، تبين إن مفاد الحديث هو نفي الضرر من قبل الشارع امتنانا،
وهو إنما يكون بنفي منشائه، مما بيد الشارع إثباته ونفيه، فهذا نظير نفي العقاب عما
لا يعلم، الدال على نفي منشائه، من وجوب الاحتياط، فإن هذا المعنى غير مستلزم للالتزام
بالحذف، وخلاف مقتضى سياقه، مما فهمه الأصحاب أيضا، من وروده مورد الامتنان،
فلذا لا يتمسكون به في صورة استلزامه خلاف المنة على الغير، وفي مورد لا يكون
مستحقا لها، كالمقدم على الضرر، ولحمل الضرر على المرآتية والمشيرية، بادعاء إنه عنوان
للوضوء وغيره من الافعال الضررية، فليعلم إن هذا النفي المستلزم لنفي الحكم الضرري،
يمكن أن يكون من قبيل المخصص لأدلة الاحكام، التي قد يترتب عليها الضرر، ويمكن
أن يكون حاكما عليها، وناظرا إليها، فتكون الحكومة هنا بنفي الحكم الضرري، لا بنفي موضوعه،
لكن سياقه سيما على تقدير وقوع لفظة في الاسلام في ذيله، على ما نقل عن ابن الأثير
وعن التذكرة، يعين الاحتمال الثاني، وبعد تسليم حكومة لا ضرر، ووروده في مقام
الامتنان، يقع الكلام في تطبيقه الصادر عن المعصوم عليه السلام، وفى تطبيقات الفقهاء،
فسيأتي التعرض لها في ضمن المباحث الآتية، وأما التطبيقات الصادرة عن المعصوم عليه السلام،
فما وجدناه منها منحصر في قضية سمرة، وخبر الشفعة، وخبر النهي عن فضل الماء عن
الكلاء، ورواية حفر القناة في قرب الأخرى، فإن لا ضرر منطبق في هذه الأخبار
130

الأربعة، وقيل في خبرين آخرين أيضا، وهما منقولان من دعائم الاسلام، وكيف كان
فربما يتوهم إن لا ضرر، لكونه امتنانيا لا يشمل صورة كان الحكم ارفاقيا، مثل السلطنة
المجعولة للمالك على ماله، وحفظه وبقائه على حاله، وفى محله، الذي يجوز إبقائه فيه، ولذا
يقال إن تطبيق النبي صلى الله عليه وآله إياه، في قضية سمرة لا يكون على طبق القاعدة، وربما
يسلم ذلك، فيقال إن لا ضرر قدم على حق هذا اللجوج تعبدا، أو يقال إن تقديمه
في المقام على مقتضى السياسة، ومن شؤون الرياسة العامة، ولا يخفى ما في الوجه الثاني،
فأنه جواب العاجز عن تصور محمل صحيح، كما إن الأول أيضا كذلك، ويمكن أن
يقال إن ذكر لا ضرر في هذه القضية، بيان للازم سلطنة الأنصاري، على حفظ عرضه،
وسقوط سلطنة سمرة على إبقاء نخلته في حائط الأنصاري، فإن ظاهر ما تحكي القضية
على اختلاف طرقها، إن الحائط لم يكن لسمرة، وإنه لم يكن مستحقا، إلا للدخول
والاستطراق إلى عذقه، فكان له حق العبور فقط، ولذا أمره النبي صلى الله عليه وآله بغرسه، بعد
القلع أينما شاء، فهذا اللعين لم يكن مالكا للأرض، ولا مسلطا على التصرف فيها، إلا
للاستطراق إلى عذقه، ما دام فيها، وحيث كان قلعها لا يوجب تفويت ماله، من حيث
الشجرية، لا مكان غرسها في أرض أخرى، فلم يكن له غير سلطنة على إبقاء نخلته في
مكانها، وهذه السلطنة مما تزول بمزاحمتها لسلطنة المسلم على حفظ عرضه، نظير سلطنة
الغير على أصل ماله وماليته، فإنها إذا زاحمت العرض، كان العرض مقدما عليها، فكان
اللعين غير مسلط على الدخول بلا إذن الأنصاري، ولازم عدم مشروعية دخوله
كذلك، أن لا يكون له الاضرار، فالضرر في قضيته من جهة تسلط سمرة على كينونية
عذقه في حائط الغير، وإنما جوز القطع، لأنه في المقام مما به ينتفي الضرر، لا عدم تسلط اللعين
على الدخول، فتلخص مما ذكرناه إن في قضية سمرة، ليس لا ضرر علة لرفع سلطنته
عن الشجرة، حتى يكون ممنوعا عن الدخول على النخلة، كي يرد إن لا ضرر مسوق
لبيان الامتنان ووارد في مقام الارفاق، فلا يرفع الاحكام الارفاقية، ومنها سلطنة
المالك على ماله، بل لو لم تكن هذه القاعدة، ولم تجعل في المقام قط، لكنا نقول بذلك
في مثل المقام، فإنه إذا دار الامر بين أن يكون عرض الرجل الأنصاري مستورا
دائما، لاحتمال دخول سمرة على نخلته متى أراد، وبين أن يكون ذو النخلة ممنوعا عن
131

إبقائها في مغرسها، لتضاد السلطنتين، فلا بد من رفع اليد عن سلطنة سمرة، لا عن أصل
المال رأسا، ولا عن ماليته، بل رفع اليد عن سلطنته بالنسبة إلى كون النخلة في هذه
الأرض، أي لابد إما من رفع اليد عن الخصوصية للمال لا من أصله، ولا من المالية،
أو من قصر سلطنة الشخص على حفظ عرضه، فإذا دار الامر بين السلطنتين
والمفروض إنه لا يعقل حفظهما، فيدور الامر قهرا بين رفع اليد عن أحدهما، إما من
سلطنة سمرة على هذا النحو من الخصوصية، أو من رفع اليد عن سلطنة الأنصاري
على حفظ عرضه، وإذا لا إشكال في أن حفظ العرض، أهم من حفظ سلطنة سمرة على
ماله بتلك الخصوصية، بل من أصل المال والمالية، ولذا يقال بتقدمه على المال، فيما إذا
دار الامر بين السلطنتين، العرض والمال، في صورة دوران الامر بين تفويت عرضه
وماله، بالنسبة إلى مكلف واحد شخصي، معللا بأن خير المال ما يحفظ به العرض والعيال،
فيقدم حينئذ أقوى المتزاحمين، وهو حق الأنصاري، على حفظ عرضه، المنوط بقلع
الشجرة، على الأضعف، وهو حق ذلك اللعين، من سلطنته على إبقاء نخلته في محلها،
ولذا يجب بذل الزاد على واجده عند المخمصة، ولو امتنع بيع عليه قهرا، فمع هذا
التزاحم وإقوائية سلطنة الأنصاري على حفظ عرضه، تزول سلطنة صاحب العذق،
على ابقائه في محله، فلا مشروعية للابقاء بعد التزاحم، ولازم عدم مشروعية سلطنة
اللعين على الابقاء، والدخول من غير استيذان، لا يكون له إضرار الأنصاري، واضراره
بالابقاء والدخول كذلك، بل يحرم ذلك عليه، فذكر لا ضرر في خصوص المورد، إنما
يكون من ذكر لازم عدم السلطنة للطرف، عند بقاء سلطنة الاخر على عرضه،
ومما يلزمه النفي عن الاضرار، لكن بتقريب عدم ثبوت المقتضى والمجوز له، لا بتقريب
إن نفيه من باب إثبات المقتضي للعدم، كما ذهب إليه بعض الأفاضل (ره)، فنحن
نسلم دلالة لا ضرر، المذكور في خصوص قضية سمرة، على النهي، لكن بالتقريب المتقدم،
وكيف كان لا يكون نفي الضرر علة لتقديم حق الأنصاري، بل هو معلول ولازم،
لتقدمه على حق اللعين بالأهمية، فلا يكون لا ضرر المذكور ناظرا إلى أدلة الاحكام،
ولا مذكورا للامتنان، وعليه فلا يلزم محذور، حتى نضطر ونلجأ في رفعه، إلى دعوى
إنه سياسي أو تعبدي، هذا في شأن الروايات الناقلة لقضية سمرة مع الرجل الأنصاري.
132

وأما في رواية قضاء النبي صلى الله عليه وآله بالشفعة، فبعد الغض عما قواه بعض المحققين، وهو
شيخ الشريعة (ره)، من إن لا ضرر ولا ضرار لم يكن موقع الصدور عنه صلى الله عليه وآله، متصلا
بالقضاء بالشفعة، فإنما صار كذلك بجمع عقبة بن خالد الأقضية العديدة، ونقلها جميعا
برواية واحدة، اشتبه الامر من تقطيعها، فظن إن هذا من تتمة القضاء بالشفعة، وقربناه
أيضا، فلنا أن نقول إن ذكر لا ضرر في قبال سلطنة المشتري على ما انتقل إليه، ليس
من قبيل العلة لحق الشفعة، كي يقال بأن الضرر الشخصي منتف في كثير من الموارد،
إذ ربما يكون المشترى من الشريك خير شريك، وممن به يحفظ شأن شريكه وماله
وعرضه، وربما يكون مماثلا للأول، فكيف يحكم بالشفعة مطلقا، لعلة غير مطردة، ولو
قيل إن الضرر الموجب، هو النوعي لا الشخصي، وهو منفي، ومصحح لجعل الشفعة،
فجوابه يظهر من ظاهر الخبر، وربما يتفصى عن الاشكال، بأن الضرر حكمة لجعل حق
الشفعة، لا علة، فلا يضر تخلفه في الجهة بعموم الحكم، واطراده، بل إنما يكون ذكره
في المقام، نظير ذكره في قضية ابن جندب، فإن لازم ثبوت الحق للشفيع، أن لا يلزم
البيع، ولا يجوز للشريك والمشتري منه، أن يضره بإبقاء اليد على خصوص ما انتقل
إليه، وعلى هذا أيضا لا يكون لا ضرر ناظرا إلى الاحكام، ولا يكون تطبيقه في المقام
مستلزما لخلاف الامتنان. ثم لا يخفى أن وقوع قاعدة لا ضرر فيما بين أحكام الشفعة، وتقدم
القضاء بها عليه، ووقوع ما يرجع إليه بعده، مما يؤيد كون تطبيقه على المورد، من
الرسول صلى الله عليه وآله، إذ يبعد غاية البعد أن يذكر القضاء بلا ضرر في أثناء حكم الشفعة،
مع أنه لم يكن صادرا كذلك، فيكون مثل عقبة بن خالد قد غفل وأدرج ما قضى به
في مقام، ضمن ما قضى به في موقع آخر، ومن الغريب غفلة المصر على إن لا ضرر لم
يكن متصلا بالشفعة عند الصدور، إن هذه قرينة على الاتصال، في هذه القضية،
فنحن وإن أيدناه فيما ذهب إليه، في إن قضية النبي صلى الله عليه وآله، بأسرها كانت مروية برواية
واحدة، بطريق عقبة، إلا إنا لا نساعده في عدم اتصال لا ضرر حين صدوره، بالقضاء
بالشفعة، فالظاهر أنه طبق على المورد، لكن التطبيق لا يدل على علية نفي الضرر لجعل
الشفعة، حتى يقال كيف ذلك، مع إن نفيه لجعل الحق، خلاف المنة على المشتري، فظهر
مما مر إن ذكر لا ضرر الواقع في ذيل الشفعة، ظاهر في تطبيقه على المورد، ويؤيد ذلك
133

ما في خبر عقبة، حيث قضى رسول الله صلى الله عليه وآله بالشفعة بين الشريكين، وقال لا ضرر
ولا ضرار، إلى أن قال وقضى صلى الله عليه وآله بالمنع عن فضل الماء، ثم قال لا ضرر ولا ضرار،
فلو سلم إن رواية الشفعة قطعة من رواية عقبة، لأقضية النبي صلى الله عليه وآله، التي كانت في
بيان أحكام متعددة، ومن جملتها لا ضرر ولا ضرار وإنه صلى الله عليه وآله، لم يطبقه على مورد
الشفعة وفضل الماء، أمكن أن يقال في رد منع التطبيق، بأنه يكفي حينئذ ذكر لا ضرر
مرة واحدة، ولا يحتاج إلى تكراره وذكره في موضوعين، مرة في ذيل منع فضل
الماء، وأخرى في طي الشفعة، فنكشف من التكرار عن إنه صلى الله عليه وآله، طبقه على كل
واحد من الموردين، فظهور الرواية في التطبيق، مما لا ينبغي أن ينكر، ولكن الكلام
في إن لا ضرر ظاهر في العلية لثبوت الشفعة، فيكون لسانه لسان التعليل، وإن كان
خاليا عما يفيد العلية من اللام وغيره، حتى يرد الاشكال السابق، وهو إنه مسوق في
مقام الامتنان والارفاق، فكيف ينفي السلطنة عن الغير، وهو خلاف الامتنان والارفاق؟
وبالجملة إن ذكره في المقام من باب بيان لازم حق الشفيع، وإن ضرره بتفويت حقه،
غير مشروع رأسا، وعليه فلا نظر له إلى إن الاحكام الضررية منفية، أو عدم الجعل
الموجب للضرر، منفي بجعل ما به ينتفي ذلك، حتى يرد الاشكال المتقدم، من عدم شمول
الحكم الامتناني موردا، حتى يلزم منه خلاف الامتنان، فكيف طبق اللاضرار على مورد
سلطنة المشتري، ولا يخفى إنه على تقدير عليته في المقام، يكون الامر فيه أوهن من
تطبيقه في قضية سمرة، فإن فيها كان اللاضرر منافيا لأصل سلطنته على ماله، وإبقائه
على حاله، بخلاف ما في المقام، فإن النفي بجعل الحق مناف لحصول الملك المطلق للمشتري،
من حين البيع، لا أنه يرفع اليد عنه بعد ما كان كذلك، كما في تلك القضية، فهذا
الخبر كأنه لا إشكال فيه من هذه الجهة، حتى على تقدير علية الضرر لجعل الحق ونفيه
بنفي منشائه، من عدم الجعل في المقام، إلا إنه لا مدفع عما يرد عليه، من بداهة عدم
لزوم الضرر في كثير من موارد تبدل الشريك اختيارا أو قهرا، وإذ لا ظهور لنفي
الضرر في المقام، في إن الحكم بالشفعة معلول له ومجعول، لكونه من لوازم نفي الضرر، بل كما يحتمل فيه هذا، يحتمل عكسه أيضا، فلا ورود لشئ من الاشكالين، ويمكن
أن يكون مساقه مساق لا ضرر المذكور في قضية سمرة، في إنه من لوازم عدم تشريع
134

السلطنة، وعدم المزاحمة للبايع، أو المشتري منه، ولا حكومة له أيضا، هذا حال ما في
رواية الشفعة، وأما في رواية النهي عن فضل الماء، وفضل الكلاء، من قوله صلى الله عليه وآله
لا ضرر إلى آخره، فيظهر أمره، بعد التنبيه على إن حفر الابار على أقسام، فتارة يحفر
لحيازة تمام مائه، وتارة يحفر لا بقصد حيازة تمام مائه، بل بمقدار حاجته منه، وتارة
لا يكون كذلك، ويكون خارجا عن كلا القسمين معا، بل يحفر البئر شخص آخر
ويسبله للناس، أو المسلمين، ولكن سبق إليه شخص، فلا يكون له حينئذ، إلا الاستحقاق
المحض، ففي الابار التي حفرت للإحسان ولانتفاع عامة الناس، وكذا ما حفر لرفع
الحاجة، لا لحيازة الجميع، وأخذ الحافر مقدار حاجته لو سبق إليها أحد، يصير أولى
من غيره في رفع حاجته، لأنه يصدق من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أحق به،
ولكن حقه بمقدار الاستقاء الرافع لحاجته، ولا يستحق تمام الماء، فإذا كان الماء زائدا
عن الحاجة في الصورتين الأخيرتين، فليس للسابق أن يمنع الاخر، ويصدق لا ضرر
ولا ضرار، ويحرم عليه تفويت حقه، نعم لو كان حفر البئر لحيازة تمام مائه، لكان حينئذ
مالكا لفضله أيضا، لكن فيه حق لنوع الناس، فيجوز لهم أن يشربوا من هذا الماء،
ويستعملون منه، ويملئون ظروفهم، المحتاج إليه، ومع ذلك للمالك حق المنع، غاية الامر
إنه لا يحتاج الناس في مقام الشرب والاستعمالات اللازمة، إلى تحصيل الاذن من
صاحبه، بل يجزيهم عدم إحراز منع المالك، ولا يلزمهم إحراز الاذن، إلا أن يفهموا
من القرائن الخارجية وشاهد الحال، عدم إذن المالك في التصرف فيه فحينئذ ليس لهم
التصرف فيه، وبالجملة فللغير سلطنة ضعيفة في هذا الفضل وحق له عليه، نظير حق الهرة
على السفرة، والفقراء على مال التجارة، أموال الصغار البالغة حد النصاب، ولذا يكره
للمالك أن يمنعهم، وإن كان جائزا على وجه الكراهة، لا التحريم، ونتيجة هذا عدم
الحق له على إضرار الطرف بلا حزازة وكراهة، ويكون ذكر لا ضرر إرشادا إلى
إنه ليس لمالك الماء إضرار غيره، خاليا عن الكراهة والحزازة، وعلى أي تقدير، فلا
ظهور له في المقام في العلية، بل حاله كحال ما ذكر في الأوليين، وبالجملة إن رواية منع
فضل الماء، ليست كرواية الشفعة على تقدير ظهورهما في علية لا ضرر، للحكمين فيهما،
فإن الضرر غير لازم في كثير من موارد تبدل الشريك، فكيف ينفي بإثبات حق الشفعة
135

مطلقا، سواء تضرر الشريك، بتبدل شريكه، أم لا، فمن هنا لو سلم الظهور في العلية، يلزم
منه الوقوع في حيص وبيص، من هذه الجهة، وربما يلتزم بأن النفي حكمة لجعل الشفعة
، لا علة، وأما لزومه على الدوام، وفي جميع أقسام الابار، على ما بين آنفا في مورد رواية
المنع، فواضح، فإن المنع عن الاستقاء والانتفاع بالآبار المسبل مائها، وكذا البئر المحفورة
لحيازة مقدار من مائها، يفي برفع حاجة الحافر، تفويت لحق الغير، ورفع لسلطنته على
الاستقاء لشرب نفسه، أو دوابه، وهذا ضرر عليه، فنفي الضرر ونهي عن المنع، فالنهي
في القسمين تحريمي، كما هو واضح، وأما المنع عن الشرب، واستعمال ماء القنوات، التي
أجريت لحيازة مائها بالتمام، فهو أيضا مفوت للحق المجعول لجميع الناس في المياه
والأراضي المتسعة، فإن الناس فيهما شرع سواء، بمقدار الشرب والانتفاعات الضرورية
عادة، ولهذا جرت السيرة على التصرف فيهما، حتى في صورة إحراز كونه للصغير، ولو
كان جوازه من باب إذن الفحوى، لامن جهة حق اللهي، لما استعملوا شيئا منها في هذه
الصورة، إلا في صورة عدم إحراز إذن الفحوى، غاية الامر ليس هذا الحق بمرتبة
من القوة، بحيث يعارض حق المالك ويزاحمه ويسقطه، فهو نظير حق الفقراء بمال
التجارة، وبالأموال الزكوية للصغار، وحق الهرة للسفرة، فمن جهة ثبوته وضعفه، صار
تفويته بالمنع مكروها، لأنه إضرار للغير بتضييع حقه الضعيف، فنفي الضرر اقتضى
النهي عن المنع، لكنه تنزيهي لا تحريمي، وبالجملة لو كان النفي في هذه الرواية علة للنهي
عن المنع، لما لزم ما يلزم في رواية الشفعة على العلية، إلا إن الكلام في ظهورها فيها،
وقد تقدم منعه، بل هذه الرواية أيضا مماثلة للروايتين المتقدمتين، في عدم الظهور في
علية لا ضرر، فبقى في المقام رواية أخرى، مضمون ذيلها إن الجدار الحائل بين الجدارين،
إذا سقط بهدم الجار إضرارا بحق الجار، يجب عليه بنائه، ويلزم على ذلك، وإلا فلا،
ولا بأس في المقام بيان أمور.
منها حفظ مال الغير وعرضه، لا يجب على الغير، وأما حفظ نفسه، فهو واجب، لما
دل على وجوب حفظ النفس المحترمة، ولهذا ربما يجب بذل الطعام، أو الماء، وغير
ذلك من مقدمات الحفظ.
ومنها إن تفويت حق الغير، وإتلاف ماله وعرضه، محرم كحرمة دمه، وهذان مسلمان في الفقه.
136

ومنها إن مقتضى قوله صلى الله عليه وآله (الناس مسلطون على أموالهم)، أن يجوز لكل مالك
أن يتصرف في ماله كيف ما شاء، وعلى أي نحو أراد، إلا أن تكون أفعاله التوليدية، مما
ينطبق عليه الاتلاف لمال الغير، أو عرضه، والاضرار به، فإنه لا يفيد ثبوت السلطنة،
حتى في هذه الصورة، فلو أراد شخص تحريك معوله، أو عصاه في الفضاء المباح، أو في
قرب جداره المملوك، بحيث يتولد منه انهدامه، لكن لا يلزم منه تفويت حق أحد،
أو إضراره، فله ذلك، وليس لاحد أن يمنعه، وأما لو تولد من هذا التحريك والتصرف
في ملك نفسه إضرارا للغير، وإتلاف عرضه، أو ماله، فليس له ذلك، وللآخر منعه، فلو
فعل. فعل حراما، وفوت على الغير حقه، وعرضه، وسلطنة ذي الحق على حفظه مقتضية
لجواز إلزام الهادم على إعادة المهدوم والبناء، هذا في صورة تفويت الجار حق جاره،
وأما في صورة انهدام الجدار بزلزلة أو غيرها، مما تعد بلية سماوية، فحقه في معرض
الفوت، ومفوت قهرا، فلا يجب على الجار حفظه بإعادة الجدار، وبالجملة يجب عليه ذلك،
في صورة التفويت، لأنه ليس له ذلك، وسلطنة الجار على حفظ العرض، مقتضية لجواز
الالزام بالإعادة في هذه الصورة، فوجه نفي الضرر في المقام بالالزام بالإعادة، نظير لنفيه
في قضية سمرة، فإن تصرف اللعين في الحائط، وتحريكه لاقدامه فيه إلى نخلته ذهابا
وإيابا، كان مما يتولد منه إضرار عرض الأنصاري، وتفويت حفظ عرضه، مع إنه لم
يكن له ذلك، بخلاف الأنصاري فإنه كان له حفظ عرضه، وهو لا يتحقق إلا بمنع سمرة
عن الدخول إلى عذقه رأسا، أو بقطعه وقطع يده عن ما ليته وشجرته، أو بقلعها
وقلع سلطنة اللعين على إبقاء نخلته في محلها، مع إمكان إبقاء شجرتها بالغرس في
مكان آخر، ولما كان الأخير أهون، فأمر الأنصاري به إعمالا لسلطنته على حفظ
عرضه، وردعا لذلك اللعين من ارتكاب ما لا يجوز له، فتحصل مما مر، إن مورد ذكر
لا ضرر، وتطبيقه في الروايات التي وصلت إلينا، منحصرة في صورة استلزام تصرف
شخص في ماله لتفويت عرض الغير، أو ماله، أو حقه الذي ليس لأحد مزاحمته، أو
حقه الذي يجوز ذلك فيه على كراهية، وإن شأن لا ضرر في هذه الموارد، من بيان
لوازم عدم تسلط التصرف على ماله، بنحو يتضرر به الغير ولا يلائم سلطنته التامة
على ماله وعرضه، فعدم مشروعية التصرف الكذائي، لقصور في قاعدة السلطنة، صار
137

سببا لنفي الضرر في الموارد، ولولا النفي لقلنا بعدم جواز تفويت مال الغير، أو حقه،
وبحرمتها أيضا بالتصرف المفوت في مال نفسه، فإنه لا سلطنة له عند كون إعمالها
عين المفوت والمتلف، أو مستلزما لهما، وأما سلطنة ذي الحق وصاحبه، فتامة، مقتضية
لمنع ما ينافيها، فلا يكون نفي الضرر علة لنفي سلطنة المضر، حتى يتوهم أنه لا ينتفي
الحكم، إلا رفاقي بالحكم الامتناني، وتحصل أيضا، إن لا ضرر في جميع هذه الموارد، مما
يلازمه النهي عن الاضرار، ولذا نشارك القول بأن لا ضرر لإفادة النهي، ناظر إلى
الاحكام، ولا حكومة له عليها، إلا أن الفارق بيننا، إن القائل بهذا، إنما يقول به، بدعوى
إن نفي الضرر في مقام بيان الحكم، قد جعل طريقا لاستكشاف النهي عنه، ونحن نقول
إن نفيه من لوازم انتفاء السلطنة على الاضرار، وعدم مشروعيتها، والنهي عن الضرر
إنما هو من لوزام سلطنة الاخر على ماله، من المال والحق والعرض، وعلى كل فلو كان
مدلول لا ضرر قاصر الشمول لغير أمثال موارده في الروايات المتقدمة بأن كان
منحصرا في نفيه عند انتفاء السلطنة وعدم مشروعيتها في مورد، يلزم من إعمالها
إتلاف، أو تفويت لمال الغير، فعليه لا يبقى لدعوى الحكومة أساس، وأما لو كان
مدلوله أعم من ذلك بأن يشمل الحكم الضرري أيضا، فيكون نفي الضرر عاما لما ينشأ
من قبل الشرع وأحكامه، ولما يورد على الغير بالتصرف في المال، فعليه يتصور حكومته
الدائرة على الألسنة، وبالجملة فهنا تصوران، الأول أن لا يكون للاضرر عموم به ينفي
منشائه من الاحكام الضررية، وإضرار البعض ببعض، مع عدم السلطنة عليه، ولازم
هذا، الاقتصار على موارده المذكورة في الاخبار، وعدم حكومته على شئ من
الاحكام، الثاني أن يعم غيرها، بأن يكون النفي لا بلحاظ عدم المقتضي للاضرار،
وعدم مشروعية سلطنة، يلزم من إعمالها تفويت مال الغير، أو عرضه فقط، بل مع
لحاظ إبداع المانع أيضا، في مورد لولا إبداعه لوجد الضرر، كموارد لزومه من
ثبوت الاحكام المجعولة في الشرع، كالوضوء الضرري وغيره، فالضرر المنفي عبارة
عن الأعم من إضرار مخلوق بمخلوق، من دون حق، ومن إضرار الخالق، بإثبات المنشأ
له من الحكم الضرري، وعلى هذا فيكون تطبيق لا ضرر على موارد انتفاء السلطنة في،
تطبيق العام على بعض أفراده، ويكون له حكومة على الاحكام، باعتبار فرده الاخر،
138

ويتم ما ذهب إليه جمع كثير، فحكومته عليها، دائرة مدار عدم قصور في دلالته على
نفي الضرر الأعم، مما ينتفي بانتفاء المقتضى، أو لوجود المانع، وبعد ثبوت العموم وجواز
التعدي عن موارد تطبيقه في الاخبار، يقع الكلام في إنه ناظر إلى الأحكام التكليفية
فقط، أو يعمها مع الوضعية الغير الارفاقية، أو معها مطلقا، وإلا فلا مجال لشئ من
المذكورات، هذا كله في مقام التصور وبيان لازم كل من التصورين، وأما في
مقام التصديق، فنقول على نحو الاجمال، إنه لا عموم للاضرر، فلا حكومة له، وأما
تفصيلا، فسيظهر بعد التكلم في موارد تطبيقات الأصحاب، فمن جملة موارده التي طبقوه
عليها، هي العبادات الضررية، كالصوم والوضوء الضرريين، وغير ذلك من العبادات،
حيث قالوا إن ما كان علة للضرر منها، يرفع وجوبه بلا ضرر، فيما إذا لم يكن في رفعه
خلاف الامتنان على هذا المكلف، ولا على غيره، أي يرفعه مشروطا بعدم استلزام
الرفع خلاف الامتنان على أحد، فإن القاعدة في مقام الامتنان، فلا يشمل مورد خلاف
الارفاق والامتنان، ولا يخفى إنها لو كانت حاكمة على أدلة الاحكام، وواردة في
مقام الامتنان، كما هو المتسالم عند كثير من الأصحاب، لكانت رافعة للالزام عن
العبادات الضررية، لان ما كان علة تامة للضرر، هو الالزام، وأما إثبات التحريم، فهو
خلاف الامتنان، فما كان جامعا بين كونها رافعة لعلة الضرر، وواردة في مقام الامتنان،
هو رفع الالزام فقط لا نفي الرجحان وإثبات المرجوحية، نظير حديث الرفع، فأنه
وارد في مقام المنة، لا يرفع ما كان في رفعة خلاف الامتنان، كرفع الشرطية مثلا عن
المعاملات، لأنه يستلزم الصحة ووجوب الوفاء بها، وهو خلاف الامتنان، وبالجملة
فينحصر مورد النفي حينئذ في نفي الالزام، فإنه على طبق الامتنان يعني إن الصوم
الضرري مثلا، الذي كان واجبا، يرتفع وجوبه بلا ضرر، لا أن بلا ضرر يثبت إلزام
آخر، ومن المعلوم إن رفع الالزام، لا ينافي بقاء الرجحان، فلا يستلزم رفع الالزام
رفع الرجحان والمطلوبية أيضا، حتى يصير مرجوحا، أو حراما، وهذا نظير ابتلاء الضد
بالأهم، حيث إن المهم باق على رجحانه في ظرف المزاحمة وتقديم الأهم، وبعبارة أخرى
لا ضرر يرفع مقدار، أو مرتبة من المطلوبية، وهي المرتبة الأكيدة والشديدة التي يعبر
عنها بالإرادة الفعلية، المستلزمة للالزام الفعلي، وأما سائر مراتبها، فيبقى على حالها، وبالجملة
139

حال القاعدة على تقدير حكومتها وامتنانيتها، كحديث الرفع، فإنه يرفع الوجوب،
لا الصحة، لان ما كان على طبق الامتنان، هو رفع الوجوب، لا الصحة، وإلا فيلزم عدم
صحة المعاملات الواقعة ممن كان مضطرا إلى بيع داره مثلا، للانفاق على أهله وعياله،
وأداء ديونه، فلا ترفع القاعدة حينئذ الالزام في العبادات الضررية، فما كان علة تامة
للضرر، هو الالزام لا الرجحان، ولازمه إنه إذا أقدم المكلف على العمل الضرري، فيقع
في الضرر عن اختياره، ولا يكون رجحانه علة لوقوعه في الضرر، وتظهر الثمرة
في مقام قصد القربة، فإن قلنا بعدم اعتبار القصد للامر الفعلي، وكفاية قصد الرجحان،
كما هو المختار عندنا، فيمكن أن يأتي بهذا العمل بداعي رجحانه، ولا يحتاج إلى القول
بإمكان الترتب، وعليه فلا يقتضي لا ضرر فساد العبادات الضررية، وحرمتها، لو أتى بها
بقصد الرجحان، ونظير ذلك عبادات الصبي، فإنه لو أتى بقصد الرجحان، صحت عباداته،
ولا يقتضي رفع القلم عنه، نفي الرجحان أيضا، بل المراد من رفع القلم، هو رفع الالزام،
لا الرجحان، ولذا لو صلى الصبي بعد دخول الوقت، ثم بلغ قبل انقضائه، لم يحتج إلى
الإعادة والآتيان ثانيا، بداعي الامر الفعلي، لكفاية قصد الرجحان في شرعية عباداته
المأتى بها، فبناء على ذلك لو كنا نحن ولا ضرر، بقطع النظر عن الأدلة الاخر، لم يكن
وجه للحكم بفساد العبادات الضررية المأتى بها في حال الضرر، وحيث إن بناء الأصحاب
على حرمة العبادات الضررية وفسادها، كالصوم والوضوء الضرريين مثلا، يمكن أن
نستكشف عن إن إطباقهم على الفساد، ليس إلا لدليل آخر غير لا ضرر، وهو أدلة تحريم
إضرار الانسان على نفسه، كما هو غيره، ويظهر من ذلك إن تطبيق الأصحاب هذه
القاعدة على العبادات الضررية، واقع في غير محله، وإنه من قبيل تكثير السواد، لا من
باب إثبات المطلوب بالدليل، نعم لو اعتبرنا في العبادات قصد الامر الفعلي، فلم يمكن
الحكم بصحة العبادات الضررية، بناء على حكومة القاعدة على أدلة الاحكام، لعدم
وجود الامر الفعلي فيها، ولكن قد عرفت عدم اعتبار ذلك، وكفاية إتيانها بداعي
رجحانها الذاتي، فصح أن يقال إن تمسكهم بالقاعدة في موارد العبادات الضررية، من
قبيل ذكر المناسبات بعد الوقوع، وتعليل الامر المسلم بما يوجب تقريبه، ولو في الجملة،
والحاصل إنه ليس حكمهم بالبطلان إلا من جهة الأخبار الخاصة، أو معاقد الاجماعات،
140

نعم لو كان لا ضرر منافيا للضرر، بقول مطلق، ولو كان منافيا للامتنان، يكون حينئذ
رافعا للرجحان أيضا، ولكن قد عرفت بما لا مزيد عليه، إنه ليس كذلك، بل لا ينفي
ولا يرفع، إلا الالزام، ويبقى الرجحان على حاله، فظهر إن تطبيق لا ضرر على العبادات
الضررية، فيما لا وجه له، وأن حكمهم بالبطلان في صورة العلم بالضررية دون الجهل، من
جهة دليل خاص، وليس مربوطا بلا ضرر، وربما يوجه كلامهم بأن الوجوب علة
تامة للضرر، في صورة العلم بترتب الضرر على العمل امتثالا، فإنه جالب للقدرة، وملزم
لصرفها فيه، فالضرر مستند إليه، فينفي بالقاعدة، وأما إذا لم يعلم بالترتب، فلا علية
للوجوب، بل الجهل علة للوقوع في الضرر، فلا استناد له إلى الحكم، فلا يشمل النفي،
فلهذا يصح العمل الضرري من الجاهل بترتبه عليه، وهذا التوجيه أيضا، لا يلائم
امتنانية القاعدة، فإن مقتضاه الالتزام بانتفاء الحكم الضرري، حتى بمباديه، عند العلم بترتب
الضرر على العمل، وقد عرفت إنه لا منة في نفي مبادي الامارة الفعلية، فيصح الوضوء
الضرري بقصد رجحانه، لا إنه فاسد، ولا وجه لصحته، فتحصل إن ما عليه التسالم،
من أن إطلاق القول بفساد العبادات الضررية، وضوء كانت أو غيره، بمقتضى قاعدة
لا ضرر، وتحكيمه على سائر الأدلة، مما لا وجه له، بل الاطلاق مناسب مع الاخذ بأدلة
تحريم الاضرار بالنفس، وتقديم جانب الحرمة على جهة الوجوب للأهمية، فإن
العبادات المحرمة فاسدة، سواء أتى بها بدعوة الامر، أو الرجحان، لعدم الامر بها، ولا
رجحان لها بعد التزاحم، بخلاف ما إذا نفى فعلية أمرها امتنانا، أو لغيره، فإن رجحانها
المصحح لقصد التقرب بها باق على هذا التقدير، ولذا قد يتمسك بإطلاق الأوامر في
إثبات شرعية عبادة الصبي، والجمع بينها وبين حديث رفع القلم، بأن الالزام مرفوع
عنه، لكن ظهور الأوامر في راجحية متعلقها باق بلا معارض، فيؤخذ به إثباتا
الرجحان، ويثبت به صحة عبادة الصبي والاجتزاء بها، فيما لو أتى بها في وقتها قبل
بلوغه بساعة مثلا، ونحن قد أيدنا هذا الوجه، بأنه لو قيل بانصراف الأوامر عن
الصبي، ومن لم يبلغ، لقلنا بعدم الشك في عدم انصرافها عمن يصير بالغا بعد مضي
ساعة، أو ساعتين، لعدم شمولها له قطعا، وكذلك الأقل من ساعة مندرج أيضا في
الخطابات، بعدم القول بالفصل، فتحصل إن وجه تفصيل الأصحاب بين العالم بضررية
141

العمل وبين الجاهل بها، والحكم بالصحة في الصورة الأولى، دون الثانية، هو تقديم
ما يدل على حرمة الاضرار المتحد مع العبادة الضررية، لأهمية ملاكها، فالمقام من قبيل
تزاحم ملاكي الوجوب والحرمة في شئ واحد، ومن قبيل اجتماع الأمر والنهي في
العبادة، فيقدم الأهم على غيره، عند تنجزه، كما في صورة العلم بضررية العمل وحرمة
الاضرار، فلذا يحكم بالبطلان، وأما في صورة عدم تنجز الحرمة، إما للجهل بها، أو
بالضرر، فلا مزاحم للوجوب، فيبقى على فعليته، ويصح إتيان العمل بدعوته، أو دعوة
رجحانه، كالصلاة في الدار المغصوبة، فإنها صحيحة عند الجهل بالغصب، أو حكمه،
حتى على تقدير منع الترتب، وحينئذ لا يبقى مجال لتطبيق قاعدة لا ضرر على الموارد، إلا
من باب المسامحة، ثم لا يخفى إن الحكم ببطلان العبادة، في صورة عدم كون العلم
بضررية العمل، مطابقا للواقع، مبني على سراية قبح التجري وحرمته إلى العمل المتجري
به، وقد تقرر في محله، إن المختار قبحه وحرمته، ويمكن أن يقال بالبطلان في هذه
الصورة، حتى على القول بعدم السراية، وبكاشفية التجري عن سوء السريرة فقط،
وبكونه مشتملا على القبح الفاعلي لا الفعلي، بتقريب إن المتجري عند إعمال سوء
سريرته، وإقدامه على ما ليس له عقلا وشرعا، يخرج من قابليته للتقرب بالعبادة، نظير
الكافر بالنسبة إلى عباداته، فلذا يبطل عمله، وإن كان تاما بحسب الاجزاء والشرائط
المعتبرة فيه، فإن قابلية العامل للتقرب بالعبادة، ليست من شروطها، كما لا يخفى، ومن
الموارد التي تمسك بقاعدة لا ضرر بعض من السلف، وكثير من الخلف، نفيا للحكم
الوضعي في المعاملات، مورد ظهور الغبن، أو العيب بعد المعاملة، ومورد تخلف الوصف
بالرؤية، وظهور فساد المبيع، وتخلف الشرط، وتبعض الصفقة، ففي هذه الموارد الستة،
يثبت الخيار، وربما يتمسك في وجه ثبوته فيها بلا ضرر، ويعبر عن الخيارات المضافة
إلى العناوين المذكورات، بالخيارات الضررية، ولا يخفى إن وجه تطبيق لا ضرر على
الموارد، إما لتوهم كون مساواة المثمن مع الثمن، وكذا خلو المبيع عن العيب، وكونه
على الوصف المرئي، وسالما غير فاسد، ومجتمعا غير متبعض، من قبيل الشرط في ضمن
العقد، فيكون الموجب للخيار في الجميع، هو تخلف الشرط، وإن الشرط الضمني موجب
لثبوت الحق للمشروط له، فيكون تفويته بعدم الوفاء به ضررا عليه، لو لم يكن له فسخ
142

المعاملة، التي أوقعته في معرض الضرر، فينفي اللزوم بقاعدة لا ضرر، لأنه منشأ للضرر،
لا الصحة، ويثبت له الخيار، فله الاقدام على الضرر بالامضاء، وله التفصي عنه بالفسخ،
فوجه التمسك بالقاعدة على هذا، هو كون تفويت الحق الثابت بالاشتراط الصريح، أو
الضمني في ضمن العقد، ضررا على المشتري مثلا، فينفي هذا اللزوم، ويحكم بالخيار، حتى
لا يكون الضرر من قبل حكم الشرع باللزوم في هذه الموارد، وإما لتوهم إنه لو كان
العقد عند ثبوت شئ، من المذكورات لازما، لازم تخلف الغرض الداعي إلى الاقدام
على المعاملة، فإن الصحة والسلامة من العيب، وكون المبيع على الوصف المشاهد، وعدم
التبعض، ومساواة العوضين قيمة، وإن لم يكن من الشروط الضمنية، ومما وقع القعد
مبنيا عليها، كما توهم، إلا إنها دواع إلى المعاملة، ومن أغراض المقدم عليها كالشرط
المذكور صريحا، فإنه أيضا مشارك معها ملاكا، فلو كان العقد لازما، لزم تخلف الداعي،
ونقض غرض المقدم على المعاوضة، وهذا ضرر عليه، فينفي بقاعدة لا ضرر، فله الفسخ
والامضاء، وإما لتخيل إن وقوع ثمن الصحيح في قبال الفاسد، أو المعيب، أو ذات
المشروط المنفك عن شرطه بالتخلف، مع إن له دخل في زيادة الثمن، كالوصف المشاهد،
وكذا وقوعه في قبال ما لا يوازيه بحسب السوق، كما في مورد الغبن، فعدم قدرة
صاحبه على الفسخ، وحفظ ماله عن الذهاب بلا عوض، ضرر عليه، فينفي بالقاعدة
منشائه، وهو اللزوم، فيحكم بمقتضاها بثبوت الخيار له، فلو أمضى المعاملة مع ضرريتها،
كان بإقدامه على الضرر عن عمد واختيار، لا بحكم من الشرع، فهذه وجوه ثلاثة
متصورة، لتصحيح تطبيق القاعدة على هذه الموارد بملاك واحد، ولا يخفى إن الأخير
لا يجري في بعض الموارد المتقدمة، مثل تبعض الصفقة، وخيار العيب، على تقدير عدم
كونهما موجبا لنقص القيمة، ثم لا يخفى إنه تخلف الداعي والغرض وإن أوجبا
أسفا وندامة في بعض الأشخاص، إلا إنه لا يكون ضررا في العرف، بداهة إنه
لو مشى أحد إلى الصحن الشريف، ليزور صديقه، أو إلى السوق ليقضي حاجته، ولم يحصل
له ما دعاه إلى الحركة، لا يعد متضررا، ولا يقال إن تخلف الداعي وعدم تحقق
الغرض ضرر عليه، سواء كان التخلف بأمر تكويني، أو تشريعي، فهذا الوجه وإن
كان مما يميل إليه العلامة الخراساني، إلا إنه لا وجه له ظاهرا، وأما الوجه الأول، فهو
143

ممنوع من جهتين، أحديهما إن كون المبيع على الأوصاف المذكورة شرطا ضمنيا،
أو من قبيله، بحيث يكون العقد مبينا عليها، وإرادة الانشاء منوطة بها، نظير الواجبات
المشروطة، دعوى بلا دليل، بل الوجدان حاكم بخلافه، فإنا نرى بالوجدان من أنفسنا،
إن إرادة الانشاء مطلقة، لا إناطة بها بعدم فساد المبيع، أو عدم عيبه مثلا، نعم إنما
توجد هذه الإرادة بعد الوثوق بالسلامة بواسطة أصل، أو إخبار البائع، أو غيره، فكونه
بهذه الأحوال، داع إلى اشترائه بالثمن الجعلي، لا إنه بمنزلة الشرط المبني عليه العقد،
والأخرى إنه لو سلمنا ذلك، فنقول لا دليل على إن الشرط مثبت للحق القابل للنقل
والاسقاط، فإن قوله عليه السلام (المؤمنون عند شروطهم)، وكذا دليل وجوب
الوفاء بالعقود، كالآية الشريفة، لا دلالة لهما على أزيد من وجوب الوفاء وجواز
الالزام به على تقدير الامتناع، وهذا حكم شرعي، لا أنه حق من الحقوق، فظهر أن
هذا الوجه أيضا غير وجيه، من وجهين، فبقى الوجه الثالث بالنسبة إلى بعض الموارد،
ولا يعم صورة لا يتفاوت بالعيب قيمة المعوض، ولا مورد تخلف الوصف، أو الشرط،
فيما لا يوجبا نقضا وتفاوتا في القيمة، بل يوجب عدم وصول المشروط له والموصوف
له إلى غرضه العقلائي، وملخص القول في وجه تطبيق الأصحاب هذه القاعدة على
موارد الخيارات، هو إنهم زعموا إن تمام الخيارات مرجعها إلى الشرط الضمني،
وموجب لاثبات حق للمتبايعين، وتخلفه يوجب تفويت الحق المزبور بالتقريبات
التي ذكرت، ومنها حصول تفويت الغرض، فإن كان الغرض من العقد تعلق بالمقيد
لا بنحو وحدة المطلوب، حتى يوجب تخلف القيد بطلان العقد رأسا، بل بنحو تعدد
المطلوب، ونقض الغرض ضرر، وبحيث إن الضرر ينشأ من لزوم العقد لا من صحته،
فيرتفع بالقاعدة، ولكن قد أشرنا إلى إن إرجاع موارد الخيارات إلى الشرط الضمني،
خلاف الوجدان، إذ من المعلوم إن الإرادة ليست منوطة بشئ بل هي مطلقة في ظرف
تعلق غرضه بشراء شئ من الأشياء المذكورة، غاية الامر يكون من قبيل تخلف
الداعي، ونقض الغرض، ومن المعلوم إن نقض الغرض لا يوجب ثبوت حق، حتى
يحصل الضرر بتفويته، وإلا يلزم أن الانسان إذا كان مقدما على معاملة بغرض
الربح وليحصل، فباعه بالمساوي، أو أنقص، إن يثبت له الخيار على هذا المبنى لتخلف
144

غرضه عما أراد، مع إنه لم يلتزم به أحد.
ثم لا يخفى إن فسخ العقد بالخيار، عبارة عن حل العقد من الحين ورفعه بقاء
لا حدوثا، فلو كان لا ضرر متكفلا لاثبات حق الخيار للمغبون، ومن ظهر له عيب في
ما انتقل إليه، باعتبار إن عدم التسلط على الفسخ، وبقاء العقد على حاله بالنسبة إليه، ضرر
لا ينتفي إلا بجعل الحق وتسليطه على الحل، ورفع العقد بقاء، لكان عاما لصورة
حدوث العيب، أو طرو الفساد، ونقصان القيمة السوقية بعد العقد بزمان قليل، أو
كثير وليعم موارد التضرر بالنكاح والطلاق حدوثا، أو بقاء، فإنه كثيرا ما يلزم منهما
الضرر المالي، أو العرضي على أحد الزوجين، أو كليهما، أما شموله لما ذكر، فلان بقاء
العقد وعدم انحلاله بالفسخ عند طرو العيب، أو الفساد، أو تنزل القيمة، مما يلزم منه
الضرر على المشتري، أو أحد المتناكحين، نظير صورة ثبوت الغبن، أو العيب، أو غيرهما
من حين العقد ووقوعه، فإن نفي الضرر لا يكون منحصرا في العيب السابق على العقد،
بل ناظر لبقاء العقد الواقع بطبعه، عند عدم تأثير الفسخ فيه، من غير ثبوت حق،
وتسلط على الفسخ شرعا، فيكون الصبر على المعيب بالعيب الحادث والسابق حينئذ
من واد واحد، وتكون القاعدة شاملة لنفي الضرر اللاحق، بجعل الخيار بعين ملاك
عمومها للسابق، واثباتها الخيار عند ظهوره، وعلى تقدير كونها عامة للموارد المتقدمة،
يلزم أن تخصص كثيرا، فإن من الواضح إنه لا يتمسك بها في نفي الضرر الحاصل
في المعاملة بالعيب اللاحق، والنقصان المتأخر عن العقد، كما لا يتمسك بها إثباتا للخيار،
لواحد من المتناكحين عند تضرره بالنكاح، أو الطلاق بأقسامه، فيدور الامر حينئذ
بين حمل لا ضرر على معنى يلزم منه التخصيص الأكثر، تصحيحا لوجه الخيار في
الموارد المزبورة، وبين حمله على معنى لا يلزمه ذلك، وهو كونه ناظرا إلى نفي الحكم
المجعول، الذي ينشأ منه الضرر، فلا يفيد ثبوت الخيار في مورد الغبن مثلا، ولا نفي
لزوم المعاملة الغبنية، فإنه أمر عادي يقتضيه حدوث العقد، لا أنه مجعول للشرع، حتى
تناله يد التشريع نفيا أو إثباتا، فالحق إن القاعدة لا انطباق لها على موارد الخيارات
الضررية المعروفة، وعلى تقدير انطباقها عليها كلا أو بعضا، لا تفيد الخيار القابل
للاسقاط والانتقال، فإن نفي اللزوم، أو وجوب الوفاء، حكم لا حق من الحقوق، وعذر
145

من طبقها عليها، أما عدم تصوره أن اللزوم من الأحكام الشرعية، ولا مساوقا لوجوب
الوفاء، أو تخيله إنها مدرك الاجماع، أو الشهرة على ثبوت الخيار، وكيف كان، فقد
ظهر حال تطبيقهم إياها على موارد التضرر بلزوم المعاملة، ثم إنهم طبقوها على موارد
تضرر الزوجة المفقود بعلها بعد الفحص عنه، والانتظار في السنين المعدودة، إثباتا
لحق تسلطها على الطلاق، أو الفسخ، بتقريب إن صبرها بلا زوج، ونفقة وكسوة من
دون اقتدارها على الخروج عن الزوجية للمفقود، أثره ضرر عليها، ولا ينتفي إلا
بتسلطها على الطلاق، فيحكم بثبوته بالقاعدة، ولا يخفى إن الاشكال المتقدم، من أن
القاعدة لو عمت، للزم الالتزام بالتخصيص الأكثر في المقام أيضا، ويختص
مورد الكلام هنا بإشكال آخر، وهو إن المقام لا يندرج في موارد القاعدة أصلا، حتى
تنطبق عليه، والوجه فيه إن القاعدة على تقدير الحكومة، غير شاملة لنفي الاحكام
الارفاقية، ومنها ثبوت حق الطلاق للزوج، ومن أخذ بالساق، فلا وجه لتطبيقها، حتى
بعد الغض عن لزوم تخصيص الأكثر، بل يتعين حملها على نفي الحكم، الذي ينشأ منه
الضرر، بعد دوران الامر بين حملها على المعنى العام، المستلزم للاستهجان، وبين حملها
على هذا المعنى الخاص، الخالي عن المحذور المذكور، ومن الموارد التي تمسك بعض
بالقاعدة بتوهم إن المقام من مقام تعارض الضررين، موارد تزاحم حق الجارين، أو
المالكين، ومن مثال الأول تأجيج النار، أو حفر البئر، أو البالوعة، في دار يتضرر به
جارها، ومن الثاني قطع الشجرة المغروسة في ملك الغير، بإذن صاحبه عند رجوعه عن
الاذن والرضا، وذبح الحيوان الذي أدخل رأسه في إناء لا يمكن إخراجه إلا
بالتقطيع، أو بكسر الاناء، وربما توهم إن لا ضرر جار بالنسبة إلى كل من الجارين،
أو المالكين، فيقع التعارض بين الضررين، ويقدم جانب الأهم، وخلاصة ما تقدم إن
كثيرا من الأصحاب يتمسكون بالقاعدة في باب تزاحم الحقوق في موارد عديدة،
منها ما في تنبيهات خيار الغبن والغصب، وكذا في موارد أخر أيضا، تعرضوا بذلك
وفرعوا عليه، بإنه لو حفر المالك بالوعة في داره، بحيث كان مضرا بدار جاره، أو جداره،
ففي هذا المقام يتعارض الضرران من الطرفين، فإن منع المالك عن الحفر، قصر لسلطنته،
وهو ضرر عليه، وعدم منع المالك عن الحفر ضرر على الجار، وبعد تعارض الضررين
146

وتساقطهما، يرجع إلى قاعدة السلطنة، لكونها سليمة عن المعارض، هذا ما ذهب إليه
بعض، وأما الآخرون، فذهبوا إلى قصر سلطنة المالك، بتقريب إن لا ضرر حاكم على
أدلة الاحكام والتكاليف، حتى على قاعدة السلطنة، ومثلها مما جعل إرفاقا، وكيف كان فهم
يسلمون انطباقها على المورد، غاية الامر يقدم بعض قاعدة السلطنة عليها، بتوهم حكومتها
حتى على مثلها أيضا، ويعارضها بالمثل بعض آخر، ولا يخفى إن حفر البئر، أو البالوعة
على أنحاء، فتارة يكون مضرا بالجار، بحيث يوجب نقصا في عين داره، أو جداره،
وتارة لا يكون مضرا بنفس الدار، ولا بجدارها، بل يوجب نقصا، أو رطوبة في جدار
الجار، ويكون مضرا بعالم المالية، بحيث يحصل بسبب ذلك نقص في القيمة، وتصير
القيمة أقل، ويوجب قلة رغبة الناس إليها، لان المالية والقيمة يدور مدار رغبة الناس،
وأخرى لا يكون كذلك، فلا يكون مضرا بأصل الدار، ولا بالجدار، حتى يصير مشرفا
على الانهدام، ولا بالمالية أيضا، بل يوجب نقصا في المنفعة، وهذا على نحوين، فتارة
تكون المنفعة الناقصة، ملحقة بالعدم، وأخرى لا تبلغ بهذه المرتبة من النقصان، فهذه
مقامات ثلاث، فتارة يضر بالعين، وتارة بالمالية، وأخرى بالمنفعة، والمقامات الثلاث مشتركة
في جهة الاضرار، ولا فرق في صدق أصل الضرر في الموارد الثلاث، فيلزم حينئذ على
مسلك من قال بحكومة لا ضرر، أن يقول بحكومته وجريان القاعدة في تمام هذه
الموارد الثلاث، حتى في صورة نقص المالية أيضا في ملك الغير، ولم يقل به أحد، مضافا
إلى إنه يلزم حينئذ منع الناس عن بيع أمتعتهم، بأنقص من قيمتها السوقية، إذا كان
سببا لتنزل سعر متاع الغير، كما إذا كان قيمة الحنطة، أو السمن، أو غير ذلك، منا
بدرهمين، فباعها المالك بأقل من تلك القيمة، لمحض اللجاج تنقيصا لقيمة متاع صاحبه،
لا لغرض عقلائي، أو ترحما على الفقراء، وصار هذا سببا لتنزل القيمة السوقية، وحصل
بسبب ذلك نقص في مالية مال الغير، فحينئذ يلزم أن يجوز الفتوى بممنوعية المالك
عن بيع ماله بأقل من قيمته، لكونه مضرا بمالية مال الغير، مع إنه لم يلتزم به أحد،
فلا مجال في القسم الأخير لتقديم لا ضرر، وبالجملة فمناط لا ضرر في كل من المقامات،
حاصل ومع ذلك يفكك بينها بالمنع في الصورتين الأوليين، وعدمه في الأخيرة، والنكتة
فيه هي إن قاعدة السلطنة منصرفة عن التصرفات الموجبة لتخريب مال الغير، والتصرف
147

فيه عينا، أو منفعة، وليس هذا الانصراف إلا لصدق عنوان التصرف في مال الغير،
وأما اتلاف مالية ملك الغير، فلا يكون محققا لصدق التصرف في ملك الغير، فسلطنة
المالك مقتضية لجواز الحفر وسائر التصرفات في هذه الصورة، وأما في الصورتين
الأوليين، فدليل السلطنة بذاته قاصر عن مثل ذلك الاتلاف، ونتيجة عدم السلطنة
ممنوعية الانسان عن التصرف في ماله، المستلزم للتصرف في مال الغير، فإن الناس مسلطون
على أموالهم لا على أموال غيرهم، والنكتة الفارقة بين المقامين في غاية الوضوح، ومن
العجب إن بعضهم جعل التعارض بين الضررين، وحكم بالتساقط والرجوع إلى قاعدة
السلطنة، في صورة التصرف المضر بالغير، وقد عرفت إنه لا مجال له، وفذلكة الكلام
ببيان
وضح وأوفى بالمقصود، هي إن التصرف في المال، تارة يكون على نحو يستلزم
التصرف في مال الغير، ويكون مصداقا له، كحركة آلة التخريب، بحيث ينصدم جدار
الغير، ويكون سببا لهدمه، فإن هذه الحركة ينتزع منها التصرف في مال الغير، فيكون
حراما، وقاعدة السلطنة قاصرة عن شمول هذا التصرف، لان نفس التصرف في هذه
الصورة كان حراما، وخارجا عن عموم قاعدة الناس مسلطون، فالحركة التي ينتزع منها
التصرف في ملك الغير وماله، ولو لم يصدق عليها عنوان الاتلاف، ولا عنوان التنقيص،
ولكن يصدق عليها التصرف في ملك الغير، فتكون محرمة، ولا تشمل قاعدة السلطنة
مثلها، فللغير أن يمنع عن هذا التصرف، وتارة لا يوجب تصرفا في ملك الغير، ولا يصدق
عليه التصرف في مال الغير، بل يوجب نقصا وتلفا في ملك الغير، ويكون علة لتلف
مال الغير عادة، مثل حفر البالوعة في ملكه، لغرض من الاغراض الصحيحة، بحيث
يوجب تخريب جدار الغير، وكونه منشأ لاحداث الرطوبة فيه، أو داره، فيحرم
أيضا هذا التصرف، إلا مع الجبران، لكن لا لكونه تصرفا في ملك الغير، ومصداقا له،
بل لانطباقها على عنوان الاتلاف، فحرمته من جهة الاتلاف لمال الغير، ولذلك الغير منع
الجار لو لم يجبر، وإن لم نقل بوجوب حفظ مال الغير فإنه لا إشكال في حرمة إتلاف
ماله، وأخرى لا يكون كذلك، فلا يصدق على تصرفه في ملك نفسه، تصرف في ملك
الغير، ولا إتلافا لماله، إلا بالمقدمات الغير العادية، والظاهر إنه جائز لا محذور فيه، وبالجملة
إن الصورة الثالثة التي كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتلف مال الغير، بحيث
148

يضاف التلف إليه ينقسم على قسمين،
حدهما أن لا يكون في هذا التصرف غرض،
سوى الاتلاف والاضرار، ولا ريب في إنه لا يجوز التصرف حينئذ من أول الامر،
وثانيهما أن يكون فيه غرض صحيح كما إنه لو لم يحفر البالوعة لخربت داره، فيحفرها
حفظا لماله، فهذا التصرف تصرف في ملكه حفظا لداره، ولا يصدق عليه التصرف في
ملك الغير بل تصرف في ملكه المؤدى إلى الضرر وحصول التلف والنقص في مال
الغير، إنما يجبر بأداء إرشه، فله الحفر وعليه الأرش في هذه الصورة، جمعا بين الحقين،
وحفظا للسلطنتين، فللمالك سلطنة على التصرف في ملكه، وللجار سلطنة على حفظ ماله
من التلف، فتتعارض السلطنتان، ويدور الامر بين رفع اليد عن أحديهما، فحفظا
للسلطنتين يحكم بجواز التصرف مع الجبران، فمقتضى قاعدة السلطنة جواز اتلاف مال
الغير بالجبران، فحينئذ لا يبقى مورد للضرر، حتى يكون حاكما على سلطنة المالك، هذا مضافا
إلى إن الاتلاف مع الجبران لا يصدق عليه الاتلاف، فكم فرق بين المقامين، ولا يختلط
أحدهما بالآخر، هذا في صورة كونه بحيث ينتزع منه التصرف في ملك الغير، وأما على
تقدير عدم صدق هذا العنوان، فإما أن يترتب عليه إتلاف مال الغير منفعة أو عينا،
ويكون هذا التصرف من أسبابه العاهية، فهل يصح حينئذ إسناد الاتلاف إلى المتصرف،
أم لا؟ لا ريب في جواز الثاني، حتى بناء على تحكيم لا ضرر على التصرف الاتلافي، فإنه
لا يعد منه عرفا، وأما الأول فمقتضى القاعدة جوازه أيضا، سواء كان التصرف
لحاجة أم لا، وسواء كان مما يترتب على تركه الضرر على مريد التصرف، أو عدم النفع،
أم لا، فإن المتيقن من الاجماع على حرمة إتلاف مال الغير، هو الاتلاف بالتصرف فيه،
لا بتصرف الشخص في مال نفسه، فإنه مسلط عليه، ولا تزاحم سلطنته لسلطنة الغير على
حفظ ماله، فإنها لا تقتضي منع الغير عن التصرف في مال نفسه، مع كونه ملزما بإعطاء
بدل ما أتلفه، فللغير أن يقدم على التصرف المتلف ويصير ضامنا لما أتلفه بمقتضى قاعدة
من أتلف، فالحكم بالضمان في المقام، ليس من جهة اقتضاء نفي الضرر لذلك، بعد جريانه
وحكومته على قاعدة السلطنة للمتصرف، فإن كلا من قاعدتي الضرر والسلطنة
معارضة بالمثل في مورد التصرف الاتلافي، مما يترتب على تركه الضرر المحتاج إليه، فإن
في فعله ضرر على الجار، وفي تركه ضرر على صاحب الدار، فيتعارض اللاضرران قبل
149

أن تحكم قاعدتها على إحدى السلطنتين، ثم تصل النوبة إلى قاعدتي السلطنة، ومقتضى
سلطنة المتضرر بترك التصرف على حفظ ماله، أن يكون مسلطا عليه شرعا، كما إن
مقتضى سلطنة الاخر على الحفظ، أن يكون مسلطا على المنع، فيلزم أن يصير التصرف
المتلف مسلطا عليه وممنوعا عنه، ولا يمكن ثبوتهما له في آن واحد، فتتعارض السلطنتان
أيضا، فلا يترتب على تسليم الحاكمية في المقام شئ، كما توهم، ولو أريد أن يفصل في
المقام، بأن لا يقال بجواز هذا القسم من التصرف، إلا عند الحاجة إليه دفعا للضرر
وجلبا للنفع والكمال، فلا بد حينئذ من التمسك بما روى في دعائم الاسلام، مما مضمونه
إن تخريب الجدار الحاجز بين الجارين، إن كان إضرارا على الجار، لا لحاجة، فلا يجوز،
ويكلف الهادم ببناء الجدار، وإلا فلا، ولو تم الخبر سندا ودلالة، يكون دليلا على
التفصيل تعبدا، وإلا فمقتضى القاعدة الجواز والضمان مطلقا، ومن موارد تطبيق
قاعدة لا ضرر، كون الغرس لشخص والأرض لاخر، ولا يخفى إن الغرس في أرض
الغير، إما أن يكون بحق، أو برضاء المالك وإذنه، أو لا يكون بشئ منهما، فالأول مثل
ما يغرس في الأرض المشتراة في زمن الخيار، أو بعد انقضائه وقبل الإقالة مثلا، فإنه
يجوز للمشتري أن يتصرف فيما صار إليه، لأنه ملكه، والثاني واضح، وأما الثالث فهو
على نحوين، أو ثلاثة، فإنه ربما يكون صاحب الغرس غاصبا في غرس شجرته في أرض
الغير، من دون حق شرعي، واذن من مالك الأرض، وربما ينعكس الامر فيغصب
صاحب الأرض شجرة، فيغرسها في أرضه، وثالثة يصير الثالث غاصبا للأرض من
واحد، وللغرس من الاخر، وعلى كل فعند عدم رضاء مالك الأرض ببقاء الغرس فيها،
يصير أحد الحقين في معرض التلف، ضرورة إنه لو كان صاحب الغرس مسلطا على
إبقاء المغروس على شجريته، المستلزم لابقائه في مغرسه، لزم أن لا يكون مالك الأرض
مسلطا على التصرف في محل الغرس، بقلع الشجرة وصيرورتها خشبة لا ينتفع بها على
النحو السابق، ولو انعكس الامر، انعكس التالي، وإذ لا يمكن أن يكون الابقاء
كالقلع، مسلطا عليه من مالكي الغرس والأرض، فتسقط السلطنة عنهما، كما في صورة
ما إذا أراد مالك الغرس قلعه، ورده مالك الأرض، ولم يرض بالتصرف فيها، فإنه لا يمكن
أن يكون القطع من المالك مسلطا عليه وممنوعا عنه، فتسقط السلطنتان أيضا، فلو قلع
150

الغرس مالك الأرض في الفرض الأول، يجب عليه الأرش بقاعدة الاتلاف، بخلاف
قلعه في الفرض الثاني، وأما لو قطعه مالكه، فعليه طم الحفر على التقديرين، هذا فيما
إذا لم يكن أحدهما حين الغرس غاصبا، وإلا فلا إرش على تقدير غاصبية صاحب
الغرس كما إنه لا يجب الطم، على تقدير كون مالك الأرض غاصبا، فإنه ليس لعرق الظالم
حرمة، فتلخص إن مالك الشجرة غير مسلط على إبقائها في ملك الغير بدون رضاه،
لكنه مسلط على قلعها، وليس صاحب الأرض مسلطا على المنع عن القلع، كما إنه
مسلط على تخلية أرضه منها، فكل من المالكين إذا أعمل سلطنته، يضمن ما أتلفه على
الغير، فلو قلع الشجرة مالكها، فعليه طم الحفر، لأنه أتلف الهيئة الحاصلة من تساوى
السطوح، ولو قلعها صاحب الأرض، فعليه تفاوت ما بين الشجرية والخشبية، كل ذلك
لقاعدة الاتلاف، واحترام مال المؤمن عند عدم غاصبيته، وأما لو كان مالك الأرض
غاصبا للغرس، ثم قلعه صاحبه، أو كان الامر على العكس، فلا ضمان على الحافر في
الأول، وعلى القاطع في الثاني، لكون الغاصب مأخوذا بأشق الأحوال، ولأنه ليس
لعرق الظالم حق، فقد تبين إن الحكم بالضمان على مالك الغرس، أو الأرض، وبعدمه في
صورة كون المتلف منهما غاصبا، موافق للقاعدة، ولا احتياج في إثباته إلى دعوى
حكومة لا ضرر، وتعارض السلطنتين، ثم لا يخفى إن الأقوال في الفرع كثيرة،
منها القول بأن مالك الشجرة مسلط على الابقاء بأجرة، ومنها الفرق بين الشجرة
والزرع، فيجوز إبقاء الزرع وماله أمد محدود، بلا أجرة وضمان، نظرا إلى أن الاذن
في الشئ إذن في لوازمه، ويمنع عن إبقاء مثل الشجر، والتحقيق ما عرفته من تسلط
كل على القلع، بمقتضى قاعدة السلطنة، ومن ضمان أحد المالكين في بعض الصور، ومن
موارد التطبيق مسألة البقرة والخمرة، وهذه المسألة لها صور عديدة، فتارة يدخل البقر
رأسه في خمرة الغير، من دون أن يكون لصاحب الخمرة، ولا لصاحب البقر تقصير
وتعدي على الاخر، وتارة يكون لتقصير منهما أو من أحدهما، فيدخل صاحب
البقر رأس البقر في خمرة الاخر، أو يدخل صاحب الخمرة، الخمرة على رأس البقر
، وعلى كل تقدير، فتارة تكون قيمة كل منها مساوية مع قيمة الاخر، وأخرى
لا تكون كذلك، بل تكونان مختلفتين، وعلى جميع التقادير، فتارة يمكن ذبح البقر
151

على هذه الحالة، أي يمكن فرى الأوداج الأربعة على النحو المقرر شرعا، وتارة
لا يمكن ذلك، فهذه صور المسألة في المقام، والصورة الواضحة منها هي أن يدخل البقر
بنفسه رأسه في خمرة الغير، من دون تقصير من المالكين، وتكون قيمة كل منهما مساوية
مع قيمة الاخر، مع إمكان الذبح الشرعي، فإن هذه الصورة حاوية لجميع القيود،
ولا إشكال حينئذ في أن كلا من المالين، شاغل لملك الاخر، فالخمرة شاغلة لرأس البقر،
كما إن رأس البقر شاغل للخمرة، ولا إشكال أيضا في عدم سلطنة كل منهما على إبقاء
ماله في ملك الاخر، وكذا لا سلطنة لكل منهما على إبقاء مال الغير في ملكه، فلا
سلطان لأحدهما، لا على إشغال ملك الغير، ولا على إبقاء مال الغير في ملكه، فلا حق لكل
منهما، لا على الابقاء، ولا على الاشغال، بل لكل منهما سلطنة على تخلية ماله وتفريغه
عن ملك الغير، فلهما التصرف في مالهما بأنحاء التصرفات، إلا التصرف على هذا النحو من
الخصوصية، فلصاحب البقر سلطان على التصرف في ماله على تمام أنحائه إلا على إبقاء
رأس البقرة في خمرة الغير، الذي ينتزع منه التصرف في ملك الغير، فإبقاء البقر حيا
عن إبقاء ماله في ملك الغير، الذي ينتزع منه التصرف في ملك الغير، فلا سلطان
لصاحب البقر على هذا النحو من الابقاء، فلصاحب الخمرة تفريغ ماله ولو كان مؤديا
لموت البقرة، غاية الامر إن عليه إعطاء الأرش بين قيمة اللحم، وقيمة البقر حيا، لو كان
التفريغ منوطا بإعدام الحيات، فله التفريغ، وعليه التفاوت، ولا سلطنة لذاك الطرف
بقول مطلق، حتى يكون تصرف هذا الطرف حراما وممنوعا، فتحصل إن التحقيق
إن لكل منهما سلطنة على تفريغ ماله عن ملك الغير، سواء كانت القيمتان متساويتين،
أو مختلفتين، غاية الامر إن مقتضى حفظ مال كل منهما واحترامه عند عدم التقصير،
هو إعطاء الأرش من أحد الطرفين، وأما لو كان غاصبا، فمقتضى عدم حرمة عرق
الظالم، وإن الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال، جواز التفريغ الغاصب من دون أداء
الأرش والجبران، فتلخص إنه لو لم يكن مالك البقرة غاصبا وسببا لادخال رأسها
في خمرة الغير، ولا صاحب الخمرة، فهو مسلط على تخليصها بكسر الظرف، وإعطاء
ما بين صحيحه ومكسوره، كما إن الاخر مسلط على تفريغ ظرفه بذبح الحيوان،
واعطاء التفاوت بين اللحم والحيوان، وأما لو ورد التلف على مال الغاصب منهما
152

على ضمان التفاوت، هذا إذا أمكن الذبح الشرعي، وأما إذا لم يمكن ذلك، إما لدخول
موضع الذبح في الظرف أيضا، مع قابلية الحيوان له، وإما لعدم قابليته لذلك، كالعبد،
فلا يخفى إن مالك الظرف ليس مسلطا على إعدام الحيوان وإتلافه، ولو كان ظرفه أعلى
قيمة منه بمراتب، فإن حرمة النفس المحترمة، تمنعه عن القتل وإعدام الحيات، وتقصر
سلطنته على تفريغ ماله، فتبقى له السلطنة على كسر ماله بنفسه، وعليه فليس له تضمين
الغير، نعم لو وقع منه الكسر بأمر المالك للحيوان، فله ذلك، وأما لو وقع منه الكسر
بأمر مالك الحيوان، فله ذلك، وأما لو وقع منه لا بالامر، ولا إحسانا عليه، بل ترحما على
الحيوان، أو إطاعة لله تعالى في أمره بحفظ النفس المحترمة، فليس له تضمين الغير، نعم إذا
وقع إحسانا عليه، أمكن أن يقال به بدعوى أن معنى نفي السبيل على المحسن، إنه
لا يذهب عمله، أو ماله بلا عوض ومجانا، والعهدة على مدعيها، وأما مالك الحيوان،
فهو مسلط على الكسر إخراجا لرأس الحيوان، وحفظا للنفس المحترمة، غاية الامر
لو ارتكبه فعليه الضمان، وأما لو ارتكبه الحيوان والعبد، من دون تقصير من المالك،
فلا يرد عليه وعلى غيره ضمان، على تقدير وقوع الكسر من مثل البقرة، وأما على تقدير
وقوعه من العبد نفسه، فالضمان على رقبته يتبعه بعد العتق، هذا كله إذا لم يكن مالك
الظرف سببا في وقوع الرأس فيه، وإلا فليس له شئ بدلا عن ماله التالف بالكسر،
ومن موارد تطبيق القاعدة الأحكام التكليفية الضررية، ولا يخفى إنه لو كان لا ضرر
حاكما عليها، كما يقولون، لما كان إيجاد مقدمات الواجبات التعبدية، كالحج والصلاة، أو
التوصلية نظير الإزالة عن المسجد، أو إنقاذ الغريق، واجبا عند كونه ضرريا، بحسب
المال، كما إذا لا يمكن إيجادها إلا باعطاء مال وافر بإزاء ما لا يساوي المحتاج إليه،
فوجوب اشتراء لوازم السفر في الحج، أو ماء الوضوء مثلا بأعلى من قيمتها ضرري،
ينفيه اللاضرر، وكذا لم يبق وجوب لعمل يلزمه النقص المالي، ولجرت القاعدة في
النكاح والطلاق أيضا، وفي مورد يلزم من تصرف إنسان في ماله ضرر على الغير،
باعتبار نقص يرد على مالية ماله، لا على العين والمنفعة، مع إنك ترى الأصحاب لا يحكمون
بعدم الوجوب، ما لم يبلغ الضرر حد الاجحاف، ولا يجوزوا إجرائها في النكاح والطلاق،
وليس هذا إلا لعدم فهمهم العموم والحكومة، من نفي الضرر، وإلا لحكموا بالعدم
153

مطلقا في جميع الموارد، وإنما اعتبروا بلوغ الضرر إلى حد الاجحاف في نفي الوجوب،
نظرا إلى اعتبار تحقق الحرج المنفي بالآية الشريفة، فالتمسك في هذه الموارد إنما تكون
بقاعدة الحرج لا بنفي الضرر، ولو قيل بأن لا ضرر يعم الجميع، ولولا المخصص لقلنا
بعدم وجوب العمل الذي يترتب عليه الضرر المالي اليسير أيضا، فهو كما ترى مستلزم
للالتزام بان القاعدة قد صارت لكثرة التخصيص موهونة يحتاج العمل بها إلى جبرها
بعمل الأصحاب ولست ادرى ما الداعي إلى دعوى العموم والحكومة ثم الالتزام
بالموهونية لكثرة التخصيص إلى ما شاء الله والاعتراف باحتياج الاخذ بها إلى جبر
عمل الأصحاب مع أن موارد تطبيقها مع ما عرفت ان مدلول لا ضرر هو حرمة
التصرف في مال الغير من دون سلطنة شرعية عليه، واما عدم وجوب ما يترتب
عليه الضرر البدني فهو لحرمة الاضرار بالنفس ولذا قلنا بان عبادة من يتضرر بها
باطلة عند العلم بالحرمة أو الجهل بها تقصيرا واما عند انتفائهما وعدم تنجزها فهي
صحيحة وليس هذا إلا من جهة ان سقوط الوجوب عن الفعلية دائر مدار تنجز
تلك الحرمة فإذا لم تتنجز لكانت العبادة واجبة بالفعل نظير الصلاة في الدار المغصوبة
عند الجهل بالغصبية فانتفاء الوجوب عن المضر البدني المسلم عند الأصحاب لا استناد
له أيضا إلى قاعدة لا ضرر كما قيل، فخلاصة الكلام وفذلكة المرام ان موارد لا ضرر
في الاخبار منحصرة في صورة تزاحم الحقين على ما عرفت ومفاده بلحاظ ذكره
وتطبيقه في تلك الموارد حرمة التصرف الذي هو عين التصرف في مال الغير أو التضييع
لحقه نظير مورد الشفعة أو الهتك والاتلاف لعرضه وقد تقدم ان التصرف الكذائي
لا سلطنة عليه لعدم مشموليته لقاعدتها فذكر لا ضرر في موارده في الاخبار متفرع
على فقد السلطنة وانما يكون من قبيل ذكر لوازم انتفائها لا أنه ناظر إلى الاحكام
وحاكم عليها بالأسر حتى الاحكام الارفاقية الامتنانية فإنه قاصر على اثبات الحرمة
وافادتها بل نتيجته تحكيمها على مثل قاعدة السلطنة هي نفيها ورفعها وحيث انه
لا يستفاد من تطبيقها على مورد التزاحم العموم والحكومة على ما ادعى فلا وجه
للتعدي عن نظائر الموارد، والقول بجريانها في كل مورد يكون الحكم التكليفي أو
الوضعي ضرريا ومنشأ للضرر وقد ظهر ان أكثر موارد تطبيقات القوم أيضا مورد
154

تزاحم الحقوق فحكموا بعدم جواز تصرف الانسان في ماله بما لا ينفك عن التصرف
في مال الغير أو اتلافه عينا أو منفعة فأصابوا في الاقتصار على مورد التزاحم لكن
تسامحوا في التعليل والاستدلال وقالوا بان ذلك مقتضى قاعدة لا ضرر وحكومتها
على قاعدة السلطنة مع أنه قد مر غير مرة ان السلطنة قاصرة بنفسها لا انها محكومة
بلا ضرر فلولا قاعدة الضرر لقلنا بعدم السلطنة على التصرف الكذائي أيضا. نعم قد
تعدي بعض بتطبيقها على المعاملات الضررية بتخيل ان اللزوم حكم شرعي وان
لنفي الضرر عموم يشمل كل حكم شرعي ينشأ منه الضرر وان معنى نفي اللزوم اثبات
الخيار القابل للاسقاط، وقد عرفت سابقا ان اللزوم من الآثار العادية لطبع العقد
فان مقتضى ذاته البقاء والاستمرار فارتفاعه وانحلاله محتاج إلى مؤنة ودليل، وانه
لا عموم له كذلك وإلا لزم أن يكون كل حكم تكليفي أو وضعي ينشأ منه الضرر
ولو كان قليلا منتفيا فلا يجب تهيئة لوازم سفر الحج للمستطيع عند عدم امكان
تحصيلها إلا بأزيد من قيمتها ولا يكون شرب الخمر أو اكل مال اليتيم عند الايعاد
بأخذ مال من التارك حراما ولا يكون النكاح أو الطلاق أو غيرهما من المعاملات
المعاوضية وغيرها لازما عند تضرر أحد الطرفين باللزوم ولو بالضرر العرضي أو
المالي اليسير ولا ريب في أن الالتزام بهذا مشكل كما أن القول بالتخصيص الأكثر
أشكل لا يقال انها قد حكمت في موارد الضرر البدني على الاحكام، فإنه يقال ان ذلك
ممنوع أيضا فان عدم وجوب العبادة الضررية مثلا انما هو من جهة تنجز حرمة
الاضرار بالنفس ولهذا يحكم بصحتها من الجاهل القاصر دون المقصر أو العالم، هذا
مضافا إلى أنه لو سلم ان اللزوم من الأحكام الشرعية فنفي لزوم المعاملة أيضا حكم
شرعي وليس من سنخ الخيار والحق القابل للنقل والاسقاط. ثم إن الأصحاب
فرقوا بين اقدام المكلف على المعاملة الضررية وبين اقدامه على سبب الجنابة الموجب
للغسل الضرري فالتزموا بعدم جريان القاعدة في الصورة الأولى وحكموا بجريانها في
الصورة الثانية وقالوا بعدم وجوب الغسل الضرري في حقه مع أن الظاهر أنها من
واد واحد ولذا وقع جمع من المتأخرين في حيص وبيص وصاروا بصدد بيان
الفارق بوجوه أحسنها ان مبادلة ما يساوي بعشرة بنصفها ضررية كان في البين لزوم
155

أم لم يكن فالاقدام عليها مع الالتفات والعلم به اقدام على الضرر فهذا العنوان
متحقق حتى على تقدير عدم الحكم باللزوم، واما صدقه في الفرض الآخر فهو
متوقف على ثبوت وجوب الغسل الضرري وهذا متوقف على صدق الاقدام على
الضرر حتى لا تجري قاعدة النفي فيتوقف تحقق الاقدام على الاقدام وهذا موجب
للدور فحيث لا يكون المجنب مقدما فتجري القاعدة في حقه وبالجملة لو سلم عموم
القاعدة وحكومتها على جميع الأحكام التكليفية والوضعية الارفاقية وغيرها، وقيل
بنفيها لمنشأ الضرر المالي والبدني وسلم ان اللزوم حكم شرعي نظير سائر الوضعيات
على ما هو المشهور وان القاعدة لا تنفي الحكم عن المقدم على الضرر فحينئذ يسئل عن
وجه الفرق بين المقدم على المعاملة الضررية وبين المقدم على سبب الغسل الضرري
فان من المسلم عدم جريان القاعدة اثبات للخيار ونفيا للزوم المعاملة في حق المقدم
عليها مع العلم بضرريتها وجريانها في حق المقدم الثاني نفيا لوجوب الغسل عليه مع أن
الظاهر أن الاقدام حاصل في الفرضين معا ولو كان المقدم للضرر غير مشمول
للقاعدة لما جرت في حق المقدم الثاني أيضا، وقد يجاب عن ذلك على ما ذهب إليه
المحقق الخراساني بصدق عنوان الاقدام على الضرر في مورد العلم بضررية المعاملة
من دون توقفه على عدم لزومها وبعدم صدقه كذلك على من يختار سبب الجنابة
مع علمه بضررية الغسل فان اختياره لموجب الجنابة اقدام على الضرر على تقدير
وجوب الغسل عليه وهذا موقوف على كون عمله اقداما على الضرر فيلزم الدور
من صدق الاقدام والمستلزم للمحال محال فليس هنا اقدام على الضرر فالقاعدة تنفي
وجوب الغسل، ويظهر ما في الجواب المسلم عند جمع بعد بيان مقدمتين، إحديهما ان
القاعدة حيث تجري في نفي اللزوم كما في صورة الجهل بالعيب أو الغبن انما تنفي
الضرر بقاء لا حدوثا فإنها على المشهور تثبت الخيار للمغبون مثلا ولا ريب في أن
الفسخ بالخيار أو الامضاء حل وامضاء للعقد من حين الفسخ والامضاء لامن حين العقد
فالقاعدة تفيد الحق الذي من شأنه السلطنة على الفسخ ونفي الضرر من حينه لا نفي حدوثه
الثانية ان القاعدة تنفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر في مورد قابل للامتنان فلا تنفي
الصحة على المعاملة على المعيب جهلا كما انها لا تنفي اللزوم أيضا عن تلك المعاملة
156

بالنسبة إلى العالم بالمعيب الممضى لما أوقعه بجهله إذا تمهدتا. فنقول ان من كان عالما بالعيب بدوا
فأقدم على المعاملة بانيا على أن يفسخها بالخيار الذي يجعل له بنفي لزومها بالقاعدة فهو
نظير المقدم على سبب الجنابة حرفا بحرف فان عد عمله من الاقدام على الضرر البقائي
القابل للانتفاء بالقاعدة تتوقف على لزوم معاملته ولزومها متوقف على كون المعاملة
من الاقدام على الضرر البقائي فان الاقدام على الحدوثي منه الحاصل بالمعاملة الصحيحة
لا يوجب ثبوت الخيار أو سقوطه بالنسبة إلى ما تعلق به النفي في القاعدة فيتوقف الاقدام
على الضرر القابل للانتفاء بالنفي وهو البقائي على الاقدام على ذلك فالدور الحاصل
في تلك المسألة حاصل في هذه أيضا، فتحصل ان هذا الفرق مع الالتزام بمجعولية
اللزوم وحكومة لا ضرر عليه وعلى الأحكام التكليفية غير فارق، نعم لو قيل بان
اللزوم من الآثار العادية للعقد فحينئذ يكون المقدم العالم بالضررية مقدما على الضرر
حدوثا وبقاء وليس له الفسخ لكن لا لانصراف اللاضرر عنه بل لتعمده على اعمال
سلطنته في تبديل ماله بما لا يساويه. فالأولى ان يقال انه لا عموم ولا حكومة لنفي
الضرر وانما حكم بالخيار في موارد مخصوصة وبعدم التكليف في بعض المواقع أيضا
بأدلة خاصة من اجماع أو شهرة عظيمة أو آية أو رواية حتى لا يلزم المحذور من كل
جانب فتحصل ان لا ضرر ناظر إلى نفي بقائه لا حدوثه فإنه حادث بانعقاد المعاملة
وصحتها وبالفسخ على تقدير الخيار لا ينحل العقد إلا من حين الفسخ لا من حين
الانعقاد وان الاقدام من العالم بالضررية اقدام على الضرر الذي لا ينفيه اللاضرر وهو
الحدوثي منه لا على البقائي إلا على تقدير الحكم بلزوم المعاملة شرعا هذا حال ما قيل
فارقا بين موردي الاقدام على المعاملة الضررية وبين الاقدام على موجب الجنابة عند
العلم بضررية الغسل في حقه. وقد ظهر ان الفارق الذي أبدوه في ما بين صورتي
الاقدام على المعاملة الضررية وبين الاقدام على موجب الجنابة إذا كان الغسل ضرريا
من صدق الاقدام على الضرر مطلقا في الصورة الأولى وتوقفه على وجوب الغسل
في الصورة الثانية ليس على ما ينبغي، فان تسليم كون اللزوم حكما شرعيا يقتضي القول
بتماثل الفرعين فان صدق الاقدام على الضرر الذي ينتفي باللاضرر وهو البقائي منه
موقوف على ثبوت اللزوم وهو موقوف على عدم جريان لا ضرر لصدق الاقدام
157

فيلزم الدور المقرر في الفرض الآخر، نعم لو قيل بان اللزوم امر عادى للمعاملة
ويكون من مقتضيات العقد أو اطلاقه كما هو المختار فعلية لا يتوجه المنع عن الفرق
إلا أنه يمنع أن يكون اللزوم وعدم الخيار مستندا إلى انصراف قاعدة لا ضرر عن
المقدم عليه، هذا مضافا إلى أنه يمكن ان يقال ان عدم الاخذ بوجوب الغسل إذا كان
ضرريا على المقدم على الجنابة ليس من باب تحكيم لا ضرر على الوجوب بل من جهة
أخرى تظهر بعد تمهيد مقدمتين، إحديهما ان المقتضى التعليقي للشئ حكما كان أو غيره
لا يزاحم المقتضى التنجيزي. مثلا ما يقتضى وجوب حجة الاسلام لا يزاحم المقتضى
لوجوب الوفاء بالنذر فان الأول مقتضى له على تقدير الاستطاعة الشرعية والثاني
مقتضى له مطلقا وللفرض أمثال ونظائر ذكروها في الفقه فإذا نذر الحضور بمشهد
الحسين (ع) في كل عرفة فلا يؤثر مقتضى وجوب الحج في وجوبه عند حصول
الاستطاعة المالية لان تأثيره في ذلك منوط بفقدان المقتضى التنجيزي لوجوب ضده
فلا تصل النوبة إليه في رتبة ثبوته وان شئت فعبر بأنه لو قدم دليل المقتضى التنجيزي
فيكون عدم الاخذ بالتعليقي من باب التخصص ولو اخذ بالتعليقي يلزم التخصيص
في الأول ولا شك في أنه إذا أراد الامر بين التخصيص والتخصص فالأخير أولى.
ثانيتهما ان مقتضى وجوب الغسل على الجنب تنجيزي لا إناطة له بشئ بخلاف المقتضى
لنفي الضرر فان اقتضائه لذلك منوط بعدم اقدام المكلف عليه إذ لا يكون المقدم
موردا للامتنان والنفي مسوق في مورده فلا يعم المقدم بل المنة تقتضي النفي إذا لم
يقدم على الضرر عمدا وبعد تمهيد المقدمتين اللتين تكفلت الأولى منهما للكبرى
والثانية الصغرى تبين انه لا توقف لوجوب الغسل على صدق الاقدام الموجب لعدم
جريان لا ضرر على ما ذكر في تقريب الدور فان الوجوب معلول وتابع لما يقتضيه
وهو ما في غسل الجنب من الملاك وهذا دائر مدار عنوان الجنب فالاقدام على
الجنابة التي هي علة الملاك الوجوب الذي هو علة له وهو علة للغسل الضرري ولو عند
فقد المانع اقدام على الضرر بالواسطة ولا يناط صدقا على عدم جريان نفي الضرر
الموقوف على صدق الاقدام فلا دور في المقام على ما توهم فمقتضى تنجيزية الملاك
وجوب الغسل وتعليقية المقتضى نفي الضرر عدم جريان الثاني وتأثير الأول في
158

الوجوب من دون لزوم دور ومحذور آخر ولو كان لا ضرر ناظرا إلى نفي الاحكام
ونافيا لها في غير صورة الاقدام على الضرر كما ذهب إليه جمع ممن تأخر للزم
الالتزام بوجوب الغسل الضرري على المقدم على الجنابة عند علمه بضررية الغسل
لصدق الاقدام على ما قربناه مع انك لا ترى أحدا يلتزم به وليس هذا إلا لما أبديناه
من أن الاضرار بالنفس محرم بأدلة خاصة فإذا كان الغسل مضرا فتجتمع فيه مصلحة
التطهير ومفسدة الاضرار فتزاحم الأولى بالثانية فلا يبقى ما يؤثر في الوجوب فعلا
فلا يحكم بوجوبه ولا بجواز التقرب به لخلوة عن المصلحة الفعلية أيضا، فظهر مما
تقدم ان ما ذكر فارقا بين صورتي الاقدام على المعاملة والموجب للغسل الضرريين غير
فارق كما أن ما تسالموا عليه من كون الاقدام في الثاني دوريا على ما قرب دعوى بلا
شاهد بل الدليل على خلافها على ما مر بقي في المقام امر ان، أحد هما في أن مدلول
لا ضرر على تقدير حكومته هل هو نفي المنشأ للضرر الشخصي بنحو يكون انتفاء
الحكم دائرا مداره في خصوصيات الموارد بالنسبة إلى الاشخاص فينتفي المنشأ للضرر
بالنسبة إلى المتضرر دون غيره أو نفي الضرر اللازم في نوع الموارد ولثبوت الحكم
ولو لم يلزم في بعضها بالنسبة إلى الاشخاص أو نفي الضرر النوعي الوارد على كثير
من الافراد من ثبوت الحكم فينتفي عن العمل الضرري في حق النوع ولو لم يكن
كذلك لبعض الأشخاص وعلى اي تقدير فهل يكون الضرر الشخصي في جزئيات
الموارد أو في نوعها وكذا الضرر النوعي علة للنفي أو حكمة وجهان، ولا باس
بذكر الفارق بين الحكمة والعلة قبل التعرض لمقام التصديق، فنقول ان ما يقتضي
ثبوت الحكم أو نفيه عن موضوعه بلا واسطة أو مع الواسطة المساوية لذلك الشئ
فهي علة للحكم نفيا واثباتا والحكم دائر مدارة ثبوتا وسقوطا. واما ما يقتضي ثبوته
أو سقوطه بواسطة تأثيره فيما يقتضي ذلك سواء صدق عنوان ذي الواسطة فعلى مورد
الثبوت أو السقوط أو لم يصدق وسواء كان ذلك المقتضى للثبوت بالواسطة متحققا
في حق شخص واحد أو أكثر الافراد فهو حكمة، ولهذا قيل بعدم اعتبار الاطراد
في الحكمة فإذا صار الضرر الشخصي على الواحد أو أكثر الافراد مؤثرا في مصلحة
تقتضي نفى الحكم عن الجميع فهو حكمة وإذا صار بنفسه مؤثرا في النفي عن مورده
159

فهو علة، ومن هذا ظهر انه لا يعتبر في الحكمة تحققها في أكثر افراد النوع فإنه
ربما يكون المقتضى للثبوت أو السقوط في حق شخص مؤثرا في مصلحة تقتضي
الثبوت في حق جميع الافراد، نعم أغلب حكم الاحكام معدود من الأول لكن
الغلبة لا توجب الحصر كما لا يخفى فإذا تبين معنى الحكمة والعلة وظهر ان الاطراد
غير مفيد في الأولى دون ما ينشأ من الثانية فان الحكم بالثبوت أو الانتفاء دائر مدارها
فليعلم ان ظاهر التعليل في الخطاب مطلقا هو كون العلة المذكورة فيها صريحا أو
اشعارا علة لذلك الحكم في الخطاب بلا واسطة فظاهر قوله صلى الله عليه وآله (انك رجل مضار)
في قضية سمرة وكذا ما في ذيل رواية تخريب الجدار وكذا ما في روايتي الشفعة
والاشتراك في الإبل، ان الضرر علة للنفي بلا واسطة فالانتفاء دائر مداره، نعم خرجنا
عن مقتضى الظاهر في رواية الشفعة لما مر واما غيرها فلا مقتضى للعدول عنه.
فتحصل ان الظاهر أن الضرر الشخصي علة للنفي لا النوعي منه وان كان صالحا للعلية
أيضا، واما الضرر في نوع الموارد فلا يصلح للعلية بل لو انتفى به الحكم مطلقا لكان
من الحكمة قطعا. هذا كله بناء على ما ادعى العموم والنظر لنفي الضرر، واما بناء
على ما تقدم منا من أنه لا شاهد على ذلك وانه لا يفيد ذكره في الروايات في مورد
تزاحم الحقوق أزيد من حرمة الضرر وتفويت مال الغير أو حقه أو عرضه وان في
الموارد التي طبقوا الأصحاب عليها واخذوا بها اثباتا للخيار ونفيا للزوم المعاملة ليس
الثبوت والانتفاء مستند إلى (لا ضرر) فلا يكون علة لحكم ولا حكمة كما لا يخفي
الثاني ان نفي الضرر سواء كان حاكما أو ان الضرر محرما لا يجوز ان يستند إليه
والتمسك به إلا عند قيام القطع أو القطعي من بينة أو غيرها من الامارات في لزوم
الضرر من عمله فعند الظن به أو خوفه لا يصار إليه ولا يمكن اثبات الحرمة أو نفي
الحكم التكليفي أو الوضعي به فمقتضى حكم العقل اللابدية احراز الموضوع وكذا
رواية مسعدة المشتملة على قوله (ع) الأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم به
البينة، يحكم بعد جواز الرجوع إليه إلا عند الاحراز القطعي أو قيام البينة. نعم
لو وردت امارة معتبرة تدل على انتفاء الحكم وجوبا كان أو غيره عما يخاف الضرر
فيه كانت عامة أو مخصوصة بمورد خاص نأخذ بها وإلا فيحكم بالثبوت ووجوب
160

الامتثال عند خوف الضرر، هذا ما عندنا في هذه القاعدة الشريفة والحمد لله أولا
واخرا وظاهرا وباطنا.
(الكلام في الاستصحاب)
وقد عرف باعتبار معناه الاصطلاحي بتعاريف كثيرة أسدها وأخصرها ما عرفها
العلامة الأنصاري " قده " في الرسائل بأنه ابقاء ما كان، ولما كانت المسالك في
حقيقة الاستصحاب مختلفة حيث ذهب بعض إلى كونه داخلا في العقليات الغير
المستقلة وذهب بعض إلى أنه حكم تعبدي من قبل الشارع وذهب بعض إلى أنه
فعل وبناء عملي من العقلاء فلذا تعلق هم المحشين بتعقيب ما عرفه " قده " لكونه
أسد وأخصر، اما أخصريته فواضح، واما أسديته فالوجه في ذلك على ما قيل إنه
ملايم مع جميع المسالك فان هيئة الابقاء دالة على جهة منشأيته للمادة بلا واسطة أو معها
فتارة يكون المنشأ هو العقل لحكمه الذي هو عبارة عن التصديق بالبقاء ظنا بواسطة
الحكم بالملازمة بين الحدوث والبقاء وبهذه العناية ادخلوه في الاحكام العقلية الغير
المستقلة وهو مختار القدماء وتارة يكون المنشأ هو الشرع بواسطة الحكم التعبدي
ببقاء ما كان وحرمة نقضه لا لوجود الدليل ولا لوجود العلة كما زعم بعض من أن
الحكم بالبقاء مستند إلى الدليل أو احراز العلة لأنه لا يبقى حينئذ للاستصحاب
المضروب للشاك مجال فان تعليق الحكم بابقاء ما كان مشعر بعلية الكون السابق للحكم
بالبقاء تعبدا ويفهم ركنية الشك في الاستصحاب من هذا الحكم التعبدي لان من
المسلم ان الشك ما خوذ في موضوع الاحكام التعبدية وبهذه الجهة ادخلوه في الاحكام
التعبدية فمفهوم الابقاء صادق على التعبد بما كان ولا يلزم من تغاير الناشي اختلاف
في المعنى حتى يلزم استعمال الابقاء في أكثر من معنى واحد غاية الامر يدل على المختلفين
بدالين، وتارة يكون المنشأ بناء العقلاء وجريهم عملا على البقاء ولا ريب انه أيضا
منشأ للبقاء تعبدا عقلائيا، والحاصل انه لا اختلاف في معنى الابقاء فما استعمل
الابقاء إلا في معناه وانما الاختلاف في المنشأ واما أضيف إليه، وهذه الإضافات
الايجادية على اختلاف في مناشئها كلها خارجة عن مدلول الابقاء فليس مدلول الابقاء
161

إلا جهة إضافة الفعل إلى الفاعل بصدوره منه فمادة الابقاء وهيئته لم يستعمل إلا في
معنى واحد هذا مما لا اشكال فيه وانما الاشكال والكلام في أنه هل يدل على لزوم
اليقين السابق في الاستصحاب ومقوميته له مثل الشك الذي يكون مقوما له قطعا
لكونه مأخوذا في الأصول العملية أم لا.
فنقول ان اليقين السابق غير مأخوذ في الاستصحاب موضوعا عند القدماء ولا
في تعريفهم له، نعم يكون طريقا إلى احراز المتيقن حتى يحكم العقل بالملازمة بين
الحدوث والبقاء، واما في الاستصحاب على مسلك التعبد الشرعي فهو معتبر طريقا
أيضا بناء على توجه حرمة النقض إلى اليقين بما هو مرآة للمتيقن فلوحظ اليقين
باللحاظ المرآتي مثل عنوان من في الصحن في قوله أكرم من في الصحن المجعول
مرآة لزيد وعمرو وبكر وغيرهم فالقطع محرز للصغرى يعني ما تيقنت بحدوثه تعبد
ببقائه فيكون اليقين حينئذ طريقا لا موضوعا نعم لو اخذ اليقين موضوعا لحرمة
النقض وقيل بتوجه النقض إلى نفس اليقين لا المتيقن يكون اليقين السابق معتبرا
في مورده ومقوما له، ولكن لا يخفى انه على هذا المسلك يكون النزاع في شمول
الاستصحاب لموردي الشك في المقتضى والرافع لغوا فان اليقين لا مقتضى لبقائه في
ظرف الشك فحينئذ لو لم يكن الاستصحاب حجة عند الشك في المقتضى لما كان حجة
أصلا لانتفاء الشك في الرافع في جميع الموارد لان الرفع فرع البقاء وإذ لا مقتضى
له فلا يشك في الرفع لان هذا النزاع منوط بتعلق النقض إلى المتيقن لأنه يكون
حينئذ مجال للشك في أنه هل للمتيقن استعداد البقاء أم لا. ولا يصدق النقض إلا
أن يكون له استعداد للبقاء يعني ان التفصيل بين الشك في المقتضى والرافع لا يعقل
إلا ان يتعلق حرمة النقض بالمتيقن فعند الشك في أن المستصحب هل له استعداد البقاء
أم لا يحكم بالتعبد ببقائه ولا يخفى انه على تقدير كونه عبارة عن حرمة نقض المتيقن
لا مجال حينئذ لكون الاستصحاب حاكما على ساير الأصول فان حرمة نقض الحرمة
المتيقنة لشئ يقتضي التعبد بها عند الشك كما في قوله (ع) كل شئ لك حلال الخ فإنه
يقتضي حلية ظاهرية في ظرف الشك في حرمته فلا وجه لتقديم استصحاب الحرمة
على قاعدة الحلية إلا بادعاء ان الغاية فيها هي معرفة الحرمة الأعم من الظاهرية والواقعية
162

وعلى هذا يكون الاستصحاب واردا على ساير الأصول لا حاكما ومع تسليم عدم
الأعمية يلزم الالتزام بالمعارضة بينهما لانتفائه الحكومة والورود، والعجب ممن قال
بحكومته على ساير الأصول مع اختياره مرآيته اليقين للمتيقن، والحاصل انه تبين
ان الابقاء عبارة عن معنى اصداري وهذا يلازم بان الفاعل كان منشأ للايجاد ولو
بواسطة حكمه فتارة يكون المنشأ هو العقل فمنشأ ايجاده وابقائه ليس إلا حكمه
بالملازمة بين البقاء والحدوث فيصدق الابقاء لكنه مستند إلى حكم العقل فتكون
حينئذ حقيقة الاستصحاب من الاحكام العقلية الغير المستقلة وتارة يكون المنشأ
هو الشرع فيكون الاستصحاب من الاحكام التعبدية بواسطة حكم الشرع وتارة
يكون منشأ الابقاء هو بناء العقلاء وجريهم على طبق الحالة السابقة فالابقاء يكون
مستندا إلى العقلاء فمفهوم الابقاء منطبق على الاستصحاب على جميع المباني على
اختلافها، فتبين ان الابقاء مستعمل في معنى واحد انما الاختلاف بحسب الإضافات
والأسباب ولا يوجب هذا اختلافا في المفهوم فيصدق حينئذ ان تعريف الشيخ العلامة
الأنصاري (قده) كان أسد التعاريف وأخصرها ولو يرد على تعريفه اشكال من
جهة أخرى.
ثم لا يخفى ان الحكم الجزمي بالملازمة بين الشيئين لا يقتضي الجزم بوجود اللازم
ووجود الملزوم بخلاف الجزم بوجود اللازم فإنه يقتضي الجزم بوجود الملزوم كالقطع
بوجود الضوء المقتضى للقطع بوجود الشمس وكذا العكس فلو كان الاستصحاب
عبارة عن الظن بالبقاء للملازمة بين الحدوث والبقاء فلا يكاد ينفك عن الظن بالملزوم
فيكون التعريف دالا على جميع أركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك
اللاحق واتحاد القضية المتيقنة مع المشكوكة ويعبر عنه بوحدة الموضوع، ثم انه
لو قيل بحجية الاستصحاب من باب الظن فالظاهر من الظن هو الظن الشخصي لان
الاحكام العقلية التي هي عبارة عن التصديق بالملازمات أو غيرها فعلية فما ينشاء منها
فهو فعلى أيضا فإذا كان المراد من الظن هو الظن الشخصي، فيورد عليه بأنه ربما
ينتهي الامر حينئذ إلى الظن بالنقيضين مثلا إذا كان في الحوض مقدار من الماء أزيد
من الكر فأخذ منه مقدار حتى بلغ إلى حد مخصوص نصفه أو ثلثه أو ربعه مثلا
163

فشك بعد في هذا الحد في الكرية فلا اشكال في أنه يستصحب الكرية وكذا الامر
في عكس ذلك وهو ما إذا كان فيه ماء قليل أقل من الكر فصبت عليه مياه قليله
مندرجة حتى بلغ ذلك الحد أيضا ولا اشكال حينئذ أيضا في استصحاب القلة في
هذه الصورة عكس الصورة الأولى فينتهي الامر حينئذ في الحد المخصوص إلى الظن
بالنقيضين وهو امر غير معقول ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في طرف دون
اخر فيكون ترجيحا بلا مرجع مح ان القائلين بالاستصحاب لا يفرقون في جريانه
بين الصورتين، وبتعبير اخر لما كان الظن الشخصي بالبقاء مستندا إلى حكم العقل
بالملازمة بين حدوث الشئ كالكرية والقلة للماء وبقائه فلو فرض الاخذ من ماء
يزيد على الكر بمقدار يشك في بقاء كريته بعده واصلا إلى خط يفرض في طرفه
فيلزم ان يظن بكريته بمقتضى الملازمة ولو فرض قلته ثم صبت عليه مقدار من
الماء ولكن معه لم يعلم بزوال قلته مع وصوله إلى ذلك الحظ المفروض فيلزم ان يظن
بالقلة بمقتضى الملازمة أيضا ولازم ذلك هو الاعتقاد بالملازمة بين القلة والكثرة للماء
الواصل إلى خط مفروض في أواسط الحوض مثلا وهو كما ترى، فمن قال بكون
الاستصحاب هو الظن بالبقاء وأراد التفصي عن اشكال الظن بالنقيضين أو الاعتقاد
بالملازمة بينهما فلا محيص له إلا ان يدعى الغفلة عن أحدهما حين الظن بالآخر أو يدعى
اختلاف الزمان للظنين، واما من زيف هذا المسلك واختار كونه من التعبديات الشرعية
وتمسك بالاخبار في الباب فهو غير محتاج إلى هذه الدعوى إذ لا محذور في التعبد
بالنقيضين والبناء على ثبوتهما في آن واحد وان كان المراد من الظن هو الظن النوعي
والشخصي فينتهي امر التعبد به حينئذ إلى الحكم الشرعي ولو امضاء فلا يكون من
الاحكام العقلية الغير المستقلة وهذا مما يوهن القول بان الاستصحاب حجة من باب
الظن وليس مدار الحجية في الاستصحاب بناء العقلاء أيضا على ما سيأتي وجهة
إن شاء الله، فالتحقيق ان الاستصحاب ليس إلا تعبدا محضا فيصح تعريفه بأنه عبارة
عن حرمة نقض اليقين بالشك والمراد من الحرمة ليس هي الحرمة التكليفية بل المراد
منها عدم الرخصة في النقض حتى يعم المتيقن التكليفي والوضعي، ثم لا يخفى أيضا
ان الاستصحاب الجاري في الموضوعات مما تسالموا على أنه من المسائل الفقهية وسيأتي
164

وجهه إن شاء الله، واما لاستصحاب في الاحكام الكلية فهل هي من المسائل
الأصولية أو الفقهية وجهان مبنيان على اختلاف في الضابط للمسألة الأصولية فان
قيل بان المسألة الأصولية عبارة عما يقع في طريق الاستنباط الاحكام الفرعية وتصير
كبرى لما أحرز وجدانا أو تبعدا فالاستصحاب يشارك الأمارات في ذلك فكما يجعل
قولك كلما جاء به العادل من الحكم نقلا عن الشارع فهو حكم الله تعالى كبرى لقولك
وجوب الصلاة مثلا مما جاء به العادل ويستنتج منهما ان وجوبها حكم الله فكذلك
الاستصحاب فيقال ان المعلوم السابق مما تعبدنا الشارع ببقائه في ظرف الشك به
وكلما كان كذلك فهو باق وحكم من احكام الله تعالى فينتج ان هذا حكمه، واما
لو قيل بان ال‍ مسألة الأصولية ما يكون ذريعة لاحراز الحكم الفرعي الكلبي وكشفه
بلا سترة وحجاب حقيقة أو تنزيلا فلا يعد الاستصحاب منها بناء على كونه عبارة
عن حرمة نقض المتيقن والتعبد ببقائه في ظرف الشك فإنه مثبت للحكم تعبدا مع
الشك والارتياب نظير الامارة بناء على جعل مؤديها بأدلة اعتبارها كما أنه من بعض
الأقوال في ذاك الباب فعلى هذا لا يكون البحث عن حجية الامارة والاستصحاب
من مسائل الأصول فإنهما وان أثبتنا الحكم الشرعي إلا انهما لا يرفعان السترة والحجاب
واما بناء على تعلق الحرمة بنقض نفس اليقين السابق المستلزم لتنزيل الشك اللاحق
منزلة العدم فاندراجه تحت الضابط واضح مثل اندراج البحث عن الامارة بناء على
تتميم الكشف وجعل غير العلم منزلة العدم وحيث رأى بعض خروج الاستصحاب
عن الضابط الثاني فأضاف إلى التعريف أو ما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل، قد تبين
ان البحث عن الاستصحاب من باب الظن بحث عن المبادي الأصولية فان الكلام في أنه
متحقق أم لا، واما البحث عن الاستصحاب بمعنى تحريم نقض اليقين بالشك
شرعا فقد عد من البحث من المبادي بناء على تعلق الحرمة بنقض المتيقن فإنه على هذا
عبارة عن قاعدة فقهية كلية منطبقة على كل من الاحكام التي علم ثبوتها ثم شك في
ارتفاعها ففي مورد الشك في الوجوب البناء على البقاء عبارة عن ابقائه تعبدا وهكذا
وعليه فلا يكون واقعا في طريق الاستنباط والكشف عن الحكم الواقعي ولا يكون
البحث عنه بحثا عن الدليل كما أن الامر كذلك في قاعدة الحلية وسائر الأصول
165

العملية أيضا فان الكبرى المشملة على الصغريات ليس دليلا عليها وكاشفا عنها واما
بناء على تعلق حرمة النقض بنفس اليقين فقيل انه من المسائل الأصولية فإنها ما يبحث
فيه عن ذوات الأدلة وما يطرء عليها من التعبد بها وغيره لكنك خبير بان معنى
حرمة نقض اليقين، هو التعبد باليقين السابق والبناء على ثبوته حين الشك، فهي مفيدة
بوجود الدليل والكاشف القطعي تعبدا، لا أنها تدل على التعبد بالامر الموجود، نظير
ما يدل على حجية الخبر الواحد، فليس البحث عن التعبد بالوجود بحثا عما يعرض على
ذات الدليل، بعد الفراغ عن ثبوته، بل هو بحث عن وجوده، ولا ريب في كونه من
المبادي، نعم لو كان البحث عن دليلية الموجود وحجيته، كما في البحث عن حجية
الخبر الواحد، لكان داخلا في المباحث الأصولية، ولما تذكر بعض المتأخرين لنقصان
التعريف، أضاف إلى قولهم ما يقع في طريق الاستنباط، والكشف عن الحكم الواقعي،
قوله: أو ما ينتهى إليه المجتهد فقط في مقام العمل، وهو الأصل المرجع عند الشك في
الاحكام الكلية، فأدرج الاستصحاب وساير الأصول الجارية في الحكم الكلي في
المسائل الأصولية، وأخرج الأصول الجارية في الموضوعات، وفي الموارد الشخصية
عنها، فإنها راجعة إلى الفقهية والمقلد، ولكن لما كان هذا القيد عاما لقاعدة الطهارة أيضا،
مع إنها فقهية وليست من المسائل الأصولية، فأخرجت بزيادة " ولم يكن مختصا
بباب من أبواب الفقه " على القيد السابق، ثم إنه لا إشكال في إنه يعتبر أخذ الشك
في الاستصحاب، بناء على التعبد الشرعي، وأما بناء على كونه من باب الظن، فلا مقومية
له، لان الظن بالبقاء، يدور مدار الظن بالملازمة بين الحدوث والبقاء، وربما يظن بالبقاء،
بمجرد الالتفات إلى اليقين السابق بالحدوث، فيحصل له ظن بالملازمة بين الحدوث
والبقاء، لا إنه يحصل الشك ثم يتبدل بالظن، فليس الشك من أركان الاستصحاب على
هذا المبنى، كما إنه ليس اليقين معتبرا فيه، ولو طريقا، فإنه ربما يظن بحدوث شئ، ثم
يصير مغفولا عنه، ويظن ببقائه، بمجرد الالتفات وارتفاع الغفلة بواسطة الملازمة
الظنية بالبقاء الحاصل في الفرض، مع انتفاء اليقين والشك، نعم كثيرا ما يكون الظن
بالبقاء مسبوقا بالشك البدوي الزائل، بالتأمل والالتفات إلى الملازمة، وحيث إن كون
الاستصحاب عبارة عن الظن، خلاف المختار، فلا يهمنا التعرض لمدركه، من إنه ينتهي
166

وجه حجيته إلى إمضاء الشرع لبناء العقلاء، على العمل به، أو إلى حكم العقل المستقل،
كما على الانسداد بناء على الحكومة، وأما على القول بحجيته من باب التعبد، وكونه
مأخوذا من مضمون الاخبار، فلا ريب حينئذ من اعتبار الشك فيه، لأنه يحتاج في
الحكم الظاهري إلى الشك الفعلي، إذ من المعلوم إن الشك مأخوذ في موضوع الاحكام
الظاهرية التعبدية، ثم إن الظاهر من لا تنقض اليقين بالشك، هو اليقين والشك الفعلي،
فلا يشمل الشك التقديري، وتوهم بعض بشموله للشك التقديري، يعني لو التفت لكان
شاكا، وفرعوا عليه إنه لو كان الانسان محدثا بالحدث اليقيني، وغفل عنه وصلى، ثم
حدث له الشك في إنه كان حين الصلاة محدثا، حتى تبطل صلاته أو لم يكن حتى
تكون صحيحة، ففي هذا المقام قالوا إن المقام مورد لاستصحاب الحدث المقتضى لبطلان
الصلاة، وبوجوب الإعادة أو القضاء فعلا، فظرف التعبد بالاستصحاب في الحال، وهو
بلحاظ الأثر الفعلي للمستصحب الموجود سابقا على زمان التعبد، ولكن مفاد قاعدة
الفراغ ولازم تقدمها على الاستصحاب، إما بعنوان تخصيص الاستصحاب بها، أو
بعنوان الحكومة صحة الصلاة وعدم وجوب الإعادة، أو القضاء، فبهذا الملاك يحكمون
بصحة الصلاة في هذا الفرع، يعني تعبد فعلا بصحة الصلاة السابقة عكس الاستصحاب،
وبالجملة في هذا الفرع يقولون إن العمل السابق في حال وجوده لم يكن محكوما
بالفساد، لان ظرف التعبد بالاستصحاب كان بعد العمل، فمقتضى الاستصحاب بعد
الصلاة بطلان الصلاة، ومقتضى قاعدة الفراغ صحتها، فتقدم قاعدة الفراغ على الاستصحاب
إما بملاك التخصيص، أو بملاك الحكومة، هذا على اعتبار الشك الفعلي في الاستصحاب
لا التقديري، وأما بناء على اعتبار الشك التقديري، فتكون الصلاة محكومة بالبطلان
في ظرفها، ولا يبقى حينئذ مجال لجريان قاعدة الفراغ، لان القاعدة تكون حاكمة بالنسبة
إلى الاستصحاب الذي كان قابلا للجريان في ظرف جريان القاعدة، وليست حاكمة
بالنسبة إلى الاستصحاب الجاري في الزمان السابق على جريانها ولا مخصصة له، لان
في ذاك الزمان كان شكا تقديريا، يعني لو التفت لكان شاكا، وكان مجالا لجريان
الاستصحاب، فيحكم ببطلان الصلاة في ذاك الزمان، ولا يبقى مجال حينئذ لجريان قاعدة
الفراغ، فمحصل مدعائهم إن لنا استصحابين استصحاب يجري في مورد اليقين السابق
167

والشك اللاحق الفعلي، وهو الذي في عرض القاعدة، واستصحاب مركب من اليقين
السابق والشك التقديري، وهو الجاري في الأثناء، وليست القاعدة مقدمة على الثاني فيبقى
هذا الاستصحاب على حجيته، فيحكم ببطلان الصلاة بمقتضاه، ولكنا نقول إن
المناط الذي اقتضى تقديم قاعدة الفراغ على الاستصحاب الجاري في عرضه، وهو
إنه لو لم يكن مقدمة عليه لكانت بلا مورد، أو مضروبة للموارد النادرة بعينه متحقق
في المقام أيضا، فإن الاستصحاب الجاري في الأثناء قبل انتهاء الامر إلى القاعدة لو كان
مأخوذا به دائما، فلم يبق مجال لجريان القاعدة بعده أما أبدا أو في أكثر الموارد، فإن
الشك التقديري السابق على الشك الفعلي الموضوع للقاعدة متحقق في الأغلب،
هذا أولا، وأما ثانيا فلو أغمضنا عن هذه الجهة، فنقول إن مقتضى التعبد بالاستصحاب
في كل زمان مثل الاستصحاب في أول الظهر، وكذا التعبد بالبينة في ذاك الآن، هو
العمل بالاستصحاب والبينة في ذاك الزمان، أي يجب الاتباع بمقتضاهما في ظرفهما
وهكذا، فتمام الأصول والامارات من هذا القبيل فما كان مقتضاها من التعبد
بالصحة أو الفساد، يكون لازم الاتباع في زمان ثبوتها وحجيتها لا إلى الأبد، مثلا
إذا فرضنا إنه قامت بينة على شئ ثم نسخ العمل على طبق البينة من قبل الشرع،
فمقتضى النسخ هو العمل والجري على طبق البينة إلى حين النسخ، ولا تبقى حجية لها
بعد النسخ أيضا، فلا يجب اتباعها وترتيب الأثر عليها بعد ذلك، وكذلك الاستصحاب
فلا مجال للاخذ به في كل زمان إلا باعتبار الأثر للمستصحب في ذاك الزمان،
نعم لو كان مقتضى التعبد بالاستصحاب في آن باقيا إلى الأبد من لزوم ترتيب الأثر
دائما وفي الأزمنة المتأخرة، لكان معارضا لقاعدة الفراغ، وكذا البينة القائمة على
الخلاف، فشأن الاستصحاب وكذا اليقين الذي كان أجلى الطرق وكذا البينة، هو
وجوب الاتباع لهذه الطرق في ظرف ثبوتها، فيدور لزوم ترتيب الأثر للمستصحب
على التعبد بالبقاء حدوثا وبقاء، فالاستصحاب الجاري في أول الظهر ناظر إلى وجوب
معاملة البقاء في ذاك الزمان فقط، وكذا في الآن الثاني ناظر إلى وجوب الاتباع
والمعاملة في ظرفه، وكذا في الآنات المتأخرة، ففي كل آن ناظر إلى آنه فلا تنقضي
اليقين آه من الاحكام التي توجب حدوثه حدوث الحكم وبقائه بقائه فموضوع
168

وجوب الاتباع حدوثه يوجب الحدوث وبقائه يوجب البقاء، ولا يوجب ترتيب
آثار ذاك الوجوب إلى الأبد حتى عند حصول اليقيني بالخلاف، أو قيام الامارة عليه،
فهو نظير اليقين فإنه ما لم يكن زائلا يجب ترتيب الأثر عليه واتباعه عقلا، وأما إذا زال
فلا يبقى حينئذ مجال لترتيب الأثر عليه، بل يحتاج إلى يقين آخر، فلا يترتب على كل
يقين إلا أثر ذاك اليقين في أنه، فحينئذ إذا شمل دليل الاستصحاب للشك التقديري،
فيلزم أن يتعبد بعد الالتفات في الآن الثاني بما تعبد به في الآن الأول، فمعاملة اليقين
في الآن الأول هو ترتيب أثر ذاك اليقين في آنه ولا يوجب اليقين الأول ترتيب
الأثر في الان الثاني، ولنوضح المقام بأكثر من ذلك فنقول إذا حصل في أول الصبح
يقين بالحدث فشك في بقائه، فمفاد لا تنقض إنه عامل معه معاملة اليقين ورتب عليه
آثاره، فإذا فرضنا إن للمستصحب أثار متعددة طولية منها حرمة الدخول في الصلاة،
وهذا الأثر يترتب عليه قبل الدخول في الصلاة، ومنها جواز قطع الصلاة وهذا
يترتب عليه في أثناء العمل، ومنها وجوب الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه، وهذا
يترتب عليه بعد الصلاة، وكل من هذه الآثار تترتب في آنه فأثر الان الأول يزول
في الان الثاني، وكذا الأثر الان الثاني يزول في الان الثالث، فهل يكون التعبد باليقين
بمجرد حدوثه موجوبا للحكم بوجوب ترتيب الآثار الثلاثة الطولية عليه ولو لم يبق
مورد للتعبد، أم لا؟ وقد تقدم ما يدل على إن وجوب اتباع اليقين الوجداني دائر مداره
حدوثا وبقاء، وإذ ليس التعبدي أقوى من الوجداني، فلا يكون التعبد به في الان
الأول مقتضيا لوجوب ترتيب الآثار البعدية عليه، حتى يصير معارضا للامارة الدالة
على الخلاف، إذا عرفت ذلك، فنقول إنه إذا كان للمتيقن بالحدث شك تقديري وشرع
في الصلاة ثم بعد إتمام الصلاة تيقن بالطهارة أو قامت أمارة عليها، فحينئذ لا يكون
الاستصحاب الأول الذي موضوعه الشك التقديري مفيدا لوجوب الإعادة أو القضاء،
حتى يقع التعارض بينه وبين العلم أو العلمي اللاحق، أو يعارض قاعدة الصحة والفراغ
عند انتفاء العلم والعلمي، فلا بد لوجوب الإعادة من استصحاب ثان وشك فعلي، ولا
ينفع الشك التقديري في المقام، فإن الاستصحابين الأولين خرجا عن محل الابتلاء،
فلا بد في كل تعبد من ملاحظة ظرف ذاك التعبد، فلا يكون الامر بالتعبد بالأمس
169

ناظر إلى التعبد في اليوم، فتحصل إن الاخذ بقاعدة الفراغ في المثال المتقدم ليس
من لوازم جريان الاستصحاب عند الشك التقديري، فإنها مأخوذ بها على كلا التقديرين
، فلا ينبغي جعل جريانها ثمرة للخلاف كما وقع من بعض وتسلمه الشيخ العلامة
الأنصاري (قده) في الرسائل، ولولا إن الشيخ (قده) لم يصر مائلا إليه ولم يتبعه
المتأخرون لما أطلنا الكلام في المقام لوضوح الامر، ويمكن تصوير الثمرة في صورة
جعل المشكوك في هذا المقام هو الطهارة، كما إذا كان متيقنا بالطهارة فشك فيها، ثم
غفل عن ذلك ودخل في الصلاة وأتمها، ثم شك في كونه متطهرا أو محدثا حين العمل
شكا مقرونا بالعلم الاجمالي بتوارد الحالتين فيما قبل العمل، وذلك بأن يعلم بحدوث
حدث وطهارة، ويشك في تقدم أحدهما على الاخر، ويعلم أيضا بعد الفراغ بأنه لو صار
متيقنا عند العمل لحصل منه الشك في الطهارة مجردا عن العلم بتوارد الحالتين، ففي
هذا الفرض لا مجال للاستصحاب مع الشك الفعلي بعد العمل، فإنه مقترن بالعلم الاجمالي،
وقد تقدم إنه لا يجري في أطرافيه على المختار، ويسقط بالمعارضة بمثله، على خلاف المختار،
ولا مورد لقاعدة الفراغ في المقام أيضا، لان مجريها هو الشك الفعلي الذي ليس
مسبوقا، والمفروض إنه حدث الشك في الطهارة قبل العمل، وفى جريان القاعدة يشترط
أن يكون الشك بعد العمل لا قبله، فلا يبقى في البين إلا الشك التقديري، بحيث يقطع
لو التفت حين الصلاة يكون شاكا بقاء الطهارة، فحينئذ تظهر ثمرة النزاع في المفروض،
وهي إذا بنينا على جريان الاستصحاب في صورة الشك التقديري، يكون الان عالما
بأنه عمل على طبق مقتضى الحكم الظاهري، فيدخل تحت المسألة المعروفة، وهي إنه هل
العمل الواقع على طبق الحكم الظاهري بعد انكشاف خلافه مجز أم لا؟ ومدرك تلك
المسألة في الاجزاء وعدم الاجزاء، هو إنه إذا كانت مصلحة الحكم الظاهري جابرة
للمصلحة الواقعية وصدق إنه استوفى المصلحة الواقعية وما فاتت منها شئ ولو ببدلها،
فلا مجال حينئذ لا للإعادة ولا للقضاء، فيكون الحكم الظاهري في هذه الصورة مجزيا
عن الحكم الواقعي وجابرا للمصلحة الواقعية، وكل من قال بعدم إجزاء الحكم الظاهري
عن الواقعي، بل الحكم الظاهري ترخيص محض في جواز الاكتفاء بالمأتى به من
الصلاة في صورة ستر الواقع، فإذا انكشف خلافه تؤثر المصلحة الواقعية أثرها، ومقتضاه
170

إتيان الصلاة بالإعادة أو القضاء، فلا يمكن له إجراء استصحاب في صورة الشك
التقديري، فهذه الثمرة بالنسبة إلى استصحاب الطهارة في الشك التقديري لا استصحاب
الحدث، والثمرة الأخرى هي إنه لو اقتدى شخص بهذا المصلى الذي أحرز صحة صلاته
بالطهارة المستصحبة على الشك التقديري، فإن قلنا بأن الطهارة الظاهرية للامام موضوع
الحكم بالصحة الواقعية للمأموم، ففي هذا المقام إن قلنا بجريان الاستصحاب التقديري،
فيكون الامام على الطهارة الظاهرية لو انكشف بعد إنه لم يكن متطهرا، ولكن حين
الصلاة كان متطهرا ظاهرا، فتكون صلاة المأموم صحيحة، و
ما لو قلنا بعدم جريانه،
فلا وجه لجواز الاقتداء به والاكتفاء بالصلاة به جماعة، فإن المأموم لم يحرز الطهارة
الظاهرية ولا الواقعية، فلا يكون حينئذ لصحة صلاة المأموم وجه، فقاعدة الاشتغال
تقتضي إعادة الصلاة بالنسبة إلى الإمام والمأموم معا، ثم إنه وقعت في الاستصحاب
تقسيمات، أحدها بلحاظ الدليل الدال على ثبوت المستصحب، قد يكون عقليا محضا
لحكم العقل بوجوب ما أدرك حسنه، بناء على ثبوت الملازمة، وقد يكون شرعيا تعبديا
نظير الخبر الواحد، وقد يكون شرعيا قطعيا كالخبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن
القطعية، وقد يكون لبيا كالاجماع، وثانيها بلحاظ المستصحب فإنه إما حكم تكليفي
أو وضعي أو موضوع لأحدهما، وكل منهما إما كلي أو جزئي، وعلى التقادير فهو إما
وجودي أو عدمي، وثالثها بلحاظ الشك فإن الشك تارة يكون في الرافع وأخرى
في المقتضى، وعلى الأول فإما أن يشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود، والظاهر
أن لا ننقض يشمل جميع الصور، ولكن الشيخ العلامة الأنصاري (قده) يقول لا مجال
للاستصحاب في الدليل العقلي، والتقريب الذي يقول في المقام ملخصه إن العقل
لا يحكم بشئ إلا بعد إدراك تمام المناط لحكمه، الذي هو عبارة عن الدرك الفعلي
والتصديق بحسن شئ أو قبحه، وهذا مقدمة لكشف حكم الشرع، للملازمة بين حكم
العقل والشرع، فحكم العقل الفعلي متوقف على إحرازه لجميع ما كان دخيلا في مناطه
من الحسن والقبح، ولا نعنى من الحسن إلا كون الشئ ملائما عند العقل، ومن القبح
عدم الملائمة عنده، فعلى ذلك كل ما كان له دخل في المناط لابد أخذه في ملاك حكم
العقل، ويكون بتبعيته داخلا في حكم الشرع، فلا يكاد ينتهي إلى الشك بفقدان
171

أحد هذه القيود، فالشك في بقاء الحكم مستلزم للشك في بقاء الموضوع، ومعه لا يبقى
مجال للاستصحاب إلا على بعض الوجوه الآتية، والحاصل إن تقسيم الاستصحاب
قد يكون باعتبار الدليل على المستصحب، فإنه تارة يكون عقليا وأخرى نقليا لفظيا.
وثالثه لبيا كالاجماع، فدليل تعبد باليقين السابق يقتضي التفصيل بين الحكم الثابت
بالدليل العقلي والنقلي، فحينئذ إذا دل الدليل اللفظي على إن الكذب حرام، ونحتمل أن
تكون علة حرمة الكذب هي الضرر، ففي الان الأول لو كان اليقين بمضرية الكذب موجودا،
ثم شك فيه فحينئذ للاستصحاب مجال لان الموضوع في لسان الدليل هو الكذب وهو
باق، وأما إذا كان الموضوع في لسان الدليل هو الكذب الضار، فلا مجال للاستصحاب
مع الشك في المضرية، إن قلنا بأن المدار في بقاء الموضوع هو ملاحظة لسان الدليل،
وما أخذ في لسانه هو عنوان الضرر، كما إذا أخذ في لسان الدليل عنوان الكذب
أو عنوان المسافر أو عنوان الحاضر، فللاستصحاب مجال ولو مع الشك في الضرر،
وسنشير إلى أن المدار في بقاء الموضوع هل هو العقلي الدقي، أو العرفي المسامحي، أو ما
أخذ في لسان الدليل، ولا يخفى إنه يعتبر القطع ببقاء الموضوع عند استصحاب
الحكم جزئيا كان أو كليا، وقد وقع النزاع بين القوم في إنه هل يعتبر في اتحاد
موضوع القضيتين عقلا ودقة، أو بحسب لسان الدليل أو الأنظار العرفية المسامحية،
ونتعرض لبيان المدرك لهذه الوجوه مفصلا ونشير إليه هنا على وجه الاجمال، فنقول
إن منشأ النزاع في ذلك هو إن لا تنقض اليقين بالشك مسوق لبيان حرمة النقض
عند بقاء ما هو موضوع الحكم في لسان الدليل، حتى لا يفرق بين كون الحكم محرزا
بالدليل النقلي أو العقلي، فإن أخذ في لسان الدليل بكلا قسميه عنوان الضار أعم من
الكذب الضار، أو الصدق كذلك موضوعا للحرمة، فعند الشك في بقاء الضرر لا وجه
للاستصحاب لعدم إحراز بقاء الموضوع، وإن لم يؤخذ عنوان الضار في لسان
الدليل بل كان المأخوذ فيه هو ذات الكذب من دون مدخلية للضرر فيه، فعند الشك
في الضرر لا بأس باستصحاب تلك الحرمة المعلومة، لأنه يكون الموضوع باقيا لعدم
إحراز مدخلية هذا العنوان في موضوع الحرمة في الدليل، أو مسوق لبيان حرمة
نقض اليقين بالشك عند بقاء الموضوع عقلا ودقة، فحينئذ احتمال دخل الضرر في
172

الموضوع كاف في الشك في بقائه، ومعه لا يبقى مجال للاستصحاب، أو أن لا تنقض
مسوق لبيان حرمة النقض بحسب الأنظار العرفية، سواء وافقت مع لسان الدليل
أم لا، فربما يرى العرف الضرر في عادياتهم من الحالات، فحينئذ ربما يفصل في المقام
بين استصحاب الحكم الثابت بالدليل، وبين الحكم المستكشف بالعقل، فجوزه في الأول
دون الثاني، نظرا إلى أن المأخوذ في لسان الدليل هو الكذب الضار، ومع الشك في
ضرريته لا يمكن إحراز ما هو الموضوع في لسان الدليل، وأما إذا كان الدليل
لفظيا قد أخذ ذات الكذب موضوعا للحرمة، فحينئذ يجرى الاستصحاب عند الشك
في الضرر لبقاء الموضوع وهو الكذب، والحاصل إنه إذا سيق لا تنقض بلسان
الدليل، فيمكن أن يفرق بين الدليل النقلي والعقلي، ففي العقلي يرجع الشك في الحكم
إلى الشك في بقاء الموضوع دائما، وفي النقلي كان المدار على ما جعل موضوعا في
لسانه من الصدق أو الكذب فقط، فمتى صدق العنوان وشك في ضرريته يكون
الموضوع باقيا وللاستصحاب مجال، كما إنه إذا سيق بلحاظ نظر العرف في عادياتهم
وأحكامهم العرفية، فإنهم يرون الضرر من الحالات ولو كان مذكورا بنحو القيدية
في لسان الدليل، فيحكمون ببقاء الموضع عند الشك في الضرر، فيصح معه إجراء
الاستصحاب، فعلى المسلك الأول أي سوق لا تنقض بلسان الدليل لكلام الشيخ من
التفصيل وجه، وإلا فعلى المسلك الدقي العقلي، أو حكم العرف لاشك في جريان
الاستصحاب بالنسبة إلى الثاني وعدم جريانه بالنسبة إلى الأول، فلا وجه حينئذ للتفصيل،
وبالجملة إن كان نظره في التفصيل كون المدار في بقاء الموضوع بلحاظ الدليل، ويفرق
بين الدليل النقلي والعقلي والحكم بجريان الاستصحاب في الأول وعدمه في الثاني،
فلا وجه للاشكال عليه، وكلامه في غاية المتانة، وإن كان نظره إلى غير هذه الجهة من
درك العقل المناط لحكمه بنحو التفصيل أو بنحو الاجمال، فللاشكال مجال ولعل
نظره (قده) إلى الجهة الأولى، فلا وجه حينئذ لما استشكل عليه، والجواب عنه على
ما في الحواشي على الرسائل بعدم اعتبار الأزيد من إحراز المناط للحكم في شئ
ولو إجمالا، ومن هنا ظهر إن هذه الدعوى غير رافعة للاشكال في الاستصحاب عند
الشبهة الموضوعية، فإن دعوى إحراز كفاية المناط إجمالا من دون اعتبار تمييز ماله
173

دخل عن غيره، إنما تصحح تصور الشك في الحكم مجردا عن الشك في بقاء الموضوع،
لا أنها موجبة لارتفاع الشك في بقاء الموضوع في الشبهة الموضوعية أيضا، فما لم يحرز
بقاء الموضوع لا مجال لاستصحاب الحكم، سواء قيل باعتبار تمييز ما قام به المناط أو
باعتبار إحرازه الاجمالي، فالاستصحاب لا مجرى له لعدم إحراز الموضوع عند الشبهة
الموضوعية، ولعدم الشك اللاحق بناء على اعتبار التمييز فإن العقل قاطع بحكمه المظهر
للحكم الشرعي، على تقدير تمامية قيود ما فيه المناط ووجودها، وبالعدم على تقدير العدم
ولانتفاء اليقين السابق، بناء على عدم اعتبار التمييز عند القطع بانتفائه وصف من أوصاف
ما كان مشتملا على المناط، كل ذلك بناء على اعتبار الموضوع بلسان العقل ونظره، أو
بلسان الدليل، فلا بد لمن يريد استصحاب الحكم الشرعي المستكشف بحكم من العقل
أن يدعى إن لا تنقض مسوق لبيان حرمة نقض اليقين بحكم يكون أمر تشخيص
موضوعه وتعيينه موكولا إلى نظر العرف وارتكازاتهم المغروسة في أذهانهم
ومسامحاتهم في موضوعات أحكامهم العرفية، فإن الشك في الحكم المستلزم للشك في انتفاء
بعض قيود الموضوع، لا يكون سببا للشك في بقائه، فإنه بهذا النظر لا تقوم له بكثير
من القيود بل الاجزاء أيضا، فلو علم بحرمة هذا الكذب الضار ثم شك في بقاء اتصافه،
فيستصحب حكمه على المسامحة العرفية، وكذا لو علم بحرمة صدق الضار وقبحه
لاحرازه فيه إجمالا، فشك في إن للضرر دخل في الحرمة الشرعية له لصح استصحاب
حرمته بناء على مسوقية (لا تنقض) بنظر العرف، لا بحسب الدليل أو العقل.
ويمكن تصوير وجه آخر لاجرائه حتى بناء على الدقة العقلية، ويظهر ذلك بعد التعرض
لما يتصور من شقوق إحراز المناط على الاجمال، فنقول إن المتصور في المقام علمان
إجماليان، أحدهما متعلق بالمتبائنات والاخر بالأقل والأكثر، فلو فرض أن يكون كل
من الكذب أو الضرر أو مجموعهما واجدا لمناط القبح، فالعلم الاجمالي بأن الكذب الضار
قبيح ومحرم دائر بين المتبائنين، فإنه ليس الكذب منفردا ولا الاضرار كذلك مقطوع
الحرمة والقبح، فيكون الحكم المعلوم قائما بالفرد المردد، فلا يصح استصحابه عند الشك
إلا على تقدير تحكيم نظر العرف ببركة (لا تنقض)، وأما لو فرض دوران الامر
بين أن يكون الكذب بنفسه قبيحا، أو عند تقييده بالضررية، فالامر دائر بين الأقل
174

والأكثر، ويقطع بوقوع ذات الكذب تحت تحريم على أي تقدير وإنما الشك في إنه
قبيح ومحرم حتى عند عدم ضرريته، فيكون تمام الموضوع لهما أو أن لاتصافه بالضارية
دخل في ثبوتهما، وعلى كل فحرمة الكذب بذاته محرزة سابقا ودقة وهو قابل للتحقق
مع الشك في الضرر، فتستصحب الحرمة المعلومة من دون حاجة إلى التمسك بنظر العرف
وتسامحاتهم، وبالجملة يقرر أصل الشبهة في استصحاب الاحكام العقلية بتقريبين.
أحدهما عدم بقاء الموضوع ولو كان ساير أركان الاستصحاب موجودة، ولذا يقولون
إن مناط حكم العقل إذا كان الكذب الضار، فمجرد الشك في الضرر يشك في بقاء
المناط، وهو عين الشك في بقاء الموضوع، وقد بنينا على إنه على هذا التقرير لافرق
بين كون مناط الاحكام العقلية، بينا بنحو التفصيل أو بنحو الاجمال بحيث لا يعلم إن
الموضوع والمناط قائم بذات الكذب أو الكذب الضار أو بكليهما، فالاشكال في
الاستصحاب في الشبهة الموضوعية وارد من جهة الشك في الموضوع، سواء كان
الموضوع والمناط محرزا بنحو الاجمال أو بنحو التفصيل، فما أفاده الشيخ " قده "
في وجه الاشكال من إنه يعتبر إحراز المناط تفصيلا، والعقل لا يشك في حكمه، أجنبي
عن المقام كما لا يخفى، وما قيل في رده من جواز الاكتفاء بإحراز المناط إجمالا، فهو
أيضا ليس رافعا للشبهة، والاشكال على التقريب المزبور فإنه إذا احتمل أن يكون
المناط قائما بالضرر أيضا، فإذا شك فيه فيلزمه الشك في بقاء الموضوع، فلا مورد
للاستصحاب، فنظر الشيخ " ره " في الاشكال إلى هذه الجهة أي من جهة الشك في
بقاء الموضوع واختلال ركن من أركان الاستصحاب، وإشكال المحشين لا يكون
مربوطا بالمقام، لان الشبهة شبهة مصداقية مستلزمة للشك في بقاء الموضوع، سواء كان
المناط محرزا بنحو التفصيل أو بنحو الاجمال، فإنه إذا أحرز المناط إجمالا في الكذب
الضار، فلا يعلم إنه قائم بالكذب فقط، أو قائم بالضرر كذلك، أو بكليهما، فعند الشك في
بقاء الضرر يشك في بقاء الموضوع، فيختل بعض أركان الاستصحاب حينئذ، ففي
هذه الشبهة التكلم في إن مناط الحكم معلوم تفصيلا أو إجمالا ليس بنافع، ولا يكون
مرتبطا بالمقام، نعم في المقام شبهة أخرى وهي إنه إذا بنينا على إنه يعتبر إحراز ما قام
به المناط وعلم إنه الكذب الضار، فمع القطع بانتفاء القيد يقطع بانتفاء الحكم، فالامر
175

يدور بين القطع بالبقاء والقطع بالعدم، وأما لو كان حكم العقل مستندا إلى المناط
المحرز بنحو الاجمال، فحينئذ يشك في بقاء الحكم، وفى هذه الشبهة إمكان تصوير إنه
هل كان مناط الحكم بنحو التفصيل أو بنحو الاجمال يكون نافعا، لأنه ربما يكون
حكم العقل بالمناط الاجمالي بأن يعلم بأنه إما قائم بالكذب أو بالضرر أو بكليهما، فيشك
حينئذ في انتفائه فلا يكون أركان الاستصحاب مختلا عنده إلا إذا سيق لا تنقض
بلحاظ العقل ونظره، وأما لو سيق بحسب لسان الدليل، فإنه لا مجال لجريان
الاستصحاب حينئذ للشك في بقاء الموضوع، وأما إذا سيق بلحاظ العرف، فلا مانع
حينئذ من جريان الاستصحاب ولو كان بحسب لسان الدليل مقيدا بالضرر، فإن العرف
لا يرى الذات منتفيا بانتفاء قيده، فيرون ذات الكذب موضوعا للحكم ولو كان مقيدا
بالضرر في الدليل، فعند انتفاء الضرر أيضا يحكمون ببقاء الموضوع، فالعرف يوسعون
دائرة الذات وبانتفاء بعض الخصوصيات الغير الركنية يحكمون ببقائها أيضا، ولو لم
تكن الذات بالدقة العقلية بعد انتفاء القيد تلك الذات، ولكن في نظر العرف كانت
الذات باقية، فلا مانع من جريان الاستصحاب حينئذ، فعلى البناء بأن لا تنقض سيق
باللحاظ العرفي لا منع من جريان الاستصحاب لبقاء الموضوع عند العرف ولو كانت
فاقدة لبعض القيود والخصوصيات، ومع ذلك يرى العرف الموضوع باقيا، فتبين إن
المناط في جريان الاستصحاب وعدمه هو ملاحظة لسان الدليل، فإن سيق لا تنقض
بلحاظ الدقة العقلية، فلا مجال لجريان الاستصحاب لعدم بقاء الموضوع، وإن سيق
بحسب لسان الدليل فيفرق بين الشرعي والعقلي، فيجري في الأول دون الثاني، وإن
سيق بلسان العرف فيجري أيضا لبقاء الموضوع، وبعبارة أخرى لو بنى على اعتبار
تبين الموضوع تفصيلا وتمييز قيوده المؤثرة في القبح عن غيرها فلا يشك في الحكم
الكلي وبقائه، فإن الموضوع مع تمام القيود قطعي الحكم والقبح، وعند انتفاء بعضهما
قطعي العدم حكما، وأما لو بنى على كفاية الاحراز الاجمالي، فإما أن يكون الامر
دائرا بين المتبائنين أو الأقل والأكثر، فإن كان من الأول كما إذا تردد أمر الكذب
الضرري الذي حكم العقل بقبحه، بين أن يكون ذات الكذب بنفسه واجدا لتمام
الملاك، أو يكون الاضرار كذلك، أو يكون المجموع المركب منهما، فلا توجد أركان
176

الاستصحاب بتمامها عند الشك في البقاء عند زوال الوصف، فإنه لو كانت الحرمة أثرا
لذات الكذب من دون انضمام المضرية إليه، فهو باق قطعا فلا شك فيه، إلا إنه لا يقين
بثبوت الحرمة له بعنوانه، وإن كان أثرا للضرر والاضرار، فهو وإن كان مشكوك
البقاء إلا إنه لاعلم بثبوته له بالخصوص وبعنوانه، فهذا فاقد لليقين السابق بخلاف
الأول، فإنه فاقد لليقين والشك معا، نعم عنوان أحد الامرين منهما جامع لكلام الركنين،
إلا إنه ليس موضوعا للأثر شرعا، فإنه لما لا ينطبق عليه هذا العنوان من الكذب والضرر
لا له بنفسه، فعلى هذا يشكل إجراء الاستصحاب إلا أن يدعى تحكيم نظر العرف
في تشخيص موضوع المستصحب، وإنه يحكم بأنه الكذب والاضرار من حالاته
وطواريه، وإن كان الامر دائرا بين الأقل والأكثر، فلا بأس بالاستصحاب حتى بناء
على الدقة، فإن ثبوت الحرمة للكذب مقطوع به على تقديري كونه تمام الموضوع
أو جزئه، فعند الشك تستصحب تلك الحرمة الشخصية المتعلقة، فيكون الموضوع محرزا
على الدقة العقلية، فهذا بخلاف الفرض الأول فأنه لولا دعوى جواز الرجوع إلى نظر
العرف المسامحي، لكان الحكم المحرز في المقام نظير الحكم المعلوم الثبوت للفرد المردد، فكما
لا يجوز استصحابه على ما سيأتي في وجه الفرق بين استصحاب الكلي والفرد المردد،
فكذا في المقام، وبالجملة لو قطع النظر عن حكم العرف وفرضنا إن العقل حكم أيضا
إذا علم بأن المناط أما في الكذب أو في الضرر أو في كليهما، فليس حينئذ في البين قدر
متيقن، لان المناط في هذه الصورة يكون مرددا بين العناوين الثلاثة المتباينة، وعليه
فلا مجال لجريان الاستصحاب لعدم إحراز بقاء الموضوع، ولكن نقول يمكن
جريان الاستصحاب في هذه الصورة أيضا حتى بناء على إحراز الموضوع بنحو الدقة،
بتقريب إنه إذا كان المدار في الحرمة هو الاضرار، بأن كان الاضرار علة ومنشأ
للحرمة، فيترشح حينئذ قبح إلى ذات الكذب من باب المقدمة، فإن الكذب علة للضرر
وعلة الحرام حرام مقدمي، وأما إذا كان مدار الحرمة نفس الكذب فقط أو هو
بضميمة الضرر، فهو محرم نفسي استقلالي أو ضمني، فحينئذ نعلم إن ذات الكذب كانت
تحت الحرمة، إما بملاك الحرمة النفسية أو الغيرية، فتكون ذات الكذب قبيحا وحراما،
فتجئ حينئذ حرمة شرعية إلى الذات، إما بالحرمة النفسية أو بالحرمة الغيرية، فعلى أي
177

حال يعلم تفصيلا بأن في نفس الكذب جهة حرمة، فحينئذ مع القطع بانتفاء الضرر، أو
الشك فيه يشك في إن الحرمة التي كانت لنفس الكذب هل زالت أم لا، فيشك في
بقائه عند انتفاء الضرر قطعا أو احتمالا، فتستصحب الحرمة والمبغوضية الشرعية
للذات بالدقة العقلية بلا احتياج إلى نظر العرف، وكذا الامر فيما إذا كان الشك في
الضرر بناء على اعتبار إحراز المناط تفصيلا، وأما مع القطع بانتفاء الضرر فلا يبقى
مجال للاستصحاب لعدم بقاء الموضوع، وأما مع الشك في انتفاء الموضوع، فحينئذ
إن كان الاستصحاب ناظر إلى الحرمة المستقلة، فلا يجوز الاستصحاب أيضا، وأما إن
كان ناظرا إلى الحرمة الأعم من الضمنية التي ترشحت إلى الذات أو الاستقلالية،
فيجوز الاستصحاب بالدقة العقلية، لعدم الشك في انتفاء الموضوع، والمحصل إنه يعلم بحرمة الكذب في جميع الصور، سواء أحرز دخله في المناط تفصيلا أو أجمالا،
فإذا شك في بقائها كما في غير صورة القطع بانتفاء الضرر في جميع الصور المتقدمة،
جاز استصحابها التمامية أركانه من اليقين السابق والشك اللاحق واتحاد القضيتين
بحسب الموضوع دقة، فلا احتياج في تجويزه إلى تحكيم نظر العرف، هذا هو الجواب
الأول من إشكال الشيخ بأنه لا يتصور الشك في الحكم بدون الشك في بقاء
الموضوع، فلا مجال عنده للاستصحاب، وقد تحصل أنه لا بأس به حتى بناء على اعتبار
اتحاد الموضوع دقة بلا احتياج إلى العرف، وقيل في الجواب ثانيا إنه لو سلمنا
اعتبار أن يكون مناط العقل مبنيا ومفصلا، ولكن من الممكن أن يكون مناط
حكم الشرع أوسع من الضرر وغيره من مناط حكم العقل، فيتصور حينئذ الشك في
الحكم مجردا عن الشك في الموضوع، فيجوز استصحابه، ولكن نقول في رده بأنه
إذا فرضنا إن العقل لا يحكم إلا عند إحراز مناطه مفصلا، وإن المناط هو نفس
الضرر، سواء كان تمام الموضوع أو جزئه، فإذا قطعنا بذلك فنكشف بقاعدة الملازمة
بأن ما ورد عليه حكم العقل من حيث المناط ورد عليه حكم الشرع أيضا، وبيان
آخر إنه قيل لو سلمنا إن مناط حكم العقل لا بد أن يكون مبينا بالتفصيل، وإن العقل
أدرك المناط في خصوص الضار، ولكن يمكن أن يشك في بقاء الحكم عند الشك في
بقاء ماله الدخل في مناط حكم العقل، وذلك لامكان أن يكون مناط حكم الشرع
178

أوسع من مناط حكم العقل، ولا يخفى إنه يتصور في المقام احتمالات ثلاث، الأول
أن يكون مناط حكم العقل مغايرا لما هو المناط عند الشرع، ولا يكون التحريم
الشرعي من آثار ما هو المناط عند العقل، بل يدور مدار المناط الاخر القائم بالأعم
من مورد الضرر وغيره، والثاني أن يكون المناط لحكم العقل وهو الضرر مناط لحكم
الشرع أيضا، ومع ذلك كان في البين مناط آخر للحكم الشرعي قائم بالجامع بين موضوع
حكم العقل وغيره، فربما يجتمع المناطان فيتأكد الحكم وربما يفترقان، والثالث أن
يكون ما هو تمام المناط لحكم العقل مصداقا لمناط الحكم الشرعي، وذلك مثل أن يكون
مطلق الاضرار مناطا للحرمة عند الشرع فيصير الاضرار الحاصل من الكذب من
مصاديقه، أما الصورة الأولى وهي ما كان مورد مناط حكم الشرعي أوسع من
مورد مناط حكم العقل، وكان المناطان متغايرين بحيث لاحكم للشرع بما هو المناط
عند العقل، فهي ملازمة للقول بأن العقل لا يدرك حكم الشرع، وإن الذي قطع العقل
بكونه مناطا للحكم في الشرع ليس مناطا له، فنتيجة هذا الكلام نفي الملازمة بين حكم
العقل وحكم الشرع وإنكارها، وما أظن إرادتها من الكلام المتقدم في الاشكال على
الشيخ " ره "، وأما الصورة الثانية وهي إن الذي كان مناطا لحكم العقل مناط
لحكم الشرع ولكن للشرع مناط آخر قائم بمطلق الكذب أعم من الضار وغيره، وهذا
لا يكون نافيا للملازمة، ولكن إذا اجتمع المناطان يتأكد الحكم وإذا انتفي أحد
المناطين يقوم الاخر مقامه ويؤثر أثره، ولازم هذا الكلام إن الحكم الجزمي قائم
بالضرر والحكم الاخر قائم بمطلق الضرر، فيتصور الشك في متعلق الحكم عند القطع
بارتفاع الضررية، إلا إنه يمكن أن يقال إن الحكم المعلوم المسبب عن مناط حكم العقل
قد ارتفع قطعا، وبثبوت الحكم المسبب عن غيره مشكوك بدوي، فيختل اليقين السابق
فلا يبقى حينئذ للاستصحاب مجال بناء على التدقيق العقلي، وأما بناء على تحكيم نظر
العرف في تشخيص الموضوع والمحمول، فلا بأس به، وأما الصورة الثالثة وهي إن
هذا المناط الذي كان قائما بالضرر مناط لحكم العقل، وهذا المناط أحد فردي مناط
حكم الشرع، ولازم هذا الكلام إن الذي كان مناطا لحكم العقل قائم بالضرر، وهذا
بعينه كان مناطا لحكم الشرع، ولكن لاتمام المناط بل هو مصداق من مصاديقه،
179

وعليه فيتصور الشك في الحكم ولا يختل فيه شئ من أركان الاستصحاب، إلا إنه
يصح فيها إبقاء الحكم الشخصي المعلوم الثبوت في ظرف احتمال انتفاء الضرر حتى بناء
على تحكيم نظر العقل في تعيين الموضوع بالقريب المتقدم، من إنه إذا علم بحرمة
هذا الكذب الضار ثم شك في ضرريته جاز استصحاب الحرمة المتعلقة بالكذب ضمنا،
فإنها أثر شرعي قد علم ثبوته له، فيشك في بقائه لاحتمال بقاء الضرر، فجاز التعبد ببقائها،
ويعمها أدلة الاستصحاب، فعلى هذا لا احتياج إلى دعوى اتباع نظر العرف في
تشخيص الموضوع تفصيا عن لزوم الشك في بقائه بالشك في انتفاء ماله الدخل في
المناط، نعم إذا قطع بالانتفاء أو أريد استصحاب الحرمة الشخصية بتمامها وعلى
استقلالها، فلا بد من هذه الدعوى، فإنه لا وجه للرجوع إلى العرف باعتبار لسان
الدليل، فإنه ليس من اللفظيات الموكولة إليهم استفادة واستظهارا، أو لا يكون بقاء
الموضوع محرزا بالدقة العقلية، كما لا يخفى، فانقدح إن الصورة الأولى توجب نفى
الملازمة، وفى التصوير الثاني يتصور مناط آخر يعنى هذا الشخصي الذي كان
بخصوصه مناطا لحكم العقل، كان مناطا لحكم الشرع، ويحتمل أن يكون للشرع مناط
آخر قائم بمطلق الكذب، ولازم هذا المسلك تأكد الحكم عند اجتماع المناطين وبقائه
عند بقاء شئ منهما، فمع الشك في انتفاء الضرر يشك في بقاء الحكم لاحتمال إنه قائم
بمناط آخر، لكن المشكوك وهو الحكم المستند إلى مناط آخر كان مشكوكا بدويا،
فحينئذ لا مجال لاستصحابه لان الذي كان من الأول متيقنا يقطع بارتفاعه، والذي
كان مشكوكا لم يكن متيقنا، وأما الصورة الثالثة ففي هذه الصورة كانت الملازمة
محفوظة ولا يحتاج في الاستصحاب إلى العرف، لأنه كان يقين لشخص حكم قائم بهذا
المناط وبذهابه يشك في إن الحكم قائم بمناط آخر أم لا، فتحصل مما تقدم إنه يجوز
استصحاب الحكم الجزئي الشرعي المستكشف بالدليل العقلي عند الشك في زوال
ما كان دخيلا في مناط حكم العقل قطعا أو احتمالا، حتى بناء على اعتبار العلم بالمناط
تفصيلا، وعلى عدم احتمال أوسعية دائرة مناط الحكم في الشرع على الوجه الثالث
المتقدم، وأنه لا احتياج إلى الرجوع إلى العرف عند الاكتفاء باستصحاب الحرمة
الضمنية المتعلقة بالجزء الباقي قطعا مما كان يقوم به المناط، وأما مع القطع بانتفاء
180

الجزء الدخيل في المناط، فلا يتم أركان الاستصحاب لعدم تحقق الشك لاحقا إلا مع
احتمال أوسعية مناط حكم الشرع على ما مر في الاحتمال الثالث، وقد تقدم إنه يصح
الرجوع إلى الاستصحاب أيضا حتى بناء على التدقيق في الموضوع، نعم لو أريد
استصحاب الحرمة الاستقلالية لا الضمنية التي هي من الآثار الشرعية المصححة للتعبد
ببقاء الموضوع باعتباره، فلا وجه للرجوع إليه إلا بعد دعوى إن نظر العرف متبع
في الموضوع لا لسان الدليل ولانظر العقل، وأما لو قطع بانتفاء ما يحتمل دخله في
المناط عند العقل أو عند الشرع فقط، فالامر كذلك من جواز استصحاب الحرمة
الضمنية بناء على كون لا تنقض ناظرا إلى العقل، وجواز استصحاب الحرمة
الاستقلالية بناء على نظره إلى العرف المسامحي، هذا خلاصة ما تصورنا من إمكان
الرجوع إلى استصحاب الحكم الشرعي المستكشف عن حكم العقل، فظهر إنه لا وجه
للاستشكال فيه، ثم إن حال الحكم الثابت بالاجماع مشابه لحال الحكم المستكشف
بالعقل، والشك في بقائه مستلزم للشك في بقاء موضوعه المقيد، لاحتمال انتفاء قيده
الدخيل في المناط قطعا لا احتمالا، فما كان وجها للاستشكال في استصحاب الحكم
الشرعي المستكشف بالدليل العقلي فهو بعينه متصور في المقام، فما أدرى ما وجه
تخصيصه به، وما قلناه في الجواب هناك فهو الجاري ههنا أيضا، فإذا علم بالاجماع
بوجوب هذا المقيد بوصف ثم شك في زوال الوصف مع العلم بدخله في ملاك الحكم
أو احتماله، فشك في بقاء ذاك الوجوب، وكذا لو علم بانتفاء الوصف المحتمل الدخل
فشك به في الحكم، لم يجز استصحاب تمام الوجوب النفسي بناء على اعتبار وحدة الموضوع
دقة أو بلسان الدليل، إذ لا لسان له في المقام فلا بد من دعوى اعتبار الوحدة عند
العرف المسامح القاضي بمرتكزاته بموضوعية الأعم من الواجد والفاقد للقيود
والاجزاء أو من الاكتفاء باستصحاب الأعم من الضمني والنفسي المعلوم الثبوت
للذات التي احتمل خلوها عن القيد والوصف المقطوع الدخالة أو محتملها، فإنها باقية
مع الاحتمال دقة وفى نظر العقل، فظهر إن الاشكال سيال كالجواب عنه، ولا اختصاص
لهما بالحكم المشكوك الذي كان دليله العقل بل الحكم المعلوم بالسيرة القطعية المعبر عنها
بالاجماع العملي أيضا حاله كذلك، وكذا ما يستفاد من المتواتر المعنوي فإنهما لا لسان
181

لهما أيضا، ويتصور التقيد في موضوع الحكم المعلوم بهما ويتعقل دخل القيد في الحكم
قطعا أو احتمالا، ويمكن أن يشك في انتفاء القيد وبقاء الحكم، فالاشكال المذكور هناك
وارد هيهنا، والجواب الجواب، فتحصل إنه لاوجه لتخصيص الاشكال في الحكم
المعلوم بالدليل العقلي، كما هو ظاهر الرسائل ومن تأخر عنه، فإنه بعينه متصور في
استصحاب مطلق الحكم المعلوم بالدليل اللبي عقليا كان أو إجماعا قوليا أو عمليا أو
لفظيا، يكون من المتواتر المعنوي، فالأولى أن يقال في صدر التنبيه (ربما يستشكل في
استصحاب الحكم إذا كان معلوما بالدليل اللبي فصار مشكوكا)، فيجاب عنه بعدم
جواز استصحاب الحكم الأعم من الضمني والنفسي الاستقلالي مع اعتبار وحدة
الموضوع دقة، وبجواز استصحاب الحكم النفسي المستقل بناء على تحكيم نظر العرف
الاخذ بارتكازه بالمناسبات المسامحية، فلو منع كون " لا تنقض " ناظرا إلى الأنظار
العرفية كما سيأتي، فينحصر الجواب فيما أبديناه، ثم لا يخفى إن الظاهر من فحاوي
كلمات الشيخ ومن بعده إنه لا يفرق بين صورتي كون القيد في ظاهر الكلام راجعا
إلى الحكم أو إلى الموضوع، وذلك لارجاعه قيد الحكم أيضا إلى الموضوع وإدخاله
في قيوده، ومنشأ هذا وارجاع الواجبات المشروطة إلى المعلقة المقيدة موضوعا أمر
واحد، وهو تصور أن ما يكون دخيلا في الحكم فلابد من أن يكون من قيود
موضوعه ومضيقات دائرته، وإلا فيلزم أن تكون دائرة الموضوع أوسع من الحكم،
ولذا قيل بأن قيود الهيئة راجعة إلى المادة، فلا إناطة للإرادة بشئ غير موضوعها، فمن
هنا ينكر الوجوب المشروط ويرجع إلى الوجوب التعليقي على ما فصلنا المقال في المقام
في مبحث المقدمة، ولكن نقول إنه لا وجه لهذه الدعوى للفرق بين القيدين، فإذا
قيل الماء إذا تغير كان كذا، فالموضوع هو الماء لا مطلقا، ولا مقيدا بكونه متغيرا،
بل هو الماء المجرد عن الاطلاق والتقييد التوأم مع التغير مجردا عن تقييده بالتوأمية
أيضا، فإذا علم بتغير ماء ثم شك في بقائه عليه صح الاستصحاب على الدقة أيضا ولا
احتياج إلى الرجوع إلى لسان الدليل، وأما إذا قيل الماء المتغير فالمتبع لسان الدليل
إذ لابقاء للموضوع دقة هذا، ثم لا يخفى إنه لا فرق ظاهرا في جريان الخلاف في
حجية الاستصحاب وعدمها، بين أن يكون المستصحب أمرا وجوديا أو عدميا،
182

فكل منهما محل للنزاع، فالقائل بحجيته لا يفرق بينهما، وكذا القائل بعدم حجيته ولا
منشأ لتوهم اختصاص الخلاف باستصحاب الأمور الوجودية إلا تسالم القوم على
الاخذ بأصول عدمية في موارد مخصوصة،
منها أصالة عدم القرينة على المجاز، كما إذا كان للفظ معنى حقيقي كلفظ الأسد
مثلا الموضوع للحيوان المفترس، فشك في وجود القرينة الصارفة عن معناه الحقيقي،
حيث أثبتوا المعنى الحقيقي بأصالة عدم القرينة،
ومنها أصالة عدم التخصيص بالنسبة إلى العام، ومنها أصالة عدم التقييد بالنسبة
إلى المطلق، ومنها أصالة عدم النقل إذا شك في نقل لفظ عن معناه إلى معنى آخر،
ومنها أصالة عدم المزاحم كما إذا كان الانسان مكلفا بشئ وشك في وجود
المزاحم أو شك في وجود المعارض. ومنها أصالة عدم وجود الحائل كما إذا شك في
وجود الحائل في أعضاء الوضوء أو الغسل المانع عن وصول الماء، ففي هذه الصور
قامت السيرة على جريان هذه الأصول وقيام السيرة صار منشأ لتوهم إن محل النزاع
في جريان الاستصحاب وعدمه مختص بالامر الوجودي لا العدمي، بل الامر العدمي
كان خارجا عن محل النزاع ومفروغ الجواز، فلا بد من التعرض لهذه الأصول وبيان
مداركها، حتى يعلم إنه يصح تطبيق الاستصحاب على هذه الموارد أم لا.
فنقول أما أصالة عدم القرينة فهي على نحوين. أحدهما في مورد القرينة المتصلة،
كما إذا شك في إنه هل اتصل بالكلام ما يصلح للقرينية وكان مانعا عن انعقاد
الظهور أم لا، فيكون عدم القرينة منشأ لانعقاد الظهور. وثانيهما في مورد القرينة
المنفصلة فبعد انعقاد الظهور يشك في قيام القرينة المنفصلة على الخلاف حتى يمنع عن
حجية ذاك الظهور، ففي الصورة الأولى تكون القرينة مانعة عن انعقاد الظهور، وفي
الثانية تكون مانعة عنه حجية الظهور، أما القرينة المتصلة التي كانت مانعة عن أصل الظهور،
فنقول إن الظهور الحاصل من اللفظ على قسمين.
أحدهما إنه ينسبق إلى الذهن معنى ولو مع الجزم بأن المتكلم ما أراد هذا المعنى، فلا
تصديق له بالإرادة، ومع ذلك يحصل له دلالة تصورية.
وثانيهما أن لا يكون الظهور من باب الدلالة التصورية، بل يكون من باب دلالة
183

التصديقية، فمن انسباق الظهور يصدق بأن المتكلم أراد المعنى، ولذا قالوا في الدلالة
التصديقية لابد أن يكون المتكلم في مقام الإفادة والاستفادة، وفرعوا عليه إن خطاب
غير من قصد إفهامه ليس بحجة، وإلا فلو كان الظهور حجة من باب الدلالة التصورية،
لا مجال لهذا الكلام، وبالجملة فتارة تكون القرينة المتصلة مانعة عن انعقاد الظهور
التصوري، وأخرى عن انعقاد التصديقي، بخلاف القرينة المنفصلة فإنها مانعة عن الحجية
فقط، مثلا إذا قال أكرم العلماء ثم قال في كلام مستقل آخر لا تكرم زيدا العالم، يكون
هذا مانعا عن الحجية لا الظهور. فنقول إن تطبيق الاستصحاب لا يمكن على هذه
الموارد لان انعقاد الظهور بالنسبة إلى الدلالة التصورية من اللوازم العادية، لعدم القرينة
ولو كان ينتهي بالآخرة إلى الآثار الشرعية، فلا يترتب على المستصحب أثر شرعي
ابتداء، بل الأثر هو الحجية للظهور، وهذا من اللوازم العادية لانتفاء القرينة، نعم إذا
قلنا بحجية الأصول المثبتة يكون الاستصحاب حجة في المقام، والمفروض عدم حجيته،
فلا مجال لتطبيق الاستصحاب على هذا المورد، هذا بالنسبة إلى الدلالة التصورية،
وكذا الحال بالنسبة إلى الدلالة التصديقية، مثلا إذا صدر من المتكلم كلام وكان
غالبا على خلاف الإفادة والاستفادة وشك في المقام إنه هل كانت قرينة على الغلبة
على الخلاف أم لا، فتكون الغلبة على الخلاف مشكوكة، فبأصالة عدم القرينة يحرز
عدم كون المتكلم في غير مقام البيان، وبه يحرز كونه في مقام البيان، وبه يحرز الظهور
في الدلالة التصديقية، وبعبارة أخرى في إثبات الدلالة التصديقية يحتاج إلى طي
ملازمتين، لان من لوازم أصالة عدم القرينة عدم كون المتكلم على خلاف الإفادة
والاستفادة، ومن لوازم ذلك كونه على طبق الإفادة والاستفادة، ومن لوازم ذلك إثبات
الظهور بالدلالة التصديقية، فلا يترتب الأثر الشرعي وهو حجية الظهور على نفس مورد
الاستصحاب، وهو ما بين في الملازمة الأولى إلا بواسطتين وهذا مما لا يقول به أحد
حتى القائل بحجية الأصول المثبتة، هذا بالنسبة إلى القرينة المتصلة، وأما القرائن المنفصلة
فنقول بعد استقرار الظهور للكلام والقرينة كانت مانعة عن الحجية، فيكون الموضوع
حينئذ مقيدا، يعني عدم وجود القرينة أخذ في موضوع مقيد بالظهور أي تعبد
بظهور لا حجة على خلافه، فيكون عدم القرينة من قيود الموضوع، فإذا تحقق جزء
184

الموضوع وهو الظهور وشك في الجزء الاخر، فيمكن إحراز الجزء الاخر بالأصل
أي بأصالة عدم الحجة على الخلاف، يعني يحرز بجزء من الموضوع بالوجدان وجزء
منه بالأصل، فلا قصور في تطبيق الاستصحاب على هذه الصورة، ولكن يمكن دعوى
إنه لا تنتهي النوبة إلى الاستصحاب إلا على تقدير كون حجية الظهور مستندة إلى
عدم القرينة الواقعية، يعني إن كانت حجة الظهور من لوازم عدم القرينة الواقعية،
فللاستصحاب مجال، وأما إذا لم يكن كذلك وقيل بأن الظاهر حجة ما لم يعلم، أو لم
تقم حجة على الخلاف، فليس الأثر وهي الحجية من آثار عدم القرينة واقعا بل من آثار
عدم وصولها، ولا ريب في إن الشاك في القرينة لا يكون عالما بالخلاف ولا ممن وصل
إليه الحجة على الخلاف، فالظاهر حجة في حقه من باب عدم الظفر بما يزاحمه، لا من باب
استصحاب عدم القرينة، وكذلك الشك في وجود المعارض، فبمجرد إنه لم يرد على
خلافه دليل ولم يعلم به يثبت التعبد بالظهور بلا معارض، ولا نحتاج في هذا المورد
أيضا إلى الاستصحاب، فلا يمكن الالتزام بقول مطلق بأن أصالة عدم القرينة كانت
تحت الاستصحاب أو خارجة عن تحته، بل لابد من التفصيل فيقال في القرائن
المنفصلة يمكن إدخالها تحت الاستصحاب على تقدير، وفى قرائن المتصلة لا يمكن بناء
على عدم حجية الأصول المثبتة، ولكن التحقيق إن كلا منهما خارجا عن تحت
الاستصحاب، فتمام الأصول العدمية اللفظية خارجة عن تحت الاستصحاب ولا ينطبق
عليها، بل ملاك الحجية في الكل هو السيرة المستقرة وهي أصل مستقل برأسه في قبال
الاستصحاب، وأما أصالة عدم النقل فهي أيضا لا يصلح عدها من الاستصحاب إلا
على القول بالأصل المثبت، نعم لو أريد منها من باب المسامحة في التعبير استصحاب
الظهور الأولى المستند إلى اللغة أو العرف المتقدمين على الشرع كي يترتب عليه
التعبد به بالنسبة إلى الاستعمالات الواردة من الشارع قبل العلم بالنقل، فله وجه، فلا
ينحصر وجه الاخذ بهذا الأصل في غير الاستصحاب، كما في أصالة عدم القرينة على
ما تقدم، وأما أصالة عدم الحائل فهي مجراة عند الأصحاب في مورد الشك في
وجود الحائل في أعضاء الوضوء والغسل، وفي مورد الشك في وجود الطبقة المانعة
عن إرث الطبقة الفعلية اللاحقة، وعند الشك في تحقق الرد ممن بيع ماله فضوليا، فإن
185

الحق إن رده من قبيل المانع عن إضافة العقد إليه لا أنه فسخ له على ما يتوهم، وربما
يتخيل إنها من الاستصحاب مع إنك ترى إن وجوب غسل اليد مثلا أثر للغسل الذي
هو منتزع عن وصول الماء إلى البشرة، وليس الوصول بالنسبة إلى عدم الحائل إلا لازما
عاديا لحجيته، فاستصحاب عدم الحائل نفيا لوجوب الإعادة أصل مثبت لا يتكفله نحو
(لا تنقض)، وكذا الامر في أصالة عدم الطبقة الأولى، أو عدم الشريك للوارث
الواحد، فإن إرث الطبقة اللاحقة وارث الواحد لتمام المال لم يترتب شرعا على عنوان
مقيد بعدم السابقة، أو بنفس عدمها حتى يحرز بالاستصحاب جزء الموضوع أو تمامه،
فإن مقتضى قوله عليه السلام ما تركه الميت فهو لوارثه، وقوله تعالى (وأولو الأرحام بعضهم
أولى ببعض)، أن لا يرث البعض الاخر عند وجود الأولى منه، فعنوان الموضوع
ملزوم للعدم وقابل للتحليل عقلا إلى جهة وجودية مقيدة بالعدمي لا أنه كذلك في
الدليل، وحيث لا اعتبار بهذا التحليل في الاستصحاب وسائر الأحكام، فإذا جعل
الانسان بماله من المفهوم موضوعا للحكم فلا يصح الرجوع إلى أصالة عدم الحيوانية،
أو الناطقية، فإن شيئا منهما لم يقع موضوعا للأثر في لسان الدليل لتغاير مدلول الحيوان
الناطق ومفهومه مع مفهوم الانسان، بحيث يصح سلب أحدهما عن الاخر، فلا مجال
للتمسك بالاستصحاب فيما إذا لم يكن العدم قيدا في الكلام، كما في آية إرث الام
والزوجين، فإن عدم الولد قد جعل معلقا عليه على ما في الآية المباركة، فلا بأس
باستصحاب عدمه في أمثال المقام لا مطلقا، ولعل وجه استقرار السيرة على الرجوع
إلى أصالة العدم عند الشك في المانع عن وصول الماء، أو عن إرث الطبقة المتأخرة مطلقا،
أو عن إضافة العقد إلى المالك الذي وقع العقد على ماله، من دون إذنه، هو الظن الحاصل
من الغلبة، فإن أغلب الأشخاص في أكثر الأزمان يفتشون عن الدنس والحواجب
الحائلة من وصول الماء إلى أبدانهم، فإذا شك في وجود الحائل في وقت فيلحق
المشكوك بالأعم الأغلب ظنا، ومن هذا فرق بين صورتي الشك في وجوده وحائلية
الموجود، فلا يحكم بالعدم في الثاني لانتفاء الغلبة، وربما يفرق بين الأشخاص والأصناف،
فيسلم أصل العدم بالنسبة إلى من ليس من شأنه الابتلاء بالحائل كثيرا وفى الأغلب،
دون من هو كذلك، وكذا لمن كان أغلب المجيزين للفضولي لا يردون العقد قبل
186

الإجازة وعند الاطلاع، فيظن بعدم رد المشكوك ردا بحسب بادي النظر، وكذا يظن
بعدم الطبقة المانعة والشريك للموجود بعد الفحص وشيوع موت المورث، فإنه لو كان
في البين وارث لبان، فيمكن أن تكون السيرة مستندة إلى هذا الظن الضعيف الحاصل
من الغلبة في هذه الأبواب، والدليل الاجتهادي الذي أمضاه الشارع تسهيلا للامر
لا إلى الاستصحاب، فإنه مثبت في الموارد اللهم إلا أن يدعى خفاء الواسطة عند
العرف، وهو كما ترى افتراء عليهم، ويمكن إرجاع أصالة عدم الحائل في الوضوء إلى
استصحاب تحرك القطرة التي صبت على أعضاء الوضوء والغسل وجريانها، فيستصحب
بقاء الجريان على البشرة إلى أن يقطع بانتفائه، فإن جريان الماء الذي يصب من الاناء
على العضو أمر تدريجي وفي الأمور التدريجية أول وجوده بمنزلة الحدوث وآخره
بمنزلة البقاء، فيستصحب البقاء، وبعبارة أخرى أول قطرة من الماء إذا جرت تنتقل
من محل إلى محل، فإذا شك إنها انتقلت من المحل الأول ووصلت إلى المحل المشكوك،
أو وقفت في المحل الأول لوجود الحائل فيستصحب الانتقال ووصول سطح الماء
إلى نفس البشرة، نظير السهم إذا تحرك وخرق الهواء وكان المقصد من رميه إصابته
إلى المحل المعين في الجدار، فإذا شك في أنه وقف في الوسط لمانع أم لا، فتستصحب
الحركة وينتزع منها الوصول إلى الجدار، وكذا الماء فأول سطح من الماء إذا انتقل
في محل إلى محل آخر، فنقطة الماء التي كانت سطح الماء جرت حتى انتهت إلى محل
الحائل المشكوك الوجود، فلو كان الحائل موجودا لا تجري وتكون واقفة، وإلا
فتجري وتصل إلى البشرة فإذا شك في ذلك فيستصحب الجريان للأول وينتزع من
هذا الجريان الغسل، وكذا دم الحيض إذا تحرك من الباطن حتى انتهى إلى الفرج،
فإذا شك إنه وقف في باطن الفرج أو خرج إلى خارجه، فيستصحب سيلانه ويحكم
بمقتضاه بتحيض المرأة، وبعبارة
وضح وبيان آخر إذا كان حد وصول الماء هو
البشرة، فإذا تحرك الماء وانتقل من محل إلى محل آخر وشك بعده في إنه هل الماء
الجاري والمتحرك انقطع بواسطة الحائل المشكوك الوجود ووصل إلى البشرة،
فتستصحب الحركة والجريان إلى المحل المشكوك وينتزع منه الغسل إذ لا نعني من
الغسل إلا وصول الماء إلى البشرة، هذا عند الشك في وجود الحائل، وأما مع الشك في
187

حائلية الموجود فلا مجال للاستصحاب بهذا التقريب، ولذا يفرقون الأصحاب بين
الشك في الحائل بين الشك في حائلية الموجود، فظهر إن هذه الأصول العدمية المسلمة
في الموارد المذكورة ليست من الاستصحاب بشئ بل يمكن أن يدعي إن جميعها عبارة
عن الدليل الاجتهادي والظن الحاصل من الغلبة، لا أنها أمور يأخذون بها العقلاء تعبدا،
فالاتفاق على الرجوع إليها لا يدل على حجية الاستصحاب في العدميات مطلقا وعند
الجميع، فالنافي لحجية الاستصحاب ناف لها على الاطلاق، كما هو مقتضى النفي المطلق
والمدعي لحجيته مدع لها أيضا على الاطلاق، فكلا قسمي الاستصحاب مورد للنزاع،
ثم إنه ربما يتوهم أيضا عدم حجية الاستصحاب في العدميات نظرا إلى أن التنزيل
لابد أن يكون بلحاظ الأثر الفعلي، وأن يكون المنزل أثرا أو ذا أثر شرعي، وليس
عدم الموضوع موضوعا للأثر في الأغلب، لا تماما ولا جزء، كما إنه ليس عدم الحكم
وعدم جعله أيضا أثرا شرعيا، فلا وجه لاستصحابها، فهذا التوهم يقابل توهم الاتفاق
على حجية الاستصحاب في العدميات، ويندفع بأن لا تنقض متكفل لتنزيل ما يكون
أمر وضعه ورفعه بيد الشارع في مقام تشريعه، والأثر الفعلي أعم من الحركة أو
السكون، فعدم الحكم وعدم جعله مما بيد الشارع بإبقائه ورفعه بجعله، والأثر الفعلي
هو جواز السكون وعدم الجري على طبق الحكم المحتمل، فهذا التوهم أوهن وأضعف
مدركا من التوهم المتقدم، وبعبارة أخرى يتوهم إن عدم الحكم نقيض الأثر الشرعي
وهو الحكم وإن (لا تنقض) ناظر إلى تنزيل الآثار الشرعية المشكوكة منزلة الباقي،
ومقتضى لترتيب أثر المعلوم على المشكوك، فلا شمول له لعدم الحكم لأنه لا يكون أثرا
ولا موضوعا لاثر في الشرع، فلا وجه لاجراء الاستصحاب فيه، نعم لو كان حجة
من باب الظن لكان للرجوع إلى مثبتة وجه كما هو واضح، وأما عدم الموضوع
للحكم فهو أيضا نقيض لذي الأثر فلو لم يجعل بنفسه تمام الموضوع أو جزئه لاثر
آخر، فلا يشمله دليل الاستصحاب لما تقدم، والحاصل إنه لا مجال لاستصحاب
عدم الاحكام مطلقا ولعدم موضوعاتها أيضا فيما إذا لم يترتب على العدم المضاف أثر
آخر، وإلا فلا بأس به، هذا غاية تقريبه وقد تقدم ما يدفعه، وهو إن الامر بالعمل مع
المشكوك معاملة المعلوم وتنزيله منزلته إنما يقتضي كون المشكوك صالحا للتنزيل، وأن
188

يكون مما أمر وضعه ورفعه بيد الشارع، ولا ريب في إن عدم الحكم مما تناله يد
الابقاء والرفع، فللمولى أن لا يجعل حكما إلى الأبد فيستمر عدمه وله جعله فينقطع
استمرار عدمه، وفي إن الأثر والعمل المترتب على ما ينزل منزلة المعلوم المتحقق
لا اختصاص له بالتحريك والانبعاث بل قد يكون ذلك، وقد لا يكون كما في
النواهي المقتضية لترك المنهي عنه وعدم التحرك إليه، فالعمل المترتب على المنزل إما
وجودي أو عدمي، وهو بكلا قسميه أثر لما تناله يد الوضع والرفع، فإن أبقى عدم الحكم
على حاله فالعمل على طبقه هو السكون وترك العمل، وإلا فالعمل المترتب على الحكم
هو التحرك لو كان من الأوامر، فهذه الشبهة لا تجدي في استصحاب عدم الاحكام
وعدم موضوعاتها، إذا لم يترتب عليه بنفسه الأثر، وهناك توهم آخر في التفصيل
بين استصحاب العدميات، ومحصله إن العدم الذي يراد استصحابه فهو إما عدم المجعول
الذي قد علم بجعله مشروطا بشرط لم يكن متحققا، ثم شك فيه كوجوب الحج والصلاة
المشروط بالاستطاعة والوقت الغير الحاصلين عند الايجاب، وأما عدم الجعل للحكم، فإن
كان من الأول فلا بأس به لأنه أمر صالح للوضع والرفع ويترتب على التعبد على
بقائه أثر عملي، وأما الثاني فهو بنفسه لا يكون أثرا وقابلا للرفع والوضع تشريعا
ولا موضوعا للأثر، نعم لما كان الجعل سببا للأثر وهو الحكم المجعول فيكون عدمه
ملزوما لعدمه، فلو أريد إثبات عدم الحكم باستصحاب عدم الجعل فليزم القول بالأصل
المثبت، وحيث لا دلالة في لا تنقض على تنزيل الأثر بالواسطة للمعلوم، فلا وجه
لاستصحاب هذا العدم المستلزم لعدم الحكم، ولا يخفى إن نسبة الجعل إلى الانشاء
نسبة المنتزع إلى منشأ انتزاعه، لا نسبة المعلول إلى علته، فإنه لا علية للانشاء للمنشأ به،
سواء كان إنشاء الحكم أو الملك، وإلا فليزم أن لا يمكن انفكاكهما عنه، مع إنه ربما
ينشأ فعلا وجوب الشئ عند حصول شرائطه وملكية المنفعة النسبة القابلة، بل
لا يتحقق المنشأ بالأمور التدريجية كالعقود والايقاعات، فإن حروف العقد لا تجتمع
في الوجود، فلا توجد القلة بتمامها في آن حتى يوجد المعلول بها، إلا أن يدعي إن الجزء
الأخير هو العلة، وهذا كما ترى فالانشاء ليس علة للجعل والمجعول المتحدين ذاتا
المتغائرين اعتبارا، كالايجاد والوجود بل هو أمر يعتبرون العقلاء حصول الحكم
189

والملكية عند حصوله، فظهر إنه منشأ للاعتبار وانتزاع الجعل، لا إنه عينه كما قد
يتسامح في التعبير، أو علته حتى يكون ترتب عدم الحكم على عدمه من ترتب اللازم
العقلي على ملزومه، ويكون استصحابه بلحاظه مثبتا، فالانشاء الواقعي منشأ للجعل
التحقيقي والظاهري التنزيلي منه منشأ للجعل الظاهري، فعدمه التنزيلي منشأ لعدم
الحكم تعبدا، فهو أثره الشرعي المصحح لتطبيق لا تنقض على عدم الانشاء، وبتقريب
آخر لو كان الانشاء علة للجعل والمجعول لكان استصحاب عدمه إثباتا لعدم الحكم
مثبتا كما قيل، فإن الأثر وهو عدم الحكم مرتب على عدم الانشاء حقيقة لا تعبدا
وتنزيلا، فلا وجه لترتيبه على عدمه الظاهري، وأما على تقدير كون الانشاء منشأ
للاعتبار فثبوته الواقعي يصحح اعتبار تحقق المنشأ واقعا وبالتنزيل اعتبار تحققه
ظاهرا، فلا مانع من استصحاب عدمه والتعبد به باعتبار أثره وهو عدم المنشأ تعبدا،
فإن الأثر في المقام ثابت للأعم من الواقعي والظاهري، هذا مضافا إلى إنه لو سلم عدم
وجه لتطبيق الاستصحاب على عدم الجعل، فلنا أن نستصحب عدم المجعول في المقام
أيضا، فلا فائدة في هذا التشقيق، هذا حال التفصيل فيه مع قطع النظر عن كون الشك
في المقتضى أو في الرافع، وأما بهذا الاعتبار فسيجئ الكلام فيه إن شاء الله في أثناء
التعرض للاخبار.
ثم إنه قد يستدل على حجية الاستصحاب مطلقا بارتكاز ذوي الشعور بل مطلق
الحيوان، فقيل إن الجري على طبقه ليس من خصائص الانسان ذي النفس الناطقة، بل
هو من لوازم النفس الحيوانية، ولذا يرجع كل حيوان إلى مأمنه ومرتعه، وكل طير
يرجع إلى وكره مع احتمال الخراب والزوال، وليس هذا إلا اتكالا على البقاء واعتمادا
على الاستصحاب، وهذا كما ترى شبيه بالسفسطة، لان رجوعها إلى مأواها لا يدل على
ذلك أصلا، إذ لعلها لفرط انغمارها في الغفلة لا يبدو لها احتمال الخلاف، ولا دليل على
حدوثه منها كما لا يخفى، بل لعلها ناش عن العادة المغمورة فيها، وربما يستدل للحجية
في الجملة بالاجماع، ولا ريب في إنه لا وجه لدعواه مع هذا الخلاف العظيم من السلف
إلى الخلف، ومع عدم تسلم الجميع لحجيته في مورد من الموارد، فإن النفي المطلق لا يبقى
مورد للانفاق، وقد يتمسك في ذلك ببناء العقلاء، وإن أساس عيشهم على الاستصحاب
190

والعمل على طبق الحالة السابقة، فإن التجار يعملون على الاستصحاب ويرسلون مال
التجارة على عهدة عمالهم في البلاد النائية، ولا يعتنون باحتمال موتهم أو هلاك أهل
تلك البلاد ومن جملتهم ذاك العامل، وكذا يدعون جمعا كثيرا للضيافة ويرتبون
مقدماتها جريا على طبق الحالة السابقة، من دون اعتناء باحتمال هلاكه أو هلاكهم، أو
خراب داره، فكل ذلك منوط على الاستصحاب، فيصدق إن عيش بني آدم وحركاتهم
على طبق الحالة السابقة، ولا نعني من الاستصحاب إلا هذا بل يقال إن قوله عليه السلام
(لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك)، إشارة إلى القضية الارتكازية في أذهان العقلاء،
وظني إن هذا الخبر لو لم يكن دليلا على عدم كون المرتكز ذلك، فلا دلالة له على
الاثبات أيضا، وتوهم كون ذلك البناء من الاطمينان الفعلي والعلم العادي والظنون
الشخصية في غاية البعد، كتوهم كون العمل رجائيا في جميعها، ولكن لابد من ملاحظة
إن العمل منهم مبني على صرف التعبد بالشك، وإن المعلوم الزائل احتمالا بمنزلة الباقي،
أو من باب بناء العقلاء على الاخذ بالاطمينان النوعي الحاصل وجدانا، فلا يكون
المدار في هذا البناء هو مجرد التعبد بالبقاء في صورة الشك بل طريقة العقلاء على
الجري على طبق الاطمينان النوعي، فالحق إن المدرك للبناء المستقر ليس صرف التعبد
بالبقاء في صورة الشك، إذ لا يتعبدون بالبقاء بمجرد الشك فيه، بل حصول الاطمينان
النوعي في كثير من الموارد، ويعبر عنه بالعلم العادي وبالظنون والعلوم الشخصية في
بعضها، وكذا بالظنون النوعية المستندة إلى الظن بالملازمة بين بقاء الشئ وحدوثه،
وما قيل في دفع الملازمة من أن ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم، إنما ينافي القطع
بها، لا الظن المدعي بملاحظة كون الغالب كذلك، فمن يجعل المستند للبقاء هو الجري
على الحالة السابقة ظنا نوعيا ارتكازيا للعقلاء، فلا يجوز دفعه بمنع حصول الظن في
الموارد الشخصية وبأن ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم، بل لابد من منع
حصول هذا البناء عنهم في الأمور الدينية، أو من دعوى الردع من الشرع بمثل ذيل
رواية مسعدة بالنسبة إلى الظن في الموضوعات، وبالآيات الناهية عن اتباع الظن، وغير
العلم في الاحكام، والوجه الدائر هو الثاني فدعوى إنه يستفاد من هذا البناء إنهم يتعبدن
مع الشك ببقاء اليقين في غاية الاشكال، بل مبني على حصول الاطمينان، كما إن مبنى
191

القائل بحجية الاستصحاب من باب الظن على ذلك، فإذا احتمل هذا المعنى فإثبات إن
بناء العقلاء على مجرد التعبد بالشك في غاية البعد، ولو أغمضنا عن ذلك وقلنا بأن بنائهم
استقر على ذلك، وإنهم يعملون عند الشك على اليقين السابق تعبدا.
فنقول بنائهم تارة يكون بما هم مسلمون فيكون من باب السيرة، وهذا ينافي
الردع لأنه مانع من وجودها واستقرارها، ومع تحققها لا مجال لاحتمال الردع،
لأنه ينافيها، فمن استقرار السيرة نكشف عن عدم الردع من الصدر الأول، ولكن
إثبات هذه السيرة مع الاختلاف العظيم الواقع في حجية الاستصحاب في غاية الاشكال،
وتارة يكون بنائهم بما هم عقلاء، وهذا أيضا على نحوين فتارة يكون بناء العقلاء في
أمور دينهم بما هم متدينون ومن جملتهم فرق المسلمين، وهذا أيضا يرجع حكمه إلى
السيرة لان المسلمين أيضا داخلون في المتدينين، فنكشف من استقرارها إنهم لم يكونوا
مردوعين من الصدر الأول، وتارة يكون بنائهم في أمور معاشهم مع قطع النظر عن
عالم التدين، ويحتمل أن يكون بنائهم على ذلك في أمور دينهم، وقد ظهر إنه إن
كان بنائهم من قبيل الأول فهو يضاد مع الردع، لأنه لو كان في البين رادع لم تستقر
السيرة على الخلاف، فهي على تقدير ثبوتها كاشفة عن عدم الردع، إلا إنه لا بأس بالنظر
في إن هذا المعنى حاصل في الاستصحاب، يعني استقر عملهم على السيرة على نحو يصير
مرتكزا في الأذهان بحيث لا يخرج عن أذهانهم أم لا، ومن المعلوم إن هذا المعنى
لا يمكن ادعائه في المقام مع وجود هذه الاختلافات العظيمة، وإن كان بنائهم من
قبيل الثاني، ويتعدى من المعاش إلى الدين، ففي هذه الصورة أيضا لا وجه للنزاع في
ردع هذه السيرة، لان المقام غير مرتبط بردع الشارع، لان الشارع أوكلهم في أمور
معاشهم على عقولهم مسامحة وتوسعة، هذا كله في منع انعقاد البناء التعبدي على
الاستصحاب، وفي منع صحة النزاع في الردع عنه على تقدير تحققه وتسليمه.
وأما لو أغمضنا عن ذلك أيضا وسلمنا جواز النزاع في الرد عن البناء عن
المستقر المستمر إلى الان، فلا بأس بالتعرض لما يستدل به للرداعية من الآيات وهي
على سنخين، أحديهما تمنع عن اتباع غير العلم واقتفاء ما ليس به علم، والأخرى تدل
على إن الظن لا يغنى ولا يكشف عن الحق والواقع، وقد يتمسك بهما على الردع عن
192

بناء العقلاء على حجية الظواهر على العمل بالخبر الواحد وعلى العمل بالاستصحاب.
وقد أجيب عن رداعيتهما عن البناء الأول بأن الشارع لما لم يؤسس طريقة جديدة
للتفهيم وإفادة مراداته، وكان آخذا بظواهر ألفاظ أهل محاورته ومؤديا لمقاصده، فبها
يعلم بعدم رادعية الآيات عن تلك الطريقة المستمرة، وعن الثاني بأن الطائفة الأولى
منها وهي الناهية عن اتباع غير العلم والحجة، لا دلالة لها على الردع، فإنها متكفلة
للحكم لا لبيان الموضوع وتعيين الحجة من العلم وما بمنزلته، فالبناء المستقر من العقلاء
على العمل بالخبر من باب تتميم الكشف، الذي هو عين إعطاء الحجية عن الظن موجب
لخروجه عن موضوع النهي في الآية، لان الآية تنهى من اتباع ما ليس بعلم ولا
حجية، والمفروض إن الظن الخبري حجة عند العقلاء، فلا تشمله الآية المباركة.
وأما ما يدل على عدم إغناء الظن من الحق، فهو وإن كان ناظرا إلى الموضوع،
أي محرز لموضوعه، وإلى إن الظن لا يتبع ويكون صالحا للردع، إلا إنه قد أجيب
عنه بأن مفاده إن الظن بذاته لا يقتضي الحجية والاتباع، بخلاف العلم، وهذا لا ينافي
صيرورته حجة بالبناء على الاخذ به من العقلاء، أو بحكم العقل في ظرف الانسداد،
أو التعبد به من الشارع، ولهذا لم يتوهم رادعية الآية عن الاخذ بالظن على تقدير
تمامية مقدمات الانسداد، حتى يلزم التنزل من الظن إلى غيره، هذا خلاصة ما أجيب
عنهما في ذاك الباب، ولا يخفى إن الجواب عن آية النهي عن اتباع غير العلم لا يتأتى
في المقام على تقدير انعقاد البناء على بقاء المتيقن لا اليقين، فإنه لا يوجب تتميم الكشف
وحجية شئ، كي يقال بخروجه عن موضوع النهي، بل هو منشأ لحكم تعبدي من
العقلاء في ظرف الجهل بالبقاء وعدم العلم به، نظير حكم الشارع بالحلية الظاهرية وأمثاله،
وهذا هو السر في منع صاحب الكفاية رادعيتها عن البناء على الاخذ بالخبر في ذاك
الباب، وتسليمه إياها في المقام فإن البناء هناك موجب لحجية الظن ولعدم مشموليته
للآية الشريفة، وههنا لا يوجب ذلك على تقدير انعقاده على إبقاء المتيقن، وكذا
على تقدير لم يعلم انعقاده على إبقاء اليقين، وإلا فالجواب في المقام هو الجواب في
ذاك الباب، فإنه لو انعقد على إبقاء اليقين واعتبار بقائه تعبدا عقلائيا، فيصير المستصحب
ذا حجية لا يندرج في موضوع النهي، فمن هذا ظهر إن من أظهر العجب عن المحقق
193

الخراساني لعده الآية صالحة في المقام مع إنكار رادعيتها في بحث الظن، لم يتفطن على
محصل كلامه في البابين ولم يظفر بوجه الفرق في المقامين، نعم لو كان العلامة المعظم
جازما بانعقاد البناء على إبقاء اليقين أو كان قائلا بجعل المؤدى للامارات لا تتميم
الكشف، لكان التعجب من التفرقة في محله، ثم لا يخفى إن العمدة في حجية الاستصحاب
هي الاخبار، وقبل الخوض فيها نقول إنه لا يظن على ذي فتوى من الزمان الذي
استقر الفتوى وهو زمان الشيخين، ينكر أن من كان على يقين من طهارة وشك في
الحدث أن يبنى على وجود الحدث وبطلان الطهارة وارتفاعها وبالعكس، بل على الطهارة
في الصورة الأولى ويبنى على الحدث في صورة عدم كونه مسبوقا بالطهارة، فيمكن
ادعاء الموجبة الجزئية في باب الاستصحاب قبال السالبة الكلية، بل من كان منكرا
بقول مطلق لو عرض عليه هذا الفرع فلا يكون متوقفا بل يكون بانيا على الطهارة،
فمن الصدر الأول كل من يفتي إذا دخل على هذا الفرع لا يتوقف فيه ويرسله إرسال
المسلمات، بل فلا بد من حمل كلام النافي المطلق على غير هذه الصورة المسلمة، أو على
إن المنفي على الاطلاق هو الاستصحاب المعدود من الظنون كما كان عليه الأقدمون.
وبالجملة فالظاهر إنه لا إشكال ولا خلاف في العمل بهذا الاستصحاب، فلا بأس بدعوى
الاجماع على حجيته في الجملة قبالا للسلب الكلي المترائي من بعض النفاة، ولا فرق في
هذه الجهة بين من يرى حجية الاستصحاب من باب الظن أو بناء العقلاء أو غير ذلك،
فهذا الفرع عنده كان من قبيل المسلمات فتوهم السلب الكلي لا مجال له، بل السلب
الكلي في قبال القدماء القائلين بحجية الاستصحاب من باب الظن، فللادعاء بأن حجية
الاستصحاب مسلمة في الجملة مجال، ولكن هذا الادعاء لا يثبت حجيته بنحو كلي وفي
تمام الموارد، كما لا يخفى، وبالجملة العمدة في الاستدلال هي الاخبار، وقد بلغت ما يقرب
من الاستفاضة، منها ما رواه زرارة مضمرا قال: قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء،
أتوجب الخفقة والخفقان عليه الوضوء؟ قال عليه السلام: يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب
والاذن، فإذا نامت العين والاذن فقد وجب الوضوء، قلت فإن حرك في جنبه شئ
وهو لا يعلم، قال عليه السلام: لا حتى يتقن إنه قد نام حتى يجئ من ذلك أمر بين، وإلا فإنه على
يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر، أما فقه
194

الحديث فيعلم منه إن الخفقة والخفقتان كانتا مرتبة من النوم، فللنوم مراتب فتارة
يكون النوم نوم العين فقط ولا يلتفت الانسان إلى الأشياء التي تدرك بالقوة الباصرة،
ومع ذلك يدرك الأشياء التي يكون إدراكها بواسطة القوى الاخر كالسامعة
واللامسة مثلا، ولذا قال عليه السلام قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن، يعني ولو لم يلتفت
من ناحية العين ولكن يلتفت من ناحية أخرى كالقلب، فإن القلب سلطان البدن
والقوى الاخر تدركون بواسطته، فإذا نام القلب تنام تمام القوى، ويعلم من ذلك أيضا
إن علاقة القلب إلى الاذن كان أزيد من علاقته بالعين، فإذا لم تسمع الاذن يستكشف
عن نوم القلب وعدم التفاته، فيعين الإمام عليه السلام إن المرتبة التي توجب الوضوء من النوم
هي نوم الاذن والقلب، ثم يسئل السائل عن حد نوم الاذن بقوله فإن حرك في جنبه
شئ الخ، فيجيب عليه السلام بقوله: لا حتى تستيقن إنه نام، فعلم إن المدار على نوم الاذن والقلب،
ولكن لا مطلقا بل مرتبة تبلغ حد اليقين ويجئ من ذلك أمر بين، وإلا فإنه على يقين
من وضوئه الخ، والعمدة في الاستدلال هي الفقرة الأخيرة من الرواية، وهي فإنه على
يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك بل ينقضه بيقين آخر، والجزاء هنا إما محذوف،
أي وإن لم يتيقن فلا يجب الوضوء، فإنه على يقين من وضوئه، وإما نفس العلة وهي
قوله عليه السلام: فإنه الخ. ولكن يرد على هذه الرواية إشكالان أحدهما هو الاشكال المشهور
وهو إن هذه الرواية واردة لضرب الكبرى الكلية في خصوص باب الوضوء، أي أنت
على يقين في وضوء خاص، وكل من كان على يقين في وضوئه سواء كان هذا الوضوء
أو وضوء أخر مع حفظ الكبرى الكلية، فلا ينقض يقينه بالوضوء بالشك، ثم لا يخفى
إن مدرك النزاع في تمامية الاستدلال وعدمها، ليس هو القول بكون اللام في لفظ
اليقين الواقع بعد قوله عليه السلام (لا ينقض) عهدا أو جنسا، حتى يقال على العهدية لا يكون
دليلا للاستصحاب في جميع الأبواب، وعلى الجنسية يكون دليلا على العموم، بل اللام
للجنس لا للعهد كما يشهد بذلك ظهور جواب الإمام عليه السلام في مقام الاستدلال في إنه
بنحو الكلية الكبرى وهي قوله عليه السلام ولا ينقض اليقين بالشك، ومع ذلك يمكن النزاع
في إنه مختص بباب الوضوء ولا يشمل ساير الموارد، أو إنه يعم جميعها، فبعد الفراغ عن
كون اللام للجنس، وظهور إن توهم العهدية في غاية البعد لعدم كون الجواب مطابقا
195

حينئذ للسؤال، وخروجه عن الكبروية الظاهرة في الجواب، فإن الظاهر إن الإمام عليه السلام
في مقام تطبيق الكبرى على المورد، فللنزاع في الاختصاص وعدمه مجال إذ يمكن
أن يدعى إن اليقين منصرف إلى اليقين في باب الوضوء، ولا يتعدى منه إلى غيره، كما
إنه يمكن دعوى إنه ليس اليقين منصرفا إلى باب الوضوء بل المراد من اليقين هو
اليقين المطلق، أي لا ينقض طبيعة اليقين بالوضوء، أو غيره من الموضوعات والاحكام
بالشك فيها، والحاصل إن مبنى النزاع في تمامية الاستدلال وعدمها ليس على كون
اللام للجنس أو للعهد بل بعد الفراغ عن كونه للجنس، فللنزاع أيضا مجال، فإنه
يمكن أن يدعى بأن اليقين الذي كان مدخولا للام بقرينة كونه مصدرا بالوضوء
منصرف فقط إلى باب الوضوء والإمام عليه السلام في مقام تطبيق طبيعة اليقين على الوضوء
على المورد، فحينئذ لا يتعدى إلى غيره، ويمكن أن يدعى عدم الانصراف بأن كان
المراد من اليقين هو مطلق اليقين، وتطبيقه عليه السلام على الوضوء من باب تطبيق الكلي على
إحدى مصاديقه والكبريات على الصغريات.
فنقول لو كنا نحن وهذه الرواية مع قطع النظر عن القرائن الخارجية، لا مجال
للاطلاق والتعدي من باب الوضوء إلى ساير الموارد، لا كون الرواية مصدرة بالوضوء
يكفي في عدم التعدي، ولا أقل من الاخذ بالقدر المتيقن في مقام التخاطب، لان
الاطلاق المستفاد في المقام لابد أخذه من باب مقدمات الحكمة، والمفروض إنه
يتشبث بالاطلاق في المقام إذا لم يكن في البين قدر متيقن، والقدر المتيقن في هذا المقام
هو الاكتفاء بباب الوضوء وعدم التعدي من باب الوضوء إلى غيره، ولكن مع ذلك كانت
في المقام قرينة مانعة عن هذا الانصراف والاخذ بالقدر المتيقن ومؤيدة للاطلاق.
منهما إن لا تنقض طبق على موارد عديدة والكبريات المتعددة، وهذا التطبيق موهن
للانصراف، وهذه الجهة هي العمدة في تأييد الاطلاق ووهن الانصراف.
ومنها إن النهي عن النقض يناسب أن يتعلق باليقين بما فيه بطبيعته من الابرام
والاستحكام، فمناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن يكون نقض اليقين بالشك منهيا
عنه على الاطلاق، لا اليقين بالوضوء فقط، هذا مضافا إلى إنه لما كان اليقين السابق
والشك اللاحق مما لابد منه في الاستصحاب مع وحدة الموضوع والمتعلق للقضية
196

المتيقنة والمشكوكة، فلهذا اعتبروا تعلق اليقين بالحدوث والشك بالبقاء، حتى يمكن
أن يكون الواحد متعلقا للعلم والشك، وإذ لا ريب في إن الشك في البقاء إنما يتصور
فيما ليس مقطوع الانتفاء كالوضوء في المقام، فلا يبقى شك في إن اليقين والشك لم
يلاحظا متعلقان به، فيتعين أن يكون الموضوع للنهي هو اليقين الناشئ من الوضوء
المتعلق بأثره، وهي الطهارة التي تبقى ما لم يحدث ما ينقضها، فإذا شك في الناقض فيحكم
بعدم جواز نقض ذاك اليقين بالشك اللاحق، وإذ لا ريب في عدم دخل لمنشائية
الوضوء لليقين بالطهارة، كما لا مدخلية لتعلقه بها أيضا في صحة ورود النص عليه،
فيعلم بكلية كبرى حرمة نقض اليقين بالشك وعدم اختصاصه بباب الوضوء والطهارة
، وأنت خبير بأن مناسبة النقض مع اليقين لا توجب عموم حكمه لما ليس فيه ملاكه
وإن عدم بقاء الوضوء وجدانا لا ينافي اعتبار استمرار وجوده شرعا، بل كما إنه
يستكشف عن كون الفسخ حلا للعقد من حينه بقاء العقد اعتبارا، فلنا استكشاف
بقاء الوضوء كذلك عند الشرع من إطلاقه الناقض على الحدث، كما في الاخبار وكلمات
الأصحاب، فالوضوء الحاصل باق ما لم يطرء ما ينقضه، فيتصور فيه القطع بالحدوث
والشك في البقاء، هذا مضافا إلى أن عدم قابليته للبقاء على تقدير تسليمه لا يوجب
أن يكون اليقين المجرد عن المتعلقات موضوعا للحكم، بل كما إنه لابد له من المتعلق،
فكذا أمكن أن يكون بعض متعلقاته واجدا لما يقتضي النهي عن نقض اليقين
بالشك، ولا أقل من عدم إحراز الاطلاق، وبالجملة فهذا مما لا ينبغي الاستناد إليه
للتعميم، والاشكال الثاني إنه ذهب بعض إلى إن الخبر مسوق لإفادة قاعدة المقتضى
والمانع، لا الاستصحاب كما ادعى، وقيل الظاهر من قوله عليه السلام (فإنه على يقين) الخ، إن
اليقين بالوضوء المقتضى للطهارة وارتفاع الحدث لا ينقضي بالشك في طرو المانع من
نوم أو غيره، ولا دلالة له على الاستصحاب، فإنه لا إشكال في عدم بقاء الوضوء لأنه
آني الحصول وليس من الأمور التي تبقى وتستمر وجودها بعد حدوثها، فإن اليقين
المذكور في الخبر متعلق بالوضوء والشك بالحدث الناقض، فلا اتحاد لما تعلقا به كي
يتصور إن النهي عن نقضه دليلا على الاستصحاب المعتبر فيه وحدة الموضوع للقضيتين،
فهذا الخبر دليل على القاعدة لا على الاستصحاب، لكن قد تقدم إن الوضوء أمر قابل
197

للبقاء اعتبارا، فيمكن أن يكون بحدوثه متعلقا لليقين وببقائه للشك، فلا داعي إلى
الحمل على إفادة القاعدة مع ورود نظائره للاستصحاب.
ومنها مضمرة أخرى لزرارة قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شئ
من المني، فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء، فحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئا
وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك قال عليه السلام: (تعيد الصلاة وتغتسله)، قلت: فإن لم أكن رأيت
موضعه وعلمت إنه أصابه، فطلبته ولم أقدر عليه فلما صليت وجدته قال عليه السلام: تغسله وتعيد
الصلاة، قلت: فإن ظننت إنه أصابه ولم أتيقن، فنظرت ولم أر شيئا، فصليت فيه، فرأيت
فيه، قال عليه السلام: (تغسله ولا تعيد)، قلت: لم ذلك؟ قال عليه السلام: لأنك كنت على يقين من طهارتك
فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا، قلت الخ، فنقول إن
الظاهر من قول السائل رأيت فيه نجاسة هي نجاسة أخرى طارية غير النجاسة السابقة
المظنونة كما احتمله الشيخ العلامة الأنصاري " قده "، لأنه مع احتمال نجاسة أخرى
يكون تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب كافيا، فكأن المراد من قوله عليه السلام لا تنقض اليقين
بالشك، أي لا تعد فلا يكون في الرواية إشكال من هذه الجهة، وإن كان يرد عليها
إشكال من جهة أخرى، وأما إذا كان المراد من النجاسة هي النجاسة السابقة المظنونة، فحينئذ
لا يعقل أن يكون عدم الإعادة مستندا إلى الاستصحاب ومعلولا له، لان الاستصحاب
السابق ليس بحجة لحصول اليقين فعلا على خلافه، بل لابد أن تكون علة عدم الإعادة
شئ آخر الذي يكون من لوازم الاستصحاب، وهو اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء،
أو كون إحراز الطهارة شرطا للصلاة، وكلاهما من لوازم الاستصحاب وكانا أمرا
خفيا، وجهة الخفاء فيهما إن المرتكز في الأذهان هو كون الأوامر الطريقية ومنها
الاستصحاب غير مجزية، بل حكم ظاهري في ظرف عدم انكشاف الواقع، وإن
الاستصحاب أمر طريقي لا موضوعي وكون الأوامر الطرقية مجزية، وكذا كون
الاستصحاب موضوعيا لا طريقيا خلاف الارتكاز وخلاف ما كان مغروسا في
الأذهان، لان لازم الطريقية عدم الاقتضاء للاجزاء، فهما أمران خفيان مع إن
الاستصحاب كان مرتكزا في ذهن زرارة، فلم يعلل الإمام عليه السلام عدم الإعادة بلزومهما
ويعلل بأمر خفي، فحينئذ يستند عدم الإعادة إلى لوازم خفية للاستصحاب لا إلى نفس
198

الاستصحاب، مضافا إلى إنه لا يلزم للإمام عليه السلام إبداء الشك في جواب السؤال الأخير
في الرواية بقوله: لعله شئ أوقع عليك، فإنه لو كان الامر الظاهري مقتضيا للاجزاء،
فلا احتياج إلى إبداء هذا الاحتمال بل يصح الاكتفاء بالاستصحاب الجاري من حين
الشروع في الصلاة إلى وجدان النجاسة في الأثناء، فبعض الصلاة إنما وقع على طبق
الامر الظاهري، وبعضها الاخر المأتى بعد الغسل والنقاء يكون واقعا على طبق الامر
الواقعي بالصلاة، ويكون صحيحا مع العلم بمخالفة الاستصحاب للواقع، فلا داعي
للإمام عليه السلام إلى التنبيه على الاحتمال، لأنه أحرز الطهارة بالاستصحاب، فوقوعه منه عليه السلام مع
عدم الاحتياج إليه قرينة قطعية بأن الإمام عليه السلام في مقام بيان الحكم الظاهري الفعلي
للشاك لا لبيان إن الامر الظاهري مقتضى للاجزاء. فتبين إنه لا إشكال في
الاستدلال بالرواية، وإن مقصود الإمام عليه السلام هي في هذه الرواية هو التكفل لبيان الحكم
الظاهري لا الواقعي، وإلا فما ابدء الاحتمال أخيرا فلا محيص من القول بأن عدم
الإعادة مستند إلى صرف الاستصحاب الفعلي، وإنه ما لم ينكشف الخلاف لا تجب
الإعادة، والعلامة " قده " أيضا يفتي بذلك، ولكن المشهور خلاف ذلك وبأن منشأ
سؤال زرارة عن وجه عدم الإعادة ارتكازية قاعدة الاشتغال في ذهنه وغفلته عن
الاستصحاب، والإمام عليه السلام استدل بالاستصحاب تنبيها على ذلك.
وفي المقام تنبيهان لابد من الإشارة إليهما أحدهما إنه لو أغمضنا عما ذكرناه من أن
الرواية متكفلة لبيان الحكم الظاهري لا للاجزاء، بل الاجزاء مستفاد ببركة الاخبار
الاخر، وقلنا بأنها في مقام إفادة الاجزاء وإن التعليل راجع إلى مقدمة خفية لا إلى
الاستصحاب، ويعبر عنه في لسان بعض بدلالة الايماء، فقد يتوهم صحة التعليل في المقام
باستفادة مانعية النجاسة من الاخبار، وإن العلم في باب النجاسات من جهة المنجزية،
ويرفع التنجز عن النجاسة بالاستصحاب لان الاستصحاب يمنع عن تنجز النجاسة،
لان الذي كان موضوعا للحكم هو النجاسة، والتعليل يرفع تنجزها، فالاستصحاب يدل
على إنه لو كانت في البين نجاسة لا تكون منجزة، ولكن نقول إذا كانت النجاسة
ضدا للطهارة لا نقيضه، فكيف يجري الاستصحاب حتى يرفع بهذا الاستصحاب أثر
النجاسة، فالإمام عليه السلام كيف يطبق الاستصحاب على الطهارة مع إن الأثر راجع إلى
199

المستصحب، وهو ضد النجاسة لا نقضيه، نعم لو كان المستصحب نقيض الطهارة
فيكون التطبيق في محله، لأنه يكفي في الاستصحاب ترتب الأثر على نقيض المستصحب،
فمعنى لا تنقض إنه رتب الأثر ببركة الاستصحاب على المستصحب، والمفروض إن
الأثر العملي حاصل لعدم النجاسة لا الطهارة، وبالجملة فعلى فرض مانعية النجاسة
لا شرطية الطهارة، كيف يتعقل جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الضد أي الطهارة، ولو
أغمزنا عن ذلك فحينئذ إن كان الأثر مترتبا على النجاسة المنجزة، ففي الشبهات المصداقية
تجري البراءة في الرتبة السابقة على الاستصحاب، فيجرى قبح العقاب بلا بيان قبل
الاستصحاب، ويقطع بعدم العقوبة، فلا يكون حينئذ لجريان الاستصحاب مجال، والمراد
من لا بيان عدم البيان على الوجود لاعلى العدم، فمن حيث العقوبة لا يترتب على
الاستصحاب أثر، فلا بد من تنزيل هذا التعليل على شرطية الطهارة لا مانعية النجاسة،
وثانيهما إنه لو كانت الصحة الواقعية للصلاة منوطة بالطهارة الواقعية والبطلان بالنجاسة
الواقعية، فوجه عدم الإعادة للعمل المأتى به على مقتضى الحكم الظاهري الذي انكشف
خلافه، إما دعوى كون الطهارة الاحرازية بخصوصها أو الأعم من الواقعية
والاحرازية، أو الظاهرية والواقعية شرطا للصلاة لا خصوص الطهارة الواقعية فقط،
كما ادعى، أو إن الطهارة الظاهرية بدل عن الطهارة الواقعية بعد تسلم شرطيتها
بالخصوص، والتزم بعدم الإعادة بعد الجري على مقتضى الحكم الظاهري، فيسئل حينئذ
عن إن الطهارة والظاهرية هل لها دخل أيضا في الوفاء بالغرض بتمامه أو ببعض مراتبه
بحيث لا يكون الباقي بانفراده مقتضيا للالزام أو موجبا لسقوطه وعدم إمكان
استيفائه، أم لا بد لها دخل في صحة العمل وجواز الدخول فيه ما لم ينكشف الخلاف،
فإن كانت وافية بتمام المصلحة والواقعية فيكون حينئذ في الحكم الظاهري بدلية عن
الواقع في مرتبة الظاهر وعند الشك، وهي توجب عدم الإعادة وإن كانت المصلحة في
الحكم الظاهر من سنخ المصلحة الواقعية وكانت أدنى منها مرتبة بالنحو المتقدم فعدم
الإعادة مستندا إلى هذه الجهة، وإن كان في الحكم الظاهري مصلحة تضاد لمصلحة
الواقعية فلا تجب الإعادة من هذه الجهة لعدم إمكان استيفاء ما كان يترتب على
موافقة الحكم الواقعي، ففي التصوير الأول بشقيه من كون الحكم الظاهري وافيا
200

بتمام الغرض أو بالمهم منه لا إشكال في تعليل عدم الإعادة بالطهارة الظاهرية، ولو
كانت الواقعية بخصوصها شرطا للصلاة، فإن الفعل الحاصل من المحكوم بالطهارة
الظاهرية واف بالغرض حسب الفرض، فعدم لزوم الإعادة مستند إلى هذه الطهارة
الظاهرية بلا واسطة، وأما على التصوير الثالث فلا استناد له ابتداء إليها، بل هو مستند
إلى فوت القدرة وعدم الامكان عن تحصيل الغرض أولا وعن الظاهرية ثانيا، فعلى
هذه الصورة وكذا على تقدير إيجاب الحكم الظاهري وإحداثه للمصلحة كما هو
التصوير الرابع، لا وجه للتعليل ظاهرا.
ومنها صحيحة ثالثة لزرارة (وإذا لم يدر في ثلاث أو في أربع، وقد أحرز الثلاث
قام فأضاف إليها أخرى ولا شئ عليه، ولا ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك
في اليقين، ولا يختلط أحدهما بالآخر، ولكنه ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين)
فليبني عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات، فهذا من الموارد التي طبق الإمام عليه السلام
كبرى لا تنقض اليقين على الشك في وجود الرابعة، فكم بإتيانها والاشكال الذي
أورده الشيخ العلامة الأنصاري " قده " في المقام حاصله إن ظاهر هذه الرواية أن
يأتي بركعة متصلة، والمراد من الركعة المتصلة أن يأتي بها بدون تكبيرة وتشهد وسلام،
فالذي كان متيقنا عدم إتيانه بعد الركعة الثالثة هي الركعة الرابعة مقيدة بعدم التشهد
والسلام والتكبيرة، والأثر العملي الذي كان للاستصحاب هو هذا النحو من الاتيان،
ولا نعنى من الركعة المتصلة إلا هذه، ولذا قال الإمام عليه السلام (فأضاف إليها أخرى)،
ولازمه الامر بالبناء على الأقل كما هو المعروف من غيرنا، فتطبيق الاستصحاب على
المورد بنحو يكون مفيدا للامر بالبناء على الأقل موافقا لمذهب العامة، يقتضي حمله
على التقية ووروده موردها، فلا يكون حجة، لا يقال إن هذا التطبيق لا ينافي حجية
الاستصحاب، فكبري الاستصحاب كانت مسلمة ولكن التطبيق على المورد كان من
باب التقية، نظير تطبيق حديث الرفع على الطلاق والعتاق كما أشرنا إليه في محله، ولهذا
ترى الشيخ " ره " يسلم صحة إجراء الاستصحاب في المقام لولا مخالفة هذا الخبر
للأخبار المستفيضة الدالة على البناء على الأكثر في الركعات وموافقة العامة، ولكنا
نقول لابد في المقام من الملاحظة إن عدم جريان الاستصحاب في المقام من جهة إن
201

تطبيقه على المورد موافق لمذهب العامة ومن باب التقية أم لا، بل عدم جريانه من جهة
أخرى لا من الجهة المزبورة، وبيان هذا يحتاج إلى بيان مقدمتين،
أحديهما إن الأثر إذا كان مترتبا على مفاد كان التامة، ثم شك في تحققه فحينئذ
يجوز استصحاب عدمه المعلوم باعتبار كون نقيضه موضوعا للأثر، لكن هذا الاستصحاب
لا ينفع في ترتيب الأثر المترتب على وجود ذلك الشئ أو عدمه، بمفاد كان الناقصة
مثلا إذا شك في وجود الكرية للماء وفرض أن المقام مثلا مترتب على كرية الموجود
فلا ينفع استصحاب عدم وجود الكرية باعتبار الأثر المترتب على مفاد كان التامة
في ترتيب الأثر المترتب على وجودها باعتبار الناقصة، وأما إذا كان الماء كرا سابقا
ومفروغا عن كريته في الزمان السابق ثم شك بسبب من الأسباب في بقاء الكرية،
فتستصحب الكرية وينفع في المقام لان هذا الاستصحاب جار في مورد مفاد كان
الناقصة، يعنى هذا الماء الكر المفروغ من وجود كريته مشكوك البقاء على كريته
فتستصحب الكرية ويرتب عليه شرعا طهارته بخلاف الأول، وبالجملة فلا يثبت مفاد
كان التامة مفاد كان الناقصة، فلا بد في الاستصحاب من إثبات ما أخذ في طي الدليل،
والمقدمة الأخرى إن أدلة التشهد والتسليم دالة على وجوبها عقيب الرابعة، أي
إن كانت الرابعة موجودة فسلم وتشهد، فكان مفاد كان الناقصة موضوعا للأثر المذكور
من وجوب التشهد والتسليم، فعلى اختيار مذهب العامة أيضا لا يمكن إثبات إن هذا
الموجود رابعة، فكم فرق بين ابن علي اليقين وبين ابن علي أربع، ففي صورة الامر
بالبناء على الأربع تكون الركعة الثالثة طرفا للشك، يعني في هذا الظرف ابن بأن
هذا المورد رابعة، بخلاف دوران الامر في الرابعة وجدت أم لا، لان في هذه الصورة
يقطع بالثالثة وليست الثالثة مشكوكة، وبعبارة أخرى في اللسان الأول كانت الثالثة
طرفا للشك، فأمر بالتعبد بأن الرابعة موجودة فيكون مفاد كان الناقصة، وفي اللسان
الثاني الناظر إلى ما قطع بالثالثة مع الشك في إن الرابعة وجدت أم لا، فكم فرق بين
الوجود واللاوجود، وبين الثالثة والرابعة، فلازم الامر بالبناء على الأربع إتيان
التشهد والسلام المترتبين على رابعية الموجود، بخلاف الامر بالبناء على الوجود أو
العدم، فإنه لا يثبت مشروعية إتيان التشهد والسلام لعدم كونه ناظرا إلى الحكم برابعية
202

ما يوجد بعد الشك، فلا يبقى حينئذ مجال للاستصحاب في المقام حتى بناء على مذهب
العامة أيضا، لو قيل بحجية الاستصحاب من باب الاخبار والتعبد إلا على القول بالمثبت،
نعم لو بنى على مذهب العامة من لزوم البناء على الأقل، فللاستصحاب مجال إن
كان حجيته من باب الظن، وإلا فلا مجال لجريانه حتى على مذهبهم فإنه لا يثبت
الاستصحاب إن الموجود رابعة إلا بالملازمة العقلية، بخلاف الصورة فإن الركعة التي
بيده مرددة بين الثالثة والرابعة، فليبني على الرابعة بمقتضى ابن علي الرابعة، ويترتب
عليه آثاره من إتيان التشهد والسلام، وأما في الصورة الثانية فيقطع بوجود الثلاث،
ولكن يشك هل الرابعة موجودة أم لا، فالاستصحاب لا يثبت هذه الجهة إلا بالملازمة
العقلية كي يترتب عليه آثاره من إتيان التشهد والسلام، فتحصل إن عدم جريان
الاستصحاب في المقام والاشكال فيه ليس من جهة كون الاستصحاب موافقا
لمذهب العامة، بل عدم جريانه إن أثر هذا الاستصحاب مفاد كان التامة، وهذا لا يثبت
أثر مفاد كان الناقصة، فظاهر كلام الشيخ " قده " يشعر بأن في صورة البناء على
الأقل للاستصحاب مجال، إلا إنه موافق لمذهب العامة، لكن نحن نقول إنه ليس
للاستصحاب مجال حتى على مذهب العامة أيضا لو قالوا بحجية الاستصحاب من باب
التعبد، وبالجملة لا مجال لجريان الاستصحاب في الركعات إذا بنى على حجيته من باب
التعبد بناء على مذهب العامة أيضا، لان مورد الاستصحاب في المقام هو عدم وجود
الرابعة الذي كان مفاد ليس التامة، ويتبعه حكم العقل بوجوب إتيان الرابعة على
طبق هذا الاستصحاب، لكن هذا الاستصحاب لا يثبت إن هذا الموجود المأتى به
بعد الشك رابعة، لاحتمال كونه خامسة فلا يرفع الاستصحاب هذا الشك، فالدلالة على
وجوب التسليم في الرابعة تدل على لزومه بعد الرابعة المسلمة، والمفروض إنه ليس
كذلك لاحتمال كونها خامسة، فلا يكون حينئذ مجال لاتيان التشهد والسلام، فلا يكون
هذا الاستصحاب مفرغا للذمة، واستشكل في هذا المقام في الدورة السابقة أحد
الأعاظم وهو السيد الاجل السيد نصر الله الهمداني، وهو إنا سلمنا إن الاستصحاب
لا يثبت رابعة الموجود، ولكن نكشف إن من تطبيق الإمام عليه السلام الاستصحاب على
المورد رابعية الموجود، يعني إذا طبقه عليه السلام على مورد يكون الأثر بواسطة أمر عقلي،
203

نثبت رابعية الموجود إخراجا لكلامه عليه السلام عن اللغوية، فنقول بحجية الأصل المثبت
في خصوص المقام، ولكن أجبنا عن ذلك في تلك الدورة بأنه مع قطع النظر بأنه عليه السلام
قال يضيف إليه أخرى يشك في إن ما في يده من الركعة هل هي ثالثة أو رابعة،
ولازم هذا الشك هو الشك في إن الركعة التي قبل هذه الركعة ثالثة أو ثانية،
ولازمه القطع بعدم تحقق الرابعة، ففي الركعة الثانية يقطع بعدم تحقق الرابعة
التي كانت مرددة بين المأتى قبل الشك الفعلي أو بعده، فهذا القطع تعلق بعدم شخص
ركعة مرددة بين الركعتين، فبمجرد دخوله في الركعة البعدية زال القطع، فما كان
متعلقا لليقين لا أثر له، وما كان له أثر لم يتعلق به اليقين، فتطبيق الاستصحاب على هذه
الركعة لاوجه له لفقدان أركانه من اليقين السابق والشك اللاحق فيما له أثر شرعي،
ومن هذا البيان ظهر إنه لا مجال لتطبيق الاستصحاب على ذات الركعة، لا إنه قد
يقال إن ذات الركعة لها حالتان، أحديهما مقيدة بعدم التكبيرة والتشهد والسلام،
والأخرى واجدة لتلك الأمور فالذات محفوظة بين الحالتين، فالحالة الأولى يعبر عنها
بالركعة المتصلة، والثانية يعبر عنها بالركعة المنفصلة، فذات الركعة كانت مشكوكة،
فيطبق على ذات الركعة بخلاف التقيدات وضم التكبيرة والتشهد والسلام إليها، وهذا
البيان من صاحب الكفاية ووجه عدم إمكان الانطباق هو إن تطبيق الاستصحاب
على ذات الركعة أي على شخص الركعة الرابعة لا يمكن لأنه يقطع بعدمها، وتطبيقه
على الفرد المردد لا أثر له، فلا يكاد يمكن حينئذ تطبيقه على الذات، فتلخص مما مر
إنه لاوجه لتطبيق الاستصحاب في الخبر الثالث على مورد الشك في الركعات ولا
مجال له لأنه في غاية الاشكال، وذلك إما لان اليقين والشك تعلقا على الرابعة
المرددة بين شخصي الركعتين، وهذا العنوان لا أثر له، وماله الأثر واقعا هو مصداق
الرابعة، فما تعلق به الشك لا أثر له، وما له الأثر ما تعلق به الشك، فهذا نظير ما إذا علم
بوجوب إكرام زيد الجالس، فعلم إجمالا بأنه أحد الشخصين الذين أحدهما قائم والاخر
جالس، فاشتبه عليه إن الجالس زيدا أو غيره، فكما إنه لاوجه للرجوع إلى الاستصحاب
هنا، إذ لا شك في تحقق موضوع الأثر وعدم تحققه، فإنه يقطع بأنه لو كان الجالس
زيدا فهو متحقق، ولو كان عمرا فالموضوع قطعي العدم، فكذا في المقام وساير الموارد
204

الذي ثبت الأثر للفرد المشخص الواقعي المردد عند المكلف. نعم لو كان الجامع بينهما
موضوعا للأثر فكان له وجه على ما سيأتي إن شاء في استصحاب الكلي، فلا مجال
لتطبيق لا تنقض لإفادة الاستصحاب للركعات، وإما لأنه من الأصل المثبت على
ما عرفت، وأما ما ذكره الشيخ " قده " من كونه على خلاف ما عليه الخاصة
وعلى وفاق مخالفيهم، فإذا لم يكن تطبيق الاستصحاب على الركعات فما العلاج في
المقام مع إن الإمام عليه السلام قال قام فأضاف إليهما أخرى ولا ينقض اليقين بالشك، ولهذا
حملها الشيخ " ره " على إفادة قاعدة اليقين المساوقة للاشتغال، فلا بد من ملاحظة
إن هذا الحمل وقع من الشيخ " ره " في محله أم لا، لان في صورة الحمل على القاعدة
يكون خارجا عن مورد الاستصحاب وأجنبيا عن المقام، فنقول إن لنا قاعدتين.
أحديهما قاعدة الاستصحاب ومفادها إن اليقين الثابت الموجود لا تنقضه بالشك، أي
إثبات استمرار اليقين السابق وإبقائه، والأخرى قاعدة اليقين ومفادها تحصيل
اليقين يعني إذا شككت فحصل اليقين ولا تكتفي بالشك في مقام الامتثال، ومن
المعلوم إن هاتين القاعدتين معنيان متباينان ولا يجمعهما عنوان واحد، فإن مفهوم أحدهما
غير مفهوم الاخر، لان نظر المفهوم الثاني إلى إحداث اليقين وتحصيله، ونظر المفهوم
الأول إلى إبقاء اليقين الثابت السابق، فهذان النظران لا يمكن جمعهما في عبارة واحدة،
وإلا يلزم استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى، فلا بد من الالتزام بإرادة اليقين
المعتبر في القاعدة، ولا يخفى إنه لو لم تكن هذه العبارة كثيرة الاستعمال في إفادة
الاستصحاب لكانت قاصرة عن إفادة قاعدة اليقين أيضا، فحملها عليها بعيد في الغاية،
ويمكن أن يقال إنها مسوقة لإفادة استصحاب اشتغال الذمة بالصلاة، وإنه لا ينبغي
قطعها أو تمامها بعد الشك، إذ لعلها ناقصة لا تتم إلا بضم ركعة أخرى موصولة بما
أتى بها ولا يجوز ضم الأخرى إليها من دون تخلل تشهد وتسليم وتكبيرة إحرام،
إذ لعلها زائدة على الواجب فيكون مفاد الاستصحاب هنا ما يحكم به العقل أيضا من
قاعدة الاشتغال، ولما لم يكن مزيلا للشبهة بمجرده بين الإمام عليه السلام في ذيله بقوله عليه السلام
(ولكن يتم باليقين) فإنه يظهر من قولهم عليهم السلام يبنى على اليقين إنه يجب البناء
على الأربع، فالاتمام به إنما يكون بالبناء على الأربع واتمام الصلاة ثم الاتيان بركعة
205

أخرى احتياطا، حتى تحسب من الصلاة السابقة على تقدير نقصها ولا يخل بها على
تقدير تماميتها، فبعض الفقرات الأخيرة بضميمة ما ثبت من حكم الشك في الركعات
بإخبار آخر بيان وظيفة هذا الشاك المستصحب للوجوب المعلوم سابقا في مفروض
المسألة، فظهر إنه يمكن حفظ ظهور فقرة لا تنقض في الاستصحاب بلا لزوم
محذور مما تقدم.
ومنها رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال أمير المؤمنين عليه السلام: (من
كان على يقين فشك فليمض على يقينه فإن الشك لا ينقض اليقين)، فنقول إن هذا
الخبر تام من جميع الجهات، وسليم عن الاشكالات الواردة على ساير الأخبار، فيجري
في تمام الموارد من الشبهات الموضوعية والحكمية والتكليفية والوضعية والوجوبية
والتحريمية، ولكن استشكل فيه بأنه يستفاد من لفظه في قوله عليه السلام (كان على يقين)
إن زمان اليقين والشك مختلفان، وإن زمان اليقين سابق على زمان الشك، فيكون الخبر
أظهر في الشك الساري، فينطبق المورد على قاعدة اليقين مع زمان الشك، ونحن نجيب
عنه أولا بأن هذا منزل على الغالب فإن الغالب في مورد الاستصحاب هو سبق زمان
اليقين على زمان الشك، يعني يترتب غالبا حدوث الشك على سبق القين، وثانيا بأن
تأخر الشك عن اليقين المستفاد من لفظة (فا) إنما يكون من قبيل تأخر الحكم عن
موضوعه، لا من تأخر الشئ بالزمان، ونظير ذلك ما يقال أكرم من كان عالما وأكرم
من كنت على ثقة من دينه، فإن السبق يختلف، فتارة يراد منه الزماني، وتارة السبق
الشرفي، وتارة السبق الذاتي، وأخرى يراد من السبق السبق بلحاظ الحكم في المقام
من القسم الأخير من السبق، فيراد السبق بلحاظ الحكم بلحاظ الزمان مثلا، فحينئذ
لابد من تحقق الموضوع في الرتبة السابقة حتى يترتب عليه الحكم، ولكن لم يأخذ
الزمان بنحو القيدية، وبالجملة فقوله عليه السلام (كان على يقين فشك) أما لان الغالب إن
الشك يحصل بعد تحقق اليقين، فعلى هذا لا يلزم دعوى عدم دلالة كان على المضي،
وإن الفاء لا تدل على الترتب بحسب الزمان، وإما لان كان لا تدل على السبق بالزمان
ولا الفاء على التأخر بحسبه، وعلى كل منهما يرتفع الاشكال ويتم الاستدلال، هذا
مضافا إلى أن الأخبار السابقة كلها مشتملة على لفظة كانت ولو كانت دالة على
206

تقدم اليقين على الشك بحسب الزمان لما دل شئ منها على المطلوب أيضا، اللهم إلا
أن يدعى اشتمالها على ما يصرف عن ظهوره، ولكن الاشكال الذي يكون في
المقام هو إنه لابد للشك المذكور في الكلام من متعلق يرجع إليه الضمير المقدر،
فحينئذ إن كان الضمير راجعا إلى القطعة التي عرض عليها اليقين على نحو الدقة، فلا بد
حينئذ من اختلاف زمان اليقين والشك فينطبق على قاعدة اليقين، وإلا يلزم اجتماع
الضدين، وإن كان راجعا إليه بنحو المسامحة فيلائم إفادة الاستصحاب، وبعبارة
أخرى فتارة يكون متعلق اليقين والشك بالنظر الدقي فيكون زمان اليقين وزمان
الشك مختلفين، فينطبق على قاعدة اليقين، وتارة يكون مرجع الضمير واحدا بالنظر
المسامحي فلا بأس في اتحاد الزمانين، فالرواية دالة على الاستصحاب، فإن الشك في بقاء
ما تعلق بحدوثه اليقين شك في ذات معروض اليقين، فعروضهما واحد ذاتا ومتعدد
اعتبارا وحدا، فإن معروض اليقين حدوث الشئ ووجوده الابتدائي ومتعلق الشك
بقائه واستمرار وجوده، فالموجود الحادث الباقي واحد ذاتا، ويجوز أن يقال إنه
متيقن ومشكوك فيه باعتبار تعدده الاعتباري ولا دخل للزمان والمكان ولا
الإضافة في هذا التعدد، فما في بعض العبارات من إن متعلق الشك هو وجود ذلك الشئ
في الان الثاني والثالث فهو من باب الإشارة وبيان الشئ بلوازمه، بداهة إن الموجود
في الزمان لا تقيد له بالزمان، ولا يتعدد إلا بتخلل العدم بين وجوديه، وإلا فالوحدة
ثابتة له وإن استمر وجوده من أول الدنيا إلى فنائها، ويتصور فيه التعدد من حيث
الحدوث والبقاء وإن لم يكن في وعاء الزمان، فنفس ذلك الشئ متيقن ومشكوك
بالنظر المسامحي عند الاستصحاب، فهذا نظير الماء الواحد المتلون بعضه بالبياض وبعضه
بالسواد، فالأسود منه غير الأبيض دقة، ولكن المعروض لكليهما عند المسامحة هو
الماء الواحد، فحيث إن لحاظ رجوع الضمير إلى متعلق اليقين دقة مغاير للحاظ رجوعه
إليه تسامحا، ولا جامع بينهما على ما سيظهر إن شاء الله تعالى، ولا دلالة في نفس الضمير
المقدر على شئ منهما، فتصير الرواية مجملة لا دلالة فيها على الاستصحاب ولا على القاعدة،
هذا غاية ما يمكن أن يؤتى به لنفي دلالتها على الاستصحاب أيضا، إلا إنه يصح لنا
إثباتها من جهة أخرى وهي ما مر في المشتق من أن ظاهر الخطابات إن ظرف النسبة
207

والجري واحد، ولا شك إن ظرف نسبة المضي إما الحال أو الاستقبال، فيقتضي أن
يكون ظرف جرى اليقين متحدا مع الشك، فالظاهر بقاء اليقين عند الشك واجتماعه
معه، فيؤخذ به ويحكم بأن الرواية واردة لإفادة حكم يقين مجتمع مع الشك وهو
الاستصحاب، هذا مضافا إلى إن التعليل المذكور هنا بلفظ واقع فيما يدل على الاستصحاب
مسلما مؤيد ومرجح لاحتمال ارجاع الضمير إلى المتيقن تسامحا، وقد عرفت إنها على
ذلك مفيدة للاستصحاب، ومن الاخبار مكاتبة علي بن محمد القاساني، قال كتب إليه
وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا، فكتب عليه السلام
اليقين لا يدخله الشك صم للرؤية وأفطر للرؤية، تقريب الاستدلال إنه مع قطع النظر
عن قوله عليه السلام صم للرؤية وأفطر للرؤية، تفريعا على صدر الجواب، إن السائل عن يوم
الشك في إنه هل من رمضان، قد أجابه الإمام عليه السلام بأن اليقين لا يدخله الشك، ولما
كان نظير هذا الخبر واقعا في ذيل خبر الركعات المشتمل على لفظة لا ينقض الخ.
فبهذه القرينة وهي وحدة السياق نكشف عن إن المراد من هذه الفقرة بيان معنى
واحد في الخبرين، وهو عدم جواز جعل الشك ناقضا لليقين، أي لا تنقض يقين
رمضان إلا برؤية هلال شوال وبالعكس، فنقض اليقين بالنسبة إلى رمضان هو الافطار
فأمر بعدم نقضه، ونقض اليقين بالنسبة إلى شعبان وهو الامساك بنية رمضان وعدم
الافطار، فأمر بعدم نقضه، هذا مضافا إلى إن معنى الامر بالصوم للرؤية عقيب
قوله عليه السلام: اليقين لا يدخل الشك، دال على إن المراد من هذا الصدر إفادة حجية
الاستصحاب، فلا بأس بعد الخبر الشريف من أدلة الباب، فتأمل فيه فإنه لا يخلو عن
إشكال، ومما استدل به على الاستصحاب أيضا قوله عليه السلام (كل شئ لك حلال حتى
تعرف إنه حرام، وكل شئ لك طاهر حتى تعلم إنه قذر) ولسان كليهما لسان واحد،
وتقريب الاستدلال إن كلا منهما متكفل للدلالة على الحكم الواقعي والظاهري
للشئ بعنوانية، فالشئ طاهر واقعي بعنوانه الأولى، وطاهر ظاهري بعنوانه الثانوي،
ولفظة حتى الخ متكفل لبيان الحكم الظاهري في الرتبة اللاحقة تعبدا، أي تستمر
تلك الطهارة والحلية الواقعية في مورد الشك إلى أن تعلم بالقذارة والحرمة.
وبعبارة أخرى يستفاد من الروايتين إن كل شئ بعنوانه الأولى طاهر وحلال،
208

وهذا حكم واقعي مستفاد من قوله عليه السلام (كل شئ طاهر وكل شئ لك حلال)، وإن
هذا الحكم الواقعي مستمر تعبدا في ظرف الشك. إلى أن يعلم إن القذرة والحرمة، وهذا
حكم ظاهري مستفاد من الغاية منطبق على الاستصحاب، وقد يقال إنه يمكن أن
يستفاد من الخبرين قواعد ثلاث. أحديهما الطهارة الواقعية لذات الشئ في الرتبة
المتقدمة على الشك في حكمه. ثانيتها الطهارة الظاهرية لتلك الذات في الرتبة المتأخرة
عن الشك. وثالثها إبقاء الطهارة الثابتة بالجعل في صدر الخبر والحكم استمرارها
تعبدا، فخبر الطهارة يفيد قاعدة اجتهادية، وقاعدة الطهارة واستصحابها، أما الأوليان
فهما مدلول عليهما من حيث الموضوع بإطلاق أحوالي للموضوع المكنى عنه بالشئ،
فإنه يعم الذات وينطبق عليها في الرتبة السابقة على الشك حكمها، كما إنه كذلك
بعد الشك فيه، فإن الماء يعبر عنه بالشئ سواء شك في طهارته أم لا، غاية الامر إن
الطهارة المجعولة له لا بلحاظ إنه مشكوك الحكم في الرتبة المتأخرة عن الشك في طهارته
حكم واقعي لهذا الموضوع، وأما المجعولة له بهذا اللحاظ وهي طهارة ظاهرية، وحيث
إنهما فردان للطهارة فصح أن يحكم بثبوتهما بإثبات طبيعة الطهارة مهملة بهذه الذات
الواقع في الرتبتين ويفاد ثبوت الطهارة الواقعية بدال غير ما يدل على الفرد الاخر،
فهو الطهارة الظاهرية، فصدر الخبر يدل على الحكمين لموضوعين من باب تعدد الدال
والمدلول، أما الدال على الحكم بالطهارة الواقعية فهو كون الموضوع لها هو ذات الشئ
بعنوانه الأولى الواقع في الرتبة المتقدمة على الشك في حكمها، وأما الدال على الطهارة
الظاهرية بمقتضى قاعدتها، فهو كون الموضوع هو تلك الذات بعنوانها الأولى، لكن
باعتبار وقوعها في الرتبة المتأخرة عن الشك في طهارتها الواقعية، وهذا مستفاد من
الاطلاق الأحوالي لتلك الذات، ومن هذا البيان ظهر إنه لاوجه لدعوى شمول لفظ
الشئ للمشكوك بما إنه كذلك وبعنوانه الثانوي، كي يتوجه عليها إن الظاهرية إنه
كناية عنه بعنوانها الأولى، وأما ذيله وهو حتى تعلم الخ. لاقتضائه لما يمتد ويستمر
ولو تعبدا فهو دال على استمرار الطهارة المفروغة الثبوت لكل شئ وبقائها عند
عدم العلم بأنه قذر، فهو مفيد للتعبد بالاستمرار والحكم بالبقاء، وهذا عين الاستصحاب
ولما كان ثبوت الطهارة الواقعية مفاد بالصدر واستمرارها الظاهري بالذيل وبالقيد،
209

فلا يلزم الجمع بين اللحاظين عند استعمال طاهر في الطبيعة المهملة، ولا عند استعمال لفظة
حتى في الغاية من الاستمرار التعبدي، وبعبارة أخرى أصل الجملة ناظرة إلى ثبوت الطهارة،
ومن اطلاق الثبوت يستفاد الحكم الواقعي والظاهري، وبعد ذلك ناظر إلى استمرار
الحكم الواقعي تعبدا إلى حصول العلم بخلافه فارغا عن الثبوت، ومن هذه الجهة
يستفاد الاستصحاب، فتحصل إن الطهارة الظاهرية التي تثبت بقاعدتها وكذا الواقعية
التي لا نظر لها إلى ظرف الشك في نفسها مما يمكن استفادتهما من قوله عليه السلام (كل شئ
طاهر) من دون أن يلزم اجتماع اللحاظين المتخالفين في المحمول، فإنه جامع بين الفردين
من دون أن يتوجه المنع، بأن لفظ الشئ قد جعل كناية عن الموضوعات بعناوينها
الأولية، وإن الطهارة الظاهرية المستندة إلى الاستصحاب أمكن أيضا استفادتها من
الغاية المقتضية للابقاء والحكم بالاستمرار في ظرف فقد العلم ولا يلزم محذور الجمع
بين اللحاظين، لا في المغيى ولا في الغاية، هذا غاية ما يقرب به دلالة الخبر على القواعد
الثلاثة، فقد علم استفادة القواعد الثلاثة من الخبرين، ودفع الاشكال الذي أورده
الشيخ (قده) من لزوم اجتماع اللحاظين والنظرين في المغيى، لان في المقام جملتان،
فالجملة الأولى ناظرة إلى مقام الثبوت، والجملة الثانية ناظرة إلى الاستمرار والابقاء
فارغا عن الثبوت، من أصل الجملة أراد بيان الثبوت ومن التابع أراد الاستمرار
والاثبات ظاهر، فلا يبقى حينئذ مجال للاشكال الذي أورده الشيخ الأجل الأنصاري
في المقام، لأنه لا تلاحظ مجموع الجملة بقيدها دالا على الأحكام الثلاثة من حيث المجموع،
حتى يرد الاشكال المذكور، بل أريد من الجملة الأولى ثبوت الطهارة، ومن الثانية
استمرارها بعد الفراغ عن الثبوت، فهما وإن كانتا فردين طوليين للطهارة لكنهما تحت
جامع واحد وهو الطهارة، فتشمل لفظة شئ لفردين للذات الواحدة باعتبار الرتبة،
أحدهما الذات في الرتبة السابقة على الشك في حكمه وللآخر أيضا تلك الذات بعنوانه
الأولى الواقعة في الرتبة اللاحقة عن الشك، ثم الحكم باستمرار الطهارة الثابتة للذات
في الرتبة السابقة تعبدا يفيد طهارة ظاهرية بالاستصحاب، لا يقال لو كان المغيى دالا
على الحكم الواقعي وقاعدة الطهارة معا، فيلزم أن تكون الغاية دالة على حد الطهارة
الظاهرية وعلى الاستصحاب، وعليه فيلزم الجمع بين لحاظ الاستمرار الحقيقي للطهارة
210

الظاهرية والادعائي للواقعية في ظرف الشك، فإنه يقال إن المعنى الحرفي ولو كان
جزئيا بحسب وجوده الذهني، إلا إن جزئيته وقابليته للانطباق على الكثير تابعة
لجزئية المدخول وكليته، وكما إن المصاديق الحقيقية للاستمرار مندرجة تحت طبيعته،
فكذلك الفرد الادعائي على ما ذهب إليه السكاكي، فمن جهة اندراج الحقيقي وكذا
الادعائي في جامع واحد واشتراكها فيه صح استعمال حتى في معنى يلائم كليهما من
دون الجمع بين اللحاظين، فالانصاف إنه لا يلزم شئ من المحاذير المذكورة في الرسائل
وغيره على تصوير إن خبر الطهارة وكذا الحلية مسوقة لبيان أمور ثلاثة،
وهي الطهارة الواقعية والحلية كذلك وقاعدتي الطهارة والحلية واستصحابهما.
لكنه لا يخلو عن الخدشة والمحذور ولا يكون الخبر الأول إلا ظاهرا في قاعدة
الطهارة، ولا الثاني إلا في قاعدة الحلية، بل لا يعقل اشتمالها على بيان الحكم الواقعي
وضرب القاعدة الظاهرية، والوجه إنه لو كان الخبر الأول مسوقا لجعل الطهارة
الواقعية فلا يكون موضوعها قبل تمام الجعل إلا ذات الشئ عارية ومجردة عن الحكم،
وحيث لا حكم لها في هذه المرتبة، فلا يعقل الشك في حكمها الواقعي فإن تعلقه به
حقيقة متفرع على ثبوته، وما لم تكن محكومة بالطهارة الواقعية فلا يتصور الشك في
حكمها، فكيف يرى هذا الشئ في الرتبة المتأخرة عن الحكم والشك فيه، فإن وقوعه
في هذه الرتبة شأن من شؤون جعل الطهارة الواقعية، وما لم تتحقق لا يمكن تحققه
وأخذها في مرتبة موضوع الحكم الواقعي، فهذا نظير ما قلناه في استحالة أخذ قصد
القربة بدعوة الامر في موضوع نفسه، ولذا منعنا عن دعوى صحة اعتباره ولو على
تصوير القضية الطبيعية، فإنه لو كان الاندارج والشمول مستحيلا في مقام الثبوت،
فلا تصل النوبة إلى الاخذ بالظهور في مقام الاثبات، فنتيجة التقييد حاصلة لموضوع
الاحكام الواقعية، وبالجملة فلما لم تكن مرتبة الشئ المشكوك الحكم متحدة مع مرتبة
ذلك الشئ عند وقوعه موضوعا للحكم الواقعي، فلا يمكن لحاظه عند جعل الحكم
وليس مما يجوز أن يتصور في رتبة هذا الموضوع، فالشئ المجعول موضوعا للحكم
الواقعي وإن لم يكن مقيدا بالتجرد والعراء عن الشك في حكمه، إلا إنه لا يمكن
أن يكون مطلقا بالنسبة إليه أيضا، فعند الجعل لا يرى إلا الذات عارية عن الاطلاق
211

والتقييد، فلا يشمل الشئ حينئذ غيرها، فلا تجعل الطهارة إلا لما في الرتبة المتقدمة
على الحكم والشك فيه، وليس هي إلا الطهارة الواقعية، وهذا هو السر في إنه لا يشمل
دليل الحكم الواقعي لمورد الشك في نفسه، وإلا فلو صح تعقل موضوع الحكم الظاهري
في مرتبة الموضوع الواقعي لكانت الأدلة بأسرها دالة على الحكمين لعدم المانع عن
ثبوت الاطلاق الأحوالي لموضوعاتها، فلا يعم الشئ موضوع الطهارة الواقعية
والظاهرية معا، هذا بالنسبة إلى المغيى، وأما بالنسبة إلى الغاية فهي وإن أمكن جعلها دليلا
على الاستصحاب، إلا إنه يلزم منه خلاف الظهور في الاستمرار المفاد بلفظة (حتى)، فأنه
ظاهر في الاستمرار الحقيقي لا التنزيلي الادعائي، فلو حمل الصدر على بيان الحكم
الواقعي والغاية على بيان استمرار تلك الطهارة الواقعية ظاهرا، أو ادعاء لزم المحذور
المذكور، وأما لو جعلت (حتى) غاية للطاهر المحمول لا لنفس الاستمرار فقط، وأخذنا
بظهور الاستمرار في الحقيقي لا الادعائي، فحينئذ لا محيص عن حمل الطهارة المستمرة
حقيقة إلى العلم بالخلاف على الطهارة الظاهرية، وبالملازمة لا بد من جعل الشئ كناية
عما يرى في الرتبة المتأخرة عن الشك، فتصير هذه الرواية بتمامها دالة على الطهارة
الظاهرية لمشكوك الطهارة مستمرة إلى العلم بالخلاف، وكذا تكون رواية الحلية دالة
على قاعدة الحلية فقط، ولعل النكتة التي دعت جل العلماء إلى دعوى إن الأولى دليل
على قاعدة الطهارة، والثانية على الحلية فقط، هو ما ذكرناه وقلناه، والحاصل إنه
لو كان كل شئ لك حلال في مقام الانشاء وجعل الحلية بهذه العبارة، فإن لم تكن
مسبوقة بعبارة أخرى تفيد جعلها، فلا يكون حينئذ له إطلاق بالنسبة إلى الحكم
الواقعي والظاهري، لان الذات في الرتبة السابقة على جعل الحلية ترى متقدمة على
الذات المتأخرة عنها، فلا يشمل الشئ بإطلاقه الذات التي متأخرة عن الحكم
وموضوعه، وذلك لأنه يرى الشئ في الرتبة السابقة على الجعل فاقدا ونازعا عن
الشك في حكمه، فلا يعقل أن يكون الفرد الذي تحمل عليه الحلية الظاهرية داخلا
في الطبيعة العارية عن الحكم والشك، بل يرى خارجا عنها، فلا يتصور لها إطلاق وإن
لم تكن مقيدة، بل تكون نتيجة التقييد أمرا متعقلا بالنسبة إليها، ولذا قيل إن
الخطابات التي كانت متكفلة للحكم الواقعي لا تشمل حكم ظرف الشك، فتبين إن
212

صدر الرواية لا يعقل أن يكون له إطلاق حتى يشمل مرتبة الحكم الواقعي والظاهري
بناء على كونها واردة في مقام الانشاء الابتدائي، فإنه لا يكون للذات الواقعة
موضوعا للحكم الواقعي عموم يشمل لما في الرتبة المتقدمة على الحكم وما في الرتبة
المتأخرة عنه وعن الشك فيه، وكذا في لفظة (طاهرا) أيضا لا يعقل أن يكون إطلاق
يشمل فردين طوليين بل ليس له إلا فرد واحد، فالامر يدور بين أن يراد من الشئ
الذات في الرتبة اللاحقة عن الحكم والشك فيه الواقعة في الرتبة المتأخرة عن الحكم،
فينطبق على القاعدة الظاهرية ويبقى الاستمرار المستفاد من لفظة (حتى) على ظهوره
في الاستمرار الحقيقي، فإن غاية الاحكام الظاهرية هو العلم بالخلاف دون الواقعية، فإن
غايتها إما النسخ أو أمر آخر غير العلم بالخلاف وبين أن يراد منه الذات في الرتبة
السابقة عن الشك، وتحمل كلمة (طاهر)، أيضا على الذات في الرتبة السابقة، وعليه
فالرواية دالة على القاعدة الاجتهادية، وحينئذ لابد من حمل الاستمرار المستفاد من
لفظة (حتى) على الاستمرار التعبدي وبالعناية فينطبق الذيل على الاستصحاب.
لكنا نقول إنه إذا كان لفظة (طاهر) قابلا لان يحمل على الذات في الرتبة السابقة
على الشك وعليها في الرتبة اللاحقة عنه، ولم يكن ظهور في أحدهما، لكن لفظة (حتى) له
ظهور في الاستمرار الحقيقي، فينحصر مدلول الرواية حينئذ في القاعدة الظاهرية،
ولا ينطبق على القاعدة الاجتهادية، ولا الاستصحاب، فعلم إن حمل الرواية على القاعدة
لا من جهة الفرار عن لزوم اجتماع اللحاظين والنظرين بل من جهة عدم الاطلاق،
إذ المفروض إن لفظة طاهر قابلة لحملها على الذات في الرتبة السابقة وما في الرتبة
اللاحقة، لكن لما كان (حتى) ظاهرا في الاستمرار الحقيقي، فتكون الرواية منحصرة
الدالة على القاعدة وحمل ما يستفاد من لفظة حتى على الاستمرار الظاهري، لتكون
منطبقة على الاستصحاب بحسب الذيل، خلاف الظاهر، فينحصر حينئذ ظهور الرواية
في القاعدة، ولذا حملها الأصحاب عليها وكذا الامر في نظيرها، وهي ما تدل على
الطهارة المغياة بالعلم بالقذارة، هذا إذا كانتا واردتين في مقام الانشاء، وأما إذا وجد
ما يصرف عن ظهورهما أو أحدهما في هذا المقام، كما إن الامر كذلك في رواية الحلية
على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، فلا مانع من حملها على العموم والحكاية عن الحلية
213

الواقعية والظاهرية التي هي مقتضى القاعدة، وكذا الاستصحاب وذلك لان المانع إما
هو الجمع بين النظرين واللحاظين، وقد عرفت عدم لزومه فيما إذا أفيد بالمغيى أصل
ثبوت الحلية الأعم من الواقعية والظاهرية، وأما عدم معقولية وجود للشئ في الرتبة
المتأخرة عن الشك في حكمه قبل جعل الحكم له وفي رتبته، وهذا أيضا غير لازم على
تقدير الحكاية والاخبار عن الحلية الواقعية والظاهرية المجعولتين للشئ قبلا بأدلة
أخرى وانشاءات متعددة مترتبة، وأما هو عبارة عن لزوم خلاف الظاهر فيما يستفاد
من لفظة (حتى) وحيث إن ارتكابه أوهن مما يلزم على تقدير حمل الرواية على الانشاء
وإيجاد حكم الطهارة بالجعل بها فهو المتعين، أما المحذور اللازم على تقدير كونها واردة
في مقام إنشاء قاعدة الحلية، فهو ما أشار إليه الشيخ - قده - من إن تمثيل الإمام عليه السلام
بعد قوله ما مر بالثبوت المشترى بقوله (ولعله غصب أو سرق) وبالزوجة (ولعلها
أخت من الرضاعة)، لا يلايم القاعدة فإنها محكومة بالامارات والأصول، ومنها
المتصورة في الأمثلة، فإن اليد دليل على ملك الثوب وهو مقدم على الأصل، وكذا
أصالة عدم الرضاع وأصالة صحة العقد حاكمتان على القاعدة، فلو قدمت على الاستصحاب،
واليد وعلى أصالة الصحة، لزم إما تخصيص هذه الأمور بها وهو بعيد للغاية، وإما كون
هذه الأمثلة مذكورة من باب المثال، مع إنها لا تكون من موارد القاعدة المضروبة
يكون أبعد، ولما كان الشيخ - ره - قد تعرض للاستشكال من غير جواب، فنحن
قد أجبنا عنه بأنه لا مانع من رفع اليد عن ظهور ورود الرواية في الانشاء صيانة
لها عن المحذورين على البدل، فإذا حملت على الاخبار عما جعل سابقا فجاز أن يشمل
الشئ بإطلاقه كلا الفردين المختلفين رتبة، وهما الذات الواقعة في الرتبة المتقدمة على
الحكم الواقعي، والذات الواقعة في الرتبة المتأخرة عن الشك فيه، ويعم المحمول للحلية
الواقعية والظاهرية التي جعلت باستصحابها أو بقاعدة الحلية كل ذلك بالتقريب المتقدم
في الرواية السابقة، وهكذا يشمل مفاد - حتى - للاستمرار الحقيقي بالنسبة إلى الحكم
الظاهري، وللادعائي بالنسبة إلى الحلية الواقعية، وقد تقدم إنه لا يلزم شئ من المحاذير
على هذا التقدير إلا ارتكاب خلاف الظاهر في الاستمرار، وهو أهون من الالتزام
بتخصيص الحاكم أو عدم مثالية ما ذكر في الذيل مثالا لمورد القاعدة هذا.
214

ومما استدل به للاستصحاب رواية أخرى ذكرها الشيخ - قده - قوله عليه السلام
(إذا استيقنت أنك توضأت فإياك أن تحدث وضوء حتى تستيقن إنك أحدثت)، فإن
التحذير عقيب قوله عليه السلام (إذا استيقنت) يدل على إن اليقين بالطهارة متبع إلى الاستيقان
بالحدث، فلا يعتني بالشك في زوالها، فدلالتها على الاستصحاب في موردها مما لا يخفى،
والتحذير المذكور في المقام مع جواز إتيان العمل بالرجاء وحسن الاحتياط، إما لدفع
الوسواس المحتمل الحصول بالاعتناء بالشكوك، وإما لردع السائل على اعتقاد لزوم
الاخذ بالاشتغال مع كون المورد مجرى للاستصحاب، وكيف كان فدلالتها على
الاستصحاب في الجملة واضحة، هذه جملة ما استدل في المقام ولا ريب في دلالة بعضها
مع صحة سنده على الاستصحاب.
القول في مقدار دلالة هذه الأخبار
وشمولها للأنواع المتصورة من حيث الشك والمشكوك وفي التفاصيل التي وقعت
من الأصحاب، فإنه طائفة منهم ذهبوا إلى حجية الاستصحاب تعبدا في الشبهات
الموضوعية دون الحكمية، وأخرى عمومها للبابين، وفصل قوم بين الأحكام الوضعية
والتكليفية، فبعضهم على جواز استصحاب القسم الأول دون الثاني، وبعضهم على ما سيأتي
إن شاء الله تعالى مال إلى العكس فجوزه في الثاني فقط نظرا منه إلى إن مرجع
الوضعيات إلى أمور عقلية غير مجعولة للشرع، وحدث من الشيخ - ره - تفصيل
آخر وهو الفرق بين ما كان مستنده ودليله العقل بمناط الملازمة بين الحدوث والبقاء،
وقد مر إنه لو تم ما ذكره لكان الامر كذلك في كل ما استند إلى الدليل اللبي، أو
إلى الخبر المتواتر معنى، وبين ما لم يتكشف من قبله، فاستشكل في القسم الأول دون
الثاني، وهناك تفصيل آخر أبدعه المحقق الخوانساري - قده - في شرح الدروس
وهو الفرق بين الشك في المقتضى والشك في الرافع، فسلم الاستصحاب في الثاني فقط،
والانصاف إنه لولا ما روى عن الخصال عن محمد بن مسلم من قول أمير المؤمنين عليه السلام
- من كان على يقين فشك فليمض على يقينه - ولولا ظهور قوله عليه السلام فإن اليقين
لا ينقض إلا باليقين - أو - لا يدخله الشك - لكان للخدشة في عموم دلالة الاخبار
215

لمطلق المتيقن المشكوك موضوعا كان أو حكما كليا أو جزئيا تكليفيا أو وضعيا
كان دليله اللفظ أو اللب مجال واسع، ولكان الحق مع الأخباريين القائلين بجواز
الاستصحاب في الشبهات الموضوعية فقط، فإن غاية ما يتصور وجها للعموم هو إطلاق
النهي عن نقض اليقين بالشك، وقد تقرر في محله إن وجود القدر المتيقن في مقام
التخاطب مانع عنه، فلا إطلاق لشئ من هذه النواهي، إلا إنك قد عرفت دلالة رواية
الخصال على الاستصحاب وظهورها فيه لا على قاعدة اليقين، وهي من حيث إنها
واردة في مورد مخصوص وغير مقترنة بما يمنع عن عمومها لأي متيقن كان، فلا مانع
من الاخذ بها في إثبات المدعى بنحو العموم، وحينئذ فيجعل سائر الأخبار مؤيدا
لها كما إنه يجعل التعليل في البعض معاضدا لها، وكيف كان فالمهم هنا هو التعرض
للتفصيل بين الشك في المقتضى وبين ما في الرافع وبين الأحكام الوضعية والتكليفية،
فإن تفصيل الأخباريين يبقى بلا وجه بعد ما عرفت من العموم ولو في بعض الاخبار
وكذا تفصيل الشيخ - ره - لا ثمرة فيه بناء على كون نظر العرف متبعا في تشخيص
الموضوع ووحدته على ما تقدم مفصلا، والتكلم في التفصيل الأول مسبوق ببيان
شأن المقتضى للأمور الحقيقية الخارجية وللأحكام والأمور المجعولة في الشرع، وقبل
الشرع، ولا بأس بتمهيد مقدمة وهي إن المقتضى في الأمور الخارجية، تارة يكون
مقتضيا لنفس الحدوث فقط ولا يكون له دخل في البقاء، بل البقاء يكون مستندا
إلى أمر آخر كالاستعدادات الذاتية وغيرها، مثل وضع الحجر على الأرض ومثل
البناء والبناء، فإن كلا منهما ولو كان علة محدثة للمجعول ولكن العلة المبقية هو الاستعداد
الذاتي، فليست العلة لهما إلا باعتبار إعطاء الوجود فقط ولا تأثير لهما في الابقاء.
وأخرى تكون مؤثرة فيه حدوثا وبقاء ويدور المعلول مدارها وجودا وعدما،
كالشمس والفيئ فإنه إذا زال الشمس يزول الفيئ أيضا، هذا بالنسبة إلى الأمور
الخارجية، وأما في الشرعيات من الاحكام الجعلية التكليفية والوضعية، فتارة يكون
المقتضى للجعل والتشريع وهو المصلحة الداعية إليه نفس الجعل دون المجعول، ولعل
الامر كذلك في الأحكام الوضعية، فجعل الزوجية عقيب العقد وجعل الملكية عقيب
الحيازة بقوله من حاز ملك، مستند إلى مصلحة في نفس الجعل والأسباب التي كانت
216

في البين انما تكون من باب العلة المحدثة فقط لا المبقية، فإذا وجدت هذه الأسباب
تحدث هذه الأمور أي الملكية والزوجية والإجارة وغيرها مما تحدث بأسبابها
الخاصة عقيبها، ولكن البقاء مستند إلى الاستعدادات الذاتية، إلا أن يجئ رافع لهذه
الاستعدادات من البيع أو الفسخ أو الموت مثلا، وإلا فنفس الجعل ليست إلا محدثة
لا مبقية، وبعبارة أخرى إن الأسباب المجعولة علة الحدوث لهذه الأمور والبقاء
مستند إلى الاستعدادات الذاتية، فإن الملكية وغيرها لما كانت من سنخ الإضافات التي
تبقى على الفعلية ما دام بقاء طرفها عليها، فلا تنتفي إلا بانتفاء المالك أو المملوك أو
كليهما أو بطرو ما يوجب اعتبار العدم من بيع أو إقالة أو فسخ أو موت أو انقضاء
مدة في الإجارة وهكذا، فتبين إن الأحكام الوضعية مثل بعض الخارجيات مستندة
إلى أسبابها الخاصة حدوثا لا بقاء، فلو شك فيما يزيلها فهو مستلزم للشك في الرافع
لا في المقتضى، وأما الأحكام التكليفية فهي وإن كانت مما يتصور فيه انحصار
الصلاح في أصل الجعل والتشريع فقط، إلا إنها في الأغلب تابعة للملاكات القائمة
بمتعلقاتها ودائرة مدارها، فالمقتضى هو تلك الملاكات وهي كما إنها علة لحدوثها فكذلك
لبقائها أيضا، والسر في ذلك إن الوجوب مثلا إنما يعتبر في مقام إبراز الإرادة، فجعل
هذه الأحكام عبارة عن إبراز الإرادة إلى الخارج ولو كان الانشاء والإرادة آنيا،
ولكن الحكم كان باقيا فالاضافات الاعتبارية في الوضعيات في عالم الاعتبار مثل
الإضافات الخارجية، فالبقاء فيها مستند إلى الاستعداد الذاتي بخلاف الأحكام التكليفية،
فإنها غير مرتبطة بعالم الإضافات بل الباب فيها باب كون العلة المحدثة مبقية، فلب
الإرادة تابعة للمصلحة القائمة بالمتعلق فالمصلحة مقتضية للإرادة وإبرازها، فالعلة المحدثة
فيها عين القلة المبقية فما دام المتعلق كان وافيا بالمصلحة تتعلق به الإرادة لو لم يكن في
البين مزاحم، وإلا فلا تعلق لها بالعمل الخالي عن المصلحة، كما لا يخفى، فلو شك في
دخل شئ في المأمور به من جهة وفائه بالمصلحة، فيكون من الشك في المقتضى لا في
الرافع، فإذا كان الحكم منوطا بقيد، كما إذا أنيط مثلا وجوب الاكرام بعنوان
العالم أو العادل، فظاهر هذا الخطاب إن أخذ هذا القيد في حيزه من باب دخله في
المصلحة، ففي صورة الشك في القيد يشك في المقتضى للتكليف، كما إنه كذلك إذا كان
217

الدليل في مقام الاهمال من ناحية القيد، ولكن احتمل القيد من ناحية أخرى
كالزمان مثلا إذا شك في إنه هل للزمان دخل أم لا؟ ففي صورة احتمال دخل الزمان
يكون الشك في المصلحة، فلا يبقى حينئذ مجال للاستصحاب على عدم كونه معتبرا
إلا في مورد الشك في الرافع دون الشك في المقتضى والاستعداد، ثم لا يخفى إنه لو كان
الاستصحاب حجة في مورد الشك في الرافع بعد إحراز المقتضى للبقاء، يلزم أن
لا يصح إجرائه في الأحكام التكليفية إلا في موارد مخصوصة، وهي موارد إحراز
الملاك والمصلحة في المأمور به مع الشك في الوجوب، لاحتمال طرو حرج أو جنون
أو ضرر أو ابتلاء بالأهم أو حصول النسخ للحكم السابق، فإن الشك في هذه الموارد
متعلق بالرافع دون المقتضى، وأما في غيرها فمرجعه إلى الشك في المقتضى، فلا بد من
الالتزام بعدم حجية الاستصحاب فيه أصلا، ولكن الأحكام التكليفية تابعة للمصالح
التابعة للمتعلق، وهي ليست إلا مبرزة للإرادة والانشاءات في الاحكام، ففي
التكليفية مقتضيات الحكم عين مقتضيات التكوين، والاستعداد للحكم تابع لمقتضيات
التشريع، والعلة المحدثة عين العلة المبقية وروح الحكم فيها منوطا بالاستعداد والمقتضيات
التشريعي، فبدون إحراز المقتضى لا يحرز التكليف، فظهر من هذا البيان أن
الاستصحاب في الموضوعات يجري في الموارد الكثيرة، ولكن في الاحكام يختص
بباب النسخ بعناية إرادة الرفع منه لا الدفع كما هو الظاهر منه، فيمكن الاستصحاب
عدم النسخ في مورد الشك بعد إحراز المقتضى للحكم والاستعداد، ويمكن جريانه
في بعض الموارد مثل موارد الشك في انطباق لا حرج ولا ضرر في صورة الشك
في وجود المزاحم الأهم والابتلاء به، فإن في هذه الموارد تكون المصلحة باقية، وإنما
الشك في رفع فعلية التكليف إلا أن التحقيق أن شيئا من هذه الموارد لا ينبغي أن
ينطبق عليه الاستصحاب، وذلك لأنه إذا شك في المزاحم يكون العقل حاكما
بالحركة على طبق المصلحة المحرزة بمناط الشك في القدرة، وكذا في تمام الموارد
المذكورة، فإن العقل يحكم في تمام هذه الموارد التي يقطع فيها بالغرض، ويحتمل في
وجود المزاحم أو انتفاء القدرة أو رفع التكليف امتنانا، بسبب نفي الحرج والضرر
وعذرية الجهل على الحركة على طبق المصلحة المحرزة ويحصل غرض المولى. فظهر
218

إنه لا يبقى مجال للاستصحاب في هذه الموارد أيضا إلا في صورة الشك في النسخ،
ولا يظن بأحد أن يقول بتطبيق لا تنقض اليقين بالشك على هذه الموارد، فينحصر
الاستصحاب في الاحكام بمورد الشك في قيد لا يكون مقوما للحكم، بحيث لو انتفى بقى
العمل خاليا عن المصلحة الملزمة، بل يكون له دخل فيه مثل الزمان أو الزماني،
وكان الحكم على الدليل مهملا من هذه الجهة، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الشك
في الغاية أو المغيى، وإلا فلو كان له إطلاق لكنا نتمسك بإطلاق الدليل، وأما إذا كان
القيد دخيلا في ملزمية المصلحة أو لم يعلم عدم دخله بهذا النحو من الدخالة، فالشك
في القيد يقتضي الشك في المصلحة والمقتضى، فلا يتصور الشك في الرافع حتى يكون
للاستصحاب مجال. وبالجملة فلا بد من ملاحظة إن حجية الاستصحاب في الاحكام
منحصرة في اليقين بالمقتضى واستعداده للبقاء مع الشك في الرافع، أو عامة لهذا المورد
وغيره من موارد الشك بعد اليقين، سواء أحرز المقتضى أم لا، ومن المعلوم إن القول
بعدم حجية الاستصحاب عند الشك في الاحكام في صورة المقتضى مستلزم للقول
بانحصار موارده في موارد لا يحتاج إلى الاستصحاب، وهي صورة إحراز المصلحة
والغرض مع الشك في المزاحمات، وذلك لما تقدم من حكم العقل بلزوم تحصيل
الغرض في هذه الموارد، فحيث إن جعل الاستصحاب فيها يعد من اللغو، وفي غيرها
لا يتصور الشك في الرافع دون المقتضى، فلا بد من الالتزام بعدم حجية الاستصحاب
في الاحكام رأسا، وهو كما ترى وبعد ما ذكرنا من معنى الاقتضاء، وإنه عبارة عن
استعداد المستصحب أعم من الموضوعات والاحكام، مضافا إلى أن إحراز الاستعداد
في الاحكام في غاية الاشكال، وتقدم إن منع حجية الاستصحاب عند الشك في
المقتضى مستلزم لان لا يجوز الاخذ به عند الشك في الأحكام التكليفية مطلقا،
إلا في موارد نادرة، مع إنه بعيد في الغاية، بالنظر إلى شدة الاهتمام في الاخبار بعدم
جواز نقض اليقين بالشك بالسنة مختلفة، إن من المعلوم إن المراد من النهي الواقع
في أخبار لا تنقض اليقين بالشك، ليس نهيا حقيقيا لان نقض اليقين لا يكون
باختيار المكلف، فإن كان اليقين باقيا فباق، وإلا فلا، بل ماله إلى الامر بمعاملة البقاء
وترتيب الأثر العملي عليه يعنى الأثر الذي كنت ترتبه على اليقين الفعلي رتبة عند
219

الشك وابن علي بقائه، ومرجعه إلى تنزيل اليقين السابق الزائل منزلة الباقي بلحاظ
الآثار العملية والجري على طبقها والامر بالعمل معه معاملة اليقين بالبقاء، وبأن
اليقين وإن كان متعلقا بالحدوث لا بالبقاء، وقد زال بطرو الشك، لكنه ببركة لا تنقض
يبني على بقائه، فهذا نظير للامر بتصديق العادل في انتهائه إلى تنزيل احتمال الخلاف
منزلة العدم. وبعبارة أخرى تارة يكون اليقين طريقا محضا إلى موضوع التعبد،
وهو المتيقن مثل اليقين بالخمرية الذي كان طريقا إلى تطبيق الحرمة الواقعية على
المورد، وتارة يكون التعبد متوجها إلى نفس اليقين الطريقي بما إنه طريق لا بما إنه
صفة نفسانية وحالة وجدانية، وفي هذه احتمالات ثلاثة: (أحدها) أن يكون
اليقين الزائل منزلا منزلة الباقي باعتبار آثاره المرتبة به على المتيقن، فإن الوجوب
وغيره وإن كان مرتبا على الصلاة وغيرها في الشرع بلا إناطة له بالعلم والاحراز،
إلا إنه لما لم يكن محركا إليها وداعيا إلى إيجادها وموجبا لحصولها إلا بعد العلم
وحكم العقل بالتنجز وعدم المعذورية، فكان الواقع مقتضيا للوجود والترك والعلم
متمما له ورافعا للمانع، وهو الجهل عن تأثيره في الانبعاث والانزجار، فعلى هذا
صح أن تستند تلك الآثار إلى اليقين وإن كانت في الحقيقة أثرا للمتيقن، فلهذه
الآثار جهة استناد وإضافة إلى اليقين الطريقي، وجهة إضافة إلى المتيقن، فلعل الامر
بالعمل معه معاملة الباقي ما لم يعلم بالخلاف، ناظر إلى تنزيل ذلك اليقين باعتبار تلك
الآثار المضافة إليه بوجه وإلى متعلقه بوجه آخر، فلا يعم أثر الذي لنفس اليقين
المأخوذ جزء للموضوع في بعض الموارد. (وثانيها) أن يكون بحيث يعمه
أيضا، لكن لا يشمل الأثر الذي لليقين المأخوذ تمام الموضوع لبعض الاحكام.
و (ثالثها) أن يكون بحيث يعمها أيضا، فهذه احتمالات ثلاثة في صورة ورود
التنزيل على اليقين الطريقي لا بلحاظ جعله مرآة للمتعلق ومشارا به إليه، حتى يكون
محط التنزيل والتعبد هو المتيقن الثابت من دون دخل لليقين، ثم لا يخفى أن لازم
هذا أن لا يكون اليقين من مقومات مورد الاستصحاب، فإن مورد التعبد بالبقاء هو
الامر الثابت الواقعي، فمعنى هذا التنزل هو الحكم ببقاء ما ثبت ولا دخل لليقين فيه
ولا احتياج له إليه، إلا في مقام تطبيقه على موارده، وهذا المعنى مناسب مع تعريف
220

الاستصحاب (بإبقاء ما كان) فإنه لم يؤخذ فيه اليقين على ما ترى، وعلى هذا فلا يبقى
وجه لحكومة الاستصحاب على أدلة الأصول من البراءة والحلية والطهارة، فإن الحاكم
إما موسع لدائرة الموضوع أو مضيق، وعلى أي تقدير فله نظر إلى موضوع دليل
حكم آخر، وللاستصحاب بهذا المعنى لا يثبت العلم والمعرفة التي جعلت غاية للطهارة
أو الحلية الظاهرية، بل هو حكم ببقاء الحرمة المعلومة سابقا في ظرف الشك ومورد
قاعدة الحلية، فلا يتقدم عليها بالحكومة، وإما لازم المعنى الأول من الثلاث فهو مماثل
لما تقدم، ولذا راعى المحقق الخراساني " ره " لازم مسلكه وقال: بأن الاستصحاب وارد لا حاكم، فالوجهان مشتركان فيما ذكروا في أنه لا يصح عليهما تجويز قيام
الاستصحاب مقام العلم الموضوعي، فإنه لا يحكم فيه بانتفاء الشك وبقاء اليقين تعبدا، كما
يستفاد من أدلة حجية الامارات، فلا وجه لقيامه مقامه، نعم يجوز قيام الاستصحاب
بالمعنى الثاني كما لا يخفى مقام العلم الطريقي، وأما على الأخيرين فيجوز قيامه مقام
جزء الموضوع في الأول منهما ومقام تمام الموضوع في الثاني، فإن التنزيل قد عمه
بحسب الفرض بهذا الاعتبار أيضا، وعليه فيتم القول بحكومة الاستصحاب على قاعدة
الحلية وغيرها من الأصول، فإن اليقين منزل منزلة الباقي بالنسبة إلى العمل والأثر
المترتب عليه بنفسه أيضا وهو انتفاء الحلية الظاهرية والطهارة كذلك بمجرد العلم
بالحرمة الواقعية والطهارة، فالمعرفة بنفسها تمام الموضوع لانتفاء العمل وترتيب ذاك
الأثر الشرعي الظاهري على ما هو مقتضى الغاية في الخبرين، فالتعبد باليقين حتى
بلحاظ هذا الأثر لا يخلو عن نظر إلى موضوع القاعدتين، فدعوى الحكومة وتسلمها
في محلها، وأما على الأول من الأخيرين فالامر كما ذكر فيما تقدم من الاحتمالين
من هذه الجهة. وبالجملة فإثبات الحكومة موقوف على إثبات عموم التنزيل على الوجه
الثالث، ومحصل الكلام أن التعبد إما متوجه إلى المتيقن حكما كان أو موضوعه
بمرآتية اليقين وجعله آلة للإشارة إليه، وإما متوجه إلى نفس اليقين بما إنه طريق إلى
المتيقن وكاشف عنه، لا بما إنه صفة نفسانية وحالة وجدانية مخصوصة. وعلى الثاني
فإما أن يكون التنزيل وإثباته التعبدي باعتبار الأعمال والآثار التي ثابتة للمتعلق
ببركة اليقين وكشفه عنه فقط. وأما أن يكون بالنسبة إلى تلك الأعمال وما يترتب
221

عليه وعلى المتعلق مجموعا، وإما يعم التنزيل لغيرها، وهو كون الأثر المترتب على اليقين
المجعول بنفسه من دون دخل للمتعلق تمام الموضوع للحكم، وظهر إن الاحتمال
الأول لامساس له بالحكومة ولا وجه بالقول بقيام الاستصحاب بهذا المعنى مقام
القطع الطريقي، فضلا عن الموضوعي، نعم لو جعلت الغاية في قاعدتي الطهارة والحلية
المعرفة للأعم من القذارة والحرمة الواقعيتين، فيكون الاستصحاب بهذا المعنى
واردا عليهما لا حاكما، وأما على تقدير كون الغاية للحكمين الظاهريين هي معرفة
خصوص الحكم الواقعي، حينئذ لا ورود ولا حكومة له عليهما بل أصلا يقع بينهما
التعارض مع الاختلاف، فإن كلا منهما حكم ظاهري في مرتبة الجهل والشك، وأما
الأول من الثلاث فعليه وإن جاز القول بقيامه مقام القطع الطريقي فقط، إلا إنه
لا يلائم دعوى الحكومة أيضا، إذ المفروض بعد تسلم إمكان أن ينزل الشئ منزلة ماله
أثران باعتبار أحدهما دون الاخر وجواز التفكيك بين المتلازمين في التنزيل، إنه ما توجه إلى
اليقين إلا بلحاظ الأعمال التي للمتعلق ببركته، فلم يزل الزائل منزلة الباقي باعتبار أثر له دخل
فيه جزء أو تماما، فالاستصحاب بهذا المعنى وارد على قاعدتين، فإنه مثبت لليقين التعبدي
بالحرمة والقذارة الواقعيين، وأما على الثاني فإشكال الحكومة بحاله إلا إن عليه يصح
القول بقيام الاستصحاب مقام جزء المقتضى والموضوع للحكم، وما على الثالث فيصح الجمع
به بين كلا الامرين على الاطلاق، فالحكومة لا تثبت إلا عليه، كما إن قيام بعض الأصول
مقام العلم مطلقا لا يمكن تصديقها إلا عليه، فلو كان التنزيل عاما على هذا النحو أمكن التفصي
عن إشكال الحكومة، إلا إنه يلزم منه الوقوع في محذور آخر وهو كون الاستصحاب
حجة في جميع موارد الشك المسبوق باليقين، إذ مامن يقين إلا وله أثر شرعي لا دخل
لمتعلقه فيه وهو جواز الاخبار عنه جزما، فإن هذا من آثار نفس القطع واليقين ولا
ربط له بشئ من متعلقاته، فيلزم حجية الاستصحاب في جميع موارد اليقين السابق
والشك اللاحق، كان المتعلق لهما حكما أو موضوعا له في الشرع أو لم يكن لشئ منهما،
كاليقين بوجود الجدار وطوله وعرضه ولونه وغيرها، وهذا لا يلائم ما وقع التسالم
من إنه لابد من كون المتيقن عند الاستصحاب أثرا شرعيا أو موضوعا لذلك، فالامر
دائر بين رفع اليد عن دعوى الحكومة وبين الالتزام بحجية الاستصحاب في غير
222

الموردين، وغاية ما يمكن أن يتفصى به عن المحذور الثاني هو دعوى أن اليقين المنزل
بلحاظ جميع الآثار منصرف إلى اليقين بالقضايا الشرعية لا مطلقة، وبالجملة إن سعة
دائرة تنزيل كل شئ منزلة غيره لابد أن يكون بمقدار الأثر الذي كان دليل التعبد
ناظرا إليه، فبالنسبة إلى ذاك الأثر ينتزع الوجود التنزيلي، ولكن بالنسبة إلى الأثر
الذي لم يكن ناظرا إليه لا يكون له وجود تنزيلي، فشمول التنزيل بمقدار شمول التعبد
ولحاظ الأثر كالحياة التنزيلي لزيد مثلا، فالحياة بالنسبة إلى الأثر الذي شمل دليل
التنزيلي لها وجود تنزيلي لا بالنسبة إلى الأثر الاخر الذي لم يكن الدليل ناظرا
إليه، فإنها لا وجود لها تنزيلا ولا حقيقة، وقد تقدم إن فيما نحن فيه لا يكون دليل
التنزيل ناظرا إلى نفس اليقين باعتبار الآثار المترتبة على المتيقن ببركة اليقين، فإن شرط ترتب
الآثار الواقعية على الواقع خارجا هو اليقين، فالواقع كأنه هو المقتضى والجهل مانع عن
تأثيره في الجري والامتثال، فبانكشاف الواقع ورفع السترة عنه يترتب الأثر على الواقع،
ويتعقبه حكم العقل على الحركة طبقه أو السكون عنه، وقد يكون دليل التعبد باليقين
باعتبار تلك الآثار المتقدمة التي لها انتساب ما إلى اليقين أيضا، كما إنها منسوبة إلى
الأمور الواقعية باعتبار الآثار المترتبة على اليقين وغيره، كما إذا أخذ جزء الموضوع
مثل ما إذا ورد أن الخمر المعلوم الخمرية حرام، فإن العلم في المقام جزء المقتضى والأثر
لم يترتب على صرف الواقع بل على العلم بالخمرية، وهذا أيضا سنخ من الأثر لليقين
فيعمه دليل التنزيل، وقد يكون التنزيل عاما لجميع الآثار التي لليقين سواء كانت من
القسمين المتقدمين أو كانت مترتبة على اليقين بنفسه من دون دخل متعلقه فيه بأن
يكون نفس تمام المقتضى والموضوع. أما القسم الأول فلما كان دليل للتنزيل
فيه ناظرا إلى المتيقن ببركة اليقين، فكان اليقين حينئذ طريقا محضا فلا عموم لدليل
التنزيل حينئذ بالنسبة إلى الآثار التي كان اليقين جزء لموضوعها أي لا يشمل دليل
التعبد باليقين التنزيلي باعتبار هذه الآثار الخاصة التي تترتب على الخمر المعلوم من حيث
إنه معلوم، فلا يكون استصحاب الخمرية نافعا، لان الأثر كان مترتبا على الخمر المعلوم،
والمفروض إنه ليس علم تنزيلي في المقام بالنسبة إليه، فلا علم وجداني ولا تعبدي لان
التنزيل ليس ناظرا إلى هذا الأثر، وكذلك القسم الثاني لما كان ناظرا إلى هذا الأثر
223

ولكن لم يكن ناظرا إلى أثر يقين جعل تمام الموضوع فلا يشمل دليل التعبد
باليقين اليقين الذي كان تمام الموضوع، لعدم وجود يقين تنزيلي بالنسبة إلى هذا الأثر،
ولو كان بالنسبة إلى الآثار الاخر علم تنزيلي، فحينئذ إذا جعلت المعرفة غاية للحلية
ومفنية للحكم، إذ الفرق بين الغاية والشرط إن الغاية مفنية للحكم والشرط معط لوجوده،
فتكون المعرفة والعلم حينئذ تمام الموضوع، فإذا لم يكن دليل التعبد باليقين ناظرا
إلى ما أخذ تمام الموضوع فلا يتحقق حينئذ علم تنزيلي بالنسبة إلى هذه الغاية، لأنه
ليس ناظرا إلى تمام الموضوع فلا يتم للاستصحاب حكومة على قاعدتي الحلية
والطهارة، نعم إن قلنا بعموم التنزيل باعتبار جميع الآثار كما في القسم الثالث، فحينئذ
لا بأس بالقول بكون الاستصحاب حاكما على (كل شئ لك حلال أو طاهرا) الخ،
إلا إنه قد نبهنا على أن نتيجة هذا الكلام ورود إشكال آخر قد تقدم وهو تجويز
جريان الاستصحاب في كل مورد من موارد اليقين السابق والشك اللاحق، وإن لم
يكن لمتعلقه أثر إلا جواز الاخبار عنه، مثل مورد اليقين ببقاء الجدار والأنهار
وغير ذلك، فإنه لا أثر للمتيقن إلا جواز الاخبار عنه جزما، ففي هذه المقامات وإن
لم يكن مورد الاستصحاب أثرا أو موضوعا للأثر، إلا إن العلم به له أثر وهو
جواز الاخبار، ونتيجة جواز الاستصحاب في أمثال هذه المقامات هدم القاعدة
الكلية وهي إنه لابد أن يكون المستصحب أثرا أو ذا أثر شرعي، ولابد من ارتكاب
أحد المحذورين، (أحدهما) عدم تحقق الغاية لكل شئ لك حلال أو طاهر لعدم تحقق
العلم التنزيلي. (والاخر) جريان الاستصحاب في تمام موارد اليقين السابق والشك
اللاحق، ونتيجته القول بأن المستصحب لا يلزم أن يكون أثر أو ذا أثر شرعي،
بل يكتفى في الآثار بجواز الاخبار، وهذا هو الاشكال العويص الذي تفكرنا في
دفعه مدة طويلة ولا جواب عنه إلا بادعاء أن اليقين السابق بالقضايا الشرعية منزل
على الاطلاق منزلة الباقي، لا مطلق القضايا وإن لم تكن شرعية، وإن هذا هو المنصرف
إليه من الكلام، فدعوى الانصراف إليها مما لابد في المقام، كما في مقام منع حجية الأصل
المثبت، فإن القاعدة على ما ستأتي تقتضي حجية أيضا لولا الانصراف، وبعد ذلك
كله نقول أن من يذهب إلى حكومة الاستصحاب فلابد له من الالتزام بتوجه
224

أو على نفسه بالانفراد، وحيث لا دخل للمتعلق في صورة كون اليقين تمام الموضوع
لاثر، فلا وجه لدعوى اعتبار إحراز اقتضائه للبقاء على الاطلاق، فإنه أجنبي عن التنزيل
والتعبد في هذه الصورة، فما لم يقطع في الانتفاء يؤخذ باليقين ويجري المكلف على
طبقه ويترتب أثره، سواء أحرز المقتضى لبقائه أم لا، فتحصل إنه لو كان اليقين
مرآة لما يحرم نقضه من الاحكام والموضوعات الخارجية فلا يتوجه التنزيل إلا
إلى المتيقن، وعليه فلا وجه لقيام الاستصحاب مقام العلم مطلقا ولا حكومة له على
مثل قاعدتي الحلية والطهارة، وأما لو كان عنوانا للموضوع كما هو الأصل في كل
ما أخذ في موضوع الخطاب والحكم وله دخل في القول بالقيام مقام العلم والحكومة،
فعلى هذا إما التنزيل مقصور على اليقين بلحاظ الأعمال المترتبة على المتعلق والواقع
ببركته، فلا يعم الأثر الذي رتب على نفس اليقين الطريقي ولو ضمنا، وإما شامل
للواقع ولما لليقين من الأثر بنحو جزء المقتضى وجزء الموضوع، وإما أن يكون
تنزيله مطلقا وبلحاظ جميع الآثار والأعمال التي لها ترتب على اليقين، سواء كان لها
شرطا أو جزء من المقتضى أو تمامه، فعلى الأول وإن جاز قيام الاستصحاب مقام
العلم الطريقي إلا إنه لا يتم به دعوى الحكومة. وعلى الثاني وإن كان لا تتم دعوى
الحكومة أيضا إلا إنه يجوز القول بقيامه مقام العلم الموضوعي في الجملة. وعلى
الثالث تتم الدعويان على الاطلاق، فمن يقول بهما لابد له من دعوى ظهور الاخبار في
ذلك، كما إن الامر كذلك بالنظر إلى إطلاق النهي. لا يقال إن اليقين الطريقي ملحوظ
آليا بخلاف الموضوعي، فإنه مستقل باللحاظ فلو كان التنزيلي عاما للقسمين يلزم الجميع
بين اللحاظين. فإنه يقال قد تقدم إن الأثر المتيقين إضافة إلى نفس اليقين أيضا، فهو
دخيل في حصوله وترتبه عليه بنحو الشرط للمشروط، فيعد أثر الواقع أثر نفس
اليقين، مع إنه غير مقتض له أصلا، فالتنزيل متوجه إلى اليقين الملحوظ استقلالا بما له
من الآثار العملية، سواء كان شرطا لها أو جزء المقتضى لحصولها أو تمام المقتضى،
بحيث لا تأثير للمتعلق في ترتب هذا الأثر عليه، فلا يلحظ إلا استقلالا، فلا يرد الاشكال
المشهور، وبهذا التقريب أجاب المحقق الخراساني عن إشكال تنزيل الخبر الواحد منزلة
العلم الطريقي والموضوعي بكلا قسميه، فظهر من ذلك كله إن لنا دليلان على عموم
225

التنزيل السابق بنفسه أو بعنوانه منزلة الموجود، أحدهما إلزامي لازم لمذهب من
قال بقيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي على الاطلاق وبحكومته على غاية مثل
كل شئ لك حلال حتى الخ، والاخر حلي وهو دعوى الاطلاق، ثم لا يخفي إنه
إذا سلم العموم والاطلاق وقيل بتنزيل اليقين الذي هو جزء المقتضي أو تمامه للأثر،
بحيث لا يكون متعلقه مستقلا في ترتبه عليه، إما لأنها معا يتم بهما المقتضى، وإما لان
اليقين بانفراده مقتضى، فعليه لا وجه لاعتبار إحراز الاقتضاء الاستعداد للباقي في
المتيقن، إما في الثاني فواضح فإنه أجنبي عن الأثر، وأما في الأول فلانه كذلك بالنسبة
إلى الجزء المقتضي وهو اليقين، فمع تسلم العموم والحكومة لابد من الالتزام بأن في
نفس اليقين خصوصية أوجبت صحة إيقاع النقض عليه كالعهد والوضوء، دون
القطع والظن والشك فإنه لا يوقع على شئ منهما إلا من باب الازدواج المشاكلة، كما
في قوله عليه السلام: (ولكن لا تنقض اليقين بالشك)، وما هذا إلا من الابرام
والاستحكام الذي فيه بحيث لا يزول بتشكيك المشكك، ولذا أسند النقض إليه دون
القطع وغيره، فهذه المزية من مدلوله صارت سببا لنسبة النقض إليه ومعها لا احتياج
إلى اعتبار إحراز الاستعداد والاقتضاء في المتعلق، بل عرفت إنه لا ربط لاستعداده
للبقاء عند كون اليقين موضوعا للأثر جزء أو تماما، نعم لو قيل بمرآتيته للمتيقن
لكان له وجه، إلا إنه لا يلائم القول بقيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي وبحكومته
على الأصول، فاحفظ ولا تخلط والعجب من بعض المقررين إنه تسلم قيام الاستصحاب
مقام العلم وقال بحكومته على الاستصحاب، مع قوله بأن تنزيل اليقين إنما يكون
باعتبار الأعمال التي للمتيقن، ولذا اعتبر إحراز استعداده للبقاء وفصل بين موردي الشك في المقتضى والشك في الرافع بعد العلم بالمقتضى تبعا للشيخ العلامة الأنصاري
(قده)، فالحق حجية الاستصحاب تبعا لمفاد الاخبار مطلقا، هذا كله في التفصيل
بين الشك في المقتضى وبين الشك في الرافع، وقد تحصل إنه لا وجه له مع إطلاق
الاخبار سيما مثل قوله عليه السلام: (فليمض على يقينه)، ومع توجه التنزيل إلى اليقين
نفسه إلا إلى المتيقن ببركته، وقد أشبعنا الكلام وكررناه في الرد عليه وبيان لوازمه ومفاسده
بما لا مزيد عليه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهناك تفصيل آخر وهو
226

القول بحجية الاستصحاب في الأحكام التكليفية دون الوضعية ومنشأه تصور أن
الأحكام الوضعية أمور عقلية انتزاعية لا تكون موضوعة للأثر الشرعي ولا هو
بنفسه كذلك، ودفع هذه الشبهة بأن قصر مورد الاستصحاب فيما إذا كان المستصحب
أثرا أو ذا أثر في الشرع دعوى بلا بينة، فإن ما كان ولابد منه في التنزيل هو
أن يكون مورده إما بلا واسطة أو معها ولو بوسائط عديدة مما أمره بيد الشارع
وضعا ورفعا، فكل ما ينتهي أمره إلى الامر الكذائي ولو بالوسائط، فلا مانع من
تنزيله باعتبار ذلك، ولو كان لدليل التنزيل عموم أو إطلاق كما إنه كذلك في أخبار
الباب، فلنا الاخذ به والقول بعدم اختصاصه بما هو بنفسه أثر أو موضوع للأثر،
وحيث أن الأحكام الوضعية طرا مما أمر وضعه ورفعه بيد الشارع ولو بالواسطة
في مثل ما ينتزع عن التكليف، فصح استصحابها أيضا لعموم الدليل لها، فلا وقع
لهذا التفصيل ولا يحتاج رفعه إلى أزيد مما ذكر، ولما انجر الكلام إلى هنا وجرى
ديدن جمع على البحث عن حقيقة الأحكام الوضعية ومقدارها ومجعوليتها، فلا بأس بالتعرض
لها بمقدار ما يسعه المجال. (فنقول) قد اختلف الأصحاب في عددها، فبعض على
إنها ثلاثة، والاخر على إنها خمسة أو سبعة، وذهب ثالث إلى إنها غير منحصرة في هذا
المقدار وهي بشتاتها مندرجة في الإضافة بين الامرين، فمن نحو من أنحاء إضافة الشئ
إلى شخص ينتزع الملك، ومن نحوها الاخر ينتزع الحق، ومن نحو إضافة بين شخصين
تنتزع الولاية أو الزوجية أو الرقية، كإضافة بين الأب والولد وغيرها، ومما بين
الشارع وجميع الأشخاص كإضافة بين الحاكم الشرعي وساير الافراد تنزع الولاية
والقضاء وهكذا، وكيف كان فقد تقسم الاحكام إلى جعلية وغير جعلية، كما يقسم
مطلق الحكم إلى التكليفي والوضعي، ولكن يسلم انحصار الأول في الخمسة المعروفة
المندرجة في الاقتضاء والتخيير، وكذا يسلم مجعوليتها بأسرها، وأما الوضعي فيقسم
إلى الجعلي وغيره، ويختلف في عدده ومقداره واندراجه في أدلة الاستصحاب وعدمه،
وتحقيق القول فيه يحتاج إلى تمهيد مقدمة يبين فيها الفرق بين الجعلي وغيره.
(فنقول) إن الحقائق الجعلية هو أمور اعتبارية لا تحقق إلا بالانشاء وقصده كالتعظيم
ونحوه، فما لم يكن إنشاء وجعل من المالك الحقيقي أو الظاهري لا تحقق لملكية
227

شئ لاحد، وكذا الزوجية والحرية وغيرهما، فالانشاء والجعل بمنزلة جزء الأخير
من العلة التامة لوجودها، وما لم يوجد لا مصحح لاعتبارها، وأما الأمور الانتزاعية
فهي تابعة لمنشأ انتزاعها قوة وفعلية، فعند وجوده صح انتزاعها ولو لم يكن هناك
إنشاء ومنشئ، وعند عدمه وانتفائه لا مصحح لانتزاعه، ولو قيل إني جعلت المنشأ
ألف مرة، بل المدرك ينتزع الصورة الانسانية مثلا من الوجود الخارجي حتى مع
قول المولى بأني ما جعلت له هذه أو جعلت نقيضها، فاتضح أن الأمور الجعلية غير
قابلة للتحقق إلا بالانشاء والجعل، ودائرة مداره حدوثا وبقاء، وأما الانتزاعيات فلا
دخل له فيها لا ثبوتا ولا عدما، وان الأحكام التكليفية لا تكون جعلية كما اشتهر
ووقع عليه التسالم، فإن الوجوب مثلا لا استناد له إلى الانشاء في مقام الاقتضاء، فإن
المصلحة من لوازم الواجب وذاتياته أما بعنوانه الأولى أو الثانوي، وأما العلم بهذه
المصلحة وكذا سائر مبادئ الإرادة وكذا نفسها وإظهارها بمادة الطلب أو الإرادة
أو بهيئة صيغة الامر فليس شئ منها من الجعليات والاعتباريات التي تتفرع على
الانشاء، بداهة إنها أمور تكوينية وموجودات خارجية عينية لا إناطة لها بالانشاء،
نعم تحقق مفهوم الطلب انشائي حاصل بالقصد إليه والى حصوله بالتلفظ بمثل أطلب
وأريد، لكنه ليس متحدا مع الوجوب أو ملازما معه، فإن الانشاء من الهازل والساهي
واللاغي وغير الملتفت، لا يدعو الملتفت إلى الامتثال ولا يقتضي الجري والتحرك على
طبقه، نعم إبراز الطلب والإرادة الكامنة موضع لحكم العقل بحسن إتيان المراد
وجواز العقاب على تركه بعد الابراز، فيرى العقل إن إبراز المولى للإرادة مقتضى
لحصول المراد ويعد المانع من وقوعه منه وهي الشهوة والدواعي النفسانية كالعدم،
فيلحظ المراد واجبا ولازما بالنظر إلى وجود المقتضى المجرد عن المانع ادعاء، فينتزع
الوجوب واللزوم والايجاب والبعث والانبعاث والتحرك، فهذه أمور انتزاعية عن
منشأ واحد وهو إبراز المولى إرادته، وقد تقدم أن نفس الابراز أمر واقعي لا جعلي
اعتباري، فما أدري بم صح عد الوجوب وكذا سائر الخمسة من التكليفية من الأحكام الشرعية
الجعلية مع إنها منتزعه عن منشأ لا استناد له إلى الجعل، وببيان آخر أن
بعض الأمور اختيارية ومقدور للانسان بلا واسطة وسبب غير إرادته كالتكلم
228

والمشي والاكل وغيره، وبعضها مقدورة بواسطة واحدة كالاحراق والقتل وغيرهما
مما لا يمكن تحققه بدون التوسل بسبب كالالقاء في النار وفري الأوداج مثلا، أو
بوسائط عديدة كالنتيجة الحاصلة من المقدمات المترتبة، ولا يخفى أن الإرادة لا تتعلق
بالأخيرين بل بما يتولدان منه، فإنه فعل المختار حقيقة وقابل للمرادية لا هذا الامر
التوليدي المسبب، فإنه قهري الحصول عند وجود السبب، ولذا يحصل حتى مع عدم
إرادته أو إرادة عدمه مع إيجاد سببه، فهذا القسم من الأمور التوليدية الخارجية
لا إناطة لها بالقصد التي التوسل بأسبابها إليها فإنها حاصلة بحصول تلك الأسباب، ولو لم
يقصد التوسل بها إليها. وهناك أمور أخر توليدية وتحت القدرة بالواسطة، إلا إنها
لاعتباريتها واعتبارية أسبابها لا تحقق إلا بإيجاد الأسباب بقصد التوسل إليها، وهذا
نظير الملكية والزوجية والوكالة وأمثالها، مما له سبب لا يوجبه إلا بقصد التوسل
والتسبب، وبعض الأمور الحاصلة للانسان خارج عن تحت اختياره وإرادته،
كالخواطر والصور التي ترتسم في الخيال بواسطة الادراكات الحسية القهرية، فإنها غير
مرادة حتى بالواسطة، بخلاف الصور المنتزعة من الأشياء بواسطة الادراك القصدي
والتوجه إلى منشأها، فإنها أيضا مندرجة في القسم الأوسط ومن الأمور القهرية التي
لا دخل للقصد إلى التسبب بأسبابها إليها، فما هو متقوم بقصد التسبب بسببه
الاعتباري الذي عبارة عن الانشاء بالقول وبلفظ خاص أو بالفعل على نحو مخصوص،
فهو جعلي كالوضع والملكية والزوجية وبعض الأمور الاخر مما يعد من الأحكام الوضعية
، وأما سائر التوليديات وغيرهما مما يمكن أن يتحقق بدون قصد التسبب
والانشاء فهو غير منوط بالجعل بل لا ربط بينهما، فلا يكون جعليا ومجعولا كما
لا يخفى. إذا ظهر هذا فيلاحظ أن الوجوب مثلا جعلي أم لا؟ ولا ريب في انتفاء الجعلية
عن المصلحة وعدم كونها مجعولة، وكذا العلم بها، وكذا إرادتها وانشاء ما يظهر
الإرادة والطلب، فإن هذه كلها أمور واقعية حاصلة بأسبابها ولا إناطة لحصولها
بقصد التسبب، وأما الاعلام بالإرادة بتوسيط هذا الانشاء بالقول فهو وإن كان
من الأمور التوليدية إلا إنه غير منوط بالقصد المذكور أيضا، فإنه إذا وصل الانشاء
يحصل الاعلام مطلقا قصد به التسبب أم لم يقصد، هذا مضافا إلى أن الاعلام مغاير
229

للوجوب فإنه أمر يعتبره العقل بعد العلم بالإرادة وضعا للمراد كاللزوم على ما تقدم،
فتحصل أن الأحكام التكليفية ليست جعلية على ما اشتهر وسلم، وأما الوضعية فبعضها
كالملكية والزوجية جعلية على ما مر، فإن المالك مثلا لو لم ينشأ سبب التمليك بقصد
التسبب والتوسل إلى حصول الملك لغيره لما حصلت الملكية له، فهذا أمر اعتباري
له مشابهة بالإضافة المقولية لقيامه بالامرين وطرفين وله شبه بالجذة والملك
الاصطلاحي لأهل المعقول، وليس بشئ منهما فإن، الإضافات وكذا الهيئات متحققة
في الخارج كان في البين معتبر أم لم يكن، بداهة ثبوت الفوقية والتحية والمحاذات
والموازات لبعض أمرين موجودين خارجا، وإن لم يعتبرها ولم يتصورها متصور، وأما
الملكية فهي أمر اعتباري لا واقعية لها خارجا، ولا يوجب تبدل طرف إضافتها وهو
المالك تغييرا في العين المملوكة أصلا، فلو وجد سببها وفرض فقد المعتبر رأسا، أو
صار بنائهم على عدم اعتبارها، فلا يتحقق أبدا فهي بمنزلة الفئ للإضافة المقولية أو
الجدة المفسرة بهيئة إحاطة شئ بشئ ومتقومة بالقصد والجعل، هذا حال الملكية،
وأما سائر الأحكام الوضعية فسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في إنها مجعولة أو منتزعة،
فتحصل مما سبق إن الامر الجعلي لا يترتب على الإرادة بلا واسطة ولا يتحقق إلا
بقصد التسبب بموجبه من الانشاء والجعل إليه، وإن الملكية والزوجية من هذا
الباب، ولذا لا يعتبر حصولهما إلا في صورة انشائهما بالصيغة عن جد وبقصد التوسل
بها إلى حصولهما، ومن هذه الجهة لا يرى الملك حاصلا بالتمليك الهزلي وبالانشاء الصادر
من الساهي والنائم والمتلفظ به إظهارا للوجود أو القدرة على النطق، وإن الوجوب
وبقية الأحكام التكليفية ليست جعلية بهذا المعنى في شئ من مراتبها
المتصورة أما المصلحة الدائمية إلى الايجاب مثلا فهي من خواص الأعمال ولا ربط
لها بالعلم بها، وكذا إرادة ما يفي بها، وكذا إنشاء الطلب بالجعل ضرورة إن شيئا مما
ذكر ليس من الأمور الاعتبارية التوليدية من الجعل والانشاء الواسطة بينها وبين
الإرادة، وبعد تمام الانشاء وإحراز المكلف إياه يحكم عقله بجواز العقوبة على ترك
المراد بحسن الإطاعة والانقياد، فبذلك يرى الإرادة المبرزة من المولى مقتضية لحصول
العمل والموانع النفسانية كالعدم فيحكم بوجوب المراد ولزومه تحريكا وبعثا إلى
230

متعلقها، فتنتزع هذه العناوين من تعلق الإرادة المبرزة والامر والحكم، فيوصف العمل
بأنه واجب لازم محتوم ومحرك إليه ولا يتوقف لحاظه موصوفا بالوجوب على كون
الامر قاصدا لحصوله بالانشاء والامر، بل يصفه العقل بذلك بعد العلم بالامر حتى
عند تعقل الغرض بخصوص إظهار الإرادة والاعلام بها بالانشاء أو الاخبار،
فالوجوب لا نسبة له إلى الجعل بهذا المعنى. نعم هو منسوب إلى الجعل التكويني
وتابع ومتوقف على ما بيد الشارع وضعه ورفعه وهو الحكم والامر الذي هو عين
الانشاء الاختياري والتشريع، وهذا هو المصحح للاستصحاب وجريانه فإنه مجراه
على ما اشتهر لا بد أن يكون أثرا أو ذا أثر وأن يكون مما تناله يد الجعل التشريعي
وضعا ورفعا. ولا يخفى أن كون الحكم جعليا بهذا المعنى غير جعليته بالمعني المتقدم،
فلا يختلط أحدهما بالآخر كما وقع من غير واحد، هذا حال الأحكام التكليفية طرا،
وأما الوضعية فقد تنقسم على قسمين يعبر عن أحدهما بالتعليقية كالجزئية والشرطية
والسببية والمانعية، وعن الاخر بالإضافية كالصحة والفساد والملكية والحرية
وأمثالها، فيقال بأن القسم الأول ليس جعليا بالمعنى الأول ولا بالثاني، بل هو
بأجمعه منتزع عن التكاليف والالزامات، فالجزئية منتزعة عما وقع مع غيره في حيز
الامر والإرادة الواحدة، فإذا تعلق الامر الواحد بشيئين أو أكثر ينتزع عنوان
الجزئية للمأمورية سواء قصد الامر إحداث هذا العنوان أو لم يقصد، بل لو قال
إني ما جعلت الجزئية لا يسمع منه ويصح اعتبارها له، بخلاف ما إذا لم يدرجه تحت
الامر ولم يجعل التعبير بأني جعلته جزء هذا لا يصحح اعتبار الجزئية، كما لا يخفى،
وكذا الشرطية والمانعية فإنه لو اعتبر الامر متعلقا بالمفيد بأمر وجودي أو عدمي
فينتزع العنوانان المذكوران ولا يعتني بالتصريح بعدم جعل الشرطية والمانعية ولو لم
يتعلق إلا بالمجرد عن التقييد بقيد وجودي أو عدمي، فلا يقال لشئ لهذا المأمورية
أو مانع عن حصوله حتى مع قول الامر بأني جعلت الشرطية أو المانعية لذلك، لكن
من دون إرادة بيان تقييد المراد. وأما السببية الشرعية فهي منتزعة عن كيفية
جعل التكليف ومنوطية إرادة الشئ بأمر من الأمور، كالدلوك ودخول الوقت،
فإنه يستفاد من قوله عليه السلام: (إذا دخل الوقت وجبت الصلاة والطهور)، إن
231

وجوبهما منوط بدخول الوقت ومسبب عنه، ومن قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك
الشمس)، إن الدلوك سبب للامر بالإقامة، فهذه أيضا من الأمور الانتزاعية لا عن
نفس الحكم بل خصوصية وكيفية. وأما السببية التكوينية فهي تابعة لخصوصيته
في السبب بها يؤثر هذا الأثر المخصوص دون غيره، فهي ليست جعلية ولا انتزاعية،
هذا تقريب ما قيل في وجه انتزاعية هذه الأمور، ولنا فيه نظر يظهر إن شاء الله.
فظهر مما مر إن الحكم الجعلي وضعيا كان أو تكليفيا هو ما يتوسط بينه وبين إرادة
حصوله جعل وإنشاء، ولا يكفي الإرادة والقصد من دون التسبب إليه بالجعل
والانشاء، كالملكية فإنها لا تحصل بصرف إرادة حصولها ولا بإيجاد أسبابها ما لم
يتوسل بها إليها بالانشاء. وعلى هذا فلا ينبغي عد الوجوب وسائر التكاليف من
الاحكام الجعلية، فإن الوجوب أمر مثلا ينتزعه العقل بعد ظهور إرادة المولى وإبرازه
إياها متعلقة بعمل من الأعمال، فمنشأ انتزاعه هي الإرادة المبرزة المتعلقة بالفعل من
حيث كونها علة أو مقتضيا لحصوله، فبها يجب المراد كالمعلول بالنظر إلى علته، وكذا
ينتزع عنها الالزام والبعث والتحريك، وهذه العناوين بأسرها حاصلة ومتحققة عند
إبراز الإرادة المولوية وإبراز المبرز الانشائي أو الاخباري، سواء كان المولى قاصدا
لحصولها أم لا، بل لو قصد عدمها أيضا لأنه إذا تحقق منشأ الانتزاع والاعتبار، فلا
يبقى انتظار للعقل في تجويزه الانتزاع والاعتبار والتوصيف ولا يرى دخلا وتأثيرا
للمنع والتجويز التكليفيين في ذلك، فلو فرض وقوع شئ فوق الاخر ولو لم يكن
بالقصد، فلنا انتزاع الفوقية والتحية واعتبارهما، منع عن ذلك الشرع أم لم يمنع،
فالوجوب لو كان جعليا بهذا المعنى لزم أن لا يتحقق ولا يصح اعتباره إلا عند
كون المولى قاصدا له ومتوسلا إليه بالانشاء، لا عند إبراز الإرادة مطلقا حتى مع
الغفلة عن ذلك كما هو الأغلب فإن الامر منا لا يخطر بباله عنوان الوجوب وغيره
أصلا، كما لا يخفى، فنفس الوجوب مثل إرادة إبراز الإرادة ونفس الانشاء والإرادة
المتعلقة بالعمل والمصلحة القائمة، كلها أمور واقعية أو اعتبارية انتزاعية لا إناطة
ولا توقف بالانشاء والجعل، كما كان الامر كذلك في الملكية على ما عرفت، وكذا
الامر في سائر التكليفات فإنها ليست جعلية بهذا المعنى لا بأنفسها ولا بمباديها، نعم
232

يتصور وجه آخر لتوصيف جميع الأحكام بالجعلية، وهو كونها بأجمعها مستندة إلى
الجعل التكويني بمباديها القريبة كالبعيدة، فإن إبراز الإرادة وإنشاء الملكية جعلية
كالوجوب والملك بهذا الاعتبار، فتحصل إن الأحكام التكليفية منسوبة إلى الجعل
بمعنى مشترك بينها وبين الوضعية، وأما بعض الأحكام الوضعية فهي موصوف
بالجعلية بالمعنى الاخر أيضا، هذا بالنسبة إلى جميع التكليفيات، وأما الأحكام الوضعية
فقد تقدم إنها على قسمين (أحدهما) ما يعبر بالتعليقية كالشرطية والسببية
والجزئية والمانعية وغيرها، والاخر كالحرية والرقية والملكية والحق والوكالة
والولاية وأمثالها، أما الأول فلا يخفى إنه لا يعقل جعل شئ من هذه المذكورات بالأصالة
والاستقلال، فإن شرط الواجب ما كان لتقييده دخل في الإرادة، فنفس ذاته وإن
كانت خارجة عن تحتها لكن تقييده واقعة تحت الإرادة، فإذا كانت الإرادة متعلقة
بالمقيد بشئ بما إنه كذلك يصح انتزاع الشرطية لذلك الشئ، قصد حصولها أم لم يقصد،
رضى المريد بذلك أم سخط، وإذا لم تكن الإرادة منبسطة على التقييد فلا مصحح
لانتزاع الشرطية حتى مع قول المريد إنه شرط للمراد من دون قصده إلى إفادة
تقييده بهذا اللسان، فالشرطية للواجب منتزعة عن أمر كان تقيده دخيلا في المراد
ومتأخرا عن الطلب، وكذا جزء الواجب فإن اعتبار الجزئية للأمور المتكثرة تابع
للوحدة الاعتبارية الطارية عليها، أما من قبل الاسم كالصلاة مثلا أو من قبل الأثر
والمصلحة أو من قبل الحكم والوجوب مثلا، ففي المقام وحدات ثلاثة فوحدة نشأت
من قبل التسمية، ووحدة نشأت من قبل وحدة المصلحة، وأخرى من قبل وحدة
الوجوب، وكل من هذه الوحدات في طول الأخرى وعلى كل فجزئية الشئ للمسمى
فرع وحدة الاسم، ولذي الأثر فرع وفاء تمامها بالأثر الواحد، وللواجب فرع
انبساط الوجوب الواحد على المتكثرات، وفي الرتبة المتأخرة عنه، فقبل تعلقه بها لا
يتعقل جزئية شئ منها للواجب، ولو قيل جعلته جزء وبعده لا يتعقل وجه لعدم
اعتبارها شاء الامر كذلك أم أبى، وكذا شرطية للوجوب وسببيته مترتبة على
إناطة الوجوب وتوقيفه وتعليقه على ذلك فقوله عليه السلام: (إذا دخل الوقت وجبت
الصلاة والطهور)، يدل على إناطة وجوبها بدخول الوقت، ومن ذلك ينتزع العقل
233

شرطية الدخول وسببيته للوجوب سواء قصد بهذا الكلام حصول ذلك أم لا، حتى
لو قيل بأني ما جعلت الدخول شرطا للوجوب لما يسمع إلا إذا علم منه إلغاء الإناطة
المذكورة، وأما ما يقال من إن السببية تابعة لخصوصية في الشئ تكوينا، فلا تناله
يد الجعل، فهذا مما لا ينبغي أن يتعرض في المقام، فإن الكلام في السبب الجعلي
والاعتباري القابل لان يجعل بإناطة الطلب لشئ وأن لا يجعل بأن لا يناط بشئ،
وهذا أجنبي عن التكويني المذكور، وملخص القول إن هذه الأمور من الأحكام الوضعية
غير قابلة للجعل الأصيل بالذات، لكن لا يخفى إنها مجعولة بالتبع وبالواسطة،
فهي أمور انتزاعية عن التكاليف وخصوصيتها، لكن لا بأس بتوصيفها بالمجعولية
أيضا، والمانعية أيضا مثل ما تقدم، ولوضوح الامر في انتزاعية هذا الصنف
ذهب الشيخ (ره) إلى ذلك مطلقا، ومثل بالجزئية وأمثالها إثباتا للمدعى، وأما
القسم الاخر فهو لا يتحقق إلا بالانشاء والجعل ولا ينتزع عن الحكم التكليفي
وليس متأخرا عنه رتبة، بل الامر بالعكس من هذه الجهة، هذا كالملكية والحق
الذي هو أيضا من مراتبها الضعيفة والولاية والوكالة وغيرها، فإنها مأخوذة في
موضوع كثير من الأحكام التكليفية، كحرمة أكل أموال اليتامى والتصرف في
مال الغير بغير إذنه وعدم إعطاء السفهاء أموالهم، فإن المال المضاف إلى الأشخاص
موضوع لهذا الحكم، والإضافة عين الملكية أو ناشئة عنها فهي مأخوذة من الموضوع
ومتقدمة على حكمه كما لا يخفى، وعليه فلا يعقل أن تكون منتزعة عنه ومسبوقة
به بحسب المرتبة، وكل ما تقدم منا كان تكرارا لما بين فيما سبق وتقريرا لما هو
المعروف من متأخري متأخر الأصحاب من انتزاعية الصنف الأول من الأحكام الوضعية،
ولكن للنظر في ذلك مجال ويظهر وجهه بعد مقدمتين (أحديهما)، إن المنتزع
المترتب على الحكم التكليفي على نحوين، فتارة تكون إضافة العنوان الحاصل للشئ
فيما قبل الوجوب وإنشائه، مترتبة على الوجوب وفي طوله لا نفس العنوان المضاف،
لأنه قد كان عند ما لم يكن وجوب على الفرض، وهذا نظير الزمان والمكان وغيرهما
مما يحكى عن الشئ ولا يتبدل بإضافته إلى الواجب وعدمها، فإذا جعل الوجوب
يترتب عليه جواز إضافة هذه الأمور إليه وإلى الواجب، وإلا فلا، فالإضافة متأخرة
234

عن الجعل ومتفرعة عليه لا نفس العنوان المضاف، فإنه متحقق قبلا وبعدا، وأخرى
يكون العنوان أيضا متأخرا عن الحكم كالإضافة إليه، وهذا كجزئية الشئ للواجب،
فإن تحقق الجزئية مترتب على تعلق الحكم الواحد بأمور متعددة بنحو لا ينحل إلى
أحكام استقلالية، فهي موقوفة على الحكم ذاتا وإضافة ولا يتحقق إلا به أو بوحدة
المصلحة أو الاسم، وعلى كل فالجزئية متأخرة عن الوحدة الاعتبارية للأمور المتكثرة،
وكذا إضافتها إلى تلك الوحدة ولولا جهة الوحدة لما اتصف شئ منها بالجزئية
الفعلية وبعد اعتبار الوحدة من حيث التسمية أو المصلحة، مثلا يصح اعتبار
الجزئية لبعضها للمسمى أو لذي المصلحة لا للواجب، وكذا إضافته أيضا إلى الكل
الاعتباري، كما إنه يجوز الاعتبار بعد تعلق الوجوب الواحد بالمتكثرات وإضافتها
أيضا إلى الواجب، فيقال مثلا إن الركوع جزء الواجب، فالجزئية والإضافة
متوقفتان على الايجاب بحيث لولاه لما كان الركوع مثلا موصوفا بالجزئية ولا
مضافا إلى الواجب (والمقدمة الثانية) إن المعنى من قبيل الأول ما كان بحقيقته
متأخرا عن التكليف، فيصح عده من الأمور المنتزعة، وأما إذا لم يكن كذلك أي
لم يكن بحقيقته متأخرا عن التكليف بل بإضافته، فلا ينبغي عد نفس العنوان من
الانتزاعيات عنه فإن العنوان المضاف يتحقق قبل الامر، فلا إناطة بالامر إلا في صحة الإضافة
فقط، وإلا فالمضاف محقق في حد ذاته، فبناء على هذا نقول إن الجزئية للشئ متفرعة
على واحدة من الوحدات الثلاث وحدة التسمية مثل الوحدة الناشئة عن المتكثرات
في تسميتها بالصلاة، ومن وحدة التسمية تحصل وحدة أخرى تسمى بوحدة المسمى،
وهذا المسمى إن كان له مصلحة واحدة ينتزع عنه وحدة أخرى تسمى بوحدة
المصلحة، ووحدة أخرى حاصلة من ناحية تعلق الوجوب الواحد بالمتكثرات تنتزع
منه وحدة للمتكثرات من حيث وجوبها، ويوصف كل منها بالجزئية للواجب، فلو
تعلق بكل وجوب مستقل فلا وجه لتوصيف كل من المتكثرات بالجزئية للواجب،
فجزئية الشئ له تكون متأخرة عنه من حيث الإضافة والمضاف، فإنها بحقيقتها
وإضافتها واقعة في الرتبة المتأخرة عن الوجوب، وأما شروط الواجب فهي كالقيام
المتوقف على الاعتماد على العصاء أو على الجدار أو الإرادة، فهذه الأمور من حيث
235

كونها مقدمة للقيام لا تكون منوطة بالوجوب بل مقدمة لمعروض الوجوب لا لنفس
الواجب، فحينئذ مقدمية ذات المعروض للوجوب لا يتفاوت سواء كان في العالم
وجوب أم لم يكن، فإن المقدمة كالمكان والزمان مثلا محفوظ، فإذا تحقق الوجوب
تتصف هذه الأمور بأنها مقدمة للواجب، فحينئذ لا يمكن أن يقال إن المقدمية منتزعة
عن الوجوب، وإلا فلا، فليست الشرطية إلا منتزعة عن إضافة لمعروض الوجوب
باعتبار تقيده بشئ سواء صار واجبا أم لا، فالشرطية حاصلة للقيد ومطلقا، وإنما
يضاف إلى الواجب بعد الوجوب، فالإضافة متأخرة بخلاف المضاف، فالفرق بين
الجزئية وشرطية شئ للواجب هو إن الجزئية منتزعة عن وحدة في المتكثرات التي
نشأت عن وحدة الوجوب، فتترتب بنفسها وبإضافتها عن نفس الوجوب، بخلاف
الشرطية فإنها منتزعة عما كان له دخل في معروض الوجوب وموضوعه، وبعبارة
أخرى إن الجزئية متأخرة عن وحدة طرأت بالمتكثرات من جهة وحدة الوجوب،
بحيث لولا تلك الوحدة لا تنتزع الجزئية، فحقيقة الجزئية ليست إلا منتزعة عن أشياء
متكثرة مرتبطة بعضها بالبعض من حيث الوحدة الطارية عليها من قبل الوجوب
الواحد أو سائر ما يوجب عدها واحدا بالاعتبار، فمناط جزئيتها للواجب ليس إلا
كونها تحت وجوب واحد، فإنه لو لم تتعلق الوحدة بها لما طرأت الوحدة على المتكثرات،
ولا تنتزع الجزئية للواجب لكل منها كما لا يخفى، وهذا بخلاف مقدمية شئ لشئ
عرض عليه الوجوب، كمقدمية العصا مثلا للقيام المعروض للوجوب، فإن أخذ العصا
مقدمة للقيام عرضه الوجوب أم لا، إلا إنه لا يقال له إنه مقدمة للواجب، إلا بعد
وجوب القيام، فلا يتفاوت حال مقدمة معروض الوجوب بعروض الوجوب وعدمه،
فإن مقدمية ثابتة لاخذ العصا على التقديرين، فكم فرق بين الجزئية التي كانت من
القسم الأول، أي ما كان المضاف والإضافة معا متأخرين عن الوجوب، فلولا
الوجوب لا يتحقق المضاف ولا الإضافة بين المقدمية والشرطية والسببية، وبين
غيرها مما يكون متأخرا عن الحكم بإضافتها فقط لا بالعنوان المضاف، فإن هذه العناوين
منتزعة عن شئ لها نحو دخل في وجوب الغير الذي قد يعرضه الوجوب وتضاف
تلك العناوين إلى الواجب، كالمكان والزمان والساتر واللباس، فلا وجه لاطلاق القول
236

بأن هذا الصنف من الوضعي انتزاعي أو مجعول تبعي، لأنك قد عرفت الفرق بين
الجزئية وغيرها، وبيان آخر يفرض موضوع التكليف أفعال متعددة كالقيام
والقعود والركوع والسجود في الصلاة مثلا، وهي إما مضافة إلى الطهارة الحدثية
والقبلة، بحيث يعرضها الطلب بما إنها متقيدة بها، وإما لا دخل للتقيد في عروض
الوجوب عليها، فإن كان من الأول فتكون الشرطية ثابتة للطهارة والاستقبال في
الرتبة السابقة على عروض الوجوب على المقيد، كما إنه لو كان متوقفا على شئ،
فالمقدمية ثابتة للموقوف عليه تعلق بالموقوف وجوب أم لا، فالمقدمية ثابتة لذلك
الشئ في حد ذاتها ولو لم يكن في العالم تكليف بما يتوقف عليه، غاية الامر إنه إذا
جاء الوجوب تصير الأمور المقدمية مضافة إلى الواجب، وإلا فلا، فعنوان المقدمية
كالقيام لا يختلف ولا يتغير بمجرد الوجوب وعدمه، بل الاختلاف في إضافتها إلى
الواجب وعدمها، فالقيام المحتاج إلى المقدمة إما أن يجعل موضوعا للوجوب أم لا، فعلى
الأول تصح إضافة المقدمة إلى الواجب دون الثاني، فمن قبل هذا الوجوب تستحيل أن
تتغير ظرفية الإضافة وعنوان ما كان مقدمة لمعروض الوجوب، فإذا كانت هذه
العناوين بإضافتها متأخرة عن الوجوب لا بحقيقتها، فتقع الإضافة في الرتبة المتأخرة
عن التكليف لا المضاف والإضافة معا، بخلاف الجزئية فإن العقل لا يعتبرها إلا بعد
اعتبار شئ من الوحدات الثلاث الطولية، فما لم تكن الوحدات من قبل الوجوب
والتكليف لا يمكن انتزاع جزئية الواجب لمعروض الوحدة الاعتبارية الأخرى، فهي
لا تتحقق إلا من قبل وحدة الوجوب، فكم فرق بين الجزئية التي بحقيقتها متأخرة عن
الحكم، غاية الامر مع الواسطة وبين الشرطية التي متأخرة بإضافتها فقط عن الوجوب،
فمن قبل تحصل إضافة لها إلى الواجب، فللشارع أن يأخذ التقيد في
الموضوع فيصير القيد شرطا للواجب وله أن لا يأخذ، فلا يكون شرطا له، ولا
يتفاوت حال القيد بالأخذ وعدم الاخذ، غاية الامر هذه القيود كالطهارة والقبلة
مثلا بمعروضيتهما للوجوب يقال إن الصلاة مع الطهارة واجبة، أو مع القبلة واجبة،
فيحصل بهما إضافة إلى الواجب ويتصفان به كالمقدمات والشرائط التكوينية
للواجب، فإنها بإضافتها إلى الواجب متأخرة عنه فقط، ومجرد تأخر هذه الإضافة
237

لا يصحح أن يقال إن الشرطية بحقيقتها جاءت من قبل الشارع، بل إضافة الشرطية
إلى الوجوب جاءت من قبله، وكذا المانعية، فهذا السنخ من الأمور لا مجال لانتزاعه
عن التكليف والقول بترتبه عليه، فكم فرق بين الجزئية للواجب وبين الشرطية
والمانعية، فلا يتوهم إن الشرطية للواجب من الأحكام الوضعية لان الحكم ما كان بحقيقته
مستندا إلى الحاكم، إما بلا واسطة أو مع الواسطة، لا ما كان بإضافته مستندا إليه
كالشرطية والمانعية، وإلا لجاز عد كل ماله إضافة إلى الواجب من المكان والزمان
والسبب والفاعل وغير ذلك من الأحكام الوضعية، ولم يلتزم به أحد، وأما شرطية
الشئ للوجوب لا الواجب، ويعبر عنه بالسببية مثل سببية الدلوك للوجوب، فهي
تابعة للمسبب من حيث الحقيقة والاعتبارية، فإن كان المسبب أمرا واقعيا عينيا
فالسببية منتزعة عما فيه خصوصية بها يترتب عليه هذا المسبب، وأما إن كان أمرا
اعتباريا كالملكية والوجوب على المشهور، فالسببية تابعة لإناطة الوجوب والملك
بشئ كالدلوك والعقد، فإن الشارع إذا جعل الحكم فقد يقصد بالانشاء تحقق ذات
الوجوب من دون جعل شئ قيدا له، فينتزع منه الاطلاق، وتارة يقصد تحقق
الوجوب المنوط بشئ، فينحل الجعل الواحد إلى جعل الوجوب وجعل الإناطة،
فتنتزع السببية من الإناطة الحاصلة من رتبة جعل الوجوب لا عما يتأخر عنه، فلا
يبقى حينئذ مجال للقول بانتزاعهما عن التكليف، كما إنه تارة يقصد الملكية بالحيازة
مثلا، فيقول من حاز ملك، فتصير الملكية منوطة بالحيازة، وتارة يقصد الملكية المطلقة
من دون إناطتها بشئ، نظير عالم التكوين، فإنه قد يخلق شيئا من دون كونه منضما
إلى شئ، كخلقة لبنة واحد، وتارة يخلقه منضما إلى الاخر، فكذا في عالم التشريع،
فتارة يجعل الانشاء فقط سببا للملكية فيعبر عنه بالملكية المطلقة، وتارة يجعله سببا لها
بانضمام شئ آخر، وهذه الخصوصية تجئ من قبل الانشاء وقصده، فبجعل واحد
يجعل الوجوب والإناطة ومن هذه الإناطة تنتزع السببية، فالسببية جاءت من قبل
الإناطة المتحدة مع جعل الوجوب، فلا تأخر لها عنه، فما يقال من إن السببية
للوجوب أو الملك كالدلوك والحيازة والعقد مثلا مجعولة شرعا، فهو في غير محله
إن أريد من ذلك مجعوليتها بالاستقلال، كالقول بانتزاعيتها عن التكليف، فالإناطة
238

مجعولة بعين الوجوب فإنها من شؤونه، وبتعبير الأستاذ دام يكون ما يعبر عنه
بالفارسية بالچسب مجعولا بعين جعل الوجوب، فإن الوجوب المنوط ينحل إلى وجوب
وچسب، أو إناطة، فلا تكون الإناطة تحت المستقل، بل هي مجعولة بجعل
الوجوب منوطا بغيره، فهي مجعولة بالتبع، فإنها تصير من حدود الوجوب ويستحيل
تعلق الجعل بها أولا وبالذات يتعلق بها بعين تعلقه بالوجوب ويكون المنوطية
والقيد مجعولا بجعل واحد، نعم يمكن عكس ذلك بأن ينظر إلى الإناطة بالنظر
الاستقلالي وبالمنوط بالنظر التبعي، كما يمكن أن ينظر الانسان إلى لباس زيد
فيجعل اللباس منظورا إليه بالاستقلال وزيد بالتبع أو يجعل عكس ذلك، هذا إذا
كان منشأ انتزاع السببية عبارة عن مطلق إناطة شئ بغيره، بحيث يترتب عليه إما
بمناط مؤثريته فيه حقيقة، أو اعتبارا، فحينئذ فكما يمكن انتزاع السببية من الأمور
الواقعية المؤثرة في حصول غيرها، فكذلك انتزاعها من إناطة شئ بغيره إذا كان
المنوط من الأمور الاعتبارية، وعليه جاز القول بمجعوليتها في الجملة، وأما إذا قلنا
إن حقيقة السببية منتزعة عن مقام المؤثرية الواقعية، فحينئذ نقول إن الأسباب
الجعلية ليست من قبيل المؤثر الواقعي في الامر الواقعي، بل في الاعتباري لما لا يخفي
من إن سببية الأسباب الجعلية ليست بملاك التأثير والتأثر، وإلا لزم تخلف المعلول
عن علته فيما إذا كان ظرف إنشاء الملك أو الوجوب حاليا، وظرف المنشأ استقباليا،
وللزم أما تأثير المعدوم وهو الاجزاء المتقدمة على الجزء الأخير من القبول في
حصول النقل، وأما علية تاء قبلت في ذلك، وكون الايجاب وسائر أجزاء القبول
من المعدات، بل يلزم تأثير الامر المتأخر بالزمان فيما تقدم عليه في مورد إجازة العقد
الفضولي، فإنها مؤثرة في حصول الملكية من حين تمامية العقد الواقع سابقا، وإذ لا
مجال للالتزام بشئ من المذكورات، فلا بد من تسليم إن إنشاء الوجوب أو الملكية
بالعقد أو إجازته ليس مؤثرا في حصولهما، بل هو منشأ لاعتبارهما عند ثبوته،
وباختلاف ألسنة الانشاء يختلف المنشأ من حيث الظرف اعتبارا، فقد يعتبر حصوله
من حين تمامية الانشاء، وهذا فيما إذا لم يكن المنشأ مقيدا بزمان غير حاضر، أو بأمر لا
يتحقق إلا في الاستقبال، وقد يعتبر حصوله متأخرا عنه كما في الموردين، نحو قوله
239

عليه السلام: (إذا دخل الوقت الخ)، وكذا يجب الحج على من استطاع، وكتمليك
المال عينا أو منفعة بإنشاء فعلى متعلق بما بعد الموت، وقد يعتبر حصوله في الزمان
السابق على زمان الانشاء كما في صورة إجازة العقد الفضولي، وملخص الكلام إن
ترتب الوجوب على ما أنيط به في الخطاب وعلى الانشاء وكذلك الملك على العقد،
لا يكون إلا من باب ترتب المنتزع على منشأ انتزاعه، فإنه لو كان من باب الأثر
المترتب على وجود المؤثر لما انفك عنه زمانا، مع إن الانفكاك مسلم واضح، ومعه يلزم
المحاذير المتقدمة، فالسبب الجعلي عبارة عما أنيط به الامر الاعتباري من دون أن
يؤثر في حصوله واقعا، فهو سبب له بالعناية والمجاز، وعلى هذا جرى المحقق الخراساني
في الكفاية، إلا إن بعض المقررين لبعض الدروس قد أغرب وتعجب مما في الكفاية،
وقال إنه من الخلط بين دواعي الجعل والمجعول، مع إنه بنفسه ملتزم بأن إطلاق
السبب على ما أنيط به الوجوب وعلق عليه في الخطابات، إنما هو من باب المسامحة
لا الحقيقة، فليت شعري علمت موقع الخلط من الكفاية في المقام فراجع التقرير والكفاية
لعلكم تعرفون، وبالجملة إن إناطة الشئ بالشئ تارة يكون بملاك مؤثرية بعض
الموجودات في حصول بعض آخر، كتأثر المعلول من قبل علته، فلو كانت السببية
منتزعة عن إناطة موقوفة على التأثير والتأثر، فحينئذ لا يعقل أن تكون أمرا مجعولا
، وأما إذا كانت منتزعة عن مطلق الإناطة أعم من الحقيقة والجعلية، فتكون أمرا
مجعولا في الجملة بعين جعل الوجوب، أما تبعا أو استقلالا على ما تقدم من إن
مجعوليتها بأحد النحوين تابعة للحاظ، فإن لوحظت بنحو الاستقلال فتصير مجعولة
مستقلة يتبعها مجعولية الوجوب، ولو انعكس الامر فتصير مجعولة بالتبع، وعلى كل
فهي مجعولة بعين جعل الوجوب، فلا ترتب بينهما كي تكون منتزعة عنه أو متأخرة
عنه أو منتزعة عما في الشئ متقدما على الجعل، هذا كله على تقدير كون السببية
منتزعة عن الإناطة الواقعية، أو الأعم منها ومن الجعلية، وأما إن كانت منتزعة
عما به الإناطة وتكون طرفا لها فتصير منتزعة عن الحكم، لأنه من قبيل الخارج
المحمول، ويشهد بذلك إن عنوان السبب منطبق على ما قام به السببية ومبدء الاشتقاق،
فإنه لاشك في صحة إطلاقه على ما أنيط به الوجوب، فهو واجد ومتلبس بالمبدء
240

لا نفس الإناطة، وعلى هذا الاحتمال المرجح بما تقدم لا تكون السببية من المجعولات
بل هي منتزعة عن جعل الوجوب منوطا بغيره، فهي وإن كانت متأخرة عنه وكانت
مما أمره بيد الشارع وضعا ورفعا، إلا إنها لا تكون من المجعولات أصلا، كشرطية
الشئ للواجب، ولما كان الظاهر هو هذا الاحتمال، فلا يبقى مجال للقول بأن السببية
الوجوب من الأحكام الوضعية المجعولة بالتبع أو بالاستقلال المستلزم لجعل الوجوب
تبعا على ما تقدم، توجيها لما ظاهره إنها مجعولة بالانفراد أو الاستقلال، إذ لا معنى
لجعل السببية منفكة عن الإناطة، ولا يمكن جعل الإناطة بدون جعل المنوط، أو
القول بأنها متقدمة على الوجوب رتبة، فعدها من الأحكام الوضعية التي هي بحقيقتها
أما مجعولة بالأصالة أو بالتبع غير خال عن المناقشة، كما لا يخفى على الملتفت إلى ما تقدم،
ومن الأحكام الوضعية الصحة والفساد وكل من حدد الأحكام الوضعية في الخمسة
عدها منها، ولا يخفى في إن الصحة والفساد أمران متضايقان لان الإضافة داخلة في
مفهومها، فالصحة عبارة عن تمامية الشئ بالإضافة إلى الغير، من أمر، أو أثر، أو
غيرهما، وأشرنا سابقا في مبحث الصحيح والأعم، وكذا في باب الاجزاء، وكذا
في باب النهي عن العبادة، إلى إنه ليس الاختلاف بين الفقهاء والمتكلمين في مفهوم
الصحة، فإنه عبارة عن التمامية عندهما، وإنما الاختلاف فيما يضاف إليه هذا المفهوم،
ولما كان المهم عند المتكلمين تمامية الشئ من حيث الوفاء بالغرض وموافقته للامر،
فعبروا عنها بالصحة، فإذا تم الشئ في عالم الإطاعة والوفاء بالغرض، يقال إنه صحيح
عند المتكلم، وإلا ففاسد، وأما عند الفقهاء فلما كان المهم إتيان ما هو مسقط للقضاء
والإعادة، فعبروا عن الصحة به، فهي عندهم عبارة عن تمامية الشئ من حيث هذا
الأثر، وبالجملة تكون نسبة الصحيحين عموما من وجه، فتارة يكون العمل مسقطا
للقضاء، ولا يكون وافيا بالغرض، مثل ما يصدر عن المضطر الباقي عن العذر دائما
، وأخرى يكون وافيا بمقدار من الغرض ولا يكون مسقطا للقضاء، مثل أعمال
المضطر الذي يزول عذره في الوقت، فإنها تكون وافية مقدارا من المصلحة، ولكن
بعد رفع الاضطرار يلزم عليه تتميم الغرض وتحصيله، بأن يحصل الشخص الواحد
مثلا بصلوتين، فإن هذا العمل عند المتكلمين ليس وافيا بتمام الغرض، وعند الفقهاء
241

مسقط الامر، لأنه واف بمقدار من الغرض وامتثال للامر، وقد يكون العمل
صحيحا عند الطائفتين كما لا يخفى مثاله، وكيف كان فالصحة بمعنى موافقة الامر
متأخرة عنه وفي طوله، فأمرها بيد الشارع لا يجعل نفسها بالأصالة أو بالتبع، فإن
تمامية العمل من حيث الامر منتزعة عن وجدانه لما اعتبر جزءا وشرطا في متعلقه،
فليس مجعولا ولا منتزعا عنه، وأما الصحة بمعنى الوفاء بالغرض فهو أمر واقعي
تابع لاستجماع العمل لما يتم به هذا الوفاء، ولا ربط له بالامر، فلا تتأخر عنه، والصحة
بمعنى سقوط الإعادة والقضاء أو اسقاطهما فهي أيضا تابعة للاتيان بما يفي بالغرض
بالتمام، أو بمقدار منه معه، ولا يمكن تحصيل البقية أصلا، فهي أيضا مجعولة، فتحصل
إن الصحة ليست بمجعولة بشئ من معانيها الثلاثة، وإنها متأخرة عن جعل الوجوب
والامر على بعضها، وهو ما إذا كانت بمعنى موافقة الامر وبعد ظهور حال الصحة،
فلا حاجة إلى التعرض للفساد المقابل لها، فظهر من ذلك كله إنه لا وجه لعد
الصحة والفساد من الأحكام الوضعية المجعولة، إلا بمعنى من المعاني التي عدت لها في
لسان الفقيه والمتكلم، ومما عد من الوضعية الجعلية حجية الخبر، ولا يخفى إن المراد
منها، إما ما هو المراد من الحجية التي ثابتة للقطع عقلا، وهي عبارة أخرى عن
قاطعيته للعذر عند العقل ومصححة لان يطلق الحجة عليه، وإما ما هو المعبر عنه
بتتميم الكشف، ولو لم يستلزم حكما من الأحكام التكليفية ولم يكن باعتبار الأثر
الشرعي المترتب على الكشف التمام والمنزل عليه، وإما هذا المعنى المتقدم بلحاظ الأثر
المترتب على الكشف التام، المتعلق بالأحكام أو موضوعاتها، وهو وجوب الجري على
ما يحكم به العقل وجوبا طريقيا، وإما ما في الكفاية من إن الحجية أمر اعتباري
قابل للجعل، ومن لوازمه التنجيز وقاطعية العذر، فإن كان المراد منه هو الأول، فلا شك
في إن قاطعيته للعذر مستندة إلى حكم العقل بحسن العقوبة على مخالفة ما انكشف به،
وحكمه هذا عين درك الملازمة بين حسن العقوبة وعدم قبحها على مخالفة الالزام
وبين انكشافه بالكشف التام، لا إن حكمه هذا عبارة عن وجدان الشئ ملائما
للنفس، كما إن الامر كذلك في بعض الموارد، فحيث ترجع الحجية على هذا إلى إدراك
الملازمة بين المخالفة وحسن العقوبة بمعنى عدم قبحها بعد القطع والانكشاف التام،
242

فلا تستند إلى الجعل ولا ينتهي أمرها إليه، بل لا تناله به كما لا يخفى، فلا بد من حمل
كلام من أطلق القول بمجعوليتها على غير هذا المعنى، فإن قاطعية العذر عند العقل
مترتبة على انكشاف الحكم الواقعي وموضوعه، وكذا انكشاف الحكم الظاهري
والعلم بدليله، فالقطع المتعلق بالحكم أو الدليل عليه موجب لانكشاف الحكم الواقعي
أو الظاهري، ومنجز له على العبد وقاطع للعذر وكاشف عن ثبوته، فلا يقع واسطة
في الاثبات، فلذا وقع في الرسائل ما وقع من إنه ليس من الواسطة في الاثبات وتطلق
الحجة عليه لا بهذا الملاك، وأما لو كان المراد هو المعنى الثاني، فلا يخفى إن تتميم
كشف الشئ الذي هو عبارة أخرى عن إلغاء الاحتمال المخالف للمظنون وتنزيله
منزلة العدم، أمر قابل للجعل والاعتبار، لكن لا بالنحو المتقدم في جعل الجزئية، فإنها
بحقيقتها مجعولة واعتبارية على ما تقدم بيانه، وأما التنزيل وادعاء إن الموجود
معدوم أو بالعكس، فهو أمر واقعي ومجعول تكويني، ولو كانت أدلة حجية الامارة
والأصول على اختلاف ألسنتهما ناظرة إلى ذلك، فيصح عد الخبر الواحد حجة
باعتبار كونه وسطا في الاثبات لا باعتبار إنه قاطع للعذر، فإن هذا الوصف وأثر
مدار العلم الحقيقي أو الادعائي من حيث الأثر كما سيأتي المتعلق بالحكم الواقعي أو
الظاهري المنزل بمنزلته لا باعتبار وجوب الجري على طبقه المجعول عند التنزيل ممائلا
لما كان العقل حاكما به عند العلم الحقيقي، فلا وجه لتوصيفه بالقاطعية لان الحجة
بالمعنى الثاني غير قابلة للجعل التشريعي على ما ظهر، وأما بالمعنى الثالث فهي في
الحقيقة عبارة أخرى عن جعل وجوب الجري على طبق ما أخبر به العادل من
الاحكام، أو على ما كان معلوما فما مضى ثم شك فيه، وهذا حكم شرعي مماثل لحكم
العقل عند العلم بالحكم، وقد تقدم منا في أوائل بحث الخبر الواحد إن الظاهر من
الأدلة باختلاف ألسنتها هو هذا الوجوب، وتقدم إنه طريقي، نظير وجوب الاختيار
على المرأة التي تشك في دم إنه من الحيض أو غيره، ووجوب الاحتياط فيما قبل الفحص،
فإنهما أيضا طريقيان وموجبان لتنجز الواقع في البين لو كان، وإلا فلا يترتب على
مخالفتهما عقاب إلا على حرمة التجري، فلو سلم إن الوجوب (نفسيا كان أو غيريا
أو طريقيا) مجعول للشارع إما بالاستقلال أو بالتبع، فالحجية التي هي منتزعة عن
243

تنزيل الظن والخبر أو اليقين السابق منزلة العلم الفعلي باعتبار وجوب اتباعه شرعا،
فهي متفرعة على جعل هذا الوجوب الطريقي ومنتزعة عنه، فعلى هذا صح عدها من
الاحكام الجعلية بالتبع كالجزئية للواجب، بخلاف المعنى السابق فإنه لا يكون جعليا
بذلك المعنى، وليس عليه دليل في أدلة اعتبار الامارة والأصول، فإنها في الأكثر
بلسان الأمر والنهي، بل لا يوجد فيها ما يدل على التنزيل المجرد عن الالزام بالبناء،
أو تركه، هذا مضافا إلى إنه لا فائدة في حمل الأدلة على إتمام الكشف وتتميمه عدي
ما تبخيل من إنه لولاه لما كان تقديم الامارة على الأصول، ولبعض الأصول
على البقية وجه، وقد تقدم منا في بحث حجية الخبر إن اختلاف ألسنة الأدلة ولو من
جهة أخرى كاف في ذلك، فلا يضر اتحادها من حيث اشتمالها على الالزام بالعمل على
طبق الخبر واليقين السابق، فما يدل على إن الظن كالعلم من هذه الجهة، ولم يؤخذ
في موضوعه الشك، فهو مثبت للعلم من حيث وجوب الاتباع، ومقتضى لالغاء الشك
بهذا الاعتبار، وما يدل على إن اليقين الزائل كالباقي في ظرف الشك في المتيقن
، فهو من حيث الحكم دال على الاستصحاب ولا تصل النوبة إلى الاخذ به إلا في
صورة الانتفاء ما يدل على إلغاء الشك، وما يدل على وجوب الاحتياط أو الرخصة
في الترك عند الشك، فهو لا ينبغي الاخذ به إلا عند انتفاء الأولين، فمشاركة الأدلة
مع اختلاف ألسنتها في إفادة الالزام أو الرخصة لا تقتضي عدم حكومة بعضها أو
وروده على الاخر، وأما على المعنى الرابع فهي إن كانت كما ادعاه العلامة
الخراساني ويساعده عليه ما فيه (جعلته حجة عليكم) فجعلية بحقيقته وبالاستقلال
كالملكية على ما يخفى، إلا إن الكلام في إن هذا أيضا أمر يعتبره العقلاء قبالا لمعاني
المتقدمة، أو ينتزعون الحجية عن وجوب الطريقي أو الحرمة، كذلك المتعلقين بالعمل
مع ما ليس علما بالفعل معاملة العلم، وقد مر منا في ذلك المقام إنكاره، فتحصل إن
الحجية التي تثبت للقطع بأمر لا تناله يد الجعل الشرعي ويد التكويني بالأصالة،
وأما ما يدعي من إنها عبارة عن تتميم الكشف، وإتمامه للخبر واليقين السابق
وتنزيلهما منزلة العلم، ولو لم يكن باعتبار وجوب الجري على طبقهما، فهي مجعوله
بالاستقلال ومتعلقة للإرادة والقصد لا بالتبع، إلا إنها تكوينية لا تشريعية، وأما
244

على المختار من إنها منتزعة عن تنزيل غير العلم منزلته باعتبار وجوب اتباعه، فهي مجعولة
بالتبع تشريعا بناء على كون الوجوب والحرمة من المجعولات التشريعية، وإلا فلا،
وأما على مختار الكفاية فهي مجعولة بنفسها وبالاستقلال، هذا ما أوردنا ذكره في
المقام، فمحصل الكلام في معنى حجية الامارات إنها إما عبارة عن أمر اعتباري قائم
بالامارة بالنظر إلى الواقع يعتبره العقلاء ككون شئ علامة للنصب، فإنها قائمة
بإضافة اعتبارية بين الفرسخ وبينها، فهي كالملكية أمر مجعول بنفسه وبحقيقته، وإما عبارة
عن تنزيل الكاشف الناقص عن الواقع منزلة التام منه وهو العلم، من دون أن يستتبع
حكما إلزاميا وينتهي إلى جعل أثر شرعي للمنزل مثل ما للمنزل عليه عقلا، كوجوب
الجري على طبقه والآتيان بما علم وجوبه وترك ما علم حرمته، وهذا ما يعبر
عنه بتتميم الكشف، وإما عبارة عن التنزيل المذكور المستتبع لجعل وجوب الاتباع
مماثلا يحكم به العقل مع العلم بالوجدان، وعلى كل فلا بد من العلم بالجعل ووصول
الحجة، فما لم تصل لا ينقطع العذر، ولا يحسن الاحتجاج إلا على ترك الفحص مع
الالتفات، ولا يخفى إن وجه الاختلاف في معنى الحجية هو الاختلاف في وجه
منجزية الامارات، فمن يرى إنه من باب أغلبية إصابتها للواقع والملازمة بينها وبينه
في الأغلب، بحيث لا يعتني العقلاء باحتمال التخلف في كل واحد واحد من الامارات،
فيقول إن الحجية عبارة عن إضافة اعتبارية عند العقلاء بين الامارة والواقع المحكي
بها، كالملكية والعلامية، فهي عنده قابلة للجعل وأثره تنجيز الواقع بعد العلم بالحجة،
ومن يرى إن وجه المنجزية هو تنزيل الامارة الحاكية عن الواقع بكشف الناقص
منزلة الكاشف التام عنه، وإنه لا بأس به ولو لم يستتبع تكليفا وأثرا مماثلا لما للمنزل
عليه عند العقل، فيكتفي في إخراجه عن اللغوية بكونه مما يترتب عليه أثر عند العقل،
فيرى المنزل واجب الاتباع أيضا، فله أن يقول بأن الحجية عبارة عن تتميم كشف
الامارة، إلا إنه ليس له أن يعدها من الأحكام الوضعية الجعلية، فإنها على ما تقدم
أمور لا واسطة بينها وبين إرادة حصولها بحقيقتها غير الانشاء والجعل، ولا ريب
في إن التنزيل والادعاء لا يوجبان صيرورة غير العلم علما حقيقة،
بل ادعاء فلا يحصل
الكاشف التام ولا تمامية الكشف بهذا التنزيل حقيقة، ولا تكون الحجية على هذا
245

مجعولة ولا منتزعة عن أمر مجعول، بل هي حينئذ مجعولة بالجعل التكويني الغير المختص
بالأمور الاعتبارية وخارجات المحمول، كالملكية والرقية وغيرهما، ثم لا يخفى إن
الحجية بالمعنيين المتقدمين مختصة بالامارات كالخبر والشهرة والاجماع المنقول، فإن
الأصول لا حكاية لها عن الواقع ولا ملازمة بينها وبينه، وأما من يرى إن التنزيل
الذي هو عبارة أخرى عن التشبيه المستلزم لوجه شبه بين الطرفين لابد من استتباعه
لجعل حكم تكليفي للمنزل مماثل لما يحكم به العقل للمنزل عليه من وجوب الاتباع
والجري على طبقه، فله أن يقول إن الحجية إما مجعولة بناء على كونها عين هذا
الوجوب الطريقي المجعول لاتباع الامارة كوجوب الاحتياط والاختبار على المرأة
أحيانا، وإما منتزعة وله أن يعمم الحجية بين الامارة والأصول، فإنهما مشتركان في
وجوب الاخذ بهما كل في مورده، وإنما يفترقان من جهة أخرى وهي كون الامارة
كاشفة عن ذيها، وكون الأصول وظائف للشاك في ظرف ستر الواقع، فالامارة
رافعة للسترة والجهل ولو ادعاء، وأما الأصول فلا، ومن جهة اختلافهما واختلاف
ألسنة أدلتهما تقدم الامارة على الأصل حكومة، أو ورودا، هذا كله في مقام التصور
وبيان لازم كل صورة مما تصورنا، وأما التصدي لمقام التصديق فهو وإن كان قد
أطيل الكلام فيه في مبحث جعل الامارة والظن، كما إنه المناسب له، إلا إنه لا بأس
بالإشارة إلى المختار وما في غيره على الاختصار، فنقول مقدمة إن من الأمور المسلمة
إن العقلاء يعاملون مع بعض الأمور معاملة العلم ويرونه بيانا للشئ وقاطعا للاعتذاء
بعدم العلم، وكذا يجرون في ظرف الجهل والشك على ما بنوا عليه من الاحتياط
عند الاهتمام والامكان وغيره مع عدمها، ويعبر عن الأول بالامارة وعن الثاني
بالأصل، ولا ريب في ثبوت كبرى القسمين في الشرعيات والشرع أيضا، فلو كان
بين المتشرعة وغيرهم اختلاف في أمارية ظن أو حجية أصل من الأصول، فإنما هو
اختلاف صغروي، وإلا فأصل الكبريين مسلم ولا يبعد أن تكون دائرتهما أوسع
عند العقلاء مما لهما عند الشرع والمتشرعة، ولعل الشارع أمضى بعض ما عند العرف
والعقلاء، وردع عن بعض، ولهذا ترى المتشرعة طرا يقدمون الامارة على الأصل
كالعقلاء، وحكومة أو ورودا ولا يعدون المتخالف منهما من التعارض، فلو لم يكن
246

هذا من جهة ما ارتكز في الأذهان من كاشفية الامارة وكونها بمنزلة العلم عند
العقلاء، لما كان لذلك وجه سيما عدم تأسيس جديد من الشرع بالنسبة إلى الطرق
والامارة، ولما كان هذا التقديم مسلما من كل من أعمل الرأي واجتهد، وكاشفا عن
كون الامارة منزلة منزلة العلم، فلا حاجة إلى جعل الحجية بالمعنى المختار (للكفاية)
فإن التنزيل مورد للامضاء وبعده لا تمس الحاجة إلى جعل أمر آخر ينجز أو يعذر،
فظهر من هذا المعنى المذكور في الكفاية وإن كان معقولا وقابلا للجعل بنفسه
وبحقيقته، إلا إنه لا داعي إلى المسير إليه، وأما المعنى الثاني فهو على ما تقدم ليس
جعليا ولا قابلا للالتزام به، فإنه مستلزم للتشبيه والتنزيل بلا وجه شبه وجامع يقتضي
للتشبيه والتنزيل، وأما المعنى الثالث المختار فهو خال عن المحذور المذكور ومناسب
لظاهر قوله عليه السلام (خذوا ما رووا) وقد لا تنقض اليقين، فتحصل إن الحجية إما
عين الالزام بالفعل أو الترك طريقا إلى الواقع عند قيام الامارة أو انطباق الأصل،
وأما منتزعة عنه، وأما المعنى الأول فهو وإن كان ممكنا ومعقولا، إلا إنه لا ينبغي
أن يصار إليه إلا في صورة انتفاء تنزيل الامارة منزلة العلم شرعا، ومن الأحكام الوضعية
الطهارة والنجاسة، وقد وقع النزاع في إنهما أمران واقعيا كشف عنهما
الشارع أو تنزيليان ادعائيان في بعض الموارد دون بعض، أو أمران اعتباريان جعليان
أو منتزعان عن التكليف، فالاحتمالات فيهما أربعة (أحدها) إنهما من الأمور
الواقعية التي كشف عنهما الشارع في موارد خفائها على العرف، مثل المصالح والمفاسد
المترتبة على بعض الأفعال التي يرون العرف فيها صلاحا أو فسادا، لكن الشارع كشف
عنهما بالامر به أو النهي عنه أو بيان الاجتزاء ببعض الشئ أو عدمه عند تعذر كله،
كما يرون العرف جزء الشئ ميسورا منه، ولكن الشارع لا يراه كذلك لبعده عن
الغرض، وربما ينعكس الامر فيرى الشارع بعضه ميسورا منه بخلاف العرف لقربه
إلى الغرض، وبالجملة فكما إن بعضا من الشئ ربما يكون وافيا بالمهم من الغرض منه
ويبين الشارع جواز الاجتزاء به عند تعذر الكل وإن لم يكن ذلك البعض ميسورا
منه عرفا، وربما لا يكون كذلك وإن كان ميسورا عرفا وعلى حال، فيكون جواز
الاكتفاء وعدمه ببعض الشئ دون بعض كاشفا عن أمر واقعي هو الوفاء بالمهم
247

من الغرض وعدمه، فكذلك الامر في الحكم بالطهارة والنجاسة لبعض ما لا يكون
طاهرا أو قذرا بالحس في نظر العرف (وثانيها) إنهما من الأمور الواقعية في كثير
مما يكون عند العرف نظيفا أو قذرا، وعن الأمور التنزيلية الادعائية في بعض الموارد،
فهما حينئذ أمران جعليان بمثل الموت والحياة الجعليين، لا كالملكية وأمثالها، (وثالثها)
إنهما أمران جعليان كالملكية فتحصلان بجعل الشارع وانشائه كان موضوع النجاسة
مثلا مما يستقذره الطبع وينفر عنه، أو لم يكن، (ورابعهما) إنهما من الأمور المترتبة
على التكليف المنتزعة عنه مثل سائر العناوين المنتزعة المتأخرة عن الأحكام التكليفية
كعناوين البعث والتحريك المنتزعين عن الإرادة المبرزة المقتضية للانبعات والحركة،
وبالجملة فالمقام لا يخلو عن أقوال ثلاثة أو احتمالات أربعة، فنقول مقدمة إنه لا
إشكال في إن النظافة والقذارة من الأمور الحسية ويعبر عنهما بالفارسية (بتميزي
وچركي)، ولا إشكال أيضا في إنهما على هذا تكون من الأمور الواقعية فيعبر عن
الطهارة بالفارسية (بباكى) وعن القذارة (بچركى) كما إنه يعبر عن الطهارة
بالنقاوة أيضا، فيقال حينئذ من الأمور
الانتزاعية عن التكليف، لان الطاهر والقذر موضوعان له، فكيف يعقل تأخر عنوان
الموضوع عن حكمه وترتيبه عليه، ولا من الأمور الاعتبارية الجعلية كالملكية
وأمثالها، فإنه لا تحقق لها في الخارج ولا يمكن إدراكها بالحواس الظاهرية، مع إن
الأمور الإضافية لا وعاء لها إلا الذهن، ولا يكون لها في الخارج حظ من الوجود،
إلا باعتبار المنشأ، نعم ربما يدعى ثبوتهما لما ليس طاهرا أو قذرا في نظر العرف
لملاك يوجب إلحاق الطاهر ظاهرا بالقذر الواقعي وبالعكس، ثم لا يخفى إنه ربما
يعامل مع الطاهر الحسي معاملة القذر الحسي عند العرف، فإنهم يستقذرون أيدي
المباشرين للكناسة والدلاكة وتغسيل الأموات، ولو كانت مغسولة بالصابون وسائر
المنظفات ألف مرة، وربما ينعكس الامر عندهم، فإنهم يعدون أيدي المباشر لاصلاح
العنب والشيرج والحلويات وأمثال ذلك طاهرة ونقية مع تلوثها بالكثافات والقذرات
الحسية، وليس هذا منهم إلا بالادعاء وتنزيل غير المحسوس منزلة الحسي، فللنقاوة
ونقيضها عند العرف فردان أحديهما حقيقي حسي، والاخر تنزيلي ادعائي، ولا يبعد
248

أن يكون الامر فيهما كذلك عند الشرع أيضا، غاية الامر قد يتحد المصداق الحقيقي
عند العرف والشرع، وكذا التنزيلي لديهما، وقد يختلف فيكون ما هو القذر عند
العرف تنزيلا أو حقيقة، كيد غسال الأموات ويد الكناس بعد غسلهما أو يد
المباشر لاصلاح البساتين والأعناب طاهرا عند الشرع حقيقة، وقد يكون ظاهر
الحسي والنقي في نظر العرف كالكفار المواظبين على التنظيف قذرا ونجسا عند الشرع
ادعاء، وبالجملة فبعض ما هو المصداق الحقيقي للقذر أو الطاهر في نظر العرف
مصداقا لهما كذلك عند الشرع، وبعض ما هو القذر حسا أو حقيقة عند العرف
طاهرا ادعاء عند الشرع وبالعكس، فعلى هذا يمكن أن تكونا باعتبار بعض مصاديقهما
عند العرف كالحياة وغيرها من الموضوعات الجعلية بالتنزيل والادعاء، فلا تكونان
بشئ من أفرادهما اعتباريا محضا كالملكية وأمثالهما، التي ليست في الخارج إلا أمرا
اعتباريا ووجودها ليس إلا باعتبار مناشيها، فإذا كان الامر كذلك عند العرف،
فيمكن أن يتعدى منه إلى الشرع، فيقال إن العرف يرون الشئ قذرا مع إنه ليس
بقذر، فكذلك الشارع الحكيم ربما يدعي قذارة أشياء لا تكون كذلك حسا وخارجا
في نظر العرف، وذلك لعدم التفاتهم إلى الملاك، فلو التفتوا إليه لحكموا بقذارتها، يعني
إن مناط الاستقذار أمر لو التفت إليه العرف لرأوه قذرا، ولكن الشارع لاحاطته
التامة بكنه الأشياء ومصالحها ومفاسدها بعناية منه تعالى يراها قذرا أو طاهرا،
فيحكم في مورد الطاهرة العرفية بالقذارة وفي مورد القذارة العرفية بالطهارة، فبهذا
المعنى تكونان جعليتين للشارع باعتبار بعض الافراد من جهة أمره فيه بالبناء على
إنه طاهر أو قذر، وإلا فروح الطهارة والقذارة أمر واقعي، فلا تكون جعليتهما
بمثل الملكية، فإن الملكية منحصرة في الجعل والانشاء ولا يتحقق بالتنزيل والادعاء ما لم
تثبت بالجعل أولا، بخلاف محل البحث في المقام فإن المرتبة الأولى كانت أمرا واقعيا،
والثانية جعلية عرفية والثالثة جعلية عند الشارع، فلا بد في المقام من التفصيل في إن
التفاوت في النقاوة والقذارة أمران واقعيان حسيان في بعض الموارد وتنزيليان
ادعائيان، أما عند العرف والشرع أو الأخير فقط في بعضها الاخر، فهما من الأمور الجعلية
باعتبار هذا البعض، لكن من الجعليات التي تحصل حقيقتها بالجعل والانشاء، بل هو نظير
249

الأحكام التكليفية على ما تقدم منا، وببيان آخر ليس للطهارة إلا مصداق واحد
حقيقي، ولكن للشارع أن يحكم بقذارة شئ ادعاء كما إن للعرف أيضا ذلك، ويمكن
الاختلاف بين العرف والشرع، فربما يحكم الشارع بقذارة شئ لا يراه العرف قذرا،
بل يرونه نظيفا فلو التفت العرف لما التفت إليه الشرع، لحكموا بقذارته، وربما يكون
عكس ذلك، فما يراه العرف قذرا لا يراه الشرع كذلك، لالتفاته بما لم يلتفت إليه
العرف، فالجعلي في المقام بهذا المعنى الذي قيل في الملكية، فإنها أمر جعلي قطعا وكانت
اعتبارية محضا، ومن الأحكام الوضعية الملكية، فنقول لا إشكال في إن حقيقة
الملكية عبارة عن إضافة خاصة بين المالك والمملوك هذا المقدار من المسلمات عند
الكل، ولا يهمنا التعرض بأنهما من قبيل الإضافة أو الجدة، ولا إشكال أيضا في إن
من قبل حكم الشارع بجواز التصرف للمالك وعدم جوازه للغير في المملوك تحصل
أيضا أضافة أخرى يعبر عنهما بالسلطنة، وإن هذه الإضافة كانت منتزعة عن
التكليف الذي كان أمر وضعه ورفعه بيد الشارع، ولا إشكال أيضا في إن هذه
الإضافة الأخيرة واقعة في الرتبة المتأخرة عن التكليف، بحيث لولا التكليف لما كانت
الإضافة متحققة، فهذه الإضافة ليست مستندة إلى الجعل الابتدائي، بل نشأت وجاءت
من قبل الأمور الواقعية التي عبارة عن التكاليف، بخلاف الإضافة الأولى فإنها ناشئة من
قبل الجعل بأن يقول الشارع أو المالك الصوري جعلته ملكا لفلان، فتحصل حينئذ
نحو إضافة واختصاص، ثم لا يخفى إن لإضافة المال إلى الانسان مراتب ثلاثة،
(أحديها) ما يعبر عنه بحق الاختصاص والحق، (والأخرى) ما يعبر عنه
بالملكية ظاهرا، ولعلها هي الإضافة الأكيدة والبالغة إلى المرتبة الشديدة، وهذان
القسمان يحصلان بالجعل والانشاء ويقعان موضوعا للأحكام، وأما (الثالثة) وهي
التي يعبر عنها بالسلطنة الحاصلة من قبل الأحكام التكليفية، فهي متأخرة عنها
ومتفرعة عليها كما لا يخفى، إذا عرفت ذلك فنقول إن الملكية إذا كانت عبارة عن
الإضافة الخاصة فلا بد من ملاحظة إنها عبارة عن إضافة نشأت عن قبل الجعل
سابقا عن التكليف وواقعة في الرتبة السابقة عليه، وهي التي بها تصح إضافة المال
إلى المالك وإيقاعه مضافا موضوعا للحكم من الجواز وعدمه كما في قوله عليه السلام
250

(لا يجوز التصرف في مال الغير لاحد، أو يجوز ذلك التصرف في مالك، أو يجوز
له التصرف، فإن المال المضاف موضوع للجواز والحرمة، ولا ريب في إن هذه
الإضافة واقعة في الرتبة السابقة على التكليف ولا يمكن أن تكون متأخرة عن نفس
هذا التكليف، وإلا لزم أخذ ما في الرتبة المتأخرة عن الموضوع في الموضوع، ولا
من غيره المماثل له المجعول سابقا على هذا، وإلا فيلزم اجتماع المثلين، أو إنها عبارة
عن إضافة نشأت وجاءت من قبل التكليف، فحينئذ تقع الإضافة في الرتبة المتأخرة
عن التكليف وتكون معلولا له، بخلاف الأولى أي الإضافة الجعلية، وبعبارة أخرى
بعد الفراغ عن إن الملكية عبارة عن إضافة خاصة، وبعد الجزم بأن من قبل التكليف
ومن قبل الجعل أيضا تجئ إضافة، وإن الإضافة الأولى واقعة في الرتبة المتقدمة
على التكليف وموضوع له، والإضافة الثانية واقعة في الرتبة المتأخرة عن التكليف
ومعلول له، فهل الملكية من قبيل الإضافة المتأخرة عن التكليف حتى تكون منتزعة
عنه، أو من قبيل القسم الاخر حتى لا تكون منتزعة، إذا تقرر ذلك فلا يخفى إن
العلامة الأنصاري قدس سره قد مال إلى انتزاعية الملكية عن التكليف، وقال جمع
بمجعوليتها بنفسها ومعلوم إن الملكية لو كانت عبارة عن تلك الإضافة المترتبة عن
الحكم، لكان الشيخ محقا في المقام، وإلا فالحق مع القائل بالجعلية، ولا يبعد أن تكون
عبارة عما تؤخذ في موضوع الاحكام فهي جعلية بحقيقتها لا انتزاعية كما قد يدعى،
ولو قيل إن تلك الإضافة الحاصلة للمال المأخوذ في موضوع الاحكام مترتبة على
حكم آخر، فلا يلزم تقدم الشئ على نفسه ولا يوجد وجه للقول بجعليتها بالأصالة،
فيدفع بأن لازم هذا اجتماع المثلين في الموضوع الواحد، فالحق إن الملكية إضافة
اعتبارية حاصلة بالجعل وانشائها كاختصاص الثوب والجسد بالعبد، والفرس بتعيين
المالك، وهي مصححة لإضافة المال إلى المالك إضافة بالمعنى الذي هو اصطلاح النحويين
موضوعا لحرمة التصرف أو جوازه فيه وعدم جواز إعطاء السفهاء أموالهم، ولولاها
لما كان لهذه الإضافة وجه كما لا يخفى، ويظهر مما تقدم إن حقيقة الملكية إضافة خاصة
اعتبارية بين المال والانسان لا مقولية، وإنه تحصل له إضافتان (أحديهما) بالانشاء
والجعل المتقدم على الحكم التكليفي، والأخرى متأخرة عنه ناشئة من قبله، واختلف
251

في إنها عبارة عن الإضافة الأولى أو الثانية وحال الوضع أيضا كذلك، فإنه نحو
اختصاص جعلية بين اللفظ والمعنى والاختصاص عبارة عن إضافة اعتبارية بينهما،
وهي كما إنها تحصل بالتسمية وتعيين لفظ بالتعيين أو غيره للدلالة على معنى، فكذلك
تحصل بالتعهد والبناء القلبي على إفهام المعنى بهذا اللفظ لكل من أريد إفهامه للغير، غاية
الامر من لا يعلم بالبناء لا يرى الاختصاص ولا يعتبره بخلاف العارف به، ولو لم يكن
مصرحا ببيان التعهد، ولعل من قال بكون الوضع عبارة عن التعهد قد تسامح وأراد
الاختصاص والإضافة الحاصلة به، وكيف كان فلا يبعد أن يكون الوضع عبارة
عن هذه الإضافة الحاصلة من البناء والالتزام بإفادة المعنى به عند إرادة ترك التجوز،
وقد تقدم إنها مقدمة على الوضع الذي يحصل بالتخصيص والتعيين بالتسمية مثلا،
وأما الولاية والوكالة فهما أمران حاصلان بالتنزيل والادعاء، فإن الانسان إذا وكل
أحدا جعله بمنزلة نفسه واعتبره اعتبار نفسه، فالوكالة وإن كانت عبارة عن معنى
اعتباري لكنها خارجة عن دائرة الجعليات الحقيقة كالملكية وأمثالها، فإنها من باب
التنزيلات والتنزيل ما جاء من قبل الجعل بل الموكل بإنشاء التنزيل يجعل الغير منزلة
نفسه ادعاء، ولو كانت هذه الأمور جعلية ومن الأحكام الوضعية فليزم كون جميع
الأشياء التي يتعلق بها التنزيل كالحياة والوجود والكرية وغيرها داخلة في الأحكام الوضعية
، كونها غير محصورة في عدد خاص، ولا يظن بالتزام أحد بذلك، وليس
هذا إلا من جهة إن الأحكام الوضعية هي ما بحقيقتها كانت مجعولة وجاءت من
قبل الجعل وتقع في جواب ما هو، بخلاف المصاديق الادعائية التي كانت في باب
التنزيلات، فإن الملكية وأمثالها حاصلة بحقيقتها بالجعل حقيقة بخلاف
الوكالة والحياة وغيرهما مما تحصل بالتنزيل والادعاء، فتمتاز الملكية عن الوكالة
والنيابة والولاية.
وينبغي التنبيه على أمور،
منها إنه هل المدار في الاستصحاب على الشك الفعلي أو الأعم منه ومن التقديري،
والعلامة الأنصاري قدس الله سره قد تعرض لهذا البحث في موضوعين (أحدهما)
252

في مقدمات الاستصحاب وبيان أدلته، والاخر هاهنا، وقد بينا إن المدار في جريان
الاستصحاب على الشك الفعلي لا التقديري، (الثاني) في إنه لا ريب في إن المعتبر في
جريانه هو اليقين السابق، ولا اشكال في ذلك، فلا نعيد الكلام هنا، إنما الكلام
والاشكال في إنه هل اليقين مقوم لنفس الاستصحاب وركن من أركانه، كما هو
المعروف، أو إنه طريق لتطبيقه على المورد، لا يخفى إن ظاهر تعريف المشهور من إن
الاستصحاب إبقاء ما كان، هو الثاني ضرورة إنه لم يرد منه إبقاء اليقين فقط، ولم يؤخذ فيه
دخله في المبقى وهو الحكم الواقعي، أو موضوعه، وكذا لو استفيد الحكم بالبقاء من غاية
(كل شئ طاهر حتى تعرف الحرام)، أو (كل شئ طاهر حتى تعرف إنه قذر)،
فإن كلمة (حتى) تفيد استمرار الحلية والطهارة الواقعيتين المفادتين بالجملة الأولى
استمرارا وبقاء تعبديا في ظرف عدم العلم بالخلاف، فالاستصحاب المستفاد من
الروايتين هو إبقاء الحكم الواقعي عند الشك تعبدا ولا دخل لليقين فيه، فهو وإن
كان إحرازا لانطباق الاستصحاب وطريقا إليه، إلا إنه لا دخل في قوامه، ولا
يعد على ذلك من أركانه، وقد تقدم منا إن الروايتين غير دالتين على قاعدتي الطهارة
والحلية، بل يستفاد منها الاستصحاب، ولا يخفى أيضا إن في اليقين اعتبارين
(أحدهما) إنه منور وحاك عن الشئ، وهذا جهة كاشفيته، (وثانيهما)، إنه نور في
نفسه وصفة نفسانية قبال سائر الصفات، وهذا جهة صفتيته، فإذا أخذ موضوعا أو
جزئه لحكم، فإما أن يكون بالاعتبار الأول أو الثاني، لكن الاجل السيد محمد
الأصفهاني قدس سره كان مصرا بإنه ما من يقين أخذ في لسان الاخبار إلا باعتبار
المنورية للغير والكاشفية، لا على إنه صفة نفسانية والمختار عندنا أيضا ذلك، إذا
تقرر ذلك فيظهر إن نفس هذا اليقين الطريقي المأخوذ من حيث كاشفيته قد يلاحظ
بالنظر الاستقلالي، ويكون النهي عن نقضه متعلقا بنفسه لا بما إنه كناية عن
المتيقن وعبرة إليه، بل يصير بنفسه معروضا للاتنقض، وتارة يلاحظ بنحو العبرة
فيتعدى الحكم عن اليقين إلى المتيقن ويكون معروض لا تنقض هو المتيقن بعنوانه
الأولى، فيكون المراد لا تنقض الطهارة والوضوء المتيقن مثلا، فتسري حرمة النقض
إليهما ببركة اليقين وكناية عنهما، فعلى هذا يكون مفاد الاخبار إبقاء ما كان عند
253

الشك فيه، ولا دلالة لها حينئذ على اعتبار اليقين في الاستصحاب، بخلاف الفرض الأول
فإن اليقين بنفسه موضوع للحكم على ما تقدم، وقد أشرنا سابقا إلى إن المختار هو
تعلق النهي عن النقض بنفس اليقين بما هو طريق لا على المتيقن بمرآتية اليقين،
وأشرنا أيضا إلى إن النزاع في إن اليقين مقوم وركن للاستصحاب أم لا، مبتنى
على هذا النزاع، فإن قيل بأن النهي عن النقض كان متعلقا بالمتيقن ببركة اليقين لا
باليقين، بل هو مرآة له، فيتحصل من ذلك إن الاستصحاب عبارة عن إبقاء ما كان
واقعا، أما الملازمة بين وجود الموضوع الواقعي وبقائه في ظرف الشك أو التعبد
من قبل الاخبار، فعلى هذا لا يكون اليقين مقوما للاستصحاب بل يكون متمما له
ومحتاجا إليه في تطبيق الأصل، وأما إذا قيل بتعلق النهي بنفس اليقين بنفسه لا بما
هو مرآة إلى المتيقن، وكان اليقين ملحوظا مستقلا، فيكون حينئذ مقوما له، فعلى
المسلك الأول لا يكون مقوما للاستصحاب، بل الاستصحاب متقوم بالشك والكون
السابق، وإنما اليقين معتبر في مقام التطبيق، وقد أشرنا سابقا إلى إن المختار عندنا
إن الاستصحاب متقوم بهما، أي باليقين والشك معا، وإن لا تنقض كان متعلقا بنفس
اليقين مرآة إلى المتيقن، وحيث قد أشبعنا الكلام في ذلك المقام في ترجيح الثاني
واختياره خلافا للعلامة الخراساني قدس سره، فلا نتعرض للاستظهار وإثبات المختار
هنا، ثم لا يخفى إنه لو قيل بكون النهي راجعا إلى المتيقن وقلنا بأن أدلة الامارات
نازلة إلى تنزيل مؤدياتها منزلة الواقع، فلا يبقى حينئذ مجال للقول بحكومة الامارات
على الاستصحاب، ولا لحكومة الاستصحاب على سائر الأصول، ولا لقيامه مقام العلم
الطريقي، فضلا عن الموضوعي، فإنه لا يفيد العلم بالحكم الواقعي لا حقيقة ولا ادعاء
وتنزيلا، وأما لو قيل بأن أدلة الامارات مسوقة لتنزيلها منزلة العلم وإتمام كشفها
بإلغاء احتمال الخلاف تعبدا، فعليه وإن جاز جعل الامارة ناقضة لليقين السابق عند
الشك، فإنها يقين وعلم تنزيلا، فيجوز نقض المتيقن بها وترتيب آثار اليقين، ومن جملتها
جواز نقضه بها إلا إنه لا وجه لتجويز قيام الاستصحاب مقام العلم بشئ من
قسميه، وأما إذا قيل بتوجه النهي إلى نفس اليقين الطريقي باعتبار آثاره، ومنها
التي تترتب على الواقع ببركته، فللقول بقيامه مقام العلم مجال، فإنه علم التنزيلي ودليله
254

ناظر إلى ما أخذ فيه العلم موضوعا للأثر جزءا وكلا، وعليه تتم حكومته على سائر
الأصول، وأما حكومة الامارة عليه فهي متفرعة على ناظرية دليلها إلى تنزيلها منزلة
العلم، فإن عليه يتم وجه الحكومة والناقضية، وأما على تقدير نظر الامارات إلى
تنزيل المؤدى، فلا يتصور وجه لحكومتها على الاستصحاب، ولا لجواز نقض اليقين
بها، فإنها لا تعد من اليقين لا حقيقة ولا تنزيلا، وكذلك الامر فيما إذا قيل بأن
أدلة الامارات لا تفيد غير وجوب الاخذ بها والعمل عليها مثل أدلة الاحتياط،
أو بأنها تفيد الحجية التي هي من الأمور الجعلية الاعتبارية، ومن شأنها التنجيز عند
الإصابة والمعذرية عند المخالفة، فإن على شئ منهما لا تكون للامارة علما ولو تنزيلا،
وإذا لا ينزل احتمال الخلاف عليها منزلة العدم، فالشك عند قيامها باق وجدانا أو
شرعا، فلا تصلح الامارة للناقضية ولا يحصل بها يقين بالواقع لا وجدانا ولا بالتنزيل،
فلا يبقى وجه لاستصحاب ما قامت عليه الامارة من الاحكام وموضوعاتها، فإنه لم
يتحقق اليقين بما شك فيه من الواقعيات، وخلاصة ما تقدم بزيادة منا إن مرجع النهي
عن النقص إما إلى توجه التنزيل والتعبد بالبقاء إلى اليقين، أو المتيقن، وعلى كل فإما
أن يقال بأن أدلة الامارات والطرق إما ناظرة إلى تنزلها منزلة العلم من حيث
الكاشفية التامة والمنجزية، واقتضائه للجري العملي على طبقه لا من حيث إنه نور
وصفة وجدانية، وإما ناظرة إلى تنزيلها منزلته من حيث المنجزية والمعذرية، أو
إليه من حيث اقتضائه للجري والتحرك والانبعاث، أو مسوقة لإفادة الحجية
المحضة، كأن يقال خبر فلان حجة عليك من دون أن ينزله منزلة العلم من جهة من
الجهات المتقدمة، أو إنها مسوقة لا يجاب العمل على طبقها طريقا إلى الواقع، نظير
إيجاب الاحتياط أو إنها سيقت إلى تنزيل مؤدياتها منزلة الواقع، فهذه احتمالات
الدليلين وصور متصورة فيهما، فإن كان مفاد النهي عن النقض هو تنزيل اليقين
ومفاد أدلة الامارات تنزيلها منزلة العلم من حيث الأوصاف الثلاثة المتقدمة، فحكومة
أدلتها على الاستصحاب كحكومته على سائر الأصول واضحة، وكذا قيامها مقام
اليقين الناقض لليقين السابق جائز، كقيام الاستصحاب مقام العلم، وكذا يجوز إجراء
الاستصحاب فيما أحرز بالامارة، فإنه حكم واقعي أحرز بالعلم التنزيلي، وأما إن
255

كان مفاد تلك الأدلة تنزيل الطرق منزلة العلم من حيث المنجزية اقتضائه للجري العملي،
أو من حيث أحدهما فقط، أو كانت مقيدة للحجية أو وجوب الاخذ بها كوجوب
الاحتياط عند الاحتمال أو تنزيل المؤدى، فلا وجه لنقض اليقين بها، فإنها ليست من
العلم ولو تنزيلا ولا مجال لتطبيق الاستصحاب على موارد الشك فيما أحرز، إلا على
الوجه الأخير فإن حرمة نقض اليقين بالحكم أيضا من آثار الحكم الواقعي، فعموم
التنزيل يقتضي الجري والعمل بها أيضا، فإن الشك فيها إنما يكون في الحكم الواقعي
الذي لم يتعلق به اليقين الحقيقي، أو الادعائي فيما بعد قيام الامارة على شئ من هذه
الوجوه، فيلزم انحصار مورد الاستصحاب فيما إذا علم بالحكم وجدانا فشك فيه
وكفى ذلك في تضعيف هذه المباني، وأما إذا كان دليل الاستصحاب ناظرا إلى
تنزيل المتيقن وإبقائه تعبدا وكان دليل الامارة ناظرا إلى تنزيل المؤدي منزلة
الواقع، فحينئذ وإن جاز استصحاب ما قامت عليه الامارة، فإن حرمة نقض المتيقن أثر
من آثار الحكم الواقعي، فإذا نزل المؤدي منزلته وكان التنزيل عاما له أيضا، فيجب
الاخذ بها والامساك عن النقض بأن يعامل مع المشكوك معاملة البقاء، إلا إنه لا
يجوز جعل الامارة ناقضة للمتيقن أيضا، ولا تقديم الاستصحاب على سائر الأصول
حكومة، فإنه لا ينفي الشك والاحتمال لا تعبدا ولا حقيقة، وأما على تقدير نظر
أدلة الامارة إلى تنزيلها منزلة العلم من الجهات الثلاثة، فيجوز قيامها مقام الناقض
لليقين ويصح استصحاب ما قامت الامارة عليه، فإنه الحكم أو الموضوع الواقعي
المحرز باليقين التنزيلي، فلا يجوز نقضه بالشك، وأما على سائر الاحتمالات فلا، فإن
قيام الحجة على شئ، وكذا وجوب الاخذ بقول، وكذا كون الشئ بمنزلة اليقين
من حيث لزوم الجري على طبقه واقتضائه له أو بمنزلته من حيث المنجزية والمعذرية،
لا من حيث الكاشفية التامة لا يوجب يقينا بالواقع، غاية الامر إن على كل من
الاحتمالات يتنجز الحكم الواقعي على تقدير إصابة الامارة، وحيث إنها مشكوكة
في الأغلب، فلا يحرز بها الحكم الواقعي حتى يصح إبقائه عند الشك فيه، نعم لما
كانت الإصابة والمنجزية الفعلية محتملة لكل من الامارات، فكان توجه حرمة نقض
اليقين عند الشك محتملا أيضا، فإن مآلها على ذلك إلى إبقاء الحكم أو موضوعه تعبدا
256

على تقدير بقائه، إلا إن هذا شك في شك، وغاية ما يمكن أن يقال في المقام إن دليل
وجوب الاحتياط عند احتمال التكليف المنجز يقتضي الجري على طبق الاستصحاب
وامتثال حرمة النقض احتياطا، إلا إن هذا كما ترى خروج عن الاخذ بالاستصحاب
وأعمال احتياط في المقام يثمر ثمره، لكن أين هذا من ذاك وأنى لنا في تجويز الاستصحاب الذي
في قبال الاحتياط في موارد الشك بعد قيام الامارة، فتحصل إنه لاوجه لاستصحاب
ما قامت الامارة عليه، إلا في صورة منزليتها منزلة العلم مطلقا، أما لانتفاء اليقين به كما
على سائر الاحتمالات الاخر في أدلة الامارة، وأما لعدم إحراز إنه هو الحكم الواقعي
المنجز الحقيقي أو التنزيلي، كما على سائر احتمالات أدلة الامارة عدى احتمالي تتميم
الكشف وتنزيل المؤدي، مع كون الاستصحاب عبارة عن التبعيد ببقاء الحكم
الواقعي المنجز، ولما كان المحقق الخراساني ذاهبا إلى إن أدلة الامارة مفيدة لحجيتها
لا لتنزيل المؤدي فرارا عما قيل من لزوم اجتماع المثلين أو الضدين، إذ لا يمكن
اجتماع الحكم الظاهري والواقعي في موضوع واحد، وإلى إن أدلة الاستصحاب
ناظرة إلى تنزيل المتيقن، فإنه إما نفس الأثر أو موضوعه دون اليقين بنفسه، فقال
بإنه لا احتياج إلى اليقين في الاستصحاب، فإنه تعبد ببقاء المشكوك على تقدير ثبوته،
ثم قال وبذلك يذب عن الاشكال في الاستصحاب ما قامت عليه الامارة التي هي حجة
على المختار، لا إنها علم أو موجبة لحصول حكم ظاهري، وخلاصة ما أفاده في وجه
الذب إن الاستصحاب دال على ملازمة تعبدية بين ثبوت الشئ وبقائه، فإذا قامت
الحجة على الثبوت فهي حجة على البقاء أيضا، لان الدليل على أحد المتلازمين دليل على
الاخر، وهذا كما ترى موافق لما قررناه من إن انطباق حرمة النقض على مورد
الشك محتمل لا جزم به، فلا وجه للتمسك بالاستصحاب حينئذ إلا إنه يتعين الاحتياط
الموافق لهذا الأصل في المقام، وببركته يرتب آثار البقاء كما صورة جريان
الاستصحاب لو كان جزمي الانطباق، ولكن لا يخفى ما في كلام صاحب الكفاية
فإنه على ما ظهر معترف بعدم جواز استصحاب ما قامت الامارة عليه، فإن قيامها لم
يوجب ارتفاع الشك حقيقة ولا تنزيلا فيما أحرز ثبوت المشكوك، فكيف يحكم
ببقائه بالأصل، فالاستصحاب لا مجرى له عند الشك وبعد قيام الحجة على الحكم، لا إنه
257

يجري ولا إشكال فيه، لان الحجة على الملزوم حجة على اللازم هذا، وأما ثانيا
فلانه يلزم أن يقال بتعارض قاعدتي التجاوز والفراغ مع البينة، أو عدم جريانهما عند
قيامها على نجاسة ماء حصل منه التوضي غفلة، فوقعت الصلاة بعده ثم زالت الغفلة،
فشك في بطلان الصلاة وصحتها، فإن الشك في البطلان حينئذ قد يتسبب عن الشك
في زوال النجاسة وطرو الطهارة فيما بعد قيام الامارة، وقد يستند إلى الشك في
نجاسة الماء من الأول إلى احتمال زوالها على تقدير ثبوتها، والأول من الشكين وإن
كان مجرى الاستصحاب، إلا إنه لما ثبت تقديم القاعدة عليه، فيؤخذ بها دونه، وأما
الثاني فلا يدفع له بالاستصحاب المحكوم بالقاعدة، فإنه لم تقم البينة إلا على نجاسته
بالفعل لا من أول الامر، غاية الامر يحتمل إنها كانت كذلك، فحينئذ تقوم البينة في قبال
القاعدة ويقتضي كل منها ضد مقتضى الاخر، فإما أن يقال بتساقطهما بالتعارض
والرجوع إلى قاعدة الطهارة تصحيحا للصلاة، ولازمه القول بطهارة الملاقي لمورد
البينة أيضا، أو بتقديم البينة على القاعدة نظرا إلى إنها لو قدمت عليها لا يلزم ما
كان يلزم من تقديم الاستصحاب عليها من لغوية جعلها، وكل منهما مما لا يلتزم به
أحد، وبالجملة إن لازم القول بجعل الحجية للامارة وعدم اعتبار اليقين في
الاستصحاب كما هو المختار (للكفاية)، أما الالتزام بتقدم الامارة على قاعدتي التجاوز
والفراغ مع إنها غير حاكمة عليهما، وأما بتعارضهما مع البينة في مثل المثال المفروض
ولا يلتزم به أحد، فمن فساد اللازم نكشف عن فساد الملزوم والمبني، ومنه يعلم إن
أدلة الامارات لا دلالة لها على جعل الحجية وإثباتها، بل المتسالم عليه إنها حاكمة على
الأصول، فينكشف عن إنها منزلة بمنزلة العلم، وإن أدلتها ظاهرة في ذلك كما بيناه أيضا
في تقرير الكاظمي مرارا في غير مقام، وربما يورد على الكفاية إشكالان آخران،
ويعد كلام المحقق الخراساني في هذا التنبيه صدرا وذيلا ومتنا وهامشا من غرائب
الكلام ومما لا ينبغي صدوره، أما الأول منهما فمحصله إن عد المنجزية من المجعولات،
والقول بأن الامارات منجعلة مع إن المنجزية كالسببية وغيرها مما لا تناله يد الجعل،
وإنها أمر يعتبره العقل بعد الوصول والكشف ولا يتحقق بدونه، فإنه دائر مداره
عقلا أمر غريب ما كنا نترقبه منه، وأما الثاني فهو إنه لو لم يكن اليقين معتبرا في
258

الاستصحاب لكان التعبد لغوا، إذ لا فائدة في جعل ما يشك في انطباقه على موارده
دائما، هذا خلاصة الايرادين، وفي الأول منهما مضافا إلى إن صاحب الكفاية لا
يقول بجعل المنجزية كما نسب إليه، فإنه يصرح في المقام وفي غيره أيضا بجعل الحجية
التي هي من الأمور الاعتبارية، ويعد المنجزية والمعذرية من لوازمها العقلية، إن المراد
من الوصول الملزوم للتنجيز لو كان وصول الحكم الظاهري والامارة عليه، والدليل على
اعتبارها، فهذا أمر مسلم لا يخفى على أحد ونبه عليه صاحب الكفاية في أوائل
مبحث البراءة مما يقرب من هذا (من إن البيان والحجية التي لا تقبح معه العقوبة
هو البيان الواصل لا مطلقه)، فليس مراده إن الامارة التي لم تصل بيد المكلف
منجزة للحكم عليه وحجة يحسن معها العقوبة، وإن كان المراد إن العقل لا يحكم
بالتنجز إلا عند وصول الحكم الواقعي، فلا بد أن لا يتنجز الا باليقين الوجداني لا بما
نزل منزلته، أو جعل طريقا إليه، فإن غير العلم وإن نزلناه منزلته، لكنه قد يوصل
وقد يتخلف، وإذ لا يعلم بأن هذه الامارة موصلة أم لا: فلا يعلم بالوصول فلا بد أن
لا يرى العقل تنجزا للحكم على تقدير مماثله لمؤدي الامارة، إذ المفروض انحصار
ملزومه في وصول الحكم الواقعي، وهذا كما ترى لا يتفوه به أحد، وإذ قد ثبت عدم
دوران التنجز مدار الوصول الواقعي، فإنه ربما يحكم العقل بتنجز الحكم مع انتفاء
العلم، كما في مورد قيام الحجة أو ما نزل منزلة العلم أو الاحتمال في بعض الأحيان،
كما في مورد الشبهة قبل الفحص، وظهر اعتبار وصول الحجة أو الطريق على جميع
المباني، فيعترف إنه لا مجال للايراد الأول، وأما الثاني فجوابه إن الكلام في استصحاب
ما قامت الحجة على ثبوته، فأصل الثبوت محرز بها والملازمة مستفادة من الاستصحاب،
فلا لغوية في جعله، هذا مضافا إلى إن لزوم اللغو ممنوع، فإنه لم يجعل لخصوص
مورد عدم العلم بالثبوت، كما لا يخفى، والعجب من المستشكل إنه قال بأن المنجزية
تابعة للوصول ودائرة مداره، وغفل عما قرره في أول التنبيه من إنه لو نزل الشئ
منزلة العلم من حيث المنجزية وإن كان من الأصول الغير المحرزة، يقوم مقام العلم من
هذه الجهة، فما أدري كيف يجمع بين عدم محرزية الأصل وبين منجزيته، مع إنها
فرع الوصول الملازم مع الاحراز، بقي الكلام فيما إذا كان مفاد دليل اعتبار الامارة
259

هو تنزيل المؤدي منزلة الواقع بجعل المماثل، وكان النهي في لا تنقض اليقين متوجها
إلى اليقين لا المتيقن، وقد تقدم إنه لا مجال لتحكيم الامارة على الاستصحاب، وأما
تطبيقه على ما ثبت بالامارة عند الشك في بقائه، فالظاهر إنه لاوجه له لان الامارة
لا تحدث يقينا بالواقع، لا وجدانا ولا تنزيلا، وقد يتوهم إمكان تطبيق الاستصحاب
بتقريب إنا ببركة قيام الامارة نعلم إجمالا بثبوت حكم مردد بين الواقعي والظاهري،
الذي لابد لنا من امتثاله على التقديرين، فإن مؤدي الامارة إما مطابق للواقع فيكون
الحكم الواقعي محققا يلزم اتباعه لقيام الحجة عليه، وإما مخالف لكنه وظيفة
ظاهرية، فإذا شك في بقائها فيمكن تطبيق الاستصحاب عليه ببركة هذا العلم الاجمالي
مثلا إذا قامت البينة على نجاسة شئ ثم شك في بقائها، فلنا استصحابها لتمامية أركانه،
وكذا فيما قامت على الطهارة ثم شك في زوالها، فتستصحب الطهارة السابقة، وبالجملة
ففي المقام ولو لم يكن يقين وجداني ولا تنزيلي بالحكم الواقعي فقط، إلا إن لنا يقين
مردد بين الواقعي والظاهري، ولكن نقول إن لهذا التوهم على السببية مجال، وأما
على الطريقية فلا مجال له، لان شأن الامارة على الطريقية عدم إحداث حكم، فهي إما
مطابقة فالنجاسة حقيقية، وعلى تقدير المخالفة فمفادها حكم صوري، فالمعلوم لما كان
مرددا بين النجاسة الحقيقية والصورية فلا علم بالمحكم على أي تقدير، فيختل ركن
من أركان الاستصحاب، هذا بالنسبة إلى نفس المؤدي من حيث إنه حكم، وأما من
حيث إنه موضوع لوجوب الاجتناب وحرمة الاكل والصلاة فيه، فالامر كذلك
لان كلا من هذه الآثار أثر، لكن من النجاستين لا للجامع المعلوم بالاجمال، فالعلم لم
يتعلق بماله أثر، فما له الأثر وهو كل من الخصوصيتين لم يعلم، وما علم به لا أثر له، فلا
وجه لتطبيق الاستصحاب، نعم هناك تقريب آخر وهو أولى من الأول، وهو
أن يقال إذا قامت الامارة على نجاسة شئ فبها يعلم نجاسة شخصية مرددة بين
الواقعية والظاهرية، وهي على كل تقدير موضوع لحكم العقل بوجوب الاجتناب
رفعا للضرر المحتمل، وهذا المقدار كاف في كون المستصحب ذا أثر، فإذا شك في بقائها
فلنا استصحابها لتحقق الأركان، وأما كون العقل حاكما بوجوب الاجتناب، فلانه
لا يفرق بين الاحكام الطريقية والحقيقية ويحكم بوجوب الامتثال من باب دفع
260

الضرر المحتمل، فشخص هذا الوجوب له أثر ولو من باب ابداء احتمال دفع الضرر
المحتمل، فيمكن على هذا تطبيق الاستصحاب في مورد الشك فيما ثبت بالامارات
الطرقية لان شخص هذه النجاسة المرددة التي قامت عليها البينة مثلا لها حكمان، فيشك
في بقائه فيستصحب حتى يحصل اليقين بالمزيل، فيجب الامتثال بحكم العقل بمناط
الدفع الضرر المحتمل، فتحصل إن الاحكام الطرقية الثابتة بالامارة المعبر عنها
بالحكم الظاهري يمكن استصحابها عند الشك فيها بقاء بلا محذور وإشكال، وأما
إذا فرض إن الحكم الظاهري ثبت بالاستصحاب (وبكل شئ طاهر أو حلال)
فهل يجوز استصحابه بعد الشك في بقائه أيضا، كما يجوز إذا ثبت بالبينة وسائر
الامارات أم لا؟ مثلا إذا فرض إن في الأمس كان يقين بالطهارة وثم شك في إنه هل
صدر منه البول أم لا، ثم استصحبت الطهارة، ثم شك بعد ذلك أيضا في إنه هل صدر
منه غائط أو حدث آخر بعد الاستصحاب السابق، فهل يجوز تطبيق الاستصحاب
ثانيا على الطهارة المستصحبة والثابتة بالأصل أم لا، فنقول لما كان الشك الأول أي
الشك في صدور البول وانتقاض الطهارة به مقوما لجريان الاستصحاب، فيرجع إليه
فالطهارة الفعلية ظاهرية بمقتضى الاستصحاب، فإذا شك ثانيا في طرو الناقض فهو
شك في بقاء تلك الطهارة المحرزة بالأصل، فيتخيل انطباق دليل الاستصحاب عليها،
ويقال بجواز إحراز فيما ثبت بالأصل والقاعدة أيضا، والحق عدمه في المقام بخلاف
ما ثبت بالامارات، والنكتة الفارقة بين المقامين أي فيما إذا أحرزت الحالة السابقة
بالبينة وفيما إذا أحرزت بالاستصحاب، هي إن في الاستصحاب كان الحكم مغيى باليقين
فما دام الشك موجودا فيكون للاستصحاب مجال، فلو كان في البين ألف شك ولم
يكن يقين بالخلاف يكون المورد مشمولا للاستصحاب بدوا، بخلاف البينة فإنه إذا
قامت على طهارة شئ شك في نجاسته باحتمال وقوع البول عليه، فيحكم بطهارته، وإذ
لا نظر لها إلى دفع احتمال ورود الغائط بعد ذلك فإنه لا يخبر بالطهارة إلا من ناحية
عدم البول، فلا يشمل هذا الخبر جهة الغائط، فدليل صدق العادل احتمال الخلاف
لا يشمل إلا بمقدار دائرته، فلا يشمل أوسع من دائرته، فكم فرق بين مفاد الامارة
ودليل التعبد ومفاد الأصل، ففي مفاد الأصل لا مجال لجريان الاستصحاب بقول
261

مطلق بخلاف البينة، فدليل البينة مفاده إلغاء احتمال الخلاف، ومقتضاه حكومة الامارة
على الأصل، لا يقال إنه لا جزم بانطباق الاستصحاب على مورد الشك في الحكم
الظاهري بل على مورد الشك في الواقي أيضا بعد اليقين به، فإنه يحتمل أن يكون
في البين حاكم أو وارد على الأصل فلا ينبغي الاخذ به إلا في صورة القطع بانتفائهما
رأسا، فإنه يقال إن هذا الاحتمال كاحتمال وجود المخصص والمقيد لا يعتني به
ولا يمنعنا عن الاخذ بالظاهر المشمول لدليل حجيته، ولذا ترى الأصحاب يأخذون
بالعموم والاطلاق ويرجعون إلى الاستصحاب ما لم يظفروا بالمخصص والحاكم
والوارد، ونحن بعد تقريبنا جريان الاستصحاب في الحكم الظاهري الثابت بالامارة
نقول إن الانصاف عدم جريانه لان دليل التعبد بالبينة والخبر بناء على كونه ناظرا
إلى تنزيل المؤدى وجعل المماثل لا ثبوت المجعول على الاطلاق ومن جميع الجهات،
بل لو كانت الامارة قائمة على ثبوت الموضوع كالطهارة مثلا من جهة عدم زوالها
بالبول، فدليل التعبد يفيد ثبوتها من هذه الجهة فقط ولا دلالة على ثبوتها من جهة
عدم وقوع حدث آخر، فثبوت الطهارة من سائر الجهات عدى جهة عدم صدور
البول مما لم يقم عليه دليل ولم يحرز بعلم أو غيره، بل هو مقطوع العدم حينئذ، فلا
مجال لاستصحابها.
تنبيه
قد يكون مورد الاستصحاب كليا وقد يكون فردا مرددا، وفى الثاني،
تارة يكون الفردان تحت جامع ذاتي مثل الحدثين الأصغر والأكبر وزيد وعمرو،
فإنهما تحت جامع جنسي كالحدث أو نوعي كالانسان، وتارة لا يكون بينهما جامع
ذاتي لكنهما يندرجان تحت عنوان عرضي كعنوان أحد الفردين وإحدى الخصوصيتين،
وعلى كل من التقديرين فلا ريب في تعلق العلم بالجامع العرضي أو الذاتي بواسطة
العلم بإحدى الخصوصيتين على الاجمال، وعلى كل، فتارة يترتب الأثر على الجامع
الذاتي مثل عنوان الانسان الجامع الذاتي بين زيد وعمرو، أو عنوان الحيوان الجامع
الذاتي بين البق والفيل، أو عنوان الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر، وأخرى على
262

الجامع العرضي للفردين، وثالثة على عنوان مختص بأحدهما مثل عنوان الزيدية
والعمرية، أو البقية والفيلية، فالاثر ثابت للفرد فقط لا للجامع الذاتي، ولو كان الجامع
الذاتي أيضا موجودا في ضمن الفرد، ولكن الأثر لا يكون راجعا إليه بل يختص
الأثر بالفردية فقط ولا ربط لجهة الحيوانية، وفى الأخير تارة تكون العناوين
الخاصة من قبيل العناوين المأخوذة مشارا بها إلى ذوات معنونها، ولا تكون
موضوعة للأثر أصلا، مثل أكرم من في الصحن مشيرا به إلى زيد وعمرو وبكر
من دون أن يكون له دخل في الموضوع، فيجب إكرام هؤلاء الأشخاص ولو لم
يكونوا في الصحن، وتارة لا يكون كذلك بل تكون العناوين الخاصة ذا أثر في
ثبوت الحكم كما إذا نذر أحد إنه إذا كان زيد باقيا في حياته أن يعطي الفقير كذا،
فلا يكون الأثر حينئذ راجعا إلى ذات زيد ولا ذات عمرو بل الأثر مترتب على
عنوان الزيدية أو العمرية، فإذا أخذ في حيز الخطاب عنوان من في الصحن وكان
هذا العنوان ذا أثر على ما تقدم، فلا دخل لذوات الأشخاص في الأثر عكس الصورة
السابقة، فهي الصورة المحتملة في المقام، منها ما إذا كان العنوان الجزئي الحقيقي
مشارا به إلى المعنون وعبرة إليه موضوع الأثر، فالاثر في الحقيقة إنما يكون لنفس
المعنون دون العنوان ولازمه إنه يثبت له على تقديري بقاء العنوان وزواله، وأما الصورة
الثانية فهي ما إذا كان العنوان الجزئي موضوعا للأثر بنحو يقف الحكم عليه ولا
يسري إلى المعنون، وعليهما فلا مجال لاستصحاب الفرد المردد بين الفردين فإن متعلق
اليقين والشك إما جامع ذاتي أو انتزاعي لم يجعل الأثر حسب الفرض، وتوهم إن
الجامع متحد مع موضوع الأثر خارجا فالعلم به علم به أيضا فهو متعلق للشك واليقين
مدفوع بإنه لو كان كذا لزم أن يكون الشئ الواحد موردا لاجتماع الضدين وهما
الشك واليقين من واحد في زمان واحد على ما نبهنا عليه في البراءة مفصلا، ومن
بداهة استحالته وعدم وقوعه وجدانا يعلم إن الصورة التي تعلق بها العلم مبائنة
ومغائرة لما تعلق به الشك، وهما نظير سائر الصور النفسانية كالإرادة والكراهة
والحب والبغض واقفان على الصورة الحاكية الفانية في المحكى، بحيث لا يلتفت الذهن
إلى موضوعيتها ومعروضيتها بأنفسها لها، فلا الشك يسري إلى متعلق العلم الاجمالي
263

ولا العلم الاجمالي سار إلى متعلق الشك، فإذا علم بأن زيدا أو عمرا في الدار، فهنا علم
بعنوان إجمالي قابل للانطباق عليهما وشك في عنوان يخصهما، فإذا شك في بقاء ما علم
أولا فهما واردان على موضوع لم يكن بذي أثر إذ المفروض إنه لزيد بالخصوص أو
لعمرو مثلا، وأما في بقية الصور ففي بعضها لا بأس باستصحاب الفرد المردد كما لا
بأس باستصحاب الكلي التمامية أركانه، وبالجملة فاستصحاب الفرد والمردد غير مختل
الأركان في بعض، ومختل من حيث اعتبار الأثر في سائر الصور، وببيان أوضح
لو علم بوجود شخص في الدار فشك في بقائه، فلا يخلو إما أن يكون الشك ناشئا من
احتمال خروجه أو موته، أو من احتمال إنه زيد الذي بقي قطعا إلى الان دون عمرو الذي
لو كان لما بقي بالجزم، وإذ لا كلام في اتحاد متعلق الشك واليقين في الأول، فصرفه
إلى الثاني الذي ربما يتوهم إنه لا مجال للاستصحاب فيه لاختلال ركن من أركانه
وهو اتحاد المعلوم والمشكوك، فإن العلم قد تعلق بالفرد المردد والشك إنما هو في
خصوصية الفردين لا في بقاء ما علم فإنه قطعي الانتفاء على تقدير، ومقطوع البقاء
على تقدير آخر، فلا شك فيه، فنقول لا ريب في إن العلم لا يجتمع مع الترديد فإنه
من شؤون الجهل وعدم العلم، فاجتماعهما من باب اجتماع الضدين أو النقيضين، ومن
بداهة استحالته وتضادهما يعلم إن متعلق العلم والشك متغايران ذهنا وإن اتخذا
خارجا والوجدان شاهد على ذلك أيضا، فإن من رأى شبحا عن بعد أو سمع صوتا
من وراء الجدار يعلم بأن البعيد شئ وفى وراء الجدار مصوت، ويجزم بذلك بحيث
يخبر بهما عن جزم ويحلف عليهما أيضا، لكنه لو سئل عنه إن المصوت إنسان أو
غيره أو زيد أو عمرو، يجيب بلا أدري، فما يدري ويعلم مغاير لما لا يدريه بل يحتمله،
فالعلم متعلق بعنوان ذاتي أو عرضي لذلك الشخص المرئي الخارجي ولا يتردد فيه،
وإنما الترديد في انطباقه على ما يحكي عنه بعنوان الزيدية أو العمرية، فمن هذا يعلم
إن متعلق العلم هنا صورة مجردة عن خصوصية التعنون بعنوان زيد أو عمرو وإلا
لزم إما اجتماع الترديد معه أو انفكاك الشك عن العلم الاجمالي، وإذا ثبت وظهر إن
متعلق العلم صورة مغايرة لصورة يحتمل اتحادهما خارجا وإن الأولى حاكية عن
معنى لا يأبى عن اتحاده مع المحكي بزيد أو عمرو، فهي منتزعة عما يتشاركان فيه من
264

الذاتيات أو غيرهما ضرورة إنه لا يمكن انتزاع مثلها عما به الامتياز والافتراق
بينهما، وإن العلم كالشك والامارة وغيرهما واقف على الصورة الذهنية ولا سراية له إلى
الخارج، فيعلم إن القول بأنه متعلق بالفرد المردد في المثال لا يخلو عن مسامحة، فإن
متعلقه هو الفرد أو الشخص أو الخصوصية أو الانسان أو واحد من زيد وعمرو
وغيرهما من العناوين المجردة عن خصوصيات أحد الفردين ومميزاتها ولا ترديد فيه،
نعم يتردد أمر انطباق هذا المعلوم على كل من الفردين الذين يقطع ببقاء أحدهما
المستلزم للقطع ببقاء المعلوم على تقدير انطباقه عليه وبارتفاع الاخر المستلزم للقطع
بارتفاع المعلوم أيضا على تقدير، ولما لم يعلم التقدير فارتفاع المعلوم يصير مشكوكا بعد
اليقين، فلو أغمض عن اعتبار كبرى الأثر في الاستصحاب لما كان به بأس في الفرد
المردد لليقين السابق والشك اللاحق على ما بين مشروحا، فلا يصغي إلى ما يقال من
عدم اتحاد القضية المتيقنة مع المشكوكة، وببيان آخر وأوضح إن كل علم إجمالي
كان له جهة متيقنة ويستحيل أن يكون له ترديد في تلك الجهة لان الترديد ملازم
مع الشك والمفروض أن الجهة المتيقنة لها انكشاف تام ولا شك فيه، وإلا فيلزم
اجتماع الضدين، فلا يرى في تلك الجهة ترديد ويعبر عنها بتعابير مختلفة، فتارة يعبر
عنها بعنوان بسيط إجمالي ذاتي، وتارة بمثل أحد الفردين أو بفرد ما، أو أحد
الشخصين من العناوين الجامع الانتزاعية العرضية، وعلى كل فمتعلق القطع واليقين
عنوان متحد مع منشأ انتزاع عنوان زيد أو عمرو، وجهة مشكوكة وهي جهة
الخصوصية المضافة إلى زيد بالخصوص أو عمرو كذلك، فلا يتعلق الشك والترديد
بالذي تعلق به العلم، فإن العلم يتعلق بالعنوان البسيط الذاتي أو الجامع العرضي من الفردين
أو فرد ما بأي تعبير عبرت، وهذا قابل للانطباق على زيد أو عمرو، وهذا الفرد متحد
مع المحكي بزيد أو عمرو ولكن الترديد في انطباقه يعني إن هذا الذي كان معلوما
ومتيقنا هل هو منطبق على منشأ انتزاع عمرو، فالترديد يتعلق بجهة الانطباق فمعنى
الفرد المردد هو ما وقع الترديد في انطباق عنوان قابل للانطباق وعدمه عليه، ولا
نعني من العلم الاجمالي إلا ما كان متعلقه مردد الانطباق على شئ أو أكثر، ولا من
التفصيلي إلا ما كان متعلقه خاليا عن هذا الترديد، بأن يكون عنوانا مختصا بواحد
265

حقيقي أو نوعي أو جنسي، فمتعلق العلم في الاجمالي عنوان إجمالي محتمل الانطباق على منشأ
انتزاع هذا العنوان الخاص أو عنوان آخر غيره، فما كان معلوما لا يرى به المحكي بزيد
بالخصوص ولا بعمرو كذلك ولكن يحتمل انطباقه على كل منهما، فذاك المعلوم
المردد من حيث الانطباق عار ومجرد عن تمام العلائق والخصوصيات، ولا نعني من
الفرد المردد إلا هذا، وأما ما يتعلق به الشك فهو انطباق متعلق العلم على كل من
الشخصين واتحاده مع كل منهما خارجا على تقدير الانطباق لا يوجب سراية الشك
والعلم في موضوعيهما إلى الموضوع الاخر، فالصورة المعلومة التي كانت محتملة
الانطباق على زيد الذي لو كان لكان باقيا يقينا وعلى عمرو الذي لو كان لكان مرتفعا
كذلك أحرز ثبوتها أولا ومن جهة عدم العلم بخصوص شئ من التقديرين القطعيين
ينشأ شك في بقائها، فيتحد موضوع القضيتين المتيقنة والمشكوكة كما إن الامر كذلك
في كل مورد كان لنا قطعان تقديريان ولم يحرز أحدهما بالخصوص، مثلا إذا شرب
الانسان مايعا مجهول العنوان فلنا قطعان أحدهما متعلق بموته والاخر بحيوته، فإنا
نقطع بأنه لو كان المشروب سما لمات الشارب حالا، وإن كان ماء لكان باقيا، فيحصل
من هذين اليقينين التقديريين شك في حياته وموته من جهة عدم إحراز شئ من
التقديرين بالخصوص، فمتعلق العلم في المقام وكذا فيما نحن فيه متحد مع متعلق الشك،
غاية الامر ليس الشك فيه بدوا وبلا توسيط، فإن الشك على ما تقدم في المقام كان
متعلقا بانطباق المعلوم على المأخوذ في موضوع إحدى القضيتين المقتضية لبقاء ما ثبت
أو عدم بقائه، فلا يكون قصور في أركان الاستصحاب من جهة وحدة القضية
المتيقنة مع المشكوكة، فتلخص مما ذكرناه إن الصورة التي كانت متعلقة للعلم في
الان الأول ومرددة الانطباق على معنون كل واحد من العنوانين التفصيليين
تصير متعلقه للشك في الان الثاني، ولما كان المراد من الفرد المردد هذا فلك أن تقول
علمت بالفرد المردد وشككت فيه، فالفرد المردد عنوان إجمالي وقع الترديد في انطباقه
على المحكي بكل من العنوانين التفصيليين، فعنوان فرد ما وهو الجامع العرضي كان
معلوما ومتعلقا للعلم بدوا، وكان الترديد والشك في اتحاده مع شخص زيد أو عمرو
وينشأ منه في صورة العلم بأنه لو كان زيدا لمات ولو كان عمروا لباق شك في بقاء
266

ما تعلق به العلم، فظهر إن المعنى بالفرد المردد أن يكون العلم متعلقا بعنوان كان مرددا
للانطباق لا إن متعلق العلم مع كونه كذلك مشكوك فيه أيضا، ولو أغمضنا عن
جميع ما تقدم وسلمنا إنه لاشك في بقاء ما علم أولا للعلم بانعدام إحدى الخصوصيتين
وبقاء الأخرى، ولازمه الالتزام بأنه لا يشك في بقاء الجامع الذاتي كالحيوان مثلا
فيما بعد العلم بوجود حيوان مردد بين الفيل والبق، فإن العلم قد تعلق بوجود الحيوان
الذي يحتمل انطباقه على كل من النوعين حين العلم وفيما بعد مضي ثلاثة أيام، فلو كان
القطع بفناء البق وبقاء الفيل مانعا عن الشك في بقاء ما كان محتمل الانطباق عليهما
لما كان لتصديق الشك فيه مجال، ودعوى إن الحيوان الكلي مقطوع الانطباق
على مضايقه عرضا لا بدلا، فلا ترديد في ذلك بدوا وختما، فلا وجه لمقايسته مع الفرد
المردد، مدفوعة بأن نسبة الكلي مع الافراد كنسبة الاباء إلى الأبناء فمع كل فرد
أب وحصة من الطبيعة مغائرة مع ما في ضمن الفرد الاخر مرتبة وتشخصا لا
ذاتا وسنخا، فالحيوانية الموجودة في ضمن البق غير الحيوانية في ضمن غير الفيل أو
الأسد أو الانسان، فهي متكثرات خارجية مندرجة تحت جامع واحد وسنخ فارد،
فما له السعة وقابلية الانطباق على الافراد هو المتحقق في الذهن عاريا عن كل إضافة
وحد وتشخص، وأما الحيوانية المحدودة بحدود البق أو غيرهما الواقعة تحت إسارة
المميزات والمفردات، فهي لا مطلقة ولا مجردة بل هي طبيعة مهملة تساوق الجزئية،
فالطبيعة القابلة للانطباق على جميع الافراد هي ما وعائه الذهن، وأما ما وجدت في
العين فلا إطلاق لها ولا تنطبق إلا على فرد واحد هي في ضمنه، فالعلم بوجود الحيوان
علم بحصة منه مرددة الاتحاد مع البق والفيل، فإذا شك في ذلك ولم يتبين الامر حتى مضت
الأيام، فيشك في بقاء ما علم بحدوثه كما كان الامر كذا في الفرد المردد على ما مضى، فلا
وجه للتفرقة بين استصحاب الكلي والفرد المردد مع إنهما من واد واحد على ما ظهر،
والعجب من تعليل الفرق بأن الكلي والجامع الذاتي متأصل بخلاف الفرد فإنه عرضي،
وما أدري وليتني كنت أدري وجه دخالة التأصل في تمامية أركان الاستصحاب
في الكلي، نعم لو كان الجامع المتحقق في ضمن البق عين الجامع المتحقق في ضمن
الفيل، وكانت نسبة الطبيعي إلى الافراد كالأب الواحد بالنسبة إلى الأبناء، لكان
267

لمنع الشك في البقاء مع القطعين التقديريين وجه كما لا يخفى، وبالجملة فلا قصور في
موردية الفرد المردد كالكلي للاستصحاب من حيث اليقين بهما والشك فيهما، إلا إنه
لا يجوز استصحاب الأول بخلاف الثاني، لاعتبار كون مورده أثرا أو ذا أثر، فإذا
كان مرتبا على خصوص زيد أو عمرو ولم يعلم بالخصوصيتين لان مورد العلم والشك
وهو العنوان الانتزاعي ليس موضوعا للأثر، وما هو موضوعه ليس متعلقا للحالتين،
وأما إذا رتب الأثر في لسان الدليل على الجامع الذاتي، فالأركان بتمامهما حاصلة، فيجري
فيه الاستصحاب، هكذا ينبغي أن يحرز المقام ويفرق بين الموردين، وبالجملة ليس
الفرق بين الفرد المردد والقسم الثاني من الكلي ما زعمه بعض بل هو ما قلنا وقررنا
من أن الاستصحاب لا يجري في الفرد المردد لعدم توارد الحالتين على موضوع
الأثر وهو الشخص الخارجي المحكى بعنوان إجمالي مورد للشك واليقين، ثم إن
الاستصحاب الكلي له صور عديدة، فتارة يشك في بقاء الكلي من جهة الشك في
بقاء الفرد المعلوم وجودا من جهة إن زيدا في عالم التحليل ينحل إلى خصوصية، وإن
الطبيعة توجد بوجود أفرادها، وإن الشك في بقاء الفرد ملازم مع الشك في بقاء
الطبيعة، فإنهما متحدان حدوثا وبقاء، فيصير اليقين بحدوث الفرد ملازما لليقين بحدوث
الكلي الطبيعي، وكذا الشك في بقائه ملازما للشك في بقائه، وأخرى يستند الشك
في بقاء الطبيعة إلى الشك في وجود فرد آخر مقارنا لانعدام ما كان، ففي الأول
لابد أن يلاحظ إن الأثر مختص وراجع إلى الطبيعي فقط أي إلى جهة الانسانية
مثلا، وأما خصوصية الزيدية فخارجة عن تحت الأثر، كما إن القضايا الطبيعية كلها
من هذا القبيل، ومنها قول المولى جئني بماء، فإن الخصوصيات كلها خارجة عن تحت
الامر وموضوعها هي الطبيعة القابلة للانطباق على أي ماء من المياه، وإنما الخصوصيات
من لوازم الوجود ولا تكون داخلة تحت الطلب والامر، أو الأثر مترتب على
مجموع الجهتين، أو على الجهة المميزة دون المشتركة، فإن كان من الأول فظهر إن
جهة من الفرد كانت تحت الأثر، وجهة منه خارجة عنه، وإن الأثر في كبرى الدليل
مختص بجهة الانسانية لا الخصوصية، فحينئذ لاستصحاب الكلي مجال لتمامية الأركان
فيه، وأما القول بشمول دليل التعبد للفرد بكلتا الخصوصيتين فهو من الأغلاط،
268

فإن زيدا باعتبار اشتماله على ما يميزه عن مشاركاته لم يجعل موضوعا للأثر، فلا يشمله
دليل التعبد، فلسان الامر بالتعبد بالبقاء إنما يقتضي ترتيب الأثر على عنوان شك
فيه بعد كونه موضوعا للأثر والمفروض إن الأثر لنفس الكلي الجامع لا الخصوصية،
فلا يشمله دليل التعبد، إلا أن يقال بشمول دليل التعبد لزيد أيضا من جهة اشتماله
على الانسانية وكون الانسانية في ضمنه، وبالجملة فعنوان زيد بما إنه عنوان زيد لا
أثر له فلا يندرج في دليل التعبد لان معنى التعبد ترتب الأثر على ما تعلق به الشك
وإن كان عكس ذلك بأن كان الأثر راجعا إلى الخصوصية لا إلى الجهة المشتركة،
فحينئذ لا مجال لاستصحاب الكلي وإن تعلق به الشك واليقين أيضا لعدم كونه ذا
أثر في الشرع، وأما استصحاب الخصوصية فلا بأس به لتمامية أركانه الثلاثة، وأما
استصحاب المستجمع للجهة المشتركة والخصوصية فالظاهر إنه لا وجه له أيضا لان
زيدا عبارة عن الانسان المحدود لا الحد فقط أي لا مجال لاستصحاب الزيدية الذي
كان محكي العنوانين للاستصحاب جار في خصوصية الزيدية، وإن كان الأثر
مترتبا على الانسانية والزيدية معا يعني ترتب الأثر على عنوان زيد منحل إلى جهتين
الجهة المميزة والجهة المشتركة، فلا قصور في استصحاب الفرد في هذا المقام، وهل
يجوز استصحاب الكلي فقط أو الخصوصية كذلك أم لا، فمبني على ملاحظة إنه إذا
انحل الموضوع الذي هو بسيط إلى جزئين فهل الأثر يثبت لكل منهما أم لا، فنقول
إذا أخذ في لسان الدليل عنوان زيد أو غيره من العناوين البسيطة وكان المعنون
بها منحلا إلى جهتين، فهل يرى الأثر أثرا للافراد التحليلية أم يتجمد على عنوان
الموضوع في الدليل وبساطته، فإذا اقتصرنا على كون المستصحب ذا أثر بنفسه
وبحسب لسان الدليل فلا يبقى لنا مجال لاستصحاب كل واحد من الجزئين حتى في
ظرف استصحاب الاخر، وأما لو قلنا بأن ترتب الأثر على الحاكي عن المجموع
كاشف عن مدخلية كل من الجهتين في الحكم وملاكه، وهذا المقدار مصحح للتنزيل
والتعبد بوجود ماله دخل في الأثر، فحينئذ لا بأس بإجرائه في كليهما معا، وأما في
أحدهما فقط فجوازه غير واضح لأنه غير مستقل بالموضوعية فلا وجه للتعبد ببقائه
منفكا عن التعبد ببقاء الاخر، الثاني من أقسام استصحاب الكلي أن يكون الشك
269

في بقائه بعد العلم بالحدوث ناشئا عن الشك في إنه هل وجد في ضمن فرد متيقن
الارتفاع أو في ضمن فرد متيقن البقاء، فإن كان الكلي في ضمن زيد مثلا فيقطع
بارتفاعه، وإن كان في ضمن عمرو فيقطع ببقائه، فمن جهة خفاء التقدير وعدم العلم به
يحصل الشك في بقائه وأطلقوا بجواز استصحابه مطلقا ولابد من بيان التصويرات
المتصورة وملاحظة إن جميعها مندرجة في دليل الاستصحاب أم لا، فنقول لهذا
القسم صور، فتارة يعلم إن الأثر مترتب على الطبيعة باعتبار صرف الوجود مثل الامر
بالصلاة والصوم والحج فعليه يحصل الامتثال بإتيان أول الوجود منها ولا يتصور
فيه امتثال بعد امتثال، وتارة يكون الأثر مترتبا على الطبيعة السارية في كل فرد بما هو
واجد لأب، ففي القسم الأول كانت الطبيعة قابلة للانطباق على القليل والكثير وينطبق
على أول الوجود ويسقط الامتثال بإتيانه، بخلاف الطبيعة السارية فإنها قابلة للانطباق
على المتكثرات والافراد المتحققة فعلا وتدريجا، فلا يحصل الامتثال بإتيان أول
الوجود بل يجب الامتثال بالفرد الاخر وهكذا، وبعبارة أخرى في القسم الأول
كان المطلوب هو صرف الطبيعة وفى القسم الثاني كان المطلوب هي الطبيعة السارية في
ضمن أفرادها، فلا يحصل امتثال الطبيعة بإتيان فرد واحد بل لابد من إتيان الافراد
التي كانت الطبيعة سارية في ضمنها، فعلى الأول لا يكون كل أب مطلوبا في عرض
مطلوبية الاخر بل هو الأب المطلوب الجامع بين زيد وعمرو وغيرهما على التبادل،
فكل منهما وجد سابقا على الاخر فهو المحتمل على المطلوب، ولو وجدا معا فالمطلوب
حاصل بما اشتملا عليه لا بما يوجد في ضمن فرد يلحقهما، وعلى الثاني فكل أب
كان مطلوبا بالاستقلال يعنى كل مرتبة خاصة من الطبيعة مطلوبة سواء وجدت في
عرض الحصة الأخرى أو في طولها، فالأب الذي كان في ضمن زيد مطلوب وهكذا
الأب الذي كان في ضمن عمرو وبكر وخالد، ففي الحقيقة يقتضي الامر حينئذ
امتثالات كثيرة بمقدار الاباء التي كانت في ضمن الافراد، فيحصل لكل منها
امتثال مستقل وعلى التقديرين، فتارة يتحقق هذا العلم الاجمالي بوجود الكلي قبل
خروج أحد الطرفين عن مورد الابتلاء بتلف أو إحداث مزيل، وأخرى بعده،
فتحصل في المقام حينئذ صور أربعة والصورة الواضحة منها أن يكون الامر في
270

كبرى الأثر متعلقا بصرف الوجود ويتحقق العلم به قبل الخروج عن الابتلاء، كما فيما
إذا علم إجمالا بوجود حدث مردد بين الأكبر والأصغر ثم توضأ، ففي هذه الصورة
لا مجال للاستصحاب لان العلم الاجمالي علة تامة لتنجز متعلقه بالنسبة إلى الموافقة
القطعية أيضا كما هو مختار شيخنا الأستاذ أطال الله بقاه على ما حققناه في محله،
وتوهم إنه لا يبقى عند خروج أحد الطرفين عن الابتلاء متعلقا بالحكم الفعلي على
أي تقدير فلا تنجيز له من ذاك الحين، مدفوع بما مر معنا من تصوير علم فعلي متعلق
بتكليف فعلي مطلقا في هذه الصورة أيضا وسميناه بالعلم المورب ومع ثبوته فلا يبقى
مجال للتعبد بالبقاء لأنه وظيفة الشاك والمفروض وجود العلم في المقام قبل انتهاء
النوبة إلى الاستصحاب، كان العقل حاكما بأن اشتغال الذمة اليقيني يقتضي البراءة
اليقينية، وبعبارة أخرى قبل توجه الامر بالتعبد بالبقاء وحرمة النقض إلى العقل
بمقتضى قاعدة الاشتغال ببركة العلم الاجمالي كان حاكما بالاشتغال، فلا يبقى حينئذ
للاستصحاب مجال، فاحتمال بقاء الحدث وكونه منجزا ببركة العلم الاجمالي ملزوم
بعدم الاكتفاء بهذا الوضوء فقط وملزوم إتيان الغسل إحراز لشرط الدخول في
الصلاة، والصورة الثانية هي أن يحدث العلم بعد خروج أحدهما عن الابتلاء، والظاهر
إنه لا محذور في الرجوع إلى الاستصحاب لا العلم الاجمالي يكون حينئذ متعلقا بما
لا يعلم، فعليته على التقديرين إذ لعل التكليف تعلق بما هو خارج عن محل الابتلاء،
فلا يكون العلم الاجمالي منجزا حينئذ، فلولا الاستصحاب لم يكن مجال للحكم بالاشتغال
فإن الامر المردد بين الحدثين إن كان هو الأصغر فمرتفع بالوضوء قبل العلم يقينا، وإن
كان الأكبر فيكون باقيا، وبعبارة أخرى إن الكلي إن كان في ضمن الأصغر
فمرتفع قطعا، وإن كان ضمن الأكبر فباق يقينا فيستصحب الحدث ويحكم بوجوب
الغسل، فلولا الاستصحاب في المقام يكون مجرى للبرائة، ولكن ببركة الاستصحاب
يحكم العقل بالاشتغال والفراغ عن المستصحب، فلا قصور في المقام في أركان
الاستصحاب لان العلم تعلق بعنوان مردد انطباقه على عنوانين تفصيليين، ففي الان
الثاني أيضا كان الترديد باقيا بحاله يعني يشك في إنه هل العنوانين المعلوم انطبق على
الأصغر حتى لا يكون الحدث باقيا أو على الأكبر حتى يكون باقيا، ففي الان الأول
271

كان الحدث متيقن الحدوث وفي الان الثاني كان مشكوك البقاء للشك في التقدير
على ما تقدم في الفرد المردد، فلا قصور في أركان الاستصحاب فيستصحب الحدث
ويحكم بعدم جواز الصلاة عن غير غسل، وقد يستشكل في استصحابه نظرا إلى أن
الشك في بقائه مع القطع بانتفاء الأصغر مثلا مسبب عن الشك في حدوث الأكبر
والأصل عدمه، فهو محكوم بهذا فلا وجه للتمسك به، وربما يجاب عنه بأنه مسبب عن
الشك في حدوث الأصغر لا فيما ذكره، والحق إن احتمال البقاء ناشئ عن احتمال
حدوث الأكبر واحتمال الانتفاء من احتمال حدوث الأصغر ولا وجه للرجوع إلى
أصالة عدم حدوثهما، لمكان العلم بالخلاف أو عدم حدوث أحدهما بالخصوص لمعارضته
بالمثل، فالاستصحاب هو المرجع في إبقاء كلي الحدث، فلا يحكم بصحة الصلاة إلا بعد
الاتيان بالرافع القطعي وهو الغسل أيضا، فهذا الاشكال مدفوع بما تقدم إلا إن
الراجح في النظر إن استصحاب هذا القسم من الكلي ساقط عن الاعتبار وإن تمت
أركانه، فإنه معارض بمثله في طرف عدم الطبيعة، وتقريب إن عدم فساد الصلاة عمن
يشك في ارتفاع حدثه بعد الوضوء لاحتمال الجنابة مثلا نقيض لفسادها عنه، وكما
إن الحكم بالفساد أمر وضعه ورفعه بيد الشارع فكذا الحكم بعدمه، فنقيض الأثر
والمجعول أثر لنقيض الموضوع ومجوز لاستصحابه، لأنا لا نعني من الأثر المعتبر إلا
ما كان أمره بيد الشارع وضعا ورفعا ولو بالواسطة، فكل من وجود الحدث وعدمه
مما قد رتب عليه الأثر وكما يجوز استصحابه بعد العلم إجمالا بواحد من الأصغر
والأكبر، فكذا استصحاب عدمه غاية الامر إنه لما كان عدم الطبيعة يختلف مرتبة
بقلة الافراد المضاف إليها وكثرتها، وكانت دائرة تحقق العدم إلى فردين أوسع منها
إذا أضيف إلى فرد واحد، فكأن عدم الطبيعة المرددة للانطباق والتحقق في أحد
الفردين كموضوع مركب يمكن إحراز بعض أجزائه بالوجدان وبعضه الاخر
بالأصل، فبعد الوضوء مثلا يقطع بعدم الحدث من ناحية غير الجنابة، فيحرز مقدار
من عدمه بالوجدان ويضم إليه عدمه من ناحية عدم الأكبر باستصحابه، فيتم الموضوع
وحكمه عدم الفساد، ثم لا يخفى إنه إذا تحققت الطبيعة في الخارج في ضمن الافراد
فهي متحدة معها وموجودة بوجودها ويكون المتحقق في كل فرد حصه من
272

الطبيعة مغايرة لما في الاخر، ففي ضمن زيد مثلا حصة من الطبيعي وفي ضمن عمرو
حصة أخرى وهكذا، ولذا قيل إن نسبة الطبيعة إلى الافراد كنسبة الاباء إلى
الأبناء، فمع كل ابن أب فإذا كان كذلك فيكون عدم الطبيعي أيضا بعدم تمام الافراد
بل عينه، لكن لا يخفى إنه يحصل الطبيعي بوجود فرد واحد ولكن عدمه لا
يكون إلا بعد تمام الافراد، فعدم الطبيعي بعين عدم تمام الافراد، فإذا كان وجود
الطبيعي عين وجود الفرد وعدمه عين عدم الفرد وكانت مرتبة وجوده مختلفة
من حيث السعة والضيق بقلة الافراد الموجودة وكثرتها، فكذا الامر في طرف العدم
فإن عدمه المضاف إلى عشرة أوسع دائرة من المضاف إلى الأقل، فينبسط العدم حينئذ
إلى الافراد ولا يكون عدم الطبيعي بعدم مرتبة خاصة بل يتحقق عدمه بعدم تمام
الافراد، وإلا يلزم أن لا يكون عدم الطبيعي على النحو الذي كان في طرف الوجود، فكما
إنه يختلف حال الطبيعي بكثرة الافراد وقلتها وتحصل له سعة ببركة كثرة الافراد
وضيق بواسطة قلتها، فكذا عدمه فإنه بإضافته إلى الافراد تحصل له سعة وضيق
وكثرة وقلة وإن لم يكن ميز في نفس الاعدام ولكن بالإضافة تحصل له سعة وضيق
مثلا إذا كان للطبيعي عشرة أفراد فعدم الطبيعي حينئذ بعدم عشرة أفراد، وإذا كان
أكثر من ذلك فيحصل للعدم سعة، وبعبارة أخرى عدم الطبيعة لا يكون محدودا
بحد خاص ومعين بل عدم الطبيعة عين عدم الافراد، ولكن بإضافة العدم إلى الافراد
يختلف العدم قلة وكثرة، فإذا كان للطبيعي مائة فرد فينبسط عدم الطبيعة حينئذ بتمام
الافراد المزبورة، فيكون عدم الطبيعة عين مأة أفراد، فعدم واحد، تارة يستند إلى
عدم مأة أفراد، وأخرى إلى عدم مائتي أفراد، فحينئذ إذا كان الأثر مترتبا على عدم
الشئ أولا وبالذات بأن كان للعدم دخل في المصلحة كما في عدم موانع الصلاة وثانيا
بالعرض بأن يكون الأثر مترتبا على نقيضه كما في موارد ترتب الأثر على وجود الشئ،
ثم شك في انقلاب العدم بتمام مراتبه إلى الوجود أو بمرتبة خاصة يصح الرجوع إلى
الاستصحاب منها حينئذ، لان عدم عشرة فرد من الطبيعي مثلا متيقن الاعتبار والزايد
على هذا المقدار مشكوك، فيكون بالنسبة إلى الزائد من قبيل الشبهات المصداقية فتجري
البراءة، فلذا جوزنا البراءة بالنسبة إلى الزايد عن تلك المرتبة فيما إذا شك في إن العدم
273

المنبسط على عشرة أفراد دخيل في المصحلة أو العدم المنبسط على إحدى عشر، فيدخل في
مسألة الأقل والأكثر الارتباطي فيؤخذ بالمتيقن وتجري البراءة في الزايد سواء رجع
الشك إلى الشك في الشرطية، بتقريب إن عدم الفرد المشكوك دخيل في المصلحة
وشرط فيها أم لا، أو إلى الشك في المانعية، وببيان آخر إذا حصل للعدم اختلاف
بقلة أفراده وكثرته وترتب الأثر على مثل هذا العدم القابل للتحليل والتجزية بانبساطه
إلى الافراد وشك في اعتباره بمرتبة العليا، فحينئذ يجوز استصحاب عدمها، ولا يتوهم
في المقام إن العلم بعدم الطبيعة انتقض بالعلم بالوجود إجمالا، فلا مجال لاستصحابه، فإنه
مدفوع بأن في المقام يتصور أعدام ثلاثة أحدها العدم المستند إلى عدم حدوث
الطبيعي فقد علم بانقلابه، وثانيها، العدم المستند إلى ارتفاع الطبيعي بعد حدوثه
وهو المشكوك فعلا، وثالثها، العدم الملفق من المستند إلى عدم حدوث الطبيعة فيما
يبقى بعدم استمرار بقائها فيما حدث، وهذا القسم متحد مع عدم الطبيعة بتمام المراتب
وجزء منه وهو عدم الطبيعة فعلا بانعدام الفرد القصير محرز بالوجدان، فلنا إحراز
جزئه الاخر وهو عدم حدوثها في الفرد الطويل بالأصل كما هو الشأن في كثير
من المركبات التي يحرز بعض أجزائها بالوجدان، وبعضه الاخر بالأصل، فيترتب
الأثر عليها، فإن كان الاستصحاب موجودة في المقام بالأسر فيجري في طرف العدم
أيضا كما كان جاريا في طرف الوجود، ففي مثل المقام يصير استصحاب الوجود معارضا
بالعدمي دائما، ولما كان العقل آبيا عن التعبد بالنقيضين في آن واحد فيحكم بعدم
حجية أحد الأصلين، وإذ لا معين في البين فليسقطان معا، هذا غاية ما يمكن أن يقال
في تقريب المعارضة، ولعلنا ندفعه انشاء، وحل الشبهة إنه إشكال في إن الطبيعة
التي هي مدلول اللفظ ويعبر عنها بالماهية المهملة لها انطباقات عرضية بالنسبة إلى ما
وجد من مصاديقها عرضا، وطولية بالنسبة إلى الافراد المتلاحقة بالتدريج، ففي ظرف
وجود الافراد العرضية تنطبق على هذا وذاك وهكذا، كما إنها تنطبق على ما يوجد
منها طولا وبالتدريج، فلا يكون انطباقها على زيد مثلا مشروطا بعدم كونه مسبوقا
بوجود عمرو أو لم يكن، وهذا معنى إن نسبة الطبيعة إلى الافراد كنسبة الاباء
إلى الأبناء، وأما إذا اعتبرت بشرط شئ، فتارة تلاحظ بقيد الاطلاق والسريان
274

وأخرى مشروطة بأول الوجود المعبر عنه بصرف الوجود، فإن لوحظت على النحو
الأول وهي التي يعبر عنها بالطبيعة السارية فتنطبق على الكثير دون القليل ولا يسقط
الامر بها إلا بإتيان جميع الافراد العرضية التدريجية، فلها جهة سعة وهي إنها ليست
تصدق بالانطباق على أول الوجود وجهة ضيق وهي اعتبار سريانها في الافراد كلها،
ولا يحصل الامتثال ببعض منها وإن اعتبرت على النحو الثاني فدائرة إطلاقها وإن
كانت أوسع جهة من ذلك لأنها قابلة الانطباق على القليل والكثير، كالماء حيث إنه
ينطبق على القطرة وعلى البحر، إلا أن فيها ضيق من جهة أخرى فإن انطباقها على
فردا وأفراد عرضية مشروطة بعدم كونه مسبوقا بوجود فرد آخر، ولكن القسم
الأول لا يكون مشروطا بذلك مثلا إذا كان الكلي منحصرا في فردين أو ثلاثة
متدرجة الوجود المستلزم لعدم انطباق الكلي عليها في زمان واحد، فحينئذ تصدق
الطبيعة السارية على كل منها في موطنه إذ لا يكون الانطباق والصدق مشروطا
بعدم وجود الاخر، ولكن في صرف الطبيعة لا ينطبق إلا على أول الوجود، ولذا
يحصل الامتثال في طرف الأوامر بأول الوجود لأنه تمام المطلوب، فانطباق صرف
الوجود على الافراد الطولية لا يكاد أن يكون عرضيا بل على نحو التبادل، فلو
انطبق على فرد أو أفراد عرضية ابتداء فلا ينطبق على الاخر بعده، فيحصل
لصرف الوجود ضيق من جهة كون الشرط في حصول الامتثال به وفي انطباقه
على فرد مثلا عدم مسبوقية هذا الفرد لفرد آخر وله سعة من جهة آبائه عن الانطباق
القليل والكثير فينطبق على زيد في ظرف عدم عمرو وبالعكس، فإذا كان الامر في
ظرف الوجود كذلك ففي طرف العدم أيضا مثلا، فإن نقيض الوجود المشروط هو
العدم كذلك فيكون عدم الطبيعة المعتبرة بنحو صرف الوجود بعدم فرد في ظرف
عدم الافراد للاخر والعدم في ظرف العدم ملازم مع عدم تمام الافراد يعني العدم
في ظرف العدم ليس متحدا مع مجموع الاعدام وعدم تمام الافراد بل ملازم مع
تمام الاعدام، فليس في البين إلا عدم واحد مساوق مع تمام الاعدام، فلا يثبت
باستصحاب العدم نقيض صرف الوجود، فتحصل إن نقيض صرف الوجود ليس
نفس عدم الطبيعة المتحد مع مجموع الاعدام بل نقيضه هو العدم في ظرف العدم
275

وهذا ملازم عقلا مع تمام الاعدام فيكون الترتب حينئذ ترتبا عقليا، فما ترتب عليه
الأثر وهو نقيض صرف الوجود لا يثبت بالاستصحاب وما يثبت بالاستصحاب
ليس أثرا شرعيا بل يكون أثرا عقليا، هذا كله في استصحاب الكلي إذا كان
موضوعا للأثر مثل استصحاب الحدث المردد بين الأصغر والأكبر واستصحاب
الحيوان المردد بين الفيل والبق، وتقدم إنه لا بأس بجريان الاستصحاب فإن الأثر كان
مترتبا على صرف الوجود ويقطع في الان الأول بوجود عنوان يشك في بقاء ذاك
العنوان بعد فيستصحب وجوده ويترتب عليه أثره، وقد يكون مجرى الاستصحاب
نفس الأثر والحكم لا الموضوع الذي كان ذا أثر مثل ما إذا تردد وجوب الغسل
بين كونه نفسيا أو غيريا وقد خرج وقت الصلاة وانقضى مشتملا عليها، فإن كان
واجبا غيريا فقد سقط وجوبه وخرج المشروط عن الابتلاء، وإن كان واجبا نفسيا
فيكون باقيا بعد، ففي المقام يعلم بوجوب غسل جامع بين النفسي والغيري، ولا يخفي
إن لهذه الصورة خصوصية وامتياز عن القسم الأول من استصحاب الكلي بحيث
توجب تلك الخصوصية إشكالا في المقام وشبهة تقتضي عدم جريانه، وهو إنه لما
كان من القواعد المسلمة أن استصحاب نفس الأثر عبارة عن جعل المماثل كما إن
استصحاب الموضوعات عبارة عن جعل الأثر وتنزيلها باعتباره مثلا إذا كان
المستصحب هو الحياة أو الحدث فتنزيلهما مقتض لا ثبات أثرهما من حرمة التصرف
في مال من شك في بقائه ومن وجوب الانفاق من ماله على زوجته أو على من يجب
عليه إنفاقه ومن بطلان الوضوء ووجوب إعادة الصلاة المأتية به أي تعبد بوجوب
الانفاق وتعبد ببطلان الصلاة وأمكن توجه التنزيل إلى الجامع المعرى عن
الخصوصية بلحاظ الأثر كما إنه يمكن توجهه بهذا اللحاظ إلى ما يباين موضوع
الأثر بأن يقول رتب أثر الوجود على العدم أو بالعكس، وهذا بخلاف نفس الجامع
بين الحكمين والمماثل لهما فإنه لا يمكن جعله منفكا عن جهتي النفسية والغيرية، فحينئذ
لا يعقل أن يتوجه التنزيل إلى ذاك الجامع المعلوم أولا لان التعبد بالاستصحاب
يكون بالنسبة إلى ما تعلق به اليقين، فإذا تعلق اليقين بالجامع بالوجودين النفسي
والغيري فلا يكون التعبد حينئذ ناظرا إلى حيث النفسية ولا إلى حيث الغيرية
276

بل يكون مختصا بالجامع أي تعبد بوجود الجامع بين الوجوديين، وأما النفسية
والغيرية فتكونان خارجتين عن تحت التعبد، فحينئذ يلزم أن يجعل المماثل للجامع في
المقام من دون كونه منفصلا بفصل ولا يعقل تحقق الجامع في الخارج بلا خصوصية
من النفسية أو الغيرية، والفرق إن استصحاب الموضوع كالحدث مثلا المردد بين الحدثين
والتعبد بالجامع بينهما إنما يكون بلحاظ الأثر لا بلحاظ نفس الجامع، فلا يلزم من
اعتباره بحسب التنزيل معرى عن الخصوصيتين جعل حكم ليس نفسيا ولا غيريا، إذ
المفروض إن الأثر وهو بطلان الصلاة أو وجوب الصدقة كان ثابتا حين العلم ويحكم
ببقائه ولزوم الجري على طبقة عند الشك بمقتضى تنزيل الموضوع باعتباره، مثلا
إذا نذر أحد إنه إذا تيقن بوجود حيوان أو إنسان في الدار أن يعطي الفقير درهما
فأثر التبعد بالحيوان الجامع بين الحيوانين هو وجوب الصدقة، ولكن في الاحكام
لا بد من جعل المماثل للأثر المتعلق به اليقين فإن التعبد لا يكون ناظرا إلا إلى ما تعلق
به اليقين، والمفروض إن النفسية والغيرية خارجتان عن تحت العلم فيخرجان عن دائرة
التعبد أيضا، فيكون مفاد الاستصحاب على فرض جريانه هو التعبد ببقاء نفس
الجامع ولا يعقل جعل المماثل، لأنه لا يعقل جعل جامع المماثل مع عدم كونه منفصلا
بفصل ومتخصصا بخصوصية، فلا بد في المقام من الالتزام بإحدى الأمور، إما
القول بأن الاستصحاب لا يجري في جوامع الاحكام المنقسم إلى قسمين أو أكثر،
وإما القول بإمكان تحقق الجامع خارجا بلا فصل وخصوصية، وإما القول بأن
الفصل أعم من الفصل الحقيقي والظاهري، يعني إن الجامع الواقعي يحتاج إلى الفصل
الواقعي والجامع الظاهري يحتاج إلى الفصل الظاهري، وفى المقام يكون الفصل هو
النفسية لأنه يقطع بارتفاع الغيرية لفوت وقت الصلاة وأدائها فيه، ويثبت بذلك
الوجوب النفسي ولا أظن أحد يلتزم بشئ من ذلك، والحاصل إن اليقين إذا تعلق
بالوجوب العاري من النفسية والغيرية وما تعدى الوجوب من الجامع إلى الفصلين
النفسي والغيري ومن، المعلوم إن الشك يتعلق بما تعلق به اليقين وهو الجامع بلا
فصل، أي الجامع بين الوجوبين، ونتيجة الاستصحاب في الاحكام جعل المماثل للأثر،
فحينئذ كيف يعقل جعل المماثل بلا كونه متفصلا بفصل، فلا بد حينئذ من الارتكاب
277

بإحدى المحذورات الثلاث، أما القول بعدم جريان الاستصحاب والامر بالتعبد
في جوامع الاحكام لان الجامع بلا فصل ليس قابلا للبقاء حتى يؤمر بالتعبد
به، وشرط جريان الاستصحاب قابلية بقاء المتيقن إلى زمان الشك حتى يتعبد ببقائه،
وأما القول بتحقق الجامع والكلي في الخارج بلا خصوصية وبلا كونه متفصلا
بفصل أو إثبات الوجوب النفسي بدعوى إن الفصل أعم من الواقعي والظاهري،
وفصل الجامع في المقام هو النفسية، والجواب عن ذلك إن التنزيل، تارة يكون
من ناحية الامر، فيكون تنزيل الموضوع حينئذ بلحاظ الأثر، وتنزيل نفس الأثر
الجامع بين الحكمين مستلزما لما ذكر، وأخرى يكون من ناحية المكلف أي ما يأمر
الشارع بالتنزيل في حق المستصحب، فحينئذ يكون التنزيل بلحاظ العمل لا الأثر كما في
العبادات النيابية، حيث ينزل النائب نفسه منزلة المنوب عنه ويأتي بالعبادات الفائتة
عنه، فعلى هذا لا يبقى فرق بين تنزيل الموضوع وتنزيل الحكم، نعم يبقى الكلام في
ملاحظة أدلة الاستصحاب ظاهرة في أي الاحتمالين ولا يبعد أن يكون من الثاني
على تقدير كون النهي عن النقض متوجها إلى اليقين، وأما لو كان متوجها إلى المتيقن
فالاحتمالان متساويان لكن يلزم من كون التنزيل من الشارع كون النهي إرشادا
إلى بقاء ما كان تنزيلا، وأما على تقدير كون التنزيل بيد المكلف فالنهي محمول على
ظهوره في المولوية، ولعل حفظ الظهور يرجح الثاني، هذا فيما إذا كان الحكم معلقا
بصرف الوجود، وقد تحصل إنه يصح استصحاب الكلي الجامع بين الموضوعين لاثر
واحد، وأما استصحاب الجامع بين الحكمين وأثرين من سنخ واحد كالوجوب الأعم
من النفسي والغيري فلا وجه له، وأما إذا كان الحكم ثابتا الطبيعة السارية مثل مانعية
النجاسة في اللباس عن الصلاة في ظرف العلم به، فإنها ثابتة لنجاسة الثوب بنحو الطبيعة
السارية في كل جزء جزء، ولذا يجب تقليل النجاسة عند الاضطرار إلى الصلاة معها،
وإلا فلو كانت مانعة بصرف وجودها فيسقط الوجوب بالاضطرار، فإذا ثبت تعلق
الحكم بالطبيعة السارية وتردد أمرها بين الباقي والزائل فهل يصح استصحاب الكلي
أم لا، فيه وجهان أقربهما الثاني، وذلك لان معنى الطبيعة السارية أن يكون كل حصة
من الطبيعة موضوعا للأثر إما بنحو الاستقلال كما في العموم الاستغراقي، وإما بنحو
278

الضمنية كما في العموم المجموعي، فيلاحظ الامر مثلا الطبيعة سارية في ضمن تمام
الافراد ويوجه أمره إليها إلا بما إنها واجدة للمشخصات والمميزات الفردية بما إنها
مشتملة على الحصص المتغايرة بالاعتبار والمتحدة بالسنخ، فمتعلق الامر في ظاهر عنوان
الخطاب هي الطبيعة لكن لما لاحظ الامر الطبيعة سارية في ضمن زيد وعمرو وبكر
وهكذا، فيطبق الامر متعلق الامر على الافراد ويوجهه إليها لبا، ففي المقام يكون
الامر متصديا للتطبيق وإسراء الحكم إلى المصاديق بخلاف صرف الوجود، فإنه لا
يكون التطبيق فيه بيد الامر بل إنما يكون بيد العقل، فيطبقه على أول الوجود،
وبعبارة أخرى إن في الطبيعة السارية يرى المولى أب زيد وعمرو وبكر وهكذا
موضوعا للأثر، فيلاحظ الاباء بوجودهم الاجمالي ويجعل الحكم لهم إما استغراقيا أو
مجموعيا، فينحل الحكم بعدد الاباء إلى أحكام استقلالية أو ضمنية، فمع كل أب حكم
بعكس صرف الوجود فإن الحكم فيه قائم بصرف الوجود ويطبقه العقل على أول
الوجود، فتحصل إن الصورتين تشتركان من حيث عدم توجه الامر إلى
الخصوصيات الفردية في كليهما، وتفترقان من حيث كون التطبيق في صرف الوجود
بيد العقل والعبد وفي السارية بيد المولى، فإذا شك في الثانية فيكون المورد مندرجا في
الأقل والأكثر، وبالجملة إن الحكم الواحد الساري إذا تعلق بالطبيعة فينحل الحكم
بعدد كل أب ويطبق المولى الطبيعة على كل أب، فكما إن الطبيعة تنحل إلى المتكثرات
فينحل الحكم إليها أيضا، فالانشاء ولو كان واحد ولكن ينحل هذا الانشاء إلى
المنشئات العديدة والاحكام المتكثرة، ومن جهة الانحلال يحل لكل أب حظ من الحكم
إما مستقلا كما إذا لاحظ الطبيعة بنحو العموم الاستيعابي، فيدور الامر بين الأقل
والأكثر الاستقلاليين، أو مرتبطا بالآخر كما في الارتباطيين وفي لحاظ الطبيعة
السارية بنحو العموم المجموعي، فلكل أب حكم إما مستقلا أو ضمنيا، وإما نفس
الطبيعة المتحدة مع الحصص التي هي موضوع للأثر واقعا فهي ليست موضوعة
للأثر، وحيث إن العلم إنما يتعلق بنفس الطبيعة لا بالحصص لوضوح تعلق الترديد بها
وإنه لا يمكن اجتماع العلم والترديد المساوق للجهل من واحد بالنسبة إلى شئ واحد،
وإن التعبد في الاستصحاب راجع إلى اليقين أو المتيقن فيما إذا كان أثرا أو موضوعا
279

له، فلا وجه حينئذ لاستصحاب الجامع ها هنا، فإنه لا أثر له إذ المفروض إن الأثر
لحصصه لا له بنفسه، والملخص إن الطبيعة بهذا الاعتبار والجامع بين الاباء لا يكون
لها حكم مستقل قبال كونها في ضمن الافراد، وإلا يلزم تأكد الحكم أو اجتماع
المثلين بالنسبة إلى أول الوجود منه، فإن مقتضى كونه واجدا لحصة من الطبيعة أن
يكون له حكم استقلالي أو ضمني، ومقتضى إنه مما تحقق به صرف الطبيعة وتوجد
بوجوده وإن حكمها حكمه أن يكون له حكم آخر بالاستقلال، وهذا كما ترى لا
يلتزم به أحد، فظهر مما تلوناه عليك ولاحظته إنه إذا علمنا بوجود طبيعة عارية عن
مشخصات الافراد في الان السابق ثم شككنا في الان اللاحق في بقائها، فلا
يمكن جريان الاستصحاب فيها في المقام، لان العلم تعلق في الان السابق بطبيعة معراة
عن الافراد القابلة للانطباق على هذا أو ذاك، فمثل هذه الطبيعة لا أثر لها الطبيعة
التي كانت في ضمن الافراد وكانت ذات أثر ما تعلق بها العلم وكانت مشكوكة،
فما تعلق به العلم لا أثر، وماله أثر لم يكن معلوما بل كان مشكوكا، فتحصل إن
مناط عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد متحقق في المقام أيضا، وإن الفرق
بين صرف الوجود والطبيعة السارية إن في الطبيعة السارية تمام الافراد متساوي
الاقدام في كونه تحت الخطاب أعم من أول الوجود وثانيه وثالثه وهكذا، ولا
مزية لا حدى الافراد على الاخر بخلاف صرف الوجود، فلا ينطبق الحكم فيه إلا
على أول الوجود.
تذييل
راجع إلى ربما يورد على استصحاب الكلي من القسم الثاني في مثل ما إذا علم
بنجاسة قطعة من الثوب الواحد مرددا بين الأيمن والأيسر، ثم طهرت منه قطعة
معلومة اليمنى أو اليسرى، بإنه لو جرى استصحاب الكلي في المثال وحكم بنجاسة الثوب
للزم القول بنجاسة الملاقي لطرفي الثوب، لكونه مستصحب النجاسة مع العلم بطهارة
أحدهما المعين، فلا أثر للاستصحاب فيه، وبعدم العلم بنجاسة الطرف الآخر لكونه
مشكوك النجاسة من أول الامر، مع إن منشأ احتمال التنجس واحد في الصورتين،
280

وبعبارة أخرى لو لاقى شئ مع أحد طرفي الشبهة المحصورة لا يحكم بنجاسة الملاقي،
ولكن لو لاقى مع الطرفين معا يحكم بالنجاسة فبضم ملاقاة طرف المشكوك التي لم
يتطهر إلى الطرف المعلوم الطهارة ببركة التطهير لزم الحكم بنجاسة الملاقي لاستصحاب
نجاسة القطعة المتيقنة المرددة بين اليمنى واليسرى، مع تطهير اليمين أيضا، فيكون الملاقي
مع الطرفين ملاقيا مع النجاسة المستصحبة، ويلزم المحذور في ذيل الشبهة وهو القول
بنجاسة ملاقي مقطوع الطهارة ومشكوك النجاسة، ولا يتوهم إن الملاقاة مع
الطرفين يلازم عادة مع ملاقاة تلك النقطة المعلومة فتكون الملازمة حينئذ ملازمة
عادية، ولا يكون مجال لجريان الاستصحاب، لأنا نقول إن ملاقاة الطرفين عين
ملاقاة تلك النقطة، هذا غاية تقريب الشبهة المعروفة بالشبهة العبائية، ومقتضاها أن لا
يجوز الرجوع إلى استصحاب الكلي في المثال وأمثاله، مع إنه لا إشكال ظاهرا في
استصحاب بقاء النجاسة، فإن صرف وجودها مانع عن الصلاة، والشاهد على ذلك
حكم الأصحاب بعدم جواز لبس مثل ذلك الثوب في الصلاة بالنسبة إلى مانعية
النجاسة عن الصلاة، لا قصور في استصحاب النجاسة لتمامية أركان الاستصحاب،
فتستصحب نجاسة الثوب وتكون مانعة عن الصلاة فيه، ولا أظن أحدا يمنع عن
استصحاب النجاسة في المقام لان صرف وجودها مانع عن الصلاة، وقد أجيب عن
الشبهة ببركة مقدمة هي بمنزلة التنبيه في استصحاب الكلي، حيث قيل إن استصحاب
الكلي يجري في مورد كان الكلي بهويته وحقيقته مرددا بين الباقي والزائل، كما
إذا كان الانسان بهويته وحقيقته مرددا بين زيدا وعمرو، أو الحيوان كان بهويته
مرددا بين الفيل والبق، وأما إذا كان الكلي بهويته معلوما ولم يكن مشكوكا من
هذه الجهة بل يكون مشكوكا من جهة أخرى مثل كونه مشكوكا من جهة المكان،
كما إذا شك في إن زيد هل كان في طرف الشرق من الدار الغير المنهدم حتى يكون
باقيا يقينا ذلك الطرف، أو في طرف الغرب الذي كان منهدما حتى يكون فانيا
لزوال ذلك الطرف، فالكلي الموجود في ضمن زيد بتمام خصوصياته كان معلوما
ولم يكن مشكوكا، وإنما الشك في أينيته لا في عينيته، فإذا كان زيد في الطرف
الشرقي كان الكلي باقيا يقينا، وإذا كان في الطرف الغربي كان فانيا يقينا، فلا وجه
281

لاستصحابه فإن المعلوم في المقام هو الفرد المردد، فمع ارتفاع أحد الفردين يختل أركان
الاستصحاب فيه من حيث عدم تصور اتحاد القضيتين، ولكن نقول إيرادا على
هذا الجواب إنه ما المراد من تنزيلهم هذا بمنزلة الفرد المردد، فإن كان مرادهم إن محذور
جريان الاستصحاب في المقام بالنسبة إلى شخص المحل المردد بين الباقي والفاني مع
قطع النظر عن كونه حيزا لزيد أو عمرو ومشتملا لهما، فيكون المحل حينئذ مرددا
بين الباقي والزائل، فالتنظير والجواب عن هذه الشبهة يكون في محله، لان العنوان
الجامع بين المحلين عنوان عرضي ولا أثر له، لكن الامر ليس كذلك بل الشك في
بقاء المحل والمكان عين الشك في بقاء زيد المتمكن بخصوصيته فيه، نعم منشأ الشك
في بقائه وهويته هو الشك في بقاء مكانه، فاستصحاب المحل إنما يكون من قبيل
الاستصحاب الفرد المردد، وأما استصحاب الجامع بين الحال في ذلك المكان أو ذاك
فهو من قبيل استصحاب الجامع الذي رتب عليه الأثر بنفسه، وقد تقدم إن وجه عدم
جريان الاستصحاب في الفرد المردد في كثير من الموارد هو عدم الجامع موضوعا
للأثر، وإلا فهو متعلق للعلم والشك دائما، فالوحدة بين قضيتين محفوظة مطلقا، ثم إنه
مثل المقرر أمثلة ثلاثة في المقام وقال إنها من الكلي المردد بين ما هو قطعي البقاء
والزوال ومع ذا لا يجوز استصحابه لان مورد استصحاب الكلي الكذائي ما إذا
كان الكلي بهويته مرددا بين الزائل والباقي، وأما إذا لم يكن الشك والترديد في الهوية
بل كان في أمر خارج كالمحل، كما إذا صار زيد في محل لو كان في طرفه الأيمن
فالكلي باق قطعا لبقائه وإن كان في طرفه الأيسر فزائل قطعا لزواله وانهدامه، وكما
إذا تنجس طرف من الثوب ثم غسل طرف منه على ما مر في الشبهة المتقدمة، وكما إذا
ضاع درهم من دراهم فيها درهم زيد مثلا، فلا يكون المشكوك حينئذ من قبيل الكلي
المردد بين الفردين الزائل والباقي لان الكلي الموجود في ضمن زيد معلوم بهويته
وذاته ولم يتعلق الشك، وإنما الشك في الخصوصيات والعوارض الخارجة عن
هويته وذاته وكذا الامر في المثالين الأخيرين، فهو وأمثاله خارج عن استصحاب
الكلي المردد بين الفردين وداخل في مورد استصحاب الفرد المردد الذي قد تقدم
عدم جريان الاستصحاب فيه، ونحن بعد النقض عما أجبنا به عن ذلك بالنسبة إلى المثال
282

الأول من إن الشك في المحل مرجعه إلى الشك في الهوية والشخص فهو مندرج في
مورد استصحاب الكلي، نقول فعلا في مقام التعرض للمقرر إن جميع الأمثلة
لا تندرج تحت الكبرى المدعاة، وهي إن الشك فيما ليس في الهوية بل في أمر خارج عنها،
فإن من الأمثلة هو مثال الدرهم ولا ريب في إن الشك في بقاء درهم زيد ليس مستندا
إلى الشك في المحل، أو خصوصية أخرى خارجة عن ذاته، بل الشك ليس إلا في هوية
الدرهم المعلوم، فدرهم زيد بهويته مردد بين الباقي والزائل وليس مربوطا بأن الشك
في المحل لا في الهوية، نعم لو كان درهم زيد في جيب الانسان مرددا بين ما في
الطرف الأيمن والأيسر فقطع أحدهما أو احترق، فحينئذ يشك في بقاء الدرهم للشك
في محله، فإن كان في جيب الطرف الأيمن فمقطوع البقاء لبقائه، وإن كان في الطرف
الأيسر فقطعي الزوال لزواله، فحينئذ يكون الدرهم بهويته معلوما وإنما الشك في محله،
وينطبق المثال على الكبرى المدعاة بخلاف الدرهم المختلط بأمثاله، فإن درهم زيد بهويته مردد
حينئذ بين الدراهم الباقية والتالفة، فهذا المثال ليس مربوطا بالكبرى ولعله ناشئ من سهو
قلم المقرر، وأما مثال النجاسة كما إذا علم بإصابة النجاسة للعباء وتردد محلها بين كونها
في الطرف الأسفل أو الاعلى ثم طهر طرفه الأسفل، فشك في بقائها لأنها إن كانت في
هذا الطرف الذي لم يغسل فقطعي البقاء، وإن كانت في ذاك الطرف فقطعي الزوال،
فهو على ما يلوح من كلام المقرر من إن الترديد والشك ليس في الهوية بل في محل
النجاسة، فليس على ما صدر، نعم اندراجه في الكبرى المدعاة مبني على جواز انتقال
العرض عن معروضه وتصور تحققه وتقومه بنفسه بلا موضوع ومحل، وإلا
فلا ينبغي الارتياب، في إن الشك في محل النجاسة التي هي من الاعراض في
نظر العرف عين الشك في شخصيتها وهويتها إذ لا هوية ولا تشخص لها إلا بشخصية
المحل والمعروض، فعد المثال من قبيل مالا يشك إلا من حيث المحل والمكان واقع
في غير محله، وببيان آخر لما كانت نجاسة كل قطعة بالنسبة إلى تلك القطعة من
قبيل العرض، وكان العرض المتقوم بتلك القطعة غير المتقوم بالقطعة الأخرى
وبالمحل الاخر مثالا شخص الحمرة المتقوم بالطرف الأيمن غير الحمرة المتقومة بالطرف
الأيسر، فكانت الحمرة والعرض بهويتهما مرددة بين الزائل والباقي، فالترديد في حقيقة
283

الحمرة وهويتها، نعم لو كان العرض قابلا للانتقال من محل إلى محل آخر والمتقوم
بنفسه لكانت النجاسة المرددة من قبيل ما كان بهويته وكان الشك راجعا إلى المحل،
فلو كان ممكنا انتقال شخص العرض الخاص بحده وشخصه من محل إلى محل آخر
ويتحقق بلا محل وموضوع لكان المثال في محله، لان الترديد في إضافة العرض إلى
هذا المحل أو ذاك، فيكون الترديد حينئذ في الإضافة لا في هوية العرض، ويكون
مصداقا للكبرى، ولذا تقرر في محله إن كل عرض قائم بمحله ومتقوم بموضوعه ولا
ينتقل من محله إلى محل آخر، والمفروض إن النجاسة من الاعراض فلا هوية لها إلا
بالمحل، فالشك فيه شك فيها حقيقة، فلو علم إجمالا بوجود نجاسة إما في هذا المحل حتى
تكون باقية أو ذاك حتى تكون زائلة، فيتعلق الترديد والشك بنفس الهوية، ويكون
من قبيل الكلي المردد بين فردين أحدهما قطعي البقاء والاخر مقطوع الارتفاع،
نعم إذا علم بدخول إنسان في الدار وتردد بين كونه في طرف قد انهدم أو في
الطرف الباقي، فحينئذ يشك في بقاء زيد، لكن للشك في مكانه لا في هويته، فهذا المثال
مندرج في الكبرى المذكورة في التقرير، لكن بعد الغض عما أوردنا عليه سابقا،
ولو أغمضنا عن ذلك وقلنا باندراج المثال الأول في الفرد المردد وسلمنا إنه ليس
بهويته موردا للعلم والشك بل الشك في خصوصياته وعوارضه، فلا وجه لمنع
استصحابه أيضا، فإن مقتضى ما تقدم في الفرد المردد عدم جواز استصحاب الكلي،
وأما استصحاب شخص ما وقع الترديد في حاله فلا مانع عنه، وكذا الامر في مثل
النجاسة، فإن النجاسة الشخصية قد علم ثبوتها للعباء قبل غسل طرف منه، وإنما الشك
في بقائها بعد ذلك فجاز استصحاب الشخصي وإن لم يجز استصحاب الكلي لعدم
اندراج المثالين في ضابط، فتحصل إن لنا مطلبان (أحدهما) إنه لا تنطبق الكبرى
المدعاة على المثالين من الأمثلة المذكورة مع إنه لو سلم الانطباق وعدم استحالة انتقال
العرض من محل إلى آخر، فنقول أي مانع عن استصحاب شخص النجاسة المرددة
بين كونها في هذا الطرف حتى تكون مقطوعة البقاء أو ذاك الطرف حتى تكون
مقطوعة الزوال، وعن استصحاب شخص زيد المردد كونه في الطرف الأيمن من
الدار حتى يكون باقيا أو في الطرف الأيسر حتى يكون تالفا، (وأما الجواب) عن
284

أصل الشبهة فتحتاج إلى ذكر مقدمتين (أحديهما) إن متعلق الحكم قد يكون صرف
وجود الشئ، فيكون أمر تطبيقه موكولا إلى العقل وقد تقدم إنه ينطبق على أول
الوجود كان هذا الفرد أو ذاك أو غيرهما، ولذا قلنا انطباق الطبيعة على أفرادها
بنحو التبادل إذا كان المطلوب صرف وجودها، ولا يبعد أن تكون الأحكام التكليفية
من هذا القبيل مطلقا، وقد يكون المتعلق هي الطبيعة السارية فالتطبيق
حينئذ بيد الشارع وتنطبق على جميع الافراد العرضية التدريجية، ولعل موضوع
الاحكام الموضوعية مأخوذ بهذا النحو، (ثانيهما) إن الأثر إذا كان مرتبا على وجود شئ
بمفاد كان التامة فلا ينفع استصحابه بمفاد الناقصة وبالعكس، وإذا كان شئ موضوعا
لأثرين أمكن أن يكون أحدهما مرتبا بوجوده التامي والاخر بوجوده الناقصي،
فباستصحاب الأول لا يجوز إثبات الأثر الاخر وبالعكس، وببيان أوضح إن
دفع الاشكال يحتاج إلى ذكر مقدمتين أحديهما إن صرف وجود الشئ إذا صار
مطلوبا ومتعلقا، فلا يلاحظه الامر منطبقا على شئ من الافراد، وبهذا لو عرض عليه
كل واحد من الافراد إنه بخصوصه مطلوبك يجيب بالنفي ويقول إن متعلق الحكم
ليس إلا صرف الطبيعة العارية عن الخصوصيات، نعم كل ما وجد من الفرد أولا
فتنطبق عليه الطبيعة المطلوبة، فانطباق الطبيعة على الافراد بنحو التبادل وأمر تطبيقه
بيد المكلف، ولا يبعد أن يكون الامر في الأحكام التكليفية كذلك لان الحكم
التكليفي متعلق بعنوان ملاحظة قبل التطبيق، أي الحكم قائم بصرف وجود الشئ
وبعنوان لم يلاحظ فيه التطبيق، ولذا لو عرض على العقل كل من الافراد يقول ليس
هذا مطلوبي بخصوصه، يعني الحصة التي من الطبيعة في ضمن هذا الفرد أو ذاك الفرد
ليس مطلوبي بل المطلوب هو الجامع بين الحصتين الموجود في الذهن، وأما إذا كان
متعلق الحكم في الطبيعة السارية فتطبيقها على الافراد على عهدة الحاكم وكل منها
يصير متعلقا للحكم بجعل واحد، فلا يتصور فرق بين أول الوجود وغيره، فالحكم
حينئذ عارض على الطبيعة لا على الافراد نظير الاعراض الخارجية القائمة بمعروضاتها
المتحققة في الخارج، والطهارة والنجاسة مندرجتان في هذا القسم، كما إنه لا يعقل أن
يكون معروض الاعراض الخارجة هو صرف الوجود فإن العرض متقوم بمحله
285

وما لم يتشخص المحل لم يوجد، فلا قيام له بما لا تشخص له أصلا كصرف وجود
الشئ عاريا عن المشخصات والخصوصيات، فكذا الطهارة والنجاسة فإنهما إما عبارتان
عن نفس النقاوة والقذارة الخارجيتين الواقعيتين، وقد كشف عنهما الشارع في كثير
من الموارد وخطاء نظر العرف فيهما في بعضهما كما في مورد لا يرون العرف شيئا
نجسا وبالعكس، فتكونان داخلتين في الاعراض الخارجية، وإما أن تكونان
حاصلتين بالجعل لكن كان جعل الشارع على طبق المرتكزات العرفية، ولازم ذلك أن
تكون معروضاتها هي الطبائع المنطبقة والموجودة أي الطبيعة في ظرف الوجود لا
الطبائع قبل التطبيق، ونتيجة ذلك إن معروضات النجاسة ليست هو الجامع بين
الفردين، (والمقدمة الثانية) إن الأثر تارة يترتب على نفس وجود الشئ كما
يترتب الأثر على وجود النهار في وجوب الافطار أو حرمته، ويعبر عنه بمفاد كان
التامة، وتارة يترتب على مفاد كان الناقصة، وقد تقدم منا مرارا إن استصحاب
وجود الشئ بنحو مفاد كان التامة لا ينفع في إثبات مفاد كان الناقصة، ولذا لا
يجري الاستصحاب في الزمان كاستصحاب بقاء نفس النهار إذا كان الأثر مترتبا على
نهار مخصوص كنهار رمضان أو شوال مثلا، لان استصحاب وجود النهار لا يثبت
إن هذا النهار نهار رمضان أو شوال، فلا بد من موضوع مفاد كان الناقصة أن
يكون الاستصحاب بنحو مفاد كان الناقصة فلا بد للأصولي والفقيه أن يلاحظ ما
أخذ في لسان الدليل فلا تنفع وحدة المنشأ في ترتيب أثر آخر، فكما قلنا إن الطبيعة
تتشكل بأشكال مختلفة فتارة تتصور على نحو صرف الوجود مثلا، فلا يلاحظ معه قيد،
وتارة على نحو الوجود المقيد ومع ذلك كانت الطبيعة محفوظة على ما هي عليه، وفي
تمام الأحوال كان المدار ما أخذ في لسان الدليل فلا نظر إلى الوحدات الخارجية،
فكذا الامر في ما نحن فيه فأن الموجود الواحد الخارجي قد يعتبر وجوده بمفاد
كان التامة، فيترتب عليه أثره وقد يعبر بمفاد الناقصة، فيترتب عليه أثر آخر، فالنجاسة
مثلا مانعة عن الصلاة بوجودها الخارجي، وأما تأثيرها في تنجيس الملاقي بالكسر
فهو من شؤونها بمفاد الناقصة، وعلى هذا يجوز استصحابها في الثوب المذكور بعد
غسل طرف منه لترتيب أثر المانعية، وأما استصحابها للحكم بنجاسة الملاقي فلا، فإنه
286

لا يثبت نجاسة موضوع الملاقاة حتى يحكم بنجاسة الملاقي، ما تقدم من الكلام كان
في استصحاب الكلي وأشرنا إلى قسمين منه، وهما ما إذا كان الشك في بقاء الكلي
من لوازم الشك في بقاء شخص الفرد، وأما إذا كان الشك مسببا عن كون الكلي
مرددا بين كونه في ضمن الفرد الباقي أو الزائل، (والقسم الثالث) منه ما إذا كان
الشك في بقاء الكلي لأجل احتمال تحققه في فرد آخر مقارنا للفرد الزائل قطعا، مثلا
إذا علم بوجود الانسان في الدار في ضمن وجود زيد وقطع بخروج زيد عن الدار،
ولكن احتمل قيام عمرو مقامه، فيشك حينئذ في بقاء الانسان في الدار، وهذا القسم
من استصحاب الكلي يتصور على أنحاء ثلاثة (الأول) ما إذا كان الشك في بقاء
الكلي لاحتمال وجود فرد مقارنا لوجود الفرد المعلوم، كما إذا علم بوجود زيد
في الدار وشك في إنه هل كان عمرو مقارنا معه فيها، فالشك في بقاء الكلي حينئذ
يكون مسببا عن الشك في مقارنة وجود فرد معين لوجود فرد آخر، فإن كان عمرو
مقارنا مع زيد في الدار ولم يخرج منها فالكلي باق يقينا بعد خروج زيد أيضا، وإلا
فمرتفع قطعا، (الثاني) ما إذا كان الشك في بقائه لأجل احتمال وجود فرد فرد مقارنا
لارتفاع الفرد المعلوم، كما إذا احتمل وجود عمرو في الدار مقارنا لخروج زيد منها،
بحيث لم يجتمع وجودهما في الدار، وهذا أيضا على نحوين، فتارة يكون الشك في إن
ما علم ثبوته قد انعدم بذاته وبحده كما في صورة تباين الفردين وجودا وذاتا
كزيد وعمرو، وأخرى يكون الشك في انعدام الحد فقط أي يشك في تبدل حد
بحد آخر أعلى أو أنقص، كما في صورة اختلاف الفردية بالمرتبة والحد فقط كالحمرة
التي كانت حدا وسطا بين الحمرة الشديدة والضعيفة، وقد علم بها وبزوالها قطعا،
ولكن يشك في إنها زالت بالمرة ذاتا وحدا يعني يشك في زوال المحدود أيضا أم
لا، بل تبدلت من حد بحد، وهذا أيضا يتصور على نحوين، فتارة يكون الحد المتبدل
بحد آخر والمرتبة المحتملة من مراتب الشئ الواحد، مخالفا لما كان بمرتبة لا يعد
من مراتب الوجود سابقا ومن سنخه في نظر العرف وإن كان منه دقة، وأخرى
لا يكون كذلك بل يعد الضعيف من مراتب القوي أو العكس، فقد يكون الشك في
إن الحمرة زالت بتمامها وبذاتها بحيث لم يبق منها شئ عند العرف أم لا، وقد يكون
287

الشك في إنها زالت بحدها الاعلى وتبدلت بمرتبة قريبة منه، أو إنها زالت بالمرة، فهذه
صور مسألة استصحاب الكلي المشهور بالقسم الثالث، وقبال القسم الأولين منه،
والصورة الواضحة منها أي ما كان الشك مسببا عن احتمال وجود فرد آخر مقارنا
للفرد الزائل، كما إذا علم سابقا بوجود زيد في الدار وانعدم يقينا، لكن احتمال أن
يكون عمرو معه فيها، فحينئذ إن كان عمرو مقارنا معه فالكلي باق يقينا، وإلا فزائل
قطعا، ولا يخفى إنه على المسلك المختار في وجود الكلي من إنه عين وجود الافراد
خارجا، وإنه ليس في الخارج إلا حصة وخصوصية، فمع كل فرد حصة من الطبيعي
متباينات من حيث الخصوصية والحد وإن كانت مندرجة تحت جهة مشتركة، فالحق
إنه لاوجه لجريان الاستصحاب في هذه الصور، فإن القضية المتيقنة أولا غير ما
شك في ثبوته ثانيا، فإن الموجود في الخارج هي الحصص المتباينة المتكثرة وإن كانت
تجمعها وحدة سنخية بين الاباء، فليس الطبيعي في الخارج إلا المتكثرات، ولا
يتصور في البين جهة زائدة على الحصص حتى تكون هي الجامع المحقق خارجا، فلا
يعلم بوجود الجامع مستقلا ومنفكا عن وجود زيد حتى يكون الشك في بقاء ما علم، فالشك
في المثال متعلق بحدوث حصة أخرى متحدة بالسنخ مع ما كانت موجودة بوجود
ما علم بارتفاعه، فحينئذ لا مجال للاستصحاب على المختار، وأما على مسلك المقرر من أن
الكلي موجود في ضمن الافراد وليس وجوده عين وجودها، فلا بأس باستصحاب
الكلي لأنه يتوارد العلم والشك على شئ، فنسئل عنه إن الجهة الزائدة موجودة
بالوجود المستقل المنحاز عن وجود الفرد والحصة وهي مع ذلك متحدة مع الافراد،
فيلزم اتحاد الوجودات المتباينة، وإن لم يكن كذلك فلا طريق إلى إثباته (والقسم
الثاني) من القسم الثالث من استصحاب الكلي إنه إذا علم بوجود فرد في الدار
وقطع بانعدامه، ولكن شك في بقاء الكلي للشك في إن مقارن انعدام هذا الفرد
تحقق فرد آخر أم لا، وهذا يتصور على نحوين، فتارة يعلم بانعدام هذا الفرد بتمام
وجوده، وشك في إن مقارن انعدامه تحقق فرد آخر مغاير لما كان، مادة صورة،
فالشك في بقاء الكلي حينئذ مسبب عن الشك في تحقق فرد آخر يتخلل العدم
بينهما، وأخرى لا يكون كذلك بل يكون من قبيل تبدل فرد بفرد آخر من
288

دون تخلل العدم في البين، كما إذا قطع بوجود زيد في الدار ثم قطع بانعدامه وشك
في إنه تبدل بالملح والملح بالتراب وهكذا أم لا بل انعدم وفنى بتمامه وصار هباء
منثورا، ففي الصورة الأولى لا مجال لاستصحاب الكلي على ما تقدم آنفا، وأما في
الصورة الثانية وهي ما كان الشك مستندا إلى احتمال تبدل صورة بصورة بلا تخلل
عدم في البين، فإن المادة باقية في تمام الأحوال وقابلة للإشارة الحسية بأن يقال كان
هذا كذا فصار كذا، فالظاهر إنه لا مانع من جريان الاستصحاب في الكلي المتحقق
في ضمن جميع الصور إذا كان مما رتب عليه الأثر باطلاقه، فإن الجسم مثلا تارة يكون
في ضمن الصورة الزيدية، وأخرى في ضمن الصورة الملحية، وثالثة في ضمن الصورة
الرمادية، فالمادة موجودة بالدقة العقلية عند تبدل الفصول وتواردها عليها طولا، وهي
متحدة مع الجسم حقيقة ومغايرة معها اعتبارا، فإن المادة إن أخذت بشرط لا فمادة، وإن
أخذت لا بشرط فجسم، فمنشأ الشك في بقاء الكلى هو الشك في تبدل صورة بصورة أخرى، أي
في خلع صورة وليس صورة أخرى، فمن جهة عدم تخلل الفناء بين الموجودات المختلفة بالصور
والفصول صار عدها موجودا واحدا، كما كان الامر كذلك في الأمور التدريجية
كالزمان مثلا، فما لينتهى الامر إلى القطع بالانعدام في الأمور التدريجية يعد شيئا
واحد، فبتلاحق الوجودات يحكم بالبقاء، والمفروض إنه قد رتب الأثر على مطلق
الجسم لا الجسم في ضمن هذه الصورة أو ذاك أو ذاك، وإلا فبذهاب الصورة يقطع
بانتفاء الحكم، فلا يبقى حينئذ مجال لاستصحابه لان اليقين تعلق بجسم في ضمن صورة
زيد، والشك تعلق بجسم في صورة ملح، فتختلف القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة،
فتختل أركان الاستصحاب، وبالجملة إذا رتب الأثر على مطلق الجسم لا الجسم المتفصل
بالفصل المخصوص، فلاستصحابه مجال عند الشك في بقائه ولو مع فصل غير ما كان
أولا، واختلاف الفصول لا يوجب الاختلاف في الجسم بلا تخلل عدم في البين، فكم
فرق بين الصورة الأولى وبين المقام، لأن المفروض إن زيدا انعدم بالمرة والشك في
وجود الكلى ناشئ عن احتمال وجود فرد آخر، فلا يكون الشك حينئذ فيما علم
بحدوثه للقطع بانعدامه، بخلاف المقام لان المتيقن هو الجسم الجامع بين زيد وملح
ورماد وتراب، والمشكوك أيضا هو الجامع المتفصل بالفصول الطولية المتعددة بدون
289

تخلل عدم في البين بدون دخل خصوصية فصل من الفصول في ترتب الأثر، فلا مانع
من استصحاب الجسم الجامع بين تلك الأمور المتفصلة بالفصول المختلفة الطولية،
فالاستصحاب في المقام نظير الاستصحاب في الألوان والمشككات، غاية الامر في ذاك يشك
في تبدل حد بحد، مثل تبدل الحمرة الضعيفة بالشديدة، أو بالعكس، وفي المقام يشك في
تبدل فصل بفصل، فكما قالوا بجريان الاستصحاب هناك بهذا الملاك، يقول بجريانه في
المقام أيضا، لكن الذي يكون في المقام هو أن يقال بأنه وإن جاز بالدقة العقلية أن
يصدق عليه البقاء ولكن في نظر العرف يكون الجسم المتفصل بفصل مباينا مع
الجسم المتفصل بفصل آخر، والمفروض إن المدار في البقاء هو النظر العرفي لا الدقي،
فوجود الجسم بالصورة الملحية مغاير معه بصورة أخرى عرفا ومتحد معه عقلا
ودقة، وربما يكون عكس ذلك مثل الكر إذا أخذ مقدار يسير بمثل رأس الإبرة،
فإن مقتضى النظر الدقي العقلي أن لا يصدق على البقية إنها عين ما كان ولكن بالنظر
العرفي يصدق إنه باق بعينه، ولما أثبتنا في محله إن المدار في تشخيص الموضوع والحكم
بأن الباقي عين ما كان هو نظر العرف لا على الدقة العقلية، فلا مجال للاستصحاب في
هذه الصورة أيضا، فتحصل إن القسم الثاني من الثالث لا يجري فيه الاستصحاب
أصلا، والقسم الأخير من القسم الثالث من استصحاب الكلي أن يكون الشك في
وجوده مسببا عن تبدل حد بحد، مثل ما إذا علم بالسواد أو الحمرة لشئ بالمرتبة المتوسطة
مثلا، ثم علم بارتفاع هذه المرتبة بالخصوص وشك في تبدلها من حد بحد آخر ليس في
غاية البعد عما كان بحيث لا يعد متحد الوجود، ونقل إن الشيخ قدس الله سره لما
قسم القسم الثالث من استصحاب الكلي إلى قسمين، وقال بعدم جريان الاستصحاب
فيهما ونسب ذلك إلى الأردكاني (ره) واستشكل عليه بإحداث هذا القسم الثالث
فنقل للشيخ وصوب جريان الاستصحاب فيه، لكن لا بأس بملاحظة إن إدخال هذا
القسم الأخير في القسم الثالث من استصحاب الكلى في محله أم لا، وتوضيح ذلك
يحتاج إلى بيان مقدمة وهي إن الطبيعي تارة تصير محدودا بحد ومرتبة من المراتب
الوجودية، تحصله وامتيازه عن ساير الطبايع كالفصول، وأخرى يصير محدودا
بحدود مشخصة للافراد وموجبة لتميز بعضها عن الاخر بعد اشتراكها فيه، فإذا
290

صار محدودا بالمشخصات والمميزات الفردية فينحل إلى الحصص حصة منه موجودة
مع زيد وحصة أخرى مع عمرو وهكذا، فإن لكل فرد أب من الطبيعة ينضم إلى ما
يوجب التشخص والامتياز، (وثالثة) يكون الحد مشخصا للفرد لا للطبيعة، هذا
ما إذا ورد حد على الطبيعة وقسمها إلى الحصص المتحققة مع هذا الفرد وغيره، فبعد
الفراغ عن التحصص والفردية ترد على الفرد أيضا حدود محصلة لهذا الفرد الموجود
الواحد مع هذه التبدلات، فهذه الحدود ليست مشخصة للطبيعة بل من الحدود
المشخصة للفرد، نظير مقدار الحركة الواحدة مثلا، فإنه إذا تبدل من حد بحد فهو لا
يوجب تعددها ما لم يتخلل العدم، فالحركة الواحدة إذا وردت عليها حدود متتالية
فهي أيضا باقية على وحدتها، وإنما الحدود مشخصات لهذا الفرد من الحركة نظير
اختلاف مقدار الشئ بالنمو أو الهزال والسمن، فإنهما إذا تواردا على شخص واحد
بالترتيب يوجب كل منهما تشخصا في الفرد فارغا عن الفردية لا في الطبيعة، فكم فرق
بين الحدود المشخصة للفرد والحدود المشخصة للطبيعة، فإن شأن الحدود المشخصة
للطبيعة أن تجعل الطبيعة حصصا يتحقق كل منها مع كل فرد مشتمل على تلك
الحدود والمشخصات، بحيث لا تتحد هذه الحصة المتشخصة بهذا الفرد مع تشخص
منضمة إلى الحصة الأخرى، فالحصة الموجودة مع زيد غير الحصة الموجودة مع عمرو
وهكذا، وأما الحدود المشخصة للفرد الواحد فإنها بعد ورودها على الفرد لا يوجب
تبدل الفرد وتعدده، بداهة إن الثابت فعلا عين الثابت سابقا، والكبير عين ما كان
صغيرا، فالمحدود محفوظ ومتحقق في تمام الأحوال ولا ينقلب عن أصله، غاية الامر
ينقلب من حال إلى حال ومن حد إلى حد، إذا عرفت ذلك تعرف إن إدخال القسم
الأخير من القسم الثالث من استصحاب الكلى مما لاوجه له، بل كان هذا داخلا
في أقسام استصحاب الشخصي وليس مربوطا باستصحاب الكلى، وينبغي التنبيه
على أمرين (أحدهما) إنه قد يشتبه بعض موارد الاستصحاب بالقسم الثاني أو
الثالث من القسم الثالث من استصحاب الكلى، كما فيما إذا قطع بثبوت حكم لقيام
مصلحة مقتضية للوجوب فامتثل ذلك لكن احتمل بقاء الحكم لاحتمال مقارنة مصلحة
أخرى مقام المصلحة المستوفاة بالامتثال القائمة بموضوع الحكم بعنوان مغاير مع
291

عنوان ما يفي بالمصلحة المحتملة، كما إذا قطع بقيام المصلحة على طبيعة الصوم ووجوبه
من جهة الكفارة، وامتثل ذاك الوجوب لكن احتمل وجود مصلحة أخرى في
طبيعة الصوم أيضا من جهة النذر ووجوب الوفاء به، مقارنة لمصلحة صوم الكفارة
الموجب للشك في بقاء الوجوب بعد الامتثال، باعتبار أمر الكفارة أو احتمال بقاء
الوجوب لاحتمال طرو عنوان آخر مشتمل على مصلحة أخرى مقارنا لحصول
ملاك الوجوب الثابت بالمصلحة السابقة، فحينئذ يكون الشك في الحكم مسببا عن الشك
في انحصار المصلحة المقتضية للوجوب في صوم الكفارة وعدمها، فإن كانت منحصرة
فقد سقط الوجوب بامتثاله، وأما إن كانت في البين مصلحة أخرى قائمة بالصوم حين
امتثال الامر ومقارنة لمصلحة صوم الكفارة فالوجوب باق، ويمكن القول بعدم
جريان الاستصحاب بالنسبة إلى نفس المصلحة، لأنه إما من القسم الثاني أو من القسم
الأول من القسم الثالث، وقد تقدم وجه جريان الاستصحاب فيهما، وإما في المسبب
عن المصلحة وهو الحكم، فلا بأس بجريانه لأنه يقطع بتوجه وجوب إلى طبيعة الصوم
من جهة الكفارة، فإذا حصل له امتثال ذاك الوجوب وشك في بقائه للشك في
استناده حينئذ إلى مصلحة أخرى مقارنة للأولى أو لسقوطها عن الايجاب بالامتثال،
فأركان الاستصحاب متحققة بالنسبة إليه، فلا مانع من أجزائه فيه، وبالجملة فبامتثال
وجوب صوم الكفارة في إنه هل زال الوجوب الشئ من طبيعة الصوم رأسا أم لا،
نظير ذلك إذا علم بقيام هيئة الخيمة عند قيام عمود ثم قطع بزوال ذلك العمود مع
شك في بقاء تلك الهيئة للشك في قيام عمود آخر عند انعدام الأول أو مقارنا
لوجوده، ففي المقام لا بأس باستصحاب قيام الخيمة لأنه إما من الاستصحاب الشخصي
أو الكلى المعدود من الثالث للثالث من الكلى، فتحصل إنه لا بأس باستصحاب
شخص الإرادة والوجوب المعلوم سابقا، ولو كان سببا عن مصلحة حاصلة بالامتثال
مباينة للمصلحة المحتملة اقترانها مع تلك المصلحة أو مع سقوطها عن التأثير، وأما
إجراء الاستصحاب في نفس المصلحة فلا مجال له، لأنه إما من قبيل القسم الثاني أو
الأخير من الثالث، وهو تبدل فرد بفرد آخر من حيث الحد المشخصات، وبالجملة
إن المصلحة بالنسبة إلى الوجوب والإرادة مثل العمود بالنسبة إلى الخيمة، فإذا احتمل
292

حدوث مصلحة مقارنة لسقوط الأولى أو ثبوتها مقارنا لثبوتها، فحينئذ يشك في
بقاء شخص ذاك الوجوب حتى بعد الامتثال، فيوجد فيه ما يعتبر ركنا للاستصحاب،
فلا بأس باستصحابه، ولا يخفى، إنه وإن كان العلل متعددة إلا إن المعلول واحد
شخصي مترتب على العلل المتعددة، فتمام المصالح الحاصلة بالفعل أو على التبادل علل
لإرادة واحدة شخصية، فلا يتغير المعلول بتبادل علله ولا يتعدد، ويوضحه بقاء الخيمة
القائمة بأعمدة متبادلة على وحدتها الشخصية، فتحصل من ذلك كله إنه لا مانع من
استصحاب الحكم في هذه الصورة فإنها من القسم الأخير من الثالث، وقد تقدم إنه إما
شخصي أو كلي يجري فيه الاستصحاب أيضا على الخلاف بيننا وبين الشيخ (ره)، ومع
ذلك كله لا يجرون الاستصحاب في هذه الموارد، ولا يحكمون ببقاء الوجوب على
طبيعة الصوم مثلا بعد الامتثال، فلا بد من كشف السر عن ذلك، ولنا مثال آخر
وهو الخط الذي يحدث بتحريك الأصابع وغيرها، فإذا فرض تبدل حركة الإصبع
بحركة شئ آخر من حديد أو عود أو غير ذلك بلا تخلل عدم حركة في البين، بأن
يقارن سكون الإصبع تحقق حركة عود أو حديد، فالخط الحاصل من الحركات
المتباينة واحد شخصي لا تعدد فيه فعلا، غاية الامر يكون مستندا إلى حركات عديدة
مختلفة، فتارة بإصبع، وأخرى بحديد، وأخرى بعود، فشخص الخط كان على حالة،
فإذا شك بعد القطع بوجود الخط في بقائه وكان منشأ ذلك احتمال حصول حركة
مقارنة لانتفاء حركة الإصبع، فلا مانع من استصحاب شخص ذاك الخط الواحد
الذي كان موجودا في الان الأول، نعم لو حدث من كل حركة خط مباين للخط
الاخر بأن يحصل خطوط متبائنة طولية بتخلل العدم الحركات، فلا يكون حينئذ مجال
للاستصحاب لأن الشك في حدوث خط آخر غير ما علم بحدوثه أولا، فتختل حينئذ
أركان الاستصحاب بعدم اتحاد القضيتين، لكن المفروض إن المقام ليس من قبيل
ذلك، بل القضية عين المتيقنة، فالخط المشكوك بقائه والهيئة المشكوكة بقائها عين الخط
المعلوم وجوده وعين الهيئة المعلومة بذاتها، وكذلك الحال بالنسبة إلى الإرادة الناشئة
من مصلحة أو مصالح مترتبة قائمة لشئ واحد فإن الإرادة، لا تتعدد بتعدد المصالح
والدواعي الثابتة في الشئ الواحد ولو على التبادل والترتيب إذا كانت من سنخ
293

واحد، بخلاف ما إذا كانت المصالح مختلفة بالسنخ، فتحصل في المقام مصالح عديدة
وإرادات مستلقة ومتعددة وكل منها معلول لعلة غير الأخرى، فإذا قطع بحصول
إرادة معلولة لاحدى المصالح وحصل مرادها وزالت الإرادة الأولى وانعدمت، ثم شك
في حصول إرادة أخرى معلولة عن مصلحة أخرى غير المصلحة الأولى، فلا مجال حينئذ
للاستصحاب لان الإرادة المقطوعة وجودها قد انعدمت، والإرادة الثانية مشكوكة
ولم تكن مسبوقة باليقين، فما قطع بوجودها قد زال وما شك في وجودها
لم تكن لها حالة سابقة، فتختلف القضيتان وتختل أركان الاستصحاب ولا يبقى حينئذ
مجال، هذا إذا كانت في البين إرادات عديدة معلولات لمصالح مختلفة، وأما إذا
كان سنخ المصالح واحدا وانبعثت الإرادة عن بعض هذه المصالح المتحدة بالسنخ،
وعلم بحصول تلك المصلحة من العمل، لكن شك في وفائه بمصلحة أخرى مترتبة عليه
مقارنة لحصول المصلحة الأولى، فحينئذ يشك في بقاء تلك الإرادة الشخصية وعدم
سقوطها لاحتمال استنادها إلى ملاك لم يسقط عن التأثير، فيجوز استصحابها من دون
محذور، مثلا إذا كان في شرب أدوية متعددة حصول صحة عن مرض خاص كالسل مثلا،
وانبعثت إرادة واحدة كما في شرب هذه الأدوية، فشرب هذه الأدوية ثم شك في قيام
مصلحة أخرى مجانسة للأولى بشربها ثانيا كحصول الصحة والبرء التام من ذلك المرض
الخاص، فحينئذ يقطع بوجود إرادة مما في الشرب الأول، ثم يشك في بقائها من جهة
ما في الشرب الثاني، فيستصحب شخص تلك الإرادة التي كانت معلولة عن المصلحة
المعلومة، وهو عين ما يبقى بالمصلحة فوحدة القضيتين محرزة مطلقا، غاية الامر شخص
الإرادة في هذا اليوم مستند إلى ما في هذا الشرب، وفي الغد مستند إلى ما في الشرب
الاخر، نعم إذا كان التبادل في المسبب لا في ناحية السبب، فلا مجال للاستصحاب
لاختلاف القضية المشكوكة مع المتيقنة، لان ما كان مقطوعا بوجوده قد زال، وما
كان مشكوكا لم يكن له حالة سابقة، ونظير ذلك أيضا حرارة الماء المستند إلى النار
وغيرها، فإذا انطفت النار الأولى وتحققت نار أخرى من دون تخلل عدم في البين، فلا
تختلف الحرارة ويتعدد بتعدد النار وسببها، بل هي حرارة واحدة شخصية حاصلة
بواسطة أفراد النار تدريجا وبنحو التبادل، غاية الامر أفراد النار تتبدل ولا توجب
294

تبدلها تبدل الحرارة، فإذا شك في بقائها فيستصحب شخص تلك الحرارة ولكانت
هذه الحرارة الشخصية مستندة إلى أفراد متبادلة، بالنسبة إلى الأمثلة العرفية، ونظير
ذلك متصور في الشرعيات أيضا، وقد أشرنا إلى ذلك في باب القضاء كما فيما إذا قطع
بأن الحاكم نصب ولاية لشخص خاص، وفوض إليه الولاية إلى يوم الجمعة مثلا، ثم
شك في إنه بدى للحاكم نصب الولاية أيضا لهذا الشخص بتمديد مدتها إلى يوم
السبت مثلا، من دون تخلل عدم في البين أم لا، فيحنئذ وإن تعدد الجعل على تقدير، إلا
إن شخص الولاية لا اختلاف فيه، وما تغير من حاله بسبب تبدل أفراد النصب، فلا
مانع حينئذ من استصحاب شخص تلك السلطنة، غاية الامر إن السلطنة في الان
الأول مستندة إلى تفويض، وفى الان الثاني مستندة إلى تفويض آخر غير الأول،
ولكن لم تتغير حال السلطنة بسبب تغير التفويضات وتبدلها، فشخص السلطنة باق على
وحدته، فيرجع الشك إلى السلطنة إلى الشك في البقاء لا إلى إحداثها، حتى لا تكون
لها حالة سابقة، وتختلف القضية المشكوكة مع المتيقنة، فإذا لم يحكم الشرع ولا العرف
بتبدل أشخاص السلطنة، فتكون القضية المشكوكة حينئذ عين القضية المتيقنة، فلا
يكون قصور للاستصحاب بالنسبة إلى السلطنة، لا يقال لاوجه للرجوع إلى
الأصل في المسبب مع جواز جريانه في السبب وهو عدم النصب، فإن مقتضاه عدم
الولاية، فإنه يقال بثبوت الولاية بالنصب وانتفائها بانتفائه ليس من الآثار الشرعية
له، فلا يجوز إثبات عدمها باستصحاب عدم النصب، إلا على القول بالمثبت، ثم لا يخفى
إن الاشكال سار في موارد الشك في بقاء الوكالة، والقضاوة والقيموية وغيرها،
وظهر اندفاعه مما تقدم، فالظاهر إنه لا مانع من استصحاب المسبب في سنخ الموارد
مطلقا إلا أن الأصحاب لا يرجعون إليه فيها، فلا بد من الكشف عن وجه ذلك ولا
يبعد أن يكون الوجه هو لزوم التعبد بالمتناقضين، فإن مقتضى استصحاب عدم السبب
عدم لزوم وترتيب الآثار الشرعية المترتبة عليه، ومنها عدم نفوذ تصرف مشكوك
الولاية على تصرفاته، ومقتضى استصحاب ولايته هو التعبد بهذا الأثر، فيلزم أن يكون
تعبدين بالنقيضين، والعقل يأبى عن ذلك كما لا يخفى، لان الامر بالتعبد بالمسبب مع
التعبد بانتفاء السبب ينتهي إلى التناقض، أو التضاد، لان رفع السبب لا يعقل بقاء المسبب،
295

تذييل
قد جرت عادتهم على تمثيل استصحاب الكلي باستصحاب الحدث المردد بين
الأصغر والأكبر عند خروج بلل مردد بين البول والمني، وذلك مع العلم بالطهارة
السابقة، أو عدم العلم بالحالة أصلا في غاية الوضوح، فيستصحب كلي الحدث ويترتب
عليه الأثر، وأما مع كون الحالة السابقة معلومة، فإن كانت هي الحدث الأكبر فلا وجه
للاستصحاب الكلي، بل يؤخذ بالمعلوم حتى يتحقق الرافع، وأما مع كون الحدث المعلوم
هو الأصغر كما لو رأى الانسان بعد نومه رطوبة مرددة بين المذي والمني، وحينئذ
فلو قيل بأن الأصغر يبقي عند الاجتماع بذاته وبحده قبالا للأكبر، لكنه لا يوجب
الوضوء لاشتراط تأثيره في ذلك بعدم مجامعته، فعليه يكون الشك في بقاء الحدث
المعلوم قبل حصول الرطوبة المرددة بين المني والبول وقبل الوضوء، فيما بعده من
الشك في بقاء الكلي المردد بين الفرد الباقي والزائل المعدود من القسم الثاني من
استصحابه، وقد تقدم عدم جريان الاستصحاب فيه بتقريب مباينة الحصص ومغايرتها،
وأما لو قيل بأن الحدث مشكك يحصل بالمراتب المتفاوتة شدة وضعفا، وإن الأكبر
أشد من الأصغر كما يومي إليه هذا التعبير الشايع، فحينئذ يندك الأضعف في الأشد
عند حصول سببه اندكاك النور الضعيف في الشديد، وعليه فلا يبقى الأصغر بذاته
وينقلب حده، ويسقط عن التأثير المختص به للاندكاك بتبدل الحد ومشاركة المندك
فيه في حصول الآثار المترتبة عليه مع الزيادة، فبقاء الحدث المشكوك بعد التوضي
على ما في المثال المتقدم من قبيل احتمال بقاء الكلي المعدود من ثالث أقسام الثالث،
وقد تقدم إنه لا بأس باستصحابه سواء كان من الكلي أو الشخصي، على الخلاف
بيننا وبين الشيخ (ره)، ولا يخفى إن مقتضى استصحابه عدم جواز الاجتزاء
بذاك الوضوء في مقام إتيان الأعمال المشروطة بالطهارة من مس المصحف الشريف،
وأما الآثار المختصة بالجنب كحرمة قرائة العزائم ودخول المساجد، فلا يصح
ترتيبهما على هذا الاستصحاب، فإنها ليست من آثار نفس الجامع المجرد عن خصوصية
الأكبر، إلا إن الغسل لابد منه على ذلك، وأما لو قيل بكون الأصغر مما يضمحل
296

ويفني عند طرد الأكبر بذاته وبحده، ولذا لا يوجب وضوء عنده، فحينئذ يندرج
كلي الحدث المشكوك بقاء بعد التوضي في القسم الثاني من استصحاب الكلي، فإنه
مردد بين الزائل قطعا والباقي كذلك، وعليه فلا مجال لاستصحابه كما تقدم، فتحصل
إنه لا يجوز استصحاب كلي الحدث بعد الوضوء على التقدير الأول والثالث، لأنه مما
يتردد ثبوته بالفرد الزائل أو الباقي، ويكون من القسم الثاني من استصحاب الكلي،
الذي قد أوضحنا وجه عدم جريان الأصل فيه في محله، فيجوز الاجتزاء بذلك
الوضوء، وأما على التقدير الأوسط، فظهر إنه لا مانع من استصحابه الكلي، وقد
تقدم وجه جواز الرجوع إلى الأصل فيه على خلاف بيننا وبين شيخ الاجل
الأنصاري قدس قدس سره، ثم لا يخفى إن مقتضى الاستصحاب عدم الاجتزاء بالوضوء
المجرد عن الغسل، مع إن الأصحاب لا يلتزمون بذلك في مورد الشك في الاحتلام
في النوم، بل يفتون بجواز الاكتفاء بالوضوء فقط، فلا بد من الكشف عن وجهه،
فنقول لعل نظرهم إلى إن موجبية الحدث الأصغر للوضوء موقوف على عدم اجتماعه
مع الحدث الأكبر وانحصار الحدث فيه، وهذا يتركب من أمر وجودي وهو ثبوت
الأصغر، وعدمي وهو عدم الأكبر، فإذا أحرز موضوعه بكلا جزئيه ولو بعضه
بالأصل، فيجب الوضوء فقط دون الغسل، والمفروض في المقام إحراز الأصغر
بالوجدان بواسطة النوم أو غيره سابقا على حصول الرطوبة المرددة، أو احتمال الاحتلام،
ويجوز أن يحرز جزئه الاخر وهو عدم الاجتماع مع الأكبر بالأصل الجاري فيه
عند الشك في حصوله، ومعه لا يبقى مجال لاستصحاب الحدث المعلوم، فهذا المثال نظير
لمورد الحكم لاستحقاق الوارث المعلوم بتمام التركة حتى مع احتمال وارث آخر، فإن
الوجه في ذلك انحصار الوارث في الواحد، وهو مركب من جزئين يحرز جزئه
العدمي بالأصل، وقد يقال بجواز الاكتفاء بالوضوء فيمن توضأ بعد النوم وشك
في الاحتلام فيه على تقديري جواز استصحاب الكلي وعدمه، تمسكا بما يستفاد من
آية الوضوء، بتقريب إن قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله
تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا) يدل على وجوب الوضوء على من كان نائما ولم يكن
جنبا، فقد أخذ في موضوع وجوب الوضوء قيد وجودي وهو النوم، وقيد عدمي
297

وهو عدم الجنابة، وهذا القيد العدمي وإن لم يذكر في الآية الشريفة صريحا، إلا إنه
من مقابلة الوضوء للغسل والنوم للجنابة يستفاد منها ذلك، فإن التفصيل بين النوم
والجنابة والوضوء والغسل قاطع للشركة، بمعنى إنه لا يشارك الغسل للوضوء، ولا
الوضوء للغسل، كما يستفاد نظير ذلك من آية الوضوء والتيمم، فإن قوله تعالى: (وإن
لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) يدل على إن وجدان الماء قيد في موضوع وجوب
الوضوء وإن لم يذكر في آية الوضوء صريحا، إلا إنه من مقابلة الوضوء للتيمم يستفاد
ذلك، لان التفصيل قاطع للشركة انتهى، ولكن نقول إنه كذلك لو كان نفس النوم
والجنابة من موانع الصلاة لا الحدث الحاصل منهما، وكذا في طرف الشروط لو كان
نفس الوضوء شرطا للصلاة لا الطهارة الحاصلة به، لان ما كان موضوعا لوجوب الغسل،
قد أحرز أحد جزئيه بالوجدان، والاخر بالشرط، فلا يبقى شك في الحكم حتى
يتصور مجال لاستصحاب كلي الحدث، لأنه ليس له أثر على الفرض، وبعبارة أخرى
إذا كان المانع هو النوم، فإنما هو مانع بوجوده الحدوثي لا البقائي، والمفروض إنه
ارتفع بالوضوء ولا بقاء له، وكذا الجنابة، فعلى هذا المسلك لا يبقى مجال للاستصحاب،
فلا وجه لتعميم القول بأنه يكتفي بالوضوء سواء قلنا باستصحاب الكلي أم لا، كما
صدر من المقرر، وأما لو بنينا على إن ما كان شرطا للصلاة ليس نفس الوضوء
والغسل والتيمم، وكذا في طرف المانع ليس المانع هو نفس النوم والجنابة والبول،
التي لا يتصور لهما بقاء بل بانتفائها عند حصول جزئها الأخير أو بمنزلته،
وقيل بأن هذه الأمور محققات لما هو الشرط أو المانع، وهما عبارتان عن الطهارة
والحدث، فإنهما أمران قابلان للبقاء، وبعبارة أخرى لو قلنا بأن الوضوء والغسل
والتيمم ليست بنفسها شرطا بجواز الدخول في الصلاة، بل هي محققات للشرط وهو
الطهارة، وكذا النوم والجنابة وغيرهما من الموانع ليست نفسها مانعة عن جواز
الدخول في الصلاة، بل هي أسباب لحدوث شئ ومعنى يعبر عنه بالحدث وله مراتب
هو في بعضها أصغر وفى الاخر أكبر، فالحدث معنى كلي له أفراد ولكل منها رافع
مخصوص، وسلمنا إن كلا من الطهارة والحدث معنى قابل للبقاء، فيكون حينئذ
لاستصحاب الكلي مجال في مورد الكلام، ولا يجدي التمسك بما ادعى استفادته من
298

الآية المباركة في صحة الاجتزاء بالوضوء فقط، فما هو المانع عن الصلاة على هذا
الوجه ليس عنوان النوم المقيد بعدم الجنابة، حتى يقال بأنه يستفاد من مجموع الآية
صدرا وذيلا إنكم إذا قمتم عن النوم ولم تكونوا جنبا فتوضؤا، وفي المثال يحرز جزء
الموضوع بالوجدان، وجزئه الاخر بالأصل، يعني إذا انحصر السبب في النوم فلا
يجب إلا الوضوء، بل نفس النوم ليس موضوعا للحكم وإنما هو محقق لشئ هو
الموضوع للأثر، وقد علم ثبوته بالنوم ثم يشك في ارتفاعه بواسطة احتمال الاحتلام،
فلا يرفع هذا الجامع بالأصل في عدم تحقق الجنابة المستلزم لانحصار سبب الحدث في
النوم، لاثبات إن الجامع كان محققا في الأصغر والأن كما كان، إلا أن يقال
بالأصل المثبت، فتحصل إنه يجري استصحاب الجامع وهو كلي الحدث على هذا
المسلك، ولا مجال لكلام المقرر حيث قال ولو بنينا على جريان الاستصحاب الكلي
في القسم الثالث، أمكن الاكتفاء بالوضوء، ونقول بعد الاحتياج إلى الغسل تمسكا
بالآية الشريفة، (وخلاصة الكلام) إن على مختار المقرر حيث جعل المانع نفس النوم
والشرط نفس الوضوء لا الحدث والطهارة، فلا مجال للاستصحاب لا إنه مع إمكانه
يمكن الاكتفاء بالوضوء، لان النوم والوضوء مما لا يعقل لهما البقاء حتى يشك فيه
فيستصحب، وأما على مختارنا حيث جعلنا المانع الحدث والشرط الطهارة، والنوم
والوضوء من محققاتهما، فلا يعقل إثبات رفع هذا الجامع أي الحدث بإثبات الانحصار
بأمر تعبدي وهو الأصل يعني إثبات انحصار الحدث بالنوم، والاكتفاء في رفعه
بالوضوء، وبتقريب آخر إن موضوع وجوب الوضوء أمر مركب من النوم وعدم
الجنابة، فيحرز أحد جزئي المركب بالوجدان وهو النوم والاخر بالأصل وهو
عدم الجنابة إلا على القول المثبت، فإن لازم انحصار الموجب في النوم ارتفاع الجامع
بالوضوء فقط من دون احتياج إلى الغسل، فالحق في المقام هو التفصيل بين التصويرات،
فعلى تصوير كون الأصغر محفوظا بذاته وبحده عند طرو الأكبر فلا مجال
لاستصحاب الكلي عند الشك في حدوث الأكبر بعد العلم بالأصغر وبحصول رافعه
حينئذ، فيكتفي بالأصغر لأنه من القسم الأول للقسم الثالث، فلا وجه للقضية المشكوكة
مع المتيقنة، لان اليقين تعلق بتحقق فرد من الحدث قد ارتفع يقينا ببركة الوضوء،
299

وهو النوم، وإنما الشك في إنه هل تحقق فرد آخر أيضا مقارنا لوجوده أو انعدامه
أم لا، فلا يكون الشك متعلقا ببقاء المتيقن، لأنه مرتفع بالوضوء يقينا، فما قطع بوجوده
مرتفع قطعا وما شك فيه لا وجود له، وليس له حالة سابقة، وعلى تصوير انقلاب الحد
بالحد باختلاف المراتب وعدم تعدد المحدود الموجود، فللاستصحاب مجال، ولكن قد
تقدم إن هذا الاستصحاب محكوم باستصحاب حد الأصغر وعدم انقلابه إلى حد
أوسع وهو الوجه في الاكتفاء بالوضوء فقط، وعلى التصور الثالث أي القول
بانقلاب الأصغر ذاتا وحدا فالجامع محفوظ بالتقريب الذي تقدم، ويجوز استصحابه،
ولازمه عدم الاكتفاء بالوضوء إلا إنه قد تقدم عدم التزام الأصحاب به وبينا وجهه
أيضا، وتوهم محكومية هذا الاستصحاب باستصحاب بقاء الأصغر وعدم انقلابه،
مدفوع بأن عدم انقلاب الذات ملازم مع بقاء طبيعة الحدث، فإثباتها وجودا
وعدمها بهذا الاستصحاب لا يصح إلا على القول بالمثبت، هذا كله في مقام التصور
وبيان لوازم التصورات، وأشرنا إلى إن لازم القول ببقاء الأصغر بذاته وبحده
وعدم انقلابهما عدم جواز استصحاب الكلي، لأنه يرجع إلى استصحاب القسم الأول
من الثالث، وتختل فيه أركان الاستصحاب من وحدة القضية المشكوكة مع المتيقنة،
وإن لازم التصور الثاني جواز استصحاب الجامع بين الفردين بالحدين لتمامية الأركان،
ولكن هذا الاستصحاب محكوم باستصحاب الأصغر بحده الأصغري، بتقريب إن
شخص الفرد وهو الحدث النومي تحقق يقينا بحده الأقل ويحكم بعدم تبدله، فيصح
الاكتفاء بالوضوء ومعه لا يحتاج إلى الغسل، فيرجع إلى باب استصحاب الشخصي،
غاية الامر استصحاب الشخصي ببركة استصحاب بقاء الحد، وأما لازم التصور
الثالث أي القول بانقلاب الحد بالحد فقط فعلية تثبت ذات واحدة، وهو الحدث
الجامع بين الحدثين، فيدخل في مورد استصحاب الكلي من القسم الثاني من الثالث،
ويجري فيه لتمامية الأركان، ولازم جريانه عدم كفاية الوضوء والاحتياج في جواز
الدخول فيما يشترط بالطهارة إلى الغسل، فكل من التصورات له لازم يوجب إدراج
المشكوك في قسم من أقسام القسم الثالث، ففي القسمين من التصورات لا مجال للاخذ
بالاستصحاب لما أوضحناه من إن واحدا منهما من باب استصحاب الشخصي، والثاني
300

من باب استصحاب الكلي، ولكنه محكوم بالاستصحاب الاخر، وأما القسم الثالث
فلاستصحاب الكلي فيه مجال، لأنه كان في البين يقين بوجود حدث من قبل النوم،
وبعد صدور البلل يحتمل كونه من الأصغر والأكبر، وبعد الوضوء يشك في ارتفاعه،
فيستصحب بقائه فيتعلق الشك بما تعلق به اليقين، فتكون القضية المشكوكة عين
المتيقنة ولا تنفع الآية في المقام، لان نفي طرف واحد وإثبات طرف آخر بمقتضى
الآيتين من اللوازم العقلية، وبعبارة أخرى حين صدور البلل يعلم بوجود حدث
مردد بين الفردين لا بحدوثه حينئذ كما في صورة كون الحالة السابقة على موجب
الاشتباه هي الطهارة، فإن فيها يعلم بالحدوث مطلقا بواسطة العلم الاجمالي بأحد الموجبين،
وحيث لا وجه للرجوع إلى أصالة عدم الانقلاب في مفروض الكلام، لأنها من
المثبت، فلا ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي بالحدث النومي، وشك بدوي في حصول
الجنابة، حتى يكون لازمه الاكتفاء بالوضوء كما كان كذلك في صورة احتمال انقلاب
الحد فقط، وببيان آخر حين صدور البلل احتمل إن الحدث تمحض بالأكبر أو
الأصغر، فبمجرد هذا الاحتمال يكون الكلى معلوما مرددا بين المتباينين، فيحصل
علم إجمالي بوجود المتباينين ولا ينحل العلم الاجمالي إلى التفصيلي وشك بدوي، فيتعلق
الشك بما تعلق به اليقين، فيجري استصحاب الجامع، ولا يجري المناط الذي كان في
القسم الأول من القسم الثالث من استصحاب الكلي هنا، لاختلال أركان الاستصحاب
هناك، لأن الشك لم يكن فيه متعلقا بما تعلق به اليقين، فإن زيدا قطع بارتفاعه وعمرو
لا يقطع بوجوده، فما هو مقطوع الوجود يقين بارتفاعه، وما هو مشكوك البقاء
لا يقين بوجوده، بخلاف المقام لأنه يقين بوجود الجامع ويشك في بقاء ذلك الجامع،
من دون أن يكون يقين بمرتبة خاصة، حتى لا يكون الشك متعلقا بها، وتوهم المقرر ناشئ
من هذه الجهة، وتمسك بمفاد الآيتين المباركين بعدم جريان الاستصحاب، فلا بد في
المقام من تأسيس الأصل لمورد الشك وذكر مقدمتين، إما مقتضى الأصل في صورة
عدم إمكان ترجيح بعض التصورات على بعض عدم جواز الرجوع إلى استصحاب
الحدث، فإن استصحابه على الثالث وإن كان ممكنا وخاليا عن المحذور والمعارض، إلا
إنه لما يتعين احتماله بل يحتمل كون الحدث الأصغر من أحد الأولين، وعليهما لا يرجع إلى
301

الأصل، أما لاختلاف الركن أو لوجود الحاكم، فلا ينبغي الركون عليه، فلا بد من الرجوع
إلى أصل آخر، أما المقدمتان (فأحديهما) إن الظاهر من بعض الاخبار كون كل
من الغسل والوضوء موجبا ومحصلا للنقاوة والطهارة، وإن الأول أنقى من الثاني، فإذا
حصل الغسل فلا احتياج معه إلى الوضوء مع تحقق موجبه قبل موجب الغسل،
فالطهارة الحاصلة بأحدهما وهي نورانية تحدث للنفس تكون أحدهما أصغر من
الأخرى، فلنا طهارتان كبرى وصغرى لكنهما من البسائط، فإن معروضهما النفس وهي
من المجردات، وما يقابلهما وهو الحدث لا بد أن يكون بسيطا أيضا بهذا الملاك،
(ثانيهما) إنه يستفاد من مثل قوله عليه السلام: (الوضوء على الوضوء نور على نور)، بقرينة
المقابلة إن الحدث أيضا ظلمة، وتختلف مراتبها شدة وضعفا، فما لا يرتفع إلا بالغسل
الموجب للطهارة الكبرى فهو الشديد، وما يرتفع بالوضوء حدث ضعيف إذا (تمهد)
هذا فيعلم إن الأصغر لا يجتمع مع الأكبر فلو كان سابقا عليه ثم طرء موجب الأكبر،
فيندك فيه وينقلب بحده، وقد تقدم إنه إذا شك في حصول موجب الأكبر مع
تحقق الأصغر، ثم حصل وضوء وشك في بقاء الحدث، فيكون الشك فيه من الشك في
الكلي المعدود من ثالث القسم الثالث، وقد تقدم جواز استصحابه، إلا إنه محكوم
بالأصل السببي في المقام، فلا يوجد ما يوجب الغسل بعد الوضوء، ولعل مركوزية
هذا القسم في الأذهان أوجبت الافتاء بالاكتفاء بالوضوء فقط في محل الكلام،
التنبيه الرابع
في إنه هل يجري الاستصحاب في الزمان والزماني من الأمور التدريجية المتصرمة
جزء فجزء أم لا، نظرا إلى إنه لا يتصور شك في بقاء ما وجد كما يكون كذلك في غيرها
من الأمور القارة، فإنه لا إشكال في جريانه فيها، ولا بد من التعرض لبيان ما تميز به
الأمور القارة عن غيرها والفرق بينهما التعرض لما نحن فيه، فنقول إن القوم
يقسمون الموجودات إلى الأمور القارة والغير القارة، ويعبرون عن أحدهما بالمتصرمة،
وعن الاخر بالغير المتصرمة، وليعلم إن الأمور القارة، إما عبارة عن موجودات
إذا تحققت وتلبست طبيعتها بالوجود، فلا يختلف نحو وجودها باختلاف الزمان
302

وغيره مما لا دخل له في تشخصها عما كانت عليه ذاتا واحدا، فوجودها في ثاني
الزمان عين وجودها في السابق عليه حدا وذاتا، والحصة المتحققة معها باقية ببقائها
فكما إن تبدل المكان لا يوجب تبدلا فيها، فكذا تبدل الزمان وتغيره لا يوجب تغيرا
في حدها، فهي موجودة في الزمان الثاني مثل ما كانت موجودة في الزمان الأول،
فوجودها البقائي عين وجودها الحدوثي، كما هو شأن الافراد المتواطئة بالنسبة إلى
الطبيعة، فالحصة من الطبيعة التي كانت موجودة في ضمن زيد عند حدوثه عين الحصة
التي تكون موجودة في الزمان الثاني، وإما عبارة عما لا يكون كذلك، أي لا يكون
بحده موجودا في الزمان الثاني بل يكون كذلك بذاته لا بحده، وذلك مثل مرتبة خاصة
من الحمرة التي ثبتت في الان الأول في مرتبة ضعيفة وفي الان الثاني لما اشتدت
وصارت إلى المرتبة الشديدة، فينقلب حدها لكنها محفوظة بذاتها في كلا الزمانين
وكلتا المرتبتين، فالحمرة في المثال بذاتها موجودة في الان الثاني لكن لا بحدها بل
تبدلت من حد بحد، كما في النور إذا زيد عليه نور آخر، فالنور الأول بذاته كان
محفوظا، منتهي الامر إنه مندك في ضمن الأشد أي الضعيف مطوي في الشديد ومندك
فيه، فهذا القسم أيضا من الموجودات القارة، وإنما الفرق بينه وبين الأول هو إن في
الصورة الأولى يكون الموجود بذاته وبحده محفوظا، وفي الثانية بذاته فقط، وأما
غيرهما مما إذا وجد منه شئ في آن لا يبقى في الان الثاني لا بذاته ولا بحده، بل إذا
انقضى الزمان الأول تنعدم الحصة الأولى وتوجد حصة أخرى ثانيا في الزمان
الثاني وهكذا، إلا إن الطبيعة متحققة بالحصص المترتبة بتبادل حصة بحصة، وما لم
يكن في البين تخلل عدم وكانت الجهة الاتصالية محفوظة ينتزع العقل وجود
شخص واحد للحركة المتقومة بحركات متعاقبة، وبعبارة أخرى لما كان انصرام
هذه الحصة مقارنا لانوجاد حصة أخرى وهكذا، ولم يكن بين هذه الانوجادات
تخلل عدم، فينتزع العقل تحقق شخص واحد، والمثال الحسي للبقاء وغيره هو الخط
المحدث في الأرض الصلبة مثلا، فإن النقطة إذا تجاوزت عن حدها حدث خط، وإذا
زيد عليه بأن مد إلى مقدار شبر أو ذراع يبقى منه ماجد أولا يندرج في الموجود
في ثاني الزمان، فأجزائه المتصورة بالتقطيع العقلي مجتمعة الوجود في زمان واحد،
303

غاية الامر في الان الأول بمقدار شبر مثلا وصارت في الان الثاني، يعني بعد درام
الحركة شبران، فذات الموجود أولا محفوظة في كلتا المرتبتين، غاية الامر يكون
وجود الشبر في الشبرين مثل الوجود الضمني، بخلاف الخط والنقش في المحل المايع
مثل الماء مثلا، فإنه إذا تحركت اليد من حد النقطة يحصل خط قصير، وإذا استمرت
حركتها يحدث خط آخر غير مشتمل على ما وجد أولا وهكذا، فيزول الخط
الأول بذاته وبحده ويحدث خط آخر، ففي كل زمان تتحرك اليد يزول ما في المرتبة
الأولى ذاتا وحدا ويحدث ماله مرتبة أخرى، غاية الامر لما استمرت الحركة
واتصل أجزاء الخط الممتد من طرف إلى آخر بأن لم يتخلل عدم بينهما يعتبر
العقل وحدة النقشة والخط، ويعده واحدا متألفا من الخطوط المتعددة بالفرض،
وإن لم تكن مجتمعة بالوجود كما كانت، بخلاف ما في النقش على الأرض، فإن
ذات ما في المرتبة الناقصة موجودة فيما في المرتبة الكاملة المتحققة في الان الثاني،
فتحصل إن وجود حصة من الأمور التدريجية الغير القارة مغاير للموجود منها في
الان الثاني، ولهذا صح أن يقال إن كل حصة منها في عالم الوجود حادث لا يبقى،
وهذا صار منشأ للاستشكال في باب المشتق، وعموم النزاع فيه من حيث إنه حقيقة
في المتلبس في الحال أو لا، أو الأعم منه ومما انقضى المبدء مثل المقتل وساير ما
يدل على الزمان، فإن ذات المتلبس وهو نفس ذاك الزمان قطعي الانتفاء وليس مما له
البقاء حتى يتأتى النزاع في المشتق، وقد تقدم إنه قيل في وجه التعميم وعدم خروجه
إن العرف يتسامحون في عد الواحد التدريجي عين ما كان موجودا من أجزائه التحليلية،
وكذا صار منشأ للشبهة في الاستصحاب في الزمانيات، فإن الذات المعلومة سابقا قد
انعدمت بذاتها، والموجود بعدمها غير الحصة السابقة، فما علم بوجوده يكون مقطوع
الارتفاع، وما يشك فيه مشكوك الحدوث لا البقاء، فكيف يجري الاستصحاب في
الزمان والزماني، وبعد هذا البيان ظهر إن الفارق بين الموجودات القارة وغيرها
المتصرمة إن الموجود من الأولى في الزمان الثاني عين ما كان موجودا بذاته وبحده،
أو بذاته لا بحده في الزمان السابق، وكذا بالنسبة إلى الآنات التالية فالموجود فيها
يبقى على النحو الذي كان في الان السابق، وأما الأمور المتصرمة الغير القارة فهي
304

ما يكون الموجود منها في الان الثاني غير الموجود الأولى ذاتا وحدا، وإن كان
متحدا معه بالسنخ ومتصل الوجود بوجوده، وهذا هو الفارق بين القارة وغيرها،
ولا يخفى إن الحصص المتعددة من طبيعة الحركة مثلا إذا اتصلت بأمثالها وجودا،
بحيث يوجد كل منها متصلا بالآخر من دون تخلل عدم في البين يعتبر لها وحدة
شخصية بوجدة وجودها في الحقيقة موجودات بوجود واحد، ولها وحدة من
قبل وحدته، كما إن لها وحدة سنخية فإنها بأجمعها مندرجة تحت سنخ واحد وجامع
فارد، فلتلك الحصص جهتا وحدة هما وحدتها الشخصية والسنخية، وربما يقال
إنها باعتبار جامعها الذاتي أو العرضي من الأمور القارة، فإن العنوان العرضي بين
الحصص أمر زائد عليها يمر عليه الزمان ولا ينعدم بمرور الأوان، وذلك كالحركة
التي يعبر عنها بكون الشئ بين المبدء والمنتهى، وعبر عنها في الكفاية بالحركة التوسطية،
قبال القطعية التي هي كون الشئ في كل آن في مكان ثان، فإن الكون بين المبدء والمنتهى
ثابت للمتحرك من حين حركته من البداية إلى النهاية، وليس ينعدم منه شئ مقارنا
بوجود بعضه الاخر، فعلى هذا صح استصحاب الحركة التوسطية دون القطعية،
وأنت خبير بأن الجامع ذاتيا كان أو عرضيا لا تحقق له بالاستقلال وراء وجود
أفراده وحصصه، وإذا تبين إن الحركة الشخصية الطويلة متألفة من حصص متعاقبة
متصلة الوجود، وإن كلا منها غير ما وجد سابقا، فيعلم إن الجامع أيضا له قرار
ولا دوام لوجوده، فإن وجوده عين وجودات الحصص المتصرمة، فالجامع بين
الحصص لا وجود له في الخارج على وجودها، فعنوان الانسان مثلا الجامع بين زيد
وعمرو ليس له وجود آخر وراء الافراد، فليس في الخارج إلا الحصص، غاية الامر
كانت بين الحصص وحدة سنخية، فظهر من هذا البيان إن شيئا من قسمي الحركة
القطعية والتوسطية بالمعنى المذكور في الكفاية يكون مما له قرار وبقاء، نعم لو
كان للجامع في الخارج وجود في ضمن وجود الحصص، أمكن حينئذ أن يقال إن
الجامع في الان الثاني يكون على النحو الذي كان في الأول، فيكون من الأمور
القارة، ولكن قد عرفت إن وجود الجامع بين الحصص ليس إلا عين وجودها،
وليس له جهة شخصية منضمة إلى الحصص، غاية الامر كلها تحت جامع واحد، فإذا
305

لم يكن الجامع أمرا زايدا على الحصص ولم يكن في الخارج إلا نفس الحصص،
فأنى يتصور له القرار، فالحكم بكون القطعية من الغير القارة والتوسطية من القارة
مما لا ينبغي صدوره عن مثل المحقق الخراساني، فالتحقيق أن يقال إن الحركة
الطويلة الشخصية وإن انطبق عليها عنوان الكون بين المبدء والمنتهى لا تكون إلا
حصصا متبادلة، فليس في عالم الوجود إلا جهات ومراتب متبادلة، فالحادث ينطبق
على مرتبة والموجود في الان الثاني أخرى، فحينئذ تجئ شبهة الاستصحاب
في الأمور الغير القارة التدريجية، لان الحادث غير الباقي، والعجب من صاحب
الكفاية إنه التزم هاهنا بأن الكون بين المبدء والمنتهى أمر قار يجوز استصحابه، مع إنه
استشكل في باب المشتق عموم النزاع للزمان من حيث إنه ليس له قرار حتى يتصور فيه المتلبس، وما انقضى عنه المبدء، فإنه لو تمت هذه الدعوى لعمت ذلك النزاع بلا
احتياج إلى ما قيل في وجه التعميم هناك، وفي المقام شبهة أخرى وهي إنه تارة
ينتزع العنوان من مجموع الحصص كالليل والنهار، فإنهما منتزعان من مجموع الحصص،
فإن النهار عبارة عما بين الصبح إلى الغروب، وكذا الليل عبارة بين الغروب إلى طلوع
الفجر، فتمام قطعة الليل لا ينطبق على كل آن، وكذا النهار، يعني إن كلا من الليل
والنهار عبارة عن مجموع الأزمنة المحدودة بالحدين المذكورين، فحينئذ تجئ الشبهة
وهي إنه لا يقطع بوجودها بمجرد حصول أول الجزء منهما، فإذا دخل الليل بجزئه
الأول وشك في بقائه فيؤل الامر إلى الشك في الحدوث لا البقاء، بخلاف الفرض
السابق فإنه يتصور فيه اليقين بتحقق الزمان، ولكن لا يتصور الشك في بقائه،
فمحصل الشبهة الأولى إنه لا يتصور شك في البقاء مع القطع بالحدوث، ومحصل
الثانية إنه لا قطع قبل الشك في البقاء، فالشك في مثل اليوم بعد العلم بدخول جزء
منه شك في حدوثه، من غير أن يسبقه علم بالحدوث، وعلى كل ففي الزمان وعنوان
اليوم مثلا يختل ركن من أركان الاستصحاب، فلا مجال لجريانه، وبعدما اتضح
الفرق بين الموجودات القارة والمتصرمة، وظهر وجه الاشكال في استصحاب الأخير،
وإن تصور كون الحركة التوسطية مما لا قرار وثبات تصحيحا لاستصحاب
الحركة، وفرارا عن المحذور مما لا يعقل له وجه صحيح، فإن الكون بين المبدء
306

والمنتهى منتزع عن أجزاء الحركة المتدرجة، ومتحد الوجود معها، وإذ لاقرار لشئ
من تلك الأجزاء، فلا استمرار للمتحد معها أيضا، وظهر أيضا إنه لو كانت الحركة
مما يتصور له القرار لما بقي وجه للاستشكال في تعميم النزاع في بحث المشتق بالنسبة
إلى المتلبس فقط وبالأعم منه ومما انقضى عنه المبدء من الزمان والزمانيات، فإنهما
أيضا مما يتعقل له القرار والبقاء، فالذات المتلبس موجودة حين التلبس والانقضاء،
وعلم أيضا إن وجه الشبهة في استصحاب الزمان والحركة ومثل اليوم والليل
أمران (أحدهما) منع تصور الشك في البقاء بعد القطع بالحدث، كما هو كذلك في
الحركة على ما تقدم، (وثانيهما) منع تصور القطع بالحدث قبل وصول النوبة إلى
الشك في البقاء، كما هو كذلك في العناوين التي تنتزع عن مجموع أجزاء آنات متلاحقة
كالساعة واليوم والأسبوع مثلا، فإنه لا يتحقق العلم بحدوثها إلا بعد حصول تمام
أجزائها، فإذا شك فيها بعد العلم بدخول أول جزئها فيرجع الشك في الحقيقة إلى
الحدوث لا البقاء، فليعلم إن في المقام أجوبة مختلفة لا ينفع بعضها بالنسبة إلى
الاشكال الثاني، بخلاف بعضها الاخر فإنه ينفع في دفع كلا الاشكالين، منها إن
المدار في الحكم بالبقاء على نظر العرف، ولا ريب عندهم في إن الشئ إذا كان مشغولا
بالتصرم وموجودا بوجود واحد يصدق عليه إنه باق، ولا يعتبر في الاستصحاب
أزيد من هذا، فإن المفروض أن لا تنقض اليقين قد سيق بلحاظ الأنظار العرفية، ومنها أن
يقال إن البقاء عبارة عن امتداد وجود الشئ، فما لم يتخلل العدم من مراتب وجوده
يصدق البقاء على وجوده، ويرى وجوده في الآنات المتأخرة وجوده البقائي، وإن
كانت هذه القطعة من الموجود غير القطعة المتصرمة دقة، ولكن لما لم يكن المدار على
ذلك بل على الوحدة الشخصية فيصدق عليه البقاء حقيقة، وبالجملة ليس المراد من البقاء
بقاء الذات الموجودة أولا بخصوصية ومرتبة، بل ما دام كانت الوحدة الشخصية
موجودة فهي مصححة لاعتبار البقاء، فيكفي في صدق البقاء الوحدة الشخصية، نعم
لو قلنا بأنه يعتبر في صدق البقاء زائدا على الوحدة الشخصية وحدة المرتبة أيضا، فلا
يصدق إلا في صورة كون الموجود لاحقا عين الموجود أولا ذاتا وشخصا،
فالاشكال في محله فإنه لا تكون المرتبة محفوظة في المقام بل المحفوظة هي الوحدة
307

الشخصية فقط، فلا يصدق البقاء، ولكن يرد بأنه من قال بأن وحدة المرتبة أيضا
معتبرة في البقاء زائدا على الوحدة الشخصية، بل دائرة البقاء أوسع من ذلك، فإذا لم
يطرء العدم على الشئ المتدرج في الوجود، وصدق عليه إنه موجود يصدق على
وجوده في الأزمنة المتأخرة إنه بقاء لما وجد أولا، ومنها إنه يتصرف في دائرة
النقض بعد النقض عن صدق البقاء وعدمه، فيقال إن دائرة النقض كان أوسع
فيكفي في صدق النقض الوحدة الشخصية، فإذا كان الباب باب الخلع واللبس أي
لبس وجود وخلع وجود آخر، فحينئذ إذا تحقق أول الوجود ولم يقطع بانقطاع
سلسلة وجوده، ومع ذلك لم يعامل على مقتضى وجوده يصدق إنه نقض لليقين السابق
، والنهي في أخبار الباب متوجه إليه، ولا دلالة لها على اعتبار البقاء والشك فيه حتى
يتمحل في إثباته بما تقدم في الجوابين المتقدمين، فهذه أجوبة ثلاثة أحسنها هو
التوسعة في دائرة البقاء، كما في الثاني منها، على ما تقدم لكنها كما ترى لا تنفع في الدفع
عن الشبهة الثانية بالنسبة إلى ما انتزع من مجموع الحصص كالليل والنهار والساعة
مثلا، فإنها تصدق على بعض الليل والنهار والساعة، فإذا دخل من الليل جزء لا يقال
دخل الليل أو دخل النهار إلا مسامحة، كما إنه لا يقال مضى النهار عند مضي بعض،
فكسورها يصدق على مقدار منها، ولكن نفس الساعة واليوم أو الليل لا يكون
صادقا عليها، فالشك فيها إنما يكون في الحدوث غير مسبوق بالقطع به لا في البقاء
بعد اليقين بحدوثه، فإن المحذور في المقام عدم تصور القطع بالحدوث، وفي المقام الأول
هو عدم تصور الشك في البقاء بعد القطع بالحدوث، فالأجوبة المذكورة نافعة في
ذاك المقام ومصححة للبقاء، لكنها لا تنفع في هذا المقام، فلا بد من أن يدعى في هذا
المقام مسامحة أخرى ويقال إن الأمور التي محصورة بين الحاصرين تتحقق حدوثها
بأول الوجود وبتلاحق البقية يصدق ابقائه، فبدخول أول جزء من الليل أو النهار
مثلا يصدق إنهما حدثا، وبتلاحق البقية أيضا يصدق إنهما باقيان، فبمساعدة العرف
في صدق التحقق والبقاء يتصور القطع بالحدوث والشك في المقام، وببيان آخر إن
الفرق في المقام الأول أي ما لم يكن منتزعا من مجموع الاجزاء وبين المقام الثاني
هو إن النسبة في الأول نسبة الجزئي إلى الكلي، وفى المقام الثاني كانت النسبة نسبة
308

الجزء إلى الكل، فلا يكاد يصدق الكل إلا بحدوث تمام الاجزاء، فيختل ركن
الاستصحاب من جهة اليقين بالحدوث، بخلاف المقام الأول فإن طبيعة الحركة تحدث
بأول جزء وأول وجود منهما، فيقطع بحدوثها لكن يمنع الشك في بقائها، وقد
ظهر اندفاع المنع الأخير بالأجوبة المتقدمة، ووجه دفع شبهة عدم تصور اليقين
بالحدوث أيضا في مثل اليوم بمسامحة أخرى وهي ادعاء صدق الحدوث والوجود
بدخول أول الجزء منه، ثم الحكم بصدق البقاء بتلاحق بقية الاجزاء، فحينئذ تتم
أركان الاستصحاب، فتحصل إن مقتضى التحقيق جريان الاستصحاب في الأمور
التدريجية، وعدم الفرق بينهما وبين غيرها من الأمور القارة الغير التدريجية، والشبهة
الواردة مندفعة بالوجوه المذكورة كلا أو بعضا، فإذا صح جريان الاستصحاب في
الأمور التدريجية، فلابد من ملاحظة إن الأثر للزمان والحركة، وكذا اليوم مثلا
مترتب على وجودها بمفاد كان التامة، حتى يكون المستصحب وجود الليل مثلا
بلحاظ أثره، أو على وجودها بمفاد كان الناقصة أي الموجود المتصف بالليلية أو
النهارية، حتى لا ينفع استصحاب مفاد كان التامة ويرد الاشكال في مفاد الناقصة
لعدم إحراز الحالة السابقة، ثم بعد ما عرفت في دفع الاشكال المتوهم في صورة
كون العناوين منتزعة عن مجموع القطعات والأزمنة مثل اليوم والنهار، بأن دخول
أول الجزء مصحح لحكم العرف تسامحا، بأن الليل والنهار قد حدث وبتلاحق بقية
الاجزاء يصدق البقاء، نقول بأنه يمكن دعوى القطع بالحدوث حقيقة لا مسامحة
عرفية، بتقريب إن الليل والنهار إذا انتزعا عن مجموع الاجزاء المرتبطة بالآخر،
فتكون نسبة الليل إليها كنسبة الكل إلى الاجزاء، ولا يخفى إن أجزاء المركبات
أعم من الحقيقية الخارجية والتحليلية العقلية الاعتبارية يتصور لها اعتباران، فتارة
يلاحظ الجزء بشرط لا والمغايرة مع سائر الأجزاء وفي قبال الكل، أي تلاحظ قطعة
من الوجود في قبال سائر القطعات، فيلاحظ في كل قطعة من الوجود في قبال
الاخر، وبهذا الاعتبار ينتزع منه الجزئية ولا يمكن حمله على الكل ولا حمل الكل
عليه، فالتكبير بالنسبة إلى الصلاة مثلا إذا لوحظت مستقلا وفي قبال سائر الأجزاء
لا تحمل على الصلاة ولا الصلاة عليها، وتارة يلاحظ كل جزء بنفس ذاته مع قطع
309

النظر عن مقابلته مع الاجزاء ومغايرته معها، ويعبر عنه حينئذ بلا شرط ويجتمع
مع غيره، ويصح حمل الكل عليه وبالجملة، تارة تلاحظ القراءة مثلا في قبال الركوع،
بحيث لو انضم إليها شئ يكون خارجا عنها، فيعبر عنه بهذه العناية بشرط لا، وتكون
جزء ولا تحمل حينئذ على الصلاة ولا الصلاة عليها، وبهذه العناية يلاحظ الهيولي
في قبال الصورة، فلا الصورة تحمل على الهيولي ولا الهيولي على الصورة، وتارة
تلاحظ نفس الذات لا من حيث تقابلها مع الغير، فلا تأبى عن الانضمام، فحينئذ يحمل
عليها الكل لان الكل عين الاجزاء بالأسر بل هي بنفسها عين الكل، والعنوان المنتزع
من الجزء بهذا الاعتبار ما ربما يعبر عنه بالجنس، وبالجملة كل ما له دخل في قوام
المركب إن أخذ بشرط لا فيصير جزء وينتزع منه عنوان الجزئية، فإذا تمهد هذا
فليعلم إنه إذا كبر للصلاة ودخل به فيها، فبالعناية الثانية يصدق إنه تحققت الصلاة
ووجدت حقيقتا، وكذا اليوم والليل فبتحقق أول الجزء منهما يحصل القطع
بوجودهما حقيقية، فلا نحتاج إلى المسامحة العرفية، بقي في المقام مطلب آخر وهو
إنه بعد تسلم جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية سواء انتزع من العنوان من
حيث اجتماعها أو من نفس ذواتها، ربما يستشكل بأن الاستصحاب إنما يجري فيما
بنحو مفاد كان التامة، فإذا كان الأثر مترتبا على الشئ بنحو مفاد كان الناقصة مثل ما
إذا قيل إذا دخل عليك الوقت الخاص يجب عليك كذا، فحينئذ لا يصح إثبات أثر
مفاد كان الناقصة باستصحاب مفاد كان التامة، ولا وجه للاستصحاب في مفاد
الناقصة، فإن ما شك في اتصاله لم يكن له حالة سابقة فلا تشمله أدلته، وبعبارة أخرى
إذا كان كبرى الدليل إنه تجب الصلاة أو الصوم مثلا في زمان كان متصفا بالنهارية
أو الليلية، فلا يثبت استصحاب الزمان بمفاد كان التامة أثر مفاد كان الناقصة، ولا حالة
سابقة للذي كان موضوعا للأثر، والجواب عنه إنه لو كان المعتبر في استصحاب
الشئ بمفاد كان الناقصة إحراز اتصاف قطعة خاصة هي متعلق الشك، فلا يبقى مجال
للاستصحاب بنحو مفاد كان التامة أيضا، لان وجود القطعة الخاصة الذي صار
مشكوكا لم يحرز من الأول أصلا، فليس له حاله سابقة أيضا، فكيف يصح إبقائه
بالاستصحاب بنحو مفاد كان التامة، أي لا يبقى مجال لاستصحاب الزمان مثلا أصلا
310

لا بمفاد كان التامة ولا الناقصة، وأما لو أكفى بالوحدة الشخصية في المستصحب
الموجود، فحينئذ كما إنه يتم الاستصحاب بنحو مفاد كان التامة، كذلك يجوز
الاستصحاب بنحو مفاد الناقصة أيضا، فإن شخص هذا الزمان الوحداني المتألف من
القطعات المتدرجة المتلاحقة كان متصفا بالنهارية، فإذا شككنا في إنه متصف بها
بعد أيضا أم لا، فيستصحب الاتصاف، (والحاصل) إنه لو قصر النظر إلى نفس
القطعة المعلومة من الزمان، فلا مجال للاستصحاب لا بنحو مفاد كان التامة ولا
الناقصة، لأنه يقطع بانتفائها ولا يشك في بقائها، وإذا ألغيت جهة الخصوصية ولوحظ
الزمان بجهة وحدته وتشخصه فيتصور الشك في بقاء وجوده، وكذا اتصافه، فحينئذ يمكن
أن يقال إن هذا الشخص من الزمان تحقق يقينا، إما بوصفه وإما مع قطع النظر
عنه، فشك في بقائه فيصح استصحابه، فلا مجال للتفرقة والقول بأن الاستصحاب
يجري في الزمانيات إذا كان بنحو مفاد كان التامة، وإلا فلا، وهذه المغالطة نشأت
من قصر النظر إلى القطعة الخاصة في صورة العلم بالاتصاف، فحكم بعدم كون غيرها
مما له حالة سابقة، وأما لو لم يقصر النظر إليه بل لوحظ الزمان شخصا واحدا يكون
العلم بوجود جزء منه علما بوجوده بالتمام، وكذا العلم باتصاف جزء منه بشئ علما
باتصاف تمامه به، كما هو المدار في تجويز استصحابه بمفاد التامة لم يحدث احتمال فرق
بين المقامين، هذا كله فيما إذا كان الامر التدريجي بنفسه موضوعا للتكليف
كالحركة والزمان مثلا، وأما إذا كان الزمان قيدا للخطاب ولم يكن موضوعا
للأثر، فيتصور فيه صور مختلفة، منها أن يكون قيدا للوجوب، ومنها أن يكون
قيدا للواجب، (فالأول) مثل قوله إذا دخل الوقت وجبت الصلاة والطهور، وإذا
دخل رمضان يجب الصوم، (والثاني) كما إذا قال مثلا يجب الصلاة ما بين الزوال
إلى الغروب، فالزمان حينئذ يكون قيدا للواجب، والمطلوب هو الصلاة المقيدة به، لا
مجرد ذاتها الواقعة فيه، ومنها أن يجعل ظرفا للواجب ويؤخذ فيه من حيث الظرفية
فقط، ومنها أن يعتبر مقارنته للواجب بأن تجب الصلاة مقارنة للظهر مثلا، ففي
المثال ما جعل الزمان ظرفا للواجب معتبرا فيه من هذه الجهة بل أخذ من حيث
المقارنة، فهذه صور أربعة على تقدير عدم إرجاع قيود الهيئة صورة إلى المادة لبا، وإلا
311

فهي ثلاثة، وقد أشرنا في مبحث مقدمة الواجب إلى إنه لا يعقل أن ترجع قيود
الهيئة إلى المادة وتدخل في الموضوع، وإلا يلزم تقدم الشئ على نفسه، وأما إذا
كان الزمان قيدا للوجوب فحينئذ لا قصور في الاستصحاب، فباستصحاب بقاء الوقت
يثبت وجوب الصلاة مثلا لان ما كان قيدا للحكم في قوله عليه السلام (إذا دخل الوقت
وجبت الصلاة) قد علم بحصوله، فإذا شك في بقائه فيستصحب ولا يكون الحكم
حينئذ متفرعا على القول بالمثبت، فإن هذا في الحقيقة تطبيق لما في الخطاب على المورد،
والتطبيق من الآثار المترتبة على الأعم من الحكم الواقعي والظاهري، هذا إذا
بنينا على إن قيد الوجوب لا يرجع إلى قيد الواجب، وأما إذا قلنا بذلك كما ربما
يجعل المجئ قيدا لزبد في مثل قوله (إذا جائك زيد فأكرمه) فتصير المادة مقيدة به
حقيقة، فيظهر حكمه في ضمن التعرض للصورة الثانية وهي ما إذا كان الزمان
مأخوذا في الموضوع، ولا يخفى إنه يتصور هنا أيضا وجهان، (أحدهما) أن يؤخذ
الزمان فيه من حيث الظرفية، والاخر على نحو المقارنة، فإن أخذ على النحو الثاني فلا
محذور في الاستصحاب في وجود الزمان، فإن الأثر مترتب على الصلاة المقارنة لوجوده
بمفاد كان التامة، وقد علم به سابقا فشك فتتم الأركان، وأما لو أخذ في الواجب
بالاعتبار الأول بأن يعتبر إيقاعه في الزمان الموصوف باليومية مثلا، فحينئذ ربما يظن
إنه لا مجال للاخذ بالاستصحاب، فإن استصحاب الوقت بنحو مفاد كان التامة على
تقدير تمامية أركانه لا يثبت وقوع الصوم في رمضان، أو الصلاة في الليل مثلا، إلا على
المثبت، وأما إنصاف الوقت المشكوك بعنوان الرمضانية أو الليل فليس له حالة
سابقة، مع إنه الموضوع للأثر في محل الكلام، ولهذا استشكل في إجراء الاستصحاب
في الموقتات، ويمكن أن يقال تقريبا لاجراء الاستصحاب إن مقتضى ما تقدم
جوابا عما أورد على استصحاب الأمور التدريجية بمنع الحالة السابقة إذا كان الشك في
الاتصاف، وكان الأثر للموجود المتصف، من إن الاتصاف أيضا مما يتصور له الحالة السابقة
إذا لوحظ الزمان المؤلف من الاجزاء المتدرجة بوحدته الشخصية، ولم يقصر النظر على
خصوص القطعة المشكوكة، فكما إن العلم بوجود أول أجزائه علم بوجوده بتمامه،
فكذلك العلم باتصاف بعض أجزائه بعنوان علم باتصاف الجميع، فالحالة السابقة محرزة
312

في كلتا الصورتين، وإنما الشك في البقاء، فلا يختل شئ من الأركان، وبالجملة لما كان
ما علم باتصافه بعنواني الليل والرمضان من الزمان متحدا مع القطعة المشكوكة
وجودا وتشخصا، فصح إجراء الاستصحاب فيه بمفادي التامة والناقصة، ولو لوحظ
المشكوك شيئا في قبال المعلوم منه لزم الاشكال في استصحاب مفاد التامة أيضا،
ولنا تقريب آخر وهو إن الصوم كان بحيث لو وقع سابقا في هذا الشخص من
الزمان المتوقف من الأمور التدريجية، لكان واقعا في رمضان، فإذا شك فيه من حيث
الموضوع فيستصحب حال الصوم، ويقال ببقائه على حالته السابقة بمقتضى الأصل
المذكور، وكذا الامر في الصلاة في الليل، فإن الصلاة كانت بحيث لو وقعت في هذا
الزمان الشخصي المركب من الاجزاء المتقدمة والمتلاحقة بها لوقعت في الليل ووقتها،
وعند الشك في بقائها على حالتها المعلومة يحكم بالبقاء بمقتضى الاستصحاب، فظهر إنه
لا قصور في استصحاب الموقتات حتى في صورة مأخوذية الزمان ظرفا للواجب
فضلا عما إذا كان ظرفا للوجوب، أو كان مأخوذا في الوجوب، أو الواجب من
حيث اعتبار المقارنة، ثم لا يخفى إنه يتصور بجميع الأقسام المتصورة في الأمور
القارة من كون المستصحب شخصيا أو كليا من القسم الأول أو الثاني أو الثالث
في استصحاب الزمان والزمانيات، سواء كان الزمان قيدا للموضوع أو موضوعا
للتكليف، أما استصحاب شخص الزمان الجزئي فقد ظهر تصويره مما تقدم، وأما
الكلي من القسم الأول فهو مثل ما إذا علم بثبوت طبيعة الحركة بتحريك عضو
وشك في بقائها عند القطع بسكون ذلك العضو، لاحتمال ثبوتها بتحريك عضو آخر
مقارنا لذلك التحريك الذي علم بانتفائه، وأما الكلي من الثاني فهو مثل ما إذا شك
إنه يتلو خطبة من نهج البلاغة مثلا أو سورة من السور الطوال، أو شرع في قرائة
القصير منهما، فإن كان ما شرع فيه من الطوال فالكلي باق، وإن كان من القصار
فمرتفع وزائل يقينا. فيكون هذا من القسم الثاني من استصحاب الكلي، فمن كان
متكلما ومشغولا بطبيعة الكلام وشك في بقائها للشك في طوله وقصره، فيكون حاله
حال استصحاب الكلي من القسم الثاني، والمفروض إن الأثر راجع إلى الطبيعة أي
مطلق التكلم لا الخصوصية، وأما القسم الثالث فهو متصور فيما إذا كان الانسان
313

مشغولا بقرائة السورة القصيرة ثم يشك في إن مقارن تمامها وانقطاعها شرع في
سورة أخرى أم لا، فيكون من القسم الثالث من استصحاب الكلي، فلا يتخيل إنه
لا يتصور في المقام، ثم لا يخفى إن الكلام في استصحاب الزمان والزماني يقع في
مقامات ثلاث، (الأول) أن يكون نفس الزمان موردا له سواء كان بنفسه
موضوعا للتكليف، أو قيدا له، وقد تقدم إنه يجوز استصحابه ولا يرد عليه توهم من
الاشكالين المتقدمين مع جوابهما، (والثاني) أن يكون المستصحب زمانيا ومما لا
يوجد بتمام أجزائه في زمان واحد، مثل جريان الماء والتكلم والحركة، فإنها أمور
تدريجية وزمانية توجد شيئا فشيئا، وسيظهر وجه استصحابه على ما سيأتي، (والثالث)
أن يكون المستصحب مقيدا بالزمان، وقد مر آنفا وجه جريان الاستصحاب فيه
بتقريبات ثلاثة (منها) ما قلنا في استصحاب نفس الزمان من إنه لا قصور فيه
من جهة انتفاء القطع بالسابق بالحدوث أو الشك في البقاء، فيجري فيه بمفاد كان
التامة أو الناقصة على التقريب الذي تقدم، وإن الشبهة التي نشأت من جهة اختلال
ركن من أركانه مندفعة بالأجوبة المتقدمة، وأما استصحاب الزمانيات مثل حركة
الماء من المنبع وحركة الدم من الرحم وجريانهما، فيظهر وجهه بعد بيان أقسام الشك
فيهما ومنشأه، فإنه قد يشك في بقاء الجريان والحركة بالنسبة إلى بعض ما علم بجريانه
من المنبع المشتمل عليه وعلى غيره لاحتمال طرو مانع عن جريان ذلك، ففي الصورة
يقطع بوجود المنبع واشتماله على غير ما علم بجريانه واستعداد الجميع للجريان كاستعداد
ما جرى له أيضا، وإنما الشك في بقاء الوصف الجزء المتصف بالجريان لاحتمال وجود
مانع عنه، وتارة يقطع أيضا بوجود المنبع وبحصول الجريان لبعض ما فيه، وبعدم
المانع عن جريان ذلك، وإنما يشك في اتصاف البقية على استعدادها للجريان به، لاحتمال
طرو مانع عن جريانها، والفرق بين هذه الصورة والصورة الأولى، إن في الأولى يعلم
بجريان مقدار من الماء فعلا، وإنما يشك في إنه هل طرء الحائل والمانع عن الجريان الموجود
لذلك المقدار أم لا، مثلا لو فرض إن نصف ماء الكوز أو الكأس طرء عليه الجريان، ثم شك
في بقاء وصف النصف الجاري للشك في إنه وجد حائل ومانع حتى يمنع عن جريانه أم لا،
ولولا المانع يقطع بأن الجريان موجود، وفي الصورة الثانية بأن المقدار الذي جرى
314

لم يطرء عليه المانع والحائل، وإنما الشك في إن بقية الماء وما في الاناء اتصف بالجريان أم
طرء عليها المانع، وبعبارة أخرى في الصورة الأولى يكون الشك في بقاء الاتصاف
فارغا عن ثبوته بالنسبة إلى بعض، وفي الثانية لا يقطع بطرو الجريان بالنسبة إلى
بقية الماء، بل يشك في اتصافها به لاحتمال طرو مانع في ظرف وجود المقتضى،
وثالثة يكون الشك في بقاء الجريان ناشئا عن الشك في مقدار ما في الكأس من الماء
حتى يجري، فإذا كان منا فقد تم وخلص فلا جريان، وإن كان منين يكون جاريا
أيضا، والصورة الثالثة من قبيل الشك في المقتضى كما هو الواضح، والصورة
الرابعة أن يقطع بقطع ما في المنبع ونفاد ما فيه، لكن يحتمل بقاء الجريان لاحتمال
قيام منبع آخر مقام الأول مقارنا لنفاده، فهذه صور أربعة فلابد من ملاحظة
إن في أي من هذه الصور يجري الاستصحاب، وفي أي منها لا يجري، فنقول أما
الصورة الأولى وهو ما إذا قطع بوجود منبع ومبدء، ويقطع أيضا بالجريان الفعلي
لبعض ما فيه، لكن يشك في إنه هل وجد مانع من جريانه إلى النهاية أم لا، يعني بلغ
هذا الجريان إلى آخره والحد الذي كان يصل إليه لولا المانع أم لا، مع القطع بعدم
مانع وحائل بالنسبة إلى بقية ما في المنبع والمبدء، مثلا إذا تحرك مقدار من الدم
من الرحم ووصل إلى فضاء الفرج وشك في إنه وصل إلى الخارج حتى يحكم بكون
المرأة محدثة أو لم يخرج لمانع وموجب لاحتباسه حتى لا يحكم بالحدث، فلا قصور
ظاهرا في جريان الاستصحاب في هذه الصورة، وتطبيق لا تنقض على المورد، فبالعناية
التي قلنا في جريان الاستصحاب في الزمان نقول بجريانه هنا أيضا، وهو استصحاب
بقاء شخص هذا الجريان في الان الثاني، والشبهات التي أوردوا هناك تجري في المقام
أيضا، والجواب عنها بعين ما أجبنا، وكذا لا قصور في جريان الاستصحاب في
الصورة الثانية أيضا، وهي صورة الشك في طرو الجريان على بقية الماء الموجود في
المنبع مع استعدادها به أيضا للشك في طرو المانع بالنسبة إلى اتصاف البقية بالجريان،
وذلك لما تقدم من إنه لا يكون الشك هنا شكا في الحدوث بل في بقاء شخص
الجريان المعلوم للماء الواحد بالشخص الموصوف به حقيقة باعتبار بعضه، فوجه
الاستصحاب في هذه الصورة أيضا عين ما ذكرناه وجها لاستصحاب الزمان
315

والشبهة فيه عين تلك الشبهة الناشئة من قصر النظر على قطعة خاصة وجزء مخصوص
متصف بالجريان، وعليه يكون الشك في اتصاف الباقي بالجريان من قبيل الشك في الحدوث،
وقد أجبنا عن ذلك مرارا، وقلنا بأنه لو قصر النظر في الأمور التدريجية إلى قطعة خاصة
في قبال القطعة الأخرى، فلا مجال لجريان الاستصحاب حتى في مفاد كان التامة، لأن الشك
يكون حينئذ من قبيل الشك في الحدوث، وإن لم يقصر النظر عليها بل لوحظ
شخص الجريان أو الزمان المتدرج حصوله، فيتصور فيهما العلم السابق والشك في
البقاء لاحقا، كما هو المختار، فلا قصور للاستصحاب لان الجريان حينئذ بنظر العرف
شخص واحد يقطع بوجوده ويشك في بقائه، فيستصحب بقائه، وأما القسم الثالث
فهو أيضا مما لا قصور في استصحابه، إلا من جهة إنه من قبيل الشك في المقتضى،
ولو أغمضنا النظر عن هذه الجهة وقلنا بجريان الاستصحاب في هذه الصورة أيضا
كما هو المختار على ما تقدم، فلا نقص في أركان الاستصحاب من جهة أخرى،
وأما القسم الرابع فهو من قبيل الاستصحاب الكلي من القسم الثالث، فلا مجال
لجريان الاستصحاب فيه، فتحصل مما تقدم إنه لا قصور في جريان الاستصحاب
في جميع الصور إلا في الصورة الأخيرة على ما توهم، وإن الشك في الأخيرتين كان
من الشك في المقتضى، وأما في الصورتين الأولين كان الشك في المانع وإن من
منع من جريان الاستصحاب في القسم الثالث، إنما منع من جهة كون الشك في
المقتضى، وإلا فلا قصور في أركانه، ولا اختلال فيها من جهة أخرى وهي كون
الشك في الحدوث لا البقاء، لما تقدم من إن المدار على الوحدة الشخصية لا إنه يقصر
النظر على خصوص قطعة من الواحد الشخصي التدريجي، وأما القسم الرابع وهو
أن يقطع بخروج تمام ما في المنبع المقطوع بارتفاعه ويشك معه في قيام
منبع آخر مقامه وجريان ما في الثاني متصلا بجريان ما كان في الأول حتى
يكون الجريان باقيا وعدم قيامه حتى لا يكون للجريان بقاء، فربما يقال إنه من
قبيل القسم الثالث من الكلي، ولا مجال لجريان الاستصحاب فيه لان الجري الذي
كان مقطوعا قد ارتفع يقينا وصفا وموضوعا، وجريان الماء الاخر يشك في حدوثه،
غاية الامر إن منشأ الشك من جهة الشك في قيام منبع آخر مقام الأول وحصول
316

جريان ما فيه مقارنا لتمامية ما في الأول، فيكون من قبيل الشك في الحدوث لا
البقاء، لابد من ملاحظة إنه هل يمكن تصحيح الاستصحاب في هذا القسم أيضا
أم لا، فنقول إنه ينقسم إلى قسمين (أحدهما) أن يحتمل للمنبع عروق
في الأرض لا تشتمل على الماء فعلا، بل فيها قوة توليدية في الخارج تدريجا، فلا
يصدق الماء على ما فيها ما دام في العروق وبالتدريج يتجدد الماء ويجتمع ويوجد
في الخارج ويتصف بالجريان، كالماء الموجود أولا وفي المنبع الأول، فحاله حال منفعة
المال، فإنها بالتدريج تصير ملكا، فببركة استعداد الرطوبات يتجدد الماء ويخرج ويجتمع
فيصير فعليا، فهذا نحو من المنبع، (وثانيهما) أن يكون المنبع الاخر مشتملا على
ماء بالفعل مثل منبع الحمام بالنسبة إلى الحياض، فإنه يكون مشتملا على ماء مغاير لما
في غيره من الحياض، وإن كان بينهما ساقية بها يتصل كل بالآخر،، فإن المنبع
المشكوك من قبيل الثاني بأن كان مشتمل على الماء الفعلي الذي يحتمل جريانه مقارنا
لنفاد الجاري مما في الأول ومتصلا به، فالشك في الجريان بعد القطع بخروج تمام
ما علم بوجوده وجريانه من المنبع الأول شك في الحدوث، لا البقاء، فإن ما قطع
بوجوده من الماء والجريان ارتفع يقينا، وما شك فيه لم يكن متعلقا للعلم، فليس الشك
إلا في حدوثه، فيكون داخلا في القسم الثالث من الكلي، فلا يكون لجريان
الاستصحاب فيه مجال، وإن كان من الأول بأن كان المنبع الأولى علة لوجود
الماء وحصوله من تلك العروق الموجودة تحت الأرض والرطوبات الحاصلة المجتمعة،
وكان الماء الحاصل منه تدريجا متصفا بالجريان الفعلي متدرجا، ثم علم بنفاد ما في المنبع
المعلوم من القوة، واحتمل بقاء الماء والجريان لاحتمال حدوث علة أخرى لحدوثه في
ظرف انقطاع تأثير الأولى، فحينئذ لا بأس بالاستصحاب لأنه لا يكون الشك في
بقاء جريانه من الشك في الحدوث، لأنه لو وجدت العلة الثانية لتولد الماء مقارنا
لارتفاع الأولى، فيكون الماء المتولد منهما واحدا بالشخص غير متعدد علته، كهيئة
الخيمة القائمة بعمود يقطع بانعدامه ومعه يشك في بقائها لاحتمال قيام عمود آخر
مقام الأولى، وقد أشرنا إلى عدم قصور في أركان الاستصحاب في هذه الصورة،
والنكتة الفارقة بين الصورة الأولى والثانية من هذا القسم إن في القسم الثاني يكون
317

الماء الذي يشك في جريانه متصلا بجريان ما كان في الحوض موجودا فعلا في
منبعه، فإذا قطع بنفاد ما في الحوض والمنبع المعلوم وشك في وجود جريان ما في
منبع حوض آخر غيره، فيكون داخلا في القسم الثالث من الكلي، وأما في القسم
الأول فيقطع بتحقق الماء تدريجا وإخفاظ وحدته على تقدير نشوئه عن عرق مغاير
لما ينشأ منه أولا، فإذا شك في بقائه أو وصفه المعلوم لو كان الشك ناشئا من قيام
منبع آخر مقام الأول، فيجوز استصحابه فهو كالهيئة الواحدة الحاصلة للخيمة
القائمة بأعمدة متعددة على التبادل، فإذا قطع بذهاب عمود وشك في قيام عمود آخر مقامه،
فلا ريب في صحة جريان الاستصحاب في ذاك المقام، بخلاف القسم الثاني فإن ما في
المنبع الاخر فعلي ومغاير للماء الجاري، ولو كان منهما واحدا، وفى القسم الأول لم
يكن في البين ماءان، بل علتان لوجود ماء واحد فعلي، وتبدل العلتين لا يكثر
شخص هذا الماء، ومن هنا يظهر إن من فرق بين جواز استصحاب التكلم في
صورة إحراز وحدة الداعي ومنع عن استصحابه مطلقا في صورة احتمال بقائه،
لاحتمال حدوث داع آخر عقيب الداعي المحرز أولا بلا مهلة وتراخ، فقد ارتكب
مالا يخلو عن تسامح وغفلة، وأما أولا فلان وحدة الداعي إلى التكلم لا توجب
وحدة الكلام في نظر العرف إذا كان من أصناف مختلفة كالقرآن والدعاء والزيارة،
فمع وحدة الداعي أيضا يتصور الشك في الحدوث كما في المقام، وأما ثانيا فلان
الوحدة الشخصية محفوظة في الكلام المتصل إذا كان من سنخ واحد كالقرآن
مثلا، وإن حصل كل من أبعاضه بداعي جديد غير الداعي الأول، وذلك لما تقدم
من إن تعدد العلل وتبدلها لا تقتضي تعدد المعلول وتكثره، ولا تستلزمه، فما دام القائل
متشاغلا بالقراءة فهي قرائة واحدة، وإن حصلت بدواع مترتبة متكثرة، وعلى هذا
فيجوز استصحاب التكلم أو وجود الكلام في الصورة المفروضة كما لا يخفى، فإطلاق
المنع في غير محله، بقي الكلام في المقيد في الكلام، فنقول قد يكون الزمان قيدا
لنفس الوجوب والحكم، إما بأن يجعل شرطا له كما في قوله عليه السلام (إذا دخل الوقت
وجبت الصلاة والطهور)، أو يجعل غاية كما في قوله تعالى: (أتموا الصيام إلى الليل)
وقد يكون قيدا للوجوب، إما بأن يؤخذ ظرفا له كما في مثل أكرم العلماء يوم
318

الجمعة، أو غاية في قوله أكرم زيدا إلى يوم السبت، فهذه هي الصور التي تتصور في
المقام، أما الصورة الأولى وهي ما إذا كان قيدا للوجوب، ففيها نزاع معروف وهو
إن قيود الوجوب هل ترجع إلى المادة والمتعلق، أم تبقى على ظاهرها من كونها قيدا
للهيئة ونفس الحكم، فصاحب الكفاية ذهب إلى إن ما هو القيد للهيئة صورة راجع
إلى المادة لبا، ونظره في ذلك إلى إن المادة والمأمور به مثلا لما كان معلولا للهيئة
ومترتبا عليها في الوجود امتثالا، فلا يعقل له إطلاق يشمل غير صورة ثبوت علته
وهي صورة انتفاء الشرط للوجوب، فلابد أن تكون المادة مقيدة به أيضا حتى لا
يلزم وقوع المعلول من دون علته، وكذا الشيخ العلامة الأنصاري (قده) على ما في
التقرير مائل إلى ذلك أيضا، لكن نظره على ما فيه إلى إن مدلول الهيئة معنى حرفي
لا يتصور فيه القيد كي يصح تقييده، فلا بد من إرجاع قيدها بحسب الخطاب إلى
المادة والمتعلق، ولذلك التجأ صاحب الكفاية في مقام إحراز وحدة القضية المتيقنة
مع المشكوكة عند استصحاب الموضوع إلى دعوى كفاية الوحدة في نظر العرف،
ولو كانت متيقنة بالدقة العقلية، ولكن نحن نقول إن كانت القيود للوجوب ظاهرا
قيدا للواجب لبا يلزم أن يتحقق القيد في رتبتين يتخلل بينهما آنان، وذلك لان
لازم قيديته للوجوب تأخره عنه حتى يصح إضافة القيد إليه، ولازم كونه قيدا للمادة
أن يكون متقدما عليها، مع إنه متقدم على الحكم تقدم كل موضوع على حكمه،
فالقيد حينئذ من حيث إنه قيد المادة متقدم على نفسه من حيث كونه قيدا للهيئة
بمرتبتين، إذ المفروض تقدمه على الموضوع المتقدم على الحكم المتقدم على قيده، ولا
ريب في بطلان تقدم الشئ على نفسه مطلقا، فظهر إنه يستحيل أن يكون قيد
الهيئة راجعا إلى المادة، نعم لا يتصور فيها إطلاق يعم صورة تحقق الهيئة والحكم
وعدمه أيضا، فالمادة حينئذ لا مطلقة ولا مقيدة بل الواجب مجرد عن هذا القيد،
وذات عارية عنه، لما تقدم من إن تقييد الحكم لا يجتمع مع إطلاقه، فيحصل له قهرا
حد من قبيل التقييد للوجوب، فيصير الموضوع محدودا بحد لا يعم صورة انتفاء الحكم،
لكن لا من جهة تقييده بقيد إذ لا يعقل أن يؤخذ هذا الحد في موضوع الوجوب،
لان ما كان ناشئا من قبل الحكم لا يؤخذ في الموضوع، فالموضوع في الحقيقة ما يكون
319

توأما مع الحد، فلا يكون موضوع الوجوب إلا الذات المحض العارية من جميع القيود،
كما إن الامر كذلك في الخطابات العرفية، ولذا قالوا إن الموضوع في موضوع في
مثل إذا جائك زيد يجب إكرامه، هو زيد لا زيد الجائي، وفى قوله عليه السلام (إذا دخل
الوقت تجب الصلاة)، إن الموضوع لوجوب الصلاة هو ذات الصلاة لا الصلاة في
الوقت، فلا يؤخذ الوقت ولا المجئ قيدا في موضوع الوجوب، وبالجملة لما يستحيل
أخذ القيد المأخوذ في الحكم في الموضوع، فلا يكون الموضوع إلا صرف الذات
المعراة عن ذاك القيد والتقيد بعدمه، ومن هذا البيان يظهر إنه إذا شك في بقاء
الوجوب يقطع باتحاد القضيتين موضوعا حتى على الدقة العقلية، مثلا إذا كان
وجوب الاكرام مقيدا بيوم الجمعة وانقضى ذاك اليوم، ثم شك في بقاء الوجوب
يوم السبت فيمكن إجراء الاستصحاب ولو على اعتبار الوحدة بالدقة ولا نحتاج
إلى مسامحة العرف، مثلا إذا علم باشتراط وجوب الصوم بيوم الجمعة، فحصل وانقضى
ثم شك في بقاء الوجوب، فحينئذ لا ريب في إن الصوم الموضوع للوجوب في القضيتين
واحد دقة وعقلا، وأما صاحب الكفاية فلما أرجع قيد الهيئة صورة إلى المادة لبا
وجعل الموضوع مقيدا بالزمان حقيقة، وحينئذ يكون الشك من جهة القيد مستلزما
لعدم اتحاد موضوع القضيتين دقة، التجأ إلى دعوى كفاية الوحدة عرفا، والتزم
بعدم جريان الاستصحاب بناء على اعتبار الوحدة بنظر العقل ودقة إذا كان القيد
قيدا للموضوع، فلا يمكن الاستصحاب بنحو الدقة بل بنحو المسامحة، ثم لا يخفى
إنه إذا كان القيد قيدا للواجب، فحينئذ يتصور فيه وجهان، فإنه تارة تكون الذات
المقيدة بالزمان صرف وجود الطبيعة ويكون هو المطلوب، وعلى هذا فكما لا يتصور
التعدد للموضوع كذا لا يعقل انحلال للحكم المتعلق به، وأخرى يكون الموضوع
هو الطبيعة السارية في الافراد العرضية والطولية بحسب الزمان، كما فيما إذا قال
إكرام العلماء في يوم الجمعة واجب، فإن الموضوع فيه ليس صرف وجود الاكرام
أو العالم، وعليه فكما يتعدد الموضوع ويختلف مقدار الافراد قلة وكثرة، فكذا يتعدد
الحكم وينحل إلى أحكام عديدة بتعدد أفراد الموضوع، فربما يكون عددها منحصرا
في الخمسة أو المأة وقد يزيد على ذلك أو ينقص، ففي الصورة يتصور لكل من الحكم
320

والموضوع وحدة نظرا إلى لسان الدليل، فإن المنشأ في الخطاب كموضوعه، ويتصور
لهما التعدد باعتبار تكثر الموضوع بكثرة أفراده وانحلال الحكم إلى مقدار عددها،
فإذا علم بانقضاء ظرف الواجب، وشك في بقاء الوجوب لاحتمال عدم دخالة الظرف
المذكور في ثبوته، فحينئذ يجوز استصحاب الحكم الواحد المعلوم بإنشاء واحد، فلا
قصور في استصحابه من جهة عدم إحراز وحدته، ولا من جهة عدم اتحاد موضوع
القضيتين بناء على الاكتفاء بنظر العرف، نعم لو بنى الامر على الدقة فلا وجه
لا جرائه، هذا على تقدير لحاظ الحكم وكذا الموضوع واحدا، وأما على تقدير
أن يلحظ تعددهما فلا ريب في إن المعلوم وهو الحكم الثابت للأفراد المعلومة الوجود
في الظرف المخصوص مغاير للمشكوك، فبهذا الاعتبار يكون الشك في الحدوث لا
في البقاء، ولعل نظر الفاضل النراقي (ره) إلى هذا القسم بهذا الاعتبار، فلذا ذهب
إلى استصحاب العدم الأزلي بالنسبة إلى المقيد بالزمان بعد انقضاء زمانه، وهذا التعريف
على ما ترى لا ابتناء له على تعدد اللحاظ كي يرد بما في الكفاية، فإن بنائه على تعدد
الملحوظ كما لا يخفى، (وخلاصة) ما تقدم إنه إذا أخذ الزمان ظرفا للموضوع أو
الحكم، أو قيدا للحكم، كما في مثل قوله عليه السلام (إذا دخل الوقت وجبت الصلاة
والطهور) وكان المقيد صرف وجود الحكم أو الموضوع، فعلم بحصول القيد وانتفائه
وبفعلية الحكم وبامتثاله في ظرف ثبوت القيد، أما للوجوب أو الواجب، ثم شك في
بقاء الحكم لاحتمال بقاء ملاكه السابق أو تجدد ملاك آخر لثبوته، فحينئذ يجوز
استصحاب الشخص المعلوم من الحكم، فإنه بوحدته الدقية مورد لليقين والشك، وعليه
فلا نحتاج إلى مسامحة العرف في الحكم بالوحدة، هذا بالنسبة إلى استصحاب وجوده
وأما استصحاب عدمه السابق الأزلي فلا مجال له في المقام، فإنه قد علم بانتقاضه يتحقق
صرف وجود الحكم أو الموضوع، وإذ قد ثبت إن صرف الشئ لا يتثنى ولا يتكثر،
فلا يتصور انحلال الحكم كي يكون للشك في انتقاض العدم بالنسبة إلى بعض
المصاديق مجال، وظهر أيضا إنه لا مجال لتوهم إن قيود الحكم ترجع إلى الموضوع
حتى يصير الموضوع مقيدا، فلا يجرى الاستصحاب فيه بناء على اعتبار الوحدة
بالدقة العقلية، بخلاف الكفاية العرفية المسامحية فإن ذلك مستلزم لتخلف الشيء عن
321

رتبة ذاته، وتقدمه على ذاته بمرتبتين على ما بين، هذا مضافا إلى إن القواعد العربية
لا تقتضي إرجاع قيود الهيئة إلى المادة، وأما إذا تعلق الحكم على الطبيعة السارية في
ضمن الافراد العرضية والتدريجية التي توجد بمرور الزمان، فلا ريب في إن هذا
السنخ من الخطاب ينحل إلى أحكام متعددة بحيث يكون لكل فرد حصة من الحكم،
له إطاعة أو عصيان مستقل، فيجب الامتثال والجري على طبق الحكم الواحد، إنشاءا في
الزمان الأول والثاني والثالث في هذه الصورة بخلاف الصور الأولى، فإن الامر
فيها يسقط بإتيان أول الوجود، ولا ينحل إلى أوامر، فكل منها امتثال غير الاخر،
كما إن الامر كذلك عند تعلقه بالطبيعة السارية، فبأول الوجود تسقط مرتبة منه،
وبثاني الوجود مرتبة أخرى وهكذا، فلا يسقط تمام الحكم بامتثال أول الوجود، بل
تسقط مرتبة منه، فللحكم مراتب، فإذا كان كذلك فيكون له امتثالات عددية، ولكن
لما كان تمام المراتب تحت عدم أزلي والخارج منه يقينا مما يجب امتثاله هو الحكم
بمرتبة ينحل إلى مأة أو أزيد، وبالجملة بمقدار الافراد الموجودة من الموضوع
الواجدة للقيد المعتبر فيها، وأما الزائد على ذلك فيكون مشكوكا، فيبقى تحت العدم،
فلنا منظوران باعتبار أحدهما وهو الحكم الثابت ببعض مراتبه يجري استصحاب
الوجود، وبالنسبة إلى مرتبة أخرى زائدة على المتيقنة لا يجري إلا استصحاب
العدم، ولعل نظر النراقي (ره) في مقام تصوير تعارض الاستصحابين إلى هذا،
ولا يتوهم إن لا تنقض اليقين لأنظر له إلا إلى المجعولات الشرعية ومراتب الطبيعة
السارية ليست منها مجال لاستصحاب العدم، لأنا نقول إن لا تنقض ناظر إلى ما كان
أمر وضعه ورفعه بيد الشارع، ولو لم يكن تحت الجعل ابتداء بل يكفي أن يكون الأثر أمر
وضعه ورفعه بيد الشارع، ولو بالواسطة، ولا ريب في إن سعة دائرة الحكم وضيقه
أيضا مندرجان فيما أمره بيد الشارع وضعا ورفعا، فعدم المرتبة التي يعم الافراد
الحادثة في غير الظرف المضروب قابل للابقاء تعبدا، فيكون حينئذ في المقام
منظوران، فتارة ينظر إلى الافراد التي خرجت يقينا عن تحت العدم الأزلي، فيجري
الاستصحاب الوجودي، ولا يخفى إن المنشأ المعلوم واحد بحسب الخطاب مثل
موضوعه، فإنه قد أخذ فيه بعنوان واحد، فإذا أبقى الحكم المعلوم على موضوعه في
322

الخطاب بالاستصحاب فالعقل يطبق الكلي على مصاديقه، ويحكم بأنها محكومة بحكمه،
وهذا التطبيق العقلي غير مختص بصورة إحراز الحكم الواقعي بل هو ثابت عند
إحراز الحكم الأعم منه ومن الظاهري، وتارة ينظر إلى الافراد المشكوكة، فلا
يستصحب الوجود بل يحكم ببقائها بحسب العدم الأزلي، فيجري الاستصحابان
ويتعارضان، ولعل مراد النراقي من تعارض الاستصحابين، نعم لا مجال لجريان
الاستصحابين فيما إذا كان المنظور واحدا والنظر متعددا، لاستحالة اجتماع اللحاظين
المتنافيين دفعة، وأما على تقدير أن يكون لنا كبريان منظوران بأن كان أحدهما
مستقلا بالجعل والاخر مجعولا بتبع الجعل الأول، فلا قصور في جريان الاستصحابين
وتعارضهما، فبالنظر إلى استصحاب الطبيعة ينطبق الحكم على الافراد الحادثة فعلا،
وبالنظر إلى هذا الفرد المشكوك يحكم بعدم الحكم له، فيتعارض الاستصحابان أي
استصحاب عدم حكم الفرد المشكوك واستصحاب الطبيعة السارية، فظهر إنه لا
مجال للحكم بعدم جريان استصحاب العدم إذا تعلق الحكم بالطبيعة السارية وكان
الزمان ظرفا للموضوع كما قاله العلامة الأنصاري قدس الله سره بانقلاب العدم
بالوجود قطعا، ثم لا يخفى إنه إذا أخذ الزمان قيدا مفردا للموضوع كما إذا قال
يجب إكرام زيد في كل يوم، قال الشيخ (ره) لا مجال لجريان استصحاب الوجود
عند الشك، بل يجري استصحاب العدم لان الموضوع يتعدد بتعدد الأيام، وكأن
زيدا يصير أشخاصا مختلفة باختلاف الأزمنة، فما علم بثبوت الحكم له مغاير لما يشك
فيه، فلا يبقى للاستصحاب مجال، لكن نحن نسأل عنه رحمه الله، بأنه إذا ورد خطاب
في الشريعة السابقة بلفظة أكرم زيدا في كل يوم، ثم شك في الشريعة الثانية في
وجوب الاكرام، بأنه هل نسخ هذا الحكم أم لا، ففي المقام بقول الشيخ رحمه الله
للاستصحاب مجال، وبعبارة أخرى إذا جعل اليوم قيدا لموضوع الاكرام في كل
يوم، فيصير زيد حينئذ بمنزلة موضوعات عديدة، ولو ورد مثل هذا الخطاب في
الشريعة السابقة، وبتجدد الشريعة شك في بقاء هذا الحكم للشك في ورود النسخ
والنهي عن الاكرام في الشريعة اللاحقة، فلا إشكال في المقام بجواز استصحاب عدم
النسخ، وثبت ببركته وجوب إكرام زيد في الشريعة اللاحقة أيضا، فتلخص مما
323

ذكرنا إن في بعض هذه الصور الثلاثة يجري الاستصحاب في وجود الحكم فقط،
كما فيما إذا تعلق صرف طبيعة الحكم بصرف الوجود، فحينئذ لا مجال لجريان
استصحاب العدم، لأنه إذا تحقق فرد من الطبيعة في الخارج انقلب العدم الأزلي
بالوجود، وفي بعضها يجري استصحاب الوجود والعدم كليهما، كما فيما إذا تعلق الحكم
بالطبيعة السارية، وكان الزمان ظرفا، كما إذا قيل أكرم العالم في شهر رمضان مثلا،
فيكون المقام من قبيل الامر بإكرام كل فرد من أفراد الانسان، لان طبيعة العالم
لها أفراد كثيرة ويتعدد الحكم بتعددها، وتختلف دائرته سعة وضيقا، فكل من
أفراد العالم يتعلق به حكم مستقل له طاعة أو عصيان لا يسقط أمر الطبيعة بسقوط
الامر عن واحد منها، فهي في الحقيقة موضوعات عديدة للأحكام متماثلة، فإذا انقضى
الأمد المضروب وبقيت تلك الموضوعات، وحدث بعده أفراد أخر للعالم، فحينئذ يشك
في بقاء ذاك الحكم المتعلق بإكرام العلماء، لاحتمال بقاء ملاكه أو تجدد ملاك آخر
لثبوته، فحينئذ كما إنه يجوز الرجوع إلى استصحاب وجود الحكم الثابت المعلوم
أولا للعالم، والحكم ببقائه عند الشك حتى يطبق العقل عنوان موضوعه على مصاديقه
الموجودة في ظرف القطع بالحكم والحادثة بعده، فيلزم ترتيب الأثر على الجميع في
ظرف الاستصحاب، كذلك لا بأس بالأخذ باستصحاب عدم الحكم للافراد الحادثة،
فإنها لم يعلم باندراجها تحت ما علم من الحكم، فيقطع التعارض بين الأصلين لانطباق
استصحاب الوجود في المقام بالنظر إلى العلم بثبوت الحكم للطبيعة الصادقة على
أفرادها الموجودة فعلا، وبطول الزمان تدريجا، وانطباق استصحاب العدم بالنظر
إلى العلم بعدم ثبوت الحكم للافراد الحادثة فيما بعد الظرف المذكور في الخطاب،
فالملحوظ في المقام متعدد لا يلزم من إجراء الأصلين تعدد اللحاظ في ملحوظ واحد،
حتى ترد دعوى التعارض باستلزامها لتعدد اللحاظ في شئ واحد، كما زبر في الكفاية،
فنحن في هذه الصورة نخالف الشيخ رحمه الله، حيث إنه لا يقول بجريان استصحاب
إذا كان الزمان ظرفا للحكم نظرا إلى دعوى انقلاب العدم بالوجود، لكنا نقول
بجريانه بالتقريب المتقدم، هذا إذا أخذ الزمان ظرفا، وأما إذا أخذ قيدا مفردا
للموضوع مثل أكرم زيدا في كل يوم، حيث تعلق الحكم بزيد مقيد بالأيام، ولذا يتصور
324

فيه التعدد بتعددها، فيصير نظير أكرم كل إنسان في كل يوم، كأن زيدا صار
موضوعات عديدة، فزيد في يوم الجمعة غير زيد في يوم السبت وهكذا، فحينئذ يتعدد
الحكم أيضا بتعدد موضوعه، ويكون معلوم الثبوت بالنسبة إلى أفراد، ومشكوكا
بالنسبة إلى غيرها، ففي هذه الصورة يمنع الشيخ رحمه الله عن استصحاب الوجود
ويرجع إلى استصحاب العدم، لكنا نوافقه في الثاني ونخالفه في مورد منعه نظرا
إلى مشاركة الصورة مع ما إذا ثبت في الشريعة السابقة وجوب إكرام زيد في كل يوم،
ثم شك في نسخه بالشريعة المتأخرة، وإذ لا يلتزم أحد بعدم جواز الاخذ بالاستصحاب
في المثال، فليكن الرجوع إليه في صورة استناد الشك إلى غير احتمال النسخ أيضا
كذلك، وبالجملة فلتصور ما نقل عن النراقي (ره) عن معارضة استصحابي
الوجود والعدم وجه في الصورتين الأخيرتين، ولا يلزم محذور الجمع بين اللحاظين
في دليل الاستصحاب كما في الكفاية، لتعدد الملحوظ واندراج كل من المتعددين في
الدليل عرضا ومن جهة واحدة، فاتضح إن مجرد كون الزمان قيدا مفردا
للموضوع، أو ظرفا له أو للحكم لا يوجب فرقابه لا يبقى مجال للرجوع إلى
استصحاب الوجود أو العدم، نعم لو كان الزمان أمدا للحكم وغاية له، وعلم بذلك
أيضا، وبأنه ليس غاية لمرتبة من المطلوب بل غاية لتمامه، فحينئذ لا مجال لاستصحاب
وجوده بعدها كما إنه علم بعدم غائيته أصلا أو بعدم كونه غاية لأصل المطلوب، بأن
تكون غاية للمرتبة الأكيدة العالية، أو احتمل في الزمان المأخذ أحد الامرين، فحينئذ
لا مجال للاخذ باستصحاب العدم، فالفارق هو كون الحكم ذا أمد وغاية وعدمه،
لا مفردية الزمان للموضوع وظرفية له أو للحكم، وخلاصة ما تقدم بزيادة
توضيح حتى يظهر المناط والمغالطة هي إنه، تارة يتعلق الحكم بصرف الوجود، فلا
مجال حينئذ لجريان استصحاب العدم لانقلابه إلى الوجود بتحقق الحكم بأول
الوجود، وكذا فيما إذا تعلق الحكم بوجود شخصي، وكان الحكم مقيدا بالزمان
بلا إبهام فيه بداية ونهاية، ولم يكن الحكم قابلا للتعدد والانحلال، وذلك مثل الامر
بإكرام زيد في يوم الجمعة مثلا، وكان طرفي الحكم محدودا بحد خاص، فإنه حينئذ
لا مجال أيضا في هذه الصورة لاستصحاب الوجود لأنه، يلزم حينئذ إسراء حكم
325

من موضوع إلى موضوع آخر، بل يتعين استصحاب العدم، عكس الصورة الأولى،
وتارة يتعلق الحكم بموضوع قابل للقلة والكثرة بمرور الزمان، مثل خطاب أكرم
كل عالم في شهر رمضان مثلا، وفي هذه الصورة قد يؤخذ الزمان غاية وأمدا للحكم،
سواء كان متعلقة عاما استغراقيا أو سريانيا، فحينئذ يكون الحكم محدودا بحد
خاص مغيا بزمان مخصوص غير مبهم، والمفروض إن الغاية غاية لتمام الحكم لا لمرتبة،
وعليه فلا مجال في هذه الصورة لاستصحاب الوجود بل يتعين في صورة الشك أي
بعد انقضاء رمضان والشك في بقاء الحكم استصحاب العدم، لأنه أخرج الحكم
عن الابهام وعين طرفيه، وأخرى لا يكون الزمان في لسان الحكم غاية بينة لأمد
الحكم بتمام مراتبه، بل يكون مهملة من هذا الجهة، وهذا مثل ما إذا قال يجب إكرام
العلماء إلى آخر رمضان مثلا، وعلم إن ذكر الغاية من باب الظرفية، أو من جهة بيان
مورد الابتلاء، وإنه لم تكن الغاية غاية للحكم بتمامه، ففي هذه الصورة سواء كان
الزمان قيدا مفردا للموضوع، أو ظرفه، يجوز استصحاب الوجود وكذا العدم، أما تمامية أركانه بالنسبة إلى الوجود فواضح، وأما بالنسبة إلى العدم، فبتقريب
إن عدم الحكم مطلقا كان موردا للقطع فيما قبل الجعل والعلم بوجوده في مدة
خاصة هي أقل ما يحتمل كونه أمدا للحكم، وهذا العلم ينتقض بالعلم بالخلاف إلا بالنسبة إلى تلك المدة، فبالاستصحاب يحكم ببقاء عدم الحكم على ما كان، فحينئذ
يتعارض الاستصحابان بالنسبة إلى ما يوجد فيما بعد موقع اليقين بثبوت الحكم،
فمدار عدم جواز استصحاب الوجود تبين أمد الحكم وخلوه عن الاهمال وظهور إنه
أمد لأصل الحكم بتمامه لا له لبعض مراتبه، أو كون الموضوع صرف الوجود
الحاصل بأول الوجودات، ومدار جواز استصحابي الوجود والعدم هو إهمال أمد
الحكم وغايته فيما إذا كان متعلقا بالطبيعة السارية، أو العام الاستغراقي كان الزمان
ظرفا للموضوع، أو قيدا له يوجب تكثره بتكثره، فلو كان نظر المدعي للتعارض
مقصورا على هذا المورد فالحق ولا وجه لمنعه، ولو كان نظر الشيخ (ره) متوجها
إلى الصورة السابقة فقط، فكلامه في انحصار المرجع في استصحاب العدم حق، وإلا
لاوجه له كما ظهر، ثم لا يخفى إنه ربما يتوهم إنه لاوجه للرجوع إلى استصحاب
326

العدم فيما أخذ الزمان قيدا مفردا للموضوع، فإن وجود الموضوع بالنسبة إلى كل
يوم من الأيام الآتية لا يصير فعليا إلا بفعلية زمانه، فالحكم المتأخر عن موضوعه
رتبة لا يتصف بالفعلية إلا في ظرف فعلية موضوعه، فحال من هذه الجهة كالاعراض
الخارجية، فإنها دائرة مدار موضوعاتها فعلا وقوة، فالحكم المجعول المتعلق بشئ بنحو
القضية الحقيقة منحل إلى أحكام تقديرية لموضوعات مقدرة الوجود، ولا تصل
مرتبة إلا عند فعلية الموضوعات، فإذا كان وجود الحكم مقيدا بالزمان يتبع، فعدمه
أيضا مقيد به، بداهة إن العدم المطلق ليس نقضا لوجود مقيد بزمان أو غيره، فإذا
ثبت تقيده فنقول ما كان من الأول هو العدم المطلق، وأما العدم الخاص فما لم
يتحقق موطنه، فلا يعلم به، فلا وجه لاستصحابه، ثم يقال نعم يمكن استصحاب
عدم الجعل بالنسبة إلى هذا الموطن والوقت المخصوص، فيدفع أيضا بأن الجعل
لا يكون أثرا ولا موضوعا للأثر، فلا تشمله أدلة الاستصحاب، ولنا أن نقول في
دفعه بعد الغض عما ذكرناه سابقا في جواز استصحاب الجعل وعدمه نظرا إلى إن
الأثر الأعم من الظاهري والواقعي منه إذا جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية،
فلنا في المقام اعتبار أمور ثلاثة، منها نفس الجعل، ومنها الاحكام المجعولة المقدرة
الوجود على تقدير وجود موضوعاتها، ومنها الاحكام الفعلية عند فعلية أفراد
الموضوع بمرور الزمان، وفي المقام وإن لم يكن لنا علم بالعدم الفعلي للفرد المقيد
بالغد مثلا، إلا إنا عالمون بعدمه التقديري، وهذا المقدار كاف في جواز استصحابه،
والعجب من المتوهم إنه يتمسك باستصحاب الحكم الثابت في الشريعة السابقة بالنسبة
إلى الشريعة اللاحقة، بتقريب إن الحكم بوجوداته المقدرة للافراد المقدرة الوجود
كان معلوم الثبوت، فنستصحبه، فحكم العقل بفعلية الافراد لو كان إحراز الفعلية
معتبرا فلم يجري الاستصحاب في الوجود المقدر في ذاك المقام، ولو كان كافيا
فالامر كذلك في طرف العدم أيضا، وملخص الكلام إنه كما جاز الاخذ باستصحاب
الحكم المجعول لموضوعات مقدرة الوجود في صورة الشك فيما ثبت في الشريعة
السابقة باللاحقة، والحكم بثبوته الفعلي بمقتضاه وإلا فلا علم به كذلك، فلا وجه
لا ثباته بالأصل فليكن الامر كذلك في العدم المضاف إلى الموضوعات المقدرة
327

وجودها في مواطنها بقيودها المعتبرة فيها من الزمان وغيره، فإن العدم المضاف أيضا
يتصور له فردان، أحدهما فعلى، والاخر تقديري ومعتبر التحقق في موطن لو لم
يطرده الوجود في ذلك الموطن فعليا، وإذ لا ريب في إن هذا القسم من
العدم معلوم التحقيق سابقا على موطن فعلية من العدم الأزلي إلا هذا المقدار وإنه
متصور في الحكم بالموضوع المقدار أيضا، فلا وجه لمنع استصحاب العدم، بتقريب
إن المعلوم منه مطلق ومضافه لا يكون له حالة سابقة، إذ الانشاء لعله أوجب ثبوت
الحكم في ذلك الموطن أيضا، نعم لو أريد استصحاب عدم فعلي للحكم المتعلق
بموضوع مقدر الوجود لكان لما ذكر وجه، فإنه لا تصل مرتبة الفعلية إلا عند
تحقق الزمان المأخوذ قيدا خاليا عن المقيد، فلا يعلم بفعليته إلا عند ذلك، وأما بناء
على جواز الاكتفاء بالوجود التقديري فما المانع عن استصحاب العدم التقديري
وما الفارق بين المقامين، فالحق إن استصحاب العدم جار فيما إذا كان أمد الحكم
مهملا وقابلا للقلة والكثرة والسعة والضيق، فحينئذ يتعارض الأصلان كما أفاده النراقي
(ره) والمقرر لما غفل أو تغافل عن العدم التقديري، ورأى مورد الاستصحاب
منحصرا في الفعلي الذي لم يتعلق به علم قبل تحققه وفي نفس الجعل باعتبار الشك
في اتساع دائرته بحد يحصل به الحكم للمشكوك أيضا، ورأى فقد الحالة السابقة
في الأول وعدم الفائدة في استصحاب عدم الجعل بهذا النحو بناء على عدم حجية
المثبت، فلذلك أطلق المنع عن استصحاب العدم، وقد أبطلنا وجهه في الأول بما تقدم
آنفا، وأما وجهه في الثاني فيظهر بطلانه بعدم الغض عن دعوى اتحاد الجعل
والمجعول حقيقة واختلافهما اعتبارا، كما في الايجاد والوجود بأن تلازم المجعول
والجعل بمكان من الظهور بحيث لا يرى تنزيل أحدهما منفكا عن تنزيل الاخر، بل
لا يجوزه العرف بحسب أنظارهم وفي كل مورد كان الامر كذلك كما في المتضايفين
كالأبوة والبنوة، والتقابل والمحاذات، وتوجه التنزيل في لسان الدليل إلى أحدهما،
فيفهم العرف منه توجيهه إلى كليهما، فتنزيل الجعل في أنظارهم غير قابل للانفكاك
عن تنزيل المجعول بل عينه عندهم، وكذا الامر في تنزيل العدم، ولهذا يقال في أمثال
المقام إن الأثر للأعم من الواقعي والظاهري، والمقصود إن الأثر الواقعي للواقعي
328

والظاهري لمثله، فتحصل إن عدم الجعل أيضا لا بأس في استصحابه إثباتا لعدم
المجعول ولا يبتنى الاخذ به على القول بالمثبت المصلح، ولا يخفى إنه لو جرى فلا يبقى
مجال لأصل العدم في الحكم، لأنه محكوم بهذا، ثم إنه ربما يتوهم عدم خلو استصحاب
وجود الحكم والمجعول تكليفيا كان أو وضعيا عن معارضة بمثله لو جاز استصحاب عدم
الجعل بما تقدم، ولذا يخدش في مورد تسالم الأصحاب عن استصحاب ملكية ما
أعرض عنه بالتملك بالحيازة، أو غيرها، فيقال إنه معارض بأصالة عدم جعل الملك بنحو
لا يزول بالاعراض ويبقى معه، فعدم الملكية وإن علم بانقلابه إلا إن عدم الجعل
لم يعلم بانقلابه على الاطلاق، فيحتمل أن يكون جعله بالحيازة مقتضيا لثبوتها ما لم
يتحقق الاعراض، فيصح استصحاب عدم الجعل بنحو لا ترفع برفع اليد والاعراض
عنه، ولا يخفى إن هذا التوهم مبني على أن لا تكون الملكية معلومة للجعل إلا حدوثا،
بأن لم يكن بقائها مستندا إلى أسبابها إلى اقتضاء من ذاتها لذلك كالبناء بالنسبة
إلى البناء، وإلا فلا وجه لاستصحاب عدم الجعل مع العلم بحصوله، والشك في
اقتضاء ذات المعلوم للبقاء زايد على المتيقن من قابليته، وأما إذا كانت نسبتها إلى
أسبابها كالفئ إلى الشئ وكانت بوجودها الاعتباري تابعة لمنشأ اعتبارها
ولاقتضاء جعلها، بأنه لو كان مقتضيا لثبوتها الأبدي فيصح اعتبارها كذلك، ولو كان
نظر الجاعل متوجها إلى جعلها في مدة مخصوصة كما في الوقف على البطون فهي
معتبرة الحصول بمقدار نظره، فعليه يمكن أن يكون الشك في بقائها بعد الاعراض
مستندا إلى الشك في كيفية نظر الجاعل حين الجعل، وفي توسعته وضيقه، فحينئذ
يجوز استصحاب عدم جعلها بنحو يبقى مع الاعراض أيضا، فيعارض استصحاب
بقائها باستصحاب عدم جعلها الملازم للتعبد بعدمها أيضا في نظر العرف على ما تقدم،
فهذه شبهة لا بد من دفعها في المقام، وخلاصة ما تقدم إن الأمور الخارجية ربما
تكون محتاجة إلى علة في الحدوث لا في البقاء، بل البقاء يكون مستندا إلى استعداد
ذاتي لها، مثل وضع الحجر في مكان ومثل البناء والبناء، فربما تنتفي العلة والمعلول
باق بعده فيكشف ذلك عن إن بقاء المعلول ليس مستندا إلى علة حدوثه، بل كان
مستندا إلى استعداد في ذاته، وربما يتوهم إن الجعل والانشاء علة للملكية وسائر
329

الأمور الاعتبارية الجعلية حدوثا، والبقاء مستندا إلى استعداد ذاتي لها كالأمور
الخارجية، فإذا حدثت الملكية بالجعل بقوله (من حاز ملك) ثم أعرض بعد الحيازة فشك
في إنه هل سقطت الملكية بالاعراض أم لا، فتستصحب الملكية، ففي كل مورد لم
يثبت المزيل للملكية تستصحب الملكية، ولا مجال للرجوع إلى استصحاب عدم
الجعل، فإنه علم بانتقاضه، فينزلون الأمور الاعتبارية الجعلية منزلة الأمور الحقيقية
الخارجية، فيجعلون الجعل علة للحدوث، والبقاء مستندا إلى الاستعداد الذاتي، فحينئذ
تستصحب الملكية ولا يبقى مجال لاستصحاب عدم جعل الملكية، فلا يكون تعارض
بين استصحابي الملكية وعدم جعلها، لكنا نقول لو كان قوام الأمور الجعلية
بالجعل فقط، بأن لا تكون تابعة لاعتبار المعتبر ونظره، أمكن أن يكون بقائها
مستندا إلى استعداد ذاتي لذلك، ولكان لما ذكر وجها لمنع استصحاب عدم الجعل
وجه، إلا إن المفروض إن المقام ليس كذلك، بل الأمور الجعلية كلها تابعة في
مقام الجعل لاعتبار المنشئ ونظر الجاعل، فإن أنشأها واعتبر حصولها بالنسبة إلى
الموجودين في ظرف خاص، فيعتبر تحققها في ذاك الموطن فقط كالوقف على الطبقة
الأولى، فبانقراض الطبقة الأولى تنقطع الملكية، فلا تنتقل من أهلها إلى ورثتهم، وإن
أنشأها واعتبر حصولها في يوم أو شهر مثلا كما في تمليك المنافع صح اعتبارها بمقدار
نظر الجاعل، وإن أنشأها على الاطلاق جاز اعتبارها مطلقة، وبالجملة لا ريب في إن
اعتبار الملكية موقتا أو مطلقة دائر مدار نظر الجاعل والمملك بأسبابها، وإن لم
تكن الأمور الجعلية تابعة في الجعل لنظر الجاعل فلا بد أن تكون الوقفية في المثال
الأول باقية ببركة الاستعداد الذاتي، فتبين إنه مجال لبقاء الملكية من ناحية
الاستعداد الذاتي لعدم شمول دائرة الجعل للزايد على اعتبار المعتبر، فبهذا البرهان
نثبت إن بقاء الملكية وعدمه تابعة للجعل، فإن اعتبر في مقام الجعل والانشاء
الملكية الأبدية تصير الملكية أبدية، وإلا فتكون تابعة للأمد الذي اعتبره، فلو فرض
إن الجاعل ما حدد الملكية بالأبدية، وكان البقاء حينئذ مستندا إلى الاستعداد الذاتي،
ولم تكن من قبيل الأمور الاعتبارية، فيلزم حينئذ أن تكون من الأمور القارة من الأول
ومن بدو حصولها، أو تصير منها، ويخرج من مرحلة البقاء عن الاعتبارية إلى القارة،
330

فتكون من الأمور الحقيقية الحاصلة من دون جعل وإنشاء، وينقلب من الاعتبارية إلى
الحقيقية، فتحصل إن أنحاء الملكية مترتبة على كيفيات نظر جاعلها واختلاف جعلها،
وعليه فللرجوع إلى استصحاب عدم جعل الملكية بالحيازة بحيث لا تزول
بالاعراض مجال، فإذا شك في بقاء الملكية بعد ثبوتها فيكون استصحاب عدم الجعل
حاكما على استصحاب الملكية، فظهر من هذا إن استصحاب عدم الجعل محكم في
جميع موارد الشك في بقاء المجعول، ومعه لا يجوز الرجوع إلى استصحاب الملكية
مثلا في صورة الاعراض بعد الحيازة، وهذا كما ترى مخالف لما ذهب إليه الأصحاب،
فلا بد من بيان وجه وجيه في منعه، ويمكن الجواب عنه مجملا بأنه لما ثبت في
الشرع، وكذا عند العرف أمور مزيلة للملكية وموجبة لتبديل طرف إضافتها إما
اختيارا كالبيع وغيره من النواقل الاختيارية، أو قهرا كالموت ولا يعقل فعليته للمزال
عند وجود المزيل، وإلا يلزم أن لا يزال ولا يكون ما اعتبر مزيلا أن يكون مزيلا،
فلابد من الكشف عن إن الملكية ليست بحيث تبقى حتى مع تحقق النواقل، والحل
إن المجعول في الشرع ومورد إمضائه من التمليكات التي لا يكون الجاعل مقصور
النظر على جعلها إلى غاية خاصة، ولا مهملا من هذه الجهة الملكية الفعلية الأبدية لولا
المزيل، وعلى هذا فلا يبقى مجال لاستصحاب عدم الجعل أيضا بالتقريب المتقدم،
نعم لو كان التمليك الموقت في الأعيان نافذا كما في المنافع، لتطرق الاحتمال في
مورد عدم الاطلاع على كيفية نظر الجاعل، ولجاز استصحاب عدم الجعل، لكن
الخطب هين مع التسالم على عدم جوازه، فالظاهر إن استصحاب الملكية بعد
الاعراض خال عن المعارض وما يسقطه عن الاعتبار حكومة عليه أو ورودا،
ثم لا يخفى إن مراد صاحب الكفاية من إنها تبقى بذاتها بعد الجعل والحدوث، ما
ذكرناه من إنها لما كانت تابعة للجعل ونظر الجاعل، وكان نظره في غير الوقف
على البطون عند تمليك الأعيان على جعل الملكية أبدية لولا المزيل، فكانت بذاتها باقية
بعد الانشاء الكذائي، ومعه لا تحتاج إلى منشأ اعتبار جديد، ولما خفى الامر على
بعض فتوهم إن صاحب الكفاية قائل بكون الملكية كإضافة الأمور الخارجية
مستندة إلى العلة حدوثا لا بقاء، أورد وأغرب
331

تنبيه
وتقسيم آخر وهو إن المستصحب قد يكون حكما فعليا تنجيزا، كما إذا علم
بوجود زيد ووجوب إكرامه بالأمس، فشك في بقاء الوجوب، وقد يكون حكما
تعليقيا منوطا بشئ هو وجود موضوعه أو حصول أمر آخر أو ملازما وتوأما
مع حكم آخر، وقد وقع النزاع في جواز الاستصحاب التعليقي، فلا بأس بالتعرض
بأقسامه وبيان محل الكلام منه، فنقول إن الحكم إما مطلق أو معلق على شئ،
والحكم المعلق على شئ يكون على نحوين، فتارة يكون الحكم بنحو يدعو إلى إيجاد الموضوع وتحصيله مهما أمكن، وعليه فيحكم العقل بوجوب تحصيل الموضوع
مع التمكن، وإلا فيحكم بعدم وجوبه من باب عدم القدرة مثل الامر بشرب الدواء،
فإطلاق الخطاب يقتضي إيجاده أي تحصيل الدواء وشربه، إلا أن لا يتمكن
فيسقط من هذه الجهة، وأخرى يكون الحكم منوطا بوجود الموضوع ومشروطا
به ولا يدعو إلى إيجاده كوجوب إطعام الستين، فإنه كالواجب المشروط فإن الوجوب
مشروط بوجود شرطه ولا يحرك إلى إيجاده، وعلى هذا فلا يحكم العقل بإيجاد
الموضوع بل إن وجد من باب الاتفاق يجب إتيانه، وإلا فلا يجب تحصيله ولو مع
فرض التمكن والقدرة، والصورة الأولى تشرك مع الثانية في قيام الحكم في كل
منهما بالذات ونسبة الحكم في كل منهما إلى الذات من قبيل نسبة المحمول والعرض إلى
المعروض، ولكن في الثانية مضافا إلى قيام الحكم بالذات له إناطة بوجود الموضوع
بحيث لو لم يوجد لا يجب تحصيله ولو مع التمكن من ذلك، ومن هذا القبيل القضايا
الحقيقية فإن فعلية الحكم فيها مترتبة على فعلية الموضوعات، وفرضيته تابعة لفرضية
الموضوع، فمن هذه الجهة يصح إطلاق هذا القسم من الحكم بالوجوب المشروط كما إنه
ليس على المكلف تحصيل الشرط بأن يحصل الاستطاعة في الحج، أو يحصل النصاب في الزكاة،
كذلك لا يجب عليه تحصيل المسكين ولو بجعل الغنى فقيرا عند التمكن مقدمة للامتثال
إذا تبين وظهر إن الوجوب المطلق في لسان الخطاب يكون على نحوين أحدهما يلائم
القضية الحقيقية دون الاخر، علم إنه لا مجال للقول بأنه إذا الحكم في لسان الخطاب
332

قائما بعنوان إن هذا الحكم منوط بوجود الموضوع وفعليته دائر مدار فعليته فلا
يدعو إلى الامتثال ما لم يتحصل عنوان الموضوع بنفسه، وجه الفساد ما عرفت
من إنه يتصور في الحكم الوارد على الموضوع القائم به وجهان، أحدهما أن يكون
قيامه بالموضوع بنحو الاطلاق من غير إناطة له بوجود الموضوع، وعليه يحكم
العقل بتحصيل الموضوع وإيجاده مقدمة للامتثال كالأمر بشرب الدواء، وسوق
الهدى على الحاج وأمثال ذلك، ثانيهما أن يكون قيامه بالموضوع بنحو له إناطة
بوجوب الموضوع ولازمه أن يتحقق الحكم ويصير فعليا على تقدير وجود
الموضوع فعلا، ولا يكون له فعلية قبله، وعليه فلا يحكم بوجوب تحصيل
الموضوع وإيجاده وذلك مثل الحرارة، فإن قبل وجود النار لا فعلية ولا تحقق لها
خارجا، ففعلية الحرارة منوطة بفعلية النار، نعم لها قبل وجود النار وجود فرضي
، بخلاف القسم الأول فإن الحكم فيه ليس معلولا للموضوع بل محرك إلى إيجاده، فكم
فرق بين المقامين، فإن الشق الثاني بالخصوص شبيه بالقضايا الحقيقية بحيث يكون
فعلية الحكم حادثة من قبل فعلية الوجود كما هو شأن القضايا الحقيقية، فتحصل
وتبين إنه لا ينبغي القول بأن الخطابات الشرعية إذا وردت بنحو الاطلاق تكون
مثل القضايا الحقيقية مطلقا، بل لابد أن يلاحظ مضافا إلى قيام الحكم بالموضوع
هل له إناطة بوجود الموضوع أم لا، فإن لم يكن من قبيل الثاني فيكون مثل القضايا
الحقيقية، وإلا فيكون من قبيل الواجبات المطلقة بقول مطلق ومما يكون فعليا على
جميع التقادير، فهذه الجهة الأولى من البحث، والجهة الثانية من البحث هي إنه على فرض
إناطة الحكم بالموضوع، هل الحكم منوط بالوجود الخارجي للموضوع أم منوط
بالوجود اللحاظي، والمختار عندنا هو الثاني، ولكن كم فرق بين المسلكين، ومنشأ
الاختلاف في ذلك إن الأحكام التكليفية هل هي حقائق جعلية كالملكية وسائر
العناوين والاعتبارية أي متقومة بالجعل ومجعولات تنشأ من قبل الجعل، بحيث لولاه
لا حقيقة لها كالملكية، فإن العقلاء قبل الجعل لا يعتبرون التحقق له أصلا أم لا، بل
هي تابعة للإرادة والقصد ومنتزعة عن الإرادة المبرزة فإذا أبرزها ولولا بقصد
إنشاء الوجوب وتحققه يتحقق الوجوب وتتم الحجة، ونحن لما أشبعنا الكلام في
333

منع جعلية التكاليف وإنها من الحقايق الاعتبارية التي لا تتحقق إلا بالإرادة والقصد
إلى إنشائها بأسبابها بقصد التسبب بها كالملكية، والحق عند التعرض للأحكام
الوضعية في بعض التنبيهات المتقدمة، فلا نطيل المقال في المقام بل نشير إلى بعض
ما ساعدنا على المنع فرارا عن الحوالة، فنقول لاشك في صحة انتزاع الايجاب والوجوب
عن الإرادة المبرزة بالاخبار أو بالانشاء وبمادة الوجوب أو الهيئة حتى عند غفلة
المريد عن مفهوم الوجوب وعن سببية الانشاء لتحققه عند إبراز إرادته، فهذا كاشف
قطعي عن اعتباريته وجعليته بنحو الملكية وأمثالها، فإنها لا تتحق إلا بإرادة إيجادها
بأسبابها وبقصد التسبب بها إليها وعن إن هذه عناوين انتزاعية يعتبرها العقل
باعتبارات وملاحظات، وسيظهر إن ثمرة المسلكين في غاية البعد والتفاوت، (وحاصل)
ما تقدم بزيادة توضيح إن في الواجب المشروط مسلكين متباينين ومختلفين في جميع
الآثار ولكل منهما نتائج ولوازم، ومنشأ الاختلاف ينتهي إلى إنه هل الأحكام التكليفية
جعلية أم لا، وهذا النزاع بعد الفراغ والتسلم بأن البعث واللزوم والوجوب
والتحريك التي يعبر عنها بالأحكام التكليفية كانت من الأمور الاعتبارية، إلا إنه لما
كانت الأمور الاعتبارية مختلفة، فبعض منها تكون من الأمور الجعلية التي قوامها
بالجعل والانشاء ولا يتحقق إلا بإنشاء أسبابها بقصد التسبب إليها وتتحقق هذه
الأمور بها، ومن هذا القبيل الملكية فإنها لا تتحقق في الخارج إلا بالانشاء والقصد
إلى التمليك بهذا الانشاء، وبعض منها لا يكون كذلك بل هو متفرع على منشأ
انتزاعه كان من الأمور الجعلية أو التكوينية، وهذا كالوجوب فإنه تابع للإرادة
المبرزة وينتزع عن تعلق تلك الإرادة بالمراد، فما لم تكن الإرادة مبرزة لا يتحقق
الوجوب، وبعد إبرازها يحكم العقل بوجوب الامتثال وينتزع عنواني اللزوم
والوجوب، كما إن العقل إذا رأى العلم بالاشتياق مقتضيا لحركة العبد أداء لوظيفة
عبوديته فينتزع من تعلق الإرادة المعلومة عنوان التحريك، ويقال إن المولى حرك
عبده ولو لم يصر العبد متحركا إلى المشتاق بداعي الشهوة وبهذه العناية يعبر عنه
بالبعث من قبل المولى، والانبعاث من قبل العبد، فمن قبل حكم العقل ينتزع هذه
الأمور، فبعناية ينتزع اللزوم، وبعناية أخرى ينتزع الوجوب، وبعناية ثالثة البعث، ومنشأ هذه
334

الاعتبارات إبراز المولى اشتياقه، وبهذه العناية يكون الوجوب واللزوم أمرا اعتباريا
لا أمرا جعليا، بحيث لو لم يخطر هذا العنوان ببال المولى ولم يقصد بالابراز إنشائه
والتسبب به إليه يتحقق التكليف وعنوان الوجوب، وتمام هذه العناوين أمور
اعتبارية، لكن لا تحتاج إلى القصد، فعلى هذا لا تكون هذه الأمور ومنها الوجوب
أمرا جعليا قصديا بحيث لو لم يكن القصد إلى حصولها لا يتحقق الوجوب، فحقيقة
الأحكام التكليفية وقوامها بالجعل بمعنى إبراز الإرادة تكوينا بالانشاء أو الاخبار
لا بالجعل التشريعي الذي لابد فيه من قصد حصول المنشأ والتسبب بسببه إليه،
فعلى هذا فيتحقق الوجوب ويصح انتزاعه بمجرد بروز الإرادة، ولو لم يخطر هذا
العنوان ببال المولى ولم يقصد حصوله، فظهر إن مركز الاختلاف هاهنا بعد
الفراغ عن إن كلا من الوجوب واللزوم والبعث أمر اعتباري وفيها حظ من
الاعتبارية، إنه هل هي من الأمور الجعلية كالملكية وأمثالها، حتى تكون تابعة للجعل
وكيفية نظر الجاعل من حيث الاطلاق والإناطة بأمر خارجي أو لحاظي ولا
يتحقق إلا بالجعل الذي يحصل بالانشاء من دون العلم بتحقق الإرادة والاشتياق
من المولى، بل مع العلم بعدم تحققهما مع إن الوجدان لا يساعد ذلك، أو إنه ليس
منها وينتزع عن الشئ بعد إنشاء مبرز للإرادة، ولا تتم الحجة على العبد إلا به، فبنفس
هذا الابراز يوجد في الخارج منشأ انتزاع هذه الأحكام، ولو أطلقنا إنها جعلية
فلا نعني من الجعلية في المقام إلا هذا، ولازم ذلك إن الانشاء إذا صدر من المولى
ولكن يقطع بأن المولى ما أراد حصول الوجوب لما صح انتزاعه أيضا، فنكشف
من ذلك عن إن حقيقية الوجوب وما كان موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال
ليس إلا اشتياق المولى إلى العمل الذي أبرزه بإخباره أو بإنشائه، فبمجرد إبراز
الإرادة يحكم العقل بوجوب الامتثال، وينتزع الوجوب واللزوم، فإذا قطع بأن المولى
ما أراد العمل ولو حصل منه الانشاء، لا يصح انتزاع الوجوب الذي هو منشأ
للآثار بحكم العقل، فنكشف من هذا عن إن حقيقة الوجوب أمر لا يتحقق بالانشاء
فقط بل يتحقق بإبراز الإرادة، فتبين إن الجعل في الأحكام التكليفية غير الجعل
في الأحكام الوضعية، فإن الأحكام الوضعية تنشأ من قبل الجعل وقصد حصولها
335

بأسبابها حين التسبب بها إليها، بخلاف التكليفية فإن المراد من الجعلية هنا ليس إلا
إبراز الإرادة ويتعقبه حكم العقل بالحركة والامتثال وينتزع منه هذه العناوين أي
الوجوب واللزوم والبعث، ومع ذلك لا نحتاج إلى الجعل المتعلق بهذه العناوين،
وملخص الكلام إنه إما لا إناطة للحكم ولا تعليق له بشئ من وجود الموضوع
ومتعلق متعلقه وغيره، وإما أن يناط بوجود متعلق المتعلق ولا تعليق له بغيره،
وإما إنه متعلق على غير وجود الموضوع أيضا، فالأول مطلق يقتضي إيجاد موضوعه
والبعث على تحصيله مقدمة للامتثال، نظير أمر الطبيب بشرب الدواء أو استعمال
معجون خاص، فيكون الحكم في الصورة فعليا حتى في صورة عدم وجود الدواء
والمعجون، ولو شك في بقائه لاحتمال نسخ أو دخالة شئ قد انتفى بعد ثبوته، فالظاهر
إنه لا بأس باستصحابه، لكن لا يخفى إن هذا القسم من الحكم ليس مما يوجد فيه
شأن القضية الحقيقة، فإن شأنها فرضية الحكم بفرضية الافراد وفعليته بفعليتها، فلا
تكون فعلية على التقديرين كما في الفرض، وعلى هذا فلا بد من إخراج هذا القسم
عن تحت دعوى كون الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقة مطلقا، وأما في الصورة
المتصورة للتعليق فلا فعلية للحكم قبل حصول المعلق عليه من وجود الموضوع، أو
غيره أو كليهما، إذ لا يجب امتثاله بحكم العقل حينئذ، ولو كان فعليا لترتب عليه أثره
ولوجب امتثاله، فالحكم وإن كان من الأمور الاعتبارية الحاصلة بالانشاء والجعل إلا
إنه ما لم يوجد الموضوع لا يصح اعتبار وجوده ولا يصير شاغلا لصفحة الوجود،
وعلى هذا فلو أريد استصحاب التعليق الذي هو أيضا مما أمر وضعه ورفعه بيد
الشارع فلا وجه، إلا إنه لا ينبغي الفرق بين كون التعليق تقديرا في تقدير وبين
عدم كونه كذلك، بأن يكون الحكم معلقا على وجود الموضوع بتمامه أو بقيده
أو جزئه فيمنع عن استصحاب الأول دون سائر الصور، ولو أريد استصحاب نفس
الحكم المعلق فللمنع عنه مجال، إذ المفروض انتفاء الفعلية عن المجعول فلا وجه
للحكم الفعلي حتى يجوز حتى استصحابه بعد العلم والشك، وأما العلم بالانشاء فلا يوجب
علما بفعلية المنشأ فيما إذا كان منوطا بأمر غير حاصل، ولهذا لا يحكم بالملكية الفعلية
بمجرد إنشاء الوصية وإيجاد سبب الملك بعد الممات، فظهر إن شأن القضية الحقيقية
336

وإن كان متحققا في صورة التعليق إلا إنه لا مصحح لاستصحاب الحكم المعلق في
شئ في صوره، فالتفرقة التي صدرت عن بعض في غير محلها، ومجمل القول في جريان
التعليقي نفيا وإثباتا هو إن النزاع في ذلك مبني عن إن الأحكام التكليفية جعلية أم لا،
وحققنا إنها ولو كانت من الأمور الاعتبارية ولكن ليست جعليتها مثل جعلية
الأحكام الوضعية، بحيث يكون تحققها في الخارج منوطا بالانشاء والجعل كالملكية
والوقفية وغير ذلك مما قوامه بالجعل والقصد إلى حصوله بإنشاء سببه، بل جعليتها
عبارة عن ترتبهما عن إبراز الإرادة وجعل منشأ انتزاع الوجوب مثلا تكوينا،
فبنفس هذا الابراز توجد حقيقة الحكم في الخارج ولا نعني من الجعل في المقام إلا
هذا، وأما جعل الوجوب بذلك المعنى الذي كان في الأحكام الوضعية فمستلزم
للغو في بعض الصور، وللزم الجري على طبق وجوب قد وجعل منفكا عن إرادة
متعلقة في صورة أخرى مع إن ما كان محققا لموضوع العقل بوجوب الامتثال
هو العلم بإرادة المولى وإبرازها، وإلا فمع القطع بعدم الإرادة ولو كان إنشاء في
البين لا يتحقق موضوع حكم العقل والوجدان يساعد ذلك أيضا، وأما لزوم
اللغوية فهو في صورة كون إنشاء الوجوب ناشئا عن إرادة المتعلق ومقرونا بإبراز
تلك الإرادة، فإن العقل حاكم بلزوم الجري على طبق الإرادة المبرزة من المولى في
رتبة المنشأ وهو الوجوب الذي يكون إنشائه وسيلة إلى التوصل إلى متعلقة، فالمقصود
وهو إحداث ما يدعو المكلف إلى إتيان المطلوب حاصل في رتبة الوجوب المجعول
ومعه لا يحتاج إليه، فجعله مع ذلك يعد من اللغو المنزه عنه الحكيم، ثم لا يخفى إن
لكل من المسلكين لوازم ونتائج، فعلى تقدير جعلية الوجوب وكون حقيقته أمرا
اعتباريا تابعا للقصد والانشاء تتصور فيه وجوه (أحدها) أن يجعل الوجوب
مطلقا بأن لا ينيطه بوجود الموضوع في الخارج فيصير حينئذ من قبيل الواجب
المطلق كالأمر بالوضوء شرعا، وأمر الطبيب بشرب الدواء والمعجون، وعلى هذا
فيجب تحصيل الماء مقدمة للوضوء به عند التمكن وإلا فيسقط من باب عدم القدرة،
(وثانيهما) أن ينيط الحكم المجعول على الوجوب الخارجي للماء مثلا فقط، ونتيجة
ذلك عدم حكم العقل بلزوم تحصيل الماء والوضوء به لو لم يكن حاصلا بنفسه،
337

فيكون هذا من قبيل الواجبات المشروطة، ومن المعلوم أن شأن الوجوب المشروط
عدم حكم العقل بوجوب تحصيل الموضوع عند عدمه بل يحكم بالوجوب عند
تحقق الموضوع في الخارج من باب الاتفاق، ولازمه الاخر عدم فعلية الوجوب
عند عدم وجود الموضوع لان الوجوب منوط بوجود الموضوع على الفرض، فلا
يصير فعليا ما لم يتحقق موضوعه، فهو وإن كان موطن انشائه متقدما على الموضوع
زمانا إلا إنه لا فعلية له إلا حين فعلية موضوعه، فحاله من هذه الجهة مشابهة للتمليك
بالوصية، فإن الملكية فيها منوطة بتحقق الموت فقبله لا وجود للملكية بالفعل بل
كانت ملكية شأنية تقديرية، يعني لو وجد الموت وجدت الملكية الفعلية، فلو كان
وجوب الوضوء من هذا القبيل صح أن يقال لو وجد الماء من باب الاتفاق لوجب
الوضوء بالفعل، وإلا فيجب شأنا وتقديرا كما هو شأن القضايا الحقيقية التي يدور
فيها فرضية الحكم مدار فرضية الموضوع وفعليته مدار فعليته، ولا يتوهم إن هذا
النحو من الوجوب لا ينفك عن المحركية ويكون علة تامة لها، فهو مع تقديريته
حكم يترتب عليه الأثر فيصح استصحابه عند الشك في بقائه، فإنه يندفع بأن
الوجوب الذي لا ينفك عن المحركية هو ما كان واقعا في رتبة فعلية موضوعه
وما أنيط به، ضرورة إن وجوب الحج على المستطيع لا محركيته له إلى الحج أصلا
بالنسبة إلى واجد الشرط، وبالجملة لو كان الوجوب منوطا بوجود الموضوع ومجعولا
بالانشاء نظير الملكية وأمثالها، فحينئذ قد ينفك عن المحركية وقد لا ينفك، فإذا صار
وجود الموضوع فعليا يصير الحكم فعليا ومحركا إلى المتعلق وإلا يبقى في
مقام الاقتضاء، (وثالث) الوجوه أن يكون الوجوب المنوط بوجود الموضوع
منوطا بشئ آخر أيضا، مثل إناطة الحرمة والنجاسة بالغليان زائدا على وجود
العصير، فتكون حينئذ قضيتان تعليقيتان طوليتان، فالنجاسة والحرمة في المقام منوطة
بشيئين (أحدهما) وجود الموضوع أي العصير، (والاخر) وجود الغليان،
والفرق بين الصورة المتقدمة وهذه الصورة بعد كونهما شريكتين في عدم فعلية
الوجوب عند عدم فعلية المنوط به، هو إن في الصورة الأولى بعد وجود الموضوع لا
يصير فعليا، وفى الثانية بعد وجود الموضوع لا يصير فعليا أيضا، بل فعليته منوطة بوجود
338

الشئ الاخر الذي أنيط به زائدا على وجود الموضوع، فحينئذ إذا بنينا على إنه لا بد في
الاستصحاب أن تكون القضية المشكوكة متحدة مع القضية المتيقنة موضوعا واعتبرنا بأن
يكون المستصحب شاغلا لصفحة الوجود وفعليا، فلا مجال لجريان الاستصحاب في الحكم
من دون فرق بين كون المعلق عليه وجود الموضوع أو شيئا آخر زائدا عليه، ولو قلنا
بكفاية الوجود التقديري في جريان الاستصحاب فلا فرق بين كون الوجوب معلقا
على الوجود فقط أو شئ آخر زائدا على ذلك، وإن قلنا بعدم كفاية الوجود
التقديري، وأردنا استصحاب التعليق الذي هو شئ أمره بيد الشارع وضعا ورفعا،
فعليه أيضا لا وجه للفرق بين استصحاب تعليق الحكم على وجود الموضوع أو
عليه وعلى غيره، فلا وجه للتفرقة بين صورة كون الحكم شأنيا على تقدير أو على
تقدير في تقدير، فإن التعليق المستصحب شرعي على التقديرين ويتصور فيه اليقين
والشك على كليهما، فلا ينبغي أن يفرق بين الصورتين كما صدر عن بعض، ومنها
أن تكون القضية التعليقية واحدة ولكن كان ما علق عليه حكم هذه القضية أمرا
مقيدا، أي إن وجد العالم المقيد بالقيام يجب إكرامه، فوجوب الاكرام حينئذ معلق
على وجود زيد العالم المقيد بالقيام، فالقضية التعليقية واحدة من حيث الجزاء والشرط،
غاية الامر إن شرطه مقيد وقابل للتحليل إلى ذات وتقيد، وهذا بخلاف الصورة
السابقة فإن فيها شرطين وجزائين طوليين، ومنها أن يكون القيام جزء للشرط
لا قيدا، أي إن وجد العالم وقيامه يجب إكرامه، فالقضية التعليقية في هذه الصورة
أيضا واحدة، غاية الامر إن المعلق عليه كان مركبا من جزئين حقيقة لا تحليلا،
وينبسط الحكم الفعلي على كليهما حين فعليتهما، وكانت الصورة الواضحة منها أن
يكون الوجوب منوطا بوجود الموضوع، وكما إن لازم ذلك أن لا يصير الوجوب
فعليا إلا عند فعلية موضوعه، وأما قبلها فهو حكم إنشائي فرضي لا يدعو إلى
متعلقه أصلا، فشأن القضايا الحقيقية وإن كان حاصلا في جميع صور التعليق إلا إن
هناك ليس الحكم فعليا إلا على تقدير فعلية الموضوع، وأما على فرضيته فيكون
الحكم فرضيا بخلاف الواجب المطلق، فإن الحكم فيه فعلى على أي تقدير، ولا بأس
بجريان الاستصحاب فيه لان المستصحب كان شاغلا لصفحة الوجود من حين
339

الانشاء، ولو لم يكن الموضوع له حظ من الوجود الفعلية الخارجية، وأما إذا كان
الحكم معلقا عل نحو من الأنحاء المتقدمة وأريد أن يؤخذ بالاستصحاب عند الشك،
فنسئل إن الاستصحاب يجري في التعليق أو نفس المعلق، فإن أريد إجرائه في نفس
المعلق فلا مجال له لأنه لا وجود له، وقد تقدم إنه يعتبر في جريان الاستصحاب أن
يكون المستصحب شاغلا لصفحة الوجود، ففي تمام القضايا التعليقية لا يمكن أن
يقال إن الحكم كان فعليا ولو كان لانشاء وإثبات مفهوم لمفهوم فعليا، وأما لو
أريد إجرائه في نفس التعليق بملاك إن التعليق أمر قابل للنسخ ولو قبل فعلية
الحكم وأمر له واقعية، وللشارع وضعه ورفعه، فلا بأس به إلا إنه يتسع المجال للسؤال
عن وجه التفرقة بين استصحاب تعليق الحكم على وجود الموضوع والامر المنفرد
دون تعليقه على الشيئين حقيقة أو تحليلا، كما في الصورة المتأخرة، فتلخص مما ذكرنا
إن مضمون الخطاب المتوجه إلى المكلف نحو يجب عليك إكرام العالم، تارة يكون
مطلقا غير منوط بوجود العالم، ولازم هذا الاطلاق وجوب تحصيل العالم وإيجاده
لو لم يكن وأمكن ذلك، كما قال بعض يجب تحصيل الايمان للعبد وإيجاده امتثالا
لخطاب أعتق رقبة مؤمنة في صورة التمكن، ففي المثال أيضا يجب إكرام العالم ولو
بإيجاده، وعليه فلا إشكال في هذه الصورة في فعلية الحكم قبل وجود الموضوع،
فمنشأ الآثار ولزوم الاتيان بالمأمور به فعلي مطلقا، ولا بأس بجريان الاستصحاب
فيه عند الشك لتمامية أركانه، لان المكلف كان قاطعا بحكم فعلى، والآن يشك في
بقائه فتطبيق الاستصحاب عليه في غاية الوضوح، ولكن أشرنا إلى إنه لا يلائم
القضية الحقيقية لان الحكم منها قبل وجود الموضوع تقديري لا فعلي، بخلاف
المقام فأن الحكم فيه كان فعليا على الفرض مطلقا فلا قصور فيه، فإن شأن القضايا
الحقيقية بأن تكون نسبة الحكم فيها إلى الموضوع كنسبة الحرارة إلى النار، فإن
كانت النار فعلية فالحرارة فعلية، وإلا فشأنية لان الفعلية محققة، ويكون الحكم منشأ
للآثار على التقديرين، وأخرى لا يكون مطلقا بحيث يكون محركا إلى إيجاد
الموضوع بل يكون منوطا ومشروطا بوجوده، ولنا بيان آخر في المقام به نختم
الكلام ثم نتعرض لمسلكنا وهو إنه إذا ورد خطاب من الشارع على نحو الكلية مثلا
340

إذا قال كل خمر حرام، أو كل عالم يجب إكرامه، أو كل دواء يجب شربه، فتتصور
فيه صور ثلاثة، فتارة يكون مضمون الخطاب وجوبا أو حرمة فعليا على الاطلاق،
ومحركا فعلا على نحو المتعلق ومقتضيا للإطاعة والامتثال، وهذا ما إذا كان يوصفه
السيد الاجل السيد محمد الأصفهاني قده، بالفعلية والفاعلية، يعني يكون الخطاب
محركا نحو العمل فعلا فزائدا على كونه فعليا يكون داعيا إلى العمل الفعلي أيضا،
فلا يكون قصور في الفعلية ولا في الفاعلية أي المحركية، وتارة يكون الحكم فعليا
ولا يكون محركا، فيفك الفاعلية والمحركية عن الفعلية، وهذا مثل الاحكام الفعلية
بالنسبة إلى الجاهل فإنها في حال الجهل فعلية ولا فاعلية لها أي لا محركية لها لان
المحركية منوطة بالبيان والعلم، فما لم تتمم الحجة لا يصير الحكم محركا إلى متعلقة،
وأخرى لا يكون فعليا ولا فاعليا على ما سيأتي، أما الصورة الأولى فلا إشكال
حينئذ في وجوب تحصيل الموضوع والعمل به، فلهذا الحكم فعلية، وأما الصورة
الثانية وهي ما لم يكن للخطاب بالنسبة إلى الموضوع إطلاق ولو كان له إطلاق
بالنسبة إلى غيره، فتكون فعلية الحكم منوطة بوجود الموضوع، فإن وجد من باب
الاتفاق يصير الحكم فعليا، وإلا فلا، فحينئذ تارة يكون منوطا بوجوده اللحاظي
والفرضي الذي كان طريقا إلى الوجود الخارجي، فيلاحظ المولى وجود الموضوع
ويثبت الحكم عليه، فيكون هذا الحكم فعليا لفعلية الموضوع والمنوط به ولا فاعلية
له لان اللحاظ طريق إلى الخارج، فلا يكون محركا إلى الفعل إلا عند انطباق الصورة
الذهنية على ذيها وفعلية المحكي بها خارجا، نعم لو كان للحاظ موضوعية لكان الحكم
بالفعل محركا أيضا، ولكن ليس له موضوعية بل الملحوظ طريق إلى الخارج فما لم
يتحقق ذو الطريق لا يحكم العقل بوجوب التحرك، فتنفك الفعلية حينئذ عن الفاعلية،
فالخارج ظرف الاتصاف بالحكم كما إن الذهن ظرف للعروض، ونظير ذلك يتصور
في حكم أجزاء الواجب فيما إذا أتى بجزء واحد وكان مشغولا بإتيان البقية، فإن
الوجوب المأتي به وكذا وجوب الجزء الأخير فعليان لا فاعلية لهما، وذلك لان التكاليف
الضمنية بالنسبة إلى المركبات متلازمات سقوطا وثبوتا، فما لم يؤت بميم السلام مثلا
لا يسقط التكليف من التكبير وغيره، فإذا شرع في التكبير لا يسقط التكليف عنه
341

ومع ذلك لا يكون محركا إليه ثانيا لان التكاليف الضمنية متحركة إلى شئ لو
انضمت إليه بقية الاجزاء لكان ساقطا، وكذا بالنسبة إلى الشروط المتأخرة
كغسل المستحاضة في الليلة المقبلة بالنسبة إلى التكليف بالصوم في اليوم المتقدم عليها،
فالتكليف بالصوم مع إتيان متعلقه لا يسقط إلا بإتيان الغسل بعده، فما لم يغتسل
يكون وجوب الصوم فعليا لا فاعلية له، فسقوط التكليف عنها في علم الله كان
مراعى بإتيان الغسل بعده، وأخرى يكون منوطا بالوجود الخارجي لا اللحاظي،
ويكون اللحاظ طريقا محضا لا موضوعية له أصلا، فظرف الاتصاف والعروض
كلاهما في المقام خارج الذهن، فقبل وجود الموضوع خارجا لا فعلية للحكم ولا
فاعلية، فهذه تصورات ثلاثة، وفي خصوص الصورة الثالثة يمكن أن يقال إن
الموضوع علة للحكم ويكون مثل القضايا الحقيقية، فبفعلية الموضوع يكون الحكم
فعليا، وبفرضيته يكون فرضيا، وأما ما عداها من الصورتين المتقدمتين فلا تلائم
الحقيقية، فإن الحكم على ما ظهر فعلي فيهما مطلقا، ولهذا صح أن يقال بأنه لا قصور في
جريان الاستصحاب في الحكم في الصورة الأولى، سواء كان الموضوع بسيطا أو
مركبا، وكذا في الشق الثاني، لان الحكم تعلق على فرض وجود ماء العنب المقيد
بالغليان، فالحرمة في عالم العنبية كانت متيقنة، وعالم الزبيبية تصير مشكوكة، يعني بعد
الغليان في حال الزبيبية يشك في إن الحرمة الفعلية القائمة بماء العنب إذا غلى باقية
أم لا، فلا قصور في استصحابها أيضا، سواء كان الموضوع بسيطا أو مقيدا،
وأما الشق الثالث فلا مجال لاستصحاب الحكم المعلق سواء كان الموضوع بسيطا أو
مركبا أو مقيدا، لأنه لا فعلية ولا فاعلية للحكم قبل وجود الموضوع، فلو أريد
إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى نفس المعلق عليه فلا مصحح له، إذ لا وجود له قبل
وجود المعلق عليه، وإن أريد إجرائه بالنسبة إلى التعلق فلا بأس به سواء كان
المعلق عليه بسيطا أو مركبا، وكان التعليق من قبيل تقدير واحد أو تقدير في تقدير،
وعلى كل فلا وجه للتفرقة بين ما إذا علق الحكم بوجود الموضوع أو به وبشئ
آخر، هذا كله على مسلك جعلية التكليف، وقد ظهر إن التكليف إذا أنيط بوجود
شئ في عالم اللحاظ يكون التكليف فعليا لا فاعليا، ولا محركية له، وإذا كان منوطا
342

بوجود الشئ خارجا فحينئذ لا فاعلية له أيضا ما لم يوجد المنوط به في الخارج، فبناء
على مسلك الجعل يتصور الاعتبار ان، وأما على مسلك عدم الجعل كما هو المختار
من إن الانشاء مبرز للإرادة، والحكم عين تلك الإرادة المبرزة، أو منتزع عنها، فلا
يتصور الشق الأخير وهو كون الحكم منوطا بالوجود الخارجي على ما سيجئ،
ثم لا يخفى إن الوجوب منتزع عن الإرادة المبرزة بعد العلم بالخطاب، ولهذا لا يصح
أن يعد الوجوب الداعي إلى الامتثال ولزوم الاتيان بمتعلق الإرادة من مراتبها،
فإن محركية الوجوب في عالم الجعل في المرتبة المتأخرة عن العلم بالتكليف ويستحيل
أن يكون مدلول الخطاب، لان مدلول الخطاب عبارة عما كان الخطاب طريقا إليه،
والمفروض إن تلك المرتبة في الرتبة اللاحقة لا في الرتبة السابقة، والمراد من
الإرادة ليست هذه المرتبة لان هذه المرتبة معلولة البيان والخطاب وواقعة في الرتبة
المتأخرة عنه، وبالجملة الإرادة التي تكون مضمونا للخطاب ويبرزها المولى بذلك
الخطاب لا تكون بالرتبة التي لا تنفك عن العمل وتكون علة للتحرك، بحيث لو لم
يتحرك العبد معها يكون مستحقا للعقوبة، لأنها على ما عرفت معلومة للخطاب المتأخرة
عنه، بل الإرادة التي كان الخطاب مبرزا عنها هي الإرادة التي تكون في الرتبة السابقة
على الخطاب، ويمكن أن ينفك عن المحركية الفعلية، نعم هي مقتضية لها لو لم يكن في
البين مانع، وليست علة تامة للتحرك لكونها قابلة لان تجتمع مع الموانع والجهل،
وليست هذه إلا مرتبة الاشتياق التام الذي يعبر عنه بالشوق المؤكد ولا تكون
مؤثرة فعلا، فتحصل إن المرتبة الأولى من الإرادة لا تعقل أن تكون مضمونا
للخطاب، فلا تقاس الإرادة، التشريعية بالإرادة التكوينية التي كانت علة للعمل، فما
كان مضمونا للخطاب هو مرتبة الاشتياق الذي لم يكن مقرونا بالمانع، وهذا
النحو من الاشتياق تارة يكون مطلقا فيحكم العقل بالحركة نحو العمل ولو بإيجاد
الموضوع، وأخرى يكون منوطا، ففي هذه الصورة لا يعقل أن يكون منوطا
بالوجود الخارجي بل بالمنوط، به اللحاظي، فإذا لاحظ المولى الحج ورأى فيه المصلحة
عند الاستطاعة مع اجتماع الشروط من البلوغ والعقل وغير ذلك، فيشتاق إليه، غاية
الامر لا يكون الاشتياق اشتياقا مطلقا بحيث يقتضي حفظ الموضوع بل الاشتياق
343

على فرض، كما إذا كانت المصلحة قائمة بالوجود الخارجي للصلاة، فيلاحظ الوجود
الخارجي للصلاة ويكون هذا اللحاظ علة لإرادة الصلاة، فكما إن لحاظ الصلاة علة
للإرادة ولو لم يكن لها في الخارج وجود وكذا الإناطة، فيلاحظ المولى طرف إناطة
الإرادة ذهنا وينيط التكليف به إذ لا يعقل أن يكون الاشتياق منوطا بالوجود
الخارجي لأنه من الأمور التي ظرف عروضها الذهن، فيلزم أن يكون المعروض ذهنيا أيضا،
وإلا يلزم الخلف، فظهر إن على مسلك عدم جعلية التكليف لا يكون الحكم منوطا
إلا بالوجود الفرضي اللحاظي الحاصل للمريد حين إرادته، فتكون الإرادة فعلية
دائما كانت منوطة بشئ أو لم تكن، وعلى هذا فلا مجال لمنع جريان الاستصحاب
التعليقي في الحكم أيضا، لان عدم الجريان في صورة كون الحكم منوطا بوجود
الشئ خارجا، فإن هذه الصورة لا تصير فعليا وشاغلا لصفحة الوجود إلا عند وجود
المنوط به، وقد عرفت استحالة هذا القسم من الإناطة على المختار، فعلى مسلكنا يجوز
إجراء الاستصحاب في التعليق والمنوط به مطلقا، وأما على القول بجعلية الاحكام
فلا يتصور وجه لاطلاق القول باستصحاب المجعول ولا لمنعه في التعليق في بعض
التقادير، فتحصل مما مر إن الإرادة إما مطلقة أو منوطة بما هو حاصل للمريد
وهو لحاظ ما له دخل في المصلحة والملائمة بلحاظ آلي غير ملتفت إلى ذهنيته، فهي
حاصلة في كلتا الصورتين، والخطابات الشرعية مبرزة لها فهي بقسميها واصلة مرتبة
الفعلية إلا إن المنوط بشئ من وجود الموضوع أو ما له دخل في الصلاح بنحو
من الدخالة لا فاعلية لها، والعقل لا يحكم بلزوم الجري على وفقها ما لم يوجد الشرط
أو الموضوع، وأما المطلقة فهي علة لحصول متعلقها وباعثة ومحركة إليه أيضا، فكما
إنه لو شك في بقاء التعليق والإناطة لاحتمال النسخ استصحابها بلا كلام ظاهر،
فكذا لو استند الشك إلى دخل من أحوال الموضوع، فحينئذ يجوز استصحاب
التعليق وكذا المعلق لتمامية أركانه إذ المفروض إن الإرادة المنوطة المبرزة شاغلة
لصفحة الوجود، وعلى هذا وإن جاز استصحاب المعلق مطلقا سواء كان جزئيا أو
كليا، وكان معلقا على البسيط أو المركب، إلا إنه لا يصح أن يدعى إن الأحكام الشرعية
طرا من القضايا الحقيقية، فإن شأن الحقيقية أن يدور فعلية الحكم والأثر مدار
344

فعلية الموضوع وفرضيته، وقد مر إن الحكم هنا فعلي حتى في صورة فرضية
الموضوع وما أنيط به الحكم، وأما على مختار من يقول بمجعولية التكاليف، فقد
مر إنها إما منوطة باللحاظ أو بالوجود الخارجي للشرط مثلا، ولا يخفى إنها لو كانت
من الأخير صح ادعاء كونها بنحو القضية الحقيقية، إلا إنه ما لم يوجد الشرط لا
يتحقق الحكم كي يستصحب عند الشك في بقائه، وأما لو كانت مشروطة بوجود الشئ
لحاظا ولوحظ، فهي حينئذ وإن كانت فعلية وجاز استصحابها عند الشك إلا إنها لا
تنطبق عليها ضابط الحقيقية، هذا مضافا إلى إنه لا فرق في الصورتين بين كون
الحكم جزئيا أو كليا معلقا على البسيط أو المركب، فالتفصيل في غير محله على
الاطلاق كما إن تجويز الاستصحاب ولو في الجملة لا وجه له بالنسبة إلى صوره وكذا
لا وجه لدعوى إن الاحكام من القضايا الحقيقية بالنسبة إلى صورة أخرى، ثم إنه
لما كان إثبات إن الحكم المجعول منوط بوجود الشئ لحاظا لا خارجا في غاية الاشكال
أيضا، فلهذا نبهنا على إن منشأ الخلاف في الاستصحاب التعليقي هو الخلاف في جعلية
الاحكام واعتباريتها وعدم كونها كذلك، ونحن لما حققنا إنها ليست من الحقايق
الجعلية وإنها عين الإرادات المبرزة بالانشاء مثلا، وبينا إن الإرادة لا تناط بالوجود
خارجا فإنها مما ظرف عروضها الذهن، فجاز لنا استصحاب الحكم التعليقي مثل التنجيزي
بلا محذور ومانع، وأما غيرنا فيقع في حيص وبيص، بقي الكلام في إشكالين
آخرين، أحدهما إن ما يذكر مثالا للباب من ماء الزبيب فهو خارج عن مورد الكلام،
فإن العنب والزبيب موضوعان متغائران عند العرف لكنه كما ترى خدشة في المثال،
ولا ينبغي عده من الاشكال على الاستصحاب التعليقي، فإن ماله إلى اعتبار وحدة
القضيتين، وهذا من شروط مطلق الاستصحاب، ثانيهما إن هذا الاستصحاب
معارض في الأغلب باستصحاب تنجيزي يخالفه وهو أصالة الحل في حال الزبيبية
قبل الغليان، فلا فائدة فيه، وقد أجيب عن ذلك على ما في الرسائل والكفاية، بأن ماله
دخل في موضوع حرمة التعليقية مثلا غاية للحل وشرط للمعلق، فلا تنافي بينهما في
صورة القطع بالغائية والشرطية، إذ بمجرد حصول الشرط تحصل الغاية فترتفع
صحيح الحلية، وأما إذا شك فيهما كما في دخالة غليان عصير الزبيب في الحكمين على
345

النحوين نظير دخل غليان عصير هذا الجسم في حال العنبية، فبالاستصحاب تحرز
الدخالة ويعلم بعدم بقاء الحلية في ظرف الغليان، وبعبارة أخرى لما كان الشك في
بقاء الحلية مسببا عن الشك في غائية هذا الغليان لها وشرطيته للحرمة وأمكن أجراء
الأصل في السبب فلا يبقى وجه لجريانه في المسبب ومعارضته مع ما يجري في السبب،
وهذا الجواب كما ترى مختص بما إذا كان الحكم التنجيزي ولو بمقتضى الجمع
والتخصيص مختص بما قبل الغاية، ولم يمكن ملاك لبقائه بعدها، فإن الغليان مثلا
يكون حينئذ قيدا شرعيا لكلا الحكمين ومعه لا يبقى مقتضى لبقاء التنجيزي في
ظرف حصول الشرطية والغائية، وأما لو كان عدم اجتماع الحكمين في ذلك الظرف
من جهة تزاحم المقتضيين وحكم العقل باستحالة اجتماع الضدين لا من باب التخصيص وانتفاء
ما يقتضي الاجتماع، فحينئذ وإن لم يمكن أن يكون الحكم التنجيزي فعليا حتى في
صورة حصول الشرط للمعلق، إلا أن ذلك بمقتضى العقل فتصير غائية الغليان للحل
عقليا لا شرعيا، فترتب انتفائه وعدمه عليه عقلي لا يصلح إحرازه بالأصل، وبالجملة
لو كان الحكم بانتفاء الحكم التنجيزي عند حصول ما علق عليه حكم آخر شرعيا
محضا، فالجواب دافع لما أورد، وإن كان الحكم بالانتفاء عقليا وكان المقتضى لكل
من الحكمين متحققا في عرض الاخر، غاية الامر يحكم بفعلية أحدهما فقط لاستحالة
اجتماع الضدين وترجيحا لأقوى المتزاحمين، فلا ربط للجواب بالاشكال ولا يتصور
رافعية له إلا على الأصل المثبت، وربما قيل في دفع تعارض الاستصحابين إن الشك
في بقاء المعلق مسبب عن الشك في كيفية جعل الحلية التنجيزية للزبيب، فالمرجع هو
الأصل السببي وليت شعري إنه لم لم يعكس المقال مع إنه قابل الاحتمال أيضا، ولا
يخفى إن الشك في بقاء المعلق ناشئ عن الشك عن احتمال كون غليان ماء هذا الجسم
مطلقا غاية لهذا الحكم، فلا يتصور للسببي المدعي وجه وجيه، فما في (الدرر) من تعارض
الاستصحابين وإن الشك في أحد الحكمين ليس مسببا عن الاخر كلام متين ولا
جواب عنه إلا بما مر، وقد عرفت اختصاصه بما إذا كان التصرف في الحكم
التنجيزي من باب التخصيص أو التخصص، وأما إذا كان من باب احتمال تزاحم ما
يقتضيه مع مقتضى الحكم المعلق، بأن لم يكن قصور في تأثيره في الحكم حتى في
346

صورة تحقق الحكم الاخر، غاية الامر إنه لم يسقط عن التأثير في فعلية الحكم فإنه
من جهة العقل باستحالة اجتماع الضدين وترجيحا للأقوى في البين، فحينئذ لا ينفع
استصحاب التعليق أو الحكم المعلق في إثبات التنجيزي عند انتفاء ما يحتمل شرطيته
إلا على القول بالمثبت، فلا ينتفي به الشك في بقاء التنجيزي فيستصحب كاستصحاب
الحكم المعلق، فيبقى التعارض المدعي خاليا عن الجواب في هذه الصورة، ولذا قلنا بأن
الجواب المذكور في الكفاية دافع في الجملة، ثم لا يخفى إن مدعى السببية والمسببية
في المقام فرق بين السببي والمسببي في الموضوعات وفى الاحكام، ولعل هذا من
الأصول الجديدة التي لم يكن يعرفها أحد في القديم،
تنبيه
المشهور إنه لا فرق في المستصحب بين أن يكون في أحكام هذه الشريعة أو
من الشرايع السابقة مما لم يعلم بنسخها بالخصوص، سواء كان الشك في بقائها من
جهة احتمال النسخ أو غيره، فكما أن لا تنقض يكون جاريا في أحكام شرعنا عند
الشك في بقائها لاحتمال النسخ أو غيره، فكذلك يجري بالنسبة إلى الشرائع السابقة
إذا ثبت فيها حكم بنحو الكلية ثم شك في نسخها بالنسبة إلى شرعنا، ولكن أوردوا
في المقام إشكالين، (أحدهما) إن الحكم الثابت في الرتبة السابقة كان ثابتا بالنسبة
إلى أفراد متبائنة مع أهل تلك الشريعة اللاحقة، فإثبات حكمها بالاستصحاب من
قبيل إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر، (ثانيهما) إن لنا علم إجمالي
بمنسوخية بعض أحكام الشرايع السابقة، فاستصحاب ما ثبت فيها عند الشك في
بقائه مع العلم الاجمالي مما لا مجال له، ولابد لنا في المقام من بيان مقدمة حتى يظهر
منشأ الخلط، وهي إنه إذا ثبت حكم لعنوان كلي واحتمل أن يكون الزمان قيدا
أو شرطا في ثبوت الحكم لذلك الموضوع، فحينئذ وإن أمكن احتمال رجوع القيد
والشرط إلى الموضوع أيضا، إلا إنه لما بينا من إنه يستحيل أن تثبت قيود الحكم
للموضوع على ما تقدم، لاستلزامه تقدم الشئ على نفسه، فلا بد من الالتزام بأنه
مجرد عن تمام القيود من المجئ وغيره، غاية الامر إنه إذا حصل للحكم ضيق ولم
347

يكن له سعة حتى يشمل حال انتفاء قيده، فيحصل بواسطة ضيق الحكم ضيق
للموضوع أيضا، بمعنى إنه يحصل للموضوع قصور في شموله لحال عدم القيد، فلا يكون الحكم حينئذ معروضا للوجوب بقول مطلق حتى في حال عدم وجود قيد
الحكم، فما كان موضوعا للحكم حينئذ وهو وجوب إكرام زيد إذا جاء مثلا هو
ذات زيد عاريا عن تمام القيود، فإن قيود الحكم ليست راجعة إلى الموضوع بوجه من
الوجوه، نعم تارة يكون الضيق والقصور في ناحية الموضوع ابتداء، فيحصل الضيق في
ناحية حكمه بالتبع عكس ما تقدم، مثلا إذا أمر بإكرام العالم العادل فيكون الموضوع
حينئذ بذاته قاصرا عن شمول العالم الفاسق، فالقصور هنا في الموضوع بخلاف الصورة الأولى
فإن القصور في الحكم لا في الموضوع، أولا إذ ليس في ناحية الموضوع قصور بوجه
من الوجوه إذا علم ذلك، فقول إنه إذا ثبت حكم في الشريعة السابقة بنحو كلي سواء
كان بنحو الطبيعة السارية أو العموم الاستغراقي، واحتملنا أن ذلك الوقت له دخل
في ثبوت الحكم للاشخاص بحيث ينتفي الحكم بانقضاء زماني النبي السابق، فيوجب
هذا الاحتمال قصورا في ناحية الحكم، فيقطع إنه لا قصور في ناحية الموضوع
ولا تقيد له بشئ مفقود في أهل الشريعة اللاحقة، وإنما القصور المحتمل في ناحية
الحكم إما من جهة اقترانه بالمانع، أو من جهة فاقديته للشرط، فإذا ثبت الحكم على
هذا النحو من الموضوع، فيشك حينئذ في إن هذا الحكم قاصر الشمول لهذه القطعة
الأخيرة من الزمان المتأخر أم لا، وحينئذ فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه لان
شأن الاستصحاب جر الحكم المعلوم الثبوت سابقا والمشكوك لا حقا إلى العلم
بالخلاف، فكان الشك فيه من جهة الشك في الرافع، أو في انتفاء القيد والشرط،
وبالجملة إذا لم تكن قيود الحكم راجعة إلى الموضوع فيكون المرجع حينئذ إن
الحكم الذي كان من أول الامر ثابتا للطبيعة السارية هل كان موقتا بوقت
مخصوص أم لا، بل كان مطلقا وسيع الدائرة ثابتا لا هل الشريعة اللاحقة أيضا،
وفى المقام يرجع إلى الاستصحاب، فإن شأنه إسراء الحكم إلى حال عدم القيد الاحتمالي،
فتحصل إنه على المبني المختار من عدم رجوع قيد الحكم إلى الموضوع لا قصور
في الموضوع، وإنما القصور ناشئ من قبل الحكم، فشأن الاستصحاب ومقتضاه إن
348

يوسع دائرة الحكم حينئذ، ولو أغمضنا عن ذلك وفرضنا إن قيود الحكم راجعة
إلى الموضوع، فنقول إن قلنا إن لسان لا تنقض ناظر إلى الموضوع الدليلي، فلا
مجال لجريان الاستصحاب لان نظر الدليل راجع إلى ثبوت الحكم لذلك الموضوع
في الشريعة السابقة، وإن قلنا بأن لسان لا تنقض ناظر إلى الموضوع العرفي، فلا
بأس بجريان الاستصحاب في الحكم المشكوك، فعلى هذا المسلك لا بد من التفصيل
بين اللسان الدليلي والعرفي، بخلاف المسلك المختار أي عدم رجوع قيود الحكم إلى
الموضوع، فيجري الاستصحاب من دون احتياج إلى التفصيل المذكور، ثم لا يخفي
إنه لا بأس بالاستصحاب في المقام على مختارنا من الاحكام عبارة عن الامارات
المبرزة بالانشاء أو الاخبار، وإنه لا فرق في فعلية الحكم حينئذ بين أن يكون مطلقا
أو مشروطا، فإن الاشتياق الذي يبرز الخطاب فعلي للمشتاق حتى في صورة إناطته
بأمر غير حاصل بالفعل خارجا، وذلك لان المنوط به هو لحاظ ذاك الامر طريقا، وهذا
اللحاظ الطريقي بالنسبة إلى الملحوظ موضوع بنفسه للإرادة والاشتياق، فإن ظرف
عروضه عن متعلقاته الذهن، وإنما الخارج ظرف الاتصاف، فإذا لو حظ المنوط به
لا تبقى حالة منتظرة للإرادة والاشتياق، فتحصل بالفعل وتبرز بالخطاب المشروط
المتوجه إلى آحاد المكلفين الموجودة ذهنا في لحاظ المريد، وإن كانوا معدومين في
الخارج جميعا أو بعضا، وعلى هذا فالحكم فعلي بعد الابراز مطلقا، نعم لا فاعلية له
إلا في صورة الاطلاق أو ظرف وجود الشرط، إلا إنهما من شؤون حكم العقل
وتطبيقه الكبرى على الصغريات، وعلى هذا فإذا علم بالحكم وإبراز الإرادة في هذا
الشرع أو شريعة سابقة وشك في بقائه، جاز استصحابه مطلقا كان أو مشروطا
بوجود المكلفين المتحققين إلى يوم القيامة تدريجا وطولا، فإن الشرط وهو لحاظهم
قد حصل من الأزل عند الخطاب والابراز، فوصل الحكم مرتبة الفعلية وتحقق في
الخارج فشك في بقائه، لكن لا يخفى إن هذا المبنى لا يلائم القول بكون الاحكام
من القضايا الحقيقية، فإن الحكم فيها فعلي حتى في صورة فرضية الافراد وتقدير
وجودها، وشأن الحقيقية أن الحكم فرضيا بفرض الفرد وفعليا بفعليته، كما في مثل
النار حارة، وأما على مذاق من يعد الاحكام من الاعتباريات الحاصلة بالانشاء بقصد
349

التوصل إليها، فتتصور وجوه وأنحاء لجعل الحكم المشروط بعدد الموضوع، فلا بد من
بيانها وبيان إن أيا منها من القضية الخارجية أو الحقيقية، وفي أي منها يجوز
الاستصحاب أو لا يجوز، فنقول تتصور في المقام صور، فتارة ينشأ الوجوب
ويجعله للافراد الموجودة بالفعل حين الانشاء والجعل، وأما الافراد المقدرة الوجود
في هذا الموطن أو بعده فهي خارجة عن دائرة موضوع الحكم، كما إن الافراد
المتحققة حينئذ داخلة فيها سواء علم الجاعل بثبوتها أو جهلها، فالفرض والاعتقاد
لا دخل لهما في فعلية المجعولة حقيقة، ولا يتصور وجه لاعتبار ثبوته لغير الافراد
الموجودة خارجا حين الجعل والانشاء، وقد يجعل الوجوب والانشاء
للافراد المتحققة في مواطن وجودها بطول الزمان بتوسيط لحاظها
الطريقي بنحو لا موضوعية لهذا اللحاظ لفعلية المجعول وتحققه الخارجي بمجرد
الفرض وفيما قبل وجود الافراد خارجا، فحينئذ يكون الانشاء والجعل الفعلين موجبا
لحصول مجعول في مستقبل الزمان، وموطن وجود فرد الموضوع، وأما قبله فلا
يعتبر وجود للحكم أصلا، فهذا الحكم نظير للملكية المجعولة بالوصية فإنها لا اعتبار
لتحققها وفعليتها إلا بعد موت الموصى، فموضوع الحكم حينئذ وإن كانت أفرادا
مقدرة الوجود لكنه منحصر في التي توجد في ظرف من الأزمنة خارجا، ولا عموم له
لمطلق الافراد الفرضية، سواء أمكن وجودها ووجدت أم لا، فهذا القسم وإن كان
أوسع دائرة من الأول لعدم انحصار الموضوع فيما هو متحقق بالفعل حين الجعل، إلا
إنه يشاركه من حيث كون الموضوع أفراد متلبسة بالوجود الخارجي ولو فيما بعد
الانشاء بسنين عديدة، وثالثة يجعل الحكم لمطلق الافراد الفرضية والمقدرة أمكن
وجودها أم لا، وكانت مما يوجد خارجا أم لا، ولا يخفى إنه لما، كان جعل الحكم
للافراد لا يتحقق في الخارج، إما لامتناعها أو بالاتفاق مما لا يتصور له وجه عقلائي،
فلا بد من حمل ما ظاهره ذلك لو كان على جعل ملازمة بين الحكم وأفراد الموضوع،
فإذا صارت متحققة بالفعل فيصير حكمها فعليا كما في لوازم الوجود الخارجي، وأما
إذا لم تتعد في موطن الفرض والتقدير فحكمها فرضي أيضا، كالحرارة بالنسبة إلى النار
التصوري، ثم لا يخفى إن التصور الأخير يلائم القضايا الحقيقية المتعارفة في العلوم،
350

كما إن الأول من القضايا الخارجية قطعا، وأما الأوسط فلعله متوسط بينهما، ثم إن
لكل من الصور لازم ننبه عليه إن شاء الله تعالى، وملخص الكلام أن على المسلك
المختار من إن حقيقة الايجاب عبارة عن إبراز الإرادة القائمة بوجودات الموضوعات
الفرضية بالخطاب الانشائي أو الاخباري، يكون الحكم فعليا مطلقا سواء لوحظت
الافراد بالوجودات الفعلية أو الفرضية، فجميع الافراد إما بنحو فرض المحال
أو غير المحال كان تحت الخطاب ومشمولا للايجاب، فمن إبراز الاشتياق ينتزع
العقل إن الموجودات الفرضية متعلقه للوجوب الفعلي كالموجودات الفعلية،
فتمام الافراد كانت تحت الوجوب الفعلي، غاية الامر إن التحريك إلى العمل في بعضها
منوط بالوجود الفعلي الخارجي، فللحكم فعلية منفكة عن الفاعلية حينئذ أي التحريك
منوط بتطبيق الامر والخطاب على الوجودات الخارجية، فلا محركية للخطاب قبل
التطبيق، ولكن تم الحكم من ناحية المولى وخلص، فلو علم في شريعة بحكم جميع
الافراد ولو منوطا بوجودها ثم شك في بقائه لاحتمال نسخه في هذه الشريعة، أو
شريعة لا حقة، فحينئذ يجوز استصحابه مطلقا لاحراز فعليته حتى على تقدير كونه
منوطا بوجودات الموضوع، وأما لو بنينا على جعلية الوجوب فيمكن المولى أن
يجعل الوجوب وينيطه بالوجود الخارجي للموضوع، بأن يجعل الحكم للافراد
الموجودة حين الانشاء فقط، كما إنه يمكن أن يجعله للافراد المقدرة الوجود، فعلى
هذا الفرض يتصور أن يكون الوجوب منوطا بوجود الموضوع خارجا لا لحاظا،
وقد أشرنا إلى إنه يتصور حينئذ في المقام صور ثلاثة، فتارة يلاحظ الامر والجاعل
الوجودات الفعلية للموضوع، ويجعل الوجوب للموجودات حين الانشاء، فكل فرد
كان له وجود واقعا حين الانشاء يكون مشمولا للحكم والخطاب، وإلا فلا، وعليه
فلو كان قاطعا بعدم الموضوع وكان له وجود واقعي يكون مشمولا للحكم
والخطاب، وتارة يجعل الوجوب للوجودات الفعلية حين الانشاء أو في مواطن
وجودها ولو بعد ألف سنة، وهذا أيضا تابع للواقع فما يوجد من الموضوع يكون
مشمولا له، وهذه الصورة أوسع مشمولا للحكم، ومالا يوجد لا يكون من الصورة
السابقة، لان الافراد المعدومة فعلا التي كانت مفروضة الوجود وتوجد في موطنها
351

تحت الحكم، غاية الامر ما لم توجد وكانت مقدرة الوجود يكون تحت الحكم الفرضي،
فالحكم في عالم فعليته حينئذ تابع لفعلية الموضوع، وفي عالم فرضيته تابع لفرضيته، ولكن
الافراد التي لا تتحقق إما لامتناعها أو عدم وقوعها اتفاقا، ليست تحت الحكم الفرضي
بل الافراد التي تتحقق بعد تكون مشمولة له، وأخرى يكون الجعل على نحو
يكون فعلية بفعلية الموضوع وفرضية بفرضيته، ولو لم تصر الافراد متحققة بعد،
وهذا النحو من الجعل يلائم مع القضايا الحقيقية، لان فعلية الحكم فيها منوطة بالوجود
الفعلي للموضوع وفرضيته منوطة بوجود الفرضي، ولو لم يتحقق أبدا، أما لازم
الأول فهو القطع بعدم ثبوت الحكم لمن لم يكن موجودا عند الجعل، فعليه لا يتصور
شك في بقاء الحكم عند انعدام ما كان موضوعا له بالخصوص، فأمر الاستصحاب
مختل من هذه الجهة أيضا، مضافا إلى جهة تغائر الموضوع وعدم اتحاد موضوع
القضيتين، فلو كان جعل الحكم في الشريعة السابقة بنحو القضية الخارجية لا ينحصر
وجه منع الاستصحاب في الوجهين المفروضين، وأما لازم التصور الثاني فهو جواز
استصحاب ذلك الحكم المجعول الذي فرضي بفرضية أفراد موضوعه وفعلي بفعليتها،
عند الشك في بقائه لاحتمال نسخ أو غيره مما يوجب ارتفاعه، لكن عده من القضايا
الحقيقية مبني على عدم اعتبار ثبوت الحكم فيها، ولو فرضنا لمطلق الافراد الفرضية
وإن امتنع وجودها خارجا، أو أمكن ولم يوجد، وإلا فهو إما مندرج في القضايا
الخارجية، لو لم يكن من قيدها انحصار موضوعها في الموجود الخارجي حين الحكم،
وإما واسطة بين الخارجية والحقيقية، وشق ثالث في قبال الطبيعة أيضا، وأما التصور
الثالث فالامر فيه وإن كان ينتهي بالآخرة إلى جعل الملازمة بين الحكم ومطلق الافراد،
لكنه يجوز استصحاب هذه الملازمة المجعولة عند الشك في زوالها بالنسخ أو غيره،
فلا بأس بالاستصحاب عليه ولا بإطلاق القضية الحقيقية بالمعنى المتعارف عند أهل
الصناعة عليه أيضا، إلا إنه يلزم من عد مطلق الاحكام والخطابات الدالة عليها من
هذه القضايا حمل جميعها على بيان الملازمة، لا على جعل الحكم ابتداء، وهذا كما ترى في
غاية البعد عن الأنظار، فتحصل مما مر إنه لا وجه لاطلاق القضية الحقيقية في
مورد جواز الاستصحاب في الحكم في المقام، ولا ينحصر وجه عدم جوازه فيما ذكر
352

من مغائرة الموضوعين، هذا بناء على القول بجعلية الحكم، وأما على المختار فالاستصحاب
وإن كان لا بأس به إلا إن إطلاق القضية الحقيقية لا مجال له، وبالجملة إن في
الصورة الأولى من الصور الثلاثة المتقدمة لا يتصور وجه لجريان الاستصحاب في
الحكم المجعول للافراد الموجودة حين الانشاء إذا انعدموا بأجمعهم، فإنه يقطع بعدم
بقائه بارتفاع موضوعه، نعم يمكن في المقام أن يقال إن المكلف المدرك للشريعة
السابقة الموجود حين الانشاء للشريعة اللاحقة، إذا شك في بقاء الحكم بالنسبة إليه
يستصحب الحكم، وبعدم القول بالفصل وبدليل الاشتراك يحكم بكون ذلك الحكم
ثابتا بالنسبة إلى الاشخاص الذين لم يكونوا موجودين حال الانشاء، ولكن يدفع
ذلك بأن الملازمة ودليل الاشتراك إنما يدل على المساواة في الحكم الواقعي، لا الأعم
منه ومن الظاهري، نعم يمكن فرض وجه جريان الاستصحاب التعليقي في الصورة
الثانية مطلقا، بتقريب إن الشاك الموجود فيما بعد صدور الخطاب في الشريعة السابقة لو
كان موجودا حينه لكان تحت الحكم ومشمولا له، فباستصحاب الحكم المعلق يحرز
إنه محكوم بذلك الحكم، نظير استصحاب الحرمة على تقدير الغليان لماء الزبيب، فكما
إنه يجري الاستصحاب في الحرمة المغلقة على غليان ماء العنب إحراز لحكم ماء
الزبيب عند غليانه بالفعل في المقام، فإن هذا الشخص لو كان موجودا في الشريعة
السابقة لكان مشمولا للخطاب وداخلا تحت الحكم يقينا، والآن يشك في إن الحكم
كان مختصا بذاك حتى لا يكون ثابتا بالفعل في حق المكلف به تقديرا أم لا،
فيستصحب الحكم التقديري، فلو أغمضنا عما أوردناه وأورد على الاستصحاب
التعليقي فلا مانع في هذه الصورة عن جريان الاستصحاب، فتستصحب الملازمة أو
الحكم المعلق بناء على القول بجعلية الاحكام، وأما على المختار فالاستصحاب التنجيزي
جار أيضا كالتعليقي على ما تقدم، والتقييد في المقام راجع إلى التعليق لا المعلق عليه،
وبالجملة بعد الفراغ عن صحة الاستصحاب التعليقي كما هو المختار، فلا قصور في
جريانه في المقام أيضا من دون الاحتياج إلى الاستصحاب التنجيزي بالنسبة إلى
القضايا الكلية، وأما الاشكال الثاني من الاشكالين الواردين على الاستصحاب بالنسبة
إلى الشرائع اللاحقة هو دعوى العلم الاجمالي بالنسخ، وقد أجيب عنه بدعوى الانحلال،
353

بتقريب إنه بعد الفحص نظفر بمقدار من الاحكام المنسوخة، ويمكن حينئذ انطباق
المعلوم بالاجمال على ما ظفرنا به، ويكون الشك في الزائد عن ذلك المقدار شكا بدويا
لا مانع من إجراء الاستصحاب فيه، ولا بد من تحرير محل البحث حتى يتضح
الاحتياج إلى هذه الدعوى وعدمه، فنقول لا يخفى إن مورد النفي والاثبات في
المقام هو أحكام إلزامية إثباتية التي يشك في بقائها لاحتمال النسخ، وأما غيرها من
الاحكام العدمية كعدم الوجوب أو الحرمة أو الندب والكراهة، فلا نزاع في عدم
ثبوت خلافها بمجرد ذاك الاحتمال، إذ لو فرض وجه لعدم جريان الاستصحاب،
فلا أقل من البراءة بشئ من قسميها، وعلى هذا فلا فائدة عملية للنزاع في استصحابها
وعدمه، وأما الاثباتية فلما كان مقتضى الاستصحاب فيها مخالفا للبرائة التي لا تجري
لولاه، فيتصور وجه في الاهتمام بإجراء الاستصحاب ومنعه، ولا يخفى أيضا إن
بعد العلم إجمالا بنسخ أحكام بخصوصها، إما أن يعلم إجمالا بتبدل وجوب إلى حرمة،
أو بالعكس بواسطة النسخ المعلوم إجمالا أولا، فعلى الأول لا بد من التمسك بذيل
دعوى الانحلال دفعا للاشكال، وأما على الثاني فالامر كذلك بناء على مذاق من
لا يجري الأصل الاثباتي في طرف العلم الاجمالي مطلقا، ولو لم يستلزم المخالفة العملية،
وأما على المختار من جواز إجرائه فيما لم يلزم منه مخالفة عملية، ولذا جوزنا استصحاب
النجاسة لشيئين علم بنجاستهما معا ثم بطرو الطهارة على أحدهما إجمالا، فلا مانعية
لهذا العلم بالنسخ في المقام، فيجوز استصحاب تلك الأحكام قبل الفحص وبعده، ولا
حاجة إلى دعوى الانحلال، أو إن بعض أطراف العلم خارج عن محل الابتلاء ومورد
الاحتياج على ما في الرسائل، وبالجملة إن أدلة الاستصحاب شاملة لمورد الكلام إذا
تمت أركانه بالنسبة إلى أحكام شريعة سابقة ولم يكن إجرائه فيها مستلزما للمخالفة
العملية، كما في صورة علم إجمالا بنسخ وجوب بالتحريم أو بالعكس، فحينئذ لا مانع
من جريانه فيها كان في البين علم إجمالي بنسخ البعض أو لم يكن، انحل ذلك العلم
بالظفر على مقدار يوافق المتيقن أو لم ينحل أبدا، إما لعدم المراجعة أو لعدم الظفر
على ذلك القدر، ثم لا يخفى إن المقرر لبعض الدروس بين ضابطا مورد الانحلال
وعدمه، فقال في مقام دفعه شبهة الأخباريين إن العلم الاجمالي إنما ينحل فيما إذا
354

تعلق بما يدور أمره بين الأقل والأكثر، وأما لو تعلق بما لا يدور
أمره بنفسه بينهما، وإنما الترديد في مقدار ما يصدق عليه العنوان المتعلق للعلم نحو
عنوان من في الدار مثلا، فلا يوجب الظفر بالقدر المتيقن انحلال هذا العلم، ولا بد
من ملاحظة تمامية الضابط المذكور بنفسه أولا، والكشف عن وجه تجويزه
الاستصحاب في المقام، مع إنه مندرج فيما لا ينحل على ذلك ثانيا، فليراجع وليتأمل،
هذا تمام الكلام في الاستصحاب.
تنبيهات الاستصحاب
(تنبيه في حجية مثبتات الأصول وعدمها) بعد الفراغ عن حجية مثبتات الامارات،
والمسألة ذات أقوال عديدة قول بعدم حجيتها كما هو المشهور، وقول بعدم
معقوليتها، وقول بالحجية على ما يظهر من بعض المتقدمين الذين يفرقون بين الأصل
والامارة، توضيح المطلب في طي مقدمات وبيان الجهات المشتركة بين الأصول
والامارات، بعد الفراغ عن كونهما شريكين في لسان التنزيل الأولى، إن في لسان
دليل التنزيل مسلكين ولكل منها نتيجة، فتارة يكون التنزيل على عهدة الامر والشارع،
ويكون هو المتكفل له مثل قوله عليه السلام (الطواف بالبيت صلاة)، حيث ينزل الطواف
منزلة الصلاة، ويثبت له أحكامها يعنى ما جعله من الاحكام والشرائط والموانع للصلاة،
يثبتها بلسان واحد للطواف، ومن المعلوم إن تنزيل الشارع شيئا منزلة شئ، في مقام
شارعيته لا بد أن يكون بلحاظ الآثار التي تحت اختياره، ويكون أمر وضعها
ورفعها راجعا إليه، وليست هذه للآثار الشرعية لأنها تحت يده وضعا ورفعا،
لا الآثار العقلية والعادية لأنها ليست تحت اختياره في مقام التشريع، فيكون
التنزيل بالنسبة إليها غير معقول، ولعل نظر من ادعى عدم معقولية حجية المثبت
راجع إلى ذلك، نعم يمكن للشارع في عالم الاخبار إخباره عن الآثار العقلية
والعادية، فلا يحتاج إلى كون التنزيل الاخباري باعتبار ما تناله يد التشريع والجعل،
وبالجملة فلا يكون التنزيل من قبل الشارع للآثار العقلية والعادية التي كانت خارجة
عن تحت اختياره من حيث إنه شارع لا من حيث إنه قادر، فيكون التنزيل قاصر
355

الشمول لتلك الآثار، ولذا قالوا لا بد أن يكون التنزيل بلحاظ الآثار الشرعية،
وتارة لا يكون لسان التنزيل كذلك، ولا يكون الشارع متكفلا له، بل بجعل التنزيل
عهدة المكلف أي يأمره بالبناء، ولازم ذلك أن يكون التنزيل بلحاظ الآثار التي
تحت يد المكلف وكانت مقدورة له يعني عامل معاملة الوجوب أو الحرمة
والاستحباب، أو غير ذلك من الأحكام الخمسة، فلا يعقل أن يكون هذا التنزيل
الصادر من المكلف الآثار الشرعية، فإنها خارجة عن تحت قدرته ولا يمكنه وضعها
ولا رفعها، فلا بد أن يكون التنزيل الذي من قبل المكلف بلحاظ الآثار المتمشية
من قبله وهي ليست إلا العمل، وأما الجهات الشرعية هنا فهي من توابع هذا التنزيل،
وبعبارة أخرى في التنزيل الأول المحط للتنزيل ابتداء هو الآثار الشرعية، وفى
القسم الثاني لما كان معاملة الوجوب مع ما لا وجوب له وكذا الحرمة ما لا حرمة
له منصرفا لوجوب ذلك الشئ أو حرمته ظاهرا، فينشأ من قبل الامر بالتنزيل
ووجوب المعاملة أحكام ظاهرية من الوجوب والحرمة وغيرهما، فجعل المماثل متصور
على هذا التقدير أيضا، إلا إن الفارق أن محط التنزيل على هذا جعل وجوب العمل
ابتداء وجعل المماثل ثانيا وبالتبع، فظهر إن التنزيل من كل أحد لابد أن يكون
بلحاظ الأثر المتمشى من قبله والمرتب عليه باختياره، فمن الشارع ناظر إلى جعل
المماثل مؤدى الامارة والأصل إذا أفاد الحكم ابتداء، وإلى جعل مماثل للأثر المرتب
من قبله على إذا قاما الموضوع عليه، وأما تنزيل المكلف المشكوك منزلة المعلوم ويقيده
بالامارة وتصديقه إياها، فمعناه أن يعامل معاملة المعلوم والصادق ويجري على مقتضى
العلم والصدق، فلا ينشأ من التنزيل من قبله أثر ومماثل للحكم والموضوع المشكوك،
نعم يتولد من وجوب البناء والتعبد مماثل للأثر المشكوك، إن وجوبا فوجوب وإن
حرمة فحرمة، وهكذا، هذا كله في مقام التصور، وأما التصديق فلا يخفى إن مقتضى
الاخذ بظهور كثير من أدلة اعتبار الطرق واستصحاب مما ورد بلسان الامر
بالتصديق، كما في حق من حلف والاخذ كما يستفاد من جواب السؤال عن جواز
أخذ معالم الدين عن يونس بن عبد الرحمن، ومن قوله عليه السلام في حق بنى فضال
(خذوا ما رووا)، أو بلسان النهي عن نقض اليقين بالشك مثلا، هو القول بإيكال
356

التنزيل إلى المكلف والامر بتعبده بغير يقينه، وأما تصدي الشارع للتنزيل هاهنا
فما لا يساعده ظهور دليل أصلا، ولو قيل بكون الأوامر الواردة في هذه الأخبار
إرشادية إلى حصول التنزيل من المولى وجعله المماثل للأثر الشرعي سابقا على الامر
بالتعبد، نظير الامر بأخذ ما آتاه الرسول والانتهاء عما نهى عنه، وأريد بذلك منع
دعوى كون التنزيل على عهدة العبد نفيا للثمرات المترتبة عليها على ما سيظهر إن شاء الله،
فيقال في دفعه إن مجرد الاحتمال لا يوجب رفع اليد عن ظهور الامر في المولوية،
هذا مضافا إلى إنها لو كانت إرشادية لكان الغرض منها التوصل إلى بيان لزوم
العمل على طبق الامارة والأصل، وذلك لا يحصل إلا بواسطة التنزيل المرشد إليه،
وبيان لزوم الجري ووجوب العمل مولويا على طبق التنزيل والمماثل المجعول بهذا
النحو من البيان أكل من القفاء، ولاوجه للمصير إليه مع إمكان إفادته بنفس الامر
بالأخذ والتعبد ابتداء، فالحق إن دليل اعتبار الامارة والاستصحاب متحد المضمون
ولازمه تشابههما في الاعتبار، فهذا أمر يشتركان فيه كاشتراك التصورين في لزوم
جعل المماثل للمؤدي إذا كان حكما ولأثره الشرعي إذا كان موضوعا، فإن توسيع
الموضوع أو التعبد بتوسعته من حيث إنه موضوع مستلزم لتوسعته في النسبة
وطرفها، وهو الأثر، فالتعبد ببقاء الموضوع من هذه الحيثية مستلزم للتعبد بالأثر
المماثل، فترى التعبد بالموضوع بلحاظ أثره بواسطة، وإذا أغمضت عن ذلك فلا ولا
يخفي إنه لو قيل يكون زمام التنزيل في مؤدى الامارة والأصل بيد الشارع وبتصديه
بنفسه لذلك لزم حمل ما فيه الامر بالأخذ والتصديق والبناء، وبعدم حمل نقض اليقين
على الارشاد إلى ذلك التنزيل المستلزم لجعل حكم مولوي على لزوم الجري على مقتضاه
من مماثل الحكم الواقعي أو مماثل أثر الموضوع كذلك، وأما على القول بكونه
على عهدة العبد فتبقى الأوامر المذكورة على ظاهرها من المولوية، ولذا رجحنا
الاحتمال الأخير، ثم اعلم إن لازم المسلك الأول إما منع جريان الاستصحاب الكلي
من القسم الثاني في الاحكام، أو الالتزام بإمكان تحقق الجامع الجنسي بلا فصل، ونحن
وإن أشرنا إلى ذلك في الجملة في بعض التنبهات المتقدمة، إلا إنه لما أحلنا التفصيل إلى
محله وهو هاهنا فنقول، توضيح ذلك إنه إذا علم بوجوب الغسل مثلا ودار أمره
357

بين الغيرية والنفسية، ثم انقضى وقت الصلاة مثلا وعلم بسقوط وجوبها ومقدماتها،
فحينئذ يشك في بقاء الوجوب المعلوم قبلا الاحتمال نفسيته، فهذا الوجوب حينئذ
يتردد أمره بين ما يقطع بزواله وما يعلم ببقائه، نظير البق والفيل المذكورين مثالا
من الموضوعات، فلو أجرى الاستصحاب في الجامع المعلوم لأنه بنفسه أثر شرعي
ومقتض للعمل، فيلزم أن يكون الشارع إما جاعلا للجامع المجرد عن الغيرية والنفسية،
وإما للمتخصص بالنفسية فقط، والأول غير معقول الحصول، والثاني أمر لا يلتزم
به أحد من علماء الفقه والأصول على ما أظن، والشاهد على ذلك إنهم يقولون بترتيب
أثر الحيوان الجامع بين البق والفيل بالاستصحاب لا الأثر المرتب على خصوص
أحدهما، وهذا مما لا شبهة فيه، ولو أريد التخلص عن ذلك فلا بد من الالتزام بعدم
جريان الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي إذا كان من الاحكام، وهذا أيضا
كما ترى، وأما على المسلك الأخير فلا يلزم شئ من ذلك، فإن بناء المكلف على ثبوت
الجامع بجريه عملا على مقتضاه لا يستلزم ثبوته عن فصل أو متفصلا بالنفسية والحكم
الناشئ من قبل الامر المولوي بالتنزيل والبناء على ما نبهنا عليه ليس إلا حكما مولويا نفسيا
طريقيا مغايرا للحكم الواقعي المشكوك، فلا يلزم المحذور المذكور إلا على القول بجعل
المماثل، هذا من إحدى الثمرات المترتبة على كل من المسلكين، وأما الثمرة الأخرى فهي
إنه لو قيل بالأول فلا يتصور عموم للتنزيل الشرعي بحيث يعم الآثار العادية والعقلية
مع مماثل الآثار الشرعية، فإن الأولين خارجان من حيطة الشرع في مقام مشرعيته
وإيجاده التشريعي، ولذا اشتهر عدم معقولية جعلهما، وأما على المختار فيمكن فيه
ذلك عقلا، فإن الجري على اليقين والبناء على ثبوت المتيقن وبقائه أمكن أن يكون
بلحاظ أثره الشرعي بلا وسط، أو بواسطة أو أكثر، فكما إنه يترتب الأثر الشرعي
المرتب على شئ بالوسائط المتعدة الشرعية باستصحاب الملزوم الشرعي الأول
ولو كان باعتبار نفسه خارجا عن الابتلاء، فكذلك أمكن أن يتعبد بملزوم باعتبار
لازمه العقلي الموضوع لاثر شرعي، إلا إن الشأن في استفادة ذلك عن الدليل،
وبالجملة فحجية المثبت غير معقولة على الأول دون الثاني، فعلى عدم معقولية شمول
تنزيل الشارع وجعله لمماثل نفس المستصحب أو أثره ما عدى الآثار التي أمرها
358

بيده وضعا ورفعا في مقام التشريع وهي الآثار الشرعية دون العقلية والعادية،
لا يبقى وجه لدعوى حجية المثبت، فإن ما ليس له أثر شرعي ولكنه ملزوم أو ملازم
الأثر كذلك لا يندرج في دليل الاستصحاب أصلا، بل لا يعقل فيه ذلك، وأما إذا
انتهى أمر الشئ إلى الأثر ولو باعتبار لازمه المترتب عليه بعشرين واسطة، فلا وجه
لنفي معقوليته إذ من الممكن أن ينزل الشارع ملزوما لشئ من حيث ملزوميته من
هذه الحيثية بتوسعة هي عين توسيع اللازم الذي هو ملزوم لا مرتب عليه الأثر
شرعا، فتنزيله للملزوم الأول عين تنزيل الملزومات المترتبة التي أخرها موضوع
للأثر وتنزيله عين جعل المماثل لاثره، وبالجملة مالا يعقل صدوره من الشارع هو
تنزيل الشئ بلحاظ آثاره الخارجة عن دائرة تشريعاته بدوا وختما، وأما ما ينتهي
الامر فيه إلى الأثر المجعول فلا مانع من تنزيله بلحاظ ذلك الأثر المترتب عليه، ولو
بوسائط كثيرة، وهذه الدعوى كما ترى قابلة للاندفاع بادعاء انصراف الدليل إلى
صورة كون التنزيل بلحاظ الأثر الشرعي المرتب على المستصحب بلا واسطة،
وأما على تقدير كون التنزيل على عهدة المكلف فلا يجدي الانصراف المدعى في
مقام منع حجية المثبت، إذ لقائل أن يقول بعد تسليم الانصراف إن البناء على بقاء
الحياة الملزوم لنبات اللحية الملزوم لوجوب الانفاق المقتضى للتصدق والاعطاء من
حيث ملزوميته كل سابق للاحقة على البناء على بقاء الوجوب وثبوته الفعلي، فالتعبد
بالنبات أثر للتعبد بالحياة، والتعبد بالوجوب أثر للتعبد بنبات اللحية، فتصير الحياة
متعبدا بها بلحاظ أثر نفسها وهو التعبد بالنبات وهكذا، لا بلحاظ الوجوب أو
العمل المأتي بمقتضاه المرتب على بقاء الحياة بواسطة أو بواسطتين، فمثل الحياة في
المثال مندرج فيما انصرف إليه الدليل لا فيما انصرف عنه، فلا يدفع الانصراف
دعوى حجية المثبت على هذا المسلك على ما أوضحناه، فلا بد من دفعها بغيره إن كان،
ولتكن هذه جهة فارقة أخرى بين المسلكين، وهناك فارق آخر وهو إما لزوم جعل
مماثل الحكم لما لا وجود له حين انطباق دليل الاستصحاب أحيانا، وإما حجية الأصل
الجاري في الشئ بلحاظ أثر الفعلي المترتب عليه بوسائط، مثلا إذا علم الولد بإذن
أبيه لنذره فنذر صوم يوم الخميس مثلا، فحضر اليوم ولم يصم عصيانا، ثم شك في بقاء
359

الاذن إلى حين النذر، فحينئذ إما أن يلتزم بالانصراف المدعي أم لا، فعلى الأول فلا بد
من القول بجعل الشارع مماثلا لجواز النذر، ولوجوب الوفاء به، ولوجوب الكفارة بالحنث،
مع إن موضوع الأولين قد خرج عن مورد الابتلاء وليس النذر الماضي، وكذا
صوم يوم الخميس المنقضي داخلا في مقدرة المكلف حينئذ حتى يجعل لهما الجواز
والوجوب، فلو جعلا فهما حكمان بلا موضوع وعلى تقدير منع الانصراف والاكتفاء
بانتهاء التنزيل إلى الأثر الفعلي ولو كان مرتبا على المستصحب بوسائط كثيرة، فلزم
القول بحجية المثبت، ولنا مثل آخر لا نزال نتمسك به في الاستصحاب مع إنه نظير
للمثال المتقدم، وهو ما إذا حصل التوضي بماء معلوم الطهارة، ووقعت الصلاة به ثم
شك بعد انقضاء الوقت في طهارة ذلك الماء، فإنه لا ريب في استصحاب طهارته مع
انتفاء عينه، وفى الاجتزاء به من جهة نفى وجوب القضاء، ولو لم يكن المثبت حجة وانصرف عنه الدليل لم يكن وجه لذلك إلا بناء على معقولية جعل الطهارة، وكذا
جواز الدخول في الصلاة، وكذا صحتها الملزوم لعدم فوات وجوب القضاء لموضوعات
معدومة خارجة عن الابتلاء، فلنا أن نكشف عن تسلم الاخذ بالاستصحاب اعتبار
الأثر الفعلي وإن كان المستصحب خارجا عن الابتلاء، فلا واقعية لدعوى جعل المماثل
للمستصحب أو أثره، وإن الحق هو الاحتمال الاخر، لا يقال إن إثبات الآثار
المترتبة على الأثر الشرعي المورد للاستصحاب لا يعد من المثبت اصطلاحا، فلا مجال
لاستكشاف حجية من مثل المثالين، فإنه يقال لما كان مدار المنع على الانصراف فلا
يتصور وجه الافتراق، وبعد ذلك كله فلا بد لنا من بيان وجه لعدم حجية الأصل
المثبت بنحو لا يتطرق إليه إشكال، فتحصل إن المسلكين في مفاد الطرق والأصول
مفترقان من جهات، فإن لازم جعل مماثل للأثر المستصحب بنفسه أو بموضوعه عدم
معقولية شمول الاستصحاب للموضوعات باعتبار آثارها العادية والعقلية، وإن كان
لتلك الآثار أثر في الشرع، فينحصر مورده في الاحكام والموضوعات باعتبار أثرها
الشرعي فقط، وعلى هذا يكون دعوى انصراف لا تنقض إلى جعل أثر للشئ بنفسه
لا بالواسطة نافعة في منع الأصول المثبتة، ولا ينافيها القول بجريان الاستصحاب في
الحكم باعتبار الآثار المترتبة عليه بواسطة أو وسائط، فيما إذا لم يخرج موضوع الحكم
360

المستصحب عن محل الابتلاء، فإن بقاء الأثر وثبوته قهري في ظرف بقاء ذي الأثر
حقيقة أو تعبدا، فترتيب تلك الآثار على الحكم المستصحب لا يحتاج إلى تعبد آخر
غير التعبد بذيها، وأما على مسلك وجوب التعبد باليقين السابق وتنزيل المشكوك
منزلة المعدوم عملا فلا يضر الانصراف المدعى بحجية المثبت، فإن التعبد بالموضوع
كحيوة زيد مثلا من حيث إنها ملزومة لنموه ونبات لحيته عين التعبد بالنبات وهو له
من حيث إن موضوع لوجوب التصدق عين التعبد بالوجوب، فينتهي الامر إلى
العمل ولا يكون التنزيل بلحاظ الأثر بالواسطة، فلا يجدي الانصراف المذكور،
هذه جهة من الجهات الفارقة وقد أشير إلى جهات أخر في مقام الاستظهار وبيان
المختار (أحديها) إنه لو كان المفاد جعل المماثل لما كان لجريان الاستصحاب في الكلي
الجامع مجال، وإلا لزم إثبات الخصوصية أو نفيها به أيضا، وأما تحقق الجامع مجردا
عن الخصوصيات، وهذا بخلاف البناء على بقائه والجري على مقتضاه عملا، (ثانيتها)
إنه لو كان الأول حقا لزم عدم حجية الاستصحاب في الاحكام التي خرج موضوعها
عن مورد الابتلاء بلحاظ ما يترتب عليها بواسطة أو وسائط، والمفروض المسلم
حجيته فيها لدى لجميع، (ثالثتها) إنه لو كان كذلك لكان الامر بالمضي على اليقين،
وكذا النهي عن نقضه إرشادا إلى تنزيل الشارع وتصديه لذلك، وأما على التصور
الاخر فهما باقيان على ظهورهما في المولوية، ولما ذكر وما سيذكر اخترنا المسلك الثاني،
وكنا نقول بمقتضاه على حجية الأصل المثبت، إلا إن تسالم القوم على العدم ولزوم
تأسيس فقه جديد على تقدير الاخذ به يبعثنا إلى الفحص عن وجه وجيه للعدم،
والمقصود فعلا إظهار اختلال الوجه المعروف وعدم تماميته، ولعله من نكات
ذكرت بعد الوقوع، ثم لا يخفى إن ما تقدم كان جاريا على مذاق القوم من كون
النظر إلى المتيقن حكما كان أو موضوعه، وأما على المختار على ما فصل عند التعرض
لمفاد الاخبار من النهي متعلق بنقض نفس اليقين الطريقي، لا إنها بعبريته متعلق
بالمتعلق، وإلا يلزم عدم حكومة الاستصحاب على قاعدتي الطهارة والحلية، وعدم
قيامه مقام العلم أصلا لان إبقاء ما كان لا يوجب علما بالواقع لا حقيقية ولا تنزيلا
فيه لا تحصل الغاية للطهارة والحلية، فلا محيص عن الالتزام بالمسلك المختار هنا، فإن
361

اليقين لا أثر ولا بذي أثر في الشرع كي يصح تنزيله منه، فلا يعقل أن تناله يد التنزيل
من الشارع، وأما من العبد ففي غاية الامكان والوضوح، فإنه بيني على بقائه، فيعمل
ما كان يعمل عند ثبوته من الجري على طبق متعلقه لو كان من الاحكام وأثر متعلقه
فيما كان من الموضوعات، ولا يفرق في ذلك بين الأثر المترتب على نفس اليقين بشئ
أو على اليقين الملازم له والمتولد منه بواسطة أو وسائط، فالمثبت كغيره مندرج في
قوله (لا تنقض اليقين، وامض على اليقين)، ولا بد من إخراجه بوجه صحيح،
فتلخص مما ذكرناه إن على المسلك المختار من تعلق التنزيل والتعبد بنفس اليقين
وبقائه في ظرف الشك، ففي عالم التنزيل كأنه جمع بين الضدين، فيتعين اختيار المسلك
الثاني وهو التنزيل بلحاظ العمل لا المؤدى، وعليه فالتعبد ببقاء العلم واليقين باعتبار
ما يترتب من العمل ولو بواسطة اللازم، ولازم اللازم يلائم القول بالمثبت وإنه تتحقق
الحكومة للاستصحاب وتحصل الغاية لكل شئ حلال وأمثاله، وقد تقدم إنه لا تنفع
دعوى الانصراف حينئذ في إبطال الأصل المثبت، بتقريب إن التنزيل ينصرف إلى
الآثار بلا واسطة فلا يشمل الآثار مع الواسطة، بل نحتاج إلى انصراف آخر وهو
دعوى إن الشارع في تنزيلاته ناظر إلى التوسعة بالنسبة إلى القضايا الشرعية فقط،
مما هي أمرها بيده في مقام التشريع لا القضايا العقلية والعادية، فلو لم يتم الانصراف
الثاني للزم القول بحجية المثبت على المختار، وظهر إنه يلزم منه الالتزام بفقه جديد،
والشاهد لما ذكرنا من كون التنزيل ناظر إلى القضايا الشرعية فقط دون العقلية
والعادية عدم فهم الأصحاب الاطلاق من دليل التنزيل بحيث يشمل للقضايا العقلية
والعادية أيضا، والذي كان نافعا في نفي حجية أصل المثبت دعوى هذا الانصراف
لا الانصراف السابق، وأما على مذاق القوم من كون مورد التنزيل هو المتيقن
السابق لا نفس اليقين، فقد ظهر إنه وإن كان يتصور المسلك الاخر إلا إن الشواهد
المتعددة التي أبديناها دالة على انتفائه وحقية المسلك المختار من كون التنزيل على عهدة
المكلف في مقام عمله، وظهر أيضا إن انصراف دليل الاستصحاب إلى إبقاء الأثر
الشرعي بغير واسطة كما ادعى وسلم في مقام نفي حجية المثبت لا يدفع المثبت على
هذا الاحتمال، فإن تعبد المكلف بالحياة مثلا من حيث ملزوميتها لنبات اللحية وبه من
362

حيث موضوعيته لوجوب التصدق عين البناء على وجوب الانفاق والاعطاء المقتضى
للجري والعمل على طبقه، فالحياة وإن كانت مما يترتب عليها العمل بوسائط إلا
إن التعبد بكل منها أثر شرعي ترتب عليها بلا واسطة، غاية الامر إنه لا تنتهي تلك
التعبدات التحليلية إلى العمل إلا بها، وهو كاف في حصولها من الشارع كما لا يخفى، فمع
تسليم الانصراف أيضا صح القول باعتبار المثبت كغيره بناء على المسلك المختار، ولعل
المركوز في الاذان المستقيمة المانعة عن حجيته هو إن اليقين المعتقد به هو إن اليقين
بالقضايا الشرعية حكما أو موضوعا لا اليقين بالأعم منها ومن القضايا العادية أو العقلية،
ولو انتهت بالآخرة إلى الشرعية أيضا، إلا إن التسامح في مقام الكشف عن الأمور
الكامنة في الارتكاز حبذ التعبير عن الوجه بدعوى الانصراف المذكور، وقد يتوهم كما في
فذلكة المقرر إن دليل لا تنقض في باب لا تنقض شبيهة بباب الرضاع، فكما إنه لا يثبت
اللوازم والملازم من حرمة أخت الأخت، وبنت البنت أو الأخ وغيرهما، فكذا الأصل
وهو مدفوع بالفرق بين البابين، فإن في باب لا تنقض كانت الكبريات محفوظه كما
إذا نذر إن زيدا إذا كانت لحيته طويلة أو كان متحيزا يعطي الفقراء كذا، وعدم
شمول التنزيل لهذه اللوازم لا لقصور الكبريات بل لقصور في ناحية التنزيل، بخلاف
باب الرضاع فلا قصور فيه في ناحية التنزل، إنما القصور في الكبريات، نعم هما
يشتركان في عدم إثبات اللوازم، غاية الامر في أحدهما من باب القصور في الكبريات
وفي الاخر من القصور في التنزيل، ثم إنه لما تقدم اشتراك دليل اعتبار الامارة
والأصول لسانا وإن الامر بالأخذ بها أو التصديق لها مولوي طريقي، كالأمر بالمضي
على اليقين، وأمكن ادعاء الانصراف المذكور بأحد التقريبين فيها، ومع ذلك يؤخذ
بالامارة في إثبات اللوازم والملزومات أيضا دون الأصول، فلا بد من بيان الفارق
وما أوجب الامتياز بعد الاشتراك، فنقول لما كانت في الامارة حكاية لا توجد في
الأصل حتى الاستصحاب، وكانت موجبة للظن ولو نوعا، فتحصل منها ظن بمدلولها
المطابقي ومنه ظن بلوازمه وملازماته الواقعية، عقلية كانت أو اتفاقية أو عادية،
وكانت اللوازم له بلا وسط أو وسائط، وكان المتكلم والمخبر مريدا لبيانها أو لم
يكن، فيرى للامارة الواحدة حكايات وبيانات يجمعها الاخبار بالملزوم والملازم
363

الوحداني المصحح لنسبة كل من تلك الحكايات إلى المخبر عن ذلك الواحد المستلزم للوازم
عرضية أو طولية، فلذلك يرى التعبد بهذه الامارة منحلا إلى التعبدات بعدد الحكايات
واللوازم والملازمات المحكية بالالتزام، فيكون جميعها في نظر العرف مندرجا في التعبد
بتلك الامارة وفى موضوع دليل الاعتبار استقلالا لا بالتبع وبنحو ممنوع في
الأصل المثبت، وهذا هو الوجه في صحة إثبات اللازم والملزوم كالملازم بالامارة
دون الأصل، لا ربما يتوهم كما في التقرير، إن الامارة لما كانت كاشفة في الجملة، وكان
دليل اعتبارها دالا على إلغاء احتمال الخلاف وتنزيلها منزلة العلم بتتميم كشفها جعلا،
فتصير كالكاشف التام عن المورد وحيث يعمل على الآثار الشرعية للملزوم
واللوازم للمنكشف بالتام الوجداني ولا يخص العمل على طبق نفس المعلوم أو أثره،
فكذا المؤدى للامارة بعد التتميم، فإنه إنما يتم على تقدير عدم إمكان تنزيل غير العلم
منزلته باعتبار مدلوله المطابقي والتعبد به فقط دون مداليله الالتزامية، وأما مع الامكان
كما هو واضح فإثبات وقوع التعبد بالامارة باعتبار غير مدلولها المطابقي موقوف على
دليل غير ما يدل على اعتبارها في مدلول حاصل الانصراف وغيره، وبالجملة مجرد
تنزيل الظن منزلة العلم في الكشف عن متعلقه لا يقتضي مماثلته معه من جميع الجهات،
فلا بد من الاكتفاء على مفاد دليل الاعتبار، وظهر إنه لا يدل ولو بالانصراف إلا
على كون الظن علما جعليا في إثبات متعلقه فيما إذا كان أثرا أو ذا أثر في الشرع،
وأما إثبات لوازم المتعلق بالعلم الجعلي فيحتاج إلى إطلاق محقق أو دليل آخر، فهذا
التقريب قاصر عن إثبات حجية المثبت وممنوع بما تقدم، والحاصل إن دليلي اعتبار
الامارة والاستصحاب متحدا اللسان، فلو كان مفاد أحدهما جعل اليقين والعلم في
ظرف انتفائه، فهو كذلك في الاخر، غاية الامر إن دليل الامارة يجعل الظن علما
بالتنزيل في مورد عدم العلم، ودليل الاستصحاب يجر العلم السابق ويبقيه تنزيلا في
ظرف الشك، وهذا لا يوجب فرقا في المقام، وكذا لو أفاد أحدهما تنزيل المؤدى منزلة
الواقع، فلا بد أن يكون الاخر كذلك، ولو انصرف أحدهما إلى التعبد بالعلم بالقضايا
الشرعية فقط لا بالأعم منها، ومما ينتهي إلى العمل الشرعي بالوسائط العقلية أو العادية،
فليكن الاخر كذلك، كما إنه لو كان لا حدهما إطلاق يفيد التعبد بالظن أو العلم
364

السابق باعتبار مطلق الأثر المترتب عليهما بلا واسطة عقلية مثلا أو معها، فلا بد أن
يكون الاخر كذلك، وعلى هذا فلو منع الدليل على حجية الأصل المثبت، فلا يبقي
وجه للقول باعتبار المثبت من الامارة، سيما مع منع تعدد حكايتها، تمسكا بأن المخبر ربما
يغفل عن اللوازم أو لا يعرف لزومها حتى يحكيها بها، وتوهم إن تنزيلها منزلة
الكاشف التام الحقيقي أوجب حجية الامارة في إثبات اللوازم وغيرها وهو مفقود
في الاستصحاب، فهو الفارق بعد الاشتراك في لسان دليل الاعتبار، فقد ظهر اندفاعه
بأنه مبني على استحالة تفكيك التعبد بالامارة باعتبار دلالتها المطابقية عن التعبد بها
باعتبار دلالتها الالتزامية، وأما مع إمكانه وجواز جعلها بدلالتها الأولى منزلة العلم
فإثبات حجيتها في غيرها بنفس هذا التنزيل المتعلق بالمطابقية أو تعبد آخر يحتاج
إلى إطلاق لا يمنع بالانصراف أو دليل آخر، هذا مضافا إلى إنه يمكن أن يقال
إن العلم الوجداني بالشئ لو لم يكن ملازما مع العلم بلوازمه وملازماته لما كان نفس
العلم بالملزوم كافيا في إثباتها، فعدم وفاء ما نزل منزلته بالادعاء والجعل بإثبات تلك
الأمور أولى، فمن أين يستكشف من تتميم الكشف للكاشف الناقص إنه مثله في
إثبات لوازم المؤدى وغيرها، نعم يكون الظن بالملزوم موجبا للظن بلوازمه، كالعلم،
إلا إنه لو كان التعبد مختصا بما تعلق بالملزوم فلا يتصور وجه للقول باعتبار الظن
باللازم، ولعمري هذا واضح، فلا بد من التوصل بذيل تعدد الحكاية للامارة الواحدة
وبنظر العرف في انبساط التعبد بها على جميع حكاياتها، وانحلاله إلى تعبدات بعددها
حتى يصح الفرق بين الامارة والأصل بإثبات اللوازم وآثارها الشرعية بالأولى دون
الأخير، ثم لا يخفى إن ما ذكرنا في عدم حجية الأصل المثبت وإن شأنه ليس إثبات
اللوازم العقلية، إنما يكون باعتبار الآثار المترتبة على لوازم الحكم الواقعي، وأما لو
كان الأثر مترتبا على خصوص الحكم الظاهري الحاصل من الاستصحاب وهو
الأعم من الواقعي والظاهر، فيثبت بالاستصحاب مسلما عقليا كان أو شرعيا،
فحرمة الضد ووجوب المقدمة المترتبة على وجوب ذي المقدمة، وكذا وجوب
الإطاعة آثار عقلية مترتبة على وجوب الشئ ظاهرا أو واقعا، فباستصحاب وجوب
الشئ تترتب هذه الآثار وتثبت به هذه، فإن العقل في صورة قيام الحجة على
365

وجوب الشئ يحكم بوجوب مقدماته وحرمة نقيضه ووجوب امتثاله، كان ذلك
الحكم واقعيا أو ظاهريا، فترتيب هذه الآثار من جهة إنها أثر للأعم من الظاهري
والواقعي لا ربط له بالأصل المثبت، ولذا ترى من لا يقول بالأصل المثبت بالنسبة
إلى الآثار الشرعية المترتبة على الآثار العقلية قائل بحجيته بالنسبة إلى هذه الآثار،
وكذا بالنسبة إلى التطبيقات العقلية المتعلقة بتطبيق الحكم الكلي المستصحب على
موارد ومصاديق موضوعه، مع إن التطبيق بيد العقل وبتوسيطه، فلا يمكن للقائل
بحجية المثبت التشبث والتمسك بهذه الأمور، ويثبت حجيته ببركتها، لان هذ الأمور
لا تكون مربوطة بالأصل المثبت وكانت خارجة عن محل النزاع، وهذا واضح لا
خدشة فيه في كثير من الموارد، لكن قد يتوهم إنه لاوجه لجريان الأصل فيما إذا كان
الشك في بقاء الحكم ناشئا عن الشك في القدرة على الامتثال، فإنه يوجب الشك في
توجه النهي عن نقض اليقين أيضا، وإذ لا يعلم بتوجهه فلا يحصل علم بالحكم الظاهري
أيضا حتى يجب امتثاله عقلا، مثلا إذا نذر إطعام زيد في يوم الجمعة الآتية ثم شك
في بقائه إليه، فحينئذ يحصل له شك في وجوب الوفاء بالنذر وفي توجه النهي عن نقض
اليقين بالشك إليه باعتبار هذا الوجوب الذي منشأه الشك في القدرة على الامتثال،
فلا يبقى مورد للتمسك بالأصل في المقام، ولكن يمكن الذب عنه بجوابين ثانيهما أمتن
من الأول، وهو إن القدرة وإن كانت معتبرة في صحة التكليف ووقوعه، وإذا شك
فيها ينشأ منه شك في الحكم ومعه لا يلزم العقل بإتيان مقدمات متعلق التكليف في
الجملة، إلا إن الالزام بإيجاد المقدمات ليس دائرا مدار القطع بالقدرة على الامتثال، إذ
ربما يعلم بالغرض والامر ويشك في بقاء الثاني وزواله، لاحتمال طرو ما يمنع المولى
عن الالزام الفعلي مع تعلق غرضه بالفعل من ضيق خناق أو غيره، كانتفاء القدرة،
ولا ريب في حكم العقل حينئذ بالشروع في المقدمة والتهيؤ للاتيان وللامتثال
احتياطا، فبمجرد العلم بالغرض يرى النهي عن النقض متوجها فيوجب امتثاله، وأما
الثاني فهو إن النقض لو كان حكما مولويا نفسيا زاجرا عنه على الاطلاق لكان الشك
في القدرة على امتثال موجبا للشك في توجهه، وأما على تقدير طريقيته فلا، فإن شأن
الاحكام الطريقية إنها واقعية على تقدير موافقتها للواقع، وأحكام صورية على
366

تقدير الخلف، وما لم يعلم بمخالفتها للواقع يجب اتباعها والجري على طبقها بتوطئة
مقدمات امتثالها، فالشك في القدرة عليه لا ينافي القطع بتوجه الحكم الطريقي الظاهري
الذي هو أيضا موضوع لحكم العقل بالامتثال، فتحصل إنه يتصور مع الشك في
القدرة، فلا مجال للاستصحاب أيضا.
تنبيه آخر
قد يقال كما في الرسائل والكفاية بحجية المثبت عند خفاء الواسطة بنحو يرى
العرف أثر الواسطة أثرا لذيها، ويعدونه من آثاره بمسامحاتهم، وإن لم يكن كذلك
عقلا ودقة، وبحجيته أيضا مع جلاء الواسطة، كما في الكفاية فيما لا يتصور لدى العرف
أن يفكك بين المتلازمين تعبدا كاستحالة التفكيك بينهما واقعا، فحينئذ يرون التعبد
بأحدهما غير منفك عن التعبد بالآخر، ويحكمون بأنه لو اختص بأحدهما فقط لكان
محتاجا إلى البيان، ومثل لهما بأمثلة لعلنا نتعرض لها بعد التكلم في الكبرى ودفع
ما يورد عليها، بأن الأثر الذي يثبت لللازم ويراد إثباته بالأصل في الملزوم، أما أن
يكون أثرا له بالدقة أيضا، أو لا، فعلى الأول يخرج الأصل الحاكم بثبوته بالتعبد
بالملزوم عن المثبت المصطلح، فإنه لم يفد إلا ثبوت الأثر الشرعي لنفس الموضوع،
وعلى الثاني فلا يتصور وجه لاستثنائه بمجرد تسامح العرف في عد أثر الأثر تعبدا
أثرا للمؤثر الأول، مع إن المدار في تطبيق المفاهيم ومنها مفهوم أثر الشئ على
المصاديق على نظر العقل ودقته لا على الأنظار العرفية المسامحية، أما الكبرى فهي حق
لا محيص عنها على كل من المبنيين من جعل المماثل أو إيجاب التنزيل بالاستصحاب
على ما سيظهر، وأما الايراد فهو مدفوع بأن لازم اللازم بلا واسطة أو معها كمعلول
المعلول، وكالحكم المرتب على موضوع مع كون ذاك الحكم مما يترتب عليه أثر، وعلى
أثره أثر آخر ليس لازما ولا معلولا ولا أثرا لما في أول السلسلة حقيقة ودقة، وإنما
أثره ومعلوله بلا مسامحة، هو إن الناشئ من قبله بلا واسطة وهو المعلول الأول، فلا
وجه لاحتماله في المقام، نعم لو كان كذا لكان الاستثناء منقطعا، وإذا انحصر وجه
كون أثر الأثر الذي أثرا لذي الأثر الأول في تسامح العرف وأنظارهم، فلابد من
367

الالتزام بالاستثناء المذكور قلنا بجعل المماثل أو بوجوب التنزيل والتعبد على العبد، فإن
الاطلاق وشمول الدليل لتنزيل الشئ بلحاظ أثره المنتهي إلى العمل ولو بالوسائط
مسلم على كل من المسلكين، غاية الامر دعوى الانصراف إلى الآثار الشرعية بلا
واسطة، أو إلى اليقين بالقضايا الشرعية كذلك أوجبت إخراج المثبت، وإذا لم يكن
الأثر في نظر العرف مما للشئ بواسطة وإن كان معها دقة فلا يندرج فيما انصرف
عنه الخطاب بل يبقى تحت الاطلاق والدليل على لزوم الاخذ باليقين أو المتيقن
السابق، فالخارج بحسب تفاهم العرف المنساق في الدليل اعتبار كون الأثر الذي بلحاظه
التنزيل أثرا للموضوع المنزل كان له بنفسه حقيقة أو مسامحة، فالمفهوم من الخطاب
ومدلوله العرفي لا يأبى عن اندارج الموضوع بلحاظ أثر أثره في التنزيل أحيانا،
وهذا كما ترى ليس من التسامح في تطبيق المفهوم حتى يقال باعتبار الدقة فيه دون
المسامحة، بل هو في تعيين المفهوم والمدلول للكلام المنساق على محاورات العرف، ولا
ريب في كون نظرهم متبعا في هذا المقام، ولذا قد عول كثير عليه في تعيين الموضوع
وإثبات وحدة القضية المتيقنة مع المشكوكة، ولو كان المدار على الدقة في المقام كما
قيل للزم أن لا يتكل على الوحدة العرفية للموضوع والحكم، فإن المشكوك فيه بعد
اليقين به ليس عين ما كان بخصوصياته وعوارضه ومقارناته عند اليقين دقة وعقلا،
وكما إن اعتبار كون الأثر أثرا للموضوع المنزل المستفاد من مساق الدليل
وانصرافه، فكذا اعتبار الاتحاد الموضوعي مفهوم من الخطاب وسياق الدال على
كون المشكوك فيه عين متعلق اليقين، وليس في البين ما يدل على كفاية العينية
والاتحاد التسامحي بحسب الموضوع وعدم كفاية كون المنزل ذا أثر ولو مسامحة
عرفية، وبالجملة التفكيك بينهما مع وحدة السياق وعدم الفارق سيما بوجه لو تم لعم
لا يعقل له وجه صحيح، وربما يقال بناء على حجية المثبت بتقدم السبب على
المسببي حكومة ويمنع تعارضهما مطلقا كان الاستصحاب من باب التعبد أو الظن،
ولا بأس بإيضاح الحق وبيان الشقوق وذكر وجه تقديم السببي على تقدير منع المثبت
أيضا استطرادا، فنقول إما تقديمه على المسببي على التقدير الأخير فلان المشكوك
بالشك المسبب أثر من آثار متعلق السبب، فإذا بقى وجودا وعدما فيتبعه التعبد
368

بثبوت أثره أو انتفائه، فتتبين الوظيفة وكأنه يرتفع الشك الثاني، فلا يبقى وجه لتطبيق
الأصل في مورده، وأما لو قيل بحجية ما يثبت اللوازم فقط كما يناسبه التعبير بالتنزيل
بلحاظ أثر الأثر، وكان المسبب منها لامن الملازم أو الملزوم، فالامر كذلك
أيضا، فإن مقتضى استصحاب الملزوم والتعبد به بلحاظ أثره وأثر أثره وهكذا، هو
تبين الوظيفة بالنسبة إلى ما في السلسلة الطولية بالنسبة إليه، وأما لو كان مما في
عرض المنزل كالملازم أو مما في الرتبة المتقدمة عليه كالملزوم، فلا يعمه التنزيل المتوجه
إلى لازمه أو ملازمه ولا ينتفي الشك عنه به تعبدا، فلو كان بنفسه مجرى للأصل
صح إجرائه فيه وربما ينتهي الامر حينئذ إلى التعارض بين الأصل السببي مع المسبب،
كما هو واضح، وأما لو قيل بحجية المثبت لللازم والملزوم والملازم جميعا، ولا أظن
أحدا أن يقول بذلك، فالتعارض واقع بينهما دائما فيما إذا تنافيا وتحالفا دون ما إذا
توافقا، فمن جهة التسالم على انتفاء التعارض فيما بين السبب والمسبب صح لنا
استكشاف مردودية هذا الاحتمال في المثبت، فيبقى الاحتمال الأول، هذا كله بناء
على حجية الاستصحاب من باب التعبد والاخذ بالاخبار، وأما بناء على كونه من
باب النظر فلا يتصور وجه للمعارضة بناء على كونه من الظن الشخصي، كما لا يبعد
أن يقول به القائل بالانسداد، وذلك لان الظن بالملزوم مستلزم للنظر بثبوت لازمه
وبالعكس، ولا يمكن أن يجتمع الظن بثبوت أحدهما مع الظن بانتفاء الاخر، فلذا
حجية المثبت واضحة على هذا المبنى ولا يلزمه الاستلزام بالتعارض بين السبب
والمسبب، فإنه أما أن يستقر الظن بالملزوم فلا يحصل ظن بانتفاء لازمه، أو باللازم
فلا يظن بانتفاء ملزومه، أو لا يبقى ظن بأحدهما عند وجود موجب الظن بانتفاء
للاخر، فلا ظن في المقام ولا استصحاب في البين كي يعارض بمثله، وأما بناء على
كونه من الظن النوعي فلتصور التعارض وجه كما لا يخفى، لان في المثال المذكور
ظن نوعي لطهارة الماء وظن نوعي على نجاسة الثوب، فيقع التعارض بين الظنين
وحيث ذهبوا إلى أن في صورة دوران الامر بين الأصل السببي والمسببي يقدم
للأصل السببي، نكشف عن إن المراد في الظن هو النوعي، ثم إن الشيخ وغيره
قد ذكروا في المقام أمثلة وعدوها من المثبت الممنوع، لكن يمكن القول بأن
369

أكثرها لا يكون منه على ما يظهر، منها ما ذكره جماعة منهم المحقق في الشرايع من
إنه لو اتفقا الوارثان على إسلام أحدهما المعين في أول شعبان، والاخر في غرة رمضان،
واختلفا فادعى أحدهما موت المورث في أثناء رمضان، كان المال بينهما نصفين الأصالة
بقاء حياة المورث إلى غرة رمضان، ولا يخفى إن الإرث مترتب على موت المورث
عن وارث مسلم وبقاء حياة المورث إلى غرة رمضان لا يستلزم بنفسه موت المورث
في حال إسلام الوارث إلا على المثبت، وبعبارة أخرى إن كانت حيوية باقية إلى
أثناء رمضان فمات المورث عن وارث مسلم يغني استصحاب حياة المورث إلى أثناء
رمضان يلازم موته عن وارث مسلم، ويعبر عنه بتأخر الحادث، فيكون حينئذ موت
المورث عن وارث مسلم من اللوازم العقلية للاستصحاب حياة المورث، ولكن نقول
إن كان ما يوجب الإرث هو موت المورث عن وارث مسلم على ما يتخيل لكان
استصحاب الحياة باعتبار إثبات الاسلام حين الموت في المثبت الممنوع، وأما بناء
على كون الإرث مترتبا على إسلام الوارث في ظرف حياة المورث، فصح إبقاء الحياة إلى
حين الاسلام وإحراز أحد جزئي الموضوع، وهو إضافة الاسلام إلى الحياة بالأصل
وجريانه للاخر وهو الاسلام بالوجدان، وعلى هذا فلا ينبغي عد استصحاب
الحياة من المثبت كما لا يخفى، ومنها إنه إذا كان مال الغير في يد أحد فشك في أن
يده يد أمانة أو يد ضمان، فترى الأصحاب في المقام يحكمون بكونه يد ضمان لان
أصالة عدم الرضا حين الوضع تقتصر كون اليد يد عدوان، فيكون ضامنا، وهذا من
المثبت، لكن نقول إن كان الضمان من لوازم كون اليد يد عدوان، فيكون إثبات
الضمان حينئذ بأصالة عدم الرضا المستلزم للعدوان في المثبت، لأنه يكون في قبيل إثبات
الشئ باللوازم العقلية، وأما لو كان الضمان عبارة عن وضع اليد على مال الغير بدون
رضاء صاحبه فيكون الموضوع حينئذ مركبا من وجودي وعدمي يحرز أحد
جزئيه، وهو كون اليد على مال الغير بالوجدان، وجزئه الاخر وهو عدم كونه عن
رضا صاحبه بالأصل، فلا يكون حينئذ مربوطا بالأصل المثبت، ومنها استصحاب
الرطوبة في رجل الذباب فيما إذا تنجست برطوبة سابقا ثم شك في أن تلك الرطوبة
باقية إلى حين الملاقاة حتى يحكم بنجاسة ملاقية أم لا، حتى يحكم بالطهارة، فاستصحاب
370

الرطوبة إلى حين الملاقاة مع شئ آخر الحكم بمقتضاه من المثبت، فإن نجاسة الملاقي
مترتبة على سراية النجاسة من الملاقي إليه، وهي من لوازم رطوبة رجل الذباب، فالتنجس
متفرع على رطوبة رجل الذباب، وهذا من أثر اللوازم العادية للرطوبة، ولكن
نقول إن الامر كذلك لو كان كذا، إلا إن الواسطة خفية في المقام، ومما يتوهم إنه
من مورد التمسك بالأصل المثبت ما ذكر احتمالا في مقام إثبات دية القتل على من
جنى على أحد بما يوجب القتل، لكنه ادعى إن جنايته هذه وقعت بعد الممات لا في
الحياة، وادعى الوارث استناد الموت بها لا بشرب السم أو المهلك الاخر، بإنه
يمكن أن تستصحب الحياة إلى حين الجناية وبعدها ولو بلحظة، ولا ريب في أن
ترتب موجب الدية وهو القتل على بقاء الحياة إلى ما بعد الجناية عقلي بالدية
مترتبة على الحياة بواسطة، لكنه كما ترى احتمال لعله صدر ممن يرى الاستصحاب
من الامارة التي تثبت اللوازم وغيرها، ومنها مورد بناء الأصحاب على ترتيب أثر
يوم رمضان عند الشك في رؤية هلال شوال، فحكموا بوجوب الصوم يوم الشك
المزبور، فربما يتوهم إنه مبتني على استصحاب رمضان إثباتا لاثره ونفيا لاثر يوم
الفطر حتى يكون أول شوال بعد يوم، لاشك ولا ريب في إنه من المثبت لان
استصحاب بقاء رمضان بمفاد كان التامة لا يثبت مفاد الناقصة إلا على المثبت، ومن
هنا قد يتوهم صحة استكشاف حجيته عندهم لتسالمهم المذكور، ولكن يمكن أن
يقال أن فتوى الأصحاب بذلك من جهة القاعدة المضروبة وهو قوله عليه السلام (صم
للرؤية وأفطر للرؤية)، فلعلهم فهموا منه إن وجوب الصوم رتب على العلم بدخول
رمضان، كما إن وجوب إفطار يوم العيد رتب على العلم بالشوال، فإذا علم بدخوله
يجب الافطار، فليس الأثر مرتبا على عنوان الأولوية والآخرية فقط حتى يستلزم
إثباتهما القول بالمثبت، بل المدار على القاعدة المضروبة في الأيام المشكوكة، ولا ربط
لما في المقام بالاستصحاب، وأما توجيه الاستصحاب بأنه جار في الجزء العدمي فإنه
عبارة عن يوم لم يسبقه يوم من ذلك الشهر، فأحد جزئيه محرز بالوجدان والاخر
بالأصل، ولذا يرتب مقتضى أثره على يوم الشك، فهو لا يخلو عن ضعف، فإن مدلول
الأول معنى بسيط لو أريد تحليله لا ينحل إلى ما قيل، فلا ينبغي عده من المركب
371

ولا يخفى إن لا بأس باستصحاب رمضان في يوم الشك بمفاد كان الناقصة على ما
قدمناه في استصحاب الأمور التدريجية، إلا إنه لدقته وبعده عن كثير من النظار
لا يكون وجها لتسالم الأصحاب في المقام، ومنها مورد الشك في وجود الحاجب
في أعضاء الوضوء، فإنهم لا يتفحصون عن الحاجب ويبنون على عدمه، بخلاف الشك
في حاجبية الموجود فيتفحصون عنه ويفتشون حتى يعلموا ويحصل لهم القطع
بوصول الماء إلى البشرة، مع إن وصول الماء إلى البشرة المستلزم للصحة من اللوازم
العادية لانتفاء الحاجب، فلو كان بنائهم على عدم الفحص مبنيا على استصحاب عدم
الحاجب لكان الأصل المثبت حجة عندهم، ولكن نقول إن السيرة وإن قامت بذلك
ولكن ليس بمعلوم إن المدرك في ذلك هو الاستصحاب، بل يمكن أن يقال إن هذا
الأصل أصل عقلائي في حد ذاته مثل أصالة عدم القرينة، فكما إن في ذاك المقام لما لم
يكن كلام المتكلم غالبا مقرونا بالقرينة، فينزل منزلة الغالب، وفي صورة الشك في
وجود القرينة تدفع بأصالة عدم القرينة، فكذا في المقام لما كان الغالب عدم الحاجب
في محل الوضوء فينزل منزلة الغالب، فيكون كل من الموارد المزبورة تحت قاعدة
مضروبة وأصول عقلائية، فان العقلاء يعتنون بالغلبة النوعية، فلو أغمضنا عن ذلك
كله أمكن أن يدعى إن الواسطة في جميع ذلك خفية، فلا تثبت حجية الأصل المثبت
بقول مطلق بتمسك الأصحاب بالاستصحاب في المقام، وتقريب الخفاء إن العرف
يفهمون إن صحة الوضوء أثر لعدم الحاجب، ولا يفهمون إن لازم عدم الحاجب
وصول الماء إلى البشرة، والصحة مترتبة على الوصول، يعني يرون عدم الحاجب عين
وصول الماء إلى البشرة، وأثر الوصول أثر له، ولكن العمدة على مدعيه لان العرف
يحكمون بالملازمة ويلتفتون إليها، فلا بد أن يدعى إن أصالة عدم الحاجب أصل مستقل
مثل أصالة عدم القرينة كما أشرنا إليه، ومنها مورد الشك في وجود الرد الذي هو
مانع عن إضافة العقد الفضولي إلى المالك، فإن بناء الأصحاب على الرجوع إلى أصالة
عدم الرد وهو لا يثبت إضافة العقد إلى المالك إلا على القول بالمثبت، نعم في ردية
الموجود لا يعتنون بعدمه كما إذا تكلم بكلام لم يعلم إنه قال أجزت أو قال رددت،
فالإجازة البعدية لا تنفع في المقام، بخلاف ما إذا شك في أصل الرد، وأجرى فيه أصل
372

العدم، فإنهم قائلون بأن الإجازة البعدية كافية، ولعل مدرك هذا الأصل أيضا أمر آخر
سوى الاستصحاب وهو غلبة عدم الرد ممن وقع على ماله عقد فضولي، إلا إن هذه
الدعوى كما ترى، وبالجملة إما أن يدعى إن المدرك في الصحة واستناد العقد إلى المالك
في المقام هو الغلبة النوعية القائمة على عدم الرد، وهذا صار منشأ لضرب الشارع
قاعدة ولو بالامضاء، أو إن الشارع أنشأ قاعدة أخرى توسعة للعباد وتخفيفا لهم
في إن كل مورد يشك في إضافة شئ إلى شئ من جهة الحائل والمانع يحكم بعدمه،
تنبيه آخر
لا يخفى إن الاستصحاب يجري تارة فيما هو تمام الموضوع للتعبد، وأخرى
يجري فيما هو جزء الموضوع، (وثالثة) يجري فيما هو شرط للحكم، (ورابعة) فيما
هو شرط للموضوع، فشرط الحكم شرط للوجوب وشرط الموضوع شرط للواجب،
فبناء الأصحاب على إجراء الاستصحاب في هذه الموارد الأربعة أي في نفسي
الموضوع وجزئه وفي شرط الحكم أو الموضوع للحكم، أما الأول فواضح لان
التعبد بالشئ تعبد به باعتبار أثره الشرعي على مسلك، وجعل المماثل أثره على مسلك
آخر، وأما الثاني فلا إشكال أيضا في جريانه لان الحكم إذا تعلق بالمركب ينبسط
على تمام أجزائه، فيكون لكل جزء من المركب شئ من الحكم، فإن الحكم الواحد إذا
تعلق بالمتكثرات قابل للتحليل إلى أحكام ضمنية متلازمات سقوطا وثبوتا لولا قاعدة
الميسور، يعني إن الاحكام الضمنية متساوية بالنسبة إلى الثبوت والسقوط، فإذا كان جزء
من المركب مشكوك البقاء، فالتعبد بذلك تعبد به من حيث أثره فيحرز تمام الأثر
بالاستصحاب وبالوجدان، فهذا الحكم الواحد يكون واقعيا بمرتبة وظاهريا لمرتبة أخرى،
فحكم الاجزاء التي كانت محرزة بالوجدان حكم واقعي، وحكم الاجزاء التي كانت
مشكوكة حكم ظاهري محرز بالأصل، فلا إشكال في جريان الاستصحاب في أجزاء
المركب باعتبار أثرها، وبالجملة موضوع الحكم ليس إلا نفس المتكثرات، فلكل
جزء جزء حكم ضمني مرتبط بحكم الاخر، وهذا بخلاف الاستغراقي فإن كلا من
الاجزاء مشمول للحكم على نحو الاستقلال، ولا يرتبط حكم بعضها بحكم الاخر
373

فالتمسك باستصحاب الجزء إنما يكون باعتبار أثره الضمني لا باعتبار أثر الكل، فلا
وجه لتوهم إنه من المثبت، وأما الثالث فلا إشكال في جريان الأصل فيه لو كان
شرطا للوجوب وشك في حصوله كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج، فإنه إذا شك في إنها
حاصلة بالفعل حتى يجب الحج أو زائلة حتى لا يجب جاز إجراء الاستصحاب فيها
نفيا وإثباتا للوجوب، لان في صورة إناطة الحكم بالشرط يصير الوجوب مقيدا
بالاستطاعة مثلا، وهذا التقيد مما يكون أمر وضعه ورفعه بيد الشارع، إذ له أن ينيط
حكمه به، وله أن لا ينيطه مثل إناطة الحكم بالموضوع، حينئذ إذا كانت الإناطة
منشأ للانتزاع الشرطية، فيكون تقيد الوجوب بالشئ من القضايا الشرعية ومما أمره
بيد الشارع وضعا ورفعا، فيندرج في أخبار الباب لان المراد من القضية الشرعية ما
كان أمر وضعه ورفعه بيد الشارع ومجعولا له، فلا بأس بجريان الاستصحاب في
شرائط الوجوب، وأما شرائط الواجب أي الموضوع، ففيها مسلكان (أحدهما)
هو المسلك المعروف في الشرط من إنه لما أنيط وقيد به شئ بحيث يكون التقيد
داخلا والقيد خارجا مثل الصلاة المشروطة بالطهارة، فإن الطهارة شرط للواجب ومما
قامت الصلاة بها، فيكون الامر متعلقا بذات الصلاة والتقيد،، فالتقيد الحاصل من
إضافة الصلاة إلى الطهارة في عرض ذوات الافعال، وأما الطهارة فهي في رتبة
متقدمة عليها، فعلى هذا تكون الطهارة متقدمة للتقيد لا لنفس الصلاة، وبعبارة أخرى
وبيان آخر إن الشرط عبارة عن قيد وطرف إضافة للشئ بحيث يكون التقيد به
داخلا في المشروط لبا وجزء له دقة وعقلا، كما عليه الجمهور القائلين بأن التقيد داخل
والقيد خارج، وعليه فلو ورد أمر بالمقيد كالصلاة بالنسبة إلى الاستقبال والطهارتين
الحدثية والخبيثية وغيرها، فيتوجه الامر في الحقيقة إلى ذات العمل والتقيد بالقيود
المذكورة، ويعرض الوجوب على التقيد في عرض عروضه للصلاة، فيصيران واجبين،
وإنما يجب إيجاد الشرط مقدمة لحصول التقيد الواجب لا للصلاة، فإنها ليست مقدمة
لها على هذا المسلك، والمسلك الاخر في إن الشرط عبارة عن طرف إضافة للشئ
بنحو لا يكون متقيدا به، إلا إنه لا يوجد بدونه، كما إن الامر كذلك في العلة
بالنسبة إلى المعلول، وفي شرط الوجوب بالنسبة إليه، فإن الحكم لا يكون متقيدا
374

بحصوله ولا المعلول منحلا لأي ذات وتقيد ناشئين عن العلة معا، لكنه مع ذلك لا يوجد
بدونها، فحصوله متفرع على حصولها وثبوتها مقدمة لثبوته بنفسه لا بتقيده وجزئه،
وهذا مصحح لانتزاع الشرطية عن المنوط به مطلقا كانت الإناطة تكوينية أو
جعلية شرعية، من دون رعاية تقيد في المنوط، وعلى هذا فلو أنيطت الصلاة في الشرع
بالطهارة أو غيرها، فلا تكون الطهارة إلا مقدمة لحصولها لا لتقيدها، ولو أمر بها
فهو أمر بنفسها لا لها وللتقيد، فعلى المسلك الثاني لا إشكال في الاستصحاب لان
إناطة الموضوع على الطهارة مما أمره بيد الشارع وضعا ورفعا، أي تعبد بتمام الشرائط
بلحاظ إناطة الموضوع بها، وأما على المسلك الأول فلا مجال للاستصحاب لان
التقيد ليس أمر وضعه ورفعه بيد الشارع، وبالجملة جعل الشئ مشروطا بغيره
يتصور على نحوين (أحدهما) ما هو المعروف حيث يدعون إلى الواجب المشروط
ينحل إلى ذات وتقيد، فما كان تحت الامر والوجوب هو الذات والتقيد، ولكن إن
الشئ الاخر الذي أنيط الواجب به هو القيد خارج عن تحت الامر وواجب
غيري ومقدمة للتقيد، فعلى هذا التصور تصير الطهارة أو القبلة مثلا مقدمة للتقيد
المأمور به في عرض سائر الأجزاء لا لذات الصلاة، (وثانيهما) أن يتعلق الامر
بالصلاة عن طهارة بحيث لم يعتبر تقيدها بالشرط حتى ينبسط الامر عليه أيضا،
وعلى هذا فتكون الطهارة في المرتبة المتقدمة على الصلاة، فتؤخذ في السلسلة الطولية
بحيث يصح أن يقال وجدت الطهارة فوجدت الصلاة، فما كان معروضا للوجوب
هو الصلاة عن طهارة لا الصلاة المقيدة بها، فمنشأ انتزاع الشرطية تعلق أمر الشارع
بالصلاة، لكن لا مطلقا بل بها إذا كانت عن طهارة، وعلى هذا فالطهارة مقدمة
بنفس الواجب لا لجزئه وهو التقيد، وحيث إن للشارع أن يأمر بالصلاة مطلقا
كانت عن طهارة أم لا، وأن يأمر بها في ظرف الطهارة فقط، فتكون إناطة موضوع
حكمه مما أمره بيده وضعا ورفعا، فإن أناطه بشئ كالصلاة بالطهارة فيكون مشروطا،
وإلا فيكون مطلقا، إذا عرفت ذلك، فنقول على التصوير الثاني لا إشكال في
جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الشرط لان إطلاق أخبار الباب وإن انصرف إلى
الآثار الشرعية إلا إن الأثر الذي يعتبر في التنزيل لا ينحصر في الاحكام بل
375

يعم جميع ما كان أمر وضعه ورفعه بيد الشارع، والمفروض إن إناطة الواجب
بالشرط بيد الشارع فله أن ينيطه وله أن لا ينيطه، وأما على المسلك الأول فلا
مجال للاستصحاب لان التقيد مما ليس أمر وضعه ورفعه بيد الشارع، بل هو أمر
واقعي كنفس الركوع والسجود، فباستصحاب الطهارة لا يمكن إثبات أثر التقيد
إلا على المثبت، وربما يلتزم بالاندراج ويقال لا محذور فيه عند مساعدة الدليل
بالخصوص كما في مثل الوضوء والطهارة الحدثية، أو الخبثية، فإن تطبيق الإمام عليه السلام
استصحابهما على مورد الشك فيهما يدل على حجية المثبت هنا على خلاف القاعدة أو
يدعى خفاء الواسطة أو جلائها لشدة الملازمة بين الطرفين، وهذا كما ترى إنما ينشأ
من ضيق الخناق والبناء على كون الشرط عبارة عما تقيده داخل ونفسه خارج وإلا
فلا تنتهي النوبة إلى هذه الدعاوي الممنوعة، هذا كله في مقام التصور وبيان لوازم
المسلكين، وأما في مقام التصديق، فنقول لو كان الأول حقا لزم تركب الصلاة
في الأقوال والافعال والتقيد وتقييد أدلتها واطلاقاتها، وكذا كل مشروط من
الموضوعات بقيودها ورفع اليد عن إطلاقها ومحذور المثبتية للأصل الجاري في
الشروط على ما فصل، والقول بأن الطهارة مقدمة للجزء وهي في عرض الصلاة لا أنها
مقدمة بنفسها كما اشتهر، وللزم التفكيك بين شرط الوجوب وشرط الواجب، بداهة
إن الوجوب المشروط هو ذات الوجوب لا المقيد بما إنه كذلك مشروط بشئ، فمن
لزوم هذه التوالي على الأول وعدم لزوم شئ منها على الثاني ينبغي أن يعلم بحقيقته
دونه، ولعل منشأ الشبهة في إن الشروط الشرعية كغيرها من حيث إن التقيد بها
داخل في المشروط هو الخلط بين اصطلاح أهل المعقول وعلم الأصول، ومجمل
القول إن النكتة الفارقة بين المسلكين من حيث جريان الاستصحاب على أحدهما
دون الاخر لكونه من الأصول المثبتة، هي إن على المسلك المختار في الشروط من
جعل موضوع الحكم كالصلاة مثلا على الطهارة ومنوطة بها يعتبر العقل الطهارة
مقدمة لنفس الصلاة وتكون الإناطة حينئذ بيد الشارع، إذ له أن ينيط الموضوع
بشئ وله أن لا ينيطه، فإذا شك في الطهارة يشك في الإناطة، فيكون الشك فقط في
الإناطة، فتوسعة الطهارة تلازم توسعة الإناطة وبعد الاستصحاب وإثبات الطهارة
376

يحكم العقل بوقوع أفعال الصلاة عن طهارة، نظير استصحاب أجزاء المركب فإنه
إذا ثبت جزء منه بالاستصحاب فيحكم العقل إن هذا المركب واجد لهذا الجزء، يعني
يطبقه العقل على المورد، فلا مانع من جريان الاستصحاب على هذا المسلك، وبعبارة
أخرى الامر بالصلاة عن مثل طهارة الامر بإيجاد زيد على السطح، فيصير زيد حينئذ
طرفا للإضافة ويحصل له إضافة على الكون على السطح، فالامر إنما تعلق بإيجاد زيد
لا في أي مكان بل في السطح مثلا، ولولا الامر بالايجاد الحاصل كان كل من زيد
والسطح من الأمور الواقعية، ولم يكن بينهما إضافة وربط خارجي، وأما بعد الامر
بإيجاده على السطح يتصور بينهما ربط في مقام المطلوبية، ولا ريب في إن هذا الربط
والإناطة ناشئ من قبل الامر، فيكون مما أمره بيد الشارع وضعا ورفعا، وعليه
فلا محذور في استصحاب الطهارة باعتبار أثرها، وهي هذه الإناطة الجعلية، وأما على
المسلك الاخر أي القول بأن الشرط عبارة عن قيد خارج عن المشروط، ويكون التقيد
به إضافة قائمة بالطرفين وأمرا واقعيا، فلا يعقل التوسعة بالنسبة إليه إذ لا يكون
التقيد مما أمر وضعه ورفعه بيد الشارع، لأنه أمر واقعي وإضافة قائمة بالطرفين، فلا
مجال للاستصحاب على هذا المسلك، وربما يقال دفعا عن المسلك الأول بأن الواسطة
خفية أو جلية أو بأن ورود النص الحاصل في الوضوء والطهارة يجوز لنا استصحابهما
وإن كان مثبتا، أو بأن التقيد لما كان من الأمور الاعتبارية التي لا تحقق لها إلا
بمنشائها، فلا بد أن يرجع الامر به إلى الامر بالمنشأ وماله الدخل في تحققه الاعتباري،
أو يدعي إن موضوع الوجوب النفسي هو الصلاة في حال الطهارة، فهو مركب من أجزاء
أحدها الصلاة والاخر كونها في حال الوضوء، ولا ريب تحققهما بالوجدان، فليبقى
الجزء الثالث وهو الطهارة ولا بأس بإحرازها بالأصل، وهذه الأجوبة كما ترى قابلة
للمنع، أما الأولان منها فلأنهما مجرد دعوى تقابل بدعوى الخلاف، وأما الثالث
فلانه وإن كان في بادي النظر وجيها، إلا إن المتمسكين بخصوص أخبار الوضوء لم
يقتصروا على موردها، بل فهموا منها عموما شاملا للموضوعات والاحكام، فلا يبقى
وجه للالتزام بحجية المثبت في خصوص موردها وهو الوضوء، وأما الرابع فلانه
لو تم وسلم كون التقيد مما لا خارجية له وقيل بأنه لا وعاء له غير الذهني وموطن
377

الاعتبار، كما إن الملكية كذلك. مسلما يلزمه القول بكون الطهارة ومنشأ التقيد مطلوبا
نفسيا ضمنيا في عرض أجزاء الصلاة، إذ المفروض إن الامر بالصلاة منبسط على
أجزائها وعلى التقيد الذي هو المأمور به باعتبار منشائه، وهي الطهارة، فالطهارة على هذا
واجب نفسي لا غيري مقدمي على المشهور المتسالم عليه لدى الأصحاب قديما وحديثا،
وأما الخامس فبعد الغض عن منع كون الموضوع مركبا مما ذكر، يرد عليه إن
ما يضاف إليه الحال المأخوذ في الموضوع، أما الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية،
أو خصوص الأولى، فعلى الأول وإن جاز استصحاب الطهارة والتعبد بها ظاهرا
إلا إن لازمه القول بالاجزاء والاجتزاء بالعمل المأتى قبل كشف الخلاف، ولا يلتزم
به معظم الأصحاب، وعلى الثاني لا فائدة في الاستصحاب فإنه لا يثبت الطهارة الواقعية
المعتبرة في المأمور به، فظهر إن شيئا من التقريبات المتقدمة في الأجوبة لا يدفع إشكال
المثبت على تقدير دخل التقيد، وأما المسلك الاخر فلا احتياج إليها كما لا يخفى، ثم
إنه ربما يقال بكفاية كون المستصحب ذا أثر على تقدير بقائه وإن لم يكن كذلك
من حين حدوثه وبدو أمره، والظاهر إنه لا ريب في كفايته إذ التعبد به بلحاظ أثره
الفعلي ووجوده البقائي فلا دخل لكونه ذا أثر من أول وجوده في صحة التعبد
ببقائه بلحاظ الأثر الفعلي، وهذا واضح بلا سترة، إلا إن وجه جعل التنبيه من تنبيهات
المثبت مخفي علينا ولم يتضح لنا حتى بعد التأمل.
تنبيه آخر
لا يخفى إن الشك قد يتعلق بأصل الحدوث كالشك في الحدث بعد القطع بالطهارة،
وبالعكس، وقد يتعلق بظرف الحدوث فارعا عن أصل الثبوت، وذلك كالشك في إن
الوضوء المعلوم وقع في أول الظهر مثلا أو بعده بساعة، فالوضوء مشكوك لكن
بالقياس إلى ظرف وقوعه لا من حيث ذاته، وثالثة يشك في الشئ بالقياس إلى غيره
وظرف ثبوته لا خصوص ظرف ثبوت نفسه، وهذا على نحوين (أحدهما) أن لا
يمكن اجتماع الامرين زمانا كما في مورد توارد الحالتين المتضادتين واشتباه المتقدم
منها بالمتأخر كالوضوء والحدث، (وثانيهما) كإسلام الوارث وموت مورثه، فإنهما
378

يمكن أن يتقارنا وأن يتقدم أحدهما على الاخر، أما الأول وهو ما إذا شك في
الحدوث، فلا ريب في صحة الرجوع إلى استصحاب عدم المشكوك، أو استصحاب ضده
كالطهارة المعلومة سابقا عند إرادة إتيان العمل المشروط بها، فإن إبقاء عدم الحدوث
المشكوك حينئذ لا يجوز الدخول في المشروط بالطهارة ولا يثبتها إلا على المثبت،
بخلاف استصحاب الطهارة، وأما الثاني فله صور منها أن يشك في الحدث الأصغر أو
الأكبر من حيث ظرفه، بأن يعلم إجمالا بطرو الحدث، أما أول الظهر مثلا أو بعده
بساعتين، أو قبل الغروب بربع، أو تعلم المرأة بطرو الحيض، أما في الثلاثة الأولى من
الشهر أو من وسطه أو آخره، ولا يخفى إنه إما أن يقع من هذا المتردد وضوء أو
غسل عقيب طرو الاحتمال أو لا، فعلى الثاني يتولد من هذا العلم الاجمالي قطع تفصيلي
بثبوت الحدث في ظرف الطرف الأخير، فإنه أما كان حاصلا من أول الوقت أو
وسطه، وأما حدث في الاخر، وعلى كل فيعلم بالحدث المانع عن الصلاة فعلا، فلا يبقى
مجال لاستصحاب الطهارة حينئذ بالنظر إلى هذا الموطن، وأما بالنظر إلى غيره من
الطرفين المتقدمين عليه فالظاهر إنه لا بأس باستصحاب الطهارة فيهما وفيما بعدها إلى
حين اليقين بالانتقاض، فللمرأة المترددة في أيام حيضها بأنها الثلاثة مع الأول، أو الوسط
أو الاخر، أن تستصحب الطهر وتصلي فيما بعد الثلاثين بلا غسل، وكذا فيهما أيضا
بناء على حرمة العبادة على الحائض شرعا، فإنها إذا اعتمدت على الأصل الشرعي
فلا يقع منها الشريع فلا تعلم بحرمة العبادة عليها في الأيام ولو إجمالا حتى يسقط
الأصلان بالمعارضة، وفي المفروض لا فرق بين كون العلم الاجمالي مقتضيا للموافقة
القطعية أو علة لها، ولا مانعية له عن جريان الاستصحاب في أطرافه، فإنه لا يلزم منه
المخالفة العملية لان حرمة التشريع راجعة إلى البناء وعقد القلب لا إلى العمل، هذا
مضافا إلى انحلاله بالعلم التفصيلي بالنسبة إلى حكم آخر الوقت والأخير من الأطراف،
وأما بناء على حرمة العبادة ذاتا فلا يجوز لها الرجوع إلى استصحاب الطهر في أيام
أطراف العلم، فإنها تعلم إجمالا بمخالفته للواقع فيسقط عن الحجية فيها بالمعارضة، هذا
على القول بكون الاجمالي مقتضيا لا علة لوجوب الموافقة القطعية، وإلا فلا مجال
لجريانه أصلا، هذا كله فيما إذا كان العلم سابقا ولم يأت برافع إلى الاخر، وأما
379

إذا حصل العلم في الثلاثة الأخيرة في الشهر أو وجد الرافع بعد كل طرف، فسيأتي
حكمها إن شاء الله، فتحصل إن العلم إما حاصل في البداية، وإما أن يحدث في النهاية،
وعلى كل فإما أن يتحقق الغسل مثلا عقيب كل طرف من أطراف العلم، وأما
لا يقع إلى آخر الوقت، وعلى الأخير فإما أن نقول بحرمة العبادة على الحائض ذاتا
أو تشريعا، وعلى كل فإما أن يقال بعلية الاجمالي أو كونه مقتضيا للموافقة القطعية،
فهذه صور المسألة وسنتعرض لها مشروحا إن شاء الله، وبالجملة إن المرأة إذا علمت
أولا بأنها إما تحيض في الثلاثة الأولى، أو الوسطى أو الأخيرة من شهر، ولم تغتسل
في البين أصلا تعلم تفصيلا بانتقاض طهارتها في أيام آخر الشهر، وبه ينحل علمها
الاجمالي بالحدث، أما في الأول أو الوسط فيجوز له التمسك باستصحاب الطهارة إلى
القطع بالانتقاض، إذ المفروض انحلال العلم الاجمالي المانع عن جريانه، إما لعليته، وإما
للزوم المخالفة العملية من التمسك به على القول بالاقتضاء، هذا بالنسبة إلى العلم الاجمالي
بالمانع عن الصلاة وهو الحدث، وإما بالنسبة إلى حرمة العبادة على الحائض في أيام
دمها، فلا ينحل علمها بالتفصيلي المتصور في المانع بالرجوع إلى الاستصحاب في جميع
الأطراف وعدمه مبني على كون العبادة محرمة عليها ذاتا أو تشريعا، فإن كانت من
الثاني يجوز الرجوع إليه حتى على علية العلم لوجوب الموافقة القطعية، فإن حرمة
التشريع متعلقة بأمر قلبي جانحي، فلا يلزم من الاخذ بالأصل في أطرافها مخالفة
عملية بالنسبة إليها فلا يمنعه العلم بها إجمالا، وأما لو كانت حرمة العبادة ذاتية فهي
لما علمت بها إجمالا وتنجزت عليها فلا يسوغ لها الرجوع إلى الاستصحاب في شئ
من الأطراف، لان العلم وإن قيل بأنه مقتضى لا علة، إنما لا ينافي الأصل النافي فيما
لا يلزم منه محذور المخالفة القطعية، وأما في مثل المقام فيمتنع عن جريانه في الجميع،
ولا يجوز إجرائه في بعض دون غيره لانتفاء المرجح، هذا كله فيما كان العلم سابقا
ولم يغتسل أصلا، وأما إذا حدث العلم في الثلاثة الأخيرة من الشهر من دون غسل
سابق، فهي تعلم ببطلان الصلاة منها قبل الغسل فيها تفصيلا، وأما حرمة العبادة عليها
فهي لا تتنجز ولها الدخول فيها بعد الغسل رفعا للحدث القطعي، اللهم إلا أن يقال
إنها لا تقطع بارتفاع الحدث عنها بالغسل في أيام تحتمل إنها أيام دمها، فلها استصحاب
380

الحدث وعدم جواز الدخول في الصلاة بقصد المشروعية، وأما إذا اغتسلت بعد
الصلاة عقيب كل ثلاثة فلا ريب في عدم تحقق العلم التفصيلي بالحدث، فلا ينحل
الاجمالي المتعلق بالحدث المانع، فلا يجوز الاخذ باستصحاب الطهارة في أيام الأطراف،
ولا فيما بعدها إلى إتمام الصلاة المتقدمة على الاغتسال للعلم بمخالفته للواقع في الجملة،
ولا يجوز للاخذ به أيضا في نفي الحرمة الذاتية في الأيام التسعة على كلا المسلكين
في تأثيره الموافقة القطعية، وأما العلم بالحرمة التشريعية إجمالا كما على القول الغير
المختار فلا يمنع عن جريان الأصل في الأطراف على ما تقدم، هكذا ينبغي أن يحرر
المقام ويبين الشقوق والأقسام حتى لا تختلط الاحكام على ذوي البصائر والأفهام،
فظهر مما مر صور الشقوق المتصورة في الثاني وحكم كل منها وعلم إن الأصل لا
يجري في بعضها ويسقط بالتعارض في بعض، ويجري بلا محذور على بعض التقادير
في طرفين من الأطراف الثلاثة وفي جميعها على تقدير آخر، (وأما الثالث) وهو
ما إذا كان الشك في شئ مقيسا به إلى ظرف وجود غيره، فله أيضا شقوق منشأها
الشك في اتحاد ظرفيهما وعدمه، بأن يشك في كون ظرف وجود ذلك الشئ حاصلا
قبل ظرف الاخر أو بعده، فهذه أقسام ثلاثة، ولا يخفى إنه إذا جعل الشئ الذي
لوحظ مضافا إلى غيره من إحدى الجهات المتقدمة موضوعا للأثر، فتارة يجعل كذلك
من حيث تقيده بالثبوت قبلا، أو مقارنا أو بعدا، فيكون الأثر في الحقيقة للذات
والتقيد، والأخرى لا يلحظ في الموضوع ضيق وتقيد بإحدى الأزمنة بل يجعل
الأثر لذات متحققة في إحدى الظروف، فعلى هذا فالاثر بتمامه لنفس الذات لا لها
وللتقيد، وثالثة يجعل الأثر للمقيد بمنشأ انتزاع التقدم والتقارن والتأخر، وهو
نحو من أنحاء الإضافة التي تكون فيما بين الشيئين من حيث ظرف الوجود ووعائه،
ولما كان للأخير دائرا على الألسن ووقع الكلام فيه أزيد مما في الأولين، فنقدم
البحث عنه أولا ثم نتعرض لغيره، فنقول إن منشأ انتزاع هذه العناوين وهو
الإضافة الخاصة بين شيئين، أما أن يكون له حظ من الخارجية عند كون طرفي
الإضافة خارجيين كالهيئة الحاصلة لاجزاء السرير مثلا على ما أثبتناه في بعض
المباحث المتقدمة آنفا، فإنا أشرنا إلى إن منشأ انتزاع الفوقية أيضا له خارجية نظير
381

طرفي الإضافة، وإن الخارج لو لم يكن ظرفا لوجوده فهو ظرف لنفسه قطعا، ولذا لا
يلزم من انتفاء المعتبر وعدم اعتبارها عدم خارجيتها، كما لا يخفى، أو لا يكون كذلك
بل من في الأمور القائمة بالاعتبار والمتحققة في وعاء الذهن لا الخارج، وإنما
الخارجية والتحقق لما تقوم به هذه الإضافة من الطرفين، وعلى الأول أمكن أن
يقوم به الصلاح أو الفساد ويصير منشأ لمطلوبية المتقدم أو مبغوضيته من حيث إنه
كذلك، ولذا ترى الانسان إلا من ارتاض يحب تقدم نفسه على الغير ويبغض المتقدم
عليه وإن كان ولده وأحب أحبائه، وأما على الثاني فحيث لا يقوم للأثر الخارجي
بالامر الاعتباري ولا يمكن أن يكون مؤثرا في الصلاح أو الفساد خارجا، فلا بد
من أن يكون الأثر لطرف الإضافة وما تقوم به هي، فلو أريد أن يتمسك باستصحاب
العدم عن الشك في التقدم أو غيره نفيا للأثر، فلا بد من الرجوع إلى استصحاب
عدم زيد مثلا في الزمان السابق إلى المقارن لظرف وجود عمرو، وأما عدمه في
الزمان المتأخر عنه فقد علم بانقلابه ولا يبقى مجال معه للاستصحاب، وكما لم يكن
العلم الاجمالي، بأن أيام الحيض أما الثلاثة من الأول، أو الأوسط أو آخر الشهر مانعا
عنه الرجوع إلى استصحاب الطهارة في الأولين فيما إذا لم تغتسل المرأة أصلا
لانحلاله بالعلم التفصيلي بالحدث في الأخيرة، فكذلك في المقام إذ المفروض إن زيدا
معلوم الوجود وإنما الشك في وعاء وجوده، وأما على تقدير كون الإضافة متحققة
بنفسها خارجا لا لمنشأها فهي أيضا يتصور لها العدم الخارجي وإن كان مترتبا على
عدم طرفيها، نظير تأخر عدم المعلول من عدم العلة وترتبه عليه، فإنه وإن لم يتصور في
العدم تأثير وتأثر إلا إن نقيض الوجود المتقدم على غيره رتبة لا يكون إلا عدمه
في تلك الرتبة لا مطلق العدم، فلكل من الإضافة وطرفيها عدم أزلي سابق يمكن
استصحاب عدم منشأ انتزاع التقدم والتقارن والتأخر أيضا، غاية الامر بعدم الاجراء
في الجميع يسقط عن الحجية بالمعارضة بالعرض بواسطة العلم الاجمالي بانقلاب
واحد للاعدام المستصحبة، فالمعارضة مبنية على الالتزام بخارجية الإضافة، وأما على
منعها ودعوى اعتباريتها كما على أحد المسلكين في الباب فلا، والعجب من العلامة
الخراساني إنه تمسك بدعوى المعارضة في المقام مع إنه يرى الأثر لمنشأ الاعتبار
382

حقيقة والإضافة من الأمور الاعتبارية الفاقدة لحظ الخارجية كما يظهر منه ذلك
صريحا في مبحث اجتماع الأمر والنهي أو مبحث الضد، هذا كله لو أخذت
هذه العناوين في لسان الدليل قيدا، ورتب الأثر عليها، وقد تقدم إنه يجوز استصحاب
عدم كل من العناوين بلحاظ أثره بناء على الالتزام بخارجية منشأ انتزاعها، إلا إن
العلم بمخالفة واحد من الاستصحابات يسقط الجميع عن الاعتبار بالمعارضة، وأما
على غير المختار فيجوز استصحاب عدم الذات المقيد من حين الشك إلى زمان القطع
بانتقاض الحالة السابقة، وهو الزمان الذي لو كان المعلوم حادثا فيه لكان متأخرا عن
غيره، فيستصحب عدمه في زماني التقدم والتقارن إلى زمان التأخر وبه يحرز عدمه
إليه، لكن لا يثبت به عنوان التأخر، نعم لو كان للعدم إلى ذاك الحين أثر في الشرع
يترتب عليه، وأما إذا لم يكن شئ من العناوين المتقدمة مأخوذا في الخطاب بل
أخذ فيه الزمان الذي يصدق عليه واحد منها بنحو الظرفية أو القيدية للموضوع،
بأن يرد مثلا إسلام الوارث قبل موت المورث أو في ظرفه دخيل في الإرث، أو موته
بعد إسلام الوارث سبب لإرثه حينئذ لا يخلو إما أن يعلم تاريخ أحدهما ويشك في
الاخر، أو يشك في كليهما، فإن علم بإحدهما كان يعلم بأن يوم الخميس مثلا يوم إسلام
الوارث، وشك في ظرف الموت، حينئذ يجوز استصحاب عدمه إلى أول وقت يقطع
بتحققه وهو أول يوم الجمعة مثلا، فيرتب عليه أثر عدم الموت قبل الاسلام، أو مقارنه
فإن هذا العدم محرز بالأصل وتحققه في ظرف إسلام الوارث معلوم بالوجدان، وكذا
إذا علم بكون يوم الخميس ظرفا لحدوث الموت، ولكن شك في إن إسلام الوارث
وقع فيه مقارنا للحدث الاخر أو سابقا عليه أو بعده، فحينئذ يجري استصحاب
في عدم تحقق الاسلام إلى زمان يقطع بثبوته فيه وعدم تأخره عنه وهو يوم الجمعة
مثلا، ومقتضاه أن يرتب آثار عدمه قبل الموت وفي حينه، فإنه يحرز العدم التعبدي
للاسلام فيهما، وأما ما علم تاريخه فلا نحتاج فيه إلى الأصل لأنه معلوم العدم
بالنسبة إلى ما قبل حدوثه المعلوم وقتا وهذا واضح، وأما إذا جهل تاريخ كليهما
فربما يتصور فيهما الاستصحاب ويتوهم اندراجهما في دليله، غاية الامر إنه لما علم
بمخالفة واحد من الاستصحابين وهو استصحاب عدم الموت قبل الاسلام وبعده،
383

واستصحاب عدم الاسلام قبل الموت وبعده فيسقطان بالمعارضة عن الحجية، والظاهر
إنه لا مجال للأصل في المقام، فإن جر العدم المعلوم في يوم الأربعاء إلى يوم الجمعة
وهو يوم القطع بانقلاب عدمي الاسلام والموت وإبقائه تعبدا لا ينفع في إحراز
تحقق عدم الاسلام قبل الموت أو بعده، فإن الاستصحاب لا يفيد إلا بقاء مجراه في
الظروف المتأخرة عن الشك إلى حين اليقين بالانتقاض، وأما إن الامر الاخر
ثابت في بعض هذه الظروف حتى يحرز به إن المستصحب متقدم عليه وواقع قبله
أو بعده، فلا، والمفروض إن الأثر مترتب على الاسلام قبل الموت لا عليه إلى يوم
الجمعة مثلا حين يبقى عدمه المعلوم من الأربعاء إليه ويمنع جديد الاسلام عن الإرث،
وبالجملة لما لم يكن ظرف حدوث الموت معلوما فلا يمكن إحراز وقوع الاسلام
قبله أو بعده وإن جر عدمه إلى يوم الجمعة، فإن هذا العدم المستمر التعبدي يحتمل
أن يكون متحدا الظرف مع الموت الواقعي وبالعكس، فلا يحرز بقائه إلى ما بعده
كما لا يحرز به وقوع الموت قبله أيضا، فلا مجال للاستصحاب أصلا، وملخص
الكلام في الحادثين بالإضافة إلى وجود الاخر أو عدمه فيما إذا لم يكن عنوان
التقدم والتأخر والتقارن مأخوذا في الخطاب، إنه تارة يكون تاريخ أحدهما معلوما
دون الاخر وحينئذ لا يجري الاستصحاب في معلوم التاريخ ويجري في مجهول
التاريخ فقط، لأنه لا شك في ظرف وجود الأول ولا عدمه، وأما في الثاني فيجر
عدمه المعلوم إلى يوم الجمعة مثلا الذي هو يوم القطع بوجود الحادث الاخر فيه،
فيقطع بعد الاستصحاب بعد ذاك الحادث المجهول تاريخه كالاسلام عند وجود الاخر
أي الموت المعلوم التاريخ وقبله، وأخرى يكون كلاهما مجهولي التاريخ، وربما يتوهم
في المقام جريان الاستصحاب في الطرفين وتساقطهما من البين بتقريب إنه يشك في
وجود ذاك الطرف في حال وجود الاخر أو بعده فيستصحب عدمه في الحالين،
ففي المثال المذكور يقال إن الأصل عدم إسلام الوارث إلى زمان موت المورث،
والأصل عدم موت المورث إلى زمان إسلام الوارث، فيتعارضان ويتساقطان ولا
يثبت بذلك تقارن الاسلام والموت، ولكن نقول ليس الباب باب التعارض لان
شأن الاستصحاب جر المتيقن السابق في ظرف الشك إلى حين القطع بالخلاف وإبقائه
384