الكتاب: فرائد الأصول
المؤلف: الشيخ الأنصاري
الجزء: ٢
الوفاة: ١٢٨١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: إعداد : لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: شعبان المعظم ١٤١٩
المطبعة: باقري - قم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
ردمك: ٩٦٤-٥٦٦٢-٠٣-٦
ملاحظات: المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري

فرائد الأصول
البراءة والاشتغال
1

فرائد الأصول
للشيخ الأعظم أستاذ الفقهاء والمجتهدين
الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)
1214 - 1281 ه‍ ق
إعداد
لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
3

أنصاري، مرتضى بن محمد أمين، 1214 - 1281 ق.
فرائد الأصول / لمرتضى الأنصاري، إعداد وتحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ
الأعظم. - قم: مجمع الفكر الإسلامي، 1419 ق = 1377.
4 ج: نمونه - (آثار شيخ الأعظم أنصاري، 24، 25، 26، 27)
10000 ريال (هر جلد)
(0 - 02 - 5662 - ISBN 964 ج 1)
(6 - 03 - 5662 - ISBN 964 - ج 2)
(4 - 04 - 5662 - ISBN 964 ج 3)
(2 - 05 - 5662 - ISBN 964 - ج 4)
فهرستنويسى بر أساس اطلاعات فيپا (فهرستنويسى پيش از انتشار).
عربي.
أين كتاب به فرائد الأصول ورسائل نيز معروف است.
أين كتاب در سالهاى مختلف توسط ناشرين متفاوت منتشر شده است.
كتابنامه.
مندرجات: ج. 1. القطع والظن - ج. 2. البراءة والاشتغال - ج. 3. الاستصحاب
- ج. 4. التعادل والتراجيح.
1. أصول فقه شيعه. الف: مجمع الفكر الاسلامي. لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم.
گرد آورنده. ب عنوان. ج عنوان: رسائل.
4 ف 8 الف / BP 159 312 / 297
120471377 - 77 م
قم - ص. ب 3654 - 37185 - ت: 744810
فرائد الأصول
ج 2 (البراءة والاشتغال)
المؤلف: الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره
تحقيق: لجنة التحقيق
الطبعة: الأولى / شعبان المعظم 1419 ه‍. ق
صف الحروف: مجمع الفكر الإسلامي
الليتوغراف: نگارش - قم
المطبعة: باقري - قم
الكمية المطبوعة: 3000 نسخة
جميع الحقوق محفوظة
للأمانة العامة للمؤتمر العالمي
بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري قدس سره
4

بسم الله الرحمن الرحيم
5

المقصد الثالث
من مقاصد هذا الكتاب
في الشك
7

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله
الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين (1).

(1) لم ترد الخطبة الشريفة في (ت).
8

المقصد الثالث
من مقاصد هذا الكتاب
في الشك
قد قسمنا في صدر هذا الكتاب المكلف الملتفت إلى الحكم
الشرعي العملي في الواقعة على ثلاثة أقسام، لأنه إما أن يحصل له
القطع بحكمه (1) الشرعي، وإما أن يحصل له الظن، وإما أن يحصل له
الشك.
وقد عرفت: أن القطع حجة في نفسه لا بجعل جاعل، والظن
يمكن أن يعتبر في متعلقه (2)، لأنه كاشف عنه ظنا، لكن العمل به
والاعتماد عليه في الشرعيات موقوف على وقوع التعبد به شرعا، وهو
غير واقع إلا في الجملة، وقد ذكرنا موارد وقوعه في الأحكام الشرعية
في الجزء الأول من هذا الكتاب (3).

(1) في (ه‍): " بالحكم ".
(2) في (ر) و (ظ) بدل " متعلقه ": " الطرف المظنون ".
(3) وردت في (ظ) و (ه‍) زيادة، وهي: " وأن ما لم يرد اعتباره في الشرع فهو
داخل في الشك، فالمقصود هنا بيان حكم الشك بالمعنى الأعم من ظن غير
ثابت الاعتبار ". وكتب فوقها في (ظ): " زائد ".
9

وأما الشك، فلما لم يكن فيه كشف أصلا لم يعقل (1) أن يعتبر،
فلو ورد في مورده حكم شرعي - كأن يقول: الواقعة المشكوكة حكمها
كذا - كان حكما ظاهريا، لكونه مقابلا للحكم الواقعي المشكوك
بالفرض. ويطلق عليه الواقعي الثانوي أيضا، لأنه حكم واقعي للواقعة
المشكوك في حكمها، وثانوي بالنسبة إلى ذلك الحكم المشكوك فيه،
لأن موضوع هذا الحكم الظاهري - وهي الواقعة المشكوك في حكمها -
لا يتحقق إلا بعد تصور حكم نفس الواقعة والشك فيه.
مثلا: شرب التتن في نفسه له حكم فرضنا في ما نحن فيه شك
المكلف فيه، فإذا فرضنا ورود حكم شرعي لهذا الفعل المشكوك الحكم،
كان هذا الحكم الوارد (2) متأخرا طبعا عن ذلك المشكوك، فذلك
الحكم (3) واقعي بقول مطلق، وهذا الوارد ظاهري، لكونه المعمول به في
الظاهر، وواقعي ثانوي، لأنه متأخر عن ذلك الحكم، لتأخر موضوعه
عنه.
ويسمى الدليل الدال على هذا الحكم الظاهري " أصلا "، وأما ما
دل على الحكم الأول - علما أو ظنا معتبرا - فيختص باسم " الدليل "،
وقد يقيد ب‍ " الاجتهادي "، كما أن الأول قد يسمى ب‍ " الدليل " مقيدا
ب‍ " الفقاهتي ". وهذان القيدان اصطلاحان من الوحيد البهبهاني، لمناسبة
مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد (4).

(1) في غير (ت) زيادة: " فيه ".
(2) لم ترد " الوارد " في (ت) و (ه‍).
(3) في (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " حكم ".
(4) انظر الفوائد الحائرية: 499، الفائدة 33، في تعريف المجتهد والفقيه.
10

ثم إن الظن الغير المعتبر حكمه حكم الشك كما لا يخفى.
ومما ذكرنا: من تأخر مرتبة الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي
- لأجل تقييد موضوعه بالشك في الحكم الواقعي - يظهر لك وجه
تقديم الأدلة على الأصول، لأن موضوع الأصول يرتفع بوجود الدليل،
فلا معارضة بينهما، لا لعدم اتحاد الموضوع، بل لارتفاع موضوع الأصل
- وهو الشك - بوجود الدليل.
ألا ترى: أنه لا معارضة ولا تنافي بين كون حكم شرب التتن
المشكوك حكمه هي الإباحة وبين كون حكم شرب التتن في نفسه مع
قطع النظر عن الشك فيه هي الحرمة، فإذا علمنا بالثاني - لكونه علميا،
والمفروض (1) سلامته عن معارضة الأول - خرج شرب التتن عن
موضوع دليل (2) الأول وهو كونه مشكوك الحكم، لا عن حكمه حتى
يلزم فيه تخصيص و (3) طرح لظاهره.
ومن هنا كان إطلاق التقديم والترجيح في المقام تسامحا، لأن
الترجيح فرع المعارضة. وكذلك إطلاق الخاص على الدليل والعام على
الأصل، فيقال: يخصص الأصل بالدليل، أو يخرج عن الأصل بالدليل.
ويمكن أن يكون هذا الاطلاق على الحقيقة بالنسبة إلى الأدلة
الغير العلمية، بأن يقال: إن مؤدى أصل البراءة - مثلا -: أنه إذا
لم يعلم حرمة شرب التتن فهو غير محرم، وهذا عام، ومفاد الدليل

(1) في (ر): " والفرض "، وفي (ظ) و (ه‍): " ولفرض ".
(2) في (ر)، (ص) و (ظ): " الدليل ".
(3) في (ظ): " أو ".
11

الدال على اعتبار تلك الأمارة الغير العلمية المقابلة للأصل: أنه إذا قام
تلك الأمارة الغير العلمية على حرمة الشئ الفلاني فهو حرام، وهذا
أخص من دليل أصل البراءة مثلا، فيخرج به عنه.
وكون دليل تلك الأمارة أعم من وجه - باعتبار شموله لغير مورد
أصل البراءة - لا ينفع بعد قيام الإجماع على عدم الفرق في اعتبار تلك
الأمارة (1) بين مواردها.
توضيح ذلك: أن كون الدليل رافعا لموضوع الأصل - وهو
الشك - إنما يصح في الدليل العلمي، حيث إن وجوده يخرج حكم
الواقعة عن كونه مشكوكا فيه، وأما الدليل الغير العلمي فهو بنفسه (2)
غير رافع لموضوع الأصل وهو عدم العلم، وأما الدليل الدال على
اعتباره فهو وإن كان علميا، إلا أنه لا يفيد إلا حكما ظاهريا نظير
مفاد الأصل، إذ المراد بالحكم الظاهري ما ثبت لفعل المكلف بملاحظة
الجهل بحكمه الواقعي الثابت له من دون مدخلية العلم والجهل، فكما أن
مفاد قوله (عليه السلام): " كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي " (3) يفيد الرخصة
في الفعل الغير المعلوم ورود النهي فيه، فكذلك ما دل على حجية
الشهرة الدالة مثلا على وجوب شئ، يفيد وجوب ذلك الشئ من
حيث إنه مظنون مطلقا أو بهذه الأمارة - ولذا (4) اشتهر: أن علم المجتهد

(1) في (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " حينئذ ".
(2) في (ت)، (ر) و (ص) زيادة: " بالنسبة إلى أصالة الاحتياط والتخيير كالعلم
رافع للموضوع، وأما بالنسبة إلى ما عداهما فهو بنفسه ".
(3) الوسائل 18: 127، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 60.
(4) في (ص): " وكذا ".
12

بالحكم مستفاد من صغرى وجدانية، وهي: " هذا ما أدى إليه ظني "،
وكبرى برهانية، وهي: " كل ما أدى إليه ظني فهو حكم الله في حقي "،
فإن الحكم المعلوم منهما هو الحكم الظاهري -، فإذا كان مفاد الأصل
ثبوت الإباحة للفعل الغير المعلوم الحرمة ومفاد دليل تلك الأمارة
ثبوت الحرمة للفعل المظنون الحرمة، كانا متعارضين لا محالة، فإذا بني
على العمل بتلك الأمارة كان فيه خروج عن عموم الأصل وتخصيص
له لا محالة.
هذا، ولكن التحقيق: أن دليل تلك الأمارة وإن لم يكن كالدليل
العلمي رافعا لموضوع الأصل، إلا أنه نزل شرعا منزلة الرافع، فهو
حاكم على الأصل لا مخصص له، كما سيتضح (1) إن شاء الله تعالى.
على: أن ذلك إنما يتم بالنسبة إلى الأدلة الشرعية، وأما الأدلة
العقلية القائمة على البراءة والاشتغال فارتفاع موضوعها بعد ورود الأدلة
الظنية واضح، لجواز الاقتناع بها في مقام البيان وانتهاضها رافعا
لاحتمال العقاب كما هو ظاهر. وأما التخيير فهو أصل عقلي لا غير (2).
واعلم: أن المقصود بالكلام في هذه الرسالة (3) الأصول المتضمنة
لحكم الشبهة في الحكم الفرعي الكلي وإن تضمنت حكم الشبهة في
الموضوع أيضا، وهي منحصرة في أربعة: " أصل البراءة "، و " أصل
الاحتياط "، و " التخيير "، و " الاستصحاب " بناء على كونه ظاهريا ثبت

(1) انظر مبحث التعادل والتراجيح 4: 13.
(2) في (ت)، (ص) و (ه‍) زيادة: " كما سيتضح إن شاء الله ".
(3) في (ت)، (ص) و (ه‍) بدل " هذه الرسالة ": " هذا المقصد ".
13

التعبد به من الأخبار، إذ بناء على كونه مفيدا للظن يدخل في
الأمارات الكاشفة عن الحكم الواقعي.
وأما الأصول المشخصة لحكم الشبهة في الموضوع - كأصالة
الصحة، وأصالة الوقوع فيما شك فيه بعد تجاوز المحل - فلا يقع الكلام
فيها إلا لمناسبة يقتضيها المقام.
ثم إن انحصار موارد الاشتباه في الأصول الأربعة عقلي، لأن
حكم الشك إما أن يكون ملحوظا فيه اليقين السابق عليه، وإما أن
لا يكون، سواء لم يكن يقين سابق عليه أم كان ولم يلحظ، والأول هو
مورد الاستصحاب، والثاني إما أن يكون الاحتياط فيه ممكنا أم لا،
والثاني مورد التخيير، والأول إما أن يدل دليل عقلي أو نقلي على
ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول وإما أن لا يدل، والأول مورد
الاحتياط، والثاني مورد البراءة.
وقد ظهر مما ذكرنا: أن موارد الأصول قد تتداخل، لأن المناط
في الاستصحاب ملاحظة الحالة السابقة المتيقنة (1)، ومدار الثلاثة الباقية
على عدم ملاحظتها وإن كانت موجودة.
ثم إن تمام الكلام في الأصول الأربعة يحصل باشباعه في مقامين:
أحدهما: حكم الشك في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة
السابقة، الراجع إلى الأصول الثلاثة.
الثاني: حكمه بملاحظة الحالة السابقة وهو الاستصحاب.

(1) في (ت)، (ظ) و (ه‍): " المتيقنة السابقة ".
14

المقام الأول
في البراءة والاشتغال والتخيير
15

أما المقام الأول
فيقع الكلام فيه في موضعين:
لأن الشك إما في نفس التكليف وهو النوع الخاص من الإلزام
وإن علم جنسه، كالتكليف المردد بين الوجوب والتحريم.
وإما في متعلق التكليف مع العلم بنفسه، كما إذا علم وجوب شئ
وشك بين تعلقه بالظهر والجمعة، أو علم وجوب فائتة وترددت بين
الظهر والمغرب.
[الموضع الأول] (1)
والموضع الأول يقع الكلام فيه في مطالب، لأن التكليف المشكوك
فيه إما تحريم مشتبه بغير الوجوب، وإما وجوب مشتبه بغير التحريم،
وإما تحريم مشتبه بالوجوب (2)، وصور الاشتباه كثيرة.

(1) العنوان منا.
(2) في (ظ) بدل " إما تحريم مشتبه بغير الوجوب - إلى - بالوجوب ": " إما
إيجاب مشتبه بغيره، وإما تحريم كذلك ".
17

وهذا مبني على اختصاص التكليف بالإلزام، أو اختصاص الخلاف
في البراءة والاحتياط به، ولو فرض (1) شموله للمستحب والمكروه يظهر
حالهما من الواجب والحرام، فلا حاجة إلى تعميم العنوان.
ثم إن (2) متعلق التكليف المشكوك:
إما أن يكون فعلا كليا متعلقا للحكم الشرعي الكلي، كشرب التتن
المشكوك في حرمته، والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه.
وإما أن يكون فعلا جزئيا متعلقا للحكم الجزئي، كشرب هذا
المائع المحتمل كونه خمرا.
ومنشأ الشك في القسم الثاني: اشتباه الأمور الخارجية.
ومنشؤه في الأول: إما أن يكون عدم النص في المسألة، كمسألة
شرب التتن، وإما أن يكون إجمال النص، كدوران الأمر في قوله تعالى:
* (حتى يطهرن) * (3) بين التشديد والتخفيف مثلا، وإما أن يكون تعارض
النصين، ومنه الآية المذكورة بناء على تواتر القراءات.
وتوضيح أحكام هذه الأقسام في ضمن مطالب:
الأول: دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من الأحكام
الثلاثة الباقية.
الثاني: دورانه بين الوجوب وغير التحريم.
الثالث: دورانه بين الوجوب والتحريم.

(1) كذا في (ت) و (ظ)، وفي غيرهما: " فلو فرض ".
(2) " إن " من (ه‍).
(3) البقرة: 222.
18

فالمطلب الأول
فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب
وقد عرفت (1): أن متعلق الشك تارة: الواقعة الكلية كشرب
التتن، ومنشأ الشك فيه عدم النص، أو إجماله، أو تعارضه، وأخرى:
الواقعة الجزئية.
فهنا أربع مسائل:

(1) راجع الصفحة 17 - 18.
19

الأولى
ما لا نص فيه
وقد اختلف فيه على ما يرجع إلى قولين:
أحدهما: إباحة الفعل شرعا وعدم وجوب الاحتياط بالترك.
والثاني: وجوب الترك، ويعبر عنه بالاحتياط.
والأول منسوب إلى المجتهدين، والثاني إلى معظم الأخباريين (1).
وربما نسب إليهم أقوال أربعة: التحريم ظاهرا، والتحريم واقعا،
والتوقف، والاحتياط (2). ولا يبعد أن يكون تغايرها باعتبار العنوان،
ويحتمل الفرق بينها أو بين (3) بعضها من وجوه اخر تأتي بعد ذكر أدلة
الأخباريين (4).

(1) انظر القوانين 2: 16.
(2) الناسب هو الوحيد البهبهاني، كما سيأتي في الصفحة 105، وانظر الفصول:
352.
(3) في (ت) و (ر): " وبين ".
(4) انظر الصفحة 105 - 108.
20

احتج للقول الأول بالأدلة الأربعة:
فمن الكتاب آيات:
منها: قوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) * (1).
قيل: دلالتها واضحة (2).
وفيه: أنها غير ظاهرة، فإن حقيقة الإيتاء الإعطاء، فإما أن
يراد بالموصول المال - بقرينة قوله تعالى قبل ذلك: * (ومن قدر عليه
رزقه فلينفق مما آتاه الله) * (3) -، فالمعنى: أن الله سبحانه لا يكلف العبد
إلا دفع ما أعطي من المال.
وإما أن يراد نفس فعل الشئ أو تركه - بقرينة إيقاع التكليف
عليه -، فإعطاؤه كناية عن الإقدار عليه، فتدل على نفي التكليف بغير
المقدور - كما ذكره الطبرسي (4) (قدس سره) - وهذا المعنى أظهر وأشمل، لأن
الإنفاق من الميسور داخل في " ما آتاه الله ".
وكيف كان: فمن المعلوم أن ترك ما يحتمل التحريم ليس غير
مقدور، وإلا لم ينازع في وقوع التكليف به أحد من المسلمين، وإن
نازعت الأشاعرة في إمكانه.
نعم، لو أريد من الموصول نفس الحكم والتكليف، كان إيتاؤه

(1) الطلاق: 7.
(2) قاله الفاضل النراقي في المناهج: 210.
(3) الطلاق: 7.
(4) مجمع البيان 5: 309.
21

عبارة عن الإعلام به. لكن إرادته بالخصوص تنافي مورد الآية، وإرادة
الأعم منه ومن المورد تستلزم (1) استعمال الموصول في معنيين، إذ لا جامع
بين تعلق التكليف بنفس الحكم وبالفعل (2) المحكوم عليه، فافهم.
نعم، في رواية عبد الأعلى عن أبي عبد الله (عليه السلام): " قال: قلت
له: هل كلف الناس بالمعرفة؟ قال: لا، على الله البيان، * (لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها) *، و * (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) * " (3).
لكنه لا ينفع في المطلب، لأن نفس المعرفة بالله غير مقدور قبل
تعريف الله سبحانه، فلا يحتاج دخولها في الآية إلى إرادة الإعلام من
الإيتاء، وسيجئ زيادة توضيح لذلك في ذكر الدليل العقلي إن شاء الله
تعالى (4).
ومما ذكرنا يظهر حال التمسك بقوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا
إلا وسعها) * (5).
ومنها: قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (6).
بناء على أن بعث الرسول كناية عن بيان التكليف، لأنه يكون به

(1) في النسخ: " يستلزم ".
(2) في (ر) و (ه‍): " والفعل ".
(3) الكافي 1: 163، باب البيان والتعريف ولزوم الحجة، الحديث 5. والآيتان
من سورة البقرة: 286، والطلاق: 7.
(4) انظر الصفحة 56.
(5) البقرة: 286.
(6) الإسراء: 15.
22

غالبا، كما في قولك: " لا أبرح من هذا المكان حتى يؤذن المؤذن " (1)
كناية عن دخول الوقت، أو عبارة عن البيان النقلي - ويخصص العموم
بغير المستقلات، أو يلتزم بوجوب التأكيد وعدم حسن العقاب إلا مع
اللطف بتأييد العقل بالنقل وإن حسن الذم، بناء على أن منع اللطف
يوجب قبح العقاب دون الذم، كما صرح به البعض (2) -، وعلى أي
تقدير فيدل على نفي العقاب قبل البيان.
وفيه: أن ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث،
فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة.
ثم إنه ربما يورد التناقض (3) على من جمع بين التمسك بالآية في
المقام وبين رد من استدل بها لعدم الملازمة بين حكم العقل وحكم
الشرع: بأن نفي فعلية التعذيب أعم من نفي الاستحقاق، فإن الإخبار
بنفي التعذيب إن دل على عدم التكليف شرعا فلا وجه للثاني، وإن
لم يدل فلا وجه للأول.
ويمكن دفعه: بأن عدم الفعلية يكفي في هذا المقام، لأن الخصم
يدعي أن في ارتكاب الشبهة الوقوع في العقاب والهلاك فعلا من حيث

(1) في (ص) زيادة: " فإنه ".
(2) قاله المحقق الطوسي في مبحث اللطف من تجريد الاعتقاد، وأوضحه العلامة
الحلي في شرحه (كشف المراد): 327.
(3) أورده المحقق القمي على الوحيد البهبهاني (قدس سرهما) الذي عبر عنه في القوانين ب‍ -:
" بعض الأعاظم "، انظر القوانين 2: 16 - 17، والرسائل الأصولية: 353،
والفوائد الحائرية: 373.
23

لا يعلم - كما هو مقتضى رواية التثليث (1) ونحوها (2) التي هي عمدة
أدلتهم -، ويعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية،
فيكفي في عدم الاستحقاق نفي الفعلية، بخلاف مقام التكلم في الملازمة،
فإن المقصود فيه إثبات الحكم الشرعي في مورد حكم العقل، وعدم
ترتب العقاب على مخالفته لا ينافي ثبوته، كما في الظهار حيث قيل: إنه
محرم معفو عنه (3)، وكما في العزم على المعصية على احتمال.
نعم، لو فرض هناك - أيضا - إجماع على أنه لو انتفت الفعلية
انتفى الاستحقاق - كما يظهر من بعض ما فرعوا على تلك المسألة - لجاز
التمسك بها هناك.
والإنصاف: أن الآية لا دلالة لها على المطلب في المقامين.
ومنها: قوله تعالى: * (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى
يبين لهم ما يتقون) * (4)، أي: ما يجتنبونه من الأفعال والتروك. وظاهرها:
أنه تعالى لا يخذلهم بعد هدايتهم إلى الإسلام إلا بعد ما يبين لهم.
وعن الكافي (5) وتفسير العياشي (6) وكتاب التوحيد (7): " حتى

(1) الوسائل 18: 114 و 118، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9
و 23.
(2) انظر الصفحة 64 - 67.
(3) يظهر من الشيخ الطبرسي القول به في تفسير مجمع البيان 5: 247.
(4) التوبة: 115.
(5) الكافي 1: 163، باب البيان والتعريف ولزوم الحجة، الحديث 3.
(6) تفسير العياشي 2: 115، الحديث 150.
(7) كتاب التوحيد للصدوق: 414، باب التعريف والبيان والحجة، الحديث 11.
24

يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه ".
وفيه: ما تقدم في الآية السابقة (1). مع أن دلالتها أضعف، من
حيث إن توقف الخذلان على البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب، اللهم
إلا بالفحوى.
ومنها: قوله تعالى: * (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن
بينة) * (2).
وفي دلالتها تأمل ظاهر.
ويرد على الكل: أن غاية مدلولها عدم المؤاخذة على مخالفة النهي
المجهول عند المكلف لو فرض وجوده واقعا، فلا ينافي ورود الدليل
العام على وجوب اجتناب ما يحتمل التحريم، ومعلوم أن القائل
بالاحتياط ووجوب الاجتناب لا يقول به إلا عن دليل علمي، وهذه
الآيات بعد تسليم دلالتها غير معارضة لذلك الدليل، بل هي من قبيل
الأصل بالنسبة إليه، كما لا يخفى.
ومنها: قوله تعالى مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ملقنا إياه طريق الرد على
اليهود حيث حرموا بعض ما رزقهم الله افتراء عليه: * (قل لا أجد فيما
أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) * (3).
فأبطل تشريعهم بعدم وجدان ما حرموه في جملة المحرمات التي
أوحى الله إليه، وعدم وجدانه (صلى الله عليه وآله) ذلك فيما أوحي إليه وإن كان دليلا

(1) راجع الصفحة 23.
(2) الأنفال: 42.
(3) الانعام: 145.
25

قطعيا على عدم الوجود، إلا أن في التعبير بعدم الوجدان دلالة على
كفاية عدم الوجدان في إبطال الحكم بالحرمة.
لكن الإنصاف: أن غاية الأمر أن يكون في العدول عن التعبير
بعدم الوجود إلى عدم الوجدان إشارة إلى المطلب، وأما الدلالة فلا،
ولذا قال في الوافية: وفي الآية إشعار بأن إباحة الأشياء مركوزة في
العقل قبل الشرع (1).
مع أنه لو سلم دلالتها، فغاية مدلولها كون عدم وجدان التحريم
فيما صدر عن الله تعالى من الأحكام يوجب عدم التحريم، لا عدم
وجدانه فيما بقي بأيدينا من أحكام الله تعالى بعد العلم باختفاء كثير
منها عنا، وسيأتي توضيح ذلك عند الاستدلال بالإجماع العملي على هذا
المطلب (2).
ومنها: قوله تعالى: * (وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه
وقد فصل لكم ما حرم عليكم) * (3).
يعني مع خلو ما فصل عن ذكر هذا الذي يجتنبونه.
ولعل هذه الآية أظهر من سابقتها، لأن السابقة دلت على أنه
لا يجوز الحكم بحرمة ما لم يوجد تحريمه فيما أوحى الله سبحانه إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه تدل على أنه لا يجوز التزام ترك الفعل مع عدم
وجوده فيما فصل وإن لم يحكم بحرمته، فيبطل وجوب الاحتياط أيضا.

(1) الوافية: 186.
(2) انظر الصفحة 55 - 56.
(3) الأنعام: 119.
26

إلا أن دلالتها موهونة من جهة أخرى، وهي: أن ظاهر الموصول
العموم، فالتوبيخ على الالتزام بترك الشئ مع تفصيل جميع المحرمات
الواقعية وعدم كون المتروك منها، ولا ريب أن اللازم من ذلك، العلم
بعدم كون المتروك محرما واقعيا، فالتوبيخ في محله.
والإنصاف ما ذكرنا: من أن الآيات المذكورة لا تنهض على إبطال
القول بوجوب الاحتياط، لأن غاية مدلول الدال منها هو عدم التكليف
فيما لم يعلم خصوصا أو عموما بالعقل أو النقل، وهذا مما لا نزاع فيه
لأحد، وإنما أوجب الاحتياط من أوجبه بزعم قيام الدليل العقلي أو
النقلي على وجوبه، فاللازم على منكره رد ذلك الدليل أو معارضته
بما يدل على الرخصة وعدم وجوب الاحتياط في ما لا نص فيه،
وأما الآيات المذكورة فهي - كبعض الأخبار الآتية (1) - لا تنهض لذلك (2)،
ضرورة أنه إذا فرض أنه ورد بطريق معتبر في نفسه أنه يجب الاحتياط
في كل ما يحتمل أن يكون قد حكم الشارع فيه بالحرمة، لم يكن
يعارضه شئ من الآيات المذكورة.
وأما السنة:
فيذكر منها في المقام أخبار كثيرة:
منها: المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسند صحيح في الخصال (3)، كما عن

(1) انظر الصفحة 42 و 50.
(2) في (ر) و (ظ): " بذلك ".
(3) الخصال: 417، باب التسعة، الحديث 9.
27

التوحيد (1): " رفع عن أمتي تسعة (2): الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا
عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه... الخبر " (3).
فإن حرمة شرب التتن - مثلا - مما لا يعلمون، فهي مرفوعة
عنهم، ومعنى رفعها - كرفع الخطأ والنسيان - رفع آثارها أو خصوص
المؤاخذة، فهو نظير قوله (4) (عليه السلام): " ما حجب الله علمه عن العباد فهو
موضوع عنهم " (5).
ويمكن أن يورد عليه: بأن الظاهر من الموصول في " ما لا يعلمون "
- بقرينة أخواتها - هو الموضوع، أعني فعل المكلف الغير المعلوم، كالفعل
الذي لا يعلم أنه شرب الخمر أو شرب الخل وغير ذلك من الشبهات
الموضوعية، فلا يشمل الحكم الغير المعلوم.
مع أن تقدير المؤاخذة في الرواية لا يلائم عموم الموصول
للموضوع والحكم، لأن المقدر المؤاخذة على نفس هذه المذكورات،
ولا معنى للمؤاخذة على نفس الحرمة المجهولة.
نعم، هي من آثارها، فلو جعل المقدر في كل من هذه التسعة ما
هو المناسب من أثره، أمكن أن يقال: إن أثر حرمة شرب التتن
- مثلا - المؤاخذة على فعله، فهي مرفوعة.

(1) كتاب التوحيد للصدوق: 353، باب الاستطاعة، الحديث 24.
(2) كذا في (ر) والمصدر، وفي غيرهما زيادة: " أشياء ".
(3) الوسائل 11: 295، باب جملة مما عفي عنه، الحديث الأول.
(4) كذا في (ظ)، (ه‍) ونسخة بدل (ص)، وفي غيرها: " فهو كقوله ".
(5) الوسائل 18: 119، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 28.
28

لكن الظاهر - بناء على تقدير المؤاخذة - نسبة المؤاخذة إلى نفس
المذكورات.
والحاصل: أن المقدر في الرواية - باعتبار دلالة الاقتضاء - يحتمل
أن يكون جميع الآثار في كل واحد من التسعة، وهو الأقرب اعتبارا
إلى المعنى الحقيقي.
وأن يكون في كل منها ما هو الأثر الظاهر فيه.
و (1) أن يقدر المؤاخذة في الكل، وهذا أقرب عرفا من الأول
وأظهر من الثاني أيضا، لأن الظاهر أن نسبة الرفع إلى مجموع التسعة
على نسق واحد، فإذا أريد من " الخطأ " و " النسيان " و " ما أكرهوا
عليه " و " ما اضطروا " المؤاخذة على أنفسها، كان الظاهر في " ما لا
يعلمون " ذلك أيضا.
نعم، يظهر من بعض الأخبار الصحيحة: عدم اختصاص الموضوع (2)
عن الأمة بخصوص المؤاخذة، فعن المحاسن، عن أبيه، عن صفوان بن
يحيى والبزنطي جميعا، عن أبي الحسن (عليه السلام):
" في الرجل يستكره (3) على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة
ما يملك، أيلزمه ذلك؟ فقال (عليه السلام): لا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وضع
عن أمتي ما أكرهوا عليه، وما لم يطيقوا، وما أخطأوا... الخبر (4) ".

(1) في غير (ر): " والظاهر أن ".
(2) كذا في (ر) و (ظ)، وفي (ت) و (ص): " المرفوع ".
(3) كذا في المصدر ومحتمل (ت)، وفي غيرهما: " يستحلف ".
(4) كذا في النسخ، ولكن ليست للحديث تتمة. انظر المحاسن 2: 70، كتاب العلل،
الحديث 124، والوسائل 16: 136، الباب 12 من كتاب الأيمان، الحديث 12.
29

فإن الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة وإن كان باطلا عندنا مع
الاختيار أيضا، إلا أن استشهاد الإمام (عليه السلام) على عدم لزومها مع
الإكراه على الحلف بها بحديث الرفع، شاهد على عدم اختصاصه برفع
خصوص المؤاخذة.
لكن النبوي المحكي في كلام الإمام (عليه السلام) مختص بثلاثة من التسعة،
فلعل نفي جميع الآثار مختص بها، فتأمل.
ومما يؤيد إرادة العموم: ظهور كون رفع كل واحد من التسعة
من خواص أمة النبي (صلى الله عليه وآله)، إذ لو اختص الرفع بالمؤاخذة أشكل الأمر
في كثير من تلك الأمور، من حيث إن العقل مستقل بقبح المؤاخذة
عليها، فلا اختصاص له بأمة النبي (صلى الله عليه وآله) على ما يظهر من الرواية.
والقول بأن الاختصاص باعتبار رفع المجموع وإن لم يكن رفع كل
واحد من الخواص، شطط من الكلام.
لكن الذي يهون الأمر في الرواية: جريان هذا الإشكال في
الكتاب العزيز أيضا، فإن موارد الإشكال فيها - وهي الخطأ والنسيان
وما لا يطاق (1) - هي بعينها ما استوهبها النبي (صلى الله عليه وآله) من ربه جل ذكره
ليلة المعراج، على ما حكاه الله تعالى عنه (صلى الله عليه وآله) في القرآن بقوله تعالى:
* (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته
على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * (2).
والذي يحسم أصل الإشكال: منع استقلال العقل بقبح المؤاخذة

(1) كذا في (ص)، وفي غيرها زيادة: " وما اضطروا إليه ".
(2) البقرة: 286.
30

على هذه الأمور بقول مطلق، فإن الخطأ والنسيان الصادرين من ترك
التحفظ لا يقبح المؤاخذة عليهما، وكذا المؤاخذة على ما لا يعلمون مع
إمكان الاحتياط، وكذا (1) التكليف الشاق الناشئ عن اختيار المكلف.
والمراد ب‍ " ما لا يطاق " في الرواية هو ما لا يتحمل في العادة،
لا ما لا يقدر عليه أصلا كالطيران في الهواء. وأما في الآية فلا يبعد
أن يراد به العذاب والعقوبة، فمعنى * (لا تحملنا ما لا طاقة لنا به) *:
لا تورد علينا ما لا نطيقه من العقوبة.
وبالجملة: فتأييد إرادة رفع جميع الآثار بلزوم الإشكال على
تقدير الاختصاص برفع المؤاخذة ضعيف جدا.
وأضعف منه: وهن إرادة العموم بلزوم كثرة الإضمار، وقلة
الإضمار أولى. وهو كما ترى وإن ذكره بعض الفحول (2)، ولعله أراد
بذلك أن المتيقن رفع المؤاخذة، ورفع ما عداه يحتاج إلى دليل (3).
وفيه: أنه إنما يحسن الرجوع إليه بعد الاعتراف بإجمال الرواية،
لا لإثبات ظهورها في رفع المؤاخذة.
إلا أن يراد إثبات ظهورها، من حيث إن حملها على خصوص
المؤاخذة يوجب عدم التخصيص في عموم الأدلة المثبتة لآثار تلك
الأمور، وحملها على العموم يوجب التخصيص فيها، فعموم تلك الأدلة
مبين لتلك الرواية، فإن المخصص إذا كان مجملا من جهة تردده بين ما

(1) في (ت) و (ر) زيادة: " في ".
(2) لم نقف عليه.
(3) في (ت)، (ر) و (ص) زيادة: " قطعي "، ولكن يحتمل شطبها في (ت).
31

يوجب كثرة الخارج وبين ما يوجب قلته، كان عموم العام بالنسبة إلى
التخصيص (1) المشكوك فيه مبينا لاجماله، فتأمل.
وأضعف من الوهن المذكور: وهن العموم بلزوم تخصيص كثير (2)
من الآثار بل أكثرها، حيث إنها لا ترتفع بالخطأ والنسيان وأخواتهما.
وهو ناش عن عدم تحصيل معنى الرواية كما هو حقه.
فاعلم: أنه إذا بنينا على رفع (3) عموم الآثار، فليس المراد بها
الآثار المترتبة على هذه العنوانات من حيث هي، إذ لا يعقل رفع
الآثار الشرعية المترتبة على الخطأ والسهو من حيث هذين العنوانين،
كوجوب الكفارة المترتب على قتل الخطأ، ووجوب سجدتي السهو
المترتب على نسيان بعض الأجزاء.
وليس المراد أيضا رفع الآثار المترتبة على الشئ بوصف عدم
الخطأ، مثل قوله: " من تعمد الافطار فعليه كذا "، لأن هذا الأثر يرتفع
بنفسه في صورة الخطأ.
بل المراد: أن الآثار المترتبة على نفس الفعل لا بشرط الخطأ
والعمد قد رفعها الشارع عن ذلك الفعل إذا صدر عن خطأ.
ثم المراد بالآثار: هي الآثار المجعولة الشرعية التي وضعها الشارع،
لأنها هي (4) القابلة للارتفاع برفعه، وأما ما لم يكن بجعله - من الآثار

(1) في (ه‍): " المخصص ".
(2) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍): " التخصيص بكثير ".
(3) لم ترد " رفع " في (ر) و (ه‍).
(4) لم ترد " هي " في (ر) و (ظ).
32

العقلية والعادية - فلا تدل الرواية على رفعها ولا رفع الآثار المجعولة
المترتبة عليها.
ثم المراد بالرفع: ما يشمل عدم التكليف مع قيام المقتضي له،
فيعم الدفع ولو بأن يوجه التكليف على وجه يختص بالعامد، وسيجئ
بيانه.
فإن قلت: على ما ذكرت يخرج أثر التكليف في " ما لا يعلمون "
عن مورد الرواية، لأن استحقاق العقاب أثر عقلي له، مع أنه متفرع
على المخالفة بقيد العمد، إذ مناطه - أعني المعصية - لا يتحقق إلا بذلك.
وأما نفس المؤاخذة فليست من الآثار المجعولة الشرعية.
والحاصل: أنه ليس في " ما لا يعلمون " أثر مجعول من الشارع
مترتب على الفعل لا بقيد العلم ولا الجهل، حتى يحكم الشارع بارتفاعه
مع الجهل.
قلت: قد عرفت: أن المراد ب‍ " رفع التكليف " عدم توجيهه إلى
المكلف مع قيام المقتضي له، سواء كان هنا (1) دليل يثبته لولا الرفع أم
لا، فالرفع هنا نظير رفع الحرج في الشريعة، وحينئذ: فإذا فرضنا أنه
لا يقبح في العقل أن يوجه التكليف بشرب الخمر على وجه يشمل
صورة الشك فيه، فلم يفعل ذلك ولم يوجب تحصيل العلم ولو بالاحتياط،
ووجه التكليف على وجه يختص بالعالم تسهيلا على المكلف، كفى في
صدق الرفع. وهكذا الكلام في الخطأ والنسيان.
فلا يشترط في تحقق الرفع وجود دليل يثبت التكليف في حال

(1) في (ر)، (ص) و (ه‍): " هناك ".
33

العمد وغيره.
نعم، لو قبح عقلا المؤاخذة على الترك، كما في الغافل الغير
المتمكن من الاحتياط، لم يكن في حقه رفع أصلا، إذ ليس من شأنه
أن يوجه إليه التكليف (1).
وحينئذ فنقول: معنى رفع أثر التحريم في " ما لا يعلمون " عدم
إيجاب الاحتياط والتحفظ فيه حتى يلزمه ترتب العقاب إذا أفضى ترك
التحفظ إلى الوقوع في الحرام الواقعي.
وكذلك الكلام في رفع أثر النسيان والخطأ، فإن مرجعه إلى عدم
إيجاب التحفظ عليه، وإلا فليس في التكاليف ما يعم صورة النسيان،
لقبح تكليف الغافل.
والحاصل: أن المرتفع في " ما لا يعلمون " وأشباهه مما لا يشمله
أدلة التكليف، هو إيجاب التحفظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام
الواقعي، ويلزمه ارتفاع العقاب واستحقاقه، فالمرتفع أولا وبالذات أمر
مجعول يترتب عليه ارتفاع أمر غير مجعول.
ونظير ذلك: ما ربما يقال في رد من تمسك على عدم وجوب
الإعادة على من صلى في النجاسة ناسيا بعموم حديث الرفع: من أن
وجوب الإعادة وإن كان حكما شرعيا، إلا أنه مترتب على مخالفة
المأتي به للمأمور به الموجبة لبقاء الأمر الأول، وهي ليست من الآثار
الشرعية للنسيان، وقد تقدم (2) أن الرواية لا تدل على رفع الآثار الغير

(1) في (ر)، (ص) و (ه‍): " التكليف إليه ".
(2) راجع الصفحة 32.
34

المجعولة ولا الآثار الشرعية المترتبة عليها، كوجوب الإعادة فيما نحن
فيه.
ويرده: ما تقدم في نظيره: من أن الرفع راجع (1) إلى شرطية
طهارة اللباس بالنسبة إلى الناسي، فيقال - بحكم حديث الرفع -: إن
شرطية الطهارة شرعا مختصة بحال الذكر، فيصير صلاة الناسي في
النجاسة مطابقة للمأمور به، فلا يجب الإعادة. وكذلك الكلام في الجزء
المنسي، فتأمل.
واعلم - أيضا -: أنه لو حكمنا بعموم الرفع لجميع الآثار،
فلا يبعد اختصاصه بما لا يكون في رفعه ما ينافي الامتنان على الأمة،
كما إذا استلزم إضرار المسلم، فإتلاف المال المحترم نسيانا أو خطأ
لا يرتفع معه الضمان. وكذلك الإضرار بمسلم لدفع الضرر عن نفسه
لا يدخل في عموم " ما اضطروا إليه "، إذ لا امتنان في رفع الأثر عن
الفاعل بإضرار الغير، فليس الإضرار بالغير نظير سائر المحرمات الإلهية
المسوغة لدفع الضرر.
وأما ورود الصحيحة المتقدمة عن المحاسن (2) في مورد حق الناس
- أعني العتق والصدقة - فرفع أثر الإكراه عن الحالف يوجب فوات نفع
على المعتق والفقراء، لا إضرارا بهم.
وكذلك رفع أثر الإكراه عن المكره في ما إذا تعلق (3) بإضرار

(1) في (ر) و (ص) زيادة: " هنا "، ولكن شطب عليها ظاهرا في (ص).
(2) تقدمت في الصفحة 29.
(3) في (ت) و (ه‍) زيادة: " الإكراه ".
35

مسلم، من باب عدم وجوب تحمل الضرر لدفع الضرر عن الغير
ولا ينافي الامتنان، وليس من باب الإضرار على الغير لدفع الضرر
عن النفس لينافي ترخيصه الامتنان على العباد، فإن الضرر أولا
وبالذات متوجه على الغير بمقتضى إرادة المكره - بالكسر -، لا على
المكره - بالفتح -، فافهم.
بقي في المقام شئ وان لم يكن مربوطا به، وهو:
أن النبوي المذكور مشتمل على ذكر " الطيرة " و " الحسد " و " التفكر
في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الانسان بشفته " (1). وظاهره رفع
المؤاخذة على (2) الحسد مع مخالفته لظاهر الأخبار الكثيرة (3). ويمكن حمله
على ما لم يظهر الحاسد أثره باللسان أو غيره، بجعل عدم النطق
باللسان قيدا له أيضا.
ويؤيده: تأخير الحسد عن الكل في مرفوعة النهدي (4) عن
أبي عبد الله (عليه السلام)، المروية في آخر أبواب الكفر والإيمان من أصول
الكافي:
" قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وضع عن أمتي تسعة أشياء:
الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه،
وما استكرهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد

(1) في (ظ): " بشفه "، وفي (ت) و (ه‍): " بشفتيه ".
(2) في (ص): " عن ".
(3) انظر البحار 73: 237، باب الحسد.
(4) كذا في المصدر، وفي النسخ " الهندي ".
36

ما لم يظهر بلسان أو يد... الحديث (1) ".
ولعل الاقتصار في النبوي الأول على قوله: " ما لم ينطق "، لكونه
أدنى مراتب الإظهار.
وروي: " ثلاثة لا يسلم منها أحد: الطيرة، والحسد، والظن.
قيل: فما نصنع؟ قال: إذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا
ظننت فلا تحقق " (2).
والبغي: عبارة عن استعمال الحسد، وسيأتي في رواية الخصال:
" إن المؤمن لا يستعمل حسده " (3)، ولأجل ذلك عد في الدروس من
الكبائر - في باب الشهادات - إظهار الحسد، لا نفسه (4)، وفي الشرائع:
إن الحسد معصية وكذا الظن بالمؤمن (5)، والتظاهر بذلك قادح في

(1) كذا في النسخ، ولكن ليست للحديث تتمة. انظر الكافي 2: 463، باب ما
رفع عن الأمة، الحديث 2، والوسائل 11: 295، الباب 56 من أبواب جهاد
النفس، الحديث 3.
(2) البحار 58: 320، ذيل الحديث 9.
(3) لم يذكر ذلك في رواية الخصال الآتية في الصفحة 40. نعم، في الوسائل عن
حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " ثلاثة لم ينج منها نبي فمن
دونه: التفكر في الوسوسة في الخلق، والطيرة، والحسد، إلا أن المؤمن لا
يستعمل حسده " الوسائل 11: 293، الباب 55 من أبواب جهاد النفس،
الحديث 8.
(4) الدروس 2: 126.
(5) في (ت) و (ه‍) بدل: " الظن بالمؤمن ": " بغض المؤمن "، وفي المصدر: " بغضة
المؤمن ".
37

العدالة (1).
والإنصاف: أن في كثير من أخبار الحسد إشارة إلى ذلك.
وأما " الطيرة " - بفتح الياء، وقد يسكن -: وهي في الأصل
التشؤم بالطير (2)، لأن أكثر تشؤم العرب كان به، خصوصا الغراب.
والمراد: إما رفع المؤاخذة عليها، ويؤيده ما روي من: " أن
الطيرة شرك وإنما يذهبه التوكل " (3)، وإما رفع أثرها، لأن التطير (4) كان
يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع.
وأما " الوسوسة في التفكر في الخلق " كما في النبوي الثاني، أو
" التفكر في الوسوسة فيه " كما في الأول، فهما واحد، والأول أنسب،
ولعل الثاني اشتباه من الراوي.
والمراد به - كما قيل (5) -: وسوسة الشيطان للانسان عند تفكره في
أمر الخلقة، وقد استفاضت الأخبار بالعفو عنه.
ففي صحيحة جميل بن دراج، قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): " إنه يقع
في قلبي أمر عظيم، فقال (عليه السلام): قل: لا إله إلا الله، قال جميل: فكلما
وقع في قلبي شئ قلت: لا إله إلا الله، فذهب عني " (6).

(1) الشرائع 2: 128.
(2) انظر مجمع البحرين 3: 385 (مادة طير).
(3) البحار 58: 322، ذيل الحديث 10، مع تفاوت.
(4) كذا في (ص)، (ظ)، (ه‍) ومحتمل (ر)، وفي (ت) ومحتمل (ر): " الطير ".
(5) قاله المجلسي في مرآة العقول 11: 393.
(6) الوسائل 4: 1191، الباب 16 من أبواب الذكر، الحديث الأول.
38

وفي رواية حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن الوسوسة وإن
كثرت، قال: " لا شئ فيها، تقول: لا إله إلا الله " (1).
وفي صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " جاء رجل
إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: يا رسول الله، إني هلكت، فقال (صلى الله عليه وآله) له: أتاك
الخبيث فقال لك: من خلقك؟ فقلت: الله تعالى، فقال: الله (2) من
خلقه؟ فقال: إي والذي بعثك بالحق قال كذا، فقال (صلى الله عليه وآله): ذاك والله
محض الإيمان ".
قال ابن أبي عمير: فحدثت ذلك عبد الرحمن بن الحجاج، فقال:
حدثني أبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنما عنى
بقوله: " هذا محض الإيمان " خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض في
قلبه ذلك " (3).
وفي رواية أخرى عنه (صلى الله عليه وآله): " والذي بعثني بالحق إن هذا لصريح
الإيمان، فإذا وجدتموه فقولوا: آمنا بالله ورسوله، ولا حول ولا قوة إلا
بالله " (4).
وفي رواية أخرى عنه (صلى الله عليه وآله): " إن الشيطان أتاكم من قبل الأعمال
فلم يقو عليكم، فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلكم، فإذا كان كذلك
فليذكر أحدكم الله تعالى وحده " (5).

(1) الوسائل 4: 1192، الباب 16 من أبواب الذكر، الحديث 4.
(2) كلمة " الله " المباركة من المصدر.
(3) الكافي 2: 425، باب الوسوسة وحديث النفس، الحديث 3.
(4) الوسائل 4: 1192، الباب 16 من أبواب الذكر، الحديث 3.
(5) الوسائل 4: 1192، الباب 16 من أبواب الذكر، الحديث 2.
39

ويحتمل أن يراد بالوسوسة في الخلق: الوسوسة في أمور الناس
وسوء الظن بهم، وهذا أنسب بقوله: " ما لم ينطق بشفة " (1).
ثم هذا الذي ذكرنا هو الظاهر المعروف في معنى الثلاثة الأخيرة
المذكورة في الصحيحة.
وفي الخصال بسند فيه رفع، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " قال: ثلاث
لم يعر منها نبي فمن دونه: الطيرة، والحسد، والتفكر في الوسوسة في
الخلق " (2).
وذكر الصدوق (رحمه الله) في تفسيرها (3): أن المراد بالطيرة التطير
بالنبي (صلى الله عليه وآله) أو المؤمن، لا تطيره، كما حكى الله عز وجل عن الكفار:
* (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) * (4).
والمراد ب‍ " الحسد " أن يحسد، لا أن يحسد، كما قال الله تعالى:
* (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله) * (5).
والمراد ب‍ " التفكر " ابتلاء الأنبياء (عليهم السلام) بأهل الوسوسة، لا غير
ذلك، كما حكى الله عن الوليد بن مغيرة: * (إنه فكر وقدر فقتل كيف
قدر) * (6)، فافهم.

(1) كذا في (ظ) والمصدر، وفي (ت)، (ر) و (ص): " بشفته "، وفي (ه‍): " بشفتيه ".
(2) الخصال: 89، باب الثلاثة، الحديث 27.
(3) نفس المصدر، ذيل الحديث المذكور.
(4) النمل: 47.
(5) النساء: 54.
(6) المدثر: 18 - 19.
40

وقد خرجنا في الكلام في النبوي الشريف عما يقتضيه وضع
الرسالة.
ومنها: قوله (عليه السلام): " ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع
عنهم " (1).
فإن المحجوب حرمة شرب التتن، فهي موضوعة عن العباد.
وفيه: أن الظاهر مما حجب الله علمه ما لم يبينه للعباد،
لا ما بينه واختفى عليهم بمعصية (2) من عصى الله في كتمان الحق أو
ستره، فالرواية مساوقة لما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن الله
تعالى حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تعصوها، وسكت
عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها، رحمة من الله
لكم " (3).
ومنها: قوله (عليه السلام): " الناس في سعة ما لم يعلموا " (4).
فإن كلمة " ما " إما موصولة أضيف إليه السعة وإما مصدرية
ظرفية، وعلى التقديرين يثبت المطلوب.
وفيه: ما تقدم في الآيات (5): من أن الأخباريين لا ينكرون عدم

(1) الوسائل 18: 119، الباب 12 من صفات القاضي، الحديث 28.
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " من معصية ".
(3) نهج البلاغة: 487، الحكمة 105.
(4) عوالي اللآلي 1: 424، الحديث 109، وانظر المستدرك 18: 20، الباب 12
من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.
(5) راجع الصفحة 27.
41

وجوب الاحتياط على من لم يعلم بوجوب الاحتياط من العقل والنقل
بعد التأمل والتتبع.
ومنها: رواية عبد الأعلى عن الصادق (عليه السلام): " قال: سألته عمن
لم يعرف شيئا، هل عليه شئ؟ قال: لا " (1).
بناء على أن المراد بالشئ الأول فرد معين مفروض في الخارج
حتى لا يفيد العموم في النفي (2)، فيكون المراد: هل عليه شئ في
خصوص ذلك الشئ المجهول؟ وأما بناء على إرادة العموم فظاهره
السؤال عن القاصر الذي لا يدرك شيئا.
ومنها: قوله: " أيما امرء ركب أمرا بجهالة فلا شئ عليه " (3).
وفيه: أن الظاهر من الرواية ونظائرها من قولك: " فلان عمل
بكذا بجهالة " هو اعتقاد الصواب أو الغفلة عن الواقع، فلا يعم صورة
التردد في كون فعله صوابا أو خطأ.
ويؤيده: أن تعميم الجهالة لصورة التردد يحوج الكلام إلى
التخصيص بالشاك الغير المقصر، وسياقه يأبى عن التخصيص، فتأمل.
ومنها: قوله (عليه السلام): " إن الله يحتج على العباد بما آتاهم
وعرفهم " (4).

(1) الكافي 1: 164، باب حجج الله على خلقه، الحديث 2.
(2) في (ه‍): " المنفي ".
(3) الوسائل 5: 344، الباب 30 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث الأول،
مع تفاوت يسير.
(4) الكافي 1: 162، باب البيان والتعريف ولزوم الحجة، الحديث الأول.
42

وفيه: أن مدلوله - كما عرفت (1) في الآيات وغير واحد من
الأخبار - مما لا ينكره الأخباريون.
ومنها: قوله (عليه السلام) في مرسلة الفقيه: " كل شئ مطلق حتى يرد
فيه نهي " (2).
استدل به الصدوق على جواز القنوت بالفارسية (3)، واستند إليه في
أماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتى يثبت الحظر من دين الإمامية (4).
ودلالته على المطلب أوضح من الكل، وظاهره عدم وجوب
الاحتياط، لأن الظاهر إرادة ورود النهي في الشئ من حيث هو،
لا من حيث كونه مجهول الحكم، فإن تم ما سيأتي من أدلة الاحتياط (5)
دلالة وسندا وجب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها
مما يدل على عدم وجوب الاحتياط، ثم الرجوع إلى ما تقتضيه (6)
قاعدة التعارض.
وقد يحتج بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، في من تزوج امرأة

(1) راجع الصفحة 27 و 42.
(2) الفقيه 1: 317، الحديث 937. وانظر الوسائل 4: 917، الباب 19 من
أبواب القنوت، الحديث 3.
(3) الفقيه 1: 317، ذيل الحديث 937.
(4) لم نعثر عليه في أمالي الصدوق، نعم ذكره (قدس سره) في اعتقاداته، كما سيأتي في
الصفحة 52.
(5) ستأتي أدلة الاحتياط في الصفحة 62، فما بعدها.
(6) في النسخ: " يقتضيه ".
43

في عدتها: " قال: أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعدما تنقضي (1) عدتها،
فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك. قلت: بأي الجهالتين
أعذر (2)، بجهالته أن ذلك محرم عليه، أم بجهالته أنها في عدة؟ قال:
إحدى الجهالتين أهون من الأخرى، الجهالة بأن الله حرم عليه ذلك،
وذلك لأنه لا يقدر معها على الاحتياط، قلت: فهو في الأخرى
معذور؟ قال: نعم، إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها " (3).
وفيه: أن الجهل بكونها في العدة إن كان مع العلم بالعدة في
الجملة والشك في انقضائها: فان كان الشك في أصل الانقضاء مع العلم
بمقدارها فهو شبهة في الموضوع خارج عما نحن فيه، مع أن مقتضى
الاستصحاب المركوز في الأذهان عدم الجواز.
ومنه يعلم: أنه لو كان الشك في مقدار العدة فهي شبهة حكمية
قصر في السؤال عنها، وهو ليس (4) معذورا فيها (5) اتفاقا، و (6) لأصالة
بقاء العدة وأحكامها، بل في رواية أخرى أنه: " إذا علمت أن عليها
العدة لزمتها الحجة " (7)، فالمراد من المعذورية عدم حرمتها عليه مؤبدا،

(1) كذا في المصدر، وفي النسخ: " ينقضي ".
(2) في المصدر: " يعذر ".
(3) الوسائل 14: 345، الباب 17 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الحديث 4.
(4) كذا في (ظ)، وفي (ر)، (ص) و (ه‍): " فهو ليس "، وفي (ت): " وليس ".
(5) لم ترد " فيها " في (ر) و (ظ).
(6) " و " من (ت) و (ه‍).
(7) الوسائل 18: 396، الباب 27 من أبواب حد الزنا، الحديث 3.
44

لا من حيث المؤاخذة.
ويشهد له أيضا: قوله (عليه السلام) - بعد قوله: " نعم، أنه إذا انقضت
عدتها فهو معذور " -: " جاز له أن يتزوجها ".
وكذا مع الجهل بأصل العدة، لوجوب الفحص، وأصالة عدم تأثير
العقد، خصوصا مع وضوح الحكم بين المسلمين الكاشف عن تقصير
الجاهل.
هذا إن كان الجاهل ملتفتا شاكا، وإن كان غافلا أو معتقدا
للجواز فهو خارج عن مسألة البراءة، لعدم قدرته على الاحتياط.
وعليه يحمل تعليل معذورية الجاهل بالتحريم بقوله (عليه السلام): " لأنه
لا يقدر... الخ "، وإن كان تخصيص الجاهل بالحرمة بهذا التعليل يدل
على قدرة الجاهل بالعدة على الاحتياط، فلا يجوز حمله على الغافل، إلا
أنه إشكال يرد على الرواية على كل تقدير، ومحصله لزوم التفكيك بين
الجهالتين، فتدبر فيه وفي دفعه.
وقد يستدل على المطلب (1) - أخذا من الشهيد في الذكرى (2) -
بقوله (عليه السلام): " كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف
الحرام منه بعينه فتدعه " (3).
وتقريب الاستدلال كما في شرح الوافية، أن معنى الحديث: أن

(1) المستدل هو الفاضل التوني في الوافية: 181، وكذا الفاضل النراقي في
المناهج: 211.
(2) الذكرى 1: 52.
(3) الوسائل 12: 59، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول.
45

كل فعل من جملة الأفعال التي تتصف بالحل والحرمة، وكذا كل عين مما
يتعلق به فعل المكلف ويتصف بالحل والحرمة، إذا لم يعلم الحكم الخاص
به من الحل والحرمة، فهو حلال، فخرج ما لا يتصف بهما جميعا: من
الأفعال الاضطرارية، والأعيان التي لا يتعلق بها فعل المكلف، وما علم
أنه حلال لا حرام فيه أو حرام لا حلال فيه. وليس الغرض من ذكر
الوصف مجرد الاحتراز، بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه.
فصار الحاصل: أن ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا
ولأن يكون حراما فهو حلال، سواء علم حكم كلي فوقه أو تحته
- بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تحققه في ضمنه لعلم حكمه -
أم لا.
وبعبارة أخرى: أن كل شئ فيه الحلال والحرام عندك - بمعنى
أنك تقسمه إلى هذين وتحكم عليه بأحدهما لا على التعيين ولا تدري
المعين منهما - فهو لك حلال.
فيقال حينئذ: إن الرواية صادقة على مثل اللحم المشترى من
السوق المحتمل للمذكى والميتة، وعلى شرب التتن، وعلى لحم الحمير إن
لم نقل بوضوحه وشككنا فيه، لأنه يصدق على كل منها أنه شئ فيه
حلال وحرام عندنا، بمعنى أنه يجوز لنا أن نجعله مقسما لحكمين،
فنقول: هو إما حلال وإما حرام، وأنه يكون من جملة الأفعال التي
يكون بعض أنواعها أو أصنافها حلالا وبعضها حراما، واشتركت في أن
الحكم الشرعي المتعلق بها غير معلوم (1)، انتهى.

(1) شرح الوافية (مخطوط): 247 - 248، مع تفاوت كثير.
46

أقول: الظاهر أن المراد بالشئ ليس هو خصوص المشتبه،
كاللحم المشترى ولحم الحمير على ما مثله (1) بهما، إذ لا يستقيم إرجاع
الضمير في " منه " إليهما (2)، لكن لفظة " منه " ليس في بعض النسخ.
وأيضا: الظاهر أن المراد بقوله (عليه السلام): " فيه حلال وحرام " كونه
منقسما إليهما، ووجود القسمين فيه بالفعل، لا مرددا بينهما، إذ لا تقسيم
مع الترديد أصلا، لا ذهنا ولا خارجا. وكون الشئ مقسما لحكمين
- كما ذكره المستدل - لم يعلم له معنى محصل، خصوصا مع قوله (قدس سره): إنه
يجوز ذلك، لأن التقسيم إلى الحكمين الذي هو في الحقيقة ترديد لا
تقسيم، أمر لازم قهري لا جائز لنا.
وعلى ما ذكرنا، فالمعنى - والله العالم -: أن كل كلي فيه قسم
حلال وقسم حرام - كمطلق لحم الغنم المشترك بين المذكى والميتة - فهذا
الكلي لك حلال إلى أن تعرف القسم الحرام معينا في الخارج فتدعه.
وعلى الاستخدام يكون المراد: أن كل جزئي خارجي في نوعه
القسمان المذكوران، فذلك الجزئي لك حلال حتى تعرف القسم الحرام من
ذلك الكلي في الخارج فتدعه.
وعلى أي تقدير فالرواية مختصة بالشبهة في الموضوع.
وأما ما ذكره المستدل من أن المراد من وجود الحلال والحرام فيه
احتماله وصلاحيته لهما، فهو مخالف لظاهر القضية، ولضمير " منه " ولو
على الاستخدام.

(1) في (ه‍): " مثل ".
(2) في (ص): " إليه ".
47

ثم الظاهر: أن ذكر هذا القيد مع تمام الكلام بدونه - كما في قوله (عليه السلام)
في رواية أخرى: " كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام " (1) - بيان
منشأ الاشتباه الذي يعلم من قوله (عليه السلام): " حتى تعرف "، كما أن
الاحتراز عن المذكورات في كلام المستدل أيضا يحصل بذلك.
ومنه يظهر: فساد ما انتصر بعض المعاصرين (2) للمستدل - بعد
الاعتراف بما ذكرنا، من ظهور القضية في الانقسام الفعلي، فلا يشمل
مثل شرب التتن -: من أنا نفرض شيئا له قسمان حلال وحرام، واشتبه
قسم ثالث منه كاللحم، فإنه شئ فيه حلال وهو لحم الغنم وحرام
وهو لحم الخنزير، فهذا الكلي المنقسم حلال، فيكون لحم الحمار حلالا
حتى تعرف حرمته (3).
وجه الفساد: أن وجود القسمين في اللحم ليس منشأ لاشتباه لحم
الحمار، ولا دخل له في هذا الحكم أصلا، ولا في تحقق الموضوع،
وتقييد الموضوع بقيد أجنبي لا دخل له في الحكم ولا في تحقق
الموضوع، مع خروج بعض الأفراد منه مثل شرب التتن - حتى احتاج
هذا المنتصر إلى إلحاق مثله بلحم الحمار وشبهه مما يوجد في نوعه
قسمان معلومان، بالإجماع المركب -، مستهجن جدا لا ينبغي صدوره من
متكلم فضلا عن الإمام (عليه السلام).

(1) الوسائل 12: 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4، مع
تفاوت.
(2) هو الفاضل النراقي (قدس سره) في المناهج.
(3) مناهج الأحكام: 212.
48

هذا، مع أن اللازم مما ذكر (1) عدم الحاجة إلى الإجماع المركب،
فإن الشرب فيه قسمان: شرب الماء وشرب البنج، فشرب التتن كلحم
الحمار بعينه، وهكذا جميع الأفعال المجهولة الحكم.
وأما الفرق بين الشرب واللحم بأن الشرب جنس بعيد لشرب
التتن بخلاف اللحم، فمما لا ينبغي أن يصغى إليه.
هذا كله، مضافا إلى أن الظاهر من قوله: " حتى تعرف الحرام
منه " معرفة ذلك الحرام الذي فرض وجوده في الشئ، ومعلوم أن
معرفة لحم الخنزير وحرمته لا يكون غاية لحلية لحم الحمار.
وقد أورد على الاستدلال (2):
بلزوم استعمال قوله (عليه السلام): " فيه حلال وحرام " في معنيين:
أحدهما: أنه قابل للاتصاف بهما - وبعبارة أخرى: يمكن تعلق
الحكم الشرعي به - ليخرج ما لا يقبل الاتصاف بشئ منهما.
والثاني: أنه ينقسم إليهما ويوجد النوعان فيه إما في نفس الأمر
أو عندنا، وهو غير جائز.
وبلزوم استعمال قوله (عليه السلام): " حتى تعرف الحرام منه بعينه " في
المعنيين أيضا، لأن المراد حتى تعرف من الأدلة الشرعية " الحرمة " (3)،
إذا أريد معرفة الحكم المشتبه، وحتى تعرف من الخارج - من بينة أو
غيرها - " الحرمة "، إذا أريد معرفة الموضوع المشتبه فليتأمل (4)، انتهى.

(1) في (ه‍): " مما ذكره ".
(2) المورد هو المحقق القمي (قدس سره) في القوانين 2: 19.
(3) " الحرمة " من المصدر.
(4) القوانين 2: 259.
49

وليته أمر بالتأمل في الإيراد الأول أيضا، ويمكن إرجاعه إليهما
معا، وهو الأولى.
هذه جملة ما استدل به من الأخبار.
والإنصاف: ظهور بعضها في الدلالة على عدم وجوب الاحتياط
في ما لا نص فيه في الشبهة (1)، بحيث لو فرض تمامية الأخبار الآتية
للاحتياط (2) وقعت المعارضة بينها، لكن بعضها غير دال إلا على عدم
وجوب الاحتياط لو لم يرد أمر عام به، فلا يعارض (3) ما سيجئ من
أخبار الاحتياط لو نهضت للحجية سندا ودلالة.
وأما الإجماع:
فتقريره من (4) وجهين:
الأول: دعوى إجماع العلماء كلهم - من المجتهدين والأخباريين -
على أن الحكم في ما لم يرد فيه دليل عقلي أو نقلي على تحريمه من
حيث هو ولا على تحريمه (5) من حيث إنه مجهول الحكم، هي البراءة
وعدم العقاب على الفعل.
وهذا الوجه لا ينفع إلا بعد عدم تمامية ما ذكر من الدليل العقلي

(1) في (ص) زيادة: " التحريمية ".
(2) ستأتي في الصفحة 64 - 67، 76 - 78 و 82.
(3) في (ر) و (ظ): " فلا تعارض ".
(4) في (ر) و (ص): " على ".
(5) لم ترد " من حيث هو ولا على تحريمه " في (ر).
50

والنقلي للحظر والاحتياط، فهو نظير حكم العقل الآتي (1).
الثاني: دعوى الإجماع على أن الحكم في ما لم يرد دليل
على تحريمه من حيث هو، هو (2) عدم وجوب الاحتياط وجواز
الارتكاب.
وتحصيل الإجماع بهذا النحو من وجوه:
الأول: ملاحظة فتاوى العلماء في موارد الفقه:
فإنك لا تكاد تجد من زمان المحدثين إلى زمان أرباب التصنيف
في الفتوى من يعتمد على حرمة شئ من الأفعال بمجرد الاحتياط.
نعم، ربما يذكرونه في طي الاستدلال في جميع الموارد، حتى في الشبهة
الوجوبية التي اعترف القائلون بالاحتياط هنا (3) بعدم وجوبه فيها.
ولا بأس بالإشارة إلى من وجدنا في كلماتهم ما هو ظاهر في هذا
القول.
فمنهم: ثقة الإسلام الكليني (قدس سره)، حيث صرح في ديباجة الكافي:
بأن الحكم في ما اختلف فيه الأخبار التخيير (4)، ولم يلزم (5) الاحتياط
مع ما ورد (6) من الأخبار بوجوب الاحتياط في ما تعارض فيه النصان

(1) في الصفحة 56.
(2) لم ترد " هو " في (ت) و (ر).
(3) " هنا " من (ظ).
(4) الكافي 1: 9.
(5) في (ت) و (ه‍): " ولم يلتزم ".
(6) في (ظ) زيادة: " فيه ".
51

وما (1) لم يرد فيه (2) نص بوجوبه في خصوص ما لا نص فيه.
فالظاهر: أن كل من قال بعدم وجوب الاحتياط هناك قال به هنا.
ومنهم: الصدوق، فإنه قال: اعتقادنا أن الأشياء على الإباحة
حتى يرد النهي (3).
ويظهر من هذا موافقة والده ومشايخه، لأنه لا يعبر بمثل هذه
العبارة مع مخالفته لهم، بل ربما يقول: " الذي أعتقده وأفتي به "،
واستظهر (4) من عبارته هذه: أنه من دين الإمامية (5).
وأما السيدان: فقد صرحا باستقلال العقل بإباحة ما لا طريق
إلى كونه مفسدة (6)، وصرحا أيضا في مسألة العمل بخبر الواحد: أنه
متى فرضنا عدم الدليل على حكم الواقعة رجعنا فيها إلى حكم العقل (7).
وأما الشيخ (قدس سره): فإنه وإن ذهب وفاقا لشيخه المفيد (قدس سره) إلى أن
الأصل في الأشياء من طريق العقل الوقف (8)، إلا أنه صرح في العدة:
بأن حكم الأشياء من طريق العقل وإن كان هو الوقف، لكنه لا يمتنع

(1) لم ترد " ما " في (ت)، (ر) و (ه‍).
(2) لم ترد " فيه " في (ت) و (ر).
(3) الاعتقادات للشيخ الصدوق، المطبوع ضمن مصنفات الشيخ المفيد 5: 114.
(4) في (ص): " بل استظهر ".
(5) استظهره المحقق القمي في القوانين 2: 16.
(6) الذريعة 2: 809 - 812، والغنية (الجوامع الفقهية): 486.
(7) انظر الذريعة 2: 549، والغنية (الجوامع الفقهية): 476.
(8) العدة 2: 742، وانظر التذكرة بأصول الفقه (مصنفات الشيخ المفيد): 43.
52

أن يدل دليل سمعي على أن الأشياء على الإباحة بعد أن كانت على
الوقف، بل عندنا الأمر كذلك وإليه نذهب (1)، انتهى.
وأما من تأخر عن الشيخ (قدس سره)، كالحلي (2) والمحقق (3) والعلامة (4)
والشهيدين (5) وغيرهم (6): فحكمهم بالبراءة يعلم من مراجعة كتبهم.
وبالجملة: فلا نعرف قائلا معروفا بالاحتياط وإن كان ظاهر
المعارج نسبته إلى جماعة (7).
ثم إنه ربما نسب إلى المحقق (قدس سره) رجوعه عما في المعارج إلى ما
في المعتبر (8): من التفصيل بين ما يعم به البلوى وغيره وأنه لا يقول
بالبراءة في الثاني. وسيجئ الكلام في هذه النسبة بعد ذكر الأدلة إن
شاء الله (9).
ومما ذكرنا يظهر: أن تخصيص بعض القول بالبراءة بمتأخري
الإمامية مخالف للواقع (10)، وكأنه ناش عما رأى من السيد والشيخ من

(1) العدة 2: 750.
(2) السرائر 1: 46.
(3) المعارج: 212، وانظر المعتبر 1: 32.
(4) نهاية الوصول (مخطوط): 424.
(5) الذكرى 1: 52، والقواعد والفوائد 1: 132، وتمهيد القواعد: 271.
(6) مثل الوحيد البهبهاني في الرسائل الأصولية: 353.
(7) المعارج: 203 و 216.
(8) الناسب هو المحقق القمي في القوانين 2: 15، وانظر المعتبر 1: 32.
(9) انظر الصفحة 93.
(10) التخصيص من الشيخ حسين الكركي في كتاب هداية الأبرار: 266.
53

التمسك بالاحتياط في كثير من الموارد، ويؤيده ما في المعارج: من نسبة
القول برفع الاحتياط على الإطلاق إلى جماعة (1).
الثاني: الإجماعات المنقولة والشهرة المحققة، فإنها قد تفيد القطع
بالاتفاق.
وممن استظهر منه دعوى ذلك: الصدوق (رحمه الله) في عبارته المتقدمة (2)
عن اعتقاداته.
وممن ادعى اتفاق المحصلين عليه: الحلي في أول السرائر، حيث
قال بعد ذكر الكتاب والسنة والإجماع: إنه إذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في
المسألة الشرعية عند المحققين الباحثين عن مأخذ الشريعة، التمسك بدليل
العقل (3)، انتهى. ومراده بدليل العقل - كما يظهر من تتبع كتابه - هو أصل
البراءة.
وممن ادعى إطباق العلماء: المحقق في المعارج في باب
الاستصحاب (4)، وعنه في المسائل المصرية أيضا في توجيه نسبة السيد
إلى مذهبنا جواز إزالة النجاسة بالمضاف مع عدم ورود نص فيه: أن
من أصلنا العمل بالأصل حتى يثبت الناقل، ولم يثبت المنع عن إزالة
النجاسة بالمائعات (5).

(1) المعارج: 216.
(2) راجع الصفحة 43.
(3) السرائر 1: 46.
(4) المعارج: 208.
(5) المسائل المصرية (الرسائل التسع): 216.
54

فلولا كون الأصل إجماعيا لم يحسن من المحقق (قدس سره) جعله وجها
لنسبة مقتضاه إلى مذهبنا.
وأما الشهرة: فإنها (1) تتحقق بعد التتبع في كلمات الأصحاب
خصوصا في الكتب الفقهية، ويكفي في تحققها ذهاب من ذكرنا من
القدماء والمتأخرين (2).
الثالث: الإجماع العملي الكاشف عن رضا المعصوم (عليه السلام).
فإن سيرة المسلمين من أول الشريعة بل في كل شريعة على عدم
الالتزام والإلزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد
الفحص وعدم الوجدان، وأن طريقة الشارع كانت تبليغ المحرمات دون
المباحات، وليس ذلك إلا لعدم احتياج الرخصة في الفعل إلى البيان
وكفاية عدم (3) النهي فيها.
قال المحقق (قدس سره) - على ما حكى عنه -: إن أهل الشرائع كافة
لا يخطئون من بادر إلى تناول شئ من المشتبهات سواء علم الإذن
فيها من الشرع أم لم يعلم، ولا يوجبون عليه عند تناول شئ من
المأكول أن يعلم التنصيص على إباحته، ويعذرونه في كثير من المحرمات
إذا تناولها من غير علم، ولو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتى
يعلم الإذن (4)، انتهى.

(1) في (ه‍): " فإنما ".
(2) راجع الصفحة 51 - 53.
(3) في (ر) و (ص) زيادة " وجدان ".
(4) المعارج: 205 - 206.
55

أقول: إن كان الغرض مما ذكر - من عدم التخطئة - بيان قبح
مؤاخذة الجاهل بالتحريم، فهو حسن مع عدم بلوغ وجوب الاحتياط
عليه من الشارع، لكنه راجع إلى الدليل العقلي الآتي (1)، ولا ينبغي
الاستشهاد له بخصوص أهل الشرائع، بل بناء كافة العقلاء وإن لم يكونوا
من أهل الشرائع على قبح ذلك.
وإن كان الغرض منه أن بناء العقلاء على تجويز الارتكاب مع
قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل، حتى لو فرض عدم قبحه
- لفرض العقاب من اللوازم القهرية لفعل الحرام مثلا، أو فرض المولى
في التكاليف العرفية ممن يؤاخذ على الحرام ولو صدر جهلا - لم يزل
بناؤهم على ذلك، فهو مبني على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل،
وسيجئ الكلام فيه (2) إن شاء الله.
الرابع من الأدلة: حكم العقل بقبح العقاب على شئ من دون
بيان التكليف.
ويشهد له: حكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل
ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه.
ودعوى: أن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي
فلا يقبح بعده المؤاخذة، مدفوعة: بأن الحكم المذكور على تقدير ثبوته
لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه، وإنما هو بيان لقاعدة

(1) يأتي بعد سطور.
(2) انظر الصفحة 57، 91 و 122 - 126.
56

كلية ظاهرية وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع، فلو تمت
عوقب على مخالفتها وإن لم يكن تكليف في الواقع، لا على التكليف
المحتمل على فرض وجوده، فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة
القبح المذكورة، بل قاعدة القبح واردة عليها، لأنها فرع احتمال
الضرر أعني العقاب، ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير
بيان.
فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان
الشارع للتكليف فتردد المكلف به (1) بين أمرين، كما في الشبهة المحصورة
وما يشبهها.
هذا كله إن أريد ب‍ " الضرر " العقاب، وإن أريد به (2) مضرة
أخرى غير العقاب - التي لا يتوقف ترتبها على العلم -، فهو وإن كان
محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان، إلا أن الشبهة من
هذه الجهة موضوعية لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين، فلو
ثبت وجوب دفع المضرة المحتملة لكان هذا مشترك الورود، فلا بد على
كلا القولين إما من منع وجوب الدفع، وإما من دعوى ترخيص
الشارع وإذنه فيما شك في كونه من مصاديق الضرر، وسيجئ توضيحه
في الشبهة الموضوعية (3) إن شاء الله.
ثم إنه ذكر السيد أبو المكارم (قدس سره) في الغنية: أن التكليف بما

(1) لم ترد " به " في (ظ) و (ه‍).
(2) كذا في نسخة بدل (ظ)، وفي غيرها: " بها ".
(3) انظر الصفحة 122 - 126.
57

لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق (1). وتبعه بعض من تأخر
عنه (2)، فاستدل به في مسألة البراءة.
والظاهر: أن المراد به ما لا يطاق الامتثال به وإتيانه بقصد
الطاعة، كما صرح به جماعة من الخاصة والعامة (3) في دليل اشتراط
التكليف بالعلم، وإلا فنفس الفعل لا يصير مما لا يطاق بمجرد عدم
العلم بالتكليف به.
واحتمال كون الغرض من التكليف مطلق صدور الفعل ولو مع
عدم قصد الإطاعة، أو كون (4) الغرض من التكليف مع الشك فيه إتيان
الفعل بداعي حصول الانقياد بقصد الإتيان بمجرد احتمال كونه مطلوبا
للآمر، وهذا ممكن من الشاك وإن لم يكن من الغافل، مدفوع: بأنه إن
قام دليل على وجوب إتيان الشاك في التكليف بالفعل لاحتمال
المطلوبية، أغنى ذلك من التكليف بنفس الفعل، وإلا لم ينفع التكليف
المشكوك في تحصيل الغرض المذكور.
والحاصل: أن التكليف المجهول لا يصلح (5) لكون الغرض منه

(1) الغنية (الجوامع الفقهية): 464.
(2) كالمحقق في المعارج: 212 - 213، والعلامة في نهاية الوصول (مخطوط):
424، والفاضل التوني في الوافية: 180، والمحقق القمي في القوانين 2: 16.
(3) كالسيد العميدي في منية اللبيب (مخطوط): الورقة 72، والحاجبي والعضدي
في شرح مختصر الأصول: 104 - 105، وانظر مفاتيح الأصول: 318.
(4) كذا في (ت)، (ص) و (ه‍)، وفي غيرها: " يكون ".
(5) في (ظ) و (ه‍): " لا يصح ".
58

الحمل على الفعل مطلقا، وصدور الفعل من الفاعل أحيانا لا لداعي
التكليف لا يمكن أن يكون غرضا للتكليف.
واعلم: أن هذا الدليل العقلي - كبعض ما تقدم من الأدلة النقلية -
معلق على عدم تمامية أدلة الاحتياط، فلا يثبت به إلا الأصل في مسألة
البراءة، ولا يعد من أدلتها بحيث يعارض أخبار الاحتياط.
وقد يستدل على البراءة بوجوه غير ناهضة:
منها: استصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر أو الجنون (1).
وفيه: أن الاستدلال مبني على اعتبار الاستصحاب من باب
الظن، فيدخل أصل البراءة بذلك في الأمارات الدالة على الحكم
الواقعي، دون الأصول المثبتة للأحكام الظاهرية. وسيجئ عدم اعتبار
الاستصحاب من باب الظن (2) إن شاء الله.
وأما لو قلنا باعتباره من باب الأخبار الناهية عن نقض اليقين
بالشك، فلا ينفع في المقام، لأن الثابت بها ترتب اللوازم المجعولة
الشرعية على المستصحب، والمستصحب هنا ليس إلا براءة الذمة من
التكليف وعدم المنع من الفعل وعدم استحقاق العقاب عليه، والمطلوب
في الآن اللاحق هو القطع بعدم ترتب العقاب على الفعل أو ما يستلزم
ذلك - إذ لو لم يقطع بالعدم واحتمل العقاب (3) احتاج إلى انضمام حكم
العقل بقبح العقاب من غير بيان إليه حتى يأمن العقل من العقاب،

(1) استدل بهذا الوجه صاحب الفصول في الفصول: 352.
(2) انظر مبحث الاستصحاب 3: 13 و 87.
(3) في (ظ) بدل " العقاب ": " الاستحقاق ".
59

ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة -، ومن المعلوم
أن المطلوب المذكور لا يترتب على المستصحبات المذكورة، لأن عدم
استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة حتى يحكم به
الشارع في الظاهر.
وأما الإذن والترخيص في الفعل، فهو وإن كان أمرا قابلا للجعل
ويستلزم انتفاء العقاب واقعا، إلا أن الإذن الشرعي ليس لازما شرعيا
للمستصحبات المذكورة، بل هو من المقارنات، حيث إن عدم المنع عن
الفعل - بعد العلم إجمالا بعدم خلو فعل المكلف عن أحد الأحكام
الخمسة - لا ينفك عن كونه مرخصا فيه، فهو نظير إثبات وجود أحد
الضدين بنفي الآخر بأصالة العدم.
ومن هنا تبين: أن استدلال بعض من اعترف بما ذكرنا (1) - من
عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظن وعدم إثباته إلا اللوازم
الشرعية - في هذا المقام باستصحاب البراءة، منظور فيه.
نعم، من قال باعتباره من باب الظن، أو أنه يثبت بالاستصحاب (2)
من باب التعبد كل ما لا ينفك عن المستصحب لو كان معلوم البقاء
ولو لم يكن من اللوازم الشرعية، فلا بأس بتمسكه به.
مع أنه يمكن النظر فيه، بناء على ما سيجئ (3): من اشتراط العلم
ببقاء الموضوع في الاستصحاب، وموضوع البراءة في السابق ومناطها
هو الصغير الغير القابل للتكليف، فانسحابها في القابل أشبه بالقياس من

(1) كصاحب الفصول في الفصول: 352، 370 و 377.
(2) لم ترد " بالاستصحاب " في (ت) و (ظ)، نعم ورد بدلها في (ت): " به ".
(3) انظر مبحث الاستصحاب 3: 291.
60

الاستصحاب، فتأمل.
وبالجملة: فأصل البراءة أظهر عند القائلين بها والمنكرين لها من
أن يحتاج إلى الاستصحاب.
ومنها: أن الاحتياط عسر منفي وجوبه (1).
وفيه: أن تعسره ليس إلا من حيث كثرة موارده، وهي (2) ممنوعة،
لأن مجراها عند الأخباريين موارد فقد النص على الحرمة وتعارض
النصوص من غير مرجح منصوص، وهي ليست بحيث يفضي الاحتياط
فيها إلى الحرج، وعند المجتهدين موارد فقد الظنون الخاصة، وهي عند
الأكثر ليست بحيث يؤدي الاقتصار عليها والعمل فيما عداها على
الاحتياط إلى الحرج.
ولو فرض لبعضهم قلة الظنون الخاصة فلا بد له من العمل بالظن
الغير المنصوص على حجيته، حذرا عن لزوم محذور الحرج، ويتضح
ذلك بما ذكروه في دليل الانسداد الذي أقاموه على وجوب التعدي عن
الظنون المخصوصة المنصوصة (3)، فراجع.
ومنها: أن الاحتياط قد يتعذر، كما لو دار الأمر بين الوجوب
والحرمة.
وفيه: ما لا يخفى، ولم أر ذكره إلا في كلام شاذ لا يعبأ به (4).

(1) استدل بهذا الوجه السيد المجاهد في المفاتيح: 506.
(2) كذا في (ف) وفي غيرها: " فهي ".
(3) لم ترد " المنصوصة " في (ر)، (ص) و (ظ).
(4) استدل بهذا الوجه - كما قيل - المحقق جمال الدين الخوانساري في حاشيته
على شرح المختصر (مخطوط)، وكذا السيد المجاهد في المفاتيح: 509.
61

[أدلة القول بالاحتياط] (1)
احتج للقول الثاني - وهو وجوب الكف عما يحتمل الحرمة -
بالأدلة الثلاثة:
فمن الكتاب طائفتان:
إحداهما: ما دل على النهي عن القول بغير علم (2)، فإن الحكم
بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة قول عليه بغير علم وافتراء، حيث إنه
لم يؤذن فيه.
ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط، لأنهم لا يحكمون بالحرمة،
وإنما يتركون لاحتمال الحرمة، وهذا بخلاف الارتكاب، فإنه لا يكون إلا
بعد الحكم بالرخصة والعمل على الإباحة.
والأخرى: ما دل بظاهره على لزوم الاحتياط والاتقاء والتورع،
مثل ما ذكره الشهيد (رحمه الله) في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت (3) - للدلالة
على مشروعية الاحتياط في قضاء ما فعلت من الصلاة المحتملة
للفساد -، وهي قوله تعالى: * (اتقوا الله حق تقاته) * (4) و * (جاهدوا في الله
حق جهاده) * (5).

(1) العنوان منا.
(2) مثل قوله تعالى في سورة الإسراء: 36 * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *.
(3) الذكرى (الطبعة الحجرية): 238.
(4) آل عمران: 102.
(5) الحج: 78.
62

أقول: ونحوهما في الدلالة على وجوب الاحتياط: * (فاتقوا الله ما
استطعتم) * (1)، وقوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (2)، وقوله
تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * (3).
والجواب:
أما عن الآيات الناهية عن القول بغير علم - مضافا إلى النقض
بشبهة الوجوب والشبهة في الموضوع -: فبأن فعل الشئ المشتبه حكمه
اتكالا على قبح العقاب من غير بيان المتفق عليه بين المجتهدين
والأخباريين، ليس من ذلك.
وأما عما عدا آية التهلكة: فبمنع منافاة الارتكاب للتقوى
والمجاهدة، مع أن غايتها الدلالة على الرجحان على ما استشهد به
الشهيد (رحمه الله) (4).
وأما عن آية التهلكة: فبأن الهلاك بمعنى العقاب معلوم العدم،
وبمعنى غيره يكون الشبهة موضوعية لا يجب فيها الاجتناب بالاتفاق.
ومن السنة طوائف:
إحداها: ما دل على حرمة القول والعمل بغير العلم (5).

(1) التغابن: 16.
(2) البقرة: 195.
(3) النساء: 59.
(4) الذكرى 2: 444.
(5) انظر الوسائل 18: 9 و 20، الباب 4 و 6 من أبواب صفات القاضي.
63

وقد ظهر جوابها مما ذكر في الآيات (1).
والثانية: ما دل على وجوب التوقف عند الشبهة وعدم العلم،
وهي لا تحصى كثرة.
وظاهر التوقف المطلق السكون وعدم المضي، فيكون كناية عن
عدم الحركة بارتكاب الفعل، وهو محصل قوله (عليه السلام) في بعض تلك
الأخبار: " الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات " (2).
فلا يرد على الاستدلال (3): أن التوقف في الحكم الواقعي مسلم
عند كلا الفريقين، والإفتاء بالحكم الظاهري منعا أو ترخيصا مشترك
كذلك، والتوقف في العمل لا معنى له.
فنذكر بعض تلك الأخبار تيمنا:
منها: مقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفيها بعد
ذكر المرجحات: " إذا كان كذلك فأرجه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف
عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات " (4).
ونحوها صحيحة جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وزاد
فيها: " إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب
الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه " (5).

(1) راجع الصفحة السابقة.
(2) الوسائل 18: 76، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
(3) تعريض بالفاضل النراقي وتضعيف لما ذكره في جواب الاستدلال، انظر مناهج
الأحكام: 214.
(4) الوسائل 18: 67 - 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
(5) الوسائل 18: 86، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 35.
64

وفي روايات الزهري (1)، والسكوني (2)، وعبد الأعلى (3): " الوقوف
عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثا لم تروه خير
من روايتك حديثا لم تحصه "، ورواية أبي شيبة عن أحدهما (عليهما السلام) (4)،
وموثقة سعد بن زياد، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
أنه قال: " لا تجامعوا في النكاح على الشبهة، وقفوا عند الشبهة " - إلى
أن قال -: " فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة " (5).
وتوهم ظهور هذا الخبر المستفيض في الاستحباب، مدفوع
بملاحظة: أن الاقتحام في الهلكة لا خير فيه أصلا، مع أن جعله تعليلا
لوجوب الإرجاء في المقبولة وتمهيدا لوجوب طرح ما خالف الكتاب في
الصحيحة، قرينة على المطلوب.
فمساقه مساق قول القائل: " أترك الأكل يوما خير من أن امنع
منه سنة "، وقوله (عليه السلام) في مقام وجوب الصبر حتى يتيقن الوقت: " لأن
أصلي بعد الوقت أحب إلي من أن أصلي قبل الوقت " (6)، وقوله (عليه السلام)
في مقام التقية: " لأن أفطر يوما من شهر رمضان فأقضيه أحب إلي من

(1) الوسائل 18: 112، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
(2) الوسائل 18: 126، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 50.
(3) الوسائل 18: 126، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ذيل الحديث 50.
(4) الوسائل 18: 115، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 13.
(5) الوسائل 18: 116، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 15، وفيه
مسعدة بن زياد.
(6) الوسائل 3: 124، الباب 13 من أبواب المواقيت، الحديث 11، مع تفاوت.
65

أن يضرب عنقي " (1).
ونظيره في أخبار الشبهة قول علي (عليه السلام) في وصيته لابنه: " أمسك
عن طريق إذا خفت ضلالته (2)، فإن الكف عند حيرة الضلال خير من
ركوب الأهوال (3) " (4).
ومنها: موثقة حمزة بن الطيار: " أنه عرض على أبي عبد الله (عليه السلام)
بعض خطب أبيه (عليه السلام)، حتى إذا بلغ موضعا منها قال له: كف واسكت،
ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنه لا يسعكم فيما ينزل (5) بكم مما
لا تعلمون إلا الكف عنه، والتثبت، والرد إلى أئمة الهدى (عليهم السلام) حتى
يحملوكم فيه على (6) القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق،
قال الله تعالى: * (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * (7) ".
ومنها: رواية جميل، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام): " أنه قال

(1) الوسائل 7: 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 4، مع
تفاوت.
(2) كذا في المصدر، وفي (ت)، (ظ) و (ه‍): " ضلالة " وفي (ر) و (ص):
" ضلاله ".
(3) كذا في المصدر، وفي (ر)، (ص) و (ه‍): " فإن الكف عنده خير من الضلال
وخير من ركوب الأهوال ".
(4) الوسائل 18: 117، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.
(5) كذا في (ص) والمصدر، وفي غيرهما: " نزل ".
(6) كذا في (ص) والمصدر، وفي غيرهما: " إلى ".
(7) الوسائل 18: 12، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14، والآية
من سورة النحل: 43.
66

رسول الله (صلى الله عليه وآله): الأمور ثلاثة: أمر بين لك رشده فاتبعه، وأمر بين لك
غيه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فرده إلى الله عز وجل " (1).
ومنها: رواية جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) في وصيته لأصحابه:
" إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم من
ذلك ما شرح الله لنا " (2).
ومنها: رواية زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام): " حق الله على العباد
أن يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عند ما لا يعلمون " (3).
وقوله (عليه السلام) في رواية المسمعي الواردة في اختلاف الحديثين:
" وما لم تجدوا في شئ من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى
بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكم الكف والتثبت والوقوف وأنتم
طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا " (4)، إلى غير ذلك مما
ظاهره وجوب التوقف (5).
والجواب:
أن بعض هذه الأخبار مختص بما إذا كان المضي في الشبهة
اقتحاما في الهلكة، ولا يكون ذلك إلا مع عدم معذورية الفاعل (6)،

(1) الوسائل 18: 118، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 23.
(2) الوسائل 18: 123، الباب 12 من صفات القاضي، الحديث 43.
(3) الوسائل 18: 119، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.
(4) الوسائل 18: 82، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21.
(5) انظر الوسائل 18: 111، الباب 12 من أبواب صفات القاضي.
(6) في (ص): " الجاهل ".
67

لأجل القدرة على إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام (عليه السلام) أو إلى الطرق
المنصوبة منه (عليه السلام)، كما هو ظاهر المقبولة، وموثقة حمزة بن الطيار،
ورواية جابر، ورواية المسمعي.
وبعضها وارد في مقام النهي عن ذلك، لاتكاله في الأمور
العملية (1) على الاستنباطات العقلية الظنية، أو لكون المسألة من الاعتقاديات
كصفات الله تعالى ورسوله والأئمة صلوات الله عليهم، كما يظهر من
قوله (عليه السلام) في رواية زرارة: " لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا
لم يكفروا " (2)، والتوقف (3) في هذه المقامات واجب.
وبعضها ظاهر في الاستحباب، مثل قوله (عليه السلام): " أورع الناس من
وقف عند الشبهة " (4)، وقوله (عليه السلام): " لا ورع كالوقوف عند الشبهة " (5)،
وقول أمير المؤمنين (عليه السلام): " من ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما
استبان له أترك. والمعاصي حمى الله، فمن يرتع حولها يوشك أن
يدخلها " (6)، وفي رواية النعمان بن بشير قال: " سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
يقول: لكل ملك حمى، وحمى الله حلاله وحرامه، والمشتبهات بين ذلك.
لو أن راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن يقع في وسطه،

(1) في (ت)، (ه‍) ونسخة بدل (ص): " العلمية ".
(2) الوسائل 18: 115، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 11.
(3) في (ر) و (ظ): " الوقف ".
(4) الوسائل 18: 118، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 24.
(5) الوسائل 18: 117، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.
(6) الوسائل 18: 118، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 22.
68

فدعوا المشتبهات " (1)، وقوله (صلى الله عليه وآله): " من اتقى الشبهات فقد استبرأ
لدينه " (2).
وملخص الجواب عن تلك الأخبار: أنه لا ينبغي الشك في كون
الأمر فيها للإرشاد، من قبيل أوامر الأطباء المقصود منها عدم الوقوع
في المضار، إذ قد تبين فيها حكمة طلب التوقف، ولا يترتب على
مخالفته عقاب غير ما يترتب على ارتكاب الشبهة أحيانا، من الهلاك
المحتمل فيها.
فالمطلوب في تلك الأخبار ترك التعرض للهلاك المحتمل في
ارتكاب الشبهة، فإن كان ذلك الهلاك المحتمل من قبيل العقاب
الأخروي - كما لو كان التكليف متحققا فعلا في موارد الشبهة نظير
الشبهة المحصورة ونحوها، أو كان المكلف قادرا على الفحص وإزالة
الشبهة بالرجوع إلى الإمام (عليه السلام) أو الطرق المنصوبة، أو كانت الشبهة
من العقائد و (3) الغوامض التي لم يرد الشارع التدين به بغير علم
وبصيرة، بل نهى عن ذلك بقوله (عليه السلام): " إن الله سكت عن أشياء
لم يسكت عنها نسيانا، فلا تتكلفوها، رحمة من الله لكم " (4)، فربما يوقع
تكلف (5) التدين فيه بالاعتبارات العقلية أو الشواذ النقلية، إلى العقاب

(1) الوسائل 18: 122، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40.
(2) الوسائل 18: 127، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 57.
(3) في (ر)، (ص) و (ظ): " أو ".
(4) الوسائل 18: 129، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 61.
(5) في (ت) و (ص): " تكليف ".
69

بل إلى الخلود فيه إذا وقع التقصير في مقدمات تحصيل المعرفة في تلك
المسألة - ففي هذه المقامات ونحوها يكون التوقف لازما عقلا وشرعا
من باب الإرشاد، كأوامر الطبيب بترك المضار.
وإن كان الهلاك المحتمل مفسدة أخرى غير العقاب - سواء كانت (1)
دينية كصيرورة المكلف بارتكاب الشبهة أقرب إلى ارتكاب المعصية، كما
دل عليه غير واحد من الأخبار المتقدمة (2)، أم دنيوية كالاحتراز عن (3)
أموال الظلمة - فمجرد احتماله لا يوجب العقاب على فعله لو فرض
حرمته واقعا، والمفروض أن الأمر بالتوقف في هذه الشبهة لا يفيد
استحقاق العقاب على مخالفته، لأن المفروض كونه للارشاد، فيكون
المقصود منه التخويف عن لحوق غير العقاب من المضار المحتملة،
فاجتناب هذه الشبهة لا يصير واجبا شرعيا بمعنى ترتب العقاب على
ارتكابه.
وما نحن فيه وهي الشبهة الحكمية التحريمية من هذا القبيل، لأن
الهلكة المحتملة فيها لا تكون هي المؤاخذة الأخروية باتفاق الأخباريين،
لاعترافهم بقبح المؤاخذة على مجرد مخالفة الحرمة الواقعية المجهولة وإن
زعموا ثبوت العقاب من جهة بيان التكليف في الشبهة بأوامر التوقف
والاحتياط، فإذا لم يكن المحتمل فيها هو العقاب الأخروي كان حالها
حال الشبهة الموضوعية - كأموال الظلمة والشبهة الوجوبية - في أنه

(1) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " كان ".
(2) المتقدمة في الصفحة 64 - 66.
(3) في (ص) بدل " كالاحتراز عن ": " كارتكاب ".
70

لا يحتمل فيها إلا غير العقاب من المضار، والمفروض كون الأمر
بالتوقف فيها للإرشاد والتخويف عن تلك المضرة المحتملة.
وبالجملة: فمفاد هذه الأخبار بأسرها التحذير عن التهلكة (1)
المحتملة، فلابد من إحراز احتمال التهلكة (2) عقابا كانت أو غيره، وعلى
تقدير إحراز هذا الاحتمال لا إشكال ولا خلاف في وجوب التحرز عنه
إذا كان المحتمل عقابا، واستحبابه إذا كان غيره، فهذه الأخبار لا تنفع
في إحداث هذا الاحتمال ولا في حكمه.
فإن قلت: إن المستفاد منها احتمال التهلكة في كل محتمل التكليف،
والمتبادر من التهلكة في الأحكام الشرعية الدينية هي الأخروية،
فتكشف هذه الأخبار عن عدم سقوط عقاب التكاليف المجهولة لأجل
الجهل، ولازم ذلك إيجاب الشارع للاحتياط (3)، إذ الاقتصار في العقاب
على نفس التكاليف المختفية من دون تكليف ظاهري بالاحتياط قبيح.
قلت: إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن العقاب
الواقعي فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول، وهو قبيح كما
اعترف به، وإن كان حكما ظاهريا نفسيا فالهلكة الأخروية مترتبة على
مخالفته لا مخالفة الواقع، وصريح الأخبار إرادة الهلكة الموجودة في
الواقع على تقدير الحرمة الواقعية.
هذا كله، مضافا إلى دوران الأمر في هذه الأخبار بين حملها على

(1) في (ر) و (ص): " الهلكة ".
(2) في (ر)، (ص) و (ظ): " الهلكة ".
(3) في (ر) و (ص): " الاحتياط ".
71

ما ذكرنا، وبين ارتكاب التخصيص فيها بإخراج الشبهة الوجوبية
والموضوعية. وما ذكرنا أولى.
وحينئذ: فخيرية الوقوف عند الشبهة من الاقتحام في الهلكة أعم
من الرجحان المانع من النقيض ومن غير المانع منه، فهي قضية
تستعمل في المقامين، وقد استعملها الأئمة (عليهم السلام) كذلك.
فمن موارد استعمالها في مقام لزوم التوقف: مقبولة عمر بن
حنظلة (1) التي جعلت هذه القضية فيها علة لوجوب التوقف في الخبرين
المتعارضين عند فقد المرجح، وصحيحة جميل - المتقدمة (2) - التي جعلت
القضية فيها تمهيدا لوجوب طرح ما خالف كتاب الله.
ومن موارد استعمالها في غير اللازم: رواية الزهري المتقدمة (3)
التي جعل القضية فيها تمهيدا لترك رواية الخبر الغير المعلوم صدوره أو
دلالته، فإن من المعلوم رجحان ذلك لا لزومه، وموثقة سعد بن زياد
المتقدمة (4) التي فيها قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا تجامعوا في النكاح على
الشبهة وقفوا عند الشبهة "، فإن مولانا الصادق (عليه السلام) فسره في تلك
الموثقة بقوله (عليه السلام): " إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها أو أنها لك
محرم (5) وما أشبه ذلك، فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في

(1) المتقدمة في الصفحة 64.
(2) تقدمت في الصفحة 64، أيضا.
(3) تقدمت في الصفحة 65.
(4) تقدمت في الصفحة 65، أيضا.
(5) كذا في (ت)، (ظ) والمصدر، وفي غيرها: " محرمة ".
72

الهلكة... الخبر " (1)، ومن المعلوم أن الاحتراز عن نكاح ما في الرواية
من النسوة المشتبهة، غير لازم باتفاق الأخباريين، لكونها شبهة موضوعية،
ولأصالة عدم تحقق مانع النكاح.
وقد يجاب عن أخبار التوقف بوجوه غير خالية عن النظر:
منها: أن ظاهر أخبار التوقف حرمة الحكم والفتوى من غير
علم، ونحن نقول بمقتضاها، ولكنا (2) ندعي علمنا بالحكم الظاهري وهي
الإباحة، لأدلة البراءة (3).
وفيه: أن المراد بالتوقف - كما يشهد سياق تلك الأخبار وموارد
أكثرها - هو التوقف في العمل في مقابل المضي فيه على حسب الإرادة
الذي هو الاقتحام في الهلكة، لا التوقف في الحكم. نعم، قد يشمله من
حيث كون الحكم عملا مشتبها، لا من حيث كونه حكما في شبهة،
فوجوب التوقف عبارة عن ترك العمل المشتبه الحكم.
ومنها: أنها ضعيفة السند (4).
ومنها: أنها في مقام المنع من العمل بالقياس، وأنه يجب التوقف
عن القول إذا لم يكن هنا نص عن أهل بيت الوحي (عليهم السلام) (5).

(1) الوسائل 14: 193، الباب 157 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 2.
(2) كذا في (ص) و (ظ)، وفي غيرهما: " لكن ".
(3) هذا الجواب ذكره صاحب الفصول في الفصول: 356، تبعا للمحقق القمي في
القوانين 2: 21.
(4) هذا الجواب مذكور في ضوابط الأصول: 323.
(5) هذا الجواب ذكره المحقق القمي في القوانين 2: 21.
73

وفي كلا الجوابين ما لا يخفى على من راجع تلك الأخبار.
ومنها: أنها معارضة بأخبار البراءة، وهي أقوى سندا ودلالة
واعتضادا بالكتاب والسنة والعقل، وغاية الأمر التكافؤ، فيرجع إلى ما
تعارض فيه النصان، والمختار فيه التخيير، فيرجع إلى أصل البراءة (1).
وفيه: أن مقتضى أكثر أدلة البراءة المتقدمة - وهي جميع آيات
الكتاب، والعقل، وأكثر السنة، وبعض تقريرات الإجماع - عدم استحقاق
العقاب على مخالفة الحكم الذي لا يعلمه المكلف، ومن المعلوم أن هذا
من مستقلات العقل الذي لا يدل أخبار التوقف ولا غيرها من الأدلة
النقلية على خلافه، وإنما يثبت أخبار التوقف - بعد الاعتراف (2) بتماميتها
على ما هو المفروض - تكليفا ظاهريا بوجوب الكف وترك المضي عند
الشبهة، والأدلة المذكورة لا تنفي هذا المطلب، فتلك الأدلة بالنسبة إلى
هذه الأخبار من قبيل الأصل بالنسبة إلى الدليل، فلا معنى لأخذ
الترجيح بينهما.
وما يبقى من السنة من قبيل قوله (عليه السلام): " كل شئ مطلق " (3)
لا يكافئ أخبار التوقف، لكونها أكثر وأصح سندا.
وأما قوة الدلالة في أخبار البراءة فلم يعلم.
وظهر (4) أن الكتاب والعقل لا ينافي وجوب التوقف.

(1) هذا الجواب أيضا ذكره المحقق القمي في القوانين 2: 22.
(2) في (ظ): " وإنما تثبت بعد الاعتراف ".
(3) تقدم الحديث في الصفحة 43.
(4) في (ت)، (ر) و (ه‍): " وظاهر ".
74

وأما ما ذكره: من الرجوع إلى التخيير مع التكافؤ، فيمكن
للخصم منع التكافؤ، لأن أخبار الاحتياط مخالفة للعامة، لاتفاقهم - كما
قيل (1) - على البراءة، ومنع التخيير على تقدير التكافؤ، لأن الحكم في
تعارض النصين الاحتياط، مع أن التخيير لا يضره، لأنه يختار أدلة
وجوب الاحتراز عن الشبهات.
ومنها: أن أخبار البراءة أخص، لاختصاصها بمجهول الحلية
والحرمة، وأخبار التوقف تشمل كل شبهة، فتخصص بأخبار البراءة (2).
وفيه: ما تقدم (3)، من أن أكثر أدلة البراءة بالإضافة إلى هذه
الأخبار من قبيل الأصل والدليل، وما يبقى وإن (4) كان ظاهره الاختصاص
بالشبهة الحكمية التحريمية، مثل قوله (عليه السلام): " كل شئ مطلق حتى يرد
فيه نهي " (5)، لكن يوجد (6) في أدلة التوقف ما لا يكون أعم منه، فإن
ما ورد فيه نهي معارض بما دل على الإباحة غير داخل في هذا الخبر
ويشمله أخبار التوقف، فإذا وجب التوقف هنا وجب فيما لا نص فيه
بالإجماع المركب، فتأمل.
مع أن جميع موارد الشبهة التي أمر فيها بالتوقف، لا تخلو عن

(1) قاله المحدث الاسترآبادي في الفوائد المدنية: 137.
(2) هذا الجواب للفاضل النراقي في المناهج: 214.
(3) راجع الصفحة 27 و 50.
(4) في (ر)، (ص) و (ظ): " فإن ".
(5) تقدم الحديث في الصفحة 43.
(6) كذا في (ه‍)، وفي (ت)، (ر)، (ص) و (ظ): " لكن فيوجد ".
75

أن يكون شيئا محتمل الحرمة، سواء كان عملا أم حكما أم اعتقادا،
فتأمل.
والتحقيق في الجواب ما ذكرنا.
الثالثة: ما دل على وجوب الاحتياط، وهي كثيرة:
منها: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج: " قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام)
عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان، الجزاء بينهما أو على كل واحد
منهما جزاء؟ قال: بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد، قلت:
إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه، قال: إذا أصبتم
مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه (1) وتعلموا " (2).
ومنها: موثقة عبد الله بن وضاح - على الأقوى -: " قال: كتبت
إلى العبد الصالح: يتوارى القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعا
وتستتر عنا الشمس وترتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون،
فأصلي حينئذ وأفطر إن كنت صائما، أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي
فوق الجبل؟
فكتب (عليه السلام) إلي (3): أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ
بالحائطة لدينك " (4).
فإن الظاهر أن قوله (عليه السلام): " وتأخذ " بيان لمناط الحكم، كما في

(1) " عنه " من المصدر.
(2) الوسائل 18: 111، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
(3) " إلي " من المصدر.
(4) الوسائل 3: 129، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 14.
76

قولك للمخاطب: " أرى لك أن توفي دينك وتخلص نفسك "، فيدل
على لزوم الاحتياط مطلقا.
ومنها: ما عن أمالي المفيد الثاني - ولد الشيخ (قدس سرهما) - بسند كالصحيح،
عن مولانا أبي الحسن الرضا (عليه السلام): " قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام)
لكميل بن زياد: أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت " (1). وليس في
السند إلا علي بن محمد الكاتب الذي يروي عنه المفيد.
ومنها: ما عن خط الشهيد - في حديث طويل - عن عنوان
البصري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول فيه: " سل العلماء ما جهلت،
وإياك أن تسألهم تعنتا وتجربة، وإياك أن تعمل برأيك شيئا، وخذ
الاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا، واهرب من الفتيا هربك
من الأسد، ولا تجعل رقبتك عتبة للناس " (2).
ومنها: ما أرسله الشهيد وحكي عن الفريقين، من قوله (صلى الله عليه وآله):
" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنك لن تجد فقد شئ تركته لله
عز وجل " (3).
ومنها: ما أرسله الشهيد (رحمه الله) - أيضا - من قوله (عليه السلام): " لك أن

(1) الأمالي: 110، الحديث 168، والوسائل 18: 123، الباب 12 من أبواب
صفات القاضي، الحديث 41.
(2) الوسائل 18: 127، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 54.
(3) انظر الذكرى 2: 444، والوسائل 18: 124 و 127، الباب 12 من أبواب
صفات القاضي، الحديث 47 و 56، وسنن النسائي 8: 230، وكنز العمال 3:
429، الحديث 7297.
77

تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك " (1).
ومنها: ما أرسل أيضا عنهم (2) (عليهم السلام): " ليس بناكب عن الصراط
من سلك سبيل الاحتياط " (3).
والجواب:
أما عن الصحيحة: فبعدم الدلالة، لأن المشار إليه في قوله (عليه السلام):
" بمثل هذا " إما نفس واقعة الصيد، وإما أن يكون السؤال عن حكمها.
وعلى الأول: فإن جعلنا المورد من قبيل الشك في التكليف، بمعنى
أن وجوب نصف الجزاء على كل واحد متيقن ويشك في وجوب
النصف الآخر عليه، فيكون من قبيل وجوب أداء الدين المردد بين
الأقل والأكثر وقضاء الفوائت المرددة، والاحتياط في مثل هذا غير
لازم بالاتفاق، لأنه شك في الوجوب.
وعلى تقدير قولنا بوجوب الاحتياط في مورد الرواية وأمثاله مما
ثبت التكليف فيه في الجملة - لأجل هذه الصحيحة وغيرها - لم يكن ما
نحن فيه من الشبهة مماثلا له، لعدم ثبوت التكليف فيه رأسا.
وإن جعلنا المورد من قبيل الشك في متعلق التكليف وهو المكلف
به - لكون الأقل على تقدير وجوب الأكثر غير واجب بالاستقلال،

(1) انظر الذكرى 2: 445، والوسائل 18: 127، الباب 12 من أبواب صفات
القاضي، الحديث 58.
(2) في (ت)، (ر) و (ص): " ما أرسله عنهم ".
(3) لم نعثر عليه في المجاميع الحديثية، نعم رواه المحدث البحراني في الحدائق 1:
76.
78

نظير وجوب التسليم في الصلاة - فالاحتياط هنا وإن كان مذهب
جماعة من المجتهدين (1) أيضا، إلا أن ما نحن فيه من الشبهة الحكمية
التحريمية ليس مثلا لمورد الرواية، لأن الشك فيه في أصل التكليف.
هذا، مع أن ظاهر الرواية التمكن من استعلام حكم الواقعة
بالسؤال والتعلم فيما بعد، ولا مضايقة عن القول بوجوب الاحتياط في
هذه الواقعة الشخصية حتى يتعلم المسألة لما يستقبل من الوقائع.
ومنه يظهر: أنه إن كان المشار إليه ب‍ " هذا " هو السؤال عن
حكم الواقعة، كما هو الثاني من شقي الترديد: فإن أريد بالاحتياط فيه
الإفتاء (2) بالاحتياط لم ينفع فيما نحن فيه، وإن أريد من الاحتياط
الاحتراز عن الفتوى فيها أصلا حتى بالاحتياط، فكذلك.
وأما عن الموثقة: فبأن ظاهرها الاستحباب، والظاهر أن مراده
الاحتياط من حيث الشبهة الموضوعية - لاحتمال عدم استتار القرص
وكون الحمرة المرتفعة أمارة عليها -، لأن إرادة الاحتياط في الشبهة
الحكمية بعيدة عن منصب الإمام (عليه السلام)، لأنه لا يقرر الجاهل بالحكم
على جهله، ولا ريب أن الانتظار مع الشك في الاستتار واجب، لأنه
مقتضى استصحاب عدم الليل، والاشتغال بالصوم، وقاعدة الاشتغال
بالصلاة.
فالمخاطب بالأخذ بالحائطة هو الشاك في براءة ذمته عن الصوم
والصلاة، ويتعدى منه إلى كل شاك في براءة ذمته عما يجب عليه

(1) سيأتي ذكرهم في الصفحة 316.
(2) في (ت) و (ه‍) زيادة: " فيه ".
79

يقينا، لا مطلق الشاك، لأن الشاك في الموضوع الخارجي مع عدم تيقن
التكليف لا يجب عليه الاحتياط باتفاق من الأخباريين أيضا.
هذا كله على تقدير القول بكفاية استتار القرص في الغروب،
وكون الحمرة غير الحمرة المشرقية، ويحتمل بعيدا أن يراد من الحمرة
الحمرة المشرقية التي لا بد من زوالها في تحقق المغرب (1). وتعليله حينئذ
بالاحتياط وإن كان بعيدا عن منصب الإمام (عليه السلام) كما لا يخفى، إلا أنه
يمكن أن يكون هذا النحو من التعبير لأجل التقية، لإيهام أن الوجه في
التأخير هو حصول الجزم باستتار القرص وزوال احتمال عدمه، لا أن
المغرب لا يدخل مع تحقق الاستتار. كما أن قوله (عليه السلام): " أرى لك "
يستشم منه رائحة الاستحباب، فلعل التعبير به مع وجوب التأخير من
جهة التقية، وحينئذ: فتوجيه الحكم بالاحتياط لا يدل إلا على
رجحانه.
وأما عن رواية الأمالي: فبعدم دلالتها على الوجوب، للزوم
إخراج أكثر موارد الشبهة وهي الشبهة الموضوعية مطلقا والحكمية
الوجوبية، والحمل على الاستحباب أيضا مستلزم لاخراج موارد وجوب
الاحتياط، فتحمل على الإرشاد أو على الطلب المشترك بين الوجوب
والندب، وحينئذ: فلا ينافي وجوبه (2) في بعض الموارد و (3) عدم لزومه في
بعض آخر، لأن تأكد الطلب الإرشادي وعدمه بحسب المصلحة

(1) في (ت) و (ر): " الغروب ".
(2) في نسخه بدل (ت) و (ه‍): " لزومه ".
(3) لم ترد " و " في (ص) و (ه‍).
80

الموجودة في الفعل، لأن الاحتياط هو الاحتراز عن موارد احتمال
المضرة، فيختلف رضا المرشد بتركه وعدم رضاه بحسب مراتب المضرة،
كما أن الأمر في الأوامر الواردة في إطاعة الله ورسوله للإرشاد المشترك
بين فعل الواجبات وفعل المندوبات.
هذا، والذي يقتضيه دقيق النظر: أن الأمر المذكور بالاحتياط
لخصوص الطلب الغير الإلزامي، لأن المقصود منه بيان أعلى مراتب
الاحتياط، لا جميع مراتبه ولا المقدار الواجب.
والمراد من قوله: " بما شئت " ليس التعميم من حيث القلة
والكثرة والتفويض إلى مشيئة الشخص، لأن هذا كله مناف لجعله بمنزلة
الأخ، بل المراد: أن أي مرتبة من الاحتياط شئتها فهي في محلها،
وليس هنا مرتبة من الاحتياط لا يستحسن بالنسبة إلى الدين، لأنه
بمنزلة الأخ الذي هو كذلك (1)، وليس بمنزلة سائر الأمور (2) لا يستحسن
فيها بعض مراتب الاحتياط، كالمال وما عدا الأخ من الرجال، فهو
بمنزلة قوله تعالى: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * (3).
ومما ذكرنا يظهر الجواب عن سائر الأخبار المتقدمة، مع ضعف
السند في الجميع.
نعم، يظهر من المحقق في المعارج: اعتبار إسناد (4) النبوي: " دع ما

(1) في (ر) و (ص) بدل " كذلك ": " لك ".
(2) في (ص) زيادة: " التي ".
(3) التغابن: 16.
(4) في (ه‍) ونسخة بدل (ت): " سند ".
81

يريبك "، حيث اقتصر في رده على: أنه خبر واحد لا يعول عليه في
الأصول، وأن إلزام المكلف بالأثقل مظنة الريبة (1).
وما ذكره (قدس سره) محل تأمل، لمنع كون المسألة أصولية، ثم منع كون
النبوي من أخبار الآحاد المجردة، لأن مضمونه - وهو ترك الشبهة -
يمكن دعوى تواتره، ثم منع عدم اعتبار أخبار الآحاد في المسألة
الأصولية.
وما ذكره: من أن إلزام المكلف بالأثقل... الخ، فيه: أن الإلزام
من هذا الأمر، فلا ريبة فيه (2).
الرابعة: أخبار التثليث المروية عن النبي والوصي وبعض الأئمة
صلوات الله عليهم أجمعين:
ففي مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الخبرين المتعارضين - بعد
الأمر بأخذ المشهور (3) منهما وترك الشاذ النادر، معللا بقوله (عليه السلام): " فإن
المجمع عليه لا ريب فيه " - قوله: " وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده
فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد حكمه إلى الله ورسوله،
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك، فمن
ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات
وهلك من حيث لا يعلم " (4).

(1) المعارج: 216.
(2) في (ت)، (ر) و (ص): " فلا ريب فيه ".
(3) في (ر) و (ص): " بالأخذ بالمشهور ".
(4) الوسائل 18: 75 - 76، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
82

وجه الدلالة: أن الإمام (عليه السلام) أوجب طرح الشاذ معللا: بأن
المجمع عليه لا ريب فيه، والمراد أن الشاذ فيه ريب (1)، لا أن الشهرة
تجعل الشاذ مما لا ريب في بطلانه، وإلا لم يكن معنى لتأخير الترجيح
بالشهرة عن الترجيح بالأعدلية والأصدقية والأورعية، ولا لفرض
الراوي الشهرة في كلا الخبرين، ولا لتثليث الأمور ثم الاستشهاد
بتثليث النبي (صلى الله عليه وآله).
والحاصل: أن الناظر في الرواية يقطع بأن الشاذ مما فيه الريب
فيجب طرحه، وهو الأمر المشكل الذي أوجب الإمام رده إلى الله
ورسوله.
فيعلم من ذلك كله: أن الاستشهاد بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في
التثليث لا يستقيم إلا مع وجوب الاحتياط والاجتناب عن الشبهات.
مضافا إلى دلالة قوله: " نجا من المحرمات "، بناء على أن تخليص (2)
النفس من المحرمات واجب، وقوله (صلى الله عليه وآله): " وقع في المحرمات، وهلك من
حيث لا يعلم ".
ودون هذا النبوي (3) في الظهور: النبوي المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام)
- في كلام طويل -، وقد تقدم (4) في أخبار التوقف، وكذا مرسلة الصدوق
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (5).

(1) في (ر) و (ظ): " الريب ".
(2) في (ر)، (ص) و (ظ): " تخلص ".
(3) لم ترد " النبوي " في (ر)، (ص) و (ظ).
(4) وهي رواية جميل المتقدمة في الصفحة 66 - 67.
(5) تقدمت في الصفحة 68، وستأتي في الصفحة 86.
83

والجواب عنه: ما ذكرنا سابقا (1)، من أن الأمر بالاجتناب عن
الشبهة إرشادي للتحرز (2) عن المضرة المحتملة فيها، فقد تكون المضرة
عقابا وحينئذ فالاجتناب لازم، وقد تكون مضرة أخرى فلا عقاب
على ارتكابها على تقدير الوقوع في الهلكة، كالمشتبه بالحرام حيث
لا يحتمل فيه الوقوع في العقاب على تقدير الحرمة اتفاقا، لقبح
العقاب على الحكم الواقعي المجهول باعتراف الأخباريين أيضا، كما
تقدم (3).
وإذا تبين لك: أن المقصود من الأمر بطرح الشبهات ليس
خصوص الإلزام، فيكفي حينئذ في مناسبة ذكر كلام النبي (صلى الله عليه وآله) المسوق
للإرشاد: أنه إذا كان الاجتناب عن المشتبه بالحرام راجحا (4) - تفصيا
عن الوقوع في مفسدة الحرام -، فكذلك طرح الخبر الشاذ واجب،
لوجوب التحري عند تعارض الخبرين في تحصيل ما هو أبعد من
الريب وأقرب إلى الحق، إذ لو قصر في ذلك وأخذ بالخبر الذي فيه
الريب احتمل أن يكون قد أخذ بغير ما هو الحجة له، فيكون الحكم
به حكما من غير الطرق المنصوبة من قبل الشارع، فتأمل.
ويؤيد ما ذكرنا: من أن النبوي ليس واردا في مقام الإلزام بترك
الشبهات، أمور:

(1) راجع الصفحة 69.
(2) في (ظ): " للتحذر ".
(3) راجع الصفحة 27 و 42.
(4) في (ظ): " واجبا ".
84

أحدها: عموم الشبهات للشبهة الموضوعية التحريمية التي اعترف
الأخباريون بعدم وجوب الاجتناب عنها.
وتخصيصه بالشبهة الحكمية - مع أنه إخراج لأكثر الأفراد -
مناف للسياق، فإن سياق الرواية آب عن التخصيص، لأنه ظاهر
في الحصر، وليس الشبهة الموضوعية من الحلال البين، ولو بني
على كونها منه - لأجل أدلة جواز ارتكابها - قلنا بمثله في الشبهة
الحكمية.
الثاني: أنه (صلى الله عليه وآله) رتب على ارتكاب الشبهات الوقوع في المحرمات
والهلاك من حيث لا يعلم، والمراد (1) جنس الشبهة - لأنه في مقام بيان
ما تردد بين الحلال والحرام، لا في مقام التحذير عن ارتكاب المجموع،
مع أنه ينافي استشهاد الإمام (عليه السلام) -، ومن المعلوم أن ارتكاب جنس
الشبهة لا يوجب الوقوع في الحرام ولا الهلاك من حيث لا يعلم إلا
على مجاز المشارفة، كما يدل عليه بعض ما مضى (2) وما يأتي (3) من
الأخبار، فالاستدلال موقوف على إثبات كبرى، وهي: أن الإشراف
على الوقوع في الحرام والهلاك من حيث لا يعلم محرم، من دون سبق
علم به أصلا.
الثالث: الأخبار الكثيرة المساوقة لهذا الخبر الشريف، الظاهرة في
الاستحباب بقرائن مذكورة فيها:

(1) في (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " منها ".
(2) راجع الصفحة 68.
(3) انظر الصفحة اللاحقة.
85

منها: قول النبي (صلى الله عليه وآله) في رواية النعمان، وقد تقدم (1) في أخبار
التوقف (2).
ومنها: قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في مرسلة الصدوق، أنه خطب
وقال: " حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه
عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله، فمن يرتع
حولها يوشك أن يدخلها " (3).
ومنها: رواية أبي جعفر الباقر (عليه السلام): " قال: قال جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)
في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام: من رعى غنمه
قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى، ألا: وإن لكل ملك
حمى، وإن حمى الله محارمه، فاتقوا حمى الله ومحارمه " (4).
ومنها: ما ورد من: " أن في حلال الدنيا حسابا وفي حرامها
عقابا وفي الشبهات عتابا " (5).
ومنها: رواية فضيل بن عياض: " قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
من الورع من الناس؟ قال: الذي يتورع عن محارم الله ويجتنب

(1) تقدمت في الصفحة 68.
(2) في (ر)، (ص) و (ظ): " الوقف ".
(3) الفقيه 4: 75، باب نوادر الحدود، الحديث 5149، وقد تقدم تخريجها عن
الوسائل، راجع الصفحة 68.
(4) الوسائل 18: 124، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 47.
(5) مستدرك الوسائل 12: 52، الباب 63 من أبواب جهاد النفس، الحديث
الأول.
86

هؤلاء، فإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه " (1).
وأما العقل، فتقريره بوجهين:
أحدهما:
أنا نعلم إجمالا قبل مراجعة الأدلة الشرعية بمحرمات كثيرة يجب
- بمقتضى قوله تعالى: * (وما نهاكم عنه فانتهوا) * (2) ونحوه - الخروج عن
عهدة تركها على وجه اليقين بالاجتناب أو اليقين بعدم العقاب، لأن
الاشتغال اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة (3) باتفاق المجتهدين والأخباريين،
وبعد مراجعة الأدلة والعمل بها لا يقطع بالخروج عن جميع تلك
المحرمات الواقعية، فلا بد من اجتناب كل ما احتمل (4) أن يكون منها
إذا لم يكن هناك دليل شرعي يدل على حليته، إذ مع هذا الدليل يقطع
بعدم العقاب على الفعل على تقدير حرمته واقعا.
فإن قلت: بعد مراجعة الأدلة نعلم تفصيلا بحرمة أمور كثيرة،
ولا نعلم إجمالا بوجود ما عداها، فالاشتغال بما عدا المعلوم بالتفصيل
غير متيقن حتى يجب الاحتياط. وبعبارة أخرى: العلم الإجمالي قبل
الرجوع إلى الأدلة، وأما بعده فليس هنا علم إجمالي.

(1) الوسائل 18: 118، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 25.
(2) الحشر: 7.
(3) في (ظ): " يستدعي البراءة "، وفي (ر) و (ص): " يستدعي البراءة
اليقينية ".
(4) في (ر) و (ص): " يحتمل ".
87

قلت: إن أريد من الأدلة ما يوجب العلم بالحكم الواقعي الأولي،
فكل مراجع في الفقه يعلم أن ذلك غير ميسر، لأن سند الأخبار لو
فرض قطعيا لكن دلالتها ظنية. وإن أريد منها ما يعم الدليل الظني
المعتبر من الشارع فمراجعتها لا توجب (1) اليقين بالبراءة من ذلك
التكليف المعلوم إجمالا، إذ ليس معنى اعتبار الدليل الظني إلا وجوب
الأخذ بمضمونه، فإن كان تحريما صار ذلك كأنه أحد المحرمات الواقعية،
وإن كان تحليلا كان اللازم منه عدم العقاب على فعله وإن كان في
الواقع من المحرمات، وهذا المعنى لا يوجب انحصار المحرمات الواقعية في
مضامين تلك الأدلة حتى يحصل العلم بالبراءة بموافقتها، بل ولا يحصل
الظن بالبراءة عن جميع المحرمات المعلومة إجمالا.
وليس الظن التفصيلي بحرمة جملة من الأفعال كالعلم التفصيلي بها،
لأن العلم التفصيلي بنفسه مناف لذلك العلم الإجمالي، والظن غير مناف
له، لا بنفسه ولا بملاحظة اعتباره شرعا على الوجه المذكور.
نعم، لو اعتبر الشارع هذه الأدلة بحيث انقلب التكليف إلى
العمل بمؤداها بحيث يكون هو المكلف به، كان ما عدا ما تضمنه
الأدلة من محتملات التحريم خارجا عن المكلف به، فلا يجب الاحتياط
فيها.
وبالجملة: فما نحن فيه بمنزلة قطيع غنم يعلم إجمالا بوجود
محرمات فيها، ثم قامت البينة على تحريم جملة منها وتحليل جملة وبقي
الشك في جملة ثالثة، فإن مجرد قيام البينة على تحريم البعض لا يوجب

(1) في النسخ: " لا يوجب ".
88

العلم ولا الظن بالبراءة من جميع المحرمات.
نعم، لو اعتبر الشارع البينة في المقام، بمعنى أنه أمر بتشخيص
المحرمات المعلومة وجودا وعدما بهذا الطريق، رجع التكليف إلى
وجوب اجتناب ما قامت (1) عليه البينة، لا الحرام الواقعي.
والجواب:
أولا: منع تعلق تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلا بما أدى
إليه الطرق الغير العلمية المنصوبة له، فهو مكلف بالواقع بحسب تأدية
هذه الطرق، لا بالواقع من حيث هو، ولا بمؤدى هذه الطرق من حيث
هو حتى يلزم التصويب أو ما يشبهه، لأن ما ذكرناه هو المتحصل من
ثبوت الأحكام الواقعية للعالم وغيره وثبوت التكليف بالعمل بالطرق،
وتوضيحه في محله، وحينئذ: فلا يكون ما شك في تحريمه مما هو
مكلف به فعلا على تقدير حرمته واقعا.
وثانيا: سلمنا التكليف الفعلي بالمحرمات الواقعية، إلا أن من
المقرر في الشبهة المحصورة - كما سيجئ (2) إن شاء الله تعالى - أنه إذا
ثبت في المشتبهات (3) المحصورة وجوب الاجتناب عن جملة منها لدليل
آخر غير التكليف المتعلق بالمعلوم الإجمالي، اقتصر في الاجتناب على
ذلك القدر، لاحتمال كون المعلوم الإجمالي هو هذا المقدار المعلوم حرمته
تفصيلا، فأصالة الحل في البعض الآخر غير معارضة بالمثل، سواء كان

(1) في النسخ: " قام ".
(2) انظر الصفحة 233.
(3) كذا في (ه‍)، وفي (ت)، (ر) و (ص): " الشبهات ".
89

ذلك الدليل سابقا على العلم الإجمالي - كما إذا علم نجاسة أحد الإناءين
تفصيلا فوقع قذرة في أحدهما المجهول، فإنه لا يجب الاجتناب عن
الآخر، لأن حرمة أحدهما معلومة تفصيلا - أم كان لاحقا، كما في مثال
الغنم المذكور، فإن العلم الإجمالي غير ثابت بعد العلم التفصيلي بحرمة
بعضها بواسطة وجوب العمل بالبينة، وسيجئ توضيحه إن شاء الله
تعالى، وما نحن فيه من هذا القبيل.
الوجه الثاني:
أن الأصل في الأفعال الغير الضرورية الحظر، كما نسب إلى
طائفة من الإمامية (1)، فيعمل به حتى يثبت من الشرع الإباحة، ولم
يرد الإباحة في ما لا نص فيه. وما ورد - على تقدير تسليم
دلالته - معارض بما ورد من الأمر بالتوقف والاحتياط، فالمرجع إلى
الأصل.
ولو تنزلنا عن ذلك فالوقف، كما عليه الشيخان (قدس سرهما) (2). واحتج
عليه في العدة: بأن الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على
ما يعلم فيه المفسدة (3).
وقد جزم بهذه القضية السيد أبو المكارم في الغنية (4)، وإن قال

(1) نسبه إليهم المحقق في المعارج: 203.
(2) انظر التذكرة بأصول الفقه (مصنفات الشيخ المفيد) 9: 43، والعدة 2:
742.
(3) العدة 2: 742.
(4) الغنية (الجوامع الفقهية): 476 - 477.
90

بالإباحة (1) (2) كالسيد المرتضى (رحمه الله) (3)، تعويلا على قاعدة " اللطف "، وأنه
لو كان في الفعل مفسدة لوجب على الحكيم بيانه.
لكن ردها في العدة: بأنه قد يكون المفسدة في الإعلام ويكون
المصلحة في كون الفعل (4) على الوقف (5).
والجواب:
بعد تسليم استقلال العقل بدفع الضرر، أنه: إن أريد ما يتعلق
بأمر الآخرة من العقاب، فيجب على الحكيم تعالى بيانه، فهو مع عدم
البيان مأمون.
وإن أريد غيره مما لا يدخل في عنوان المؤاخذة من اللوازم
المترتبة مع الجهل أيضا، فوجوب دفعها غير لازم عقلا، إذ العقل
لا يحكم بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيوي المقطوع إذا كان لبعض
الدواعي النفسانية، وقد جوز الشارع بل أمر به في بعض الموارد. وعلى
تقدير الاستقلال فليس مما يترتب عليه العقاب، لكونه من باب الشبهة
الموضوعية - لأن المحرم هو مفهوم الإضرار، وصدقه في هذا المقام
مشكوك، كصدق المسكر المعلوم التحريم على هذا المائع الخاص -،
والشبهة الموضوعية لا يجب الاجتناب عنها باتفاق الأخباريين أيضا،

(1) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " بأصالة الإباحة ".
(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 486.
(3) الذريعة 2: 809 - 812.
(4) في (ظ): " العقل ".
(5) العدة 2: 742 - 743.
91

وسيجئ تتمة الكلام في الشبهة الموضوعية (1) إن شاء الله.

(1) انظر الصفحة 122 - 126.
92

وينبغي التنبيه على أمور:
الأول
أن المحكي عن المحقق (1) التفصيل في اعتبار أصل البراءة بين ما
يعم به البلوى وغيره، فيعتبر في الأول دون الثاني، ولا بد من حكاية
كلامه (قدس سره) في المعتبر والمعارج حتى يتضح حال النسبة، قال في المعتبر:
الثالث - يعني من أدلة العقل -: الاستصحاب، وأقسامه ثلاثة:
الأول: استصحاب حال العقل، وهو التمسك بالبراءة الأصلية، كما
يقال: الوتر ليس واجبا، لأن الأصل براءة العهدة. ومنه: أن يختلف
العلماء في حكم الدية (2) بين الأقل والأكثر، كما في دية عين الدابة
المترددة بين النصف والربع.
إلى أن قال:
الثاني: أن يقال: عدم الدليل على كذا، فيجب انتفاؤه. وهذا
يصح فيما يعلم أنه لو كان هنا دليل لظفر به، أما لا مع ذلك فيجب
التوقف، ولا يكون ذلك الاستدلال حجة. ومنه القول بالإباحة لعدم

(1) حكاه عنه المحقق القمي في القوانين 2: 15.
(2) في (ت)، (ر) و (ص) زيادة: " المرددة ".
93

دليل الوجوب والحظر.
الثالث: استصحاب حال الشرع. فاختار أنه ليس بحجة (1)، انتهى
موضع الحاجة من كلامه (قدس سره).
وذكر في المعارج، على ما حكي عنه:
أن الأصل: خلو الذمة عن الشواغل الشرعية، فإذا ادعى مدع
حكما شرعيا جاز لخصمه أن يتمسك في انتفائه بالبراءة الأصلية،
فيقول: لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعية، لكن ليس
كذلك، فيجب نفيه. وهذا الدليل لا يتم إلا ببيان مقدمتين:
إحداهما: أنه لا دلالة عليه شرعا، بأن ينضبط طرق الاستدلالات
الشرعية ويبين عدم دلالتها عليه.
والثانية: أن يبين أنه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلت عليه إحدى
تلك الدلائل، لأنه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق
للمكلف إلى العلم به، وهو تكليف بما لا يطاق، ولو كانت عليه دلالة
غير تلك الأدلة لما كانت أدلة الشرع منحصرة فيها، لكنا بينا انحصار
الأحكام في تلك الطرق، وعند ذلك: يتم كون ذلك دليلا على نفي
الحكم (2)، انتهى.
وحكي عن المحدث الاسترآبادي في فوائده:
أن تحقيق هذا الكلام هو: أن المحدث الماهر إذا تتبع الأحاديث
المروية عنهم (عليهم السلام) في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر

(1) المعتبر 1: 32، مع تفاوت في العبارة.
(2) المعارج: 212 - 213.
94

لعموم البلوى بها، فإذا لم يظفر بحديث دل على ذلك الحكم ينبغي أن
يحكم قطعا عاديا بعدمه، لأن جما غفيرا من أفاضل علمائنا - أربعة آلاف
منهم تلامذة الصادق (عليه السلام)، كما في المعتبر (1) - كانوا ملازمين لأئمتنا (عليهم السلام)
في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة، وكان هممهم وهم الأئمة (عليهم السلام) إظهار
الدين عندهم وتأليفهم كل ما يسمعون منهم في الأصول، لئلا يحتاج
الشيعة إلى سلوك طريق العامة، ولتعمل (2) بما في تلك الأصول في زمان
الغيبة الكبرى، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) لم يضيعوا من في
أصلاب الرجال من شيعتهم، كما في الروايات المتقدمة، ففي مثل تلك
الصورة يجوز التمسك بأن نفي ظهور دليل على حكم مخالف للأصل دليل
على عدم ذلك الحكم في الواقع.
إلى أن قال:
ولا يجوز التمسك به في غير المسألة المفروضة، إلا عند العامة
القائلين بأنه (صلى الله عليه وآله) أظهر عند أصحابه كل ما جاء به، وتوفرت الدواعي
على جهة واحدة على نشره، وما خص (صلى الله عليه وآله) أحدا بتعليم شئ لم يظهره
عند غيره، ولم يقع بعده ما اقتضى اختفاء ما جاء به (3)، انتهى.
أقول: المراد بالدليل المصحح للتكليف - حتى لا يلزم التكليف بما
لا طريق للمكلف إلى العلم به - هو ما تيسر للمكلف الوصول إليه

(1) المعتبر 1: 26.
(2) كذا في المصدر، وفي (ت)، (ر)، (ص) و (ه‍): " وليعمل "، وفي (ظ):
" ويعمل ".
(3) الفوائد المدنية: 140 - 141.
95

والاستفادة منه، فلا فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شاف (1) أصلا،
أو كان ولم يتمكن المكلف من الوصول إليه، أو تمكن لكن بمشقة رافعة
للتكليف، أو تيسر ولم يتم دلالته في نظر المستدل، فإن الحكم الفعلي في
جميع هذه الصور قبيح على ما صرح به المحقق (قدس سره) في كلامه السابق (2)،
سواء قلنا بأن وراء الحكم الفعلي حكما آخر - يسمى حكما واقعيا
و (3) حكما شأنيا - على ما هو مقتضى مذهب المخطئة، أم قلنا بأنه ليس
وراءه حكم آخر، للاتفاق على أن مناط الثواب والعقاب ومدار
التكليف هو الحكم الفعلي.
وحينئذ: فكل ما تتبع المستنبط في الأدلة الشرعية في نظره إلى
أن علم من نفسه عدم تكليفه بأزيد من هذا المقدار من التتبع، ولم يجد
فيها ما يدل على حكم مخالف للأصل، صح له دعوى القطع بانتفاء
الحكم الفعلي.
ولا فرق في ذلك بين العام (4) البلوى وغيره، ولا بين العامة
والخاصة، ولا بين المخطئة والمصوبة، ولا بين المجتهدين والأخباريين،
ولا بين أحكام الشرع وغيرها من أحكام سائر الشرائع وسائر الموالي
بالنسبة إلى عبيدهم.
هذا بالنسبة إلى الحكم الفعلي، وأما بالنسبة إلى الحكم الواقعي

(1) في (ر) و (ظ): " شأني ".
(2) في الصفحة 94.
(3) في (ت) و (ه‍): " أو ".
(4) في (ظ): " عام ".
96

النازل به جبرئيل على النبي (صلى الله عليه وآله) - لو سميناه حكما بالنسبة إلى الكل -
فلا يجوز الاستدلال على نفيه بما ذكره المحقق (قدس سره) (1): من لزوم التكليف
بما لا طريق للمكلف إلى العلم به، لأن المفروض عدم إناطة التكليف
به.
نعم، قد يظن من عدم وجدان الدليل عليه بعدمه، بعموم (2)
البلوى به لا بمجرده، بل مع ظن عدم المانع عن نشره في أول الأمر
من الشارع أو خلفائه أو من وصل إليه.
لكن هذا الظن لا دليل على اعتباره، ولا دخل له بأصل البراءة
التي هي من الأدلة العقلية، ولا بمسألة التكليف بما لا يطاق، ولا بكلام
المحقق.
فما تخيله المحدث تحقيقا لكلام المحقق - مع أنه غير تام في نفسه -
أجنبي عنه بالمرة.
نعم، قد يستفاد من استصحاب البراءة السابقة: الظن بها فيما بعد
الشرع - كما سيجئ عن بعضهم (3) - لكن لا من باب لزوم التكليف بما
لا يطاق الذي ذكره المحقق.
ومن هنا يعلم: أن تغاير القسمين الأولين من الاستصحاب (4)
باعتبار كيفية الاستدلال، حيث إن مناط الاستدلال في هذا القسم

(1) ذكره في كلامه المتقدم عن المعارج في الصفحة 94.
(2) في (ص) و (ظ): " لعموم ".
(3) انظر الصفحة 99.
(4) في (ر) زيادة: " في كلامه ".
97

الملازمة بين عدم الدليل وعدم الحكم مع قطع النظر عن ملاحظة الحالة
السابقة، فجعله من أقسام الاستصحاب مبني على إرادة مطلق الحكم
على طبق الحالة السابقة عند الشك ولو لدليل آخر غير الاتكال على
الحالة السابقة، فيجري فيما لم يعلم فيه الحالة السابقة، ومناط الاستدلال
في القسم الأول ملاحظة الحالة السابقة حتى مع عدم العلم بعدم الدليل
على الحكم.
ويشهد لما ذكرنا، من المغايرة الاعتبارية: أن الشيخ لم يقل
بوجوب مضي المتيمم الواجد للماء في أثناء صلاته لأجل الاستصحاب،
وقال به لأجل أن عدم الدليل دليل العدم (1).
نعم، هذا القسم الثاني أعم موردا من الأول، لجريانه في الأحكام
العقلية وغيرها، كما ذكره جماعة من الأصوليين (2).
والحاصل: أنه لا ينبغي الشك في أن بناء المحقق (قدس سره) على التمسك
بالبراءة الأصلية مع الشك في الحرمة، كما يظهر من تتبع فتاويه في
المعتبر (3).

(1) العدة 2: 756.
(2) انظر الفصول: 351، والقوانين 2: 13.
(3) انظر المعتبر 1: 252، 335، 358، 359 و 462.
98

الثاني
مقتضى الأدلة المتقدمة: كون الحكم الظاهري في الفعل المشتبه
الحكم هي الإباحة من غير ملاحظة الظن بعدم تحريمه في الواقع، فهذا
الأصل يفيد القطع بعدم اشتغال الذمة، لا الظن بعدم الحكم واقعا، ولو
أفاده لم يكن معتبرا.
إلا أن الذي يظهر من جماعة كونه من الأدلة الظنية، منهم
صاحب المعالم عند دفع الاعتراض عن بعض مقدمات الدليل الرابع
الذي ذكره لحجية خبر الواحد (1)، ومنهم شيخنا البهائي (قدس سره) (2)، ولعل هذا
هو المشهور بين الأصوليين، حيث لا يتمسكون فيه إلا باستصحاب
البراءة السابقة (3)، بل ظاهر المحقق (رحمه الله) في المعارج الإطباق على التمسك
بالبراءة الأصلية حتى يثبت الناقل (4)، وظاهره أن اعتمادهم في الحكم

(1) المعالم: 194.
(2) الزبدة: 58.
(3) انظر المعتبر 1: 32، والقواعد والفوائد 1: 132، وتمهيد القواعد: 271.
(4) المعارج: 208.
99

بالبراءة على كونها هي الحالة السابقة الأصلية.
والتحقيق: أنه لو فرض حصول الظن من الحالة السابقة فلا يعتبر،
والإجماع ليس على اعتبار هذا الظن، وإنما هو على العمل على طبق
الحالة السابقة، ولا يحتاج إليه بعد قيام الأخبار المتقدمة (1) وحكم العقل.

(1) أي: أخبار البراءة المتقدمة في الصفحة 28 و 41 - 45.
100

الثالث
لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلا ونقلا، كما يستفاد من
الأخبار المذكورة وغيرها (1).
وهل الأوامر الشرعية للاستحباب، فيثاب عليه وإن لم يحصل به
الاجتناب عن الحرام الواقعي، أو غيري بمعنى كونه مطلوبا لأجل
التحرز عن الهلكة المحتملة والاطمئنان بعدم وقوعه فيها، فيكون الأمر
به إرشاديا لا يترتب على موافقته ومخالفته سوى الخاصية المترتبة على
الفعل أو الترك، نظير أوامر الطبيب، ونظير الأمر بالإشهاد عند المعاملة
لئلا يقع التنازع؟ وجهان:
من ظاهر الأمر بعد فرض عدم إرادة الوجوب.
ومن سياق جل الأخبار الواردة في ذلك، فإن الظاهر كونها
مؤكدة لحكم العقل بالاحتياط.
والظاهر (2) أن حكم العقل بالاحتياط من حيث هو احتياط - على

(1) أي: أخبار التوقف والاحتياط والتثليث.
(2) في (ص): " وظاهر ".
101

تقدير (1) كونه إلزاميا - لمحض الاطمئنان ودفع احتمال العقاب، وكما أنه
إذا تيقن بالضرر يكون إلزام العقل لمحض الفرار عن العقاب المتيقن،
فكذلك طلبه الغير الإلزامي إذا احتمل الضرر.
بل، وكما أن أمر الشارع بالإطاعة في قوله تعالى: * (أطيعوا الله
ورسوله) * (2) لمحض الإرشاد، لئلا يقع العبد في عقاب المعصية ويفوته
ثواب الطاعة، ولا يترتب على مخالفته سوى ذلك، فكذلك أمره بالأخذ
بما يأمن معه من الضرر، و (3) لا يترتب على موافقته سوى الأمان
المذكور، ولا على مخالفته سوى الوقوع في الحرام الواقعي على تقدير
تحققه.
ويشهد لما ذكرنا: أن ظاهر الأخبار حصر حكمة الاجتناب عن
الشبهة في التفصي عن الهلكة الواقعية لئلا يقع فيها من حيث لا يعلم.
واقترانه مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا، ومن
المعلوم أن الأمر باجتناب المحرمات في هذه الأخبار ليس إلا للإرشاد،
لا يترتب على موافقتها ومخالفتها سوى الخاصية الموجودة في المأمور به
- وهو الاجتناب عن الحرام - أو فوتها، فكذلك الأمر باجتناب الشبهة
لا يترتب على موافقته سوى ما يترتب على نفس الاجتناب لو لم يأمر
به الشارع، بل فعله المكلف حذرا من الوقوع في الحرام (4).

(1) في (ت) زيادة: " عدم ".
(2) الأنفال: 20.
(3) لم ترد " و " في (ر) و (ص).
(4) في هامش (ت) و (ص) زيادة: " هذا كله بالنظر إلى الأمر بالاحتياط، وأما
نفس الاحتياط، أعني ترك الشئ لداعي احتمال كونه مبغوضا عند الشارع " مع
اختلاف بينهما.
وبناء على ما في هامش (ص) لا بد أن يبدل قوله: " ولا يبعد " ب‍ " فلا
يبعد ".
102

ولا يبعد التزام ترتب الثواب عليه، من حيث إنه انقياد وإطاعة
حكمية، فيكون حينئذ حال الاحتياط والأمر به حال نفس الإطاعة
الحقيقية والأمر بها في كون الأمر لا يزيد فيه على ما ثبت فيه من
المدح أو الثواب لولا الأمر.
هذا، ولكن الظاهر من بعض الأخبار المتقدمة (1)، مثل قوله (عليه السلام):
" من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرمات "، وقوله:
" من ترك الشبهات كان لما استبان له من الإثم أترك "، وقوله: " من
يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ": هو كون الأمر به للاستحباب،
وحكمته أن لا يهون عليه ارتكاب المحرمات المعلومة، ولازم ذلك
استحقاق الثواب على إطاعة أوامر الاحتياط، مضافا إلى الخاصية
المترتبة (2) على نفسه.
ثم لا فرق فيما ذكرناه - من حسن الاحتياط بالترك - بين أفراد
المسألة حتى مورد دوران الأمر بين الاستحباب والتحريم، بناء على أن
دفع المفسدة الملزمة للترك أولى من جلب المصلحة الغير الملزمة، وظهور

(1) راجع الصفحة 68.
(2) في (ر)، (ص) و (ظ) بدل " الخاصية المترتبة ": " الثواب المترتب "، وفي
(ت): " الثواب "، وفوقها: " الخاصية ".
103

الأخبار المتقدمة في ذلك أيضا.
ولا يتوهم: أنه يلزم من ذلك عدم حسن الاحتياط فيما احتمل
كونه من العبادات المستحبة بل حسن الاحتياط بتركه، إذ لا ينفك ذلك
عن احتمال كون فعله تشريعا محرما.
لأن حرمة التشريع تابعة لتحققه، ومع إتيان ما احتمل كونها
عبادة لداعي هذا الاحتمال لا يتحقق موضوع التشريع، ولذا قد يجب
الاحتياط مع هذا الاحتمال، كما في الصلاة إلى أربع جهات أو في
الثوبين المشتبهين وغيرهما، وسيجئ زيادة توضيح لذلك إن شاء الله.
104

الرابع
نسب الوحيد البهبهاني (قدس سره) إلى الأخباريين مذاهب أربعة في ما
لا نص فيه: التوقف، والاحتياط، والحرمة الظاهرية، والحرمة الواقعية (1).
فيحتمل رجوعها إلى معنى واحد، وكون اختلافها في التعبير لأجل
اختلاف ما ركنوا إليه من أدلة القول بوجوب اجتناب الشبهة. فبعضهم
ركن إلى أخبار التوقف، وآخر إلى أخبار الاحتياط، وثالث إلى أوامر
ترك الشبهات مقدمة لتجنب المحرمات، كحديث التثليث، ورابع إلى
أوامر ترك المشتبهات من حيث إنها مشتبهات، فإن هذا الموضوع في
نفسه حكمه الواقعي الحرمة.
والأظهر: أن التوقف أعم بحسب المورد من الاحتياط، لشموله
الأحكام المشتبهة في الأموال والأعراض والنفوس مما يجب فيها الصلح
أو القرعة، فمن عبر به أراد وجوب التوقف في جميع الوقائع الخالية عن
النص العام والخاص.
والاحتياط أعم من موارد احتمال التحريم، فمن عبر به أراد

(1) الفوائد الحائرية: 240، والرسائل الأصولية: 349 - 350.
105

الأعم من محتمل التحريم ومحتمل الوجوب، مثل وجوب السورة أو
وجوب الجزاء المردد بين نصف الصيد وكله.
وأما الحرمة الظاهرية والواقعية، فيحتمل الفرق بينهما: بأن المعبر
بالأولى قد لاحظ الحرمة من حيث عروضها لموضوع محكوم بحكم
واقعي، فالحرمة ظاهرية. والمعبر بالثانية قد لاحظها من حيث عروضها
لمشتبه الحكم، وهو موضوع من الموضوعات الواقعية، فالحرمة واقعية.
أو بملاحظة أنه إذا منع الشارع المكلف - من حيث إنه جاهل بالحكم -
من الفعل، فلا يعقل إباحته له واقعا، لأن معنى الإباحة الإذن والترخيص،
فتأمل.
ويحتمل الفرق: بأن القائل بالحرمة الظاهرية يحتمل أن يكون
الحكم في الواقع هي الإباحة، إلا أن أدلة الاجتناب عن الشبهات
حرمتها ظاهرا، والقائل بالحرمة الواقعية إنما يتمسك في ذلك بأصالة
الحظر في الأشياء، من باب قبح التصرف في ما يختص بالغير بغير
إذنه.
ويحتمل الفرق: بأن معنى الحرمة الظاهرية حرمة الشئ في الظاهر
فيعاقب عليه مطلقا وإن كان مباحا في الواقع، والقائل بالحرمة الواقعية
يقول: بأنه لا حرمة ظاهرا أصلا، فإن كان في الواقع حراما استحق
المؤاخذة عليه وإلا فلا، وليس معناها أن المشتبه حرام واقعا، بل معناه
أنه ليس فيه إلا الحرمة الواقعية على تقدير ثبوتها، فإن هذا أحد
الأقوال للأخباريين في المسألة على ما ذكره العلامة الوحيد - المتقدم (1) -

(1) أي: الوحيد البهبهاني.
106

في موضع آخر، حيث قال - بعد رد خبر التثليث المتقدم (1): بأنه
لا يدل على الحظر أو وجوب التوقف، بل مقتضاه أن من ارتكب
الشبهة واتفق كونها (2) حراما في الواقع يهلك لا مطلقا -: ويخطر
بخاطري أن من الأخباريين من يقول بهذا المعنى (3)، انتهى.
ولعل هذا القائل اعتمد في ذلك على ما ذكرنا سابقا (4): من أن
الأمر العقلي والنقلي بالاحتياط للإرشاد، من قبيل أوامر الطبيب
لا يترتب على موافقتها ومخالفتها عدا ما يترتب على نفس الفعل
المأمور به أو تركه لو لم يكن أمر. نعم، الإرشاد على مذهب هذا
الشخص على وجه اللزوم - كما في بعض أوامر الطبيب - لا للأولوية كما
اختاره القائلون بالبراءة. وأما ما يترتب على نفس الاحتياط فليس إلا
التخلص عن الهلاك المحتمل في الفعل.
نعم، فاعله يستحق المدح من حيث تركه لما يحتمل أن يكون
تركه مطلوبا عند المولى، ففيه نوع من الانقياد، ويستحق عليه المدح
والثواب. وأما تركه فليس فيه إلا التجري بارتكاب ما يحتمل أن
يكون مبغوضا للمولى، ولا دليل على حرمة التجري على هذا الوجه
واستحقاق العقاب عليه. بل عرفت في مسألة حجية العلم (5): المناقشة

(1) تقدم في الصفحة 82.
(2) كذا في (ص)، وفي غيرها: " كونه ".
(3) انظر الفوائد الحائرية: 242، ولكن ليست هذه العبارة " ويخطر بخاطري... "
في نسختنا من الفوائد.
(4) راجع الصفحة 69.
(5) راجع مبحث القطع 1: 45.
107

في حرمة التجري بما هو أعظم من ذلك، كأن يكون الشئ مقطوع
الحرمة بالجهل المركب، ولا يلزم من تسليم استحقاق الثواب على
الانقياد بفعل الاحتياط، استحقاق العقاب بترك الاحتياط والتجري
بالإقدام (1) على ما يحتمل كونه مبغوضا. وسيأتي تتمة توضيح ذلك في
الشبهة المحصورة إن شاء الله تعالى.

(1) في (ت) و (ه‍): " في الإقدام ".
108

الخامس
أن أصالة الإباحة في مشتبه الحكم إنما هو مع عدم أصل
موضوعي حاكم عليها، فلو شك في حل أكل حيوان مع العلم بقبوله
التذكية جرى أصالة الحل، وإن شك فيه من جهة الشك في قبوله
للتذكية فالحكم الحرمة، لأصالة عدم التذكية، لأن من شرائطها قابلية
المحل، وهي مشكوكة، فيحكم بعدمها وكون الحيوان ميتة.
ويظهر من المحقق والشهيد الثانيين (1) (قدس سرهما) فيما إذا شك في حيوان
متولد من طاهر ونجس لا يتبعهما في الاسم وليس له مماثل: أن الأصل
فيه الطهارة والحرمة.
فإن كان الوجه فيه أصالة عدم التذكية، فإنما يحسن مع الشك في
قبول التذكية وعدم عموم يدل على جواز تذكية كل حيوان إلا ما
خرج، كما ادعاه بعض (2).

(1) انظر جامع المقاصد 1: 166، الروضة البهية 1: 285 - 286، وتمهيد
القواعد: 270.
(2) ادعاه السيد المرتضى في الناصريات: 99، وانظر مفاتيح الشرائع 1: 69 -
70، ومفاتيح الأصول: 534.
109

وإن كان الوجه فيه أصالة حرمة أكل (1) لحمه قبل التذكية، ففيه:
أن الحرمة قبل التذكية لأجل كونه من الميتة، فإذا فرض إثبات جواز
تذكيته خرج عن الميتة، فيحتاج حرمته إلى موضوع آخر. ولو شك في
قبول التذكية رجع إلى الوجه السابق، وكيف كان: فلا يعرف وجه لرفع
اليد عن أصالة الحل والإباحة.
نعم، ذكر شارح الروضة - هنا (2) - وجها آخر، ونقله بعض
محشيها (3) عن الشهيد في تمهيد القواعد (4). قال شارح الروضة: إن كلا
من النجاسات والمحللات محصورة، فإذا لم يدخل في المحصور منها كان
الأصل طهارته وحرمة لحمه، وهو ظاهر (5)، انتهى.
ويمكن منع حصر المحللات، بل المحرمات محصورة، والعقل والنقل
دل على إباحة ما لم يعلم حرمته، ولذا يتمسكون كثيرا بأصالة الحل في
باب الأطعمة والأشربة.
ولو قيل: إن الحل إنما علق بالطيبات (6) في قوله تعالى: * (قل أحل
لكم الطيبات) * (7) المفيد للحصر في مقام الجواب عن الاستفهام، فكل ما

(1) لم ترد " أكل " في (ر) و (ظ).
(2) لم ترد " هنا " في (ر) و (ظ).
(3) لعله الشيخ علي، انظر الروضة البهية بخط عبد الرحيم، طبعة المكتبة العلمية
الإسلامية، الصفحة 21.
(4) تمهيد القواعد: 270، ولكن ليست فيه " كون المحللات محصورة ".
(5) المناهج السوية (مخطوط): الورقة 84.
(6) كذا في (ه‍)، وفي (ت): " في الطيبات "، ولم ترد " بالطيبات " في (ر)، (ص) و (ظ).
(7) المائدة: 4.
110

شك في كونه طيبا فالأصل عدم إحلال الشارع له.
قلنا: إن التحريم محمول في القرآن على " الخبائث " و " الفواحش "،
فإذا شك فيه فالأصل عدم التحريم، ومع تعارض الأصلين يرجع إلى
أصالة الإباحة، وعموم قوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي) * (1)،
وقوله (عليه السلام): " ليس الحرام إلا ما حرم الله " (2).
مع أنه يمكن فرض كون الحيوان مما ثبت كونه طيبا.
بل الطيب ما لا يستقذر، فهو أمر عدمي يمكن إحرازه بالأصل
عند الشك، فتدبر.

(1) الأنعام: 145.
(2) الوسائل 17: 3، الباب 1 من أبواب الأطعمة والأشربة، الحديث 4.
111

السادس
حكي عن بعض الأخباريين (1) كلام لا يخلو إيراده عن فائدة، وهو:
أنه هل يجوز أحد أن يقف عبد من عباد الله تعالى، فيقال له:
بما كنت تعمل في الأحكام الشرعية؟ فيقول: كنت أعمل بقول المعصوم
وأقتفي أثره وما يثبت من المعلوم، فإن اشتبه علي شئ عملت
بالاحتياط، أفيزل قدم هذا العبد عن الصراط، ويقابل بالإهانة والإحباط،
فيؤمر به إلى النار ويحرم مرافقة الأبرار؟ هيهات هيهات! أن يكون
أهل التسامح والتساهل في الدين في الجنة خالدين، وأهل الاحتياط في
النار معذبين (2)، انتهى كلامه.
أقول: لا يخفى على العوام فضلا عن غيرهم: أن أحدا لا يقول
بحرمة الاحتياط ولا ينكر حسنه وأنه سبيل النجاة.
وأما الإفتاء بوجوب الاحتياط فلا إشكال في أنه غير مطابق
للاحتياط، لاحتمال حرمته، فإن ثبت وجوب الإفتاء فالأمر يدور بين

(1) قيل: هو المحدث الجزائري.
(2) حكاه الوحيد البهبهاني في الرسائل الأصولية: 377.
112

الوجوب والحرمة (1)، وإلا فالاحتياط في ترك الفتوى، وحينئذ: فيحكم
الجاهل بما يحكم به عقله، فإن التفت إلى قبح العقاب من غير بيان
لم يكن عليه بأس في ارتكاب المشتبه، وإن لم يلتفت إليه واحتمل
العقاب كان مجبولا على الالتزام بتركه، كمن احتمل أن فيما يريد سلوكه
من الطريق سبعا.
وعلى كل تقدير: فلا ينفع قول الأخباريين له: إن العقل يحكم
بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضرر المحتمل، ولا قول
الأصولي له: إن العقل يحكم بنفي البأس مع الاشتباه.
وبالجملة: فالمجتهدون لا ينكرون على العامل بالاحتياط. والافتاء
بوجوبه من الأخباريين نظير الافتاء بالبراءة من المجتهدين، ولا متيقن
من الأمرين في البين، ومفاسد الالتزام بالاحتياط ليست بأقل من
مفاسد ارتكاب المشتبه، كما لا يخفى. فما ذكره هذا الأخباري من
الإنكار لم يعلم توجهه إلى أحد، والله العالم وهو الحاكم.

(1) كذا في (ت)، وفي غيرها: " التحريم ".
113

المسألة الثانية
ما إذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب
من جهة إجمال النص
إما بأن يكون اللفظ الدال على الحكم مجملا، كالنهي المجرد عن
القرينة إذا قلنا باشتراكه لفظا بين الحرمة والكراهة.
وإما بأن يكون الدال على متعلق الحكم كذلك، سواء كان
الإجمال في وضعه كالغناء إذا قلنا بإجماله، فيكون المشكوك في كونه
غناء محتمل الحرمة، أم كان الإجمال في المراد منه، كما إذا شك في شمول
الخمر للخمر الغير المسكر ولم يكن هناك إطلاق يؤخذ به.
والحكم في ذلك كله كما في المسألة الأولى، والأدلة المذكورة من
الطرفين جارية هنا.
وربما يتوهم (1): أن الإجمال إذا كان في متعلق الحكم - كالغناء
وشرب الخمر الغير المسكر - كان ذلك داخلا في الشبهة في طريق
الحكم. وهو فاسد.

(1) المتوهم هو المحدث الحر العاملي في الفوائد الطوسية: 518، وسيأتي نقل كلامه
في الصفحة 130 - 135.
114

المسألة الثالثة
أن يدور حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب
من جهة تعارض النصين وعدم ثبوت ما يكون مرجحا لأحدهما
والأقوى فيه أيضا عدم وجوب الاحتياط، لعدم الدليل عليه عدا
ما تقدم: من الوجوه المذكورة (1) التي عرفت حالها (2)، وبعض ما ورد
في خصوص تعارض النصين، مثل ما في عوالي اللآلي: من مرفوعة
العلامة (رحمه الله) إلى زرارة عن مولانا أبي جعفر (عليه السلام):
" قال: قلت: جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان
المتعارضان فبأيهما آخذ؟
فقال: يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذ
النادر.
فقلت: يا سيدي، إنهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم.
فقال (عليه السلام): خذ بما يقوله أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك.
فقلت: إنهما معا عدلان مرضيان موثقان عندي.

(1) لم ترد " المذكورة " في (ر) و (ظ).
(2) راجع الصفحة 62 - 96.
115

فقال: انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه وخذ بما خالفهم،
فإن الحق فيما خالفهم.
قلت: ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين، فكيف نصنع؟
قال: فخذ بما فيه الحائطة لدينك، واترك ما خالف الاحتياط.
فقلت: إنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان، فكيف
أصنع؟
قال: إذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر... الحديث " (1).
وهذه الرواية وإن كانت أخص من أخبار التخيير، إلا أنها
ضعيفة السند، وقد طعن صاحب الحدائق فيها وفي كتاب العوالي
وصاحبه، فقال:
إن الرواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب العوالي، مع ما
هي عليها من الإرسال، وما عليه الكتاب المذكور: من نسبة صاحبه
إلى التساهل في نقل الأخبار والإهمال، وخلط غثها بسمينها وصحيحها
بسقيمها، كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور (2)، انتهى.
ثم إذا لم نقل بوجوب الاحتياط، ففي كون أصل البراءة مرجحا
لما يوافقه، أو كون الحكم الوقف، أو التساقط والرجوع إلى الأصل، أو
التخيير بين الخبرين في أول الأمر أو دائما، وجوه ليس هنا محل

(1) كذا في النسخ، ولكن ليست للحديث تتمة. انظر عوالي اللآلي 4: 133،
الحديث 229، والمستدرك 17: 303، الباب 9 من أبواب صفات القاضي،
الحديث 2.
(2) الحدائق 1: 99.
116

ذكرها، فإن المقصود هنا نفي وجوب الاحتياط، والله العالم.
بقي هنا شئ، وهو:
أن الأصوليين عنونوا في باب التراجيح الخلاف في تقديم الخبر
الموافق للأصل على المخالف (1)، ونسب تقديم المخالف - وهو المسمى
بالناقل - إلى أكثر الأصوليين (2) بل إلى جمهورهم (3)، منهم العلامة (قدس سره) (4).
وعنونوا أيضا مسألة تقديم الخبر الدال على الإباحة على (5) الدال على
الحظر والخلاف فيه (6)، ونسب تقديم الحاظر على المبيح إلى المشهور (7)،
بل يظهر من المحكي عن بعضهم عدم الخلاف في ذلك (8). والخلاف في
المسألة الأولى ينافي الوفاق في الثانية.
كما أن قول الأكثر فيهما مخالف لما يشاهد: من عمل علمائنا على
عدم تقديم المخالف للأصل، بل التخيير أو الرجوع إلى الأصل الذي هو
وجوب الاحتياط عند الأخباريين والبراءة عند المجتهدين حتى العلامة،

(1) انظر المعارج: 156، والمعالم: 253، والفصول: 445، ومفاتيح الأصول:
705.
(2) انظر نهاية الوصول (مخطوط): 458.
(3) انظر غاية البادئ (مخطوط): 289.
(4) انظر مبادئ الوصول: 237، وتهذيب الوصول: 99.
(5) في (ص) زيادة: " الخبر ".
(6) انظر المعارج: 157، ومفاتيح الأصول: 708.
(7) كما في غاية المأمول (مخطوط): الورقة 220.
(8) لعل المقصود ما حكاه السيد المجاهد عن غاية المأمول، انظر مفاتيح الأصول:
708.
117

مضافا إلى ذهاب جماعة من أصحابنا في المسألتين إلى التخيير (1).
ويمكن أن يقال: إن مرادهم من الأصل في مسألة الناقل والمقرر
أصالة البراءة من الوجوب لا أصالة الإباحة، فيفارق (2) مسألة تعارض
المبيح والحاظر.
و (3) إن حكم أصحابنا بالتخيير أو الاحتياط لأجل الأخبار
الواردة، لا لمقتضى نفس مدلولي الخبرين من حيث هما، فيفارق
المسألتين.
لكن هذا الوجه قد يأباه مقتضى أدلتهم، فلاحظ وتأمل.

(1) انظر مفاتيح الأصول: 705 و 708.
(2) في (ت) و (ص) ومحتمل (ه‍): " فتفارق ".
(3) في (ر)، (ص) و (ظ): " أو ".
118

المسألة الرابعة
دوران الحكم بين الحرمة وغير الوجوب، مع كون الشك
في الواقعة الجزئية لأجل الاشتباه في بعض الأمور الخارجية
كما إذا شك في حرمة شرب مائع و (1) إباحته للتردد في أنه
خل أو خمر، وفي حرمة لحم للتردد بين كونه من الشاة أو من
الأرنب.
والظاهر: عدم الخلاف في أن مقتضى الأصل فيه الإباحة،
للأخبار الكثيرة في ذلك، مثل قوله (عليه السلام): " كل شئ لك حلال
حتى تعلم أنه حرام " (2)، و " كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك
حلال " (3).

(1) كذا في (ص) و (ظ) ومحتمل (ه‍)، وفي غيرها: " أو ".
(2) هي رواية مسعدة بن صدقة الآتية بعد سطور، ولم نعثر على غير ذلك في
المجاميع الحديثية. نعم، ورد ما يقرب منه في الوسائل 16: 403، الباب 64
من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 2.
(3) الوسائل 12: 59، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث
الأول.
119

واستدل العلامة (رحمه الله) في التذكرة (1) على ذلك برواية مسعدة بن
صدقة:
" كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل
نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعله سرقة، أو العبد يكون
عندك ولعله حر قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع، أو امرأة
تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين
لك غير هذا أو تقوم به البينة " (2).
وتبعه عليه جماعة من المتأخرين (3).
ولا إشكال في ظهور صدرها في المدعى، إلا أن الأمثلة المذكورة
فيها ليس الحل فيها مستندا إلى أصالة الحلية، فإن الثوب والعبد إن
لوحظا باعتبار اليد عليهما حكم بحل التصرف فيهما لأجل اليد، وإن
لوحظا مع قطع النظر عن اليد كان الأصل فيهما حرمة التصرف،
لأصالة بقاء الثوب على ملك الغير وأصالة الحرية في الانسان المشكوك
في رقيته، وكذا الزوجة إن لوحظ فيها أصل عدم تحقق النسب
و (4) الرضاع فالحلية مستندة إليه، وإن قطع النظر عن هذا الأصل
فالأصل عدم تأثير العقد فيها، فيحرم وطؤها.

(1) التذكرة (الطبعة الحجرية) 1: 588.
(2) الوسائل 12: 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
(3) منهم الوحيد البهبهاني في الرسائل الأصولية: 399، والفاضل النراقي في
المناهج: 211 و 216.
(4) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " أو ".
120

وبالجملة: فهذه الأمثلة الثلاثة بملاحظة الأصل الأولي محكومة
بالحرمة، والحكم بحليتها إنما هو من حيث الأصل الموضوعي الثانوي،
فالحل غير مستند إلى أصالة الإباحة في شئ منها.
هذا، ولكن في (1) الأخبار المتقدمة بل جميع الأدلة المتقدمة
من الكتاب والعقل كفاية، مع أن صدرها وذيلها ظاهران في
المدعى.
وتوهم: عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا، نظرا إلى أن
الشارع بين حكم الخمر - مثلا - فيجب حينئذ اجتناب كل ما يحتمل
كونه خمرا - من باب المقدمة العلمية -، فالعقل لا يقبح العقاب خصوصا
على تقدير مصادفة الحرام.
مدفوع: بأن النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة
تفصيلا والمعلومة إجمالا المترددة بين محصورين (2)، والأول لا يحتاج
إلى مقدمة علمية، والثاني يتوقف على الاجتناب من أطراف الشبهة
لا غير، وأما ما احتمل كونه خمرا من دون علم إجمالي فلم يعلم
من النهي تحريمه، وليس مقدمة للعلم باجتناب فرد محرم يحسن العقاب
عليه.
فلا فرق بعد فرض عدم العلم بحرمته ولا بتحريم خمر يتوقف
العلم باجتنابه على اجتنابه، بين هذا الفرد المشتبه وبين الموضوع الكلي
المشتبه حكمه - كشرب التتن - في قبح العقاب عليه.

(1) في (ص) زيادة: " باقي ".
(2) كذا في (ه‍) وفي غيرها: محصور.
121

وما ذكر من التوهم جار فيه أيضا، لأن العمومات الدالة على
حرمة الخبائث (1) والفواحش (2) و * (ما نهاكم عنه فانتهوا) * (3) تدل على
حرمة أمور واقعية يحتمل كون شرب التتن منها.
ومنشأ التوهم المذكور: ملاحظة تعلق الحكم بكلي مردد بين مقدار
معلوم وبين أكثر منه، فيتخيل أن الترديد في المكلف به مع العلم
بالتكليف، فيجب الاحتياط.
ونظير هذا التوهم قد وقع في الشبهة الوجوبية، حيث تخيل
بعض (4): أن دوران ما فات من الصلوات (5) بين الأقل والأكثر موجب
للاحتياط من باب وجوب المقدمة العلمية.
وقد عرفت، وسيأتي اندفاعه (6).
فإن قلت: إن الضرر محتمل في هذا الفرد المشتبه - لاحتمال كونه
محرما - فيجب دفعه.
قلنا: إن أريد بالضرر العقاب وما يجري مجراه من الأمور
الأخروية، فهو مأمون بحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان.
وإن أريد ما لا يدفع العقل ترتبه من غير بيان - كما في

(1) آل عمران: 157.
(2) آل عمران: 33.
(3) الحشر: 7.
(4) سيأتي ذكرهم في الصفحة 170.
(5) في (ر) و (ظ): " الصلاة ".
(6) انظر الصفحة 169 - 170.
122

المضار الدنيوية - فوجوب دفعه عقلا لو سلم، كما تقدم من الشيخ
وجماعة (1)، لم يسلم وجوبه شرعا، لأن الشارع صرح بحلية ما (2)
لم يعلم حرمته، فلا عقاب عليه، كيف وقد يحكم الشرع بجواز ارتكاب
الضرر القطعي الغير المتعلق بأمر المعاد، كما هو المفروض في الضرر
المحتمل في المقام؟
فإن قيل: نختار - أولا - احتمال الضرر المتعلق بأمور الآخرة،
والعقل لا يدفع ترتبه من دون بيان، لاحتمال المصلحة في عدم البيان
ووكول الأمر إلى ما يقتضيه العقل، كما صرح (3) في العدة (4) في جواب
ما ذكره القائلون بأصالة الإباحة: من أنه لو كان هناك في الفعل مضرة
آجلة لبينها.
وثانيا: نختار المضرة الدنيوية، وتحريمه ثابت شرعا، لقوله تعالى:
* (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (5)، كما استدل به الشيخ أيضا في
العدة (6) على دفع أصالة الإباحة، وهذا الدليل ومثله رافع للحلية الثابتة
بقولهم (عليهم السلام): " كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام " (7).

(1) راجع الصفحة 90.
(2) في (ر) و (ص): " كلما ".
(3) في (ر) زيادة: " به ".
(4) العدة 2: 742 - 743.
(5) البقرة: 195.
(6) لم نعثر عليه في العدة.
(7) الوسائل 12: 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
123

قلت: لو سلمنا احتمال المصلحة في عدم بيان الضرر الأخروي،
إلا أن قولهم (عليهم السلام): " كل شئ لك حلال " بيان لعدم الضرر
الأخروي.
وأما الضرر الغير الأخروي، فوجوب دفع المشكوك منه ممنوع،
وآية " التهلكة " مختصة بمظنة الهلاك، وقد صرح الفقهاء (1) في باب
المسافر: بأن سلوك الطريق الذي يظن معه العطب معصية، دون مطلق
ما يحتمل فيه ذلك. وكذا في باب التيمم (2) والإفطار (3) لم يرخصوا إلا
مع ظن الضرر الموجب لحرمة العبادة دون الشك.
نعم، ذكر قليل من متأخري المتأخرين (4) انسحاب حكم الإفطار
والتيمم مع الشك أيضا، لكن لا من جهة حرمة ارتكاب مشكوك
الضرر، بل لدعوى تعلق الحكم في الأدلة بخوف الضرر الصادق، مع
الشك، بل مع (5) بعض أفراد الوهم أيضا.
لكن الإنصاف: إلزام العقل بدفع الضرر المشكوك فيه كالحكم

(1) انظر الذكرى (الطبعة الحجرية): 258، والروض: 388، والذخيرة: 409،
وكشف الغطاء: 272.
(2) انظر المنتهى 3: 34، والمدارك 2: 194، ومستند الشيعة 3: 380.
(3) انظر الشرائع 1: 210، والمدارك 6: 285.
(4) كالمحدث البحراني في الحدائق 13: 171، والسيد الطباطبائي في الرياض 1:
329، والفاضل النراقي في المستند 10: 375، وصاحب الجواهر في الجواهر 5:
110، و 16: 346.
(5) لم ترد " مع " في (ت)، (ظ) و (ه‍).
124

بدفع الضرر المتيقن، كما يعلم بالوجدان عند وجود مائع محتمل السمية
إذا فرض تساوي الاحتمالين من جميع الوجوه.
لكن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المتيقن إنما هو بملاحظة
نفس الضرر الدنيوي من حيث هو، كما يحكم بوجوب دفع الضرر
الأخروي كذلك، إلا أنه قد يتحد مع الضرر الدنيوي عنوان يترتب
عليه نفع أخروي، فلا يستقل العقل بوجوب دفعه، ولذا (1) لا ينكر
العقل أمر الشارع بتسليم النفس للحدود والقصاص، وتعريضها (2) في
الجهاد والإكراه على القتل أو على الارتداد.
وحينئذ: فالضرر الدنيوي المقطوع يجوز أن يبيحه الشارع
لمصلحة، فإباحته للضرر المشكوك لمصلحة الترخيص على العباد أو
لغيرها من المصالح، أولى بالجواز (3).
فإن قلت: إذا فرضنا قيام أمارة غير معتبرة على الحرمة، فيظن
الضرر، فيجب دفعه، مع انعقاد الإجماع على عدم الفرق بين الشك
والظن الغير المعتبر.
قلنا: الظن بالحرمة لا يستلزم الظن بالضرر، أما الأخروي، فلأن
المفروض عدم البيان، فيقبح. وأما الدنيوي، فلأن الحرمة لا تلازم

(1) لم ترد " لذا " في (ظ).
(2) في غير (ه‍) زيادة: " له ".
(3) في (ت) وهامش (ص) ونسخة بدل (ه‍) زيادة: " هذا تمام الكلام في هذا
المقام، وقد تقدم في الاستدلال على حجية الظن بلزوم دفع الضرر المظنون، ما
ينفع نقضا وإبراما، فراجع "، مع اختلاف يسير بينها.
125

الضرر الدنيوي، بل القطع بها أيضا لا يلازمه، لاحتمال انحصار المفسدة
فيما يتعلق بالأمور الأخروية.
ولو فرض حصول الظن بالضرر الدنيوي فلا محيص عن التزام
حرمته، كسائر ما ظن فيه الضرر الدنيوي من الحركات والسكنات (1).

(1) لم ترد عبارة " فإن قلت - إلى - السكنات " في (ت)، وكتب عليها في (ص)
و (ه‍): " زائد ".
126

وينبغي التنبيه على أمور:
الأول
أن محل الكلام في الشبهة الموضوعية المحكومة بالإباحة ما إذا
لم يكن هناك أصل موضوعي يقضي بالحرمة، فمثل المرأة المرددة (1) بين
الزوجة والأجنبية خارج عن محل الكلام، لأن أصالة عدم علاقة
الزوجية - المقتضية للحرمة - بل استصحاب الحرمة، حاكمة على أصالة
الإباحة.
ونحوها: المال المردد بين مال نفسه وملك الغير (2) مع سبق ملك
الغير له، وأما مع عدم سبق ملك أحد عليه، فلا ينبغي الإشكال في
عدم ترتب أحكام ملكه عليه: من جواز بيعه ونحوه مما يعتبر فيه
تحقق المالية.
وأما إباحة التصرفات الغير المترتبة في الأدلة على ماله وملكه،
فيمكن القول بها، للأصل. ويمكن عدمه، لأن الحلية في الأملاك لا بد
لها من سبب محلل، بالاستقراء، ولقوله (3) (عليه السلام): " لا يحل مال إلا من

(1) في أكثر النسخ: " المترددة ".
(2) في (ت)، (ص) و (ه‍): " غيره ".
(3) في (ظ): " بقوله ".
127

حيث أحله الله " (1).
ومبنى الوجهين: أن إباحة التصرف هي المحتاجة إلى السبب،
فيحرم مع عدمه ولو بالأصل. و (2) أن حرمة التصرف محمولة في الأدلة
على ملك الغير، فمع عدم تملك الغير - ولو بالأصل - ينتفي الحرمة.
ومن قبيل ما لا يجري فيه أصالة الإباحة: اللحم المردد بين
المذكى والميتة، فإن أصالة عدم التذكية - المقتضية للحرمة والنجاسة -
حاكمة على أصالتي الإباحة والطهارة.
وربما يتخيل خلاف ذلك: تارة لعدم حجية استصحاب عدم
التذكية (3)، وأخرى لمعارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت،
والحرمة والنجاسة من أحكام الميتة (4).
والأول مبني على عدم حجية الاستصحاب ولو في الأمور العدمية.
والثاني مدفوع:
أولا: بأنه يكفي في الحكم بالحرمة عدم التذكية ولو بالأصل،
ولا يتوقف على ثبوت الموت حتى ينتفي بانتفائه ولو بحكم الأصل،
والدليل عليه: استثناء * (ما ذكيتم) * من قوله * (وما أكل السبع) * (5)، فلم
يبح الشارع إلا ما ذكي، وإناطة إباحة الأكل بما ذكر اسم الله عليه

(1) الوسائل 6: 375، الباب 3 من أبواب الأنفال، الحديث 2.
(2) في (ظ) و (ه‍): " أو ".
(3) هذا الوجه للسيد العاملي في المدارك 2: 387.
(4) هذا الوجه للسيد الصدر في شرح الوافية (مخطوط): 365.
(5) المائدة: 3.
128

وغيره من الأمور الوجودية المعتبرة في التذكية، فإذا انتفى بعضها - ولو
بحكم الأصل - انتفت الإباحة.
وثانيا: أن الميتة عبارة عن غير المذكى، إذ ليست الميتة خصوص
ما مات حتف أنفه، بل كل زهاق روح انتفى فيه شرط من شروط
التذكية فهي ميتة شرعا. وتمام الكلام في الفقه (1).

(1) قد عنون الفقهاء هذه المسألة في مواضع عديدة، منها: كتاب الصيد
والذباحة، ومنها: كتاب الطهارة في مسألة الجلد المطروح.
129

الثاني
أن الشيخ الحر أورد في بعض كلماته اعتراضا على معاشر
الأخباريين، وحاصله: أنه ما الفرق بين الشبهة في نفس الحكم وبين
الشبهة في طريقه، حيث أوجبتم الاحتياط في الأول دون الثاني؟
وأجاب بما لفظه:
أن حد الشبهة في الحكم ما اشتبه حكمه الشرعي أعني الإباحة
والتحريم، كمن شك في أكل الميتة أنه حلال أو حرام، وحد الشبهة في
طريق الحكم الشرعي ما اشتبه فيه موضوع الحكم مع كون محموله
معلوما، كما في اشتباه اللحم الذي يشترى من السوق لا يعلم أنه
مذكى أو ميتة، مع العلم بأن المذكى حلال والميتة حرام.
ويستفاد هذا التقسيم من أحاديث الأئمة (عليهم السلام) ومن وجوه عقلية
مؤيدة لتلك الأحاديث، ويأتي بعضها.
وقسم متردد بين القسمين، وهي الأفراد التي ليست بظاهرة
الفردية لبعض الأنواع، وليس اشتباهها بسبب شئ من الأمور الدنيوية
كاختلاط الحلال بالحرام، بل اشتباهها بسبب أمر ذاتي أعني اشتباه
صنفها في نفسها، كبعض أفراد الغناء الذي قد ثبت تحريم نوعه واشتبه
130

أنواعه في أفراد يسيرة، وبعض أفراد الخبائث الذي قد ثبت تحريم
نوعه واشتبه بعض أفراده حتى اختلف العقلاء فيها، ومنها شرب التتن.
وهذا النوع يظهر من الأخبار دخوله في الشبهات التي ورد الأمر
باجتنابها.
وهذه التفاصيل تستفاد من مجموع الأحاديث، ونذكر مما يدل
على ذلك وجوها:
منها: قوله (عليه السلام): " كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال " (1)،
فهذا وأشباهه صادق على الشبهة في طريق الحكم.
إلى أن قال:
وإذا حصل الشك في تحريم الميتة لم يصدق عليها أن فيها حلالا
وحراما (2).
أقول: كأن مطلبه أن هذه الرواية وأمثالها مخصصة لعموم ما دل
على وجوب التوقف والاحتياط في مطلق الشبهة، وإلا فجريان أصالة
الإباحة في الشبهة الموضوعية لا ينفي جريانها في الشبهة الحكمية.
مع أن سياق أخبار التوقف والاحتياط يأبى عن التخصيص، من
حيث اشتمالها على العلة العقلية لحسن التوقف والاحتياط - أعني الحذر
من الوقوع في الحرام والهلكة - فحملها على الاستحباب أولى.
ثم قال:

(1) الوسائل 12: 59، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول.
(2) الفوائد الطوسية: 518 - 519، وما اخترناه من النسخ وأثبتناه أقرب إلى
المصدر.
131

ومنها: قوله (صلى الله عليه وآله): " حلال بين وحرام بين وشبهات " (1)، وهذا إنما
ينطبق على الشبهة في نفس الحكم، وإلا لم يكن الحلال البين ولا الحرام
البين، ولا يعلم أحدهما من الآخر إلا علام الغيوب، وهذا ظاهر
واضح (2).
أقول: فيه - مضافا إلى ما ذكرنا، من إباء سياق الخبر عن
التخصيص -: أن رواية التثليث - التي هي العمدة من أدلتهم - ظاهرة في
حصر ما يبتلي به المكلف من الأفعال في ثلاثة، فإن كانت عامة
للشبهة الموضوعية أيضا صح الحصر، وإن اختصت بالشبهة الحكمية كان
الفرد الخارجي المردد بين الحلال والحرام قسما رابعا، لأنه ليس حلالا
بينا ولا حراما بينا ولا مشتبه الحكم.
ولو استشهد بما قبل النبوي (3)، من قول الصادق (عليه السلام): " إنما
الأمور ثلاثة "، كان ذلك أظهر في الاختصاص بالشبهة الحكمية، إذ
المحصور في هذه الفقرة الأمور التي يرجع فيها إلى بيان الشارع،
فلا يرد إخلاله بكون الفرد الخارجي المشتبه أمرا رابعا للثلاثة.
وأما ما ذكره من المانع لشمول النبوي للشبهة الموضوعية: من
أنه لا يعلم الحلال من الحرام إلا علام الغيوب، ففيه:
أنه إن أريد عدم وجودهما، ففيه ما لا يخفى. وإن أريد ندرتهما،

(1) الوسائل 18: 114، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
(2) الفوائد الطوسية: 519.
(3) أي: النبوي المذكور في أول هذه الصفحة: " حلال بين وحرام بين
وشبهات ".
132

ففيه: أن الندرة تمنع من اختصاص النبوي بالنادر لا من شموله له. مع
أن دعوى كون الحلال البين من حيث الحكم أكثر من الحلال البين من
حيث الموضوع قابلة للمنع، بل المحرمات الخارجية المعلومة أكثر بمراتب
من المحرمات الكلية المعلوم تحريمها.
ثم قال:
ومنها: ما ورد من الأمر البليغ باجتناب ما يحتمل الحرمة
والإباحة بسبب تعارض الأدلة وعدم النص، وذلك واضح الدلالة على
اشتباه نفس الحكم الشرعي.
أقول: ما دل على التخيير والتوسعة مع التعارض وعلى الإباحة
مع عدم ورود النهي وإن لم يكن في الكثرة بمقدار أدلة التوقف
والاحتياط، إلا أن الإنصاف أن دلالتها على الإباحة والرخصة أظهر
من دلالة تلك الأخبار على وجوب الاجتناب.
ثم قال:
ومنها: أن ذلك وجه للجمع بين الأخبار لا يكاد يوجد وجه
أقرب منه.
أقول: مقتضى الإنصاف أن حمل أدلة الاحتياط على الرجحان
المطلق أقرب مما ذكره.
ثم قال ما حاصله:
ومنها: أن الشبهة في نفس الحكم يسئل عنها الإمام (عليه السلام)، بخلاف
الشبهة في طريق الحكم، لعدم وجوب السؤال عنه، بل علمهم بجميع
أفراده غير معلوم أو معلوم العدم، لأنه من علم الغيب فلا يعلمه إلا
الله، وإن كانوا يعلمون منه ما يحتاجون إليه وإذا شاؤوا أن يعلموا شيئا
133

علموه، انتهى.
أقول: ما ذكره من الفرق لا مدخل له، فإن طريق الحكم
لا يجب الفحص عنه وإزالة الشبهة فيه، لا من الإمام (عليه السلام) ولا من
غيره من الطرق المتمكن منها، والرجوع إلى الإمام (عليه السلام) إنما يجب في
ما تعلق التكليف فيه بالواقع على وجه لا يعذر (1) الجاهل المتمكن من
العلم.
وأما مسألة مقدار معلومات الإمام (عليه السلام) من حيث العموم والخصوص،
وكيفية علمه بها من حيث توقفه على مشيتهم أو على التفاتهم إلى نفس
الشئ أو عدم توقفه على ذلك، فلا يكاد يظهر من الأخبار المختلفة في
ذلك ما يطمئن به النفس، فالأولى وكول علم ذلك إليهم صلوات الله
عليهم أجمعين.
ثم قال:
ومنها: أن اجتناب الشبهة في نفس الحكم أمر ممكن مقدور، لأن
أنواعه محصورة، بخلاف الشبهة في طريق الحكم فاجتنابها غير ممكن، لما
أشرنا إليه: من عدم وجود الحلال البين، ولزوم تكليف ما لا يطاق.
والاجتناب عما يزيد على قدر الضرورة حرج عظيم وعسر شديد،
لاستلزامه الاقتصار في اليوم والليلة على لقمة واحدة وترك جميع
الانتفاعات، انتهى.
أقول: لا ريب أن أكثر الشبهات الموضوعية لا يخلو عن أمارات
الحل والحرمة، ك‍ " يد المسلم "، و " السوق "، و " أصالة الطهارة "، و " قول

(1) في (ظ) زيادة: " فيه ".
134

المدعي بلا معارض "، والأصول العدمية المجمع عليها عند المجتهدين
والأخباريين، على ما صرح به المحدث الأسترابادي كما سيجئ نقل
كلامه في الاستصحاب (1)، وبالجملة: فلا يلزم حرج من الاجتناب في
الموارد الخالية عن هذه الأمارات، لقلتها.
ثم قال:
ومنها: أن اجتناب الحرام واجب عقلا ونقلا، ولا يتم إلا
باجتناب ما يحتمل التحريم مما اشتبه حكمه الشرعي ومن الأفراد
الغير الظاهرة الفردية، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا فهو
واجب.
إلى غير ذلك من الوجوه. وإن أمكن المناقشة في بعضها،
فمجموعها دليل كاف شاف في هذا المقام، والله أعلم بحقائق الأحكام (2)،
انتهى.
أقول: الدليل المذكور أولى بالدلالة على وجوب الاجتناب عن
الشبهة في طريق الحكم، بل لو تم لم يتم إلا فيه، لأن وجوب
الاجتناب عن الحرام لم يثبت إلا بدليل حرمة ذلك الشئ أو أمر
وجوب إطاعة الأوامر والنواهي مما ورد في الشرع وحكم به العقل،
فهي كلها تابعة لتحقق الموضوع أعني الأمر والنهي، والمفروض الشك في
تحقق النهي، وحينئذ: فإذا فرض عدم الدليل على الحرمة، فأين وجوب
ذي المقدمة حتى يثبت وجوبها؟

(1) انظر مبحث الاستصحاب 3: 31، 44 و 116 - 117.
(2) الفوائد الطوسية: 519 - 520.
135

نعم، يمكن أن يقال في الشبهة في طريق الحكم بعد ما قام الدليل
على حرمة الخمر: يثبت وجوب الاجتناب عن جميع أفرادها الواقعية،
ولا يحصل العلم بموافقة هذا الأمر العام إلا بالاجتناب عن كل ما
احتمل حرمته.
لكنك عرفت الجواب عنه سابقا، وأن التكليف بذي المقدمة غير
محرز إلا بالعلم التفصيلي أو الإجمالي، فالاجتناب عما يحتمل الحرمة (1)
احتمالا مجردا عن العلم الإجمالي لا يجب، لا نفسا ولا مقدمة، والله
العالم.

(1) في (ت): " الخمرية ".
136

الثالث
أنه لا شك في حكم العقل والنقل برجحان الاحتياط مطلقا، حتى
فيما كان هناك أمارة على الحل مغنية عن أصالة الإباحة، إلا أنه
لا ريب في أن الاحتياط في الجميع موجب لاختلال النظام كما ذكره
المحدث المتقدم ذكره (1)، بل يلزم أزيد مما ذكره، فلا يجوز الأمر به من
الحكيم، لمنافاته للغرض.
والتبعيض بحسب الموارد، واستحباب الاحتياط حتى يلزم
الاختلال - أيضا - مشكل، لأن تحديده في غاية العسر، فيحتمل
التبعيض بحسب الاحتمالات، فيحتاط في المظنونات، وأما المشكوكات
فضلا عن انضمام الموهومات إليها، فالاحتياط فيها حرج مخل بالنظام،
ويدل على هذا: العقل بعد ملاحظة حسن الاحتياط مطلقا واستلزام
كليته الاختلال.
ويحتمل التبعيض بحسب المحتملات، فالحرام المحتمل إذا كان من
الأمور المهمة في نظر الشارع كالدماء والفروج، بل مطلق حقوق الناس

(1) أي الشيخ الحر العاملي، راجع الصفحة 134.
137

بالنسبة إلى حقوق الله تعالى، يحتاط فيه، وإلا فلا (1).
ويدل على هذا: جميع ما ورد من التأكيد في أمر النكاح، وأنه
شديد، وأنه يكون منه الولد (2)، منها: ما تقدم من قوله (صلى الله عليه وآله):
" لا تجامعوا على النكاح بالشبهة "، قال (عليه السلام): " فإذا بلغك أن امرأة
أرضعتك " - إلى أن قال -: " إن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام
في الهلكة " (3).
وقد تعارض هذه بما دل على عدم وجوب السؤال والتوبيخ
عليه (4)، وعدم قبول قول من يدعي حرمة المعقودة مطلقا (5) أو بشرط
عدم كونه ثقة (6)، وغير ذلك (7).
وفيه: أن مساقها التسهيل وعدم وجوب الاحتياط، فلا ينافي
الاستحباب.
ويحتمل التبعيض بين مورد الأمارة على الإباحة وموارد لا يوجد

(1) لم ترد عبارة " يحتاط - إلى - فلا " في (ظ) و (ه‍).
(2) الوسائل 14: 193، الباب 157 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه، الحديث
1 و 3.
(3) الوسائل 14: 193، الباب 157 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه، الحديث
2، وقد تقدم في الصفحة 72.
(4) الوسائل 14: 227، الباب 25 من أبواب عقد النكاح.
(5) الوسائل 14: 226، الباب 23 من أبواب عقد النكاح، الحديث الأول
والثالث.
(6) نفس المصدر، الحديث الثاني.
(7) انظر الوسائل 14: 457، الباب 10 من أبواب المتعة.
138

فيها (1) إلا أصالة الإباحة، فيحمل ما ورد من الاجتناب عن الشبهات
والوقوف عند الشبهات على الثاني دون الأول، لعدم صدق الشبهة بعد
الأمارة الشرعية على الإباحة، فإن الأمارات في الموضوعات بمنزلة
الأدلة في الأحكام مزيلة للشبهة، خصوصا إذا كان المراد من الشبهة ما
يتحير في حكمه ولا بيان من الشارع لا عموما ولا خصوصا بالنسبة
إليه، دون مطلق ما فيه الاحتمال، وهذا بخلاف أصالة الإباحة، فإنها
حكم في مورد الشبهة لا مزيلة لها.
هذا، ولكن أدلة الاحتياط لا تنحصر في ما ذكر فيه لفظ " الشبهة "،
بل العقل مستقل بحسن الاحتياط مطلقا.
فالأولى: الحكم برجحان الاحتياط في كل موضع لا يلزم منه
الحرام (2). وما ذكر من أن تحديد الاستحباب بصورة لزوم الاختلال
عسر، فهو إنما يقدح في وجوب الاحتياط لا في حسنه.

(1) " فيها " من (ت).
(2) في (ص): " الحرج ".
139

الرابع
إباحة ما يحتمل الحرمة غير مختصة بالعاجز عن الاستعلام، بل
يشمل القادر على تحصيل العلم بالواقع، لعموم أدلته من العقل والنقل،
وقوله (عليه السلام) في ذيل رواية مسعدة بن صدقة: " والأشياء كلها على هذا
حتى يستبين لك غيره أو تقوم به البينة " (1)، فإن ظاهره حصول الاستبانة
وقيام البينة لا التحصيل، وقوله: " هو لك حلال حتى يجيئك شاهدان " (2).
لكن هذا وأشباهه - مثل قوله (عليه السلام) في اللحم المشترى من
السوق: " كل ولا تسأل " (3)، وقوله (عليه السلام): " ليس عليكم المسألة، إن
الخوارج ضيقوا على أنفسهم " (4)، وقوله (عليه السلام) في حكاية المنقطعة التي
تبين لها زوج: " لم سألت " (5) - واردة في موارد وجود الأمارة الشرعية
على الحلية، فلا تشمل ما نحن فيه.
إلا أن المسألة غير خلافية، مع كفاية الإطلاقات.

(1) الوسائل 12: 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
(2) الوسائل 17: 91، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2.
(3) الاستبصار 4: 75، الباب 48 من كتاب العتق، الحديث الأول.
(4) الوسائل 2: 1071، الباب 50 من أبواب النجاسات، الحديث 3.
(5) الوسائل 14: 457، الباب 10 من أبواب المتعة، الحديث 3 و 4، مع تفاوت.
140

المطلب الثاني
في دوران حكم الفعل بين الوجوب وغير الحرمة من الأحكام
وفيه - أيضا - مسائل:
141

الأولى
فيما اشتبه حكمه الشرعي الكلي من جهة عدم النص المعتبر
كما إذا ورد خبر ضعيف أو فتوى جماعة بوجوب فعل، كالدعاء
عند رؤية الهلال، وكالاستهلال في رمضان، وغير ذلك.
والمعروف من الأخباريين هنا موافقة المجتهدين في العمل بأصالة
البراءة وعدم وجوب الاحتياط، قال المحدث الحر العاملي - في باب
القضاء من الوسائل -: إنه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشك في
الوجوب، إلا إذا علمنا اشتغال الذمة بعبادة معينة وحصل الشك بين
فردين، كالقصر والتمام والظهر والجمعة وجزاء واحد للصيد أو اثنين
ونحو ذلك، فإنه يجب الجمع بين العبادتين، لتحريم تركهما معا، للنص،
وتحريم الجزم بوجوب أحدهما بعينه، عملا بأحاديث الاحتياط (1)، انتهى
موضع الحاجة.
وقال المحدث البحراني - في مقدمات كتابه، بعد تقسيم أصل
البراءة إلى قسمين: أحدهما: أنها عبارة عن نفي وجوب فعل وجودي،

(1) الوسائل 18: 119 - 120، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ذيل
الحديث 28.
142

بمعنى: أن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليل على الوجوب:
وهذا القسم لا خلاف في صحة الاستدلال به، إذ لم يقل أحد:
إن الأصل الوجوب (1).
وقال في محكي كتابه - المسمى بالدرر النجفية -: إن كان الحكم
المشكوك دليله هو الوجوب، فلا خلاف ولا إشكال في انتفائه حتى
يظهر دليله، لاستلزام التكليف (2) بدون الدليل الحرج والتكليف بما
لا يطاق (3)، انتهى.
لكنه (قدس سره) في مسألة وجوب الاحتياط، قال بعد القطع برجحان
الاحتياط:
إن منه ما يكون واجبا، ومنه ما يكون مستحبا:
فالأول: كما إذا تردد المكلف في الحكم، إما لتعارض الأدلة، أو
لتشابهها وعدم وضوح دلالتها، أو لعدم الدليل بالكلية بناء على نفي
البراءة الأصلية، أو لكون ذلك الفرد مشكوكا في اندراجه تحت بعض
الكليات المعلومة الحكم، أو نحو ذلك.
والثاني: كما إذا حصل الشك باحتمال وجود النقيض لما قام عليه
الدليل الشرعي احتمالا مستندا إلى بعض الأسباب المجوزة، كما إذا كان
مقتضى الدليل الشرعي إباحة شئ وحليته لكن يحتمل قريبا بسبب

(1) الحدائق 1: 43.
(2) في (ت)، (ص) و (ه‍) زيادة: " به ".
(3) انظر الدرر النجفية: 25، والحاكي هو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين:
444.
143

بعض تلك الأسباب أنه مما حرمه الشارع وإن لم يعلم به المكلف.
ومنه جوائز الجائر، ونكاح امرأة بلغك أنها ارتضعت (1) معك الرضاع
المحرم إلا أنه لم يثبت ذلك شرعا، ومنه أيضا الدليل المرجوح في نظر
الفقيه.
أما إذا لم يحصل ما يوجب الشك والريبة، فإنه يعمل على ما
ظهر له من الأدلة وإن احتمل النقيض باعتبار الواقع، ولا يستحب له
الاحتياط هنا، بل ربما كان مرجوحا، لاستفاضة الأخبار بالنهي عن
السؤال عند الشراء من سوق المسلمين.
ثم ذكر الأمثلة للأقسام الثلاثة لوجوب الاحتياط، أعني اشتباه
الدليل وتردده بين الوجوب والاستحباب، وتعارض الدليلين، وعدم
النص، قال:
ومن هذا القسم: ما لم يرد فيه نص من الأحكام التي لا يعم
بها البلوى عند من لم يعتمد على البراءة الأصلية، فإن الحكم فيه ما
ذكر، كما سلف (2)، انتهى.
وممن يظهر منه وجوب الاحتياط هنا: المحدث الاسترآبادي،
حيث حكي عنه في الفوائد المدنية، أنه قال:
إن التمسك بالبراءة الأصلية من حيث هي هي إنما يجوز
قبل إكمال الدين، وأما بعد تواتر الأخبار بأن كل واقعة محتاج إليها
فيها خطاب قطعي من قبل الله تعالى، فلا يجوز قطعا، وكيف يجوز؟

(1) في (ر) والمصدر: " أرضعت ".
(2) الحدائق 1: 68 - 70.
144

وقد تواتر عنهم (عليهم السلام) وجوب التوقف في ما لم يعلم حكمها، معللين:
بأنه بعد أن كملت الشريعة لا تخلو واقعة عن حكم قطعي وارد
من الله تعالى، وبأن من حكم بغير ما أنزل الله تعالى فأولئك هم
الكافرون.
ثم أقول: هذا المقام مما زلت فيه أقدام أقوام من فحول العلماء،
فحري بنا أن نحقق المقام ونوضحه بتوفيق الملك العلام ودلالة أهل
الذكر (عليهم السلام)، فنقول: التمسك بالبراءة الأصلية إنما يتم عند الأشاعرة
المنكرين للحسن والقبح الذاتيين، وكذلك عند من يقول بهما ولا يقول
بالحرمة والوجوب الذاتيين، كما هو المستفاد من كلامهم (عليهم السلام)، وهو
الحق عندي.
ثم على هذين المذهبين إنما يتم قبل إكمال الدين لا بعده، إلا
على مذهب من جوز من العامة خلو الواقعة عن حكم وارد من الله
تعالى.
لا يقال: بقي هنا أصل آخر، وهو أن يكون الخطاب الذي ورد
من الله تعالى موافقا للبراءة الأصلية.
لأنا نقول: هذا الكلام مما لا يرضى به لبيب، لأن خطابه تعالى
تابع للحكم والمصالح، ومقتضيات الحكم والمصالح مختلفة.
إلى أن قال:
هذا الكلام مما لا يرتاب في قبحه، نظير أن يقال: الأصل في
الأجسام تساوي نسبة طبائعها إلى جهة السفل والعلو، ومن المعلوم
بطلان هذا المقال.
ثم أقول: الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الأمور
145

في ثلاثة (1)، وحديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " (2) ونظائرهما،
أخرج كل واقعة لم يكن حكمها بينا عن البراءة الأصلية، وأوجب
التوقف فيها.
ثم قال - بعد أن الاحتياط قد يكون في محتمل الوجوب، وقد
يكون في محتمل الحرمة -:
إن عادة العامة والمتأخرين من الخاصة جرت بالتمسك بالبراءة
الأصلية، ولما أبطلنا جواز التمسك بها في المقامين - لعلمنا بأن الله
تعالى أكمل لنا ديننا، ولعلمنا بأن كل واقعة يحتاج إليها ورد فيها
خطاب قطعي من الله تعالى خال عن المعارض، ولعلمنا بأن كل ما
جاء به نبينا (صلى الله عليه وآله) مخزون عند العترة الطاهرة (عليهم السلام)، ولم يرخصوا لنا في
التمسك بالبراءة الأصلية فيما لم نعلم الحكم الذي ورد فيه بعينه، بل
أوجبوا التوقف في كل ما لم يعلم حكمه، وأوجبوا الاحتياط في بعض
صوره - فعلينا: أن نبين ما يجب أن يفعل في المقامين، وسنحققه فيما
يأتي إن شاء الله تعالى (3).
وذكر هناك ما حاصله: وجوب الاحتياط عند تساوي احتمالي (4)

(1) انظر الوسائل 18: 118، الباب 2 من أبواب صفات القاضي، الحديث 23.
وكنز العمال 15: 855، الحديث 43403.
(2) الوسائل 18: 124 و 127، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث
471 و 56.
(3) الفوائد المدنية: 138 - 139.
(4) في (ظ): " احتمال ".
146

الأمر الوارد بين الوجوب والاستحباب، ولو كان ظاهرا في الندب بني
على جواز الترك. وكذا لو وردت (1) رواية ضعيفة بوجوب شئ،
وتمسك في ذلك بحديث: " ما حجب الله علمه "، وحديث: " رفع
التسعة "، - قال -: وخرج عن تحتهما كل فعل وجودي لم يقطع بجوازه،
لحديث التثليث (2).
أقول: قد عرفت فيما تقدم في نقل كلام المحقق (قدس سره) (3): أن التمسك
بأصل البراءة منوط بدليل عقلي هو قبح التكليف بما لا طريق إلى العلم
به، ولا دخل لإكمال الدين وعدمه ولا لكون الحسن والقبح أو
الوجوب والتحريم عقليين أو شرعيين، في ذلك.
والعمدة في ما ذكره هذا المحدث من أوله إلى آخره: تخيله أن
مذهب المجتهدين التمسك بالبراءة الأصلية لنفي الحكم الواقعي، ولم أجد
أحدا يستدل بها على ذلك. نعم، قد عرفت سابقا أن ظاهر جماعة من
الإمامية جعل أصل البراءة من الأدلة الظنية، كما تقدم في المطلب الأول
استظهار ذلك من صاحبي المعالم والزبدة (4).
لكن ما ذكره من إكمال الدين لا ينفي حصول الظن، لجواز
دعوى أن المظنون بالاستصحاب أو غيره موافقة ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله)
للبراءة. وما ذكره من تبعية خطاب الله تعالى للحكم والمصالح لا ينافي
ذلك.

(1) في النسخ: " ورد ".
(2) انظر الفوائد المدنية: 162 - 163.
(3) راجع الصفحة 94.
(4) راجع الصفحة 99.
147

لكن الإنصاف: أن الاستصحاب لا يفيد الظن، خصوصا في المقام
- كما سيجئ في محله (1) -، ولا أمارة غيره يفيد الظن.
فالاعتراض على مثل هؤلاء إنما هو منع حصول الظن، ومنع
اعتباره على تقدير الحصول، ولا دخل لإكمال الدين وعدمه ولا للحسن
والقبح العقليين في هذا المنع.
وكيف كان: فيظهر من المعارج القول بالاحتياط في المقام عن
جماعة، حيث قال: العمل بالاحتياط غير لازم، وصار آخرون إلى
لزومه، وفصل آخرون (2)، انتهى. وحكي عن المعالم نسبته إلى جماعة (3).
فالظاهر أن المسألة خلافية، لكن لم يعرف القائل به بعينه، وإن
كان يظهر من الشيخ (4) والسيدين (5) التمسك به أحيانا، لكن يعلم
مذهبهم من أكثر المسائل.
والأقوى فيه: جريان أصالة البراءة للأدلة الأربعة المتقدمة،
مضافا إلى الإجماع المركب.

(1) انظر مبحث الاستصحاب 3: 87.
(2) المعارج: 216.
(3) لم نعثر عليه في المعالم، ولا على الحاكي.
(4) انظر المبسوط 1: 15 و 59.
(5) انظر الانتصار: 103، 143، 146 و 148، والغنية: 55، 58، 59 و 63.
148

وينبغي التنبيه على أمور:
الأول
أن محل الكلام في هذه المسألة هو احتمال الوجوب النفسي
المستقل، وأما إذا احتمل كون شئ واجبا لكونه جزءا أو شرطا
لواجب آخر، فهو داخل في الشك في المكلف به، وإن كان المختار
جريان أصل البراءة فيه أيضا، كما سيجئ إن شاء الله تعالى (1)، لكنه
خارج عن هذه المسألة الاتفاقية.

(1) انظر الصفحة 318.
149

الثاني
أنه لا إشكال في رجحان الاحتياط بالفعل حتى في ما احتمل
كراهته. والظاهر ترتب الثواب عليه إذا اتي به لداعي احتمال المحبوبية،
لأنه انقياد وإطاعة حكمية، والحكم بالثواب هنا أولى من الحكم
بالعقاب على تارك الاحتياط اللازم، بناء على أنه (1) في حكم المعصية
وإن لم يفعل محرما واقعيا.
وفي جريان ذلك في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب
وغير الاستحباب وجهان (2):

(1) في (ص)، (ظ) و (ه‍): " أنها ".
(2) في غير (ظ) زيادة: " أقواهما "، ونقل المحقق الهمداني (قدس سره) عن سيد
مشايخه (رحمه الله): أنها لم تثبت في النسخة المرقومة بخط المصنف (رحمه الله)، وإليك نص عبارته:
" حكى سيد مشايخنا أدام الله بقاءه عدم ذكر لفظ " أقواهما " في النسخة المرقومة
بخط المصنف (رحمه الله)، فهو بحسب الظاهر من تحريفات النساخ، وكيف لا؟ ومن
المعلوم من مذهب المصنف (رحمه الله) جريان الاحتياط في العبادات، والاكتفاء في
صحة العبادة بحصولها بداعي الأمر المحتمل على تقدير مصادفة الاحتمال للواقع "،
انظر حاشية الهمداني على الرسائل: 68.
150

العدم، لأن العبادة لا بد فيها من نية التقرب المتوقفة على العلم
بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا (1) كما في كل من الصلوات الأربع عند
اشتباه القبلة. وما ذكرنا من ترتب الثواب على هذا الفعل لا يوجب
تعلق الأمر به، بل هو لأجل كونه انقيادا للشارع والعبد معه في حكم
المطيع، بل لا يسمى ذلك ثوابا.
ودعوى: أن العقل إذا استقل بحسن هذا الإتيان ثبت " بحكم
الملازمة " الأمر به شرعا.
مدفوعة، لما تقدم في المطلب الأول (2): من أن الأمر الشرعي بهذا
النحو من الانقياد - كأمره بالانقياد الحقيقي والإطاعة الواقعية في معلوم
التكليف - إرشادي محض، لا يترتب على موافقته ومخالفته أزيد مما
يترتب على نفس وجود المأمور به أو عدمه، كما هو شأن الأوامر
الإرشادية، فلا إطاعة لهذا الأمر الإرشادي، ولا ينفع في جعل الشئ
عبادة، كما أن إطاعة الأوامر المتحققة لم تصر عبادة بسبب الأمر الوارد
بها في قوله تعالى: * (أطيعوا الله ورسوله) * (3).
ويحتمل الجريان، بناء على أن هذا المقدار من الحسن العقلي يكفي
في العبادة ومنع توقفها على ورود أمر بها، بل يكفي الإتيان به لاحتمال
كونه مطلوبا أو كون تركه مبغوضا، ولذا استقرت سيرة العلماء والصلحاء
- فتوى وعملا - على إعادة العبادات لمجرد الخروج من مخالفة النصوص

(1) في (ت) و (ه‍) زيادة: " أو الظن المعتبر ".
(2) راجع الصفحة 69.
(3) الأنفال: 20.
151

الغير المعتبرة والفتاوى النادرة.
واستدل في الذكرى (1) - في خاتمة قضاء الفوائت - على شرعية
قضاء الصلوات لمجرد احتمال خلل فيها موهوم، بقوله تعالى: * (فاتقوا الله
ما استطعتم) * (2)، و * (اتقوا الله حق تقاته) * (3)، وقوله تعالى: * (والذين
يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) * (4).
والتحقيق: أنه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبية في صحة العبادة فيما
لا يعلم المطلوبية ولو إجمالا، فهو، وإلا فما أورده (قدس سره) في الذكرى
- كأوامر الاحتياط - لا يجدي في صحتها، لأن موضوع التقوى
والاحتياط - الذي يتوقف عليه هذه الأوامر - لا يتحقق إلا بعد إتيان
محتمل العبادة على وجه يجتمع فيه جميع ما يعتبر في العبادة حتى نية
التقرب، وإلا لم يكن احتياطا، فلا يجوز أن تكون تلك الأوامر منشأ
للقربة المنوية فيها.
اللهم إلا أن يقال - بعد النقض بورود هذا الإيراد في الأوامر
الواقعية بالعبادات مثل قوله تعالى: * (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * (5)،
حيث إن قصد القربة مما يعتبر في موضوع العبادة شطرا أو شرطا،
والمفروض ثبوت مشروعيتها بهذا الأمر الوارد فيها -:

(1) الذكرى 2: 444.
(2) التغابن: 16.
(3) آل عمران: 102.
(4) المؤمنون: 60.
(5) البقرة: 43.
152

إن المراد من الاحتياط والاتقاء في هذه الأوامر هو مجرد الفعل
المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة، فمعنى الاحتياط بالصلاة
الإتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة، فأوامر الاحتياط يتعلق
بهذا الفعل، وحينئذ: فيقصد المكلف فيه التقرب بإطاعة هذا الأمر.
ومن هنا يتجه الفتوى باستحباب هذا الفعل وإن لم يعلم المقلد
كون هذا (1) الفعل مما شك في كونها عبادة ولم يأت به بداعي احتمال
المطلوبية، ولو أريد بالاحتياط في هذه الأوامر معناه الحقيقي وهو إتيان
الفعل لداعي احتمال المطلوبية، لم يجز للمجتهد أن يفتي باستحبابه إلا مع
التقييد (2) بإتيانه بداعي الاحتمال حتى يصدق عليه عنوان الاحتياط، مع
استقرار سيرة أهل الفتوى على خلافه.
فعلم: أن المقصود إتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه عدا نية الداعي.
[قاعدة التسامح في أدلة السنن] (3)
ثم إن منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبرا ضعيفا، فلا حاجة إلى
أخبار الاحتياط وكلفة إثبات أن الأمر فيها للاستحباب الشرعي دون
الإرشاد العقلي، لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كل ما يحتمل فيه
الثواب:

(1) كذا في (ت)، (ظ) ونسخة بدل (ه‍)، وفي غيرها: " ذلك ".
(2) في (ت) و (ه‍): " تقييده ".
(3) العنوان منا.
153

كصحيحة هشام بن سالم - المحكية عن المحاسن - عن أبي عبد الله (عليه السلام)،
قال: " من بلغه عن النبي (صلى الله عليه وآله) شئ من الثواب فعمله، كان أجر ذلك
له وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يقله " (1).
وعن البحار بعد ذكرها: أن هذا الخبر من المشهورات، رواه
العامة والخاصة بأسانيد (2).
والظاهر: أن المراد من " شئ من الثواب " - بقرينة ضمير
" فعمله "، وإضافة الأجر إليه - هو الفعل المشتمل على الثواب.
وفي عدة الداعي عن الكليني (قدس سره): أنه روى بطرقه عن الأئمة (عليهم السلام)
أنه: " من بلغه شئ من الخير فعمل به، كان له من الثواب ما بلغه
وإن لم يكن الأمر كما بلغه (3) " (4).
وأرسل نحوه السيد في الإقبال عن الصادق (عليه السلام)، إلا أن فيه:
" كان له ذلك " (5).
والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة (6)، إلا أن ما ذكرناها

(1) المحاسن 1: 93، الحديث 2، والوسائل 1: 60، الباب 18 من أبواب مقدمة
العبادات، الحديث 3.
(2) البحار 2: 256، ذيل الحديث 3، وحكاه عنه في هداية المسترشدين: 423.
(3) في النسخ: " فعله "، وما أثبتناه موافق للمصدر.
(4) عدة الداعي: 12، والكافي 2: 87، باب من بلغه ثواب على عمل، الحديث
الأول، والوسائل 1: 61، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 8.
(5) إقبال الأعمال 3: 171، والوسائل 1: 61، الباب 18 من أبواب مقدمة
العبادات، الحديث 9.
(6) راجع الوسائل 1: 59، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات.
154

أوضح دلالة على ما نحن فيه، وإن كان يورد عليه أيضا (1):
تارة: بأن ثبوت الأجر لا يدل على الاستحباب الشرعي.
وأخرى: بما تقدم في أوامر الاحتياط: من أن قصد القربة مأخوذ
في الفعل المأمور به بهذه الأخبار، فلا يجوز أن تكون هي المصححة
لفعله، فيختص موردها بصورة تحقق الاستحباب، وكون البالغ هو
الثواب الخاص، فهو المتسامح فيه دون أصل شرعية الفعل.
وثالثة: بظهورها فيما بلغ فيه الثواب المحض، لا العقاب محضا أو
مع الثواب.
لكن يرد هذا: منع الظهور مع إطلاق الخبر.
ويرد ما قبله ما تقدم في أوامر الاحتياط (2).
وأما الإيراد الأول، فالإنصاف أنه لا يخلو عن وجه، لأن الظاهر
من هذه الأخبار كون العمل متفرعا على البلوغ وكونه الداعي على
العمل - ويؤيده: تقييد العمل في غير واحد من تلك الأخبار (3) بطلب
قول النبي (صلى الله عليه وآله) والتماس الثواب الموعود -، ومن المعلوم أن العقل مستقل
باستحقاق هذا العامل المدح والثواب، وحينئذ:
فإن كان الثابت بهذه (4) الأخبار أصل الثواب، كانت مؤكدة لحكم

(1) راجع لتفصيل الأقوال والايرادات وأجوبتها رسالة " التسامح في أدلة السنن "
للمصنف (قدس سره).
(2) راجع الصفحة 102 - 103.
(3) الوسائل 1: 59، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 4 و 7.
(4) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " في هذه ".
155

العقل بالاستحقاق، وأما طلب الشارع لهذا الفعل:
فإن كان على وجه الإرشاد لأجل تحصيل هذا الثواب الموعود
فهو لازم للاستحقاق المذكور، وهو عين الأمر بالاحتياط.
وإن كان على وجه الطلب الشرعي المعبر عنه بالاستحباب، فهو
غير لازم للحكم بتنجز الثواب، لأن هذا الحكم تصديق لحكم العقل
بتنجزه فيشبه قوله تعالى: * (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات
تجري) * (1). إلا أن هذا وعد على الإطاعة الحقيقية، وما نحن فيه وعد
على الإطاعة الحكمية، وهو الفعل الذي يعد معه العبد في حكم المطيع،
فهو من باب وعد الثواب على نية الخير التي يعد معها العبد في حكم
المطيع من حيث الانقياد.
وأما ما يتوهم: من أن استفادة الاستحباب الشرعي فيما نحن فيه
نظير استفادة الاستحباب الشرعي من الأخبار الواردة في الموارد
الكثيرة المقتصر فيها على ذكر الثواب للعمل، مثل قوله (عليه السلام): " من
سرح لحيته فله كذا " (2).
فمدفوع (3): بأن الاستفادة هناك باعتبار أن ترتب الثواب لا يكون
إلا مع الإطاعة حقيقة أو حكما، فمرجع تلك الأخبار إلى بيان الثواب
على إطاعة الله سبحانه بهذا الفعل، فهي تكشف عن تعلق الأمر بها
من الشارع، فالثواب هناك لازم للأمر يستدل به عليه استدلالا إنيا.

(1) النساء: 13.
(2) انظر الوسائل 1: 429، الباب 76 من أبواب آداب الحمام، الحديث الأول.
(3) كذا في (ت)، وفي غيرها: " مدفوع ".
156

ومثل ذلك استفادة الوجوب والتحريم مما اقتصر فيه على ذكر العقاب
على الترك أو الفعل.
وأما الثواب الموعود في هذه الأخبار فهو باعتبار الإطاعة
الحكمية، فهو لازم لنفس عمله المتفرع على السماع واحتمال الصدق ولو
لم يرد به أمر آخر أصلا، فلا يدل على طلب شرعي آخر له. نعم،
يلزم من الوعد على الثواب طلب إرشادي لتحصيل ذلك الموعود.
فالغرض (1) من هذه الأوامر - كأوامر الاحتياط - تأييد حكم
العقل، والترغيب في تحصيل ما وعد الله عباده المنقادين المعدودين
بمنزلة المطيعين.
وإن كان الثابت بهذه الأخبار خصوص الثواب البالغ كما هو
ظاهر بعضها، فهو وإن كان مغايرا لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب
على هذا العمل - بناء على أن العقل لا يحكم باستحقاق ذلك الثواب
المسموع الداعي إلى الفعل، بل قد يناقش في تسمية ما يستحقه هذا
العامل لمجرد احتمال الأمر ثوابا وإن كان نوعا من الجزاء والعوض -،
إلا أن مدلول هذه الأخبار إخبار عن تفضل الله سبحانه على العامل
بالثواب المسموع، وهو أيضا ليس لازما لأمر شرعي هو الموجب
لهذا (2) الثواب، بل هو نظير قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر
أمثالها) * (3) ملزوم لأمر إرشادي - يستقل به العقل - بتحصيل ذلك

(1) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " والغرض ".
(2) في (ت)، (ه‍) ومحتمل (ص) و (ظ): " بهذا ".
(3) الأنعام: 160.
157

الثواب المضاعف.
والحاصل: أنه كان ينبغي للمتوهم أن يقيس ما نحن فيه بما ورد
من الثواب على نية الخير، لا على ما ورد من الثواب في بيان
المستحبات.
ثم إن الثمرة بين ما ذكرنا وبين الاستحباب الشرعي تظهر (1) في
ترتب الآثار الشرعية (2) المترتبة على المستحبات الشرعية، مثل ارتفاع
الحدث المترتب على الوضوء المأمور به شرعا، فإن مجرد ورود خبر
غير معتبر بالأمر به لا يوجب إلا استحقاق الثواب عليه، ولا يترتب
عليه رفع الحدث، فتأمل. وكذا الحكم باستحباب غسل المسترسل من
اللحية في الوضوء من باب مجرد الاحتياط، لا يسوغ جواز المسح
ببلله، بل يحتمل قويا أن يمنع من المسح ببلله وإن قلنا بصيرورته
مستحبا شرعيا، فافهم.

(1) في النسخ: " يظهر ".
(2) لم ترد " الشرعية " في (ر) و (ظ).
158

الثالث
أن الظاهر: اختصاص أدلة البراءة بصورة الشك في الوجوب
التعييني، سواء كان أصليا أو عرضيا كالواجب المخير المتعين لأجل
الانحصار، أما لو شك في الوجوب التخييري والإباحة فلا تجري فيه
أدلة البراءة، لظهورها في عدم تعيين الشئ المجهول على المكلف بحيث
يلتزم به (1) ويعاقب عليه.
وفي جريان أصالة عدم الوجوب تفصيل:
لأنه إن كان الشك في وجوبه في ضمن كلي مشترك بينه وبين
غيره أو وجوب ذلك الغير بالخصوص، فيشكل جريان أصالة عدم
الوجوب، إذ ليس هنا إلا وجوب واحد مردد بين الكلي والفرد، فتعين
هنا إجراء أصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقن الوجوب بفعل هذا
المشكوك.
وأما إذا كان الشك في وجوبه (2) بالخصوص، جرى أصالة عدم

(1) كذا في النسخ، والمناسب: " يلزم به ".
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " إيجابه ".
159

الوجوب وأصالة عدم لازمه الوضعي، وهو سقوط الواجب المعلوم به (1)
إذا شك في إسقاطه له، أما إذا قطع بكونه مسقطا للواجب المعلوم،
وشك في كونه واجبا مسقطا للواجب الآخر أو مباحا (2) مسقطا لوجوبه
- نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم - فلا مجرى للأصل إلا
بالنسبة إلى طلبه، وتجري أصالة البراءة عن وجوبه التعييني (3) بالعرض
إذا فرض تعذر ذلك الواجب الآخر.
وربما يتخيل من هذا القبيل: ما لو شك في وجوب الائتمام على
من عجز عن القراءة وتعلمها، بناء على رجوع المسألة إلى الشك في
كون الائتمام مستحبا مسقطا أو واجبا مخيرا بينه وبين الصلاة مع
القراءة، فيدفع وجوبه التخييري بالأصل.
لكن الظاهر أن المسألة ليست من هذا القبيل، لأن صلاة الجماعة
فرد من الصلاة الواجبة، فتتصف (4) بالوجوب لا محالة، واتصافها
بالاستحباب من باب أفضل فردي الواجب، فيختص بما إذا تمكن
المكلف من غيره، فإذا عجز تعين وخرج عن الاستحباب، كما إذا منعه
مانع آخر عن الصلاة منفردا.
لكن يمكن منع تحقق العجز فيما نحن فيه، فإنه يتمكن من الصلاة
منفردا بلا قراءة، لسقوطها عنه بالتعذر كسقوطها بالائتمام، فتعين (5) أحد

(1) " به " من (ظ).
(2) لم ترد " مسقطا للواجب الآخر أو مباحا " في (ه‍).
(3) في (ر) و (ه‍): " التعيني ".
(4) في (ه‍): " فمتصف ".
(5) كذا في (ه‍)، وفي غيرها: " فتعيين ".
160

المسقطين يحتاج إلى دليل.
قال فخر المحققين في الإيضاح في شرح قول والده (قدس سرهما): والأقرب
وجوب الائتمام على الأمي العاجز:
وجه القرب تمكنه من صلاة صحيحة القراءة. ويحتمل عدمه،
لعموم نصين: أحدهما: الاكتفاء بما يحسن مع عدم التمكن من التعلم.
والثاني: ندبية الجماعة.
والأول أقوى، لأنه يقوم مقام القراءة اختيارا فيتعين عند
الضرورة، لأن كل بدل اختياري يجب عينا عند تعذر مبدله، وقد بين
ذلك في الأصول.
ويحتمل العدم، لأن قراءة الإمام مسقطة لوجوب القراءة على
المأموم، والتعذر أيضا مسقط، فإذا وجد أحد المسقطين للوجوب
لم يجب الآخر، إذ التقدير أن كلا منهما سبب تام. والمنشأ: أن قراءة
الإمام بدل أو مسقط (1)؟ انتهى.
والمسألة محتاجة إلى التأمل.
ثم إن الكلام في الشك في الوجوب الكفائي - كوجوب رد السلام
على المصلي إذا سلم على جماعة وهو منهم - يظهر مما ذكرنا، فافهم.

(1) إيضاح الفوائد 1: 154.
161

المسألة الثانية
فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة إجمال اللفظ
كما إذا قلنا باشتراك لفظ " الأمر " بين الوجوب والاستحباب أو
الإباحة.
والمعروف هنا عدم وجوب الاحتياط، وقد تقدم عن المحدث
العاملي في الوسائل (1): أنه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشك في
الوجوب، ويشمله أيضا معقد إجماع المعارج (2).
لكن تقدم من المعارج - أيضا - عند ذكر الخلاف في وجوب
الاحتياط وجود القائل بوجوبه هنا (3)، وقد صرح صاحب الحدائق
- تبعا للمحدث الاسترآبادي (4) - بوجوب التوقف والاحتياط هنا، قال
في الحدائق بعد ذكر وجوب التوقف:
إن من يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجحة للاستحباب.

(1) راجع الصفحة 142.
(2) المعارج: 208.
(3) راجع الصفحة 148.
(4) انظر الفوائد المدنية: 163.
162

وفيه: أولا: منع جواز الاعتماد على البراءة الأصلية في الأحكام
الشرعية.
وثانيا: أن مرجع ذلك إلى أن الله تعالى حكم بالاستحباب
لموافقة البراءة، ومن المعلوم أن أحكام الله تعالى تابعة للمصالح والحكم
الخفية. ولا يمكن أن يقال: إن مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصلية،
فإنه رجم بالغيب وجرأة بلا ريب (1)، انتهى.
وفيه ما لا يخفى، فإن القائل بالبراءة الأصلية إن رجع إليها من
باب حكم العقل بقبح العقاب من دون البيان فلا يرجع ذلك إلى
دعوى كون حكم الله هو الاستحباب، فضلا عن تعليل ذلك بالبراءة
الأصلية.
وإن رجع إليها بدعوى حصول الظن فحديث تبعية الأحكام
للمصالح وعدم تبعيتها - كما عليه الأشاعرة -، أجنبي عن ذلك، إذ
الواجب عليه إقامة الدليل على اعتبار هذا الظن المتعلق بحكم الله
الواقعي، الصادر عن المصلحة أو لا عنها على الخلاف.
وبالجملة: فلا أدري وجها للفرق بين ما لا نص فيه وبين ما
أجمل فيه النص، سواء قلنا باعتبار هذا الأصل من باب حكم العقل أو
من باب الظن، حتى لو جعل مناط الظن عموم البلوى، فإن عموم
البلوى فيما نحن فيه يوجب الظن بعدم قرينة الوجوب مع الكلام المجمل
المذكور، وإلا لنقل مع توفر الدواعي، بخلاف الاستحباب، لعدم توفر
الدواعي على نقله.

(1) الحدائق 1: 69 و 70.
163

ثم إن ما ذكرنا من حسن الاحتياط جار هنا، والكلام في
استحبابه شرعا كما تقدم (1). نعم، الأخبار المتقدمة (2) في من بلغه الثواب
لا يجري هنا، لأن الأمر لو دار بين الوجوب والإباحة لم يدخل في
مواردها، لأن المفروض احتمال الإباحة فلا يعلم بلوغ الثواب. وكذا لو
دار بين الوجوب والكراهة.
ولو دار بين الوجوب والاستحباب لم يحتج إليها، والله العالم.

(1) راجع الصفحة 101.
(2) المتقدمة في الصفحة 154.
164

المسألة الثالثة
فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة تعارض النصين
وهنا مقامات، لكن المقصود هنا إثبات عدم وجوب التوقف
والاحتياط. والمعروف عدم وجوبه هنا، وما تقدم في المسألة الثانية (1):
من نقل الوفاق والخلاف، آت هنا.
وقد صرح المحدثان المتقدمان (2) بوجوب التوقف والاحتياط هنا (3)،
ولا مدرك له سوى أخبار التوقف، التي قد عرفت ما فيها: من قصور الدلالة (4)
على الوجوب في ما نحن فيه. مع أنها أعم مما دل على التوسعة والتخيير.
وما دل على التوقف في خصوص المتعارضين وعدم العمل بواحد
منهما، مختص - أيضا - بصورة التمكن من إزالة الشبهة بالرجوع إلى
الإمام (عليه السلام) (5).

(1) راجع الصفحة 162.
(2) يعني الاسترآبادي والبحراني المتقدمين في الصفحة 162.
(3) انظر الفوائد المدنية: 163، والحدائق 1: 70.
(4) راجع الصفحة 67 - 71.
(5) كمقبولة عمر بن حنظلة المروية في الوسائل 18: 75، الباب 9 من أبواب
صفات القاضي، الحديث الأول.
165

وأما رواية عوالي اللآلي المتقدمة (1) الآمرة بالاحتياط وإن كانت
أخص منها، إلا أنك قد عرفت ما فيها (2)، مع إمكان حملها على صورة
التمكن من الاستعلام.
ومنه يظهر: عدم جواز التمسك هنا بصحيحة ابن الحجاج
المتقدمة (3) الواردة في جزاء الصيد، بناء على استظهار شمولها - باعتبار
المناط - لما نحن فيه.
ومما يدل على الأمر بالتخيير في خصوص ما نحن فيه من اشتباه
الوجوب بغير الحرمة: التوقيع المروي في الاحتجاج عن الحميري، حيث
كتب إلى الصاحب عجل الله فرجه:
" يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأول
إلى الركعة الثالثة، هل يجب عليه أن يكبر؟ فإن بعض أصحابنا قال:
لا يجب عليه تكبيرة، ويجوز أن يقول بحول الله وقوته أقوم وأقعد.
الجواب: في ذلك حديثان، أما أحدهما، فإنه إذا انتقل عن حالة
إلى أخرى فعليه التكبير، وأما الحديث الآخر، فإنه روي: أنه إذا رفع
رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام، فليس عليه في القيام
بعد القعود تكبير، والتشهد الأول يجري هذا المجرى، وبأيهما أخذت من
باب التسليم كان صوابا... الخبر " (4).

(1) المتقدمة في الصفحة 115.
(2) راجع الصفحة 116.
(3) تقدمت في الصفحة 76.
(4) الاحتجاج 2: 304، والوسائل 4: 967، الباب 13 من أبواب السجود،
الحديث 8.
166

فإن الحديث الثاني وإن كان أخص من الأول، وكان اللازم
تخصيص الأول به والحكم بعدم وجوب التكبير، إلا أن جوابه صلوات
الله وسلامه عليه بالأخذ بأحد الحديثين من باب التسليم يدل على أن
الحديث الأول نقله الإمام (عليه السلام) بالمعنى، وأراد شموله لحالة الانتقال من
القعود إلى القيام بحيث لا يمكن (1) إرادة ما عدا هذا الفرد منه،
فأجاب (عليه السلام) بالتخيير.
ثم إن وظيفة الإمام (عليه السلام) وإن كانت إزالة الشبهة عن الحكم
الواقعي، إلا أن هذا الجواب لعله تعليم طريق العمل عند التعارض مع
عدم وجوب التكبير عنده في الواقع، وليس فيه الإغراء بالجهل من
حيث قصد الوجوب في ما ليس بواجب، من جهة (2) كفاية قصد القربة
في العمل.
وكيف كان: فإذا ثبت التخيير بين دليلي وجوب الشئ على وجه
الجزئية وعدمه، ثبت في ما نحن فيه - من تعارض الخبرين في ثبوت
التكليف المستقل - بالإجماع والأولوية القطعية.
ثم إن جماعة من الأصوليين ذكروا في باب التراجيح الخلاف في
ترجيح الناقل أو المقرر (3)، وحكي عن الأكثر ترجيح الناقل (4). وذكروا
تعارض الخبر المفيد للوجوب والمفيد للإباحة، وذهب جماعة إلى ترجيح

(1) كذا في (ت) و (ظ)، وفي غيرهما: " لا يتمكن ".
(2) في (ت) ونسخة بدل (ص) بدل " من جهة ": " لأجل ".
(3) انظر المعارج: 156، ونهاية الوصول (مخطوط): 458، والمعالم: 253.
(4) حكاه في نهاية الوصول (مخطوط): 458، وانظر مفاتيح الأصول: 705.
167

الأول (1). وذكروا تعارض الخبر المفيد للإباحة والمفيد للحظر (2)، وحكي
عن الأكثر - بل الكل - تقديم الحاظر (3)، ولعل هذا كله مع قطع النظر
عن الأخبار.

(1) انظر نهاية الوصول (مخطوط): 460، ومفاتيح الأصول: 710.
(2) انظر المعارج: 157، ونهاية الوصول (مخطوط): 459.
(3) انظر مفاتيح الأصول: 708.
168

المسألة الرابعة
دوران الأمر بين الوجوب وغيره، من جهة الاشتباه في موضوع الحكم
والحكم فيه البراءة (1)، ويدل عليه جميع ما تقدم في الشبهة
الموضوعية التحريمية (2): من أدلة البراءة عند الشك في التكليف.
وتقدم فيها (3) - أيضا -: اندفاع توهم أن التكليف إذا تعلق بمفهوم
وجب - مقدمة لامتثال التكليف في جميع أفراده - موافقته في كل ما
يحتمل أن يكون فردا له.
ومن ذلك يعلم: أنه لا وجه للاستناد إلى قاعدة الاشتغال في ما
إذا ترددت الفائتة بين الأقل والأكثر - كصلاتين وصلاة واحدة - بناء
على أن الأمر بقضاء جميع ما فات واقعا يقتضي لزوم الاتيان بالأكثر
من باب المقدمة.
توضيح ذلك - مضافا إلى ما تقدم في الشبهة التحريمية -: أن
قوله: " اقض ما فات " يوجب العلم التفصيلي بوجوب قضاء ما علم

(1) لم ترد في (ر) و (ظ): " والحكم فيه البراءة ".
(2) راجع الصفحة 119.
(3) راجع الصفحة 121.
169

فوته وهو الأقل، ولا يدل أصلا على وجوب ما شك في فوته وليس
فعله مقدمة لواجب حتى يجب من باب المقدمة، فالأمر بقضاء ما فات
واقعا لا يقتضي إلا وجوب المعلوم فواته، لا من جهة دلالة اللفظ على
المعلوم - حتى يقال: إن اللفظ ناظر إلى الواقع من غير تقييد بالعلم -،
بل من جهة: أن الأمر بقضاء الفائت الواقعي لا يعد دليلا إلا على ما
علم صدق الفائت عليه، وهذا لا يحتاج إلى مقدمة، ولا يعلم منه
وجوب شئ آخر يحتاج إلى المقدمة العلمية.
والحاصل: أن المقدمة العلمية المتصفة بالوجوب لا تكون إلا مع
العلم الإجمالي.
نعم، لو أجري في المقام أصالة عدم الإتيان بالفعل في الوقت
فيجب قضاؤه، فله وجه، وسيجئ الكلام عليه (1).
هذا، ولكن المشهور بين الأصحاب (2) رضوان الله عليهم، بل
المقطوع به من المفيد (3) (قدس سره) إلى الشهيد الثاني (4): أنه لو لم يعلم كمية ما
فات قضى حتى يظن الفراغ منها.
وظاهر ذلك - خصوصا بملاحظة ما يظهر من استدلال بعضهم،
من كون الاكتفاء بالظن رخصة، وأن القاعدة تقتضي وجوب العلم
بالفراغ -: كون الحكم على القاعدة.

(1) انظر الصفحة 173 - 176.
(2) انظر مفتاح الكرامة 3: 406.
(3) انظر المقنعة: 148 و 149.
(4) انظر الروضة البهية 1: 750.
170

قال في التذكرة: لو فاتته صلوات معلومة العين غير معلومة
العدد، صلى من تلك الصلوات إلى أن يغلب في ظنه الوفاء، لاشتغال
الذمة بالفائت، فلا يحصل البراءة قطعا إلا بذلك. ولو كانت واحدة
ولم يعلم العدد، صلى تلك الصلاة مكررا حتى يظن الوفاء.
ثم احتمل في المسألة احتمالين آخرين: أحدهما: تحصيل العلم،
لعدم البراءة إلا باليقين، والثاني: الأخذ بالقدر المعلوم، لأن الظاهر أن
المسلم لا يفوت الصلاة. ثم نسب كلا الوجهين إلى الشافعية (1)، انتهى.
وحكي هذا الكلام - بعينه - عن النهاية (2)، وصرح الشهيدان (3)
بوجوب تحصيل العلم مع الإمكان، وصرح في الرياض (4) بأن مقتضى
الأصل القضاء حتى يحصل العلم بالوفاء، تحصيلا للبراءة اليقينية. وقد
سبقهم في هذا الاستدلال الشيخ (قدس سره) في التهذيب، حيث قال:
أما ما يدل على أنه يجب أن يكثر منها، فهو ما ثبت أن قضاء
الفرائض واجب، وإذا ثبت وجوبها ولا يمكنه أن يتخلص من ذلك إلا
بأن يستكثر منها، وجب (5)، انتهى.
وقد عرفت (6): أن المورد من موارد جريان أصالة البراءة والأخذ

(1) التذكرة 2: 361.
(2) نهاية الإحكام 1: 325.
(3) انظر الذكرى 2: 437 - 438، والمقاصد العلية: 217.
(4) الرياض 4: 289.
(5) التهذيب 2: 198.
(6) راجع الصفحة 169 - 170.
171

بالأقل عند دوران الأمر بينه وبين الأكثر، كما لو شك في مقدار الدين
الذي يجب قضاؤه، أو في أن الفائت منه صلاة العصر فقط أو هي مع
الظهر، فإن الظاهر عدم إفتائهم بلزوم قضاء الظهر، وكذا لو تردد في ما
فات عن أبويه أو في ما تحمله بالإجارة بين الأقل والأكثر.
وربما يظهر عن بعض المحققين (1): الفرق بين هذه الأمثلة وبين ما
نحن فيه، حيث حكي عنه (2) - في رد صاحب الذخيرة القائل بأن
مقتضى القاعدة في المقام الرجوع إلى البراءة (3) - أنه (4) قال:
إن المكلف حين علم بالفوائت صار مكلفا بقضاء هذه الفائتة
قطعا، وكذلك الحال في الفائتة الثانية والثالثة وهكذا، ومجرد عروض
النسيان كيف يرفع الحكم الثابت من الإطلاقات والاستصحاب، بل
الإجماع أيضا؟ وأي شخص يحصل منه التأمل في أنه إلى ما قبل
صدور النسيان كان مكلفا، وبمجرد عروض النسيان يرتفع التكليف
الثابت؟ وإن أنكر حجية الاستصحاب فهو يسلم أن الشغل اليقيني
يستدعي البراءة اليقينية.
إلى أن قال:
نعم، في الصورة التي يحصل للمكلف علم إجمالي باشتغال ذمته
بفوائت متعددة يعلم قطعا تعددها لكن لا يعلم مقدارها، فإنه يمكن

(1) هو السيد بحر العلوم في المصابيح، كما سيأتي.
(2) الحاكي عنه هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة 3: 408 - 409.
(3) انظر الذخيرة: 384.
(4) " أنه " من (ت) و (ه‍).
172

حينئذ أن يقال: لا نسلم تحقق الشغل بأزيد من المقدار الذي تيقنه.
إلى أن قال:
والحاصل: أن المكلف إذا حصل القطع باشتغال ذمته بمتعدد
والتبس عليه ذلك كما، وأمكنه الخروج عن عهدته، فالأمر كما أفتى به
الأصحاب، وإن لم يحصل ذلك، بأن يكون ما علم به خصوص اثنتين
أو ثلاث وأما أزيد من ذلك فلا، بل احتمال احتمله، فالأمر كما ذكره
في الذخيرة. ومن هنا: لو لم يعلم أصلا بمتعدد في فائتة وعلم أن صلاة
صبح يومه فاتت، وأما غيرها فلا يعلم ولا يظن فوته أصلا، فليس
عليه إلا الفريضة الواحدة دون المحتمل، لكونه شكا بعد خروج الوقت،
والمنصوص أنه ليس عليه قضاؤها (1)، بل لعله المفتى به (2)، انتهى كلامه
رفع مقامه.
ويظهر النظر فيه مما ذكرناه سابقا (3)، ولا يحضرني الآن حكم
لأصحابنا بوجوب الاحتياط في نظير المقام، بل الظاهر منهم إجراء
أصل (4) البراءة في أمثال ما نحن فيه مما لا يحصى.
وربما يوجه الحكم فيما نحن فيه: بأن الأصل عدم الإتيان بالصلاة
الواجبة، فيترتب عليه وجوب القضاء إلا في صلاة علم الإتيان بها في
وقتها.

(1) انظر الكافي 3: 294، الحديث 10.
(2) لم نعثر عليه في كتاب الصلاة من المصابيح (مخطوط).
(3) راجع الصفحة 169 - 170.
(4) " أصل " من (ت) و (ه‍).
173

ودعوى: ترتب وجوب القضاء على صدق الفوت الغير الثابت
بالأصل، لا مجرد عدم الاتيان الثابت بالأصل، ممنوعة، لما يظهر من
الأخبار (1) وكلمات الأصحاب (2): من أن المراد بالفوت مجرد الترك كما
بيناه في الفقه (3).
وأما ما دل على أن الشك في إتيان الصلاة بعد وقتها لا يعتد به،
فلا يشمل ما نحن فيه.
وإن شئت تطبيق ذلك على قاعدة الاحتياط اللازم، فتوضيحه:
أن القضاء وإن كان بأمر جديد، إلا أن ذلك الأمر كاشف عن استمرار
مطلوبية الصلاة من عند دخول وقتها إلى آخر زمان التمكن من
المكلف، غاية الأمر كون هذا على سبيل تعدد المطلوب، بأن يكون
الكلي المشترك بين ما في الوقت وخارجه مطلوبا وكون إتيانه في الوقت
مطلوبا آخر، كما أن أداء الدين ورد السلام واجب في أول أوقات
الإمكان، ولو لم يفعل ففي الآن الثاني، وهكذا.
وحينئذ: فإذا دخل الوقت وجب إبراء الذمة عن ذلك الكلي،
فإذا شك في براءة ذمته بعد الوقت، فمقتضى حكم العقل باقتضاء الشغل
اليقيني للبراءة اليقينية وجوب الإتيان، كما لو شك في البراءة قبل
خروج الوقت، وكما لو شك في أداء الدين الفوري، فلا يقال: إن

(1) انظر الوسائل 5: 347، الباب الأول من أبواب قضاء الصلوات، باب وجوب
قضاء الفريضة الفائتة بعمد أو نسيان أو نوم أو ترك طهارة.
(2) انظر إرشاد الأذهان 1: 270، ومفتاح الكرامة 3: 377.
(3) انظر الرسائل الفقهية للمصنف: 223 - 224.
174

الطلب في الزمان الأول قد ارتفع بالعصيان، ووجوده في الزمان الثاني
مشكوك فيه، وكذلك جواب السلام.
والحاصل: أن التكليف المتعدد بالمطلق والمقيد لا ينافي جريان
الاستصحاب وقاعدة الاشتغال بالنسبة إلى المطلق، فلا يكون المقام
مجرى البراءة.
هذا، ولكن الإنصاف: ضعف هذا التوجيه لو سلم استناد الأصحاب
إليه في المقام.
أما أولا: فلأن من المحتمل - بل الظاهر - على القول بكون القضاء
بأمر جديد، كون كل من الأداء والقضاء تكليفا مغايرا للآخر، فهو من
قبيل وجوب الشئ ووجوب تداركه بعد فوته - كما يكشف عن ذلك
تعلق أمر الأداء بنفس الفعل (1) وأمر القضاء به بوصف الفوت (2)،
ويؤيده: بعض ما دل على أن لكل من الفرائض بدلا وهو قضاؤه، عدا
الولاية (3) - لا من باب الأمر بالكلي والأمر بفرد خاص منه، كقوله:
صم، وصم يوم الخميس، أو الأمر بالكلي والأمر بتعجيله، كرد السلام
وقضاء الدين، فلا مجرى لقاعدة الاشتغال واستصحابه.
وأما ثانيا: فلأن منع عموم ما دل على أن الشك في الإتيان بعد
خروج الوقت (4) لا يعتد به للمقام، خال عن السند. خصوصا مع

(1) كقوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) *، الإسراء: 78.
(2) انظر الوسائل 5: 350، الباب 2 من أبواب قضاء الصلوات، الحديث الأول.
(3) لم نقف عليه في المجاميع الحديثية.
(4) الوسائل 3: 205، الباب 60 من أبواب المواقيت، الحديث الأول.
175

اعتضاده بما دل على أن الشك في الشئ لا يعتنى به بعد تجاوزه، مثل
قوله (عليه السلام): " إنما الشك في شئ لم تجزه " (1)، ومع اعتضاده في بعض
المقامات بظاهر حال المسلم في عدم ترك الصلاة.
وأما ثالثا: فلأنه لو تم ذلك جرى فيما يقضيه عن أبويه إذا شك
في مقدار ما فات منهما، ولا أظنهم يلتزمون بذلك، وإن التزموا بأنه إذا
وجب على الميت - لجهله بما فاته - مقدار معين يعلم أو يظن معه
البراءة، وجب على الولي قضاء ذلك المقدار، لوجوبه ظاهرا على الميت،
بخلاف ما لم يعلم بوجوبه عليه.
وكيف كان: فالتوجيه المذكور ضعيف.
وأضعف منه: التمسك في ما نحن فيه بالنص الوارد في: " أن من
عليه من النافلة ما لا يحصيه من كثرته، قضى حتى لا يدري كم صلى
من كثرته " (2)، بناء على أن ذلك طريق لتدارك ما فات ولم يحص،
لا أنه مختص بالنافلة. مع أن الاهتمام في النافلة بمراعاة الاحتياط
يوجب ذلك في الفريضة بطريق أولى، فتأمل.

(1) الوسائل 1: 330، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 2.
(2) الوسائل 3: 55، الباب 18 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، الحديث 2.
176

المطلب الثالث
فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والحرمة
وفيه مسائل:
177

المسألة الأولى
في حكم دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة عدم الدليل
على تعيين أحدهما بعد قيام الدليل على أحدهما
كما إذا اختلفت (1) الأمة على القولين بحيث علم عدم الثالث.
ولا ينبغي الإشكال في إجراء أصالة عدم كل من الوجوب والحرمة
- بمعنى نفي الآثار المتعلقة بكل واحد منهما بالخصوص - إذا لم يلزم
مخالفة علم تفصيلي، بل ولو استلزم ذلك على وجه تقدم في أول
الكتاب في فروع اعتبار العلم الإجمالي (2).
وإنما الكلام هنا في حكم الواقعة من حيث جريان أصالة البراءة
وعدمه، فإن في المسألة وجوها ثلاثة:
الحكم بالإباحة ظاهرا، نظير ما يحتمل التحريم وغير الوجوب،
ومرجعه إلى إلغاء الشارع لكلا الاحتمالين، فلا حرج في الفعل ولا في
الترك بحكم العقل، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح (3).

(1) في غير (ت): " اختلف ".
(2) راجع مبحث القطع 1: 87.
(3) وردت عبارة " ومرجعه - إلى - بلا مرجح " في (ت)، (ر) و (ه‍) بعد قوله:
" ولا واقعا "، ووردت في (ظ) في الهامش.
178

والتوقف بمعنى عدم الحكم بشئ لا ظاهرا ولا واقعا.
ووجوب الأخذ بأحدهما بعينه أو لا بعينه (1).
ومحل هذه الوجوه ما لو كان كل من الوجوب والتحريم توصليا
بحيث يسقط بمجرد الموافقة، إذ لو كانا تعبديين محتاجين إلى قصد امتثال
التكليف أو كان أحدهما المعين كذلك، لم يكن إشكال (2) في عدم جواز
طرحهما والرجوع إلى الإباحة، لأنه مخالفة قطعية عملية.
وكيف كان: فقد يقال في محل الكلام بالإباحة ظاهرا، لعموم أدلة
الإباحة الظاهرية، مثل قولهم: " كل شئ لك حلال " (3)، وقولهم: " ما
حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم " (4)، فإن كلا من
الوجوب والحرمة قد حجب عن العباد علمه، وغير ذلك من أدلته،
حتى قوله (عليه السلام): " كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي أو أمر " على
رواية الشيخ (5)، إذ الظاهر ورود أحدهما بحيث يعلم تفصيلا، فيصدق
هنا أنه لم يرد أمر ولا نهي.
هذا كله، مضافا إلى حكم العقل بقبح المؤاخذة على كل من الفعل
والترك، فإن الجهل بأصل الوجوب علة تامة عقلا لقبح العقاب على
الترك من غير مدخلية لانتفاء احتمال الحرمة فيه، وكذا الجهل بأصل

(1) لم ترد " ووجوب - إلى - لا بعينه " في (ظ)، نعم وردت بدلها: " والتخيير ".
(2) وردت العبارة في (ظ) هكذا: " أو أحدهما المعين لم يكن إشكال ".
(3) الوسائل 17: 91، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2.
(4) الوسائل 18: 119، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 28.
(5) أمالي الطوسي: 669، الحديث 1405 / 12.
179

الحرمة. وليس العلم بجنس التكليف المردد بين نوعي الوجوب والحرمة
كالعلم بنوع التكليف المتعلق بأمر مردد، حتى يقال: إن التكليف في
المقام معلوم إجمالا.
وأما دعوى وجوب الالتزام بحكم الله تعالى، لعموم دليل وجوب
الانقياد للشرع، ففيها:
أن المراد بوجوب الالتزام: إن أريد وجوب موافقة حكم الله
فهو حاصل فيما نحن فيه، فإن في الفعل موافقة للوجوب وفي الترك
موافقة للحرمة، إذ المفروض عدم توقف الموافقة في المقام على قصد
الامتثال.
وإن أريد وجوب الانقياد والتدين بحكم الله فهو تابع للعلم
بالحكم، فإن علم تفصيلا وجب التدين به كذلك، وإن علم إجمالا
وجب التدين بثبوته في الواقع، ولا ينافي ذلك التدين حينئذ (1) بإباحته
ظاهرا، إذ الحكم الظاهري لا يجوز أن يكون معلوم المخالفة تفصيلا
للحكم الواقعي من حيث العمل، لا من حيث التدين به (2).
ومنه يظهر اندفاع ما يقال: من أن الالتزام وإن لم يكن واجبا
بأحدهما، إلا أن طرحهما والحكم بالإباحة طرح لحكم الله الواقعي،
وهو محرم. وعليه يبنى (3) عدم جواز إحداث القول الثالث إذا اختلفت
الأمة على قولين يعلم دخول الإمام (عليه السلام) في أحدهما.

(1) في (ر) ونسخة بدل (ص) بدل " حينئذ ": " الحكم ".
(2) لم ترد " به " في (ظ).
(3) في (ت): " يبتنى ".
180

توضيح الاندفاع: أن المحرم وهو الطرح في مقام العمل غير
متحقق، والواجب في مقام التدين الالتزام بحكم الله على ما هو عليه
في الواقع، وهو أيضا متحقق في الواقع (1)، فلم يبق إلا وجوب تعبد
المكلف وتدينه والتزامه بما يحتمل الموافقة للحكم الواقعي، وهذا مما
لا دليل على وجوبه أصلا.
والحاصل: أن الواجب شرعا هو الالتزام والتدين بما علم أنه
حكم الله الواقعي، ووجوب الالتزام بخصوص الوجوب بعينه أو الحرمة
بعينها، من اللوازم العقلية للعلم (2) التفصيلي يحصل من ضم صغرى
معلومة تفصيلا إلى تلك الكبرى، فلا يعقل وجوده مع انتفائه، وليس
حكما شرعيا ثابتا في الواقع حتى يجب مراعاته ولو مع الجهل
التفصيلي.
ومن هنا يبطل قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين
الجامعين لشرائط الحجية الدالة أحدهما على الأمر والآخر على النهي،
كما هو مورد بعض الأخبار الواردة في تعارض الخبرين (3).
ولا يمكن أن يقال: إن المستفاد منه - بتنقيح المناط - وجوب
الأخذ بأحد الحكمين وإن لم يكن على كل واحد منهما دليل معتبر
معارض بدليل الآخر.
فإنه يمكن أن يقال: إن الوجه في حكم الشارع هناك بالأخذ

(1) لم ترد " في الواقع " في (ظ).
(2) في (ر) و (ص) زيادة: " العادي ".
(3) الوسائل 18: 88، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 42.
181

بأحدهما، هو أن الشارع أوجب الأخذ بكل من الخبرين المفروض
استجماعهما لشرائط الحجية، فإذا لم يمكن الأخذ بهما معا فلا بد من
الأخذ بأحدهما، وهذا تكليف شرعي في المسألة الأصولية غير التكليف
المعلوم تعلقه إجمالا في المسألة الفرعية بواحد من الفعل والترك، بل
ولولا النص الحاكم هناك بالتخيير أمكن القول به من هذه الجهة،
بخلاف ما نحن فيه، إذ لا تكليف إلا بالأخذ بما صدر واقعا في هذه
الواقعة، والالتزام به حاصل من غير حاجة إلى الأخذ بأحدهما
بالخصوص.
ويشير إلى ما ذكرنا من الوجه: قوله (عليه السلام) في بعض تلك
الأخبار: " بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك " (1). وقوله (عليه السلام): " من
باب التسليم " إشارة إلى أنه لما وجب على المكلف التسليم لجميع ما
يرد عليه بالطرق المعتبرة من أخبار الأئمة (عليهم السلام) - كما يظهر ذلك من
الأخبار الواردة في باب التسليم لما يرد من الأئمة (عليهم السلام)، منها قوله:
" لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنا ثقاتنا " (2) -،
وكان التسليم لكلا الخبرين الواردين بالطرق المعتبرة المتعارضين ممتنعا،
وجب التسليم لأحدهما مخيرا في تعيينه (3).
ثم إن هذا الوجه وإن لم يخل عن مناقشة أو منع، إلا أن مجرد
احتماله يصلح فارقا بين المقامين مانعا عن استفادة حكم ما نحن فيه

(1) الوسائل 18: 80، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 19.
(2) الوسائل 18: 108، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40.
(3) في (ت) و (ظ) بدل " تعيينه ": " نفسه ".
182

من حكم الشارع بالتخيير في مقام التعارض، فافهم (1).
وبما ذكرنا، يظهر حال قياس ما نحن فيه على حكم المقلد عند
اختلاف المجتهدين في الوجوب والحرمة.
وما ذكروه في مسألة اختلاف الأمة لا يعلم شموله لما نحن فيه
مما كان الرجوع إلى الثالث غير مخالف من حيث العمل لقول
الإمام (عليه السلام)، مع أن عدم جواز الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ليس
اتفاقيا.
على: أن ظاهر كلام الشيخ القائل بالتخيير - كما سيجئ (2) - هو
إرادة التخيير الواقعي المخالف لقول الإمام (عليه السلام) في المسألة، ولذا اعترض
عليه المحقق (3): بأنه لا ينفع التخيير فرارا عن الرجوع إلى الثالث
المطابق للأصل، لأن التخيير أيضا طرح لقول الإمام (عليه السلام).
وإن انتصر للشيخ بعض (4): بأن التخيير بين الحكمين ظاهرا وأخذ
أحدهما، هو المقدار الممكن من الأخذ بقول الشارع في المقام. لكن
ظاهر كلام الشيخ (قدس سره) يأبى عن ذلك، قال في العدة:

(1) وردت في (ظ) وهامش (ص)، بعنوان " نسخة " زيادة، وهي: " فالأقوى في
المسألة: التوقف واقعا وظاهرا، وأن الأخذ بأحدهما قول بما لا يعلم لم يقم عليه
دليل، والعمل على طبق ما التزمه على أنه كذلك لا يخلو من التشريع ".
(2) سيجئ في الصفحة اللاحقة.
(3) انظر المعارج: 133.
(4) هو سلطان العلماء في حاشيته على المعالم وتبعه صاحبا القوانين والفصول، انظر
المعالم (الطبعة الحجرية): 181، حاشية سلطان العلماء المبدوة بقوله: " هذا
ممنوع في العمل... الخ "، والقوانين 1: 383، والفصول: 257.
183

إذا اختلفت الأمة على قولين فلا يكون إجماعا، ولأصحابنا في
ذلك مذهبان: منهم من يقول: إذا تكافأ الفريقان ولم يكن مع أحدهما
دليل يوجب العلم أو يدل على أن المعصوم (عليه السلام) داخل فيه، سقطا
ووجب التمسك بمقتضى العقل من حظر أو إباحة على اختلاف مذاهبهم،
وهذا القول ليس بقوي.
ثم علله باطراح قول الإمام (عليه السلام)، قال (1): ولو جاز ذلك لجاز
مع تعيين قول الإمام (عليه السلام) تركه والعمل بما في العقل.
ومنهم من يقول: نحن مخيرون في العمل بأي القولين، وذلك يجري
مجرى خبرين إذا تعارضا، انتهى.
ثم فرع على القول الأول جواز اتفاقهم بعد الاختلاف على قول
واحد، وعلى القول الثاني عدم جواز ذلك، معللا بأنه يلزم من ذلك
بطلان القول الآخر، وقد قلنا: إنهم مخيرون في العمل، ولو كان
إجماعهم على أحدهما انتقض ذلك، انتهى.
وما ذكره من التفريع أقوى شاهد على إرادة التخيير الواقعي،
وإن كان القول به لا يخلو عن الإشكال.
هذا، وقد مضى شطر من الكلام في ذلك في المقصد الأول من
الكتاب، عند التكلم في فروع اعتبار القطع (2)، فراجع (3).

(1) في (ه‍): " وقال ".
(2) راجع مبحث القطع 1: 90.
(3) لم ترد " هذا - إلى - فراجع " في (ر)، (ص) و (ظ)، نعم وردت في (ر)
و (ص) بعد أسطر من قوله: " لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب ".
184

وكيف كان: فالظاهر بعد التأمل في كلماتهم في باب الإجماع
إرادتهم ب‍ " طرح قول الإمام (عليه السلام) " الطرح (1) من حيث العمل، فتأمل.
ولكن الإنصاف: أن أدلة الإباحة في محتمل الحرمة تنصرف إلى
محتمل الحرمة وغير الوجوب، وأدلة نفي التكليف عما لم يعلم نوع
التكليف لا تفيد إلا عدم المؤاخذة على الترك والفعل، وعدم تعيين
الحرمة أو الوجوب، وهذا المقدار لا ينافي وجوب الأخذ بأحدهما مخيرا
فيه (2). نعم، هذا الوجوب يحتاج إلى دليل وهو مفقود، فاللازم هو
التوقف، وعدم الالتزام إلا بالحكم الواقعي على ما هو عليه في الواقع،
ولا دليل على عدم جواز خلو الواقعة عن حكم ظاهري إذا لم يحتج
إليه في العمل، نظير ما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب.
ثم على تقدير وجوب الأخذ، هل يتعين الأخذ بالحرمة، أو
يتخير بينه وبين الأخذ بالوجوب؟ وجهان، بل قولان:
يستدل على الأول - بعد قاعدة الاحتياط، حيث يدور الأمر بين
التخيير والتعيين -:
بظاهر ما دل على وجوب التوقف عند الشبهة (3)، فإن الظاهر من
التوقف ترك الدخول في الشبهة.
وبأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة، لما عن النهاية: من أن
الغالب في الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل، وفي الوجوب تحصيل
مصلحة لازمة للفعل، واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتم.

(1) " الطرح " من (ص).
(2) لم ترد " مخيرا فيه " في (ه‍)، وشطب عليها في (ت).
(3) تقدم ما يدل على التوقف في الصفحة 64 - 67.
185

ويشهد له (1): ما ارسل عن أمير المؤمنين (عليه السلام): من أن " اجتناب
السيئات أولى من اكتساب الحسنات (2) " (3)، وقوله (عليه السلام): " أفضل من
اكتساب الحسنات اجتناب السيئات " (4).
ولأن إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتم من إفضاء الوجوب إلى
مقصوده، لأن مقصود الحرمة يتأتى بالترك سواء كان مع قصد أم غفلة،
بخلاف فعل الواجب (5)، انتهى.
وبالاستقراء، بناء على أن الغالب في موارد اشتباه مصاديق
الواجب والحرام تغليب الشارع لجانب الحرمة، ومثل له بأيام الاستظهار،
وتحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس.
ويضعف الأخير: بمنع الغلبة. وما ذكر من الأمثلة - مع عدم
ثبوت الغلبة بها - خارج عن محل الكلام، فإن ترك العبادة في أيام
الاستظهار ليس على سبيل الوجوب عند المشهور (6). ولو قيل بالوجوب
فلعله لمراعاة أصالة بقاء الحيض وحرمة العبادة. وأما ترك غير ذات
الوقت العبادة بمجرد (7) الرؤية، فهو للإطلاقات (8) وقاعدة " كل ما أمكن "،

(1) لم يرد في النهاية الاستشهاد بالمرسلتين.
(2) غرر الحكم: 81، الفصل الأول، الحكمة 1559.
(3) في (ت) و (ظ) زيادة: " بل ".
(4) غرر الحكم: 196، الفصل الرابع، الحكمة 225.
(5) نهاية الوصول (مخطوط): 460، وحكاه عنه في شرح الوافية (مخطوط): 299.
(6) انظر المدارك 1: 333، ومفتاح الكرامة 1: 381.
(7) في (ظ): " غير ذات العادة بمجرد ".
(8) انظر الوسائل 2: 537، الباب 3 من أبواب الحيض، الحديث 2.
186

وإلا فأصالة الطهارة وعدم الحيض هي المرجع.
وأما ترك الإناءين المشتبهين في الطهارة، فليس من دوران الأمر
بين الواجب والحرام، لأن الظاهر - كما ثبت في محله (1) - أن حرمة
الطهارة بالماء النجس تشريعية لا ذاتية (2)، وإنما منع عن الطهارة مع
الاشتباه لأجل النص (3).
مع أنها لو كانت ذاتية، فوجه ترك الواجب وهو الوضوء ثبوت
البدل له وهو التيمم، كما لو اشتبه إناء الذهب بغيره مع انحصار الماء في
المشتبهين، وبالجملة: فالوضوء من جهة ثبوت البدل له لا يزاحم محرما.
مع أن القائل بتغليب جانب الحرمة لا يقول بجواز المخالفة القطعية
في الواجب لأجل تحصيل الموافقة القطعية في الحرام، لأن العلماء والعقلاء
متفقون على عدم جواز ترك الواجب تحفظا عن الوقوع في الحرام (4)،
فهذا المثال (5) أجنبي عما نحن فيه قطعا.
ويضعف ما قبله: بأنه يصلح وجها لعدم تعيين الوجوب، لا لنفي
التخيير.
وأما أولوية دفع المفسدة فهي مسلمة، لكن المصلحة الفائتة بترك

(1) انظر المدارك 1: 106، والجواهر 1: 289.
(2) في مصححة (ظ) زيادة: " فالأمر دائر بين الواجب وغير الحرام ".
(3) الوسائل 1: 116، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 14.
(4) في (ظ) زيادة: " بل اللازم إجماعا في مثل ذلك ارتكاب أحدهما وترك
الآخر ".
(5) في (ظ) زيادة: " المفروض فيه وجوب المخالفة القطعية في الواجب ".
187

الواجب أيضا مفسدة، وإلا لم يصلح للإلزام، إذ مجرد فوات (1) المنفعة
عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الفوت (2)، لا يصلح
وجها لإلزام شئ على المكلف ما لم يبلغ حدا يكون في فواته مفسدة،
وإلا لكان أصغر المحرمات أعظم من ترك أهم الفرائض، مع أنه جعل
ترك الصلاة أكبر الكبائر (3).
وبما ذكر يبطل قياس ما نحن فيه على دوران الأمر بين فوت
المنفعة الدنيوية وترتب المضرة الدنيوية، فإن فوات النفع من حيث هو
نفع لا يوجب ضررا.
وأما الأخبار الدالة على التوقف، فظاهرة في ما لا يحتمل الضرر
في تركه، كما لا يخفى.
وظاهر كلام السيد الشارح للوافية: جريان أخبار الاحتياط أيضا
في المقام (4)، وهو بعيد.
وأما قاعدة " الاحتياط عند الشك في التخيير والتعيين " فغير جار
في أمثال المقام مما يكون الحاكم فيه العقل، فإن العقل إما أن يستقل
بالتخيير وإما أن يستقل بالتعيين (5)، فليس في المقام شك على كل
تقدير، وإنما الشك في الأحكام التوقيفية التي لا يدركها العقل.

(1) في (ر) و (ظ): " فوت ".
(2) في (ص) و (ظ) ونسخة بدل (ت) بدل " الفوت ": " الوجوب عليه ".
(3) انظر الوسائل 3: 15 - 19، الباب 6 و 7 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها.
(4) شرح الوافية (مخطوط): 299.
(5) العبارة في (ظ) هكذا: " فإن العقل إما أن يستقل بترجيح جانب الحرمة وإما
أن يستقل بالتخيير ".
188

إلا أن يقال: إن احتمال أن يرد من الشارع حكم توقيفي في
ترجيح جانب الحرمة - ولو لاحتمال شمول أخبار التوقف لما نحن فيه -
كاف في الاحتياط والأخذ بالحرمة.
ثم لو قلنا بالتخيير، فهل هو في ابتداء الأمر فلا يجوز له العدول
عما اختار، أو مستمر فله العدول مطلقا، أو بشرط البناء على
الاستمرار (1)؟ وجوه.
يستدل للأول: بقاعدة الاحتياط، واستصحاب الحكم المختار،
واستلزام العدول للمخالفة القطعية المانعة عن الرجوع إلى الإباحة من
أول الأمر (2).
ويضعف الأخير: بأن المخالفة القطعية في مثل ذلك لا دليل على
حرمتها، كما لو بدا للمجتهد في رأيه، أو عدل المقلد عن مجتهده لعذر
- من موت، أو جنون، أو فسق - أو اختيارا (3) على القول بجوازه.
ويضعف الاستصحاب: بمعارضة استصحاب التخيير الحاكم عليه.
ويضعف قاعدة الاحتياط: بما تقدم، من أن حكم العقل بالتخيير
عقلي لا احتمال فيه حتى يجري فيه الاحتياط.
ومن ذلك يظهر: عدم جريان استصحاب التخيير، إذ لا إهمال في
حكم العقل حتى يشك في بقائه في الزمان الثاني.
فالأقوى: هو التخيير الاستمراري، لا للاستصحاب بل لحكم
العقل في الزمان الثاني كما حكم به في الزمان الأول.

(1) العبارة في (ظ) هكذا: " أو بشرط العزم حين الاختيار على الاستمرار ".
(2) كذا في (ر) ومصححة (ص)، ووردت العبارة في باقي النسخ مضطربة.
(3) في (ر)، (ص) و (ه‍): " اختيار ".
189

المسألة الثانية
إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل
إما حكما، كالأمر المردد بين الايجاب والتهديد، أو موضوعا، كما
لو أمر بالتحرز عن أمر مردد بين فعل الشئ وتركه.
فالحكم فيه كما في المسألة السابقة.
190

المسألة الثالثة
لو دار الأمر بين الوجوب والتحريم من جهة تعارض الأدلة
فالحكم هنا: التخيير، لإطلاق أدلته (1)، وخصوص بعض منها
الوارد في خبرين أحدهما أمر والآخر نهي (2).
خلافا للعلامة (رحمه الله) في النهاية (3) وشارح المختصر (4) والآمدي (5)،
فرجحوا (6) ما دل على النهي، لما ذكرنا سابقا (7)، ولما هو أضعف منه.
وفي كون التخيير هنا بدويا، أو استمراريا مطلقا أو مع البناء من
أول الأمر على الاستمرار، وجوه تقدمت (8)، إلا أنه قد يتمسك هنا

(1) الوسائل 18: 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 19 و 40.
(2) الوسائل 18: 88، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 44.
(3) نهاية الوصول (مخطوط): 460.
(4) شرح مختصر الأصول: 489.
(5) الإحكام للآمدي 4: 259.
(6) كذا في مصححة (ص)، وفي النسخ: " مرجحا ".
(7) راجع الصفحة 185 - 186.
(8) تقدمت في الصفحة 189.
191

للاستمرار بإطلاق الأخبار.
ويشكل: بأنها مسوقة لبيان حكم المتحير في أول الأمر، فلا تعرض
لها لحكمه بعد الأخذ بأحدهما.
نعم، يمكن هنا استصحاب التخيير، حيث إنه ثبت (1) بحكم الشارع
القابل للاستمرار.
إلا أن يدعى: أن موضوع المستصحب أو المتيقن من موضوعه
هو المتحير، وبعد الأخذ بأحدهما لا تحير، فتأمل. وسيتضح هذا في
بحث الاستصحاب (2)، وعليه: فاللازم الاستمرار على ما اختار، لعدم
ثبوت التخيير في الزمان الثاني.

(1) في (ر) و (ظ): " يثبت ".
(2) انظر مبحث الاستصحاب 3: 392.
192

المسألة الرابعة
لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع
وقد مثل بعضهم (1) له باشتباه الحليلة الواجب وطؤها - بالأصالة،
أو لعارض من نذر أو غيره - بالأجنبية (2)، وبالخل المحلوف على شربه
المشتبه بالخمر.
ويرد على الأول: أن الحكم في ذلك هو تحريم الوطء، لأصالة
عدم الزوجية بينهما، وأصالة عدم وجوب الوطء.
وعلى الثاني: أن الحكم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته، جمعا
بين أصالتي الإباحة وعدم الحلف على شربه.
والأولى: فرض المثال فيما إذا وجب إكرام العدول وحرم إكرام
الفساق واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة.
والحكم فيه كما في المسألة الأولى: من عدم وجوب الأخذ
بأحدهما في الظاهر، بل هنا أولى، إذ ليس فيه اطراح لقول الإمام (عليه السلام)،
إذ ليس الاشتباه في الحكم الشرعي الكلي الذي بينه الإمام (عليه السلام)،

(1) هو صاحب الفصول في الفصول: 363.
(2) في (ت) و (ظ): " والأجنبية ".
193

وليس فيه أيضا مخالفة عملية معلومة ولو إجمالا، مع أن مخالفة المعلوم
إجمالا في العمل فوق حد الإحصاء في الشبهات الموضوعية.
هذا تمام الكلام في المقامات الثلاثة، أعني دوران الأمر بين
الوجوب وغير الحرمة، وعكسه، ودوران الأمر بينهما.
وأما دوران الأمر بين ما عدا الوجوب والحرمة من الأحكام،
فيعلم بملاحظة ما ذكرنا.
وملخصه: أن دوران الأمر بين طلب الفعل أو الترك وبين
الإباحة نظير المقامين الأولين، ودوران الأمر بين الاستحباب والكراهة
نظير المقام الثالث. ولا إشكال في أصل هذا الحكم، إلا أن إجراء أدلة
البراءة في صورة الشك في الطلب الغير الإلزامي - فعلا أو تركا - قد
يستشكل فيه، لأن ظاهر تلك الأدلة نفي المؤاخذة والعقاب، والمفروض
انتفاؤهما في غير الواجب والحرام، فتدبر.
194

الموضع الثاني
في الشك في المكلف به مع العلم بنوع التكليف
بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ويشتبه الحرام أو الواجب.
ومطالبه - أيضا - ثلاثة:
195

المطلب الأول
في (1) دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب
ومسائله أربع:

(1) لم ترد " في " في (ر)، (ص) و (ظ).
197

الأولى
لو علم التحريم وشك في الحرام من جهة اشتباه الموضوع الخارجي
وإنما قدمنا الشبهة الموضوعية هنا، لاشتهار عنوانها في كلام
العلماء، بخلاف عنوان الشبهة الحكمية.
ثم الحرام المشتبه بغيره إما مشتبه في أمور محصورة، كما لو دار
بين أمرين أو أمور محصورة، ويسمى بالشبهة المحصورة، وإما مشتبه في
أمور غير محصورة.
198

أما [المقام] (1) الأول
[في الشبهة المحصورة] (2)
فالكلام فيه يقع في مقامين:
أحدهما: جواز ارتكاب كلا الأمرين أو الأمور وطرح العلم
الإجمالي وعدمه، وبعبارة أخرى: حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم
وعدمها.
الثاني: وجوب اجتناب الكل وعدمه، وبعبارة أخرى: وجوب
الموافقة القطعية للتكليف المعلوم وعدمه.

(1) و (2) الزيادة والعنوان منا.
199

أما المقام الأول:
فالحق فيه: عدم الجواز وحرمة المخالفة القطعية، وحكي عن ظاهر
بعض (1) جوازها (2).
لنا على ذلك: وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها.
أما ثبوت المقتضي: فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه، فإن
قول الشارع: " اجتنب عن الخمر "، يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه
بين الإناءين أو أزيد، ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلا.
مع أنه لو اختص الدليل بالمعلوم تفصيلا خرج الفرد المعلوم
إجمالا عن كونه حراما واقعيا وكان حلالا واقعيا (3)، ولا أظن أحدا
يلتزم بذلك، حتى من يقول بكون الألفاظ أسامي للأمور المعلومة، فإن
الظاهر إرادتهم الأعم من المعلوم إجمالا.
وأما عدم المانع: فلأن العقل لا يمنع من التكليف - عموما أو
خصوصا - بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرين أو أمور،
والعقاب على مخالفة هذا التكليف.
وأما الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد، من
قولهم (عليهم السلام): " كل شئ حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه " (4)، و " كل

(1) هو العلامة المجلسي في أربعينه: 582، على ما حكاه عنه في القوانين 2: 27.
(2) في (ظ) و (ه‍): " جوازه ".
(3) لم ترد " وكان حلالا واقعيا " في (ر)، وفي (ص) بدل " وكان ": " فكان ".
(4) الوسائل 12: 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
200

شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه " (1)،
وغير ذلك (2)، بناء على أن هذه الأخبار كما دلت على حلية المشتبه مع
عدم العلم الإجمالي وإن كان محرما في علم الله سبحانه، كذلك دلت
على حلية المشتبه مع العلم الإجمالي.
ويؤيده: إطلاق الأمثلة المذكورة في بعض هذه الروايات، مثل
الثوب المحتمل للسرقة والمملوك المحتمل للحرية والمرأة المحتملة للرضيعة،
فإن إطلاقها يشمل الاشتباه مع العلم الإجمالي، بل الغالب ثبوت العلم
الإجمالي، لكن مع كون الشبهة غير محصورة.
ولكن هذه الأخبار وأمثالها لا تصلح للمنع، لأنها كما تدل على
حلية كل واحد من المشتبهين، كذلك تدل على حرمة ذلك المعلوم
إجمالا، لأنه أيضا شئ علم حرمته.
فإن قلت: إن غاية الحل معرفة الحرام بشخصه ولم يتحقق في
المعلوم الإجمالي.
قلت: أما قوله (عليه السلام): " كل شئ (3) حلال حتى تعلم أنه حرام
بعينه " فلا يدل على ما ذكرت، لأن قوله (عليه السلام): " بعينه " تأكيد للضمير
جئ به للاهتمام في اعتبار العلم، كما يقال: " رأيت زيدا نفسه بعينه " (4)
لدفع توهم وقوع الاشتباه في الرؤية، وإلا فكل شئ علم حرمته فقد

(1) الوسائل 12: 59، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول.
(2) يعني أخبار البراءة المتقدمة في الصفحة 28 و 41 - 44.
(3) في (ت) والمصدر زيادة: " لك ".
(4) لم ترد " نفسه " في (ر) و (ص)، ولم ترد " بعينه " في (ظ).
201

علم حرمته بعينه (1)، فإذا علم نجاسة إناء زيد وطهارة إناء عمرو
فاشتبه الإناءان، فإناء زيد شئ علم حرمته بعينه.
نعم، يتصف هذا المعلوم المعين بكونه لا بعينه إذا أطلق عليه
عنوان " أحدهما " فيقال: أحدهما لا بعينه، في مقابل أحدهما المعين عند
القائل.
وأما قوله (عليه السلام): " فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه "،
فله ظهور في ما ذكر، حيث إن قوله: " بعينه " قيد للمعرفة، فمؤداه
اعتبار معرفة الحرام بشخصه، ولا يتحقق ذلك إلا إذا أمكنت الإشارة
الحسية إليه، و (2) إناء زيد المشتبه بإناء عمرو في المثال وإن كان معلوما
بهذا العنوان إلا أنه مجهول باعتبار الأمور المميزة له في الخارج عن إناء
عمرو، فليس معروفا بشخصه.
إلا أن إبقاء الصحيحة على هذا الظهور يوجب المنافاة لما دل على
حرمة ذلك العنوان المشتبه، مثل قوله: " اجتنب عن الخمر "، لأن الإذن
في كلا المشتبهين ينافي المنع عن عنوان مردد بينهما، ويوجب الحكم
بعدم حرمة الخمر المعلوم إجمالا في متن الواقع، وهو مما يشهد الاتفاق
والنص على خلافه، حتى نفس هذه الأخبار، حيث إن مؤداها ثبوت
الحرمة الواقعية للأمر المشتبه.
فإن قلت: مخالفة الحكم الظاهري للحكم الواقعي لا يوجب
ارتفاع الحكم الواقعي، كما في الشبهة المجردة عن العلم الإجمالي، مثلا

(1) كذا في (ظ)، وفي غيرها بدل " حرمته بعينه ": " حرمة نفسه ".
(2) في (ر) و (ص) زيادة: " أما ".
202

قول الشارع: " اجتنب عن الخمر " شامل للخمر الواقعي الذي لم يعلم
به المكلف ولو إجمالا، وحليته في الظاهر لا يوجب خروجه عن العموم
المذكور حتى لا يكون حراما واقعيا، فلا ضير في التزام ذلك في الخمر
الواقعي المعلوم إجمالا.
قلت: الحكم الظاهري لا يقدح مخالفته للحكم الواقعي في نظر
الحاكم مع جهل المحكوم بالمخالفة، لرجوع ذلك إلى معذورية المحكوم
الجاهل كما في أصالة البراءة، وإلى (1) بدلية الحكم الظاهري عن الواقع
أو كونه طريقا مجعولا إليه، على الوجهين في الطرق الظاهرية المجعولة.
وأما مع علم المحكوم بالمخالفة فيقبح من الجاعل جعل كلا
الحكمين، لأن العلم بالتحريم يقتضي وجوب الامتثال بالاجتناب عن
ذلك المحرم، فإذن الشارع في فعله ينافي حكم العقل بوجوب الإطاعة.
فإن قلت: إذن الشارع في فعل المحرم مع علم المكلف بتحريمه إنما
ينافي حكم العقل من حيث إنه إذن في المعصية والمخالفة، وهو إنما يقبح
مع علم المكلف بتحقق المعصية حين ارتكابها، والإذن في ارتكاب
المشتبهين ليس كذلك إذا كان على التدريج، بل هو إذن في المخالفة مع
عدم علم المكلف بها إلا بعدها، وليس في العقل ما يقبح ذلك، وإلا
لقبح الإذن في ارتكاب جميع المشتبهات بالشبهة الغير المحصورة، أو في
ارتكاب مقدار يعلم عادة بكون الحرام فيه، وفي ارتكاب الشبهة المجردة
التي يعلم المولى اطلاع العبد بعد الفعل على كونه معصية، وفي الحكم
بالتخيير الاستمراري بين الخبرين أو فتوى المجتهدين.

(1) في (ص): " أو إلى ".
203

قلت: إذن الشارع في أحد المشتبهين ينافي - أيضا - حكم العقل
بوجوب امتثال التكليف المعلوم المتعلق بالمصداق المشتبه، لإيجاب العقل
حينئذ الاجتناب عن كلا المشتبهين.
نعم، لو أذن الشارع في ارتكاب أحدهما مع جعل الآخر بدلا
عن الواقع في الاجتزاء بالاجتناب عنه جاز، فإذن الشارع في أحدهما
لا يحسن إلا بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر بدلا ظاهريا عن الحرام
الواقعي، فيكون المحرم الظاهري هو أحدهما على التخيير وكذا المحلل
الظاهري، ويثبت المطلوب وهو حرمة المخالفة القطعية بفعل كلا
المشتبهين.
وحاصل معنى تلك الصحيحة: أن كل شئ فيه حلال وحرام فهو
لك حلال، حتى تعرف أن في ارتكابه فقط أو في ارتكابه المقرون مع
ارتكاب غيره ارتكابا للحرام، والأول في العلم التفصيلي والثاني في
العلم الإجمالي.
فإن قلت: إذا فرضنا المشتبهين مما لا يمكن ارتكابهما إلا
تدريجا، ففي زمان ارتكاب أحدهما يتحقق الاجتناب عن الآخر قهرا،
فالمقصود من التخيير وهو ترك أحدهما حاصل مع الإذن في ارتكاب
كليهما، إذ لا يعتبر في ترك الحرام القصد، فضلا عن قصد الامتثال.
قلت: الإذن في فعلهما في هذه الصورة - أيضا - ينافي الأمر
بالاجتناب عن العنوان الواقعي المحرم، لما تقدم: من أنه مع وجود دليل
حرمة ذلك العنوان المعلوم وجوده في المشتبهين لا يصح الإذن في
أحدهما إلا بعد المنع عن الآخر بدلا عن المحرم الواقعي، ومعناه المنع
عن فعله بعده، لأن هذا هو الذي يمكن أن يجعله الشارع بدلا عن
204

الحرام الواقعي حتى لا ينافي أمره بالاجتناب عنه، إذ (1) تركه في زمان
فعل الآخر لا يصلح أن يكون بدلا (2)، وحينئذ (3): فإن منع في هذه
الصورة عن واحد من الأمرين المتدرجين في الوجود لم يجز ارتكاب
الثاني بعد ارتكاب الأول، وإلا لغى المنع المذكور.
فإن قلت: الإذن في أحدهما يتوقف على المنع عن الآخر في
نفس تلك الواقعة بأن لا يرتكبهما (4) دفعة، والمفروض امتناع ذلك في ما
نحن فيه من غير حاجة إلى المنع، ولا يتوقف على المنع عن الآخر بعد
ارتكاب الأول، كما في التخيير الظاهري الاستمراري.
قلت: تجويز ارتكابهما من أول الأمر - ولو تدريجا - طرح لدليل
حرمة الحرام الواقعي، والتخيير الاستمراري في مثل ذلك ممنوع،
والمسلم منه ما إذا لم يسبق التكليف بمعين (5) أو سبق (6) التكليف (7) بالفعل
حتى يكون المأتي به في كل دفعة بدلا عن المتروك على تقدير وجوبه،
دون العكس بأن يكون المتروك في زمان الإتيان بالآخر بدلا عن المأتي به
على تقدير حرمته، وسيأتي تتمة ذلك في الشبهة الغير المحصورة (8).

(1) في (ر) و (ص): " أما ".
(2) في (ت) و (ه‍) زيادة: " عن حرمته ".
(3) كذا في (ت)، (ظ) وهامش (ه‍)، وفي غيرها: " فحينئذ ".
(4) في (ت): " يرتكبهما ".
(5) في (ر) و (ص): " بالتكليف المعين "، وفي (ظ): " بالتكليف بمعين ".
(6) في (ر)، (ص) و (ه‍): " يسبق ".
(7) في (ت)، (ر) و (ظ): " تكليف ".
(8) انظر الصفحة 248.
205

فإن قلت: إن المخالفة القطعية للعلم الإجمالي فوق حد الاحصاء
في الشرعيات، كما في الشبهة الغير المحصورة، وكما لو قال القائل في
مقام الإقرار: هذا لزيد بل لعمرو، فإن الحاكم يأخذ المال لزيد وقيمته
لعمرو، مع أن أحدهما أخذ للمال بالباطل، وكذا يجوز للثالث أن يأخذ
المال من يد زيد وقيمته من يد عمرو، مع علمه بأن أحد الأخذين
تصرف في مال الغير بغير إذنه. ولو قال: هذا لزيد بل لعمرو بل
لخالد، حيث إنه يغرم لكل من عمرو وخالد تمام القيمة، مع أن حكم
الحاكم باشتغال ذمته بقيمتين مخالف للواقع قطعا.
وأي فرق بين قوله (عليه السلام): " إقرار العقلاء على أنفسهم جائز " (1)،
وبين أدلة حل ما لم يعرف كونه حراما (2)، حتى أن الأول يعم
الإقرارين المعلوم مخالفة أحدهما للواقع، والثاني لا يعم الشيئين المعلوم
حرمة أحدهما؟
وكذلك لو تداعيا عينا في موضع يحكم بتنصيفها بينهما، مع العلم
بأنها ليست إلا لأحدهما.
وذكروا - أيضا - في باب الصلح: أنه لو كان لأحد المودعين (3)
درهم وللآخر درهمان، فتلف عند الودعي أحد الدراهم، فإنه يقسم
أحد الدرهمين الباقيين بين المالكين، مع العلم الإجمالي بأن دفع أحد
النصفين دفع للمال إلى غير صاحبه.

(1) الوسائل 16: 111، الباب 3 من كتاب الإقرار، الحديث 2.
(2) تقدمت أخبار الحل في الصفحة 200 - 201.
(3) في (ت)، (ر) و (ص): " الودعيين ".
206

وكذا لو اختلف المتبايعان في المبيع أو الثمن وحكم بالتحالف
وانفساخ البيع، فإنه يلزم مخالفة العلم الإجمالي بل التفصيلي في بعض
الفروض، كما لا يخفى.
قلت: أما الشبهة الغير المحصورة فسيجئ وجه جواز المخالفة فيها (1).
وأما الحاكم فوظيفته أخذ ما يستحقه المحكوم له على المحكوم عليه
بالأسباب الظاهرية، كالإقرار والحلف والبينة وغيرها، فهو قائم مقام
المستحق في أخذ حقه، ولا عبرة بعلمه الإجمالي.
نظير ذلك: ما إذا أذن المفتي لكل واحد من واجدي المني في
الثوب المشترك في دخول المسجد، فإنه إنما يأذن كلا منهما بملاحظة
تكليفه في نفسه، فلا يقال: إنه يلزم من ذلك إذن الجنب في دخول
المسجد وهو حرام.
وأما غير الحاكم ممن اتفق له أخذ المالين من الشخصين المقر لهما
في مسألة الإقرار، فلا نسلم جواز أخذه لهما، بل ولا لشئ منهما، إلا
إذا قلنا بأن ما يأخذه كل (2) منهما يعامل معه معاملة الملك الواقعي،
نظير ما يملكه ظاهرا بتقليد أو اجتهاد مخالف (3) لمذهب من يريد ترتيب
الأثر (4)، بناء على أن العبرة في ترتيب آثار الموضوعات الثابتة في
الشريعة - كالملكية والزوجية وغيرهما - بصحتها عند المتلبس بها
- كالمالك والزوجين - ما لم يعلم تفصيلا من يريد ترتيب الأثر خلاف

(1) انظر الصفحة 257 - 265.
(2) لم ترد " كل " في غير (ت) و (ظ).
(3) كذا في (ت)، وفي غيرها: " يخالف ".
(4) في (ت) و (ص): " الآثار ".
207

ذلك، ولذا (1) قيل (2) بجواز الاقتداء في الظهرين بواجدي المني في صلاة
واحدة، بناء على أن المناط في صحة الاقتداء الصحة عند المصلي ما
لم يعلم تفصيلا فساده.
وأما مسألة الصلح، فالحكم فيها تعبدي، وكأنه صلح قهري بين
المالكين، أو يحمل على حصول الشركة بالاختلاط، وقد ذكر بعض
الأصحاب أن مقتضى القاعدة الرجوع إلى القرعة (3).
وبالجملة: فلا بد من التوجيه في جميع ما توهم (4) جواز المخالفة
القطعية الراجعة إلى طرح دليل شرعي، لأنها كما عرفت مما يمنع عنها
العقل والنقل (5)، خصوصا إذا قصد من ارتكاب المشتبهين التوصل إلى
الحرام. هذا مما لا تأمل فيه، ومن يظهر منه جواز الارتكاب فالظاهر
أنه قصد غير هذه الصورة.
ومنه يظهر: أن إلزام القائل بالجواز (6): بأن تجويز ذلك يفضي إلى
إمكان التوصل إلى فعل جميع المحرمات على وجه مباح - بأن يجمع بين
الحلال والحرام المعلومين تفصيلا كالخمر والخل على وجه يوجب

(1) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " ولذلك ".
(2) انظر التذكرة 1: 224، والمدارك 1: 270.
(3) لم نظفر بقائله في المقام، نعم، حكاه العلامة المجلسي في أربعينه (الصفحة 582)
عن بعض الأصحاب، ونسبه في أوثق الوسائل (الصفحة 323) إلى ابن طاووس.
(4) كذا في جميع النسخ، والمناسب: " يوهم ".
(5) راجع الصفحة 200.
(6) الملزم هو صاحب الفصول في الفصول: 181.
208

الاشتباه فيرتكبهما -، محل نظر، خصوصا على ما مثل به من الجمع بين
الأجنبية والزوجة.
هذا كله فيما إذا كان الحرام المشتبه عنوانا واحدا مرددا بين
أمرين، وأما إذا كان مرددا بين عنوانين، كما مثلنا سابقا بالعلم الإجمالي
بأن أحد المائعين (1) خمر أو الآخر مغصوب، فالظاهر أن حكمه كذلك،
إذ لا فرق في عدم جواز المخالفة للدليل الشرعي بين كون ذلك الدليل
معلوما بالتفصيل وكونه معلوما بالإجمال، فإن من ارتكب الإناءين في
المثال يعلم بأنه خالف دليل حرمة الخمر أو دليل حرمة المغصوب،
ولذا (2) لو كان إناء واحد مرددا بين الخمر والمغصوب لم يجز ارتكابه،
مع أنه لا يلزم منه إلا مخالفة أحد الدليلين لا بعينه، وليس ذلك إلا
من جهة أن مخالفة الدليل الشرعي محرم عقلا وشرعا، سواء تعين
للمكلف أو تردد بين دليلين.
ويظهر من صاحب الحدائق: التفصيل في باب الشبهة المحصورة
بين كون المردد بين المشتبهين فردا من عنوان فيجب الاجتناب عنه،
وبين كونه مرددا بين عنوانين فلا يجب (3).
فإن أراد عدم وجوب الاجتناب عن شئ منهما في الثاني وجواز
ارتكابهما معا، فظهر ضعفه بما ذكرنا، وإن أراد عدم وجوب الاحتياط
فيه، فسيجئ ما فيه.

(1) في غير (ظ) ونسخة بدل (ت) زيادة: " إما ".
(2) في (ت): " كذا ".
(3) الحدائق 1: 517.
209

و (1) أما المقام الثاني:
فالحق فيه: وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقا للمشهور،
وفي المدارك: أنه مقطوع به في كلام الأصحاب (2)، ونسبه المحقق
البهبهاني في فوائده إلى الأصحاب (3)، وعن المحقق المقدس الكاظمي في
شرح الوافية: دعوى الإجماع صريحا (4)، وذهب جماعة إلى عدم
وجوبه (5)، وحكي عن بعض (6) القرعة.
لنا على ما ذكرنا: أنه إذا ثبت كون أدلة تحريم المحرمات شاملة
للمعلوم إجمالا ولم يكن هنا مانع عقلي أو شرعي من تنجز (7) التكليف
به، لزم بحكم العقل التحرز عن ارتكاب ذلك المحرم بالاجتناب عن كلا
المشتبهين.
وبعبارة أخرى: التكليف بذلك المعلوم إجمالا إن لم يكن ثابتا
جازت المخالفة القطعية، والمفروض في هذا المقام التسالم على حرمتها،

(1) " و " من نسخة جماعة المدرسين.
(2) المدارك 1: 107.
(3) الفوائد الحائرية: 248.
(4) الوافي في شرح الوافية (مخطوط)، الورقة 210.
(5) كالسيد العاملي في المدارك 1: 107، والمحقق السبزواري في الذخيرة: 138،
والمحقق القمي في القوانين 2: 25.
(6) تقدم الكلام عن هذا البعض في الصفحة 208.
(7) في (ر) و (ص): " تنجيز ".
210

وإن كان ثابتا وجب الاحتياط فيه بحكم العقل، إذ يحتمل أن يكون ما
يرتكبه من المشتبهين هو الحرام الواقعي، فيعاقب عليه، لأن المفروض
لما كان ثبوت التكليف بذلك المحرم لم يقبح العقاب عليه إذا اتفق
ارتكابه ولو لم يعلم به (1) حين الارتكاب.
واختبر ذلك من حال العبد إذا قال له المولى: " اجتنب وتحرز
عن الخمر المردد بين هذين الإناءين "، فإنك لا تكاد ترتاب في
وجوب الاحتياط، ولا فرق بين هذا الخطاب وبين أدلة المحرمات الثابتة
في الشريعة إلا العموم والخصوص.
فإن قلت: أصالة الحل في كلا المشتبهين جارية في نفسها ومعتبرة
لولا المعارض، وغاية ما يلزم في المقام تعارض الأصلين، فيتخير (2) في
العمل (3) في أحد المشتبهين، ولا وجه لطرح كليهما.
قلت: أصالة الحل غير جارية هنا بعد فرض كون المحرم الواقعي
مكلفا بالاجتناب عنه منجزا - على ما هو مقتضى (4) الخطاب بالاجتناب
عنه -، لأن مقتضى العقل في الاشتغال اليقيني بترك الحرام الواقعي هو
الاحتياط والتحرز عن كلا المشتبهين حتى لا يقع في محذور فعل الحرام،
وهو معنى المرسل المروي (5) في بعض كتب الفتاوى: " اترك ما لا بأس

(1) لم ترد " به " في (ه‍).
(2) في (ر) و (ه‍): " فتخير ".
(3) في (ظ) زيادة: " به ".
(4) في (ظ) زيادة: " عموم ".
(5) لم ترد " المروي " في (ت) و (ه‍).
211

به حذرا عما به البأس " (1)، فلا يبقى مجال للإذن في فعل أحدهما.
وسيجئ في باب الاستصحاب (2) - أيضا -: أن الحكم في تعارض كل
أصلين (3) لم يكن أحدهما حاكما على الآخر، هو التساقط لا التخيير.
فإن قلت: قوله: " كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام " (4)
و (5) نحوه (6)، يستفاد منه حلية المشتبهات بالشبهة المجردة عن العلم
الإجمالي جميعا، وحلية الشبهات (7) المقرونة بالعلم الإجمالي على البدل،
لأن الرخصة في كل شبهة مجردة لا تنافي الرخصة في غيرها، لاحتمال
كون الجميع حلالا في الواقع، فالبناء على كون هذا المشتبه بالخمر خلا،
لا ينافي البناء على كون المشتبه الآخر خلا.
وأما الرخصة في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي والبناء على كونه
خلا لما تستلزم وجوب البناء على كون المحرم هو المشتبه الآخر،
فلا يجوز الرخصة فيه جميعا، نعم يجوز الرخصة فيه بمعنى جواز ارتكابه
والبناء على أن المحرم غيره، مثل: الرخصة في ارتكاب أحد المشتبهين

(1) ورد ما يقرب منه في البحار 77: 166، الحديث 192.
(2) انظر مبحث الاستصحاب 3: 409.
(3) في (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " إذا ".
(4) في (ر)، (ص) و (ه‍) بدل (أنه حرام): " الحرام ". الوسائل 12: 60، الباب
4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
(5) في (ر)، (ص) و (ه‍): " أو ".
(6) انظر الوسائل 12: 59، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول.
(7) في (ر) و (ص): " المشتبهات ".
212

بالخمر مع العلم بكون أحدهما خمرا، فإنه لما علم من الأدلة تحريم
الخمر الواقعي ولو تردد بين الأمرين، كان معنى الرخصة في ارتكاب
أحدهما الإذن في البناء على عدم كونه هو الخمر المحرم عليه وأن المحرم
غيره، فكل منهما حلال، بمعنى جواز البناء على كون المحرم غيره.
والحاصل: أن مقصود الشارع من هذه الأخبار أن يلغي من
طرفي الشك في حرمة الشئ وحليته احتمال الحرمة ويجعل محتمل الحلية
في حكم متيقنها، ولما كان في المشتبهين بالشبهة المحصورة شك واحد
ولم يكن فيه إلا احتمال كون هذا حلالا وذاك حراما واحتمال العكس،
كان إلغاء احتمال الحرمة في أحدهما إعمالا له في الآخر وبالعكس، وكان
الحكم الظاهري في أحدهما بالحل حكما ظاهريا بالحرمة في الآخر،
وليس معنى حلية كل منهما إلا الإذن في ارتكابه وإلغاء احتمال الحرمة
فيه المستلزم لإعماله في الآخر.
فتأمل حتى لا تتوهم: أن استعمال قوله (عليه السلام): " كل شئ لك
حلال " بالنسبة إلى الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي والشبهات المجردة
استعمال في معنيين.
قلت: الظاهر من الأخبار المذكورة البناء على حلية محتمل
التحريم والرخصة فيه، لا وجوب البناء على كونه هو الموضوع
المحلل.
ولو سلم، فظاهرها البناء على كون كل مشتبه كذلك، وليس
الأمر بالبناء على كون أحد المشتبهين هو الخل أمرا بالبناء على
كون الآخر هو الخمر، فليس في الروايات من البدلية عين ولا أثر،
فتدبر.
213

احتج من جوز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ومنع عنه بوجهين:
الأول:
الأخبار الدالة على حل ما لم يعلم حرمته التي تقدم بعضها (1)،
وإنما منع من ارتكاب مقدار الحرام، إما لاستلزامه للعلم بارتكاب
الحرام وهو حرام، وإما لما ذكره بعضهم (2): من أن ارتكاب مجموع
المشتبهين حرام، لاشتماله على الحرام، قال في توضيح ذلك:
إن الشارع منع عن استعمال الحرام المعلوم وجوز استعمال ما
لم يعلم حرمته، والمجموع من حيث المجموع معلوم الحرمة ولو باعتبار
جزئه وكذا كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر، فيجب اجتنابه، وكل
منهما بشرط الانفراد مجهول الحرمة فيكون حلالا (3).
والجواب عن ذلك: أن الأخبار المتقدمة - على ما عرفت (4) - إما
أن لا تشمل شيئا من المشتبهين، وإما أن تشملهما جميعا، وما ذكر (5)
من الوجهين لعدم جواز ارتكاب الأخير بعد ارتكاب الأول، فغير
صالح للمنع.
أما الأول، فلأنه: إن أريد أن مجرد تحصيل العلم بارتكاب الحرام

(1) راجع الصفحة 200 - 201.
(2) هو الفاضل النراقي (قدس سره) في مناهج الأحكام.
(3) مناهج الأحكام: 217.
(4) راجع الصفحة 201 - 202.
(5) في (ص): " ذكره ".
214

حرام، فلم يدل دليل عليه، نعم تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام
حرام من حيث التجسس المنهي عنه وإن لم يحصل له العلم.
وإن أريد: أن الممنوع عنه عقلا من مخالفة أحكام الشارع (1) - بل
مطلق الموالي - هي المخالفة العلمية دون الاحتمالية، فإنها لا تعد عصيانا
في العرف، فعصيان الخطاب باجتناب الخمر المشتبه هو ارتكاب المجموع
دون المحرم الواقعي وإن لم يعرف حين الارتكاب، وحاصله: منع
وجوب المقدمة العلمية، ففيه:
مع إطباق العلماء بل العقلاء - كما حكي - على وجوب المقدمة
العلمية، أنه: إن أريد من حرمة المخالفة العلمية حرمة المخالفة المعلومة
حين المخالفة، فهذا اعتراف بجواز ارتكاب المجموع تدريجا، إذ لا يحصل
معه مخالفة معلومة تفصيلا.
وإن أريد منها حرمة المخالفة التي تعلق العلم بها ولو بعدها،
فمرجعها إلى حرمة تحصيل العلم الذي يصير به المخالفة معلومة، وقد
عرفت منع حرمتها جدا.
ومما ذكرنا يظهر: فساد الوجه الثاني، فإن حرمة المجموع إذا كان
باعتبار جزئه الغير المعين، فضم الجزء الآخر إليه لا دخل له في
حرمته. نعم له دخل في كون الحرام معلوم التحقق، فهي مقدمة للعلم
بارتكاب الحرام، لا لنفسه، فلا وجه لحرمتها بعد عدم حرمة العلم
بارتكاب الحرام.
ومن ذلك يظهر: فساد جعل الحرام كلا منهما بشرط الاجتماع مع

(1) في (ر)، (ص) و (ه‍): " الشرع ".
215

الآخر، فإن حرمته وإن كانت معلومة، إلا أن الشرط شرط لوصف
كونه معلوم التحقق لا لذات الحرام، فلا يحرم إيجاد الاجتماع، إلا إذا
حرم جعل ذات الحرام معلومة التحقق، ومرجعه إلى حرمة تحصيل العلم
بالحرام.
الثاني:
ما دل (1) على جواز تناول الشبهة المحصورة، فيجمع بينه (2) - على
تقدير ظهوره في جواز تناول الجميع (3) - وبين ما دل على تحريم العنوان
الواقعي، بأن الشارع جعل بعض المحتملات بدلا عن الحرام الواقعي،
فيكفي تركه في الامتثال الظاهري، كما لو اكتفى بفعل الصلاة إلى بعض
الجهات المشتبهة ورخص في ترك الصلاة إلى بعضها. وهذه الأخبار
كثيرة:
منها: موثقة سماعة. قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل
أصاب مالا من عمال بني أمية، وهو يتصدق منه ويصل قرابته ويحج،
ليغفر له ما اكتسب، ويقول: إن الحسنات يذهبن السيئات، فقال (عليه السلام):
إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة، وإن الحسنة تحط الخطيئة. ثم قال: إن كان

(1) في (ص) و (ظ) زيادة: " بنفسه أو بضميمة ما دل على المنع عن ارتكاب
الحرام الواقعي ".
(2) في (ر) و (ص): " بينها "، وفي (ظ): " بينهما ".
(3) لم ترد " على تقدير ظهوره في جواز تناول الجميع " في (ظ)، وفي (ص) كتب
عليها: " زائد ".
216

خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال،
فلا بأس " (1).
فإن ظاهره: نفي البأس عن التصدق والصلة والحج من المال
المختلط وحصول الأجر في ذلك، وليس فيه دلالة على جواز التصرف
في الجميع. ولو فرض ظهوره فيه صرف عنه، بما دل على وجوب
الاجتناب عن الحرام الواقعي، وهو مقتض بنفسه لحرمة التصرف في
الكل، فلا يجوز ورود الدليل على خلافها، ومن جهة حكم العقل بلزوم
الاحتياط لحرمة التصرف في البعض المحتمل أيضا، لكن عرفت أنه
يجوز الإذن في ترك بعض المقدمات العلمية بجعل بعضها الآخر بدلا
ظاهريا عن ذي المقدمة.
والجواب عن هذا الخبر: أن ظاهره جواز التصرف في الجميع،
لأنه يتصدق ويصل ويحج بالبعض ويمسك الباقي، فقد تصرف في الجميع
بصرف البعض وإمساك (2) الباقي، فلا بد إما من الأخذ به وتجويز
المخالفة القطعية، وإما من صرفه عن ظاهره، وحينئذ: فحمله على إرادة
نفي البأس عن التصرف في البعض وإن حرم عليه إمساك مقدار الحرام،
ليس بأولى من حمل الحرام على حرام خاص يعذر فيه الجاهل، كالربا
بناء على ما ورد في عدة أخبار: من حلية الربا الذي اخذ جهلا ثم
لم يعرف بعينه في المال المخلوط (3).

(1) الوسائل 8: 104، الباب 52 من أبواب وجوب الحج وشرائطه، الحديث 9.
(2) في (ه‍) زيادة: " البعض الآخر "، وفي (ت) بدل " الباقي ": " البعض الآخر ".
(3) الوسائل 12: 431، الباب 5 من أبواب الربا، الحديث 2 و 3.
217

وبالجملة: فالأخبار الواردة في حلية ما لم يعلم حرمته على
أصناف.
منها: ما كان من قبيل قوله (عليه السلام): " كل شئ لك حلال حتى
تعرف أنه حرام " (1).
وهذا الصنف لا يجوز الاستدلال به لمن لا يرى جواز ارتكاب
المشتبهين، لأن حمل تلك الأخبار على الواحد لا بعينه في الشبهة
المحصورة والآحاد المعينة في الشبهة المجردة من العلم الإجمالي والشبهة
الغير المحصورة، متعسر بل متعذر، فيجب حملها على صورة عدم
التكليف الفعلي بالحرام الواقعي.
ومنها: ما دل على ارتكاب كلا المشتبهين في خصوص الشبهة
المحصورة، مثل الخبر المتقدم (2).
وهذا أيضا لا يلتزم المستدل بمضمونه، ولا يجوز حمله على غير
الشبهة المحصورة - لأن مورده فيها -، فيجب حمله على أقرب المحتملين:
من ارتكاب البعض مع إبقاء مقدار الحرام، ومن وروده في مورد
خاص، كالربا ونحوه مما يمكن الالتزام بخروجه عن قاعدة الشبهة
المحصورة.
ومن ذلك يعلم: حال ما ورد في الربا من حل جميع المال
المختلط به.
ومنها: ما دل على جواز أخذ ما علم فيه الحرام إجمالا، كأخبار

(1) الوسائل 12: 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
(2) وهي رواية سماعة المتقدمة في الصفحة 216 - 217.
218

جواز الأخذ من العامل (1) والسارق (2) والسلطان (3).
وسيجئ: حمل جلها أو كلها على كون الحكم بالحل مستندا إلى
كون الشئ مأخوذا من يد المسلم، ومتفرعا على تصرفه المحمول على
الصحة عند الشك.
فالخروج بهذه الأصناف من الأخبار عن القاعدة العقلية الناشئة
عما دل من الأدلة القطعية على وجوب الاجتناب عن العناوين المحرمة
الواقعية - وهي وجوب دفع الضرر المقطوع به بين المشتبهين، ووجوب
إطاعة التكاليف المعلومة المتوقفة على الاجتناب عن كلا المشتبهين -،
مشكل جدا، خصوصا مع اعتضاد القاعدة بوجهين آخرين هما كالدليل
على المطلب.
أحدهما: الأخبار الدالة على هذا المعنى:
منها: قوله (صلى الله عليه وآله): " ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام
الحلال " (4)، والمرسل المتقدم (5): " اتركوا ما لا بأس به حذرا عما به
البأس "، وضعفها ينجبر بالشهرة المحققة والإجماع المدعى في كلام من
تقدم (6).

(1) الوسائل 12: 161، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
(2) الوسائل 12: 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
(3) الوسائل 12: 161، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
(4) المستدرك 13: 68، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
(5) تقدم في الصفحة 211 - 212.
(6) راجع الصفحة 210.
219

ومنها: رواية ضريس، عن السمن والجبن في أرض المشركين؟
" قال: أما ما علمت أنه قد خلطه الحرام فلا تأكل، وأما ما لم تعلم
فكل " (1)، فإن الخلط يصدق مع الاشتباه. ورواية ابن سنان: " كل شئ
حلال حتى يجيئك شاهدان أن فيه الميتة " (2)، فإنه يصدق على مجموع
قطعات اللحم أن فيه الميتة.
ومنها: قوله (صلى الله عليه وآله) في حديث التثليث: " وقع في المحرمات وهلك
من حيث لا يعلم " (3) بناء على أن المراد بالهلاكة ما هو أثر للحرام،
فإن كان الحرام لم يتنجز التكليف به (4) فالهلاك المترتب عليه منقصته
الذاتية (5)، وإن كان مما يتنجز التكليف به - كما في ما نحن فيه - كان
المترتب عليه هو العقاب الأخروي، وحيث إن دفع العقاب المحتمل
واجب بحكم العقل وجب الاجتناب عن كل مشتبه بالشبهة المحصورة،
ولما كان دفع الضرر غير العقاب غير لازم إجماعا كان الاجتناب عن
الشبهة المجردة (6) غير واجب، بل مستحبا.

(1) الوسائل 16: 403، الباب 64 من أبواب حكم السمن والجبن، الحديث
الأول.
(2) الوسائل 17: 91، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2، وفيه
أن الراوي ابن سليمان.
(3) الوسائل 18: 114، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
(4) في (ظ) زيادة: " لأجل الجهل ".
(5) في (ر)، (ص) و (ه‍): " منقصة ذاتية ".
(6) في (ص) و (ظ) زيادة: " عن العلم الإجمالي ".
220

وفائدة الاستدلال بمثل هذا الخبر: معارضته لما يفرض من الدليل
على جواز ارتكاب أحد المشتبهين مخيرا، وجعل الآخر بدلا عن الحرام
الواقعي، فإن مثل هذا الدليل - لو فرض وجوده (1) - حاكم على الأدلة
الدالة على الاجتناب عن عنوان المحرم الواقعي، لكنه معارض بمثل خبر
التثليث وبالنبويين (2)، بل مخصص بهما (3) لو فرض عمومه للشبهة
الابتدائية، فيسلم تلك الأدلة، فتأمل (4).
الثاني: ما يستفاد من أخبار كثيرة: من كون الاجتناب عن كل
واحد من المشتبهين أمرا مسلما مفروغا عنه بين الأئمة (عليهم السلام) والشيعة،
بل العامة أيضا، بل استدل صاحب الحدائق على أصل القاعدة باستقراء
مواردها في الشريعة (5).
لكن الإنصاف: عدم بلوغ ذلك حدا يمكن الاعتماد عليه مستقلا،
وإن كان ما يستشم منها قولا وتقريرا - من الروايات - كثيرة:
منها: ما ورد في الماءين المشتبهين (6)، خصوصا مع فتوى الأصحاب (7)
- بلا خلاف بينهم - على وجوب الاجتناب عن استعمالهما مطلقا.

(1) لم ترد " لو فرض وجوده " في (ظ).
(2) المتقدمين في الصفحة 219.
(3) في (ه‍): " بها ".
(4) " فتأمل " من (ت) و (ه‍).
(5) انظر الحدائق 1: 503.
(6) الوسائل 1: 116، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 14.
(7) انظر مفتاح الكرامة 1: 126 - 127، والجواهر 1: 290.
221

ومنها: ما ورد في الصلاة في الثوبين المشتبهين (1).
ومنها: ما ورد في وجوب غسل الثوب من الناحية التي يعلم
بإصابة بعضها للنجاسة معللا بقوله (عليه السلام): " حتى يكون على يقين من
طهارته " (2).
فإن وجوب تحصيل اليقين بالطهارة - على ما يستفاد من التعليل -
يدل على عدم جريان أصالة الطهارة بعد العلم الإجمالي بالنجاسة، وهو
الذي بنينا عليه وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة وعدم جواز
الرجوع فيها إلى أصالة الحل، فإنه لو جرت (3) أصالة الطهارة وأصالة
حل الطهارة والصلاة (4) في بعض المشتبهين، لم يكن للأحكام المذكورة
وجه، ولا للتعليل في الحكم (5) الأخير بوجوب تحصيل اليقين بالطهارة
بعد اليقين بالنجاسة.
ومنها: ما دل على بيع الذبائح المختلط ميتتها بمذكاها (6) من
أهل الكتاب (7)، بناء على حملها على ما لا يخالف عمومات حرمة
بيع الميتة، بأن يقصد بيع المذكى خاصة أو مع ما لا تحله الحياة

(1) الوسائل 2: 1082، الباب 64 من أبواب النجاسات، الحديث الأول.
(2) الوسائل 2: 1006، الباب 7 من أبواب النجاسات، الحديث 2.
(3) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي (ظ): " أجري ".
(4) كذا في (ص) و (ظ)، وفي (ر) بدل " حل الطهارة والصلاة ": " الحل ".
(5) في (ر) و (ه‍): " حكم ".
(6) في (ه‍) زيادة: " ممن يستحل الميتة ".
(7) الوسائل 12: 67، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2.
222

من الميتة (1).
وقد يستأنس له: بما (2) ورد من وجوب القرعة في قطيع الغنم
المعلوم وجود الموطوء في بعضها، وهي الرواية المحكية في جواب الإمام
الجواد (عليه السلام) لسؤال يحيى بن أكثم عن قطيع غنم نزى الراعي على
واحدة منها ثم أرسلها في الغنم؟ حيث قال (عليه السلام):
" يقسم الغنم نصفين ثم يقرع بينهما، فكل ما وقع السهم عليه قسم
غيره قسمين، وهكذا حتى يبقى واحد ونجا الباقي " (3).
وهي حجة القول بوجوب القرعة، لكنها لا تنهض لإثبات حكم
مخالف للأصول.
نعم، هي دالة على عدم جواز ارتكاب شئ منها قبل القرعة،
فإن التكليف بالاجتناب عن الموطوءة الواقعية واجب بالاجتناب عن
الكل حتى يتميز الحلال ولو بطريق شرعي.
هذا، ولكن الإنصاف: أن الرواية أدل على مطلب الخصم بناء
على حمل القرعة على الاستحباب، إذ على قول المشهور لا بد من
طرح الرواية أو العمل بها في خصوص موردها.

(1) في (ت) و (ه‍) زيادة: " فتدبر ".
(2) في (ه‍): " مما ".
(3) تحف العقول: 480، الحديث منقول بالمعنى.
223

وينبغي التنبيه على أمور:
الأول
أنه لا فرق في وجوب الاجتناب عن المشتبه الحرام بين كون
المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة وغير ذلك، لعموم ما تقدم من
الأدلة.
ويظهر من كلام صاحب الحدائق التفصيل، فإنه ذكر كلام صاحب
المدارك في مقام تأييد ما قواه، من عدم وجوب الاجتناب عن (1)
المشتبهين، وهو: أن المستفاد من قواعد الأصحاب: أنه لو تعلق الشك
بوقوع النجاسة في الإناء وخارجه لم يمنع من استعماله، وهو مؤيد لما
ذكرناه (2).
قال، مجيبا عن ذلك:
أولا: أنه (3) من باب الشبهة الغير المحصورة.
وثانيا: أن القاعدة المذكورة إنما تتعلق بالأفراد المندرجة تحت

(1) في (ظ) زيادة: " كلا ".
(2) المدارك 1: 108.
(3) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " بأنه ".
225

ماهية واحدة والجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة إذا اشتبه طاهرها
بنجسها وحلالها بحرامها، فيفرق فيها بين المحصور وغير المحصور بما
تضمنته تلك الأخبار، لا وقوع الاشتباه كيف اتفق (1)، انتهى كلامه رفع
مقامه.
وفيه - بعد منع كون ما حكاه صاحب المدارك عن الأصحاب
مختصا بغير المحصور، بل لو شك في وقوع النجاسة في الإناء أو ظهر
الإناء، فظاهرهم الحكم بطهارة الماء أيضا، كما يدل عليه تأويلهم (2)
لصحيحة علي بن جعفر الواردة في الدم الغير المستبين في الماء
بذلك (3) -: أنه لا وجه لما ذكره من اختصاص القاعدة.
أما أولا: فلعموم الأدلة المذكورة، خصوصا عمدتها وهي أدلة
الاجتناب عن العناوين المحرمة الواقعية - كالنجس والخمر ومال الغير
وغير ذلك - بضميمة حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل.
وأما ثانيا: فلأنه لا ضابطة لما ذكره من الاندراج تحت ماهية
واحدة، ولم يعلم الفرق بين تردد النجس بين ظاهر الإناء وباطنه، أو
بين الماء وقطعة من الأرض، أو بين الماء ومائع آخر، أو بين مائعين
مختلفي الحقيقة، وبين تردده بين ماءين أو ثوبين أو مائعين متحدي
الحقيقة.
نعم، هنا شئ آخر: وهو أنه هل يشترط في العنوان المحرم

(1) الحدائق 1: 517.
(2) سيشير إلى هذا التأويل في الصفحة 236.
(3) الوسائل 1: 112، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث الأول.
226

الواقعي أو النجس الواقعي المردد بين المشتبهين، أن يكون على كل
تقدير متعلقا لحكم واحد أم لا؟ مثلا: إذا كان أحد المشتبهين ثوبا
والآخر مسجدا، حيث إن المحرم في أحدهما اللبس وفي الآخر السجدة،
فليس هنا خطاب جامع للنجس الواقعي، بل العلم بالتكليف مستفاد
من مجموع قول الشارع: " لا تلبس النجس في الصلاة "، و " لا تسجد
على النجس ".
وأولى من ذلك بالإشكال: ما لو كان المحرم على كل تقدير
عنوانا غيره على التقدير الآخر، كما لو دار الأمر بين كون أحد المائعين
نجسا وكون الآخر مال الغير، لإمكان تكلف (1) إدراج الفرض الأول
تحت خطاب " الاجتناب عن النجس " بخلاف الثاني.
وأولى من ذلك: ما لو تردد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبية أو
كون هذا المائع خمرا.
وتوهم إدراج ذلك كله في وجوب الاجتناب عن الحرام، مدفوع:
بأن الاجتناب عن الحرام عنوان ينتزع من الأدلة المتعلقة بالعناوين
الواقعية، فالاعتبار بها لا به، كما لا يخفى.
والأقوى: أن المخالفة القطعية في جميع ذلك غير جائز، ولا فرق
عقلا وعرفا في مخالفة نواهي الشارع بين العلم التفصيلي بخصوص ما
خالفه وبين العلم الإجمالي بمخالفة أحد النهيين، ألا ترى أنه لو ارتكب
مائعا واحدا يعلم أنه مال الغير أو نجس، لم يعذر لجهله التفصيلي بما
خالفه، فكذا حال من ارتكب النظر إلى المرأة وشرب المائع في المثال
الأخير.

(1) لم ترد " تكلف " في (ه‍).
227

والحاصل: أن النواهي الشرعية بعد الاطلاع عليها بمنزلة نهي
واحد عن عدة أمور، فكما تقدم أنه لا يجتمع نهي الشارع عن أمر
واقعي واحد كالخمر مع الإذن في ارتكاب المائعين المردد بينهما الخمر،
فكذا لا يجتمع النهي عن عدة أمور مع الإذن في ارتكاب كلا الأمرين
المعلوم وجود أحد تلك الأمور فيهما.
وأما الموافقة القطعية: فالأقوى أيضا وجوبها، لعدم جريان أدلة
الحلية ولا أدلة البراءة عقليها ونقليها (1).
أما النقلية: فلما تقدم من استوائها بالنسبة إلى كل من المشتبهين،
وإبقاؤهما يوجب التنافي مع أدلة تحريم العناوين الواقعية، وإبقاء واحد
على سبيل البدل غير جائز، إذ بعد خروج كل منهما بالخصوص ليس
الواحد لا بعينه فردا ثالثا يبقى تحت أصالة العموم.
وأما العقل، فلمنع استقلاله في المقام بقبح مؤاخذة من ارتكب
الحرام المردد بين الأمرين، بل الظاهر استقلال العقل في المقام - بعد
عدم القبح المذكور - بوجوب دفع الضرر، أعني العقاب المحتمل في
ارتكاب أحدهما.
وبالجملة: فالظاهر عدم التفكيك في هذا المقام بين المخالفة القطعية
والمخالفة الاحتمالية، فإما أن تجوز الأولى وإما أن تمنع الثانية.

(1) في (ر)، (ص) و (ظ): " عقلها ونقلها ".
228

الثاني
أن وجوب الاجتناب عن كل من المشتبهين، هل هو بمعنى لزوم
الاحتراز عنه حذرا من الوقوع في المؤاخذة بمصادفة ما ارتكبه للحرام
الواقعي، فلا مؤاخذة إلا على تقدير الوقوع في الحرام، أو هو بمعنى
لزوم الاحتراز عنه من حيث إنه مشتبه، فيستحق المؤاخذة بارتكاب
أحدهما ولو لم يصادف الحرام، ولو ارتكبهما استحق عقابين؟
فيه وجهان، بل قولان. أقواهما: الأول، لأن حكم العقل بوجوب
دفع الضرر - بمعنى العقاب المحتمل بل المقطوع - حكم إرشادي، وكذا لو
فرض أمر الشارع بالاجتناب عن عقاب محتمل أو مقطوع بقوله:
" تحرز عن الوقوع في معصية النهي عن الزنا "، لم يكن إلا إرشاديا،
ولم يترتب على موافقته ومخالفته سوى خاصية نفس المأمور به وتركه،
كما هو شأن الطلب الإرشادي.
وإلى هذا المعنى أشار صلوات الله عليه بقوله: " اتركوا ما
لا بأس به حذرا عما به البأس " (1)، وقوله: " من ارتكب الشبهات

(1) لم نعثر عليه بعينه، نعم ورد ما يقرب منه في البحار 77: 166، الحديث 192.
229

وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم " (1).
ومن هنا ظهر: أنه لا فرق في ذلك بين الاستناد في وجوب
الاجتناب إلى حكم العقل وبين الاستناد فيه إلى حكم الشرع بوجوب
الاحتياط.
وأما حكمهم بوجوب دفع الضرر المظنون شرعا واستحقاق
العقاب على تركه وإن لم يصادف الواقع، فهو خارج عما نحن فيه،
لأن الضرر الدنيوي ارتكابه مع العلم حرام شرعا، والمفروض أن الظن
في باب الضرر طريق شرعي إليه، فالمقدم مع الظن كالمقدم مع القطع
مستحق للعقاب، كما لو ظن سائر المحرمات بالظن المعتبر.
نعم، لو شك في هذا الضرر يرجع إلى أصالة الإباحة وعدم
الضرر، لعدم استحالة ترخيص الشارع في الإقدام (2) على الضرر
الدنيوي المقطوع إذا كان في الترخيص مصلحة أخروية، فيجوز ترخيصه
في الإقدام (3) على المحتمل لمصلحة ولو كانت تسهيل الأمر على المكلف
بوكول الإقدام على إرادته. وهذا بخلاف الضرر الأخروي، فإنه على
تقدير ثبوته واقعا يقبح من الشارع الترخيص فيه.
نعم، وجوب دفعه عقلي ولو مع الشك، لكن لا يترتب على ترك
دفعه إلا نفسه على تقدير ثبوته واقعا، حتى أنه لو قطع به ثم لم يدفعه
واتفق عدمه واقعا لم يعاقب عليه إلا من باب التجري، وقد تقدم في
المقصد الأول - المتكفل لبيان مسائل حجية القطع - الكلام فيه (4)،

(1) الوسائل 18: 114، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
(2) و (3) في (ر)، (ص) و (ظ): " بالإقدام ".
(4) راجع مبحث القطع 1: 37.
230

وسيجئ أيضا (1).
فإن قلت: قد ذكر العدلية في الاستدلال على وجوب شكر
المنعم: أن في تركه احتمال المضرة، وجعلوا ثمرة وجوب شكر المنعم
وعدم وجوبه: استحقاق العقاب على ترك الشكر لمن لم يبلغه دعوة نبي
زمانه، فيدل ذلك على استحقاق العقاب بمجرد ترك دفع الضرر
الأخروي المحتمل.
قلت: حكمهم باستحقاق العقاب على ترك الشكر بمجرد احتمال
الضرر في تركه، لأجل مصادفة الاحتمال للواقع، فإن الشكر لما علمنا
بوجوبه عند الشارع وترتب العقاب على تركه، فإذا احتمل العاقل
العقاب على تركه، فإن قلنا بحكومة العقل في مسألة " دفع الضرر
المحتمل " صح عقاب تارك الشكر، من أجل إتمام الحجة عليه بمخالفة
عقله، وإلا فلا، فغرضهم: أن ثمرة حكومة العقل بدفع الضرر المحتمل
إنما يظهر في الضرر الثابت شرعا مع عدم العلم به من طريق الشرع،
لا أن الشخص يعاقب بمخالفة العقل وإن لم يكن ضرر في الواقع،
وقد تقدم في بعض مسائل الشبهة التحريمية شطر من الكلام في
ذلك.
وقد يتمسك لإثبات الحرمة في المقام بكونه تجريا، فيكون قبيحا
عقلا، فيحرم شرعا.
وقد تقدم في فروع حجية العلم: الكلام على (2) حرمة التجري

(1) انظر الصفحة 306.
(2) كذا في النسخ.
231

حتى مع القطع بالحرمة إذا كان مخالفا للواقع، كما أفتى به في التذكرة
فيما إذا اعتقد ضيق الوقت فأخر وانكشف بقاء الوقت (1)، وإن تردد في
النهاية (2).
وأضعف من ذلك: التمسك بالأدلة الشرعية الدالة على الاحتياط،
لما تقدم: من أن الظاهر من مادة " الاحتياط " التحرز عن الوقوع في
الحرام، كما يوضح ذلك النبويان السابقان (3)، وقولهم صلوات الله عليهم:
" إن الوقوف عند الشبهة أولى من الاقتحام في الهلكة " (4).

(1) التذكرة 2: 391.
(2) انظر نهاية الوصول (مخطوط): 11 و 94.
(3) السابقان في الصفحة 229، يعني قوله (صلى الله عليه وآله): " اتركوا ما لا بأس به... الخ "،
وقوله (صلى الله عليه وآله): " من ارتكب الشبهات... الخ ".
(4) الوسائل 18: 112، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
232

الثالث
أن وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين إنما هو مع تنجز التكليف
بالحرام الواقعي على كل تقدير، بأن يكون كل منهما بحيث لو فرض
القطع بكونه الحرام كان التكليف بالاجتناب منجزا، فلو لم يكن كذلك
بأن لم يكلف به أصلا، كما لو علم بوقوع قطرة من البول في أحد
إناءين أحدهما بول أو متنجس بالبول أو كثير لا ينفعل بالنجاسة،
أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه، لم يجب الاجتناب عن الآخر،
لعدم العلم بحدوث التكليف بالاجتناب عن ملاقي هذه القطرة، إذ لو
كان ملاقيها هو الإناء النجس لم يحدث بسببه تكليف بالاجتناب
أصلا، فالشك في التكليف بالاجتناب عن الآخر شك في أصل التكليف
لا المكلف به.
وكذا: لو كان التكليف في أحدهما معلوما لكن لا على وجه
التنجز، بل معلقا على تمكن المكلف منه، فإن ما لا يتمكن المكلف من
ارتكابه لا يكلف منجزا بالاجتناب عنه، كما لو علم بوقوع (1) النجاسة

(1) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " وقوع ".
233

في أحد شيئين لا يتمكن المكلف من ارتكاب واحد معين منهما، فلا
يجب الاجتناب عن الآخر، لأن الشك في أصل تنجز التكليف، لا في
المكلف به تكليفا منجزا.
وكذا: لو كان ارتكاب الواحد المعين ممكنا عقلا، لكن المكلف
أجنبي عنه وغير مبتل به بحسب حاله، كما إذا تردد النجس بين إنائه
وإناء آخر (1) لا دخل للمكلف فيه أصلا، فإن التكليف بالاجتناب عن
هذا الإناء الآخر المتمكن عقلا غير منجز عرفا، ولهذا لا يحسن
التكليف المنجز بالاجتناب عن الطعام أو الثوب الذي ليس من شأن
المكلف الابتلاء به.
نعم، يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيدا بقوله: إذا اتفق لك
الابتلاء بذلك بعارية أو تملك (2) أو إباحة فاجتنب عنه.
والحاصل: أن النواهي المطلوب فيها حمل المكلف على الترك
مختصة - بحكم العقل والعرف - بمن يعد مبتلى بالواقعة المنهي عنها، ولذا
يعد خطاب غيره بالترك مستهجنا إلا على وجه التقييد بصورة الابتلاء.
ولعل السر في ذلك: أن غير المبتلي تارك للمنهي عنه بنفس عدم
ابتلائه (3)، فلا حاجة إلى نهيه، فعند الاشتباه لا يعلم المكلف بتنجز
التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي.
وهذا باب واسع ينحل به الإشكال عما علم من عدم وجوب

(1) في (ر)، (ص) و (ه‍): " وبين إناء الآخر ".
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " بملك ".
(3) في (ت) و (ه‍): " الابتلاء ".
234

الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع، مثل ما إذا علم إجمالا بوقوع
النجاسة في إنائه أو في موضع من الأرض لا يبتلي به المكلف عادة، أو
بوقوع النجاسة في ثوبه أو ثوب الغير، فإن الثوبين لكل (1) منهما من
باب الشبهة المحصورة مع عدم وجوب اجتنابهما، فإذا أجرى أحدهما في
ثوبه أصالة الحل والطهارة لم يعارض بجريانهما في ثوب غيره، إذ
لا يترتب على هذا المعارض ثمرة عملية للمكلف يلزم من ترتبها مع
العمل بذلك الأصل طرح تكليف متنجز بالأمر المعلوم إجمالا.
ألا ترى: أن زوجة شخص لو شكت في أنها هي المطلقة أو
غيرها من ضراتها جاز لها ترتيب أحكام الزوجية على نفسها، ولو
شك الزوج هذا الشك لم يجز له النظر إلى إحداهما، وليس ذلك إلا
لأن أصالة عدم تطليقه كلا (2) منهما متعارضان في حق الزوج، بخلاف
الزوجة، فإن أصالة عدم تطلق ضرتها لا تثمر لها ثمرة عملية.
نعم، لو اتفق ترتب تكليف على زوجية ضرتها دخلت في الشبهة
المحصورة، ومثل ذلك كثير في الغاية.
ومما ذكرنا يندفع ما تقدم من صاحب المدارك (رحمه الله) (3): من
الاستنهاض على ما اختاره - من عدم وجوب الاجتناب (4) في الشبهة
المحصورة - بما (5) يستفاد من الأصحاب: من عدم وجوب الاجتناب عن

(1) في (ت) و (ه‍): " كل ".
(2) كذا في (ص)، وفي (ت) و (ر): " لكل "، وفي (ه‍): " في كل ".
(3) راجع الصفحة 225.
(4) في (ظ): " الاحتياط ".
(5) في (ص): " مما ".
235

الإناء الذي علم بوقوع النجاسة فيه أو في خارجه، إذ لا يخفى أن
خارج الإناء - سواء كان ظهره أو الأرض القريبة منه - ليس مما يبتلي
به المكلف عادة، ولو فرض كون الخارج مما يسجد عليه المكلف
التزمنا بوجوب الاجتناب عنهما، للعلم الإجمالي بالتكليف المردد بين
حرمة الوضوء بالماء النجس وحرمة السجدة على الأرض النجسة.
ويؤيد ما ذكرنا: صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه (عليهما السلام)،
الواردة في من رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه،
هل يصلح الوضوء منه؟ فقال (عليه السلام): " إن لم يكن شئ يستبين في الماء
فلا بأس به، وإن كان شيئا بينا فلا " (1).
حيث استدل به الشيخ (قدس سره) على العفو عما لا يدركه الطرف من
الدم (2)، وحملها المشهور (3) على أن إصابة الإناء لا يستلزم إصابة الماء،
فالمراد أنه مع عدم تبين شئ في الماء يحكم بطهارته، ومعلوم أن ظهر
الإناء وباطنه الحاوي للماء من الشبهة المحصورة.
وما ذكرنا، واضح لمن تدبر.
إلا أن الإنصاف: أن تشخيص موارد الابتلاء لكل من المشتبهين
وعدم الابتلاء بواحد معين منهما كثيرا ما يخفى.
ألا ترى: أنه لو دار الأمر بين وقوع النجاسة على الثوب
ووقوعها على ظهر طائر أو حيوان قريب منه لا يتفق عادة ابتلاؤه

(1) الوسائل 1: 112، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث الأول.
(2) انظر الاستبصار 1: 23، الباب 10 من أبواب المياه، ذيل الحديث 12.
(3) تقدمت الإشارة إلى هذا التأويل في الصفحة 226.
236

بالموضع النجس منه، لم يشك أحد في عدم وجوب الاجتناب عن
ثوبه، وأما لو كان الطرف الآخر أرضا لا يبعد ابتلاء المكلف به في
السجود والتيمم وإن لم يحتج إلى ذلك فعلا، ففيه تأمل.
والمعيار في ذلك وإن كان صحة التكليف بالاجتناب عنه على
تقدير العلم بنجاسته وحسن ذلك من غير تقييد التكليف بصورة
الابتلاء (1) واتفاق صيرورته واقعة له، إلا أن تشخيص ذلك مشكل
جدا.
نعم، يمكن أن يقال عند الشك في حسن التكليف التنجيزي عرفا
بالاجتناب وعدم حسنه إلا معلقا: الأصل البراءة من التكليف المنجز،
كما هو المقرر في كل ما شك فيه في كون التكليف منجزا أو معلقا على
أمر محقق العدم، أو علم التعليق على أمر لكن شك في تحققه أو كون
المتحقق من أفراده كما في المقام.
إلا أن هذا ليس بأولى من أن يقال: إن الخطابات بالاجتناب
عن المحرمات مطلقة غير معلقة، والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع
العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعلق (2) بالابتلاء، كما لو قال:
" اجتنب عن ذلك الطعام النجس الموضوع قدام أمير البلد " مع عدم
جريان العادة بابتلاء المكلف به، أو: " لا تصرف في اللباس المغصوب
الذي لبسه ذلك الملك أو الجارية التي غصبها الملك وجعلها من خواص
نسوانه "، مع عدم استحالة ابتلاء المكلف بذلك كله عقلا ولا عادة، إلا

(1) في (ظ) زيادة: " به ".
(2) الأنسب: " تعليق ".
237

أنه بعيد الاتفاق، وأما إذا شك في قبح التنجيز فيرجع إلى الإطلاقات.
فمرجع المسألة إلى: أن المطلق المقيد بقيد مشكوك التحقق في
بعض الموارد - لتعذر ضبط مفهومه على وجه لا يخفى مصداق من
مصاديقه، كما هو شأن أغلب المفاهيم العرفية - هل يجوز التمسك به أو
لا؟ والأقوى: الجواز، فيصير الأصل في المسألة وجوب الاجتناب، إلا
ما علم عدم تنجز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم بكونه
الحرام.
إلا أن يقال: إن المستفاد من صحيحة علي بن جعفر المتقدمة (1)
كون الماء وظاهر الإناء من قبيل عدم تنجز التكليف، فيكون ذلك
ضابطا في الابتلاء وعدمه، إذ يبعد حملها على خروج ذلك عن قاعدة
الشبهة المحصورة لأجل النص، فافهم.

(1) تقدمت في الصفحة 236.
238

الرابع
أن الثابت في كل من المشتبهين - لأجل العلم الإجمالي بوجود
الحرام الواقعي فيهما - هو وجوب الاجتناب، لأنه اللازم من باب
المقدمة من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي، أما سائر الآثار
الشرعية المترتبة على ذلك الحرام فلا تترتب عليهما، لعدم جريان باب
المقدمة فيها، فيرجع فيها إلى الأصول الجارية في كل من المشتبهين
بالخصوص، فارتكاب أحد المشتبهين لا يوجب حد الخمر على المرتكب،
بل يجري أصالة عدم موجب الحد ووجوبه.
وهل يحكم بتنجس ملاقيه؟ وجهان، بل قولان مبنيان على أن
تنجس الملاقي إنما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس، بناء
على أن الاجتناب عن النجس يراد به ما يعم الاجتناب عن ملاقيه
ولو بوسائط، ولذا استدل السيد أبو المكارم في الغنية على تنجس الماء
القليل بملاقاة النجاسة، بما دل على وجوب هجر النجاسات في قوله
تعالى: * (والرجز فاهجر) * (1)، ويدل عليه أيضا ما في بعض الأخبار،

(1) الغنية: 46، والآية من سورة المدثر: 5.
239

من استدلاله (عليه السلام) على حرمة الطعام الذي مات فيه فأرة ب‍: " أن الله
سبحانه حرم الميتة " (1)، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كل واحد من
المشتبهين فقد حكم بوجوب هجر كل ما لاقاه. وهذا معنى ما استدل
به العلامة (قدس سره) في المنتهى على ذلك (2): بأن الشارع أعطاهما حكم
النجس، وإلا فلم يقل أحد: إن كلا من المشتبهين بحكم النجس في
جميع آثاره.
أو أن الاجتناب عن النجس لا يراد به إلا الاجتناب عن العين،
وتنجس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتب على العنوان الواقعي
من النجاسات نظير وجوب الحد للخمر، فإذا شك في ثبوته للملاقي
جرى فيه أصل الطهارة وأصل الإباحة.
والأقوى: هو الثاني.
أما أولا: فلما ذكر، وحاصله: منع ما في الغنية، من دلالة
وجوب هجر الرجز (3) على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز إذا
لم يكن عليه أثر من ذلك الرجز، فتجنبه (4) حينئذ ليس إلا لمجرد تعبد
خاص، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة،
فلا يدل على وجوب هجر ما يلاقيه.

(1) الوسائل 1: 149، الباب 5 من أبواب الماء المطلق، الحديث 2، وسيأتي نص
الرواية في الصفحة اللاحقة.
(2) انظر المنتهى 1: 178.
(3) في (ر)، (ص) و (ظ): " النجس ".
(4) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " فتنجيسه ".
240

نعم، قد يدل بواسطة بعض الأمارات الخارجية، كما استفيد نجاسة
البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء من أمر الشارع بالطهارة عقيبه، من
جهة استظهار أن الشارع جعل هذا المورد من موارد تقديم الظاهر على
الأصل، فحكم بكون الخارج بولا، لا أنه أوجب خصوص الوضوء
بخروجه.
وبه يندفع تعجب صاحب الحدائق من حكمهم بعدم النجاسة فيما
نحن فيه وحكمهم بها في البلل، مع كون كل منهما مشتبها حكم عليه
ببعض أحكام النجاسة (1).
وأما الرواية، فهي رواية عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن
أبي جعفر (عليه السلام): " أنه أتاه رجل فقال له: وقعت فأرة في خابية فيها
سمن أو زيت، فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): لا تأكله، فقال
الرجل: الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي لأجلها، فقال له أبو
جعفر (عليه السلام): إنك لم تستخف بالفأرة وإنما استخففت بدينك، إن الله حرم
الميتة من كل شئ " (2).
وجه الدلالة: أنه (عليه السلام) جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافا
بتحريم الميتة، ولولا استلزامه لتحريم ملاقيه لم يكن أكل الطعام
استخفافا بتحريم الميتة، فوجوب الاجتناب عن شئ يستلزم وجوب
الاجتناب عن ملاقيه.
لكن الرواية ضعيفة سندا. مع أن الظاهر من الحرمة فيها النجاسة،

(1) انظر الحدائق 1: 514.
(2) الوسائل 1: 149، الباب 5 من أبواب الماء المطلق، الحديث 2.
241

لأن مجرد التحريم لا يدل على النجاسة فضلا عن تنجس الملاقي،
وارتكاب التخصيص في الرواية بإخراج ما عدا النجاسات من المحرمات،
كما ترى، فالملازمة بين نجاسة الشئ وتنجس ملاقيه، لا حرمة الشئ
وحرمة ملاقيه.
فإن قلت: وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه وإن لم يكن من
حيث ملاقاته له، إلا أنه يصير كملاقيه في العلم الإجمالي بنجاسته أو
نجاسة المشتبه الآخر، فلا فرق بين المتلاقيين في كون كل منهما أحد
طرفي الشبهة، فهو نظير ما إذا قسم أحد المشتبهين قسمين وجعل كل
قسم في إناء.
قلت: ليس الأمر كذلك، لأن أصالة الطهارة والحل في الملاقي
- بالكسر - سليم عن معارضة أصالة طهارة المشتبه الآخر، بخلاف
أصالة الطهارة والحل في الملاقى - بالفتح - فإنها معارضة بها في المشتبه
الآخر.
والسر في ذلك: أن الشك في الملاقي - بالكسر - ناش عن الشبهة
المتقومة بالمشتبهين، فالأصل فيهما (1) أصل في الشك السببي، والأصل فيه
أصل في الشك المسببي (2)، وقد تقرر في محله (3): أن الأصل في الشك
السببي حاكم (4) على الأصل في الشك المسببي (5) - سواء كان مخالفا له،

(1) في (ر)، (ص) ومحتمل (ظ): " فيها ".
(2) في (ظ) و (ه‍): " المسبب ".
(3) انظر مبحث الاستصحاب 3: 394.
(4) في (ت)، (ظ) و (ه‍) زيادة: " ووارد ".
(5) في (ر)، (ظ) و (ه‍): " المسبب ".
242

كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة نجاسة الثوب النجس
المغسول به، أم موافقا له كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة
إباحة الشرب -، فما دام الأصل الحاكم الموافق أو المخالف يكون جاريا
لم يجر الأصل المحكوم، لأن الأول رافع شرعي للشك المسبب بمنزلة
الدليل بالنسبة إليه، وإذا لم يجر الأصل الحاكم لمعارضته بمثله زال المانع
من جريان الأصل في الشك المسبب ووجب الرجوع إليه، لأنه كالأصل
بالنسبة إلى المتعارضين.
ألا ترى: أنه يجب الرجوع عند تعارض أصالة الطهارة والنجاسة
- عند تتميم الماء النجس كرا بطاهر، وعند غسل المحل النجس بماءين
مشتبهين بالنجس - إلى قاعدة الطهارة، ولا تجعل القاعدة كأحد
المتعارضين؟
نعم، ربما تجعل معاضدا لأحدهما الموافق لها (1) بزعم كونهما في
مرتبة واحدة.
لكنه توهم فاسد، ولذا لم يقل أحد في مسألة الشبهة المحصورة
بتقديم أصالة الطهارة في المشتبه الملاقى - بالفتح - لاعتضادها بأصالة
طهارة الملاقي، بالكسر.
فالتحقيق في تعارض الأصلين مع اتحاد مرتبتهما لاتحاد الشبهة
الموجبة لهما: الرجوع إلى ما وراءهما من الأصول التي لو كان أحدهما
سليما عن المعارض لم يرجع إليه، سواء كان هذا الأصل مجانسا لهما أو
من غير جنسهما كقاعدة الطهارة في المثالين، فافهم واغتنم.

(1) كذا في (ت) وهامش (ه‍)، وفي غيرهما: " له ".
243

وتمام الكلام في تعارض الاستصحابين إن شاء الله تعالى (1).
نعم، لو حصل للأصل في هذا الملاقي - بالكسر - أصل آخر في
مرتبته كما لو وجد معه ملاقي المشتبه الآخر، كانا من الشبهة المحصورة.
ولو كان ملاقاة شئ لأحد المشتبهين قبل العلم الإجمالي وفقد
الملاقى - بالفتح - ثم حصل العلم الإجمالي بنجاسة المشتبه الباقي أو
المفقود، قام ملاقيه مقامه في وجوب الاجتناب عنه وعن الباقي، لأن
أصالة الطهارة في الملاقي - بالكسر - معارضة بأصالة الطهارة في المشتبه
الآخر، لعدم جريان الأصل في المفقود حتى يعارضه، لما أشرنا إليه في
الأمر الثالث (2): من عدم جريان الأصل في ما لا يبتلي به المكلف
ولا أثر له بالنسبة إليه.
فمحصل ما ذكرنا: أن العبرة في حكم الملاقي بكون أصالة طهارته
سليمة أو معارضة.
ولو كان العلم الإجمالي قبل فقد الملاقى والملاقاة ففقد، فالظاهر
طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقى، ولا يخفى وجهه،
فتأمل جيدا.

(1) انظر مبحث الاستصحاب 3: 393.
(2) راجع الصفحة 233 - 234.
244

الخامس
لو اضطر إلى ارتكاب بعض المحتملات: فإن كان بعضا معينا،
فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي إن كان الاضطرار قبل العلم
أو معه، لرجوعه إلى عدم تنجز التكليف بالاجتناب عن الحرام
الواقعي، لاحتمال كون المحرم هو المضطر إليه، وقد عرفت توضيحه في
الأمر المتقدم (1).
وإن كان بعده فالظاهر وجوب الاجتناب عن الآخر، لأن الإذن
في ترك بعض المقدمات العلمية بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن
الحرام الواقعي، يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف
بالاجتناب عن بعض المشتبهات.
ولو كان المضطر إليه بعضا غير معين، وجب الاجتناب عن الباقي
وإن كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي، لأن العلم حاصل بحرمة واحد
من أمور لو علم حرمته تفصيلا وجب الاجتناب عنه، وترخيص بعضها
على البدل موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي.

(1) تقدم توضيحه في الأمر الثالث، الصفحة 233 - 234.
245

فإن قلت: ترخيص ترك بعض المقدمات دليل على عدم إرادة
الحرام الواقعي ولا تكليف بما عداه، فلا مقتضي لوجوب الاجتناب عن
الباقي.
قلت: المقدمة العلمية مقدمة للعلم، واللازم من الترخيص فيها
عدم وجوب تحصيل العلم، لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام
الواقعي رأسا، وحيث إن الحاكم بوجوب تحصيل العلم هو العقل
- بملاحظة تعلق الطلب الموجب للعقاب على المخالفة الحاصلة من ترك
هذا المحتمل -، كان الترخيص المذكور موجبا للأمن من العقاب على
المخالفة الحاصلة من (1) ترك هذا الذي رخص في تركه، فيثبت من ذلك
تكليف متوسط بين نفي التكليف رأسا وثبوته متعلقا بالواقع على ما هو
عليه.
وحاصله: ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخص
الشارع في امتثاله منه، وهو ترك باقي المحتملات. وهذا نظير جميع
الطرق الشرعية المجعولة للتكاليف الواقعية، ومرجعه إلى القناعة عن
الواقع ببعض محتملاته معينا كما في الأخذ بالحالة السابقة في الاستصحاب،
أو مخيرا كما في موارد التخيير.
ومما ذكرنا تبين: أن مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم
التفصيلي بالأحكام الشرعية وعدم وجوب تحصيل العلم الإجمالي (2) فيها

(1) كذا في (ظ)، وفي غيرها بدل " من ": " في "، وشطب في (ت) و (ه‍) على:
" الحاصلة ".
(2) لم ترد " الإجمالي " في (ظ).
246

بالاحتياط - لمكان الحرج أو قيام الإجماع على عدم وجوبه -: أن
يرجع في ما عدا البعض المرخص في ترك الاحتياط فيه أعني موارد
الظن مطلقا أو في الجملة إلى الاحتياط، مع أن بناء أهل الاستدلال
بدليل الانسداد بعد إبطال الاحتياط ووجوب العمل بالظن مطلقا أو في
الجملة - على الخلاف بينهم - على الرجوع في غير موارد الظن المعتبر
إلى الأصول الموجودة في تلك الموارد دون الاحتياط.
نعم، لو قام بعد بطلان (1) وجوب الاحتياط دليل عقلي أو إجماع
على وجوب (2) كون الظن - مطلقا أو في الجملة - حجة وطريقا في
الأحكام الشرعية، أو منعوا أصالة وجوب الاحتياط عند الشك في
المكلف به، صح ما جروا عليه من الرجوع في موارد عدم وجود هذا
الطريق إلى الأصول الجارية في مواردها.
لكنك خبير: بأنه لم يقم ولم يقيموا على وجوب اتباع المظنونات
إلا بطلان الاحتياط، مع اعتراف أكثرهم بأنه الأصل في المسألة وعدم
جواز ترجيح المرجوح، ومن المعلوم أن هذا لا يفيد إلا جواز مخالفة
الاحتياط بموافقة الطرف الراجح في المظنون دون الموهوم، ومقتضى هذا
لزوم الاحتياط في غير المظنونات.

(1) في (ت)، (ر) و (ص): " إبطال ".
(2) شطب على " وجوب " في (ص).
247

السادس
لو كان المشتبهات مما يوجد تدريجا، كما إذا كانت زوجة الرجل
مضطربة في حيضها بأن تنسى وقتها وإن حفظت عددها، فيعلم (1) إجمالا
أنها حائض في الشهر ثلاثة أيام مثلا، فهل يجب على الزوج الاجتناب
عنها في تمام الشهر، ويجب على الزوجة أيضا الإمساك عن دخول
المسجد وقراءة العزيمة تمام الشهر أم لا؟ وكما إذا علم التاجر إجمالا
بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربوية، فهل يجب عليه الامساك عما
لا يعرف حكمه من المعاملات في يومه أو شهره أم لا؟
التحقيق أن يقال: إنه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات
تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردد بينها إذا كان الابتلاء
دفعة، وعدمه، لاتحاد المناط في وجوب الاجتناب.
نعم، قد يمنع الابتلاء دفعة في التدريجيات، كما في مثال الحيض،
فإن تنجز تكليف الزوج بترك وطء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع،
فإن قول الشارع: * (فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى

(1) في (ت) و (ص): " فتعلم ".
248

يطهرن) * (1)، ظاهر في وجوب الكف عند الابتلاء بالحائض، إذ الترك
قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء، فلا يطلب، فهذا الخطاب كما (2)
أنه مختص بذوي الأزواج ولا يشمل العزاب إلا على وجه التعليق،
فكذلك من لم يبتل بالمرأة الحائض.
ويشكل الفرق بين هذا وبين ما إذا نذر أو حلف على ترك
الوطء في ليلة خاصة، ثم اشتبهت بين ليلتين أو أزيد.
ولكن الأظهر هنا وجوب الاحتياط، وكذا في المثال الثاني من
المثالين المتقدمين.
وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجية، فالظاهر
جواز المخالفة القطعية، لأن المفروض عدم تنجز التكليف الواقعي بالنسبة
إليه، فالواجب الرجوع في كل مشتبه إلى الأصل الجاري في خصوص
ذلك المشتبه إباحة وتحريما.
فيرجع في المثال الأول إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار
الحيض، فيرجع فيه إلى أصالة الإباحة، لعدم جريان استصحاب الطهر.
وفي المثال الثاني إلى أصالة الإباحة والفساد، فيحكم في كل معاملة
يشك في كونها ربوية بعدم استحقاق العقاب على إيقاع عقدها وعدم
ترتب الأثر عليها، لأن فساد الربا ليس دائرا مدار الحكم التكليفي،
ولذا يفسد في حق القاصر بالجهل والنسيان و (3) الصغر على وجه.

(1) البقرة: 222.
(2) في (ت): " بهذا الخطاب وكما ".
(3) كذا في (ر)، وفي غيرها: " أو ".
249

وليس هنا مورد التمسك بعموم صحة العقود (1)، للعلم بخروج بعض
المشتبهات التدريجية عن العموم، لفرض العلم بفساد بعضها، فيسقط
العام عن الظهور بالنسبة إليها، ويجب الرجوع إلى أصالة الفساد.
اللهم إلا أن يقال: إن العلم الإجمالي بين المشتبهات التدريجية كما
لا يقدح في إجراء الأصول العملية فيها، كذلك لا يقدح في إجراء (2)
الأصول اللفظية، فيمكن التمسك فيما نحن فيه لصحة (3) كل واحد من
المشتبهات بأصالة العموم، لكن الظاهر الفرق بين الأصول اللفظية
والعملية، فتأمل.

(1) في (ص) و (ظ) زيادة عبارة: " وإن قلنا بالرجوع إلى العام عند الشك في
مصداق ما خرج عنه "، وفي (ر) زيادة عبارة قريبة منها.
(2) " إجراء " من (ظ).
(3) في (ت): " في صحة "، وفي (ظ) و (ه‍): " بصحة ".
250

السابع
قد عرفت (1): أن المانع من إجراء الأصل في كل من المشتبهين
بالشبهة المحصورة هو العلم الإجمالي (2) المتعلق بالمكلف به (3)، وهذا العلم
قد ينشأ عن اشتباه المكلف به، كما في المشتبه بالخمر أو النجس أو
غيرهما، وقد يكون من جهة اشتباه المكلف، كما في الخنثى العالم إجمالا
بحرمة إحدى لباسي الرجل والمرأة عليه، وهذا من قبيل ما إذا علم أن
هذا الإناء خمر أو أن هذا الثوب مغصوب.
وقد عرفت في الأمر الأول (4): أنه لا فرق بين الخطاب الواحد
المعلوم وجود موضوعه بين المشتبهين وبين الخطابين المعلوم وجود
موضوع أحدهما بين المشتبهين.
وعلى هذا فيحرم على الخنثى كشف كل من قبليه، لأن أحدهما

(1) راجع الصفحة 211 - 212.
(2) في (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " بالتكليف ".
(3) لم ترد " به " في (ر) و (ص).
(4) راجع الصفحة 225.
251

عورة قطعا، والتكلم مع الرجال والنساء إلا لضرورة، وكذا استماع
صوتهما وإن جاز للرجال والنساء استماع صوتها بل النظر إليها، لأصالة
الحل، بناء على عدم العموم في آية " الغض " للرجال (1) وعدم جواز
التمسك بعموم آية " حرمة إبداء الزينة على النساء " (2)، لاشتباه مصداق
المخصص.
وكذا يحرم عليه التزويج والتزوج، لوجوب إحراز الرجولية في
الزوج والأنوثية في الزوجة، وإلا فالأصل (3) عدم تأثير العقد ووجوب
حفظ الفرج.
ويمكن أن يقال: بعدم توجه الخطابات التكليفية المختصة إليها، إما
لانصرافها إلى غيرها، خصوصا في حكم اللباس المستنبط مما دل على
حرمة تشبه كل من الرجل والمرأة بالآخر، وإما لاشتراط التكليف بعلم
المكلف بتوجه الخطاب إليه تفصيلا وإن كان مرددا بين خطابين
موجهين (4) إليه تفصيلا، لأن الخطابين بشخص واحد بمنزلة خطاب واحد
لشيئين (5)، إذ لا فرق بين قوله: " اجتنب عن الخمر " و " اجتنب عن
مال الغير "، وبين قوله: " اجتنب عن كليهما "، بخلاف الخطابين الموجهين

(1) النور: 30.
(2) النور: 31.
(3) كذا في (ظ)، وفي (ر) و (ص): " إذ الأصل "، وفي (ت): " والأصل "، وفي
(ه‍): " أو الأصل ".
(4) في (ت) و (ه‍): " متوجهين ".
(5) في (ت) ومحتمل (ص) و (ظ): " بشيئين ".
252

إلى صنفين يعلم المكلف دخوله تحت أحدهما.
لكن كل من الدعويين خصوصا الأخيرة ضعيفة، فإن دعوى عدم
شمول ما دل على وجوب حفظ الفرج عن الزنا أو العورة عن النظر
للخنثى، كما ترى.
وكذا دعوى اشتراط التكليف بالعلم بتوجه خطاب تفصيلي، فإن
المناط في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة عدم جواز إجراء أصل
الإباحة في المشتبهين، وهو ثابت في ما نحن فيه، ضرورة عدم (1)
جريان أصالة الحل في كشف كل من قبلي الخنثى، للعلم بوجوب حفظ
الفرج من النظر والزنا على كل أحد، فمسألة الخنثى نظير المكلف المردد
بين كونه مسافرا أو حاضرا لبعض الاشتباهات، فلا يجوز له ترك
العمل بخطابهما (2).

(1) في غير (ت) زيادة: " جواز ".
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " بخطابيهما ".
253

الثامن
أن ظاهر كلام الأصحاب التسوية بين كون الأصل في كل واحد
من المشتبهين في نفسه هو الحل أو الحرمة، لأن المفروض عدم جريان
الأصل فيهما - لأجل معارضته بالمثل -، فوجوده كعدمه.
ويمكن الفرق من المجوزين لارتكاب ما عدا مقدار الحرام،
وتخصيص الجواز بالصورة الأولى، ويحكمون في الثانية بعدم جواز
الارتكاب، بناء على العمل بالأصل فيهما، ولا يلزم هنا مخالفة قطعية في
العمل، ولا دليل على حرمتها إذا لم تتعلق بالعمل، خصوصا إذا وافق
الاحتياط.
إلا أن استدلال بعض المجوزين (1) للارتكاب بالأخبار الدالة على
حلية المال المختلط بالحرام، ربما يظهر منه التعميم، وعلى التخصيص
فيخرج عن محل النزاع، كما (2) لو علم بكون إحدى المرأتين أجنبية، أو
إحدى الذبيحتين ميتة، أو أحد المالين مال الغير، أو أحد الأسيرين

(1) كالمحقق القمي في القوانين 2: 26.
(2) في (ت): " ما ".
254

محقون الدم، أو كان الإناءان معلومي النجاسة سابقا فعلم طهارة
أحدهما.
وربما يقال (1): إن الظاهر أن محل الكلام في المحرمات المالية
ونحوها كالنجس، لا في الأنفس والأعراض، فيستظهر (2) أنه لم يقل أحد
فيها بجواز الارتكاب، لأن المنع في مثل ذلك ضروري.
وفيه نظر.

(1) قائله هو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين: 221.
(2) في (ه‍): " فيظهر ".
255

التاسع
أن المشتبه بأحد المشتبهين حكمه حكمهما، لأن مقدمة المقدمة
مقدمة، وهو ظاهر.
256

المقام الثاني
في الشبهة الغير المحصورة
والمعروف فيها: عدم وجوب الاجتناب.
ويدل عليه وجوه:
الأول:
الإجماع الظاهر المصرح به في الروض (1) وعن جامع المقاصد (2)،
وادعاه صريحا المحقق البهبهاني في فوائده - وزاد عليه نفي الريب فيه،
وأن مدار المسلمين في الأعصار والأمصار عليه (3) - وتبعه في دعوى الإجماع
غير واحد ممن تأخر عنه (4)، وزاد بعضهم دعوى الضرورة عليه في
الجملة، وبالجملة: فنقل الإجماع مستفيض، وهو كاف في المسألة.
الثاني:
ما استدل به جماعة (5): من لزوم المشقة في الاجتناب. ولعل المراد

(1) روض الجنان: 224.
(2) جامع المقاصد 2: 166.
(3) الفوائد الحائرية: 247.
(4) كصاحب الرياض في الرياض (الطبعة الحجرية) 2: 297، والسيد العاملي في
مفتاح الكرامة 2: 253.
(5) كالمحقق والشهيد الثانيين، في جامع المقاصد 2: 166، وروض الجنان: 224.
257

به لزومه في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلفين، فيشمله
عموم قوله تعالى: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (1)، وقوله
تعالى: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (2)، بناء على أن المراد أن
ما كان الغالب فيه الحرج على الغالب فهو مرتفع عن جميع المكلفين
حتى من لا حرج بالنسبة إليه.
وهذا المعنى وإن كان خلاف الظاهر، إلا أنه يتعين الحمل عليه،
بمعونة ما ورد: من إناطة الأحكام الشرعية الكلية (3) - وجودا وعدما -
بالعسر واليسر الغالبين (4).
وفي هذا الاستدلال نظر، لأن أدلة نفي العسر والحرج من الآيات
والروايات لا تدل إلا على أن ما كان فيه ضيق على مكلف فهو مرتفع
عنه، وأما ارتفاع ما كان ضيقا على الأكثر عمن هو عليه في غاية
السهولة، فليس فيه امتنان على أحد، بل فيه تفويت مصلحة التكليف
من غير تداركها بالتسهيل.
وأما ما ورد: من دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب،
فلا ينفع فيما نحن فيه، لأن الشبهة الغير المحصورة ليست واقعة واحدة (5)

(1) البقرة: 185.
(2) الحج: 78.
(3) لم ترد " الكلية " في (ر)، ووردت في (ص) بعنوان نسخة بدل.
(4) انظر الوسائل 5: 246، الباب 14 من أبواب بقية الصلوات المندوبة، الحديث
الأول. و 14: 74، الباب 48 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث الأول.
(5) لم ترد " واحدة " في (ت) و (ه‍).
258

حكم فيها بحكم حتى يدعى أن الحكم بالاحتياط في أغلب مواردها
عسر على أغلب الناس، فيرتفع حكم الاحتياط فيها مطلقا، بل هي
عنوان لموضوعات متعددة لأحكام متعددة، والمقتضي للاحتياط في كل
موضوع هو نفس الدليل الخاص التحريمي الموجود في ذلك الموضوع،
والمفروض أن ثبوت التحريم لذلك الموضوع مسلم، ولا يرد منه حرج
على الأغلب، وأن الاجتناب في صورة اشتباهه أيضا في غاية اليسر،
فأي مدخل للأخبار الواردة في أن الحكم الشرعي يتبع الأغلب في
اليسر والعسر.
وكأن المستدل بذلك، جعل الشبهة الغير المحصورة واقعة واحدة
مقتضى الدليل فيها وجوب الاحتياط لولا العسر، لكن لما تعسر
الاحتياط في أغلب الموارد على أغلب الناس حكم بعدم وجوب
الاحتياط كلية.
وفيه: أن دليل الاحتياط في كل فرد من الشبهة ليس إلا دليل
حرمة ذلك الموضوع.
نعم، لو لزم الحرج من جريان حكم العنوان المحرم الواقعي في
خصوص مشتبهاته الغير المحصورة على أغلب المكلفين في أغلب
الأوقات - كأن يدعى: أن الحكم بوجوب الاجتناب (1) عن النجس
الواقعي مع اشتباهه في أمور غير محصورة، يوجب الحرج الغالبي -
أمكن التزام ارتفاع وجوب الاحتياط في خصوص النجاسة المشتبهة.
لكن لا يتوهم (2) من ذلك: اطراد الحكم بارتفاع التحريم في الخمر

(1) في (ر)، (ه‍) ونسخة بدل (ص): " الاحتياط ".
(2) في (ظ): " لا يلزم ".
259

المشتبه بين مائعات غير محصورة، والمرأة المحرمة المشتبهة في ناحية
مخصوصة، إلى غير ذلك من المحرمات.
ولعل كثيرا ممن تمسك في هذا المقام بلزوم المشقة أراد المورد
الخاص، كما ذكروا ذلك في الطهارة والنجاسة.
هذا كله، مع أن لزوم الحرج في الاجتناب عن الشبهة الغير
المحصورة التي يقتضي الدليل المتقدم (1) وجوب الاحتياط فيها، ممنوع.
ووجهه: أن كثيرا من الشبهات الغير المحصورة لا يكون جميع
المحتملات فيها (2) مورد ابتلاء (3) المكلف، ولا يجب الاحتياط في مثل هذه
الشبهة وإن كانت محصورة كما أوضحناه سابقا (4)، وبعد إخراج هذا عن
محل الكلام فالإنصاف: منع غلبة التعسر في الاجتناب.
الثالث:
الأخبار الدالة على حلية كل ما لم يعلم حرمته (5)، فإنها بظاهرها
وإن عمت الشبهة المحصورة، إلا أن مقتضى الجمع بينها وبين ما دل على
وجوب الاجتناب بقول مطلق (6)، هو حمل أخبار الرخصة على غير

(1) أي دليل لزوم المشقة المتقدم في الصفحة 257.
(2) " فيها " من (ص) و (ظ)، ووردت بدلها في (ت) و (ه‍): " منها ".
(3) في (ت) و (ه‍): " موردا لابتلاء ".
(4) راجع الصفحة 233 - 234.
(5) الوسائل 12: 59، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، 2 و 4.
(6) الوسائل 18: 111، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2، 9
و 13.
260

المحصور وحمل أخبار المنع على المحصور.
وفيه:
أولا: أن المستند في وجوب الاجتناب (1) في المحصور هو اقتضاء
دليل نفس الحرام المشتبه لذلك بضميمة حكم العقل، وقد تقدم بما
لا مزيد عليه (2): أن أخبار حل الشبهة لا تشمل صورة العلم الإجمالي
بالحرام.
وثانيا: لو سلمنا شمولها لصورة العلم الإجمالي حتى تشمل الشبهة
الغير المحصورة، لكنها تشمل المحصورة أيضا، وأخبار (3) وجوب
الاجتناب مختصة بغير الشبهة الابتدائية إجماعا، فهي على عمومها
للشبهة الغير المحصورة أيضا أخص مطلقا من أخبار الرخصة.
والحاصل: أن أخبار الحل نص في الشبهة الابتدائية وأخبار
الاجتناب نص في الشبهة المحصورة، وكلا الطرفين ظاهران في الشبهة
الغير المحصورة، فإخراجها عن أحدهما وإدخالها في الآخر ليس جمعا،
بل ترجيحا بلا مرجح.
إلا أن يقال: إن أكثر أفراد الشبهة الابتدائية ترجع بالأخرة إلى
الشبهة الغير المحصورة، لأنا نعلم إجمالا (4) غالبا بوجود النجس والحرام

(1) في (ت) ونسخة بدل (ه‍): " الاحتياط ".
(2) راجع الصفحة 211 - 212.
(3) في (ت) و (ه‍) بدل " الغير - إلى - وأخبار ": " الغير المحصورة أيضا، لكن
أخبار " مع اختلاف.
(4) لم ترد " إجمالا " في (ر) و (ظ).
261

في الوقائع المجهولة الغير (1) المحصورة، فلو أخرجت هذه الشبهة عن
أخبار الحل لم يبق تحتها من الأفراد إلا النادر، وهو لا يناسب مساق
هذه الأخبار، فتدبر.
الرابع:
بعض الأخبار الدالة على أن مجرد العلم بوجود الحرام بين
المشتبهات لا يوجب الاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه حراما، مثل
ما في (2) محاسن البرقي، عن أبي الجارود، قال:
" سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن، فقلت: أخبرني من رأى أنه
يجعل فيه الميتة، فقال: أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم
جميع ما في الأرض؟! فما علمت فيه ميتة فلا تأكله، وما لم تعلم
فاشتر وبع وكل، والله إني لأعترض السوق فأشتري اللحم والسمن والجبن،
والله ما أظن كلهم يسمون، هذه البربر وهذه السودان... الخبر " (3).
فإن قوله: " أمن أجل مكان واحد... الخبر " ظاهر في أن مجرد
العلم بوجود الحرام لا يوجب الاجتناب عن محتملاته.
وكذا قوله (عليه السلام): " والله ما أظن كلهم يسمون "، فإن الظاهر منه
إرادة العلم بعدم تسمية جماعة حين الذبح، كالبربر والسودان.

(1) في (ت) و (ه‍): " بغير ".
(2) في (ت) و (ظ): " عن ".
(3) المحاسن 2: 296، الحديث 1976، والوسائل 17: 91، الباب 61 من أبواب
الأطعمة المباحة، الحديث 5، وليست للحديث تتمة.
262

إلا أن يدعى: أن المراد أن جعل الميتة في الجبن في مكان واحد
لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن، ولا كلام في ذلك،
لا أنه لا يوجب الاجتناب عن كل جبن يحتمل أن يكون من ذلك
المكان، فلا دخل له بالمدعى.
وأما قوله: " ما أظن كلهم يسمون "، فالمراد منه عدم وجوب
الظن أو القطع بالحلية، بل يكفي أخذها من سوق المسلمين، بناء على
أن السوق أمارة شرعية لحل الجبن المأخوذ منه ولو من يد مجهول
الإسلام.
إلا أن يقال: إن سوق المسلمين غير معتبر مع العلم الإجمالي
بوجود الحرام، فلا مسوغ للارتكاب إلا كون الشبهة غير محصورة،
فتأمل.
الخامس:
أصالة البراءة، بناء على أن المانع من إجرائها ليس إلا العلم
الإجمالي بوجود الحرام، لكنه إنما يوجب الاجتناب عن محتملاته من
باب المقدمة العلمية، التي لا تجب إلا لأجل وجوب دفع الضرر وهو
العقاب المحتمل في فعل كل واحد من المحتملات، وهذا لا يجري في
المحتملات الغير المحصورة، ضرورة أن كثرة الاحتمال توجب عدم
الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات.
ألا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السم في أحد إناءين
أو واحد (1) من ألفي إناء؟ وكذلك بين قذف أحد الشخصين لا بعينه

(1) كذا في النسخ، والأنسب: " وواحد ".
263

وبين قذف واحد من أهل بلد؟ فإن الشخصين كليهما (1) يتأثران بالأول
ولا يتأثر أحد من أهل البلد بالثاني.
وكذا الحال: لو أخبر شخص بموت الشخص المردد بين ولده
وشخص آخر، وبموت المردد بين ولده وبين كل واحد من أهل بلده،
فإنه لا يضطرب خاطره في الثاني أصلا.
وإن شئت قلت: إن ارتكاب المحتمل في الشبهة الغير المحصورة
لا يكون عند العقلاء إلا كارتكاب الشبهة الغير المقرونة بالعلم
الإجمالي.
وكأن ما ذكره الإمام (عليه السلام) في الرواية المتقدمة (2) من قوله:
" أمن أجل مكان واحد... الخبر " - بناء على الاستدلال به - إشارة
إلى هذا المعنى، حيث إنه جعل كون حرمة الجبن في مكان واحد
منشأ لحرمة جميع محتملاته الغير المحصورة، من المنكرات المعلومة
عند العقلاء التي لا ينبغي للمخاطب أن يقبلها، كما يشهد بذلك كلمة
الاستفهام الإنكاري. لكن عرفت: أن فيه احتمالا آخر يتم معه
الاستفهام الانكاري أيضا (3).
وحاصل هذا الوجه: أن العقل إذا لم يستقل بوجوب دفع العقاب
المحتمل عند كثرة المحتملات، فليس هنا ما يوجب على المكلف
الاجتناب عن كل محتمل، فيكون عقابه حينئذ عقابا من دون برهان،

(1) كذا في (ت) و (ص)، وفي غيرهما: " كلاهما ".
(2) المتقدمة في الصفحة 262.
(3) راجع الصفحة السابقة.
264

فعلم من ذلك: أن الآمر اكتفى في المحرم المعلوم إجمالا بين المحتملات،
بعدم العلم التفصيلي بإتيانه، ولم يعتبر العلم بعدم إتيانه، فتأمل.
السادس:
أن الغالب عدم ابتلاء المكلف إلا ببعض معين من محتملات الشبهة
الغير المحصورة ويكون الباقي خارجا عن محل ابتلائه، وقد تقدم (1) عدم
وجوب الاجتناب في مثله مع حصر الشبهة، فضلا عن غير المحصورة.
هذا غاية ما يمكن أن يستدل به على حكم الشبهة الغير المحصورة،
وقد عرفت: أن أكثرها لا يخلو من منع أو قصور، لكن المجموع منها
لعله يفيد القطع أو الظن بعدم وجوب الاحتياط في الجملة. والمسألة
فرعية يكتفى فيها بالظن.
إلا أن الكلام يقع في موارد:

(1) راجع الصفحة 233 - 234.
265

الأول
أنه (1) هل يجوز ارتكاب جميع المشتبهات في غير المحصورة بحيث
يلزم العلم التفصيلي، أم يجب إبقاء مقدار الحرام؟
ظاهر إطلاق القول بعدم وجوب الاجتناب هو الأول، لكن
يحتمل أن يكون مرادهم عدم وجوب الاحتياط فيه في مقابلة الشبهة
المحصورة التي قالوا فيها بوجوب الاجتناب، وهذا غير بعيد عن مساق
كلامهم. فحينئذ لا يعم معقد إجماعهم لحكم ارتكاب الكل، إلا أن
الأخبار لو عمت المقام دلت على الجواز.
وأما الوجه الخامس، فالظاهر دلالته على جواز الارتكاب، لكن
مع عدم العزم على ذلك من أول الأمر، وأما معه فالظاهر صدق
المعصية عند مصادفة الحرام، فيستحق العقاب.
فالأقوى في المسألة: عدم جواز الارتكاب إذا قصد ذلك من
أول الأمر، فإن قصده قصد للمخالفة والمعصية، فيستحق العقاب بمصادفة
الحرام.
والتحقيق: عدم جواز ارتكاب الكل، لاستلزامه طرح الدليل
الواقعي الدال على وجوب الاجتناب عن المحرم الواقعي، كالخمر في
قوله: " اجتنب عن الخمر "، لأن هذا التكليف لا يسقط من المكلف مع
علمه بوجود الخمر بين المشتبهات، غاية ما ثبت في غير المحصور:

(1) في غير (ظ): " في أنه ".
266

الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات، فيكون البعض المتروك بدلا
ظاهريا عن الحرام الواقعي، وإلا فإخراج الخمر الموجود يقينا بين
المشتبهات عن عموم قوله: " اجتنب عن كل خمر "، اعتراف بعدم
حرمته واقعا، وهو معلوم البطلان.
هذا إذا قصد الجميع من أول الأمر لأنفسها. ولو قصد نفس
الحرام من ارتكاب الجميع فارتكب الكل مقدمة له، فالظاهر استحقاق
العقاب، للحرمة (1) من أول الارتكاب بناء على حرمة التجري.
فصور ارتكاب الكل ثلاث، عرفت كلها.

(1) شطب على " للحرمة " في (ت) و (ه‍).
267

الثاني
اختلف عبارات الأصحاب في بيان ضابط المحصور وغيره: فعن
الشهيد والمحقق الثانيين (1) والميسي (2) وصاحب المدارك (3): أن المرجع فيه
إلى العرف، فهو: ما (4) كان غير محصور في العادة، بمعنى أنه يعسر عده،
لا ما امتنع عده، لأن كل ما يوجد من الأعداد قابل للعد والحصر.
وفيه - مضافا إلى أنه إنما يتجه إذا كان الاعتماد في عدم وجوب
الاجتناب على الإجماع المنقول على جواز الارتكاب في غير المحصور،
أو على تحصيل الإجماع من اتفاق من عبر بهذه العبارة الكاشف عن
إناطة الحكم في كلام المعصوم (عليه السلام) بها -: أن تعسر العد غير متحقق فيما
مثلوا به لغير المحصور كالألف مثلا، فإن عد الألف لا يعد عسرا.
وربما قيد المحقق الثاني عسر العد بزمان قصير، قال في فوائد
الشرائع - كما عن حاشية الإرشاد (5) - بعد أن ذكر أن غير المحصور من

(1) انظر روض الجنان: 224، وحاشية الإرشاد للمحقق الثاني (مخطوط): 40،
وفوائد الشرائع (مخطوط): الورقة 24، وجامع المقاصد 2: 166.
(2) الميسية للشيخ علي الميسي، غير مطبوع، ولم نعثر على مخطوطه، نعم حكاه
عنه في مفتاح الكرامة 2: 253.
(3) المدارك 3: 253.
(4) كذا في (ص)، وفي غيرها: " فما ".
(5) حاشية الإرشاد (مخطوط): 40 - 41.
268

الحقائق العرفية:
إن طريق ضبطه أن يقال: لا ريب أنه إذا اخذ مرتبة عليا من
مراتب العدد كألف مثلا، قطع بأنه مما لا يحصر ولا يعد عادة، لعسر
ذلك في الزمان القصير، فيجعل طرفا، ويؤخذ مرتبة أخرى دنيا جدا
كالثلاثة يقطع بأنها محصورة، لسهولة عدها في الزمان اليسير، وما بينهما
من الوسائط كلما جرى مجرى الطرف الأول الحق به، وكذا ما جرى
مجرى الطرف الثاني الحق به، وما يعرض فيه الشك يعرض على
القوانين والنظائر، ويراجع فيه القلب، فإن غلب على الظن إلحاقه بأحد
الطرفين فذاك، وإلا عمل فيه بالاستصحاب إلى أن يعلم الناقل.
وبهذا ينضبط كل ما ليس بمحصور شرعا في أبواب الطهارة
والنكاح وغيرهما (1).
أقول: وللنظر فيما ذكره (قدس سره) مجال.
أما أولا: فلأن جعل الألف من غير المحصور مناف لما عللوا عدم
وجوب الاجتناب به: من لزوم العسر في الاجتناب، فإنا إذا فرضنا
بيتا عشرين ذراعا في عشرين ذراعا، وعلم بنجاسة جزء يسير منه
يصح السجود عليه نسبته إلى البيت نسبة الواحد إلى الألف، فأي عسر
في الاجتناب عن هذا البيت والصلاة في بيت آخر؟ وأي فرق بين هذا
الفرض، وبين أن يعلم بنجاسة ذراع منه أو ذراعين مما يوجب حصر
الشبهة؟ فإن سهولة الاجتناب وعسره لا يتفاوت بكون المعلوم إجمالا
قليلا أو كثيرا. وكذا لو فرضنا أوقية من الطعام تبلغ ألف حبة بل أزيد

(1) فوائد الشرائع (مخطوط): الورقة 24.
269

يعلم بنجاسة أو غصبية حبة منها، فإن جعل هذا من غير المحصور
ينافي تعليل الرخصة فيه بتعسر الاجتناب.
وأما ثانيا: فلأن ظن الفقيه بكون العدد المعين جاريا مجرى
المحصور في سهولة الحصر أو مجرى غيره، لا دليل عليه.
وأما ثالثا: فلعدم استقامة الرجوع في مورد الشك إلى الاستصحاب
حتى يعلم الناقل، لأنه إن أريد استصحاب الحل والجواز كما هو الظاهر
من كلامه، ففيه: أن الوجه المقتضي لوجوب الاجتناب (1) في المحصور
- وهو وجوب المقدمة العلمية بعد العلم بحرمة الأمر الواقعي المردد بين
المشتبهات - قائم بعينه في غير المحصور، والمانع غير معلوم، فلا وجه
للرجوع إلى الاستصحاب.
إلا أن يكون نظره إلى ما ذكرنا في الدليل الخامس من أدلة عدم
وجوب الاجتناب (2): من أن المقتضي لوجوب الاجتناب (3) في الشبهة
الغير المحصورة - وهو حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل - غير
موجود، وحينئذ فمرجع الشك في كون الشبهة محصورة أو غيرها إلى
الشك في وجود المقتضي للاجتناب، ومعه يرجع إلى أصالة الجواز.
لكنك عرفت التأمل في ذلك الدليل (4)، فالأقوى: وجوب الرجوع
مع الشك إلى أصالة الاحتياط، لوجود المقتضي وعدم المانع.

(1) في (ظ): " الاحتياط ".
(2) راجع الصفحة 263.
(3) في (ر)، (ص) و (ظ): " الاحتياط ".
(4) راجع الصفحة 265.
270

وكيف كان: فما ذكروه: من إحالة غير المحصورة وتميزه (1) إلى
العرف، لا يوجب إلا زيادة التحير في موارد الشك.
وقال كاشف اللثام في مسألة المكان المشتبه بالنجس: لعل الضابط
أن ما يؤدي اجتنابه إلى ترك الصلاة غالبا فهو غير محصور، كما أن
اجتناب شاة أو امرأة مشتبهة في صقع من الأرض يؤدي إلى الترك
غالبا (2)، انتهى. واستصوبه في مفتاح الكرامة (3).
وفيه: ما لا يخفى من عدم الضبط.
ويمكن أن يقال - بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس -: إن غير
المحصور ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى حيث لا يعتني العقلاء
بالعلم الإجمالي الحاصل فيها، ألا ترى: أنه لو نهى المولى عبده عن
المعاملة مع زيد فعامل العبد مع واحد من أهل قرية كبيرة يعلم بوجود
زيد فيها، لم يكن ملوما وإن صادف زيدا؟
وقد ذكرنا: أن المعلوم بالإجمال قد يؤثر مع قلة الاحتمال ما
لا يؤثر (4) مع الانتشار وكثرة الاحتمال، كما قلناه في سب واحد مردد
بين اثنين أو ثلاثة، و (5) مردد بين أهل بلدة.

(1) في (ت) بدل " تميزه ": " تمييزه "، وفي (ظ) بدل " غير المحصورة وتميزه ":
" تميز المحصور عن غيره ".
(2) كشف اللثام 3: 349.
(3) مفتاح الكرامة 2: 253.
(4) في (ر)، (ظ) و (ه‍): " لا يؤثره ".
(5) في (ت) و (ص): " أو ".
271

ونحوه: ما إذا علم إجمالا بوجود بعض القرائن الصارفة المختفية
لبعض ظواهر الكتاب والسنة، أو حصول النقل في بعض الألفاظ، إلى
غير ذلك من الموارد التي لا يعتنى فيها بالعلوم الإجمالية المترتب (1)
عليها الآثار المتعلقة بالمعاش والمعاد في كل مقام.
وليعلم: أن العبرة في المحتملات كثرة وقلة بالوقائع التي تقع
موردا للحكم بوجوب الاجتناب مع العلم التفصيلي بالحرام، فإذا علم
بحبة أرز محرمة أو نجسة في ألف حبة، والمفروض أن تناول ألف حبة
من الأرز في العادة بعشر لقمات، فالحرام مردد بين عشرة محتملات
لا ألف محتمل، لأن كل لقمة يكون فيها الحبة حرم أخذها، لاشتمالها
على مال الغير، أو مضغها، لكونه مضغا للنجس، فكأنه علم إجمالا
بحرمة واحدة من عشر لقمات. نعم، لو اتفق تناول الحبوب في مقام
يكون تناول كل حبة واقعة مستقلة كان له حكم غير المحصور.
وهذا غاية ما ذكروا أو يمكن أن يذكر في ضابط المحصور وغيره،
ومع ذلك فلم يحصل للنفس وثوق بشئ منها.
فالأولى: الرجوع في موارد الشك إلى حكم العقلاء بوجوب
مراعاة العلم الإجمالي الموجود في ذلك المورد، فإن قوله: " اجتنب عن
الخمر " لا فرق في دلالته على تنجز التكليف بالاجتناب عن الخمر، بين
الخمر المعلوم المردد بين أمور محصورة وبين الموجود المردد بين أمور
غير محصورة، غاية الأمر قيام الدليل في غير المحصورة على اكتفاء
الشارع عن الحرام الواقعي ببعض محتملاته، كما تقدم سابقا (2).

(1) في (ت) و (ر): " المترتبة ".
(2) راجع الصفحة 257 - 265.
272

فإذا شك في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة، شك في قيام
الدليل على قيام بعض المحتملات مقام الحرام الواقعي في الاكتفاء عن
امتثاله بترك ذلك البعض، فيجب ترك جميع المحتملات، لعدم الأمن من
الوقوع في العقاب بارتكاب البعض.
273

الثالث
إذا كان المردد بين الأمور الغير المحصورة أفرادا كثيرة نسبة
مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشئ إلى الأمور المحصورة، كما إذا علم
بوجود خمسمائة شاة محرمة في ألف وخمسمائة شاة، فإن نسبة مجموع
المحرمات إلى المشتبهات كنسبة الواحد إلى الثلاثة، فالظاهر أنه ملحق
بالشبهة المحصورة، لأن الأمر متعلق بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة في
المثال، ومحتملات هذا الحرام المتبائنة ثلاثة، فهو كاشتباه الواحد في
الثلاثة، وأما ما عدا هذه الثلاثة من الاحتمالات فهي احتمالات لا تنفك
عن الاشتمال على الحرام (1).

(1) في (ت)، (ر)، (ص) و (ظ) زيادة: " فلا تعارض احتمال الحرمة "، وشطب
عليها في (ت).
274

الرابع
أنا ذكرنا في المطلب الأول (1) المتكفل لبيان حكم أقسام الشك في
الحرام مع العلم بالحرمة: أن مسائله أربع: الأولى منها الشبهة
الموضوعية.
وأما الثلاث الاخر وهي ما إذا اشتبه الحرام بغير الواجب، لاشتباه
الحكم من جهة عدم النص، أو إجمال النص، أو تعارض النصين
فحكمها يظهر مما ذكرنا في الشبهة المحصورة (2).
لكن أكثر ما يوجد من هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني، كما
إذا تردد الغناء المحرم بين مفهومين بينهما عموم من وجه، فإن مادتي
الافتراق من هذا القسم. ومثل ما إذا ثبت بالدليل حرمة الأذان الثالث
يوم الجمعة (3) واختلف في تعيينه (4). ومثل (5) قوله (عليه السلام): " من جدد قبرا

(1) راجع الصفحة 197.
(2) في (ر) بدل " المحصورة ": " الموضوعية ".
(3) كما في رواية حفص: " الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة ". الوسائل 5: 81،
الباب 49 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1 و 2.
(4) انظر نفس المصدر، ذيل الحديث 2.
(5) في (ه‍): " ومثله ".
275

أو مثل مثالا فقد خرج عن الإسلام " (1)، حيث قرى: " جدد " بالجيم
والحاء المهملة والخاء المعجمة، وقرى " جدث " بالجيم والثاء المثلثة (2).

(1) الوسائل 2: 868، الباب 43 من أبواب الدفن، الحديث الأول.
(2) انظر تفصيل الأقوال في الفقيه 1: 120 - 121، ذيل الحديث 579،
والتهذيب 1: 459 - 460، ذيل الحديث 1497.
276

المطلب الثاني
في اشتباه الواجب بغير الحرام
وهو على قسمين، لأن الواجب:
إما مردد بين أمرين متنافيين (1)، كما إذا تردد الأمر بين وجوب
الظهر والجمعة في يوم الجمعة، وبين القصر والإتمام في بعض المسائل.
وإما مردد بين الأقل والأكثر، كما إذا ترددت الصلاة الواجبة بين
ذات السورة وفاقدتها، للشك في كون السورة جزءا. وليس المثالان
الأولان من الأقل والأكثر، كما لا يخفى.
واعلم: أنا لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشك في المكلف به
صور دوران الأمر بين الأقل والأكثر، لأن مرجع الدوران بينهما في
تلك الشبهة (2) إلى الشك في أصل التكليف، لأن الأكثر معلوم الحرمة
والشك في حرمة الأقل (3).

(1) في (ص): " متباينين ".
(2) في (ظ) زيادة: " بجميع أقسامها ".
(3) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي (ر) و (ظ) بدل " الأكثر - إلى - الأقل ": " الأقل
حينئذ معلوم الحرمة والشك في حرمة الأكثر ".
277

أما القسم الأول
[فيما إذا دار الأمر في الواجب بين المتبائنين] (1)
فالكلام فيه يقع في مسائل على ما ذكرنا في أول الباب، لأنه إما
أن يشتبه الواجب بغير الحرام من جهة عدم النص المعتبر، أو إجماله،
أو تعارض النصين، أو من جهة اشتباه الموضوع.

(1) العنوان منا.
278

[المسألة الأولى]
[ما إذا اشتبه الواجب بغيره من جهة عدم النص] (1)
أما الأولى، فالكلام فيها (2): إما في جواز المخالفة القطعية في غير
ما علم - بإجماع أو ضرورة - حرمتها، كما في المثالين السابقين (3)، فإن
ترك الصلاة فيهما رأسا مخالف للإجماع بل الضرورة، وإما في وجوب
الموافقة القطعية.
أما الأول: فالظاهر حرمة المخالفة القطعية، لأنها معصية عند
العقلاء، فإنهم لا يفرقون بين الخطاب المعلوم تفصيلا أو إجمالا في حرمة
مخالفته وفي عدها معصية.
ويظهر من المحقق الخوانساري: دوران حرمة المخالفة مدار
الإجماع، وأن الحرمة في مثل الظهر والجمعة من جهته (4)، ويظهر من

(1) العنوان منا.
(2) في النسخ: " فيه ".
(3) في الصفحة 277.
(4) مشارق الشموس: 267.
279

الفاضل القمي (رحمه الله): الميل إليه (1)، والأقوى ما عرفت (2).
وأما الثاني: ففيه قولان، أقواهما (3) الوجوب، لوجود المقتضي
وعدم المانع.
أما الأول، فلأن وجوب الأمر المردد ثابت في الواقع، والأمر به
على وجه يعم العالم والجاهل صادر عن الشارع واصل إلى من علم به
تفصيلا، إذ ليس موضوع الوجوب في الأوامر مختصا بالعالم بها، وإلا
لزم الدور كما ذكره العلامة (رحمه الله) في التحرير (4)، لأن العلم بالوجوب
موقوف على الوجوب، فكيف يتوقف الوجوب عليه؟
وأما المانع، فلأن المتصور منه ليس إلا الجهل التفصيلي بالواجب،
وهو غير مانع عقلا ولا نقلا.
أما العقل، فلأن حكمه بالعذر: إن كان من جهة عجز الجاهل عن
الإتيان بالواقع - حتى يرجع الجهل إلى فقد شرط من شروط وجود
المأمور به - فلا استقلال للعقل بذلك، كما يشهد به جواز التكليف
بالمجمل في الجملة، كما اعترف به غير واحد ممن قال بالبراءة فيما نحن
فيه، كما سيأتي (5).
وإن كان من جهة كونه غير قابل لتوجه (6) التكليف إليه، فهو

(1) القوانين 2: 37.
(2) أي: حرمة المخالفة القطعية.
(3) في (ظ): " أقربهما ".
(4) لم نعثر عليه في التحرير، نعم ذكره في المنتهى 4: 230.
(5) انظر الصفحة 284 - 285.
(6) في (ه‍): " لتوجيه ".
280

أشد منعا (1)، وإلا لجاز إهمال المعلوم إجمالا رأسا بالمخالفة القطعية،
فلا وجه لالتزام حرمة المخالفة القطعية. ولقبح عقاب الجاهل المقصر على
ترك (2) الواجبات الواقعية وفعل المحرمات، كما هو المشهور.
ودعوى: أن مرادهم تكليف الجاهل في حال الجهل برفع الجهل
والإتيان بالواقع، نظير تكليف الجنب بالصلاة حال الجنابة، لا التكليف (3)
بإتيانه مع وصف الجهل، فلا تنافي بين كون الجهل مانعا وبين (4) التكليف
في حاله، وإنما الكلام في تكليف الجاهل مع وصف الجهل، لأن
المفروض فيما نحن فيه عجزه عن تحصيل العلم.
مدفوعة برجوعها حينئذ إلى ما تقدم: من دعوى كون عدم
الجهل من شروط وجود المأمور به نظير الجنابة، وقد تقدم بطلانها (5).
وأما النقل، فليس فيه ما يدل على العذر، لأن أدلة البراءة غير
جارية في المقام، لاستلزام إجرائها جواز المخالفة القطعية، والكلام بعد
فرض حرمتها.
بل في بعض الأخبار ما يدل على وجوب الاحتياط، مثل:
صحيحة عبد الرحمن - المتقدمة (6) - في جزاء الصيد: " إذا أصبتم مثل

(1) في (ت) ونسخة بدل (ه‍): " ضعفا ".
(2) في (ر) و (ظ): " بترك ".
(3) في (ظ): " لا تكليفه ".
(4) " بين " من (ظ).
(5) راجع الصفحة السابقة.
(6) المتقدمة في الصفحة 76.
281

هذا ولم تدروا، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا " وغيرها (1).
فإن قلت: إن تجويز الشارع لترك أحد المحتملين والاكتفاء بالآخر
يكشف عن عدم كون العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الإطاعة (2)، كما
أن عدم تجويز الشارع للمخالفة مع العلم التفصيلي دليل على كون العلم
التفصيلي علة تامة لوجوب الإطاعة، وحينئذ فلا ملازمة بين العلم
الإجمالي ووجوب الإطاعة، فيحتاج إثبات الوجوب إلى دليل آخر غير
العلم الإجمالي، وحيث كان مفقودا فأصل البراءة يقتضي عدم وجوب
الجمع وقبح العقاب على تركه، لعدم البيان.
نعم، لما كان ترك الكل معصية عند العقلاء حكم بحرمتها (3)،
ولا تدل حرمة المخالفة القطعية على وجوب الموافقة القطعية.
قلت: العلم الإجمالي كالتفصيلي علة تامة لتنجز التكليف بالمعلوم،
إلا أن المعلوم إجمالا يصلح لأن يجعل أحد محتمليه بدلا عنه في الظاهر،
فكل مورد حكم الشارع بكفاية أحد المحتملين للواقع - إما تعيينا كحكمه
بالأخذ (4) بالاحتمال المطابق للحالة السابقة، وإما تخييرا كما في موارد
التخيير بين الاحتمالين - فهو من باب الاكتفاء عن الواقع بذلك المحتمل،
لا الترخيص لترك الواقع بلا بدل في الجملة، فإن الواقع إذا علم به (5)

(1) انظر الوسائل 5: 365، الباب 11 من أبواب قضاء الصلوات، الحديث 1 و 2.
(2) في (ص) زيادة: " حينئذ ".
(3) في غير (ظ): " بتحريمها ".
(4) " بالأخذ " من (ه‍).
(5) في (ر) و (ظ) زيادة: " ولو إجمالا ".
282

وعلم إرادة المولى بشئ وصدور الخطاب عنه إلى العبيد وإن لم يصل
إليهم، لم يكن بد عن موافقته إما حقيقة بالاحتياط، وإما حكما بفعل
ما جعله الشارع بدلا عنه، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الشبهة
المحصورة (1).
ومما ذكرنا يظهر: عدم جواز التمسك في المقام بأدلة البراءة، مثل
رواية الحجب (2) والتوسعة (3) ونحوهما (4)، لأن العمل بها في كل من
الموردين بخصوصه يوجب طرحها بالنسبة إلى أحدهما المعين عند الله
المعلوم وجوبه، فإن وجوب واحدة من الظهر والجمعة أو من القصر
والإتمام مما لم يحجب الله علمه عنا، فليس موضوعا عنا ولسنا في سعة
منه، فلا بد إما من الحكم بعدم جريان هذه الأخبار في مثل المقام مما
علم وجوب شئ إجمالا، وإما من الحكم بأن شمولها للواحد المعين
المعلوم وجوبه ودلالتها بالمفهوم على عدم كونه موضوعا عن العباد
وكونه محمولا عليهم ومأخوذين به وملزمين عليه (5)، دليل علمي
- بضميمة حكم العقل بوجوب المقدمة العلمية - على وجوب الإتيان
بكل من الخصوصيتين، فالعلم بوجوب كل منهما لنفسه وإن كان محجوبا

(1) راجع الصفحة 212 - 213.
(2) الوسائل 18: 119، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 28.
(3) عوالي اللآلي 1: 424، الحديث 109.
(4) انظر الوسائل 11: 295، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1، 2
و 3.
(5) كذا في النسخ.
283

عنا، إلا أن العلم بوجوبه من باب المقدمة ليس محجوبا عنا، ولا منافاة
بين عدم وجوب الشئ ظاهرا لذاته ووجوبه ظاهرا من باب المقدمة،
كما لا تنافي بين عدم الوجوب النفسي واقعا وثبوت الوجوب الغيري
كذلك.
واعلم: أن المحقق القمي (رحمه الله)، بعد ما حكى عن المحقق الخوانساري
الميل إلى وجوب الاحتياط في مثل الظهر والجمعة والقصر والإتمام (1)،
قال:
إن دقيق النظر يقتضي خلافه، فإن التكليف بالمجمل المحتمل لأفراد
متعددة - بإرادة فرد معين عند الشارع مجهول عند المخاطب - مستلزم
لتأخير البيان عن وقت الحاجة الذي اتفق أهل العدل على استحالته،
وكل ما يدعى كونه من هذا القبيل فيمكن منعه، إذ غاية ما يسلم في
القصر والإتمام والظهر والجمعة وأمثالها: أن الإجماع وقع على أن من
ترك الأمرين بأن لا يفعل شيئا منهما يستحق العقاب، لا أن من ترك
أحدهما المعين عند الشارع المبهم عندنا بأن ترك فعلهما مجتمعين،
يستحق العقاب.
ونظير ذلك: مطلق التكليف بالأحكام الشرعية، سيما في أمثال
زماننا على مذهب أهل الحق من التخطئة، فإن التحقيق: أن الذي ثبت
علينا بالدليل هو تحصيل ما يمكننا تحصيله من الأدلة الظنية، لا تحصيل
الحكم النفس الأمري في كل واقعة، ولذا لم نقل بوجوب الاحتياط
وترك العمل بالظن الاجتهادي من أول الأمر.

(1) انظر مشارق الشموس: 282.
284

نعم، لو فرض حصول الإجماع أو ورود النص على وجوب شئ
معين عند الله تعالى مردد عندنا بين أمور من دون اشتراطه بالعلم به
- المستلزم ذلك الفرض لإسقاط قصد التعيين في الطاعة - لتم ذلك،
ولكن لا يحسن حينئذ قوله - يعني المحقق الخوانساري -: فلا يبعد حينئذ
القول بوجوب الاحتياط، بل لا بد من القول باليقين والجزم بالوجوب.
ولكن، من أين هذا الفرض؟ وأنى يمكن إثباته؟ (1)، انتهى كلامه،
رفع مقامه.
وما ذكره قدس الله سره قد وافق فيه بعض كلمات ذلك المحقق،
التي ذكرها في مسألة الاستنجاء بالأحجار، حيث قال بعد كلام له:
والحاصل: إذا ورد نص أو إجماع على وجوب شئ معين معلوم
عندنا أو ثبوت حكم إلى غاية معينة معلومة عندنا، فلا بد من الحكم
بلزوم تحصيل اليقين أو الظن بوجود ذلك الشئ المعلوم حتى يتحقق
الامتثال.
إلى أن قال:
وكذا إذا ورد نص أو إجماع على وجوب شئ معين في الواقع
مردد في نظرنا بين أمور، ويعلم أن ذلك التكليف غير مشروط بشئ
من العلم بذلك الشئ مثلا، أو على ثبوت حكم إلى غاية معينة في
الواقع مرددة عندنا بين أشياء ويعلم أيضا عدم اشتراطه بالعلم، وجب
الحكم بوجوب تلك الأشياء المردد فيها في نظرنا، وبقاء ذلك الحكم إلى
حصول تلك الأشياء، ولا يكفي الإتيان بواحد منها في سقوط التكليف،

(1) القوانين 2: 37.
285

وكذا حصول شئ واحد من الأشياء في ارتفاع الحكم المعين (1).
إلى أن قال:
وأما إذا لم يكن كذلك، بل ورد نص مثلا على أن الواجب
الشئ الفلاني، ونص آخر على أن هذا الواجب شئ آخر، أو ذهب
بعض الأمة إلى وجوب شئ، وبعض آخر إلى وجوب شئ آخر
دونه، وظهر بالنص والإجماع في الصورتين أن ترك ذينك الشيئين معا
سبب لاستحقاق العقاب، فحينئذ لم يظهر وجوب الإتيان بهما حتى
يتحقق الامتثال، بل الظاهر الاكتفاء بواحد منهما، سواء اشتركا في أمر
أو تباينا بالكلية.
وكذا الكلام في ثبوت الحكم إلى غاية معينة (2)، انتهى كلامه، رفع
مقامه.
وأنت خبير بما في هذه الكلمات من النظر.
أما ما ذكره الفاضل القمي (رحمه الله): من حديث التكليف بالمجمل
وتأخير البيان عن وقت الحاجة، فلا دخل له في المقام، إذ لا إجمال في
الخطاب أصلا، وإنما طرأ الاشتباه في المكلف به من جهة تردد ذلك
الخطاب المبين بين أمرين، وإزالة هذا التردد العارض من جهة أسباب
اختفاء الأحكام غير واجبة على الحكيم تعالى حتى يقبح تأخيره عن
وقت الحاجة، بل يجب عند هذا الاختفاء الرجوع إلى ما قرره الشارع
كلية في الوقائع المختفية، وإلا فما يقتضيه العقل من البراءة والاحتياط.

(1) في (ص) و (ظ) بدل " المعين ": " المغيى ".
(2) مشارق الشموس: 77.
286

ونحن ندعي أن العقل حاكم - بعد العلم بالوجوب والشك في
الواجب، وعدم الدليل من الشارع على الأخذ بأحد الاحتمالين المعين أو
المخير والاكتفاء به من الواقع - بوجوب الاحتياط، حذرا من ترك
الواجب الواقعي، وأين ذلك من مسألة التكليف بالمجمل وتأخير البيان
عن وقت الحاجة؟
مع أن التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت العمل لا دليل
على قبحه إذا تمكن المكلف من الإطاعة ولو بالاحتياط.
وأما ما ذكره تبعا للمحقق المذكور: من تسليم وجوب الاحتياط
إذا قام الدليل على وجوب شئ معين في الواقع غير مشروط بالعلم به،
ففيه:
أنه إذا كان التكليف بالشئ قابلا لأن يقع مشروطا بالعلم ولأن
يقع منجزا غير مشروط بالعلم بالشئ (1)، كان ذلك اعترافا بعدم قبح
التكليف بالشئ المعين المجهول، فلا يكون العلم شرطا عقليا، وأما
اشتراط التكليف به شرعا فهو غير معقول بالنسبة إلى الخطاب الواقعي،
فإن الخطاب الواقعي في يوم الجمعة - سواء فرض قوله: " صل الظهر "،
أم فرض قوله: " صل الجمعة " - لا يعقل أن يشترط بالعلم بهذا الحكم
التفصيلي.
نعم، بعد اختفاء هذا الخطاب المطلق يصح أن يرد خطاب مطلق،
كقوله: " اعمل بذلك الخطاب ولو كان عندك مجهولا، وائت بما فيه ولو
كان غير معلوم "، كما يصح أن يرد خطاب مشروط، وأنه لا يجب

(1) في (ظ) بدل " بالشئ ": به.
287

عليك ما اختفى عليك من التكليف في يوم الجمعة، وأن وجوب امتثاله
عليك مشروط بعلمك به تفصيلا.
ومرجع الأول إلى الأمر بالاحتياط، ومرجع الثاني إلى البراءة
عن الكل إن أفاد نفي وجوب الواقع رأسا المستلزم لجواز المخالفة
القطعية، وإلى (1) نفي ما علم إجمالا بوجوبه. وإن أفاد نفي وجوب القطع
بإتيانه وكفاية إتيان بعض ما يحتمله، فمرجعه إلى جعل البدل للواقع
والبراءة عن إتيان الواقع على ما هو عليه.
لكن دليل البراءة على الوجه الأول ينافي العلم الإجمالي المعتبر
بنفس أدلة البراءة المغياة بالعلم، وعلى الوجه الثاني غير موجود، فيلزم
من هذين الأمرين - أعني وجوب مراعاة العلم الإجمالي وعدم وجود
دليل على قيام أحد المحتملين مقام المعلوم إجمالا - أن يحكم العقل
بوجوب الاحتياط، إذ لا ثالث لذينك الأمرين، فلا حاجة إلى أمر
الشارع بالاحتياط، ووجوب الإتيان بالواقع غير مشروط بالعلم
التفصيلي به، مضافا إلى ورود الأمر بالاحتياط في كثير من الموارد.
وأما ما ذكره: من استلزام ذلك الفرض - أعني تنجز (2) التكليف
بالأمر المردد من دون اشتراط بالعلم به - لإسقاط قصد التعيين في
الطاعة، ففيه:
أن سقوط قصد التعيين إنما حصل بمجرد التردد والإجمال في
الواجب، سواء قلنا فيه بالبراءة أو الاحتياط، وليس لازما لتنجز

(1) شطبت " إلى " في (ت) و (ه‍).
(2) في (ر)، (ص) و (ه‍): " تنجيز ".
288

التكليف بالواقع وعدم اشتراطه بالعلم.
فإن قلت: إذا سقط قصد التعيين لعدم التمكن، فبأيهما ينوي
الوجوب والقربة؟
قلت: له في ذلك طريقان:
أحدهما: أن ينوي بكل منهما الوجوب والقربة، لكونه بحكم العقل
مأمورا بالإتيان بكل منهما.
وثانيهما: أن ينوي بكل منهما حصول الواجب به أو بصاحبه
تقربا إلى الله، فيفعل كلا منهما، فيحصل الواجب الواقعي، وتحصيله
لوجوبه والتقرب به إلى الله تعالى، فيقصد (1) أني أصلي الظهر لأجل
تحقق الفريضة الواقعية به أو بالجمعة التي أفعل بعدها أو فعلت قبلها
قربة إلى الله، وملخص ذلك: أني أصلي الظهر احتياطا قربة إلى الله.
وهذا الوجه هو الذي ينبغي أن يقصد.
ولا يرد عليه: أن المعتبر في العبادة قصد التقرب والتعبد بها
بالخصوص، ولا ريب أن كلا من الصلاتين عبادة، فلا معنى لكون
الداعي في كل منهما التقرب المردد بين تحققه به أو بصاحبه، لأن القصد
المذكور إنما هو معتبر في العبادات الواقعية دون المقدمية.
وأما الوجه الأول، فيرد عليه: أن المقصود إحراز الوجه الواقعي،
وهو الوجوب الثابت في أحدهما المعين، ولا يلزم من نية الوجوب
المقدمي قصده.
وأيضا: فالقربة غير حاصلة بنفس فعل أحدهما ولو بملاحظة

(1) في (ت)، (ظ) و (ه‍): " فيتصور ".
289

وجوبه الظاهري، لأن هذا الوجوب مقدمي ومرجعه إلى وجوب تحصيل
العلم بفراغ الذمة، ودفع احتمال ترتب ضرر العقاب بترك بعض منهما،
وهذا الوجوب إرشادي لا تقرب فيه أصلا، نظير أوامر الإطاعة، فإن
امتثالها لا يوجب تقربا، وإنما المقرب نفس الإطاعة، والمقرب هنا - أيضا -
نفس الإطاعة (1) الواقعية المرددة بين الفعلين، فافهم، فإنه لا يخلو
عن دقة.
ومما ذكرنا يندفع توهم: أن الجمع بين المحتملين مستلزم لإتيان
غير الواجب على جهة العبادة، لأن قصد القربة المعتبر (2) في الواجب
الواقعي لازم المراعاة في كلا المحتملين - ليقطع بإحرازه في الواجب
الواقعي - ومن المعلوم أن الإتيان بكل من المحتملين بوصف أنها عبادة
مقربة، يوجب التشريع بالنسبة إلى ما عدا الواجب الواقعي فيكون
محرما، فالاحتياط غير ممكن في العبادات، وإنما يمكن في غيرها، من
جهة أن الإتيان بالمحتملين لا يعتبر فيهما قصد التعيين والتقرب، لعدم
اعتباره في الواجب الواقعي المردد، فيأتي بكل منهما لاحتمال وجوبه.
ووجه اندفاع هذا التوهم، مضافا إلى أن غاية ما يلزم من ذلك
عدم التمكن من تمام الاحتياط في العبادات حتى (3) من حيث مراعاة
قصد التقرب المعتبر في الواجب الواقعي - من جهة استلزامه للتشريع
المحرم -، فيدور الأمر بين الاقتصار على أحد المحتملين، وبين الإتيان

(1) " والمقرب هنا أيضا نفس الإطاعة " من (ص) و (ر).
(2) في (ت)، (ص) و (ظ): " المعتبرة ".
(3) لم ترد " حتى " في (ظ).
290

بهما مهملا لقصد التقرب في الكل فرارا عن التشريع، ولا شك أن
الثاني أولى، لوجوب الموافقة القطعية بقدر الإمكان، فإذا لم يمكن
الموافقة بمراعاة جميع ما يعتبر في الواقعي في كل من المحتملين، اكتفي
بتحقق ذات الواجب في ضمنهما:
أن اعتبار قصد التقرب والتعبد في العبادة الواجبة واقعا لا يقتضي
قصده (1) في كل منهما، كيف وهو غير ممكن! وإنما يقتضي وجوب (2)
قصد التقرب والتعبد في الواجب (3) المردد بينهما بأن يقصد في كل منهما:
أني أفعله ليتحقق به أو بصاحبه التعبد بإتيان الواجب الواقعي.
وهذا الكلام بعينه جار في قصد الوجه المعتبر في الواجب، فإنه
لا يعتبر قصد ذلك الوجه خاصة في خصوص كل منهما، بأن يقصد أني
أصلي الظهر لوجوبه، ثم يقصد أني أصلي الجمعة لوجوبها، بل يقصد:
أني أصلي الظهر، لوجوب الأمر الواقعي المردد بينه وبين الجمعة التي
أصليها بعد ذلك أو صليتها قبل ذلك.
والحاصل: أن نية الفعل هو قصده على الصفة التي هو عليها التي
باعتبارها صار واجبا، فلا بد من ملاحظة ذلك في كل من المحتملين،
وإذا لاحظنا ذلك فيه وجدنا الصفة التي هو عليها - الموجبة للحكم

(1) كذا في (ت)، (ص) و (ر)، وفي (ظ)، (ه‍) ونسخة بدل (ت): " لا يقضي
بقصده ".
(2) كذا في (ت)، وفي (ظ)، (ه‍) ونسخة بدل (ت): " يقضي بوجوب "، وفي (ر)
و (ص): " يقتضي لوجوب ".
(3) في (ت) زيادة: " الواقعي ".
291

بوجوبه - هو احتمال تحقق الواجب المتعبد به والمتقرب به إلى الله تعالى
في ضمنه، فيقصد هذا المعنى، والزائد على هذا المعنى غير موجود فيه،
فلا معنى لقصد التقرب في كل منهما بخصوصه، حتى يرد: أن التقرب
والتعبد بما لم يتعبد به الشارع تشريع محرم.
نعم، هذا الإيراد متوجه على ظاهر من اعتبر في كل من
المحتملين قصد التقرب والتعبد به بالخصوص. لكنه مبني - أيضا - على
لزوم ذلك من الأمر الظاهري بإتيان كل منهما، فيكون كل منهما عبادة
واجبة في (1) مرحلة الظاهر، كما إذا شك في الوقت أنه صلى الظهر أم
لا، فإنه يجب عليه فعلها، فينوي الوجوب والقربة وإن احتمل كونها في
الواقع لغوا غير مشروع، فلا يرد عليه إيراد التشريع، إذ التشريع إنما
يلزم لو قصد بكل منهما أنه الواجب واقعا المتعبد به في نفس الأمر.
ولكنك عرفت: أن مقتضى النظر الدقيق خلاف هذا البناء (2)، وأن
الأمر المقدمي - خصوصا الموجود في المقدمة العلمية التي لا يكون الأمر
بها إلا إرشاديا - لا يوجب موافقته التقرب، ولا يصير منشأ لصيرورة
الشئ من العبادات إذا لم يكن في نفسه منها (3).
وقد تقدم في مسألة " التسامح في أدلة السنن " ما يوضح حال
الأمر بالاحتياط (4). كما أنه قد استوفينا في بحث " مقدمة الواجب " حال

(1) كذا في غير (ه‍)، وفيها: " بإتيان كل منهما عبادة، فيكون كل منهما واجبة
في ".
(2) راجع الصفحة السابقة.
(3) في (ت) و (ه‍) بدل " منها ": " عبادة ".
(4) راجع الصفحة 152 - 153.
292

الأمر المقدمي (1)، وعدم صيرورة المقدمة بسببه عبادة، وذكرنا ورود
الإشكال من هذه الجهة على كون التيمم من العبادات على تقدير عدم
القول برجحانه في نفسه كالوضوء، فإنه لا منشأ حينئذ لكونه منها إلا
الأمر المقدمي به من الشارع.
فإن قلت: يمكن إثبات الوجوب الشرعي المصحح لنية الوجه
والقربة في المحتملين، لأن الأول منهما واجب بالإجماع ولو فرارا عن
المخالفة القطعية، والثاني واجب بحكم الاستصحاب المثبت للوجوب
الشرعي الظاهري، فإن مقتضى الاستصحاب بقاء الاشتغال وعدم
الإتيان بالواجب الواقعي وبقاء وجوبه.
قلت: أما المحتمل المأتي به أولا فليس واجبا في الشرع لخصوص
كونه ظهرا أو جمعة، وإنما وجب لاحتمال تحقق الواجب به الموجب
للفرار عن المخالفة، أو للقطع بالموافقة إذا اتي معه بالمحتمل الآخر، وعلى
أي تقدير فمرجعه إلى الأمر بإحراز الواقع ولو احتمالا.
وأما المحتمل الثاني فهو أيضا ليس إلا بحكم العقل من باب
المقدمة. وما ذكر من الاستصحاب، فيه - بعد منع جريان الاستصحاب
في هذا المقام، من جهة حكم العقل من أول الأمر بوجوب الجميع
و (2) بعد الإتيان بأحدهما يكون حكم العقل باقيا قطعا، وإلا لم يكن
حاكما بوجوب الجميع وهو خلاف الفرض -:
أن مقتضى الاستصحاب وجوب البناء على بقاء الاشتغال حتى

(1) انظر مطارح الأنظار: 71.
(2) في (ت) و (ر) بدل " و ": " إذ ".
293

يحصل اليقين بارتفاعه، أما وجوب تحصيل اليقين بارتفاعه فلا يدل
عليه الاستصحاب، وإنما يدل عليه العقل المستقل بوجوب القطع بتفريغ
الذمة عند اشتغالها، وهذا معنى الاحتياط، فمرجع الأمر إليه.
وأما استصحاب وجوب ما وجب سابقا في الواقع أو استصحاب
عدم الإتيان بالواجب الواقعي، فشئ منهما لا يثبت وجوب المحتمل
الثاني حتى يكون وجوبه شرعيا إلا على تقدير القول بالأصول المثبتة،
وهي منفية كما قرر في محله (1).
ومن هنا ظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين استصحاب عدم فعل
الظهر وبقاء وجوبه على من شك في فعله، فإن الاستصحاب بنفسه
مقتض هناك لوجوب الإتيان بالظهر الواجب في الشرع على الوجه
الموظف، من قصد الوجوب والقربة وغيرهما.
ثم إن بقية (2) الكلام في ما يتعلق بفروع هذه المسألة تأتي في
الشبهة الموضوعية (3) إن شاء الله تعالى.

(1) انظر مبحث الاستصحاب 3: 233.
(2) " بقية " من (ظ).
(3) انظر الصفحة 299.
294

المسألة الثانية
ما إذا اشتبه الواجب في الشريعة بغيره (1) من جهة إجمال النص
بأن يتعلق التكليف الوجوبي بأمر مجمل، كقوله: " ائتني بعين "،
وقوله تعالى: * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) * (2)، بناء على
تردد الصلاة الوسطى بين صلاة الجمعة كما في بعض الروايات (3)،
وغيرها كما في بعض آخر (4).
والظاهر: أن الخلاف هنا بعينه الخلاف في المسألة الأولى، والمختار
فيها هو المختار هناك، بل هنا أولى، لأن الخطاب هنا تفصيلا متوجه
إلى المكلفين، فتأمل.
وخروج الجاهل لا دليل عليه، لعدم قبح تكليف الجاهل بالمراد
من المأمور به إذا كان قادرا على استعلامه من دليل منفصل، فمجرد

(1) في (ص): " بغير الحرام ".
(2) البقرة: 238.
(3) الوسائل 3: 15، الباب 5 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 4.
(4) انظر الوسائل 3: 14، الباب 5 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 1 - 6،
والباب 2 منها، الحديث الأول.
295

الجهل لا يقبح توجيه (1) الخطاب.
ودعوى: قبح توجيهه إلى العاجز عن استعلامه تفصيلا القادر
على الاحتياط فيه بإتيان المحتملات، أيضا ممنوعة، لعدم القبح فيه
أصلا.
وما تقدم من البعض - من منع التكليف بالمجمل، لاتفاق العدلية
على استحالة تأخير البيان - قد عرفت منع قبحه أولا، وكون الكلام فيما
عرض له الإجمال ثانيا (2).
ثم إن المخالف في المسألة ممن عثرنا عليه، هو الفاضل القمي (قدس سره) (3)
والمحقق الخوانساري (4) في ظاهر بعض كلماته، لكنه (قدس سره) وافق المختار في
ظاهر بعضها الآخر، قال في مسألة التوضؤ بالماء المشتبه بالنجس - بعد
كلام له في منع التكليف في العبادات إلا بما ثبت من أجزائها وشرائطها -
ما لفظه:
نعم، لو حصل يقين بالتكليف بأمر ولم يظهر معنى ذلك الأمر، بل
يكون مترددا بين أمور، فلا يبعد القول بوجوب تلك الأمور جميعا
حتى يحصل اليقين بالبراءة (5)، انتهى.
ولكن التأمل في كلامه يعطي عدم ظهور كلامه في الموافقة، لأن

(1) في (ر) و (ص): " توجه ".
(2) راجع الصفحة 284 - 288.
(3) انظر القوانين 2: 37.
(4) انظر مشارق الشموس: 77.
(5) مشارق الشموس: 282.
296

الخطاب المجمل الواصل إلينا لا يكون مجملا للمخاطبين، فتكليف
المخاطبين بما هو مبين، وأما نحن معاشر الغائبين فلم يثبت اليقين بل
ولا الظن بتكليفنا بذلك الخطاب، فمن كلف به لا إجمال فيه عنده، ومن
عرض له الإجمال لا دليل على تكليفه بالواقع المردد، لأن اشتراك غير
المخاطبين معهم فيما لم يتمكنوا من العلم به عين الدعوى.
فالتحقيق: أن هنا مسألتين:
إحداهما: أنه (1) إذا خوطب شخص بمجمل هل يجب عليه
الاحتياط أو لا؟
الثانية: أنه إذا علم تكليف الحاضرين بأمر معلوم لهم تفصيلا،
وفهموه من خطاب هو مجمل بالنسبة إلينا معاشر الغائبين، فهل يجب
علينا تحصيل القطع بالاحتياط بإتيان ذلك الأمر أم لا؟ والمحقق (2) حكم
بوجوب الاحتياط في الأول دون الثاني.
فظهر من ذلك: أن مسألة إجمال النص إنما يغاير المسألة السابقة
- أعني عدم النص - فيما فرض خطاب مجمل متوجه إلى المكلف، إما
لكونه حاضرا عند صدور الخطاب، وإما للقول باشتراك الغائبين مع
الحاضرين في الخطاب.
أما إذا كان الخطاب للحاضرين وعرض له الإجمال بالنسبة إلى
الغائبين، فالمسألة من قبيل عدم النص لا إجمال النص، إلا أنك عرفت
أن المختار فيهما وجوب الاحتياط، فافهم.

(1) " أنه " من (ت).
(2) أي المحقق الخوانساري.
297

المسألة الثالثة
ما إذا اشتبه الواجب بغيره لتكافؤ النصين
كما في بعض مسائل القصر والإتمام.
والمشهور (1) فيه: التخيير، لأخبار التخيير (2) السليمة عن المعارض
حتى ما دل على الأخذ بما فيه الاحتياط، لأن المفروض عدم موافقة
شئ منهما للاحتياط.
إلا أن يستظهر من تلك الأدلة: مطلوبية الاحتياط عند تصادم
الأدلة. لكن قد عرفت فيما تقدم: أن أخبار الاحتياط لا تقاوم سندا
ودلالة لأخبار التخيير.

(1) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " فالمشهور ".
(2) انظر الوسائل 18: 87 - 88، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث
39، 40، 41 و 44.
298

المسألة الرابعة
ما إذا اشتبه الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع
كما في صورة اشتباه الفائتة أو القبلة أو الماء المطلق.
والأقوى هنا - أيضا -: وجوب الاحتياط كما في الشبهة المحصورة،
لعين ما مر فيها (1): من تعلق الخطاب بالفائتة واقعا مثلا وإن لم يعلم
تفصيلا، ومقتضاه ترتب العقاب على تركها ولو مع الجهل، وقضية حكم
العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل وجوب المقدمة العلمية والاحتياط
بفعل جميع المحتملات.
وقد خالف في ذلك الفاضل القمي (رحمه الله)، فمنع وجوب الزائد على
واحدة من المحتملات، مستندا - في ظاهر كلامه - إلى ما زعمه جامعا
لجميع صور الشك في المكلف به: من قبح التكليف بالمجمل وتأخير
البيان عن وقت الحاجة (2).
وأنت خبير: بأن الاشتباه في الموضوع ليس من التكليف بالمجمل
في شئ، لأن المكلف به مفهوم معين طرأ الاشتباه في مصداقه لبعض

(1) راجع الصفحة 200.
(2) انظر القوانين 2: 37.
299

العوارض الخارجية كالنسيان ونحوه، والخطاب الصادر لقضاء الفائتة عام
في المعلومة تفصيلا (1) والمجهولة، ولا مخصص له بالمعلومة لا من العقل
ولا من النقل، فيجب قضاؤها، ويعاقب على تركها مع الجهل كما يعاقب
مع العلم.
ويؤيد ما ذكرنا: ما ورد من وجوب قضاء ثلاث صلوات (2) على
من فاتته فريضة، معللا ذلك ببراءة الذمة على كل تقدير (3)، فإن ظاهر
التعليل يفيد عموم مراعاة ذلك في كل مقام اشتبه عليه الواجب، ولذا
تعدى المشهور عن مورد النص - وهو تردد الفائتة بين رباعية وثلاثية
وثنائية - إلى الفريضة الفائتة من المسافر المرددة بين ثنائية وثلاثية،
فاكتفوا فيها بصلاتين (4).

(1) لم ترد " تفصيلا " في (ظ).
(2) في (ص): " صلاة ".
(3) انظر الوسائل 5: 365، الباب 11 من أبواب قضاء الصلوات، الحديث 2.
(4) انظر مفتاح الكرامة 3: 405.
300

وينبغي التنبيه على أمور:
الأول
أنه يمكن القول بعدم وجوب الاحتياط في مسألة اشتباه القبلة
ونحوها مما كان الاشتباه الموضوعي في شرط من شروط الواجب،
كالقبلة واللباس وما يصح السجود عليه وشبهها، بناء على دعوى
سقوط هذه الشروط عند الاشتباه، ولذا أسقط الحلي وجوب الستر عند
اشتباه الساتر الطاهر بالنجس وحكم بالصلاة عاريا (1)، بل النزاع فيما
كان من هذا القبيل ينبغي أن يكون على هذا الوجه، فإن القائل بعدم
وجوب الاحتياط ينبغي أن يقول بسقوط الشروط عند الجهل، لا بكفاية
الفعل مع احتمال الشرط، كالصلاة المحتمل وقوعها إلى القبلة بدلا عن
القبلة الواقعية.
ثم الوجه في دعوى سقوط الشرط المجهول:
إما انصراف أدلته إلى صورة العلم به تفصيلا، كما في بعض
الشروط نظير اشتراط الترتيب (2) بين الفوائت.

(1) السرائر 1: 184 و 185.
(2) في (ر)، (ظ) و (ه‍): " الترتب ".
301

وإما دوران الأمر بين إهمال هذا الشرط المجهول وإهمال شرط
آخر، وهو وجوب مقارنة العمل لوجهه بحيث يعلم بوجوب الواجب
وندب المندوب حين فعله، وهذا يتحقق مع القول بسقوط الشرط
المجهول (1). وهذا هو الذي يظهر من كلام الحلي.
وكلا الوجهين ضعيفان:
أما الأول: فلأن مفروض الكلام ما إذا ثبت الوجوب الواقعي
للفعل بهذا الشرط، وإلا لم يكن من الشك في المكلف به، للعلم حينئذ
بعدم وجوب الصلاة إلى القبلة الواقعية المجهولة بالنسبة إلى الجاهل.
وأما الثاني: فلأن ما دل على وجوب مقارنة العمل بقصد وجهه
والجزم مع النية، إنما يدل عليه مع التمكن، ومعنى التمكن القدرة على
الإتيان به مستجمعا للشرائط جازما بوجهه - من الوجوب والندب -
حين الفعل، أما مع العجز عن ذلك فهو المتعين للسقوط، دون الشرط
المجهول الذي أوجب العجز عن الجزم بالنية.
والسر في تعينه (2) للسقوط هو: أنه إنما لوحظ اعتباره في الفعل
المستجمع للشرائط، وليس اشتراطه في مرتبة سائر الشرائط، بل متأخر
عنه، فإذا قيد اعتباره بحال التمكن سقط حال العجز، يعني العجز عن
إتيان الفعل الجامع للشرائط مجزوما به.

(1) لم ترد " وهذا - إلى - المجهول " في (ت)، (ظ) و (ه‍).
(2) كذا في (ت)، وفي غيرها: " تعيينه ".
302

الثاني
أن النية في كل من الصلوات المتعددة، على الوجه المتقدم في
مسألة الظهر والجمعة (1)، وحاصله: أنه ينوي في كل منهما فعلها احتياطا
لإحراز الواجب الواقعي المردد بينها وبين صاحبها تقربا إلى الله، على
أن يكون القرب علة للإحراز الذي جعل غاية للفعل.
ويترتب على هذا: أنه لا بد من أن يكون حين فعل أحدهما
عازما على فعل الآخر، إذ النية المذكورة لا تتحقق بدون ذلك، فإن
من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصدا لامتثال الواجب
الواقعي على كل تقدير، نعم هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا
المحتمل له لا مطلقا، وهذا غير كاف في العبادات المعلوم وقوع التعبد
بها. نعم، لو احتمل كون الشئ عبادة - كغسل الجنابة إن احتمل
الجنابة (2) - اكتفى فيه بقصد الامتثال على تقدير تحقق الأمر به. لكن
ليس هنا تقدير آخر يراد (3) منه التعبد على ذلك التقدير، فغاية ما

(1) راجع الصفحة 291.
(2) لم ترد " إن احتمل الجنابة " في (ه‍).
(3) في (ظ): " يريد ".
303

يمكن قصده هنا: هو التعبد على طريق الاحتمال. بخلاف ما نحن فيه
مما علم فيه ثبوت التعبد بأحد الأمرين، فإنه لا بد فيه من الجزم
بالتعبد.
304

الثالث
أن الظاهر: أن وجوب كل من المحتملات عقلي لا شرعي، لأن
الحاكم بوجوبه ليس إلا العقل من باب وجوب دفع العقاب المحتمل على
تقدير ترك أحد المحتملين، حتى أنه لو قلنا بدلالة أخبار الاحتياط أو
الخبر المتقدم (1) في الفائتة على وجوب ذلك، كان وجوبه من باب
الإرشاد. وقد تقدم الكلام في ذلك في فروع الاحتياط في الشك في
التكليف (2).
وأما إثبات وجوب التكرار شرعا في ما نحن فيه بالاستصحاب
وحرمة نقض اليقين بغير اليقين شرعا، فقد تقدم في المسألة الأولى (3):
عدم (4) دلالة الاستصحاب على ذلك إلا بناء على أن المستصحب
يترتب عليه الأمور الاتفاقية المقارنة معه، وقد تقدم إجمالا ضعفه (5)

(1) المتقدم في الصفحة 300.
(2) راجع الصفحة 101.
(3) راجع الصفحة 293.
(4) في (ص) و (ظ): " من جهة عدم "، وفي (ه‍): " من عدم ".
(5) راجع الصفحة 294.
305

وسيأتي تفصيلا (1).
وعلى ما ذكرنا، فلو ترك المصلي المتحير في القبلة أو الناسي
لفائتة جميع المحتملات لم يستحق إلا عقابا واحدا، وكذا لو ترك أحد
المحتملات واتفق مصادفته للواجب الواقعي، ولو لم يصادف لم يستحق
عقابا من جهة مخالفة الأمر به، نعم قد يقال باستحقاقه العقاب من جهة
التجري. وتمام الكلام فيه قد تقدم (2).

(1) انظر مبحث الاستصحاب 3: 233 - 236.
(2) راجع الصفحة 231.
306

الرابع
لو انكشف مطابقة ما أتى به للواقع قبل فعل الباقي أجزأ عنه (1)،
لأنه صلى الصلاة الواقعية قاصدا للتقرب بها إلى الله وإن لم يعلم حين
الفعل أن المقرب هو هذا الفعل، إذ لا فرق بين أن يكون الجزم بالعمل
ناشئا عن تكرار الفعل أو ناشئا عن انكشاف الحال.

(1) كذا في (ت) ونسخة بدل (ص)، وفي غيرهما: " عنها ".
307

الخامس
لو فرض محتملات الواجب غير محصورة لم يسقط الامتثال في
الواجب المردد باعتبار شرطه كالصلاة إلى القبلة المجهولة وشبهها قطعا،
إذ غاية الأمر سقوط الشرط، فلا وجه لترك المشروط رأسا.
وأما في غيره مما كان نفس الواجب مرددا، فالظاهر - أيضا -
عدم سقوطه ولو قلنا بجواز ارتكاب الكل في الشبهة الغير المحصورة،
لأن فعل الحرام لا يعلم هناك به إلا بعد الارتكاب، بخلاف ترك الكل
هنا، فإنه يعلم به مخالفة الواجب الواقعي حين المخالفة.
وهل يجوز الاقتصار على واحد - إذ به يندفع محذور المخالفة - أم
يجب الإتيان بما تيسر من المحتملات؟ وجهان:
من أن التكليف بإتيان الواقع ساقط، فلا مقتضي لإيجاب مقدماته
العلمية، وإنما وجب الإتيان بواحد فرارا من المخالفة القطعية.
ومن أن اللازم بعد الالتزام بحرمة مخالفة الواقع مراعاته مهما
أمكن، وعليه بناء العقلاء في أوامرهم العرفية.
والاكتفاء بالواحد التخييري عن الواقع إنما يكون مع نص
الشارع عليه، وأما مع عدمه وفرض حكم العقل بوجوب مراعاة
308

الواقع (1)، فيجب مراعاته حتى يقطع بعدم العقاب، إما لحصول الواجب،
وإما لسقوطه بعدم تيسر الفعل، وهذا لا يحصل إلا بعد الإتيان بما
تيسر، وهذا هو الأقوى.
وهذا الحكم مطرد في كل مورد وجد المانع من الإتيان ببعض
غير معين من المحتملات. ولو طرأ المانع من بعض معين منها، ففي
الوجوب - كما هو المشهور - إشكال، من عدم العلم بوجود الواجب بين
الباقي، والأصل البراءة.

(1) كذا في (ت)، (ظ)، (ه‍) ونسخة بدل (ص)، وفي غيرها: " الواجب ".
309

السادس
هل يشترط في تحصيل العلم الإجمالي بالبراءة بالجمع بين
المشتبهين، عدم التمكن من الامتثال التفصيلي بإزالة الشبهة و (1) اختياره
ما يعلم به البراءة تفصيلا، أم يجوز الاكتفاء به وإن تمكن من ذلك،
فيجوز لمن (2) قدر على تحصيل العلم بالقبلة أو تعيين الواجب الواقعي
من القصر والإتمام أو (3) الظهر والجمعة، الامتثال بالجمع بين المشتبهات؟
وجهان، بل قولان:
ظاهر الأكثر: الأول، لوجوب اقتران الفعل المأمور به عندهم
بوجه الأمر. وسيأتي الكلام في ذلك عند التعرض لشروط البراءة
والاحتياط (4) إن شاء الله.
ويتفرع على ذلك: أنه لو قدر على العلم التفصيلي من بعض

(1) كذا في (ر)، وفي غيرها: " أو ".
(2) كذا في (ص) و (ظ)، وفي غيرها: " إن ".
(3) في (ت) و (ه‍): " و ".
(4) انظر الصفحة 405.
310

الجهات وعجز عنه من جهة أخرى، فالواجب مراعاة العلم التفصيلي
من تلك الجهة، فلا يجوز لمن قدر على الثوب الطاهر المتيقن (1) وعجز
عن تعيين القبلة، تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين إلى أربع جهات،
لتمكنه من العلم التفصيلي بالمأمور به من حيث طهارة الثوب وإن
لم يحصل مراعاة ذلك العلم التفصيلي على الإطلاق.

(1) في (ظ): " المتعين ".
311

السابع
لو كان الواجب المشتبه أمرين مترتبين شرعا، كالظهر والعصر
المرددين بين القصر والإتمام أو بين الجهات الأربع، فهل يعتبر في صحة
الدخول في محتملات الواجب اللاحق الفراغ اليقيني من الأول بإتيان
جميع محتملاته، كما صرح به في الموجز (1) وشرحه (2) والمسالك (3) والروض (4)
والمقاصد العلية (5)، أم يكفي فيه فعل بعض محتملات الأول، بحيث يقطع
بحصول الترتيب بعد الاتيان بمجموع محتملات المشتبهين - كما عن نهاية
الإحكام (6) والمدارك (7) - فيأتي بظهر وعصر قصرا، ثم بهما تماما؟

(1) انظر الموجز الحاوي (الرسائل العشر لابن فهد): 66.
(2) انظر كشف الالتباس (مخطوط): 134.
(3) المسالك 1: 158.
(4) روض الجنان: 194.
(5) المقاصد العلية: 117.
(6) نهاية الإحكام 1: 282.
(7) المدارك 2: 359.
312

قولان، متفرعان على القول المتقدم في الأمر السادس (1) - من
وجوب مراعاة العلم التفصيلي مع الإمكان - مبنيان على أنه:
هل يجب مراعاة ذلك من جهة نفس الواجب؟ فلا يجب إلا إذا
أوجب إهماله ترددا في أصل الواجب، كتكرار الصلاة في الثوبين
المشتبهين إلى أربع جهات، فإنه يوجب ترددا في الواجب زائدا على
التردد الحاصل من جهة اشتباه القبلة، فكما يجب رفع التردد مع
الإمكان كذلك يجب تقليله.
أما إذا لم يوجب إهماله ترددا زائدا في الواجب فلا يجب، كما في
ما نحن فيه، فإن الإتيان بالعصر المقصورة بعد الظهر المقصورة لا يوجب
ترددا زائدا على التردد الحاصل من جهة القصر والإتمام، لأن العصر
المقصورة إن كانت مطابقة للواقع كانت واجدة لشرطها، وهو الترتب
على الظهر، وإن كانت مخالفة للواقع لم ينفع وقوعها مترتبة على الظهر
الواقعية، لأن الترتب (2) إنما هو بين الواجبين واقعا.
ومن ذلك يظهر: عدم جواز التمسك بأصالة بقاء الاشتغال بالظهر
وعدم فعل الواجب الواقعي، وذلك لأن المترتب على بقاء الاشتغال
وعدم فعل الواجب عدم جواز الإتيان بالعصر الواقعي، وهو مسلم،
ولذا لا يجوز الإتيان حينئذ بجميع محتملات العصر، وهذا المحتمل غير
معلوم أنه العصر الواقعي، والمصحح للإتيان به هو المصحح لإتيان
محتمل الظهر المشترك معه في الشك و (3) جريان الأصلين فيه.

(1) راجع الصفحة 310.
(2) في (ظ): " الترتيب ".
(3) في (ص) و (ظ) بدل " و ": " في ".
313

أو أن الواجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة نفس الخصوصية
المشكوكة في العبادة وإن لم يوجب إهماله ترددا في الواجب، فيجب
على المكلف العلم التفصيلي عند الإتيان بكون ما يأتي به هو نفس
الواجب الواقعي؟
فإذا تعذر ذلك من بعض الجهات لم يعذر في إهماله من الجهة
المتمكنة، فالواجب على العاجز عن تعيين (1) كون الصلاة قصرا أو
تماما (2): العلم التفصيلي بكون المأتي به مترتبا على الظهر، ولا يكفي
العلم بترتبه على تقدير صحته.
هذا كله مع تنجز الأمر بالظهر والعصر دفعة واحدة في الوقت
المشترك، أما إذا تحقق الأمر بالظهر فقط في الوقت المختص ففعل بعض
محتملاته، فيمكن أن يقال بعدم الجواز، نظرا إلى الشك في تحقق الأمر
بالعصر، فكيف يقدم على محتملاتها التي لا تجب إلا مقدمة لها؟ بل
الأصل عدم الأمر، فلا يشرع الدخول في مقدمات الفعل.
ويمكن أن يقال: إن أصالة عدم الأمر إنما تقتضي عدم مشروعية
الدخول في المأمور به ومحتملاته التي يحتمله (3) على تقدير عدم الأمر
واقعا، كما إذا صلى العصر إلى غير الجهة التي صلى الظهر، أما (4) ما لا يحتمله
إلا على تقدير وجود الأمر، فلا يقتضي الأصل المنع عنه، كما لا يخفى.

(1) كذا في (ت)، ولم ترد " تعيين " في (ظ)، وفي غيرهما: " تعين ".
(2) في (ر) و (ه‍): " إتماما ".
(3) في (ت) و (ه‍): " تحتمله ".
(4) في (ر) و (ص): " وأما ".
314

الثاني
فيما إذا دار الأمر في الواجب بين الأقل والأكثر
ومرجعه إلى الشك في جزئية شئ للمأمور به وعدمها، وهو على
قسمين، لأن الجزء المشكوك:
إما جزء خارجي.
أو جزء ذهني وهو القيد، وهو على قسمين:
لأن القيد إما منتزع من أمر خارجي مغاير للمأمور به في
الوجود الخارجي، فمرجع (1) اعتبار ذلك القيد إلى إيجاب ذلك الأمر
الخارجي، كالوضوء الذي يصير منشأ للطهارة المقيد بها الصلاة.
وإما خصوصية متحدة في الوجود مع المأمور به، كما إذا دار
الأمر بين وجوب مطلق الرقبة أو رقبة خاصة، ومن ذلك دوران الأمر
بين إحدى الخصال وبين واحدة معينة منها.
والكلام في كل من القسمين (2) في أربع مسائل:

(1) في (ت) و (ه‍): " فيرجع ".
(2) في (ت) ونسخة بدل (ص): " الأقسام ".
315

أما مسائل القسم الأول، وهو الشك في الجزء الخارجي:
فالأولى منها
أن يكون ذلك مع عدم النص المعتبر في المسألة
فيكون ناشئا من ذهاب جماعة إلى جزئية الأمر الفلاني، كالاستعاذة
قبل القراءة في الركعة الأولى - مثلا - على ما ذهب إليه بعض فقهائنا (1).
وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا، فصرح بعض متأخري
المتأخرين بوجوبه (2)، وربما يظهر من كلام بعض القدماء كالسيد (3)
والشيخ (4)، لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما، بل ظاهر كلماتهم (5) الاخر

(1) هو المفيد الثاني (ولد الشيخ الطوسي)، على ما حكاه عنه الشهيد في
الذكرى (الطبعة الحجرية): 191، وانظر مفتاح الكرامة 2: 399.
(2) كالمحقق السبزواري في ذخيرة المعاد: 273، وشريف العلماء على ما في
ضوابط الأصول: 326، والشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين: 449، والسيد
المجاهد في مفاتيح الأصول: 528.
(3) انظر الانتصار: 146 و 148 - 149.
(4) انظر الخلاف 1: 182، المسألة 138.
(5) في (ظ): " كلماته ".
316

خلافه (1).
وصريح جماعة إجراء أصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط،
والظاهر: أنه المشهور بين العامة (2) والخاصة، المتقدمين منهم والمتأخرين،
كما يظهر من تتبع كتب القوم، كالخلاف (3) والسرائر (4) وكتب الفاضلين (5)
والشهيدين (6) والمحقق الثاني (7) ومن تأخر عنهم (8).
بل الإنصاف: أنه لم أعثر في كلمات من تقدم على المحقق السبزواري،
على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط وإن كان فيهم
من يختلف كلامه في ذلك، كالسيد (9) والشيخ (10) والشهيد (11) (قدس سرهم).
وكيف كان: فالمختار جريان أصل البراءة.

(1) انظر الذريعة 2: 833، والعدة 2: 753.
(2) راجع الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 5: 47، وتفسير القرطبي 6: 84.
(3) الخلاف 1: 85، المسألة 35.
(4) السرائر 1: 232.
(5) انظر المعارج: 216 - 217، والمعتبر 1: 32، والمختلف 1: 495.
(6) انظر القواعد والفوائد 1: 132، والذكرى 1: 53، وتمهيد القواعد: 271.
(7) انظر جامع المقاصد 2: 219 و 328.
(8) كالوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية: 441 - 442، والمحقق القمي في
القوانين 2: 30، وصاحب الفصول في الفصول: 51 و 357، والفاضل النراقي
في المناهج: 221.
(9) كما عرفت من الانتصار والذريعة.
(10) كما عرفت من الخلاف والعدة.
(11) في (ر) و (ص): " بل الشهيدين " وفي (ظ): " بل الشهيد ".
317

لنا على ذلك: حكم العقل وما ورد من النقل.
أما العقل: فلاستقلاله بقبح مؤاخذة من كلف بمركب لم يعلم من
أجزائه إلا عدة أجزاء، ويشك في أنه هو هذا أو له جزء آخر وهو
الشئ الفلاني، ثم بذل جهده في طلب الدليل على جزئية ذلك الأمر
فلم يقتدر، فأتى بما علم وترك المشكوك، خصوصا مع اعتراف المولى
بأني ما نصبت لك عليه دلالة، فإن القائل بوجوب الاحتياط لا ينبغي
أن يفرق في وجوبه بين أن يكون الآمر لم ينصب دليلا أو نصب
واختفى، غاية الأمر: أن ترك النصب من الآمر قبيح، وهذا لا يرفع
التكليف بالاحتياط عن المكلف.
فإن قلت: إن بناء العقلاء على وجوب الاحتياط في الأوامر
العرفية الصادرة من الأطباء أو الموالي، فإن الطبيب إذا أمر المريض
بتركيب معجون فشك في جزئية شئ له مع العلم بأنه غير ضار له،
فتركه المريض مع قدرته عليه، استحق اللوم. وكذا المولى إذا أمر عبده
بذلك.
قلت: أما أوامر الطبيب، فهي إرشادية ليس المطلوب فيها إلا
إحراز الخاصية المترتبة على ذات المأمور به، ولا نتكلم فيها من حيث
الإطاعة والمعصية، ولذا لو كان بيان ذلك الدواء بجملة خبرية غير
طلبية (1)، كان اللازم مراعاة الاحتياط فيها وإن لم يترتب على مخالفته
وموافقته ثواب أو عقاب، والكلام في المسألة من حيث قبح عقاب
الآمر على مخالفة المجهول وعدمه.

(1) في (ظ) بدل " غير طلبية ": " مجملة ".
318

وأما أوامر الموالي الصادرة بقصد الإطاعة، فنلتزم (1) فيها بقبح
المؤاخذة إذا عجز العبد عن تحصيل العلم بجزء فاطلع عليه المولى وقدر
على رفع جهله ولو على بعض الوجوه الغير المتعارفة إلا أنه اكتفى
بالبيان المتعارف فاختفى على العبد لبعض العوارض.
نعم، قد يأمر المولى بمركب يعلم أن المقصود منه تحصيل عنوان
يشك في حصوله إذا أتى بذلك المركب بدون ذلك الجزء المشكوك، كما
إذا أمر بمعجون وعلم أن المقصود منه إسهال الصفراء، بحيث كان هو
المأمور به في الحقيقة أو علم أنه الغرض من المأمور به، فإن تحصيل
العلم بإتيان المأمور به لازم، كما سيجئ في المسألة الرابعة (2).
فإن قلت: إن الأوامر الشرعية كلها من هذا القبيل، لابتنائها على
مصالح في المأمور به، فالمصلحة فيها إما من قبيل العنوان في المأمور به
أو من قبيل الغرض.
وبتقرير آخر: المشهور بين العدلية أن الواجبات الشرعية إنما
وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقلية، فاللطف إما هو المأمور به
حقيقة أو غرض للآمر، فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف، ولا يحصل
إلا بإتيان كل ما شك في مدخليته.
قلت: أولا: مسألة البراءة والاحتياط غير مبنية (3) على كون كل
واجب فيه مصلحة وهو لطف في غيره، فنحن نتكلم فيها على مذهب

(1) كذا في (ت) و (ه‍)، وفي (ر) و (ص): " فيلتزم ".
(2) انظر الصفحة 352.
(3) في (ت) و (ص): " غير مبتنية ".
319

الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح (1)، أو (2) مذهب بعض العدلية المكتفين
بوجود المصلحة في الأمر وإن لم يكن في المأمور به (3).
وثانيا: إن نفس الفعل من حيث هو، ليس لطفا، ولذا لو اتي به
لا على وجه الامتثال لم يصح ولم يترتب عليه لطف ولا أثر آخر من
آثار العبادة الصحيحة، بل اللطف إنما هو في الإتيان به على وجه
الامتثال، وحينئذ: فيحتمل أن يكون اللطف منحصرا في امتثاله
التفصيلي مع معرفة وجه الفعل ليوقع الفعل على وجهه - فإن من صرح
من العدلية (4) بكون العبادات السمعية إنما وجبت لكونها ألطافا في
الواجبات العقلية، قد صرح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب
اقترانه به - وهذا متعذر فيما نحن فيه، لأن الآتي بالأكثر لا يعلم أنه
الواجب أو الأقل المتحقق في ضمنه، ولذا صرح بعضهم كالعلامة (رحمه الله) (5)
ويظهر من آخر منهم (6): وجوب تميز الأجزاء الواجبة من المستحبات
ليوقع كلا على وجهه.

(1) في (ت) و (ه‍) زيادة: " رأسا ".
(2) في (ر) و (ص) زيادة: " على ".
(3) انظر الفصول: 237 - 238.
(4) كالعلامة (قدس سره)، انظر كشف المراد: 348 (المسألة الثانية في وجوب البعثة)،
و 408 (المسألة الخامسة في الثواب والعقاب)، وكذا المحقق الثاني في جامع
المقاصد 1: 201 - 202.
(5) قواعد الأحكام 1: 269.
(6) كالمحقق الثاني في جامع المقاصد 2: 221، وانظر مفتاح الكرامة 2: 324 -
325.
320

وبالجملة: فحصول اللطف بالفعل المأتي به من الجاهل فيما نحن فيه
غير معلوم (1)، بل ظاهرهم عدمه، فلم يبق عليه إلا التخلص من تبعة
مخالفة الأمر الموجه (2) إليه، فإن هذا واجب عقلي في مقام الإطاعة
والمعصية، ولا دخل له بمسألة اللطف، بل هو جار على فرض عدم
اللطف وعدم المصلحة في المأمور به رأسا، وهذا التخلص يحصل
بالإتيان بما يعلم أن مع تركه يستحق العقاب والمؤاخذة فيجب الإتيان،
وأما الزائد فيقبح المؤاخذة عليه مع عدم البيان.
فإن قلت: إن ما ذكر في وجوب الاحتياط في المتبائنين بعينه
موجود هنا، وهو أن المقتضي - وهو تعلق الوجوب الواقعي بالأمر
الواقعي المردد بين الأقل والأكثر - موجود، والجهل التفصيلي به لا يصلح
مانعا لا عن المأمور به ولا عن توجه الأمر، كما تقدم في المتباينين
حرفا بحرف (3).
قلت: نختار هنا أن الجهل مانع عقلي عن توجه التكليف بالمجهول
إلى المكلف، لحكم العقل بقبح المؤاخذة على ترك الأكثر المسبب عن
ترك الجزء المشكوك من دون بيان، ولا يعارض بقبح المؤاخذة على
ترك الأقل من حيث هو من دون بيان، إذ يكفي في البيان المسوغ
للمؤاخذة عليه العلم التفصيلي بأنه مطلوب للشارع بالاستقلال أو في
ضمن الأكثر، ومع هذا العلم لا يقبح المؤاخذة.

(1) في (ت) و (ه‍) زيادة: " وإن أحرز الواقع ".
(2) في (ظ) و (ه‍): " المتوجه ".
(3) راجع الصفحة 280.
321

وما ذكر في المتبائنين - سندا لمنع كون الجهل مانعا: من استلزامه
لجواز المخالفة القطعية، وقبح خطاب الجاهل المقصر، وكونه معذورا
بالنسبة إلى الواقع - مع أنه خلاف المشهور أو المتفق عليه، غير جار
فيما نحن فيه.
أما الأول، فلأن عدم جواز المخالفة القطعية لكونها مخالفة معلومة
بالتفصيل، فإن وجوب الأقل بمعنى استحقاق العقاب بتركه معلوم تفصيلا
وإن لم يعلم أن العقاب لأجل ترك نفسه أو لترك ما هو سبب في تركه
وهو الأكثر، فإن هذا العلم غير معتبر في إلزام العقل بوجوب الإتيان،
إذ مناط تحريك العقل إلى فعل الواجبات وترك المحرمات، دفع العقاب،
ولا يفرق في تحريكه بين علمه بأن العقاب لأجل هذا الشئ أو لما هو
مستند إليه.
وأما عدم معذورية الجاهل المقصر، فهو للوجه الذي لا يعذر من
أجله الجاهل بنفس التكليف المستقل، وهو العلم الإجمالي بوجود
واجبات ومحرمات كثيرة في الشريعة، وأنه لولاه لزم إخلال الشريعة،
لا العلم الإجمالي الموجود في المقام، إذ الموجود في المقام علم تفصيلي،
وهو وجوب الأقل بمعنى ترتب العقاب على تركه، وشك في أصل
وجوب الزائد ولو مقدمة.
وبالجملة: فالعلم الإجمالي فيما نحن فيه غير مؤثر في وجوب
الاحتياط، لكون أحد طرفيه معلوم الإلزام تفصيلا والآخر مشكوك
الإلزام رأسا.
ودوران الإلزام في الأقل بين كونه مقدميا أو نفسيا، لا يقدح في
كونه معلوما بالتفصيل، لما ذكرنا: من أن العقل يحكم بوجوب القيام بما
322

علم إجمالا أو تفصيلا إلزام المولى به على أي وجه كان، ويحكم بقبح
المؤاخذة على ما شك في إلزامه، والمعلوم إلزامه تفصيلا هو الأقل،
والمشكوك إلزامه رأسا هو الزائد، والمعلوم إلزامه إجمالا هو الواجب
النفسي المردد بين الأقل والأكثر، ولا عبرة به بعد انحلاله إلى معلوم
تفصيلي ومشكوك، كما في كل معلوم إجمالي كان كذلك، كما لو علم
إجمالا بكون أحد من الإناءين اللذين أحدهما المعين نجس، خمرا، فإنه
يحكم بحلية الطاهر منهما، والعلم الإجمالي بالخمر لا يؤثر في وجوب
الاجتناب عنه.
ومما ذكرنا يظهر: أنه يمكن التمسك في عدم وجوب الأكثر
بأصالة عدم وجوبه، فإنها سليمة في هذا المقام عن المعارضة بأصالة
عدم وجوب الأقل، لأن وجوب الأقل معلوم تفصيلا فلا يجري فيه
الأصل.
وتردد وجوبه بين الوجوب النفسي والغيري مع العلم التفصيلي
بورود الخطاب التفصيلي بوجوبه بقوله: * (وربك فكبر) * (1)، وقوله:
* (وقوموا لله قانتين) * (2)، وقوله: * (فاقرؤوا ما تيسر منه) * (3)، وقوله:
* (واركعوا واسجدوا) * (4)، وغير ذلك (5) من الخطابات المتضمنة للأمر

(1) المدثر: 3.
(2) البقرة: 238.
(3) المزمل: 20.
(4) الحج: 77.
(5) كما في البقرة: 43، وآل عمران: 43.
323

بالأجزاء، لا يوجب جريان أصالة عدم الوجوب أو أصالة البراءة.
لكن الإنصاف: أن التمسك بأصالة عدم وجوب الأكثر لا ينفع في
المقام، بل هو قليل الفائدة، لأنه: إن قصد به نفي أثر الوجوب الذي
هو استحقاق العقاب بتركه، فهو وإن كان غير معارض بأصالة عدم
وجوب الأقل كما ذكرنا، إلا أنك قد عرفت فيما تقدم في الشك في
التكليف (1): أن استصحاب عدم التكليف المستقل (2) - وجوبا أو تحريما -
لا ينفع في دفع (3) استحقاق العقاب على الترك أو الفعل، لأن عدم
استحقاق العقاب ليس من آثار عدم الوجوب والحرمة الواقعيين حتى
يحتاج إلى إحرازهما بالاستصحاب، بل يكفي فيه عدم العلم بهما، فمجرد
الشك فيهما كاف في عدم استحقاق العقاب بحكم العقل القاطع.
وقد أشرنا إلى ذلك عند التمسك في حرمة العمل بالظن بأصالة
عدم حجيته، وقلنا: إن الشك في حجيته كاف في التحريم ولا يحتاج
إلى إحراز عدمها بالأصل (4).
وإن قصد به نفي الآثار المترتبة على الوجوب النفسي المستقل،
فأصالة عدم هذا الوجوب في الأكثر معارضة بأصالة عدمه في الأقل،
فلا تبقى لهذا الأصل فائدة إلا في نفي ما عدا العقاب من الآثار المترتبة
على مطلق الوجوب الشامل للنفسي والغيري.

(1) راجع الصفحة 59 - 60.
(2) لم ترد " المستقل " في (ظ).
(3) في (ظ) ونسخة بدل (ص): " رفع ".
(4) راجع مبحث الظن 1: 127 - 128.
324

ثم بما ذكرنا في منع جريان الدليل العقلي المتقدم في المتباينين فيما
نحن فيه، تقدر على منع سائر ما يتمسك به لوجوب الاحتياط في هذا
المقام.
مثل: استصحاب الاشتغال بعد الإتيان بالأقل (1).
ومثل (2): أن الاشتغال اليقيني يقتضي وجوب تحصيل اليقين
بالبراءة (3).
ومثل: أدلة اشتراك الغائبين مع الحاضرين في الأحكام المقتضية
لاشتراكنا - معاشر الغائبين - مع الحاضرين العالمين بالمكلف به تفصيلا (4).
ومثل: وجوب دفع الضرر - وهو العقاب (5) - المحتمل قطعا،
وبعبارة أخرى: وجوب المقدمة العلمية للواجب (6).
ومثل: أن قصد القربة غير ممكن بالإتيان بالأقل، لعدم العلم
بمطلوبيته في ذاته، فلا يجوز الاقتصار عليه في العبادات، بل لا بد من
الإتيان بالجزء المشكوك.
فإن الأول مندفع - مضافا إلى منع جريانه حتى في مورد وجوب
الاحتياط، كما تقدم في المتبائنين - بأن بقاء وجوب الأمر المردد بين

(1) استدل به في ضوابط الأصول: 326، وهداية المسترشدين: 450.
(2) " مثل " من (ص).
(3) استدل به في ضوابط الأصول: 327.
(4) أشار إلى هذا الوجه في ضوابط الأصول: 326.
(5) لم ترد " وهو العقاب " في (ظ).
(6) هذا الوجه أيضا ذكره في هداية المسترشدين: 450، وضوابط الأصول: 328.
325

الأقل والأكثر بالاستصحاب لا يجدي، بعد فرض كون وجود المتيقن
قبل الشك غير مجد في الاحتياط.
نعم، لو قلنا بالأصل المثبت، وأن استصحاب الاشتغال بعد
الإتيان بالأقل يثبت كون الواجب هو الأكثر فيجب الإتيان به، أمكن
الاستدلال بالاستصحاب.
لكن يمكن أن يقال: إنا نفينا في الزمان السابق وجوب الأكثر،
لقبح المؤاخذة (1) من دون بيان، فتعين الاشتغال بالأقل، فهو منفي في
الزمان السابق، فكيف يثبت في الزمان اللاحق؟
وأما الثاني، فهو حاصل الدليل المتقدم في المتباينين المتوهم
جريانه في المقام، وقد عرفت الجواب (2)، وأن الاشتغال اليقيني إنما هو
بالأقل، وغيره مشكوك فيه (3).
وأما الثالث، ففيه: أن مقتضى الاشتراك كون الغائبين والحاضرين
على نهج واحد مع كونهما في العلم والجهل على صفة واحدة، ولا ريب
أن وجوب الاحتياط على الجاهل من الحاضرين فيما نحن فيه عين
الدعوى.
وأما الرابع، فلأن وجوب المقدمة فرع وجوب ذي المقدمة، وهو
الأمر المتردد (4) بين الأقل والأكثر، وقد تقدم (5): أن وجوب المعلوم

(1) في (ظ) بدل " المؤاخذة ": " العقاب ".
(2) في (ص) زيادة: " عنه ".
(3) راجع الصفحة 321 - 323.
(4) في (ت): " المردد ".
(5) راجع الصفحة 322 - 323.
326

إجمالا مع كون أحد طرفيه متيقن الإلزام من الشارع ولو بالإلزام
المقدمي، غير مؤثر في وجوب الاحتياط، لكون الطرف الغير المتيقن
- وهو الأكثر في ما نحن فيه - موردا لقاعدة البراءة، كما مثلنا له بالخمر
المردد بين إناءين (1) أحدهما المعين نجس.
نعم، لو ثبت أن ذلك - أعني تيقن أحد طرفي المعلوم بالاجمال
تفصيلا وترتب أثره عليه - لا يقدح في وجوب العمل بما يقتضيه من
الاحتياط، فيقال في المثال: إن التكليف بالاجتناب عن هذا الخمر
المردد بين الإناءين يقتضي استحقاق العقاب على تناوله بتناول أي
الإناءين (2) اتفق كونه خمرا، فيجب الاحتياط بالاجتناب عنهما، فكذلك
فيما نحن فيه.
والدليل العقلي على البراءة من هذه الجهة يحتاج إلى مزيد تأمل.
وأما الخامس، فلأنه يكفي في قصد القربة الإتيان بما علم من
الشارع الإلزام به وأداء تركه إلى استحقاق العقاب لأجل التخلص عن
العقاب، فإن هذا المقدار كاف في نية القربة المعتبرة في العبادات حتى
لو علم بأجزائها تفصيلا.
بقي الكلام في أنه كيف يقصد القربة بإتيان الأقل مع عدم العلم
بكونه مقربا، لتردده بين الواجب النفسي المقرب والمقدمي الغير المقرب؟
فنقول:
يكفي في قصد القربة: قصد التخلص من العقاب، فإنها إحدى

(1) في (ر) و (ص): " الإناءين ".
(2) في (ت) و (ظ) زيادة: " إذا ".
327

الغايات المذكورة في العبادات (1).
وأما الدليل النقلي:
فهو الأخبار الدالة على البراءة، الواضحة سندا ودلالة، ولذا عول
عليها في المسألة من جعل مقتضى العقل فيها وجوب الاحتياط (2)، بناء
على وجوب مراعاة العلم الإجمالي وإن كان الإلزام في أحد طرفيه
معلوما بالتفصيل. وقد تقدم أكثر تلك الأخبار في الشك في التكليف
التحريمي والوجوبي (3).
منها: قوله (عليه السلام): " ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع
عنهم " (4).
فإن وجوب الجزء المشكوك محجوب علمه عن العباد، فهو
موضوع عنهم، فدل على أن الجزء المشكوك وجوبه غير واجب على
الجاهل، كما دل على أن الشئ المشكوك وجوبه النفسي غير واجب في
الظاهر على الجاهل.
ويمكن تقريب الاستدلال: بأن وجوب الأكثر مما حجب علمه،
فهو موضوع.
ولا يعارض بأن وجوب الأقل كذلك، لأن العلم بوجوبه المردد

(1) لم ترد عبارة " بقي الكلام - إلى - العبادات " في (ت) و (ه‍)، وكتب عليها في
(ص): " زائد ".
(2) هو صاحب الفصول في الفصول: 357.
(3) راجع الصفحة 28 و 41 - 44.
(4) الوسائل 18: 119، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 28.
328

بين النفسي والغيري غير محجوب، فهو غير موضوع.
وقوله (صلى الله عليه وآله): " رفع عن أمتي... ما لا يعلمون " (1).
فإن وجوب الجزء المشكوك مما لم يعلم، فهو مرفوع عن
المكلفين، أو أن العقاب والمؤاخذة المترتبة على تعمد ترك الجزء
المشكوك الذي هو سبب لترك الكل، مرفوع عن الجاهل.
إلى غير ذلك من أخبار البراءة الجارية في الشبهة الوجوبية.
وكان بعض مشايخنا قدس الله نفسه يدعي ظهورها في نفي
الوجوب النفسي المشكوك، وعدم جريانها في الشك في الوجوب
الغيري (2).
ولا يخفى على المتأمل: عدم الفرق بين الوجوبين في نفي ما
يترتب عليه، من استحقاق العقاب، لأن ترك الواجب الغيري منشأ
لاستحقاق العقاب ولو من جهة كونه منشأ لترك الواجب النفسي.
نعم، لو كان الظاهر من الأخبار نفي العقاب المترتب على ترك
الشئ من حيث خصوص ذاته، أمكن دعوى ظهورها في ما ادعي.
مع إمكان أن يقال: إن العقاب على ترك الجزء أيضا من حيث
خصوص ذاته، لأن ترك الجزء عين ترك الكل، فافهم.
هذا كله إن جعلنا المرفوع والموضوع في الروايات خصوص
المؤاخذة، وأما لو عممناه لمطلق الآثار الشرعية المترتبة على الشئ
المجهول، كانت الدلالة أوضح، لكن سيأتي ما في ذلك (3).

(1) الوسائل 11: 295، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث الأول.
(2) هو شريف العلماء، انظر تقريرات درسه في ضوابط الأصول: 329.
(3) انظر الصفحة 335.
329

ثم إنه لو فرضنا عدم تمامية الدليل العقلي المتقدم (1)، بل كون
العقل حاكما بوجوب الاحتياط ومراعاة حال العلم الإجمالي بالتكليف
المردد بين الأقل والأكثر، كانت هذه الأخبار كافية في المطلب حاكمة
على ذلك الدليل العقلي، لأن الشارع أخبر بنفي العقاب على ترك الأكثر
لو كان واجبا في الواقع، فلا يقتضي العقل وجوبه من باب الاحتياط
الراجع إلى وجوب دفع العقاب المحتمل.
وقد توهم بعض المعاصرين (2) عكس ذلك وحكومة أدلة الاحتياط
على هذه الأخبار، فقال: لا نسلم حجب العلم في المقام، لوجود الدليل
في المقام، وهي أصالة الاشتغال في الأجزاء والشرائط المشكوكة. ثم قال:
لأن ما كان لنا إليه طريق في الظاهر لا يصدق في حقه الحجب قطعا،
وإلا لدلت هذه الرواية على عدم حجية الأدلة الظنية، كخبر الواحد
وشهادة العدلين وغيرهما. ثم (3) قال:
ولو التزم تخصيصها بما دل على حجية تلك الطرق، تعين
تخصيصها - أيضا - بما دل على حجية أصالة الاشتغال: من عمومات
أدلة الاستصحاب، ووجوب المقدمة العلمية. ثم قال:
والتحقيق: التمسك بهذه الأخبار على نفي الحكم الوضعي وهي
الجزئية والشرطية (4)، انتهى.

(1) المتقدم في الصفحة 318.
(2) هو صاحب الفصول في الفصول.
(3) " ثم " من (ص).
(4) الفصول: 51.
330

أقول: قد ذكرنا في المتبائنين (1) وفيما نحن فيه (2): أن استصحاب
الاشتغال لا يثبت لزوم الاحتياط إلا على القول باعتبار الأصل المثبت
الذي لا نقول به وفاقا لهذا الفاضل، وأن العمدة في وجوب الاحتياط
هو: حكم العقل بوجوب إحراز محتملات الواجب الواقعي بعد إثبات (3)
تنجز التكليف، وأنه المؤاخذ به والمعاقب على تركه ولو حين الجهل به
وتردده بين متبائنين أو الأقل والأكثر.
ولا ريب أن ذلك الحكم مبناه وجوب دفع العقاب المحتمل على
ترك ما يتركه المكلف، وحينئذ: فإذا أخبر الشارع - في قوله " ما
حجب الله... "، وقوله " رفع عن أمتي... " وغيرهما - بأن الله سبحانه
لا يعاقب على ترك ما لم يعلم جزئيته، فقد ارتفع احتمال العقاب في
ترك ذلك المشكوك، وحصل الأمن منه، فلا يجري فيه حكم العقل
بوجوب دفع العقاب المحتمل.
نظير ما إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الصلاة إلى
جهة خاصة من الجهات لو فرض كونها القبلة الواقعية، فإنه يخرج
بذلك عن باب المقدمة، لأن المفروض أن تركها لا يفضي إلى العقاب (4).
نعم، لو كان مستند الاحتياط أخبار الاحتياط، كان لحكومة تلك
الأخبار على أخبار البراءة وجه أشرنا إليه في الشبهة التحريمية من

(1) راجع الصفحة 293 - 294.
(2) راجع الصفحة 326.
(3) لم ترد " إثبات " في (ظ).
(4) لم ترد عبارة " لو فرض - إلى - العقاب " في (ظ).
331

أقسام الشك في التكليف (1).
ومما ذكرنا يظهر: حكومة هذه الأخبار على استصحاب الاشتغال
على تقدير القول بالأصل المثبت أيضا كما أشرنا إليه سابقا (2)، لأنه إذا
أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر الذي حجب العلم
بوجوبه، كان المستصحب - وهو الاشتغال المعلوم سابقا - غير متيقن إلا
بالنسبة إلى الأقل، وقد ارتفع بإتيانه، واحتمال بقاء الاشتغال حينئذ من
جهة (3) الأكثر منفي (4) بحكم هذه الأخبار.
وبالجملة: فما ذكره، من حكومة أدلة الاشتغال على هذه الأخبار
ضعيف جدا، نظرا إلى ما تقدم (5).
وأضعف من ذلك: أنه (رحمه الله) عدل - من أجل هذه الحكومة التي
زعمها لأدلة الاحتياط على هذه الأخبار - عن الاستدلال بها لمذهب
المشهور من حيث نفي الحكم التكليفي، إلى التمسك بها في نفي الحكم
الوضعي، أعني جزئية الشئ المشكوك أو شرطيته، وزعم أن ماهية
المأمور به تبين (6) ظاهرا كونها الأقل بضميمة نفي جزئية المشكوك،
ويحكم بذلك على أصالة الاشتغال.

(1) راجع الصفحة 50.
(2) راجع الصفحة 326.
(3) في (ص) زيادة: " كون الواجب هو ".
(4) في (ظ) بدل " منفي ": " ملقى ".
(5) راجع الصفحة 325 - 326.
(6) في (ظ): " يتبين ".
332

قال في توضيح ذلك:
إن مقتضى هذه الروايات: أن ماهيات العبادات عبارة عن
الأجزاء المعلومة بشرائطها المعلومة، فيتبين مورد التكليف ويرتفع منها
الإجمال والإبهام.
ثم أيد هذا المعنى، بل استدل عليه، بفهم العلماء منها ذلك، حيث
قال:
إن من الأصول المعروفة عندهم ما يعبر عنه ب‍ " أصالة العدم "،
و " عدم الدليل دليل العدم "، ويستعملونه في نفي الحكم التكليفي
والوضعي، ونحن قد تصفحنا فلم نجد لهذا الأصل مستندا يمكن التمسك
به غير عموم هذه الأخبار، فتعين تعميمها للحكم الوضعي ولو بمساعدة
أفهامهم، فيتناول الجزئية المبحوث عنها في المقام (1)، انتهى.
أقول: أما ما ادعاه من عموم تلك الأخبار لنفي غير الحكم
الإلزامي التكليفي، فلولا عدوله عنه في باب البراءة والاحتياط من
الأدلة العقلية (2)، لذكرنا بعض ما فيه: من منع العموم أولا، ومنع كون
الجزئية أمرا مجعولا شرعيا غير الحكم التكليفي - وهو إيجاب المركب
المشتمل على ذلك الجزء - ثانيا.
وأما ما استشهد به: من فهم الأصحاب وما ظهر له بالتصفح،
ففيه:
أن (3) ما يظهر للمتصفح في هذا المقام: أن العلماء لم يستندوا في

(1) الفصول: 51.
(2) انظر الفصول: 363.
(3) في (ص) زيادة: " أول ".
333

الأصلين المذكورين إلى هذه الأخبار.
أما " أصل العدم "، فهو الجاري عندهم في غير الأحكام الشرعية
أيضا، من الأحكام اللفظية كأصالة عدم القرينة وغيرها (1)، فكيف
يستند فيه بالأخبار المتقدمة؟
وأما " عدم الدليل دليل العدم "، فالمستند فيه عندهم شئ آخر،
ذكره كل من تعرض لهذه القاعدة، كالشيخ (2) وابن زهرة (3) والفاضلين (4)
والشهيد (5) وغيرهم (6)، ولا اختصاص له بالحكم التكليفي والوضعي (7).
وبالجملة: فلم نعثر على من يستدل بهذه الأخبار في هذين
الأصلين:
أما رواية الحجب ونظائرها فظاهر.
وأما النبوي المتضمن لرفع الخطأ والنسيان وما لا يعلمون،
فأصحابنا بين من يدعي ظهوره في رفع المؤاخذة ولا ينفي به غير
الحكم التكليفي - كأخواته من رواية الحجب وغيرها - وهو المحكي عن

(1) لم ترد عبارة " أيضا من - إلى - وغيرها " في (ظ).
(2) العدة 2: 753.
(3) الغنية (الجوامع الفقهية): 486.
(4) انظر المعتبر 1: 32، ونهاية الوصول (مخطوط): 424.
(5) الذكرى 1: 52 - 53.
(6) كالفاضل التوني في الوافية: 199، وصاحب الحدائق في الحدائق 1: 45،
وانظر القوانين 2: 13، ومناهج الأحكام: 207.
(7) لم ترد " ولا اختصاص - إلى - الوضعي " في (ظ).
334

أكثر الأصوليين، وبين من يتعدى عن ذلك إلى الأحكام الغير التكليفية (1)،
لكن في موارد وجود الدليل على ثبوت ذلك الحكم وعدم جريان
الأصلين المذكورين بحيث لولا النبوي لقالوا بثبوت ذلك الحكم. ونظرهم
في ذلك إلى: أن النبوي - بناء على عمومه لنفي الحكم الوضعي - حاكم
على تلك الأدلة المثبتة لذلك الحكم الوضعي.
ومع ما عرفت، كيف يدعي أن مستند الأصلين المذكورين المتفق
عليهما، هو هذه الروايات التي ذهب الأكثر إلى اختصاصها بنفي
المؤاخذة؟
نعم، يمكن التمسك بها - أيضا - في مورد جريان الأصلين
المذكورين، بناء على أن صدق رفع أثر هذه الأمور أعني الخطأ
والنسيان وأخواتهما، كما يحصل بوجود المقتضي لذلك الأثر (2) تحقيقا - كما
في موارد ثبوت الدليل المثبت لذلك الأثر، الشامل لصورة الخطأ
والنسيان (3) - كذلك يحصل بتوهم ثبوت المقتضي ولو لم يكن عليه دليل
ولا له مقتض محقق.
لكن تصادق بعض موارد الأصلين والرواية مع تباينهما الجزئي،
لا يدل على الاستناد لهما بها، بل يدل على العدم.
ثم إن في الملازمة التي صرح بها في قوله: وإلا لدلت هذه
الأخبار على نفي حجية الطرق الظنية كخبر الواحد وغيره، منعا

(1) تقدم الكلام عن ذلك في الصفحة 28 - 31.
(2) في (ر) ومصححة (ص): " الأمر ".
(3) لم ترد " الأثر الشامل - إلى - والنسيان " في (ه‍).
335

واضحا، ليس هنا محل ذكره، فافهم (1).
واعلم: أن هنا أصولا ربما يتمسك بها على المختار:
منها: أصالة عدم وجوب الأكثر.
وقد عرفت سابقا حالها (2).
ومنها: أصالة عدم وجوب الشئ المشكوك في جزئيته.
وحالها حال سابقها بل أردأ، لأن الحادث المجعول (3) هو وجوب
المركب المشتمل عليه، فوجوب الجزء في ضمن الكل عين وجوب
الكل، ووجوبه المقدمي بمعنى اللابدية لازم له غير حادث بحدوث مغاير
كزوجية الأربعة، وبمعنى الطلب الغيري حادث مغاير، لكن لا يترتب
عليه أثر يجدي فيما نحن فيه، إلا على القول باعتبار الأصل المثبت
ليثبت بذلك كون الماهية هي الأقل.
ومنها: أصالة عدم جزئية الشئ المشكوك.
وفيه: أن جزئية الشئ المشكوك - كالسورة - للمركب الواقعي
وعدمها (4)، ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم.
وإن أريد: أصالة عدم صيرورة السورة جزء المركب المأمور (5)

(1) وردت في (ظ) بدل " لكن تصادق - إلى - فافهم ": " وهنا يجري الأصلان،
لكن لا حاجة معهما إلى التمسك بالنبوي ".
(2) راجع الصفحة 324.
(3) في (ت) ونسخة بدل (ص): " المجهول ".
(4) لم ترد " وعدمها " في (ت).
(5) في (ه‍): " لمركب مأمور "، وفي (ت): " للمركب المأمور ".
336

به، ليثبت بذلك خلو المركب المأمور به منه، ومرجعه إلى أصالة عدم
الأمر بما يكون هذا جزء منه، ففيه: ما مر من أنه أصل مثبت.
وإن أريد: أصالة عدم دخل هذا المشكوك في المركب عند
اختراعه له، الذي هو عبارة عن ملاحظة عدة أجزاء غير مرتبطة في
نفسها شيئا واحدا، ومرجعها إلى أصالة عدم ملاحظة هذا الشئ مع
المركب المأمور به شيئا واحدا، فإن الماهيات المركبة لما كان تركبها
جعليا حاصلا بالاعتبار - وإلا فهي أجزاء لا ارتباط بينها في أنفسها
ولا وحدة تجمعها إلا باعتبار معتبر - توقف جزئية شئ لها على
ملاحظته معها واعتبارها مع هذا الشئ أمرا واحدا.
فمعنى جزئية السورة للصلاة ملاحظة السورة مع باقي الأجزاء
شيئا واحدا، وهذا معنى اختراع الماهيات وكونها مجعولة، فالجعل
والاختراع فيها من حيث التصور والملاحظة، لا من حيث الحكم حتى
يكون الجزئية حكما شرعيا وضعيا في مقابل الحكم التكليفي، كما اشتهر
في ألسنة جماعة (1)، إلا أن يريدوا بالحكم الوضعي هذا المعنى. وتمام
الكلام يأتي في باب الاستصحاب عند ذكر التفصيل بين الأحكام
الوضعية والأحكام التكليفية (2).
ثم إنه إذا شك في الجزئية بالمعنى المذكور فالأصل عدمها، فإذا
ثبت عدمها في الظاهر يترتب عليه كون الماهية المأمور بها هي الأقل،
لأن تعيين الماهية في الأقل يحتاج إلى جنس وجودي، وهي الأجزاء

(1) سيأتي ذكرهم في باب الاستصحاب، مبحث الأحكام الوضعية 3: 125.
(2) انظر مبحث الاستصحاب 3: 121 - 148.
337

المعلومة، وفصل عدمي هو عدم جزئية غيرها وعدم ملاحظته معها،
والجنس موجود بالفرض، والفصل ثابت بالأصل، فتعين المأمور به،
فله وجه (1).
إلا أن يقال: إن جزئية الشئ مرجعها إلى ملاحظة المركب منه
ومن الباقي شيئا واحدا، كما أن عدم جزئيته راجع إلى ملاحظة غيره
من الأجزاء شيئا واحدا، فجزئية الشئ وكلية المركب المشتمل عليه
مجعول بجعل واحد، فالشك في جزئية الشئ شك في كلية الأكثر، ونفي
جزئية الشئ نفي لكليته، فإثبات كلية الأقل بذلك إثبات لأحد الضدين
بنفي الآخر، وليس أولى من العكس.
ومنه يظهر: عدم جواز التمسك بأصالة عدم التفات الآمر حين
تصور المركب إلى هذا الجزء، حتى يكون بالملاحظة (2) شيئا واحدا مركبا
من ذلك ومن باقي الأجزاء، لأن هذا - أيضا - لا يثبت أنه اعتبر
التركيب بالنسبة إلى باقي الأجزاء.
هذا، مع أن أصالة عدم الالتفات لا يجري بالنسبة إلى الشارع
المنزه عن الغفلة، بل لا يجري مطلقا في ما دار أمر الجزء بين كونه
جزءا واجبا أو جزءا مستحبا، لحصول الالتفات فيه قطعا، فتأمل.

(1) لم ترد: " فله وجه " في (ظ).
(2) في (ه‍): " بملاحظته ".
338

المسألة الثانية
ما إذا كان الشك في الجزئية ناشئا من إجمال الدليل
كما إذا علق الوجوب في الدليل اللفظي بلفظ مردد - بأحد أسباب
الإجمال - بين مركبين يدخل أقلهما جزءا تحت الأكثر بحيث يكون الآتي
بالأكثر آتيا بالأقل.
والإجمال: قد يكون في المعنى العرفي، كأن وجب في الغسل غسل
ظاهر البدن، فيشك في أن الجزء الفلاني - كباطن الاذن أو عكنة (1)
البطن - من الظاهر أو الباطن.
وقد يكون في المعنى الشرعي، كالأوامر المتعلقة في الكتاب والسنة
بالصلاة وأمثالها، بناء على أن هذه الألفاظ موضوعة للماهية الصحيحة
يعني الجامعة لجميع الأجزاء الواقعية.
والأقوى هنا أيضا: جريان أصالة البراءة، لعين ما أسلفناه في
سابقه من العقل والنقل.
وربما يتخيل: جريان قاعدة الاشتغال هنا وإن جرت أصالة

(1) في (ص): " عكن "، وفي (ظ): " عكرة "، والعكنة: ما انطوى وتثنى من
لحم البطن سمنا، والعكرة: من عكر، أي عطف ورجع، والمراد من كليهما:
انطواء بعض البطن ورجوعه على بعضه الآخر من كثرة السمن.
339

البراءة في المسألة المتقدمة، لفقد الخطاب التفصيلي المتعلق بالأمر المجمل
في تلك المسألة ووجوده هنا، فيجب الاحتياط بالجمع بين محتملات
الواجب المجمل، كما هو الشأن في كل خطاب تعلق بأمر مجمل، ولذا
فرعوا على القول بوضع الألفاظ للصحيح كما هو المشهور، وجوب
الاحتياط في أجزاء العبادات وعدم جواز إجراء أصل البراءة فيها.
وفيه: أن وجوب الاحتياط في المجمل المردد بين الأقل والأكثر
ممنوع، لأن المتيقن من مدلول هذا الخطاب وجوب الأقل بالوجوب
المردد بين النفسي والمقدمي، فلا محيص عن الإتيان به، لأن تركه
مستلزم للعقاب، وأما وجوب الأكثر فلم يعلم من هذا الخطاب، فيبقى
مشكوكا، فيجئ (1) فيه ما مر من الدليل العقلي والنقلي.
والحاصل: أن مناط وجوب الاحتياط عدم جريان أدلة البراءة في
واحد معين من المحتملين - لمعارضته بجريانها في المحتمل الآخر - حتى
يخرج المسألة بذلك عن مورد البراءة ويجب الاحتياط فيها، لأجل تردد
الواجب المستحق على تركه العقاب بين أمرين لا معين (2) لأحدهما، من
غير فرق في ذلك بين وجود خطاب تفصيلي في المسألة متعلق بالمجمل
وبين وجود خطاب مردد بين خطابين.
فإذا (3) فقد المناط المذكور وأمكن البراءة في واحد معين، لم يجب
الاحتياط من غير فرق بين الخطاب التفصيلي وغيره.

(1) راجع الصفحة 318 و 328.
(2) في (ت)، (ر) و (ه‍): " لا تعين ".
(3) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " وإذا ".
340

فإن قلت: إذا كان متعلق الخطاب مجملا فقد تنجز التكليف بمراد
الشارع من اللفظ، فيجب القطع بالإتيان بمراده، واستحق العقاب على
تركه مع وصف كونه مجملا، وعدم القناعة باحتمال تحصيل المراد واحتمال
الخروج عن استحقاق العقاب.
قلت: التكليف ليس متعلقا بمفهوم المراد من اللفظ ومدلوله، حتى
يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبين المشتبه مصداقه بين أمرين، حتى
يجب الاحتياط فيه ولو كان المصداق مرددا بين الأقل والأكثر، نظرا
إلى وجوب القطع بحصول المفهوم المعين المطلوب من العبد، كما سيجئ
في المسألة الرابعة (1). وإنما هو متعلق بمصداق المراد والمدلول، لأنه
الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه، واتصافه بمفهوم المراد والمدلول
بعد الوضع والاستعمال، فنفس متعلق التكليف مردد بين الأقل والأكثر
لا مصداقه.
ونظير هذا، توهم: أنه إذا كان اللفظ في العبادات موضوعا
للصحيح، والصحيح مردد مصداقه بين الأقل والأكثر، فيجب فيه
الاحتياط.
ويندفع: بأنه خلط بين الوضع للمفهوم والمصداق، فافهم.
وأما ما ذكره بعض متأخري المتأخرين (2): من (3) الثمرة بين القول
بوضع ألفاظ العبادات للصحيح وبين وضعها للأعم، فغرضه بيان الثمرة

(1) في الصفحة 352.
(2) هو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين: 113.
(3) في (ر) زيادة: " أنه ".
341

على مختاره من وجوب الاحتياط في الشك في الجزئية، لا أن كل من
قال بوضع الألفاظ للصحيحة فهو قائل بوجوب الاحتياط وعدم جواز
إجراء أصل البراءة في أجزاء العبادات، كيف؟ والمشهور مع قولهم
بالوضع للصحيحة قد ملأوا طواميرهم من إجراء الأصل عند الشك في
الجزئية والشرطية بحيث لا يتوهم من كلامهم أن مرادهم بالأصل غير
أصالة البراءة.
والتحقيق: أن ما ذكروه ثمرة للقولين: من وجوب الاحتياط على
القول بوضع الألفاظ للصحيح، وعدمه على القول بوضعها للأعم، محل
نظر.
أما الأول، فلما عرفت (1): من (2) أن غاية ما يلزم من القول
بالوضع للصحيح كون هذه الألفاظ مجملة، وقد عرفت (3): أن المختار
والمشهور في المجمل المردد بين الأقل والأكثر عدم وجوب الاحتياط.
وأما الثاني، فوجه النظر موقوف على توضيح ما ذكروه من وجه
ترتب تلك الثمرة، أعني عدم لزوم الاحتياط على القول بوضع اللفظ
للأعم، وهو:
أنه إذا قلنا بأن المعنى الموضوع له اللفظ هو الصحيح، كان كل
جزء من أجزاء العبادة مقوما لصدق حقيقة معنى لفظ " الصلاة "، فالشك
في جزئية شئ شك في صدق الصلاة، فلا إطلاق للفظ " الصلاة " على هذا

(1) راجع الصفحة السابقة.
(2) " من " من (ظ).
(3) راجع الصفحة 340.
342

القول بالنسبة إلى واجدة الأجزاء وفاقدة بعضها، لأن الفاقدة ليس
بصلاة، فالشك في كون المأتي به فاقدا أو واجدا شك في كونها صلاة
أو ليست بها.
وأما إذا قلنا بأن الموضوع له هو القدر المشترك بين الواجدة
لجميع الأجزاء والفاقدة لبعضها - نظير " السرير " الموضوع للأعم من
جامع أجزائه ومن فاقد بعضها الغير المقوم لحقيقته بحيث لا يخل فقده
بصدق (1) اسم " السرير " على الباقي - كان لفظ " الصلاة " من الألفاظ
المطلقة الصادقة على الصحيحة والفاسدة.
فإذا أريد بقوله: " أقيموا الصلاة " فرد مشتمل على جزء زائد
على مسمى الصلاة كالصلاة مع السورة، كان ذلك تقييدا للمطلق،
وهكذا إذا أريد المشتملة على جزء آخر كالقيام، كان ذلك تقييدا آخر
للمطلق، فإرادة الصلاة الجامعة لجميع الأجزاء يحتاج إلى تقييدات بعدد
الأجزاء الزائدة على ما يتوقف عليها صدق مسمى الصلاة، أما القدر
الذي يتوقف عليه صدق " الصلاة "، فهو من مقومات معنى المطلق،
لا من القيود المقسمة له.
وحينئذ: فإذا شك في جزئية شئ للصلاة، فإن شك في كونه
جزءا مقوما لنفس المطلق فالشك فيه راجع إلى الشك في صدق اسم
" الصلاة "، ولا يجوز فيه إجراء البراءة، لوجوب القطع بتحقق مفهوم
الصلاة كما أشرنا إليه فيما سبق (2)، ولا إجراء أصالة إطلاق اللفظ وعدم

(1) كذا في (ه‍) ومحتمل (ت)، وفي غيرهما: " لصدق ".
(2) راجع الصفحة 341.
343

تقييده، لأنه فرع صدق المطلق على الخالي من ذلك المشكوك، فحكم
هذا المشكوك عند القائل بالأعم حكم جميع الأجزاء عند القائل
بالصحيح.
وأما إن علم أنه ليس من مقومات حقيقة الصلاة، بل هو على
تقدير اعتباره وكونه جزءا في الواقع ليس إلا من الأجزاء التي يقيد
معنى اللفظ بها، لكون اللفظ موضوعا للأعم من واجده وفاقده، فحينئذ
فالشك في اعتباره وجزئيته راجع إلى الشك في تقييد إطلاق الصلاة في
" أقيموا الصلاة " بهذا الشئ، بأن يراد منه مثلا: أقيموا الصلاة المشتملة
على جلسة الاستراحة.
ومن المعلوم: أن الشك في التقييد يرجع فيه إلى أصالة الإطلاق
وعدم التقييد، فيحكم بأن مطلوب الآمر غير مقيد بوجود هذا المشكوك،
وبأن الامتثال يحصل بدونه، وأن هذا المشكوك غير معتبر في الامتثال،
وهذا معنى نفي جزئيته بمقتضى الإطلاق.
نعم، هنا توهم نظير ما ذكرناه سابقا من الخلط بين المفهوم
والمصداق (1)، وهو توهم: أنه إذا قام الإجماع بل الضرورة على أن
الشارع لا يأمر بالفاسدة، لأن الفاسد ما خالف المأمور به، فكيف
يكون مأمورا به؟ فقد ثبت تقييد الصلاة دفعة واحدة بكونها صحيحة
جامعة لجميع الأجزاء، فكلما شك في جزئية شئ كان راجعا إلى الشك
في تحقق العنوان المقيد المأمور به، فيجب الاحتياط ليقطع بتحقق ذلك
العنوان على تقيده (2)، لأنه كما يجب القطع بحصول نفس العنوان وهو

(1) راجع الصفحة 341.
(2) كذا في (ظ)، وفي نسخة بدل (ص): " المقيد "، وفي غيرهما: " تقييده ".
344

الصلاة، فلا بد من إتيان كل ما يحتمل دخله في تحققها كما أشرنا
إليه (1)، كذلك يجب القطع بتحصيل القيد (2) المعلوم الذي قيد به العنوان،
كما لو قال: " أعتق مملوكا مؤمنا " فإنه يجب القطع بحصول الإيمان،
كالقطع (3) بكونه مملوكا.
ودفعه يظهر مما ذكرناه: من أن الصلاة لم تقيد بمفهوم " الصحيحة "
وهو الجامع لجميع الأجزاء، وإنما قيدت بما علم من الأدلة الخارجية
اعتباره، فالعلم بعدم إرادة " الفاسدة " يراد به العلم بعدم إرادة هذه
المصاديق الفاقدة للأمور التي دل الدليل على تقييد الصلاة بها، لا أن
مفهوم " الفاسدة " خرج عن المطلق وبقي مفهوم " الصحيحة "، فكلما شك
في صدق " الصحيحة " و " الفاسدة " وجب الرجوع إلى الاحتياط
لإحراز مفهوم " الصحيحة ".
وهذه المغالطة جارية في جميع المطلقات، بأن يقال: إن المراد
بالمأمور به في قوله: " أعتق رقبة " ليس إلا الجامع لشروط الصحة، لأن
الفاقد للشرط (4) غير مراد قطعا، فكلما شك في شرطية شئ كان شكا
في تحقق العنوان الجامع للشرائط، فيجب الاحتياط للقطع بإحرازه.
وبالجملة: فاندفاع هذا التوهم غير خفي بأدنى التفات، فلنرجع
إلى المقصود، ونقول:

(1) راجع الصفحة 343.
(2) في (ص) و (ه‍): " المقيد ".
(3) في (ت) و (ه‍) بدل " كالقطع ": " كما يجب القطع "، وفي (ر): " كما يقطع ".
(4) في (ر) و (ص): " للشروط ".
345

إذا عرفت أن ألفاظ العبادات على القول بوضعها للأعم كغيرها
من المطلقات، كان لها حكمها، ومن المعلوم أن المطلق ليس يجوز دائما
التمسك (1) بإطلاقه، بل له شروط، كأن لا يكون واردا في مقام حكم
القضية المهملة بحيث لا يكون المقام مقام بيان، ألا ترى: أنه لو راجع
المريض الطبيب فقال له في غير وقت الحاجة: " لا بد لك من شرب
الدواء أو المسهل "، فهل يجوز للمريض أن يأخذ بإطلاق الدواء
والمسهل؟ وكذا لو قال المولى لعبده: " يجب عليك المسافرة غدا ".
وبالجملة: فحيث لا يقبح من المتكلم ذكر اللفظ المجمل - لعدم
كونه إلا في مقام هذا المقدار من البيان - لا يجوز (2) أن يدفع القيود
المحتملة للمطلق بالأصل، لأن جريان الأصل لا يثبت الإطلاق وعدم
إرادة المقيد (3) إلا بضميمة: أنه إذا فرض - ولو بحكم الأصل - عدم ذكر
القيد، وجب إرادة الأعم من المقيد، وإلا قبح التكليف، لعدم البيان،
فإذا فرض العلم بعدم كونه في مقام البيان لم يقبح الإخلال بذكر القيد
مع إرادته في الواقع.
والذي يقتضيه التدبر في جميع المطلقات الواردة في الكتاب في
مقام الأمر بالعبادة: كونها في غير مقام بيان كيفية العبادة (4)، فإن قوله
تعالى: * (أقيموا الصلاة) * (5) إنما هو في مقام بيان تأكيد الأمر بالصلاة

(1) في غير (ظ) زيادة: " به ".
(2) في (ظ): " فلا يجوز ".
(3) في (ت)، (ر) و (ص): " القيد ".
(4) كذا في (ت) ونسخة بدل (ص)، وفي غيرهما بدل " العبادة ": " الصلاة ".
(5) البقرة: 43، 83 و 110 وغيرها.
346

والمحافظة عليها، نظير قوله: " من ترك الصلاة فهو كذا وكذا " (1)، و " أن
صلاة فريضة خير من عشرين أو ألف حجة " (2)، نظير تأكيد الطبيب
على المريض في شرب الدواء، إما قبل بيانه له حتى يكون إشارة إلى
ما يفصله له حين العمل، وإما بعد البيان له حتى يكون إشارة إلى
المعهود المبين له في غير هذا الخطاب. والأوامر الواردة بالعبادات فيه
- كالصلاة والصوم والحج - كلها على أحد الوجهين، والغالب فيها الثاني.
وقد ذكر موانع اخر لسقوط إطلاقات العبادات عن قابلية التمسك
فيها بأصالة الإطلاق وعدم التقييد، لكنها قابلة للدفع أو غير مطردة في
جميع المقامات، وعمدة الموهن لها ما ذكرناه.
فحينئذ: إذا شك في جزئية شئ لعبادة، لم يكن هنا (3) ما يثبت
به عدم الجزئية من أصالة عدم التقييد، بل الحكم هنا هو الحكم على
مذهب القائل بالوضع للصحيح في رجوعه إلى وجوب الاحتياط أو إلى
أصالة البراءة، على الخلاف في المسألة.
فالذي ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين الصحيحي والأعمي:
هو لزوم الإجمال على القول بالصحيح، وحكم المجمل (4) مبني على
الخلاف في وجوب الاحتياط أو جريان أصالة البراءة، وإمكان البيان
والحكم بعدم الجزئية - لأصالة عدم التقييد - على القول بالأعم، فافهم.

(1) الوسائل 3: 29، الباب 11 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 5.
(2) الوسائل 3: 27، الباب 10 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 8 و 9.
(3) في (ر) و (ص): " هناك ".
(4) في غير (ظ) زيادة: " هو ".
347

المسألة الثالثة
فيما إذا تعارض نصان متكافئان في جزئية شئ لشئ وعدمها
كأن يدل أحدهما على جزئية السورة والآخر على عدمها.
ومقتضى إطلاق أكثر الأصحاب القول بالتخيير بعد التكافؤ: ثبوت
التخيير هنا.
لكن ينبغي أن يحمل هذا الحكم منهم على ما إذا لم يكن هناك
إطلاق يقتضي أصالة عدم تقييده (1) عدم جزئية هذا المشكوك، كأن
يكون هنا (2) إطلاق معتبر للأمر بالصلاة بقول مطلق، وإلا فالمرجع بعد
التكافؤ إلى هذا المطلق، لسلامته عن المقيد بعد ابتلاء ما يصلح لتقييده
بمعارض مكافئ.
وهذا الفرض خارج عن موضوع المسألة، لأنها - كأمثالها من مسائل
هذا المقصد - مفروضة فيما إذا لم يكن هناك (3) دليل اجتهادي سليم عن
المعارض متكفلا لحكم المسألة حتى تكون موردا للأصول العملية.

(1) لم ترد " عدم تقييده " في (ظ).
(2) في (ص): " هناك ".
(3) لم ترد " هناك " في (ر)، (ص) و (ظ).
348

فإن قلت: فأي فرق بين وجود هذا المطلق وعدمه؟ وما المانع
من الحكم بالتخيير هنا، كما لو لم يكن مطلق؟
فإن حكم المتكافئين إن كان هو التساقط، حتى أن المقيد المبتلى
بمثله بمنزلة العدم فيبقى المطلق سالما، كان اللازم في صورة عدم وجود
المطلق - التي حكم فيها بالتخيير - هو التساقط والرجوع إلى الأصل
المؤسس فيما لا نص فيه: من البراءة أو الاحتياط، على الخلاف.
وإن كان حكمهما التخيير - كما هو المشهور نصا وفتوى - كان
اللازم عند تعارض المقيد للمطلق الموجود بمثله، الحكم بالتخيير ها هنا (1)،
لا تعيين الرجوع إلى المطلق الذي هو بمنزلة تعيين العمل بالخبر
المعارض للمقيد.
قلت: أما لو قلنا: بأن المتعارضين مع وجود المطلق غير
متكافئين - لأن موافقة أحدهما للمطلق الموجود مرجح له، فيؤخذ به
ويطرح الآخر - فلا إشكال في الحكم، وفي خروج مورده عن محل
الكلام.
وإن قلنا: إنهما متكافئان، والمطلق مرجع، لا مرجح - نظرا إلى
كون أصالة عدم التقييد تعبديا، لا من باب الظهور النوعي - فوجه
عدم شمول أخبار التخيير لهذا القسم من المتكافئين: دعوى ظهور
اختصاص تلك الأخبار بصورة عدم وجود الدليل الشرعي في تلك
الواقعة، وأنها مسوقة لبيان عدم جواز طرح قول الشارع في تلك
الواقعة والرجوع إلى الأصول العقلية والنقلية المقررة لحكم صورة فقدان

(1) في (ر): " هنا ".
349

قول الشارع فيها، والمفروض وجود قول الشارع هنا ولو بضميمة
أصالة الإطلاق المتعبد بها عند الشك في المقيد.
والفرق بين هذا الأصل وبين تلك الأصول الممنوع في هذه
الأخبار عن الرجوع إليها وترك المتكافئين (1): هو أن تلك الأصول
عملية فرعية مقررة لبيان العمل في المسألة الفرعية عند فقد الدليل
الشرعي فيها، وهذا الأصل مقرر لإثبات كون الشئ وهو المطلق دليلا
وحجة عند فقد ما يدل على عدم ذلك.
فالتخيير مع جريان هذا الأصل تخيير مع وجود الدليل الشرعي
المعين لحكم المسألة المتعارض فيها النصان، بخلاف التخيير مع جريان
تلك الأصول، فإنه تخيير بين المتكافئين عند فقد دليل ثالث في
موردهما.
هذا، ولكن الإنصاف: أن أخبار التخيير حاكمة على هذا الأصل
وإن كان جاريا في المسألة الأصولية، كما أنها حاكمة على تلك الأصول
الجارية في المسألة الفرعية، لأن مؤداها بيان حجية أحد المتعارضين
كمؤدى أدلة حجية الأخبار، ومن المعلوم حكومتها على مثل هذا
الأصل، فهي دالة على مسألة أصولية، وليس مضمونها حكما عمليا
صرفا (2).
فلا فرق بين أن يرد في مورد هذا الدليل المطلق: " اعمل بالخبر

(1) لم ترد " وترك المتكافئين " في (ظ).
(2) لم ترد عبارة " فهي - إلى - صرفا " في (ظ)، ولم ترد " صرفا " في (ت)
و (ه‍).
350

الفلاني المقيد لهذا المطلق "، وبين قوله: " اعمل بأحد هذين المقيد
أحدهما له ".
فالظاهر: أن حكم المشهور في المقام بالرجوع إلى المطلق وعدم
التخيير مبني على ما هو المشهور - فتوى ونصا -: من ترجيح أحد
المتعارضين بالمطلق أو العام الموجود في تلك المسألة، كما يظهر من
ملاحظة النصوص والفتاوى. وسيأتي توضيح ما هو الحق من المسلكين
في باب التعادل والتراجيح (1) إن شاء الله تعالى.

(1) انظر مبحث التعادل والتراجيح 4: 147 - 148.
351

المسألة الرابعة
فيما إذا شك في جزئية شئ للمأمور به
من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي
كما إذا أمر بمفهوم مبين مردد مصداقه بين الأقل والأكثر. ومنه:
ما إذا وجب صوم شهر هلالي - وهو ما بين الهلالين - فشك في أنه
ثلاثون أو ناقص. ومثل: ما إذا (1) أمر بالطهور لأجل الصلاة، أعني
الفعل (2) الرافع للحدث أو المبيح للصلاة، فشك في جزئية شئ للوضوء
أو الغسل الرافعين.
واللازم في المقام: الاحتياط، لأن المفروض تنجز التكليف بمفهوم
مبين معلوم تفصيلا، وإنما الشك في تحققه بالأقل، فمقتضى أصالة عدم
تحققه وبقاء الاشتغال: عدم الاكتفاء به ولزوم الإتيان بالأكثر.
ولا يجري هنا ما تقدم من الدليل العقلي والنقلي الدال على
البراءة، لأن البيان الذي لا بد منه في التكليف قد وصل من الشارع،
فلا يقبح المؤاخذة على ترك ما بينه تفصيلا، فإذا شك في تحققه في

(1) " إذا " من (ظ).
(2) في (ت) و (ه‍) بدل " الفعل ": " الغسل ".
352

الخارج فالأصل عدمه. والعقل - أيضا - يحكم بوجوب القطع بإحراز ما
علم وجوبه تفصيلا، أعني المفهوم المعين المبين المأمور به، ألا ترى: أنه
لو شك في وجود باقي الأجزاء المعلومة - كأن لم يعلم أنه أتى بها أم
لا - كان مقتضى العقل والاستصحاب وجوب الإتيان بها؟
والفارق بين ما نحن فيه وبين الشبهة الحكمية من المسائل المتقدمة
التي حكمنا فيها بالبراءة هو: أن نفس (1) التكليف فيها (2) مردد بين
اختصاصه بالمعلوم وجوبه تفصيلا وبين تعلقه بالمشكوك، وهذا الترديد
لا حكم له بمقتضى العقل، لأن مرجعه إلى المؤاخذة على ترك المشكوك،
وهي قبيحة بحكم العقل، فالعقل والنقل الدالان على البراءة مبينان
لمتعلق (3) التكليف (4) من أول الأمر في مرحلة الظاهر.
وأما ما نحن فيه، فمتعلق التكليف فيه مبين معين معلوم تفصيلا،
لا تصرف للعقل والنقل فيه، وإنما الشك في تحققه في الخارج بإتيان
الأجزاء المعلومة، والعقل والنقل المذكوران لا يثبتان تحققه في الخارج،
بل الأصل عدم تحققه، والعقل أيضا مستقل بوجوب الاحتياط مع
الشك في التحقق.

(1) في (ص)، (ظ) و (ه‍) زيادة: " متعلق ".
(2) في (ه‍) بدل " فيها ": " فيهما "، وفي (ص) بدلها: " في المسائل المتقدمة
المحكومة بالبراءة فيها "، وفي (ظ) بدلها: " في المسألتين المتقدمتين المحكوم فيها
بالبراءة ".
(3) في (ت) و (ر): " لتعلق ".
(4) في (ت) و (ص) زيادة: " بما عداه "، وفي (ر) زيادة: " لما عداه ".
353

وأما القسم الثاني، وهو الشك في كون الشئ قيدا للمأمور به:
فقد عرفت (1) أنه على قسمين، لأن القيد قد يكون منشؤه فعلا
خارجيا مغايرا للمقيد في الوجود الخارجي كالطهارة الناشئة من
الوضوء، وقد يكون قيدا متحدا معه في الوجود الخارجي.
أما الأول: فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدم (2)، فلا نطيل
بالإعادة.
وأما الثاني: فالظاهر اتحاد حكمهما (3).
وقد يفرق بينهما: بإلحاق الأول بالشك في الجزئية دون الثاني،
نظرا إلى جريان العقل والنقل الدالين على عدم المؤاخذة على ما لم يعلم
من الشارع المؤاخذة عليه في الأول، فإن وجوب الوضوء إذا لم يعلم

(1) راجع الصفحة 315.
(2) وهو الشك في الجزء الخارجي.
(3) وردت في (ت) و (ه‍) بدل " أما الأول - إلى - حكمهما ": " والظاهر اتحاد
حكمهما، والكلام فيه هو الكلام فيما تقدم "، إلا أن في (ت) بدل " فيه ":
" فيها ".
354

المؤاخذة عليه كان التكليف به - ولو مقدمة - منفيا بحكم العقل والنقل،
والمفروض أن الشرط الشرعي إنما انتزع من الأمر بالوضوء في الشريعة،
فينتفي بانتفاء منشأ انتزاعه في الظاهر.
وأما ما كان متحدا مع المقيد في الوجود الخارجي كالإيمان
في الرقبة المؤمنة، فليس مما يتعلق به وجوب وإلزام مغاير لوجوب
أصل الفعل ولو مقدمة، فلا يندرج فيما حجب الله (1) علمه عن
العباد.
والحاصل: أن أدلة البراءة من العقل والنقل إنما تنفي الكلفة
الزائدة الحاصلة من فعل المشكوك والعقاب المترتب على تركه مع إتيان
ما هو معلوم الوجوب تفصيلا، فإن الآتي بالصلاة بدون التسليم
المشكوك (2) وجوبه معذور في ترك التسليم، لجهله. وأما الآتي بالرقبة
الكافرة فلم يأت في الخارج بما هو معلوم له تفصيلا حتى يكون
معذورا في الزائد المجهول، بل هو تارك للمأمور به رأسا.
وبالجملة: فالمطلق والمقيد من قبيل المتبائنين، لا الأقل والأكثر.
وكأن هذا هو السر فيما ذكره بعض القائلين بالبراءة عند الشك في
الشرطية والجزئية كالمحقق القمي (رحمه الله) في باب المطلق والمقيد: من تأييد
استدلال العلامة (رحمه الله) في النهاية على وجوب حمل المطلق على المقيد
بقاعدة " الاشتغال " (3)، ورد ما اعترض عليه بعدم العلم بالشغل حتى

(1) لم ترد لفظ الجلالة في (ر) و (ظ).
(2) في غير (ر) زيادة: " في ".
(3) نهاية الوصول (مخطوط): 174.
355

يستدعي العلم بالبراءة (1)، بقوله:
وفيه: أن المكلف به حينئذ هو المردد بين كونه نفس المقيد أو
المطلق، ونعلم أنا مكلفون بأحدهما، لاشتغال الذمة بالمجمل، ولا يحصل
البراءة إلا بالمقيد - إلى أن قال -:
وليس هنا قدر مشترك يقيني يحكم بنفي الزائد عنه بالأصل، لأن
الجنس الموجود في ضمن المقيد لا ينفك عن الفصل، ولا تفارق لهما،
فليتأمل (2)، انتهى.
هذا، ولكن الإنصاف: عدم خلو المذكور عن النظر، فإنه لا بأس
بنفي القيود المشكوكة للمأمور به بأدلة البراءة من العقل والنقل، لأن
المنفي فيها الإلزام بما لا يعلم وكلفته، ولا ريب أن التكليف بالمقيد مشتمل
على كلفة زائدة وإلزام زائد على ما في التكليف بالمطلق وإن لم يزد
المقيد الموجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج، ولا فرق
عند التأمل بين إتيان الرقبة الكافرة وإتيان الصلاة بدون الوضوء.
مع أن ما ذكر (3) - من تغاير منشأ حصول الشرط مع وجود
المشروط في الوضوء واتحادهما في الرقبة المؤمنة - كلام ظاهري، فإن
الصلاة حال (4) الطهارة بمنزلة الرقبة المؤمنة في كون كل منهما أمرا

(1) المعترض هو سلطان العلماء في حاشيته على المعالم، انظر المعالم (الطبعة الحجرية):
155، الحاشية المبدوة بقوله: " الجمع بين الدليلين لا ينحصر... الخ ".
(2) القوانين: 325 - 326.
(3) في (ر) و (ص): " ذكره ".
(4) في (ت) و (ه‍) زيادة: " وجود ".
356

واحدا في مقابل الفرد الفاقد للشرط.
وأما وجوب إيجاد الوضوء مقدمة لتحصيل ذلك المقيد في الخارج،
فهو أمر يتفق بالنسبة إلى الفاقد للطهارة، ونظيره قد يتفق في الرقبة
المؤمنة، حيث إنه قد يجب بعض المقدمات لتحصيلها في الخارج، بل قد
يجب السعي في هداية الرقبة الكافرة إلى الإيمان مع التمكن إذا لم يوجد
غيرها وانحصر الواجب في العتق. وبالجملة: فالأمر بالمشروط بشئ
لا يقتضي بنفسه إيجاد أمر زائد مغاير له في الوجود الخارجي، بل قد
يتفق وقد لا يتفق.
و (1) أما الواجد للشرط فهو لا يزيد في الوجود الخارجي على
الفاقد له، فالفرق بين الشروط فاسد جدا.
فالتحقيق: أن حكم الشرط بجميع أقسامه واحد، سواء ألحقناه
بالجزء أم بالمتبائنين.
وأما ما ذكره المحقق القمي (رحمه الله)، فلا ينطبق على ما ذكره في باب
البراءة والاحتياط (2): من إجراء البراءة حتى في المتبائنين، فضلا عن
غيره، فراجع.
ومما ذكرنا: يظهر الكلام في ما لو دار الأمر بين التخيير
والتعيين، كما لو دار الواجب في كفارة رمضان بين خصوص العتق
للقادر عليه وبين إحدى الخصال الثلاث، فإن في إلحاق ذلك بالأقل
والأكثر فيكون نظير دوران الأمر بين المطلق والمقيد، أو المتبائنين (3)،

(1) لم ترد " و " في (ت).
(2) انظر القوانين 2: 39.
(3) في (ر): " بالمتبائنين ".
357

وجهين بل قولين:
من عدم جريان أدلة البراءة في المعين، لأنه معارض بجريانها في
الواحد المخير، وليس بينهما (1) قدر مشترك خارجي أو ذهني يعلم
تفصيلا وجوبه فيشك في جزء زائد خارجي أو ذهني.
ومن أن الإلزام بخصوص أحدهما كلفة زائدة على الإلزام
بأحدهما في الجملة، وهو ضيق على المكلف، وحيث لم يعلم المكلف
بتلك الكلفة فهي موضوعة عن المكلف بحكم: " ما حجب الله علمه
عن العباد " (2)، وحيث لم يعلم بذلك الضيق فهو في سعة منه بحكم:
" الناس في سعة ما لم يعلموا " (3). وأما وجوب الواحد المردد بين المعين
والمخير فيه فهو معلوم، فليس موضوعا عنه ولا هو في سعة من
جهته.
والمسألة (4) في غاية الإشكال، لعدم الجزم باستقلال العقل بالبراءة
عن التعيين بعد العلم الإجمالي، وعدم كون المعين المشكوك فيه أمرا
خارجا عن المكلف به مأخوذا فيه على وجه الشطرية أو الشرطية، بل
هو على تقديره عين المكلف به، والأخبار غير منصرفة إلى نفي التعيين،
لأنه في معنى نفي الواحد المعين، فيعارض بنفي الواحد المخير، فلعل
الحكم بوجوب الاحتياط وإلحاقه بالمتبائنين لا يخلو عن قوة، بل الحكم

(1) في (ص): " لهما ".
(2) الوسائل 18: 119، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 28.
(3) عوالي اللآلي 1: 424، الحديث 109.
(4) في غير (ظ): " فالمسألة ".
358

في الشرط وإلحاقه بالجزء لا يخلو عن إشكال، لكن الأقوى فيه:
الإلحاق.
فالمسائل الأربع في الشرط حكمها حكم مسائل الجزء، فراجع.
ثم إن مرجع الشك في المانعية إلى الشك في شرطية عدمه.
وأما الشك في القاطعية، بأن يعلم أن عدم الشئ لا مدخل له
في العبادة إلا من جهة قطعه للهيئة الاتصالية المعتبرة في نظر الشارع،
فالحكم فيه استصحاب الهيئة الاتصالية وعدم خروج الأجزاء السابقة
عن قابلية صيرورتها أجزاء فعلية، وسيتضح ذلك (1) بعد ذلك إن شاء
الله.
ثم إن الشك في (2) الشرطية: قد ينشأ عن الشك في حكم تكليفي
نفسي، فيصير أصالة البراءة في ذلك الحكم التكليفي حاكما على الأصل
في الشرطية (3)، فيخرج عن موضوع مسألة الاحتياط والبراءة، فيحكم
بما يقتضيه الأصل الحاكم: من وجوب ذلك المشكوك في شرطيته أو
عدم وجوبه.

(1) لم ترد " ذلك " في (ر) و (ص).
(2) في (ص) و (ظ) زيادة: " الجزئية أو ".
(3) في (ص)، (ظ) و (ه‍) زيادة: " والجزئية "، لكن كتب فوقها في (ص): " خ ".
359

وينبغي التنبيه على أمور متعلقة بالجزء والشرط:
الأول
إذا ثبت جزئية شئ وشك في ركنيته، فهل الأصل كونه ركنا،
أو عدم كونه كذلك، أو مبني على مسألة البراءة و (1) الاحتياط في الشك
في الجزئية، أو التبعيض بين أحكام الركن، فيحكم ببعضها وينفى بعضها
الآخر؟ وجوه، لا يعرف الحق منها إلا بعد معرفة معنى الركن،
فنقول:
إن الركن في اللغة والعرف معروف (2)، وليس له في الأخبار ذكر
حتى يتعرض لمعناه في زمان صدور تلك الأخبار، بل هو اصطلاح
خاص للفقهاء.
وقد اختلفوا في تعريفه: بين من قال بأنه: ما تبطل العبادة بنقصه
عمدا وسهوا (3)، وبين من عطف على النقص زيادته (4). والأول أوفق

(1) في (ظ): " أو ".
(2) راجع مجمع البحرين 6: 257، والقاموس المحيط 4: 229.
(3) كما في المبسوط 1: 100، والتذكرة 3: 99 - 100.
(4) كما في جامع المقاصد 2: 199، وروض الجنان: 249.
361

بالمعنى اللغوي والعرفي، وحينئذ فكل جزء ثبت في الشرع بطلان العبادة
بالاختلال في طرف النقيصة أو فيه وفي طرف الزيادة، فهو ركن.
فالمهم: بيان حكم الإخلال (1) بالجزء في طرف النقيصة أو الزيادة،
وأنه إذا ثبت جزئيته فهل الأصل يقتضي بطلان المركب بنقصه سهوا كما
يبطل بنقصه عمدا، وإلا لم يكن جزءا؟
فهنا مسائل ثلاث:
بطلان العبادة بتركه سهوا.
وبطلانها بزيادته عمدا.
وبطلانها بزيادته سهوا.

(1) في (ر)، (ص) و (ظ): " الاختلال ".
362

[المسألة الأولى]
[في ترك الجزء سهوا] (1)
أما الأولى، فالأقوى فيها: أصالة بطلان العبادة بنقص الجزء
سهوا إلا أن يقوم دليل عام أو خاص على الصحة، لأن ما كان جزءا
في حال العمد كان جزءا في حال الغفلة، فإذا انتفى انتفى المركب، فلم
يكن المأتي به موافقا للمأمور به، وهو معنى فساده.
أما عموم جزئيته لحال الغفلة، فلأن الغفلة لا توجب تغيير
المأمور به، فإن المخاطب بالصلاة مع السورة إذا غفل عن السورة في
الأثناء لم يتغير الأمر المتوجه إليه قبل الغفلة، ولم يحدث بالنسبة إليه
من الشارع أمر آخر حين الغفلة، لأنه غافل عن غفلته، فالصلاة المأتي
بها من غير سورة غير مأمور بها بأمر أصلا. غاية الأمر: عدم توجه
الأمر بالصلاة مع السورة إليه، لاستحالة تكليف الغافل، فالتكليف
ساقط عنه ما دام الغفلة، نظير من غفل عن الصلاة رأسا أو نام عنها،
فإذا التفت إليها والوقت باق وجب عليه الاتيان بها بمقتضى الأمر الأول.
فإن قلت: عموم جزئية الجزء لحال النسيان يتم فيما لو ثبت
الجزئية بمثل قوله: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " (2)، دون ما لو قام
الإجماع مثلا على جزئية شئ في الجملة واحتمل اختصاصها بحال
الذكر، كما انكشف ذلك بالدليل في الموارد التي حكم الشارع فيها

(1) العنوان منا.
(2) المستدرك 4: 158، الباب الأول من أبواب القراءة، الحديث 5.
363

بصحة الصلاة المنسي فيها بعض الأجزاء على وجه يظهر من الدليل
كون صلاته تامة، مثل قوله (عليه السلام): " تمت صلاته، ولا يعيد " (1)، وحينئذ
فمرجع الشك إلى الشك في الجزئية حال النسيان، فيرجع فيها إلى
البراءة أو الاحتياط على الخلاف.
وكذا لو كان الدال على الجزئية حكما تكليفيا مختصا بحال الذكر
وكان الأمر بأصل العبادة مطلقا، فإنه يقتصر في تقييده على مقدار
قابلية دليل التقييد أعني حال الذكر، إذ لا تكليف حال الغفلة، فالجزء
المنتزع من الحكم التكليفي نظير الشرط المنتزع منه في اختصاصه بحال
الذكر، كلبس الحرير ونحوه.
قلت: إن أريد بعدم جزئية ما ثبت جزئيته في الجملة في حق
الناسي إيجاب العبادة الخالية عن ذلك الجزء عليه، فهو غير قابل
لتوجيه (2) الخطاب إليه بالنسبة إلى المغفول عنه إيجابا وإسقاطا.
وإن أريد به إمضاء الخالي عن ذلك الجزء من الناسي بدلا عن
العبادة الواقعية، فهو حسن، لأنه حكم في حقه بعد زوال غفلته، لكن
عدم الجزئية بهذا المعنى عند الشك مما لم يقل به أحد من المختلفين في
مسألة البراءة والاحتياط، لأن هذا المعنى حكم وضعي لا يجري فيه
أدلة البراءة، بل الأصل فيه العدم بالاتفاق.
وهذا معنى ما اخترناه: من فساد العبادة الفاقدة للجزء نسيانا،
بمعنى عدم كونها مأمورا بها ولا مسقطا عنه.

(1) الوسائل 5: 541، الباب 23 من أبواب صلاة المسافر، الحديث الأول.
(2) في (ر) و (ص): " لتوجه ".
364

ومما ذكرنا ظهر: أنه ليس هذه المسألة من مسألة اقتضاء الأمر
للإجزاء في شئ، لأن تلك المسألة مفروضة فيما إذا كان المأتي به
مأمورا به بأمر شرعي، كالصلاة مع التيمم أو بالطهارة المظنونة، وليس
في المقام أمر بما أتى به الناسي أصلا.
وقد يتوهم: أن في المقام أمرا عقليا، لاستقلال العقل بأن الواجب
في حق الناسي هو هذا المأتي به، فيندرج - لذلك - في إتيان المأمور به
بالأمر العقلي.
وهو فاسد جدا، لأن العقل ينفي تكليفه بالمنسي ولا يثبت له
تكليفا بما عداه من الأجزاء، وإنما يأتي بها بداعي الأمر بالعبادة
الواقعية غفلة عن عدم كونه إياها، كيف والتكليف - عقليا كان أو
شرعيا - يحتاج إلى الالتفات، وهذا الشخص غير ملتفت إلى أنه ناس
عن الجزء حتى يكلف بما عداه.
ونظير هذا التوهم: توهم أن ما يأتي به الجاهل المركب باعتقاد
أنه المأمور به، من باب إتيان المأمور به بالأمر العقلي.
وفساده يظهر مما ذكرنا بعينه.
وأما ما ذكره: من أن دليل الجزء قد يكون من قبيل التكليف،
وهو - لاختصاصه بغير الغافل - لا يقيد (1) الأمر بالكل إلا بقدر مورده،
وهو غير الغافل، فإطلاق الأمر بالكل - المقتضي لعدم جزئية هذا الجزء
له بالنسبة إلى الغافل - بحاله، ففيه:
أن التكليف المذكور إن كان تكليفا نفسيا، فلا يدل على كون

(1) في (ت) و (ص) زيادة: " إطلاق ".
365

متعلقه جزءا للمأمور به حتى يقيد به الأمر بالكل، وإن كان تكليفا
غيريا فهو كاشف عن كون متعلقه جزءا، لأن الأمر الغيري إنما يتعلق
بالمقدمة، وانتفاؤه بالنسبة إلى الغافل لا يدل على نفي جزئيته في حقه،
لأن الجزئية غير مسببة عنه، بل هو مسبب عنها.
ومن ذلك يعلم: الفرق بين ما نحن فيه وبين ما ثبت اشتراطه
من الحكم التكليفي، كلبس الحرير، فإن الشرطية مسببة عن التكليف
- عكس ما نحن فيه -، فينتفي بانتفائه.
والحاصل: أن الأمر الغيري بشئ - لكونه جزءا - وإن انتفى في
حق الغافل عنه، من حيث انتفاء الأمر بالكل في حقه، إلا أن الجزئية
لا تنتفي بذلك.
وقد يتخيل: أن أصالة العدم على الوجه المتقدم (1) وإن اقتضت ما
ذكر، إلا أن استصحاب الصحة حاكم عليها.
وفيه: ما سيجئ في المسألة الآتية (2): من فساد التمسك به في
هذه المقامات، وكذا التمسك بغيره مما سيذكر هناك.
فإن قلت: إن الأصل الأولي وإن كان ما ذكرت، إلا أن هنا
أصلا ثانويا يقتضي إمضاء ما يفعله الناسي خاليا عن الجزء والشرط (3)
المنسي عنه، وهو قوله (صلى الله عليه وآله): " رفع عن أمتي تسعة: الخطأ والنسيان... " (4)،

(1) المتقدم في آخر الصفحة 364.
(2) انظر الصفحة 372.
(3) في (ص): " أو الشرط ".
(4) الوسائل 11: 295، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث الأول.
366

بناء على أن المقدر ليس خصوص المؤاخذة، بل جميع الآثار الشرعية
المترتبة على الشئ المنسي لولا النسيان، فإنه لو ترك السورة لا للنسيان
يترتب حكم الشارع عليه بالفساد ووجوب الإعادة، وهذا مرفوع مع
ترك السورة نسيانا.
وإن شئت قلت: إن جزئية السورة مرتفعة حال النسيان.
قلت - بعد تسليم إرادة رفع جميع الآثار -: إن جزئية السورة
ليست من الأحكام المجعولة لها شرعا، بل هي ككلية الكل، وإنما المجعول
الشرعي وجوب الكل، والوجوب مرتفع حال النسيان بحكم الرواية،
ووجوب الإعادة بعد التذكر مترتب على الأمر الأول، لا على ترك
السورة.
ودعوى: أن ترك السورة سبب لترك الكل الذي هو سبب وجود
الأمر الأول، لأن عدم الرافع من أسباب البقاء، وهو من المجعولات
القابلة للارتفاع في الزمان الثاني، فمعنى رفع النسيان رفع ما يترتب
عليه وهو ترك الجزء، ومعنى رفعه رفع ما يترتب عليه وهو ترك
الكل، ومعنى رفعه رفع ما يترتب عليه وهو وجود الأمر في الزمان
الثاني.
مدفوعة: بما تقدم (1) في بيان معنى الرواية في الشبهة التحريمية في
الشك في أصل التكليف: من أن المرفوع في الرواية الآثار الشرعية
الثابتة لولا النسيان، لا الآثار الغير الشرعية، ولا ما يترتب على هذه
الآثار من الآثار الشرعية.

(1) راجع الصفحة 32 - 33.
367

فالآثار المرفوعة في هذه الرواية نظير الآثار الثابتة للمستصحب
بحكم أخبار الاستصحاب في أنها هي خصوص الشرعية المجعولة للشارع،
دون الآثار العقلية والعادية، ودون ما يترتب عليها من الآثار الشرعية.
نعم، لو صرح الشارع بأن حكم نسيان الجزء الفلاني مرفوع، أو
أن نسيانه كعدم نسيانه، أو أنه لا حكم لنسيان السورة مثلا، وجب
حمله - تصحيحا للكلام - على رفع الإعادة وإن لم يكن أثرا شرعيا،
فافهم (1).
وزعم بعض المعاصرين (2) الفرق بينهما، حيث حكم في مسألة
البراءة والاشتغال في الشك في الجزئية: بأن أصالة عدم الجزئية
لا يثبت بها (3) ما يترتب عليه، من كون المأمور به هو الأقل، لأنه
لازم غير شرعي. أما رفع الجزئية الثابتة بالنبوي فيثبت به كون المأمور
به هو الأقل. وذكر في وجه الفرق ما لا يصلح له، من أراده راجعه
فيما ذكره في أصالة العدم.
وكيف كان، فالقاعدة الثانوية في النسيان غير ثابتة.
نعم يمكن دعوى القاعدة الثانوية في خصوص الصلاة من جهة
قوله (عليه السلام): " لا تعاد الصلاة إلا من خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة،
والركوع، والسجود " (4)، وقوله (عليه السلام) في مرسلة سفيان: " يسجد سجدتي

(1) لم ترد عبارة " نعم - إلى - فافهم " في (ظ).
(2) هو صاحب الفصول في الفصول: 357.
(3) لم ترد " بها " في (ت)، (ظ) و (ه‍).
(4) الوسائل 4: 683، الباب الأول من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 14.
368

السهو في كل زيادة ونقيصة " (1)، وقوله (عليه السلام) في من نسي الفاتحة:
" أليس قد أتممت الركوع والسجود " (2)، وغيره (3).
ثم إن الكلام في الشرط كالكلام في الجزء في الأصل الأولي
والثانوي المزيف والمقبول، وهو غاية المسؤول.

(1) الوسائل 5: 346 - 347، الباب 32 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة،
الحديث 3.
(2) الوسائل 4: 769، الباب 29 من أبواب القراءة، الحديث 2.
(3) انظر الوسائل 4: 766 - 771، الباب 27، 28، 29 و 30 من أبواب
القراءة، والروايات متعددة.
369

المسألة الثانية
في زيادة الجزء عمدا
وإنما يتحقق في الجزء الذي لم يعتبر فيه اشتراط (1) عدم الزيادة،
فلو اخذ بشرطه فالزيادة عليه موجب لاختلاله من حيث النقيصة، لأن
فاقد الشرط كالمتروك. كما أنه لو اخذ في الشرع لا بشرط الوحدة
والتعدد فلا إشكال في عدم الفساد.
ويشترط في صدق الزيادة: قصد كونه من الأجزاء، أما زيادة
صورة الجزء لا بقصدها - كما لو سجد للعزيمة في الصلاة - لم تعد زيادة
في الجزء. نعم، (2) ورد في بعض الأخبار: " أنها زيادة في المكتوبة " (3)،
وسيأتي الكلام في معنى الزيادة في الصلاة (4).
ثم الزيادة العمدية تتصور على وجوه:
أحدها: أن يزيد جزءا من أجزاء الصلاة بقصد كون الزائد جزءا
مستقلا، كما لو اعتقد شرعا أو تشريعا أن الواجب في كل ركعة
ركوعان، كالسجود.
الثاني: أن يقصد كون مجموع الزائد والمزيد عليه جزءا واحدا،
كما لو اعتقد أن الواجب في الركوع الجنس الصادق على الواحد والمتعدد.

(1) لم ترد " اشتراط " في (ر).
(2) في (ت) و (ر) زيادة: " ربما ".
(3) الوسائل 4: 779، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث الأول.
(4) لكنه (قدس سره) فيما سيأتي أحاله على مقام آخر، انظر الصفحة 383.
370

الثالث: أن يأتي بالزائد بدلا عن المزيد عليه بعد رفع اليد عنه:
إما اقتراحا، كما لو قرأ سورة ثم بدا له في الأثناء أو بعد الفراغ وقرأ
سورة أخرى لغرض ديني كالفضيلة، أو دنيوي كالاستعجال. وإما
لإيقاع الأول على وجه فاسد بفقد بعض الشروط، كأن يأتي ببعض
الأجزاء رياء أو مع عدم الطمأنينة المعتبرة فيها، ثم يبدو له في إعادته
على وجه صحيح.
أما الزيادة على الوجه الأول: فلا إشكال في فساد العبادة (1) إذا
نوى ذلك قبل الدخول في الصلاة أو في الأثناء، لأن ما أتى به وقصد
الامتثال به - وهو المجموع المشتمل على الزيادة - غير مأمور به، وما
امر به وهو ما عدا تلك الزيادة لم يقصد الامتثال به.
وأما الأخيران: فمقتضى الأصل عدم بطلان العبادة فيهما، لأن
مرجع ذلك (2) الشك إلى الشك في مانعية الزيادة، ومرجعها إلى الشك
في شرطية عدمها، وقد تقدم (3) أن مقتضى الأصل فيه البراءة.
وقد يستدل على البطلان: بأن الزيادة تغيير لهيئة العبادة الموظفة
فتكون مبطلة. وقد احتج به في المعتبر على بطلان الصلاة بالزيادة (4).
وفيه نظر، لأنه إن أريد تغيير الهيئة المعتبرة في الصلاة، فالصغرى
ممنوعة، لأن اعتبار الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة أول الدعوى، فإذا

(1) في (ت)، (ص) و (ه‍) زيادة: " بها ".
(2) لم ترد " ذلك " في (ر) و (ظ).
(3) راجع الصفحة 354.
(4) المعتبر 2: 379.
371

شك فيه فالأصل البراءة عنه. وإن أريد أنه تغيير للهيئة المتعارفة
المعهودة للصلاة فالكبرى ممنوعة، لمنع كون تغيير الهيئة المتعارفة مبطلا.
ونظير الاستدلال بهذا للبطلان في الضعف: الاستدلال للصحة
باستصحابها (1)، بناء على أن العبادة قبل هذه الزيادة كانت صحيحة،
والأصل بقاؤها وعدم عروض البطلان لها.
وفيه: أن المستصحب إن كان صحة مجموع الصلاة فلم يتحقق
بعد.
وإن كان صحة الأجزاء السابقة منها فهي غير مجدية، لأن صحة
تلك الأجزاء: إما عبارة عن مطابقتها للأمر المتعلق بها، وإما ترتب
الأثر عليها. والمراد بالأثر المترتب عليها: حصول المركب بها منضمة
مع باقي الأجزاء والشرائط، إذ ليس أثر الجزء المنوط به صحته إلا
حصول الكل به منضما إلى تمام غيره مما يعتبر في الكل.
ولا يخفى: أن الصحة بكلا المعنيين باقية للأجزاء السابقة، لأنها
بعد وقوعها مطابقة للأمر بها لا تنقلب عما وقعت عليه، وهي بعد
على وجه لو انضم إليها تمام ما يعتبر في الكل حصل الكل، فعدم
حصول الكل لعدم انضمام تمام ما يعتبر في الكل إلى تلك الأجزاء،
لا يخل بصحتها.
ألا ترى: أن صحة الخل من حيث كونه جزءا للسكنجبين،
لا يراد بها إلا كونه على صفة لو انضم إليه تمام ما يعتبر في تحقق
السكنجبين لحصل الكل، فلو لم ينضم إليه تمام ما يعتبر فلم يحصل

(1) استدل به الشهيد الثاني في تمهيد القواعد: 273.
372

- لذلك - الكل، لم يقدح ذلك في اتصاف الخل بالصحة في مرتبة
جزئيته.
فإذا كان عدم حصول الكل يقينا لعدم حصول تمام ما يعتبر في
الكل، غير قادح في صحة الجزء، فكيف إذا شك في حصول الكل من
جهة الشك في انضمام تمام ما يعتبر، كما فيما نحن فيه؟ فإن الشك في
صحة الصلاة بعد تحقق الزيادة المذكورة، من جهة الشك في انضمام تمام
ما يعتبر إلى الأجزاء، لعدم كون عدم الزيادة شرطا، وعدم انضمامه،
لكون عدم الزيادة أحد الشرائط المعتبرة، ولم يتحقق، فلا يتحقق الكل.
ومن المعلوم: أن هذا الشك لا ينافي القطع بصحة الأجزاء
السابقة، فاستصحاب صحة تلك الأجزاء غير محتاج إليه، لأنا نقطع
ببقاء صحتها، لكنه لا يجدي في صحة الصلاة بمعنى استجماعها لما عداها
من الأجزاء والشرائط الباقية.
فإن قلت: فعلى ما ذكرت فلا يعرض البطلان للأجزاء السابقة
أبدا، بل هي باقية على الصحة بالمعنى المذكور إلى أبد الدهر وإن وقع
بعدها ما وقع من الموانع، مع أن من الشائع في النصوص (1) والفتاوى (2)
إطلاق المبطل والناقض على مثل الحدث وغيره من قواطع الصلاة.

(1) انظر الوسائل 1: 174، أبواب نواقض الوضوء، و 4: 1240، الباب الأول
من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 9، والصفحة 1244، الباب الثاني منها،
الحديث 16.
(2) انظر المبسوط 1: 117، والسرائر 1: 106، والشرائع 1: 17 - 18 و 91،
وقواعد الأحكام 1: 280.
373

قلت: نعم، ولا ضير في التزام ذلك، ومعنى بطلانها عدم الاعتداد
بها في حصول الكل، لعدم التمكن من ضم تمام الباقي إليها، فيجب
استئناف الصلاة، امتثالا للأمر.
نعم، إن حكم الشارع على بعض الأشياء بكونه قاطعا للصلاة أو
ناقضا، يكشف عن أن لأجزاء الصلاة في نظر الشارع هيئة إتصالية
ترتفع ببعض الأشياء دون بعض، فإن الحدث يقطع ذلك الاتصال
والتجشؤ لا يقطعه، والقطع يوجب الانفصال القائم بالمنفصلين، وهما في
ما نحن فيه الأجزاء السابقة والأجزاء التي تلحقها بعد تخلل ذلك
القاطع، فكل من السابق واللاحق يسقط عن قابلية ضمه إلى الآخر
وضم الآخر إليه.
ومن المعلوم: أن الأجزاء السابقة كانت قابلة للضم إليها وصيرورتها
أجزاء فعلية للمركب، والأصل بقاء تلك القابلية وتلك الهيئة الاتصالية
بينها وبين ما يلحقها، فيصح الاستصحاب في كل ما شك في قاطعية
الموجود.
ولكن هذا مختص بما إذا شك في القاطعية، وليس مطلق الشك في
مانعية الشئ - كالزيادة في ما نحن فيه - شكا في القاطعية.
وحاصل الفرق بينهما: أن عدم الشئ في جميع آنات الصلاة قد
يكون بنفسه من جملة الشروط، فإذا وجد آنا ما فقد انتفى الشرط على
وجه لا يمكن تداركه، فلا يتحقق المركب من هذه الجهة، وهذا
لا يجدي فيه القطع بصحة الأجزاء السابقة، فضلا عن استصحابها.
وقد يكون اعتباره من حيث كون وجوده قاطعا ورافعا للهيئة
الاتصالية والارتباطية في نظر الشارع بين الأجزاء، فإذا شك في رافعية
374

شئ لها حكم ببقاء تلك الهيئة واستمرارها وعدم انفصال الأجزاء
السابقة عما يلحقها من سائر الأجزاء.
وربما يرد (1) استصحاب الصحة، بأنه: إن أريد صحة الأجزاء
المأتي بها بعد طرو المانع الاحتمالي فغير مجد، لأن البراءة إنما تتحقق
بفعل الكل دون البعض. وإن أريد إثبات عدم مانعية الطارئ أو صحة
بقية الأجزاء فساقط، لعدم التعويل على الأصول المثبتة (2)، انتهى.
وفيه نظر يظهر مما ذكرنا، وحاصله:
أن الشك إن كان في مانعية شئ وشرطية عدمه للصلاة (3)، فصحة
الأجزاء السابقة لا تستلزم عدمها ظاهرا ولا واقعا، حتى يكون
الاستصحاب بالنسبة إليها من الأصول المثبتة.
وإن كان في قاطعية الشئ ورفعه للاتصال والاستمرار الموجود
للعبادة في نظر الشارع، فاستصحاب بقاء الاتصال كاف، إذ لا يقصد
في المقام سوى بقاء تلك الهيئة الاتصالية، والشك إنما هو فيه، لا في
ثبوت شرط أو مانع آخر حتى يقصد بالاستصحاب دفعه، ولا في
صحة بقية الأجزاء من غير جهة زوال الهيئة الاتصالية بينها وبين
الأجزاء السابقة، والمفروض إحراز عدم زوالها بالاستصحاب.
هذا، ولكن يمكن الخدشة فيما اخترناه من الاستصحاب: بأن المراد
بالاتصال والهيئة الاتصالية إن كان ما بين الأجزاء السابقة بعضها مع

(1) الراد هو صاحب الفصول.
(2) الفصول: 50.
(3) لم ترد " للصلاة " في (ر) و (ظ)، نعم ورد بدلها في (ظ): " للهيئة الاتصالية ".
375

بعض، فهو باق لا ينفع. وإن كان ما بينها وبين ما لحقها من الأجزاء
الآتية، فالشك في وجودها لا بقائها.
وأما أصالة بقاء الأجزاء السابقة على قابلية إلحاق الباقي بها،
فلا يبعد كونها من الأصول المثبتة.
اللهم إلا أن يقال: إن (1) استصحاب الهيئة الاتصالية من الاستصحابات
العرفية الغير المبنية (2) على التدقيق، نظير استصحاب الكرية في الماء
المسبوق بالكرية. ويقال في بقاء الأجزاء السابقة على قابلية الاتصال:
إنه لما كان المقصود الأصلي من القطع وعدمه هو لزوم استئناف
الأجزاء السابقة وعدمه، وكان الحكم بقابليتها لإلحاق الباقي بها في قوة
الحكم بعدم وجوب استئنافها، خرج من الأصول المثبتة التي ذكر في
محله عدم الاعتداد بها في الإثبات، فافهم.
وبما ذكرنا يظهر سر ما أشرنا إليه في المسألة السابقة (3): من عدم
الجدوى في استصحاب الصحة لإثبات صحة العبادة المنسي فيها بعض
الأجزاء عند الشك في جزئية المنسي حال النسيان (4).
وقد يتمسك لإثبات صحة العبادة عند الشك في طرو المانع بقوله
تعالى: * (ولا تبطلوا أعمالكم) * (5)، فإن حرمة الإبطال إيجاب للمضي

(1) لم ترد " إن " في (ت)، (ر) و (ظ).
(2) في (ت): " المبتنية ".
(3) في الصفحة 366.
(4) وردت عبارة " وبما ذكرنا - إلى - النسيان " في (ر)، (ص) و (ظ) بعد قوله:
" والمفروض إحراز عدم زوالها بالاستصحاب " في الصفحة السابقة.
(5) سورة محمد (صلى الله عليه وآله): 33.
376

فيها، وهو مستلزم لصحتها ولو بالإجماع المركب، أو عدم القول
بالتفكيك بينهما في غير الصوم والحج.
وقد استدل بهذه الآية غير واحد تبعا للشيخ (قدس سره) (1).
وهو لا يخلو عن نظر يتوقف على بيان ما يحتمله الآية الشريفة
من المعاني، فنقول:
إن حقيقة الإبطال - بمقتضى وضع باب الإفعال - إحداث البطلان
في العمل الصحيح وجعله باطلا، نظير قولك: أقمت زيدا أو أجلسته أو
أغنيته.
والآية بهذا المعنى راجعة إلى النهي عن جعل العمل لغوا لا يترتب
عليه أثر كالمعدوم بعد أن لم يكن كذلك، فالإبطال هنا نظير الإبطال في
قوله تعالى: * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) * (2)، بناء على أن النهي
عن تعقيبها بهما، بشهادة قوله تعالى: * (ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا
ولا أذى... الآية) * (3).
الثاني: أن يراد به إيجاد العمل على وجه باطل، من قبيل قوله:

(1) لم نعثر على الاستدلال بهذه الآية في كتب الشيخ ولا في كتب غيره لإثبات
صحة العبادة عند الشك في طرو مانع. نعم، استدل بها جماعة لإثبات حرمة
قطع الصلاة لغير حاجة، انظر تذكرة الفقهاء 3: 299، والذكرى (الطبعة
الحجرية): 215، وروض الجنان: 338، والرياض 3: 516. ولم نعثر على
الاستدلال بها في كتب الشيخ مطلقا.
(2) البقرة: 264.
(3) البقرة: 262.
377

" ضيق فم الركية "، يعني أحدثه ضيقا، لا أحدث فيه الضيق بعد
السعة.
والآية بهذا المعنى نهي عن إتيان الأعمال مقارنة للوجوه المانعة
عن صحتها، أو فاقدة للأمور المقتضية للصحة.
والنهي على هذين الوجهين ظاهره الإرشاد، إذ لا يترتب على
إحداث البطلان في العمل أو إيجاده باطلا عدا فوت مصلحة العمل
الصحيح.
الثالث: أن يراد من إبطال العمل قطعه ورفع اليد عنه،
كقطع الصلاة والصوم والحج. وقد اشتهر التمسك لحرمة قطع العمل
بها.
ويمكن إرجاع هذا إلى المعنى الأول، بأن يراد من الأعمال ما يعم
الجزء المتقدم من العمل، لأنه أيضا عمل لغة، وقد وجد على وجه قابل
لترتب الأثر (1) وصيرورته جزءا فعليا للمركب، فلا يجوز جعله باطلا
ساقطا عن قابلية كونه جزءا فعليا.
فجعل هذا المعنى مغايرا للأول مبني على كون المراد من العمل
مجموع المركب الذي وقع الإبطال في أثنائه.
وكيف كان: فالمعنى الأول أظهر، لكونه المعنى الحقيقي، ولموافقته
لمعنى الإبطال في الآية الأخرى المتقدمة (2)، ومناسبته لما قبله من قوله
تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا

(1) في (ص) زيادة: " عليه ".
(2) أي: * (ولا تبطلوا أعمالكم) *.
378

أعمالكم) * (1)، فإن تعقيب إطاعة الله وإطاعة الرسول بالنهي عن الإبطال
يناسب الإحباط، لا إتيان العمل على الوجه الباطل، لأنها مخالفة لله
وللرسول.
هذا كله، مع ظهور الآية في حرمة إبطال الجميع، فيناسب
الإحباط بمثل الكفر، لا إبطال شئ من الأعمال الذي هو
المطلوب.
ويشهد لما ذكرنا - مضافا إلى ما ذكرنا -: ما ورد من تفسير
الآية بالمعنى الأول، فعن الأمالي وثواب الأعمال، عن الباقر (عليه السلام)،
قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من قال: سبحان الله، غرس الله له بها
شجرة في الجنة، ومن قال: الحمد لله، غرس الله له بها شجرة في
الجنة، ومن قال: لا إله إلا الله، غرس الله له بها شجرة في الجنة.
فقال له رجل من قريش: إن شجرتنا في الجنة لكثير، قال (صلى الله عليه وآله):
نعم، ولكن إياكم أن ترسلوا إليها نارا فتحرقوها، إن الله عز وجل
يقول: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا
أعمالكم) * (2).
هذا إن قلنا بالإحباط مطلقا أو بالنسبة إلى بعض المعاصي. وإن
لم نقل به وطرحنا الخبر - لعدم اعتبار مثله في مثل المسألة - كان المراد
في الآية الإبطال بالكفر، لأن الإحباط به اتفاقي. وببالي أني وجدت أو

(1) سورة محمد (صلى الله عليه وآله): 33.
(2) أمالي الصدوق: 486، المجلس 58، الحديث 14، وثواب الأعمال: 11،
وانظر الوسائل 4: 1206، الباب 31 من أبواب الذكر، الحديث 5.
379

سمعت ورود الرواية (1) في تفسير الآية: * (ولا تبطلوا أعمالكم) * بالشرك.
هذا كله، مع أن إرادة المعنى الثالث الذي يمكن الاستدلال به
موجب لتخصيص الأكثر، فإن ما يحرم قطعه من الأعمال بالنسبة إلى ما
لا يحرم في غاية القلة.
فإذا ثبت ترجيح المعنى الأول، فإن كان المراد بالأعمال ما يعم
بعض العمل المتقدم، كان دليلا - أيضا - على حرمة القطع في الأثناء، إلا
أنه لا ينفع فيما نحن فيه، لأن المدعى فيما نحن فيه هو انقطاع العمل
بسبب الزيادة الواقعة فيه، كانقطاعه بالحدث الواقع فيه لا عن اختيار،
فرفع اليد عنه بعد ذلك لا يعلم كونه قطعا له وإبطالا، ولا معنى لقطع
المنقطع وإبطال الباطل.
ومما ذكرنا يظهر: ضعف الاستدلال على الصحة فيما نحن فيه
باستصحاب حرمة القطع، لمنع كون رفع اليد بعد وقوع الزيادة قطعا،
لاحتمال حصول الانقطاع، فلم يثبت في الآن اللاحق موضوع القطع،
حتى يحكم عليه بالحرمة.
وأضعف منه: استصحاب وجوب إتمام العمل.
للشك في الزمان اللاحق في القدرة على إتمامه، وفي أن مجرد
إلحاق باقي الأجزاء إتمام له، فلعل عدم الزيادة من الشروط، والإتيان
بما عداه من الأجزاء والشرائط تحصيل لبعض الباقي، لا لتمامه (2) حتى

(1) لم نعثر على الرواية، نعم قال المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة (2: 246):
" وقيل: معناه لا تبطلوا بالكفر ". وفي التفسير الكبير للرازي (27: 72): " أن
الآية تحتمل وجوها، أحدها: ولا تشركوا فتبطل أعمالكم ".
(2) كذا في (ص) و (ظ)، وفي (ر) و (ه‍): " لا تمامه ".
380

يصدق إتمام العمل.
ألا ترى: أنه إذا شك بعد الفراغ عن الحمد في وجوب السورة
وعدمه، لم يحكم على إلحاق ما عداها إلى الأجزاء السابقة، أنه إتمام
للعمل؟
وربما يجاب عن حرمة الإبطال ووجوب الإتمام الثابتين بالأصل:
بأنهما لا يدلان على صحة العمل، فيجمع بينهما وبين أصالة الاشتغال
بوجوب إتمام العمل ثم إعادته، للشك في أن التكليف هو إتمام هذا
العمل أو عمل آخر مستأنف؟
وفيه نظر، فإن البراءة اليقينية - على تقدير العمل (1) باستصحاب
وجوب التمام - يحصل بالتمام، لأن (2) هذا الوجوب يرجع إلى إيجاب
امتثال الأمر بكلي الصلاة في ضمن هذا الفرد. وعلى تقدير عدم العمل
به تحصل بالإعادة من دون الإتمام.
واحتمال وجوبه وحرمة القطع مدفوع بالأصل، لأن الشبهة في
أصل التكليف الوجوبي أو التحريمي.
بل لا احتياط في الإتمام مراعاة لاحتمال وجوبه وحرمة القطع،
لأنه موجب لإلغاء الاحتياط من جهة أخرى، وهي مراعاة نية الوجه
التفصيلي في العبادة، فإنه لو قطع العمل المشكوك فيه واستأنفه نوى
الوجوب على وجه الجزم، وإن أتمه ثم أعاد فاتت منه نية الوجوب فيما
هو الواجب عليه، ولا شك أن هذا الاحتياط على تقدير عدم وجوبه

(1) في (ظ) زيادة: " مستحبا ".
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " وأن ".
381

أولى من الاحتياط المتقدم، لأنه كان الشك فيه في أصل التكليف،
وهذا شك في المكلف به.
والحاصل: أن الفقيه إذا كان مترددا بين الإتمام والاستئناف،
فالأولى له: الحكم بالقطع، ثم الأمر بالإعادة بنية الوجوب.
ثم إن ما ذكرناه: من حكم الزيادة وأن مقتضى أصل البراءة
عدم مانعيتها، إنما هو بالنظر إلى الأصل الأولي، وإلا فقد يقتضي الدليل
في خصوص بعض المركبات البطلان كما في الصلاة، حيث دلت الأخبار
المستفيضة على بطلان الفريضة بالزيادة فيها.
مثل قوله (عليه السلام): " من زاد في صلاته فعليه الإعادة " (1).
وقوله (عليه السلام): " إذا استيقن أنه زاد في المكتوبة فليستقبل صلاته " (2).
وقوله (عليه السلام) فيما حكي عن تفسير العياشي في من أتم في السفر:
" إنه يعيده "، قال: " لأنه زاد في فرض الله عز وجل " (3)، دل - بعموم
التعليل - على وجوب الإعادة لكل زيادة في فرض الله عز وجل.
وما ورد في النهي عن قراءة العزيمة في الصلاة: من التعليل
بقوله (عليه السلام): " لأن السجود زيادة في المكتوبة " (4).

(1) الوسائل 5: 332، الباب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 2.
(2) الوسائل 5: 332، الباب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث
الأول.
(3) لم نقف عليه في تفسير العياشي، نعم حكاه في الوسائل عن الخصال، انظر
الوسائل 5: 532، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 8، والخصال:
604، باب الواحد إلى المائة، ضمن الحديث 9.
(4) الوسائل 4: 779، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث الأول.
382

وما ورد في الطواف من: " أنه مثل الصلاة المفروضة في أن
الزيادة فيه مبطلة له " (1).
ولبيان معنى الزيادة وأن سجود العزيمة كيف يكون زيادة في
المكتوبة، مقام آخر. وإن كان ذكره هنا لا يخلو عن مناسبة، إلا أن
الاشتغال بالواجب ذكره بمقتضى وضع الرسالة أهم من ذكر ما
يناسب (2).

(1) الوسائل 9: 438، الباب 34 من أبواب الطواف، الحديث 11.
(2) وعد المصنف سابقا - في الصفحة 370 - أن يبين معنى الزيادة في الصلاة هنا،
لكن أحاله هنا - أيضا - على مقام آخر، انظر كتاب الصلاة للمصنف 1: 399.
383

المسألة الثالثة
في ذكر الزيادة سهوا
التي تقدح عمدا، وإلا فما لا يقدح عمدا فسهوها أولى بعدم القدح.
والكلام هنا كما في النقص نسيانا، لأن مرجعه إلى الإخلال (1)
بالشرط نسيانا، وقد عرفت: أن حكمه البطلان ووجوب الإعادة (2).
فثبت من جميع المسائل الثلاث: أن الأصل في الجزء أن يكون
نقصه مخلا ومفسدا دون زيادته.
نعم، لو دل دليل على قدح زيادته عمدا كان مقتضى القاعدة
البطلان بها سهوا، إلا أن يدل دليل على خلافه.
مثل قوله (عليه السلام): " لا تعاد الصلاة إلا من خمسة " (3)، بناء على
شموله لمطلق الإخلال (4) الشامل للزيادة.
وقوله (عليه السلام) في المرسلة: " تسجد سجدتي السهو لكل زيادة
ونقيصة تدخل عليك " (5).
فتلخص من جميع ما ذكرنا: أن الأصل الأولي فيما ثبت جزئيته:
الركنية إن فسر الركن بما يبطل الصلاة بنقصه. وإن عطف على النقص

(1) كذا في (ر) ومحتمل (ت)، وفي غيرهما: " الاختلال ".
(2) راجع الصفحة 363.
(3) الوسائل 4: 683، الباب الأول من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 14.
(4) في (ت) و (ظ): " الاختلال ".
(5) الوسائل 5: 346، الباب 32 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.
384

الزيادة عمدا وسهوا، فالأصل يقتضي التفصيل بين النقص والزيادة
عمدا (1) وسهوا.
لكن التفصيل بينهما غير موجود في الصلاة، إذ كل ما يبطل
الصلاة بالإخلال به سهوا يبطل بزيادته عمدا وسهوا، فأصالة البراءة
الحاكمة بعدم البأس بالزيادة، معارضة - بضميمة عدم القول بالفصل -
بأصالة الاشتغال الحاكمة ببطلان العبادة بالنقص سهوا. فإن جوزنا
الفصل في الحكم الظاهري الذي يقتضيه الأصول العملية فيما لا فصل
فيه من حيث الحكم الواقعي، فيعمل بكل واحد من الأصلين، وإلا
فاللازم ترجيح قاعدة الاشتغال على البراءة، كما لا يخفى.
هذا كله مع قطع النظر عن القواعد الحاكمة على الأصول، وأما
بملاحظتها:
فمقتضى " لا تعاد الصلاة إلا من خمسة " والمرسلة المذكورة: عدم
قدح النقص سهوا والزيادة سهوا، ومقتضى عموم أخبار الزيادة
المتقدمة (2): قدح الزيادة عمدا وسهوا، وبينهما تعارض العموم من وجه
في الزيادة السهوية بناء على اختصاص " لا تعاد " بالسهو.
والظاهر حكومة قوله: " لا تعاد " على أخبار الزيادة، لأنها كأدلة
سائر ما يخل فعله أو تركه بالصلاة، كالحدث والتكلم وترك الفاتحة،
وقوله: " لا تعاد " يفيد أن الإخلال بما دل الدليل على عدم جواز
الإخلال به إذا وقع سهوا، لا يوجب الإعادة وإن كان من حقه أن يوجبها.

(1) لم ترد " عمدا و " في (ت)، (ظ) و (ه‍).
(2) راجع الصفحة 382 - 383.
385

والحاصل: أن هذه الصحيحة مسوقة لبيان عدم قدح الإخلال
سهوا بما ثبت قدح الإخلال به في الجملة.
ثم لو دل دليل على قدح الإخلال بشئ سهوا، كان أخص من
الصحيحة إن اختصت بالنسيان وعممت بالزيادة والنقصان. والظاهر أن
بعض أدلة الزيادة مختصة بالسهو، مثل قوله: " إذا استيقن أنه زاد في
المكتوبة استقبل الصلاة " (1).

(1) الوسائل 5: 332، الباب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث
الأول.
386

الأمر الثاني
إذا ثبت جزئية شئ أو شرطيته في الجملة، فهل يقتضي الأصل
جزئيته وشرطيته المطلقتين حتى إذا تعذرا (1) سقط التكليف بالكل أو
المشروط، أو اختصاص اعتبارهما بحال التمكن، فلو تعذرا (2) لم يسقط
التكليف؟ وجهان، بل قولان.
للأول: أصالة البراءة من الفاقد وعدم ما يصلح لإثبات التكليف
به، كما سنبين.
ولا يعارضها استصحاب وجوب الباقي، لأن وجوبه كان مقدمة
لوجوب الكل، فينتفي بانتفائه. وثبوت الوجوب النفسي له مفروض
الانتفاء.
نعم، إذا ورد الأمر بالصلاة - مثلا - وقلنا بكونها اسما للأعم،
كان ما دل على اعتبار الأجزاء الغير المقومة فيها من قبيل التقييد،
فإذا لم يكن للمقيد إطلاق - بأن قام الإجماع على جزئيته في الجملة،

(1) في (ر): " تعذر ".
(2) في (ر) و (ه‍): " تعذر ".
387

أو على وجوب المركب من هذا الجزء في حق القادر عليه - كان
القدر المتيقن منه ثبوت مضمونه بالنسبة إلى القادر، أما العاجز فيبقى
إطلاق الصلاة بالنسبة إليه سليما عن المقيد، ومثل ذلك الكلام في
الشروط.
نعم، لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكل والمشروط - كما
لو قلنا بكون الألفاظ أسامي للصحيح - لزم من انتفائهما انتفاء الأمر،
ولا أمر آخر بالعاري عن المفقود. وكذلك لو ثبت أجزاء المركب من
أوامر متعددة، فإن كلا منها أمر غيري إذا ارتفع (1) بسبب العجز ارتفع
الأمر بذي المقدمة، أعني الكل (2).
فينحصر الحكم بعدم سقوط الباقي في الفرض الأول كما
ذكرنا.
ولا يلزم من ذلك استعمال لفظ " المطلق " في المعنيين، أعني:
المجرد عن ذلك الجزء بالنسبة إلى العاجز، والمشتمل على ذلك الجزء
بالنسبة إلى القادر، لأن المطلق - كما بين في موضعه (3) - موضوع للماهية
المهملة الصادقة على المجرد عن القيد والمقيد، كيف؟ ولو كان كذلك كان
كثير من المطلقات مستعملا كذلك، فإن الخطاب الوارد بالصلاة قد
خوطب به جميع المكلفين الموجودين أو مطلقا، مع كونهم مختلفين في
التمكن من الماء وعدمه، وفي الحضر والسفر، والصحة والمرض، وغير

(1) في (ر) و (ص) زيادة: " فيه الأمر ".
(2) لم ترد " أعني الكل " في (ر) و (ظ).
(3) انظر مطارح الأنظار: 216، والفصول: 223.
388

ذلك. وكذا غير الصلاة من الواجبات.
وللقول الثاني: استصحاب وجوب الباقي إذا كان المكلف مسبوقا
بالقدرة، بناء على أن المستصحب هو مطلق الوجوب، بمعنى لزوم الفعل
من غير التفات إلى كونه لنفسه أو لغيره، أو الوجوب النفسي المتعلق
بالموضوع الأعم من الجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها، بدعوى (1)
صدق الموضوع عرفا على هذا المعنى الأعم الموجود في اللاحق ولو
مسامحة، فإن أهل (2) العرف يطلقون على من عجز عن السورة بعد
قدرته عليها: أن الصلاة كانت واجبة عليه حال القدرة على السورة،
ولا يعلم بقاء وجوبها بعد العجز عنها.
ولو لم يكف هذا المقدار في الاستصحاب لاختل جريانه في كثير
من الاستصحابات، مثل استصحاب كثرة الماء وقلته، فإن الماء المعين
الذي اخذ بعضه أو زيد عليه يقال: إنه كان كثيرا أو قليلا، والأصل
بقاء ما كان، مع أن هذا الماء الموجود لم يكن متيقن الكثرة أو القلة،
وإلا لم يعقل الشك فيه، فليس الموضوع فيه إلا (3) هذا الماء مسامحة في
مدخلية الجزء الناقص أو الزائد في المشار إليه، ولذا يقال في العرف:
هذا الماء كان كذا، وشك في صيرورته كذا من غير ملاحظة زيادته
ونقيصته.
ويدل على المطلب أيضا: النبوي والعلويان المرويات في عوالي اللآلي.

(1) في (ظ) و (ه‍): " ودعوى ".
(2) لم ترد " أهل " في (ت) و (ظ).
(3) في (ر) و (ص) زيادة: " أعم من ".
389

فعن النبي (صلى الله عليه وآله): " إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم " (1).
وعن علي (عليه السلام): " الميسور لا يسقط بالمعسور " (2)، و " ما لا يدرك
كله لا يترك كله " (3).
وضعف أسنادها مجبور باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في
أبواب العبادات، كما لا يخفى على المتتبع (4).
نعم، قد يناقش في دلالتها:
أما الأولى، فلاحتمال كون " من " بمعنى الباء أو بيانيا، و " ما "
مصدرية زمانية (5).
وفيه: أن كون " من " بمعنى الباء مطلقا وبيانية في خصوص المقام
مخالف للظاهر بعيد، كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام.
والعجب معارضة هذا الظاهر (6) بلزوم تقييد الشئ - بناء على
المعنى المشهور - بما كان له أجزاء حتى يصح الأمر بإتيان ما استطيع
منه، ثم تقييده بصورة تعذر إتيان جميعه، ثم ارتكاب التخصيص فيه
بإخراج ما لا يجري فيه هذه القاعدة اتفاقا، كما في كثير من المواضع،

(1) عوالي اللآلي 4: 48، الحديث 206.
(2) نفس المصدر، الحديث 205.
(3) نفس المصدر، الحديث 207.
(4) انظر التنقيح الرائع 1: 117، والرياض 1: 222، و 6: 201، والفوائد
الحائرية: 437 - 438، ومفاتيح الأصول: 522.
(5) هذه المناقشة من الفاضل النراقي في عوائد الأيام: 263.
(6) هذه المعارضة مذكورة في العوائد أيضا: 263 - 264.
390

إذ لا يخفى أن التقييدين الأولين يستفادان من قوله: " فأتوا منه... الخ "،
وظهوره حاكم عليهما.
نعم، إخراج كثير من الموارد لازم، ولا بأس به في مقابل ذلك
المجاز البعيد.
والحاصل: أن المناقشة في ظهور الرواية من اعوجاج الطريقة في
فهم الخطابات العرفية.
وأما الثانية، فلما قيل (1): من أن معناه أن الحكم الثابت للميسور
لا يسقط بسبب سقوط المعسور، ولا كلام في ذلك، لأن سقوط حكم
شئ لا يوجب بنفسه سقوط الحكم الثابت للآخر.
فتحمل الرواية على دفع توهم السقوط في الأحكام المستقلة التي
يجمعها دليل واحد، كما في " أكرم العلماء ".
وفيه:
أولا: أن عدم السقوط (2) محمول على نفس الميسور لا على حكمه،
فالمراد به عدم سقوط الفعل الميسور بسبب سقوط (3) المعسور يعني: أن
الفعل الميسور إذا لم يسقط عند عدم تعسر شئ فلا يسقط بسبب (4)
تعسره. وبعبارة أخرى: ما وجب عند التمكن من شئ آخر فلا يسقط
عند تعذره. وهذا الكلام إنما يقال في مقام يكون ارتباط وجوب الشئ

(1) القائل هو الفاضل النراقي أيضا في العوائد: 265.
(2) في (ت) و (ظ) زيادة: " في الرواية ".
(3) لم ترد " سقوط " في (ت)، (ر) و (ص).
(4) في (ظ) بدل " بسبب ": " عند ".
391

بالتمكن من ذلك الشئ الآخر محققا ثابتا من دليله كما في الأمر بالكل،
أو متوهما كما في الأمر بما له عموم أفرادي.
وثانيا: أن ما ذكر من عدم سقوط الحكم الثابت للميسور بسبب
سقوط الحكم الثابت للمعسور، كاف في إثبات المطلوب، بناء على ما
ذكرنا في توجيه الاستصحاب (1): من أن أهل العرف يتسامحون فيعبرون
عن وجوب باقي الأجزاء بعد تعذر غيرها من الأجزاء ببقاء وجوبها،
وعن عدم وجوبها بارتفاع وجوبها وسقوطه، لعدم مداقتهم في كون
الوجوب الثابت سابقا غيريا وهذا الوجوب الذي يتكلم في ثبوته
وعدمه نفسي فلا يصدق على ثبوته البقاء، ولا على عدمه السقوط
والارتفاع.
فكما يصدق هذه الرواية لو شك - بعد ورود الأمر بإكرام العلماء
بالاستغراق الأفرادي - في ثبوت حكم إكرام البعض الممكن الإكرام
وسقوطه بسقوط حكم إكرام من يتعذر إكرامه، كذلك يصدق لو شك
بعد الأمر بالمركب في وجوب باقي الأجزاء بعد تعذر بعضه، كما
لا يخفى.
وبمثل ذلك يقال في دفع دعوى: جريان الإيراد المذكور على
تقدير تعلق عدم (2) السقوط بنفس الميسور لا بحكمه، بأن يقال: إن
سقوط المقدمة لما كان لازما (3) لسقوط ذيها، فالحكم بعدم الملازمة في

(1) راجع الصفحة 389.
(2) " عدم " من (ر).
(3) في (ص) زيادة: " عقليا ".
392

الخبر لا بد أن يحمل على الأفعال المستقلة في الوجوب، لدفع توهم
السقوط الناشئ عن إيجابها بخطاب واحد.
وأما في الثالثة، فما قيل (1): من أن جملة " لا يترك " خبرية
لا تفيد إلا الرجحان.
مع أنه لو أريد منها الحرمة لزم مخالفة الظاهر فيها، إما بحمل
الجملة على مطلق المرجوحية، أو إخراج المندوبات، ولا رجحان
للتخصيص.
مع أنه قد يمنع كون الجملة إنشاء، لإمكان كونه إخبارا عن
طريقة الناس وأنهم لا يتركون الشئ بمجرد عدم إدراك بعضه.
مع احتمال كون لفظ " الكل " للعموم الأفرادي، لعدم ثبوت كونه
حقيقة في الكل المجموعي، ولا مشتركا معنويا بينه وبين الأفرادي، فلعله
مشترك لفظي أو حقيقة خاصة في الأفرادي، فيدل على أن الحكم
الثابت لموضوع عام بالعموم الأفرادي إذا لم يمكن الإتيان به على وجه
العموم، لا يترك موافقته في ما أمكن من الأفراد.
ويرد على الأول: ظهور الجملة في الانشاء الإلزامي كما ثبت في
محله. مع أنه إذا ثبت الرجحان في الواجبات ثبت الوجوب، لعدم القول
بالفصل في المسألة الفرعية.
وأما دوران الأمر بين تخصيص الموصول والتجوز في الجملة،
فممنوع، لأن المراد بالموصول في نفسه ليس هو العموم قطعا، لشموله
للأفعال المباحة بل المحرمة، فكما يتعين حمله على الأفعال الراجحة

(1) القائل هو الفاضل النراقي أيضا في العوائد: 265.
393

بقرينة قوله: " لا يترك "، كذلك يتعين حمله على الواجبات بنفس هذه
القرينة الظاهرة في الوجوب.
وأما احتمال كونه إخبارا عن طريقة الناس، فمدفوع: بلزوم
الكذب أو إخراج أكثر وقائعهم.
وأما احتمال كون لفظ " الكل " للعموم الأفرادي، فلا وجه له،
لأن المراد بالموصول هو فعل المكلف، وكله عبارة عن مجموعه.
نعم، لو قام قرينة على إرادة المتعدد من الموصول - بأن أريد أن
الأفعال التي لا يدرك كلها، كإكرام زيد وإكرام عمرو وإكرام بكر،
لا يترك كلها - كان لما احتمله وجه. لكن لفظ " الكل " حينئذ أيضا
مجموعي لا أفرادي، إذ لو حمل على الأفرادي كان المراد: " ما لا
يدرك شئ منها لا يترك شئ منها "، ولا معنى له، فما ارتكبه في
احتمال العموم الأفرادي مما لا ينبغي له و (1) لم ينفعه في شئ.
فثبت مما ذكرنا: أن مقتضى الإنصاف تمامية الاستدلال بهذه
الروايات، ولذا شاع بين العلماء - بل بين جميع الناس - الاستدلال بها
في المطالب، حتى أنه يعرفه العوام، بل النسوان والأطفال.
ثم إن الرواية الأولى والثالثة وإن كانتا ظاهرتين في الواجبات،
إلا أنه يعلم بجريانهما في المستحبات بتنقيح المناط العرفي. مع كفاية
الرواية الثانية في ذلك.

(1) لم ترد " و " في (ر)، (ظ) و (ه‍).
394

وأما الكلام في الشروط:
فنقول: إن الأصل فيها ما مر في الأجزاء (1): من أن دليل الشرط
إذا لم يكن فيه إطلاق عام لصورة التعذر وكان لدليل المشروط إطلاق،
فاللازم الاقتصار في التقييد على صورة التمكن من الشرط.
وأما القاعدة المستفادة من الروايات المتقدمة (2)، فالظاهر عدم
جريانها.
أما الأولى والثالثة، فاختصاصهما بالمركب الخارجي واضح.
وأما الثانية، فلاختصاصها - كما عرفت سابقا (3) - بالميسور الذي
كان له مقتض للثبوت حتى ينفى كون المعسور سببا لسقوطه، ومن
المعلوم أن العمل الفاقد للشرط - كالرقبة الكافرة مثلا - لم يكن المقتضي
للثبوت فيه موجودا حتى لا يسقط بتعسر الشرط وهو الإيمان.
هذا، ولكن الإنصاف: جريانها في بعض الشروط التي يحكم
العرف - ولو مسامحة - باتحاد المشروط الفاقد لها مع الواجد لها.
ألا ترى: أن الصلاة المشروطة بالقبلة أو الستر أو الطهارة إذا لم
يكن فيها هذه الشروط، كانت عند العرف هي التي فيها هذه الشروط،
فإذا تعذر أحد هذه صدق الميسور على الفاقد لها، ولولا هذه المسامحة
لم يجر الاستصحاب بالتقرير المتقدم (4).

(1) راجع الصفحة 387 - 388.
(2) المتقدمة في الصفحة 390.
(3) راجع الصفحة 391.
(4) في الصفحة 389.
395

نعم، لو كان بين واجد الشرط وفاقده تغاير كلي في العرف
- نظير الرقبة الكافرة بالنسبة إلى المؤمنة، أو الحيوان الناهق بالنسبة إلى
الناطق، وكذا ماء غير الرمان بالنسبة إلى ماء الرمان - لم يجر (1) القاعدة
المذكورة.
ومما ذكرنا يظهر ما في كلام صاحب الرياض (2)، حيث بنى
وجوب غسل الميت بالماء القراح بدل ماء السدر، على: أن ليس
الموجود في الرواية الأمر بالغسل بماء السدر على وجه التقييد، وإنما
الموجود: " وليكن في الماء شئ من السدر " (3).
توضيح ما فيه: أنه لا فرق بين العبارتين، فإنه إن جعلنا ماء
السدر من القيد والمقيد، كان قوله " وليكن فيه شئ من السدر "
كذلك، وإن كان من إضافة الشئ إلى بعض أجزائه كان الحكم فيهما (4)
واحدا.
ودعوى: أنه من المقيد، لكن لما كان الأمر الوارد بالمقيد
مستقلا، فيختص بحال التمكن، ويسقط حال الضرورة، وتبقى المطلقات
غير مقيدة بالنسبة إلى الفاقد.
مدفوعة: بأن الأمر في هذا المقيد للإرشاد وبيان الاشتراط،
فلا يسقط بالتعذر، وليس مسوقا لبيان التكليف، إذ التكليف المتصور

(1) كذا في النسخ، والمناسب: " لم تجر ".
(2) انظر الرياض 2: 154.
(3) الوسائل 2: 683، الباب 2 من أبواب غسل الميت، الحديث 7.
(4) في (ر) و (ظ): " فيها ".
396

هنا هو التكليف المقدمي، لأن جعل السدر في الماء مقدمة للغسل بماء
السدر المفروض فيه عدم التركيب الخارجي، لا جزء خارجي له حتى
يسقط عند التعذر، فتقييده (1) بحال التمكن ناش من تقييد وجوب ذيها،
فلا معنى لإطلاق أحدهما وتقييد الآخر، كما لا يخفى على المتأمل.
ويمكن أن يستدل على عدم سقوط المشروط بتعذر شرطه، برواية
عبد الأعلى مولى آل سام، قال:
" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري فجعلت على
إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من
كتاب الله عز وجل: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) *، امسح
عليه " (2).
فإن معرفة حكم المسألة - أعني المسح على المرارة من آية نفي
الحرج - متوقفة على كون تعسر الشرط غير موجب لسقوط المشروط،
بأن يكون المنفي - بسبب الحرج - مباشرة اليد الماسحة للرجل الممسوحة،
ولا ينتفي بانتفائه أصل المسح المستفاد وجوبه من آية الوضوء، إذ لو
كان سقوط المعسور - وهي المباشرة - موجبا لسقوط أصل المسح،
لم يمكن (3) معرفة وجوب المسح على المرارة من مجرد نفي الحرج، لأن

(1) وردت عبارة " السدر المفروض - إلى - فتقييده " مختلفة في النسخ، وما أثبتناه
موافق لنسخة (ف).
(2) الوسائل 1: 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5، والآية من
سورة الحج: 78.
(3) في (ظ) و (ه‍): " لم يكن ".
397

نفي الحرج يدل على سقوط المسح في هذا الوضوء رأسا، فيحتاج
وجوب المسح على المرارة إلى دليل خاص (1) خارجي.
فرعان:
الأول: لو دار الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط، كما في ما إذا
لم يتمكن من الإتيان بزيارة عاشوراء بجميع أجزائها (2) في مجلس واحد
- على القول باشتراط اتحاد المجلس فيه - فالظاهر تقديم ترك الشرط،
فيأتي بالأجزاء تامة في غير المجلس (3)، لأن فوات الوصف أولى من
فوات الموصوف، ويحتمل التخيير.
الثاني: لو جعل الشارع للكل بدلا اضطراريا كالتيمم، ففي تقديمه
على الناقص وجهان:
من أن مقتضى البدلية كونه بدلا عن التام فيقدم على الناقص
كالمبدل.
ومن أن الناقص (4) حال الاضطرار تام، لانتفاء جزئية المفقود،
فيقدم على البدل كالتام، ويدل عليه رواية عبد الأعلى المتقدمة (5).

(1) لم ترد في (ر) و (ظ): " خاص ".
(2) في النسخ: " أجزائه ".
(3) في (ر) زيادة: " وترك الشرط بإتيان جميع الأجزاء أو بعضها بغير شرط ".
(4) في (ت) و (ظ) زيادة: " في ".
(5) في الصفحة السابقة.
398

الأمر الثالث
لو دار الأمر بين الشرطية والجزئية، فليس في المقام أصل كلي
يتعين به أحدهما، فلا بد من ملاحظة كل حكم يترتب على أحدهما
وأنه موافق للأصل أو مخالف له.
399

الأمر الرابع
لو دار الأمر بين كون شئ شرطا أو مانعا، أو بين كونه جزءا
أو (1) كونه زيادة مبطلة، ففي التخيير هنا، لأنه من دوران الأمر في ذلك
الشئ بين الوجوب والتحريم. أو وجوب الاحتياط بتكرار العبادة
وفعلها مرة مع ذلك الشئ وأخرى بدونه، وجهان:
مثاله: الجهر بالقراءة في ظهر الجمعة، حيث قيل بوجوبه (2) وقيل
بوجوب الإخفات وإبطال الجهر (3)، وكالجهر بالبسملة في الركعتين
الأخيرتين، وكتدارك الحمد عند الشك فيه بعد الدخول في السورة.
فقد يرجح الأول:
أما بناء على ما اخترناه: من أصالة البراءة مع الشك في

(1) في (ر)، (ظ) و (ه‍): " و ".
(2) لم نقف عليه.
(3) حكاه في المعتبر (2: 304) عن بعض الأصحاب، واستقربه الشهيد في
البيان: 162، والدروس 1: 175، وقواه الشهيد الثاني في الفوائد الملية 2:
390، وانظر مفتاح الكرامة 2: 390.
400

الشرطية والجزئية، فلأن المانع من إجراء البراءة عن اللزوم الغيري في
كل من الفعل والترك ليس إلا لزوم المخالفة القطعية، وهي غير قادحة،
لأنها لا يتعلق (1) بالعمل، لأن واحدا من فعل ذلك الشئ وتركه
ضروري مع العبادة، فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية
متيقنة، كما كان يلزم في طرح المتبائنين كالظهر والجمعة.
وبتقرير آخر: إذا أتى بالعبادة مع واحد منهما قبح العقاب من
جهة اعتبار الآخر في الواقع لو كان معتبرا، لعدم الدليل عليه، وقبح
المؤاخذة من دون بيان، فالاجزاء المعلومة مما يعلم كون تركها منشأ
للعقاب، وأما هذا المردد بين الفعل والترك فلا يصح استناد العقاب
إليه، لعدم العلم به، وتركهما جميعا غير ممكن حتى يقال: إن العقاب
على تركهما معا ثابت، فلا وجه لنفيه عن كل منهما.
وأما بناء على وجوب الاحتياط عند الشك في الشرطية والجزئية،
فلأن وجوب الاحتياط فرع بقاء وجوب الشرط الواقعي المردد بين
الفعل والترك، وإيجابه مع الجهل مستلزم لإلغاء شرطية الجزم بالنية
واقتران الواجب الواقعي بنية الإطاعة به بالخصوص مع التمكن، فيدور
الأمر بين مراعاة ذلك الشرط المردد، وبين مراعاة شرط الجزم بالنية.
وبالجملة: فعدم وجوب الاحتياط في المقام، لمنع اعتبار ذلك
الأمر المردد بين الفعل والترك في العبادة واقعا في المقام - نظير القول
بعدم وجوب الاحتياط بالصلاة مع اشتباه القبلة، لمنع شرطية الاستقبال
مع الجهل - لا لعدم وجوب الاحتياط في الشك في المكلف به.

(1) كذا في النسخ، والمناسب: " لا تتعلق ".
401

هذا، وقد يرجح الثاني وإن قلنا بعدم وجوبه في الشك في
الشرطية والجزئية، لأن مرجع الشك هنا إلى المتبائنين، لمنع جريان أدلة
نفي الجزئية والشرطية عند الشك في المقام من العقل والنقل (1).
وما ذكر: من أن إيجاب الأمر الواقعي المردد بين الفعل والترك
مستلزم لإلغاء الجزم بالنية، مدفوع بالتزام ذلك، ولا ضير فيه، ولذا
وجب تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين، وإلى الجهات الأربع، وتكرار
الوضوء بالماءين عند اشتباه المطلق والمضاف مع وجودهما، والجمع بين
الوضوء والتيمم إذا فقد أحدهما.
مع أن ما ذكرنا في نفي كل من الشرطية والمانعية بالأصل إنما
يستقيم لو كان كل من الفعل والترك توصليا على تقدير الاعتبار، وإلا
فيلزم من العمل بالأصلين مخالفة عملية، كما لا يخفى.
والتحقيق: أنه إن قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشك في
الشرطية والجزئية وعدم حرمة المخالفة القطعية للواقع إذا لم تكن عملية،
فالأقوى التخيير هنا، وإلا تعين الجمع بتكرار العبادة، ووجهه يظهر مما
ذكرنا.

(1) لم ترد " من العقل والنقل " في (ت) و (ه‍)، وفي (ص) بدلها: " من الفعل
والترك ".
402

المطلب الثالث
في اشتباه الواجب بالحرام
بأن يعلم أن أحد الفعلين واجب والآخر محرم، واشتبه أحدهما
بالآخر. وأما لو علم أن واحدا من الفعل والترك واجب والآخر محرم،
فهو خارج عن هذا المطلب، لأنه من دوران الأمر بين الوجوب
والحرمة الذي تقدم حكمه في المطلب الثالث من مطالب الشك في
التكليف.
والحكم فيما نحن فيه: وجوب الإتيان بأحدهما وترك الآخر مخيرا
في ذلك، لأن الموافقة الاحتمالية في كلا التكليفين أولى من الموافقة
القطعية في أحدهما مع المخالفة القطعية في الآخر، ومنشأ ذلك: أن
الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا يحسن بارتكاب الضرر المقطوع، والله
أعلم.
403

خاتمة
فيما يعتبر في العمل بالأصل
والكلام: تارة في الاحتياط، وأخرى في البراءة:
أما الاحتياط:
فالظاهر: أنه لا يعتبر في العمل به أمر زائد على تحقق موضوعه،
ويكفي في موضوعه إحراز الواقع المشكوك فيه به ولو كان على خلافه
دليل اجتهادي بالنسبة إليه، فإن قيام الخبر الصحيح على عدم وجوب
شئ لا يمنع من الاحتياط فيه، لعموم أدلة رجحان الاحتياط، غاية
الأمر عدم وجوب الاحتياط. وهذا مما لا خلاف فيه ولا إشكال.
إنما الكلام يقع في بعض الموارد، من جهة تحقق موضوع
الاحتياط وإحراز الواقع، كما في العبادات المتوقفة صحتها على نية
الوجه، فإن المشهور أن الاحتياط فيها غير متحقق إلا بعد فحص
المجتهد عن الطرق الشرعية المثبتة (1) لوجه الفعل، وعدم عثوره على
طريق منها، لأن نية الوجه حينئذ ساقطة قطعا.

(1) في (ص): " المبينة ".
405

فإذا شك في وجوب غسل الجمعة واستحبابه، أو في وجوب
السورة واستحبابها، فلا يصح له الاحتياط بإتيان الفعل قبل الفحص
عن الطرق الشرعية، لأنه لا يتمكن من الفعل بنية الوجه، والفعل
بدونها غير مجد بناء على اعتبار نية الوجه، لفقد الشرط، فلا يتحقق
قبل الفحص إحراز الواقع. فإذا تفحص: فإن عثر على دليل الوجوب
أو الاستحباب، أتى بالفعل ناويا لوجوبه أو استحبابه، وإن لم يعثر عليه
فله أن يعمل بالاحتياط، لأن المفروض سقوط نية الوجه، لعدم تمكنه
منها.
وكذا لا يجوز للمقلد الاحتياط قبل الفحص عن مذهب مجتهده،
نعم يجوز له بعد الفحص. ومن هنا قد اشتهر بين أصحابنا: أن عبادة
تارك طريقي الاجتهاد والتقليد غير صحيحة وإن علم إجمالا بمطابقتها
للواقع، بل يجب أخذ أحكام العبادات عن اجتهاد أو تقليد (1).
ثم إن هذه المسألة - أعني بطلان عبادة تارك الطريقين - يقع
الكلام فيها في مقامين، لأن العامل التارك في عمله لطريقي الاجتهاد
والتقليد: إما أن يكون حين العمل بانيا على الاحتياط وإحراز الواقع،
وإما أن لا يكون كذلك.
والمتعلق (2) بما نحن فيه هو الأول، وأما الثاني فسيجئ الكلام فيه
في شروط البراءة (3). فنقول:

(1) انظر الألفية والنفلية: 39، وروض الجنان: 248، والقوانين 2: 140 - 144.
(2) في (ر)، (ص) و (ه‍): " فالمتعلق ".
(3) انظر الصفحة 411، فما بعدها.
406

إن الجاهل التارك للطريقين الباني على الاحتياط على قسمين،
لأن إحرازه للواقع: تارة لا يحتاج إلى تكرار العمل، كالآتي بالسورة
في صلاته احتياطا، وغير ذلك من موارد الشك في الشرطية والجزئية.
وأخرى يحتاج إلى التكرار كما في المتبائنين، كالجاهل بوجوب القصر
والإتمام في مسيرة (1) أربع فراسخ، والجاهل بوجوب الظهر و (2) الجمعة
عليه.
أما الأول، فالأقوى فيه الصحة، بناء على عدم اعتبار نية الوجه
في العمل. والكلام في ذلك قد حررناه في الفقه في نية الوضوء (3).
نعم، لو شك في اعتبارها ولم يقم دليل معتبر - من شرع أو
عرف - حاكم بتحقق الإطاعة بدونها، كان مقتضى الاحتياط اللازم
الحكم بعدم الاكتفاء بعبادة الجاهل، حتى على المختار: من إجراء البراءة
في الشك في الشرطية، لأن هذا الشرط ليس على حد سائر (4) الشروط
المأخوذة في المأمور به الواقعة في حيز الأمر، حتى إذا شك في تعلق
الإلزام به من الشارع حكم العقل بقبح المؤاخذة المسببة عن تركه،
والنقل بكونه مرفوعا عن المكلف، بل هو على تقدير اعتباره شرط
لتحقق الإطاعة وسقوط المأمور به وخروج المكلف عن العهدة، ومن
المعلوم أن مع الشك في ذلك لا بد من الاحتياط وإتيان المأمور به على

(1) في (ت) و (ه‍): " سير "، وفي (ظ): " سيره ".
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " أو ".
(3) راجع كتاب الطهارة للمصنف 2: 31 - 35.
(4) لم ترد " سائر " في (ر) و (ظ).
407

وجه يقطع معه بالخروج عن العهدة.
وبالجملة: فحكم الشك في تحقق الإطاعة والخروج عن العهدة
بدون الشئ غير حكم الشك في أن أمر المولى متعلق بنفس الفعل
لا بشرط أو به بشرط كذا. والمختار في الثاني البراءة، والمتعين في
الأول الاحتياط.
لكن الإنصاف: أن الشك في تحقق الإطاعة بدون نية الوجه غير
متحقق، لقطع العرف بتحققها، وعدهم الآتي بالمأمور به بنية الوجه
الثابت عليه في الواقع مطيعا وإن لم يعرفه تفصيلا، بل لا بأس بالإتيان
به بقصد القربة المشتركة بين الوجوب والندب من غير أن يقصد الوجه
الواقعي المعلوم للفعل إجمالا. وتفصيل ذلك في الفقه (1).
إلا أن الأحوط: عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد أو التقليد
بالاحتياط، لشهرة القول بذلك بين الأصحاب، ونقل غير واحد (2) اتفاق
المتكلمين على وجوب إتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه أو
لوجههما، ونقل السيد الرضي (قدس سره) إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من
صلى صلاة لا يعلم أحكامها، وتقرير أخيه الأجل علم الهدى (قدس سره) له
على ذلك في مسألة الجاهل بالقصر (3).

(1) راجع كتاب الطهارة للمصنف 2: 35.
(2) كالمحقق السبزواري في الذخيرة: 23، والمحقق الخوانساري في مشارق
الشموس: 90، وانظر كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، المقصد السادس،
المسألة الخامسة في الثواب والعقاب، الصفحة 407 - 408.
(3) انظر رسائل الشريف المرتضى 2: 383 - 384، وراجع مبحث القطع 2:
72.
408

بل يمكن أن يجعل هذان الاتفاقان المحكيان من أهل المعقول
والمنقول المعتضدان بالشهرة العظيمة، دليلا في المسألة، فضلا عن كونهما
منشأ للشك الملزم للاحتياط، كما ذكرنا (1).
وأما الثاني وهو ما يتوقف الاحتياط فيه على تكرار العبادة، فقد
يقوى في النظر - أيضا -: جواز ترك الطريقين فيه إلى الاحتياط بتكرار
العبادة، بناء على عدم اعتبار نية الوجه.
لكن الإنصاف: عدم العلم بكفاية هذا النحو من الإطاعة
الإجمالية، وقوة احتمال اعتبار الإطاعة التفصيلية في العبادة، بأن يعلم
المكلف حين الاشتغال بما يجب عليه، أنه هو الواجب عليه.
ولذا يعد تكرار العبادة - لإحراز الواقع - مع التمكن من العلم
التفصيلي به أجنبيا عن سيرة المتشرعة، بل من أتى بصلوات غير
محصورة لإحراز شروط صلاة واحدة - بأن صلى في موضع تردد فيه
القبلة بين أربع جهات، في خمسة أثواب أحدها طاهر، ساجدا على
خمسة أشياء أحدها ما يصح السجود عليه، مائة صلاة - مع التمكن من
صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلا اجتماع الشروط الثلاثة، يعد في الشرع
والعرف لاعبا بأمر المولى.
والفرق بين الصلوات الكثيرة وصلاتين لا يرجع إلى محصل.
نعم، لو كان ممن لا يتمكن من العلم التفصيلي، كان ذلك منه
محمودا مشكورا.
وببالي: أن صاحب الحدائق (قدس سره) يظهر منه: دعوى الاتفاق على

(1) راجع الصفحة 407.
409

عدم مشروعية التكرار مع التمكن من العلم التفصيلي (1).
ولقد بالغ الحلي في السرائر (2)، حتى أسقط اعتبار الشرط المجهول
تفصيلا، ولم يجوز التكرار المحرز له، فأوجب الصلاة عاريا على من
عنده ثوبان مشتبهان ولم يجوز تكرار الصلاة فيهما (3)، مع ورود النص به
لكن من طريق الآحاد (4)، مستندا في ذلك إلى وجوب مقارنة الفعل
الواجب لوجهه.
وكما لا يجوز الدخول في العمل بانيا على إحراز الواقع بالتكرار،
كذا لا يجوز بانيا على الفحص بعد الفراغ، فإن طابق الواقع وإلا أعاده.
ولو دخل في العبادة بنية الجزم، ثم اتفق له ما يوجب تردده في
الصحة ووجوب الإتمام، وفي البطلان ووجوب الاستئناف، ففي جواز
الإتمام بانيا على الفحص بعد الفراغ والإعادة مع المخالفة وعدمه، وجهان:
من اشتراط العلم بالصحة حين العمل كما ذكرنا، ولذا لم يجوز (5)
هذا من أول الأمر. وبعبارة أخرى: الجزم بالنية معتبر في الاستدامة
كالابتداء.
ومن أن المضي على العمل (6) مترددا بانيا على استكشاف حاله

(1) انظر الحدائق 5: 406.
(2) السرائر 1: 185.
(3) في (ر) و (ظ): " فيها ".
(4) الوسائل 2: 1082، الباب 64 من أبواب النجاسات، الحديث الأول.
(5) في (ظ): " لم نجوز ".
(6) في غير (ر) زيادة: " ولو ".
410

بعد الفراغ، محافظة على عدم إبطال العمل - المحتمل حرمته واقعا على
تقدير صحته - ليس بأدون من الإطاعة التفصيلية، ولا يأباه العرف
ولا سيرة المتشرعة.
وبالجملة: فما اعتمد عليه - في عدم جواز الدخول في العمل
مترددا - من السيرة العرفية والشرعية، غير جار في المقام.
ويمكن التفصيل بين كون الحادث الموجب للتردد في الصحة مما
وجب على المكلف تعلم حكمه قبل الدخول في الصلاة، لعموم البلوى،
كأحكام الخلل الشائع وقوعها وابتلاء المكلف بها، فلا يجوز لتارك
معرفتها إذا حصل له التردد في الأثناء المضي والبناء على الاستكشاف
بعد الفراغ، لأن التردد حصل من سوء اختياره، فهو في مقام الإطاعة
كالداخل في العمل مترددا. وبين كونه مما لا يتفق إلا نادرا، ولأجل
ذلك لا يجب تعلم حكمه قبل الدخول، للوثوق بعدم الابتلاء غالبا،
فيجوز هنا المضي في العمل على الوجه المذكور.
هذا بعض الكلام في الاحتياط.
وأما البراءة:
فإن كان الشك الموجب للرجوع إليها من جهة الشبهة في
الموضوع، فقد تقدم أنها غير مشروطة بالفحص عن الدليل المزيل
لها (1)، وإن كان من جهة الشبهة في الحكم الشرعي، فالتحقيق: أنه ليس
لها إلا شرط واحد، وهو الفحص عن الأدلة الشرعية.
والكلام: يقع تارة في أصل الفحص، وأخرى في مقداره.

(1) راجع الصفحة 140.
411

[وجوب أصل الفحص] (1)
أما وجوب أصل الفحص، وحاصله: عدم معذورية الجاهل المقصر
في التعلم، فيدل عليه وجوه:
الأول: الإجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البراءة قبل
استفراغ الوسع في الأدلة.
الثاني: الأدلة الدالة على وجوب تحصيل العلم، مثل آيتي: النفر
للتفقه وسؤال أهل الذكر (2)، والأخبار الدالة على وجوب تحصيل العلم (3)
وتحصيل التفقه (4)، والذم على ترك السؤال (5).
الثالث: ما دل على مؤاخذة الجهال بفعل المعاصي المجهولة، المستلزم
لوجوب تحصيل العلم، لحكم العقل بوجوب التحرز عن مضرة العقاب:
مثل قوله (صلى الله عليه وآله) في من غسل مجدورا أصابته جنابة فكز فمات:

(1) العنوان منا.
(2) التوبة: 122، النحل: 43.
(3) الكافي 1: 30، باب فرض العلم، الحديث 1، 2، 4 و 5.
(4) نفس المصدر، الحديث 6، 7، 8 و 9.
(5) الكافي 1: 40، باب سؤال العالم، الحديث 2 و 5.
412

" قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا، ألا يمموه " (1).
وقوله (عليه السلام) لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء: " ما
كان أسوأ حالك لو مت على هذه الحالة "، ثم أمره بالتوبة وغسلها (2).
وما ورد في تفسير قوله تعالى: * (فلله الحجة البالغة) * (3)، من
أنه: " يقال للعبد يوم القيامة: هل علمت؟ فإن قال: نعم، قيل: فهلا
عملت؟ وإن قال: لا، قيل له: هلا تعلمت حتى تعمل؟ " (4).
وما رواه القمي في تفسير قوله تعالى: * (إن الذين توفاهم الملائكة
ظالمي أنفسهم) *: " نزلت في من اعتزل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم يقاتل معه،
* (قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض) * أي لم نعلم من الحق،
فقال الله تعالى: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) * (5)، أي دين
الله وكتابه واسعا متسعا، فتنظروا فيه، فترشدوا وتهتدوا به سبيل الحق " (6).
الرابع: أن العقل لا يعذر الجاهل القادر على الاستعلام في المقام،

(1) النص المذكور مأخوذ من روايتين: الأولى في من أصابته جنابة وهو مجدور،
فغسلوه فمات، وجاء فيها: " قتلوه، ألا سألوا؟! ألا يمموه... "، والثانية في من
أصابته جنابة على جرح كان به فامر بالغسل فاغتسل، فكز فمات، فقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): " قتلوه قتلهم الله... "، انظر الوسائل 2: 967، الباب 5 من أبواب
التيمم، الحديث 1 و 6.
(2) الوسائل 2: 957، الباب 18 من أبواب الأغسال المسنونة، الحديث الأول.
(3) الأنعام: 149.
(4) أمالي الطوسي: 9، المجلس الأول، وتفسير الصافي 2: 169.
(5) النساء: 97.
(6) تفسير القمي 1: 149.
413

الذي نظيره في العرفيات ما إذا ورد من يدعي الرسالة من المولى،
وأتى بطومار يدعي أن الناظر فيه يطلع على صدق دعواه أو كذبها، فتأمل.
والنقل الدال على البراءة في الشبهة الحكمية معارض بما تقدم من
الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط حتى يسأل عن الواقعة (1)، كما في
صحيحة عبد الرحمن المتقدمة (2)، وما دل على وجوب التوقف بناء على
الجمع بينها وبين أدلة البراءة بحملها على صورة التمكن من إزالة الشبهة.
الخامس: حصول العلم الإجمالي لكل أحد - قبل الأخذ في
استعلام المسائل - بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في الشريعة، ومعه
لا يصح التمسك بأصل البراءة، لما تقدم من أن مجراه الشك في أصل
التكليف، لا في المكلف به مع العلم بالتكليف (3).
فإن قلت: هذا يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراءة في أول
الأمر (4) ولو بعد الفحص، لأن الفحص لا يوجب جريان البراءة مع
العلم الإجمالي (5).

(1) راجع الصفحة 76 - 78.
(2) المتقدمة في الصفحة 76.
(3) راجع الصفحة 210 - 211.
(4) لم ترد " في أول الأمر " في (ر).
(5) وردت في (ر) و (ص) زيادة، مع اختلاف يسير، وهي:
" فإن قلت: إذا علم المكلف بعدة أمور من الواجبات والمحرمات يحتمل
انحصار التكليف فيها، كان الشك بالنسبة إلى مجهولاته شكا في أصل التكليف.
وبتقرير آخر: إن كان استعلام جملة من الواجبات والمحرمات تفصيلا موجبا
لكون الشك في الباقي شكا في أصل التكليف، فلا مقتضي لوجوب الفحص
وعدم الرجوع إلى البراءة، وإلا لم يجز الرجوع إلى البراءة ولو بعد الفحص، إذ
الشك في المكلف به لا يرجع فيه إلى البراءة ولو بذل الجهد في الفحص وطلب
الحكم الواقعي ".
ووردت هذه الزيادة في هامش (ت) وكتب عليها: " زائد "، ووردت في (ظ)
مشوشة.
414

قلت: المعلوم إجمالا وجود التكاليف الواقعية في الوقائع التي يقدر
على الوصول إلى مداركها، وإذا تفحص وعجز عن الوصول إلى
مدارك (1) الواقعة خرجت تلك الواقعة عن الوقائع التي علم إجمالا
بوجود التكاليف فيها، فيرجع فيها إلى البراءة.
ولكن هذا لا يخلو عن نظر، لأن العلم الإجمالي إنما هو بين جميع
الوقائع من غير مدخلية لتمكن المكلف من الوصول إلى مدارك التكليف
وعجزه عن ذلك، فدعوى اختصاص أطراف العلم الإجمالي بالوقائع
المتمكن من الوصول إلى مداركها مجازفة.
مع أن هذا الدليل إنما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من
التكاليف يحتمل انحصار المعلوم إجمالا فيها، فتأمل وراجع ما ذكرنا في
رد استدلال الأخباريين على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية
بالعلم الإجمالي (2).
وكيف كان: فالأولى ما ذكر في الوجه الرابع، من أن العقل
لا يعذر الجاهل القادر على الفحص، كما لا يعذر الجاهل بالمكلف به

(1) في (ر) و (ظ): " مدرك ".
(2) راجع الصفحة 89.
415

العالم به إجمالا. ومناط عدم المعذورية في المقامين هو: عدم قبح
مؤاخذة الجاهل فيهما، فاحتمال الضرر بارتكاب الشبهة غير مندفع بما
يأمن معه من ترتب الضرر.
ألا ترى: أنهم حكموا باستقلال العقل بوجوب النظر في معجزة
مدعي النبوة وعدم معذوريته في تركه، مستندين في ذلك إلى وجوب
دفع الضرر المحتمل، لا إلى أنه شك في المكلف به.
هذا كله، مع أن في الوجه الأول - وهو الإجماع القطعي - كفاية.
ثم إن في حكم أصل البراءة كل أصل عملي خالف الاحتياط.
بقي الكلام في حكم الأخذ بالبراءة مع ترك الفحص:
والكلام فيه: إما في استحقاقه العقاب، وإما في صحة العمل الذي
اخذ فيه بالبراءة.
أما العقاب:
فالمشهور: أنه على مخالفة الواقع لو اتفقت، فإذا شرب العصير
العنبي من غير فحص عن حكمه، فإن لم يتفق كونه حراما واقعا
فلا عقاب، ولو اتفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير، لا على
ترك التعلم.
أما الأول، فلعدم المقتضي للمؤاخذة، عدا ما يتخيل: من ظهور
أدلة وجوب الفحص وطلب تحصيل العلم في الوجوب النفسي.
وهو مدفوع: بأن المستفاد من أدلته بعد التأمل إنما هو وجوب
الفحص لئلا يقع في مخالفة الواقع، كما لا يخفى.
أو ما يتخيل: من قبح التجري، بناء على أن الإقدام على ما
لا يؤمن كونه مضرة كالإقدام على ما يعلم كونه كذلك، كما صرح به
416

جماعة منهم الشيخ في العدة (1) وأبو المكارم في الغنية (2).
لكنا (3) قد أسلفنا الكلام فيه صغرى وكبرى (4).
وأما الثاني، فلوجود المقتضي، وهو الخطاب الواقعي الدال على
وجوب الشئ (5) أو تحريمه، ولا مانع منه عدا ما يتخيل: من جهل
المكلف به، وهو غير قابل للمنع عقلا ولا شرعا.
أما العقل، فلا يقبح مؤاخذة الجاهل التارك للواجب، إذا علم أن
بناء الشارع على تبليغ الأحكام على النحو المعتاد المستلزم لاختفاء
بعضها لبعض الدواعي، وكان قادرا على إزالة الجهل عن نفسه.
وأما النقل، فقد تقدم (6) عدم دلالته على ذلك، فإن (7) الظاهر منها
- ولو بعد ملاحظة ما تقدم (8) من أدلة الاحتياط (9) - الاختصاص بالعاجز.
مضافا إلى ما تقدم (10) في بعض الأخبار المتقدمة (11) في الوجه

(1) العدة 2: 742 - 743.
(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 486.
(3) في (ر) و (ظ): " لكنه ".
(4) راجع الصفحة 91.
(5) في (ر) و (ص): " شئ ".
(6) راجع الصفحة 412.
(7) في (ر) و (ص): " وإن ".
(8) في (ه‍) زيادة: " و ".
(9) راجع الصفحة 76 - 77.
(10) راجع الصفحة 412.
(11) في (ظ) و (ه‍): " المتقدم ".
417

الثالث المؤيدة بغيرها، مثل رواية تيمم عمار المتضمنة لتوبيخ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
إياه بقوله: " أفلا صنعت كذا " (1).
وقد يستدل أيضا: بالإجماع على مؤاخذة الكفار على الفروع مع
أنهم جاهلون بها.
وفيه: أن معقد الإجماع تساوي الكفار والمسلمين في التكليف
بالفروع كالأصول ومؤاخذتهم عليها بالشروط المقررة للتكليف، وهذا
لا ينفي دعوى اشتراط العلم بالتكليف في حق المسلم والكافر.
وقد خالف فيما ذكرنا صاحب المدارك (2) تبعا لشيخه المحقق
الأردبيلي (3)، حيث جعلا عقاب الجاهل على ترك التعلم، لقبح تكليف
الغافل. وفهم منه بعض المدققين (4) أنه قول بالعقاب على ترك المقدمة
دون ذي المقدمة.
ويمكن توجيه كلامه: بإرادة استحقاق عقاب ذي المقدمة حين
ترك المقدمة، فإن من شرب العصير العنبي غير ملتفت حين الشرب إلى
احتمال كونه حراما، قبح توجه النهي إليه في هذا الزمان، لغفلته، وإنما
يعاقب على النهي الموجه (5) إليه قبل ذلك، حين التفت إلى أن في
الشريعة تكاليف لا يمكن امتثالها إلا بعد معرفتها، فإذا ترك المعرفة

(1) الوسائل 2: 977، الباب 11 من أبواب التيمم، الحديث 8.
(2) المدارك 2: 344 - 345، و 3: 219.
(3) مجمع الفائدة 2: 110.
(4) هو المحقق جمال الدين الخوانساري في حاشيته على الروضة: 345.
(5) في (ظ): " المتوجه ".
418

عوقب عليه من حيث إفضائه إلى مخالفة تلك التكاليف، ففي زمان
الارتكاب لا تكليف، لانقطاع التكليف حين ترك المقدمة وهي المعرفة.
ونظيره: من ترك قطع المسافة في آخر أزمنة الإمكان، حيث إنه
يستحق أن يعاقب عليه، لإفضائه إلى ترك أفعال الحج في أيامها،
ولا يتوقف استحقاق عقابه على حضور أيام الحج وأفعاله.
وحينئذ: فإن أراد المشهور توجه النهي إلى الغافل حين غفلته،
فلا ريب في قبحه.
وإن أرادوا استحقاق العقاب على المخالفة وإن لم يتوجه إليه نهي
وقت المخالفة:
فإن أرادوا أن الاستحقاق على المخالفة وقت المخالفة، لا قبلها،
لعدم تحقق معصية، ففيه:
أنه لا وجه لترقب حضور زمان المخالفة، لصيرورة الفعل مستحيل
الوقوع لأجل ترك المقدمة. مضافا إلى شهادة العقلاء قاطبة بحسن
مؤاخذة من رمى سهما لا يصيب زيدا ولا يقتله إلا بعد مدة مديدة،
بمجرد الرمي.
وإن أرادوا استحقاق العقاب في زمان ترك المعرفة على ما يحصل
بعد من المخالفة، فهو حسن لا محيص عنه.
هذا، ولكن بعض كلماتهم ظاهرة في الوجه الأول، وهو توجه
النهي إلى الجاهل حين عدم التفاته، فإنهم يحكمون بفساد الصلاة في
المغصوب جاهلا بالحكم، لأن الجاهل كالعامد، وأن التحريم لا يتوقف
على العلم به (1).

(1) انظر المنتهى 4: 230، ومفتاح الكرامة 2: 160 و 198.
419

ولولا توجه النهي إليه حين المخالفة لم يكن وجه لبطلان الصلاة،
بل كان كناسي الغصبية.
والاعتذار عن ذلك: بأنه يكفي في البطلان اجتماع الصلاة المأمور
بها مع ما هو مبغوض في الواقع ومعاقب عليه ولو لم يكن منهيا عنه
بالفعل.
مدفوع - مضافا إلى عدم صحته في نفسه -: بأنهم صرحوا بصحة
صلاة من توسط أرضا مغصوبة في حال الخروج عنها، لعدم النهي عنه
وإن كان آثما بالخروج (1).
إلا أن يفرق بين المتوسط للأرض المغصوبة وبين الغافل، بتحقق
المبغوضية في الغافل، وإمكان تعلق الكراهة الواقعية بالفعل المغفول عن
حرمته مع بقاء الحكم الواقعي بالنسبة إليه، لبقاء الاختيار فيه، وعدم
ترخيص الشارع للفعل في مرحلة الظاهر، بخلاف المتوسط، فإنه يقبح
منه تعلق الكراهة الواقعية بالخروج كالطلب الفعلي لتركه، لعدم التمكن
من ترك الغصب.
ومما ذكرنا: من عدم الترخيص، يظهر الفرق بين جاهل الحكم
وجاهل الموضوع المحكوم بصحة عبادته مع الغصب وإن فرض فيه
الحرمة الواقعية.
نعم، يبقى الإشكال في ناسي الحكم خصوصا المقصر. وللتأمل في
حكم عبادته مجال، بل تأمل بعضهم (2) في ناسي الموضوع، لعدم

(1) انظر الشرائع 1: 71، والمنتهى 4: 300، ومفتاح الكرامة 2: 199.
(2) كالعلامة في نهاية الإحكام 1: 341، والتذكرة 2: 399.
420

الترخيص الشرعي من جهة الغفلة، فافهم.
ومما يؤيد إرادة المشهور الوجه (1) الأول دون الأخير: أنه يلزم
حينئذ عدم العقاب في التكاليف الموقتة التي لا تتنجز على المكلف إلا
بعد دخول أوقاتها، فإذا فرض غفلة المكلف عند الاستطاعة عن
تكليف الحج، والمفروض أن (2) لا تكليف قبلها، فلا سبب هنا لاستحقاق
العقاب رأسا. أما حين الالتفات إلى امتثال (3) تكليف الحج، فلعدم
التكليف به، لفقد الاستطاعة. وأما بعد الاستطاعة، فلفقد الالتفات
وحصول الغفلة. وكذلك الصلاة والصيام بالنسبة إلى أوقاتها.
ومن هنا قد يلتجأ إلى ما لا يأباه كلام صاحب المدارك (4) ومن
تبعه (5)، من أن العلم واجب نفسي، والعقاب على تركه من حيث هو،
لا من حيث إفضائه إلى المعصية، أعني ترك الواجبات وفعل المحرمات
المجهولة تفصيلا.
وما دل بظاهره - من الأدلة المتقدمة (6) - على كون وجوب تحصيل
العلم من باب المقدمة، محمول على بيان الحكمة في وجوبه، وأن الحكمة
في إيجابه لنفسه صيرورة المكلف قابلا للتكليف بالواجبات والمحرمات

(1) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " للوجه ".
(2) في (ت) و (ر): " أنه ".
(3) في (ظ) بدل " امتثال ": " احتمال ".
(4) المدارك 2: 345.
(5) كالمحقق السبزواري في الذخيرة: 167.
(6) في الوجه الثالث.
421

حتى لا يفوته منفعة التكليف بها ولا تناله مضرة إهماله عنها، فإنه قد
يكون الحكمة في وجوب الشئ لنفسه صيرورة المكلف قابلا للخطاب،
بل الحكمة الظاهرة في الإرشاد وتبليغ الأنبياء والحجج (عليهم السلام) ليست إلا
صيرورة الناس عالمين قابلين للتكاليف.
لكن الإنصاف: ظهور أدلة وجوب العلم في كونه واجبا غيريا،
مضافا إلى ما عرفت من الأخبار في الوجه الثالث (1) الظاهرة في
المؤاخذة على نفس المخالفة.
ويمكن أن يلتزم - حينئذ -: باستحقاق العقاب على ترك تعلم
التكاليف، الواجب مقدمة، وإن كانت مشروطة بشروط مفقودة حين
الالتفات إلى ما يعلمه إجمالا من الواجبات المطلقة والمشروطة،
لاستقرار بناء العقلاء في مثال الطومار المتقدم (2) على عدم الفرق في
المذمة على ترك التكاليف المسطورة فيه بين المطلقة والمشروطة، فتأمل.
هذا خلاصة الكلام بالنسبة إلى عقاب الجاهل التارك للفحص
العامل بما يطابق البراءة.
وأما الكلام في الحكم الوضعي: وهي صحة العمل الصادر من
الجاهل وفساده، فيقع الكلام فيه تارة في المعاملات، وأخرى في
العبادات.
أما المعاملات:
فالمشهور فيها: أن العبرة فيها بمطابقة الواقع ومخالفته، سواء

(1) راجع الصفحة 412 - 413.
(2) المتقدم في الصفحة 414.
422

وقعت عن أحد الطريقين أعني الاجتهاد والتقليد، أم لا عنهما، فاتفقت
المطابقة (1) للواقع، لأنها من قبيل الأسباب لأمور شرعية، فالعلم والجهل
لا مدخل له في تأثيرها وترتب المسببات عليها.
فمن عقد على امرأة عقدا لا يعرف تأثيره في حلية الوطء
فانكشف بعد ذلك صحته، كفى في صحته من حين وقوعه، وكذا لو
انكشف فساده رتب (2) عليه حكم الفاسد من حين الوقوع. وكذا من
ذبح ذبيحة بفري ودجيه، فانكشف كونه صحيحا أو فاسدا.
ولو رتب عليه أثرا قبل الانكشاف، فحكمه في العقاب ما تقدم (3):
من كونه مراعى بمخالفة الواقع، كما إذا وطأها فإن العقاب عليه مراعى.
وأما حكمه الوضعي - كما لو باع لحم تلك الذبيحة - فكما ذكرنا هنا:
من مراعاته حتى ينكشف الحال.
ولا إشكال فيما ذكرنا بعد ملاحظة أدلة سببية تلك المعاملات،
ولا خلاف ظاهرا في ذلك أيضا إلا من بعض مشايخنا المعاصرين (قدس سره) (4)،
حيث أطال الكلام هنا في تفصيل ذكره بعد مقدمة، هي:
أن العقود والإيقاعات بل كل ما جعله الشارع سببا، لها حقائق
واقعية: هي ما قرره الشارع أولا، وحقائق ظاهرية: هي ما يظنه
المجتهد أنه ما وضعه الشارع. وهي قد تطابق الواقعية وقد تخالفها، ولما

(1) في (ت) و (ظ): " مطابقته ".
(2) في (ظ): " ترتب ".
(3) كذا في (ص)، وفي (ر) و (ظ): " فحكمه كما ".
(4) هو الفاضل النراقي في المناهج.
423

لم يكن لنا سبيل في المسائل الاجتهادية إلى الواقعية فالسبب والشرط
والمانع في حقنا هي الحقائق الظاهرية، ومن البديهيات التي انعقد عليها
الإجماع بل الضرورة: أن ترتب الآثار على الحقائق الظاهرية يختلف
بالنسبة إلى الأشخاص، فإن ملاقاة الماء القليل للنجاسة سبب لتنجسه
عند واحد دون غيره، وكذا قطع الحلقوم للتذكية، والعقد الفارسي
للتمليك أو الزوجية.
وحاصل ما ذكره من التفصيل:
أن غير المجتهد والمقلد على ثلاثة أقسام، لأنه إما غافل عن
احتمال كون ما أتى به من المعاملة مخالفا للواقع، وإما أن يكون غير
غافل، بل يترك التقليد مسامحة.
فالأول، في حكم المجتهد والمقلد، لأنه يتعبد باعتقاده - كتعبد
المجتهد باجتهاده والمقلد بتقليده - ما دام غافلا، فإذا تنبه: فإن وافق
اعتقاده قول من يقلده فهو، وإلا كان كالمجتهد المتبدل رأيه، وقد مر
حكمه في باب رجوع المجتهد.
وأما الثاني، وهو المتفطن لاحتمال مخالفة ما أوقعه من المعاملة
للواقع: فإما أن يكون ما صدر عنه موافقا أو مخالفا للحكم القطعي
الصادر من الشارع، وإما أن لا يكون كذلك، بل كان حكم المعاملة
ثابتا بالظنون الاجتهادية.
فالأول، يترتب عليه الأثر مع الموافقة، ولا يترتب عليه مع
المخالفة، إذ المفروض أنه ثبت من الشارع - قطعا - أن المعاملة الفلانية
سبب لكذا، وليس معتقدا لخلافه حتى يتعبد بخلافه، ولا دليل على
التقييد في مثله بعلم واعتقاد، ولا يقدح كونه محتملا للخلاف أو ظانا
424

به، لأنه مأمور بالفحص والسؤال، كما أن من اعتقد حلية الخمر
مع احتمال الخلاف يحرم عليه الخمر وإن لم يسأل، لأنه مأمور
بالسؤال.
وأما الثاني، فالحق عدم ترتب الأثر في حقه ما دام باقيا على
عدم التقليد، بل وجود المعاملة كعدمها، سواء طابقت على أحد الأقوال
أم لا، إذ المفروض عدم القطع بالوضع الواقعي من الشارع، بل هو
مظنون للمجتهد، فترتب الأثر إنما هو في حقه.
ثم إن قلد بعد صدور المعاملة المجتهد القائل بالفساد، فلا إشكال
فيه. وإن قلد من يقول بترتب الأثر، فالتحقيق فيه التفصيل بما مر في
نقض الفتوى بالمعنى الثالث، فيقال: إن ما لم يختص أثره بمعين أو
بمعينين كالطهارة والنجاسة والحلية والحرمة وأمثالها، يترتب عليه الأثر،
فإذا غسل ثوبه من البول مرة بدون تقليد، أو اكتفى في الذبيحة بقطع
الحلقوم مثلا كذلك، ثم قلد من يقول بكفاية الأول في الطهارة والثاني
في التذكية، ترتب الأثر على فعله السابق، إذ المغسول يصير طاهرا
بالنسبة إلى كل من يرى ذلك، وكذا المذبوح حلالا بالنسبة إلى كل من
يرى ذلك، ولا يشترط كونه مقلدا حين الغسل والذبح.
وأما ما يختص أثره بمعين أو معينين، كالعقود والإيقاعات
وأسباب شغل الذمة وأمثالها، فلا يترتب عليه الأثر، إذ آثار هذه
الأمور لا بد وأن تتعلق بالمعين، إذ لا معنى لسببية عقد صادر عن
رجل خاص على امرأة خاصة لحليتها على كل من يرى جواز هذا
العقد ومقلديه.
وهذا الشخص حال العقد لم يكن مقلدا، فلم يترتب في حقه
425

الأثر كما تقدم، وأما بعده وإن دخل في مقلديه، لكن لا يفيد لترتب
الأثر في حقه، إذ المظنون لمجتهده سببية هذا العقد متصلا بصدوره للأثر،
ولم يصر هذا سببا كذلك. وأما السببية المنفصلة فلا دليل عليها، إذ
ليس هو مظنون المجتهد، ولا دليل على كون الدخول في التقليد كإجازة
المالك، والأصل في المعاملات الفساد.
مع أن عدم ترتب الأثر كان ثابتا قبل التقليد فيستصحب (1)،
انتهى كلامه ملخصا.
والمهم في المقام بيان (2) ما ذكره في المقدمة: من أن كل ما جعله
الشارع من الأسباب لها حقائق واقعية وحقائق ظاهرية.
فنقول - بعد الإغماض عما هو التحقيق عندنا تبعا للمحققين، من
أن التسبيبات الشرعية راجعة إلى تكاليف شرعية -:
إن الأحكام الوضعية على القول بتأصلها، هي الأمور الواقعية
المجعولة للشارع، نظير الأمور الخارجية الغير المجعولة كحياة زيد وموت
عمرو، ولكن الطريق إلى تلك المجعولات كغيرها قد يكون هو العلم،
وقد يكون هو الظن الاجتهادي أو التقليد، وكل واحد من الطرق
قد يحصل قبل وجود ذي الأثر، وقد يحصل معه، وقد يحصل بعده.
ولا فرق بينها في أنه بعد حصول الطريق يجب ترتيب الأثر على
ذي الأثر من حين حصوله.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إذا كان العقد الصادر من الجاهل سببا

(1) مناهج الأحكام: 310.
(2) في (ظ) زيادة: " حال ".
426

للزوجية، فكل من حصل له إلى سببية هذا العقد طريق عقلي أعني
العلم، أو جعلي بالظن الاجتهادي أو التقليد، يترتب في حقه أحكام
تلك الزوجية من غير فرق بين نفس الزوجين وغيرهما، فإن أحكام
زوجية هند لزيد ليست مختصة بهما، فقد يتعلق بثالث حكم مترتب على
هذه الزوجية، كأحكام المصاهرة، وتوريثها منه، والإنفاق عليها من
ماله، وحرمة العقد عليها حال حياته.
ولا فرق بين حصول هذا الطريق حال العقد أو قبله أو بعده.
ثم إنه إذا اعتقد السببية وهو في الواقع غير سبب، فلا يترتب
عليه شئ في الواقع. نعم لا يكون مكلفا بالواقع ما دام معتقدا، فإذا
زال الاعتقاد رجع الأمر إلى الواقع وعمل على مقتضاه.
وبالجملة: فحال الأسباب الشرعية حال الأمور الخارجية كحياة
زيد وموت عمرو، فكما أنه لا فرق بين العلم بموت زيد بعد مضي
مدة من موته وبين قيام الطريق الشرعي في وجوب ترتيب (1) آثار
الموت من حينه، فكذلك لا فرق بين حصول العلم بسببية العقد لأثر
بعد صدوره وبين الظن الاجتهادي به بعد الصدور، فإن مؤدى الظن
الاجتهادي الذي يكون حجة له وحكما ظاهريا في حقه: هو كون هذا
العقد المذكور حين صدوره محدثا لعلاقة الزوجية بين زيد وهند،
والمفروض أن دليل حجية هذا الظن لا يفيد سوى كونه طريقا إلى
الواقع، فأي فرق بين صدور العقد ظانا بكونه سببا وبين الظن به بعد
صدوره؟

(1) في غير (ظ): " ترتب ".
427

وإذا تأملت في ما ذكرنا عرفت مواقع النظر في كلامه المتقدم،
فلا نطيل بتفصيلها.
ومحصل ما ذكرنا: أن الفعل الصادر من الجاهل باق على حكمه
الواقعي التكليفي والوضعي، فإذا لحقه العلم أو الظن الاجتهادي أو
التقليد، كان هذا الطريق كاشفا حقيقيا أو جعليا عن حاله حين
الصدور، فيعمل بمقتضى ما انكشف.
بل حققنا في مباحث الاجتهاد والتقليد: أن الفعل الصادر من
المجتهد أو المقلد أيضا باق على حكمه الواقعي (1)، فإذا لحقه اجتهاد
مخالف للسابق كان كاشفا عن حاله حين الصدور، فيعمل بمقتضى ما
انكشف، خلافا لجماعة (2) حيث تخيلوا أن الفعل الصادر عن الاجتهاد أو
التقليد (3) إذا كان مبنيا على الدوام واستمرار الآثار - كالزوجية والملكية -
لا يؤثر فيه الاجتهاد اللاحق. وتمام الكلام في محله.
وربما يتوهم الفساد في معاملة الجاهل، من حيث الشك في ترتب
الأثر على ما يوقعه، فلا يتأتى منه قصد الإنشاء في العقود والإيقاعات.
وفيه: أن قصد الإنشاء إنما يحصل بقصد تحقق مضمون الصيغة
- وهو الانتقال في البيع والزوجية في النكاح -، وهذا يحصل مع القطع
بالفساد شرعا، فضلا عن الشك فيه، ألا ترى: أن الناس يقصدون

(1) انظر رسالة " التقليد " للمصنف: 80.
(2) منهم المحقق القمي في القوانين 2: 248، وصاحب الفصول في الفصول: 409
- 410.
(3) في (ت) و (ظ): " عن اجتهاد أو تقليد ".
428

التمليك في القمار وبيع المغصوب وغيرهما من البيوع الفاسدة.
ومما ذكرنا يظهر: أنه لا فرق في صحة معاملة الجاهل مع (1)
انكشافها بعد العقد، بين شكه في الصحة حين صدورها وبين قطعه
بفسادها، فافهم.
هذا كله حال المعاملات.
وأما العبادات:
فملخص الكلام فيها: أنه إذا أوقع الجاهل عبادة عمل فيها بما
يقتضيه البراءة، كأن صلى بدون السورة، فإن كان حين العمل متزلزلا
في صحة عمله بانيا على الاقتصار عليه في الامتثال، فلا إشكال في
الفساد وإن انكشف الصحة بعد ذلك، بلا خلاف في ذلك ظاهرا، لعدم
تحقق نية القربة، لأن الشاك في كون المأتي به موافقا للمأمور به كيف
يتقرب به؟
وما يرى: من الحكم بالصحة فيما شك في صدور الأمر به على
تقدير صدوره، كبعض الصلوات والأغسال التي لم يرد بها نص معتبر،
وإعادة بعض العبادات الصحيحة ظاهرا من باب الاحتياط، فلا يشبه
ما نحن فيه.
لأن الأمر على تقدير وجوده هناك لا يمكن قصد امتثاله إلا بهذا
النحو، فهو أقصى ما يمكن هناك من الامتثال، بخلاف ما نحن فيه حيث
يقطع بوجود أمر من الشارع، فإن امتثاله لا يكون إلا بإتيان ما يعلم
مطابقته له، وإتيان ما يحتمله - لاحتمال مطابقته له - لا يعد إطاعة عرفا.

(1) في (ت) بدل " مع ": " من حين ".
429

وبالجملة: فقصد التقرب شرط في صحة العبادة إجماعا - نصا (1)
وفتوى (2) -، وهو لا يتحقق مع الشك في كون العمل مقربا.
وأما قصد التقرب في الموارد المذكورة من الاحتياط، فهو
غير ممكن على وجه الجزم، والجزم فيه غير معتبر إجماعا، إذ لولاه
لم يتحقق احتياط في كثير من الموارد، مع رجحان الاحتياط فيها
إجماعا.
وكيف كان: فالعامل بما يقتضيه البراءة مع الشك حين العمل،
لا يصح عبادته وإن انكشف مطابقته للواقع.
أما لو غفل عن ذلك أو سكن فيه إلى قول (3) من يسكن إليه
- من أبويه وأمثالهما - فعمل باعتقاد التقرب، فهو خارج عن محل كلامنا
الذي هو في عمل الجاهل الشاك قبل الفحص بما يقتضيه البراءة، إذ
مجرى البراءة في الشاك دون الغافل ومعتقد (4) الخلاف.
وعلى أي حال: فالأقوى صحته إذا انكشف مطابقته للواقع، إذ
لا يعتبر في العبادة إلا إتيان المأمور به على قصد التقرب، والمفروض
حصوله.
والعلم بمطابقته للواقع أو الظن بها من طريق معتبر شرعي،

(1) انظر الوسائل 1: 43، الباب 8 من أبواب مقدمة العبادات.
(2) انظر المنتهى 2: 8 و 9، ومجمع الفائدة 1: 98 - 99، والمدارك 1: 187،
ومستند الشيعة 2: 47.
(3) في (ر) و (ص): " فعل ".
(4) كذا في (ه‍)، وفي غيرها: " أو معتقد ".
430

غير معتبر في صحة العبادة، لعدم الدليل، فإن أدلة وجوب رجوع
المجتهد إلى الأدلة ورجوع المقلد إلى المجتهد، إنما هي لبيان الطرق
الشرعية التي لا يقدح مع موافقتها مخالفة الواقع، لا لبيان اشتراط كون
الواقع مأخوذا من هذه الطرق، كما لا يخفى على من لاحظها.
ثم إن مرآة مطابقة العمل الصادر للواقع: العلم بها، أو الطريق
الذي يرجع إليه المجتهد أو المقلد.
وتوهم: أن ظن المجتهد أو فتواه (1) لا يؤثر في الواقعة السابقة
غلط، لأن مؤدى ظنه نفس الحكم الشرعي الثابت للأعمال الماضية
والمستقبلة.
وأما ترتيب الأثر على الفعل الماضي فهو بعد الرجوع، فإن فتوى
المجتهد بعدم وجوب السورة كالعلم في أن أثرها قبل العمل عدم وجوب
السورة في الصلاة، وبعد العمل عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة من
غير سورة، كما تقدم نظير ذلك في المعاملات.

(1) في (ر): " وفتواه ".
431

ولنختم الكلام في الجاهل العامل قبل الفحص بأمور:
الأول
هل (1) العبرة في باب المؤاخذة والعدم بموافقة الواقع الذي يعتبر
مطابقة العمل له ومخالفته، وهو الواقع الأولي الثابت في كل واقعة عند
المخطئة؟ فإذا فرضنا العصير العنبي الذي تناوله الجاهل حراما في
الواقع، وفرض وجود خبر معتبر يعثر عليه بعد الفحص على الحلية،
فيعاقب، ولو عكس الأمر لم يعاقب؟
أو العبرة بالطريق الشرعي المعثور عليه بعد الفحص، فيعاقب في
صورة العكس دون الأصل؟
أو يكفي مخالفة أحدهما، فيعاقب في الصورتين؟
أم يكفي في عدم المؤاخذة موافقة أحدهما، فلا عقاب في
الصورتين؟
وجوه:
من: أن التكليف الأولي إنما هو بالواقع، وليس التكليف بالطرق
الظاهرية إلا على من (2) عثر عليها.

(1) في غير (ص) بدل " هل ": " إن ".
(2) في (ت) و (ه‍): " لمن ".
433

ومن: أن الواقع إذا كان في علم الله سبحانه غير ممكن الوصول
إليه، وكان هنا طريق مجعول مؤداه بدلا عنه، فالمكلف به هو مؤدى
الطريق دون الواقع على ما هو عليه، فكيف يعاقب الله سبحانه على
شرب العصير العنبي من يعلم أنه لن (1) يعثر بعد الفحص على دليل
حرمته؟
ومن: أن كلا من الواقع ومؤدى الطريق تكليف واقعي، أما إذا
كان التكليف ثابتا في الواقع، فلأنه كان قادرا على موافقة الواقع
بالاحتياط، وعلى إسقاطه عن نفسه بالرجوع إلى الطريق الشرعي
المفروض دلالته على نفي التكليف، فإذا لم يفعل شيئا منهما فلا مانع من
مؤاخذته.
وأما إذا كان التكليف ثابتا بالطريق الشرعي، فلأنه قد ترك
موافقة خطاب مقدور على العلم به، فإن أدلة وجوب الرجوع إلى خبر
العادل أو فتوى المجتهد يشمل العالم والجاهل القادر على المعرفة.
ومن: عدم التكليف بالواقع، لعدم القدرة، وبالطريق الشرعي،
لكونه ثابتا في حق من اطلع عليه من باب حرمة التجري، فالمكلف به
فعلا (2) المؤاخذ على مخالفته: هو الواجب والحرام الواقعيان المنصوب
عليهما طريق، فإذا لم يكن وجوب أو تحريم فلا مؤاخذة.
نعم، لو اطلع على ما يدل ظاهرا على الوجوب أو التحريم
الواقعي مع كونه مخالفا للواقع بالفرض، فالموافقة له لازمة من باب

(1) كذا في (ه‍) ومحتمل (ت)، وفي غيرهما: " لم ".
(2) كذا في (ت) و (ظ)، وفي (ر) زيادة: " الذي يكون ".
434

الانقياد وتركها تجر. وإذا لم يطلع على ذلك - لتركه الفحص - فلا تجري
أيضا.
وأما إذا كان وجوب واقعي وكان الطريق الظاهري نافيا، فلأن
المفروض عدم التمكن من الوصول إلى الواقع، فالمتضمن للتكليف متعذر
الوصول إليه، والذي يمكن الوصول إليه ناف للتكليف.
والأقوى: هو الأول، ويظهر وجهه بالتأمل في الوجوه الأربعة.
وحاصله: أن التكليف الثابت في الواقع وإن فرض تعذر الوصول
إليه تفصيلا، إلا أنه لا مانع من العقاب بعد كون المكلف محتملا له،
قادرا عليه، غير مطلع على طريق شرعي ينفيه، ولا واجدا لدليل
يؤمن من العقاب عليه مع بقاء تردده، وهو العقل والنقل الدالان على
براءة الذمة بعد الفحص والعجز عن الوصول إليه (1)، وإن احتمل
التكليف وتردد فيه.
وأما إذا لم يكن التكليف ثابتا في الواقع، فلا مقتضي للعقاب من
حيث الخطابات الواقعية. ولو فرض هنا طريق ظاهري مثبت للتكليف
لم يعثر عليه المكلف، لم يعاقب عليه، لأن مؤدى الطريق الظاهري غير
مجعول من حيث هو هو في مقابل الواقع، وإنما هو مجعول بعنوان كونه
طريقا إليه، فإذا أخطأ لم يترتب عليه شئ، ولذا لو أدى عبادة بهذا
الطريق فتبين مخالفتها للواقع، لم يسقط الأمر ووجب إعادتها.
نعم، إذا عثر عليه المكلف لم يجز مخالفته، لأن المفروض عدم
العلم بمخالفته للواقع، فيكون معصية ظاهرية، من حيث فرض كونه (2)

(1) لم ترد " إليه " في (ر)، (ص) و (ظ).
(2) كذا في (ر)، وفي غيرها بدل " كونه ": " كون دليله ".
435

طريقا شرعيا إلى الواقع، فهو في الحقيقة نوع من التجري. وهذا المعنى
مفقود مع عدم الاطلاع على هذا الطريق.
و (1) وجوب رجوع العامي إلى المفتي لأجل إحراز الواجبات
الواقعية، فإذا رجع وصادف الواقع وجب من حيث الواقع، وإن
لم يصادف الواقع لم يكن الرجوع إليه في هذه الواقعة واجبا في الواقع،
ويترتب عليه آثار الوجوب ظاهرا مشروطة بعدم انكشاف الخلاف،
إلا (2) استحقاق العقاب على الترك، فإنه يثبت واقعا من باب التجري.
ومن هنا يظهر: أنه لا يتعدد العقاب مع مصادفة الواقع من جهة
تعدد التكليف.
نعم، لو قلنا بأن مؤديات الطرق الشرعية أحكام واقعية ثانوية،
لزم من ذلك انقلاب التكليف إلى مؤديات تلك الطرق، وكان أوجه
الاحتمالات حينئذ الثاني منها.

(1) في (ظ) بدل " و ": " مثلا ".
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " لا ".
436

الثاني
قد عرفت (1): أن الجاهل العامل بما يوافق البراءة مع قدرته على
الفحص واستبانة الحال، غير معذور، لا من حيث العقاب ولا من جهة
سائر الآثار، بمعنى: أن شيئا من آثار الشئ المجهول - عقابا أو غيره
من الآثار المترتبة على ذلك الشئ في حق العالم - لا يرتفع عن
الجاهل لأجل جهله.
وقد استثنى الأصحاب من ذلك: القصر والإتمام والجهر
والإخفات، فحكموا بمعذورية الجاهل في هذين الموضعين (2). وظاهر
كلامهم إرادتهم العذر من حيث الحكم الوضعي، وهي الصحة بمعنى
سقوط الفعل ثانيا دون المؤاخذة، وهو الذي يقتضيه دليل المعذورية في
الموضعين أيضا.
فحينئذ: يقع الإشكال في أنه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم
التكليفي كسائر الأحكام المجهولة للمكلف المقصر، فيكون تكليفه بالواقع

(1) راجع الصفحة 412.
(2) انظر مفتاح الكرامة 2: 384، و 3: 601.
437

وهو القصر بالنسبة إلى المسافر باقيا، وما يأتي به - من الإتمام المحكوم
بكونه مسقطا - إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط الواجب؟ وإن كان
مأمورا به فكيف يجتمع الأمر به مع فرض وجود الأمر بالقصر؟
ودفع هذا الإشكال: إما بمنع تعلق التكليف فعلا بالواقعي
المتروك، وإما بمنع تعلقه بالمأتي به، وإما بمنع التنافي بينهما.
فالأول، إما بدعوى كون القصر مثلا واجبا على المسافر العالم،
وكذا الجهر والإخفات.
وإما بمعنى معذوريته فيه، بمعنى: كون الجهل بهذه المسألة كالجهل
بالموضوع يعذر صاحبه، ويحكم عليه ظاهرا بخلاف الحكم الواقعي.
وهذا الجاهل وإن لم يتوجه إليه خطاب مشتمل على حكم ظاهري
- كما في الجاهل بالموضوع -، إلا أنه مستغنى عنه (1) باعتقاده لوجوب
هذا الشئ عليه في الواقع.
وإما من جهة القول بعدم تكليف الغافل بالواقع، وكونه مؤاخذا
على ترك التعلم، فلا يجب عليه القصر، لغفلته عنه. نعم يعاقب على
عدم إزالة الغفلة، كما تقدم استظهاره من صاحب المدارك ومن تبعه (2).
وإما من جهة تسليم تكليفه بالواقع، إلا أن الخطاب بالواقع
ينقطع عند الغفلة، لقبح خطاب العاجز. وإن كان العجز بسوء اختياره
فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر، لكنه ليس مأمورا به حتى
يجتمع مع فرض وجود الأمر بالإتمام.

(1) كذا في غير (ه‍)، وفيها: " مستثنى عنه "، ولعل الأنسب: " مستغن عنه ".
(2) راجع الصفحة 421.
438

لكن هذا كله خلاف ظاهر المشهور، حيث إن الظاهر منهم - كما
تقدم (1) - بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل، ولذا يبطلون
صلاة الجاهل بحرمة الغصب، إذ لولا النهي حين الصلاة لم يكن وجه
للبطلان.
والثاني، منع تعلق الأمر بالمأتي به، والتزام (2) أن غير الواجب
مسقط عن الواجب، فإن قيام ما اعتقد وجوبه مقام الواجب الواقعي
غير ممتنع.
نعم، قد يوجب إتيان غير الواجب فوات الواجب، فيحرم بناء
على دلالة الأمر بالشئ على النهي عن الضد، كما في آخر الوقت،
حيث يستلزم فعل التمام فوات القصر.
ويرد هذا الوجه: أن الظاهر من الأدلة كون المأتي به مأمورا به
في حقه، مثل قوله (عليه السلام) في الجهر والإخفات: " تمت صلاته " (3) ونحو
ذلك.
وفي (4) الموارد التي قام فيها غير الواجب مقام الواجب نمنع عدم
وجوب البدل، بل الظاهر في تلك الموارد سقوط الأمر الواقعي وثبوت
الأمر بالبدل، فتأمل.
والثالث، بما (5) ذكره كاشف الغطاء (رحمه الله): من أن التكليف بالإتمام

(1) راجع الصفحة 420.
(2) في (ت) و (ه‍): " بالتزام ".
(3) الوسائل 4: 766، الباب 26 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث الأول.
(4) لم ترد " في " في (ر)، (ص) و (ظ).
(5) في (ر)، (ص) و (ظ): " ما ".
439

مرتب على معصية (1) الشارع بترك القصر، فقد كلفه بالقصر والإتمام
على تقدير معصيته في التكليف بالقصر. وسلك هذا الطريق في مسألة
الضد في تصحيح فعل غير الأهم من الواجبين المضيقين، إذا ترك
المكلف الامتثال بالأهم (2).
ويرده: أنا لا نعقل الترتب (3) في المقامين، وإنما يعقل ذلك فيما إذا
حدث التكليف الثاني بعد تحقق معصية (4) الأول، كمن عصى بترك
الصلاة مع الطهارة المائية، فكلف لضيق الوقت بالترابية.

(1) في (ت) و (ر): " معصيته ".
(2) انظر كشف الغطاء: 270.
(3) في (ص)، (ظ) و (ه‍): " الترتيب ".
(4) في (ر) و (ت): " معصيته ".
440

الثالث
أن وجوب الفحص إنما هو في إجراء الأصل في الشبهة الحكمية
الناشئة من عدم النص، أو إجمال بعض ألفاظه، أو تعارض النصوص.
أما إجراء الأصل في الشبهة الموضوعية:
فإن كانت الشبهة في التحريم، فلا إشكال ولا خلاف ظاهرا في
عدم وجوب الفحص.
ويدل عليه إطلاق الأخبار - مثل قوله (عليه السلام): " كل شئ لك
حلال حتى تعلم " (1)، وقوله: " حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به
البينة " (2)، وقوله: " حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه الميتة " (3) وغير
ذلك (4) - السالم عما يصلح لتقييده.

(1) الوسائل 12: 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، صدر الحديث 4.
(2) ذيل الحديث المذكور.
(3) الوسائل 17: 91، الباب 61 من أبواب الأطعمة والأشربة، الحديث 2.
(4) انظر الوسائل 17: 90 و 92، الباب 61 من أبواب الأطعمة والأشربة،
الحديث 1 و 7.
441

وإن كانت الشبهة وجوبية، فمقتضى أدلة البراءة حتى العقل
كبعض كلمات العلماء: عدم وجوب الفحص أيضا، وهو مقتضى حكم
العقلاء في بعض الموارد، مثل قول المولى لعبده: " أكرم العلماء أو
المؤمنين "، فإنه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين.
إلا أنه قد يتراءى: أن بناء العقلاء في بعض الموارد على الفحص
والاحتياط، كما إذا أمر المولى بإحضار علماء البلد أو أطبائها، أو
إضافتهم، أو إعطاء كل واحد منهم دينارا، فإنه قد يدعى أن بناءهم
على الفحص عن أولئك، وعدم الاقتصار على المعلوم ابتداء مع احتمال
وجود غيرهم في البلد.
قال في المعالم، في مقام الاستدلال على وجوب التبين في خبر
مجهول الحال بآية التثبت في خبر الفاسق:
إن وجوب التثبت فيها متعلق بنفس الوصف، لا بما تقدم العلم به
منه، ومقتضى ذلك إرادة الفحص والبحث عن حصوله وعدمه، ألا ترى
أن قول القائل: " أعط كل بالغ رشيد من هذه الجماعة - مثلا - درهما "
يقتضي إرادة السؤال والفحص عمن جمع الوصفين، لا الاقتصار على
من سبق العلم باجتماعهما فيه (1)، انتهى.
وأيد ذلك المحقق القمي (قدس سره) في القوانين:
ب‍ " أن الواجبات المشروطة بوجود شئ إنما يتوقف وجوبها على
وجود الشرط لا على العلم بوجوده، فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط.
مثل: أن من شك في كون ماله بمقدار استطاعة الحج - لعدم علمه بمقدار

(1) المعالم: 201.
442

المال - لا يمكنه أن يقول: إني لا أعلم أني مستطيع ولا يجب علي
شئ، بل يجب عليه محاسبة ماله، ليعلم أنه واجد للاستطاعة أو فاقد
لها.
نعم، لو شك بعد المحاسبة في أن هذا المال هل يكفيه في
الاستطاعة أم لا؟ فالأصل عدم الوجوب حينئذ " (1).
ثم ذكر المثال المذكور في المعالم بالتقريب المتقدم عنه (2).
وأما كلمات الفقهاء فمختلفة في فروع هذه المسألة: فقد أفتى
جماعة منهم - كالشيخ (3) والفاضلين (4) وغيرهم (5) - بأنه لو كان له فضة
مغشوشة بغيرها وعلم بلوغ الخالص نصابا وشك في مقداره، وجب
التصفية، ليحصل (6) العلم بالمقدار، أو الاحتياط بإخراج ما يتيقن (7) معه
البراءة.
نعم، استشكل في التحرير في وجوب ذلك (8)، وصرح غير واحد

(1) القوانين 1: 460.
(2) في الصفحة السابقة.
(3) المبسوط 1: 210.
(4) الشرائع 1: 151، وقواعد الأحكام 1: 340.
(5) كالشهيد الثاني في المسالك 1: 386، والفاضل النراقي في مستند الشيعة 9:
156.
(6) في (ر) و (ص): " لتحصيل ".
(7) كذا في (ظ) و (ه‍)، وفي غيرهما: " تيقن ".
(8) التحرير 1: 62.
443

من هؤلاء (1) مع عدم العلم ببلوغ الخالص النصاب: بأنه (2) لا يجب التصفية.
والفرق بين المسألتين مفقود إلا ما ربما يتوهم: من أن العلم
بالتكليف ثابت مع العلم ببلوغ النصاب، بخلاف ما لم يعلم به.
وفيه: أن العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع القدر المتيقن
ودوران الأمر بين الأقل والأكثر مع كون الزائد على تقدير وجوبه
تكليفا مستقلا، ألا ترى: أنه لو علم بالدين وشك في قدره، لم يوجب
ذلك الاحتياط والفحص.
مع أنه لو كان هذا المقدار يمنع من إجراء البراءة قبل الفحص
لمنع منها بعده، إذ العلم الإجمالي لا يجوز معه الرجوع إلى البراءة ولو
بعد الفحص.
وقال في التحرير في باب نصاب الغلات: ولو شك في البلوغ،
ولا مكيال هنا ولا ميزان، ولم يوجد، سقط الوجوب دون الاستحباب (3)،
انتهى.
وظاهره: جريان الأصل مع تعذر الفحص وتحصيل العلم.
وبالجملة: فما ذكروه من إيجاب تحصيل العلم بالواقع مع التمكن في
بعض أفراد الاشتباه في الموضوع، مشكل.
وأشكل منه: فرقهم بين الموارد، مع ما تقرر عندهم من أصالة
نفي الزائد عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر.

(1) كالعلامة في القواعد 1: 340، والشهيد الثاني في المسالك 1: 386، والفاضل
النراقي في المستند 9: 155.
(2) لم ترد " بأنه " في (ظ) و (ه‍)، ووردت في (ت) قبل قوله: " مع عدم ".
(3) التحرير 1: 63.
444

وأما ما ذكره صاحب المعالم (رحمه الله) وتبعه عليه المحقق القمي (رحمه الله) (1):
من تقريب الاستدلال بآية التثبت على رد خبر مجهول الحال، من جهة
اقتضاء (2) تعلق الأمر بالموضوع الواقعي (3) وجوب الفحص عن مصاديقه
وعدم الاقتصار على القدر المعلوم، فلا يخفى ما فيه.
لأن رد خبر مجهول الحال ليس مبنيا على وجوب الفحص عند
الشك، وإلا لجاز الأخذ به، ولم يجب التبين فيه بعد الفحص واليأس
عن العلم بحاله، كما لا يجب الإعطاء في المثال المذكور بعد الفحص عن
حال المشكوك وعدم العلم باجتماع الوصفين فيه.
بل وجه رده قبل الفحص وبعده: أن وجوب التبين شرطي،
ومرجعه إلى اشتراط قبول الخبر في نفسه من دون اشتراط التبين فيه
بعدالة المخبر، فإذا شك في عدالته شك في قبول خبره في نفسه، والمرجع
في هذا الشك والمتعين فيه عدم القبول، لأن عدم العلم بحجية شئ
كاف في عدم حجيته.
ثم الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص: أنه إذا كان العلم
بالموضوع المنوط به التكليف يتوقف كثيرا على الفحص بحيث لو أهمل
الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا، تعين هنا بحكم العقلاء
اعتبار الفحص، ثم العمل بالبراءة، كبعض الأمثلة المتقدمة (4)، فإن إضافة
جميع علماء البلد أو أطبائهم لا يمكن للشخص الجاهل إلا بالفحص،

(1) تقدم كلامهما في الصفحة 442 - 443.
(2) لم ترد " اقتضاء " في (ر).
(3) في (ر)، (ص) و (ه‍) زيادة: " المقتضي ".
(4) راجع الصفحة 442.
445

فإذا حصل العلم ببعض، واقتصر على ذلك - نافيا لوجوب إضافة من
عداه بأصالة البراءة من غير تفحص زائد على ما حصل به المعلومين -
عد مستحقا للعقاب والملامة عند انكشاف ترك إضافة من تمكن (1) من
تحصيل العلم به بفحص زائد.
ومن هنا يمكن أن يقال في مثال الحج المتقدم (2): إن العلم
بالاستطاعة في أول أزمنة حصولها يتوقف غالبا على المحاسبة، فلو بني
الأمر على تركها ونفي وجوب الحج بأصالة البراءة، لزم تأخير الحج
عن أول سنة الاستطاعة بالنسبة إلى كثير من الأشخاص، لكن الشأن
في صدق هذه الدعوى.
وأما ما استند إليه المحقق المتقدم: من أن الواجبات المشروطة
يتوقف وجوبها على وجود الشرط لا العلم بوجوده، ففيه: أنه مسلم،
ولا يجدي، لأن الشك في وجود الشرط يوجب الشك في وجوب (3)
المشروط وثبوت التكليف، والأصل عدمه.
غاية الأمر (4) الفرق بين اشتراط التكليف بوجود الشئ واشتراطه
بالعلم به، إذ (5) مع عدم العلم في الصورة الثانية يقطع بانتفاء التكليف (6)
من دون حاجة إلى الأصل، وفي الصورة الأولى يشك فيه، فينفي بالأصل.

(1) كذا في (ظ) و (ه‍)، وفي (ر) و (ص): " يتمكن ".
(2) المتقدم في الصفحة 442 - 443.
(3) في (ت)، (ر) و (ص): " وجود ".
(4) لم ترد " الأمر " في (ت)، (ظ) و (ه‍).
(5) في (ت)، (ظ) و (ه‍) بدل " إذ ": " أن ".
(6) في (ظ) زيادة: " واقعا ".
446

[مقدار الفحص] (1)
وأما الكلام في مقدار الفحص، فملخصه: أن حد الفحص هو اليأس
عن وجدان الدليل فيما بأيدينا من الأدلة، ويختلف ذلك باختلاف الأعصار،
فإن في زماننا هذا إذا ظن المجتهد بعدم وجود دليل التكليف في الكتب
الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة في الحديث - التي يسهل تناولها على
نوع أهل العصر - على وجه صار مأيوسا، كفى ذلك منه في إجراء البراءة.
أما (2) عدم وجوب الزائد، فللزوم الحرج، وتعطيل استعلام سائر
التكاليف، لأن انتهاء الفحص في واقعة إلى حد يحصل العلم بعدم وجود
دليل التكليف يوجب الحرمان من الاطلاع على دليل التكليف في
غيرها من الوقائع، فيجب فيها إما الاحتياط، وهو يؤدي إلى العسر،
وإما لزوم التقليد لمن بذل جهده على وجه علم بعدم دليل التكليف
فيها، وجوازه ممنوع، لأن هذا المجتهد المتفحص ربما يخطئ ذلك المجتهد
في كثير من مقدمات استنباطه للمسألة.
نعم، لو كان جميع مقدماته مما يرتضيها هذا المجتهد، وكان

(1) العنوان منا.
(2) في (ت) و (ر): " وأما ".
447

التفاوت بينهما أنه اطلع على ما لم يطلع هذا، أمكن أن يكون قوله
حجة في حقه. لكن اللازم - حينئذ - أن يتفحص في جميع المسائل إلى
حيث يحصل الظن بعدم وجود دليل التكليف، ثم الرجوع إلى هذا
المجتهد، فإن كان مذهبه مطابقا للبراءة كان مؤيدا لما ظنه من عدم
الدليل، وإن كان مذهبه مخالفا للبراءة كان شاهد عدل (1) على وجود
دليل التكليف.
فإن لم يحتمل في حقه الاعتماد على الاستنباطات الحدسية
و (2) العقلية من الأخبار، أخذ بقوله في وجود دليل، وجعل فتواه
كروايته.
ومن هذا القبيل: ما حكاه غير واحد (3)، من أن القدماء كانوا
يعملون برسالة الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند إعواز النصوص.
والتقييد بإعواز النصوص مبني على ترجيح النص المنقول بلفظه
على الفتوى التي يحتمل الخطأ في النقل بالمعنى.
وإن احتمل في حقه ابتناء فتواه على الحدس والعقل، لم يكن
دليل على اعتباره في حقه، وتعين العمل بالبراءة.

(1) كذا في (ر)، (ظ) ونسخة بدل (ت)، وفي (ت) و (ص): " عادل "، وفي (ه‍):
" شاهدا عدلا ".
(2) في (ر) و (ص): " أو ".
(3) كالشهيد في الذكرى 1: 51، والمحدث البحراني في الحدائق 7: 127.
448

تذنيب
ذكر الفاضل التوني (1) لأصل البراءة شروطا اخر (2):
الأول:
أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة
أخرى، مثل أن يقال في أحد الإناءين المشتبهين: الأصل عدم وجوب
الاجتناب عنه، فإنه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر، أو
عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرا، أو عدم تقدم الكرية - حيث يعلم
بحدوثها - على ملاقاة النجاسة، فإن إعمال الأصول يوجب الاجتناب
عن الإناء الآخر أو الملاقي أو الماء.
أقول: توضيح الكلام في هذا المقام: أن إيجاب العمل بالأصل
لثبوت حكم آخر:
إما بإثبات الأصل المعمول به لموضوع أنيط به حكم شرعي، كأن
يثبت بالأصل براءة ذمة الشخص الواجد لمقدار من المال واف بالحج
من الدين، فيصير بضميمة أصالة البراءة مستطيعا، فيجب عليه الحج،
فإن الدين مانع عن الاستطاعة، فيدفع بالأصل، ويحكم بوجوب الحج
بذلك المال. ومنه المثال الثاني، فإن أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي

(1) انظر الوافية: 186 - 187 و 193.
(2) لم ترد " اخر " في (ر) و (ه‍).
449

للنجاسة كرا يوجب الحكم بقلته التي أنيط بها الانفعال.
وإما لاستلزام نفي الحكم به حكما يستلزم - عقلا أو شرعا أو
عادة ولو في هذه القضية الشخصية - ثبوت حكم تكليفي في ذلك المورد
أو في مورد آخر، كنفي وجوب الاجتناب عن أحد الإناءين.
فإن كان إيجابه للحكم على الوجه الأول كالمثال الثاني،
فلا يكون ذلك مانعا عن جريان الأصل، لجريان أدلته - من العقل
والنقل - من غير مانع. ومجرد إيجابه لموضوع حكم (1) وجودي آخر
لا يكون مانعا عن جريان أدلته، كما لا يخفى على من تتبع الأحكام
الشرعية والعرفية.
ومرجعه في الحقيقة إلى رفع المانع، فإذا انحصر الطهور في ماء
مشكوك الإباحة - بحيث لو كان محرم الاستعمال لم يجب الصلاة لفقد
الطهورين -، فلا مانع من إجراء أصالة الحل، وإثبات كونه واجدا
للطهور، فيجب عليه الصلاة.
ومثاله العرفي: ما إذا قال المولى لعبده: إذا لم يكن عليك شغل
واجب من قبلي فاشتغل بكذا، فإن العقلاء يوجبون عليه الاشتغال بكذا
إذا لم يعلم بوجوب شئ على نفسه من قبل المولى.
وإن كان على الوجه الثاني، الراجع إلى وجود العلم الإجمالي
بثبوت حكم مردد بين حكمين:
فإن أريد بإعمال الأصل في نفي أحدهما إثبات الآخر، ففيه: أن
مفاد أدلة أصل البراءة مجرد نفي التكليف، دون إثباته وإن كان الإثبات

(1) في (ت) بدل " لموضوع حكم ": " لحكم وجودي ".
450

لازما واقعيا لذلك النفي، فإن الأحكام الظاهرية إنما تثبت بمقدار مدلول
أدلتها، ولا يتعدى إلى أزيد منه بمجرد ثبوت الملازمة الواقعية بينه وبين
ما ثبت. إلا أن يكون الحكم الظاهري الثابت بالأصل موضوعا لذلك
الحكم الآخر، كما ذكرنا في مثال براءة الذمة عن الدين والحج (1).
وسيجئ توضيح ذلك في باب تعارض الاستصحابين (2).
وإن أريد بإعماله في أحدهما مجرد نفيه دون الإثبات، فهو جار،
إلا أنه معارض بجريانه في الآخر، فاللازم إما إجراؤه فيهما، فيلزم
طرح ذلك العلم الإجمالي، لأجل العمل بالأصل، وإما إهماله فيهما، فهو
المطلوب، وإما إعمال أحدهما بالخصوص، فترجيح بلا مرجح.
نعم، لو لم يكن العلم الإجمالي في المقام مما يضر طرحه لزم
العمل بهما، كما تقدم (3) أنه أحد الوجهين فيما إذا دار الأمر بين الوجوب
والتحريم.
وكيف كان: فسقوط العمل بالأصل في المقام لأجل المعارض،
ولا اختصاص لهذا الشرط بأصل البراءة، بل يجري في غيره من
الأصول والأدلة.
ولعل مقصود صاحب الوافية ذلك، وقد عبر هو (قدس سره) عن هذا
الشرط في باب الاستصحاب بعدم المعارض (4).

(1) في (ص) بدل " والحج ": " لوجوب الحج ".
(2) انظر مبحث الاستصحاب 3: 393 - 394.
(3) راجع الصفحة 180.
(4) الوافية: 209.
451

وأما أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرا، فقد عرفت (1):
أنه لا مانع من استلزام جريانها الحكم بنجاسة الملاقي، فإنه نظير أصالة
البراءة من الدين المستلزم لوجوب الحج.
وقد فرق بينهما المحقق القمي (رحمه الله)، حيث اعترف: بأنه لا مانع من
إجراء البراءة في الدين وإن استلزم وجوب الحج، ولم يحكم بنجاسة
الماء مع جريان أصالة عدم الكرية، جمعا بينها وبين أصالة طهارة الماء (2).
ولم يعرف وجه فرق بينهما أصلا.
ثم إن مورد الشك في البلوغ كرا: الماء المسبوق بعدم الكرية،
وأما المسبوق بالكرية فالشك في نقصانه من الكرية، والأصل هنا
بقاؤها.
ولو لم يكن مسبوقا بحال:
ففي الرجوع إلى طهارة الماء، للشك في كون ملاقاته مؤثرة في
الانفعال، فالشك في رافعيتها للطهارة.
أو إلى نجاسته (3)، لأن الملاقاة مقتضية للنجاسة، والكرية مانعة
عنها - بمقتضى قوله (عليه السلام): " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ " (4)،
ونحوه مما دل على سببية الكرية لعدم الانفعال (5)، المستلزمة لكونها

(1) راجع الصفحة 449.
(2) القوانين 2: 46 - 47.
(3) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " النجاسة ".
(4) الوسائل 1: 117، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1 و 2 وغيرهما.
(5) الوسائل 1: 117، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 4 و 7 وغيرهما.
452

مانعة عنه -، والشك في المانع في حكم العلم بعدمه، وجهان.
وأما أصالة عدم تقدم الكرية على الملاقاة، فهو في نفسه ليس من
الحوادث المسبوقة بالعدم حتى يجري فيه الأصل.
نعم، نفس الكرية حادثة، فإذا شك في تحققها حين الملاقاة حكم
بأصالة عدمها. وهذا معنى عدم تقدم الكرية على الملاقاة.
لكن هنا أصالة عدم حدوث الملاقاة حين حدوث الكرية، وهو
معنى عدم تقدم الملاقاة على الكرية، فيتعارضان، فلا (1) وجه لما ذكره
من الأصل.
وقد (2) يفصل (3) فيها بين ما كان تأريخ واحد من الكرية والملاقاة
معلوما، فإنه يحكم بأصالة تأخر المجهول بمعنى عدم ثبوته في زمان
يشك في ثبوته فيه، فيلحقه حكمه من الطهارة والنجاسة، وقد يجهل
التأريخان بالكلية، وقضية الأصل في ذلك التقارن، ومرجعه إلى نفي
وقوع كل منهما في زمان يحتمل عدم (4) وقوعه فيه، وهو يقتضي ورود
النجاسة على ما هو كر حال الملاقاة، فلا ينجس (5) به (6)، انتهى.
وفيه: أن تقارن ورود النجاسة والكرية موجب لانفعال الماء،

(1) كذا في (ت)، وفي غيرهما: " ولا ".
(2) في (ظ) و (ه‍): " فقد ".
(3) المفصل هو صاحب الفصول في الفصول.
(4) لم ترد " عدم " في (ت) و (ه‍)، وما أثبتناه موافق للمصدر.
(5) كذا في (ظ) والمصدر، وفي غيرهما: " فلا يتنجس ".
(6) الفصول: 365.
453

لأن الكرية مانعة عن الانفعال بما يلاقيه بعد الكرية على ما هو مقتضى
قوله (عليه السلام): " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ "، فإن الضمير
المنصوب راجع إلى الكر المفروض كريته (1)، فإذا حصلت الكرية حال
الملاقاة كان المعروض للملاقاة غير كر، فهو نظير ما إذا حصلت الكرية
بنفس الملاقاة فيما إذا تمم الماء النجس كرا بطاهر (2)، والحكم فيه
النجاسة.
إلا أن ظاهر المشهور فيما نحن فيه الحكم بالطهارة، بل ادعى
المرتضى (قدس سره) عليه الإجماع، حيث استدل بالإجماع على طهارة كر رئي
فيه نجاسة لم يعلم تقدم وقوعها على الكرية، على كفاية تتميم النجس
كرا في زوال نجاسته (3).
ورده الفاضلان (4) وغيرهما (5): بأن الحكم بالطهارة هنا لأجل
الشك في ثبوت (6) التنجيس (7)، لأن الشك مرجعه إلى الشك في كون
الملاقاة مؤثرة - لوقوعها قبل الكرية - أو غير مؤثرة.

(1) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " الكرية ".
(2) وردت في (ه‍) ونسخة بدل (ص) بدل " فيما إذا - إلى - بطاهر ": " فيما إذا تمم
الماء الطاهر كرا بماء نجس ".
(3) رسائل الشريف المرتضى 2: 361 - 362.
(4) انظر المعتبر 1: 52، والمختلف 1: 181.
(5) كالسيد العاملي في المدارك 1: 42، والمحقق السبزواري في الذخيرة: 125.
(6) في (ظ) بدل " ثبوت ": " حدوث سبب ".
(7) كذا في (ظ)، وفي (ت): " التنجس "، وفي غيرهما: " النجس ".
454

لكنه يشكل، بناء على أن الملاقاة سبب للانفعال، والكرية مانعة،
فإذا علم بوقوع السبب في زمان (1) لم يعلم فيه وجود المانع، وجب
الحكم بالمسبب.
إلا أن الاكتفاء بوجود السبب من دون إحراز عدم المانع ولو
بالأصل محل تأمل، فتأمل.
الثاني:
أن لا يتضرر بإعمالها مسلم، كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار،
أو حبس شاة فمات ولدها، أو أمسك رجلا فهربت دابته.
فإن إعمال البراءة فيها يوجب تضرر المالك، فيحتمل اندراجه في
قاعدة " الإتلاف "، وعموم قوله (صلى الله عليه وآله): " لا ضرر ولا ضرار " (2)، فإن
المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع، وإلا فالضرر غير
منفي، فلا علم حينئذ - ولا ظن - بأن الواقعة غير منصوصة، فلا يتحقق
شرط التمسك بالأصل من فقدان النص، بل يحصل القطع بتعلق حكم
شرعي بالضار، ولكن لا يعلم أنه مجرد التعزير أو الضمان أو هما معا،
فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح (3).
ويرد عليه: أنه إن كانت قاعدة " نفي الضرر " معتبرة في مورد
الأصل، كانت دليلا كسائر الأدلة الاجتهادية الحاكمة على البراءة، وإلا

(1) في (ر) و (ص) زيادة: " و ".
(2) الوسائل 17: 341، الباب 12 من أبواب إحياء الموات، الحديث 3، 4 و 5.
(3) الوافية: 193 - 194.
455

فلا معنى للتوقف في الواقعة وترك العمل بالبراءة.
ومجرد احتمال اندراج الواقعة في قاعدة " الإتلاف " أو " الضرر "
لا يوجب رفع اليد عن الأصل.
والمعلوم تعلقه بالضار فيما نحن فيه هو الإثم والتعزير إن كان
متعمدا، وإلا فلا يعلم وجوب شئ عليه، فلا وجه لوجوب تحصيل
العلم بالبراءة ولو بالصلح.
وبالجملة: فلا يعلم وجه صحيح لما ذكره في خصوص أدلة
الضرر.
كما لا وجه لما ذكره: من تخصيص مجرى الأصل بما إذا لم يكن
جزء عبادة (1)، بناء على أن المثبت لأجزاء العبادة هو النص.
فإن النص قد يصير مجملا، وقد لا يكون نص في المسألة، فإن
قلنا بجريان الأصل وعدم العبرة بالعلم بثبوت التكليف بالأمر (2) المردد
بين الأقل والأكثر فلا مانع منه، وإلا فلا مقتضي له، وقد قدمنا ما
عندنا في المسألة.

(1) الوافية: 195.
(2) لم ترد " بالأمر " في غير (ظ).
456

[قاعدة لا ضرر ولا ضرار] (1)
وحيث جرى ذكر حديث " نفي الضرر والضرار " ناسب بسط
الكلام في ذلك في الجملة، فنقول:
قد ادعى فخر الدين في الإيضاح - في باب الرهن (2) -: تواتر
الأخبار على نفي الضرر والضرار (3)، فلا نتعرض من الأخبار الواردة في
ذلك إلا لما هو أصح ما في الباب سندا وأوضحه دلالة، وهي الرواية

(1) العنوان منا.
(2) إيضاح الفوائد 2: 48.
(3) انظر الوسائل 13: 339، الباب 6 من أحكام الهبات، الحديث 4، والصفحة
49، الباب 2 من أبواب بيع الحيوان، الحديث الأول، و 17: 319، الباب 5
من أبواب الشفعة، الحديث الأول، والصفحة 333، الباب 7 من أبواب إحياء
الموات، الحديث 2، والصفحة 341، الباب 12 منها، الحديث 2، والصفحة 343
الباب 15 منها، الحديث الأول، و 19: 179 الباب 8 من أبواب موجبات
الضمان، الحديث 2، والصفحة 181، الباب 9 منها، الحديث الأول، والفقيه 4:
334، الحديث 5718، مضافا إلى الروايات الكثيرة الواردة في قضية سمرة
وسيأتي بعضها، وانظر رسالة " نفي الضرر " للمصنف: 14 - 16.
457

المتضمنة لقصة سمرة بن جندب مع الأنصاري، وهي ما رواه غير واحد
عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام):
" إن سمرة بن جندب كان له عذق، وكان طريقه إليه في جوف
منزل رجل من الأنصار، وكان يجئ ويدخل إلى عذقه بغير إذن من
الأنصاري.
فقال الأنصاري: يا سمرة، لا تزال تفجأنا على حال لا نحب أن
تفجأنا عليها، فإذا دخلت فاستأذن. فقال: لا أستأذن في طريقي إلى عذقي.
فشكاه الأنصاري إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأتاه، فقال له: إن فلانا
قد شكاك وزعم أنك تمر عليه وعلى أهله بغير إذنه، فاستأذن عليه إذا
أردت أن تدخل.
فقال: يا رسول الله، أستأذن في طريقي إلى عذقي؟
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): خل عنه ولك عذق في مكان كذا.
قال: لا.
قال: فلك اثنان. فقال: لا أريد.
فجعل (صلى الله عليه وآله) يزيد حتى بلغ عشر أعذق. فقال: لا.
فقال (صلى الله عليه وآله): خل عنه ولك عشر أعذق في مكان كذا، فأبى.
فقال: خل عنه ولك بها عذق في الجنة. فقال: لا أريد.
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار
على مؤمن.
قال (عليه السلام): ثم أمر بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلعت، ثم رمي بها إليه.
وقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): انطلق فاغرسها حيث شئت... الخبر " (1).

(1) البحار 22: 135، الحديث 118، وليست للحديث تتمة.
458

وفي رواية أخرى موثقة: " إن سمرة بن جندب كان له عذق في
حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان - وفي
آخرها -:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للأنصاري: إذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه
لا ضرر ولا ضرار... الخبر " (1).
وأما معنى اللفظين:
فقال في الصحاح: الضر خلاف النفع، وقد ضره وضاره بمعنى.
والاسم الضرر. ثم قال: والضرار المضارة (2).
وعن النهاية الأثيرية: في الحديث: " لا ضرر ولا ضرار في
الإسلام ". الضر ضد النفع، ضره يضره ضرا وضرارا، وأضر به يضره
إضرارا، فمعنى قوله: " لا ضرر " لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من
حقه.
والضرار فعال من الضر، أي لا يجازيه على إضراره بإدخال
الضرر عليه.
والضرر فعل الواحد، والضرار فعل الاثنين، والضرر ابتداء الفعل،
والضرار الجزاء عليه.
وقيل: الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع أنت به. والضرار أن
تضره من غير أن تنتفع.

(1) الوسائل 17: 341، الباب 12 من أبواب إحياء الموات، الحديث 3، وليست
للحديث تتمة.
(2) الصحاح 2: 179 - 720، مادة " ضرر ".
459

وقيل: هما بمعنى. والتكرار للتأكيد (1)، انتهى.
وعن المصباح: " ضره يضره " من باب قتل: إذا فعل به مكروها
وأضر به. يتعدى بنفسه ثلاثيا وبالباء رباعيا. والاسم الضرر. وقد
يطلق على نقص في الأعيان.
وضاره مضارة وضرارا بمعنى ضره (2)، انتهى.
وفي القاموس: الضر ضد النفع، وضاره يضاره وضرارا. ثم قال:
والضرر سوء الحال. ثم قال: والضرار الضيق " (3)، انتهى.
إذا عرفت ما ذكرناه، فاعلم:
أن المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة: عدم تشريع الضرر، بمعنى أن
الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد، تكليفيا كان أو
وضعيا.
فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينفي (4)
بالخبر، وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك، وكذلك وجوب
الوضوء على من لا يجد الماء إلا بثمن كثير، وكذلك سلطنة المالك على
الدخول إلى عذقه وإباحته له من دون استئذان من الأنصاري، وكذلك
حرمة الترافع إلى حكام الجور إذا توقف أخذ الحق عليه.
ومنه: براءة ذمة الضار من تدارك ما أدخله من الضرر، إذ كما

(1) النهاية لابن الأثير 3: 81 - 82، مادة " ضرر ".
(2) المصباح المنير: 360، مادة " ضرر ".
(3) القاموس المحيط 2: 75، مادة " الضر ".
(4) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " فينتفي ".
460

أن تشريع حكم يحدث معه الضرر منفي بالخبر، كذلك تشريع ما يبقى
معه الضرر الحادث، بل يجب أن يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة
على وجه يتدارك ذلك الضرر كأن لم يحدث.
إلا أنه قد ينافي هذا قوله: " لا ضرار "، بناء على أن معنى
الضرار المجازاة على الضرر. وكذا لو كان بمعنى المضارة التي هي من
فعل الاثنين، لأن فعل البادئ منهما ضرر قد نفي بالفقرة الأولى
فالضرار المنفي بالفقرة الثانية إنما يحصل بفعل الثاني. وكأن من فسره
بالجزاء على الضرر (1) أخذه من هذا المعنى، لا على أنه معنى مستقل.
ويحتمل أن يراد من النفي: النهي عن إضرار (2) النفس أو الغير،
إبتداء أو مجازاة. لكن لا بد من أن يراد بالنهي زائدا على التحريم
الفساد وعدم المضي، للاستدلال به في كثير من رواياته على الحكم
الوضعي دون محض التكليف، فالنهي هنا نظير الأمر بالوفاء في
الشروط (3) والعقود، فكل إضرار بالنفس أو الغير محرم غير ماض على
من أضره.
وهذا المعنى قريب من الأول، بل راجع إليه.
والأظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظائرها وموارد ذكرها في الروايات (4)

(1) كابن الأثير في النهاية 3: 81 (مادة ضرر).
(2) في (ر) و (ص): " ضرر "، وفي (ظ): " ضر ".
(3) في (ر) و (ص): " بالشروط ".
(4) انظر الوسائل 17: 319، الباب 5 من أبواب الشفعة، الحديث الأول،
والصفحة 333، الباب 7 من أبواب إحياء الموات، الحديث 2، والصفحة 341،
الباب 12 منها، الحديث 3 و 4.
461

وفهم العلماء (1): هو المعنى الأول.
ثم إن هذه القاعدة حاكمة على جميع العمومات الدالة بعمومها
على تشريع الحكم الضرري، كأدلة لزوم العقود، وسلطنة الناس على
أموالهم، ووجوب الوضوء على واجد الماء، وحرمة الترافع إلى حكام
الجور، وغير ذلك.
وما يظهر من غير واحد (2): من أخذ التعارض (3) بين العمومات
المثبتة للتكليف وهذه القاعدة، ثم ترجيح هذه إما بعمل الأصحاب وإما
بالأصول - كالبراءة في مقام التكليف، وغيرها في غيره -، فهو خلاف
ما يقتضيه التدبر في نظائرها: من أدلة " رفع الحرج "، و " رفع الخطأ
والنسيان "، و " نفي السهو على كثير السهو "، و " نفي السبيل على
المحسنين "، و " نفي قدرة العبد على شئ "، ونحوها.
مع أن وقوعها في مقام الامتنان يكفي في تقديمها على العمومات.
والمراد بالحكومة: أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا
لحال دليل آخر من حيث إثبات حكم لشئ أو نفيه عنه.

(1) انظر الخلاف 3: 440، والتذكرة (الطبعة الحجرية) 1: 522، وعوائد الأيام:
51 - 52.
(2) كالمحقق القمي في القوانين 2: 50، والفاضل النراقي في عوائد الأيام: 53
و 57، وكذا صاحب الرياض والمحقق السبزواري، وسيأتي كلامهما في الصفحة
468 - 469.
(3) العبارة في (ه‍) هكذا: " وما يظهر من غير واحد كالفاضل النراقي من
التعارض ".
462

فالأول: مثل ما دل على الطهارة بالاستصحاب أو شهادة (1)
العدلين، فإنه حاكم على ما دل على أنه " لا صلاة إلا بطهور "،
فإنه يفيد بمدلوله اللفظي: أن ما ثبت من الأحكام للطهارة في مثل
" لا صلاة إلا بطهور " وغيرها، ثابت للمتطهر بالاستصحاب أو بالبينة.
والثاني مثل الأمثلة المذكورة.
وأما المتعارضان، فليس في أحدهما دلالة لفظية على حال الآخر
من حيث العموم والخصوص، وإنما يفيد حكما منافيا لحكم الآخر،
وبملاحظة تنافيهما وعدم جواز تحققهما واقعا يحكم بإرادة خلاف الظاهر
في أحدهما المعين إن كان الآخر أقوى منه، فهذا الآخر الأقوى قرينة
عقلية على المراد من الآخر، وليس في مدلوله اللفظي تعرض لبيان
المراد منه. ومن هنا وجب ملاحظة الترجيح في القرينة، لأن قرينيته
بحكم العقل بضميمة المرجح.
أما إذا كان الدليل بمدلوله اللفظي كاشفا عن حال الآخر،
فلا يحتاج إلى ملاحظة مرجح له، بل هو متعين للقرينية بمدلوله له (2).
وسيأتي لذلك توضيح في تعارض الاستصحابين إن شاء الله تعالى (3).
ثم إنه يظهر مما ذكرنا - من حكومة الرواية وورودها في مقام
الامتنان، نظير أدلة نفي الحرج والإكراه -: أن مصلحة الحكم الضرري
المجعول بالأدلة العامة لا تصلح أن تكون تداركا للضرر، حتى يقال:

(1) كذا في (ر)، وفي غيرها: " بشهادة ".
(2) لم ترد " له " في غير (ه‍).
(3) لم يتعرض المصنف لهذا المطلب في مبحث تعارض الاستصحابين، بل ذكره في
مبحث التعادل والتراجيح 4: 13.
463

إن الضرر يتدارك بالمصلحة العائدة إلى المتضرر، وإن الضرر المقابل
بمنفعة راجحة عليه ليس بمنفي، بل ليس ضررا.
توضيح الفساد: أن هذه القاعدة تدل على عدم جعل الأحكام
الضررية واختصاص أدلة الأحكام بغير موارد الضرر. نعم، لولا
الحكومة ومقام الامتنان كان للتوهم المذكور مجال.
وقد يدفع: بأن العمومات الجاعلة للأحكام إنما تكشف عن
المصلحة في نفس الحكم ولو في غير مورد الضرر، وهذه المصلحة
لا يتدارك بها الضرر الموجود في مورده، فإن الأمر بالحج والصلاة
- مثلا - يدل على عوض ولو مع عدم الضرر، ففي مورد الضرر لا علم
بوجود ما يقابل الضرر.
وهذا الدفع أشنع من أصل التوهم، لأنه إذا سلم عموم الأمر
لصورة الضرر كشف عن وجود مصلحة يتدارك بها الضرر في هذا
المورد.
مع أنه يكفي حينئذ في تدارك الضرر الأجر المستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله):
" أفضل الأعمال أحمزها " (1)، وما اشتهر في الألسن وارتكز في العقول
من: " أن الأجر على قدر المشقة ".
فالتحقيق في دفع التوهم المذكور: ما ذكرناه من الحكومة،
والورود في مقام الامتنان.
ثم إنك قد عرفت بما ذكرنا: أنه لا قصور في القاعدة المذكورة
من حيث مدركها، سندا و (2) دلالة، إلا أن الذي يوهن فيها هي: كثرة

(1) البحار 70: 191 و 237.
(2) كذا في (ظ)، وفي غيرها: " أو ".
464

التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي، كما لا يخفى
على المتتبع، خصوصا على تفسير الضرر بإدخال المكروه كما تقدم (1)،
بل لو بني على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد.
ومع ذلك، فقد استقرت سيرة الفريقين على الاستدلال بها في
مقابل العمومات المثبتة للأحكام، وعدم رفع اليد عنها إلا بمخصص
قوي في غاية الاعتبار، بحيث يعلم منهم انحصار مدرك الحكم في عموم
هذه القاعدة.
ولعل هذا كاف في جبر الوهن المذكور وإن كان في كفايته نظر،
بناء على أن لزوم تخصيص الأكثر على تقدير العموم قرينة على إرادة
معنى لا يلزم منه ذلك. غاية الأمر تردد الأمر بين العموم وإرادة ذلك
المعنى، واستدلال العلماء لا يصلح معينا، خصوصا لهذا المعنى المرجوح
المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة.
إلا أن يقال - مضافا إلى منع أكثرية الخارج وإن سلمت كثرته -:
إن الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحد جامع
لها وإن لم نعرفه على وجه التفصيل، وقد تقرر أن تخصيص الأكثر لا
استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد جامع لأفراد هي أكثر من الباقي،
كما إذا قيل: " أكرم الناس " ودل دليل على اعتبار العدالة، خصوصا إذا
كان المخصص مما يعلم به المخاطب حال الخطاب.
ومن هنا ظهر وجه صحة التمسك بكثير من العمومات مع
خروج أكثر أفرادها، كما في قوله (عليه السلام): " المؤمنون عند شروطهم " (2)،

(1) راجع الصفحة 460.
(2) الوسائل 15: 30، الباب 20 من أبواب المهور، ضمن الحديث 4.
465

وقوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * (1)، بناء على إرادة العهود كما في
الصحيح (2).
ثم إنه يشكل الأمر من حيث: إن ظاهرهم في (3) الضرر المنفي
الضرر النوعي لا الشخصي، فحكموا بشرعية الخيار للمغبون، نظرا إلى
ملاحظة نوع البيع المغبون فيه وإن فرض عدم تضرره في خصوص
مقام، كما إذا لم يوجد راغب في المبيع وكان بقاؤه ضررا على البائع،
لكونه في معرض الإباق أو التلف أو الغصب، وكما إذا لم يترتب على
ترك الشفعة ضرر على الشفيع، بل كان له فيه نفع.
وبالجملة: فالضرر عندهم في بعض الأحكام حكمة لا يعتبر
اطرادها، وفي بعض المقامات يعتبرون اطرادها، مع أن ظاهر الرواية
اعتبار الضرر الشخصي.
إلا أن يستظهر منها: انتفاء الحكم رأسا إذا كان موجبا للضرر
غالبا وإن لم يوجبه دائما، كما قد يدعى نظير ذلك في أدلة نفي
الحرج.
ولو قلنا بأن التسلط على ملك الغير بإخراجه عن ملكه قهرا
عليه بخيار أو شفعة ضرر أيضا، صار الأمر أشكل.
إلا أن يقال: إن الضرر أوجب وقوع العقد على وجه متزلزل
يدخل فيه الخيار، فتأمل.

(1) المائدة: 1.
(2) الوسائل 16: 206، الباب 25 من أبواب كتاب النذر والعهد، الحديث 4.
(3) في (ر) و (ص): " من ".
466

ثم إنه قد يتعارض الضرران بالنسبة إلى شخص واحد أو
شخصين، فمع فقد المرجح يرجع إلى الأصول والقواعد الاخر، كما أنه
إذا أكره على الولاية من قبل الجائر المستلزمة للإضرار على الناس،
فإنه يرجع إلى قاعدة " نفي الحرج "، لأن إلزام الشخص بتحمل الضرر
لدفع الضرر عن غيره حرج، وقد ذكرنا توضيح ذلك في مسألة التولي
من قبل الجائر من كتاب المكاسب (1).
ومثله: إذا كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتضرر جاره
وتركه موجبا لتضرر نفسه، فإنه يرجع إلى عموم: " الناس مسلطون
على أموالهم " (2)، ولو عد مطلق حجره عن التصرف في ملكه ضررا، لم
يعتبر في ترجيح المالك ضرر زائد على ترك التصرف فيه، فيرجع إلى
عموم التسلط.
ويمكن الرجوع إلى قاعدة " نفي الحرج "، لأن منع المالك لدفع
ضرر الغير حرج وضيق عليه، إما لحكومته ابتداء على نفي الضرر،
وإما لتعارضهما والرجوع إلى الأصل (3).
ولعل هذا أو بعضه منشأ إطلاق جماعة (4) وتصريح آخرين (5) بجواز

(1) انظر المكاسب 2: 86.
(2) عوالي اللآلي 1: 222، الحديث 9.
(3) في (ت)، (ص) و (ه‍): " الأصول ".
(4) مثل القاضي في المهذب 2: 31، والمحقق الثاني في جامع المقاصد 7: 26،
والشهيد الثاني في المسالك (الطبعة الحجرية) 2: 290.
(5) مثل العلامة في القواعد (الطبعة الحجرية) 1: 220، والشهيد في الدروس 3:
60.
467

تصرف المالك في ملكه وإن تضرر الجار، بأن يبني داره مدبغة أو
حماما أو بيت القصارة أو الحدادة، بل حكي عن الشيخ (1) والحلبي (2)
وابن زهرة (3) دعوى الوفاق عليه.
ولعله أيضا منشأ ما في التذكرة (4): من الفرق بين تصرف الإنسان
في الشارع المباح بإخراج روشن أو جناح، وبين تصرفه في ملكه،
حيث اعتبر في الأول عدم تضرر الجار بخلاف الثاني، فإن المنع عن
التصرف في المباح لا يعد ضررا بل فوات انتفاع.
نعم، ناقش في ذلك صاحب الكفاية - مع الاعتراف بأنه المعروف
بين الأصحاب -: بمعارضة عموم التسلط بعموم نفي الضرر، قال في
الكفاية:
ويشكل جواز ذلك فيما إذا تضرر الجار تضررا فاحشا، كما
إذا حفر في ملكه بالوعة ففسد بها بئر الغير، أو جعل حانوته في
صف العطارين حانوت حداد، أو جعل داره مدبغة أو مطبخة (5)،
انتهى.

(1) المبسوط 3: 272.
(2) كذا في النسخ، ولكن الصحيح: " الحلي "، لأنه من جملة من حكى عنهم في
مفتاح الكرامة عدم الخلاف في المسألة، انظر مفتاح الكرامة 7: 22، والسرائر
2: 382.
(3) الغنية: 295.
(4) التذكرة (الطبعة الحجرية) 2: 182.
(5) كفاية الأحكام: 241.
468

واعترض عليه (1) - تبعا للرياض (2) - بما حاصله: أنه لا معنى
للتأمل بعد إطباق الأصحاب عليه - نقلا وتحصيلا -، والخبر المعمول
عليه بل المتواتر: من أن " الناس مسلطون على أموالهم " (3).
وأخبار الإضرار (4) على ضعف بعضها وعدم تكافؤها لتلك
الأدلة، محمولة على ما إذا لم يكن غرض له إلا الإضرار، بل فيها
- كخبر سمرة (5) - إيماء إلى ذلك.
سلمنا، لكن التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه، والترجيح
للمشهور (6)، للأصل، والإجماع (7)، انتهى.
ثم فصل المعترض بين أقسام التصرف:
بأنه إن قصد به الإضرار من دون أن يترتب عليه جلب نفع أو
دفع ضرر، فلا ريب في أنه يمنع، كما دل عليه خبر سمرة بن جندب،
حيث قال له النبي (صلى الله عليه وآله): " إنك رجل مضار ".
وأما إذا ترتب عليه نفع أو دفع ضرر وعلى جاره ضرر يسير،

(1) المعترض هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة.
(2) الرياض (الطبعة الحجرية) 2: 320.
(3) عوالي اللآلي 1: 222، الحديث 9.
(4) انظر الوسائل 17: 340، الباب 12 من أبواب إحياء الموات، باب عدم جواز
الإضرار بالمسلم.
(5) المتقدم في الصفحة 458.
(6) في المصدر: " للخبر المشهور ".
(7) مفتاح الكرامة 7: 22.
469

فإنه جائز قطعا. وعليه بنوا جواز رفع الجدار على سطح الجار.
وأما إذا كان ضرر الجار كثيرا يتحمل عادة، فإنه جائز على
كراهية شديدة. وعليه بنوا كراهية التولي من قبل الجائر لدفع ضرر
يصيبه.
وأما إذا كان ضرر الجار كثيرا لا يتحمل عادة لنفع يصيبه، فإنه
لا يجوز له ذلك. وعليه بنوا حرمة الاحتكار في مثل ذلك. وعليه بنى
جماعة - كالفاضل في التحرير (1) والشهيد في اللمعة (2) - الضمان إذا أجج
نارا بقدر حاجته مع ظنه التعدي إلى الغير.
وأما إذا كان ضرره كثيرا وضرر جاره كذلك، فإنه يجوز له دفع
ضرره وإن تضرر جاره أو أخوه المسلم. وعليه بنوا جواز الولاية من
قبل الجائر - إلى أن قال -:
والحاصل: أن أخبار الإضرار فيما يعد إضرارا معتدا به عرفا
والحال أنه لا ضرر بذلك على المضر، لأن الضرر لا يزال بالضرر (3)،
انتهى.
أقول: الأوفق بالقواعد تقديم المالك، لأن حجر المالك عن
التصرف في ماله ضرر يعارض ضرر الغير، فيرجع إلى عموم قاعدة
" السلطنة " و " نفي الحرج ". نعم، في الصورة الأولى التي يقصد المالك
مجرد الإضرار من غير غرض في التصرف يعتد به، لا يعد فواته
ضررا.

(1) التحرير 2: 138.
(2) اللمعة: 235، والروضة البهية 7: 33.
(3) مفتاح الكرامة 7: 22 - 23.
470

والظاهر: عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك التصرف أشد
من ضرر الغير أو أقل، إما لعدم ثبوت الترجيح بقلة الضرر كما
سيجئ، وإما لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر، فإن تحمل الغير على
الضرر ولو يسيرا لأجل دفع الضرر عن الغير ولو كثيرا، حرج وضيق.
ولذا اتفقوا على أنه يجوز للمكره الإضرار (1) بما دون القتل لأجل دفع
الضرر عن نفسه ولو كان أقل من ضرر الغير.
هذا كله في تعارض ضرر المالك وضرر الغير.
وأما في غير ذلك، فهل يرجع ابتداء إلى القواعد الاخر أو بعد
الترجيح بقلة الضرر؟ وجهان، بل قولان.
يظهر الترجيح من بعض الكلمات المحكية عن التذكرة (2) وبعض
مواضع (3) الدروس (4)، ورجحه غير واحد من المعاصرين (5).
ويمكن أن ينزل عليه ما عن المشهور (6): من أنه لو أدخلت
الدابة رأسها في القدر بغير تفريط من أحد المالكين، كسر القدر وضمن
قيمته صاحب الدابة، معللا بأن الكسر لمصلحته.

(1) في (ر) و (ص) زيادة: " على الغير ".
(2) التذكرة (الطبعة الحجرية) 2: 391.
(3) في (ص): " موارد ".
(4) الدروس 3: 110.
(5) كصاحب الجواهر في الجواهر 37: 208، والسيد المراغي في العناوين 1:
325.
(6) انظر مفتاح الكرامة 6: 287.
471

فيحمل إطلاق كلامهم على الغالب: من أن ما يدخل من الضرر
على مالك الدابة إذا حكم عليه بتلف الدابة وأخذ قيمتها، أكثر مما
يدخل على صاحب القدر بتلفه وأخذ قيمته. وبعبارة أخرى: تلف
إحدى العينين وتبدلها بالقيمة أهون من تلف الأخرى.
وحينئذ: فلا يبقى مجال للاعتراض على تعليل الحكم بكونه
لمصلحة صاحب الدابة، بما في المسالك: من أنه قد يكون المصلحة
لصاحب القدر فقط، وقد يكون المصلحة مشتركة بينهما (1).
وكذلك حكمهم بضمان صاحب الدابة إذا دخلت في دار لا تخرج
إلا بهدمها معللا بأنه لمصلحة صاحب الدابة، فإن الغالب أن تدارك
المهدوم أهون من تدارك الدابة.
وبه نستعين ومنه نستمد (2).

(1) المسالك (الطبعة الحجرية) 2: 215.
(2) عبارة " وبه نستعين ومنه نستمد " من (ه‍).
472

تم
الجزء الثاني
ويليه
الجزء الثالث
في
الاستصحاب
473