الكتاب: هداية المسترشدين
المؤلف: الشيخ محمد تقي الرازي
الجزء: ٢
الوفاة: ١٢٤٨
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

هداية المسترشدين ج 2
مؤلف
آية العظمى الحاج الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الأصفهاني (قدس سره)
المتوفى عام 1248 المدفون في بقعته الخاصة في مقبرة تخت فولاد بمدينة
إصبهان، فألف هذا السفر القيم والأثر الخالد المسمى ب‍ " هداية المسترشدين " ألفه
في ثلاث مجلدات
1

تنبيه
قد وردت في آخر المطبوع الذي أشرف على طبعه الشيخ محمد
الطهراني - ابن أخت المؤلف (قدس سرهما) - كلمة مهمة حول الكتاب، رأينا أن
نوردها في أول هذا المجلد لنكتة، وهي أن الجزء الأول من هذا السفر
الشريف من أوله إلى آخره وصل إلينا بخط المؤلف، وهو (قدس سره) بنفسه باشر
نظمه وترتيبه وتهذيبه. وأما الجزء الثاني والثالث - من المأسوف عليه -
ليسا بهذا الشأن، فاللازم علينا أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى تلك الكلمة
ليكون على بصيرة قبل الشروع في المطالعة، وإليك نصها:
الحمد لله في الأول والآخر، والباطن والظاهر، والصلاة والسلام على محمد
وأهل بيته، أولي المناقب والمفاخر.
وبعد فيقول أحوج المحتاجين إلى عفو ربه الغني، محمد بن محمد علي
سقاهما الله كأس الغفران، وهداهما رياض الرضوان:
إن هذا الكتاب المستطاب الموسوم بهداية المسترشدين - المعلق على أصول
معالم الدين للفاضل المحقق الشيخ حسن بن الشيخ زين الدين حشرهما الله مع
الأئمة الطاهرين - من مصنفات الإمام الهمام، والمولى القمقام، العالم العامل،
والفاضل الكامل، بحر الفواضل والفضائل، وفخر الأواخر والأوائل، قدوة
3

المحققين، ونخبة المدققين، وأسوة العلماء الراسخين، ورئيس الفقهاء
والمجتهدين، مخيم أهل الفضل والحجى، ومحط رحال أرباب العلم والنهى، قطب
رحى المجد الأثيل، ومحيط دائرة الفعل الجميل، منبع العدل، وسباق غايات
الفضل، ملاذ الشيعة، وموضح أحكام الشريعة، كاشف أسرار الآثار وابن بجدتها،
ومبدع أبكار الأفكار وأبو عذرتها، الزكي الذكي، والتقي النقي، والمهذب الصفي،
والحبر الألمعي، مولاي وعمادي، وخالي وأستاذي، الشيخ محمد تقي - أسكنه الله
فراديس الجنان، وأفاض على تربته السنية شآبيب الرحمة والغفران بها - إن هذا
الكتاب العزيز السني، بل الدر البهي والنور الجلي، كأنه كوكب دري، كتاب لو أن
الليل يرمى بمثله لقلت: بدا من حجرتيه ذكاء من أجل الكتب وأعلاها، وأنفسها
وأغلاها، قد تضمن مطالب شريفة ومباحث لطيفة لم يتنبه لها أحد من علمائنا
المتبحرين من المتقدمين والمتأخرين، واشتمل على تنبيهات فائقة، وإشارات
رائقة، خلت عنها كتب السابقين وزبر السالفين واحتوى من التحقيقات الرشيقة
والتدقيقات الأنيقة ما لم يسمح بها خواطر أولي الأفكار العميقة، ولم يعثر عليها
بصائر ذوي الأنظار الدقيقة.
لله در صحيفة تهدي الورى * سبل الهدى ومسالك الإرشاد
لو شاهدت صحف الفضائل فضلها * شهدت به في محضر الأشهاد
كالماء صفوا غير أن وراءها * نارا تذيب جوانح الحساد
ذرفت بأمطار الفضائل بعد ما * شرفت برشح أنامل الاستاد
ولعمري أنه لحري بأن يوضع فوق العينين، ويقام مقام النيرين، ويناط على
قمم البدور ويعلق على ترائب الحور. فجزاه الله عن العلم وأهله خيرا، وأعطاه
بكل حرف منه يوم القيامة نورا.
ثم إن هذا المصنف الشريف والمؤلف المنيف - على ما هو عليه من علو الشأن
وسمو المحل والمكان - قد طرأه القصور لأمرين، وتطرق إليه الخلل من وجهين:
أحدهما: خلوه عن جملة من المباحث ونقصانه جملة أخرى مما اشتمل عليه
4

من المسائل، والسبب فيه أن الذي برز في حياة المصنف - طاب مراقده - من هذا
التأليف وأفرغه في قالب التنضيد والترصيف وكان هو الذي باشر جمعه وترتيبه
ونظمه وتهذيبه مجلدان أنهى الأول منهما إلى أول مسألة المرة والتكرار، وبلغ من
الثاني إلى مسألة مفهوم الوصف، فبينا يكتب المسألة المذكورة وهو يومئذ في
محروسة إصبهان، والطلبة مجتمعون عنده من كل مكان يقتبسون منه أنوار العلوم
الدينية، ويروون من رحيق المعارف اليقينية إذ أشار الدهر إلينا بالبنان وأصابتنا
عين الزمان، فاختفى بعد أن كان ظاهرا مشهورا، وأصبح لفقده العلم كأن لم يكن
شيئا مذكورا.
ثم إني عثرت له أعلى الله مقامه على أوراق متشتة، ومسودات متفرقة قد
كتبها في سالف الزمان، من مسألة الأمر بالشئ مع علم الآمر بانتفاء شرطه إلى
مباحث الاجتهاد، فصرفت برهة من الزمان في جمع شتاتها وترتيب متفرقاتها،
ولم أقتصر على إيراد المسائل التامة، بل نقلت من المباحث كل ما وجدت منه
جملة وافية بتحقيق مقام كافية في توضيح مرام وإن كان المبحث غير تام،
وأسقطت كل مسألة لم أجد منها إلا قليلا لا يروي غليلا، فبلغ المجلد الذي جمعته
قريبا من عشرين ألف بيت.
وبلغ الكتاب بأجمعه ما يقرب من خمسة وأربعين ألف بيت. وكان
المصنف (قدس سره) يقول: إن الكتاب لو تم يكون نحوا من ثمانين ألف بيت، فيكون
الناقص منه إذن نحوا من خمسة وثلاثين ألف بيت.
وثانيهما: أن أكثر نسخ الكتاب قد كثر فيها تحريف النساخ وتصحيف الكتاب
حتى كاد أن لا ينتفع بالنسخ المذكورة لأجلها، وتحصل المباينة الكلية بين الفروع
وأصلها، ولا سيما المجلد الثالث فقد كان أسوء حالا وأشد اختلالا من المجلدين
الأولين، بل لم يوجد منه نسخة صحيحة في البين. وعلى ذلك جرت النسخ
المطبوعة وإن كانت أصح من جملة من النسخ المكتوبة، فأضحت نسخ هذا
الكتاب المستطاب الذي قرن به عيون أولي الألباب غير صالحة لكامل الانتفاع
5

ولا مقبولة لدى الطباع، إذ كانت لا تشفي العليل ولا تروي الغليل بل لا ينتفع بها إلا
أقل قليل، لكثرة ما فيها من السقط والتغيير والتبديل. فعظم ذلك على الراغبين
وضاقت به صدور الطالبين. وحيث تصدى لتجديد طبعه في هذا الزمان بعض أهل
الصلاح التمسني جماعة من الإخوان أن أجيل فيه قلم الإصلاح، فلم أر بدا من
إسعاف مسؤولهم وإنجاح مأمولهم، فشمرت عن ساق الجد، وبلغت أقصى درجة
المجد، وأخذت في ملاحظة الكتاب ومطالعته وتصحيحه وتنقيحه، فمتى عثرت
على لفظ غلط أو كلام في البين سقط وضعت الصحيح موضع السقيم وأتيت عن
الساقط بما يستقيم، فكأنه عين أصله أو شئ كمثله، ونبهت على جملة مما كان
من هذا الباب في حواشي الكتاب. وهناك مواضع يسيرة ومواقع غير كثيرة، ومنها
بعض أخبار مروية وعبارات محكية بقيت على حالها وطويت على اختلالها،
حيث لم تحضرني النسخة ولم تساعدني الفرصة. وربما زاغ البصر وأخطأ النظر
فحصل الذهول عن بعض ما يجب أن يغير، فإن الانسان ليس بمأمون عن الخطأ
والنسيان، إلا أن ما كان من هذا القبيل قليل، ومع ذلك فليس بحيث يخل بالفهم أو
يوقع الناظر في الوهم.
وأسأل الله الكريم المنان أن ينفع بتصحيحه كما نفع بتصنيفه، وأن يكون هذا
إتماما لتلك النعمة وإكمالا لهاتيك المنة، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، فإنه البر
الرؤوف الرحيم.
وقد وافق الفراغ عنه يوم الغدير سنة اثنتين وسبعين بعد الألف والمائتين من
الهجرة النبوية على هاجرها ألف ألف سلام وتحية.
6

معالم الدين:
أصل
الحق أن صيغة الأمر بمجردها، لا إشعار فيها بوحدة ولا تكرار،
وإنما تدل على طلب الماهية. وخالف في ذلك قوم فقالوا: بإفادتها
التكرار، ونزلوها منزلة أن يقال: " إفعل أبدا "، وآخرون فجعلوها للمرة
من غير زيادة عليها، وتوقف في ذلك جماعة فلم يدروا لأيهما هي.
لنا: أن المتبادر من الأمر طلب إيجاد حقيقة الفعل، والمرة
والتكرار خارجان عن حقيقته، كالزمان والمكان ونحوهما. فكما أن
قول القائل: " اضرب " غير متناول لمكان ولا زمان ولا آلة يقع بها
الضرب، كذلك غير متناول للعدد في كثرة ولا قلة. نعم لما كان أقل ما
يمتثل به الأمر هو المرة، لم يكن بد من كونها مرادة، ويحصل بها
الامتثال، لصدق الحقيقة التي هي المطلوبة بالأمر بها.
وبتقرير آخر: وهو أنا نقطع بأن المرة والتكرار من صفات الفعل،
أعني المصدر، كالقليل والكثير، لأ نك تقول: اضرب ضربا قليلا، أو
كثيرا، أو مكررا، أو غير مكرر، فتقيده بالصفات المختلفة. ومن
المعلوم أن الموصوف بالصفات المتقابلة لا دلالة له على خصوصية
شئ منها. ثم إنه لا خفاء في أنه ليس المفهوم من الأمر إلا طلب إيجاد
الفعل أعني المعنى المصدري، فيكون معنى " اضرب " مثلا طلب
ضرب ما، فلا يدل على صفة الضرب، من تكرار أو مرة أو نحو ذلك.
7

وما يقال: من أن هذا إنما يدل على عدم إفادة الأمر الوحدة أو
التكرار بالمادة، فلم لا يدل عليهما بالصيغة؟
فجوابه: أنا قد بينا انحصار مدلول الصيغة بمقتضى حكم التبادر
في طلب إيجاد الفعل. وأين هذا عن الدلالة على الوحدة أو التكرار؟
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أنه لو لم تكن للتكرار، لما تكرر الصوم والصلاة. وقد
تكررا قطعا.
والثاني: أن النهي يقتضي التكرار، فكذلك الأمر، قياسا عليه،
يجامع اشتراكهما في الدلالة على الطلب.
والثالث: أن الأمر بالشئ نهي عن ضده، والنهي يمنع عن المنهي
عنه دائما، فيلزم التكرار في المأمور به.
والجواب عن الأول: المنع من الملازمة، إذ لعل التكرار إنما فهم
من دليل آخر. سلمنا، لكنه معارض بالحج، فإنه قد امر به، ولا تكرار.
وعن الثاني من وجهين: أحدهما - أنه قياس في اللغة، وهو باطل،
وإن قلنا بجوازه في الأحكام. وثانيهما - بيان الفارق، فإن النهي يقتضي
انتفاء الحقيقة، وهو إنما يكون بانتفائها في جميع الأوقات، والأمر
يقتضي إثباتها وهو يحصل بمرة، وأيضا التكرار في الأمر مانع من فعل
غير المأمور به. بخلافه في النهي، إذ التروك تجتمع وتجامع كل فعل.
وعن الثالث: بعد تسليم كون الأمر بالشئ نهيا عن ضده، أو
تخصيصه بالضد العام وإرادة الترك منه، منع كون النهي الذي في ضمن
الأمر مانعا عن المنهي عنه دائما، بل يتفرع على الأمر الذي هو في
ضمنه، فإن كان ذلك دائما فدائما، وإن كان في وقت، ففي وقت. مثلا
الأمر بالحركة دائما يقتضي المنع من السكون دائما، والأمر بالحركة
في ساعة يقتضي المنع من السكون فيها، لا دائما.
8

واحتج من قال بالمرة بأنه إذا قال السيد لعبده: ادخل الدار،
فدخلها مرة عد ممتثلا عرفا، ولو كان للتكرار لما عد.
والجواب: أنه إنما صار ممتثلا، لأن المأمور به - وهو الحقيقة -
حصل بالمرة، لا لأن الأمر ظاهر في المرة بخصوصها، إذ لو كان كذلك
لم يصدق الامتثال فيما بعدها. ولا ريب في شهادة العرف بأنه لو أتى
بالفعل مرة ثانية وثالثة لعد ممتثلا وآتيا بالمأمور به. وما ذاك إلا لكونه
موضوعا للقدر المشترك بين الوحدة والتكرار، وهو طلب إيجاد
الحقيقة، وذلك يحصل بأيهما وقع.
واحتج المتوقفون: بمثل ما مر، من أنه لو ثبت، لثبت بدليل،
والعقل لا مدخل له، والآحاد لا تفيد، والتواتر يمنع الخلاف.
والجواب: على سنن ما سبق بمنع حصر الدليل فيما ذكر، فإن سبق
المعنى إلى الفهم من اللفظ أمارة وضعه له، وعدمه دليل على عدمه.
وقد بينا أنه لا يتبادر من الأمر إلا طلب إيجاد الفعل، وذلك كاف في
إثبات مثله.
9

وبه ثقتي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وأفضل
المتقين محمد الصادق الأمين وعلى سيد الوصيين وإمام المتقين علي
أمير المؤمنين وعلى آلهما الطاهرين وأولادهما المعصومين الأئمة المختارين.
قوله: * (الحق أن صيغة الأمر... الخ) * قد يتراءى في المقام أن القائل
بكون الأمر للمرة أو التكرار قائل بكون المطلوب بالأمر الفرد، والنافي لدلالته
عليهما قائل بتعلقه بالطبائع، حيث يقول بدلالته على مجرد طلب مطلق الحدث
من غير دلالة على مرة ولا تكرار.
وليس كذلك، بل يصح القول بكل من الأقوال المذكورة على كل من الوجهين
المذكورين، إذ يمكن ملاحظة المرة والتكرار قيدا للطبيعة أو الفرد، تقول: أوجد
الطبيعة مرة أو مكررا، وأوجد الفرد كذلك.
نعم إيجادها مرة أو مكررا - كمطلق إيجادها - إنما يكون بإيجاد الفرد، وهو
لا يستلزم تعلق الأمر بالفرد.
وكذا النافي لدلالته على الأمرين، يصح له القول بكون المطلوب للأمر هو
الفرد في الجملة من غير دلالة على الوحدة والتكرار، وهو ظاهر.
نعم القائل بوضع الأمر للمرة أو التكرار لا يقول بوضعه للطبيعة المطلقة،
ضرورة تقييدها عنده بأحد القيدين المذكورين، وهو غير القول بتعلقه بالفرد.
10

وذلك لا يستلزم أيضا أن يكون القائل المذكور قائلا بتقييد الحدث المتعلق للطلب
بذلك، بل يقول بكون المقصود بالحدث نفس الطبيعة المطلقة ويكون الدلالة على
المرة أو التكرار من جهة الصيغة، وهذا هو الظاهر من القائل بالتكرار، إذ لا وجه
للقول بإفادة مدلوله الحدثي ذلك. وأما القول بالمرة فيتصور على كل من الوجهين
المذكورين.
ثم إنه يمكن تقرير النزاع في المقام في بيان ما وضع له صيغة الأمر على نحو
ما مر في الأصل السابق، وهو الظاهر من كلماتهم في عنوان المسألة، ويستفاد من
ملاحظة أدلتهم ومطاوي كلماتهم وقد يقع التصريح منهم بذلك في بعض المقامات.
ويمكن أن يكون النزاع فيما يستفاد من الصيغة حين الإطلاق، سواء كان من
جهة الوضع له بخصوصه أو انصراف الإطلاق إليه. وهو الذي يساعده ملاحظة
الاستعمالات، إذ القول بوضع الصيغة لخصوص المرة - حتى يكون الأمر بالفعل
مرتين أو ما يزيد عليه مجازا - في غاية البعد، بل لا يبعد القطع بفساده. وكذا لو
علق الفعل بالمرة بناءا على القول بوضعه للتكرار، بل قد لا تكون المادة قابلة
للتكرار، فينبغي أن تكون تلك الصيغة مجازا دائما. فتأمل.
قوله: * (وإنما يدل على طلب الماهية... الخ) *.
يعني: من غير أن يدل على ما يزيد على ذلك، فلا يفيد كون (1) الماهية مطلوبة
في ضمن المرة أو دائما.
قوله: * (فقالوا بإفادتها التكرار... الخ) *.
القول به محكي عن أبي حنيفة والمعتزلة والأستاذ أبي إسحاق وأصحابه.
ثم إن الدوام والتكرار يفترقان بحسب المفهوم، من حيث إن التكرار ظاهر في
الأفراد المتعددة المنفصلة، والظاهر من الدوام هو الفرد الواحد المستدام أو الأعم
منه ومن الأول. والظاهر أن المراد بهما في المقام أمر واحد. فعلى القول به يتحقق
بكل من الوجهين، ولا يبعد اختلاف الحال فيه على حسب اختلاف الأفعال.

(1) العبارة في ف: يعني من غير زيادة عليه، فلا يصدق بكون الماهية.
11

قوله: * (ونزلوها منزلة أن يقال: افعل أبدا) *.
القول بالتكرار يتصور على وجهين:
أحدهما: أن يراد به مطلق التكرار الشامل للمرتين وما فوقهما أو خصوص
المرتين.
ثانيهما: أن يراد به التكرار على وجه الدوام، وهو المحكي عن القائل بالتكرار،
حكاه السيد والغزالي والعضدي وغيرهم، وهو الذي يقتضيه ملاحظة أدلتهم.
وعلى كل من الوجهين فإما أن يكون التكرار مأخوذا في المأمور به على
وجه لا يحصل الامتثال أصلا إلا بالإتيان به مكررا على الوجه المفروض، أو
يكون عنوانا عن الأفعال المتكررة، فيكون كل من تلك الأفراد واجبا مستقلا
يحصل بكل واحد منها امتثال الأمر ويكون الإتيان بكل منها واجبا، فينحل
التكليف المذكور إلى تكاليف عديدة. وكذا الحال في الفعل الواحد المستدام إذا
لوحظ تجزئته على أبعاض الزمان.
والظاهر بناؤهم على الثاني على حسب التكرار الملحوظ في النهي، فإن كل
ترك للمنهي عنه امتثال مستقل من غير أن يتوقف حصول الامتثال ببعضها.
ثم إن المنصوص به في كلام بعضهم تقييد التكرار المدلول بالصيغة بما يكون
ممكنا، ونص الآمدي: بأن المراد بالتكرار الممكن عقلا وشرعا. ولا يبعد أن يريد
بالممكن العقلي ما يعم العادي فيما لو بلغ إلى حد يتعسر الإتيان به جدا بحيث يعد
متعذرا في العرف، بل لا يبعد انصرافه إلى التكرار على النحو المتعارف، فلا ينافي
الاشتغال بالأكل المعتاد والنوم المعتاد ونحوهما.
وكيف كان: فلو زاحمه واجب آخر لم يمنع أحدهما من أداء الآخر، بل إن
كان الآخر واجبا مرة أو مرات معينة لزم تكرار المأمور به على وجه لا يزاحم
الإتيان به كذلك وإن كان مطلوبا أيضا كان الحال فيهما سواء، فيعتبر تكرارهما
على نحو واحد، لعدم الترجيح.
وكذا الحال في الأوامر المطلقة العديدة. ويمكن أن يكون ذلك ونحوه من
12

تقييد الإطلاق، فيكون كل من الأمرين أو الأوامر مقيدا لإطلاق الدوام المستفاد
من الآخر. ولو كان أحد الأمرين مطلقا والآخر مقيدا بالدوام احتمل كونهما
كالمطلقين وترجيح المقيد بالدوام فيؤتى بالآخر مرة.
قوله: * (فجعلوها للمرة... الخ) *.
القول به محكي عن جمع كثير، وحكي عن أبي الحسين أيضا، وكذا عن ظاهر
الشافعي.
ثم إن القول بالمرة يتصور على وجوه:
أحدها: أن يراد به المرة بشرط لا، وهي المرة المقيدة بالوحدة، فينحل الأمر
إلى أمر ونهى، أعني طلب إيجاد الفعل مرة وطلب تركه زائدا عليها، ويتصور ذلك
على وجهين:
أحدهما: أن يكون كل من طلب الفعل والترك مستقلا حتى أنه إذا أتى بالفعل
مرتين كان مطيعا عاصيا.
ثانيهما: أن يكون طلبه للفعل مقيدا بترك الزائد، فيكون فعله الثاني عصيانا
ومانعا من حصول الامتثال بالأول، فيكون الحكم بحصول الامتثال بالأول
مراعى بعدم الإتيان به ثانيا وحينئذ فإما أن يقال: بعدم إمكان الامتثال أصلا إذ
لا يمكن الإتيان به مرة بعد ذلك أو يقال: بكون فعله الثاني مبطلا للأول، فكأنه
لم يأت به، لعدم العبرة بالباطل، فلا بد من الإتيان بالثالث، وحينئذ إن أتى بالرابع
أبطل الثالث، وهكذا الحال في سائر المراتب (1).
ثانيها: أن يراد به المرة بشرط لا أيضا، لكن من دون أن ينحل الأمر إلى أمر
ونهي، بل بأن يكون المطلوب هي المرة المقيدة بعدم الزائد حتى أنه إذا أتى بالزائد
لم يتحقق الامتثال بالأول، لفوات شرطه من دون أن يكون مجرد الإتيان بالثاني منهيا
عنه بنفسه، وفي تحقق الامتثال حينئذ بالمرة الثالثة والخامسة مثلا الوجهان المتقدمان.
ثالثها: أن يكون المراد به المرة لا بشرط شئ، بأن يفيد كون المرة مطلوبة

(1) في ق: سائر المرات.
13

من غير أن يراد ترك الزائد، فالمقصود هو الإتيان بالمرة، سواء أتى بالزائد أو لا،
لكن يفيد عدم مطلوبية القدر الزائد على المرة، فالمأمور به هو المرة مع عدم إرادة
ما يزيد عليها، فيرجع في الزائد إلى حكم الأصل.
رابعها: الصورة بحالها لكن مع عدم دلالته على عدم مطلوبية الزائد، بل غاية
ما يفيده الأمر المذكور مطلوبية المرة من غير أن يفيد مطلوبية ما زاد عليها ولا
عدمها، فلا يفي ذلك الطلب إلا بمطلوبية القدر المذكور. والفرق بينه وبين سابقه
ظاهر، فإنه لو دل دليل على مطلوبية الزائد كان معارضا للأمر المفروض بناء على
الأول بخلاف الثاني، إذ عدم وفاء الطلب المذكور بالدلالة على وجوب الزائد لا
ينافي ثبوت الوجوب من الخارج.
والظاهر من مقالة أهل المرة هو الوجه الأخير، وعليه يشكل الحال في الثمرة
بين القول بالمرة والقول بالطبيعة، حيث إنه مع تعلق الأمر بالطبيعة يحصل الامتثال
بالمرة قطعا ومع الإتيان بها يسقط التكليف، فلا بقاء لذلك الطلب، فلا يشمل ذلك
الطلب ما عدا المرة، وإن صح كون الزائد عليها مطلوبا بطلب آخر، كما هو الحال
في القول بالمرة. وقد يدفع ذلك بإبداء الثمرة بين القولين بوجوه لا يخفى شئ
منها عن البحث، وسنشير إليه إن شاء الله تعالى.
قوله: * (وتوقف جماعة) * القول بالتوقف يقرر بوجهين:
أحدهما: التوقف في تعيين ما وضع له من المرة والتكرار وهو صريح كلام
المصنف (رحمه الله)، فهم حاكمون بدلالته على أحد الأمرين متوقفون في التعيين.
ثانيهما: التوقف في المراد دون الوضع، وهو من لوازم القول بالاشتراك. وقد
نزل عليه السيد كلام أصحاب الوقف، ولا يمكن تنزيل ما حكاه المصنف (رحمه الله) هنا
عليه، ولا يوافقه الاحتجاج المنقول عنهم، فإنه قاض بالوقف في أصل الوضع.
وربما يزاد فيه وجه ثالث وهو حمل كلام الواقف على إرادة الوضع لمطلق
الطبيعة، فيتوقف إرادة المرة أو التكرار على قيام الدليل عليها، حيث لا دلالة في
الصيغة على شئ منهما. وربما يستفاد ذلك من العلامة في النهاية في تقرير قول
14

السيد حيث حمل كلامه على إرادة الوضع لمطلق الطبيعة، وهو قد حمل كلام
الواقف على ما اختاره، لكنه حمل كلام الواقف على أحد الوجهين الأولين، كما
ردد قوله بينهما في المنية... وكيف كان فحمل كلامه على الوجه المذكور بعيد
جدا، إذ مع عدم موافقته لدليلهم المعروف (1) ليس من القول بالوقف في شئ، ولا
يقتضي التوقف في مقام الحمل حسب ما نقرره في بيان ثمرة الأقوال، وكأن ما
ذكره السيد كان مذهبا لواقف آخر غير من حكى عنه القول والدليل المذكوران،
قد أطلق عليه الوقف في غير هذا المقام. فيكون الأقوال في المسألة على بعض
الوجوه المذكورة ثلاثة وعلى بعضها أربعة وعلى بعضها خمسة. وكلام السيد في
المقام يحتمل إرادة الاشتراك اللفظي وقد حمله على ذلك في التهذيب، ويقتضيه
التمسك في المقام بأصله المشهور، لكن أول كلامه كالصريح في إرادة الوضع
للطبيعة. فتأمل.
بقي الكلام في المقام في بيان الثمرة بين الأقوال المذكورة، فنقول: إن الثمرة
بين القول بالمرة والتكرار ظاهر على كل من وجوه القولين، لوضوح الاجتزاء
بالمرة على جميع وجوهها وعدم الاجتزاء بها على القول بالتكرار كذلك. والقول
بالاشتراك اللفظي على فرض ثبوته تابع في الثمرة لأحد القولين المذكورين من
المرة والتكرار في أكثر وجوهها، ففي بعضها يتبع القول بالمرة، وفي بعضها يأخذ
بمقتضى القول بالتكرار، وفي بعض وجوه القولين لا بد له من التوقف، حيث لا
يقتضي الأصل حصول البراءة بشئ من الوجهين، وقد يرجع حينئذ إلى التخيير.
ولا ثمرة بين القول بالاشتراك اللفظي والوقف، لتوقفهما في مقام الاجتهاد
والرجوع إلى أصول الفقاهة في مقام العمل.
والثمرة بين القول بالطبيعة والقول بالتكرار ظاهرة وكذا بينه وبين القول
بالمرة على وجوهها، عدا الوجه الأخير حسب ما مر وجه الإشكال فيه.
وقد يقرر الثمرة بينهما في حصول الامتثال بالمرة الثانية والثالثة وهكذا على

(1) في ق: المذكور.
15

القول بالطبيعة، نظرا إلى حصول الطبيعة في ضمن الواحد والمتعدد، بخلاف ما لو
قيل بالمرة، إذ لا يعقل حصول الامتثال بما يزيد عليها. كذا ذكره المصنف في
جواب احتجاج القائل بالمرة حسب ما يأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.
وأورد عليه بأنه بعد الإتيان بالطبيعة في ضمن المرة يتحقق أداء المأمور به
قطعا، فيحصل الامتثال وهو قاض بسقوط الأمر، ومع سقوطه لا مجال لصدق
الامتثال ثانيا وثالثا.
نعم يمكن تقرير الثمرة إذا فيما إذا أتى بالأفراد المتعددة من الطبيعة دفعة،
فعلى القول بالمرة لا امتثال إلا بواحد منها، وعلى القول بالطبيعة يتحقق الامتثال
بالجميع، لحصول الطبيعة في ضمن الجميع، ولا يجري فيه الإشكال المذكور،
لحصولها في ضمن الجميع دفعة.
وفيه: أن الطبيعة وإن حصلت في ضمن الجميع دفعة وكان حصولها في ضمن
كل من الأفراد قبل سقوط الأمر بها، لكن حصول الطبيعة في ضمن الجميع ليس
بحصول واحد، بل هناك حصولات متعددة، والإتيان بالطبيعة حاصل بواحد منها
فلا داعي إلى الحكم بوجوب الجميع مع حصول الطبيعة بواحد منها القاضي
بسقوط التكليف بها.
والحاصل: أنه ليس حصولها في ضمن الجميع إلا عين حصولها في ضمن كل
منها، فبعد الاكتفاء في حصول الطبيعة بواحد منها لا داعي إلى اعتبار كل من
حصولاتها ولا باعث لوجوبها، فيتخير في التعيين أو يستخرج ذلك بالقرعة إن
احتيج إلى التعيين.
ويمكن دفعه بأنه لما كانت نسبة الطبيعة إلى الواحد والجميع على نهج واحد
وكان حصولها في ضمن الواحد كالحصول في ضمن المتعدد وكان الحاصل في
المقام هو المتعدد، كان الجميع واجبا، لحصول الطبيعة في ضمنه. وحينئذ وإن
أمكن القول بحصول الطبيعة بالبعض الحاصل في ضمن الجميع إلا أنه لما كان
ترجيح البعض على البعض ترجيحا من غير مرجح قلنا بوجوب الجميع، وأيضا
16

صدق حصول الطبيعة في ضمن البعض لا ينافي صدق حصولها في ضمن الجميع،
بل يحققه، إذ ليس حصولها في ضمن الكل إلا عين حصولاتها في ضمن الأبعاض
كما عرفت، وقضية ذلك وجوب الجميع، لصدق حصول الطبيعة الواجبة به القاضي
بوجوبه، ولا ينافيه صدق حصول الطبيعة بالبعض أيضا، إذ غاية الأمر أن يكون
ذلك أيضا واجبا ولا مانع منه، بل قضية وجوب الجميع هو وجوب كل منها، إذ
ليس وجوب الجميع إلا عين وجوب الأبعاض.
ومن هنا ينقدح ابتناء ما ذكرناه على القول بتعلق الأوامر بالكليات دون
الأفراد، فيتفرع الحال في هذه المسألة على تلك المسألة. فإن قلنا بتعلقها بالطبائع
- حسب ما قررناه - صح ما ذكرناه واتصف الجميع بالوجوب، لحصول الطبيعة
الواجبة به. وأما إن قلنا بتعلقها بالأفراد تعين حصول الامتثال بواحد منها، إذ ليس
المطلوب على القول المذكور إلا واحدا من الأفراد أو جميعها على سبيل التخيير
بينها حسب ما بين في تلك المسألة. وأيا ما كان: فمقتضاه وجوب واحد مما أتى
به من الأفراد دون جميعها، سواء أتى بها دفعة أو متعاقبا، من غير فرق بين
الصورتين.
وفيه: أنه ليس المقصود من تعلق الأمر بالفرد إلا مطلوبية الأمر الخارجي -
أعني الطبيعة المتشخصة في الخارج - سواء كان واحدا أو متعددا، فلا وجه لالتزام
القائل به كون الامتثال بإيجاد فرد واحد من الأفراد، بل يصح له القول بحصول
الامتثال بالجميع أيضا على نحو القائل بوضعها للطبيعة، من غير فرق.
نعم توهم بعض الأفاضل خلاف ذلك وزعم أنه إنما يقول بوجوب أحد
الأفراد أو الجميع على سبيل التخيير. ولا وجه له حسب ما نشير إليه في محله إن
شاء الله تعالى.
ثم إنه يرد على البيان المذكور: أنه إما أن يراد بذلك وجوب البعض في ضمن
الكل تبعا لوجوب الكل أو يراد وجوبه استقلالا. فإن أريد الأول تم ما أريد من
الحكم بوجوب الكل، إلا أنه لا وجه له بعد حصول الطبيعة به استقلالا، فإنه قاض
17

بوجوبه استقلالا لا تبعا للكل. وإن أريد الثاني لم يجامع وجوب الكل، لأداء
الواجب إذا بالبعض. والتزام وجوبين في المقام يتعلق أحدهما بالكل فيجب
البعض تبعا له وأخرى بالبعض فيجب استقلالا أيضا مما لا وجه له، بل هو مخالف
للتقرير المذكور، حيث أريد به بيان حصول الواجب وأدائه في ضمن المتعدد كما
أنه يحصل تارة في ضمن الواحد.
وقد يقرر الثمرة بين القولين بتخيير المكلف بين قصده أداء الواجب بالتكرار
وأدائه بالمرة على القول بوضع الصيغة للأعم، نظرا إلى صدق أداء المأمور به في
الصورتين سواء أتى بالجميع دفعة أو على التعاقب، فإن قصد الامتثال بالمرة
اكتفى بها، وإن قصده بالتكرار لم يجز له الاقتصار على المرة، بل لا بد من الإتيان
بما قصده من مراتب التكرار. بخلاف القول بوضعها للمرة، فإنه يتعين عليه المرة
وليس له قصد الامتثال بالتكرار.
وفيه: أنه إذا أتى بالمرة فقد أتى بالواجب، لحصول الطبيعة الواجبة بأدائها
وإن قصد امتثال الأمر بالتكرار، إذ لا ربط للقصد المذكور بأداء الواجب حسب ما
عرفت تفصيل القول فيه، غاية الأمر أن يسلم حينئذ عدم صدق امتثال الأمر
بالإتيان بالمرة على الوجه المذكور، وأما أداء الواجب فلا ريب في حصوله،
وحينئذ فلا وجه للحكم بوجوب الكل.
والحاصل أن النية لا أثر لها في أداء الواجب على ما هو الملحوظ في المقام،
مضافا إلى أن تعين المنوي بعد قصده الامتثال بالمرة أو التكرار فرع جواز كل من
الشقين وأداء الواجب بكل من الوجهين، وقد عرفت المناقشة فيه، وحينئذ فكيف
يثمر النية في جواز قصد الامتثال بالتكرار على القول بوضعه للطبيعة؟!
والذي يتخيل في تحقيق المقام أن يقال: إنا إذا قلنا بوضع الأمر لطلب الطبيعة
فلا ريب في حصولها في ضمن الفرد الواحد والمتعدد، فكما أنه يتخير عقلا بين
آحاد الأفراد كذلك يتخير عقلا بين الإتيان بالواحد والمتعدد، فيرجع الأمر حينئذ
إلى التخيير بين الأقل والأكثر، فالتخيير الثابت بحكم العقل - بعد الحكم بحجيته
شرعا - بمنزلة التخيير الثابت بالنص.
18

والحال في التخيير بين الأقل والأكثر يدور بين وجوه:
أحدها: أنه يؤول الحال فيه إلى الحكم بوجوب الأقل واستحباب الأكثر،
لكون القدر الزائد مطلوبا على وجه يجوز تركه، بخلاف الأقل، لعدم جواز تركه
على أي حال، فلا تخيير في الحقيقة.
ثانيها: أن يكون التخيير فيه على نحو غيره ويكون تعيين وجوب الأقل أو
الأكثر منوطا بقصد الفاعل، فإن نوى الإتيان بالأقل وشرع فيه كان هو الواجب،
وإن نوى الأكثر وشرع فيه على الوجه المذكور تعين عليه ولم يجز الاقتصار
على الأقل.
ثالثها: أن يقال أيضا بكون التخيير فيه على نحو التخيير الحاصل بين سائر
الأفعال من غير أن يتعين عليه الأقل أو الأكثر بالنية، فإن اقتصر على الأقل أجزأه
وإن نوى الإتيان بالأكثر، وإن أتى بالأكثر كان أيضا واجبا، والاجتزاء بالأقل
وجواز ترك الزائد لا يقضي باستحباب الزائد، نظرا إلى جواز تركه، فإن مجرد
جواز الترك لا يقضي بالاستحباب، فإن جواز الترك إلى بدل - كما في المقام - لا
ينافي الوجوب، بل حاصل في الواجبات المخيرة وإنما ينافيه جواز الترك مطلقا،
فلا داعي إلى التزام البناء على الاستحباب في القدر الزائد مع منافاته لظاهر الأمر.
والحاصل: أنه إن أتى بالأكثر كان واجبا، وإن اقتصر على الأقل وترك ما زاد
عليه كان كافيا أيضا، لقيامه مقام الزائد على مقتضى التخيير.
فإن قلت: إذا كان المكلف بمقتضى الأمر مخيرا بين الأقل والأكثر وأتى
بالأقل كان ذلك على مقتضى الأمر مجزيا مسقطا للتكليف، للإتيان بأحد فردي
المخير، فكيف يتصور مع ذلك بقاء الوجوب حتى يقوم بالأكثر لو أتى بالزيادة؟!
قلت: قيام الوجوب بالأقل مبني على عدم الإتيان بالأكثر، فإن أتى بالأكثر
قام الوجوب بالجميع، وإن اقتصر على الأقل قام الوجوب به، ألا ترى أنه لو قال:
" يجب عليك ضرب زيد إما سوطا أو سوطين أو ثلاثة " فإن ضربه سوطا واقتصر
عليه كان ذلك هو الواجب، وان ضربه بعد ذلك سوطا آخر واقتصر عليهما قام
19

الوجوب بهما، وإن أتى بالثالث قام الوجوب بالثلاثة، وليس شئ من الأسواط
الثلاثة مندوبا، إذ ليس هناك إلا تكليف واحد دائر بين الوجوه الثلاثة فالسوط
الأول إنما يجزي لو اقتصر عليه، وأما لو كان في ضمن الاثنين أو الثلاثة كان
جزءا من المجزي، فيكون الحكم بإجزائه أولا مراعى بعدم الإتيان بالثاني على
حسب ما يقتضيه ظاهر الأمر. وجواز الاقتصار عليه لا يقضي باستحباب الزائد،
لما عرفت من كون الأقل إذا بدلا عن الأكثر، وجواز الترك إلى بدل لا ينافي
الوجوب.
ولا فرق فيما قررنا بين ما إذا كان الأقل مع الزيادة فعلا واحدا كما إذا قال:
" امسح قدر إصبع أو إصبعين أو ثلاثة " فإن المسح بقدر إصبعين أو ثلاثة يعد
مسحا واحدا وإن جاز الاقتصار على بعضه - أعني قدر الإصبع - أو عد أفعالا
عديدة، كما في المثال المتقدم.
وقد يتخيل الفرق حيث إن كلا من الزائد والناقص في الصورة الأولى فعل
واحد مستقل مغاير للآخر، بخلاف الصورة الثانية، فإن الناقص فعل مستقل على
التقديرين، نظرا إلى انفصال البعض عن البعض، وبالتأمل فيما قررنا يظهر فساد
ذلك وانتفاء الفرق بين الوجهين، هذا.
وقد ظهر مما ذكرنا ضعف الوجه الأول وكذا الوجه الثاني. فالتحقيق في
المقام هو الوجه الثالث.
فالواجب بمقتضى الأمر نفس الفعل الدائر بين الوجهين، وقصد الإتيان
بالأكثر لا يقضى بتعيين الإتيان به، بل يجوز العدول عنه ولو بعد الإتيان بمقدار
الأقل بل ولو لم يعدل عنه أيضا، إذ بعد الإتيان بالأقل يصدق الإتيان بالواجب
فلا مانع من الاقتصار عليه.
نعم إذا قصد الإتيان بالأقل وأتى به اتجه القول بسقوط الواجب وعدم جواز
الإتيان بالزائد على وجه المشروعية، وليس ذلك من جهة تعيين الأقل بالنية،
بل لصدق الامتثال مع الإتيان به كذلك، فيحصل به أداء الواجب من غير أن يكون
مراعى بالإتيان بالزائد.
20

نعم لو قام دليل من الخارج على مطلوبية الزيادة أيضا كان ذلك مندوبا،
إذ ليس مطلوبية فعله إذا من جهة الأمر المتعلق به على وجه التخيير.
وأما إذا نوى الإتيان بالأكثر أو خلا عن القصدين جاز له الاقتصار على
الأقل والإتيان بالأكثر.
إذا تقرر ذلك فنقول بجريان ذلك بعينه في المقام، فإنه كما عرفت من قبيل
التخيير بين الأقل والأكثر، فإن شاء اقتصر على المرة وإن شاء أتى بالتكرار.
ولا يرد عليه أداء الواجب بالمرة فلا يبقى أمر حتى يشرع الإتيان بالزائد، لما
عرفت من كون أداء الواجب وسقوط الأمر مراعى بعدم الإتيان بالزائد، فكل ما
اتي به من أفراد الطبيعة انضم إلى ما تقدمه منها وكان الجميع مصداقا لحصول
الطبيعة. فجواز الاقتصار على المرة لا ينافي قيام الواجب بالتكرار على فرض
الإتيان به.
نعم إن قصد أداء الواجب بالمرة وأتى بها اتجه القول بعدم مشروعية الزائد
حسب ما عرفت ولا يقضي ذلك بسقوط الثمرة، لحصولها في الصورتين
الأخيرتين.
وأنت خبير بأنه لو صرح الآمر بالتخيير بين الأقل والأكثر جرى فيه ما ذكر،
لتعلق الأمر بكل منهما بالخصوص، وأما إذا تعلق الأمر بمطلق الطبيعة الحاصلة
بالمرة فلا وجه لجعل أداء المكلف به مراعى بفعل غيره، إذ الواجب حينئذ شئ
واحد وهو الطبيعة الحاصلة بالمرة، غاية الأمر ثبوت التخيير عقلا بين حصولاتها
بحسب أفرادها، وأما إذا تحقق حصولها ببعض تلك الحصولات فلا وجه
لارتكاب حصولها بغيره، فمع الإتيان بها مرة يحصل الطبيعة المطلقة المطلوبة
قطعا، وحينئذ فحصولها في ضمن المتعدد ليس عين الحصول الأول، بل غيره،
فلا وجه لمراعاته في المقام.
نعم يتم ما ذكر فيما لو أتى بالفردين أو الأفراد دفعة فإنه يكون حينئذ حصول
الطبيعة ابتداء في ضمن المتعدد، فيحصل به الامتثال كأدائها في ضمن المرة.
21

ويشكل ذلك بما مر من صدق حصول الطبيعة حينئذ بالمرة أيضا، فقضية
حصول الطبيعة بها وجوبها استقلالا، وقضية وجود الطبيعة بالكل وجوب الكل
ووجوب المرة في ضمنه تبعا لوجوبه، ولا وجه لالتزام وجوبين.
ويدفعه: أن ما ذكر إنما يتم إذا قلنا بوجوب الجميع من حيث هو وجعلنا
حصول الطبيعة في ضمنه حصولا واحدا كحصولها في ضمن المرة، وليس كذلك،
فإن حصول الطبيعة في ضمن الأفراد المتعددة ليس حصولا واحدا لها، بل
حصولات عديدة يكون كل منها إيجادا للطبيعة الواجبة، واعتبار وجودها في
ضمن الجميع عين تلك الوجودات قد اعتبرت جملة، فليس أداؤها في ضمن
الجميع أداءا مغايرا لأدائها في ضمن الآحاد، فالمتصف بالوجوب حقيقة هو كل
من تلك الآحاد، لاتحاده بالطبيعة الواجبة قبل فراغ ذمة المكلف عن أدائها،
وحيث إن المطلوب بالأمر مطلق إيجاد الطبيعة عم الإيجاد الواحد والمتعدد
واتصف الكل بالوجوب، ولا يقتضي ذلك تعدد الواجب، وإنما يقتضي تعدد
إيجاده ولا مانع منه، فإن كلا من أفراده المتقارنة أداء للواجب، فيحكم بوجوب
الكل وأداء الطبيعة في ضمن الجميع.
نعم لو كان الواجب إيجاد الطبيعة مرة - كما يقوله القائل بالمرة - لم يتحقق
الامتثال إلا بحصول واحد منها حسب ما قررناه في الثمرة، وعلى الأول لا فرق
بين ما إذا نوى الامتثال بأحدهما أو بهما، إذ قد عرفت أن النية المذكورة مما لا
مدخل لها في أداء الواجب وهذا بخلاف ما لو تعاقبت الأفراد، إذ بالإتيان بالأول
يحصل أداء الطبيعة الواجبة قطعا وبأدائها يسقط الوجوب. ولا فرق حينئذ أيضا
بين ما إذا نوى أولا أداء الطبيعة في ضمن المرة أو التكرار، حسب ما عرفت.
فتلخص بما ذكرنا ظهور الثمرة بين القولين فيما لو أتى بالمتعدد دفعة دون ما إذا
أتى بها متعاقبا، حسب ما عرفت تفصيل القول فيه. فتأمل في المقام.
قوله: * (والمرة والتكرار خارجان عن حقيقته... الخ) *.
أنت خبير بأنه بعد بيان كون المتبادر من الصيغة هو طلب إيجاد حقيقة الفعل
22

يثبت كون الصيغة حقيقة في طلب إيجاد الطبيعة المطلقة القابلة للتقييد بكل من التكرار
والمرة وغيرهما، فلا دلالة فيها على خصوص شئ منهما لوضوح خروج كل
من تلك الخصوصيات عن الطبيعة اللابشرط من غير حاجة إلى إثبات ذلك بالدليل.
ولو قيل: بأن المقصود بالمقدمة المذكورة بيان كون الطبيعة المتبادرة من
الصيغة هي الطبيعة المطلقة دون المقيدة بالتكرار أو المرة بناءا على كون المقدمة
الأولى لبيان كون المتبادر من الصيغة هو طلب إيجاد الطبيعة في الجملة. فبعد
ملاحظة المقدمتين يتم المدعى.
ففيه: أن ذلك مما لا يمكن إثباته بالبيان المذكور، إذ خروج كل من الأمرين
عن الطبيعة المطلقة لا يقضى بخروجه عن مدلول الصيغة الذي هو طلب الطبيعة
في الجملة الحاصلة بكل من الوجوه الثلاثة.
ويمكن أن يقال: إنه وإن كان خروج المرة والتكرار عن الطبيعة المطلقة أمرا
ظاهرا إلا أنه لا بد من ملاحظته في المقام، لتوقف الاحتجاج عليه، ووضوح
المقدمة لا يقتضي عدم اعتبارها في الاحتجاج.
نعم لم يكتف المصنف (رحمه الله) بمجرد ظهورها، بل أراد بيانها، ليتضح الحال في
الاستدلال، فلما أثبت أولا بكون المتبادر من الأمر بعد الرجوع إلى العرف هو
طلب حقيقة الفعل كون الصيغة حقيقة في طلب نفس الحقيقة بين بذلك كون
خصوص كل من المرة والتكرار خارجا عن حقيقة الفعل غير مأخوذ فيها كالزمان
والمكان، ليندفع به احتمال كون أحدهما مأخوذا في حقيقة الفعل فيكون الدال
على الحقيقة دالا عليه، فالغرض من ذلك إيضاح الحال ليكون آكد في إثبات
المطلوب.
ويمكن أن يقرر الاحتجاج بوجهين آخرين يتضح الحاجة فيهما إلى بيان
المقدمتين المذكورتين:
أحدهما: أن المقصود من كون المتبادر من الأمر طلب حقيقة الفعل، هو طلب
حقيقة الفعل بمعناه الحدثي - أعني المصدري - كما سنشير إليه في التقرير الثاني،
23

فيثبت بالمقدمة الأولى كون الصيغة حقيقة في طلب معناه المادي من دون إفادة
الهيئة لما يزيد على ذلك، فيثبت بذلك عدم دلالة الأمر بهيئته على شئ من المرة
والتكرار.
ثم بين بقوله: " والمرة والتكرار خارجان... الخ " أن معناه الحدثي لا
دلالة فيه على شئ من الأمرين، فإنه بعد الرجوع إلى العرف لا يفيد خصوص
شئ منهما كما هو الحال في الزمان والمكان، فيثبت بذلك كون مدلوله المادي
هو الطبيعة المطلقة، فيفيد ذلك عدم دلالته على شئ من الأمرين بمادته، وبه يتم
المدعى: من عدم دلالة الأمر على شئ من الأمرين مطلقا.
وثانيهما: أن المقصود بالتبادر المدعى عدم دلالة الأمر بالمطابقة أو التضمن
على شئ من المرة أو التكرار، حيث إن مدلوله ليس إلا طلب حقيقة الفعل، ومن
البين خروج المرة والتكرار عن نفس الطبيعة. والمراد بقوله: " والمرة والتكرار
خارجان... الخ " بيان انتفاء الدلالة الالتزامية. فإن الخارج من الحقيقة قد يكون
مدلولا التزاميا لها، ولا يفيد خروجه عن المدلول انتفاء الدلالة عليه، فقال: " إن
المرة والتكرار خارجان عن حقيقته على نحو الزمان والمكان " يعني: أنه
ليس مما لا يمكن انفكاك تصور الطبيعة عن خصوص واحد منها إذ يتصور طلب
الفعل من دون ملاحظة شئ منهما، كما هو الحال في الزمان والمكان والآلة، فعلى
هذا يكون قوله: " كالزمان والمكان " قيدا مأخوذا في المقدمة المذكورة، وهذا
الوجه بعيد عن سياق العبارة كما لا يخفى.
قوله: * (نعم لما كان... المرة) *.
قد يتراءى من ذلك كون المرة ملحوظة على وجه اللابشرط مستفادة من
الصيغة، نظرا إلى الوجه المذكور، غاية الأمر أن يكون مدلولا التزاميا للصيغة
لا وضعيا، وذلك لا يقضي بالفرق في نفس المدلول، إذ أقصى ذلك الفرق بينهما
في كيفية الدلالة، ولا فائدة فيه بعد حصول أصل الإفادة على ما هو المقصود
في المقام.
24

وفيه: أن كون المرة أقل ما يمتثل به الأمر يفيد حصول الامتثال بالأكثر أيضا،
وذلك مما لا يقوله القائل بكون الأمر للمرة، فقضية البيان المذكور حصول
الامتثال بالمرة قطعا وإن قضت الصيغة بحصوله بالأكثر أيضا، ولا ربط له بما يقوله
القائل بالمرة، ومع الغض عنه فالقائل بالمرة يجعل خصوص المرة مندرجة في
المأمور به بخلاف ما يستفاد من الوجه المذكور فإن أقصى ما يفيده حصول
المطلوب بها لا أنها مطلوبة بخصوصها وفرق بين بين الصورتين (1).
قوله: * (وبتقرير آخر) *.
الفرق بين هذا التقرير والتقرير الأول ظاهر من حيث البيان على ما هو الشأن
في اختلاف التقريرين، وبينهما مع ذلك اختلاف آخر في بيان عدم دلالة المصدر
على خصوص المرة والتكرار، حيث إنه احتج عليه في الأول بمجرد خروجه عن
الطبيعة كالزمان والمكان وقد احتج عليه هنا بكونه أعم من الأمرين، حيث إنه
يصح تقييده بكل من القيدين، والعام لا دلالة فيه على الخاص.
قوله: * (ومن المعلوم أن الموصوف... الخ) *.
لا يخفى أن التقابل المذكور إنما هو بين الوحدة المعتبرة بشرط لا والتكرار
دون الوحدة الملحوظة لا بشرط شئ، لحصولها في ضمن التكرار أيضا، فغاية
ما يلزم من البيان المذكور أن يكون مفاد الأمر قابلا للتقييد بالقيدين المذكورين،
وكما أن الطبيعة المطلقة قابلة للتقييد بالقيدين المذكورين فكذا الطبيعة المأخوذة
بملاحظة الوحدة المفروضة الملحوظة لا بشرط شئ، لوضوح أن اللابشرط
يجامع ألف شرط، فلا يفيد مجرد ما ذكره كون الوحدة المفروضة غير مأخوذة
في الفعل بمعنى المصدر.
ثم إنه يمكن أن يقال: إن تقييد المصدر بالصفات المتقابلة لا يفيد كونه حقيقة
في الأعم، إذ قد يكون التقييد قرينة على التجوز فصحة التقييد بالقيدين دليل على

(1) الوجهين، خ ل (هامش المطبوع).
25

جواز إرادة الأعم وصحة إطلاقه عليه، وهو أعم من الحقيقة. فقد يكون إذن حقيقة
في خصوص المتصف بأحد القيدين، ومع ذلك يصح تقييده بالآخر من باب المجاز.
ويمكن دفعه بأن مراد المصنف بذلك أن حقيقة الفعل إذا لوحظت على إطلاقها
مع قطع النظر عن ملاحظة شئ آخر معها كانت قابلة للتقييد بالوصفين، فذلك
دليل على كونها أعم من الأمرين، إذ لو كانت مختصة بأحدهما لم تكن بذاتها قابلة
للتقييد بالآخر، وإنما تقبله مع ملاحظتها بوجه آخر قابل لذلك وهو خلاف
المفروض.
ويمكن الاحتجاج على ذلك أيضا بأن الأفعال مشتقة من المصادر الخالية
عن التنوين، فإنها من عوارض الاستعمال، وما يؤخذ منها الأفعال ليست جارية
في الاستعمال حتى يلحقها التنوين.
وقد تقرر أن المصادر الخالية عن التنوين موضوعة للطبيعة من حيث هي
فإنها من أسامي الأجناس، على أنه قد حكى السكاكي في المفتاح أنه لا نزاع في
وضع غير المنون من المصادر للطبيعة من حيث هي، وأن ما وقع فيه النزاع من
أسامي الأجناس في وضعه للطبيعة المطلقة أو المأخوذة بشرط الوحدة إنما هو
فيما عدا غير المنون من المصادر، ويشهد بذلك أن ابن الحاجب - مع اختياره في
الإيضاح على خلاف التحقيق كون الجنس موضوعة للطبيعة المقيدة بالوحدة -
حكم هنا بأن المطلوب بالصيغة إنما هي الحقيقة من حيث هي.
قوله: * (طلب ضرب ما) *.
أراد به مطلق الضرب المبهم الشامل للواحد والكثير لا فردا ما من الضرب، إذ
لا يتبادر من المصدر إلا مطلق الطبيعة دون الفرد المنتشر، حسب ما قرره.
قوله: * (وما يقال... الخ) *.
كأن هذا المورد غفل عن انحصار المتبادر من الهيئة في طلب إيجاد المادة
حسب ما اخذ في الاحتجاج، فنبه عليه في الجواب، أو إنه غفل عن إفادة التبادر
نفي اعتبار أمر آخر مع ذلك في الوضع، لتوهمه أن مقتضى التبادر وضعها لطلب
26

الطبيعة في الجملة فيكون مثبتا لما يتبادر من أجزاء المعنى وقيوده لا نافيا لما لا
يتبادر منها، وضعفه أيضا ظاهر مما قرره في الجواب.
قوله: * (إنا قد بينا انحصار مدلول الصيغة بحكم التبادر... الخ) *.
قد يجاب عنه أيضا بأنه إذا ثبت عدم دلالة المادة على الوحدة فالقدر المسلم
من مدلول الهيئة هو طلب إيجاد المادة.
ودعوى وضعها لما يزيد على ذلك مخالفة للأصل مدفوعة به، وحينئذ يقرر
الاحتجاج من دون حاجة إلى التمسك إلى التبادر في إثبات وضعه الهيئي لطلب
إيجاد الماهية أو الانحصار في ذلك على ما قرره المصنف.
وقد تمسك به بعض الأفاضل في المقام وهو بمكان من الوهن، إذ لا مسرح
للأصل في نحو هذه المقامات، لوضوح أن الأمور التوقيفية إنما تتبين من توقيف
الواضع، فلو دار اللفظ بين كونه موضوعا لمعنى مفرد أو مركب أو دار اللفظ
الموضوع بين كونه مفردا أو مركبا لم يمكن الحكم بالأول من جهة الأصل وهو
واضح. هذا.
وقد احتج للقول بوضعه للماهية بوجوه اخر:
منها: أنه قد استعمل تارة في المرة وأخرى في التكرار، والأصل فيما استعمل
في الأمرين أن يكون حقيقة في القدر المشترك بينهما، دفعا للاشتراك والمجاز.
ويرد عليه أنه مع البناء على كونه حقيقة في القدر المشترك يلزم المجاز أيضا،
لكونه مجازا عند استعماله في خصوص كل من القسمين وضعفه ظاهر مما مر غير
مرة سيما ما ذكرناه عند احتجاج القائل بكون الأمر حقيقة في الطلب نظير ما ذكر،
فالظاهر أن التمسك بالأصل في أمثال هذا المقام مما لا غبار عليه.
ومنها: أنه يصح تقييد الأمر تارة بالمرة وأخرى بالتكرار من دون تناقض ولا
تكرار، فيكون للأعم منهما.
ويرد عليه أنه لا باعث على لزوم التناقض في المقام، غاية الأمر لزوم التجوز
وهو غير عزيز في الاستعمالات، وكذا التأكيد مما لا مانع منه، فالتجوز جايز
والتأكيد واقع.
27

وفيه: أن جواز الأمرين مما لا كلام فيه، وإنما المقصود أن كلا منهما على
خلاف الأصل فلا باعث على الالتزام به من غير دليل مع إمكان القول بما لا يلزم
منه شئ من الأمرين.
وفيه: أن ما ذكر لا يفي بإثبات الوضع فإنه من الأمور التوقيفية وبمجرد ذلك
لا يحصل التوقيف وما يقوم مقامه ليصح إثبات الوضع به.
ويمكن دفعه بأن المقصود أنا نرى مدلول الأمر حال إطلاقه قابلا - بحسب
العرف - للتقييد بكل من الأمرين من دون لزوم تناقض في الظاهر حتى يلزم
بسببه الخروج عن ظاهر اللفظ ولا تكرار حتى يلتزم من جهته بحصول التأكيد، بل
المعنى المنساق من الصيغة قابل في نفسه لكل من الأمرين، فيفيد ذلك كون معناه
هو الأمر الجامع بين الأمرين.
ويرد عليه: أن غاية ما يثبت بذلك عدم وضعه لخصوص المرة الملحوظة
بشرط لا على أحد الوجهين المتقدمين ولا للتكرار، وأما وضعه للمرة لا بشرط
فمما لا ينفيه الدليل المذكور، فإنها أيضا قدر جامع بين المرة الملحوظة على
الوجه المتقدم والتكرار، إلا أن يقال: إنا نأخذ في الاحتجاج تقييده بالمرة
المأخوذة على الوجه المذكور لكن القول بعدم حصول التأكيد حينئذ محل منع،
ومع الغض عن ذلك فلو تم ما ذكر فإنما ينفي القول بوضعه لخصوص المرة أو
التكرار دون القول بالاشتراك اللفظي، فلا ينهض حجة على المطلوب. فتأمل.
ومنها: حسن الاستفهام عن إرادة المرة أو التكرار وهو دليل على كونه للأعم،
وضعفه ظاهر، الاستفهام إنما يحسن مع قيام الاحتمال وهو حاصل على القول
بوضعه للأعم وغيره على أن حسن الاستفهام ليس عن التكرار والمرة الملحوظة
لا بشرط فلا يفي ذلك بإثبات المقصود.
ومنها: أنه لو كان للتكرار لكان استعماله في المرة غلطا وكذا العكس، لانتفاء
العلاقة بينهما.
وهو ضعيف جدا، لوضوح كون الطلب المطلق جامعا بين الأمرين، فغاية
28

الأمر اسقاط الوحدة أو التكرار من المستعمل فيه، واستعمال الأمر في المطلق
وإرادة الخصوصية الأخرى من القرينة ولا حاجة في تصحيحه إلى ملاحظة علاقة
التضاد، إذ مع ضعف تلك العلاقة لا مسرح لها في المقام، على أن ذلك على فرض
صحته لا يجري بالنسبة إلى المرة الملحوظة لا بشرط شئ، لكونها أعم من
القيدين المفروضين، ولا يقضي ذلك أيضا ببطلان القول بالاشتراك.
ومنها: أنه نص أهل اللغة أنه لا فارق بين " افعل " و " يفعل " إلا كون الأول
إنشاء والثاني خبرا ومن البين صدق الثاني مع كل من الوحدة والتكرار فيكون
للأعم، فيكون الأول أيضا كذلك، وإلا ثبت هناك فرق آخر بينهما. وضعفه أيضا
ظاهر، لعدم ثبوت النقل المذكور وعلى فرض صحته فلا ينافي القول بوضعه للمرة
اللابشرط، على أنه قد يناقش في وضع المضارع للأعم مع ما اشتهر من دلالته
على التجدد والحدوث.
ومنها: ما روي عنه (صلى الله عليه وآله): أنه لما قال له سراقة في الحج ألعامنا هذا يا رسول
الله أم للأبد؟ فقال (صلى الله عليه وآله): " بل لعامنا هذا، ولو قلت نعم لوجب " (1) فأفاد (صلى الله عليه وآله) أن
الزيادة تثبت بقوله: " نعم " ولو كان للتكرار لما احتاج إلى ذلك، ذكر ذلك الشيخ (رحمه الله).
وفيه بعد ضعفه: أنه لا ينهض حجة للقول بوضعه للطبيعة، إذ قد يكون للمرة.
ولو دفع ذلك بسؤال سراقه - وهو من أهل اللسان - ففيه: أنه حينئذ تمسك
بحسن الاستفهام، وقد عرفت ما فيه.
قوله: * (لما تكرر الصوم والصلاة) *.
كأنه أراد بذلك أنه لولا ذلك لما فهموا التكرار من الأمر بالصوم والصلاة، وقد
فهموه منه قطعا، فدل ذلك على كونه حقيقة فيه، وجوابه الآتي يشير إلى ذلك.
قوله: * (إذ لعل التكرار... الخ) *.
يريد أنهم لو فهموا التكرار من نفس الأمر أفاد كونها حقيقة فيه، وإن استندوا
فيه إلى القرائن المنضمة وشواهد الحال فلا، وحينئذ فالاحتجاج مبني على الوجه

(1) مشكل الآثار للطحاوي: ج 2 ص 202.
29

الأول، فلا بد من إثباته حتى يتم الاحتجاج، ومجرد الاحتمال لا يكفي في صحة
الاستدلال، سيما مع وجود الدليل على التكرار من إجماع الأمة والأخبار
الواردة. لا يقال إن الأصل عدم ضم القرائن وعدم استناد الفهم إليها، إذ من البين
عدم جواز إثبات الأمور التوقيفية بمثل ذلك، بل نقول: إن الأصل عدم حصول
الفهم من نفس اللفظ وعدم وضع اللفظ لذلك.
قوله: * (وهو باطل وإن قلنا بجوازه في الأحكام) *.
وذلك لأن أحكام الشرع مبتنية على الحكم والمصالح، فقد يقال حينئذ بعد
استنباط وجه الحكمة والعلة في الحكم بثبوت الحكم في سائر موارده، وأما
الأوضاع اللفظية فلا يرتبط بالحكم والمصالح، غاية الأمر أن يلاحظ فيها بعض
المناسبات القاضية باختيار بعض الألفاظ للوضع لمعناه دون آخر، ومن البين أن
مثل ذلك لا يعتبر فيه الاطراد حتى يمكن القول بثبوت الوضع في موارد تلك
المناسبة، فلذا لا يمكن تحصيل الظن بالوضع من مجرد القياس بحسب الغالب،
ولو أمكن حصول الظن منه في مباحث الأوضاع لم يبعد القول بحجيته في المقام،
لما تقرر من حجية مطلق الظن في مباحث الألفاظ، إلا أنه نادر جدا، فلذا منع من
حجيته في مباحث الأوضاع من قال بحجية القياس في الأحكام.
قوله: * (فإن النهى يقتضي انتفاء الحقيقة... الخ) *.
لا يخفى أن هذا الفارق لو قضى بالفرق فإنما يقتضي عدم وضع النهي للتكرار،
للزوم اللغو في ارتكاب الوضع لعدم الحاجة إلى وضعه للتكرار، للاكتفاء في
إفادته بمجرد وضعه لطلب الترك. فلو كان الواضع مع ذلك لم يهمل الوضع له
ووضعه لخصوص التكرار كان ملاحظته ذلك في وضع الأمر مع عدم استفادته من
اللفظ أولى، فلا يصح جعل ذلك فارقا في المقام.
والظاهر أن مقصود المصنف بذلك تسليم دلالة النهي على التكرار من جهة
الوضع في الجملة، نظرا إلى وضعه لما يستلزمه حسب ما عرفت لا تسليم وضعه
لخصوص التكرار، ولا يجري ما ذكر في الأمر فيكون ذلك هو الفارق بين الأمر
والنهي، حيث يدل النهي عليه دون الأمر.
30

قوله: * (وأيضا التكرار في الأمر مانع من فعل غير المأمور به) *.
أورد عليه: بأن من قال بالتكرار إنما يقول بكونه للتكرار الممكن عقلا
وشرعا، فلا يكون للتكرار على نحو يمنع من فعل غيره مما يجب عليه فعله.
ويمكن دفعه بأن مقصوده بذلك أن التكرار الذي وضع له النهي هو الدوام وهو
يجتمع ويجامع كل فعل، ولا يمكن اعتبار مثله في الأمر فلا يمكن قياس الأمر
عليه، وملاحظة التكرار على وجه آخر حسب ما ذكر يتوقف على قيام دليل آخر
عليه غير القياس على النهي، ومع الغض عن ذلك فيمكن أن يقال: إن مراده إبداء
الفرق بين إرادة الدوام من النهي، فإنه مما لا حرج فيه أصلا، نظرا إلى أنه يجامع
كل فعل من الواجبات والمباحات وغيرهما بخلاف الأمر، فإنه وإن أريد به
التكرار على نحو يمكن اجتماعه مع سائر الواجبات إلا أنه لما لم يجتمع مع غيره
من سائر الأفعال كان فيه من الحرج ما لا يليق بحال الأمرين، ولا يحتاجون إلى
التعبير عنه إلا نادرا، فلم يوضع اللفظ بإزائه، والفرق المذكور كاف في نظر الحكيم.
وقد يجاب عنه أيضا بأن النهي يضاد الأمر ويناقضه فلا وجه لقياس أحد
الضدين على الآخر، ولو سلم صحة القياس حينئذ فقضية ذلك أن يقال: إن الأمر
نقيض النهي فإذا كان مقتضى النهي الدوام فينبغي أن يكون قضية الأمر عدمه.
قوله: * (بعد تسليم كون الأمر بالشئ نهيا عن ضده... الخ) *.
أراد بذلك المنع من كون الأمر بالشئ نهيا عن ضده أولا وبعد تسليمه أورد
عليه بما ذكره.
قوله: * (أو تخصيصه) *.
عطف على التسليم وترديده بين الوجهين من جهة عدم جريان المنع المذكور
على التقدير الثاني.
قوله: * (منع كون النهي الذي في ضمن الأمر للدوام) *.
لا يخفى أن المسلم عند المستدل كون صيغة النهي موضوعة للدوام، وليس
على القول باقتضاء الأمر بالشئ النهي عن ضده حصول صيغة النهي في ضمن
31

الأمر حتى يقال: بدلالتها على الدوام، والقدر المسلم من حصول معنى النهي فيه
هو طلب ترك الضد على نحو الطلب المتعلق بالفعل، فإن كان الطلب الحاصل في
الأمر للدوام كان النهي عن ضده كذلك وإلا فلا، فلا يتجه الاحتجاج إلا أن يقال:
إن قضية القول بكون الأمر بالشئ مقتضيا للنهي عن ضده أن مقتضى الأمر
حصول ما يقتضيه لفظ النهي المتعلق بضده، فيكون دلالتها على مطلوبية ترك الضد
على سبيل الدوام اللازمة للأمر - على حسب ما يدعيه - كاشفا عن كون طلب
الفعل أيضا كذلك، فإذا سلم هذا الاقتضاء تم المدعى.
والجواب عنه منع هذا الاقتضاء، فإن غاية ما يسلم من ذلك دلالته على النهي
عن ضده على نحو الطلب الحاصل في الأمر حسب ما ذكرنا.
فإن قلت بتبعية النهي للأمر حسب ما ذكره المصنف مما لا كلام فيه، لوضوح
أنه إذا تعلق الأمر بفعل دائما قضي بكون النهي عنه كذلك، وإن كان مرة كان النهي
عنه كذلك، لكن نقول: إن قضية ذلك كون الأمر المتعلق بطبيعة الفعل قاضيا بتعلق
النهي أيضا بطبيعة ضده وقضية النهي المتعلق بالطبيعة هو الدوام والاستمرار، لعدم
تحقق الترك إلا به.
قلت: لما كان قضية الأمر المتعلق بالطبيعة هو الإتيان بتلك الطبيعة في الجملة
ولو في ضمن المرة كان قضية النهي اللازم له هو طلب ترك ضده كذلك، فإنه القدر
اللازم للأمر المفروض، وكما أن إيجاد طبيعة الفعل يتحقق بفعله مرة فكذلك ترك
طبيعة الفعل، وإنما لا نقول به في النهي الصريح، نظرا إلى قضاء ظاهر الإطلاق
وللزوم اللغو في غالب الاستعمالات لقيام الضرورة على حصول الترك في الجملة،
ولا يجري شئ منهما في النهي التابع للأمر، كما لا يخفى هذا.
وقد ذكر للقائل بالتكرار حجج اخر موهونة جدا على نحو الحجج المذكورة:
منها: أنه يتبادر منه الدوام، ألا ترى أنك لو قلت: " أكرم أباك وأحسن إلى
صديقك وتحذر من عدوك " لم يفهم منها عرفا إلا الدوام. وهو أمارة الحقيقة.
وضعفه ظاهر، فإن الدوام فيها إنما يستفاد من المقام.
32

ومنها: أنه لو لم يكن للتكرار لكان الإتيان به في الزمان الثاني متوقفا على
قيام الدليل عليه ولكان قضاءا لا أداءا. ووهنه ظاهر سيما الأخير.
ومنها: أنه لا دلالة في الأمر على خصوص الوقت فإما أن لا يجب في شئ
من الأوقات أو يجب في الجميع أو يجب في البعض دون البعض، لا سبيل إلى
الأول وإلا لم يجب الفعل، ولا إلى الأخير لبطلان الترجيح بلا مرجح، فتعين
الثاني وهو المطلوب.
وجوابه ظاهر فإنا نقول بوجوبه في جميع تلك الأزمان بحيث لو اتي به في
أي جزء منها كان واجبا، ولا يلزم من ذلك وجوبه في الجميع على سبيل التكرار.
ومنها: أنه لو لم يكن للتكرار لما صح نسخه واستثناء بعض الأزمان منه مع
وضوح جواز الأمرين.
وأجيب عنه بأن ورود النسخ والاستثناء قرينة على التعميم ولا يمنعه أحد
والأولى أن يقال: إن شمول الوجوب للأزمان غير التكرار، كما عرفت في الجواب
السابق.
ومنها: قوله (عليه السلام): " إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم " فإنه يفيد التكرار
مدة استطاعته.
ويدفعه بعد الغض عن سنده أنه على فرض دلالته فإنما يفيد كون أوامره يراد
بها التكرار من جهة القرينة المذكورة، وأين ذلك من دلالته عليه بحسب اللغة؟ كما
هو المقصود، ومع الغض عنه فدلالة الرواية على إرادة التكرار غير ظاهرة، إذ قد
يكون " ما " موصولة أو موصوفة، فيراد به أنه إذا أمرتكم بشئ فأتوا من أفراده
الفرد الذي تستطيعونه، فلا يراد منكم مالا تستطيعونه ولا تقدرون عليه، وأين
ذلك من الدلالة على التكرار؟ وقد مر الكلام في بيان الرواية عند احتجاج القائل
بكون الأمر للندب.
قوله: * (ولو كان للتكرار لما عد ممتثلا) *.
لا يخفى أن القائل بكونه للتكرار إن جعل الجميع تكليفا واحدا - كما هو أحد
33

الوجهين فيه - تم ما ذكره، وأما إن جعله تكاليف شتى على حسب التكرار
الحاصل فيه فما ذكره ممنوع، لحصول الامتثال على القول به أيضا.
ويدفعه: أن القائل بالتكرار وإن قال بحصول الامتثال حينئذ إلا أنه لا يقول
بفراغ ذمة المكلف وأداء التكليف به، فمقصود المستدل من حصول الامتثال
امتثاله بأداء ما هو الواجب عليه القاضي بسقوط التكليف به، ولا يتم ذلك على
القول بالتكرار مطلقا.
فالحق في الجواب: أنه إن أراد بذلك عده ممتثلا بأداء خصوص المرة فهو
ممنوع، وإن أراد به عده ممتثلا عند الإتيان به مرة فمسلم، وهو إنما يدفع القول
بالتكرار، ولا يثبت به الوضع للمرة، لإمكان الوضع للأعم - أعني مطلق طلب
الطبيعة - فيتحقق الامتثال بالمرة من جهة حصولها به، كما سيشير إليه المصنف.
قوله: * (ولا ريب في شهادة العرف بأنه لو أتى... الخ) *.
لا يخفى أنه لا حاجة في دفع الاحتجاج إلى هذه الضميمة لاندفاعه بمجرد
قيام الاحتمال المذكور حسب ما قررنا، وإنما ذكره المصنف لتكميل الإيراد وبيان
كون الامتثال بحصول الطبيعة دون خصوص المرة فيكون شاهدا على مقصوده.
وقد عرفت تفصيل الكلام فيما فيه من النقض والإبرام، فلا حاجة إلى إعادته.
وقد يقال: إن مقصوده بذلك صدق الامتثال بالفعل الأول مع الإتيان به ثانية
وثالثة، ولو كان للمرة لما حصل الامتثال به، لانتفاء صدق المرة مع التكرار، وهذا
الوجه بعيد عن كلامه، إذ سياق عبارته صريح في كون الثاني والثالث أيضا محققا
للامتثال إلا أن ما ذكره واضح لا مجال لإنكاره، غير أنه لا يتم إلا على اعتبار
المرة بشرط لا على الوجه الأول، وهو أضعف الوجوه في المرة وأما على سائر
الوجوه فيها فلا يتم ذلك أصلا.
وقد يحتج للقول بالمرة أيضا بوجوه اخر موهونة:
منها: أن الأمر كسائر المشتقات من الماضي والمضارع واسم الفاعل
والمفعول وغيرها، ولا دلالة في شئ منها على الدوام والتكرار فكذا الأمر.
34

وفيه: أنه إن أريد بذلك قياس الأمر على غيره من المشتقات فوهنه واضح،
وإن أريد به الاستناد إلى الاستقراء، فإفادته الظن في مثل المقام غير ظاهر حتى
يصح الاستناد إليه.
ثم إن أقصى ما يفيده عدم الدلالة على التكرار وأما إفادته المرة فلا، بل
يمكن القول بدلالته على نفي المرة أيضا، فإنه كما لا يدل سائر المشتقات على
التكرار فلا دلالة فيها على المرة أيضا، وإنما يفيد مطلق الطبيعة، فينبغي أن يكون
الأمر أيضا كذلك، فهو في الحقيقة من شواهد القول بالطبيعة.
ومنها: أن صيغة الأمر إنشاء كسائر الإنشاءات والإيقاعات، وكما أن الحاصل
من قولك: " بعت " و " أجرت " و " هي طالق " ليس إلا بيع واحد وإجارة واحدة
وطلاق واحد، فكذا الحاصل من قولك: " اضرب " ليس إلا طلب ضرب واحد.
وضعفه ظاهر للخلط في الاحتجاج بين المنشئات بالإنشاء والأمر المتعلق
للإنشاء، فإن البيع والإجارة والطلاق هي الأمور المنشئات بالإنشاءات المذكورة
وهو أمر واحد وكذا المنشأ بقوله: " اضرب " طلب الضرب وليس إلا طلب واحد،
وإنما الكلام في المطلوب ومتعلق الطلب المفروض ولا ربط له باتحاد الأمر
الحاصل بالإنشاء.
ومنشأ الخلط في المقام كون المنشأ في الإنشاءات المذكورة هو نفس المبدأ،
فزعم كون المنشأ في الأمر أيضا ذلك فلاحظ الوحدة فيه، وليس كذلك لوضوح
كون المنشأ هنا نفس الطلب دون المبدأ، وسيأتي توضيح القول في ذلك إن شاء الله.
ومنها: أنه لو أمر الرجل وكيله بطلاق زوجته لم يكن له أن يطلقها إلا مرة
واحدة بلا خلاف بين الفقهاء، ولو كان للتكرار لجازت الزيادة عليها.
ويدفعه: أن غاية ما يلزم من ذلك دفع القول بالتكرار دون القول بالطبيعة
وإنما لم يجز الزيادة على المرة من جهة أنها المتيقن في المقام وما زاد عليه غير
معلوم فلا يجوز الإقدام عليه من دون دلالة الكلام عليه، وفيه تأمل يظهر من
ملاحظة ما قدمناه في بيان ثمرة الأقوال.
35

ومنها: أنه لو كان للتكرار لكان قولك: " صل مرارا " لغوا خاليا عن الفائدة
وكان قولك: " صل مرة واحدة " تناقضا. ووهنه ظاهر، إذ لو تم ما ذكر فلا يثبت
بذلك وضع الأمر للمرة غاية الأمر أن لا يكون موضوعا للتكرار فيوافق القول
بوضعه لطلب الطبيعة.
ومنها: أنه لو كان للتكرار لاستلزم أن يكون الأمر بكل عبادة ناسخا لما تقدمه
إذا كانت مضادة للأول، نظرا إلى أن الثاني يقتضي استيعاب الأوقات كالأول
ويدفعه - بعد ما عرفت من عدم دفعه القول بالطبيعة - أن القائل بالتكرار لا يقول به
إلا على حسب الإمكان العقلي والشرعي والعادي فمع وجود واجب آخر إنما
يكرران على وجه لا يزاحم أحدهما الآخر.
ومنها: أنه لو كان للتكرار لكان الأمر بعبادتين مختلفتين لا يمكن الجمع
بينهما، إما لكونه تكليفا بما لا يطاق أو يكون الأمر بكل منهما متناقضا للأمر
بالأخرى. ووهنه ظاهر مما عرفت فلا حاجة إلى إعادته.
تتميم: اختلف القائلون بعدم إفادة الأمر للتكرار في الأمر المعلق على شرط
أو صفة هل يفيد تكرره بتكرر الشرط أو الصفة أو لا، على أقوال:
أحدها: القول بإفادته ذلك مطلقا حكي القول به عن جماعة.
ثانيها: عدم إفادته التكرار كذلك، وعزي القول به إلى بعضهم، وربما يحكى
ذلك عن السيد لإطلاقه القول أولا بنفي اقتضائه للتكرار إلا أنه نص في أثناء
الكلام في الأدلة بأن الشرط قد يصير مع كونه شرطا علة، فيتكرر من حيث إنه كان
علة لا من حيث إنه كان شرطا ويعزى إلى الآمدي - مع حكايته الاتفاق
والإجماع على إفادته التكرار في العلة - أنه قال: والأصوليون من الحنفية قالوا:
إن الأمر المطلق يفيد المرة ولا يدل على التكرار وإذا علق بالعلة لم يجب تكرار
الفعل بتكرر العلة، بل لو وجب تكرره كان مستفادا من دليل آخر. والعضدي مع
حكايته الاتفاق فيها أيضا ذكر احتجاج المنكرين للتكرار في العلة، فظهر بذلك أن
هناك جماعة ينكرون إفادته التكرار في المعلق على العلة أيضا.
36

ثالثها: التفصيل بين العلة وغيرها فيفيد التكرار في الأول من جهة العلية دون
غيره وحكى القول به من جماعة من العامة والخاصة، منهم الشيخ والسيدان
والديلمي والفاضلان وفخر المحققين وشيخنا البهائي والآمدي والحاجبي
والرازي والبيضاوي وعزاه بعضهم إلى المحققين.
والنزاع في المقام إما في وضع الصيغة حينئذ حتى يقال بحصول وضع خاص
لها عند تعليقها على الشرط أو الصفة أو من جهة استفادة ذلك من التعليق إما لقضاء
وضعها التركيبي بذلك أو لكون التعليق ظاهرا فيه من جهة إفادته الإناطة بين
الشرط والجزاء والاقتران بينهما. والمختار عندنا هو القول بالتفصيل.
وتوضيح المقام أن يقال: إنه إن كان الشرط مشتملا على أداة العموم كقولك:
" كلما جاءك زيد فأكرمه " فلا إشكال في إفادته التكرار، قال بعض الأفاضل: إنه
مما لم يختلف فيه اثنان وهو واضح، نعم من أنكر وضع لفظ للعموم ربما ينكر ذلك.
هذا إذا كان عموما استغراقيا وأما لو كان بدليا كما في قولك: " أي وقت جاءك
فأكرمه " لم يكن الحال فيه على ما ذكر وكان دلالته على التكرار محل نظر.
ومنه " متى " كما في قولك: " متى جاءك زيد فأكرمه " ويظهر من بعض
أساطين اللغة إنكار دلالته على التكرار، لوقوعه موقع " إن " وهي لا تقتضيه،
ولكونه ظرفا لا يقتضي التكرار في الاستفهام فلا يقتضيه في الشرط.
وعن بعض النحاة: أنه إن زيد عليه " ما " كانت للتكرار نحو: " متى ما جاءك
فأكرمه " وأورد عليه: أن " ما " الزائدة لا يفيد غير التوكيد. ويرده ملاحظة العرف،
فإن المنساق منه عرفا هو العموم، بل وكذا مع الخلوص عن " ما " الزائدة، نعم هو
مع " ما " أظهر في ذلك جدا.
وإن خلا عن أداة العموم فإن كان المعلق عليه علة في ثبوت الحكم أفاد
تكرره بتكررها، إذ هو المنساق منه عرفا. وكون العلل الشرعية معرفات لا يمنع
منه، فإن المتبع فهم العرف، وفهم التكرار حينئذ إما من جهة السببية، حيث إن
تكرر السبب قاض بتكرر المسبب، أو من جهة التعليق والسببية معا، وكأن الثاني
37

هو الأظهر، وهو الذي يناسب المقام، إذ دلالة السببية على تكرر المسبب بتكرره
أمر آخر لا ربط له بالأمر ولا بتعليقه على الشرط، ولا ينافي ذلك دلالة ما دل على
السببية على التكرار، فإن الدلالة تتقوى بملاحظة التعليق كما لا يخفى عند التأمل
في الاستعمالات.
وكيف كان: فدلالته على التكرار مما لا مجال للتأمل فيه، مضافا إلى الاجماع
المحكي عليه في كلام جماعة من الأصوليين، منهم الآمدي والحاجبي والرازي
والعضدي. ولا يبعد القول بذلك بالنسبة إلى التعليق على الوصف، والاتفاق محكي
بالنسبة إليه أيضا.
والمراد بالعلة في المقام ما يكون مناطا لثبوت الحكم باعثا على حصوله لا
مجرد السبب في الجملة ولو كانت ناقصة كالجزء الأخير من العلة ونحوه، فإن
غالب التعليقات مبنية عليه.
وإن لم يثبت كونه علة للجزاء فالظاهر عدم إفادته التكرار بتكرر الشرط أو
الصفة، لما عرفت من كون الأمر موضوعا لطلب الطبيعة من غير دلالة على
التكرار. فحصول الدلالة في المقام إما لوضع جديد يتعلق بالأمر أو بالهيئة
التركيبية الخاصة وهو مدفوع بالأصل والتبادر، أو من جهة كون التعليق قرينة
على ذلك وهو أيضا فرع الفهم منه عرفا، وهو غير ظاهر بعد ملاحظة الاستعمالات
العرفية، بل الظاهر خلافه، ألا ترى أنه لو قال السيد لعبده أو المالك لوكيله: " إن
جاءك زيد فأعطه درهما " لم يفهم منه إلا إعطاء درهم واحد، فلو أعطاه لكل
مجئ درهما كان له أن يعاقب العبد على ذلك وكان للمالك أن لا يحتسبه مع
الوكيل ويغرمه لذلك، كيف والمعنى المستفاد منه قابل للتقييد بكل من المرة
والتكرار؟ ولو كان المنساق منه بملاحظة التعليق المفروض هو التكرار لما كان
المفهوم منه حينئذ قابلا لذلك.
حجة القول بإفادته التكرار أمور:
أحدها: أن الغالب في التعليق على الشروط هو إفادة التسبيب وكون الأول
38

قاضيا بترتب الثاني عليه، ألا ترى أن قولك: " إن جاءك زيد فأكرمه " و " إن ضربك
فاشتمه " و " إن قاتلك فاقتله " و " إن أعانك فأعنه " و " إن زارك فزره " إلى غير
ذلك من الأمثلة إنما يفيد ترتب الثاني على الأول وتسببه عنه، ألا ترى أنه نص
المنطقيون بأن وضع المقدم ينتج وضع التالي ورفع التالي ينتج رفع المقدم، إذ
وجود العلة يستلزم وجود المعلول ورفع المعلول يستلزم ارتفاع علته من دون
العكس في المقامين، إذ قد يخلف العلة علة أخرى فإذا كان المعلق عليه علة
لحصول المعلق قضى تكرره بتكرره، قضاء لحق العلية.
وحينئذ يمكن تقرير هذا الاحتجاج لإثبات الوضع الهيئي، ليكون الهيئة
المفروضة حقيقة في ذلك، لدعوى أنه المتبادر منه عند الإطلاق وإن يقرر لأجل
الحمل عليه مع الإطلاق، مع كون وضعه للأعم، نظرا إلى الغلبة المدعاة القاضية
بظهوره فيه حين الإطلاق، فكان الثاني أوضح في المقام، إذ دعوى الوضع في
المقام لا يخلو عن البعد.
وكيف كان فيدفعه: أنه لو سلم الغلبة المدعاة وبلوغها إلى حيث يقضى بفهم
ذلك حال الإطلاق فالمفهوم منه إنما هو التسبيب في الجملة، يعني: أن وجود
الشرط في الجملة علة لحصول الجزاء، وقضية ذلك أن تحقق الشرط أولا قاض
بتفرع الجزاء عليه فحصوله مرة علة لحصول الجزاء، ولا يفيد ذلك كون كل حصول
من حصولاته علة لحصوله مطلقا، فإن ذلك مما لا يستفاد من مجرد التعليق أصلا
ولا غلبة له في الاستعمالات ولا يوافقه فهم العرف قط حسب ما عرفت.
نعم لو قام دليل من الخارج على كون الشرط علة مطلقة لترتب الجزاء تكرر
على حسب تكرره كما ذكرنا، كما هو الحال في الأخبار الواردة في ثواب
الأعمال والعقوبات المتفرعة عليها، وما يذكر في المواعظ ونحوها وما ذكر من
كلام المنطقيين إنما أرادوا به ما ذكرناه من دون أن يدعوا إفادته كون الأول علة
للثاني مطلقا كيف وقد صرحوا بأن " ان " و " إذا " من أدوات الإهمال؟ فلا تفيد
كلية ثبوت الجزاء عند تحقق الشرط، ولو أفاد كونه علة له مطلقا لأفاد ذلك قطعا،
39

وإنما قالوا به مع وجود أداة العموم في التعليق كقولك: " كلما جاءك زيد فأكرمه "
ولا كلام حينئذ في إفادته ذلك كما مر.
ثانيها: أنه لو لم يفد تكرر الجزاء بتكرر الشرط، وكان المستفاد منه هو
الإتيان به عند حصول الشرط أول مرة لكان الإتيان به مع الثاني أو الثالث إذا ترك
عند حصوله أولا، قضاءا لفوات محله من الإتيان به عقيب المرة الأولى، وحينئذ
فلا يجب الإتيان به إلا بأمر جديد بناء على ما هو التحقيق في القضاء.
ووهنه ظاهر فإن كون الوجوب حاصلا عند الحصول الأول من الشرط
خاصة لا يقضي بتوقيت الوجوب بحصوله الثاني حتى يكون ذلك قاضيا بانتفاء
الوجوب الثابت له من جهة حصوله الأول عند حصوله الثاني بل نقول: إن قضية
وجوبه الأول هو بقاء الوجوب إلى أن يؤديه المكلف، نظرا إلى إطلاق الأمر، فغاية
الأمر أن لا يتكرر الوجوب على حسب تكرر الشرط، لا أنه ينتهي الأمر به
بحصوله الثاني، وهو ظاهر. نعم لو كان الشرط مفيدا للتوقيت، كما في " إذا "
التوقيتية صح القول بلزوم ذلك ولا مانع من الالتزام به.
ثالثها: أن تكرر العلة قاض بتكرر المعلول فكذا الشرط قياسا عليه. ووهنه
واضح سيما بعد وضوح الفرق بينهما.
رابعها: أن الشرط المستدام يدوم الجزاء بدوامه، كما إذا قلت: " إذا وجد شهر
رمضان فصمه " فكذا ما بمنزلته من التكرار فيقترن الجزاء بكل حصول من
حصولاته، كما يقترن حصوله بحصوله المستدام.
وضعفه ظاهر أيضا، لمنع استدامة الجزاء بحصول الشرط المستدام. ألا ترى
أنه لو قيل: " إن كان زيد في البلد فأعطه درهما " أو " إن كان حيا فتصدق من مالي
دينارا " ونحو ذلك من الأمثلة لم يفد إلا حصول ذلك مرة عند حصول الشرط. نعم
لو كان هناك قرينة على إرادة التطبيق أفاد ذلك، وهو أمر آخر لا كلام فيه ونقول
بمثله في المقام عند قيام القرينة عليه كذلك.
* * *
40

معالم الدين:
أصل
ذهب الشيخ (رحمه الله) وجماعة إلى أن الأمر المطلق يقتضي الفور
والتعجيل، فلو أخر المكلف عصى، وقال السيد - رضي الله - هو
مشترك بين الفور والتراخي، فيتوقف في تعيين المراد منه على دلالة
تدل على ذلك.
وذهب جماعة، منهم المحقق أبو القاسم ابن سعيد، والعلامة -
رحمهما الله تعالى - إلى أنه لا يدل على الفور، ولا على التراخي، بل
على مطلق الفعل، وأيهما حصل كان مجزيا. وهذا هو الأقوى.
لنا: نظير ما تقدم في التكرار، من أن مدلول الأمر طلب حقيقة
الفعل، والفور والتراخي خارجان عنها، وأن الفور والتراخي من
صفات الفعل، فلا دلالة له عليهما.
حجة القول بالفور أمور ستة:
الأول: أن السيد إذا قال لعبده: اسقني، فأخر العبد السقي من غير
عذر، عد عاصيا، وذلك معلوم من العرف. ولولا إفادته الفور، لم يعد
عاصيا.
وأجيب عنه: بأن ذلك إنما يفهم بالقرينة، لأن العادة قاضية بأن
41

طلب السقي إنما يكون عند الحاجة إليه عاجلا، ومحل النزاع ما
تكون الصيغة فيه مجردة.
الثاني: أنه تعالى ذم إبليس لعنه الله، على ترك السجود لآدم (عليه السلام)،
بقوله سبحانه: * (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) * ولو لم يكن الأمر للفور
لم يتوجه عليه الذم، ولكان له أن يقول: إنك لم تأمرني بالبدار، وسوف
أسجد.
والجواب: أن الذم باعتبار كون الأمر مقيدا بوقت معين. ولم يأت
بالفعل فيه. والدليل على التقييد قوله تعالى: * (فإذا سويته ونفخت فيه
من روحي فقعوا له ساجدين) *.
الثالث: أنه لو شرع التأخير لوجب أن يكون إلى وقت معين،
واللازم منتف. أما الملازمة، فلأنه لولاه لكان إلى آخر أزمنة الإمكان
اتفاقا، ولا يستقيم، لأنه غير معلوم، والجهل به يستلزم التكليف
بالمحال، إذ يجب على المكلف حينئذ أن لا يؤخر الفعل عن وفته، مع
أنه لا يعلم ذلك الوقت الذي كلف بالمنع عن التأخير عنه. وأما انتفاء
اللازم فلأنه ليس في الأمر إشعار بتعيين الوقت، ولا عليه دليل من
خارج.
والجواب: من وجهين: أحدهما - النقض بما لو صرح بجواز
التأخير، إذ لا نزاع في إمكانه. وثانيهما - أنه إنما يلزم تكليف المحال لو
كان التأخير متعينا، إذ يجب حينئذ تعريف الوقت الذي يؤخر إليه. وأما
إذا كان ذلك جائزا فلا، لتمكنه من الامتثال بالمبادرة، فلا يلزم التكليف
بالمحال.
الرابع: قوله تعالى: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) * فإن المراد
بالمغفرة سببها، وهو فعل المأمور به، لا حقيقتها، لأنها فعل الله سبحانه،
42

فيستحيل مسارعة العبد إليها، وحينئذ فتجب المسارعة إلى فعل
المأمور به. وقوله تعالى: * (فاستبقوا الخيرات) * فإن فعل المأمور به من
الخيرات، فيجب الاستباق إليه. وإنما يتحقق المسارعة والاستباق بأن
يفعل بالفور.
وأجيب: بأن ذلك محمول على أفضلية المسارعة والاستباق، لا
على وجوبهما، وإلا لوجب الفور، فلا يتحقق المسارعة والاستباق،
لأ نهما إنما يتصوران في الموسع دون المضيق، ألا ترى أنه لا يقال لمن
قيل له " صم غدا " فصام: " إنه سارع إليه واستبق ". والحاصل: أن
العرف قاض بأن الإتيان بالمأمور به في الوقت الذي لا يجوز تأخيره
عنه لا يسمى مسارعة واستباقا، فلا بد من حمل الأمر في الآيتين على
الندب، وإلا لكان مفاد الصيغة فيهما منافيا لما تقتضيه المادة. وذلك
ليس بجائز فتأمل!.
الخامس: أن كل مخبر كالقائل: " زيد قائم، وعمرو عالم " وكل
منشئ كالقائل: " هي طالق، وأنت حر " إنما يقصد الزمان الحاضر.
فكذلك الأمر، إلحاقا له بالأعم الأغلب.
وجوابه: أما أولا فبأنه قياس في اللغة، لأ نك قست الأمر في إفادته
الفور على غيره من الخبر والإنشاء، وبطلانه بخصوصه ظاهر. وأما ثانيا
فبالفرق بينهما بأن الأمر لا يمكن توجهه إلى الحال، إذ الحاصل لا
يطلب، بل الاستقبال، إما مطلقا، وإما الأقرب إلى الحال الذي هو عبارة
عن الفور، وكلاهما محتمل، فلا يصار إلى الحمل على الثاني إلا لدليل.
السادس: أن النهي يفيد الفور، فيفيده الأمر، لأنه طلب مثله.
وأيضا الأمر بالشئ نهي عن أضداده، وهو يقتضي الفور بنحو ما مر
في التكرار آنفا.
43

وجوابه: يعلم من الجواب السابق، فلا يحتاج إلى تقريره.
احتج السيد (رحمه الله) بأن الأمر قد يرد في القرآن واستعمال أهل اللغة
ويراد به الفور، وقد يرد ويراد به التراخي. وظاهر استعمال اللفظة في
شيئين يقتضي أنها حقيقة فيهما ومشتركة بينهما. وأيضا فإنه يحسن بلا
شبهة أن يستفهم المأمور - مع فقد العادات والأمارات -: هل أريد منه
التعجيل أو التأخير؟ والاستفهام لا يحسن إلا مع الاحتمال في اللفظ.
والجواب: أن الذي يتبادر من إطلاق الأمر ليس إلا طلب الفعل.
وأما الفور والتراخي فإنهما يفهمان من لفظه بالقرينة. ويكفي في حسن
الاستفهام كونه موضوعا للمعنى الأعم، إذ قد يستفهم عن أفراد
المتواطي لشيوع التجوز به عن أحدها، فيقصد بالاستفهام رفع
الاحتمال. ولهذا يحسن فيما نحن فيه أن يجاب بالتخيير بين الأمرين،
حيث يراد المفهوم من حيث هو، من دون أن يكون فيه خروج عن
مدلول اللفظ. ولو كان موضوعا لكل واحد منهما بخصوصه، لكان في
إرادة التخيير بينهما منه خروج عن ظاهر اللفظ وارتكاب للتجوز، ومن
المعلوم خلافه.
44

قوله: * (ذهب الشيخ (رحمه الله) وجماعة... الخ) *.
اختلفوا في دلالة الأمر على الفور أو التراخي على أقوال. وهذا الخلاف بين
من نفى دلالته على التكرار، وأما كل من قال بدلالته على التكرار فهو قائل بكونه
للفور حسب ما نص عليه جماعة وكان ذلك لاستلزام التكرار للفور بزعمه، حيث
إن أول أزمنة الإمكان مما يجب الإتيان بالفعل عنده بمقتضى الدوام وإلا
فالملازمة الاتفاقية بين القولين لا يخفى عن بعد، مضافا إلى أنه لو كان الفور
مدلولا آخر للصيغة عندهم غير الدوام على حسب ما تخيله القائل بالمرة لزم
اعتبار الدوام حينئذ بالنسبة إلى مصداق الفور لا إلى آخر أزمنة الإمكان ولا يقول
به القائل بكونه للدوام، فاللازم حينئذ عدم كون الفورية مدلولا آخر للصيغة، بل
ليس مفاد الصيغة عنده إلا طلب طبيعة الفعل على وجه الدوام، ويتبعه لزوم الفور
حسب ما قررناه. وفيه تأمل سيظهر الوجه فيه.
وقد يقال: إنه كما يقول القائل المذكور بوجوب الفور كذا يقول بالتراخي
أيضا، بل بوجوبه فإنه كما يحكم بوجوب الفعل في أول الأزمنة كذا يقول بوجوبه
في آخرها، فيتساوى نسبته إلى القولين ويكون قائلا بوجوب الفور والتراخي
معا، وذلك غير ما هو الظاهر من القول بالفور والتراخي، فإنه يراد به حصول تمام
المطلوب بأدائه على الفور أو التراخي.
ثم إن الخلاف في المقام إما في وضع الصيغة ودلالتها على الفور أو التراخي
من جهة الوضع أو في مطلق استفادة الفور أو التراخي منها ولو من جهة انصراف
الإطلاق ودلالة الظاهر من غير تعلق الوضع بخصوص شئ منهما أو في الأعم
من ذلك ومن انصراف الأوامر المطلقة إليه ولو من جهة قيام القرائن العامة عليه
حسب ما يشير إليه المصنف في الفائدة الآتية.
وهذا الوجه إنما يتم بالنسبة إلى الأوامر الواردة في الشريعة دون مطلق الأمر،
فإن القرائن العامة إنما يقال بنصب الشارع إياها في الشريعة ولا يجري القول به
في مطلق الأوامر، وقد يقال بجريانه فيها مطلقا لما يأتي الإشارة إن شاء الله.
45

ثم إن لهم في المسألة أقوالا عديدة:
أحدها: القول بالفور، ذهب إليه جماعة من المتقدمين، منهم الشيخ منا والحنفية
والحنابلة والقاضي وجماعة من الأصوليين من العامة واختاره أيضا جماعة من
المتأخرين. والمراد بالفور إما ثاني زمان الصيغة أو أول أوقات الإمكان أو
الفورية العرفية فلا ينافيه تخلل نفس أو شرب ماء ونحو ذلك أو الفورية العرفية
المختلفة بحسب اختلاف الأفعال، كطلب الماء وشراء اللحم والذهاب إلى القرية
القريبة أو البلاد البعيدة على اختلافها في البعد وتهيؤ الأسباب.
أو المراد به ما لا يصل إلى حد التهاون وعدم الاكتراث بالأمر، والظاهر أن
أحدا لا يقول بجواز التأخير إلى الحد المذكور إن أفاد التأخير ذلك، وذلك مما لا
ربط له بدلالة الصيغة، بل للمنع من التهاون بأوامر الشرع وعدم الاكتراث بالدين،
وهو أمر خارج عن مقتضى الأمر حتى أنه لو اخر إليه لم يسقط منه التكليف على
القول المذكور وإن قلنا بسقوط التكليف بفوات الفور فليس ما ذكر تحديدا للفور
إنما هو بيان لحد التأخير في التراخي من الخارج لا بمقتضى الصيغة، إذ لا إشعار
في نفس الصيغة بذلك أصلا، فجعله بيانا لحد الفور كما يظهر من بعض المتأخرين
ليس على ما ينبغي.
وكيف كان فالقول بالفور ينحل إلى أقوال عديدة:
فإن منهم من فسره بأول أزمنة الإمكان. وفسره بعضهم بالفورية العرفية
المختلفة بحسب اختلاف الأفعال. وفسره بعضهم بما لا يصل إلى حد التهاون.
وأطلق بعضهم فيحتمل كلا من الوجوه الأربعة (1) وربما يحمل على الفورية العرفية
بأحد التفسيرين المذكورين.
ثم إن ظاهر القائل بالفورية تعينه، وعن القاضي التخيير بينه وبين العزم
على الفعل في ثاني الحال.

(1) كذا، والظاهر: الوجوه الثلاثة.
46

ثم إن الظاهر من بعضهم - كما يظهر عن بعض الأدلة الآتية - دلالته عليه
بالوضع. وذهب بعضهم إلى دلالته عليه من جهة انصراف الإطلاق إليه ومدلوله
بحسب الوضع هو طلب مطلق الطبيعة. وذهب بعضهم إليه من جهة قيام القرائن
العامة عليه.
وهل يكون الفور حينئذ واجبا أولا؟ فإذا أخر وعصى سقط الفور وبقي
وجوب الفعل على إطلاقه من غير لزوم التعجيل فلا يعصى بالتأخير إلى الزمان
الثالث وما بعده، أو أنه يجب التعجيل أيضا فيعصي بالتأخير إلى الثالث ومنه إلى
الرابع وهكذا؟ قولان محكيان. وهناك قول ثالث وهو سقوط الفعل بالتأخير عن
الأول، كما سيشير إليه المصنف.
فهذه أقوال تسعة في القول بالفور، ولكن يقوم الاحتمال فيه بما يزيد على
ذلك كثيرا، كما يظهر من ملاحظة الاحتمالات بعضها مع بعض.
ثانيها: القول بدلالته على التراخي، ذهب إليه جماعة من العامة، وحكي
القول به عن الجبائيين والشافعية والقاضي أبي بكر وجماعة من الأشاعرة وأبي
الحسين البصري.
والمراد بالتراخي هو ما يقابل القول بالفور على أحد الوجوه الأربعة المتقدمة
دون الوجه الخامس، لما عرفت، وقد عرفت أن ذلك لم يكن تحديدا لمفاد الفورية
حتى يقابله التراخي.
ثم إن المقصود به جواز التراخي بأن يكون مفاد الصيغة جواز التأخير دون
وجوبه إذ لا قائل ظاهرا بدلالته على وجوبه.
نعم ربما يحكى هناك قول بوجوب التراخي، حكاه شارح الزبدة عن بعض
شراح المنهاج قولا للجبائيين وبعض الأشاعرة، لكن المعروف عن الجبائيين
القول بجواز التراخي وهو المحكي أيضا عن الشافعية.
فالقول المذكور مع وهنه جدا - حيث لا يظن أن عاقلا يذهب إليه - غير ثابت
الانتساب إلى أحد من أهل الأصول.
47

نعم ربما يقرب وجود القائل، ويرفع الاستبعاد المذكور ما عزاه جماعة منهم
الإمام والآمدي والعلامة (رحمه الله) إلى غلاة الواقفية من توقفهم في الحكم بالامتثال مع
المبادرة أيضا، لجواز أن يكون غرض الآمر هو التأخير، فإذا جاز التوهم المذكور
فلا استبعاد في ذهاب أحد إلى وجوبه أيضا، بل وفي ما ذكر إشعار بوجود القائل
به، إذ لو اتفقت الكلمة من الكل على الحكم بالامتثال مع التعجيل لم يحتمل الوجه
المذكور حتى يصح التوقف فيه لكن نص في الإحكام والنهاية بأن المتوقف
المذكور خالف إجماع السلف.
وكيف كان فلو ثبت القول المذكور فهو مقطوع الفساد، إذ كون أداء المأمور به
على وجه الفور قاضيا بأداء الواجب مما يشهد به الضرورة بعد الرجوع إلى
العرف، فهذا القول على فرض ثبوت القول المذكور ينحل إلى قولين ويقوم فيه
وجوه عديدة حسب ما أشرنا.
ثم إن مقصود القائل بجواز التراخي أن الصيغة بنفسها دالة على جواز التأخير،
ما حسب نص عليه غير واحد منهم ويقتضيه ظاهر التقابل بين الأقوال، وإلا فعلى
القول بدلالته على طلب مطلق الطبيعة - كما سيجئ الإشارة إليه - يفيد ذلك جواز
التراخي أيضا من جهة الإطلاق أو بضميمة الأصل، ولو كان مراد القائل بجواز
التراخي ما يعم ذلك لاتحد القولان.
ثالثها: أنه حقيقة لغة في طلب مطلق الطبيعة من غير دلالة في الصيغة على
الفور ولا التراخي، فإذا أتى به على أي من الوجهين كان ممتثلا من غير فرق،
وهذا هو الذي اختاره المحقق والعلامة والسيد العميدي وأطبق عليه المتأخرون
كالشهيدين والمصنف وشيخنا البهائي وتلميذه الجواد وغيرهم واختاره جماعة
من محققي العامة كالرازي والآمدي والحاجبي والعضدي.
وقد ذهب بعض القائلين به إلى حمل الأوامر الشرعية على الفور، لقيام
القرائن العامة عليه في الشرع، وبعضهم إلى انصراف إطلاق الطلب إليه من غير
وضعه له وقد أشرنا إليه في القائلين بالفور.
48

رابعها: القول بالوقف، فلا يدري أهو للفور أو لا؟ ذهب إليه جماعة من العامة
وعزاه في النهاية إلى السيد، وكلامه في الذريعة يأبى عنه، وهم فريقان:
أحدهما: من يقطع بحصول الامتثال بالمبادرة ويتوقف في جواز التأخير
وخروجه حينئذ عن عهدة التكليف، وهو الذي اختاره إمام الحرمين حاكيا له عن
المقتصدين في الوقف.
ثانيهما: من يتوقف في حصول الامتثال بالمبادرة أيضا، وهم الغلاة في
الوقف.
خامسها: القول بالاشتراك اللفظي بين الفور والتراخي، وعزى المصنف
وغيره ذلك إلى السيد، واحتجاجه في الذريعة باستعماله في الفور والتراخي
وظهور الاستعمال في الحقيقة يشير إليه إلا أن كلامه في تحرير المذهب صريح
في اختياره القول بالطبيعة.
ويمكن حمل احتجاجه بما ذكر على أن طلب ترك الطبيعة على سبيل الفور
أو التراخي نحوان من الطلب، وعلى القول بوضعه لمطلق الطلب يكون كل من
الإطلاقين حقيقة، فيوافق أصالة الحقيقة، بخلاف ما لو قيل بوضعه لخصوص
أحدهما، فالمقصود إذن بيان أصالة الحقيقة في كل من الإطلاقين حسب ما ذكرنا
لا فيما إذا استعمل في خصوص كل من الأمرين، فإن ذلك غير معلوم، ولا مفهوم
من كلامه، فلا يكون ما ذهب إليه قولا خامسا إلا أنه ذهب إلى حمل أوامر الشرع
على الفور كحملها على الوجوب، نص عليه في بحث دلالة الأمر على الوجوب أو
غيره، وظاهره كونه حقيقة شرعا في خصوص الفور فيكون إذا مذهبا آخر إلا أنه
يندرج إذن في جملة أقوال القائلين بالفور حسب ما ذكرنا، فيرتقي الأقوال في
المسألة إلى خمسة عشر قولا وبملاحظة الوجوه المحتملة فيها يحتمل الزيادة
على ذلك بكثير.
بقي الكلام في الثمرة بين الأقوال المذكورة فنقول: إن الثمرة بين القول
بالفور والتراخي ظاهرة، وكذا بينه وبين القول بالطبيعة، وبينه وبين القول بالوقف
49

على الوجه الأول، إن قلنا بكون كل من الفور والطبيعة مطلوبا مستقلا لا يسقط
طلب الطبيعة بسقوطه وإلا فلا يبعد القول بلزوم الفور على القول المذكور تحصيلا
ليقين الفراغ بعد اليقين بالاشتغال، ويحتمل دفع احتمال وجوب الفور حينئذ
بالأصل، إلا أنه خلاف التحقيق بعد إجمال اللفظ والشك في المكلف به وعلى
الوجه الثاني فالظاهر وجوب الإتيان به على الوجهين، تحصيلا لليقين بالفراغ
بعد اليقين بالاشتغال.
هذا إذا أمكن تكرار الفعل وإلا تخير بين الوجهين وبما قررنا يظهر الفرق بينه
وبين القول بالاشتراك اللفظي أيضا إن ثبت القول به.
وأما الثمرة بين القول بجواز التراخي والقول بالطبيعة فقد يقرر فيما إذا أخر
الفعل عن أول الأزمنة ومات فجأة أو لم يتمكن من الإتيان به بعده، فعلى القول
بالتراخي لا عقاب لترتب الترك حينئذ على إذن الآمر وعلى القول بالطبيعة
يستحق العقوبة، لتفويته المأمور به عمدا وإن كان ذلك من جهة ظنه الأداء في
الآخر، فإن ذلك الظن إنما يثمر مع أداء الواجب وأما مع عدمه فهو تارك للمأمور
به، وقضية وجوبه ترتب استحقاق العقوبة على تركه. وهذا هو الذي ذهب إليه
الحاجبي واختاره بعض محققي مشايخنا (قدس سره).
ويشكل ذلك بأن جواز التأخير حينئذ وإن كان بحكم العقل إلا أن حكم العقل
يطابق حكم الشرع فيثبت جواز التأخير في الشرع أيضا، فلا فرق بينه وبين الوجه
الأول. وهذا هو الأظهر، إذ أقصى الفرق بين الوجهين تنصيص الشارع في الأول
بجواز التأخير وعدمه هنا، لكن بعد حكم العقل بجوازه وقيامه دليلا على حكم
الشرع يثبت الجواز في المقام بحكم الشرع أيضا، والفرق بين التجويزين مما لا
وجه له.
وقد يقرر الثمرة بين القولين بوجه آخر، وذلك أنه على القول بالتراخي يجوز
التأخير ما لم يظن الفوات به، وأما على القول بالطبيعة فإنما يجوز التأخير مع ظن
التمكن من أدائه في الآخر، وأما مع الشك فيه فلا، إذ المفروض إيجاد الطبيعة
50

فإذا شك المكلف في تفريغ ذمته مع التأخير لم يجز الإقدام عليه، إذ قضية
حصول الاشتغال هو تحصيل الفراغ ولا اطمينان إذن بحصوله، فلا يجوز له إلا
الاشتغال به، إذ لا أقل في حكم العقل بجواز التأخير من الظن بأداء الواجب معه.
وفيه أيضا تأمل.
والثمرة بين القول بالتراخي والقول بالوقف على مذهب أهل الاقتصاد
ظاهرة، بناء على الوجه الثاني منه، للزوم الفور على ذلك القول على المختار
حسب ما أشرنا إليه، وعلى الوجه الأول فالحال فيه على نحو ما ذكر في الثمرة
بينه وبين القول بالطبيعة، وعلى قول أهل الغلو، فالثمرة أيضا ظاهرة على ما مر.
ومما ذكرنا يظهر الحال في الثمرة بينه وبين القول بالاشتراك اللفظي إن ثبت
القول به، وكذا بين القول بالطبيعة والقول بالوقف أو الاشتراك وبين قولي الوقف
وبين كل منهما والقول بالاشتراك، كما لا يخفى على المتأمل فيما قررناه.
قوله: * (وأيهما حصل كان مجزئا) *.
يعني: من دون عصيان للأمر المذكور، نظرا إلى الإتيان بمقتضاه، ولا ينافي
ذلك حصول العصيان بالتأخير من جهة أخرى فيما إذا دل العقل على وجوب
المبادرة أو حكم به العرف، كما إذا حصل له ظن الوفاة فأخره ثم أخطأ ظنه.
قوله: * (لنا نظير ما تقدم في التكرار) *.
ما مر من الكلام هناك جار في المقام فلا حاجة إلى إعادته.
وقد يورد في المقام بأن القول بكون الأمر موضوعا لمطلق طلب الفعل من
غير دلالة على الفور ولا التراخي لا يوافق ما تقرر عند النحاة من دلالة الفعل على
أحد الأزمنة الثلاثة، وقد جعلوه مايزا بين الأسماء والأفعال، فكيف يقال بخروج
الزمان عن مدلوله على نحو المكان حسب ما ذكره المصنف وغيره في المقام؟
ويمكن الجواب عنه بوجوه:
أحدها: أن ما ذكر في حد الفعل إنما هو بالنسبة إلى أصل وضع الأفعال وإلا
فقد يكون الفعل منسلخا عن الدلالة على الزمان، كما هو الحال في الأفعال
51

المنسلخة عن الزمان، فلا مانع من أن يكون فعل الأمر أيضا من ذلك، حسبما
يشهد به فهم العرف على ما قرره، إذ ليس المتبادر منه إلا طلب الفعل مطلقا من
غير دلالة على زمان إيقاع المطلوب، كمكانه وآلته.
وفيه: أنهم لم يعدوا فعل الأمر والنهي من الأفعال المنسلخة عن الزمان، ولو
قيل بعدم دلالتهما على الزمان لكان اشتهارهما بالانسلاخ أولى من سائر الأفعال
المنسلخة، بل نصوا على خلافه وجعلوا مدلوليهما خصوص الحال.
وربما حكي عليه إجماع أهل العربية، ففي ذلك منافاة أخرى، لما ذكر في
الاحتجاج من عدم دلالته على الزمان حيث إنه مناف لما ذكر من إجماع أهل
العربية على دلالته على خصوص زمان الحال، بل نقول: إن قضية ما ذكروه دلالته
على خصوص الفور وقيام إجماعهم على ذلك، حيث إنهم خصوه بالحال دون
الاستقبال.
فيقوم من هنا إشكال آخر وهو أن اتفاق أهل العربية على دلالته على الحال
كيف يجامع هذا الخلاف المعروف بين أهل الأصول؟ وسيظهر لك الجواب عن
جميع ذلك بما سنذكره من تحقيق المقام إن شاء الله تعالى.
ثانيها: أن المقصود مما ذكر في الاحتجاج عدم دلالة الأمر على خصوص
الحال والاستقبال، وذلك لا ينافي دلالته على القدر الجامع بينهما، فيفيد طلب
إيقاع الفعل في أحد الزمانين، ومعه يحصل دلالته على الزمان ليتم به مدلول الفعل
ولا يفيد خصوص شئ من الفور والتراخي، كما هو المدعى.
وفيه مع منافاته لكلام أهل العربية من دلالته على خصوص الحال أنه لا
يوافق ما أخذ في حد الفعل من دلالته على أحد الأزمنة الثلاثة، مضافا إلى ما فيه
من توهم كون الفور والتراخي بمعنى الحال والاستقبال، وهو فاسد.
ثالثها: أن القول بنفي دلالة الأمر على خصوص الفور أو التراخي لا ينافي
دلالته على الزمان أصلا، وما ذكره المصنف من عدم دلالته على الزمان إنما أراد
به عدم دلالته على خصوص الفور أو التراخي، كما هو المدعى لا مطلق الزمان،
52

فتسامح في التعبير، ولو حمل على ظاهره فكأنه اختار الجواب الأول، لزعمه
المنافاة بين كون الأمر لطلب الطبيعة ودلالته على أحد الأزمنة، والتحقيق خلافه،
وذلك لا ربط له بأصل المدعى.
وكيف كان فنقول: إن مفاد الأمر إنما هو الاستقبال، فإن الشئ إنما يطلب في
المستقبل، ضرورة عدم إمكان طلبه حال أداء الصيغة.
وتوضيح المقام: أن الحال يطلق على أمرين:
أحدهما: الحال الحقيقي: وهو الفصل المشترك بين الماضي والمستقبل ولا
يمكن ايجاد الفعل فيه، فإنه تدريجي الحصول لا يمكن انطباقه على الآن، وليس
هو من أحد الأزمنة الثلاثة المذكورة في حد الأفعال، إذ ليس الحد المشترك
المذكور زمانا وإنما هو فصل بين الزمانين كالنقطة الفاصلة بين الخطين.
وثانيهما: الحال العرفي: وهو أواخر زمان الماضي وأوائل المستقبل المشتمل
على الحال الحقيقي، إذ لو خلا عنه لتمحض للماضي أو المستقبل وهو الحال
المعدود من أحد الأزمنة، ألا ترى أن قولك: " زيد يضرب " إذا أريد به الحال إنما
يراد به الزمان المذكور الملفق من الأمور المذكورة، وأما لو أريد به أوائل زمان
المستقبل بعد زمان إيقاع الصيغة لم يعد حالا ولا ملفقا من الحال والاستقبال، بل
كان استقبالا خالصا، كما لا يخفى بعد ملاحظة الاستعمالات العرفية، فلا بد في
صدق الحال العرفي من الاشتمال على الحال الحقيقي.
إذا تقرر ذلك فنقول: إنه لا يمكن أن يراد من الأمر إيقاع المطلوب في الحال
المذكور وإلا لزم تحصيل الحاصل، بل أقصى ما يمكن أن يراد به ثاني زمان
الصيغة وما تأخر عنها وهو استقبال خالص كما عرفت، فإن أريد به الفور كان
المراد أوائل الاستقبال، وإن أريد به التراخي كان قاضيا بجواز التأخير إلى ما بعده
من الأزمنة، فعدم دلالة الأمر على خصوص الفور والتراخي لا ينافي دلالته على
الزمان.
فمدلول الصيغة هو طلب إيجاد الفعل فيما بعد الطلب المذكور من غير دلالته
53

فيه على خصوص إيقاعه في أوائله - أعني الفور - أو مع تجويز تأخيره إلى ما
بعده من الأزمنة كما هو مفاد التراخي. فالمدعى عدم دلالته على خصوصية
الأمرين وإن دل على إرادة الاستقبال الجامع بينهما.
وفيه: أنه لا يوافق ما ذكره علماء العربية من كون مدلول الأمر هو الحال،
والإغماض عما ذكروه مما لا وجه له سيما بعد حكاية اتفاقهم عليه، مضافا إلى ما
فيه مما سنقرره إن شاء الله تعالى.
رابعها: - وهو المختار عندنا - أن مفاد الأمر هو الحال حسب ما نص عليه
علماء العربية، وليس الحال فيه قيدا للحدث المطلوب، بل ظرف للطلب الواقع فيه
على ما هو شأن الزمان المأخوذ في الأفعال.
وتحقيق المقام: أن الزمان المأخوذ في الأفعال معنى حرفي يؤخذ ظرفا
للنسبة الحرفية المأخوذة في الأفعال، ألا ترى أن " ضرب " في قولك: " ضرب
زيد " له معنيان: أحدهما تام، وهو معناه الحدثي، والآخر ناقص حرفي، وهو معناه
الهيئي، وهو نسبة ذلك الحدث إلى فاعل ما في الزمان الماضي، ويتم ذلك بفاعله
المذكور إذ النسبة لا متحصل إلا بمنتسبيها، فيفيد في المثال نسبة الضرب إلى زيد
نسبة خبرية حاصلة في الزمان الماضي، كما أن " يضرب " أيضا كذلك إلا أن
الملحوظ فيه زمان الاستقبال وللنسبة المذكورة جهتان:
إحداهما: من حيث صدورها عن المتكلم وربطه بين المعنيين، أعني: المعنى
الحدثي والفاعل المذكور بعده.
وثانيتهما: جهة كونها حكاية عن نسبة واقعية وارتباطها بين ذلك الحدث
والفاعل الخاص، وبملاحظة الاعتبار الأول يصح لك أن تقول: إن ذلك المتكلم
أسند الضرب إلى زيد وبملاحظة الثاني يصح أن يقال: إنه حكى النسبة الواقعية
والربط الواقع بين ذلك الحدث وزيد.
والجهة الثانية مناط كون النسبة خبرية، فإن ما يحكيه من النسبة إما أن يكون
مطابقا لما هو الواقع أو لا، فيكون صدقا أو كذبا.
54

وأما من الجهة الأولى فغير قابل للصدق والكذب، فمفاد النسبة الخبرية هي
النسبة الواقعة من المتكلم، من حيث كونه حكاية عن أمر واقعي، والنسبة
الإنشائية هي النسبة الواقعة منه، من حيث كونه واقعا وصادرا منه، ولا حكاية
فيها عن أمر آخر واقعي تطابقه أو لا تطابقه، حسب ما فصل القول فيه في محله.
وكلتا النسبتين معنى حرفي صادر عن المتكلم إلا أن في الأول حكاية عن
الواقع بخلاف الثاني. والزمان الملحوظ في الفعل معنى حرفي وهو ظرف لتلك
النسبة.
ففي الإخبار يكون ظرفا لها من الحيثية الثانية، إذ هي التي يختلف الحال فيها
بالمضي والحال والاستقبال، وأما الحيثية الأولى فلا تكون إلا في الحال، ولا
حاجة إلى بيان الحال فيها.
وأما في الانشاء إذا اخذ فيه الزمان، فإنما يؤخذ من حيث صدورها عن
المتكلم، إذ ليست فيها حيثية أخرى، فلذا لا يمكن أن يؤخذ فيها إلا زمان الحال،
وإذا نصوا بأن الأمر للحال يعنون به ما ذكرناه.
فإن قلت: إن بيان ظرف النسبة في المقام مما لا حاجة إليه أيضا، لوضوحه
في نفسه، حيث إنه ينحصر الحال فيه في الحال فأي فائدة في وضعه لبيان ذلك؟
وحينئذ نقول: إنه لما شاهد الواضع انتفاء الفائدة في الوضع المفروض أخذه قيدا
في الحدث المنسوب، ليكون مطلوبه الحدث الحاصل في الزمان الخاص من
الأزمنة الثلاثة.
قلت: فيه أولا إن جعل الزمان قيدا في الحدث يقضي بكونه معنى تاما
ملحوظا بالاستقلال لا حرفيا رابطيا، لوضوح أن القيود الملحوظة في الحدث
معنى تام ينسب كالحدث المقيد به إلى الفاعل، وليس الزمان المأخوذ في الأفعال
كذلك، لوضوح كون المعنى التام فيها هو معناها الحدثي لا غير حسبما قرر في
محله.
وثانيا: إنه كما يتعين الحال في ملاحظة النسبة الإنشائية كذا يتعين الاستقبال
55

في ملاحظته قيدا للحدث، ضرورة أنه لا يتصور طلب إيجاد الشئ إلا في
المستقبل، فلا فائدة أيضا في ذلك، فإن دفع ذلك بالفرق بين كون الشئ مدلولا
التزاميا أو وضعيا فهو جار في الأول أيضا، وإن قيل بأخذ الزمان فيه حينئذ من
جهة اطراد الحال في الأفعال فهو جار فيه أيضا، مع أولوية ذلك بعدم خروجه عن
القانون المقرر في سائر الأفعال.
إذا تقرر ذلك فقد تبين لك أن الزمان المأخوذ في الأمر إنما هو زمان الحال
على الوجه المذكور، وهو مقصود علماء العربية من وضعه للحال، وذلك لا ربط له
بزمان صدور الحدث عن المخاطب، إذ قد عرفت أن الطلب المأخوذ في الأمر
معنى حرفي نسبي آلة لملاحظة نسبة معناه الحدثي إلى فاعله، فمفاد النسبة في
" اضرب " كون الضرب منسوبا إلى المخاطب من حيث كونه مطلوبا منه في الحال،
فهو ظرف للنسبة المأخوذة كما هو الحال في الماضي والمستقبل من الأفعال وأما
كون صدور ذلك الحدث عن المخاطب في أي وقت من الأوقات فهو مما لا دلالة
في الأمر عليه وضعا أصلا، ولا يقتضي عدم دلالته عليه نقصا في معناه الفعلي
بوجه من الوجوه.
نعم إن ثبت أخذ الواضع لذلك أو لشئ من خصوصياته من الفور أو التراخي
في الوضع كان ذلك متبعا وإن لم يثبت ذلك كما هو الظاهر ويقتضيه التبادر وكلام
علماء العربية فلا وجه للالتزام به.
فظهر بذلك اندفاع الإيرادات المذكورة من أصلها، كما لا يخفى على المتأمل
فيما قررنا.
ثم إنه قد يحتج لكون الأمر للطبيعة في المقام بغير ما ذكر من الوجوه
المذكورة في المسألة المتقدمة وإجرائها في المقام ظاهر، فلا حاجة إلى التكرار
وقد أشار إلى عدة منها هنا في النهاية.
قوله: * (انما يفهم ذلك بالقرينة) *.
يمكن أن يقال: إن وجود القرينة على فرض تسليمه إنما يدفع الاستدلال إذا
56

كان فهم ذلك من الصيغة متوقفا على ملاحظتها في المقام، وليس كذلك، فإن ذلك
يفهم منها وإن قطع النظر عن القرينة المفروضة ولذا يتبادر الفور من سائر الأوامر
الواردة في الاستعمالات العرفية، فلو أخر المكلف أداءها ذمه العقلاء على فرض
وجوب طاعة الأمر وعاتبوه على التأخير، ولذا لا يفهم من شئ من الأوامر
الواردة في العرف إرادة طلب مطلق الفعل ولو في مدة عمر المأمور.
وقد قرر بعضهم الاحتجاج بحكم العرف بعصيان العبد مع ترك المبادرة إلى
امتثال أوامر المولى. نعم لا يبعد القول بتفاوت الأفعال في ذلك فيكون ذلك شاهدا
على القول بالفور ببعض الوجوه المذكورة.
ويمكن دفعه بالمنع من تبادر الفور من خطابات المولى للعبد، وإنما ينصرف
الأمر فيها على حسب ما يقوم القرينة عليه في المقام، فالأمر بسقي الماء ينصرف
إلى التعجيل، نظرا إلى قضاء العادة به، والأمر بشراء اللحم ينصرف إلى شرائه في
وقت يمكن طبخه للوقت المعهود، وكذا الحال في غيرهما من المطالب، فيختلف
الحال فيها بحسب اختلاف الحاجات، وليس ذلك من دلالة اللفظ في شئ، ولو
فرض عدم قيام القرينة على خصوص زمان من الأزمنة في بعض المقامات فلا
انصراف في الصيغة.
نعم لو أخر حينئذ إلى حيث يصدق التهاون في الامتثال دل العرف على المنع
من تلك الجهة، وقد عرفت أن ذلك ليس من الفور في شئ وإنما هو تحديد لجواز
التأخير على القول بالطبيعة أو التراخي، وليس ذلك إذن قيدا في الأمر حتى
يجري فيه الخلاف في فوات المطلوب بفوات الفور ليقال بسقوط الوجوب على
أحد الوجهين، بل لا ريب حينئذ في بقاء الأمر، وإنما يحكم بالعصيان من جهة
التهاون في الامتثال والمسامحة في أداء ما أهم به المولى مما أوجب الإتيان به
ووجوب الفعل على حاله.
نعم لو كان هناك قرينة على إرادة الزمان المعين، كما في كثير من المقامات
سقط بفوته من تلك الجهة، وليس ذلك من محل البحث أيضا.
57

قوله: * (إن الذم باعتبار... الخ) *.
يمكن الجواب عنه أيضا بمنع دلالة الاستفهام المذكور على الذم فإنه إنما يتم
لو كان للتوبيخ والإنكار ولا يتعين الوجه فيه في ذلك، لجواز حمله على إرادة
التقرير، حيث إنه وقع الترك منه على جهة الاستكبار والإنكار، فأراد سبحانه
بالاستفهام المذكور تقريره به عليه واعترافه به ليقوم عليه الحجة في الطرد
والإبعاد، فلا دلالة فيها على حصول الذم أصلا حتى يكون ذلك على ترك الفور،
وقد مرت الإشارة إلى ذلك.
قوله: * (والدليل على التقييد... الخ) *.
كأن الوجه فيه أن " إذا " للتوقيت، فتفيد أن الجزاء لا بد من حصوله في ذلك
الوقت أو أن " الفاء " يفيد التعقيب بلا مهلة، فيدل على ترتب الجزاء على الشرط
من غير فصل.
ويشكل الأول أنه لا دليل على كون " إذا " للتوقيت، بل لا بعد في حملها على
الشرطية، بل ربما يكون الحمل عليها أظهر. وحينئذ فيكون " الفاء " في قوله تعالى:
* (فقعوا له) * (1) جزائية، ولا دلالة فيها على التعقيب بلا مهلة، فإن ذلك مفاد الفاء
العاطفة، فظهر بذلك فساد الوجه الثاني.
وقد يحتج على النحو المذكور بغير هذه الآية مما دل على ترتب الذم أو
العقوبة على مخالفة الأوامر المطلقة، كآية التحذير، وقوله: * (وإذا قيل لهم اركعوا لا
يركعون) * (2) إذ لولا أن الأمر للفور لما صح ترتب الذم على مخالفة الأمر المطلق،
لعدم استحقاق الذم حينئذ إلا عند الوفاة.
وفيه: أن تأخير الفعل إلى حد التهاون، سيما مع العزم على ترك الفعل رأسا
يصحح ترتب الذم عليه وإن كان فعله أخيرا يبرئ الذمة.
وقد عرفت أن ذلك مما لا ربط له بالقول بالفور.

(1) الحجر: 29.
(2) المرسلات: 48.
58

قوله: * (لو جاز (1) التأخير... الخ) *.
يمكن تقرير الاستدلال المذكور بنحو آخر، وهو أنه لو لم يكن الأمر المطلق
يفيد الفور لجاز التأخير، والتالي باطل فالمقدم مثله، والملازمة ظاهرة وأما بطلان
التالي فلأنه لو جاز التأخير فإما أن يجوز إلى غاية معينة أو غير معينة أو يجوز
التأخير دائما، والوجوه الثلاثة باطلة، فالمقدم مثلها، والملازمة ظاهرة، إذ جواز
التأخير لا يخلو عن أحد الوجوه المذكورة.
ويدل على بطلان الأول أنه لا بيان في المقام، إذ ليس في نفس اللفظ ما يفيد
تعيين الوقت ولا من الخارج ما يفيد ذلك، ولو كان دليل على التعيين لخرج عن
محل الكلام والثاني يستلزم التكليف بالمحال، إذ مفاده المنع من تأخر الفعل عن
وقت لا يعلمه المكلف والثالث قاض بخروج الواجب عن كونه واجبا، لجواز تركه
إذن في كل زمان وما يجوز تركه كذلك فلا يجب فعله قطعا.
وبتقرير آخر: لو جاز التأخير فإما أن يجوز مع الإتيان ببدل يقوم مقامه -
أعني العزم على الفعل فيما بعده - أو يجوز من دونه والتالي بقسميه باطل. أما
الأول فلأن الإتيان بالبدل يقتضي سقوط التكليف بالمبدل على ما هو شأن
الواجبات التخييرية، وليس كذلك إجماعا. وأما الثاني فللزوم جواز تركه لا إلى
بدل فيلزم خروجه عن كونه واجبا، إذ ليس غير الواجب إلا ما جاز تركه بلا بدل.
ويرد على الأول أنه إن أريد بالغاية المعينة أو المجهولة بالنسبة إلى المخاطب
أو الواقع، فإن أريد الأول اخترنا الثاني وإن أريد الثاني اخترنا الأول، لأ نا نقول
بعدم جواز تأخيره عن غاية معينة في الواقع غير معينة عندنا، وهو آخر أزمنة
الإمكان، ولا يلزم فيه تكليف بالمحال، وإنما يلزم ذلك لو وجب التأخير إلى غاية
مجهولة. كذا ذكره المصنف في الجواب عن الاستدلال، وسيجئ الكلام فيه.
وعلى الثاني جواز اختيار كل من الوجهين، أما الأول فيكون العزم بدلا عن
الفور لا عن نفس الفعل، وأما الثاني فبأنه لا وجوب لخصوصية إيقاعه في

(1) في المتن المطبوع: لو شرع.
59

خصوص شئ من الأزمنة، وإنما الواجب نفس الطبيعة، ولا يجوز تركها وإن جاز
الترك مقيدا بالزمان الخاص، ولا منافاة.
قوله: * (فلأنه لولاه لكان إلى آخر أزمنة الإمكان) *.
كان الأولى أن يقول: وإلا لجاز التأخير إلى وقت غير معين ثم يرتب عليه ما
ذكره فلا حاجة إلى ضم المقدمة المذكورة.
ثم إن ما ذكره من الاتفاق على كون جواز التأخير إلى آخر أزمنة الإمكان إن
أراد جواز التأخير إليه بحسب الواقع مع قطع النظر عن تعيينه ولو بحسب الظن فهو
ممنوع، والمفسدة المذكورة أو غيرها مترتبة عليه، وإن كان ظاهر المقصود كون
الغاية آخر أزمنة الإمكان على حسب الظن به فمسلم ولا يترتب عليه تلك
المفسدة ولا غيرها، لعلم المكلف بذلك الوقت فليس له أن يؤخر عنه حتى أن
الواجبات الموسعة يتضيق به.
وقد نص جماعة بتضييق الواجبات المطلقة كالنذر المطلق ونحوه بظن الوفاة
بل الفوات ولو فرض عدم حصول الظن المفروض لبعض الناس لم يلزم منه
خروج الواجب عن كونه واجبا، فإن الواجب ما يذم تاركه على بعض الوجوه،
فهو بحيث لو ظن فواته بالتأخير عنه تضيق فعله وتعين الإتيان به.
قوله: * (ولا عليه دليل) *.
يمكن أن يقال: إن التأخير إلى حد يفيد التهاون في أمر المولى مما لا يجوز
في الشرع ولا في العرف حسب ما أشرنا إليه، فالمنع من التأخير كذلك ثابت
والدليل عليه قائم، وليس ذلك من التوقيت في شئ، ويندفع به الاحتجاج
المذكور.
قوله: * (بما لو صرح بجواز التأخير) *.
إن أريد به التصريح بجواز التأخير على الإطلاق فهو ممنوع، إذ هو يقضي إلى
ترك الواجب وإن أريد به التصريح بجواز التأخير في الجملة، فلا يوافق المدعى
حتى يتم به ما أريد من النقض.
60

قوله: * (وأما إذا كان ذلك جائزا) *.
فلا ضرورة كون الواجب نفس الفعل متى أتى به من تقديم أو تأخير، فلا
تكليف بالمحال من جهة تعلق التكليف بنفس الفعل، لتمكنه قطعا من الإتيان به في
أول الأزمنة، وتجويز التأخير ليس تكليفا ليلزم التكليف بالمحال من جهته.
نعم إن توهم مفسدة في المقام فهو لزوم خروج الواجب عن الوجوب لا لزوم
التكليف بالمحال، إذ مع تجويز التأخير لو اتفق له الموت لم يكن عاصيا، لتجويزه
له ذلك.
وهو أيضا مدفوع بما مر من أن عدم ترتب العصيان على ترك الواجب في
بعض الأحيان لا يقضي بخروجه عن الوجوب، وما ذكر من عدم ترتب الإثم على
تركه إنما يتفق في بعض الفروض، وإلا ففي كثير من الأحيان يحصل الظن بالفوات
مع التأخير، وحينئذ فلا يجوز الإقدام عليه من تلك الجهة حسب ما عرفت.
وقد يورد في المقام بأن ما علل به انتفاء التكليف بالمحال من تمكنه من
المسارعة التزام بوجوب الفور في العمل لتحصيل براءة الذمة، حيث إن جواز
التأخير مشروط بمعرفته، ولا يتمكن منه المكلف، فينحصر الامتثال في الفور.
ويدفعه: أن مراد المستدل بذلك إيضاح القول في إبداء تمكنه من الفعل، ليظهر
فساد ما توهم من لزوم التكليف بالمحال، وليس في كلامه ما يفيد كون جواز
التأخير مشروطا بمعرفة لا يتمكن منه المكلف ليرد عليه ما ذكر من الالتزام بالفور
ولا وجه له، فإن عدم العلم بآخر أزمنة الإمكان لا يستلزم المنع من التأخير ليكون
جواز التأخير مشروطا بالعلم بعدم كونه آخر الأزمنة، لكفاية الظن في مثله، بل
الشك أيضا في وجه، نظرا إلى أصالة البقاء.
قوله: * (لأنها فعل الله سبحانه) *.
أراد بذلك أن المسارع إنما يتسارع إلى فعله بمبادرته إليه دون فعل غيره، إذ
لا يعقل تسارعه إليه، وإنما يتسارع إليه الذي يأتي به، فلا بد من أن يراد بالمغفرة سببها
الذي هو فعل المكلف ليكون من قبيل إقامة السبب مقام المسبب، لكنك خبير بأن
61

مجرد كون المغفرة فعل الله لا يقضي بامتناع المسارعة إليها، إذ لا مانع من
المسارعة إلى فعل الغير بأن يجعل نفسه مشمولا لفعله كما تقول: " سارعوا إلى
ضيافة السلطان " و " إلى كرامته " و " إلى إنعامه " ونحوها.
نعم يمتنع المسارعة إلى أداء فعل الغير ولا قاضي بإرادته في المقام وحينئذ
يكون المسارعة إليه حاصلة بالمسارعة إلى أسباب شموله من غير أن يراد
بالمغفرة سببها، بل من جهة أن المقدور بالواسطة مقدور للمكلف، فظهر بذلك أن
هذا الوجه يشارك الوجه المذكور فيما هو ا لمدعى من غير التزام التجوز في
المغفرة.
ثم إنه قد يورد في المقام أنه لا دليل على كون فعل المأمور به سببا للمغفرة،
وإنما هو باعث على ترتب الثواب والباعث على الغفران هو التوبة، فإنها السبب
لغفران الذنب، نعم لا يبعد القول باندراج الكفارات في ذلك حيث إنها تكفر الذنب،
فأقصى الأمر أن يفيد الآية كونها مطلوبة على سبيل الفور وأين ذلك عن المدعى؟
والقول بكون مجرد فعل المأمور به قاضيا بتكفير الذنب مبني على مذهب الحبط
والتكفير ولا نقول به.
ويمكن دفعه بأنه قد ورد سقوط الذنب بأداء بعض الواجبات، كالصلاة والحج
ونحوها، فلا اختصاص لها بالتوبة ونحوها، وحينئذ يمكن تتميم الدليل بعدم القول
بالفصل.
وفيه: أن مفاد الآية حينئذ هو وجوب الفور في تحصيل غفران الذنب بعد
ثبوته، وهو أمر ظاهر بملاحظة العقل أيضا، والظاهر أنه مما لا كلام فيه وحينئذ
فالقول بعدم الفصل بين ما يقع مكفرا للذنب وغيره، كما ترى.
ويمكن القول بحصول التكفير بالنسبة إلى كل من الطاعات، كما يستفاد من
قوله تعالى: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * (1) ويشير إليه بعض الأخبار فيصح
القول بإرادة مطلق المأمور به من المغفرة.

(1) هود: 114.
62

وذلك أيضا غير مقالة القائلين بالحبط والتكفير، فإنهم يقولون بموازنة
الحسنات والسيئات في الدنيا ويثبت للعامل أو عليه التفضيل بينهما، فعلى هذا
يكون ميزان الأعمال في الدنيا قبل الآخرة، وهذا ليس بمرضي، وسببية الطاعة
للغفران لا دخل له بهذا المذهب.
ومع الغض عن ذلك ففي قوله تعالى: * (وجنة عرضها كعرض السماء
والأرض) * (1) كفاية في المقام، فإن المراد بالمسارعة إلى الجنة هي المسارعة إلى
الأعمال والطاعات الموصلة إليها، وذلك كاف في تقرير الاستدلال من غير حاجة
إلى ملاحظة كون أداء المأمور به باعثا على الغفران كليا أو جزئيا.
ويندفع به أيضا ما قد يورد في المقام أنه إنما يتم في الأوامر المتعلقة بالعصاة
لتكون مكفرة لذنوبهم، ولا يجري فيمن لم يتحقق منه ذنب، كمن هو في أول البلوغ
إلا أن يتم ذلك بعدم القول بالفصل على ما ذكرنا، إذ يعم العبادة جميع تلك الصور
من غير حاجة إلى ضم عدم القول بالفصل لو (2) تم القول به.
ثم إنه قد يورد أيضا في المقام بأنه ليس في الآية دلالة على العموم ليفيد
وجوب المسارعة في جميع الأوامر، كما هو المدعى، فغاية الأمر أن يفيد
وجوب الفور في البعض، فيمكن تنزيله حينئذ على التوبة ونحوها مما ثبت
وجوب الفور فيه.
ويمكن دفعه بكفاية الإطلاق في المقام فإن المطلق يرجع إلى العام في مقام
البيان سيما مع توصيف النكرة بصفة الجنس، فإنه يفيد العموم كما نصوا عليه في
قوله تعالى: * (و ما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه) * (3).
وفيه: - مع وضوح المناقشة في توصيف النكرة هنا بصفة الجنس، ضرورة أن
المغفرة قد تكون من فعل غيره سبحانه - أن إرادة العموم في المقام يخل
بالمقصود، إذ كما يكون الواجبات سببا للغفران كذا الحال في المندوبات، لشمول

(1) الحديد: 21.
(2) في نسخة ف بدل " لو ": أو.
(3) الأنعام: 38.
63

الآية المذكورة للواجبات والمستحبات، وورود ذلك في كثير من المندوبات
بالخصوص حتى أنه ورد في زيارة سيدنا الحسين (عليه السلام) والبكاء عليه ما ورد من
حبط (1) السيئات وغفران الذنوب والخطيئات (2)، وكذا ما ورد في الصدقة والبكاء
في جوف الليل (3) وغيرها.
ومع حمل الآية على العموم يلزم حمل الأمر بالمسارعة على الأعم من
الوجوب والندب، إذ لا معنى لوجوب المسارعة إلى المندوبات، وكذا الحال في
الواجبات الموسعة، فلا دلالة فيها على وجوب الفور.
والقول بحمله على الوجوب والتزام التخصيص بالنسبة إلى المندوبات
والموسعات - نظرا إلى ترجيح التخصيص على المجاز - مدفوع بأن التخصيص
المذكور لا يترجح على المجاز وإن قلنا بترجيح التخصيص عليه في الجملة،
لكونه من قبيل التخصيص بالأكثر، لوضوح كون المستحبات أضعاف الواجبات،
مضافا إلى أن استعمال الأمر في الندب أو الأعم منه والوجوب أمر شائع في
الاستعمالات، وليس أبعد في فهم العرف من التخصيص حتى يترجح التخصيص
عليه في أوامر الشريعة.
ولذا ذهب بعضهم إلى ذلك مستدلا بهاتين الآيتين وغيرها، كيف ولو دل عليها
الصيغة لم يكن حاجة إلى بيانها؟ إذ ليس بيان مفاد الألفاظ العرفية واللغوية من وظيفة
الشارع، ولو كانت مسوقة لذلك لكان تأكيدا لما يفيده اللفظ، والتأسيس أولى منه.
قوله: * (قوله تعالى: فاستبقوا الخيرات (4) *.
يرد على هذه الآية أيضا أمور:
منها: ما أشرنا إليه في الآية السابقة من عدم دلالتها على إفادة الصيغة للفور.

(1) كذا، والظاهر: حط.
(2) وسائل الشيعة: ج 10 ب 66 من أبواب المزار ص 394 ح 8.
(3) وسائل الشيعة: ج 6 ب 14 من أبواب الصدقة ص 278، وج 11 ب 15 من أبواب جهاد
النفس ح 14 ص 179.
(4) البقرة: 148.
64

ومنها: نظير ما مر في الآية المتقدمة أيضا، فإن الخيرات جمع محلى يفيد
العموم، وهي شاملة للواجبات والمندوبات إلى آخر ما ذكرنا.
ومنها: أن مفاد الاستباق هو مسابقة البعض الآخر في أداء الخيرات والتسابق
عليها دون مطلق الإسراع إلى الفعل ليراد به الفور، فلا يوافق المدعى، ولا بد إذن
من حملها على الندب، إذ لا قائل بوجوب المسابقة على الطاعات على الوجه
المذكور، وقد يذب عنه بأنه لما كان ظاهر الآية الوجوب ولم يكن الاستباق على
الوجه المذكور واجبا قطعا فيصير ذلك قرينة بحمل الاستباق على مطلق
المسارعة، وهو كما ترى.
قوله: * (فإنهما يتصوران في الموسع دون المضيق) *.
لا يخفى أنه قد يؤخذ الزمان في الفعل على وجه لا يتصور الإتيان بذلك
الفعل في غير ذلك الزمان، كما في " صم يوم الجمعة " إذ لا يعقل إيقاع ذلك
الواجب في غير ذلك الزمان.
وقد يؤخذ الزمان شرطا لصحة إيقاع الفعل من غير أن يؤخذ مقوما لمفهومه،
فيمكن تأخر الفعل عن ذلك الزمان إلا أنه لا يتصف بالصحة.
وقد يكون إيقاعه فيه واجبا ويكون التأخير عنه حراما إلا أنه لا يفوت
الواجب بفوات ذلك الوقت، فيكون نفس الفعل واجبا مطلقا وجعل إيقاعه في ذلك
الوقت واجبا.
وقد يكون على وجه الرجحان.
وقد لا يكون خصوص الزمان مأخوذا فيه فيتساوى نسبته إلى الأزمنة.
وما لا يتحقق فيه المسارعة والاستباق إنما هو القسم الأول خاصة، وأما
الأقسام الأربعة الباقية فلا مانع من صدق المسارعة بالنسبة إليها، وإن وجب
الإقدام على الفعل حينئذ ولم يجز التأخير عنه في الصورتين الأوليين منها، بل لم
يصح مع التأخير في الأولى منها، ألا ترى أنه يصح أن يقال: إنه " سارع إلى الحج "
إذا حج في السنة الأولى من وجوبه عليه ويقال: " إنه سارع إلى أداء دينه " إذا أداه
65

وقت حلوله مع مطالبة الديان بل يقال: " إنه سارع إلى أداء الصلاة " إذا أداها في
الوقت المختص بها مع تضيقها، كما في صلاة الكسوف مع كون زمان الآية بقدر
زمان الفعل.
فما قرره المجيب من المنافاة بين وجوب الفور وصدق المسارعة والاستباق
فاسد جدا، والاستشهاد بالمثال المذكور بين الفساد، لكونه من قبيل القسم الأول
وهو غير محل الكلام.
قوله: * (والحاصل أن العرف قاض) *.
قد عرفت: أن حكم العرف إنما هو في الصورة الأولى، كما قررنا، وأما في
غيرها فمن الظاهر - بعد ملاحظة العرف - صدق المسارعة والاستباق من غير
إشكال، فما في كلام الفاضل المحشى - من تسليم ما ذكره المجيب بالنسبة إلى ما
لا يصح فعله في الزمان المتراخى - ليس على ما ينبغي وإنما يتم ذلك في الصورة
المتقدمة.
قوله: * (وإلا لكان مفاد الصيغة فيهما منافيا لما يقتضيه المادة) *.
لا يخفى أنه لو سلم ما ذكره فإنما يسلم لو قلنا بدلالة نفس الأمر على وجوب
الفور، وأما إذا قلنا باستفادة الفور من الآيتين المذكورتين فأي منافاة بين مفاد
الصيغة والمادة؟ إذ لولا الأمر المذكور صح تأخير الفعل وتعجيله بالنظر إلى الأمر
المتعلق به، وإنما يجب المسارعة والتعجيل من جهة الأمر المذكور، فما يقتضيه
المادة هو جواز تأخير الفعل في نفسه، مع قطع النظر عن إيجاب الفور بالأمر
المذكور، وما يقتضيه الصيغة هو المنع منه بالأمر المذكور، ولا منافاة بينهما.
والحاصل أن هناك فرقا بين وجوب التعجيل مع قطع النظر عن الأمر بالتعجيل
ووجوبه بهذا الأمر، والمنافاة المدعاة لو تمت فإنما يتم في الصورة الأولى خاصة.
والقول باعتبار جواز التأخير مطلقا في صدق المسارعة ممنوع بل فاسد
جدا، كيف ولو كان كذلك لما أمكن إيجاب المسارعة عرفا في فعل من الأفعال؟
وهو واضح الفساد.
66

قوله: * (فتأمل) *.
إشارة إلى إيراد وجواب، أما الأول فبأن ما ذكر إنما يتم لو أبقيت المادة على
ظاهرها، وأما لو أريد بها المسارعة إلى الامتثال فلا مانع من إرادة الوجوب من
الصيغة، فكما يندفع المنافاة بما ذكر كذا يندفع بما ذكرنا. وأما الثاني فبأن ذلك غير
مصحح للاستدلال، لدوران الأمر إذن بين الوجهين، وإنما يتم الاحتجاج على
الثاني ولا مرجح له، فبمجرد الاحتمال لا يتم الاستدلال، ولا يبعد ترجيح الأول
بأصالة عدم وجوب الفور، كذا يستفاد من المصنف في الحاشية.
قلت في الفرق بين المسارعة والمبادرة بما ذكر تأمل.
قوله: * (كل مخبر كالقائل) *.
ظاهر الاستدلال هو التمسك بالاستقراء، فإن سائر الإخبارات والإنشاءات
يراد بها الحال فكذا الأمر، إلحاقا للمشكوك بالشائع الأغلب.
وأنت خبير بأنه إن أراد بكون كل خبر وإنشاء غير الأمر للحال أن الإخبار
والإنشاء إنما يقعان في الحال فهو أمر ظاهر غني عن البيان وكذا الأمر، فإن
الطلب إنما يقع في الحال ولا كلام لأحد فيه، وإن أراد بكونها للحال أن متعلق
النسبة الخبرية والإنشائية فيها للحال فهو ممنوع، كيف ونحو: " زيد ضرب " و
" عمرو يضرب " من الأخبار ليس للحال وقولك: " فلان حر بعد وفاتي " إنشاء ولا
حرية في الحال؟ وكذا قولك: " فلانة طالق إن دخلت الدار وفعلت كذا " على
مذهب من يصح الطلاق به، وكذا الحال في التمني والترجي والاستفهام وغيرها،
فإن كلا منها كالطلب لا يقع إلا في الحال، لكن المتمني والمترجي والمستفهم منه
قد يكون في الحال وقد يكون في الاستقبال، وما عدا الطلب منها يمكن أن يكون
في الماضي أيضا.
قوله: * (قياس في اللغة) *.
قد عرفت: أن ما ذكره المستدل ليس من باب القياس وإنما تمسك بالاستقراء
كما يدل عليه قوله فكذا الأمر، إلحاقا بالأعم الأغلب وحجية الاستقراء في
67

مباحث الألفاظ مما لا كلام فيه وهو عمدة الأدلة في إثبات الأوضاع التركيبية
وجرت على الرجوع إليه طريقة أهل العربية، فالحق في الجواب ما قدمناه.
نعم استدل في المقام أيضا تارة بحمل الأمر على النهي، فإنه للفور فكذا الأمر
قياسا عليه، وأخرى بأن الطلب إنشاء كالإيقاعات من العتق والطلاق وكذا العقود
مثل " بعت " و " اشتريت " فكما أن معاني تلك تقع على الفور فليكن هنا كذلك،
قياسا عليها بجامع الإنشائية، وهذا الجواب يوافق أحد التقريرين المذكورين
دون ما ذكر.
قوله: * (وبطلانه بخصوصه ظاهر) *.
أي: عدم حجية القياس في إثبات الأوضاع بخصوصه ظاهر، كما ذهب إليه
المعظم واتفق عليه المحققون، حسبما قرر في محله، وإنما ذلك بعد حصول الظن
منه في المقام، وإلا فبعد حصول الظن منه فالظاهر حجيته في المقام إن قلنا بعدم
حجيته في الأحكام، لابتناء الأمر في مباحث الألفاظ على مطلق الظن، بخلاف
الأحكام الشرعية، ولقيام الدليل عندنا على عدم جواز الرجوع اليه في الأحكام
وعدم قيام دليل على المنع من الأخذ بالظن الحاصل منه في مباحث الألفاظ.
قوله: * (فبالفرق بينهما) *.
محصل البيان المذكور ان المنشأ بإنشاء الأمر يعني الطلب الحاصل به لا
يمكن تعلقه بالحال، لما مر من لزوم تحصيل الحاصل، بخلاف غيره مما تعلق به
الأخبار وسائر الإنشاءات، إذ يمكن تعلقه بالحال، فإذا كان الثاني موضوعا
للحال لا يمكن أن يقاس عليه الأول مع عدم إمكان إرادة الحال.
وهذا الفرق وإن كان متجها إلا أنه مبني على كون مراد المستدل أن ما تعلق به
الإخبار أو شئ تعلق به المنشأ بذلك الانشاء للحال، وليس كذلك لتعقله كثيرا
بغير الحال أيضا، وبه يبطل الاستدلال من أصله حسب ما قررناه.
قوله: * (بأن الأمر قد يرد في القرآن) *.
ظاهر الاحتجاج المذكور إفادة الاشتراك اللفظي كما مر نظيره في كلام
السيد، لكن عرفت أنه يمكن حمل كلامه هنا على إثبات الاشتراك المعنوي بحمل
68

استعماله في الأمرين على إطلاقه على الطلب الحاصل بكل من الوجهين، وظاهر
الإطلاقات كما يقتضي الحمل على الحقيقة في صورة استعماله في خصوص كل
من المعنيين كذا يقتضي الحمل على الحقيقة في صورة إطلاقه عليهما.
والأول وإن لم يكن مرضيا عند الجمهور وإنما اختاره السيد ومن وافقه إلا
أن الظاهر أن الثاني مرضي عند السيد وعند غيره، فحمل كلامه هنا على الثاني
غير بعيد بملاحظة أول كلامه حسب ما أشرنا إليه وينطبق عليه دليله الثاني أيضا.
قوله: * (إن الذي يتبادر من إطلاق الأمر) *.
كأنه أراد بذلك أن ظاهر الاستعمال إنما يقتضي الحقيقة إذا لم يقم دليل على
كون اللفظ مجازا فيه، وها هنا قد قام الدليل على كونه حقيقة في المعنى الأعم -
أعني طلب الفعل مجازا في غيره أعني كلا من الخصوصيتين - نظرا إلى تبادر
الأول وعدم تبادر شئ من الخصوصيتين لتوقف إيقاعهما على قيام القرينة، أو
أنه أراد بذلك منع استعمال الأمر في الخصوصيتين، وإنما المستعمل فيه بحكم
التبادر هو القدر الجامع بينهما، وكل من الخصوصيتين إنما يفهم من القرينة
الخارجية.
وهذا الوجه هو الذي استظهرناه في كلام السيد، وحينئذ فكلامه هذا موافق
لما اخترناه، كما هو الحال في دليله الثاني.
وجواب المصنف مبني على ما فهمه من كونه احتجاجا على الاشتراك اللفظي.
قوله: * (ولهذا يحسن فيما نحن فيه) *.
لا يخفى أن جوابه بالتخيير بين الأمرين جواب بإرادة التراخي، فإن المراد به
كما عرفت جواز التراخي، فليس ذلك معنى آخر حتى يكون الجواب به على
فرض كونه موضوعا لكل من الفور والتراخي، خروجا عن ظاهر اللفظ وارتكابا
للتجوز كما زعمه.
نعم لو قال باشتراكه بين وجوب الفور ووجوب التراخي أمكن الإيراد عليه
بذلك، وليس كذلك.
* * *
69

معالم الدين:
فائدة
إذا قلنا: بأن الأمر للفور، ولم يأت المكلف بالمأمور به في أول
أوقات الإمكان، فهل يجب عليه الإتيان به في الثاني أم لا؟ ذهب إلى
كل فريق.
احتجوا للأول: بأن الأمر يقتضي كون المأمور فاعلا على الإطلاق،
وذلك يوجب استمرار الأمر. وللثاني: بأن قوله: إفعل يجري مجرى
قوله: إفعل في الآن الثاني من الأمر، ولو صرح بذلك، لما وجب الإتيان
به فيما بعد. هكذا نقل المحقق والعلامة الاحتجاج، ولم يرجحا شيئا.
وبنى العلامة الخلاف على أن قول القائل: إفعل، هل معناه: إفعل
في الوقت الثاني، فإن عصيت ففي الثالث؟، وهكذا. أو معناه: إفعل في
الزمن الثاني، من غير بيان حال الزمن الثالث وما بعده؟. فإن قلنا بالأول
اقتضى الأمر الفعل في جميع الأزمان، وإن قلنا بالثاني لم يقتضه،
فالمسألة لغوية. وقد سبقه إلى مثل هذا الكلام بعض العامة.
وهو وإن كان صحيحا، إلا أنه قليل الجدوى، إذ الإشكال إنما هو
في مدرك الوجهين اللذين بنى عليهما الحكم، لا فيهما. فكان الواجب
أن يبحث عنه.
71

والتحقيق في ذلك: أن الأدلة التي استدلوا بها على أن الأمر للفور
ليس مفادها، على تقدير تسليمها، متحدا. بل منها ما يدل على أن
الصيغة بنفسها تقتضيه، وهو أكثرها. ومنها ما لا يدل على ذلك، وإنما
يدل على وجوب المبادرة إلى امتثال الأمر، وهو الآيات المأمور فيها
بالمسارعة والاستباق.
فمن اعتمد في استدلاله على الأولى، ليس له عن القول بسقوط
الوجوب حيث يمضي أول أوقات الإمكان مفر، لأن إرادة الوقت
الأول على ذلك التقدير بعض مدلول صيغة الأمر، فكان بمنزلة أن
يقول: " أوجبت عليك الأمر الفلاني في أول أوقات الإمكان " ويصير
من قبيل الموقت. ولا ريب في فواته بفوات وقته.
ومن اعتمد على الأخيرة، فله أن يقول بوجوب الإتيان بالفعل في
الثاني، لأن الأمر اقتضى بإطلاقه وجوب الإتيان بالمأمور به في أي
وقت كان، وإيجاب المسارعة والاستباق لم يصيره موقتا وإنما اقتضى
وجوب المبادرة، فحيث يعصي المكلف بمخالفته، يبقى مفاد الأمر
الأول بحاله. هذا.
والذي يظهر من مساق كلامهم: إرادة المعنى الأول، فينبغي حينئذ
القول بسقوط الوجوب.
72

قوله: * (ذهب إلى كل فريق) *.
فقد حكي الأول من أبي بكر الرازي وأبي الحسين البصري تفريعا على القول
بالفور وكذا القاضي عبد الجبار، وحكى الثاني عن الكرخي وأبي عبد الله البصري.
قوله: * (إن الأمر يقتضي كون المأمور فاعلا على الإطلاق) *.
يمكن أن يقال: إن ما ذكره مناف لما اختاره من الدلالة على الفور، إذ القائل
المذكور إنما يقول: باقتضائه كون المأمور فاعلا على سبيل الفور لا على الإطلاق.
ويمكن أن يقال: إن القائل المذكور قد جعل مقتضى الأمر شيئين:
كون الفعل حاصلا من المأمور به مطلوبا إيجاده حيث أسند الفعل إليه من
الجهة المذكورة حسب ما مر توضيح القول فيه.
والثاني: كون ذلك الفعل حاصلا منه على الفور سواء قلنا بكون الثاني أيضا
مدلولا ابتدائيا للأمر أو قلنا بكون ذلك من مقتضيات الوجوب، لظهور الوجوب
في الفور، فيقتضي الأمر بالفعل الأمرين المذكورين فلا بد أولا من الجمع بين
مقتضييه فإن عصى وخالف الأول بقي الثاني.
والمصنف اختصر البيان المذكور والمذكور في النهاية يقارب ما قررناه،
حيث قال في بيان الحجة المذكورة: إن لفظة " إفعل " يقتضي كون المأمور فاعلا،
وهو يوجب بقاء الأمر ما لم يصر المأمور فاعلا، ويقتضي أيضا وجوب المأمور
به، ووجوبه يقتضي كونه على الفور وإذا أمكن الجمع بين موجبيهما لم يكن لنا
إبطال أحدهما، وقد أمكن الجمع بأن يوجب الفعل في أول أوقات الإمكان، لئلا
ينتقض وجوبه فإن لم يفعله أوجبناه في الثاني، لأن مقتضى الأمر كون المأمور
فاعلا ولم يحصل بعد.
وتوضيح المقام: أن الفور إما أن يلحظ قيدا للطلب، فإن الطلب للفعل يمكن
أن يكون على وجه الفور وأن يكون على وجه التراخي، أو يلحظ قيدا للمطلوب
والوجهان اعتباران لحقيقة واحدة، إذ ليس هناك إلا طلب الفعل على سبيل الفور
فصح أن يلحظ قيدا للطلب وقيدا للمطلوب.
73

والظاهر الأول، إذ الفورية إنما تستفاد من الهيئة، ووضعها من قبيل أوضاع
الحروف، فإن الهيئات موضوعة للمعاني الناقصة الآلية الرابطية، فكما أن الوجوب
الذي يستفاد من الصيغة معنى حرفي حسب ما مر بيانه فكذا الفور على القول به،
فيكون قيدا ملحوظا في الطلب ويجعل معه مرآتا، لملاحظة حال الحدث مع
فاعله المنسوب إليه، فالحدث إنما يحمل على فاعله من حيث كونه على وجه
الفور.
فيحصل بالطلب المفروض المستفاد من هيئة الأمر أمران: طلب للفعل وطلب
للفور، فالفورية بالملاحظة الأولى من حيث دلالة الهيئة عليه ملحوظة آلة ومرآتا،
إلا أنه بالملاحظة الثانية ملحوظة استقلالا، كما هو الحال في نفس الطلب اللازم
من ذلك تقييد المطلوب أيضا ولو اخذت أولا قيدا للمطلوب كانت ملحوظة على
وجه الاستقلال من أول الأمر، كما هو الحال في المطلوب المتقيد به، ويلزم ذلك
من تعلق الطلب بها أيضا، إلا أن ذلك لا يلائم وضع الهيئة.
وكيف كان فعلى كل من الوجهين فإما أن ينحل ذلك إلى طلبين أو مطلوبين أو
يكون هناك طلب، أو مطلوب واحد متقيد بذلك من غير أن ينحل ذلك إلى طلبين
أو مطلوبين، فلا بقاء لمطلق طلب الفعل مع انتفاء ذلك القيد.
والظاهر: أن ذلك مبنى النزاع في المقام.
فالمختار عند جماعة هو عدم ارتباط طلب الفور بطلب الفعل، نظرا إلى
المنساق من الأمر في المقام هو كون الفعل مطلوبا مطلقا، غاية الأمر أن يفيد الأمر
وجوب الفور أيضا، وعليه مبنى الاستدلال المذكور.
والمختار عند آخرين تقييده، لكون الطلب والمطلوب هنا شيئا واحدا حتى
أنه لو قيد به لفظا عد مجموع القيد والمقيد شيئا واحدا، فينتفي المقيد بفوات قيده
على ما هو التحقيق.
والأوضح في المقام هو الوجه الأول، وإن كان المنساق من تقييده به في
اللفظ هو الاتحاد والانتفاء بانتفاء القيد، نظرا إلى أن ما ذكر هو المفهوم من الأمر
74

عرفا لو قلنا بدلالة الأمر على الفور، فالمنساق منه بحسب فهم العرف هو انحلال
المطلوب إلى أمرين من مطلق الفعل وخصوصيته الفور، إذ مع عدم امتثاله للفور لا
يسقط مطلق طلب الفعل في فهم العرف، فالمفهوم منه عرفا مطلق الفعل مطلوبا
للأمر على كل حال وإن كانت الفورية أيضا مطلوبة، سيما إذا فسرنا الفور بالتعجيل
في حصول المأمور به مطلقا بأن يفيد مطلوبية الفور متدرجا ولو بالنسبة إلى الأزمنة
المتأخرة، إذ حينئذ يتعين فيه الوجه المذكور من غير مجال للاحتمال الآخر.
وما ذكره في الحجة المذكورة من أن الأمر يقتضي كون المأمور فاعلا على
الإطلاق، يعني: أن مفاد الأمر بحسب أهل العرف هو كون الفعل مطلوبا من المأمور
به مطلقا، مرادا منه إيقاعه سواء أتى به فورا ليحصل به مطلوبه الآخر - أعني الفور
- أو أتى به متراخيا فمطلوب الأمر لا يفوت بفوات الفورية في فهم العرف.
فيظهر من ذلك انحلال الطلب المذكور إلى أمرين، وعدم كون المطلوب شيئا
واحدا ليفوت بفوات القيد حسب ما هو الظاهر فيما إذا ذكر القيد، كما في الموقت،
وكان الوجه فيه ما أشرنا إليه من كون الفور في المقام معنى حرفيا غير مأخوذ قيدا
على نحو قولك: " صم غدا " فلا يتبادر منه في المقام ما يتبادر من تلك اللفظة
وكيف كان فالمتبع فهم العرف، وهو الفارق بين المقامين.
فظهر أن ما ذكره المصنف - من لزوم اختيار القول بفوات مطلوبية الفعل
بفوات القيد على القول بدلالة الصيغة على الفور - ليس على ما ينبغي، وقد عرفت
شهادة العرف بخلافه.
قوله: * (إفعل في الآن الثاني من الأمر) *.
ظاهر ذلك تفسير الفور بالزمان المتعقب للأمر مطلقا، كما مرت الإشارة إليه
وما ذكره - من جريان الأمر المطلق حينئذ مجرى التصريح بذلك - ممنوع بعد
ظهور الاختلاف منها في فهم العرف، مضافا إلى ما عرفت من الوجه في الفرق
بينهما.
قوله: * (وبنى العلامة (رحمه الله) الخلاف) *.
ما ذكروه راجع إلى ما ذكرناه من الوجهين، وقد اعتبر الفورية مطلوبة بحسب
75

مراتبها، فينحل الأمر المطلق المتعلق بالفعل إلى ما ذكره من التفصيل، وإلا فلا وجه
لدعوى كون التفصيل المذكور مما وضعت الصيغة بإزائه، فمقصوده بذلك ابتناء
المسألة على معرفة مفاد الصيغة في فهم العرف من الوجهين المذكورين، ولا ابتناء
له على غيره من الرجوع إلى الاستصحاب أو غيره، ولذا فرع على ذلك قوله:
* (فالمسألة لغوية) *.
قوله: * (وهو وإن كان صحيحا، إلا أنه قليل الجدوى) *.
أراد بذلك أن ابتناء القولين المذكورين على المعنيين صحيح لا غبار عليه،
لكن لا ثمرة في ذلك، إذ المقصود في المقام تعيين أحد الوجهين وإلا فتحصيل
مفهومين ملزومين لطرفي الخلاف مما يمكن في كل خلاف، ولا ثمرة فيه بعد
خفاء المبنى على نحو خلاف الأصل.
وأورد عليه المدقق المحشي بأن ما سلمه من صحة البناء ممنوع، واستلزام
المعنى الأول لما بنى عليه وإن كان ظاهرا إلا أن تفريع الثاني على الثاني غير
ظاهر، لاحتمال أن يقال بالأول، بناءا على الوجه الثاني أيضا، حسب ما قيل في
الموقت من عدم توقف القضاء على الأمر الجديد وإذا احتمل القول الأول على
الوجه الثاني بطل ما ذكر من المبنى، إذ لا يبتنى القول الأول على الوجه الأول ولا
يستلزم الوجه الثاني للقول بالثاني.
ويمكن دفعه: بأن مقصود العلامة (رحمه الله) كون الخلاف في المقام في مدلول
الصيغة بحسب اللغة أنها هل تفيد لفظا بقاء المطلوب بعد فوات الفور أو انها لا تفيد
إلا وجوب الفعل فورا ولا دلالة فيها كذلك على وجوب الفعل بعد ذلك؟ ولذا قال:
" إن المسألة لغوية " وحينئذ فالقول ببقاء الوجوب من جهة الاستصحاب - كما هو
مقتضى الاحتمال المذكور - مما لا ربط له بمدلول الصيغة حسب ما جعله محل
الكلام.
وأنت بعد التأمل فيما ذكرنا تعرف اندفاع ما أورده المصنف عليه من قلة
الجدوى، فإن مقصود العلامة بذلك بيان كون النزاع في ذلك مبنيا على تعيين معناه
اللغوي من الوجهين المذكورين، فيرجع في التعيين إلى العرف واللغة كما نص
76

بقوله: " فالمسألة لغوية " مريدا بذلك بيان كون المرجع فيه العرف واللغة دون
غيرهما من الوجوه العقلية، وليس مقصوده بذلك بيان الحق في المقام ليرد عليه
أنه لا يتم ذلك بمجرد ما ذكره، بل لا بد من بيان مدرك الوجهين ليتضح به الوجه
فيما هو الحق في المقام.
قوله: * (ليس له عن القول بسقوط الوجوب) *.
قد عرفت عدم لزوم التزام القائل المذكور به وقياسه على التقييد الصريح
فاسد بعد ملاحظة فهم العرف.
فإن وجوب الفعل والفور بلفظ واحد لا يقتضي تقييد أحدهما بالآخر، سيما
بعد ما عرفت من كون الفورية كالوجوب معنى حرفيا رابطيا، وخصوصا إذا قلنا
بكون الفور المفهوم من الصيغة هو لزوم التعجيل فيه مطلقا، فإنه يلزم بقاء طلب
الفعل.
فكون مدلول الصيغة على القول بالفور بمنزلة أن يقال: " أوجبت عليك الشئ
الفلاني " في أول أوقات الإمكان محل منع، كيف ولو كان كذلك لزم على القول
ببقاء التكليف بعد فوات الفور سقوط اعتبار الفورية في بقية المدة؟ وهو خلاف
المعروف بين هؤلاء في ظاهر كلامهم، وإنما حكي ذلك قولا للبعض.
وقد عرفت توضيح القول بما ذكره المدقق المحشي من أنه لا شك أن الفور لو
كان مدلولا للصيغة لكان قيدا للفعل، إذ لا يرتكب أحد أن مدلول الأمر شيئان
منفصلان أحدهما عن الآخر، فكان معنى الصيغة حينئذ: أن " إفعل الفعل في الوقت
الفلاني " أي: الوقت المتعقب لزمان التكلم.
ومن البين أيضا أنه لا فرق بين التقييد بزمان وزمان، فما يترتب على
التوقيت محل نظر، إذ فيه:
أولا ما عرفت من الفرق بين تقييد المطلق بقيد مصرح به وبين دلالة الصيغة
على لزوم الخصوصية لاحتمال دلالته عليه على وجه لا يتقيد به ذلك المطلق فإن
ذلك إنما يتبع وضع الواضع، فإذا كان فهم العرف مساعدا عليه فأي مانع منه؟
وقياسه على الآخر فاسد لا وجه له.
77

وثانيا: أن ما ذكره إنما يتم لو كان مفاد الصيغة هو خصوص الفعل في أول
أزمنة الإمكان حتى أنه لو فات الفعل في أول الأزمنة منه فات الفورية.
وأما إن قيل بوجوب الفور بمعنى لزوم التعجيل فيه على حسب الإمكان
فيتدرج الفور على حسب مراتب التأخير، فلا يعقل كون تقييد المطلق به قاضيا
بسقوط الواجب حينئذ، لفوات الفعل في أول أزمنة الإمكان، بل هو قاض بخلافه.
فما ذكره المصنف من المبنى غير ظاهر، والتحقيق فيه ما ذكره العلامة كما
أشرنا إليه، وحيث إن المسألة لغوية فلا بد من ترجيح أحد الوجهين اللذين ذكرهما
بالرجوع إلى اللغة أو فهم أهل العرف، ليستكشف به الوضع اللغوي حسب ما قررنا.
قوله: * (ولا ريب في فواته بفوات وقته) *.
يريد بذلك بيان الحق في المسألة وأنه بناء على الوجه المذكور يفيد التوقيت،
ومع إفادته التوقيت لا ريب في فواته بفوات وقته، بناءا على ما هو الحق في تلك
المسألة وإن خالف فيه من خالف فإن مجرد وجود الخلاف في المسألة لا يجعلها
ظنية فضلا عن كونها مجهولة.
فتبين بذلك أنه على القول بدلالة صيغة الأمر على الفور يكون الصواب هو
القول بفوات الوجوب عند فوات الفور، ولا ينافي وجود القول بعدم فوات
الموقت بفوات وقته وكونه محلا للخلاف.
نعم لو أراد بذلك بيان عدم الخلاف في الفوات على القول المذكور تم ذلك
وليس بصدده، بل هو فاسد قطعا. فالإيراد بكون ذلك معركة للآراء وقد قال جم
غفير بكون القضاء بالأمر الأول فمجرد كون الفور مدلول الصيغة لا يكفي في
تحقيق المقام كما ترى، إذ ليس مقصود المصنف تحقيق المقام بمجرد كون مدلول
الصيغة ذلك، بل بعد ما قرر من كون مفاد الصيغة هو التوقيت بما تقرر عنده واتضح
من فوات الموقت بفوات وقته ولا ينافي ذلك وقوع الخلاف فيه.
قوله: * (فحيث يعصي المكلف بمخالفته) *.
أورد عليه: بأن طلب الفور والسرعة إن لم يقتض تقييد الطلب بالزمان المعين
78

لم يكن قاضيا به في الصورة الأولى أيضا، وإن اقتضى التقييد به فلا يصرفه عن
ذلك كون الدال عليه خارجا، كما إذا دل دليل من خارج على كون الواجب موقتا،
فإن ذلك الواجب أيضا يفوت بفوات وقته من غير فرق بينه وبين ما دل الخطاب
الأول على توقيته، فلا فرق في ذلك بين الصورتين حسب ما قرره.
وضعفه ظاهر، إذ ليس مناط كلام المصنف الفرق بين التوقيتين، بل غرضه أنه
لو دل نفس الصيغة على إرادة إيقاعه في الزمان الأول كان ذلك لا محالة مقيدا
للطلب المذكور، وحيث إنه طلب واحد يلزم منه التوقيت، إذ ليس مفاد التوقيت إلا
طلب الفعل في الوقت، وأما لو دل الخارج على وجوب المسارعة فلا يلزم منه
التوقيت وتقييد الطلب الأول به حتى يكون المطلوب مقيدا بالوقت المفروض، إذ
لا دلالة في ذلك على اتحاد المطلوب، بل الظاهر من إطلاق الدليلين تعدد
المطلوب، فنفس الفعل على إطلاقه مطلوب والمسارعة إليه مطلوب آخر فلا
باعث للحكم بفوات الفعل عند فوات الفور.
نعم لو دل الدليل الخارجي على توقيت ذلك الواجب بالفور - كما هو الحال
في الموقت الذي ثبت التوقيت فيه من الخارج - كان الأمر على ما ذكره، لأن ما
دل على وجوب المسارعة والاستباق من الآيتين لا دلالة فيه على ذلك.
فدعوى أن مجرد الأمر بالمسارعة والاستباق قاض بتوقيت الفعل بذلك
حقيقة خالية عن الدليل، بل الأصل وظاهر الإطلاق قاضيان بخلافه.
قوله: * (والذي يظهر من سياق كلامهم) *.
لا يخفى أن كلامهم كالصريح في ذلك، فإن الكلام في مفاد الصيغة ومقتضاه
على ما هو الحال في دلالته على الوجوب، فالترديد الذي ذكره المصنف في المقام
غير متجه.
نعم هناك قول لبعض المتأخرين بوجوب الفور من الخارج بدلالة الشرع
عليه، وهو قول شاذ ليس التفريع المذكور مبنيا عليه كما لا يخفى.
* * *
79

معالم الدين:
أصل
الأكثرون على أن الأمر بالشئ مطلقا يقتضي إيجاب ما لا يتم إلا
به شرطا كان أو مسببا أو غيرهما مع كونه مقدورا، وفصل بعضهم
فوافق في السبب وخالف في غيره، فقال: بعدم وجوبه. واشتهرت
حكاية هذا القول عن المرتضى (رضي الله عنه) وكلامه في الذريعة والشافي غير
مطابق للحكاية. ولكنه يوهم ذلك في بادئ الرأي، حيث حكى فيهما
عن بعض العامة إطلاق القول بأن الأمر بالشئ أمر بما لا يتم إلا به.
وقال: " إن الصحيح في ذلك التفصيل بأنه إن كان الذي لا يتم الشئ
إلا به سببا، فالأمر بالمسبب يجب أن يكون أمرا به. وإن كان غير سبب،
وإنما هو مقدمة للفعل وشرط فيه، لم يجب أن يعقل من مجرد الأمر
أنه أمر به ".
ثم أخذ في الاحتجاج لما صار إليه، وقال في جملته: " إن الأمر ورد
في الشريعة على ضربين: أحدهما يقتضي إيجاب الفعل دون مقدماته،
كالزكاة والحج، فإنه لا يجب علينا أن نكتسب المال، ونحصل النصاب،
ونتمكن من الزاد والراحلة. والضرب الآخر يجب فيه مقدمات الفعل
كما يجب هو في نفسه، وهو الصلاة وما جرى مجراها بالنسبة إلى
81

الوضوء. فإذا انقسم الأمر في الشرع إلى قسمين، فكيف نجعلهما قسما
واحدا "؟
وفرق في ذلك بين السبب وغيره، بأنه محال أن يوجب علينا
المسبب بشرط اتفاق وجود السبب، إذ مع وجود السبب لا بد من وجود
المسبب، إلا أن يمنع مانع. ومحال أن يكلفنا الفعل بشرط وجود
الفعل، بخلاف مقدمات الأفعال. فإنه يجوز أن يكلفنا الصلاة بشرط أن
يكون قد تكلفنا الطهارة، كما في الزكاة والحج. وبنى على هذا في
الشافي نقض استدلال المعتزلة لوجوب نصب الإمام على الرعية، بأن
إقامة الحدود واجبة، ولا يتم إلا به.
وهذا كما تراه، ينادي بالمغايرة للمعنى المعروف في كتب
الأصول المشهورة لهذا الأصل. وما اختاره السيد فيه محل تأمل،
وليس التعرض لتحقيق حاله هنا بمهم.
فلنعد إلى البحث في المعنى المعروف، والحجة لحكم السبب
فيه: أنه ليس محل خلاف يعرف، بل ادعى بعضهم فيه الاجماع، وأن
القدرة غير حاصلة مع المسببات فيبعد تعلق التكليف بها وحدها. بل
قد قيل إن الوجوب في الحقيقة لا يتعلق بالمسببات، لعدم تعلق القدرة
بها. أما بدون الأسباب فلامتناعها، وأما معها فلكونها حينئذ لازمة لا
يمكن تركها. فحيث ما يرد أمر متعلق ظاهرا بمسبب فهو بحسب الحقيقة
متعلق بالسبب، فالواجب حقيقة هو، وإن كان في الظاهر وسيلة له.
وهذا الكلام عندي منظور فيه، لأن المسببات وإن كانت القدرة لا
تتعلق بها ابتداء، لكنها تتعلق بها بتوسط الأسباب، وهذا القدر كاف في
جواز التكليف بها. ثم إن انضمام الأسباب إليها في التكليف يرفع ذلك
الاستبعاد المدعى في حال الانفراد.
82

ومن ثم حكى بعض الأصوليين القول بعدم الوجوب فيه أيضا عن
بعض. ولكنه غير معروف.
وعلى كل حال، فالذي أراه: أن البحث في السبب قليل الجدوى،
لأن تعلق الأمر بالمسبب نادر، وأثر الشك في وجوبه هين.
وأما غير السبب، فالأقرب عندي فيه قول المفصل. لنا: أنه ليس
لصيغة الأمر دلالة على إيجابه بواحدة من الثلاث، وهو ظاهر. ولا
يمتنع عند العقل تصريح الآمر بأنه غير واجب، والاعتبار الصحيح
بذلك شاهد. ولو كان الأمر مقتضيا لوجوبه لامتنع التصريح بنفيه.
احتجوا: بأنه لو لم يقتض الوجوب في غير السبب أيضا، للزم أما
تكليف ما لا يطاق أو خروج الواجب عن كونه واجبا. والتالي بقسميه
باطل. بيان الملازمة: أنه مع انتفاء الوجوب - كما هو المفروض - يجوز
تركه. وحينئذ فإن بقي ذلك الواجب واجبا لزم تكليف ما لا يطاق، إذ
حصوله حال عدم ما يتوقف عليه ممتنع. وإن لم يبق واجبا خرج
الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا. وبيان بطلان كل من قسمي
اللازم ظاهر. وأيضا، فإن العقلاء لا يرتابون في ذم تارك المقدمة مطلقا.
وهو دليل الوجوب.
والجواب عن الأول، بعد القطع ببقاء الوجوب: أن المقدور كيف
يكون ممتنعا؟ والبحث إنما هو في المقدور، وتأثير الايجاب في
القدرة غير معقول. والحكم بجواز الترك هنا عقلي لا شرعي، لأن
الخطاب به عبث، فلا يقع من الحكيم. وإطلاق القول فيه يوهم إرادة
المعنى الشرعي فينكر. وجواز تحقق الحكم العقلي هنا دون الشرعي
يظهر بالتأمل.
وعن الثاني: منع كون الذم على ترك المقدمة، وإنما هو على ترك
الفعل المأمور به، حيث لا ينفك عن تركها.
83

قوله: * (الأكثرون على أن الأمر بالشئ) *.
هذه المسألة إنما ترتبط بالأوامر من جهة مدلولها الذي هو الوجوب وإلا فلا
اختصاص لها بالأوامر، إذ هو من أحكام الوجوب سواء كان الدال عليه أمرا أو
غيره، فالمقصود أن وجوب الشئ هل يستلزم وجوب ما لا يتم ذلك الشئ إلا به
فيكون ذلك قاضيا بدلالة ما يفيد ثبوت الأول على الثاني أو أنه لا ملازمة بين
الأمرين فلا دلالة؟ وإذا كان الحكم المذكور من أحكام الوجوب ولواحقه فهو من
الأحكام المرتبطة بالمبادئ الأحكامية، بل هو الصق بها ولذا اختار الحاجبي
ذكرها هناك وتبعه شيخنا البهائي.
ويمكن إدراجها في الأدلة العقلية أيضا لاستقلال العقل بالملازمة بين
الأمرين، فكما أن العقل قد يدرك بعض الأحكام بنفسه مع قطع النظر من ورودها
في الشرع فكذا قد يدرك ثبوت بعض الأحكام بعد حكم الشرع بثبوت حكم آخر
لاستقلاله بالملازمة بين الأمرين، فثبوت الملازمة حكم عقلي صرف وثبوت
المقدمة شرعي ويتفرع عليها ثبوت اللازم، فإثبات الملازمة بين الأمرين - كما هو
محط البحث في المقام - مما يستقل به العقل وإن كان الحكم بثبوت اللازم بعد ورود
الشرع بثبوت الملزوم وملفقا من العقل والنقل ولذا أدرجها بعضهم في الأدلة العقلية.
وكيف كان فتحقيق الكلام في المسألة يتوقف على رسم مقدمات:
أحدها: أن الواجب ما يذم تاركه في الجملة أو ما يستحق تاركه العقوبة
كذلك. ولا يرد عليه المخير، لوضوح استحقاق تاركه الذم أو العقاب على فرض
ترك الجميع، فإن لترك كل منها دخلا في الاستحقاق المفروض. ولا الموسع ولو
فرض موت المكلف فجأة في أثناء الوقت، نظرا إلى استحقاقه الذم أو العقوبة على
ترك الطبيعة المأمور بها رأسا في تمام الوقت المضروب.
وقد يورد عليه وجوب المقدمة على القول به، إذ لا استحقاق للذم ولا العقوبة
على تركها عند القائل بوجوبها، كما سيجئ بيانه إن شاء الله تعالى، وإنما
استحقاق الذم والعقاب على ترك ذيها.
84

ويمكن الجواب: بأن المأخوذ في الحد هو استحقاق تاركه الذم أو العقوبة
وهو يعم ما لو كان الاستحقاق المذكور على تركه أو ترك غيره وذلك حاصل
في المقدمة.
وفيه: أنه لو بنى على التعميم المذكور لزم انتقاض الحد بسائر الأحكام
لشمول الحد حينئذ للمندوب والمباح بل المكروه والحرام إذا جامع ترك أحدها
ترك الواجب، إذ يصدق حينئذ على كل منها أنه ما يذم تاركه وإن لم يكن الذم
على تركه بل على ترك غيره، مضافا إلى أن البناء على التعميم المذكور خروج عن
ظاهر العبارة، فإن المستفاد مما يذم أو يعاقب تاركه أن يكون تركه سببا لذمه أو
عقابه لا ما إذا كان تاركه تاركا لغيره وكان استحقاق الذم أو العقوبة حاصلا من
جهة ترك ذلك الغير من دون مدخلية تركه فيه، وهو ظاهر.
ويمكن دفع ذلك بأن تارك المقدمة مستحق للذم أو العقوبة بسبب تركه لها
لا على تركها بل على ترك ذيها، فلها بعث على استحقاق الذم أو العقوبة لا أصالة
بل إداء إلى ترك غيرها.
وتوضيح المقام: أن ترك الفعل إما أن يكون باعثا على استحقاق الذم أو
العقوبة أو لا يكون باعثا على استحقاق ذلك وإنما يكون مجامعا لترك فعل آخر
يستحق الذم أو العقوبة على ترك ذلك الفعل، فيمكن بملاحظة اتحاد العنوانين في
المصداق الحكم باستحقاق ذلك الفعل للذم أو العقوبة.
وعلى الأول فإما أن يكون ترك الفعل المفروض باعثا على استحقاق الذم أو
العقوبة، من حيث كونه تركا له فيكون سببا للاستحقاق المذكور أصالة أو يكون
باعثا على ذلك من جهة أدائه إلى ترك فعل آخر يكون الاستحقاق المذكور من
جهة ترتب الترك عليه، فيكون ترك ذلك الفعل سببا للاستحقاق المذكور تبعا لترك
غيره من حيث أدائه إليه فهذه وجوه ثلاثة.
ومن البين أنه إذا لم يكن الترك باعثا على استحقاق الذم أو العقاب لا أصالة
ولا تبعا لم يندرج في الحد المذكور، لوضوح أنه لا يقال عرفا: إن الزنا ما يذم
85

تاركه يعني: إذا جامع ترك بعض الواجبات، وإن صح الحكم المذكور في لسان
العقل إلا أنه خارج عن الطريقة الجارية في المخاطبات العرفية.
وأما الوجهان الآخران فالظاهر اندراجهما في الحد، ويكون الوجوب في
أحدهما نفسيا وفي الآخر غيريا.
فالواجب الغيري أيضا مما يستحق تاركه الذم أو العقوبة من جهة تركه لكن
لا لذاته، بل لإدائه إلى ترك غيره، فالتارك للذهاب إلى الحج مع الرفقة الأخيرة
بعد حصول الاستطاعة مستحق للذم والعقوبة حين تركه له لأجل ترك الذهاب من
حيث ذاته، بل من حيث أدائه إلى ترك الحج فهو عاص مخالف للأمر المتعلق
بالحج أصالة عند ترك المقدمة وللطلب المتعلق بالمقدمة تبعا، وإن فرض تعلق
الأمر بها أصالة، كما سيجئ بيانه إن شاء الله تعالى.
ولا يمنع من تحقق العصيان بالنسبة إلى ذي المقدمة عدم مجئ زمان أدائه،
إذ حقيقة العصيان مخالفة الأمر، وكما يصدق المخالفة بترك الفعل الواجب في
الزمان المضروب له كذا يصدق بترك المقدمة الموصلة إليه، بحيث لا يتمكن منه
بعد تركه ولو قبل مجئ الزمان المعين لأداء الفعل إذا تعلق الوجوب به عند ترك
مقدمته، فيكون عاصيا مستحقا للعقوبة والعرف أقوى شاهد على ذلك.
نعم لا بد في تحقق المخالفة بحسب الواقع حصول سائر شرائط التكليف
بالنسبة إليه في وقت الأداء، وأما إذا حصل هناك مانع آخر من أداء الفعل انكشف
عدم تعلق الأمر به بحسب الواقع، فلا مخالفة للأمر بحسب الواقع وإن كان عاصيا
من جهة التجري وهو أمر آخر.
ثانيها: أن الواجب باعتبار ما يتوقف عليه في الجملة قسمان:
أحدهما: أن يتوقف وجوده عليه من غير أن يتوقف عليه وجوبه كالصلاة
بالنسبة إلى الطهارة.
وثانيهما: أن يتوقف وجوبه عليه سواء توقف عليه وجوده كالعقل بالنسبة إلى
العبادات الشرعية أو لم يتوقف عليه كالبلوغ بالنسبة إليها بناءا على القول بصحة
عبادات الصبي.
86

ومن البين أن الثاني لا يتصف بالوجوب قبل وجود مقدمته، إذ المفروض
توقف وجوبه على وجوده، ولذا لا تأمل لأحد في عدم (1) وجوب مقدمته، إذ لا
يتعلق الوجوب بذيها قبل حصولها، وبعد حصولها لا يمكن تعلق الوجوب بها.
وقد ظهر مما بينا أن الواجب المطلق والمشروط إنما يعتبران بالإضافة إلى
خصوص كل مقدمة فإن توقف عليها الوجود دون الوجوب كان الواجب مطلقا
بالنسبة إليها وإلا كان مشروطا، لوضوح أن الواجب لا يكون مطلقا بالنسبة إلى
جميع مقدماته ولا مشروطا بالنسبة إلى جميعها.
وقد ظهر بذلك أن ما ذكره جماعة في تعريف الواجب المشروط: من أنه ما
يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده والواجب المطلق ما لا يتوقف وجوبه
على ما يتوقف عليه وجوده، ليس على ما ينبغي، إذ قد يتوقف الوجوب على ما لا
يتوقف عليه الوجود، فيلزم خروجه من المشروط واندراجه في المطلق، فينتقض
به حد المشروط جمعا والمطلق منعا.
وكيف كان فهل يكون إطلاق الواجب على المشروط قبل تحقق مقدمته
مجازا أو حقيقة؟
نص جماعة منهم بالأول فجعلوه من باب تسمية الشئ باسم ما يؤول إليه،
وحينئذ فلا حاجة إلى تقييد الأمر والواجب في المقام بالمطلق للاكتفاء في ذلك
بظاهر الاستعمال المنصرف إلى الحقيقة.
ويلوح من كلام السيد كون إطلاق الواجب عليه على سبيل الحقيقة أيضا ولا
يذهب عليك أن إطلاق الواجب عليه حينئذ إن كان من جهة ثبوت العنوان
المذكور له حين الإطلاق بملاحظة تلبسه به في المستقبل، فلا ريب في كونه
مجازا، للاتفاق على كون المشتق مجازا في المستقبل.
وإن كان بملاحظة حال تلبسه به فيراد كونه واجبا عند حصول شرائط وجوبه

(1) لم يرد " عدم " في المطبوع.
87

كان إطلاقه عليه حقيقة وإن لم تكن تلك الشرائط حاصلة عند الإطلاق، كما تقول:
" أن الحج والزكاة من الواجبات في شريعة الاسلام " فإن المقصود بذلك وجوبها
عند وجود شرائط الوجوب من غير أن يكون هناك تجوز في الإطلاق.
فإطلاق جماعة - أن إطلاق الواجب عليه قبل حصول الشرط على سبيل
المجاز - ليس على ما ينبغي.
وأبعد منه دعوى كون الأمر المطلق حقيقة في خصوص الواجب المطلق، فإذا
تعلق الأمر بالواجب المقيد كان مجازا استنادا إلى تبادر الأمر حال إطلاقه في
المطلق، فيكون مجازا في غيره.
وهو ضعيف جدا، كيف ولو كان كذلك لكان جميع الأوامر الواردة في الشريعة
مجازات؟ لوضوح كونها مقيدة بشرائط عديدة: منها: البلوغ والعقل، وتبادر إطلاق
الأمر في المطلق إطلاقي حاصل من ظهور الإطلاق، لكون التقييد على خلاف
الأصل، كما هو الحال في سائر الإطلاقات.
ومن البين: أن تقييد سائر الإطلاقات لا يلزم أن يكون على سبيل التجوز وإن
أمكن أن يكون مجازا أيضا فيما إذا أدرج التقييد في معنى اللفظ.
والحاصل أن تقييد الأمر بشرط أو شرائط لا يزيد على تقييد المأمور بذلك
مع إطلاق الأمر، فكما أن الثاني يكون على وجه الحقيقة فكذا الأول من غير فرق
أصلا وربما يقال: إن لفظ الواجب قد تجرد بحسب الاصطلاح عن معناه الوضعي
وصار حقيقة فيما تعلق به الخطاب في الجملة، فيكون إطلاقه على المشروط
حقيقة من تلك الجهة وهو كما ترى وحينئذ فالأولى ذكر القيد المذكور في المقام،
لإخراج الواجب المشروط، كما صنعه المصنف وجماعة.
ثالثها: أن الواجب باعتبار تعلق الخطاب به وعدمه ينقسم إلى أصلي وتبعي،
وباعتبار كونه مرادا في نفسه وعدمه إلى نفسي وغيري، فالواجب الأصلي: ما
تعلق به الخطاب أصالة، والواجب التبعي: ما يكون وجوبه لازما للخطاب تابعا له
من غير أن يتعلق به الخطاب أصالة.
88

والظاهر أن اللوازم المقصودة بالإفادة في الخطاب بحسب فهم العرف -
كما في مفهوم الموافقة والمخالفة ودلالة الاقتضاء - في حكم الخطاب الأصلية،
لاندراجها في المداليل اللفظية وإن لم يكن على سبيل المطابقة.
والواجب النفسي: ما يكون مطلوبا لنفسه، والغيري: ما يكون مطلوبا لأجل
غيره أي: لحصول الغير والإتيان به.
ولا يرد في المقام كون الواجبات المأمور بها في الشريعة مطلوبة لغيرها من
الفوائد الأخروية أو الدنيوية، فلو بنى على ما ذكر لزم أن يكون الجميع واجبات
غيرية.
وهو بين الفساد، لوضوح الفرق بين تعلق الطلب بالشئ لثمرة مترتبة عليه
وتعلق الطلب به من جهة كونه وصلة إلى أداء مطلوب آخر ووسيلة إليه من غير أن
يكون ذلك الفعل مطلوبا في نفسه، والواجب الغيري إنما هو الثاني.
ثم إن كلا من القسمين المذكورين مما يصح اجتماعه مع كل من الآخرين،
فالأقسام المتصورة أربعة، وحينئذ فالنسبة بين كل منهما مع كل من الآخرين من
قبيل العموم من وجه إلا أن اجتماع الواجب النفسي مع التبعي غير ظاهر بعد
استقراء الواجبات.
وقد يجعل من ذلك وجوب الفرد بعد تعلق الأمر بالطبيعة. وفيه تأمل.
وكيف كان فالواجب النفسي ما يترتب على تركه استحقاق الذم أو العقاب
بملاحظة ذاته، والغيري لا يمكن أن يترتب عليه ذلك بملاحظة ذاته وإلا لوجب
الاجتناب عن تركه من حيث إنه تركه، فيكون واجبا مع قطع النظر عن غيره،
هذا خلف.
والحاصل: أن الواجب الغيري وإن كان أصليا لا يمكن ترتب استحقاق الذم
أو العقاب على تركه من حيث إنه تركه، وإنما يكون استحقاق ذلك على ترك ذلك
الغير، فالوجوب فيه تابع لوجوب الغير وآت من قبله وإن كان متعلقا للخطاب
أصالة فإن تعلق الخطاب به إنما هو من جهة إيصاله إلى الغير، ومثل ذلك الوجوب
ليس قابلا لاستحقاق عقوبة مستقلة من جهة مخالفته كما لا يخفى.
89

فهناك استحقاق واحد إذا نسب إلى ذلك الغير كان استحقاقه من جهة تركه في
نفسه، وإذا نسب إلى الواجب المفروض كان استحقاقه من جهة أدائه إلى ترك
الآخر، بل الظاهر أن هناك عصيانا واحدا ينسب أصالة إلى الأمر المتعلق بذي
المقدمة وتبعا إلى المقدمة، حتى أنه لا يختلف الحال في عصيانه إذا ترك الواجب
وأتى بالمقدمات أو تركها.
وبالجملة أنه لما كان تعلق الأمر بها من جهة الإيصال إلى واجب آخر
والأداء إليه لا من جهة الإتيان بها في نفسها لم يكن تحقق العصيان بمخالفته إلا
من جهة عدم الوصول إلى ذلك الغير والإتيان به، فليس هناك إلا جهة واحدة
للعصيان وهي مخالفة ذلك الأمر النفسي، فيكون استناد العصيان إليه على سبيل
الأصالة وإلى الأمر الغيري على وجه التبعية له، من حيث كونه سببا موصلا إليه.
وكذا الحال في أجزاء الواجب فإنها وإن كانت واجبة تبعا عند تعلق الأمر
بالكل أو أصالة عند تعلق الأمر بكل منها من حيث أدائه إلى أداء الكل فلا عصيان
أصالة إلا في ترك الكل، ولو فرض حينئذ تعدد المعصية فلا ريب في كون جهة
العصيان فيها واحدة فلا يكون الجهة المقبحة لتلك المعاصي إلا واحدة، فلا يزيد
القبح الحاصل عند ترك الكل على القبح المتفرع على ترك نفس الواجب وإن أتى
بشرائطها وكثير من أجزائها.
فظهر بما قررنا ضعف ما تخيله بعضهم من ترتب استحقاق عقوبة مستقلة على
مخالفة الواجبات الغيرية زاعما أن ذلك من اللوازم العقلية أو الشرعية لها فيما إذا
ثبت وجوب اتباع الأمر، وما دل شرعا على استحقاق العصيان للعقاب مطلق،
لتعليقه على حصول المعصية الحاصلة بمخالفة الأمر وعدم الإتيان بما هو مطلوب
الأمر، سواء كان ذلك مطلوبا لنفسه أو لغيره.
وأضعف منه ما ذكره بعض الأفاضل من ترتب استحقاق الذم أو العقاب على
ترك الواجب الغيري إذا كان متعلقا للخطاب أصالة، دون ما إذا كان الخطاب به
90

تبعا، لاشتراكه مع الأول في الحكم باستحقاق عقوبة مستقلة [للخطاب] (1) على
ترك الواجبات الغيرية في الجملة واختصاصه بالتفصيل بين الغيري الأصلي
والتبعي.
مع أنه لا فارق بينهما من جهة العصيان والمخالفة أصلا، فلو فرض ترتب
استحقاق العقوبة على الواجبات الغيرية فلا وجه للفرق بين ما تعلق به الخطاب
أصالة أو تبعا، إذ الفرق بين الوجهين إنما هو في مدرك الحكم دون الحكم نفسه،
فإن الوجوب في الأصلي مدلول الخطاب أصالة وفي التبعي مدلوله بملاحظة
حكم العقل، واختلاف الدليل مع اتحاد المدلول لا يقضي باختلاف الأحكام
المترتبة على المدلول.
ثم إن كلا من الوجوه المذكورة من أقسام الوجوب على سبيل الحقيقة،
فيندرج الفعل المتصف بالوجوب على أي وجه منها في الواجب على وجه
الحقيقة، لصدق مفهومه عليه من غير توسع، وإن كان إطلاق الوجوب والواجب
منصرفا إلى بعضها فإن مجرد ذلك لا يقضي بخروج الآخر عن الحقيقة.
نعم قد يتصف بعض الأفعال بالوجوب على سبيل العرض دون الحقيقة فلا
يكون الوجوب من عوارضه على سبيل الحقيقة، وإنما يكون من عوارض الغير
ويكون اتصافه به بالعرض والمجاز كما هو الحال في لوازم الواجب، فإنه إذا
وجب الملزوم اتصف اللازم بالوجوب من جهته بمعنى كونه غير جائز الترك، لعدم
جواز ترك ملزومه المؤدى إلى تركه، وليس ذلك من حقيقة الوجوب في شئ، إذ
لا يقوم الوجوب حقيقة إلا بالملزوم، وليس اللازم واجبا في ذاته لا لنفسه ولا
لغيره إلا أنه لما كان السبب المؤدى إليه واجبا ولم يتصور انفكاكه عنه صح لذلك
إسناد الوجوب إليه بالعرض والمجاز، فهناك وجوب واحد يتصف به الملزوم
بالذات على وجه الحقيقة واللازم بالعرض على وجه التبعية والمجاز.

(1) أثبتناه من نسخة ف.
91

ولذا لا يصح إطلاق الأمر حينئذ بتجويز ترك اللازم، نظرا إلى عدم جواز
تركه من جهة عدم جواز ترك ملزومه وإن صح الحكم بجواز تركه في نفسه،
فوجوب الفعل على الوجه المذكور ليس من أقسام الوجوب على الحقيقة، ولا
يندرج الفعل من جهته في الواجب إلا على سبيل التوسع.
فتأمل حتى لا يختلط عليك الأمر في الفرق بين الواجب الغيري والواجب
على النحو المذكور، فإن هذا واجب بالغير وذاك واجب للغير، ولذا كان اتصاف
الأول بالوجوب مجازا دون الثاني.
وقد ظهر بما ذكرناه أن عد الوجوب على الوجه المذكور من أقسام الوجوب
وجعل الواجب على ذلك الوجه واجبا على الحقيقة - كما يستفاد من كلام بعض
الأفاضل - بعيد عن التحقيق.
رابعها: أن المقدمة كما عرفت قد تكون مقدمة للوجوب وقد تكون مقدمة
للوجود، والنسبة بينهما من قبيل العموم من وجه، فقد يجتمع الأمران كما في
اشتراط العقل بالنسبة إلى العبادات، وقد ينفرد الأول كما في البلوغ بالنسبة إلى
الصلاة ونحوها بناء على شرعية عبادات الصبي المميز، وقد ينفرد الثاني كما في
قطع المسافة بالنظر إلى الحج.
وقد تكون مقدمة للصحة كما في الطهارة بالنسبة إلى الصلاة ومرجع ذلك إلى
مقدمة الوجود، لتوقف وجود الصلاة الصحيحة عليه وعلى القول بخروج الفرد
الفاسد عن أصل الحقيقة فالأمر أوضح.
وقد تكون مقدمة للعلم كغسل جزء من الرأس، لحصول العلم بغسل الوجه،
وتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين، ومرجع ذلك إلى مقدمة الوجود بالنسبة إلى
العلم، فإن تحصيل العلم بأداء الواجب واجب آخر ووجود ذلك الواجب يتوقف
على ذلك وهو ظاهر.
وأيضا ينقسم المقدمة إلى عقلية كتوقف العلوم النظرية على المقدمتين، وعادية
كتوقف الصعود على السطح على السلم ونحوه، وشرعية كتوقف الصلاة على الطهارة.
92

وأيضا المقدمة قد تكون سببا وقد تكون شرطا وقد تكون مانعا وقد تكون
معدا والأولان مأخوذان في حصول الواجب وجودا، والثالث عدما، والرابع
وجودا وعدما، وقد عرفوا السبب بأنه ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه
العدم، والشرط بأنه ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود، والمانع
بأنه ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه الوجود، والمعد ما يلزم من كل
من وجوده وعدمه المطلق العدم فيعتبر كل من وجوده وعدمه في الوجود فيؤخذ
كل من مفهومي الشرط والمانع.
وقد أورد على تعريف السبب بأن السبب قد يجامع عدم الشرط أو وجود
المانع فلا يلزم من وجوده الوجود، وقد يخلف السبب سبب آخر، فلا يلزم من
عدمه العدم.
وقد زاد بعضهم في الحد التقييد بقوله: " لذاته " ليحترز من ذلك، وأنت خبير
بأن أقصى ما يستفاد من التقييد المذكور التحرز عن التخلف الحاصل من وجود
المانع، وأما ما يكون بفقدان الشرط فالاستلزام غير حاصل مع عدمه، إذ ذات
المقتضى مع قطع النظر عن وجود الشرط غير كاف في الوجود.
وأيضا فالتحرز به عن قيام سبب مقام آخر غير ظاهر، إذ لا اقتضاء لانتفاء
السبب الخاص في انتفاء المسبب حتى يكون قيام السبب الآخر مقامه خروجا
عن مقتضى ذلك السبب، لوضوح أن اللازم قد يكون أعم، ومن المقرر عدم اقتضاء
انتفاء الملزوم انتفاء اللازم.
ويرد عليه: صدق الحد المذكور على العلة التامة الجامعة للمقتضى والشرائط
وانتفاء الموانع وهو خلاف ظاهر اصطلاح أرباب المعقول، كيف وقد قابلوا السبب
بالشرط والمانع وهو ظاهر في عدم اندراج أحدهما في الآخر؟
وقد أورد أيضا على الحد المذكور بأن كثيرا من الأسباب الشرعية معرفات
للحكم، وليست بمقتضيات حقيقة لثبوت الأحكام المتفرعة عليها، فلا يندرج في
الحد المذكور، لظهوره في كون السبب هو الباعث على وجود المسبب لا مجرد
93

كون العلم بحصوله باعثا على العلم بحصول مسببه كما هو الحال في المعرفات،
فإن السببية حينئذ انما تكون بين العلم بأحدهما والعلم بالآخر دون أنفسهما
فارجاع السببية إلى ذلك بعيد جدا.
ويمكن دفعه: بأن لزوم أحد الشيئين للآخر لا يستدعي كون أحدهما علة
للآخر ولذا صرحوا بكون المتلازمين إما علة ومعلولا أو معلولي علة واحدة،
فوجود أحد المعلولين لازم لوجود المعلول الآخر، وهو معرف لوجوده مع انتفاء
العلية بينهما.
ويرد على تعريف الشرط: بأن كثيرا من الشروط مما يخلفه شرط آخر فلا
يندرج في الحد، إذ لا يلزم من عدمه العدم، وأيضا فالشرط الواقع جزء أخيرا
للعلة التامة مما يلزم من وجوده الوجود فلا يندرج في حد الشرط بل يلزم
اندراجه في السبب فينتقض كل من الحدين.
ويمكن دفع الأول بأن الشرط هناك إنما هو أحد الأمرين لا خصوص كل
منهما، والثاني بأن الشرط الواقع جزءا أخيرا [للعلة] (1) إنما يلزمه الوجود إذا وقع
أخيرا، وأما إذا لم يقع في الأخير فلا يلزمه الوجود فلا يندرج في الحد المذكور.
نعم قد يورد عليه بصدق الحد المذكور على الجزء الأخير من العلة التامة، إذ
يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، بل هو أولى بصدق الحد المذكور عليه
من الأسباب الشرعية، مع أنه ليس سببا في الاصطلاح وإن أطلق عليه السبب
أحيانا، فالظاهر أنه إطلاق مجازي.
ويمكن الإيراد على حد المانع تارة بنحو ما مر فإن بعض الموانع مما يلزم من
عدمه الوجود فيما إذا وقع جزء أخيرا للعلة التامة. ويدفعه ما عرفت وأخرى بأن
الضد من الموانع وقد يكون ارتفاع أحد الضدين قاضيا بوجود الآخر فيما إذا لم
يكن لهما ثالث، كالحركة والسكون.

(1) أثبتناه من نسخة ف.
94

وقد يوجه بأن المقصود من الحد أنه لا يعتبر فيه أن يلزم من عدمه الوجود
وإن اتفق لزوم ذلك في بعض الموارد، وهو تكلف بعيد عن العبارة جدا. والبناء
على ذلك في حد المانع يقضي بالبناء عليه في حد الشرط أيضا، وهو مما يقطع
بفساده وإلا لزم أن يكون الشرط أعم من السبب وهو بين الفساد.
خامسها: لا إشكال في إطلاق الواجبات بالنسبة إلى أسبابها، إذ لا يعقل الأمر
بالشئ بعد كونه واجب الحصول، فإنه نظير الأمر بتحصيل الحاصل.
وأما بالنسبة إلى الشرائط ونحوها فالذي نص عليه غير واحد من المتأخرين
أن الأصل في الواجب الإطلاق إلى أن يثبت التقييد. وظاهر كلام السيد (رحمه الله) لزوم
التوقف إلى أن يظهر الإطلاق أو التقييد، فعلى هذا إذا لم يثبت أحد الأمرين أخذ
بأصالة عدم الوجوب مع انتفاء الشرط.
والذي يقتضيه التحقيق في المقام أن يقال: إن وجوب الشئ إما أن يثبت
بالأدلة اللفظية أو غيرها من الاجماع أو العقل، وعلى الأول فإما أن يكون ما تعلق
الطلب به مطلقا أو مجملا، فهذه وجوه ثلاثة:
أحدها: أن يكون الوجوب ثابتا من غير الدليل اللفظي، وحينئذ فإذا دار الأمر
فيه بين أن يكون مطلقا أو مشروطا فالظاهر التوقف بين الأمرين في مقام
الاجتهاد والحكم بإلزام القيد وانتفاء الوجوب مع انتفاء القيد المفروض في مقام
الفقاهة.
أما الأول فلأن القدر الثابت من الاجماع أو العقل هو القدر الجامع المشترك
بين الأمرين ولا دلالة للعام على خصوص شئ من قسميه فلا بد في التعيين من
قيام دليل آخر عليه.
والقول بأن الواجب المشروط قبل حصول شرطه ليس من أنواع الواجب
على الحقيقة فالدليل الدال على الوجوب من الاجماع أو العقل لا يحتمل
الانصراف إليه بين الاندفاع، لوضوح أن الحكم بوجوب شئ على فرض حصول
بعض مقدماته ليس حكما بوجوب ما ليس بواجب حتى يقال: بعدم انصراف
95

الدليل إليه، مضافا إلى ما عرفت من كون الواجب المشروط أحد قسمي الواجب
على سبيل الحقيقة ولو قبل حصول شرطه على الوجه الذي بينا، ومع الغض عنه
فليس هناك إطلاق لفظي حتى يحمل على الحقيقة، والمفروض كون القدر الثابت
من الاجماع أو العقل هو ما يعم الأمرين، سواء كان ذلك وجوبا على الحقيقة
أو أعم منه ومن غيره.
وما قد يتوهم من أنه بعد ثبوت مطلق الوجوب فالأصل عدم تقييده بشئ
فإن اعتبار القيد على خلاف الأصل، مدفوع بأن الأصل المذكور إنما يفيد مع
وجود إطلاق في المقام، إذ الأصل المذكور أصل اجتهادي ومقتضاه الأخذ بظاهر
إطلاق اللفظ إلى أن يثبت التقييد، وأما مع عدم وجود إطلاق كما هو المفروض في
المقام فليس هناك أصل يرجع إليه في مقام الاجتهاد.
وأما الثاني فلأن أقصى ما يفيده الدليل المفروض هو حصول الوجوب مع
وجود ذلك القيد، وأما مع انتفائه فالمفروض الشك في حصول الوجوب وتعلق
التكليف فالأصل عدمه، وذلك ظاهر ولا فرق بين ما إذا وجد القيد المفروض ثم
انتفى وبين ما إذا لم يحصل من أول الأمر.
والتمسك بالاستصحاب في الصورة الأولى فاسد، لدوران الأمر المستصحب
بين ما يقبل البقاء وبين ما لا يقبله، ومثل ذلك لا يجري فيه الاستصحاب حسب ما
فصل في محله.
وثانيها: أن يكون الوجوب مستفادا من اللفظ ويكون ما تعلق الوجوب به
مجملا، وحينئذ فإن كان ما يشك في كونه شرطا للوجود مما يشك في كونه شرطا
للوجوب أيضا، فإن تمكن من الشرط المفروض فقضية الأصل حينئذ إطلاق
الوجوب حسب ما سيجئ في الصورة الثالثة فيجب الإتيان بالشرط المشكوك،
أخذا بيقين الفراغ بعد اليقين بالاشتغال، وإن لم يتمكن منه فمقتضى الأصل البناء
على فراغ الذمة، لعدم ثبوت الاشتغال مع انتفائه، وكذا لو فرض التمكن منه أولا
ثم اتفق عدمه.
96

واستصحاب اشتغال الذمة في المقام ضعيف لكونه من قبيل استصحاب
الجنس، ومن ذلك يظهر الحال في صلاة الجمعة بالنسبة إلى اعتبار المنصوب
الخاص في وجوبها أو تعين وجوبها.
وثالثها: أن يكون اللفظ مطلقا وحينئذ فلا إشكال في كون الوجوب المتعلق به
مطلقا أيضا، أخذا بمقتضى إطلاق اللفظ إلى أن يثبت التقييد، وبالجملة كون قضية
إطلاق اللفظ إطلاق الوجوب، وحجية المطلق مما لا مجال للريب في شئ منهما
ولا أظن أن أحدا يتأمل فيه.
نعم قد يتراءى من ظاهر إطلاق السيد البناء على التوقف في المقام، نظرا إلى
ورود كل من الوجهين في الشريعة فلا يحمل الإطلاق على خصوص أحدهما
[إلا] (1) بدليل.
وضعفه ظاهر، إذ الخروج عن الظاهر من جهة قيام الدليل عليه غير عزيز في
الشريعة، ولا يقضي ذلك بالتوقف مع انتفاء الدليل المخرج وإلا لما صح التمسك
بشئ من الظواهر، وحينئذ فلا وجه للتوقف في إطلاق الوجوب مع إطلاق الأمر،
لوضوح قضاء إطلاقه بإطلاق الوجوب، فالواجب هو البناء عليه حتى يثبت
خلافه.
ومن البعيد إنكار السيد لما ذكرناه فلا وجه لتوقفه في المقام، ويمكن توجيه
عبارة السيد بما يرجع إلى المشهور وإن حملها جماعة على ظاهر ما يتراءى منها.
وتوضيح ذلك: أنه بعد إطلاق المأمور به وعدم إجماله إما أن لا يثبت تقييد
وجوبه أو وجوده بشئ من الأمور الخارجة عنه، مما يحتمل اعتباره فيه على
أحد الوجهين المذكورين أو يثبت ذلك، فعلى الأول لا إشكال في البناء على
الإطلاق في المقامين، أخذا بظاهر اللفظ إلى أن يثبت المخرج عنه حسب ما أشرنا
إليه وعلى الثاني فإن ثبت تقييده على أحد الوجهين المذكورين بخصوصه فلا

(1) أثبتناه من نسخة ف ر ق.
97

إشكال أيضا، لوجوب الخروج عن مقتضى الإطلاق على حسب ما دل الدليل
عليه وإن لم يثبت ذلك لكن علم ورود التقييد على أحد الوجهين المذكورين من
دون علم بخصوص أحدهما فهل يجب التوقف إلى أن يعلم الحال من الخارج أو
يحكم برجحان أحدهما؟
وبالجملة لو دارت المقدمة بين كونها للوجوب أو الوجود فهل هناك أصل
يقتضي البناء على أحد الوجهين أو لا بد من التوقف والأخذ بمقتضى أصول
الفقاهة؟
فالذي يقتضيه ظاهر القواعد هو التوقف في مقام الاجتهاد والبناء على
مقتضى مقدمة الوجوب في مقام العمل.
أما الأول فللقطع بورود التقييد على أحد الإطلاقين - أعني إطلاق الأمر
وإطلاق الفعل المأمور به - ولا مرجح لأحد الوجهين فيتوقف التعيين على قيام
الدليل عليه.
وأما الثاني فلأن غاية ما يثبت بعد ملاحظة ذلك هو وجوب الفعل عند حصول
الشرط المذكور، وأما مع عدمه فلا دليل على الوجوب، لما عرفت فينتفي بالأصل.
وما قد يتخيل من أن تقييد الأمر قاض بتقييد المأمور به أيضا بخلاف العكس
فيترجح البناء على الثاني مدفوع بالفرق بين ظاهر ورود التقييد على الإطلاق
ورجوع الأمر إلى وجوب المقيد.
والمرجوح بملاحظة ظاهر اللفظ انما هو الأول. وأما الثاني فلا مرجوحية فيه
بعد قيام الدليل عليه، ألا ترى أن تقييد متعلق الوجوب قاض بتقييد الوجوب من
حيث المتعلق إلا أن ذلك لا يعد تقيدا آخر وخروجا عن الظاهر من جهة أخرى،
كما لا يخفى.
إذا تقرر ذلك فنقول: تنزيل كلام السيد على الصورة المفروضة غير بعيد عن
سياق كلامه فيكون مقصوده أنه لو دل دليل على اشتراط الواجب بشئ ودار
الأمر في المقدمة بين الوجهين المذكورين لا بد من التوقف بالنسبة إلى غير
98

السبب، كما هو الحال فيما هو بصدده من رد استدلال المعتزلة فان إقامة الحدود
مما يعتبر فيه إذن الإمام في الجملة، لكن لم يقم دليل على كونه شرطا في وجوبها
أو وجودها، ولا يتم الاحتجاج إلا بعد إثبات كونه من الثاني، وحيث لا دليل فلا بد من
التوقف وعدم الحكم بتعيين أحد الوجهين إلى أن يدل عليه دليل من الخارج.
إذا تمهد تلك المقدمات فنقول: لا كلام في أن المقدمة لا بد من حصولها في
أداء الواجب ويعبر عنه مجازا بالوجوب العقلي، بل ليس ذلك إلا مفاد كونها
مقدمة فهو في الحقيقة مقوم لمفهوم الموضوع لا أنه حكم من أحكامه، ويصح
لذلك استناد الوجوب إليها بالعرض والمجاز، فإنه لما لم يمكن انفكاك الواجب
عنها لم يجز تركها، نظرا إلى عدم جواز ترك ما لا ينفك عنها حسب ما ذكرنا في
لوازم الوجود، فالظاهر أنه لا كلام أيضا في وجوبها على الوجه المذكور.
فما اختاره بعض الأفاضل من القول بوجوب المقدمة على النحو المذكور -
نظرا إلى عدم إمكان انفكاك الواجب عنها لا من جهة أدائها إلى أداء الواجب
وتوقف وجود الواجب عليها ولذا لم يفرق بينها وبين لوازم الوجود وقال بوجوب
الكل - هو عين القول بعدم وجوبها مطلقا، إذ وجوبها على الوجه المذكور مما لا
ينبغي الخلاف فيه، ولا يظهر من كلام المنكرين لوجوبها إنكار ذلك أصلا، إذ ليس
ذلك من وجوب المقدمة في شئ كما عرفت. فما يستفاد من كلامه من كون ذلك
قولا بوجوب المقدمة على الحقيقة وأن المنكر لوجوبها مطلقا ينكر ذلك، ليس
على ما ينبغي.
هذا، ولا كلام أيضا في عدم اقتضاء وجوب الشئ وجوب مقدمته وجوبا
نفسيا بأن يكون المقدمة واجبة لنفسها على سبيل الاستقلال كوجوب ذيها،
لوضوح عدم دلالة وجوب الشئ على وجوب ما يتوقف عليه على الوجه
المذكور بحيث لا يرتاب فيه ذو مسكة ولا يحوم حوله ريب وشبهة، إذ لا يعقل
ربط بين الوجوبين على النحو المذكور، ويدل عليه مع غاية وضوحه أن ذلك هو
المستفاد مما قرر من الأدلة على الوجوب فيكون ذلك هو مقصود القائل به.
99

نعم يوجد في كلام بعض الأفاضل استحقاق العقاب على ترك المقدمة بناءا
على القول بالوجوب وعدمه على القول الآخر.
وفرع عليه أيضا استحقاق الثواب على فعلها وعدمه، وبه قطع بعض الأفاضل
ممن عاصرناه وأيد ما أسند إليهم من الحكم بثبوت العقاب باستدلالهم في دلالة
الأمر بالشئ على النهي عن الضد بأن ترك الضد واجب من باب المقدمة، فيكون
فعله حراما فيثبت حرمته ويترتب عليه أحكامه من الفساد وغيره.
فإن القائل بأن الأمر بالشئ يقتضي النهي عن الضد ليس مراده طلب الترك
التبعي كما سنحققه، بل مراده الخطاب الأصلي، قال: " ووجه التأييد أن النهي
المستلزم للفساد ليس إلا ما كان فاعله معاقبا ". وأنت خبير بما فيه، إذ كون النهي
المستلزم للفساد خصوص ما يكون فاعله معاقبا دون غيره غير متجه، فإن اقتضاء
النهي المتعلق بالعبادة للفساد إنما يجئ من جهة عدم جواز اجتماعه مع الطلب
المتعلق بفعلها المقوم لماهية العبادة، وذلك مما لا يختلف فيه الحال بين ما يترتب
عليه العقاب أو لا.
نعم هناك فرق بين النهيين من جهة أخرى لا يترتب من جهته الفساد على
النواهي الغيرية في بعض الصور ولو كانت أصلية كما سيأتي بيانه إن شاء الله
تعالى.
وأيضا لو سلم ذلك فكون المستدل المذكور قائلا بذلك غير معلوم فلعله
يتخيل عدم جواز اجتماع الأمر والنهي في العبادة مطلقا، ومجرد فساد الدعوى
المذكورة على فرض تسليمه لا يقضي بحمل كلامه على ما ذكر مع فساده أيضا،
مضافا إلى أن ما ذكره لو تم لقضى بكون النهي المتعلق بالمقدمة نفسيا لا غيريا، لما
عرفت من عدم ترتب عقاب مستقل على ترك الواجبات الغيرية.
ومن الغريب نص الفاضل المذكور بكون النزاع في المقام في الوجوب
الأصلي النفسي حيث قال: " وأما القائل بوجوب المقدمة فلا بد أن يقول بوجوب
آخر غير الوجوب التوصلي، ويقول بكونه مستفادا من الخطاب الأصلي وإلا فلا
100

معنى للثمرات التي أخذوها لمحل النزاع، فلا بد لهم من القول بأنها واجبة في حد
ذاتها أيضا كما أنها واجبة للتوصل إلى الغير ليترتب عليه عدم الاجتماع مع الحرام
وأن يكون الخطاب به أصليا ليترتب العقاب عليه " انتهى.
وأنت خبير بأن الثمرات التي ذكروها ان سلمنا عدم ترتبها على الوجوب
الغيري التبعي فليس عدم ترتبها عليه بديهيا، ولو سلم ظهوره فليس بأوضح من
فساد القول بوجوبها النفسي الأصلي، فإن فساد ذلك يشبه أن يكون ضروريا،
فالإيراد عليهم بعدم ترتب الثمرات المذكورة على وجوب المقدمة أولى من حمل
الوجوب في كلامهم على هذا المعنى السخيف الذي لا ينبغي صدوره عن العقلاء
فضلا عن أفاضل العلماء.
ثم إن ما ذكره من أن ترتب العقاب عليه إنما يتفرع على كون الخطاب به
أصليا قد عرفت وهنه، لوضوح أن العقاب إنما يترتب على ترك الواجبات النفسية
ولو كانت تبعية على فرض ثبوتها كذلك، كما مرت الإشارة إليه وأما الواجبات
الغيرية فلا يترتب عليها عقوبة ولو كانت أصلية، كما عرفت الحال فيه، فتفريعه
استحقاق العقاب على ذلك مما لا وجه له كتفريعه عدم اجتماعه مع الحرام على
كون الوجوب نفسيا، حسبما يجئ تفصيل القول فيه إن شاء الله.
ثم ذكر الفاضل المذكور وجها آخر لوجوب المقدمة على القول بها، وهو أن
يكون الوجوب نفسيا عقليا لازما للأمر بذي المقدمة بأن يكون هناك خطابان
أصليان للشارع: أحدهما: بلسان رسول الظاهر والآخر: بلسان رسول الباطن
قال: " وإلى هذا ينظر استدلالهم الآتي على اثبات وجوب المقدمة ". وهذا أيضا
في الوهن كسابقه.
وما ذكره من أن استدلالهم الآتي ناظر إلى ذلك كأنه أراد به الاستناد إلى
استحقاق الذم على ترك المقدمة فإنه ربما يوهم ذلك ولا دلالة فيه على ما ذكره
أصلا كما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.
وكيف يعقل تقرير النزاع فيما ادعاه مع أن جمهور العلماء ذهبوا إلى الوجوب
101

وادعى جماعة عليه الاجماع بل جعله البعض من الضروريات؟ وقد اعترف
الفاضل المذكور بأن حكاية الاجماع ودعوى الضرورة يبعد حمل كلامهم على ما
قرره. قلت بل يقضي بالقطع بخلافه سيما بعد ملاحظة ما قررناه هذا.
وأما استحقاق الثواب على فعل المقدمة فلا مانع منه لو أتى بها من جهة
الإيصال إلى أداء مطلوب الشارع، فيكون واجبا غيريا مستحبا نفسيا حسب ما
مر بيانه، بل لا يبعد القول بتفرعه عليه حينئذ على القول بعدم الوجوب أيضا، نظرا
إلى أنها جهة مرجحة للفعل يصح قصد التقرب من أجلها وليس ذلك قولا
باستحباب المقدمة مطلقا بل إذا أوقعها على الجهة الخاصة، كما أن المباحات بل
المكروهات أيضا تندرج في المندوبات بعد ملاحظة الجهات.
قال بعض الأفاضل بعد الحكاية عن بعض المحققين ترتب المدح والثواب
على فعلها حاكيا له عن الغزالي أنه لا غائلة فيه إلا أنه قول بالاستحباب، ففيه
إشكال إلا أن يقال باندراجه تحت الخبر العام " فيمن بلغه ثواب... الخ " فإنه يعم
جميع أقسام البلوغ حتى فتوى الفقيه، فإن أراد استحبابها إذا أتى بها على الجهة
التي ذكرناه فهو كذلك إلا أنه لا إشكال إذن في استحبابها ولو على القول بعدم
وجوب المقدمة ولا حاجة إلى التمسك بما ذكره مع ضعفه، وإن أراد استحبابها
مطلقا فهو موهون جدا، إذ لا دليل عليه أصلا، والاستناد إلى ما ذكره ضعيف جدا.
ثم الظاهر إنه لا إشكال أيضا في عدم كون وجوب المقدمة على فرض ثبوته
أصليا، لوضوح أن الخطاب بالمقدمة ليس عين الخطاب بذيها ولا جزئه ولا
خارجه اللازم، بحيث يفهم من مجرد اللفظ الدال على وجوب شئ وجوب
مقدمته حتى يندرج في الدلالة الالتزامية اللفظية، لوضوح جواز الانفكاك بينهما
بحيث لا مجال للريب فيه، فالظاهر أن القائلين بالوجوب لا يقولون به، وهو مع
وضوح فساده ليس في شئ من أدلتهم ولا المعروف من كلماتهم المنقولة في
المسألة دلالة على ذلك بوجه.
وما قد يتخيل من دلالة بعض ما ذكروه على ذلك قد عرفت ما فيه، فلا وجه
102

لجعل النزاع في المسألة في خصوص الوجوب الأصلي بأن يكون اللفظ الدال
على وجوب ذي المقدمة دالا على وجوب مقدمته ليكون الخطاب به خطابا بها
أصالة، كيف وفساد ذلك أيضا يشبه أن يكون ضروريا؟
فتنزيل كلماتهم على إرادة ذلك - كما في كلام الفاضل المتقدم واحتمله بعض
الأفاضل - مما لا وجه له أصلا بل فاسد قطعا ومع ذلك فلا ثمرة لإثبات تعلق
الخطاب بها أصالة، إذ بعد وضوح كون الخطاب بها غيريا كما مر لا يترتب على
تركها عقوبة مستقلة حسب ما عرفت، وتعلق الطلب الحتمي بها حاصل على
الوجهين، غاية الأمر اختلافهما في مدرك الحكم وذلك مما لا يترتب عليه ثمرة
كما لا يخفى.
فالحق في تحرير محل النزاع في المسألة أن يقرر الخلاف في الوجوب
الغيري التبعي، فالقائلون بالوجوب يقولون بكون المقدمة مطلوبة للشارع للتوصل
إلى ذيها، ويستفاد ذلك الطلب بحكم العقل بعد ملاحظة الطلب المتعلق بذي
المقدمة، والقائل بعدم الوجوب ينكر ذلك ويقول: إنه لا يثبت للمقدمة سوى
اللابدية المأخوذة في معناها أو يقول مع ذلك بثبوت الوجوب لها بالعرض، على
ما مر تفصيل القول فيه إلا أن يتعلق بها أمر من الخارج كالطهارة بالنسبة إلى
الصلاة ونحوها مما ورد الأمر به من مقدماتها.
ثم إن لهم في المسألة أقوالا عديدة:
أحدها: القول بوجوب المقدمة مطلقا، وهو المختار وإليه ذهب المعظم من
العامة والخاصة بل لا نعلم قائلا بخلافه من الأصحاب ممن تقدم على المصنف،
وحكاية الاجماع عليه مستفيضة على ما ذكره جماعة، ويستفاد من تتبع مطاوي
المباحث الفقهية أن ذلك من المسلمات عندهم، وعن المحقق الدواني دعوى
الضرورة عليه، وربما يستفاد ذلك من كلام المحقق الطوسي أيضا وقد حكى
الشهرة عليه جماعة.
ثانيها: القول بعدم وجوبها كذلك، حكاه الفاضل الجواد والعضدي قولا
103

وحكى عن المنهاج أيضا حكاية ذلك ولم ينسبه أحد إلى قائل معروف، بل نص
جماعة من الأجلة منهم المصنف على جهالة القائل.
ثالثها: التفصيل بين السبب وغيره، حكاه في النهاية عن الواقفية وعزى القول
به إلى السيد (رحمه الله)، وليس كذلك كما بينه المصنف بل كلامه صريح في وجوب مقدمة
الواجب المطلق مطلقا، بل ظاهر كلامه أنه من الأمور الواضحة حيث لم يجعله
موردا للتأمل والإشكال.
رابعها: التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره ذهب إليه الحاجبي والعضدي في
ظاهر كلامه، ويحتمل ضم السبب إلى الشرط الشرعي إن ثبت الاجماع على
وجوب الأسباب أو كان القائل ذاهبا إليه، والحاصل أنه يدور الأمر في التفصيل
المذكور بين الوجهين.
خامسها: التفصيل بين الشرط وغيره من المقدمات كرفع المانع، وهذا القول
غير معروف في أقوال المسألة إلا أن ظاهر العلامة في النهاية حكايته عن جماعة.
هذا وقد يتخيل لثمرة النزاع في المسألة أمور:
منها: أنها تثمر في النذور والأيمان ونحوها، كما إذا نذر الإتيان بواجبات
عديدة فإنه يكفيه الإتيان بواجب واحد ومقدماته على القول بوجوب المقدمة،
بخلاف ما لو قيل بعدم وجوبها، وكذا إذا نذر دفع درهم لمن أتى بواجبات شتى
وهكذا. وقد يشكل ذلك بأنه لا يبعد انصراف إطلاق الواجب في النذور وغيرها
إلى الواجب المستقل دون الغيري التابع لوجوب الغير.
نعم لو صرح بإرادة الأعم صح ذلك، إلا أنه فرض نادر على أن ذلك ليس من
ثمرات مسائل الأصول، إذ لا ربط له باستنباط الأحكام عن الأدلة فلا يعد ثمرة
لعقد المسألة في عداد مسائل الفن.
ومنها: استحقاق الثواب على فعل المقدمات والعقاب على تركها، بناءا على
القول بوجوبها بخلاف ما لو قيل بعدمه، وقد عرفت ضعفه لابتنائه على كون
وجوب المقدمة نفسيا لا غيريا. وقد مر أن دعوى وجوبها كذلك موهونة جدا بل
104

لا يعرف قائل به أصلا، ووجوبها الغيري - كما هو مذهب القائل بالوجوب - لا
يستلزم ترتب الثواب على فعلها ولا العقاب على تركها من حيث إنه تركها.
نعم يترتب الثواب على فعلها إذا أتى بها على الوجه الخاص كما مر، ولا
يتفاوت الحال حينئذ بين القول بوجوبها وعدمه.
ومنها: لزوم ترتب الفسق على ترك المقدمات إذا كانت متعددة بحيث يقضي
بصدق الإصرار المتفرع على الإكثار، ولو اكتفينا في صدقه بمجرد العزم على
معصية أخرى ولو من غير جنسه جرى ذلك مع وحدة المقدمة أيضا بخلاف ما لو
قيل بعدم وجوبها، إذ لا عصيان حينئذ إلا في ترك نفس الواجب فإن كانت صغيرة
لم يكن هناك فسق وإن تكثرت مقدماتها.
وفيه: أن العصيان المترتب على ترك المقدمات على نحو العقوبة المترتبة
عليها إنما يكون بالنظر إلى أدائها إلى ترك ذيها، إذ المفروض كون ذات المقدمة
من حيث إنها هي غير مطلوبة للآمر فلا يزيد العصيان الحاصل من جهة ترك ألف
من المقدمات على العصيان المترتب على ترك الواجب لاتحاد جهة العصيان في
الجميع على نحو جهة الأمر المتعلق بها فإن كلا منها إنما يتعلق الأمر به من حيث
أدائه إلى ذيه، فلا يزيد العصيان الحاصل بترك كثير منها على الحاصل بترك واحد
منها، وليس العصيان الحاصل بملاحظة مخالفة كل منها إلا من تلك الجهة الواحدة،
فلا يتجه جعل كثرة المقدمات المتروكة باعثة على حصول الفسق وصدق الإصرار
مع اتحاد جهة العصيان واتحاد ما هو الواجب بالذات، وما دل على حصول الفسق
بالإصرار على الصغائر ينزل على غير المعاصي الغيرية، كما يشهد به الاعتبار
الصحيح، فإن الظاهر منه تعدد وجوه العصيان مع حصول الإصرار وهو غير
حاصل في المقام كما عرفت.
ومنها: عدم جواز تعلق الإجارة بها على القول بوجوبها كغيرها من الأفعال
التي يجب على المكلف الإقدام عليها مجانا بخلاف ما لو كانت غير واجبة، إذ لا
مانع حينئذ من تعلق الإجارة بها، فيصح العقد ويستحق الأجرة المعينة بإزائها،
105

فعلى هذا لو حصلت له الاستطاعة الشرعية جاز له أن يوجر نفسه لقطع المسافة
عن غيره ثم إذا بلغ الميقات استأجره غيره لأداء أفعال الحج من الميقات وأتى
بنفس الأفعال عن نفسه بناء على الثاني بخلاف الأول إلى غير ذلك من الفروض.
ويمكن دفع ذلك بأن ما لا يجوز الاستيجار عليه من الواجبات هو ما يكون
الإتيان به واجبا على المكلف في نفسه لا على الواجبات الغيرية الملحوظ فيها
حال الغير، فإن المقصود هناك حصول ذلك الغير وإنما يراد المقدمة من جهة كونها
موصلة إلى الواجب.
والحاصل: أن أقصى ما دل عليه الدليل عدم جواز وقوع الإجارة على
الواجبات النفسية دون غيرها، وفيه تأمل يظهر الوجه فيه بملاحظة خصوصيات
ما حكموا بالمنع من جواز أخذ الأجرة عليه من الواجبات.
ثم إن الثمرات المذكورة على فرض تفرعها على المسألة لا ربط لها باستنباط
الأحكام عن الأدلة ليكون من ثمرات المسائل الأصولية كما أشرنا إليه في الثمرة
الأولى.
ومنها: عدم جواز اجتماعها مع الحرام على القول بوجوبها بناءا على ما هو
التحقيق من عدم جواز اجتماع الأمر والنهي بخلاف ما لو قيل بعدم وجوبها
للاجتزاء حينئذ بأدائها في ضمن الحرام.
ويدفعه: أن المقدمة إن كانت عبادة في نفسها كالوضوء والغسل فلا ريب في
عدم جواز اجتماعها مع الحرام وإن قلنا بعدم وجوب المقدمة، وإن لم تكن عبادة
فعدم جواز اجتماع الوجوب مع الحرمة لا يقضي بعدم حصول المقصود من
المقدمة - أعني التوصل إلى الواجب - ضرورة أن حصول التوصل أمر عقلي أو
عادي حاصل بحصول المقدمة سواء كانت واجبة أو محرمة، ومع حصول التوصل
يصح الإتيان بذي المقدمة من غير حاجة إلى إعادتها لحصول الغرض منها،
فالمقدمة المحرمة وإن لم تكن واجبة إلا أنها تغني عن الواجبة، فيسقط وجوبها
بعد الإتيان بها، فلا فرق من الجهة المذكورة بين القول بوجوب المقدمة وعدمه
106

ومجرد عدم اجتماع المقدمة الواجبة مع الحرام لا يفيد شيئا في المقام بعد
الاجتزاء بالحرام في أداء ما هو المقصود من المقدمة من التوصل إلى ذيها.
هذا إذا قلنا بعدم جواز اجتماع الوجوب والتحريم في المقدمة أيضا كما هو
المختار، وأما على ما ذهب إليه البعض من جواز الاجتماع فيها فلا إشكال رأسا.
ومنها: لزوم كون الأمر بالشئ نهيا عن ضده بناءا على القول بوجوب المقدمة
حيث إن ترك الضد من مقدمات حصول الضد الآخر، إذ وجود كل من الضدين
مانع من حصول الآخر ومن البين أن رفع المانع من جملة المقدمات، فحينئذ لو
كان المأمور به واجبا مضيقا وكان الضد واجبا موسعا أو من المندوبات لم يصح
الإتيان به ووقع فاسدا إذا أتى به حال تعلق التكليف بالمضيق نظرا إلى وجوب
تركه حينئذ فلا يتعلق التكليف بفعله، لعدم جواز اجتماع الأمر والنهي أو بقضاء
النهي في العبادة بالفساد.
وفيه: أنه لا ملازمة بين القول بوجوب المقدمة واقتضاء الأمر بالشئ النهي
عن ضده كما سيجئ بيانه في كلام المصنف (رحمه الله) فيسقط الثمرة المذكورة وفيه نظر
يعرف الوجه فيه مما قررناه، وسيجئ تفصيل القول فيه إن شاء الله تعالى.
والتحقيق أن يقال: إن النهي المتعلق بفعل الضد من باب المقدمة لا يقضي
بالفساد حسب ما سنقرر الوجه فيه إن شاء الله تعالى، ولا مانع من اجتماع وجوب
النفسي والحرمة الغيرية في بعض الوجوه كما سنفصل القول فيه إن شاء الله تعالى.
نعم لا يبعد البناء على فساد الضد فيما إذا كانت إرادة الضد هي الباعثة على
ترك الضد الواجب كما يأتي بيانه إن شاء الله فيتم جعل ذلك ثمرة للخلاف في
المسألة.
ومنها: أنه إذا كانت المقدمة عبادة متوقفة على رجحانها والأمر بها ولم يتعلق
بها أمر أصلي يفيد وجوبها لما يتوقف عليها من الغاية توقفت صحة الإتيان بها
لأجل تلك الغاية على وجوب المقدمة، فإنه إذا كانت المقدمة واجبة قضى الأمر
بالغاية بالأمر بمقدماتها، فيفيد ذلك رجحان الإتيان بها لأجل الغاية. بخلاف ما لو
107

قلنا بعدم وجوب المقدمة وذلك كالوضوء والغسل لمس كتابة القرآن فإن أقصى ما
يستفاد من الأدلة تحريم المس على المحدث، وأما الأمر بالوضوء لأجله إذا
وجب بأحد أسبابه الموجبة له فلا، بل يتوقف ذلك على البناء على وجوب المقدمة
فإن قلنا بوجوبها صح الإتيان بالطهارة لأجلها لرجحانها إذن كذلك، نظرا إلى
تعلق الأمر بها تبعا للأمر بما يتوقف عليها.
فلا فرق حينئذ بين الغاية المذكورة وسائر الغايات التي تعلق الأمر بالطهارة
لأجلها، غاية الأمر تعلق الأمر بها هناك أصالة وها هنا تبعا.
وقد عرفت أن ذلك لا يكون فارقا بينهما بحسب المعنى، غاية الأمر أن
يختلف لذلك وجه الدلالة والاستنباط وذلك لا يقضي باختلاف الحال في المدلول
حسب ما بيناه، وإن قلنا بعدم وجوبها لم يصح الإتيان بها لأجل تلك الغاية، إذ لا
رجحان حينئذ في الطهارة من جهتها، فلا يصح التقرب بها لأجلها، بل لا بد حينئذ
من الإتيان بها لسائر الغايات التي ثبت رجحان الطهارة لأجلها حتى يصح
الطهارة الواقعة ويجوز له الإتيان بتلك الغاية.
وفيه: أن الإتيان بالفعل لأجل التوصل إلى الواجب جهة مرجحة لذلك الفعل
وإن لم نقل بوجوب مقدمة الواجب كما مرت الإشارة إليه، ولذا قلنا بترتب الثواب
عليه إذا أتى به على الوجه المذكور على القول بعدم وجوب المقدمة أيضا وذلك
كاف في رجحان الإتيان بالمقدمة للغاية المفروضة.
نعم يثمر ما ذكر في جواز قصد الوجوب في الفعل المذكور أو وجوب قصده
على القول بوجوب نية الوجه.
قوله: * (مع كونه مقدورا... الخ) *.
قد يقال: إن قوله: " مطلقا " يقضي بخروج الواجب المشروط عن محل النزاع
مطلقا، ولا ريب أن التكاليف كلها مقيدة بالنسبة إلى القدرة على نفس الواجب
وعلى مقدماته، فلا يكون الأمر بالشئ مع عدم القدرة على مقدمته مطلقا ليحتاج
في اخراجه إلى التقييد بكونها مقدورة.
108

وقد يدفع ذلك بأن قوله: " مطلقا " ليس لإخراج الواجب المشروط، بل
المقصود منه بيان تعميم اعتبارات الأمر ومقايسته بالنظر إلى مقدماته فيكون قوله:
" شرطا كان أو سببا أو غيرهما " بيانا لمفاد الإطلاق. وحينئذ فلا بد من اعتبار
مقدورية المقدمة لوضوح عدم وجوبها مع انتفاء القدرة عليها.
وفيه مع ما فيه من التكلف الظاهر أنه يلزم حينئذ اندراج غير القدرة من
مقدمات الواجب المشروط في العنوان مع خروجها عن محل النزاع.
ولو أجيب بأن إطلاق الأمر بالشئ إنما ينصرف إلى المطلق دون المشروط
لعدم تعلق الأمر به قبل وجود شرطه.
ففيه: أن ذلك إن تم لجرى بالنسبة إليها فلا حاجة إلى القيد المذكور، إذ لا فرق
بين المقدمة المذكورة وسائر مقدمات الواجب المشروط.
وقد يقال: إن المراد بالإطلاق في المقام هو إطلاق الوجوب بحسب ظاهر
اللفظ وهو لا يستلزم الإطلاق بالمعنى المصطلح، إذ قد يكون الواجب مقيدا
بحسب العقل لانتفاء القدرة على مقدمته وحيث إن تقييد الواجب عقلا منحصر في
الجهة المذكورة، والمفروض إطلاقه بحسب اللفظ أفاد القيد المذكور إطلاق
الواجب بحسب المصطلح لإطلاقه إذن بحسب العقل والنقل. وهو كما ترى
موهون من وجوه شتى.
وقد يوجه أيضا بأن مقدمة الواجب قد تكون مقدورة وقد لا تكون مقدورة،
فإذا كانت مقدورة كان الأمر بالواجب مطلقا بالنسبة إليها فيصدق حينئذ أن الأمر
به مطلق بالنسبة إلى تلك المقدمة في الجملة، وإن صارت غير مقدورة فالتقييد
بالمقدورية من جهة الاحتراز عن تلك المقدمة، إذا لم تكن مقدورة فالكلام في
قوة أن يقال: مقدمة الواجب المطلق واجبة ما دام مطلقا لا دائما.
وأنت خبير بما فيه من التكلف، كيف ولو لم يكن اعتبار إطلاق الأمر به كافيا
في الدلالة على اعتبار بقاء الإطلاق لم يكن اعتبار المقدورية كافيا في اعتبار
بقاءها، لصدق كونها مقدورة في الجملة بعد تعلق القدرة بها؟
109

فالأولى أن يقال: إن التقييد المذكور لإخراج الأفراد أو الأنواع الغير
المقدورة من المقدمات إذا كانت غيرها مقدورا عليه لاطلاق الأمر بالفعل حينئذ،
فلا يقضي اعتبار إطلاق الواجب بخروج ذلك مع أن الأمر بالشئ على وجه
الإطلاق لا يقضي بوجوبها، فالأمر بالشئ مطلقا على القول بوجوب المقدمة إنما
يقتضي إيجاب النوع أو الفرد المقدورين دون غيره، لعدم تعلق التكليف بغير
المقدور مطلقا وإن اكتفى بها في أداء الواجب على فرض حصولها، فظهر بذلك أن
ما ذكره جماعة من عدم الحاجة إلى القيد المذكور ليس على ما ينبغي.
قوله: * (والضرب الآخر يجب فيه مقدمات الفعل) *.
صريح في ذهابه إلى وجوب مقدمة الواجب المطلق مطلقا سواء كانت شرطا
أو سببا، بل وسواء كانت شرطا شرعيا أو غيره وإن [صح] (1) كان ما ذكره من
المثال من قبيل الشرط الشرعي. وظاهر كلامه يشير إلى أن ذلك أمر واضح لا
حاجة إلى إقامة الدليل عليه.
ثم إن الظاهر منه إرادة الوجوب بالمعنى الذي بيناه لا مجرد وجوب الإتيان
بها بالعرض بمعنى وجوبها بوجوب الإتيان بما يتوقف عليها، إذ ليس ذلك من
حقيقة الوجوب في شئ حسب ما مر بيانه، فاحتمال حمل كلامه على ذلك بعيد
غاية البعد كاحتمال حمله على إرادة الوجوب الأصلي أو الوجوب الذي يترتب
عليه عقاب مستقل على ترك الفعل، إذ لا باعث لحمل كلامه عليه مع وضوح فساده.
قوله: * (إلا أن يمنع مانع) *.
ظاهر كلامه يفيد تفسير السبب بالملزومات العادية مما يترتب عليه غيره
بحسب العادة، بحيث يكون التخلف عنه خارقا للعادة، وهو كما ترى أخص من
المقتضي وأعم من العلة التامة لعدم إمكان التخلف في الثاني، وجواز التخلف في
الأول من غير خرق للعادة كما إذا قارنه عدم الشرط أو وجود المانع الذي يمكن
حصوله على النحو المعتاد.

(1) أثبتناه من نسخة ف.
110

قوله: * (وهذا كما ترى ينادي بالمغايرة) *.
قد عرفت: أن كلامه صريح في وجوب مقدمة الواجب مطلقا، وإنما منعه من
وجوب غير السبب بعد تعلق الأمر بما يتوقف عليه من جهة دوران الأمر عنده بين
كون الواجب مطلقا بالنسبة إليها أو مقيدا، وذلك مما لا ربط له بمنع وجوب مقدمة
الواجب بعد ثبوت إطلاقه بالنسبة إليها كما هو محل النزاع في المقام.
قوله: * (وما اختاره السيد فيه محل تأمل) *.
قد عرفت أن ظاهر ما يتراءى من كلام السيد (قدس سره) مما لا وجه له فيما إذا كان
الأمر المتعلق بالفعل مطلقا.
وما احتج به - من تعلق الأمر بالشئ تارة مطلقا وأخرى مقيدا ولا دلالة فيه
على شئ من الصورتين - قد عرفت ضعفه، كيف ولو تم ما ذكره لجرى بالنسبة
إلى غير المقدمة أيضا؟ إذ كما يكون الواجب بالنسبة إلى مقدمته قسمين فكذا
بالنظر إلى غير مقدمته، إذ قد يتوقف وجوب الشئ على ما لا يتوقف عليه
وجوده.
وقد يحتج له أيضا بأنه لو بقي الأمر على إطلاقه ولم يقيد بوجود مقدمته فإما
أن يقال: بوجوب المقدمة أو عدمه، لا سبيل إلى الثاني وإلا لزم وجوب التوصل
إلى الواجب بما ليس بواجب ولا إلى الأول، لمخالفته للأصل، فكما أن قضية
الأصل إطلاق الأمر إلى أن يثبت التقييد فكذا الأصل عدم وجوب المقدمة إلى أن
يثبت وجوبها.
وضعفه أيضا ظاهر أما على القول بعدم وجوب المقدمة فواضح وأما على
القول بوجوبها فمن البين تقديم حال الإطلاق ولا وجه للقول بمقاومته لأصالة
عدم وجوب المقدمة، إذ تلك من أصول الفقاهة وأصالة عدم التقييد من أصول
الاجتهاد، كيف ولو صح ذلك لزم أن لا يصح الاستناد إلى شئ من الإطلاقات في
إثبات الأحكام المخالفة للأصل؟ وهو فاسد بالاتفاق. هذا.
وقد عرفت فيما مر إمكان توجيه كلام السيد بما لا ينافي المشهور وكأنه
111

الأظهر، فإن ما يتراءى من ظاهر كلامه موهون جدا لا يليق صدوره عنه (قدس سره) ولم
يعهد منه الجري عليه في شئ من المطالب الفقهية والالتفات إليه في المسائل
المتداولة.
قوله: * (انه ليس محل خلاف يعرف) *.
أنت خبير بأن مجرد عدم ظهور الخلاف لا ينهض حجة في مسائل الفروع
فكيف في مسائل الأصول؟ فجعله حجة في المقام غير متجه سيما على طريقة
المصنف (رحمه الله).
قوله: * (بل ادعى بعضهم فيه الاجماع) *.
قد حكى الاجماع عليه جماعة منهم التفتازاني في شرح الشرح.
وأنت خبير بأن حكاية التفتازاني لا ينهض حجة عندنا سيما بعد حكاية
الخلاف فيه عن البعض، ولا يعرف حال غيره من النقلة بل كونه من الأصحاب
غير معلوم أيضا، فالاستناد فيه إلى الاجماع محصلا أو منقولا غير متجه.
نعم عدم ظهور الخلاف في ذلك المنضم إلى الاجماع المحكي مؤيد قوي في
المقام.
وقد يستدل عليه أيضا بالإجماع على وجوب التوصل إلى الواجب، وليس
التوصل بالشرط واجبا لما دل على عدم وجوبه كما سيجئ، فتعين أن يكون
الواجب هو التوصل بالسبب.
ووهنه ظاهر، إذ المسلم من وجوب التوصل إلى الواجب هو تحصيله
والإتيان به في الخارج، وأما فعل ما هو وصلة إليه ووسيلة في إيجاده فوجوبه
أول الدعوى، ولو سلم ذلك لجرى في الشرط أيضا، وما ذكر في الاستدلال على
عدم وجوب المقدمة إن تم جرى في السبب أيضا فيزاحم الدليل المذكور، إلا أن
يقال: إن الوصلة إلى الواجب إنما يكون بالسبب دون الشرط.
وتوضيحه: أنه قد يراد بما يتوصل به إلى الواجب ما يكون بالسبب حصوله
معتبرا في الوصول إلى الواجب سواء كان الإتيان به هو الموصل إليه - كما في
السبب - أو لا، كما في الشرط.
112

وقد يراد به ما يتحقق به الإيصال إلى الواجب فيختص بالسبب، وحينئذ فإذا
خص الدعوى بالثاني كما هو الظاهر من العبارة لم يجر في الشرط إلا أنه لا
حاجة حينئذ إلى التمسك بما دل على عدم وجوب التوصل بالشرط.
نعم قد يقال بجريانه بالنسبة إلى الشرط أيضا إذا وقع جزء أخيرا للعلة
لإيصاله إذن إلى الفعل، فحينئذ يفتقر التمسك به لوجوب خصوص السبب إلى ضم
ذلك إليه.
قوله: * (وأن القدرة غير حاصلة مع المسببات دون السبب فيبعد تعلق
التكليف بها وحدها) *.
كأنه أراد بذلك أن القدرة غير حاصلة مع المسببات وحدها، فإنها إنما تكون
مقدورة مع ضم أسبابها إليها، فالظاهر تعلق التكليف بها على نحو ما يتعلق القدرة
بها نظرا إلى اعتبار القدرة في التكليف وكأنه للإشارة إلى ذلك عبر بقوله: " مع
المسببات " لإيمائه إلى عدم اقتران القدرة بها بملاحظة نفسها وإن حصل القدرة
عليها بملاحظة ضم الأسباب إليها، ولو أراد عدم حصول القدرة على المسببات
مطلقا - كما يتراءى من ظاهر إطلاقه - لم يتجه التمسك بالاستبعاد، لوضوح امتناع
التكليف بغير المقدور وأيضا قضية ذلك عدم جواز تعلق التكليف بها مطلقا لا
وحدها على أن ذلك بعينه هو الوجه الآتي فلا وجه لتكراره هذا.
وأنت خبير بأن الاستبعاد المدعى محل تأمل، إذ لا شك في كون المسببات
مما يتعلق القدرة بها ولو بتوسط الأسباب، والقدرة المعتبرة في تعلق التكليف
بالأفعال كونها مقدورة للمكلف سواء كانت مقدورة بالذات أو بواسطة الغير، فأي
استبعاد إذن في تعلق الأمر بها وحدها، يعني: من غير أن يتعلق بأسبابها الموصلة
إليها كما هو محل الكلام في المقام، وأما إيجادها وحدها أي: بشرط أن لا يكون
معها أسبابها فلا شك في استحالته وعدم جواز تعلق الأمر به ولا كلام فيه.
ولو سلم الاستبعاد المدعى فأي حجية في مجرد استبعاد العقل حتى يجعل
ذلك دليلا شرعيا على تعلق الأمر بالأسباب، ومع الغض عن ذلك لو تم الوجه
113

المذكور لجرى بالنسبة إلى الشرائط أيضا، فإن القدرة على المشروط غير حاصلة
إلا مع الشرط، فيبعد أيضا تعلق التكليف به وحده فيكون الدليل المذكور على
فرض صحته قاضيا بوجوب المقدمة مطلقا لا خصوص السبب، كما هو الملحوظ
في المقام.
قوله: * (لعدم تعلق القدرة بها) *.
هذا الوجه كما ذكره جماعة عمدة ما احتجوا به على وجوب الأسباب، وهو
كما ترى يفيد نفي المقدمة السببية وانحصار مقدمة الواجب في غيرها، إذ مع عدم
تعلق الأمر بالمسببات لا تكون واجبة حتى ينظر في حال مقدماتها، وارتباط ما
ذكروه بالمقام من جهة أن الانتقال إلى وجوب الأسباب إنما حصل عندهم من
ظاهر الأمر المتعلق بالمسببات فكان إيجاب المسببات في الظاهر قاضيا بإيجاب
الأسباب.
ثم إن الوجه المذكور موهون جدا من وجوه شتى: أما أولا: فبأنه لو تم ما ذكر
لقضى بعدم إمكان تعلق الأمر بالأسباب أيضا فإنها أيضا مسببات عن أسباب اخر
وهكذا إلى أن ينتهي السلسلة إلى الواجب تعالى.
وأما ثانيا: فلأن أقصى ما ذكر أنها مع انتفاء أسبابها تكون ممتنعة ومع
وجودها تكون واجبة، وذلك لا ينافي تعلق التكليف بها، إذ لا يخرج الفعل بذلك
عن كونه اختياريا لما تقرر من أن الوجوب أو الامتناع بالاختيار لا ينافي
الاختيار.
نعم لو كانت واجبة أو ممتنعة لا باختيار المكلف منع ذلك من تعلق التكليف
بها، وهو حينئذ خارج عن محل الكلام، كيف ولو صح ما ذكر لقضى بعدم جواز
تعلق التكليف بشئ من الأشياء؟ فإنها مع وجود أسبابها واجبة الحصول غير
قابلة لتعلق التكليف ومع عدمها ممتنعة.
والفرق بين ما يكون سببه القريب نفس الإرادة والاختيار وما لا يكون كذلك
غير متجه فإنه إن لم يكن الاختيار من جملة أسبابه الموصلة إليه ولو كان بعيدا
114

كان خارجا عن محل البحث، لوضوح كون الاختيار من شرائط التكليف وإن كان
من جملتها فأي فرق بين كون الاختيار سببا قريبا لحصوله أو بعيدا، لوضوح
حصول الفعل في الصورتين عن اختيار المكلف، وكما أن الوجوب أو الامتناع
بالاختيار غير مناف للاختيار في الصورة الأولى فكذا في الثانية.
وأما ثالثا: فباختيار تعلق التكليف بها في حال انتفاء أسبابها، والقول بامتناع
وجودها حينئذ فاسد فإن الممتنع وجودها بشرط انتفاء أسبابها لا في حال عدمها،
لجواز الإتيان بها حينئذ، فيقتدر بذلك على الإتيان بمسبباتها حسب ما ذكروه من
جواز تكليف الكافر بالفروع في حال الكفر.
وأما رابعا: فبما أشار إليه المصنف بقوله * (لأن المسببات وإن كان القدرة لا
يتعلق بها ابتداء... الخ) *
وتوضيحه: أن غاية ما يستفاد من الدليل المذكور عدم تعلق القدرة
بالمسببات بلا واسطة وأما القدرة عليها بواسطة الاقتدار على أسبابها فلا مجال
لإنكاره كيف والمستدل معترف بتعلق القدرة بالأسباب؟
ومن البين: أن الاقتدار على السبب اقتدار على المسبب بالواسطة وذلك كاف
في جواز تعلق الأمر به، إذ لا يعتبر في جواز التكليف ما يزيد على ذلك.
قوله: * (ثم إن انضمام الأسباب إليها... الخ) *.
لا يخفى أن قضية ما ذكره وجوب المقدمة السببية، إذ مع انضمام الأسباب إلى
مسبباتها في التكليف والقول بتعلق التكليف بالأمرين يرتفع الاستبعاد المدعي في
تعلق التكليف بالمسببات وحدها من دون انضمام أسبابها إليها حسب ما ذكره في
الاستدلال.
وأنت خبير بأن ذلك عين ما أراده المستدل، فإن مقصوده من دعوى الاستبعاد
المذكور ضم الأسباب إلى المسببات في التكليف، فيكون الأمر بالمسببات دليلا
على تعلق الأمر بالأسباب أيضا ودفع اختصاص المسببات في تعلق التكليف بها
كما يقتضيه القول بعدم وجوب المقدمة مطلقا، وليس غرضه من دعوى الاستبعاد
115

إثبات اختصاص الأسباب في التكليف بها بأن ينصرف الأمر بالمسببات إلى الأمر
بأسبابها حسب ما نسبه ثانيا إلى القيل، فإن ذلك دعوى أخرى مبنية على امتناع
التكليف بالمسببات لا على مجرد الاستبعاد حسب ما اخذ في الوجه الأول.
ويمكن توجيهه بجعل ذلك من تتمة دفع القول بعدم تعلق الأمر بالمسببات،
فيكون مقصوده دفع ما قد يتوهم من جريان الاستبعاد في تعلق التكليف
بالمسببات مطلقا فقال: إنه لا استبعاد في تعلق الأمر بها منضما إلى أسبابها، غاية
الأمر تسليم الاستبعاد في حال الانفراد كما ادعاه القائل الأول، فمقصوده من ذلك
أنه كما لم يقم دليل قطعي على عدم تعلق التكليف بالمسببات كذا لم يقم عليه دليل
ظني أيضا. وفيه: أنه لا يرتبط بذلك.
قوله: * (ومن ثم حكى بعض الأصوليين... الخ) *.
لوضوح أن دفع الاستبعاد من تعلق الأمر بالمسببات والأسباب معا لا ربط له
بالقول بتعلق الأمر بالمسببات وحدها.
وقد يتكلف في تصحيحه بجعله إشارة إلى ما ذكر أولا من دفع الدليل القطعي
على عدم وجوب المسببات، فالمراد أنه لما لم يقم دليل قطعي على عدم صرف
الأمر بالمسببات إلى الأسباب حكى بعض الأصوليين القول باختصاص الوجوب
بها من دون أسبابها، وهو كما ترى.
ويمكن توجيه العبارة بإرجاعها إلى دفع ما ادعى أولا من الاستبعاد بأن
يقال: إن مقصوده من ضم الأسباب إلى المسببات ضمها إليها في التكليف
بالمسببات من غير أن يتعلق التكليف بالأسباب، بيان ذلك أن هناك وجوها أربعة:
أحدها: أن يكون الأسباب هي المتعلقة للتكليف من غير أن يكون المسببات
مكلفا بها.
ثانيها: أن يتعلق التكليف بالمسببات وحدها من غير أن يكون الأسباب
ملحوظة معها في التكليف بها.
ثالثها: أن يكون المسببات متعلقة للتكليف ملحوظة مع أسبابها من غير أن
يكون الأسباب مكلفا بها.
116

رابعها: أن يتعلق التكليف بالأسباب والمسببات جميعا، وهذا هو مقصود
المستدل بالاستبعاد المذكور ولا يتم له ذلك، فإن الذي يقتضيه الاستبعاد
المفروض عدم تعلق التكليف بالمسببات على الوجه الثاني، فإنه لما كانت القدرة
غير حاصلة مع المسببات وحدها استبعد تعلق الأمر بها بملاحظتها على الوجه
المذكور، وذلك لا يستدعي تعلق الأمر بأسبابها أيضا، لإمكان وقوع الأمر بها
على الوجه الثالث بأن يكون المسببات مأمورا بها بملاحظة اقترانها مع أسبابها من
غير أن يكون الأسباب مأمورا بها أصلا، فإن تعلق القدرة بها من جهة أسبابها لا
يقتضي أزيد من تعلق التكليف بها بملاحظة اقترانها معها. هذا.
وقد يستدل على تعلق التكاليف بالأسباب دون مسبباتها بوجوه اخر:
منها: أن كل ما يتعلق به التكاليف من أفعال المكلفين ولا شئ من المسببات
بفعل للمكلف، وإنما هي أمور تابعة للفعل الصادر عنه من الحركات الإرادية
الحاصلة بتحريك العضلات حاصلة عند حصولها من غير أن يباشر النفس
إيجادها فلا يكون شئ متعلقا للتكليف.
ومنها: أن المكلف به بالتكاليف المتعلقة بالأفعال ليس إلا إيجادها في
الخارج لا وجودها في أنفسها، إذ ليس الوجود من حيث هو قابلا لتعلق التكليف
به، وحينئذ فنقول: إن إيجاد المكلف للمسبب إما أن يكون عين إيجاده للسبب - بأن
ينتسب الإيجاد إلى السبب انتسابا ذاتيا وإلى المسبب انتسابا عرضيا - أم إيجادا
آخر غير إيجاد السبب، لا سبيل إلى الثاني، ضرورة أنه ليس هناك إلا تأثير
اختياري واحد صادر عن المكلف كما يشهد به الوجدان فتعين الأول، فيكون
الأمر بالمسبب عين الأمر بسببه، لاتحاد السبب والمسبب في الإيجاد الذي هو
متعلق الأمر، وحيث إن الإيجاد يتعلق بالسبب أولا وبالذات وبالمسبب ثانيا
وبالعرض يكون متعلق التكليف في الحقيقة هو السبب.
ومنها: أنه لا شك في انقطاع التكليف بفعل المكلف به، وإنما وقع الخلاف
في انقطاعه حال حصول الفعل أو في الآن الذي بعده، وأما قبل حصول ما كلف به
117

فلا كلام في بقاء التكليف وعدم انقطاعه وحينئذ، فنقول: إنه بالإتيان بالسبب
المؤدى إلى المأمور به إما أن ينقطع التكليف بالمسبب أو لا، لا سبيل إلى الثاني، إذ
بعد حصول السبب المستلزم لحصول المسبب يكون حصول المسبب بالوجوب
ولو بالنظر إلى العادة، فلا يكون قابلا لتعلق التكليف به، إذ من شرط التكليف كون
المكلف به جائز الحصول والانتفاء كما قرر في محله فتعين الأول. وذلك قاض
بكون المأمور به في الحقيقة هو ما أوجده من السبب، لما عرفت من عدم انقطاع
التكليف قبل حصول الواجب.
ويرد على الأول أن ما يتعلق به التكليف من فعل المكلف يعم ما يكون فعلا له
ابتداء أو بالواسطة، فإن الأفعال التوليدية هي أفعال المكلف ولذا يتصف بالحسن
والقبح ويتعلق به من جهتها المدح والذم، فإن أريد بفعل المكلف المأخوذ وسطا
خصوص الأول فكلية الصغرى ممنوع ومعه لا ينتج الكلية ليثبت به المدعى، وإن
أريد به الأعم فالكبرى ممنوعة.
وعلى الثاني أنه إن أريد باتحاد التأثير والإيجاد أن الأمر الحاصل من
المكلف ابتداء تأثير واحد فمسلم، وهو إنما يتعلق بالسبب ثم يحصل بعد حصول
السبب تأثير آخر إما من نفس السبب - إن قلنا بكونه علة فاعلية لحصول المسبب
- أو من المبدأ الفياض أو غيره - إن قلنا بكون الأسباب العادية عللا إعدادية -
وعلى التقديرين يستند فعل المسبب إلى المكلف، لكونه الباعث عليه وإن لم يكن
مفيضا لوجوده ابتداء أو مطلقا، إذ لا يعتبر في جواز التكليف أن يكون المكلف به
فعلا ابتدائيا للمكلف مفاضا منه على سبيل الحقيقة، بل يكفي فيه كونه فعلا له عرفا
مستندا إليه ولو كان فعلا توليديا له كما مر.
وإن أريد به وحدة التأثير في المقام مطلقا فهو بين الفساد، فإنه إن قيل حينئذ
بكون إيجاد المسبب بالعرض بمعنى أنه لم يتعلق به إيجاد على الحقيقة وإنما
تعلق به بنحو من المجاز فهو واضح الفساد، إذ لا يعقل تحقق موجود ممكن في
الخارج من غير أن يتعلق الإيجاد به على الحقيقة، وإن قيل بعدم تعلق الإيجاد به
118

منفردا بل به وبسببه معا فهو أيضا في الفساد كسابقه، إذ من الواضح كون كل من
السبب والمسبب فعلا مغايرا للآخر بحسب الخارج مباينا له، ومن المستبين في
أوائل العقول عدم إمكان حصول فعلين متعددين متباينين في الخارج بتأثير
واحد شخصي متعلق بهما، لتوقف كل من فعلين مختلفين كذلك على تأثير منفرد
متعلق به.
ودعوى شهادة الوجدان باتحاد التأثير في المقام فاسدة جدا كيف ومن البين
أن التأثير المتعلق بجز الرقبة مثلا غير التأثير المتعلق بزهوق الروح؟ فكيف يقال
بحصول الأمرين بتأثير واحد؟ غاية الأمر أن يكون التأثير المتعلق بأحدهما
حاصلا بواسطة التأثير المتعلق بالآخر ومنوطا به في العادة وإن حصل التأثير
الثاني من مؤثر آخر بحسب الواقع كما قررنا، وقد ظهر بذلك اتحاد مناط
الاستدلال في الوجهين المذكورين وفي الجواب عنهما.
ثم مع الغض عن جميع ما ذكرنا وتسليم اتحاد التأثير المتعلق بهما يكون نسبة
الإيجاد إليهما على نحو واحد، فكما يمكن أن يكون السبب متعلقا للتكليف يمكن
أن يكون المسبب متعلقا له من غير فرق أصلا، وحينئذ فلا وجه لجعل انتساب
أحدهما إليه ذاتيا والآخر عرضيا، والحكم بكون الأول متعلقا للتكليف حقيقة
دون الآخر.
نعم لو جعل الوجه المذكور دليلا على عدم تعلق الأمر بالمسببات وحدها مع
أسبابها لكان له وجه، نظرا إلى ما ادعي من اتحادهما في الإيجاد فيكون الأمر
بإيجاد المسبب أمرا بإيجاد سببه أيضا.
لكنك خبير بأنه لا يتم الاحتجاج بالنسبة إلى ذلك أيضا، فإنه مع وضوح
فساده بما عرفت مدفوع بأن مجرد اتحادهما في الإيجاد لا يستدعي تعلق الأمر
بهما، إذ قد يكون ملحوظ الآمر حصول أحدهما من غير التفاته إلى حصول الآخر
معه، فمطلوبية الإيجاد من إحدى الجهتين لا يستلزم مطلوبيته من الجهة الأخرى
فضلا عن أن يكون عينه.
119

نعم غاية الأمر أن يقال: إنه لما كان إيجاد الواجب متحدا مع الآخر بحسب
الواقع وكان المطلوب نفس ذلك الإيجاد صح بملاحظة ذلك إسناد التكليف إلى
ذلك الأمر الآخر بالعرض والمجاز، نظرا إلى اتحاده مع الواجب، فيكون الأمر
بالمسبب أمرا بالسبب على النحو المذكور نظير ما مرت الإشارة إليه في سائر
المقدمات، وقد عرفت خروجه عن محل النزاع.
وعلى الثالث أولا: أنه لا دليل على توقف انقطاع التكليف على فعل المكلف
به، بل لو قيل بحصول الامتثال لو أتى بسببه المستلزم له في العادة، نظرا إلى أدائه
إلى أداء المطلوب لم يكن بعيدا إذا لم يحصل هناك ما يقضى بتخلفه عن المسبب،
كما أنه يحصل عصيان النهي بالإتيان بالسبب المفضي إلى الحرام من حيث أدائه
إليه، وليس في كلامهم تصريح بخلافه، وما ذكر من اختلافهم في زمان سقوط
الواجب على قولين منزل على غير الصورة المفروضة.
وثانيا: أنه لا مانع من التزام بقاء التكليف بعد حصول السبب، وما ذكر من
اعتبار إمكان الفعل في جواز التكليف إنما هو بالنسبة إلى التكليف الابتدائي دون
الاستدامي، إذ لا مانع من القول ببقائه إلى صدور الفعل منه، لعدم صدق الامتثال
قبله. فتأمل.
قوله: * (لأن تعلق الأمر بالمسبب نادر) *.
لما كان مراد القائل بتعلق الأمر بالأسباب هو وجوب الأفعال التي يتعلق بها
إرادة المكلف واختياره ابتداء دون ما يتسبب عن ذلك من الأفعال - كما هو ظاهر
كلامه - أراد المصنف بيان قلة الثمرة في المسألة، فليس هناك فرق يعتد به بين
القول باختصاص الوجوب بالأسباب أو المسببات أو تعلقه بالأمرين، وذلك
لكون الأوامر الشرعية متعلقة في الغالب بنفس الأفعال الصادرة من المكلف
ابتداءا كالوضوء والغسل والصلاة والصوم ونحوها، وتعلق الأمر بفعل توليدي
للمكلف على فرض ثبوته نادر.
قوله: * (وأثر الشك في وجوبه هين) *.
120

لكنك خبير بأن قضية وجوب السبب وجوب نفس الإرادة الملزمة، فإن ذلك
هو السبب في صدور الأفعال وليست الأوامر متعلقة بها في الغالب، فاختصاص
كلام القائل بانصراف الأوامر إلى الأسباب نظرا إلى ما يوهمه من اختصاص
القدرة عنده بما يتعلق به الإرادة والاختيار بلا واسطة لا يقضي بتخصيص السبب
في المقام بذلك، وحينئذ فدعوى تعلق الأمر غالبا بالأسباب كما ترى.
قوله: * (لنا أنه ليس لصيغة الأمر... الخ) *.
لما كان مختار المصنف ملفقا من أمرين - أعني نفي الدلالة على وجوب
المقدمة لفظا ونفي ملازمته له عقلا - أراد إثبات الأول بقوله: " أنه ليس لصيغة
الأمر دلالة... الخ " وإثبات الثاني بقوله: " ولا يمتنع عند العقل تصريح الآمر...
الخ " فجعل كل من الوجهين دليلا مستقلا على المطلوب - كما في كلام الفاضل
المحشي - ليس على ما ينبغي، إذ ليس في العبارة ما يفيد ذلك، بل ظاهر سياقها
يأبى عنه، فلا داعي لحملها عليه، مضافا إلى أنها لو حملت على ذلك كان استناده
إلى الوجه الأول فاسدا جدا، إذ أقصى ما يفيده نفي الدلالة اللفظية ولا إشعار فيه
بنفي الدلالة العقلية التابعة لملازمة إيجاب الشئ لإيجاب مقدمته.
قوله: * (ولا يمتنع عند العقل... الخ) *.
فلو كان هناك ملازمة عقلية بين الأمرين لامتنع عند العقل تصريح الآمر بعدم
وجوبه لما فيه من الحكم بتفكيك الملزوم عن اللازم.
وفيه أولا: أنه لو تم فإنما يتم في رفع اللزوم البين ولو كان بمعناه الأعم، وأما
اللزوم الغير البين المفتقر إلى ملاحظة الوسط في الحكم بالملازمة فتجويز العقل
للانفكاك بينهما وتجويزه في بادئ النظر ترك المقدمة لا يفيد جوازه بحسب
الواقع.
وبتقرير آخر: إن أريد بجواز التصريح بجواز تركها إدراك العقل لجوازه
بحسب الواقع، فالملازمة مسلمة لكن بطلان التالي ممنوع، كيف وهو أول
الدعوى؟ ومجرد تجويز العقل في بادئ الرأي تصريحه بجواز تركها لا يفيد
121

جوازه بحسب الواقع، وإن أريد به امتناع التصريح بعدمه في ظاهر نظر العقل
فالملازمة ممنوعة، لإمكان أن يكون هناك ملازمة بين الأمرين، ويكون تجويز
العقل للتصريح بنفيه مبنيا على جهله بالحال.
وثانيا: بالمنع من جواز تصريح الآمر بجواز تركها، كيف وقد نص المصنف
بعد ذلك بعدم جواز تصريح الشارع بجواز تركها؟ ومعلوم أن المانع من ذلك هو
العقل، إذ لا نص يدل عليه، فلا خصوصية حينئذ لذلك بتصريح الشارع بل يعم
غيره، فبين كلاميه تدافع بين.
والتحقيق أن يقال: إنه إن أريد بجواز تصريح الآمر بجواز تركها تصريحه
بالجواز بملاحظة ذاتها فمسلم ولا يفيد ذلك المدعى، إذ أقصى الأمر أن يفيد ذلك
عدم وجوبها لنفسها ولا كلام فيه، وإن أريد جواز التصريح بجواز تركها ولو
بملاحظة توقف الواجب عليها وأداء تركها إلى تركه فهو ممنوع، بل من البين
خلافه والاعتبار الصحيح شاهد عليه.
وقد أجاب عنه بعض الأفاضل بمنع الملازمة، إذ جواز تصريح الآمر بخلافه
لا يمنع من اقتضائه وجوبها حين الإطلاق، كما أن إفادة الظواهر ثبوت مداليلها لا
ينافي التصريح بخلافه لقيام القرائن الظنية اللفظية أو غيرها عليه.
وبالجملة أن استلزام إيجاب الشئ وجوب مقدمته ظني فلا ينافي جواز
التصريح بخلافه، ولا يخفى ما فيه بعد ملاحظة ما قررناه، كيف ولو كان الاقتضاء
المذكور ظنيا لم ينهض حجة في المقام؟ لعدم اندراجه في الدلالات اللفظية التي
يكتفى فيها بمجرد المظنة، والظنون المستندة إلى الوجوه العقلية لا عبرة بها في
استفادة الأحكام الشرعية.
ثم إن الدليل المذكور هو حجة القائل بعدم وجوب المقدمة مطلقا، وكان
المصنف يفصل في تجويز العقل تصريح الآمر بتجويز ترك المقدمة بين المقدمة
السببية وغيرها حتى يصح جعله دليلا على نفي الوجوب في غير الأسباب، ومن
ذلك يظهر وجه آخر لضعف الاحتجاج المذكور، إذ لو صح حكم العقل بذلك
122

فلا فرق بين السبب وغيره، وإن لم يحكم به بالنسبة إلى المسبب فلا يحكم به
بالنظر إلى غيره أيضا، لاتحاد المناط فيها هذا.
وللمانعين من وجوب المقدمة مطلقا حجج أخرى موهونة لا بأس بالإشارة
إلى جملة منها:
منها: الأصل بعد تضعيف حجج الموجبين، مضافا إلى أن المسألة مما تعم بها
البلية وتشتد إليها الحاجة فعدم قيام الدليل في مثلها على الوجوب بل عدم
تصريح الشارع به وعدم سؤال أحد من الأصحاب عنها مع غاية الاحتياج إليها
دليل على انتفاء الوجوب بل وضوح انتفائه.
وأنت خبير بأن قضاء الأصل بعدم وجوب المقدمة أمر ظاهر لا سترة فيه لكن
الشأن في تضعيف ما دل على وجوب المقدمة وستعرف الحال فيه، ومنه يظهر
فساد التأييد المذكور، وكان الوجه في عدم وروده في الأخبار غاية وضوح الحال
في وجوبه على الوجه الذي بيناه وعدم تفرع ثمرة مهمة عليه كما عرفت
الحال فيه.
ومنها: أنه لو وجبت المقدمة لكان بإيجاب الآمر له وتعلق طلبه به، ومن البين
أن إيجاب الآمر لشئ يتوقف على تصوره لذلك الشئ، ضرورة استحالة الأمر
بالشئ مع الذهول عن المأمور به بالمرة ويتوقف على تصوره لإيجابه، ضرورة
أن صدور الفعل الاختياري يتوقف على تصور ذلك الفعل ولو بوجه ما، ومن البين
انتفاء ذلك في كثير من صور الأمر بذي المقدمة، لوضوح أنه يمكن الأمر بالشئ
مع الذهول عن مقدمته بالمرة فضلا عن إيجابه.
وأجيب عنه بوجوه:
أحدها: منع كون إيجاب الشئ مستلزما لتصوره وتصور إيجابه، فإنه إنما
يلزم ذلك بالنسبة إلى الإيجاب الأصلي دون التبعي لتبعية إيجابه لإيجاب متبوعه
بمعنى حصوله بحصول إيجاب متبوعه، فهو من قبيل لوازم الأفعال الحاصلة
بحصولها، والأفعال المتفرعة على فعل الفاعل لا يلزم أن يكون الفاعل شاعرا لها،
123

فإنك إذا أكرمت زيدا ولزم من إكرامك له إهانة عمرو لا يلزمك تصور الإهانة
المفروضة ولا القصد إليه قطعا، وهو أمر واضح لا يستريب فيه عاقل.
وقد يقرر ذلك بوجه آخر وحاصله منع المقدمة الأولى، فإن وجوب المقدمة
لا يتوقف على إيجاب الآمر لها بل إنما يتوقف على إيجاب الآمر لذيها، فإن
إيجاب ذي المقدمة يستلزم وجوب مقدمته من غير أن يحصل هناك إيجاب من
الآمر للمقدمة، فوجوبها تابع لإيجاب ذيها وآت من قبله، ولا يلزم من ذلك
التفكيك بين الوجوب والإيجاب، فإن إيجاب ذي المقدمة إيجاب أصلي لها
فوجوبه أيضا وجوب أصلي، وذلك بعينه إيجاب للمقدمة تبعا فوجوبه الحاصل به
تبعي أيضا.
فإن شئت قلت: إن كان المقصود مما ذكر في المقدمة الأولى من أن وجوب
المقدمة إنما يكون بإيجاب الآمر لها أنه لا بد أن يكون وجوبه بإيجاب مستقل
متعلق به فهو ممنوع، فإن ذلك إنما يتم لو كان وجوبها أصليا وأما الوجوب التبعي
فلا يفتقر إلى ذلك، وإن كان المقصود أن وجوبه يفتقر إلى إيجاب الآمر له ولو تبعا
لإيجاب غيره فالمقدمة الثانية ممنوعة، إذ إيجاب الشئ تبعا لا يتوقف على
تصوره حسب ما قررناه.
ثانيها: منع إمكان الأمر بشئ والذهول عن مقدمته بالمرة وإنما الممكن
جواز الذهول عن التفصيل، والمانع من تعلق الإيجاب إنما هو الأول دون الثاني
وفيه ما لا يخفى.
ثالثها: أنا لا نقول: إن الأمر بالشئ يستلزم الأمر بمقدمته مطلقا من أي آمر
صدر، بل المقصود أنه إذا صدر عن الحكيم العالم الشاعر بها كان مستلزما لإرادة
المقدمة والأمر بها كما هو الحال في أوامر الشرع التي هي محط الكلام في المقام.
وهذا الكلام منظور فيه لوجهين:
أحدهما: مخالفته لما سيجئ من الأدلة الدالة على وجوب المقدمة فإنها إن
تمت أفادت الملازمة بين الأمر بالشئ والأمر بمقدمته من أي آمر صدر حكيما
كان أو لا شاعرا للمقدمة أو لا.
124

وثانيهما: أنه قد يكون الآمر حكيما شاعرا بها ومع ذلك لا يوجبها كما إذا كان
نافيا للملازمة بين إيجاب الشئ وإيجاب مقدمته على ما هو حال المنكرين
لوجوب المقدمة أو كان شاكا فيه.
نعم لو كان الآمر حكيما شاعرا بالمقدمة معتقدا للملازمة بين الأمرين كان
إيجابه للشئ مستلزما لإيجابه لمقدمته، ولا يتم ذلك في الأوامر الشرعية إلا بعد
إثبات الملازمة المذكورة وهو دور ظاهر.
ويمكن دفعه بأنا إنما نقول بكون الأمر بالشئ مستلزما للأمر بمقدمته إذا
كان الآمر حكيما شاعرا للمقدمة غير مسبوق بالشبهة القاضية بإنكار وجوب
المقدمة أو الشك فيه.
ومنها: أنه لو كان وجوب المقدمة لازما لوجوب ذيها لاستحال الانفكاك
بينهما مع أنا نرى جواز ذلك، فإن من يقول: بعدم وجوب المقدمة إذا تعلق منه
الأمر بذي المقدمة لا يحصل منه إيجاب مقدمته ولا يرى وجوبها على المأمور.
ويدفعه أنه إنما ينكر حصول وجوب المقدمة بإيجابه لذي المقدمة، ولا ينافي
ذلك حصول وجوبها بذلك بحسب الواقع، وغفلته عنه وتصريحه حينئذ بعدم
إيجابه للمقدمة يناقض ذلك وإن كان غافلا عن مناقضته له.
ومنها: أن كل واجب متعلق للخطاب، فإن الوجوب قسم من أقسام الحكم
الشرعي الذي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين وينعكس ذلك بعكس
النقيض إلى قولنا كل ما ليس متعلقا للخطاب لا يكون واجبا، فحينئذ نقول: إن
المقدمة ليست متعلقة للخطاب وكل ما ليس متعلقا للخطاب فليس واجبا ينتج أن
المقدمة ليست واجبة، وقد ظهر الحال في الكبرى وأما الصغرى فلوضوح أن
الخطاب المتعلق بذي المقدمة لا يشمل مقدمته حتى يكون متعلقا للخطاب.
وجوابه ظاهر مما مر فإنه إن أريد بكون كل واجب متعلقا للخطاب خصوص
الخطاب الأصلي فالكلية ممنوعة، وما ذكر في حد الحكم إنما يراد به الأعم من
الأصلي والتبعي، وإن أريد به الأعم من الأمرين فالصغرى المذكورة ممنوعة، وما
ذكر في بيانه إنما يفيد عدم تعلق الخطاب الأصلي بها.
125

ومنها: أنه لو وجبت المقدمة لتحقق العصيان بتركها والتالي باطل، لتعلق
العصيان بترك ذي المقدمة خاصة.
وجوابه واضح فإنه إن أريد به لزوم العصيان بتركها لذاتها فالملازمة ممنوعة،
والسند ظاهر مما مر فإن ذلك من خواص الواجب النفسي ولا يمكن تحققه في
الواجب الغيري، وإن أريد به تحقق العصيان ولو من حيث أدائها إلى ترك غيرها
فالملازمة مسلمة لكن بطلان التالي ممنوع، لوضوح ترتب العصيان على ترك
المقدمة على الوجه المذكور.
ومنها: أنه لو وجبت المقدمة لثبت قول الكعبي بانتفاء المباح، وفساد التالي
ظاهر، أما الملازمة فلأن ترك الحرام واجب وهو لا يتم إلا بفعل من الأفعال، لعدم
خلو المكلف عن فعل، والمفروض وجوب ما لا يتم الواجب إلا به فيكون تلك
الأفعال واجبة على سبيل التخيير.
وجوابه: أن اندفاع شبهة الكعبي غير متوقف على نفي وجوب المقدمة، بل هي
ضعيفة على القول بوجوبها أيضا كما سيجئ الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
ومنها: أنه لو كانت المقدمة واجبة لوجب فيها النية، لوجوب امتثال الواجبات
ولا يتحقق ذلك إلا بقصد الطاعة، والتالي باطل بالإجماع.
ووهنه واضح، فإنه إن كانت المقدمة عبادة - كالوضوء والغسل أو العبادة
المتكررة لأجل تحصيل العلم الواجب كما في الصلاة في الثوبين المشتبهين -
فلا إشكال في وجوب النية، فبطلان التالي واضح البطلان، وإن لم تكن عبادة
فالملازمة المذكورة ظاهر الفساد، لعدم وجوب النية في غير العبادة، إذ ليس
المقصود منه إلا حصول الفعل لا خصوص الطاعة والانقياد، كما هو قضية إطلاق
الأمر، فإنه إنما يفيد وجوب أداء متعلقه والإتيان به لا خصوص الطاعة المتوقفة
على النية، غاية الأمر أن لا يترتب عليه ثواب من دونها.
ومنها: أنه لو وجبت المقدمة لكان تارك الوضوء على شاطئ النهر مستحقا
لعقوبة واحدة وإذا كان بعيدا عن الماء مستحقا لعقوبات متعددة كثيرة على حسب
تعدد المقدمات الموصلة إلى الماء، مع أن الاعتبار قاض بعكسه.
126

والجواب عنه ظاهر بملاحظة ما مر من عدم استحقاق العقوبة على ترك
المقدمة وإنما يكون ترك الواجب في الأول أشنع من جهة تهاونه فيه مع سهولة
أدائه، ومع الغض عن ذلك فأي مانع من أن يكون عقوبة التارك للوضوء على
شاطئ النهر أقوى كيفية من الآخر وإن كان عقوبة الآخر أكثر كمية، نظرا إلى
اختلاف الحال في العقوبة بحسب صعوبة الفعل وسهولته فبعد ملاحظة العقوبة
المترتبة على كل منهما وموازنة أحدهما بالآخر تكون عقوبة الأول أعظم، على أنه
يمكن المعارضة بأنه لو لم يجب المقدمة لكان ثواب الآتي بالوضوء على شاطئ
النهر مماثلا لثواب من أتى به مع البعد عن الماء بعد تحمل مشاق عظيمة لتحصيله
مع أن العقل حاكم قطعا بزيادة الثواب في الثاني، وليس ذلك إلا لوجوب المقدمة.
ويمكن دفع ذلك بأنه إن كان تحمله لمشاق تلك المقدمات لا لأجل إيصالها
إلى الطاعة بل لأغراض نفسانية فلا ريب في عدم استحقاقه زيادة المثوبة لأجلها
وإن كان من جهة الإيصال إلى الطاعة فلا مانع من القول بترتب الثواب حينئذ على
المقدمات ولو على القول بعدم وجوبها نظرا إلى رجحان الجهة المذكورة، فيصح
قصد الطاعة بفعل المقدمة من جهة التوصل بها إلى مطلوب الشارع، فتصير راجحة
عبادة بالنية، كما هو الحال في المباحات إذا أتى بها لمقاصد راجحة كما مرت إليه
الإشارة.
قوله: * (لو لم يقتض الوجوب... الخ) *.
هذه الحجة ذكرها العلامة في النهاية والتهذيب وقد حكيت عن الرازي في
المحصول قيل وكأنها مأخوذة من كلام أبي الحسين البصري.
قوله: * (وحينئذ فإن بقي ذلك الواجب واجبا... الخ) *.
يعني: أنه إذا تحقق منه ترك المقدمة نظرا إلى جواز تركها لزم أحد
المحذورين، فإنه إذا جاز له تركها لم يكن هناك مانع من إقدامه عليه فإذا أقدم
عليه حينئذ يترتب عليه المفسدة المذكورة، وليس غرض المستدل تفريع تلك
المفسدة على مجرد جواز الترك ابتداءا حتى يرد عليه ما قيل من أن المفسدة
127

المذكورة إنما يتفرع على وقوع الترك لا على جوازه، فيجوز أن يكون جائزا غير
واقع، فلا وجه لتفريعه على مجرد جواز الترك.
وقد يورد عليه حينئذ بأن المفسدة المذكورة إذا تفرعت على الإقدام على
ترك المقدمة جرت تلك المفسدة بعينها في صورة عدم جواز الإقدام على تركها
أيضا، فإن ترك المقدمة لا يتوقف على جوازه شرعا بل على إمكانه وهو حاصل
في المقام، نظرا إلى قدرة المكلف على الفعل والترك فلا يستفاد منه ما هو المقصود
من تفريع المحال المذكور من جهة ذلك على جواز الترك حتى يقال بامتناعه.
ويمكن دفعه: بأن المحال المذكور إنما يتفرع حسب ما ادعاه المستدل على
ترك المقدمة على سبيل الجواز لا على مجرد ترك المقدمة فليس غرض المستدل
تفريع ترك المقدمة على جواز تركها في الشرع، وتفريع المحال المذكور من جهة
مجرد ترك المقدمة ليقال عليه: إن حصول الترك أمر ممكن على فرض عدم
جوازه في الشرع أيضا، فيكون ذلك شبهة واردة على القولين غير متفرعة على
جواز الترك.
فإن قلت: إن المفسدة المذكورة إذا ترتبت على أمرين - أعني حصول الترك
وجوازه شرعا - لم يفد ذلك خصوص امتناع الثاني، إذ قد يكون متفرعة على
الأول فلا يتم الاستدلال.
قلت: لما كان الإقدام على ترك المقدمة أمرا ممكنا قطعا لم يكن استناد
المحال المذكور إليه، فيكون متفرعا على الآخر كما هو الملحوظ في الاستدلال.
وقد يورد في المقام بأنه وإن كان ملحوظ المستدل تفريع المحال المذكور
على جواز ترك المقدمة ليثبت بذلك امتناعه إلا أن ذلك بعينه جار على القول بعدم
جوازه أيضا، فإنه إذا ترك المقدمة عصيانا فإما أن يبقى معه التكليف بذي المقدمة
أو لا إلى آخر ما ذكر، فلا مدخلية لجواز ترك المقدمة وعدمه في خروج ذيها من
الوجوب وعدمه، فما يجاب به من ذلك في الفرض المذكور فهو الجواب عنه في
الصورة الأخرى أيضا.
128

ويمكن دفعه: بأنه لا استحالة حينئذ في اللازم لإمكان القول باختيار كل من
الوجهين المذكورين.
أما الأول: فلأنه لو قيل حينئذ بسقوط الواجب لم يلزم خروج الواجب عن
كونه واجبا، للفرق بين سقوط الواجب بعصيان الأمر وسقوطه من دون عصيان ألا
ترى أن من ترك الواجب في وقته فقد سقط عنه وجوبه بعد مضي الوقت وليس فيه
خروج الواجب عن كونه واجبا، فكذا في المقام فإن من ترك المقدمة فقد عصى
الأمر في الترك المذكور من جهة أدائه إلى ترك ذي المقدمة فيكون مخالفة
وعصيانا للآمرين لإناطة عصيان الأول بالثاني بخلاف ما لو قلنا بعدم عصيانه
من جهة المقدمة لا أصالة ولا إداء، فيلزم حينئذ سقوط الواجب من غير عصيان
وهو ما ذكر من خروج الواجب عن كونه واجبا.
وقد يقال: إنه كما يمكن القول بحصول العصيان بالنسبة إلى نفس الواجب
بترك مقدمته بناء على وجوب المقدمة فأي مانع من القول بحصول العصيان بالنسبة
اليه على القول بعدم وجوبها أيضا؟ فإن مخالفة الأمر كما يحصل بتركه كذا يحصل
بإقدامه بعد توجه الأمر إليه على ما يستحيل معه الإتيان به وإن بقي وقت الفعل.
وأنت خبير بأنه إن كان الإقدام على ذلك الأمر من حيث كونه مؤديا إلى ترك
الواجب محرما عند الآمر - كما هو ظاهر في الفرض المذكور - فذلك بعينه مفاد
وجوب المقدمة بالمعنى الذي قررناه وإن لم يكن محرما عنده ولا ممنوعا منه من
الجهة المذكورة أيضا فلا معنى لحصول العصيان بالإقدام عليه.
وأما الثاني: فلأنه لا مانع من القول ببقاء التكليف، وما قيل من لزوم التكليف
بالمحال مدفوع بأنه لا مانع منه في المقام فإنه إنما يقبح التكليف بالمحال ابتداء
من قبل المكلف وأما إذا كان عن سوء اختيار المكلف فلا، كما هو الحال فيمن
دخل متعمدا إلى المكان المغصوب، فإن كلا من خروجه وبقائه في ذلك المكان
حرام عليه مع انحصار أمره في الوجهين، وليس ذلك إلا بسوء اختياره في الإقدام
على الدخول.
129

فظهر بذلك الفرق بين القول بوجوب المقدمة وعدمه، إذ ليس التكليف بذي
المقدمة على فرض ترك المقدمة من سوء اختيار المكلف بناء على الثاني، لجواز
ذلك بالنسبة إليه بخلاف ما إذا قيل بالأول.
وقد يقال: بأن الاستحالة في المقام انما نشأ أيضا من قبل المكلف، فلا مانع
من حسن العقاب على ترك الفعل الممتنع بسبب اختياره ترك مقدمة يعلم كونها
مقدمة له وإن لم يكن ترك تلك المقدمة محرما، كما أنه لا مانع من حسن العقاب
على ترك الفعل الممتنع بسبب سوء اختيار المكلف من جهة إقدامه على الحرام كذا
يستفاد من كلام بعض الأفاضل.
وفيه: أنه إن أريد أن الاختيار المذكور لما كان سببا لترك الواجب كان
مصححا للعقوبة على ترك ذلك الواجب من غير أن يبقى التكليف بالفعل بعد
امتناعه ولا أن تكون تلك العقوبة على نفس اختياره ذلك فهو عين ما ذكرناه في
الوجه الأول.
وقد عرفت أن مقتضاه كون الاختيار المذكور باعثا على استحقاق العقوبة من
حيث أدائه إلى ترك الواجب، وهو عين مفاد الوجوب الغيري، ولذا يقبح عند
العقل تجويز الآمر لاختياره ذلك، من حيث أدائه إلى ترك الواجب كيف ولو جوز
له ذلك ولو من الحيثية المذكورة قبح منه العقاب بعد ذلك؟ وفيه خروج الواجب
عن الوجوب.
وإن أريد أن ترك المقدمة إنما يقتضي استحقاق العقوبة على ترك الواجب بعد
ذلك وإن لم يبق هناك أمر بالفعل بعد ترك مقدمته فلا يكون المكلف عاصيا بمجرد
ترك المقدمة، وإنما تحقق عصيانه واستحقاقه للعقوبة عند ترك الواجب في زمانه
المضروب له فيكون عاصيا للأمر المتعلق به قبل ترك مقدمته بتركه للواجب في
زمانه وان سقط الأمر بعد ترك المقدمة، إذ لا يمنع ذلك من تحقق العصيان بالنسبة
إلى الأمر السابق.
ففيه: أنه إذا سقط عنه الأمر عند ترك المقدمة من غير تحقق عصيان ولا
130

استحقاق عذاب أصلا ولو من جهة أدائه إلى ترك الواجب لم يعقل هناك عصيان
ولا استحقاق للعقاب بعد ذلك، إذ لا معنى حينئذ لعصيانه للأمر الساقط كما لا يخفى.
فدعوى أن سقوط الأمر لا يمنع من استحقاق العقاب مما لا وجه له بل الحق
عصيان الأمر عند ترك مقدمته من حيث أدائه إلى ترك الواجب ان تعلق الأمر
بالفعل قبل مجئ زمانه كما في الحج بعد حصول الاستطاعة، وذلك قول بوجوب
المقدمة حسب ما قررناه وإلا منع ترك المقدمة من تعلق الأمر به، فلا وجوب حتى
يلزم بذلك خروج الواجب عن كونه واجبا.
وإن أريد أنه لما كان ترك المقدمة ناشئا عن اختياره كان ذلك مصححا لبقاء
التكليف بذي المقدمة مع امتناعه بعد ذلك، حيث إنه نشأ الامتناع عن اختياره، كما
هو ظاهر الفاضل المذكور وقد نص أيضا بعد ذلك بأن العلم بعدم الصدور أو
امتناعه لا يستلزم إلا قبح إرادة وجود الفعل وطلبه وقصد تحصيله، إذ بعد العلم
بعدم الوقوع قطعا لا يجوز من العاقل أن يكون بصدد حصول ذلك الشئ، ويقضي
العقل بأن الغرض من الفعل الاختياري يجب أن يكون محتمل الوقوع وإن لم
يجب أن يكون مظنونا أو معلوما إلا أنه قد تقرر أن الغرض من التكليف ليس ذلك
بل الابتلاء، لا بمعنى تحصيل العلم بما لم يكن معلوما بل بمعنى إظهار ما لم يكن
ظاهرا على العقول القاصرة والأحلام السخيفة. انتهى.
ففيه: أنه إذا لم يتعلق منع من الآمر بترك المقدمة ولو من جهة أدائها إلى ترك
ذيها لم يصح بعد اختياره لترك المقدمة إلزامه بأداء ذي المقدمة وإيجاب ذلك عليه
مع امتناع صدوره عنه لما تقرر عندنا من امتناع التكليف بغير المقدور، وتفسيره
حقيقة التكليف بما ذكره مخالف لما هو ظاهر المشهور بين علمائنا من اتحاد معنى
الطلب والإرادة إلا أنه موافق للتحقيق، كما مر تفصيل القول فيه، وبه يصح القول
بجواز التكليف بغير المقدور إذا كان من سوء اختيار المكلف، إذ لو كان حقيقة
التكليف إرادة الفعل على الحقيقة امتنع تعلقها بالمحال مطلقا لكنه لا يثمر في
المقام، إذ أقصى ما يترتب عليه أن يتعقل حصول التكليف بعد عروض الامتناع،
131

ولا يصحح ذلك حسن التكليف مع امتناع الفعل، فإن إيراد التكليف المفروض
على المكلف من دون ورود تقصير منه ظلم عليه.
نعم لو كان ذلك متفرعا على عصيانه وسوء اختياره صح ذلك، إذ ليس وروده
عليه حينئذ من قبل الآمر، فنفي التفرقة بين الوجهين حسب ما رامه الفاضل
المذكور غير متجه.
فإن قلت: قد مر أن القائل بنفي وجوب المقدمة قد يلتزم بوجوبها بالعرض
من جهة اتصاف ما لا ينفك عنها بالوجوب، وحينئذ فالإقدام على تركها مع
وجوبها كذلك كاف في انتفاء القبح عن بقاء التكليف بذيها.
قلت: قد عرفت أن الحكم بوجوبها على الوجه المذكور ليس قولا بوجوبها
حقيقة ولو لأجل الغير وإنما هو اتصاف لها بالوجوب على سبيل المجاز حسب ما
مر تفصيل القول فيه، فلا يثمر شيئا في المقام، إذ لا يتحقق بسببه سوء اختيار من
المكلف ليحسن من جهته إلزامه بالمحال فتأمل، مضافا إلى عدم اشتماله على
ما جعله غاية التكليف من الابتلاء والاختبار، إذ لا يعقل حصوله بعد علم الآمر
والمأمور بامتناع الفعل فيكون التكليف به عبثا خاليا عن الفائدة.
قوله: * (وأيضا فإن العقلاء لا يرتابون... الخ) *.
أراد بذلك ترتب استحقاق الذم على ترك المقدمة وإن لم يكن الذم من جهة
تركها في نفسها وإلا لكان وجوبها نفسيا وهو خلاف المدعى، فالمقصود ترتب
الذم على تركها من حيث أدائها إلى ترك ذيها، وورود الذم عليه على الوجه
المذكور مما لا مجال للريب فيه، ومقتضاه ثبوت الوجوب الغيري، كما هو الحال
فيما تعلق به صريح الأمر من الواجبات الغيرية، فإن الذم الوارد هناك أيضا إنما
هو من جهة أدائها إلى ترك الغير لا على ترك نفسها كما مرت الإشارة إليه.
والحاصل: أن ترك المقدمة سبب لاستحقاق الذم لكن لا على تركها بل
لأدائها إلى ترك غيرها وبه يثبت المدعى، ولا فرق في ذلك بين ما يكون زمان
إيقاع المقدمة متقدما على الزمان الذي يصح فيه الفعل - كما في قطع المسافة من
132

البلدان النائية بالنسبة إلى الحج - وما لا يكون كذلك واستحقاق الذم في الأول إنما
يحصل قبل مجئ زمان الفعل وترك الواجب فيه، إذ بترك المقدمة حينئذ يحصل
الأداء إلى ترك الواجب في وقته، فيستحق به الذم على الوجه المذكور من غير أن
يجئ هناك استحقاق آخر على ترك نفس الواجب في وقته، واستحقاق الذم لترك
المقدمة من جهة الأداء إلى ترك الواجب هو بعينه استحقاق الذم على ترك ذلك
الواجب، فينسب إلى ترك المقدمة من جهة الأداء إلى ترك الواجب وإلى ترك نفس
الواجب أصالة.
فظهر بما ذكرنا أن ما يتوهم في المقام من أن الدليل المذكور على فرض
صحته إنما يفيد الوجوب النفسي دون الغيري ليس على ما ينبغي، وإنما يتم ذلك
لو ادعى استحقاق الذم على تركها مع قطع النظر عن أدائها إلى ترك غيرها.
وهو مع وضوح فساده لا يدعيه المستدل في المقام وإن كان إطلاق كلامه قد
يوهم ذلك.
وكذا ما يقال في المقام من أن الذم هنا إنما هو على ترك نفس الواجب مع
القدرة عليه لا على مجرد ترك المقدمة وإنما توهم المستدل ذلك من جهة تقارنهما
في الخارج، فإنه كثيرا ما يقع الاشتباه في أحوال المتقارنين في الوجود، فيثبت
حال أحدهما للآخر، ولذا يتخيل كون الذم الوارد على ترك ذي المقدمة واردا
على ترك مقدمته، وذلك للقطع بصحة ورود الذم على ترك المقدمة من حيث أدائه
إلى ترك الواجب وهو كاف فيما هو المقصود.
كيف ولو كان الاشتباه من جهة المقارنة بينهما في الوجود لزم الحكم بورود
الذم على ترك المقدمة بملاحظة ذاتها؟ مع أنه لا يحكم العقل به أصلا بل كثيرا ما
لا تقارن بينهما في الخارج ألا ترى أن من ترك المسير إلى الحج مع الرفقة
الأخيرة يذم على ذلك عند العقلاء بل يحكم حينئذ بفسقه مع أنه لم يتحقق منه
حينئذ إلا ترك المقدمة.
وقد يقال: إنه إن تم الوجه المذكور في الجملة فلا يجري في جميع الموارد،
133

كما إذا كان المكلف غافلا عن وجوب المقدمة أو لا يكون قائلا بوجوبها نظرا إلى
اختلاف الأنظار في ذلك، إذ لا وجه حينئذ لترتب الذم على تركها ولا للقول
بوجوبها.
ويدفعه: أن الحال في وجوب المقدمة لا يزيد على سائر الواجبات، فإذا لم
تكن الغفلة عن سائر الواجبات باعثة على سقوط وجوبها في أصل الشريعة - وإن
كان عذرا لخصوص الغافل في تركه لها - فكذا في المقام، على أنه قد يقال: بأن
الغفلة عن وجوب المقدمة مع عدم الغفلة عن كونها مقدمة لا يقضي بسقوط
وجوبها، ولذا يصح ورود الذم على تركها سواء كان قائلا بوجوب المقدمة أو لا
غافلا عن وجوبها أو لا، وذلك لأن المفروض كون وجوبها غيريا وقد فرض علمه
بوجوب الغير وبأداء تركها إلى ترك ذلك الغير، وذلك كاف في استحقاق الذم على
تركها من جهة الأداء إلى ترك الغير، فلا تمنع الغفلة المفروضة عن تعلق الوجوب
بها على النحو المذكور.
أو يقال: إن العلم بالمقدمة والعلم بوجوب ذيها لا ينفك عن العلم بوجوبها
لأجلها، غاية الأمر أن يكون غافلا عن علمه به فالعلم المعتبر في تعلق التكليف
حاصل في المقام وإن كان غافلا عن حصوله. فتأمل.
قوله: * (أن المقدور كيف يكون ممتنعا... الخ) *.
يريد أنا نختار بقاء الواجب على وجوبه بعد اختيار المكلف ترك مقدمته
قولكم: إن حصول الواجب حال انتفاء ما يتوقف عليه ممتنع فيلزم التكليف
بالمحال.
قلنا: هذا فاسد، إذ الكلام في المقام إنما هو في المقدمات المقدورة حسب ما
ذكر في عنوان البحث، وحينئذ فلا يعقل أن يكون المقدور ممتنعا حال تركه، كيف
ومن الواضح أن الخلاف في وجوب مقدمة الواجب ليس في خصوص المقدمة
الموجودة؟ فإذا كانت المقدمة المقدورة مع كونها مقدورة محلا للنزاع فكيف يعقل
أن يكون بمجرد ترك المكلف غير مقدورة؟ فإذا تحقق حصول القدرة على
134

المقدمة فلا محال يكون الواجب المتوقف عليها مقدورا أيضا، إذ لا باعث على
انتفاء القدرة عليه من وجه آخر، كما هو المفروض في محل البحث.
وقد تحقق أن عدم الإقدام على إيجاد المقدمة لا يجعلها خارجة عن القدرة
فمن أين يجئ التكليف بالمحال؟ كيف وقد اعترف المستدل بحصول القدرة على
الواجب مع البناء على وجوب مقدمته؟ فكيف لا يكون مقدورا مع البناء على عدم
وجوبها؟ وتأثير الإيجاب في القدرة غير معقول، بل لا يتعلق الإيجاب بالفعل إلا
بعد مقدوريته، فالقول بكون التكليف بالفعل حينئذ من قبيل التكليف بغير المقدور
واضح الفساد.
وقد يقرر الجواب المذكور بوجه آخر بأن يقال: بعد اختيار الشق الأول من
الترديد أن الممتنع هو الإتيان بذي المقدمة بشرط انتفاء مقدمته لا في حال عدمها
ألا ترى أن الكافر مكلف بالعبادات الشرعية في حال الكفر لا بشرط اتصافه به
وكذا المحدث مكلف بالصلاة في حال كونه محدثا لا بشرط كونه محدثا.
ويرد عليه على كل من التقريرين: أن ترك المقدمة قد يفضي إلى امتناعها كما
إذا ترك الذهاب إلى الحج مع الرفقة الأخيرة أو كان الماء منحصرا عنده في معين
فأتلفه فإن ترك المقدمة حينئذ قاض بامتناعها ويتفرع عليه حينئذ امتناع ما
يتوقف عليها. فإن أراد بقوله: " إن المقدور كيف يكون ممتنعا " أن المقدور حال
كونه مقدورا لا يعقل أن يكون ممتنعا فمسلم وليس الكلام فيه، وإن أراد أن
المقدور لا يمكن أن يطرأه الامتناع فهو واضح الفساد.
قوله: * (وتأثير الإيجاب في القدرة غير معقول) *.
يعني: أن تأثير إيجاب المقدمة في القدرة عليها ليكون ذلك باعثا على القدرة
على ما يتوقف عليها أو أن تأثير إيجاب المقدمة في القدرة على ما يتوقف عليها
غير معقول، ويجري الوجهان في قوله: " إن المقدور كيف يكون ممتنعا " فإنه
يمكن أن يريد به المقدمة المقدورة كما يشعر به قوله: " والبحث إنما هو في
المقدور " لما قيد به عنوان البحث ولما ادعى المستدل امتناع ذي المقدمة حال
135

ترك مقدمته وكانت استحالته حسب ما قرره مبنية على استحالة المقدمة أفاد بذلك
حصول القدرة عليها حين تركها، فلا يعقل استحالة الواجب من جهة انتفائها
ويمكن أن يريد به أن الواجب المقدور كيف يكون ممتنعا حال انتفاء مقدمته مع
أن المفروض حصول القدرة عليه فإن البحث في المقام إنما هو في المقدور، إذ لا
وجوب مع انتفاء القدرة.
ثم إن ظاهر العبارة أن ذلك من تتمة الجواب حسب ما مر من تقريره، وجعله
بعضهم جوابا آخر على سبيل النقض بأنه لو تم الدليل المذكور لجرى على القول
بوجوب المقدمة حسب ما مر الكلام فيه، وفيه خروج عن ظاهر سياق العبارة،
ويرد عليه ما مرت الإشارة إليه هذا.
وقد يورد على الدليل المذكور بوجوه اخر:
منها: أنه إن أريد بالملازمة المدعاة من أنها لو لم تكن واجبة لجاز تركها أنها
إذا لم تكن واجبة بالأمر المتعلق بذيها جاز تركها فالملازمة ممنوعة لجواز أن
تكون واجبة بأمر آخر، وإن أريد أنها لو لم تكن واجبة مطلقا فالملازمة مسلمة
لكنها لا تثبت المدعى.
وضعفه ظاهر، أما أولا: فلأن المقصود في المقام دلالة مجرد إيجاب الشئ
على وجوب مقدمته مع عدم قيام شئ من الأدلة الخارجية على وجوب المقدمة،
وحينئذ فاحتمال قيام دليل من الخارج على وجوبها خروج عن المفروض في
المقام.
وأما ثانيا: فبأنا نختار الوجه الأول، وما ذكر من منع الملازمة إن أريد به منع
الملازمة بين عدم الوجوب بذلك الأمر وجواز تركه بالنظر إليه فهو واضح الفساد،
وإن أريد منع الملازمة بين عدم الوجوب بذلك الأمر وعدم وجوبها بأمر آخر فهو
كذلك، إلا أنه لا ينافي صحة الاحتجاج، فإن المقصود منه تفرع الفساد المذكور
على جواز تركها نظرا إلى الأمر المذكور، فإنه إذا جاز تركها بملاحظة الأمر
المتعلق بذيها فتركه المكلف إن بقي ذلك التكليف بحاله كان تكليفا بما لا يطاق إلى
136

آخر ما ذكر ووجوب المقدمة بأمر خارجي مستقل لا ربط له بالمقام، مضافا إلى
أنه لا قائل بوجوب المقدمات على إطلاقها بأوامر مستقلة أقصى الأمر أن لا
ينتهض الدليل بالنسبة إلى بعض المقدمات مما ثبت وجوبه من الخارج ونهوضه
بالنسبة إلى بعض كاف في إثبات المقصود.
وأما ثالثا: فلأن المدعى ثبوت الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته
بحسب الواقع والدليل المذكورة قاض بثبوتها، إذ على فرض عدم وجوبها في
الواقع يكون تركها جائزا بحسب الواقع إلى آخر ما ذكر، ولم يؤخذ في المدعى
كون إيجاب ذي المقدمة سببا لإيجاب مقدمته في الواقع، غاية الأمر كون العلم
بوجوبه سببا للعلم بوجوب الآخر سواء كانت السببية حاصلة على الوجه الأول
أيضا أو لا.
ومنها: النقض بأنه لو صح ما ذكر من الدليل لزم عدم جواز التكليف من رأس
وتقرير الملازمة بوجهين:
أحدهما: إن كل فعل لم يصل إلى حد الوجوب أو الامتناع لم يكن موجودا
ولا معدوما فهو في حال وجوده متصف بالوجوب وفي حال عدمه بالامتناع ولا
يصح التكليف بالفعل في شئ من الحالين لتوقفه حسب ما ذكر في الدليل على
الإمكان المنفي في الصورتين، والقول باتصافه بالإمكان قبل مجئ الزمان
المفروض على فرض صحته لا يثمر في المقام، إذ المعتبر من الإمكان المعتبر في
المكلف به هو ما كان في زمان إيجاد الفعل أو تركه لا ما كان متقدما عليه.
ثانيهما: إن كل حادث وجد في زمان أو لم يوجد فلزوم وجوبه في ذلك
الزمان أو امتناعه حاصل في الأول، لما تقرر من استناد الممكنات إلى الواجب
وإن الشئ ما لم يجب امتنع وجوده فما وجد في زمان فهو مما يجب في الأول
حصوله في ذلك الزمان وما لم يوجد يمتنع حصوله فيه، غاية الأمر عدم علمنا
بأسباب الوجوب والامتناع قبل مجئ ذلك الزمان، وقد يحصل العلم ببعضها كما
هو المفروض في المقام، فإن ترك المقدمة سبب لامتناع الإتيان بالفعل فإذا لم
137

يصح التكليف بسبب الامتناع المفروض لم يصح في شئ من التكاليف للعلم
الاجمالي بحصول أسباب امتناعه مع عدم الإتيان به بالفعل وحصول أسباب
وجوبه مع الإتيان به وإن لم يعلم خصوص السبب الموجب لأحد الأمرين.
ومنها: الحل: فإنا نختار بقاء الوجوب، ولزوم التكليف بما لا يطاق ممنوع، إذ
ليس التكليف بأي ممتنع من قبيل التكليف بما لا يطاق، إذ من الممتنعات ما يكون
امتناعه من جهة اختيار المكلف ولا مانع من تعلق التكليف به، فنقول: إن ترك
المقدمة لما كان باختيار المكلف كان ترك ذي المقدمة أيضا عن اختياره، ومن
المقرر: أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، وبعضهم حمل الجواب المذكور
في كلام المصنف (رحمه الله) على ذلك.
وحاصل الجواب: أن الوجوب والامتناع إن كان لا من جهة اختيار المكلف
فهو المانع من جواز التكليف وأما إن كان من جهة اختياره فهو لا يمنع جواز
التكليف بل يصححه فإن من شرائطه قدرة المكلف ووجوب الفعل أو امتناعه
بسبب الاختيار مصحح للقدرة عليه.
ويدفعه: أن ما قيل: من أن الوجوب أو الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار
إنما يراد به الاختيار المقارن لصدور الفعل بأن يكون اختيار ذلك الفعل أو الترك
هو الموجب لوجوده أو عدمه في الخارج، فإن ذلك لا ينافي كون الفعل أو الترك
اختياريا بل يصححه، إذ لولا وجوبه أو امتناعه بذلك لما كان اختياريا حاصلا
بسبب الاختيار حسب ما ذكر.
وأما ما كان بسبب الاختيار المتقدم على الفعل المتعلق بأمر آخر معد لحصول
ذلك الفعل من غير أن يكون الفعل الثاني صادرا عن اختيار المكلف حين حصوله،
فلا يجعل ذلك الفعل اختياريا حال صدوره عن الفاعل ولا مقدورا عليه حين
حصوله، غاية الأمر حصول القدرة المتقدمة السابقة على اختيار الإتيان بذلك
المعد وأما بعد الإتيان به فلا.
ومن البين: أن المعتبر من القدرة والاختيار - بناء على عدم جواز التكليف بما
138

لا يطاق مطلقا - هو ما كان مقارنا للفعل، كيف ولولا ذلك لزم انفتاح باب عظيم في
الفقه؟ فإن من أجنب متعمدا مع عدم الماء أو أتلف الماء الموجود عنده عمدا مع
علمه بعدم تمكنه من غيره لزم أن يكون مكلفا بأداء الصلاة مع الطهارة الاختيارية
نظرا إلى قدرته السابقة وإقدامه على إيجاد المانع باختياره، وكذا من كان عنده
استطاعة الحج فأتلف المال عمدا قبل مضي الرفقة أن يكون مكلفا بالسير معهم مع
عدم تمكنه منه، وكذا من كان عنده وفاء الدين فأتلفه عمدا أن يكون مكلفا بالوفاء
مع عدم تمكنه منه، بل فاسقا مقيما على العصيان بعدم الأداء، إلى غير ذلك من
الفروض الكثيرة مما يقف عليه المتأمل.
فإن قلت: لا شك في كون الأفعال التوليدية حاصلة عن اختيار المكلف ولذا
يجوز التكليف بها ويصح وقوعها متعلقا للمدح والذم مع أنها لا قدرة عليها حين
حصولها وإنما يتعلق القدرة بها بتوسط أسبابها.
قلت: لا يلزم مما قلناه أن لا يكون الأفعال التوليدية متعلقة للقدرة مطلقا ولا
عدم جواز التكليف بها رأسا، فإنه لا شك في جواز التكليف بها قبل الإتيان
بالأسباب المولدة لها مع حصول القدرة على تلك الأسباب، لوضوح أنه مع القدرة
على السبب يقتدر على المسبب أيضا إلا أن ذلك لا يقضي بحصول القدرة عليها
وجواز تعلق التكليف بها بعد حصول أسبابها كما هو المدعى، فالتكليف بها ينقطع
عند الإتيان بأسبابها، وارتفاع القدرة عليها وعدم مقدورية الفعل كما يمنع من
تعلق التكليف به ابتداءا يمنع عنه استدامة، لاتحاد جهة المنع، فكما أنه مع الإتيان
بنفس الواجب ينقطع التكليف فكذا مع الإتيان بالسبب المولد له، لوجوب ذلك
الفعل حينئذ، وتعلق المدح أو الذم به إنما هو من جهة الإقدام على سببه من حيث
إيصاله إليه، ولذا لو تاب المكلف عن ذلك بعد الإقدام على السبب قبلت توبته
وحكم بعدالته بعد ثبوتها وإن لم يأت زمان أداء الواجب ولا يحصل منه معصيته
في زمان ايقاع الفعل، كما إذا ترك الذهاب إلى الحج مع الرفقة ثم تاب بعد ذلك
فإنه لا يكون عاصيا ولا فاسقا في أيام أداء الحج وذلك ظاهر.
139

وحينئذ فنقول: إن تعلق التكليف بها بواسطة التكليف بأسبابها من حيث إنها
موصلة إليها كما هو المدعى فلا إشكال وأما إن تعلق التكليف بها حينئذ وحدها
من غير أن يتعلق التكليف بأسبابها أصلا ولو من جهة إيصالها إليها فلا مانع عنه
أيضا من تلك الجهة، لحصول القدرة عليها حينئذ من جهة الاقتدار على أسبابها إلا
أنه يلزم سقوطها عن المكلف من دون عصيان إذا ترك الأسباب المولدة لها مع
ارتفاع القدرة على تلك الأسباب بعد تركها، إذ المفروض أنه لا مانع عند الآمر من
الترك المفروض ولو من جهة إيصاله إلى ترك المأمور به، فلا عصيان حينئذ بترك
تلك الأسباب لا بملاحظة ذاتها ولا من جهة أدائها إلى ترك مسبباتها، وتحقق
العصيان حينئذ عند انتفاء المسببات بعد ذلك مما لا وجه له، لما عرفت من ارتفاع
التكليف بها بعد ارتفاع القدرة عليها ونحوه الكلام بالنسبة إلى ترك الشروط
ونحوها.
والحاصل: أن حصول القدرة على الفعل بعد زمان الأمر في الجملة كاف في
حصول التكليف وصحة العقوبة إذا تحقق ترك الواجب بتعمد المكلف ولو بترك
بعض مقدماته، لكن لا يكون ذلك إلا مع وجوب المقدمة والمنع من تركها من جهة
الايصال إلى الواجب والأداء إلى تركه، ولذا لو صرح الآمر بعدم وجوب شئ من
مقدماتها أصلا وتساوي جهتي فعلها وتركها في نظره مطلقا ولو بملاحظة ايصالها
إلى الواجب وأداء تركها إلى تركه لكان مناقضا وأدى ذلك إلى عدم استحقاق
العقوبة على ترك ذلك الواجب أصلا، وهو مفاد خروجه عن كونه واجبا، ومجرد
كون الترك المذكور بعد حصول القدرة عليه في الجملة غير كاف في تصحيح
استحقاق العقوبة على الفرض المذكور كما لا يخفى على المتأمل.
وما يقال: من أن العرف والعادة شاهدان على صحة الذم حينئذ ألا ترى أن
كافة ذوي العقول يذمون يوم النحر الجالس في بلده البعيد مع استطاعته للحج
ويقولون له: لم اخترت الجلوس في بلدتك في هذا الحال على طواف بيت الله
تعالى وأداء المناسك المقربة إلى الله الباعثة على نجاتك من عذاب الله؟ ولا
140

يقبلون اعتذاره بعدم تمكنه من ذلك حينئذ لبعد المسافة وعدم قطعه الطريق بعد
تمكنه منه في وقته، بل يقولون له: إن ذلك كان أمرا ضروريا لأداء المناسك وقد
كنت متمكنا من ذلك، وإرجاع هذا الذم إلى الذم على ترك قطع الطريق خلاف
مقتضى اللفظ بل الوجدان يحكم بأنه قد لا يخطر ذلك بالبال.
بين الاندفاع، للفرق البين بين ذمه على عدم إتيانه في ذلك الزمان بتلك
الأفعال وإقدامه على القبيح في تلك الحال وذمه على أنه لم يكن في جملة
المتلبسين بتلك الأفعال الآتين بها في تلك الحال، فإن هذا الذم وارد عليه من جهة
تركه الذهاب مع الرفقة الأخيرة، فإنه لما كان الواجب في ذمته هو أداء المناسك
كان الذم متوجها إليه من جهة ترك ذلك وإن كان قبل وقت أدائها بعد تركه المقدمة
الموصلة إليها، إذ الذم الوارد على ترك المقدمة إنما هو من جهة أدائه إلى ذلك،
فالذم المذكور إنما يرد بالأصالة على ترك ذي المقدمة وبالتبع على ترك المقدمة،
ولذا يرد الذم عليه مع قطع النظر عن ملاحظة تركه قطع الطريق - حسب ما ذكر -
لكن لا دلالة فيه على ما هو بصدده.
ثم إنه يظهر من ملاحظة ما ذكرنا تقريرا آخر للدليل المذكور وقد أشار إليه
بعض المتأخرين، وذلك بأن يقال: إنه لو لم تكن المقدمة واجبة لزم عدم تحقق
المعصية واستحقاق العقوبة بترك الواجب والتالي واضح الفساد، لخروج الواجب
بذلك عن كونه واجبا.
أما الملازمة فلأنه إذا كانت المقدمة بحيث لو تركها المكلف لم يتمكن من
الإتيان بها بعد ذلك - كقطع المسافة بالنسبة إلى أداء الحج فتركها المكلف - فإما أن
يكون عاصيا عند ترك قطع المسافة أو عند ترك الحج في موسمه المعين، لا سبيل
إلى الأول، إذ المفروض عدم وجوب ذلك عليه بوجه من الوجوه فلم يصدر عنه
حينئذ فعل حرام ولا ترك واجب أصلا ومع ذلك لا يعقل صدور العصيان منه بوجه
من الوجوه، ولا إلى الثاني، لامتناع الإتيان به في وقته بالنسبة إليه ومعه لا يمكن
حصول العصيان ولا استحقاق العقوبة بتركه، إذ لا يتصف بالحسن والقبح إلا الفعل
141

المقدور وملاحظة العرف أقوى شاهد على ذلك ألا ترى أنه لو أمر السيد عبده
بفعل معين في زمان معين في بعض البلاد النائية والعبد ترك المسير إليه عمدا إلى
حضور ذلك الزمان فعاقبه المولى بعد حضور الزمان المعين على ترك ذلك الفعل
فيه وإخلائه عن ذلك العمل معترفا بعدم صدور قبيح من العبد يستحق به العقوبة
إلى ذلك الزمان أصلا؟ وإنما تجدد منه صدور القبح حين تعمده ترك الفعل في
الزمان الحاضر لسفهه العقلاء وحكموا بضعف عقله وفساد رأيه.
كيف ولو فرض أن العبد كان نائما في الزمان الحاضر أو حبسه جائر بحيث لم
يقدر على الخلاص لم يعقل استحقاقه للعقوبة بترك الفعل في ذلك الزمان أيضا،
لقبح تكليف النائم والمحجور عليه مع أن من الواضح عدم تفاوت الحال في
استحقاق العقوبة بين كونه نائما أو ممنوعا من الفعل أو غيره؟ فليس استحقاقه
للعقوبة إلا من جهة ترك المقدمة من حيث أدائه إلى ترك ذي المقدمة، وهو مفاد
الوجوب الغيري.
وأنت بعد التأمل فيما مر تعرف ما يمكن إيراده على التقرير المذكور وما
يدفع به عنه.
قوله: * (والحكم بجواز الترك... الخ) *.
ليس ذلك من تتمة الجواب وإنما هو دفع دخل يورد في المقام وقد عزى
إيراده إلى أبي الحسين البصري، حيث زعم أنه بناء على عدم وجوب المقدمة
شرعا يكون تركه جائزا مع أن خطاب الشرع بجواز تركها بعد أمره بذي المقدمة
قبيح ركيك.
وقد أجاب عنه المصنف: بأن الحكم بجواز الترك هنا عقلي لا شرعي يعني:
أن العقل يدرك جواز ترك المقدمة من غير أن يصرح الشارع بذلك فإنه لما لم يكن
الأمر بذي المقدمة مستلزما للأمر بمقدمته ولم يكن هناك دليل آخر على وجوبها
جاز عند العقل ترك المقدمة، إذ هو اللازم بعد نفي الوجوب من جهة انتفاء الدليل
عليه، فإذا ثبت عدم حكم الشارع بوجوب المقدمة لزمه الحكم بجواز تركه فحكم
142

العقل بالجواز مستفاد من عدم حكم الشارع بالوجوب، من غير أن يصرح
بالجواز، وإنما لم يجر حكم الشارع بالجواز مع أنه لازم - لعدم حكمه بالوجوب -
لأنه لما كان الإتيان بذي المقدمة مطلوبا للشارع على جهة الالزام وكان الإتيان
به لا ينفك عن الإتيان بمقدمته كان الحكم بجواز تركه عبثا بل منافيا لغرضه، إذ
فائدة الحكم به هو اقدام المكلف على الترك إذا شاء وهو غير ممكن في المقام، إذ
لا يجامع ذلك الإتيان بذي المقدمة الواجب في الشريعة، فيشبه الحكم به الحكم
بجواز الإتيان بالممتنعات، كالطيران في السماء والمشي على الماء، فليس عدم
جواز الشارع بالجواز في المقام من جهة انتفاء الجواز حتى يتوهم بسببه وجوب
المقدمة، بل من جهة كونه لغوا لا ينبغي صدوره عن الحكيم.
فحاصل الجواب: أن جواز حكم الشرع بجواز الترك إنما يتم إذا تفرع فائدة
على حكمه واما إذا خلا عنها فلا، بخلاف حكم العقل به فإن من شأنه إدراك الواقع
وإن خلا ذلك عن ثمرة تترتب عليه في الأعمال، وهذا هو الوجه فيما ذكره من
جواز تحقق الحكم العقلي هنا دون الشرعي، كما أشار إليه بقوله * (لأن الخطاب
به عبث... الخ) *.
وقد ظهر بذلك دفع ما قد يورد عليه: من أن المقرر في محله مطابقة حكم
العقل للشرع بمعنى أن ما حكم به العقل قد حكم به الشرع، فكيف يبنى على
الانفكاك بينهما في المقام؟ إذ ليس المدعى انفكاك حكم الشرع عن حكم العقل
بأن لا يطابق حكم الشرع ما حكم به العقل، كيف وقد كان الحكم المذكور من
لوازم عدم إيجاب الشارع للمقدمة؟ فهي أيضا في حكم الشرع مما يجوز تركه،
لكن المقصود عدم جواز تصريح الشارع بجواز تركه للزوم اللغو حسب ما ذكر.
لكنك خبير بأن القول بعدم جواز تصريح الشارع بالحكم الثابت مع أن من
شأنه بيان الأحكام غير متجه، وما ذكر من لزوم اللغو في الحكم به فاسد، إذ لا
يعقل لغو في بيان الأحكام الشرعية، وكيف يتصور ذلك في المقام؟ وفي حكمه
المذكور تصريح بعدم وجوب المقدمة واتحاد الواجب حتى لا يتوهم هناك
143

وجوب أمرين، كيف ولو كان ذلك لغوا لكان بيان هذه المسألة وعقد الخلاف فيها
وإقامة الحجج من الفريقين على كل من الجانبين والنقض والإبرام الواقع في البين
من الطرفين أعظم لغوا، فما يجعل فائدة في ذلك فهي الفائدة في تصريح الشارع
به، كيف ولو صرح به وثبت ذلك عنه؟ لم تكن المسألة محلا للخلاف فلا أقل من
ظهور الحق لمن بذل الوسع فيه، وأي فائدة أعظم من ذلك؟
فيمكن أن ينهض الوجه المذكور حجة على وجوب المقدمة بأن يقال: لو لم
تكن المقدمة واجبة شرعا لجاز تركها، والملازمة ظاهرة، وأما بطلان التالي فلأنه
لو جاز تركها لجاز حكم الشارع بجواز تركها، أما الملازمة فلجواز حكم الشارع
بما هو الواقع بل من شأنه بيان حكمه في الوقائع وأما بطلان التالي فلقبحه
وركاكته، كما اعترف المصنف به.
ويمكن الإيراد عليه: بأن الوجه في عدم جواز حكمه بجواز ترك المقدمة
امتناع انفكاك الواجب عنها فهي واجبة بالعرض من جهة وجوب ذيها، كما هو
الحال في لوازم الواجب فلا يجوز تركها، لعدم جواز ترك ملزومها ولذا لا يصح
إطلاق الحكم بجواز تركها ويصح الحكم بجواز تركها في نفسها وكما لا يجوز
حكم الشرع بجواز تركها لعدم جواز تركها على الإطلاق كذا لا يحكم به العقل فلا
فرق بين الحكمين كما توهم المصنف ولا دلالة في ذلك على وجوب المقدمة كما
لا يدل على وجوب لوازم الواجب.
فقوله: * (لو لم يكن المقدمة واجب لجاز تركها) *.
إن أريد به وجوبها بالذات على أن يكون الوجوب من عوارضها فالملازمة
ممنوعة، لإمكان أن لا يكون واجبة كذلك لكن لا يجوز تركها بالعرض من جهة
عدم جواز ترك ملزومها، وإن أريد به الأعم من وجوبها بالذات وبالغير على أن
يكون الوجوب من عوارض ذلك الغير وتتصف هي بالوجوب بالعرض على سبيل
المجاز من جهة عدم انفكاك الواجب عنها فالملازمة مسلمة، ولا تثبت المدعى، لما
عرفت من خروج ذلك عن محل البحث، إذ هو من لوازم اللابدية المسلمة بعد
الحكم بوجوب ذي المقدمة.
144

وقد ظهر بما قررناه ضعف ما قد يمنع في المقام من عدم جواز تصريح
الشارع بجواز ترك المقدمة، إذ لا يعقل هناك مانع منه بعد البناء على عدم وجوبها
لما قد عرفت من ظهور الوجه فيه لكنه لا يفيد الوجوب حسب ما حاوله المستدل.
هذا.
ويمكن تقرير الاستدلال بوجه آخر ينهض بإثبات المدعى وذلك بأن يقال:
إنه لا شك بعد مراجعة الوجدان في عدم جواز حكم العقل ولا الشرع بجواز ترك
المقدمة من حيث أدائها إلى ترك ذي المقدمة، وكيف يجوز عاقل أن يوجب الشارع
علينا الحج مثلا ثم يقول: " يجوز لكم ترك قطع المسافة إلى مكة " من حيث إنه
يؤدي إلى ترك الحج؟ وهل يكون مفاد ذلك إلا تجويزه لترك الحج؟ فيتناقض
الحكمان وهو بعينه مفاد الوجوب الغيري، إذ لولا وجوبها لأجل الغير لجاز الحكم
بجواز تركها من الحيثية المذكورة وإن لم يجز من جهة أخرى فتأمل (1).
قوله: * (منع كون الذم على ترك المقدمة) *.
إن أريد منع كون الذم على ترك المقدمة بنفسها فلا ربط له بالمدعى، إذ ليس
المأخوذ في الاحتجاج ورود الذم على تركها بالوجه المذكور وإلا لكان واجبا
نفسيا لا غيريا، وإن أريد منع الذم على ترك المقدمة من حيث أدائها إلى ترك ذيها
فهو واضح الفساد، كيف وتعلق الذم بتركها بالاعتبار المذكور من الواضحات كما
مرت الإشارة إليه؟
ثم إن هنا حججا أخرى للقول بوجوب المقدمة قد أشار إليها غير واحد من
الأجلة بعضها متينة وبعضها مزيفة ولا بأس بالإشارة إلى جملة منها:
منها: أن حقيقة التكليف هي طلب الفعل أو الترك من المكلف اتفاقا من الكل

(1) إشارة إلى ما قد يتخيل من أن الحيثية المذكورة ملزومة لحيثية أخرى - أعني عدم
انفكاكها عن الواجب - فلعل المنع المذكور إنما يأتي من الحيثية الأخرى دونها فلا يفيد
المدعى. ويمكن دفعه بأنه وإن كان هناك ملازمة بين الأمرين لكن يمكن الغض عن ملاحظة
اللازم في ملاحظة الحكم المذكور مع أنا نرى الحكم بعدم التجويز على حاله فتأمل. منه (رحمه الله).
145

وذهب العدلية إلى أن حقيقة الطلب هي الإرادة المتعلقة بفعل الشئ أو تركه
وعليها مدار الإطاعة والعصيان، والألفاظ الدالة على ذلك من الأمر والنهي إنما
هي لإعلام المكلف الذي هو من شرائط التكليف، ولذا قد لا يكون العلامة لفظا بل
شيئا آخر من دلالة العقل وغيره من الإمارات المنصوبة على حصول الإرادة
المذكورة. واستدلوا على ذلك بأنه لا يعقل الانسان بعد رجوعه إلى وجدانه عند
أمره بالشئ أمرا آخر وراء الإرادة المذكورة يصلح لأن يكون مدلولا للصيغة فلو
كان هناك شئ آخر لزم أن يكون معلوما بالوجدان، كسائر المعاني الحاصلة
للنفس من العلم والقدرة والكراهة والشهوة والفرح والهم والجبن ونحوها، فإذا لم
يتعقل هناك معنى آخر وراء ما ذكر من الإرادة تبين أنه ليس معنى الطلب إلا
الإرادة كيف ولو سلم أن هناك معنى آخر لا يدركه إلا الأوحدي من الخواص؟
فكيف يصح القول بوضع صيغ الأمر والنهي لذلك؟
ومن المقرر أن الألفاظ الظاهرة الشائعة الدائرة بين العامة غير موضوعة بإزاء
المعاني الخفية التي لا يدركها إلا الأفهام الدقيقة، وقد خالف في ذلك الأشاعرة
فزعموا أن الطلب أمر آخر وراء الإرادة وجعلوه من أقسام الكلام النفسي المغاير
عندهم للإرادة والكراهة.
وقد عرفت أن ما ذكروه أمر فاسد غير معقول مبني على فاسد آخر - أعني
الكلام النفسي - وليس بيان ذلك حريا بالمقام فإنما يطلب من علم الكلام، فإذا
تبين أن حقيقة التكليف هو ما ذكرناه من الإرادة فمن البين أن الإرادة المذكورة لا
تحدث بواسطة اللفظ فإنها أمر نفساني لا يمكن حصولها باللفظ وإنما يكون اللفظ
كاشفا عنها دليلا عليها فهو متأخر عنها في الوجود دال على حصولها في النفس
شرط لتعلق الإرادة بالمكلف.
إذا تقرر ذلك فنقول: إن الإيجاب على ما ذكرنا هو الإرادة الحتمية المتعلقة
بالفعل فإذا صدر ذلك منا متعلقا بفعل من الأفعال وعلمنا أن ذلك الفعل لا يتم في
الخارج إلا بفعل آخر وكانت الإرادة الحتمية متعلقة بالفعل الأول على جهة
146

الإطلاق فبالضرورة الوجدانية يحكم العقل بتعلق الإرادة الحتمية بذلك الفعل
المتوقف عليه من جهة إيصاله إلى ما هو المطلوب وأدائه إليه بحيث لا مجال
للريب فيه، وليس معنى الوجوب الغيري إلا ذلك لما عرفت من أن حقيقة التكليف
ليس شئ وراء الإرادة المذكورة.
ولا يذهب عليك أن ما ذكر من أن الطلب الذي هو مدلول الأمر عين الإرادة
التي هي من الأمور القائمة بذات الأمر الحاصلة قبل إيجاد الصيغة فاسد حسب ما
مر تفصيل القول فيه ولنشر (1) في المقام إلى ما فيه من وجوه الفساد:
منها: أنه لو كان كذلك لم يمكن تعلق الطلب بمن يعلم الآمر عدم صدور الفعل
منه، فإن صدور الفعل منه حينئذ مستحيل ولو بالغير، ومن الواضح عدم إمكان
تعلق الإرادة بالأمر المستحيل، فإن احتمال وقوع المراد ولو مرجوحا شرط
في تعلق الإرادة.
ومنها: أنه لو كان كذلك لكان الفعل واجب الحصول عند إرادة الله صدوره من
العبد على نحو ما يريد الآمر منا صدور الفعل عمن يأمره به، لعدم إمكان تخلف
إرادة الله كذلك عن مراده.
ومنها: أن دلالة الانشاء حينئذ على حصول الإرادة من قبيل دلالة الأخبار
لكونه حكاية عن أمر حاصل في الواقع فقد يطابقه وقد لا يطابقه، فيكون قابلا
للصدق والكذب وذلك - مع أنه لا يقول به أحد - مخالف لما يستفاد من الأمر
وسائر الإنشاءات، فإن الجمل الإنشائية - كما نصوا عليه ويستفاد منها بحسب
العرف - آلة لثبوت معانيها في الخارج فالنسبة الإنشائية نسبة تامة حاصلة
باستعمال الجملة الإنشائية في معناها، كما أن الجمل الخبرية آلة في إحضار
النسبة التامة ببال السامع، وحينئذ فإما أن تطابقها أو لا تطابقها بخلاف الانشاء، إذ
ليس النسبة التي يشتمل عليها إلا حاصلة بإرادتها من اللفظ، فالإخبار حكاية عن

(1) في " ف " وسنشير.
147

أمر واقعي والإنشاء إيجاد للنسبة الخارجية، فجعل الطلب المدلول بالأمر عبارة
عن الإرادة بالمعنى المذكور مما لا وجه له أصلا.
والتحقيق أن يقال - حسب ما بيناه في محله -: إن الطلب المدلول للأمر ليس
إلا اقتضاء الفعل منه في الخارج الذي يعبر عنه في الفارسية ب‍ " خواهش كردن "
وهو أمر إنشائي حاصل بتوسط الصيغة لا الإرادة النفسية المعبر عنها ب‍ " خواهش
داشتن " والإرادة على الوجه الثاني مما لا يمكن تخلف المراد عنها بالنسبة إليه
تعالى ويعبر عنها بالإرادة التكوينية بخلاف الأول ويعبر عنها بالإرادة التشريعية
ولا ملازمة بين الإرادتين بل يمكن التخلف من كل من الجانبين عن الآخر.
وحينئذ فما ذكره العدلية من اتحاد الطلب والإرادة إن أرادوا بها الإرادة على
الوجه الثاني ففساده واضح، لوضوح المغايرة بينهما كما عرفت وإن أرادوا بها
الإرادة على الوجه الأول فهو الحق الذي لا محيص عنه وما ذكره الأشاعرة من
المغايرة بينهما إن أرادوا بها الوجه الأول فهو فاسد قطعا، كما عرفت وإن أرادوا
بها الوجه الثاني كما يومئ إليه ما استدلوا به عليه فهو متجه ومما بينا يقوم احتمال
أن يكون النزاع بين الفريقين لفظيا.
وكيف كان فالحق في المسألة ما قررناه، وحينئذ فما ذكره الفاضل المستدل
من اتحاد الطلب والإرادة على الوجه الذي قرره فاسد فلا يتم ما فرع عليه من
وجوب المقدمة بالمعنى الذي قرره، لكن يمكن أن يقال: إن اقتضاء الفعل على
وجه الحتم حسب ما قررناه قاض باقتضاء ما يتوقف عليه ذلك الفعل ولا يتم إلا
به لأجل حصوله وملخصه: أن العقل بعد تصور وجوب ذي المقدمة ومعنى المقدمة
ووجوبها الغيري لأجل حصول ذي المقدمة يقطع بلزوم الثاني للأول وعدم
انفكاكه عنه من غير حاجة إلى الوسط فهو لازم بين له بالمعنى الأعم وهو أمر
ظاهر بعد إمعان النظر في تصور الأطراف، وكان هذا هو مقصود بعض المحققين
حيث حكم ببداهة وجوب المقدمة، كما مرت الإشارة إليه.
ومنها: أنه قد تقرر عند العدلية كون إيجاب الشارع وتحريمه وسائر أحكامه
148

تابعة للمصالح ودفع المفاسد، فإذا كانت المصلحة الداعية إلى الفعل بالغة إلى حد
لا يجوز إهمالها وتفويتها على المكلف وجب أمر الشارع به، وكذا الحال في
المصلحة الداعية إلى تركه ومن البين: أن المصالح الداعية إلى الفعل أو الترك قد
تكون مترتبة على نفس ذلك الفعل أو الترك وقد تكون مترتبة على فعل شئ آخر
أو تركه فيتعلق الطلب به من حيث كونه مؤديا إلى ما يترتب عليه ذلك، فإن من
الواضح أن ملاحظة ترتب المصلحة أو المفسدة على الفعل أو الترك لا يجب أن
يكون بلا واسطة، وحينئذ فاللازم من ذلك تكليف الشارع بالمقدمات على نحو
تكليفه بأداء نفس الواجبات، نظرا إلى ما ذكر من مراعاة المصلحة اللازمة
والمفسدة المترتبة.
ويمكن الإيراد عليه: بأن القدر اللازم الذي يقضي به وجوب اللطف هو إعلام
المكلف بالحال وإلزامه بالفعل أو الترك على نحو ما يقتضيه المصلحة من الفعل أو
الترك لئلا يفوته نفع تلك المصلحة أو يلحقه ضرر تلك المفسدة وذلك حاصل بإلزامه
بنفس الفعل الذي يترتب عليه ذلك من غير حاجة إلى إلزامه بما يؤدي إلى ذلك.
وقد يدفع ذلك بأنه إن كان ترتب المصلحة أو المفسدة على الفعل كذلك
قاضيا بحسن التكليف على مقتضى ذلك، فلا يجوز إهمال الشارع له وإن لم يكن
قاضيا به، فلا يجوز وقوع الطلب والإلزام من الشارع على الوجه المذكور والثاني
باطل قطعا لتعلق التكاليف الشرعية بكثير من الأفعال على الوجه المذكور فإن
الواجبات التوصلية المأمور بها في الشريعة لأجل الإيصال إلى واجبات اخر غير
عزيزة في الشريعة فلا بد إذن من حصول التكليف على حسب المصالح المترتبة
على الأفعال بالواسطة أيضا.
كيف! وحصول التكليف على الوجه المذكور ومراعاة العقلاء له في أوامرهم
ونواهيهم أمر واضح غني عن البيان، فإن من تأمل في القواعد العقلية ومارس
المصالح الحكمية والتدبيرات الكلية وعرف مجاري أحكام العقلاء وأهل المعرفة
عرف أن ما يجب رعايته والأمر به قد يكون مما يترتب عليه المصلحة لذاته وقد
149

يكون مؤديا إلى ما يترتب عليه المصلحة، ألا ترى أن من أراد تدبير عسكر أو بلد
كما أنه يأمر بالأمور النافعة لهم وينهى عن الأمور الضارة بحالهم كذا يأمر بما
يؤدي إلى ما فيه نفعهم وينهى عما يؤدي إلى ما فيه ضررهم، وذلك طريقة جارية
بين العقلاء لا يرتابون فيه وقد جرى عليه الشارع في كثير من التكاليف الشرعية
فيكون ذلك برهانا لميا على مراعاته، ذلك فيما لم يتعلق به صريح الأمر فتأمل.
ومنها: أنه قد تقرر أن تحريم المسبب قاض بتحريم سببه المؤدي إليه وحينئذ
فنقول: إن ترك كل من الشرائط والمقدمات سبب لترك مشروطه وما يتوقف عليه
ومن البين: أن إيجاب المشروط والمتوقف قاض بالمنع من تركه فتكون الشرائط
والمقدمات أيضا ممنوعا من تركها لإفضائها إلى الحرام، فإذا كان تركها حراما
لكونه سببا للحرام كان فعلها واجبا وهو المدعى.
وفيه: - بعد الغض عن المناقشة في تحريم سبب الحرام، إذ قد ينكره من ينكر
وجوب المقدمة مطلقا - أن سبب المحرم إنما يكون محرما إذا كان هو الباعث
على حصول الحرام والمفضي إليه دون ما يكون من شأنه ذلك، فإذا لم يستند إليه
حصول المحرم وإنما كان وجوده من المقارنات لوجوده فلا تحريم فيه أصلا.
ومن البين: أن انتفاء الواجب إنما يتفرع على انتفاء الداعي إليه فلا يستند
الترك إلا إليه وهو السبب لحصوله دون ترك سائر المقدمات وإن كان لترك كل منها
شأنية السببية فقد يقال حينئذ: إن مقتضى الدليل المذكور وجوب خصوص السبب
دون غيره من المقدمات، إذ الداعي إلى الفعل هو الإرادة الجازمة المسماة
بالإجماع وهو السبب لوجود الفعل.
وفيه مناقشة ظاهرة والأولى أن يقال: إن مفاد ذلك حرمة خصوص ترك
المقدمة التي يستند ترك الواجب إلى تركها لا مطلقا، ومن البين أن ترك الواجب
في الحقيقة إنما يستند إلى ترك بعضها ويكون ترك البواقي مجرد مقارنة لترك
الواجب من غير أن يكون لها بعث على تركه، فأقصى ما يفيده الدليل المذكور
تحريم الترك المفروض دون ترك سائر المقدمات مما يثبت لها شأنية التسبيب إلا
أن يتم ذلك حينئذ بعدم القول بالفصل وفي إثباته في المقام تأمل.
150

ومنها: أنه لو أمر المولى كلا من عبديه بفعل مخصوص في بلد بعيد في وقت
معين وأتم الحجة عليهما في التكليف فتعمدا ترك المسير إلى البلد المذكور عند
تضيق الوقت الذي يسع المسير إليه من غير عذر باعث على الترك فاتفق موت
أحدهما قبل حضور وقت الفعل وبقي الآخر فإما أن يكونا عاصيين بذلك
مستحقين للعقوبة، أو لا يتحقق العصيان منهما ولا يستحقان للعقوبة، أو يثبت ذلك
بالنسبة إلى الحي دون الميت، أو بالعكس. والآخر واضح الفساد، وكذا الثاني
والثالث فاسد أيضا، لاستوائهما في الأفعال الاختيارية ولا تفاوت بينهما إلا
باتفاق موت أحدهما وبقاء الآخر وليس ذلك من الأفعال الاختيارية ليكون
دخيلا في إثبات الاستحقاق ونفيه بمقتضى قواعد العدلية وإنما هو من فعل الله
تعالى، وإذا بطل الوجوه الثلاثة تعين الأول وبه يتم المقصود، إذ لولا وجوب
المقدمة لم يعقل تحقق العصيان منهما، إذ ليس المتروك بالنسبة إلى الميت منهما
سوى مقدمة الواجب.
وفيه أولا: أنه لو تم ما ذكر لزم كونهما عاصيين بترك نفس الفعل المفروض،
لوضوح كون الثاني عاصيا بذلك فيلزم أن يكون الأول أيضا عاصيا به،
لاستوائهما في الأفعال الاختيارية التي هي مناط التكليف حسب ما أخذ في
الاستدلال المذكور مع أنه لا يقول به المستدل وإلا لم يفد ذلك وجوب المقدمة،
كيف ومن المقرر عدم جواز الأمر بالفعل المشروط مع علم الآمر بانتفاء الشرط
وإذا لم يكن ثمة أمر لم يعقل حصول العصيان من جهته.
وثانيا: بالمنع من كونهما عاصيين، إذ بعد تسليم عدم تكليف الأول بنفس
الفعل كما عرفت لا يعقل عصيان بالنسبة إليه من جهة تركه ذلك الفعل، ولا من جهة
ترك مقدمته، لوضوح عدم وجوب المقدمة مع عدم وجوب ذيها فلا وجه للحكم
باستوائهما في العصيان واستواؤهما في الأفعال الاختيارية لا يقضي بحصول
العصيان منهما مع انكشاف انتفاء القدرة بالنسبة إلى أحدهما وكونها من شرائط
التكليف قطعا.
151

نعم ربما يصح ما ذكره بالنسبة إلى غير أوامر الشرع فيما إذا اعتقد الآمر - ولو
بحسب ظاهر الحال - بقاء العبد فأطلق الأمر بالنسبة إليه فإنه يجب عليه حينئذ
أداء الفعل في الوقت الذي عينه لأدائه ويكون بقاء ذلك التكليف حينئذ مشروطا
ببقاء العبد، فحينئذ يعقل القول بوجوب مقدمته قبل سقوط التكليف عنه بسبب
انتفاء الشرط عند حضور وقت الفعل، بناءا على كون الوقت شرطا لأداء الفعل لا
لوجوبه، كما سيجئ تفصيل القول فيه إن شاء الله إلا أن الفرض المذكور خارج
عن محل البحث فإن محط الكلام في المقام خصوص أوامر الشرع ولا يعقل ذلك
بالنسبة إليها.
وثالثا: بأن ذلك لو تم لدل على استحقاقه العقوبة على ترك نفس المقدمة
لتسليمه وابتناء كلامه على عدم وجوب ذي المقدمة بالنسبة إليه، كما عرفت وذلك
قاض بوجوب المقدمة لنفسها وقد عرفت وضوح فساده.
والتحقيق أن يقال: باستحقاق العبدين المفروضين للعقوبة إلا أنه يختلف جهة
الاستحقاق بالنسبة إليهما، فإن العبد الباقي إنما يستحق العقوبة من جهة إقدامه
على ترك الواجب بسبب اختياره لترك المقدمة وإتيانه بالسبب المفضي إلى تركه،
وأما الآخر فلا يستحق العقوبة على ترك ذلك الواجب لما عرفت من انتفاء
الوجوب بالنسبة إليه وإنما يستحق العقاب من جهة تجريه على ترك الواجب
حيث إنه اعتقد بقاءه إلى حين الفعل ومع ذلك تصدى لما يفضي إلى ترك ذلك
الفعل عند حضور زمانه، فحصول العصيان واستحقاق العقوبة إنما هو من جهة ترك
نفس الواجب واقعا أو من جهة التجري عليه وذلك مما لا مدخل له في وجوب
المقدمة وعدمه.
ولو تشبث حينئذ بحصول العصيان والمخالفة بسبب ترك المقدمة - وإن كان
لإدائه إلى ترك ذيها وهو كاف في إفادة المقصود - كان ذلك رجوعا إلى الوجه
المتقدم فلا حاجة إلى ضم المقدمات المذكورة ولا فرض المسألة في العبدين
المفروضين كما لا يخفى.
152

ومنها: أنه قد تقرر عند العدلية لزوم العوض على الله سبحانه بإلزامه المشقة
على العبد حيث إن إلزامها على المكلف من غير عوض قبيح عقلا وذلك قاض
بترتب الثواب على المقدمة أيضا، إذ لا كلام لأحد في لزوم الإتيان بها ولا بدية
المكلف من فعلها، نظرا إلى عدم إمكان حصول الواجب من دونها فيكون التكليف
بنفس الواجب باعثا على إلزام المكلف بأداء مقدماتها، واللازم من ذلك كما
عرفت تقرير عوض بإزائها ويتفرع على ترتب الثواب عليها رجحانها ومن البين
أن مطلق الرجحان لا يتقوم بنفسه فلا بد من انضمامه إلى أحد الفصول وحيث إنه
لا قائل باستحباب المقدمة تعين ضم المنع من الترك إليه فتكون واجبة.
وأنت خبير بما فيه:
أما أولا: فلأن القدر الثابت من إلزام الشارع بالمقدمة حسب ما ذكر هو
الالزام التبعي الحاصل بإلزامه على ما يتوقف عليها بالعرض وهذا النحو من
الإلزام إنما يقضي بترتب الثواب على ذي المقدمة لا على المقدمة نفسها، لعدم
تعلق غرض الشارع بفعلها ولا بإلزام المكلف بها، فكما أن الإلزام بها حاصل
بالعرض من جهة الإلزام بما يتوقف عليها يكون ترك الثواب عليها كذلك أيضا، ألا
ترى أن الإلزام المذكور حاصل بالنسبة إلى أجزاء الواجب وليس هناك استحقاق
ثواب على كل من الأجزاء وإنما يكون الاستحقاق بالنسبة إلى الكل وإن أمكن
إسناده إلى الأجزاء أيضا بالعرض فكذا الحال في المقدمات.
وأما ثانيا: فلأن إيجاب الشئ إنما يستلزم ترتب الثواب عليه إذا أتى بالفعل
من جهة أمر الآمر به وبسبب إرادته لحصوله فيكون الباعث على الفعل هو امتثال
الأمر والانقياد له وقضية ذلك عدم ترتب الثواب على المقدمة إلا مع إيقاعها على
الوجه المذكور.
والظاهر أن القائل بعدم وجوب المقدمة يقول: أيضا بترتب الثواب عليها إذا
أتى بها من جهة أدائها إلى أداء الواجب كما هو الحال في المباحات إذا أتى بها
لوجوه مرجحة لفعلها، كما مرت الإشارة إليه وحينئذ فلا وجه لدعوى الاتفاق
على عدم ترتب الثواب عليها على القول بعدم وجوبها. فتأمل.
153

ومنها: أنه إذا كان حصول الشئ على بعض التقادير ممكنا وعلى بعضها
ممتنعا فالآمر الطالب لذلك الشئ العالم بحاله إما أن يريد حصوله على جميع
تلك التقادير أو على التقدير الذي يمكن فيه حصول ذلك الشئ، لا سبيل إلى
الأول للزوم التكليف بالمحال فتعين الثاني.
إذا تمهد ذلك فنقول: إنه لو لم يجب المقدمة لم يستحق تارك الفعل للعقاب
أصلا، وبطلان التالي ظاهر، أما الملازمة فلأنه إما أن يريد الإتيان بذي المقدمة
على كل من تقديري وجود المقدمة وعدمها أو على تقدير وجودها والأول فاسد
لما عرفت فتعين الثاني وحينئذ يكون وجوب الفعل مقيدا بوجود مقدمته فلا
يكون تاركه بترك شئ من مقدماته مستحقا للعقاب، إذ المفروض عدم وجوب
المقدمة وعدم وجوب الفعل مع عدمها.
وهذا الاستدلال موهون جدا.
أما أولا: فلأنه لو تم لقضى بتقييد وجوب الواجب بوجود مقدمته وهو مع
كونه فاسدا قطعا ومخالفا لما هو المفروض في المقام من اختصاص المبحث
بمقدمات الواجب المطلق غير مفيد للمقصود، إذ مجرد القول بوجوب المقدمة لا
يرفع الفساد المذكور، إذ غاية الأمر حينئذ استحقاقه العقوبة على ترك المقدمة، ولا
يقضي ذلك باستحقاقه العقوبة على ترك ذي المقدمة حتى يرتفع الفساد على أن
ذلك إنما يقتضي وجوب المقدمة لنفسها لا لغيرها، ففيه فساد من جهة أخرى أيضا.
وأما ثانيا: فلأنا نختار تعلق الأمر بذي المقدمة على كل من تقديري وجود
المقدمة وعدمها وما ذكر من أن ذلك من قبيل طلب الشئ على تقدير إمكانه
واستحالته فاسد فإن الشئ في حال انتفاء مقدمته لا يكون ممتنعا لإمكان الإتيان
حينئذ بمقدمته فيمكن الإتيان بالواجب.
نعم لو تعلق الطلب به بشرط عدم مقدمته أو في حال إمكان مقدمته وامتناعه
لزم الفساد المذكور لكن من المعلوم أن الأمر إنما يتعلق بالفعل مطلقا مع إمكان
مقدمته لا امتناعه.
154

فإن قلت: إنما يتم الاستدلال حينئذ بالنسبة إلى المقدمات التي لا يتمكن منها
بعد تركها قبل انتفاء وقت وجوب الفعل المتوقف عليها كما في قطع المسافة
بالنسبة إلى الحج إذ نقول حينئذ: إنه إما أن يجب الحج في زمانه المخصوص مطلقا
سواء تمكن من قطع المسافة أو لا أو أنه لا يجب إلا مع التمكن منه، والأول فاسد
لاستلزامه التكليف بالمحال والثاني قاض بسقوط الحج والعقاب عمن ترك قطع
المسافة والحج، أما سقوط الحج فظاهر وأما سقوط العقاب فلعدم إخلاله بالواجب
أما بالنسبة إلى المقدمة فلأنه المفروض وأما بالنسبة إلى الحج فلسقوطه ثمة.
قلت: أما سقوط العقاب بمجرد سقوط الواجب ممنوع.
ألا ترى أنه يسقط الواجب بتعمد تركه في وقته أو بعد تضيق وقت التمكن من
فعله ولا ريب في تحقق العصيان مع سقوطه، فنقول بمثله في المقام فيلزم سقوط
الحج مع ارتفاع التمكن من قطع المسافة لكن مع مخالفته لأمر الحج وعصيانه له
فإنه لما وجب عليه الحج في حال التمكن من قطع المسافة وكان قطع المسافة مما
لا بد منه في أداء الحج كان مخالفا للأمر المتعلق بالحج مع تعمده لترك القطع
المؤدى إلى ترك الواجب فيكون مستحقا للعقوبة على ترك الحج لا على ترك
القطع، إذ يصدق حينئذ تعمده لترك الواجب.
وأنت خبير برجوع ذلك إلى ما هو المقصود من القول بوجوب المقدمة، فإنه
إذا تحقق مخالفة الأمر بتركه لقطع المسافة كان ترك القطع عصيانا له من حيث
أدائه إلى ترك الحج، لحصول مخالفة الأمر المتعلق بالحج من جهته، وهذا هو
المقصود من الوجوب الغيري اللازم في المقام للوجوب النفسي.
وحينئذ فيمكن تقرير الدليل على هذا الوجه بأن يقال: إن ترك المقدمة أما أن
يكون محرما ممنوعا منه من حيث أدائه إلى ترك الواجب أو لا، والأول هو
المدعى والثاني قاض بعدم استحقاق العقوبة في الصورة المفروضة أصلا فإنه إما
أن يتعلق الأمر بذي المقدمة مع التمكن من مقدمته وعدمه أو في خصوص الصورة
الأولى إلى آخر ما ذكر.
155

وقد يجاب عنه تارة: إنا نختار تعلق الأمر به حال التمكن من مقدمته بعد
تعلق الأمر به في الجملة وحينئذ فإن خرج ذلك الفعل عن قدرته من جهة اختياره
لم يكن مانعا من بقاء ذلك التكليف، نظرا إلى أن الامتناع بالاختيار لا ينافي
الاختيار.
وأخرى بالتزام حصول العصيان واستحقاق العقاب بترك الفعل في الزمان
المضروب له وإن لم يتمكن حينئذ من مقدمته ولم نقل ببقاء التكليف حال انتفاء
التمكن من المأمور به نظرا إلى تعلق التكليف به حال التمكن عن المقدمة، فإن
الآمر إذا أراد إيجاد المأمور لشئ في الزمان اللاحق وكان ذلك الشئ متوقفا
على مقدمة سابقة عليه في الوجود وكان المأمور قادرا على الإتيان بها لم يكن
هناك مانع من تعلق التكليف بذلك الشئ من غير إشكال، نظرا إلى إمكان حصول
الفعل وصدوره من المأمور لإمكان إتيانه بمقدمة المقدورة ثم بالواجب، فإذا تعمد
المكلف ترك المقدمة المفروضة قضى ذلك بعصيانه للأمر حين مجئ زمان الفعل
وإن ارتفع الأمر بارتفاع المكنة من أداء الفعل فهو عاص حينئذ للأمر المتعلق به
حال تمكنه من مقدمته وإن لم يبق ذلك الأمر حين عصيانه، إذ لا دليل على لزوم
بقاء الأمر حال تحقق العصيان.
وقد عرفت ضعف كل من الوجهين المذكورين فلا حاجة إلى إعادة الكلام
فيهما.
ومنها: ما ذكره جماعة منهم الغزالي والآمدي والحاجبي من أن الاجماع
قائم على وجوب تحصيل الواجب وتحصيله إنما يكون بتعاطي ما يتوقف عليه
وقضية ذلك وجوب ما يتوقف عليه وإلا لزم التناقض، إذ مفاد ذلك وجوب
تحصيل الشئ بما لا يجب تحصيله به.
وجوابه ظاهر: فإنه إن كان المراد بوجوب تحصيل الواجب هو الإتيان به
فالإجماع على وجوبه مسلم، ودلالته على وجوب ما يتوقف ذلك الإتيان عليه
أول الدعوى وإن أريد به غير ذلك فدعوى الاجماع على وجوبه ممنوعة، ولو سلم
156

ذلك فإنما يسلم بالنسبة إلى الأسباب حيث إنها المفضية إلى وجود المسببات وإن
تحصيل المسببات إنما يكون باختيار الأسباب وأما بالنسبة إلى غير السبب
فلا نسلم ذلك.
ومنها: أن ترك المقدمة يشتمل على جهة مقبحة لإفضائه إلى ترك الواجب
فيكون قبيحا وإذا كان تركها قبيحا كان فعلها واجبا.
وهو راجع إلى بعض ما مر من الأدلة وجوابه ظاهر بعد ملاحظة ما قررناه،
فإنه إن أريد باشتمال ترك المقدمة على الوجه المقبح اشتماله بنفسه على ذلك فهو
ممنوع، فإن كون المؤدى إلى ترك الواجب قبيحا ممنوعا منه أول الدعوى، وإن
أريد اشتمال ما يفضى إليه - أعني ترك الواجب على القبح - فهو مسلم ولا يقضي
ذلك بقبح ترك المقدمة إلا مع البناء على وجوبها. ويمكن دفعه بنحو ما مر، فإنا
نرى أنه قد منع الشارع من أمور كثيرة من غير أن تكون هي بنفسها مشتملة على
جهة مقبحة وإنما نهى الشارع عنها لإفضائها إلى القبيح وذلك بعينه حاصل في
المقام، فإنه إذا كان الإفضاء إلى القبيح سببا للتحريم والمنع من حيث أدائه إليه كما
هو قضية حكم العقل وجرت عليه التكاليف الصادرة من العقلاء جرى ذلك في
المقام، نظرا إلى أدائه إلى القبيح وإلا لم يصح الحكم بالمنع فيما علم انحصار جهة
المنع منه في ذلك ومن الظاهر خلافه.
والحاصل أن الشارع كما يلاحظ في المنع من الشئ جهة القبح الحاصلة فيه
فكذا يلاحظ جهة القبح الحاصلة فيما يترتب على ذلك الشئ والعلة المذكورة
حاصلة في المقام فلا وجه لتخلف المعلول عنه.
وأنت خبير بأن ذلك إن تم فإنما يجري فيما إذا كان ترك المقدمة هو السبب
المفضي إلى ترك الواجب وأما إذا استند ترك الواجب إلى غيره وكان ذلك مقارنا
لتركه من غير أن يكون مستندا إليه فلا يتم ذلك، إذ أقصى ما يلزم حينئذ أن يكون
من شأنه ترتب ذلك عليه وذلك لا يفيد قبحه فعلا مع عدم ترتبه عليه، كما مرت
الإشارة إليه. نعم إن تم القول بعدم القول بالفصل أمكن إتمام الدليل بضمه.
157

ومنها: أنا إذا تتبعنا موارد الشرع وجدنا حكم الشارع بوجوب كثير من
المقدمات، ألا ترى أنه حكم بمنع نكاح زوجته المشتبهة بالأجنبية ولبس أحد
الثوبين المشتبهين بالنجس واستعمال أحد الإنائين المشتبهين بالنجس إلى غير
ذلك، فإنه لم يمنع من ذلك إلا لتوقف حصول الاجتناب من الحرام على ذلك أو
لتوقف العلم بالاجتناب عليه.
وأنت خبير بأن أقصى ما يفيده الاستقراء الظن بالحكم ولا حجية في مطلق
الظن بالنسبة إلى الفروع فكيف بالأصول؟ على أنه قد يناقش في حصول
الاستقراء في المقام بحيث يعلم ثبوت الحكم بالنسبة إلى الغالب حتى يمكن
تحصيل الظن بإلحاق الباقي بها لكون الظن يلحق المجهول بالأعم الأغلب.
ومنها: أن ضرورة العقل قاضية بالتناقض بين القول بأني أطلب منك الشئ
الفلاني على سبيل الحتم والجزم، ولا الزمك بمقدمته المتوقفة عليه الذي لا بد منه
في الوصول إلى ذلك بوجه من الوجوه ولو من جهة إيصاله إلى ذلك الفعل وأدائه
إليه، بل أنت بالخيار عندي في فعله وتركه ولو من جهة الإيصال إلى ما هو مطلوبي.
كيف ومن المعلوم بالضرورة أن المنع من الشئ وتحريمه والإذن في السبب
الموصل إليه - كالمنع من قتل زيد والتهديد عليه والإذن في ضرب عنقه والحكم
بجوازه - يعد عرفا من الهذيان؟ لوضوح التناقض بينهما بضرورة الوجدان!
والقول بالواسطة بين المنع من الشئ والإذن فيه من العاقل المتفطن العالم بحقيقة
الأمر حتى يقال في المقام بعدم جواز الإذن فيه وإن لم يكن ممنوعا منه أيضا
فاسد، لوضوح أن عدم المنع من الفعل مع التفطن له إذن في الإتيان به بالنسبة إلى
من لا يعقل في شأنه التردد في الأمر ولو سلم ذلك فهو في حكم العقل، وحينئذ
فإما أن يكون ممنوعا منه أو لا، والأول يثبت المدعى والثاني قاض بجواز الترك.
والفرق بين حكم العقل والشرع وجواز الانفكاك بين الحكمين بين الفساد
حسب ما مر، وحينئذ فكيف يعقل جواز ترك المقدمة مع المنع من ترك ذي
المقدمة وعدم جوازه؟
158

أقول: إنه إذا تحقق الملازمة بين الشيئين إما من جانب أو من جانبين كان
الحكم الثابت للملزوم ثابتا للازم بالعرض بمعنى أنه إذا وجب الملزوم كان اللازم
واجب الحصول لا بمعنى أنه واجب آخر حتى يتعدد الواجب، بل بمعنى أن
الوجوب المتعلق بالملزوم ذاتا متعلق بلازمه عرضا، فليس وصف الوجوب
عارضا له على الحقيقة وإنما هو من عوارض ملزومه إلا أنه لعدم إمكان انفكاكه
عنه بحسب الوجود يكون الإتيان به واجبا بالعرض من جهة وجوب ملزومه،
وليس وجوبه كذلك اتصافا له بالوجوب على الحقيقة فمفاد وجوبه في الخارج
هو وجوب ملزومه، فلذا يصح سلب الوجوب عنه على الحقيقة حسب ما مر
تفصيل القول فيه.
إذا تقرر ذلك فنقول: إن هذا النحو من الاتصاف بالوجوب يمنع من حكم
العقل أو الشرع بجواز ترك ذلك الفعل على سبيل الإطلاق، لوضوح أن الإقدام
على تركه إنما يكون بالإقدام على ترك ملزومه والمفروض المنع منه، غاية الأمر
صحة الحكم بجواز تركه بملاحظة ذاته لا مطلقا.
فظهر بما ذكرنا أن أقصى ما يفيده الدليل المذكور هو وجوب المقدمة على
النحو المذكور، فحصول الملازمة بين وجوب ذي المقدمة ومقدمته قاض بالمنع
من اجتماع الحكمين المذكورين على سبيل الإطلاق، ولذا يصح الحكم بجواز
ترك المقدمة بملاحظة ذاتها من غير تناقض أصلا.
وقد عرفت: أن المقصود من القول بوجوب المقدمة غير ذلك وأن ما تخيله
بعض الأعلام من أن الوجوب الثابت للمقدمة إنما هو على الوجه المذكور على
نحو لوازم الواجب ولواحقه قول بإنكار وجوب المقدمة مطلقا، فإن القائلين بعدم
وجوبها يقولون بذلك قطعا، إذ هو من لوازم اللابدية المعتبرة في مفهوم المقدمة بعد
ثبوت الوجوب لما يتوقف عليها، كما مرت الإشارة إليه، واتصاف المقدمة
بالوجوب على القول به حقيقي، فالوجوب حينئذ حال من أحوالها وإن كان غيريا
حسب ما عرفت ولا يستفاد من الدليل المذكور ذلك أصلا.
159

ومنها: أنه لو لم يجب المقدمة لصح الإتيان بالفعل من دونها، والتالي واضح
الفساد لامتناع وجود الموقوف بدون ما يتوقف عليه، أما الملازمة فلأن ما لا
يجب الإتيان به يجوز تركه وجواز ترك شئ عند الأمر الموجب لإيجاد شئ
قاض بجواز الانفكاك بين الشيئين، إذ لا يعقل جواز ترك الشئ مع عدم جواز
ترك ما لا يمكن انفكاكه عنه.
ومنها: أن المقدمة لا بد منها في إيجاد الفعل فيمتنع تركها بالنسبة إلى فاعل
ذلك الفعل، فالأمر المتعلق بذلك الفعل القاضي بالمنع من تركه قاض بالمنع من
ترك الآخر وما يمنع من تركه يحكم بوجوبه.
والجواب عنهما - بعد ما بيناه - ظاهر فإن أقصى ما يستفاد منهما هو وجوب
المقدمة بالعرض والمجاز تبعا لوجوب ذيها على الوجه الذي قررنا، نظرا إلى عدم
إمكان انفكاكه عنها وهو غير المدعى كما مرت الإشارة إليه مرارا. هذا.
ويمكن الاستناد في وجوب المقدمة إلى وجه آخر بأن يقال: إن من تصور
معنى المقدمة وتصور مفاد الوجوب الغيري على ما ينبغي وتصور النسبة بين
الأمرين جزم باللزوم بينهما من غير تشكيك فيكون الوجوب على الوجه المذكور
من لوازمه البينة بالمعنى الأعم من غير أن يتوقف إثباته على الاستدلال.
وقد نبه على ذلك العلامة الدواني، وربما يلوح من كلام المحقق الطوسي كما
مرت الإشارة إليه. وليس المقصود بذلك وجوبها بالعرض والمجاز كما زعمه
بعض الأعلام، إذ ليس ذلك اتصافا لها بالوجوب على الحقيقة وقضية ما ذكر من
الوجه هو وجوب المقدمة [على وجه الحقيقة] (1) على أن يكون الوجوب صفة
ثابتة لها وان كان غيريا لا وجوبها بوجوب غيرها، كما هو الحال في اللوازم، ولذا
يجد العقل فرقا بينا بين لوازم الواجب ولواحقه من الأمور التابعة لوجوده وما
يتوقف عليه وجود الواجب ولا يمكن حصوله بدونه والوجوب المحكوم به في
المقام إنما هو من جهة التوقف دون مجرد الاستلزام، كما لا يخفى على المتأمل.

(1) لم يرد في " ق ".
160

كيف ولو كانت واجبة على الوجه الثاني خاصة لاكتفى في وجودها بمجرد
وجود الواجب؟
فإن وجوبها حينئذ إنما يتفرع على عدم انفكاكها عن الواجب فيثبت لها
الحكم الثابت له بالعرض والمجاز، وليس الحال كذلك بالنسبة إليها بل الأمر فيها
بالعكس بالنسبة إلى المقدمة السببية وفي غيرها لا يكون حصول المقدمة متفرعا
على حصول ذيها ضرورة.
والحاصل: أن هناك فرقا ظاهرا بين عدم انفكاك الشئ عن الواجب وعدم
إمكان انفكاك الواجب عن الشئ لتوقفه عليه، واللازم للأول هو وجوب ذلك
الشئ بوجوب ذلك الغير بالعرض والمجاز تبعا للواجب واللازم للثاني زيادة
على ذلك وجوبه لأجل الغير على الوجه الذي قررناه وهو أمر ظاهر بعد التأمل
فيما بيناه وهو المدعى.
وأما القول الرابع فقد احتج عليه الحاجبي.
أما على وجوب الشرط الشرعي فبما توضيحه أنه لو لم يكن الشرط
الشرعي واجبا خرج عن كونه شرطا وهو خلف، أما الملازمة فلأنه مع البناء على
عدم وجوبه يجوز للمكلف تركه، فحينئذ إذا تركه وأتى بالمشروط فإما أن يكون
آتيا بتمام المأمور به أو بعضه، لا سبيل إلى الثاني فتعين الأول، إذ الشرط الشرعي
لا يتوقف عليه إيجاد المشروط عقلا ولا عادة.
والمفروض أنه لا يجب الإتيان به شرعا أيضا فالمكلف إذا تركه وأتى
بالمشروط فقد أتى بجميع ما يجب عليه وذلك قاض بحصول الامتثال والاجتزاء
بالإتيان به من دون شرطه وهو ما ذكرناه من اللازم.
وأما على عدم وجوب غيره فبجملة من أدلة القائلين بعدم وجوب المقدمة
وقد مر الكلام فيها وفيما يرد عليها.
ويرد على ما احتج به على الوجوب في الشرط الشرعي أنه لا فرق بين
الشروط الشرعية وغيرها إلا في كون الاشتراط فيها حاصلا بحكم الشرع وفي
161

غيرها حاصلا من جهة العقل أو العادة، فبعد ثبوت الاشتراط من جهة الشرع كيف
يعقل القول بحصول المشروط من دون شرطه لو قلنا بعدم وجوب الشرط؟ إذ لا
ملازمة بين عدم وجوب الشرط وإمكان الإتيان بالمشروط مع انتفائه كما أن عدم
الوجوب بالنسبة إلى المقدمات العقلية والعادية لا يقضي بإمكان أداء الواجب
من دونها.
غاية الأمر أن يكون التوقف والاشتراط هناك بالنظر إلى العقل أو العادة وهنا
بالنظر إلى الشرع بل نقول: إن امتناع الإتيان به من دونه هنا أيضا عقلي بعد ثبوت
الاشتراط والتوقف، لعدم إمكان الإتيان بالمقيد من دون القيد، وخروج القيد عن
الواجب لا يقضي بإمكان حصوله من دونه مع دخول التقييد فيه، وأيضا على ما
هو المختار عند العدلية من مطابقة حكم العقل للشرع يكون الشرط الشرعي
راجعا إلى العقلي، غاية الأمر أن لا يكون الاشتراط معلوما للعقول الضعيفة
ويكون حكم الشرع كاشفا عنه فلا وجه للتفصيل بينهما.
وأورد عليه أيضا: بأن الكلام في المقام إنما هو في دلالة مجرد الأمر بالشئ
على الأمر بمقدمته، ولا يظهر من البيان المذكور فرق بين الشروط الشرعية
وغيرها في ذلك، غاية الأمر أن الشروط الشرعية يجب الإتيان بها من جهة حكم
الشرع بوجوبها، إذ ليس مفاد حكمه بشرطية شئ للواجب على ما ذكره إلا
وجوب الإتيان به لأداء ذلك الواجب، فوجوب الشرائط الشرعية معلوم من حكم
الشارع، كما أن وجوب الشرائط العقلية معلوم في حكم العقل، فليس وجوبها من
جهة الأمر بما يتوقف عليها، كما هو المدعى.
ولا يخفى عليك ما فيه، فإن ذلك عين مقصود المفصل، فإنه إنما يستفيد
وجوب الشروط الشرعية من وجوب المشروط به بعد حكم الشارع بالاشتراط.
فإن قلت: إنه لا ربط لما ذكره بكون الأمر بالشئ أمرا بمقدمته حتى يصح عد
ما ذكر من القول تفصيلا في المسألة، فإن قضية الحجة المذكورة دلالة حكم
الشارع بالاشتراط على وجوب الشرط والأمر به، وهذا مما لا ربط له بكون الأمر
بالمشروط قاضيا بوجوبه، كما هو الملحوظ في المقام.
162

قلت: من البين أن مجرد الحكم بالاشتراط لا يفيد وجوب الشرط، إذ قد لا
يكون المشروط واجبا فلا يعقل وجوب شرطه، وإنما يحكم بدلالة الاشتراط
عليه بعد الحكم بوجوب المشروط فيكون وجوب الشرط مستفادا من وجوب
المشروط بعد ثبوت الاشتراط، فيندرج ذلك في محل النزاع.
وربما يورد في المقام: بأنه إذا كان الواجب هو الفعل المقيد بالشرط
المخصوص، كالصلاة المخصوصة الصادرة عن المتطهر فلا يمكن تحصيلها إلا
بإيجاد سببها وكان التكليف بالصلاة المخصوصة بالخصوصية المذكورة تكليفا
بأسبابه، وسببه (1) الأركان المخصوصة مع الطهارة فيلزم تعلق التكليف بالطهارة
كتعلقه بالصلاة.
وفيه بعد تسليم القائل المذكور لوجوب السبب، كما هو أحد الاحتمالين في
مذهبه أنه إذا كان الواجب هو الفعل المقيد لم يصح عد الإتيان بالسبب الباعث
على حصول القيد سببا لحصول الواجب، إذ ليس الواجب هناك إلا شيئا واحدا
ومن الواضح أن مجرد الإتيان بالشرط ليس سببا لحصول الفعل، بل ولاقتران
الفعل به وإلا لزم حصول الصلاة بمجرد الإتيان بالطهارة، فكيف يصح عد ذلك من
المقدمة السببية على أن الحال في الشروط ليست بأعظم من الأجزاء؟ وسيجئ
أن حكم الجزء حكم سائر المقدمات فيكون الحكم بوجوبه مبنيا على وجوب
المقدمة، فلا يكون نفس الأجزاء واجبة بناء على القول بعدم وجوب المقدمة فضلا
عن السبب الباعث على وجودها، فكيف يصح القول بوجوب السبب المؤدى إلى
وجود الشرط؟
ثم إن عد نفس الصلاة سببا لأداء الواجب مع وضوح كونه أداء لنفس
الواجب، كما ترى، واحتج في النهاية للقائل بوجوب الشرط دون غيره بأنه لو لم
يجب الشرط لم يكن شرطا.

(1) في نسخة ف بدل " بأسبابه، وسببه " بأسبابها وسببها.
163

وأنت خبير بأنه إن خص ذلك بالشروط الشرعية ليكون إشارة إلى الدليل
المذكور لم يفد ذلك وجوب الشرط مطلقا، كما هو قضية إطلاقه، وإن أراد به مطلق
الشرط لم يتجه ما ذكره من الملازمة، ولا يجري ما ذكره - مع فساده - في غير
الشروط الشرعية كما لا يخفى.
ولنختم الكلام في المرام ببيان أمور:
أحدها: أنه يجري الكلام المذكور في وجوب المقدمة وعدمه بالنسبة إلى
أجزاء الواجب أيضا نظرا إلى توقف وجود الكل على وجودها، فلا بد من الإتيان
بها لأجل أداء الكل، فحينئذ يجب الإتيان بها لأجل أدائه بناءا على القول بوجوب
المقدمة ولا يجب الإتيان بها بناءا على عدم وجوبها، فالحال فيها كالحال في
المقدمات من غير فرق، فالوجوب المتعلق بها على القول بوجوب المقدمة
توصلي أيضا، ودلالة وجوب الكل على وجوبها بالاستلزام العقلي كالمقدمات.
وقد يتخيل الفرق بين الأمرين بأن دلالة وجوب الكل على وجوب أجزائه
على سبيل التضمن لاندراجها فيه دون المقدمات الخارجة، لأنه لا يعقل إفادته
لوجوبها إلا على وجه الاستلزام، فلا وجه لجعل الدلالة في المقامين على نحو
واحد.
وعن بعض الأفاضل: أن محل الخلاف هو الأمور الخارجة عن ظاهر ما
تناوله الأمر من الأسباب والشروط وأما الأجزاء فكأنه لا ريب في أن الأمر
بالكل أمر بها من حيث هي في ضمنه، لأن إيجاد الكل هو إيجادها كذلك، وليس
ايجاد الكل أمرا آخر غير إيجاد أجزائها. انتهى.
وقد قطع الفاضل المحشي في البحث الآتي بأن وجوب الكل يستلزم وجوب
كل من أجزائه، إذ جزء الواجب واجب اتفاقا، ومن جميع ذلك يظهر أن دلالة
وجوب الكل على وجوب أجزائه مما لا مجال للتأمل فيها كيف وقد عد دلالة
التضمن من المنطوق الصريح بخلاف المقدمات؟ فإن دلالة الالتزام مبنية على
ثبوت الاستلزام وهو قابل للإنكار والمنع.
164

ويدفعه: أن هناك فرقا بينا بين وجوب الجزء بوجوب الكل وفي ضمنه
ووجوب الجزء بسبب وجوب الكل ولأجله.
والقدر المسلم في المقام هو الوجه الأول، ولا ريب أن المتصف بالوجوب
على الحقيقة إنما هو الكل وأن الجزء إنما يتصف به من جهة اتصاف الكل به فذلك
الاتصاف منسوب إلى الكل بالذات وإلى أجزائه بالعرض، نظير ما ذكرناه في
المقدمات، وقد عرفت أن ذلك غير المتنازع فيه في المقام إلا أن ملاحظة وجوب
الأجزاء كذلك على سبيل التضمن وملاحظة وجوب المقدمات على سبيل الالتزام.
وأما الوجه الثاني فيتوقف القول به على وجوب المقدمة فهو وجوب غيري
متعلق بذات الجزء من حيث توقف الكل عليه وكون إيجاده مؤديا إلى إيجاد
الكل، وهذه الدلالة على سبيل الالتزام في المقامين من غير فرق بين الأمرين،
وقد حكم غير واحد من المتأخرين بعدم الفرق بين أجزاء الواجب والأمور
الخارجة عنه في جريان البحث المذكور.
نعم لو تحقق هناك إجماع من الخارج على وجوب الأجزاء على الوجه
المذكور فهو أمر آخر، وهو محل تأمل وكان دعوى الاتفاق في المقام مبني على
الخلط بين الوجهين المذكورين أو أنه مبني على ظهور الحال عنده من الدليل
المذكور فتوهم الاتفاق عليه من جهته، لوضوحه عنده بحيث لا يذهل عنه أحد
من أهل العلم وليس الحال على ما زعمه كما عرفت، بل الظاهر عدم الفرق بين
الأجزاء وغيرها في ذلك.
هذا إذا قام الوجوب بالكل من حيث إنه كل دون ما إذا قام بالأجزاء وبعبارة
أخرى إنما يكون الحال على ما ذكر إذا قام الوجوب بمجموع الأجزاء لا بجميعها.
وتوضيح الحال: أن الصفات العارضة للكل قد يكون عارضة لمجموع
الأجزاء من دون أن يكون عارضة لكل منها كما في الوحدة العارضة على الكل
وقد يكون عروضه للكل عين عروضه لأجزائه، كعروض السواد على الجسم فإنه
كما يتصف به الكل على سبيل الحقيقة كذلك أجزاؤه.
165

وحينئذ فنقول: إن عروض الوجوب للكل يتصور على كل من الوجهين
المذكورين، فإنه قد يكون مطلوب الأمر هو ايجاد الكل من حيث إنه كل حتى أنه
لو أتى به ناقصا لم يكن مطلوبا له ولا راجحا عنده، كما هو الحال في وجوب
الصلاة وقد يكون مطلوبه هو جميع الأجزاء بأن لا يكون للهيئة الاجتماعية
مدخلية في تعلق الوجوب بالأجزاء، فيكون نسبة الوجوب إلى الأجزاء على نحو
نسبته إلى الكل، كما في وجوب الزكاة وصيام شهر رمضان بالنسبة إلى أيامه، لقيام
الوجوب حقيقة بكل جزء من أجزاء الزكاة وكل يوم من أيامه، ولذا يحصل
الامتثال بحسبه بالنسبة إلى كل منها فليس الكل إلا عنوانا لأجزائه ويكون الحكم
متعلقا بالأجزاء، فهي حينئذ مطلوبة بالذات على وجه الحقيقة بخلاف الوجه الأول.
فالفرق بين الوجهين نظير الفرق بين العام المجموعي والاستغراقي، فكما أن
هناك اعتبارين حاصلين في الحكم المتعلق بالجزئيات كذا في المقام بملاحظة
الأجزاء فكل الأجزاء في الصورة الأولى متعلق للطلب على سبيل الحقيقة بعنوان
واحد - أعني عنوان الكل من حيث هو - وليست دلالته على الأجزاء مقصودة إلا
بقصد الكل، كتعلق الحكم بها من غير أن يتعلق القصد ولا الحكم بشئ منها في
نفسه ولا من حيث أدائه إلى أداء الكل.
ولو قلنا بدلالته على ثبوت الحكم للأجزاء من الحيثية المذكورة فهي
بملاحظة أخرى غير تلك الملاحظة وتلك الأجزاء في الصورة الثانية متعلقة
للطلب حقيقة بعنوان واحد أيضا - أعني بملاحظة الكل - لكن لا يتعلق الحكم به
من حيث هو كل، بل لما جعل ذلك العنوان مرآتا، لملاحظة ماله من الأجزاء فكل
من تلك الأجزاء متعلق للطلب على سبيل الحقيقة، ودلالة وجوب الكل على
وجوبها كذلك على سبيل التضمن، فلا بد من الفرق بين الصورتين وما ذكرناه من
أن دلالته على وجوب الأجزاء من باب المقدمة من جهة استلزام وجوب الكل
لوجوبها إنما هو في الصورة الأولى خاصة.
ثم اعلم أن هناك فرقا بين وجوب الاجزاء من باب المقدمة ووجوب
166

المقدمات، فإن الأجزاء إنما يكون مطلوبة لأجل أداء الواجب بحصولها وسائر
المقدمات إنما يتعلق الطلب بها لأدائها إلى أداء الواجب، ويتفرع على ذلك عدم
إمكان أداء الواجب مع تحريم الجزء مطلقا بخلاف المقدمات الخارجة عن
الواجب.
وتوضيح المقام: أن مقدمة الواجب وجزءه إن كانت منحصرة في المحرم كان
التكليف بالواجب ساقطا إلا إذا كان اهتمام الشارع بأداء ذلك الواجب أعظم من
ترك ذلك المحرم، فلا يقضي ذلك حينئذ بسقوط الواجب إلا أنه لا تحريم حينئذ
للمقدمة أو الجزء المفروضين وإن لم يكن المقدمة أو الجزء منحصرة في المحرم
لكن اختار المكلف أداءها بالمحرم، فلا يمنع ذلك من أداء الواجب وصحته
بالنسبة إلى المقدمة بخلاف الجزء، إذ مع حرمته لا يمكن اتصاف الكل بالوجوب
وذلك لتقوم الكل بأجزائه فإذا كان الجزء حراما لم يكن الكل الحاصل به راجحا،
أقصى الأمر حينئذ اختلاف الجهتين في اجتماع الواجب والحرام.
والتحقيق عدم تصحيح ذلك اجتماع الحكمين كما سيجئ تفصيل القول فيه
إن شاء الله، ولا يجري ذلك بالنسبة إلى المقدمة، لخروجها عن حقيقة الواجب
فيكون اختيار المحرم مسقطا لما تعلق به التكليف من المقدمة، لحصول الغرض
منها، ولا مانع حينئذ من رجحان الفعل مع مرجوحية ما يوصل به إليه بخلاف
الجزء.
ومن ذلك يظهر الحال فيما إذا انحصرت المقدمة في المحرم وتصدى المكلف
لإتيانها، فإنه إن كانت المقدمة متقدمة على الفعل قضى اختيارها بتعلق الوجوب
بالمكلف بعد حصولها إذ لا مانع حينئذ من تعلق الأمر، وإن كانت مقارنة للفعل منع
ذلك من تعلق الأمر، وذلك لانتفاء التمكن شرعا من أداء المقدمة، ومن البين أن
جميع الواجبات مقيدة بالنسبة إلى التمكن منها ومن مقدماتها.
نعم قد يصح تعلق الأمر به فيصح الفعل حينئذ في بعض الوجوه حسبما يأتي
الإشارة إليه إن شاء الله.
167

ثانيها: أنه هل يتصور تقدم وجوب المقدمة على وجوب ذيها بحيث لو
علم أو ظن تعلق الوجوب بذي المقدمة بعد ذلك وجب عليه الإتيان بالمقدمة قبل
وجوبها أو أنها لا تجب إلا بعد وجوب ذيها، وليس الكلام في ذلك مبنيا على
القول بوجوب المقدمة، بل يجري على القول بعدم وجوبها أيضا إذا كانت مما
تعلق الأمر بها أصالة لأجل غيرها.
والحاصل: أنه إذا كان الوجوب المتعلق بالفعل غيريا سواء كان ثبوته له على
وجه التبعية أو بالأصالة - كما في الوضوء بالنسبة إلى الصلاة الواجبة - فهل يتوقف
وجوبه على وجوب ذلك الغير أو يمكن القول بوجوبه قبل وجوب الآخر؟ قولان.
والمحكي عن ظاهر الجمهور البناء على الأول من غير إشكال فيه ولذا قطعوا
بعدم وجوب الوضوء قبل وجوب شئ من غاياته.
وذهب جماعة - منهم صاحب الذخيرة والمحقق الخوانساري - إلى الثاني
وزعموا أنه لا مانع من أن يكون الفعل واجبا لغيره قبل وجوب غايته إذا كان
وجوبها في وقتها معلوما أو مظنونا.
واحتج للأول بأن السبب في وجوب ما يجب لغيره هو وجوب ذلك الغير ولذا
يسقط وجوبه عند سقوط الوجوب عن الغير، فلا يتعقل تقدم وجوبه على وجوب
ذلك الغير إذ لا يتقدم المعلول على علته.
وأورد عليه بالمنع من كون العلة في وجوب المقدمة منحصرة في وجوب
ذيها، لجواز أن يكون العلة فيه أحد الأمرين من ذلك ومن العلم أو الظن بوجوبه
في المستقبل مع مطابقته للواقع فلا مانع إذن من وجوبها قبل وجوب الغاية نظرا
إلى حصول العلة الثانية.
ويدفعه: أن المقصود من العلم أو الظن بوجوب الغير في وقته هو وجوبه
مطلقا ولو مع ترك مقدمته قبل وجوبه، فيكون ترك المقدمة باعثا على ترك
الواجب في ذلك الوقت، لعدم التمكن منه حينئذ أو يراد بذلك العلم أو الظن
بوجوبه على فرض وجود مقدمته لا مع عدمه، فعلى الأول يتم ما ذكر من الوجه
168

لكن تحقق الوجوب على النحو المذكور غير معقول، إذ لا يصح إيجاب الفعل مع
عدم القدرة على مقدمته وعلى الثاني لا وجه لتعلق الوجوب بالمقدمة، مع أن
المفروض كون وجودها شرطا لوجوب غايتها فمع انتفاء وجودها لا يتحقق
وجوب الغاية في الخارج حتى يجب المقدمة لأجله فلا يعقل هناك علم أو ظن
بوجوبه مع ترك مقدمته.
ويمكن دفع ذلك تارة باختيار الوجه الأول ولا مانع من وجوب الفعل حينئذ
إذا كان ترك المقدمة عن اختيار المكلف بناءا على أن الامتناع بالاختيار لا ينافي
الاختيار، وقد مرت الإشارة اليه وإلى ما فيه وأيضا قد تكون المقدمة مقدورة بعد
تعلق الوجوب بالفعل، وحينئذ فيتصف الغاية بالوجوب في وقتها فلا مانع من تعلق
الوجوب بمقدمتها بعد العلم أو الظن بذلك وجوبا موسعا فيتخير المكلف بين أدائه
قبل دخول وقت الغاية وبعده.
وتارة باختيار الثاني، وما ذكر من كون وجوب الفعل مشروطا حينئذ بوجود
مقدمته فلا يتصور حينئذ وجوب مقدمته للاتفاق على عدم وجوب مقدمة الواجب
المشروط مدفوع بأنه إنما لا يتصف مقدمة الواجب المشروط بالوجوب من جهة
الأمر المتعلق بذلك الواجب لتوقف تعلقه به على وجود ذلك الشرط، فلا يعقل
وجوب ذلك الشرط بالأمر الذي يتعلق بالمشروط على تقدير وجود الشرط وأما
وجوبه بأمر آخر متعلق بالمقدمة لأجل الإيصال إلى الغاية الآتية فلا مانع منه،
وحينئذ فيتقدم وجوب المقدمة على وجوب ذيها من جهة تعلق ذلك الأمر بها،
وأيضا لا توقف لوجوب الواجب بعد ذلك على وجود الشرط المذكور، بل إنما
يتوقف على القدرة عليه فإذا كانت القدرة عليه حاصلة مع التأخير لم يكن ذلك
من قبيل وجوب مقدمة الواجب المشروط، وحينئذ فالقول بتوقف تعلق الوجوب
به على فرض وجود مقدمته غير متجه إلا بالنسبة إلى المقدمة التي لا يتمكن منها
مع التأخير لا مطلقا.
وفيه: أن كون مجرد العلم أو الظن بوجوب الواجب فيما بعد ذلك علة لوجوب
169

الفعل قبله مما لا وجه له، لوضوح أن وجوب الفعل شرعا لا بد أن يستند إلى طلب
الشارع إما أصالة أو تبعا، وليس مجرد العلم بوجوب ذلك الفعل فيما يأتي قاضيا
بالأمر بما يتوقف عليه قبل وجوب ذلك الشئ بشئ من الوجهين المذكورين،
أما الأول فواضح وأما الثاني فلأنه إذا لم يكن نفس وجوب الشئ فيما يأتي
قاضيا بوجوب ما يتوقف عليه قبله لم يعقل أن يكون مجرد العلم به سببا لحصوله.
وتوضيح ذلك أن هناك وجوبا للفعل في المستقبل ووجوبا لما يتوقف عليه
قبل وجوب ذلك الفعل وعلما بوجوب ذلك الفعل في المستقبل وعلما بوجوب
المقدمة قبل ذلك، وغاية ما يتخيل في المقام حصول الملازمة بين الوجوبين،
ويتفرع عليه الملازمة بين العلمين بعد العلم بالملازمة المذكورة واعتبار الملازمة
بين العلم بوجوب الفعل في المستقبل ونفس وجوب المقدمة قبل وجوبه مما لا
يعقل وجهه، فإنه إذا لم يكن هناك ملازمة بحسب الواقع بين وجوب الفعل في
المستقبل ووجوب مقدمته قبله، لوضوح فساد حصول اللازم قبل حصول الملزوم
لم يعقل تأثير العلم بالأول في وجود الثاني ولا العلم به.
نعم يمكن أن يتعلق من الشارع أمر أصلي بالمقدمة منوطا بالعلم أو الظن بل
مجرد احتمال وجوب ذلك الفعل في المستقبل، فيتسبب وجوب المقدمة
المفروضة عن الأمر المتعلق بها لا عن مجرد العلم أو الظن أو الاحتمال
المفروض.
وتحقيق المقام: أنه إن فسر الوجوب الغيري بما يكون وجوب الفعل منوطا
بوجوب غيره وحاصلا من جهة حصوله من غير أن يكون له مطلوبية بحسب ذاته،
بل إنما يكون مطلوبيته لأجل مطلوبية غيره، فيكون وجوبه في نفسه عين وجوبه
لوجوب غيره لم يتعقل الوجوب الغيري قبل حصول الوجوب النفسي، لتفرع
حصوله على حصول ذلك وتقومه به وإن تعلق به أمر أصلي.
وإن فسر الوجوب الغيري بما لا يكون المصلحة الداعية إلى وجوبه حاصلة
في نفسه، بل يكون تعلق الطلب به لأجل مصلحة حاصلة بفعل غيره لا يجوز
170

تفويت المكلف لها فيجب عليه ذلك ليتمكن من إتيانه بذلك الغير أمكن القول
بوجوبها قبل وجوب ذيها لا من جهة الأمر الذي يتعلق بذيها، بل بأمر أصلي
متعلق بها، وحينئذ فلا يكون مطلوبية الفعل حاصلة من مطلوبية غيره آتية من قبله
وإنما هي حاصلة من الطلب المستقل المتعلق به، غاية الأمر أن تكون الحكمة
الباعثة على تعلق الطلب به تحصيل الفائدة المترتبة على فعل آخر يكون الفعل
المذكور موصلا إليه إن بقي المكلف على حال يصح تعلق ذلك التكليف به عند
حضور وقته، وقضية ذلك استحقاق المكلف للعقاب عند تركه له، لمخالفته للأمر
المتعلق به وإن لم يكن تفويته للواجب المشروط عصيانا موجبا للعقاب، نظرا إلى
أن تفويته له قبل تعلق الوجوب به فقد صار المكلف على حال لا يتعلق ذلك
التكليف به حتى يكون عاصيا بتركه، ولا فرق حينئذ بين ما إذا علم وجوب الفعل
الآخر في وقته أو ظنه أو احتمله.
فظهر بما قررنا: أن الاستناد في وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها إلى الأمر
المتعلق بذيها حال حضور وقته غير متجه على شئ من الوجهين المذكورين،
وأما وجوبها لأجل الغير بأمر مستقل فلا يصح على الوجه الأول ولا مانع منه على
الوجه الثاني لكن عد ذلك من الوجوب الغيري محل تأمل، بل لا يبعد كونه نحوا
من الوجوب النفسي، لما عرفت من ترتب استحقاق العقاب على تركه من غير
استحقاق للعقوبة على ترك الآخر.
والوجه للقول الآخر إطلاق ما دل على وجوب مقدمة الواجب ولا مانع من
كون الفعل واجبا لغيره ومع ذلك يكون واجبا قبل دخول وقت الغير إذا كان
وجوب الغاية في وقتها معلوما أو مظنونا، ألا ترى أن قطع المسافة ليس واجبا
لنفسه بل واجب للحج، ومع ذلك لم يجب إيقاعه إلا قبل زمان الحج وكذلك صحة
الصوم مشروط بالاغتسال من الجنابة قبل الفجر عند الأكثر، وما لا يتم الواجب
المطلق إلا به فهو واجب، فيكون الغسل واجبا للصوم قبل دخول وقته.
وضعفه ظاهر مما قررنا، لوضوح أن القاضي بوجوب المقدمة إنما هو وجوب
ذي المقدمة فمع عدم حصوله كيف يعقل حصول ما يلزمه ويتفرع عليه؟
171

والقول بكون العلم بوجوبه في وقته أو الظن به كافيا في ذلك قد عرفت وهنه.
هذا إذا حمل كلام الجماعة على حكمهم بوجوب المقدمة من جهة ما يتعلق من
الأمر بذيها، كما هو الظاهر من كلامهم، وان أرادوا إمكان وجوبه بأمر من الخارج
فقد عرفت أنه لا مانع منه على الوجه الذي قررناه ولا يظن أن أحدا يخالف فيه.
وفصل بعض الأفاضل في المقام بين مقدمات الواجب المضيق مما يعتبر
حصولها قبله وغيرها فقال بوجوب الأول قبل وجوب ذيها، لحكم العقل حينئذ
بلزوم الإتيان بها، فلو كانت المقدمة من العبادات حكم بصحتها حينئذ، نظرا إلى
تعلق الأمر بها، وكذلك الحال عنده في الواجب الموسع إذا لم يسع الوقت لأدائه
وأداء مقدمته، كما في مثال الحج، فالمناط في حكم العقل بالوجوب هو ما إذا علم
المكلف أو ظن أنه إن لم يأت بالمقدمة قبل وجوب ذيها يفوته الواجب في وقته
وأما في غير ذلك فلا مانع من تعلق الأمر بالمقدمة من الخارج، وأما مجرد الأمر
بذيها فلا دلالة فيه على وجوب المقدمة لا عقلا ولا شرعا.
نعم لو أتى بالمقدمة قبل وجوب ذيها كان مجزيا إلا إذا كانت عبادة فيشكل
الحال لتوقفها على الأمر المفقود في المقام والفاضل المذكور ممن لا يقول
بوجوب المقدمة، فكان قوله بانتفاء الدلالة في المقام من جهة عدم ذهابه إلى
وجوب المقدمة، وحينئذ فيشكل الحال في حكمه بالوجوب مع الضيق إلا أن
يفصل في وجوب المقدمة بين الوجهين، نظرا إلى ادعائه إدراك العقل لوجوبها في
الصورة الأولى دون الثانية، وحينئذ فلا يكون ما ذكره تفصيلا في هذه المسألة وهو
تفصيل غريب في وجوب المقدمة لا يعلم ذهاب أحد إليه ولا وجه له كما لا
يخفى، ومع الغض عنه فكما يقول بحكم العقل بوجوب المقدمة هناك على وجه
التضييق فليقل بحكمه بالوجوب في الباقي على وجه التوسعة، إذ لا فارق بين
المقامين فيما سوى الضيق والتوسعة، والحق أن حكم العقل منفي في المقامين.
وتحقيق المقام: أن الواجب إما أن يكون موقتا أو غير موقت، وعلى
التقديرين فإما أن يكون مضيقا أو غير مضيق، وعلى التقادير فإما أن يكون الوقت
172

في نفسه متسعا لأداء الفعل ومقدماته أو لا، وعلى الأول فإما أن يطرؤه ما يكون
مانعا من اتساعه للمقدمة أو يكون هناك مانع آخر من إيقاعها في الوقت لعدم
تمكنه من فعلها مع تأخيرها إلى الوقت أو لا.
فنقول: إنه إذا لم يكن الوقت شرطا في وجوب الفعل بل كان شرطا في
وجوده، كما هو الحال في الحج بالنسبة إلى وقته فلا إشكال في وجوب المقدمة
قبل حضور الزمان المضروب له بناءا على القول بوجوب المقدمة سواء وسع
الوقت لمقدمات الفعل أو لم يسعه، وليس ذلك حينئذ من مسألتنا، إذ ليس ذلك من
تقدم وجوب المقدمة على ذيها، ومن ذلك أيضا وجوب غسل الجنابة في الليل
للصوم الواجب، إذ الظاهر كون النهار محلا لوقوع الصوم لا شرطا في وجوبه، كما
في الصلاة اليومية بالنسبة إلى أوقاتها حيث دل الدليل على كون الوقت شرطا في
وجوبها وصحتها فما استشهد به من حكينا عنه من بعض المتأخرين لتقدم وجوب
المقدمة على ذيها من المثالين المذكورين مما لا وجه له، ولا فرق حينئذ بين سعة
الوقت للفعل ومقدماته وعدمها.
وأما إذا كان الوقت شرطا في وجوب الفعل أو لم يكن الفعل موقتا لكن علم
بحصول سببه بعد ذلك فالظاهر أنه لا وجه للقول بوجوب المقدمة من جهة الأمر
المتعلق بذيها في الزمان المتأخر، كما أشرنا إليه من غير فرق بين سعة الوقت
للفعل ومقدماته وعدم اتساعه لها وتمكنه من الإتيان بها حينئذ وعدمه، غاية الأمر
أنه إذا دخل الوقت ولم يسع لأداء المقدمة أو لم يتمكن المكلف من أدائها فيه لا
يتعلق الأمر بذي المقدمة، لعدم تمكنه حينئذ من الإتيان بها فلا يجب عليه ذلك
الفعل ولا محذور فيه أصلا.
ودعوى قضاء العقل بأداء المقدمة قبل الزمان المفروض - كما مر عن بعض
الأفاضل - واضح الفساد، إذ لم يتعلق أمر بالمكلف قبل حضور ذلك الوقت حتى
يحكم العقل بوجوب الإتيان بمقدمته على ما هو شأنه في سائر المقدمات، وحكم
العقل بوجوب جعل المكلف نفسه قابلا لتعلق الخطاب، وورود التكليف عليه مما
لا يلتزمه أحد.
173

وتسليم الفاضل المتقدم - حكم العقل بوجوب المقدمة قبل وجوب ذيها إذا لم
يتسع الوقت للمقدمة مع منعه من حكم العقل بالوجوب بعد دخول الوقت مطلقا
ولو مع عدم اتساعه إلا لأداء الواجب ومقدمته - من الغرائب، إذ لا فارق بين
الصورتين سوى دخول وقت الواجب في الثاني وعدم دخوله في الأول، ومن
البين أن دخول الوقت إن لم يكن مؤيدا للحكم بالوجوب فلا يكون مانعا منه.
ويأتي على ما ذكره المفصل المذكور وجوب الإتيان بالمقدمة قبل وجوب
ذيها في جميع الصور التي لا يتمكن المكلف من أداء المقدمة في وقت وجوب
الفعل لاشتراك الوجه فيها.
ثم إن ما ذكرناه إنما هو بالنظر إلى دلالة الأمر الذي يتعلق بذي المقدمة وأما
لو قام هناك أمر من الخارج على وجوب الإتيان بالمقدمة قبل وجوب الفعل لأن
يتمكن من فعل المأمور به عند تعلق الوجوب به فلا مانع منه أصلا كما قررناه، ولا
فرق حينئذ أيضا بين الصور المذكورة لكن في عد ذلك حينئذ من الوجوب الغيري
تأمل أشرنا إليه، ولا يبعد إدراجه في الوجوب النفسي إن كان الأمر به لإحراز
مصلحة حاصلة بفعل غيره، والأمر في ذلك هين بعد وضوح الحكم وعدم تفرع
ثمرة على مجرد إطلاق الاسم.
ثالثها: أن وجوب المقدمة - كما مر الكلام فيه - من لوازم وجوب الواجب
فإذا قام دليل على عدم وجوب بعض مقدمات الفعل قضى ذلك بعدم وجوب ذلك
الفعل أيضا وحينئذ لو دل دليل آخر على وجوبه قامت المعارضة بين الدليلين
المذكورين، فلا بد من ملاحظة الجمع بينهما بتقييد أحدهما بالآخر ونحو ذلك أن
أمكن ذلك بحسب المقام والأخذ بمقتضى التعادل والترجيح.
ويظهر من بعض أفاضل المتأخرين الجمع بين الأمرين، نظرا إلى جعله
وجوب المقدمة من مقتضيات وجوب ذيها لا من لوازمه، فيصح الانفكاك بينهما
بعد قيام الدليل عليه وقد عرفت ضعفه.
إذا تقرر ذلك فنقول: إذا ثبت عدم وجوب بعض مقدمات الفعل سواء ثبت
174

تحريمه أو كراهته أو غيرهما من الأحكام قضى ذلك بعدم وجوب ذلك الفعل لكن
لا مطلقا بل على سبيل الإطلاق، فلا مانع حينئذ من كونه واجبا مشروطا بوجود
تلك المقدمة، إذ لا مانع من حرمة مقدمة الواجب المشروط وثبوت سائر الأحكام
لها نظرا إلى ما تقرر من عدم وجوبها، وحينئذ فلو دل الدليل على وجوب ذلك
الفعل في الجملة أمكن الجمع بينهما بحمله على الوجوب المشروط وتقييد إطلاق
وجوبه بذلك.
وحينئذ فإن كانت تلك المقدمة المحرمة مثلا متقدمة على الفعل وتصدى
المكلف لفعلها فلا إشكال حينئذ في تعلق الوجوب بذلك الفعل وصحة الإتيان به،
لتعلق الأمر به بعد الإتيان بمقدمته المحرمة ومقتضى الأمر الاجزاء والصحة. وأما
إن كانت مقارنة للفعل أو متأخرة عنه فقد يتخيل حينئذ عدم صحة الفعل المذكور،
لكون المقدمة المذكورة حينئذ من مقدمات الوجوب فلا يتعلق أمر بالفعل قبل
حصولها فلا يعقل القول بصحته.
ويمكن دفعه: بأن مقدمة وجود الشئ لا يجب تقدمها على حصول ذلك
الشئ، بل قد يقارنه وقد تتأخر عنه، ألا ترى أن الإجازة الحاصلة من المالك في
البيع الفضولي شرط في حصول الانتقال حال العقد بناءا على المعروف من كون
الإجازة كاشفة لا ناقلة ومع ذلك تتأخر عنه.
فحينئذ نقول: إن مقدمة الوجوب من مقدمة الوجود بالنسبة إلى الوجوب،
فحصول الوجوب إذا كان متوقفا على وجود المقدمة المذكورة في الجملة فقد
يكون متوقفا على وجود ذلك الفعل أولا، ليتفرع عليه الوجوب المفروض،
وحينئذ فلا إشكال في عدم صحة ذلك الفعل قبل حصول مقدمته المفروضة وقد
يكون متوقفا على حصول ذلك الفعل في الجملة سواء كان متقدما عليه أو مقارنا
له أو متأخرا عنه، بل وقد يتوقف على خصوص حصوله المتأخر فيكون حصوله
أخيرا كاشفا عن وجوب ذلك الفعل أولا.
وحينئذ فلا مانع من صحة الفعل مع حرمة مقدمته المذكورة وإن كانت
175

متأخرة، لكون وجودها أخيرا ولو على وجه محرم، كافيا في وجوب ذلك الفعل
أولا وقد يجعل من ذلك اعتبار تبقية النصاب إلى انقضاء الشهر الثاني عشر في
وجوب الزكاة عند دخوله بناءا على اعتبار بقاء النصاب طول الشهر في الوجوب،
كما ذهب إليه جماعة فلو فرضنا حينئذ حرمة تبقية النصاب كما إذا كان له غريم
يطالبه بحقه وكان الوفاء منحصرا بدفعه لم يمنع ذلك من وجوب الزكاة عليه
وصحة دفعه إذا لم يكن ما يدفعه في الزكاة منافيا لأداء حق الغريم، بل ولو كان
منافيا أيضا في وجه.
ويتفرع على ما قررناه أن ترك الواجب المضيق إذا كان من مقدمات أداء
الموسع لم يمنع تحريمه من صحة ما يتوقف عليه من فعل الموسع ليكون قاضيا
بسقوط الأمر المتعلق به القاضي بفساد فعله، وسيجئ تفصيل القول فيه إن شاء الله
في المسألة الآتية.
رابعها: أنه قد يتخيل أن الواجب من المقدمة هو ما يحصل به التوصل إلى
الواجب دون غيره، فإذا أوجب الشارع علينا الحج كان قطع المسافة الموصلة إلى
الحج واجبا علينا لا مطلقا، فلو قطع المسافة إلى مكة المشرفة وترك الحج لم يكن
آتيا بالمقدمة الواجبة، وكذا لو أتى بالوضوء وترك الإتيان بالصلاة، ومن ذلك ما
إذا كان له صارف عن أداء الواجب، فإنه يخرج بذلك سائر ما يأتي به من مقدمات
الفعل عن الوجوب، فلا مانع حينئذ من تركها حيث إنه لا إيصال لشئ منها إلى
الواجب وإن كان المكلف تاركا للمقدمة الواجبة أيضا - أعني خصوص الموصلة
إلى الواجب - إلا أن ما يقدم على تركه من الشرائط أو فعله من الموانع وأضداد
الوجوب ليس تركا للواجب ولا إقداما على الحرام مع وجود الصارف عن
الواجب وعدم إيصال شئ منها إلى فعله على فرض الإتيان بها أو تركها.
وقد يستفاد ذلك من المصنف في ذيل المسألة الآتية حيث قال: إن حجة
القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها إنما ينهض دليلا على الوجوب في
حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها كما لا يخفى على من أعطاها حق
176

النظر، وكأنه إنما خص الوجوب بها في تلك الحال من جهة حصول التوصل بها
عند إرادة ما يتوقف عليها دون ما إذا لم يكن مريدا له، إذ لا يتوصل بها حينئذ إلى
فعله.
والأظهر كما هو ظاهر الجمهور وجوب المقدمة من حيث إيصالها إلى أداء
الواجب، فالمقدمة التي لا يتحقق بها الإيصال إلى الواجب واجب الحصول من
حيث التوصل بها إلى الواجب، فيجب الإتيان بها والتوصل إلى الواجب من حينها،
فإذا لم يتوصل المكلف بها إلى الواجب لم يخرج المقدمة عن الوجوب، فإذا
وجب علينا شئ وجب الإتيان بما يتوقف عليه لا من جهة ذاته بل من حيث
أدائه إلى الواجب، ويجب علينا الإقدام على فعل الواجب بعد الإتيان بمقدمته،
فعدم الإقدام على الواجب بعد الإتيان بالمقدمة لا يخرج ما أتى به من المقدمة عن
الوجوب فإنها واجبة من حيث كونها مؤدية إلى الواجب وإن لم يحصل التأدية إليه
لإهمال المكلف، فإن عدم حصول الأداء بها لا ينافي اعتبارها من حيث كونها
مؤديا ليحكم بوجوبها من تلك الجهة.
وبالجملة: أنه لا يتنوع المقدمة من جهة إيصالها إلى ذي المقدمة وعدمه إلى
نوعين ليقال بوجوب أحدهما دون الآخر، بل ليس هناك إلا فعل واحد يتصف
بالوجوب من حيث كونها موصلة إلى الواجب سواء أتى بها على تلك الجهة أو لا،
وتلك الجهة حاصلة فيها سواء تحقق بها الإيصال إليه أو لا.
نعم لو فرض انتفاء الجهة المذكورة عن المقدمة لم تكن واجبة وحينئذ يخرج
عن عنوان المقدمة كما لا يخفى، فلا فرق في وجوبها بين وجود الصارف
الاختياري عن أداء الواجب وعدمه ولو كان هناك صارف عن الواجب خارج
عن اختيار المكلف خرجت به المقدمة عن الوجوب، لانتفاء الحيثية المذكورة
وحينئذ يسقط التكليف بالواجب أيضا.
والتأمل في الأدلة المتقدمة لوجوب المقدمة قاض بما قلناه، كما لا يخفى
على من أعطاها حق النظر، وقد نص على ما ذكرنا غير واحد من أفاضل
177

المتأخرين مصرحا بأن ما دل على وجوب المقدمة إنما ينهض دليلا على
الوجوب المطلق إذا أمكن صدور الواجب عن المكلف. هذا.
ويتفرع على الوجهين المذكورين أمور:
منها: أنه إذا كان للمكلف صارف عن أداء الواجب لم يكن ما يقدم عليه من
ترك مقدماته ممنوعا منه على الأول، إذ المقدمات المتروكة غير موصلة إلى
الواجب مع وجود الصارف عنه وإنما الممنوع منه هو ترك المقدمة الموصلة،
وليس ذلك بشئ من تلك التروك ويتفرع عليه صحة أداء الواجب الموسع عند
مزاحمته للمضيق، إذ لا يتحقق فعل الموسع إلا مع وجود الصارف عن المضيق،
وحينئذ فلا يكون ما يأتي به من الموسع منهيا عنه ليقضي النهي بفساده بخلاف ما
لو قيل بالثاني، لتعلق النهي به حينئذ لكون تركه مقدمة لأداء الواجب فيكون واجبا
من حيث كونه موصلا إلى الواجب.
ويشكل بأنه لا إشكال في حرمة ترك المقدمة الموصلة وكذا في وجوب ترك
المانع الموصل إلى فعل الواجب، فالمكلف مع وجود الصارف عن الواجب إذا
ترك الواجب وترك مقدمته يكون تاركا لواجب نفسي ولمقدمته الموصلة إليه،
فكيف يصح القول بكون ما يقدم عليه من ترك المقدمة جائزا؟ ومجرد مقارنته
لوجود الصارف مع حرمته أيضا لا يقضي بجواز الترك الحاصل منه وإذا ترك
الواجب وأتى بضده فقد ترك نفس الواجب ومقدمته الواجبة التي هي ترك ضده
الموصل إليه.
ومن البين: أن ما أتى به من فعل الضد ترك لترك الضد الموصل إلى الواجب
أيضا فيلزم أن يكون حراما من تلك الجهة وإن لم يكن ترك الضد في المقام
موصلا إلى الواجب بسوء اختيار المكلف ولا مانع من اجتماع حصول التركين في
المقام بفعل الضد كما لا يخفى، فلا يتم الحكم بصحة ما أتى به من الضد أيضا،
وسيجئ الكلام في ذلك إن شاء الله.
ومنها: أنه يصح أداء الوضوء ونحوه بقصد الوجوب عند اشتغال الذمة بالغاية
178

الواجبة وإن لم يأت به لأداء تلك الغاية بل لغاية مندوبة بناءا على الثاني بخلاف
الأول، إذ لا يجوز حينئذ قصد الوجوب إلا إذا أتى به لأداء الغاية الواجبة ولا أقل
من ظنه بأدائه إليها إذا لم يلحظ الغاية الواجبة حال أداء الفعل.
ومنها: جواز أخذ الأجرة على فعل المقدمة في الصورة المفروضة وعدم
جوازه على الوجهين، نظرا إلى ما تقرر من عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات
بناءا على عدم الفرق في ذلك بين الواجبات النفسية والغيرية، كما مرت الإشارة
إليه.
ومنها: برء النذر بفعلها في الصورة المذكورة لو تعلق نذره بفعل الواجب أو
واجبات عديدة بناءا على الثاني إذا قلنا بشمول الواجب عند الإطلاق للواجبات
الغيرية أو صرح الناذر بالتعميم بخلاف ما لو بنى على الأول.
خامسها: أنه يجري جميع ما قلناه في مقدمة الواجب بالنسبة إلى مقدمات
المندوب فيحكم بحصول الندب الغيري في مقدماته على القول بوجوب مقدمة
الواجب بخلاف القول بعدمه.
والظاهر أنه لا إشكال في استحباب مقدمة المندوب إذا أتى بها لأجل أدائها
إليه وإن قلنا بعدم وجوب مقدمة الواجب، لما تقرر من أن كل فعل قصد به الطاعة
فهو طاعة وهو غير ما نحن بصدده من بيان استحبابها الغيري، فإن ذلك استحباب
نفسي حاصل في مقدمة الواجب أيضا وإن لم نقل بوجوبها الغيري ولذا ينعقد
نذرها من حيث إنها مقدمة لأداء الواجب على القول بعدم وجوب المقدمة أيضا،
ولا مانع من اجتماع الاستحباب النفسي والوجوب الغيري بوجه، كما أنه لا مانع
من اجتماع الوجوب الغيري والاستحباب الغيري فيما إذا كان الفعل المفروض
مقدمة للواجب والمندوب، وتضاد الأحكام لا يقضي بامتناع ذلك مع عدم
الاكتفاء باختلاف الجهة مع اتحاد المتعلق - كما قد يتوهم - فإنه إنما يفيد امتناع
اجتماع حكمين منها في أمر واحد بحسب الواقع بأن يكون الفعل الواحد واجبا
غير جائز الترك ومندوبا جائز الترك لا اجتماع الجهتين، إذ الحكم حينئذ يتبع
179

الجهة الأقوى فعند اجتماع الوجوب الغيري والاستحباب النفسي أو الغيري يكون
حكم ذلك الشئ هو الوجوب غير أنه إذا لوحظ ذلك الشئ في نفسه أو بالنسبة
إلى غاية أخرى راجحة كان راجحا رجحانا غير بالغ إلى درجة المنع من الترك.
فالحاصل بحسب الواقع جهتان مرجحتان للفعل إحداهما بالغة إلى درجة
المنع من الترك والأخرى غير بالغة إليها.
ومن البين أنه لا تضاد بينهما فلا مانع من اجتماعهما في أمر واحد، فإن عدم
إيصاله الجهة النادبة إلى حد الوجوب لا ينافي إيصاله الأخرى إلى ذلك وذلك
كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة الواجبة وبالنظر إلى قراءة القرآن ونحوها، إذ من
الواضح عدم سقوط رجحان الوضوء لأجل التلاوة بعد دخول وقت الصلاة، غاية
الأمر حينئذ أن يكون الوضوء موصوفا بالوجوب لا غير وذلك لا يستلزم إتيان
العامل به على ذلك الوجه، إذ لا مانع من إتيانه به لا من جهة وجوبه، بل بجهة
أخرى راجحة غير بالغة إلى تلك الدرجة، فيختلف الحال بملاحظة ذلك بين
الوجوب الذي يكون صفة للفعل وما يكون جهة لإيقاعه ويعبر عن الأول
بالوجوب الواقع " صفة " وعن الثاني بالوجوب المجعول " غاية ".
فيمكن اجتماع الوجوبين، كما إذا أتى بالفعل المفروض لأجل كونه واجبا.
ويمكن افتراقهما، كما إذا أتى بالواجب لأجل رجحانه الغير البالغ إلى درجة
الوجوب فيكون آتيا بالواجب لكن لا على جهة وجوبه بل على الجهة النادبة، ولا
يمنع ذلك من أداء الواجب وإن كان عبادة، لما تقرر من عدم اعتبار ملاحظة
الامتثال للأمر الخاص في أداء الواجب فإنه بعد العلم برجحان الفعل في الجملة
والإتيان به من جهة رجحانه يصح الفعل ويتصف بالوجوب بحسب الواقع،
فيكون المكلف آتيا بالواجب خارجا عن عهدة التكليف وإن لم يصدق امتثال
ذلك الأمر إلا بعد ملاحظته في الجملة عند الإتيان بالفعل، فإذا أتى بالفعل
على وجه القربة ولو كانت تلك الجهة نادبة إلى الفعل وكان ذلك الفعل عبادة واجبة
عليه من جهة أخرى لا يعلمها أصلا أو غفل حال أداء الفعل عنها كان ذلك الفعل
180

مجزيا عن الواجب وكان متصفا بالوجوب بحسب الواقع وإن لم يأت به من جهة
وجوبه.
سادسها: ما مر من الكلام في مقدمة الواجب يجري بعينه في مقدمات ترك
الحرام أعني ما يتوقف عليه ترك الحرام من الأفعال والتروك بل يندرج ذلك في
مقدمة الواجب، نظرا إلى وجوب ترك الحرام، وكما أن مقدمة الواجب قد تكون
مقدمة لوجوده وقد تكون مقدمة للعلم بحصوله، فكذا مقدمة ترك الحرام قد تكون
مقدمة لنفس الترك سواء كانت فعلا أو تركا، وقد تكون مقدمة للعلم به كما في
الحلال المشتبه بالحرام، كما إذا اشتبه الدرهم الحلال بالحرام فإنه يتوقف العلم
بالاجتناب عن الحرام على التجنب عن جميع ما وقع فيه الاشتباه، فيجب
الاجتناب عن الكل.
وذهب جماعة إلى عدم وجوب التجنب، نظرا إلى بعض الأخبار الدالة على
عدم وجوب الاجتناب عن الحرام إلا مع العلم به بعينه دون المشتبه، فلا يجب
ترك الحرام مطلقا حتى يجب مقدمة العلم به، وهو ضعيف كما سيجئ تفصيل
القول فيه في محله إن شاء الله.
ثم الظاهر إن ما اختاره الجماعة من عدم وجوب التجنب إلا عن الحرام
المعلوم إنما هو بالنسبة إلى الماليات ونحوها، وأما بالنظر إلى الإقدام على سائر
المحرمات كما إذا اشتبه الكافر بالمسلم ومن يحل سبيه بمن لا يحل ومن يحل
وطؤه بمن يحرم أو اشتبه الخمر بغيره أو السم بغيره ونحو ذلك فإن الظاهر: أن
أحدا لا يقول بجواز الإقدام وتوقف التحريم على العلم فيحكم في الأمثلة
المذكورة بحل القتل والسبي والوطء والشرب والأكل بمجرد الشبهة الحاصلة
كيف وربما يعد المنع من ذلك من الضروريات الواضحة المستغنية عن تجشم ذكر
الأدلة هذا.
وقد علم مما ذكرنا حرمة السبب المفضي إلى الحرام، لتوقف ترك الحرام على
تركه بل لا يبعد القول بتحريمه ولو على القول بعدم وجوب المقدمة الشرطية نظرا
181

إلى كونه في حكم المقدمة السببية، فكما يجب الأسباب المفضية إلى فعل الواجب
كذا يحرم السبب المفضي إلى الحرام كما سيشير إليه المصنف بل قد يقال بتحريمه
ولو مع عدم القول بوجوب المقدمة مطلقا لاستفادة ذلك من تتبع موارد الشرع،
وأما سائر مقدمات الحرام فلا وجه للقول بتحريمها، لعدم استلزامها لحصول
الحرام وعدم كونها معتبرة في ترك الحرام ليتوقف تركه على تركها إلا أن تكون
جزءا أخيرا للعلة التامة فتحرم لما عرفت ولا يبعد إدراجها إذا في الأسباب.
نعم لو قصد بفعل المقدمة التوصل إلى الحرام كان محرما، لقيام الدليل على
تحريم الأفعال التي يقصد بها المحرمات وهو حينئذ حرام نفسي فلا ربط له
بالمقام، ولا فرق إذا بين ما إذا حصل التوصل بها إلى الحرام أو لا.
سابعها: قد يتخيل أن المقدمة إذا كانت فعل أمور يكون الإتيان بالواجب
حاصلا في ضمنها كالصلاة إلى الجوانب الأربع والصلاة في الثوبين المشتبهين
كانت واجبة على القولين:
قال في الوافية: وكأنه لا خلاف في وجوبه، لأنه عين الإتيان بالواجب بل هو
منصوص في بعض الموارد كالصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة والصلاة في
كل من الثوبين المشتبهين عند اشتباه الطاهر بالنجس وغير ذلك انتهى.
ويرد عليه: أنه إن قيل بكون الأفعال المتعددة متقدمة بالنسبة إلى نفس
الواجب فهو بين الفساد، لوضوح عدم الحاجة في وجوده إلى التكرار وإن أريد
كون ذلك مقدمة للعلم بأداء الواجب فإنه كما يجب الإتيان بالفعل يجب العلم
بتفريغ الذمة أيضا فيكون التكرار واجبا لتوقف وجود العلم الواجب عليه.
فدعوى كون الواجب حاصلا في ضمن المقدمة غير ظاهرة، فإن الواجب
الذي يكون التكرار مقدمة بالنسبة إليه هو العلم بأداء الواجب وهو غير حاصل في
ضمنها وأداء أصل الواجب الحاصل في ضمنها ليس مما يتوقف حصوله على
التكرار قطعا فليس ذلك مقدمة بالنسبة إليه، وحيث كان التكرار المفروض مقدمة
بالنسبة إلى وجود العلم الواجب كان الحال فيه كسائر المقدمات من غير فرق.
182

نعم يندرج ذلك في المقدمة السببية لكون التكرار سببا لحصول العلم فالحال
فيه كسائر أسباب الواجبات ودلالة النص على وجوب التكرار في بعض الموارد
لا يفيد شيئا في المقام كورود النص بوجوب غيره من المقدمات كوجوب الوضوء
والغسل للصلاة.
ويدفعه: أنه لا شك في إتيانه بكل من الأفعال المتكررة على سبيل الوجوب
نظرا إلى وجوب الاحتياط في مثله بعد اليقين بالاشتغال فلا وجه للقول بعدم
وجوب ذلك بناءا على القول بنفي وجوب المقدمة مطلقا، كيف وليس الحال في
ذلك إلا كغيره من الاحتياط الواجب كوجوب الإتيان بالاجزاء المشكوكة على
القول بكون أسامي العبادات موضوعة للصحيحة، فإن وجوب الإتيان بها إنما هو
من جهة تحصيل العلم بالفراغ بعد اليقين بالاشتغال.
وقد يقال: بأن وجوبها من باب الاحتياط غير الوجوب من باب المقدمة
وذلك لاستصحاب بقاء الاشتغال قبل حصول التكرار أو الإتيان بالجزء المشكوك
فيحكم بالوجوب من تلك الجهة لا بمجرد كونها مقدمة للعلم.
وفيه: أن ذلك إنما يجري بالنسبة إلى الإتيان بالأجزاء المشكوكة وأما في
المقام فلا يصح ذلك، إذ لا وجه حينئذ في نية الوجوب في كل من الفعلين إلا من
باب المقدمة وليس الوجه في وجوب الاحتياط حينئذ إلا من جهة توقف اليقين
بالفراغ عليه، فالقول بعدم وجوب التكرار على القول بعدم وجوب المقدمة مع
إطباق الأصحاب ظاهرا على الوجوب من الجهة المذكورة غير متجه.
نعم مع الغض عن إطباقهم عليه يمكن المناقشة فيه بناءا على القول بعدم
وجوب المقدمة مطلقا إلا أن اتفاقهم على الوجوب يدفع ذلك، وفيه دلالة على ما
ذكره المصنف من الاتفاق على وجوب المقدمة السببية، إذ لا خصوصية للسبب
المذكور بين أسباب الواجبات.
* * *
183

معالم الدين:
أصل
الحق أن الأمر بالشئ على وجه الإيجاب لا يقتضي النهي عن
ضده الخاص لفظا ولا معنى.
وأما العام، فقد يطلق ويراد به أحد الأضداد الوجودية لا بعينه،
وهو راجع إلى الخاص، بل هو عينه في الحقيقة، فلا يقتضي النهي عنه
أيضا. وقد يطلق ويراد به الترك. وهذا يدل الأمر على النهي عنه
بالتضمن.
وقد كثر الخلاف في هذا الأصل، واضطرب كلامهم في بيان محله
من المعاني المذكورة للضد، فمنهم: من جعل النزاع في الضد العام
بمعناه المشهور - أعني الترك - وسكت عن الخاص. ومنهم: من أطلق
لفظ الضد ولم يبين المراد منه. ومنهم: من قال: إن النزاع إنما هو في
الضد الخاص. وأما العام بمعنى الترك فلا خلاف فيه، إذ لو لم يدل الأمر
بالشئ على النهي عنه، لخرج الواجب عن كونه واجبا.
وعندي في هذا نظر، لأن النزاع ليس بمنحصر في إثبات الاقتضاء
ونفيه، ليرتفع في الضد العام باعتبار استلزام نفي الاقتضاء فيه خروج
الواجب عن كونه واجبا، بل الخلاف واقع على القول بالاقتضاء في أنه
185

هل هو عينه أو مستلزمه كما ستسمعه. وهذا النزاع ليس ببعيد عن
الضد العام، بل هو إليه أقرب.
ثم إن محصل الخلاف هنا: أنه ذهب قوم إلى أن الأمر بالشئ عين
النهي عن ضده في المعنى. وآخرون إلى أنه يستلزمه، وهم: بين مطلق
للاستلزام، ومصرح بثبوته لفظا. وفصل بعضهم، فنفى الدلالة لفظا
وأثبت اللزوم معنى، مع تخصيصه لمحل النزاع بالضد الخاص.
لنا على عدم الاقتضاء في الخاص لفظا: أنه لو دل لكانت واحدة
من الثلاث، وكلها منتفية.
أما المطابقة، فلأن مفاد الأمر لغة وعرفا هو الوجوب، على ما سبق
تحقيقه. وحقيقة الوجوب ليست إلا رجحان الفعل مع المنع من الترك.
وليس هذا معنى النهي عن الضد الخاص ضرورة.
وأما التضمن، فلأن جزءه هو المنع من الترك. ولا ريب في مغايرته
للأضداد الوجودية المعبر عنها بالخاص.
وأما الالتزام، فلأن شرطها اللزوم العقلي أو العرفي. ونحن نقطع
بأن تصور معنى صيغة الأمر لا يحصل منه الانتقال إلى تصور الضد
الخاص، فضلا عن النهي عنه.
ولنا على انتفائه معنى: ما سنبينه، من ضعف متمسك مثبتيه،
وعدم قيام دليل صالح سواه عليه.
ولنا على الاقتضاء في العام بمعنى الترك: ما علم من أن ماهية
الوجوب مركبة من أمرين، أحدهما المنع من الترك. فصيغة الأمر الدالة
على الوجوب دالة على النهي عن الترك بالتضمن، وذلك واضح.
احتج الذاهب إلى أنه عين النهي عن الضد: بأنه لو لم يكن نفسه،
لكان إما مثله، أو ضده، أو خلافه، واللازم بأقسامه باطل.
186

بيان الملازمة: أن كل متغايرين إما أن يكونا متساويين في الصفات
النفسية، أو لا - والمراد بالصفات النفسية: ما لا يفتقر اتصاف الذات بها
إلى تعقل أمر زائد، كالإنسانية للإنسان. وتقابلها المعنوية المفتقرة إلى
تعقل أمر زائد، كالحدوث والتحيز له - فإن تساويا فيها، فمثلان،
كسوادين وبياضين. وإلا، فإما أن يتنافيا بأنفسهما، بأن يمتنع اجتماعهما
في محل واحد بالنظر إلى ذاتيهما، أو لا. فإن تنافيا كذلك، فضدان،
كالسواد والبياض. وإلا، فخلافان، كالسواد والحلاوة.
ووجه انتفاء اللازم بأقسامه: أنهما لو كانا ضدين أو مثلين لم
يجتمعا في محل واحد، وهما مجتمعان، ضرورة أنه يتحقق في
الحركة الأمر بها والنهي عن السكون الذي هو ضدها. ولو كانا خلافين
لجاز إجتماع كل منهما مع ضد الآخر، لأن ذلك حكم الخلافين،
كاجتماع السواد - وهو خلاف الحلاوة - مع الحموضة، فكان يجوز أن
يجتمع الأمر بالشئ مع ضد النهي عن ضده، وهو الأمر بضده. لكن
ذلك محال، إما لأ نهما نقيضان، إذ يعد " إفعل هذا " و " إفعل ضده "
أمرا متناقضا، كما يعد " فعله " و " فعل ضده " خبرا متناقضا، وإما لأنه
تكليف بغير الممكن، وأنه محال.
والجواب: إن كان المراد بقولهم: " الأمر بالشئ طلب لترك ضده "
على ما هو حاصل المعنى: أنه طلب لفعل ضد ضده، الذي هو نفس
الفعل المأمور به، فالنزاع لفظي، لرجوعه إلى تسمية فعل المأمور به
تركا لضده، وتسمية طلبه نهيا عنه. وطريق ثبوته النقل لغة، ولم يثبت.
ولو ثبت فمحصله: أن الأمر بالشئ، له عبارة أخرى، كالأحجية، نحو:
" أنت وابن أخت خالتك ". ومثله لا يليق أن يدون في الكتب العلمية.
وإن كان المراد: أنه طلب للكف عن ضده، منعنا ما زعموا: أنه لازم
187

للخلافين - وهو اجتماع كل مع ضد الآخر - لأن الخلافين: قد
يكونان متلازمين، فيستحيل فيهما ذلك، إذ اجتماع أحد المتلازمين مع
الشئ يوجب اجتماع الآخر معه، فيلزم اجتماع كل مع ضده، وهو
محال. وقد يكونان ضدين لأمر واحد، كالنوم للعلم والقدرة، فاجتماع
كل مع ضد الآخر يستلزم اجتماع الضدين.
حجة القائلين بالاستلزام وجهان:
الأول - أن حرمة النقيض جزء من ماهية الوجوب. فاللفظ الدال
على الوجوب يدل على حرمة النقيض بالتضمن. واعتذر بعضهم - عن
أخذ المدعى الاستلزام، واقتضاء الدليل التضمن - بأن الكل يستلزم
الجزء. وهو كما ترى.
وأجيب: بأنهم إن أرادوا بالنقيض - الذي هو جزء من ماهية
الوجوب - الترك، فليس من محل النزاع في شئ، إذ لا خلاف في أن
الدال على الوجوب دال على المنع من الترك، وإلا، خرج الواجب عن
كونه واجبا. وإن أرادوا أحد الأضداد الوجودية، فليس بصحيح، إذ
مفهوم الوجوب ليس بزائد على رجحان الفعل مع المنع من الترك،
وأين هو من ذاك؟
وأنت إذا أحطت خبرا بما حكيناه في بيان محل النزاع، علمت أن
هذا الجواب لا يخلو عن نظر، لجواز كون الاحتجاج لاثبات كون
الاقتضاء على سبيل الاستلزام في مقابلة من ادعى أنه عين النهي، لا
على أصل الاقتضاء. وما ذكر في الجواب إنما يتم على التقدير الثاني.
فالتحقيق: أن يردد في الجواب بين الاحتمالين، فيتلقى بالقبول
على الأول، مع حمل الاستلزام على التضمن، ويرد بما ذكر في هذا
الجواب على الثاني.
188

الوجه الثاني - أن أمر الايجاب طلب يذم تركه اتفاقا، ولا ذم إلا على
فعل، لأنه المقدور، وما هو هاهنا إلا الكف عنه، أو فعل ضده، وكلاهما
ضد للفعل. والذم بأيهما كان، يستلزم النهي عنه، إذ لا ذم بما
لم ينه عنه، لأنه معناه.
والجواب: المنع من أنه لا ذم إلا على فعل، بل يذم على أنه لم
يفعل. سلمنا، لكنا نمنع تعلق الذم بفعل الضد، بل نقول: هو متعلق
بالكف، ولا نزاع لنا في النهي عنه.
واعلم: أن بعض أهل العصر حاول جعل القول بالاستلزام
منحصرا في المعنوي، فقال: التحقيق أن من قال بأن الأمر بالشئ
يستلزم النهي عن ضده لا يقول بأنه لازم عقلي له، بمعنى أنه لا بد عند
الأمر من تعقله وتصوره. بل المراد باللزوم: العقلي مقابل الشرعي،
يعني: أن العقل يحكم بذلك اللزوم، لا الشرع. قال: " والحاصل: أنه إذا
أمر الآمر بفعل، فبصدور ذلك الأمر منه يلزم أن يحرم ضده، والقاضي
بذلك هو العقل. فالنهي عن الضد لازم له بهذا المعنى. وهذا النهي
ليس خطابا أصليا حتى يلزم تعقله، بل إنما هو خطاب تبعي، كالأمر
بمقدمة الواجب اللازم من الأمر بالواجب، إذ لا يلزم أن يتصوره الآمر ".
هذا كلامه. وأنت إذا تأملت كلام القوم رأيت أن هذا التوجيه إنما
يتمشى في قليل من العبارات التي أطلق فيها الاستلزام. وأما الأكثرون
فكلامهم صريح في إرادة اللزوم باعتبار الدلالة اللفظية. فحكمه على
الكل بإرادة المعنى الذي ذكره تعسف بحت، بل فرية بينة.
واحتج المفصلون على انتفاء الاقتضاء لفظا، بمثل ما ذكرناه في
برهان ما اخترناه، وعلى ثبوته معنى بوجهين:
أحدهما: أن فعل الواجب الذي هو المأمور به لا يتم إلا بترك
ضده، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وحينئذ فيجب ترك فعل
189

الضد الخاص. وهو معنى النهي عنه.
وجوابه يعلم مما سبق آنفا، فإنا نمنع وجوب ما لا يتم الواجب إلا
به مطلق، بل يختص ذلك بالسبب، وقد تقدم.
والثاني: أن فعل الضد الخاص مستلزم لترك المأمور به، وهو
محرم قطعا، فيحرم الضد أيضا، لأن مستلزم المحرم محرم.
والجواب: إن أردتم بالاستلزام: الاقتضاء والعلية، منعنا المقدمة
الأولى، وإن أردتم به مجرد عدم الانفكاك في الوجود الخارجي على
سبيل التجوز، منعنا الأخيرة.
وتنقيح المبحث: أن الملزوم إذا كان علة للازم لم يبعد كون تحريم
اللازم مقتضيا لتحريم الملزوم، لنحو ما ذكر في توجيه اقتضاء إيجاب
المسبب إيجاب السبب، فإن العقل يستبعد تحريم المعلول من دون
تحريم العلة. وكذا إذا كانا معلولين لعلة واحدة، فإن انتفاء التحريم في
أحد المعلولين يستدعي انتفاءه في العلة، فيختص المعلول الآخر
الذي هو المحرم بالتحريم من دون علته. وأما إذا انتفت العلية بينهما
والاشتراك في العلة، فلا وجه حينئذ لاقتضاء تحريم اللازم تحريم
الملزوم، إذ لا ينكر العقل تحريم أحد أمرين متلازمين اتفاقا، مع عدم
تحريم الآخر.
وقصارى ما يتخيل: أن تضاد الأحكام بأسرها يمنع من إجتماع
حكمين منها في أمرين متلازمين.
ويدفعه: أن المستحيل إنما هو إجتماع الضدين في موضوع واحد.
على أن ذلك لو أثر، لثبت قول الكعبي بانتفاء المباح، لما هو مقرر من
أن ترك الحرام لا بد وأن يتحقق في ضمن فعل من الأفعال، ولا ريب
في وجوب ذلك الترك، فلا يجوز أن يكون الفعل المتحقق في ضمنه
190

مباحا، لأنه لازم للترك ويمتنع اختلاف المتلازمين في الحكم.
وبشاعة هذا القول غير خفية. ولهم في رده وجوه في بعضها تكلف،
حيث ضايقهم القول بوجوب ما لا يتم الواجب إلا به مطلقا، لظنهم أن
الترك الواجب لا يتم إلا في ضمن فعل من الأفعال، فيكون واجبا
تخييريا.
والتحقيق في رده: أنه مع وجود الصارف عن الحرام، لا يحتاج
الترك إلى شئ من الأفعال، وإنما هي من لوازم الوجود، حيث نقول
بعدم بقاء الأكوان واحتياج الباقي إلى المؤثر. وإن قلنا بالبقاء
والاستغناء، جاز خلو المكلف من كل فعل، فلا يكون هناك إلا الترك.
وأما مع انتفاء الصارف وتوقف الامتثال على فعل منها - للعلم بأنه
لا يتحقق الترك ولا يحصل إلا مع فعله - فمن يقول بوجوب ما لا يتم
الواجب إلا به مطلقا، يلتزم بالوجوب في هذا الفرض، ولا ضير فيه، كما
أشار إليه بعضهم. ومن لا يقول به فهو في سعة من هذا وغيره.
إذا تمهد هذا فاعلم: أنه إن كان المراد باستلزام الضد الخاص لترك
المأمور به، أنه لا ينفك عنه، وليس بينهما علية ولا مشاركة في علة، فقد
عرفت: أن القول بتحريم الملزوم حينئذ لتحريم اللازم، لا وجه له. وإن
كان المراد أنه علة فيه ومقتض له، فهو ممنوع، لما هو بين، من أن العلة
في الترك المذكور إنما هي وجود الصارف عن فعل المأمور به وعدم
الداعي إليه، وذلك مستمر مع فعل الأضداد الخاصة، فلا يتصور
صدورها ممن جمع شرائط التكليف مع انتفاء الصارف، إلا على سبيل
الإلجاء، والتكليف معه ساقط.
وهكذا القول بتقدير أن يراد بالاستلزام اشتراكهما في العلة، فإنه
ممنوع أيضا، لظهور أن الصارف الذي هو العلة في الترك ليس علة
لفعل الضد. نعم هو مع إرادة الضد من جملة ما يتوقف عليه فعل الضد،
191

فإذا كان واجبا كانا مما لا يتم الواجب إلا به.
وإذ قد أثبتنا سابقا عدم وجوب غير السبب من مقدمة الواجب، فلا
حكم فيهما بواسطة ما هما مقدمة له، لكن الصارف باعتبار اقتضائه ترك
المأمور به، يكون منهيا عنه، كما قد عرفت. فإذا أتى به المكلف عوقب
عليه من تلك الجهة. وذلك لا ينافي التوصل به إلى الواجب، فيحصل،
ويصح الإتيان بالواجب الذي هو أحد الأضداد الخاصة. ويكون النهي
متعلقا بتلك المقدمة ومعلولها، لا بالضد المصاحب للمعلول.
وحيث رجع حاصل البحث هاهنا إلى البناء على وجوب ما لا يتم
الواجب إلا به وعدمه، فلو رام الخصم التعلق بما نبهنا عليه، بعد تقريبه
بنوع من التوجيه، كأن يقول: " لو لم يكن الضد منهيا عنه، لصح فعله
وإن كان واجبا موسعا. لكنه لا يصح في الواجب الموسع، لأن فعل
الضد يتوقف على وجود الصارف عن الفعل المأمور به، وهو محرم
قطعا. فلو صح مع ذلك فعل الواجب الموسع، لكان هذا الصارف
واجبا باعتبار كونه مما لا يتم الواجب إلا به. فيلزم إجتماع الوجوب
والتحريم في أمر واحد شخصي، ولا ريب في بطلانه " لدفعناه، بأن
صحة البناء على وجوب ما لا يتم الواجب إلا به، تقتضي تمامية الوجه
الأول من الحجة، فلا يحتاج إلى هذا الوجه الطويل.
على أن الذي يقتضيه التدبر، في وجوب ما لا يتم الواجب إلا به
مطلقا، على القول به، أنه ليس على حد غيره من الواجبات. وإلا لكان
اللازم - في نحو ما إذا وجب الحج على النائي فقطع المسافة أو بعضها
على وجه منهي عنه - أن لا يحصل الامتثال حينئذ، فيجب عليه إعادة
السعي بوجه سائغ، لعدم صلاحية الفعل المنهي عنه للامتثال، كما
سيأتي بيانه. وهم لا يقولون بوجوب الإعادة قطعا، فعلم أن الوجوب
فيها إنما هو للتوصل بها إلى الواجب. ولا ريب أنه بعد الإتيان بالفعل
192

المنهي عنه يحصل التوصل، فيسقط الوجوب، لانتفاء غايته.
إذا عرفت ذلك، فنقول: الواجب الموسع كالصلاة مثلا يتوقف
حصوله - بحيث يتحقق به الامتثال - على إرادته وكراهة ضده، فإذا قلنا
بوجوب ما يتوقف عليه الواجب كانت تلك الإرادة وهاتيك الكراهة
واجبتين، فلا يجوز تعلق الكراهة بالضد الواجب، لأن كراهته محرمة،
فيجتمع حينئذ الوجوب والتحريم في شئ واحد شخصي. وهو
باطل، كما سيجئ.
لكن قد عرفت: أن الوجوب في مثله إنما هو للتوصل إلى ما لا يتم
الواجب إلا به. فإذا فرض أن المكلف عصى وكره ضدا واجبا، حصل
له التوصل إلى المطلوب، فيسقط ذلك الوجوب، لفوات الغرض منه،
كما علم من مثال الحج.
ومن هنا يتجه أن يقال بعدم اقتضاء الأمر للنهي عن الضد الخاص،
وإن قلنا بوجوب ما لا يتم الواجب إلا به، إذ كونه وجوبه للتوصل
يقتضي اختصاصه بحالة إمكانه، ولا ريب أنه، مع وجود الصارف عن
الفعل الواجب وعدم الداعي، لا يمكن التوصل، فلا معنى لوجوب
المقدمة حينئذ. وقد علمت أن وجود الصارف وعدم الداعي
مستمران مع الأضداد الخاصة.
وأيضا: فحجة القول بوجوب المقدمة - على تقدير تسليمها - إنما
ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف
عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر. وحينئذ فاللازم عدم
وجوب ترك الضد الخاص في حال عدم إرادة الفعل المتوقف عليه من
حيث كونه مقدمة له، فلا يتم الاستناد في الحكم بالاقتضاء إليه. وعليك
بإمعان النظر في هذه المباحث، فإني لا أعلم أحدا حام حولها.
193

قوله: * (الحق أن الأمر بالشئ... الخ) *.
الخلاف في هذه المسألة كالمسألة المتقدمة ليس من جهة دلالة صيغة الأمر
على ذلك وعدمها وإنما الكلام في قضاء ما دل على إيجاب الفعل بذلك سواء كان
الدال عليه صيغة الأمر أو غيرها على وجه الحقيقة أو المجاز بل لو دل العقل على
وجوب شئ جرى فيه البحث فإدراج المسألة في بحث الأوامر إنما هو من جهة
مدلولها، وقد أدرجها بعضهم في الأدلة العقلية كالمسألة المتقدمة من جهة كونها من
جملة الملازمات الثابتة بحكم العقل.
قوله: * (عن ضده الخاص... الخ) *.
قد يفسر مطلق الضد في المقام الشامل للخاص والعام بما ينافي الفعل
المأمور به ويستحيل اجتماعه معه في الخارج، فيعم ذلك ما يكون مقابلته للمأمور
به من قبيل تقابل الإيجاب والسلب، كما في الضد العام أو من قبيل تقابل التضاد،
كما في الضد الخاص، وما يكون منافيا له بالذات أو بالعرض بأن لا ينفك عما
ينافيه بالذات، كالأمور الملازمة لأضداده فإن منافاتها للمأمور به تبعية من جهة
ملازمتها لما يضاده من غير أن يكون هناك مضادة بينهما مع قطع النظر عن ذلك
وهذا التفسير للضد العام لا يخلو عن ضعف، فإن اندراج الأخير في محل البحث
غير متجه، إذ لا يزيد الحال فيها على لوازم الواجب ولوازم مقدماته بالنسبة إلى
البحث السابق ولا يندرج شئ منها في عنوان المقدمة كما عرفت الحال فيها،
أقصى الأمر أن يثبت لها هناك وجوب بالعرض نظرا إلى وجوب ما يلازمها.
والظاهر أن المعنى المذكور مما لا يقبل النزاع حسب ما مر بيانه، والكلام في
هذه المسألة نظير البحث في مقدمة الواجب من غير تفاوت فلا إشكال في حصول
النهي عنها على الوجه المذكور من غير أن يكون هناك نهيان بل نهي واحد متعلق
بالمنهي عنه بالذات وبما يلازمه بالعرض بعين النهي المتعلق بذلك الشئ ولا ربط
له بما هو المتنازع فيه في المقام وفي بحث المقدمة كما مر القول فيه.
فالأولى تفسير الضد هنا بما ينافي المأمور به بالذات سواء كان يناقضه،
194

كما في الضد العام بمعنى الترك فيقابله تقابل الإيجاب والسلب أو كان مضادا له
ملازما لنقيضه، كما في سائر الأضداد الخاصة المنافية للمأمور به بالذات الملازمة
لما يناقضه - أعني: الترك -.
وقد يعد منافاتها للمأمور به حينئذ عرضية وهو غير متجه لوضوح كون
المنافاة بين الضدين ذاتية ولذا يعد تقابل التضاد من أقسام التقابل من غير أن يرجع
إلى تقابل الإيجاب والسلب وكان القائل المذكور يسلم ذلك، وما ذكره مبني على
المسامحة في التعبير وإلا فالفرق بين الضد ولوازمه أمر غني عن البيان. هذا.
وأما الضد الخاص فقد يطلق على كل من الأفعال الوجودية المنافية للمأمور
به بالذات والوجه في إطلاق الخاص عليها ظاهر وقد يطلق على المفهوم الجامع
بين تلك الأضداد - أعني: الفعل الوجودي الخاص الذي لا يجامع المأمور به
بالذات - وهو حينئذ عنوان لكل من تلك الأضداد وآلة لملاحظتها بخصوصياتها
على وجه كلي، والنهي في الحقيقة إنما يتعلق بتلك الجزئيات وإن لوحظت
بالعنوان العام ولا منافاة وهو بهذا المعنى وإن كان شاملا لجميع الأضداد الخاصة،
فربما يتوهم كون المناسب عده ضدا عاما نظرا إلى ذلك لكن لما كانت الخصوصية
ملحوظة في المفهوم المذكور على وجه الاجمال، بل كان المنهي عنه في الحقيقة
هو كل واحد من الأضداد الخاصة وكان ذلك العنوان العام آلة لملاحظتها صح
عده خاصا.
وقد يؤخذ المعنى المذكور بإسقاط ملاحظة الخصوصية فيقال: إنه الفعل
الوجودي الذي لا يجامع المأمور به بالذات فيكون مفاده حينئذ أمرا كليا منطبقا
على الجزئيات الخاصة من غير أن يكون شئ من تلك الخصوصيات مأخوذة في
مفهوم الضد، وهو بهذا الاعتبار أيضا ضد خاص، وإن كان أقرب إلى العموم من
الوجه السابق لتعلق النهي أيضا بتلك الجزئيات الخاصة من حيث انطباق ذلك
عليها وإن لم يكن شئ من تلك الخصوصيات متعلقة للنهي بملاحظة
خصوصياتها بل إنما يتعلق النهي بها من جهة كونها فعلا وجوديا مضادا للمأمور به
195

فهي أضداد خاصة يتعلق النهي بها من جهة كونها من جزئيات المنهي عنه، فلا
وجه أيضا لاندراج ذلك في الضد العام، كيف ولا يتعلق النهي في الضد العام بشئ
من جزئيات الأفعال، وإنما يتعلق بأمر عام يقارن تلك الجزئيات حسب ما نشير
إليه إن شاء الله.
والظاهر: أن القائل باقتضاء الأمر بالشئ النهي عن ضده الخاص إنما يعني به
أحد الوجهين المذكورين، إذ لا يعقل القول بدلالة الأمر على النهي عن خصوص
كل من الأضداد الخاصة بعنوانه الخاص به.
قوله: * (وأما العام فقد يطلق... الخ) *.
يمكن أن يلحظ الأضداد الوجودية حينئذ على كل من الوجهين المتقدمين
فتكون خصوصية الضد الخاص ملحوظة في أحدها على أحد ذينك الوجهين غير
ملحوظة في الآخر على حسب ما مر وعلى كل منهما، فأحد الأضداد إما أن يلحظ
على وجه يعتبر فيه الوحدة فيكون المنهي عنه هو واحد منها دون ما يزيد عليه
وإما أن يلحظ على وجه اللابشرط فيكون النهي عن أحدها نهيا عن جميع
آحادها فيكون بمنزلة النكرة في سياق النفي، وعلى جميع التقادير فليس المنهي
عنه إلا الضد الخاص إلا أنه مع دلالته على الاستغراق يكون المنهي عنه جميع
الأضداد الخاصة ومع عدمها يكون ضدا خاصا لها من غير تعيين وكأن المقصود
به النهي عن إيقاع ضد مكان الواجب أي ضد كان منها، فلا يعم النهي كلا من
ضدي المأمور به لو أمكن الإتيان بهما في زمان واحد وإنما المحرم واحد منهما.
قوله: * (وقد يطلق ويراد به الترك) *.
هذا هو المعروف في إطلاق الضد العام وإنما أطلق عليه الضد لعدم إمكان
اجتماعه مع المأمور به ولا ينافيه كونه عدميا، إذ اعتبار كون الضد وجوديا من
اصطلاح أرباب المعقول ولا ربط له بإطلاق علماء الأصول أو أطلق عليه لفظ
الضد من جهة مقارنته للأضداد الخاصة فيكون الإطلاق المذكور مجازا من جهة
المجاورة.
196

وأما كونه عاما فظاهر لمقارنته لكل من الأضداد الوجودية أو لشموله ما
يقارن الأضداد الخاصة وما لا يقارنها بناءا على إمكان خلو المكلف عن الأفعال
أو لكون المنهي عنه حينئذ أمرا عاما لا يقتضي تعلق النهي بشئ من الأضداد
الخاصة، كما يقضي به تعلق النهي بالضد الخاص على أحد الوجوه المتقدمة، ونحو
ذلك إطلاقه على الكف عن فعل المأمور به فهو أيضا فعل عام يغاير كلا من
الأضداد الخاصة ويقارنها، والقائل بكون متعلق النهي هو الكف دون الترك ينبغي
أن يعتبر في الضد العام في المقام الكف المذكور، وحينئذ فإطلاق الضد عليه ظاهر
بالنظر إلى الاصطلاح أيضا.
قوله: * (وهذا يدل الأمر على النهي عنه بالتضمن... الخ) *.
وذلك لكون مدلول الصيغة طلب الفعل مع المنع من الترك فتكون دلالتها على
المنع من الترك بالتضمن وسيجئ تفصيل القول فيه إن شاء الله.
قوله: * (واضطرب كلامهم في بيان محله) *.
إعلم: أن الكلام في بيان محل النزاع في المقام يقع في أمور:
أحدها: أن المراد بالنهي عن الضد الذي وقع الكلام في دلالة الأمر عليه هل
هو النهي الأصلي أو التبعي؟ وهل يراد به النهي النفسي أو الغيري؟
فإنه كما ينقسم الواجب إلى أصلي وتبعي ونفسي وغيري كذلك الحرام ينقسم
إلى الأقسام الأربعة المذكورة، فما يتعلق غرض الشارع بعدمه في نفسه فهو حرام
أصلي، وما يتعلق غرضه بعدمه لأدائه إلى محرم آخر وأداء عدمه إلى واجب من
غير أن يكون له مطلوبية مع قطع النظر عن ذلك فهو حرام غيري، وما يكون متعلقا
للخطاب على نحو ما مر في الواجب الأصلي فهو حرام أصلي، وما يلزم حرمته
من تعلق الخطاب بشئ آخر من غير أن يتعلق به أصالة فهو حرام تبعي.
وحينئذ نقول: إنه على القول بكون الأمر بالشئ عين النهي عن ضده ليس
هناك تكليفان صادران عن المكلف، بل الحاصل هناك تكليف واحد يكون أمرا
بالشئ وهو بعينه نهي عن ضده، فمفاد وجوب الشئ عند هذا القائل هو حرمة
197

ضده حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله، وأما على القول بمغايرة الأمر بالشئ النهي
عن ضده واستلزامه له فمن البين التزام القائل المذكور حينئذ بحصول تكليفين
يكون أحدهما ملزوما والآخر لازما له، لكن لا بد من القول بكون أحدهما نفسيا
والآخر غيريا، إذ لا يعقل القول بحصول تكليفين مستقلين في المقام يكون الأخذ
بكل منهما مطلوبا في نفسه وفي حيال ذاته ليتفرع عليهما ثوابان على تقدير
امتثالهما وعقابان على فرض العصيان حسب ما مر القول فيه في مقدمة الواجب.
والظاهر على هذا المذهب كون الخطاب به تبعيا، لوضوح عدم دلالة الخطاب
أصالة إلا على تكليف واحد هو إيجاب ذلك الشئ وإنما يستفاد التكليف بالترك
من جهة استلزامه له كما هو شأن الأحكام التبعية.
نعم لو قيل بحصول الدلالة اللفظية الالتزامية وسلم تنزيلها منزلة الدلالة
المطابقية في تعلق الخطاب بمدلوله كان النهي عنه أصليا، لكن القول بحصول
الالتزام اللفظي - في محل الخلاف على فرض ثبوت القائل به - موهون جدا كما
ستعرفه إن شاء الله، ومع ذلك لا يترتب ثمرة على القول بتعلق الخطاب به أصالة
والبناء على ثبوته تبعا حسب ما مر الكلام فيه في مقدمة الواجب، وحينئذ فما
ذكره بعض الأفاضل - من أن الخلاف في المسألة في النهي الأصلي المتعلق بالضد
دون التبعي فهو ليس من محط النزاع في شئ - بين الوهن، وهو نظير ما ذكره في
مقدمة الواجب من كون الخلاف في وجوبها الأصلي بل النفسي أيضا، حسب ما
مرت الإشارة إليه، وقد بينا هناك ما يرد عليه.
وما يتوهم في المقام: من أن ما فرع على الخلاف المذكور من فساد الضد إذا
كان عبادة موسعة يدل على إرادة التحريم الأصلي لعدم ترتب الفساد على النهي
التبعي، مدفوع بأنه إن كان عدم ترتب الفساد على النهي التبعي من جهة عدم تعلق
صريح النهي به فهو بين الفساد، لوضوح أن الفساد المستفاد من النهي المتعلق
بالعبادة ليس من جهة دلالة اللفظ عليه ابتداءا بل من جهة منافاة التحريم لصحة
العبادة وحينئذ فأي فرق بين استفادة التحريم من اللفظ ابتداءا ومن العقل بواسطة
198

اللفظ - كما في المقام - أو من العقل المستقل، وإن كان من جهة كون النهي المتعلق
به حينئذ غيريا، إذ لا منافاة فيه للرجحان المعتبر في العبادة ليكون قاضيا
بفسادها.
ففيه: أولا: أن دعوى كون النهي المتعلق بالضد الخاص نفسيا ليكون هناك
تكليفان أصليان مستقلان مما يشهد الوجدان السليم بفساده، بل هو واضح الفساد
بحيث لا مجال لتوهم الخلاف فيه كما مرت الإشارة إليه.
وثانيا: أنه لا داعي إلى حمل كلامهم على هذا الوجه السخيف، ومجرد ما ذكر
من الوجه لا يقضي به، إذ التزام دلالة النهي الغيري المتعلق بالعبادة على الفساد
أهون من ذلك بمراتب بل لا غبار عليه في ظاهر النظر، نظرا إلى أن صحة العبادة
يتوقف على تعلق الأمر بها ومع فرض تعلق النهي الغيري بها لا مجال لتعلق الأمر
لاستحالة تعلق الأمر والنهي بشئ واحد ولو من جهتين على ما هو المعروف
بينهم وكون النهي غيريا لا يقضي بجواز الاجتماع، إذ الجهة القاضية بالمنع في
غيره قاضية بالنسبة إليه أيضا لاتحاد المناط في المنع، إذ مع كون ترك العمل
مطلوبا للشارع ولو لأجل الغير لا يعقل أن يكون فعله مطلوبا له أيضا.
نعم هناك وجه دقيق لعدم ترتب الفساد على النهي الغيري في المقام غير ما
يتخيل في بادئ النظر يأتي بيانه إن شاء الله، ولا يقضي ذلك بصرف كلامهم في
المقام عن ظاهره وحمله على ذلك الوجه الفاسد.
والحاصل: أنه لو فرض فساد الدعوى المذكورة فمن الظاهر أنه ليس أمرا
ظاهرا وعلى فرض ظهوره فليس في الوضوح كوضوح فساد التزام تكليفين
نفسيين حاصلين في المقام حتى يصح جعل ذلك شاهدا على حمل كلامهم على
ذلك الاحتمال الذي لا ينبغي وقوع الخلاف فيه بين أهل العلم، غاية الأمر أن
يقال: بفساد ما بنوا عليه من الثمرة بعد التأمل حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله.
فتلخص مما قررنا أن النزاع في المقام في تعلق النهي الغيري التبعي بالضد
فالقائل بكون الأمر بالشئ مستلزما للنهي عن ضده إنما يعني به ذلك والقائل
199

بعدمه يمنع عن حصول النهي عن الضد من أصله، غاية الأمر أن يقول: بكون الضد
مما لا بد من تركه أو كون تركه مطلوبا لمطلوبية المأمور به، لعدم انفكاكه عنه بأن
يكون هناك طلب واحد يتعلق بالمأمور به بالذات وبترك الضد بالعرض، على ما
مرت الإشارة إلى نظيره في مقدمة الواجب.
ثانيها: أنه لا خلاف لأحد في كون صيغة الأمر مغايرة لصيغة النهي وأنه لا
اتحاد بين الصيغتين في الوجود حتى يكون صيغة " إفعل " عين صيغة " لا تفعل "
وكذا في عدم حصول الملازمة بين الصيغتين، لوضوح خلافه بالحسن فلا يقع في
مثله التشاجر بين العلماء وإنما الخلاف في المقام في كون صيغة الأمر بالشئ
قاضيا بمفاد النهي عن الضد حتى يكون الحاصل بصيغة الأمر أمرين - أعني الأمر
بالشئ والنهي عن ضده - سواء كانا حاصلين بحصول واحد أو حصولين يتبع
الثاني منهما للأول في الوجود أو أنه ليس الحاصل هناك إلا الأمر بالشئ لا غير.
ثم إنه لا تأمل في وقوع الخلاف بينهم في اقتضاء الأمر للنهي بالنسبة إلى
الأضداد الخاصة، كما هو ظاهر كلماتهم، وفي وقوع الخلاف بالنسبة إلى الضد
العام بمعنى الترك تأمل، نظرا إلى وضوح اقتضاء الأمر له بحيث لا مجال للريب
فيه فيبعد وقوع النزاع في مثله إلا أن يكون الخلاف فيه في كيفية الاقتضاء حسب
ما يشير إليه المصنف، ولذا حكى الاجماع على ثبوت أصل الاقتضاء، لكن يظهر
من كلمات جماعة من الأصوليين وقوع الخلاف فيه أيضا منهم: السيد العميدي
في المنية حيث عنون البحث في الضد العام بمعنى الترك وجعله مضادا للمأمور به
بالذات وما يشتمل على الترك من أحد الأضداد الوجودية مضادا له بالعرض
فقال: بكون الأمر بالشئ قاضيا بالنهي عن ضده العام بالمعنى المذكور بالذات
وعن سائر الأضداد الوجودية بالعرض، وقد حكى الخلاف فيه عن جمهور
المعتزلة وكثير من الأشاعرة وعزى اختياره إلى محققي الفريقين من المتأخرين
وهذا كما ترى صريح في وقوع الخلاف في الأمرين.
وربما يلوح ذلك من العلامة في النهاية وقد استقرب القول بإفادة الأمر
بالشئ النهي عن ضده العام بمعنى الترك إذا لم يكن الآمر غافلا عنه.
200

وربما يستفاد القول به من السيد (قدس سره) في الذريعة حيث قال: إن الذي يقتضيه
الأمر كون فاعله مريدا للمأمور به وإنه ليس من الواجب أن يكره الترك ثم ذكر
الأمر المتعلق بالنوافل مع أنه سبحانه ما نهى عن تركها ولا كره أضدادها، فالظاهر
على هذا وقوع الخلاف بالنسبة إلى الضد العام أيضا إلا أنه ضعيف جدا.
ويمكن تصوير القول بعدم الاقتضاء فيه بوجهين:
أحدهما: أن يكون مبنيا على القول بجواز التكليف بالمحال فيجوز عنده
الأمر بالفعل وبالترك معا فلا يدل مجرد الأمر بالشئ على المنع من تركه.
وفيه: أن قضية القول المذكور جواز حصول المنع من الترك والأمر به معا فلا
يلزم من حصول الأمر بالفعل والترك معا إلا حصول المنع من الترك والأمر بالترك،
فيكون المنع من الترك حاصلا في المقام أيضا كما يقول به من لا يجوز التكليف
بالمحال من غير فرق، كيف والقائل بجواز التكليف بالمحال لا يقول ببطلان دلالة
التضمن أو الالتزام، غاية الأمر أن يقول: بجواز اجتماع الأمرين.
ثانيهما: أن يكون ملحوظ القائل المذكور أنه ليس الحاصل في المقام إلا
تكليف إيجابي فقط من غير أن يتحقق هناك تحريم، بل إنما يكون المنع من الترك
حاصلا بالتزام العقل من غير أن يكون هناك أمر آخر غير الإلزام المذكور فليس
هناك إذن نهي عن الضد.
وأنت خبير بأنه إن تم التقرير المذكور - حسب ما يجئ بيانه إن شاء الله -
أفاد كون الأمر بالشئ عين النهي عن ضده بحسب الخارج فيعود النزاع لفظيا
حيث إن القائل بعدم الدلالة يقول: إنه ليس هناك شئ وراء إيجاب الفعل، والآخر
يقول: إن المنع من الترك حاصل بحصول الإيجاب المذكور، ثم إنه قد وقع الخلاف
أيضا بينهم في كيفية الاقتضاء في المقامين بعد اقتضاء أصل الدلالة، حسب ما
قرره المصنف وسنشير إليه إن شاء الله في الضد العام.
ثالثها: أن جماعة من المتأخرين قرروا النزاع في المسألة في الواجب
المضيق إذا كان ما يضاده واجبا موسعا وقالوا: إن الواجبين إما أن يكونا موسعين
201

أو مضيقين أو المأمور به مضيقا والضد موسعا أو بالعكس، وذكروا أنه لا خلاف
في شئ من الأقسام إلا الثالث، أما الحال في الموسعين فظاهر، وأما المضيقان
فإن كان اهتمام الشارع بهما على نحو واحد تخير المكلف بينهما، وإن كان
أحدهما أهم من الآخر اختص الأهم بالوجوب دون الآخر.
وبعضهم قسم الواجب حينئذ إلى ما يكون من حق الله أو من حق الناس أو
أحدهما من حق الله والآخر من حق الناس، ففي الأول والثاني يتخير المكلف
بينهما إلا أن يثبت أهمية أحدهما، وفي الثالث يقدم الثاني إلا أن يعلم كون الأول
أهم منه ومرجع ذلك إلى الوجه المتقدم، إذ ليس تقديم حق الناس على حقه تعالى
إلا من جهة الأهمية في الجملة، ففيه بيان لما هو الأهم على وجه كلي، أما الوجه
الرابع فالحال فيه ظاهر لوضوح عدم قضاء الأمر بالموسع بالنهي عن المضيق،
لعدم مزاحمته له.
وقد ناقشهم بعض الأفاضل في أمرين:
أحدهما: في عد الموسع مأمورا به والمضيق ضدا مع أنه ينبغي أن يكون
الأمر بالعكس لكون المضيق مطلوبا للشارع في ذلك الزمان البتة فيكون الموسع
ضدا له، ولذا بنى الفاضل المذكور على اسقاط القسم الرابع وجعل الوجوه ثلاثة.
ويدفعه: أن صحة إطلاق كل من اللفظين مبني على حصول مدلوله في المقام
والمفروض حصوله فأي مناقشة في إطلاق لفظه عليه وتضيق الطلب في جانب
الضد، وتوسعته (1) في جانب المأمور به لا يمنع من إطلاق المأمور به على الموسع
والضد على الآخر، لوضوح تعلق الأمر بالموسع وكون الآخر ضدا له، وإنما يطلق

(1) المراد بالتوسعة في المقام ما يعم المؤقت وغيره وكذا المراد بالمضيق، وتفصيل الأقسام أن
يقال: إن الواجبين إما أن يكون مؤقتين أو غير مؤقتين أو المأمور به مؤقتا والضد غير مؤقت
أو بالعكس وعلى كل حال فإما أن يكونا من حق الله تعالى أو من حقوق الناس أو المأمور به
من حقه تعالى والضد من حقوق الناس أو بالعكس، فيكون الأقسام أربعة، وسيبين ما يظهر
الحال في الجميع مما قررناه منه (رحمه الله).
202

المأمور به حينئذ على الموسع، حيث إن المقصود معرفة اقتضائه النهي عن ضده
وعدمه، فيقال: إن تعلق الأمر بالموسع لا يقتضي تعلق النهي بضده المفروض فلا بد
في هذا اللحاظ من اعتبار الموسع مأمورا به والآخر ضدا له وإن كان مضيقا وهو
ظاهر، وكون بقاء الأمر بالموسع حينئذ محلا للكلام لا يمنع من إطلاق اللفظ عليه
مع تعلق الأمر به في الجملة كما هو الحال في غيره.
وثانيهما: أن أهمية أحد الواجبين في نظر الشارع إنما يقضي بأولوية اختيار
المكلف له وأين ذلك من اختصاص التكليف به بحسب الشرع؟ إلا أن يقوم هناك
دليل شرعي على وجوب تقديم الأهم، كما في الصلاة اليومية بالنسبة إلى صلاة
الكسوف، وهو أمر آخر.
وفيه: أن المقصود من الأهمية في المقام هو ما يكون وجوبه أشد في نظر
الشرع واهتمامه به أكثر، ولا ريب أنه إذا كان الحال على ذلك كان الأخذ بالأهم
كذلك متعينا عند الدوران بينه وبين غيره، وثبوت الأهمية على الوجه المذكور أمر
ظاهر من ملاحظة الشرع وممارسة الأدلة الشرعية من غير حاجة إلى قيام دليل
خاص عليه، فإذا ثبت ذلك من الشرع قضى بتقديم الأهم كما هو ظاهر من
ملاحظة موارده. هذا.
ولا يذهب عليك أن ما ذكره الجماعة من تخصيص محل النزاع بالصورة
المذكورة غير مذكور في كلام المعظم، بل كلماتهم مطلقة وإنما تعرض للتفصيل
المذكور جماعة من المتأخرين وكان الحامل لهم على تخصيص الخلاف
بالواجبين ظهور الثمرة بالنسبة إلى ذلك، إذ لو لم يكن الضد مأمورا به لم يتفرع
عليه الثمرة المفروضة من الحكم بفساده على القول باقتضائه النهي عنه وإخراج
صورة توسعة الأمر من جهة ظهور عدم حرمة الترك حينئذ قبل تضييق الأمر فلا
يعقل تحريم أضداده الخاصة حتى يتبعه الفساد، وأما اخراج الواجبين المضيقين
فلعدم إمكان تعلق الأمر بهما على الوجه المذكور فإما أن يبنى على التخيير أو
يحكم بتعيين الأهم فعلى الأول لا وجه للنهي عن الضد وعلى الثاني لا مسرح
لاحتمال الصحة في الآخر.
203

قلت: وأنت خبير بما فيه أما أولا: فبأنه لا داعي إلى تخصيص النزاع بالصورة
المفروضة مع إطلاق كلام الأصوليين واختصاص الثمرة بالصورة المفروضة على
فرض تسليمه لا يقضي بتخصيص النزاع، لإمكان وقوعه على سبيل الإطلاق وإن
أثمر الخلاف في صورة مخصوصة، إذ لا يعتبر في ثمرة الخلاف جريانها في جميع
جزئيات المسألة.
وأما ثانيا: فلأن اختصاص الثمرة بالصورة المفروضة محل نظر، لإمكان
جريانها في غير الواجبات، فإنه إذا كان الضد من العقود أو الإيقاعات أمكن القول
بفساده من جهة النهي المتعلق به بناءا على القول باقتضائه الفساد في المعاملات
مطلقا وأيضا فلو كان الضد في نفسه من الأفعال المباحة فإن قلنا: بتعلق النهي به لم
يصح الاستيجار عليه ولم يستحق العامل أخذ الأجرة عليه، لاندراجه إذا في
أجور المحرمات.
ثم إن جريان الثمرة بالنسبة إلى المندوبات كالصلاة المندوبة والتلاوة
والزيارة ونحوها ظاهر، ولا وجه لتخصيص الحكم بالواجب.
وأما ثالثا: فلأن الحكم بخروج المضيقين عن محل الخلاف غير ظاهر، وما
ذكر من الوجه إنما يقضي بعدم جواز تعلق التكليف بهما معا وأما إذا كان التكليف
بهما على الترتيب فمما لا مانع منه حسب ما يأتي تفصيل القول فيه إن شاء الله.
وما ذكروه من خروج الأمر بالموسع عن محل الكلام فإنما يصح إذا لوحظ
بالنسبة إلى الفعل الواقع في أجزاء الوقت قبل تضيق الواجب، إذ من البين حينئذ
عدم اقتضائه النهي عن ضده مطلقا ولو عن ضده العام بمعنى الترك، إذ لا منع
حينئذ عن تركه ولا يقضي ذلك بتخلف اقتضاء الأمر بالشئ عن المنع عن تركه،
بل ولا النهي عن أضداده، بناءا على القول به بل قضاؤه بذلك حينئذ على نحو دلالته
على الوجوب، فكما أنه يفيد وجوب الفعل في تمام الوقت بمعنى إلزامه بأدائه في
المدة المضروبة في الجملة فيفيد المنع عن إخلاء تمام الوقت عن الفعل المفروض
وتركه فيه، بل والمنع عن أضداده الوجودية المانعة عن الإتيان به كذلك.
204

فتلخص بما قررنا: أن القول باقتضاء الأمر النهي عن ضده لا ينافي عدم
حصول النهي عن ترك الواجب في أجزاء الوقت قبل حصول الضيق، فإن قضاءه
بالنهي عن الضد إنما هو على طبق الأمر المتعلق به - حسب ما ذكرنا - ولا يستلزم
ذلك حصول المنع من الترك ولا النهي عن أضداده بالنسبة إلى ما يحصل به أداء
الواجب ويتصف بالوجوب من جهة تحقق الواجب به، كما هو الحال في جزئيات
الواجب العيني، فإنها متصفة بالوجوب من حيث تحقق الواجب بها مع أنه لا منع
من ترك شئ من خصوص تلك الآحاد مع عدم انحصار الأمر في أداء الواجب به.
ويجري ما ذكرناه في الموسع بالنسبة إلى الواجب التخييري أيضا إذا كان ما
أتى به من الضد ضدا لبعض ما خير فيه دون غيره، بل وبالنسبة إلى الكفائي أيضا
إذا علم قيام الغير به على فرض تركه، والداعي إلى اخراج الموسع على حسب ما
ذكروه قاض باخراج ما ذكره أيضا، لحصول جواز الترك في المقامين في الجملة
إلا أن يقال: باندراجهما في الموسع وهو بعيد جدا خارج عن مقتضى الاصطلاح
من غير باعث عليه وإن أطلق الموسع في المقام على ما يعم ذلك في كلام بعض
الأعلام إلا أنه تعسف ركيك.
قوله: * (فلا خلاف فيه إذ لو لم يدل الأمر... الخ) *.
قد عرفت أن قضية ما ذكره جماعة منهم وقوع الخلاف في الضد العام أيضا
وذهاب جماعة منهم إلى نفي الدلالة عليه، بل يعزى القول به إلى جماعة من
الأساطين، فدعوى نفي الخلاف فيه معللا بالوجه المذكور غير متجه، وكذا الحال
في تنزيل المصنف الخلاف فيه على الخلاف في كيفية الاقتضاء من كونه على
وجه العينية أو الاستلزام فإنه لا يوافق كلامهم ولا ما حكوه عن الجماعة فإن
المحكي عنهم نفي الاقتضاء بالمرة، ومع ذلك فلا يكاد يظهر ثمرة في الخلاف في
كيفية الاقتضاء بعد تسليم أصله، ولا يليق إذا بالتدوين في الكتب العلمية وما يرى
من الخلاف فيه فإنما هو بتبعية الخلاف في أصل الدلالة، حيث يقول: بعض
القائلين بالدلالة بثبوتها على وجه العينية وبعض آخر بثبوتها على وجه الاستلزام
205

فبينوا ذلك عند بيان الأقوال في تلك المسألة من غير أن يعقدوا لذلك بحثا، بل إنما
ذكروه في عداد الأقوال الحاصلة في الخلاف في الاقتضاء وعدمه. هذا.
والظاهر أن مراد من قال بنفي الدلالة في المقام هو ما قدمنا الإشارة إليه من
أنه ليس في المقام سوى إيجاب الفعل من غير حصول تكليف وحكم آخر وراء
ذلك، لا أن القائل المذكور يقول: بجواز ترك الواجب حتى يقال: بخروج الواجب
إذا عن كونه واجبا، وسيأتي تفصيل القول فيه إن شاء الله.
قوله: * (عين النهي عن ضده في المعنى) *.
كأنه أراد بذلك أنه عينه بملاحظة ما يتحصل منه في الخارج فإن الأمر
الحاصل من إنشاء الأمر بحسب الخارج هو الحاصل من إنشاء النهي عن ضده
وإن اختلفا في الصيغة، بل وفي المفهوم الحاصل منهما، في الذهن، ضرورة أن
المفهوم الحاصل في الذهن من " افعل " غير ما يحصل من النهي عن تركه غير أن
المتحصل منهما في الخارج أمر واحد ألا ترى أنك لو قلت: " افعل هذا الشئ "
مثلا أو " لا تتركه " كان مؤداهما أمرا واحدا وإن اختلفا بحسب المفهوم المنساق
من اللفظ فإن هذا القدر من الاختلاف ضروري لا يكاد ينكره عاقل.
قوله: * (لو دل لكانت واحدة من الثلاث) *.
ملخصه حصر الدلالات اللفظية بحسب الاستقراء في الثلاث وقيام الضرورة
بانتفاء الجميع في المقام بعد ملاحظة مفاد الأمر بالشئ والنهي عن ضده وما ذكره
واضح، فدعوى الدلالة اللفظية في المقام لو ثبت القول به - حسب ما يدعيه
المصنف - فاسدة جدا.
قوله: * (أما المطابقة فلأن مفاد الأمر... الخ) *.
يفيد ذلك كون الوجوب معنى مطابقيا للأمر وليس كذلك، إذ لا ينحصر مدلوله
في إفادة مجرد الوجوب، والظاهر أن مقصوده كونه معنى مطابقيا للهيئة إن قيل
بتعلق وضع لها بخصوصها أو نزل الوضع المتعلق بتلك الكلمة منزلة وضعين حسب
ما مر بيانه.
206

وفيه أيضا تأمل وقد مر الكلام في نظيره ويمكن أن يقال: إن البحث في المقام
لا يدور مدار لفظ الأمر وإنما المقصود دلالة إيجاب الفعل على تحريم ضده
فالمطابقة إنما تلحظ بالنسبة إلى ذلك.
قوله: * (ما سنبينه من ضعف متمسك مثبتيه... الخ) *.
يمكن أن يقال: إن ضعف متمسك القوم وعدم وجدان دليل آخر عليه لا يدل
على انتفائه، أقصى الأمر أن يقضي ذلك بالوقف فكيف يجعل ذلك دليلا على عدم
الاستلزام؟
ويدفعه: أن عدم وجدان دليل صالح عليه بعد بذل الوسع فيه ووقوع البحث
عنه بين العلماء في مدة مديدة يفيد الظن بعدمه فيكون ذلك دليلا ظنيا على انتفائه.
وفيه: أنه لا حجية في الظن المذكور في المقام، إذ المفروض خروجه عن
المداليل اللفظية مما يكتفى فيها بمطلق المظنة، فالأولى أن يقال: إن المستند بعد
انتفاء الدليل على الاقتضاء المذكور هو أصالة عدم النهي عن الضد وعدم استلزام
الأمر له، فإن الحكم بالاستلزام يتوقف على قيام الدليل عليه، وأما نفيه فعدم قيام
الدليل على الاستلزام كاف فيه، نظرا إلى قيام الأصل المذكور.
قوله: * (ما علم من أن ماهية الوجوب... الخ) *.
أورد عليه: تارة: بأن الوجوب حكم من أحكام المأمور به ولازم من لوازم
مدلول الصيغة على بعض الوجوه وليس مدلولا مطابقيا للفظ حتى يعد دلالة اللفظ
على جزئه من التضمن، بل دلالة اللفظ عليه من قبيل الدلالة على جزء معناه
الالتزامي فكيف يعد من التضمن؟
وتارة: بأن الوجوب معنى بسيط لا جزء له والمنع من الترك ليس جزءا من
مدلوله، وإنما هو لازم من لوازمه فهو طلب خاص يتفرع عليه المنع من الترك، فلا
وجه لعده معنى تضمنيا، وإن سلمنا كون دلالة الصيغة على الوجوب على سبيل
المطابقة.
ويمكن دفع الأول بأنه لو كان المقصود بالوجوب في المقام هو معناه
207

المصطلح - أعني ما يذم تاركه أو يستحق تاركه العقاب - صح ما ذكر، إذ لا وجه
لأن يكون ذلك مدلولا وضعيا للصيغة لوضوح وضع الأمر لإنشاء الطلب أو
الوجوب، وهذا المعنى أمر آخر يتبع الانشاء المذكور ويلزمه في بعض المواضع،
فالقول بوضع الصيغة له واضح الفساد حسب ما مر تفصيل القول فيه، وأما إذا أريد
بالوجوب في المقام هو الطلب الحتمي الحاصل من الأمر بالشئ سواء تفرع عليه
استحقاق ذم أو عقوبة فيما إذا كان الأمر ممن يجب طاعته عقلا أو شرعا ولم يكن
كسائر الآمرين فلا مانع من كونه مدلولا وضعيا للصيغة، بل هو الذي وضعت
الصيغة لإنشائه - حسب ما مر بيانه في محله - وهو عين الوجوب بالمعنى المذكور
ومغاير له بالاعتبار.
ودفع الثاني بما عرفت من أن الوجوب وإن كان معنى بسيطا في الخارج لكنه
منحل في العقل إلى شيئين فإن البساطة الخارجية لا ينافي التركيب العقلي فلا
مانع من كون الدلالة تضمنية، نظرا إلى ذلك.
وتحقيق المقام: أن مفاد الأمر طلب إيجاد المبدأ على سبيل الحتم وأن مفاد
الخصوصية المذكورة المأخوذة مع الطلب مما ينتزع عنه المنع من الترك، فإن مفاد
تحتم الإيجاد على المكلف أن لا يتحقق منه ترك الإيجاد، فمفاد المنع من الترك
حاصل في حقيقة الإيجاب لا يتأخر حصوله عن حصول تلك الحقيقة، وكون
حقيقة الإيجاب أمرا بسيطا في الخارج لكونه اقتضاء طلب خاص (1) لا ينافي
حصول أمرين به، لوضوح إمكان حصول مفاهيم متعددة بوجود واحد بسيط في
الخارج، سيما إذا كان ذلك الأمر البسيط منحلا في العقل إلى أمور، كما هو الحال
فيما نحن فيه، لوضوح انحلال الوجوب في العقل إلى الطلب المشترك بينه وبين
الندب، والخصوصية المفروضة المعبر عنه بكون ذلك الطلب على سبيل الحتم
والإلزام، أو عدم الرضا بالترك أو المنع من الترك ونحوهما مما يؤدى مفاد ذلك.
فالحاصل في الخارج طلب بسيط خاص وهو مرتبة من الطلب بالغة إلى حد

(1) في نسخة (ف) لكونه اقتضاء وطلبا خاصا.
208

الإلزام والتحتم لكنه منحل عند العقل إلى الأمرين المذكورين، ولذا يكون الأمر
الثاني حاصلا في مرتبة حصول الطلب المذكور من غير أن يتأخر عنه في المرتبة،
فلو كان ذلك من لوازمه والأمور الخارجة عن حقيقته - كما توهم - لم يثبت له في
مرتبة ذاته، لوضوح أن الماهية من حيث هي ليست إلا هي، ومن الواضح عند
التأمل الصحيح خلافه.
والحاصل: أن ما ينتزع منه المفهوم المذكور حاصل في حقيقة الوجوب،
فالمنع من الترك حاصل بحصول الوجوب لا بعد حصوله ليكون له حصول آخر
متأخر عن الوجوب، كما هو الحال في اللوازم التابعة لملزوماتها، وعدم التفات
الذهن إلى التفصيل المذكور عند تصور الإيجاب لا يفيد عدم كونه مأخوذا في
حقيقته، لوضوح أن تصور الكل لا يستلزم تصور الأجزاء تفصيلا إلا إذا كان
التصور بالكنه، ومن هنا يتبين أنه لا وجه لجعل الدلالة على الجزء حاصلة
بالدلالة على الكل مطلقا بل لا بد فيه من تفصيل يذكر في محله.
فظهر بما قررنا: أن ما ذكر في الإيراد من كون حقيقة الوجوب معنى بسيط لا
جزء له، إن أريد به أنه أمر بسيط في الخارج لا جزء له أصلا حتى لا يكون المنع
من الترك جزء له وإنما هو لازم له باللزوم البين بالمعنى الأعم، فهو فاسد، لما
عرفت من أن البساطة الخارجية لا ينافي التركيب في العقل والانحلال إلى أمور
وهو كاف في كون الدلالة تضمنية كما هو الحال في المقام، وإن أريد به أنه بسيط
في العقل لا ينحل إلى أمور عديدة وإنما يكون المنع من الترك من لوازمه وتوابعه
المتأخرة عنه في الوجود كغيره من اللوازم، فهو بين الفساد بعد ملاحظة ما قررنا.
فإن قلت: إذا كان النهي عن الترك جزءا من مدلول الوجوب لزم أن يكون
مدلول النهي جزء من مدلول الأمر فيكون الأمر إذا مشتملا على طلبين، وهو
ظاهر الفساد، لوضوح أن مفاد الأمر ليس إلا طلبا واحدا متعلقا بالفعل.
قلت: الذي يتراءى من كلام المصنف (رحمه الله) وغيره هو ذلك لكن ذلك غير لازم
مما قررناه، والتحقيق: أن النهي عن الترك ليس مدلولا تضمنيا للأمر بشئ، إذ
209

ليس هناك طلب آخر في ضمن الأمر متعلق بالترك، وليس المنع من الترك
المأخوذ جزء من الوجوب عبارة عن النهي عن الترك، بل هو عنوان من
الخصوصية المأخوذة مع الطلب المايزة بينه وبين الندب، فإن تحتم الطلب كونه
بحيث يمنع من ترك المطلوب، وحيثية تحتيم أحد النقيضين هي بعينها حيثية إلزام
رفع الآخر، فإن كلا من النقيضين رفع للآخر، فليس هناك طلب آخر متعلق بالترك
ولا تحتيم آخر متوجه إليه بل هناك طلب وتحتيم واحد متعلق بالفعل وهو بعينه
طلب لترك الترك وتحتيم له، لكون الفعل بعينه تركا للترك ورفعا له، فطلب ترك
الترك هو عين طلب الفعل وحتميته عين حتمية ذلك الطلب.
فظهر أن دلالة الأمر بالشئ على النهي عن ضده العام ليس على سبيل
التضمن ولا الالتزام، بل ليس مفاد النهي المفروض إلا عين ما يستفاد من الأمر
وإنما يتغايران بحسب الاعتبار من غير أن يكون هناك طلبان وتكليفان أصلا
فليس معنى الطلب ثانيا مأخوذا في المنع، بل المقصود بالمنع من الترك المأخوذ
قيدا لطلب الفعل هو حيثية تحتم الطلب المتعلق بالفعل، ولما لم يمكن انفكاك
تصوره عن تصور الطلب اعتبر معنى الطلب ثانيا عند التعبير عن تلك الخصوصية
فعبر عنه بالمنع عن الترك، ألا ترى أنه يعبر عن مدلول النهي بطلب الترك مع المنع
من الفعل، ومن الواضح أنه ليس هناك طلبان حاصلان في التحريم يؤخذ أحدهما
جنسا والآخر جزءا من الفصل، بل لما كان تصور مفهوم الفصل حاصلا بضمه إلى
الجنس اعتبر فيه ذلك المعنى الجنسي على وجه الاجمال ليتصور معه الخصوصية
المفروضة، والفصل بحسب الحقيقة إنما هو تلك الخصوصية لا غير.
وقد لوحظ نظير ذلك في سائر الفصول أيضا ألا ترى أنه قد لوحظ مفهوم
الذات التي ينضم إليها النطق في الناطق وكذا في غيره من الفصول مع أنه من
المبرهن عندهم عدم أخذ مفهوم الذات في الفصول فليس ذلك ملحوظا إلا من
جهة التبعية، والفصل إنما هو الأمر المنضم إليه، فدلالة الأمر على الخصوصية
المذكورة تضمنية ولا يستلزم ذلك أن يكون دلالته على النهي عن الترك كذلك.
210

وإنما وقع الشبهة في المقام من جهة ملاحظة مفهوم المنع من الترك، حيث
يرى أن مفاده طلب ترك الترك على سبيل الجزم الذي هو عين مدلول النهي، وقد
عرفت أن أخذ الطلب فيه ثانيا إنما هو من جهة تصور الخصوصية المفروضة
وليس هناك طلب آخر ملحوظ في جانب الترك أصلا، فليس هناك إلا طلب
واحد يتعلق بالفعل وإن انحل ذلك إلى مفهومين، إذ لا يجعله ذلك تكليفين
وطلبين، وليس ترك الفعل المفروض إلا حراما أصليا نفسيا باعثا على استحقاق
العقوبة لكونه عصيانا ومخالفة للأمر المتعلق بالفعل، فحرمة الترك مفاد وجوب
الفعل، كما أن وجوب الفعل مفاد حرمة الترك، وكذا الحال بالنسبة إلى حرمة الفعل
ووجوب الترك ولذا كان ترك كل حرام واجبا وترك كل واجب حراما من غير أن
يكون هناك تكليفان، فحيثية الأمر بالفعل هي حيثية النهي عن الترك، إذ ترك الترك
هو عين الفعل بحسب الخارج لكون الفعل والترك نقيضين وكل منهما رفع للآخر
فيكون طلب كل منهما لترك الآخر، وخصوصية ذلك الطلب الحاصل في الأمر
بأحدهما حاصل في النهي عن الآخر، فإذا كان الأمر بالفعل على وجه الإلزام كان
النهي عن تركه كذلك أيضا.
قوله: * (إن كل متغايرين) *.
يعني بحسب الوجود لا بمجرد المفهوم فلا يرد عليه أن مفهومي الجنس
والفصل لا يندرجان في شئ من الأقسام المذكورة.
قوله: * (ما لا يفتقر اتصاف الذات بها) *.
يعني به الصفات المنتزعة عن نفس الذات مع قطع النظر عن الأمور الخارجة
عنها المنضمة إليها ومحصله التساوي في الذاتيات.
قوله: * (ضرورة أنه يتحقق في الحركة... الخ) *.
قد يورد عليه: تارة: بأن الأمر من حيث الصدور يعني: إذا اعتبر مصدرا
بمعنى الفاعل قائم بالأمر ومن حيث الوقوع يعني: إذا اعتبر مصدرا بمعنى المفعول
قائم بالمأمور به وكذا الحال في النهي، فلا قيام لهما بالفعل المأمور به ليلحظ
211

امتناع اجتماعهما بالنسبة إليه وعدمه وأخرى: بأن المفروض تعلق الأمر بالشئ
وتعلق النهي بضده فيكون أحد الأمرين وصفا للشئ والآخر وصفا لمتعلقه، ولا
مانع من اجتماع الضدين على الوجه المذكور كما في " زيد قبيح حسن غلامه ".
وأجيب عن الأول: تارة: بأن تضاد الأمر والنهي وإن قضى بامتناع قيامهما
بموصوف واحد وهو الآمر أو المأمور دون الفعل المأمور به، إذ لا قيام لشئ
منهما به إلا أن المتضادين كما يمتنع اتصاف شئ واحد بهما على سبيل الحقيقة
كذا يمتنع أن يكونا وصفين بحال المتعلق لشئ واحد بالنسبة إلى متعلق واحد،
كما في " زيدا أسود الغلام وأبيضه " مع اتحاد الغلام، فكذا الحال في المقام فلو كانا
متضادين لم يمكن اتصاف الفعل الواحد بهما على الوجه المذكور.
وتارة: بأنه ليس مراد المستدل بيان اتحاد محل الأمرين المفروضين بدعوى
كون الحركة موصوفا بالأمرين المذكورين، بل المقصود بيان اتحاد متعلق
الأمرين المذكورين ليتحقق شرط التضاد بينهما على فرض كونهما ضدين،
لوضوح أنه لا تضاد بين الأمر والنهي مع تغاير المتعلق، ضرورة إمكان صدورهما
حينئذ عن آمر واحد وجواز وقوعهما على مأمور واحد، فالمقصود بيان حصول
الشرط المذكور في المقام بكون الحركة متعلقا للأمرين لا بيان اجتماع الأمرين
المذكورين فيها وقيامهما بها، بل بيان ذلك متروك في كلامه، لوضوح الحال في
كون محل اجتماعهما أحد الشخصين المذكورين على الوجه المذكور.
ولا يخفى عليك وهن الوجهين وعدم انطباق شئ منهما على كلام المستدل،
لصراحة كلامه في اجتماع ما يفرض كونهما ضدين في الحركة، كيف ولو كان
مقصوده ما ذكر في الجواب الأول - من تقرير الاجتماع بالنسبة إلى الآمر أو
المأمور - فلا داعي لإضرابه عن بيان اجتماعهما في الموصوف الواحد إلى بيان
كونهما وصفين بحال المتعلق بغيره، ولو جعل السر فيه ما ذكر في الجواب الثاني
من بيان حصول شرط التضاد من اتحاد المتعلق ففيه: أن ذلك أمر واضح غني عن
البيان، إذ المفروض في المقام حصول المضادة بين الأمر بالشئ والنهي عما
212

يضاد ذلك الشئ، فاتحاد المتعلق على الوجه المذكور مأخوذ في أصل المسألة لا
حاجة إلى بيانه وإنما المقصود بيان اجتماع الأمرين في محل واحد ليدل على
انتفاء التضاد بينهما، كما هو قضية المقام وصريح الكلام، وقد ظهر بذلك ضعف
الجواب الثاني أيضا.
فالصواب في الجواب أن يقال: إنه لما كان مرجع الخلاف في كون الأمر
بالشئ نهيا عن ضده إلى أن وجوب الشئ هل يفيد تحريم ضده؟ فيكون المفيد
لوجوب الشئ هو المفيد لتحريم ضده وكان مقصود القائل بكون الأمر بالشئ
عين النهي عن ضده أن الأمر الحاصل من أحدهما عين الحاصل من الآخر، وإلا
فتغاير المفهومين والصيغتين والمفهوم من الصيغتين أمر واضح لا مجال لإنكاره
كما مر كان مقصوده أن وجوب الفعل المأمور به عين حرمة ضده، والحاصل من
كل من الأمر والنهي المفروضين عين الحاصل من الآخر في الخارج، فمقصوده
من هذه الفقرة من الحجة إبطال المضادة على تقدير عدم العينية، نظرا إلى وضوح
اجتماع الأمرين في الحركة حسب ما ذكره.
ومن البين أن الوجوب والتحريم وإن كانا صادرين عن الآمر إلا أنهما
قائمان بالفعل المأمور به والمنهي عنه، ولذا يتصف الفعل بالوجوب والتحريم من
غير إشكال.
والجواب عن الثاني واضح، إذ ليس المقصود في المقام دفع المضادة بين
الأمر بالشئ والنهي عنه ببيان اجتماعهما في محل واحد ليكون ذلك دليلا على
انتفاء المضادة بينهما، بل المدعى عدم المضادة بين الأمر بالشئ والنهي عن ضده
ومجرد كون أحدهما وصفا للشئ والآخر وصفا له بحال متعلقه لا يمنع من
حصول التضاد، لوضوح المضادة بين قولك " زيد شاب شائب الابن " كيف ولو
كان مجرد ذلك رافعا للتضاد لكان مؤيدا لكلام المستدل لا إيرادا عليه، إذ هو
بصدد إبطال التضاد لا تصويره وبيانه.
قوله: * (كاجتماع السواد مع الحلاوة... الخ) *.
213

كأنه أراد بذلك بيان الحكم المذكور بملاحظة المثال، نظرا إلى أنه إذا حصل
الاجتماع مع ضده في ذلك كان ذلك من مقتضيات الخلافين فيثبت في جميع
موارده بحصول المناط، ووهنه واضح وما ذكره مجرد دعوى لا شاهد عليه.
قوله: * (وهو الأمر بضده) *.
لا يخفى: أن ضد النهي عن ضده لا ينحصر في الأمر بضده، إذ عدم النهي عن
ضده أيضا مضاد له متقابل معه تقابل الإيجاب والسلب إن قلنا بتعميم الضد في
المقام لما يشمل ذلك، ولو قلنا باختصاصه بالوجودي الغير المجامع معه فإباحة
الضد أيضا أمر وجودي غير مجامع للنهي عن الضد ومن البين: أن القائل بعدم
اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن ضده لا ينكر شيئا من ذلك وهو كاف في صدق
الأمر بالشئ مع ضد النهي عن ضده.
نعم لو أريد من جواز اجتماع كل منهما مع ضد الآخر جواز اجتماعه مع كل
أضداده صح ما ذكره من البيان إلا أن الحكم بأن ذلك من لوازم الخلافين بعيد
جدا، ولا شاهد عليه أصلا، مضافا إلى فساد دعواه من أصلها، كما سيجئ
الإشارة إليه إن شاء الله في كلام المصنف.
قوله: * (وإنه محال) *.
لا يخفى: أن المستحيل هو الأمر بالشئ والأمر بضده معا وأما الأمر به على
فرض عصيان الأمر الأول بأن يكون الطلبان مترتبين ولا يكونا في درجة واحدة
فلا مانع منه - حسب ما مرت الإشارة إليه في مقدمة الواجب وسيجئ الكلام فيه
إن شاء الله - ولا يرد عليه لزوم شئ من المفسدتين المذكورتين وذلك كاف في
حصول ما ادعاه من لزوم جواز اجتماع الأمر بالشئ مع الأمر بضده فيبطل به ما
أراده من إبطال اللازم.
قوله: * (إما لأ نهما نقيضان) *.
أراد بالتناقض في المقام عدم جواز الجمع بين الأمرين، نظرا إلى تدافع
مدلوليهما، فيعد أحد الأمرين المذكورين مناقضا للآخر بحسب العرف مدافعا له
214

ولا يجوز حصول التدافع والتنافي في كلام الحكيم، كما هو الحال فيما ينظر له من
الخبرين المتناقضين فليس غرضه من ذلك كون أحد الخطابين متناقضا للآخر في
حكم العقل حتى يكون الجمع بينهما من قبيل الجمع بين المتناقضين، كيف
وتنظيره ذلك بمناقضة أحد الخبرين المفروضين للآخر ينادي بخلاف ذلك،
لوضوح إمكان صدور الخبرين عن الكاذب، وحينئذ فالإيراد عليه - بأنه لا
تناقض بين الخطابين المذكورين ولا بين الخبرين المفروضين وإنما التناقض في
الخبرين بين ما أخبر بهما ولذا لا يجتمعان في الصدق دون نفس الخبرين - ليس
على ما ينبغي.
نعم يمكن الإيراد عليه: بأن قضية ما ذكره من جواز اجتماع كل من الخلافين
مع ضد الآخر هو أن لا يكون في أحدهما ما يمنع من الاجتماع مع ضد الآخر، بل
يجوز الاجتماع بينهما بملاحظة أنفسهما ولا ينافي ذلك حصول مانع خارجي من
جواز الاجتماع كما في المقام، حيث إن المانع منه حكمة الأمر ووقوع أحكامه
على مقتضى حكم العقل، ومع الغض عنه فاللازم على فرض تسليم ما ذكره جواز
اجتماع الأمر بالشئ مع الأمر بضده في الجملة لا بالنسبة إلى كل مكلف، ولا ريب
في جواز ذلك بالنسبة إلى أوامر السفهاء من غير أن يقضي بامتناعه منه شئ من
الأمرين المذكورين، وهو كاف فيما هو بصدده من جواز الاجتماع بينهما.
قوله: * (وإما لأنه تكليف بغير الممكن) *.
قد يقال: إن ما ذكره أولا من لزوم التناقض إنما هو من جهة إيجاب الإتيان
بالضدين في زمان واحد ولا مفسدة فيه إلا من جهة التكليف بالمحال - حسب ما
مرت الإشارة إليه - فلا وجه لعد ذلك وجها آخر.
وقد يجاب عنه: بأن امتناع التكليف بالمحال يقرر من وجهين:
أحدهما: من جهة استحالة توجه الإرادة نحو المحال مع العلم باستحالته.
وثانيهما: من جهة لزوم السفه بل الظلم أيضا لو ترتب عليه العقوبة من جهة
المخالفة، فأشار بالوجه الأول إلى الأول وأراد بالثاني الاستناد إلى الجهة الثانية.
215

ودفع ذلك: بأن المحال تحقق قصد المحال من العاقل وأما طلب المحال الذي
هو حقيقة التكليف دون إرادة الفعل فلا استحالة فيه إلا من الجهة الثانية.
وفيه: أن ما ذكر من حقيقة التكليف وإن كان هو ما يقتضيه التحقيق - حسبما مر
ويأتي الكلام فيه - إلا أن ظاهر المشهور بين أصحابنا والمعتزلة هو اتحاد الطلب
والإرادة لا تغايرهما، كما اختاره الأشاعرة، فالجواب مبني على ذلك دون ما ذكر.
نعم حمل العبارة على ما ذكر بعيد جدا، فإن الوجهين المذكورين كما ذكرنا
قاضيان بامتناع التكليف بالمحال، ومقتضى العبارة كون المفسدة الأولى مغايرة
لذلك لا ربط لها بامتناع التكليف بالمحال، فما ذكر في التوجيه تمحل ظاهر لا
وجه لحمل العبارة عليه، فالمتجه في دفع الإيراد حمل الوجه الأول على ما
قررناه، وذلك الوجه كاستحالة التكليف بالمحال مبني على ثبوت التحسين
والتقبيح العقليين والمفسدة المترتبة على كل من الوجهين من قبيل واحد، وكأنه
لذا ردد المستدل بينهما مشيرا بذلك إلى صحة تقريره بكل من الوجهين.
قوله: * (إن كان المراد بقولهم) *.
لا يخفى: أن الاحتمالين المذكورين في الجواب إنما هما بالنسبة إلى الضد
الخاص ولو كانت دعواهم العينية بالنسبة إلى الضد العام - حسب ما مر من أنه
الأنسب بالقول المذكور - يكون المراد بالضد الترك ويكون مفاد القول بأن الأمر
بالشئ عين النهي عن ضده أن مفاد طلب إيجاد الشئ عين مفاد طلب ترك
تركه، إذ مفاد عدم العدم هو الوجود، فإن كلا من الوجود والعدم رفع للآخر، فطلب
الوجود وطلب عدم العدم شئ واحد وإن اختلف المفهوم منهما فهما عنوانان عن
أمر واحد حسبما مر تفصيل القول فيه، وحينئذ فلا حاجة في بيانه إلى ذلك الوجه
الطويل مع وضوح فساده.
قوله: * (منعنا ما زعموا أنه لازم للخلافين) *.
قد عرفت: أن الدعوى المذكورة ليست بينة ولا مبينة بالدليل، فهي في محل
المنع بل من الواضح فسادها لما قرر من الدليل على خلافها.
216

قوله: * (وقد يكونان ضدين لأمر واحد) *.
لا يخفى: أن كونهما ضدين لأمر واحد لا يقضي بعدم اجتماع كل منهما مع
ضد الآخر في الجملة حسب ما يقتضيه المقدمة المذكورة في الاحتجاج إلا مع
انحصار ضدهما في ذلك.
نعم لو ادعى كون حكم الخلافين جواز اجتماع كل منهما مع كل من أضداد
الآخر صح ما ذكر، إلا أنه لا دلالة في العبارة المتقدمة على الدعوى المذكورة وإن
توقف عليها صحة الاحتجاج في المقام، كما مرت الإشارة إليه.
قوله: * (واعتذر بعضهم... الخ) *.
يمكن أن يوجه ما ذكره أيضا: بأن القائل المذكور قد يقول: بكون دلالة الأمر
على الوجوب على سبيل الالتزام فيكون دلالته على المنع من النقيض التزامية
أيضا، لكونه جزءا من معناه الالتزامي، فليس المراد بالتضمن في كلامه هو
التضمن بمعناه المصطلح ليكون جزءا من معناه المطابقي، بل أراد به الجزئية
بالنسبة إلى معناه الالتزامي.
ويمكن أن يوجه أيضا: بأنه وإن كانت دلالته على المنع من النقيض تضمنية
إلا أنه لم يرد بالاستلزام في المقام كون دلالته على المنع من النقيض التزامية بل
أراد به الاستلزام بين الدلالتين فيكون الدلالة على الكل مستلزما للدلالة على
الجزء وهو كذلك، إذ من البين كون الدلالة التضمنية تابعة للدلالة المطابقية لازمة
لها وإن اتحدتا ذاتا، فإن المغايرة الاعتبارية القاضية بتعدد الدلالتين كافية في
الحكم بتبعية الثانية للأولى ولزومها لها، فاللزوم في المقام بين الدلالتين دون
المدلولين، فأراد في الاحتجاج كون الدلالة تضمنية والمأخوذ في الدعوى
حصول اللزوم بين الدلالتين فلا منافاة.
قوله: * (بأن الكل يستلزم الجزء) *.
كأنه أراد بذلك إطلاق الاستلزام على مجرد عدم الانفكاك، كما عبروا عن
عدم انفكاك الكل عن جزئه باستلزامه له وإن لم يكن الجزء من لوازم الكل بحسب
217

الاصطلاح فكما يصح القول بأن الكل يستلزم الجزء يصح أن يقال: إن الأمر
بالشئ يستلزم المنع عن نقيضه مع كون المنع من النقيض جزء من مدلوله -
حسبما ذكره - وحينئذ فلا غبار عليه وكأن المصنف (رحمه الله) فهم مما ذكره حمل
الاستلزام على معناه الظاهر وأراد تصحيح كون الدلالة على الجزء من قبيل
الاستلزام بما ذكره من استلزام الكل لجزئه، ولذا قال: إنه كما ترى مشيرا إلى
ضعفه، وأنت خبير بوهن ذلك ووضوح فساده فيبعد حمل كلام المعتذر عليه.
قوله: * (لجواز كون الاحتجاج لإثبات كون الاقتضاء... الخ) *.
قد عرفت: أن عقد النزاع في كيفية الاقتضاء بعد تسليم نفس الاقتضاء مما لا
يترتب عليه ثمرة أصلا فلا وجه لكون النزاع المعقود عليه بينهم في ذلك.
ثم إنه قد نوقش في المقام بأنه لو كان مراد المستدل هذا الاحتمال لم يخل
تعبيره عن نوع استدراك لثبوت مطلوبه الذي هو المغايرة بينهما بكون المنع من
النقيض جزء من مفهوم الواجب فلا حاجة إلى ضم قوله: * (فالدال على الوجوب
... الخ) *.
قلت: وكذا الحال لو حمل كلامه على بيان أصل الاقتضاء، لوضوح أنه بعد
إثبات كون المنع من النقيض جزء من مفهوم الوجوب يثبت دلالته عليه، فلا حاجة
أيضا إلى ضم ما ذكر، فلا يعقل فرق ولو في بادئ الرأي بين الوجهين حتى يمكن
تقرير الإيراد المذكور على أحد الوجهين دون الآخر.
وقد أجاب المورد من المناقشة المذكورة: بأنه لما كان الكلام في مدلول
الصيغة لوحظ كون الوجوب مدلولا للصيغة حتى يكون الدال على الوجوب دالا
على المنع من النقيض وهو أيضا مشترك بين الوجهين كما نبه عليه المورد
المذكور، فالمناقشة المذكورة ليست في محلها.
نعم لو ناقش من جهة استدراك المقدمة المذكورة ثم أجاب بما ذكر لربما كان
له وجه.
قوله: * (أن يردد في الجواب بين الاحتمالين) *.
218

كأنه أراد بذلك الترديد في الشق الأول من الجواب بين الاحتمالين
المذكورين من كون الاحتجاج لكيفية الاقتضاء أو لأصل اقتضائه فيتلقى بالقبول
بناءا على الأول ويرد بما ذكر في الجواب من خروجه عن محل النزاع على
الثاني، ويدل على إرادة ذلك: أن ما تنظر فيه المصنف من الجواب المذكور إنما هو
بالنسبة إلى ذلك الشق دون الشق الثاني، فلا كلام له فيه أصلا وإنما إيراده على
إطلاق المجيب في إيراده على الشق الأول، بل كان ينبغي له التفصيل الذي ذكره
في التحقيق.
فظهر بذلك أن ما فسره بعضهم من كون المراد بالأول هو إرادة الترك وبالثاني
هو إرادة الأضداد الخاصة ليس على ما ينبغي، كيف ولو أراد الأول وكان كلامه
في إثبات أصل الاقتضاء ورد عليه ما أورده على المجيب، وقد اعترف به
المصنف أيضا حيث قال: إن ما ذكر في الجواب إنما يتم على التقدير الثاني فلا
وجه لأن يتلقاه بالقبول مطلقا، كيف وما ذكره حينئذ عين كلام المجيب، فكيف
يجعل ذلك مقتضى التحقيق بعد ذكره الإيراد المذكور على الجواب، مضافا إلى ما
فيه من التعسف لبعد إرادة الاحتمالين المذكورين في كلام المجيب عن ظاهر
كلامه، نظرا إلى بعدها عن العبارة وإنما المنساق منه هو ما ذكره المصنف من
الاحتمالين فإن ظاهر قوله: * (والتحقيق: أن يردد بين الاحتمالين) * عدم
حصول ذلك من المجيب وإنه الذي ينبغي أن يذكر في الجواب، فلا وجه لأن
يحمل الاحتمالان المذكوران على ما ذكره في التفسير المذكورة وكذا ما فسره به
بعض آخر: من أن المراد بالأول أن يكون الاحتجاج لإثبات كيفية الاقتضاء
فيتلقى بالقبول، لأن له محلا صحيحا وهو حمل الضد على العام بمعنى الترك
وبالثاني هو إثبات أصل الاقتضاء فيردد النقيض حينئذ بين الترك والضد الخاص.
ويجاب عنه على حسب ما ذكر في كلام المجيب، إذ لا يخفى ما فيه من
التعسف، فإن مجرد صحة الحكم على بعض الفروض لا يقتضي قبوله مطلقا بل
لا بد من التفصيل فيتلقى بالقبول على أحد الوجهين ويرد على الآخر.
219

ودعوى ظهور العبارة حينئذ في إرادة الضد العام لبعد إطلاق النقيض على
الأضداد الخاصة الوجودية غير مسموعة، ولو كان كذلك لجرى ذلك في
الصورتين، فلا وجه للترديد على الثاني دون الأول بل ينبغي ذكره في الوجهين أو
تركه فيهما.
قوله: * (إن الأمر الإيجابي طلب فعل... الخ) *.
يمكن أن يقال: إن الدليل المذكور هو الدليل الأول بعينه، غاية الأمر أنه أخذ
هنا زيادات لم تؤخذ في الأول، ومناط الاستدلال في المقامين واحد، فقد اعتبر
هناك كون مدلول الأمر طلب الفعل مع المنع من النقيض الذي هو بمعنى حرمة
النقيض وهنا قد جعل مفاد الأمر طلب الفعل على وجه يذم على تركه ومفاد ذلك
هو حرمة الترك أيضا، وما ذكره من الوجه في إرجاع الترك إلى الفعل جار في
الأول أيضا إلا أنه لم يلتفت إليه هناك.
نعم قد صرح في الأول بكون المنع من النقيض جزءا للوجوب ومدلولا
تضمنيا له، وهنا لم يصرح بذلك بل ظاهر عبارته حامل لكون ذلك مدلولا التزاميا
له لاحتمال أن يؤخذ الوجوب طلبا خاصا من لوازمه استحقاق الذم على تركه،
وحينئذ يمكن الجمع بينه وبين الدليل الأول ليتوافق مؤداهما بأن المأخوذ في
الأول كون حرمة النقيض جزءا من مدلول الأمر والمأخوذ في الثاني على التقدير
المذكور كون استحقاق الذم لازما له فلا منافاة لوضوح أن استحقاق الذم من
لوازم التحريم، فاستند هناك إلى كون تحريم النقيض جزءا من مفهوم الوجوب
الذي هو مدلول الأمر وهنا إلى ما يلزمه من استحقاق الذم على الترك وأكمل ذلك
بإرجاع الترك إلى الفعل حسب ما قررناه.
قوله: * (ولا نزاع لنا في النهي عنه) *.
قد يورد عليه: بأنه يرد عليه عين ما أورده على المجيب عن الدليل الأول
فإنه ذكر أيضا خروج ذلك عن موضع النزاع فأورد عليه بعدم صحة الإطلاق
المذكور وأن التحقيق الترديد بين الاحتمالين، ويدفعه أنه لما كان تقرير هذا
220

الاستدلال ظاهرا في إثبات أصل الدلالة في مقابلة من ينكرها كما هو ظاهر من
ملاحظة قوله: * (إذ لا ذم بما لم ينه عنه لأنه معناه) * فإن ذلك إنما يقال: عند
دفع توهم عدم دلالته على النهي، فلذا أجاب عنه المصنف (رحمه الله) بأنه لا نزاع لنا في
النهي عنه حسبما يفيده الدليل المذكور حيث لا يفيد سوى أصل الدلالة، ووقوع
النزاع في كون تلك الدلالة على سبيل العينية أو التضمن أو الالتزام مما لا ربط له
بهذا المقام، وحينئذ فلا ينافي ذلك ما سبق من المصنف (رحمه الله) من صحة وقوع النزاع
في الضد العام بالنسبة إلى كيفية الدلالة ولا حاجة حينئذ إلى أن يقال في الجواب:
إن ذلك لا يفيد الاستلزام كما يدعيه المستدل وإنما يفيد التضمن حسب ما ذكرناه،
والأولى توجيه العبارة بحملها على ذلك بأن يكون المراد منها: أنه لا نزاع لنا في
النهي عنه في الجملة، وبمجرد ذلك لا يتم ما ادعيت من الاستلزام بل هو على
سبيل التضمن لبعد ذلك عن العبارة جدا كيف ولو أراد ذلك لأشار إلى منع إفادته
كون الدلالة على سبيل الاستلزام دون التضمن، ولا يدفعه بأن ما يفيده مما لا نزاع
لنا فيه.
ويمكن تقرير الاستدلال بوجه يفيد كون الدلالة على سبيل التضمن كما هو
مقتضى الدليل الأول، فإن الوجوب الذي هو مدلول الأمر هو مطلوبية الفعل على
وجه يذم تاركه وكونه بحيث يذم تاركه هو مفاد تعلق النهي بتركه، فإن المنهي عنه
هو الذي يذم فاعله أو يقال: إن تعريف الواجب بما يذم تاركه تعريف بالرسم،
وحده في الحقيقة هو طلب الفعل مع المنع من الترك وهو الباعث على استحقاق
الذم على تركه والمنع من الترك هو عين مفاد النهي عنه إلى آخر ما ذكر وحينئذ
فيمكن أن يراد من قوله: * (ولا نزاع لنا في النهي عنه) * تلقيه له بالقبول لا دفعه
بخروجه عن محل النزاع حسب ما مر في كلام المجيب المتقدم، وقد يحمل كلامه
على إرادة إثبات الالتزام لكنه لا يوافق دليله السابق، لظهوره بل صراحته في
إثبات التضمن، ومع ذلك فأقصى ما يفيده ذلك هو الاستلزام العقلي دون الالتزام
اللفظي، كما لا يخفى.
221

قوله: * (يعني: أنه لا بد عند الأمر من تعلقه) *.
يعني: بذلك أنه لا يريد به اللزوم العقلي بأن يكون العقل ظرفا للزومهما بأن
يستحيل الانفكاك بينهما بحسب الذهن ليكون لازما بينا له بالمعنى الأخص، بل
يريد باللزوم العقلي: أن العقل يدرك ذلك اللزوم وإن توقف ذلك على واسطة في
الإثبات ليكون اللزوم غير بين، أو اكتفى في إدراكه بمجرد تصور الطرفين والنسبة
بينهما لا أن الشرع يحكم به، وليس المراد من عدم حكم الشرع به عدم انفراده في
الحكم به، كما هو الحال في الملزومات الثابتة بالشرع مما لا يستقل العقل بإدراكه
وإلا فمن الظاهر أنه إذا حكم به العقل فقد حكم به الشرع أيضا.
قوله: * (فالنهي عن الضد لازم له بهذا المعنى) *.
قضية ظاهر العبارة: أن ذلك بيان لكلام القائل بالاستلزام، فالإيراد عليه بأنه
إن أريد به الضد العام فغير مفيد في استنباط الأحكام وإن أريد به الضد الخاص
فغير مسلم إذ ليس ترك الضد من جملة مقدمات الفعل، ليس في محله.
قوله: * (وأنت إذا تأملت... الخ) *.
لا يخفى: أنه إن أراد القائل المذكور تنزيل كلام القائل بالدلالة على النهي عن
الضد العام على ما ذكره فهو مما لا شاهد عليه، إذ ذهاب البعض إلى حصول
الدلالة اللفظية بالنسبة إليه مما لا بعد فيه ولا داعي إلى التنزيل بعد قضاء كلامه
بذلك، وإن أراد تنزيل كلام القائل بالدلالة على النهي عن الضد الخاص على ذلك
فليس بالبعيد، لبعد القول بالدلالة اللفظية بالنسبة إليه جدا، كيف والدلالة المذكورة
على فرض ثبوتها ليست بينة بالمعنى الأعم أيضا بل يتوقف إثباتها على قيام
الدليل عليه، فدعوى اللزوم البين بالمعنى الأخص كأنه مصادم للضرورة، وليس
في كلام القوم على ما رأينا تصريح بإثبات الدلالة اللفظية وإن فرض إطلاق
بعضهم حصول الدلالة اللفظية. فتنزيله على إرادة الضد العام ليس بذلك البعيد،
فاستنكار المصنف (رحمه الله) لما قرر القائل المذكور على إطلاقه ليس على ما ينبغي.
قوله: * (أحدهما: أن فعل الواجب... الخ) *.
222

قد عرفت: أن جل القائلين بدلالة الأمر بالشئ على النهي عن ضده الخاص
أو كلهم إنما يقولون به من جهة الدلالة العقلية بملاحظة قيام الدليل العقلي القاطع
عليه حسب ما صرح به المفصل المذكور، كما يقتضيه هذه الحجة المقررة وهي
عمدة حججهم على المسألة والمعول عليها كما ستعرف الحال فيها وتقريرها: أن
ترك كل من الأضداد الخاصة من مقدمات حصول الواجب نظرا إلى استحالة
اجتماع كل منها مع فعل الواجب فيكون مانعا من حصولها وترك المانع من جملة
المقدمات، وقد مر أن مقدمة الواجب واجبة فيكون ترك الضد واجبا وإذا كان
تركه واجبا كان فعله حراما وهو معنى النهي عنه.
وقد يورد عليه بوجوه:
أحدها: المنع من كون ترك الضد من مقدمات الفعل وإنما هو من الأمور
المقارنة له وليس مجرد استحالة اجتماع الضد مع أداء الواجب قاضيا بكونه من
موانع الواجب ليكون تركه مقدمة لفعله، فإن الأمور اللازمة للموانع مما يستحيل
اجتماعها مع الفعل مع أنها ليست مانعة منه ولا تركها مقدمة لحصوله، وقد يحتج
على ذلك أيضا بوجوه:
أحدها: أنه لو كان ترك الضد مقدمة لفعل ضده لكان فعل الضد مقدمة لترك
ضده بالأولى، إذ التوقف المدعى في الأول من قبيل توقف المشروط على الشرط
وفي الثاني من قبيل توقف المسبب على السبب، فإن من البين أن فعل الضد
مستلزم لترك الآخر وسبب لتركه والتوقف على المقدمة السببية أوضح من غيرها
والتالي فاسد جدا وإلا لزم صحة قول الكعبي بانتفاء المباح فالمقدم مثله.
ثانيها: أنه لو كان كذلك لزم الدور، فإنه لو كان فعل الضد من موانع فعل
الواجب كان فعل الواجب مانعا منه أيضا، ضرورة حصول المضادة من الجانبين،
وكما أن ترك المانع من مقدمات حصول الفعل فكذا وجود المانع سبب لارتفاع
الفعل فيكون فعل الواجب متوقفا على ترك الضد وترك الضد متوقفا على فعل
الواجب، ضرورة توقف المسبب على سببه، غاية الأمر اختلاف جهة التوقف من
223

الجانبين فإن أحدهما من قبيل توقف المشروط على الشرط والآخر من توقف
المسبب على السبب، وهو غير مانع من لزوم الدور.
ثالثها: أن من المعلوم بالوجدان أنه إذا حصل إرادة المأمور به وانتفى
الصارف عنه حصل هناك كل من فعل المأمور به وترك ضده فيكونان إذا معلولي
علة واحدة فلا وجه إذن لجعل ترك الضد من مقدمات الفعل، فكما أن السبب
الباعث على حصول أحد النقيضين هو الباعث على رفع الآخر فكذا السبب
لحصول أحد الضدين هو السبب لرفع الآخر، فلا ترتب بين ترك الضد والإتيان
بالفعل، لوضوح عدم حصول الترتب بين معلولي علة واحدة، إذ هما موجودان في
مرتبة واحدة لا تقدم لأحدهما على الآخر في ملاحظة العقل.
ويرد على الأول: أنه إن أريد بكون فعل الضد سبب لترك الآخر انحصار
السبب فيه حتى أنه يتعين على المكلف الإتيان به ليتفرع عليه ما يجب عليه من
ترك ضده فهو بين الفساد، ضرورة أنه كما يصح استناد الترك إلى وجود المانع كذا
يصح استناده إلى عدم الشرط أو السبب. وإن أريد به كونه سببا للترك في الجملة
وإن جاز أن يكون هناك سبب آخر لحصوله فلا يستلزم ذلك حينئذ ما يريده
الكعبي من انتفاء المباح، إذ مع استناد الترك إلى غيره لا يكون فعل الضد واجبا،
لظهور أن سبب الواجب إنما يكون واجبا إذا كان هو المؤدي إلى حصوله وأما إذا
كان السبب المؤدي إليه أمر آخر لم يكن ذلك السبب واجبا أصلا، وإنما يكون
مقارنا لحصوله، غاية الأمر: أنه لو فرض كون ترك الضد المحرم سببا عن فعل
ضده لزم أن يكون ذلك الضد واجبا وذلك لا يقضي بانتفاء المباح مطلقا، على أنا
نقول: بامتناع ذلك لأن فعل الضد مسبوق دائما بإرادته، وهي كافية في حصول
ترك الحرام سابقة على فعل الضد، فلا يكون فعل الضد هو الباعث على ترك ضده
في شئ من المقامات وسيجئ تفصيل القول في ذلك في دفع شبهة الكعبي.
وعلى الثاني: أن وجود الضد من موانع وجود الضد الآخر مطلقا، فلا يمكن
فعل الآخر إلا بعد تركه وليس في وجود الآخر إلا شأنية كونه سببا لترك ذلك
224

الضد، إذ لا ينحصر السبب في ترك الشئ في وجود المانع منه، فإن انتفاء كل من
أجزاء العلة التامة علة تامة لتركه، ومع استناده إلى أحد تلك الأسباب لا توقف له
على السبب المفروض حتى يرد الدور.
فإن قلت: إنه مع فرض انتفاء سائر الأسباب وانحصار الأمر في السبب
المفروض يجئ الدور وهو كاف في مقصود المجيب.
قلت: إنه لا يمكن انحصار السبب المؤدي إلى الترك في فعل الضد حسب ما
عرفت لكونه مسبوقا بإرادته وهي كافية في تسبيبه الترك، لوضوح أن السبب
الداعي إلى أحد الضدين صارف عن الآخر فلا يتحقق استناد الترك إليه بالفعل في
شئ من الصور. لا يقال: إنه يجري الكلام المذكور حينئذ بالنسبة إلى ذلك السبب
الداعي إلى المأمور به لمضادته لضد المأمور به أيضا، نظرا إلى امتناع اجتماعه
معه، فيقرر لزوم الدور بالنسبة إليه، لأ نا نمنع من ثبوت المضادة بينهما، ومجرد
امتناع الجمع بين الأمرين لا يقضي بالمضادة، إذ قد يكون الامتناع بالعرض كما
في المقام فإن امتناع اجتماعه معه من جهة مضادته للسبب الموصل إليه - أعني:
إرادة ذلك الضد - نظرا إلى امتناع اجتماع الإرادتين ولذا كان صارفا عن ذلك
الضد كيف ومن البين: أن إرادة أحد الضدين لا يتوقف على ترك الضد الآخر
بوجه من الوجوه، ولذا يصح استناد ذلك الترك إلى ترك الإرادة دون العكس.
لا يقال: إنا نجري الكلام حينئذ بالنسبة إلى الإرادة المفروضة وإرادة ذلك
الضد، إذ لا شك في ثبوت المضادة بينهما فنقول: إن حصول الإرادة المذكورة
سبب لعدم إرادة ضده، لما ذكر من أن وجود أحد الضدين سبب لانتفاء الآخر مع
أن وجودها يتوقف على انتفاء الآخر، بناءا على كون عدم الضد شرطا في حصول
الضد الآخر.
لأ نا نقول: إن إرادة الفعل وعدمها إنما يتفرع عن حصول الداعي وعدمه، فقد
لا يوجد الداعي إلى الضد أصلا، فيتفرع عليه عدم إرادته من غير أن يتسبب ذلك
عن إرادة ضده بوجه من الوجوه، وقد يكون الداعي إليه موجودا لكن يغلبه
225

الداعي إلى المأمور به، وحينئذ فلا يكون عدم إرادة الضد مستندا أيضا إلى إرادة
المأمور به ليكون توقف إرادة المأمور به على عدم إرادة ضده موجبا للدور، بل
إنما يستند إلى ما يتقدمها من غلبة الداعي إلى المأمور به ومغلوبية الجانب الآخر
الباعث على إرادة المأمور به وعدم إرادة الآخر، فيكون وجود أحد الضدين
وانتفاء الآخر مستندا في الجملة إلى علة واحدة من غير أن يكون وجود أحدهما
علة في دفع الآخر ليلزم الإيراد، ولا ينافي ذلك توقف حصول الفعل على عدم
إرادة ضده، حسب ما سيجئ بيانه إن شاء الله تعالى.
فإن قلت: إنا نجري الإيراد حينئذ بالنسبة إلى غلبة الداعي إلى المأمور به
وغلبة الداعي إلى ضده، لكونهما ضدين أيضا وقد صار رجحان الداعي إلى الفعل
سببا لانتفاء رجحان الداعي إلى ضده، والمفروض توقف حصول الضد على انتفاء
الآخر، فيلزم الدور المذكور.
قلت: لا سببية بين الأمرين بل رجحان الداعي إلى الفعل إنما يكون
بمرجوحية الداعي إلى الضد، فهو حاصل في مرتبة حصول الآخر من غير توقف
بينهما يقدم ذلك أحدهما على الآخر في الرتبة، فرجحان الداعي إلى المأمور به
مكافئ في الوجود لمرجوحية الداعي إلى ضده، إذ الرجحانية والمرجوحية من
الأمور المتضايفة، ومن المقرر: عدم تقدم أحد المتضايفين على الآخر في
الوجود، ورجحان الداعي إلى الضد مع رجحان الداعي إلى المأمور به وإن لم
يكونا متضايفين إلا أن رجحان الداعي إلى الضد منفي بعين مرجوحية الداعي إليه
من غير ترتب بينهما، فإن مرجوحيته عين عدم رجحانه على الآخر فرجحان
الداعي إلى المأمور به مكافئ لمرجوحية الداعي إلى ضده الذي هو مفاد عدم
رجحانه من غير حصول توقف بين الأمور المذكورة.
وتوضيح المقام: أن الأمرين المتقابلين إن كان تقابلهما من قبيل تقابل
الإيجاب والسلب فلا توقف لحصول أحد الطرفين على ارتفاع الآخر، إذ حصول
كل من الجانبين عين ارتفاع الآخر، وكذا الحال في تقابل العدم والملكة، وقد
226

عرفت عدم التوقف في تقابل التضايف أيضا، وأما المتقابلين على سبيل التضاد
فيتوقف وجود كل على عدم الآخر إلا أن يرجع الأمر فيهما إلى أحد الوجوه
الاخر، كما في المقام.
وعلى الثالث: أن القول بكون فعل المأمور به وترك ضده معلولين لعلة واحدة
فاسد، لوضوح كون كل من الضدين مانعا من حصول الآخر وظهور كون ارتفاع
المانع من مقدمات الفعل، والفرق بين الضد والنقيض ظاهر، لظهور أن حصول كل
من النقيضين بعينه رفع للآخر، فليس هناك أمران يعدان معلولين لعلة واحدة
بخلاف المقام، إذ ليس حيثية وجود أحد الضدين هي بعينها مفاد رفع الآخر وإنما
يستلزمه، وما يتراءى من حصول الأمرين بإرادة الفعل وانتفاء الصارف عنه لا
يفيد كونهما معلولين لعلة واحدة، لإمكان كون ذلك سببا أولا لانتفاء الضد ثم كون
المجموع سببا لحصول الفعل فيكون عدم الضد متقدما في الرتبة على حصول
الفعل وإن كان مقارنا له في الزمان.
فإن قلت: إذا كان ترك الضد لازما للإرادة الملزمة للفعل حاصلا بحصولها فلا
داعي للقول بوجوبه بعد وجوب ملزومه، فالحال فيه كسائر لوازم المقدمات، وقد
عرفت: أنه لا وجوب لشئ منها وإن لم تكن منفكة عن الواجب.
قلت: قد عرفت أن انتفاء أحد الضدين من مقدمات حصول الآخر، غاية
الأمر أن يكون من لوازم مقدمة أخرى للفعل، فإن ذلك لا يقضي بعدم وجوبه قبل
وجوب ملزومه، إذ أقصى الأمر عدم اقتضاء كونه من لوازم المقدمة وجوبه من
جهة وجوب الفعل وهو لا ينافي اقتضاء وجوب الفعل وجوبه من حيث كونه
مقدمة له إلا أن يقال: باختصاص ما دل على وجوب المقدمة بغيره وهو فاسد، لما
عرفت من إطلاق أدلة القول بوجوب المقدمة، وإذا عرفت تفصيل ما قررناه ظهر
لك فساد ما ذكر من منع كون ترك الضد مقدمة ومنع اقتضاء استحالة الاجتماع مع
الفعل قاضيا بكون تركه مقدمة لما عرفت من الدليل المثبت للتوقف، وما ذكر من
النقض سندا للمنع الأخير واضح الفساد، للفرق البين بين الأضداد والموانع وما
227

يلازمها فإن استحالة الاجتماع هناك ذاتية وهنا بالعرض والمانعية إنما يتم بالأول
دون الأخير.
ثانيها: أن القول بوجوب المقدمة لا يقضي بوجوب ترك الضد مطلقا وإنما
يقضي بوجوب ترك الضد الموصل إلى أداء الواجب، فإن ما دل على وجوب
المقدمة إنما يفيد وجوبها من حيث إيصالها إلى الواجب لا مطلقا، فإذا لم يكن
المكلف مريدا لفعل الواجب لم يكن ترك الضد موصلا إلى الواجب فلا يكون
الحكم بوجوب المقدمة قاضيا بوجوب ذلك، نظرا إلى انتفاء التوصل به حينئذ إلى
الواجب وإذا لم يكن حينئذ ترك الضد واجبا فمن أين يجئ النهي عنه؟
ويدفعه ما عرفت من أن ما دل على وجوب المقدمة إنما يفيد وجوبها من
حيث كونها موصلة إلى الواجب لا خصوص ما هو الموصل إليه، وقضية ذلك
وجوب ترك الضد في المقام من حيث إيصاله إلى أداء الواجب بأن يجتمع مع
إرادة الواجب وسائر مقدماته ليتفرع عليها أداء الواجب، ولا يمنع من وجوبه
مقارنته لانتفاء سائر المقدمات، إذ مطلوب الأمر حينئذ إيجاد الجميع وعدم إقدام
المكلف على إيجادها لا يقضي بخروج شئ منها عن الوجوب، فعدم حصول
الإيصال بها فعلا لا ينافي وجوبها من حيث حصول الإيصال بها بأن يأتي بسائر
المقدمات أيضا فيتبعه الإيصال، فحينئذ إذا لم يأت بغيرها كان تاركا لما لم يأت
بها من المقدمات دون ما أتى به أيضا، حسب ما يقتضيه التقرير المذكور.
ثالثها: المنع من وجوب المقدمة مطلقا أو خصوص المقدمة الغير السببية كما
اختاره المصنف (رحمه الله) وقد أشار إليه بقوله: * (فإنا نمنع وجوب المقدمة... الخ) *
وجوابه ما تبين من ثبوت وجوب المقدمة مطلقا وبطلان القول بنفي وجوبها على
الإطلاق أو على التفصيل حسب ما مر القول فيه.
رابعها: أن المقدمة إنما تجب للتوصل إلى الواجب كما يقتضيه الدليل الدال
عليه، وقضية ذلك اختصاص الوجوب بحال إمكان حصول التوصل بها لا مطلقا،
ولا ريب أنه مع وجود الصارف عن المأمور به وعدم الداعي إليه المستمرين مع
الأضداد الخاصة لا يمكن التوصل بها فلا وجوب لها.
228

خامسها: أن حجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها إنما ينهض
دليلا على الوجوب عند التأمل فيها حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها
دون ما إذا لم يكن مريدا له، كما هو الحال عند اشتغاله بفعل الضد وهذان الوجهان
يأتي الإشارة إليهما في كلام المصنف في آخر المسألة، ويأتي الإشارة إلى ما
يزيفهما.
قوله: * (وهو محرم قطعا) *.
لما عرفت من الاتفاق على دلالة الأمر بالشئ على النهي عن ضده العام
بمعنى الترك وإن وقع الكلام في كيفية تلك الدلالة حسب ما مر.
قوله: * (لأن مستلزم المحرم محرم) *.
هذا إما مبني على ما مر من وجوب المقدمة السببية، فكما يكون السبب
الواجب واجبا فكذا يكون سبب المحرم محرما لاتحاد المناط فيهما، وهذا هو
الذي بنى عليه المصنف (رحمه الله) في الجواب. أو مبني على ثبوت تحريم الأسباب
المفضية إلى الحرام، إما من تتبع موارد حكم الشرع بحيث يعلم بناء الشرع على
تحريم تلك الأسباب، أو لدعوى الاجماع على ذلك بالخصوص، فلا ربط له إذا
بالقول بوجوب المقدمة.
قوله: * (فإن العقل يستبعد) *.
قد عرفت: أن مجرد استبعاد العقل لا ينهض حجة شرعية على إثبات الحكم
في الشريعة فالاستناد إليه في المقام مما لا وجه له أصلا.
ثم إن المراد بالعلة في المقام هو المقتضي لحصول الحرام إذا صادف اجتماع
الشرائط، ولا يريد به خصوص العلة التامة لخروجه عن المصطلح، كيف ولو أراد
به ذلك لزمه القول بوجوب الشروط، فإنها من أجزاء العلة التامة، ومن البين: أن
تحريم الكل يستدعي تحريم أجزائه، ولا يقول المصنف (رحمه الله) به، ويمكن أن يريد به
الجزء الأخير من العلة التامة، فإنه الذي يتفرع عليه حصول الحرام، فما يقال: من
أن ما ذكره إنما يوجه إذا كان علة تامة للازم ليس على ما ينبغي، والمراد بتحريمه
229

كونه محظورا في الشريعة مطلوبا تركه على ما هو المقصود من الحرام، وليس
المراد به أن يترتب عليه عقوبة أخرى سوى العقوبة المترتبة على اللازم، لوضوح
فساده في المقام، وليس استحقاق العقوبة كذلك من لوزام التحريم مطلقا حتى
يلزم القول بحصوله بعد القول بتحريمه، والمراد بكون تحريم المعلول مقتضيا
لتحريم علته هو قضاؤه بتحريم علته المفضية إلى الحرام بأن يكون وجود الحرام
مسببا عنه، لا مجرد ما يكون من شأنه العلية وإن لم يستند وجود الحرام إليه.
هذا إذا تسبب الحرام عن إحدى تلك العلل فقارنها وجود غيرها من غير أن
يتسبب ذلك الحرام عنها، وأما إذا لم يأت به وكان له أسباب عديدة فظاهر ما ذكره
المصنف تحريم الجميع، لكون كل منها سببا لحصول الحرام، فقضية قضاء تحريم
المعلول بتحريم علته هو حرمة جميع تلك الأسباب.
وقد يورد في المقام: بأن تسليم المصنف كون تحريم المعلول قاضيا بتحريم
علته يستلزم قوله بوجوب المقدمة الغير السببية أيضا، لكون ترك الواجب محرما
قطعا، وكون ترك كل من مقدماته علة لترك الواجب ومستلزما له وإن لم يكن
هناك استلزام من جانب الوجود، وتخصيص العلة والمعلول بالوجوديين تحكم
صرف، لاطراد العلة، وكذا القول بتخصيص أحدهما بذلك، فلا يصح له حينئذ نفي
وجوب غير السبب حسبما اختاره.
قلت: وقد مر تفصيل الكلام في ذلك عند ذكر الدليل المذكور في عداد أدلة
القول بوجوب المقدمة، فلا حاجة إلى إعادته وبملاحظته يتبين الحال في الإلزام
المذكور.
قوله: * (فإن انتفاء التحريم في أحد المعلولين... الخ) *.
لا يخفى: أن قضية ما ذكره من قضاء تحريم المعلول بتحريم العلة أنه مع
انتفاء التحريم عن المعلول لا قضاء فيه بتحريم العلة، وأما قضاؤه بانتفاء التحريم
عن العلة فلا، لوضوح أن انتفاء الملزوم لا يقضي بانتفاء اللازم، وأقصى ما يفيده
انتفاء السبب الخاص انتفاء المسبب من تلك الجهة لا مطلقا، وهو لم يقم حجة
230

على أن إباحة المعلول قاضية بإباحة العلة، كما أن تحريمه قاض بحرمتها، فغاية
الأمر عدم تحريمها من تلك الجهة وهو لا ينافي حرمتها من جهة أخرى، إذ نفي
التحريم عن الفعل من جهة خاصة لا يستلزم نفيه مطلقا، كيف ومن البين أن شيئا
من المحرمات لا تحريم فيها من جميع الجهات، وإنما يحرم من الجهة المقبحة له
وكذا الحال في المقام، فإن القبح الحاصل في العلة من جهة قبح معلوله وأدائه إلى
القبيح منفي بانتفاء القبح عن معلوله، وأين ذلك من قضاء ذلك بالحكم بإباحته.
فما ذكره من أن انتفاء التحريم في أحد المعلولين يستدعي انتفاءه في العلة
ليختص المعلول الآخر بالتحريم من دون علته ضعيف جدا، إذ قد عرفت: أن قضية
انتفاء التحريم في أحد المعلولين عدم تحريم علته من تلك الجهة، وهو لا ينافي
تحريمه من جهة أخرى وهي حرمة المعلول الآخر.
ثم إن قضية ما ذكره من قضاء انتفاء التحريم عن المعلول بانتفاء التحريم عن
علته على فرض تسليمه دلالة حرمة العلة على تحريم المعلول، ضرورة دلالة
انتفاء المعلول على انتفاء العلة، ولا يقتضي ذلك كون تحريم العلة سببا لتحريم
المعلول، كما يستفاد من كلام المدقق المحشي، إذ الإفادة المذكورة إنما تجئ من
جهة اقتضاء ارتفاع الحرمة عن المعلول ارتفاعها عن العلة، فإذا حرمت العلة
كشف ذلك عن تحريم المعلول، إذ لو لم يكن محرما لقضى بعدم تحريم علته وقد
فرض خلافه، هذا.
ولا يخفى عليك: أن ما ادعاه المصنف من لزوم اتحاد العلة والمعلول في
الحكم وكذا معلولا علة واحدة، إن أراد به حصول محرمات عديدة يستحق الآتي
بها عقوبات متعددة على حسبها فهو واضح الفساد، إذ لا يزيد ما ذكره على حكم
المقدمة وقد عرفت: أنه لا عقوبة مستقلة على ترك المقدمات ولا قائل به كذلك
في المقام. وكذا إن أراد به ثبوت التحريم الغيري كذلك بعد ثبوت التحريم النفسي
لأحدهما، فإنه إنما يتم بالنسبة إلى علة المحرم دون معلوله، إذ لا قائل بكون ما
يتفرع على الحرام من اللوازم محرما آخر. والحاصل: أنه إذا تعلق التحريم بشئ
231

كان المحرم هو ذلك الشئ دون غيره مما يتبعه ويلحقه، غاية الأمر أن يكون
السبب المفضى إليه محرما من جهة الإيصال إليه - حسب ما قرره - ولا دليل على
تحريم غيره أصلا، كيف ولو صح ما توهم لكان إيجاب الأسباب قاضيا بإيجاب
مسبباتها لتحريم ترك السبب الواجب القاضي بتحريم مسببه مع أن الأمر
بالعكس، بل ربما قيل: بأن التكاليف لا يتعلق بالمسببات، وإنما يتعلق بأسبابها،
كما مرت الإشارة إليه.
وإن أراد به استناد التحريم إلى ما ذكر بالعرض نظرا إلى عدم إنفكاكه عن
الحرام نظير ما مر في مقدمة الواجب من وجوبها بالعرض لوجوب ذيها فهو كذلك
قطعا، وقد مر هناك: أن ذلك مما لا ينبغي النزاع فيه ولا في جريانه في لوازم
الواجب ولوازم المقدمات والأسباب إلا أن حمل العبارة على ذلك بعيد جدا، كما
هو ظاهر من ملاحظة كلامه، إذ ليس الحرام حينئذ إلا شيئا واحدا يتعلق به
التحريم بالذات وغير ذلك مما يلزمه ويتبعه إنما يحرم بتحريمه بالتبع والعرض،
فليس هناك إلا تحريم واحد وهو لا يلائم ما ذكره، كيف ولو أراد ذلك لما جاز له
إنكاره في القسم الآتي، لوضوح جريانه فيه أيضا لدوران الحال فيه مدار عدم
جواز الانفكاك ولو بحسب العادة؟ فلا يعقل منعه من ذلك بالنسبة إليه.
قوله: * (وأما إذا انتفت العلية بينهما... الخ) *.
لا يخفى: أن الأمرين المتلازمين في الوجود إما أن يكونا علة ومعلولا بلا
واسطة أو معها، كمعلول مع علة العلة أو يكونا معلولي علة واحدة كذلك، وهذه
العلية إما بحسب العقل فالتلازم بينهما عقلي أو بحسب العادة فالملازمة عادية،
ومن الظاهر: أن العلية العادية بمنزلة العقلية في تفريع الأحكام في المقام من غير
تفاوت، ولذا نصوا في باب مقدمة الواجب على تعميم السبب للعقلي والعادي فإن
أريد بالعلة في المقام ما يعم ذلك - كما هو الظاهر - فلا إشكال إلا أن حكمه
بحصول التلازم في غير هذه الصورة مما لا وجه له، إذ لا يصح الملازمة وعدم
الانفكاك بين الشيئين من دون ذلك على سبيل الاتفاق وعدم الانفكاك بين
232

الشيئين على سبيل الاتفاق مما لا يعقل بالنسبة إلى أفعال المكلفين، إذ مع إمكان
الانفكاك عقلا أو عادة يكون للمكلف التفريق بينهما وإن أدرجت العلية العادية في
القسم الثاني، فالحكم بعدم جريان حكم المتلازمين فيه كما ترى.
قوله: * (إن تضاد الأحكام بأسرها يمنع... الخ) *.
لا يخفى: أنه كما يمنع تضاد الأحكام من اجتماع اثنين منها في محل واحد
كذا يمنع منه قبح التكليف بما لا يطاق، وذلك ظاهر فيما إذا أوجب الإتيان بأحد
المتلازمين وحرم الإتيان بالآخر، فإنه يتعذر على المكلف امتثال الأمرين، ومن
البين: أنه كما يستحيل التكليف بما لا يطاق بالنسبة إلى تكليف واحد كذلك
يستحيل بالنسبة إلى تكليفين أو أكثر، فحرمة ترك المأمور به وإن لم يناف إباحة
فعل الضد إلا أنه ينافي وجوبه على ما هو مورد ثمرة المسألة بل ينافي استحبابه
أيضا، لاستحالة الامتثال له بعد تحريم ما يلازمه، فدفع الوجه المذكور بأن قضية
التضاد امتناع اجتماعهما في موضع واحد لا موضعين لا يدفع ما ذكرناه، فالحكم
بجواز حصول حكمين من الأحكام الخمسة مطلقا في المتلازمين المفروضين
ليس على ما ينبغي.
قوله: * (على أن ذلك لو أثر) *.
أشار بقوله: " ذلك " إلى التلازم بين الشيئين يعني: لو كان التلازم بين الشيئين
مطلقا قاضيا بعدم حصول حكمين منها في المتلازمين لثبت قول الكعبي، وقد
يجعل قوله: " لو أثر " بمنزلة: لو صح، فيكون قوله " ذلك " إشارة إلى كون مطلق
التلازم بين الشيئين مانعا من اتصاف المتلازمين بحكم غير حكم الآخر، فلو صح
ذلك لثبت قول الكعبي بانتفاء المباح، والأول أظهر.
قوله: * (لثبت قول الكعبي بانتفاء المباح... الخ) *.
لا يخفى: أن شبهة الكعبي على تقريره المشهور مبنية على عكس هذه المسألة
أي: قضاء النهي عن الشئ بالأمر بضده، وهو إنما يتبين بإثبات توقف ترك الحرام
على فعل ضده، ووجوب مقدمة الواجب، كما سيأتي بيانه إن شاء الله، وأما الوجه
233

الذي ذكره المصنف في الشبهة فلا توقف له على كون فعل الضد من مقدمات ترك
الحرام ليتوقف تركه عليه ولا على وجوب مقدمة الواجب وإنما يبتنى على عدم
اختلاف المتلازمين في الحكم بعد ثبوت الملازمة بين ترك الحرام والإتيان بفعل
من الأفعال.
وتقريرها على البيان المذكور: أن ترك الحرام يلازم فعلا من الأفعال المضادة
للحرام وترك الحرام واجب فيكون ما يلازمه واجبا، لعدم جواز اختلاف
المتلازمين في الحكم، فإذا ثبت وجوب ذلك قضى بوجوب كل من تلك الأفعال
على سبيل التخيير، وهذا التقرير كتقريره المشهور مبني على عدم إمكان خلو
المكلف عن فعل من الأفعال، ومن يقول بجواز خلو المكلف عن الأفعال فهو في
سعة عن هذه الشبهة ونحوها، ومع البناء على عدم إمكان خلوه عن الأفعال
فالجواب عنه على مذاق المصنف ما سيجئ بيانه في كلامه، وسنقرر ما يرد عليه.
والحق في الجواب عنه حينئذ هو المنع من لزوم اتحاد المتلازمين في الحكم،
وأقصى ما يقال في المقام: إن الأمر الثابت لأحد المتلازمين من رجحان أو
مرجوحية أو منع ترك أو منع فعل ثابت للآخر بالتبع والعرض من غير أن يتحقق
هناك شيئان، بل يكون الثابت شيئا واحدا ينسب إلى أحدهما بالذات وإلى الآخر
بالعرض - على حسب ما مر تفصيل القول فيه - فغاية الأمر أن يكون أحد الأفعال
الوجودية واجب الحصول بتبعية وجوب ترك الحرام يعني: أنه يلزم الإتيان به من
جهة لزوم ترك الحرام لعدم انفكاكه عنه فهو واجب بوجوبه، فهو في نفسه غير
واجب لا لنفسه ولا لغيره، فليس في ذلك نفي للمباح بوجه من الوجوه، أقصى
الأمر ثبوت الوجوب بالعرض والمجاز للكلي المفروض الملازم لترك الحرام
فيثبت ذلك للجزئيات المندرجة تحته تبعا، فإن أراد القائل بوجوب المباح ما
ذكرناه فلا خلاف في المعنى، وإن أراد ثبوت الوجوب له بنفسه سواء كان نفسيا أو
غيريا فقد عرفت عدم نهوض الدليل المذكور عليه أصلا، بل يمكن أن يقال: إن
الوجوب بالعرض على الوجه المذكور لا يثبت لخصوص شئ من الأضداد وإنما
234

يثبت للكلي الشامل لتلك الجزئيات، حيث إنه الذي لا ينفك عن ترك الحرام
بخلاف كل من الجزئيات، لحصول الانفكاك بالنسبة إلى كل منها، فلا وجه للقول
بوجوب شئ منها بالتبع، فإنه إنما يتبع عدم الانفكاك وهو غير حاصل بالنسبة إلى
تلك الخصوصيات، فثبوت الحكم على الوجه المذكور للكلي لا يستتبع ثبوته
للفرد، نظرا إلى عدم حصول الجهة الباعثة لثبوته بالنسبة إلى شئ من الأفراد،
فلا وجوب إذا لشئ من الأضداد الخاصة بالعرض أيضا وإن وجب الأمر العام
على الوجه المذكور. فتأمل.
قوله: * (ولهم في رده وجوه: في بعضها تكلف حيث ضايقهم القول
... الخ) *.
أراد بذلك: ردهم لقوله بالنظر إلى الشبهة المعروفة المبتنية على وجوب
المقدمة دون التقرير الذي ذكره، إذ لا ربط له بوجوب المقدمة حتى يتضايق عليهم
الأمر من جهة القول بوجوب المقدمة.
وتقرير شبهته المعروفة: أن ترك الحرام واجب وهو لا يتم إلا بفعل من
الأفعال وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أما الأولى: فظاهرة والثالثة: قد
قررت في المسألة المتقدمة وأما الثانية: فيحتج عليها تارة: بأن فعل الضد سبب
لترك الحرام حيث إن وجود أحد الضدين سبب لرفع الآخر فيتوقف عليه توقف
المسبب على سببه وأخرى: بأنه لما لم يمكن خلو المكلف عن الفعل توقف تركه
لفعل الحرام على التلبس بفعل آخر لئلا يلزم خلوه عن الأفعال.
وأجيب عنه بوجوه:
أحدها: منع المقدمة الثانية وما ذكر في الاحتجاج عليها لا يفيد توقف ترك
الحرام على فعل المباح، إذ قد يحصل ذلك بفعل الواجب.
ويدفعه: أن ذلك لا يقضي بعدم وجوب المباح إذ أقصى الأمر حصول ذلك
الواجب بما يعم الواجب والمباح، فيتخير المكلف بين الأمرين، فالواجب إذا هو
الإتيان بفعل من الأفعال الغير المحرمة سواء كان واجبا أو غيره، غاية الأمر: أن
يتحقق في الواجب جهتان للوجوب.
235

ثانيها: المعارضة بأنه لو تم ما ذكر من الدليل لزم أن يكون الحرام واجبا فيما
إذا حصل به ترك حرام آخر، فيلزم اجتماع الوجوب والتحريم في شئ واحد وأنه
محال ورد ذلك بأنه إنما يقضي ذلك باجتماع الحكمين من جهتين ولا مانع منه.
ويدفعه: أن الإيراد مبني على جواز اجتماع الأمر والنهي من جهتين فلا يتم
على المشهور المنصور من المنع منه، وعليه مبنى الجواب، فالحق في الإيراد عليه
أن يقال: إن ذلك مسقط إذا للواجب وليس الإتيان بالحرام من أفراد الواجب وإن
حصل به الأداء إلى ترك حرام آخر إذ ليس كل موصل إلى الواجب مندرجا في
المقدمة الواجبة كما مرت الإشارة إليه.
ثالثها: المنع من وجوب مقدمة الواجب وهو أوضح الأجوبة بناءا على القول
بنفي وجوب المقدمة، وأما القائل بوجوبها مطلقا فلا بد له من التزام غيره من
الأجوبة لينحل به الإشكال، وقد استصعب ذلك على الآمدي فعجز عن حل
الإشكال لاختياره وجوب المقدمة قائلا: إنه لا خلاص عنه إلا بمنع وجوب ما لا
يتم الواجب إلا به، وفيه خرق للقاعدة الممهدة على أصول الأصحاب، ثم إن ما
ذكره الكعبي في غاية الغموض والإشكال وعسى أن يكون عند غيري حله، ولذا
أشار المصنف إلى ضيق الأمر على الجماعة من جهة القول بوجوب ما لا يتم
الواجب إلا به مطلقا مشيرا بذلك إلى أن من لا يقول به مطلقا فهو في سعة من ذلك،
كالمصنف المانع من وجوب غير المقدمة السببية والحاجبي حيث اختار في
الجواب عن الشبهة منع وجوب المقدمة مطلقا نظرا إلى اختياره اختصاص
الوجوب بالشروط الشرعية دون العقلية والعادية، ولا ريب أن ترك الضد من
المقدمات العقلية.
نعم لو كانت المضادة بينهما مما ثبت بحكم الشرع أمكن قوله بالمنع منه
ولا يلزم منه القول بنفي المباح، وقضية كلامه توقف دفع الشبهة على المنع المذكور
والتحقيق خلافه، كما سنبين الحال فيه إن شاء الله.
وربما يورد في المقام: بأن بعض تقريرات شبهة الكعبي لا يتوقف على
236

وجوب المقدمة مطلقا ولا على عدم اختلاف المتلازمين في الحكم حسب ما
اعتبر في التقرير الأول، فإنه ذكر العلامة (رحمه الله) في تقرير شبهته: أن المباح ترك
للحرام وترك الحرام واجب فالمباح واجب، أما الثاني فظاهر، وأما الأول فلأنه ما
من مباح إلا وهو ضد الحرام، فإن السكوت ترك للقذف والسكون ترك للفعل،
وكما أن الإتيان بالفعل رفع لتركه فكذا الإتيان بضده رفع لفعله، فإما أن يراد من
كون فعل المباح تركا للحرام أنه عينه أو أنه سبب لتركه حيث إن الإتيان بأحد
الضدين سبب لرفع الآخر، وعلى كل حال فلا توقف لها على وجوب مقدمة
الواجب مطلقا، أما على الأول: فظاهر، إذ لا ربط لها بوجوب المقدمة حتى يتسع
الأمر من جهتها على من ينكره وأما على الثاني: فلكونه إذا سببا لحصول الواجب،
فلا اتساع على المجيب من جهة إنكاره وجوب المقدمة مطلقا إذا كان قائلا
بوجوب السبب، كما هو ملحوظ المصنف.
وفيه: أن التقرير المذكور لشبهة الكعبي أوهن الوجوه، أما على الأول
فواضح، ضرورة أن الإتيان بالضد ليس عين رفع الفعل وإنما يلابسه
ويقارنه وإنما الواجب هو الترك المقارن له، فلا قاضي بوجوب الضد المقارن
لذلك الواجب. وأما على الثاني فبأن ترك الحرام لا يتسبب عن فعل الضد، وإنما
السبب المؤدي إليه هو الصارف عن فعل الحرام - أعني: عدم إرادته من أصله أو
لإرادة ضده المفروض المتقدمة على فعله - ولو سلم كون فعل الضد سببا فهو من
أحد الأسباب، إذ كما يستند عدم الشئ إلى وجود المانع فقد يستند إلى عدم
المقتضي أو انتفاء أحد الشرائط فلا يتوقف ترك الحرام على خصوص الإتيان
بفعل الضد ولا يقضي ذلك بوجوب كل من تلك الأسباب على وجه التخيير
ليعود المحذور، إذ مع استناد الترك إلى بعض تلك الأسباب لا وجوب لغيرها
أصلا، فليس مقصود المصنف من وقوع القائل بوجوب المقدمة في الضيق من
جهة التقرير المذكور، لما عرفت من سهولة اندفاعه بل وضوح فساده وإنما
الباعث على الضيق هو تقريره المتقدم، لوقوع الإشكال في دفعه، وقد عرفت
237

اعتراف الآمدي وغيره بصعوبة الأمر في رفعه وعدم ظهور اندفاعه بغير منع
وجوب المقدمة مطلقا.
قوله: * (والتحقيق في رده أنه مع وجود الصارف... الخ) *.
ملخص ما ذكره في الجواب: أنه إن تحقق الصارف عن الحرام تفرع عليه
الترك ولم يتوقف على أمر آخر من الإتيان بالضد أو غيره، وإن لم يتحقق الصارف
عنه وتوقف الترك على فعل ضد من أضداده لزم القول بوجوبه بناءا على القول
بوجوب المقدمة، ولا يلزم منه نفي المباح رأسا - حسب ما يدعيه المستدل - غاية
الأمر وجوب الضد في تلك الصورة الخاصة، ولا مانع للقائل المذكور به منه، سيما
مع ندور تلك الصورة.
ويرد عليه: أن الصارف عن الحرام إن كان خارجا عن قدرة المكلف
واختياره كان الإتيان بالمحرم ممتنعا بالنسبة إليه، ومعه يرتفع التكليف فلا تحريم،
وهو خروج عن الفرض إذ المأخوذ في الاحتجاج ثبوت التحريم على ما هو
معلوم من تعلق التحريم بالمكلفين وإن كان تحت قدرته، فقضية التقرير المذكور
كون كل من الصارف وفعل الضد كافيا في أداء الواجب - أعني: ترك الحرام -
فاللازم من ذلك تخيير المكلف بين الأمرين، فيكون الإتيان بالضد المباح أحد
قسمي الواجب التخييري، وهو عين مقصود المستدل.
وقد يجاب عنه: بأنه إذا حصل أحد الأمرين الواجبين على سبيل التخيير -
أعني: الصارف من المنهي عنه - انتفى وجوب الآخر فيبقى سائر الأضداد الخاصة
على إباحتها.
ويدفعه: أنه إنما يتم ذلك بالنسبة إلى حال وجود الصارف وأما بالنظر إلى
الزمان الذي يليه فالتخيير على حاله، فيجب عليه في كل حال أحد أمرين من
تحصيل الصارف عن المنهي عنه أو إيجاد ضده، فإذا حصل الصارف سقط عنه
إيجاد الضد بالنسبة إلى حال حصوله لا بالنظر إلى ما بعده، لتخييره إذا بين
الأمرين وإن علم إذا ببقاء الصارف إلى الزمان المتأخر، فإن مجرد العلم بحصول
238

أحد الواجبين المخيرين في الزمان الثاني لا يقضي بسقوط الآخر قبل حصوله،
على أن ذلك لو تم لكان جوابا مستقلا عن الاحتجاج، من غير حاجة إلى التمسك
بحصول الصارف، فإن اختيار أحد الأضداد الخاصة قاض بسقوط الوجوب عن
البواقي فتكون باقية على إباحتها، فلا يفيد ذلك نفي المباح رأسا كما هو المدعى.
ويمكن دفع الإيراد المذكور بوجه آخر وذلك بأن يقال: إن حصول الصارف
ليس عن اختيار المكلف مع كون الفعل أو الترك الحاصل منه اختياريا، بيان ذلك:
أن حصول الفعل في الخارج إنما يتبع مشيئة المكلف وإرادته له في الخارج، فإن
شاء المكلف حصل الفعل وإن لم يشأ لم يحصل وذلك عين مفاد قدرته عليه، لكن
حصول المشيئة وعدمها إنما يكون بالوجوب والامتناع، نظرا إلى الدواعي القائمة
عليه في نظر الفاعل من أول الأمر أو بعد التأمل في لوازمه وآثاره وما يترتب
عليه من ثمراته وغاياته، فميل النفس إلى أحد الجانبين بعد ملاحظة الداعيين
والغايات المترتبة على الأمرين من الفعل والترك الذي هو عين الإرادة إنما يتبع
ما عليه نفسه من السعادة والشقاوة وغلبة جهة الحق والباطل وغير ذلك من
الصفات المناسبة لتلك الأفعال، فيترجح عنده أحد الجانبين من جهتها، وظاهر أن
ذلك غير موكول إلى اختياره بل لا مدخلية لإرادته ومشيئته في حصوله بل
الإرادة تابعة له، وكون ذلك الداعي خارجا عن اختيار المكلف لا يقضي بكون
الفعل أو الترك المترتب عليه خارجا عن قدرته واختياره كما توهمه المورد،
ضرورة كون الفعل تابعا لمشيئته واختياره وليست حقيقة القدرة والاختيار إلا
ذلك، فإذا كان كل من الفعل والترك موكولا إلى مشيئة الفاعل لا غير فإن شاء فعل
وإن شاء ترك كان ذلك الفاعل قادرا مختارا بالضرورة، وإن كانت مشيئته لأحد
الطرفين بالوجوب نظرا إلى ما ذكرناه، فإن ذلك لا ينافي صدق الشرطية المذكورة
التي هي من اللوازم البينة لحقيقة القدرة أو عين حقيقتها، فكون الفعل مقدورا عليه
لا يقضي بكون الدواعي أيضا مقدورا عليها داخلة تحت اختيار المكلف، وإنما
الاختيار متعلق بالأفعال الصادرة منه المتعلقة لمشيئته من جهة إناطتها بها وجودا
239

وعدما، وأما المشيئة فهي مقدور عليها بنفسها صادرة عن اختيار المشئ بخلاف
الدواعي الباعثة عليها، فإذا كانت الدواعي خارجة عن اختيار المكلف لم تكن
متعلقة للتكليف وان تعلق التكليف بالفعل المقدور عليه فحينئذ نقول: إن كان
الصارف عن الفعل حاصلا حصل الترك من غير أن يتوقف حصوله على الإتيان
بضد من الأضداد، وإنما يكون الإتيان به من لوازم وجود المكلف إن قيل بامتناع
خلوه عن الفعل، وإن لم يكن حاصلا وتوقف الترك على الإتيان بالضد وجب ذلك
من باب المقدمة، حسب ما قرره.
وقد يورد عليه: بأن خروج الداعي عن اختيار المكلف لا ينافي تخييره بين
ذلك وما يكون حصوله باختياره، نظرا إلى قيام الوجوب في المخير بأحدهما
ومن الظاهر: أنه إذا كان واحد منهما مقدورا عليه كان القدر الجامع بينهما مقدورا
عليه أيضا، فيصح التكليف به، فإن حصل غير المقدور عليه اكتفى به في سقوط
الواجب بالنسبة إلى زمان حصوله، على ما هو الشأن في المخير وإلا وجب عليه
الإتيان بالآخر، ولا ينافي ذلك وجوب القدر الجامع عليه عند دوران الأمر بينهما
بالنسبة إلى الزمان المتأخر - حسب ما قرر في الجواب المتقدم - فبذلك يتم
الاحتجاج أيضا.
ويرد عليه: أن تعلق التكليف بغير المقدور ولو على سبيل التخيير سفه لا يقع
من الحكيم، ألا ترى أنه لا يصح التكليف بالجمع بين النقيضين أو صلاة ركعتين
وإن كان القدر الجامع بينهما مقدورا عليه فلا وجه للالتزام به في المقام.
وفيه: أنه يصح التكليف بالطبائع المطلقة مع أنه يندرج فيها الأفراد الكثيرة
مما لا يتعلق بها القدرة، ولا يمنع ذلك من تعلق الأمر بالمطلق إلا أنه يجب من
أفراده على سبيل التخيير ما يتعلق القدرة بها من جهة الأمر بالمطلق، فكذا الحال
في المقام فليس المقصود وجوب غير المقدور على سبيل التخيير بل المدعى
وجوب أحد الأمرين من المقدور وغيره، فيتعلق الوجوب بالمقدور منه.
ويدفعه: أن ذلك إنما يصح في الطبائع المطلقة مما يتحصل في ضمن الأفراد
240

فيتبعه وجوب تلك الأفراد دون ما إذا تعلق الأمر بأمرين أو أمور على وجه
التخيير، فتبعه وجوب القدر الجامع أو تعلق ابتداءا بأحدهما على ما هو الحال في
التخييري، ولذا لا يصح في المثال المتقدم.
وفيه: أن المفروض في المقام من قبيل القسم الأول فإن الوجوب إنما يتعلق
بما يتوقف عليه الترك الواجب وهو يعم الأمرين، فإن عدم الفعل قد يكون لانتفاء
شرطه وقد يكون لوجود المانع منه فالوجوب إنما يتعلق بالكلي المذكور ويتحقق
ذلك بكل من الأمرين المذكورين من الصارف وفعل الضد ولا يتعلق بخصوص
كل منهما ليدفع بما ذكره فإذا كان الصارف غير مقدور عليه وجب عليه الآخر.
قلت: إنما يتم ما ذكر إن أريد بالجواب المذكور في كلام المصنف كون الترك
حاصلا تارة من جهة وجود الصارف أعني انتفاء الإرادة أو سببها التي هي شرط
في وجود الفعل، وأخرى بوجود المانع الذي هو فعل الضد، فلا يلزم من وجوب
الترك القول بوجوب المباح مطلقا، بل في خصوص الصورة الأخيرة، إذ حينئذ
يتجه الإيراد عليه بما ذكر، بل يرد عليه غير ذلك أيضا حسب ما يجئ الإشارة
إليه. وأما إن أريد به غير ما ذكر - حسب ما يأتي بيانه - فلا يتجه الإيراد المذكور
من أصله، وستعرف الحال فيه إن شاء الله.
قوله: * (وإنما هي من لوازم الوجود حيث نقول بعدم بقاء الأكوان
... الخ) *.
يريد أنه مع وجود الصارف عن فعل الحرام يتحقق ترك الحرام قطعا من غير
أن يتوقف الترك على فعل من الأفعال، إلا أنه إن قلنا بعدم بقاء الأكوان أو احتياج
الباقي إلى المؤثر كان الاشتغال بفعل من الأفعال من لوازم وجود المكلف، حيث
إنه لا يمكن خلوه من كون جديد أو تأثير في الكون الباقي.
أما إذا قلنا ببقاء الأكوان واستغناء الباقي عن المؤثر لم يلازم الترك فعلا من
الأفعال، وأمكن انفكاكه عن جميع الأفعال. هذا على ظاهر ما ذكر في الاستدلال
فإن المنساق من الفعل هو التأثير.
241

وأما إن أريد بالفعل الأثر الحاصل من الفاعل - سواء كان عن تأثير مقارن له
أو سابق عليه - فيبقى الأثر بنفسه، فالتلبس بفعل من الأفعال حينئذ من لوازم
وجود المكلف مطلقا، إذ لا يمكن خلو الجسم عن الأكوان، سواء قلنا ببقاء
الأكوان واستغناء الباقي عن المؤثر، أو لا.
فالمناقشة في المقام بأن الكلام في أن ما يصح وصفه بالإباحة هل يجوز خلو
المكلف عنه أو لا؟ فإن مقصود الكعبي بذلك نفي المباح رأسا، ومن البين أن الأثر
المستمر يتصف بالإباحة والحرمة - ولذا يكون الساكن في المكان المغصوب
متلبسا بالحرام وإن قلنا بالبقاء والاستغناء - هينة جدا، إذ لا يرتبط التفصيل
المذكور بأصل الجواب، وإنما هو استدراك مبني على ما هو الظاهر من لفظ الفعل
المذكور في كلام المستدل، فلا مانع عن سقوط ذلك لو فسر الفعل في كلامه
بالمعنى الثاني والتزم بكونه من لوازم الوجود مطلقا.
وقد يناقش أيضا: بأن البناء على تجدد الأكوان أو احتياج الباقي إلى المؤثر
لا يستلزم عدم خلو المكلف عن الفعل، لمنع وجوب استناد الكون من الحركة
والسكون والاجتماع والافتراق إلى محله، لجواز استناده إلى غيره.
وأنت خبير بوهن الاحتمال المذكور لو أريد عدم استناده إلى المكلف رأسا.
كيف! ولو كان كذلك لما صح اتصافه بالتحريم والإباحة. ولو أريد به عدم استناد
البقاء أو الأكوان المتجددة إليه فلا وجه لإمكان اتصافه بها حينئذ من جهة التفريع،
إلا أنه لا يخلو عن بعد، والأمر فيه سهل.
قوله: * (وأما مع انتفاء الصارف وتوقف الامتثال... الخ) *.
أورد عليه: بأن تسليم توقف ترك المنهي عنه على فعل الضد يستلزم الدور
بعد ملاحظة ما سلمه أولا من توقف فعل أحد الضدين على ترك الآخر، حسبما
يظهر من جوابه عن الدليل الأول، حيث اختار الجواب بمنع وجوب المقدمة دون
أن يمنع كون ترك الضد مقدمة، وسيصرح به أيضا، إذ يلزم حينئذ توقف ترك
المنهي عنه على فعل ضده، وتوقف فعل ضده على ترك المنهي عنه.
242

ويدفعه: أنه ليس المقصود من توقف ترك الحرام على فعل ضده أنه لما كان
وجود المانع من أسباب انتفاء الشئ وكان فعل الضد مانعا عن الإتيان به كان
الإتيان بما يضاد الحرام من المباحات سببا لانتفائه. كما أن وجود الصارف قاض
بانتفائه من جهة قضاء انتفاء الشرط بانتفاء المشروط، فيكون التوقف المذكور في
المقام من قبيل توقف المسبب على السبب. كيف ولو أراد ذلك لكان لزوم الدور
ظاهرا لا مدفع له.
ويرد عليه مع ذلك أمور اخر:
منها: لزوم القول بوجوب فعل الضد حينئذ مطلقا على نحو المخير، لتوقف
الترك حينئذ على أحد الأمرين من الصارف وفعل الضد، فيجب عليه الإتيان
بأحدهما، فلا يصح الجواب حسب ما مر تفصيل القول فيه.
ومنها: أنه لا يمكن أن يكون فعل الضد سببا بالفعل لترك ضده، حيث إنه
مسبوق أبدا بإرادته، وإرادته لا تجامع إرادة الحرام، وانتفاء إرادته قاض بالصرف
عنه.
وبالجملة: ليس الباعث على الترك إلا حصول الصارف عن الفعل وعدم إرادة
المكلف له، إلا أن انتفاء الإرادة قد يكون من أول الأمر، وقد يكون من جهة إرادة
ضده، فحينئذ نقول: إن ترك الحرام إنما يكون لوجود الصارف عنه، ولا توقف
لحصول الصارف على الإتيان بفعل الضد، وإن كان حصوله في بعض الأحيان من
جهة إرادة الضد، إذ ذلك لا يقضي بتوقف مطلق الصارف عليه، ولو قضى به فلا
ربط له بالتوقف على فعل الضد إلا في بعض الوجوه، كما سنشير إليه، فما ذكره من
التوقف إن أراد به ذلك فهو فاسد جدا.
ومنها: أنه لا يصح حينئذ قوله بعد ذلك: ومن لا يقول به - أي بوجوب ما لا
يتم الواجب إلا به مطلقا - فهو في سعة من هذا وغيره، فإن من لا يقول به كذلك
قائل بوجوب السبب حسب ما مر، حيث نص أنه ليس محل خلاف يعرف، ومع
الغض عنه فممن لا يقول به كذلك من يقول بوجوب السبب، بل هو المعروف بينهم،
243

وليس على ما ذكر في سعة منه، لكون فعل المباح حينئذ سببا لترك الحرام، بل
مراده بذلك توقف ترك الحرام على فعل الضد على سبيل الاتفاق، بأن يكون
المكلف على حال يصدر منه الحرام لو لم يتلبس بضده، بأن يكون تلبسه بالضد
شاغلا له عن غلبة ميله إلى الحرام، فيتمكن بذلك من ترك إرادته الباعث على
تركه. فليس التوقف المفروض من قبيل توقف المسبب على السبب، فترك الإرادة
إنما يكون من النفس بعد اشتغالها بفعل الضد، أو في حال اشتغالها به فليس انتفاء
الحرام بسبب وجود ضده الغير المجامع معه في الوجود، كيف! وقد لا يكون ترك
الحرام مجامعا لفعل ضده المفروض في الوجود بأن يتوقف ترك الحرام على فعل
الضد، أولا فيتقدمه بالزمان كما أشرنا إليه. وفي صورة اقترانه معه لا يقع منه فعل
الضد إلا بعد إرادته، وهي كافية في الصرف عن الحرام حسب ما مر.
ومما ذكرنا يعلم: أنه قد يكون ما يتوقف عليه ترك الحرام غير ضده إذا كان
شاغلا له عن التصدي للحرام، سواء كان الاشتغال به متقدما على ترك الحرام، أو
مقارنا له على نحو ما ذكر في الأضداد، وحينئذ فيندفع عنه الإيرادات المذكورة
جمع.
أما الأول فلأنه لا توقف لترك الحرام عليه من جهة كونه سببا لحصوله، بل
لتوقف حصول الصارف عنه على إرادته القاضية بعدم إرادة ضده، فلا دور.
وأما الثاني فلأنه لا توقف لترك الحرام حينئذ إلا على الصارف، غير أن
الصارف عنه قد يتفق توقفه على فعل الضد، بل على إرادته حسب ما ذكر، فلا
مجال حينئذ للقول بالتخيير بين الإتيان بالصارف وفعل الضد، فلا وجوب لفعل
الضد ابتداء. نعم، إنما يجب حينئذ إذا اتفق حصول التوقف المفروض، وهو الذي
التزم به المصنف على القول بوجوب المقدمة.
وأما الثالث فواضح. وأما الرابع فلعدم كون التوقف المفروض من قبيل توقف
المسبب على السبب حتى يرد عليه ما ذكر.
نعم يمكن أن يورد في المقام: تارة بأن ما ذكره من فرض انتفاء الصارف
244

حينئذ غير متجه، لما عرفت من كون فعل الضد حينئذ مسبوقا بإرادته الصارفة عن
إرادة الحرام، فلا وجه لما قرره من التفصيل بين وجود الصارف وعدمه، فلا يوافق
ذلك ما ذكرناه.
وأخرى بأن دعوى توقف ترك الحرام على فعل الضد مما لا وجه لها، لكون
التعرض للحرام حينئذ اختياريا غير خارج عن قدرته، وإلا لم يكن موردا
للتكليف، كيف! ومن البين أن فعل الضد حينئذ ليس من مقدماته الشرعية، ولا
العقلية والعادية، فلا وجه لعده موقوفا عليه في المقام مع إمكان حصول الترك من
دونه، ولذا يبقى التكليف به والقدرة عليه شرعا وعقلا وعادة بعد انتفائه، إلا أن
يعمم مقدمة الواجب لما يشمل مثل ذلك، وهو غير معروف بينهم، كما يظهر من
ملاحظة تقسيمهم للمقدمة في بحث مقدمة الواجب، فلا يتجه القول بوجوب فعل
الضد لذلك، بل الواجب هو ترك الحرام خاصة، فلا وجه لجعل ذلك قسما آخر
قسيما للفرض الأول وإلزام القائل بوجوب المقدمة به.
ويمكن دفع الأول: بأن مقصود المصنف من الصارف في المقام هو الصارف
الابتدائي غير ما يتعلق بفعل الضد، وإرادة الضد لكونها سببا لحصول الضد بمثابة
نفس الضد، ويقابله ما إذا توقف ترك الفعل عليه نظرا إلى توقف الصارف عن
الحرام على حصوله، فجعله قسما آخر يقابل الأول، وهو ما لا يتوقف الصارف
عنه على التعرض لفعل الضد، وحمل العبارة على ذلك غير بعيد وإن لم يخلو عن
تسامح في التعبير، والأمر فيه سهل.
والثاني: بأن من الواضح توقف حصول الفعل على الإرادة، ومن البين كون
إيجاد الإرادة وتركها تابعا للدواعي القائمة على أحدهما في نظر الفاعل.
وحينئذ فنقول: إن دواعي الخير أو الشر قد تكون قوية مرتكزة في النفس
بحيث لا تزاح بالوساوس الشيطانية ونحوها، أو التفكر في ما يترتب على الفعل أو
الترك من المفاسد وسوء العاقبة، أو يكون الفاعل بحيث لا يراعى ذلك، وذلك
كصاحب الملكة القوية في التقوى، أو البالغ إلى درجة الرين والطبع في العصيان،
245

أو الغافل عن ملاحظة خلاف ما يثبت له من الدواعي، فحينئذ يترتب عليها الفعل
أو الترك على حسب ما تقتضيه تلك الدواعي قطعا، من غير لزوم اضطرار على
الفعل أو الترك، بل إنما يحصلان منه في عين الاختيار حسبما مرت الإشارة إليه.
وقد تكون تلك الدواعي بحيث يمكنه إزاحتها بالوساوس ونحوها، أو
التروي في عواقب الفعل أو الترك والآثار المترتبة عليهما مع تفطن الفاعل لها، أو
بالاشتغال بأفعال اخر يكون الإتيان بها رافعا لتلك الدواعي فيقتدر معها على دفع
ما يقتضيه وبعثها على اختيار العصيان.
فحينئذ نقول: إنه بعد القول بوجوب المقدمة لا تأمل في وجوب السعي في
دفع الدواعي الباعثة على اختيار المعصية مع تمكن المكلف منه، فإن ذلك أيضا
مما يتوقف عليه الطاعة الواجبة وبقاء القدرة والاختيار على الطاعة مع ترك ذلك،
نظرا إلى أن الوجوب الحاصل في المقام إنما هو بالاختيار وهو لا ينافي الاختيار
لا يقضي بانتفاء التوقف في المقام، لوضوح حصول الوجوب هنا وإن كان
بالاختيار، فإذا كان المكلف متمكنا من دفعه وجب عليه ذلك، لوضوح وجوب
ترك الحرام على حسب الإمكان، وحيث كان رفع الوجوب المفروض متوقفا
على ذلك كان ذلك واجبا عليه من باب المقدمة، إذ هو مما يتوقف عليه الاختيار
الذي يتوقف عليه الفعل، وإن كان التمكن من الفعل الذي هو مناط التكليف
حاصلا من دونه، فكون الشئ مما يتوقف عليه حصول الفعل بالاختيار لا
يستلزم توقف التمكن من الفعل عليه كما يستلزمه ما يتوقف الفعل عليه في نفسه،
فهو في الحقيقة نحو من مقدمة الوجود أيضا.
فتحصل مما قررناه: أن المكلف إن كان له صارف عن المعصية حاصلة له
بفضل الله تعالى ومنته عليه، من غير أن يكون المكلف محصلا له كان ذلك كافيا له
في ترك المعصية، ومن البين حينئذ أن ذلك الداعي لا يتصف بالوجوب، إذ ليس
من فعل المكلف، ولا من آثار فعله. وإن لم يكن ذلك حاصلا له لكن تمكن من
تحصيله قبل العصيان، أو تمكن من إزاحة الداعي الحاصل على خلافه بالمواعظ
246

أو غيرها من الأمور الباعثة عليه ولو بالتماس غيره على اختياره ذلك، أو الكون
في مكان لا يمكنه الإتيان، أو يحتشم عن التعرض لمثله، أو الاشتغال بفعل يمنعه
عن ذلك، أو يتسلط معه على مدافعة تلك الدواعي ونحو ذلك لزمه ذلك، وإن كان
صدور العصيان منه لولاه حاصلا باختياره فإنه يلزمه دفع ذلك الاختيار على
حسب قدرته واختياره وحينئذ فإذا كان فعل الضد قاضيا بدفعه وجب عليه
الإتيان به على حسب ما يكون رادعا له عن العصيان من ارتكابه له قبل زمان
الضد الآخر، أو في حاله بإيجاده ذلك بدل إيجاده بحيث لو لم يشتغل به لاشتغل
بالآخر، إلا أن وجوب ذلك حينئذ لا يقضي بانتفاء المباح مطلقا ولو في تلك
الصورة، إذ لا يكون فعل كل من المباحات رادعا له عن العصيان ليجب الكل عليه
تخييرا، وإنما يكون الرادع خصوص بعض الأفعال، ولو فرضنا كون المانع في
بعض المقامات أي فعل من الأفعال، فغاية الأمر انتفاء المباح في بعض الفروض
النادرة بالنسبة إلى الشخص الخاص في بعض الأحوال، وذلك مما لا يستنكر
الالتزام به، ولم يقم دليل على بطلانه، ولم يظهر إنكار القوم فيه. هذا غاية ما يتخيل
في توضيح المرام وتبيين ما ذكره المصنف في المقام.
لكنك خبير بأن ما ذكر في القسم الثاني استدراك محض لا يناط به الجواب
المذكور، حيث إن قضية التوقف المفروض وجوب بعض الأفعال في بعض
الأحوال، ولا يختلف بسببه الحال في الجواب، فإن حقيقة الجواب هو المنع من
توقف الترك على فعل المباح مطلقا حسب ما ذكره المستدل، وإنما يتوقف على
وجود الصارف حسب ما قررناه، غاية الأمر أن يتوقف الصارف في بعض
الأحيان على ذلك، أو على إرادة الضد حسب ما مر، ولا يقضي ذلك بانتفاء المباح
حسب ما رامه المستدل، فالجواب في الصورتين أمر واحد.
ثم لا يذهب عليك أن ما يقتضيه الوجه المذكور هو وجوب ما يتوقف عليه
الترك، وهو قد يكون ضدا متقدما، وقد يكون مقارنا، وفي صورة المقارنة يكون
إرادة الضد كافية في تحقق الصارف حسب ما مر، إلا أنه قد يتوقف بقاؤها على
247

الاشتغال به، فيحصل التوقف على الضد في الجملة. وقد يكون غير ضد من سائر
الأفعال أو التروك حسب ما أشرنا إليه.
وكيف كان فالتوقف المفروض في المقام غير ما اخذ في الاستدلال، فإن
الظاهر أنه أراد أنه لا يتم الترك إلا بفعل من الأفعال واقع مقام الحرام. ولو لوحظ
التوقف بالنسبة إلى خصوص ما يقارن الترك - كما في بعض الفروض - فجهة
التوقف مختلفة.
والحاصل: هنا - على ما ذكر - أمر آخر غير ما لاحظه المستدل، وما ادعاه
المستدل فاسد قطعا. نعم، الأمر اللازم هو مجرد عدم الانفكاك بين الفعل والترك،
بناء على امتناع خلو المكلف عن الفعل، وهو غير التوقف المأخوذ في الاستدلال.
هذا.
ومن غريب الكلام ما ذكره المدقق المحشي (رحمه الله) في المقام في الجواب عن
الدور المذكور مع مقارنة فعل الضد لترك الآخر: أن وجود الضد الآخر يتوقف
على عدم الضد الأول، فعدمه يتوقف على عدم عدمه، لا على وجوده، فلا مانع من
توقف وجود الضد الأول - على عدم الضد الآخر، إذ أقصى الأمر أن يلزم توقف
وجود الضد الأول - أعني ما يضاد المحرم المقارن لتركه - على عدم ذلك المحرم،
ويكون عدم ذلك المحرم متوقفا على عدم عدم الضد الأول، فيلزم توقف وجود
الضد الأول على عدم عدمه، ولا دليل على امتناعه، إذ ليس ذلك من توقف الشئ
على نفسه، لاختلاف الأمرين.
وأنت خبير بوهنه، إذ من الواضح أن الوجود وعدم العدم وإن اختلفا بحسب
المفهوم الحاصل في العقل لكنهما متحدان بحسب الخارج، إذ ليس الوجود إلا
عين رفع العدم الذي هو عين عدم العدم، ولذا كان الوجود والعدم نقيضين، لا أن
أحدهما لازم لنقيض الآخر.
ومن البين أن التوقف الحاصل في المقام على فرض ثبوته حاصل بالنسبة
إلى الأمر الخارجي دون المفهوم الذهني، فلا يعقل دفع الدور بمجرد اختلاف
المفهومين.
248

ثم إن دعوى توقف عدم الضد الآخر على عدم عدم الضد الأول مما لا وجه
لها، إذ لا توقف له إلا على حصول الصارف عنه. ولو فرض انتفاء سائر الصوارف
وتوقفه على تحقق الضد في الخارج - كما هو المتوهم في المقام - كان متوقفا على
وجود الضد الأول حسب ما ذكره المصنف، لا على عدم عدمه كما ادعاه، وليس
جهة التوقف في المقام ما يظهر من كلامه من: أن وجوده لما كان مستندا إلى عدم
الأول كان عدمه مستندا إلى عدم عدمه، بل الوجه فيه على مقتضى التقرير
المذكور: كون وجود الضد مانعا من الآخر، فإيجاده قاض بارتفاع الآخر وسبب
لرفعه، فيتوقف إذن عدمه على وجود الآخر، لا على عدم عدمه كما ادعاه.
ثم إنه لا يذهب عليك أن ما ذكره الكعبي من الشبهة إن تمت دلت على انتفاء
المندوب والمكروه أيضا، لدوران الحكم بناء على الشبهة المذكورة بين الواجب
والحرام، وهو غير معروف عنه، فإن خص المنع بالمباح كان ذلك نقضا على
حجته، وقد يحمل المباح في كلامه على ما يجوز فعله وتركه، سواء تساويا أو
اختلفا، فيعم الأحكام الثلاثة.
لكن ظاهر كلامهم في النقل عنه خلاف ذلك، حيث إنهم ذكروا الخلاف عنه
في المبادئ الأحكامية في خصوص المباح، ولم يذكروه في المندوب والمكروه.
ويمكن أن يقال: إن الشبهة المذكورة لا تفضي بنفيهما، إذ أقصى ما يلزم منها
وجوب غير الحرام من الأفعال وثبوت التخيير بينها، وذلك لا ينافي استحباب
بعضها وكراهة بعض آخر منها، لجريان الاستحباب والكراهة في الواجبات،
كاستحباب الصلاة في المسجد وكراهتها في الحمام.
ووهنه ظاهر، فإن الاستحباب والكراهة في المقام لا يراد بهما المعنى
المصطلح، وإنما يراد بهما معنى آخر نسبي حسبما فصل القول فيه في محل آخر،
فلا بد له من نفيهما بمعناهما المصطلح.
نعم، لو جعل ذلك من قبيل اجتماع الحكمين من جهتين بناء على جوازه صح
حملهما على المعنى المصطلح، إلا أنه يجري ذلك بعينه في الإباحة أيضا، فلا وجه
للفرق.
249

قوله: * (إذا تمهد هذا فاعلم... الخ) *.
هذا راجع إلى الكلام على أصل الاستدلال بعد تمهيد المقدمة المذكورة، أعني
بيان الحال في جواز اختلاف حكم المتلازمين وعدمه في أقسامه الثلاثة.
قوله: * (لما هو بين من أن العلة في الترك... الخ) *.
يمكن أن يقال: إنه قد يكون مجرد وجود الصارف وعدم الداعي إلى الفعل
كافيا في ترك المأمور به من دون حاجة إلى حصول ضد من أضداده، وقد لا
يكون ذلك كافيا ما لم يحصل الضد، كما إذا نذر البقاء على الطهارة في مدة معينة
يمكن البقاء عليها، فإنه إذا تطهر لم يمكن رفعها إلا بإيجاد ضدها، ومجرد انتفاء
الداعي إلى البقاء عليها لا يكفي في انتفائها، فيتوقف رفعها إذن على وجود الضد
الخاص، فيكون وجود ذلك الضد هو السبب لترك المأمور به وإن كان مسبوقا
بالإرادة. وهكذا الحال في الصوم بعد انعقاده إن قلنا بعدم فساده بارتفاع نية
الصوم، ولا يقضي ذلك حينئذ بورود الدور، نظرا إلى توقف فعل أحد الضدين على
ترك الآخر، لما عرفت من اختلاف الحال في الأضداد كما مرت الإشارة إليه.
قوله: * (إلا على سبيل الالجاء) *.
نظرا إلى أنه مع انتفاء الصارف من قبله يكون مريدا له بالإرادة الجازمة
الباعثة على الفعل، فلا محالة يقع منه الفعل لولا حصول مانع من الخارج يمنعه من
الجري على مقتضى إرادته، وهو ما ذكره من الإلجاء، فيسقط معه التكليف
بالواجب وينتفي الأمر، وهو خروج عن محل البحث، ومع ذلك فلا يكون الباعث
على ترك الحرام حينئذ فعل الضد المفروض، إذ الإلجاء على فعل الضد كما يكون
سببا لحصول الضد كذلك يكون سببا لترك الآخر، لما عرفت من عدم كون الضد
شرطا في وجود ضده فيتقدم عليه رتبة، فإن لم يكن منتفيا كان الباعث على وجود
أحدهما قاضيا بعدم الآخر، حسبما مرت الإشارة إليه، فلا وجه لعدم وجود الضد
حينئذ سببا لانتفاء الآخر، كما قد يتراءى من ظاهر كلامه. ويمكن أن ينزل كلامه
على بيان الفساد في الوجه المذكور في الجملة، فلا ينافي فساده من جهة أخرى.
250

قوله: * (لظهور أن الصارف الذي هو العلة... الخ) *.
لا يخفى أن إرادة أحد الضدين على وجه الجزم كما يوجب حصول ذلك
الضد كذا يقضي بارتفاع الضد الآخر، فيكون المقتضي لوجود أحدهما صارفا عن
الآخر، لكن لا يتعين الصارف عنه بذلك، إذ كما يستند انتفاء الضد إلى ذلك فكذا
يمكن استناده إلى انتفاء غيره من شروط وجوده، أو وجود المانع عنه. ولو اجتمع
ذلك مع فعل الضد لم يمنع من استناد الترك إلى الأول، نظرا إلى سبقه على فعل
الضد، فيكون الترك مستندا إليه، ويكون فعل الضد حينئذ مقارنا محضا حسب
ما مر.
إلا أن الكلام هنا فيما إذا استند ترك المأمور به إلى إرادة ضده، فيكون انتفاء
المأمور به من جهة السبب الداعي إلى ضده، فيشتركان في العلة. والقول بأن
السبب الداعي إلى ضده لا يكون سببا لتركه، بل إنما يقضي ذلك بعدم إرادة
المأمور به نظرا إلى استحالة اجتماع الإرادتين، فإنما الصارف في الحقيقة هو عدم
إرادة الفعل - كما في غير هذه الصورة حسب ما مر - دون السبب الداعي إلى الضد
بين الدفع، إذ أقصى الأمر حينئذ بعد تسليم ما ذكر أن يكون السبب الداعي سببا
بعيدا بالنسبة إليه، وذلك لا يمنع من كونهما معلولي علة واحدة، إذ لا يعتبر فيه أن
تكون العلة قريبة بالنسبة إليهما، بل يعم القريبة والبعيدة، فقد تكون العلة المشتركة
بعيدة بالنسبة إليهما، أو تكون قريبة بالنسبة إلى أحدهما بعيدة بالنظر إلى الآخر.
ومن هنا يتجه الكلام المذكور إذا نوقش في استناد عدم إرادة الفعل إلى إرادة
ضده، نظرا إلى كون الإرادتين ضدين، فيتوقف وجود أحدهما على ارتفاع الآخر
حسب ما عرفت من توقف وجود الشئ على ارتفاع المانع منه، فلا بد أولا من
ارتفاع إرادة الفعل حتى يتحقق معه إرادة الضد. أو نقول حينئذ: إنه لو لم يكن
إرادة الفعل منتفية لأسباب اخر فلا بد من استناد انتفائها إلى أسباب تلك الإرادة،
فالسبب القاضي بإرادة الضد قاض بنفي تلك الإرادة، وهو كاف في المقام، إذ لا
فرق بين زيادة بعد السبب وقلته.
251

وقد يدفع ذلك: بأن الإرادة الداعية إلى الضد شرط في إيجاده، وليس سببا
لحصوله، كما سيشير المصنف (رحمه الله) إليه، فكونها علة لترك الفعل لا يقضي باشتراك
الأمرين في السبب.
ويمكن أن يقال: إن الإرادة الجازمة وإن كان شرطا في تحقق الفعل إلا أنه
جزء أخير للعلة التامة، فيكون في معنى السبب، بل قد يفسر السبب في كلام
المصنف بالجزء الأخير للعلة التامة، على أنه قد يقال بأن السبب في المقام ليس
مخصوصا بالأسباب العقلية، بل يعم العادية أيضا، والإرادة الجازمة المسماة
بالإجماع تعد عادة سببا لحصول الفعل، فتأمل.
قوله: * (نعم، هو مع إرادة الضد... الخ) *.
أورد عليه الفاضل المحشي: بأنه لا توقف للضد على وجود الصارف المذكور
أصلا، وإنما هو المقارنة من الجانبين بلا توقف في البين.
وهذا الكلام مبني على ما اختاره سابقا من عدم توقف وجود أحد الضدين
على ارتفاع الآخر، وإنما يكون بينهما مجرد المقارنة حسب ما مر تفصيل القول
فيه، وقد بينا هناك وهن ذلك، وأن حصول التوقف في المقام مما لا مجال للريب
فيه، فيكون ما ذكره هنا فاسدا أيضا.
قوله: * (فلا حكم فيهما بواسطة ما هما مقدمة) *.
أورد عليه الفاضل المحشي: بأن تسليم وجود السبب بمعنى العلة التامة
يستلزم وجوب كل جزء من أجزائه، إذ جزء الواجب واجب اتفاقا، فلا يتصور
بعد تسليم وجوب السبب منع وجوب كل واحد مما ذكر مع كونهما جزءين للعلة،
فلعل المراد بالسبب هنا وفي بحث مقدمة الواجب: هو الجزء الأخير من العلة
التامة الذي هو علة قريبة للفعل.
قلت: قد مر تفصيل الكلام في المراد بالسبب في المقام في بحث المقدمة، فلا
حاجة إلى إعادة الكلام فيه. وما ذكره من وجوب الأجزاء قطعا عند وجوب الكل
غير متجه، كما عرفت الحال فيه في بحث المقدمة، وقد بينا هناك: أن الكلام في
252

الأجزاء كالكلام في المقدمات إثباتا ونفيا، من غير فرق بينهما في ذلك، وأن ما
يقطع به هو وجوب الأجزاء بوجوب الكل، لا بوجوب آخر لأجل الكل كما هو
الحال في المقدمة، وقد عرفت أن وجوب المقدمات بوجوب الواجب تبعا مما لا
مجال للريب فيه أيضا، وأنه مما لا ينبغي وقوع الخلاف فيه، فكان ما نفاه من
الخلاف في وجوب الأجزاء عند وجوب الكل هو الوجوب بالمعنى المذكور دون
غيره، وقد مر بيان ذلك.
ثم إنك قد عرفت أن عد الإرادة الجازمة - المسماة بالإجماع - المتعقبة للفعل
جزما من جملة الشرائط لا يخلو عن تأمل، بل لا يبعد إدراجها في السبب بمعنى
الجزء الأخير للعلة التامة، أو بمعنى المقتضي للفعل بحسب العادة، كما مرت
الإشارة إليه.
قوله: * (فإذا أتى به المكلف عوقب عليه من تلك الجهة... الخ) *.
هذا الكلام ظاهر في ترتب العقاب على ترك المقدمة، وقد عرفت ضعفه، وقد
يحمل ذلك على إرادة ترتب العقاب عليه من حيث أدائه إلى الحرام، فيتحد
العقاب المترتب عليه وعلى ما يؤدي ذلك إليه حسب ما مر الكلام فيه.
وكيف كان فالحاصل من كلامه: أن الصارف وإن كان محرما من حيث كونه
علة لترك المأمور به لكنه ليس علة للضد حتى يقضي تحريمه بتحريم الضد، لئلا
يمكن الحكم بوجوبه.
وأنت خبير بأن المتلازمين إذا لم يكن بينهما علية ولا مشاركة في علية وان
جاز اختلافهما في الحكم حسبما ذكره لكن لا يصح الحكم بوجوب أحدهما
وحرمة الآخر، وإن اختلف محل الحكمين لعدم إمكان العمل على مقتضى
التكليفين، لاستحالة الانفكاك بين الأمرين بحسب العقل والعادة، فإيجاب
أحدهما وتحريم الآخر من قبيل التكليف بالمحال.
ومن الواضح أنه كما يستحيل التكليف بما يستحيل الإتيان به كذا يستحيل
حصول تكليفين أو تكاليف يستحيل الجمع بينها في الامتثال وخروج المكلف
253

عن عهدتها، وحينئذ فلا يصح الحكم بحرمة الصارف ووجوب الضد المتوقف عليه.
وقد ظهر بما قررنا: أن دعوى إمكان وجوب ضد المأمور به لا يتم بمجرد ما
ذكره، فلا يتفرع على ذلك صحة الإتيان بالواجب الموسع الذي هو أحد الأضداد
الخاصة، إذ لا ملازمة بين عدم تعلق النهي بضد المأمور به وجواز إيجابه، مع أن
المفروض حرمة الترك الذي يلازمه.
ويمكن دفع ذلك: بأنه إنما يتم ما ذكر من استحالة التكليف المذكور لو لم
يكن هناك مندوحة للمكلف في أداء التكليف، وأما إذا كان له مندوحة عن ذلك -
كما إذا كان الواجب موسعا يمكن الإتيان به في غير الوقت المفروض كما في
المقام - فإن الواجب الذي هو ضد للمأمور به وإن كان ملازما للصارف المفروض
إلا أنه لا يتعين عليه الإتيان به في ذلك الوقت، إذ المفروض توسعة الضد، فلا إلزام
للمكلف بالمحال من ورود التكليفين المفروضين، لتمكن المكلف من أداء الضد
الواجب في غير ذلك الوقت وإنما يلزمه العصيان من سوء اختياره.
ويشكل ذلك بأنه كما لا يجوز التكليف بالمحال على وجه التضييق فكذا لا
يجوز على نحو التوسعة، فإذا استحال الخروج عن عهدة التكليف في بعض الوقت
لم يتعلق به التكليف في ذلك الوقت على سبيل التوسعة أيضا، وإن كان للمكلف
حينئذ مندوحة بإتيانه في الجزء الآخر من الوقت، والمفروض في المقام من هذا
القبيل فإنه في الوقت المفروض لا يمكنه الخروج عن عهدة التكليفين.
قوله: * (لو لم يكن الضد منهيا عنه لصح فعله... الخ) *.
قد يورد في المقام: بأنه إن أراد بالصحة المذكورة في تالي الشرطية موافقة
الأمر على ما هو مفادها بالنسبة إلى العبادات لم يتجه الحكم بصحة الضد مطلقا،
وإن لم يكن واجبا كما هو مقتضى العبادة، نظرا إلى حكمه بصحة الضد مطلقا،
وجعله الواجب من جملة الصحيح، إذ الصحة بالمعنى المذكور لا تتحقق في غير
الواجب، وليس سائر الأضداد قابلا للصحة بالمعنى المذكور.
وإن أراد بالصحة مطلق الجواز وعدم الحرمة مع بعد إرادته عن تلك اللفظة
254

لم يتفرع عليه قوله: " فلو صح مع ذلك فعل الواجب " فإن صحة الفعل بمعنى
جوازه وعدم حرمته لا يقتضي وجوب مقدمته، وإنما المقتضي لها صحة الفعل
بمعنى موافقته للأمر الإيجابي القاضي بوجوب الفعل في الحال المفروض، ومجرد
الصحة بالمعنى الثاني لا يقتضي الصحة بالمعنى الأول، لإمكان القول بسقوط
الأمر الوجوبي حينئذ، نظرا إلى المفسدة المذكورة فإنها إنما تتفرع على البناء على
وجوب الضد حينئذ، فأقصى ما يفيده الوجه المذكور عدم وجوب الضد، نظرا إلى
ما يتفرع عليه من الفساد، لا كونه منهيا عنه كما هو المدعى.
ويمكن الجواب عن ذلك باختيار كل من الوجهين.
ويندفع ما أورد على الوجه الأول: بأن الصحة بالمعنى المذكور لا يختص
بالواجب، بل يعم سائر العبادات من الواجب والمندوب، فالمدعى أنه إذا لم يكن
الضد منهيا عنه لكان صحيحا موافقا لأمر الشارع في ما يكون قابلا للصحة
بالمعنى المذكور، يعني إذا كان عبادة، وإن كان واجبا موسعا لكنه لا يصح في
الواجب الموسع... الخ.
نعم، لو أراد إثبات الصحة للضد مطلقا - عبادة كانت أو غيرها - تم ما ذكر من
الإيراد، إلا أنه ليس في العبادة ما يفيد ذلك، إذ أقصى ما يفيده حصول الصحة في
الجملة في غير الواجب الموسع أيضا. ويمكن الإيراد عليه حينئذ بمنع الملازمة، إذ
عدم تعلق النهي بالضد لا يقضي بصحته على الوجه المذكور، وإنما يقضي بعدم
المنع عنه من الجهة المذكورة، ومجرد ذلك لا يقتضي كونه موافقا للأمر، لإمكان
ارتفاع الأمر حينئذ، نظرا إلى ما ذكر من المفسدة.
كيف! وقد اختار غير واحد من المتأخرين كون الأمر بالشئ مقتضيا لعدم
الأمر بضده دون النهي عنه.
ويمكن دفع ذلك: بأنه مع عدم تعلق النهي بالعبادة تكون لا محالة صحيحة،
لوضوح كون الفاسدة منهيا عنها، ولا أقل من جهة بدعيتها.
وفيه: أن مقصود المصنف: أنها لو لم تكن منهيا من جهة تعلق الأمر بضدها،
255

حيث إن المدعى كون الأمر بالشئ قاضيا بالنهي عن ضده، لا أن يجئ النهي من
جهة أخرى خارجية كالبدعية.
ويدفعه: أن نفي كونها منهيا عنها من جهة تعلق الأمر بضدها لا يقضي إذن
بصحتها، لإمكان ارتفاع الأمر من الجهة المذكورة حسب ما قررنا.
وما أورد على الوجه الثاني بأن جواز الفعل بالنسبة إلى العبادات قاض
بصحتها بالمعنى الأول، إذ لولاها لكان الإتيان بها بدعة محرمة، فيستلزم الأمر
بالشئ النهي عنه، وقد فرض عدم استلزامه له.
ويرد عليه ما مر من: أن المقصود عدم اقتضاء الأمر بالشئ النهي عن ضده
من حيث تعلق الأمر به، لا من جهة أخرى، كما في الصورة المفروضة، فإن النهي
هناك إنما يجئ من جهة خارجية هي البدعية، لا من جهة تعلق الأمر بضده
الآخر، ولذا لو لم يكن الضد عبادة لم يجر الوجه المذكور، فلا يجئ هناك نهي، مع
أن المدعى يعم القسمين قطعا.
وتمحل المدقق المحشي بحمل الصحة في كلامه على الأعم من الإباحة
وموافقة المأمور به، بأن يكون تحققه بالنسبة إلى غير الواجب الموسع في ضمن
الإباحة وبالنسبة إليه في ضمن الموافقة المذكورة - وهو كما ترى - لا داعي إلى
التزامه، مع غاية بعده، إذ لا جامع ظاهرا بين الأمرين، ولا داعي على تخصيصه
الصحة المصطلحة بالواجب.
قوله: * (فيلزم اجتماع الوجوب والتحريم في أمر واحد شخصي) *.
ولو من جهتين، وهو باطل، كما سيجئ، وحينئذ فالإيراد عليه بجواز
اجتماعهما في المقام نظرا إلى اختلاف الجهتين ليس على ما ينبغي.
قوله: * (يقتضي تمامية الوجه الأول من الحجة) *.
هذا صريح في تسليم المصنف (رحمه الله) كون ترك الضد مقدمة لفعل ضده، كما كان
ظاهرا من عبارته المتقدمة، كما مرت الإشارة إليه.
قوله: * (ليس على حد غيره من الواجبات... الخ) *.
256

مراد المصنف (رحمه الله) بذلك - على ما فهمه جماعة - أن وجوب المقدمة من جهة
كونه توصليا لا ينافي الحرمة، فيمكن اجتماعهما معا في أمر واحد، حيث إن
المقصود من وجوبها التوصل إلى الواجب، وهو حاصل بالحرام كحصوله بغيره،
بخلاف غيرها من الواجبات، فيكون الحكم بامتناع اجتماع الوجوب والحرمة في
أمر واحد شخصي من جهتين مختصا عنده بغير الصورة المفروضة.
وأنت خبير بوهنه، إذ ما ذكر من الوجه في امتناع الاجتماع في غير المقدمة
جار بعينه بالنسبة إليها أيضا، فإن تضاد الأحكام كما يمنع من الاجتماع في غيرها
كذا بالنسبة إليها وكذا الحال في التكليف بالمحال. ومن البين امتناع التخصيص في
القواعد العقلية.
نعم، يمكن أن يقال بجواز اجتماع الوجوب النفسي والحرمة الغيرية، نظرا إلى
انتفاء المضادة بينهما، كما سيجئ بيانه إن شاء الله.
وما يتراءى من سقوط الواجب عند الإتيان بها على الوجه المحرم لا يقتضي
كون المأتي بها واجبا، لإمكان سقوط الواجب بالحرام من غير أن يتصف المحرم
بالوجوب. كيف! ولو كان سقوط الواجب بالحرام دليلا على اجتماع الوجوب
والتحريم لجرى ذلك في غير المقدمة من الواجبات النفسية من غير العبادات، كما
لو أدى دينه على وجه محرم، أو أتى بالحق الواجب عليه من المضاجعة في مكان
أو فراش مغصوب، ونحو ذلك، فلا وجه لتخصيص ذلك بالمقدمة كما يظهر من
العبارة.
والتحقيق في المقام - كما مرت الإشارة إليه - هو الفرق بين اسقاط الواجب
وأدائه والامتثال بفعله، فالأول أعم مطلقا من الثاني، كما أن الثاني أعم مطلقا
من الثالث، فإن امتثال الأمر هو أداء المأمور به من جهة أمر الآمر به، ولا يتحقق
ذلك بفعل الحرام قطعا، إذ لا يمكن تعلق الأمر به أصلا، كما سيجئ في محله
إن شاء الله.
وأداء الواجب إنما يكون بالإتيان بالفعل المأمور به، سواء أتى به من جهة
257

موافقة الأمر أو لغيره من الجهات، ولا يمكن حصول ذلك بفعل المحرم أيضا، لعين
ما ذكر. وإسقاط الواجب يحصل بكل من الوجهين المذكورين، وبالإتيان بما
يرتفع به متعلق الحكم، ولا يبقى هناك تكليف. ألا ترى أن الواجب من أداء الدين
هو ما يكون على الوجه المشروع فإنه الذي أمر به الشرع، لكن إذا أداه على غير
الوجه المشروع لم يبق هناك دين حتى يجب أداؤه؟! وهكذا الحال في نظائره
كتطهير الثوب على الوجه المحرم، ومن ذلك الإتيان بالمقدمة على وجه غير
مشروع، كقطع المسافة إلى الحج على الوجه المحرم، فإن ذلك القطع ليس مما أمر
الله سبحانه به قطعا، لكن إذا أتى به المكلف حصل ما هو المقصود من التكليف
بالمقدمة، ولم يبق هناك مقدمة حتى يجب الإتيان بها، فيسقط عنه وجوبها، إلا أن
ما أتى به كان واجبا عليه من جهة محرما من أخرى، فإن ذلك مما يستحيل قطعا
عند القائل بعدم جواز اجتماع الأمرين ولو من جهتين.
فظهر بما قررنا: أن احتجاجه على جواز اجتماع الوجوب التوصلي مع
التحريم بما ذكره من سقوط الواجب حينئذ وعدم وجوب إعادته موهون جدا، لما
عرفت من كون سقوط الواجب أعم من أدائه، فيمكن حصول الأول من دون
الثاني، وإنما يتم له الاحتجاج لو أثبت حصول الأداء بذلك، وهو ممنوع، بل ممتنع
قطعا، نظرا إلى عموم الدليل القاضي بامتناع الاجتماع المسلم عند المصنف.
ويمكن تنزيل كلامه (رحمه الله) على ذلك، فيريد بما ذكره إمكان سقوطه بفعل المحرم من
غير عصيان للأمر المتعلق بها، بخلاف الحال في غيرها، حيث لا يمكن هناك
سقوط الواجب كذلك إلا بأدائه على غير الوجه المحرم على ما هو الحال في
العبادات.
ويقربه إنه إنما اخذ في التفريع هنا وفي دفع الشبهة التي قررها سقوط
الواجب بذلك من جهة حصول الغرض من التكليف إلى أدائه بها، لكن يبعد إرادته
ذلك من وجوه:
أحدها: أن ذلك بعينه جار في غير المقدمة من الواجبات إذا لم يكن من
العبادات، فلا وجه لتخصيص الحكم بالواجبات التوصلية.
258

ثانيها: أن الوجه المذكور لا يجري في المقدمة إذا كانت عبادة كالوضوء
والغسل، فلا وجه لإطلاق الحكم بجواز ذلك بالنسبة إلى المقدمات، إلا أن الظاهر
أن ما يظهر من كلامه غير جار بالنسبة إلى المقدمات المفروضة أيضا، فإطلاق
كلامه غير متجه على كل حال.
ثالثها: أن الظاهر من قوله: " فيقطع المسافة أو بعضها على وجه منهي عنه أن
لا يحصل الامتثال " حينئذ أنه يقول بحصول الامتثال بالقطع المفروض، وهو إنما
يتم بناء على اجتماع الحكمين، إذ لا يعقل الامتثال مع انتفاء الأمر، وحمله على
إرادة حصول الامتثال حينئذ بأداء الحج بعيد عن العبارة والمقصود، مضافا إلى أن
تعليله بعدم صلاحية الفعل المنهي عنه للامتثال كالصريح في خلافه. هذا.
واعلم: أن الذي أوقع المصنف (رحمه الله) في الشبهة هو زعمه أن المناط في امتناع
اجتماع الواجب مع الحرام هو المعاندة بين محبوبية الفعل ومطلوبيته في نفسه
لمبغوضيته ومطلوبية تركه، فلا يجتمعان في محل واحد، وهو غير حاصل في
المقدمة، إذ ليس الفعل هناك مطلوبا في حد ذاته أصلا، وإنما يتعلق به الطلب
لأجل إيصاله إلى غيره، وتلك الجهة حاصلة بكل من المحلل والمحرم قطعا، فلا
مانع من اجتماعه مع الحرام، كما يظهر ذلك من ملاحظة مثال الحج. وهذا الوجه
عند التأمل وإن كان ضعيفا جدا لا يصلح أن يقع فارقا بعد البناء على عدم كون
تعدد الجهة مجديا - كما عرفت الحال فيه مما قررنا - إلا أنه قد يتراءى في بادئ
الرأي قبل التأمل في المقام، وهو الذي يستفاد من ظاهر عبارة المصنف (رحمه الله)،
بل صريحه.
ومن الغريب ما يستفاد من كلام المدقق المحشي (رحمه الله) في وجه الشبهة في
المقام، وهو: أن المصنف (رحمه الله) توهم أن امتناع اجتماع المأمور به والمنهي عنه إنما
هو على تقدير بقاء الوجوب بعد الفعل أيضا، فلا مانع من الاجتماع في ما يسقط
وجوبه بالفعل، وحيث إن وجوب المقدمة يسقط بفعلها - حيث إن المقصود منها
التوصل إلى الغير وهو حاصل بفعلها - فيسقط وجوبها فلا مانع من اجتماعها مع
259

الحرام. وكان الوجه في استفادته ذلك من كلامه تصريحه عند بيان الوجه لجواز
اجتماعه مع الحرام بأنه بعد الإتيان بالفعل المنهي عنه يحصل التوصل فيسقط
الوجوب، فيظهر منه أنه لا يقول في غيرها بالسقوط، إذ لو اشتركا فيه لم يعقل
بذلك فرق بين الأمرين، فيكون ذلك إذن هو الفارق بين المقامين.
وأنت خبير بوهن ذلك جدا، كيف! والقول ببقاء الوجوب بعد الإتيان
بالواجب مما لا يتوهمه عاقل، ولا يرضى به سفيه، فكيف يظن بالمصنف (رحمه الله) توهم
مثله، على أنه لا فرق بين بقاء الوجوب بعد الفعل وعدمه، مع وضوح أداء الواجب
بالحرام حين الإتيان به في الصورتين. والقائل بعدم جواز اجتماع الأمرين إنما
يمنع من ذلك، فإن قيل بجواز ذلك فلا يتعقل فرق بين سقوط الوجوب بعد ذلك
وعدمه حتى يمكن أن يتوهم ذلك فارقا في المقام، وليس في كلام المصنف (رحمه الله) ما
يشعر بقصده ذلك في المقام، وإنما مراده من عدم كونه على حد غيره من
الواجبات هو ما قررناه من عدم كونه مطلوبا في نفسه إلى آخر ما ذكر. وليس
مراده من سقوط الوجوب بفعل المنهي عنه بيان الفرق بحصول السقوط هنا بنفس
الفعل دون غيرها من الواجبات، بل المقصود سقوطه هنا بفعل الحرام، كما في مثال
الحج، بخلاف غيرها، حيث لا يسقط الوجوب هناك بفعل الحرام، وهو واضح.
ثم قال (رحمه الله): فإن قلت: مراده أنه ليس على حد غيره من الواجبات أنه لا
يجب على جميع التقادير، بل ربما يسقط وجوبها منه على بعضها، كما إذا حصل
الغرض منه بغيره وهو المنهي عنه.
ثم إنه دفع ذلك: بأن المقدمة حينئذ هو القدر المشترك بين الجائز والحرام.
فإن قلنا بوجوب القدر المشترك فقد اجتمع الواجب والحرام لتحقق القدر
المشترك في ضمنه. وإن قلنا: إن الواجب حينئذ غير المنهي عنه خاصة لزم فيه
مفاسد بينة: عدم وجوب المقدمة التي لا يتم الفعل من دونها - أعني القدر المشترك -
ووجوب غير المقدمة، لوضوح أن غير المنهي عنه مما يتم الفعل بدونه، إذ المفروض
حصول التوصل بالحرام أيضا، وسقوط وجوب الواجب بفعل غير الواجب.
260

ثم ذكر: أن القول بأن المقدمة في المقام هو الفعل المشروع دون غيره إذ
الإتيان بالمأمور به على وجه لا يقع المكلف في الحرام متوقف على الإتيان
بالوجه المشروع إن تم، فإنما يدفع الإيراد من الأولين، أعني عدم وجوب المقدمة
ووجوب غير المقدمة. وأما سقوط الواجب بغير الواجب فهو باق على حاله، قال:
على أن هذا اصطلاح آخر في المقدمة غير ما هو المشهور، فإن الشرط الشرعي ما
يشترط في صحة الفعل واعتباره، لا ما يكون تجنب القبيح في الإتيان بالمأمور به
متوقفا عليه، فإن ذلك مقدمة ترك القبيح، لا مقدمة فعل المأمور به.
قلت: ولا يذهب عليك وهن جميع ما قرره في المقام. وما ذكره من الوجه في
كونها على حد غيرها من الواجبات عين الوجه الذي احتملناه في تنزيل كلام
المصنف (رحمه الله)، وهو وجه متين في نفسه وإن لم يكن مخصوصا بالمقدمة عند التأمل
حسب ما قررناه، إلا أنه لا يساعده عبارة المصنف حسبما مر الكلام فيه، وما
أورد عليه من الوجوه الثلاثة بين الاندفاع.
وتوضيحه: أن المقدمة في المقام هو القدر المشترك بين الجائز والحرام، إذ هو
الذي يتوقف عليه الفعل، ولا بد منه في حصوله، لكن الشارع إذا أوجب ذلك الكلي
فإنما يوجب الإتيان به على الوجه السائغ من دون غيره، فيقيد الأمر به بذلك. ألا
ترى أن حفظ النفس المحترمة إذا توقف على دفع القوت إليها حصل ذلك ببذل كل
من المحرم والمحلل لها؟ لكن الشارع إذا أوجب ذلك لتوقف الواجب عليه فإنما
يوجبه على الوجه السائغ دون الحرام. وكذا قطع المسافة للحج، فإن القدر
المتوقف عليه هو الأعم من الوجهين، ولكن إذا أوجب الشارع ما يتوقف عليه
الوصول إلى محال المناسك فلا يوجب إلا إيجاده على النحو الجائز، وليس ذلك
حينئذ إلا إيجابا للمقدمة المفروضة، لا إيجابا لغير المقدمة كما زعمه، لوضوح أن
المطلوب في المقام هو تحصيل ما يوصل إلى المطلوب، إلا أن القابل للمطلوبية
عند الآمر هو ذلك.
نعم، لو أوجب نحوا خاصا منه، كما إذا أوجب الركوب أو المشي في المثال
261

المفروض لم يكن إيجاب تلك الخصوصية من إيجاب المقدمة، بخلاف الصورة
الأولى، إذ ليس المقصود هناك إلا إيجاد ما يتوقف الواجب عليه، غير أن مطلوبية
ذلك إنما يكون على الوجه السائغ. فالفرق بين المقامين: أن المطلوب في الأول
هو إيجاد ما يتوقف الواجب عليه، أعني القدر المشترك، لكن وقع الإيجاب على
النحو الخاص حيث إنه القابل لذلك، نظرا إلى وجود المانع من وجوب غيره.
وأما في الثاني فليس المطلوب هناك إلا خصوص ذلك النحو الخاص،
والمفروض عدم توقف الواجب عليه، فلا يكون ذلك من إيجاب المقدمة، ولذا لا
يتأمل أحد في إدراج القسم الأول في إيجاب المقدمة، بل ليس إيجاب المقدمات
في الشرع - بل العرف - إلا على النحو المذكور، أليس من يقول بوجوب مقدمة
الواجب قائلا بوجوب الإتيان بها على النحو الجائز عقلا وشرعا، ولا يقول
بوجوب جميع أفرادها المحللة والمحرمة؟! وليس إيجابها على الوجه المذكور
إيجابا لغير المقدمة قطعا، لوضوح أن الخصوصية غير ملحوظة بنفسها في وجوبها،
وإنما اخذت في المقام من جهة حصول المانع في غيره، فإيجاب الطبيعة الكلية
إنما يقضي بوجوب كل من أفرادها، نظرا إلى إيجاد الطبيعة بها إذا لم يكن في
خصوصية الفرد مانع عن الوجوب، وإلا أفاد ذلك تقييد الوجوب بغيره مع صدق
وجوب الطبيعة المطلقة أيضا، وهذا بخلاف ما إذا تعلق الوجوب أولا بالمقيد،
فعدم فرقه في المقامين بين الصورتين المذكورتين هو الذي أدخل عليه الشبهة
المذكورة.
وأما ما ذكره من لزوم سقوط الواجب بفعل غيره ففيه: أن ذلك مما لا مانع منه،
وهو كثير في الشريعة، كما عرفت من ملاحظة الأمثلة المتقدمة.
نعم، لو قيل بلزوم أداء الواجب بفعل غيره كان ذلك مفسدة، وفرق ظاهر بين
الأمرين حسب ما عرفت الحال فيه مما قررناه.
وأما ما ذكره في التوجيه من أن المقدمة هنا خصوص الفعل المشروع فهو
ضعيف أيضا، إذ المقدمة وما يتوقف عليه الفعل هو الأعم قطعا، غاية الأمر أن
262

يكون السائغ منها هو ذلك، ولا يعتبر ذلك في مفهوم المقدمة قطعا، فكون المقدمة
هو الأعم مما لا ريب فيه، إلا أن وجوبها إنما يكون على الوجه الخاص من جهة
الملاحظة الخارجية، ولا ربط لذلك بتخصيص المقدمة بالسائغ، وبذلك يتضح
اندفاع الإيرادين الأولين.
وما ذكره من إدراج ذلك في المقدمة الشرعية مبني على أخذ القيد المذكور
في نفس المقدمة، لا في وجوبها حسب ما قررناه، وهو وجه ضعيف، إذ لا توقف
لوجود الفعل، ولا لصحته شرعا عليه حسبما أشار إليه، وتفسير المقدمة الشرعية
بذلك مما لم نجده في كلام أحد من القوم، فلا وجه لتفسيرها به أصلا.
قوله: * (فلا يجوز تعلق الكراهة... الخ) *.
وكذا الحال في تعلق الإرادة بالواجب الموسع، فإنه إذا كان ضده واجبا توقف
حصوله أيضا على إرادته وكراهة ضده.
وإن شئت قلت: عدم إرادة ضده فيكون إرادة الضد محرمة أيضا، فقد فرض
أولا وجوبها، فيلزم اجتماع الحكمين في الإرادة أيضا.
قوله: * (لكن قد عرفت... الخ) *.
بيان لدفع الشبهة المذكورة بالوجه الذي ذكره في العلاوة.
ويرد عليه: أنه لو سلم جواز اجتماع الوجوب التوصلي مع التحريم فهو إنما
يفيد في المقام مع عدم انحصار المقدمة في الحرام، أو عدم مقارنتها لفعل الواجب،
وأما مع انحصارها حينئذ في المحرم ومقارنتها لأداء الواجب فلا وجه حينئذ
لوجوب ذي المقدمة، لوضوح امتناع خروج المكلف حينئذ عن عهدة التكليف،
فيكون تكليفه بالأمرين المذكورين من قبيل التكليف بالمحال.
ومن البين أنه كما يستحيل التكليف بالمحال بالنسبة إلى تكليف واحد فكذا
بالنظر إلى تكليفين أو أزيد، كما مرت الإشارة إليه، وحينئذ فلا بد من القول
بسقوط الواجب المفروض أو عدم تحريم كراهة ضده القاضي بعدم وجوب
الإتيان بذلك الضد.
263

لكن الثاني فاسد قطعا، لظهور تعين الإتيان بالواجب المضيق، فلا يكون
الموسع مطلوبا، وذلك كاف في الحكم بفساده، إلا أن يقال: إن توسعة الوجوب
يدفع التكليف بالمحال، فإن الالتزام بذلك إنما يجئ عن سوء اختيار المكلف، إذ
له أداء الموسع في غير ما يزاحم المضيق.
وقد عرفت ما فيه، إذ الظاهر عدم الفرق في المنع من التكليف بالمحال بين ما
لا يكون للمكلف مندوحة عنه وما يكون له المندوحة، حسب ما مرت الإشارة
إليه، فلا يتم ما حاوله من القول بصحته من جهة حصول التوصل بالمقدمة
المفروضة وإن كانت محرمة، لوضوح عدم وجوب المقدمة المفروضة، ولا ما
يتوقف عليها حتى يسقط وجوبها بحصول الغرض منها من فعل الحرام، وحينئذ
فالتحقيق في الجواب عن ذلك ما سيجئ الإشارة إليه - إن شاء الله تعالى - دون
ما ذكره.
وأما ما يقال في الجواب عنه من منع كون ترك الضد مقدمة لفعل ضده ومنع
كون الصارف عن الضد مقدمة فقد عرفت ما فيه.
وكذا ما قد يقال من اختلاف الجهتين في المقدمة المفروضة، فيجب من
إحداهما، ويحرم من الأخرى، كما هو ظاهر في المثال المذكور، فإن الوجوب إنما
يتعلق بقطع المسافة على إطلاقه من حيث كونه موصلا إلى الواجب والحرمة
متعلقة بالخصوصية، لما قد عرفت من ابتناء ذلك على جواز اجتماع الأمر والنهي
من جهتين، وفساده مقطوع به عند المصنف وغيره من الأصحاب، عدا ما تجدد
القول به من جماعة من المتأخرين، كما سيجئ الكلام فيه إن شاء الله.
قوله: * (ومن هنا يتجه أن يقال... الخ) *.
أراد بذلك بيان التفكيك بين القول بوجوب المقدمة والقول باقتضاء الأمر
بالشئ للنهي عن ضده، وقد يتخيل لذلك وجوه:
أحدها: ما مرت الإشارة إليه ومن منع كون ترك الضد من مقدمات فعل ضده،
كما اختاره الفاضل المحشي، فلا يكون القول بوجوب المقدمة مستلزما لدلالة
الأمر بالشئ على النهي عن ضده، وقد عرفت ضعفه مما بيناه.
264

ثانيها: ما أشار إليه المصنف بما قرره في المقام، وتقريره على مقتضى ظاهر
كلامه: أنه لما كان وجوب المقدمة لأجل التوصل إلى ذيها ومن حيث إيصالها إليه
من غير أن تكون واجبة لنفسها وفي حد ذاتها لم يصح القول بوجوبها إلا في حال
إمكان التوصل بها إليه، ليعقل معه اعتبار الجهة المذكورة.
وحينئذ فنقول: إنه لا ريب أنه مع وجود الصارف عن المأمور به وعدم
الداعي إليه لا يمكن التوصل بالمقدمة المفروضة إلى أداء الواجب، فلا وجه حينئذ
للقول بوجوب مقدمته، فلا يكون حينئذ ترك الضد واجبا.
فإن أريد من الكبرى المذكورة في الاستدلال من: أن ما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب، وجوب المقدمة مطلقا ولو مع عدم إمكان التوصل بها إلى الواجب
فهي ممنوعة، والسند ظاهر مما قرر.
وإن أريد بها وجوبها مع إمكان إيصالها ومن حيث كونها موصلة إلى ذيها
فمسلم، ولا ينتج إلا وجوب ترك الضد مع إمكان التوصل به إلى الواجب، لا
وجوبه مطلقا، وقد عرفت أنه مع وجود الصارف وعدم الداعي لا يمكن التوصل
بها إليه.
وأنت خبير بوهن ما ذكره، إذ مجرد وجود الصارف لا يقضي باستحالة
التوصل إليه، لكون وجوده بقدرة المكلف واختياره، ألا ترى أن سائر الواجبات
الغيرية الثابت وجوبها بالنص إنما تكون واجبة من أجل التوصل بها إلى غيرها
على ما هو مفاد الوجوب الغيري؟! ومع ذلك لا قائل بسقوط وجوبها مع وجود
الصارف وعدم الداعي إلى إيجاد ذلك الشئ، كيف! ولو صح ما ذكره من الخروج
عن قدرة المكلف لم يكن عاصيا بترك نفس الواجب أيضا، لسقوط وجوبه حينئذ
بانتفاء القدرة عليه، وهو واضح الفساد، بل لزم (1) أن لا يعصي أحد بترك شئ من
الواجبات، ضرورة أنها إنما تترك مع وجود الصارف عنها وعدم الداعي إليها،
والمفروض حينئذ امتناع حصولها، فلا يتعلق التكليف بها.

(1) في (ف): بل يلزم.
265

وبالجملة: أن هناك فرقا بين التوصل إلى الواجب بشرط وجود الصارف
وعدم الداعي إليه وفي حال وجوده، والممتنع إنما هو الأول دون الثاني،
والمفروض في المقام إنما هو الثاني دون الأول، وذلك ظاهر.
ثالثها: ما أشار إليه المصنف بقوله: * (وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة
... الخ) *.
تقريره أن ما دل على وجوب المقدمة إنما يفيد وجوبها من حيث كونها
موصلة إلى الواجب، لا وجوبها في حد ذاتها، كما عرفت، وذلك قاض بتوقف
وجوبها على إرادة الواجب، لعدم كون المقدمة موصلة مع عدمها، فيكون إيجادها
حينئذ لغوا، والمفروض عدم إرادة الواجب حينئذ، فلا يكون ترك الضد واجبا من
جهة كونه مقدمة للواجب على نحو ما ذكرناه في الوجه الأول، وضعفه أيضا ظاهر،
لوضوح انتفاء المانع من وجوب المقدمة من حيث إيصالها إلى الواجب ولو لم
يكن مريدا لفعل الواجب، إذ عدم إرادة الواجب لا يقضي بسقوطه، فلا يسقط
وجوب مقدمته، فيجب عليه في حال عدم إرادة الواجب أن يأتي به، ويأتي
بمقدمته من حيث إيصالها إليه.
نعم، لو لم يتمكن من إرادة الفعل ومن إيجاده في الخارج صح ما ذكر من عدم
وجوب مقدمته، إلا أنه لا يجب عليه الإتيان بذي المقدمة أيضا، وهو خارج عن
محل الكلام.
وما دل على وجوب المقدمة يعم ما إذا كان المكلف مريدا للإتيان بذي
المقدمة أو غير مريد له، فدعوى اختصاصه بالصورة الأولى فاسدة جدا، كما لا
يخفى على من لاحظها.
رابعها: ما مرت الإشارة إليه في المسألة المتقدمة من: أن ما دل على وجوب
المقدمة إنما يفيد وجوب المقدمة الموصلة إلى ذيها دون غيرها، بل مفاد المقدمة
عند التأمل هو خصوص الموصلة إليه دون غيرها، حسبما مر بيانه، وحينئذ
فالمقدمة المجامعة للصارف وعدم الداعي ليست موصلة فليست بواجبة.
266

وحينئذ فقوله: " إن ترك الضد مقدمة لفعل الواجب " إن أريد به خصوص
ترك الضد الموصل إلى فعل المأمور به فمسلم. وقوله: " إن ما يتوقف عليه
الواجب فهو واجب " إنما يقتضي وجوب ذلك، ولا ربط له بما هو محل النزاع، إذ
قد عرفت أنه ليس موصلا إلى فعل الواجب.
وإن أريد به أن ترك الضد مطلقا مقدمة لفعل الواجب فإن سلم ذلك فلا نسلم
وجوب المقدمة مطلقا، بل ليس الواجب إلا خصوص المقدمة الموصلة. ويمكن
أن يجعل ذلك المناط فيما ذكره المصنف من الوجهين، فكأنه لاحظ ذلك في
تقييده وجوب المقدمة بكل من الأمرين المذكورين وإن لم يصرح به، فيكون
مرجع الوجهين المذكورين إلى أمر واحد.
وحينئذ فيقال في تقرير الوجه الأول: إنه مع وجود الصارف عن المأمور به
وعدم الداعي إليه - كما هو المفروض في المقام - لا يمكن التوصل بالمقدمة
المفروضة إلى الواجب، فلا يكون تلك المقدمة على الفرض المذكور موصلة إلى
الواجب، فلا تكون واجبة حسب ما عرفت، ولا يدفعه حينئذ إمكان ترك الصارف
وإيجاد الداعي، فيمكن أن تكون المقدمة حينئذ موصلة إلى الواجب، إذ قضية ما
ذكره وجوب المقدمة المجامعة لترك الصارف وإيجاد الداعي، دون ما إذا كان غير
مجامع لذلك، لما عرفت من امتناع إيصالها حينئذ فلا تكون واجبة، وإن أمكن
ترك الصارف وإيجاد الداعي فتكون موصلة، فإن ذلك مجرد فرض لا وجود له
في الخارج، أقصى الأمر إمكان أن تكون واجبة، فهو فرض غير واقع فلا يتصف
بالوجوب فعلا ليترتب عليه ما ذكر.
والحاصل: أن وجوب كل من المقدمات حينئذ إنما يكون مع حصول البواقي،
وإذا فرض ترك واحد منها لم يكن شئ من المقدمات الحاصلة متصفا بالوجوب،
فكما يكون المكلف حينئذ تاركا لنفس الواجب يكون تاركا لما هو الواجب من
مقدماته أيضا.
ومن ذلك يظهر الوجه في تقريره الثاني أيضا، فإن المقدمة المجامعة لعدم
267

إرادة الفعل ليست موصلة إلى الواجب فلا تكون واجبة، لما عرفت من كون
الواجب خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها، فليس إتيانه حينئذ بالمقدمة
المفروضة مع عدم إرادة الواجب إتيانا بالمقدمة الواجبة، بل هو تارك للمقدمة
الواجبة ولذي المقدمة معا.
وحينئذ فما أورد عليه من إمكان حصول الإرادة حينئذ فتكون موصلة، وما
دل على وجوب المقدمة إنما ينهض دليلا على الوجوب في حال إمكان إرادة
المكلف وإمكان صدور الفعل عنه، فلا يشترط فعلية الإرادة في وجوبها مدفوع
بنحو ما ذكر، إذ لا يقول المصنف باشتراط فعلية الإرادة في وجوب المقدمة حتى
يرد عليه ذلك، بل إنما يقول بكون الواجب هو المقدمة الموصلة، فإذا ترك الواجب
فقد ترك المقدمة الموصلة إليها، وإتيانه بغير الموصلة ليس إتيانا بالمقدمة الواجبة،
ولا تركه لغير الموصلة تركا للمقدمة الواجبة، فترك الضد الصارف لعدم إرادة
المأمور به لا يكون موصلا إلى المأمور به فلا يكون واجبا.
هذا غاية ما يوجه به كلامه. لكن قد عرفت أن ما دل على وجوب المقدمة
يفيد وجوبها مطلقا من حيث إيصالها إلى الواجب من غير أن تنقسم المقدمة
بملاحظة ذلك إلى نوعين، يجب أحدهما دون الآخر حسب ما مر تفصيل القول
فيه في بحث مقدمة الواجب.
فالحق أن ترك الضد في المقام واجب من حيث ايصاله إلى الواجب وإن لم
تكن موصلة بالفعل، لتسامح المكلف في أداء التكليف، فإن ذلك لا يرفع الوجوب
عنه، فلا وجه للقول بجواز ترك الضد حينئذ، نظرا إلى مصادفته لحصول الصارف،
بل الترك المفروض واجب عليه، ويجب عليه ترك الصارف وإيجاد الداعي وسائر
المقدمات حتى يحصل بها الإيصال إلى الواجب.
وحينئذ فالتحقيق أن يقال بالملازمة بين القول بوجوب المقدمة واقتضاء
الأمر بالشئ للنهي عن ضده حسب ما اخترناه. كما أن القائل بعدم وجوب
المقدمة يلزمه القول بعدم الاقتضاء عند التحقيق.
268

بقي الكلام في المقام في بيان الثمرة المتفرعة على الخلاف المذكور، وعمدة
ما فرع على ذلك هو الحكم بفساد الضد وعدمه إذا كان عبادة، سواء كانت واجبة
أو مندوبة.
فعلى القول بدلالته على النهي عن ضده تكون فاسدة من جهة النهي المتعلق
بها، بخلاف ما إذا قيل بعدم الاقتضاء، إذ لا قاضي حينئذ بفسادها. وقد يقع التأمل
في تفرع الثمرة المذكورة على كل من الوجهين.
أما الأول فبما مرت الإشارة إليه من: أنا لو قلنا بدلالة الأمر على النهي عن
ضده لا يلزمنا القول بفساد الضد، إذ المطلوب هو ترك الضد الموصل إلى الواجب
دون غيره، والإتيان بالضد إنما يكون مع حصول الصارف عن المأمور به، فلا
يكون تركه موصلا حتى يحرم فعله ويتفرع عليه فساده.
لكنك قد عرفت ضعف الكلام المذكور، وأن المطلوب في المقام هو ترك الضد
من حيث كونه موصلا إلى الواجب، لا خصوص ترك الضد الموصل، وفرق ظاهر
بين الوجهين. وقضية الوجه الأول هو تحريم فعل الضد وإن لم يوصل حسب ما
فرض في المقام، وقد مر تفصيل القول فيه.
وأما الثاني فبما ذكره بعض الأفاضل من لزوم الحكم بفساد الضد على القول
بعدم اقتضائه النهي عن الضد أيضا، نظرا إلى انتفاء مقتضى الصحة على ما سيجئ
تفصيل القول فيه وفي بيان فساده.
والتحقيق في المقام: عدم تفرع الثمرة المذكورة على المسألة حسب ما
فرعوها عليها، لا لما ذكر، بل لعدم إفادة النهي المذكور فساد الضد، نظرا إلى عدم
اقتضاء النهي الغيري المتعلق بالعبادات الفساد مطلقا، بل فيه تفصيل.
وتوضيح المقام: أن دلالة النهي على الفساد ليست من جهة وضعه له، إذ ليس
ما وضع النهي له إلا التحريم أو طلب الترك، وإنما يدل على الفساد بالالتزام، كما
سيجئ الكلام فيه إن شاء الله.
فاستفادة الفساد في المقام: إما من جهة إفادته المرجوحية المنافية للرجحان
269

المعتبر في حقيقة العبادة، أو من جهة امتناع تعلق الطلب بالفعل بعد تعلقه بتركه،
لكونه من التكليف بالمحال، فتعلق النهي به مانع من تعلق الأمر لكون الترك حينئذ
مطلوبا للآمر مرادا له، فلا يكون الفعل مرادا ومطلوبا له أيضا.
وإذا انتفى الأمر لم يعقل الصحة، لكون الصحة في العبادة عبارة عن موافقة
الأمر، ولا يجري شئ من الوجهين المذكورين في المقام.
أما الأول فلأن الرجحان المعتبر في حقيقة العبادة هو رجحان الفعل على
الترك، لا رجحانه على سائر الأفعال، وإلا لم تكن العبادة إلا أفضل العبادات،
وكان غيرها من العبادات المرجوحة بالنسبة إليها فاسدة، وهو واضح الفساد.
ورجحان الفعل على الوجه المذكور حاصل في المقام، لكون الفعل المفروض
عبادة راجحة بملاحظة ذاته، والنهي المتعلق به غيري يفيد مطلوبية الترك لأجل
الاشتغال بما هو الأهم منه، فيدل على مرجوحية ذلك الفعل بالنسبة إلى فعل آخر،
لا مرجوحيته بالنظر إلى تركه حتى ينافي رجحانه عليه. ومن البين أيضا أنه لا
منافاة بين رجحان الفعل على تركه ومرجوحيته بالنسبة إلى فعل غيره.
فإن قلت: إن المنافاة حاصلة في المقام، نظرا إلى كون رجحان الفعل على
الترك رجحانا مانعا من النقيض، ومرجوحيته بالنسبة إلى فعل آخر كذلك أيضا.
ومن البين امتناع حصول الأمرين في فعل واحد، للزوم اجتماع المنع من الفعل
والمنع من الترك في آن واحد.
قلت: لا مانع من اجتماع الأمرين بوجه من الوجوه، إذ قد يكون الفعل
بملاحظة ذاته جائزا لكن يجب تركه، لمعارضته بواجب آخر أهم منه، فهو راجح
في ذاته رجحانا مانعا من النقيض مرجوح كذلك بالنسبة إلى غيره، فمن أراد
الإتيان بالراجح من غير أن يصدر منه عصيان تعين عليه ترك ذلك والإتيان
بالأهم، ولا مانع من ترك ما يتحتم فعله في ذاته إذا عارضه ما كان كذلك وكان
أهم منه في نظر الآمر، فهو محتوم الفعل بملاحظة ذاته، غير محتوم بملاحظة غيره،
بل محتوم الترك بتلك الملاحظة، ولا تدافع بينهما أصلا. وإن أتى بغير الأهم فقد
أتى بالراجح أيضا، إلا أنه لا بد حينئذ من عصيان الأمر الآخر.
270

وأما الثاني فلأنه لما كان النهي المفروض غيريا لم يكن هناك مانع من
اجتماعه مع الواجب، فإن حرمة الشئ لتوقف الواجب الأهم على تركه لا ينافي
وجوبه وحرمة تركه على فرض ترك ذلك الأهم بأن يكون ترك ذلك الأهم شرطا
في وجوبه وتعلق الطلب به، فيجتمع الوجوب والتحريم المفروضان في آن واحد
من غير تمانع بينهما، فإذا لم يكن هناك مانع من اجتماع الأمر والنهي على الوجه
المذكور فلا مجال لتوهم دلالة النهي المفروض على الفساد.
فظهر مما قررنا: أنه لا مانع من تعلق التكليف بالفعلين المتضادين على الوجه
المذكور، ولا مجال لتوهم كونه من قبيل التكليف بالمحال، إذ تعلق الطلب
بالمتضادين إنما يكون من قبيل التكليف بالمحال إذا كانا في مرتبة واحدة بأن
يكون الآمر مريدا لإيقاعهما معا، نظرا إلى استحالة اجتماعهما في الوجود بالنسبة
إلى الزمان المفروض. وأما إذا كانا مطلوبين على سبيل الترتيب، بأن يكون
مطلوب الآمر أولا هو الإتيان بالأهم ويكون الثاني مطلوبا له على فرض عصيانه
للأول وعدم إتيانه بالفعل فلا مانع منه أصلا، إذ يكون تكليفه بالثاني حينئذ منوطا
بعصيانه للأول والبناء على تركه. ولا يعقل هناك مانع من إناطة التكليف بالعصيان،
فلا منافاة بين التكليفين، نظرا إلى اختلافهما في الترتيب، وعدم اجتماعهما في
مرتبة واحدة ليكون من التكليف بالمحال، لوضوح عدم تحقق الثاني في مرتبة
الأول، وتحقق الأول في مرتبة الثاني لا مانع منه بعد كون حصوله مرتبا على
عصيان الأول، ولا بين الفعلين، إذ وقوع كل منهما على فرض إخلاء الزمان
عن الآخر. ومن البين أنه على فرض خلو الزمان عن الآخر لا مانع من وقوع
ضده فيه.
فإن قلت: لو وقع التكليف مرتبا على النحو المفروض لم يكن هناك مانع منه
على حسب ما ذكر، وليس الحال كذلك في المقام، إذ المفروض إطلاق الأمرين
المتعلقين بالأمرين المفروضين، وليس هناك دلالة فيهما على إرادة الترتيب
المذكور. فمن أين يستفاد ذلك حتى يقال بوقوع التكليفين على الوجه المذكور.
271

قلت: ما ذكرناه هو مقتضى إطلاق الأمرين بعد ملاحظة التقييد الثابت بحكم
العقل، فإن إطلاق كل من الأمرين يقضي بمطلوبية الفعل على سبيل الإطلاق، ولما
لم يكن مطلوبية غير الأهم في مرتبة الأهم - لوضوح تعين الإتيان بالأهم وعدم
اجتماعه معه في الوجود - لزم تقييد الأمر المتعلق بغير الأهم بذلك، فلا يكون غير
الأهم مطلوبا مع الإتيان بالأهم. وأما عدم مطلوبيته على فرض ترك الأهم
وعصيان الأمر المتعلق به فمما لا دليل عليه، فلا قاضي بتقييد الإطلاق بالنسبة إليه
أيضا.
والحاصل: أنه لا بد من الاقتصار في التقييد على القدر الثابت، وليس ذلك إلا
بالتزام ارتفاع الطلب المتعلق بغير الأهم على تقدير إتيانه بالأهم. وأما القول
بتقييد الطلب المتعلق به بمجرد معارضته بطلب الأهم مطلقا ولو كان بانيا على
عصيانه وإخلاء الزمان عن الإتيان به فمما لا داعي إليه، وليس في اللفظ ولا في
العقل ما يقتضي ذلك، فلا بد فيه من البناء على الإطلاق، والاقتصار في الخروج
عن مقتضى الأمر المتعلق به على القدر اللازم.
فإن قلت: إن ترك الأهم لما كان مقدمة للإتيان بغير الأهم وكان وجوب
الشئ مستلزما في حكم العقل لوجوب مقدمته بحيث يستحيل الانفكاك بينهما -
كما مر الكلام فيه - كيف يعقل وجوب غير الأهم مع انحصار مقدمته إذن في
الحرام؟! فيلزم حينئذ أحد أمرين: من اجتماع الوجوب والحرمة في المقدمة
المفروضة، أو القول بانفكاك وجوب المقدمة عن وجوب ذي المقدمة ولا ريب
في فساد الأمرين.
قلت: ما ذكرناه من كون تعلق الطلب بغير الأهم على فرض عصيان الأهم إنما
يفيد كون الطلب المتعلق به مشروطا بذلك، فيكون وجوب غير الأهم مشروطا
بترك الأهم، وإخلاء ذلك الزمان عن اشتغاله به. ومن البين عدم وجوب مقدمة
الواجب المشروط، فلا مانع من توقف وجود الواجب على المقدمة المحرمة إذا
توقف وجوبه عليها أيضا.
272

فإن قلت: لو كانت المقدمة المفروضة متقدمة على الفعل المفروض تم ما ذكر،
لتعلق الوجوب به بعد تحقق شرطه، فيصح تلبسه به. وأما إذا كان حصول المقدمة
مقارنة لحصول الفعل - كما هو المفروض في المقام - فلا يتم ذلك، إذ لا وجوب
للفعل المفروض قبل حصول مقدمة وجوبه، فلا يصح صدوره عن المكلف، وقد
مرت الإشارة إلى ذلك.
قلت: إنما يتم ذلك إذا قيل بلزوم تقدم حصول الشرط على المشروط بحسب
الوجود، وعدم جواز توقف الشئ على الشرط المتأخر بأن يكون وجوده في
الجملة كافيا في حصول المشروط. وأما إذا قيل بجواز ذلك - كما هو الحال في
الإجازة المتأخرة الكاشفة عن صحة عقد الفضولي وتوقف صحة الأجزاء
المتقدمة من الصلاة على الاجزاء المتأخرة منها - فلا مانع من ذلك أصلا، فإذا
تيقن المكلف على حسب العادة بحصول الشرط المذكور تعلق به الوجوب وصح
منه الإتيان بالفعل.
فإن قلت: من أين يستفاد كون الشرط الحاصل في المقام من هذا القبيل حتى
يصح الحكم بصحة الفعل المفروض، مع أن مقتضى الأصل الأولي انتفاء الصحة؟
قلت: إن ذلك أيضا قضية إطلاق الأمر المتعلق بالفعل، إذ أقصى ما يلزم في
حكم العقل تقييده بصورة الإتيان بالأهم. وأما مع خلو زمان الفعل عن الاشتغال
به - بحسب الواقع - فلا مانع من تعلق التكليف بغير الأهم، فإذا علم المكلف ذلك
بحسب حاله لم يكن هناك مانع من اشتغاله بغير الأهم، ولا من تكليفه بالإتيان به،
ولا قاضي إذن بالالتزام بتقييد الإطلاق بالنسبة إليه.
فإن قلت: إن جميع ما ذكرت إنما يتم فيما لو كان الصارف عن الإتيان بالأهم
أمرا خارجيا سوى الاشتغال بغير الأهم، إذ لا مانع حينئذ من تعلق التكليف به
كذلك، وصحة الإتيان به على حسب ما ذكر. لكن إذا كان الصارف عنه هو
الاشتغال بغير الأهم بحيث لولا إتيانه به لكان آتيا بالأهم فيشكل الحال فيه، إذ
المفروض توقف صحة غير الأهم على خلو الزمان عن الاشتغال بالأهم، وتوقف
خلوه عنه على الاشتغال بغير الأهم، فإن تركه إنما يتفرع على الاشتغال به.
273

قلت: إن خلو الوقت عن الأهم لا يتفرع على فعل غير الأهم، بل على إرادته،
فإن إرادته حينئذ قاضية بعدم إرادة الآخر، وهو قاض بعدم حصوله، فلا يتوقف
وجوب الفعل على وجوده. ويشكل حينئذ لزوم اجتماع الوجوب والتحريم في
الإرادة المتعلقة بغير الأهم، فإنها محرمة من جهة صرفه عن الأهم، واجبة من جهة
توقف الواجب عليها. ولا يمكن القول بتوقف وجوب الفعل على إرادته ليكون
وجوب ذلك الفعل مشروطا بالنسبة إليها على حسب ما أجيب سابقا، لكون
الإرادة سببا قاضيا بحصول الفعل، أو جزءا أخيرا من العلة التامة ولا وجه
لاشتراط الوجوب بالنسبة إلى شئ منهما حسب ما مرت الإشارة إليه.
ومن هنا يتجه التفصيل بين الوجهين، والحكم بالصحة في الصورة الأولى
دون الثانية.
وقد يدفع ذلك بمنع كون الصارف عن الأهم هو الإرادة الملزمة للفعل، أعني
الاجماع عليه، بل الشوق والعزم السابقان عليه كافيان في ذلك، ولا مانع من تقييد
الوجوب بالنسبة إلى شئ منهما، إذ ليسا سببين لحصول الفعل، ولا جزءا أخيرا
من العلة.
وتحقيق ذلك أن يقال: إن الصارف عن الأهم إنما هو عدم إرادته، وهو ليس
مسببا عن إرادة غير الأهم، بل هو مما يتوقف عليه الإرادة المفروضة، نظرا إلى
حصول المضادة بينهما، فيتوقف وجود كل منهما على انتفاء الآخر حسب ما مر.
فنقول: إن الشوق والعزم المتقدمين على الإرادة اللذين هما شرط في تحققها
قد أوجبا انتفاء الإرادة المفروضة، فغاية الأمر حصول الاشتراط بالنسبة إلى أحد
الأمرين المذكورين، أو ما يتفرع عنهما من الصارف المذكور، فتأمل.
هذا، وقد يتخيل في المقام تفصيل آخر، وهو الفرق بين ما إذا كان الاشتغال
بالضد رافعا للتمكن من أداء الواجب حينئذ، وما إذا بقي معه التمكن منه، فيصح له
ترك الضد والاشتغال بالواجب مهما أراد.
فقال في الصورة الأولى بفساد الإتيان بالضد إذا كان عبادة موسعة أو مضيقة،
274

بخلاف الصورة الثانية. والفرق بينهما: أن رفع التمكن من أداء الواجب بعد اشتغال
الذمة به محظور في الشريعة، فلا يجوز حينئذ للمكلف أن يرفع مكنته من أداء ما
كلف به، كما هو معلوم من ملاحظة العقل والنقل، فلا يصح الإتيان بالفعل الرافع لها
من جهة النهي المذكور، بخلاف غيره.
وفيه: أن رفع التمكن من الواجب إنما يكون محظورا من حيث أدائه إلى ترك
المطلوب، فإذا كان الصارف عن أداء الواجب موجودا قطعا بحيث لا يستريب
المكلف في تركه له فأي ثمرة في بقاء المكنة منه؟ فيكون منعه من الإتيان بالفعل
الرافع للمكنة إنما هو من جهة أدائه إلى ترك الواجب، فالنهي المتعلق به غيري
أيضا، وهو غير قاض بالفساد في المقام حسب ما قررنا، لوضوح أن مقصود
الشارع من ترك الفعل المفروض هو التمكن من فعل الواجب فيأتي به.
وأما إذا قطع بعصيانه وإخلاء ذلك الوقت عن الفعل المفروض فلا مانع من
تعلق أمر الشارع به، فيكون مأمورا بإيجاده ذلك على فرض عصيانه للأمر الأول،
فيكون ترك ذلك شرطا في وجوبه على حسب ما بينا، والنهي المتعلق به من جهة
كونه سببا لارتفاع التمكن من الآخر ليس بأقوى من النهي المتعلق به، لكون تركه
مقدمة لأداء الواجب، فكما أن ذلك النهي لا يقضي بفساده - حسب ما بينا - فكذا
النهي المتعلق به من جهة أدائه إلى ارتفاع التمكن من أداء الواجب، لكونه نهيا
غيريا على نحو النهي الآخر، فاجتماع النهيين المذكورين في الصورة المفروضة
على فرض تحققه لا ينافي وجوب ذلك الفعل على الوجه الذي قررناه. ولنتمم
الكلام في المرام برسم أمور:
أحدها: أنه ذكر شيخنا البهائي (قدس سره): أنه لو أبدل عنوان المسألة بأن " الأمر
بالشئ يقتضي عدم الأمر بضده فيبطل " لكان أقرب، والوجه فيه سهولة الأمر
حينئذ في مأخذ المسألة، لظهور عدم جواز الأمر بالضدين في آن واحد وترتب
الثمرة المطلوبة من تلك المسألة عليه، إذ المتفرع على القول بدلالة الأمر بالشئ
على النهي عن ضده فساد العبادة الموسعة الواقعة في زمان الواجب المضيق، وهو
275

حاصل على القول باقتضائه عدم الأمر بضده، لوضوح كون الصحة في العبادة
تابعة للأمر.
وأنت بعد ما أحطت خبرا بما قررناه تعرف ضعف ما ذكره (رحمه الله)، فإن المسلم
من اقتضاء الأمر بالشئ عدم الأمر بضده هو ما إذا كان الأمران في مرتبة واحدة،
فيريد من المكلف الإتيان بهما معا.
وأما لو كان التكليفان مترتبين بأن يريد منه الإتيان بأحدهما على سبيل
التعيين: فإن أتى به المكلف فلا تكليف عليه سواه، وإن بنى على العصيان وعلم
بإخلائه ذلك الزمان عن ذلك الفعل تعلق به الأمر الآخر، فيكون تكليفه بالثاني
على فرض عصيان الأول، حسبما مر بيانه، فلا مانع منه أصلا. وكما يصح ورود
تكليفين على هذا الوجه يصح ورود تكاليف شتى على الوجه المفروض بالنسبة
إلى زمان واحد، فإن أتى بالأول فلا عصيان، وإن ترك الأول وأتى بالثاني استحق
عقوبة لترك الأول، وصح منه الثاني وأثيب عليه، ولا عصيان بالنسبة إلى البواقي.
وإن عصى الأولين وأتى بالثالث استحق عقوبتين وصح منه الثالث، وهكذا. وإن
ترك الجميع استحق العقوبة على ترك الجميع، مع عدم اتساع الزمان إلا لواحد
منها.
ثم لا يذهب عليك أنه وإن صح حصول التكليف على النحو المذكور إلا أنا لم
نجد في أصل الشريعة ورود التكليف على الوجه المذكور، لكن ورود ذلك على
المكلف من جهة العوارض والطوارئ مما لا بعد فيه، ويجري ذلك في المضيق
والموسع، والمضيقين، وفي الواجب والمندوب. وقد عرفت أن قضية الأصل عند
حصول التعارض بينهما هو الحمل على ذلك، إلا أن يقوم دليل من الشرع على
تعين ذلك الأهم وسقوط التكليف بغيره رأسا، كما في شهر رمضان حيث يتعين
لصومه، ولا يقع فيه صيام غيره، حتى أنه لو بنى على ترك صومه لم يصح فيه صوم
آخر، وكالوقف المقرر للصلاة اليومية عند تضيقه وتفطن المكلف به فإن الظاهر
من الشرع تعينه حينئذ لليومية، وعدم وقوع صلاة أخرى فيه.
276

هذا، وقد أورد على ما ذكره (رحمه الله) بوجوه:
أحدها: ما ذكره بعض الأفاضل من منع انحصار الوجه في صحة العبادة في
موافقة الأمر، إذ هو من أحكام الوضع في العبادات والمعاملات، فقد يكون الصحة
فيها من غير أمر، كما هو الحال في المعاملات.
ووهنه واضح، للفرق البين ووضوح قوام صحة العبادة بالأمر، فكيف يعقل
صحتها من دون كونها مطلوبة للشارع؟
ثانيها: ما ذكره الفاضل المذكور أيضا من: أن ذلك إنما يتم في العبادات دون
المعاملات.
وضعفه أيضا ظاهر، إذ المقصود مما ذكره تفرع الثمرة المترتبة على القول
بدلالة الأمر بالشئ على النهي عن ضده من فساد الضد على العنوان الذي ذكره.
ومن الواضح أن الترتب على العنوان الأول إن تم فإنما هو فساد الضد لو كان
عبادة مزاحمة له دون المعاملة المزاحمة له، لوضوح كون النهي المفروض على
فرض حصوله في المقام غير دال على الفساد بالنسبة إلى المعاملة، فكما أن
العنوان الثاني لا يفيد الفساد بالنسبة إلى المعاملة فكذا العنوان الأول، فلا وجه
للإيراد.
نعم، لو توهم إفادة النهي المفروض فساد المعاملة - كما قد يستفاد من كلام
المورد المذكور - لربما صح الإيراد المذكور، وكأنه الوجه في إيراده ذلك، إلا أن
ذلك فاسد جدا - كما ستجئ الإشارة إليه في محله إن شاء الله - فلا يتجه الإيراد
أصلا.
ثالثها: أن الأمر بالشئ إنما يقتضي عدم الأمر بضده إذا كان الضد مضيقا
أيضا، واما إذا كان موسعا - كما هو المفروض - فلا، إذ لا استحالة في اجتماع
الأمر المضيق والأمر الموسع، لعدم المزاحمة بينهما، إذ ليس مفاد وجوب الشئ
على وجه التوسعة إلا وجوبه في مجموع الوقت، بأن لا يخلو عنه تمام الوقت، ولو
أتى به في أي جزء امتثل الأمر فلا يتعين عليه الإتيان به في وقت المضيق حتى
277

يزاحمه في التكليف، وإنما تكون المزاحمة بينهما في الوجود من سوء اختيار
المكلف، كذا وذكره جماعة من الأعلام، منهم الفاضل المتقدم.
وفيه: أنه لا كلام في جواز صدور التكليفين في الجملة على الوجه المذكور،
إذ لا مزاحمة بينهما، وإنما مقصوده في المقام أن التكليف بالمضيق يقتضي تقييد
الأمر بالموسع، فيفيد عدم تعلق الأمر بالموسع في حال التكليف بالمضيق، فإنه لما
تعين على المكلف الإتيان بالمضيق في ذلك الوقت في حكم الأمر قضى ذلك بأن
لا يريد منه الآمر في ذلك الوقت سواه، سواء أراد منه الغير على سبيل التعيين
أيضا - كما إذا أراد منه حينئذ مضيقا آخر - أو على سبيل التوسعة والتخيير بين
إيقاعه في ذلك الزمان وغيره، لوضوح أن تعين الإتيان بالفعل ينافي القسمين معا
قطعا، وحصول المندوحة للمكلف لا يقضي بجواز ورود التكليف كذلك، إذ
المفروض عدم تجويز الآمر على حسب تعيينه الإتيان بالأول لإيقاع غيره فيه،
فكيف يوجب حصول الغير فيه ولو على سبيل التخيير بينه وبين الغير؟
وقد عرفت أن التكليف بما لا يطاق كما يستحيل بالنسبة إلى الواجبات
التعيينية كذا يستحيل بالنسبة إلى المخير والموسع، فسوء اختيار المكلف حينئذ لا
يقضي بحصول الواجب وما هو مطلوب الآمر، إذ لا مطلوب له حينئذ إلا الإتيان
بالمضيق حسب تعيينه ذلك على المكلف فكون الموسع مأمورا به في الزمان
المعين للمضيق مطلوبا من الأمر إيقاعه فيه بمكان من الوهن، فلا وجه إذن للحكم
بصحته. نعم، يصح ذلك على الوجه المتقدم من الاكتفاء في الحكم بالصحة بمجرد
تعلق الأمر به في نفسه، مع قطع النظر عن ارتفاع ذلك الأمر بالنسبة إلى المزاحم
للمضيق.
فالقائل المذكور يقول بحصول تقييد الأمر وعدم كون الموسع المزاحم
للمضيق مطلوبا للآمر، ومع ذلك يقول ببقاء الصحة، وهو من الوهن بمكان لا
يحتاج إلى البيان، وذلك هو محصل كلام بعض القائلين بجواز اجتماع الأمر
والنهي حسب ما يجئ بيانه إن شاء الله.
278

فيكون الإيراد المذكور مبنيا على القول بجواز الاجتماع، فلا وجه لإيراده
ممن لا يقول بالجواز، وحينئذ فالوجه في صحة التكليف بالموسع منحصر فيما
ذكرناه من اعتبار الترتيب، وعليه فلا فرق بين الموسع وغيره كما بينا.
رابعها: ما ذكره الفاضل الجواد من: أن الظاهر أن القائل بأن الأمر بالشئ
لا يستلزم النهي عن الضد الخاص يجوز صحة ذلك الضد لو أوقعه المكلف فهو
لا يسلم عدم الأمر بالضد، بل يذهب إلى تعلق الأمر به ليتم حكمه بالصحة،
وعلى هذا فلا وجه لأقربية ما ذكره.
وفيه: أن مقصوده (رحمه الله) سهولة الخطب في الاستدلال على العنوان الذي ذكره،
لا عدم ذهاب القائل بنفي الدلالة على عدم ثبوت الأمر، فمجرد قوله به لا يفيد قوة
ما ذهب إليه، والمراد: أن إثبات نفيه الأمر بالضد أسهل من إثبات دلالته على النهي
عن الضد، وهو أمر ظاهر لا مجال لإنكاره، فالتعبير بالعنوان المذكور أولى مما
عبروا به بعد الاشتراك في الثمرة المطلوبة.
خامسها: ما أورده عليه صاحب الوافية، وله كلام طويل في ذلك، ملخصه: أن
الواجب إما موسع أو مضيق، وعلى كل حال فإما موقت أو غير موقت. فما ذكره
من اقتضاء الأمر بالشئ عدم الأمر بضده لا يتم في الموسع مطلقا، إذ لا يتوهم
فيهما تكليف بالمحال. وكذا في الموسع والمضيق مطلقا، إذ لا قاضي بخروج وقت
المضيق عن كونه وقتا للموسع أيضا، غاية الأمر عصيان المكلف بترك المضيق
حينئذ، ولا يستلزم ذلك بطلان الموسع الواقع فيه.
وأما المضيقان الموقتان فما ذكره حق فيهما، إلا أنه لم يرد في الشريعة شئ
من ذلك القبيل إلا ما تضيق بسبب تأخير المكلف، وحينئذ لا يمكن الاستدلال
ببطلان أحدهما من جهة الأمر بالآخر، ولا يتفاوت الحال من جهة كون أحدهما
أهم، بل الحق التخيير وتحقق الإثم بسبب ترك ما يختار حينئذ تركه إن كان
التأخير للتقصير.
بل لا يبعد القول بوجوب كل منهما في هذا الوقت على سبيل التخيير، وبين
279

الأجزاء السابقة من الوقت كما كان كذلك من أول الأمر، وتحتم الفعل حينئذ،
بمعنى عدم جواز التأخير عنه لا يرفع التخيير فيه بالنسبة إلى ما تقدمه.
وأما في المضيقين الغير الموقتين فإن كان ذلك في أول وقت وجوبهما
فالتخيير إن لم يكن بينهما ترتيب، وأما إذا مضى من أول وقت وجوبهما بقدر فعل
أحدهما ففيه الاحتمالان المذكوران من كون وجوبهما في كل جزء من الزمان
تخييريا، لكن مع تحقق الإثم على ترك ما تركه منهما بسبب تقصيره في التأخير
إن كان تقصير، وكون وجوبهما في كل جزء منه حتميا، بمعنى عدم جواز
تأخيرهما.
وعلى أي تقدير فلا يمكن الاستدلال على النهي من أحدهما بالأمر بالآخر.
وأنت خبير بضعف ما ذكره من وجوه:
الأول: أن ما ذكره من صحة الموسع المأتي به في وقت المضيق وإن عصى
بترك المضيق فيه محل نظر، إذ مع كونه مأمورا بأداء المضيق في ذلك الزمان تعيينا
كيف يكون مأمورا بفعل الموسع فيه أيضا؟ وليس الأمر به مع تعيين الآخر عليه
وعدم رضاه بإتيان غيره فيه كما هو مقتضى التعيين إلا تدافعا، فإذا انتفى الأمر به
فكيف يعقل حينئذ صحة الموسع الواقع فيه؟ وهذا هو ما أراده الشيخ (رحمه الله).
فقوله: " إذ لا قاضي... إلى آخره " كلام ظاهري غير مبني على وجه صحيح.
نعم، نحن نقول هنا بالصحة، ولكن من الوجه الذي قررناه من حصول التقييد
في الجملة وبناء التكليفين على الترتيب حسبما مر، وهو أمر آخر ولو أراد ذلك
كان عليه بيانه، وكان ما ذكره عين ما ادعى سابقا من عدم المنافاة بين الوجوب
المضيق والموسع وقد عرفت وهنه.
الثاني: أن ما ذكره من عدم تفاوت الحال في المقام من جهة كون أحدهما أهم
غير متجه، كيف! واهتمام الشرع ببعض الواجبات قاض بتعيين الأخذ به، ألا ترى
أنه لو دار الأمر بين إزالة النجاسة عن المسجد وأداء الشهادة وحفظ نفس المؤمن
قدم عليهما؟ وكذا لو دار بين أداء الدين أو الإتيان بالصلاة أو الصيام وبين حفظ
280

المؤمن عن التلف أو حفظ بيضة الاسلام قدما عليهما قطعا؟ وكذا لو دار بين حفظ
نفس المؤمن وحفظ بيضة الاسلام إلى غير ذلك مما لا يحصى.
ودعوى التخيير بين الأمرين في أمثال تلك المسألة كان الضرورة تشهد
بخلافها، وحينئذ فبعد تحتم الإتيان بالأهم إذا تلبس بالآخر يجري فيه ما ذكره
من انتفاء الأمر بالنسبة إليه، ولا مناص عما قرره إلا ما ذكرنا.
الثالث: أن ما ذكره من وجوب الفعل في آخر الوقت على سبيل التخيير بينه
وبين الأول غير مفهوم المعنى، فإن أراد به أن وجوبه الحاصل له من أول الأمر إنما
هو على الوجه المذكور فذلك مما لا ربط له بالمقام. وإن أراد به بقاءه حينئذ على
تلك الحال - كما هو صريح كلامه في بيان الوجه فيه - فهو ظاهر الفساد، إذ مع
تركه في تلك الأزمنة وتأخيره إلى آخر الوقت يتعين عليه الفعل حينئذ قطعا
بمقتضى التوقيت، كيف والواجبات التي نص الأمر على التخيير بينها لو انحصر
مقدور المكلف في أحدها تعين عليه ذلك، وسقط عنه البواقي وارتفع التخيير
بالنسبة إليه، فكيف يعقل لنا التخيير في المقام مع وضوح امتناع إتيان الفعل في
الماضي؟ وكيف يعقل عدم رفع تحتم الفعل حينئذ التخيير فيه بالنسبة إلى الماضي
حسب ما ادعاه؟
الرابع: أن قوله " فالتخيير إن لم يكن بينهما ترتيب " إن أراد به عدم الترتيب
المأخوذ فيهما بحسب تكليف الأمر وتشريعه فحكمه بالتخيير مطلقا غير متجه،
وكأنه يقول حينئذ بعدم العبرة بالأهمية أيضا حسب ما مر. وقد عرفت ضعفه،
وأنى ثمرة ما ذكره؟
وإن أراد به الأعم من ذلك وإن كان بعيدا عن سياق كلامه ففيه أيضا ما عرفت
من وضوح الثمرة فيما إذا كان الترتيب من جهة الأهمية، فكيف غضوا النظر عنه؟
ثم إن ما ذكره من الوجهين في هذه الصورة قد عرفت ما فيه، وكان لفظ
" النهي " من قوله: " فلا يمكن الاستدلال على النهي من أحدهما بالأمر بالآخر "
وقع سهوا، وكان عليه أن يذكر مكانه " عدم الأمر ".
281

ثانيها (1): أنه ذكر بعض المتأخرين: أن الأمر بالشئ على وجه الوجوب لا
يقتضي عدم الأمر بضده على وجه الاستحباب، إذ لا تناقض في إيجاب عبادة في
وقت مخصوص واستحباب أخرى فيه بعينه، ولا شك في صحة التصريح به من
دون تناقض.
وأنت خبير بأنه إن قيل بجواز ورود الخطابين المفروضين في مرتبة واحدة -
إذ ليس في تكليف الندبي إلزام على المكلف ليلزم بسببه التكليف بأحدهما - فهو
بين الفساد، لوضوح امتناع التكليف بالضدين معا على سبيل الاستحباب، سواء
عد الندب تكليفا في الحقيقة أو لا، فكيف مع كون التكليف بأحدهما وجوبيا
والآخر ندبيا؟
وإن قيل بجواز ورودهما مرتبين - كما ذكره الفاضل المذكور في بيان ما ذكره
- فهو حق كما قدمناه، لكن لا وجه لتخصيصه الحكم بالندب على ما يستفاد من
كلامه لجريانه بالنسبة إلى التكليف الوجوبي أيضا حسب ما قررناه.
ثالثها: أن الأمر بالشئ على وجه الندب يقتضي النهي عن تركه تنزيها قطعا،
حسب ما مر في بيان دلالة الأمر الإيجابي على النهي عن الضد العام، لكن لا
يسمى ذلك كراهة، إذ هو عين استحباب الفعل، فإن رجحان الفعل على الترك عين
مرجوحية الترك بالنسبة إليه حسب ما مرت الإشارة إليه. وهل يقتضي ذلك
مرجوحية أضداده الخاصة؟ الحق ذلك، لعين ما عرفت في بيان دلالة الأمر
الإيجابي على النهي عن أضداده الخاصة، لكن لا يقتضي ذلك كراهتها بحسب
الاصطلاح، لما عرفت من أن المرجوحية المذكورة من حيث كون ذلك الترك من
مقدمات المستحب المفروض لكون ترك أحد الضدين مقدمة لفعل الآخر، فلا
يقتضي ذلك إلا مرجوحية ذلك الفعل على تركه من حيث كون تركه مؤديا إلى
ذلك المندوب، ولا ينافي ذلك استحبابه في نفسه ورجحان فعله على تركه

(1) أي ثاني الأمور تقدم أولها في ص 275.
282

بملاحظة ذاته، بل ورجحانه على المستحب المفروض أيضا، ولا تدافع، لما
عرفت من انتفاء المضادة في ذلك، وجواز اجتماع الجهات المتقابلة في الشئ
وإن كان الحكم تابعا لما هو الأقوى، فلا يفيد الجهة المفروضة إذن إلا مرجوحية
غيرية لفعل الضد من تلك الجهة الخاصة وأين ذلك من الكراهة المصطلحة.
رابعها: أن النهي عن الشئ تحريما هل يقتضي الأمر بضده إيجابا، أو لا؟
قيل النزاع فيه بعينه النزاع في الأمر في ادعاء العينية والاستلزام.
قلت: إن مفاد النهي هو طلب ترك الشئ على سبيل الحتم، فكون الضد العام
لإيجاد الشئ - أعني تركه - مطلوبا هو عين مفاد النهي عن الشئ، فلا مجال هنا
لتوهم النزاع فيه حسب ما توهم في مسألة الأمر على ما مر. ولا نزاع في كونه
على سبيل التضمن أو الالتزام حسب ما وقع الخلاف فيه هناك، كيف وليس حقيقة
النهي على حسب حده المشهور إلا طلب الترك، فليس ذلك إذن حكما آخر على
ما مر تحقيقه، وفي ذلك إيضاح لما قررناه هناك.
وأما بالنسبة إلى الضد الخاص فالقول بدلالة النهي على إيجابه هو بعينه
مذهب الكعبي، حيث زعم أن ترك الحرام لا يتم إلا بفعل من الأفعال، فيكون النهي
عن الشئ قاضيا بإيجاب واحد منها، فيكون الجميع واجبا على سبيل التخيير،
ولذا ذهب إلى نفي المباح. وقد عرفت وهن ما ذكره. وأن ترك الشئ لا يتوقف
على فعل ضد من أضداده، بل يكفي في حصوله عدم إرادة الفعل. والفرق بينه وبين
إيجاد الشئ واضح، فإنه يتوقف على ترك ضده حسب ما مر. وكون فعل الضد
متوقفا على ترك ضده لا يقضي بكون فعل الضد مقدمة لترك ضده أيضا، بل يقضي
ذلك بخلافه، وإلا لزم الدور.
نعم، غاية الأمر أن يكون فعل الضد من أحد أسباب ترك الضد، وهو لا يقضي
بثبوت التوقف عليه، لما عرفت من أن سببيته شأنية، وهو مسبوق أبدا بسبب آخر
مقدم عليه، فلا يتصف بالوجوب من تلك الجهة.
وأنت بملاحظة ما ذكرناه تعرف الفرق بين هذه المسألة ومسألة اقتضاء الأمر
283

بالشئ النهي عن ضده في المقامين، فالقول بأن النزاع فيه بعينه النزاع في الأمر
حسب ما ذكره كما ترى.
وكأنه لذا عبر في النهاية عن الخلاف في ذلك بأن من الناس من طرد البحث
في النهي، فقال: النهي عن الشئ أمر بضده، وهو اختيار القاضي أبي بكر. وهذا
كما ترى يفيد التفاوت في الخلاف بحسب المقامين.
ثم إن ما حكاه عن القاضي يفيد ذهابه إلى مقالة الكعبي، حسب ما عرفت بعد
تنزيل الضد في كلامه على الضد الخاص أو الأعم منه ومن العام. وقد ذكر في
جملة احتجاج القاضي على ذلك: بأن النهي طلب ترك الفعل، والترك فعل الضد،
فيكون أمرا بالضد. وهذا كما ترى أحد تقريرات شبهة الكعبي في القول بنفي
المباح بعد حمل الضد في كلامه على الخاص. هذا.
وذكر العلامة (رحمه الله) في النهاية بعد ذلك: أن التحقيق: أن النهي طلب الإخلال
بالشئ، وهو يستلزم الأمر بما لا يصح الإخلال بالمنهي عنه إلا معه، فإن كان
المنهي عنه لا يمكن الانصراف عن المنهي عنه إلا إليه كان النهي دليلا على وجوبه
بعينه، وإن كان له أضداد كثيرة لا يمكن الانصراف عنه إلا إلى واحد منها كان النهي
في حكم الأمر بها أجمع على البدل.
وأنت خبير بما فيه، فإن مجرد عدم إمكان الانصراف عنه إلا إلى واحد منها لا
يقضي بوجوبها، إذ قد يكون ذلك من لوازم وجود المكلف حسب ما مر، فيمتنع
انفكاك ترك الحرام عن التلبس بواحد منها، وذلك غير مسألة التوقف، كيف ولوازم
الواجب مما لا يمكن فعل الواجب بدونها، ولا توقف لها عليها، ولا يقضي وجوب
الواجب بوجوبها كما مر، فالقول بالدلالة في الصورة المفروضة أيضا فاسدة، إلا
أن يحصل هناك توقف للترك على بعض الأضداد، أو واحد منها، فيجب الإتيان به
لأجل ذلك على حسب ما مر، وذلك أمر آخر.
نعم، لو اتحد الضد - كالحركة والسكون - لم يبعد أن يكون مفاد النهي عن
أحدهما هو الأمر بالآخر، إذ لا فرق عرفا بين أن يقول: " اسكن " أو " لا تتحرك "
284

فذلك أيضا أمر آخر يرجع إلى دلالة العرف في خصوص المقام، ولا ربط له بما
لوحظ في هذا العنوان.
خامسها: أن النهي عن الشئ تنزيها هل يدل على الأمر بضده استحبابا، أو
لا؟ وقد ظهر الحال مما مر فيه.
أما بالنسبة إلى الضد العام فقد عرفت أن الأمر بضده عين مفاد الكراهة، إذ
مفاد النهي المفروض طلب تركه على وجه الرجحان الغير المانع من النقيض،
فليس ذلك حكما آخر ثابتا للضد، بل هو عين مفاد النهي عنه كذلك حسب ما مر
نظيره.
وأما بالنسبة إلى الضد الخاص فقد عرفت أنه لا دلالة فيه عليه، إلا إذا فرض
توقف الترك على واحد منها في خصوص بعض المقامات، أو كان الإتيان بالضد
رافعا له، كما في بعض الفروض حسب ما مر بيانه، فيفيد ذلك إذن رجحان ذلك
الفعل رجحانا من تلك الجهة غير مانع من النقيض، فلا ينافي ذلك وجوبه من جهة
أخرى، أو كراهته كذلك، إذ ليس ذلك حينئذ إلا جهة مرجحة ثابتة له كذلك. وقد
عرفت أن ثبوت الجهات المتخالفة في الفعل مما لا مانع منه، والحكم الشرعي يتبع
الجهة الأقوى، ومع التساوي والتخالف في المقتضى يتخير بينهما، ولو اتحد الضد
- كالحركة والسكون - كان الحال فيه هنا على نحو ما مر في النهي التحريمي.
سادسها: لو حكم الشارع بإباحة فعل أفاد ذلك إباحة ضده العام قطعا، بل هو
عين مفاد إباحته، إذ حقيقة الإباحة تساوي طرفي الفعل والترك، وأما أضداده
الخاصة فلا دلالة فيه على إباحتها أصلا.
نعم، هي من حيث تحقق ترك المباح بها - كما في بعض الفروض - لا رجحان
فيها ولا مرجوحية، وهو لا يفيد شيئا، لوضوح أن الواجب أو المندوب أو الحرام
لا يجب أن يكون كذلك من جميع الوجوه. نعم، لو اتحد ضد المباح أفاده إباحته
لعين ما مر.
* * *
285

معالم الدين:
أصل
المشهور بين أصحابنا أن الأمر بالشيئين أو الأشياء على وجه
التخيير يقتضي إيجاب الجميع، لكن تخييرا، بمعنى أنه لا يجب
الجميع، ولا يجوز الاخلال بالجميع، وأيها فعل كان واجبا بالأصالة.
وهو اختيار جمهور المعتزلة.
وقالت الأشاعرة: الواجب واحد لا بعينه، ويتعين بفعل المكلف.
قال العلامة (رحمه الله) ونعم ما قال: " الظاهر أنه لا خلاف بين القولين في
المعنى، لأن المراد بوجوب الكل على البدل أنه لا يجوز للمكلف
الإخلال بها أجمع، ولا يلزمه الجمع بينها، وله الخيار في تعيين أيها
شاء. والقائلون بوجوب واحد لا بعينه عنوا به هذا، فلا خلاف معنوي
بينهم. نعم هاهنا مذهب تبرأ كل واحد من المعتزلة والأشاعرة منه
ونسبه كل منهم إلى صاحبه واتفقا على فساده، وهو: أن الواجب واحد
معين عند الله تعالى غير معين عندنا، إلا أن الله تعالى يعلم أن ما يختاره
المكلف هو ذلك المعين عنده تعالى.
ثم إنه أطال الكلام في البحث عن هذا القول. وحيث كان بهذه
المثابة فلا فائدة لنا مهمة في إطالة القول في توجيهه ورده. ولقد أحسن
المحقق (رحمه الله) حيث قال بعد نقل الخلاف في هذه المسألة: " وليست
المسألة كثيرة الفائدة ".
287

قوله: * (المشهور بين أصحابنا) * (1).
لما كان حقيقة الوجوب متقومة بالمنع من الترك وكان جملة من الواجبات -
كالواجب التخييري والموسع - مما يجوز تركها في الجملة وقع الإشكال هناك في
متعلق الوجوب بحيث ترتفع المنافاة التي يتراءى بين الوجوب وجواز الترك،
ولذا وقع الخلاف بينهم في عدة من الواجبات مما شأنها ذلك، وعقدوا لكل منها
بحثا، ومن جملتها الواجب التخييري.
ويمكن تقرير الإشكال فيه: بأن الوجوب هناك اما أن يتعلق بكل واحد من
الأفعال المعينة، أو بالمجموع، أو بواحد معين، أو بواحد غير معين، ولا سبيل إلى
شئ منها.
أما الأول والثاني فللزوم عدم حصول الامتثال بأداء واحد منها، هو خلاف
الاجماع.
وأما الثالث فلاختصاص الوجوب هناك بذلك الفعل، فيتعين الإتيان به دون
غيره.
وأما الرابع فللزوم عدم حصول الامتثال بكل واحد من تلك الأفعال، وهو
أيضا خلاف الاجماع، مضافا إلى أن الوجوب صفة معينة فلا يعقل تعلقه بأمر مبهم
بحسب الواقع.
وقد اختاروا لدفع الإشكال في المقام وجوها، وقد اختلفت من جهته الأقوال
في الواجب التخييري.
منها: ما اختاره كثير من أصحابنا: كالسيد والشيخ والمحقق والعلامة في
بعض كتبه، وعزي القول به إلى المعتزلة وإلى جمهورهم، بل عزاه في المنية إلى
أصحابنا، مؤذنا بإطباقهم عليه، وهو القول بقيام الوجوب بكل واحد من الأفعال
المفروضة، لكن على سبيل التخيير، بمعنى كون ذلك الفعل مطلوبا للآمر بحيث

(1) في (ف) زيادة: " أن الأمر بالشيئين أو الأشياء... الخ ".
288

لا يرضى بتركه وترك أبداله. وقد عبروا عن ذلك بأنه لا يجب الجميع، ولا يجوز
الإخلال بالجميع، وأرادوا بعدم وجوب الجميع: عدم وجوب كل منها على سبيل
التعيين، وبعدم جواز الإخلال بالجميع: عدم جواز ترك الجميع على سبيل السلب
الكلي.
وتوضيح المقام: أن حقيقة الوجوب - كما عرفت - هي مطلوبية الفعل على
سبيل الجزم والحتم في الجملة، بأن يريد الآمر صدور الفعل من المكلف، ولا
يرضى بتركه في الجملة، فإذا أمر المكلف بأفعال عديدة على سبيل التخيير بينها
فقد أراد حصول كل واحد منها على وجه المنع من ترك الجميع بأن لا يكون تاركا
للكل، فالمنع من الترك المأخوذ فصلا للوجوب حاصل في ذلك، كما أنه حاصل
في الوجوب التعييني.
وتفصيل ذلك: أن الطلب المتعلق بالفعل قد يكون مع عدم المنع من الترك
بالمرة، فلا يكون الترك ممنوعا منه على سبيل السلب الكلي، وهذا هو الطلب
الحاصل في المندوب. وقد يكون مع المنع من الترك في الجملة على سبيل
الإيجاب الجزئي في مقابلة السلب الكلي المأخوذ في النوع الأول، وهذا هو
المأخوذ فصلا للوجوب.
فإن قلت: إنه ينتقض حد الواجب حينئذ ببعض الأفعال التي تجب على بعض
الأحوال دون بعضها، لحصول المنع من تركه في الجملة، مع أنه ليس واجبا مطلقا.
قلت: إن الحاصل هناك طلبان متعلقان بالفعل، يتقيد أحدهما بعدم المنع من
الترك مطلقا، والآخر بالمنع منه بخلاف المقام، فإن هناك طلبا واحدا يتقيد بالمنع
من الترك في الجملة، وهو الذي ينطبق عليه الحد دون الصورة المفروضة، وحينئذ
ينقسم ذلك إلى قسمين:
أحدهما: أن يتعلق المنع بترك ذلك الفعل بالخصوص، وهو الوجوب التعييني.
وثانيهما: أن يتعلق بترك ذلك الفعل وما يقوم مقامه، وهو الوجوب التخييري.
وحينئذ فالطلب متعلق بكل من الأفعال التي وقع التخيير بينها، وكذا المنع من
289

الترك على الوجه المذكور. ولذا صح عد كل منها واجبا على الحقيقة، وقضية
الطلب الواقع على الوجه المفروض حصول الامتثال بفعل واحد منها فإن مقتضى
ما أخذ فيه من المنع من الترك على الوجه الذي قررنا عدم ترك الجميع الحاصل
بفعل البعض.
لا يقال: إن قضية ما ذكر من تعلق الطلب بكل واحد منها حصول الامتثال
بالفعل الثاني والثالث مثلا من تلك الأفعال وإن ارتفع المنع من الترك بفعل الأول
مع أن الحال على خلاف ذلك، إذ يعد الإتيان بواحد منها لا يبقى هناك تكليف
أصلا.
لأ نا نقول: إن الطلب الحتمي الحاصل في المقام المتعلق بكل منها متقوم
بالمنع من الترك الملحوظ على الوجه المذكور، فإذا (1) فرض ارتفاع المنع من
الترك بفعل واحد منها قضى ذلك بارتفاع الطلب المتقوم به، فلا وجه لتحقق
الامتثال بعد ذلك.
هذا، وقد ظهر بما ذكرنا: أنه ليس الطلب في المقام متعلقا بالأصالة بمفهوم
أحدها، ولا المنع من الترك متعلقا به كذلك، وإنما يتعلق الطلب بخصوص كل من
الأفعال المفروضة، كما هو ظاهر من ملاحظة الأوامر المتعلقة بها. وكذا المنع من
الترك فإنه قيد مقوم للطلب المفروض فيدور مداره. غاية الأمر انه يصح الحكم بعد
ملاحظة الأوامر المذكورة بوجوب أحد تلك الأفعال على سبيل التعيين، وعدم
جواز تركه مطلقا، من غير أن يكون المفهوم المفروض ملحوظا في المكلف به
بوجه من الوجوه، إذ ليس متعلق الأمر أصالة إلا كل واحد من الأفعال المفروضة
بالخصوص.
ولو فرض تعلق الأمر أصالة بأداء واحد من تلك الأفعال فليس المكلف به

(1) في حاشية (ل): فرض انتفاء الترك المتعلق للمنع بفعل واحد منها فقد ارتفع المنع المتعلق
به وبارتفاعه يرتفع الطلب المتقوم به إذ ليس الحاصل هناك إلا طلبا خاصا على الوجه
المذكور. (نسخة).
290

أيضا إلا خصوص كل واحد منها على وجه التخيير، وإنما اخذ مفهوم الواحد هناك
مرآة لملاحظة كل واحد منها، والحكم إنما يتعلق بكل من تلك الخصوصيات دون
المفهوم المذكور، كما لو تعلق صريح الأمر بكل منها على سبيل التخيير، من غير
فرق بين مفاد التعبيرين المذكورين أصلا، فيكون الوجوب التعييني المتعلق
بمفهوم أحدها على الوجه المذكور تابعا لما ذكر من وجوب كل منها بخصوصه
على سبيل التخيير.
وتفصيل المقام: أن كلا من الوجوب التعييني والتخييري: إما أن يكون أصليا،
أو تبعيا، فالوجوه أربعة، والأمر في الوجوب التعييني الأصلي ظاهر كالوجوب
التخييري الأصلي، كخصال الكفارة. وأما الوجوب التعييني التبعي - فكمطلوبية
أحد تلك الخصال على سبيل التعيين - فإنه تابع لتعلق الخطاب بتلك الأفعال على
سبيل التخيير والوجوب التخييري التبعي، كوجوب الإتيان بأفراد الطبيعة على
سبيل التخيير عند تعلق الأمر بها.
فكل واجب تخييري أصلي يلزمه وجوب تعييني تبعي. كما أن كل واجب
تعييني أصلي يلزمه وجوب تخييري تبعي إذا تعلق الوجوب بطبيعة كلية، لا بأن
يكون هناك تكليفان مستقلان يكون أحدهما عينيا والآخر تخييريا. إنما الحاصل
في المقام تكليف واحد يختلف الحال فيه بحسب الاعتبارين المذكورين، فهما
اعتباران حاصلان بإيجاب واحد يتعلق بأحدهما على سبيل الأصالة، ويتبعه
صدق الآخر من غير أن يقوم به فرد آخر من الوجوب، كما هو الحال في
الوجوب التبعي الحاصل للأجزاء بالوجوب المتعلق بالكل، فإن هناك وجوبا
واحدا يتعلق أصالة بالكل، وتبعا بالأجزاء، فهي واجبة بوجوب الكل، وإن ثبت
هناك وجوب آخر للأجزاء من جهة أخرى حسب ما مرت الإشارة إليه في مقدمة
الواجب، وذلك نظير ما تقرر في الدلالة المطابقية والتضمنية، فإن هناك دلالة
واحدة لها اعتباران، يعد بالنسبة إلى أحدهما مطابقة، وبالنسبة إلى الآخر تضمنا،
فأحد ذينك الاعتبارين تابع للآخر، من غير أن يكون هناك دلالتان متعددتان
291

في الواقع، تكون إحداهما تابعة للأخرى، فنقول بمثل ذلك في المقام، فإن
الوجوب الحاصل هنا أيضا واحد يختلف الحال فيه بحسب الاعتبارين، فهناك
وجوب متعلق (1) أصالة بكل من تلك الأفعال على وجه التخيير بينهما، ويتبعه
صحة اتصاف أحدها بالوجوب الحتمي التعييني، من غير أن يكون هناك وجوبان
وكذا الحال في اتصاف الماهية بالوجوب التعييني فإنه يتبعه وجوب أفرادها
بالوجوب المتعلق بالطبيعة، لاتحادها معها على سبيل التخيير بينها، فوجوب
الأفراد كذلك وجوب نفسي تبعي حاصل بعين وجوب الطبيعة، حسبما قررنا.
فظهر بذلك: أن الحال في الواجبات التخييرية على عكس الواجبات
التعيينية، وأن كل واحد من الخصال المخير فيها مطلوب للآمر بخصوصه وإن
صدق معه تعلق الوجوب بالقدر الجامع بينها.
كما أن القدر الجامع في الواجب التعييني مطلوب للآمر، من غير أن تكون
خصوصية الأفراد مطلوبة بذلك الطلب وإن صحت نسبته إليها بالتبع، كما عرفت.
ومما ذكرنا ظهر: أن ما يتراءى من كون المفهوم عرفا من قول السيد لعبده:
" أكرم زيدا " أو " أطعم عمروا " أن الواجب مفهوم أحدهما - ولذا لو سأل العبد عما
هو الواجب عليه صح عند العقلاء أن يجيبه السيد بأن الواجب واحد منهما، لا
جميعهما، ولا واحد معين منهما - مبني على إرادة الواجب التعييني التابع في
المقام للتخييري، فإنه لما كان الظاهر من الوجوب هو الوجوب التعييني صح
الحكم بأن الواجب بمعناه الظاهر هو أحد الأمرين المذكورين، لا جميعهما،
لوضوح عدم تعين الإتيان بهما. ولذا يصح الجواب أيضا بوجوب كل منهما على
سبيل التخيير. وكان ما ذكرناه مقصود جماعة من علمائنا، حيث حكموا في المقام
بتعلق الوجوب بأحدهما، كما سنشير إليه.
وعلى ما ذكرنا فالتخيير يتعلق بأصل الواجب، لا في ما يتحقق الواجب به،
كما عزي إلى جماعة.

(1) في (ف): حيث إنه وجوب يتعلق.
292

نعم، لو جعل الواجب خصوص المفهوم المذكور لم يتحقق هناك تخيير في
نفس الواجب، وهو ضعيف جدا، كما سنشير إليه إن شاء الله.
ومنها: أن الواجب في المقام مفهوم أحدهما، والمنع من الترك حاصل بالنسبة
إليه، واختاره جماعة من الخاصة والعامة، منهم: العلامة في النهاية ونهج الحق،
والسيد العميدي، والشهيد، والمحقق الكركي، وشيخنا البهائي، والمحقق
الخوانساري، والحاجبي، والبيضاوي.
وعن القاضي حكاية إجماع سلف الأمة عليه. وحكاه في العدة عن شيخنا
المفيد (رحمه الله) وعزاه في نهج الحق إلى الإمامية، مؤذنا بإطباقهم عليه. وعن... أن الذي
عليه المحققون من أصحابنا والمعتزلة والأشاعرة: أن الواجب واحد لا بعينه من
أمور معينة.
قلت: يمكن أن يكون المراد بمفهوم أحدها: ما يكون آلة لملاحظة كل من
تلك الأفعال على سبيل البدلية، ويكون المطلوب خصوص كل من تلك الخصال
على سبيل التخيير بينها والمنع من تركها أجمع، فيكون ذلك إلزاما لأحد تلك
الأفعال من غير أن يكون المطلوب تحصيل المفهوم المذكور لذاته أصلا، وأن
يكون المراد به هو المفهوم الجامع بين الأفعال المفروضة، بأن يكون المطلوب هو
تحصيل ذلك المفهوم الحاصل بحصول أي منها، فلا يكون كل من الخصال المخير
بينها مطلوبا بخصوصه، بل لكونه مصداقا لمفهوم أحدها، ومتحدا بذلك المفهوم،
وأن يكون المراد به أحدها على سبيل الإبهام، فيراد قيام الوجوب بواحد مبهم
منها دون غيره، فيكون غير ذلك المبهم قائما مقامه في الاجزاء، وأن يكون المراد
به واحدا مبهما عندنا معينا عند الله، فإن أتى المكلف به فلا كلام، وإلا أجزأ غيره
من الأفعال المفروضة عنه وناب منابه، وأن يكون المراد به ذلك أيضا، فيكون
الواجب معينا عند الله سبحانه، لكن مع اختلافه بحسب اختلاف اختيار المكلفين،
فيكشف اختيار كل منهم عما هو الواجب في شأنه.
فالوجه الأول راجع إلى المذهب المختار، إذ المأمور به حينئذ هو كل واحد
293

من الخصال بخصوصه، ويكون كل منها مطلوبا بنفسه، إلا أنه يتخير المكلف بينها
حسب ما مر تفصيله.
فإن شئت عبرت بأن الواجب الذي لا يجوز تركه هو واحد من تلك الأفعال.
وإن شئت قلت: إن كلا منها واجب على سبيل التخيير.
والحاصل: أن الأمر الحاصل في المقام شئ واحد يصح التعبير عنه
بالوجهين، وقد مر تفصيل الكلام فيه. ويمكن تنزيل كلام المفيد (1) عليه، وكأنه
لأجل ذلك قال في العدة بعد الإشارة إلى القولين المذكورين: إن هذه المسألة إذا
كشف عن معناها ربما زال الخلاف فيها.
واستظهر في النهاية كون النزاع بينهما لفظيا، كما سيشير إليه المصنف.
والوجه الثاني مغاير لما اخترناه، وربما يتفرع عليهما بعض الثمرات، وربما
نشير إلى بعضها.
وقد يوهمه عبارة النهاية، حيث قال: إن التحقيق في هذا الباب: أن الواجب
هو الكلي، لا الجزئيات، إلا أن القول به في المقام ضعيف، حيث إن المطلوب
في المقام خصوص كل من تلك الأفعال دون المفهوم المذكور، وليس ذلك المفهوم
إلا أمرا اعتباريا ينتزع من الأفعال المذكورة، وليس المقصود بالأمر المتعلق بكل
من تلك الخصال تحصيل ذلك المفهوم قطعا.
والوجه الثالث لا يظهر قائل به. وقد يشكل الحال فيه أيضا بأن: الوجوب
معنى متعين لا يعقل تعلقه بالمبهم واقعا، وقد مرت الإشارة إليه.
ويدفعه: أن للمبهم المذكور تعينا في الذمة، ولذا يصح توجيه الأمر به نحو
المكلف، ألا ترى أنه يصح أن يأمر السيد عبده بإتيانه غدا برجل ما على وجه
الإبهام، من غير أن يتعين شخصه عند السيد حين أمره لتأمله في تعيينه؟
نعم، لو لم يعينه إلى وقت تنجز الخطاب وحضور وقت الحاجة كانت المفسدة
الحاصلة فيه من تلك الجهة، وهي جهة أخرى لا ربط لها بذلك، ولا مانع من جهتها

(1) في (ف): السيد.
294

إذا كان للمكلف مندوحة عن الخروج عن عهدة التكليف كما في المقام، حيث
يقال بالاكتفاء في الامتثال بإتيانه أو إتيان أحد أبداله.
وأما الوجهان الآخران وإن احتملا في المقام - وربما يستفاد من بعض الأدلة
المذكورة للمذهب المختار ما يفيد إبطالهما فتومئ إلى كون ذلك مقصود القائل
بتعلقه بأحدهما - فهما موهونان جدا، كما لا يخفى، وستأتي الإشارة إليه
إن شاء الله.
ومنها: أن الواجب هو الجميع، لكنه يسقط بفعل البعض. كما أن الكفائي يجب
على جميع المكلفين ويسقط بفعل بعضهم، فلو ترك الجميع استحق العقاب على كل
منها، ولو أتى بالجميع استحق الثواب كذلك. وهذا القول محكي عن البعض،
وربما يحكى عن السيد والشيخ، وهو غلط.
ومنها: أن الواجب واحد معين لا يختلف الحال فيه، لكنه يسقط التكليف
بالإتيان به أو بالآخر. وقد حكي ذلك قولا في المقام، وهو أحد الوجوه في تفسير
أحدهما كما عرفت. والظاهر أن ذلك هو الذي احتمله الشيخ في العدة في تفسير
القول بوجوب أحدهما، حيث إنه بعد احتماله إرجاع القول المذكور إلى المختار
وقوله: إن ذلك يكون خلافا في عبارة لا اعتبار به قال: وإن قال: إن الذي هو لطف
ومصلحة واحد من الثلاثة، والثنتان ليس لهما صفة الوجوب، فذلك يكون خلافا
في المعنى، ثم احتج على إبطاله.
ومنها: أن الواجب واحد معين عند الله، لكنه يختلف بحسب اختلاف
المكلفين فيكشف ما يختاره المكلف أن ذلك هو الواجب في شأنه، وهذا هو الذي
حكاه المصنف، وذكر - تبعا للعلامة في النهاية - إسناد كل من الأشاعرة والمعتزلة
ذلك إلى صاحبه، تبري الفريقين منه. وقد حكاه العضدي عن بعض المعتزلة.
وأنت بعد التأمل في جميع ما ذكرنا تعرف أن الإيراد المتوهم في المقام يندفع
عما يقتضيه ظاهر الأمر من وجوب الجميع على وجه التخيير، حسبما ذكر في
الوجه الأول، فلا حاجة إلى التزام التمحل اللازم على سائر الأقوال المذكورة،
295

بل لا بد من الجري على الظاهر، مضافا إلى غير ذلك من المفاسد الواردة على
غيره من الأقوال.
نعم، الوجه الأول للقول الثاني متجه، إلا أنك قد عرفت أنه راجع إلى القول
المختار، وأنه ليس الاختلاف بينهما إلا في العبارة، كما نص عليه جماعة منهم
المصنف. هذا.
ولنفصل المقال فيما استدل به على هذه الأقوال:
أما القول المختار فيمكن الاحتجاج عليه بوجوه:
أحدها: أنه لا شك أنه قد تشترك أفعال عديدة في الاشتمال على مصلحة
لازمة للمكلف لا يجوز إهمالها في العقل، من غير تفاوت بينها في ترتب تلك
المصلحة، فيجب عليه الإتيان بخصوص فعل من تلك الأفعال لإحراز تلك
المصلحة إن دله العقل على ذلك، وإلا لزم دلالة الشرع عليه كذلك، نظرا إلى
وجوب اللطف عليه، وقضية ذلك وجوب كل من تلك الأفعال بخصوصه على
وجه التخيير بينها حسب ما قررنا.
وإن شئت قلت: إنه يجب عليه واحد من الأفعال المفروضة على النحو الذي
قررناه في الوجه الأول. وقد عرفت أنه عين ما اخترناه، حسب ما اتضح وجهه
ونص عليه الجماعة.
فلا وجه إذن للقول بوجوب الجميع وإن سقط بفعل البعض، لما عرفت من
انتفاء المقتضي له، ولا للقول بوجوب واحد منها دون الباقي، أو لما عرفت من
قيام المقتضي في كل منها على نحو واحد، فلا يعقل ترجيح البعض للوجوب دون
الباقي. وقد أشار إلى هذا الوجه في الذريعة وغيره.
ثانيها: ما أشرنا إليه من ورود الأمر في الشريعة بعدة واجبات على وجه
التخيير بينها، وقضية الأدلة الدالة على وجوب تلك الأفعال وجوب كل منها بذاته
على وجه التخيير بينها، فهناك أفعال متعددة متصفة بالوجوب متعلقة للطلب
بخصوصها على حسب ما قررناه، وقد عرفت أنه لا مانع عقلا من إيجاب الفعل
296

على الوجه المذكور، فلا قاضي بصرف تلك الأدلة عن ظواهرها وارتكاب خلاف
الظاهر بالنسبة إليها من غير قيام باعث على صرفها.
ثالثها: اتفاق الأصحاب على القولين الأولين، بل اتفاق الأصوليين عليه،
عدا شذوذ لا عبرة بأقوالهم في المقام، وقد عرفت إرجاع أحدهما إلى الآخر،
وكون النزاع بينهما لفظيا، فيتعين البناء على القول المذكور، ويبطل به سائر الأقوال
المنقولة. وكأنه لذا لم يتعرض المصنف (رحمه الله) في المقام للاحتجاج على ما ذهب إليه،
واقتصر على إرجاع أحد القولين إلى الآخر.
رابعها: أن جميع الأقوال المذكورة في المسألة منحصرة في ما ذكرناه،
وقد عرفت إرجاع القولين الأولين إلى أمر واحد، وانتفاء الخلاف بينهما في
المعنى وسائر الأقوال بين الوهن، لما فيها من ارتكاب أمور يقطع بفسادها، حسب
ما هو ظاهر مما قررناه، فتعين الأخذ بما اخترناه.
خامسها: أنه لا سبيل إلى القول بوجوب الجميع على وجه الجمع، لعدم تعلق
الأمر بها كذلك، ولا القول بوجوب واحد منها، لورود التخيير بينه وبين غيره. ومن
الواضح عدم جواز ورود التخيير من الحكيم بين ما له صفة الوجوب وما ليس له
ذلك، كيف ولو اشتمل الآخر أيضا على المصلحة المترتبة على الواجب لم يعقل
ترجيح أحدهما بالوجوب دون الآخر، وإن لم يشتمل عليه لم يجز التخيير
المذكور، لما فيه من تفويت مصلحة الواجب، وعلمه بأنه لا يختار إلا الواجب لا
بحسن التخيير المذكور. كما لا يحسن التخيير بين الواجب والمباح إذا علم أنه
يختار الواجب، وإذا بطل الوجهان تعين القول بوجوب الجميع على سبيل التخيير،
أو وجوب أحدهما على سبيل البدلية على النحو الذي قررناه، وقد عرفت أن مفاد
أحدهما عين الآخر فثبت المدعى.
حجة القول بكون المكلف به أحدهما لا بعينه أمور:
منها: أن الانسان لو عقد على قفيز من صبرة لم يكن المبيع قفيزا معينا، وكان
الخيار للبائع في التعيين، فالواجب هناك قفيز غير معين، والتعيين فيه باختيار
المكلف. وكذا الحال في غيره من الواجبات التخييرية من غير تفاوت أصلا.
297

ويدفعه: أن ذلك إما محمول على الإشاعة إن كان العقد مستقلا في إفادة
الانتقال، وحينئذ فلا إشكال ولا يرتبط بالمدعى، وإلا كان العقد وتعيين البائع معا
باعثا على انتقال المعين من دون أن ينتقل شئ إلى المشتري قبل تعيينه، لوضوح
أن المنتقل إليه ليس أمرا كليا في الذمة، لعدم تعلق القصد به، ووجود الكلي في
الخارج ليس إلا في ضمن المعين، والمفروض أنه لم ينتقل إليه شئ من القفران
المعينة قبل اختياره، وانتقال غير المعين إليه في الخارج غير معقول، فلا ينتقل إليه
شئ بنفس العقد.
غاية الأمر أن يحصل الانتقال به وبالاختيار: إما بأن يكون جزءا أخيرا من
الناقل، أو يكون كاشفا عن الانتقال بالعقد، كما هو الحال في عتق أحد العبيد
وطلاق إحدى الزوجات إن قلنا بصحته، وذلك أمر يتبع قيام الدليل عليه، ولا
يتصور القول بانتقال الجميع إليه على سبيل التخيير، كما يقال بوجوب الجميع
كذلك في المقام. فالفرق بين المقامين ظاهر، ووجوب الدفع الحاصل في المقام
تابع للانتقال، فلا يصح القول بالتخيير بالنسبة إليه دونه، ولو أمكن القول به فهو
مطابق لما ذكرناه، لما عرفت من أن وجوب أحد الأفعال على الوجه المذكور عين
ما اخترناه.
ومنها: أن القول بالتخيير يؤدي إلى أن يكون المكلف مخيرا بين عبيد الدنيا
كلها، وكذا الكسوة والإطعام، وذلك فاسد، كذا ذكره السيد، ومحصله: أنه لو لم
يكن مفاد التخيير وجوب أحدها لكان مفاد التخيير بين الجزئيات عند إيجاب
الطبيعة هو التخيير بين جميع الأفراد الغير المحصورة، حسب ما قرر، ووهنه
ظاهر، للفرق الظاهر بين المقامين، ومع الغض عنه فليس متعلق التخيير إلا القدر
الممكن من الأفراد دون جميعها مما لا يتعلق قدرة المكلف بها.
ومنها: أنه لو نص على أن ما أوجب عليه واحد لا بعينه لكان ذلك هو
الواجب عليه، وكذا لو خير بين تلك الأفعال لاتحاد مؤدى العبارتين.
ويدفعه: أنه إن أريد بوجوب أحدهما هو الوجه الأول الذي قررناه - كما هو
298

الظاهر من العبارة المذكورة - فما ذكره حق، وقد عرفت اتحاد مؤدى اللفظين.
وكون الاختلاف بين القولين لفظيا لا يرجع إلى طائل.
وإن أريد به أحد الوجوه المتأخرة فالقول باتحاد مؤدى العبارتين حينئذ
واضح الفساد، أو إيجاب واحد لا بعينه على بعض الوجوه المذكورة غير جائز من
أصله، لوضوح أن الوجوب أمر معين لا يمكن تعلقه خارجا بالمبهم.
وإن أريد به المعين في الواقع المبهم عند المكلف فهو أيضا غير جائز في
الجملة (1) بعد فرض تساوي الفعلين في وجه المصلحة.
ومنها: أنه لو فعل المكلف جميعها لكان الواجب واحدا منها بالإجماع، فكذا
يجب أن يكون الواجب أحدها قبل الفعل، إذ لا يختلف الحال في ذلك قبل إيجاد
الفعل وبعده.
ويدفعه: أنه إن أريد بالواجب ما لا يجوز تركه بالخصوص فمن البين أنه
ليس الواجب كذلك، إلا أحدها بالتفسير الذي ذكرناه، ولا يختلف فيه الحال قبل
الفعل وبعده، وهو - كما عرفت - يرجع إلى ما اخترناه.
وإن أريد به ما تعلق به الإيجاب ولا يجوز تركه في الجملة - يعني - ما يعم
تركه وترك بدله - فالوجوب بهذا المعنى قائم بكل منها ولا يختلف الحال فيه أيضا
على الوجهين.
ودعوى الاجماع على قيام الوجوب بهذا المعنى بأحدها بين الفساد، بل
دعوى الاجماع على وجوب أحدها عند الإتيان بالكل دون الجميع محل نظر،
كما سيجئ الإشارة إليه. وقد عرفت أيضا في أقوال المسألة وجود القول بالحكم
بوجوب الجميع، وحينئذ كأنه لم يلتفت إليه لوهنه.
ومنها: أنه لو ترك الجميع لاستحق العقاب على واحدة منها، فعلم أن الواجب
هو أحدها.
ويدفعه: أنه لا دلالة في ذلك على اتحاد الواجب، فإن الواجبات المخير بينها

(1) في (ط): في الحكمة.
299

على الوجه الذي قررناه إنما يكون استحقاق العقاب على ترك واحد منها، إذ
استحقاق العقوبة إنما يتبع حصول المنع من الترك، وقد عرفت أن المنع من ترك كل
منها إنما هو في الجملة بمعنى المنع من تركه وترك ما يقوم مقامه، فكيف يصح
الاحتجاج باتحاد العقاب على عدم وجوب الجميع كذلك مع أن القائل به يقول
بهذا قطعا؟!
ومنها: أنه لو كان في كل منها جهة موجبة لفعله ليصح اتصافه بالوجوب من
جهتها لزم وجوب الجمع بينها مع الإمكان إحرازا للمصلحة الموجبة، فيخرج
بذلك عن حد الوجوب التخييري، وإن كان تلك الجهة في أحدها كان الواجب
واحدا منها، كما هو المدعى.
ويدفعه: أن الجهة الموجبة قد تكون حاصلة بكل منها بانفراده بأن لا يحصل
تلك المصلحة الموجبة من فعل آخر، وقد تكون حاصلة بأي منها بأن يكون كل
منها كافيا في تحصيل تلك الثمرة. فعلى الأول يجب الجمع بينها بحسب الإمكان،
ويكون الوجوب المتعلق بها تعيينيا بخلاف الثاني، لاستقلال كل منها بتحصيل
الفائدة المطلوبة، ولا حاجة إلى الباقي بعد إيجاد واحد منها، والحال فيه ظاهر من
ملاحظة ما عندنا من المصالح المترتبة على الأفعال، فإنه قد يرى الوالد مصلحة
لازمة لا يجوز تقويته على ولده، لكن يقوم بتحصيل تلك المصلحة أفعال عديدة،
من غير فرق بينها في الأداء إلى تلك المصلحة، فلا محالة يوجب عليه حينئذ تلك
الأفعال على وجه التخيير، من غير فرق بينها في ذلك، وهو الذي اخترناه.
ويمكن الاحتجاج للثالث: بأنه لا بد للوجوب من محل يقوم به: فإما أن يقوم
بواحد معين من تلك الأفعال، أو بواحد مبهم منها، أو بالمجموع، أو بكل واحد
واحد منها لا سبيل إلى الأول، إذ لا ترجيح مع الاشتراك في المصلحة الموجبة،
ولا إلى الثاني، إذ لا بد من قيام الوجوب بمحل متعين، ضرورة عدم إمكان قيام
الصفة المتعينة بالموصوف المبهم. ولا إلى الثالث، وإلا لكان المجموع واجبا
واحدا، فتعين الرابع، وهو المدعى.
300

وإنما يسقط الوجوب بفعل البعض، لقيام الاجماع على عدم بقاء التكليف
مع الإتيان بالبعض.
ويدفعه: أنا نقول بقيام الوجوب بكل منها، لكن لا على سبيل التعيين، بل على
التخيير حسب ما قررنا. فإن أراد به ذلك فحق، ولا يثبت به ما ادعاه. وإن أراد به
الوجه الأول فلا ينهض ذلك بإثباته.
وإن شئت قلت: إنه لا مانع من تعلق الوجوب بأحد الشيئين أو الأشياء، فإنه
أيضا معنى متعين بحسب الواقع يصح تعلق الوجوب به. ألا ترى أنه يصح أن
يوجب المولى على عبده أحد الشيئين فيتحقق امتثاله بأي منهما؟! وقد عرفت أن
هذا المعنى يتصور على وجهين:
أحدهما: أن يكون المطلوب نفس مفهوم أحدهما دون خصوصية كل من
الأمرين، وإنما يتعلق الطلب بكل منهما من حيث اتحاده بالمفهوم المذكور. لكن
قد عرفت أن ذلك غيره حاصل في المقام، إذ لا مطلوبية للمفهوم المذكور أصلا،
وإنما المطلوب خصوص كل من الفعلين أو الأفعال.
ثانيهما: بأن يكون مرآة لملاحظة كل من الأمرين على وجه البدلية، فيتعلق
الوجوب بكل منهما تخييرا، وحينئذ فتعلق الأمر بالمفهوم المفروض إنما هو في
مجرد اللحاظ والاعتبار، وقيام الوجوب حقيقة بكل من الفعلين أو الأفعال على
الوجه الذي قررناه، فيرجع ذلك إلى التقرير الأول.
وهناك وجه ثالث، وهو: أن يكون أحدهما ملحوظا على جهة الإيهام فلا
يتعلق الوجوب بالأمر الكلي الشامل للأمرين الحاصل بحصول أي منهما. وهذا
الوجه هو الذي أبطله المستدل، وهو فاسد كما زعمه، إلا أنه لا ينحصر الأمر فيه.
واحتج على كون الواجب واحدا معينا في الواقع - على ما قيل به في كل من
القولين الأخيرين من كون الواجب واحدا معينا - بأنه لو فعل الجميع فالمقتضي
لسقوط المفروض: إما الجميع، وإما كل واحد، وإما واحد مبهم أو معين. لا سبيل
إلى الأول وإلا لزم وجوب الجميع، ولا الثاني للزوم توارد العلل المستقلة على
301

المعلول الواحد، ولا الثالث لعدم جواز استناد الأمر المعين إلى المؤثر المبهم،
فتعين الرابع. وأما سقوط الواجب بالإتيان به وبالآخر فبقيام الاجماع إذن على
السقوط.
ويمكن تقرير مثل ذلك بالنسبة إلى قيام الوجوب حينئذ، فيقال: لو فعل
الجميع فالوجوب حينئذ: إما قائم بالمجموع، أو بكل منها... إلى آخره. وكذا
بالنسبة إلى استحقاق الثواب بأن يقال: إن استحقاق ثواب الواجب إما بفعل
الجميع أو بكل منها... إلى آخره. وبالنسبة إلى استحقاق العقاب لو أخل بها أجمع
فيقال: إن استحقاق العقاب حينئذ: إما لترك الجميع، أو لترك كل منها... إلى آخره
فهذه وجوه عديدة قد ذكر الاحتجاج بها لذلك.
إذا تقرر ذلك فيمكن أن يحتج لأول القولين المذكورين بحصول ذمة (1)
المكلف إجماعا بكل من الفعلين أو الأفعال، فله اختيار أي منهما شاء، فيتعين
القول بسقوط الواجب بذلك المعين وببدله، كما هو المدعى.
ولثانيهما بأنه لا وجه لأداء الواجب بفعل غيره، ومن المعلوم أداء الواجب في
المقام بكل من الفعلين، فلا بد من التزام اختلاف المكلف به بحسب اختلاف
المكلفين.
وأنت خبير بوهن جميع الوجوه المذكورة، إذ لا مانع من كون أحد تلك
الأفعال قاضيا بسقوط الواجب، إذ هو معنى معين بحسب الواقع يصدق على كل
منها على سبيل البدلية، ويصح تفرع الأحكام عليه، ألا ترى أنه لو كان له في ذمة
غيره دينار فدفع إليه دينارين على أن يكون أحدهما وفاء لدينه مسقطا لما في
ذمته، والآخر قرضا عليه مشتغلا لذمته صح ذلك قطعا مع عدم تعيين الخصوصية،
ومع الغض عنه نقول: إنه إما أن يأتي بالجميع تدريجا، أو دفعه؟!
فعلى الأول إنما يقضي الأول بالبراءة دون غيره مما يأتي به بعده. وعلى
الثاني فالبراءة حاصلة بكل منهما، نظرا إلى تقارنهما، ولا مانع من توارد العلل

(1) في (ف): اشتغال ذمة.
302

الشرعية فإنها معرفات، وفيه تأمل. ومما قررنا يظهر الجواب عن الوجوه الاخر
فلا حاجة إلى التفصيل، فظهر بذلك ضعف كل من القولين المذكورين.
قوله: * (يعلم أن ما يختاره المكلف هو ذلك المعين) *.
يعني أنه إذا أتى المكلف بأحد تلك الأفعال فإنما يأتي بما هو الواجب عليه
في علم الله سبحانه، فإنما أوجب الله عليه خصوص ما علم أنه يختاره من تلك
الأفعال فيميز الواجب عند المكلف أيضا.
هذا إذا أتى بواحد من تلك الأفعال. وأما إذا تركها أجمع أو أتى بالجميع دفعة
فلا يتعين عندنا، ولو أتى بما يزيد على الواحد دفعة انكشف عدم وجوب الباقي
عليه، إلا أنه يدور ما هو الواجب عليه في علم الله تعالى بين ما أتى به من تلك
الأفعال.
قوله: * (ولقد أحسن المحقق... الخ) *.
ما ذكره ظاهر، لكن لو فسر مختار الأشاعرة بتعلق الوجوب بمفهوم أحدها
الصادق على كل منها - كما اختاره بعض الأفاضل في تفسيره ويستفاد من كلام
العلامة (رحمه الله) - أمكن تفريع ثمرة مهمة عليه، بناء على القول بجواز اجتماع الأمر
والنهي في شئ واحد من جهتين، فإنه لا مانع حينئذ من تعلق الوجوب بأحدهما،
ولو اختص أحد تلك الأفعال بالتحريم لاختلاف محل الوجوب والحرمة بحسب
الحقيقة وإن اجتمعا في شئ واحد بسوء اختيار المكلف حسب ما قرروه بالنسبة
إلى سائر الكليات فاعتراف الفاضل المذكور بقلة الثمرة بين القولين المذكورين
مع ذهابه إلى جواز اجتماع الأمر والنهي من جهتين ليس على ما ينبغي.
وينبغي التنبيه في المقام على أمور:
أحدها: أن قضية الوجوب التخييري - حسب ما قررناه - حصول الامتثال
بفعل واحد منها، فإذا أتى بأحدها سقط التكليف بالباقي سقوط الواجب بأدائه ولم
يشرع له الإتيان بالباقي، لا على جهة الوجوب ولا الاستحباب، إلا أن يقوم دليل
من الخارج على الرجحان، ولا ربط له بالمقام. وتعلق الأمر بكل من تلك الأفعال
303

لا يقضي بمشروعية الإتيان بها مطلقا، لما عرفت من أن قضية تلك الأوامر
تحصيل أداء واحد لا أزيد.
وقد يجئ على قول من يقول بتحقق الامتثال بالتكرار بعد الإتيان بالمرة
فيما إذا تعلق الأمر بالطبيعة - كما اختاره المصنف - حينئذ مشروعية الفعل هنا
أيضا بعد الإتيان بالبعض، بناء على القول بتعلق الأمر هنا بمفهوم أحدها الصادق
على كل منها.
وفيه: أن هناك فرقا بين المفهوم المذكور وسائر المفاهيم، حيث إنه إنما
يصدق على كل منها انفرادا على سبيل البدلية - كالنكرة - من غير أن يصدق
عليهما معا، بخلاف سائر الطبائع فإن وحدتها النوعية لا تنافي الكثرة فردية، فهي
صادقة على الأفراد المتكثرة كصدقها على الفرد الواحد، فيمكن القول بحصول
الامتثال بأداء الأفراد المتكثرة من حيث حصول الطبيعة في ضمنها، بخلاف
المفهوم المذكور إذ لا يمكن صدقه على المتعدد، فلا يصح فيه تحقق الامتثال
بالمتعدد.
والقول بتحقق الامتثال ثانيا بالإتيان بالآخر مدفوع: بأن الأمر الواحد إنما
يقتضي امتثالا واحدا، وليس المقصود من تحقق الامتثال هناك بالمتعدد تعدد
الامتثال أيضا، إذ لا وجه له مع اتحاد الأمر، وعدم دلالته على التكرار، بل المراد
أنه كما يحصل الامتثال بالإتيان بالفرد الواحد لحصول الطبيعة به كذا يحصل
بالأفراد المتعددة من حيث حصول الطبيعة في ضمنها، فيكون الإتيان بالأفراد
المتعددة امتثالا واحدا كالإتيان بالفرد الواحد، حسب ما مر تفصيل القول فيه.
ثانيها: أنه لو أتى بتلك الأفعال دفعة لم يكن أداء المكلف به إلا بواحد منها
حسب ما يقتضيه التكليف المذكور على ما قررناه، فلا يتصف بالوجوب إلا واحد
منها. ويحتمل القول باتصاف جميع ما يأتي به من تلك الأفعال بالوجوب على
نحو اتصاف نفس تلك الأفعال، فكما أن كلا من الأفعال المفروضة واجبة على
المكلف بالوجوب التخييري بالمعنى المتقدم فكذا كل ما أتى به منها دفعة متصف
304

بالوجوب بالمعنى المذكور، فيكون كل واحد مما أتى به مطلوبا صحيحا واجبا
بالوجوب التخييري.
ويحتمل أيضا أن يقال بوجوب الجميع من حيث أداء الواجب به بناء على أن
الواجب هو القدر الجامع من تلك الأفعال، وهو كما يحصل بالإتيان بكل واحد
منها كذا يحصل بالإتيان بالمجموع على نحو سائر الطبائع الحاصلة في ضمن
الواحد والمتعدد.
ويستفاد من العلامة (رحمه الله) اختيار الاحتمال الأول، حيث ذكر في النهاية في
جواب ما قرره الخصم فيما إذا أتى بالجميع دفعة: أنه هل يستحق الثواب على
الجميع وأنه هل ينوي الوجوب بفعل الجميع؟ وأنه لو أخل بها أجمع هل يستحق
العقاب على ترك كل واحد منها؟
فقال: إنه يستحق على فعل كل منها ثواب المخير لا المضيق، بمعنى أنه
يستحق على فعل أمور كان يجوز له ترك كل واحد بشرط الإتيان بصاحبه، لا
ثواب فعل أمور كان يجب عليه إتيان كل واحد منها بعينه.
ثم ذكر: أن الحال كذلك في الثاني. وقال في الثالث: إنه يستحق العقاب على
ترك أمور كان مخيرا في الإتيان بأيها كان وترك أيها كان بشرط إتيان صاحبه.
فإن الظاهر مما ذكره صحة الإتيان بالجميع، ووقوع تلك الأفعال واجبا، لكن
بالوجوب التخييري مستحقا عليها أجر الواجب المخير، أعني المشتمل على
جواز الترك إلى بدل.
وقال في التهذيب في جواب احتجاج من زعم أن الواجب واحد معين: بأنه
إذا فعل الجميع فإما أن يسقط الفرض بالجميع فيلزم القول بوجوب الجميع، وهو
خلف، أو يسقط بكل واحد منها فيلزم اجتماع العلل على المعلول الواحد، إلى
آخر ما ذكر.
والجواب: أن هذه معرفات، فظاهرها اختيار اتصاف الجميع بالوجوب
التخييري وسقوط الواجب بكل منها على نحو ما يستفاد من النهاية.
305

وقد ذكر السيد العميدي في المنية هذا الجواب من دون إيراد عليه، فظاهره
القول به أيضا. إلا أنه قال: ويمكن الجواب باختيار القسم الأول، والمنع من لزوم
وجوب الجميع على سبيل الجمع على تقديره، وإنما يلزم ذلك لو لم يسقط الفرض
إلا بالجميع، لكن لا يلزم من سقوط الفرض به عدم سقوطه بغيره، والحق أن
المسقط للفرض شئ واحد وهو الأمر الكلي الصادق على كل واحد من الأفراد،
وكون المجموع أو كل واحد من أفراده مسقطا إنما هو لاشتماله على ذلك الأمر
الكلي، لا بخصوصه.
وظاهر ذلك بل صريحه اختيار الاحتمال الثاني. وأنت خبير بوهن الوجهين.
أما الأول فبأنه وإن اتصف كل من الأفعال المفروضة بالوجوب التخييري وعلى
الوجه المذكور إلا أن الخروج عن عهدة ذلك التكليف إنما يكون بفعل واحد منها -
حسب ما عرفت - فكيف يصح القول باتصاف الجميع بالوجوب مع عدم حصول
الامتثال وأداء الواجب إلا بواحد منها؟ وغاية ما يلزم من وجوب الجميع على
الوجه المفروض صلوح كل من تلك الأفعال أداء للواجب، وذلك لا يقضي
بحصول الامتثال بكل منها على ما هو الشأن في الواجبات التعيينية.
وأما الثاني فبأن الأمر الكلي الملحوظ في المقام ليس إلا مفهوم أحدها، وقد
عرفت أنه لا يصدق على المجموع قطعا، وإنما يصدق على الآحاد على سبيل
البدلية، فكيف يجعل الجميع مصداقا له كالآحاد؟ ومجرد كونه كليا لا يقضي
بصدقه على الكثير كصدقه على البعض، حسب ما قرر ذلك في الأوامر المتعلقة
بالطبائع الكلية.
والحاصل: أن المفهوم المذكور ملحوظ على وجه لا يصدق إلا على فعل
واحد، لكن ذلك الفعل يدور بين تلك الأفعال، فبملاحظة ذلك ينطبق المفهوم
المذكور على كل من تلك الأفعال، فإذا أتى بأي منها قضى بالإجزاء، ولا يعقل
صدقه على المتعدد أصلا، ولو سلمنا أنه كسائر الطبائع الكلية يصدق على الواحد
والكثير فالقول بحصول الامتثال هناك بالكثير محل نظر، مرت الإشارة إليه في
بحث المرة والتكرار.
306

ثالثها: أنه إذا أتى بما يزيد على الواحد: فإن أتى به تدريجا فلا إشكال في
صحة الأول وحصول الاجزاء به، وكان إتيانه بالثاني على وجه امتثال الأمر
المفروض بدعة محرمة كما مر بيانه، وعلى غير تلك الجهة لا مانع منه، كما إذا ثبت
هناك رجحان لذلك الفعل من الخارج، أو لم يكن الرجحان ملحوظا فيه إذا لم
يكن من العبادات.
وأما إذا أتى بها دفعة: فإن كان إتيانه بالزائد سائغا مشروعا فلا إشكال ظاهرا
في الصحة وحصول الامتثال، وبكون الواجب حينئذ أحدها الدائر بينها على سبيل
البدلية.
فإن قلت: إن نسبة أحدها على الوجه المفروض إلى كل واحد منها على وجه
واحد، فأما أن يجب الكل ويكون كل منها أداء للواجب وقد عرفت فساده. وإما
أن لا يجب الكل فالواجب منها حينئذ: إما واحد معين ولا وجه له أيضا، لانتفاء
المرجح للتعيين وبطلان الترجيح بلا مرجح. أو واحد غير معين، وهو غير ممكن
أيضا، لوضوح عدم اتصاف غير المعين بالوجوب مع سلبه عن كل واحد واحد
بالخصوص، فكيف يصح القول باتصاف أحدها بالوجوب مع بطلان الوجوه
الثلاثة.
قلت: قد اختار بعضهم في المقام حصول الامتثال بأكثرها ثوابا، حيث حكم
باستحقاقه ثواب أعلاها وأكثرها ثوابا. واختاره السيد في الذريعة.
وقال الشيخ في العدة بعد ما حكم بعدم لزوم بيان ذلك: إن ما يعلمه الله أنه لا
يتغير عن كونه واجبا إذا فعله مع غيره يثيبه عليه ثواب الواجب واستحق العقاب
بترك ذلك بعينه، ومحصله كون المثاب عليه والمعاقب عليه متعينا حينئذ في
الواقع، وفي علمه تعالى، غير معين عندنا، فيكون الواجب المبرئ للذمة أيضا
كذلك.
وهو غريب بعد اختياره وجوب الجميع وقوله بعدم الفرق بين تلك الأفعال
في الوجوب والمصلحة القاضية به.
307

وقد عرفت مما حكيناه عن العلامة (رحمه الله) والسيد العميدي ظهوره في اتصاف
الجميع بالوجوب، بل كلام الأخير صريح في أداء الواجب حينئذ بالكل، وهذه
الوجوه كلها ضعيفة، وقد ظهر الوجه في ضعفها مما قررناه، ولا حاجة إلى التفصيل.
والذي تقتضيه القاعدة في المقام هو القول بأداء الواجب بواحد منها، لما
عرفت من أن قضية التكليف المفروض حصول الواجب بفعل واحد من تلك
الأفعال، ولا اقتضاء فيه لتأدي ما يزيد على الواحد، فلا وجه للقول بحصول
الامتثال بالجميع، غاية الأمر أن يدور ذلك الواحد بين تلك الأفعال الصادرة من
المكلف، لصلوح كل منها أداء للواجب من غير فرق بينها، فيكون تأدي الواجب
في المقام بواحد منها من غير أن يتعين ذلك بواحد معين منها، نظرا إلى انتفاء ما
يفيد تعيينه بحسب الواقع، ولا يمنع ذلك من حصول البراءة به، إذ لا يتوقف أداء
الواجب على تعيين ما يحصل به، لوضوح الامتثال بحكم العرف، بل العقل بأدائه
على الوجه المفروض قطعا، فإن مقصود الآمر حصول واحد من تلك الأفعال، وقد
حصل ذلك فلا وجه لعدم سقوط التكليف به.
فإن قلت: كما أن كلا من الأفعال المفروضة متصف بالوجوب التخييري وإن
كان ما يمنع من تركه بالمرة هو أحدها - كما مر - فكذا ينبغي أن يكون كل واحد
من تلك الأفعال أداء للواجب التخييري، ويكون كل منها متصفا بالوجوب على
الوجه المذكور، وإن كان ما يمنع من تركه هو أحدها أيضا، وهذا هو مقصود
العلامة (رحمه الله) من اتصاف الجميع بالوجوب.
قلت: اتصاف أفعال عديدة بالوجوب التخييري نظرا إلى تعلق الخطاب بها
على سبيل التخيير بينها مما لا مانع منه حسب ما عرفت. وأما اتصاف أفعال
متعددة بكونها أداء للواجب على وجه التخيير بينها فمما لا يمكن تصويره، إذ لا
يتصور التخيير بين الأمور الواقعة، غاية الأمر أن يعتبر الترديد بدلا عن التخيير،
ومع ترديد الواجب بينها لا يمكن الحكم إلا بوجوب أحدها، إذ لا معنى لوجوب
الكل على وجه الترديد.
308

والحاصل أن يقال: إيجاب أفعال عديدة على سبيل التخيير بينها إنما يقضي
بحصول ذلك التكليف بأداء واحد منها لا غير، فلا وجه للحكم بوجوب ما يزيد
عليه، بل ولا الحكم بمشروعية ما يزيد على ذلك حسب ما عرفت، فلا وجه للقول
باتصاف الجميع بالوجوب على الوجه المذكور، بل ليس أداء الواجب إلا بأحدها
الدائر بينها. ولو عبر عن مجرد صلوح كل واحد منها لأداء الواجب باتصافه
بالوجوب فذلك مع كونه بحثا لفظيا لا محصل له مما لا يساعده الاصطلاح
والإطلاقات هذا.
ويمكن أن يقال: إنه مع أفضلية بعض تلك الأفعال وزيادة ثوابه يستحق تلك
الزيادة، نظرا إلى إتيانه بما يوجبه، ومع استحقاقه أجر الأكثر يكون أداء الواجب
به أيضا، إذ لولاه لما استحق أجره، وكان هذا هو الوجه فيما ذكره السيد.
ويشكل: بأنه كما أتى بالأكثر ثوابا فقد أتى بالأقل ثوابا، ونسبة الواجب
إليهما على نحو سواء، ومجرد زيادة الثواب لا يقضي بالترجيح حتى ينصرف أداء
الواجب إليه.
ويمكن دفعه: بأنه لما قرر الشارع مزيد الأجر على بعض تلك الأفعال وقد
أتى المكلف به قضى ذلك باستحقاقه تلك الزيادة، وليس الإتيان بالأقل ثوابا نافيا
لاستحقاقه الأكثر، غاية الأمر أنه لا يقضي باستحقاق الزائد فلا معارضة بين
الأمرين.
وفيه: أنه لا يستحق ثواب الأكثر إلا مع حصول الامتثال به وكونه أداء
للواجب، وقد عرفت أن نسبة ذلك إلى الفعلين على وجه واحد فكيف يحكم بأداء
الواجب بخصوص الأول دون الثاني حتى يثبت له ثوابه؟
نعم، لو قيل بحصول الامتثال بالجميع مع ترتب ثواب واحد على تلك
الأفعال، كما أنه يقال بترتب عقاب واحد على ترك الجميع أمكن القول بذلك
لحصول الامتثال بما ثوابه أكثر، فلا بد من ترتب تلك الزيادة عليه، إلا أنك قد
عرفت أن القول به بعيد.
309

هذا إذا كان إتيانه بالجميع سائغا، وأما إذا لم يكن سائغا فإما أن يكون
الواجب المفروض عبادة، أو غيرها، فإن كان عبادة ولم تفد مشروعيتها سوى
الأمر المفروض ليكون الإتيان بما يزيد على واحد منها بدعة محرمة، أو دل
الدليل على مشروعيتها مطلقا لكن أريد من الإتيان بالجميع امتثال الأمر
المفروض ليندرج في البدعة من تلك الجهة - حسب ما عرفت - فهل يحكم إذن
بصحة أحدها وفساد الباقي لقيام مقتضى الصحة بالنسبة إليه دون غيره، أو أنه
يحكم بفساد الجميع من جهة النهي المتعلق به على الوجه المذكور القاضي بفساد
العبادة، ولا يمكن قصد التقرب بشئ منها حينئذ؟ الظاهر الأخير، سيما إذا نوى
الامتثال بالمجموع. وإن كان من غير العبادات جرى أيضا فيه الوجهان، واحتمال
الصحة هنا متجه، إذ التحريم يتعلق بالنية، وما يزيد على الواحد من الأفعال
المفروضة فلا مانع من أداء الواجب لواحد منها، وفيه إشكال. وأما سقوط الواجب
فيما يكون المقصود مجرد حصول الفعل كإزالة النجاسات فمما لا ينبغي الريب
فيه.
رابعها: أنه هل يتعين الواجب التخييري بالشروع في أحدهما وجهان:
أحدهما: أنه لا يتعين ذلك، بل التخيير على حاله حتى يسقط التكليف
المفروض، فلو شرع في أحدهما جاز له العدول إلى الآخر استصحابا لما ثبت إلى
أن يسقط التكليف بأدائه.
ثانيهما: التعيين بذلك، حيث إنه مخير في اختيار أيهما شاء، فإذا اختار
أحدهما زال التخيير، ولأن جواز العدول بعد الشروع في الفعل يتوقف على قيام
الدليل عليه، ولا دليل عليه في المقام.
ويرد على الأول: أنه كان مخيرا في الإتيان بأيهما شاء فما لم يأت فالتخيير
على حاله، كما هو ظاهر اللفظ ولو سلم احتماله ودوران الحال فيه بين الوجهين
فاستصحاب بقاء التخيير الثابت قاض بالأول.
وعلى الثاني: أن ما عرفت من الدليل كاف في الدلالة على الجواز.
310

وهنا وجه ثالث، وهو: التفصيل بين ما إذا سقط بعض التكليف بأداء البعض،
وما يكون سقوطه متوقفا على إتمام الفعل.
فعلى الأول لا يجوز العدول، إذ القدر الثابت من التخيير بين تمام الفعلين
دون تمام أحدهما والبعض من الآخر فتعين عليه إتمام الأول.
وعلى الثاني يجوز العدول، لبقاء الأمر على حاله قبل إتمام الأول.
هذا كله إذا لم يكن هناك مانع من العدول، كما إذا كان إبطال الأول محرما،
كما في التخيير بين الظهر والجمعة فإنه بعد شروعه في أحدهما يحرم عليه إبطاله
ليتلبس بالآخر فيتعين عليه الإكمال.
نعم، لو ارتكب الحرام وأبطل العمل كان بالخيار بينهما، ومن ذلك في وجه
تخيير المولى بين دفع العبيد الجاني إلى المجني عليه وافتدائه ببذل أرش الجناية،
فإذا بنى على الافتداء ودفع بعض الأرش فأراد الرجوع إليه ودفع العبد فإنه ينافي
تملك المجني عليه للمدفوع إليه، وثبوت الخيار له في الرد خلاف الأصل.
خامسها: أنه إذا وقع التخيير في الواجب بين الأقل والأكثر في أصل الشرع -
كما لو ورد التخيير في الركعتين الأخيرتين بين أداء التسبيحات الأربع مرة أو
ثلاثا، أو ورد التخيير في بعض منزوحات البئر بين الأربعين والخمسين، أو ثبت
التخيير بحكم العقل، كما إذا تعلق الأمر بطبيعة وأمكن أداؤها في ضمن الأقل
والأكثر كما إذا وجب عليه التصدق الصادق بتصدق درهم أو درهمين أو ثلاثة
مثلا، أو وجب عليه المسح المتحقق بمسح إصبع أو إصبعين أو ثلاثة وهكذا - فهل
يتصف الزائد بالوجوب ليكون التخيير على حقيقته، أو لا؟ فيه أقوال:
أحدها: اتصاف الجميع بالوجوب أخذا بمقتضى ظاهر اللفظ، إذ كل من
الناقص والزائد قسم من الواجب.
ثانيها: اتصاف الزائد بالاستحباب مطلقا نظرا إلى جواز تركه لا إلى بدل.
ثالثها: التفصيل بين ما إذا كان حصول المشتمل على الزيادة دفعة وما إذا كان
تدريجيا بأن حصل الناقص أولا ثم حصل القدر الزائد، فإن كان حصول الفعل
311

المشتمل على الزيادة دفعيا اتصف الكل بالوجوب لأداء الواجب به ولقضاء ظاهر
الأمر بوجوبه، وإن كان حصول الناقص قبل حصول الزائد أو حصول الناقص
بالوجوب لا غير (1) لأداء الواجب به فيسقط الوجوب، وحينئذ فإن صرح الآمر
بالتخيير بين الأقل والأكثر اتصفت الزيادة بالاستحباب، نظرا إلى مطلوبية الزائد
في الجملة وجواز ترك الزيادة لا إلى بدل.
وأما التخيير (2) العقلي فيسقط الوجوب بالأول وتبقى مشروعية الزيادة
متوقفة على قيام الدليل عليه، ففي الحقيقة لا تخيير حينئذ عند التأمل، وبذلك يظهر
الفرق بين التخيير العقلي والشرعي.
ويمكن المناقشة في ذلك: بأن الأمر المتعلق بالزائد والناقص على جهة
التخيير أمر واحد مستعمل في الوجوب، فمن أين يجئ الحكم باستحباب الزائد
في الصورة المذكورة؟ ولو سلم استعماله في الوجوب والندب - نظرا إلى أن القدر
الذي يمنع من تركه هو الأقل فيكون الزائد مستحبا - لم يكن هناك فرق بين
حصول الناقص قبل حصول الزيادة وحصول الزائد دفعة، والتفصيل في استعماله
في الوجوب وفي الوجوب والندب بين الوجهين المذكورين تعسف بين لا وجه
لالتزامه.
وقد يقال: إن تعلق الأمر به على الوجه المذكور محمول على الوجوب إلا
فيما لا يمكن حمله عليه، وهو فيما إذا كان حصول الناقص قبل الزيادة، لقضاء
التخيير بحصول الواجب حينئذ بالأقل، فمع رجحان الزيادة يتصف الزائد لا
محالة بالاستحباب، لجواز تركه حينئذ لا إلى بدل.
وفيه: أنه إذا لم يتعلق بالزيادة تكليف مستقل كيف يعقل اتصافها
بالاستحباب؟ وقضية ورود التخيير في الواجب بين الأقل والأكثر قيام الوجوب
بكل منهما، فإن كان الصادر منه في الخارج هو الأقل قام الوجوب به، وإن كان

(1) في (ف ونسخة من ط): قبل الزيادة، فالمتصف بالوجوب هو الناقص لا غير.
(2) في (ف): وأما في التخيير.
312

الأكثر كان الوجوب قائما به بمقتضى الأمر، وحينئذ فقيام الوجوب بالأقل غير
معلوم إلا بعد العلم بعدم التحاق الزائد به، وأما بعد الإتيان بالقدر الزائد فإنما يقوم
الوجوب بالجميع، فحصول الامتثال بالأقل يكون مراعى بعدم الإتيان بالزيادة.
فما ذكر من عدم إمكان حمل الأمر المتعلق بالزائد حينئذ على الوجوب
لجواز ترك الزائد حينئذ لا إلى بدل مدفوع بما عرفت من أن الزيادة لا حكم لها
مستقلا، ولم يتعلق بها أمر، بل إنما تعلق الحكم بمجموع الزائد، ولا يجوز تركه
لا إلى بدل وهو فعل الناقص، وبذلك يتقوى القول الأول.
فإن قلت: إن نسبة الوجوب إلى كل من الواجبات التخييرية على نحو واحد،
وكما يحصل أداء الواجب بالأكثر يحصل بالأقل أيضا، فأي ترجيح حينئذ للحكم
بقيام الوجوب بالأكثر عند حصول الزيادة دون الأقل، فمع حصوله قبله القاضي
بأداء الواجب به فلا وجه لكون حصول الامتثال به مراعى بعدم التحاق الزيادة.
قلت: من البين أنه إذا حكم الشارع بالتخيير بين الأقل والأكثر كان مفاد
كلامه قيام الوجوب بكل من الأقل والأكثر على ما هو الشأن في الواجب
التخييري، لكن لما كان الأكثر مشتملا على الأقل كان قضية حكمه بقيام الوجوب
بالأكثر مع اشتماله على الأقل كون الأقل المقابل له هو الأقل بشرط لا. فمفاد
التخيير المذكور: أنه لو أتى بالأقل وحده كان واجبا، وإن أتى بالأكثر - أعني
الأقل مع الزيادة - كان أيضا واجبا، وحينئذ فالأقل المندرج في الأكثر ليس مما
يقوم الوجوب به إلا في ضمن الكل.
نعم، لو كان مفاد التخيير بين الأقل والأكثر هو التخيير بين الأقل الملحوظ لا
بشرط والأكثر صح ما ذكر، لكن ذلك خلاف المفهوم من اللفظ عند حكم الشارع
بالتخيير بينهما، بل ليس المنساق منه إلا ما ذكرناه، وقضية ذلك كون الحكم بقيام
الوجوب بالأقل مراعى بعدم التحاق الزيادة.
هذا إذا أورد التخيير المذكور في لسان الشرع، وأما إذا كان التخيير عقليا
فلا يتم ذلك، لظهور كون الأقل حينئذ مصداقا للواجب سواء، ضم إليه الزائد أو لا.
313

فعلى القول بتعلق الأمر بالطبيعة يكون كل من المرة والتكرار مصداقا لأداء
الطبيعة، إلا أنها حاصلة بحصول المرة، سواء ضم إليها الباقي أو لا، فلا وجه إذن
لكون التكرار مصداقا للامتثال لحصول البراءة بالأولى، فلا وجه لكون الامتثال به
مراعى بحصول الباقي وعدمه، بل هو حاصل به على كل حال، فلا يتجه إجراء
الكلام المذكور في هذه الصورة سيما في المثال المفروض، حيث إنه لا يعد الجميع
امتثالا واحدا وأداء واحدا للطبيعة، نظرا إلى حصول الطبيعة بكل منها، فيكون كل
منها مصداقا لأداء الطبيعة ومحققا لامتثال الأمر المتعلق بها، فظاهر أن الأمر
الواحد لا يقتضي إلا امتثالا واحدا فلا وجه للحكم بأداء الواجب حينئذ بالمتعدد
ليكون التكرار أحد فردي المخير، بل لا يفترق الحال بين أداء الجميع دفعة أو
تدريجا لحصول الواجب في الحالين بالمرة، وفيه تأمل، وقد مر الكلام فيه في
بحث المرة والتكرار.
فظهر بما قررناه أنه لو كانت الزيادة مما يحصل به الواجب أيضا - كما في
المثال المذكور - كان ذلك أيضا قاضيا (1) بوجوب الأقل لحصول الطبيعة الواجبة
به، فيتحقق به الامتثال، وبعد تحقق الامتثال والطاعة وحصول البراءة لا بقاء
للتكليف حتى يعقل إمكان امتثال الأمر أيضا حسب ما أشرنا إليه.
نعم، لو نص الآمر بعد تعلق الأمر بنفس الطبيعة بالتخيير بين أدائه لتلك الطبيعة
في ضمن المرة أو التكرار أمكن القول باستحباب ما زاد على المرة، ويكون النص
المذكور دليلا على ثبوت الاستحباب في القدر الزائد لحصول الطبيعة الواجبة
حينئذ بالمرة، ومعه لا يتحقق اتصاف الزائد بالوجوب فيتعين أن يكون مندوبا.
وأما لو حكم أولا بالتخيير بين الإتيان بفعل مرة أو مرتين أو ثلاثا - مثلا - لم
يبعد القول بقيام الوجوب بكل من المراتب حسب ما قررناه أولا، فتأمل في الفرق
بين الوجهين فإنه لا يخلو عن خفاء. هذا.

(1) في (ف): أيضا واجبا.
314

وإذا لم تكن الزيادة مما يتحقق بها تكرار لحصول الفعل بل إنما تعد هي مع
الناقص امتثالا واحدا وأداء واحدا للطبيعة المتعلقة للأمر لم يبعد القول بمشروعية
الزيادة واتصاف كل من الناقص والزائد بالوجوب، كما في مسح الرأس فإنه وإن
تحقق مسماه بأول جزء من إمرار اليد عليه إلا أنه مع استمرار المسح زيادة على
قدر المسمى يعد الجميع مسحا واحدا وأداء واحدا للطبيعة، فإن اقتصر على الأقل
تحقق به الطبيعة، وإن أتى بالزائد كان المشتمل على الزيادة فردا آخر منها وقام
الوجوب بالمجموع، من غير فرق في ذلك بين كون التخيير عقليا أو شرعيا.
وقد يقال في غير هذه الصورة باستحباب القدر الزائد في التخيير الشرعي
مطلقا، إذ هو الذي لا يجوز تركه عند الآمر، وما زاد عليه لا منع من تركه أصلا
فيكون مندوبا.
فإن قلت: إن تعلق الأمر بهما على نحو سواء فكيف! يصح القول بوجوب
الأقل دون الأكثر، فيلزم استعمال الأمر حينئذ في الوجوب والندب معا.
قلت: ورود التخيير على الوجه المذكور دليل على ذلك، إذ المتحصل من
إيجاب الفعل على النحو المفروض هو المنع من ترك الأقل وجواز ترك الباقي،
فلو لزم تجوز في صيغة الأمر فلا مانع منه بعد قيام الدليل عليه، وليس ذلك من
استعمال اللفظ في كل من معنييه الحقيقي والمجازي.
بل نقول: إن ذلك لا يقتضي خصوص استحباب الزائد، بل يفيد الرخصة فيه،
فإنه إذا كان ذلك الفعل أمرا راجحا في نفسه قضى ذلك باستحبابه، كما إذا قال:
" تصدق بعشرة دراهم فما زاد ". ولو كان محرما في نفسه كما إذا قال: " اضربه
عشرة أسواط فما زاد إلى عشرين " فليس مفاده إلا الرخصة في ما زاد على
العشرة إلى عشرين، ولا دلالة فيه على استحبابه. وهذا الوجه لا يخلو عن قرب،
إلا أن ما فصلناه هو الأقرب، والباعث على الشهرة في المقام هو ما ذكر من جواز
ترك الزيادة، وقد عرفت أن الوجوب لا يقوم بها حتى ينافيه ذلك، وإنما يقوم
بالكل، وجواز تركه إنما هو إلى بدل هو الإتيان بالأقل فلا ينافي وجوبه على
سبيل التخيير حسب ما ذكرنا، فتأمل في المقام فإنه لا يخلو عن إبهام.
315

ويحتمل في المقام وجه رابع، وهو التفصيل بين ما إذا نوى الامتثال بالأقل
أو الأكثر. فعلى الأول يسقط التكليف بأداء الأقل، فلا وجه للإتيان بالزيادة،
بخلاف الثاني، لتوقف الامتثال حينئذ على الإتيان بالزيادة.
وفيه: أن قصد الامتثال مما لا يتوقف عليه أداء الواجب، بل كون المأتي به من
أفراد الواجب كاف في أدائه وتحققه في الخارج. نعم، لو كان المأمور به من
العبادات تعين اعتبار القربة في النية.
فقد يتوهم: حينئذ اعتبار قصد امتثال الأمر المفروض ليتحقق به الطاعة
الملحوظة في العبادات.
ويدفعه: أن الملحوظ في العبادة مطلق قصد الطاعة، لا خصوص امتثال الأمر
الخاص المتعلق به بحسب الواقع، فلا يعتبر فيه ملاحظة كون المأتي به تمام
المأمور به أو بعضه، إذ لا دليل عليه أصلا حسب ما مر القول فيه في محله، فلا فرق
حينئذ بين ما إذا نوى الامتثال بالأقل أو نواه بالأكثر، فإنه إذا كان مجرد حصول
الطبيعة المأمور بها كافيا في سقوط الواجب جرى ذلك في الصورة الثانية، وإن
كان حصول الطبيعة بأداء الأقل مراعى بعدم التحاق الزائد جرى ذلك في الصورة
الأولى أيضا، ومجرد قصده الامتثال بالأقل لا ينافيه.
سادسها: أن التخيير بين الشيئين قد يكون على وجه الترتيب، وقد يكون
على وجه البدلية، والإشكال المتقدم والأقوال المذكورة إنما هو في الصورة
الثانية، وأما الأولى فلا مجال فيها للإشكال، بل ليس ذلك من حقيقة التخيير في
شئ وإن عد من التخيير. وعلى كل حال: فإما أن يمكن الجمع بينهما، أو لا، وعلى
الأول: فإما أن يحرم الجمع بينهما، أو يجوز مع إباحته أو استحبابه.
سابعها: أنه هل يصح اتصاف أحد الواجبين المخيرين بالاستحباب بأن
يكون واجبا تخييريا مندوبا عينيا، أو لا؟ قولان. والمحكي عن جماعة القول
بجواز الاجتماع، والأظهر المنع، لما تقرر من تضاد الأحكام، واستحالة اجتماع
المتضادين في محل واحد.
316

وعلى القول بجواز تعلق الأمر والنهي بشئ واحد من جهتين - كما هو
المختار عند جماعة من المتأخرين - فلا ريب في الجواز في المقام، نظرا إلى
اختلاف الجهتين، وهذا هو الوجه في اختيار بعض المتأخرين جواز اجتماع
الأمرين.
وقد يتخيل جواز اجتماعهما في المقام بناء على المنع من اجتماع الأمر
والنهي أيضا، ولذا ذهب إليه بعض من لا يقول بجواز اجتماعهما، نظرا إلى منع
المضادة بين الاستحباب العيني والوجوب التخييري.
كما أنه لا مضادة بين الاستحباب النفسي والوجوب الغيري، فوجوبه حينئذ
لنفسه نظرا إلى حصول القدر المشترك به، واستحبابه بملاحظة خصوصيته إضافي
بالنظر إلى غيره.
وأنت خبير بما فيه، فإنه: إن أريد بجواز اجتماع الأمرين في المقام جواز
الجمع بين الوجوب التخييري والندب المصطلح - يعني ما يجوز تركه مطلقا -
فبين الفساد، لوضوح أنه ليس مما يجوز تركه كذلك، وإلا لم يتصف بالوجوب
التخييري، لما عرفت من حصول المنع من ترك كل من الواجبين المخيرين في
الجملة، فإن كلا منهما مطلوب للآمر على وجه المنع من تركه وترك ما يقوم مقامه.
وما أورد عليه من أن ما له بدل ليس بواجب في الحقيقة، وما هو الواجب لا
بدل له، فإن الواجب بالحقيقة هو مفهوم أحدهما، والمندوب هو خصوص واحد
منهما فلا اجتماع للوصفين، غاية الأمر أن يكون المندوب مصداقا للواجب
لاتحاده معه مدفوع بما عرفت من أن الواجب التخييري هو خصوص كل واحد
من الأمرين، لا مفهوم أحدهما، وإنما هو أمر اعتباري انتزاعي بعد تعلق الوجوب
بكل منهما على الوجه الذي قررناه، حسب ما مر تفصيل القول فيه. ولو سلمنا
تعلق الوجوب بمفهوم أحدهما فبعد اتحاده مع خصوص واحد منهما لا يصح
اتصافه بالاستحباب إلا على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي من جهتين وهو مع
ضعفه - كما سيجئ بيانه في محله إن شاء الله - خلاف مبنى الكلام، إذ المفروض
317

البناء على امتناعه. وما يتراءى من جواز اجتماع الاستحباب النفسي والوجوب
الغيري - كما في الوضوء وغسل الجنابة - ليس على ما ينبغي، إذ ليس ذلك من
اجتماع الوجوب والاستحباب في شئ، إذ لا يتصف الوضوء أو الغسل في زمان
واحد بالوصفين المذكورين، إذ الحكم الثابت لكل منهما بعد وجوب (1) المشروط
به هو الوجوب دون الندب.
نعم، يجتمع هناك جهتا الندب النفسي والوجوب الغيري، ولا مانع منه، كما أنه
لا مانع من اجتماع جهتي الوجوب والندب الغيريين، فمفاد استحبابه النفسي أنه
مندوب في ملاحظة نفسه وإن كان واجبا مترقيا رجحانه عن مقام الندب إلى
الوجوب بملاحظة غيره، وثبوت شئ لشئ في مرتبة أو نفيه عنه كذلك لا
يستلزم ثبوته أو نفيه عنه بحسب الواقع، ولذا تقرر عندهم جواز اجتماع النقيضين
في المرتبة، ومن ذلك يعلم جواز اجتماع جهتي الوجوب والندب النفسيين أيضا.
ألا ترى أنه لو نذر أداء نافلة كانت تلك النافلة مندوبة بملاحظة ذاتها، فإنها لا
تقتضي زيادة على ذلك واجبة من جهة تعلق النذر بها، وهي حينئذ غير متصفة
فعلا بالوصفين المذكورين، بل الوصف الحاصل لها حينئذ هو الوجوب لا غير، ولا
يجري نحو ما ذكر في المقام حتى يقال هنا أيضا باجتماع الجهتين وإن كان الحكم
تابعا لأقواهما. ولو سلم جريانه في المقام فقد عرفت أنه ليس ذلك من اجتماع
الحكمين أصلا، والكلام هنا إنما هو في اجتماع الحكمين دون الجهتين، إذ قد
عرفت أنه لا مجال لتوهم الإشكال بالنسبة إليه.
وإن أريد بذلك جواز اجتماع الوجوب التخييري والندب بغير معناه المصطلح
- أعني ما يكون فعله راجحا بالنسبة إلى فعل غيره رجحانا غير مانع من النقيض،
نظير ما اعتبر في مكروه العبادة من مرجوحية فعلها بالنسبة إلى فعل غيرها،
كما قد يومئ إليه قوله بكون استحبابه إضافيا بالنسبة إلى غيره - فلا مجال لتخيل

(1) في (ف): دخول.
318

مانع منه في المقام، ولا يعتريه شبهة، فلا إشكال. والظاهر أن أحدا لا يقول
بامتناعه. هذا.
وقد يوجه اجتماع الوجوب والندب في المقام بنحو آخر: بأن يقال بأن هنا
رجحانا مانعا من النقيض يقوم غيره مقامه، ورجحانا غير مانع من النقيض لا بدل
له يقوم مقامه.
فالأول هو الوجوب التخييري القائم بكل من الفعلين.
والثاني هو الاستحباب العيني القائم بالفرد الأكمل، إذ لا بدل لكمال الفرد،
ولا يتعين على المكلف تحصيله.
وأنت خبير بوهن ذلك أيضا، فإن ما ذكر إنما يفيد كون الجهة المفروضة غير
ملزومة للفعل، وأين ذلك من استحباب الفعل وجواز تركه بحسب الواقع كما هو
المقصود؟ إذ من البين أنه إذا حصل جهة الوجوب والندب في شئ كان الترجيح
لجانب الوجوب، لاضمحلال الجهة النادبة عند الجهة الموجبة ومع الغض عن ذلك
فالمصلحة القاضية بالأولوية في المقام إنما تفيد أولوية فعل أحدهما على فعل
الآخر على وجه لا يمنع من النقيض، لا أولوية فعل أحدهما على تركه مع عدم
المنع منه مطلقا حتى يندرج في الندب المصطلح، ومجرد عدم بديل للرجحان
المفروض لا يقضي بكون الرجحان الحاصل ندبا مصطلحا كما لا يخفى.
نعم، إن أريد بالندب غير معناه المعروف حسب ما أشرنا إليه صح ما ذكر،
إلا أنك قد عرفت أنه غير قابل للنزاع.
ثامنها: أنهم اختلفوا في جواز حصول التخيير في التحريم بأن يكون المحرم
أحد الفعلين لا بعينه على الوجه الذي قرر في الواجب المخير.
فعن الأشاعرة القول بجوازه، وقد اختاره الآمدي والحاجبي والعضدي،
إذ لا يعقل مانع من تعلق النهي بأحد الشيئين على الوجه المذكور.
وعن المعتزلة إنكار ذلك. وحكي عن بعضهم المنع من النهي عن أمور على
سبيل التخيير بينها، لأن متعلق النهي حينئذ هو مفهوم أحدها الذي هو مشترك بينها
319

حسب ما ذكر في الواجب المخير، فيحرم الجميع، إذ لو دخل شئ منها في
الوجود دخل القدر المشترك فيه، والمفروض حرمته.
وأورد عليه بالتحريم المتعلق بالأختين والأم والبنت، فإنه إنما نهي عن
الترويج بأحدهما على الوجه المذكور، لا بهما، ولا بواحد معين منهما.
وأجيب عنه: بأن التحريم هناك إنما تعلق بالجمع بينهما، فيتحقق امتثاله بترك
الجمع الحاصل بترك واحد منهما كيف! ولو تعلق التحريم هناك بالقدر المشترك -
أعني مفهوم أحدهما - لحرمتا جميعا، ضرورة استلزام وجود الأخص وجود
الأعم، إذ لا يعقل تحقق فرد من نوع وحصول جزئي من كلي من دون تحقق ذلك
النوع وحصول ذلك الكلي المشترك. وظاهر الشهيد اختيار ذلك.
والذي يقتضيه التدبر في المقام أن يقال: إن النهي المتعلق بالطبيعة قد يراد به
عدم إدخال تلك الطبيعة في الوجود أصلا، فيكون كالنكرة الواقعة في سياق النفي
مفيدا لعموم المنع.
وقد يراد به عدم إدخال تلك الطبيعة في الوجود في الجملة، فيحصل الامتثال
بمجرد حصول الترك ولو بتركه في بعض الأفراد، كما هو الحال في الأمر. وسنبين
كون استعمال النهي حقيقة على الوجهين وإن كان ظاهر إطلاقه منصرفا إلى الأول
وعلى هذا فتعلق النهي بمفهوم أحدهما على الوجه الثاني لا يستلزم إلا حرمة
واحد منهما وتحصيل امتثاله بترك أحدهما.
فما ذكر من استلزام تحريم الطبيعة تحريم جميع أفرادها إنما يتم في الصورة
الأولى دون غيرها، فإذا تعلق الطلب بترك أحد الفعلين على الوجه الذي ذكرناه
كان ترك أي منهما كافيا في تحقق الامتثال، وقضية ذلك حرمة الجمع بين الفعلين
المذكورين، لا تحريم كل منهما على وجه التخيير على ما هو الشأن في الواجب،
فإن تعلق الوجوب بأحدهما يقتضي وجوب كل منهما على وجه التخيير بينهما
حسب ما مر بيانه، بخلاف ما إذا تعلق التحريم بأحدهما فلا مفسدة حينئذ في
الإتيان بكل من الفعلين المذكورين لو خلي عن ملاحظة وجود الآخر معه،
320

بخلاف الواجب المخير لحصول المصلحة في فعل كل منهما مع قطع النظر عن
الآخر. غاية الأمر أن تلك المصلحة كما تحصل بفعل أحدهما كذا يحصل بفعل
الآخر أيضا، فيكتفي في جلبها بفعل أحدهما، ولا كذلك الحال في المقام، إذ لا
مفسدة في فعل أحدهما، وإنما المفسدة في الإتيان بهما.
وبالجملة: أن المفسدة الحاصلة في المقام إما أن تتفرع على خصوص كل من
الفعلين، أو خصوص أحدهما، أو مفهوم أحدهما الجامع بينهما، أو الجمع بينهما، لا
سبيل إلى شئ من الوجوه الثلاثة الأول، وإلا لكانا محرمين معا، أو اختص
التحريم بأحدهما دون الآخر، فتعين الرابع.
فقضية تحريم أحد الفعلين على الوجه المذكور تحريم الجمع بينهما، كما أن
قضية وجوب أحدهما وجوب كل منهما على سبيل التخيير بينهما، فإن أراد
الجماعة من جواز تعلق التحريم بأحد الشيئين أو الأشياء ما ذكرناه فلا كلام معهم،
والظاهر أنه لا مجال لتوهم مانع فيه. وإن أرادوا كون الحرمة المتعلقة بأحدها على
نحو الوجوب المتعلق به فهو غير متجه، كما عرفت.
والحاصل: أنه لا ينبغي التأمل في جواز تعلق النهي بأحد الشيئين كما يجوز
تعلق الأمر به، إلا أن المحصل من تعلق النهي به هو حرمة الجمع بين ذينك
الأمرين، من غير أن يتعلق التحريم بكل واحد منهما، بخلاف ما إذا تعلق الأمر به
فإن المتحصل منه هو وجوب كل منهما على سبيل التخيير حسب ما عرفت.
* * *
321

معالم الدين:
أصل
الأمر بالفعل في وقت يفضل عنه جائز عقلا، واقع على الأصح.
ويعبر عنه بالواجب الموسع، كصلاة الظهر مثلا. وبه قال أكثر
الأصحاب، كالمرتضى، والشيخ، والمحقق، والعلامة، وجمهور
المحققين من العامة.
وأنكر ذلك قوم، لظنهم أنه يؤدي إلى جواز ترك الواجب. ثم إنهم
افترقوا على ثلاثة مذاهب.
أحدها: أن الوجوب فيما ورد من الأوامر التي ظاهرها ذلك،
مختص بأول الوقت. وهو الظاهر من كلام المفيد (رحمه الله) على ما ذكره
العلامة.
وثانيها: أنه مختص بآخر الوقت، ولكن لو فعل في أوله كان جاريا
مجرى تقديم الزكاة، فيكون نفلا يسقط به الفرض.
وثالثها: أنه مختص بالآخر، وإذا فعل في الأول وقع مراعى، فإن
بقي المكلف على صفات التكليف تبين أن ما أتى به كان واجبا، وإن
خرج عن صفات المكلفين كان نفلا. وهذان القولان لم يذهب إليهما
أحد من طائفتنا، وإنما هما لبعض العامة.
323

والحق تساوي جميع أجزاء الوقت في الوجوب، بمعنى أن
للمكلف الإتيان به في أول الوقت، ووسطه، وآخره، وفي أي جزء اتفق
إيقاعه كان واجبا بالأصالة، من غير فرق بين بقائه على صفة التكليف،
وعدمه. ففي الحقيقة يكون راجعا إلى الواجب المخير.
وهل يجب البدل؟ وهو العزم على أداء الفعل في ثاني الحال، إذا
أخره عن أول الوقت ووسطه. قال السيد المرتضى: نعم. واختاره
الشيخ (رحمه الله) على ما حكاه المحقق عنه، وتبعهما السيد أبو المكارم ابن
زهرة، والقاضي سعد الدين بن البراج، وجماعة من المعتزلة.
والأكثرون على عدم الوجوب، ومنهم المحقق والعلامة (رحمهما الله) وهو
الأقرب.
فيحصل مما اخترناه في المقام دعويان.
لنا على الأولى منهما: أن الوجوب مستفاد من الأمر، وهو مقيد
بجميع الوقت. لأن الكلام فيما هو كذلك. وليس المراد تطبيق أجزاء
الفعل على أجزاء الوقت، بأن يكون الجزء الأول من الفعل منطبقا
على الجزء الأول من الوقت، والأخير على الأخير، فإن ذلك باطل
إجماعا. ولا تكراره في أجزائه، بأن يأتي بالفعل في كل جزء يسعه من
أجزاء الوقت. وليس في الأمر تعرض لتخصيصه بأول الوقت أو آخره
ولا بجزء من أجزائه المعينة قطعا، بل ظاهره ينفي التخصيص ضرورة
دلالته على تساوي نسبة الفعل إلى أجزاء الوقت. فيكون القول
بالتخصيص بالأول أو الآخر تحكما باطلا. وتعين القول بوجوبه على
التخيير في أجزاء الوقت. ففي أي جزء أداه فقد أداه في وقته.
وأيضا: لو كان الوجوب مختصا بجزء معين، فإن كان آخر الوقت،
كان المصلي للظهر مثلا في غيره مقدما لصلاته على الوقت، فلا تصح،
324

كما لو صلاها قبل الزوال. وإن كان أوله، كان المصلي في غيره قاضيا،
فيكون بتأخيره له عن وقته عاصيا، كما لو أخر إلى وقت العصر، وهما
خلاف الاجماع.
ولنا على الثانية: أن الأمر ورد بالفعل، وليس فيه تعرض للتخيير
بينه وبين العزم، بل ظاهره ينفي التخيير، ضرورة كونه دالا على وجوب
الفعل بعينه. ولم يقم على وجوب العزم دليل غيره، فيكون القول به
أيضا تحكما، كتخصيص الوجوب بجزء معين.
احتجوا لوجوب العزم: بأنه لو جاز ترك الفعل في أول الوقت أو
وسطه، من غير بدل، لم ينفصل عن المندوب، فلا بد من إيجاب البدل
ليحصل التمييز بينهما. وحيث يجب، فليس هو غير العزم، للإجماع
على عدم بدلية غيره. وبأنه ثبت في الفعل والعزم حكم خصال
الكفارة، وهو أنه لو أتى بأحدهما أجزأ، ولو أخل بهما عصى، وذلك
معنى وجوب أحدهما، فيثبت.
والجواب عن الأول: أن الانفصال عن المندوب ظاهر مما مر، فإن
أجزاء الوقت في الواجب الموسع باعتبار تعلق الأمر بكل واحد منها
على سبيل التخيير تجري مجرى الواجب المخير. ففي أي جزء اتفق
إيقاع الفعل فهو قائم مقام إيقاعه في الأجزاء البواقي. فكما أن حصول
الامتثال في المخير بفعل واحدة من الخصال لا يخرج ما عداها عن
وصف الوجوب التخييري، كذلك إيقاع الفعل في الجزء الأوسط أو
الأخير من الوقت في الموسع لا يخرج إيقاعه في الأول منه مثلا عن
وصف الوجوب الموسع، وذلك ظاهر. بخلاف المندوب، فإنه لا يقوم
مقامه حيث يترك شئ. وهذا كاف في الانفصال.
وعن الثاني: أنا نقطع بأن الفاعل للصلاة مثلا ممتثل باعتبار كونها
325

صلاة بخصوصها، لا لكونها أحد الأمرين الواجبين تخييرا، أعني:
الفعل والعزم، فلو كان ثمة تخيير بينهما، لكان الامتثال بها من حيث إنها
أحدهما، على ما هو مقرر في الواجب التخييري. وأيضا، فالإثم
الحاصل على الإخلال بالعزم - على تقدير تسليمه - ليس لكون
المكلف مخيرا بينه وبين الصلاة، حتى يكونا كخصال الكفارة، بل لأن
العزم على فعل كل واجب - إجمالا، حيث يكون الالتفات إليه بطريق
الاجمال، وتفصيلا عند كونه متذكرا له بخصوصه - حكم من أحكام
الإيمان يثبت مع ثبوت الإيمان، سواء دخل وقت الواجب أو لم
يدخل. فهو واجب مستمر عند الالتفات إلى الواجبات إجمالا أو
تفصيلا. فليس وجوبه على سبيل التخيير بينه وبين الصلاة.
واعلم: أن بعض الأصحاب توقف في وجوب العزم، على الوجه
الذي ذكر. وله وجه، وإن كان الحكم به متكررا في كلامهم، وربما
استدل له بتحريم العزم على ترك الواجب، لكونه عزما على الحرام،
فيجب العزم على الفعل، لعدم انفكاك المكلف من هذين العزمين،
حيث لا يكون غافلا، ومع الغفلة لا يكون مكلفا. وهو كما ترى.
حجة من خص الوجوب بأول الوقت: أن الفضلة في الوقت
ممتنعة، لأدائها إلى جواز ترك الواجب، فيخرج عن كونه واجبا.
وحينئذ فاللازم صرف الأمر إلى جزء معين من الوقت، فإما الأول أو
الأخير، لانتفاء القول بالواسطة. ولو كان هو الأخير، لما خرج عن
العهدة بأدائه في الأول. وهو باطل إجماعا، فتعين أن يكون هو الأول.
والجواب: أما عن امتناع الفضلة في الوقت، فقد اتضح مما حققناه
آنفا، فلا نطيل بإعادته. وأما عن تخصص الوجوب بالأول، فبأنه لو تم
لما جاز تأخيره عنه، وهو باطل أيضا، كما تقدمت الإشارة إليه.
326

واحتج من علق الوجوب بآخر الوقت: بأنه لو كان واجبا في الأول
لعصى بتأخيره، لأنه ترك للواجب، وهو الفعل في الأول، لكن التالي
باطل بالإجماع، فكذا المقدم.
وجوابه: منع الملازمة، والسند ظاهر مما تقدم، فإن اللزوم المدعى
إنما يتم لو كان الفعل في الأول واجبا على التعيين. وليس كذلك، بل
وجوبه على سبيل التخيير. وذلك أن الله تعالى أوجب عليه إيقاع الفعل
في ذلك الوقت، ومنعه من إخلائه عنه، وسوغ له الإتيان به في أي جزء
شاء منه. فإن اختار المكلف إيقاعه في أوله أو وسطه أو آخره، فقد فعل
الواجب.
وكما أن جميع الخصال في الواجب المخير بالوجوب، على معنى
أنه لا يجوز الاخلال بالجميع ولا يجب الإتيان بالجميع، بل للمكلف
اختيار ما شاء منها، فكذا هنا لا يجب عليها إيقاع الفعل في الجميع، ولا
يجوز له إخلاء الجميع عنه. والتعيين مفوض إليه ما دام الوقت متسعا،
فإذا تضيق تعين عليه الفعل.
وينبغي أن يعلم: أن بين التخيير في الموضعين فرقا، من حيث إن
متعلقه في الخصال الجزئيات المتخالفة الحقائق، وفيما نحن فيه
الجزئيات المتفقة الحقيقة، فإن الصلاة المؤداة مثلا في جزء من أجزاء
الوقت مثل المؤداة في كل جزء من الأجزاء الباقية، والمكلف مخير
بين هذه الأشخاص المتخالفة بتشخصاتها، المتماثلة بالحقيقة. وقيل:
بل الفرق أن التخيير هناك بين جزئيات الفعل وهاهنا في أجزاء الوقت.
والأمر سهل.
327

قوله: * (الأمر بالفعل في وقت يفضل عنه... الخ) *.
الواجب بالنسبة إلى الزمان الذي يقع فيه على وجهين:
أحدهما: غير الموقت، وهو أن لا يلحظ له زمان مخصوص لأدائه لا يجوز
تقديمه ولا تأخيره عنه، بل إنما يلحظ نفس الفعل ويراد إيقاعه من المكلف،
وحينئذ: فإما أن يتعلق التكليف به على وجه الفور والتعجيل كالحج، أو من دون
اعتباره، كقضاء الفوائت على المشهور، والنذر المطلق، ولا إشكال في شئ منهما.
أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلكون المكلف به هو مطلق الطبيعة والمنع من الترك
حاصل بالنسبة إليه وربما يقال بجريان الإشكال الآتي فيه أيضا.
ثانيهما: الموقت، وهو ما عين له وقت مخصوص، ثم الفعل بالنسبة إلى وقته
المضروب له لا يخلو عن وجوه ثلاثة، فإنه: إما أن يكون الفعل زائدا على وقته، أو
مساويا له، أو ناقصا عنه.
لا إشكال على ما نص إليه جماعة منهم على امتناع الأول بناء على امتناع
التكليف بما لا يطاق. وفي النهاية: أنه لا نزاع فيه.
هذا إذا أريد إيقاع تمام الفعل في الوقت المفروض. وأما إذا أريد إيقاع بعضه
فيه وإتمامه فيما بعد ذلك فلا مانع منه، كما ورد " أن من أدرك ركعة من الوقت كان
كمن أدرك الوقت " (1)، فهو وقت مضروب لإيقاع بعض الفعل، أو أن ما بعد ذلك
الوقت مما يسع الفعل من وقت مضروب له ملحق بالوقت المضروب له، أو لا.
وكيف كان فهو يندرج في الموقت، لاعتبار الوقت فيه في الجملة.
ولا إشكال أيضا في جواز الثاني ووقوعه من غير خلاف فيه. وقد صرح
جماعة منهم الفاضلان بالإجماع على جوازه. ونص جماعة منهم الشيخ والعلامة
والسيد العميدي بنفي الخلاف عنه أو الاتفاق على جوازه. وفي النهاية وغيره: أنه
لا نزاع في وقوعه.

(1) وسائل الشيعة: ج 3 باب 30 من أبواب المواقيت ص 158 ح 4، وفيه: " ومن أدرك ركعة
من الصلاة فقد أدرك الصلاة ".
328

هذا إذا كان الواجب أمرا مستمرا، سواء كان وجوديا أو عدميا كالصوم.
وأما إذا كان مركبا ذا أجزاء كالصلاة وأريد تطبيق الفعل على أجزاء الوقت حقيقة
بحيث لا يتقدم عليه شئ من أجزائه ولا يتأخر عنه فهو مشكل، بل الظاهر
امتناعه بحسب العادة، وعلى فرض إمكانه فالعلم به مستحيل بحسب العادة، وما
هذا شأنه لا يصح التكليف به. فما ذكر من الاتفاق على الجواز والوقوع إنما يراد
به حصول ذلك في الجملة، أو المراد (1) المساواة العرفية دون الحقيقة، فلا ينافيه
زيادة الوقت من أوله وآخره بمقدار يسير يعتبر في تحصيل اليقين بإيقاع الفعل
في الوقت.
وأما الثالث فقد اختلفوا فيه على قولين بعد اتفاقهم على ورود ما ظاهره
التوسعة في الشريعة:
أحدهما: الجواز والوقوع، وهو مختار المحققين، بل لا يعرف فيه مخالف من
الأصحاب سوى ما يعزى إلى ظاهر المفيد، وحسب ما حكاه العلامة في المختلف
وأشار إليه المصنف (رحمه الله). وذكر الفاضل الصالح: أنه الحق عندنا وعند كثير ممن
خالفنا، وهو يومئ بإطباق الخاصة عليه. وقال الفاضل الجواد: إنه المشهور، وعليه
الجمهور.
وثانيهما: المنع من جوازه، وعزاه في المبادئ إلى من لا تحقيق له، وفي
النهاية إلى أبي الحسن الكرخي وجماعة من الأشاعرة وجماعة من الحنفية،
واستظهره المصنف من كلام المفيد على ما حكاه العلامة، لكن ما عزاه الشيخ
إليه إنما هو بالنسبة إلى الصلاة، فإنكاره لمطلق الموسع مع ما فيه من البعد غير
ظاهر. وكيف كان فمنشأ الخلاف في ذلك ما أشرنا إليه في الواجب المخير،
وقد نبه عليه المصنف بقوله: " لظنهم أنه يؤدي إلى ترك الواجب " وستعرف دفعه
إن شاء الله تعالى.

(1) في (ف) ونسخة: إذ المراد.
329

قوله: * (مختص بأول الوقت) *.
فسره بعضهم بالجزء الأول الذي يساوي الفعل، وقد عرفت ما فيه من
الإشكال، إلا أن يكون المراد المساواة العرفية كما أشرنا إليه. أو يقال: إنه لما لم
يكن مانع من التأخير نظرا إلى انتفاء العقوبة فيه جاز التحديد على الوجه المذكور،
وفيه تأمل.
وقد حكي القول المذكور أيضا عن جماعة من الأشاعرة وبعض الحنفية وقوم
من الشافعية.
ثم إن قضية القول المذكور صيرورة الفعل قضاء بالتأخير. وقد حكاه في
النهاية صريحا عن القائل بهذا القول، والظاهر أنهم لا يقولون إذن بثبوت العقاب،
وإلا لم يكن فرق بين الوقت المفروض وغيره، مع أن الظاهر قيام الاجماع من
الكل على الفرق كما أنه قضية النص.
قوله: * (ليكون نفلا يسقط به الفرض) *.
حكاه في النهاية عن جماعة من الحنفية، ونص في المختلف بأنه لا يعرف به
قائلا من أصحابنا كما سيصرح به المصنف، وعلى هذا القول يكون إسقاطه الفرض
مراعى ببقائه على صفات التكليف في الآخر، فلو لم يبق على صفات التكليف لم
يتعلق الوجوب به أصلا حتى يسقط الفرض بما فعله في الأول.
قوله: * (وإذا فعل في الأول وقع مراعى... الخ) *.
أورد عليه: بأن ما حكم به أولا من اختصاص الوجوب بالآخر لا يلائم وقوع
الفعل في الأول مراعى، إذ قضية ذلك وجوب الفعل الواقع أولا إذا استجمع في
الآخر شرائط التكليف فلا يختص الوجوب بالآخر.
وقد يجاب عنه بوجوه:
أحدها: أن مراده باختصاص الوجوب بالآخر أن استحقاقه العقاب بالترك
إنما هو بالنسبة إلى الآخر، لوضوح عدم ترتب العقاب على مجرد الترك في الأول
والوسط.
330

ويوهنه: أن ذلك تعليل لاختصاص الوجوب بالآخر، فهو إنما يوافق المذهب
السابق من كون الفعل الواقع أولا نفلا يسقط به الفرض دون هذا القول، فلا يتم به
الجمع بين الحكمين المذكورين في كلامه ليندفع به التدافع الملحوظ في الإيراد.
ويمكن أن يقال: إن المقصود في الجواب أن مطلق الوجوب لا يستلزم
استحقاق العقاب بالترك مطلقا، وإنما يتفرع استحقاق العقاب فعلا على ترك بعض
أفراده، فأراد باختصاص الوجوب بالآخر هو الوجوب الذي يتفرع عليه
استحقاق العقاب بالترك مطلقا على ما هو الشائع في تفسيره، ووجوبه في الأول
مع استجماعه لشرائط التكليف في الآخر هو الوجوب على ما يقتضيه التحقيق في
تفسيره.
ولا يخفى ما فيه من التعسف، مضافا إلى فساده في نفسه، فإن نسبة استحقاق
العقاب إلى الترك في الأول والآخر على نحو واحد، فإن الترك في الآخر مع الفعل
في الأول لا يقضي باستحقاق العقاب، كما أن الترك في الأول مع الفعل في الآخر
لا يقتضيه، ولو حصل الترك فيهما كان نسبة الذم واستحقاق العقاب إليهما على
نحو سواء.
ثانيها: أنه إنما يقول باختصاص الوجوب بالآخر مع عدم الإتيان به في
الأول إذا بقي على صفة التكليف في الآخر.
وأنت خبير بوهنه أيضا، إذ لا يستفاد ذلك من كلام القائل المذكور أصلا، بل
قضية كلامه كون إدراكه الوقت الآخر مجامعا لشرائط التكليف كاشفا عن وجوبه
في الأول كيف ولولا ذلك لما كان الفعل الصادر منه حينئذ واجبا، وقد نص على
انكشاف وجوبه بإدراك آخر الوقت كذلك. ومن البين أيضا أنه لا دخل لإتيان
المكلف بالفعل وعدمه في وجوبه وعدم وجوبه.
ثالثها: أنه لما كان البقاء إلى الآخر كاشفا عنده عن وجوبه في الأول عبر عن
ذلك بكون الوجوب مختصا بالآخر تجوزا حيث إنه يحققه، وهذا الوجه وإن كان
بعيدا عن ظاهر اللفظ إلا أنه لا مناص عن الحمل عليه في مقام الجمع. هذا إذا
331

صرح القائل المذكور باختصاص الوجوب بالآخر حسب ما حكاه المصنف
موافقا لما في الإحكام.
وأما ما ذكره العلامة في النهاية فهو خال عن ذلك. قال عند ذكر قول الكرخي
على ما هو المشهور عنه: إن الصلاة المفعولة في أول الوقت موقوفة، فإن أدرك
المصلي آخر الوقت وهو على صفة المكلفين كان ما فعله واجبا، وإن لم يبق على
صفات المكلفين كان نفلا، وهذا كما ترى لا إشارة فيه إلى اختصاص الوجوب
بالآخر، وقد حكاه عنه كذلك في التهذيب ومنية اللبيب وغيرهما من غير إشارة
إلى حكمه باختصاص الوجوب بالآخر، بل جعلوه مقابلا للقول بالاختصاص
بالآخر.
وعزى الغزالي في المستصفى القول به كذلك إلى قوم، وكان هناك اضطرابا
في تعبيره قد قضى باضطراب النقل عنه، كما يستفاد من العدة عند نقل قوله، حيث
أسند إليه اختصاص الوجوب بالآخر وكون فعله في الأول نفلا، قال: وربما نماه
موقوفا على أن يأتي عليه الوقت الآخر وهو على الصفة التي يجب عليه معها فعل
الصلاة ويخرج الوقت، فيحكم بالوجوب، ومع تسميته نفلا يكون قد أجزأت
عن الواجب.
وما حكاه عنه أخيرا هو القول الذي ذكره المصنف هنا، ويمكن حمله على
إرادة الأول، فإنه لما كان مما يسقط به الفرض سماه واجبا، نظرا إلى قيامه مقامه،
فيحصل بذلك الجمع بين كلاميه، ولا يساعده حكاية المصنف، ولا يصح حينئذ
عده قولا آخر إلا أن يكون القول المنقول هنا لغيره.
وكيف كان فمع البناء على وقوع الفعل مراعى في الأول لا يكون القول
المذكور إنكارا للواجب الموسع، ضرورة كون الفعل حينئذ واجبا في تمام الوقت
إذا أدرك آخر الوقت مستجمعا للشرائط، وإلا لم يكن واجبا بالنسبة إليه، وكان
الحامل له على ذلك شبهة أخرى غير الشبهة المذكورة في الواجب الموسع،
وهي: أنه لو خرج عن صفات المكلفين فجأة بعد دخول الوقت لم يتحقق عصيان
332

في شأنه، فجاز له الترك لا إلى بدل، وهو لا يجامع الوجوب، وهذا بخلاف ما لو
كان على صفات المكلفين في الآخر، لعدم جواز تركه إذن في شئ من أجزاء
الوقت مطلقا، بل إنما يجوز ذلك إلى بدل، وهو لا ينافي الوجوب، ومنه يعلم أن
اعتباره البقاء على صفات المكلفين في الآخر إنما هو في غير من ظن الفوات قبل
بلوغ الآخر. وأما بالنسبة إليه فلا ريب في وجوب الفعل عنده عند ذلك. هذا، وقد
حكى عنه قولان آخران:
أحدهما: ما حكاه عنه أبو الحسين البصري، وقال: إنه أشبه من الحكاية
الأولى، وهو: أنه إن أدرك المصلي آخر الوقت وهو على صفة المكلفين كان ما
فعله مسقطا للفرض، وهو بعينه القول المتقدم، ويوافق ما حكاه الشيخ أولا.
ثانيهما: ما حكاه عنه أبو بكر الرازي من أن الصلاة يتعين وجوبها بأحد
الشيئين: إما بأن يفعل، أو بأن يتضيق وقتها ويشارك هذان الوجهان ما مر من
الوجه المتقدم في كون إدراك آخر الوقت معتبرا في الجملة في وجوب الفعل وإن
اختلف الحال فيه على حسب اختلافها.
قوله: * (ففي الحقيقة يكون راجعا إلى الواجب المخير) *.
كلامه هذا - كما سنشير إليه بعد ذلك - يومئ إلى كون الواجب الموسع من
قبيل الواجب المخير، غاية الأمر أن التخيير هناك بين الأفعال المختلفة بالحقيقة
وهنا بين الأفعال المتفقة في الحقيقة المختلفة بحسب الزمان، كما سيصرح به،
فيكون المكلف مخيرا بين الإتيان بالفعل في أول الوقت ووسطه وآخره، ويكون
الأمر متعلقا بكل من تلك الأفعال أصالة على الوجه المذكور، ففي أي جزء أتى
بالفعل فقد أتى بما يجب عليه بالأصالة، كما أنه إذا أتى بأحد الأفعال الواجبة
تخييرا كان آتيا بواجب أصلي، نظرا إلى تعلق الأمر بخصوص كل منها على وجه
التخيير، فيكون ذلك هو المراد بقوله: " ففي أي جزء اتفق إيقاعه فيه كان واجبا
بالأصالة " يعني أنه لما تعلق الأمر به بحسب أجزاء الوقت على سبيل التخيير كان
الإتيان به في أي جزء كان من أجزائه إتيانا لما يجب عليه أصالة، نظرا إلى تعلق
الأمر به كذلك على نحو الواجب المخير.
333

فيندفع حينئذ بهذا التقرير ما يتوهم من المنافاة بين الوجوب وجواز الترك، إذ
ليس الواجب هناك شيئا واحدا حتى يتخيل جواز تركه في أول الوقت ووسطه،
بل الواجب أفعال عديدة على سبيل التخيير بينها، وجواز تركه حينئذ في الأول
والوسط إنما هو من جهة التخيير المتعلق به، وهو لا ينافي الوجوب كما مر في
الواجب المخير.
وأنت خبير بما فيه، إذ لا وجه للقول بتعلق الأمر أصالة بخصوص كل واحد
من تلك الأفعال على سبيل التخيير، ليكون الواجب الموسع واجبا مخيرا على
الوجه المذكور، ويكون الفرق بينه وبين غيره من الواجبات التخييرية مجرد ما
ذكر، بل الحق عدم تعلق الأمر هنا أصالة بخصوص إيقاع الفعل في شئ من أجزاء
الوقت، وإنما الواجب بالأصالة هنا فعل واحد، وهو الطبيعة المتعلقة للأمر المقيدة
بعدم خروجه عن الزمان المفروض.
وتوضيح المقام: أنه إذا تعلق الأمر بطبيعة على وجه الإطلاق كان الواجب هو
أداء تلك الطبيعة في أي وقت كان من غير أن يتعلق وجوبه بخصوص وقت من
الأوقات، فنفس الطبيعة متصفة بالوجوب متعلقة للمنع من الترك بملاحظة ذاتها،
مع قطع النظر عن خصوصيات الأوقات، من غير أن يكون خصوص إيقاعها في
كل من تلك الأوقات الخاصة واجبا بالأصالة، لعدم تعلق الأمر بشئ منها، وإنما
هي واجب لتوقف وجود (1) الفعل على الزمان، أو لكونه من لوازم وجوده، فالأمر
المتعلق بالطبيعة إنما يقتضي وجوب تلك الطبيعة بالأصالة، وإنما يجب
خصوصيات الأفراد المندرجة تحتها تبعا على سبيل التخيير لما ذكر، ولا يقضي
ذلك بكون الفعل المتقيد بتلك الخصوصية واجبا بالتبع ومن باب المقدمة، نظرا إلى
تعلق الأمر أصالة بنفس الفعل، وكون الفعل متحد مع الخصوصية بحسب الخارج،
ضرورة كون الماهية والتشخص متحدين بحسب الوجود، وإنما يتعددان في
تحليل العقل.

(1) في (ف): واجبة بالتبع لتوقف وجود. وفي نسخة أخرى: واجب بالتوقف ووجود.
334

فالفعل الخاص الصادر من المكلف من حيث انطباقه على الطبيعة المطلقة
المتعلقة للأمر أصالة يكون واجبا أصليا، ومن جهة خصوصيته المنضمة إلى تلك
الطبيعة يكون واجبا بالتبع بملاحظة الغير، فالتخيير الحاصل بين أفراد الواجب
تخيير تبعي حاصل من الجهة المذكورة، وهي غير جهة الأمر المتعلق أصالة
بالطبيعة المفروضة، فكون كل من تلك الأفعال واجبا أصليا من جهة اتحادها مع
الطبيعة المطلقة لا ينافي كونها واجبة بالتبع من جهة الخصوصية الملحوظة فيها،
وهي من الجهة الأولى لا تخيير فيها، إذ المفروض اتحاد الطبيعة وعدم حصول
بدل عنها. ومن الجهة الثانية يتخير المكلف بينها، ولا أمر يتعلق بها أصالة من الجهة
المذكورة.
إذا تقرر ذلك فنقول بجريان ذلك بعينه في الواجب الموسع، غير أن بينهما
فرقا من جهة عدم ملاحظة الزمان في الأول أصلا. وهنا قد لوحظ عدم خروج
الفعل عن حدي الزمان المفروض. ومن البين أن ذلك لا يقضي بتعلق الأمر أصالة
بإيقاع الفعل في خصوصيات أبعاض الزمان والمفروض ولو على سبيل التخيير.
كما أنه لا يقضي تعلق الأمر بالطبيعة المطلقة بتعلقه أصالة بخصوصيات الأفراد
الخاصة.
نعم، هنا وجوب تبعي تخييري متعلق بتلك الخصوصيات حسب ما ذكرناه،
ولا دخل له بوجوب نفس الفعل الملحوظ في المقام.
فالتحقيق أن يقال: إنه لا مانع من تعلق الوجوب بالفعل في الزمان الذي يزيد
عليه من غير حاجة إلى إرجاعه إلى الوجوب التخييري وجعل كل من الآحاد
بدلا عن الآخر، إذ بعد تعلق الأمر بالطبيعة في الزمان المتسع يكون الواجب هو
إيجاد تلك الطبيعة في الزمان المضروب له بحيث لا يجوز تركه في جميع ذلك
الزمان وإن جاز الترك في خصوص أبعاضه، من غير فرق بين أوله ووسطه وآخره.
كيف؟ ومن الواضح جواز تعلق الأمر بالطبيعة المطلقة من غير تقييد بزمان،
فيكون الواجب حينئذ نفس تلك الطبيعة، ففي أي زمان أوجدها المكلف يكون
335

واجبا، نظرا إلى حصول الطبيعة به فكذا الحال في الموسع، بل هو أوضح حالا منه
لتقييد الوجوب فيه بالزمان المعين حيث لا يجوز تقديمه عليه ولا تأخره عنه،
ففيه تضييق لدائرة اتحاد الواجب لا توسع فيه بالنسبة إلى الواجبات المطلقة.
واتصاف الفعل بجواز الترك في خصوص أبعاض ذلك الزمان لا ينافي وجوب
نفس الطبيعة وعدم جواز تركها بملاحظة ذاتها، لما تقرر من عدم تعلق الوجوب
المتعلق بالطبيعة بشئ من أفرادها بالنظر إلى الخصوصية المتحدة بها.
غاية الأمر أن تكون الأفراد واجبة بملاحظة اتحادها مع الطبيعة، وذلك لا
يقضي بتعلق الوجوب أصالة بشئ من خصوصياتها. نعم، تتصف تلك
الخصوصيات بالوجوب اتصافا عرضيا، نظرا إلى اتحادها مع الواجب وعدم
إمكان انفكاك الواجب عن أحدها، بل ربما يقال باتصافها بالذات بوجوب غيري
تبعي تخييري، لكونها مقدمة لحصول الواجب، نظرا إلى توقف إيجاد الطبيعة على
حصولها، وفيه نظر ستجئ الإشارة إليه في المحل اللائق به.
وكيف كان فلا ربط للوجوب الملحوظ على أي من الوجهين المذكورين بما
نحن فيه، فإن الكلام في الوجوب الأصلي التعييني المتعلق بالطبيعة، ولا يعتريه
جواز ترك ولا تخيير، كما عرفت.
وإذا تبين أن جواز ترك كل من الأفراد غير مانع من اتصاف الطبيعة
بالوجوب فكذا جواز ترك الطبيعة في خصوص كل زمان لا يمنع من تعلق
الوجوب بنفس الطبيعة. كيف! وليس الزمان إلا خصوصية من الخصوصيات التي
يتقيد بها الفعل.
كما أن المكان والآلة والمتعلق ونحوها من جملة تلك الخصوصيات، فإن
الفعل لا يخلو عن أحد تلك القيودات، إذ لا يكون عدم وجوب خصوص واحد
منها على التعيين مانعا من تعلق الوجوب بالطبيعة، فيتخير المكلف بين الإتيان
بواحد من تلك الخصوصيات من غير تأمل لأحد، ولا إشكال، فكذا الحال في
المقام، إذ ليس زيادة الزمان بأعظم من زيادة المكان، ولا جواز ترك الفعل في
336

زمان خاص بأعظم من جواز ترك الفعل المتعلق بمتعلق خاص أو بآلة مخصوصة
مع عدم منافاة شئ من ذلك، لوجوب أصل الفعل، وعدم جواز تركه لا ينافي
جواز ترك كل من الخصوصيات المتحدة بالواجب المأخوذة في الفرد المتحد
بالطبيعة الحاصلة بحصوله.
وبتقرير آخر: وجوب أصل الفعل عينا وعدم جواز تركه من دون تخيير فيه
لا ينافي التخيير في أدائه والإتيان به، والتخيير الحاصل في هذه المقامات إنما هو
في تأدية الواجب، لا في أصله، فإن الواجب نفس الطبيعة المطلقة أو المقيدة، ولا
يجوز تركه ولا بدل له، إلا أن أداء ذلك الواجب يحصل بوجوه متعددة يتخير
المكلف بينها، وذلك هو ما ذكرناه من التخيير التبعي، وتلك الوجوه هي المطلوبة
تبعا على الوجه المذكور من حيث حصول الطبيعة الواجبة بكل منها، والإشكال
المذكور في المقام مبني على الخلط بين الأمرين وعدم التمييز بين اللحاظين.
قوله: * (وهل يجب البدل وهو العزم... الخ) *.
لا إشكال عند القائلين بحصول التوسعة في الواجبات الشرعية في جواز
تأخير الموسع عن أول الوقت ووسطه. كما أنه لا إشكال في تعيين الإتيان بنفس
الفعل في آخر الوقت وعدم الاكتفاء عنه بغيره، واختلفوا في جواز تركه لا إلى بدل
فيما عدا الوقت الأخير، فقيل بعدم جواز تركه في شئ من أجزاء الوقت إلا إلى
بدل ينوب منابه وهو العزم على الفعل فيما بعد، فيتخير المكلف بينه وبين الفعل إلى
أن يتضيق الوقت فيتعين الفعل، وقيل بجواز تركه في خصوصيات تلك الأوقات
من غير بدل وهو كما مرت الإشارة إلى وجهه وسيجئ تفصيل القول فيه.
قوله: * (وتبعه السيد أبو المكارم) *.
وقد اختار ذلك شيخنا البهائي، وتبعه تلميذه الفاضل الجواد. وحكي القول به
عن الجبائين، وعزاه الفاضل الجواد إلى أكثر أصحابنا. واضطربت كلماتهم في
بيان ما يقع العزم المذكور بدلا عنه. فظاهر السيد المرتضى أن العزم المذكور إنما
يقع بدلا عن نفس الفعل، ولذا أنكر كون الإتيان بالبدل قاضيا بسقوط المبدل،
وذكر أن الأبدال في الشرع على وجهين:
337

فمنها: ما يسقط المبدل بحصوله.
ومنها: ما لا يسقط به، كما هو الحال في التيمم بالنسبة إلى الوضوء والغسل
فإنه مع كونه بدلا لا يسقط به التكليف بمبدله، بل يتعين الإتيان به أيضا عند
التمكن منه.
ويظهر من كلام بعضهم أنه بدل عن خصوص الأفعال التي يقع العزم المذكور
موقعها، فالعزم على الفعل في الزمان الثاني بدل عن الفعل في الزمان الأول،
والعزم عليه في الثالث بدل عن الفعل في الثاني، وهكذا.
وقيل بكون العزم بدلا عن خصوص الإيقاعات دون نفس الفعل، فيحتمل أن
يراد به خصوص الأفعال الخاصة، فيرجع إلى الوجه المتقدم، أو الخصوصيات
المنضمة إلى نفس الفعل عند إيجاده في خصوص الأزمنة المفروضة دون نفس
الفعل، كما هو الظاهر من العبارة.
وربما يقال بكون العزم جزءا من البدل، وأن بدل الفعل في أول الوقت هو
العزم على الفعل في ثانيه مع أداء الفعل فيه، ثم العزم على الفعل في ثالثه مع الفعل
فيه بدل من الفعل في ثاني الوقت، وهكذا، فيكون الفعل في آخر الوقت مع ما تقدم
عليه من العزم على الفعل في ثاني الحال وثالثه إلى آخر الوقت بدلا عن الفعل في
الأول. وهذه الوجوه كلها ضعيفة غير جارية على القواعد.
أما ما ذكره السيد فظاهر، لوضوح قضاء البدلية بوقوعه مقام المبدل وقيامه
مقامه في معنى سقوطه بفعله، وليس التيمم بدلا عن الوضوء مطلقا حتى يسقط
بفعله، وإنما هو بدل منه في حال الاضطرار وقائم مقامه. ومن البين أنه لا وجوب
حينئذ للوضوء ولو سلم جواز عدم سقوط المبدل مع الإتيان بالبدل، فإنما هو
الأبدال الاضطرارية. وأما إذا كان البدل اختياريا كان المكلف مخيرا في الإتيان
بأحد الأمرين، فكيف! يعقل عدم سقوط التكليف مع الإتيان بأحدهما؟
وأما الوجه الثاني فلوضوح قيامه مقام ذلك الفعل الخاص - كما عرفت ذلك -
قاض أيضا بسقوط الواجب، لظهور كون الإتيان بالمبدل مسقطا للتكليف، كيف!
338

ومن البين أنه لا تكرار هناك في التكليف، بل ليس المكلف به إلا أداء الفعل مرة،
والمفروض قيام العزم مقامه فكيف! يصح القول ببقاء التكليف بعد الإتيان بما
ينوب منابه.
وأما الوجه الثالث فلأنه لا يكون العزم حينئذ بدلا عن الفعل الواجب، إذ
المفروض كونه بدلا من الخصوصيات المغايرة له، فيكون نفس الواجب خاليا عن
البدل، ومعه تبقى الشبهة القاضية ببدلية العزم على حالها، ولا يكون التزام بدلية
العزم على الوجه المذكور نافعا في المقام، ومعه لا يقوم دليل على ثبوت بدليته
على الوجه المذكور.
وأما الوجه الرابع ففيه مع مخالفته لظواهر كلماتهم: أنه إذا جعل الفعل في
ثاني الحال وثالثه - مثلا - بعضا من البدل، فأي مانع من كونه هو البدل من غير
حاجة إلى ضم العزم مضافا إلى بعده جدا من ظاهر الأمر، فإن الظاهر منه كون
الواجب نفس الطبيعة، إلا أن ذلك تمام المأمور به تارة، وبعضا منه أخرى.
والذي ينبغي أن يذهب إليه القائل ببدلية العزم أن يقول بحصول تكليفين في
المقام أحدهما يتعلق بالفعل، والآخر بالفورية والمبادرة في تحصيل تفريغ الذمة.
والتكليف الأول على سبيل التعيين من غير أن يثبت هناك بدل للواجب. والثاني
على سبيل التخيير بينه وبين العزم على أدائه فيما بعد ذلك بمعنى أنه يجب عليه
البدار إلى الفعل ما لم يأت به أو العزم على الإتيان به فيما بعده، وقضية ذلك
وجوب المبادرة إلى الفعل على الوجه المذكور في أول أوقات الإمكان ثم في
ثانيها ثم في ثالثها وهكذا ينحل التكليف الثاني إلى تكاليف عديدة. ويمكن أن
يتحقق مخالفات شتى بالنسبة إليه فيتعدد بحسب استحقاق العقوبة، وحينئذ لا يرد
عليه شئ من الإيرادات المذكورة، ولا يلزم أيضا خروج الواجب عن الوجوب
بالنسبة إلى شئ من التكليفين. أما الثاني فظاهر، وأما الأول فلأنه إنما يتسبب
ذلك من جواز التأخير من غير ترتب عصيان أصلا وليس الأمر هناك كذلك،
فإنه لا يجوز تأخيره عن أول أزمنة الإمكان وكذا ثانيها وثالثها مطلقا، بل إلى بدل
339

هو العزم على الفعل في الثاني والثالث وهكذا، وذلك كاف في انفصاله عن
المندوب على ما هو مناط الشبهة عندهم في التزامهم بما ذكروه من بدلية العزم.
قوله: * (والأكثرون... الخ) *.
عزى القول به إلى أبي الحسين البصري وفخر الدين، وعزاه في المنية إلى
أكثر المحققين، وقال أيضا: إنه أطبق المحققون على عدم وجوبه بدلا عنه.
قوله: * (فلأن الوجوب مستفاد من الأمر، وهو مقيد بجميع الوقت
... الخ) *.
قد أشار إلى هذه جماعة من الخاصة والعامة، فمن الخاصة: الشيخ في العدة،
والمحقق في المعارج، والعلامة في النهاية وغيره، والسيد العميدي في المنية،
وشيخنا البهائي، وتلميذه الفاضل الجواد، والفاضل الصالح وغيرهم. ومن العامة:
الآمدي في الإحكام، والحاجبي والعضدي في المختصر وشرحه، إلا أن في
كلامهم اختلافات في تقريره لا طائل في ذكره، ومحصل الاحتجاج الظاهر
التوقيت الوارد في الأدلة، فإنه لا شك في ورود التوقيت بما يزيد على مقدار أداء
الفعل. وغاية ما يتخيل فيه وجوه ثلاثة:
أحدها: إطالة الفعل بمقدار ما ضرب له من الوقت فينطبق عليه.
ثانيها: تكراره بمقدار الوقت.
ثالثها: الإتيان بالفعل في أي جزء شاء من ذلك الوقت من غير أن يقدمه عليه
أو يؤخره عنه، والوجهان الأولان باطلان بالإجماع، فيتعين الثالث وهو المدعى.
واحتمال اختصاصه بأول الوقت أو آخره مع خروجه عن ظاهر العبارة على ما
هو المناط في الاستدلال مدفوع، بأنه لا تعرض في الكلام لاختصاصه (1) حسب
ما قرروه. وحينئذ فللخصم دفع ذلك بما يدعيه من دلالة العقل على عدم جواز
زيادة الوقت على الفعل، لكن ستعرف وهنه. فالظاهر أنه حجة شرعية لا داعي

(1) في (ف): لاختصاصه به.
340

إلى العدول عنه، فالاحتجاج المذكور إنما يتم بعد ضم المقدمة المشتملة على
إبطال ما ذكره الخصم من لزوم اختصاص الوجوب ببعض أجزاء الوقت من
أوله وآخره، وإلا فمجرد ظهور الأمر في الشريعة في التوسعة ومساواة أجزاء
الوقت في تأدية الواجب مما لا مجال للخصم في إنكاره، فلا بد من ضم ما يبطل به
ما ادعاه الخصم من الباعث على الاختصاص إلى ذلك حتى يتم الاحتجاج،
بل هو العمدة في المقام.
وأنت خبير بأن الحجة المذكورة إنما تفيد ما اخترناه، فإن أقصى ما تفيده
العبارة هو وجوب الإتيان بالطبيعة في المدة المفروضة من غير إشعار بحصول
التخيير وتعلق الأمر أصالة بالفعل المفروض في خصوص كل جزء جزء من
الزمان المفروض على سبيل التخيير بينها حسب ما اختاره، ويجري ذلك في غير
هذا الوجه من الوجوه التي احتجوا بها حسب ما نشير إليها.
قوله: * (وليس في الأمر تعرض لتخصيصه... الخ) *.
يريد بذلك دفع اختصاصه ببعض أجزائه المعينة، فإنه إذا لم يكن في اللفظ
دلالة عليه - كما هو معلوم بالوجدان وبالاتفاق - كان قضية الأمر المعلق على
الوقت المفروض بعد ظهور بطلان الوجهين المتقدمين حصول الامتثال بأدائه في
أي جزء شاء.
قوله: * (بل ظاهره ينفي التخصيص... الخ) *.
ترقى عن دعوى عدم دلالته على التخصيص إلى دلالته على عدمه، فيتم
الاحتجاج حينئذ من وجهين.
قوله: * (فيكون القول بالتخصيص بالأول والآخر تحكما باطلا) *.
لعدم قيام دليل عليه في ظاهر اللفظ، ولا من الخارج، بل مخالفا لظاهر ما
يفيده اللفظ من مساواة الأجزاء حسب ما ادعاه أخيرا، ويمكن تعميم الحكم
للصورتين كما هو ظاهر البيان.
قوله: * (وأيضا لو كان الوجوب مختصا... الخ) *.
341

قد أشار إلى هذه الحجة في النهاية.
ويرد عليه: أن ما ذكره من الملازمة على تقدير اختصاص الوقت بالآخر
ممنوع، لإمكان كونه نفلا يسقط به الفرض، كما ذهب إليه القائل به. وما ذكر من
لزوم كونه عاصيا على تقدير اختصاصه بالأول غير واضح الفساد أيضا. ودعوى
الاجماع على فساده ممنوع، كيف! والقائل به قد يلتزم بذلك، إلا أنه يقول بالعفو،
فيكون ذلك هو الفارق بينه وبين غيره من المضيقات.
وقد يجاب عن ذلك بجعل ما ذكره بعضا من الدليل الأول، فيكون قوله:
" وأيضا... الخ " وجها آخر لإبطال دلالة اللفظ على الاختصاص بالأول أو
الأخير، فيكون قد استند في إبطاله أولا إلى دعوى الظهور وكون التخصيص
بأحدهما تحكما باطلا وثانيا إلى الدليل المذكور، فإنه لو كان في اللفظ دلالة على
اختصاصه بأحد الوقتين لزم أحد الأمرين: من التقديم القاضي بعدم الامتثال
وبقاء الاشتغال، وكون الفعل قضاء باعثا على ترتب العصيان لكونه قضاء عمديا
أخذا بظاهر ما يقتضيه اللفظ من تعين الإتيان به في وقته وعدم حصول الامتثال
به. نعم، لو قام دليل على الاجزاء بأحد الأمرين صح البناء عليه، وقضى بالخروج
عما يقتضيه ظاهر اللفظ، لكنه غير متحقق في المقام، كما ذكره الفاضل المدقق
في تعليقاته على الكتاب.
وأنت خبير بما فيه. أما أولا فلبعده جدا عن العبارة، إذ ليس فيها ما يفيد كون
المقصود إبطال دلالة اللفظ عليه، وظاهر العبارة بل صريحها هو دفع اختصاص
الوجوب واقعا بجزء معين، حسب ما يذهب إليه أحد الخصوم ويشير إليه: أن
العلامة (رحمه الله) جعل ذلك في النهاية حجة مستقلة على المقصود بحيث لا مجال في
كلامه للاحتمال المذكور.
وأما ثانيا فبأن عدم دلالة اللفظ على اختصاص الوجوب بالأول أو الآخر
واضح لا مجال لتوهم دلالة اللفظ عليه، ولذا قطع به في الحجة من غير أن يستدل
عليه، وفرع عليه كون الحكم بالاختصاص حينئذ تحكما باطلا فليس استناده
342

في إبطال دلالة اللفظ عليه إلى دعوى الظهور وكون التخصيص بأحدهما تحكما
كما ذكره المدقق المذكور، بل الأمر بالعكس، كيف! وإثبات عدم دلالة اللفظ عليه
بكونه تحكما غير معقول، فإنه إنما يكون تحكما إذا لم يكن في اللفظ دلالة عليه.
ومن الغريب أن الفاضل المذكور قد ادعى في تقرير الاحتجاج كون انتفاء
تقييد الأمر بجزء مخصوص أمرا ظاهرا، وحكى الاتفاق على عدم قيام دليل نقلي
من الخارج على الاختصاص، ومعه كيف يعقل تنزيل العبارة على الوجه المذكور؟
وأما ثالثا فبأن الإيراد المتقدم جار بالنسبة إلى التقرير المذكور أيضا، فإن
أريد بقوله: " وهما خلاف الاجماع " أن عدم صحة التقديم واقتضاءه العصيان
خلاف الاجماع فالملازمة في الأول وبطلان التالي في الثاني ممنوع. وإن أريد به
أن اقتضاء ظاهر الأمر ذلك خلاف الاجماع فالملازمة في المقامين مسلمة، لكن
بطلان التالي ممنوع، إذ لا مانع من القول باقتضاء ظاهره ذلك، إلا أنه قد قضى
الدليل الشرعي من الاجماع أو النص بخلافه، إذ لا يستريب أحد في جواز
التقديم وعدم ثبوت العقاب في التأخير.
هذا وقد استدل أيضا للقول المذكور بوجوه اخر:
منها: حصول العلم الضروري بجواز قول السيد لعبده: " خط هذا الثوب في
هذا الشهر ولا تؤخره عن ذلك الوقت، وفي أي وقت أتيت به من ذلك الشهر فقد
امتثلت أمري، ولو أخرته عنه عصيتني ". وهذا هو معنى الواجب الموسع، إذ لا
يعقل حينئذ كون الإيجاب مضيقا، ولا عدم إيجابه على العبد شيئا.
وقد يقال: إن التكليف المذكور ينحل إلى أمرين: وجوب الفعل على سبيل
التضييق في آخر أوقات الإمكان، واستحباب الإتيان به في أوله بحيث يكون
مسقطا للتكليف به في الآخر. غاية الأمر أنه خلاف ظاهر الإطلاق، ولا كلام
للخصم في الخروج عن ظاهر الإطلاق، وإنما التزمه لما زعمه من حكم العقل،
ومع الغض عن ذلك فمرجع الوجه المذكور إلى الدليل المتقدم، لرجوعه إلى
التمسك بالظاهر وإن اختلفا في ظاهر التقرير.
343

ومنها: أنه يمكن تساوي أجزاء الزمان في المصلحة الداعية إلى الفعل، بأن
تكون المصلحة قاضية بحصول الفعل من غير أن تختص تلك المصلحة بجزء من
الزمان دون آخر، ففي أي جزء أتى به المكلف فقد حصل تلك المصلحة، فلو
أخرج الفعل عن تمام الوقت فاتت تلك المصلحة. فهذا الفعل لا يجوز أن يحكم
الشارع بتضييقه وإيجابه في جزء معين من أجزاء الوقت، لتساوي الأجزاء في
المصلحة الداعية إلى الفعل، ولا أن يترك الأمر به، لما فيه من تفويت المصلحة
اللازمة، فلا مناص في إيجابه على المكلف على وفق المصلحة المفروضة، فيكون
الأمر به على سبيل التوسعة.
ويمكن أن يقال: إنه لا كلام في ورود التكليف على النحو المفروض في
الواجبات الشرعية - مما يكون الشأن فيه ذلك قطعا بحيث لا مجال لإنكاره -
وإنما الكلام في أنه إذا ورد التكليف على الوجه المذكور، فهل يتصف الفعل
بالوجوب من أول الوقت إلى آخره، أو أنه يختص الوجوب بالأول أو الآخر؟
ويكون إتيانه في الباقي قائما مقامه مثمرا لثمرته، لما تخيلوه من الوجوه الدالة
عليه. فمجرد تساوي أجزاء الوقت في المصلحة الداعية إلى الفعل - بمعنى إحراز
تلك المصلحة بأداء الفعل فيه - لا يقضي باتصاف الفعل في تمام الوقت بالوجوب.
فاللازم في الوجه المذكور كسابقه من ضم ما ذكرناه في الوجه الأول من المقدمة
القاضية ببطلان ما زعمه الخصم من الوجه القاضي باختصاص الوجوب ببعض
أجزاء ذلك الوقت.
ومنها: أن مرجع الواجب الموسع إلى الواجب المخير، وقد ثبت جواز تعلق
الوجوب بكل من الأبدال على سبيل التخيير، وقد أشار إلى ذلك جماعة منهم:
السيد والشيخ، والعلامة في عدة من كتبه، والسيد العميدي والفاضل الجواد،
ويستفاد ذلك من كلام المصنف في جوابه عن حجة الخصم، لكن ظاهر كلامه يفيد
تعلق الوجوب بخصوص كل زمان من تلك الأزمنة تخييرا على وجه الأصالة،
وقد عرفت ما فيه. ولا يتوقف تتميم الاستدلال على ذلك، بل يكتفي فيه بحصول
التخيير على وجه التبعية.
344

ويمكن تنزيل كلام الجماعة عليه، ومحصل الكلام حينئذ: أنه إن لوحظ
الوجوب بالنسبة إلى الطبيعة المطلقة المقيدة بإيقاعها بين الحدين فلا ريب أنه لا
يجوز تركها في الحد المفروض من الزمان مطلقا من غير توقف قيام بدل مقامه،
فلا شبهة في تحقق معنى الوجوب بالنسبة إليه. وإن لوحظ ما يتبع ذلك من وجوبها
في خصوص كل جزء من ذلك الزمان أفاد التخيير بين تلك الأفراد الواقعة في
تلك الأزمنة ليرجع إلى ما مر من الواجب المخير، ويأتي في دفعه ما ذكر هناك.
ومنها: أنه مقتضي ظاهر اللفظ، فإن تناول الأمر للفعل في أول الوقت كتناوله
للفعل في وسطه وآخره من غير فرق أصلا، فالترجيح بينها بجعل بعضها وقتا
للوجوب دون الآخر تكلف.
وأنت خبير بأن مرجع الوجه المذكور إلى الوجه الأول المذكور في كلام
المصنف.
ويرد عليه: ما مرت الإشارة إليه، فإن الخصم إنما يصرفه عن ذلك، لدعواه
قيام الدليل على خلافه، فالشأن حينئذ في دفع المانع، لا في إثبات المقتضي حتى
يستند فيه إلى الوجه المذكور.
ومنها: أنه لو أتى به في أي جزء من أجزاء الوقت لكان مجزيا إجماعا
محصلا للامتثال من غير أن يترتب عليه عقاب، وإنما يكون كذلك لو حصلت به
المصلحة اللازمة، وكان إيقاعه في أي جزء منه قائما مقام إيقاعه في غيره، وهو
معنى الموسع.
ثم لا يذهب عليك أن جميع ما ذكر من الوجوه - على فرض صحتها - إنما
تفيد جواز التوسعة في الواجب، وأما كون التوسعة على الوجه الذي ادعاه
المصنف من الرجوع إلى الواجب المخير - حسب ما مر الكلام فيه - فلا دلالة فيها
عليه أصلا.
قوله: * (إن الأمر ورد بالفعل... الخ) *.
يتلخص من كلامه وجهان:
345

أحدهما: الاستناد إلى ظاهر الأمر، حيث إنه ظاهر في الوجوب العيني دون
التخييري، حسب ما عرفت الوجه فيه في محله.
وثانيهما: أنه لا إشكال لأحد في عدم دلالة صيغة الأمر على وجوب العزم،
ولم يقم على وجوبه دليل آخر من الخارج، كما سيظهر عند إبطال دليل الخصم،
فالأصل يقتضي عدم وجوبه.
هذا وقد يستدل لذلك بوجوه اخر:
الأول: أن البدلية قاضية بمساواته للمبدل في الحكم وقيامه مقامه، ومن البين
أنه لو أتى بمبدله - أعني الفعل - قضى بسقوط التكليف بالمرة، فيلزم أن يكون
العزم أيضا كذلك، ولا قائل به.
وأورد عليه بوجوه:
أحدها: أنه إنما يكون بدلا عن الفعل في أول الوقت - مثلا - فيكون قائما
مقام الفعل الواقع فيه، لا في جميع الأوقات.
ويدفعه: أنه إذا قام مقام الفعل في الأول قضى بسقوط التكليف به في باقي
الوقت، إذ لا تكرار في التكليف، ولا يجب الإتيان بالفعل زائدا على المرة،
والمفروض الإتيان ببدل الواجب، فلا بد من سقوط التكليف بالمرة.
وقد اختار شيخنا البهائي ذلك في الجواب عن الحجة المذكورة، حيث قال:
إن العزم بدل من الفعل في كل جزء لا مطلقا، وقد عرفت ما فيه. ويمكن تنزيل
كلامه على الجواب المختار، كما ستجئ الإشارة إليه، لكنه بعيد عن كلامه.
ثانيها: أنا لا نقول بكون مجرد العزم بدلا عن الفعل في الأول، بل العزم عليه
والفعل في الثاني بدل عنه والعزم عليه، والفعل في الثالث بدل عن الفعل في الثاني،
وهكذا، فلا يكون العزم وحده بدلا عن الفعل في الأول حتى يكون الإتيان به
قائما مقامه، حسب ما مرت الإشارة اليه.
وفيه: ما مر بيانه من مخالفته لكلام القوم، ومن الاكتفاء حينئذ ببدلية الفعل
اللاحق من غير حاجة إلى ضم العزم، فإنه إذا صح جعله جزءا من البدل صح كونه
تمام البدل.
346

ثالثها: ما ذكره السيد من منع كون الإتيان بالبدل مسقطا لوجوب المبدل،
وقد عرفت ما فيه.
رابعها: أنه ليس العزم بدلا من نفس الفعل، وإنما هو بدل من تقديمه، لتخييره
بين تقديمه وبين العزم على إتيانه فيما بعد، أشار إلى ذلك العلامة في النهاية.
وفيه: أن المفروض وجوب الفعل على سبيل التوسعة، فلا يجب التقديم حتى
يجب العزم بدلا عنه.
ويدفعه: أن مرجع ما ذكره إلى ما قررناه من ثبوت تكليفين في المقام عند
القائل المذكور، أعني نفس الفعل ووجوب المبادرة إليه على حسب الإمكان،
والعزم إنما يكون بدلا عن وجوب المبادرة فيقوم مقامه إلى أن يتضيق الوقت
فيتعين الفعل، وغاية ما يسلم من جواز التأخير في الموسع إنما هو مع العزم على
الفعل، لا مطلقا، كيف ومن البين أن هؤلاء الجماعة لا يجوزون التأخير من دونه.
الثاني: أن القائل ببدلية العزم يقول بوجوب العزم في الوسط كما يقول
بوجوبه في الأول، فيلزم حينئذ تعدد البدل مع اتحاد المبدل، وهو خروج عن
مقتضى البدلية، فإن البدل إنما يجب على نحو المبدل فإذا كان البدل واجبا مرة
وكان العزم الأول بدلا عنه لم يعقل ثبوت بدل آخر عنه بعد ذلك.
وأجيب عنه: بأن العزم أولا إنما يكون بدلا عن الفعل في الأول ويسقط به
مبدله، والعزم ثانيا بدل عن الفعل في الثاني ويسقط به، وهكذا.
ويدفعه: ما عرفت من أنه لا تكرار هنا في وجوب الفعل، فإذا كان العزم أولا
قائما مقام الفعل أولا قضى بسقوط التكليف رأسا، فالحق في الجواب ما عرفت
من التزام القائل المذكور بتكليفين، وينحل التكليف الثاني منهما إلى تكاليف
عديدة ما بقي التكليف الأول، ويقوم العزم مقام كل واحد منها، وينتفي موضوع
ذلك التكليف عند تضيق وقت الفعل فيسقط التكليف به، وينحصر الأمر في
التكليف الأول، أعني إيجاد الفعل.
وقد يشكل ذلك: بأن العزم إذا كان بدلا عن الفور المذكور يبقى أصل الفعل إذا
347

خاليا من البدل فيجوز تركه قبل الزمان الأخير بلا بدل، ووجوب الفور على
الوجه المذكور لا يدرجه في حد الواجب. نعم، لو لم يكن هناك بدل عن الفور
وكان الإقدام عليه أولا واجبا اكتفى به في ذلك حسب ما مرت الإشارة إليه، لكن
المفروض قيام العزم مقام الفور، فحينئذ يجوز ترك الطبيعة أولا، وثانيا إلى الزمان
الآخر بلا بدل عنها، فالإشكال على حاله.
ويمكن دفعه: بأن مفاد وجوب الفور هو وجوب أداء الفعل فورا، ومفاد بدلية
العزم عن الفور هو تخيير المكلف بين أداء الفعل فورا والعزم على أدائه في الثاني
والثالث، فيكون أداء الفعل في الأول واجبا على سبيل التخيير، وهو الذي رامه
القائل، فلا ينافيه عدم كون العزم بدلا عن مطلق الفعل، إذ ليس مقصود القائل
المذكور إلا دفع الشبهة من عدم اتصاف الفعل الواقع أولا وثانيا - مثلا -
بالوجوب، نظرا إلى جواز تركه حينئذ بلا بدل (1). وهذا القدر كاف في ما هو
ملحوظ في المقام، ومع الغض عن ذلك فالمقصود بذلك إدراج الفعل حينئذ في
الواجب، لصدق عدم جواز ترك مطلق الفعل حينئذ على تقدير العزم، وهو كاف
في إدراجه في حد الواجب وانفصاله عن المندوب، إذ الواجب ما لا يجوز تركه
في الجملة، والعزم وإن كان بدلا عن تعجيل الإتيان به في الأول إلا أنه لا يجوز
ترك مطلق الفعل حينئذ مع ترك العزم، لوجوب التعجيل على سبيل التخيير بينه
وبين العزم، ووجوب نفس الفعل حينئذ من جهة المنع من تركه على تقدير عدم
العزم على الإتيان به في ما بعده، فهو أيضا مما لا يجوز تركه في الجملة. هذا.
ثم إنه يمكن أن يقال: أنه لا تعدد في المقام في الأبدال، ولا في الواجب
المبدل، فإن وجوب المبادرة إلى الفعل أمر واحد مستمر إلى أن يأتي المكلف
بالفعل، وكذلك العزم على أداء ذلك الفعل واجب واحد يقوم مقام الواجب المذكور
عندهم يستمر باستمرارها، حتى أنه لا يجب عليه تجديد العزم في كل آن،

(1) في (ف): والمفروض أن جواز تركه إلى بدل بلا بدل.
348

بل عزمه أولا على أداء الفعل كاف بالنسبة إلى الأزمنة اللاحقة ما لم يتردد فيه،
أو ينوي خلافه، كما هو الحال في النية بالنسبة إلى العبادات الطويلة.
وقد أشار إلى ذلك في البرهان حيث قال: الذي أراه أنهم لا يوجبون تجديد
العزم في الجزء الثاني، بل يحكمون بأن العزم الأول ينسحب على جميع الأزمنة
المستقبلة كانسحاب النية على العبادات الطويلة مع عزمها. هذا.
وقد ذكر المصنف في الحاشية بعدما أشار إلى الحجتين المذكورتين: أنه إنما
عدل عنهما لما هو التحقيق من أن القائلين ببدلية العزم لم يجعلوه بدلا عن نفس
الفعل، بل عن إيقاعه، فالمبدل منه هو إيقاعات الفعل في أجزاء الوقت، والبدل
هو إيقاعات العزم فيها إلا في الجزء الأخير، فكل واحد منهما متعدد، وكل مبدل
يتأتى به ببدله.
وأنت خبير بما فيه، كما مرت الإشارة إليه. وأيضا إيقاع الفعل في الأول قاض
بسقوط التكليف فكيف يعقل القول بحصول البدلية وبقاء التكليف مع الإتيان
بالبدل؟
والحاصل: أن إيقاعات الفعل وإن كانت متعددة لكن لا يجب الإتيان بها
أجمع، بل يكفي إيقاع واحد منها، فكيف! يقال بوجوب المتعدد فيما هو بدل عنه.
ويمكن تنزيل كلامه على ما ذكرناه من وجوب التقديم وقيام العزم مقامه،
فما ذكره من تعدد الواجبات والأبدال لا يلزم أن يكون على سبيل الحقيقة، بل
يكفي أن يكون ذلك في تحليل العقل حسب ما قدمنا الإشارة إليه.
الثالث: أنه لو كان العزم بدلا لم يجز فعله مع القدرة على المبدل كسائر
الأبدال مع القدرة على مبدلاتها.
وضعفه ظاهر، لمنع كون ذلك من أحكام البدل، لوضوح انقسام الأبدال إلى
الاختيارية والاضطرارية، وقد أشار إلى ذلك جماعة، منهم السيد في الذريعة،
والعلامة في النهاية.
الرابع: أن العزم من أفعال القلوب، ولم يعهد من الشرع إقامة أفعال القلوب
مقام أفعال الجوارح، ووهنه ظاهر، إذ لا حجة في مجرد ذلك.
349

قوله: * (لم ينفصل عن المندوب) *.
قد عرفت أن المتصف بالوجوب الموسع إنما هو مطلق الفعل الواقع في الزمان
المضروب له، وتركه (1) إنما يتحقق بتركه في جميع الزمان المضروب له، وليس
تركه في أول الوقت ووسطه تركا للواجب، بل يكون ذلك تأخيرا له.
والمعتبر في الواجب إنما هو المنع من الترك دون المنع من التأخير، وأما
خصوص الأفعال الواقعة في أجزاء ذلك الزمان فإنما يتصف بالوجوب من حيث
انطباق الواجب عليه، وكونه فردا منه، لا من حيث الخصوصية الحاصلة فيه، كما
هو الشأن في سائر أفراد الواجبات فإنها إنما تكون واجبة من حيث انطباق
الطبيعة الواجبة عليها، لا من جهة الخصوصية المأخوذة معها، ولذا يجوز ترك كل
من الأفراد واختيار الآخر.
إذا عرفت اختلاف الجهتين المذكورتين فلا ينافي وجوب الفرد من جهة
حصول الماهية في ضمنه جواز تركه بالنظر إلى الخصوصية الحاصلة معه، وإنما
ينافيه جواز ترك الماهية إذا لوحظت على الوجه الذي تعلق الطلب بها، فإن جواز
تركها بالملاحظة المذكورة قاض بعدم انفصالها عن المندوب، وأما إذا لم يجز
تركها على الوجه المذكور فالانفصال عن المندوب واضح وإن جاز تركها
بملاحظة أخرى. وليس ذلك من اجتماع وجوب الفعل وجواز تركه في محل
واحد، إذ جواز ترك الفعل من جهة لا يستلزم جواز تركه بحسب الواقع مطلقا،
فالحاصل في المقام هو اجتماع الجهتين، لا اجتماع الحكمين، ولا مانع منه أصلا،
كما لا يخفى.
والحاصل: أن الوجوب المتعلق بالطبيعة متعلق بأفرادها من حيث كون
الأفراد نفس الطبيعة، ووجوب الفرد بذلك الأمر عين وجوب الطبيعة، وإذا كانت
الطبيعة المفروضة مما لا يجوز تركها - كما قررناه - لم يعقل عدم انفصال الواجب
في المقام عن المندوب، وجواز ترك الفرد نظرا إلى الخصوصية الملحوظة معه

(1) في (ف): المضروب أو تركه.
350

لا ينافي وجوبه بالاعتبار الأول، فغاية الأمر جواز ترك أداء الطبيعة به، وذلك
لا ينافي وجوبها أصلا، وقد مر توضيح القول في ذلك.
ثم إن الطبيعة المفروضة من حيث إطلاقها متعلقة للأمر بالأصالة متصفة
بالوجوب التعييني أصالة، وهي بتلك الاعتبار مما لا يجوز تركه مطلقا، ومن حيث
تقييدها بخصوصيات الأفراد متصفة بالوجوب التخييري التبعي الذي هو عين
الوجوب التعييني المذكور المغاير له بحسب الاعتبار، حسب ما مر بيانه،
والانفصال عن المندوب بالملاحظة المذكورة ظاهر أيضا.
قوله: * (وهو أنه لو أتى بأحدهما أجزأ... الخ) *.
لا يخفى أن حصول الاجزاء بمجرد الإتيان بأحد الفعلين والعصيان بالإخلال
بهما لا يقضي بتعلق الوجوب بكل من الأمرين على سبيل التخيير، لإمكان أن
يكون الأمر بالثاني مرتبا على ترك الأول، فلا وجوب للثاني لا عينا ولا تخييرا
مع الإتيان بالأول، ويجب عينا مع ترك الأول، أو يكون سقوط الثاني مترتبا على
فعل الأول فيجب الثاني عينا مع ترك الأول، ولا وجوب أصلا مع الإتيان به، ألا
ترى أنه لو ترك الزوج طلاق زوجته والإنفاق عليها عصى، ولو أتى بأحد الأمرين
أجزأه؟ وكذا الحال في تخييره بين السفر في شهر رمضان والمقام وأداء الصيام.
هذا إذا أريد بالإجزاء ارتفاع الإثم وانتفاء العصيان. ولو أريد به تحقق الطاعة
وحصول الامتثال على الوجهين فليفرض ذلك فيما إذا وجب عليه السفر، فإنه لو
ترك الأمرين حينئذ عصى، ولو أتى بأحدهما اكتفى به في حصول الامتثال، ومن
الواضح عدم كونه من الوجوب التخييري في شئ.
والحاصل: أن الأمر المذكور من لوازم الوجوب التخييري، واللازم قد يكون
أعم من الملزوم، فلا يلزم من ثبوته في المقام ثبوت الوجوب التخييري.
قوله: * (أنا نقطع بأن الفاعل للصلاة... الخ) *.
يمكن تقرير الجواب المذكور بتمامه معارضة، فأراد بذلك إثبات أن الوجوب
في ذلك ليس على سبيل التخيير، إذ لو كان كذلك لزم أن يكون حصول الامتثال
351

بالفعل من جهة كونه أحد الواجبين المخيرين، وليس كذلك كما يعرف من ملاحظة
الشرع، وأن يكون العصيان المترتب على ترك العزم لا من جهة تركه بخصوصه،
بل لكونه تركا لأحد الأمرين اللذين وجبا عليه على سبيل التخيير، حسب ما
مرت الإشارة إليه.
ويمكن أن يقرر كل من الوجهين معارضة مستقلة، فيكون كل منهما جوابا
مستقلا على سبيل المعارضة، وقد يومئ إليه قوله: وأيضا.
ويمكن أن يقرر ذلك منعا، ويكون كل من الوجه الأول والثاني سندا للمنع.
وقد يقرر الأول معارضة والثاني منعا، وهو أبعد الوجوه، وقد يستظهر ذلك
من قوله: ليس لكون المكلف الخ لإشعاره بمنع حصول التخيير بين الأمرين، وهو
كما ترى لعدم ظهور ذلك في المنع أصلا، بل مقصوده نفي ذلك ليدفع به ما توهم
من ثبوت حكم الخصال في المقام.
قوله: * (حكم من أحكام الإيمان... الخ) *.
إن أريد به أنه لازم من لوازم الإيمان وتابع لحصوله فضعفه ظاهر، لوضوح أن
نفس الإتيان بالواجبات وترك المحرمات ليس من لوازم الإيمان فكيف العزم
عليهما؟ كيف! ولو كان ذلك من لوازم الإيمان لما صح تعلق التكليف بها بعد
حصول الإيمان، فلا يتفرع عليه ما ذكره من وجوب ذلك مستمرا عند الالتفات
إلى الواجبات.
وإن أريد به أن وجوبه من الأحكام التابعة للإيمان فليس هناك وجوب للعزم
قبل حصول الإيمان، وإنما يجب ذلك بعد حصوله ففيه: أنه لا وجه حينئذ
للتفصيل، فإنه إن قلنا بكون الكفار مكلفين بالفروع كان العزم المذكور واجبا على
الكفار أيضا كغيره من الواجبات، وإن لم نقل بكونهم مكلفين بالفروع لم يتحقق
التكليف به ولا بغيره.
وقد يقال: إن العزم على الواجبات ليس واجبا في نفسه، بل لأن قضية
وجوب الطاعة على المكلف أن يعزم على كل فعل يعتقد أمر المولى به، وإلا لم
352

يكن مطيعا له في حكم العقل مطلقا، أو مع قصد عدم الامتثال، وهو لازم، لعدم
قصد الامتثال بعد التفطن على ما ظن، وهذا المعنى إنما يثبت بعد اعتقاد وجوب
الشئ، وأما قبله كما هو الحال في الكفار فلا، وهو كما ترى لا يتم في جميع
أقسام الكفر.
قوله: * (وهو كما ترى) *.
كأنه أراد بذلك منع كل من المقدمتين المذكورتين، لإمكان خلو المكلف عن
العزمين مع شعوره بالفعل كما في المتردد، ومع تسليمه فحرمة العزم على الحرام
ممنوعة أيضا. وقد يخص القول بوجوب العزم بما بعد دخول الوقت، نظرا إلى أنه
إذا أمر المولى عبده بشئ ولم يأت العبد ولا كان عازما على فعله عد عاصيا في
العرف وذمه العقلاء ولو قبل مضي آخر الوقت، ولذا لو مات حينئذ فجأة صحت
عقوبته، فيفيد ذلك وجوب العزم، إذ لا عصيان في ترك الفعل قبل تضيق الوقت.
وفيه أيضا ما عرفت، واستحقاقه العقوبة في الفرض المذكور إن تم فإنما هو
لصدق كونه تاركا للواجب عمدا، لا لمجرد ترك العزم. هذا.
وقد يستدل أيضا على بدلية العزم بوجه آخر، وهو: أنه لو لم يجب البدل لزم
تساوي حال الفعل قبل دخول الوقت وبعده، والتالي واضح الفساد.
أما الملازمة فلجواز تركه قبل دخول الوقت، لا إلى بدل، وجواز تركه كذلك
بعد دخوله فيتساويان.
وقد أشار إلى ذلك في الزبدة وشرحها، وضعفه ظاهر، فإنه إن أريد تساويهما
من كل وجه فهو واضح الفساد، ضرورة أن الإتيان به قبل دخول الوقت بدعة، ولو
من جهة قصده به امتثال التكليف المفروض، بخلاف ما بعد دخول الوقت.
وإن أريد به عدم الفرق بينه وبين ما لا يجب الإتيان به فلا ينفصل عن
المندوب، فيرجع إلى الوجه الأول، فلا وجه لعده دليلا آخر. وحينئذ يرد عليه ما
يرد على الوجه المذكور.
وقد يدعى الاجماع على المسألة، لما عرفت من عبارة السيد، وهو موهون
353

جدا، إذ لا دلالة فيها على ذلك، وعلى فرض دلالتها فالخلاف في المسألة كما هو
مشهور، بل الشهرة المتأخرة قائمة على خلافه، فدعوى الاجماع في مثلها
موهونة جدا غير صالحة للاعتماد عليها.
قوله: * (لأدائها إلى جواز ترك الواجب... الخ) *.
يمكن تقرير الاحتجاج بكل من الوجهين المتقدمين لقضاء التوسعة في
الوقت بجواز ترك الفعل في أول الوقت ووسطه، وهو ينافي الوجوب، ولقضاء
جواز التأخير بانتفاء الإثم مع الموت فجأة في أثناء الوقت، فيلزم من ذلك جواز
ترك الفعل مطلقا المنافي لوجوبه، وكان هذا الوجه أوفق بظاهر العبارة.
وأنت خبير بأن الوجه المذكور لو تم في الجملة فلا يتم على القول ببدلية
العزم، فهو على فرض صحته إنما يفيد عدم جواز الفضيلة في الوقت مع انتفاء بدلية
العزم، فلو قيل ببدلية العزم اندفع ما توهم من المفسدة، فلا يصح الاستناد إلى
الوجه المذكور في إثبات كل من الأمرين المذكورين إلا بعد إبطال الآخر.
قوله: * (لما خرج عن العهدة... الخ) *.
إن أراد به عدم حصول الإتيان بما هو الواجب وعدم تحقق الامتثال بأدائه
في الأول فمسلم، لكن عدم الخروج بذلك عن عهدة التكليف ممنوع، لإمكان أن
يكون ما تقدم على وقت الوجوب نفلا يسقط به الفرض حسب ما مر بيانه، فلا
يتعلق الوجوب بالفعل حين مجئ وقت الوجوب، فغاية الأمر حينئذ حصول
التوسعة في وقت الأداء لا في وقت الوجوب، وهو مما لا مانع منه أصلا، ولا يرد
الشبهة المذكورة بالنسبة إليها مطلقا.
وإن أراد به عدم الخروج عن عهدة التكليف بأدائه في الأول مطلقا فهو
ممنوع، والسند ظاهر مما مر.
قوله: * (وهو باطل أيضا) *.
كما تقدمت الإشارة إليه في الاحتجاج على المختار، حيث ادعي الاجماع
على عدم كونه عاصيا بالتأخير، لكن قد عرفت أن القدر المسلم انتفاء العقوبة مع
354

التأخير ولو من جهة عقوبة الآمر. وأما عدم جواز التأخير في الجملة فبطلانه
غير مسلم عند الخصم.
قوله: * (لعصى بتأخيره... الخ) *.
إن أراد بالعصيان مجرد مخالفة الأمر الإيجابي وإن لم يترتب عليه عقوبة
فقيام الاجماع على بطلان التالي ممنوع، لذهاب الخصم. وإن أريد به العصيان
الذي يترتب عليه العقاب فالملازمة ممنوعة، فإن ذلك من لوازم الواجب المضيق
بمعناه المعروف، وأما الواجب الموسع فلا يترتب على تأخيره عقوبة وإن كان
على حسب ما يعتقده القائل المذكور، فإن الفرق بينه وبين سائر الواجبات عنده
في حصول العفو هنا مع التأخير إلى مدة معينة، بخلاف غيره من الواجبات.
قوله: * (وجوابه منع الملازمة) *.
لما توهم المستدل كون جواز الترك منافيا للوجوب مطلقا زعم أن وجوب
الفعل في أول الوقت قاض بعدم جواز تركه فيه، أعني تأخيره عنه، وإلا لزم
خروج الواجب عن كونه واجبا حسب ما مر في كلام القائل بالاختصاص بالأول
في بيان منع الفضلة في الوقت، فإذا لم يكن واجبا في الأول تعين وجوبه في
الآخر، فأجاب عنه: بأنه لا منافاة بين وجوب الفعل وجواز تركه في الجملة ولو
إلى بدل، كما في المخير على ما هو الحال في المقام. نعم، لو جاز تركه مطلقا لنا في
الوجوب.
قوله: * (وينبغي أن يعلم أن بين التخيير... الخ) *.
هذا كالصريح في ما ظهر من عبارته السابقة من كون الواجب الموسع في
الحقيقة واجبا تخييريا، وقد عرفت بعده، وأنه لا قاضي بالتزامه.
وينبغي في المقام بيان أمور:
أحدها: أنه لا ريب في أن الواجبات الموسعة تتضيق بظن الفوات مع التأخير،
بمعنى أنه لا يتعين الإتيان بها حينئذ، ولا يجوز للمكلف تأخيرها عن ذلك الوقت،
وقد نص عليه جماعة من الخاصة والعامة من دون ظهور خلاف فيه، بل نص
355

بالاتفاق عليه جماعة، منهم الفاضل الجواد، والفاضل الصالح، والآمدي،
والحاجبي، واحتج عليه بعد الاتفاق عليه حسب ما ذكر بأمور:
الأول: أنه لولا ذلك لزم خروج الواجب عن كونه واجبا، إذ مع جواز التأخير
حينئذ يلزم جواز ترك الواجب في الغالب، وهو ما ذكر من اللازم.
وفيه: أنه إنما يلزم خروج الواجب عن الوجوب لو جاز تركه مطلقا، ومن
البين خلافه، لعدم جواز تركه على تقدير القطع بالفوات، وفي صورة تضيق
الوقت، وذلك كاف في حصول معنى الوجوب والفرق بينه وبين الندب، لما عرفت
من أن الواجب ما لا يجوز تركه في الجملة.
الثاني: أن التكليف بالفروع دائر مدار الظن، فإن المرء متعبد بظنه، فيكون
الظن في المقام قائما مقام العلم.
وفيه منع حجية الظن في الفروع مطلقا، سيما في المقام حيث إنه من قبيل
الموضوع الصرف، وما ورد من أن المرء متعبد بظنه لم يثبت وروده عن صاحب
الشريعة، فلا وجه للاتكال عليه.
الثالث: أنه مع ظن الفوات بالتأخير لا يمكن أن يتحقق منه العزم على الفعل
في الآخر، فإذا ترك الفعل حينئذ كان تاركا للفعل والعزم معا فيكون عاصيا،
فيتعين عليه الإتيان بالفعل.
وفيه بعد تسليم امتناع حصول العزم منه حينئذ: أنه مبني على القول ببدلية
العزم، وهو ضعيف حسب ما مر.
الرابع: أنا نجد حكم العقل حينئذ حكما قطعيا بعدم جواز التأخير ووجوب
المبادرة إلى الفعل، فيجب الأخذ به.
وفيه: أنه ليس ذلك من الفطريات، ولا من الوجدانيات ونحوهما حتى يدعى
الضرورة فيه، فلا بد من بيان الوجه في قطع العقل به حتى ينظر فيه.
قلت: ويمكن الاحتجاج عليه بوجهين:
أحدهما: أن ذلك قضية وجوب الامتثال بحسب العرف، فإن وجوب الفعل
356

على المكلف وإلزام المكلف إياه قاض عرفا بتعين الإتيان به حينئذ، وإلا عد
عاصيا مخالفا للأمر مع التأخير وحصول الترك، بل متهاونا في أداء مطلوب الآمر،
معرضا نفسه للمخالفة ولو مع خطاء ظنه، ألا ترى أنه لو أمر المولى عبده بشراء
اللحم كذلك واتفق أنه ظن العبد فوات الشراء مع التأخير فتعمد التأخير فلم يتمكن
من الإتيان به عد عاصيا مفوتا لمطلوب مولاه؟!
ثانيهما: أنه مع وجوب الفعل وإلزام الشارع إياه وعدم إذنه في الترك لاشتماله
على المصلحة التي لا يجوز للمكلف تفويتها يحكم العقل بتعين الإتيان به حينئذ،
احتياطا لتحصيل المطلوب بعد العلم باشتغال الذمة به، ودفعا للضرر المظنون
بسبب التأخير.
وكما أن اليقين بالاشتغال يستدعى تحصيل اليقين بالفراغ وأداء ما يعلم معه
بتفريغ الذمة كذا يقضي بتحصيل اليقين بالخروج عن عهدة ذلك التكليف، وعدم
حصول الترك له، ولا يكون ذلك إلا بالإتيان به عند ذلك، وعدم تأخيره عنه.
بل قد يشكل جواز التأخير في صورة الشك في الأداء مع التأخير، كما سنشير
إليه، إذ قضية ما ذكرناه مراعاة الاحتياط في التعجيل عند حصول التردد، إلا أن
يقوم دليل قاطع لعذر المكلف يفيد جواز التأخير حينئذ، كما قام الدليل عليه في
صورة ظن البقاء.
والحاصل: أن الإذن المستفاد من الشارع في التأخير لا يعم صورة ظن
الفوات، وكذا حكم العقل بجواز التأخير للفعل. وقضية حكم العقل بملاحظة
ثانيهما هو لزوم التعجيل، ولا فرق حينئذ بين الواجبات الموسعة الموقتة وغيرها
من الموسعات المطلقة، بل الحال في الأخيرة أظهر. والظاهر أنه مما لا خلاف فيه
في المقامين، ولو كان ظن الفوات بسبب ظنه تضيق الوقت وفواته مع التأخير،
فالظاهر وجوب التعجيل حينئذ أيضا لعين ما ذكر. ويحتمل عدمه استصحابا لبقاء
الوقت، سيما إذا لم يمكن استعلام الحال لظهور الفوات مع التأخير، ولو أخر حينئذ
فلم يعلم فوات الوقت بنى على الأداء، لما ذكر من الاستصحاب، فلا عبرة بالظن
357

في الفوات مطلقا وإن اكتفى به في الحكم بدخول الوقت في بعض الصور، وحينئذ
فيمكن الحكم بأدائية الظهرين مع جواز أداء العشاءين أيضا، ولا يخلو عن بعد،
وقد يقال بقضاء ما دل على الاكتفاء بالظن في الدخول بقضائه به في الحكم
بالخروج أيضا، وفيه تأمل وإن لم يخل عن قرب.
ثانيها: أنه لا إشكال في حصول العصيان لو أخر الواجب حينئذ فلم يتمكن
من فعله فهو كتعمد الترك، وأما إذا أخره وانكشف فساد ظنه فأتى بالفعل بعد ذلك
فلا عصيان بالنسبة إلى الأمر المتعلق بالفعل، لإتيانه به. وهل يكون عاصيا
بالتأخير؟ الظاهر ذلك، بل هو مما لا ينبغي التأمل فيه، لما عرفت من وجوب
إقدامه إذا على الفعل، فيكون مخالفته عصيانا، وقد نص عليه جماعة.
وعن القاضي أبي بكر في المسألة الآتية دعوى الاجماع عليه، كما هو
الظاهر، إذ لم يظهر فيه مخالف سوى ما يظهر من شيخنا البهائي من التوقف فيه.
وقد يستفاد من العلامة في النهاية منعه لذلك في دفعه حجة القاضي في
المسألة الآتية بعد نقله عنه حكاية الاجماع على العصيان، حيث منع من تحقق
العصيان بعد ظهور بطلان الظن، إذ بعد تسليم تحقق التضيق وتعين الإتيان بالفعل
حينئذ كيف يعقل انتفاء العصيان مع المخالفة؟ وكأنه أراد به عدم حصول العصيان
بالنسبة إلى أصل الواجب، أو عدم ترتب العقوبة على تلك المعصية.
وكيف كان فما يستفاد من ظاهره ضعيف جدا، وكأنه ذكر ذلك إيرادا في مقام
الرد، لا اعتقادا، وإلا فالمنصوص به في كلامه في موضع آخر تحقق العصيان.
واختار بعض أفاضل المتأخرين عدم العصيان، معللا بأن وجوب العمل
بالظن ليس وجوبا أصليا كوجوب الصلاة، بل هو وجوب توصلي من باب
المقدمة، كالصلاة إلى الجوانب الأربعة، وترك وطئ الزوجة عند اشتباهها
بالأجنبية.
ولا عقاب على ترك المقدمات، وإنما يترتب العقاب على ترك نفس الواجب،
وهو كما ترى، إذ لو أراد بذلك المنع من وجوب التعجيل لمنعه وجوب المقدمة
358

فلا عصيان حينئذ من جهتها فهو فاسد، إذ المفروض تسليمه الوجوب في المقام
وتضيق الواجب عنده من جهة الظن المفروض.
وإن أراد به عدم تحقق العقوبة على ترك المقدمة نفسها ففيه: أن حصول
العصيان غير متقوم بترتب العقوبة، ولو سلم ملازمته لاستحقاق العقوبة، فليس
استحقاق العقوبة المترتبة على ترك المقدمة إلا من جهة ترك نفس الواجب، نظرا
إلى أداء تركها إلى تركه كما مر الكلام فيه، وهو كاف في حصول العصيان في
المقام.
فإن قلت: إن المفروض في المقام عدم أداء تركها إلى ترك الواجب لانكشاف
الخلاف، فلا يترتب عليه العقوبة من جهة الأداء أيضا.
قلت: من البين أن وجوب التعجيل في الفعل حينئذ ليس من جهة توقف الفعل
عليه واقعا، وإلا لما أمكن حصوله من دونه، ضرورة عدم إمكان حصول الواجب
من دون مقدمته، وإلا لم يكن مقدمة له، بل إنما يجب ذلك من جهة كونه مقدمة
للعلم بالخروج عن عهدة التكليف حينئذ، حيث إن الواجب عليه العلم بعدم
الإقدام على ترك الواجب المتوقف على الإقدام على الفعل حينئذ حسب ما
قررناه، فالعصيان من الجهة المذكورة حاصل في المقام قطعا، سواء انكشف
الخلاف أو لا، وترك الإتيان بالفعل حينئذ مؤد إليه يقينا.
والحاصل: أن التجري على ترك الواجب أو فعل الحرام محرم، ويتوقف
الاحتراز عنه على التعجيل في الفعل في المقام، كما أنه يتوقف على الصلاة إلى
الجواب الأربعة، وترك وطئ المرأتين عند الاشتباه، فلو قصر في ذلك بتأخير
الفعل في المقام أو الاقتصار على الصلاة إلى الجهة الواحدة أو وطئ واحدة منهما
فقد تجرى على العصيان، وعصى من تلك الجهة قطعا، وإن انكشف خلاف ظنه
في المقام، أو تبين بعد ذلك مصادفة ما فعله للجهة اتفاقا، أو كون الموطوءة
هي زوجته، إذ قضية ذلك عدم تحقق العصيان بالنسبة إلى التكليف المتعلق بنفس
الفعل.
359

وأما بالنسبة إلى تكليفه بتحصيل اليقين بتفريغ الذمة بعد تيقن الاشتغال،
ووجوب تحصيل الاطمئنان حينئذ بعدم الإقدام على ترك الواجب وفعل الحرام
فلا، إذ من البين عدم حصول الواجب المذكور، واستحقاقه العقوبة إنما هو من تلك
الجهة، لا من جهة ترك المقدمة نفسها.
كيف؟ ومن البين أن تكرار الفعل في اشتباه القبلة والاجتناب عنهما في اشتباه
الزوجة إنما هو من قبيل مقدمة العلم دون مقدمة نفس الواجب، وترتب العقاب
على ترك المقدمة المفروضة، إنما هو من جهة عدم حصول الواجب الذي هو
العلم، فكذا الحال في المقام، وانكشاف التمكن من أداء الواجب بعد ذلك غير
قاض بانتفاء الإثم، كما هو الحال في المثالين، سواء قلنا بوجوب المقدمة أو لم
نقل به، فترتب العقاب على ترك المقدمة في المقام إنما هو من جهة أدائه إلى ترك
الواجب المذكور والإقدام على التجري على ترك الواجب دون ترك نفس الفعل،
وذلك ظاهر.
ثالثها: أنه لو ظهر كذب ظنه فأتى بالفعل في الوقت المفروض فهل يكون
مؤديا أو قاضيا؟ فيه خلاف، والمعروف هو الأول، بل الظاهر إطباق علمائنا عليه،
إذ لم ينقل منهم خلاف في ذلك، والخلاف فيه محكي عن القاضي أبي بكر من
العامة، فقد اختار كونه قاضيا، والحق هو الأول، والوجه فيه واضح، نظرا إلى
وقوعه في الوقت المقدر له شرعا، ووجوب التعجيل فيه عند ظن الفوات إنما كان
من جهة الاطمئنان بعدم تفويت الواجب حسب ما مر، لا من جهة كون ذلك هو
وقته الموظف له.
وتوضيح ذلك: أن وقت الموسع محدود واقعا بأحد الأمرين من الحد المعين
من الوقت وما ينتهي إليه التمكن من الفعل، فيدور تحديده في الواقع بين الأمرين،
ويكون السابق منهما هو حده الذي ينتهي الوجوب إليه، وإنما تعين عليه الفعل
عند حصول الظن المفروض لظنه كون الحد بالنسبة إليه هو الثاني، فلما تبين
الخلاف ظهر له كون الحد هو الأول فكان أداء هذا.
360

والذي يقتضيه التحقيق في المقام أن يقال: إن بقاء المكلف إلى آخر الوقت
أو تمكنه من الفعل إلى الآخر مما لا ربط له بالتوقيت، بل التحديد بالوقت الخاص
حاصل على كل حال فإنه من الأمور الوضعية، ولا يختلف الحال فيه بين القادر
والعاجز.
غاية الأمر أن لا يكون مكلفا بالفعل في أوقات العجز، ولذا لو لم يتمكن من
الفعل في آنات متفرقة، بين الوقت لم يكن التوقيت متبعضا متجزئا على حسب
ذلك، فالتوقيت هو تقييد الفعل بالزمان الخاص وتحديد إيقاعه بالحد المعين من
الزمان، وقضية ذلك أنه لو أتى به المكلف في الزمان المفروض كان أداء، وكان
واجبا مبرئا لذمته على تقدير استجماعه لشرائط التكليف به، ولا ينافي ذلك
امتناع صدوره منه في بعض أجزاء الوقت. كما أن تقييد الفعل بإيقاعه في مكان
متسع محدود إذا لم يتمكن المكلف من إيقاعه في بعض أجزائه لا يقضي بتحديد
ذلك الفعل بخصوص البعض المقدور عليه، بل ليس المكان المعين له إلا جميع
ذلك، غير أن المكلف لا يقدر إلا على أدائه في البعض منه، فيجب عليه اختيار
المقدور، فكذا الواجب في المقام مع عدم تمكن المكلف من أدائه في بعض أجزاء
الوقت هو أداؤه في البعض المقدور من غير لزوم توقيت آخر للفعل.
فإن قلت: إنه إذا ارتفع عنه التكليف عند انتفاء القدرة عليه لم يتصف الفعل إذا
بالوجوب، ومعه لا وجه لاتصافه إذا بالوجوب الموسع.
قلت: مفاد توسعة الوجوب في المقام هو كون الوجوب المتعلق بالفعل في
أصل الشريعة مقيدا بجميع الوقت المتسع، وهي تتبع توقيت الفعل بالزمان
المفروض، وتعيينه ذلك الوقت زمانا لأدائه بحيث لو أتى به في أوله أو وسطه أو
آخره كان أداء له في الوقت الموظف، وهو كما ذكرنا حكم وضعي لا يختلف
الحال فيه بين استجماعه لشرائط التكليف في جميع ذلك الوقت وعدمه، فغاية
الأمر أنه مع عدم تمكنه منه في بعض أجزاء الوقت يتعين عليه الإتيان به في
الباقي إذا علم أو ظن ذلك، نظير المخير إذا تمكن من واحد منها ولم يتمكن من
361

الباقي فإنه يتعين عليه الإتيان بالمقدور مع كون الوجوب المتعلق به في أصل
الشريعة تخييريا. فهناك وجوب للفعل في أصل الشريعة في جميع ذلك الوقت،
بحيث لو أتى به في أي جزء من أجزائه كان مؤديا له في وقته الموظف لولا
حصول مانع من تعلق التكليف به، ووجوب للفعل بالنسبة إلى المستجمع لشرائط
التكليف واقعا، ووجوب له متعلق بالمكلف على حسب ما يعتقد تمكنه من الفعل
وعدمه.
والثالث حكم ظاهري يختلف بحسب اختلاف اعتقاد المكلف على ما هو
الحال في المقام، حيث ظن عدم التمكن من الفعل فيما بعد ذلك الزمان فتعين عليه
الفعل حينئذ، ولم يجز له التأخير عنه. ثم لما انكشف عليه الخلاف جرى تكليفه
على نحو ما انكشف له. ومبنى كلام القاضي على ملاحظة الوجوب على الوجه
المذكور مع زعمه كون ذلك تحديدا واقعيا.
والثاني حكم واقعي لا يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الاعتقاد، إلا أنه
يجب عليه الجري في الظاهر بعد ظهور الحال عنده حسب ما مر. وعلى هذا
الوجه مبنى الجواب المتقدم، فيكون الوجوب على الوجه الأول ظاهريا حسب ما
قررناه، دون ما زعمه.
والأول هو حكمه المقرر في أصل الشريعة، وتعلقه بالمكلف واقعا أو ظاهرا
موقوف على اجتماع شروطه، وعليه مبنى التوقيت (1).
والجواب الذي اخترناه في المقام مبني على ملاحظة ذلك، فعلى هذا يكون
ذلك الوقت بأجمعه وقتا موظفا لذاك الفعل وإن لم يتمكن المكلف من أدائه في
بعض أجزائه، أو زعم عدم تمكنه منه، فلو انكشف له خلافه فأتى به فيه فلا قاضي
بكونه قاضيا مع أدائه له في الوقت المقرر. كيف! ولو اعتقد عدم تمكنه من أحد
الواجبين المخيرين تعين عليه الآخر في ظاهر التكليف على النحو المفروض

(1) فبدون ذلك لا يكون إلا شأنيا وهو كاف في ملاحظة التوقيت. منه (رحمه الله).
362

في المقام. ولو انكشف خطؤه في ذلك قبل الإتيان به فتمكن من الآخر لم يزل عنه
التخيير الثابت له بأصل الشرع من جهة تعين الآخر عليه بالعارض، فكذا الحال
في المقام، إذ لا يعقل فرق بين المقامين، كما لا يخفى، ولا فرق في ذلك بين
الموسع الموقت وغيره، وإطلاق الأمر في الثاني قاض بذلك أيضا.
حجة القاضي على كونه قاضيا: تعين ذلك الوقت للفعل عند حصول الظن
المفروض، وعدم جواز التأخير عنه، فلا توسعة في الوجوب بالنسبة إلى ما بعد
ذلك، فإذا أخر عنه كان قضاء، إذ ليس مفاده إلا إيقاع الفعل خارجا عن الوقت
المعين له شرعا. وضعفه ظاهر بعد ما قررناه، إذ مجرد تضيق الوجوب بالعارض
لمجرد ظن المكلف لا يقضي بخروج الوقت المقرر شرعا عن كونه وقتا، سيما بعد
ظهور خطئه في ظنه. وظاهر إطلاق النص القاضي بكونه وقتا يدل عليه، ولا دليل
على تقييده وكون حصول التضييق من جهة الظن الفاسد قاضيا به أول الدعوى
وقضية الأصل عدمه، مع ما عرفت من ظهور فساده، بل قد عرفت أنه مع صدق
الظن ومطابقته للواقع لا يكون ذلك الوقت خارجا عن التوقيت، غاية الأمر أن لا
يتمكن المكلف من الإتيان بالفعل فيه، فإن التوقيت حكم وضعي حسب ما أشرنا
إليه. هذا.
واعلم: أنه لا ثمرة للخلاف المذكور في المقام إلا في نية الأداء والقضاء
لو قيل بوجوب تعيين ذلك، وهو ضعيف. نعم، قد يجعل الثمرة جواز نية الأداء
على المشهور، وجواز نية القضاء على الآخر، إذ لا يجوز قصد الخلاف.
ولو جعل الثمرة فيه جواز تأخير الفعل إذا عن الوقت الموظف بناء على
القضائية لكونه قضاء في الجميع فلا اختصاص له بالوقت المفروض، بخلاف ما لو
كان أداء كان فاسدا، إذ الظاهر عدم التزام أحد بذلك، والاتفاق من الكل قائم على
خلافه. ومنه يظهر فساد جعل الثمرة في المقام توقفه على الأمر الجديد بناء على
كونه قضاء، إذ لا قائل ظاهرا بتوقفه على ذلك وسقوط الأمر الأول، فلعل القاضي
يقول بكون القضاء بالأمر الأول مطلقا، أو يفصل بين هذا النحو من القضاء وغيره
فيكتفي في ذلك بالأمر الأول دون غيره.
363

رابعها: لو ظن السلامة فأخر الفعل ثم مات فجأة في أثناء الوقت، أو طرأه
مانع بغتة فلم يتمكن من الفعل في باقي الوقت فهل يكون عاصيا بترك الفعل، أو لا
عصيان في شأنه؟
التحقيق: الثاني، إذ المفروض جواز التأخير شرعا، كما هو مفاد توسعة
الوقت، فإذا كان جائزا وتفرع عليه ترك الفعل لم يعقل منه صدور العصيان، ولم
تصح عقوبته عليه، إذ لا عقاب على الجائز.
وقد يورد عليه: بأن الجائز شرعا هو التأخير والإتيان بالفعل في الوقت
الأخير دون الترك، وحيث كان المظنون هو الإتيان به فيما بعد الأول جوز الشارع
له التأخير والإتيان بعد ذلك. وليس المجوز له شرعا ترك الفعل، وإلا لخرج
الواجب عن الوجوب.
ومحصل ذلك: أن المجوز هو التأخير بشرط سلامة العاقبة، فلا جواز مع
عدمها.
وأورد عليه: بأن سلامة العاقبة مما لا يمكن العلم بها، فلو كانت شرطا في
المقام لأدى إلى التكليف بالمحال، لإحالة التأخير حينئذ على أمر مجهول يمتنع
العلم به.
ودفع ذلك: بأنه إنما يلزم التكليف بالمحال لو كان التأخير واجبا، أما لو كان
جائزا فلا، لجواز التقديم أيضا، فيكون المكلف به هو القدر الجامع بين الأمرين
من التقديم والتأخير المشروط بالشرط المحال، ولا استحالة فيه، إذ القدر الجامع
بين المقدور وغير المقدور مقدور.
وأجيب عنه: بأن الواجب حينئذ هو التقديم، إذ يتعين عليه في مقام الامتثال
اختيار المقدور، فلا يجوز له التأخير عن أول الأزمنة، فيكون واجبا مضيقا لا
موسعا هذا خلف. وأيضا يكون الحكم بجواز التأخير حينئذ لغوا غير جائز على
الحكيم، نظرا إلى عدم إمكانه، لتوقفه على الشرط المحال.
ويمكن أن يقال: إن توقف التأخير على سلامة العاقبة لا يقضي بتوقفه على
364

العلم بها ليرد ما ذكر، بل يكتفي في ذلك بالظن نظرا إلى انسداد سبيل العلم به،
وهو ممكن الحصول في العادة.
فإن قلت: إن الاكتفاء فيه بالظن قاض بانتفاء الإثم، إذ المفروض حصول
الظن المفروض وطروء المانع بغتة فلا عقاب على الجائز.
قلت: ليس الظن المفروض شرطا في الجواز ليجوز التأخير في الواقع مع
حصوله، وإنما الشرط في المقام هو السلامة، لكن لما لم يتمكن المكلف من العلم
بها اكتفى فيه بالظن، فهو إنما يكون طريقا إلى حصول الشرط لا عينه، فإذا تخلف
الطريق عن الواقع تفرع على الواقع ما يتفرع عليه من الإثم والعقوبة، فالعقوبة
المتفرعة على ترك الواجب الحاصل بالتأخير لا يتخلف عنه في المقام، إلا أنه لما
كان المكلف مطمئنا من أداء الواجب وعدم حصول الترك منه جاز له التأخير من
تلك الجهة، ولو كان معتقدا حصول العقوبة على فرض التخلف وحصول الترك فلا
ينافي ذلك تفرعه عليه، ولا تجويز الشرع أو العقل الإقدام عليه في هذه الحال،
ألا ترى أنه لو ظن سلامة الطريق جاز له السفر، بل وجب عليه مع وجوبه؟ ولا
يقضي ذلك بعدم تفرع ما يترتب على السفر من المفاسد المحتملة فيه. والعقل
والشرع إنما يجوزان الإقدام من جهة بعد ذلك الاحتمال وإن تفرع عليه ذلك على
فرض خطأ الظن المفروض، فأي مانع في المقام من تفرعه عليه مع ظهور الخطأ؟
ويدفعه: أن الآثار المتفرعة هناك إنما تترتب على نفس الأفعال، والأثر
المترتب هنا إنما يتفرع على حصول العصيان والإقدام على المخالفة، وحيث
تحقق منه الإذن في التأخير مع ظن السلامة فلا إقدام على المعصية ضرورة. وإن
تخلف الظن عن الواقع وحصل ترك المطلوب لتحقق الترك حينئذ على الوجه
المشروع السائغ المأذون فيه من الآمر فلا يعقل ترتب العقوبة عليه من تلك الجهة،
مع عدم مخالفته لمولاه وجريانه على مقتضى إرادته وإذنه، فليس ما نقوله من
انتفاء العقوبة مبنيا على الملازمة بين الاكتفاء بظن سلامة العاقبة وحصول السلامة
ضرورة حصول التخلف في المثال المفروض وغيره، وإنما المقصود عدم إمكان
365

حصول الإقدام على العصيان مع تجويز التأخير إذا اتفق معه حصول الترك من
غير اختياره.
ومن هنا قد يتخيل الفرق بين الواجبات الموسعة في حكم الشرع وما حكم
بتوسعة العقل، إذ مع تجويز الشرع للتأخير لا يعقل منه التأثيم والعقوبة على الترك
المتفرع على تجويزه. وأما لو كان ذلك بحكم العقل من دون حكم الشرع بجواز
التأخير فلا يتجه ذلك، فإن الآمر يريد الفعل من المأمور لا محالة في أي جزء كان
من الزمان، من غير فرق عنده بين إيقاعه في الأول أو غيره، والعقل إنما يجوز
التأخير من جهة الظن والاطمئنان بحصول مطلوب الشارع في الزمان الثاني أو
الثالث - مثلا - على نحو ما ذكر في المثال.
فإن قلت: إن تجويز العقل التأخير كتجويز الشرع، لما تقرر من أن ما حكم به
العقل فقد حكم به الشرع، فأي فرق بين الصورتين؟
قلت: إن العقل في المقام لا يجوز التأخير الذي يترتب عليه الترك، وإنما
يجوز التأخير من جهة اطمئنانه بحصول المطلوب في الثاني مثلا، ولذا ترى أنه
يجوز ذلك مع اعتقاده تحقق الإثم والعقوبة على فرض تفرع الترك على التأخير
لبعد ذلك الاحتمال في نظره، كما في احتماله اخترام السبع له أو قتل اللص في
إقدامه على السفر مع ظن سلامته، فحكم العقل بجواز التأخير على الوجه المذكور
لا ينافي تفرع العقوبة على فرض التخلف، لئلا يلزم المطابقة بين الحكمين. بل لو
حكم الشرع أيضا بجواز التأخير على الوجه المذكور من جهة اطمئنانه بعدم
حصول العصيان لم يمنع ذلك من عقوبته على فرض حصول العصيان، وإنما قلنا
بالمنع أولا من جهة إطلاقه التجويز.
هذا غاية ما يتخيل في المقام، لكنك خبير بأن ذلك لا يصحح تفرع العقوبة،
ولا تحقق العصيان، إذ ليس العصيان مجرد ترك المأمور به، لحصوله من الساهي
والناسي ونحوهما مما لا كلام في عدم عصيانه، وإنما العصيان ترك المأمور به
على وجه غير مأذون فيه، والمفروض حصول الإذن في التأخير الملازم للترك
366

بحسب الواقع، وإن لم يعلم به المأمور فلا يعقل حصول العصيان، سواء حصل ذلك
الإذن من الشرع على الوجه المذكور أو غيره، أو من العقل الذي أمر الشرع
باتباعه وقضى البرهان بموافقته لحكم الشرع وكونه من أدلته. فالتحقيق في المقام
عدم تحقق العصيان، وعدم ترتب الذم والعقوبة على ذلك في المقام مطلقا.
خامسها: أنه لو شك في تمكنه من الفعل مع التأخير أو خروج الوقت ففي
جواز التأخير وجهان:
من استصحاب القدرة وبقاء الوقت، وثبوت جواز التأخير بحكم الشرع في
الصورة الأولى، فلا يدفع بمجرد الاحتمال.
ومن وجوب الفعل وعدم جواز الإقدام على تركه، ومع الشك المفروض
يكون في تأخيره الفعل إقدام على ترك الامتثال، لعدم اطمئنانه إذا بأداء الواجب.
فقد يتأمل في شمول ما دل على جواز التأخير لتلك الصورة، وقد يفصل في
ذلك بين الموسع الموقت والتوسع الثابت بحكم العقل في الواجب المطلق، فيقال
بجواز التأخير في الأول، نظرا إلى إطلاق الإذن في التأخير، بخلاف الثاني فإن
حكم العقل بجواز التأخير إنما هو من جهة وثوقه بحصول الفعل، ولا وثوق مع
الشك.
ويمكن أن يقال بدوران الحكم في المقامين مدار خوف الفوات بالتأخير
وعدمه، فيمنع منه مع حصول الخوف في الصورتين دون ما إذا لم يخف الفوات.
هذا كله في جواز التأخير وعدمه. وأما إذا أخره حينئذ - سواء قلنا بعصيانه أو
لا - فلا ريب في الحكم بكونه أداء إلى أن يثبت خروج الوقت. ومنه يظهر قوة
القول بجواز التأخير فيما إذا اعتقد بقاء الشك المفروض مع التأخير، لتمكنه حينئذ
من أداء الفعل في ما يحكم شرعا بكونه من الوقت. ولو كان بقاء شكه من جهة
ترك الاستعلام مع تمكنه منه ففي جواز التأخير نظر، ولو أخره فالظاهر عدم
وجوب الاستعلام، وكونه أداء مع عدم ظهور خروج الوقت.
سادسها: أنه لو كان بانيا على ترك الفعل مطلقا في أول الوقت ثم اتفق موته
367

فجأة - مثلا - في أثناء الوقت فهل يكون عاصيا بترك الفعل لصدق كونه متعمدا
لترك الواجب، أو أنه لما كان التأخير جائزا في حكم الشرع لم يتحقق منه عصيان
بالتأخير، والترك الحاصل في ما بعد ذلك مقرون بعدم التمكن من الفعل، فلا
تكليف إذا ليتصور معه العصيان، فهي كصورة العزم على الفعل حسب ما مر، غاية
الأمر أن يكون حينئذ عاصيا بترك العزم، أو العزم على الترك على القول بوجوب
العزم، أو تحريم العزم على الترك، ولا ربط لذلك بالعصيان لترك أصل الفعل؟
وجهان، كان أوجههما الأول، لا من جهة وجوب العزم وبدليته عن الفعل، بل لما
عرفت من صدق تعمده لترك الواجب حينئذ عرفا، واتفاق انتفاء التمكن منه في
الأثناء لا يدفع الصدق المذكور.
نعم، لو ندم عن ذلك وكان بانيا على الفعل على فرض التمكن منه فربما أمكن
القول بعدم صدق ذلك، إلا أنه لا يخلو عن بعد، ولو كان غافلا عن الفعل في الآخر
غير ملتفت إليه فالظاهر عدم ترتب الإثم حينئذ على التأخير، لعدم صدق تعمد
الترك، ولو كان متذكرا للفعل في الآخر مترددا في الإتيان به وعدمه فوجهان.
سابعها: أنه لو أتى بما يرفع التمكن من الفعل: فإن كان ذلك قبل دخول الوقت
وتعلق الوجوب بالمكلف فيما يكون الوقت شرطا للوجوب فالظاهر أنه مما لا
مانع منه في المضيق والموسع.
وإن كان بعد دخول وقت الموسع فإن كان مانعا من الإتيان به في تمام الوقت
مع العلم به فالظاهر أنه في حكم تعمد الترك، والظاهر أنه لا فرق بين ما إذا كان
متمكنا من الفعل حين الإتيان بذلك المانع، أو غير متمكن منه لجهة أخرى إذا لم
يكن مانعا منه في جميع الوقت علما أو ظنا. ولو علم ببقائه فلا مانع من تعرضه
للآخر.
وكذا الحال لو أتى بذلك قبل دخول الوقت فيما لا يكون الوقت شرطا في
وجوبه إذا علم كونه مانعا منه في جميع الوقت. ولو شك في ارتفاع المانع الحاصل
قوي المنع من التعرض لمانع آخر يمنع من الفعل مطلقا علما أو ظنا. ولو ظن بقاء
368

الحاصل ففي جواز إتيانه بمانع آخر يعلم معه المنع وجهان، أوجههما المنع.
ولو ظن معه بالمنع أيضا ففيه وجهان.
ولو كان شاكا في كون ما يقدم عليه مانعا من الإتيان بالواجب في جميع
الوقت ففي جواز الإقدام عليه حينئذ وجهان، وذلك كما إذا أراد النوم بعد دخول
الوقت وكان شاكا في تيقظه قبل انقضاء الوقت. وأما إذا كان ظانا بالانتباه فلا يبعد
الجواز، وحينئذ فإن اتفق استمراره على النوم لم يكن عاصيا حسب ما مر.
ثامنها: أنه قال بعض الأفاضل: ومما يتفرع على توسيع الوقت وحصول
التخيير بين جزئيات الأفعال المتميزة بحسب أجزاء الوقت والتخيير بين لوازم
تلك الأفعال بحسب تلك الأوقات: كما إذا كان مقيما في بعض أجزاء الوقت
مسافرا في بعضها، وكونه صحيحا في بعضها مريضا في البعض، واجدا للماء في
بعضها فاقدا له في آخر فيتخير بين تلك الخصوصيات واللوازم، كما أنه يتخير بين
نفس الأفعال، إذ التخيير بين الأفعال يستتبع التخيير في لوازمها. قال (رحمه الله): فلا
يمكن التمسك باستصحاب ما يلزم المكلف في أول الوقت في جزء آخر،
فالمكلف في أول الظهر إنما هو مكلف بمطلق صلاة الظهر، فعلى القول باعتبار
حال الوجوب في مسألة القصر في السفر لا يمكن التمسك باستصحاب وجوب
التمام أول الوقت.
أقول: قضية ما ذكره (رحمه الله) جواز أداء الواجب لأصحاب الأعذار في أول
الوقت، من غير حاجة إلى التأخير مع رجاء زوال العذر وعدمه، بل ومع الظن أو
القطع بارتفاعه، بل الظاهر مما ذكره قضاء ذلك بجواز التأخير مع عدم حصول
العذر في الأول إذا ظن أو علم بحصوله مع التأخير، بل ويجوز إذا إيجاده العذر
المسقط للخصوصية الاختيارية، نظرا إلى ما زعمه من التخيير، وهذا الكلام على
إطلاقه مما لا وجه له أصلا.
وتوضيح الكلام في المقام: أن الخصوصيات التابعة لكل من تلك الأفعال
الخاصة: إما أن تكون ثابتة للطبيعة المطلقة في حال الاختيار فتكون متساوية
369

الثبوت بالنسبة إليها، أو تكون مختلفة في ذلك فيثبت بعضها في حال الاختيار
وبعضها في حال الاضطرار. ثم إن تلك الخصوصية: إما أن تكون معلوم الثبوت
للجزئي الواقع في الزمان الخاص، أو تكون مشكوك الثبوت له، فيفتقر الحكم
بثبوتها له على إقامة الدليل عليه، فإن كانت تلك الخصوصيات في درجة واحدة
فلا ريب في تخيير المكلف بينها، كالصلاة التامة والمقصورة والصلاة مع الوضوء
أو الغسل الرافع. وإن كان ثبوت أحدهما في حال الضرورة لم يجز له تأخير
الواجب إليه مع تمكنه أولا من الخصوصية الاختيارية، لتعين ذلك عليه حينئذ فلا
يجوز له تركه مع الاختيار. والتخيير الحاصل من توسعة الواجب ولو قلنا به على
نحو ما يظهر من المصنف (رحمه الله) لا يفيد ذلك، إذ أقصى الأمر أن يفيد التخيير كذلك
بين الخصوصيات الاختيارية، وأما تخييره بين الاختياري والاضطراري فلا
يكون إلا على وجه الترتيب، فلا يجوز ترك الأول مع الإمكان واختيار الثاني،
فتفريع ذلك على التخيير المفروض غير متجه.
ومنه يظهر الحال فيما لو كان في الأول على صفة الاضطرار لكن كان متمكنا
من الصفة الاختيارية مع التأخير فإن قضية الأصل في ذلك أيضا وجوب التأخير
أخذا بمقتضى الترتيب، لصدق حصول التمكن معه حينئذ، فلا يتعلق به التكليف
بالأول مع إمكان أداء الواجب على وجهه.
والقول بتعلق الأمر به في كل جزء من أجزاء الزمان على وجه التخيير، فيعتبر
حاله في كل جزء من الزمان من القدرة والعجز فيأخذ بمقتضاه غير متجه، إذ قد
عرفت أن المطلوب في المقام هو حقيقة الفعل الواقع بين الحدين، والتخيير الواقع
بين أجزاء الوقت تخيير عقلي تبعي، فمع صدق التمكن من الواجب الاختياري لا
وجه للتنزل إلى ما يجب حال الاضطرار مع عدم قيام الضرورة عليه. بل على ما
ذهب إليه المصنف (رحمه الله) من التخيير - كما هو ظاهر القائل المذكور - لا يتجه ذلك
أيضا، إذ أقصى الأمر أن يكون التخيير مرتبا، إذ لا يساوق حال الضرورة حال
الاختيار. وعدم حصول التمكن منه بالنسبة إلى خصوصية ذلك الزمان لا يقضي
370

بعدم صدق التمكن منه مطلقا، فلا وجه لترك ما يقدر عليه من العمل الواجب عليه
مع الاختيار واختيار الآخر.
فلا يتجه لأصحاب الأعذار تقديم الصلاة في أول الوقت مع علمهم بزوال
العذر في الآخر أو ظنهم به على حسب ما يقتضيه الأصل المذكور. نعم، لو قام
عليه في خصوص المقام فهو خارج عن محل الكلام.
[الواجب الكفائي]
ولنتبع الكلام في الواجبين المذكورين بذكر الواجب الكفائي حسب ما جرت
عليه طريقة القوم في المقام، وكأنه تركه المصنف لعدم الخلاف في وقوعه، وعدم
ظهور الخلاف بيننا في وجوبه على الجميع حسب ما يأتي الإشارة إليه.
وعرف تارة: بأنه الواجب الذي يريد به الشارع وقوعه من غير أن يقصد عين
فاعله، حسب ما يستفاد من عدة من تعاريفهم.
وتارة: بأنه الواجب الذي يسقط من الكل بفعل البعض علما أو ظنا، وقريب
منه ما يستفاد من الروضة من تحديده بما يجب على الجميع إلى أن يقوم به من به
الكفاية، فيسقط عن الباقين سقوطا مراعى باستمرار القائم به إلى أن يحصل
الغرض المطلوب شرعا.
وأخرى: بأنه ما وجب على الجميع لا على سبيل الجمع، وفي معناه أنه ما
وجب على الكل على البدل، لا معا.
وأولى حدوده: أنه ما وجب على الكل على وجه يقتضي أداؤه من أي بعض
كان ممن يحصل منه ذلك المطلوب، ويستفاد ذلك أيضا من الروضة.
ولا خلاف بين المسلمين في وقوعه في الشريعة، بل لا يبعد دعوى الضرورة
عليه في الجملة وحكاية الاجماع على وجوب خصوص بعض الواجبات، كما في
كتب الفروع.
وقد وقع الخلاف فيمن يتعلق به الوجوب الكفائي على أقوال، ومنشأ
371

الاختلاف: أن حكم الكفائي بالاتفاق من الكل عصيان الجميع بالترك، وأداء
الواجب وسقوطه بفعل البعض.
فالأول قاض بوجوبه على الجميع، وإلا لما عصى الكل بالترك.
والثاني قاض بوجوبه على البعض وجواز تركه من الباقين في الجملة،
وإلا لما أدى بفعل البعض، والمنقول فيه أقوال ثلاثة:
أحدها: أن الوجوب فيه متعلق بالجميع، ويسقط من الباقين بفعل البعض،
وهو المحكي عن أصحابنا، وقد نص عليه جماعة منهم، وفي غاية المأمول: أنه
المشهور وعليه أصحابنا وأكثر العامة.
ثم إن ظاهر ما يتراءى من ذلك بل المحكي عنهم في ذلك: أنه يجب على
الجميع على نحو الوجوب العيني، ويسقط الوجوب عنهم بفعل البعض، قيل: كما
أن طروء الحيض من مسقطات الصلاة عن الحائض فالذي يوهمه ذلك وكلام
جماعة منهم كون سقوط الوجوب حينئذ عن الباقين من جهة انتفاء الموضوع
حينئذ بفعل البعض. والذي يتقوى في النظر ويحتمل أن يكون مراد الجماعة كما
هو الظاهر من بعضهم: أنه يجب على الجميع على وجه يقتضي أداء ذلك الواجب
بفعل البعض، فسقوطه عن الباقين إنما هو بأداء الواجب، لا بعروض المسقط له،
فليس من قبيل سقوط وجوب أداء الدين بأداء الغير له على وجه التبرع أو إبراء
الغريم إياه، حيث لا يبقى معه موضوع للدين حتى يجب أداؤه، بل إنما يسقط
بحصول عين الواجب كسقوط سائر الواجبات العينية بأدائها، ولا يكون أداء
الواجب حينئذ إلا من المباشر له حيث إنه القائم به دون غيره.
ثانيها: تعلق الوجوب فيه بالبعض ممن يكتفي به في أداء الفعل، نظير ما ذكر
في الواجب المخير من تعلق الوجوب بأحد الأفعال، غير أن الإبهام هناك في
المكلف به، وهنا في المكلف، وهو محكي عن جماعة من العامة، كالرازي
والبيضاوي، وعزي إلى الشافعية، ولم ينسب ذلك إلى أحد من الخاصة، بل أكثر
العامة على ما ذكر على خلافه. فإن أريد بذلك كون المكلف هو البعض المبهم الغير
372

المعين بحسب الواقع كما أنه غير متعين عندنا فمن البين فساده، لوضوح كون
التكليف صفة وجودية لا يمكن تعلقه خارجا بالمبهم، ضرورة صحة سلبه عن كل
بعض معين، فيصح سلبه كليا عن الجميع، فلا يجامع الإيجاب الجزئي. وبتقرير
آخر: البعض المبهم غير موجود في الخارج، فلا يعقل أن يتعلق به صفة وجودية
في الخارج.
وإن أريد به تعلق التكليف بالبعض المعين بحسب الواقع وفي علم الله سبحانه
وإن لم يتعين عندنا - كما حكي ذلك أيضا قولا في المقام وإن لم يعرف القائل به -
فهو أيضا ظاهر الفساد، لاختصاص الوجوب إذا بذلك البعض، وإن قام فعل الغير
مقامه وقضى بسقوطه عنه حسب ما دل الدليل عليه، إلا أن ذلك لا يقضي بعصيان
الكل عند ترك الإتيان به كما يقضي به اتفاق الكل عليه.
غاية الأمر لزوم العصيان من جهة التجري إن سلم لزوم ذلك، وذلك غير
عصيانهم بترك الواجب على ما يقضي به الاجماع، مضافا إلى أنه لا ترجيح
للبعض على البعض في أداء المطلوب، فتخصيص الشارع بعضهم بذلك دون غيره
ترجيح من غير مرجح يستحيل حصوله منه.
وإن أريد به تعلق الوجوب بمطلق البعض على نحو الكلي الطبيعي الصادق
على كل من الأبعاض حسب ما ذكر نظيره في الواجب المخير فيجب إذا على كل
من الأفراد بدلا لانطباق مفهوم البعض عليه، فهو عين القول بوجوبه على الكل
على سبيل البدل، إذ ليس المكلف مفهوم البعض، بل هو عنوان لكل من أبعاض
المكلفين، فيكون المكلف هو كل من تلك الأبعاض على وجه يراد الفعل من أي
منهم كان، وقضية التكليف الحاصل على الوجه المذكور أداء الواجب بفعل أي
منهم وعصيان الجميع عند ترك الكل، فيعود الخلاف بين القولين لفظيا.
ثالثها: القول بوجوبه على المجموع من حيث هو، لا على كل واحد منهم،
ولا على البعض، فمع الترك يلزم تأثيم المجموع بالذات، وتأثيم كل واحد منهم
بالعرض، ومع إتيان البعض به يصدق حصول الفعل من المجموع في الجملة
فيسقط الوجوب، وعزي القول به إلى قطب الدين الشيرازي.
373

وأنت خبير بأن من الظاهر عدم وجوب الفعل على المجموع بحيث يكون
المطلوب حصول ذلك الفعل من المجموع من حيث هو، وكذا عدم وجوبه على
المجموع بأن يراد صدور الفعل الواحد من المجموع، لعدم الاكتفاء إذا بفعل
البعض، ووجوب تلبس المجموع بذلك الفعل إما بالتكرير كما في الأول، أو
التقسيط كما في الثاني، فإذا أراد من وجوبه على المجموع أن يجب على المجموع
صدور الفعل من البعض فهو غير معقول، إذ لا معنى لوجوب الفعل الصادر من الغير
على آخر.
وإن أراد به وجوب صدور الفعل على تلك الجماعة في الجملة بحيث يحصل
أداؤه من أي واحد منهم فليس مفاده إلا وجوب الفعل على الجميع على سبيل
البدلية، كما هو الحق في تفسير القول الأول، بل هو مرجع للقول الثاني كما عرفت،
فيكون مرجع الأقوال الثلاثة إلى شئ واحد ويعود الخلاف بينها لفظيا.
هذا، وقد حكي عن بعض المتأخرين: أن الواجب الكفائي واجب مطلق على
البعض الغير المعين، وواجب مشروط على كل بعض منهم، بمعنى أنه يجب على
كل بعض بشرط عدم قيام الباقين به. وقد اختاره بعض المعاصرين، زاعما أن كل
واجب كفائي يشتمل على واجب مطلق ومشروط، فالأول متعلق بالبعض الغير
المعين، والثاني بالجميع.
وظاهر كلامه في تفسير البعض الغير المعين أنه البعض اللابشرط الصادق
على كل بعض، فيكون وجوبه على كل بعض من جهة انطباق اللابشرط عليه،
فالخصوصية المتعينة غير ملحوظة في المقام، وإنما يتعلق الوجوب بالكلي
اللابشرط الصادق عليه المتعين به.
وحكي في المقام عن بعض المتأخرين: أن كل واجب كفائي يستلزم واجبا
عينيا مشروطا يدل عليه الأمر بالكفائي بالالتزام، وهو هذا الفعل بشرط عدم قيام
غيره به، فالواجب الكفائي واجب مطلق على بعض غير معين، والواجب
المشروط يجب على جميع الأفراد، فإذا لم يقم أحد منهم به عوقب الكل بالترك
374

لا لأجل تركهم الكفائي، بل لتركهم الواجب المشروط مع تحقق الشرط، ومع قيام
البعض لا يعاقب الباقون، لعدم تحقق شرط الوجوب.
فإن كان المقصود مما ذكر أولا هو ما ذكر هنا اتحد القولان، وإلا اختلفا.
فكيف كان فهو ظاهر الوهن، إذ ليس في الكفائي وجوبان، ضرورة أنه ليس
مطلوب الشارع إلا أمر واحد يحصل بقيام أي بعض منهم، فإيجابه ذلك على كل
منهم على سبيل البدل قاض بحصول الواجب بفعل أحدهم، واستحقاقهم جميعا
للعقاب على فرض ترك الكل حسب ما يأتي توضيح القول فيه، فتعين الفعل على
كل منهم على فرض ترك الباقين له هو عين وجوبه الكفائي الثابت أولا قبل فرض
ترك غيره.
والظاهر أن القول المذكور إنما نشأ من ضيق الخناق في الجميع من حصول
الواجب بفعل البعض واستحقاق الجميع للعقوبة على فرض ترك الكل، حيث رأى
أن الوجوب على البعض ينافي استحقاق الكل للعقوبة. كما أن تعلق الوجوب في
التخييري بأحدها ينافي استحقاقه العقوبة بالكل على تقدير ترك الجميع، بل إنما
يعاقب على أحدها فزعم حصول وجوبين في المقام على الوجه المذكور.
وقد عرفت ما يدفع الإشكال من غير حاجة إلى الالتزام بذلك، على أنه
يمكن أن يقال أيضا: إن ما ذكره وإن صحح الحكمين المذكورين إلا أنه يلزم على
تقدير ترك الجميع استحقاق عقوبتين: أحدهما على ترك ذلك الواجب المشروط
بعد تحقق شرطه بالنسبة إلى الكل الذي لازم الوجوب الكفائي على ما نص عليه
ذلك البعض. والآخر على ترك نفس الواجب الكفائي المتعلق بالبعض، ولا قائل به
فكيف يصح الحكم بوجوبه كذلك مع عدم استحقاق العقوبة على تركه أصلا؟ إلا
أن يقول بارتفاع ذلك الوجوب حينئذ، بل ترقيه إلى العيني فيكون وجوبه كفائيا
على تقدير قيام البعض به، وعينيا على تقدير عدمه.
وهو كما ترى تعسف ظاهر، بل تمحل فاسد لا يوافق الخطاب المتعلق بالفعل،
ولا باعث على الالتزام به. وما ذكره في تفسير البعض الغير المعين إن أراد به كون
375

ذلك البعض عنوانا لكل من مصاديقه فيكون الوجوب متعلقا بكل من مصاديقه
على سبيل البدلية - حسب ما قررناه - فهو عين القول بوجوبه على الكل بدلا، كما
عرفت. وإن أراد به وجوبه على أحدهم على سبيل الكلي اللابشرط حسب ما
يقال في متعلق الوجوب في التخييري فيصدق ذلك مع كل من الآحاد فهو فاسد،
لما عرفت من إبهام اللابشرط في الخارج، وإنما يصح تعلق الوجوب في
التخييري من جهة تعلقه به في الذمة، وهو متعين فيه، كما يتعين الكلي الطبيعي في
الذهن، وسيأتي توضيح القول فيه.
ثم إنه مع البناء على ظاهر الاختلاف بين الأقوال المذكورة فلنذكر حجج
القائلين بها، فنقول: حجة الأولين بعد اتفاق الإمامية عليه حسب ما يظهر منهم
وجوه:
أحدها: أنه لو وجب على البعض لما استحق الجميع للعقاب على تقدير تركهم
له، لوضوح أن استحقاقه العقاب يتبع تعلق الوجوب به، فإذا استحق كل منهم
العقوبة بتركه دل على وجوبه حينئذ على كل بخصوصه، إذ لولا ذلك لكان
استحقاقه العقوبة بترك ما وجب على غيره، أو بترك الغير ما وجب عليه، وهو غير
معقول. وأما بطلان التالي فلقيام الاجماع على استحقاق الجميع حينئذ للعقوبة،
وقد حكاه جماعة، منهم: العلامة، والسيد العميدي، وشيخنا البهائي، والفاضل
الجواد، والحاجبي. وقد يورد عليه بوجوه:
الأول: أنه لا ملازمة بين تأثيم الكل واستحقاقهم للعقوبة والوجوب على
الكل، إذ يمكن القول بوجوبه على مطلق البعض وتأثيم الكل عند ترك الكل، ألا
ترى أنه يصح للمولى أن يقول لعبيده: " ليأت أحدكم بهذا الفعل في هذا اليوم البتة
ولو تركتموه أجمع لأعاقبنكم جميعا على ترك مطلوبي " ويحكم العقلاء حينئذ
بتأثيم الجميع واستحقاقهم للعقوبة مع إيجابه الفعل على أحدهم.
وفيه: أنه إن أريد بوجوبه على مطلق البعض كون المكلف هو البعض في
الجملة من غير أن يتعلق الوجوب بكل منهم فقضاء ذلك بتأثيم الجميع غير معقول،
376

بل قضية ذلك هو تأثيم المكلف - الذي هو البعض - واستحقاقه العقوبة عند
المخالفة، ضرورة قضاء ترك المأمور به بتأثيم المكلف عند المخالفة واستحقاقه
العقوبة دون غيره، وهو مع مخالفته للإجماع مما لا محصل له.
وإن أريد وجوبه حينئذ على كل واحد واحد من جهة كونه بعضا منهم فهو
عين القول بوجوبه على الكل، حسب ما يأتي توضيح القول فيه إن شاء الله، وعليه
يحمل المثال المفروض.
الثاني: ما أشار إليه جمال المحققين في حواشيه على العضدي من منع التنافي
بين تعلق الوجوب بالبعض المبهم وتعلق الإثم بالجميع، بل لا مانع منه، وكون ذلك
غير معقول ممنوع، فإن الظاهر - كما يشهد به الملاحظة الصحيحة - تعلق الوجوب
أولا على البعض المبهم، والغرض صدور الفعل من البعض، أي بعض كان، لكن لما
لم يكن تأثيم غير المعين معقولا تعلق القصد ثانيا بتأثيم الجميع لو تركوه، ولا
يمكن إنكار ذلك فضلا عن أن لا يكون معقولا.
وفيه: أنه إن أراد بذلك - كما هو الظاهر من كلامه - أن تعلق الوجوب بالبعض
على الوجه المذكور لما لم يكن قاضيا بتأثيم الجميع وعصيان الكل عند المخالفة -
حسب ما قررناه - فلا بد في الحكم بتأثيم الكل من تعلق قصده ثانيا بتأثيم الجميع
على فرض المخالفة حتى يمكن إسناد الإثم إليهم جميعا فهو غير معقول المعنى، إذ
لو أراد من تعلق قصده ثانيا بتأثيم الكل حكمه بالوجوب على الكل ليتفرع عليه
تأثيمهم على تقدير المخالفة فهو قول بتعلق الوجوب بالكل، واعتبار إيجابه ذلك
عليهم ثانيا مما لا ثمرة فيه، بل لا وجه له أصلا، إذ لو كان تأثيم البعض المبهم غير
معقول كان الحكم بوجوبه على البعض كذلك غير معقول أيضا، لمساوقتهما.
وإن أراد مجرد الحكم بتأثيم الجميع ثانيا ليتفرع عليه عصيان الكل على
تقدير المخالفة من غير أن يتعلق الإيجاب حينئذ بالكل فهو أيضا بين الفساد، إذ لو
لم يكن مخالفة التكليف المفروض قاضيا بتأثيم الجميع كيف يجوز للحكيم الحكم
بتأثيمهم! وهل هو إلا حكم بخلاف ما يستحقونه وظلم بالنسبة إليهم إن فرع على
ذلك ورود العقوبة عليهم كما هو قضية التأثيم؟
377

وإن أراد بذلك أن الحكم بالوجوب على البعض أولا قاض بوجوبه على الكل
ثانيا عند التأمل، نظرا إلى كون البعض المطلوب عنوانا لكل من الأبعاض فيتفرع
عليه تأثيم الكل حسب ما مر بيانه، ويساعده فهم العرف، فهو متجه وإن بعد عن
كلامه، إلا أنه عين القول بوجوبه على الكل، فإنهم لا يريدون به سوى ذلك عند
التحقيق حسب ما فصلنا القول فيه.
الثالث: أن ما يقتضيه الوجوب على البعض هو الحكم بتأثيم البعض دون
الكل، وما يرى من استحقاق الجميع للعقوبة إنما هو لأجل ما يستلزمه ذلك
التكليف الكفائي من الوجوب العيني المشروط المتعلق بكل واحد منهم، حسب
ما مر الكلام فيه.
وفيه ما عرفت من بطلان القول بثبوت تكليفين في المقام، مضافا إلى أن
استحقاق كل منهم العقوبة من جهة الوجوب المتعلق بأحدهما لا يقضي بمعقولية
الوجوب الآخر مع عدم تحقق استحقاق العقوبة من جهة مخالفته.
ثانيها: أنه لو وجب على أحدهم ولا تعين له عندنا ضرورة: فإما أن يكون
معينا بحسب الواقع، أو يكون مبهما في الواقع أيضا. لا سبيل إلى شئ من
الوجهين.
أما الأول فلوضوح عدم جواز استحقاق شخص للعقوبة من جهة ترك غيره ما
وجب عليه، بل قضية دوران التكليف في غير الكفائي بين شخصين عدم تعلقه
بشئ منهما، وعدم استحقاق كل منهما للعقوبة بتركه، كما في الجنابة الدائرة بين
شخصين.
وأما الثاني فلكون الوجوب أمرا خارجيا لا يمكن تعلقه خارجا بالمبهم، بل
لا بد له من متعلق متعين في الخارج ليصح تعلقه به. وقد يورد عليه بما سيجئ
الإشارة إليه وإلى جوابه في حجة القول الثاني.
ثالثها: أنه يصح لكل منهم أن ينوي الوجوب بفعله إجماعا، ولو كان واجبا
على البعض لما صح ذلك، لكون قصد الوجوب من غير من يجب عليه بدعة محرمة.
378

وأورد عليه: بأن الواحد الغير المعين لما كان ملحوظا على وجه اللابشرط
كان صادقا على كل منهم أنه البعض، وكان ذلك حاصلا به، فصح لكل منهم قصد
الوجوب به.
وفيه: أن ذلك عين القول بوجوبه على الكل، حسب ما مر بيانه، فهو إذا
واجب على الكل بدلا على نحو صدق البعض عليها، لكن لا يقوم الوجوب إلا
بكل واحد لا بمفهوم البعض، إذ لا وجود له كذلك ليعقل تعلق الوجوب به.
حجة القول ا لثاني أمور:
الأول: أنه لو وجب على الجميع لما سقط بفعل البعض، والتالي باطل إجماعا.
وأورد عليه: بأن سقوط الوجوب بفعل البعض بل بفعل غير المكلف لا ينافي
وجوبه على ذلك المكلف، كما أن أداء الدين من غير المديون قاض بسقوطه عنه،
مع أن المؤدي لا يجب عليه الأداء.
وفيه: أن سقوط الواجب قد يكون بأدائه، وقد يكون بانتفاء موضوعه،
والسقوط المفروض في المقام إنما هو بأدائه، ولا يعقل أن يكون بفعل غير المكلف.
وقد يدفع: بأن سقوط الواجب عن البعض الفاعل إنما هو بالأداء، وعن
الباقين بانتفاء موضوعه.
ويدفعه: أن سقوط الواجب عن الكل إنما هو بأدائه وإن كان المؤدي هو
البعض حسب ما عرفت.
الثاني: أن أداء الواجب بقيام البعض به دليل على تعلق الوجوب بالبعض،
فالمقتضي له موجود، والمانع منه مفقود، إذ لا يتصور هناك مانع سوى إبهام
البعض، وهو غير قابل للمنع، وإلا لقضى بالمنع من تعلق الوجوب به في المخير
أيضا، وقد عرفت خلافه.
والجواب عنه: ظهور الفرق بين المقامين، إذ لا يعقل تعلق الإثم بواحد غير
معين من الشخصين، ولا مانع من لحوق الإثم بواحد معين لترك واحد غير معين
من الفعلين.
379

وبالجملة: لا يعقل تأثيم المبهم دون التأثيم به، فهو الفارق بين الأمرين.
والسر فيه: أن أحد الفعلين مفهوم متعين في الذهن فيمكن اشتغال الذمة به، فإن
الذمة بمنزلة الذهن يتعين فيه الكلي فيصح اشتغالها به. وأما إحدى الذمتين فلا
تعين لها في الخارج، فلا يعقل تعلق الاشتغال بها في الخارج مع إبهامها فيه. كما
أن حصول أحد التصورين في النفس من دون تعينه بحسب الواقع مما يستحيل
عقلا دون تصور مفهوم أحد الشيئين من غير تعيين ذلك الشئ، وهو ظاهر.
وأورد عليه: بأن ما ذكر إنما يتم لو كان مذهبهم تأثيم واحد مبهم منهم عند
الترك. أما لو قالوا بتأثيم الجميع - كما هو المذهب - فلا يرد ذلك، ولا منافاة بين
الوجوب على البعض وتأثيم الكل عند ترك الكل.
وفيه: أنه مع البناء على تعلق الوجوب بواحد مبهم لا وجه للحكم بتأثيم
الجميع، فإنه إنما يصح القول به لو قيل بقضاء ذلك بوجوب الإقدام في الظاهر على
الجميع، ولا دليل عليه، بل قضية الأصل حينئذ دفع كل واحد منهم الوجوب عن
نفسه بالأصل، كالجنابة الدائرة بين شخصين، بخلاف ما إذا اشتغلت الذمة بأحد
الفعلين على وجه الإبهام، لوجوبهما عليه إذا من جهة تحصيل اليقين بالفراغ بعد
اليقين بالاشتغال، فذلك فرق آخر بين الأمرين.
ولو قيل في المقام بوجوب الإقدام حينئذ على الجميع من جهة النص كان
ذلك قولا بوجوبه على الجميع هذا خلف.
ثم إنه مع الغض عن ذلك وتسليم قضاء ذلك بوجوب الإقدام على الجميع في
الظاهر فقضية الترك من الكل تأثيم واحد غير معين منهم بترك نفس الواجب،
وتأثيم الباقين من جهة التجري، ولا يعقل في الفرض المذكور تأثيم الجميع على
ترك نفس الفعل مع عدم تعلق الوجوب بهم كذلك، فالمفسدة على حالها.
والتحقيق في المقام أن يقال: إنه إن أراد المستدل بتعلق الوجوب على
أحدهم على سبيل الإبهام من دون أن يتعلق بخصوص بعضهم أصلا فقد عرفت
أنه غير معقول، إذ الوجوب أمر خارجي لا بد له من متعلق متعين في الخارج،
380

إذ لا وجود لغير المتعين واقعا في الخارج، فكيف يعقل تعلق الوجوب به في
الخارج؟ كيف! ويصح سلب التكليف حينئذ عن خصوص كل من تلك الآحاد،
فيصح السلب الكلي المناقض للإيجاب الجزئي، بل ربما لا يصح القول بتعلقه
بالمبهم على الوجه المذكور في الواجب المخير مع تعلقه به في الذمة، حسب ما مر
الكلام فيه.
وإن أراد تعلقه بأحدهم بملاحظة المفهوم الكلي الصادق على كل منهم - نظير
ما ذكرناه في المخير - فهو حق ولا مانع منه، فإن الكلي المذكور أمر متعين في
الخارج في ضمن مصاديقه، وتعلق التكليف به قاض بتعلق الوجوب بكل من
مصاديقه على سبيل البدلية، كوجوب الأفراد كذلك عند تعلق الأمر بالطبيعة، إذ
ليس وجوبها كذلك من باب المقدمة، بل هي واجبة كذلك بعين وجوب الطبيعة،
كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله، إلا أن هناك فرقا بين المقامين سنشير إليه
إن شاء الله.
فإيجاب الفعل على أحدهم بالوجه المذكور عين إيجابه على الجميع بالوجه
المذكور حسب ما قررنا. كما أن إيجاب أحد الفعلين في المخير عين إيجاب
الجميع على وجه التخيير حسب ما مر، وقد عرفت عود النزاع حينئذ لفظيا، لكن
لا يذهب عليك الفرق بين أحد الأفراد الملحوظ في الكفائي، وأحدها الملحوظ
في المخير، فإنه لا يمكن أن يلحظ الأحد في الأول إلا عنوانا للجزئيات
المندرجة تحته، ويكون الحكم متعلقا بتلك الجزئيات ابتداء وإن لوحظت بذلك
العنوان الواحد، إذ لا يعقل أن يكون نفس مفهوم الأحد من حيث هو متعلقا
للتكليف، إذ هو كذلك أمر كلي منهم يستحيل وجوده في الخارج فلا يعقل أن
يتعلق به التكليف الذي هو أمر خارجي، والأحد في الثاني يمكن أن يلحظ
عنوانا، فلا يكون متعلق التكليف إلا خصوص الأفعال المندرجة تحته حسب ما
قررناه في المخير، وأن يكون نفس مفهوم الأحد متعلقا للتكليف مرادا من
المكلف، من دون ملاحظة خصوصية الفعل الذي يصدق عليه، فيكون كل من
381

الفعلين مقصودا من حيث انطباق مفهوم الأحد عليه لا بخصوصه، لما عرفت من
كون ذلك المفهوم أمرا متعينا في الذمة يمكن تعلق التكليف به.
إلا أن هذا الاحتمال مدفوع في المخير بجهة أخرى مر تقريرها ثمة، لا من
جهة عدم إمكانه كما في المقام.
وبما ذكرنا يظهر فرق آخر بين الكفائي والتخييري في ذلك، فإن المطلوب في
المخير هو خصوص الأفعال المفروضة من غير أن يكون لانطباق مفهوم الأحد
عليها مدخلية في تعلق الأمر بها، فليس المفهوم المفروض إلا عنوانا محضا،
والمطلوب هو خصوص تلك الأفعال على وجه التخيير.
وأما في المقام فيمكن القول بمثل ذلك أيضا، إلا أن الظاهر تعلق التكليف هنا
بخصوص كل من الأشخاص من حيث انطباق مفهوم الأحد عليه، إذ لا يلحظ فيه
الطلب إلا من أحدهم، ولا ربط لخصوص كل منهم في تعلق التكليف به، فليس
الطلب هنا متعلقا بمفهوم الأحد من حيث هو، ولا بخصوص كل من الأشخاص من
حيث خصوصه، لما عرفت من استحالة الأول، وعدم ملاحظة خصوصية المكلف
في المقام، بل إنما المقصود حصول الفعل من واحد منهم، فكل منهم إنما يتعلق به
التكليف من حيث كونه واحدا منهم، فمفهوم الأحد في المقام كلي طبيعي يتعلق به
الأمر لا من حيث هو، بل من حيث حصوله في ضمن أفراده واتحاده بها، فيتعلق
الأمر ابتداء بكل من آحاد الأشخاص من حيث انطباق المفهوم المذكور عليه
لا لخصوصه، ويكون ذلك المفهوم عنوانا لها ومرآة لتصورها، فبذلك يصح التعبير
بتعلق التكليف بجميع تلك الأشخاص على سبيل البدلية وتعلقه بمفهوم أحدها
أيضا.
الثالث: أن الواجب ما يستحق تاركه الذم والعقاب، ومن البين أن الباقين
لا ذم يتوجه عليهم ولا عقوبة مع فعل البعض، فلا يتحقق وجوب بالنسبة إليهم.
والجواب عنه: أن الواجب ما يستحق تاركه الذم والعقاب في الجملة لا
مطلقا، وإلا لانتقض بالمخير والموسع كما مر، وهو هنا حاصل لاستحقاقهم الذم
والعقوبة على تقدير ترك الكل.
382

وربما يجاب عنه أيضا: بأن عدم استحقاق الباقين للذم والعقوبة حينئذ إنما
هو لسقوط الواجب عنهم نظرا إلى فوات موضوعه بفعل الغير، لا لعدم وجوبه
عليهم من أول الأمر.
وفيه: ما عرفت من أن سقوط الواجب حينئذ إنما هو بأدائه وحصول مطلوب
الآمر بفعله، لا بمجرد سقوطه بانتفاء موضوعه، فأداء الواجب بفعل البعض شاهد
على وجوبه على البعض.
ويدفعه: أن أداء الواجب بفعل البعض لا يقضي بوجوبه على البعض، لصحة
تعلق الوجوب بالكل على وجه يؤدى الواجب بفعل البعض، حسب ما مر توضيح
القول فيه.
فالحق أن يقال: إنه مع ترك الكل يتوجه استحقاق الذم والعقوبة إلى الكل، فهو
شاهد على وجوبه على الكل، وأداء الواجب بفعل البعض وسقوط الذم والعقوبة
على الباقين يفيد حينئذ كون الوجوب على الكل على سبيل البدلية دون
الاجتماع، كما مر الكلام فيه.
الرابع: قوله تعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة...) * (1) فإن ظاهر
الآية الشريفة إيجاب النفر على الطائفة المبهمة من جهة تنكير الطائفة، ولو كان
واجبا على الجميع لما خص الطائفة بالذكر في مقام بيان التكليف.
وأجاب عنه العضدي وغيره: بأن الظاهر مؤول بعد قيام الدليل على خلافه،
وقد عرفت قيام الدليل على وجوبه على الجميع، فيؤول ذلك بأن فعل الطائفة
مسقط للوجوب عن الجميع.
قلت: ويمكن أن يقال: إنه لما كان فعل الطائفة مسقطا للوجوب في المقام
خصهم بالذكر وإن لم يختص الوجوب بهم.
والتحقيق في الجواب: ما عرفت من أن التعبير بإيجاب الفعل على الطائفة
المطلقة الصادقة على كل من الآحاد لا ينافي القول بوجوبه على الجميع بدلا،

(1) التوبة: 122.
383

حسب ما قررناه، فلا فرق إذا بين التعبير بوجوبه على الطائفة تعيينا ووجوبه على
الجميع بدلا، نظير ما قررناه في المخير، ولذا عبر في كثير من الكفائيات بذلك،
كما في قوله تعالى: * (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر) * (1) وقوله تعالى: * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) * (2).
الخامس: ما حكي عن بعض المحققين من: أنه لو كان واجبا على الكل لكان
إسقاطه عنهم بعد فعل البعض نسخا للوجوب، لأنه رفع له، ولا نسخ اتفاقا.
ورد ذلك بمنع الملازمة، إذ ليس كل رفع للطلب نسخا، فقد يكون ذلك بسبب
انتفاء علة الوجوب، كصلاة الجنازة فأن المقصود بها احترام الميت وقد حصل
بفعل البعض، فسقط عن الباقين لزوال علة الوجوب.
والفائدة في إيجابه على الجميع كون المقصود حينئذ أقرب إلى الحصول،
فظهر بذلك أنه ليس فعل البعض حينئذ قاضيا بالسقوط حقيقة، بل استنادا إليه على
وجه المجاز، والسبب المسقط إنما هو زوال علة الوجوب.
وأنت خبير بأن الجواب المذكور إنما يوافق القول بكون السقوط عن الباقين
من جهة فوات الموضوع، لا لأداء ما هو الواجب، وقد عرفت وهنه.
فالحق في الجواب: أن ارتفاع التكليف في المقام إنما هو لأدائه، ومن
الواضح أن ارتفاع التكليف بذلك لا يكون نسخا، وأداء الواجب في المقام وإن لم
يتحقق بفعل الكل إلا أن وجوبه على الكل إنما كان على وجه يحصل أداؤه بفعل
أي منهم، حسب ما مر الكلام فيه.
ثم إنه ذكر بعض الأفاضل هذا الوجه حجة للقول الثالث، قائلا: بأنه لو تعين
على كل واحد كان إسقاطه عن الباقين رفعا للطلب بعد تحققه فيكون نسخا، فيفتقر
إلى خطاب جديد، ولا خطاب فلا نسخ، فلا يسقط، بخلاف ما إذا قلنا بوجوبه
على المجموع فإنه لا يستلزم الإيجاب على كل واحد، ويكون التأثيم للجميع
بالذات، ولكل واحد بالعرض.

(1) آل عمران: 104.
(2) النور: 2.
384

قلت: لا يخفى أن جعل هذا التقرير حجة للقول المذكور لا يخلو عن خفاء،
والأولى في تقريرها حينئذ أن يقال: إنه لو تعين الواجب على كل واحد منهم كان
سقوطه عن الباقين بعد فعل البعض رفعا للطلب قبل الفعل بالنسبة إليهم فيكون
نسخا، وهو باطل اتفاقا. وأيضا يتوقف حصوله على خطاب جديد، ولا خطاب
فلا نسخ. وإنه لو لم يتعلق الوجوب بكل واحد منهم لم يصح قصد الوجوب من كل
منهم، ولم يجز تأثيم الجميع بتركهم، فلا بد من تصوير ذلك على وجه يجمع بين ما
ذكر، وليس ذلك إلا بالقول بتعلقه بالمجموع على أن يراد وقوع الفعل من المجموع
في الجملة، بحيث إنه لو أتى به البعض صدق معه حصول الفعل من مجموع
الجماعة، فيصح من كل منهم قصد الوجوب، ولا يحصل ترك الفعل من المجموع
إلا عند ترك الجميع، فيتعلق الإثم إذا بالمجموع بالذات، وبكل منهم بالعرض.
وحينئذ فالجواب عنه: أن طريق الجمع بين الأمرين المذكورين لا ينحصر في
ما ذكر، بل يصح على ما قلناه من تعلق الوجوب بكل منهم على سبيل البدلية،
حسب ما فصلنا القول فيه، بل لا يصح ذلك على القول بوجوبه على المجموع
إلا بإرجاعه إلى ما قلناه، حسب ما أشرنا إليه.
هذا، وقد ظهر مما قررناه سابقا. حجة القول الرابع المحكي عن بعض
المعاصرين وغيره، والوجه في وهنه، فلا حاجة إلى إعادته. وقد اتضح من التأمل
في جميع ما ذكرناه حجة القول المختار، ودفع ما ربما يتوهم من الإيراد في
المقام، فلا حاجة إلى تطويل الكلام.
ولنتمم الكلام في المرام بذكر أمور:
أحدها (1): أنه لا ريب أنه لو ترك الواجب الكفائي جميع المكلفين الواجدين
لشرائط التكليف به عصى الكل على ما هو قضية التكليف في المتعلق بهم كما
عرفت، ولا خلاف فيه على شئ من الأقوال المذكورة.

(1) لا يخفى أنه لم يأت فيما بعد بقايا هذه الأمور، وسيأتي بعد أسطر: وإنما وقع الكلام في
أمور: الأول...
385

نعم، قد يتوهم على القول بتعلق التكليف بالمجموع إن لم يفسر بما يرجع إلى
المختار توزيع العقاب حينئذ على الجميع، وليس كذلك، إذ ليس الواجب عليهم
عند القائل المذكور توزيع العمل على الجميع حتى يترتب عليه توزيع العقاب
عليهم، فهو أيضا يقول بتحقق العصيان بالنسبة إلى كل منهم.
وكذا لا ريب في سقوط التكليف عن الجميع بفعل البعض، وكذا عدم
استحقاق غير الفاعل للثواب وإن كان سقوط الواجب عن الباقين بأدائه، وذلك
لحصول الأداء من غيره فلا داعي لاستحقاقه الثواب بفعل غيره، وإنما يقع الكلام
في المقام في أمور:
الأول: أنه هل يجوز للجميع التلبس بالفعل؟ فإن قلنا بوجوب الفعل على
الجميع على نحو سائر الواجبات إلا أنه يسقط عن الباقين بعد أداء البعض فلا
ينبغي الريب في الجواز، بل ووجوبه عليهم قبل حصول الفعل من البعض.
وإن قلنا بوجوبه على الكل بدلا - كما هو المختار - فقد يشكل ذلك، نظرا إلى
أن الواجب فعل واحد، فالإتيان بما يزيد عليه مما لا دليل على شرعيته. وفيه منع
ظاهر، لتعلق الأمر في الكفائي بمطلق الطبيعة كغيره من الواجبات، فالقول بأن
الواجب هو المرة مما لا وجه له.
نعم، لو قام الدليل على كون المطلوب هو الفعل الواحد كتغسيل الميت، حيث
إن المطلوب هناك غسل واحد لا أزيد لم يشرع التلبس بأغسال عديدة، وإنما
يشرع الإتيان بفعل واحد منها وإن وجب ذلك على الكل، ولا مانع من تعدد
المباشر مع اتحاد الفعل، لما عرفت من كون وجوبه عليهم على سبيل البدل.
وكذا الحال في الفعل المحرم إذا صار واجبا كفائيا لأجل التقية أو غيرها، إذ
لا يجوز الإتيان إلا بواحد مع اندفاع الضرورة وإن وجب الإتيان به كذلك على
الجميع، وهذا بخلاف ما لو كان المطلوب مطلق الطبيعة وإن لزمه اتصاف الواحد
بالوجوب وأداء الواجب، ولذا لا يتعين على الجميع التلبس فإن ذلك لا ينافي
اتصاف الجميع بالوجوب لو أتى به دفعة، نظرا إلى حصول الطبيعة به أيضا.
386

فإن قلت: إنه مع حصول الطبيعة بالواحد كحصولها بالمتعدد لم لا يكون أداء
الواجب هنا بالواحد دون المتعدد لحصول الواجب به؟ فلا حاجة إلى ما يزيد
عليه، بل لا يشرع الزيادة عليه على ما يقتضيه الأصل.
وأيضا قضية حصول الطبيعة في ضمن الجميع أداء الواجب الذي هو الإتيان
بالطبيعة بذلك، لحصول الطبيعة بالمتعدد كحصولها بالواحد، وهو خلاف المفروض
في المقام، إذ كل منهم إنما يقصد أداء الواجب بفعله، وليس المقصود أداء الواجب
بالمجموع.
قلت: يمكن دفع الأول: بأنه مع صدق الطبيعة على الواحد والمتعدد لا بد من
اتصاف الكل بالوجوب قبل سقوط الواجب، نظرا إلى صدق الطبيعة، الواجبة عليه
فلا وجه للقول بأدائها لخصوص الواحد.
والثاني (1): بأنه ليس المقصود من صدق الطبيعة على المتعدد حصول الامتثال
هنا بالمجموع ليكون الإتيان به امتثالا واحدا وأداء واحدا للواجب وإن كان
المؤدى متعددا، نظرا إلى حصول الطبيعة الواجبة بالمتعدد على نحو حصولها
بالواحد. بل المقصود اتصاف كل منهما بالوجوب، نظرا إلى حصول الطبيعة به،
فيتعدد أداء الواجب بتعددها، ولا مانع منه بعد تعلق الأمر بمطلق الطبيعة، وجواز
الاقتصار حينئذ على البعض لا ينافي وجوب الكل، إذ الأمر بأداء الطبيعة المطلقة
يعم الواحد والمتعدد ويحصل المطلوب بكل من الوجهين، فله الاقتصار على أداء
واحد، وله الإتيان بالمتعدد قبل سقوط الواجب، لبقاء الأمر وصدق الطبيعة عليه،
فليس الواجب إلا مطلق الطبيعة الحاصلة بتلك الحصولات، فيتصف الجميع
بالوجوب من جهة حصولها لكل منها، فلا وجوب لشئ منها بالخصوص، وإنما
يتصف بالوجوب من جهة حصول الواجب، أعني الطبيعة المطلقة بها، وقد مر
الكلام في ذلك في بحث المرة والتكرار.

(1) أي ويمكن دفع الثاني.
387

ويشكل الحال في المقام: بأن ذلك إن تم فإنما يتم في الواجبات العينية، وأما
في المقام فلا يصح ذلك، إذ المفروض كون الوجوب هنا على الجميع بدلا، فكيف
يصح القول باتصاف الكل بالوجوب معا؟
ويدفعه: أن مفاد الوجوب عليهم بدلا هو أداء الواجب بفعل أي منهم حسب
ما مر بيانه، لا تعلق الوجوب بالواحد على وجه ينافي حصول الواجب من
المتعدد، وذلك يقضي بسقوطه عن الباقين بعد فعل الواحد. وأما إذا اقترنت أفعالهم
فالكل متصف بالوجوب لأداء كل منهم ما وجب عليه قبل سقوط الواجب مع
قبول الواجب المتعدد لتعلقه بالطبيعة، فهو نظير اتصاف الأفراد المتعددة الحاصلة
من مكلف واحد قبل سقوط الوجوب عنه عند تعلق الأمر بالطبيعة حسب ما مر
بيانه، فتأمل.
الثاني: أنه هل يسقط الوجوب عن الباقين بشروع البعض فيه، أو أنه إنما
يسقط بإتمام الفعل؟ وجهان، وظاهر جماعة منهم بقاء الوجوب ما لم يحصل
الإتمام، وهو الذي يقتضيه الأصل وإطلاق الأمر، وهو المختار.
ولا فرق بين الإتيان بمعظم الفعل وعدمه، فيجوز إتيان الغير به على وجه
الوجوب، لكن لو كان المطلوب فعلا واحدا - كما مر - أشكل إقدام الباقين عليه
حينئذ، فالظاهر السقوط عنهم حينئذ سقوطا مراعى بإتمام المباشر.
وأما لو كان المطلوب مطلق الطبيعة فلا مانع من مباشرة الباقين أيضا، ويكون
متصفا بالوجوب قبل إتمام العمل ولو من البعض. نعم، لو لم يكن أجزاء الفعل
مرتبا بعضها بالبعض وشرع فيه بعضهم سقط ذلك البعض عن الباقين، وكان الإتيان
بالباقي واجبا على الكفاية.
الثالث: لو أتم البعض فعله قبل الباقين في ما يصح تلبس المتعدد به خرج فعل
الباقين من الوجوب، لسقوط التكليف به، وحينئذ فإن كان الفعل مما ثبت
مشروعيته جاز إتمامه، ولو كان مما يحرم قطعه وجب الإتمام من تلك الجهة ولا
إشكال فيه حينئذ، وإلا أشكل الحال فيه، والظاهر الرجوع فيه إلى مقتضى الأصل،
388

فإن كانت عبادة لم يجز الإتمام، لأن سقوط ذلك التكليف حينئذ قاض بانتفاء
الأمر، إذ المفروض عدم حصول أمر قاض بمشروعية ذلك الفعل، وإلا جاز
الإتمام. ولو علم في الأول عدم إمكان إتمامه قبل الآخر بعد شروعه فيه ففي
وجوب تلبسه به حينئذ وجهان، أوجههما ذلك، لإمكان طروء مانع للآخر عن
الإتمام. ويحتمل البناء على ظاهر الحال، فيسقط عنه الوجوب في الظاهر سقوطا
مراعى بالإتمام، وحينئذ فلو كان مما لا يشرع فعله على تقدير سقوط الوجوب لم
يجز الشروع فيه.
الرابع: لو أتى البعض بالفعل فقد سقط عن الباقين، فإذا تلبسوا بالفعل بعد ذلك
كان نفلا على ما حكي من البعض. وحكي قول بكونه فرضا أيضا كالأول، لما فيه
من ترغيب الفاعل، لأن ثواب الفرض يزيد على النفل، وقد كان الفرض متعلقا
بالجميع، فالسقوط إنما هو من باب التخفيف، ولا يخفى وهنه جدا لو أريد به
ظاهره. ولو أريد ثبوت ثواب الفرض فهو أيضا مما لا دليل عليه كذلك.
نعم، لو قام إطلاق في بعض المقامات فلا مانع من القول به، ومن الظاهر وهن
الأول أيضا إذا لم يقم هناك أمر آخر قاض برجحان ذلك الفعل، إذ سقوط
الوجوب بأداء الفعل قاض بسقوط مطلق الرجحان، لما تقرر من عدم بقاء الجنس
بعد ارتفاع الفصل، فالحق في ذلك بعد الحكم بالسقوط الرجوع إلى حكم الأصل
جوازا أو منعا. نعم، لو قام دليل خاص في خصوص بعض المقامات كان متبعا.
الخامس: لو أتى بالفعل الكفائي من لم يجب عليه لم يقض ذلك بسقوط الواجب
عمن وجب عليه. فلو سلم المسلم على الجماعة ورد عليه غير المسلم عليه لم
يسقط الجواب عمن وجب عليه. نعم لو كان صدور الفعل من الغير رافعا لموضوع
التكليف سقط عنهم من تلك الجهة، وهو غير السقوط الحاصل بفعل البعض، لما
عرفت من كون ذلك السقوط حاصلا بأداء الواجب، بخلاف المفروض في المقام.
السادس: لا ريب أنه إنما يحكم بسقوط الواجب بفعل البعض إذا كان ذلك
الفعل محكوما بصحته، فإذا كان فاسدا كان في حكم العدم، وهل يبنى فيه على
389

أصالة صحة فعل المسلم ليحكم بالسقوط بمجرد فعله وإن لم يعلم أداؤه على
الوجه المقرر، أو أنه يشترط العلم بصحته؟ المتجه هو الأول، لعدم إمكان العلم
بالصحة الواقعية في الغالب، وجريان السيرة القاطعة بالحكم بالسقوط عند إتيان
الغير به حملا لفعله على الصحيح، كما هو مقتضى الأصل.
وهل يعتبر الظن بالصحة، أو يكتفي بمجرد احتمالها ولو كان بعيدا، أو يعتبر
عدم الظن بالفساد؟ وجوه، أقواها الثاني، إذ أصالة حمل فعل المسلم على الصحة
مبنية على التعبد ولا يدور مدار الظن، فلا بد من الحكم بمقتضاها، ومعه لا وجه
لعدم الحكم بالسقوط عن الباقين. والظاهر جريان السيرة عليه أيضا مضافا إلى
لزوم الحرج لولاه.
والقول بأن القدر الثابت من السقوط بالإجماع إنما هو مع حصول الظن
بالصحة، فمع عدمه لا بد من البناء على حكم الأصل من عدم سقوطه مدفوع
بما عرفت. وقد يقال بأن الأصل المذكور معارض بأصالة عدم تعلق الوجوب به
فيما لو علم بالواقعة بعد قيام ذلك البعض به، ولا قائل بالفصل بين الصورتين،
فيتساقطان.
وفيه: أن قضية اليقين بالاشتغال هو الحكم بمقتضاه بعد حصوله وعدم حصول
اليقين بالبراءة منه، وقضية أصالة البراءة هو الحكم بها في صورة عدم ثبوت
الاشتغال شرعا، فلا بد من الأخذ بمقتضى كل من الأصلين في محله، وقيام
الاجماع على عدم الفصل بين الأمرين بحسب الواقع لا ينافي الأخذ بالتفصيل
في مقام العمل، عملا بمقتضى الأصل في كل من الصورتين، فالذي يقتضيه الأصل
هو البناء على التفصيل، إلا أنك قد عرفت قيام الدليل على السقوط مطلقا.
السابع: لا فرق في الحكم بالسقوط بفعل البعض بين كونه عدلا أو فاسقا، لما
عرفت من أصالة حمل فعل المسلم على الصحة مطلقا، لا خصوص العدل، وعدم
اعتبار الظن بالصحة، بل ولا عدم الظن بالفساد، على أنه قد يحصل الظن بالصحة
في الفاسق أيضا، وقد حكي الشهرة عليه، بل لم يظهر فيه خلاف، سوى أنه
390

استشكل فيه الفاضل الجواد وتبعه الفاضل الصالح، معللين بأن الفاسق لا يقبل
خبره لو أخبر بإيقاع فعله، ولا عبرة بفعله أيضا، وهو كما ترى قياس فاسد، وكأنه
أريد بذلك أنه لو أخبر بصحة فعله لم يقبل خبره، لما دل على وجوب التثبت عند
خبره، فمع عدمه أولى.
ويدفعه: أن عدم القبول بالصحة من جهة قوله لا يقضي بعدم الحكم بها من
جهة الأصل المذكور، ألا ترى أنه لو أخبر بأمر موافق للأصل لم يقبل خبره مع
العمل بمقتضى الأصل، وهو ظاهر.
وزاد الفاضل الجواد: أن قيام الظن مقام العلم إنما هو بنص خاص أو لدلالة
العقل عليه، وهما منتفيان في المقام، فلا عبرة به، لأن وجوبه على المكلف معلوم،
والسقوط عنه بذلك مظنون، والعلم لا يسقط بالظن، وضعفها ظاهر بعدما عرفت.
ثم إن قضية ما ذكر من التعليل جريان الإشكال في مجهول الحال أيضا،
والحكم بالاكتفاء به أظهر من الاكتفاء بفعل الفاسق، والظاهر قيام السيرة عليه في
المقامين، سيما في الثاني، بل لا يبعد دعوى القطع بالنسبة إليه.
الثامن: أنه إذا علم بقيام الغير بالكفائي سقط عنه، سواء كان ذلك بمشاهدته،
أو بالتواتر، أو بالآحاد المحفوفة بقرائن القطع، أو بالعادة المفضية إلى العلم، كما
هو ظاهر في الأموات التي لهم أقارب وأرحام وأصدقاء في بلد موتهم متوجهين
للأمور المتعلقة بهم كمال التوجه، معتنين بشأنهم غاية الاعتناء، فمن المقطوع به
في العادة أنه لا يتركون نعشه من غير غسل ودفن وكفن، بل وكذا الحال في
غيرهم إذا كان موتهم بين أظهر المسلمين الصالحين المعتنين بأوامر الشرع إذا لم
يكن هناك حادثة توجب الذهول عنه، أو تقضي بسقوط التكليف في شأنهم،
لحصول العلم العادي بذلك أيضا.
وأما إذا ظن قيام الغير به فإن كان حاصلا من الطريق الخاص - كشهادة
العدلين - فالظاهر أنه لا إشكال في جواز الأخذ به، بناء على قيامها مقام العلم
مطلقا، وفي الاكتفاء بخبر العدل الواحد وجه قوي.
391

وبعضهم منع من الأخذ به، ونص بعضهم بعدم الاكتفاء بإخبار العادل بفعله،
وألحق بعضهم بشهادة العدلين الشياع، ولا يخلو عن وجه، سيما إذا حصل به ظن
قوي يقارب العلم. وهل يكتفي فيه بمطلق الظن؟ وجهان، والمقطوع به في كلام
الفاضل الجواد وغيره عدم العبرة به، لكونه موضوعا صرفا لا بد فيه من العلم،
أو ظن قام دليل على حجيته، ولا دليل على حجية مطلق الظن في خصوص هذا
المقام.
وظاهر كلام جماعة منهم المحقق في المعارج والعلامة في النهاية وغيرهما
الاكتفاء في ذلك بمطلق الظن، وكأنه للزوم الحرج لولاه، لحصول العلم غالبا
بالتكاليف الكفائية، واعتبار العلم بأداء الغير لها في سقوط التكليف بها في الظاهر
يفضي إلى المشقة، مع قيام السيرة المستمرة على خلافه، فإن الميت إذا كان بين
أظهر المسلمين من غير حصول عائق من التوجه لتجهيزه فإن الظاهر قيامهم
بأمره، وقد جرت الطريقة على عدم التزام غيرهم بالتجسس عن حاله وبنائهم
على قيام غيرهم بأمره.
وفيه: أن دعوى الحرج في المقام مما لا وجه له، كيف! وإذا لم يكن عليهم
حرج في أصل تعلق التكليف بهم كيف يتوهم ثبوت الحرج عليهم في تحصيل
العلم بسقوطه عنهم!
ودعوى قيام السيرة على الاعتماد على الظن القوي الحاصل من العادة في
الصورة المذكورة إن تمت فإنما تفيد جواز الاعتماد على ذلك الظن الخاص
فيلحق بغيره من الظنون الخاصة مما دل الدليل على جواز الاعتماد عليها، وأين
ذلك من الدلالة على الاكتفاء بمطلق الظن؟
ودعوى عدم القول بالفصل مجازفة لا شاهد عليها، وقد يفصل في المقام بين
ما إذا حصل العلم بالواجب الكفائي وقارنه الظن بقيام الغير به فيكتفى حينئذ
بمطلق الظن إذا كان الدليل على وجوبه منحصرا في الاجماع لأصالة براءة ذمته
عن ذلك وعدم قيام الاجماع على تعلق الوجوب به حينئذ، وما إذا كان بخلاف
392

ذلك بأن كان الدليل عليه إطلاق النص، أو كان العلم به حاصلا قبل الظن
المفروض. وإن كان الدليل عليه حينئذ هو الاجماع فلا بد حينئذ من العلم أو الظن
الخاص، نظرا إلى ثبوت اشتغال ذمته بالعمل المفروض، فلا بد من العلم بتفريغه
الحاصل بأحد الوجهين المذكورين.
ويضعفه: أن مقارنة الظن للعلم لا ينافي الاجماع القائم على اشتغال ذمته
بالعمل المفروض، فإنه قاض بالعلم باشتغال ذمته بالعمل المفروض كما هو الحال
في صورة تقدم علمه بذلك، فالمقصود الحكم بسقوط ذلك التكليف عنه بالظن
المفروض، ولا يتم ذلك إلا بعد قيام الدليل عليه، ومجرد الشك في اشتغال ذمته
فعلا بالفعل المذكور لا يدرجه في مسألة الشك بأصل الاشتغال ليدفع بأصل
البراءة، للقطع بوجوب ذلك الفعل على سبيل الكفاية، وإنما الشك في المقام من
جهة الشك في حصول المسقط.
فإن قلت: إذا وقع الشك في كون الظن مسقطا فقد وقع الشك في تعلق
التكليف بالفعل، ولا إجماع في المقام على وجوب ذلك على المكلف حينئذ حتى
لا يصح دفعه بالأصل، غاية الأمر القطع بحصول المقتضي في الجملة، ولا يثبت به
التكليف مع احتمال عروض المانع إلا أن يكون هناك إطلاق قاض بثبوت الحكم
مع حصوله، فيدفع المانع بالأصل عملا بإطلاق الدليل. وأما إذا كان المستند هو
الاجماع فلا وجه للاستناد إليه مع الشك المفروض، لأصالة عدم تعلق التكليف به.
والحاصل: أنه لا فرق حينئذ في رفع التكليف بالأصل بين ما إذا حصل الشك
في حصول المقتضي أو وجود الشرط أو علم بهما وشك في حصول المانع، لعدم
العلم بتعلق التكليف به في الصورتين.
فالقول بأن قضية الأصل حينئذ عدم حصول المانع فيعمل المقتضي عمله
مدفوع: بأنه على فرض تسليم جريان الأصل فيه لا يثبت به تعلق التكليف
بالمكلف، فإن الأصل أيضا عدم التكليف، ومجرد وجود المقتضي المحتمل
مقارنته للمانع لا يثبته إلا أن يكون هناك إطلاق لفظي يقضي بثبوت الحكم مع
393

ثبوت ذلك المقتضي، فيكون ذلك دليلا شرعيا على ثبوت الحكم حينئذ، وأما مع
انتفائه كما هو المفروض في المقام فلا دليل على ثبوت الحكم حينئذ، ومجرد
الأصل المذكور لا يكون دليلا على الثبوت، كيف! وعدم المانع أيضا من جملة
الشروط، فيرجع الشك فيه إلى الشك في الشرط.
وتوضيح المقام: أن الشك في التكليف قد يكون من جهة الشك في المقتضي،
أو الشك في الشرط، أو المانع، وعلى كل حال فقد يكون الشك من جهة الشك في
اعتبار كل من المذكورات في ثبوت التكليف، أو الشك في حصوله بعد العلم
باعتباره.
وعلى كل حال فإما أن يكون الدليل على ثبوت الحكم إطلاق النص أو مجرد
الاجماع فلو كان الدليل عليه هو الإطلاق وشك في نفس الاعتبار فالإطلاق
محكم، والشك المفروض مدفوع بالإطلاق. وإن كان الشك في حصوله حكم فيه
بمقتضى البراءة في الجميع عند الشك في الأولين، وأما في الثالث فقد يقال فيه
بمثل ذلك لأصالة براءة الذمة، ويحتمل القول بثبوت التكليف لأصالة عدم حصول
المانع. هذا إذا لم يعلم حصوله أولا، وإلا فيستصحب.
كما أنه لو علم حصول المقتضي أو الشرط أولا ثم شك في ارتفاعه فإنه يبني
على بقائه عملا بالاستصحاب، وكان ذلك هو المتجه. وإن كان الدليل عليه هو
الاجماع وشك في أصل اعتباره حكم بالبراءة، لعدم تحقق الاجماع إلا مع
حصوله، وأما لو شك في حصوله بعد العلم باعتباره فالحال فيه نظير ما إذا دل عليه
الإطلاق من غير فرق.
إذا تقرر ذلك فنقول: إذا حصل الشك في كون الظن المذكور مانعا من تعلق
التكليف في المقام فإن كان الدليل عليه هو الإطلاق أخذ بمقتضاه ودفع ذلك
بالأصل، لكون الإطلاق محكما حتى يقوم دليل على التقييد. وأما إذا كان الدليل
عليه هو الاجماع فحصول التكليف في المقام غير ظاهر، لعدم تحقق الاجماع في
مورد الشك، فيدفع التكليف بالأصل، حسب ما ذكر.
394

قلت: لا يخفى أن الظن المذكور لو احتمل كونه مانعا من تعلق التكليف
بالمكلف على حسب ما ذكر كان قضية الأصل فيه هو التفصيل المذكور، لكن
الحال ليس كذلك، فإن ثبوت التكليف بالفعل مما لا مجال للشك فيه، إنما الكلام
في أداء المكلف به والحكم بأدائه، فالشك الحاصل في التكليف في المقام إنما هو
من جهة الشك في أدائه، لا الشك في تعلق التكليف به، فهو نظير ما إذا علم
بالكفائي وشك في قيام غيره به، فإن ذلك الشك لا يقضي بصحة جريان أصالة
البراءة فيه وإن قارن الشك المفروض المذكور العلم به، نظرا إلى الشك في تعلق
التكليف به بملاحظة ذلك، فكما أنه لا يجري الأصل في صورة الشك فكذا الحال
في صورة الظن به مع عدم قيام دليل على حجية الظن.
والحاصل: أن الكلام في المقام في كون الظن المذكور طريقا إلى ثبوت
حصول المأمور به من غيره ليكون قاضيا بأدائه، فيسقط الواجب من جهة أدائه،
فإذا لم يقم دليل على حجية الظن في المقام كان قضية الأصل عدم الأداء، فلا بد من
الحكم ببقاء التكليف به، ومجرد الاحتمال لا يقضي بالسقوط، فدعوى جريان
أصالة البراءة فيه كما ترى.
التاسع: قد يتراءى من بعض العبارات الحكم بسقوط الكفائي مع الظن بقيام
الغير به في المستقبل، وقد يستفاد ذلك من إطلاق جماعة، ومن الظاهر أن ذلك مما
لا مساغ للمصير إليه، بل المتعين عدم السقوط ولو مع العلم بأداء الغير له في
المستقبل، وكان مرادهم من ذلك سقوط التعيين ثمة لظن قيام الغير به في
المستقبل، فلا يعاقب على تركه لو اتفق عدم أداء الآخر له، لعروض مانع ونحوه،
لا أنه لا يجب عليه ذلك حينئذ على سبيل الكفاية، حتى أنه إذا تصدى لأدائه
حينئذ لم يكن مؤديا للواجب الكفائي، لوضوح فساد القول به، لكن الإشكال في
الاكتفاء بالظن المذكور في ما ذكرناه، وقضية الأصل عدم الاكتفاء به.
نعم، لو حصل الظن القوي على حسب مجاري العادات بقيام المطلعين عليه
بذلك الواجب احتمل الاكتفاء به، نظرا إلى قيام السيرة عليه حسب ما ذكر في
395

المسألة السابقة، إلا أن التعدي من الواجبات التي قامت السيرة فيها إلى غيرها
بعيد، بل وفي ثبوت السيرة في صورة حصول الظن القوي تأمل، حسب ما أشرنا
إليه في ما مر، إذ لا يبعد كون السيرة في صورة حصول العلم العادي بقيام
المسلمين به كما في غسل الأموات وكفنهم والصلاة عليهم ودفنهم إذا كان ذلك
بين أظهر المسلمين.
العاشر: إذا علم أو ظن كل منهم ظنا معتبرا في الشريعة سواء كان ظنا خاصا
أو مطلقا بناء على الاكتفاء به في المقام بأداء الآخر للواجب سقط عنهم أجمع،
وقد نص عليه جماعة وتنظر فيه الفاضل الجواد، نظرا إلى أنه يلزم منه ارتفاع
الوجوب قبل أدائه ودفعه بأنه لا مانع منه، كما في صورة ارتفاع الموضوع، كما إذا
احرق الميت أو أخذه السيل.
وأنت خبير بوهن الإيراد المذكور جدا، إذ ليس السقوط في المقام سقوطا
واقعيا، وإنما يسقط عنه بحسب ظاهر التكليف نظرا إلى الطريق المقرر، كيف؟
وهو بعينه جار في الواجب العيني أيضا إذا اعتقد الإتيان به ثم ظهر خلافه.
وما ذكره في الجواب من عدم المانع من سقوط الواجب بغير فعله نظرا إلى
سقوطه بانتفاء موضوعه حسب ما ذكره من المثال لا يدفع الإيراد، إذ ليس
الملحوظ في الإشكال مجرد سقوط الواجب من غير فعله، إذ لا يعقل إشكال في
ذلك بمجرده، لوضوح سقوطه بانتفاء التمكن منه، وبسقوط موضوعه كما في
المثال، وإنما إشكاله من جهة سقوط الواجب مع حصول الشرائط المقررة لذلك
التكليف من دون فعله، فإنه لا يكون ذلك إلا بنسخ الوجوب. وجوابه حينئذ ما
ذكرناه، ولا ربط له بما ذكر من التنظير.
ثم إنهم إن بقوا على ذلك الظن أو العلم حتى فات عنهم الفعل فلا كلام. وإن
ظهر لهم أو لبعضهم الخلاف مع عدم فوات محل الفعل فهل يبقى السقوط على
حاله، أو لا بد من الإتيان به؟
استشكل فيه بعض الأفاضل، ثم ذكر: أن التحقيق فيه التفصيل: بأنه إن كان
396

هناك عموم أو إطلاق يقضيان بلزوم الإتيان بذلك في جميع الأحوال تعين العمل
به، وإلا فلا، عملا بالاستصحاب.
والصواب أن يقال: أنه لا تأمل في وجوب الإتيان بالفعل مطلقا، فإن سقوط
الواجب بالعلم بأداء الآخر أو الظن به إنما هو من جهة الحكم بأداء ذلك الواجب،
لا لكونه مسقطا له في نفسه، وليس ذلك إلا نظير ما إذا علم أو ظن بناء على اعتبار
ظنه بأدائه للعمل الواجب عليه عينا فتبين له الخلاف مع عدم فوات وقت الواجب،
فإن وجوب الإتيان بالفعل حينئذ يعد من الضروريات، ولا فرق بينه وبين
المفروض في المقام أصلا.
بل نقول: إنه لو شك بعد علمه أو ظنه بأداء الآخر لفعله تعين عليه الإتيان به
، ولا وجه لاستصحاب السقوط في المقام، لما عرفت من أن السقوط المذكور إنما
كان من جهة ثبوت أداء الواجب لا على وجه التعبد، فهو نظير استصحاب النجاسة
في من تيقن نجاسة ثوبه ثم شك فيها من أصلها فإنه لا وجه لاستصحاب النجاسة
كما قد يتوهم.
الحادي عشر: لو شرع بعضهم في الفعل فالظاهر سقوطه عن الباقين، بمعنى
سقوط تعين الإتيان به أخذا بظاهر الحال، وأما أصل الوجوب فالظاهر عدم
سقوطه إلا بالإتمام حسب ما مرت الإشارة إليه. نعم، لو كان المراد هو الفعل
الواحد اتجه القول بسقوطه عنهم سقوطا مراعى بالإتمام، كما مرت الإشارة إليه.
ثاني عشرها: لو كان المؤدي للفعل مجتهدا مخالفا له في المسألة أو مقلدا لمن
يخالفه فأتى بالفعل على وفق مذهبه فهل يقضى ذلك بسقوط الواجب عن غيره
ممن يخالفه في الرأي، أو يقلد من يخالفه؟ وجهان:
من الحكم بصحة ما يأتي به على الوجه المذكور، لكونه مأمورا به في ظاهر
الشريعة قاضيا ببراءة ذمة عامله، حتى أنه لا يجب عليه القضاء ولو عدل عن
اجتهاده أو عدل المقلد عن تقليده بناء على جوازه، ولذا يعد ذلك الفتوى من حكم
الله تعالى، ويندرج العلم به في الفقه حسب ما مر بيانه.
397

ومن أن أقصى ما دل عليه الدليل هو الصحة في شأن العامل، فإن حجية ظن
المجتهد إنما هي في شأنه وشأن من يقلده، وإنما يعد من حكم الله بالنسبة إليهما
دون غيرهما، ولذا لا يحكم بصحته لو أتى به من عداهما، فسقوط التكليف الثابت
في شأنه بالفعل المفروض الفاسد واقعا بحسب معتقده وإن حكم بصحته في شأن
عامله يتوقف على قيام دليل عليه كذلك.
وبتقرير آخر: المكلف به في شأنه هو الفعل الواقع على وفق معتقده، فلا وجه
لحصول البراءة عنه بالفعل الواقع على الوجه الآخر إلا أن يقوم دليل عليه، وأيضا
فعل كل من المكلفين في الكفائي يقوم مقام فعل الآخر وينوب مناب فعله،
والمفروض أن الفعل الواقع على الوجه المذكور غير مبرئ للذمة بالنسبة إلى غير
ذلك العامل، ولا يمكن أن يقوم مقام فعله، إذ قيامه مقامه قاض بفساده، لكون
المفروض فساد ذلك العمل لو فرض وقوعه منه.
وفيه: أن المكلف به في المقام ليس إلا شيئا واحدا وكل من ظنون المجتهدين
طريق إليه شرعا، فإذا حصل الإتيان به على ما يقتضيه ظن أحدهم حصل أداء
الواجب على الوجه المعتبر شرعا، وهو قاض بسقوط التكليف به عن الجميع وإن
لم يكن ذلك طريقا بالنسبة إلى المجتهد الآخر ومقلده لو أراد العمل بنفسه، وهو لا
ينافي كونه طريقا مقررا لو عمل به غيره، فالقائم مقام فعله هو الفعل المحكوم
بصحته شرعا الواقع على النحو المعتبر في الشريعة ولو عند المجتهد المخالف له،
وفساده على تقدير وقوعه من غيره لا ينافي قيام فعله مقام فعل ذلك الغير، فإن
القائم مقام فعل ذلك الغير هو الفعل الصحيح الواقع على وفق الشريعة، مضافا إلى
حصول البراءة به بالنسبة إلى العامل ومن يوافقه، وسقوط التكليف بذلك الفعل
عنهم قطعا، فلا بد من الحكم بسقوطه عن الباقين، إذ المسقط للكفائي عن البعض
مسقط عن الجميع، إذ ليس المطلوب إلا أداء ذلك الفعل في الجملة، فالمتجه إذا
هو السقوط.
نعم، لو اختلف الفعلان في النوع أشكل الحال في السقوط، كما إذا وجب
398

عند أحدهما تغسيل الميت وعند الآخر تيممه فأتى الآخر بالتيمم، وقضية الأصل
في ذلك عدم السقوط. ومجرد كون ما يأتي أحدهما به أداء لما هو الواجب شرعا
لا يقضي بسقوط ما هو الواجب عليه مع عدم أداء الآخر له رأسا، وأما لو حكم
أحدهما بنفي الوجوب رأسا والآخر بوجوبه عليه فلا تأمل في عدم سقوطه عمن
يعتقد الاشتغال به، وكون ترك الآخر له من الجهة المذكورة لا يقضي بقيام ذلك
مقام فعله.
غاية الأمر حينئذ عدم تعلق الوجوب بالآخر في الظاهر، لأداء اجتهاده
أو اجتهاد من يقلده إلى ذلك، وهو لا ينافي اشتغال الآخر به وهو ظاهر، ولو كان
ما يأتي به المجتهد الآخر خطأ في اعتقاد الآخر - كما إذا كان مخالفا للدليل
القاطع في نظره كالإجماع - فلا عبرة بعمله وعمل مقلده بالنسبة إليه، بل يحكم
بفساده، وإن كان معذورا في ذلك فلا يحكم بسقوطه من المجتهد الثاني ومقلديه،
حسب ما فصل القول في ذلك في مباحث الاجتهاد والتقليد.
ولو قلد في العمل غير المجتهد فإن لم يكن موافقا للواقع لم يحكم بصحته،
ولو كان مع اعتقاده اجتهاد المفتي ولو بعد بذل وسعه فيه في وجه قوي، وإن وافق
الواقع في اعتقاده فإن لم يكن عبادة حكم بالسقوط مطلقا، وإن كان عبادة فإن
كان مع بذل وسعه في كونه مجتهدا أو كان غافلا قاصرا فالظاهر الصحة والسقوط،
وإن كان مقصرا لم يحكم بصحته، كما هو الحال في عبادات العوام على ما سيأتي
الكلام فيه. وإن شك في تقليده المجتهد وعدمه بنى على السقوط وأصالة الصحة،
وكذا لو شك في كون من يقلده مجتهدا لأصالة الصحة.
ولو علم عدم تقليده المجتهد الجامع لشرائط الفتوى لكن شك في كونه غافلا
قاصرا أو مقصرا مع مطابقة العمل لفتوى الآخر، أو شك في كون ما أتى به موافقا
للواقع على حسب معتقده فهل يحكم بصحة العبادة وسقوط الواجب عن الباقين؟
إشكال من أصالة الصحة والعلم بعدم وقوع الفعل على الوجه المقرر في الشريعة،
وجريان أصالة الصحة في مثل ذلك والحكم بوقوع الصحيح على سبيل الاتفاق
أو من جهة الغفلة محل تأمل.
399

ولو وقع العمل بفتوى غير المجتهد الحي من جهة الضرورة، كما إذا لم يكن
متمكنا من الرجوع إليه فأخذ بقول الميت فإن كان موافقا لقول الحي فلا إشكال
ظاهرا في الصحة والسقوط ولو بعد حضور المجتهد الحي مع بقاء الوقت، وإن
خالفه ففي الحكم بالسقوط من غيره مطلقا، أو أنه إنما يسقط عن مثله، وأما عن
المجتهد ومقلديه إذا حضروا بعد ذلك، أو كانوا حاضرين ولا يعلم العامل باجتهاده
أو علمهم بقول الحي، أو جواز أخذه بنقله لجهالة حالهم عنده إشكال، والقول
بالسقوط لا يخلو عن وجه، والأحوط فيه عدم السقوط.
ثالث عشرها: لو كان الاشتباه من العامل في الموضوع مع الإتيان به على
الوجه المقرر في ظاهر الشريعة، كما إذا غسل الميت بماء مستصحب الطهارة
وعلم الآخر بملاقاته النجاسة فهل يسقط عنه الواجب بذلك؟ وجهان: السقوط
لحصول الفعل على الوجه المعتبر في الشريعة، وهو يقضي بالسقوط والإجزاء،
وأيضا لا كلام في سقوطه حينئذ عن العامل فيحكم بسقوطه عن الباقين، إذ
الإتيان بالكفائي على الوجه الذي يسقط به التكليف عن البعض فهو مسقط عن
الكل، إذ ليس المقصود في الكفائي إلا إيجاد الفعل في الجملة، وعدمه لعلمه بعدم
أداء المأمور به على وجهه، ولذا لو تفطن له مع بقاء الوقت لزمه الإعادة وإيقاعه
للفعل على الوجه المشروع بملاحظة الطريق المقرر إنما يقضي بالإجزاء مع عدم
انكشاف الخلاف حسب ما قرر في محله.
وإسقاط التكليف عن العامل، إنما هو في ظاهر الشريعة من جهة كونه
معذورا، وذلك لا يقضي بالسقوط بالنسبة إلى غير المعذور، ولذا لو علم العامل
بالحال لزمه الإعادة كما عرفت، وهذا هو المتجه. نعم، لو كان ذلك مما لا يوجب
الإعادة على العامل بعد تذكره كما إذا صلى في ثوب مجهول النجاسة أو نسي غير
أركان الصلاة ونحو ذلك فالظاهر السقوط، وإن كان الآخر متفطنا له حين الفعل
لأداء العمل على الوجه الصحيح، وإن اشتمل على نقص في الأجزاء أو الكيفيات.
رابع عشرها: قيل: إن الواجب الكفائي أفضل من العيني، وعزي القول به إلى
400

أكثر المحققين، لكن أسنده في القواعد إلى ظن بعض الناس، وهو يشعر بكون
الظان من العامة، وعلل ذلك بكون الإتيان به قاضيا بصون الخلق الكثير عن
العصيان واستحقاق العذاب، بخلاف العيني فإنه لا يحصل به إلا صون الفاعل.
وفيه أولا: أن الواجب في العيني أفعال عديدة على حسب تعدد المكلفين،
وفي الكفائي فعل واحد، ومن الواضح أنه لا أفضلية للواجب الذي يجب الإتيان
به مرة على ما يجب تكراره من جهة حصول صون المكلف عن العقوبة بفعل واحد
في الأول، بخلاف الثاني، وذلك لتعدد التكاليف في الصورة الأولى دون الثانية،
فكذا الحال في المقام، نظرا إلى تعدد الواجبات في العيني، فيجب تعدد الإتيان بها
على حسب تعدد المكلفين، بخلاف الكفائي فإن الواجب على الجميع شئ واحد
حسب ما مر القول فيه.
وثانيا: أن الأفضلية ليست من جهة اسقاط العقاب، بل إنما يلحظ من أجل
زيادة الثواب، ولا دليل على كون الثواب المترتب على الكفائي أكثر من العيني،
وحينئذ فقد يتوهم زيادة العيني لكون المثابين به أكثر من المثابين في الكفائي،
وهو فاسد، إذ كثرة الثواب من جهة كثرة المثابين غير كثرة الثواب المترتب على
الفعل في نفسه، والأفضلية تتبع ذلك، على أن تعدد الثواب من الجهة المذكورة
يمكن تصويره في الكفائي أيضا، فالظاهر أن الجهة المذكورة لا تقتضي أفضلية
ولا مفضولية، وإنما يتبع ذلك غيرها من الجهات.
* * *
401

معالم الدين:
أصل
الحق أن تعليق الأمر بل مطلق الحكم على شرط، يدل على انتفائه
عند انتفاء الشرط. وهو مختار أكثر المحققين، ومنهم الفاضلان.
وذهب السيد المرتضى إلى أنه لا يدل إلا بدليل منفصل. وتبعه
ابن زهرة. وهو قول جماعة من العامة.
لنا: أن قول القائل: " أعط زيدا درهما إن أكرمك " يجزي في
العرف مجرى قولنا: " الشرط في إعطائه إكرامك ". والمتبادر من هذا
انتفاء الإعطاء عند انتفاء الإكرام قطعا، بحيث لا يكاد ينكر عند
مراجعة الوجدان، فيكون الأول أيضا هكذا. وإذا ثبت الدلالة على هذا
المعنى عرفا، ضممنا إلى ذلك مقدمة أخرى، سبق التنبيه عليها، وهي
أصالة عدم النقل، فيكون كذلك لغة.
احتج السيد (رحمه الله) بأن الشرط هو تعليق الحكم به، وليس يمتنع أن
يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه، ولا يخرج عن أن يكون
شرطا ألا ترى أن قوله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * (1)
يمنع من قبول الشاهد الواحد حتى ينضم إليه آخر؟ فانضمام الثاني
-

(1) سورة البقرة: آية 282.
403

إلى الأول شرط في القبول. ثم نعلم أن ضم امرأتين إلى الشاهد الأول
يقوم مقام الثاني. ثم نعلم بدليل، أن ضم اليمين إلى الواحد يقوم مقامه
أيضا. فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى.
واحتج موافقوه - مع ذلك -: بأنه لو كان انتفاء الشرط مقتضيا
لانتفاء ما علق عليه، لكان قوله تعالى: * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء
إن أردن تحصنا) * (1) دالا على عدم تحريم الإكراه، حيث لا يردن
التحصن، وليس كذلك، بل هو حرام مطلقا.
والجواب عن الأول: أنه، إذا علم وجود ما يقوم مقامه، كما في
المثال الذي ذكره، لم يكن ذلك الشرط وحده شرطا. بل الشرط حينئذ
أحدهما، فيتوقف انتفاء المشروط على انتفائهما معا، لأن مفهوم
أحدهما لا يعدم إلا بعدمهما. وإن لم يعلم له بدل، كما هو مفروض
المبحث، كان الحكم مختصا به، ولزم من عدمه عدم المشروط، للدليل
الذي ذكرناه.
وعن الثاني بوجوه: أحدها - أن ظاهر الآية يقتضي عدم تحريم
الإكراه إذا لم يردن التحصن، لكن لا يلزم من عدم الحرمة ثبوت
الإباحة، إذ انتفاء الحرمة قد يكون بطريان الحل، وقد يكون لامتناع
وجود متعلقها عقلا، لأن السالبة تصدق بانتفاء المحمول تارة وبعدم
الموضوع أخرى. والموضوع هنا منتف، لأ نهن إذا لم يردن التحصن
فقد أردن البغاء ومع إرادتهن البغاء يمتنع إكراههن عليه، فإن الإكراه
هو حمل الغير على ما يكرهه. فحيث لا يكون كارها يمتنع تحقق
الإكراه. فلا يتعلق به الحرمة.
وثانيها - أن التعليق بالشرط إنما يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه،
-

(1) النور: 33.
404

إذا لم يظهر للشرط فائدة أخرى، ويجوز أن يكون فائدته في الآية،
المبالغة في النهي عن الإكراه، يعني أنهن إذا أردن العفة، فالمولى أحق
بإرادتها. أو أن الآية نزلت فيمن يردن التحصن ويكرههن الموالي على
الزنا.
وثالثها - أنا سلمنا أن الآية تدل على انتفاء حرمة الإكراه بحسب
الظاهر نظرا إلى الشرط، لكن الاجماع القاطع عارضه. ولا ريب أن
الظاهر يدفع بالقاطع.
405

قوله: * (الحق أن تعليق الأمر... الخ) *.
البحث عن المفاهيم أحد مقاصد علم الأصول، كالبحث عن الأوامر
والنواهي، والعام والخاص، ونحوها، وقد أدرجه بعض الأصوليين في مباحث
الأمر من جهة تعليق الأمر على الشرط، أو الصفة، أو تقييده بالغاية ونحوها،
والأنسب في البيان هو الوجه الأول، إلا أن المصنف (رحمه الله) اختار الثاني، حيث اقتصر
على عدة من مباحثها فلم يستحسن جعلها مقصدا منفردا.
والمناسب أولا قبل الشروع في المقصود تفسير المنطوق والمفهوم وذكر
أقسامهما وما يندرج فيهما، وحيث كانا من أقسام الدلالة أو المدلول كان الحري
في المقام أولا بيان الدلالة وذكر أقسامها. ولنورد ذلك في مباحث:
الأول في تعريف الدلالة، وقد عرفت بأنها كون الشئ بحيث يلزم من العلم
به العلم بشئ آخر. والمراد بالعلم هنا مطلق الإدراك الشامل للتصور والتصديق
ليندرج فيها الدلالات اللفظية مفرداتها ومركباتها، إذ ليس من شأنها من حيث
كونها دلالات لفظية إلا إفادة تصور مداليلها وإحضارها ببال السامع. هذا بالنسبة
إلى دلالة اللفظ على نفس المعنى.
أما بالنسبة إلى دلالتها على إرادة اللافظ فمدلولها أمر تصديقي، لانتقاله من
اللفظ إلى التصديق بإرادة اللافظ ذلك تصديقا علميا أو ظنيا، ولا فرق في ذلك
أيضا بين المفردات والمركبات، لكون الدلالة إذا في المقامين تصديقية، والدلالة
بهذا المعنى تعم الدلالات اللفظية والوضعية وغيرها وغير اللفظية، كالأقيسة الدالة
على نتائجها، وعرفت خصوص الدلالة اللفظية الوضعية التي هي المقصود في
المقام بأنها فهم المعنى من اللفظ عند إطلاقه، أو تخييله بالنسبة إلى من هو عالم
بالوضع.
وأورد عليه بوجهين:
أحدهما: أن الفهم أمر حاصل من الدلالة فلا يجوز جعله جنسا لها.
ثانيهما: أن الدلالة صفة اللفظ والفهم، إن أخذه مصدرا بمعنى الفاعل فهو صفة
للسامع، أو بمعنى المفعول فهو صفة للمعنى، فلا يصح أخذه جنسا للدلالة.
406

وأنت خبير بأن الإيراد الثاني تفصيل للأول، فإن الفهم أمر حاصل من الدلالة،
فهو بمعناه الفاعلي صفة للسامع، وبمعناه المفعولي صفة للمعنى. وجوابه ظاهر،
وهو: أن الفهم بأي من الوجهين من لوازم الدلالة، ولا مانع من تعريف الشئ
بلازمه، فيصح على كل من الوجهين.
ويرد عليه: أن التعريف باللازم إنما يكون بأخذ اللازم على وجه يمكن حمله
على الملزوم، كتعريف الانسان بالضاحك لا على وجه يباينه، كتعريفه بالضحك،
فينبغي في المقام تعريفها بكون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى العالم بالوضع،
والظاهر أن ذلك هو المقصود بالحد، فيكون التحديد مبنيا على التسامح.
وأجاب عنه بعض المحققين: بأن الفهم وحده صفة للسامع، والانفهام وحده
صفة للمعنى، لكن فهم السامع من اللفظ المعنى، أو انفهامه منه صفة للفظ فيصح
تعريف الدلالة به، سواء اخذ الفهم بمعنى الفاعل أو المفعول، وإنما لا يصح
الاشتقاق منه، كما يصح اشتقاق الدلالة لكون المبدأ في المشتق هو مطلق الفهم،
وقد عرفت أنه بأحد المعنيين صفة للسامع، وبالآخر صفة للمعنى.
وأورد عليه: بأن فهم السامع صفة له قائمة به، لكنها متعلقة بالمعنى بلا واسطة،
وباللفظ بواسطة حرف الجر، فهناك ثلاثة أشياء: الفهم، وتعلقه بالمعنى، وتعلقه
باللفظ، والأول صفة للسامع والأخيران صفة للفهم. فإن أراد أن الفهم المقيد
بالمفعولين الموصوف بالتعلقين صفة اللفظ فهو ظاهر البطلان، وإن أراد أن
المجموع المركب من الأمور الثلاثة صفة له فمع بعده من اللفظ واضح الفساد
أيضا، وإن أراد أن أحد التعلقين صفة للفظ فهو باطل أيضا.
نعم، يفهم من تعلق الفهم بالمعنى صفة للمعنى هي كونه مفهوما، ومن تعلقه
باللفظ صفة له هي كونه مفهوما منه المعنى.
قلت: مقصود المجيب: أن الوصف الملحوظ في المقام ليس وصفا للموصوف
ابتداء، بل وصف متعلق بحال الموصوف، فإن اخذ الفهم بمعنى الفاعل كان فهم
السامع من اللفظ معناه صفة للفظ فإنه يثبت له فهم السامع منه المعنى. وإن اخذ
407

بمعنى المفعول كان من صفته أن المعنى مفهوم منه للسامع، وهذا هو السر في
ما ذكر في الجواب من أنه لا يصح الاشتقاق من الفهم للفظ، إذ مفاد الاشتقاق
كونه وصفا له، لا وصفا له بحال متعلقه، فاندفع عنه الإيراد المذكور.
ثم إن تقييد الفهم بكونه من العالم بالوضع من جهة توقف الدلالة على العلم
بالوضع، فهو بعد الوضع دال بالنسبة إلى العالم غير دال بالنسبة إلى الجاهل،
فهو شرط في حصول الدلالة بالنسبة إلى الأشخاص.
ومن سخيف الاعتراض في المقام: أن ذلك يقضي بالدور، لأن العلم بالوضع
موقوف على فهم المعنى، إذ الوضع نسبة بين اللفظ والمعنى فيتوقف العلم بها على
تصور المنتسبين، والمفروض توقف الفهم على العلم بالوضع، إذ من الواضح أن
المتوقف عليه هو مجرد العلم بالمعنى وتصوره، لا فهمه من اللفظ والانتقال منه
إليه، والمتوقف على العلم بالوضع هو فهمه من اللفظ، فغاية الأمر أن يكون فهم
المعنى من اللفظ متوقفا على تصور ذلك المعنى أولا قبل فهمه من اللفظ، وهو
كذلك قطعا، ولا يتعقل فيه محذور أصلا.
الثاني: أن الدلالة تنقسم إلى عقلية ووضعية، وكل منهما ينقسم إلى لفظية وغير
لفظية، والكلام في المقام في الدلالة اللفظية الوضعية بناء على إدراج التضمن
والالتزام في الدلالات الوضعية، كما هو مختار علماء الميزان. وإن أدرجناهما في
العقلية كان المقصود بالوضعية في المقام: ما هو للوضع فيها مدخلية، سواء كانت
مستندة إلى الوضع ابتداء أو بواسطة. وقد قسموها إلى المطابقة والتضمن
والالتزام، وقد مر الكلام في تعريف كل منها فلا حاجة إلى إعادته.
ثم إنهم قد قسموا الدلالة والمدلول إلى المنطوق والمفهوم، وعرفوا المنطوق:
بأنه ما دل عليه اللفظ في محل النطق، والمفهوم: بأنه ما دل عليه اللفظ لا في محل
النطق. وعلى ظاهر العبارة كلمة " ما " موصولة، وهي عبارة عن المدلول، وفي
محل النطق متعلق بدل، والمراد به اللفظ من حيث كونه منطقا به، أي يكون الدلالة
عليه في محل التلفظ به بأن لا يكون الدلالة عليه متوقفة على ملاحظة أمر آخر
408

غير اللفظ الموضوع، فيفتقر الانتقال إليه إلى واسطة، فيكون الدلالة في المنطوق
في محل التلفظ بخلاف المفهوم.
وقد يورد عليه بإدراج الدلالة العقلية المستندة إلى نفس اللفظ، كدلالته على
وجود اللافظ في المنطوق.
ويمكن دفعه: بأن الدلالة الملحوظة في المقام هي الدلالة الوضعية المستندة
إلى الوضع في الجملة، فهي خارجة عن المقسم.
لكن يرد عليه خروج الدلالات الالتزامية عن حد المنطوق فتندرج في
المفهوم، فلا يشمل المنطوق دلالة الاقتضاء والتنبيه والإشارة، وينتقض بها الحدان
جمعا ومنعا، بل ويندرج دلالته على لازم الحكم في المفهوم مع خروجها عنه، بل
وعن المنطوق أيضا.
وقد يورد عليه أيضا خروج المعاني المجازية عن المنطوق وإن كان اللفظ
مستعملا فيها، إذ ليست الدلالة عليها في محل النطق لكون الانتقال إليها بواسطة
المعاني الحقيقية، بل وبعد ملاحظة القرينة كما في كثير منها فليست الدلالة عليها
في محل النطق.
ويمكن دفع الأخير بجعل الظرف متعلقا بمقدر يجعل حالا عن المدلول، فإن
المدلول هناك في محل النطق لاستعمال اللفظ فيه وإن لم تكن الدلالة عليه كذلك،
ولا يجري ذلك في المداليل الالتزامية، لعدم كون شئ من الدلالة والمدلول هناك
في محل النطق.
وربما يجعل الموصول عبارة عن الدلالة، ويجعل الضمير راجعا إلى المدلول
المستفاد منه، فيكون المعنى: أن المنطوق دلالة اللفظ على مدلوله في محل النطق،
والمفهوم دلالته عليه لا في محله. أو يجعل " ما " مصدرية فيؤول ما بعده إلى
المصدر ويكون مفاده مفاد ما ذكر، وعلى هذين الوجهين يكون المنطوق والمفهوم
من أقسام الدلالة، ويكون حينئذ قوله: " في محل النطق " متعلقا بدل، أو يكون
متعلقا بمقدر يكون حالا عن المدلول على نحو ما ذكر في الوجه المتقدم.
409

وكيف كان فالحدان المذكوران بظاهرهما لا ينطبقان على المحدودين على
حسب ما عرفت، وقد يجعل الموصول عبارة عن الحكم، ويجعل المجرور حالا
عنه باعتبار ما تعلق ذلك الحكم به، أعني موضوعه، فالمراد أنه حكم دل عليه
اللفظ حال كون ما تعلق به في محل النطق، يعني يكون مذكورا، والمفهوم حكم
دل عليه اللفظ حال كون متعلقه غير مذكور. وقد يفسر الموصول بالموضوع
ويكون الضمير راجعا إليه باعتبار الحكم المتعلق به، ويكون المجرور حينئذ حالا
عن الموصول. فمناط الفرق بين المنطوق والمفهوم على هذين الوجهين هو اعتبار
ذكر الموضوع في المنطوق، واعتبار عدمه في المفهوم من دون ملاحظة حال
الحكم المدلول عليه، وهذا هو الذي نص عليه جماعة في الفرق بينهما، فلا يناط
الفرق بينهما بذكر الحكم وعدمه، كما هو قضية الوجوه المتقدمة على اختلاف
ما بينها حسب ما عرفت.
وأورد عليه: بأن بعض ما عد من المنطوق كدلالة الآيتين على أقل الحمل
ليس الموضوع فيه مذكورا، وبعض ما عد من المفهوم كدلالة حرمة تأفيف
الوالدين على حرمة ضربهما قد ذكر فيه الموضوع.
وأجيب عنه: بأن الموضوع في الأول ليس أقل الحمل، بل الحمل بنفسه
وهو مذكور في إحدى الآيتين، والموضوع في الثاني هو الضرب دون الوالدين
وهو غير مذكور.
قلت: ويرد على ذلك مفهوما الشرط والغاية لاتحاد الموضوع في المنطوق
والمفهوم فيهما، وكذا مفهوم الموافقة في مثل قولك: " إن ضربك أبوك فلا تؤذه "
لدلالته على المنع من أذيته مع انتفاء الضرب، والموضوع متحد في المقامين.
وقد يتكلف لدفعه: بأن الشرط والغاية قيدان في الموضوع، فالموضوع في
" إن جاءك زيد فأكرمه " و " صم إلى الليل " هو زيد المقيد بالمجئ، والصوم المقيد
بكونه إلى الليل لتعلق الحكم بذلك، وكذا المنهي عن إيذائه هو الأب الضارب،
فالموضوع الخالي عن ذلك القيد موضوع آخر وهو غير مذكور وقد تعلق به
410

الحكم في المفهوم، ولا يخفى ما فيه من التعسف، مضافا إلى ما في التفسيرين
المذكورين من التكلف من جهات شتى، إذ ليس المنطوق والمفهوم عبارة عن
الحكم وإن صدق عليه، وإنما هما من قبيل المدلول أو الدلالة. وكذا الحال في
حمل الموضوع عليهما في التفسير الثاني، وكذا جعل المجرور حالا عن الموضوع
في الأول مع عدم ذكره وانتفاء القرينة عليه، والتزام الاستخدام في الضمير في
الثاني مع عدم قرينة ظاهرة عليه.
فالأولى أن يقال: إن دلالة المفهوم هو دلالة الكلام على ثبوت الحكم المذكور
فيه لموضوع غير مذكور، أو نفيه عنه أو ثبوته على تقدير غير مذكور، أو نفيه كذلك
ودلالة المنطوق ما كان بخلاف ذلك، والمدلول في الوجهين هو المفهوم أو
المنطوق إن جعلناهما من أقسام المدلول كما هو الظاهر، وإن جعلناهما من أقسام
الدلالة فالحدان المذكوران ينطبقان عليهما، فدلالة قولنا: " الطهارة شرط في صحة
الصلاة أو تشترط الصلاة بالطهارة على انتفاء الصلاة بانتفاء الطهارة " مندرجة في
دلالة المنطوق، بخلاف قولنا: " يصح الصلاة بشرط حصول الطهارة أو الصلاة
واجبة بشرط البلوغ " فإن دلالتها على انتفاء الصحة بانتفاء الطهارة وانتفاء
الوجوب بانتفاء البلوغ من دلالة المفهوم، والأمر فيه ظاهر مما قررنا، فليس العبرة
في الفرق بمجرد كون الموضوع في محل النطق وعدمه، ولا كون المدلول في محل
النطق وعدمه، ولا كون الدلالة كذلك لما عرفت، وإنما المناط هو ما ذكرناه.
ويرد عليه: أن ذلك أيضا منقوض بكثير من اللوازم مع عدم اندراجها في
المفهوم، كدلالة وجوب الشئ على وجوب مقدمته إن عد ذلك من الدلالات
اللفظية، كما هو قضية جعلهم دلالة الآيتين من دلالة اللفظ، وكذا دلالة وجود
الملزوم على وجود لازمه كدلالة الحكم بطلوع الشمس على وجود النهار.
والحاصل: أن جميع الأحكام اللازمة للحكم المدلول عليه بالمنطوق مما
يكون الموضوع فيها مغايرا للموضوع في المنطوق يندرج على ذلك في المفهوم،
حتى دلالة الحكم على لازمه إن اندرج ذلك في دلالة الالتزام أو مطلقا، وهم
لا يقولون، ويرد ذلك أيضا على الحد المتقدم أيضا.
411

الثالث: أنهم قد قسموا المنطوق إلى صريح وغير صريح، قالوا: والأول هو
دلالة المطابقة والتضمن، والثاني من دلالة الالتزام. وقد يناقش في إدراج دلالة
التضمن في الصريح، نظرا إلى أن الجزء قد لا يكون ملحوظا حال الدلالة على
الكل، ولا مفهوما من اللفظ، فكيف يندرج في الصريح؟ نعم، لو لوحظ كون شئ
جزءا لشئ عند دلالة اللفظ على الكل فقد دل حينئذ على الجزء، ونحو هذه
الدلالة لا يندرج في الدلالات اللفظية فضلا عن أن يكون منطوقا صريحا.
قلت: لا بد في المقام من بيان المدلول التضمني، وإن عدهم التضمن من أقسام
الدلالة ما يراد به؟ فإن الإشكال المذكور قاض بخروج الدلالة التضمنية عن حد
الدلالة لاعتبار كلية الاستفادة فيه، حيث قالوا: إنها كون الشئ بحيث متى أطلق
وأحس فهم الشئ الثاني، ولذا اعتبروا في دلالة الالتزام كون اللزوم الحاصل بينا
بالمعنى الأخص.
وحينئذ فنقول في بيان ذلك: إن اللفظ إما أن يكون موضوعا للمفهوم المركب
الملحوظ على وجه التفصيل، كما إذا وضع لفظ " الانسان " بإزاء الحيوان الناطق.
وإما أن يكون موضوعا لمعنى وحداني ينحل في الخارج أو في الذهن إلى أمرين
أو أمور، وحينئذ فذلك الكل قد يكون ملحوظا بالكنه حال الوضع، وقد يكون
ملحوظا بوجه ما بأن يجعل ذلك الوجه مرآة لملاحظة ذلك المعنى وآلة لإحضاره
حتى يضع اللفظ بإزائه.
وعلى التقديرين فإما أن يكون السامع عالما بحقيقة ذلك المعنى مستحضرا له
حين سماع اللفظ، أو لا بل يكون متصورا له بالوجه، والدلالة التضمنية في كل من
الصور المذكورة تابعة للمطابقة، فالحال في الصورة الأولى ظاهرة، إذ من البين
عدم انفكاك تصور الكل التفصيلي الذي فرض معنى مطابقيا للفظ عن تصور
أجزائه كذلك.
وأما في باقي الصور فإن كان اللفظ دالا على الكل على وجه التفصيل بأن
كان السامع مستحضرا لحقيقة الموضوع له فالدال على ذلك المعنى بالوجه
412

المذكور دال على أجزائه كذلك، من غير فرق بين ما إذا كان الواضع مستحضرا
للتفصيل حين الوضع أو متصورا له بالوجه. وإن كان السامع متصورا لذلك الكل
بالوجه كان التصور المفروض عين تصور أجزائه بالوجه، حيث إن ذلك الوجه
الذي يتصور به الكل وجه من وجوه أجزائه فيكون ذلك تصورا لها بالوجه
المذكور وإن لم يشعر بتصوره بخصوص تلك الأجزاء.
والحاصل: أنه إذا دل اللفظ على الكل وانتقل السامع إليه عند سماع اللفظ فقد
انتقل إلى أجزائه على حسب انتقاله إلى الكل، فإن كان قد تصور الكل على وجه
التفصيل فقد تصور أجزاءه كذلك، وإلا كان متصورا لها على وجه الاجمال
كتصوره للكل، فيكون دلالته على الأجزاء على نحو دلالته على الكل.
ومما يوضح حصول الدلالة التضمنية كلما كان معنى اللفظ مركبا: أن دلالة
اللفظ على المعنى عبارة عن حضور المعنى في الذهن عند حضور اللفظ، ومن
البين: أن ذلك هو وجود المعنى المفروض في الذهن، وأن وجود المركب في أي
ظرف كان لا ينفك عن وجود أجزائه في ذلك الظرف، فكيف يعقل الانفكاك بينهما
في المدلولية؟
بل نقول: إن دلالته على الأجزاء عين دلالته على الكل، فهي مدلول عليها
بمدلولية الكل، فالدلالة المطابقية عين التضمنية بحسب الواقع، إلا أنها تفارقها
بحسب الاعتبار والنسبة، فهناك دلالة واحدة إن نسبت إلى الكل كانت مطابقة،
وإن نسبت إلى الأجزاء كانت تضمنا.
فإن قلت: إن وجود الكل يتوقف على وجود أجزائه وقضية التوقف المغايرة
فيكون دلالة اللفظ على الكل متوقفا على دلالته على الأجزاء، فكيف يصح القول
باتحاد الدلالتين ذاتا وتغايرهما اعتبارا؟
قلت: إنه لا منافاة بين الأمرين، فإن حصول الكل في الذهن عند حضور
اللفظ الدال عليه وإن كان حصولا واحدا متعلقا بالكل إلا أنه لا شك في كون
الأجزاء حاصلة بحصول الكل حسب ما قررنا. ومن البين أن حصولها في ضمن
413

الكل كاف في اعتبار وجودها في الذهن والحكم عليها بالمدلولية بملاحظة نفسها،
فهي بهذا الاعتبار مقدمة على وجود الكل، فمدلولية الكل متأخرة رتبة عن
مدلولية الجزء، نظرا إلى الاعتبار المذكور. وإن كان مدلولية الكل متأصلة في
المدلولية ومدلولية الجزء تابعة لها حاصلة بمدلولية الكل فإن الكل من الوجهين
اعتبارا غير الاعتبار الملحوظ في الآخر، فتأمل. هذا.
وهل تندرج المجازات في المنطوق الصريح أو الغير الصريح؟ وجهان:
من أن الدلالة الحاصلة فيها إنما هو بطريق الالتزام، حسب ما نص عليه
علماء البيان، فيندرج في غير الصريح.
ومن أن استعمال اللفظ في خصوص المعنى المجازي، وإرادته منه على نحو
الحقيقة، وقد تحقق الوضع النوعي بالنسبة إليه، فيندرج لذلك في المطابقة
والالتزام الذي يجعل من المنطوق الغير الصريح هو ما يستفاد من اللفظ على سبيل
الالتزام من غير أن يستعمل اللفظ فيه، كما هو الحال في الأمثلة المتقدمة.
وربما يفصل بين ما تكون القرينة في المجازات لفظية كما في " رأيت أسدا
يرمي "، وما تكون عقلية ونحوها كما في " اسأل القرية " ونحوه، فيندرج الأول في
المنطوق الصريح، والثاني في غير الصريح، ولذا عد من دلالة الاقتضاء.
وهو غير متجه، لما ستعرف من أن دلالة القرينة في المقامين التزامية معدودة
من الاقتضاء، وهي إنما تحصل من اللفظ بتوسط العقل أو العادة فيهما، فإن إسناد
" يرمي " إلى " الأسد " يفيد إرادة الرجل الشجاع منه بضميمة العقل أو العادة، كما
أن إسناد السؤال إلى القرية يفيد إرادة الأهل منه كذلك، وأن استعمال الأسد
والقرية في المعنيين المذكورين على سبيل التوسع والمجاز فيهما من غير فرق
أيضا، فإن الحق الدلالة الحاصلة فيه من جهة انضمام القرينة بالمنطوق الصريح،
نظرا إلى استعمال اللفظ فيه، فليكن كذلك في المقامين، وإلا فلا فيهما.
والأظهر عد المجاز من المنطوق الصريح، إذ لا بعد في اندراجه في المطابقة،
نظرا إلى ما ذكر من استعمال اللفظ فيه، وحصول الوضع الترخيصي بالنسبة إليه،
414

غير أن الوضع الحاصل فيه لا يفيد دلالته على معناه المجازي، وإنما ثمرته جواز
استعمال اللفظ فيه ليخرج به عن حد الغلط، وإنما تحصل دلالته عليه بواسطة
القرينة، فتكون القرينة مفيدة لدلالته على المعنى المجازي. كما أن الوضع مفيد
لدلالة اللفظ على المعنى الحقيقي، ولما كان الملحوظ في أنظار أهل البيان حال
الدلالة واختلافها في الوضوح والخفاء عدوا دلالة المجاز من الالتزام، إذ ليست
دلالته بسبب الوضع، والمناسب لأنظار أهل الأصول إدراجه في المطابقة، لبعد
إدراجه عندهم في المنطوق الغير الصريح مع استعمال اللفظ فيه وصراحته في
الدلالة عليه، بل قد يكون أصرح من دلالة الحقيقة، فلا بعد إذا في إدراجه في
المطابقة، نظرا إلى حصول الوضع الترخيصي فيه، لصدق كون اللفظ دالا بعد تعلق
الوضع المذكور به على تمام ما وضع له، فيعم الوضع المأخوذ في حد المطابقة لما
يشمل ذلك ويندرج المجاز في المنطوق الصريح.
هذا بالنسبة إلى المجاز نفسه، وأما القرينة الدالة على كون المراد باللفظ هو
معناه المجازي ففي الأغلب إنما تكون بطريق الالتزام، كما أشرنا إليه، ويندرج في
دلالة الاقتضاء، وسيجئ الكلام فيه إن شاء الله.
ثم إن جماعة قسموا الدلالة في المنطوق الغير الصريح إلى: دلالة الاقتضاء،
ودلالة التنبيه والإيماء، ودلالة الإشارة، وذلك لأنه إما أن تكون الدلالة مقصودة
للمتكلم بحسب مفاهيم العرف، أو لا.
وعلى الأول فإما أن يتوقف عليه صدق الكلام أو صحته عقلا أو شرعا، وهو
دلالة الاقتضاء، كما في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " رفع عن أمتي الخطأ " (1) فإن صدق الكلام
يتوقف على تقدير المؤاخذة ونحوها، وقوله تعالى: * (واسأل القرية) * (2) فإن صحة
ذلك عقلا يتوقف على تقدير الأهل، وقولك: " أعتق عبدك عني على ألف " أي
مملكا على ألف لتوقف صحة العتق عليه شرعا. أو لا يتوقف على ذلك، بل يكون
مقترنا بشئ لو لم يكن ذلك الشئ علة له لبعد الاقتران، كما في قوله (عليه السلام): " كفر "

(1) بحار الأنوار: ج 88 ص 265.
(2) يوسف: 82.
415

بعد قول الأعرابي: " واقعت أهلي في نهار رمضان " فإنه يفيد أن الوقاع في نهار
رمضان موجب للكفارة، وهذا هو دلالة التنبيه والإيماء.
والثاني وهو ما لا تكون الدلالة مقصودة في ظاهر الحال دلالة الإشارة،
كدلالة الآيتين على أقل الحمل، فلو كانت مقصودة بحسب المتفاهم كما لو فرض
ورودهما في مقام بيان أقل الحمل لم تكن من دلالة الإشارة.
وأنت خبير بأن ما ذكروه غير حاصر لوجوه دلالة الالتزام مما لا يندرج
في المفهوم.
والأولى في التقسيم أن يقال: إن الدلالة الالتزامية مما لا يعد من المفهوم إما
أن تكون مقصودة للمتكلم بحسب العرف ولو بملاحظة خصوص المقام، أو لا.
وعلى الأول فإما أن يتوقف صدق الكلام أو صحته عقلا أو شرعا أو عادة أو لغة
عليه، أو لا.
فالأول هو دلالة الاقتضاء، كما في الأمثلة المتقدمة.
وقوله: " نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض " فإن صحته لغة يتوقف على
تقدير راضون، وقولك: " رأيت أسدا في الحمام " فإنه يتوقف صدق كون الأسد في
الحمام بحسب العادة على إرادة الرجل الشجاع منه. ويمكن أن يجعل تعلق
السؤال بالقرية قرينة على استعمالها في أهلها من غير أن يكون هناك إضمار،
فلا فرق في ذلك بين إضمار اللفظ وحمله على خلاف ما وضع له.
والظاهر أن معظم القرائن العقلية واللفظية القائمة على إرادة المعاني المجازية
من قبيل دلالة الاقتضاء، كما في قوله تعالى: * (... يد الله فوق أيديهم) * (1) وقولك:
" رأيت أسدا يرمي " و " جرى النهر " وغيرها، وإن كان دلالة نفس المجاز على
معناه المجازي من قبيل المطابقة بحسب ما عرفت، ويجري نحو ذلك في حمل
المشترك على أحد معانيه.

(1) الفتح: 10.
416

والحاصل: أن المناط في كون الدلالة اقتضاء هو ما ذكرناه، من غير فرق بين
كون مدلوله لفظا مضمرا أو معنى مرادا، حقيقيا كان أو مجازيا.
والثاني دلالة التنبيه والإيماء، وذلك إنما يكون بدلالة الكلام ولو بانضمام ما
يقترن به من القرينة اللفظية أو الحالية ما يقطع معه بإرادة ذلك اللازم أو يستبعد
خلافه من غير أن يتوقف صدق أصل الكلام ولا صحته على ذلك.
فمن ذلك: ما إذا أريد من بيان الملزوم إفادة وجود لازمه، كما إذا قيل: " طلع
الشمس " عند بيان وجود النهار.
ومن ذلك: ما إذا كان مقصوده من الحكم بيان لازمه، كما إذا قيل: " مات زيد "
وأريد بيان علمه بموته.
ومن ذلك: ما إذا اقترن الكلام بشئ يفيد كونه علة للحكم، كما مر من المثال،
وكقوله بعد السؤال عن جواز بيع الرطب بالتمر: " أينقص إذا جف " قال: نعم، قال:
لا يجوز " لدلالته على أن العلة في المنع هو النقصان بالجفاف.
ومنه إذا قيل: جاء زيد فقلت: ظهر الفساد في البلد، لدلالته على أن مجئ
زيد سبب للفساد. ومنه: ما إذا علق الحكم على الوصف لدلالته ولو بضميمة المقام
على كون الوصف سببا لترتب الحكم، ويجري ذلك في استفادة غير السببية من
سائر الأحكام، كالجزئية والشرطية والمانعية، كما يظهر ذلك بملاحظة الأمثلة، إلى
غير ذلك من الأمور التي يراد إفادتها من الكلام ولو بضميمة المقام، كإفادة العداوة
بين الشخصين، أو المودة بينهما، كما إذا قيل: إن مات زيد فرح عمرو أو حزن بكر،
أو قيل عند حضور موت زيد: اليوم يفرح عمرو أو يحزن خالد.
وقد يفيد الاقتران غير الحكم من تعيين بعض المتعلقات، كما إذا قلت: " رأيت
زيدا " أو " أكرمت " فإن ظاهر المقارنة يفيد كون المكرم زيدا من غير أن يتوقف
صدق الكلام أو صحته عليه، والظاهر إدراج الكناية في القسم المذكور إن كان
المعنى الحقيقي مقصودا بالإفادة أيضا، لاندراجها إذا في الحقيقة الأصولية
لاستعمال اللفظ حينئذ في معناه الموضوع له. وإن أريد بعد ذلك الانتقال منه إلى
417

لوازمه كسائر اللوازم المقصودة بالإفادة - حسب ما أشرنا إليه - فإن إرادتها
لا تنافي استعمال اللفظ في معناه الحقيقي أصلا. وأما إن كان المقصود بالإفادة
هو المعنى الالتزامي من غير أن يكون المعنى الحقيقي مرادا وإنما يراد من أجل
الإيصال إلى لازمه لا غير فالظاهر إدراجها حينئذ في المجاز الأصولي، وحكمها
حينئذ حكم سائر المجازات.
والثالث دلالة الإشارة، ويندرج فيها سائر اللوازم المستفادة من الكلام مما لا
يكون إفهامه مقصودا من العبارة بمقتضى المقام، سواء استنبطت من كلام واحد أو
أكثر، كما في الآيتين المذكورتين، وكذا الحال في الآيتين الدالة إحداهما على
ثبوت العصيان بمخالفة الأمر، والأخرى على استحقاق النار بعصيانه تعالى
وعصيان الرسول فيستفاد منهما كون أوامر الشرع للوجوب، ومن ذلك دلالة
وجوب الشئ على وجوب مقدمته. ومنه أيضا دلالة الحكم على لازمه إن لم
يقترن به ما يفيد كون ذلك مقصودا للمتكلم، وإلا كان من دلالة التنبيه حسب ما
أشرنا إليه.
فإن قلت: إذا كانت الدلالة على حصول اللازم مقصودا بالإفادة من الكلام
في دلالة الاقتضاء والتنبيه والإيماء لزم أن يكون اللفظ مستعملا فيه، إذ ليس
المراد بالاستعمال إلا إطلاق اللفظ وإرادة المعنى، فيلزم حينئذ أن يكون ذلك من
استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، مع أنه ليس الحال كذلك قطعا، ومع الغض عن
ذلك فاللازم إدراج ذلك في الكناية، حيث إنه يراد من اللفظ لازمه مع إمكان إرادة
الملزوم مع عدم اندراجها في الكناية.
قلت: أما الجواب عن الأول فظاهر مما قررناه في أوائل الكتاب، إذ قد بينا
أن استعمال اللفظ في غير ما وضع له إنما يكون بكونه المقصودة بالإفادة من
العبارة من غير أن يكون الموضوع له مقصودا بالإفادة أصلا، وإن جعل فهم المعنى
الحقيقي واسطة في الوصلة إليه. وأما إذا كان المعنى الحقيقي مقصودا بالإفادة فإن
اللفظ مستعمل فيه. وإن أريد من ذلك الانتقال إلى لازمه أيضا فإن ذلك لا يقضي
418

بكون ذلك اللازم مستعملا فيه أصلا، كما مر. والحال في المقام من هذا القبيل،
لوضوح إرادة المعاني الحقيقية في المقام وتعلق الحكم بها وإن كان المقصود من
الحكم بها وإثباتها إفادة لوازمها وما يتفرع عليها.
وأما عن الثاني فبأن اللازم المفهوم عن الكلام قد يكون لازما لمدلول اللفظ،
وقد يكون لازما للحكم به، وقد يكون من لوازم الاقتران بين الشيئين، ونحو ذلك.
وليس المعدود من الكناية إلا الصورة الأولى خاصة، كما يدل عليه حدها، فأقصى
ما يلزم من ذلك أن يكون إرادة اللازم على الوجه الأول كناية، وهو كذلك،
وهو إنما يكون من بعض صور دلالة الإيماء حسب ما أشرنا إليه.
هذا ملخص الكلام في تقسيم المنطوق.
وأما المفهوم: فإما أن يكون موافقا للمنطوق في الإيجاب والسلب، أو مخالفا
له في ذلك. والأول مفهوم الموافقة، ويسمى " فحوى الخطاب " و " لحن الخطاب ".
والمحكي عن البعض: أنه إن كان ثبوت الحكم في المفهوم أولى من ثبوته في
المنطوق سمي بالأول، وإن كان مساويا لثبوته له سمي بالثاني. ولا فرق بين أن
يكون هناك تعليق على الشرط أو الصفة، أو لا، كما في دلالة حرمة التأفيف على
حرمة الضرب، ودلالة قولك: " إن ضربك أبوك فلا تؤذه " على حرمة الأذية مع
عدم الضرب، وقولك: " لا تؤذ الفاسق " الدال على منع أذية العادل، والثاني مفهوم
المخالفة ويسمى دليل الخطاب.
وينقسم إلى: مفهوم الشرط، ومفهوم الوصف، ومفهوم الغاية، ومفهوم الحصر،
ومفهوم العدد، ومفهوم اللقب، إلى غير ذلك مما سنشير إلى جملة منها إن شاء الله.
فحصر المفهوم في مفهوم الموافقة والمخالفة عقلي. وأما حصر مفهوم المخالفة في
أقسامها فاستقرائي. هذا.
واعلم أنه لا إشكال في حجية ما يستفاد من الألفاظ بحيث تكون مفهومة
منها بحسب العرف حين الإطلاق، لبناء الأمر في المخاطبات العرفية على ذلك،
وورود المخاطبات الشرعية على طبق اللغة والعرف حسب ما دل عليه الآية
419

الشريفة وقضى به تتبع خطابات الشرع، وإطباق العلماء خلفا عن سلف عليه.
وقد وقع الخلاف في حجية جملة من المفاهيم، ومرجع البحث فيها إلى
البحث في كونها مفهومة من اللفظ، إذ لا مجال للتأمل فيها بعد فرض مفهوميتها
ودلالة اللفظ عليها للاتفاق على حجية مداليل الألفاظ كما عرفت. فالخلاف
في المقام إنما هو في انفهام تلك المفاهيم من الألفاظ ودلالتها عليها، وعدمه،
وقد ذكر المصنف في المقام عدة من أقسام مفهوم المخالفة، ونحن نتبعها بذكر
غيرها إن شاء الله.
وأما مفهوم الموافقة فسيجئ الإشارة إليه في كلام المصنف (رحمه الله) في بحث
القياس، والظاهر أنه لا خلاف في حجيته والاعتماد عليه، لكن المحكي عن
البعض كونه قياسا، وأن الوجه في حجيته حجية قياس الأولوية، وذلك يؤذن بمنع
القائل المذكور انفهامه من اللفظ، وعدم إدراجه في مداليل الألفاظ، إذ لو قال
بدلالة اللفظ عليه لما أدرجه في القياس واستند في التمسك به إلى ذلك.
ومنه ينقدح الخلاف في كونه مفهوما من اللفظ على نحو ما وقع الخلاف في
غيره من المفاهيم، وقد ينزل كلام القائل المذكور على تسليمه دلالة اللفظ عليه
بحسب متفاهم العرف، لكنه يجعل الوجه في انفهامه منه عرفا ملاحظة قياس
الأولوية، وتلك الملاحظة هي الباعثة عنده على الفهم المذكور.
وكيف كان فالحق أنه لا ربط لها بقياس الأولوية وليست حجيتها من جهة
حجيته، بل لا إشكال في حجيتها ولو قلنا بعدم حجية قياس الأولوية لاندراجها
في المفاهيم اللفظية، فإن سلم القائل المذكور كونه مدلولا لفظيا لكنه جعل الوجه
في مدلوليته عرفا ملاحظة الأولوية المذكورة حسب ما ذكر فلا ثمرة في البحث،
وإن قال بانتفاء الدلالة العرفية وجعله مدلولا عقليا بملاحظة قياس الأولوية فهو
موهون جدا، لما سيجئ بيانه - إن شاء الله - من عدم حجية قياس الأولوية مما
يكون خارجا عن المداليل اللفظية.
قوله: * (يدل على انتفائه عند انتفاء الشرط) *.
420

الشرط في اللغة بمعنى إلزام الشئ والتزامه في البيع ونحوه، كما في
القاموس، ولا يبعد شموله للالتزام الحاصل بالنذر وشبهه أيضا كما يستفاد من
غيره. وربما يشمل الجميع قوله: " المؤمنون عند شروطهم " (1). ويطلق في العرف
العام على ما ذكره الأستاذ العلامة - رفع الله مقامه - على ما يتوقف عليه وجود
الشئ مطلقا، وفي العرف الخاص على الأمر الخارج عن الشئ مما يتوقف عليه
وجوده ولا يؤثر فيه. وقد عرفت مما مرت الإشارة إليه من أنه: ما يلزم من عدمه
العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود، ويطلق على الجملة التي وليت إحدى أدوات
الشرط مما علق عليه مضمون جملة أخرى، وعلى الجملة التي وليت إحدى
كلمات الشرط مطلقا وإن لم يعلق عليها غيرها على الحقيقة، كما في قولك: " إن
ضربك أبوك فلا تؤذه " لوضوح أنه ليس المقصود تعليق النهي على الأذية على
الضرب، وقولك: " أكرم أباك وإن أهانك " أو " أكرم أباك إن أكرمك وإن أهانك "
والمراد بالشرط في المقام هو المعنى الرابع، وإطلاق ما ذكره من كون النزاع في
الجملة المدخولة ل‍ " إن " وأخواتها محمول على ذلك، أو مبني على كون أداة
الشرط حقيقة في المعنى المذكور مجازا في غيره، فأطلقوا القول في المقام.
وكيف كان فالجملة الشرطية تستعمل في تعليق الوجود على الوجود من غير
تعليق الانتفاء على الانتفاء، كما هو المتداول بين المنطقيين حيث أخذوا الشرط
على الوجه المذكور، ولذا حكموا بكون وضع المقدم في القياس الاستثنائي قاضيا
بوضع التالي، ولم يحكموا بكون رفع المقدم قاضيا برفع التالي، وقد تستعمل في
تعليق الوجود على الوجود والانتفاء على الانتفاء، وقد تكون لمحض التقدير، كما
في الفروض المذكورة في كلام الفقهاء عند بيان الأحكام، كقولهم: " لو شك بين
الثلاث والأربع كان عليه كذا " و " لو أوصى بشئ من ماله كان كذا " إلى غير ذلك.
ومن ذلك: ما يذكر لبيان ثبوت الحكم على كل حال، كقولك: " أكرم زيدا إن

(1) الوسائل: ب 20 من أبواب المهور ج 15 ص 30.
421

أكرمك وإن أهانك ". ومن ذلك أيضا: ما إذا أريد به الإشارة إلى ثبوت الحكم
في الأضعف ليتأكد ثبوته في الأقوى، كما في قولك: " إن ضربك أبوك فلا تؤذه ".
وقد تكون لبيان العلامة كما إذا سألك عن وقت حلول الشتاء فقلت: " إذا نزل
الثلج فقد حل الشتاء ". وقولك: " إذا صف الغلمان فقد جلس الأمير " و " إذا رأيت
معرفة مرفوعة أول الكلام فهو المبتدأ " إلى غير ذلك.
وقد يجعل الشرط في ذلك شرطا للحكم، فيكون الجزاء في الحقيقة هو
الحكم بثبوته لا نفس حصوله، فيرجع إلى الإطلاق السابق، ولا حاجة إليه، إذ لا
بعد في إطلاقه على ما ذكر، كما يشهد به ملاحظة الاستعمالات، ومحل النزاع
- كما عرفت - إنما هو فيما إذا أريد به التعليق، أو مطلقا بناء على كونها حقيقة في
التعليق دون غيره، وحينئذ فمرجع النزاع إلى كونها حقيقة بحسب اللغة والعرف في
تعليق الوجود على الوجود لا غير، كما هو المتداول بين المنطقيين، أو أنها تفيد
تعليق كل من وجود الجزاء وعدمه على وجود الشرط وعدمه، فتدل حينئذ على
ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط وانتفائه عند انتفائه، فيكون المدلول عليه بذلك
حكمين: أحدهما إيجابي، والآخر سلبي، وذلك ظاهر بالنسبة إلى الأخبار، إذ مفاد
الشرط حينئذ انتفاء الحكم المخبر به على فرض انتفاء الشرط.
أما بالنسبة إلى الانشاء فالظاهر أن كلا من القائل بحجية المفهوم والقائل
بنفيها يقول بانتفاء الانشاء الحاصل بالكلام على تقدير انتفاء الشرط، بل وكذا
بالنسبة إلى سائر القيودات المذكورة في الكلام حتى بالنسبة إلى الألقاب، فإن
قوله: " أكرم زيدا " إنما يكون إنشاء لوجوب إكرام زيد دون غيره، فيكون
الإيجاب المذكور ثابتا بالنسبة إليه منتفيا بالنظر إلى غيره، ولو وجب إكرام غيره
فإنما هو بإيجاب آخر، فليس ذلك من القول بحجية المفهوم في شئ.
وما يذهب إليه القائل بحجية المفهوم في المقام هو القول بدلالة الكلام على
انتفاء الإيجاب مطلقا مع انتفاء الشرط، وحينئذ فيشكل الحال في تصوير الدعوى
المذكورة، نظرا إلى أن الشرط المذكور إنما وقع شرطا بالنسبة إلى الانشاء
422

الحاصل بذلك الكلام دون غيره، فأقصى ما تفيده الشرطية انتفاء ذلك بانتفائه،
وأين ذلك من دلالته على انتفاء الوجوب - مثلا - بالنسبة إلى الصورة الأخرى
مطلقا، كما هو المدعى؟
وحله: أن الوجوب الملحوظ في المقام الذي وضعت الصيغة لإفادته وانشائه
هو الوجوب المطلق المتعلق بالمادة المعينة، لا خصوص ذلك الوجوب
المخصوص الحاصل بالإنشاء المفروض، كما هو قضية كلام القائل بكون
الموضوع له في وضع الهيئات المذكورة خاصا، إذ قد عرفت أن الأوفق بالتحقيق
كون كل من الوضع والموضوع له فيها عاما وإن كان الحاصل من استعمالها في
معانيها أمرا خاصا، فكما أن مدلول المادة أمر كلي يتشخص بفعل المأمور وتكون
الخصوصيات الشخصية خارجة عن المكلف به فكذلك مدلول الهيئة هو الإيجاب
المطلق المتعلق بالمادة المفروضة المتشخص بفعل الأمر من جهة استعمال اللفظ
فيه وإيجاده به، وخصوصياتها الشخصية خارجة عن الموضوع له، فإذا كان
مدلول الصيغة مطلق الإيجاب المتعلق بالمادة كان الشرط المذكور في الكلام قيدا
لذلك المعنى، فيدل على كون مطلق إيجاب تلك المادة معلقا على الشرط المذكور
منتفيا بانتفائه بناء على القول بثبوت المفهوم، لا أن يكون خصوص ذلك الإيجاب
الخاص معلقا عليه ليلزم انتفاء ذلك الخاص بانتفائه دون مطلق الإيجاب.
وبما ذكرنا يتأيد القول بكون الموضوع له للهيئات المذكورة عاما، كما هو
مختار الأوائل، لا خصوص جزئيات النسب الواقعة بتلك الألفاظ الخاصة، كما هو
مختار المتأخرين، إذ لو كان الأمر كما ذكروه لم يتصور ما ذهب إليه أكثر
المحققين من دلالة المفهوم على انتفاء الحكم مطلقا بانتفاء الشرط من غير فرق
بين الانشاء والإخبار كما بيناه.
ثم إنه من التأمل في ما قررنا يظهر أن ما ذكره الشهيد الثاني في التمهيد حاكيا
له عن البعض من تخصيص محل النزاع بما عدا مثل الأوقاف والوصايا والنذور
والأيمان، إذ لو علق إحدى هذه بشرط أو وصف لم يكن هناك مجال لإنكار
423

المفهوم، كما إذا قال: " وقفت هذا على أولادي الفقراء " أو " إن كانوا فقراء " ونحو
ذلك، إذ لا يتأمل أحد في اختصاص الوقف بالواجدين للوصف أو الشرط
المذكور، ونفيه عن الفاقدين له غير متجه، إذ ليس ذلك من حجية المفهوم في
شئ، إذ مفاد العبارة المذكورة ثبوت الوقف المتعلق بمن ذكره من غير أن يفيد
تعليقه بشئ آخر، فيقع الوقف على الوجه المذكور، وقضية ذلك انتفاء تعلق
الوقف بشئ آخر، إذ بعد تعين متعلقه بمقتضى الصفة المفروضة لا معنى لتعلقه
بغيره، وكذا الحال في نظائره، ألا ترى أنه لو أقر بشئ لزيد أفاد ثبوت تملكه له،
وكونه المقر به له بتمامه؟ وذلك لا يجامع اشتراك غيره معه، فيدل على نفي تملك
غيره من تلك الجهة، لا من جهة المفهوم على ما هو الملحوظ بالبحث في المقام.
ويجري ذلك في سائر الاحكام التي لا يمكن تعلقها بموضوعين، كما إذا قيل:
" تصدق بهذا على زيد " أو " بعه زيدا " أو " بعته زيدا " أو " وهبته لزيد " فإن تعلق
الأعمال المذكورة بزيد يفيد عدم تعلقها بغيره لما ذكرناه، ولا ربط له بدلالة
المفهوم، ولذا يجري ذلك بالنسبة إلى الألقاب، كما في الأمثلة المذكورة.
قوله: * (وهو مختار أكثر المحققين) *.
وقد عزاه إليهم المحقق الكركي والشهيد الثاني، وعزي إلى الشيخين
والشهيدين (رحمهما الله) أيضا، واختاره جماعة من المتأخرين، وحكي القول به عن
جماعة من العامة أيضا، منهم أبو الحسين البصري، وابن شريح، وأبو الحسين
الكرخي، والبيضاوي، والرازي، وجماعة من الشافعية.
قوله: * (وهو قول جماعة من العامة) *.
فقد حكي القول به عن مالك وأبي حنيفة وأتباعه، وأكثر المعتزلة، وأبي عبد
الله البصري، والقاضي أبي بكر، والقاضي عبد الجبار، والآمدي، واختاره من
متأخري أصحابنا الشيخ الحر وغيره. وربما يحكى في المسألة قولان آخران:
أحدهما: ثبوت المفهوم بحسب الشرع دون اللغة.
وثانيهما: التفصيل بين الانشاء والإخبار، فيثبت في الأول دون الثاني.
424

قوله: * (يجري في العرف مجرى قولك: الشرط في إعطائه إكرامك) *.
كأنه أراد به الإعطاء المأمور به، فالمقصود اشتراط وجوب الإعطاء به.
وأيضا ظاهر أنه لا معنى لاشتراط نفس الإعطاء بذلك، فالمراد اشتراط
وجوب الإعطاء أو جوازه به، وحيث إن المفروض تعليق الأمر به عليه فيتعين
إرادة الأول.
فما قد يناقش في العبارة من إشعارها بدلالته على النهي عن الإعطاء عند
انتفاء الشرط مع عدم إفادته إلا انتفاء الحكم بانتفاء الشرط لا ثبوت مقابله ليس
في محله.
ثم إن المراد بالشرط في ما ذكره هو ما يتوقف عليه الشئ، كما هو المتبادر
منه في العرف عندنا.
وما يتخيل من أنه لا وجه حينئذ للرجوع في معناه إلى التبادر المفيد للظن
غالبا، نظرا إلى كون الانتفاء بالانتفاء حينئذ قطعيا، بل ضروريا.
مدفوع: بأنه ليس المقصود من ذلك الرجوع إلى التبادر في دلالة توقف
الشئ على الشئ على انتفائه بانتفائه، ضرورة أنه بعد فرض حصول التوقف لا
حاجة في استفادة ذلك إلى الاستناد إلى التبادر، إذ هو من اللوازم البينة بالنسبة
إليه، بل المراد الاستناد إلى التبادر في فهم المعنى المذكور من لفظ الشرط، فقد
بني الاحتجاج في كلامه على مقدمتين:
إحداهما بأن مفاد التعليق على الجملة الشرطية هو مفاد لفظ " الشرط " فيما لو
صرح بكون مضمون الجملة الأولى شرطا في حصول الثانية.
والثانية: أن مفاد اشتراط شئ بشئ هو توقف ذلك الشئ على الشئ
الآخر وانتفاؤه بانتفائه، فاستند في إثبات المقدمة الثانية إلى التبادر، وكأنه لم
يتعرض لإثبات الأولى لوضوحها عنده، فإنه لا فرق بين مفاد لفظ " الشرط "
وأدواته إلا في استقلال الأول في الملاحظة، وعدم استقلال الثاني، حسب ما قرر
في الفرق بين المعاني الإسمية والحرفية.
425

ويمكن أن يحمل كلامه على الاستناد إلى التبادر بالنسبة إلى المقام الأول
أيضا، فيكون قوله: " يجري في العرف... الخ " إشارة إلى اتحاد مفاد الأمرين في
فهم العرف وجريان أحدهما مجرى الآخر، فالدليل المذكور عين ما احتجت به
الجماعة من التمسك بالتبادر، إلا أنه زاد عليه المقدمة الأولى إيضاحا للمدعى،
فإنه لو استند إلى تبادر الانتفاء بالانتفاء من تعليق الحكم بالشرط - حسب ما
قرروه في المقام - تم المرام، إلا أنه لما رأى أن تبادر المعنى المذكور ابتداء من
التعليق المفروض لا يخلو عن خفاء - إذ ربما يمنع ذلك - ضم إليه المقدمة
المذكورة، فادعى جريان أحد التعبيرين المذكورين مجرى الآخر. ثم بين أن
المستفاد من التعبير الآخر هو الانتفاء بالانتفاء، فيسهل بذلك إثبات المدعى.
فظهر مما ذكرنا اندفاع ما قد يتخيل في المقام من كون المقدمة الأولى
المأخوذة في الاحتجاج لغوا، ولذا لم يؤخذ في تقريره المعروف في كتب القوم.
هذا.
وقد يورد على الاحتجاج المذكور بوجوه:
أحدها: أن الشرط بالمعنى المذكور من المصطلحات الخاصة، فكيف يرجع
فيه إلى العرف العام، مضافا إلى أنه من المعاني المتجددة الحادثة؟ فلا ربط له بما
هو محل البحث من الدلالة عليه بحسب اللغة، ففيه خلط بين معنيي الشرط.
ويدفعه: أن الظاهر سراية ذلك المعنى إلى العرف وشيوع استعماله فيه عندهم
إلى أن بلغ حد الحقيقة، كما يقضي به ملاحظة تبادره منه في العرف. وتجدد المعنى
المذكور لا يمنع من ملاحظته في المقام، إذ ليس الكلام في مفاد لفظ الشرط، بل
في مدلول الجملة الشرطية، وإذا ظهر أن مفاد الاشتراط الحاصل من الجملة
الشرطية هو مفاد لفظ " الشرط " عندنا تم به المدعى، وإن كان ثبوت المعنى
المذكور للشرط بالوضع اللاحق، إذ لا يلزم منه كون مفاد الجملة الشرطية
مستحدثا أيضا.
ثانيها: وضوح الفرق بين مفاد الأمرين، فإن مفاد لفظ " الشرط " توقف
426

المشروط على حصوله وانتفاؤه بانتفائه من غير دلالة فيه على حصول المشروط
بحصوله، بخلاف الجملة الشرطية، لما عرفت من الاتفاق على دلالته بوجود
المشروط عند وجوده، فلا يتجه الحكم بكون الجملة الشرطية جارية مجرى
العبارة المذكورة.
وفيه: أنه ليس المراد توافق مفاد العبارتين من جميع الوجوه بل المراد
توافقهما في إفادة ذلك وان استفيد ذلك من الجملة الشرطية مع ما يزيد عليه.
ثالثها: أنه ليست أدوات الشرط موضوعة لمجرد الانتفاء بالانتفاء، إذ ليس
ذلك معنى مطابقيا لها بالاتفاق، بل إنما هو من لوازمه حسب ما نقرره إن شاء الله،
فلا وجه للاستناد إلى التبادر الذي هو من أمارات الوضع.
ويدفعه: أنه ليس المقصود في المقام دعوى تبادر الانتفاء عند الانتفاء ابتداء
من نفس اللفظ حتى يرد ما ذكر، بل المدعى: أنه يتبادر منه معنى لا ينفك عن
ذلك، فالمقصود انفهام ذلك المعنى منه بالواسطة، وليس ذلك من أمارات الحقيقة،
كما مر بيانه في محله.
رابعها: أنه إذا أريد بالشرط في قوله: " الشرط في إعطائه إكرامك " هو ما
يتوقف عليه الإعطاء - حسب ما مر من تفسيره به - فدعوى كون الجملة الشرطية
مفيدة لذلك محل منع، إذ القدر الذي يسلم دلالته عليه هو تعليق وجود الجزاء
على وجود الشرط، فالمراد بالشرط الذي وضعت تلك الأدوات بإزائه هو مجرد
تعليق الشئ على الشئ وارتباطه به دون المعنى المذكور.
وإن أريد بالشرط ما علق عليه مضمون جملة أخرى وارتبط به فالتبادر
المدعى محل منع، وكون مفاد قولنا: " الشرط في إعطائه إكرامك " - بالمعنى
المذكور - انتفاء الأمر بالإعطاء عند انتفاء الإكرام أول الدعوى.
ويدفعه: أن كون المتبادر من الجملة المذكورة هو مفاد الشرط بالمعنى الأول
أمر ظاهر بالوجدان من التأمل في الإطلاقات العرفية. ألا ترى حصول المناقضة
الظاهرة بين قول القائل: " أكرم زيدا على كل حال من الأحوال، سواء جاءك أو لم
427

يجئك، أكرمك أو لم يكرمك " وقوله: " أكرم زيدا إن جاءك أو إن أكرمك "؟ ولذا
يجعل حكمه الثاني عدولا عن الأول ورجوعا عنه إلى غيره.
خامسها: أن قوله: " الشرط في إعطائه إكرامك " يفيد انحصار الشرط فيه، ولا
دلالة في قوله: " أعط زيدا إن أكرمك " على ذلك.
وفيه: أنه لما كان مفاد الجملة الشرطية هو الوجود عند الوجود والانتفاء عند
الانتفاء لزمه انحصار الشرط في وجوب الاكرام في ذلك، وإلا لم يجب الإعطاء
بمجرد وجود الشرط المذكور فلا تفاوت في ذلك بين مفاد الأمرين.
هذا، ويمكن الاحتجاج على ذلك بوجهين آخرين:
أحدهما: نص جماعة من أهل اللغة على ما حكى بدلالته على ذلك. فقد عزى
الزركشي إلى كثير من أهل اللغة، منهم أبو عبيدة وغيره بحجية مفاهيم المخالفة ما
عدا اللقب، وقولهم حجة في ذلك. وقد عورض ذلك بمنع الأخفش وغيره منه، إلا
أنه يمكن دفعه بتقديم الإثبات على النفي وانجبار الأول بفهم العرف وموافقته
لقول الأكثر.
لا يقال: إن الاستناد إلى كلام أهل اللغة إنما يتم لو قلنا بكون اللفظ موضوعا
بإزاء ذلك، أو قلنا بكونه بعضا من الموضوع له. وأما لو قلنا بكون الدلالة عليه
التزامية كما هو الأظهر - حسب ما سيجئ بيانه إن شاء الله - فلا وجه للرجوع فيه
إليهم، لدوران ذلك مدار الملازمة بين الأمرين من غير حاجة فيه إلى نقل النقلة.
لأ نا نقول: إن الرجوع إلى أهل اللغة إنما هو في إثبات وضعه لما هو ملزوم
لذلك، لا في دلالته على اللازم بعد تعيين الملزوم.
ثانيهما: عدة من الروايات الدالة عليه:
منها: ما رواه القمي في تفسيره، والصدوق في معاني الأخبار عن
الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى في قصة إبراهيم (عليه السلام): * (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم
إن كانوا ينطقون) * (1) قال (عليه السلام): ما فعله، وما كذب إبراهيم (عليه السلام)، قلت فكيف ذلك؟

(1) الأنبياء: 63.
428

قال (عليه السلام): قال إبراهيم: فاسألوهم إن كانوا ينطقون فكبيرهم فعل، وإن لم ينطقوا فلم
يفعل كبيرهم شيئا، فما نطقوا، وما كذب إبراهيم (عليه السلام) (1).
وأورد عليه: أنه لا دلالة فيه على وجوب اعتبار المفهوم، بل على جواز
إرادته، ولا كلام فيه، وكان المقصود بذلك: أن مراد الإمام (عليه السلام) بيان عدم كذبه في
الحكم المذكور، بأن حكمه (عليه السلام) بكون ذلك من فعل كبيرهم معلق على نطقهم،
فليس الإخبار به مطلقا حتى يلزم الكذب، ولا دلالة إذا في ذلك على حكمه (عليه السلام)
بعدم فعله مع عدم نطقهم، بل ذلك مما يجوز أن يكون مرادا له وأن لا يكون.
قلت: من الظاهر أن دفع الكذب عنه (عليه السلام) حاصل بالوجه المذكور من غير
دلالة فيه على ثبوت المفهوم أصلا، فلا وجه للاستناد إلى تلك الرواية من الجهة
المذكورة، لكن فيها اعتبار ما يزيد على ذلك، حيث إنه (عليه السلام) استفاد من ذلك أنهم
إن لم ينطقوا فلم يفعل شيئا، وحينئذ ففي استفادته ذلك من التعليق المذكور دلالة
على المطلوب، وهو محل الشاهد، وبه يندفع الإيراد المذكور.
ومنها: ما ورد في تفسير قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (2) في
ما رواه المشايخ الثلاثة بإسنادهم عن عبيد بن زرارة أنه سأل الصادق (عليه السلام) عن
تلك الآية فقال: " ما أبينها، من شهد فليصمه، ومن سافر فلا يصمه " (3).
وذكر النهي في المفهوم إما من جهة دلالته على رفع الوجوب لوروده في مقام
توهم الوجوب، كالأمر الوارد في مقام توهم الحظر حيث يدل على رفعه. أو من
جهة كونه عبادة متوقفة على التوظيف، فبعد انتفاء الأمر تكون محرمة، والأول
أظهر. فالمناقشة في دلالتها من جهة أن ما يدل عليه غير ما يقولون به ساقطة.
ومنها: ما ورد في قوله تعالى: * (ادعوني أستجب لكم) * (4) في ما رواه القمي
في الصحيح عن الصادق (عليه السلام) أنه قال له رجل: جعلت فداك، إن الله يقول:

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 72، الأنبياء: 63.
(2) البقرة: 185.
(3) الوسائل: ج 7 ص 125.
(4) غافر: 60.
429

* (ادعوني أستجب لكم) * وإنا ندعو فلا يستجاب لنا! فقال: إنكم لا تفون الله بعهده
فإنه تعالى قال: * (أوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * (1).
فمعناه أن قضية التعليق الظاهر من الآية انتفاء وفائه تعالى بانتفاء وفائكم،
فحيث لا تفون الله بعهده لا يفي لكم بعهدكم.
ومنها: ما ورد في قوله تعالى: * (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) * (2) حيث
قال: لو سكت لم يبق أحد إلا تعجل، ولكنه قال: " ومن تأخر فلا إثم عليه " (3). فإن
ظاهره أن ذلك من أجل إثبات الإثم بالتأخير من جهة المفهوم لولا أنه تعالى
صرح بخلافه، إلى غير ذلك مما ورد مما يقف عليه المتتبع.
وقد يستدل في المقام بعدة من الأخبار، ولا دلالة فيها على ذلك:
منها: ما رواه العياشي عن الحسن بن زياد (4) قال: سألته عن رجل طلق
امرأته، فتزوجت بالمتعة أتحل لزوجها الأول؟ قال: " لا تحل له من بعد حتى
تنكح زوجا غيره، فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود
الله، والمتعة ليس فيها طلاق " (5).
وجه الاستدلال: أنه (عليه السلام) استند إلى عدم تحليل المتعة من جهة انتفاء الطلاق
فيها أخذا بمفهوم الشرط في قوله: " فإن طلقها... الآية " حيث علق نفي البأس على
الرجوع بالطلاق، فحيث لا طلاق فلا تحليل.
وفيه: أنه لا يتعين الوجه في ذلك أن يكون من جهة الاستناد إلى المفهوم، بل
يحتمل أن يكون الاستناد فيها إلى منطوق قوله تعالى: * (فلا تحل له من بعد حتى
تنكح زوجا غيره) * (6) بملاحظة قوله: * (فإن طلقها) * لا من جهة مفهومه، بل
لدلالته على أن النكاح المعتبر في التحليل هو ما يقع فيه الطلاق، والمتعة لا يتعلق
بها طلاق.

(1) البقرة: 40.
(2) البقرة: 203.
(3) البقرة: 203.
(4) في (ق) الحسن الصيقل.
(5) الوسائل: ج 15 ص 369 ح 4.
(6) البقرة: 230.
430

ومنها: ما ورد من أن يعلى بن أمية سأل عمر بن الخطاب فقال: ما بالنا نقصر
وقد أمنا وقد قال تعالى: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن
خفتم) * (1)؟ فقال له عمر: قد عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال:
" صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوها " (2). فقد فهما من ذلك انتفاء القصر مع انتفاء
الخوف، وهما من أهل اللسان، ولما ذكر عمر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله) أقره على ذلك
وأجاب بأنه صدقة... الخ.
وفيه: أنه يمكن أن يكون تعجبهما من جهة تسرية القصر إلى صورة الأمن مع
اختصاص حكم القصر بمقتضى منطوق الآية الشريفة بصورة الخوف، فيكون
الحكم في غيرها على مقتضى الأصل من الإتمام، كما هو ظاهر من الخارج،
ويشهد له اللفظ التقصير الدال على الخوف.
وقد يجاب عنه بمنع كون الأصل في الصلاة الإتمام، إذ ليس في الكتاب ما
يدل عليه، وقد روت عائشة خلافه، فإنها قالت: إن صلاة السفر والحضر كانت
ركعتين، فقصرت صلاة السفر وزيدت صلاة الحضر (3).
مضافا إلى أنه لو كان التعجب من جهة انتفاء التمام مع قضاء الأصل به لكان
المناسب أن يقال: فما بالنا لا نتم فظهر، بذلك أنهما تعجبا من حصول القصر مع
انتفاء الشرط.
وفيه: أن ظاهر الآية الشريفة تعطي كون الأصل هو التمام، وكون الأصل فيها
هو الركعتين - حسب ما روته عائشة - إن ثبت لا يدل على عدم انقلاب الأصل،
كما يومئ إليه ظاهر الآية وغيرها. ومن الجائز أن يكون التعجب من ثبوت حكم
القصر مع اختصاص الآية بصورة الخوف، فقال: ما بالنا نقصر وقد أمنا، وليس
في ذلك خروج عن ظاهر السياق أصلا، كما لا يخفى.

(1) النساء: 101.
(2) سنن الدارمي: ج 1 ص 354.
(3) صحيح مسلم: ج 1 ص 478 ح 1 و 2 و 3، باختلاف يسير.
431

ومنها: ما ورد من أنه لما نزل قوله تعالى: * (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن
يغفر الله لهم) * قال (صلى الله عليه وآله): لأزيدن على السبعين (1).
فدل ذلك على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) فهم من تعليق عدم المغفرة على الشرط المذكور أن
حكم الزيادة غير حكم السبعين، وهو موهون جدا، لعدم صحة الخبر، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
ما كان يستغفر للكفار بعد ورود النهي عنه، وليس الملحوظ في ذكر السبعين
خصوص ذلك العدد، بل إنما يذكر عرفا لأجل الدلالة على الكثرة، وإنما أريد به
في المقام بيان عدم حصول الغفران لهم على آكد الوجوه، ولو صح ورود ذلك
عنه (صلى الله عليه وآله) فالمراد به إظهار الشفقة والرأفة استمالة للقلوب، أو مع الغض عن جميع
ذلك فليس في الخبر دلالة على استفادته من ذلك حصول الغفران لهم بالزيادة، إذ
قد يكون ذلك من جهة احتمال حصول الغفران لهم بالزائد، لخروجه عن مدلول
تلك الآية.
هذا، وقد احتجوا على ثبوت المفهوم المذكور بوجوه اخر مزيفة:
منها: ما تمسك به العلامة في النهاية: من أن وجود الشرط لا يستلزم وجود
المشروط قطعا، فلو لم يستلزم عدمه عدمه لكان كل شئ شرطا لغيره، والتالي
واضح الفساد، فالمقدم مثله، والملازمة ظاهرة، وهو كما ترى لابتنائه على الخلط
بين إطلاقي الشرط، فإن الشرط الذي لا يستلزم وجوده الوجود هو الشرط
بالمعنى المصطلح، والشرط المقصود في المقام يستلزم وجوده الوجود في الجملة
قطعا، إذ هو قضية منطوق الكلام.
ومنها: أن المذكور بعد " ان " وأخواتها شرط بالنسبة إلى ما يتفرع عليه من
الجزاء وكل شرط يلزم من انتفائه انتفاء المشروط به. أما الصغرى فلإطباق علماء
العربية على أن " إن " ونحوها من حروف الشرط، فيكون مفادها مفاد الشرط.
وأما الثاني فلأن ذلك هو المراد بالشرط، ألا ترى أنهم يعدون الوضوء شرطا

(1) تفسير الكشاف: ج 2 ص 294، والآية: 80 من سورة التوبة.
432

للصلاة، ومعلومية العوضين شرطا لصحة البيع، وتسليم الثمن في المجلس شرطا
لصحة السلم، وتقابض العوضين في المجلس شرطا لصحة الصرف إلى غير ذلك
يعنون بذلك توقف ما يشترط بها من صحة الصلاة والبيع والسلم والصرف بذلك؟
وفيه أيضا ما عرفت من كونه خلطا بين إطلاقي الشرط، فإن المراد بالشرط
في المقامات المذكورة ونحوها هو الشرط بمعناه المصطلح، دون ما هو المقصود
في المقام، وكون الشرط بالمعنى المتنازع فيه مما يتوقف عليه وجود المشروط
ولا يحصل من دونه أول الكلام.
ومنها: أنهم جعلوا التقييد بالشرط من مخصصات العام كالاستثناء، فكما أن
حكم المستثنى على خلاف حكم المستثنى منه فكذا الشرط.
ويدفعه أنه ليس المناط في حصول التخصيص إثبات الحكم المخالف للعام
بالنسبة إلى المخرج، كيف؟ ولو كان كذلك لما كان يعقل الخلاف في كون الاستثناء
من النفي إثباتا أو لا، مع أن الخلاف فيه معروف في كتب الأصول.
فنقول: إن المناط في التخصيص اخراج الخاص عن العام إما بأن يراد به
الباقي كما هو ظاهر الجمهور، أو بأن يتعلق الحكم بالباقي ليكون التخصيص قرينة
على خروج القدر المخرج عن متعلق الحكم مع استعمال اللفظ في الكل، كما هو
الوجه الآخر، حسب ما فصل الكلام فيه في محله. وعلى كل من الوجهين فقضية
التخصيص عدم شمول الحكم المتعلق بالعام لجميع جزئياته المندرجة فيه، لا
بحسب الواقع ليلزم منه إثبات خلافه للمخرج عنه، بل بحسب ما يراد إفادته،
فقضية ذلك عدم إفادة الكلام ثبوت حكم العام للمخرج عنه، وأين ذلك من إثبات
خلافه له؟
نعم قضية خصوص الاستثناء ذلك نظرا إلى قضاء التبادر به وهو بالنسبة إلى
الاستثناء من الإثبات محل وفاق، وبالنظر إلى الاستثناء من النفي محل خلاف
معروف، فحمل سائر المخصصات على الاستثناء قياس محض لا شاهد عليه.
433

قوله: * (بأن تأثير (1) الشرط... الخ) *.
كأنه أراد بذلك أن ما يسلم فهمه من القضية الشرطية هو تعليق وجود الشئ
على وجود غيره وارتباطه به، ومجرد ذلك لا يقضي انتفاؤه بانتفائه، إذ كما يكون
وجوده مرتبطا بالشرط المذكور يمكن أن يكون مرتبطا بغيره أيضا من غير أن
يكون هناك منافاة بين الارتباطين بحسب العرف والعقل، فكما يكون حاصلا عند
حصول ذلك الشرط يكون حاصلا عند حصول غيره أيضا، فلا دلالة فيه على
انتفاء المشروط بانتفائه.
قوله: * (ألا ترى أن... الخ) *.
قد يورد عليه: أن ذلك ليس من محل الكلام في شئ، إذ ليس هناك تعليق
للحكم بإحدى أدوات الشرط، فلا ربط لما استشهد به بما هو المقصود.
ويدفعه: أنه ليس مقصود السيد من ذلك إلا التنظير وبيان إمكان إناطة وجود
الشئ وارتباطه بكل من أمرين أو أمور ووقوعه في الشرع من غير حصول
منافاة، فغرضه من ذلك دفع ما يتوهم من المانع العقلي بأنه مع ارتباط الشئ
بالشئ وإناطته به لا يصح القول بوجوده مع انتفاء الآخر، وذلك حاصل بما ذكره
من المثال وإن لم يكن فيه تعليق على الشرط لاتحاد المناط في المقامين، على
أنه يمكن تقرير ذلك بالنسبة إلى الشرط أيضا، فإن المعنى المستفاد من الآية
الشريفة يمكن التعبير عنه في كل من المقدمات (2) المذكورة بحسب العرف واللغة
بلفظ " الشرط " أيضا وبأداته مع أن غيره ينوب منابه.
وقد أورد على السيد بوجوه:
أحدها: أن ما ذكره السيد (قدس سره) إنما ينافي عموم المفهوم فيكون دفعا لقول من
يذهب إلى عموم المفهوم، إذ هو قائل بحصول الانتفاء بالانتفاء في الجملة فيما إذا
لم يكن هناك شئ من الشرط ولا ما يقوم مقامه.

(1) في المعالم: بأن الشرط.
(2) في (ف، ق): المقامات.
434

وفيه: أولا أنه ليس في كلام السيد ما يفيد انتفاء الحكم في بعض الصور
الموجودة، إذ قد يكون الشرط المفروض وما يقوم مقامه جامعا لجميع الفروض
الحاصلة. نعم، لو فرض انتفاء الأمرين كان الحكم منتفيا، إلا أنه ليس في كلام
السيد ما يفيد تحقق ذلك الفرض حتى يقال بذهاب السيد إلى تحقق الانتفاء
بالانتفاء في الجملة، كما يقوله القائل بحجية المفهوم وعدم عمومه.
وثانيا: أن مرجع كلام القائل بنفي عموم المفهوم إلى نفي المفهوم، فإنه يحتمل
قيام غيره مقامه في كل من الفروض الحاصلة، غاية الأمر أن يقول بانتفاء الحكم
في بعض الأقسام على سبيل الاجمال، وهو لعدم تعينه لا ينفع في شئ من
الخصوصيات. نعم يثمر ذلك في مقابلة من يدعي ثبوت الحكم في جميع الأقسام.
ثانيها: أن المدعى ظهور تعليق الحكم على الشرط انتفاؤه بانتفائه، وهو لا
ينافي عدم انتفائه، لقيام الدليل على قيام غيره مقامه، فليس في قيام بعض
الشروط مقام بعض دلالة على انتفاء الظهور المذكور إلا أن يدعى غلبة ذلك بحيث
لا يبقى معه ظن بظاهر ما يقتضيه اللفظ، لكن بلوغه إلى تلك الدرجة محل منع،
فينبغي الأخذ بظاهر ما يقتضيه اللفظ إلى أن يقوم دليل على قيام غيره مقامه، كما
يقول القائل بحجية المفهوم.
وفيه: أن مقصود السيد منع الظهور المدعى، فإن أقصى ما يفيده اللفظ حصول
الإناطة في الجملة، وهو لا ينافي الإناطة بالغير أيضا، ولا عدمه، إذ ليس في
الكلام ما يفيد انحصار المناط فيه، فإذا جاز الأمران من غير ظهور لأحدهما لم
يبق هناك دلالة على الانتفاء بالانتفاء في خصوص شئ من الصور، نظرا إلى
احتمال حصول ما يقوم مقام الشرط المفروض في خصوص كل مقام، فليس
السيد قائلا بحصول المقتضى للانتفاء محتملا لوجود ما يمنع منه حتى يدفع ذلك
بالأصل، بل يمنع من حصول المقتضى أيضا، فإن مجرد إناطة وجود الشئ
بالشئ في الجملة لا يقضي بإناطة عدمه بعدمه، إذ قد يكون عدمه منوطا بعدم
أمور شتى.
435

وأنت خبير بوهن المنع المذكور. فالتحقيق في الجواب أن يقال: إن الظاهر من
تعليق الشئ على الشئ إناطة وجوده بوجوده وتعلقه وارتباطه به كما يشهد به
ملاحظة العرف، وهو مفاد توقفه عليه، وقضية التوقف هو الانتفاء بالانتفاء إلا أن
يقوم دليل مخرج عن ذلك الظاهر يفيد توقفه على ما يعم ذلك وغيره.
ثالثها: ما أشار إليه المصنف في الجواب عن الحجة، وسيأتي الكلام فيه إن
شاء الله.
قوله: * (لو كان انتفاء الشرط... الخ) *.
لا يخفى أنه لا إشعار في الآية الثانية (1) بعدم دلالة الشرط على انتفاء
المشروط بانتفائه، أقصى الأمر عدم إرادة ذلك منها، كما هو الحال في آيات كثيرة
ورد فيها التعليق على الشرط من غير إرادة انتفاء الحكم المعلق بانتفائه، وكان
الوجه في الاحتجاج بها: أنه لو كان مفاد الشرط هو الانتفاء بالانتفاء لم يحسن
التعليق في الآية الشريفة مع عموم المنع، إذ لا أقل من إيهامه خلاف ما هو الواقع
من غير باعث عليه، فلما علق المنع عليه مع ما هو معلوم من الخارج من عموم
الحكم تبين عدم إفادة التعليق انتفاء الحكم مع انتفاء ما علق عليه.
قوله: * (لم يكن ذلك الشرط وحده شرطا) *.
قد يورد عليه: بأن فيه خلطا بين ما أريد بالشرط في محل النزاع والشرط
بمعناه المصطلح، فإن كون الشرط في المثال المذكور هو مفهوم أحدهما إنما
يوافق المعنى الثاني دون الأول، إذ لا يعقل أن يقال بكون الجملة التالية لأداة
الشرط هو مفهوم أحدهما، فمقصود السيد أنه يصح أن يعلق في العرف واللغة
قبول شهادة الواحد بكل واحد منهما مع عدم انتفاء القبول بانتفاء كل منهما، لقيام
الآخر مقامه وإن كان الشرط المصطلح حينئذ هو مفهوم أحدهما.
ويمكن أن يقال: إن مراد المصنف (رحمه الله) أنه لما كان التعليق على الشرط مؤديا

(1) في (ف، ق): الآية الشريفة.
436

لمفاد الشرط المصطلح - حسب ما مر بيانه - وكان الشرط في المقام هو مفهوم
أحدهما فكان ما ينبغي أن يعلق عليه الحكم المذكور هو ذلك دون كل واحد منها،
ولو فرض تعلق الحكم بكل واحد منها كان خروجا عن ظاهر اللفظ حسب ما
قررناه، فيكون مرجع الجواب المذكور إلى ما مر من الجواب الذي ذكرناه.
قوله: * (لكن لا يلزم من عدم الحرمة) *.
لا يخفى أنه إذا انحصر تحقق الجزاء في صورة تحقق الشرط لم يتصور
حصوله مع انتفاء الشرط، فيكون انتفاؤه بانتفاء الشرط أمرا حاصلا مع قطع النظر
عن التعليق وعن دلالة المفهوم على الانتفاء بالانتفاء، فلا يكون إفادة انتفائه
بانتفاء الشرط مقصودا من التعليق المفروض، وإنما يراد به إفادة ثبوته عند ثبوت
الشرط، لكن لا يخرج بذلك عما هو الظاهر من التعليق والاشتراط، إذ ليس
الظاهر منه إلا توقف حصول الجزاء على حصول الشرط وهو حاصل في الصورة
المفروضة، إذ القدر اللازم في تحقق معنى التوقف له هو حصول الانتفاء بالانتفاء،
سواء استفيد ذلك من التعليق المفروض أو كان معلوما في نفسه، فمن ذلك قولك:
" إن جئت زيدا وجدته مشغولا " و " إن ركب زيد دابة ركب حمارا " و " إن أراد
زيد شيئا لم يكرهه أحد على تركه " وإن أمر زيد بشئ أو نهى عنه لم يجتر أحد
على عصيانه إلى غير ذلك من الأمثلة.
ومن ذلك: التعليق الحاصل في الآية الشريفة، إذ مفاد الأمر: أنهن إن أردن
العفاف حرم عليكم إكراههن على البغاء، وقضية ذلك توقف حرمة الإكراه على
البغاء على إرادتهن العفاف، وهو كذلك، لتوقف ثبوت موضوع الإكراه على إرادة
العفاف، فالتوقف المستفاد من القضية الشرطية حاصل في المقام، إلا أنه لا يراد
من الآية إفادة الانتفاء بالانتفاء، نظرا إلى وضوحه من الخارج، فليس في الآية
الشريفة خروج عن ظاهر ما يقتضيه القضية الشرطية أصلا، فهذا تحقيق الحال
على حسب ما رامه المصنف (رحمه الله) من الجواب عن الاستدلال، وفيه تأمل سيأتي
الإشارة إليه إن شاء الله.
437

قوله: * (لأنهن إذا لم يردن التحصن... الخ) *.
لا يخفى أنه يمكن حصول الواسطة بين الأمرين لإمكان الخلو عن
الإرادتين، كما هو الحال في المتردد، ومعه يمكن تحقق الإكراه على البغاء من
غير إرادة التحصن، بناء على تفسير الإكراه بحمل الغير على ما لا يريده لا على ما
يكرهه، كما فسره المصنف به، ومع الغض عن ذلك فعدم تحقق الإكراه على البغاء
مع إرادتهن ترك العفاف غير ظاهر أيضا، لإمكان أن يردن البغاء بغير أن يكرههن
المولى على البغاء، ولا يصدق حينئذ أنهن قد أردن العفاف، فإنه إنما يصدق ذلك
مع عدم إرادتهن البغاء أصلا.
قوله: * (إذا لم يظهر للشرط فائدة أخرى) *.
أورد عليه: بأن ذلك لا يوافق ما يستفاد من كلام المصنف من كون الدلالة في
المقام وضعية، فإن الدلالة الوضعية لا يفرق الحال فيها بين ظهور فائدة أخرى
للاشتراط وعدمه إلا أن يقال باعتبار الواضع للقيد المذكور حين الوضع، وهو
تعسف ركيك لم يعهد نحوه في شئ من الأوضاع اللفظية. نعم، يوافق ذلك القول
بكون الدلالة الحاصلة في المقام عقلية صيانة لكلام الحكيم عن اللغوية، كما
سيجئ الإشارة إليه، وهو غير ما اختاره المصنف (رحمه الله).
ويدفعه: أن ذلك إنما يلزم لو التزم المصنف كون الدلالة في المقام وضعية
حاصلة من تعلق الوضع به ولو في ضمن الكل، وليس في كلام المصنف ما يفيد
ذلك، أقصى الأمر أن يكون الدلالة عنده وضعية حاصلة من تعلق الوضع بما يلزم
منه ذلك، فرجوعه إلى التبادر في المقام لا يتعين أن يكون لأجل إثبات الموضوع
له، بل يمكن أن يكون من جهة إثبات وضعه لما يلزم منه ذلك لينتقل نسبته إليه،
حسب ما مر بيانه، وحينئذ فيمكن أن يكون ظهور فائدة أخرى للاشتراط صارفا
ظنيا للفظ عن حقيقته، أعني الدلالة على التوقف والارتباط الملزوم لانتفاء الحكم
بانتفائه، فيكون الاستعمال مجازا. أو يقال بكون التعليق والاشتراط ظاهرا في
إرادة التوقف الملزوم للانتفاء بالانتفاء، نظرا إلى فهم العرف من أجل انصراف
438

المطلق إلى الفرد الظاهر أو الشائع، وحينئذ فيرتفع الفهم المذكور بانضمام أمر آخر
إليه يقتضي ظهور ثمرة أخرى للاشتراط غير الانتفاء بالانتفاء من غير لزوم تجوز
في المقام، وكان هذا هو الأظهر حسب ما يأتي بيانه وإن لم يوافق ظاهر ما ذكره
المصنف.
قوله: * (ويجوز أن يكون فائدته في الآية) *.
لا يخفى أن مجرد قيام الاحتمال المذكور غير نافع في المقام مع استناد
المعنى الأول إلى الوضع، إذ ثمرة القول بتحقق المفهوم هو الحمل عليه عند دوران
الفائدة في الاشتراط بين الوجهين. نعم، إنما يثمر ذلك بناء على كون الدلالة في
المقام عقلية، كيف؟ ولو كان مجرد احتمال ملاحظة فائدة أخرى بانتفاء المفهوم
لجرى في كثير من الشروط، فلا يتحقق هناك مفهوم في الغالب، ومع انحصار
الفائدة في إفادة الانتفاء لا يبعد تسليم المنكر له، فيؤول ذلك إلى إنكار المفهوم،
وقد يحمل كلامه على استظهار ملاحظة الفائدة المذكورة حتى يكون صارفا عما
وضع له.
قوله: * (أو أن الآية نزلت... الخ) *.
يريد بذلك: أن مورد الآية هو خصوص من يردن التعفف، فعلق الحكم على
الشرط المذكور تنصيصا على بيان الحكم في مورد النزول، ولا يريد بذلك مجرد
احتمال نزوله في من يردن التعفف ويكرههن المولى ليرد عليه: أن قيام نظير
احتمال المذكور حاصل في أكثر الشروط.
قوله: * (ولا ريب أن الظاهر يدفع بالقاطع) *.
قد يقال: إنه ليس ملحوظ المستدل لزوم جواز الإكراه على البغاء بناء على
حجية المفهوم، إذ ليس ذلك مما يتوهمه أحد في المقام، بل مراده لزوم دلالة الآية
على ذلك، فلا بد من صرفها عنه من جهة الاجماع بناء على القول المذكور، فلا
يناسب ذلك مقام البلاغة، لكون الاشتراط حينئذ زيادة خالية عن الفائدة، بل
مخلة بالمقصود يتوقف رفعه على ملاحظة الدليل من الخارج، ومثله لا يليق بكلام
البلغاء فضلا عن كلامه تعالى، وحينئذ فلا يلائمه ما ذكر في الجواب.
439

هذا، وهناك وجوه اخر قد يتمسك بها القائل بنفي المفهوم المذكور، لا بأس
بالإشارة إلى جملة منها:
منها: أنه لو دلت لكانت بإحدى الدلالات الثلاث، وكلها منتفية. أما المطابقة
والتضمن فظاهر، كيف؟ ولو دل عليه بأحد الوجهين لكان منطوقا. وأما الالتزام
فلأن من شروطه اللزوم العقلي أو العرفي، وكلاهما منتفيان في المقام، ضرورة أنه
لا ملازمة بين حصول الجزاء عند حصول الشرط وانتفائه عند انتفائه لا عقلا
ولا عادة، ولذا لا يراد بها الانتفاء عند الانتفاء في كثير من المقامات.
ويدفعه: اختيار كون الدلالة في المقام تضمنية، حسب ما ذهب إليه بعض
المحققين، كما سيجئ الإشارة إليه إن شاء الله تعالى، فلا وجه لدعوى ظهور
فساده، ولا لزوم كونه منطوقا، لما عرفت من أن مناط الفرق بين المنطوق
والمفهوم - كما نصوا عليه - كون متعلق الحكم مذكورا في أحدهما غير مذكور
في الآخر.
وفيه: أن الوجه المذكور خلاف التحقيق، كما سنبينه إن شاء الله، فالأظهر في
الجواب أن يقال بحصول الدلالة الالتزامية، لا بدعوى حصول الملازمة بين ثبوت
الجزاء عند ثبوت الشرط وعدمه عند عدمه، لوضوح خلافه، بل لأن المفهوم من
القضية الشرطية شئ يلزم من إرادته الانتفاء عند الانتفاء: أما عقلا أو عادة أو
عرفا، نظرا إلى جريان المخاطبات العرفية على ذلك وانصراف ذلك منه عند
الإطلاق.
ومنها: أنه قد جرت الاستعمالات بذكر الشرط تارة وإرادة الانتفاء بالانتفاء،
وتارة مع عدم إرادته، وقد وقع استعمال الفصحاء والبلغاء على الوجهين. وقد
حكي عن الشيخ الحر: أنه ذكر في الفوائد الطوسية مائة وعشرين آية من القرآن
لم يوجد فيها مفهوم الشرط، وذكر أن الآيات التي اعتبر فيها مفهوم الشرط لا تكاد
تبلغ هذا المقدار، وكذا الأخبار، وأكثر كلام البلغاء، وحينئذ فكيف يوثق به ويجعل
دليلا على إرادة المتكلم له من غير قيام قرينة عليه؟!
440

ويدفعه: أن مجرد ورود الاستعمال على الوجهين لا ينافي ظهوره في إرادة
الانتفاء بالانتفاء، كما هو الحال في سائر الألفاظ، ألا ترى أن استعمال الأمر في
الندب فوق حد الإحصاء ومع ذلك ينصرف عند التجرد عن القرائن إلى الوجوب؟
ويحمل عليه كما هو ظاهر بعد ملاحظة فهم العرف فكذا الحال في المقام، مع أن
كون الشيوع هنا بتلك المثابة غير ظاهر، فمجرد ورود الاستعمال على الوجهين
لا يفضي بتردده بين الأمرين.
ومنها: أنه لو دل لكان إما بالعقل أو بالنقل، والأول لا ربط له بالأوضاع،
والثاني إما متواتر أو آحاد، والأول غير ثابت، وإلا لقضى بارتفاع الخلاف،
وحصول الثاني لا يثمر في المقام، إذ الآحاد لا يفيد العلم، والمسألة أصولية لا بد
فيها من العلم، وضعفه ظاهر مما عرفت مرارا، مضافا إلى أن الوجه المذكور لو تم
لقضى بالوقف في الحكم، ولا بنفي الدلالة كما هو المدعى. وقد جرت طريقة
المتوقفين على الاحتجاج بمثل ذلك في أمثال هذه المقامات، إلا أن يقال: إن
قضية الوقف هو نفي الحكم بالمفهوم في مقام الحمل.
ومنها: حسن الاستفهام عن حال انتفاء الشرط فإنه يفيد إجمال اللفظ، وعدم
دلالته على حكم الانتفاء إذ مع الدلالة عليه لا يحسن الاستفهام، كما لا يحسن
الاستفهام عن مفهوم الموافقة بعد ملاحظة المنطوق، ووهنه ظاهر أيضا كما عرفت
في نظرائه، والفرق بين ذلك ومفهوم الموافقة ظاهر، لصراحة الأول دون الثاني.
ومنها: أنه يصح التصريح بالمفهوم بعد ذكر المنطوق من غير أن يعد ذلك لغوا،
فيصح أن يقال: " إن جاءك زيد فأكرمه وإن لم يجئك لم يجب عليك إكرامه " ولو
دل الأول على الثاني لكان ذكر الثاني بعد الأول لغوا مستهجنا، وليس كذلك، كما
يشهد به العرف، وضعفه أيضا واضح، إذ فائدة ذكر المفهوم التصريح بما يقتضيه
الظاهر، وهو أمر واقع في الاستعمالات مطلوب في المخاطبات، سيما إذا كان
للمتكلم اهتمام في بيان الحكم.
ومنها: أنه لو دل على ذلك لزم التناقض، أو التأكيد عند التصريح بنفي المفهوم
441

أو ثبوته، والأول باطل، والثاني خلاف الأصل، وكان ذلك بمنزلة قولك: " لا تقل
لوالديك أف واضربهما، أو ولا تضربهما ". وجوابه ظاهر، إذ لا تناقض في المقام،
أقصى الأمر قيام ذلك قرينة على الخروج عن ظاهر التعليق، وأنه إذا دل الدليل
على استفادة الحكم المذكور من التعليق كان التصريح به تأكيدا، ولا مانع منه.
والفرق بين ذلك وبين المثال المفروض ظاهر، وذلك لنصوصية المثال في حرمة
الضرب كما أشرنا إليه.
ومنها: أنه لا فرق بين قولنا: " زك الغنم السائمة " من التقييد بالوصف و: " زك
الغنم إن كانت سائمة " من التقييد بالشرط، وكما يصح التعبير عما هو المراد
بالتركيب الوصفي يصح التعبير عنه بالتقييد بالشرط، من غير فرق بين التعبيرين
في المفاد. وكما أن التقييد بالوصف لا يفيد انتفاء الحكم مع انتفاء الوصف فكذا
التقييد بالشرط، مضافا إلى أن كلا من الشرط والوصف من المخصصات الغير
المستقلة، فإذا كان مفاد تخصيص الوصف قصر العام على الموصوف بالوصف
المفروض مع السكوت عن حال فاقد الوصف فكذا الحال في التخصيص المستفاد
من الشرط.
وجوابه: ظهور الفرق بين التعبيرين ولو عند القائل بحجية مفهوم الوصف، فإن
مفهوم الشرط أقوى دلالة عنده، وأما عند المفصل في الحجية - كما هو الأشهر -
فالأمر واضح. وكون التخصيص الحاصل بالصفة بالسكوت في غير محل الوصف
لا يقضي بجريانه في الشرط مع اختلافهما في المفاد، كيف؟ وهو منقوض
باشتراكه مع الاستثناء في كونه مخصصا غير مستقل مع ظهور نفيه لحكم العام عن
المخرج.
ومنها: أنه لو دل على الحكمين لجاز أن يبطل حكم المنطوق ويبقى إرادة
المفهوم، كما يجوز عكسه، مع أنه لا يجوز ذلك.
وفيه مع عدم وضوح الملازمة المدعاة: أنه إنما يتم لو قلنا بكون دلالته على
الانتفاء بالانتفاء تضمنية، وهو ضعيف، كما سيجئ بيانه إن شاء الله.
442

وأما لو قلنا بكونها التزامية فهي إنما تتبع إرادة المنطوق، فمع عدم إرادة
المنطوق من أين يجئ الدلالة على لازمه؟
هذا، وحجة القول بالتفصيل بين الخبر والإنشاء: أن الجملة الواقعة بعد أدوات
الشرط إنما تقع شرطا لحكم المتكلم بالجزاء على ما يشهد به التبادر، كما في
قولك: " إذا نزل الثلج فالزمان شتاء ". وقضية ذلك انتفاء الإخبار مع انتفاء الشرط
المفروض لانتفاء الحكم المخبر به، إذ عدم حصول الإخبار بشئ لا يستلزم
عدمه، بخلاف الانشاء فإن انتفاء الانشاء يستلزم انتفاء أصل الحكم الحاصل
بذلك الانشاء، ضرورة أنه ليس هناك واقع مع قطع النظر عن الانشاء الحاصل،
فإن حصوله الواقعي تابع لما يدل عليه لفظ " الانشاء ".
وأجيب عنه: بأن الحجة المذكورة لا تفيد نفي الدلالة على الانتفاء في شئ
من الصورتين، بل تفيد خلافه، فإن المقصود في المقام دلالة الاشتراط على انتفاء
الحكم المعلق على الشرط بانتفائه، وقد قضى به الحجة المذكورة في كل من
الصورتين، ويسلمه القائل المذكور، غير أنه يجعل المعلق على الشرط هو الحكم
بمعناه المصدري دون النسبة التامة، وهو كلام آخر لا ربط له بدلالة المفهوم وإن
كان فاسدا في نفسه، إذ الظاهر كون الشرط شرطا لنفس النسبة لا للحكم بها، كما
هو ظاهر من ملاحظة الاستعمالات ومرت الإشارة إليه.
وما يرى من كونه شرطا للحكم في بعض الأمثلة فهو خارج عن ظاهر اللفظ،
متوقف على الإضمار أو التجوز، نظرا إلى القرينة القائمة عليه، وليس الكلام فيه،
فمرجع التفصيل المذكور إلى التفصيل في دلالة انتفاء الشرط على انتفاء أصل
الحكم، أعني النسبة التامة بين الوجهين المذكورين، لا التفصيل في الدلالة على
الانتفاء بالنسبة إلى الحكم الذي علق عليه الشرط المذكور، كما هو محط الكلام
في المقام، فالقائل المذكور مفصل بالنظر إلى ما يقول الأكثر بإطلاق الانتفاء بالانتفاء
بالنسبة إليه، وقائل بإطلاق الانتفاء بالنسبة إلى ما يعتقد (1) تعلق الشرط به.

(1) في (ف، ق): ما يفيد.
443

ويمكن تقرير الحجة بوجه آخر يفيد التفصيل في أصل الحكم المعلق عليه،
وذلك بأن يقال: إن تعليق الحكم على الشرط إنما يفيد الحكم بوجوده على تقدير
حصول ذلك الشرط من غير إشعار فيه بملاحظة نفسه بانتفاء ذلك الحكم عند
انتفائه، ولا منافاته له، بل يجوز فيه الأمران، ولذا جرت الاستعمالات المتداولة
في كلام الفصحاء أو البلغاء على الوجهين، إلى غير ذلك مما يتمسك به القائل بنفي
المفهوم، لكن يلزم من ذلك أنه إن كان المعلق عليه حكما إنشائيا انتفاء ذلك
الانشاء بانتفاء شرطه فإنه لما كان الحكم الانشائي حاصلا بإيجاد المتكلم
وانشائه، وكان إيجاد المتكلم تابعا للفظه الدال عليه، ومع تقييد المتكلم الجملة
الإنشائية بالشرط المفروض لا يكون الانشاء الحاصل بذلك الكلام شاملا لغير
تلك الصورة. وقضية ذلك انتفاء الانشاء المذكور بانتفاء الشرط، وهذا بخلاف
الإخبار، إذ ليست النسبة الحاصلة هناك تابعة لإيجاد المتكلم، وإنما هي أمر
واقعي حاصل في نفس الأمر مع قطع النظر عن إخبار المتكلم به، فإذا فرض بيان
المتكلم لحصول الحكم في بعض الفروض لم يكن فيه دلالة على انتفائه في غير
تلك الصورة.
لكن قد عرفت وهن ذلك، فإن القول بانتفاء ذلك الانشاء المخصوص بانتفاء
شرطه مما يقوله القائل بحجية المفهوم، والقائل بنفيه، ولذا يجري ذلك بالنسبة إلى
الألقاب أيضا، ولا يقول أحد من المحققين بحجيته، فمرجع الكلام المذكور إلى
القول بنفي حجية المفهوم رأسا، وقد عرفت ما فيه، وعرفت تصحيح دلالته على
انتفاء مطلق النسبة الإنشائية بالنسبة إلى الإنشاءات أيضا.
وأما حجة المفصل بين الشرع وغيره فلم نقف عليها، وكان الوجه فيه ما استند
إليه النافي لحجية المفهوم مع ما دل من الأخبار على اعتبار المفهوم، كما أشرنا إلى
جملة منها، واستناد العلماء خلفا عن سلف بعدة من المفاهيم، حتى أنه
حكى الشهيد الثاني في التمهيد عن بعض الفقهاء اجماع الأصوليين على حجية
444

مفهوم قوله: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا " (1). وحكى بعض الأصحاب عن
بعضهم حكاية الاجماع على اعتبار المفهوم في قوله (عليه السلام): " إذا كان الماء قدر كر لم
ينجسه شئ " (2).
وفيه ما عرفت من وهن الوجوه المذكورة للنافين، والروايات الواردة في
ذلك، واستدلال العلماء بالمفاهيم من الشواهد على المختار، ولا إشعار فيها
باختصاص ذلك بعرف الشريعة أصلا.
هذا، ولنختم الكلام في المرام برسم أمور:
أحدها: أن المدار في حصول المفهوم في المقام على دلالة الكلام على التعليق
وربط إحدى الجملتين بالأخرى بأن يفيد إناطتها بها، فلا فرق إذا بين الأدوات
الدالة عليه " كان " و " لو " الموضوعتين لخصوص التعليق وإفادة الاشتراط
والأسماء المتضمنة لمعنى الشرط: ك‍ " مهما " و " كلما " و " متى " و " من " ونحوها،
ولو كان ذلك في بعض الأحيان من جهة قيام شاهد عليه كما في " الذي يأتيني فله
درهم " وإن اختلف الحال فيها وضوحا وخفاء.
فإن قلت: إذا كان الموصول في المثال المفروض غير مفهم للشرطية في نفسه
لزم أن يكون إرادة ذلك منه خروجا عن مقتضى وضعه، فيلزم أن يكون مجازا،
وهو خلاف الظاهر، وحينئذ فكيف يجمع بين الأمرين؟
قلت: ما ذكر من التجوز إنما يلزم إذا قلنا باستعمال الموصول حينئذ في
خصوص الاشتراط بأن يكون المراد إفادته له بنفسه، كما هو الشأن في المعاني
المجازية وإن كانت إفادته بتوسط القرينة، وليس كذلك بل الظاهر إرادة التعليق
من الخارج، كزيادة الفاء في الجزاء، فإفادة الاشتراط هناك إنما تجئ من
القرينة، وذلك كاف في المقام.
وقد يقال بنحو ذلك في الأسماء المفيدة للاشتراط، إلا أن هناك فرقا من جهة

(1) الفتح العزيز بهامش المجموع: ج 1 ص 112.
(2) الوسائل: ج 1 باب 9 من أبواب الماء المطلق ص 117 ح 1.
445

غلبة تلك الإرادة فيها وقلتها في غيرها. وقد ذهب بعض أئمة العربية إلى القول
بإضمار " أن " قبلها. ويؤيد ما قلناه الفرق في إفادتها ذلك بين الوقوع في صدر
الكلام وغيره، كما في قولك: " من جاءك فأكرمه " و " أكرم من جاءك " وكذا " كلما
جاءك زيد فأكرمه " و " أكرم زيدا كلما جاءك ". وكيف كان فالمدار في المقام على
فهم التعليق والاشتراط، لا على وضع اللفظ له.
غاية الأمر أن ما وضع اللفظ بإزائه يحمل عليه إلى أن يجئ قرينة على
خلافه، وما يستفاد منه التعليق لأمر آخر يتبع حصول ذلك الأمر، ويختلف الحال
في تلك الإفادة ظهورا وخفاء من جهة اختلاف المقامات وظهور القرينة
وخفائها، كما هو معلوم من ملاحظة الاستعمالات، ومن ذلك: الوقوع في جواب
الأمر كما في قولك: " أكرم زيدا أكرمك ". وقد مر استناد الإمام (عليه السلام) إلى المفهوم
المستفاد من ذلك في الآية الشريفة.
هذا، وقد يوهم بعض تعبيراتهم في المقام اختصاص الحكم بالتعليق بكلمة
" إن " بخصوصها، حيث قرروا المسألة في خصوص التعليق بها، كما في المحصول
وفي التهذيب والزبدة وغيرها، وليس كذلك، بل إنما عبروا بذلك على سبيل
التمثيل، حيث إن كلمة " إن " هي الشائعة في التعليق، كيف! وما ذكروه من الدليل
يعم الجميع، وقد نص جماعة من علماء الأصول أيضا على التعميم، وفهم العرف
حاصل في الجميع، وهو ظاهر.
ثانيها: أن دلالة المفهوم في المقام هل هي من قبيل التضمن أو الالتزام، أو أنها
دلالة عقلية غير مندرجة في الدلالة اللفظية؟ أقوال: أوسطها أوسطها، والمختار
عند بعض أفاضل المحققين هو الأول، والمعزى إلى أكثر أصحابنا المتأخرين هو
الثالث. لنا: أن مفاد الاشتراط تعليق الحكم بالشرط وارتباطه وإناطته به بحيث
يفيد توقفه عليه كما مر بيانه، ومن البين أن توقف الشئ على الشئ لا يعقل إلا
مع انتفائه انتفاؤه (1) فمدلول المنطوق هو الحكم بالوجود عند الوجود على سبيل

(1) في (ق): مع انتفائه بانتفائه.
446

توقف الثاني على الأول، والانتفاء بالانتفاء من اللوازم البينة للتوقف، وليس جزء
من مفهومه، كما لا يخفى.
والحاصل: أن مفاد التعليق على الشرط كمفاد قولك: هذا شرط في هذا، أو
متوقف على كذا، فكما أن كلا من اللفظين دال بالدلالة الالتزامية على انتفاء
المشروط بانتفاء الشرط وانتفاء المتوقف بانتفاء ما يتوقف عليه فكذا في المقام،
وإن اختلفا في ظهور الدلالة فالدلالة هناك من قبيل المنطوق - كما مرت الإشارة
إليه - وهنا من قبيل المفهوم.
فإن قلت: إنه ليس مفاد قولك: " هذا متوقف على هذا " إلا إناطة وجوده
بوجود الآخر، وعدمه بعدمه، فيكون الانتفاء عند الانتفاء مدلولا تضمنيا كذلك،
وكذا قولك: " هذا شرط في كذا " لاخذ الانتفاء عند الانتفاء في معنى الشرط،
فكيف يعد ذلك من دلالة الالتزام ويستند إليه في محل البحث؟
قلت: الظاهر أن الدلالة على الانتفاء بالانتفاء في المقامين التزامية، فإن
توقف الشئ على الشئ هو افتقاره إليه بحيث لا يتحقق إلا بتحققه، فالانتفاء
بالانتفاء من لوازم المعنى وقيوده بحيث يكون التقييد داخلا والقيد خارجا، كما لا
يخفى عند التأمل الصادق. وكذا الحال في لفظ " الشرط " إذ هو ارتباط خاص
يلزمه الانتفاء عند الانتفاء، فالمأخوذ فيه هو التقييد المذكور، وأما نفس القيد فهي
خارجة عن معناه، وتعريفه بأنه ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده
الوجود تعريف باللازم، كما هو ظاهر لفظ " اللزوم " المأخوذ في حده، فإذا كانت
الدلالة في صريح لفظ " الشرط " و " التوقف " التزامية فكيف تكون دلالة الجملة
الشرطية الظاهرة في التوقف والشرطية تضمنية؟
فالتحقيق: أنه ليس مفاد التعليق على الشرط إلا الحكم بوجود الجملة
الجزائية عند وجود مصداق الجملة الشرطية على سبيل توقفه عليه وإناطته به،
والانتفاء عند الانتفاء من لوازم تلك الإناطة، والارتباط المدلول عليها بالمنطوق.
حجة القول بكون الدلالة تضمنية وجوه:
447

أحدها: أن الحكم بالانتفاء عند الانتفاء مندرج في الموضوع له داخل فيه،
كما هو مقتضى التبادر وفهم العرف، إذ المفروض فهمهم من التعليق المفروض
الوجود عند الوجود والانتفاء عند الانتفاء، فكل من الأمرين جزء من المعنى
الموضوع له، فلا يكون التزاما إذ هو دلالة اللفظ على الخارج اللازم، وهذا ليس
بخارج.
ثانيها: أن الدلالة الالتزامية لا تستدعي كون المدلول بها مرادا للمتكلم، إذ
المعتبر فيها هو اللزوم الذهني ليحصل الانتقال من أحدهما إلى الآخر، وقد تكون
بين الملزوم ولازمه الذهني معاندة في الخارج كالعمى والبصر، فمقتضى الدلالة
الالتزامية هو الفهم والانتقال إلى المعنى وإحضاره في البال، وهو غير كونه مرادا
من اللفظ مقصودا بالإفادة، فبعد البناء على ثبوت الدلالة على الانتفاء في المقام
هو مراد قطعا فلا تكون الدلالة عليه التزامية.
ثالثها: أن اللزوم الذهني منفي في المقام، فلو لم نقل بكون الدلالة في المقام
تضمنية لزم إنكار الدلالة اللفظية في المقام بالمرة، وهو فاسد، إذ من المعلوم أن
هناك مدلولين:
أحدهما: منطوق العبارة، وهو الحكم بالوجود عند الوجود.
والآخر: مفهومها، وهو الحكم بالعدم عند العدم.
ومن الواضح أن الحكم بالوجود عند الوجود لا يستلزم الحكم بالعدم عند
العدم بوجه من الوجوه، فتبين من ذلك أن القول بالدلالة اللفظية في المقام يستلزم
القول بكونها تضمنية.
ويرد على الأول: ما عرفت من أن المفهوم عرفا من التعليق المذكور ليس إلا
الحكم بالوجود عند الوجود على سبيل توقف الثاني على الأول وإناطته به،
واللازم من ذلك هو الحكم بالانتفاء عند الانتفاء حسب ما قررنا، فليست دلالته
على الانتفاء بالانتفاء على نحو الدلالة على الحكم بالوجود عند الوجود ليكون
كل منهما تضمنية، يشهد بذلك التأمل في مفاد الجملة المفروضة، وملاحظة تقدم
448

فهم الأول على الثاني والاحتمال منه إليه، ومجرد فهم الأمرين منها لا يقضي
بكون الدلالة تضمنية بعد كون طريق الفهم منها على ما ذكرنا، حسب ما مر بيانه.
ومنه يظهر الجواب عن الثالث، إذ ليس مفاد المنطوق مجرد الحكم بالوجود
عند الوجود على إطلاقه، بل مقيدا بالنحو المذكور، واستلزام ذلك للانتفاء عند
الانتفاء واضح لا يخفى.
وعلى الثاني: أن مجرد كون الدلالة التزامية وإن لم يقض بكون اللازم مرادا
لكن لا يلزم من ذلك عدم دلالته عليه مطلقا، بل الحق في ذلك التفصيل، وذلك لأن
اللازم إن كان من اللوازم الذهنية للشئ ولو بحسب العرف من غير أن تكون
هناك ملازمة بينهما في الخارج - كما في العمى والبصر - فمن الظاهر أن إرادة
الأول لا يقضي بإرادة الثاني، وإنما يتبعه الثاني في الفهم خاصة، وإن كان اللازم
المذكور مما لا ينفك عنه الشئ في الخارج، كما إذا كان مما لا يتحصل ذلك
المعنى في الخارج بدونه فلا شك حينئذ في كونه مرادا، نظرا إلى عدم حصول
المراد إلا به، غاية الأمر أن لا يكون مرادا من نفس اللفظ ابتداء، إذ المفروض
خروجه عن المعنى المراد، ولا يستلزم ذلك أن لا يكون مرادا أصلا ويتضح ذلك
بملاحظة سائر المقامات.
ألا ترى أن قولك: " هذا فوق هذا " يدل على تحتية الآخر، وقولك: " ذلك
تحت هذا " يدل على فوقية ذلك، وقولك: " هذا متوقف على كذا " يدل على انتفائه
بانتفائه، وكذا قولك: " هذا شرط في هذا " إلى غير ذلك من الأمثلة؟ فاللوازم
المذكورة وإن كانت خارجة عن مدلول اللفظ إلا أنها مرادة التزاما نظرا إلى عدم
تحقق المعاني الحقيقية إلا بها.
نعم، لو لم يكن هناك لزوم ذهني ولو عرفا بين المعنيين لم يعد ذلك من الدلالة
اللفظية بمعناها المعروف، وإن كان اللازم حاصلا قطعا والدلالة عليه حاصلة أيضا
بملاحظة مدلول اللفظ بعد تصور الطرفين والنسبة، أو مع ضم الواسطة الخارجية
إليه أيضا، كما هو الحال في وجوب المقدمة بالنسبة إلى ما دل على وجوب ذيها.
449

والحاصل: أن المدلول الالتزامي إن كان لازما خارجيا للمعنى المطابقي كان
مرادا في الجملة على وجه اللزوم والتبعية، فإن كان مع ذلك لازما ذهنيا كان
مدلولا لفظيا، وإلا خرجت الدلالة عليه من الدلالات اللفظية.
وعلى كل حال فليس إرادة ذلك اللازم في المقام باستعمال اللفظ فيه، إذ ذاك
إنما يكون بإرادته من اللفظ ابتداء، على ما مر تفصيل القول فيه في محله، وليس
ذلك من شأن المداليل الالتزامية عندنا. ولو أريد من اللفظ كذلك ليكون اللفظ
مستعملا فيه فهو إذا مندرج في المطابقة من تلك الجهة لكونه مجازا فيه، وقد
عرفت سابقا أن الأظهر إدراج المجاز في المطابقة.
حجة القول الثالث: أنه لو كانت الدلالة لفظية لكانت بإحدى الأدوات الثلاث،
وكلها منتفية، نظرا إلى أن مفاد التعليق المفروض ومدلوله لغة وعرفا ليس إلا
ارتباط الوجود بالوجود والحكم بوجود أحدهما على تقدير وجود الآخر.
ومن البين أن الانتفاء عند الانتفاء ليس عين ذلك، ولا جزءه، ولا لازمه،
فلا يندرج في شئ من الثلاث.
وأيضا قد نصوا على أن التعليق على الشرط إنما يقتضي الانتفاء عند الانتفاء
على القول به إن لم يظهر للشرط فائدة سواه، وأما مع تحقق فائدة أخرى سوى
ذلك فلا دلالة فيه على الانتفاء، وهذا لا يتم مع كون الدلالة عليه لفظية، إذ مجرد
وجود فائدة أخرى للتعليق لا يقضي بالخروج عن مدلول اللفظ وصرفه عما وضع
بإزائه، إذ لا بد حينئذ من البناء عليه حتى يثبت المخرج. والقول باشتراط وضعه
لذلك المفهوم - لعدم ظهور فائدة أخرى، حتى أنه لا يكون مع ظهور فائدة أخرى
موضوعا لذلك، فلا ينصرف الإطلاق عليه - مستنكر جدا، وكأنه عديم النظير في
الأوضاع اللفظية، وذلك كاف في دفعه.
وأما الوجه في الدلالة العقلية فهو على ما قرره بعض الأفاضل: أن اللفظ لما
كان وافيا بالمطلوب ولم يكن يتعلق بذكر القيد غرض في الظاهر سوى انتفاء
الحكم بانتفائه يحصل الظن بأنه لانتفاء الحكم عن غير محل القيد، فلولا ملاحظة
450

ذلك لكان اعتبار القيد عبثا لغوا لا حاجة إلى ذكره، وإن لم يكن حاجة إلى تركه
أيضا، فإن الواجب عند الحكيم ترك ما لا حاجة إلى ذكره وتركه، لأن العبث فعل
ما لا فائدة في فعله، لا ترك ما لا فائدة في تركه.
فحاصل الاستدلال: أن المظنون أو المعلوم انحصار فائدة القيد المذكور في
انتفاء الحكم عن غير محل القيد، فلولاه لزم العبث إما ظنا أو يقينا، إذ المظنون
أو المعلوم خلو كلام المتكلم عن العبث، فينتج العلم أو الظن بانتفاء الحكم عن
غير محل القيد عند المتكلم، وهو المطلوب.
ثم قال: إن هذا الوجه يعم سائر المفاهيم، سوى مفهوم اللقب، ويختص بما إذا
انتفى الفائدة في التقييد سوى الانتفاء المذكور.
وقد يورد عليه باختصاص الوجه المذكور بما إذا كان المتكلم حكيما، إذ لا
يجري ذلك في غيره، فلا تكون الدلالة حاصلة بالنسبة إلى الكلام الصادر من
سائر المتكلمين.
ويدفعه: أن الظاهر من قاعدة الوضع البناء على صون الكلام عن اللغو مع
الإمكان، حكيما كان المتكلم أو غيره حتى يتبين الخلاف.
نعم، يرد عليه ما أفاده بعض أفاضل المحققين من: أن هذا التقرير إنما يتم إذا
علم انتفاء ما عدا التخصيص من الفوائد، ومع هذا الفرض فالنزاع مرتفع، إذ لا
خلاف في إرادة ذلك مع انتفاء غيره من الفوائد في كلام الشرع، وإلا لزم اللغو
والعبث تعالى الله سبحانه عنه. وإنما الخلاف فيما إذا دار الأمر في الشرط بين أن
يكون للتخصيص أو لغيره فهل الأصل الحكم بالأول حتى يظهر خلافه، أو لا بد من
التوقف حتى يقوم دليل منفصل عليه؟
فالقائلون بالحجية ذهبوا إلى الأول، والباقون إلى الثاني، فالشرط المذكور
من القائل بحجية المفهوم غفلة ورجوع إلى القول بعدم الحجية.
قلت: كان مقصود القائل المذكور ترجيح هذه الفائدة على الفوائد المحتملة،
وحاصل كلامه: أنه إن كان هناك فائدة ظاهرة غير ذلك فلا دلالة في التعليق على
451

الانتفاء، وأما إذا لم يكن هناك فائدة أخرى في الظاهر وإن قام احتمال فوائد
عديدة فالظاهر كون الفائدة هو التخصيص، فالمظنون حينئذ انحصار الفائدة فيه
فإنه أظهر الفوائد، ويومئ إليه قوله: " إن المظنون أو المعلوم انحصار فائدة التقييد
... الخ " فليس ما ذكره مقصورا على صورة العلم بانتفاء سائر الفوائد كما ذكر في
الإيراد، فعلى هذا لو فرض انتفاء الظن في خصوص بعض المقامات فلا دلالة عند
التمسك بالوجه المذكور والإيراد عليه من هذه الجهة.
نعم، يتوجه عليه منع ما ادعاه من الظهور حينئذ، إذ لم يبين وجها لاستظهاره،
ومع ذلك (1) فقد ذكر في آخر كلامه: أن الوجه المذكور مخصوص بما إذا انتفى
الفائدة في التقييد سوى الانتفاء المذكور. وذلك يدفع ما ذكرناه من التوجيه
المذكور، إلا أن يؤول العبارة المذكورة بما لا يخالف ذلك، ولا داعي إليه، فتأمل.
ولبعض الأفاضل في تقرير الدلالة العقلية مسلك آخر، محصله: أن كل متكلم
عاقل إذا أمكن تأديته للمراد بلفظ مطلق فلم يكتف به وعبر بالمقيد يعلم أنه أراد
بذلك إفادة أمر لا يستفاد من اللفظ المطلق، فإن لم تكن هناك فائدة سوى انتفاء
الحكم بانتفاء القيد فلا نزاع في حصول القطع أو الظن بإرادته، إنما النزاع فيما إذا
كان هناك فوائد عديدة ولا دليل على تخصيص إحداهما بالإرادة فهل يتوقف في
ذلك، أو يقدم بعضها؟ فذكر حينئذ: أنا إذا تتبعنا التعليقات على الشروط وجدنا
الأغلب فيها البناء على الفائدة المذكورة، فليرجح البناء عليها بالنسبة إلى غيرها
من جهة ملاحظة تلك الغلبة والكثرة، فإذا رأينا جملة شرطية لا قرينة فيها على
ملاحظة فائدة معينة من تلك الفوائد يحصل لنا الظن بتوسط استحالة خلوها عن
الفائدة، أو بعده بأنه من القسم الغالب. ثم استشكل في جواز الاعتماد على الظن
المفروض، لعدم دليل قاض بحجيته، فإن القدر المعلوم من حجية الظن في الألفاظ
ما كان من جهة الدلالة المطابقية أو الالتزامية البينة ولو كان اللزوم فيها عرفيا.

(1) في (ق): لاستظهار دفع ذلك.
452

قلت: ما ذكره من التشكيك في حجية الظن المفروض على فرض حصوله
فلا ريب في وهنه، إذ ليس الظن المفروض ظنا عقليا خارجيا، بل من قبيل القريبة
المنضمة إلى اللفظ المبينة للمراد، ولا ريب في الاكتفاء بالقرائن الظنية، إذ لم يعتبر
أحد في القرينة أن تكون مفيدة للعلم، ومن الظاهر جريان المخاطبات العرفية في
ذلك على الظواهر والأمور المفيدة للظن، كما لا يخفى.
ولو سلم اعتبار العلم في القرائن العقلية المنضمة إلى الألفاظ الكاشفة عن
المراد بها فلا يجري ذلك بالنسبة إلى الغلبة المدعاة، لوضوح جريان المخاطبات
على الرجوع إلى الغالب في حمل الألفاظ، حتى أنه قد يرجح المجاز المشهور
على الحقيقة، لقوة الشهرة حسب ما مر بيانه. ومن هنا يظهر المناقشة في عد الوجه
المذكور من الأدلة العقلية، لرجوعه إذا إلى القرينة العرفية.
ثم إنه يبقى الكلام في كون الغلبة المدعاة في المقام بالغة إلى حد يورث الظن
لو قطع النظر عن سائر الوجوه المفيدة لذلك وهو في حيز المنع، وعلى فرض كونها
كذلك فلا منافاة فيها لما بيناه، بل هي مؤيدة لحملها على ما قلناه، ولا يمنع ذلك
من الرجوع إلى التبادر كما هو الشأن في غيره من الموارد، لإمكان قطع النظر عن
ملاحظة الغلبة.
والرجوع إلى التبادر والمنع من حصول الفهم في المقام مع قطع النظر عن
ملاحظة ما ذكر مدفوع بما بيناه من الدليل.
والوجهان المذكوران لعدم إفادة اللفظ ذلك مدفوعان.
أما الأول فبما بيناه من التبادر وغيره.
وأما الثاني فبالمنع من كون مجرد وجود فائدة أخرى باعثا على الصرف من
ذلك. نعم، لو ظهر أن هناك فائدة أخرى ملحوظة للمتكلم قضى ذلك بصرفه عنه،
وهو ظاهر بناء على ما استظهره من انصراف التعليق إلى ذلك لكونه أظهر فيه، فإذا
قامت القرينة على ملاحظة فائدة أخرى في التعليق تعين له، ولم يقدح ما يزيد
عليه من دون لزوم تجوز، كما سيجئ بيانه إن شاء الله.
453

وأما على القول بكون المفهوم مدلولا تضمنيا أو التزاميا باللزوم البين لما
وضع اللفظ له فلا بد من التزام التجوز، ويجعل ذلك حينئذ قرينة صارفة عن
الحقيقة كما نص عليه بعض هؤلاء، فتأمل.
ثالثها (1): قد عرفت أن المختار كون دلالة التعليق المذكور على انتفاء الجزاء
بانتفاء الشرط من قبيل دلالة الالتزام، فلو قام دليل على عدم إرادة المفهوم وأن
التعليق إنما حصل لفائدة أخرى فهل هناك تجوز في اللفظ نظرا إلى دلالة انتفاء
اللازم على انتفاء الملزوم فلا يكون اللفظ حينئذ مستعملا فيما وضع له، أو لا تجوز
في اللفظ نظرا إلى أن ذلك أمر خارج عن موضوع اللفظ، فعدم إرادته في المقام
لا يقضي بالخروج عن مقتضي الوضع؟ وجهان.
وأنت خبير بأن الوجه الثاني إنما يتم إذا كان اللزوم في المقام عرفيا لا عقليا،
إذ يصح القول حينئذ بتخلف اللازم لقيام دليل عليه. وأما إذا كان اللزوم عقليا
- حسب ما عرفت - فلا يصح ذلك، لامتناع الانفكاك حينئذ، فيكون عدم حصول
اللازم إذا دليلا على عدم إرادة الملزوم، فيلزم الخروج عن مقتضى المنطوق
القاضي بالتجوز في اللفظ حسب ما ذكر في الوجه الأول.
نعم، يمكن أن يقال: إن مفاد التعليق على الشرط هو ربط الجزاء بالشرط،
وهو ظاهر في توقفه عليه وإناطته به، واللازم من ذلك عقلا هو الانتفاء بالانتفاء،
إلا أن دلالة التعليق على التوقف المذكور ليس بالوضع، بل من جهة ظهور التعلق
فيه بحسب العرف، كما مر نظيره من انصراف الطلب إلى الوجوب، فإذا قام دليل
على عدم ثبوت المفهوم ظهر عدم كون التعليق هناك لإفادة التوقف، بل لأمر آخر،
كما في قولك: إن ضربك أبوك فلا تؤذه، و: أكرم زيدا إن أكرمك وإن أهانك، وكذا
الحال في فروض الفقهاء في كتب الفقه، حيث يراد به مجرد الفرض والتقدير إلى
غير ذلك، ولا تجوز حينئذ في شئ منها، لحصول التعليق وربط إحدى الجملتين

(1) أي ثالث الأمور.
454

بالأخرى في الجملة الذي هو مفاد أدوات الشرط، غاية الأمر عدم دلالتها على
التوقف والإناطة، وليس ذلك مما وضع له بخصوصه، بل إنما يستظهر ذلك منه
حين الإطلاق على الوجه الذي قررناه، فإذا قامت قرينة على خلافه لزم الخروج
عن مقتضى الظهور المذكور. وهذا الوجه غير بعيد بعد إمعان النظر في ملاحظة
الاستعمالات العرفية، وظاهر المصنف التزام التجوز على ما يستفاد من ملاحظة
دليله المذكور، وهذا هو المتعين لو قيل بكون الدلالة على المفهوم تضمنية، لكونه
استعمالا للفظ الموضوع للكل في الجزء، كما أنه يتعين البناء على الحقيقة لو قلنا
بكون الدلالة عقلية، حسب ما مر.
رابعها: المعروف بينهم عموم الحكم في المفهوم بمعنى انتفاء الحكم على
جميع صور انتفاء الشرط، ولا يظهر فيه خلاف بينهم سوى ما ذكره العلامة (رحمه الله) في
المختلف في دفع احتجاج الشيخ للمنع من سؤر ما لا يؤكل لحمه بقوله (عليه السلام): " كل
ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب " (1) حيث قال: إنه يكفي في صدق
المفهوم مخالفة المسكوت عنه للمنطوق في الحكم الثابت فيه، وحينئذ لا تدل
الرواية على أن كل ما لا يؤكل لحمه لا يتوضأ من سؤره ولا يشرب، بل جاز
اقتسامه إلى قسمين:
أحدهما يجوز الوضوء به والشرب منه، والآخر لا يجوز، فإن الانقسام إلى
القسمين حكم مخالف للمنطوق.
ثم أورد على ذلك: بأنه إذا تساوى أحد قسمي المسكوت عنه والمنطوق في
الحكم انتفت دلالة المفهوم، والمفروض البناء على دلالته.
وأجاب عنه بالمنع من انتفاء الدلالة لحصول التنافي بين المنطوق والمفهوم
بما ذكر، وهو كاف في المخالفة، وهو كما ترى صريح في البناء على عدم العموم
في المفهوم، وكلامه المذكور وإن كان بالنسبة إلى مفهوم الوصف إلا أنه بعينه جار
في مفهوم الشرط أيضا.

(1) بحار الأنوار: ج 80 ص 73.
455

واعترض عليه بعض محققي المتأخرين: بأن فرض حجية المفهوم يقتضي
كون الحكم الثابت للمنطوق منتفيا عن غير محل النطق، والمراد بالمنطوق في
مفهوم الشرط والوصف: ما تحقق فيه القيد المعتبر شرطا أو وصفا مما جعل متعلقا
له. وبغير محل النطق: ما ينفى عنه القيد من ذلك المتعلق، ولا يخفى ان متعلق القيد
هنا هو قوله: " كل ما " أي كل حيوان، إذ القيد المعتبر هو كونه مأكول اللحم،
فالمنطوق هو مأكول اللحم من كل حيوان، والحكم الثابت له هو جواز الوضوء من
سؤره والشرب منه، وغير محل النطق هو ما انتفى عنه الوصف وهو غير المأكول
لحمه من كل حيوان، وانتفاء الحكم الثابت للمنطوق يقتضي ثبوت المنع، لأنه
اللازم لرفع الجواز.
قال: وإن فرض عروض اشتباه فلنوضح بالنظر إلى مثاله المشهور - أعني
قوله: في سائمة الغنم زكاة - فإنه على تقدير ثبوت المفهوم يفيد نفي الوجوب في
مطلق المعلوفة بلا إشكال.
والتقريب فيه: أن التعريف في الغنم للعموم وهو متعلق القيد، أعني وصف
السوم، فالمنطوق هو السائمة من جميع الغنم، والحكم الثابت له هو وجوب الزكاة،
فإذا فرضنا دلالة الوصف على النفي عن غير محله كان مقتضيا هنا لنفي الوجوب
عما انتفى عنه الوصف من جميع الغنم فيدل على النفي من كل معلوفة من الغنم.
وأورد عليه بعض أفاضل المحققين: بأن النافي لعموم المفهوم إنما يدعي أن
اللازم للقول بحجيته هو اقتضاؤه نفي الحكم الثابت للمنطوق عن غير محل النطق
على وجه يرفع الإيجاب الكلي، فلا ينافي الإيجاب الجزئي، وهو صريح كلام
العلامة (رحمه الله) حيث قال: وهو لا يدل على أن كل ما لا يؤكل لحمه لا يتوضأ من
سؤره ولا يشرب، بل جاز اقتسامه إلى قسمين، فما ذكر من أن فرض حجية
المفهوم يقتضي كون الحكم الثابت للمنطوق منتفيا عن غير محل النطق إن أراد به
السلب الكلي فهو ممنوع، كيف وهو عين النزاع؟ وإلا فمسلم، ولا يجدي نفعا.
انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.
456

قلت: لا يخفى أن الموضوع في المثال المفروض هو كل حيوان والقيد
المأخوذ فيه المعلق عليه الحكم المذكور هو كونه مأكول اللحم، فيكون مفاد
العبارة: الحكم على كل واحد من الحيوان بعدم المنع من سؤره مع وصف كونه
مأكول اللحم، فقضية ذلك بناء على القول بالمفهوم ثبوت المنع بالنسبة إلى سؤر
آحاد الحيوان مع انتفاء القيد المأخوذ فيه، فمرجع هذا التعليق إلى تعليق الحكم
في كل فرد لوجود القيد المذكور، فيرتفع الحكم عن كل منها مع انتفائه، وحينئذ
فكيف يتصور القول بالاكتفاء في صدق المفهوم برفع الإيجاب الكلي؟
نعم، لو كان عموم الحكم وشموله للأفراد معلقا على الوصف المذكور صح ما
ذكر، لقضاء ذلك برفع ذلك العموم مع انتفائه، فيكتفي في مفهومه برفع الإيجاب
الكلي حسب ما ذكر، لكن ليس مفاد المنطوق ذلك أصلا، كما لا يخفى.
ثم إن توضيح الكلام في المرام يستدعي بسطا في المقام. فنقول: إنه قد يراد
بعموم المفهوم شمول نفي الحكم الثابت للمنطوق لجميع صور انتفاء الشرط
ووجوهه، فيكون الحكم الثابت في صورة وجود الشرط منتفيا عن ذلك الموضوع
على جميع صور انتفاء ذلك الشرط، بمعنى عدم توقف انتفائه على قيد آخر،
بل بمجرد انتفاء الشرط المفروض ينتفي الحكم.
وقد يراد به شمول نفي الحكم لجميع صور الانتفاء بحيث يتكرر انتفاء ذلك
الحكم بحسب تكرر انتفاء الشرط، مثلا: إذا قال: " إن لم يجئك زيد فلا يجب
عليك إكرامه " يكون مفاده على الأول أنه مع حصول المجئ كيف كان يجب
الإكرام، ولا يدل على تعدد الإكرام وتكرره بحسب تكرر المجئ، وإن قيل
بإفادته العموم على الوجه الثاني أفاد ذلك.
وأنت خبير بأن من الواضح المستبين عدم إشعار التعليق المذكور بالعموم
على الوجه الثاني في المثال المفروض أصلا. نعم، قد يستفاد منه ذلك أيضا في
بعض الصور.
والتفصيل: أنه قد لا يكون المنطوق مشتملا على العموم أصلا، لا في
الاشتراط، ولا في الموضوع، ولا في الجزاء، كالمثال المتقدم.
457

وقد يكون هناك عموم إما في الاشتراط نحو " كلما أهانك زيد لم يجب عليك
إكرامه ". وإما في الموضوع، سواء كان استغراقا أفراديا كما في قولك: " كل ماء إن
كان قدر الكر لم يتنجس بالملاقاة " أو بدليا كقولك: " أي حيوان إذا كان مأكول
اللحم جاز الوضوء من سؤره ". وإما في متعلق الشرط، نحو " إن أتاك زيد في كل
يوم من شهر رمضان فزره في العيد ". وإما في الجزاء المترتب على الشرط نحو
" إن جاءك زيد فأعطه كل ما عندك " و " إن كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ ".
وفي هاتين الصورتين قد يكون العموم استغراقا أفراديا، وقد يكون بدليا
موضوعا للعموم كذلك، أو يكون عمومه البدلي من جهة الإطلاق، ويختلف الحال
فيها حسب ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.
فهذه وجوه خمسة:
أما الأول فلا يفيد إلا رفع ذلك الحكم مع انتفاء الشرط من غير دلالة على
التكرار أصلا، ولا فرق بين كون الشرط والجزاء إيجابيين أو سلبيين أو مختلفين،
غير أن كلا من الشرط والجزاء إن كان إيجابيا اكتفى في صدقه بمجرد حصول فرد
منه، وإن كان سلبيا توقف على رفع الجميع.
هذا في المنطوق، وأما في المفهوم فالأمر بالعكس، فإنه في الإيجابي يتوقف
على رفع الجميع وفي السلبي يكتفي فيه بحصول فرد منه، من غير فرق في ذلك
بين الشرط والجزاء، فلا بد من نفي الجميع في الأول على الأول حتى يحكم بنفي
الجزاء، وعلى الثاني لا بد من عدم إدخال شئ من أفراد الجزاء في الوجود،
ويكتفي بوجود فرد منه في الحكم بترتب الجزاء في الثاني على الأول، وثبوت
فرد من الجزاء على الثاني. والمراد بعموم المفهوم حينئذ ما قررناه من كون الانتفاء
حاصلا على جميع صور انتفاء الشرط من غير توقف على قيد آخر، لكونه على
نحو خاص أو في صورة مخصوصة، لما عرفت من دلالة التعليق على توقف
المعلق على وجود المعلق عليه، وقضاء التوقف عقلا بانتفاء المتوقف عند انتفاء
المتوقف عليه مطلقا، ففي المثال المفروض لو تحقق المجئ على أي نحو كان
وجب الإكرام، ولا يدل على وجوبه كلما تكرر المجئ أصلا.
458

وأما الثانية فتفيد الحكم بتكرر انتفاء الجزاء كلما تكرر انتفاء الشرط، ففي
المثال المفروض يجب عليه الإكرام في كل صورة انتفت الإهانة، والوجه فيه
ظاهر نظرا إلى إفادة العبارة اشتراط كل صورة من صور الجزاء بصورة من
الشرط، فينتفي الجزاء في كل من تلك الصور بانتفاء الشرط فيها ويثبت خلافه،
فينحل التعليق المفروض إلى تعليقات شتى، والمستفاد منه إذن انتفاء الحكم في
كل منها بانتفاء شرطه.
وأما الثالثة فالحكم فيها كالثانية لاعتبار الاشتراط إذن في كل واحد من
آحاد الموضوع فيلزمه الحكم بالانتفاء بحسب انتفاء الشرط في كل من تلك
الآحاد، ففي المثال الأول يحكم بالتنجس بالملاقاة في كل ماء مع انتفاء كريته،
وفي الثاني يحكم بالمنع من الوضوء من سؤر أي حيوان لا يؤكل لحمه.
وأما الرابعة فقد يكون الحكم بالجزاء فيها معلقا على حصول الجميع، أو عدم
حصوله، أو على حصول أي منها، أو عدم حصوله كذلك.
فعلى الأول يتوقف ثبوت الجزاء على حصول الجميع، وينتفي بانتفاء بعض
منه أي بعض كان. وعلى الثاني يفيد عكس المذكور.
وعلى الثالث يفيد ترتب الجزاء على أي واحد كان من تلك الآحاد، ويترتب
نفيه على حصول بعض منها أي بعض كان وعلى كل حال فلا دلالة في العبارة على
التكرار، لا في المنطوق ولا في المفهوم.
وأما الخامسة فتفيد توقف ثبوت العموم على تقدير حصول الشرط، فإن كان
الجزاء موجبة كلية دل المنطوق على توقف الإيجاب الكلي على حصول ذلك
الشرط، فيكون مفاد مفهومه رفع الإيجاب الكلي الحاصل بالسلب الجزئي على
تقدير انتفاء الشرط، من غير دلالة فيه على السلب الكلي بوجه من الوجوه.
وإن كان الجزاء سالبة كلية دل على توقف السلب الكلي على حصول الشرط
المفروض، فيكون مفهومه رفع السلب الكلي الحاصل بالإيجاب الجزئي عند
انتفاء الشرط، من غير إشعار فيه بالإيجاب الكلي.
459

هذا إذا كان عمومه أفراديا. وأما إن كان بدليا: فإن كان إيجابيا أفاد في
المنطوق ترتب حصول فرد منه على الشرط المذكور، والاكتفاء فيه بأي فرد كان
وأفاد في المفهوم السلب الكلي، إذ ثبوت الحكم على وجه العموم البدلي إيجاب
جزئي، فيكون رفعه في المفهوم بالسلب الكلي، ومنه يعلم عدم الفرق بين كونه
موضوعا للعموم البدلي كما في المثال المتقدم، وما يستفاد منه ذلك من جهة
الإطلاق، كما إذا قال: " إن جاءك زيد فأعطه شيئا " فإن مفهومه عدم وجوب
إعطائه شيئا على سبيل السلب الكلي على تقدير عدم المجئ، وإن كان سلبيا أفاد
استغراق الآحاد في المنطوق، فيكون مفاده في المفهوم رفع السلب الكلي، فهو في
الحقيقة يندرج في القسم المتقدم.
إذا عرفت ذلك فقد ظهر لك أن ما ذكره المحقق المذكور (قدس سره) - انتصارا للعلامة -
إنما يتم لو كان مفاد الحديث المذكور من قبيل الصورة الخامسة، ليكون مفاده رفع
الإيجاب الكلي الصادق بالسلب الجزئي حسب ما قرر، وليس الحال كذلك، بل
هو من قبيل الصورة الثالثة، حيث إن العموم فيه إنما اعتبر في الموضوع، وقد
عرفت اقتضاء ذلك عموم المفهوم على الوجه الذي قررناه، فما ذكره العلامة من
جواز الاقتسام إلى القسمين في جهة المفهوم كما ترى.
ومن غريب الكلام ما رأيته في تعليقات بعض الأعلام على كتاب مدارك
الأحكام، حيث حاول الاحتجاج بمفهوم قوله (عليه السلام): " إذا كان الماء قدر كر لم
ينجسه شئ " على تنجيس ما دون الكر بملاقاة كل واحد من النجاسات، نظرا إلى
عموم " شئ " المذكور في المنطوق، فيسرى العموم إلى المفهوم أيضا، كما يفيد
منطوقه عدم تنجس الكر بشئ من النجاسات يفيد مفهومه تنجسه بكل منها.
ووجه ذلك: بأنه لما دل عدم تنجسه بشئ من النجاسات على الكرية كان ذلك
بمنزلة تعليق عدم تنجسه بكل واحدة واحدة منها على ذلك، فينحل ذلك التعليق
إلى تعليقات عديدة، ويكون مفاد كل منها تنجس الماء بها مع ارتفاع الشرط الذي
هو الكرية.
وأنت خبير بالبون البين بين ما ذكره وما هو مفاد التعليق المذكور في الرواية،
460

إذ من الواجب أنه ليس المعلق هناك على الشرط المذكور إلا عدم تنجسه بشئ
من النجاسات، أعني السلب الكلي، وقد عرفت أنه لا دلالة في انتفاء الشرط
حينئذ إلا على انتفاء ذلك الحكم الحاصل بالإيجاب الجزئي، ولا دلالة في ذلك
على حصول التعليق بالنسبة إلى آحاد النجاسة أصلا، فمن أين يمكن استفادة
الحكم منه على سبيل الإيجاب الكلي؟ كيف؟ ولو صح ما ذكره لكان مفهوم قولك:
" إذا أهانك زيد فلا تعطه شيئا من مالي " الحكم بجواز إعطاء جميع ماله له مع
انتفاء الإهانة، وقولك: " إن لم يقدم أبي من السفر فلا أتصدق بشئ على الفقراء "
الحكم بالتصدق بجميع الأشياء عليهم مع قدومه، إلى غير ذلك من الأمثلة، مع أن
الضرورة قاضية بخلافه كما هو في غاية الوضوح عند ملاحظة العرف، والظاهر أن
ما ذكره في المقام إنما نشأ من الخلط بين ما فصلناه من الأقسام.
خامسها (1): أنه لو كان المنطوق مقيدا بقيد اعتبر ذلك القيد في المفهوم أيضا،
فإن كان ذلك القيد مأخوذا في الشرط كما في قولك: " إن جاءك زيد وقت الصبح
فأكرمه " دل على نفي الحكم على تقدير عدم مجيئه في ذلك الوقت، سواء جاءه
في وقت آخر أو لا. وإن اخذ في الجزاء دل على انتفاء ذلك المقيد عند فوات
شرطه، فإذا قال: " إن جاءك زيد فأكرم العلماء الطوال " دل الاشتراط على عدم
وجوب إكرام خصوص العلماء الطوال عند عدم مجيئه دون مطلق العلماء، فالحكم
في غير الطوال مسكوت عنه إثباتا ونفيا في المنطوق والمفهوم.
نعم، لو قلنا بحجية مفهوم الوصف دل على عدم وجوب إكرامهم في صورة
المجئ، وفي صورة عدم مجيئه يكون الحكم فيهم مسكوتا عنه بتلك الملاحظة
أيضا، فإن التقييد بالصفة إنما هو في صورة المجئ خاصة. وربما يعزى إلى
البعض دلالة مفهوم الشرط على انتفاء الحكم عنهم مطلقا مع انتفاء الشرط،
فإن ثبت القول به فهو موهون جدا.
هذا إذا كان التقييد بالمتصل، وأما إذا كان بالمنفصل فهل يقضي ذلك باعتبار
التقييد في المفهوم أيضا؟ وجهان:

(1) أي خامس الأمور.
461

من إطلاق ظاهر اللفظ، فيكون المفهوم أيضا مطلقا، غاية الأمر قيام الدليل
على تقييد المنطوق فيقتصر عليه أخذا بمقتضى الإطلاق في غير ما قام الدليل
على التقييد.
ومن أن المفهوم تابع للمنطوق، فإذا كان المنطوق مقيدا في الواقع تبعه المفهوم
في ذلك، وكان هذا هو الأظهر، ولو خص العام في المنطوق قضى ذلك بتخصيص
المفهوم أيضا، إلا أنه يثبت في المنطوق للمستثنى خلاف حكم المستثنى منه، وفي
المفهوم لا يثبت له خلاف حكمه، بل المستثنى هناك مسكوت عنه، إذ الاشتراط
المذكور إنما يثبت للمستثنى منه، فيفيد نفي ذلك الحكم الثابت للباقي عند فقدان
الشرط المفروض، ولا يسري الاشتراط إلى المستثنى حتى يفيد نفي الحكم
الثابت له عند فوات ذلك الشرط وهو ظاهر، ويجري في التخصيص بالمنفصل ما
ذكرناه في التقييد به.
سادسها: أنه ذكر بعضهم لحجية مفهوم الشرط وغيره شروطا:
الأول: أن لا يكون ثبوت الحكم في غير محل النطق أولى أو مساويا لمحل
النطق، كما في قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * (1) وقولك: إن
ضربك أبوك فلا تؤذه.
الثاني أن لا يكون الحكم واردا مورد الغالب، كما في قوله تعالى: * (وربائبكم
اللاتي في حجوركم) * (2). وقول الصادق (عليه السلام) في الصحيح: " يجوز شهادة الرجل
لامرأته والمرأة لزوجها إذا كان معها غيرها ". وفي الإحكام: أنه اتفق القائلون
بالمفهوم على أن كل خطاب خصص محل النطق بالذكر فخروجه مخرج الأعم
الأغلب لا مفهوم له.
وقريب منه ما في المستصفى. عن بعض شروح المبادئ حكاية الاتفاق عليه.
وذكر في النهاية في مفهوم الوصف: أنه إذا خرج التقييد مخرج الأغلب فإنه لا يدل
على النفي اتفاقا، كما في قتل الأولاد فإنه غالبا لخشية الإملاق. ويظهر من نهاية

(1) الإسراء: 31.
(2) النساء: 23.
462

المسؤول وجود الخلاف فيه فإنه بعد ما ذكر: أن ذلك هو المعروف قال: ونقله إمام
الحرمين في البرهان عن الشافعي، ثم خالفه.
وكيف كان فكأن الوجه فيه: أنه لما كان الإطلاق منصرفا إلى الغالب وكان
ذلك الشرط أو الوصف حاصلا له في الغالب كان الشرط أو الصفة مساويا
للمشروط والموصوف، وحينئذ فلا يراد بهما إفادة التخصيص، وإنما يراد بهما
نكتة أخرى غير الانتفاء بالانتفاء. وعلله بعض الأفاضل: بأن النادر هو المحتاج
إلى التنبيه، والأفراد الشائعة حاضرة في الأذهان عند إطلاق اللفظ المعرى، فلو
حصل احتياج في الانفهام من اللفظ فإنما يحصل في النادر، فالنكتة في الذكر لا بد
أن تكون شيئا آخر، لا تخصيص الحكم بالغالب.
وأنت خبير بأن مجرد ما ذكره لا إشعار فيه إلى دفع المفهوم وعدم إرادة
الانتفاء بالانتفاء، وليس المقصود بالتقييد المفروض بيان دلالته على ثبوت الحكم
في محل القيد حتى يقال بعدم الاحتياج إليه مع ورود القيد مورد الغالب، نظرا إلى
الاكتفاء فيه بالإطلاق. بل المقصود بناء على اعتبار المفهوم انتفاء الحكم عن غير
مورد القيد، أعني الفرد النادر، ولا السكوت عنه، ولا إشعار في الوجه المذكور
بخلافه حتى يلزم أن يكون النكتة في الذكر شيئا آخر، كما لا يخفى.
الثالث أن لا يكون التقييد لأجل وقوع السؤال عنه، كما إذا قيل: أكرم زيدا إن
جاءني " فتقول: " أكرمه إن جاءك " أو " هل في الغنم السائمة زكاة؟ " فتقول:
" في الغنم السائمة زكاة ". وبمنزلة تقدم السؤال ما إذا ورد ذلك عند وقوع الواقعة
الخاصة، أو نحو ذلك من الأسباب الباعثة على تخصيص الذكر، إذ لا دلالة إذا
في ذلك على انتفاء الحكم بانتفائه.
وأنت خبير بأن مرجع هذه الشروط إلى أمر واحد، وهو: عدم قيام شاهد على
عدم إرادة الانتفاء بالانتفاء بحيث يخرج العبارة بملاحظته عن ظهورها في ذلك،
سواء ظهر منه خلافه أو تساوى الأمران، لخروجه بذلك عن إفادة الانتفاء
بالانتفاء، وهو بناء على ما استظهرناه من ظهور التعليق في ذلك من غير أن يكون
اللفظ موضوعا لخصوص ما ذكر ظاهر، إذ ليس الظهور المذكور إلا من جهة
463

الإطلاق فإذا رجح عليه الظهور الحاصل من ذلك زال الأول ولزم الأخذ بالثاني،
ولو تعادلا لزم الوقف بينهما لانتفاء الظهور.
وأما على قول من يجعل الدلالة وضعية فتلك قرينة صارفة له عما وضع له إن
كان صرفه عنها على سبيل الظهور، لما عرفت من الاكتفاء به في الصرف. وأما مع
التساوي فلا تكون صارفة عن الحمل عليه، إلا أنها تجعله دائرا بين الوجهين
محتملا للأمرين فلا يمكن الحكم بإرادة الحقيقة.
وقد عرفت في ما مر أن قرينة المجاز قد تعادل ظهور اللفظ في الحقيقة
فيتوقف في الحمل، كما هو الحال في المجاز المشهور عند قوم. وكيف كان فلا
حاجة في المقام إلى اعتبار الشرط المذكور، إذ المقصود ظهور اللفظ في إفادة
المفهوم مع انتفاء القرينة، وهو لا ينافي انتفاء الظهور، لقيام القرينة على خلافه.
سابعها: أنه لو علق أمورا على الشرط فإن كانت تلك الأمور مذكورة بلفظ
واحد فالظاهر إناطة المجموع بذلك الشرط، فيكون مقتضى المفهوم انتفاء
المجموع بانتفائه الحاصل برفع البعض إلا أن يظهر من اللفظ أو الخارج إناطة
الحكم في كل منها بالشرط، كما في قولك: " إن جاءك زيد فأكرم العلماء " فإن
الظاهر كون المفهوم منه عدم وجوب إكرام العلماء عند انتفاء المجئ، وهو ظاهر
في عدم وجوب إكرام أحد منهم. وإن كان رفع الإيجاب الكلي حاصلا بالسلب
الجزئي فالظاهر من اللفظ في المقام حصوله بالسلب الكلي. والوجه فيه ما قررناه
من ظهوره في إناطة الحكم في كل من الآحاد بالشرط المذكور.
وإن كانت مذكورة بألفاظ متعددة فالظاهر إناطة كل منها بالشرط المذكور،
فينتفي كل منها بانتفائه، إلا أن تقوم في المقام قرينة على إناطة المجموع به،
فلا يفيد مفهومه حينئذ ما يزيد على انتفاء البعض.
ثامنها: أنه لو علق الأمر بشئ على كل من شرطين فإن صح فيه التكرار
فالظاهر من تكرار الأمر تعدد المطلوب، فينتفي كل منها بانتفاء شرطه. وإن
لم يصح فيه التكرار أو قام الدليل على كون المطلوب شيئا واحدا احتمل القول
بتوقف حصوله على الشرطين معا، لدلالة كل من التعليقين على توقف الأمر على
464

حصول ذلك الشرط، فإذا أخذ بهما لزم القول بتوقفه على حصولهما، فيكون كل
منهما مقيدا لإطلاق الأمر، وفيه ما لا يخفى.
والحق أن يقال: إن قضية الجمع فيهما هو البناء على توقف الأمر على أحد
ذينك الشرطين، فيحصل التكليف بحصول أي منهما، وقضية منطوق كل منهما
حصوله بحصول ذلك الشرط، وقضية مفهومه انتفاؤه بانتفائه، فيكون منطوق كل
منافيا لمفهوم الآخر فيقيده تقديما لجانب المنطوق على المفهوم.
تاسعها: أنه ذكر صاحب الوافية: أن ثمرة الخلاف في المفهوم إنما تظهر فيما
إذا كان مخالفا للأصل، كما إذا قيل: " ليس في الغنم زكاة إذا كانت معلوفة " فإنه
يفيد حينئذ وجوب الزكاة في السائمة، ولا يقول بمقتضاه من لا يقول بحجية مفهوم
الشرط، بخلاف من يقول بحجيته. وأما إذا قيل: " في الغنم زكاة إذا كانت سائمة "
أفاد نفي الزكاة في المعلوفة، ويقول به حينئذ من يقول بحجية المفهوم ومن لا يقول
به، غاية الأمر استناد المثبت في ذلك إلى ظاهر المفهوم المعتضد بالأصل والنافي
إلى مجرد الأصل، وذلك لا يثمر في أصل المسألة، إذ هما موافقان فيه.
قال: ودعوى حجية المفهوم من القائل به إنما نشأ عن غفلة من ذلك، فإنه لما
كان حكم الأصل في ذلك مرتكزا في العقول اختلط الأمر عليه بين مقتضى
الأصل ومدلول اللفظ، فتوهم كون ذلك مدلولا للفظ. هذا كلامه مشروحا.
وأورد عليه غير واحد من أفاضل المتأخرين بما توضيحه: أنه وإن كان
الحال كذلك في الصورة الثانية فيتطابق الأصل والنص على القول بالحجية،
وينفرد الأصل على القول بالنفي، ويشترك الوجهان في ثبوت الحكم الذي هو
ملحوظ نظر الأصولي، إلا أن هناك فرقا بينا بين الثبوتين: فإنه إن ثبت الحكم
حينئذ بالأصل لم يقاوم شيئا من الأدلة الدالة على خلافه، فإن حجية الأصل مغياة
بقيام الدليل على خلافه فبعد قيامه لا يقوم حجة في المقام حتى تعارض الدليل
المذكور.
وأما إذا كان الثبوت بالنص ودلالة المفهوم فهو يعارض ما يدل على خلافه،
ولا بد حينئذ من ملاحظة الترجيح، ومجرد كون هذا مفهوما لا يقضي بترجيح
465

الآخر عليه، إذ رب مفهوم يترجح على المنطوق، ومع الغض عنه فقد يكون الدليل
من ذلك الجانب أيضا مفهوما، فلا بد من ملاحظة المرجح بينهما على القول
بحجيته، بخلاف ما لو قلنا بسقوط المفهوم.
وزاد بعض الأفاضل في المقام: أنه إذا كان المفهوم حجة كان الحكم المستفاد
منه مأخوذا من قول الشارع فلا حاجة في إثباته إلى الاجتهاد، بخلاف ما لو بنى
على الرجوع إلى مجرد الأصل، فإن الأخذ بمقتضاه يتوقف على الاجتهاد واستفراغ
الوسع في البحث عن الدليل المخرج عنه، ولا يجوز الأخذ بمقتضاه قبل الفحص
عن الدليل، فإن الأصل عام، والعمل بالعام قبل الفحص عن المخصص غير جائز.
وأنت خبير بوهن هذه، فإن كلا من العمل بالأصل والنص عندنا يتوقف على
الاجتهاد وبذل الوسع، ولا ينهض شئ منهما حجة قبل الاجتهاد وبذل الوسع،
فلا فرق بينهما في ذلك بالنسبة إلينا، غاية الأمر حصول الفرق بينهما كذلك في أول
الأمر بالنسبة إلى المشافهين ومن بحكمهم، حيث إنه لا حاجة بعد السماع من
المعصوم إلى بذل الوسع في ملاحظة المعارضات وغيرها في العمل بقوله (عليه السلام)،
بخلاف الأخذ بالأصل المذكور ونحوه، ولا يجري ذلك بالنسبة إلينا حسب ما
فصل القول فيه في محله.
ثم لا يذهب عليك أن ما تقدم من الإيراد بإثبات الثمرة في الصورة الثانية
أيضا غير جيد، فإنه إنما يترتب تلك الثمرة في مواضع نادرة، ومقصود صاحب
الوافية كون معظم الثمرة في صورة المخالفة للأصل، كما أشار إليه في كلامه،
لا انحصار الفائدة فيه مطلقا حتى يورد عليه بإمكان ترتب ثمرة أخرى من تلك
الجهة.
نعم، ما ذكره من بيان منشأ الغفلة في المقام فهو موهون جدا، لوضوح الفرق
بين استفادة الحكم من اللفظ أو الأصل، وظهور عدم الفرق في الفهم المذكور بين
كون الحكم موافقا للأصل أو مخالفا، فإن فهم توقف الجزاء على الشرط وانتفاءه
بانتفائه حاصل في الصورتين.
* * *
466

معالم الدين:
أصل
واختلفوا في اقتضاء التعليق على الصفة نفي الحكم عند انتفائها.
فأثبته قوم، وهو الظاهر من كلام الشيخ. وجنح إليه الشهيد في الذكرى.
ونفاه السيد، والمحقق، والعلامة، وكثير من الناس، وهو الأقرب.
لنا: أنه لو دل، لكانت إحدى الثلاث. وهي بأسرها منتفية. أما
الملازمة فبينة. وأما انتفاء اللازم فظاهر بالنسبة إلى المطابقة والتضمن،
إذ نفي الحكم عن غير محل الوصف ليس عين إثباته فيه ولا جزءه،
ولأنه لو كان كذلك، لكانت الدلالة بالمنطوق لا بالمفهوم، والخصم
معترف بفساده. وأما بالنسبة إلى الالتزام، فلأنه لا ملازمة في الذهن ولا
في العرف، بين ثبوت الحكم عند صفة، كوجوب الزكاة في السائمة
مثلا، وانتفائه عند أخرى، كعدم وجوبها في المعلوفة.
احتجوا: بأنه، لو ثبت الحكم مع انتفاء الصفة، لعرى تعليقه عليها
عن الفائدة، وجرى مجرى قولك: " الانسان الأبيض لا يعلم الغيوب،
والأسود إذا نام لا يبصر ".
والجواب: المنع من الملازمة، فإن الفائدة غير منحصرة فيما
ذكرتموه، بل هي كثيرة:
467

منها: شدة الاهتمام ببيان حكم محل الوصف، إما لاحتياج السامع
إلى بيانه، كأن يكون مالكا للسائمة مثلا دون غيرها، أو لدفع توهم عدم
تناول الحكم له، كما في قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) *
فإنه لولا التصريح بالخشية لأمكن أن يتوهم جواز القتل معها، فدل
بذكرها على ثبوت التحريم عندها أيضا.
ومنها: أن تكون المصلحة مقتضية لإعلامه حكم الصفة بالنص وما
عداها بالبحث والفحص.
ومنها: وقوع السؤال عن محل الوصف دون غيره، فيجاب على
طبقه، أو تقدم بيان حكم الغير لنحو هذا من قبل.
واعترض: بأن الخصم إنما يقول باقتضاء التخصيص بالوصف
نفي الحكم عن غير محله، إذا لم يظهر للتخصيص فائدة سواه، فحيث
يتحقق ما ذكرتموه من الفوائد، لا يبقى من محل النزاع في شئ.
وجوابه: أن المدعى عدم وجدان صورة لا تحتمل فائدة من تلك
الفوائد، وذلك كاف في الاستغناء عن اقتضاء النفي الذي صرتم إليه،
صونا لكلام البلغاء عن التخصيص لا لفائدة، إذ مع احتمال فائدة منها
يحصل الصون ويتأدى ما لا بد في الحكمة منه، فيحتاج إثبات ما سواه
إلى دليل. وأما تمثيلهم في الحجة بالأبيض والأسود، فلا نسلم أن
المقتضي لاستهجانه هو عدم انتفاء الحكم فيه عند عدم الوصف،
وإنما هو كونه بيانا للواضحات.
468

قوله: * (اختلفوا في اقتضاء التعليق على الصفة) *.
هذا هو مفهوم الوصف - أحد أقسام مفهوم المخالفة - وهو على فرض ثبوته
أضعف من مفهوم الشرط، ولذا كان القائلون بمفهوم الشرط أكثر من القائلين به،
وقد أنكره جماعة ممن يقول به، ومنهم المصنف (رحمه الله)، والمراد بالصفة ما يعم النعت
النحوي وغيره.
والأول يعم ما كان من الأوصاف، كأكرم رجلا عالما أو غيرها، كما إذا كان
النعت جملة اسمية أو فعلية، كأكرم رجلا أبوه عالم، وأكرم رجلا أكرمك. أو من
الظروف، كأطعم رجلا من الفقراء. أو من النسب كائتني برجل بغدادي.
وقد يعم الحكم للصلات وسائر الأوصاف المأخوذة قيدا في الموضوع أو
الحكم كالحال، كأكرم عالما، وانصر مظلوما، وتواضع لأفضل الناس. والثاني يعم
ما كان وصفا صريحا، كأسماء الفاعلين والمفعولين وأفعل التفضيل ونحوها، وما
دل على الوصف وإن لم يندرج في الصفات كالمنسوبات، نحو بغدادي ورومي،
ونحو كثرة الشعر يعاد له الوضوء فإن مفاده الشعر الكثير، وعد من ذلك: " لئن
يمتلئ بطن أحدكم قيحا خير من أن يمتلئ شعرا " فإن مؤداه الشعر الكثير.
وظاهر الغزالي في المستصفى: كون المنسوبات من الألقاب، وقد يخص
النزاع في المقام بخصوص الحكم المعلق على الوصف، سواء كان نعتا نحويا أو
غيره، بناء على كون الدلالة على الانتفاء بالانتفاء هنا من جهة التعليق على خصوص
الوصف الظاهر في إناطة الحكم به، وكان هذا هو الأوفق بعنوان المسألة. ويمكن
أن يجعل ذلك أحد الوجهين في البحث، والآخر من جهة ملاحظة التقييد، نظرا إلى
استظهار كون القيد احترازيا دليلا على انتفاء الحكم بانتفائه، وحينئذ يعم المسألة
سائر القيود المتعلقة (1) بالكلام ولو من غير الأوصاف، وبعض تعليلاتهم الآتية
يومئ إلى الوجه الأخير فيندرج فيه التقييد بالزمان والمكان، والعدد في وجه.

(1) في (ق): الملحقة.
469

وكيف كان فالظاهر أن محل الخلاف في الاقتضاء المذكور ليس من جهة
الدلالة الوضعية، ضرورة عدم اندراج ذلك في وضع شئ من الألفاظ المفردة
المستعملة في المقام، لا في الوضع العام المتعلق بالتراكيب الخاصة على الوجه
الذي مر في محله، إذ ذلك الوضع لا يعتبر فيه خصوص تعليق الحكم على
الوصف، ولا كون الوصف المذكور متعلقا للحكم المفروض حتى يتصور فيه أخذ
المعنى المذكور، وليس هناك وضع خاص يتعلق بالهيئة المجموعية حتى يقال
بكونها موضوعة لذلك، ولو قيل به فالقول بوضعها لذلك بعيد جدا، وليس في
كلماتهم ما يفيد الدعوى المذكورة، فالظاهر أن استفادة ذلك منه على القول به
ليس إلا من جهة استظهار ذلك من تعليق الحكم عليه، فهو إذا مدلول عرفي
حاصل في المقام: إما من جهة تعليق الحكم على الوصف، أو من جهة التقييد وذكر
الخاص مع أولوية تركه، أو لاختصاص الحكم، فلا يلزم هناك تجوز في اللفظ ولا
في الهيئة لو قام دليل على عدم إرادة المفهوم، وإنما يلزم هناك الخروج عن الظاهر
المذكور على القول به. فالبحث في المقام إنما هو في الدلالة الالتزامية العرفية،
وكان الأظهر في تقريرها على القول بها أن يقال فيها على نحو ما قدمناه بظهور
التعليق على الوصف، أو التقييد بالقيد في إناطة الحكم به وتوقفه عليه، ويستلزم
ذلك عقلا انتفاء الحكم بانتفائه.
ويؤيد ما ذكرناه: أنه لا مجال لتوهم ثبوت المفهوم في عدة من المقامات التي
قيد فيها الحكم بالوصف كما إذا قلت: رأيت عالما، أو: أكرم الأمير رجلا عالما،
أو: مات اليوم فاضل، أو: أهين فاسق، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة، إذ لا إشعار
في تلك العبارات بالدلالة على الانحصار وانتفاء الحكم في غير المقيد، ولو كان
ذلك من جهة الوضع لا طرد في المقامات، إلا أن تقوم قرينة على خلافه فتقضي
بالصرف عنه بعد فهمه. فتبين أن ذلك إنما هو من جهة الاستظهار المذكور، حيث
إنه يتبع الموارد التي يجري فيها ذلك دون غيرها، كما في الأمثلة المذكورة
ونحوها. فالظاهر عدم تعميم محل البحث لسائر ما قيد فيه الحكم بالوصف، وإن
470

كان ظاهر إطلاق كلماتهم يعم الجميع إلا أنه لا بد من التقييد، إذ لا مجال لتوهم
جريان البحث في نحو ما ذكر من الأمثلة ولو مع الخلو عن القرائن.
والأظهر في بيان ذلك على ما يطابق كلامهم أن يقال: إن محل البحث ما إذا
ورد التقييد في مقام لا يظهر هناك فائدة أخرى للتقييد سوى انتفاء الحكم، وإن
احتمل هناك فوائد أخرى. وأما مع ظهور فائدة كما في قولك: رأيت رجلا عالما
ونحوه من الأمثلة المتقدمة، حيث إنه لا يؤدي مفاد رؤيته للعالم إلا بذكر القيد فلا
مجال إذا لدلالته على انتفاء الحكم بانتفاء القيد، فليس الدلالة في المقام إلا من
جهة كون الفائدة المذكورة أظهر الفوائد حينئذ في فهم العرف، أو من جهة تعليق
الحكم على الوصف المشعر بإناطة الحكم به حسب ما أشرنا إليه، ففي ذلك أقوى
دلالة على ما قلناه.
ثم إن ها هنا أمورا ربما يتوهم منافاتها للخلاف المذكور في المقام، وقضاؤها
باعتبار هذا المفهوم من دون تأمل منهم فيه، لا بد من الإشارة إليها وبيان الحال
فيها:
أحدها: ما اشتهر في الألسنة من أن الأصل في القيد أن يكون احترازيا، ولا
تزال تراهم يلاحظون ذلك في الحدود والتعريفات، ويناقشون في ذكر قيد لا
يكون مخرجا لشئ، وكذا لا يعرف الخلاف بين الفقهاء في الأغلب إلا من جهة
التقييدات المذكورة في كلامهم وعدمها، حيث إنه يعرف اختلافهم في المسائل من
جهة اختلافهم في القيود المأخوذة في فتاواهم، أو اختلافهم في الإطلاق والتقييد،
وليس ذلك إلا من جهة ظهور التقييد في كونه احترازيا، وإلا لما أفاد ذلك أصلا.
وفيه أولا: أن ذلك أمر جرت عليه الطريقة في المقامات المذكورة، فإن
المتداول بينهم في الحدود والتعريفات هو ذلك، وقد بنوا على ملاحظة الاحتراز
في التقييدات، وكذا الحال في بيان الأحكام المدونة في الكتب الفقهية، بل وفي
سائر العلوم المدونة أيضا، فجريان طريقتهم على ذلك كاف في إفادته له في
كلامهم، وكان مقصودهم من الأصل المذكور هو ذلك، نظرا إلى ما عرفت من
471

بنائهم عليه، ولا يقضي ذلك بكونه الأصل في الاستعمالات العرفية والمحاورات
الدائرة في ألسنة العامة.
وثانيا: أن المراد بكون القيد احترازيا: أن يكون مخرجا لما لا يندرج فيه عما
يشمله من الإطلاق، أو العموم الثابت لما انضم إليه ذلك القيد، فأقصى ما يفيده
ذلك هو الخروج عن مدلول تلك العبارة، وما هو المراد منها في ذلك المقام لا عدم
شمول ذلك الحكم له بحسب الواقع.
وبعبارة أخرى: أن ما يفيده اختصاص الحكم الواقع بتلك الصورة وخروج
المخرج من شمول ذلك الحكم له، لا تخصيص المحكوم به بذلك حتى يفيد ثبوت
خلافه للمخرج بحسب الواقع. فالقيد التوضيحي المتروك في الحدود غالبا هو ما
لا يفيد اخراج شئ من الحد، وإنما ثمرته مجرد الإيضاح والبيان، فأقصى ما
يفيده القيد الاحترازي في مقابلة التوضيحي هو ما ذكرناه، وهذا مما لا مدخل له
بدلالة المفهوم، حيث إن المقصود دلالته على نفي الحكم عند انتفاء الوصف أو
القيد بحسب الواقع، لكن لما كان المعتبر في الحدود مساواة الحد للمحدود ومطابقة
المحدود للحد بحسب الواقع كان اللازم من ذلك انتفاء صدق المحذور على فاقد
القيد، فلزوم الانتفاء واقعا مع انتفاء القيد إنما هو من تلك الجهة، لا من مجرد كون
القيد احترازيا حتى يفيد حجية المفهوم، حسب ما عرفت من عدم إفادته زيادة
على ما بيناه في مقابلة القيد التوضيحي، واعتباره كذلك في بيان الأحكام وإن لم
يكن مخلا بالمرام إلا أنه لا يناسب مقام تدوين الأحكام، سواء كانت شرعية أو
غيرها من سائر العلوم المدونة، إذ لا داعي هناك غالبا على الاختصاص إلا من
جهة عدم حكم ذلك الحاكم بما عداه (1). فإذا ملاحظة المقام في تدوين الأحكام
قاضية بذلك دون مجرد التقييد، فظهر بما قررنا أن أصالة كون القيد احترازيا لا
تنافي القول بنفي المفهوم أصلا، وأن دلالته على الانتفاء بالانتفاء في المقامين
المذكورين إنما هي من الجهة التي ذكرناها دون مجرد الأصل المذكور.

(1) في (ق): بما قالوه.
472

ثانيها: عدهم الصفات من المخصصات المتصلة للعمومات، ولا خلاف لهم
في ذلك في مباحث التخصيص، وهذا بظاهره مناف لما ذكر من انتفاء الدلالة
في المقام.
وفيه ما عرفت من الفرق الظاهر بين تخصيص اللفظ بمورد الصفة وتخصيص
الحكم به بحسب الواقع، بأن يدل على ثبوت الحكم لغيره بحسب الواقع، والذي
يدل عليه التقييد المذكور هو الأول خاصة، وهو مرادهم في مقام عده من
المخصصات، والملحوظ في المقام هو الأمر الثاني، وهو يمكن اجتماعه مع الأول
وعدمه.
فإن قلت: إنهم عدوا ذلك في عداد سائر المخصصات المتصلة، كالاستثناء
والشرط والغاية، وهي تدل على انتفاء الحكم في المستثنى، ومع انتفاء الشرط،
وفي ما بعد الغاية، وليس مفادها مقصورا على مجرد رفع الحكم المدلول عليه
بالعبارة حسب ما ذكر والظاهر كون الجميع من قبيل واحد، أو أن ذلك هو المراد
بكونه من المخصصات.
قلت: ليس المراد من عد المذكورات من المخصصات إلا ما ذكرناه، وأما
دلالتها على انتفاء الحكم المذكور بحسب الواقع بالنسبة إلى المخرج فهو أمر آخر
لا دخل له بذلك، ولذا وقع الخلاف فيها بالنسبة إلى كل منها مع اتفاقهم على كونها
من المخصصات، فإنه قد خالف أبو حنيفة (1) ومن تبعه في الاستثناء من المنفي،
والخلاف في مفهوم الشرط والغاية معروف.
ثالثها: ما اتفقوا عليه من لزوم حمل المطلق على المقيد مع اتحاد الموجب،
كما إذا قيل: " إن ظاهرت فأعتق رقبة "، و " إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة " فإنه
لا إشكال عندهم حينئذ في وجوب حمل المطلق على المقيد مع أنه لا معارضة
بينهما ليفتقر إلى الحمل إلا مع البناء على دلالة المقيد على انتفاء الحكم بانتفاء

(1) في (ق): أبو عبيدة.
473

القيد ليقع المعارضة بينه وبين إطلاق منطوق الآخر، وإلا فأي منافاة بين ثبوت
الحكم في المقيد وثبوته في سائر أفراد المطلق أيضا؟ غاية الأمر أن يكون الدليل
على ثبوته في المقيد من وجهين، والدليل على ثبوته في المطلق من وجه واحد،
فالاتفاق على ذلك في المقام المذكور ينافي الخلاف الواقع في المقام، مع ذهاب
كثير من المحققين في المقام إلى نفي الدلالة.
ويدفعه: أنه ليس ما بنوا عليه من وجوب الحمل من جهة المعارضة بين
منطوق الأول ومفهوم الثاني، فرجحوا المفهوم الخاص على إطلاق المنطوق،
كيف! ولو كان كذلك لما جرى في الألقاب، لاتفاقهم على المنع من مفهوم اللقب،
مع أنه لا كلام أيضا في وجوب الحمل، كما إذا قال لعبده: " إن قدم أبي فأطعم
الفقراء، ثم قال: إن قدم أبي فأطعم الفقراء الخبز واللحم " فإنه يجب أيضا حمل
المطلق على المقيد من غير فرق بينه وبين غيره اتفاقا، مع أنه لا مفهوم له عند
المحققين، بل إنما ذلك من جهة المعارضة بين المنطوقين، فإن الظاهر من الأمر
بالمطلق هو الاكتفاء في الامتثال بأي فرد منه ولو كان من غير أفراد المقيد،
وظاهر الأمر بالمقيد هو تعين الإتيان به وعدم الاكتفاء بغيره، نظرا إلى ظهور الأمر
في الوجوب التعييني فلذا حكموا بحمل المطلق على المقيد جمعا بينهما عملا
بهما، لا لما توهم من دلالة الأمر بالمقيد على انتفاء الحكم مع انتفاء القيد.
فإن قلت: على هذا لا ينحصر الأمر في الجمع بينهما في حمل المطلق على
المقيد، لجواز حمل الأمر بالمقيد على إرادة الوجوب التخييري.
قلت: أما على القول بكون الأمر مجازا فيه فترجيح الأول ظاهر، إذ لا
يستلزم حمل المطلق على المقيد تجوزا في المطلق، ومع تسليمه فشيوع التقييد
كاف في ترجيحه. وأما على القول بعدم كونه مجازا فلا ريب في كونه خلاف
الظاهر منه. كما أن التقييد مخالف للظاهر أيضا، إلا أن فهم العرف قاضيا بترجيح
الثاني عليه، وكفى به مرجحا، وهو الباعث على اتفاقهم عليه، بل ملاحظة الاتفاق
عليه كاف فيه من غير حاجة إلى التمسك بغيرها، ولتفصيل الكلام فيه مقام آخر.
474

ومما قررنا ظهر ضعف ما ذكره شيخنا البهائي (رحمه الله) في الجواب عن الإشكال
المذكور من التزام التقييد بالقول بعدم حجية المفهوم المذكور، قال: " فقد أجمع
أصحابنا على أن مفهوم الصفة فيه حجة، كما نقله العلامة - طاب ثراه - في نهاية
الأصول، فالقائلون بعدم حجية مفهوم الصفة يخصون كلامهم بما إذا لم يكن في
مقابلتها مطلق، لموافقتهم في حجية ما إذا كان في المقابل مطلق ترجيحا للتأسيس
على التأكيد ". انتهى.
وما حكاه من إجماع أصحابنا على حجية مفهوم الصفة فيه ليس بمتجه،
وحكاية ذلك عن العلامة سهو، بل الذي حكاه هو الاجماع على حمل المطلق
على المقيد، وأين ذلك من الاجماع على حجية المفهوم؟ وكأنه (رحمه الله) رأى انحصار
الوجه في حمل المطلق على المقيد على ثبوت المفهوم المذكور، فجعل الاجماع
على الحمل إجماعا على ثبوت المفهوم من جهة الملازمة، وقد عرفت ما فيه، فإن
الوجه فيه هو ما ذكرناه حسب ما قررناه، ولا ربط له بالمفهوم، وما علل به البناء
على ثبوت المفهوم حينئذ من ترجيح التأسيس على التأكيد لو تم جرى في غيره،
كما إذا قال: " أكرم كل عالم " وقال أيضا: " أكرم كل فقيه " أو " كل عالم صالح ".
ولا يقول أحد بتخصيص الثاني للأول إلا أن يقول بثبوت المفهوم المذكور وكونه
قابلا لتخصيص العام، ومع الغض عنه فالتأكيد إنما يلزم في المقام لو كان المطلق
متقدما على المقيد، أما لو كان بالعكس فلا تأكيد. وأيضا لو تم فإنما يتم لو صدر
القولان عن معصوم واحد وبالنسبة إلى مخاطب واحد. أما لو كانا صادرين عن
معصومين أو تغاير المخاطبون من دون حكايته للأول عند ذكر الثاني فلا تأكيد،
كما في الأخبار المتكررة الواردة عن المعصومين بالنسبة إلى المخاطبين
المتعددين، سيما إذا كان كل منهما بعد سؤال المخاطب، ومع ذلك فالإجماع على
حمل المطلق على المقيد يعم الجميع.
قوله: * (وجنح إليه الشهيد في الذكرى) *.
حيث نفى البأس عن القول بحجيته، بل جعل مفهوم الغاية - الذي هو أقوى
475

من مفهوم الشرط - راجعا إلى مفهوم الوصف، وقد حكى القول به عن المفيد، وعن
جماعة من العامة، منهم: الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل والأشعري وإمام
الحرمين والبيضاوي والعضدي، وجماعة من الفقهاء والمتكلمين، وحكاه في
النهاية والإحكام عن أبي عبيدة وجماعة من أهل العربية، وعزي القول به إلى كثير
من العلماء، وعزاه الغزالي إلى الأكثرين من أصحاب الشافعي ومالك.
قوله: * (ونفاه السيد) *.
والمحقق والعلامة. قد وافقهم في ذلك كثير من أصحابنا، منهم ابن زهرة
والشهيد الثاني، بل عزي ذلك إلى أكثر الإمامية.
قوله: * (وكثير من الناس) *.
قد اختاره الغزالي والآمدي، وقد حكى القول به عن أبي حنيفة والقاضي أبي
بكر وأبي علي وأبي هاشم وأبي بكر الفارسي وابن شريح والجويني والشافعي
والقفال والمروزي وابن داود والرازي وجماهير المعتزلة، وأسنده الغزالي إلى
جماعة من حذاق الفقهاء، والآمدي إلى أصحاب أبي حنيفة.
هناك قولان آخران بالتفصيل، بل أحدهما: ما تقدم من التفصيل الذي ذكره
شيخنا البهائي، إذ لا أقل من ذهابه إليه.
ثانيهما: ما حكاه في النهاية والإحكام عن أبي عبد الله البصري من التفصيل
بين ما إذا ورد في مقام البيان أو في مقام التعليم، أو كان ما عدا الصفة داخلا تحت
الصفة، كالحكم بالشاهدين لدخول الشاهد الواحد في الشاهدين، وما إذا ورد في
غير هذه الصورة، ففي الوجوه الثلاثة المتقدمة يفيد نفي الحكم عن غير ما بالصفة،
بخلاف الوجه الرابع، وهذا القول في الحقيقة راجع إلى القول بنفي المفهوم، وإنما
يستفاد المفهوم في تلك الصورة لانضمام شهادة المقام.
وقد يزاد قول خامس، وهو البناء على الوقف إن عد قولا، وعليه الحاجبي
في مختصره، ويميل إليه كلام بعض أفاضل المتأخرين.
ثم إن الأظهر عندي هو القول بعدم دلالة مجرد التعليق المفروض على
476

الانتفاء بالانتفاء. ويدل عليه: أن من الظاهر عدم كون ذلك معنى مطابقيا لتعليق
الحكم على الوصف، ولا تضمنيا له، لما أشرنا إليه من أن وضع مفردات تلك
الألفاظ لا ربط له بإفادة ذلك، والوضع النوعي المتعلق بها هو ما تعلق بغيرها من
الوضع الكلي المتعلق بالمبتدأ والخبر والفعل والفاعل وغيرها على وجه عام جار
في جميع الموارد، من جملتها: ما إذا كان مورده وصفا، وليس من جزء الموضوع
له بتلك الأوضاع حصول الانتفاء بالانتفاء قطعا، وإلا لجرى في الألقاب ونحوها.
ودعوى حصول وضع خاص لها بالنسبة إلى الأوصاف مما لا دليل عليه. فهو
مدفوع بالأصل، بل الظاهر خلافه، لاستكمال الكلام بالوضعين المذكورين
وزيادة وضع آخر بعد ذلك خلاف الظاهر.
وكذا القول باختصاص الوضع العام بغير ما إذا كان معروضه وصفا ونحوه،
وحصول وضع آخر للهيئة بالنسبة إلى ما يعرض من الأوصاف، فيكون مفاده عين
ما أفاده الوضع العام إلا أنه يزيد عليه، ما ذكره من الدلالة على الانتفاء بالانتفاء
خلاف الظاهر جدا، إذ لا داعي إلى الالتزام به مع عدم قيام الدليل عليه، بل الظاهر
حصول وضع واحد عام جار في الجميع. كيف؟ ولو التزم بذلك لم يجر في جميع
المقامات، لما عرفت من عدم إشعار التقييد بالوصف بذلك في كثير من المقامات
حسب ما أشرنا إليه. والتزام حصول الوضع الخاص المتعلق بخصوص بعض
الصور بعيد جدا عن ملاحظة أوضاع الهيئات بحيث لا مجال للالتزام به، مضافا
إلى ما عرفت من عدم قيام شاهد واضح عليه حتى يلتزم من جهته بالتعسف
المذكور. ومن ذلك يظهر أيضا عدم اعتبار معنى فيه يستلزم الانتفاء بالانتفاء عقلا،
فإن اعتبار ذلك أيضا يتوقف على التزام أحد الوجهين المذكورين، بل لا يبعد
خروج ذلك كله عن موضع النزاع حسب ما أشرنا إليه.
بقي الكلام في حصول الالتزام العرفي بعد دلالة اللفظ بحسب الوضع على
تعليق الحكم على الوصف، أو تقييد الإطلاق بالقيد بأن يكون ذلك مفهما عرفا
لإرادة الانتفاء بالانتفاء، نظرا إلى ظهور التعليق على الوصف والتقييد المذكور في
477

إناطة الحكم بالوصف أو القيد الظاهر في انتفاء الحكم بانتفائه وكون التقييد لفائدة،
وأظهرها عند الإطلاق هو إناطة الحكم بالقيد ليقضى بانتفائه عند انتفائه.
لكنك خبير بأن دلالة مجرد التعليق على الوصف على ذلك غير ظاهر، وكذا
التقييد بالقيد، كما هو ظاهر بعد إمعان النظر في العرف وملاحظة التعليقات
والتقييدات الواردة في الاستعمالات. نعم، فيها إشعار بذلك في كثير من صوره،
وبلوغه إلى حد يجعله مدلولا للعبارة على حسب ما يلحظ في المحاورات العرفية
غير ظاهر، بل الظاهر خلافه، لكن لو قام في المقام شاهد عليه اندرج في مدلول
العبارة، ولا شك إذا في حجيته لما دل على حجية مداليل الألفاظ، ويختلف الحال
في ذلك بحسب اختلاف الأوصاف والقيود بحسب اختلاف المقامات، فرب
وصف يفهم منه ذلك بقيام أدنى شاهد عليه، وقد لا يكتفي بما يزيد عليه بالنسبة
إلى وصف آخر، ويختلف الحال وضوحا وخفاء بحسب تقييد المطلق بالوصف
وتقييده بغيره وتعليق الحكم أولا على الوصف من غير حصول تقييد، نظرا إلى
حصول جهتين لإفادة المفهوم عند حصول التقييد بالوصف، بخلاف كل من
الوجهين الآخرين، فلا بد من ملاحظة المقامات واعتبار الخصوصيات، فإن
الإشعار يكون مدلولا بقيام أدنى شاهد عليه. وليس كلامنا في المقام في ذلك،
وإنما البحث في دلالة مجرد التعليق والتقييد على ذلك وعدمها.
والظاهر بعد التأمل في العرف هو الثاني، كيف؟ والتقييد بالوصف مع كونه
أظهر ما وقع فيه الكلام في إفادة المفهوم لا يبلغ حد الدلالة عليه، ولا يزيد إفادته
لذلك بملاحظة نفسه على مجرد الإشعار، وإنما يدل عليه في بعض المقامات
بانضمام ملاحظة المقام مما يشهد بإدراج المفهوم، فكيف يسلم ذلك في الوجهين
الأخرين؟
قوله: * (إذ نفي الحكم عن غير محل الوصف... الخ) *.
لا يخفى أنه لو قيل بكون الدلالة في المقام تضمنية فليس ذلك من جهة ادعاء
كون ذلك جزءا من المفهوم المذكور لوضوح خلافه، بل إنما يدعى دلالة العبارة
478

على إثبات الحكم في محل الوصف وإناطته بالوصف المذكور معا، فليس مدلول
اللفظ عنده خصوص المعنى الأول حتى يدفع بظهور عدم اندراج نفي الحكم عن
غير محل الوصف فيه، فاللازم نفي وضعه للمعنى المذكور، ولا ربط لما ذكره بدفعه
إلا مع ادعاء عدم إفادة اللفظ وضعا لما يزيد على ذلك وهو أول الكلام، فلا بد من
الاستناد فيه إلى ما ذكرناه، وبه يثبت المقصود.
قوله: * (لكانت الدلالة عليه بالمنطوق لا بالمفهوم... الخ) *.
قد عرفت مما مر في تحديد المنطوق والمفهوم عدم لزوم اعتبار كون الدلالة
في المفهوم التزامية حتى يلزم من كون الدلالة في المقام تضمنية أن تكون الدلالة
خارجة عن حد المفهوم مندرجة في المنطوق، وقد عرفت ما هو مناط الفرق بين
المنطوق والمفهوم، وهو لا ينافي كون الدلالة عليه بالتضمن، فتأمل.
قوله: * (فلأنه لا ملازمة في الذهن ولا في العرف... الخ) *.
لا يخفى أن من يقول بثبوت المفهوم المذكور لا يسلم كون مدلول المنطوق
مجرد وجوب الزكاة عند حصول الوصف المذكور حتى يقال بعدم ملازمته لانتفاء
الحكم عند انتفائه، كيف؟ ولو كان كذلك لجرى بعينه في مفهوم الشرط، إذ مجرد
الحكم بوجود الجزاء عند حصول الشرط لا يستلزم عقلا ولا عرفا انتفاءه عند
انتفائه، بل قد عرفت أن من يقول هناك بالدلالة اللفظية فإنما يقول بدلالته على
ثبوت الحكم عند حصول الشرط أو الوصف على وجه الإناطة والتوقف عليه،
وهذا المعنى يستلزم الانتفاء بالانتفاء، حسب ما مر الكلام فيه. فما ذكره من انتفاء
الملازمة بين الأمرين غير مفيد في المقام إلا بعد إثبات كون مدلول اللفظ هو ما
ذكرنا، دون ما يزيد عليه، وهو أول الكلام.
هذا، وقد ذكر للقول المذكور حجج أخرى لا بأس بالإشارة إليها وإلى وهنها:
منها: ما اختاره الآمدي من: أنه لو كان تعليق الحكم على الصفة قاضيا بنفي
الحكم مع انتفائها لما كان ثابتا مع عدمها لما يلزمه من مخالفة الدليل، وهو على
خلاف الأصل، وقد ثبت الحكم مع عدمها، كما هو الحال في آيات عديدة
479

وغيرها. وحاصل هذا الوجه: لزوم التزام المعارضة بين الأدلة في موارد كثيرة،
وعدم المناص عن التزام الخروج عن الظاهر في التعليق المفروض، وهو على
خلاف الأصل، بخلاف ما لو قيل بانتفاء الدلالة في ذلك.
ومنها: ما اختاره في الاحكام أيضا، وهو: أنه لو كان مما يستفاد منه ذلك لم
يخلو: إما أن يكون مستفادا من صريح الخطاب، أو من جهة ملاحظة أن تعليق
الحكم عليه يستدعي فائدة، ولا فائدة سوى نفي الحكم بانتفائه، أو من جهة
أخرى.
والأول ظاهر البطلان، لوضوح أنه لا دلالة في صريح الخطاب عليه، كيف
ولا قائل به؟
والثاني أيضا باطل، لعدم انحصار الفوائد.
والثالث مدفوع بالأصل.
ويدفعه: أنه يمكن أن يكون الدال عليه ظاهر اللفظ، نظرا إلى ظهور التعليق
فيه حسب ما يدعى في المقام، أو من جهة كون ذلك أظهر الفوائد في نظر العرف،
وعدم انحصار الفوائد فيه لا ينافي أظهريتها في المقام.
ومنها: أنه لو دل على ذلك لعرف ذلك إما بالعقل أو بالنقل، والعقل لا مجال له
في اللغات، والنقل إما متواتر أو آحاد، ولا سبيل إلى الأول، وإلا لما وقع الخلاف
فيه، والثاني لا يفيد القطع.
وضعفه ظاهر، وقد مرت الإشارة إلى دفع مثله في حجة المتوقفين.
ومنها: أنه لو كان تعليق الأمر أو النهي على الصفة دالا على ذلك لكان كذلك
في الخبر أيضا، ضرورة اشتراك الجميع في التخصيص بالصفة، واللازم باطل،
ضرورة أنه لو قال: " رأيت رجلا عالما ورأيت غنما سائمة " لم يفد نفي الرؤية عن
غير ما ذكر.
ويدفعه: أنه قياس في اللغة، ومع الغض عنه فالقول بالفرق أيضا غير متجه، بل
الظاهر أن القائل بالمفهوم المذكور لا يفرق بين الخبر والأمر، والاستفادة منه عرفا
480

يحصل في الأخبار أيضا، فإنه لو قال القائل: " الفقهاء الشافعية فضلاء أئمة " فإن
سامعه من فقهاء الحنفية وغيرهم تشمئز نفسه عن ذلك ويكره من سماعه، وهو
دليل على فهم التخصيص، غاية الأمر عدم انفهام ذلك في المثال المذكور، وهو
لا يدل على عدم دلالته على الانتفاء في الأخبار مطلقا.
ومنها: أن التقييد بالوصف قد يكون مع انتفاء الحكم بانتفائه، وقد يكون مع
ثبوته، كما في قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * (1)، فلو كان حقيقة
فيها معا لزم الاشتراك، ولو كان حقيقة في أحدهما لزم المجاز، فالأصل أن يكون
حقيقة في القدر الجامع بينهما، حذرا من الاشتراك والمجاز.
وفيه: أن ذلك إن تم فإنما يتم في نفي الدلالة الوضعية، وقد عرفت وهنها جدا
في المقام، بل لا يبعد خروجها عن محل النزاع، كما مرت الإشارة إليه. وأما
الدلالة الحاصلة من جهة استظهار ذلك من التعليق على الوصف وتقييد الحكم به
- على حسب ما مر - فلا يصح رفعها بذلك، إذ لا تجوز أيضا على القول المذكور
في شئ من الوجهين.
ومنها: أنه لو دل على ذلك لما حسن الاستفهام عن نفي الحكم عند انتفاء
الصفة أو عند إثباته، والتالي ظاهر الفساد، والملازمة ظاهرة، فإن ما دل عليه
الكلام لا يحسن السؤال عنه. ألا ترى أنه لو قيل: " لا تقل أف لفلان لا يحسن أن
يسأل عنه " أنه هل يجوز ضربه أو شتمه؟
ويدفعه: أن الاستفهام إنما يحسن مع قيام الاحتمال، سواء كان اللفظ ظاهرا
فيه أو كان مجملا، وإنما لا يحسن مع صراحته وغاية ظهوره كما في المثال
المذكور.
ومنها: أنه لو دل على المفهوم لكان قوله: " أد زكاة السائمة والمعلوفة "
و " أحسن إلى المحتاج والغني " متهافتا متناقضا لمكان دلالة المفهوم.
ويدفعه: ما عرفت من الفرق البين في ذلك بين النص والظاهر، إذ لا مانع من

(1) الاسراء: 31.
481

الخروج عن مقتضى الظاهر بقيام القرينة على خلافه، سيما إذا كان الظهور من
الإطلاق بخلاف النص.
ومنها: أن المقصود من الوصف إنما هو تمييز الموصوف، كما أن المقصود من
الاسم تمييز المسمى، فكما لا يفيد تعليق الحكم على الاسم اختصاص الحكم به
فكذا التعليق على الوصف وقد حكي في الإحكام الاحتجاج بذلك عن أبي
عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار.
ويدفعه بعد كونه قياسا في اللغة، منع كون المقصود من الوصف مجرد تمييز
الموصوف، ومع تسليمه فالفرق بين الأمرين ظاهر، فإن الحاصل بالصفة تمييزه
بالصفة، بخلاف الاسم فإن المتميز به نفس المسمى، وهو الباعث على اختلاف
الفهم حيث إن تمييزه بالصفة قاض بتعليقه على الوصف، وهو يومئ إلى العلية،
فيتفرع عليه الدلالة المذكورة، وأيضا فذكر الاسم العام أولا ثم تمييزه بالصفة على
وجه يخص بعض أفراد ذلك المسمى يومئ إلى عدم شموله لسائر أفراد ذلك
المسمى، وإلا لما سماه أولا على وجه الإطلاق ثم أعرض عنه إلى تمييزه
بالوصف الخاص، وهذا بخلاف ما إذا سمى الخاص من أول الأمر.
ومنها: أنه لو دل على ذلك لما استحسن أن يقال: " في الغنم السائمة زكاة " و
" لا زكاة في المعلوفة " لكونه تكرارا لغوا، نظرا إلى وفاء التقييد بالوصف بإفادة
الحكم الثاني، وليس كذلك قطعا.
ويوهنه وضوح الفرق بين دلالة المنطوق والمفهوم، فكون الحكم مدلولا على
وجه الظهور لا يمنع من التصريح به، لتثبته في ذهن السامع، ولا يعد لغوا حتى
لا يستحسن ذكره، سيما في مقام التأكيد، ومجرد كون التأسيس أولى من التأكيد
لا يثمر في المقام مع شيوعه أيضا، بل قضاء بعض المقامات بالإتيان به.
ومنها: أنه لو ثبت هناك دلالة المفهوم كما ثبت دلالة المنطوق لجاز أن يراد
منه المفهوم خاصة، كما أنه يجوز إرادة المنطوق وحده، وليس كذلك قطعا، ووهنه
واضح، لظهور كون دلالة المفهوم تابعة لدلالة المنطوق حاصلة بسببه فكيف يمكن
حصولها من دونها بخلاف العكس؟
482

ومنها: أنه ليس في لغة العرب لفظ واحد يفيد المتضادين ويدل على حكمين
مختلفين بالإيجاب والسلب.
ووهنه أوضح من جميع ما تقدم عليه، لوضوح وجوده في كلام العرب، كما
في مفهوم الحصر وغيره مما ثبت من المفاهيم، ولو بنى على إنكار الجميع فأي
مانع من ثبوته في المقام ونحوه بعد قيام الدليل عليه؟ وليس مشتملا على التضاد
الممتنع، لوضوح اختلاف المتعلقين.
قوله: * (لعرى تعليقه عليها عن الفائدة... الخ) *.
هذه الحجة هي الحجة المعروفة للنفاة، وظاهرها يعطي أن القائل بثبوت
المفهوم في المقام لا يقول به من جهة الوضع، وإنما يقول به من جهة العقل، وعدم
خلو التقييد عن الفائدة، إذ لو لم يستقل في مقام انتفاء الحكم بانتفاء الوصف كان
التقييد لغوا، ولا بد للعاقل من التحرز عنه، كتكرار كلام واحد مرات عديدة زائدا
على ما يطلب من التأكيد فإنه لغو يجب الاجتناب عنه، إلا أنه لو أتى به لم يكن
استعماله مجازا، وحيث إنه جرى البناء في المخاطبات على عدم حمل كلام
العقلاء على اللغو مهما أمكن كان ذلك شاهدا على إرادته انتفاء الحكم بانتفاء
الوصف، ولا فرق في ذلك بين كلام الحكيم وغيره من العقلاء. نعم، يزيد الدلالة
وضوحا لو كان المتكلم حكيما، ويختلف الحال فيها بحسب اختلافه في مراتب
الحكمة.
ويمكن تقرير الدليل المذكور على وجه يفيد الوضع بأن يقال: إن التوصيف لو
لم يرد به إفادة ذلك كان لغوا، فينزه الواضع عن وضعه كذلك، فلا بد أن يكون
موضوعا للدلالة على أمر مفيد، وليس ذلك إلا ما ذكر من انتفاء الحكم بانتفائه.
وأنت خبير بوهن هذا التقرير، فإن التوصيف إنما قرر بالوضع النوعي لإفادة
اتصاف موصوفه بالوصف المذكور، تقول: " رأيت زيد العالم " أو " زيد العالم
جاءني " أو " رأيت رجلا عالما " ونحو ذلك، وذلك فائدة معتد بها ملحوظة
للواضع، كافية في وضعه النوعي، وحينئذ فلا بد للمستعمل من ملاحظة الفائدة
483

عند استعماله بأن لا يكون بيان الوصف المذكور في المقام خاليا عن الفائدة،
فهذا أمر يرجع إلى حال المستعمل ولا ربط له بالوضع.
قوله: * (إذا لم تظهر للتخصيص فائدة سواه... الخ) *.
يريد بذلك أنه لما كان إرادة نفي الحكم عن غير محل الوصف من جهة
التحرز عن اللغو وعدم خلو التوصيف عن الفائدة فإن ظهرت هناك فائدة أخرى
كانت كافية للخلوص عن اللغو، ولم يكن هناك داع إلى إرادة النفي المذكور،
ومجرد احتمال إرادته أيضا لا يكفي في الحمل عليه. نعم، لو كان موضوعا لذلك
لم يكن مجرد ظهور فائدة أخرى صارفا عن معناه، لإمكان اجتماع الفائدتين،
ففيما ذكره من خروجه إذا عن محل النزاع إشارة أيضا إلى عدم كون النزاع
هنا من جهة الوضع، إلا أن يدعى اختصاص الوضع بغير الصورة المفروضة،
وهو كما ترى.
قوله: * (إن المدعى عدم وجدان صورة... الخ) *.
لا يخفى أن بناء الاعتراض المذكور على كون محل النزاع فيما إذا لم يظهر
حصول فائدة من تلك الفوائد في المقام، إذ مع ظهور حصولها يكتفي بها قطعا في
الخروج عن اللغو، فلا حاجة إلى اعتبار الفائدة المذكورة، لأنه إذا لم يحتمل
حصول فائدة سواه حتى يقال بعدم وجدان صورة لا يحتمل حصول فائدة من
تلك الفوائد، فكأن المعترض فصل في كلام المجيب - حيث ذكر عدم انحصار
الفائدة في ما ذكر وأنها كثيرة - بأنه إن ظهر حصول فائدة من تلك الفوائد في
المقام اكتفى بها، ولا نزاع إذا في انتفاء المفهوم، وأما مع عدم ظهور شئ من تلك
الفوائد فالفائدة المذكورة راجحة على غيرها، وإليها ينصرف الإطلاق فيتم
المدعى، وحينئذ فكان حق الجواب المنع من الظهور والانصراف المذكور، فإن
الاجتماع إنما يكون ملزوم اللغو والعراء عن الفائدة لو لم نقل بملاحظة الفائدة
المذكورة، وذلك إنما يلزم لو لم يحتمل فائدة من تلك الفوائد، لا ما إذا لم يظهر
حصول فائدة سواه، لوضوح أنه مع قيام احتمال بعض منها يرتفع الحكم باللغوية
فلا يتم الاحتجاج.
484

ودعوى ظهور الفائدة المذكورة بين الفوائد عند الدوران بينها مما لم يؤخذ
في الاحتجاج المذكور، مضافا إلى عدم قيام دليل عليه، على أنه لو سلم ذلك فإنه
يسلم مجرد الأظهرية في الجملة ولا يبلغ حد الدلالة بحيث يوجب صرف اللفظ
إليه عرفا فأقصاه الإشعار حسب ما قدمنا، وأين ذلك من المدعى؟
ويمكن تنزيل كلام المجيب على ذلك، فليس مقصوده تسليم ما ذكره
المعترض من الشرط والقول بحصول ذلك الشرط في جميع الموارد حتى يرد
عليه أن الشرط المذكور هو الظهور دون مجرد الاحتمال، بل أضرب عما ذكره،
حيث إن الاشتراط المذكور لا ربط له بدفع الاعتراض.
فتبين أن المدعى عدم وجدان صورة لا يحتمل فائدة من تلك الفوائد، ومجرد
الاحتمال المذكور كاف في الاستغناء عن خصوص الفائدة المذكورة، ويحصل به
الصون عن لزوم اللغو، وإن لم يكن تلك الفائدة ظاهرة فالفائدة المفروضة وإن لم
تكن متحقق الحصول أيضا إلا أن مجرد احتمالها في المقام كاف في دفع الحكم
بغيرها لدفع محذور اللغوية فيحتاج إذا إثبات ما سواه إلى قيام دليل آخر.
قوله: * (وإنما هو كونه بيانا للواضحات) *.
فيه: أنه لو كان السبب ذلك لجرى مع انتفاء التقييد، وليس كذلك، فلو كان
الاستهجان المذكور من الجهة المذكورة لكان قوله: " الانسان لا يعلم الغيب " مثله
في الاستهجان وليس كذلك قطعا، فإن الحكم المذكور وإن لم يخل عن غضاضة
توضيح الواضح إلا أن في صورة التقييد غضاضة أخرى أعظم منها ويعد الكلام
من جهتها مستهجنا عرفا، كما لا يخفى.
ثم إن للقول المذكور حججا أخرى لا بأس بالإشارة إليها.
منها: أن أبا عبيدة القاسم بن سلام من أجلاء أهل اللغة وقد قال بدلالة المفهوم
في المقام، حيث ذكر في بيان قوله (عليه السلام): " لي الواجد يحل عقوبته وعرضه " أنه
أراد به أن من ليس بواجد لا يحل عرضه ولا عقوبته. وقال في قوله (عليه السلام):
" مطل الغني ظلم " أن مطل غير الغني ليس بظلم. وقال في قوله (عليه السلام): " لئن يمتلئ
485

بطن أحدكم قيحا خير من أن يمتلئ شعرا " وقد قيل: إنما أراد من الشعر هجاء
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: لو كان ذلك المراد لم يكن لتعليق ذلك بالكثرة وامتلاء
الجوف معنى، فإن القليل من ذلك ككثيره.
وأجيب عنه: بأنه مجتهد في ذلك، ولا يكون اجتهاده حجة على غيره من
المجتهدين المخالفين له، ولو سلم كون ذلك نقلا عن أهل اللغة فهو من نقل الآحاد،
فلا ينتهض حجة في إثبات مثل هذه القاعدة اللغوية.
وبأنه معارض بمذهب الأخفش، حيث حكى عنه إنكار المفهوم المذكور،
وهو أيضا من أهل اللغة.
وبأنه لا دلالة في كلامه على فهمه نفي الحكم عن فاقد الصفة من مفهوم
الوصف، فلعله فهم ذلك من جهة الأصل واختصاص النص بغيره، لا لدلالة اللفظ
على نفيه.
والجميع مدفوع. أما الأول فبأن كثيرا مما ذكره أهل اللغة وعلماء العربية مبني
على اجتهاده، وقد جرت الطريقة على الرجوع إلى أقوالهم لكونهم من أهل
الخبرة، وانسداد سبيل العلم إلى المعاني اللغوية غالبا من غير جهتهم، فلا مناص
من الرجوع إلى كلامهم حسب ما قرر في محله.
أو يقال: إن الأصل في جميع ما يذكرونه من اللغة البناء على النقل حتى يتبين
الخلاف، وإلا سقط الرجوع إلى كلامهم، وفيه سد لباب إثبات اللغات، ومخالف لما
اتفقت الكلمة عليه من الاحتجاج بكلامهم والرجوع إلى كتبهم.
وأما الثاني موهون جدا، فإن المدار في إثبات اللغات على نقل الآحاد.
وأما الثالث فبأن المثبت مقدم على النافي في مقام التعارض، هذا إن ثبت
الحكاية المذكورة عن الأخفش، فقد يستفاد من العضدي إنكاره لذلك.
وأما الرابع فبأن ما حكي عنه في غاية الظهور في فهم ذلك من التعليق
بالوصف، سيما ما حكي عنه في الرواية الأخيرة، والأظهر في الجواب عنه ما
عرفت من حصول الإشعار في التعليق المذكور، وأنه يبلغ درجة الدلالة بعد قيام
486

أدنى شاهد عليه. والظاهر حصوله في الأخبار المذكورة نظرا إلى مناسبة الوصف،
وأن الظاهر عدم ملاحظة فائدة أخرى في التعليق المفروض سوى انتفاء الحكم
بانتفائه، وقد مرت الإشارة إلى ذلك.
ومنها: ما حكي عن ابن عباس من منع توريث الأخت مع البنت، احتجاجا
بقوله تعالى: * (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) * (1) ففهم من
تقييد توريث الأخت بعدم الولد الصادق على البنت عدم توريثها مع وجودها،
وهو من فصحاء العرب وترجمان القرآن.
وأجيب عنه باحتمال استناده في ذلك إلى الأصل، واستصحاب النفي الأصلي
بعد اختصاص الآية بالصورة المذكورة.
ويدفعه: أنه لا وجه لإجراء الأصل في المقام، للعلم بانتقاله من الميت إلى
أحد الشخصين، فعند دورانه بينهما لا وجه لتعيين أحدهما من جهة الأصل، فليس
الوجه فيه الاستناد إلى الأصل، ويجري فيه أيضا سائر الإيرادات المتقدمة
وأجوبتها.
والحق في الجواب: أن ذلك استناد إلى مفهوم الشرط، لكون الشرط في ظاهر
الآية مجموع القيد والمقيد الحاصل رفعه برفع القيد المذكور، ومع الغض عن ذلك
فقد يكون فهمه ذلك من جهة ملاحظة المقام، وقد عرفت أن ذلك غير بعيد بعد
شهادة المقام به.
ومنها: أن المتبادر عرفا فيما لو قال لوكيله: " اشتر لي عبدا أسود " عدم
الشراء للأبيض، فلو اشترى الأبيض لم يكن ممتثلا. وكذا لو قال لزوجته: " أنت
طالق عند دخولك الدار " فهم انتفاء الطلاق مع عدم الدخول في الدار، وبأصالة
عدم النقل يثبت كونه كذلك لغة.
ويدفعه: أن عدم جواز شراء غير ما يصفه إنما هو لعدم شمول الوكالة،
فلا تتحقق الوكالة بالنسبة إليه لا لدلالة العبارة على نفي الوكالة فيه، وكذا الحال

(1) النساء: 176.
487

في الطلاق فانفهام ذلك إنما هو من جهة الأصل المقرر في الأذهان بعد اختصاص
اللفظ بغيره، ولا ربط لذلك بدلالة المفهوم.
وبعبارة أخرى: إنما يفيد ذلك عدم شمول الحكم المذكور في الخطاب
المفروض لغير الأسود، فلا يجب عليه شراء غير الأسود بهذا الخطاب، وهو مما
لا كلام فيه قد اتفق عليه القائلون بحجية المفهوم ومنكروها، ولا ربط له بدلالة
المفهوم، والقدر المسلم من التبادر في المقام هو هذا المقدار. وأما دلالته على عدم
وجوب شراء غير الأسود مطلقا وعدم كونه مطلوب له رأسا ليفيد الكلام حكمين:
أحدهما إيجابي والآخر سلبي فلا، ودعوى تبادره في المقام ممنوعة، وهو ظاهر.
ومنها: أن الغالب في المحاورات - سيما في كلام البلغاء - إرادة المفهوم من
الأوصاف، وقصد الاحتراز من القيود، فالظن يلحق المشكوك بالأعم الأغلب.
وفيه: أن إرادة الاحتراز من القيود وصفا كانت أو غيرها لا ربط لها بدلالة
المفهوم، حسب ما مرت الإشارة إليه، فإن قضية ذلك اخراج الوصف المذكور ما
ليس بتلك الصفة عن مدلول الكلام، فلا يشمله الحكم المذكور، ولا يفيد ثبوته له،
ولا دلالة فيه على عدم ثبوت ذلك الحكم له بحسب الواقع كما هو المدعى، إلا مع
قيام قرينة عليه، كما إذا أورد ذلك في الحدود، حيث إنه يعتبر فيها المساواة
للمحدود، فلو كان المحدود صادقا في الواقع مع انتفاء الوصف وغيره من القيود
المأخوذة في الحد لم يكن الحد جامعا، فلا يصح التحديد، فيقوم شاهدا على
إرادة المفهوم هناك.
ودعوى كون الغالب إرادة المفهوم عند ذكر الأوصاف محل منع، ولو سلم
فأقصى الأمر حصول الأغلبية في الجملة، وبلوغها إلى درجة تقضي بانصراف
الإطلاق إليه محل منع.
ومنها: أنهم اتفقوا على كون الوصف من المخصصات، كالشرط والغاية
ونحوها، وقضية ذلك انتفاء الحكم بانتفاء الوصف، ولو كان الحكم ثابتا مع انتفاء
الوصف أيضا لم يكن العام مخصصا.
488

ويدفعه: ما عرفت من أن قضية التخصيص اخراج ذلك البعض عن العام،
فلا يشمله الحكم المدلول بالعبارة، سواء كان ذلك الحكم ثابتا له في الواقع أو لا،
ولا دلالة في مجرد التخصيص على ثبوت خلاف ذلك الحكم بالنسبة إلى
المخرج، وقد مر تفصيل القول فيه.
ومنها: أن أهل اللغة فرقوا بين الخطاب المطلق والمقيد بالصفة، كما فرقوا بين
الخطاب المرسل والمقيد بالاستثناء. فكما أن الخطاب المقيد بالاستثناء يفيد نفي
الحكم بالنسبة إلى المخرج بالاستثناء فكذا الحال في المقيد بالوصف بالنسبة إلى
المخرج بسبب التوصيف، فلا يكون المخرج مسكوتا عنه كما يقوله المنكر للمفهوم.
وفيه: أنه قياس في اللغة، مضافا إلى الفرق الظاهر بين الأمرين، نظرا إلى
حصول التبادر في الاستثناء، بخلاف الوصف حيث لا يفهم منه ثبوت خلاف ذلك
الحكم لفاقده، غاية الأمر أن يفيد اختصاص الحكم المذكور به، كما مر.
ومنها: أنه لو كان التقييد بالصفة دالا على انتفاء الحكم بانتفاء الوصف كان
أفيد مما لو كان غير المتصف بها مسكوتا عنه، لاشتمال الأول على بيان حكمين،
بخلاف الأخير.
وفيه: أن مجرد الأفيدية ليس من أدلة الوضع وأماراته، بل لا بد من الرجوع
إلى أمارة الحقيقة، وعلى فرض انتفائها يلزم الرجوع في الزائد إلى مقتضى
الأصل، فيحكم بكون المشترك بين الوجهين موضوعا له في الجملة، ويتوقف في
القدر الزائد، ومجرد الأفيدية لا يقضي بتعلق الوضع بالقدر الزائد.
ومنها: أن التعليق بالصفة كالتعليق بالعلة، فكما أن الثاني يوجب نفي الحكم
لانتفاء العلة فكذا الأول.
ويدفعه: أنه قياس في اللغة، ومع ذلك فالفرق بينهما ظاهر، ضرورة انتفاء
المعلول بانتفاء علته، بخلاف الوصف، إذ لا دليل على حصول الانتفاء بانتفائه،
مضافا إلى ورود المنع على الثاني أيضا قد يخلف العلة علة أخرى، ولذا لم يقل
أحد من المنطقيين بكون رفع المقدم قاضيا برفع التالي.
489

ومنها: أن التخصيص بالذكر لا بد له من مخصص، وإلا لزم الترجيح بلا
مرجح، ونفي الحكم عن غير محل الوصف صالح لذلك، وليس هناك شئ آخر
بحسب الظاهر ليكون داعيا إلى التخصيص، فالظاهر أنه المخصص في المقام،
إلا أن يظهر مخصص آخر، ولا بحث حينئذ، مضافا إلى مناسبة الملاحظة
والاقتران الظاهر إلى ذلك.
ويدفعه: أن الفائدة المذكورة وإن صح أن تكون باعثة على ذلك إلا أن الأمر
غير منحصر فيها، واحتمال غيرها من الفوائد قائم في كثير من المقامات، ولا
ترجيح، ومع انحصار الفائدة فيها ولو ظنا فلا كلام.
نعم، ربما يقال بأظهرية الفائدة المذكورة عند عدم ظهور فائدة أخرى في
المقام على ما هو محل الكلام كما مر، لكن ليست بتلك المثابة من الظهور. وكذا
الحال في ملاحظة المناسبة والاقتران فلا يبلغ حد الدلالة ليمكن الاتكال عليه في
مقام الاستفادة.
وأما حجة أبي عبد الله البصري على التفصيل المذكور فكأنها استظهار ذلك
منه في الصور الثلاث بحسب فهم العرف دون غيرها من الموارد، وقد عرفت أن
مرجع ذلك ما ذكرناه من القول بعدم دلالة نفس التعليق على ذلك، كما هو مورد
البحث في المقام، وإنما يستفاد ذلك منه في ما ذكره إن سلم بحسب اقتضاء المقام،
وهو أمر (1) آخر لا يأبى عنه القائل بالنفي المطلق، لوضوح أنه لا يقول بعدم إمكان
أن ينضم إلى الكلام من القرائن الحالية والمقالية ما يفيد معنى الانتفاء عند الانتفاء،
سواء كان على وجه التنصيص أو الظهور، وإنما يقول بعدم دلالة التعليق على ذلك،
لا بدلالته على خلافه.
وقد يقال: إن كلام القائل بإطلاق النفي يدل على أن التعليق على الوصف
لا يدل على الحكم المذكور في شئ من المقامات، والمفصل يقول بالفرق بين

(1) من هنا إلى ص 599 لا يوجد في نسخة (ق).
490

الموارد الثلاثة وغيرها، فيرجع الكلام في ذلك إلى الكلام في أن الخصوصية
الحاصلة في الصور الثلاث هل تفيد الانتفاء عند الانتفاء، أم لا؟ فالأول يقول
بالثاني، وعدم الفرق بين الموارد في ذلك.
نعم، يمكن أن يقترن الكلام بكلام آخر يدل على ذلك، والثاني يقول بالأول
على ما هو الحال في التفصيلات المذكورة في سائر المسائل، إذ لا يمكن القول به
في شئ من المقامات إلا بدعوى اختصاص بعض الصور بما يميزها عن غيرها
في الحكم.
والأوجه أن يقال: إن القائل بالتفصيل إن ادعى أن نفس التعليق على الوصف
في تلك الصور الثلاث يدل على انتفاء الحكم بانتفائه صح مقابلته بالقول بالنفي
المطلق، بخلاف ما إذا كان غرضه إسناد الدلالة إلى خصوصياتها، لرجوعه إلى أمر
آخر، وهو: أنه هل في تلك الخصوصيات ما يفيد المعنى المذكور، أم لا فيوافق
القول الآخر في عدم دلالة التعليق على الوصف على ذلك مطلقا؟
فإن قلت: إن الدلالة على ذلك في تلك الصور على التقديرين مستندة إلى
الخصوصية دون نفس التعليق، وإلا لعم الحكم، فما الفرق بينهما؟
قلت،: فرق بين بين القول بقيام الدلالة بنفس التعليق على الوصف بشرط
حصوله في تلك الموارد، والقول بحصولها من القرائن المنضمة إلى التعليق، فإن
الأول عين القول بالتفصيل، والثاني راجع إلى إطلاق النفي، وظاهر القول المذكور
بالتفصيل هو الأول.
ويمكن الاعتراض عليه بوجوه:
الأول: المنع من دلالة الوصف على ذلك في الموارد الثلاثة، لإمكان استناد
الدلالة في تلك المقامات على تقديرها إلى الخصوصيات الحاصلة فيها، بل هو
الظاهر، فيخرج عن محل المسألة ويندرج في مفهوم البيان والعدد ونحوهما.
وليس شئ من ذلك من مفهوم الوصف في شئ. ويشهد به عدم ظهور الفرق في
تلك الصور بين التعليق على الوصف أو اللقب مع توافق الفريقين على إطلاق
491

القول بنفي دلالة الثاني، ولو تم التفصيل المذكور في مفهوم الوصف لزم القول بمثله
في مفهوم اللقب أيضا، لجريان كلام المفصل فيه بعينه. فإن المحكي عنه تمثيل
القسم الأول بما إذا قال: " خذ من غنمهم صدقة " ثم بينه بقوله: " في الغنم السائمة
زكاة ". ونظيره في اللقب أن يقول خذ من أموالهم صدقة ثم يبينه بقوله: " في
الغنم زكاة ".
وتمثيل القسم الثاني بخبر التخالف، وهو قوله (عليه السلام): " إن تخالف المتبايعان في
القدر أو في الصفة والسلعة قائمة فليتحالفا وليترادا ". وهو إن لم يرجع إلى مفهوم
الشرط أمكن اعتباره من حيث التقييد بالقدر والصفة فيه أيضا، وكان غرض
المفصل من جهة التقييد فيه بقيام السلعة، فإنه من الوصف، أو دلالته على توصيف
المتبايعين بالمتخالفين في القدر والصفة أو بناءه على إرجاع جميع جهات
التخصيص إلى الصفة، كما يظهر من جماعة.
وتمثيل القسم الثالث بما مر من قوله: " احكم بشاهدين " والشاهد الواحد
داخل فيه، فيدل على عدم الحكم به، وهو راجع إلى مفهوم اللقب بناء على شموله
لمفهوم العدد أو قريب منه.
الثاني: أن الفرق بين القسمين الأولين غير ظاهر، لرجوع البيان إلى التعليم
والتعليم إلى البيان، فلا يكون هناك أمران مختلفان.
وفيه: أن المفروض في الأول وروده بعد صدور الحكم على سبيل الاجمال
على نحو ما جاء في بيان جملة من العبادات والمعاملات، وسائر الموضوعات
الشرعية من الأفعال بعد ثبوت أحكامها على الاجمال، كما في الوضوء البياني،
والصلاة الواردة في حديث حماد، والحج الواقع بعد قوله (عليه السلام): " خذوا عني
مناسككم " إلى غير ذلك.
والأقوال كسائر الأخبار الواردة في بيان الماهيات المجملة، فيجري ذلك
مجرى قولك: الوضوء كذا والصلاة كذا، فيدل ذلك على اعتبار كل واحدة من
الخصوصيات الواردة والكيفيات الواقعة في ماهيات تلك الأمور المجملة، حتى
492

تثبت خلافه من الخارج، على ما هو الحال في الحدود والتعريفات المذكورة في
العلوم، للزوم اطرادها وانعكاسها، بخلاف الثاني فإن الغرض منه وروده في مقام
التعليم وإعطاء القاعدة ابتداء من غير أن يكون مسبوقا بوروده مجملا، أو مع قطع
النظر عنه، فيدل على اعتبار كل واحد من القيود المأخوذة فيه في الحكم، إذ لا يتم
التعليم وبيان القاعدة إلا بذلك، وتلك الخصوصية قد تظهر من وروده عقيب
السؤال عن مطلق الحكم، لضرورة تطابق الجواب والسؤال، وقد يظهر من قرائن
الأحوال.
الثالث: أن ما ذكر في القسمين على إطلاقه غير ظاهر، فإن الكلام كما قد يقع
مسوقا لبيان تمام الحكم المجعول في جميع موارده فيدل على انتفائه بانتفاء كل
من القيود المأخوذة فيه وصفا كان أو لقبا أو غيرهما كذا قد يكون مسوقا لبيان
ثبوت الحكم في المقام المخصوص، نظرا إلى تعلق الغرض ببيانه دون غيره،
أو لحصول مانع من بيان الحكم في غيره، فلا يدل انتفاء القيد المأخوذ في الكلام
بمجرده على انتفاء الحكم في سائر الموارد وإن كان من الأوصاف، إلا على القول
باعتبار مفهوم الوصف، وقد يشك في ذلك فلا يمكن الاستدلال بوروده في مقام
البيان بعد قيام الاحتمال.
وفيه: أن الغرض من ورود الكلام في مورد التعليم والبيان ليس على ما ذكر،
كيف! وهذا المعنى حاصل في مطلق الكلام، لوضوح أن المتكلم الشاعر إنما يريد
بكلامه إفادة المعنى المقصود كائنا ما كان، فكيف يعقل ورود الكلام في غير مورد
البيان؟ وإنما يعقل التفرقة بذلك في الأفعال.
بل الغرض من التفصيل المذكور: أن التعليق على الوصف أو غيره قد يكون
في مقام البيان وإعطاء القاعدة، فلا بد من إناطة الحكم به، وقد يقع لغيره من
الفوائد، كتعلق الحاجة به، أو وقوع السؤال عنه، فإن الجواب وإن كان تعليما
لحكمة لا محالة إلا أن التعليق المفروض ليس لبيان الحكم لعدم ارتباطه به وعدم
مدخليته فيه وإنما جئ به لبيان محل الحاجة أو لغيره من الفوائد الخارجة
493

عن محض البيان، فالانتفاء عند الانتفاء إنما يستفاد من التعليق كأن الغرض منه
تعليم الحكم، وإلا لما كان لذكره مدخلية في مقام التعليم، فيظهر منه ورود التعليق
المذكور لإفادته مناطا للحكم، وإن احتمل أن يكون تخصيصه بالذكر لفائدة
أخرى أيضا إلا أن ما ذكر أظهر بقرينة المقام، لكنك قد عرفت أن الفرض المذكور
خارج عن محل المسألة.
الرابع: أن ما ذكر في الصورة الثالثة إنما يتصور حيث يتعلق الحكم بالعدد
المعين، فيفيد نفيه عما دونه، أو بالمركب فيفيد نفيه عن بعض أجزائه وصفا كان أو
لقبا أو غيرهما. ومن المعلوم أن تعليق الحكم على العدد المعين أو المركب
المخصوص قد يفيد انتفاءه في أبعاضهما، نظرا إلى انتفاء الكل بانتفاء جزئه، وقد
لا يفيد ذلك، وذلك حيث يتعلق بعض الأغراض ببيان حكم ذلك الموضوع دون
غيره، وقد يفيد ثبوت الحكم في البعض من ذلك بطريق أولى فيدرج في مفهوم
الموافقة، كما يأتي بيانه في مفهوم العدد إن شاء الله. فمن البين اختلاف الحال في
ذلك بحسب اختلاف المقامات، فلا معنى لإطلاق القول بثبوت المفهوم في المقام
المذكور.
وأما القول بالوقف فمأخذه القدح في أدلة الفريقين، أو دعوى تعارض الأدلة
من الجانبين وانتفاء المرجح في البين، وحينئذ فمن المعلوم أن قضية الأصل عدم
الدلالة، فإن الحكم بثبوت الدلالة كالحجية يتوقف على قيام الشاهد عليه والعلم
به، وكذلك الأصل عدم تعلق قصد الواضع بإفادة المفهوم المفروض، فإذا شك في
الدلالة الوضعية كان الأصل عدم الوضع، وكذا الحال في الدلالة العقلية، أو في قيام
القرينة على إرادة المعنى المذكور، فمع الشك في ذلك يصح نفيه بالأصل، وحينئذ
فنقول: إن كان هناك عموم أو إطلاق يدل على ثبوت الحكم في غير محل النطق أو
على نفيه فيه تعين الأخذ به، إذ لا يمكن رفع اليد عن الدليل بالشك. هذا إذا لم
يكن هناك معارضة بين المطلق والمقيد، كما إذا قال المولى لعبده: " أكرم العلماء "
ثم قال: " أكرم العلماء الفقهاء ".
494

وتوهم الاجماع على إثبات المفهوم في تلك الصورة وحمل المطلق لأجله
على المقيد كما يظهر من كلام شيخنا البهائي (رحمه الله)، وهم فاحش، بل يتوقف على
القول بإثبات المفهوم، ويأتي فيه الخلاف الواقع في المفهوم. إنما يتم دعوى
الاجماع مع ثبوت المعارضة بين المطلق والمقيد من غير تلك الجهة، كما في
المثال السابق، وهو قوله: " أعتق رقبة " و " أعتق رقبة مؤمنة " لاستناد الحكم فيه
إلى ظهور الأمر الثاني في الوجوب التعييني، فلا بد معه من حمل المطلق على
المقيد، والإجماع على الحمل إنما يسلم في مثله ولا ربط له بدلالة المفهوم،
إلا أنها على القول بها مؤكدة للحمل، ولا يتصور التفرقة في ذلك على القولين بين
سبق المطلق أو تأخره، مع أن مقتضى التعليل المنقول عن شيخنا (رحمه الله) المشار إليه
الفرق بينهما في ذلك، كما مرت الإشارة إليه، ولم يقل به أحد، مضافا إلى ما يرد
عليه مما تقدم ذكره.
وأما إذا لم يكن هناك عموم أو إطلاق يدل على ثبوت الحكم في فاقد
الوصف أو نفيه فاللازم رجوع الواقف في ذلك كالنافي إلى مقتضى الأصل العملي،
لعدم ظهور الدليل الاجتهادي في محل المسألة على التقديرين، إلا أن الثاني يقول
بانتفائه، والأول إنما يقول بعدم ظهوره، فلا بد له من الفحص عن حاله بالقدر
المعتبر فيه، ومعه يتعين الرجوع إلى الأصل، فإن اقتضى البراءة أو الاشتغال لزم
البناء على أحدهما في ذلك، وإلا تعين الأخذ بالحالة السابقة في موارد
الاستصحاب والعمل بمقتضى الاحتياط في موارده، فالحال في ذلك يختلف
باختلاف المقامات على حسب اختلاف الأصول العملية في مواردها.
وقد ظهر مما مر في تقرير كلام شيخنا المشار إليه: حجة القول الرابع المستفاد
منه وجوه الاعتراض عليه، وإنما استفيد هذا القول من كلامه (قدس سره) على حسب ما
فهمه في ذلك، لدلالته على تصويب القول بالتفصيل فيه، وزعمه بناء القوم عليه
وإن لم يوافقه عليه أحد منهم. وعلى هذا فيمكن استفادة أقوال أخر في المسألة
من كلام جماعة من الأصوليين ولو في غير المقام.
495

منها: التفضيل بين ذكر الموصوف في الكلام واعتماد الوصف عليه وعدمه،
فإن المستفاد من كلام غير واحد منهم عد القسم الثاني من مفهوم اللقب مع القول
بعدم حجيته، بل دعوى الوفاق عليه، واختصاص محل المسألة بالقسم الأول، كما
نص على ذلك بعضهم في تعليق الحكم على الفاسق في آية النبأ عند رد الاحتجاج
بها على حجية أخبار الآحاد. وربما يظهر ذلك أيضا من تقرير بعضهم لمحل
النزاع، فإن منهم من عبر عن محل المسألة بأن تعليق الحكم على الذات موصوفة
بأحد الأوصاف، كقوله (عليه السلام): " في الغنم السائمة زكاة " هل يدل على انتفاء الحكم
عما ليس له تلك الصفة كما في غاية المأمول.
ومنهم من عبر عنه بالخطاب الدال على حكم مرتبط باسم عام مقيد بصفة
خاصة، كما في الإحكام والمنية وغيرهما.
والوجه فيه: أن العمدة في إثبات المفهوم عند القائلين به هو لزوم اللغو في
الكلام على تقدير مساواة الموصوف لغيره في الحكم المعلق عليه، وذلك إنما يتم
مع ذكر الموصوف وتخصيصه بالوصف بعد التعميم، أما مع عدمه فلا يلزم ما ذكر.
غاية الأمر قصر البيان على حكم مورد الوصف، ولا يرد المحذور المذكور
على من قصده بالبيان دون غيره.
وفيه: أن المستند في إثبات المفهوم المذكور لا ينحصر في ما ذكر، لإمكان
استنادهم في ذلك إلى إشعار الوصف بالعلية. ومن البين عدم التفرقة بين المقامين
في ذلك، ولو سلم الانحصار أمكن أن يقال: إن العدول عن العنوان الأعم إلى
المقيد بالوصف الخاص في كلام البلغاء لا يقع إلا لفائدة وخصوصية في ذلك،
وأظهر الفوائد وأكملها هو إرادة الانتفاء عند الانتفاء، حسب ما قرروه في
الاحتجاج بذلك، ويجري في المقامين ما أوردوه في الحجة المذكورة من النقض
والإبرام.
غاية الأمر أن تكون الدلالة عند القائل بها مع ذكر الموصوف أوضح وأظهر،
وذلك لا يوجب التفرقة بينهما في أصل الحكم.
496

ويشهد بذلك: أن كلام الأكثر في عنوان المسألة يعم المقامين.
ففي كلام السيد وجماعة من الأصوليين: أن تعليق الحكم بصفته لا يدل على
انتفائه بانتفائها.
وفي الغنية: أن تعليق الحكم بصفة ليس بدال على نفيه عما انتفت عنه.
وفي العدة: أن الحكم إذا علق بصفة الشئ هل يدل على أن حاله مع انتفاء
ذلك الوصف بخلاف حاله مع وجوده؟
وفي المعارج: تعليق الحكم على الصفة لا يدل على نفيه عما عداها.
وفي النهاية: أن تقييد الحكم بالوصف هل يدل على نفيه عما عداه؟
وفي التهذيب: الحق أن عدم الوصف لا يقتضي عدم الأمر المعلق به.
وفي المبادئ: أن الأمر المقيد بالصفة لا يعدم بعدمها.
وفي كلام جماعة منهم الغزالي والعبري التعبير عنها: بأن تعليق الحكم بأحد
وصفي الشئ هل يدل على نفيه عما يخالفه في الصفة؟
وأما ما ذكره الآمدي في الإحكام فقد صرح في آخر المسألة: بأن تخصيص
الأوصاف التي تطرأ وتزول، كقوله: " السائمة يجب فيها الزكاة " يلحق بهذه
المسألة، والحكم كالحكم نفيا وإثباتا، وحينئذ فكان الأولى إدراجه في عنوان
المسألة كما صنعه غيره، ويؤيده إطلاق التعبير في كلماتهم عن المسألة بمفهوم
الوصف.
ومما يشهد بذلك أيضا: ما اشتهر في كلامهم من الاحتجاج بما نقلوه عن أبي
عبيدة من إثبات المفهوم في التعليق على وصفي " الغنى " و " الواجد " في الحديث
مع عدم ذكر الموصوف فيهما. وتوهم بناء الاحتجاج بذلك على دعوى ثبوت
الحكم في محل المسألة بالأولوية القطعية بعيد عن كلامهم، كيف؟ وهم لا يقولون
به في الأصل على تقدير اندراجه في مفهوم اللقب فكيف يتمسكون به في غير
مورده؟!
ومما يدل على ما ذكر ما اشتهر بينهم من تمثيل محل المسألة بمثل " في سائمة
497

الغنم زكاة " كما ذكره السيدان والشيخ وصاحب المنية والغزالي والبيضاوي
والعبري وأبو العباس وابن شريح وغيرهم، وإلحاقه بالموصوف المذكور بدعوى
تعميمه لذكره بطريق الإضافة لا يخلو عن بعد.
ومنهم من ذكر في أمثلته " مطل الغني ظلم ". وعد الشهيد الثاني (رحمه الله) منه " ليس
لعرق ظالم حق ". وقد صرح جماعة بالاستناد في آية النبأ إلى مفهوم الوصف، وإن
أنكره بعضهم كما مر. وقد يدعى كون الموصول مع الصلة من قبيل ذكر الموصوف
مع الوصف، فإن الموصول إما عام أو مطلق.
وفيه: أن دلالة الموصول لا يتم إلا بالصلة فإنه من المبهمات، فليست الصلة
مخصصة للموصول أو مقيدة لإطلاقه، إنما هي محصلة للمدلول معينة للمعنى
المقصود، فالتكليف بحمل الألف واللام في بعض الأمثلة على معنى الموصول
لا يجدي في ذلك شيئا.
ومنها: التفصيل بين كون الوصف علة للحكم وغيره، كما يظهر من كلام
العلامة في النهاية، حيث قال: إن الأقرب أن تقييد الحكم به لا يدل على النفي إلا
أن يكون علة. وتبعه غيره، وكأنه لا يريد التفصيل في محل المسألة، لأنه لا يعم
صورة التصريح بعلية الوصف، لرجوعه إلى مفهوم العلة، وهو أمر آخر غير ما نحن
فيه.
نعم، يمكن أن يعد من التفصيل ما يشعر به كلام البعض من التفرقة في محل
المسألة بين الوصف والمناسب للعلية، كقولك: " أكرم العلماء " و " أهن الفساق "
و " لا تركن إلى الظالمين " وأمثال ذلك، وغيره كما في المثال المعروف " في
السائمة زكاة " ونحو ذلك، فيقال بثبوت المفهوم في الأول دون غيره. ووجهه:
ظهور الكلام عرفا على الأول في إفادة العلية وإن لم يصرح بها، فيرجع إلى مفهوم
العلة بخلاف الثاني.
وفيه: أن مجرد المناسبة إنما يفيد صلاحيته للعلية وذلك أعم من الوقوع،
والقابلية حاصلة في القسم الثاني أيضا. ولو حصل الظن بالعلية في القسم الأول
498

أمكن المنع من التعويل عليه، إذ الظن المطلق لا عبرة به في إثبات العلية. ودعوى
رجوعه إلى الظن الحاصل من الألفاظ فيندرج في الظنون المخصوصة محل منع،
للفرق بين ظهور اللفظ في المعنى المقصود منه ولو بالتبع بحيث يعد مدلولا له
عرفا، وحصول الظن بأمر آخر خارج عن مدلول الكلام، لاندراج الأول في
مداليل الألفاظ المعتبرة في جميع اللغات، ورجوع الثاني إلى مطلق الظن وإن كان
للفظ مدخلية في حصوله.
ومن المعلوم أن كون الوصف علة للحكم أمر خارج عن مدلول الكلام، وإنما
استفيد ذلك من مجرد المناسبة فيندرج في العلة المستنبطة، إلا أن يدعى الاجماع
على حجية الظن بالمراد من اللفظ بقول مطلق، كما يظهر من بعضهم. ثم إن في
مفهوم العلة كلاما تأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.
ومنها: التفصيل بين الأوقاف والوصايا والنذور والأيمان ونحوها، فيعتبر
مفهوم الوصف في أمثال تلك المقامات وغير ذلك فلا يعتبر، يظهر القول به من
كلام شيخنا الشهيد الثاني (رحمه الله) حيث قال في مفهومي الشرط والوصف: إنه لا
إشكال في دلالتهما في مثل ما ذكر، كما إذا قال: وقفت هذا على أولادي الفقراء أو
إن كانوا فقراء، أو نحو ذلك.
ويرد عليه: أن إثبات المفهوم في تلك الموارد إنما هو لاختصاص الانشاء
بالموصوف بالوصف المفروض فينتفي في غيره، إذ ليس للكلام الانشائي خارج
يطابقه أو لا يطابقه، وإنما يوجد مدلوله بنفس هذا الانشاء المخصوص فإذا
اختص مورده بالقيد المخصوص انتفى عن غيره، وهذا بخلاف تعليق الحكم
الشرعي على الوصف لكونه أمرا واقعيا ثابتا في نفس الأمر، والكلام مسوق لبيانه
فيجري فيه الخلاف. فما ذكر من الأمثلة خارج عن محل المسألة.
ويشهد بذلك: أنه لو قيد شيئا من ذلك بالألقاب قطعنا بانتفائه في غيرها، كما
لو وقف على زيد، أو على المسجد، أو أوصى لعمرو، أو وكله، أو باع داره. أو قيد
سائر العقود والإيقاعات ببعض الألقاب إلى غير ذلك فإنه لا يشك في انتفائها
499

في غير مواردها، مع دعوى الوفاق على عدم حجية مفهوم اللقب، ولو فرضنا
القول بحجيته فدلالته ظنية، ودلالة الكلام على ما ذكر قطعية فلا ريب في خروجه
عن المفاهيم.
ويدل على ذلك: أنه لا يتصور هناك منافاة بين إيقاع المعاملة على الوجه
المختص ببعض الأوصاف أو الألقاب وإيقاعها أيضا على الوجه الآخر ولو في
زمان واحد، فلو دل الأول على معنى الانتفاء عند الانتفاء لزم فهم المنافاة بين
العقدين، وفساده ظاهر، للقطع بعدم تعقل المنافاة بين بيع الدار وبيع العقار، ولا
بين بيع الدار الموصوفة ببعض الأوصاف وبين بيع الدار الأخرى. وكذا الحال في
الوقف والوكالة والوصية والنذر وسائر العقود والإيقاعات وغيرها، فليست
الدلالة في ذلك من المفهوم الذي هو على تقدير ثبوته من أضعف الدلالات، بل
من الوجه الذي ذكرناه، كما لا يخفى، وقد مر في مفهوم الشرط التنبه على ذلك.
ومنها: التفصيل بين الخبر والإنشاء، فإن التعليق على الأوصاف في الإخبار،
ولا يكاد يدل على انتفاء المخبر به عن المخبر عنه بانتفائها في الخارج، غايته
عدم تعلق الإخبار به، ولا إشعار فيه بعدم وجوده في نفس الأمر، كقولك: " أكرمت
رجلا عالما " و " ضربت فاسقا " و " جاءني العبد الصالح " ومررت بالمظلوم
فنصرته " و " رأيت الفقير فأغنيته والظالم فأهنته " إلى غير ذلك، فإن شيئا من ذلك
لا يفيد نفي وقوع تلك الأفعال عن غير المتصف بتلك الأوصاف في الواقع، وإنما
تعلق الغرض ببيان المذكورات، وهذا بخلاف الإنشاءات، لوضوح انتفاء
مدلولاتها عن غير المتصف بالأوصاف التي علقت عليها.
وهذا التفصيل قد يستفاد من كلام بعضهم في غير المقام، ومقتضاه عدم ثبوت
المفهوم في الأخبار الواردة في بيان الأحكام الشرعية إلا مع ورودها على وجه
الانشاء، كالأمر والنهي وغيرهما، وهو ضعيف جدا، لوضوح اشتراك الإخبار
والإنشاء في عدم تعلقهما بغير المذكور، وإمكان حصول الحكم في الواقع بالنسبة
إلى غيره بغير الانشاء المفروض، كما يمكن وجوده في الخارج من غير أن يتعلق
الإخبار به إلا بخبر آخر غير المفروض.
500

ومستند القائل بالمفهوم من ظهور الكلام في إناطة الحكم بالوصف أو لزوم
خلوه عن الفائدة أو نحو ذلك جار في المقامين على نهج واحد، ولذا لم يفرق أحد
في مدلول الروايات المشتملة على بيان الأحكام الشرعية بين التعبيرين.
غاية الأمر انتفاء الدلالة على المفهوم في الإخبار في جملة من المقامات، كما
يجري مثله في الإنشاءات، وذلك أمر آخر لا يمنع من ثبوت المفهوم في غيرها،
فلا فرق بين قولك: " يجب إكرام الرجل العالم " وقولك: " أكرم الرجل العالم "
في إفادة المفهوم وعدمها، كما لا يخفى.
والقول بأن الانشاء حيث لا خارج له يطابقه أو لا يطابقه لا يمكن تعلقه بغير
المذكور فينتفي عن غيره بخلاف الأخبار مدفوع:
أولا: بجريانه في مطلق القيود من الألقاب وغيرها.
وثانيا: باشتراكهما في اختصاص موردهما الشخصي بالمذكور وإمكان تعلق
نوعه بغيره.
وثالثا: بما مر بيانه في مفهوم الشرط، ويأتي توضيحه في مفهوم الغاية أيضا.
ومنها: التفصيل بين التوصيف بوصف الغير وما يؤدي مؤداه، كقولك: " أكرم
الناس غير الكفار وسوى الفساق " وغير ذلك، فيدل على انتفاء الحكم بانتفاء
الأول دون غيره، ذهب إليه بعض المتأخرين، وهو خروج عن محل الكلام، إذ
الأول يجري مجرى الاستثناء ويفيد معناه، ولا كلام عندنا في دلالته إذا على
المعنى المذكور، وأين ذلك مما نحن فيه من دلالة التعليق على الوصف من حيث
هو على ذلك؟
ومنها: التفصيل بين الوصف الصريح والوصف المفهوم من الكلام، أو بضميمة
قرائن المقام، كالوصف المستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله): " لئن يمتلئ جوف الرجل قيحا
خير من أن يمتلئ شعرا " (1) لدلالته على الشعر الموصوف بالكثرة، وظاهر الأكثر

(1) بحار الأنوار: ج 79 ص 292.
501

عدم الفرق بين المقامين، ولذا احتجوا بقول أبي عبيدة في المثال المذكور ونحوه،
إلا أن ظاهر العنوان لا يتناوله.
ومنها: التفصيل بين الوصف الظاهر في المدح أو الذم أو التأكيد أو الجواب
عن السؤال المخصوص، أو غيرها من الفوائد وما لا يظهر منه سوى إناطة الحكم
به، فإن الأول يفيد التوضيح، ونحوه لو ظهر هناك مانع من عذر أو جهالة من بيان
الحكم في غير مورد الوصف. والثاني ظاهر في الاحتراز، والظاهر خروج الأول
عن محل المسألة كما مرت الإشارة إليه في محل النزاع. وكذا الوصف المساوي
للموصوف أو الأعم مطلقا، كما في قولك: " أشتهي العسل الحلو " لتمحضه
للتوضيح وإن أمكن إشعاره بإناطة الحكم بمطلق الحلاوة، لكنه ضعيف جدا.
ومنها: التفصيل بين التوصيف بالوصف الوارد في مورد الغالب، كما في قوله
تعالى * (وربائبكم اللاتي في حجوركم) * وغيره، فلا دلالة في الأول على المفهوم،
لظهوره في إرادة التوضيح تنزيلا للأفراد النادرة منزلة المعدوم، فلا يظهر منه إرادة
الانتفاء عند الانتفاء، ولا أقل من الشك، فلا يمكن الاحتجاج به. ويمكن التفصيل
في ذلك بين غلبة الوجود وغلبة الإطلاق، ويقابل الأول ندرة الوجود، والثاني
ندرة الإطلاق. كما فرقوا بذلك في شمول المطلقات للأفراد النادرة وعدمه. فعلى
الثاني لا يكون الموصوف شاملا للفرد النادر من أصله، فيكون الوصف توضيحيا
كما في الأوصاف اللازمة، ولا يكون هناك تخصيص بعد التعميم ليفيد حكم
المفهوم، بخلاف الأول لشموله للأفراد النادرة، فيظهر من التخصيص بغيرها إرادة
المفهوم كما في غيرها.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: أن ما اشتهر بينهم من تعليل مفهوم الوصف بلزوم خلوه عن الفائدة
يجري في مطلق القيد الواقع في الكلام بعد اللفظ المطلق أو العام وإن كان من
الألقاب أو أسماء العدد أو الزمان أو المكان أو غيرها، فمقتضاه دلالتها أيضا على
المفهوم سواء وقعت قيودا للحكم المنطوق به أو لموضوعه المذكور فيه.
502

ويؤيده: ملاحظة الحال في عدة من الأمثلة التي ذكروها في بيان المسألة
والاحتجاج عليها، كتمثيل البصري بحديث التحالف والشاهدين، واحتجاج
بعضهم بما جاء في تقييد الاستغفار بالسبعين في الآية الشريفة، وبقوله (عليه السلام): " الماء
من الماء " حيث جعلوه منسوخا بحديث التقاء الختانين، وتمسك ابن عباس بقوله
تعالى: * (ليس له ولد) * (1) إلى غير ذلك.
والظاهر من كلمات أكثر القائلين بمفهوم الوصف الفرق بين الأوصاف
وغيرها من القيود، ففي التقييد بالوصف عندهم خصوصية أخرى قاضية بالدلالة
على ذلك، فكأن المعول عليه عندهم دعوى ظهور التعليق على الوصف في إناطة
الحكم به القاضية بانتفائه عند انتفائه، ولذا لم يفرقوا في ذلك بين الوصف الواقع
قيدا في الكلام أو موضوعا للحكم مستقلا كما مر التنبيه عليه.
فالنسبة بين مقتضى التعليلين المذكورين من قبيل العموم من وجه، لتحقق
الأول في التقييد بغير الوصف، والثاني في غير القيود. والحق ما عرفت من أن في
كل من الأمرين إشعارا لا يبلغ بمجرده حد الدلالة المعتبرة إلا إذا انضم إليه من
خصوصيات المقام ما يفيد ذلك المعنى ويدل عليه بحسب العرف، كما في القيود
والأوصاف الواقعة في مقام البيان، وفي مقام العمل الظاهر في الحصر، أو حيث
يحصل الظن المعتبر بانحصار فائدتها في ذلك، أو عند ظهور عدم تعلق الغرض
بسائر الفوائد المتصورة.
الثاني: أنه ذكر جماعة من العامة: أن مفهوم المشتق الدال على الجنس مثل
قوله (عليه السلام): " لا تبيعوا الطعام بالطعام " راجع إلى مفهوم الصفة، معللين بأن المراد بها
ما هو أعم من النعت النحوي، قاله التفتازاني والباغنوني، وعده العلامة والآمدي
قريبا من اللقب، وكان الغرض من ذلك جهة اشتقاقه من الطعم الراجع إلى الوصف،
أي المطعوم دون اشتقاق المزيد من المجرد وإن لم يفد معنى الوصفية كما يظهر

(1) النساء: 176.
503

من العنوان، إذ ليس له مدخلية في إفادة المفهوم وإن كان الأول أيضا كذلك، لعدم
ملاحظة المعنى الأصلي في استعماله، كما في الألقاب الدالة بحسب الأصل على
ما يوجب المدح أو الذم، لزوال المعنى الوصفي بالتسمية، فينتفي عنه تلك
الخصوصية، ولذا عبروا باللقب عن مطلق الاسم، كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.
فالمثال المذكور وغيره من الأسماء المشتقة الدالة على المعنى الجنسي مندرج في
اللقب بعينه، إذ لا فرق فيه بين الأعلام بأقسامها وأسماء الأجناس، فيجري فيه
الكلام في مفهوم اللقب لغيره.
نعم، في جملة من الأسماء والقيود الواقعة في الكلام خصوصيات تشعر
بإرادة المفهوم وتدل عليه على حسب اختلاف المقامات ولأجلها وقع فيها
خلاف آخر يأتي التنبيه عليه إن شاء الله، وذلك كأسماء الأعداد المعينة والمقادير
المشخصة، وسائر الهيئات التركيبية، وخصوصيات الأحوال الخاصة، والأزمنة
والأمكنة المخصوصة، ونحوها فإن تعليق الحكم عليها يشعر بإناطته بها وتوقفه
عليها، فإذا انضم إليها من خصوصيات المقام ما يوجب بلوغه حد الدلالة أو
يقضي بظهور انحصار الفائدة في إفادة المفهوم دل على الانتفاء عند الانتفاء،
وليس في لفظ " الطعام " شئ من تلك الخصوصيات، فلا مجال لتوهم الفرق بينه
وبين غيره من الألقاب كما لا يخفى.
نعم، حكي عن الإمام في البرهان: أن جميع جهات التخصيص راجعة إلى
الصفة، فإن المحدود والمعدود موصوفان بحدهما وعدهما، وقس عليهما البواقي،
وهذا وإن كان يشعر به كلام جماعة منهم في الأمثلة والاحتجاجات إلا أنه
مخالف لكلماتهم في عنوان المسألة، لتوقفه على استفادة المعنى الوصفي ولو
ضمنا كما هو ظاهر، ولذا أطلقوا عدم العبرة بمفهوم اللقب.
الثالث: أن تعليق الحكم على الوصف في بعض الأجناس على القول بإثبات
المفهوم فيه إنما يدل على انتفاء الحكم بانتفائه في ذلك الجنس دون غيره، وأما
تعليقه على ذلك الجنس فمن اللقب، فلو فرض إثبات المفهوم في مثله دل على
504

انتفاء الحكم في غيره، سواء كان موصوفا بالوصف المفروض أو بضده، فلا مجال
لتوهم الدلالة على انتفاء الحكم بانتفاء الوصف المفروض في سائر الأجناس،
إذ المفهوم إنما يتبع المنطوق، ومحصله انتفاء الحكم المذكور فيه عن موضوعه
بانتفاء وصفه.
وربما يسبق إلى بعض الأوهام أن تعليق وجوب الزكاة على سائمة الغنم
يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة في جميع الأجناس، وحكى الرازي عن بعض
الفقهاء من أصحابه القول بذلك، معللا بأن السوم يجري مجرى العلة في وجوب
الزكاة، فيلزم من انتفاء العلة انتفاء الحكم، وهو وهم فاحش، إذ فساده يلحق
بالضروريات، بل العلة سوم الغنم دون مطلق السوم، إذ لم يتعرض فيه لحكم سائر
الأجناس بنفي ولا إثبات. ومن البين أن النفي في ذلك تابع للإثبات، وهو من
الوضوح بمكان.
الرابع: أنه قال العلامة: الوصفان المتضادان إذا علق الحكم على أحدهما اقتضى
نفيه عن الآخر عند القائل بدليل الخطاب، وهل يقتضي نفيه عن النقيض؟ إشكال.
وأنت خبير بأن مقتضى المفهوم انتفاء الحكم بانتفاء الوصف على نفي انتفائه
بانتفاء علته، سواء تحقق هناك ضد الوصف المفروض أو لا، فمع الشك في حصول
الوصف المفروض يصح نفيه بالأصل فيبنى على انتفاء الحكم فيه، فتأمل.
الخامس: أنه ذهب بعضهم إلى أن مفهوم الوصف على القول به يخالف
المنطوق في الكلية والجزئية، فإذا قلت: " كل غنم سائمة فيها الزكاة " كان مفهومه
ليس كل غنم معلوفة كذلك. وإن قلت: " بعض السائمة فيها الزكاة " كان مفهومه
لا شئ من المعلوفة كذلك.
ويظهر من بعضهم خلاف ذلك، حيث قال: مفهوم قولنا: " كل حيوان مأكول
اللحم يتوضأ من سؤره ويشرب " أنه لا شئ مما لا يؤكل لحمه كذلك. وقد تقدم
في مفهوم الشرط ما يغني عن إطالة الكلام في ذلك.
* * *
505

معالم الدين:
أصل
والأصح أن التقييد بالغاية يدل على مخالفة ما بعدها لما قبلها،
وفاقا لأكثر المحققين. وخالف في ذلك السيد (رضي الله عنه) فقال: " تعليق الحكم
بغاية، إنما يدل على ثبوته إلى تلك الغاية، وما بعدها يعلم انتفاؤه أو
إثباته بدليل ". ووافقه على هذا بعض العامة.
لنا: أن قول القائل: " صوموا إلى الليل " معناه: آخر وجوب الصوم
مجئ الليل. فلو فرض ثبوت الوجوب بعد مجيئه، لم يكن الليل آخرا،
وهو خلاف المنطوق.
واحتج السيد (رضي الله عنه) بنحو ما سبق في الاحتجاج على نفي دلالة
التخصيص بالوصف، حتى أنه قال: " من فرق بين تعليق الحكم بصفة
وتعليقه بغاية، ليس معه إلا الدعوى. وهو كالمناقض، لفرقه بين أمرين
لا فرق بينهما، فإن قال: فأي معنى لقوله تعالى: * (ثم أتموا الصيام إلى
الليل) * إذا كان ما بعد الليل يجوز أن يكون فيه صوم؟ قلنا: وأي معنى
لقوله (عليه السلام): " في سائمة الغنم زكاة " والمعلوفة مثلها. فإن قيل: لا يمتنع
أن تكون المصلحة في أن يعلم ثبوت الزكاة في السائمة بهذا النص،
507

ويعلم ثبوتها في المعلوفة بدليل آخر. قلنا: لا يمتنع فيما علق بغاية،
حرفا بحرف ".
والجواب: المنع من مساواته للتعليق بالصفة، فإن اللزوم هنا ظاهر،
إذ لا ينفك تصور الصوم المقيد بكون آخره الليل، مثلا، عن عدمه في
الليل، بخلافه هناك، كما علمت. ومبالغة السيد (رحمه الله) في التسوية بينهما
لا وجه لها.
والتحقيق ما ذكره بعض الأفاضل، من أنه أقوى دلالة من التعليق
بالشرط. ولهذا قال بدلالته كل من قال بدلالة الشرط وبعض من لم يقل
بها.
508

قوله: * (والأصح أن التقييد بالغاية يدل على مخالفة ما بعدها لما قبلها) *.
من جملة المفاهيم: مفهوم الغاية، وهو ثالث أقسام مفهوم المخالفة الذي
يعبر عنه بدليل الخطاب، وهو أقوى من الأولين كما يأتي، ولا بد من تحرير محل
النزاع فيه.
فنقول: إن الغاية قد يطلق ويراد بها فائدة الشئ وثمرته، كما يقال في أوائل
العلوم بعد تعريف العلم وبيان موضوعه: إن غايته كذا.
وقد يطلق ويراد بها تمام المسافة زمانا أو مكانا، كما في قولهم: " من " لابتداء
الغاية، و " إلى " لانتهائها. وتوجيهه بأن المراد أنها لإفادة كون مدخولها غاية
ونهاية كما ترى، وكان منه قوله (عليه السلام): هو قبل القبل بلا غاية ولا منتهى غاية، وقوله:
انقطعت عنه الغايات.
وقد يطلق على ما دخلت عليه أداة الغاية، ولذا يعبر عن دخوله في المغيا
أو خروجه بدخول الغاية وخروجها.
وقد يطلق على نهاية الشئ بمعنى الجزء الأخير منه الذي يمتد ذلك الشئ
إليه بنفسه، أو بحسب محله، أو زمانه، أو مكانه، فيدخل فيه وإن قلنا بخروج ما بعد
الأداة، كما تقول: غاية مرامي ومنتهى مقصدي كذا، وغاية ما في الباب كذا مع
احتمالها للمعنى الثاني.
وقد يطلق على حده الخارج عنه المتصل بآخره وإن قلنا بدخول ما بعد
الأداة، كما قد يقال: غايات الدار لنهاياتها، ويراد بها حدودها، وكان منه
قوله (عليه السلام): " هو غاية كل غاية ". ومثله قولك: يا غاية أمل الآملين، ورجاء
الراجين، ورغبة الراغبين، ومطلب الطالبين، ومنى المحبين، وما أشبه ذلك يريد
بذلك انتهاءها إليه، وكان الأول مأخوذ من أحد الأخيرين، فإن فائدة الشئ
وثمرته هي غايته التي ينتهي ذلك الشئ إليها وينقطع دونها فكأنها نهايته وحده.
إما بادعاء دخولها فيه ووقوعها في آخره لأنها المقصودة منه فلا يطلب وراءها
أمر، أو وعلى أنها خارجة عن ذلك الشئ فكأنها حده الذي يتصل به.
509

وأما الثاني فيمكن أن يكون إطلاق الغاية عليه من باب إطلاق اسم الجزء
على الكل، لعدم تبادر المجموع من إطلاق الغاية، وإنما يطلق عليه أحيانا لقيام
القرينة عليه، كما قد يطلق المنتهى على تمام الشئ لا خصوص جزئه الأخير،
كما يقال: منتهى المطلب والكلام، وغاية المأمول والمرام، وفي الدعاء: " أسألك
بمنتهى الرحمة من كتابك " أي برحمتك كلها، إذ الوصول إلى الغاية وصول إلى
الجميع.
والثالث يرجع إلى أحد الأخيرين على اختلاف القولين، وهل هي مشتركة
بينهما لفظا أو معنى، أو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر؟ وجوه مبنية على أن
الأصل دخول الغاية في المغيا أو خروجها عنه، أو هي قابلة للمعنيين صالحة لكل
من الوجهين حتى يقوم قرينة على إحدى الخصوصيتين.
والوجه أن يقال: إن هذا الكلام ان أريد به تحقيق معنى الغاية كان أحرى
بالبناء على الأول والتفرع عليه، لوضوح أن الأصل حمل اللفظ على حقيقته إلى
أن يقوم هناك قرينة أو شاهد على الخروج عنها، وهو ظاهر، وإن رجع إلى تحقيق
معنى الأداة ففيه الخلاف المعروف بين النحاة والأصوليين، وهو: أن مدخول
" إلى " وما يؤدي مؤداها هل يندرج في المغيا بها، أو لا؟
وعلى الثاني فهل فيه دلالة على خروجه عنه، أو لا يدل على شئ من
الأمرين إلا بقرينة من الخارج؟ وهذا الخلاف لا يبتني على تحقيق معنى الغاية،
ولا هو مما يتفرع على الخلاف المذكور، فيمكن القول بدخول الغاية وخروج ما
بعد الأداة، فيكون وضعها لانتهاء الغاية، بمعنى انقطاعها عندها فلا يكون ما بعدها
غاية. ويمكن العكس أيضا فيكون انتهاؤها بانتهاء مدخولها، إذ الغاية هنا بمعنى
المسافة فتكون الغاية بالمعنى المذكور خارجة عنها، إلا أن الظاهر من كلماتهم
والمعروف في إطلاقاتهم أن يكون ما بعد الأداة غاية، فيكون قولك: " صم إلى
الليل " في معنى صم صياما غايته الليل، وذلك يعطي توافقهما في المدلول.
وزعم بعضهم أن خروج غاية الشئ ونهايته عنه ضروري وإنما يتردد لفظ
الآخر بين المعنيين لإطلاقه عليهما، وهو كما ترى.
510

والذي يقتضيه التحقيق والنظر الدقيق: أن معنى الغاية والآخر والنهاية بحسب
أصلها وحقيقتها إنما يقع فيما بين الجزءين المذكورين الداخلي والخارجي،
فليس شئ منهما بحقيقته غاية الشئ المستمر وآخره ومنتهاه. وكذا الحال في
المبدأ فإنه يقابل المنتهى، فحقيقتهما حينئذ أمران موهومان اعتباريان منتزعان
من طرفي الشئ الممتد، كالسطح المتوهم بين الجسمين، فيدخل ما بعد الأداة
فيما بعد الغاية بالمعنى المذكور على القول بخروجه عن المغيا، وفيما قبلها على
القول بدخوله. وحيث إن الأمر الاعتباري المذكور بعيد عن فهم العرف ولا يترتب
عليه بنفسه كثير فائدة فلا جرم كان المنساق من لفظ " الغاية " ومن أداتها أحد
الجزءين المتصلين به، وعليه جرت الاستعمالات الشائعة، لكونه أقرب المجازات
إلى الحقيقة، ويتساوى نسبتهما إليه من حيث نفسه، إلا أنه قد يغلب الاستعمال في
أحدهما فيحمل المطلق عليه، ومنه نشأ الخلاف في الدخول والخروج، فليس
الاستعمال في شئ منهما بحسب الأصل واقعا على حقيقته، كيف؟ وهما مركبان
من أجزاء غالبا، ومن البين خروج ما سوى الجزء الأخير من الأول، والأول من
الثاني عن معناها فكذا الجزءان، فإطلاقه عليهما لاتصالهما به وقربهما إليه، أو
باعتبار تركبهما من الآخر وما قبله أو ما بعده، للقطع بأن ما قبل الآخر ليس من
الآخر، وكذا ما بعده، فإطلاقه على أحدهما بالإضافة إلى ما تقدمه أو تأخر عنه
فهو آخر إضافي لا حقيقي، ولذا لا يطلق على الجزء البعيد عنه كالنصف الأخير
في النهاية والأول في البداية إلا بطريق الإضافة، وكلما قرب إلى الطرفين كان
أقرب وألصق بحقيقة المبدأ والمنتهى والأول والآخر.
نعم، قد يقال بصيرورة اللفظ حقيقة في أحدهما لكثرة الاستعمال فيه
وشيوعه، كما هو الظاهر من لفظي " الأول " و " الآخر " فيمكن الجمع بين هذا
الوجه وكل واحد من الأقوال والوجوه الآتية، فقد يقال بصيرورته حقيقة في
الجزء الخارج - مثلا - نظرا إلى كثرة الاستعمال فيه خاصة، فلا يحمل على الداخل
إلا بقرينة، أو فيهما مع تقابلهما، إلا أنه ينصرف إلى الخارج، لكون الاستعمال فيه
511

أكثر، كما علله جماعة من النحاة بذلك، وإلا فالأصل تساوي نسبة الأمرين إلى
المعنى الأصلي في البداية والنهاية، وإنما يختلفان بالعوارض، فلا استبعاد في
التفصيلات الآتية، كالتفصيل بين الطرفين أو بين المتجانسين وغيرهما، أو بين
لفظي " حتى " و " إلى "، أو بين الاقتران ب‍ " من " وعدمه، إلى غير ذلك، مع غاية بعد
اعتبار تلك الخصوصيات في الوضع، وندرة اشتراك اللفظ بين المتقابلين حتى ظن
امتناعه، إذ بعد إناطة الأمر بشيوع الاستعمال يراعى في كل مقام على حسبه وإن
اتحدت الحقيقة، فتأمل هذا.
وربما يسبق إلى بعض الأوهام أن الخلاف في مفهوم الغاية إنما وقع في نفس
الغاية، وأما ما بعد الغاية فلا خلاف في مخالفته لما قبلها في الحكم.
قال العضدي وقد يقال الكلام في الآخر نفسه ففي قوله: إلى المرافق آخر
المرافق، وليس النزاع في دخول ما بعد المرافق. وذكر شارح الشرح في توضيحه:
أن النزاع لم يقع فيما بعد الغاية، إذ لم يقل أحد بدخول ما بعد المرافق في الغسل،
وإنما النزاع في نفس الغاية، كزمان غيبوبة الشمس ونفس المرفق هل يلزم انتفاء
الحكم فيه؟ ولا معنى لمفهوم الغاية سوى أنها لا تدخل في الحكم، بل ينتفي
الحكم عند تحققها.
وربما يرشد إلى هذا الكلام ما ذكره العلامة في غير موضع من كتبه والرازي
من التفصيل في محل المسألة بين صورة انفصال الغاية عن المغيا بمفصل
محسوس وغيرها، فإنه إنما يناسب الكلام في نفس الغاية، أما فيما بعدها فلا يعقل
الفرق بين الصورتين، ولا يخفى عليك ما فيه، فإن بين المسألتين بونا بعيدا، إذ
النزاع في أحدهما في دلالة المنطوق، وفي الأخرى في المفهوم، والخلاف في
الأولى إنما هو في دلالة الكلام على موافقة الغاية للمغيا في الحكم ودخولها فيه
وعدمها، وفي الثانية في دلالته على مخالفة ما بعدها لا قبلها فيه وعدمها بعد القطع
بعدم دلالته على توافقهما في الحكم، فنفي الخلاف عن مخالفته لما قبلها في
الحكم كما عن بعضهم ممنوع جدا بل فاسد قطعا، إذ الخلاف في ذلك بين الخاصة
512

والعامة ظاهر مشهور وينادي به عباراتهم وأدلتهم، وعبارة المصنف (رحمه الله) وغيره من
الأصوليين كالسيد والفاضلين والعميدي والآمدي والرازي وغيرهم في عنوان
المسألة وبيان أدلة الفريقين صريحة في ذلك.
نعم، ما ذكر من أنه لم يقل أحد بمشاركة ما بعدها لما قبلها في الحكم ظاهر،
ولا ربط له بما هو المقصود من إفادة المعنى المفهومي.
نعم، يأتي الخلاف المذكور في نفس الغاية أيضا على القول بخروجها عن
المغيا، فيقال حينئذ: إن التقييد بالغاية هل يدل على انتفاء الحكم عن نفس الغاية
وما بعدها، أم لا؟ وأما على القول بدخولها في المغيا فلا بد من تخصيص الخلاف
المذكور بما بعدها، كما هو المعروف في عنوان المسألة، وكذا على القول بنفي
الدلالة على كلا الأمرين أو التوقف في ترجيح أحد القولين.
وأما الغاية بالمعنى الذي ذكرناه فليس واسطة بين ما قبلها وما بعدها إلا
بالاعتبار فلا يقع فيها الكلام، ولفظ " الغاية " في كلام المصنف يحتمل المعنى
المذكور فلا يكون بين ما قبلها وما بعدها واسطة، ويحتمل إرادة مدخول الأداة
فيكون ساكنا عن حكمه بنفسه، وقد يحمل على نفس الأداة ليختص بمدخولها،
بناء على ما احتمله العضدي ومن تبعه في المسألة، وهو مع ما عرفت من محل
المسألة بعيد عن معنى الغاية، إذ لم يظهر استعمالها في الأداة نفسها، وليست هي
من معانيها، فلا تغفل.
وتأتي المسألتان في مدخول " من " وما قبله أيضا، فمن قال بثبوت مفهوم
الغاية ينبغي أن يقول بمثله في البداية، والنافي يلزمه القول بنفي الدلالة هناك
أيضا، لجريان أدلة الفريقين في كل من المقامين على مثال الآخر.
وكذلك من قال بدخول ما بعد " إلى " في المغيا بها ينبغي أن يقول بدخول ما
بعد " من " فيه أيضا، إذ الحكم فيه إن لم يكن أظهر فليس بأخفى من الأول.
وقد يتوهم من كلام نجم الأئمة اختصاص الخلاف بالأول ونفي الخلاف عن
خروج الثاني، وهو وهم.
513

نعم، لا يلزم العكس، لإمكان القول بالتفصيل بينهما في ذلك، كما يأتي
إن شاء الله تعالى، وإن كان خلاف المشهور.
ثم الظاهر أنه لا فرق في محل المسألة بين أدوات الابتداء والانتهاء ك‍ " من "
و " إلى " و " حتى " وغيرها، وهل يأتي الكلام في لفظ " الأول " و " الآخر "
و " البداية " و " النهاية " و " الابتداء " و " الانتهاء " وأمثالها؟ يحتمل ذلك،
إذ الأدوات المذكورة مفيدة لتلك المعاني، ولا فرق بين الدال والمدلول في إفادة
المعنى المفهومي.
وفيه: أن دلالتها على انتفاء المحدود بها سابقا أو لاحقا ظاهرة، وأما الأدوات
فيمكن إرجاع الخلاف فيها إلى الخلاف في تعيين الأمر المحدود، وأنه الحكم
أو الموضوع، والكلي أو الفرد، لبعد الخلاف في إفادتها لتلك المعاني، ولا في
استلزام تلك المعاني للانتفاء المذكور، فتأمل.
وأما المسألة الأخرى فيمكن اختصاصها ب‍ " من " و " إلى ". وأما كلمة " حتى "
فإن كانت عاطفة فلا شك في دخول ما بعدها في الحكم، لأنها بمنزلة الواو.
وأما الخافضة فيظهر من بعضهم نفي الخلاف أيضا في دخول ما بعدها فيما
قبلها، حكي ذلك عن الشيخ شهاب الدين القرافي، وأنكره ابن هشام قائلا: إن
الخلاف في ذلك مشهور، وإنما الاتفاق في العاطفة. لكن المستفاد من كلام جماعة
منهم الجزم بالدخول، قائلين: إن من حقها أن يدخل ما بعدها في الحكم، نص على
ذلك الزمخشري في المفصل وشارحه، وابن هشام، وابن الحاجب. وجوز ابن
مالك الدخول وعدمه، سواء كان مدخولها جزءا أو ملاقيا لآخر جزء.
قال نجم الأئمة: ومذهب ابن مالك قريب، لكن الدخول مطلقا أكثر وأغلب،
قال: والأظهر دخول ما بعد " حتى " في حكم ما قبلها، بخلاف " إلى ".
وعن جماعة منهم الشيخ عبد القاهر والرماني والأندلسي وغيرهم: أن الجزء
داخل في حكم الكل، كما في العاطفة، والملاقي غير داخل، والأظهر الأول، وكذا
الحال في الابتدائية.
514

نعم، لا شك في استفادة الخروج من أمثال قوله تعالى: * (حتى يطهرن) * (1)
و * (حتى يعطوا الجزية) * (2) و * (حتى تنكح زوجا غيره) * (3) و * (حتى تفئ إلى أمر
الله) * (4) و * (حتى يرجع إلينا موسى) * (5) و * (حتى أتاهم نصرنا) * (6) و * (حتى يلج
الجمل) * (7) * (حتى مطلع الفجر) * (8)... إلى غير ذلك، فلا تغفل.
وجملة القول في المسألة: أن المحكي عن الأكثر في كلام جماعة منهم خروج
حدي الابتداء والانتهاء عن المحدود بهما، وعزاه التفتازاني في الثاني إلى أكثر
النحويين، حتى قال: إن القول بالدخول مطلقا شاذ لا يعرف قائله. ونسبه الشهيد
الثاني إلى أكثر المحققين. وفي المغني: أنه الصحيح. وقال نجم الأئمة: إن الأكثر
عدم دخول حدي الابتداء والانتهاء في المحدود، فإذا قلت: " اشتريت من هذا
الموضع إلى هذا الموضع " فالموضعان لا يدخلان. ثم ذكر بعد الأقوال: إن المذهب
هو الأول. وعلله في المغني أيضا بأن الأكثر مع القرينة عدم الدخول.
وقيل بدخولهما جميعا حكاه جماعة. وربما يقال بدخول الأول دون الثاني.
وفصل غير واحد منهم بين المجانس وغيره، فإن كانا من جنس المغيا حكم
بدخولهما فيه، كما صرح به الشهيد في الذكرى حيث قال بدخول الحد المجانس
في الابتداء [والانتهاء] (9)، مثل: بعت الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف.
وعزاه جماعة في الثاني إلى المبرد، وحكاه ابن هشام ونجم الأئمة قولا. وفصل
آخرون بين ما إذا كان أحدهما منفصلا عن المغيا بمفصل محسوس فيخرج عن
الحكم، وما إذا لم يكن كذلك فيدخل، قاله السيوري في التنقيح فيهما معا، وبه
صرح الشهيد الثاني في الانتهاء، وعليه يحمل كلام العلامة في غير موضع من كتبه،
والرازي كما يأتي إن شاء الله تعالى.

(1) البقرة: 222.
(2) التوبة: 29.
(3) البقرة: 230.
(4) الحجرات: 9.
(5) طه: 91.
(6) الأنعام: 34.
(7) الأعراف: 40.
(8) القدر: 5.
(9) أضفناه من الذكرى.
515

وأنت خبير بأن اختلاف الجنس يلازم الانفصال، إذ لا يطلب وراءه فاصل
آخر، فيظهر الفرق بين التفصيلين في المجانس، لإمكان الفاصل المحسوس فيه.
وقد يعقل اختلاف الجنس في غير المحسوس فيظهر الفرق فيه أيضا، ويكون
النسبة بينهما من قبيل العموم من وجه.
ولا يخفى بعده، فإن تقييد الفاصل بالمحسوس إنما يراد به فيما يكون المغيا
محسوسا، ففي مثل الملكات النفسانية وغيرها إنما يتحقق الفصل باختلاف
الجنس، ومنهم من جمع بين التفصيلين، فاكتفى في الدخول بأحد الوصفين، كما
يظهر من الذكرى حيث علل الحكم بدخول المرفق في الغسل بكل من الوجهين.
وحكى في التمهيد قولا بدخول الغاية، إلا أن تقترن ب‍ " من " نحو: بعتك من هذه
الشجرة إلى هذا، فلا تدخل الغاية حينئذ وتوقف آخرون بين الدخول والخروج (1)،
فلا يحمل اللفظ على أحدهما إلا بدليل من خارج، ويتصور ذلك على وجوه:
أحدها: التردد بين القولين أو الأقوال وعدم الجزم بصحة أحدهما أو فساده،
فيتوقف حينئذ في تعيين المعنى الموضوع له أو المعنى المراد من اللفظ.
الثاني: الجزم باشتراكه لفظا بين المعنيين، فيكون التردد في الثاني دون الأول،
فيتوقف حمله على أحدهما على القرينة المعينة.
الثالث: الجزم بعدم الدلالة على شئ منهما وصلاحيته لكل منهما إلى أن يقوم
دليل على أحدهما، فيكون موضوعا للقدر المشترك بين الأمرين، وهذا هو الظاهر
من كلام جماعة منهم صاحب الكشاف، حيث قال: إن " إلى " للغاية، وأما دخولها

(1) في هامش المطبوع ما يلي:
قال جمال الدين الخوانساري رحمه الله تعالى: لا ريب أن " إلى " قد استعمل فيما كان
بعده خارجا، نحو: " أتموا الصيام إلى الليل ". والظاهر أنه كثيرا ما يستعمل أيضا فيما كان بعد
الغاية داخلا، كما يقال: سرت من البصرة إلى الكوفة، والمراد: أن الكوفة آخر جزء سار فيه.
ومنه: آية المرافق، لإجماع أصحابنا على دخول المرفقين، وحينئذ فيحتمل أن تكون الغاية
بمعنى الطرف، وتكون في الآخر مجازا، وأن تكون الغاية بمعنى الجزء الأخير، وتكون في الآخر
مجازا والحكم بأحدهما لا يخلو من إشكال، وللتوقف فيه مجال. انتهى (منه دام ظله العالي).
516

وخروجها فيدور مع الدليل، إلى أن قال: وقوله تعالى: * (إلى المرافق) * لا دليل فيه
على أحد الأمرين، وبه قال في مشرق الشمسين وغاية المأمول وغيرهما، وليس
ذلك من باب الاشتراك بين المتناقضين حتى يناقش في جوازه، نظرا إلى انتفاء
الفائدة في وضعه على الاشتراك اللفظي، وفقدان القدر الجامع بين الوجود والعدم
على المعنوي، وإنما يكون اللفظ على الوجه المذكور موضوعا للقدر المشترك بين
طرفي المغيا وحديه الخارجين المتصلين بهما، بمعنى عدم كونه بحسب الوضع
اللغوي منافيا لإرادة شئ من الأمرين، بل يجتمع مع إرادة كل منهما، فتكون
الخصوصية موقوفة على قيام قرينة عليها، إلا أنه يكفي في قرينة الخروج عدم
قيام قرينة على إرادة الدخول، لصدق الغاية حينئذ على أقرب الأمرين، ولأنه
المتيقن من إرادة المتكلم، فيرجع القول المذكور إلى القول الأول، إلا أن الفرق
بينهما يظهر في إثبات المفهوم في نفس الغاية وعدمه. فعلى الأول يلحق الغاية بما
بعدها، ويحكم بمخالفتها في الحكم لما قبلها، ومثلها الحال في حد الابتداء فيلحق
حينئذ بما قبله، بخلاف الوجه المذكور، لجواز مشاركة الحدين للمحدود في
الحكم، وإنما لا يحكم بها، للزوم الاقتصار في القدر الداخل على المتيقن، فيرجع
في نفس الحدين إلى مقتضى الأصل، فإن اقتضى مشاركتهما للمحدود أو لما قبله
أو بعده حكم بأحدهما، وإلا لزم نفي الحكمين عنهما وإن كان مخالفتهما مع
الجانبين في الحكم الواقعي مستبعدا، إلا أن العلم الاجمالي بأحد الحكمين قد لا
يمنع من نفيهما جميعا بالأصل، وذلك مما يختلف بحسب اختلاف المقامات. هذا
إذا لم يكن هناك عموم أو إطلاق يدل على إثبات الحكم المفروض في نفس
الحدين أو نفيه عنهما، وإلا تعين الأخذ به على كل من الوجوه الثلاثة.
غاية الأمر الجزم بعدم المعارض على الأخير بخلاف الأولين، لاحتمال
معارضة الإطلاق بمدلول الحدين، إلا أن الاحتمال لا يجدي في ذلك شيئا، إذ لا
يجوز رفع اليد عن الدليل الشرعي بمجرد الاحتمال.
وهناك احتمال رابع مبني على ما ذكرناه من كون حقيقة الغاية أمرا اعتباريا،
517

وإنما شاع استعمالها واستعمال أداتها فيما يقرب منه من أحد الطرفين، فالتوقف
في تعيين أحد المجازين. كما أن سائر الأقوال حينئذ مبنية على ترجيح أحدهما
بالشهرة وكثرة الاستعمال.
وقد ظهر بما ذكر: أن القول بالخروج مطلقا أو في بعض الصور أيضا يتصور
على وجهين:
أحدهما: القول بدلالة اللفظ على خروج الغاية عن المغيا كما بعدها. وينبغي
أن تكون الدلالة حينئذ قائمة بأداة الغاية، فتكون موضوعة لانقطاع الحكم دونها،
أو دالة عليه بغير الوضع. ومثله الحال في حد الابتداء.
والآخر: القول بعدم الدلالة على الدخول، فلا يمكن الحكم بدخول الحدين،
نظرا إلى انتفاء الشاهد عليه، فيبنى على خروجهما من باب الاقتصار على القدر
المتيقن. وكلام أكثر القائلين بالخروج لا يأبى عن إرادة هذا المعنى، فيمكن الجمع
بينه وبين القول بالوقف بالمعنى الأخير كما عرفت، بل قد يوجد في كلماتهم ما
يشهد بذلك.
والقول بالتفصيل أيضا بأقسامه يتصور على وجهين:
أحدهما: القول باختلاف الوضع في ذلك بحسب اختلاف المقامات، فتكون
الدلالة على كلا الوجهين مستندة إلى الوضع.
والآخر: القول بكون الخصوصية في إحدى الصورتين قرينة على أحد
الأمرين مع اتحاد الوضع اللغوي فيهما، وهو الظاهر، لبعد الاختلاف في الوضع
اللغوي على الوجه المذكور مع مخالفته للأصل.
والقول بالوقف أيضا يتصور على وجهين:
أحدهما: الجزم بالدلالة على أحد الأمرين من الدخول أو الخروج، والتوقف
في التعيين استبعادا للسكوت عن حكم الحدين مع بيان حكم الطرفين منطوقا
ومفهوما، فينبغي اندراجه في أحد المدلولين.
والآخر: التردد بين الدلالة وعدمها أيضا. ثم إن الدلالة على أحد القولين
518

الأولين أيضا يمكن أن تكون وضعية فتكون مستندة إلى وضع الأداة لما يفيد
ذلك، لوضوح أنه لا تأثير لوضع مدخولها في الدلالة على ذلك. ويمكن أن تكون
مبنية على دعوى انصراف اللفظ إلى أحد المعنيين، أو ظهوره فيه من غير أن تكون
مستندة إلى نفس الوضع اللغوي.
هذا، وفي المسألة احتمال آخر، وهو التفصيل بين الجزء والكل، فيقال
بالدلالة على دخول البعض دون الكل، حيث يكون أحد الحدين مركبا قابلا
للتجزئة، وإلا فيدخل.
ولا يخفى أن القول بدخول البعض يتوجه في مقامين:
أحدهما: فيما إذا توقف العلم باستيعاب ما بين الحدين على إدخال البعض
من باب المقدمة، كالسعي في ما بين الصفا والمروة، فيرجع إلى القول بالخروج،
لوضوح أن المقدمة خارجة عن ذي المقدمة.
والآخر: فيما إذا كان مدخول الحرفين مشتركا بين الكل والبعض، فيصدق
بإدخال البعض ويرجع إلى القول بالدخول.
حجة القول بالخروج مطلقا وجوه:
منها: أنه المتبادر من إطلاق اللفظ حيث لا يكون هناك قرينة على أحد
الأمرين، ويصح سلبه عن المعنى الآخر، فإن السير في الكوفة ليس سيرا إلى
الكوفة قطعا، وكذلك الصوم في الليل ليس صوما إلى الليل قطعا، ويرشد إليه صدق
الامتثال للأمر المحدود مع الاقتصار على ما بين الحدين.
وفيه: أن صدق الامتثال يمكن أن يكون من جهة كونه القدر المتيقن من
الخطاب، لا من جهة الدلالة على خصوص ما يفيد الخروج.
ومنها: أن ذلك مختار أكثر النحاة والأصوليين، فإن حكاية الشهرة عليه
مستفيضة في كلمات الفريقين، ولا ريب أنه يفيد الظن بالوضع، أو المراد من اللفظ
سيما مع شذوذ القول بالدخول كما نص عليه بعضهم.
وفيه ما عرفت من أن كلمات القوم لا تأبى عن إرادة الاقتصار على المتيقن
في الحكم، فلا تدل على إرادة خصوص المعنى المذكور.
519

ومنها: أنه الأكثر في الاستعمالات الواقعة في كلمات العرب ولو مع القرينة،
كما نص عليه نجم الأئمة وابن هشام وغيرهما، فيجب الحمل عليه عند التردد، إذ
الظن يلحق المشكوك فيه بالأعم الأغلب.
وفيه: أن كثرة الاستعمال مع القرينة لا يدل على الحقيقة ما لم يتبادر المعنى
من نفس اللفظ، ألا ترى أن الاستعمالات المجازية في كلام العرب أكثر من
الحقائق، حتى قيل: إن أكثر اللغات مجازات، وذلك لأن المجازات أبلغ من
الحقائق، والعرب إنما تقصد المعاني البليغة في تعبيراتهم.
ويرد عليه:
أولا: أن المقصود من الاحتجاج بكثرة الاستعمال تشخيص المراد من اللفظ،
ولا ريب في حصول الظن به من ذلك، سواء كان ذلك مستندا إلى الوضع أو غيره،
وإنما المقصود من إثبات الوضع أيضا تشخيص المراد.
نعم، إن ثبت كونه مجازا في ذلك كان الأصل عدمه، وأما مع خروج
الخصوصية عن الوضع وغلبة وقوع الاستعمال في المقام المخصوص فيحصل
الظن بإرادته، ولا يلزم التجوز.
وثانيا: أن الغالب وإن كان هو الاستعمال المجازي المبني على ملاحظة
العلاقة لكن ذلك حيث يتعين المعنى الحقيقي، أما مع الشك فيه والعلم بغلبة
الاستعمال في المعنى المخصوص وندرة وقوعه في غيره فيمكن الاستناد إليه في
كونه حقيقة في ذلك، إذ الظاهر عدم ملاحظة العلاقة في تلك الاستعمالات الشائعة
وعدم ابتنائها على القرينة، فتأمل.
وأنت خبير بأن الوجه المذكور إن تم فلا يدل أيضا على وضع الأداة
لخصوص المعنى المذكور حتى يكون مجازا في غيره، فيمكن وضعه لما يعم
الأمرين، فلا تغفل.
ومنها: أن الغاية إنما تطلق على نهاية الشئ وهي التي ينتهي ذلك الشئ
إليها، فتكون خارجة عن المغيا، فكذا كل ما يدل عليها، حتى قال الباغنوي:
520

إن الذي يطلق على كلا الأمرين هو لفظ " الآخر " فإنه كما يطلق على الطرف
الخارج عن الشئ كذا يطلق على الذي ينقطع الكل عنده، كما يقال: أول الأنبياء
آدم وآخرهم محمد (صلى الله عليه وآله). وأما لفظ " الغاية " وكلمة " إلى " التي للغاية فظاهر أنها
تستعمل فيما إذا كان ما بعدها خارجا عما قبلها، وإلا لم يكن للغاية والنهاية، فإن
كون نهاية الشئ خارجا عنه ضروري. وأما كلمة " إلى " التي لم تكن ما بعدها
خارجا عما قبلها فهي بمعنى مع، وليست للغاية، فكان خارجا عما نحن فيه.
وربما يؤيد ذلك: أن المرافق حيث كانت عند الأصحاب داخلة في المغسول
جعلوا لفظة " إلى " في الآية الشريفة بمعنى مع، كما ورد النص في ذلك، وذكره
جماعة من مفسري الأصحاب.
وفيه: أن دعوى الضرورة على خروج نهاية الشئ عنه ممنوعة جدا، بل
الظاهر عدم الفرق بين معنى الآخر والنهاية، لإطلاقهما على كلا الأمرين. ثم إنه لا
يلزم في موارد ظهور الدخول أن يجعل " إلى " بمعنى " مع " لندرة استعمالها فيه،
ولذا نقل نجم الأئمة وغيره الخلاف المذكور في " إلى " التي للغاية، ثم ذكر مجيئه
بمعنى مع، ومثله بقوله تعالى: * (إلى أموالكم) * وقوله: * (إلى المرافق) * ثم جعل
التحقيق فيه كونها بمعنى الانتهاء، أي تضيفونها إلى أموالكم، ومضافة إلى المرافق.
وعلى ما ذكرنا فلا حاجة في الأخير إلى التكلف المذكور لثبوت استعمالها بمعنى
الغاية في كلا المقامين. نعم، يحتمل الأمران في الأول، لعدم وروده في انتهاء
الغاية.
ومنها: أن الأصل عدم الدخول، لدوران الأمر فيه بين الزائد والناقص، ومن
المعلوم أنه مع دوران الحادث بين الأقل والأكثر يتعين الاقتصار فيه على القدر
المتيقن.
وفيه: أنه إن أريد بذلك الأصل العملي في الشبهة الحكمية توقف التمسك به
على كون المغيا مخالفا للأصل فلا يطرد، مع أنه لا يؤثر في إثبات الوضع، ولا في
دلالة اللفظ.
521

وإن أريد أن الأصل عدم دخوله في مدلول اللفظ، أو عدم تعلق غرض
الواضع به، أو عدم تعلق إرادة المتكلم بإفادته ففيه: أن الدلالة على الدخول كما
تخالف الأصل كذا الدلالة على الخروج، فمع دوران الأمر بينهما لا مجال لإثبات
أحدهما بالأصل، والمدعى إنما هو الدلالة على الخروج ليترتب عليه الحكم
بمخالفة الغاية للمغيا في الحكم كما بعدها بمقتضى الدليل الاجتهادي، فكيف
يتمسك فيه بالأصل العملي؟ إذ من البين عدم جواز تعيين الحادث بالأصل سيما
مع معارضته بالمثل، بل الأصل خروج كل من الأمرين عن مراد المتكلم، وعدم
دلالة اللفظ على شئ منهما، فتعين الرجوع إلى الأصل العملي في نفس الحكم
كما ذكر، فلا ربط له بالمدعى إلا إذا حملنا كلام القائل بالخروج على الوجه
المذكور.
ومنها: حسن الاستفهام عن حكم الغاية فيدل على خروجها عن المغيا، إذ مع
فرض الدخول لا يحسن الاستفهام عنه، وفيه: أنه كما يدل على عدم الدخول كذا
يدل على عدم الخروج أيضا، فلو تم ذلك لدل على نفي كل من الأمرين، وهو
خلاف المقصود إلا على الاحتمال المذكور، مع أن الدلالة على تقديرها ظنية،
ومن البين حسن الاستفهام المفيد للعلم أو لقوة الظن معها.
ومنها: تحقق الاستعمال في كل من الأمرين، وصحة إطلاق اللفظ على كلا
الوجهين فيدل على كونه حقيقة في القدر المشترك بينهما، إذ الأصل في الاستعمال
الحقيقة، لمخالفة كل من المجاز والاشتراك للأصل، ومن البين أن القدر المشترك
بين الدخول والخروج إنما يتحقق مع خروجه عن المدلول.
وفيه أولا: أن الاستعمال أعم من الحقيقة، كما تقرر في محله.
وثانيا: أن التجوز لازم على كل من الأقوال، للزومه على الوجه المذكور
أيضا عند استعمال اللفظ في كل من الخصوصيتين.
وثالثا: أنه لا يوافق المدعى، إذ المقصود هو الدلالة على خصوص ما يفيد
الخروج ليترتب عليه الحكم بمخالفة الغاية لما قبلها، فلا يعقل إثباته بالأصل
522

المذكور. فظهر مما ذكر: أن الوجوه المذكورة بالدلالة على وضعها للأعم وخروج
كل من الخصوصيتين مع انتفاء القرينة عن مدلول اللفظ أولى.
حجة القول بالدخول: أن البداية بمعنى الجزء الأول، والغاية بمعنى الجزء
الآخر، ومن البين أن أول الشئ وآخره متقابلان داخلان في ذلك الشئ، فإرادة
الخروج خروج عن مدلول اللفظ، وأن المتبادر من الإطلاق ذلك، كما في قولك:
قرأت الكتاب من أوله إلى آخره، واشتريت الثوب من هذا الطرف إلى هذا
الطرف.
وفيه المنع من كون الغاية بالمعنى المذكور، والمنع من كون أداتها موضوعة
لذلك، بل كأنه إعادة للمدعى ومصادرة على المطلوب، والمنع من استناد فهم
الدخول إلى الإطلاق، بل إلى القرينة كلفظ " الأول " و " الآخر " و " الطرف " في
المثالين.
وحجة التفصيل بين الطرفين: أنه المتبادر من نفس اللفظ عند عدم القرينة،
كما في قولك: قرأت القرآن من سورة كذا إلى سورة كذا، والكتاب من فصل كذا،
ويشهد به جواز الحكم بمقتضاه في العقود والإيقاعات المتعلقة بالغايات
المحدودة، كما لو آجر نفسه أو ماله من السبت إلى الجمعة، أو متعت نفسها من أول
الشهر إلى الحادي عشر مثلا، أو نذر الصور - مثلا - من أول الشهر إلى الشهر
المقبل أو من الصيف إلى الشتاء، أو شرط لنفسه الخيار من شهر كذا إلى شهر كذا أو
من يوم كذا إلى يوم كذا، أو شرط في المكاتبة أداء المال إلى الشهر الفلاني، أو قيد
المزارعة والمساقاة والقرض والحبس والمضاربة والشركة وغيرها إلى يوم
معلوم، أو قال المولى لعبده: افعل كذا من يوم كذا إلى يوم كذا، إلى غير ذلك من
الأمثلة، فإن المستفاد منها دخول الأول وخروج الآخر، مع وضوح انتفاء القرائن
في تلك الموارد، لتساوي نسبتي الدخول والخروج فيها إلى حال المتكلم، فيكون
التبادر المذكور ناشئا من حاق اللفظ، فيدل على الحقيقة.
وأيضا فلا شك في أن " من " للابتداء و " إلى " للانتهاء، ولا معنى للابتداء
523

بالشئ إلا دخوله، ولا للانتهاء عند الشئ إلا خروجه، ويضعفه بعد التفرقة بين
الطرفين المتقابلين.
ومن المعلوم أن مفهومي الابتداء والانتهاء أمران متضادان، ومتعلقهما
متقابلان واقعان في طرفي الغاية وحديهما، فلا وجه لدخول أحدهما وخروج
الآخر، مع أنا لم نقف على مصرح بذلك إلا من نادر من المتأخرين، بل ربما يوهم
كلام نجم الأئمة اختصاص الخلاف بالآخر، حيث قال: الأكثر على عدم دخول
حدي الابتداء والانتهاء في المحدود. وقال بعضهم: ما بعد " إلى " ظاهر في
الدخول إلى آخر كلامه.
ويمكن الجواب عن الوجه الأول:
أولا: أن الأمثلة مختلفة في ذلك، فكما أن المفهوم من الأمثلة المذكورة ما ذكر
كذا المفهوم من أمثلة أخرى هو الخروج مطلقا، كما في الأمر بالسعي من الصفا إلى
المروة ومن المروة إلى الصفا، وبعتك أو وهبتك الأرض من قرية كذا إلى قرية كذا
ومن أخرى، وهو الدخول كذلك، كما في قولك: قرأته من أوله إلى آخره، وغسلته
من قرنه إلى قدمه، وسرت من الكوفة إلى البصرة، إلى غير ذلك. وإذا كانت الأمثلة
مختلفة في المعنى المفهوم منها لم يمكن الاحتجاج بشئ منها.
ويمكن أن يقال: إن القرائن في الأمثلة المذكورة قائمة على إرادة ما ذكر
ظاهره في ذلك بخلاف الأولى، لما عرفت من تساوي نسبتي الدخول والخروج
إلى ما هو عليه من الحال، وظاهر المقال، فإن من أمر عبده بالفعل المعين من يوم
كذا إلى كذا صح امتثاله مع خروج الثاني دون الأول، وكذا الحال في الآجال
المقدرة في العقود والشروط والنذور والأيمان والعهود وغيرها، وللمنع من ذلك
مجال، لإمكان الاستناد إلى بعض القرائن في أكثرها ولا أقل من جريان العادة
على التعبير بذلك عن المعنى المذكور، فيكون العادة هي القرينة، وأما ما لا يقترن
بشئ من القرائن فيمكن المنع من استفادة المعنى المذكور منه.
وثانيا: أن صدق تلك الألفاظ مع خروج الغاية يمكن أن يكون مبنيا على
524

صلاحية اللفظ لكل من الأمرين وصدق الامتثال على كل من الوجهين فيقتصر
على المتيقن استنادا إلى الأصل.
ويمكن أن يقال: إن ذلك أيضا أحد وجهي التفصيل المذكور، فيكون الخروج
مبنيا على الأصل، والدخول مستندا إلى دلالة اللفظ.
وعن الوجه الثاني: أن دلالة الابتداء بالشئ على دخوله والانتهاء عنده على
خروجه مستندة إلى حرف الجر والظرف وتعلقهما بلفظي " الابتداء " و " الانتهاء "
ونحن نمنع وضع الأداة للمعنى المذكور، فيمكن التعبير عن معناها بعكس
المذكور، فيقال بكون " من " للابتداء عند الشئ و " إلى " للانتهاء بالشئ فلا يفيد
ما ذكر.
حجة التفصيل بين المجانس وغيره ووجود المفصل وعدمه: لزوم التحكم
على القول بالخروج مع انتفاء المميز، وتوقف الاستيعاب والامتثال على الدخول
حينئذ بخلاف غيره، مضافا إلى فهم العرف في المقامين.
والأول والأخير ممنوعان، والثاني مع كونه خلاف المدعى إنما يقضي
بدخول جزء من الطرفين ولو في غير المجانس، كما في قولك: صم إلى الليل، وقد
يقتضي المقدمة عكس المطلوب فضلا عن عدم الدخول، كما لو كان حكم الخارج
عما بين الحدين مخالفا للأصل على أنه قد ينتفي ذو المقدمة، كما لو قطع اليد من
نفس المرفق فينتفي المقدمة، بخلاف فرض الدخول بالأصالة لبقاء محل الفرض
فيه.
وحجة التوقف بالمعنى الأول: تعارض الأدلة من الجانبين، أو ضعفها بما
عرفت.
وبالمعنى الثاني وقوع الاستعمال في كل من الأمرين، فيدل على كونه حقيقة
في كل منهما بناء على صحة التمسك بالاستعمال على الوضع.
وأما بالمعنى الثالث فيظهر وجهه مما ذكرناه من الاقتصار على المتيقن في
الحكم بأحد الأمرين عند مخالفته للأصل، وحسن الاستفهام وغير ذلك مما عرفت.
525

وأما بالمعنى الرابع فيظهر وجهه من الرجوع إلى التبادر وعدم صحة السلب،
ونحوهما من أمارات الحقيقة والمجاز، فإذا تعذر المعنى الحقيقي - كما في أكثر
الموارد - لزم التوقف عن الحكم بالدخول، فالأصل عدمه. إلا مع القرينة، ومنها
اختلاف الجنس ووجود المفصل فيحكم بالخروج، وجريان العادة في حد
الابتداء فيحكم بالدخول. وقد تقدم أن ذلك هو القدر المتيقن من قول الأكثر
بالخروج، وهو الأقوى.
وهذا تمام الكلام في نفس الغاية وما يقابلها من البداية. وأما ما خرج عن
الحدين فهو موضوع الخلاف في مفهوم الغاية، ومحصله: أن التقييد بهما هل يدل
على أن الخارج عن محل النطق مخالف له في الحكم بحيث يكون الكلام دالا
على أمرين إيجابي وسلبي، فإن كان الحكم المنطوق به إيجابا كان المفهوم سلبا،
وبالعكس، أو أنه لا يدل إلا على الأول فهو بالنسبة إلى غيره كالساكت من غير أن
يدل فيه على إثبات أو نفي، ولا فرق فيه بين القول بدخول الغاية في المغيا
وخروجها عنه، إلا أنه على الأول يخرج نفس الغاية عن محل المسألة، وعلى
الثاني يندرج فيه، ففي تلك المسألة تحقيق لبعض الموضوع في هذه المسألة، ولا
فرق في محل المسألة بين الإخبار والإنشاء كما في سائر المفاهيم، فمحل الكلام
في الخبر أن الإخبار بحصول شئ إلى غاية معينة هل يدل على الإخبار بانتفائه
فيما بعدها، أو لا؟ ومنه: الأخبار المشتملة على الأحكام الشرعية، وفي الانشاء
كالأمر والنهي أن الطلب المقيد بالغاية كما ينتهي إليها وينتفي عندها هل يدل على
نفي مطلوبية ما بعدها حتى يكون دليلا اجتهاديا على النفي، أو لا؟ فالكلام هنا في
الدلالة على انتفاء نوع ذلك الطلب فيما بعد الغاية على حسب ما عرفت توضيح
القول فيه في مفهوم الشرط.
وأما انتفاء ذلك الطلب المخصوص فذلك أمر معلوم لا يختلف الحال فيه بين
إثبات المفهوم أو نفيه، ولا يقبل النزاع فيه والتشاجر عليه كما في سائر القيود
الواقعة في الخطاب.
526

وأما تعلق خطاب آخر بحكم آخر مماثل للحكم الأول فيما بعد الغاية بسبب
آخر فيظهر من جماعة دعوى خروجه عن مقتضى المفهوم المذكور، وتجويزه
على كلا القولين، إلا أنه مدفوع بالأصل، ولذلك نص بعضهم على أنه لا مانع من
ورود خطاب فيما بعد الغاية بمثل الحكم السابق إجماعا، والمقصود: نفي المنافاة
بين الخطابين بحسب معناهما الحقيقي من غير لزوم تجوز ولا نسخ، وذلك لأن
الحكم المستند إلى الخطاب الأول مغاير للحكم المستند إلى الثاني، وإن ماثله
فهو موجود حال عدم الأول.
وأنت خبير بأن المنكر للمفهوم يقول بأنه لو تحقق فيما بعد الغاية مثل الحكم
الأول لكان حكما آخر غير الأول، لوضوح أن الأول لا يتجاوز عن حده ومورده
بالضرورة، فيكون الثاني مماثلا للأول بعد انقطاعه، فلا يكون في الغاية دلالة على
مخالفة حكم ما بعدها لما قبلها كما يدعيه القائل بثبوت المفهوم، وإنما يدل على
انتهاء نفس الحكم الأول عندها، وهو أمر بديهي لا ينكره أحد من الفريقين.
فهناك فرق بين بين القول بانقطاع الحكم الأول وانتفائه فيما بعد الغاية،
والقول بمخالفة ما بعدها لما قبلها في الحكم الأول. والأول مسلم بين الكل،
فيكون النزاع في الثاني، كما هو ظاهر من ملاحظة تعبير المصنف وغيره عن محل
المسألة بذلك.
وقد يقال: إنه ليس المقصود من القول بمخالفة ما بعد الغاية لما قبلها انتفاء
المماثل وإثبات الحكم المخالف في الجنس وإن أوهمه ظاهر التعبير، بل المقصود:
أن التقييد بالغاية يدل على عدم بقاء الحكم الأول فيما بعدها بحسب الواقع
وانقطاعه في نفس الأمر، والنافي يقول بعدم الدلالة على ذلك، فيمكن أن يكون
الحكم مستمرا في الواقع والطلب باقيا في نفس الأمر، إلا أنه لم يتعرض لبيانه في
ذلك الخطاب. وتوضيحه: أن الحكم السابق له اعتبارات ثلاثة:
أحدها: اعتباره على ما هو عليه مقيدا بغايته، وهو مما لا يعقل بقاؤه فيما
بعدها، ونحوه الحال في سائر القيود الواقعة في الكلام، أوصافا كانت أو ألقابا
أو غيرها، لأن انتفاء الحكم المقيد بها في غير موردها ضروري.
527

والثاني: اعتباره مطلقا مع قطع النظر عن تخصيصه بتلك الغاية، وهو بهذا
الاعتبار مما يمكن بقاؤه وزواله، فالتقييد بها على القول بالمفهوم يدل على زواله
وانتفائه فيما بعدها، وهو المراد من إثبات المخالفة لتحققها بذلك. ولو فرض ثبوت
حكم آخر بعدها من جنس ذلك الحكم لم يكن ذلك منافيا للقول بالمفهوم، كما في
قوله تعالى: * (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * (1). فمفاده انتفاء ذلك الحكم بعد الطهر،
فلو ثبت مثله من جهة الإحرام أو الظهار أو الإيلاء أو الرضاع أو المصاهرة أو
غيرها من أسباب التحريم لم يكن ذلك منافيا لانتفاء الحكم المذكور، وعلى القول
الآخر لا يدل على ذلك أيضا بنفي ولا إثبات، ومثله الحال في الشروط
والأوصاف فمفهومها انتفاء ذلك الحكم في غير مواردها، وإن ثبت فيها ما يماثلها
بقيام أسباب اخر مقامها إلا أن ذلك مدفوع بالأصل.
والثالث: اعتباره من حيث نوعه أو جنسه، ولا دلالة في شئ من المفاهيم
على نفيه بهذا الاعتبار بمعنى الحكم بانتفاء مجانسه أو مماثله إلا حيث يكون
هناك شئ يدل على انحصار السبب أو الحكم في المذكور، وذلك لأن القيد
المذكور في الكلام لا تعلق له بغير الحكم المذكور فيه، ومجرد المجانسة لا يقضي
باندراج الحكم الآخر فيه حتى يقضي التقييد بانتفائه.
فإن قلت: إن الحكم الأول إذا ثبت فيما بعد الغاية فإنما يثبت بخطاب آخر،
ولا ريب أن الثابت به غير الثابت بالأول، وإنما يماثله فيرجع إلى الاعتبار الثالث.
قلت: إن المماثلة هناك إنما هي في طريق الثبوت والإثبات، وأما الثابت فقد
يكون عين الأول، وقد يكون غيره ثم المماثلة والاتحاد، وقد يكونان بحسب
الحقيقة، وقد يثبتان بحسب فهم العرف، والمدار في المقام عليه لبناء الأمر في
مطلق الدلالة اللفظية على ذلك.
فنقول: إن المغيا بالغاية المفروضة قد يكون نفيا للشئ، وقد يكون إثباتا له.

(1) البقرة: 222.
528

فإن كان الأول دل التقييد بالغاية على القول بالمفهوم على ثبوت ذلك الشئ فيما
بعدها، وإلا لاستمر النفي السابق بعينه، وهو خلاف مدلول الغاية. وإن كان الثاني:
فإما أن يكون من الأمور الخارجية، أو من الأحكام الوضعية، أو الطلبية. وعلى
التقادير ففي التقييد على هذا القول دلالة على زوالها وانتفائها فيما بعد الغاية وإن
وجد ما يماثلها، وذلك أن المماثل أمر حادث لا يوجد إلا بسبب جديد، فيغاير
الأمر الحاصل بالسبب الأول، فكلما كان ثبوته فيما بعد الغاية على تقديره مستندا
إلى علة حصوله فيما قبلها لولا المانع كان عين الأول، وإن اختلفا في طريق
الإثبات فالغاية إذا مانعة من دوامه، رافعة لاستمراره، فالتقييد بها عند المثبت يدل
على ارتفاعه، وعند النافي إنما يفيد اقتصار المتكلم على بيانه مع سكوته عن
إفادة غيره، لعدم تعلق الغرض به، أو لحصول مانع منه، أو لقصده استفادة بقائه من
دليل آخر من استصحاب أو غيره.
وأما إذا كان البقاء على تقديره مستندا إلى علة أخرى غير علة الثبوت كان
الثاني مغايرا للأول على الحقيقة، مماثلا له في النوع، فإن رجع إلى الاتحاد
العرفي كان كالأول في الدلالة على النفي، إذ المدار فيها على فهم العرف، وإلا لم
يكن في التقييد دلالة على انتفاء المماثل بغير ضميمة الأصل، كوجوب القتل
بالقصاص المقيد بغاية العفو ووجوبه بالردة، وكذا غير ذلك من الأمور المستندة
إلى أسباب جديدة المغايرة في العرف للأمر الثابت في الأول.
هذا، ولا يذهب عليك أن دلالة التقييد بالغاية على المفهوم عند القائل به إنما
يتبع المنطوق، فإن كان الحكم المغيا قسما مخصوصا من الطلب، أو مبنيا على
خصوص ما ذكر من السبب كما في المثالين المذكورين دل على انتفائه فيما بعدها
دون نوع الطلب، فإن أقصى ما يفيده مفهوم المخالفة انتفاء الحكم المنطوق به، فإذا
كان ذلك حكما مخصوصا وأمرا مقيدا دل على انتفاء ذلك الحكم الخاص والأمر
المقيد بجميع قيوده وخصوصياته، فلا يدل على انتفاء الحكم الأعم والأمر
المطلق. وإن كان الحكم المفروض جنس الطلب دل المفهوم على انتفائه، فيفيد
529

عدم مطلوبية الفعل فيما بعد الغاية مطلقا، فينافي ذلك بظاهره ما يدل على
مطلوبيته بخطاب آخر ولو بسبب آخر فيتعارض الخطابان، غير أن الثاني في
نفسه أقوى من دلالة المفهوم، فيصلح قرينة على إرادة خلاف الظاهر من الأول
بالقدر الثابت من الخطاب الآخر. وحينئذ فقد تبنى المسألة على كون الموضوع له
في وضع هيئة الأمر والنهي وغيرهما عاما، وإن كان الحاصل من استعمالها في
معانيها خاصا. فكما أن مدلول المادة أمر كلي يتشخص بفعل المأمور وتكون
الخصوصيات الشخصية خارجة عن مورد التكليف فكذلك مدلول الهيئة حينئذ هو
الإيجاب المطلق للمادة المفروضة، وخصوصياتها الشخصية خارجة عن
الموضوع له، كما عزي القول به إلى المتقدمين، أو أن الموضوع له فيها خصوص
جزئيات النسب الواقعة بتلك الألفاظ الخاصة، كما نسب إلى المتأخرين.
فعلى الأول يكون مدلول الصيغة مطلق الإيجاب أو التحريم مثلا، فإذا كان
الحكم المغيا مطلق إيجاب تلك المادة دل على انتفائه فيما بعد الغاية فينتفي مطلق
الوجوب. وعلى الثاني يكون المغيا خصوص ذلك الإيجاب الخاص الحاصل
بالخطاب المخصوص، فيلزم انتفاء ذلك الإيجاب الخاص فيما بعد الغاية دون
انتفاء مطلق الإيجاب. وقد تقدم في محله أن الأوفق بالتحقيق كون كل من الوضع
والموضوع له فيها عاما، فيرتفع الإشكال بحذافيره، كما تقدم بيانه في مفهوم
الشرط، فتأمل.
ويظهر الحال في ذلك من مقايسة مفهوم الغاية بمفهوم الاستثناء، لأنه أظهر
المفاهيم، فقولك: " صم إلى الليل " في معنى قولك: " صم إلا الليل " فما هو المفهوم
من الثاني هو المفهوم من الأول، لجريان الكلام المذكور في المقامين على حد
سواء.
ثم إن طلب الفعل المقيد بالغاية يتصور على وجهين:
أحدهما: أن يتعلق الطلب بمجموع الأجزاء التي يتركب المطلوب منها على
وجه يكون للهيئة التركيبية مدخلية فيه بحيث ينتفي المطلوب بانتفاء شئ منها،
530

كما في قولك: " صم إلى الليل " فإن الصوم عبادة مركبة من أجزائه لا يتحقق
إلا باجتماعها.
والآخر: أن يكون كل جزء من أجزائه مطلوبا إلى أن ينتهي إلى غايته من غير
أن يكون لاجتماع الأجزاء مدخلية في مطلوبيته. وينبغي أن يكون القسم الأول
خارجا عن محل الكلام، إذ الدلالة فيه ثابتة على القولين، إذ مع فرض استمرار
المطلوب إلى ما بعد الغاية يكون الطلب المفروض متعلقا بجزء المأمور به، ولا
شك في خروجه عن الظاهر، وإن لم نقل بمفهوم الغاية لظهور الأمر في الوجوب
النفسي. ومن المعلوم أن الجزء ليس مطلوبا بنفسه، وإنما هو مقدمة لحصول
المطلوب، فاستعمال الأمر في طلبه خروج عن الظاهر، أو مجاز لا يصار إليه إلا
بقرينة، فظهر أن ما اشتهر بينهم من تمثيل محل المسألة بالمثال المذكور ليس على
ما ينبغي. وأيضا فقد يقال: الليل اسم لمجموع ما بين الغروب والطلوع، وقد وقع
فيه غاية للصوم مع عدم كونه بمجموعه غاية للنهار أو الصوم، وإلا كان ما بعد
الغاية هو اليوم الثاني، وليس بمراد. وإنما الغاية الجزء الأول منه، إلا إذا قلنا
باشتراكها بين الجزء والكل فيصدق على الجزء، وهو الظاهر، فلا غبار عليه من
تلك الجهة.
قوله: * (وفاقا لأكثر المحققين) *.
هذا القول هو المعروف بين أصحابنا والعامة، ذهب إليه المحقق في المعارج،
والعلامة في موضعين من النهاية، وموضع من التهذيب، والسيد عميد الدين في
المنية، وشيخنا البهائي في الزبدة، وشارحه الجواد، والمازندراني، والمحقق
البهبهاني، وصاحب القوانين، وغيرهم، وجنح إليه في الذكرى، لأنه أرجعه إلى
مفهوم الوصف. وعزاه الآمدي إلى أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين، كالقاضي
أبي بكر، والقاضي عبد الجبار، وأبي الحسين البصري، وغيرهم وفي الزبدة إلى
الأكثر. وفي غاية المأمول إلى أكثر أصحابنا والعامة. ونسبه جماعة من أصحابنا
والعامة إلى كل من قال بمفهوم الشرط، وبعض من لم يقل به مصرحين بأنه أقوى
منه، فيكون أقوى من مفهوم الوصف إن قلنا به بطريق أولى.
531

قوله: * (وخالف في ذلك السيد... الخ) *.
قد وافق السيد (رحمه الله) في ذلك الشيخ في العدة في جميع ما ذكره، لكن الذي يظهر
من آخر كلامه هو التوقف، فإنه بعد أن بالغ في التسوية بين مفهوم الغاية والوصف
والمنع منهما ذكر أخيرا: أن له في ذلك نظرا واختار هذا القول جماعة من
أصحابنا، منهم صاحب الوافية وغيره، ومن العامة الآمدي في الإحكام وجماعة.
وعزاه الآمدي إلى أصحاب أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء.
وهناك قول ثالث بالتفصيل بين ما إذا كانت الغاية منفصلة عن ذي الغاية
بمفصل محسوس، كما في قوله تعالى: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * (1)، وما لم
يكن كذلك، كما في قوله سبحانه: * (وأيديكم إلى المرافق) * (2).
ففي الأول يجب أن يكون حكم ما بعد الغاية مخالفا لما قبلها، للعلم حسا
بانفصال أحدهما عن الآخر. وفي الثاني يجوز أن يكون ما بعدها داخلا في ما
قبلها، حكاه العلامة في النهاية، واختاره في المبادئ وموضع من التهذيب. وبه
قال الرازي في المحصول، وهو في محل المسألة لا يخلو من غرابة. وإنما يناسب
الكلام في نفس الغاية، كما مر في تبيان الأقوال المذكورة فيها، وكأنه يؤيد ما قيل
من اختصاص النزاع بنفس الغاية دون ما بعدها، إلا أن كلماتهم في عنوان المسألة
بين صريحة وظاهرة في اختصاصه بما بعد الغاية كما عرفت.
نعم، كلام بعضهم يحتمل إرادة الغاية وما بعدها، فيكون الكلام في نفس الغاية
مندرجا في محل المسألة، فلعل الجماعة المذكورة بهذا الاعتبار ذهبوا إلى
التفصيل المذكور.
وقد يذكر في المسألة قول رابع، وهو: أن التقييد بالغاية يقتضي المخالفة
بالنسبة إلى الحكم المذكور، بحيث يكون المفهوم من المثال المعروف انقطاع
الصوم المأمور به بذلك عند مجئ الليل، ولا يقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها
مطلقا حتى يكون مدلوله أن لا أمر بالصيام بعدها مطلقا ولو بأمر آخر.

(1) البقرة: 187.
(2) المائدة: 6.
532

وأنت إذا أحطت خبرا بما قدمناه في محل النزاع تعلم رجوع هذا التفصيل
إلى النفي المطلق، إذ لا يتصور القول بكون الصوم المطلوب بذلك الخطاب مستمرا
بعد الليل وهو ظاهر.
ويظهر من بعضهم التوقف في المسألة، فيرجع فيما بعد الغاية إلى مقتضى
الأصل العملي، سواء وافق القول بالمخالفة أو خالفه، فيكون ذلك هو رابع الأقوال،
والله سبحانه هو العالم بحقيقة الحال.
قوله: * (لنا إن قول القائل) *.
هذه هي الحجة المعروفة في كلام المثبتين ويأتي مثلها في البداية، فيقال: إن
قول القائل: " صم من الفجر " معناه أول وجوب الصوم هو الفجر، فلو ثبت له
وجوب قبل الفجر لم يكن الفجر أولا، وهو خلاف المنطوق. ومحصله: أنه لا شبهة
في كون " من " لابتداء الغاية و " إلى " لانتهائها، من غير خلاف بين علماء العربية
في ذلك، وإن ذكروا لهما معان اخر أيضا إلا أن سائر المعاني خارجة عن محل
الكلام، ولا معنى للابتداء والانتهاء إلا ما ذكرناه من معنى الأول والآخر،
ولولا إرادة المفهوم لم يكن لهما معنى، فالدلالة على ذلك إذا التزامية باللزوم
البين، إذ لا يمكن تصور الصوم المقيد بكون أوله الفجر وآخره الليل عن عدمه
فيما قبل النهار وبعد الليل.
وأورد عليه بوجوه:
الأول: أن ثبوت الوجوب في أحد الطرفين لو استلزم مخالفة المنطوق لزم أن
يكون الكلام مع التصريح بعدم إرادة المفهوم من باب المجاز البتة، لعدم استعماله
إذا في المعنى الموضوع له، ولم يقل به أحد، والتجوز حينئذ في استعمال الأداة في
غير ما يفيد المعنى المذكور، إذ لا يمكن استعمالها فيه حينئذ إلا مع إرادة حصر
الوجوب فيما بين الحدين.
وقد يجاب تارة بالمنع من كون استعمال الحرفين المذكورين في غير ما يفيد
المعنى المذكور مجازا، فإنهم ذكروا لهما معاني عديدة ولم يميزوا الحقائق منها من
533

المجازات، غاية الأمر أن يكون المعنى المذكور أظهر فلا يلزم المجاز من القول
بالدلالة عليه، فيمكن القول بالاشتراك المعنوي وانصراف الإطلاق إلى المعنى
المذكور. ويمكن التزام الاشتراك اللفظي، فإذا قامت هناك قرينة على عدم إرادة
المعنى المذكور تعين حمله على المعنى الآخر، كأن يقال: إن " إلى " بمعنى " مع "
فالغرض أن ما دل على انتهاء الغاية يفيد المعنى المذكور، سواء كان اللفظ حقيقة
فيه خاصة أو لم يكن كذلك.
وتارة بأن دعوى الاتفاق على بطلان القول بالتجوز فيه عند التصريح بعدم
إرادة المفهوم منه ممنوعة، إذ ليس في كلماتهم ما يدل عليه، وإن لم يتعرضوا
لدعوى التجوز فيه أيضا، فإن كان غرض المورد مجرد عدم وقوع التصريح في
كلماتهم بكونه مجازا لم يكن فيه دلالة على بطلانه.
وأخرى بأن كلام القائلين بإثبات المفهوم ظاهر في كون الدلالة على ذلك
لغوية مستندة إلى وضع الأداة لما يستلزم المفهوم، فعدم إرادته يستلزم استعمالها
في غير المعنى الموضوع له، لوضوح أن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم فلا
يكون اللفظ مستعملا فيه، فكلام الجماعة - وهم الأكثرون - يعطي القول بالتجوز
فيه حينئذ فكيف يدعي أنه لم يقل به أحد؟
ويرد على الأول: أن عدم تعرض القوم لتميز الحقائق من المجازات لا ينافي
تشخيصها من الأمارات، ومقتضاها كون الحرفين المفروضين موضوعين لابتداء
الغاية وانتهائها، فيكون استعمالهما فيهما حقيقة، وفي غيرهما مجازا.
وكيف كان فإنما الكلام في اللفظ الموضوع لأحد المعنيين المذكورين
المستعمل فيه، سواء كان حقيقة في غيره أو مجازا، فإذا دل بحقيقته على المفهوم
المذكور كما هو مقتضى قوله - وهو خلاف المنطوق - كان استعماله فيه مع عدم
إرادته مجازا، وهو ما ذكر من اللازم، ودعوى كونه من باب انصراف الإطلاق
دون الوضع كما ترى، إذ لا جهة للانصراف في ذلك لولا الوضع.
وعلى الثاني أنه قد يقال بكفاية الاتفاق المنقول في المقام بناء على الاكتفاء
534

بمطلق الظن في مثل ذلك، لحصول الظن منه بالوضع، وعدم خروج اللفظ بذلك
عن حقيقته مع تأيده بعدم إشارة أحد منهم إلى التجوز في ذلك. ألا ترى أن قولك:
" سرت من البصرة إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام " ليس عندهم من
الاستعمالات المجازية المتوقفة على ملاحظة العلاقة بينها وبين المعنى الحقيقي،
ومثله الأمر بالسير على الوجه المذكور، وكذا الحال في سائر المقامات التي لا
يراد فيها المفهوم.
ودعوى رجوعه إلى تقييد إطلاق السير بالسير المخصوص المنتفي فيما بعد
الغاية فلا يلزم المجاز مدفوعة بظهور عدم بناء الاستعمال فيه على ملاحظة التقييد
المذكور في استعمال الفعل المغيا بنفسه، وإنما يحصل التقييد بذكر الغاية، وإلا لزم
استعمال اللفظ الموضوع للمطلق في الخصوصية، وهو مجاز آخر، إذ مع استعماله
في المطلق وتقييده بالغاية يكون مفاده انتهاء مطلق السير إلى تلك الغاية.
وعلى الثالث أن القول بثبوت المفهوم المذكور لا يستلزم القول بالتجوز مع
عدم إرادته، فيمكن الاستناد فيه إلى نحو ما ذكروه في مفهوم الوصف، من ظهور
كون الفائدة في التقييد إفادة المعنى المذكور، مع أنه لم يقل أحد من القائلين
بمفهوم الوصف بلزوم التجوز في الكلام بدونه. غاية الأمر أن يكون الظهور في
الغاية أقوى، ولذلك قال به من لا يقول بالوصف.
ويمكن الجواب عن الأول: بأن من المحتمل رجوع القيد إلى موضوع الحكم
دون نفسه فيكون معنى قولك: " صم إلى الليل " صم صياما آخره الليل، وهو لا
يستلزم الانتفاء بعدها إلا بمفهوم الوصف وإنما عدلنا عنه لظهوره في التعلق بنفس
الحكم كما سيجئ فلا يلزم المجاز.
وأيضا فمن الممكن رجوعه إلى الحكم المخصوص فلا يلزم تقييد مطلقه
بالقيد المذكور وإن كان خلاف الظاهر أيضا، فلا يلزم من عدم إرادة المفهوم عدم
استعمال أداة الغاية في معنى انتهائها حتى يلزم التجوز في اللفظ الموضوع بإزائه.
وعن الثاني بالفرق بين المثال المذكور وما نحن فيه، فإن الكلام المذكور
535

حيث يدل على وقوع سيرين مختلفين ينتهي أحدهما إلى الكوفة والآخر إلى
الشام فلا محالة يكون ذلك قرينة على إرادة الخصوصية من كل منهما، فينتفي كل
من السيرين المخصوصين فيما بعد غايته، فلا ينافي ذلك القول بالتجوز في
استعمال الأداة في غير ما يفيد معنى الانتهاء، بل هو المفروض في محل المسألة
على ما ذكرناه. وكلام المورد لا يدل على دعوى الاتفاق على خلاف ذلك، إنما
يدل على عدم تصريحهم بذلك، ومجرد ذلك لا يقضي بحصول الظن بخلافه، وإنما
المدار في ذلك على أمارات الحقيقة والمجاز.
وعن الثالث: بأن إثبات المفهوم وإن لم يستلزم القول بالتجوز بدونه إلا أن في
كلمات أكثرهم ما يشعر به أو يدل عليه، كاحتجاجهم بما ذكره المصنف (رحمه الله) فإن
ظاهره هو القول باستناد الدلالة في ذلك إلى الوضع.
الثاني: أنه لو تم ما ذكره المستدل لزم رجوع المفهوم في ذلك إلى المنطوق،
إذ المفروض استناد الدلالة في ذلك إلى المعنى الموضوع له، وهو كون مدخول
" من " أولا ومدخول إلى " آخرا " للحكم، فيدل الكلام إذن بمنطوقه على
اختصاص الحكم بما بين الحدين فينتفي عن غيره، والتالي باطل، لإطباقهم على
عد ذلك من المفاهيم وذكره في عدادها.
ويمكن الجواب عنه أولا: بأن دعوى كون الدلالة على ذلك من باب المفهوم
ليس مسلما بينهم حتى يتم الاستناد فيه إلى إطباقهم عليه. فعن بعضهم: اختيار
القول بكونه من المنطوق، وحكي ذلك عن أبي الحسين، ومنهم من عده صريحا
في ذلك، وهو ظاهر في دعوى كونه من المنطوق، بل يشعر برجوعه إلى دلالة
المطابقة، فلا وجه لدعوى الاتفاق على خلافه.
وثانيا: بأن ما ذكر في الاحتجاج لا يستلزم رجوع الدلالة في ذلك إلى
المنطوق، وإنما يقتضي كونه من لوازم المعنى الموضوع له، وغايته دعوى كون
اللزوم في ذلك من البين بالمعنى الأخص، ولا يخرج بذلك عن حد المفهوم،
وحيث إن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم فلذلك قلنا بكونه خلاف المنطوق،
536

لا بمعنى أن اثبات المعنى المذكور بنفسه من دلالة المنطوق، بل بمعنى أن ملزومه
مدلول المنطوق.
وقد يورد على الأول: بأن القول بكونه من المنطوق ضعيف جدا، والقائل به
لم يستند إلى الوجه المذكور، بل توهم ذلك من جهة أخرى سنشير إليها إن شاء
الله، وإنما المعنى المذكور عندهم مدلول التزامي للتعليق بحسب العرف واقع في
غير محل النطق فلا يخرج عن حد المفهوم.
وعلى الثاني: بأن ظاهر الاحتجاج المذكور كون المعنى المذكور مدلولا
لمنطوق الكلام بحسب الوضع اللغوي من غير واسطة أمر آخر، إذ لا معنى للأول
والآخر والابتداء والانتهاء إلا حدوث الأمر بالأول وانقطاعه بالثاني، وهو معنى
الانتفاء عند الانتفاء، فإذا كانت الأداة موضوعة للمعنى المذكور دلت بمنطوقها
على الانتفاء فيما بعدها، إذ المفهوم أمر خارج عن مدلول اللفظ ولا يتناوله
الوضع، وإنما يستفاد منه بواسطة اللزوم، ألا ترى أن قولك: " الليل آخر وجوب
الصوم " يدل بمنطوقه على انتفائه فيما بعده من غير أن يكون ذلك بتوسط أمر
آخر، فكذا الحال في الأداة الموضوعة لذلك.
وفيه: أنا لا نعني بالمفهوم إلا إثبات الحكم المذكور في الكلام للموضوع الغير
المذكور فيه، أو نفيه عنه، كما مر بيانه. ومن البين أن ما بعد الغاية غير مذكور في
الكلام كما قبل البداية، وإلا لزم اشتماله على جميع الأزمنة أو الأمكنة مثلا،
فلا يكون نفي الحكم المذكور عنه إلا من باب المفهوم، غاية الأمر كون اللزوم في
ذلك من البين بالمعنى الأخص، كملازمة ما يدل على الشرط والحصر لمعنى
الانتفاء، وهو ظاهر.
نعم، لو قال: " الفجر أول الصوم والليل آخره " كان ذلك من المنطوق، كما لو
قال: الطهارة شرط للصلاة، بخلاف ما لو قيل: صم مبتدئا من الفجر منتهيا إلى
الليل.
الثالث: أنه إن أراد بآخر وجوب الصوم ما ينتهي إليه وينقطع عنده فهو عين
537

المدعى، كيف؟ ولو صح ذلك لكان من المعنى المطابقي أو التضمني، ولا يقول به
الخصم. وإن أراد ما ينتهي إليه - انقطع أو لم ينقطع - لم يكن في ذلك دلالة على
المفهوم.
وقد يقال: إنه لا يعقل وجه للتفرقة بين حقيقة الانتهاء والانقطاع، إذ لا معنى
للانتهاء مع فرض استمرار الحكم ودوامه وعدم تأثير الغاية في انقطاعه.
وفيه: أن كل جزء من أجزاء السير غاية لما تقدمه وإن حصل بعده من جنسه،
فوقت الظهر غاية لما قبله، أي ينتهي إليها ما سبقها من الزمان وإن استمر الزمان
والنهار فيما بعدها. فالمراد بالانتهاء: بلوغ القدر المقصود إلى غايته ونهايته، وهو
أعم من الانقطاع، إذ الغرض منه انتهاء نوعه وعدم استمرار جنسه فيما بعد غايته.
فالغرض من الإيراد: أن القدر المسلم وضع الأداة لإفادة انتهاء القدر المقصود
بالبيان عند مدخولها، وذلك لا يستلزم انقطاعه إليه وانتفاء جنسه فيما بعده.
ويشهد بذلك: أنه لا يقال للجالس إلى العصر: إنه لم يجلس إلى الظهر، إنما
يقال: إنه لم ينقطع جلوسه عندها، فغاية ما يدل عليه اللفظ إثبات وقوع الفعل في
الزمان المنتهي إلى الغاية المفروضة، وهو لا يستلزم انقطاعه عندها، بل يكون
ساكتا عن بيان ما بعدها، فلا يكون الانقطاع مدلولا مطابقيا ولا تضمنيا للفظ، ولذا
لم يقل به الخصم أيضا.
والحاصل: أن غاية ما يدل عليه لفظ " من " و " إلى " انحصار الحكم المقصود
بالإظهار الواقع في حيز الانشاء أو الإخبار فيما بين الحدين، ومقتضى ذلك انتهاء
ذلك الحكم المخصوص بحصول غايته، والمدعى مخالفة ما بعدها لما قبلها في
الحكم، فالمستدل يدعي دلالة اللفظ على انقطاع الحكم الواقعي فيما بعد الغاية،
واللفظ إنما يدل على انتهاء الحكم المقصود بالبيان، وأحدهما غير الآخر، وليس
المعنى الأول داخلا في معناه الموضوع له، ولا مدلولا للفظ، وإلا لكان من
المنطوق المطابقي أو التضمني، وهم لا يقولون به.
ويمكن الجواب عنه: بأن حمل التقييد بالغاية على المعنى المذكور يتوقف
538

على تقييد الحكم المغيا بالقيد المذكور، فيكون معنى قولك: " جلس زيد إلى
الظهر " انتهاء خصوص الجلوس المقصود بالبيان بخصوص الوقت المفروض،
ومن المعلوم خروجه عن مدلول الكلام، فإن الظاهر كون الظهر غاية لمطلق
الجلوس فيجب انتفاؤه فيما بعدها، لظهور الحكم المغيا في المطلق، واستعماله في
الخصوصية المفروضة مجاز لا يصار إليه إلا بقرينة قوية، لكونه في غاية البعد عن
مدلول اللفظ، فيكون مفاده انتهاء مطلقه بحصول تلك الغاية. ولو فرض هناك قيام
قرينة على إرادة الخصوصية من نفس المغيا لكان ذلك خارجا عن محل المسألة،
إذ لا كلام في عدم دلالة مثله على انتفاء مماثله وانقطاع نوعه، وإنما الكلام في
انتفاء المعنى على ما هو عليه من الإطلاق أو التقييد.
الرابع: أنا لا نسلم أن قولك: " صم إلى الليل " في معنى: آخر وجوب الصوم
الليل، إنما معناه: أني أريد منك الإمساك الخاص في الزمان المخصوص الذي
أوله الفجر وآخره الليل. ومن البين أن مطلوبية الإمساك في القطعة الخاصة من
الزمان لا يستلزم عدم مطلوبيته في غيرها، فيجوز أن يكون في غير تلك القطعة
مطلوبا أيضا، وإنما سكت عنه لمصلحة اقتضت ذلك للقطع بجواز تعلق خطاب
آخر بذلك.
غاية الأمر دلالة اللفظ على أن الصوم المطلوب بذلك الخطاب مبدؤه الفجر،
وآخره الليل، وهذه الدلالة ثابتة في جميع القيود المذكورة في الكلام، سواء
تعلقت بنفس الحكم أو بموضوعه، أوصافا كانت أو ألقابا، للقطع بأن الحكم الثابت
بذلك الخطاب لا يتعداها، مع ما حكي من الاتفاق على عدم اعتبار مفهوم اللقب،
وذهاب الأكثر إلى مثله في الوصف والغاية أيضا من جملة القيود الواقعة في
الكلام فلا يفيد أكثر مما يفيده سائر القيود.
وقد يجاب عنه: بأن فرض ثبوت الحكم فيما بعد الغاية بخطاب آخر يستلزم
أحد الأمرين: من الخروج عن محل النزاع، أو نسخ الأول، وهو أيضا خارج عن
محل المسألة، مع ما فيه من امتناعه في زمان الأئمة، بل وما قبله قبل حضور وقت
539

العمل على المشهور، وذلك أن المطلوب من الخطابين المفروضين إن كان فعلا
واحدا كان الثاني ناسخا للأول، إذ حمل الأول على بيان جزء المطلوب خلاف
الظاهر، فيدل على أنه تمام المطلوب، فيكون الثاني منافيا له وإن كانا فعلين
مستقلين بالمطلوبية خرج عن محل المسألة، فإن أحدا لا يمنع من تعلق تكليف
آخر فيما بعد الغاية بمثل الأول، وكذا فيما قبل البداية، وقولهم بالدلالة على
مخالفة ما بعد الغاية لما قبلها في الحكم إنما يراد به بحسب الخطاب الأول. ومن
البين أن انتفاء الحكم الأول لا يمنع من ثبوت حكم آخر فالحيثية معتبرة في ذلك.
وفيه: أن الخصم أيضا لا يزعم شمول الحكم لما بعد الغاية بحسب الخطاب
الأول، كيف! وهو ضروري الفساد، فإن تعلق بالمركب كما في الصوم دل على
كون المقيد بالغاية تمام المطلوب كما ذكر، وليس من محل الكلام كما مرت
الإشارة إليه في بيان محل المسألة، لرجوعه إذا إلى المعارضة بين ظاهر
الخطابين، لا من جهة مفهوم الغاية، بل لظهور كل منهما في استقلال متعلقه
بالمطلوبية، وإنما يظهر فائدة الخلاف في الأمور التي لا يكون للهيئة التركيبية فيها
مدخلية، كما في قوله سبحانه: * (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * (1) فالقائل بالمفهوم
يقول بحصول المعارضة بين مفهوم الغاية فيه ومفهوم الشرط فيما بعده، إلا أن
الأول عنده أقوى في الدلالة من الثاني، ولذا يقدم عليه، والنافي يدعي سلامة
الثاني عن معارضة الأول، وكذا الحال في قوله سبحانه: * (فلا تحل له من بعد حتى
تنكح زوجا غيره) * (2) فيعارضه بظاهره ما دل على توقف الحلية على الدخول
إلا مع حمل النكاح فيه على الوطء ء، إلى غير ذلك من الأمثلة. وما يوجد في
كلامهم من التمثيل بقوله: " صم إلى الليل " فإنما الغرض منه جهة التقييد بالغاية فيه
مع قطع النظر عن اعتبار الهيئة التركيبية في مورده، وإلا فالدلالة على الانتفاء في
مثله حاصلة على القولين، نظرا إلى دلالة الأمر على الوجوب النفسي ومتعلقه
على المطلوبية بالاستقلال كما عرفت.

(1) البقرة: 222.
(2) البقرة: 230.
540

فما ذكر من أن أحدا لا يمنع من تعلق تكليف آخر فيما بعد الغاية بمثل الأول
وأنه خارج عن المسألة محل منع، إذ لا يعقل القول بثبوت الحكم فيما بعد الغاية
بنفس الخطاب الأول، وإنما يثبت لو ثبت بخطاب آخر، وحينئذ فمن البين أن ما
تعلق به أحد الخطابين مخالف لمتعلق الخطاب الآخر، فإذا كان مثل ذلك خارجا
عن محل النزاع فينبغي انتفاء النزاع في البين، إذ القائل بالمفهوم على ما ذكر إنما
يقول بانتفاء الحكم عما بعد الغاية بحسب الخطاب الأول، والمنكر إنما يقول
بجواز ثبوته بخطاب آخر، فلا يكون شئ منهما حينئذ محلا للنزاع، وهو كما
ترى، إذ الحال في جميع القيود الواقعة في الكلام على ما ذكر، فلا اختصاص
لبعض القيود من بينها بإفادة المفهوم، فلا يكون مدلول الخطاب الآخر معه خارجا
عن محل المسألة، وإنما يحصل المعارضة إذا بين الخطابين، ولذا نصوا على دلالة
الغاية على مخالفة ما بعدها لما قبلها. هذا، وقد تقدم الكلام في تحرير محل النزاع
في المسألة، فلا حاجة إلى إعادته.
الخامس: أن التقييد بالغاية راجع إلى التعليق على الوصف، كما يأتي في كلام
السيد والشيخ وغيرهما. ونص عليه الشهيد وغيره لرجوعه إلى قيد الموضوع،
فالمثال المذكور يجري مجرى قولك: " صم صياما آخره الليل " ومعناه مطلوبية
الصيام الموصوف بكونه منتهيا إلى الليل، فما عداه موضوع آخر خارج عن
مدلول الخطاب، ولم يتعرض فيه بنفي ولا إثبات، كما هو قضية القول بنفي مفهوم
الوصف، فمجرد كون أداة الغاية موضوعة لما يفيد معنى الآخر لا يكفي في الدلالة
على انتفاء الحكم فيما بعدها، إنما تدل على كون الغاية آخرا للمتعلق المذكور
في الخطاب، وهو أمر بين لا يقبل الارتياب، ولا ربط له بمقصود المستدل.
نعم، لو كان المتكلم في مقام بيان الحكم دل على المقصود بمفهوم البيان،
كما مر في مفهوم الوصف.
وفيه أولا: أن الكلام في مفهوم الوصف إنما هو في مجرد التقييد بالوصف
مع قطع النظر عن خصوصيات الأوصاف، فلا مانع من وقوع نزاع آخر في بعض
541

الخصوصيات الحاصلة في عدة من القيود الواقعة في الكلام، كما وقع في العدد
والشرط والزمان والمكان وغيرها، ومن جملتها الغاية فإنها وإن رجعت إلى
الوصف إلا أن الكلام في أن لخصوصية الغاية مدخلية في إفادة المفهوم أو لا؟ ولذا
يقول به من لا يقول بمفهوم الوصف.
وثانيا: أن إرجاع الغاية إلى قيود الموضوع بعيد جدا، للزوم الإضمار في
الكلام، لتعلق الجار والمجرور حينئذ بالمقدر وكون الظرف مستقرا، وذلك خروج
عن ظاهر اللفظ، وإنما الظاهر رجوع القيد إلى الحكم، وتعلق الظرف بنفس الفعل
المذكور لسلامته عن التقدير، وهو وإن رجع إلى مفهوم القيد إلا أن لخصوصية
الغاية مدخلية في الدلالة عند القائل بمفهومها، فيكون مدلولها انتهاء الحكم إلى
الغاية، وكونها آخرا له، فإذا فرض ثبوته بعدها لم يكن آخرا كما قرره المستدل.
السادس: أن ما ذكره المستدل إنما يناسب الإخبار بأن آخر وجوب الصوم
الليل دون الانشاء الذي ليس له خارج سواه، وإنما يوجد مدلوله بايجاده. ومن
المعلوم أن الانشاء إنما يتعلق بمورده المنطوق به وينتفي عن غيره كائنا ما كان،
ألا ترى أن مورده إذا كان من الأسماء والألقاب اختص الانشاء بها ولم يعقل
تعلقه بغيرها، كما في العقود والإيقاعات مع توافق الفريقين على عدم اعتبار
المفهوم فيها، بل وكذلك الحال في الإخبار من حيث تعلقه بمورده لوضوح انتفائه
عن غيره، فلو فرض شموله واقعا لغيره لم يكن ذلك منافيا لاختصاص جهة
الإخبار به إلا إذا كان واردا في مقام بيان ذلك الواقع، فيدل على انتهاء الواقع إلى
الغاية وانقطاعها في نفس الأمر، وهو أمر آخر.
وأما الانشاء فليس له واقع آخر، فاختصاصه بمورده لا ربط له بما هو
الغرض من إثبات المفهوم فيه، لرجوعه إلى القول بدلالة التقييد بالغاية فيه على
انتفاء خطاب آخر فيما بعدها بحيث لو وجد خطاب آخر وقع التعارض بينهما،
كما عرفت، ولم يثبت ذلك من الدليل المذكور، إنما يفيد انتهاء الوجوب الحاصل
بالإنشاء المفروض - مثلا - بتلك الغاية فينتفي بانتفائها، إذ ليس له خارج سوى
542

مدلوله المنقطع إليها، وذلك لا ينافي تحقق وجوب آخر بإنشاء على حدة حاصل
بعد الخطاب الأول، فينتفي الحكم فيما بين الخطابين أو قبله أو مقارنا له،
ولا منافاة بينهما على شئ من الوجوه الثلاثة.
وفيه: أن النزاع في المسألة - على ما عرفت غير مرة - إنما هو في أن التقييد
بالغاية هل يفيد حكما واحدا وجوديا وهو إثبات الحكم في محل النطق، أو يفيد
مع ذلك حكما عدميا وهو نفيه عن غيره، أو بالعكس حيث يكون النسبة المذكورة
سلبية من غير فرق بين الإخبار والإنشاء في ذلك، فالغرض من إثبات المفهوم أن
الخطاب المفروض ينحل إلى خطابين: إيجابي وسلبي، ففي الإخبار يدل على
الإخبار بالأمرين جميعا، وفي الانشاء يفيد إنشاء الحكمين معا، والنافي يقول
بعدم دلالة اللفظ إلا على الأول، وعدم التعرض فيه للثاني بنفي ولا إثبات.
والمقصود من الدليل: أن التقييد بالغاية في الإخبار يدل على الإخبار بكونها
آخرا للأمر المخبر عنه، فيدل على انتهائه عندها وعدم استمراره بعدها، وإلا لم
يكن آخرا، إذ من البين أن الغاية في الكلام لم تجعل غاية للإخبار حتى ينتهي
الإخبار عندها، وإنما جعلت غاية للأمر الواقعي، وفي الأوامر يدل على انتهاء نوع
الطلب عندها، وكونها آخرا للطلب أو المطلوب مطلقا، فلو فرض بقاؤه بعدها ولو
بإنشاء آخر قبله أو معه لم يكن آخرا، فكأنه أنشأ حكما آخر سلبيا وهو نفي
الطلب والمطلوبية فيما بعد الغاية. والقول بأن الأمر العدمي لا يتعلق به الإيجاد
مدفوع: بأن الغرض من إيجاده إثباته وتقريره.
نعم، لو تجدد الطلب بعد الغاية لم يكن ذلك منافيا للأول، وكذا الحال في سائر
الإنشاءات، فليست الغاية لخصوصياتها، بل لنوعها على ما تقدم في محله من
كون الموضوع له في تلك الهيآت عاما، ويشهد بذلك أنه لو نص الآمر بعد التقييد
بالغاية على استمرار الحكم فيما بعدها عد ذلك نسخا للتقييد بها، أو قرينة على
إرادة خلاف المعنى الظاهر منه، ولولا دلالة الكلام على انتهاء نوع الطلب عند
الغاية لم يكن إثباته بعدها من النسخ والبداء. ويؤيده: أن القول بالتفصيل في
543

مفهومي الشرط والغاية وغيرهما بين الخبر والإنشاء شاذ لا يعرف من أرباب
التحقيق، فيكون مدلول الانشاء فيها كالإخبار، ويعرف الحال في ذلك بالمقايسة
إلى الاستثناء من الطلب أو المطلوب، كما لو قال: " صم إلا الليل " فإنه يدل على
انتفاء نوعه في المستثنى، لا انتفاء ذلك الطلب المقصود بيانه.
فهناك فرق بين بين التقييد بالشرط والغاية والاستثناء ونحوها وبين التقييد
باللقب والوصف ونحوهما، فإن الأول يدل على انتفاء نوع الطلب على حسب ما
مر في تحرير محل النزاع، والثاني إنما يستلزم انتفاء الطلب المخصوص في غير
مورده مع السكوت عن بيان حكمه، إلا لخصوصية في ذلك تقضي بالدلالة عليه،
فإذا كان مدلول الأمر هو الطلب الخاص الحاصل به لم يكن مفاد الاستثناء منه إلا
انتفاءه في المستثنى بخصوصه، فلا يدل حينئذ على أكثر مما يفيده اللقب وغيره،
ومن البين خلافه، لوضوح دلالة الاستثناء على نفي مطلق الطلب عن المستثنى
وانتفاء مطلوبيته على الإطلاق وإن صح تعلق الطلب به فيما بعد ذلك، فكذا الحال
في التقييد بالشرط والغاية، بل الثاني أوضح من الأول كما عرفت، وهذا مما يؤيد
ما تقدم في محله من كون الموضوع له للهيئات المذكورة عاما.
وعلى كل حال فالدلالة على ما ذكرنا ظاهرة من الرجوع إلى العرف والنظر
إلى متفاهم أهل اللسان، وقد يقرر الدلالة في المقام ونظائره بوجه آخر، وهو: أن
التقييد بالغاية في الأحكام الطلبية يدل على انقطاع الإرادة الواقعية عندها فينتفي
فيما بعدها، فيدل على انتهاء مطلق الطلب حينئذ، سواء كان مدلول الصيغة خاصا
أو عاما.
وأنت خبير بما فيه، إذ الإرادة إن قلنا بكونها عين الطلب - كما هو المعروف
من المذهب - كان الحال فيها هو الحال في الطلب في العموم والخصوص، بل مفاد
أحدهما عين الآخر فلا يجدي اختلاف التعبير شيئا، فإن انتفاء الإرادة
المخصوصة لا ينافي ثبوت نوعها وجنسها فيما بعد الغاية كالطلب. وإن قلنا
بمغايرة الطلب والإرادة لم تكن الإرادة مناطا للتكليف ولم يكن في تقييد الطلب
دلالة على تقييد الإرادة، فلا تغفل.
544

واعلم: أن الدليل المذكور كما يدل على مخالفة ما بعد الغاية لما قبلها كذا يدل
على مخالفتها بنفسها لما قبلها على القول بخروجها عن المغيا بها، لدلالتها إذن
على انقطاع الحكم عندها، فيكون الحال فيها كما هو الحال فيما بعدها، فيقال: إن
أداة الغاية موضوعة لانقطاع الحكم عند مدخولها فلو استمر إليها لم ينقطع عندها،
ويؤيده بعد التعرض لحكم الطرفين والسكوت عن حكم ما بينهما، وكذا الحال
في البداية.
وهناك وجوه اخر قد يستدل بها في المقام:
الأول: أن التقييد بالغاية لو لم يدل على مخالفة ما بعدها لما قبلها كان ما
بعدها مسكوتا عنه، للقطع بعدم الدلالة على مساواتهما في الحكم، فيلزم حسن
استفهام المخاطب عن حكمه والسؤال عن استمرار الحكم الأول فيه وانقطاعه
عنه، لوضوح حسن الاستفهام عما لا شاهد عليه في الكلام والسؤال عن حكم
المجهول في كل مقام. ومن المعلوم في العرف والعادة أن من أخبر بجلوس زيد
إلى الظهر مثلا، أو حكم بشئ من الأحكام التكليفية أو الوضعية إلى الوقت المعين
والغاية المعينة لم يحسن استفهام المخاطب عنه، وسؤاله أنه هل جلس إلى العصر
أم لا؟ وهل يستمر ذلك الحكم فيما بعد الغاية أو ينتفي عندها؟ بل يستقبح بعد
سماع التقييد المذكور المسألة عن نحو ذلك فإنه يعد في المحاورات جهلا بمدلول
الكلام، أو لغوا في ذلك المقام، أو طلبا للتصريح بالمرام، وإلا كان مستهجنا في
العرف دليلا على غباوة السامع، ولولا ثبوت المفهوم المذكور لم يكن الأمر كذلك.
وقد يورد عليه: بأن قبح الاستفهام لا يتوقف على دلالة الكلام، إذ قد يحصل
مع سكوت المتكلم عن بيان الحكم أيضا، كما هو الحال فيما قبل البداية، ودعوى
استناده حينئذ إلى مفهوم البداية مدفوعة بفرض المسألة قبل صدور الخطاب،
فإن المفهوم المذكور إنما يتصور بعد صدوره وقبل حصول مبدأ الحكم، أما قبل
الخطاب فلا يتصور هناك مفهوم حتى يعقل استناده إليه، إنما يحسن السؤال
في مظان ثبوت الحكم.
545

وأنت خبير بما فيه، للقطع بحسن الاستفهام مع حصول التردد في الحكم،
إنما لا يحسن مع سكوت المتكلم حيث يكون دليلا على النفي ولو بضميمة
الأصل، بل قد يحسن مع ذلك أيضا عند قيام الاحتمال لتحصيل المعرفة بالحكم
الواقعي. وعلى ما ذكر ينبغي القول بقبح الاستفهام مطلقا، إذ الكلام إن دل على
الحكم لم يحسن الاستفهام كما ذكر، وإن لم يكن فيه دلالة فالمفروض عدم حسنه
أيضا مع سكوت المتكلم في تلك الحال، فيختص حسن الاستفهام بالسؤال عن
تعيين الحكم بعد ثبوته على الاجمال، مع قيام الضرورة على حسن الاحتياط في
تعلم الأحكام في كل مقام، فالكلام المذكور في غاية السقوط.
الثاني: أن التقييد بالغاية لو لم يكن لفائدة إفادة المفهوم كان لغوا في الكلام،
وهو مع امتناعه في كلام الحكيم خارج عن وضع المخاطبات، مخالف لطريقة
العقلاء في المحاورات، كما مر نظيره في مفهومي الشرط والوصف، ألا ترى أنه لو
أخبر عن الجالس إلى الليل بجلوسه إلى الظهر أو عن شئ من الأحكام والوقائع
المستمرة بثبوته إلى وقت كذا وحال كذا مع بقائه فيما بعده عده مستهجنا في
العرف قبيحا في المحاورات؟
وفيه: أن ذلك إنما يسلم حيث تنحصر الفائدة فيما ذكر، أما لو فرض حصول
غيره من الفوائد المقصودة في ذكر الغاية لم يكن فيه حرازة. نعم، لو كان ما ذكر
أظهر الفوائد وأرجحها في النظر بحيث يكون هو المنساق من اللفظ عند الإطلاق
تم ما ذكر، وهو أمر آخر، وقد مر الكلام في نظائره، إذ ليس للغاية خصوصية في
ذلك، بل يجري في مطلق القيود الواقعة في الكلام كما سلف.
الثالث: أن المغيا بالغاية المفروضة لو فرض استمراره فيما بعدها كانت الغاية
وسطا للأمر المفروض حكما كان أو غيره. ومن البين أنه لا يعقل من الغاية إلا
طرف الشئ وحده الذي ينتهى إليه.
وأورد عليه: بأن المفهوم منها كونها غاية للمذكور، ولا يلزم من وجود المغيا
فيما بعد الغاية بخطاب آخر أن يكون وسطا، إنما يلزم لو كان مستندا إلى ذلك
الخطاب الحاصل قبل الغاية.
546

وأنت خبير بأن الوجه المذكور راجع إلى الأول، لمنافاة كون الغاية آخرا
لكونها وسطا، ويأتي فيه ما مر من التفصيل سؤالا وجوابا، فلا وجه لإعادته.
الرابع: أن المفهوم المذكور هو المتبادر من اللفظ عند الإطلاق، إذ ليس
المفهوم عرفا من التقييد بالغاية إلا ما ذكر، وقد يعارض بدعوى عدم صحة سلب
المحمول عن الموضوع على الوجه المذكور في الكلام عند فرض استمرار الحكم
المفروض فيما بعد الغاية، فلا يصح أن يقال للجالس إلى العصر: إنه لم يجلس إلى
الظهر، ولا مع وجوب الصوم إلى الليل: إنه لا يجب إلى الظهر، وذلك دليل الحقيقة.
وفيه أولا: أن المدعى أعم من الدلالة الوضعية، فغاية ما يدل عليه ذلك عدم
خروج اللفظ بذلك عن حقيقته، وهو لا ينافي المقصود.
وثانيا: أن السلب المذكور حيث بوهم تعلقه بنفس المغيا فلا يصح، أما مع
تعلقه بنفس القيد فلا ريب في صحته، فيقال: إن جلوسه لم يكن إلى الظهر بل إلى
العصر، فلا تغفل.
قوله: * (احتج السيد... الخ) *.
يمكن الاحتجاج على ذلك أيضا بوجوه:
منها: الأصل، فإن الدلالة على المفهوم في ذلك إما أن تستند إلى وضع اللفظ،
أو إلى القرائن الخارجة عن الوضع، ومع الشك فيهما معا لا يمكن الحكم بها، إذ
الأصل عدم تعلق غرض الواضع بإفادته، وعدم قيام القرينة عليه، فإن ذلك زيادة
في مدلول الكلام، والمتيقن منه هو الدلالة على ثبوت الحكم إلى تلك الغاية، وأما
انتفاؤه عما بعدها فأمر آخر يتوقف على قيام الدليل عليه إذ بدونه يتعين الاقتصار
في تشخيص المدلول على المتيقن.
وقد يورد عليه: بأن الأصل العملي قد يوافق مقتضى المفهوم في الحكم
المقصود منه، وذلك حيث يكون المغيا مخالفا لمقتضى الأصول العملية المقررة في
مواردها كما هو الغالب، فمقتضى الأصل حينئذ عدم استمرار الحكم المفروض
فيما بعد الغاية، بناء على ما تقرر في محله من عدم حجية الاستصحاب مع الشك
في المقتضي.
547

ويدفعه: أن ذلك لا ينافي القول بنفي المفهوم، فإن غرض القائل به خروجه
عن مدلول الكلام، ولزوم الرجوع في مقام العمل إلى مقتضى الأصل، سواء أفاد
البناء على الحكم السابق على الغاية المفروضة أو على خلافه.
ومنها: أن الدلالات منحصرة في الثلاث، ومن البين انتفاء دلالة المطابقة
والتضمن في المقام، كيف ولا يدعيه الخصم أيضا؟ إذ ليس انتفاء الحكم فيما بعد
الغاية نفس الموضوع له ولا جزءه، للقطع بخروج ما بعد الغاية عن مدلول اللفظ،
ولذا استبعد جماعة وقوع الخلاف واستظهروا اختصاصه بنفس الغاية كما مر،
فكيف يندرج فيه حكمه؟ وأما الالتزام فهو أيضا غير ظاهر في المقام، لانتفاء
الملازمة في المثال المفروض بين وجوب صوم النهار وعدم وجوب صيام الليل،
فيمكن أن يكون السكوت عن الثاني لعدم تعلق الغرض ببيانه، أو لحصول مانع من
ذكره فإن إثبات الشئ لا يقضي بنفي ما عداه.
وفيه ما عرفت من ثبوت الملازمة بين كون الغاية آخرا للحكم المغيا وانتفائه
فيما بعدها، وإلا كانت وسطا للحكم، ولم يكن غاية على ما مر بيانه، فتكون
الدلالة على ذلك التزامية، بل هو من الالتزام البين، لعدم انفكاك تصور أحد
المتلازمين المذكورين عن تصور الآخر، بل ربما يقال بكونها تضمنية فإن مفهوم
الآخرية يتضمن الانتفاء عما بعده، وفيه اشتباه اللازم البين بالجزء، لوضوح أن ما
بعد الغاية غير مذكور في الكلام حتى يشتمل على حكمه، كما في مفهوم الشرط
والاختصاص والتوقيت ونحوها.
ومنها: أن التقييد بالغاية كما يقع مع انتفاء الحكم عما بعدها كذا يقع مع ثبوته،
لوروده في الاستعمالات على كلا الوجهين، فيكون للقدر المشترك بين الأمرين،
فإن كلا من المجاز والاشتراك مخالف للأصل، وقد شاع الاحتجاج بمثل ذلك في
كثير من المقامات.
وفيه: أن ورود التقييد بالغاية مع استمرار الحكم فيما بعدها أمر نادر قليل
الوقوع، لا سيما في كلام أرباب الحكمة والبلاغة، ولا عبرة بالاستعمالات
548

النادرة، فالتمسك بالاستعمال الشائع أولى، ولو فرض شيوع الاستعمال فيه لم
يكن فيه دلالة على الاشتراك المذكور أيضا، لما تقرر في محله من كون الاستعمال
أعم من الحقيقة، سيما مع ملاحظة غلبة الاستعمالات المجازية في كلمات العرب،
ومخالفة المجاز للأصل لا يجدي في ذلك شيئا، إذ المجاز لازم على التقديرين،
لخروج اللفظ إذا عن مقتضى الوضع عند استعماله في كل من الخصوصيتين بل
الوجه المذكور لو تم لكان بالدلالة على خلاف المقصود أولى، إذ مع دوران
احتمال التجوز بين وقوعه في الاستعمالات الشائعة والنادرة يتعين القول بالثاني
على الأصل المذكور. ومن البين أن التقييد بالغاية إنما يقع غالبا عند إرادة الانتفاء
فيما بعدها، والقول بكون الدلالة في تلك الموارد مستندة إلى القرائن المنضمة من
غير أن يكون تلك الخصوصية مأخوذة في نفس المستعمل فيه حتى يلزم التجوز
على الوجه المذكور لا يخلو عن بعد، بل الظاهر خلاف ذلك في الإطلاقات
الدائرة، إذ لا يستعمل أداة الغاية غالبا إلا في خصوص معنى الانتهاء المفيد
لانقطاع الحكم السابق عليها، فإذا دل الاستعمال على الحقيقة خصوصا مع
الشيوع والغلبة أفاد ذلك كونها حقيقة في تلك الخصوصية، فيكون مجازا في القدر
المشترك فضلا عن الخصوصية الأخرى لندرة الاستعمال في أحدهما، بل يمكن
القطع بعدم وقوع استعمالها في الثانية.
غاية الأمر مقارنتها لثبوت الحكم فيما بعد الغاية بدليل آخر، وهو ما ذكر من
القدر المشترك، فيدور الأمر في الحكم بالتجوز بين الاستعمالين، فيبنى على
مقتضى الاستعمال الغالب، ولا أقل من تساوي الاحتمالين، فلا دلالة فيما ذكر
على أحد الوجهين.
ومنها: أنه لو دل على ذلك لكان إما بصريح لفظة، أو لانحصار فائدة التقييد
في إفادته، أو لجهة أخرى، والأول واضح الفساد، والثاني مسلم، لجواز أن يكون
فائدة التقييد تعريف بقاء ما كان بعد الغاية على ما كان قبل الخطاب من غير
تعرض لإثبات الحكم فيه، أو نفيه، والثالث خلاف الأصل، ولا يخفى أنه تطويل
549

بلا طائل، فكان الأولى التمسك بالأصل المذكور من أول الأمر، وحينئذ فإن أراد
الأصل المذكور في الوجه الأول فمن البين أنه لا يعارض الدليل، وإلا فمجرد
أصالة انتفاء الجهة المفيدة لإثبات المفهوم المذكور إنما يقضي بالتوقف دون الجزم
بنفي الدلالة الموجب للقول بوضع الأداة للقدر المشترك، إذ مع الاختلاف في
تعيين المعنى الموضوع له لا يمكن التمسك فيه بالأصل، فمقتضى ذلك هو اختيار
القول بالوقف، على أن تعريف بقاء ما كان بعد الغاية على ما كان قبل الخطاب أمر
زائد على القدر المشترك لا يشهد به أصل ولا دليل، وتوهم الاستصحاب في مثله
وهم فاسد، كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.
ومنها: أنه لا مانع من ورود الخطاب فيما بعد الغاية بمثل الحكم السابق على
الغاية، وقد تكثر نقل الاجماع عليه في كلامهم، وعند ذلك إما أن يكون تقييد
الحكم بالغاية نافيا للحكم فيما بعدها، أو لا، والأول يلزم منه إثبات الحكم مع
تحقق ما ينفيه، وهو خلاف الأصل. والثاني هو المطلوب، وهو رجوع إلى التمسك
بالأصل، إذ لا يزيد التقرير المذكور على ذلك كسابقه فهما معا تطويل من غير
طائل، على أن الخطاب الثاني يكون قرينة على إرادة خلاف الظاهر من الأول،
أو ناسخا له فلا ينافي المقصود.
ثم إن الغالب في الاستعمالات الواقعة قيام الدليل على إرادة المفهوم من نفس
اللفظ، لا على مجرد مخالفة ما بعد الغاية لما قبلها في الحكم حتى يقال بعدم
منافاته للقدر المشترك، فيلزم القول بمقتضى الدليل المذكور مع تحقق ما ينفي من
نفس اللفظ، نظرا إلى أصالة الحقيقة، وهو لشيوعه أولى بالاستناد مما ذكره لندرة
وقوعه، وأيضا فقد يقال: إن فرض ورود الخطاب بمثل الحكم السابق خارج عن
محل المسألة، لكن قد عرفت ما فيه.
ومنها: أنه لو دل على ذلك لكان في آية الإسراء دلالة على نفي المعراج إلى
السماء، ولكان قولك: " سرت من الكوفة إلى البصرة ومنها إلى الشام " مشتملا
على التناقض، ومن المعلوم أن شيئا من هذين الكلامين لا يدل على ما ذكر،
550

بل لا يستفاد من قوله: " سرت من الكوفة إلى البصرة " اختصاص سيره في الواقع
بما بينهما، إنما يستفاد ذلك حيث تنحصر فائدة التقييد في مجرد الحصر، وذلك
حيث لا يكون لذكر المبدأ والمنتهى خصوصية مقصودة بالإفادة، كقولك: " سرت
في الأرض الفلانية من هنا إلى هنا " أما مع الخصوصية كقولك: " سرت من المدينة
المشرفة إلى مكة المعظمة " فلا يكاد يظهر منه انتفاء السير فيما قبل المدينة وما بعد
مكة المشرفة، ولا بعقل هناك فرق فيما بين المقامين إلا انحصار الفائدة في الأول
في إفادة المفهوم وعدمه في الثاني، فيكون المدار في الدلالة على ذلك على نحو
الحال في الأوصاف ومطلق القيود، ولذا لا يظهر في المقامين المذكورين دلالة
على المفهوم، لظهور تعلق الغرض بإفادة حصول الإسراء إلى المسجد الأقصى،
وإمكان حصوله في ذكر الكوفة والبصرة، فإذا انحصرت الفائدة - كما في غالب
المقامات - دل على ذلك، ومن ذلك نشأ الاشتباه، حتى توهم استناده إلى الوضع
ولزوم التجوز بدونه، مع ما عرفت من بعضهم من أنه لم يقل به أحد.
وفيه: أن التشكيك في وضع اللفظ للابتداء والانتهاء تشكيك في الأمور
الظاهرة، كيف وهو المفروض في محل المسألة؟ فلا بد حينئذ من ملاحظة
متعلقهما، والشك في ذلك إنما ينشأ من الشك في متعلق الأمرين المذكورين، فإن
كان متعلقهما مطلق الفعل أو الحكم دل على انتفاء أحدهما فيما خرج عن الحدين،
لدلالته إذا على التحديد والحصر والاختصاص، وإن كان متعلقهما أمرا مخصوصا
أو موضوعا خاصا لم يكن فيه دلالة على ذلك. ومن المعلوم أن اختصاص البعض
بالذكر لا يكون إلا لفائدة، إذ بدونها يكون تخصيصا من غير مخصص، فاختلاف
المدلول بحسب اختصاص الفائدة وعدمه إنما يبتني على ذلك، فلا بد من تشخيص
المتعلق بحسب إطلاق اللفظ وقرائن المقام.
ومن المعلوم أن اللفظ مع انتفاء القرينة إنما يدل على تعلق الأمرين
المذكورين بتمام المعنى المفهوم من الكلام حتى يقوم شاهد على إرادة بعض
الخصوصيات وتعلق الغرض بإفادتها وإظهارها، سواء كان من القرائن الحالية
551

أو المقالية، ومع الشك يرجع إلى ظاهر الإطلاق، ففي المثالين المذكورين وما
أشبههما من الأمثلة حيث كان الظاهر بيان الخصوصية يكون مفادها اختصاص
السير المقصود بالإظهار بما بين الحدين، وذلك لا ينافي استعمال اللفظ الموضوع
للابتداء أو الانتهاء في معناه، ولذا لا يلزم التجوز فيه على ما ذكر، كما مر التنبيه
عليه، بخلاف ما لم يظهر فيه ذلك، فإن إطلاق اللفظ يقتضي تعلق أداة الابتداء
والانتهاء فيه بمطلق مدخولها، فقولك: " سرت من الكوفة إلى البصرة " بحسب
وضع اللفظ في معنى قولك: " ابتدأت في سيري بالكوفة وانتهيت إلى البصرة " فإذا
كان هناك شاهد على استمرار سيره من قبل ومن بعد كان ذلك في معنى: ابتدأت
في بعض مسيري بالكوفة وانتهيت في ذلك البعض إلى البصرة، وذلك لتعلق
الغرض ببيانهما خاصة دون غيره، بل الغالب في مثل ذلك عدم تعلق الغرض
بالإخبار عن مطلق السير، بل عن جملة منه مقصودة، ولذا لا يفهم من قول القائل:
" سرت إلى البصرة وأقمت بها أياما " عدم تجاوز سيره عنها، والغلبة أقوى دليل
على إرادة الخصوصية المذكورة.
فإن قلت: فيكون السير المطلق في ذلك مستعملا في الخصوصية فيلزم
التجوز في الكلام.
قلت: ليس المقصود ذلك، وإنما يقع استعماله في الخصوصية على نحو
استعمال سائر المطلقات في أفرادها، من غير أن يكون هناك فرق بين المقامين
في ذلك، لوضوح استعمال السير في الفرد الواقع منه، سواء كان ذلك تمام الواقع
منه أو بعضه.
فإن قلت: إذا كان الواقع على التقديرين هو السير الخاص والمطلق إنما
استعمل في الفرد المخصوص الحاصل في الخارج في كلا المقامين فما الفرق
بينهما بحسب مدلول الكلام؟
قلت: قد يكون المتكلم في مقام بيان تمام الأمر، وقد يكون في مقام بيان
بعضه، لخصوصية فيه داعيه إلى إظهاره.
552

فإن قلت: إن ذلك هو الحال في مطلق القيود الواقعة في الكلام، سواء كان من
الألقاب أو الأوصاف فيدل التقييد على المفهوم في القسم الأول دون الثاني مطلقا،
فلا خصوصية إذا في أداة الابتداء والانتهاء.
قلت: إن الجهة المذكورة وإن كانت حاصلة في جميع القيود مشتركة بينها إلا
أن للأداة المذكورة خصوصية في الدلالة على الانتفاء في غير متعلقها بحسب
حقيقتها ومعناها، بخلاف غيرها من القيود إذ لا دلالة لها على حال الخارج عن
موردها، وإنما الغرض في المقام تعيين المتعلق بحسب ظاهر الكلام، فالمتعلق في
أكثر المقامات مطلق الفعل الحاصل منه، كما هو قضية إطلاق اللفظ، وفي بعضها
خصوص القدر المقصود بإظهاره نظرا إلى الخصوصية الحاصلة فيه بحسب نظر
المتكلم، فيتوقف على قيام القرينة الحالية أو المقالية عليه.
فظهر بما قررناه ما في كلام السيد من المبالغة في التسوية بين التقييد بالغاية
والوصف، وإن أطال القول فيه، ووافقه الشيخ وغيره عليه وقد يحمل كلامه على
إرادة إرجاع القيد في المقام إلى الموضوع، فيكون من باب مفهوم الوصف بعينه،
كما مرت الإشارة إليه والجواب عنه.
قوله: * (والجواب المنع... الخ) *.
الفرق بين التعليق على الوصف والتقييد بالغاية ظاهر مما مر، إذ الوصف
كسائر القيود الواقعة في الكلام من العدد والزمان والمكان ومطلق اللقب لا دلالة
فيها بنفسها على حكم ما خرج عن مواردها، وإنما تحصل الدلالة من جهة
انحصار الفائدة في موارد ظهوره من اللفظ، أو من الخارج، وإلا فمن البين أن
إثبات شئ بشئ آخر لا يقضي بنفي ما عداه، فينحصر الوجه في دلالته على
ذلك في الجهة المذكورة وهي خارجة عن الدلالة الوضعية، كما مر بيانه في محله.
وأما الغاية وكل ما يدل عليها من الأسماء والحروف فإنما هي على ما عرفت
بمعنى نهاية الشئ وآخره، فتدل بالوضع على انقطاع الحكم عندها مع قطع النظر
عن انحصار الفائدة فيه، وإرجاعها إلى الوصف بالتوجيه الذي مر ذكره في غاية
553

البعد، كما عرفت، فليس الحال في مدلولها إلا ما هو الحال في أداة الحصر
والاستثناء والشرط، فكأن المتكلم حصر الحكم فيما قبل الغاية، أو استثنى عنه
حكم ما بعدها، أو جعله شرطا فيه.
ألا ترى أن من قال في الاستثناء والشرط: بأن الغرض إثبات الحكم في
مورد الشرط، وما عدا المستثنى نظرا إلى اقتضاء المصلحة في أن يعلم بثبوت ذلك
الحكم بهذا النص مع السكوت عن غيرهما ليعلم ثبوته فيه بدليل آخر كان حقيقا
بالإعراض عنه حريا بالسكوت عن جوابه فكذلك الحال في الغاية الصريحة في
انتهاء المغيا بها فينتفي فيما بعدها؟ وأين ذلك من الوصف؟! فليس التفرقة بينهما
بمجرد الدعوى، بل ينبغي التسوية بينها وبين الاستثناء. فلو قيل: إن من فرق بين
تقييد الحكم بالغاية والاستثناء فقد فرق بين المتساويين في أصل الدلالة، وليس
معه إلا الدعوى كان أقرب مما أفاده السيد (رحمه الله).
قوله: * (إذ لا ينفك تصور الصوم المقيد بكون آخره الليل) *.
هذا هو الوجه في إثبات الدلالة الالتزامية باللزوم البين، ولا ينافي ذلك ما مر
عنه من أنه لو فرض ثبوت الوجوب في الليل لزم خلاف المنطوق، لوضوح أن
انتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم، ولأجله يلزم ما ذكر، كما مر بيانه، فالملزوم هو
المعنى المدلول عليه بالمنطوق، والمفهوم مدلول التزامي له، فيكون ناشئا من وضع
الأداة لما يفيد معنى الغاية والنهاية، وأين ذلك من الوصف؟!
واعترض بمنع اللزوم الذهني، بل الخارجي أيضا، إذ لا مانع من ورود
خطاب فيما بعد الغاية بمثل الحكم السابق إجماعا.
وأجيب تارة: بأن إمكان ذلك لا ينافي ما ذكر من اللزوم، إنما يكون إذا قرينة
على عدم إرادة حقيقة الغاية من اللفظ الموضوع لها، ولو صرح بأن المراد منه
وحقيقتها كان ذلك نسخا عند من يجوز النسخ في مثله، ومن لا يجوزه يدعي
استحالة وقوع هذا المفروض.
وأخرى: بأن الحكم المستند إلى الخطاب الأول مغاير للحكم المستند إلى
الخطاب الثاني، وإن ماثله فهو موجود حال عدم الأول.
554

وقد يورد على الأول: بأن غرض المعترض دعوى عدم المنافاة بين
الخطابين بحسب معناهما الحقيقي، من غير لزوم تجوز ولا نسخ.
وعلى الثاني: بأن الخطاب الثاني إذا كان دالا على ثبوت مثل الحكم الثابت
قبل الغاية فيما بعدها كان منافيا لمقتضى المفهوم، لأن معناه الحكم بنفي الحكم
المذكور عما بعد الغاية، وقد عرفت رجوعه إلى نفي المماثل، لوضوح أن الأول لا
يتجاوز عن حده ومورده بالضرورة، فإنما يكون الثاني مماثلا للأول بعد انقطاعه.
والوجه في ذلك: ما تقدم من أن أقصى ما يفيده المفهوم انتفاء الحكم المنطوق
به فيما بعد الغاية وانقطاعه عندها، فيكون المفهوم تابعا للمنطوق في الإطلاق
والخصوصية، فإن كان المغيا مطلق الحكم دل على انتفائه فيما بعد، وان كان حكما
خاصا كان أقصاه الدلالة على انتفائه، فلا يدل على انتفاء نوعه، فلا بد من
تشخيص مدلول المنطوق وتعيين الحكم المقيد بالغاية فيه. وقد تقدم أن مدلول
الخطابات بحسب ظاهرها مطلق الحكم، ومدلول الأخبار ماهية الأمر المغيا إلا
أن تقوم هناك قرينة على إرادة الخصوصية وتقييدها بالغاية من حيث هي، ولا
ينبغي التأمل في مثله في عدم الدلالة على انتفاء المماثل، فلا ينافي ذلك ورود
خطاب آخر بمثل الحكم السابق، فمثل وجوب القتل بالقصاص المقيد بغاية العفو
لا ينافي وجوبه بالردة وغيرها فيما بعدها، وكذا تحريم الزوجة المحرمة إلى غاية
الخروج من الإحرام لا ينافي تحريمها بالحيض والظهار والإيلاء وغيرها، وكذا
الحال في الأحكام المستندة إلى أسباب خاصة لا ينافي ثبوت مثلها بأسباب اخر،
بخلاف مثل قوله تعالى: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * (1) * (ولا تقربوهن حتى
يطهرن) * (2) * (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا) * (3)... إلى غير ذلك، فلا تغفل.
وأما القول الثالث بالتفصيل فإن رجع إلى الكلام في نفس الغاية فقد تقدم
القول فيه، وإلا فقد عرفت أنه لا يناسب حكم ما بعد الغاية، وغاية ما ذكره المفصل

(1) البقرة: 187.
(2) البقرة: 222.
(3) البقرة: 230.
555

أن الغاية إن انفصل عن ذي الغاية بمفصل محسوس كأتموا الصيام إلى الليل وجب
أن يكون حكم ما بعدها بخلاف ما قبلها، للعلم حسا بانفصال أحدهما عن الآخر.
وإن لم يكن كذلك مثل " إلى المرافق " لم يجب فيه المخالفة، فإنه لما كان المرفق
غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس لم يكن تعيين بعض المواضع في البدن أولى
من بعض.
فها هنا يجوز أن يكون ما بعدها داخلا فيما قبلها، وهو كما ترى.
قوله: * (إنه أقوى دلالة من التعليق بالشرط) *.
قد صرح بذلك جماعة، ويشهد به مضافا إلى الفهم العرفي أمران:
أحدهما: ما ذكره من أن كل من قال بمفهوم الشرط قال بثبوته، وقد قال به
بعض من أنكره أيضا، كما صرح بذلك جماعة من الخاصة والعامة.
والآخر: أن استعمال أداة الغاية في غير ما يفيد انتهاء المغيا إليها أو انقطاعه
عندها نادر بخلاف أداة الشرط، لكثرة استعمالها في غير ما يفيد معنى الشرطية،
كالشروط المسوقة لبيان الموضوع فإنها شائعة في الاستعمالات جدا، والواردة
في مورد الغالب وغيرها، وحيث إن مفهوم الشرط أقوى من الوصف والعدد عند
القائل بهما - إذ الدلالة في الأول وضعية دون الأخيرين كما عرفت - كان مفهوم
الغاية أقوى منهما أيضا بطريق أولى. وتظهر الفائدة في صورة المعارضة،
كتعارض مفهومي الغاية والشرط في قوله سبحانه: * (ولا تقربوهن حتى يطهرن
فإذا تطهرن...) * الآية (1)، فيقدم الأول مع انحصار الدليل وفقد المرجح الخارجي.
وأما القول بالوقف فمرجعه بحسب العمل إلى نفي المفهوم، للزوم الرجوع إلى
الأصل العملي مع الشك في الدلالة كالجزم بنفيها.
وأما القول الرابع بالتفصيل فقد علله القائل به: بأن قول القائل: " صم إلى
الليل " إنما يقتضي لغة وعرفا تعلق طلبه بالصوم المغيا بالليل، وظاهر هذا لا ينافي

(1) البقرة: 222.
556

تعلق أمره أيضا بصوم الليل إلى الفجر - مثلا - بطلب مستقل، فإن مرجع الأمرين
حينئذ إلى طلب كل من الصومين المحدودين بالغاية المذكورة.
وهذا كما ترى لا يستدعي خروجا عما يقتضيه ظاهر الأمر وظاهر الغاية،
وإنما المفهوم من ذلك انقطاع الصوم المأمور به بذلك الخطاب ببلوغ الغاية،
والجواب عنه مع رجوعه إلى النفي المطلق ظاهر مما مر. ويشهد به: أن هذا الكلام
ربما يأتي في مفهوم الاستثناء وشبهه أيضا، فإن قول القائل: " صم إلى الليل " إنما
يقتضي تعلق طلبه بصيام ما عدا الليل، فلا ينافي تعلق أمره بصيام الليل بطلب
مستقل أيضا، وهو واضح الفساد، كما اعترف به المفصل، فكذا في المقام وإنما
يتبع المفهوم إطلاق المنطوق وتقييده بحسب قرائن المقام، فيدل على نفيه كائنا
ما كان، فإن أريد به الخصوصية ولو بحسب القرائن الحالية أو العادية أو غلبة
الاستعمالات الجارية كان مفهومه انتفاء تلك الخصوصية فيما بعد الغاية، وفي
المستثنى في المثال المذكور، فلا يدل على انتفاء مطلقه، بخلاف ما إذا ثبت
تقييد المطلق بأحد القيدين. ويأتي الكلام في مفهوم الشرط أيضا كما مر توضيح
القول فيه.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: أن الدلالة على ما ذكرناه التزامية، والمدلول من المفهوم دون
المنطوق، لرجوعه إلى نفي الحكم المذكور عن الموضوع الغير المذكور.
وحكي عن أبي الحسين البصري: أنه من المنطوق، وعن بعض العلماء: أن
اللفظ صريح فيه، قيل: فهو عنده مطابقة، وهو ممنوع، إنما يريد صراحة اللفظ
الموضوع للانتهاء في انتفاء الحكم عما بعده، لكونه لازما بينا له من غير أن يكون
ذلك نفس الموضوع له أو جزءه، للقطع بأن موضوع هذا الحكم غير مندرج في
مدلول اللفظ، وكذا حكمه، إذ ليس في الكلام لفظ موضوع لمعنى النفي حتى يكون
دلالته عليه بالمطابقة، وكذا لو كان الحكم المغيا نفيا فليس في اللفظ ما يفيد
بمدلوله المطابقي معنى الإثبات، وهو ظاهر.
557

واحتج البصري باتفاقهم على أن الغاية ليست كلاما مستقلا فلا بد فيه من
إضمار لضرورة تتميم الكلام، والإضمار بمنزلة الملفوظ، فإنه إنما يضمر لسبقه إلى
فهم العارف باللسان، كتقدير مثل: " فاقربوهن " بعد قوله: * (حتى تنكح زوجا
غيره) * إلى * (يطهرن) * أو " فيحل " بعد قوله تعالى: * (حتى تنكح زوجا غيره) *.
وضعفه ظاهر، إذ لا داعي إلى الإضمار المخالف للأصل، وليس الحال في
الغاية إلا ما هو الحال في سائر القيود الواقعة في الكلام الدال منها على المفهوم،
كالشرط والحصر وغيره، ولا يلزم في شئ منها إضمار.
وقد يقال: إن دلالة لفظ " الأول " و " الآخر " و " الابتداء " و " الانتهاء " على
الانتفاء من قبل ومن بعد من المنطوق، فكذا ما وضع بإزائها من الحروف،
ومقتضى ذلك إدراج اللوازم البينة بالمعنى الأخص في دلالة المنطوق. وقد عرفت
في حد المنطوق والمفهوم أن ذلك خروج عن الاصطلاح، وإنما يندرج فيه ما كان
مدلوله الانتفاء كلفظ " الزوال " و " الانقطاع " ونحوهما، لدخول النفي الحاصل في
الجزء الأول من زمانه في مدلولهما المطابقي كلفظ " الانتفاء "، بخلاف ما إذا كان
النفي لازما للمدلول المذكور وإن كان بينا.
نعم، قد عرفت في مفهوم الشرط وجه الفرق بين قولك: " الطهارة شرط في
الصلاة " أو " يشترط بها " وقولك: " إن كنت متطهرا فصل " أو " يصح بشرط
الطهارة " و " يجب بشرط البلوغ ". وأن دلالة الأول على انتفاء الصلاة بانتفاء
الطهارة مندرجة في المنطوق، والثاني في المفهوم، فكذا في المقام ينبغي التفرقة
بين قولك: " أول الصوم أو ابتداؤه الفجر وآخره أو منتهاه الليل " وقولك: " صم
مبتدأ بالفجر منتهيا إلى الليل ". ويظهر من بعض المحققين أن مناط الفرق بين
المثالين المذكورين في محل المسألتين التصريح بالشرط والغاية وعدمه، وليس
كذلك كما يظهر من المثال الذي ذكرناه، وإلا فلا فرق في المنطوق بين النص
والظاهر ومدلول الاسم والحرف، فتأمل.
الثاني: أن لفظة " إلى " قد تستعمل في لغة العرب بمعنى " مع " كما في قوله
558

تعالى: * (إلى أموالكم) *، وإن أوله بعضهم بتقدير معنى الإضافة، وعلى ذلك قد
يحمل قوله تعالى: * (إلى المرافق) * كما في الخبر، وحينئذ فلا دلالة في التقييد
بذلك على انتفاء الحكم فيما بعد، إذ هو حينئذ من جملة القيود الواقعة في الكلام
التي لا يدل إثبات الحكم في موردها على نفيه عن غيره، ولو دل على ذلك لكان
باعتبار أنه لو كان ما بعد المرفق داخلا في المغسول لكان الاقتصار على ذكر
المرفق تخصيصا في الذكر من غير فائدة، بل مخلا بالمقصود، إلا أن تظهر هناك
فائدة أخرى في التصريح المذكور دون غيره، وتلك جهة أخرى خارجة عن
مقتضى الوضع أو المعنى المستعمل فيه، ولا ريب في خروج مثل ذلك عن محل
المسألة، وإنما الكلام هناك في أداة الغاية، بل كلما يدل عليها أو يستعمل فيها من
اسم أو حرف لاشتراكها في التقييد بمعنى الغاية وحقيقتها، وقد عرفت استلزامه
للانتفاء فيما بعدها، وكذا الحال في كل ما دل على التوقيت والتحديد بحسب
المبدأ أو المنتهى، كقوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) * (1)، لاستلزام
التوقيت للانتفاء في خارج الوقت.
الثالث: أنه قد ذكر الغزالي: أنه يحتمل أن يقال: كل ما له ابتداء فغايته مقطع
لبدايته، فيرجع الحكم بعد الغاية إلى ما كان قبل البداية، فيكون الإثبات مقصورا
أو محدودا إلى الغاية، ويكون ما بعد الغاية كما كان قبل البداية.
ولا يخفى أن ذلك إنما في الحكم الإيجابي الحاصل بعد النفي المطلق، إذ بعد
قصر الحكم المفروض على ما بين الحدين يرجع فيما عداه إلى أصالة النفي وهذا
لا اختصاص له بأداة الغاية، بل يجري في مطلق القيود الواقعة في الكلام، إذ بعد
فرض انحصار الحكم الثبوتي في موردها يتعين الرجوع في غيره إلى النفي
الأصلي، وأما إذا كان إثبات الحكم المغيا مسبوقا بحكم وجودي آخر لم يكن فيه
دلالة على رجوع حكم ما بعد الغاية إلى ما كان قبل البداية.

(1) الإسراء: 78.
559

ألا ترى أن قولك: " جلس زيد إلى الظهر " لا يدل على رجوعه بعد الظهر إلى
الحال التي كان عليها قبل الجلوس، إنما يدل على انتفاء الجلوس فيما بعد الظهر،
سواء رجع إلى الحالة السابقة أم لا.
نعم، يتم ذلك في الوصفين المتضادين اللذين لا ثالث لهما كالحركة
والسكون، فإذا قال: " سكن زيد من الصبح إلى الظهر " دل على تحركه من قبل
ومن بعد وإن اختلف نوع الحركة الحاصلة منه في الحالين. وكذا الحال في
المتناقضين فلو قيد النفي بمثل ذلك دل على الإثبات في الحالين، وإن اختلف
نوعه كما لو قيد الإثبات دل على النفي في الحالين، وأما سائر الأوصاف
والحالات فلا وجه لرجوع الحال فيما بعد الغاية إلى الحالة السابقة. وتوهم
الاستصحاب في مثل ذلك وهم فاحش، لانقطاع السابق بالأمر المغيا فلا يعود إلا
بسبب جديد وإن زال الأمر المتوسط بين الحالين، كما لا يخفى.
ولنختم الكلام في باب المفاهيم بذكر ما أهمله المصنف (رحمه الله) فيها مما تداول
ذكره في كتب القوم مع الإشارة إلى غيره، وكان اقتصاره على المفاهيم الثلاثة
وترك التعرض للباقي، لظهور الحكم في بعضها بالنفي أو الإثبات ورجوع بعضها
إلى المنطوق.
[مفهوم الاستثناء]
فمنها: مفهوم الاستثناء بكل ما دل عليه من الأسماء أو الحروف، فإنه إن ورد
على أحد النقيضين دل على النقيض الآخر في المستثنى، وإن ورد على أحد
المتضادين المنحصرين كالحركة والسكون دل على ثبوت الضد الآخر، وإن ورد
على سائر الأضداد الوجودية دل على انتفاء الأمر المفروض عنه من غير تعيين
للضد الثابت له. فالاستثناء من النفي يدل على حصر الاثبات في المستثنى، كما
في كلمة التوحيد، ومن الإثبات يدل على نفيه عنه، فمفاده اخراج المستثنى عما
قبله ومخالفته له في مدلوله كائنا ما كان. وقد أطبق على إثبات الدلالة المذكورة
560

أئمة اللغة والنحو والتفسير والأصول، ولم ينقل عن أحد من القائلين بدليل
الخطاب والمنكرين له إنكارها سوى الحنفية، وكفى به دليلا على ذلك. فقد تكرر
في كلماتهم إسناد القول بها إلى واضعي اللغة وأهل العربية مؤذنين بالاتفاق عليه،
بل صرح غير واحد منهم بإجماعهم عليه. ويدل عليه مع ذلك القطع بتبادر المعنى
المذكور منه، حتى قال التفتازاني: إن إنكار دلالة " ما قام إلا زيد " على ثبوت
القيام لزيد يكاد يلحق بإنكار الضروريات، والقطع بعدم جواز تشريك المستثنى
مع المستثنى منه في الحكم لتناقض الكلامين، كقولك: جاء القوم إلا زيدا، وزيد،
والقطع باكتفاء الشارع والمتشرعة في الحكم بالإسلام بكلمة التوحيد، وقد تكثر
في كلامهم نقل الاجماع عليه، ولولا ما ذكرناه لم يكن فيها دلالة على إثبات الإله
الحق جل ذكره. وعن كتب الحنفية إنكار الدلالة المذكورة في النفي والإثبات
جميعا، قائلين: إن معناه اخراج المستثنى والحكم على الباقي من غير حكم عليه
بشئ من النفي والإثبات فقول القائل: " ليس له علي إلا سبعة " ليس إقرارا
بالسبعة، وقوله: " له علي عشرة إلا ثلاثة " سكوت عن الثلاثة.
وعن الشافعية دعوى الوفاق على أنه من الإثبات نفي، وأن الخلاف إنما هو
في العكس. قال العضدي: الاستثناء من الإثبات نفي اتفاقا وبالعكس إثبات
خلافا لأبي حنيفة، ثم قال: إنهم لا يفرقون بينهما من جهة الدلالة الوضعية، ولا
يرون شيئا منهما يدل على المخالفة فيما يفيده من النسبة الخارجية، بل في النسبة
النفسية فإن كان ذلك مدلول الجملة فالمخالفة فيها عدم الحكم النفسي وهم
يقولون به فيهما، وإن كان مدلوله الخارجية فالاستثناء إعلام بعدم التعرض له،
والسكوت عنه من غير حكم بالمخالفة فيهما، إلا أن السكوت عن إثبات الحكم
يستلزم نفيه بالبراءة الأصلية، بخلاف النفي، إذ لا مقتضى معه للإثبات. وكأنه
حاول بذلك الجمع بين النقلين المختلفين عن أبي حنيفة، وكيف كان ففساده معلوم
من اللغة والعرف.
نعم، إن كان المستثنى منه الاعتقاد النفساني أو النسبة اللفظية كقولك:
561

" علمت " أو " ظننت " أو " أخبرت " أو أمرت بالأمر الفلاني إلا الشئ الفلاني
فمفاده انتفاء أحدهما عن المستثنى وإن وافق المستثنى منه في الحكم الخارجي
مع احتمالها الاستثناء عن متعلقهما، بخلاف ما إذا كان مدلوله النسبة الخارجية
فالاستثناء منها يدل على انتفائها عن المستثنى بحسب الخارج، إذ لا يتحقق
خروجه عما قبله ومخالفته له إلا بذلك.
واقتضى ما للحنفية أن مثل " لا صلاة إلا بطهور " (1) و " لا نكاح إلا بولي " (2)
و " لا علم إلا بحياة " و " لا ملك إلا بالرجال " و " لا رجال إلا بالمال " و " لا مال إلا
بالسياسة " إنما تدل على أن المستثنى منه مشروط بالمذكور لا يتحقق بدونه، وأما
أنه يتحقق معه فلا. ولو كان الاستثناء من النفي إثبات للزم الثبوت معه البتة، وأن
دلالة الألفاظ على الأمور الخارجية إنما يكون بتوسط الصور المرتسمة في
الأذهان، فصرف الاستثناء إلى الحكم الذهني أولى، لتعلق اللفظ به ودلالته عليه
من غير واسطة، ومقتضاه في الإخبار اخراج المستثنى عن الإسناد السابق، وفي
الانشاء رفع الحكم السابق عنه، لا الحكم عليه بالخروج في الواقع.
وضعف الوجهين في غاية الظهور، إذ الأول إنما يرد على من يدعي دلالة
الاستثناء من عموم النفي على عموم الإثبات والمدعى دلالته على الإثبات
في الجملة. فإن كان هناك ما يفيد العموم - من دليل الحكمة أو غيره - دل عليه
وإلا فلا. ففي الأمثلة المذكورة لا بد من تقدير المستثنى إن كان الطرف مستقرا
متعلقا بمحذوف صفة له أي لا صلاة إلا صلاة بطهور، أو المستثنى منه إن كان لغوا
أي لا صلاة بوجه من الوجوه إلا باقترانها بطهور، فيكون من الاستنثاء المفرغ.
وعلى الوجهين فمدلوله تحقق الصلاة بالطهور في الجملة أي من تلك الجهة،
فالمراد حيث يكون مستجمعة لسائر ما يعتبر فيها كما لا يخفى.
ولو قلنا بدلالته على عموم الإثبات أمكن أن يقال بخروج ما ثبت فساده

(1) الوسائل 1: 256 باب 1 من أبواب الوضوء الحديث 1، 6.
(2) الدعائم 2: 218.
562

بما دل عليه، على أن المنفي هو الصلاة الصحيحة والنكاح الصحيح - مثلا -
فالمستثنى هو الصحيح منهما الواقع بالطهور والولي. ولو فرض إرادة الأعم
فالمستثنى أيضا هو الماهية الواقعة معهما مطلقا، فأين موضع الدلالة على استلزام
الطهور والولي لحصولهما كما توهم؟ والأمر في سائر الأمثلة المذكورة أوضح.
وأما الثاني فهو اجتهاد في مقابلة النص المعلوم من أهل اللغة مع وضوح
فساده، إذ لا شك في أن مدلول الألفاظ هو الأمور الخارجية، ولو قلنا بوضعها
للصور الذهنية فباعتبار انطباقها عليها. وكيف كان فلا شبهة في تعلق الاستثناء
بمدلول الجملة، فإذا كان هو النسبة الخارجية دل على خروج المستثنى عنها، كما
لا يخفى. وقد تبنى المسألة على أن الإسناد اللفظي في الجملة الاستثنائية هل
يتحقق بعد الإخراج فيحكم على ما عدا المستثنى بالنفي أو الإثبات، سواء قيل
بكون المجموع من المستثنى والمستثنى منه، والأداة اسما مركبا بإزاء الباقي، أو
بكونه قرينة على إرادته من اللفظ العام كما زعمه كثير منهم، أو يتحقق قبله فيكون
العام مستعملا في معناه الحقيقي ثم أخرج عنه المستثنى وأسند الحكم في المغيا
إلى الباقي؟
فعلى الأول لا دلالة فيها على حكم المستثنى، لاتحاد الحكم والإسناد فيها،
فقولك: " أكرم العلماء إلا الفساق " يجري مجرى قولك: أكرم من عدا الفساق منهم،
فكأنه قال: أكرم العدول منهم، ونحوه قولك: " لا تكرم إلا العلماء " في معنى قولك:
لا تكرم الجهال، فيكون الاستثناء إخراجا عن الموضوع أولا، ثم الحكم عليه
ثانيا، فلا يكون إخراجا عن الحكم، وإنما يرجع المفهوم في ذلك إلى الوصف.
ألا ترى أن المفهوم في مثل قولك: " أكرم غير زيد " من مفهوم الوصف، وليس
مفاد الاستثناء على الوجه المذكور إلا ذلك، بخلاف الوجه الثاني. وضعفه ظاهر،
إذ ليس اختلافهم في ذلك خلافا في مدلول الأداة، إنما هو كلام ذكروه توجيها
لدفع التناقض المتوهم في الجملة المذكورة، كما يأتي القول فيه إن شاء الله تعالى
والدلالة ثابتة على الوجهين، بل ولو جئ به وصفا كقولك: " من عدا زيد يجب
563

إكرامه " و " غير زيد جاء " فقد عرفت في مفهوم الوصف خروجه عن محل الكلام
في تلك المسألة، وثبوت المفهوم فيه غالبا على كلا القولين فيها، ومساواته مع
الاستثناء في المدلول العرفي. ويشهد به أنه لم ينقل من أحد من القائلين بالوجه
الأول إنكار الدلالة المذكورة سوى الحنفية.
نعم، قد يفرق بين الوجهين المذكورين في كون الدلالة على الثاني وضعية
دون الأول، كما في التعليق على وصف الغير ونحوه مما يدل على المعنى المذكور،
من غير لزوم تجوز في اللفظ عند التصريح بخلافه، كما لو قيل: أكرم زيدا
وغير زيد.
وفيه: أن حرف الاستثناء على كلا الوجهين يدل بوضعه اللغوي على مخالفة
ما بعده لما قبله، لاتفاق أهل اللغة والعرف عليه كما عرفت، ولا يلزم منه تعدد
الحكم والإسناد بمنطوق اللفظ. ألا ترى أن لوازم المعنى الموضوع له مداليل
وضعية للألفاظ، أي مستندة إلى الوضع ولو بتوسط اللزوم بحيث لو صرح المتكلم
بخلافها لزم استعمالها في غير ملزوماتها على سبيل التجوز، مع عدم وقوع الحكم
بها والإسناد فيها باللفظ، وإنما حصل النطق بملزوماتها، فلا فرق بين الوجهين
المذكورين في الدلالة الوضعية.
نعم، دلالة التعليق على وصف الغير ونحوه ليست وضعية وإن كانت مشاركة
للوضعية في المدلول، نظرا إلى جريانه مجرى الاستثناء بحسب العرف، كما مرت
الإشارة إليه.
نعم، يمكن التفرقة في المقام بين القولين المذكورين. بوجه ثالث، وهو: أن
الدلالة المذكورة على الوجه الأول من باب المفهوم، لعدم وقوع النطق حينئذ إلا
بحكم الباقي بعد الاستثناء كما في الوصف.
غاية الأمر أن يكون للوضع مدخلية هنا في أصل الدلالة بخلاف الوصف،
وذلك لا يقضي باندراجه في المنطوق كما في الشرط والغاية وغيرهما، بخلاف
الوجه الثاني، لحصول النطق باخراج المستثنى عن الحكم المذكور قبله. وقد يقال
564

باندراجه في المنطوق على الوجهين، أما إذا قلنا بكون المدار فيه على ذكر
الموضوع كما يظهر من بعض الحدود فظاهر، لأن موضوع الحكم المقصود هو
المستثنى بعينه. وأما إذا قلنا بكون المدار فيه على ذكر كل من الموضوع
والمحمول ولو تقديرا - كما مر بيانه - فلأن الأداة المذكورة دالة بوضعها على
مخالفة المستثنى لما قبله على التقديرين كما ذكر، فيكون حكما منطوقا به لذكر
الموضوع وهو المستثنى والمحمول، وهو نفي الحكم السابق عنه بحرف الاستثناء
ولو تقديرا، كما يقدر المستثنى في قولهم: ليس إلا، أو المستثنى منه في المفرغ.
وقد يقال باندراجه في المفهوم كذلك، كما هو ظاهر قولهم بمفهوم الاستثناء، حتى
قال بعض المحققين: إن ما وقف عليه من كلماتهم متفقة على تسميته مفهوما،
وزعم أن عرفهم إنما يساعد على تسميته مفهوما لا منطوقا، حتى أنهم نقلوا
الخلاف في القصر المفهوم من " إنما " و " الحصر " فإن بعضهم عده منطوقا، ولم نظفر
منهم بنقل مثله في المقام، وأن عدم مساعدة حدودهم عليه إنما يوجب القدح
فيها، لا في تسميته مفهوما.
وقد توجه أيضا تارة بأن الموضوع وإن كان مذكورا في الكلام إلا أن حكمه
في مخالفة المستثنى منه بالنفي أو الإثبات إنما يلازم المعنى الموضوع له
- كملازمة الانتفاء عند الانتفاء لمعنى الغاية والشرط والحصر وغيرها - فحرف
الاستثناء موضوع لإخراج ما لولاه لدخل، ويلزمه الإثبات في السالبة والنفي في
الموجبة، فلا يكون أحدهما منطوقا به.
وأخرى بأن المعنى المذكور لو كان واقعا في محل النطق لزم أن تكون الأداة
موضوعة للنفي تارة، وللإثبات أخرى، إذ ليس هناك قدر جامع بين المتناقضين
فيلزم الاشتراك، وهو واضح الفساد، فيكون لازما للمعنى المنطوق به كما ذكر.
ويرد على الأول: أن الاستثناء على الوجه الأول إنما يفيد اخراج المستثنى
عن موضوع ما تقدمه، وإنما هناك حكم واحد ورد على الباقي، فنفيه عن
المستثنى غير مذكور في الكلام ولو تقديرا.
565

وقد عرفت في تعريف المنطوق اعتبار النطق بالحكم أيضا ولو تقديرا.
نعم، قد يتم ما ذكر بناء على الوجه الثاني، لكونه حينئذ إخراجا عن الحكم،
فيكون كما ذكر من كونه نفيا للحكم السابق عنه.
وعلى الثاني المنع من توافقهم على عده مفهوما، لتصريح جماعة منهم
باندراجه في المنطوق. ويؤيده عدم تعرضهم لهذه المسألة في باب المفاهيم إنما
ذكروها في مبحث التخصيص والاستثناء، بل لم نقف في كلام أكثرهم على
التصريح بكونه من المفهوم. وبالجملة: فالخلاف في ذلك أوضح وأظهر من
الخلاف في مفهوم " إنما " ودعوى التبادر العرفي في ذلك ليست بينة ولا مبينة.
وأما التوجيه الأول فإنما يتم على القول الأول.
أما إذا قلنا باستعمال الأداة في اخراج المستثنى عن الحكم والإسناد الواقع
قبله فيكون الحكم بانتفائه عنه واقعا في محل النطق، لأنه معنى خروجه عما قبله.
وأما الثاني فواضح الفساد، ألا ترى أنه قد يقع التصريح بانتفاء النسبة المذكورة
عن المستثنى فيكون نطقا بالإثبات في السالبة، وبالنفي في الموجبة قطعا مع انتفاء
الاشتراك، فإن كان الاستثناء بهذا المعنى كان مدلوله من المنطوق، وإن كان
ملزوما للمعنى المذكور كان من المفهوم، فبناؤه على القولين المذكورين وجه
وجيه، وسيأتي في مبحثه تحقيق القول فيه إن شاء الله تعالى.
[مفهوم الحصر]
ومنها: مفهوم الحصر، فكل ما دل عليه من اسم أو حرف أو هيئة فإنه يدل
على انتفاء الحكم أو الوصف المذكور عن غير الموضوع المذكور فيه أو انتفاء
غيره عن نفس الموضوع. وقد تقدم الوجه في اندراج كل من القسمين في حد
المفهوم، وذلك أن الحصر قد يكون بقصر الصفة على الموصوف، وقد يكون
بالعكس. ثم قد يقع على وجه الحقيقة، وقد يرد على سبيل التجوز أو الادعاء
أو الإضافة على اختلاف المقامات بحسب اختلاف القرائن الحالية أو المقالية،
566

فيكون الدلالة على المفهوم في كل مقام على حسب مقتضاه. وهذا المفهوم مما
لا شك في ثبوته بعد إثبات معنى الحصر بصريح لفظه أو ظاهره عن غير الموضوع
المذكور، فإنه لازم بين لمعنى الحصر لا ينفك تصوره عنه. وكأنه لذا لم يتعرض
المصنف له ولما قبله، إذ بعد فرض الحصر لا مجال للكلام في مدلوله، إلا أن
جماعة منهم زعموا اندراجه في المنطوق. فإن أرادوا أن معنى الحصر مدلول
اللفظ المنطوق به من غير واسطة، كما أن معنى الشرط والغاية مدلول عليهما بحرفي
" إن " و " إلى " كذلك فهو أمر واضح، سواء كان الدال عليه اسما كلفظ " الحصر "
و " القصر " أو حرفا كلفظ " إنما " أو هيئة كتقديم الوصف العام المعرف على
الموصوف الخاص [ولا يلزم منه خروج ما يلزمه من الحكم من الحكم المذكور] (1)
وذلك أن شيئا من موضوع الحكم المذكور ومحموله لم يقع في محل النطق.
وبالجملة: وإن زعموا أن انتفاء الحكم من غير المذكور من المنطوق به ففيه
اشتباه اللازم بالملزوم، وعليهما مدار المنطوق والمفهوم، كما في الشرط والغاية
وغيرهما، فإن دلالة اللفظ عليها بالمنطوق وعلى لازمها بالمفهوم كما قد يقع
التصريح بالشرط أيضا في قولك: يجب الصيام بشرط البلوغ والعقل.
وزعم جدي الفقيه (قدس سره) (2) أنه لو صرح بالحصر أو الشرط أو الغاية أو البداية أو
العلة أو غيرها عاد (3) من المنطوق، وأن المعتبر في تلك المفاهيم أن يكون الدال
عليها صيغة تفيدها على نحو المفهوم. والوجه فيه غير معلوم، إذ التفرقة بين كون
الدال عليها نصا أو ظاهرا أو حقيقة أو مجازا أو اسما أو حرفا أو وصفا كما ترى.
وغاية ما يوجه به: أن الدال عليها إن كان من الأسماء كان مدلولها منطوقا،
لتضمنها معنى الانتفاء المقصود في المقام، سواء كان على وجه الحقيقة أو المجاز

(1) زيادة تصحيحية من هامش المطبوع.
(2) يشهد هذا التعبير بأن هذه المباحث صدر من قلم نجله المحقق الشيخ محمد باقر سبط
الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سرهما) إذ لم يعهد للشارح (قدس سره) جد فقيه. ويأتي في الصفحة 595
التصريح بذلك بقوله: " وقد ذكر جدي الفقيه (قدس سره) في كشف الغطاء ".
(3) كذا، والظاهر: عد.
567

بطريق التنصيص أو الظهور. وإن كان من الحروف والهيئات اندرج مدلولها في
المفهوم، فإنها ليست موضوعة لتلك المفاهيم المستقلة، وإلا عادت أسماء، وهو
أيضا كما ترى، فإن دلالة الأسماء المذكورة على الانتفاء ليست بالتضمن، بل
بالالتزام، ولو سلم فاندراج المدلول التضمني في المنطوق غير لازم، كما مر، ولو
سلم لزم اندراج مدلول الحروف والهيئات الدالة عليها فيه أيضا، فإنها وإن لم تكن
مستقلة في معانيها لكنها مع متعلقاتها وموادها موضوعة لتلك المعاني بعينها
فمداليلها أيضا من المنطوق، وإلا لزم اندراج المعاني المستقلة المستفادة من
الحروف والهيئات في المفاهيم مطلقا، وهو واضح الفساد.
ويمكن إرجاع الكلام المذكور إلى ما مر في تعريف المفهوم من الفرق بين
قولنا: الطهارة شرط في الصلاة، وقولنا: تصح الصلاة بشرط الطهارة، فإن الدلالة
على الانتفاء في الأول من المنطوق، دون الثاني، وكذا الحال في سائر المفاهيم،
فليس الغرض التفصيل بين التصريح بلفظ " الشرط " وعدمه، أو بين دلالة الاسم
عليه، أو الحرف، لوضوح فساده، بل الغرض من التصريح وعدمه الفرق بين كون
الجملة مسوقة لبيان تلك المعاني على الاستقلال وعدمه.
وبالجملة: فبعد فرض الحصر لا ينبغي الكلام في مفهومه، وإنما وقع الكلام
هنا في بعض الأمور المفيدة له، وهو أمر آخر مرجعه اللغة والعرف، ويعرف الحال
في ما اشتبه من ذلك بالرجوع إلى كتب العربية. فدلالة الحصر على معنى الانتفاء
عند الانتفاء وإن كانت من الأمور البديهية إلا أن الحال في ذلك يختلف باختلاف
أدلة الحصر وضوحا وخفاء، فقد يكون باعتباره أضعف من أكثر المفاهيم، وقد
يكون أقوى. والذي تداول على ألسنة القوم منها في المقام تقديم الوصف العام
المعرف بالإضافة، أو اللام على الموصوف الخاص، كقولك: العالم زيد، وصديقي
عمرو، فقد اشتهر في كلامهم التعبير عن مدلوله بمفهوم الحصر، وعبروا عن الحصر
ب‍ " إنما " بمفهوم إنما، واختلفوا في حجيته وعدمها، أي في إثباته ونفيه على أقوال:
فعن الغزالي وجماعة من الفقهاء إثباته، وبه قال العلامة وأكثر من تأخر عنه
568

من علمائنا. وعن الحنفية والقاضي أبي بكر وجماعة من المتكلمين نفيه. وعن
بعضهم التوقف فيه.
ثم اختلف المثبتون في الدلالة - فأكثرهم على أنها من المفهوم وعن بعضهم
القول بكونها من المنطوق - وفيما هو المناط فيها. فيظهر من بعضهم أن الوجه فيه
مخالفة الترتيب الطبيعي: إما لجعل اسم الذات خبرا والوصف مبتدء، أو لتقديم
الخبر على المبتدأ على اختلاف الوجهين فيه. فينسحب الحكم في تقديم كل ما
كان من حقه التأخير - كتقديم الفاعل والمفعول على الفعل، والحال والتميز على
ذيهما، وغير ذلك - وعليه فلا حاجة إلى القيود المذكورة في العنوان، ولا يجري
في مثل: زيد العالم، والكرم في العرب، والأئمة من قريش، والأعمال بالنيات،
ونحوها.
ومنهم من جعل المناط فيه كون المبتدأ أعم من خبره بحسب المفهوم، فيدل
على انحصار مصاديقه فيه، وعليه فلا فرق بين مخالفة الترتيب وعدمها، فلو جعلنا
العالم في المثال خبرا مقدما لم يندرج في هذا العنوان.
ومنهم من جعل المدار على التعريف في مقام الحمل وكون المعرف أعم
بحسب المفهوم، سواء كان موضوعا أو محمولا، فلا فرق حينئذ بين قولك: " العالم
زيد " على كلا الوجهين فيه وقولك: " زيد العالم ". وعلى الوجهين فلا فرق في
المحمول بين الأوصاف وأسماء الأجناس، ولا في المحمول عليه بين العلم
وغيره، كما في قولك: الرجل زيد، والكرم في العرب، والأئمة من قريش،
وغيرها، ولا بين التعريف باللام والإضافة. وعلى هذا فينبغي عدم الفرق بين
قولك: " صديقي زيد " و " زيد صديقي " في الدلالة، كما يظهر من التفتازاني وغيره
مع ظهور الفرق بينهما من العرف، إذ لا يكاد يفهم الحصر من قولك: زيد صديقي.
وقد يعلل بدعوى ظهوره في الإضافة اللفظية، أي: هو صديق لي، فلا يفيد
التعريف وهو مشترك الورود.
وقد يدعى اختصاص المسألة بالتعريف باللام، وهو ينافي تمثيلهم بمثل
صديقي زيد.
569

إذا عرفت ذلك فنقول: احتج المثبتون بوجوه:
الأول: التبادر، فإن المفهوم من الأمثلة المذكورة وأمثالها هو الحصر والقصر،
حيث لا يكون هناك عهد ينصرف إليه اللفظ، من غير فرق بين التقديم والتأخير،
ولا بين الوصف واسم الجنس، كما في قولك: " الصديق زيد " و " زيد الصديق "
و " الرجل بكر " و " بكر الرجل ".
ويؤيده: أنه قد يؤكد الحكم بلفظ " الكل " كما في قولك: أنت الرجل كل
الرجل، أي الكامل في الرجولية بصفاتها وآثارها، كما قال الشاعر:
هم القوم كل القوم يا أم خالد...
فيكون الأول مفيدا لمعنى الثاني، إلا أن الثاني أصرح، فتقييد العنوان بتقديم
الوصف لبيان أظهر الفردين في إفادة الحصر، لاشتماله على تقديم ما حقه التأخير
أيضا، أو للجمع بين وجهي الدلالة.
وقد يفرق به في أصل الدلالة في بعض المقامات، كما في قولك: " صديقي
زيد " و " زيد صديقي " و " إياك نعبد " و " نعبدك ".
الثاني: أن التفتازاني نفى الخلاف بين علماء المعاني في إفادة الحصر إذا
عرف المبتدأ بحيث يكون ظاهرا في العموم، وجعل الخبر ما هو أخص منه بحسب
المفهوم، ومثل: " العالم زيد " و " الرجل بكر " و " صديقي عمرو " و " الكرم في
العرب " تمسكا باستعمال الفصحاء، وفي عكسه أيضا مثل: زيد العالم. قال
صاحب المفتاح (1): المنطلق زيد أو زيد المنطلق، كلاهما يفيد حصر الانطلاق في
زيد. لكن حكى عن المنطقيين أنهم يجعلونه في قوة الجزئية، أي بعض المنطلق
زيد أخذا بالأقل المتيقن على ما هو قانون الاستدلال، وذلك لا يقدح في الاتفاق
المذكور، فإن اتفاق علماء المعاني حجة في المقام، وحكايته من مثل التفتازاني
مسموعة، لأنه من أئمة هذا الفن.

(1) أي مفتاح العلوم للسكاكي.
570

الثالث: أن المراد من الوصف المحلى وشبهه في الأمثلة المذكورة إن كان هو
الجنس امتنع حمل الفرد عليه وحمله على الفرد، لأنه يقتضي الاتحاد. ومن البين
أن الفرد الخاص ليس عين حقيقة الجنس، إذ لا يعقل اتحاد الجزئي مع الطبيعة
الكلية، فلا يصح الإخبار عنها بأنها هو أو هو إياها، فينبغي أن يكون المراد منه
مصداقه، فإما أن يراد منه الفرد المعين، أو المبهم، أو الاستغراق، وحيث إن
المفروض انتفاء العهد بقسميه وانتفاء القرينة المفيدة للتعيين فلا يجوز حمله على
الأول، وإلا لزم خروج الكلام عن الإفادة.
والثاني أيضا لا معنى له، لامتناع وجود المبهم، فتعين الثالث. فقولك: " أنت
الرجل " في معنى قولك: " كل الرجل "، ولذا يؤكد به. ومن المعلوم أن الحمل في
ذلك مما لا يصح إلا مع انحصار مصداقه في الفرد، لامتناع حمل الكثيرين على
الواحد، وذلك:
إما حقيقة كما في قولك: زيد الأمير، أو على سبيل المبالغة والادعاء، كما في
قولك: الشجاع بكر، فالمراد هو المصداق الكامل. وهذا الوجه كما ترى يعم
صورتي تقدم المبتدأ أو تأخره، وحمل الوصف أو الجنس على العلم أو غيره
وعكسه، وينبغي اختصاصه بالمحلى باللام، لتعين حملها بعد تعذر الجنس، وانتفاء
العهد على الاستغراق وإن أمكن إجراؤه في غيره. ولا يخفى عليك ضعف الوجه
المذكور.
أما أولا فلأن الحمل إنما يقتضي الاتحاد في الوجود الخارجي، لا في
المفهوم، بل لا بد فيه من التغاير في الجملة ولو بحسب الاعتبار، لئلا يكون من باب
حمل الشئ على نفسه، فلا مانع من حمل المحلى على الجنس على الفرد.
وأما ثانيا فلأن حمل اللام في تلك الأمثلة وغيرها على الاستغراق في غاية
البعد والركاكة وإن ذكره التفتازاني وتبعه المحقق الشريف وغيره وجها في المقام،
لوضوح أنه لا يفهم من قولك: " أنت الرجل " أنك كل فرد من أفراده، وليس المراد
بقولك: " كل الرجل " ذلك وإن زعمه الفاضل المذكور إنما يراد به أنه استكمل تلك
الحقيقة وحاز تمام ما يكون في الرجل من مرضيات الخصال.
571

وقد يورد عليه أيضا بإمكان حمله على العهد، والمنع من انتفاء موجبه،
لوجود القرينة بملاحظة المحمول أو المحمول عليه، وخصوصا مع تقديمه في
الذكر، كقولك: زيد العالم، وهو كما ترى، إذ لا بد في القضية من تحصيل معنى
الطرفين وتعقله، ثم إيقاع النسبة بينهما، فلا يجوز أن يكون تحصيل المعنى
المحكوم به وتعقله بمعونة إسناده إلى المحكوم عليه بعد ذكره، أو بالعكس على
ما توهمه المعترض، بخلاف ما إذا ظهر العهد من قرينة أخرى، كأن تقول: أكرمت
عالما، والعالم زيد، أو زيد العالم.
الرابع: أن اللام حقيقة في تعريف الجنس، والمفرد المحلى ظاهر في الطبيعة
الجنسية، فإن وقع مبتدأ في الكلام دل على كونه مصداقا للمحمول، كما تقول:
الكرم في العرب، فمعناه أن جنس الكرم مصداق للوصف الثابت في العرب فلا
يعم الغير. وإن كان المحمول من الأعلام لزم توجيهه، لعدم جواز حمل العلم
الجزئي على غيره. إما بتأويل الاسم بالمسمى فيدل على الحصر كما ذكر،
أو بجعله من باب حمل أحد المترادفين على الآخر، كما تقول: الليث الأسد، وزيد
أبو عبد الله، فدلالته على الحصر أظهر، لأنه يفيد اتحاده معه في الماهية والوجود
في الذهن والخارج، فيكون الغرض من الحمل المبالغة. وإن وقع خبرا مقدما
أو مؤخرا دل حمله على موضوعه على اتحاده معه في الخارج فلا يتجاوزه.
وأورد عليه أولا بالنقض بالمنكر، فإنه لو تم الوجه المذكور لجرى في
المحمول المنكر أيضا، كقولك: زيد عالم، وعمرو صديق، وبكر أمير، وهكذا
فيكون مفاد الحمل اتحاده معه في الخارج، فلا يصدق إلا حيث يصدق فيكون
منحصرا فيه، وهو خلاف الضرورة.
وأجيب عنه تارة: بأن المحمول فيه ليس عين الجنس، بل هو فرد من أفراده
فلا يجري فيه ما ذكر. وأخرى بالتزام الدلالة فيه أيضا من حيث نفسه، إلا أن كثرة
استعمال المنكر في الفرد وندرة إرادة الحصر منه مما يوهن الدلالة فيه، بل يقوي
خلاف ذلك، بخلاف المعرف باللام إذ الأمر فيه بالعكس، لشيوع استعماله في
الحصر فيقوى مدلوله.
572

ويرد على الأول: أن المحمول على ما هو طريقة الحمل عين المنكر، وهو
حقيقة الفرد المنتشر دون الفرد الخاص، فقضية الحمل على ما ذكره المستدل
اتحاد الموضوع المذكور مع المحمول الذي هو الفرد المنتشر، فينبغي أن لا يصدق
إلا حيث يصدق.
وعلى الثاني: أن التزام دلالة المحمول المنكر على الحصر من حيث نفسه
ظاهر الفساد، إذ مع قطع النظر عما ذكر من شيوع الاستعمال لا يكاد يفهم منه معنى
الحصر أيضا في شئ من الاستعمالات، ولا توهمه متوهم في شئ من المقامات،
وهو الوجه في عدم وقوع استعماله في الحصر، لا أنه الوجه في عدم إفادة الحصر.
وثانيا بالحل، وهو: أن الحمل والصدق إنما يستدعيان الاتحاد في الوجود
الخارجي، ومن البين اتحاد الكلي مع كل فرد من أفراده في الخارج، وانما
يختلفان بحسب المفهوم، فالحكم بأن جنس الكرم - مثلا - موصوف بكونه حاصلا
في العرب لا يستلزم انحصار أفراده فيهم، لجواز أن يثبت لهم في ضمن فرد
ولغيرهم في ضمن فرد آخر.
وقد يجاب عنه: بأن ما ذكر إنما يتم في المحمول المنكر، ولذا لم يقل أحد
بإفادته للحصر كما ذكر. وأما التعريف باللام فإنه يقتضي الإشارة إلى مدخولها
على وجه التعيين، وليس المراد منه الحقيقة الجنسية من حيث هي، إنما يراد به
تلك الحقيقة مقيدة باعتبار الخارج. ومن المعلوم أن الماهية الخارجية عند عدم
العهد لا تعين لها إلا باعتبارها من حيث تمام تحققها وتحصلها في الخارج،
فحملها على الفرد المخصوص يدل على أنه قد حاز تمام تلك الحقيقة الخارجية،
فلم يبق لغيره حظ منها، وإلا لم يكن جائزا للكل، بل للبغض، فيدل على الحصر.
وفيه: أن لام التعريف إنما يقتضي الإشارة إلى الحقيقة الجنسية من حيث
تعينها في نفسها وامتيازها عن سائر الحقائق، ولو اقتضى الإشارة إلى تمام الأفراد
الخارجية من حيث إنها تمام تحصلها في الخارج لدل على الاستغراق، وقد
عرفت ضعف البناء عليه.
573

غاية الأمر عدم استعماله فيه بنفسه، ودلالته عليه بالالتزام، وهو فاسد،
والوجه المذكور لا يفي بإثباته، إذ ليس تعينها في ضمن جميع الأفراد الموجودة
في الخارج تعينا لتلك الماهية على الحقيقة لاحتمالها للأفراد الفرضية القابلة
للوجود أيضا، بل تعينها من حيث وقوعها في الخارج في ضمن تلك الأفراد
بمجموعها ليس بأولى من تعينها في ضمن الفرد المعين. وكما أن الفرد لا يتعين من
غير عهد ولا قرينة كذا المجموع لا يتعين إلا بإقامة القرينة عليه، وكل ذلك خارج
عن مدلول الجنس المحلى من حيث نفسه، وإنما يقتضي اللام تعريف مدخولها من
حيث نفسه وهو الطبيعة الجنسية من حيث هي.
فالوجه أن يقال: إن التعريف باللام يقتضي الإشارة إلى نفس الحقيقة
الجنسية، فحمل الفرد عليها يدل على غاية المبالغة في إفادة الحصر فتكون دلالتها
عليه أقوى من أداة الحصر، فإنك تدعي اتحاد تلك الحقيقة مع الفرد المخصوص
فكأنها هو بعينه كما تقول هل سمعت بالأسد وتعرفت حقيقته؟ فزيد هو هو بعينه،
كما ذكره الشيخ عبد القاهر في الخبر المحلى باللام، ويظهر ذلك من كلام
الزمخشري في قوله تعالى: * (وأولئك هم المفلحون) *. ومحصله: أن تعريف
المحمول باللام قرينة على أن المقصود به الحمل الذاتي، أي حمل " هو هو " دون
الحمل المتعارف، إنما يقع الحمل المتعارف في المحمول المنكر، لأنه الذي
تعارف فيه حمل الكلي على الفرد دون المعرف، فيحمل فيه على حقيقة الحمل
المقتضي للاتحاد المستلزم للحصر، لوضوح أن الشئ لا يتجاوز عن نفسه،
وحيث لا اتحاد هناك على الحقيقة فيكون الحمل فيه من باب المبالغة في الحصر
بادعاء أن الموضوع ليس له حقيقة سوى حقيقة المحمول.
الخامس: أن الغرض من الحمل عند تعريف المحمول بالألف واللام لو كان
مجرد الاتحاد في الوجود الخارجي لضاع تعريف المحمول، لأن هذا المعنى مما
يفيده المحمول المنكر أيضا، فلا بد من إفادة التعريف أمرا زائدا على ذلك،
ولا تكون الزيادة إلا بإفادة معنى الحصر، أو ما يستلزمه من الاتحاد في الحقيقة
على ما ذكرناه.
574

وأنت خبير بأنه لولا ما علم من الفرق بين لام التعريف وتنوين التنكير
بحسب المدلول كما ذكرناه لما كان القول بلزوم ضياع الأول أولى من القول بلزوم
ضياع الثاني، فذلك بمجرده لا يجدي في المقام شيئا، فمرجعه إلى ما ذكرنا من
إفادة التعريف للاتحاد مع الحقيقة الجنسية، وإلا لانتفت الفائدة في زيادته.
السادس: أنه لو لم ينحصر العالم في زيد والصديق في عمرو في المثال
المعروف وما أشبهه لكان المبتدأ أعم من خبره فكان إخبارا بالخاص عن العام،
وذلك كذب، كما لو قال: الحيوان انسان، والإنسان زيد، واللون أسود، فإن ما ثبت
للشئ بحسب مقتضى حمله عليه يثبت لجميع أفراده وجزئياته، فلا يصح حمل
المصداق الخاص على المفهوم العام. وقضية هذا الوجه أن يكون العالم مبتدأ
وزيد خبرا له، كما هو أحد الوجهين فيه، وبه قال التفتازاني، وعليه حمل كلام
العضدي.
وأورد عليه: بأن الكذب إنما يلزم لو كان الألف واللام فيه للعموم، كما لو قيل:
كل حيوان انسان، وهو كذب، وليس كذلك، بل هي ظاهرة في البعض، فكأنه قال:
بعض العالم زيد، وبعض أصدقائي عمرو، حتى لو ثبت أن الألف واللام إذا دخلت
على اسم الجنس تكون عامة، وكان المتكلم مريدا للتعميم كان دالا على الحصر
لا محالة، وكان كاذبا على تقدير ظهور عالم أو صديق آخر، كذا في الأحكام.
وأجيب: بأن المراد من العالم إذا لم يكن نفس حقيقة الجنس لكان مصداقه،
وهو ليس بفرد خاص، لعدم العهد، وعدم فائدة في العهد الذهني، فيحمل على
الاستغراق.
واعترض بالمنع من عدم الفائدة على تقدير إرادة العهد الذهني، إذ مفاده
حينئذ اتحاد المحكوم به بفرد من أفراد المحكوم عليه.
وأنت خبير بأن الغرض من الاستدلال: أن المانع من حمل الخاص على العام
في سائر المقامات حاصل في المقام، فلو فرض غير زيد وهو عمرو - مثلا - عالما
لكان العالم أعم من زيد وعمرو قد أخبرت عنه بأنه زيد، فيدل على الحصر، إلا أن
575

دلالته عليه إنما تكون بحسب المعنى المفهوم منه بعد ملاحظة قرائن المقام،
فحمل المثال على ذلك إنما يكون بعد تخصيصه بما يصلح أن يحمل عليه زيد،
وهو الكامل في العلم على وجه تصوره المخاطب وتوهمه وأنت تعلم ذلك فتخبر
عنه بأنه زيد، ولا منافاة في ذلك للدلالة على الحصر.
السابع: أنه لو لم يدل على الحصر لكان الخروج فيه عن الوضع المألوف
والعدول عن الترتيب المعروف إلى غيره خاليا عن الفائدة، والوجه في مخالفته
للترتيب ظاهر، لأن العالم في المثال إن كان خبرا فتقديمه على المبتدأ خلاف
الأصل فيفيد الحصر، كما في قوله تعالى: * (إياك نعبد وإياك نستعين) *. وإن كان
مبتدأ كان الوصف محمولا عليه واسم الذات محمولا، وهو أيضا خلاف الأصل،
كما مرت الإشارة إليه.
وفيه: أن مخالفة الترتيب المعهود إنما يقع لنكتة وفائدة ما، ولا ينحصر في
إرادة الحصر، لإمكان ابتنائه على فوائد اخر، كمزيد الاهتمام، أو ملاحظة الأدب
والاحترام، أو إرادة التبرك بتقديمه، أو حصول الالتذاذ بذكره فترتاح النفس
بالابتداء به، أو موافقة المخاطب في كلامه، إلى غير ذلك.
نعم، إذا فرض انحصار الفائدة في ما ذكر أو ظهوره من الكلام أو من قرائن
المقام تمت الدلالة عليه، وقد ظهر بما مر ضعف حجة النافي - وهو دعوى التسوية
بين تقديم الوصف في الأمثلة المذكورة وتأخيره - مع دعوى الاتفاق على عدم
إفادة الحصر في الثاني، فكذا الأول، وذلك لوضوح تطرق المنع إلى كل واحدة من
المقدمتين.
أما الأولى فلأن بعض الوجوه السابقة وإن كان مشتركا بين القسمين إلا أن
بعضها مما يختص بصورة التقديم كما عرفت، فلا يلزم الحكم بتساويهما وإن كان
هو الصواب.
وأما الثانية فلأن الاتفاق إن لم ينعقد على إفادة الحصر كما ادعاه بعضهم
فلا اتفاق على خلافه قطعا، وكأن تقييد العنوان في كلامهم بالتقديم بيان لأظهر
القسمين، فإن كثيرا منهم قد صرحوا بعدم الفرق ووافقوا القوم في العنوان.
576

ثم لا يخفى أن الدلالة على الحصر في محل المسألة وإن كانت من المنطوق
إلا أن دلالته على النفي التزامية خارجة عن محل النطق كما عرفت، فالحال في
ذلك هو الحال في دلالة التعليق على الشرط والغاية وغيرهما، ولعل من عد
الدلالة المذكورة من المنطوق إنما اشتبه عليه الملزوم باللازم، أو تسامح في
التعبير، ولذا قال التفتازاني: إن كون هذا الحصر مفهوما مما لا ينبغي أن يقع فيه
خلاف، للقطع بأنه لا تعلق لمحل النطق بالنفي أصلا، وفي العبارة مسامحة، إذ ليس
نفس الحصر مفهوما كالشرط والغاية، وإنما المفهوم ما يلزم ما يلزمه من الانتفاء.
ولذا لو وقع التصريح بلفظ " الحصر " و " القصر " أو بما يرادفه أو يدل عليه من
الأسماء والحروف في الكلام لم يخرج بذلك عن حد المفهوم على ما ذكرناه.
نعم، لو كان مدلول الجملة ثبوت الحصر بالأصالة كان من المنطوق، كما
عرفت في الشرط والغاية. ومما ذكر يظهر الحال في سائر ما يفيد الحصر من
الهيئات والحروف أيضا.
فمن الهيئات: مخالفة الترتيب الطبيعي، حيث يظهر من الكلام أن يكون
العدول عنه لإفادة الحصر، كما عرفت.
ومنها: تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي إن ولي حرف النفي، ولذا
لا يحسن أن تقول: ما أنا ضربت زيدا ولا غيري، لكن الحصر فيه مطرد.
ومنها: ورود الكلام في مقام التعريف والبيان فيفيد الحصر، كما في الحدود
تقول: النحو علم بكذا، والطب علم بكذا، وهكذا.
ومن الحروف: وقوع ضمير الفصل بين المسند والمسند إليه، فإنه يدل على
قصر الأول على الثاني، كما نص على ذلك علماء المعاني. وبه صرح جماعة من
المفسرين في قوله تعالى: * (إن الله هو يقبل التوبة عن عباده) * (1) و * (كنت أنت
الرقيب عليهم) * (2) و * (إنك لأنت الحليم الرشيد) * (3) و * (إن الله هو الرزاق) * (4)

(1) سورة التوبة: 104.
(2) سورة المائدة: 17.
(3) سورة هود: 87.
(4) سورة الذاريات: 58.
577

وغير ذلك. ويشهد به النقل، والاستعمال، والتبادر العرفي، وفهم التأكيد من إتباعه
بالحصر، وحسن التكذيب بدونه، وقبح الاستفهام عنه. ولا ينافيه إفادة التأكيد،
فقد يكون في الكلام ما يفيد الحصر من دون ضمير الفصل، فيكون الضمير تأكيدا
له، كما في جملة من الأمثلة المذكورة.
فما يظهر من الكشاف من حصر مجيئه للتأكيد فيما إذا كان التخصيص
حاصلا بدونه لا منافاة فيه لإرادة الحصر، بل يؤكده.
وقد يعرف المبتدأ بحيث يفيد قصر المسند إليه على المسند على ما عرفت،
كما تقول: الكرم هو التقوى، والحسب هو المال. ومن هنا قد يشتبه الأمر، فيقال
بدلالة ضمير الفصل على ذلك أيضا، مع تصريح جماعة من أهل الفن باختصاص
دلالته على الحصر بقصر المسند على المسند إليه. وأما العكس فلا ربط للضمير
بإفادته فيكون للتأكيد.
وهل يجري الحكم في الضمير الواقع بين الخبرين إذا كان للمبتدأ خبران
معرفان باللام، أو بين الحال وصاحبها وما أشبه ذلك من المقامات؟ يحتمل ذلك،
كما ذكره بعض أئمة النحو. وتفصيل الكلام في ذلك وفي شرطه يطلب من مظانه.
ومنها: عدة من الحروف التي قد تستعمل فيما يفيد الحصر مثل " بل و " لكن "
وغيرهما، وتفصيل القول فيه أيضا يطلب من مظانه.
ومنها: كلمة " إنما " بالكسر، وألحق بها الزمخشري " أنما " بالفتح، ووافقه عليه
آخرون، وإن قيل: إنه مما انفرد به لكن لم يثبت، فالأصل أن تكون مركبة من " أن "
و " ما " زيادة في التأكيد لثبوت الوضع في المفرد وعدم ثبوته في المركب. وأما
" إنما " فإنها موضوعة للحصر، لتبادره منها، وشيوع استعمالها فيه في الكتاب
والسنة، وكلمات الفصحاء، وأشعار العرب، ونص أئمة اللغة والنحو والتفسير
والأصول عليه. وعن الأزهري نسبته إلى أهل اللغة. وعن ظاهر السكاكي
والكاتبي وغيرهما إجماع النحاة عليه. وحكى التفتازاني نقله عن أئمة النحو
والتفسير. وفي المجمع: ولم يظفر بمخالف لذلك، قال: واستعمال أهل العربية
والشعراء والفصحاء إياها بذلك يؤيده.
578

ويشهد بتبادر المعنى المذكور: أنه لا فرق بحسب العرف بين * (إنما إلهكم
الله) * وبين لا إله لكم إلا الله، ولا بين قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنما الأعمال بالنيات " (1)
وقوله: لا عمل إلا بالنية (2) ولا بين قوله تعالى: * (إنما حرم عليكم الميتة) * (3)
وقولك: ما حرم عليكم إلا الميتة، فهي تتضمن معنى " ما " و " لا " كما قال النحاة:
إنها لإثبات ما بعدها ونفي ما عداه. وفي الصحاح: أنه يوجب إثبات الحكم
للمذكور ونفيه عما عداه.
وعن أبي علي الفارسي في الشيرازيات: أن العرب عاملوا " إنما " معاملة
النفي، وقد يوهم ذلك ما نسب إليه من القول بأنها نافية، وهو فاسد قطعا، أو أنها
مركبة من حرفي " إن " للإثبات " وما " للنفي، فحيث يمتنع تواردهما على أمر
واحد يجب تعلق الأول بالمذكور والثاني بما سواه، للاتفاق على بطلان العكس،
فيكون ذلك هو الوجه في إفادتها للحصر، فإن أريد توجيهه بذلك بحسب الأصل
أمكن، فهي مناسبة ذكرت لتضمنها معنى الإثبات والنفي، كسائر النكات التي تذكر
بعد الوقوع، وإلا فليس المتبادر منها إلا معنى واحدا، ولا يفهم منها المعنى
التركيبي، كيف؟ ومن المعلوم أن " إن " لا تدخل على الفعل، وأنها ناصبة للاسم،
وأنها تدل على تأكيد ما دخلت عليه نفيا كان أو إثباتا، وأن " ما " النافية تقع في
صدر الكلام ولا تدخل عليها إن.
وقد حكي إجماع النحاة على أنها لنفي ما دخلت عليه، وليس في كلام
الفارسي ولا غيره من النحاة استعمالها في النفي، ولا في المعنى التركيبي، كما نص
عليه ابن هشام، بل حكي إجماع النحويين على بطلان كل من المتقدمتين من
استعمال الجزءين في الإثبات والنفي. وعن علي بن عيسى الربعي: أن ذلك ظن
من لا وقوف له بعلم النحو، وأضعف من ذلك دعوى تركبها من " إن " و " ما " الزائدة

(1) الدعائم 1: 156، الوسائل 1: 34 باب 5 من أبواب مقدمة العبادات الحديث 6، 7، 10.
(2) الوسائل 1: 33 و 34 باب 5 من أبواب مقدمة العبادات الحديث 1، 2، 3، 4، 9.
(3) النحل: 115.
579

فتفيد تأكيدا على تأكيد فناسب الحصر، إذ هو مع ضعف أصله ومخالفة الزيادة
للأصل كما ترى، لوضوح أن تكرار التأكيد ولو ألف مرة لا يفيد معنى الحصر.
وحكى الآمدي عن أصحاب أبي حنيفة وجماعة ممن أنكر دليل الخطاب:
أنها لتأكيد الإثبات، ولا دلالة لها على الحصر، قال: وهو المختار.
واحتج عليه: بأن كلمة " إنما " قد ترد ولا حصر، كما في قوله (عليه السلام): " إنما الربا
في النسيئة " (1) مع انعقاد الاجماع على تحريم ربا الفضل، فإنه لم يخالف فيه إلا
ابن عباس وقد رجع عنه، وعلى ذلك حملت عدة من الآيات كقوله تعالى: * (إنما
المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) * (2) و * (إنما المؤمنون إخوة) * (3) و * (إنما
يريد الله ليذهب عنكم الرجس) * (4). وقد ترد والمراد به الحصر، كقوله: * (إنما أنا
بشر مثلكم) * (5) وعند ذلك فيجب اعتقاد كونها حقيقة في القدر المشترك بين
الصورتين، وهو إثبات الخبر للمبتدأ نفيا للتجوز والاشتراك عن اللفظ، وبأن كلمة
" إنما " لو كانت للحصر لكان ورودها في غير الحصر على خلاف الدليل، وهو
خلاف الأصل، وليس فهم الحصر في صورة الحصر من غير دليل لعدم انحصار
دليل الحصر فيها.
وقد يحتج أيضا: بأنه لا فرق بين قولك: إن زيدا قائم، وإنما زيد قائم، فإن " ما "
فيها زائدة فتكون بحكم العدم، كما في قوله تعالى: * (فبما رحمة من الله لنت
لهم) * (6)، ومع الشك في زيادة المعنى بها فالأصل عدمها، ولا يخفى فساد القول
المذكور، فإن المدار في إثبات اللغات على اللغة والعرف، وقد عرفت تطابقهما
على المعنى المذكور، ولو فرض وقوع الخلاف فيه من أهل اللغة فاللازم تقديم
قول المثبت فيه على النافي سيما مع تأيده بما عرفت. وما ذكر من التعليل لنفي
الدلالة واضح الفساد، فإن استعمالها في غير الحصر لو ثبت ففي غاية الندرة، وإنما

(1) سنن ابن ماجة 2: 759.
(2) الأنفال: 2.
(3) الحجرات: 10.
(4) الأحزاب: 33.
(5) الكهف: 110.
(6) آل عمران: 159.
580

يستعمل في كلام العرب في معنى القصر كما عرفت، فيكون حقيقة فيه احترازا عن
التجوز في الاستعمالات الشائعة. والقول باستعمالها فيها في القدر المشترك
واستفادة الحصر من دليل آخر وهم فاحش، فإنا نقطع باستعمالها في خصوص
المعنى المذكور وتبادره منها، وعدم الحاجة إلى استفادة معنى الحصر من غيرها،
بل كثيرا ما ينحصر دليل الحصر فيها، فالاستعمال النادر لو فرض وقوعه أحق بأن
يكون مجازا، إذ النادر في حكم المعدوم سيما مع معارضته بالمثل، على أن تسليم
استعمالها في الحصر تارة وفي غيره أخرى ينافي ما بني عليه من الحمل على
القدر المشترك، لرجوعه إلى نفي الأول وترجيح الآخر من غير مرجح، فإن القدر
المشترك هو الثاني بعينه، إذ ليس المراد منه استعمالها بشرط عدم وقوع الحصر
فيصدق في مقام الحصر أيضا.
غاية الأمر اقتران الاستعمال إذا بثبوت الحصر من دليل آخر من غير أن
يكون اللفظ مستعملا فيه، فيكون استعماله على ذلك في خصوص الحصر كما هو
الغالب مجازا، وفساده ظاهر، مضافا إلى ما تقرر من عدم دلالة الاستعمال
بمجرده على الحقيقة، مع أن المنع من استعمالها في الحصر في الأمثلة المذكورة
وغير ظاهر، لإمكان إرادة الحصر المجازي، أو الادعائي، أو الإضافي، أو حصر
الكمال. ولو أريد الحقيقة أمكن تقييد المثال الأول على فرض ثبوته بالمتساويين،
أو في بيع غير المكيل والموزون، كما قاله جماعة من الأصحاب وأكثر العامة في
بعض الموارد.
ثم إن غاية الأمر أن يكون ظاهره إذا مخالفا للإجماع، ووجه الحصر في
الآيتين الأخيرتين عندنا ظاهر. وما ذكر من التسوية بين كلمتي " أن " و " إنما " في
المدلول واضح الفساد، فإن الأولى تدل على تأكد الإثبات، والثانية على قصر
الحكم على المذكور وحبسه فيه، فيلزمه انتفاؤه عن غيره، فهي موضوعة للحصر،
والمحصور هو اللفظ المتصل بها، والمحصور فيه إنما يقع بعد ذلك في الغالب، فإن
كان المتصل بها وصفا أو حكما دلت على انتفائه عن غير المذكور فيه، كما في قوله
581

تعالى * (إنما وليكم الله...) * (1)، وإن كان موضوعا لأحدهما دلت على انتفاء غيره
عنه، كما في قوله سبحانه: * (إنما أنا بشر مثلكم...) * (2)، وحيث كان الانتفاء على
أحد الوجهين من اللوازم البينة لمعنى القصر كانت الدلالة عليه من باب المفهوم
وإن كان دلالتها على الحصر بالمنطوق.
وقد قيل: إن دلالة " إنما " على النفي إنما يكون بالمنطوق تعليلا بوضعها
للحصر، وبما ذكر من تضمنها معنى " ما " و " لا " وهو ضعيف، فإن الدلالة المفهومية
أيضا مستندة إلى الوضع غالبا، غير أن اللفظ لم يستعمل في نفس المدلول، إنما
وضع لملزومه واستعمل فيه، كما في مفهوم الشرط والغاية، فإن دلالة الأداة على
أحدهما بالمنطوق وعلى ما يلزمهما من الانتفاء بالمفهوم - كما مر في محله - وما
ذكر من تضمنها معنى النفي إنما يراد به ما ذكر، وإلا فلا دليل عليه كما عرفت، ولذا
يحسن التصريح بالنفي بعد " إنما " عند إصرار المخاطب على الانكار، ولا يحسن
تكراره بنفسه: إنما زيد قائم لا قاعد، ولا يقال: ما زيد إلا قائم لا قاعد.
نعم، لو قلنا بتركيب اللفظ المذكور من حرفي الإثبات والنفي وبقائه على
المعنى التركيبي كانت في الدلالة في ذلك من المنطوق، لتصريحه إذا بالانتفاء وإن
كان متعلقه مقدرا في الكلام، إذ المقدر في حكم المذكور. لكنك قد عرفت ضعف
الاحتمال المذكور وإن أمكن ذكره من باب المناسبة، فتأمل.
ومنها: مفهوم الاختصاص والتوقيت والتحديد والبيان حيث لا يكون في
محل النطق، وهي قريبة من معنى الحصر، بل راجعة إليه في الحقيقة، سواء دل
عليها أسماؤها أو الحروف المستعملة فيها، كما في قوله تعالى: * (أقم الصلاة
لدلوك الشمس) * (3)، وقولك: استأجرت الدار التي لزيد، إلى غير ذلك. أما لو كان
مدلول القضية نفس تلك المعاني كأن تقول: المال لزيد، وما بين الظهر والمغرب

(1) المائدة: 55.
(2) الكهف: 110.
(3) الأسراء: 78.
582

وقت للظهرين، والكر ثلاثة أشبار في مثلها، إلى غير ذلك فدلالتها على الانتفاء في
غير المذكور من المنطوق، كالنطق بالحصر وغيره.
[مفهوم العدد]
ومنها: مفهوم العدد، وقد اختلفوا في أن تعليق الحكم عليه هل يقتضي من
حيث هو نفيه عن سائر الأعداد الزائدة أو الناقصة، أو لا بل هو ساكت عن حكم
سائر الأعداد غير متعرض له بنفي ولا إثبات إلى أن يقوم على أحد الأمرين شاهد
آخر؟ المعروف بين الأصوليين هو الثاني، حتى حكي اتفاقنا عليه، إلا أن جماعة
منهم ذكروا في المسألة تفصيلات مرجعها إلى ما ذكر من الفرق بين قيام شاهد
آخر على أحد الأمرين وعدمه، ومن البين خروج الأول عن محل الكلام فلا
ينبغي عده قولا ثالثا في المقام.
فمنها: ما اختاره الآمدي في الإحكام بعد نقل الخلاف في المسألة من
التفصيل بين العدد الذي يكون الحكم فيه ثابتا بطريق أولى وما كان مسكوتا عنه.
فمن الأول ما كان ثبوت الحكم في الزائد أولى دون الناقص، كما لو حرم جلد
الزاني - مثلا - بعدد معين، أو قال: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا " فإنه يدل
على تحريم الزائد من الأول، واعتصام الزائد من الثاني بالأولوية، لاشتمالهما
على العدد المنصوص عليه وزيادة. أما الناقص فمسكوت عنه إلا بشاهد آخر،
كمفهوم الشرط، ومنه ما كان بالعكس من ذلك، كما لو أوجب جلد الزائد مائة، أو
أباح ذلك، فحكم ما نقص عن ذلك كحكم المائة، لدخوله تحتها، لكن لا مع
الاقتصار عليه، بخلاف الزائد فإنه مسكوت عنه.
ومنها: ما ذكره السيد عميد الدين وحكاه عن المحققين من أن العدد إذا كان
علة كان الزائد عليه ملزوما للعلة، لاشتماله على الناقص، إلا إذا كان موصوفا
بوصف وجودي فلا يجب حينئذ كون الزائد عليه موصوفا به. وأما الناقص فإن
كان العدد الزائد إباحة لزم ثبوتها في الناقص مع دخوله تحت الزائد، كإباحة جلد
583

الزاني مائة فإنه يوجب إباحة الخمسين بمعنى مطلق الإذن في الفعل، وإلا لم يلزم،
كإباحة الحكم بالشاهدين فإنه لا يستلزم الحكم بالواحد، لعدم دخوله تحت
الحكم بالأول. وكذا لو كان إيجابا فإن إيجاب الكل مستلزم لإيجاب كل جزء منه،
وإن كان حظرا فقد يكون الحكم في الناقص أولى، كحظر استعمال ما دون الكر
عند حظر استعمال الكر، وقد لا يكون، كتحريم جلد الزاني زيادة على المائة فإنه
لا يوجب تحريم المائة.
ومنها: ما ذكره بعضهم من أن العدد إما أن يكون علة لحكم، أو لا، فإن كان
علة دل التعليق عليه على ثبوته في الزائد، لاشتماله على العلة دون الناقص، وإلا
فإن كان الحكم حظرا أو كراهة دل على ثبوت أحدهما في الزائد، لاشتماله على
موضوع الحكم دون الناقص، وإن كان إيجابا أو ندبا أو إباحة دل على ثبوت مثله
في الناقص، لاندراجه في موضوعه دون الزائد.
وأنت خبير بأن الوجوه المذكورة لا محصل لها إلا ما ذكرناه، إذ لا يطرد
الحكم في ما ذكر، إنما المدار على إلغاء الخصوصية بالنسبة إلى الزائد أو الناقص
وعدمه، فليس شئ منها تفصيلا في محل المسألة.
نعم، قد يفصل بين ما إذا وقع جوابا عن المقيد فلا يفيد، وما إذا أطلق ولم يظهر
له فائدة سوى المفهوم فيفيد ذلك، وإلا فلا.
وفيه أولا: أنه يمكن القول بخروج الأول والآخر عن محل المسألة.
وثانيا: أنه لو تمت الدلالة لم يكن في مجرد ظهور الفائدة الأخرى ما يمنع،
بل ينبغي بناء الأمر فيه على أظهر الفوائد الممكنة، وإلا فلا فرق بين تحقق فائدة
أخرى في الكلام واحتمال وجودها في المقام، فإن قيام الاحتمال أيضا يمنع من
الاستدلال، إلا أن يقال بعدم العبرة بمجرد الاحتمال في فهم العرف، بل ينصرف
الذهن إلى إرادة المفهوم حتى يتحقق هناك فائدة أخرى تبعث على صرف الكلام
إليها، أو التردد في بنائه على إحداهما. وقد سبق في مفهومي الشرط والوصف ما
يغني عن إعادة الكلام في هذا المقام.
584

والحق أن تعليق الحكم على العدد المعين كتعليقه على سائر الألقاب لا يدل
بمجرده على حكم غيره من الأعداد إلا بقرينة تفيد ذلك، لأن الأعداد المختلفة قد
تتفق أحكامها، وقد تختلف، فتعليق الحكم على شئ منها لا يدل على ثبوته فيما
عداه، ولا على نفيه، فلو دل على شئ من ذلك لكان باعتبار زائد على مجرد
التعليق، لأن دلالته على ذلك على فرض ثبوتها ليست مستندة إلى وضع
المفردات، ولا إلى وضع الهيئة التركيبية، كما مر بيانه في مفهوم الوصف، ولذا لا
يلزم التجوز عند التصريح بخلافه، للقطع بعدم صحة السلب حينئذ، فتكون مستندة
إلى أمر زائد، وهو ما ذكرناه، وغاية ما يستدل به على ذلك وجوه:
الأول: أن تعليق الحكم على العدد المفروض لو لم يدل على انتفائه عن غيره
لعرى التقييد به عن الفائدة، وهو غير جائز في كلام الحكيم، بل خارج عن وضع
المخاطبات، كما مر بيانه في مفهوم الوصف.
وفيه: ما عرفت أيضا من أن الفائدة لا تنحصر في ذلك، لإمكان وقوعه لفوائد
اخر على حسب ما مر، على أنه إنما يلزم حيث يذكر العدد المخصوص بعد ذكر
العدد العام، كما في تقييد الموصوف العام بالوصف الخاص، وذلك غير مفروض
في المقام، وإلا فبيان حكم العدد المخصوص كغيره لا يدل على نفيه عما عداه، إذ
لا يلزم في بيان الحكم ذكر جميع موارده، إنما يذكر من ذلك ما يقتضيه الحال، كما
يأتي في اللقب.
الثاني: استقراء المحاورات العادية والمخاطبات العرفية الجارية بين الناس
من قديم الدهر، لاستمرار الطريقة على عدم ذكر العدد المخصوص إلا مع اعتبار
الخصوصية واستقرار العادة على عدم ذكره بمجرد الاقتراح.
وفيه: أن ذلك إنما يقتضي أن يكون في ذكره خصوصية ما في الجملة، لا
خصوص إرادة انتفاء الحكم في غيره، ألا ترى أنه لو قال: " صم ثلاثة أيام " ثم
قال: " صم خمسة أو يوما " لم يتصور هناك منافاة بين الخطابين أصلا؟! إنما
يقتضي أن يكون ذكر الثلاثة في الأول لخصوصية ما، كما عرفت.
585

الثالث: أنا نقطع بأن من رأى عشرين أو خمسة أو ملك أحد العددين ثم قال:
رأيت عشرة، أو بعت، أو اشتريت، أو ملكت عشرة عد كاذبا، وكذا في سائر
الأمثلة، وليس ذلك إلا لاعتبار المفهوم المذكور.
وفيه: أن لزوم الكذب عند نقصان الواقع عن العدد المخبر عنه إنما هو
لمخالفته للمنطوق الصريح. أما مع الزيادة فلا يلزم الكذب، إذ لا يصح سلب رؤية
العشرة عمن رأى المائة.
نعم، لو لم يكن في ذكر العشرة خصوصية أصلا عد ذكرها لغوا، وربما عد
كاذبا مجازا من حيث ظهور كلامه في استعمال العشرة لخصوصية ما مع مخالفته
للواقع، أو حقيقة حيث يقع الكلام في مقام بيان تمام الواقع، فكأنه أخبر بأن الواقع
كذا، كما لو أخبر عما يملكه بأنه عشرة فتبين أنه ألف.
الرابع: أن التعليق على العدد لو لم يفد الاختصاص لحسن الاستفهام عن
حكم الزائد عليه، أو الناقص عنه، ومن البين خلافه، ألا ترى أنه لو علق الحكم
على إقامة العشرة، أو التزويج بأربع نساء، أو شهادة الشاهدين، أو صلاة الركعتين
إلى غير ذلك لم يحسن للمخاطب استفهامه عن الناقص والزائد؟! بل يستقبح ذلك
في العادات، وليس ذلك إلا لثبوت المفهوم المذكور في العرف والعادة.
وفيه: أنا لا ننكر استفادة المعنى المذكور في كثير من المقامات التي لا يظهر
فيها خصوصية أخرى لذكر العدد المخصوص سوى التخصيص، وإنما يقبح
الاستفهام في تلك الموارد حيث لا يكون الغرض منه الرجوع عن الظن إلى اليقين.
وأما مع احتمال الخصوصية فلا شك في حسن الاستفهام عن الزائد، فإن المسافر
إذا قال: " أقمت عشرة " أمكن أن يكون غرضه حصول الإقامة القاطعة للسفر، وإن
أقام خمسة عشر فيحسن السؤال عنه: هل أقمت زيادة على ذلك؟ وكذا من أخبر
بشئ من المذكورات أو غيرها بعد سبق نوع من الالتزام، أو التعاهد والتواعد
على العدد المخصوص، أو أمكن لحوق بعض الفوائد والآثار لذلك العدد لم يكن
في التقييد به دلالة على الحصر وحسن الاستفهام في ذلك المقام.
586

الخامس: ما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزل عليه * (إن تستغفر لهم سبعين مرة) *
قال (عليه السلام): " لأزيدن على السبعين " (1). فلو لم يسبق إلى فهمه الشريف أن ما زاد
بخلافه لما قال ذلك.
وفيه بعد تسليم الخبر: أن التقييد بالعدد وإن لم يكن فيه دلالة على المفهوم إلا
أن اختصاص الوارد به مما لا شك فيه، فيبقى غيره على الأصل فيه، على أن العدد
في ظاهر اللفظ إنما وقع في حيز الشرط ولذا استدل به على مفهوم الشرط، كما مر
في محله.
ومما ذكر يظهر الحال في جميع الأعداد التي علقت عليها الأحكام، كمقادير
الحدود، والديات، والمنزوحات، وأعداد الأذكار، والدعوات، والصيام، والصلاة،
والأوقات المضروبة لجملة من الأحكام بتعيين الأيام بالأصل أو الالتزام، فإن
الأمر فيما يزيد على ذلك راجع إلى ما كان عليه قبل الخطاب، أو قبل الالتزام،
فليس انتفاء تلك الأحكام بعد تمامها في تلك المقامات شاهدا على مفهوم العدد
على أنها واردة في مقام البيان، وتلك جهة أخرى في الدلالة على المفهوم خارجة
عن محل الكلام، فالاستناد إلى بعض ما ذكر في كلام بعضهم كالثمانين في حد
القذف واضح الفساد.
فظهر مما ذكر: أن اختصاص الحكم والنسبة اللفظية في كل من الانشاء
والإخبار بالعدد المفروض وانتفاء واقعه عن غيره بالأصل في موارده، أو ثبوته
في الأقل أو الأكثر بمفهوم الموافقة، أو لشمول العلة، أو من باب المقدمة في
مواردها، أو بخطاب آخر مثبت لحكم مستقل على حدة مما لا ينبغي الكلام فيه
والتنازع عليه، وكذا شمول إطلاق العدد للمقترن بالزيادة وغيره، حيث لا يكون
في اللفظ ما يفيد تقييده بشرط عدمها، لرجوعه إلى دلالة المنطوق، فإن كان شاملا
للوجهين اختص الحكم بالعدد وكان القدر الزائد خارجا عن مورد الحكم.

(1) المكارم 2: 134 نحوه.
587

وكذا لا كلام في دلالة الإخبار بالعدد الزائد على نفي الناقص، للزوم الكذب
قطعا. وكذا الأمر بالزائد يقتضي عدم جواز الاقتصار على ما دونه، لعدم حصول
الامتثال بالضرورة. فالكلام إنما هو في دلالة اللفظ على اختصاص الحكم
الواقعي أو النسبة الخارجية بالعدد المنطوق به على الوجه الذي اعتبر في محل
النطق من إطلاق أو تقييد ليفيد انتفاء أحدهما عن القدر الزائد خاصة في بعض
المقامات، وعن تمام العدد الزائد والناقص جميعا في غير الموارد المذكورة، على
ما هو الحال في الصلاة والطواف وغيرهما بحيث يصلح معارضا لما دل على
ثبوت أحدهما في أحد المقامين.
ويظهر من بعضهم تخصيص محل المسألة بالزائد دون الناقص، وذلك يتم في
الأخبار دون الأحكام، لتساوي نسبتهما إلى العدد المفروض، واللفظ إنما يدل
على حكم الموضوع المذكور فيه، وكل من العدد الزائد والناقص موضوع آخر
فلا بد في إثبات حكمه من دليل آخر.
نعم، إن ظهر من الكلام أو من قرائن المقام انتفاء سائر الخصوصيات
المتصورة لذكر العدد كان المفهوم من تعليق الحكم عليه إناطة الحكم الواقعي
أو النسبة الخارجية بخصوصه، فينتفي أحدهما في غيره، فلو دل دليل آخر على
ثبوته للزائد أو الناقص وقعت المعارضة بينهما، إلا إذا دل ذلك على حكم آخر
مستقل في نفسه مثل الأول لعدد آخر أيضا، للزوم مغايرته مع الأول، وأما لو لم
يظهر هناك من اللفظ ولا من خارجه خصوصية أخرى لذكر العدد ولا انتفاؤها عنه
تعين الاقتصار في مدلول اللفظ على المنطوق، لعدم ثبوت المفهوم مع قيام
الاحتمال المذكور، وأصالة انتفاء سائر الخصوصيات لا يجدي شيئا في المقام.
ودعوى أن المفهوم حيث كان فائدة معلومة في المقام كان هو المنساق من
اللفظ في نظر السامع دون الأمر المحتمل ممنوعة، إنما يتم الانصراف عند ظهور
الانتفاء، كما عرفت.
588

[مفهوم المقدار والمسافة]
ومنها: مفهوم المقدار والمسافة، فإذا علق الحكم على مقدار معين بحسب
الكيل أو الوزن أو المساحة أو غيرها فهل يدل على انتفائه فيما دونها أو ما فوقها؟
الظاهر جريان الحكم السابق في العدد فيه أيضا فإنه أيضا من الكم، وإنما الفرق
بينهما: أن ذلك كم منفصل، وهذا كم متصل فلا فرق بينهما، فإن ظهر من الكلام أو
من قرائن المقام إناطة الحكم به دل على انتفائه بانتفائه، لكن الإطلاق يقتضي
شموله للزائد هنا أيضا، كتعليق الاعتصام على الكر، والسفر على المسافة المعينة،
وغير ذلك، إلا إذا قام هناك شاهد أو قرينة على تقييده بشرط لا فيدل على نفي
الحكم عن المقدار الزائد مطلقا، كالزيادة في الصلاة والطواف وغيرهما، ويجري
الحكم في مطلق المركبات. فالغرض أن تعليق الحكم عليها وإن دل على انتفاء
ذلك الحكم المخصوص بانتفاء شئ من أجزائها لكنه لا يدل على انتفاء مطلق
الحكم بذلك إلا لشاهد آخر حسب ما مر بيانه.
[مفهوم الزمان والمكان]
ومنها: مفهوم الزمان والمكان، فإذا قيد الحكم أو النسبة في الإنشاءات
والإخبار بأحدهما فهل يدل على انتفائه في غيرهما؟ يختلف الحال في ذلك أيضا
باختلاف المقامات، ففي مثل تقييد الصلاة والصيام بأوقاتها، والحج بشهورها
وأيامها وأمكنتها، والفطرة بوقتها إلى غير ذلك يدل على الانتفاء في غيرها، وبه
يقيد مطلقاتها، بخلاف ما لم يظهر فيه الإناطة وأمكن وروده لخصوصيات
خارجية، وكذلك الحال في سائر القيود الواقعة في الكلام من تمييز أو حال
أو غيرهما، كما مرت الإشارة إليه.
والحاصل: أن الدلالة في أمثال هذه المفاهيم ليست وضعية، وإنما تتبع ظهور
الفائدة كما مر بيانه في مفهوم الوصف، فلا يلزم التجوز عند التصريح بخلافها،
بخلاف سائر المفاهيم المستندة إلى الوضع، كالشرط والغاية والحصر.
589

[مفهوم اللقب]
ومنها: مفهوم اللقب، والمعروف بينهم التعبير به عن تعليق الحكم بالاسم،
سواء كان من الأعلام الشخصية أو من أسماء الأجناس من الأعمال، كأسماء
العبادات والمعاملات، أو من سائر الأجناس أو الأنواع. وقيده بعضهم بما إذا كان
معرفا باللام وأطلق الباقون. ومنهم من قيد الاسم بغير الصفة، وهو الظاهر من
الباقين، لإطلاقهم اللقب في مقابلة الوصف.
وزعم بعضهم أنهم لم يفرقوا بين كون الاسم المخصوص بالذكر جنسا أو نوعا
أو وصفا، كلا تصحب فاسقا، فيكون الفرق بين اللقب والوصف بذكر الموصوف
وعدمه. وقد عرفت أن مفهوم الوصف أعم منه، فاللقب ما عداه، وحكي عن بعضهم
الفرق بين أسماء الأنواع فجعل لها مفهوما دون أسماء الأشخاص، مع أن المعروف
تمثيل المسألة بمثل: زيد في الدار، وتصريحهم بالأعلام الشخصية في العنوان
والاحتجاج. وكيف كان فالمعروف بينهم عدم دلالة التعليق المذكور على نفي
الحكم عما لا يتناوله الاسم، وأجمع عليه أصحابنا وأكثر العامة، بل حكى العضدي
والآمدي تارة اتفاق الكل على عدم اعتباره، وأخرى ذهاب الجمهور إليه.
وحكي القول بثبوته عن أبي بكر الدقاق، والصيرافي، وبعض المالكية، وبعض
الحنابلة. ونسبه الآمدي إلى أصحاب أحمد بن حنبل، وهو من غرائب المقالات،
فإن أكثر كلمات أهل العلم وأكثر عبارات الكتب والرسائل يشتمل على العنوان
المذكور مع القطع بعدم إرادة المفهوم فيها، وعدم انفهام ذلك المعنى فيها في شئ
من المقامات والمحاورات، وإنما يفهم حيث يفهم من خصوصيات خارجية
حاصلة في بعض الألقاب من حيث وقوعه قيدا زائدا في الكلام إذا انحصرت
فائدته في إفادة المعنى المذكور، أو غير ذلك على ما عرفت تفصيل القول في
أقسامه وموارده، وإلا فلم يزعم أحد أن يكون إثبات شئ لشئ مفيدا للحصر
فيه ونافيا لما عداه، وإلا لكان قولك: " زيد موجود، أو عالم، أو حي، أو مخلوق،
590

أو ممكن، أو مدرك، أو صادق، أو يحشر في القيامة، أو يموت ويفنى " إلى غير
ذلك من أنواع الإيجاب دالا على الحصر وانتفاء تلك المعاني عن غيره، وقولك:
" زيد ليس بواجب ولا دائم ولا خالق ولا رازق " إلى غير ذلك من السلوب مفيدا
لإثبات تلك المفاهيم لغيره، فتكون مداليل تلك الألفاظ مع قطع النظر عن القرائن
الخارجة راجعة إلى الكفر.
كما احتجوا على ذلك تارة بلزوم دلالة قولنا: " عيسى رسول الله " على نفي
نبوة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) وما قيل: إن المتكلم بذلك إنما لا يكون كافرا إذا لم يكن متنبها
لدلالة لفظه، أو كان متنبها لها غير أنه لم يرد بلفظه ما دل عليه مفهومه. وأما إذا كان
متنبها لدلالة لفظه وهو مريد لمدلولها فإنه يكون كافرا كما ترى، إذ لا يعتبر في
التكفير استعلام تنبه المتكلم لدلالة لفظه وإرادته لمدلولها من أمر آخر غير الكلام
الصادر منه، وإلا لما جاز الاكتفاء بعبارة المرتد في الحكم بكفره، إنما المدار في
ذلك على مدلول كلامه على أن الغرض من الاستدلال دعوى الضرورة على عدم
انفهام معنى الكفر من أمثال تلك العبارات ولو مع قطع النظر عن جميع
الخصوصيات الخارجية، فلا يرد دعوى استناده إلى قرائن الأحوال وإن فرض
عدم انفكاكه عنها أيضا.
وتارة بأنه إذا قيل: " زيد يأكل " لم يفهم منه أن غيره لم يأكل، ومثله إسناد
سائر الأفعال إلى شخص معين فإنه لا يدل على نفي أمثالها عن غيره.
وما قيل من أنه: إن أريد عدم فهم المثبت لمفهوم اللقب فممنوع، وإن أريد
عدم فهم النافي فلا يفيد عدم دلالته في نفسه واضح الفساد، إنما الغرض عدم
دلالته في نفسه على ذلك، وعدم انفهامه في عرف أهل اللسان، ومن توهم دلالته
فقد كابر وجدانه، ولو تم ذلك إيرادا في المقام لجرى في كل تبادر يستدل به في
المسائل اللغوية ونحوها، وهو كما ترى.
وأخرى بأنه لو كان مفهوم اللقب دليلا لما حسن من الانسان أن يخبر بأن
زيدا يأكل - مثلا - إلا بعد علمه بأن غيره لم يأكل، وإلا كان مخبرا بما يعلم أنه
591

كاذب فيه، أو بما لا يؤمن فيه من الكذب، وحيث يستحسن العقلاء ذلك مع عدم
العلم بما ذكر فيدل على عدم دلالته على نفي الأكل عن الغير.
وما قيل: إن فرض علمه بأكل الغير أن جهله به يصلح قرينة على عدم إرادة
المفهوم المذكور، فإن الظاهر من العاقل أنه لا يخبر عن نفي ما لم يعلمه فضلا عما
علم وقوعه، حتى أنه لو ظهر منه إرادته لنفي ما دل عليه لفظه عند القائلين به لكان
مستقبحا فاسدا أيضا، إذ القرينة لا بد من ظهورها في الكلام، أو من خصوصيات
المقام، ومجرد علمه في الواقع أو جهله مع عدم إظهار أحدهما لو تم قرينة في
المقام لكانت الدلالة على المفهوم المذكور كسائر المفاهيم متوقفة على ظهور
علمه بمقتضاها من الخارج، وعدم الاكتفاء فيه بظاهر التعبير، إذ معه يلزم ما ذكر
من الكذب بعد انكشاف خلافه، وكل ذلك خلاف الضرورة، وحيث إن المسألة من
الضروريات فذكر وجوه الإيراد والجواب فيها تطويل للكلام من غير طائل.
وغاية ما توهمه المثبت: أن ترجيح اللقب المذكور وتخصيصه بالذكر يفتقر
إلى مرجح، وليس إلا نفي الحكم عن غير المذكور، ولو احتمل غيره فالأصل
عدمه. وأنه لو تخاصم شخصان فقال أحدهما للآخر: " لست زانيا وليست لي أم
ولا أخت ولا امرأة زانية " فإنه يتبادر إلى الفهم نسبة الزنا إلى خصمه أو زوجته
وأمه وأخته، ولذا قال أصحاب أحمد ومالك بوجوب حد القذف عليه. وضعف
الوجهين في غاية الظهور، إذ اللقب ليس قيدا زائدا في الكلام حتى يفتقر إلى
فائدة زائدة على أصل الكلام، فذكره في كلام الحكيم إنما يفتقر إلى ترتب فائدة
عليه.
وأما ترك غيره وعدم التعرض له فلا يلزم ترتب الفائدة عليه، بل ويكفي عدم
ترتبها على الذكر، على أنه لو فرض زيادته في الكلام أمكن أن يكون تخصيصه
بالذكر لاختصاص الفائدة المقصودة به، فلا تظهر إلا بذكر خصوصيته، أو لغير ذلك
من الوجوه المرجحة له بالذكر، والأصل لا يجدي في المقام شيئا، إذ الدلالة
المتوقفة على انحصار الفائدة إنما تظهر بظهور الانحصار، لا بأصالة العدم. وأما ما
592

ذكر من المثال فليس من المسألة، إنما هو من باب التعريض بالمخاطب، وإلا
لكانت العبارة المذكورة على الوجه المذكور قذفا لكل أحد، وهو ضروري
الفساد، على أن الغرض إنما هو عدم دلالة اللقب من حيث هو على ما ذكر، وإلا
فيمكن استفادة المعنى المذكور من بعض خصوصيات المقام، كما لو قال في
جواب من سأله: أجاءك زيد أو عمرو؟ زيد جاءني، أو أوصى بعين لزيد ثم أوصى
بها لعمرو، أو أوصى إلى جماعة، أو وكلهم ثم خصص واحدا بالإذن على وجه
يفهم منه الرجوع إلى غير ذلك.
مفهوم العلة
ومنها: مفهوم العلة، فكل ما دل على العلية من اسم أو حرف أو غيرهما كلفظ
" العلة " و " السبب " أو " لام التعليل " أو التعليق على الوصف في بعض المقامات أو
غير ذلك يدل على ثبوت الحكم في غير الموضوع المذكور عند ثبوت العلة فيه
وانتفائه عنه عند انتفائه، لدوران الحكم مدار علته وجودا وعدما. وعن الغزالي
إنكار دلالته على انتفاء الحكم بانتفائه، وقد يعلل بوجهين:
أحدهما: أنه قد تقرر في محله أن علل الشرع معرفات للأحكام، علامات
عليها، وليست مؤثرة في حصولها. أما عند الأشاعرة فلكون الخطاب عندهم
قديما فلا معنى لاستناده إلى علة حادثة، ولامتناع كون أفعاله تعالى معللة
بالأغراض، ومنها الأحكام فلا تكون مستندة إلى العلة، فتعين حمل ما يدل على
العلية على تعريف الحكم الشرعي.
وأما عندنا فلأن الفعل الاختياري إنما يستند إلى الإرادة، فلا يكون غيرها
علة في صدوره عن الفاعل المختار، ونقل الكلام في علة الإرادة مدفوع بما تقرر
في محله.
وحينئذ فنقول: إن انتفاء المعرف للحكم الشرعي لا يستلزم انتفاءه في الواقع،
إذ لا يلزم من عدم معرفة الحكم معرفة عدمه، فلا يلزم من انتفاء العلة الشرعية
انتفاء معلولها.
593

الثاني: أنه لا يلزم من انتفاء العلة انتفاء المعلول، لإمكان استناده حينئذ إلى
علة أخرى، سواء كانت من العلل الشرعية أو العقلية، فإن كون ارتكاب الفاحشة
علة لإباحة الدم لا ينافي كون الردة علة لها، كما أن كون الشمس علة لتسخين
الماء لا ينافي كون النار علة له أيضا.
ويمكن الجواب عن الأول تارة: بأن انتفاء علة التعريف يقتضي انتفاء معلولها
وهو المعرفة بالحكم، فيصح نفيه بالأصل، فيمكن تقييد العموم أو الإطلاق بمفهوم
العلة، إذ بعد فرض انحصار المعرف في العلة المفروضة لا يمكن المعرفة بالحكم
في غير موردها، وبذلك يتم المقصود.
وتارة: أن مبنى كلام الأشعري واضح الفساد، وأما عندنا فالعلة المفروضة
تقتضي اختصاص المصلحة الباعثة على تشريع الحكم المفروض بموردها فينتفي
عن غيره.
وأخرى: بأن تعليق الحكم على العلة يقتضي إناطة الحكم بحصولها وجودا
وعدما كائنة ما كانت على نحو العلل العقلية، فلا يتوقف ذلك على كونها علة،
فيكون كسائر القيود المأخوذة في الحكم.
وعن الثاني أولا: بأن المعلول بعد انتفاء علته المذكورة إما أن يستند إلى علة
أخرى، أو لا، فإن كان الأول لم يكن ما فرضناه علة، إذ العلة حينئذ أحد الأمرين.
وإن كان الثاني لزم وجود المعلول بدون العلة.
وثانيا: بأن نفس التعليل ظاهر في تعليق الحكم على وجود العلة وإناطته بها
كما ذكر، فيدل على انتفائه بانتفائها، فيكون مدلولا التزاميا لظاهر اللفظ، فإذا قيل:
" الخمر حرام لإسكارها " دل على إناطة التحريم بالإسكار، فكأنه قال: المسكر
حرام، فلو فرض ثبوت التحريم لغير المسكر واقعا لكان ذلك حكما آخر غير
الحكم المعلل، فمع الشك فيه يتعين الرجوع إلى الأصل.
وثالثا: بأن تعليل الحكم الكلي بالعلة المفروضة ظاهر في الانحصار، إذ لا
يمكن استناد الأمر الواحد بالاعتبار الواحد إلى علتين مستقلتين في التأثير،
594

وإلا لكانت العلة مجموع الأمرين، أو كل واحد منهما على البدلية، وكل من
الأمرين مخالف لمدلول اللفظ لظهوره في استقلال العلة وتعيينها.
ورابعا: بأن الأصل انتفاء العلة الأخرى، وهو كاف في المقام، غير أنه لا يجدي
فيما إذا كان هناك عموم أو إطلاق يقضي بثبوت الحكم في غير مورد العلة، وكذا لو كان
الحكم المفروض موافقا لمقتضى بعض الأصول أو القواعد الشرعية، كما لا يخفى.
ثم إن الدلالة المذكورة إنما هي من باب المفهوم دون المنطوق صرح بالعلية
أو لا، كما لو قال الخمر حرام بسبب الإسكار، أو لعلة الإسكار، أو لإسكارها،
أو النبيذ المسكر حرام، حيث يقترن بما يفيد علية الوصف المذكور، خلافا لما مر
نقله عن بعضهم من التفرقة بين التصريح بالعلية وعدمه، وقد عرفت ضعفه.
نعم، لو قال: " الإسكار علة لتحريم الخمر " كان ذلك من المنطوق لذكر
الموضوع والمحمول في تلك القضية، فيكون الحكم المذكور إذا مأخوذ في معنى
المحمول المنطوق به، كما مر في نظائره.
ومنها: غير ما ذكر من المفاهيم فإن المفهوم كما عرفت إثبات الحكم المذكور
أو نفيه بالنسبة إلى غير الموضوع المذكور، أو إثبات غيره، أو نفيه بالنسبة إلى
المذكور، فكل لفظ دل على أحد الوجوه المذكورة بالالتزام بل وبالتضمن في
بعض الفروض كان من المفهوم.
وقد ذكر جدي الفقيه (قدس سره) في كشف الغطاء (1) من هذا الباب مفاهيم عديدة غير
ما ذكره القوم:
مفهوم التلازم
منها: مفهوم التلازم، كما في قوله (عليه السلام): " إن قصرت أفطرت، وإن أفطرت
قصرت " (2).
واعترض: بأن دلالة العبارة المذكورة على التلازم في الوجود إنما هي

(1) هذا تصريح بأن هذه المباحث صدر من قلم نجل المؤلف (قدس سرهما)، وقد تقدم ما يشهد بذلك في
الصفحة 568.
(2) كشف الغطاء: ص 29 س 29.
595

بالمنطوق، وعلى التلازم في جانب النفي إنما هي بمفهوم الشرطين، وهو مناقشة
في المثال، فكان الغرض منه بيان مصداق التلازم، فالمقصود: أن ما دل على تلازم
الوجودين يدل على انتفاء أحدهما بانتفاء الآخر فإنه من لوازمه البينة، وليس
بمذكور في محل النطق. نعم، لو كانت القضية الحكم بالملازمة بين الشيئين كان من
المنطوق كنظائره.
[مفهوم الاقتضاء]
ومنها: مفهوم الاقتضاء، كإيجاب المقدمة، والنهي عن الضد العام، وهو غير ما
تقدم في أقسام المنطوق من دلالة الاقتضاء، لما عرفت من تفسيره وتعيين
موارده، ولم يذكر هنا دلالته على النهي عن الأضداد الخاصة مع رجوعه عند
القائل به إلى إيجاب المقدمة، ولا على بطلان العبادات المضادة للمأمور به،
والوجه في الأخير ظاهر، لاستناد الفساد إلى دليل خارج عن مدلول الأمر، وكان
حكم الأضداد الخاصة عنده من هذا القبيل، لتوقفه على مقدمة خارجية بخلاف
الضد العام، لكون النهي عنه من اللوازم البينة للأمر، حتى ادعى بعضهم فيه العينية،
كما مر في محله.
وأما إيجاب المقدمة فالظاهر من كلام كثير منهم خروجه عن المفهوم، حتى
أوردوه نقضا في بعض الحدود المذكورة في محله كما عرفت، ويبنى ذلك على أن
دلالة اللفظ على اللازم البين بالمعنى الأعم هل يكون من باب المفهوم، أو لا
كاللوازم الغير البينة؟ وربما يستند في إيجاب المقدمة إلى وجوه اخر خارجة عن
مدلول اللفظ.
[مفهوم الزيادة والنقصان]
ومنها: مفهوم الزيادة والنقصان، كما لو علق المنع في النكاح على الزائد على
الأربع، وفي الصلاة في التنجس بالدم على ما يزيد على الدرهم، والانفعال على
596

الناقص عن حد الكر إلى غير ذلك، فإن المفهوم منها انتفاء الحكم في الناقص على
الأول، وفي الزائد على الثاني، ومرجعه إلى الوصف، لما عرفت من أن تعليق
الحكم عليه قد يدل على المفهوم بمعونة المقام، والحال في الأمثلة المذكورة من
هذا القبيل، وقد لا يفيد تعليق الحكم على أحد الوصفين مفهوما، كما لو وقع جوابا
عن المقيد، أو ظهرت هناك حكمة أخرى للتعيين سوى التخصيص.
[مفهوم ترتيب الذكر]
ومنها: مفهوم ترتيب الذكر في القرآن أو مطلقا حيث يدل على ترتيب
الحكم، فإن استند في ذلك إلى النص الدال على وجوب الابتداء بما بدأ الله تعالى
به كان من المنطوق، وإلا فلا دلالة عليه إلا إذا دلت القرينة على استعمال الواو فيه
للترتيب ولو على سبيل المجاز، فيرجع إلى المنطوق أيضا.
[مفهوم ترك البيان]
ومنها: مفهوم ترك البيان في موضع البيان، كالجمع بين الفاطميتين، ومثله
الحكم في كل حكم يعم البلوى به فتشتد الحاجة إليه، فترك البيان في مثله يدل
على انتفاء الحكم فيه، وهو الذي يعبر عنه بعدم الدليل دليل العدم، ولا ربط لذلك
بالمفهوم.
[مفهوم التعريض]
ومنها: مفهوم التعريض الحاصل بإيراد الكلام في معرض بيان حال
المخاطب، مثلا: كرب راغب فيك، أو إني راغب في امرأة تشابهك في الجمال، أو
قال لخصمه مشيرا إليه: لست زانيا، ولا أمي زانية، أو قال لمن أصابه من ناحيته
أذية: " المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه " مشيرا به إلى خصوص
المؤذي، إلى غير ذلك من الألفاظ الدالة من جهة الإشارة والسياق على مقصود
597

خاص بطريق الإمالة، من غير أن يكون ذلك المعنى بخصوصه مأخوذا في المعنى
المراد من نفس اللفظ على وجه الحقيقة أو المجاز أو الكناية، فلا يكون اللفظ
حينئذ مستقلا في إفادة المعنى المذكور، وإنما يفهم من الإشارة به إلى خصوصية
خارجة عن مدلول اللفظ مستندة إلى القرائن الحالية والمقالية، وهي غير
محصورة.
[مفهوم الإعراض]
ومنها: مفهوم الاعراض، كما إذا عد قوما فأعرض عن ذكر أعظمهم قدرا،
وذلك حيث لا يكون هناك مانع من ذكره من خوف أو احترام أو نحوهما، ولا
يكون تركه لوضوحه وظهوره في الذهن والاستغناء به عن ذكره، فالدلالة فيه إذا
ناشئة من جهة السكوت عنه وعدم التعرض له في مقام البيان، لا من نفس اللفظ،
كما في محل المسألة.
[مفهوم الجمع]
ومنها: مفهوم الجمع، كما قد يفهم الندب والكراهة - مثلا - عند تعارض
الأدلة.
وفيه: أن فهم المعنى المذكور إما من جهة كون أحد الدليلين قرينة على ما هو
المراد من الآخر، أو من باب ترجيح أحد المتعارضين لقوة الدلالة فيه أو غيرها،
وليس ذلك من المفهوم في شئ.
[مفهوم تعارض الأدلة]
ومنها: مفهوم تعارض الأدلة حيث يبنى على التخيير أو الترجيح، وليس
شئ منهما من المفهوم فضلا عن حكم التساقط.
ثم ذكر المحقق المذكور (قدس سره) زيادة على المفاهيم المذكورة أمورا اخر،
598

وعد منها مفهوم تغيير الأسلوب في الدلالة على تبدل الحكم وغيره من النكات
البيانية أو البديعية.
قال: ويتبعها: التقييد، والتلويح، والإشارة، والتلميح، وتتبع الموارد،
والسكوت، والمكان، والزمان، والجهة، والوضع، والحال، والتمييز ونحوها.
ثم قال: وتفصيل الحال: أن المعاني المستفادة قد تكون مفهومة مرادة
مستعملا فيها. وقد تكون خالية من الفهم والاستعمال، كالتأكيد من الزيادة وضمير
الفصل ونحوهما. وقد تكون مفهومة مرادة ولا استعمال، ككثير من المفاهيم
والإشارات والتلويحات ونحوها. وقد يفهم بلا استعمال ولا إرادة، كالمعاني
الحقيقية مع قرينة المجاز. وقد يكون استعمال ولا إرادة، كالكناية على الأقوى.
وأنت إذا أحطت خبرا بما تقدم في تعريف المفهوم والمنطوق وأقسامهما تبين
لك الحال في الأقسام المذكورة. وأما مفهوم الموافقة بقسميه المذكورين سابقا من
فحوى الخطاب ولحن الخطاب فقد مرت الإشارة إليه، وسيأتي - إن شاء الله -
تتمة الكلام في مباحث القياس (1).
* * *

(1) من ص 458 إلى هنا لا يوجد في نسخة " ق " ولا في المطبوع لمؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
599

معالم الدين:
أصل
قال أكثر مخالفينا: إن الأمر بالفعل المشروط جائز، وإن علم الآمر
انتفاء شرطه. وربما تعدى بعض متأخريهم، فأجازه، وإن علم المأمور
أيضا، مع نقل كثير منهم الاتفاق على منعه.
وشرط أصحابنا في جوازه مع انتفاء الشرط، كون الآمر جاهلا
بالانتفاء، كأن يأمر السيد عبده بالفعل في غد، مثلا، ويتفق موته قبله.
فان الأمر هنا جائز، باعتبار عدم العلم بانتفاء الشرط، ويكون مشروطا
ببقاء العبد إلى الوقت المعين. وأما مع علم الآمر، كأمر الله تعالى زيدا
بصوم غد، وهو يعلم موته فيه، فليس بجائز.
وهو الحق. لكن لا يعجبني الترجمة عن البحث بما ترى، وإن تكثر
إيرادها في كتب القوم، وسيظهر لك سر ما قلته وإنما لم أعدل عنها
ابتداء قصدا إلى مطابقة دليل الخصم لما عنون به الدعوى، حيث
جعله على الوجه الذي حكيناه.
ولقد أجاد علم الهدى، حيث تنحى عن هذا المسلك، وأحسن
التأدية عن أصل المطلب!. فقال: " وفى الفقهاء والمتكلمين من يجوز
أن يأمر الله تعالى بشرط أن لا يمكن المكلف من الفعل، أو بشرط
أن يقدره. ويزعمون: أنه يكون مأمورا بذلك مع المنع. وهذا غلط،
601

لأن الشرط إنما يحسن فيمن لا يعلم العواقب ولا طريق له إلى علمها،
فأما العالم بالعواقب وبأحوال المكلف، فلا يجوز أن يأمره بشرط ".
قال: " والذي يبين ذلك أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لو أعلمنا أن زيدا لا
يتمكن من الفعل في وقت مخصوص، قبح منا أن نأمره بذلك لا محالة.
وإنما حسن دخول الشرط فيمن نأمره فقد علمنا بصفته في المستقبل.
ألا ترى أنه لا يجوز الشرط فيما يصح فيه العلم ولنا إليه طريق نحو
حسن الفعل، لأنه مما يصح أن نعلمه، وكون المأمور متمكنا لا يصح
أن نعلمه عقلا، فإذا فقد الخبر، فلا بد من الشرط، ولا بد من أن يكون
أحدنا في أمره يحصل في حكم الظان لتمكن من يأمره بالفعل
مستقبلا، ويكون الظن في ذلك قائما مقام العلم. وقد ثبت أن الظن
يقوم مقام العلم إذا تعذر العلم. فأما مع حصوله، فلا يقوم مقامه. وإذا
كان القديم تعالى عالما بتمكن من يتمكن، وجب أن يوجه الأمر نحوه،
دون من يعلم أنه لا يتمكن. فالرسول (صلى الله عليه وآله) حاله كحالنا إذا أعلمنا الله
تعالى حال من نأمره، فعند ذلك نأمر بلا شرط ".
قلت: هذه الجملة التي أفادها السيد - قدس الله نفسه - كافية في
تحرير المقام، وافية باثبات المذهب المختار، فلا غرو إن نقلناها
بطولها، واكتفينا بها عن إعادة الاحتجاج على ما صرنا إليه.
احتج المجوزون بوجوه: الأول لو لم يصح التكليف بما علم عدم
شرطه، لم يعص أحد، واللازم باطل بالضرورة من الدين. وبيان
الملازمة: أن كل ما لم يقع، فقد انتفى شرط من شروطه، وأقلها إرادة
المكلف له، فلا تكليف به، فلا معصية.
الثاني لو لم يصح، لم يعلم أحد انه مكلف. واللازم باطل. أما
الملازمة، فلأنه مع الفعل، وبعده ينقطع التكليف، وقبله لا يعلم، لجواز
أن لا يوجد شرط من شروطه فلا يكون مكلفا.
602

لا يقال: قد يحصل له العلم قبل الفعل إذا كان الوقت متسعا،
واجتمعت الشرائط عند دخول الوقت. وذلك كاف في تحقق التكليف.
لأ نا نقول: نحن نفرض الوقت المتسع زمنا زمنا، ونردد في كل
جزء جزء، فإنه مع الفعل فيه، وبعده ينقطع، وقبل الفعل يجوز أن
لا يبقى بصفة التكليف في الجزء الآخر، فلا يعلم حصول الشرط الذي
هو بقاؤه بالصفة فيه، فلا يعلم التكليف. وأما بطلان اللازم فبالضرورة.
الثالث لو لم يصح، لم يعلم إبراهيم (عليه السلام) وجوب ذبح ولده، لانتفاء
شرطه عند وقته - وهو عدم النسخ - وقد علمه وإلا لم يقدم على ذبح
ولده ولم يحتج إلى فداء.
الرابع كما أن الأمر يحسن لمصالح تنشأ من المأمور به، كذلك
يحسن لمصالح تنشأ من نفس الأمر. وموضع النزاع من هذا القبيل، فان
المكلف من حيث عدم علمه بامتناع فعل المأمور به، ربما يوطن نفسه
على الامتثال، فيحصل له بذلك لطف في الآخرة وفي الدنيا، لانزجاره
عن القبيح. ألا ترى: أن السيد قد يستصلح بعض عبيده بأوامر ينجزها
عليه، مع عزمه على نسخها، امتحانا له. والانسان قد يقول لغيره:
" وكلتك في بيع عبدي " مثلا، مع علمه بأنه سيعزله، إذا كان غرضه
استمالة الوكيل أو امتحانه في أمر العبد.
والجواب عن الأول: ظاهر مما حققه السيد (رحمه الله)، إذ ليس نزاعنا في
مطلق شرط الوقوع، وإنما هو في الشرط الذي يتوقف عليه تمكن
المكلف شرعا وقدرته على امتثال الأمر. وليست الإرادة منه قطعا،
والملازمة إنما تتم بتقدير كونها منه. وحينئذ فتوجه المنع عليها جلي.
وعن الثاني: المنع من بطلان اللازم. وادعاء الضرورة فيه مكابرة
وبهتان. وقد ذكر السيد (رضي الله عنه) في تتمة تنقيح المقام ما يتضح به سند هذا
المنع، فقال: " ولهذا نذهب إلى أنه لا يعلم بأنه مأمور بالفعل إلا بعد
603

تقضي الوقت وخروجه، فيعلم أنه كان مأمورا به. وليس يجب، إذا لم
يعلم قطعا أنه مأمور، أن يسقط عنه وجوب التحرز. لأنه إذا جاء وقت
الفعل، وهو صحيح سليم، وهذه أمارة يغلب معها الظن ببقائه، فوجب
أن يتحرز من ترك الفعل والتقصير فيه. ولا يتحرز من ذلك إلا بالشروع
في الفعل والابتداء به. ولذلك مثال في العقل، وهو أن المشاهد للسبع
من بعد، مع تجويزه أن يخترم السبع قبل أن يصل إليه، يلزمه التحرز
منه، لما ذكرناه، ولا يجب إذا لزمه التحرز أن يكون عالما ببقاء السبع
وتمكنه من الاضرار به ".
وهذا الكلام جيد، ما عليه في توجيه المنع من مزيد. وبه يظهر
الجواب عن استدلال بعضهم على حصول العلم بالتكليف قبل الفعل،
بانعقاد الاجماع على وجوب الشروع فيه بنية الفرض، إذ يكفي في
وجوب نية الفرض غلبة الظن بالبقاء والتمكن، حيث لا سبيل إلى
القطع، فلا دلالة له على حصول العلم.
وعن الثالث: بالمنع من تكليف إبراهيم (عليه السلام) بالذبح الذي هو فري
الأوداج، بل كلف بمقدماته كالإضجاع، وتناول المدية، وما يجري
مجرى ذلك. والدليل على هذا قوله تعالى: " وناديناه أن يا إبراهيم قد
صدقت الرؤيا ". فأما جزعه (عليه السلام) فلإشفاقه من أن يؤمر - بعد مقدمات
الذبح - به نفسه، لجريان العادة بذلك. وأما الفداء، فيجوز أن يكون عما
ظن أنه سيأمر به من الذبح، أو عن مقدمات الذبح زيادة على ما فعله،
لم يكن قد أمر بها، إذ لا يجب في الفدية أن يكون من جنس المفدي.
وعن الرابع: أنه لو سلم، لم يكن الطلب هناك للفعل، لما قد علم من
امتناعه، بل للعزم على الفعل والانقياد إليه والامتثال. وليس النزاع فيه،
بل في نفس الفعل. وأما ما ذكره من المثال، فإنما يحسن لمكان التوصل
إلى تحصيل العلم بحال العبد والوكيل، وذلك ممتنع في حقه تعالى.
604

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعترته
وذريته الأكرمين إلى يوم الدين.
قوله: * (قال أكثر مخالفينا: إن الأمر بالفعل المشروط جائز وإن علم
الآمر انتفاء شرطه... إلخ) *.
الشرائط المعتبرة في الفعل قد تكون شرطا في وجوده، وقد تكون شرطا في
وجوبه، وقد تكون شرطا فيهما. ومحل الكلام في المقام فيما إذا علم الآمر انتفاء
شرط الوجوب، سواء كان شرطا في الوجود أيضا، أو لا. وأما الشرط في وجود
الفعل من غير أن يكون شرطا في وجوبه فلا خلاف لأحد في جواز الأمر به مع
علم الآمر بانتفائه، فإطلاق الشرط في المقام ليس على ما ينبغي، كما سيشير إليه
المصنف إن شاء الله.
وبعضهم قرر النزاع في المقام في خصوص شرائط الوجود دون الوجوب،
وهو فاسد، إذ لا مجال لأحد أن يتوهم امتناع التكليف بذلك، وليس في كلام
المانعين ما يوهم ذلك، كيف؟ وتمثيلاتهم في المقام بانتفاء الشروط الغير المقدورة
صريح في وقوع النزاع في شرائط الوجوب فكيف يعقل القول بخروجها عن محل
البحث؟ وقد يتراءى حينئذ تدافع في عنوان المسألة، فإنه إذا كان المطلوب
بالشرط في المقام هو شرط الوجوب وقد فرض انتفاؤه فلا محالة يكون التكليف
منتفيا بانتفاء شرطه، كما هو قضية الشرطية، فكيف يعقل احتمال وقوع التكليف
على ذلك الفرض حتى يعقل النزاع فيه؟
605

ومن هنا توهم القائل المذكور، فزعم أن مرادهم بالشرط هو شرط الوجود
دون شرط الوجوب، إذ مع انتفاء شرط الوجوب وعلم الآمر به لا يتعقل تحقق
التكليف في المقام بدون الوجوب. قال: وذلك ظاهر (1).
ويمكن دفعه: بأنه ليس الكلام في جواز الأمر والتكليف حين انتفاء شرطه،
بل المراد أنه هل يجوز التكليف بأداء الفعل في الوقت الذي ينتفي فيه شرط
التكليف بحسب الواقع مع علم الآمر به بأن يكون حصول التكليف به قبل مجئ
وقت الإيقاع الذي فرض انتفاء الشرط فيه؟ فإن النزاع في المقام في تحقق
التكليف قبل زمان انتفاء الشرط، كما يظهر من تمثيلاتهم. وعزي إلى طائفة من
المحققين التصريح به. وتوضيحه: أنه لا يشك في كون انتفاء شرط التكليف مانعا
من تعلق التكليف بالفعل حين انتفاء شرطه، إنما الكلام في جواز تعلق التكليف به
قبل الزمان الذي ينتفي الشرط فيه إذا كان الآمر عالما بانتفائه فيه دون المأمور،
سواء كان التكليف قبل مجئ زمان الفعل، أو قبل مجئ الزمان الذي يقارن بعض
أجزاء الفعل مما ينتفي الشرط فيه بالنسبة إليه.
فعلى القول بالمنع يكون انتفاء شرط التكليف على الوجه المذكور مانعا من
تعلق التكليف به مطلقا.
وعلى القول بالجواز لا يمنع ذلك من تعلق التكليف به قبل ذلك، فيسقط عند
انتفاء الشرط، أو علم المأمور بالحال ولو قبله بناء على المنع من التكليف مع علم
المأمور بالحال حسب ما ادعوا الاتفاق عليه، كما أشار المصنف إليه.
والحاصل: أنه لا منافاة بين انتفاء التكليف في الزمان المقارن لانتفاء الشرط
وحصول التكليف قبله ثم سقوطه بانتفاء الشرط، والقدر اللازم من انتفاء شرط
الوجوب هو الأول ولا كلام فيه، ومحل البحث في المقام هو الثاني.
وما قد يتخيل: من أنه لا يتعقل تعلق التكليف بالفعل قبل مجئ زمانه، غاية

(1) في المطبوع: لا يتعقل التكليف، إذ لا يتصور التكليف في المقام بدون الوجوب، فإن ذلك
ظاهر.
606

الأمر حصول التكليف التعليقي حينئذ بالفعل، وليس ذلك بحسب الحقيقة تكليفا
به، فإنه إنما يكون المخاطب به مكلفا بالفعل حين حصول ما علق التكليف عليه لا
قبله مدفوع: بأن الوقت المعتبر في الواجب على وجهين، فإنه قد يكون شرطا
للوجوب، والحال فيه على ما ذكرنا فلا يمكن أن يتقدمه الوجوب. وقد يكون
شرطا للوجود، ولا مانع حينئذ من تعلق التكليف بالفعل قبله فيكون المكلف
مخاطبا به مشغول الذمة بأدائه في وقته، غير أنه لا يمكن أداؤه قبل الزمان
المفروض، لكونه شرطا في وجوده، كما هو الحال بالنسبة إلى مكان الفعل لمن
كان نائيا عنه حسب ما مر بيانه في مقدمة الواجب، ويكشف الحال في ذلك
ملاحظة حقوق الناس، فإنه قد يعلق اشتغال الذمة بها على حصول شئ، كما إذا
ثبت الخيار في البيع مع قبض البائع للثمن.
وبالجملة: فإن اشتغال ذمته بالثمن بمال (1) مؤجل فإن ذمته مشتغلة بالفعل
وإن تأخر وقت أدائه.
ويمكن أن يجاب أيضا عن أصل الإيراد: بأن ما يتوقف عليه الشرط
المفروض إنما هو التكليف الواقعي، والمبحوث عنه في المقام هو التكليف
الظاهري، ومرجع البحث في ذلك إلى كون التكليف الظاهري تكليفا حقيقيا أو
صوريا مجازيا، فالقائل بجوازه في المقام يقول بالأول، والمانع منه يقول بالثاني،
وعلى هذا يمكن تصور البحث بالنسبة إلى الزمان الواحد أيضا، إلا أن الوجه
المذكور غير سديد كما يتضح الوجه فيه إن شاء الله.
ويمكن أن يقال أيضا: إن المراد بالشرط في المقام ما يتوقف عليه كل من
وجوب الفعل ووجوده في الواقع، والمراد بانتفاء الشرط انتفاؤه بغير اختيار
المكلف وقدرته.

(1) في الحاشية هكذا: " لا يخفى قصور العبارة وسقوط شئ منها، وكأن الساقط بعد قوله:
بالثمن معلق على حصول الفسخ، وقد يثبت اشتغال الذمة بها فعلا ويتأخر زمانها، كما في
المديون بمال... إلخ. وبالجملة فالساقط ما يفيد هذا المعنى ".
607

ومحصله: أن يتعلق الأمر بفعل لا يتمكن المكلف من إيقاعه، لانتفاء أحد
شرائطه لا عن سوء اختيار المكلف. فالمقصود بالبحث: أن تلك الشروط
المفروضة كما أنها شرط لوجود الفعل ولوجوبه أيضا مع علم المأمور به والآمر
فهل هي شرط لوجوبه مع جهل المأمور أيضا إذا كان الآمر عالما بالحال
وباستحالة وقوع الفعل من دونه فلا يمكن تعلق التكليف به، أو أنه لا مانع من تعلق
التكليف به قبل علم المكلف بالحال؟ فتلك الشرائط شرائط في الحقيقة لوجوب
الفعل على القول المذكور أيضا لكن لا مطلقا، بل مع علم المأمور أيضا على القول
بامتناع الأمر حينئذ، كما هو الحال، كما حكي (1) الاتفاق عليه، وإلا فليست
شرائط للوجوب مطلقا، فليس المأخوذ في المسألة شروط الوجوب مطلقا حتى
يتوهم التدافع في العنوان، بل المعتبر فيها شروط الوجود على الوجه الذي قررناه.
ويتفرع عليه كونها شروطا في الوجوب أيضا مع علم المأمور حسب ما ذكر،
فالخلاف حينئذ في كونها شروطا للوجوب مع علم الآمر أيضا أولا حسب ما
قررناه، وحينئذ يمكن فرض انتفاء الشرط وتعلق الأمر في زمان واحد، كما إذا
كانت المرأة حائضا بحسب الواقع وكانت جاهلة بحيضها، فعلى القول المذكور
يصح توجيه الأمر، ولم يكن ما تأتي به مطلوبا للشرع، فهي غير قادرة واقعا بأداء
الصوم المطلوب، لكنها قادرة في اعتقادها ومكلفة حينئذ بالصوم واقعا وإن لم
تتمكن من أدائها، وتظهر الثمرة حينئذ في عصيانها لأمر الصوم لو أفطرت حينئذ
متعمدة، لمخالفة إفطارها التكليف المفروض وصدق العصيان به، وإن كانت مفطرة
بحسب الواقع بخروج الحيض فإن المفروض أن خروجه لا يقتضي سقوط تكليفها
بالصوم، وبقاء التكليف كاف في صدق العصيان والمخالفة بتعمد ذلك، لكن
لا تثبت الكفارة لو تعلقت بمن أفطر متعمدا كما توهم، حسب ما يأتي الإشارة إليه
إن شاء الله.
وقد يجري ما قلناه بالنسبة إلى بعض الشروط الاختيارية إذا كانت شرطا

(1) في الحاشية هكذا: " الظاهر كما هو الحق، وحكي ".
608

للوجوب في الجملة على تفصيل تأتي الإشارة إليه. هذا، وتفصيل الكلام في
المقام: أن الأمر بالشئ مع انتفاء شرطه المذكور بحسب الواقع إما أن يكون مع
علم الآمر بذلك، أو مع جهله. وعلى كلا التقديرين: فإما أن يكون مع علم المأمور
بالحال، أو مع جهله. وعلى التقادير: فإما أن يكون التكليف به مطلقا، أو معلقا
على استجماع الشرائط. أما مع جهل الآمر بالحال فلا إشكال في جواز الأمر
معلقا على وجود شرطه، سواء كان المأمور عالما بالحال أو جاهلا. كما أنه لا
إشكال في المنع مع علمهما بالحال، من غير فرق بين إطلاق الأمر وتعليقه على
حصول الشرط حسب ما أشار إليه المصنف من حكايتهم الاتفاق على منعه،
وظاهرهم يعم الصورتين، بل ربما كان المنع في الصورة الثانية من وجهين نظرا
إلى قبح توجيه الأمر نحو الفاقد وقبح الاشتراط من العالم حسب ما يأتي الإشارة
إليه في كلام السيد.
بقي الكلام فيما إذا كان الآمر عالما بالحال والمأمور جاهلا وأراد توجيه
الأمر مطلقا أو معلقا على الشرط المفروض، وما إذا كان جاهلا بالحال وأراد
توجيه الأمر مطلقا غير معلق على الشرط، سواء كان المأمور عالما بالحال أو
جاهلا أيضا. فهذه مسائل ثلاث، وظاهر العنوان المذكور منطبق على الفرض
الأول، ونحن نفصل القول في كل منها إن شاء الله. ثم نرجع إلى الكلام في ما قرره
المصنف وحكاه عن السيد (رحمه الله).
فنقول: أما المسألة الأولى فقد وقع الكلام فيها بين علمائنا والأشاعرة، وقد
احتمل بعض الأفاضل في محل النزاع وجهين:
أحدهما: أن يكون النزاع في التكليف الواقعي الحقيقي، فيراد أنه إذا علم
الآمر انتفاء الشرط بحسب الواقع فهل يجوز أن يطلبه منه ويكلفه به على وجه
الحقيقة، أولا؟
وثانيهما: أن يكون البحث في صدور الخطاب والتكليف الظاهري، فيكون
المراد: أنه هل يجوز في الفرض المذكور أن يصدر عن الآمر التكليف بالفعل من
609

غير أن يكون غرضه في الحقيقة طلب صدور الفعل عن المكلف، بل غرضه صدور
نفس التكليف، فيكون الصادر عنه حقيقة هو صورة التكليف لا حقيقته؟ قال:
وكلمات القوم مشوشة هنا جدا، بعضها يوافق الأول وبعضها الثاني.
أقول: ستعرف - إن شاء الله - بعد تقرير مناط البحث في المسألة أنه لا
تشويش في كلمات القوم، وأن محل الخلاف في المقام إنما هو الوجه الأول، وأن
الوجه الثاني خارج عن محل النزاع في المقام، وأنه لا خلاف فيه ظاهرا إلا من
نادر، كما سنشير إليه.
ثم أقول: إنه لا خلاف لأحد في جواز تعلق التكليف الظاهري الحاصل
بملاحظة الأدلة الشرعية والقواعد المقررة في الشريعة مع علمه تعالى بانتفاء
شرط التكليف بحسب الواقع، سواء كان ذلك بنضر الشارع وبيانه، أو بحكم العقل
من جهة وجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل، ولا نزاع في وقوع التكليف على
الوجه المذكور وارتفاعه عن المكلف عند ظهور انتفاء الشرط، كيف؟ وبناء
الشريعة على ذلك، فإن المرأة مكلفة بالصوم في أول النهار وإن حاضت وقت
الظهر مثلا، وذلك تكليف ظاهري لها بالصوم يرتفع عند ظهور المانع، ولذا تكون
عاصية قطعا بالإفطار قبل ظهور المانع، وهكذا الحال في غيرها من المكلفين إذا
ظهر منهم انتفاء الشرط في الأثناء، فيكشف ذلك من عدم تعلق التكليف بحسب
الواقع عند القائلين بالامتناع في المقام، بخلاف القائل بالجواز إذ يمكنه القول
بحصول التكليف أولا بحسب الواقع أيضا وارتفاعه عند انتفاء الشرط، فيكون
التكليف المفروض واقعيا عنده أيضا.
ولا يتوهم في ذلك لزوم الإغراء بالجهل، إذ ليس بناء التكليف فيه إلا على
كونه ظاهريا محتملا لمطابقته للواقع، وعدمه، بخلاف الوجه الثاني من الوجهين
المتقدمين، لظهور التكليف في إرادة الواقع فيتوهم لزوم الإغراء بالجهل، كما
سنشير إليه. وليس وقوع التكليف على الوجه المذكور بسبب حصول التكليف مع
علم الآمر بانتفاء شرطه، فإن التكليف الظاهري ليس مشروطا بنفس الشرط
610

المفروض، والتكليف الواقعي المشروط به غير حاصل بمجرد الأمر المفروض
عند القائل بامتناعه.
هذا، وتحقيق الكلام في بيان محل النزاع في المقام يتم برسم أمور:
أحدها: أن المراد بجواز التكليف بما لا يطاق عند القائل به هو جواز التكليف
بما لا يطاق على أنه ما لا يطاق، وهو الذي وقع البحث فيه بين العدلية وغيرهم،
وهو إنما يكون إذا كان كل من الآمر والمأمور عالما باستحالته، أو يكون أمر الآمر
به على فرض إمكان الفعل، واستحالته مع جهل أحدهما به، أو جهلهما. وأما إذا
كان الآمر جاهلا باستحالته فلا إشكال في جواز الأمر به مطلقا، أي من غير أن
يكون على نحو التعميم للحالين، سواء كان المتعلق به تنجيزيا أو تعليقيا، أو يكون
الآمر معتقدا إمكانه أو شاكا فيه. وبعض الوجوه المذكورة مما لا خلاف، فيه
وبعضها مما وقع فيه الخلاف كما سيجئ - إن شاء الله - في الجملة، سواء كان
المأمور عالما بالحال أو جاهلا. وإذا كان الآمر عالما والمأمور جاهلا فقد عرفت
جواز (1) الأمر به على سبيل الإطلاق، وأما الأمر به مطلقا على ما هو مفروض
البحث في المقام فليس منع المانع منه من حيث استحالته ليكون تجويز المجوز
من قبيل تجويز التكليف بالمحال، وإلا تمسك به القائلون بجوازه، بل من حيث
إمكانه في نظر المأمور فيكتفي به القائل به في جواز التكليف، فكما أنه لا يقبح
التكليف بالمحال مع جهل الآمر باستحالته فقد يتخيل عدم قبحه مع جهل المأمور
أيضا، نظرا إلى كون إمكان الفعل في نظر المأمور مصححا لأمر الآمر به وإن كان
ممتنعا في نظر الآمر. وسيتضح لك الوجه فيه بعد ما سنبينه من حقيقة التكليف.
ويشهد له أيضا: أن القائل بالجواز يقول بسقوط التكليف وارتفاعه من
المكلف إذا جاء وقت انتفاء الشرط وعلم المكلف بانتفائه، بل ولو علم بانتفائه قبل
ذلك، ولو كان ذلك من جهة جواز التكليف بالمحال لم يختلف فيه الحال.

(1) في (ق): عرفت عدم جواز.
611

فظهر أنه لا ربط للمسألة بمسألة التكليف بالمحال. فدعوى كون التكليف
بالفعل حينئذ على سبيل الحقيقة من قبيل التكليف بالمحال وجزئيا من جزئياته،
فلو كان البحث فيه لما احتاج إلى عنوان جديد كما صدر عن بعض الأعلام ليس
على ما ينبغي.
نعم، يمكن دعوى كون ذلك في الحقيقة مندرجا في التكليف بالمحال،
فيستدل عليه بامتناع التكليف بالمحال، كما رامه جماعة في المقام منهم
العلامة (رحمه الله)، لكن ليس ذلك من جهة كون مناط البحث في المقام هو التكليف
بالمحال، وفرق بين بين المقامين.
ثانيها: أن انتفاء شرائط الوجوب قد يكون لا عن اختيار المكلف، وقد يكون
عن اختياره، كما إذا تعمد ترك المقدمة المفروضة، سواء كانت عقلية أو شرعية.
وقد يقال في الصورة الثانية: إنه لا مانع من تعلق التكليف به، نظرا إلى كون
المكلف هو السبب في استحالته، لما تقرر من أن المحال بالاختيار لا ينافي
الاختيار، ولو قلنا باستحالة التكليف به بعد استحالة الفعل ولو من جهة اختيار
المكلف فأي مانع من تعلق التكليف به قبل ذلك إذا علم الآمر انتفاء شرط
الوجوب زمان أداء الفعل من جهة إقدام المكلف على تركه؟
وفيه: أنه إن كان تمكن المكلف من الشرط كافيا في إيجاب الأمر وإن زال
عنه ذلك باختياره لم يكن شرط الوجوب منتفيا. غاية الأمر انتفاء شرط الوجود،
وهو خارج عن محل النزاع، وإن كان بقاء التمكن شرطا في الإيجاب لم يعقل
حصول الإيجاب مع انتفائه.
ويدفعه: وضوح الفرق بين إيجاب الفعل مع انتفاء التمكن من الشرط وإيجابه
مع التمكن منه، والمفروض في المقام ارتفاع التمكن بعد الإيجاب باختيار
المكلف، فاللازم منه بعد استحالة التكليف مطلقا سقوط التكليف به، لا عدم تعلق
التكليف به من أول الأمر.
والحاصل: أنا لو قلنا بكون ارتفاع التمكن عن اختيار المكلف غير مانع من
612

بقاء التكليف بالفعل لم يكن شرط الوجوب حينئذ منتفيا في المقام فيخرج بذلك
عن مورد الكلام، وإن قلنا بكونه مانعا من بقائه فلا وجه لجعله مانعا من تعلق
التكليف به من أصله مع التمكن من الشرط المفروض.
أقصى الأمر عدم بقاء التكليف مع إقدام المكلف على ترك المقدمة واختياره
ذلك، فتكون الصورة المذكورة خارجة عن مورد بحثهم غير مندرجة فيما قرروه
من محل النزاع.
هذا، وقد ذكر جماعة منهم الكرماني على ما حكي عنه، والفاضل المحشي،
والمحقق الخوانساري اختصاص النزاع بالشروط الغير المقدورة للمكلف، ويظهر
ذلك من السيد حسب ما يستفاد مما حكاه المصنف من كلامه، ويظهر أيضا من
العلامة في النهاية، وقد قرر النزاع في الإحكام في خصوص ذلك، ونص المدقق
المحشي وتبعه بعض الأفاضل بتعميم النزاع في القسمين، فقال: إن تخصيص
الشرط بالشرط الغير المقدور غير جيد، لأن الشروط المقدورة التي يكون
الواجب مشروطا بالنسبة إليها في حكم الشروط الغير المقدورة وداخل في محل
النزاع، حتى أن المسألة المبنية على هذه القاعدة قد تناولت الشرط الاختياري،
وهي: أن الصائم لو أفطر ثم سقط فرض صومه لحيض أو سفر، والسفر يتناول
الاختياري كما صرح به الأصحاب في هذه المسألة انتهى.
وأنت خبير بأنه إذا كان انتفاء الشرط باختيار المكلف لم يكن هناك مانع من
تعلق التكليف بالفعل، فيكون ذلك إيجابا للفعل وللشرط معا، كما هو الحال في
إيجاب الطهارة المائية، فإنه إذا تعلق وجوبها بالمكلف كان ذلك مشروطا بالتمكن
من الماء، فإذا كان التمكن منه حاصلا للمكلف وكان إبقاء التمكن مقدورا له أيضا
وجب عليه ذلك ليتأتى منه أداء الواجب، ولا يكون إتلافه للماء في أول زمان
الفعل كاشفا عن انتفاء التكليف، بل قد يكون عاصيا قطعا، وهو شاهد بتعلق
التكليف به مع علم الآمر بانتفاء شرطه على الوجه المذكور، وهذا جار في سائر
التكاليف أيضا بالنسبة إلى إبقاء القدرة عليها وعلى شروطها، فاندراج الشروط
613

المقدورة في محل النزاع يقضي بالتزام القائل بالمنع بامتناعه أيضا، والظاهر أنهم
لا يلتزمون به، وما ذكروه من الدليل عليه لا يفي بذلك قطعا.
نعم، لو فرض عدم وجوب الشرط المفروض في نظر الآمر صح ما ذكره من
الإلحاق، كما هو الحال في ما فرضه من المثال، فإن أريد إدراج الشرائط المقدورة
في محل النزاع فليدرج فيه خصوص هذه الصورة دون غيرها، فإن انتفاء الشرط
المفروض حينئذ في وقته عن اختيار المكلف بمنزلة انتفاء سائر الشروط الغير
المقدورة، لجريان ما ذكروه من الدليل في ذلك أيضا، بخلاف الصورة الأولى.
ولا يذهب عليك أنه إن كان مأمورا بصوم ذلك اليوم مطلقا كان الواجب عليه
ترك السفر حتى يتحقق منه الصوم الواجب، وكان الحال فيه كسائر شروط الوجود
حسب ما ذكرنا. وإن كان وجوبه عليه مشروطا بعدم السفر لم يكن مأمورا بالصوم
مطلقا، بل على تقدير انتفاء الشرط، فيخرج عن موضوع هذه المسألة ويندرج في
المسألة الثانية حسب ما قرره السيد (رحمه الله)، فإدراج الشرائط المقدورة في المقام
ليس على ما ينبغي، كما لا يخفى.
ثالثها: أنه لا إشكال ظاهرا في جواز الأمر بالفعل على سبيل الامتحان
والاختبار مع علم الآمر بانتفاء شرطه في زمان أدائه واستحالة صدوره من
المكلف في وقته مع جهل المأمور بحاله، فيتحقق التكليف بالفعل بحسب الظاهر
قطعا، ويرتفع ذلك بعد وضوح الحال، ولا نعرف في ذلك مخالفا من الأصحاب
وغيرهم كما اعترف به بعض الأفاضل، سوى ما حكي عن السيد العميدي (رحمه الله) من
منعه لذلك حسب ما يستظهر من كلامه، وهو ضعيف جدا، لوضوح أنه كما يحسن
الأمر للمصلحة الحاصلة في المأمور به فكذا يحسن للمصلحة المترتبة على نفس
الأمر من جهة امتحان المأمور واختبار حاله في الانقياد وعدمه، وغير ذلك، وإن
لم يكن المطلوب حسنا بحسب الواقع في نفسه، أو لم يكن المكلف متمكنا من
أدائه، غاية الأمر عدم وجوب التكليف بالمحال في الصورة الأولى.
وحجة السيد (رحمه الله) على المنع ما فيه من الإغراء بالجهل، نظرا إلى دلالة ظاهر
614

الأمر على كون المأمور به مرادا للآمر بحسب الواقع محبوبا عنده، والمفروض
خلافه، ولأنه لو حسن الأمر لنفسه لا لمتعلقه لم يبق في الأمر دلالة على الأمر بما
لا يتم به، ولا على النهي (1) عن ضده، ولا على كون المأمور به حسنا. وأنت خبير
بما فيه.
أما الأول فأولا: أنه لا إغراء بالجهل بالنسبة إلى التكاليف بمجرد ذلك لبناء
الأمر فيها على طرو الطوارئ المذكورة ونحوها، ولذا ذهب معظم الأصوليين إلى
جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب ولو في ما له ظاهر، وهذا لا يزيد على ذلك.
وثانيا: بالمنع من قبح الإغراء بالجهل مطلقا، حتى في ما يترتب عليه فائدة
مقصودة للعقلاء، ويكون المقصود حصول تلك الفائدة، بل قد لا يعد ذلك إغراء
بالجهل، إذ ليس المقصود به تدليس الواقع على المخاطب، بل المراد منه ما يترتب
عليه من المصلحة البينة المطلوبة عند العقلاء، كيف! وقد جرت عليه طريقة العقلاء
قديما وجديدا في اختبار عبيدهم ووكلائهم وأصدقائهم وغيرهم من غير أن
يتناكروه بينهم، ولا تأمل لأحد منهم في حسنه، ولا احتمالهم لقبحه مع وضوح
قبح الإغراء بالجهل في الجملة، فلو فرض كونه إغراء به فهو خارج عما يستقبح
منه قطعا. وقد يقال بالمنع من ذلك بالنسبة إلى أوامر الشرع، لعلمه تعالى بحقائق
الأحوال، ولا يتصور في حقه تعالى قصد الامتحان والاختبار بذلك، ويظهر ذلك
من كلامه وكلام المصنف في آخر المسألة.
ويوهنه: أنه لا تنحصر المصلحة فيه في استعلام حال العبد، بل قد يكون
لإقامة الحجة عليه، أو لترتب الثواب عليه من جهة توطين نفسه للامتثال، أو
لظهور حاله عند الغير. وفي قوله تعالى في حكاية إبراهيم (عليه السلام): * (إن هذا لهو البلاء
المبين) * (2) دلالة ظاهرة على ذلك، وهذا كله واضح لا خفاء فيه.
وأما الثاني فبظهور منع الملازمة، فإنه إنما يلزم ذلك لو لم يكن الأمر ظاهرا

(1) في (ق): ولا دلالة على النهي.
(2) الصافات: 106.
615

في إرادة المأمور به، ويكون الأمر الواقع على سبيل الامتحان مساويا لغيره في
الظهور، وليس كذلك عند جماعة، إذ الأوامر الامتحانية من جملة المجازات
عندهم، ولا دلالة فيها على شئ مما ذكر بعد ظهور الحال، ولا ينافي ذلك الدلالة
عليه قبل قيام القرينة.
ومما يستغرب من الكلام ما صدر عن بعض الأعلام من تقرير النزاع في
خصوص ذلك في المقام، نظرا إلى أن وقوع النزاع هنا في المقام الأول بعيد جدا،
إذ هو من متفرعات النزاع في مسألة التكليف بما لا يطاق، وليس نزاعا على حدة،
وليس تجويز التكليف بما لا يطاق ملحوظا في وضع هذه المسألة، فتعين أن يكون
النزاع في المقام الثاني، واستشهد له بكلام العلامة في النهاية، فإنه بعدما حكى عن
المجوزين جواز وقوع الأوامر الاختبارية لما يتفرع عليها من المصالح الكثيرة
وجريان الطريقة عليه بحسب العادة قال: والأصل في ذلك أن الأمر قد يحسن
لمصالح تنشأ من نفس الأمر، لا من نفس المأمور به، وقد يحسن لمصالح تنشأ من
المأمور به، فجوزه من جوزه لذلك، والمانعون قالوا: الأمر لا يحسن إلا لمصلحة
تنشأ من المأمور به. انتهى. قال: ولا يخفى صراحته في ما ذكرنا.
أقول: أما جواز ورود الأوامر الامتحانية ونحوها مما لا يكون المقصود
حقيقة حصول الفعل في الخارج فأمر ظاهر غني عن البيان يشهد بحسنه ضرورة
الوجدان حسب ما مر، وذلك وإن لم يمنع من وقوع شبهة في جوازه لبعض الأجلة
إلا أن البناء على منع كثير من العلماء منه، بل ظهور اتفاق أصحابنا عليه حسب ما
ذكره المصنف (رحمه الله) مما يستبعد جدا، بل لا يبعد دعوى القطع بخلافه سيما مع عدم
تصريحهم بذلك. وقد عرفت أن كون النزاع في المسألة في المقام الأول لا يدرجها
في مسألة التكليف بما لا يطاق، وما حكي عن عبارة النهاية لا دلالة فيه على المنع
من الأوامر الاختبارية، إذ لا يمكن ابتناؤها على نفي كون الأوامر الاختبارية
أوامر حقيقية، ويشير إليه أنه دفع ذلك بأن الطلب هناك ليس للفعل لعلم الطالب
بامتناعه للعزم على الفعل، فإنه يفيد أن ما ذكره من المبنى إنما هو في الأوامر
616

الحقيقية دون غيرها، وكان الأولى استناده في ذلك إلى كلام السيد العميدي في
المنية، حيث إن ظاهر كلامه تقرير النزاع في الأوامر الامتحانية، وإنه بنى على
المنع منه مستدلا بما مرت الإشارة إليه. وما تقدم من إسناد المنع من صدور
الأوامر الامتحانية إليه إنما كان لما ذكره في تقرير هذه المسألة، وقد بنى فيها على
المنع مستدلا بما مر، فيكون محل النزاع عنده في المسألة خصوص الأوامر
الامتحانية دون ما يراد منه الإتيان بنفس المأمور به، فيصح الاستشهاد به في
المقام.
لكن يمكن أن يقال: إنه لا يريد بذلك المنع من صدور الأوامر الامتحانية
المجازية المستعملة في خلاف مدلول الأمر بالنظر إلى صيغته أو مادته، فإن باب
المجاز واسع لا مجال للمنع منه، وإنما أراد بذلك دفع ما ذكره المجوز من أن حسن
الأمر بالشئ على وجه الحقيقة لا يتوقف على مصالح تنشأ من حسن الفعل
المأمور به، بل قد يكون لمصالح تنشأ من نفس الأمر أيضا، فيمكن صدور الأمر
على الوجهين، وظاهر أن الوجه الثاني منهما لا يترتب عليه ما ذكره من المفاسد
حسب ما فصل القول فيه، فجعل ذلك مناط الحكم بجواز صدور الأمر حينئذ مع
علم الآمر بانتفاء شرطه، فأراد بها دفع ذلك بأنه لو جاز صدور الأمر على
الوجهين لزم الإغراء بالجهل، نظرا إلى ظهور الأمر عرفا في إرادة نفس المأمور
به، فلو لم يكن ذلك مرادا مع عدم قيام القرينة عليه لزم الإغراء بالجهل، ويلزم
أيضا على جواز صدور الأمر على الوجهين عدم دلالة مطلق الأمر على وجوب
مقدمته، ولا النهي عن ضده، إلى آخر ما ذكره.
وهذا الكلام وإن كان فاسدا حسب ما يظهر مما نقرره في المقام إلا أنه لا ربط
له بالمنع من صدور الأوامر الامتحانية المجازية حسب ما توهم من كلامه،
والحال في ما ذكره نظير ما مر من كلام العلامة في النهاية.
ثم إن توضيح الحال أنه لا إشكال في جواز ورود الأوامر الامتحانية وعدم
حصول جهة مقبحة في صدورها حسب ما ذكرنا، إنما الإشكال في كون الأمر
617

المتعلق بالفعل على الوجه المفروض أمرا حقيقيا أو صوريا متجوزا به بالنسبة إلى
الصيغة باستعمالها في صورة الطلب، أو المادة باستعمالها في مقدمات ذلك الفعل
المطلوب دون نفسه، فإن قلنا بكون ذلك أمرا حقيقيا وتكليفيا بذلك الفعل، تم
القول بجواز الأمر بالشئ مع علم الآمر بانتفاء شرطه من غير مجال للتأمل فيه.
وإن لم نقل بكون ذلك أمرا حقيقيا ولا تكليفا بالفعل على وجه الحقيقة لم يكن
الأمر بالشئ مع علم الآمر بانتفاء شرطه جائزا، وجواز ورود الأوامر الامتحانية
لا يفيد جواز ذلك، إذ المفروض خروجها عن حقيقة الأمر، والكلام إنما هو في
الأمر بالفعل على وجه الحقيقة والتكليف الحقيقي به دون المجازي. وبيان الحق
في ذلك يتوقف على تحقيق حقيقة التكليف، فمبنى النزاع في المسألة: أن الأمر
الذي لا يراد به إيجاد الفعل هل هو أمر حقيقي أو لا؟ ولا نزاع لأحد في عدم
جواز تعلق الصيغة التي يراد بها حصول الفعل بحسب الواقع بالمستحيل، فإن
إمكان المراد في نظر المريد شرط عقلي في تحقيق الإرادة لا مجال لإنكاره، ولم
ينكره أحد من العقلاء. وكذا لا إشكال ولا نزاع في المقام في جواز استعمال صيغ
الأمر لمجرد الامتحان والاختبار من غير إرادة لحصول الفعل بحسب الواقع، وإنما
وقع النزاع في جواز إيجاب الشئ والأمر به مع علم الآمر بانتفاء شرطه من جهة
الاختلاف في حقيقة الأمر ومفاد الإيجاب والتكليف، فمن أخذ في حقيقته
الإرادة منع منه، ومن لم يأخذ تلك في حقيقته - حسب ما مر بيانه - جوزه،
فالنزاع إذا قرر بالنسبة إلى جواز الأمر والتكليف - كما هو ظاهر عنوان المسألة -
كان نزاعا معنويا مبنيا على الوجهين، كما يظهر من ملاحظة أدلة الطرفين من غير
حصول خلط في كلام أحد من الفريقين، كما لا يخفى بعد التأمل في ما قررنا. وإن
قرر النزاع في تعلق صيغة الأمر بالمكلف على الوجه المذكور كان نزاعا لفظيا،
فإن المانع إنما يمنع من توجيه الصيغة التي يراد بها إيجاد الفعل واقعا، والمجيز
إنما يجيز توجيه الصيغة التي لا يراد بها ذلك، ولا خلاف لأحد من الجانبين في
المقام في استحالة الأول، ولا في جواز الثاني، فتأمل.
618

وحيث إن بيان الحق في المسألة مبني على المسألة المذكورة فلا ضير لو
أشرنا إلى ما هو التحقيق فيها وإن مرت الإشارة إليها غير مرة في المباحث
المتقدمة.
فنقول: إن الذي يظهر بعد التأمل: أن حقيقة التكليف والإيجاب - وهي التي
تقتضيه صيغة الأمر - هو اقتضاء الشئ من المكلف واستدعاؤه منه على وجه
المنع من الترك، وإرادة ذلك من المكلف إرادة فعلية جازمة حاصلة بقصد الانشاء
من صيغة الأمر وغيرها مما يراد به حصول ذلك، سواء تعلقت به الإرادة النفسية
الحاصلة لذات الأمر بأن يكون مريدا لذلك الفعل في ذاته مع قطع النظر عن
الانشاء المذكور، كما هو الحال في معظم التكاليف الصادرة من الناس مما لا
يقصد به الاختبار ونحوه، أو لم تتعلق به، كما هو الحال في التكاليف الشرعية،
لظهور أنه لو تعلقت إرادته تعالى بالفعل ابتداء على الوجه المذكور حسب ما
يقتضيه الأمر لو قلنا باتحاد الطلب والإرادة بالمعنى المذكور لم يمكن تخلف
المراد عنه، وكان صدور الفعل عن المكلف على سبيل الإلجاء والاضطرار من غير
أن يمكن منه تحقق العصيان، كما يومئ إليه قوله تعالى: * (لو شاء لهداكم
أجمعين) * (1)، وهو مع كونه خلاف الضرورة مخالف للحكم الباعثة على التكليف.
ومن البين أن التكليف إنما يحصل بالأمر، ومدلول الأمر إنما يحصل
باستعمال الصيغة فيه من غير أن يكون له واقع تطابقه أو لا تطابقه، بل استعمال
اللفظ فيه هو الآلة في إيجاده فيكون معناه حاصلا بذلك.
ومن البين أن الإرادة النفسية غير حاصلة بتوسط الصيغة، بل هي أمر واقعي
نفسي حاصل للآمر مع قطع النظر عن الصيغة المفروضة، فلا مدخل للإنشاء في
حصولها والدلالة عليها، فالطلب والتكليف الحاصل بصيغة الأمر غير الإرادة
المفروضة.

(1) سورة الأنعام: 149 (فلو...)، سورة النحل: 9 (ولو...).
619

نعم، هو متحد مع الإرادة الفعلية، إذ هو عين الاقتضاء الحاصل بصيغة
الانشاء، كما مرت الإشارة إليه.
نعم، قد يقال بحصول إرادة الطاعة من خصوص المطيع، نظرا إلى إرادة
اتحاده فإنها إرادة الطاعة بالعرض، حيث إن إرادة السبب إرادة لمسببه كذلك مع
العلم بالسببية، ويجري خلافه بالنسبة إلى الآخر، وذلك كلام آخر لا ربط له
بالمقام.
ويشير إلى ذلك - أي تعدد الإرادتين المذكورتين - ما ورد (1) من أن الله تعالى
أمر إبليس بالسجود لآدم (عليه السلام) ولم يشأ منه ذلك، ونهى آدم (عليه السلام) عن أكل الشجرة
وشاء منه ذلك. فظهر بذلك أن الأوامر الامتحانية أوامر حقيقية مشتملة على حقيقة
الطلب المدلول لصيغة الأمر الحاصلة بإنشاء الصيغة وإيجادها على نحو غيرها،
وإن خلت عن إرادة الفعل على الوجه الآخر فإن تلك خارجة عن مفاد الأمر، كما
بيناه، ولم أر من نبه من الأصحاب على ما قررناه من مغايرة حقيقة الطلب
الحاصل بالصيغة لإرادة الفعل على الوجه المفروض سوى المدقق المحشي (رحمه الله)
فإنه أشار إلى ذلك في بحث مقدمة الواجب، قال: إن العلم بعدم الصدور أو امتناعه
لا يستلزم القبح إلا لإرادة وجود الفعل وطلبه وقصد تحصيله، إذ بعد العلم بعدم
الوقوع قطعا لا يجوز من العاقل أن يكون بصدد حصول ذلك الشئ، ويقضي
العقل بأن الغرض من الفعل الاختباري يجب أن يكون محتمل الوقوع وإن لم
يجب أن يكون مظنونه ومعلومه.
وقد تقرر أن الغرض من التكليف ليس ذلك بل الابتلاء، لا بمعنى تحصيل
العلم بما لم يكن معلوما، بل بمعنى إظهار ما لم يكن ظاهرا. انتهى.
وهو كما ترى صريح في ما قررناه، إلا أنه مخالف لظاهر ما اختاره
الأصحاب من اتحاد الطلب والإرادة.

(1) البقرة: 34 - 36.
620

ويمكن تنزيل كلامهم على اتحاد الطلب والإرادة التشريعية وهي ما ذكرنا
من الإرادة الفعلية الإنشائية المعبر عنها بالاقتضاء والاستدعاء دون الإرادة
النفسية المتعلقة بحصول الفعل من المكلف حسب ما مر تفصيل القول فيه، وما
ذكره من الوجه في خلو الأمر عن الإرادة المذكورة مذكور في كلام الأشاعرة،
وقد مر بيانه مفصلا في محله.
إذا تقرر ذلك فنقول: إن ما قد يتخيل من الوجه في امتناع الأمر بالفعل مع علم
الآمر بامتناعه أمور:
أحدها: استحالة تعلق الإرادة بالمحال، فبعد علم الآمر بانتفاء الشرط لا
يتعقل معه إرادة الفعل.
ويدفعه: ما عرفت من أن المستحيل إنما هو إرادة الفعل في النفس وترجيحه
على الترك دون الإرادة الفعلية الانشائية الحاصلة بإنشاء الصيغة، وقد عرفت
الفرق بين الأمرين، وأن مفاد الأمر والتكليف هو الثاني دون الأول.
ثانيها: حكم العقل بقبح طلب المحال وإلزام المكلف بما يستحيل صدوره منه.
ثالثها: خلو الطلب المفروض عن الفائدة فلا يعقل صدوره عن الحكيم.
ويدفعهما: أن ما ذكر إنما يتم لو قلنا بالجواز مع علم المأمور بالحال، وأما مع
جهله وإمكان الفعل في نظره فلا وجه لتقبيح العقل للطلب المفروض، ولا لعدم
ترتب مصلحة عليه، لوضوح أن الطلب كما يحسن لمصالح حاصلة في الفعل
المطلق كذا يحسن لمصالح مترتبة على نفس الطلب مع حصولها.
وما يقال حينئذ من خروج ذلك عن محل البحث لخروج الأمر حينئذ عن
حقيقته وكونه أمرا صوريا محضا مدفوع بما عرفت من أن حقيقة الطلب لا يزيد
على ذلك، وهي حاصلة في الأوامر الامتحانية قطعا، غاية الأمر خلوها عن
الإرادة بالوجه الآخر، وقد عرفت أنها خارجة عن مفاد الأمر لا ربط لها بحقيقة
مدلول الصيغة، فاتضح بذلك أنه لا محذور في الأمر بالفعل مع علم الآمر بانتفاء
شرطه. وما عزي إلى الأصحاب من المنع مبني على ما ذكر، وقد ظهر مما قررنا
621

فساد مبناه، فاتجه القول بالجواز، وليس فيه مخالفة لإجماع الأصحاب، إذ لا
يظهر منهم انعقاد إجماع منهم عليه، ولا وقفنا على ادعاء الاجماع عليه، كيف! وقد
ذهب المفيد إلى جواز نسخ الفعل قبل حضور وقته، وهو من جملة جزئيات هذه
المسألة، فإنه إذا أمر بالشئ ثم نسخه قبل حضور وقته كان آمرا بالشئ مع علمه
بانتفاء شرطه الذي هو عدم النسخ، وحيث إن المعروف عندنا (1) القول بالمنع في
المقام فالمعروف هناك القول بالمنع أيضا. والمتجه عندنا الجواز في المقامين.
ومن الغريب أن بعض الأفاضل مع قطعه في المسألة بالمنع أجاب عما
احتجوا به من أمر إبراهيم (عليه السلام) بذبح ولده - حسب ما يأتي - أنه يمكن أن يكون
ذلك من قبيل نسخ الفعل قبل حضور وقته، مع أن ذلك أيضا عين مقصود المستدل
من وقوع الأمر على النحو المفروض.
وأما المسألة الثانية فقد اختلفوا فيها أيضا، بل قرر السيد النزاع في المسألة
في ذلك بخصوصه، واستحسنه المصنف، وقد نص السيد بالمنع منه، واختاره
المصنف، وربما يظهر ذلك من غيرهما أيضا، وقد يستفاد ذلك من إطلاقهم المنع
من الأمر بالشئ مع علم الآمر بانتفاء شرطه بناء على تعميم الأمر للتنجيزي
والتعليقي.
ويبعده: أن الأمر التعليقي لا يتعلق بالمكلف إلا بعد حصول ما علق عليه، فلا
أمر في الحقيقة قبل حصوله.
وأنت خبير بأن تخصيصه النزاع بالصورة المذكورة مخالف لظاهر كلمات
القوم، بل صريحها، وما تقتضيه أدلتهم في المسألة حسب ما ستجئ الإشارة إليه،
فإن قضية كلماتهم وقوع النزاع في تعلق التكليف بالمكلف فعلا مع علم الآمر
بانتفاء شرطه في المستقبل، إلا أن يكون البحث في خصوص التكليف المعلق على
الشرط كما ذكره السيد، إذ غاية الأمر حينئذ قبح الاشتراط حسب ما أطال القول
فيه، أو قبح إلقاء الخطاب المفروض، وليس مناط البحث فيه حينئذ إمكان تعلق

(1) كذا، والظاهر: عندهم.
622

التكليف بالمكلف بحسب الواقع واشتغال ذمته بأداء الفعل مع علم الآمر بانتفاء
شرطه وعدمه، كما هو صريح كلماتهم وقضية أدلتهم، والتفريع الذي فرعوه عليها،
وكأنه (رحمه الله) قرر النزاع في ما ذكره لوضوح فساد ذلك، وكونه من قبيل التكليف
بالمحال، أو من جهة ظهور التدافع بين حصول التكليف وفرض انتفاء شرطه،
فنزل الخلاف فيه على ما قرره.
وقد عرفت اندفاع الوجهين، مضافا إلى أن ظهور وهن الخلاف في شئ
لا يقتضي عدم كونه موردا للخلاف، مع اشتهار المخالف (1) وتنزيله الخلاف فيه
على ما ذكره مما لا وجه له بعد تصريحهم بخلافه، وإن أمكن وقوع الخلاف فيه
أيضا إلا أنه غير المسألة المفروضة، بل أمكن إدراجه في ما عنونوه بناء على
تعميم الأمر للمنجز والمعلق حسب ما أشرنا إليه، وحينئذ فتخصيص النزاع به غير
متجه، وكيف كان فالظاهر أيضا جواز ذلك للأصل وانتفاء المانع، وما يتخيل للمنع
منه أمور:
منها: أنه من التكليف بالمحال، لتعلق الطلب بما علم الآمر استحالته.
ومنها: لزوم الهذرية والخلو عن الفائدة، لعلمه بعدم حصول المكلف به، بل
ارتفاع التكليف لانتفاء شرطه.
ومنها: قبح الاشتراط من العالم بالعواقب، إذ مقتضاه الشك في حصول
الشرط، وعدم علمه بالحال، حسب ما أشار إليه السيد والكل مدفوع:
أما الأول فبما عرفت من عدم لزوم محذور من الجهة المذكورة مع تنجيز
الأمر فكيف مع تعليقه على الشرط؟ ومع الغض عن ذلك فإنما يلزم التكليف
بالمحال لو كان هناك إطلاق في التكليف، وليس كذلك، إذ المفروض تعليقه على
شرط غير حاصل، فهو في معنى عدم التكليف، لقضاء انتفاء الشرط بانتفاء
المشروط، فهو نظير القضية الشرطية الصادقة مع كذب المقدمتين.

(1) في (ق): قول المخالف.
623

وأما الثاني فلأن فائدة صدور الأمر ليست منحصرة في الإتيان بالفعل لئلا
يترتب عليه فائدة بعد العلم بفواته لانتفاء شرطه، بل هناك فوائد اخر كما عرفت
ذلك في المسألة السابقة.
وأما الثالث ففيه أولا: المنع من دلالة الاشتراط على الشك، بل مفاده إناطة
الحكم بما علق عليه.
نعم، قد يستفاد ذلك من بعض أدواته، حسب ما ذكروه في التعليق الحاصل
بإن كيف وإطلاق الأمر حينئذ قد يفيد خلاف المقصود، لدلالته إذا على إطلاق
الوجوب مع أن المفروض كونه مشروطا.
وثانيا: أن أقصى ما يفيده تشكيك المخاطب وترديده بين حصول الشرط
وعدمه أعم من إفادته شك المتكلم، ولو سلم كونه حقيقة في الثاني فلا مانع من
الخروج عنه بعد قيام الدليل عليه، وقد يستفاد من ذلك المنع من الاشتراط في حق
العالم إذا كان عالما بحصول الشرط أيضا، ولذا نص السيد على المنع منه أيضا
كما سيجئ.
وأما المسألة الثالثة فإن كان الآمر ظانا بحصول الشرط فلا إشكال في جواز
الأمر من دون تعليق على الشرط، لقيام الظن في ذلك مقام العلم، كما ستجئ
الإشارة إليه في كلام السيد، إلا أنه معلق في الواقع على حصول الشرط، وإنما
أطلق نظرا إلى ظهور حصوله، فيكشف عند ظهور انتفائه عدم حصول التكليف من
أصله. ويحتمل القول بإطلاق الأمر وحصول التكليف حينئذ مطلقا لاعتقاده
حصول الشرط، غاية الأمر سقوطه عند انكشاف فساد ظنه، كما هو الحال في
صورة القطع به بعد انكشاف فساد قطعه، وإن كان ظانا بخلافه فيحتمل أيضا
إلحاق ظنه بالعلم لقيامه مقامه عند انسداد باب العلم، فيكون مانعا من إطلاق
الأمر (1). وربما يتوهم المنع من تعليق الأمر على الشرط المفروض نظرا إلى

(1) في (ق) زيادة " كما أنه يجوز ما في الصورة الأولى ".
624

التنزيل المذكور، وهو ضعيف جدا، إذ غاية ما يقتضيه التعليق قيام الاحتمال
الحاصل في المقام، فجواز تعليق الأمر عليه مما لا ينبغي الريب فيه. بل يحتمل
حينئذ أن يقال بجواز إطلاق الأمر أيضا - لما نقرره في صورة الشك - وإن كان
شاكا فيه. فقضية كلام السيد فيما يأتي المنع منه أيضا، وكأنه لدلالة الإطلاق على
حصول الأمر مع انتفاء الشرط أيضا.
ويدفعه: ظهور إرادة التعليق في مسألة (1)، وإن لم يصرح به كما هو الظاهر من
ملاحظة الأوامر المطلقة الدائرة في المخاطبات العرفية.
نعم، لو دار الأمر في إطلاق الأمر مع حصول الشرط وعدمه لم يجز ذلك قطعا
ولو جوزنا الأمر بالشئ مع علم الآمر بانتفاء شرطه، حسب ما مرت الإشارة إليه،
ويحتمل حينئذ جواز إطلاق الأمر على الوجه الذي مر في صورة الظن، فيتعلق به
التكليف، وعند انتفاء الشرط يرتفع من حينه، لا أنه ينكشف انتفاؤه من أصله،
فيكون المصحح له جهل الآمر بالانتفاء.
فإن قلت: إمكان الفعل شرط في تعلق التكليف، وهو مشكوك في المقام،
والشك فيه قاض بعدم جواز الإقدام على المشروط به.
قلت: قيام احتمال حصول الشرط قاض بإمكان الفعل في نظر الآمر، وهذا
القدر كاف في الإقدام عليه، على أن اشتراط الإمكان الواقعي (2) غير ظاهر، غاية
الأمر أنه بعد ظهور الامتناع يرتفع التكليف حينئذ، فكما يقوم الاحتمال المذكور
بالنسبة إلى حصول الشرط في الزمان اللاحق كذا يجري في المقارن إذا شك في
حصوله وإن كان الحال في الأول أولى.
قوله: * (فأجازه مع علم المأمور أيضا) *.
ما ذكره بناء على قاعدتهم من تجويز التكليف بما لا يطاق، فنقل كثير منهم
الاتفاق على منعه غير متجه على أصولهم إلا أن يكون المراد الاتفاق على

(1) كذا، والعبارة ناقصة ظاهرا.
(2) في (ق): " على أن ثبوت الإقدام الواجب ".
625

عدم وقوعه، أو يراد الاتفاق على المنع بناء على امتناع التكليف بما لا يطاق،
ولا يخفى بعده.
وقد يقال: إنه لما كان المفروض انتفاء شرط الوجوب كان القول بحصول
الوجوب حينئذ تناقضا، وتجويزهم حصول الأمر مع جهل المأمور إنما هو
بملاحظة الأمر الظاهري، وهو غير جار في المقام، نظرا إلى علم المأمور بالحال.
وأنت بعد التأمل فيما قررناه في محل النزاع تعرف ضعف ذلك أيضا فليس
المانع حينئذ سوى لزوم الهذرية والخلو عن الفائدة، فإذا لم يكن هناك مانع عقلي
من ذلك على أصولهم لم يتجه حكمهم بالمنع من جهته.
قوله: * (وشرط أصحابنا في جوازه... الخ) *.
ظاهره يعطي تجويزهم للأمر حينئذ مطلقا ومعلقا على الشرط مع الظن
بحصول الشرط والشك فيه، بل والظن بعدمه، وسيأتي في كلام السيد المنع من
الثاني مع إطلاق الأمر فيكون مانعا من الثالث بالأولى، وظاهر المصنف التسليم
لجميع ما ذكره. ويمكن حمل كلامه هنا على جواز الأمر حينئذ في الجملة ولو
معلقا على الشرط، فإن ذلك مما لا مانع فيه في شئ من الوجوه المذكورة.
قوله: * (كأمر الله زيدا بصوم غد وهو يعلم موته فيه) *.
ظاهر كلامه يعطي اندراج الأمر المتعلق بالشخص المنفرد في محل النزاع،
كما يظهر من غيره أيضا، وهو كذلك، إذ لا فرق بين انفراد المأمور وتعدده في ما
بنوا عليه الأصل المذكور. ولكن حكى العلامة عن قاضي القضاة نفي الخلاف عن
عدم جوازه، والوجه فيه غير ظاهر على أصولهم.
قوله: * (لكن لا يعجبني الترجمة... الخ) *.
قد عرفت الوجه فيه، فإن إطلاق الشرط في المقام غير متجه، لاندراج
شروط الوجود المقدورة في الترجمة المذكورة، مع أنه لا خلاف في جواز الأمر
مع العلم بانتفائها، بل وكذا الكلام في شرائط الوجوب إذا كانت مقدورة على
تفصيل مرت الإشارة إليه.
وقد يجعل الوجه فيه: أن ظاهر العنوان المذكور يفيد كون النزاع في جواز
626

إطلاق الأمر مع علم الآمر بانتفاء شرطه، وليس الكلام فيه لاشتماله على المناقضة
حسب ما مرت الإشارة إليه، بل إنما البحث في جواز الأمر معلقا على الشرط
المفروض حسب ما ذكر السيد في بيان محل الخلاف واستحسنه المصنف، وهذا
الوجه وإن كان متجها في بادئ النظر إلا أنه مدفوع بما عرفت، غير موافق لما
ذكره من الوجه في ترك العدول من قصده مطابقة دليل الخصم لما عنون به
الدعوى، فإنه إنما يوافق الوجه الأول، حيث إن بعض أدلتهم إنما يفيد جواز الأمر
مع انتفاء شرط الوجود (1)، كما ستأتي الإشارة إليه في كلام المصنف، مضافا إلى
أنه المحكي عن المصنف في وجه عدم الإعجاب.
قوله: * (بشرط أن لا يمنع المكلف، أو بشرط أن يقدر) *.
وهذا ظاهر في كون الكلام في الشرائط الغير المقدورة للمكلف دون
المقدورة، ولو كانت من شرائط الوجوب.
قوله: * (ويزعمون أنه يكون مأمورا بذلك مع المنع) *.
قد يقال: إنه إذا فرض كون الأمر معلقا على الشرط المفروض فكيف يعقل أن
يكون مأمورا به مع انتفاء الشرط؟ ويمكن أن يوجه: بأن المراد أنهم يزعمون
جواز أمره التعليقي مع انتفاء الشرط، وأيضا ليس المراد تعلق الأمر به تنجيزا حال
انتفاء الشرط، وهذا العنوان كما ترى تحرير للمسألة الثانية، والمعروف في كتب
القوم بيان المسألة الأولى، وهو المناسب لما ذكروه من الأدلة، وقد تدرج هذه فيها
بناء على تعميم الأمر في كلامهم للتعليقي والتنجيزي حسب ما أشرنا إليه.
قوله: * (فلا يجوز أن يأمره بشرط) *.
فإن كان عالما بحصول الشرط جاز الأمر ولم يجز الاشتراط، وإن كان عالما
بعدمه لم يجز الأمر ولا الشرط، فلا يصح الأمر مطلقا ولا مشروطا، وحينئذ
فتندرج المسألة الأولى في كلامه أيضا، وفي قوله: " قبح منا أن نأمره بذلك "
لا محالة دلالة على ذلك أيضا.

(1) في نسخة: " الوجوب ".
627

قوله: * (فإذا فقد الخبر فلا بد من الشرط) *.
هذا يدل على بنائه على المنع في المسألة الثالثة، وحينئذ لا بد من الاشتراط
في صورة الشك في حصول الشرط والظن بعدمه. وقد يقال بامتناع الأمر في
صورة الظن تنزيلا له منزلة العلم، وهو بعيد، والظاهر أنه لا تأمل في جوازه، وليس
في كلامه (رحمه الله) ما يفيد المنع منه.
نعم، قد يجعل حكمه بقيام الظن مقام العلم عند انسداد السبيل إليه شاهدا على
المنع، وفيه نظر لا يخفى.
ثم إن ما استند إليه في قبح الأمر مطلقا في صورة العلم بانتفاء الشرط ما قد
علمت ما فيه، وأما ما ذكره من قبح الاشتراط مع العلم بوجود الشرط فالوجه فيه
هو ما قدمناه من اللغوية، أو الدلالة على حصول الشك، وقد عرفت ما يرد
عليهما (1).
قوله: * (وأقلها إرادة المكلف) *.
قد يقال في توجيه الدليل: إنه مبني على كون الإرادة خارجة عن قدرة
المكلف، فإن سائر الأفعال إنما تكون مقدورة بحصولها بإرادة المكلف، فلا تكون
الإرادة مقدورة لحصولها بغير توسط الإرادة، وإلا لزم التسلسل في الإرادة، وإذا
كانت غير مقدورة وكان التكليف حاصلا من دون حصولها ثبت المدعى، وإن لم
يثبت التكليف مع انتفائها لزم ما ذكر من اللازم.
وفيه أولا: أن التقرير المذكور لو تم فإنما يجري في خصوص الإرادة دون
سائر الشروط المفقودة، وقضية التقرير المذكور جريان الدليل في غيرها من سائر
الشروط المفقودة، حيث ذكر: أن كل ما لم يقع فقد انتفى شرط من شروطه.
وثانيا: أن عدم مقدورية الإرادة ممنوعة، وكونها غير حاصلة بإرادة أخرى
لا يفيد ذلك، فإنها مقدورة بنفسها، وتكون غيرها مقدورة بتوسطها.
وثالثا: بأن محل النزاع في المقام إنما هو بالنسبة إلى شروط الوجوب دون

(1) في نسخة: " عليها ".
628

الوجود، والإرادة من شروط الوجود بالاتفاق، سواء كانت مقدورة أو غير
مقدورة، فتكون خارجة عن محل النزاع. وقد يوجه الاستدلال بنحو آخر بأن
يقال: إنه كلما انتفى شرط من شروط الفعل فهو مما يمتنع حصوله في الخارج،
لكون انتفائه معلوما لله تعالى فلو حصل في الخارج لزم انقلاب علمه تعالى جهلا،
وهو محال، فالملزوم مثله، فإذا كانت تلك الشرائط المفقودة ممتنعة لم تكن
مقدورة أولا، فتعلق القدرة غير ظاهر، غاية الأمر أن يقضي ذلك بامتناعها، نظرا
إلى اختيار المكلف تركها، وهو لا ينافي المقدورية، بل يؤكدها. نعم، لو كانت
ممتنعة من دون اختيار المكلف تم ما ذكر، إلا أنه ليس كذلك، ولو سلم عدم
مقدوريتها فليس الوجوب مشروطا بالنسبة إليها، إذ ليس جميع الشرائط مشروطا
في الوجوب، فهي خارجة عن مورد النزاع، ومجرد عدم مقدوريتها نظرا إلى
الوجه المذكور لا يقضي بتقييد الوجوب بها وانتفائه مع انتفائها.
قوله: * (لم يعلم أحد أنه مكلف) *.
قد مر أن العلم بحصول التكليف الظاهري حاصل بالاتفاق، ولو مع عدم
حصول الظن بمطابقته للواقع إذا ثبت التكليف بملاحظة الطريق المقرر في الشريعة
لإثبات التكاليف الشرعية، كما في العلم بتكليف المرأة بالصوم مع شكها في طروء
الحيض في أثناء النهار، أو ظنها به، فالملازمة المدعاة ممنوعة، وما ذكر في بيانه لا
يفيد ذلك، أقصى الأمر أن يفيد عدم علمه بكونه مكلفا، نظرا إلى حكمه الواقعي
الأولي، وأما تكليفه الظاهري فليس مشروطا به حسب ما قدمنا الإشارة إليه.
قوله: * (لو اجتمعت الشرائط عند دخول الوقت) *.
لا يخفى أن مجرد اجتماع الشرائط عند دخول الوقت لو كان كافيا في
حصول اليقين بالتكليف لجرى في الضيق أيضا إذا حصل إجتماع الشرائط عند
دخول وقته، وكيف يعقل حصول اليقين حينئذ بالتكليف مع الشك في طروء
المانع، أو ارتفاع بعض الشرائط في الأثناء، وكأنه أراد بما ذكره مضي مقدار أداء
الفعل مستجمعا للشرائط بعد دخول الوقت، وحينئذ يحصل اليقين بالاشتغال
في الموسع.
629

ويدفعه: أن الحاصل حينئذ هو اليقين بسبق الاشتغال، لا كونه مشتغلا بالفعل
بالنسبة إلى ما يأتي حسب ما قرره في الجواب.
قوله: * (لو يعلم إبراهيم (عليه السلام) بوجوب ذبح ولده... إلخ) *.
كان الأظهر أن يجعل تالي الشرطية المذكورة عدم أمر إبراهيم (عليه السلام) بذبح
ولده، والتالي باطل، لدلالة الآية الشريفة على الأمر به، وأيضا لولا تعلق الأمر به
لم يعلم أمره (عليه السلام) بوجوب ذبح ولده، الامتناع الجهل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سيما
بالنسبة إلى الأحكام الشرعية، وقد علم ذلك نظرا إلى إقدامه على الذبح، وكأنه
راعى في ذلك الاختصار، فإنه لما كان علم إبراهيم (عليه السلام) دليلا على الأمر جعل
ذلك تاليا للشرطية.
قوله: * (وإنما هو في الشرط الذي يتوقف عليه تمكن المكلف... إلخ) *.
لا يخفى أن من الشروط: ما يتوقف عليه حصول الفعل من غير أن يتوقف
التمكن منه عليه، كالشروط الوجودية المقدورة للمكلف.
ومنها: ما يتوقف عليه حصول تمكن المكلف عن الفعل، كالقدرة على
مقدمات الفعل، وحينئذ فقد يتوقف عليه حصول القدرة، وقد يتوقف عليه بقاؤها،
والصورة الأولى خارجة عن محل النزاع قطعا، وظاهر العبارة يفيد اندراج
الصورة الثانية بقسميها في محل البحث، لتوقف تمكن المكلف من الفعل عليها إما
ابتداء أو استدامة. ومن البين أن ما يتوقف عليه بقاء القدرة قد يكون مقدورا
للمكلف، وقد لا يكون مقدورا له، واندراج الأول في محل النزاع غير ظاهر كما
عرفت، وقد يخص كلامه بالقسم الأول أو ما يعمه، والثاني مع عدم كون البقاء
مقدورا للمكلف، وكأنه لذا جعل الوجه في عدم الإعجاب من الترجمة المتقدمة
كونها أعم من المقدمات المقدورة وغيرها، مع أن محل الخلاف هو الثانية لا
غيرها، لكن قد عرفت أن ظاهر إطلاق ما ذكر أعم من ذلك.
ويرد عليه: ما مرت الإشارة إليه من جريان الخلاف في بعض شروط
الوجوب، مما يكون مقدورا للمكلف فلا وجه للحصر المدعى.
قوله: * (المنع من بطلان اللازم) *.
630

هذا مبني على حمل العلم بالتكليف على العلم بتعلق التكليف به واقعا، وهو
مقصود السيد أيضا، وقوله: " وليس يجب إذا لم يعلم قطعا انه مأمور به أن يسقط
عنه وجوب التحرز " إشارة إلى ثبوت التكليف الظاهري بالنسبة إليه، وحصول
العلم به قطعا حسب ما قرره، لكن لا يعتبر فيه حينئذ حصول الظن بالواقع، بل
يكفي فيه الرجوع إلى الطريق المقرر شرعا، ظنا كان أو غيره حسب ما مرت
الإشارة إليه.
قوله: * (إلا بعد تقضي الوقت وخروجه) *.
هذا في المضيق، وأما الموسع فيكتفي فيه تقضي مقدار الفعل ومقدماته التي
يتوقف عليها الفعل حينئذ، وقد يعم الوقت في كلامه بحيث يشمل ذلك.
قوله: * (بل كلف بمقدماته... إلخ) *.
لا يخفى أن ما ذكره يخالف ظاهر قوله تعالى: * (إني أرى في المنام أني
أذبحك فانظر ماذا ترى) * (1)، فإن الظاهر منه كون المأمور به نفس الذبح، وحمله
على إرادة المقدمات مجاز، وجعل قوله تعالى: * (صدقت الرؤيا) * قرينة عليه
حسب ما ادعاه ليس بأولى من العكس، لكن يمكن أن يقال: إن دوران الأمر بين
الوجهين كاف في دفع الاستدلال، نظرا إلى قيام الاحتمال، إلا أن يقال بترجيح
المجاز الثاني نظرا إلى قربه، بل يمكن أن يقال بحصول التصديق على سبيل
الحقيقة، إذ لم يكن سوى الإتيان بسبب الذبح وقد أتى به، وإن لم يتفرع عليه ذلك
لمنعه تعالى إلا أنه يخرج حينئذ عن محل البحث لأدائه المأمور به، وكذا الحال لو
قيل بحصول فري الأوداج والتحام العضو بأمر الله تعالى، وكل من الوجهين بعيد
مناف لنزول الفداء، إذ هذا ظاهر جدا في كون المطلوب نفس الذبح وعدم حصوله
في المقام، وجعل الفداء عوضا عنه، واحتمال كونه فداء عن الذبح نظرا إلى ما
يظن من حصول الأمر به بعد ذلك، أو عن بقية المقدمات مما لم يؤمر به، وظن أنه
سيؤمر به من التكلفات البعيدة ولا داعي إلى ارتكابه، والحق كون الأمر في المقام

(1) سورة الصافات: 102.
631

لاختبار إبراهيم (عليه السلام) وإظهار علو شأنه وكمال انقياده، كما يشير إليه قوله تعالى:
* (إن هذا لهو البلاء المبين) * (1). وقد عرفت أنه لا تجوز حينئذ في الأمر، نظرا إلى
حصول الطلب الذي هو مدلول الصيغة والإرادة التشريعية لنفس الفعل وإن لم يكن
مرادا بنحو آخر، لعلمه تعالى بمنعه عن الفعل، وقد مر أن تلك الإرادة لا مدخل لها
في مفاد الصيغة، فالقضية المذكورة أقوى شاهد على المدعى، ولا حاجة في دفعه
إلى التكلفات المذكورة، إذ ليس فيها منافاة لحكم العقل، ولا لقواعد الشرع حتى
يتصدى لتأويل النقل حسب ما عرفت تفصيل القول فيه، وجعل الأمر في المقام
للامتحان مع التزام التجوز والخروج عن حقيقة التكليف بالفعل بإرادة التكليف
بمقدماته أو بعدم إرادة التكليف أصلا من غير أن يعلم إبراهيم (عليه السلام) بحقيقة الحال
ليتعقل حصول الامتحان - مع ما عرفت من ضعفه - قاض بحصول الجهل المركب
لإبراهيم (عليه السلام)، وهو لا يناسب منصب النبوة، سيما بالنسبة إلى الأحكام الشرعية.
قوله: * (بل للعزم على الفعل والانقياد إليه... إلخ) *.
لا يخفى أنه بناء على المنع من تعلق الأمر بالفعل مع علم الآمر بامتناعه لا بد
إما من القول بعدم جواز صدور الأوامر الامتحانية كما قد يومئ إليه.
قوله: * (ولو سلم... إلخ) *، وهو في غاية البعد، بل واضح الفساد كما عرفت.
واما التوجيه في مادة الأمر بإرجاعه إلى إرادة مقدمات الفعل، أو بالتجوز في
هيئته بإرادة صورة الطلب منه من غير أن يكون هناك طلب على سبيل الحقيقة.
وكلا الوجهين لا يتم على القول بعدم جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب
إما مطلقا أو في ما له ظاهر، فإنه إن بين ذلك للمخاطب في حال الخطاب لم يتفرع
عليه ما هو المقصود من الامتحان، وإن لم يبين ذلك لزم المفسدة المذكورة، ومع
الغض عن ذلك فلا يخفى ما في التوجيهين المذكورين من البعد والخروج عن
الظاهر، سيما في ما اختاره المصنف من الوجه الأول، إذ استعمال الفعل في العزم
عليه والإتيان بمقدماته في غاية البعد، بل ربما يقال بكونه خطابا خاليا عن

(1) سورة الصافات: 106.
632

العلاقة المعتبرة في المجاز على ما هو المتداول في الاستعمالات، مضافا إلى
خروجه عما هو ملحوظ المستعمل في مقام الامتحان، وحصول مقصوده من
الأمر المفروض بالعزم على الفعل والتهيؤ له أو الإعراض عنه والتهاون فيه لا يفيد
كون اللفظ مستعملا في ذلك، كما لا يخفى، على أنه قد يكون الاختبار بإتيانه
بنفس الفعل، كما إذا لم يكن الآمر مريدا لوقوع الفعل في نفسه، لكن يأمر العبد به
لاختباره من غير أن يمنعه من الفعل إلى أن يأتي به.
وبالجملة: أن الاختبار كما يقع بما يريد الآمر عدم حصوله في الخارج كذا
يقع بما يتساوى عنده الوقوع وعدمه، والفرق بينهما: أنه يجب عليه في الأول
إعلام العبد قبل إيقاع الفعل إلا مع عدم تمكنه من الإتيان به، بخلاف الثاني إذ لا
يجب عليه الإعلام مطلقا، لانتفاء المفسدة في أداء الفعل، وعدم لزوم قبح عقلي
ولو من جهة الإغراء بالجهل، فلو كان ذلك خارجا عن حقيقة التكليف لكان
الإعلام واجبا، لامتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة عندهم حسب ما حكي
الاجماع عليه.
قوله: * (وأما ما ذكره في المثال فإنما يحسن... إلخ) *.
هذا يفيد تسليمه تعلق الأمر في صورة إرادة الامتحان بنفس الفعل، وظاهره
يومئ إلى كون الأمر حقيقيا فإنه الذي أراده المستدل، فتسليم حسنه والجواب
بعدم جريانه في أوامره تعالى ظاهر في ذلك، فملخص جوابه عن الاستدلال
بالمنع من جريان الامتحان في أوامره تعالى، وبعد تسليمه فالمأمور به في الحقيقة
إنما هو العزم على الفعل والانقياد إليه، لعلمه تعالى بامتناع الفعل. وأما ما ذكر من
المثال من تعلق الأمر حينئذ بنفس الفعل فإنما يجري في غير أوامره تعالى،
لاستحالة الوجه المذكور بالنسبة إليه تعالى.
وأنت خبير بما فيه، فإنه وإن لم يعقل التوصل بذلك إلى تحصيل العلم بالنسبة
إليه تعالى إلا أنه يمكن أن يكون ذلك لمصالح اخر، كإظهار حاله على غيره،
أو إقامة الحجة عليه حسب ما مرت الإشارة إليه.
هذا، وقد يتفرع على المسألة المذكورة أمور:
633

منها: ما لو كان المأمور جاهلا بانتفاء الشرط إلى أن أدى الفعل وكان الآمر
عالما به، كما لو اتفق تحيض المرأة في نهار الصوم من غير أن تعلم به إلى أن تغيب
الشمس فإنه بناء على جواز الأمر بالشئ مع علم الآمر بانتفاء شرطه ينبغي القول
بصحة العمل، بخلاف ما لو قيل بالمنع منه.
قلت: وعلى هذا يثمر أيضا في ثبوت الكفارة عليها لو تناولت المفطر حينئذ
لإفطارها الصوم المأمور به.
وفيه: أن المفروض انتفاء شرط الصحة حينئذ بحسب الواقع فكيف يعقل معه
الحكم بصحة الفعل الواقع منه مع عدم مطابقته للمأمور به؟ وغاية ما يلزم من القول
بالجواز في المقام هو كون الفعل المستجمع للشرائط مأمورا به واقعا مع علم الآمر
بعدم حصول شرطه، وكون المستجمع مأمورا به لا يقضي بصحة غير المستجمع
حتى يتفرع عليه ما ذكر، وكذا القول بثبوت الكفارة حينئذ فإن المفروض ثبوتها
بتعمد الإفطار، وهو فرع التلبس بالصوم قبله، وقد تبين انتفاؤه فكيف يقال بثبوت
الكفارة الواجبة من جهة تعمد إفطار الصوم؟
نعم، لو قرر النزاع في المقام في جواز الأمر بالشئ الذي انتفى عنه الشرط
إذا علم الآمر بانتفائه مع جهل المأمور بذلك حتى يكون غير المستجمع بحسب
الواقع مع جهل المأمور به مأمورا به صح التفريع المذكور، وهو فرع جليل، إذ
قضيته الحكم إذا بصحة جميع الأفعال الفاقدة للشروط مع جهل المأمور بالحال
إذا تبين الحال فيها بعد ذلك، إلا إذا قام الدليل على خلافه، وهو أصل نافع جدا،
إلا أن ذلك مما لا ربط له بالمسألة المعنونة في المقام، كيف؟ وجواز الأمر به على
النحو المذكور مما لا مجال لإنكاره، إذ غاية الأمر حينئذ أن يكون الشروط
المعتبرة في الفعل شروطا علمية لا واقعية. وأيضا مجرد جواز وقوع التكليف على
النحو المذكور لا يكفي في التفريع المذكور، بل لا بد من القول بوقوع التكليف على
ذلك الوجه حتى يمكن أن يفرع عليه ذلك. وأيضا لا يجري ذلك بالنسبة إلى
الشرائط العقلية كالقدرة على الفعل، مع أن تمثيلاتهم في المقام صريحة في
اندراجها في المسألة ولا يوافق ما ذكر.
634

والحاصل أن كلامهم في هذه المسألة صريح في خلاف ذلك، فلا يمكن
تنزيل الخلاف عليه، فلا وجه للتفريع المذكور أصلا، وغاية ما يتفرع عليه
بملاحظة ذلك حصول انفصال المخالفة، نظرا إلى حصول الأمر مع انتفاء الشرط
حسب ما مرت الإشارة اليه.
ومنها: ما لو أدرك أول وقت الفعل ثم طرأه مانع من حيض ونحوه قبل انقضاء
مدة يسع الفعل فإنه يجب عليه القضاء بناء على جواز الأمر كذلك، بخلاف ما لو
قيل بالمنع منه، إذ لا أمر حينئذ بالفعل حتى يتحقق معه صدق الفوات.
وفيه: أنه لو قيل بكون القضاء تابعا للأداء فربما أمكن تصحيح الكلام إلا أنه
مذهب ضعيف اتفق المحققون على فساده.
وأما على القول بكونه عن أمر جديد كما هو المختار عند الجمهور فهو إنما
يتبع ورود الأمر من غير فرق في ذلك بين القولين، وليست تسميته قضاء مبنية
على وجوب الأداء كما هو ظاهر ومعلوم من ملاحظة قضاء الحائض وغيره
للصوم.
ومنها: انتقاض التيمم بوجدان الماء إذا لم يتمكن من استعماله بعد وجدانه
لعدم اتساع زمانه أو لغير ذلك، فإذا قلنا بكونه مأمورا بالمائية إذا لم يعلم أولا بعدم
تمكنه من الاستعمال حكم بانتقاض التيمم وإلا حكم ببقائه. وقد يقال حينئذ
بالانتقاض من جهة إطلاق النصوص وإن لم نقل بجواز الأمر على الوجه
المفروض.
ومنها: لو ملك قدر الاستطاعة وقت مضي الرفقة فتعمد التخلف عنهم ثم مات
أو تلف ماله قبل زمان الحج أو منعه مانع عن المضي إلى الحج في العام الأول بعد
حصول الاستطاعة، فإنه على القول بجواز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط يتعين
عليه أداء الحج بعد ذلك والقضاء عنه، بخلاف ما لو قيل بالمنع من ذلك. ويشكل
ذلك بالمنع من كون مجرد تعلق الأمر أولا قاضيا باستقرار الحج في الذمة بعد
انكشاف انتفاء الاستطاعة.
ومنها: لزوم الكفارة على من أفطر شهر رمضان ثم طرأه مانع اضطراري من
635

الصوم كالحيض والمرض أو اختياري كالسفر، فإنه على القول بجواز الأمر مع
علم الآمر بانتفاء الشرط يكون مأمورا حينئذ بالصوم، فيجب عليه الكفارة،
بخلاف ما لو قيل بعدم تعلق الأمر به، فإنه مع عدم علم الآمر بالصوم لا يكون
مفطرا للصوم الواجب. وقد يقال بأنه يمكن أن يكون وجوب الكفارة منوطا
بمخالفة التكليف الظاهري نظرا إلى حصول التجري بمخالفته وإن لم يكن مطابقا
للواقع، وذلك حاصل في المقام على القول بعدم جواز تعلق الأمر مع العلم بانتفاء
الشرط، ولذا وقع الخلاف في وجوب الكفارة بين أصحابنا.
وأنت خبير بأن المقصود تفريع ذلك على ما إذا علق وجوب الكفارة على
إفطار الصوم الواجب، وأما لو دل الدليل على وجوبها بمجرد التجري المذكور فلا
كلام، وحينئذ فلا مانع من التفريع المذكور من تلك الجهة.
نعم قد يشكل ذلك من جهة أخرى عدم استجماع ذلك اليوم لشرائط صحة
الصوم، فصومه فاسد في الواقع وإن تعلق الأمر بصومه نظرا إلى جهل المأمور
بالحال، فليس الأمر متعلقا به من حيث انتفاء الشرط المفروض، بل لم يتعلق الأمر
بالصحيح المستجمع لجميع الشرائط وإن لم يمكن حصوله من المأمور به بحسب
الواقع. والإفطار إنما حصل للصوم الفاسد بحسب الواقع، فلا كفارة من جهة
إفطارها للصوم الصحيح لولاه كما هو المقصود، فلا ثمرة للخلاف سوى تحقق
العصيان حسب ما مرت الإشارة إليه وهو أيضا غير متجه، لحصوله على القول
الآخر، نظرا إلى تحقق التكليف الظاهري قطعا كما عرفت، إلا أن تحقق العصيان
بالنسبة إلى الأمر الأولي على الأول والأمر الثانوي على الثاني، ولا تفاوت بينهما
بعد الاشتراك في مطلق الإثم والعصيان. وغاية ما يمكن أن يصحح الثمرة
المذكورة أن يقال إنه لما لم يحصل بعد الفساد وكان المفروض تعلق الأمر واقعا
بالصوم لم يتصف صومه بالفساد واقعا إلا حين طرو المفسد، فيتعلق به الكفارة
بالإفطار قبله ولا يخفى ذلك أيضا عن تأمل.
* * *
636

معالم الدين:
أصل
الأقرب عندي: أن نسخ مدلول الأمر - وهو الوجوب - لا يبقى معه
الدلالة على الجواز، بل يرجع إلى الحكم الذي كان قبل الأمر. وبه قال
العلامة في النهاية، وبعض المحققين من العامة. وقال أكثرهم بالبقاء،
وهو مختاره في التهذيب.
لنا: أن الأمر إنما يدل على الجواز بالمعنى الأعم - أعني الإذن في
الفعل فقط - وهو قدر مشترك بين الوجوب، والندب، والإباحة،
والكراهة. فلا يتقوم إلا بما فيها من القيود، ولا يدخل بدون ضم شئ
منها إليه في الوجود، فادعاء بقائه بنفسه بعد نسخ الوجوب غير معقول.
والقول بانضمام الإذن في الترك إليه باعتبار لزومه لرفع المنع الذي
اقتضاه النسخ، موقوف على كون النسخ متعلقا بالمنع من الترك الذي
هو جزء مفهوم الوجوب، دون المجموع. وذلك غير معلوم، إذ النزاع
في النسخ الواقع بلفظ: " نسخت الوجوب " ونحوه. وهو كما يحتمل
التعلق بالجزء الذي هو المنع من الترك، لكون رفعه كافيا في رفع مفهوم
الكل، كذلك يحتمل التعلق بالمجموع، وبالجزء الآخر الذي هو رفع
الحرج عن الفعل، كما ذكره البعض، وإن كان قليل الجدوى، لكونه في
637

الحقيقة راجعا إلى التعلق بالمجموع.
احتجوا: بأن المقتضي للجواز موجود، والمانع منه مفقود، فوجب
القول بتحققه.
اما الأول: فلأن الجواز جزء من الوجوب، والمقتضي للمركب
مقتض لأجزائه.
وأما الثاني: فلأن الموانع كلها منتفية بحكم الأصل والفرض، سوى
نسخ الوجوب وهو لا يصلح للمانعية، لأن الوجوب ماهية مركبة،
والمركب يكفي في رفعه رفع أحد أجزائه، فيكفي في رفع الوجوب
رفع المنع من الترك الذي هو جزؤه. وحينئذ فلا يدل نسخه على ارتفاع
الجواز.
فان قيل: لا نسلم عدم مانعية نسخ الوجوب لثبوت الجواز، لأن
الفصل علة لوجود الحصة التي معه من الجنس، كما نص عليه جمع من
المحققين. فالجواز الذي هو جنس للواجب وغيره لا بد لوجوده في
الواجب من علة هي الفصل له، وذلك هو المنع من الترك، فزواله
مقتض لزوال الجواز، لأن المعلول يزول بزوال علته، فتثبت مانعية
النسخ لبقاء الجواز.
قلنا: هذا مردود من وجهين:
أحدهما: أن الخلاف واقع في كون الفصل علة للجنس، فقد أنكره
بعضهم وقال: انهما معلولان لعلة واحدة. وتحقيق ذلك يطلب من
مواضعه.
وثانيهما: أنا وإن سلمنا كونه علة فلا نسلم أن ارتفاعه مطلقا
يقتضي ارتفاع الجنس، بل إنما يرتفع بارتفاعه، إذا لم يخلفه فصل آخر،
وذلك لأن الجنس إنما يفتقر إلى فصل ما ومن البين أن ارتفاع المنع من
638

الترك مقتض لثبوت الإذن فيه، وهو فصل آخر للجنس الذي هو الجواز.
والحاصل: أن للجواز قيدين: أحدهما - المنع من الترك، والآخر -
الإذن فيه، فإذا زال الأول خلفه الثاني. ومن هنا ظهر أنه ليس المدعى
ثبوت الجواز بمجرد الأمر، بل به وبالناسخ، فجنسه بالأول وفصله
بالثاني. ولا ينافي هذا إطلاق القول بأنه إذا نسخ الوجوب بقي الجواز،
حيث إن ظاهره استقلال الأمر به، فإن ذلك توسع في العبارة. وأكثرهم
مصرحون بما قلناه.
فإن قيل: لما كان رفع المركب يحصل تارة برفع جميع أجزائه،
وأخرى برفع بعضها، لم يعلم بقاء الجواز بعد رفع الوجوب، لتساوي
احتمالي رفع البعض الذي يتحقق معه البقاء، ورفع الجميع الذي معه
يزول.
قلنا: الظاهر يقتضي البقاء، لتحقق مقتضيه أولا، والأصل
استمراره. فلا يدفع بالاحتمال. وتوضيح ذلك: أن النسخ إنما توجه إلى
الوجوب، والمقتضي للجواز هو الأمر، فيستصحب إلى أن يثبت ما
ينافيه. وحيث إن رفع الوجوب يتحقق برفع أحد جزئيه، لم يبق لنا
سبيل إلى القطع بسقوط المنافي فيستمر الجواز ظاهرا. وهذا معنى
ظهور بقائه.
والجواب: المنع من وجود المقتضي، فإن الجواز الذي هو جزء
من ماهية الوجوب وقدر مشترك بينها وبين الأحكام الثلاثة الاخر، لا
تحقق له بدون انضمام أحد قيودها إليه قطعا، وإن لم يثبت علية الفصل
للجنس، لأن انحصار الأحكام في الخمسة يعد في الضروريات.
وحينئذ فالشك في وجود القيد يوجب الشك في وجود المقتضي.
وقد علمت أن نسخ الوجوب، كما يحتمل التعلق بالقيد فقط - أعني
639

المنع من الترك - فيقتضي ثبوت نقيضه الذي هو قيد آخر، كذلك
يحتمل التعلق بالمجموع، فلا يبقى قيد ولا مقيد، فانضمام القيد
مشكوك فيه، ولا يتحقق معه وجود المقتضي. ولو تشبث الخصم في
ترجيح الاحتمال الأول بأصالة عدم تعلق النسخ بالجميع، لكان
معارضا بأصالة عدم وجود القيد، فيتساقطان.
وبهذا يظهر فساد قولهم في آخر الحجة: " إن الظاهر يقتضي البقاء،
لتحقق مقتضيه، والأصل استمراره "، فإن انضمام القيد مما يتوقف
عليه وجود المقتضي، ولم يثبت.
إذا تقرر ذلك، فاعلم: أن دليل الخصم لو تم، لكان دالا على بقاء
الاستحباب، لا الجواز فقط، كما هو المشهور على ألسنتهم، يريدون به
الإباحة. ولا الأعم منه ومن الاستحباب، كما يوجد في كلام جماعة. ولا
منهما ومن المكروه، كما ذهب إليه بعض، حتى أنهم لم ينقلوا القول
ببقاء الاستحباب بخصوصه إلا عن شاذ، بل ربما رد ذلك بعضهم نافيا
للقائل به، مع أن دليلهم على البقاء كما رأيت ينادى بأن الباقي هو
الاستحباب.
وتوضيحه: أن الوجوب لما كان مركبا من الإذن في الفعل وكونه
راجحا ممنوعا من تركه، وكان رفع المنع من الترك كافيا في رفع حقيقة
الوجوب، لا جرم كان الباقي من مفهومه هو الإذن في الفعل مع
رجحانه، فإذا انضم إليه الإذن في الترك على ما اقتضاه الناسخ، تكملت
قيود الندب وكان الندب هو الباقي.
640

قوله: * (الأقرب عندي أن نسخ مدلول الأمر... الخ) *.
هذه المسألة أيضا من أحكام الوجوب ولا ترتبط بالأوامر إلا من جهة كون
مدلولها ذلك عند الجمهور، فلا فرق بين كون الوجوب مدلولا للامر أو غيره من
الأدلة اللفظية أو العقلية وإن لم نسم الثاني نسخا بل ارتباطها بالنسخ أولى من ربطها
بالوجوب، إذ لا خصوصية للحكم المذكور بالوجوب، لجريانه في الندب وغيره
من الأحكام، بل وغير الأحكام أيضا، فالمناط في ذلك على ما بنوا عليه الاستدلال
أنه إذا رفع أمر مركب فهل يحكم برفعه أجمع أو إنما يحكم برفع ما تحقق رفعه من
أبعاضه ويحكم ببقاء الباقي، وحينئذ فقد يكون التركيب في نفس الحكم الثابت
كما في المقام وقد يكون في متعلقه كما إذا تعلق الحكم بمقيد ثم نسخ ذلك، فإنه
هل يحكم بارتفاعه عن خصوص القيد فيثبت المطلقة أو يحكم برفعه مطلقا، وقد
يكون نحو التركيب في ثبوت الحكم كما لو ثبت حكم على وجه العموم ثم نسخ
ذلك، فإنه هل يحكم برفعه كذلك؟ وإنما يحكم برفع القدر المحقق من جزئيات
ذلك العام لارتفاع العموم به ويحكم ببقاء الباقي. ويجري البحث المذكور بالنسبة
إلى نسخ الوجوب العيني فإنه هل يدل على رفع الوجوب من أصله أو إنما يفيد
رفع عينيته، فلو احتمل وجوبه على سبيل التخيير بنى عليه بحكم الأصل، ثم إن
نسخ الوجوب رفع له بطريق مخصوص. ويجري الكلام المذكور بعينه في ارتفاع
الوجوب بغير نحو النسخ، كما إذا وجب شئ في حال ودل الدليل على ارتفاع
الوجوب في حال أخرى فهل يحكم حينئذ ببقاء الجواز أو لا؟ وحيث عرفت
جريان الكلام بالنسبة إلى ما يتعلق به الوجوب فيندرج في ذلك أيضا ما إذا تعلق
الوجوب بوقت مخصوص، فإنه يرتفع ذلك الواجب قطعا بفوات وقته، وهل يحكم
ببقاء الوجوب لأصل الفعل حتى لا يتوقف وجوب القضاء على أمر جديد أو يحكم
بارتفاع الوجوب رأسا فيتوقف وجوب القضاء على أمر آخر؟ وقد عنونوا بعض
المسائل المذكورة بعنوان مستقل إلا أنه بعد تفصيل القول في المسألة يتبين الحال
في الجميع، ونحن نفصل الكلام في غيرها أيضا إن شاء الله في المباحث الآتية.
641

ثم إن نسخ الوجوب كما عرفت هو رفعه فقد يتعلق الرفع بنفس الوجوب أو
بجزئه الأخص أو الأعم أو بجزئيه معا، لا إشكال في وقوع الخلاف في الصورة
الأولى كخروج الأخيرين عن محل النزاع.
وأما الثالث فسيجئ في كلام المصنف التصريح بخروجه عن محل البحث،
لكن نص الشهيد الثاني وغيره باندراجه في محل الخلاف وهو المتجه، لجريان
الوجه الآتي بعينه في ذلك أيضا، فإن ارتفاع الفصل قاض بارتفاع الجنس، فيندفع
به ما يتخيل من انتفاء الإشكال حينئذ في بقاء الجواز.
نعم قد لا يجري في بعض الوجوه المتخيلة لارتفاع الجواز، ومجرد ذلك لا
يقضي بخروجه عن محل البحث، مع أن ظاهر إطلاقاتهم شمول النزاع للوجهين
وإن كان الأظهر بالنظر إلى سياق كلامهم هو الصورة الأولى خاصة.
والمراد بالدلالة في المقام إما الدلالة اللفظية بأن يكون الدال على الوجوب
هو الدال على بقاء الجواز بأن يفيد النسخ رفع جزئه الأخص فيكون الأعم مدلولا
لما دل على ثبوت الكل، أو لا دلالة له على الجواز وإثباته بواسطة اللفظ وإن كان
ثبوته من جهة استصحاب الجواز، فالمدعى حينئذ إثبات الجواز بواسطة اللفظ
الدال على ثبوت الوجوب، والثاني هو المناسب لبعض أدلتهم الآتية. وأما إثبات
الجواز بواسطة أصالة البراءة أو الإباحة ونحوهما من غير تمسك بثبوت الجواز
أولا بالأمر فمما لا ربط له بالمقام بل هو من قول المنكر لدلالته على الجواز.
ثم إن الجواز المبحوث عنه هو الجواز بالمعنى الأعم الشامل للأحكام
الأربعة، كما هو المنساق عن العبارة وإن لم يكن حصوله في المقام في ضمن
الوجوب من جهة النسخ أو الشامل للثلاثة، حيث إن نسخ الوجوب دليل على
عدم حصول الجواز في ضمنه وإسناد البقاء إليه مع أنه أخص من المعنى الجنسي
الحاصل في ضمن الوجوب نظرا إلى حصول الأعم في ضمنه وكون الخصوصية
من لوازم نسخ الوجوب المأخوذ في عنوان المسألة. أو يراد به الجواز بالمعنى
الأخص يعني خصوص الإباحة كما احتمله في النهاية، وسيأتي عن المصنف
642

حكاية الشهرة عليه، وهو بعيد عن ظاهر العنوان إلا أنه سيأتي في احتجاج القائل
بالبقاء توجيه ذلك، على أن ذلك مما لا دليل عليه كما سيجئ الإشارة إليه إن شاء
الله. ولا يجري بالنسبة إلى ما لا يعقل فيه الإباحة كما في العبادات. وقد يراد به
الجواز في ضمن الاستحباب وهو الذي تقتضيه حجتهم على ذلك كما سيشير إليه
المصنف إلا أن القول به نادر حسب ما نص عليه المصنف.
قوله: * (بل يرجع إلى الحكم الذي كان قبل الأمر) * قيل عليه: إن رجوعه
إلى الحكم الذي كان قبل الأمر لا دليل عليه فالحق أنه يصير من قبيل ما لا حكم
فيه.
قلت: مبنى الإيراد المذكور على حمل الحكم الذي كان قبل الأمر على ظاهر
إطلاقهم ليشمل الحكم الثابت له قبل ذلك بالدليل الخاص أيضا، وعلى هذا
فالحكم بالرجوع إليه واضح الفساد، إذ لا معيد إلى الحكم الخاص بعد ارتفاعه
بالأمر الدال على الوجوب. ولا يبعد أن يريد به رجوعه إلى الحكم الذي لولا
الأمر، فالمراد بالحكم الثابت له قبل الأمر هو الحكم الثابت بمقتضى الأصل عقليا
كان كالإباحة والحظر العقليين، أو شرعيا كأصالة البراءة والإباحة الثابتتين
بالشرع أو القاعدة الشرعية الثابتة في الشريعة، كما إذا نسخ وجوب قتل فاعل
بعض الكبائر فإنه يرجع إلى قاعدة تحريم قتل المسلم الثابتة بحكم الشرع بل
العقل أيضا، وما إذا نسخ وجوب الصدقة عند النجوى فإنه يرجع إلى الاستحباب
الثابت شرعا بل وعقلا لمطلق الصدقة، وما إذا نسخ وجوب صوم يوم معين فإنه
يرجع إلى قاعدة الاستحباب الثابت لمطلق الصوم إلى غير ذلك.
وحينئذ فما ذكره المدقق المحشي في رفع المتقدم من تفسيره الحكم الذي
كان قبل الأمر بالحكم الأصلي الذي يحكم به العقل من الإباحة أو الحظر
الأصليين دون الحكم الشرعي الذي كان مرتفعا بالأمر المنسوخ ليس على ما
ينبغي، إذ قد عرفت أنه لا مانع من الرجوع إليه إذا كان ذلك الحكم أصلا شرعيا
وقد خرج عنه من جهة الأمر فإذا نسخ ذلك رجع الأمر إلى الأصل المفروض هذا.
643

والمذاهب بالنظر إلى ظاهر الحال خمسة:
أحدها: القول ببقاء الجواز وهو يرجع إلى وجوه بل أقوال ثلاثة: بقاء الجواز
بالمعنى الأعم من الأحكام الأربعة، أو الدائر بين الثلاثة حسب ما مر، أو الأخص
وبقاء الاستحباب.
ثانيها: الرجوع إلى الحكم الثابت قبل الأمر.
ثالثها: الخلو عن الحكم.
رابعها: الرجوع إلى الحكم الثابت قبل الأمر من الإباحة أو الحظر العقليين.
خامسها: ما اخترناه ويمكن إرجاع الأقوال الثلاثة المذكورة إلى الخامس.
وكيف كان فيدل على المختار أن الوجوب معنى بسيط في الخارج وقد دل عليه
الأمر فإذا فرض رفعه بالنسخ ارتفع بالمرة، إذ ليس مركبا من أشياء ليقال بإمكان
ارتفاع المركب برفع بعض أجزائه حسب ما ذكره المصنف في الاستدلال الآتي
وتوهمه القائل ببقاء الجواز فيما سيقرره من الاحتجاج على مذهبه.
نعم إنما يثبت له أجزاء تحليلية عقلية من الإذن في الفعل والمنع من الترك
وغيرها إن ثبت كونها أمورا ذاتية له، ومن البين أن ذلك لا يوجب تركبا بحسب
الخارج بأن يكون هناك موجودات متعددة منضمة ليصح القول برفع بعضها دون
بعض. فالاشتباه في المقام إنما وقع من جهة الخلط بين التركيب العقلي
والخارجي، بل قد مر التأمل في كون المنع من الترك من أجزائه العقلية أيضا حتى
قيل بكونه من لوازمه البينة بالمعنى الأعم. وإذا ثبت زوال الحكم المذكور من جهة
النسخ بالمرة فلا بد فيه من الرجوع إلى الأصول والقواعد الشرعية أو العقلية
حسب ما قررناه.
قوله: * (إن الأمر انما يدل على الجواز بالمعنى الأعم) *.
لا يخفى أن مدلول الأمر هو مفهوم الوجوب دون مفهوم الجواز غاية الأمر أنه يصح
أن ينتزع العقل منه مفهوم الجواز، ومجرد ذلك لا يقضي بكون الجواز مدلولا لفظيا
له، ولو سلم كونه مدلولا لفظيا له في الجملة فالقدر الذي يكون مدلولا له هو الجواز
644

المتحد مع الوجوب المرتفع بارتفاعه، وذلك لا يستلزم كون الجواز مع قطع النظر
عن اتحاده بالوجوب مدلولا له حتى يكون الجواز المطلق - أعني مفهوم الجواز
في نفسه - مدلولا للأمر، فيعم الجواز المتحد بالوجوب وبغيره من الأحكام
المضادة له، فيكون الدلالة عليه باقية بعد ارتفاع الوجوب، فيتوقف بقاؤه حينئذ
على ضم أحد القيود لتقومه بها حسب ما توهموه في المقام. ولو سلم كون الجواز
المطلق مدلولا له بعد ارتفاع الوجوب فلا مانع من القول بدلالته عليه من دون
ثبوت انضمام شئ من القيود إليه ألا ترى أنه يصح التصريح بالإذن في الفعل
على سبيل الإطلاق الشامل للأحكام الأربعة من دون بيان شئ من الخصوصيات
المنضمة إليه.
غاية الأمر أنه لا بد من كون ذلك الإذن متحققا بحسب الواقع في ضمن أحد
الوجوه الأربعة لتقومه بواحد منها. ومن البين حينئذ أن توقف حصول الإذن على
أحد القيود المذكورة بحسب الواقع لا يقضي بنفي الإذن المدلول عليه بالعبارة مع
عدم ثبوت شئ من تلك الخصوصيات، فدفع دلالته على الإذن من جهة انتفاء
الدليل على الخصوصية مما لا وجه له أصلا. وحينئذ فقوله فادعاء بقائه بنفسه بعد
نسخ الوجوب غير معقول كما ترى، إذ المدعى حينئذ دلالته على الإذن بنفسه
لابقاء الإذن كذلك من دون انضمام شئ من الخصوصيات إليه بحسب الواقع. هذا
بناء على ظاهر عنوانه والمصرح به في كلام بعضهم من كون الكلام في الدلالة
اللفظية.
نعم لو أراد بذلك رفع دلالته عليه من جهة الاستصحاب - نظرا إلى أنه لما
ثبت الجواز والمنع من الترك قبل النسخ من جهة دلالة الأمر عليهما كان قضية
الاستصحاب بقاء الجواز الثابت، إذ غاية ما يقتضيه النسخ هو رفع الثاني دون
الأول - كان له وجه، إذ لا يعقل استصحاب بقاء الجواز بعد ارتفاع ما يقومه.
ويمكن المناقشة فيه: بأنه إن أريد من الحكم ببقائه بنفسه بقاؤه " بشرط لا "
من دون انضمام شئ من الخصوصيات إليه فالأمر كما ذكره، إلا أنه ليس مقصود
645

القائل بالبقاء قطعا، ضرورة عدم إمكان وجود المبهم في الخارج فضلا من بقائه.
وإن أريد الحكم ببقائه " لا بشرط شئ " فلا وجه إذن لعدم معقوليته.
وغاية ما يلزم من إبهامه واشتراكه بين الأحكام الأربعة عدم دخوله في
الوجود من دون انضمام واحد من تلك القيود إليه، ضرورة استحالة الحكم ببقائه
من دون انضمام شئ منها إليه بحسب الواقع لا مطلقا.
فغاية الأمر أن يكون استصحابه مستتبعا لثبوت إحدى تلك الخصوصيات
للإذن المفروض، لعدم إمكان خروجه واقعا عن أحد تلك الأقسام.
والقول بأن وجود تلك الخصوصيات أيضا مخالف للأصل فيعارض أصالة
بقاء الإذن مدفوع بأن بقاء الإذن مستتبع لواحد منها قطعا، ضرورة أنه لا بد من
كون الإذن بحسب الواقع على نحو مخصوص فهو من لوازم بقاء الإذن، ومن البين
أن وجود لوازم الشئ وتوابعه وضرورياته لو كانت مخالفة للأصل لم يمنع من
إجراء الاستصحاب في المتبوع ولم يعارضه، وإلا لم يجر الاستصحاب في كثير
من المقامات المسلمة عندهم. ألا ترى أنه لا كلام عندهم في جواز استصحاب
الحياة مع توقفه على أمور كثيرة وجودية من الأكل والشرب وغيرهما، فإنها وإن
كانت مخالفة للأصل في نفسها إلا أنها لما كانت من توابع بقاء الحياة عادة لم يمنع
من جريان الاستصحاب فيها.
قوله: * (وانضمام الإذن في الترك إليه... الخ) *.
محصله أن الفصل الذي ينضم إلى الجنس المذكور حاصل في المقام، فإن
الإذن في الترك لازم لرفع المنع من الترك فيكون الإذن في الفعل قابلا
للاستصحاب، إذ ليس إذن باقيا بنفسه بل بالفصل المفروض، فإذا ثبت الفصل
المذكور بما ذكرناه ثبت بقاء الإذن حينئذ بالاستصحاب وتم المدعى.
وأجاب عن ذلك بقوله: * (موقوف على كون النسخ متعلقا بالمنع من
الترك... الخ) *.
ويمكن تقرير ذلك بوجهين:
أحدهما: أن مفاد رفع المنع من الترك هو الإذن في الترك دون رفع أصل
646

الوجوب فإن كان النسخ متعلقا بخصوص المنع من الترك صح ما ذكر دون ما إذا
تعلق بالمجموع.
ثانيهما: أن انضمام الإذن في الترك إلى الإذن في الفعل موقوف على كون
النسخ متعلقا بخصوص المنع من الترك، إذ لو تعلق بالمجموع لم يعقل انضمامه
إليه.
ويرد على الأول: أن المنع من الترك مرتفع عند نسخ الوجوب قطعا فإما أن
يكون هو المرتفع خاصة أو يكون المرتفع هو وغيره، ومن البين أن رفع المنع من
الترك في معنى الإذن فيه في الصورتين، فلا فرق إذن بين الوجهين إلا أن يقال: إن
هناك فرق بين تعلق الرفع بنفس المنع من الترك - سواء لوحظ وحده أو مع غيره -
وتعلقه بمفهوم الوجوب، فإن رفع الوجوب لا يستلزم الإذن في الترك إذ قد يكون
مسكوتا عنه أو خاليا عن الحكم.
ويضعفه: أنه إما أن يقال بكون استلزام رفع المنع من الترك للإذن فيه عقليا
بأن يكون مفاد الاذن في الترك بعد المنع منه مساوقا لرفع المنع من تركه وحينئذ
فلا ريب في حصول ذلك عند رفع الوجوب أيضا، أو يقال بكونه لازما عرفيا له
حيث إن مفاد رفع المنع من الترك عرفا هو الإذن فيه، وإن كان الإذن في الترك
غير لازم لرفع المنع منه عقلا وحينئذ فلا ريب أيضا في كون المفهوم العرفي من
قوله لا يجب عليك هذا الفعل كونه مأذونا في تركه فلا وجه للفرق بين الوجهين.
وعلى الثاني: بأنه لما كان قضية الأصل بقاء الإذن كان النسخ متعلقا
بخصوص المنع من الترك، وحينئذ فيضم [الإذن في الترك إلى] (1) الإذن في الفعل
على انضمام الفصل - أعني الإذن في الترك - إليه مانعا من جريان الاستصحاب
نظرا إلى عدم العلم بحصول ما يتوقف عليه، فإنه إما أن يراد بعدم العلم بحصول
ما يتوقف عليه عدم العلم بحصوله في نفسه أو عدم العلم بحصول انضمامه إليه (2)،

(1) لم يرد في ق 1.
(2) العبارة من قوله: وحينئذ إلى هنا مشوشة غير واضحة المعنى، فلاحظ.
647

أما الأول فقد عرفت وهنه، وأما الثاني فلأن مجرد الاستصحاب قاض بحصوله،
فإنه إذا كان الإذن في الترك حاصلا وكان الإذن في الفعل مستصحبا حصل
انضمام أحدهما إلى الآخر، ولا يعارض الاستصحاب المذكور أصالة عدم
الانضمام، فإن الانضمام أمر اعتباري من توابع الاستصحاب المذكور
وضرورياته، وقد عرفت أن أصالة عدم التابع لا يعارض استصحاب المتبوع.
والحاصل: أنه يتوقف استصحاب الجنس على حصول ما ينضم إليه من أحد
الفصول، فإذا حصل ذلك الفصل حصل الانضمام من استصحابه.
ثم إنه قد بقي في كلامه أمور:
أحدها: أنه إن أراد بالإذن في الترك الإذن المساوي للإذن في الفعل لم يتجه
جعله لازما لرفع الوجوب، فإن اللازم له هو الإذن الأعم. وإن أراد به المعنى
الأعم لم يتجه عده فصلا للإذن في الفعل، ضرورة كونه معنى إبهاميا مشتركا بين
الأحكام الأربعة كالإذن في الفعل، ومع انضمام أحدهما إلى الاخر إنما يقل
الاشتراك، لدورانه حينئذ بين أحكام ثلاثة، فكيف يعقل حينئذ تحصله به
وخروجه عن الإبهام.
ثانيها: أن المستفاد من كلامه أنه لو تعلق النسخ بالمنع من الترك صح ما ذكر
من الاستدلال فيحكم حينئذ ببقاء الجواز، إلا أنه خارج عن محل الكلام وقد
عرفت وهنه، فإن الوجوب معنى بسيط بحسب الخارج فبعد ارتفاع المنع من
الترك يرتفع الوجوب من أصله سواء جعلناه فصلا له أو لازما.
ثالثها: أن اخراج الصورة المذكورة عن محل الكلام - كما يفيد صريح قوله: إذ
النزاع في النسخ الواقع بلفظ نسخت الوجوب ونحوه - غير متجه حسب ما مرت
الإشارة إليه.
قوله: * (والمقتضي للمركب مقتض لأجزائه) *.
لا يخفى أن المقتضي للمركب إنما يكون مقتضيا لأجزائه من حيث اقتضائه
للمركب، فإذا فرض ارتفاع المركب ارتفع اقتضاؤه لأجزائه، إذ لا اقتضاء بالنسبة
648

إليها استقلالا وإنما هي مقتضاه باقتضائه للكل، ومع الغض عن ذلك فالمراد بكون
الأمر مقتضيا للجواز اقتضاؤه إياه ابتداءا أو استدامة فإن أريد الأول فمسلم ولا
يفيد المدعى، وإن أريد الثاني فممنوع وكونه مقتضيا للجواز حال اقتضائه
الوجوب لا يقضي بحصول الاقتضاء مع ارتفاع الوجوب، وإمكان رفع المركب
بارتفاع أحد جزئيه وارتفاعهما معا، فإنه إذا جاز الوجهان ولم يعلم خصوص
أحدهما لم يكن في اللفظ اقتضاء ودلالة على خصوص أحد الوجهين، فيكون
ذلك نظير العام المخصص بالمجمل فكما لا يحكم هناك باخراج الأقل وإدراج
غيره تحت العام بل يتوقف في الحكم إلى أن يجئ البيان فكذا في المقام، فليس
إذن في الأمر اقتضاء لبقاء الجواز إلا أن يقال: إن المقصود أن ثبوت الجواز في
ضمن ثبوت الوجوب قاض ببقائه من جهة الاستصحاب فليس المقصود الاستناد
إلى الدلالة اللفظية وكون اللفظ مقتضيا لبقاء الجواز بل المقتضى له هو
الاستصحاب بعد دلالة اللفظ على حصوله. وحينئذ يرد عليه ما مرت الإشارة إليه.
قوله: * (لأن الفصل علة لوجود الحصة التي... الخ) *.
كان مرادهم بعلية الفصل للجنس أن وجود الجنس مستند إلى وجود الفصل
بأن يكون المتأصل بحسب الوجود في الخارج هو الفصل ويكون الجنس موجودا
بوجود الفصل تبعا له لاتحاده به، فهناك وجود واحد ينسب أصالة إلى الفصل
وتبعا إلى الجنس وهما متحدان بحسب الوجود.
نعم يتصور العلية الحقيقية في الأنواع المركبة بين ما يحاذي الفصل والجنس
فإنهما متغايران بحسب الوجود.
وقد يقال: إن المراد من علية الفصل للجنس أنه علة لصفات الجنس في
الذهن كالتعيين وزوال الإبهام، فهو علة له من حيث إنه موصوف بتلك الصفات،
وإلا فليس علة له في العقل، وإلا لزم أن لا يعقل الجنس بدون الفصل ولا في
الخارج، وإلا تغايرا في الوجود وامتنع الحمل.
وأنت خبير بما فيه كيف ولو أريد ذلك لم ينفع المستدل في شئ، إذ لا ربط
649

لذلك بانتفاء الجنس في الخارج من جهة انتفاء الفصل حسب ما ادعاه المستدل.
قوله: * (فقال إنهما معلولان لعلة واحدة) *.
لا يخفى أن القول المذكور أيضا كاف في ثبوت ما يريده المستدل فإنهما إذا
كانا معلولين لعلة واحدة كان زوال أحدهما كاشفا عن زوال علته القاضي بزوال
المعلول الآخر، فالتمسك في دفع الاستدلال بقيام هذا الاحتمال مما لا وجه له.
ويدفعه: أنه ليس المقصود من إبداء الاحتمال المذكور إلا دفع الحكم بكون
الفصل علة للجنس وبيان كون ذلك من المسائل الخلافية، والمقصود من ذلك عدم
وضوح الحال في المسألة لا حصر الوجه فيه في القولين المذكورين حتى يقال
بكون كل منهما كافيا في إثبات المقصود.
قوله: * (ولا نسلم أن ارتفاعه مطلقا... الخ) *.
ما ذكره ظاهر بالنسبة إلى بعض العلل الناقصة كالشرائط، وأما العلة المقومة
لوجود المعلول فلا يعقل ذلك فيه سيما في المقام لما عرفت أنه لا تغاير بحسب
الخارج بين الجنس والفصل وإنهما متحدان في الوجود متغايران في لحاظ العقل
وتحليله وحينئذ فيقال إن الموجود بالذات هو الفصل، والجنس إنما يوجد تبعا له
من جهة الاتحادية به، فكيف يعقل حينئذ بقاء وجود الجنس بذلك الوجود بعد انتفاء
الفصل المفروض، غاية الأمر إمكان حصوله حصة أخرى منه بوجود فصل آخر.
قوله: * (مقتض لثبوت الإذن فيه) * قد عرفت أنه إن أراد اقتضاءه للإذن في
الفعل على الوجه الشامل للإباحة وغيرها مما عدا الحرمة فمسلم وليس فصلا،
وإن أراد اقتضاءه للإذن في الفعل على الوجه الذي يساوي الترك فممنوع.
قوله: * (ظهر أنه ليس المدعى... الخ) * هذا صريح في كون المراد بقولهم
بقي الجواز في عنوان المسألة هو الجواز بالمعنى الأخص.
وقد عرفت أن إسناد البقاء إليه غير متجه وما يذكره من التوجيه لا يصحح
ذلك.
والحاصل: أن إرادة المعنى المذكور بعيد عن التعبير المذكور جدا. ثم إنك
650

قد عرفت أن ما يفيد بقاء الجواز بالمعنى الجنسي على فرض صحته إنما هو
الاستصحاب دون الأمر، فإنه بعد تعلق النسخ به ودورانه بين الوجهين لا يبقى
هناك دلالة لفظية على بقاء الجنس حتى يصح القول بثبوته بالأمر.
وقد يوجه ذلك بأن المراد استناد ثبوت الجواز إلى الأمر في الجملة ولو
باستناد ثبوته الأولى إليه واستناد بقائه حينئذ إلى الاستصحاب.
قوله: * (فإن قيل رفع المركب... الخ) *.
يمكن تقرير الإيراد المذكور بوجهين:
أحدهما: أن يكون معارضة وإثباتا لانتفاء المقتضي في المقام بأن يقال: إن
نسخ الوجوب رفع له في الخارج، وكما يكون رفع المركب برفع أحد جزئيه كذا
يكون برفعهما معا، فبعد ثبوت الرافع المذكور ودورانه بين الوجهين لا يبقى دلالة
في لفظ الأمر على بقاء الجواز، فيرجع إلى ما قررناه من الإيراد عند تقرير
الاحتجاج. فالمقصود من قوله: لم يعلم ببقاء الجواز، عدم دلالة اللفظ عليه
المقتضي لبقائه فلا يعلم بقاؤه وقوله في الجواب: ان الظاهر يقتضي البقاء، يعني
بقاء الجواز لتحقق مقتضيه أولا أي الأمر الدال عليه قبل النسخ فيقضي
الاستصحاب ببقائه فمحصل الإيراد دفع الاقتضاء اللفظي، ومحصل الجواب
تسليم ذلك والتمسك بمجرد استصحاب الجواز.
ثانيهما: أن يكون منعا لوجود المقتضي، لدوران الأمر فيه بين وجهين يكون
المقتضي موجودا على أحدهما منتفيا على الآخر، فلا يعلم حينئذ بقاء الجواز بعد
رفع الوجوب نظرا إلى عدم العلم بثبوت مقتضيه.
وتوضيحه أن يقال: إن الموانع الحاصلة قد تكون مانعة من تأثير المقتضي مع
كونه مقتضيا في حال المنع إلا أنها لا تؤثر لوجود المانع، وقد تكون مانعة لأصل
اقتضاء المقتضي حتى إنه لا يكون مقتضيا أصلا بعد وجود المانع.
فالأول يمكن التمسك في رفعه عند الشك في حصوله بأصالة عدم المانع
بخلاف الثاني، فإنه مع احتمال وجود المانع المفروض لا علم بوجود المقتضي،
651

إذ الشك في حصول المانع المفروض يرجع إلى الشك في حصول المقتضي،
والمفروض في المقام من هذا القبيل، فإنه وإن كان رفع المركب هنا برفع جزئيه لم
يبق هناك مقتضي الجواز، وإذا رجع الحال إلى الشك في وجود المقتضي فلا يتم
ما ذكر من الحكم بوجود المقتضي، وحينئذ فمحصل الجواب أن لما كان المقتضي
حاصلا قبل طرو المانع المذكور فالأصل بقاؤه إلى أن يثبت خلافه، وقضية ذلك
بقاء الجواز لبقاء مقتضيه.
لكن يرد عليه حينئذ أن مجرد بقاء استصحاب المقتضي غير مانع في المقام،
إذ لا أقل في مداليل الألفاظ من حصول الظن فلا يعول فيها على مجرد الأصل.
ودعوى حصول الظن في المقام كما قد يومئ إليه قوله إن الظاهر يقتضي البقاء
ممنوعة بعد دوران الأمر في رفع المركب بين الوجهين المذكورين، وكون أحدهما
أقرب إلى الأصل لا يفيد الظن بإرادته كما هو الحال في تخصيص العام بالمجمل.
وقد مر تفصيل الكلام فيه في محله.
ويمكن تقرير الجواب على الوجه الأول أيضا بأن يراد به إجراء
الاستصحاب بالنسبة إلى نفس الجواز وإن لم نقل بجريانه بالنسبة إلى نفس
المقتضي ولم نحكم ببقائه بعد طرو النسخ، إلا أنه لما كان المقتضي موجودا قبل
النسخ والجواز حاصلا به كان الجواز مستصحبا إلى أن يثبت خلافه وإن كان
وجود المقتضي بعد النسخ مشكوكا فيه، فإنه لا ينافي جريان الاستصحاب
بالنسبة إلى الجواز، فعلى هذا يكون الضمير في قوله: والأصل في استمراره،
راجعا إلى الجواز أو ما بمعناه لا إلى المقتضي.
فظهر بما قررناه اندفاع ما أورد في المقام من عدم ارتباط الإيراد المذكور
بشئ من مقدمات المستدل ولا يصح جعله معارضة بل هو منع للمدعى بعد
الاستدلال عليه، وكذا ما ذكر من الإيراد على الاستدلال بالوجه الثاني من
الوجهين المتقدمين، واحتمل أن يكون ذلك هو مراد المورد لكنه خلط في تقريره،
ألا ترى أنه قرر الاستصحاب بالنسبة إلى نفس الجواز الظاهر في كون السؤال
في بقائه لابقاء مقتضيه.
652

وأنت بعد التأمل فيما ذكر تعرف ضعف جميع ذلك فلا حاجة إلى التطويل.
قوله: * (والجواب المنع من وجود المقتضي) *.
أورد عليه بأن ما ذكره سندا للمنع لا ربط له بنفي وجود المقتضي، فإن عدم حصول
المقتضي لا يدل على عدم وجود المقتضي لإمكان استناد انتفائه إلى وجود المانع.
ويدفعه: أن المقتضي للجواز حسب ما يؤول إليه كلام المستدل هو
الاستصحاب وهو مدفوع بما سنبينه، فيكون ما ذكره دفعا لثبوت المقتضي، وحيث
إن دفعه مبني على عدم إمكان بقاء الإذن بنفسه بين ذلك بما قرره ولو على القول
بعدم علية الفصل للجنس، فالإيراد المذكور كأنه بالنظر إلى بادئ الرأي مع قطع
النظر عن ملاحظة ما ذكره في الجواب، وأما بعد التأمل فيه فلا مجال للإيراد
المذكور أصلا كما لا يخفى، وقوله في آخر كلامه: فإن انضمام القيد مما يتوقف
عليه وجود المقتضي، صريح في ذلك.
قوله: * (لأن انحصار الأحكام في الخمسة) *.
لا يخفى أنه لا بد أن يكون للإذن في الفعل مرتبة معينة بحسب الواقع من
البلوغ إلى درجة المنع من الترك وعدمه، وبلوغه في الثاني إلى درجة رجحان
الفعل وعدمه وبلوغ الترك في الثاني إلى درجة الرجحان وعدمه، ولا يعقل خلوه
عن إحدى المراتب المذكورة فبعد الحكم بتحقق الإذن في المقام يتبعه القول
بحصول إحدى تلك المراتب له عما سوى المرتبة الأولى.
غاية الأمر أنه لا بد من القول بحصول ما يوافق الأصل منها بعد تحقق الإذن،
ولا يمكن أن يعارضه أصالة عدم الخصوصية المذكورة، فإن تلك الخصوصية
تابعة لبناء الإذن، وقد عرفت أن أصالة عدم التابع لا يعارض أصالة بقاء المتبوع،
كما يعرف ذلك من تتبع موارد جريان الاستصحاب كما مرت الإشارة إليه.
قوله: * (لكان معارضا بأصالة عدم القيد) *.
قد عرفت أن الإذن في الترك حاصل على الوجهين فلا وجه للقول بأصالة
عدمه إلا أن يقال: إنه مع تعلق النسخ بالجميع لا يحصل هناك إذن في الترك، وهو
كما ترى، كما تقدمت الإشارة إليه.
653

نعم قد يتخيل أن الانضمام أيضا على خلاف الأصل وهو إنما يحصل بناء
على بقاء الجواز فيكتفي به في معارضة الاستصحاب المذكور، وكأنه أشار إلى
ذلك بقوله: فإن انضمام القيد مما يتوقف عليه وجود المقتضي، وفيه ما قد عرفت
من أن الانضمام أمر اعتباري تابع لبقاء الإذن فلا يمكن أن يعارض به أصالة
بقائه هذا.
ولنختم الكلام في الأوامر بذكر مسائل يتعلق بها قد يتداول إيرادها في جملة
مباحثها، ولم يتعرض المصنف لبيانها ونحن نفصل الكلام فيها:
- أحدها -
أنه إذا تعلق الأمر بموقت فهل يفوت وجوب الفعل بفوات الوقت أو أنه
لا يسقط وجوب أصل الفعل لفوات وقته؟ فيجب الإتيان بعد الوقت أيضا إذا لم
يأت به في وقته، فيكون وجوب القضاء بالأمر الجديد على الأول وبالأمر الأول
على الثاني قولان. وهذه المسألة جزئية من قاعدة كلية وهي انه إذا تعلق الأمر
بمقيد ثم فات المقيد أو لم يتمكن المكلف من الإتيان به كذلك فهل يجب الإتيان
بالمطلق أو لا؟ سواء كان تقييده بزمان أو مكان أو آلة أو كيفية خارجة أو نحوها،
وهي قريبة المأخذ من المسألة المتقدمة بل المناط فيها واحد في الحقيقة كما
أشرنا إليه ثمة.
وهنا مسألة أخرى نظير المسألة المذكورة وهي أنه إذا تعلق الأمر بالكل فلم
يتمكن المكلف من الإتيان ببعض أجزائه فهل يسقط التكليف بالكل أو أنه يجب
الإتيان به على حسب ما يتمكن من أجزائه إلا أن يقوم دليل على السقوط؟
وأيضا إذا تعمد ترك الإتيان ببعض أجزائه فهل الأصل حصول الامتثال على
قدر ما يأتي به منها أو أنه لا امتثال إلا بأداء الكل؟ ونحن نفصل البحث في جميع
الصور المذكورة إن شاء الله تعالى إلا أنا نتكلم أولا فيما هو محل البحث في المقام
ثم نتبعه بالكلام عن سائر الأقسام.
654

فنقول: إذا صدر من الآمر توقيت الفعل بزمان مخصوص، فإما أن يتعلق الأمر
بالفعل مقيدا بالزمان المفروض، أو يتعلق بالفعل مطلقا ثم يأمر بإتيانه في الوقت
المعين، وعلى التقديرين فإما أن يعلم أن المطلوب حصول المقيد بما هو مقيد،
أو يعلم كون كل من المطلق والخصوصية مطلوبا له، أو لا يعلم شئ من الأمرين،
والحال في الأول والثاني ظاهر، وأما الثالث فهل الأصل إلحاقه بالصورة الأولى
أو الثانية؟ اختلفوا فيه على قولين والمعروف بينهم هو الأول، فقالوا يتوقف
وجوب القضاء على أمر جديد، وقيل بعدم توقفه بالمرة ووجوب القضاء بعد
فوات الوقت من جهة الأمر الأول.
وبنى العضدي الخلاف في ذلك على أن المأمور به في قولنا: صم يوم الجمعة
شيئان في الخارج أو شئ واحد، فالمطلق والخصوصية متعددان بحسب الوجود
الخارجي في الأول ومتحدان على الثاني وإن تعددا بحسب المفهوم الذهني، وعبر
عن كل منهما بلفظ وجعل ذلك مبنيا على الخلاف في كون الجنس والفصل
متميزين بحسب الوجود الخارجي في الأول ومتحدان على الثاني وإن تعدد
بحسب المفهوم الذهني، وعبر عن كل منهما بلفظ وجعل ذلك مبنيا على الخلاف
في كون الجنس والفصل متميزين بحسب الوجود الخارجي أو متحدين، ومقصوده
أن اتحاد المطلق والخصوصية بحسب الوجود مع تعلق التكليف بالمقيد قاض
بانتفاء التكليف بالمطلق بعد فوات قيده قطعا، إذ المفروض انتفاء المأمور به بفوات
ذلك قطعا، وتكليفه بحصة أخرى من المطلق يتوقف على أمر جديد فلا يعقل
القول بوجوب المطلق حينئذ بالأمر الأول، وأما إذا قيل بكونهما شيئين بحسب
الوجود بعد تعلق الوجوب بهما يتجه القول ببقاء وجوب المطلق بعد فوات القيد
استصحابا لوجوبه الثابت حال وجود القيد من غير قيام دليل على ارتفاعه بارتفاعه.
وأورد عليه:
تارة: بأن كونهما شيئين في الخارج لا يقتضي كون القضاء بالفرض الأول
ولا ينافي كونه بأمر جديد، لاحتمال أن يكون غرض الآمر الإتيان بهما مجتمعا
فمع انتفاء أحدهما ينتفي الاجتماع.
655

وأخرى: بأنه لا يفيد كونهما شيئا واحدا في نفي كون القضاء بالأمر الأول
لاحتمال كون المراد هو الإتيان بالمطلق لا بشرط الخصوصية وإنما ذكر المقيد
لحصول المطلق في ضمنه من غير اعتبار الخصوصية الحاصلة معه فلا ينتفي
المطلق بفوات القيد.
وأورد على الأول بما عرفت: من أن المأمور به إذا كان متعددا في الخارج لم
يكن مجرد زوال أحدهما قاضيا بزوال الآخر، وقضية الأصل حينئذ بقاؤه.
نعم لو علم إناطة أحدهما بالآخر في ثبوت الحكم ثبت ذلك إلا أنه غير
معلوم، بخلاف ما إذا كانا متحدين في الخارج فإن ارتفاع أحدهما عين ارتفاع
الآخر.
ويدفعه: أن ذلك لو تم فإنما يتم إذا تعلق الوجوب بكل من الأمرين وشك في
ارتباط وجوب أحدهما بالآخر، فإنه قد يقال حينئذ بأصالة عدم ربط الأمر
بأحدهما للأمر بالآخر مع أنه مشكل أيضا.
وأما إذا قيل بتعلق الأمر بهما تبعا من غير تعلقه بخصوص شئ منهما إلا
بالتبع على نحو وجوب المقدمة على القول به فلا مجال لما ذكر، فإنه مع الشك في
تعلق الأمر بالمجموع من حيث هو مجموع أو بخصوص كل منهما لا يعقل القول
بكون الأصل تعلقه بكل منهما، ولا لاستصحاب بقاء وجوب أحدهما بعد انتفاء
الآخر، وحينئذ فالإيراد المذكور يتجه جدا. لكن يرد على الثاني خروج الفرض
المذكور عن محل النزاع فإن مورد البحث ما إذا كانت الخصوصية مطلوبة إذ
المفروض توقيت الوجوب وكون الخارج عن الوقت قضاء فلا وجه لإبداء
الاحتمال المذكور.
ويمكن توجيهه بفرض الخصوصية مطلوبة على الاستقلال من غير أن تكون
مخصصة لأصل الطلب فيرجع التكليف بالصيام في يوم الجمعة في المثال المذكور
إلى أمرين مستقلين على ما هو الحال في التكليف بالحج في السنة الأولى والأمر
بأداء الدين عند حلوله وما أشبه ذلك، فإن الطلب في تلك المقامات وإن تعلق بأمر
656

واحد في الخارج لا تعدد فيه بحسب الوجود إلا أنه بحسب المراد الواقعي ينحل
إلى أمرين:
أحدهما: التكليف به من حيث حصول المطلق في ضمنه، فيكون المطلوب
بهذا الاعتبار مطلق الصيام من غير اعتبار الخصوصية في أصل المطلوبية.
والآخر: التكليف به مع اعتبار الخصوصية فيه بمعنى الأمر بالمبادرة إليه،
فيكون الآمر قد جمع بين التكليفين في خطابه المذكور.
وفيه: أن الأمر المذكور خارج عن مدلول الخطاب وإنما يثبت بدليل من
خارج، وإلا فلا يعقل استفادة التكليفين المذكورين من الأمر الواحد المتعلق
بالفعل الواحد، لوضوح تنافي الاعتبارين المذكورين وتضادهما فيمتنع
اجتماعهما فيه.
وقد يورد عليه أيضا: بأن الاحتمال المذكور إنما يتصور فيما ذكر من الجنس
والفصل، إذ لا تقوم للجنس بدون الفصل في الخارج دون ما نحن فيه من القيد
والمقيد كالصوم ويوم الجمعة - مثلا - فإنهما شيئان متمايزان في الخارج لا يعقل
اتحادهما، لخروج الزمان عن ماهية المأمور به وإنما قيد به لكونه ظرفا للفعل
ومطلقه من ضروريات المأمور به ولا يعقل تعلق الطلب به.
وهو سهو ظاهر، إذ ليس المراد من القيد في المقام نفس الزمان المخصوص
وإنما هو الإيقاع المخصوص ولا شك في اتحاده مع المطلق بل هو أولى بالاتحاد
من الجنس والفصل، لأ نهما ماهيتان مختلفتان بحسب الحقيقة.
فقد يتوهم لذلك تمايزهما في الخارج بخلاف المطلق والمقيد، لاتحادهما
بحسب الخارج والحقيقة وإنما يختلفان بحسب الاعتبار، فلا يعقل التمايز بينهما
في الخارج وإلا لزم القول بتركب البسائط الخارجية والأمور الاعتبارية من أمور
كثيرة متمايزة في الخارج وهو خلاف الضرورة، وبناء كلام الخصم على ذلك غير
ظاهر بل الظاهر ابتناؤه على ما مر في المسألة السابقة من القول بجواز استصحاب
الوجوب بعد نسخ الجواز.
657

فظهر أن تفريع المسألة على مسألة الجنس غير متجه. على أنه إما يقال بعلية
الفصل للجنس أو بكونهما معلولين لعلة واحدة، وعلى الوجهين فيمتنع انفكاك
أحدهما عن الآخر. وأما الحاصل بسائر الفصول فموجود آخر غير الأول ففرض
تمايزهما في الخارج لا يفيد المقصود، لأنه لا يقتضي جواز الانفكاك، فكان
الأولى إذن بناؤها على جواز الانفكاك وعدمه لا على مجرد التمايز، لكنه أيضا
غير واضح، إذ الكلام هنا في المطلوبية ولا إشكال في جواز الانفكاك فيها.
ثم القول بتمايز الجنس والفصل بحسب الخارج واضح الفساد كما تقرر في
محله، وإلا لامتنع حمل أحدهما على الموجود الخارجي، لوضوح أن المركب من
الداخل والخارج خارج عن الشئ لا يصح حمله عليه، ثم لو فرضنا صحة ذلك
بحسب التدقيق العقلي وقلنا بجواز انفكاك أحدهما عن الاخر أيضا كذلك فلا شك
في خروجه عن المفهوم العرفي، إذ لا يكاد يفهم من المقيد الخارجي إلا أمر واحد
لا تركب فيه بحسب العرف.
ومن البين أن المدار في مداليل الخطابات على فهم العرف، لتوجهها إلى عامة
الناس ومنهم أهل البوادي والقرى وأمثالهم، وقد لا يكون التكليف مستفادا
من الألفاظ وإنما يستفاد من إجماع أو نحوه مما لا يكون له ظاهر يعول عليه،
وإنما يدور الأمر إذن مدار القدر المتيقن، وعلى الوجهين فالقدر المعلوم تعلق
الطلب بالخصوصية سواء قلنا بتمايزها عن المطلق أو لم نقل، فيرجع في غيره إلى
أصل البراءة.
والحاصل أن الاحتمال الأول في المقام واضح الفساد، وعلى فرضه
فاستصحاب الأمر المتعلق بالمطلق أيضا بين البطلان.
وأورد عليه أيضا بأن الجنس لا يتقوم في الخارج إلا بالفصل سواء قلنا
بتمايزهما فيه أو لا، فيتوقف بقاء الجنس عند زوال فصله على وجود فصل آخر،
فكما أن الأصل بقاء الجنس كذا الأصل عدم قيام فصل آخر مقام الأول.
ويدفعه: أن استصحاب الأمر المتعلق بالمطلق على فرض صحته لا يتوقف
على إثبات اللوازم الغير المقصودة وإن كانت مخالفة للأصل.
658

ألا ترى أنه قد يستصحب حياة الغائب مع مخالفة أكثر لوازمها للأصول، على
أنه ليس الغرض إثبات وجود المطلق في الخارج ليستلزم وجود فصل آخر وإنما
الغرض بقاؤه على المطلوبية، ومن البين أن خصوصية الفصل الآخر لا مدخلية لها
في المطلوبية، فلا يتوقف على إثبات الخصوصية وإن توقف عليها في الوجود
الخارجي.
وقد يوجه تفريع المسألة على الوجهين المذكورين بقاعدة ما لا يدرك كله
لا يترك كله، فإن قلنا بتمايز المطلق والمقيد في الخارج أمكن إرجاعه إليها
والتمسك في وجوب المطلق بعد تعذر القيد بتلك القاعدة وإلا فلا.
وفيه: أن رجوعه إلى ذلك بالتحليل العقلي على فرضه لا يجدي شيئا، بل
المدار على الفهم العرفي كما عرفت، وسيأتي التنبيه على مدلوله إن شاء الله تعالى.
هذا كله فيما إذا تعلق الأمر بنفس المقيد بالوقت. أما إذا تعلق بالفعل ثم أمر
بإتيانه في الوقت المخصوص فإن دل الثاني ولو بضميمة القرائن على تقييد الأول
رجع إلى الأول، وإلا خرج عن محل المسألة، فيلزم التمسك بالإطلاق حتى يثبت
التقييد فيدل مع عدم ثبوته على تعدد الطلب والمطلوب سواء اقترن الخطابان
أو افترقا.
ولا يخفى أن أكثر المطلقات المجامعة مع الخطابات المقيدة ببعض
الخصوصيات من قبيل الأول، وحينئذ فقد يحمل المشكوك فيه على الأعم
الأغلب فيحمل المطلق على المقيد، إلا مع قيام القرينة الدالة على تعدد الطلب
والمطلوب.
ولا فرق فيما ذكر بين التقييد بالوقت وغيره من القيود - إلا أن الكلام هنا إنما
وقع في الأول - ولا بين الإيجاب والندب.
وربما يقال بجريان مثله في النهي أيضا سواء ورد على وجه التحريم أو
الكراهة، بل وغيره من الخطابات المشتملة على تعليق بعض الأحكام على الوقت
أو غيره، كتعليق الخيار وحق الشفعة وغيرهما على الزمان المخصوص أو الحالة
659

الخاصة أو غيرهما، كما في خيار المجلس والحيوان والشرط وغيرها، إذ لو صح
استصحاب حكم المطلق بعد زوال الخصوصية بناء على تميزه عنها لجرى في
الجميع على حد سواء.
وحيث إنه في تلك الموارد واضح الضعف كان شاهدا على ضعف المبنى
المذكور.
ولا فرق أيضا بين كون الدال على الطلب لفظا أو غيره، ولا في اللفظ بين
صيغة الأمر وغيره، ولا في الزمان بين الوقت المحدود وغيره كزمان الفور مثلا
سواء قلنا بدلالة الأمر بنفسه على الفور أو ثبت التقييد به في نفس الخطاب، إلا
أنهم ذكروا في الأول كلاما تقدم التنبيه عليه في مسألة الفور والتراخي، فالوجه
خروجه عن محل الكلام في المقام. فمحل المسألة أن الطلب المتعلق بالفعل المقيد
بزمان مخصوص هل يدل على ثبوته فيما بعده على تقدير الإخلال به أو بشئ
من شرائطه والأمور المعتبرة فيه عمدا أو سهوا وخطأ أو لغير ذلك من المعاذير
فيكون القضاء ثابتا بنفس الأمر ولو بضميمة الاستصحاب، أو لا يدل على ذلك
حتى يقوم عليه دليل آخر مع القطع بعدم دلالته على نفيه فحكمه حينئذ مسكوت
عنه حتى يقوم شاهد آخر على النفي أو الإثبات؟ فالمعروف بينهم هو الثاني، بل
لا نعرف فيه مخالفا من أصحابنا.
وعزي القول به إلى المحققين من المعتزلة والأشاعرة، وعن جماعة من العامة
اختيار الأول وحكاه الآمدي عن الحنابلة وكثير من الفقهاء. وحكي عن أبي زيد
الديوسي أنه قال بوجوب القضاء بقياس الشرع.
ويظهر من بعض أصحابنا القول بثبوته بالغلبة، ومرجعهما إلى الثاني، لتوافقهما
على عدم دلالة الأمر بنفسه، ويدل عليه وجوه:
منها: الأصل فإن ذلك أمر زائد على القدر المعلوم من مدلول اللفظ فالأصل
عدمه، إذ الكلام إنما هو في إثبات الدلالة ونفيها، إذ لا مجال لتوهم الدلالة على
نفي القضاء كما عرفت.
وأيضا فالأصل البراءة من التكليف بالقضاء حتى يثبت.
660

ومنها: ظهور انتفاء الدلالات الثلاث، إذ كما أن مدلول الصيغة قسم خاص من
الطلب بسيط لا يبقى مطلقه بعد زوال خصوصيته على ما تقدم بيانه في المسألة
السابقة كذلك متعلقها المقيد بالوقت المخصوص أمر واحد ينتفي بانتفاء قيده.
ويشهد به أنه لو صرح الآمر بعد ذلك بنفي القضاء لم يكن ناسخا أو مناقضا
لكلامه الأول، بل ولا منافيا لظاهره، كما هو معلوم من اللغة والعرف، وأن من أخبر
بوجوب الجمعة والعيدين في أوقاتها مع انتفاء القضاء فيها لم يكن كاذبا
بالضرورة.
فإن قلت: إن الخصم قد لا يدعي دلالة الأمر بنفسه على إيجاب القضاء بل
يقول باستصحاب وجوب المقيد بعد زوال قيده، فالدال على القضاء حينئذ هو
الاستصحاب دون الأمر.
قلت: إن الاستصحاب في ذلك يتوقف على إثبات دلالة الأمر على الإيجاب
المطلق، لأن وجوب المقيد لا يقبل البقاء بعد زوال قيده، ونحن نمنع دلالة الأمر
عليه بعين ما ذكر في عدم دلالته على إيجاب القضاء.
ومنها: أن التقييد بالوقت كسائر القيود الواقعة في الخطابات التكليفية
والوضعية، من مكان أو حال أو تميز أو إضافة أو فصل أو خاصة أو غيرها، ولم
يعهد من أحد من العقلاء توهم بقاء مطلقاتها بعد زوال قيودها وخصوصياتها
بنفس تلك الخطابات أو بضم قاعدة الاستصحاب إليها، وليس للوقت المضروب
للعبادة خصوصية يمتاز بها عن غيرها في ذلك، فيكون الحال فيه أيضا كذلك، بل
الحال فيما بعد الوقت وقبله في ذلك سيان، لتساويهما في وقوع الفعل خارج
الوقت. وليس الغرض من القبل الزمان السابق على الخطاب، بل ما بين الخطاب
ودخول الوقت، فلو دل على حكم المطلق كان شموله لما بعد الوقت كشموله لما
قبله، إلا أن يفرق بين الحالين في جريان الاستصحاب أو في صحة الفعل وفساده
إذا كان عبادة نظرا إلى اقتضاء الأمر بإيقاعه في الوقت للنهي عن تقديمه بخلاف
التأخير، لسقوط التكليف به بفوات الوقت وذلك أمر آخر. وقد يرتفع الاثم بضرب
من الأعذار الشرعية فيلزم القول بصحة تقديمه حينئذ فضلا عن غير العبادة ولم
661

يقل به أحد، للقطع بتوقف شرعية التقديم على قيام دليل آخر عليه كما في صلاة
الليل وغسل الجمعة والزكاة وغيرها.
ومنها: أن الواجبات الشرعية منها ما يثبت فيه القضاء كالصلاة والصيام،
ومنها ما لا قضاء له كالجمعة والعيدين والجهاد ونحوها، فيكون مدلول الأمر قدرا
مشتركا بين القسمين، ومن البين أن الأعم لا دلالة له على الأخص.
ودعوى استناد نفي القضاء في القسم الثاني إلى دليل من خارج ليس بأولى
من العكس فتأمل.
ومنها: أنه لو دل على طلب الفعل في خارج الوقت أيضا لكان مندرجا في
ماهية المأمور به كاندراج فعله في الوقت، فيكون الأمر الواحد شاملا لهما معا
فيلزم أن يكون الإتيان به في خارج الوقت أداء أيضا، وهو مع مخالفته للضرورة
خروج عن محل المسألة، إذ الكلام إنما هو في تبعية القضاء للأداء.
فإن قلت: لا كلام في وجوب مراعاة الوقت فيكون عاصيا بمخالفته على
كلا القولين.
قلت: مجرد ذلك لا يكفي في صدق القضاء على وقوعه في خارج الوقت، إذ
غاية الأمر أن يكون الحال في الواجبات الموقتة على ما يدعيه الخصم على نحو
الحال في الحج إذا عصي بتأخيره عن السنة الأولى، والدين إذا أخره عن وقت
الحلول، وإزالة النجاسة عن المحترمات إذا أخرها، والقضاء على القول بالمضايقة
عند تأخيره عن وقت الإمكان إلى غير ذلك. ولا شك أن شيئا من ذلك لا يسمى
قضاء، وذلك أن وجوب المبادرة إليها ثابت بطلب آخر من غير أن يكون مأخوذا
في أصل وجوبها، فإذا كان الحال في المقام كذلك كان حكمها أيضا على ما ذكر
ومن البين خلافه.
فإن قلت: قد لا يدعي الخصم شمول الخطاب بنفسه للقضاء ليلزم رجوعه إلى
الأداء بل يستصحب حكم المطلق الثابت في ضمن المقيد فيما بعد الوقت.
قلت: إن كان القيد المفروض مأخوذا في وجوب المطلق لم يجز استصحابه
لزوال موضوعه، وإلا كان الحال فيه على نحو الأمثلة المذكورة. ولذا استدل
662

الخصم ببعض تلك الأمثلة مدعيا مساواة المقام معها فلا يخرج عن موضوع
الأداء، كيف والاستصحاب إنما يقتضي الحكم ببقاء ما كان، على ما كان فكيف
يقضي بانتقال الحكم من الأداء إلى القضاء.
ومنها: أنه لو تم ذلك لزم تساوي الفعلين لاندراجهما في مدلول الأمر
وتساوي نسبة الأمر إليهما، فيلزم القول بتخير المكلف بينهما وهو بين البطلان.
وأورد عليه: بأن للخصم أن يقول بأني أدعي أنه أمر بالصلاة وبإيقاعها في
يوم الخميس فلما فات إيقاعها فيه - الذي به كمال المأمور به - بقي الوجوب مع
نقص فيه.
وفيه: انه على ذلك يكون المطلوب بالأمر شيئين أحدهما: مطلق الصلاة
سواء وقعت في الوقت أو في خارجه أو الصلاة في الجملة لكي يستصحب حكمها
فيما بعد الوقت، والآخر: إيقاعها في يوم الخميس، فهو بالاعتبار الأول لا ترتيب
فيه، فيكون بهذا الاعتبار مفيدا لتخيير المكلف بينهما، وإنما وجب الترتيب
بالاعتبار الثاني وليس الكلام فيه، وذلك أن الحكم الثاني إذا اعتبر قيدا في الأول
امتنع شمول الأول لما بعد الوقت، بل واستصحابه أيضا كما عرفت.
ومنها: أنه إذا علق الفعل بوقت معين فلا بد أن يكون ذلك لحكمة ترجع إلى
المكلف، إذ هي الأصل في شرع الأحكام ظهرت أو لم تظهر. وتلك الحكمة إما أن
تكون حاصلة من الفعل في غير ذلك الوقت أو غير حاصلة، والأول غير جائز،
لأنها حينئذ إما أن تكون مثلا لها أو أزيد، والثاني باطل، وإلا كان الحث على
إيجاد الفعل بعد فوات وقته أولى من إيجاده في الوقت وهو محال، وإن كانت مثلا
لم يكن تخصيص أحد الوقتين بالذكر أولى من الآخر. ولأن الفعل في الوقت أداء
وقد ورد " أنه لم يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم " (1). ولأن
الأصل عدمه. فإذا لم تكن حاصلة في الوقت الثاني حسب حصولها في الأول،

(1) وسائل الشيعة: ج 1 ب 23 من أبواب مقدمات العبادة ص 78 ح 17، وفيه هكذا " ما
يتقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ".
663

فلا يلزم من اقتضاء الأمر للفعل في الوقت أن يكون مقتضيا له فيما بعده، وكان هذا
كما لو أمر الطبيب بشرب الدواء في وقت فإنه لا يكون متناولا لغير ذلك الوقت.
وكذلك إذا علق الفعل بشرط معين كاستقبال جهة معينة أو بمكان معين كالأمر
بالوقوف بعرفة فإنه لا يكون متناولا لغيره.
كذا ذكره الآمدي، وهو تطويل من غير طائل، إذ لا شك في اختصاص بعض
المصالح بمراعاة الوقت، إنما الكلام في كون تلك المصلحة قاضية بالأمر بها
مستقلا أو مقتضية لتقييد المطلوب بها مطلقا، وليس فيما ذكر دلالة على أحد
الأمرين، على أن هناك قسما ثالثا وهو أن يكون الحكمة حاصلة في الوقت الثاني
على وجه يكون أنقص من الأول، فيكون الزيادة قاضية باختصاص الوقت الأول
بالطلب المخصوص، والقدر المشترك قاضيا بإطلاق الطلب.
ومنها: أن ما دل على وجوب القضاء في أكثر العبادات الفائتة يدور بين
التأكيد والتأسيس، فإن كان مأمورا به بالأمر الأول كانت فائدة تلك الأدلة مجرد
التأكيد، وإلا كانت فائدتها التأسيس، وهو أولى، لعظم فائدته. وهو وجه
ضعيف.
حجة القول الآخر وجوه:
الأول: أن الفعل قبل خروج الوقت كان واجبا، فالأصل بقاؤه على الوجوب
فيما بعده حتى يقوم دليل على سقوطه.
وفيه: أن الوجوب إنما تعلق هناك بالفعل المقيد بالوقت فيمتنع بقاؤه فيما
بعده، لامتناع متعلقه حينئذ فيكون من التكليف بالمحال، والفعل الواقع فيما بعد
الوقت لم يكن واجبا من قبل حتى يتصور استصحابه.
ويمكن الجواب عنه: بأنه إنما يتم إذا كان الوقت المفروض قيدا للواجب
دون الوجوب بأن يكون الطلب متعلقا بالفعل المقيد بالوقت. أما إذا كان الوقت
ظرفا للوجوب فلا وجه لتقييد الفعل به، فيكون المطلوب هو الماهية المطلقة،
والطلب في الوقت مستندا إلى النص وفي خارجه إلى الاستصحاب، وهذا هو
664

الظاهر من جملة من الأوامر الواردة كقوله تعالى * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) *
لتعلق الظرف فيه بالأمر دون الصلاة.
ويدفعه: أن التقييد في المقام راجع إلى تقييد المأمور به لا محالة، للقطع
بوجوب مراعاة الوقت، وأداء الفعل فيه، وحصول العصيان بتأخيره عنه، فالواجب
هو الإتيان بالفعل في الوقت خاصة. ولو كان الواجب مطلق الفعل والوجوب
حاصلا في الوقت بالنص وفي خارجه بالاستصحاب لجاز تأخيره عن الوقت،
فيرجع حينئذ إلى غير الموقت، بل لا يمكن إطلاق المأمور به وتقييد الأمر، وإلا
لزم خروج الواجب عن الوجوب، أو بقاء المقيد بدون القيد. ثم إن المفروض
ثبوت التقييد بالوقت ومعه فلا وجه للاستصحاب سواء كان القيد مأخوذا في
الطلب أو المطلوب، إلا أنه على الأول يمتنع بقاؤه، وعلى الثاني يمتنع بقاء متعلقه،
بل الأول أولى بالمنع، لأنه من المحال والثاني من التكليف بالمحال، وإنما يعقل
الاستصحاب في المقام عند الشك في الإطلاق والتقييد، بأن يكون القدر المعلوم
ثبوت الوجوب في الوقت من غير أن يكون هناك شاهد على اشتراطه به أو
إطلاقه، فيستصحب فيما بعده ويكون أداء، وهو أمر خارج عن محل المسألة،
على أن في صحة الاستصحاب في مثله أيضا كلاما، لكونه من الشك في المقتضي،
والمختار في مثله عدم جريان الاستصحاب، واختصاصه بالشك في المزيل عند
العلم بحصول ما يقتضي البقاء.
الثاني: أن الأمر إنما يدل على طلب الفعل وهو مقتضاه لا غير، وأما الزمان
فلا يكون مطلوبا بالأمر، إذ ليس هو من فعل المكلف وإنما وقع ذلك ضرورة كونه
ظرفا للفعل. وهذا الكلام وإن تكرر ذكره في كتبهم لكنه مغالطة واضحة، إذ ليس
الغرض تعلق الطلب بنفس الوقت، بل المفروض وجوب مراعاته وأداء الفعل فيه
والمنع من تأخيره عنه، فالمطلوب هو الفعل المقيد به، فلا يعقل بقاؤه بعده، والذي
هو من ضروريات فعل المأمور به ولوازمه هو مطلق الزمان لا خصوص الوقت
المفروض.
665

وبالجملة ففساد التعليل المذكور ظاهر.
ومثله ما قيل: من أنه لو سقط وجوب الفعل بفوات الوقت لسقط الإثم، لأنه
من أحكام وجوب الفعل، فيلزم خروج الواجب عن كونه واجبا، وذلك أن الإثم
يترتب على تفويت المأمور به، ومن المعلوم أنه لا بقاء له بعد فواته، كما في سائر
موارد العصيان، إذ لا يعقل بقاء التكليف بعد فوات محله بالموت أو غيره، وإنما
تبقى الإثم فيه، فإنه من لوازم التكليف السابق، ولو فرض بقاء محله لم يكن هناك
إثم، وإنما يلزم خروج الواجب عن الوجوب إذا سقط من غير إثم كما مرت
الإشارة إليه.
الثالث: أن العبادة حق الله والوقت المفروض كالأجل له، فيكون الحال فيه
على نحو الآجال المقدرة في الديون وسائر الحقوق والمعاملات بالأصل أو
الشرط، كالأجل المقرر في الشرع لأداء الدية في العمد وغيره، والمشروط في
السلم والنسيئة والقرض وغيرها. ومن البين أن شيئا من ذلك لا يسقط بتأخير
الأداء وإن حصل الإثم به فكذا في المقام، وهو قياس مع وضوح الفارق، لثبوت
اشتغال الذمة هناك بمطلق الحق، وإنما اعتبر الوقت المخصوص ليكون عليه
المدار في المطالبة وعدمها، وجواز التأخير وعدمه وليس بمأخوذ في موضوعه،
ولذا لا يصدق عليه القضاء عند أدائه بعد انقضاء أجله، بخلاف العبادات الموقتة
لما عرفت من تقييدها بأوقاتها المقدرة، وكذا ما أشبهها من غيرها كحق الخيار
والشفعة وغيرهما، لامتناع بقائهما مع تقييدهما ببعض الأزمنة بالأصل أو الشرط
كسائر القيود المأخوذة في موضوع الحكم لانتفائه بانتفاء شئ من قيوده فلا يعقل
بقاء حكمه، إنما يتم ما ذكر في مثل القضاء الثابت في الذمة - وإن قلنا بوجوب
المبادرة إليه في أول زمان الإمكان والأداء في الوقت على القول بوجوب
المسارعة إليه في أوله - والحج الواجب على المستطيع وإن وجب تعجيله في
السنة الأولى ولذا لا يكون شئ منها في الزمان المتأخر قضاء لعدم كون الوقت
فيها مأخوذا في ماهية المطلوب وإنما هناك تكليف آخر تعلق بأدائه فيه.
666

الرابع: أنه لو كان القضاء ثابتا بأمر جديد مستقل فيه لكان واجبا آخر غير
الأول، وكان كالأول أداء للفعل الواجب في وقته المضروب له، وهو: ما بعد الوقت
المقرر للواجب الأول، فهما إذن واجبان لكل منهما وقت معين إلا أن الثاني
مشروط بترك الأول فلا معنى لكون أحدهما أداء والآخر قضاء، وهو باطل
بالاتفاق.
وفيه: أن الثاني وإن وقع في وقته ومحله لكن الأمر به إنما وقع لتفويت الأول
ليكون بدلا عما فات واستدراكا له، ولا نعني بالقضاء إلا ذلك، وإنما يخرج عن
حقيقته على ما زعمه الخصم كما عرفت، لعدم فوات حقيقة المطلوب الأول عنده
وبقاء وجوبه بنفس ذلك الأمر على ما زعمه.
الخامس: أن الغالب في الواجبات الموقتة وجوب قضائها عند فوات أوقاتها
المعينة ولا بد لذلك من مقتض، والأصل عدم ما سوى الأمر السابق فكان هو
المقتضي وهو ظاهر الفساد، لوجود الأدلة في تلك الموارد على ثبوت القضاء.
فكيف! يقال بأصالة عدمها، على أن الأصل المذكور معارض بأصالة عدم دلالة
الأمر الأول عليه أيضا، فكان المقتضي غيره. ثم الأصل في المقام لا يجدي شيئا،
لكونه من الأصل المثبت وقد تقرر عدم اعتباره.
ومنهم من قرر الوجه المذكور بأن التتبع يورث الظن بثبوت القضاء في كل
موقت فات في وقته إذا كان واجبا، إذ لا يوجد في الواجبات خلاف ذلك إلا في
العيدين والجمعة ونحوهما، فيحصل الظن بأن منشأ الحكم بوجوب القضاء إنما هو
الأمر الأول.
وهو أيضا كما ترى، لأن تفريع الأمر الأخير على الأول فاسد. غاية الأمر
جواز إثبات القضاء في محل الشك بالظن الحاصل من الغلبة. وهو بعد تسليمه
وتسليم حجيته في مقابلة الأصول القطعية القاضية بالبراءة خارج عن محل الكلام،
لاستناد القضاء إذن إلى الدليل وهو الغلبة دون الأمر الأول، فإن أريد أن الباعث
على إيجاب القضاء هو الأمر الأول فهو أمر بين، بل لا نعني بالقضاء إلا ذلك، ولا
ربط له بالمقصود من كون الأول دليلا على ثبوت القضاء، بل المفروض خلافه.
667

السادس: أنه قد ورد في الشرع إطلاقات تقضي بثبوت القضاء في كل فائتة
فيثبت بها قاعدة شرعية وافية بما هو المقصود، كقوله عز من قائل: * (وهو الذي
جعل الليل والنهار خلفه لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) * (1) لتحقق الذكر
والشكر بالإتيان بالمطلوب في خارج الوقت.
ويعضده بعض الأخبار الواردة في تفسيره وقوله (عليه السلام): " من فاتته فريضة
فليقضها كما فاتته " (2) لشمولها لمطلق الفرائض. وقوله (عليه السلام): " إذا أمرتكم بشئ
فأتوا منه ما استطعتم " (3). فإن من فاته الوقت الأول مستطيع للفعل في الوقت الثاني.
وقوله (عليه السلام): " الميسور لا يسقط بالمعسور " لصدق الميسور على القضاء فيجب.
وفيه أولا: أنه لا ربط له بالمدعى، إذ المقصود ثبوت القضاء بنفس الأمر
الأول وكونه تابعا للأداء، وأين ذلك من إثباته بدليل آخر.
وثانيا: أن القاعدة المذكورة في محل المنع، وليس في الآية الشريفة دلالة
عليها، إذ بعد تسليم صدق الشكر على فعل المأمور به فدلالتها على ثبوت القضاء
موقوفة على اثبات كونه مأمورا به، فلو توقف ذلك على دلالتها عليه لزم الدور.
وأما تجويز مطلق الذكر والشكر فذلك أمر آخر غير ما نحن فيه. والخبر الأول
ظاهر في الصلاة المفروضة فلا يعم غيرها. والأخيران مع ضعفهما لا يدلان على
اندراج القضاء في المطلوب إلا بعد إثبات وجوبه بدليل آخر وهو أول الكلام، إذ
المأمور به والثابت هو المقيد بالوقت وقد علم سقوطه من أصله وغيره ليس من
أجزائه ولا من أفراده، فلا يصدق أنه منه ولا أنه مما ثبت أولا حتى يدل نفي
سقوطه على إثباته، فإن السقوط فرع الثبوت ولو في الجملة.
ودعوى تركب المقيد من المطلق والقيد فيصدق على المطلق بعد تعذر القيد:
أنه القدر الميسور المستطاع من المأمور به.
مدفوعة بأن غاية ما يمكن استفادته من الخبرين أنه لو وجب على المكلف

(1) الفرقان: 62.
(2) عوالي اللئالي: ج 2 ص 54 ح 143.
(3) عوالي اللئالي: ج 4 ص 58 ح 206.
668

أمور متعددة في الخارج لم يسقط بعضها بتعذر بعض، سواء كان المطلوب مركبا
منهما أو كان المتعذر عند إمكانه شرطا شرعيا للمأمور به، فكل ما كان من القيود
من هذا القبيل أمكن إدراجه في تلك القاعدة على تقدير ثبوتها كما سيجئ.
وأما التركيب العقلي أو الاعتباري من الجنس والفصل وغيرهما فلا يجدي
في ذلك شيئا، وإلا لزم عدم سقوط شئ من الواجبات عند تعذرها بجميع أجزائها
وشرائطها مع التمكن من بعض الأفعال الاختيارية لاشتراكهما في جنس الفعل،
وعدم سقوط التكليف المتعلق بشئ من الأجسام عند التمكن من بعضها نظرا إلى
اشتراكها في الجنس البعيد أو القريب أو النوع أو الصنف. فيجب الأكل وغيره من
الأفعال عند تعذر العبادات، ويجب على المكلف بإكرام العالم العادل - مثلا -
إكرام الفاسق عند تعذره، وعلى المكلف بالإتيان بزيد عند تعذره أن يأتي ببكر أو
بحيوان أو بجماد، لكونه القدر الميسور من الجنس أو النوع أو الصنف أو المطلق،
بل الممكنات كلها مشتركة في جنسها، فيكون التمكن من شئ منها موجبا
لاندراجه في القدر الميسور من كل فائت ومتعذر وإن كان بينهما بعد المشرقين،
وكل ذلك خلاف الضرورة، إنما المدار على الصدق العرفي المتوقف على تعدد
الفعل في الخارج - كالطهارة والصلاة - أو تركب متعلقه في الخارج - كالغسل بماء
السدر والكافور والتكفين والتحنيط بالقدر الواجب - فإذا تعذر بعضه لم يسقط
الباقي بناء على القاعدة المذكورة. وأما خصوصيات الأنواع والأصناف والأفراد
المأمور بها فتعذرها قاض بتعذر الإتيان بالمطلوب من أصله، ومنها خصوصية
الزمان والمكان، فإذا دار الأمر بين مراعاة بعض القيود التي يكون من القسم
الأول والثاني تعين تقديم الثاني.
ومن هذا الباب ما يظهر من استقراء أحكام الشرع وتتبع النص والفتوى من
تقديم مراعاة الأوقات ونحوها على مراعاة كثير من شرائط العبادات وأجزائها،
ولذلك لا يضر نقصان الطهارة بجبيرة أو تقية أو غيرهما ونقص القيام والاستقرار
والساتر والطهارة المائية وغيرها من الشرائط وما عدا الأركان من الأجزاء مع
669

إمكان مراعاتها في خارج الوقت، وذلك أن الفعل الواقع في خارج الوقت لا يعد
من القدر الميسور المستطاع من المأمور به، بخلاف الفاقد للأجزاء والشرائط
المذكورة فلا يسقط بتعذرها على القاعدة المذكورة، على أن فيها كلاما يأتي إن
شاء الله تعالى.
وكيف كان فلا ربط لذلك بمحل المسألة.
والحق أن المسألة من الواضحات المستغنية عن تجشم إقامة الأدلة عليها،
ومثلها الحال في كل مشروط تعذر الإتيان ببعض شرائطه أو فات بعض قيوده،
فالأصل عدم مطلوبية المطلق منه في العبادات وعدم ترتب الأثر عليه في غيرها
إلا بدليل آخر، فظهر مما مر حكم المسألة الأولى وما يلحق بها مما يندرج في
القاعدة التي أشير إليها.
المسألة الثانية: أنه إذا تعلق الطلب بالمجموع المركب من أجزاء خارجية
فهل الأصل سقوط التكليف بالكل عند تعذر الإتيان ببعض أجزائه أو سقوطه
بسائر الأعذار العقلية أو الأدلة النقلية إلى أن يقوم دليل آخر على ثبوت الباقي، أو
الأصل وجوبه إلى أن يقوم دليل على سقوطه أيضا، وظاهر العنوان تعلق التكليف
أولا بالكل وعروض المسقط بعد ذلك.
ويمكن فرض المسألة فيما حصل العذر المذكور للمكلف قبل تعلق التكليف
به وتوجه الخطاب إليه، أو قام الدليل أولا على سقوط الجزء المفروض ثم دخل
الوقت فهل الأصل تعلق التكليف بسائر الأجزاء أولا؟ ومنه النسخ فيما لو قام
دليل إجمالي على نسخ وجوب الجزء المفروض مع السكوت عن الباقي، فهل
يدل على نسخ المجموع أم لا؟ وعلى التقادير فقد يكون الساقط جزءا معينا من
أجزاء المأمور به، وقد يكون أحد الأجزاء على سبيل الترديد، كما لو ضاق الوقت
عن الإتيان بالكل دون البعض فهل يجب الإتيان بالبعض أو لا؟ ومع وجوب
الجميع فهل يجب مراعاة الوقت بالقدر الممكن أو لا؟ فيتخير بينه وبين الإتيان
بالجميع في خارجه أو يبنى ذلك على الخلاف في كونه بتمامه قضاء أو مركبا من
الأداء والقضاء.
670

هذا إذا لم يقم هناك دليل على إلحاقه بإدراك الوقت. ولا فرق في محل
المسألة بين اتصال الأجزاء بعضها بالبعض وانفصالها، كالطلب المتعلق بالعدد
المعين حيث لا يكون هناك شاهد على مطلوبية الآحاد. ولا يجري المسألة في
العام الأصولي، إذ العموم فيه إن كان بدليا حصل الامتثال بكل فرد ممكن وإن
تعذر الباقي وإلا وجب الإتيان بالقدر الممكن، كما لو قال أكرم العلماء فلم يتمكن
من إكرام جماعة منهم فإنه يجب إكرام الباقين، بخلاف ما لو تعلق الحكم بمجموع
الأفراد من حيث المجموع حيث لا يكون هناك دليل على حكم الفرد، كصيام
الشهرين وإطعام الستين في الكفارة ونحو ذلك.
وتحقيق المسألة: أن الطلب قد يتعلق بمجموع الأجزاء أو الأفراد المفروضة
على وجه يكون للهيئة المجموعية مدخلية في مطلوبية الفعل حال التمكن من
جميع أجزائه وثبوت التكليف به بحيث ينتفي مطلوبية الفعل في تلك الحال بانتفاء
شئ من أجزائه إلا بالطلب التبعي الغيري الثابت للمقدمات.
وقد يتعلق بها على وجه يحصل الامتثال بالقدر المأتي به منها في حال
التمكن من غير أن يتوقف تحققه على ضم غيره إليه إلا أنه يبقى الباقي في عهدته
حتى يأتي به.
وقد يشك في ذلك فلا يكون هناك شاهد على شئ من الوجهين.
وعلى الأول: فإما أن يكون اجتماع الأجزاء في تلك الحال شرطا في صحة
العمل فيبطل بالإخلال بشئ منها ويجب إعادتها كما في الصلاة والصيام، أو لا
يكون كذلك إلا أنه لا يحصل الامتثال إلا بالمجموع كإطعام الستين وأداء الصاع
في الفطرة والإتيان بالعدد المنذور ونزح المنزوحات المعينة من البئر عند وقوع
النجاسة فيها على القول بوجوبه من باب التعبد إلى غير ذلك، إذ لا يبطل البعض
المأتي به من تلك الأفراد بترك الباقي ولا يجب إعادته لكن لا يحصل الامتثال إلا
بالإتيان بالكل، إذ ليس هناك إلا أمر واحد تعلق بالمجموع.
وعلى الثاني: فقد يكون المأمور به أمورا متعددة لا تندرج تحت عنوان
671

واحد، وقد يكون أفرادا متعددة مندرجة في ماهية واحدة بحيث يكون كل واحد
منها مأمورا به - كأفراد الصيام أو الصلاة أو غيرهما - وقد يكون أمرا واحدا مركبا
من أجزاء خارجية يطلق على كل جزء منها اسم الكل، كستر العورة وقراءة القرآن
وأداء الدين وغيرها، وقد لا يطلق على الجزء اسم الكل ويكون الهيئة المجموعية
مطلوبة من حيث الخصوصية، والأبعاض أيضا مطلوبة للآمر. فينحل الأمر في ذلك
إلى طلبين ومطلوبين: أحدهما: المجموع من حيث المجموع، والآخر: الأبعاض
فيحصل امتثال الثاني في كل بعض على قدره، ويتوقف امتثال الأول على الإتيان
بالباقي كما في الطلب المتعلق بالأعداد المعينة من الأذكار والدعوات في بعض
المقامات. وقد لا يكون الهيئة مطلوبة من حيث الخصوصية وإنما وجبت على
سبيل الاتفاق، كما في النفقات والأخماس والزكوات وغيرها مما لا يكون للقدر
المخصوص منها خصوصية مطلوبة.
وعلى الثالث: فقد يحصل العلم بمطلوبية الهيئة المجموعية من حيث هي
ويشك في مطلوبية الأبعاض بالأمر الوارد فيها كالطلب الاستحبابي المتعلق
بالأدعية المأثورة، وقد يشك فيهما معا فلا يعلم أن المطلوب هو الهيئة التركيبية
فلا يكون البعض مطلوبا، أو الأبعاض فلا يكون الهيئة مطلوبة من حيث هي، أو كل
من الأمرين.
هذا كله فيما إذا كان الفعل المفروض مطلوبا لنفسه.
وقد يكون المركب المأمور به مطلوبا لأجل التوصل به إلى أمر آخر، فإما أن
يكون علة لحصوله كما في الأسباب الشرعية، أو مقدمة لحصول العلم به كالصلاة
إلى جميع الجهات لتحصيل العلم بالاستقبال وتكرار الطهارة بالماء المشتبه
بالمضاف وغير ذلك من موارد الاحتياط عند اشتباه المكلف به، أو يكون من قبيل
الشرائط الشرعية ورفع الموانع الحاصلة.
وعلى الأول: فإما أن يتوقف تأثيره على اجتماع أجزائه كما في التذكية
672

وغيرها، أو يؤثر فيه شيئا فشيئا حتى يبلغ حده، كأعداد الغسلات فيما يعتبر التعدد
فيه ومنزوحات البئر على القول بالنجاسة إن قلنا بقبول النجاسة للتخفيف.
وعلى الأخير: فإما أن يكون الحكم ثابتا لكل جزء من أجزائه فينحل بحسب
أجزائه إلى شرائط أو موانع عديدة كستر العورة وإزالة النجاسة وغيرها من موانع
الصلاة، أو يكون ثابتا للمجموع دون بعضه وإن كان مقدمة لحصوله كما في
الطهارات الثلاث، وعلى التقديرين فإما أن يثبت التكليف بالمشروط بعد تعذر
شرطه أيضا أو لا.
فهذه وجوه عديدة:
منها: أن يثبت اعتبار الهيئة المجموعية في مطلوبية الفعل حال التمكن منها،
فهل الأصل اعتبارها فيها مطلقا فيسقط التكليف من أصله عند تعذر البعض، أو
سقوطه، أو اختصاصه بتلك الحال، فيكون الباقي في الصورة المذكورة مطلوبا،
فيرجع المسألة إلى الشك في جزئية القدر المتعذر أو ما بمنزلته واعتباره في
الماهية المطلوبة وعدمها، إذ مع ثبوت جزئيته في تلك الحال لا يعقل تعلق
التكليف بباقي الأجزاء حينئذ لوضوح انتفاء الكل بانتفاء جزئه، ومع عدمها يكون
الباقي تمام المأمور به في تلك الحال. وحينئذ فقد يتوهم بناء المسألة على المسألة
المعروفة في الشك المتعلق بماهيات العبادات في جزئية شئ لها.
فإن قلنا بكون الأصل فيه الجزئية بعين القول بها في المقام أيضا فيحكم
بسقوط التكليف حينئذ. وإن قلنا بأصالة عدم جزئية المشكوك لزم القول بوجوب
الإتيان بالأجزاء الممكنة، إذ القدر المعلوم جزئية الباقي في حال التمكن منه، ففي
الحالة الأخرى لا يعلم بكونه جزءا فيصح نفيه حينئذ بالأصل.
وفيه: أن القائل بجزئية المشكوك فيه لا يدعي ثبوت الجزئية - التي هي من
الأحكام الوضعية - ليترتب عليها آثارها التي منها سقوط التكليف بالباقي عند
تعذره، إذ هي أيضا أمر حادث مشكوك فيه فلا يمكن إثباته بالأصل، إنما يقول
بكونه في حكم الجزء في توقف الحكم بصحة العمل وحصول الامتثال عليه، نظرا
673

إلى اقتضاء الاشتغال بالماهية المجملة لتحصيل البراءة اليقينية المتوقفة على
الإتيان بالمشكوك فيه. والغرض من إثبات الجزئية في المقام هو الحكم بسقوط
التكليف بالفعل في تلك الحال فلا يثبت بأصل الاشتغال، بل لو تم جريانه في
المقام لاقتضى هنا نفي الجزئية.
نعم قد يقال: إن مقتضى كلام القائل بأصالة جزئية المشكوك فيه توقف الحكم
بصحة العمل على الإتيان به والبناء على بطلانه بدونه، نظرا إلى أصالة عدم
مشروعية الفاقد للجزء المفروض فضلا عن مطلوبيته، فينبغي الحكم بمثله في
حال التعذر أيضا، وذلك أن العبادات توقيفية موقوفة على ثبوتها من الشرع
فحيث لا دليل على مطلوبية قسم مخصوص من العبادة يتعين نفيها بالأصل، وهو
مأخذ آخر غير ما هو المعروف في تلك المسألة.
وأما القائل بنفي جزئية المشكوك فيه فهو أيضا إنما يقول بعدم وجوبه
بالأصل، نظرا إلى أدلة البراءة فلا يترتب عليه ما هو المقصود في المقام من الحكم
ببقاء التكليف بسائر الأجزاء بعد تعذر الجزء المفروض، أما بعد ثبوت الجزئية في
حال التمكن وسقوط التكليف به عند التعذر فليس في أدلة أصل البراءة ما يقضي
بتعلق التكليف المستقل بالأجزاء الباقية، بل الأصل يقضي بعدم وجوبها للقطع
بسقوط التكليف السابق بالكل لتعذر جزئه والشك في حدوث التكليف بالباقي،
وهو محل أصل البراءة.
فظهر أن مقتضى أدلة القولين المذكورين في حال التعذر إن لم يكن على
عكس مقتضاها في حال التمكن فليس بمطابق له.
وغاية ما يمكن الاحتجاج به على وجوب باقي الأجزاء حينئذ وجوه:
الأول: أن التكليف بالمجموع في معنى التكليف بكل جزء من أجزائه فإن
المجموع عين الأجزاء.
غاية الأمر وجوب مراعاة الهيئة المجموعية حال التمكن منها وقد ثبت
سقوط التكليف بها وبما تعذر من أجزائها ولم يثبت سقوط التكليف بالأجزاء
الباقية فالأصل بقاؤه استصحابا للحالة السابقة.
674

ويرد عليه أولا: أن الاستصحاب في المقام لو تم فإنما يصح لو ثبت اتصافها
بالوجوب في الزمان السابق، وقد عرفت أن محل المسألة أعم منه، لإمكان
فرضها في صورة تحقق المسقط من أول الأمر قبل استجماع شرائط التكليف
بالفعل المفروض، لأنه لم يتصف بعد بالوجوب ليعقل استصحابه. وإرجاعه إلى
الاستصحاب التعليقي - نظرا إلى العلم بوجوب ذلك الفعل على تقدير التمكن من
جميع أجزائه - لا يجدي شيئا.
وثانيا: أن الاستصحاب المذكور على فرض جريانه في المقام معارض
باستصحاب عدم وجوب الأجزاء الباقية على الاستقلال، للقطع بعدم وجوبها على
هذا الوجه فيما سبق فيستصحب.
ودعوى ورود الاستصحاب الأول على الثاني فيرجع إلى تعارض
الاستصحابين في المزيل والمزال ممنوعة، إنما ذلك حيث يكون أحد
المستصحبين سببا مزيلا للآخر من غير عكس كما تقرر في محله، وليس الحال
في المقام كذلك.
وثالثا: أن محل المسألة يدور بين اختلاف الموضوع فيه والمحمول، وقد
ثبت لزوم اتحادهما في الاستصحاب، وذلك أن الموضوع المتصف بالوجوب
النفسي سابقا إنما هو مجموع الأجزاء مقيدا بانضمام بعضها إلى البعض. ومن البين
انتفاء المجموع بانتفاء جزئه المفروض، وانتفاء المطلوب بزوال الهيئة المأخوذة
فيه. فالأجزاء الباقية موضوع آخر غير الموضوع الأول، ولم يتصف قبل ذلك
بالمطلوبية إلا بالطلب الغيري التبعي نظرا إلى اندراجه في المأمور به اندراج الجزء
في الكل. ومعلوم أن الجزء لا يتصف بالمطلوبية النفسية إنما هو مقدمة لحصول
المطلوب، فوجوبه غيري تبعي والمفروض زوال ذلك الطلب، إذ على تقدير كونه
واجبا يكون واجبا نفسيا مستقلا بالمطلوبية، وهو غير حاصل في السابق،
فيختلف المحمول فكيف! يعقل جريان الاستصحاب فيه.
ويمكن توجيهه بوجوه:
675

الأول: أن المستصحب في المقام ليس خصوص الوجوب الغيري التبعي
الحاصل في السابق للعلم بزواله، ولا خصوص الوجوب النفسي المقصود إثباته
في الزمان اللاحق للعلم بانتفائه في السابق، بل المستصحب هو القدر المشترك
بين الوجوبين، وهو تحتم الفعل على الاجمال، فإنه قد كان حاصلا في الأول ثم
شككنا في زواله في ثاني الحال فالأصل بقاؤه وإن كان مستلزما لاتصافه
بالوجوب النفسي المسبوق بالعدم، إذ لا يشترط في الاستصحاب أن لا يكون
لبقاء المستصحب لوازم وجودية مسبوقة بالعدم. بل ولا يمنع من استصحابه أصالة
عدم تلك اللوازم الحادثة، إذ لا مانع من التفكيك بين الأمور المتلازمة بحسب
الأصول العملية كما تقرر في محله، وإلا لامتنع استصحاب حياة الغائب مع
استلزامها لأمور كثيرة مسبوقة بالعدم، من الأكل والشرب والنوم والحركة
والسكون وغير ذلك مع القطع بصحة استصحابها فيترتب عليه بعض تلك اللوازم،
حيث يكون حكما شرعيا متفرعا على المستصحب، كانتقال الميراث عن مورثه
إليه وإن كان مخالفا للأصل أيضا نظرا إلى تقديم الاستصحاب الوارد عليه. فكذا
في المقام فإن استصحاب تحتم الإتيان بالأجزاء المفروضة يستلزم كونها مطلوبة
على الاستقلال فلا يقدح فيه مخالفة ذلك اللازم للأصل، لكونه واردا عليه فلا
اختلاف هنا في شئ من الموضوع والمحمول.
الثاني: إنا لا نستصحب وجوب مجموع الأجزاء الباقية حتى يلزم الحكم
بوجوبه على الاستقلال على خلاف ما كان عليه، بل نستصحب الوجوب التبعي
الغيري الثابت لكل جزء من تلك الأجزاء. ومن المعلوم أن هذا الوجوب بعد
استصحابه لا يكون إلا غيريا كما كان عليه وإن كان الحاصل من مطلوبية تلك
الأجزاء من حيث اجتماعها الوجوب النفسي، إلا أن ذلك من لوازم المستصحب
المذكور.
وقد عرفت أن مخالفة اللازم للأصل غير قادح.
الثالث: أن ما ذكر من اختلاف المحمول بالنفسية والغيرية لا يقدح في
676

الاستصحاب، لبنائه على فهم العرف دون التدقيق العقلي، كما يحكم على القدر
المعين من الماء المسبوق بالكرية أو القلة بعد نقصانه بما يوجب الشك في بقائه
على الكرية أو زيادته بما يوجب الشك في بلوغه حد الكر بمقتضى الاستصحاب
مع وضوح اختلاف الموضوعين بحسب الدقة، إذ المتصف بالكرية أو القلة في
السابق هو القدر المعين من الماء الموجود، والمحكوم عليه بأحدهما في اللاحق
مقدار آخر أنقص أو أزيد منه، وأحدهما غير الآخر عند التدقيق إلا أنهما بحسب
فهم العرف شئ واحد. فكما لا يمنع ذلك من جريان الاستصحاب فيه فكذا في
المقام فيستصحب الوجوب السابق في الزمان اللاحق وإن اختلف الوجوبان بنظر
الدقة، إذ المدار في الجميع على فهم العرف.
وأنت خبير بضعف الوجوه المذكورة، أما الأول: فلأن استصحاب القدر
المشترك بعد زوال الخصوصية كاستصحاب الجنس بعد زوال الفصل، وقد تقدم
فساد القول به بما لا مزيد عليه ويأتي أيضا في مبحث الاستصحاب إن شاء الله، إذ
من المعلوم أن الحاصل في السابق إنما هو الوجوب التبعي الغيري الذي قد زال
بسقوط التكليف المتعلق بالمجموع من حيث المجموع. وانتزاع مفهوم التحتم
المطلق منه ثم استصحابه واضح الفساد.
وأما الثاني: فلأن الوجوب الغيري الثابت للأجزاء المفروضة إنما كان
للتوصل بها إلى أداء المأمور به - وهو الكل الذي تعلق الطلب به - فبعد العلم
بسقوط التكليف به لا معنى لاستصحاب وجوب مقدماته ليثبت به تعلق طلب
آخر ينافي الأجزاء، لوضوح زوال الفرع بزوال أصله وسقوط التابع بانتفاء
متبوعه، فلا معنى للتمسك بالاستصحاب في إبقائه.
وأما الثالث: فلأن العرف وإن كان هو المرجع في مداليل الألفاظ والخطابات
إلا أنه لا يجدي في المقام شيئا، إذ الحاصل هنا طلب واحد بسيط متعلق بإيجاد
الهيئة المطلوبة وقد تحقق سقوطه، وأين ذلك مما ذكر من المثال لثبوت وصف
الاعتصام أو الانفعال لكل جزء من أجزاء الماء الموجود في السابق فيستصحب
677

ذلك عند الشك في زواله بانفصاله عن الجزء المأخوذ أو اتصاله بالجزء الوارد
عليه، فليس الموضوع هناك المقدار المعين الموجود سابقا حتى يزول بزيادته
ونقصه. كيف ولو كان الأمر فيه مبنيا على المسامحات العرفية لزم التفرقة في ذلك
بين قلة الجزء المأخوذ أو الناقص وكثرته. ومن البين عدم الفرق في جريان
الاستصحاب بينهما مع بقاء الشك فيهما. وعلى ما ذكر فينبغي التفصيل في محل
المسألة أيضا بين قلة الجزء المتعذر وكثرته وليس كذلك، إذ لو تعذر أقل جزء
يتصور مما فرض ارتباط العبادة به سابقا امتنع الرجوع إلى الاستصحاب فيه،
كالصيام الذي ينتفي موضوعه بتعذر إكماله ولو بأقل جزء منه.
والحاصل: أنه بعد فرض إناطة المطلوبية بانضمام كل جزء من أجزاء الفعل
بالباقي يمتنع بقاؤه بعد زوال شئ منها.
الثاني: استقراء الأحكام الثابتة في الشرع عند تعذر بعض أجزاء العبادات أو
شرائطها، فإن الغالب عدم سقوط الباقي.
ألا ترى أن الصلاة لا يسقط على حال حتى ينتهي الأمر فيها إلى التسبيحة
بدل الركعة.
نعم ربما تسقط في حق فاقد الطهورين لقيام الدليل عليه على خلاف الأصل،
والحج لا يسقط بتعذر ما عدا الأركان منه وهكذا، بل وكذا الحال في الأسباب
الشرعية كالتذكية وغيرها على بعض الوجوه والأحوال. والظن يلحق المشكوك
فيه بالأعم الأغلب.
وفيه: بعد المنع من حجية الظن المذكور إمكان المنع من تحقق الاستقراء التام
في المقام، فإن كثيرا من العبادات - كالطهارات الثلاث من غير الأقطع وصاحب
الجبيرة ونحوهما والصوم وغيره - تسقط بتعذر أقل جزء منها، والصلاة لا تتبعض
في ركعاتها، وكذا مطلق العبادة في أركانها، والأسباب الشرعية تسقط في الأغلب
بتعذر جزئها أو شرطها. ولا نسلم أن السقوط في موارده مستند إلى الدليل
المخصوص، فلعل الثبوت في موارده مستند إلى ذلك.
678

الثالث: الأخبار الثلاثة التي تداول نقلها في كتب الفريقين، وحكي توافقهم
على قبولها والاحتجاج بها، واشتهارها بينهم في موارد كثيرة، والاستشهاد بها في
المحاورات والأمور العادية، ونقل روايتها عن غوالي اللئالي وغيره. قيل والفقهاء
يذكرونها في كتبهم الاستدلالية على وجه القبول وعدم الطعن في السند. وهي:
حديث الميسور لا يسقط بالمعسور (1). وما لا يدرك كله لا يترك كله (2). وإذا
أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم (3). أسند الأولان إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)،
والثالث إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن ظاهرها أن تعذر بعض أجزاء المأمور به أو تعسره
لا يقضي بسقوط الباقي بل يجب الإتيان به بقدر الاستطاعة، بل وكذا الحال في
صورة تعذر بعض شرائطه الشرعية وإن كان الخبر الثاني ظاهرا في الأول خاصة.
بل ظاهر الأول يعم الأسباب والشرائط الشرعية أيضا وإن لم يتعلق الطلب بها في
الشريعة، إلا أنه لا يثبت بذلك ترتب الأثر على القدر الممكن منها إنما يدل على
اعتبار تمام الشرائط المقدورة فيه بعد ثبوته في الجملة.
وأما الأخيران فظاهرهما الوجوب وإن أمكن إلحاق المستحبات به أيضا
لعدم الفصل وثبوت التسامح في دليلها بما لا يتسامح به في غيرها.
وفيه: أن تلك الأخبار مرسلة لا يوجد منها في كتب الأخبار المعتبرة عين ولا
أثر، ومجرد اشتهارها في كتب الفريقين لا يكفي في الحكم بانجبارها، لإمكان
رجوع الكل إلى نقل الواحد، بل ربما كان الأصل فيه من بعض العامة ولم يظهر
اعتماد الأصحاب عليها بمجردها في موارد العمل بمضمونها، لإمكان استنادهم
في تلك الموارد إلى ما مر من الاستصحاب أو غيره، فيكون غرضهم من ذكرها
التأييد دون الاستدلال بها على الاستقلال، إلا حيث يتحقق انجبارها بالاشتهار.
ولو وجد ذلك في كلام بعضهم فليس بشئ يكتفى به في الحكم بانجبارها مطلقا،

(1) عوالي اللئالي: ج 4 ص 58 ح 205.
(2) عوالي اللئالي: ج 4 ص 58 ح 207.
(3) عوالي اللئالي: ج 4 ص 58 ح 206.
679

ففي كل مورد تحقق فيه انجبارها بما يمكن الاكتفاء به في العمل بمضمونها يصح
التمسك بها في ذلك المقام ويلزم الاقتصار عليه.
على أنه يمكن المناقشة في دلالة الأول بظهوره في الميسور الثابت بنفسه
ولو في ضمن غيره، إذ السقوط فرع الثبوت. فمفاده عدم سقوط الحكم السابق فيه
وبقاؤه على الوجه الذي ثبت عليه، فيكون الميسور هو الواجب الميسور أو الفرد
الميسور من أفراد الواجب، فلا يعم الجزء المفروض، لعدم ثبوته على الاستقلال
حتى يمكن إبقاؤه كذلك، ولا التكليف المتعلق بالهيئة التركيبية من حيث هي،
للقطع بسقوطه، فكيف يعقل بقاء التكليف بمقدماتها. فالثابت في السابق قد تحقق
سقوطه والمقصود بإثباته لم يثبت في السابق حتى يقال بعدم سقوطه.
فمحصله: أنه لو ثبت حكم لمعسور وميسور فسقوط المعسور لا يضر بحكم
الميسور، فلا ربط له بما نحن فيه.
وفي الثاني: بشموله لما لا يدرك كله باختيار المكلف فيختص بما لا يرتبط
بعض أجزائه بالبعض في المطلوبية وللعبادات المندوبة، فيحمل على مطلق الطلب
الذي هو القدر المشترك بين الحكمين، فلا يدل على خصوص الوجوب، على أنه
إخبار بما جرت العادة عليه، غايته التقرير عليه فيدل على جوازه. ولو حمل على
الانشاء لدل على مطلق الطلب أيضا فلا يدل على الوجوب.
وفي الثالث: باحتمال أن يكون " من " فيه للتبيين أو بمعنى الباء كما ذكر
الوجهان في قوله تعالى: * (من أساور) * (1) وأن يكون للتبعيض بحسب أجزاء
المأمور به أو أفراده واحتمال أن يكون " ما " فيه زمانية كما في قوله سبحانه
* (فاتقوا الله ما استطعتم) * (2) وموصوفة أي شيئا استطعتم، وموصولة أي الذي
استطعتم على أن يكون مفعولا أو بدلا عن الشئ، فهذه وجوه عديدة.
والاستدلال به موقوف على أن يكون " من " بمعنى التبعيض بحسب الأجزاء، وهو

(1) الحج: 23.
(2) التغابن: 16.
680

خلاف الظاهر، ولا أقل من الاحتمال القادح في الاستدلال، فيحتمل إرادة الإتيان
بالمأمور به ما دامت الاستطاعة باقية للفعل، أو الإتيان من أفراد المأمور به بقدر
الاستطاعة دون الإتيان بجزئه، فإنه حينئذ ليس منه، إذ الفعل المقيد في أجزائه
بوصف الاجتماع لا يستطاع بدون أقل جزء منها، لانتفاء الكل بانتفاء الجزء.
ويؤيده ما نقل من وروده في الأمر بالحج عند السؤال عن تكراره في كل سنة.
وقد يجاب عن الأول: بالرجوع إلى العرف فإن التدقيق المذكور بعيد عن فهم
العرف، والمفهوم منه يعم محل المسألة فيكون المراد هو القدر المشترك بين
الوجوب الأصلي والتبعي الغيري وهو تحتم إيقاع الفعل، فمفاده أنه كما لا بد من
الإتيان به حال إمكان الكل كذا لا بد منه حال تعذر غيره أيضا، فيقوم البعض مقام
الكل عند تعذره، على أنه ليس في الخبر ذكر الواجب حتى يرد ما ذكر، فيشمل
نفس الجزء المفروض لا من حيث الجزئية أعني الفعل المخصوص وإن ثبت أولا
في ضمن الكل، فيدل على أن الجزء الميسور لا يسقط بسقوط غيره فيصير مستقلا
بعد أن كان منضما إلى غيره فتأمل.
وعن الثاني: بظهوره في العموم غاية الأمر خروج بعض الموارد عنه، بل
ظاهره فرض عدم تيسر إدراك الكل ونفي سقوط الكل معه، فيبقى الباقي على
حسب ما كان عليه من وجوب أو استحباب شرعيين أو عرفيين فلا يختص
بالوجوب، ولو حمل النفي على النهي المفيد للتحريم اختص بالواجب لأولوية
التخصيص من المجاز.
وأما حمله على مجرد الإخبار بالواقع فينبغي القطع بفساده. ولو صح ذلك
لكان إخبارا بطريقة العقلاء في الالتزام بذلك وتقريرا عليه لا على مجرد جوازه،
ففيه دلالة على صحته من وجهين.
واحتمال الاستحباب مع عدم القول به مدفوع، بأن الجملة الخبرية المستعملة
في الانشاء تدل على الوجوب. بل لعلها أقوى في الدلالة عليه من الأمر، لدلالتها
على أنه قد بلغ في التحتم حدا لا يقع خلافه.
681

وعن الثالث: بأن الغرض من هذا الكلام إما اشتراط القدرة في المأمور به، أو
لزوم تكرار العمل بقدر الإمكان، أو عدم سقوط القدر الممكن بالمتعذر. والأول
بعيد خارج عن مساق الرواية لرجوعه إلى تأكيد ما دل عليه العقل والنقل من نفي
التكليف بما لا يطاق والتأسيس أولى منه، ولو أريد إفادة هذا المعنى لكان التعبير
بنحو ما في الكتاب والسنة أولى ليكون مفاده أن الأمر لا يتعلق بغير المقدور لا أنه
بعد تعلق الأمر به لا يجب الإتيان به مع عدم الاستطاعة. والثاني مبني على
التكرار وقد تقدم فساده في محله، كيف ولم يقل به أحد في غير ما دل الدليل
المخصوص عليه سيما الحج فتعين الثالث، ولا أقل من ظهوره فيما يعم المقام،
فيجب الإتيان بالمستطاع الذي يصدق عليه أنه من الفعل المأمور به أفرادا
وأبعاضا فتأمل.
ولو سلم عدم تمامية الدلالة في تلك الأخبار أمكن انجبارها بما ينجبر به
سندها، لما عرفت من توقف الاستناد إليها على وجود الجابر فينجبر به ضعف
السند وقصور الدلالة في خصوص المسألة التي يراد الاحتجاج فيها بها.
هذا كله إذا اعتبر اجتماع الأبعاض في صحة العمل.
ومنه يظهر إمكان الاستناد إليها في وجوب الإتيان بالفعل عند تعذر بعض
شرائطه أو الاضطرار إلى بعض موانعه أيضا، لرجوع الأول إلى تعذر الشرط أيضا
وهو اجتماع الأجزاء، إلا أن الخبر الثاني بظاهره لا يعم سائر الشرائط كما مرت
الإشارة إليه، لظهوره في الأجزاء العرفية دون العقلية. بخلاف غيره، إذ يصدق
على الفعل عند تعذر بعض شرائطه أنه القدر الميسور المستطاع من الواجب، لكن
الاستدلال به موقوف على وجود الجابر كما عرفت.
وأما إذا علق الحكم على العدد المخصوص أو المركب المعلوم على وجه
يسقط التكليف عنه على قدر ما يأتي به - كإطعام الستين، وصيام الشهرين في غير
مقام التتابع، وإعطاء الصاع إلى غير ذلك - فهل الأصل سقوط البعض بسقوط
غيره؟ وجهان:
682

أحدهما: السقوط كما في الأول فإن الطلب إنما تعلق بالمجموع، غاية الأمر
سقوطه في كل جزء بقدره بمعنى عدم لزوم إعادته، وذلك لا يقضي برجوعه إلى
تكاليف عديدة، إنما يحصل الامتثال بالإتيان بالمجموع فإذا تعذر سقط الأمر به،
فلا وجه لوجوب الإتيان بجزئه إلا من جهة الأخبار المذكورة في موارد
انجبارها.
والآخر: عدم السقوط فإن سقوط التكليف بالجزء المأتي به يقتضي انحلال
الأمر في ذلك إلى الأمر بكل جزء من أجزائه فيصح استصحابه مع الشك. بخلاف
ما إذا توقف السقوط عنه على اجتماع الأجزاء وحصول الهيئة المطلوبة، إذ لا
وجه لبقاء وجوبه بعد تعذر الإتيان بالمطلوب.
وفيه: أن مطلوبية الجزء حال وجوب الكل لا يقتضي مطلوبيته بدونه، وإنما
وقع هناك طلب واحد بسيط متعلق بالمجموع، فالجزء مطلوب حال مطلوبية
الكل، لتوقف امتثال الأمر بالكل عليه، لا لاستقلاله بالمطلوبية.
غاية الأمر عدم اشتراط صحته بضم الباقي إليه، بمعنى عدم لزوم إعادته عند
انفصاله عن غيره، فلا يكون حكم التارك لإطعام المسكين الواحد مع إتيانه
بالباقي كحكم التارك للجميع، وإنما يبقى عليه إطعام ذلك الواحد، فإذا حدث
التعذر فيه سقط من حينه وكان القدر المأتي به قبل ذلك من الواجب بخلاف القسم
الأول، إذ التارك للبعض والكل هناك في حكم واحد وبمنزلة واحدة، فالثابت عليه
حينئذ هو المجموع وإذا تعذر البعض سقط الكل حينئذ وانكشف عدم كون القدر
المأتي به من الواجب، لانتفاء شرط الصحة فيه، وهو انضمام الباقي إليه، وذلك
اختلاف في كيفية المأمور به بحسب الشرائط المأخوذة فيه، وإلا فالطلب واحد
في المقامين، والمفروض سقوطه فيلزمه سقوط التكليف بمقدماته الداخلة
والخارجة، فلا وجه لإثبات وجوب الجزء مستقلا، لتوقفه على أمر آخر ولم يثبت.
ومنها: (1) أن يثبت مطلوبية الأبعاض وعدم إناطتها بوصف الاجتماع فيرجع

(1) أي: من وجوه تعلق التكليف بالمجموع المركب، راجع ص 673.
683

إلى تعدد الطلب والمطلوب، ويكون كل جزء من أجزاء المأمور به مطلوبا على
الاستقلال وإن كان الكل أيضا مطلوبا، فيحصل الامتثال على قدر ما يأتي به من
أجزاء المطلوب من غير أن يتوقف تحقق الامتثال به على ضم سائر الأجزاء إليه.
فإن لم يكن هناك للهيئة المجموعية مدخلية في المطلوبية وإنما اتفق انضمام
الأجزاء المتعددة فيه - كما في الديون والنفقات والأخماس والزكوات وغيرها -
فلا إشكال في عدم سقوط بعضها بتعذر الباقي أو سقوطه وهو ظاهر. ولو كانت
الهيئة المفروضة أيضا مطلوبة وكل بعض من أبعاضها أيضا مطلوبا بطلب آخر -
كالأمر المتعلق بالأعداد المعينة من الأذكار، والصلوات وغيرها، كالصلاة على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجمعة مائة مرة، والنافلة في الليل مائة ركعة وغيرها - فلا شبهة
في سقوط الأمر بالهيئة المذكورة بتعذرها كسقوطه بالقدر المتعذر من أبعاضها،
ويبقى الأمر المتعلق بالباقي على حاله كما ذكر فيكون مطلوبا بالأمر الثاني دون
الأول. وهو أيضا واضح جدا فلا يقبل المناقشة والترديد فيه.
فإن قلت: إن ما ذكر إنما يتم مع تعدد الأمر أو عمومه، أما مع وحدة الأمر
وتعلقه بالمجموع المركب فمن البين سقوطه بتعذر جزئه، فوجوب البعض يتوقف
على دليل آخر.
قلت: إن المفروض عدم كون المجموع متعلقا للأمر من حيث الاجتماع وإنما
تعلق الأمر في الحقيقة بالعنوان الشامل للكل والبعض كالدين، لصدق الاسم على
كل منهما فيكون كل جزء من أجزائه واجبا على نحو وجوب الكل فلا يسقط
بسقوط غيره، إنما يتم ما ذكر فيما إذا لم يكن الاسم شاملا للبعض، كما إذا وجب
في الزكاة قسم مخصوص من الأنعام الثلاثة أو مقدار مخصوص كالصاع، فلا يدل
على وجوب البعض من ذلك بعد تعذر الكل كما عرفت.
ومنها: أن يقع الشك في الأمرين المذكورين، فهل الأصل حينئذ اعتبار الهيئة
المجموعية في المطلوب مع الإمكان فلا يحصل الامتثال بشئ من أجزائها إلا
بالإتيان بالباقي فيرجع إلى الأول أو الأصل عدم اعتبارها فيحصل الامتثال بكل
684

جزء منها على حسبه ولو مع تعمد الإخلال بالباقي فيرجع إلى الثاني؟ كالأوامر
المتعلقة بالأدعية المأثورة والأعداد المعينة من الأذكار والعبادات المخصوصة،
فهل يحصل الامتثال على قدر ما يأتي به منها أو أنه لا امتثال إلا بأداء الكل؟
وهذه هي المسألة الثالثة ويتفرع عليها حكم التعذر على ما عرفت.
والوجه فيها هو الأول، إذ القدر المتيقن حينئذ إنما هو تعلق الطلب بالمجموع
فيحصل الامتثال بالإتيان به خاصة، وأما البعض من ذلك فلم يقم هناك دليل على
مطلوبيته بنفسه، وحينئذ فإن حصل العلم بسقوط التكليف به بقدره - كإطعام
المسكين الواحد في الكفارة، وغسل بعض الأعضاء في الغسل الترتيبي - لزم
الحكم بصحته، وغايته عدم لزوم إعادته في امتثال التكليف المتعلق بالمجموع،
وإلا رجع الشك في ذلك إلى الشك في اشتراط صحة الجزء بضم سائر الأجزاء إليه
وعدمه. وقد تقرر في مثله لزوم الاحتياط بتكرار الجزء المأتي به عند إرادة
الإتيان بالمجموع تحصيلا للموالاة - مثلا - لاقتضاء الاشتغال المعلوم للبراءة
اليقينية المتوقفة على إحراز الشرائط المشكوكة. وعلى الوجهين فالأصل عدم
كون الجزء المفروض مطلوبا على الاستقلال، وإنما المتيقن من ذلك كونه مطلوبا
لغيره، لتوقف الإتيان بالكل عليه، فلا يمكن الحكم بحصول الامتثال بقدره إلا
على نحو الامتثال الحاصل بالإتيان بسائر الواجبات الغيرية، فلا يمكن التقرب به
عند إرادة الاقتصار عليه، ولا يبقى الأمر به عند تعذر الإتيان بغيره. وحينئذ
فيلحق مورد الشك بالقسم الأول سواء تعلق الأمر بالكل أولا قبل تعذر الجزء
المفروض أو كان العذر حاصلا من أول الأمر.
فإن قلت: إن ما ذكر إنما يتم مع العلم بتعلق الطلب بالمجموع والشك في تعلقه
بالأبعاض، أما دوران المطلوب بين الكل والبعض فلا يقين بالأول حتى يلزم
الاقتصار عليه.
قلت: إن المجموع على التقديرين مطلوب للآمر قطعا، غاية الأمر أن الهيئة
المجموعية على أحد التقديرين معتبرة في المطلوب دون الآخر، فالمتيقن من
685

ذلك هو القدر المشترك بين الوجهين فيقتصر عليه، ولا يحكم بشئ من
الخصوصيتين في ترتيب الآثار المتفرعة عليها بخلاف الصورة الأولى، للعلم
بمطلوبية الهيئة فيها واختصاص الشك بالخصوصية الأخرى، فيصح التقرب بها
حينئذ دون الثانية، بل ينوي التقرب بالقدر المشترك، لأنه المعلوم على الاجمال
كما لا يخفى.
ومنها: أن يكون الفعل واجبا لأجل التوصل به إلى غيره، فإن كان سببا شرعيا
له فلا شك أن تعذر بعض أجزائه لا يقضي بكون ما عداه كافيا في السببية، فالأصل
عدمها حتى يثبت بدليل آخر، وحينئذ فيكون الحال فيه كما لو تعذر بعض
مقدمات الواجب مع إمكان الباقي فلا يجب الإتيان بالقدر الممكن، إذ المقصود
من المقدمة إنما هو التوصل بها إلى المطلوب، فإذا تعذر ذلك بامتناع بعض
مقدماته سقط التكليف به فسقط التكليف بسائر مقدماته.
نعم لو كان البعض المفروض مؤثرا في الجملة - كالتخفيف الحاصل في
النجاسة ببعض الغسلات والمنزوحات - أمكن القول بعدم سقوطه عند الاضطرار
إلى استعمال النجس عملا بالقاعدة المتقدمة، لكنها على تقدير جريانها في المقام
محتاجة إلى الجابر كما عرفت.
وأما الشرائط والموانع الشرعية: فإن كان الحكم ثابتا لكل جزء من أجزائه
وتحقق صحة المشروط بتعذر شرطه لزم الإتيان بما أمكن من شرائطه ورفع ما
أمكن من موانعه بالقاعدة المذكورة، لأنه ينحل إلى شرائط أو موانع عديدة - كستر
العورة، وإزالة النجاسة، وغيرها من موانع الصلاة - فلا يسقط بعضها بسقوط
الباقي. وفي عموم ما دل على شرطية القدر الممكن كفاية في ذلك.
ومما ذكر يظهر الفرق في مسألة لزوم تخفيف النجاسة مع العذر بحسب الكم
والكيف، لأن كل جزء من أجزاء النجاسة مانع للصلاة فيجب رفعه بحسب
الإمكان، أما تخفيفها ببعض الغسلات فلم يثبت له حكم في السابق على
الاستقلال حتى يحكم ببقائه، إلا من باب عدم سقوط الميسور بالمعسور إن كان له
686

جابر في ذلك. وإن كانت الشرطية ثابتة للمجموع دون البعض إلا من باب المقدمة
- كما في الطهارات الثلاث - لم يجب البعض عند تعذر الباقي إلا إذا اندرج في
النص المذكور مع وجود الجابر.
وعلى الوجهين فإن لم يثبت بقاء التكليف بالمشروط فالأصل سقوطه بتعذر
شرطه إلا من باب النص المذكور كما عرفت.
وأما الأسباب الشرعية التي لم يتعلق بها أمر من الشرع فالأصل عدم ترتب
الأثر عليها مع تعذر بعض أجزائها أو شرائطها، إلا أن يثبت بدليل آخر فيعتبر
القدر الممكن منها في الحكم بترتبه عليها.
ومنها: أن يكون الفعل واجبا للتوصل به إلى العلم بحصول الواجب - كالصلاة
إلى الجهات الأربع - فهل الأصل وجوب الإتيان بالقدر الممكن عند تعذر البعض؟
وجهان: من أن المفروض تعذر تحصيل العلم بأداء المطلوب لتعذر بعض مقدماته
فيسقط التكليف به فلا يجب الإتيان بسائر مقدماته أيضا، ومن أن تحصيل العلم
إنما يجب للتحرز عن ضرر المخالفة فإن اتفق مصادفة الواقع للمتعذر فلا شك في
إعذار المكلف في ترك الواقع، ومن المحتمل مصادفة الواقع الغير المتعذر. وحينئذ
فلا دليل على معذورية التارك للواجب، فوجوب التحرز عن الضرر المخوف
يقتضي الإتيان بالقدر الممكن، للقطع معه بإعذار المكلف وسقوط التكليف عنه،
ولا قطع به مع عدمه، وهذا هو المتجه.
فإن قلت: إن هذا إنما يتم لو تعلق التكليف به قبل حصول العذر فيستصحب
حتى يحصل العلم بسقوط التكليف بالإتيان بما أمكن من المحتملات، أما لو
حصل العذر من أول الأمر فلا علم بتعلق التكليف به حتى يستدعي العلم بالبراءة.
قلت: إن المفروض وجود المقتضي للتكليف والعلم به والشك في العذر الواقع
له، فيقتصر في الحكم به على المتيقن ويبنى على المقتضي في غيره.
ويمكن التفصيل في المسألة بأن يقال: إنه قد يكون المتعذر أحد الأفراد التي
يتردد الواجب بينها لا بعينه كما إذا ضاق الوقت عن الصلوات الأربع دون الأقل،
687

وقد يكون المتعذر فردا معينا من تلك الأفراد كالصلاة إلى جهة معينة. وعلى
الوجهين: فإن حدث العذر بعد دخول الوقت وحصول الاشتغال بمراعاة
الاستقبال في المثال أمكن استصحاب التكليف به حتى يحصل القطع بسقوطه
بالإتيان بالقدر الممكن كما ذكر. أما لو حصل العذر من أول الوقت فيمكن القول
بثبوت التكليف في الصورة الأولى بخلاف الثانية، لإمكان مصادفة القبلة لتلك
الجهة المخصوصة التي تعذر استقبالها من أول الأمر فلا علم بتعلق التكليف
بمراعاة الاستقبال عن أول دخول الوقت. وعمومات أدلة البراءة تقضي بسقوطه
من أصله، فلا يجب الإتيان بما أمكن من مقدمات العلم به.
وفيه: أن عموم ما دل على وجوب الاستقبال شامل له لعدم علمه بتعذره، إنما
يحتمل ذلك ومجرد ذلك ليس عذرا عقليا ولا شرعيا في سقوط التكليف المذكور،
وإنما يعلم ذلك مع الإتيان بالقدر الممكن فيجب ذلك للتحرز عن خوف المخالفة.
فإن قلت: لا شك في تقييد التكليف بذلك بالإمكان، والشك في الشرط
يوجب الشك في المشروط فلا علم بالتكليف من أصله.
قلت: فرق بين الشرط والمانع وإن كان عدم المانع شرطا أيضا، فإن الشك في
الأول قاض بجواز نفي التكليف بالمشروط بالأصل بخلاف الثاني، فإن احتمال
المانع لا يكفي في رفع اليد عن التكليف الثابت بظاهره، إذ الرفع يحتاج إلى الدليل
كما أن الإثبات يتوقف عليه.
ومنها: أن يحصل الشك في اعتبار بعض القيود المأخوذة في الواجب في
مجموع أجزائه أو في كل جزء من أجزائه كالوقت، إذ على الأول يسقط التكليف
بتعذر مراعاته في البعض إلا مع اندراجه في النص وانجباره في مورده بخلاف
الثاني. ومقتضى الاقتصار على المتيقن هو الأول، إلا أن الشك في الثاني يرجع
إلى الشك في شرطية الشئ للمأمور به، فإن قلنا بلزوم الاحتياط فيه لزم مراعاته
بقدر الإمكان.
وفيه: أن المفروض حصول البراءة بيقين مع مراعاة الوقت في البعض
688

وعدمها، إنما الشك في ترتب الاثم على تفويت الوقت وعدمه، فالأصل عدمه إلا
مع قيام الدليل عليه كما في إدراك الركعة من الوقت فيجب ويكون أداء. وتمام
الكلام في هذه المباحث في الفقه.
- ثانيها -
اختلفوا في أن المطلوب بالأمر هل هي الطبيعة المطلقة والماهية الكلية
الطبيعية أو خصوص الأفراد والجزئيات المندرجة تحت تلك الماهية على قولين:
والأكثر على الأول، والمختار عند جماعة منهم الحاجبي هو الثاني.
حجة القول الأول: أن المتبادر من الأوامر هو طلب مطلق الطبيعة حسب ما
مرت الإشارة إليه مرارا عديدة، فيكون حقيقة في ذلك، لأن الأصل في الاستعمال
الحقيقة، وأنها مأخوذة من المصادر الغير المنونة والمعرفة وهي حقيقة في الماهية
المطلقة حسب ما هو المتبادر منها، والمحكي فيه عن السكاكي إجماع أهل
العربية. ومفاد الصيغة بحكم التبادر ليس إلا الطلب فيكون مفاد الأمرين هو طلب
الطبيعة، فلا دلالة فيها على طلب الفرد.
ويرد على الأول: أنه إن أريد به عدم دلالة الصيغة بمقتضى التبادر على تعلق
الطلب بالخصوصية المأخوذة في الفرد ليكون التكليف منوطا بالطبيعة
والخصوصية معا فالأمر كما ذكر، ولا يظهر من كلام القائل بتعلقه بالفرد إرادة ذلك،
لوضوح فساده إذ الخصوصيات اللاحقة للأفراد لا تندرج في مفاد الأمر حتى تفيد
الصيغة تعلق الطلب بها، بل وكذا الخصوصية المطلقة، على أنها لا تجعلها جزئية
ليقضي بتعلق الأمر بجزئيات الطبيعة على ما هو منظور القائل المذكور. وإن أريد
به عدم تعلق الطلب بأفراد الطبيعة بملاحظة كونها مصاديق لتلك الطبيعة وكون
الطبيعة ملحوظة على وجه يسري الحكم منها إلى أفرادها فيكون المحكوم عليه
في الإخبارات هي الأفراد المندرجة تحتها كما هو في القضايا المسورة (1)،

(1) في " ق " المحصورة.
689

ويكون الطلب في الإنشاءات متعلقا بمصاديقها من حيث كون الطبيعة عنوانا لها
فهو ممنوع بل ليس المفهوم عرفا من القضايا المتعارفة إلا ذلك، فإنه إذا قيل
الصلاة واجبة أو البيع حلال ونحو ذلك كان المفهوم عرفا هو ما قلناه، حسب ما
نصوا عليه في بحث المعرف باللام، وأثبتوا كونها محصورة كلية بدليل الحكمة وإن
كانت المهملة في قوة الجزئية عند المنطقيين. وكذا المفهوم من صل أو بع فإن
المطلوب هو الصلاة أو البيع من حيث كونه عنوانا لمصداقه فيكون الطلب قد تعلق
بالمصداق على ما هو الحال في القضية - حسب ما ذكرنا - فالمستفاد من صل
والصلاة واجبة أمر واحد، فكون المتبادر من اللفظ هو الطبيعة المطلقة لا ينافي
تعلق الطلب بالمصداق، نظرا إلى كون الطبيعة عنوانا له. وحمل كلام القائل بتعلق
الأوامر بالجزئيات على إرادة ذلك غير بعيد، بل هو الظاهر. وحينئذ فلا دلالة في
التبادر المدعى على دفع القول المذكور.
ومن ذلك يظهر الحال في الدليل الثاني، فإن كون معناه المادي هو الماهية لا
بشرط شئ لا ينافي كون المطلوب مصاديق تلك الماهية، إذ الماهية قد تعتبر
بحيث يسري الحكم إلى أفرادها ويكون الحكم عليها حكما على أفرادها. وقد
يلحظ بحيث لا يسري الحكم منها إلى الفرد كما في القضية الطبيعية.
ومن البين أن الشائع في الاستعمالات هو الأول، فمطلوبية الماهية على
الوجه المذكور عين مطلوبية الأفراد على الوجه الذي قررناه، فلا منافاة فيما ذكر
للقول بكون المطلوب هو المصاديق والجزئيات. ولذا تراهم يحكمون في بحث
الفور والتراخي والمرة والتكرار بأن المطلوب بالأمر مطلق الطبيعة من دون أن
ينافي ذلك القول بكون متعلق الأمر في الحقيقة هو الأفراد، نظرا إلى كون الطبيعة
عنوانا لها، فالاكتفاء بحسب فهم العرف بتحقق المفهوم في الخارج على أي نحو
يكون، وعدم مدخلية الخصوصيات المعينة في الامتثال لا ينافي الحكم بتعلق
الحكم بالأفراد على الوجه الذي قررناه.
نعم إنما ينافيه لو اخذ الأفراد متعلقا للحكم بخصوصياتها، وهو فاسد جدا
خارج عن مقتضى فهم العرف قطعا.
690

فما ذكره بعض الأفاضل: من أن الظاهر أن من يدعي أن المطلوب هو الفرد لا
ينكر أيضا كون مفاد اللفظ في العرف واللغة على وجه الحقيقة هو طلب الطبيعة
فقد يقال: إنهم لا ينكرون ذلك في شئ من الموارد فإنهم يقولون في بحث المرة
والتكرار والفور والتراخي وغير ذلك أن الأمر لا يقتضي إلا طلب الماهية لكنه
يدعى الخروج عن مقتضى الحقيقة لقيام القرينة على خلافه من جهة حكم العقل
حسب ما يأتي الإشارة إلى شبهتهم.
ليس على ما ينبغي، إذ قد عرفت عدم المنافاة بين القول بكون الصيغة
موضوعة لطلب الطبيعة وكون المطلوب في الحقيقة هو مصاديق الطبيعة وجزئياته
نظرا إلى كون الطبيعة عنوانا لتلك الجزئيات ومرآتا لملاحظتها والحكم عليها
حسب ما بيناه. فلو قال القائل المذكور بكون متعلق الأوامر هو المصاديق إنما
يريد به ذلك من دون دافع أصلا. والتزام الخروج من وضع اللفظ والتجوز فيه على
ما يقتضيه الثاني بالنسبة إلى معظم تلك الصيغ مما لا يصح إسناده إلى الجماعة،
ولا مجال للقول بذهاب هؤلاء ونظائرهم من أهل العلم إليه.
حجة القول الثاني: أن التكليف إنما يتعلق بالممكن دون المحال، وما يمكن
حصوله في الخارج ليس إلا الجزئيات الخاصة دون الماهية المطلقة، لاستحالة
وجود المطلق في الخارج ما لم يتشخص ويتقيد.
وأجيب عنه: بأن ما يستحيل وجوده خارجا هو الطبيعة بشرط لا، وأما هي لا
بشرط شئ فيمكن وجودها بإيجاد الفرد. والممكن بالواسطة ممكن فيجوز
التكليف به، فيكون الفرد من مقدمات حصولها فيجب من باب المقدمة، ولا
يستلزم ذلك نفي مطلوبية الطبيعة.
ويرد عليه: أن الطبيعة اللابشرط إما أن يكون في ضمن بشرط لا أو في ضمن
اللابشرط، والأول مستحيل في الخارج فيستحيل التكليف به فتعين أن يكون
الثاني هو المكلف به. فتعلق التكليف بالمطلق إنما ينصرف إلى الممكن من قسميه
بمقتضى ما ذكره في الاحتجاج من اختصاص التكليف بالممكن. فكون الجامع
691

بين الوجهين ممكنا لإمكان أحد قسميه لا يقضي بتعلق التكليف بالمطلق على
إطلاقه ليكون مرآتا لملاحظة أفراده كذلك، بل إنما يقيد ذلك بالممكن على حسب
ما ذكر، فيكون الطبيعة مأمورا بها من حيث كونها عنوانا للأفراد والجزئيات على
ما هو الحال في المحصورات.
ثم إن ما ذكر من كون الفرد مقدمة لحصول الطبيعة فاسد جدا، ضرورة أن
النسبة بين الطبيعة والفرد اتحادية، وانحلال الفرد إلى الطبيعة والخصوصية إنما هو
في العقل، فليس الفرد في الخارج إلا أمرا بسيطا، والمتصف بالوجوب هو الطبيعة
الخارجية المتحدة بالخصوصية وهو المعبر بالفرد، فكيف يعقل أن يكون مقدمة
للواجب مع وضوح لزوم التغاير بين المقدمة وذي المقدمة. وأيضا لا توقف
لإيجاد الطبيعة على إيجاد الخصوصية بل الخصوصية من لوازم إيجاد الطبيعة
فكما أن الطبيعة ما لم يتشخص لم يوجد كذا ما لم يوجد لم يتشخص.
والحاصل: أن وجود الطبيعة في الخارج يلازم وجود الخصوصية فهي إنما
توجد على الوجه المذكور وذلك لا ربط له بالتوقف.
وقد عرفت في بحث المقدمة أن الحكم فيما يلازم الواجب غير حكم
المقدمات.
ومع الغض عن جميع ذلك فلو صح ما ذكر كانت الخصوصية مقدمة لحصول
الطبيعة لا أن يكون الفرد مقدمة للطبيعة، فإن الفرد ملفق من الطبيعة والخصوصية،
والمفروض أن الخصوصية الحاصلة مقدمة لوجود الطبيعة الحاصلة به، وأين ذلك
من كون الفرد مقدمة للطبيعة حسب ما ذكره.
والتحقيق في الجواب: أنه إن أريد بها أنه لما تعلقت القدرة بالفرد - أعني
الطبيعة المنضمة إلى الخصوصية - لزم أن يكون المطلوب هو الطبيعة والخصوصية
معا فهو فاسد، لمقدورية الطبيعة أيضا. فالأمر إنما يتعلق بالفرد من حيث انطباقه
على الطبيعة من دون أن يكون الخصوصية ملحوظة في الأمر. فعدم تعلق القدرة
بالطبيعة من غير انضمام الخصوصية لا يقضي إلا بتعلق التكليف بالمنضم إليها،
692

وذلك أعم من تعلقه بالطبيعة المنضمة إلى الخصوصية مع خروج الخصوصية عن
كونها متعلقا للتكليف وكون الخصوصية متعلقا للتكليف أيضا. فلا دلالة في ذلك
على تعين الثاني كما هو المدعى.
وإن أريد أن الحكم المذكور لا يمكن تعلقه إلا بالفرد فإن المقدور إنما هو
الفرد والحكم إنما يتعلق بالمقدور دون الوجه الآخر - حيث لا يتعلق به القدرة -
فذلك مسلم، لكنه لا يقتضي إلا ثبوت الحكم المذكور للفرد من حيث انطباق الفرد
على تلك الحقيقة ولا دلالة فيه على وجوب الخصوصية أيضا. فإن أريد به الوجه
الثاني فلا دلالة في ذلك عليه أيضا كما عرفت.
وما يقال: من أن الفرد المأخوذ على الوجه المذكور أيضا كلي - لصدقه على
أفراد كثيرة ولا دلالة فيه على ثبوت الحكم لخصوص شئ من الأفراد، فالمفسدة
المذكورة جارية فيه، لعدم تعلق القدرة عليه إلا في ضمن خصوص الأفراد، ولو
أريد إيجاد خصوص الفرد المعين فهو مع خروجه عن مقتضى التقرير المذكور مما
لا دلالة في اللفظ عليه قطعا - مدفوع، بأن ما تعلق به الحكم ليس مفهوم الفرد
ليكون أيضا كليا صادقا على أفراد عديدة. بل المقصود ثبوت الحكم لمصداق
الفرد، يعني أن الحكم الثابت للطبيعة إنما لوحظ ثبوته من حيث انطباقها على
مصداق الفرد ليكون الحكم الثابت لها ثابتا لمصداقه، فليس المقصود إلا ثبوت
الحكم للفرد الخاص بحسب الواقع من حيث انطباقه على الطبيعة. وإنما ذلك من
اعتبار الفرد مفهوما مستقلا كليا حسب ما يتوهم. وأداء الواجب بكل من الأفراد
وحصول التخيير بينها إنما هو من جهة انتفاء الدليل على العموم، وحصول الطبيعة
المنضمة في الفرد بكل منها، فيقضي (1) الأمر المتعلق بها بالإجزاء عند إرادته
كذلك، فهو تخيير عقلي حاصل من ملاحظة القدرة، وليس الفرد هناك إلا واجبا
أصليا نفسيا من غير أن يتحقق هناك وجوب غيري تبعي أصلا.

(1) العبارة في المخطوطتين هكذا: حصول الطبيعة المنطبقة في الفرد بكل منها ليقضي.
693

فما يقال: من أن وجوب الفرد هناك وجوب تبعي من باب المقدمة وليست
الطبيعة واجبة بالوجوب الأصلي النفسي مما لا وجه له، كما هو ظاهر من التأمل
فيما قررناه.
نعم وجوب الخصوصية المأخوذة في الفرد الخاص بملاحظة ذاتها وجوب
بالغير، إذ لم يتعلق الوجوب به كذلك، مثلا إذا قلت " النار حارة " كان ثبوت
الحرارة لفرد النار من حيث إنه فرد منه ثبوتا أصليا بالذات، وكان ثبوته لغير ذلك
من المفاهيم المتحدة به ثبوتا بالعرض من حيث اتحاد تلك الطبيعة، سواء كانت
خصوصيات أو كانت مفاهيم عامة - كثبوت الحرارة للجسمية المطلقة، أو للجوهر،
أو للممكن، أو الخشب ونحوها - فليس في المقام وجوبان، ينسب أحدهما إلى
الطبيعة المطلقة، وآخر إلى الخصوصية أو الفرد بما ذكرنا أن الأفراد وإن كانت
متعلقة للتكليف على حسب ما قررناه، إلا أن جهة التكليف بها أمر واحد هو
الطبيعة المطلقة التي هي العنوان لتلك الأفراد فالفرق واضح.
- ثالثها -
أنهم اختلفوا في أن الأمر بالأمر بالشئ هل هو أمر بذلك الشئ حتى يكون
المأمور الثاني مأمورا من الأول أو لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه ليس أمرا بذلك الشئ، ذهب إليه جماعة منهم العلامة في النهاية
والتهذيب، والآمدي في الإحكام، وحكاه في المنية عن المحققين.
وثانيهما: أنه أمر بذلك الشئ، حكاه في المنية عن قوم، واختاره بعض
المتأخرين من أصحابنا.
ثم الظاهر أن الخلاف في المقام ليس من جهة الوضع، إذ لا مجال لتوهم القول
بكون الأمر بالأمر بالشئ موضوعا لأمر المأمور بذلك الشئ. وكذا الظاهر أنه لا
مجال للقول باستلزام الأمر بالأمر لذلك لزوما عقليا لا يمكن الانفكاك بينهما، وإنما
الكلام حينئذ في اللزوم العرفي بحيث يستلزم الأمر بالأمر ذلك بحسب فهم العرف.
694

وحجة الأولين وجوه:
أحدها: أنه لو كان أمرا للآخر لكان الأطفال مكلفين شرعا بالصلاة،
لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع " (1) وهو خلاف الاجماع بل
الضرورة.
ثانيها: أنه لو قال أحد لغيره: " مر عبدك أن يفعل كذا " لم يعد متعديا على عبد
الغير، ولو كان الأمر بالأمر أمرا لكان آمرا لعبد غيره، متعديا عليه.
ثالثها: أنه لو أمر أن يأمر غيره بشئ ثم نهى ذلك الغير عن فعل ذلك لم يعد
ذلك تناقضا، ولو كان الأمر بالأمر أمرا لكان تناقضا فإنه بمنزلة أن يقول له افعل
ولا تفعل.
رابعها: أنه لو كان الأمر بالأمر أمرا لما جاز أن يقول لغيره: " مرني بكذا "
- مثلا - لكونه حينئذ أمرا لنفسه، وهو واضح الفساد.
ويرد على الأول: أن ذلك خارج بالإجماع، وليس القائل بكون الأمر بالأمر
أمرا إلا مدعيا ظهوره في ذلك، فلا مانع من قيام الدليل على خلافه، وأيضا فليس
الأمر المذكور وجوبيا، لعدم وجوب التمرين على الولي بل المراد به الندب.
وحينئذ فلا مانع من كونه أمرا من الشرع للطفل، لإمكان تعلق الأمر الندبي به،
فيكون ذلك دليلا على كون عبادته شرعية، ويكون ذلك من ثمرات المسألة.
وعلى الثاني: أن أمر عبد الغير إذا كان بواسطة مولاه لم يعد تعديا، وإنما
يكون تعديا لو كان على وجه الظلم لو سلم كون مجرد الأمر كذلك.
وعلى الثالث: أن القائل بكون الأمر بالأمر بالشئ أمرا إنما يقول بكونه
ظاهرا في ذلك، فإذا قام الدليل على خلافه كما في المثال المذكور فلا إشكال في
عدم إفادته، وأين ذلك من التناقض؟ كيف! ولا يزيد ذلك على دلالة الحقيقة. ولا
يتوهم تناقض لو قام هناك دليل على إرادة خلافه. وبمثل ذلك يجاب عن الرابع.

(1) عوالي اللئالي: ج 1 ص 328 ح 74.
695

احتج القائل بكونه أمرا بالشئ: بأن ذلك هو المفهوم منه بحسب العرف.
ألا ترى أنه لو قال الملك لوزيره " مر فلانا بكذا " لم يفهم منه عرفا إلا كون
السلطان آمرا إياه بذلك الشئ.
وأجيب عنه: بالمنع من فهم العرف مطلقا، وفهمه ذلك في المثال المفروض
بقرينة المقام لكون الوزير مبلغا لا أصيلا، ولا كلام فيه مع قيام القرينة ودلالة
خصوص المقام عليه.
هذا تمام ما ذكروه من أدلة الطرفين مع بيان ما يرد عليه.
وتوضيح الكلام في المقام أن البحث هنا في أمرين:
أحدهما: أن الأمر بالأمر بالشئ هل هو أمر بذلك الشئ وإن لم يتحقق أمر
من المأمور بالأمر أو لا؟ وهذا هو الظاهر من العنوان.
والثاني: أنه لو أمر المأمور بذلك الشئ هل يكون أمرا من قبل الآمر بالأمر
سواء كان أمرا في الحقيقة من قبل المأمور أو لا؟ أو أنه لا يكون أمرا إلا من
المأمور.
ثم نقول: إن الآمر بالأمر إما أن يأمر به مطلقا أو يأمره بالأمر من قبل نفسه أو
من قبل الآمر، وعلى كل حال فالمأمور بالأمر إما أن يأمره من قبل الآمر أو من
قبل نفسه أو من قبلهما معا كمطلق الأمر، أو لا يلاحظ شيئا من الوجوه المذكورة
فإن أمره بالأمر من قبل الآمر وتحقق الأمر من المأمور، فلا شك في كونه أمرا من
الآمر، إذ لا مانع من التوكيل في الأمر فإن أوقع الأمر على الوجه المذكور لم يكن
أمرا من الآمر بالفعل، بل إنما يكون في الحقيقة أمرا من الآمر بالأمر، وهل يكون
مجرد أمره بالأمر أمرا وإن لم يتحقق الأمر من الآخر؟ وجهان:
أحدهما: أن يكون ذلك الأمر أمرا للآخر بذلك الفعل فيجب عليه الفعل إذا
بلغه ذلك وإن لم يأمره الآخر، وكان هذا هو الظاهر في العرف، لدلالة ذلك على
كون الفعل محبوبا له، مريدا لوقوعه منه، وهو معنى الأمر. ولذا لو بلغه ذلك ولم
يفعل عد عاصيا في العرف وذمه العقلاء وصح له عقوبته وإن لم يأمره الآخر إذا
كان ممن يجب عليه إطاعة الآمر.
696

ثانيهما: أنه لا يكون مأمورا إلا بعد أمر المأمور فإن مجرد الأمر بالأمر
بالشئ ليس أمرا بذلك الشئ بحسب اللغة، ضرورة أن الأمر بالشئ هو إيقاع
طلب الشئ، وليس الأمر بالأمر به إلا إيقاعا لطلب الأمر به، وهو غير إيقاع طلبه
ضرورة ولا يستلزمه أيضا، إذ قد يكون مطلوب الآمر إيقاع المأمور لذلك الشئ
بعد أمر من أمره بالأمر، لتعلق المصلحة بفعله بعد ذلك ولا يريد إيقاعه الفعل من
دون ذلك.
وأنت خبير: بأن ما يقتضيه اللفظ على مقتضى اللغة هو الوجه الأخير إلا أن
الغالب بحسب الإرادة هو الوجه الأول، لقضاء شواهد الأحوال به بحسب
المقامات فإن قضت به بحسب المقام فلا إشكال، وإلا فالظاهر حمله على ما هو
الأغلب، ويشهد له ملاحظة فهم العرف حسب ما مرت الإشارة إليه.
نعم لو قام في المقام قرينة تمنع من الحمل عليه اتبعت ولا كلام حينئذ. هذا إذا
أريد بالأمر أمره به استقلالا. وأما إذا أريد تبليغ الأمر بصيغة الأمر فلا إشكال في
كونه أمرا به وإن لم يأمر به الآمر، إذ لا دخل لتبليغ الأمر في تحقق الأمر، والظاهر
أن ذلك مما لا خلاف فيه.
هذا كله إذا تعلق أمره بشئ مخصوص، وأما إذا قال " مره عني بما شئت "
فالظاهر أنه لا يكون الآخر مأمورا إلا بعد أمر الآخر كما يشهد به العرف ويدل
عليه اللفظ بحسب اللغة. ولو قال " مره عني بإتيان ما يجب فعله " ففيه وجهان. ولو
قال " مره عني بإتيان ما يحبه زيد " فالظاهر أنه كالصورة الأولى.
وإن أمره بالأمر من قبل نفسه فالظاهر أنه لا إشكال في عدم كونه أمرا منه
بذلك الشئ بمجرد ذلك قبل تحقق الأمر من الآمر. وهل هو أمر منه بذلك الشئ
بعد تحقق الأمر من الآخر؟ وجهان:
من أن ذلك الآمر لما كان الأمر حاصلا عن أمره فكان قائما مقام أمره وأن
مفاد الأمر بالفعل هو لزوم الفعل عند الآمر وفي أمره بالأمر به دلالة في العرف
على كون ذلك الفعل محبوبا له مطلوبا عنده. ومن هنا ينقدح احتمال كونه أمر به
من دون أمر الآخر.
697

ومن أنه قد يكون مطلوب الآمر مجرد أمر الآخر به من غير أن يكون للآمر
بالأمر مصلحة في إيقاعه الفعل، فلا دلالة فيه على تعلق أمر الآمر به أصلا وهذا هو
الأظهر، ومجرد كون ذلك الأمر عن أمره لا يفيد تعلق أمره به. والدلالة العرفية في
هذه الصورة ممنوعة.
نعم لو قامت هناك قرينة على إرادة وقوع الفعل منه فهو المتبع. فحينئذ قد
يكون آمرا بعد أمر المأمور به، وقد يكون آمرا به مع قطع النظر عن أمره به أيضا
على حسب ما يقوم عليه شواهد الأحوال وقرائن المقام.
وإن أمره بالأمر وأطلق فالظاهر أنه ليس محل البحث في المقام على ما
يقتضيه ظاهر تعبيرهم، ويجري فيه ما ذكرناه من الكلام في المقامين: من كون
مجرد الأمر المذكور أمرا للثالث أو لا بذلك الفعل مع قطع النظر عن أمر الثاني له،
ومن كون أمر الثاني إياه بمنزلة الأمر الأول قائما مقامه.
أما الأول: فقد عرفت أنه الظاهر من العنوان إلا أن كون مجرد أمره بالأمر
أمرا للثالث محل نظر، وليس في إفادته ذلك إلا من جهة قضاء ظاهر العرف بإرادة
التبليغ وجريان المخاطبات على ذلك بحيث ينصرف الإطلاق إليه، وذلك غير
ظاهر. فالقول بإفادته ذلك عند الإطلاق على ما هو الملحوظ بالبحث في المقام
نظرا إلى الوجه المذكور غير متجه. فالأظهر عدم دلالته على كونه أمرا للثالث إلا
أن يقوم شاهد في المقام على إرادة التبليغ بحيث ينصرف إليه اللفظ وحينئذ فلا
كلام. وكذا لو قام في المقام شاهد على كون نفس الفعل محبوبا عنده مطلوبا لديه
وإن تحقق في طلبه في الظاهر بواسطة أمر الآخر به فبعد علم المأمور بذلك يجب
الجري عليه ولو مع قطع النظر عن أمر الثاني.
وأما الثاني: فلا يبعد قضاء الإطلاق به إما لكونه توكيلا في الأمر فيكون الأمر
الثاني به بمنزلة الأمر الصادر من الأول قائما مقامه فإن الأمر بالشئ من صيغ
التوكيل فيكون الأمر الأول توكيلا للثاني وأمر الثالث بالفعل حيث أمره بأمره،
وإما لإفادة أمره بالأمر إيجاب طاعته على الآخر.
698

ألا ترى أنه لو قال " مر عبدي بما شئت وما أحببت " ونحو ذلك أفاد عرفا أنه
يريد من العبد انقياده لأوامره والإتيان بما يحبه ويريده. وحينئذ فيكون الثالث
مأمورا من الثاني أولا ومن الأول بواسطة أمر الثاني به من جهة إيجابه لطاعته لا
لكون خصوص الفعل مطلوبا من قبل الأول، كما أن إيجاب الله تعالى طاعة المولى
على العبد قاض بكون العبد مأمورا من قبل الله سبحانه بأداء ما أمر به المولى لكن
من الجهة المذكورة. وهذه أيضا طريقة جارية في العرف يجري في أوامر الرسول
والأئمة (عليهم السلام) لإيجابه سبحانه طاعتهم على الأمة فيكون أوامرهم أمرا من الله
تعالى من تلك الجهة، فعلى الوجه الأول يكون الثالث مأمورا من الأول خاصة
ويكون وظيفة الثاني إيقاع الأمر من قبل الأول، وعلى الثاني يكون مأمورا من كل
منهما إلا أن وجوب طاعة الثاني إنما يجئ من جهة الإيجاب الأول.
فظهر بملاحظة ما ذكرناه أن مفاد الأمر بالأمر عند الإطلاق كون الثالث
مأمورا بذلك الفعل من الأول بعد تحقق الأمر من الثاني، إلا أن يقوم شاهد في
المقام على إرادة مجرد أمره بالفعل من غير أن يكون ذلك الأمر من جهة الأمر
بالأمر ولا من جهة إرادته لأداء مطلوبه، وإلا فظاهر الإطلاق هو ما ذكرناه كما لا
يخفى على من تأمل فيما قررناه.
فتلخص مما بيناه أن جهات كون الأمر بالأمر بالشئ أمرا به أمور:
أحدها: من جهة فهم العرف كون الفعل محبوبا عند الآمر مطلوبا لديه.
ثانيها: من جهة إرادة التبليغ والإيصال إليه.
فعلى الثاني إما أن يكون الأمر الصادر من الأول على حقيقته (1) وإنما يراد به
مجرد إبلاغ الأمر. وعلى الأول لا يبعد إرادة الأمر منه على وجه الحقيقة وإن
أفاد كونه مطلوبا للآمر الأول. وهذان الوجهان يفيدان كون الأمر بالأمر أمرا
للثالث مع قطع النظر عن أمر الثاني إلا أنك قد عرفت أنهما يدوران مدار شواهد

(1) العبارة إما ناقصة بسقوط بعض الكلمات منها وإما محرفة.
699

الأحوال وقرائن المقام. واستفادتهما عن الإطلاق غير ظاهر فلا يتم الاستناد
إليهما في المقام.
ثالثها: من جهة إرادة توكيل الثاني في الأمر.
رابعها: أن يعد ذلك من جهة إيجاب الطاعة. وهذان الوجهان يفيدان أمره به
بعد الأمر الثاني على حسب ما مر بيانه واخترناه.
هذا وينبغي أن يعلم أنه لا فرق فيما ذكرناه بين أن يأمره إيجابا بالأمر
الإيجابي، أو أن يأمره ندبا بالأمر الندبي. ولو أمره ندبا بالأمر الإيجابي أو أمره
إيجابا بالأمر الندبي أمكن القول بدلالته على ندبه للثالث ابتداء أو بعد الأمر الآخر
به، ويحتمل عدمه. ويعرف الحال فيه من التأمل فيما قررناه.
ثم إنه يجري جميع ما ذكرناه فيما إذا أمر بنهي غيره عن شئ في إفادة نهي
الآخر عنه أولا أو بعد نهي الثاني، ويجري فيه الوجوه المذكورة إلى آخرها.
والظاهر أن القائل بكون الأمر بالأمر أمرا يقول به هنا، والمانع منه يمنعه. ولو نهاه
عن النهي عنه فمن الظاهر عدم إفادة النهي عنه. وإنما التأمل في دلالته على عدم
المنع من الفعل وجواز الإتيان به، ولا يبعد القول بإفادته ذلك. كما أنه لو نهاه عن
الأمر أمكن القول بدلالته على جواز الترك وعدم المنع منه، إذ لا مانع من النهي
عن الحرام والأمر بالواجب، فيكون المنع منهما شاهدا على انتفاء التحريم
والوجوب إلا أن يكون في المقام شاهد على كون المنع منه من جهة النهي. ولو
أمره بالإذن لغيره في الفعل أو الترك جرى فيه الكلام المتقدم أيضا من كونه إذنا
للثالث ابتداء أو بعد إذن الثاني، وكذا لو أذن له في الإذن كذلك. ولو نهاه عن الإذن
كذلك أمكن القول بدلالته على المنع من الفعل في الأول ومن الترك في الثاني.
فيظهر الحال في الوجوه المحتملة في تلك الفروض من التأمل فيما قررناه.
- رابعها -
أنهم اختلفوا في دلالة الأمر على الاجزاء بفعل المأمور به على وجهه
700

وعدمها: فالمعروف بينهم دلالته على ذلك ذهب إليه أصحابنا وأكثر العامة وعزاه
الآمدي إلى أصحابه الأشاعرة والفقهاء وأكثر المعتزلة، وعن أبي هاشم والقاضي
عبد الجبار ومن تبعه المنع من ذلك.
ثم اختلف المثبتون فالأكثر على دلالته عليه لغة، وعن السيدين دلالته على
ذلك شرعا لا لغة. ويجري في جميع العبادات سواء كانت واجبة أو مندوبة بل في
كل ما تعلق الطلب به في الشرع وإن لم يكن من العبادة بالمعنى الأخص، وكذا في
الأوامر الصادرة من الموالي للعبيد وكل مطاع ومطيع، إذ الدلالة اللغوية لا يفرق
فيها بين المقامات.
ثم إنهم ذكروا أنه ليس المراد بالإجزاء في المقام إفادة الامتثال للقطع
بحصوله بموافقة المأمور به على حسبه والاتفاق عليه، بل المراد اسقاط القضاء،
ومنهم من عبر بسقوطه. والأول أقرب إلى لفظ الاجزاء بل هو المتعين، إذ قد
يسقط القضاء بأمور اخر - كالموت، والجنون، والإسلام، وغيرها - إلا أن يقيد
سقوطه بفعل المأمور به. وذلك أحد المعنيين المذكورين للفظ الصحة في العبادات،
كما أن موافقة الأمر معناه الآخر - كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى - فالكلام
في أن المعنى الثاني هل يقتضي الأول أو لا؟
والصواب: التعبير عنه بإسقاط التعبد به ثانيا، لشموله لما لا قضاء له بأصل
الشرع - كالجمعة والعيدين وغيرها - دون الأول، ولأن الفعل قد يسقط القضاء ولا
يسقط الإعادة، كما في ناسي القصر والنجاسة والقبلة وغيرها على بعض الوجوه
والأقوال، وكذا الجاهل في بعض المقامات.
وقد يوجه الأول بالفرض والتقدير فيراد اسقاط القضاء على فرض ثبوته،
وهو تكلف.
والثاني بأن الناسي ونحوه إن تذكر في الوقت وجب عليه الإعادة والقضاء
أيضا عند الإخلال بها، وإلا لم يجب عليه شئ منهما.
ويمكن التفرقة بين الحدين على التقدير الأول: بأن ثبوت القضاء على تارك
701

الإعادة عند تذكره في الوقت إنما يستند إلى ترك امتثال الأمر المتعلق بالإعادة
وإن رجع في الحقيقة إلى عدم أداء المأمور به حينئذ، إلا أن الظاهر من اسقاط
القضاء إسقاطه من غير واسطة أمر آخر، وهو ثابت في المثال المفروض.
وعلى الثاني: بأن الفعل المفروض لا يصلح لإسقاط الإعادة في نفسه وإن
سقط التكليف بها عند استمرار العذر في الوقت، إذ المسقط لها حينئذ هو العذر
المفروض دون نفس الفعل.
والأوجه أن يقال: إنه إن قلنا بصحة الفعل المفروض في الواقع مشروطا
مراعى باستمرار النسيان في الوقت فيبطل مع التذكر في الوقت - بمعنى أنه
ينكشف به بطلانه من أول الأمر - كان مجزيا على الأول بكلا الوجهين دون الثاني
كذلك. وإن قلنا بفساده في الحقيقة إلا أنه لا قضاء له مع استمرار العذر، فيخص به
عمومات القضاء لم يكن مجزيا على الوجهين أيضا، إذ الفعل المفروض لا يصلح
لإسقاط القضاء حينئذ وإنما سقط قضاؤه بالنص كالعبادات التي لا قضاء لها من
الأصل، فعدم اندراجه في الحد الأول كعدم اندراجها.
وربما يظهر من كلام بعضهم أن المراد بالإجزاء في المقام ترتب الأثر على
المأمور به على حسب ما فسر الصحة به في المعاملات، ومقتضاه شمول الكلام
للأوامر المتعلقة بالمعاملات سواء كانت مستعملة في الطلب - كما في النكاح
والتجارة والمكاتبة والوقف والعتق وغيرها - أو في مطلق الإذن كالبيع والطلاق
وغيرهما، لتمثيلهم في محل المسألة بتلك الأمثلة، وهو بعيد عن كلام النافين. بل
من البين خروجه عن محل المسألة واختصاصه بما عرفت فهو كلام آخر.
ثم إن الكلام في هذه المسألة يتصور على وجوه ثلاثة:
الأول: أن الأمر بالشئ هل يقتضي سقوط التعبد به - بمعنى عدم مطلوبية
فعله ثانيا في الوقت أو خارجه - أو لا يقتضي ذلك؟ فيمكن بقاء التعبد به ووجوب
الإتيان به مرة أخرى، كما هو الظاهر من كلام الخصم حيث ذكر أنه لا يمتنع أن
يأمر بالفعل ويقول " إن فعلته أديت الواجب ويلزم القضاء مع ذلك " فيكون الحكم
702

في ذلك تابعا لدليل آخر، ومع عدمه فالأصل البراءة عنه. وعلى المشهور يقع
المعارضة إذن بين الدليلين. فنفي القضاء مع عدم الدليل لا يكون مستندا إلى مجرد
الأصل بل إلى الدليل.
وأورد عليه: بأنه لا يعقل النزاع في جواز تعلق أمر آخر بمثل الفعل الأول،
لوضوح إمكانه ووروده في موارد لا يحصى، فيكون النزاع في صدق القضاء عليه
وعدمه فيرجع إلى اللفظ، فإن اعتبر في مفهوم القضاء استدراك المصلحة الفائتة لم
يكن قضاء.
وفيه: أن الأمر المتعلق بفرد آخر من الطبيعة المأمور بها غير الأول خارج عن
محل المسألة قطعا، كالأمر المتعلق بتكرار العبادات بحسب أوقاتها وأسبابها
- كالصلاة والصيام والزكاة وغيرها - إذ الثاني غير الأول وإن تماثلا في الصورة
فيرجع إلى الأمر بالمتماثلين. وإنما الكلام في اقتضاء الأمر لسقوط التكليف بنفس
المأمور به في الوقت أو بمثله لاستدراكه ثانيا في الوقت أو خارجه ولو بأمر آخر
متعلق بعين الأول.
وأنت خبير: بأن الضرورة كما قضت بجواز الأول كذا تقضي بامتناع الثاني،
لكونه تحصيلا للحاصل. إلا أن يقال: إن قيام الضرورة على بطلان أحد القولين لا
يمنع من وقوع الخلاف فيه، فإن الخلاف في الأمور الضرورية ليس ببعيد، ولذا
استدل المشهور على القول الأول بلزوم تحصيل الحاصل. وكان الباعث على
التوهم المذكور قياس الأمر في دلالته على الاجزاء على النهي في دلالته على
الفساد، كما ذكره الخصم مع وضوح الفرق بين المقامين كما سنشير إليه إن شاء الله.
الثاني: أن الأمر بالشئ هل يقتضي فعله ثانيا في الوقت من باب الإعادة أو
في خارجه على وجه القضاء ولو في الجملة أو لا يقتضي ذلك بل يتبع تعلق أمر
آخر بذلك فيثبت به وعدمه فينتفي بالأصل؟
وبهذا الوجه قرر بعض المتأخرين محل الكلام في المسألة استبعادا لوقوع
النزاع على الوجه الأول لرجوعه إلى اللفظ كما مر. وزعم أنه لا يبتني على
703

الخلاف في المرة والتكرار ولا في تبعية القضاء للأداء وعدمها. وهو من غرائب
الكلام إذ الخلاف في ذلك أشد غرابة من الأول، لما عرفت من أن تعلق الأمر بمثل
الأول ليس من المسألة، بل الكلام في جواز استدراكه ثانيا وعدمه. وإنما يستبعد
الخلاف فيه لقيام الضرورة على امتناع تحصيل الحاصل، فكيف يعقل القول بدلالة
الأمر عليه، بل وكذا القول بلزوم الإعادة في خارج الوقت ولو لغير جهة
الاستدراك بعد فرض الإتيان بالمأمور به على وجهه: من مرة، أو تكرار،
أو غير ذلك.
ثم لو فرضنا وقوع الخلاف في دلالته على ذلك فكيف يعقل اجتماع القول به
مع القول بعدم تبعية القضاء للأداء، إذ الأمر لو لم يقتض التكليف بالقضاء مع
الإخلال بالمأمور به في الوقت فكيف يعقل اقتضاؤه له مع الإتيان به على وجهه،
ثم كيف يجتمع القول بذلك مع القول بدلالته على المرة أو على طلب الطبيعة
الحاصلة في ضمن الفرد.
نعم ما ذكر في الوجه الأول لا يبتنى على الخلاف المذكور في شئ من
المسألتين كما لا يخفى، ثم ليس في كلام الفريقين ما يشير إلى إرادة المعنى
المذكور، بل كلماتهم في عنوان المسألة وأدلتها صريحة في خلافه فلا تغفل.
الثالث: أن الأمر المتعلق بالعمل بالطرق الشرعية المقررة لمعرفة الأحكام أو
الموضوعات الخارجية هل يقتضي الاجزاء عند الإتيان بالواجبات والمستحبات
الشرعية على ما يقتضيه تلك الطرق وإن اتفق مخالفتها للواقع إلا أن يقوم دليل
على خلافه أو لا يقتضي ذلك إلا مع قيام دليل آخر عليه؟ فالأصل دوران الأمر
في ذلك مدار إصابة الواقع وعدمها. فإن اتفق مصادفتها للواقع حصل الاجتزاء به
وإلا فلا، إلا أنه يجوز الاكتفاء به من حيث الحكم عليه في الظاهر بأنه هو الواقع
ما لم ينكشف الخلاف، فإذا تبين ذلك انكشف فساد العمل وبقاء الواقع على حاله
فيجب الإتيان به في الوقت، والقضاء في خارجه لتحقق الفوات فيه. فمحصله أن
الأمر الظاهري هل يقتضي الاجزاء عند مخالفة الحكم الواقعي أم لا؟
704

وهذا هو الذي ينبغي أن يكون محطا لنظر العلماء دون الأولين، وإطلاق
العنوان في كلام القوم يوهم اندراجه في محل المسألة. ويشهد به احتجاج الخصم
بالصلاة الواقعة باستصحاب الطهارة بعد انكشاف الخلاف، إلا أن الأظهر أن
الغرض من عنوان المسألة أن الإتيان بالمأمور به يقتضي سقوط الأمر المتعلق به
لا سقوط أمر آخر يتعلق بفعل آخر قد انكشف مخالفته للأول بعد اعتقاد توافقهما
فلا يشمل الفرض المذكور.
وقد يقرر المسألة في الأوامر الواردة في حق أصحاب الأعذار كالأفعال
الواقعة على وجه التقية، ووضوء صاحب الجبيرة، وطهارة المسلوس والمبطون،
وتيمم العاجز عن الطهارة المائية، وصلاة العاجز عن القيام أو القراءة أو الطهارة،
أو غيرها من الأجزاء والشرائط المقررة إلى غير ذلك، فهل الأصل الاجتزاء بها
بعد زوال تلك الأعذار أو يدور الأمر في ذلك مدار العذر فإذا زال بقي الواقع
على حاله؟
وفيه: أن أصالة الاجتزاء بتلك الأفعال حيث تحقق بدليتها عن الواقع واضح
لا ينبغي التأمل فيها. لسقوط التكليف عن المعذور بالواقع فلا يعود إلا بدليل، أما
لو لم يثبت فيه البدلية - كبعض موارد التقية - فالأصل بقاء الواقع في الذمة وإنما
اضطر المكلف فيه إلى الإتيان بفعل آخر غير المأمور به نظرا إلى تحقق الخوف في
تركه فلا يجزئ عنه بعد زواله.
وينبغي بناء المسألة الأولى على الوجهين المذكورين، فإن ثبت بدلية
الأحكام الظاهرية عن الواقع كانت واقعية ثانوية، فكان الحال في العمل بمقتضاها
على نحو الحال في الأمثلة المذكورة، بخلاف ما إذا قلنا بكونها عذرية محضة
وإنما فائدتها نفي العقاب على مخالفة الواقع وعدم تنجز التكليف به ما لم ينكشف
الخلاف، ومعه فالأصل ثبوت الواقع وبقاؤه على حاله.
ولتحقيق الكلام في ذلك محل آخر في مسألة التخطئة والتصويب وغيرها.
هذا كله في الأجزاء والشرائط الواقعية. وأما الشرائط العلمية فهي راجعة إلى
705

اشتراط العمل بعدم العلم دون الواقع - كاشتراط الصلاة بعدم العلم بالغصب في
اللباس والمكان وغير ذلك - ومن البين تحقق الشرط المذكور في نفس الأمر وإن
انكشف بعد العمل مخالفته للواقع، كما إذا علم بالغصب بعد الصلاة فليس ذلك من
مخالفة الواقع في شئ.
وقد تقرر المسألة على عكس الوجه المذكور فيقال: إن الأمر الواقعي هل
يقتضي الاجزاء مع مخالفة الطريق الظاهري أم لا؟ ولا بد فيه من إحراز جميع
الشرائط الواقعية حتى النية في العبادات الخاصة، لعدم اندراجه في المأمور به
بالأمر الواقعي مع الإخلال بشئ منها، لكن لا يعقل القول بالفساد مع الفرض
المذكور. فيرجع المسألة إلى أن موافقة الطريق الشرعي أو عدم مخالفة الحكم
الظاهري هل هو شرط في صحة العمل بالواقع أم لا؟
ولتحقيق الكلام في ذلك محل آخر في أحكام عبادة الجاهل.
إذا عرفت ذلك، فنقول: حجة القول بالإجزاء وجوه:
الأول: أن القضاء عبارة عن استدراك ما فات من مصلحة الأداء أو مصلحة
صفته أو شرطه. وإذا كان المأمور قد أتى به على وجه الكمال والتمام من غير
نقص ولا إخلال فوجوب القضاء استدراكا لما حصل تحصيل للحاصل، وذلك أن
الفعل المأتي به إن لم يكن كافيا في حصول المصلحة المقصودة لزم القصور في
الأمر المتعلق به، وإلا كان تحصيلها ثانيا تحصيلا للحاصل.
واعترض عليه: بأن كلام الخصم يشعر بأنه ليس النزاع في الخروج من عهدة
الواجب بهذا الأمر، بل أنه هل يصير بحيث لا يتوجه إليه تكليف بذلك الفعل بأمر
آخر أولا؟ ولا خفاء في أن المأتي به ثانيا لا يكون نفس المأتي به أولا بل مثله،
فلا يكون تحصيلا للحاصل.
ولا نسلم أن القضاء عبارة عن استدراك ما فات من مصلحة الأداء، بل عن
الإتيان بمثل ما وجب أولا بطريق اللزوم.
وأجيب: بأن الواجب في الحقيقة إنما هو نفس الطبيعة دون خصوصيات
706

الأفراد، ولا ريب في أن الطبيعة التي وقعت أداء هي التي وقعت قضاء، فإذا أتى
بها المكلف أداء ولم يسقط به القضاء فقد وجب الإتيان بها بعدما حصلت وهو
تحصيل الحاصل، إذ ليس الواجب إلا تحصيل الطبيعة في الجملة.
واعترض: بأنه قريب من الهذيان إذ ذلك يستلزم أن يكون الإتيان بجميع
الأنواع المندرجة تحت جنس بعد الإتيان بواحد منها تحصيلا للحاصل.
وأنت خبير: بأن المقصود في محل المسألة ليس تعلق الأمر بمثل الفعل الأول
فإنه لا يعقل وجه للمنع منه ولا إطلاق القضاء عليه - كما مرت الإشارة إليه - وإلا
لزم أن يكون تكرار العبادات بحسب الأوامر المتعلقة بها تحصيلا للحاصل وأن
يكون الإتيان بها ثانيا قضاء وهو خلاف الضرورة، بل الغرض أن الأمر المتعلق
بالطبيعة لو لم يقتض الاجزاء لأمكن بقاء التكليف بعين ما تعلق به الأول بعد
حصوله وهو تحصيل للحاصل. وكذا لو تعلق الأمر المفروض بالفرد المخصوص
من حيث خصوصيته فلا يمكن التكليف به بعينه بعد حصوله. وذلك غير الأمر
المتعلق بفرد آخر من أفراد الطبيعة، لوضوح أنه واجب آخر مغائر للأول، إذ لا
فرق في مغايرته للأول بين اختلاف الطبيعة واختلاف الخصوصية، فليس الأمر
المتعلق بالفرد الثاني إلا كالأمر المتعلق بطبيعة أخرى مباينة للأولى في الحقيقة.
فلا يعقل حينئذ أن يكون الثاني قضاء للأول، لتفرعه على فوات الأداء، وإلا فليس
إطلاق القضاء على الفعل الثاني إلا كإطلاقه على صيام ما عدا اليوم الأول من أيام
شهر الصيام أو صلاة سائر الأيام، إذ المفروض هنا أيضا أن الفعل الثاني واجب
آخر يثبت بأمر آخر ووقع في وقته المقرر، فليس الحال فيه إلا كالأول، فإطلاق
القضاء عليه إذن ضروري البطلان.
إذا عرفت ذلك فلا حاجة في الاستدلال إلى التمسك بحصول المصلحة
المقصودة، فقد يمنع ابتناء الأوامر الشرعية على المصالح الذاتية على بعض
الوجوه والأقوال، أو يمنع اعتبار استدراكها في صدق القضاء. بل لا يبتني
الاستدلال على صدق القضاء وعدمه ليكون الكلام راجعا إلى تشخيص معنى
707

اللفظ، إنما نقول بامتناع التكليف بعين ما تعلق به الأمر الأول كليا كان أو شخصيا
في الوقت أو خارجه. وذلك معنى الاجزاء لا اسقاط الأمر الآخر المتعلق بفعل
آخر مغاير للأول من حيث الخصوصية. فالمراد به اسقاط المأمور به بعينه بعد
وقوعه دون غيره، فلا يمكن تعلق أمر آخر بتحصيل الأمر الحاصل فضلا عن
توهم دلالة الأمر الأول عليه، أو اسقاط الأمر الأول بعينه فلا يعقل بقاؤه بعد
امتثاله. ومرجع الوجهين إلى واحد، إذ الأمر الثاني حيث لا يكون تأكيدا للأول بل
يكون مستقلا في إفادة الوجوب يستدعي مطلوبا آخر غير الأول.
الثاني: أنه لو لم يستلزم الاجزاء لزم تعذر العلم بالامتثال أبدا لجواز أن يأتي
بالمأمور به حينئذ على وجهه ولا يسقط عنه.
واعترض أولا: بتوافق الفريقين على الاجزاء بمعنى إفادة الامتثال، وإنما
الكلام في اسقاط القضاء.
وثانيا: بأن الخصم إنما يدعي عدم اللزوم عقلا فلا ينافي العلم بحصوله شرعا،
بل الأصل مع الشك أيضا عدم لزوم القضاء، فيتوقف ثبوته على دليل آخر،
فيحصل العلم بالامتثال مع انتفائه.
والجواب: أن المراد بالامتثال سقوط التكليف والخروج عن العهدة بحيث لو
تعلق الأمر به ثانيا لكان واجبا آخر غير الأول، وكان الإتيان به حينئذ إتيانا
للواجب في وقته فلا يعقل أن يكون قضاء للأول. فإن اقتضى الأمر ذلك لزمه
الاجزاء وإسقاط القضاء، وإلا لزم امتناع العلم به وإن أتى به في الوقت وخارجه
ألف مرة إلا مع قيام الدليل عليه بخصوصه، إذ لو حصل العلم بدونه فإما أن يحصل
بتكراره بعدد معين أو بعدد غير معين. والأول ترجيح لبعض الأعداد من غير
مرجح والثاني محال، فتعين حصوله بالأول كما هو مقتضى الاتفاق على إفادة
الامتثال. فإذا حصل العلم بسقوط التكليف والخروج عن العهدة امتنع عوده بعينه
فضلا عن بقائه بالأول، وإنما يعقل معه تعلق تكليف آخر بفعل آخر، وقد عرفت
خروجه عن محل المسألة.
708

الثالث: أنه إن اكتفى في الاجزاء بإدخال الماهية في الوجود ثبت المطلوب،
وإلا لزم اقتضاء الأمر للتكرار وهو باطل.
واعترض: بالفرق البين بين هذه المسألة ومسألة اقتضاء الأمر [للتكرار]، إذ
التكرار على القول به مدلول للأمر فكان الأمر قد تعلق بكل فرد من الأفراد
المتكررة أو بمجموعها بدلالة المطابقة أو التضمن على قدر ما يدعيه القائل به من
المرتين أو الأكثر بحسب اقتضاء العرف، وحينئذ فيأتي الكلام في أن الإتيان بكل
واحد منها أو بمجموعها هل يقتضي سقوط التعبد به ثانيا بالالتزام أو لا يقتضي
ذلك؟ فلا ربط له بالقول بالتكرار ولا يستلزمه.
وفيه: أن الغرض أن الأمر لو لم يستلزم سقوط التعبد بالفعل ثانيا لكان باقيا
على حاله ويلزمه التكرار، إذ لا واسطة بين السقوط وعدمه. لكن قد يقال بعدم
دلالة الأمر على شئ من الأمرين وإن لم يكن بينهما واسطة.
الرابع: أن النهي يدل على فساد مورده إذا كان عبادة، فالأمر يدل على
الاجزاء. وهو كما ترى، إذ الثاني أوضح وأظهر من الأول فلا يمكن الاستدلال
عليه بقياسه على الأخفى مع فساده.
احتج الخصم بوجوه:
الأول: أن الأمر إنما يدل على طلب الماهية المعراة عن جميع القيود
الخارجية فالطلب مدلول الهيئة والماهية المطلقة مدلول المادة، والسقوط أمر
خارج عنهما. وفيه: أن غاية الأمر خروجه عن المدلول المطابقي بل والتضمني
أيضا، والمدعى دلالته عليه بالالتزام فلا منافاة.
الثاني: أن النهي لا يدل على فساد المنهي عنه، فالأمر أيضا لا يدل على
إجزاء المأمور به، وهو قياس مع الفارق، ولو تم ذلك لكان العكس أولى كما مر،
لثبوت دلالة النهي على الفساد عندنا.
الثالث: أنه لو دل على السقوط لسقط قضاء الحج بالأمر المتعلق بإتمام
فاسده وهو خلاف الاتفاق. وفيه: أن القضاء لو سلم بالمعنى المعروف فإنما يجب
709

للحج الصحيح الذي تحقق فواته، وأما الأمر المتعلق بإتمام الفاسد فلا شك في
سقوطه بفعله إذ لا يجب إعادة الفاسد.
الرابع: أنه لو سقط لسقط عن المصلي باستصحاب الطهارة إذا انكشف
الخلاف بعد العمل لوضوح تعلق الأمر بالصلاة على ذلك وهو خلاف الاتفاق،
ويجري المسألة في مطلق الأحكام الظاهرية عند انكشاف مخالفتها للواقع كما
مرت الإشارة إليه.
وقد عرفت أن هذه المسألة لا ربط لها بظاهر العنوان ولا هي مما يتفرع عليه.
بل هي مسألة أخرى مستقلة قد مرت الإشارة إلى مأخذها ومبناها، وإنه من
ثمرات الخلاف في التخطئة والتصويب على الوجه الذي وقع الكلام فيه بين
أصحابنا من كون العمل بالحكم الظاهري بدلا عن الواقع عند مخالفته له واقعا
فيسقط الواقع عند العمل به - كما قد يستظهر ذلك من الأدلة الدالة على وجوب
الأخذ بالظاهر وامتناع ثبوت الواقع معه - أو لا، نظرا إلى إطلاق ما دل على ثبوت
الحكم الواقعي في حق العالم والجاهل، وأصالة عدم سقوطه بغير امتثاله، غاية
الأمر إعذار الجاهل في عمله بالظاهر ما لم ينكشف الواقع، فإذا انكشف أثر الواقع
أثره.
وتحقيق الكلام في ذلك موكول إلى تلك المسألة فعلى الأول: يكون الأمر
الظاهري مسقطا عن الواقع، كما يقتضي الاجزاء عن نفسه كذا يقتضي الاجزاء عن
الحكم الواقعي - بمعنى سقوطه عن المكلف - فلا يعود بعد الانكشاف إلا بدليل
خاص. وعلى الثاني: يكون الأصل بقاء الواقع في ذمته شأنا، بمعنى إعذاره في
مخالفته ما دام جاهلا، ولزوم امتثاله بعد انكشافه في الوقت، وقضاؤه في خارجه
نظرا إلى تحقق فواته عن المكلف فلا يجزئ عنه غيره إلا بدليل مخصوص.
وحيث إن المختار عندنا هو الوجه الثاني فوجه الفرق بين المثال المذكور في
الاحتجاج وما هو الظاهر من عنوان المسألة في كلامهم ظاهر، بخلاف الأوامر
المتعلقة بأصحاب الأعذار المقتضية لتبدل الحكم في حقهم، فيسقط الحكم الأولي
710

عنهم مطلقا إلا حيث يكون هناك شاهد على دورانه مدار العذر وجودا وعدما،
لعدم اجتماع البدل والمبدل منه في حال واحدة.
ولتفصيل الكلام فيه محل آخر.
حجة القول بالتفصيل على الاجزاء شرعا قيام الاجماع عليه لاتفاقهم على
الاحتجاج بالأوامر الواردة على الحكم بترتب جميع الآثار على امتثالها، وعلى
عدمه لغة أن الاجزاء إشارة إلى أحكام شرعية - كوقوع التملك بالبيع، والاستباحة
بعقد النكاح، والفرقة بالطلاق، والصحة في الصلاة والصوم - فلا يجب إعادتها.
وإذا كانت هذه الأحكام غير متعلقة بالأمر لا في لفظه ولا في معناه نفيا ولا إثباتا،
فلا يدل امتثاله على ثبوتها لفقد التعلق بينهما.
وأنت خبير بأن الاجزاء في المعاملات - بمعنى ترتب الأثر عليها - خارج
عن محل المسألة كما أشرنا إليه، إذ ليس المقصود من تشريعها إلا ترتب الآثار
عليها لا مجرد الإذن في فعلها وإن لم يترتب أثر عليها، على أنها لو كانت
موضوعة للصحيحة فدلالة الأمر بها على صحتها أوضح، على أن كثيرا منها لا
يتعلق به أمر - كالطلاق، وشبهه - وإنما جاء الإذن في إيقاعها وترتيب الآثار
عليها، والباقي أيضا إنما تعلق الطلب الاستحبابي به بعد تشريعه على ذلك
- كالوقف، والعتق، وغيرهما - فليس شئ من ذلك من محل المسألة في شئ.
نعم ما ذكر: من أن الصحة في الصلاة والصوم وسقوط الإعادة غير متعلقة
بالأمر لا في لفظه ولا في معناه، ممنوع جدا، إذ الصحة بمعنى موافقة الأمر، وقد
عرفت استلزامها لسقوطه باللزوم البين، فالدلالة على ذلك لغوية التزامية كما
لا يخفى.
- خامسها -
أن التكليف له أركان أربعة: المكلف، والمكلف، والتكليف، والمكلف به.
ولكل منها شرائط ذكر المتكلمون بعضها، والفقهاء بعضها. وكان البحث فيها أقرب
711

إلى علمي الكلام والفقه من الأصول، ولذا لم يتعرض لها بعض الأصوليين، إذ لا
دخل لها بالبحث عن أحوال الأدلة من حيث هي لكن لا بأس بالإشارة إليها.
وهذه المسألة وإن كانت مشتركة بين الأوامر والنواهي إلا أن أكثر مباحثها
أقرب إلى بحث الأوامر وألصق به، ولذا جرت العادة ممن تعرض لها بذكرها في
المقام، فنقول:
الركن الأول المكلف الآمر:
ولا بد فيه أن يكون ممن يجب طاعته على المأمور عقلا أو شرعا وإن صدق
الأمر من غيره إذا وقع بضرب من الاستعلاء - كما مر في محله - لكن لا يترتب
عليه ما هو المقصود في المقام من الوجوب المقتضي لتحتم الامتثال. فإن كان
حكيما عالما بعواقب الأمور - كما هو المقصود في المقام - توقف صدور التكليف
منه على الحقيقة على أمور أربعة: علمه بتمكن المأمور من الإتيان بالمأمور به
على وجهه، وبتحقق شرط الوجوب وانتفاء مانعه في وقت الفعل على وجه تقدم
في المسألة السابقة ويأتي في نسخ الوجوب قبل وقت العمل، وبكون المأمور به
على وجه يجوز الأمر به، وتمكين المأمور منه بالألطاف الواجبة.
واشترط بعضهم كونه مما يترتب عليه الثواب بأن يكون واجبا أو مندوبا، وأن
يكون الثواب على ذلك الفعل مستحقا، وعلمه بقدر المستحق عليه من الثواب،
وامتناع القبيح عليه، وأن يكون غرضه إيصال الثواب إليه ليكون تعريضا له لكونه
الفائدة في التكليف، وأن يكون عالما بأنه سيفعله على كل حال ولا يحبط عمله.
وأنت خبير بأن الوجه في اشتراط الأمور المذكورة غير ظاهر، لعدم انحصار
فائدة التكليف في إيصال الثواب، وإنما ثبت التفضل على العباد في إطاعتهم
بذلك، وإلا فالامر بالفعل الحسن والأمر النافع في الحال والنهي عن القبيح والضار
حسن على كل حال فسقط أكثرها. وامتناع القبيح عليه ليس من الشرائط المعتبرة
فيه، لأنه إن كان حكيما قادرا كما هو المفروض فلا يفعله البتة، وإلا فقد يقع
التكليف منه على غير الوجه المستحسن. وإنما الغرض بيان ما يعتبر في حسن
712

التكليف، فلا يشترط زيادة على ذلك امتناع القبيح عليه، لحسن التكليف مع ذلك
وإن لم يمتنع القبيح عليه.
وتعليله: بأن لا يخل بالواجب فلا يثيب المستحق للثواب، ولا يغير صفات
الأفعال بأن يجعل الحسن قبيحا وبالعكس، ولا يكلف بغير فائدة، ولا يخل
بالألطاف الواجبة.
عليل، إذ المفروض حصول ما يعتبر في حسن التكليف - من حسن الفعل،
وفعل اللطف، وترتب الفائدة، ونحو ذلك - وإن فرض إمكان خلافه في حقه.
وترك الإثابة لو فرض استحقاقها لا يوجب قبح التكليف، وإنما يقبح ذلك في نفسه
بعد التكليف كترك سائر الواجبات العقلية.
وأما التكليف الصادر من العبد بالنسبة إلى غيره فالمعتبر فيه ظنه بحسن
الفعل، وتمكن المكلف، وتعلق الغرض به لنفسه أو غيره.
الثاني: المكلف المأمور ويشترط فيه أمور:
منها: أهليته لتوجه الخطاب، فلو كان معدوما حال الخطاب امتنع تكليفه إلا
على سبيل الوضع معلقا على وجوده - كما يأتي تفصيله في محله إن شاء الله
تعالى - وكذا الحال في الموجود قبل بلوغه حد التميز والعقل، فلا يجوز تكليف
الصبي غير المميز والمجنون، لتوقفه على الشعور وإمكان التفاته بنفسه إلى عواقب
الأمور وتميز النفع من الضرر والطاعة من المعصية. وما يقع من الولي بالنسبة إلى
أحدهما فليس من التكليف المبني على الاختيار الباعث على المجازاة، بل من
باب التأديب وحمله على الصلاح ولو على سبيل الإلجاء والاضطرار. وأما البلوغ
الشرعي فهو من الشرائط الشرعية، إذ ليس في العقل ما يمنع من تكليف المميز
المراهق إلا من باب حكمة اطراد الأحكام وانتظامها. وكذا لا يجوز تكليف النائم
والمغمى عليه والسكران إلا معلقا على رفع العذر أو سابقا عليه، فلا يمنع منه
إيجاد المانع الاختياري بل يصح العقاب عليه مع علمه بكونه مانعا عن أداء
التكليف.
713

ومنها: قدرته على الفعل المكلف به فلا يجوز التكليف بغير المقدور، وهو من
شرائط المكلف به أيضا - كما سيجئ إن شاء الله تعالى - فهو باعتبار كونه وصفا
للمكلف وهو كونه قادرا مختارا يكون من شرائطه، وباعتبار كونه وصفا للفعل
وهو كونه مقدورا يكون من شرائطه. ومعنى القدرة تمكنه من الفعل والترك جميعا
ليتحقق الاختيار المصحح للتكليف والمجازاة عليه، فلا بد من انتفاء الإلجاء إلى
الفعل بأقسامه ليبقى معه حقيقة الاختيار.
ومنها: تمكنه من قصد الامتثال والطاعة وإن لم يكن من العبادة، فلا يكفي
إمكان الموافقة الاتفاقية وإن تحقق بها الغرض والغاية. فلا يجوز تكليف الغافل
عن الفعل - كالساهي والمخطئ - أو عن التكليف، كالناسي والجاهل المطلق في
حال الغفلة. ولا يجوز تكليفه بغير ما غفل عنه من أجزاء الفعل وشرائطه أيضا،
لتوقف الامتثال على الشعور والالتفات إلى التكليف بأركانه الأربعة ولو على
سبيل الاجمال، فلا يمكن تعليق التكليف على عنوان الناسي ولو بغير موارد
النسيان، لامتناع التفاته إلى كونه مكلفا بذلك في تلك الحال.
نعم يجوز اندراجه في عنوان المكلف حيث لا يكون وصف النسيان ملحوظا
فيه، لإمكان التفاته في حال النسيان إلى العنوان الأعم.
والحاصل: أن الغافل عن أحد أركان التكليف يمتنع تكليفه في تلك الحال.
لكن الغفلة عن المكلف به راجعة إلى عدم القدرة على الفعل فيرجع إلى الشرط
السابق. والغفلة عن سائر الأركان مانعة من القصد إلى امتثاله. ولا فرق بين
حصول الغفلة في تمام العمل أو جزئه، لانتفاء الكل بانتفاء جزئه وتعذر الكل
بتعذر جزئه. وكما تمنع من ابتداء التكليف كذا تمتنع من استمراره، إلا أن الغفلة
المستندة إلى الأسباب الاختيارية كالمسامحة وقلة العناية لا ترفع الإثم
واستحقاق العقوبة. وأما الفعل الواقع في تلك الحال من باب الاتفاق فليس من
المأمور به.
وقد يورد النقض على ذلك بوجوه:
714

منها: أن ما ذكر إنما يتم في العبادات التي يشترط فيها قصد الامتثال، وأما
الواجبات والمستحبات التي لا يشترط فيها ذلك فلا وجه للقول بخروجها عن
المطلوب بدون القصد المذكور، إذ المفروض تعلق الطلب بمطلقها وعدم اشتراطها
بذلك.
وفيه: أن معنى عدم اشتراط الواجبات التوصلية بذلك حصول الغرض
المقصود منها بدونه فيسقط التكليف بها حينئذ، ولذا لو وقعت بغير اختيار المكلف
- كطهارة المتنجس بورود المطر عليه، أو إلقاء الريح، أو الحيوان له في الماء -
حصل المقصود وسقط التكليف عنه بذلك مع القطع بعدم كونه من المأمور به بعينه.
فكذا الحال في الأفعال الواقعة من باب الاتفاق فإن مطلق الطلب يستدعي
الامتثال، بل هو بمعنى استدعاء الامتثال، وهو الإتيان بالمطلوب من حيث إنه
مطلوب. ثم قد يكون الحيثية المذكورة مأخوذة فيه على وجه الشرطية فيكون
عبادة، وقد لا يكون كذلك فيحصل الغرض بدونها، فيكون الفعل حينئذ مسقطا
للتكليف لا أداء للمطلوب بعينه، لعدم كونه امتثالا للأمر. وكذا الحال في النواهي،
لحصول الغرض بالتروك الواقعة بدون القصد والاختيار مع امتناع تعلق الطلب بها،
كما سيجئ بيانه في محله إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن من الواجبات والمحرمات ما يرجع إلى الأخلاق والملكات
والاعتقادات ونحوها مع عدم استنادها إلى القصد وإرادة الامتثال.
وفيه: أن التكليف في ذلك راجع إلى أسبابها الاختيارية، بل الأفعال التوليدية
بنفسها أمور اختيارية، فإن المقدور بالواسطة مقدور.
ومنها: أنه لا شك في صحة العبادات - كالصلاة، والصوم، والحج - بترك ما
عدا الأركان منها جهلا أو نسيانا. وقد تقرر أن الصحة في العبادة بمعنى موافقة
الأمر، فلا بد من كونها موافقة للأمر مطابقة للماهية المطلوبة، مع أنها لو وقعت من
العالم الذاكر كانت باطلة، ويلزمه اختلاف الماهية المطلوبة باختلاف الجاهل
والعالم والناسي والذاكر - كما في الجهر والإخفات، والقصر والإتمام - فيكون
الناسي مكلفا بغير ما كلف به الذاكر.
715

وفيه: أن النقض المذكور إنما يرد لو توجه الخطاب فيها إلى الناسي وهو
ممنوع، وإنما تعلق الطلب بنوع المكلفين بالأركان وغيرها مما يعتبر في صحة
العمل مطلقا، وهو القدر المشترك بين تكليفي الذاكر والناسي وخص التكليف
بسائر الواجبات بغير الناسي، فيكون الإخلال بها عمدا موجبا للخروج عن
الماهية المطلوبة ولا يوجبه النسيان، فليس ذلك من باب تنويع المكلفين إلى
قسمي الذاكر والناسي وتكليف كل منهما بغير ما كلف به الاخر على نحو تكليفي
الحاضر والمسافر وواجد الماء وفاقده، بل من باب تعميم التكليف ببعض الأفعال،
فلا يكون الناسي عنها آتيا بالمكلف به وإن كان معذورا في المخالفة حال النسيان
وتخصيص التكليف ببعضها بخصوص العالم أو الذاكر، فيكون الجاهل أو الناسي
معذورا وعمله صحيحا مطابقا للأمر المتعلق بالقدر المشترك. فالماهية المطلوبة
مختلفة باختلاف المكلفين والتكليف بها مشروط بالقدرة عليها وإمكان القصد
إليها، والناسي عن غير الأركان في الصلاة والحج أو في تناول المفطرات
والمحرمات في الصيام والإحرام معذور في ذلك، على معنى أن التكليف إنما
تعلق بعدم تعمد الإخلال بذلك.
ولتمام الكلام في ذلك محل آخر.
ومنها: أنه قد يحصل الاجتزاء بفعل الفاقد لبعض الشرائط المذكورة في تمام
العمل - كصوم النائم في أول النهار إلى آخره إذا وقع بعد تحقق النية - أو في بعضه،
كنوم المعتكف والمحرم والصائم بعد انعقادها، ونية الصوم قبل الظهر في القضاء أو
عند قدوم المسافر أو قبل الغروب في المندوب، والغفلة العارضة بعد النية في أثناء
العبادة مطلقا. ولو تم ما ذكر لامتنع ورود التخصيص عليه.
وفيه: أن فعل النائم في تلك الموارد ليس من المكلف به قطعا، وإنما يحصل
الغرض المقصود فيها بالترك المسبوق بالنية كحصوله في المحرمات بمطلق الترك.
وأما الطلب فإنما يتعلق بالأمر الاختياري على نحو المطلوب في النواهي وغيره
مسقط له لحصول المقصود به - كما في الواجبات التوصلية - ولا ينافي ذلك كون
716

تلك الأعمال عبادات، إذ المراد لزوم اقترانها بالنية في الجملة. فيدور مدار الجعل
الشرعي في لزوم اقترانه بأول العمل في غير الصوم وجواز تقديمه وتأخيره في
الصوم، فيرجع الأمر في غير الجزء المقترن مع النية إلى نحو ما يأتي بيانه في
المطلوب بالنهي - إن شاء الله تعالى - من غير فرق بين الجزء الأول والأخير.
فالمطلوب في الصيام ترك المفطرات مع النية في الجملة على التفصيل، وفي
الاعتكاف ترك الخروج من المسجد في المدة المعينة مع النية في أولها، وفي
الإحرام ترك المحرمات مع النية حال انعقاده.
وأما المسألة الأخيرة فإن فرض استمرار الداعي إلى آخر العمل واستناده
بجميع أجزائه إليه لم يخرج شئ من أجزائه عن الاختيار فلا يقدح فيه ما لا
ينافيه من السهو والغفلة، إذ مثله لا يمنع من التكليف. وإن فرض انقطاعه وعروض
النسيان المانع من دوامه فلا ينبغي التأمل في خروجه عن المكلف به في الحقيقة،
والأصل عدم الاجتزاء به، لأن ما دل على اشتراطه بالنية يقضي باعتبارها في كل
جزء من أجزائه. فالاكتفاء بالاستدامة الحكمية يتوقف على الدليل النقلي وقد
عرفت توجيهه، ولم يثبت ذلك في أكثر العبادات. فالمعتبر هو الاستدامة الحقيقية
على ما ذكرناه.
نعم إن قلنا بكون النية هي الإخطار بالبال فلا محيص عن الاكتفاء بالحكمية
لتعسر إبقائه أو تعذره.
وقد ذكر بعض المحققين في توجيه المسألة: أن المانع من تعلق التكليف بفعل
النائم والناسي والغافل ونحوهم هو أن الإتيان بالفعل المعين لغرض امتثال الأمر
تقتضي العلم بتوجه الأمر نحوه مع امتناعه في حقهم، ومن المعلوم أن الموانع
المذكورة إنما تمنع من ذلك في ابتداء الفعل دون سائر أجزائه، إذ لا يتوقف صحتها
على توجه الذهن إليها فضلا عن إيقاعها على الوجه المطلوب.
نعم قد يكون العارض مخرجا للمكلف عن أهلية الخطاب والتهيؤ له أصلا
كالجنون والإغماء ومثله يمنع من استدامة التكليف كما يمنع من ابتدائه. أما لو لم
717

يخرج عن ذلك - كالنوم والسهو والنسيان مع بقاء العقل - لم يمنع ذلك من
الاستدامة. ومن ثم لو ابتدأ بالصلاة على وجهها ثم عرض له في أثنائها ذهول عنها
بحيث أكملها وهو لا يشعر بها، أو نسي وفعل منها أشياء على غير وجهها، أو ترك
بعضها مما هو ليس بركن - ونحو ذلك - لم تبطل الصلاة، مع أنه يصدق عليه أنه في
حالة النسيان والغفلة غير مكلف. بل وكذا النوم وإن استلزم إبطالها من حيث نقضه
للطهارة التي هي شرطها لا من حيث هو غفلة ونقص عن فهم الخطاب. وكذا القول
في الصوم لو ذهل عن كونه صائما في مجموع النهار بعد نية الصوم، بل لو أكل
وشرب وجامع ناسيا للصوم لم يبطل. وهي مع مشاركتها للنوم في عدم التكليف
حالتها أعظم منافاة للصوم منه.
وفيه: أن الإتيان بالفعل لغرض الامتثال إنما يعقل مع وقوعه بجميع أجزائه
على ذلك، فلو وقع جزء منه على وجه النسيان والغفلة لم يكن مأتيا به لغرض
الامتثال إنما قصد في ابتداء العمل إيقاعه على ذلك ولم يتم له ما قصده.
وأما عدم بطلان الصلاة بالسهو عن غير الأركان فمقتضاه خروجه عن
الجزئية في حال النسيان، كخروج المفطرات عن المانعية في تلك الحال وخروج
بعض المنافيات للصلاة حينئذ عن الإبطال.
وقد عرفت: أن مرجعه إلى التكليف بالأركان على وجه الإطلاق وبغيرها من
الأجزاء عند التذكر لها، فيكون الإخلال بالأول موجبا للبطلان مطلقا، وبالثاني
عند التذكر دون النسيان.
وأما عدم بطلانها بعروض الغفلة في أثنائها فقد يمنع من ذلك إذا كان على
وجه يمنع من بقاء الداعي، ولو فرض قيام الدليل عليه لكان الحال فيه كما لو
تركها على سبيل النسيان. ومرجعه إلى اسقاط التكليف بها وعدم اعتبار النية فيها
في تلك الحال كما عرفت.
ومن العجيب! توهم صحة العمل مع وقوع ما عدا الجزء الأول منه في حال
النوم حيث لا يكون هناك جهة أخرى للمنع كنقض الطهارة، لإمكان دعوى القطع
718

بفساده كما يشهد به رفع مطلق القلم عن فعل النائم، إنما يسلم ذلك في السهو الذي
لا يقدح في استمرار الداعي الحاصل في ابتداء العمل أو مع قيام الدليل على
سقوط الواجب معه فلا يكون الفعل إذن من المكلف به. وما ذكر من التفرقة بين
النائم والمغمى عليه في الخروج عن أهلية الخطاب والتهيؤ له غير ظاهر أيضا،
إذ لا فرق بينهما في نظر العقل في امتناع تعلق التكليف بهما.
واعلم أن الجاهل إما أن يكون جاهلا بالحكم أو بالموضوع، جهلا مركبا أو
بسيطا، مقصرا أو قاصرا، غافلا أو مترددا بين وجوه محصورة أو غير محصورة،
متمكنا من الجمع بينها أو لا، قادرا على الفحص أو عاجزا، مكلفا بالفحص عقلا أو
نقلا أولا، فهذه وجوه عديدة تمتنع تكليفه بالواقع في جملة منها ويجوز في
أخرى. فالجاهل بالجهل المركب - وهو الذي يعتقد أحدهما على خلاف الواقع -
لا يجوز تكليفه بالواقع مع عدم تقصيره بالمقدمات، وكذا الغافل والمتردد العاجز
عن الفحص والاحتياط مع عدم التقصير. ويجوز تكليف المتردد القادر على أحد
الأمرين بما هو الواقع إذا علم المكلف به على الاجمال فيجب عليه أحدهما عقلا،
ولا يجب ذلك مع عدم العلم بالتكليف إجمالا إلا مع الخوف من الضر عاجلا -
كاحتمال السم القاتل - أو آجلا بظن المؤاخذة على الإهمال فيه.
نعم يستحب أحدهما عقلا مع قيام الاحتمال وانتفاء الخوف. ويجوز قيام
الدليل النقلي على وجوب أحد الأمرين حينئذ فيصح معه التكليف بالواقع على ما
هو عليه، ويمتنع ذلك مع عدم وجوبه عقلا ونقلا. والمراد من عدم تكليف الجاهل
حيث يمتنع هو التكليف المنجز الذي يستتبع الثواب والعقاب، أما التكليف الشأني
الذي لا يترتب على مخالفته المؤاخذة، فلا مانع منه.
فقد يقتضي حكمة اطراد الأحكام جعلها أولا في حق العالم والجاهل على
حد سواء، ثم إعذار الجاهل بها إذا لم يكن مقصرا في مخالفتها. وهذا هو الظاهر
من مذهب المخطئة. وليس ذلك من اشتراط التكليف بالعلم في الحقيقة، لامتناع
وجود المشروط بدون شرطه في الواقع، فيكون الجاهل بالحج كغير المستطيع في
719

إصابة الواقع، والجاهل بالأحكام كالصبي والمجنون في خروجه عن موضوع
المكلف بها واختصاصها بالعالم أو المتمكن من العلم على التفصيل المذكور وهو
قريب من مذهب المصوبة. وما اشتهر من اشتراط التكليف بالعلم فكأن المراد به
اشتراط تنجزه وترتب الأثر عليه بذلك. وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل القول
في المسائل المذكورة في مباحث أصل البراءة، ومسألة التصويب والتخطئة، والله
سبحانه يهدي من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم.
الثالث الأمر الذي به يتحقق التكليف وله شرطان:
أحدهما تقدمه وتقدم العلم به وبقيوده ومتعلقاته على الوجه المعتبر في تنجزه
على المأمور به بجميع أجزائه، وعلى وقته المضيق بالأصل أو العارض بالقدر
الذي يتمكن معه المأمور من الإتيان به وبمقدماته المفقودة. فلا يصح تأخره عن
الفعل بالضرورة ولا مقارنته معه أو مع شئ من أجزائه، إذ الفعل حينئذ مسبوق
بعلته التامة لا محالة فيمتنع عدمه، وكذا الحال في جزئه فيمتنع وقوعه في حيز
الطلب سواء كان مطلوبا لنفسه كما في الأفعال التي لا يرتبط بعض أجزائها
بالبعض، أو لحصول المجموع المركب منه ومن سائر أجزائه، وذلك أن التكليف
حينئذ لغو لا حاصل له لتوقفه على الاختيار، وانتفاء ما يقصد في ذلك من الابتلاء
والاختبار، لوقوع الفعل حينئذ لا محالة. فلا يتصور معه عصيان الأمر، على أن
قصد الامتثال المعبر في الطاعة مما يتعذر حينئذ، فيمتنع فيه الطاعة والمعصية
جميعا.
واستدل عليه: بأن التكليف في حال حدوث الفعل يستلزم التكليف بإيجاد
الموجود وتحصيل الحاصل وهو محال، فالتكليف به تكليف بالمحال، وهو غير
واقع ولو على القول بجوازه بناء على ما قيل: من دعوى الاتفاق على عدم وقوعه
في غير ما يبتني على مسألة الجبر وخلق الأفعال.
وأورد عليه: بأنه مغلطة، فإن المحال إيجاد الموجود بوجود سابق، لا بوجود
حاصل بهذا الإيجاد، فإنه عين محل الكلام.
720

وفيه: أن مدلول الأمر إنما هو الإتيان بالمأمور به بعده كما مر في مسألة الفور
والتراخي، فلو كان حاصلا حين الأمر كان الإتيان به بعده تحصيلا للحاصل، على
أن الوجوب لا يتحقق إلا بتمام الأمر وحصول شرطه، فإما أن يقع الفعل قبله أو
بعده، والواسطة بينهما أمر موهوم لا يعقل أن يكون محلا للكلام.
واختلف الحكاية عن الأشاعرة في هذه المسألة فنقل عنهم: أن المأمور إنما
يصير مأمورا حال الفعل، فلا أمر قبله بل هو إعلام له بأنه سيصير مأمورا في
الزمان الثاني وهو زمان حدوث الفعل، وكأنه المعروف منهم، كما قال التفتازاني:
إن المنقول من مذهب الأشعري في الكتب المشهورة، أن التكليف إنما يتعلق عند
المباشرة لا قبلها.
وحكى الآمدي اتفاق الناس على جواز التكليف بالفعل قبل حدوثه قال:
سوى شذوذ من أصحابنا.
واختلفوا في جواز تعلقه به في أول زمان حدوثه فأثبته أصحابنا، ونفاه
المعتزلة.
وربما يظهر من العضدي دعوى الاتفاق على ثبوت التكليف بالفعل قبل
حدوثه وانقطاعه بعده قال: وهل هو باق حال حدوثه لا ينقطع؟ قال الأشعري به،
ومنعه إمام الحرمين والمعتزلة، فهذه وجوه ثلاثة:
الأول: القول بامتناع تقدم التكليف على الفعل فلا بد من مقارنته مع الفعل،
فيكون الأوامر السابقة على الفعل محمولة على تعليق التكليف على الفعل، كتعليقه
على الشرائط العقلية أو الشرعية فلا يجدي تقدمها شيئا، فيكون الحال فيها كما هو
الحال في الأمر المقارن للفعل. ومقتضاه اختصاص التكليف بالمطيع وانتفاؤه في
حق العصاة إلا أنهم لا يلتزمون بذلك وإن لزمهم.
وفيه قدح في جميع الشرائع والأديان.
وقد يبنى ذلك على ما ذهب إليه الأشعري: من أن القدرة إنما يوجد مع الفعل
فلا يجوز التكليف به قبل حصوله.
721

أما الأول: فلأن القدرة لا بد لها من متعلق، فإن كان معدوما لزم تعلق العرض
بالمعدوم وهو محال.
وأيضا فالعدم أزلي غير مقدور فكذا استمراره، والمتعلق بغير المقدور غير
مقدور. ولأن الفعل حينئذ لا مرجح لوجوده، فلو تعلقت القدرة به لزم تعلق القدرة
بالمحال وهو الترجيح من غير مرجح.
وأما الثاني: فلأن التكليف إنما يتعلق بالمقدور فلا يتعلق بالفعل قبل وجوده
وإلا لزم التكليف بالمحال.
وفساد المقدمتين أوضح من أن يخفى.
أما الأولى: فلأن المعدوم ليس محلا للقدرة وإنما محلها المكلف فإن شاء فعل
وإن شاء ترك، وهو معنى كونه مقدورا، وليس معناه تعلق القدرة بالعدم الأزلي أو
بإيجاده من غير علة، بل بمعنى التمكن من اختيار وجوده بإيجاد سببه واستمرار
عدمه بعدمه، على أن الأشعري في الحقيقة ينفي القدرة من أصلها، وحدوثها مع
الفعل غير معقول.
ولتمام الكلام فيه محل آخر.
وأما الثانية: فلأن الأشعري يجوز التكليف بغير المقدور فلا يوافق مذهبه.
وغيره إنما يعتبر في التكليف السابق وجود القدرة حال وقوع الفعل فلا يمنع منه
عدم حصولها قبله، فإن معنى ما لا يطاق هو الذي يمتنع تعلق القدرة الحادثة به.
فكون القدرة مع الفعل لا ينافي كون الفعل قبل الحدوث مما يصح تعلق القدرة به.
الثاني: القول بجواز مقارنة التكليف للفعل كجواز تقدمه عليه، ويتصور على
وجوه:
أحدها: صدور الأمر بالفعل حال اشتغال المكلف به.
والثاني: تقدم الأمر بالفعل على وجه التعليق، بأن يكون مدلوله تعليق
الوجوب والطلب على الاشتغال بالفعل، كتعليق سائر الواجبات المشروطة على
شرائطها، فلا يكون واجبة قبل حصولها وإنما تتصف بالوجوب بعدها.
722

والثالث: تقدم الوجوب على الفعل أيضا مع تعليق الواجب على زمان
حصوله، كتعليق الصلاة بعد وجوبها على زمان الطهر، وتعليق الحج بعد الاستطاعة
على أوقاته، وتعليق الصوم بعد وجوبه بالنذر أو دخول الشهر أو غيرهما على
وجود النهار، ونحو ذلك.
ولا يخفى عليك: أن شيئا من الوجوه الثلاثة مما لا يعقل فيما نحن فيه، فإن
تعليق الوجوب أو الواجب على حال الوقوع ليس له معنى محصل، فضلا عن
حدوث الأمر به في تلك الحال كما عرفت.
وغاية ما احتجوا به للقول بالجواز: أن الفعل في أول زمان حدوثه مقدور
بالاتفاق، لأنه أثر القدرة فيوجد معها، سواء قيل بتقدم القدرة عليه - كما هو
مذهب المعتزلة - أو حدوثها معه. وإذا كان مقدورا أمكن تعلق التكليف به، لأنه لا
مانع إلا عدم القدرة وقد انتفى.
وأجيب: بأنا لا نسلم أن المقدور يصح التكليف به مطلقا، وأنه لا مانع غير ما
ذكر، بل لزوم التكليف بإيجاد الموجود وانتفاء الفائدة مانعان آخران.
واعترض: بأن الأول ليس إلا عدم القدرة لأن التكليف بإيجاد الموجود إنما
امتنع لكونه تكليفا بمحال غير مقدور، فإذا ثبت أنه مقدور ارتفع المانع.
والقول بأن المقدور هو الفعل والمحال إيجاده فيمتنع التكليف به مدفوع، بأنه
لا تكليف إلا بالمقدور. فإن كان الفعل فالفعل أو الإيجاد فالايجاد. على أن كلام
القوم ظاهر في أنه الفعل، لأنه متعلق الخطاب والأمر والطلب. وكونه إيقاع الفعل
مذهب المعتزلة، وكأنه مبني على الاختلاف في أن التأثير في الخارج نفس
حصول الأثر أو أمر مغائر له سابق عليه.
وأما ما ذكر من انتفاء فائدة التكليف، ففيه: أنا لا نسلم أن الابتلاء فائدة بقاء
التكليف بل ابتداؤه.
وأنت خبير: بما في الكلمات المذكورة من الفساد والخروج عن السداد،
لوضوح أنه ليس الغرض من دليل المانع خروج الفعل حين وقوعه عن كونه
723

مقدورا عليه، وإلا لامتنع وجود الفعل المقدور، بل الغرض أن التكليف إنما يقتضي
الإتيان به في ثاني الحال، وإيجاد الحاصل بعينه محال. وإنما يتعلق بالفعل قبل
وجود علته الاختيارية ليبقى الاختيار المصحح للتكليف، والفعل حال وقوعه
مسبوق بعلته، ولا يلزمه خروجه حينئذ عن الفعل الاختياري، إذ ليس المراد به إلا
المسبوق بالإرادة والاختيار المستند إليه. أما بعد وقوعه أو تحقق علته فلا اختيار.
وما ذكره: من أن الابتلاء فائدة الابتداء دون البقاء، إنما يناسب الوجه الثالث
من وجوه تقرير كلام الخصم.
وما ذكر: من الفرق بين الفعل والإيجاد، واضح الفساد.
وبالجملة: فالأمر المقارن للمأمور به طلب لممتنع الوجود على التعليل الأول
ولممتنع العدم على الثاني من باب التنزل، ولو سلم عدمهما فهو لغو لا فائدة له.
وأما تعليق الوجوب أو الواجب على وقوعه فمرجع الأول إلى كون وجود الشئ
شرطا في وجوبه، والثاني إلى تعليق الشئ على نفسه. وقد يوجه بتعليق أحدهما
على زمان فعله، ولا محصل له لأن اشتراط الوجوب بزمان الوقوع يستلزم
اشتراطه بنفس الوقوع. وتعليق الإيجاد على زمان الوجود لغو لا حاصل له،
لوضوح أنه لا يقع إلا في الزمان.
نعم يمكن تعليق الوجوب جواز الفعل إذا كان موسعا كما في الصلاة، أما
المضيق فلا، للزوم تقدم الوجوب على الفعل، إذ الوجوب هو الباعث على
الامتثال والداعي إليه، فلا يمكن اقترانه مع العبادة لكون المعلول مسبوقا بالعلة،
بل الامتثال مسبوق بالنية، والنية موقوفة على تحقق الطلب فيتقدم عليه من
وجهين. فما يقع من هذا القبيل راجع إلى تعليق المطلوب دون الطلب.
فظهر بما ذكر أن وجوب الصوم لا يمكن اقترانه بأول الفجر، بل لا بد من
تقدمه عليه، فلا إشكال في وجوب الغسل قبل الفجر. فتوهم توقف وجوبه على
الفجر وهم فاحش، لرجوعه إلى مقارنة الوجوب مع الجزء الأول من المطلوب
وتعليقه على زمان وجوده وهو غير جائز.
724

وأما الواجبات الموسعة فيمكن تعليق الوجوب فيها على دخول أوقاتها،
ولا ينافي ذلك كون أول الوقت زمان الفعل أيضا، فإن المراد من التوقيت تعيين
الزمان الذي يصلح للفعل وإن كان تعليق الوجوب عليه موجبا لتأخره عنه أنا ما.
فإن قلت: إذا فرضنا مقارنة بعض شرائط الوجوب - كالبلوغ والعقل
وغيرهما - مع أول النهار في الصوم الواجب أو أول الوقت في سائر الواجبات
المضيقة، فمقتضى ما ذكر من اشتراط تقدم الوجوب سقوط الصوم - مثلا - حينئذ،
كما لو حصل ذلك في أثناء النهار، مع دعوى القطع بخلافه. وإذا جاز مقارنة
الوجوب مع أول الوقت في ذلك جاز في غيره.
قلت: إن الحكم في ذلك بعد تحققه جار على خلاف مقتضى الأصل، لوضوح
أن الأصل في العبادة أن يكون مسبوقة بالنية مستندة إليها. ومن البين أن قصد
الامتثال مسبوق بحصول الطلب. فلا يكفي فيه الوجوب المشروط قبل تحقق
شرطه وإن علم بحصوله فيما بعد، لانتفائه قبل ذلك. فلا يكون هو الداعي إلى الفعل
وإنما يكون الباعث عليه علمه بحصوله فيما بعد، فيكون الحال فيه كما لو علم
بوقوع الأمر بعد ذلك، لكنه بعد ثبوته ولو بإطلاق الأدلة مما لا مانع منه، كما لو
ثبت الاكتفاء بتجديد النية إلى الزوال أو إلى العصر في بعض المقامات، ومرجعه
إلى قصد الإمساك في باقي النهار منضما إلى ما كان فكذا في المقام، فإذا بلغ
الصبي أو عقل المجنون في أول الفجر نوى امتثال التكليف المتعلق به حينئذ
بالإمساك فيما عدا الجزء الأول منضما إليه وإن كان مقتضى الأصل سبق النية عليه
ليكون الجزء الأول أيضا واقعا بداعي القربة ونية الامتثال.
ويمكن أيضا الاكتفاء بقصد الإتيان بما سيجب إذا دل الدليل عليه، وليس
ذلك تخصيصا للدليل العقلي الدال على لزوم تأخر فعل الواجب عن الوجوب
وتعلق الطلب بالفعل المتأخر دون المقارن نظرا إلى ترتبه عليه وإن لم يكن من
العبادة المتوقفة على النية، إنما ذلك تصرف في متعلق الطلب. وقد يكتفي في ذلك
بالتقدم الطبعي وإن تقارنا في الوجود، نظرا إلى إمكان الامتثال في مثله بعد العلم
بحصوله قبل ذلك.
725

وفيه: أن التقدم الطبعي في ذلك مما لا معنى له وإنما يتحقق في العلة
والمعلول، ومن البين أن الوجوب لا أثر له في الفعل المقارن له، بل يكون الداعي
إليه العلم بحصوله في زمانه. فالأصل تقدم الوجوب زمانا ليترتب عليه داعي
الامتثال المترتب عليه الفعل إلا أن يثبت خلافه، فلا يمكن حصول الثلاثة في آن
واحد عقلي على الحقيقة إلا أن الأحكام الشرعية مبنية على المفاهيم العرفية دون
الدقائق العقلية.
فظهر أن الأمر لا يتعلق إلا بالفعل فيما بعده، والوجوب لا يتعلق بالحال
الحقيقي وإن اقترن مع الفعل في الاتصاف الخارجي، ولا يجوز تعليق الوجوب
على حال الوجود. وكذا لا يجوز مقارنة تنجز الطلب مع المطلوب بعد تقدمه عليه
في الواقع، فإن الباعث على قصد الامتثال إنما هو تنجز الطلب، فإن وجوده
الواقعي لا يبعث على انتهاض العبد للامتثال. والباعث على تنجز الخطاب الواقعي
هو العلم به والتذكر له، فلا بد من تقدمه أيضا على الفعل. ولا يلزم فيه العلم
التفصيلي إلا حيث يتوقف الامتثال عليه فقد يكتفي فيه بالإجمال، بل قد يكتفي
عنه بالاحتمال حيث يبعث على الامتثال وذلك في مقام الخوف. وكما يعتبر تقدم
العلم بالطلب كذا يعتبر تقدم العلم بالمطلوب وبشرائطه وأجزائه، ويكفي فيه أيضا
الاجمال أو الاحتمال على ما ذكر. ولا بد من تقدم العلم على الوجه المذكور على
المقدمات المفقودة فلا يجوز تأخره عنها، لامتناع الفعل حينئذ. ويجوز مقارنته
معها وتقدمها عليه، إلا إذا كانت عبادة يتوقف مطلوبيتها على مطلوبية ذيها.
أما لو كانت مستحبة بنفسها كالطهارة جاز تقدمها.
الثالث: القول بعدم انقطاع التكليف السابق حال الفعل وإنما ينقطع بعده.
فإن أريد به سقوط التكليف والخروج عن عهدته وحصول البراءة منه فمن
البين توقفه على حصول الامتثال، فلا يقع حال الفعل وإنما يقع بوقوعه ويصدق
بتحققه في الخارج فيكون بعده. ففي الأمور الارتباطية لا يمكن تحققه إلا بعد
الإتيان بجميع أجزائه، وأما غيرها ففي كل جزء منها إنما ينقطع التكليف بالإتيان
به ولا يسقط وجوبه إلا بعده.
726

وإن أريد به حقيقة التكليف به حال وقوعه رجع إلى ما عرفت.
الشرط الثاني (1): انتفاء المفسدة في نفس الأمر من جميع الجهات وحسن
صدوره من الآمر بكلا معنييه - الأعم والأخص - بمعنى رجحان وجوده على
عدمه على الوجه الذي يقع عليه من زمانه ومحله وسائر قيوده. ولا يجب رجحان
وقوع الفعل في حد ذاته، لإمكان حصول الفائدة في الأمر دون المأمور به. فلا
يجوز إهماله من الحكيم، بل قد يتصور كون الفعل مرجوحا ويكون رجحان الأمر
غالبا عليه، إلا أن الغالب أن يكون رجحان الأمر مبنيا على رجحان المأمور به،
بل لم نقف على خلافه في الشرع وإن أمكن في نظر العقل.
وأما الأمر فلا يكفي حسنه بالمعنى الأعم، لامتناع اللغو والعبث على الحكيم،
فلا يصدر منه ما يتساوى وجوده وعدمه. بل لا يمكن صدور الراجح مع وجود
الأرجح منه بمجموع الاعتبارات المتصورة فيه حيث يدور الأمر بينهما، لقبح
ترجيح المرجوح على الراجح. فلا بد من وقوع كل فعل من أفعال الحكيم القادر
على الإطلاق على الوجه الذي لا يمكن أرجح منه في تلك الحال بملاحظة جميع
الجهات المنضمة إليه. ويمكن وقوع أحد المتساويين حيث يشتركان في حصول
المصلحة المقصودة ولا يكون بينهما فرق بشئ من الوجوه الممكنة. فمع تساوي
نسبتها إليهما وانتفاء المرجح بينهما يتعين اختيار أحدهما، لعدم جواز تفويت تلك
المصلحة بتركهما وانتفاء ما يقتضي الجمع بينهما.
وخالف في ذلك من زعم استحالة ابتناء أفعاله سبحانه على الأغراض
المطلوبة والمصالح المقصودة، فضلا عن القول بتساوي جميع الأفعال الاختيارية
في صفاتها الذاتية وانتفاء صفتي الحسن والقبح فيها بالكلية. وهو إنكار لحكم
العقل من غير عقل، كما تقرر في محله.
الرابع المأمور به. ويعتبر فيه أمور:
منها: أن يكون من جنس الأفعال أو التروك على وجه يأتي في النهي، فلا

(1) من شرطي الأمر، تقدم أولهما في ص 720.
727

يتعلق الأمر والنهي بالأعيان الخارجية إلا بتأويلها بالأفعال المتعلقة بها، كما في
قوله تعالى * (حرمت عليكم أمهاتكم) * و * (حرمت عليكم الميتة) * وقولنا يجب
الخمس والزكاة وذلك ظاهر.
منها: انتفاء المفسدة فيه لنفسه ولغيره، لقبح الأمر بما فيه المفسدة، بل وبما
لا مصلحة فيه إلا حيث يكون المصلحة في نفس الأمر، كما في الأوامر الابتلائية
لتحقق الطلب فيها على الحقيقة كما عرفت.
منها: كونه ممكن الحصول على وجهه بالفعل، فلو كان ممتنعا لذاته أو لغيره
امتنع تعلق الطلب به، سواء كان امتناعه بحكم العقل أو بحسب العادة، في حق
عامة المكلفين أو بالنسبة إلى المكلف المخصوص، على الإطلاق أو في خصوص
تلك الحال، في نفسه أو باعتبار مكانه أو زمانه، أو شئ من سائر القيود المأخوذة
فيه.
وقد اتفق على ذلك كافة أصحابنا والمعتزلة، فإن معنى التكليف بالشئ هو
استدعاء حصوله من المكلف، ولا يعقل تعلق القصد بوقوع ما لا يمكن وقوعه مع
علم الآمر به، إلا على سبيل التمني وهو أمر آخر غير الطلب، ولأن التكليف به لغو
لا يترتب عليه فائدة، بل هو قبيح بحسب العقل والعرف، وإنما يعد ذلك في نظر
العقلاء من الجهل والسفاهة وسخافة الرأي.
واستدل عليه بامتناع تصور وقوع المحال فلا يمكن تعلق الطلب به، لتوقفه
على تصوره من الآمر في طلبه، وإمكان تصوره من المأمور في امتثاله. أما الثاني
فظاهر.
وأما الأول فقد يعلل تارة: بأنه لو كان متصورا لكان متميزا، ولو كان متميزا
لكان ثابتا. فما لا ثبوت له لا تميز له، وما لا تميز له لا يكون متصورا.
وأخرى: بأن تصور المحال من حيث الوقوع يستلزم تصوره على خلاف
ماهيته، فإن ماهيته ينافي ثبوته، فيكون ذاته غير ذاته ويلزمه انقلاب حقيقته،
كما أ نا لو تصورنا أربعة ليست بزوج فقد تصورنا أربعة ليست بأربعة، فإن كل
ما ليس بزوج ليس بأربعة.
728

ويرد على الأول: أن تصوره إنما يستلزم تميزه في الذهن دون الخارج، فإن
الممكن المعدوم لا تميز له في الخارج أيضا مع إمكان تصوره في الذهن.
وعلى الثاني: أن الذي يلزم ذات الممتنع عدم وجوده في الخارج لا عدم
تصوره، فلا يلزم من تصوره خروجه عن حقيقته. وليس الحال في تصور الممكن
ممتنعا والممتنع ممكنا إلا كتصور المعدوم موجودا والموجود معدوما، إذ لا امتناع
في تصور الأشياء على خلاف ما هي عليها لذاتها أو لغيرها، إنما يمتنع انفكاكها
عن لوازمها في الوجود الخارجي دون الاعتبار العقلي، سواء كانت ذاتية أو
عارضية.
نعم لا يمكن تصورها على خلاف حقائقها وذواتها، لعدم كونه تصورا لها
بأنفسها بخلاف لوازمها وإن كانت من ذاتياتها، لعدم كونها مأخوذة في ماهياتها،
لوضوح الفرق بين حقيقة الشئ ولوازمه، إذ لا يمكن تصور الشئ على خلاف
ماهيته، ويمكن تصوره منفكا عما يلزمه لذاته.
والأصل في التعليل المذكور ما ذكره الشيخ في الشفاء: من أن المستحيل لا
يحصل له صورة في العقل، فلا يمكن أن يتصور شئ هو اجتماع النقيضين.
فتصوره إما على طريق التشبيه بأن يعقل بين السواد والحلاوة أمر هو الاجتماع
ثم يقال مثل هذا الأمر لا يمكن حصوله بين السواد والبياض، وإما على سبيل
النفي بأن يعقل أنه لا يمكن أن يوجد مفهوم هو اجتماع السواد والبياض.
وأيده بعضهم بأن المحكوم عليه في قولنا اجتماع النقيضين مستحيل ليس
أمرا خارجيا إذ لا مستحيل في الخارج، ولا متصورا ذهنيا وإلا لزم الحكم
بالامتناع على ما ليس بممتنع، إذ الثابت في الذهن ليس بممتنع، فلا بد من توجيهه
بأحد الوجهين المذكورين.
وضعفه ظاهر، إذ المحكوم عليه في القضية وإن كان متصورا لكن ليس الحكم
على الصورة الذهنية، بل على ما له تلك الصورة وهو ذات الممتنع. ولو سلم فإنما
يراد منها الحكم بالامتناع في الخارج. فالغرض أن المعنى الحاصل من هذا اللفظ
في الذهن يمتنع أن يوجد له في الخارج فرد يطابقه.
729

وأما ما ذكره الشيخ فمحصله: أن المستحيل لا يمكن تعقله بماهيته وتصوره
بكنهه، وإنما يتصور بوجه من الوجوه واعتبار من الاعتبارات، ولا يتوقف الحكم
عليه بالأحكام الثبوتية والسلبية على أكثر من ذلك. فكذا الحال فيما لو فرض
تعلق الأمر والنهي به فيكفي في إمكانه تصوره بالوجه فلا يرتبط بالمدعى.
ويمكن التفرقة في ذلك بين ما ذكره من المثال ونحوه - كارتفاع النقيضين -
وبين سائر الممتنعات الذاتية والغيرية، كشريك الباري سبحانه في أفعاله وصفاته،
فيمكن تصور الثاني.
ولا يمكن حصول صورة الأول في الذهن، لأن تعقل اتصاف الشئ في
الخارج بالمتناقضين والضدين لا يمكن إلا على سبيل المبادلة دون الاجتماع،
لأنه حين تصوره موجودا لا يتصور معدوما وبالعكس، فتصوره موجودا معدوما
لا يمكن إلا باختلاف الملاحظة. وكذا الحال في تعقل الجسم أسود وأبيض،
بخلاف المختلفين تقول: هذا حلو أسود، ولا تقول: هذا أبيض أسود، فإنك حين
قلت: أبيض، فقد نفيت عنه السواد، وحين قلت: أسود، فقد أنكرت بياضه، فلا
يتصور اجتماعهما على نحو المختلفين.
وكيف كان فهذا الكلام مما لا ربط له بالمقام على أن الكلام في مطلق
المستحيل، ولا شك في إمكان تصوره في الجملة.
وقد اختلف النقل عن الأشاعرة في هذا الباب فالمعروف عنهم إطلاق القول
بجواز التكليف بالمحال. قال العضدي: ولم يثبت تصريح الأشعري به فيكون
مأخوذا من قوله بالجبر وخلق الأفعال ومقارنة القدرة لها من غير تأثير ونحو
ذلك، فيكون كلامهم في المحال الغيري - وهو الذي يمكن في حد ذاته ولا يتعلق
به القدرة الحادثة عندهم - وبه خص محل النزاع في المواقف، سواء كان من
جنس ما يتعلق به القدرة أولا.
والمستفاد من كلامه في شرح المختصر كغيره: أن محل النزاع ما يكون ممتنعا
بالذات، كالجمع بين الضدين لتمسكه في اختياره بامتناع تصوره وتمثيله به قال:
730

والإجماع منعقد على صحة التكليف بما علم الله أنه لا يقع وإن ظن قوم أنه ممتنع
لغيره.
وقد يتوهم من ذلك دعواه الاجماع على جواز التكليف بالممتنع الغيري،
وهو وهم فاحش. إنما يعني اتفاق أهل الشرائع والأديان على صحة التكليف
بالأفعال وإن وقع الكلام في كونه تكليفا بالمحال، فمن قال بالجبر يلزمه القول
بجوازه بل وقوعه أيضا.
وأما الممتنع الذاتي فالقول بجواز الأمر به لا يستلزم القول بوقوعه.
وقد عرفت إنكاره تصريح الأشعري به.
وذكر الآمدي اختلاف قوله في ذلك، وأن ميله في أكثر أقواله إلى الجواز مع
تمثيله لذلك بالجمع بين الضدين وقلب الأجناس وإيجاد القديم وإعدامه قال:
وهو لازم على أصله في وجوب مقارنة القدرة للمقدور وعدم تأثيرها فيه. ثم
قال: وهذا مذهب أكثر أصحابه وبعض معتزلة بغداد - حيث قالوا بجواز تكليف
العبد بفعل في وقت علم الله أنه يكون ممنوعا عنه - والكرامية حيث زعموا أن
الختم والطبع على الأفئدة مانعان من الإيمان مع التكليف به، غير أن من قال
بجواز ذلك من أصحابه اختلفوا في وقوعه نفيا وإثباتا، ووافقه على القول بالنفي
بعض الأصحاب وهو مذهب البصريين من المعتزلة وبعض البغداديين، ثم اختار
امتناع التكليف بالمستحيل لذاته وجوازه في المستحيل باعتبار غيره، ونسب إلى
الغزالي ميله إليه.
وأنت خبير بأن الشبهات العقلية التي ذكروها في تجويز التكليف بالمحال إنما
يجري في الممتنع الغيري، إذ هي التي ذكروها للقول بالجبر وخلق الأفعال وعدم
تأثير قدرة العبد في مقدوره ووجوب مقارنتها له ونحو ذلك، فكأنهم يقيسون
الممتنع الذاتي على ذلك بدعوى أن الامتناع إذا لم يمنع من التكليف تساوى فيه
الذاتي والغيري.
وهذه المقالات من الضلالات البالغة إلى أقصى الغايات.
731

وتفصيل الكلام في تلك الشبهات وما يتعلق بها من الأجوبة والإيرادات
موكول إلى علم الكلام، ولبعضها في هذا الفن محل آخر في مسألة الحسن والقبح
العقليين وحيث ثبت بالضرورة العقلية بطلان القول بالجبر وما يرجع إليه تحقق
بطلان تلك الوجوه بأسرها، فلا حاجة إلى ذكرها في هذا المقام.
وأما الوجوه النقلية فهي شاملة للقسمين، بل قد يحتج بها على جواز التكليف
بالجمع بين الضدين.
فمنها: أنه سبحانه أخبر نوحا (عليه السلام) بأنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن
وأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن أبا لهب لا يصدقه، ومع ذلك فقد كلفهم بتصديق النبي فيما
يخبر به، ومنه إخبارهم بعدم تصديقهم له، ومن ضرورة ذلك تكليفهم بأن لا
يصدقوه، تصديقا له في خبره أنهم لا يؤمنون، وفي ذلك تكليفهم بتصديقه وعدم
تصديقه، وهو تكليف بالجمع بين الضدين.
وأجيب بالمنع من وجود الإخبار بعدم الإيمان في الآيتين، والمنع من
تكليفهم بتصديق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أخبر به من ذلك.
وفساد المنعين في غاية الظهور، كما أن الاحتجاج المذكور من غرائب
الأمور، لوضوح أن التكليف بتصديق النبي في اخباره باختيارهم الكفر لا يقتضي
الأمر باختيار الكفر النهي (1) عن تصديقه الموجب لتكذيبه، لوضوح امتناع
التكليف بذلك إنما يلزم ذلك لو كلفوا بفعل ما أخبر بوقوعه، وهو واضح المنع.
وغاية ما يعقل في تقرير الاحتجاج بذلك أن يقال: إن تكليف المذكورين
بالإيمان يستلزم تكليفهم بتصديقه في عدم تصديقه، وهو باطل، إذ يلزم من
وجوده عدمه. فكان على المستدل لو عقل تقريره على هذا الوجه - مع أنه أيضا
غير معقول - فإن النبي (صلى الله عليه وآله) إنما كلف القوم باختيار الإيمان وتصديقه في جميع ما
أخبر به، ولو أنهم أطاعوه في ذلك لم يخبر بعدم إيمانهم، لكنه علم بعدم تصديقهم
له في ذلك بسوء اختيارهم فأخبر به بعد تكليفهم بما ذكر. فليس هذا الخبر من

(1) كذا، والظاهر: المنهي.
732

حيث خصوصيته داخلا في الحكم الأول، لتأخر مورده عنه وانتفاء موضوعه
حينئذ، لأن الإخبار بعدم وقوع التصديق المأمور به مسبوق بالأمر به ولو على
سبيل التقدير، والأمر سابق عليه فلا يندرج فيه من حيث شخصه، على أن
التصديق فرع وجود خبر سابق عليه ولو فرضا، فلا يندرج نفس الإخبار بوقوعه
أو عدم وقوعه في متعلقه وإنما دخل فيه من حيث تحقق العموم في عنوانه، لتعلق
الحكم بالعنوان الكلي، ولا يلزم فيه المحذور المذكور.
فالفرق بين المقامين هو الفرق بين الاجمال والتفصيل، كما يندفع به
المصادرة المتوهمة في الشكل الأول فتأمل.
ومنها: قوله تعالى * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * حيث سألوا دفع
التكليف بما لا يطاق، ولو كان ذلك ممتنعا لكان مندفعا بنفسه ولم يكن لسؤال
دفعه عنهم معنى محصل.
ويؤكده قوله (عليه السلام): رفع عن أمتي تسعة أشياء أو ست خصال وعد منها ما لا
يطيقون، لإشعاره بثبوته على الأمم السابقة.
واعترض تارة بحمله على رفع الحرج والمشقة.
وتارة بأن الآية الشريفة حكاية حال عن الداعين فلا حجة فيها.
وأخرى بمنافاته لمذهب الخصم من القول بالجبر في جميع الأفعال، إذ لا
فائدة معه لتخصيصهم بذكر ما لا يطاق، فيرجع إلى سؤال رفع مطلق التكليف.
وضعف الجميع ظاهر، إذ الأول مجاز لا يصار إليه إلا بقرينة مفقودة في
الكلام، ويلزمه أيضا أن يكون تأكيدا لما قبله، وهو خلاف الظاهر.
والثاني لا ينافي صحته مع وروده في معرض التقرير أو التعليم أو المدح،
والمروي أن الداعي هو النبي (صلى الله عليه وآله) في ليلة المعراج.
والثالث لا ينافي اختلاف الأفعال في المقدورية وعدمها بحسب فهم العرف
مع قطع النظر عن تلك الجهة، والمسألة مبنية عليه والألفاظ محمولة على المعاني
العرفية دون الدقائق العقلية. فالوجه في الجواب حمل الآية الشريفة على ما رواه
733

في الاحتجاج (1) من سؤال دفع البلايا العظيمة الواقعة على الأمم السابقة، تعليلا
بأن الحكم في جميع الأمم عدم تكليفهم بما فوق طاقتهم.
ومنها: قوله تعالى * (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا
يستطيعون) * (2) لدلالته على التكليف بالسجود مع عدم الاستطاعة.
ومثله: ما ورد في حق المصورين أنهم يكلفون يوم القيامة بنفخ الروح في
تماثيلهم (3)، مع وضوح امتناعه.
وفيه: أن الدار الآخرة دار مجازاة وليست بدار عمل، والتكليف فيها محمول
على التعجيز أو السخرية أو نحو ذلك.
ومنها: ما جاء في التكليف بالنظر والفكر (4). ومن البين توقف ذلك على
القضايا الضرورية دفعا للتسلسل، والتصديق بها موقوف على تصور مفرداتها،
والتكليف به تكليف بالمحال، لأنه إن كان حاصلا كان إيجاده تحصيلا للحاصل
وإلا امتنع طلبه.
وهذا من غرائب الكلام إنما الممتنع تكليف الغافل، وأما الشاعر الملتفت إلى
محل النظر فلا يمتنع عليه الفكر الموجب لحصول التصديقات وإن كانت مسبوقة
بالتصورات، لامكان اكتسابها بعد الالتفات الاجمالي أو بعد حصول تلك
التصورات، فلا تكليف إلا بتحصيل التصديقات المقصودة وهو ظاهر.
ثم إن الأدلة النقلية على نفي التكليف بما لا يطاق، والإشارة إلى عدم جوازه
عقلا كثيرة. كصحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: الله أكرم من أن
يكلف الناس ما لا يطيقون (5). ورواية حمزة بن حمران عنه (عليه السلام) قلت: إني أقول إن

(1) الاحتجاج: ص 221 - 222.
(2) سورة القلم: 42.
(3) البحار: ج 79 ص 287 ح 6، وفيه (هم المصورون يكلفون يوم القيامة ان ينفخوا فيها
الروح).
(4) سورة الأعراف: 185، سورة الجاثية: 13، البحار: ج 3 ص 26 ح 1.
(5) البحار: ج 5 ص 41 ح 64.
734

الله تعالى لم يكلف العباد ما لا يستطيعون، ولم يكلفهم إلا ما يطيقون - إلى أن
قال - هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي (1).
وعنه (عليه السلام): إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحد في ضيق - إلى أن قال -
وما امروا إلا بدون سعتهم، وكل شئ امر الناس به فهم يسعون له، وكل شئ لا
يسعون له فهو موضوع عنهم (2). إلى غير ذلك مما لا يحصى.
والمسألة من البديهيات وعليها إجماع الأصحاب، والمنكر لا يستحق
الجواب.
نعم قد يستثنى من ذلك أمور (3):
الأول: أنه لو كان المأمور جاهلا بامتناع الفعل المكلف به في وقته ومحله،
فقد عرفت في مسألة الأمر بالشئ مع علم الآمر بانتفاء شرطه وجه القول بجواز
التكليف به مع كونه من التكليف بما لا يطاق. لكن المعروف بين الأصحاب المنع
منه إلا مع جهل الآمر به أيضا، وهو الصواب. إنما يصح الحكم به في ظاهر الحال،
فإذا انكشف امتناع الفعل تبين انتفاء الحكم في الواقع، ويصح إيقاع صورة الأمر
به لإرادة تحصيل مقدماته، أو ابتلاء المكلف به وإرادة ظهور حاله ومقامه، وكلا
الأمرين خارج عن حقيقة التكليف وقد تقدم.
الثاني: أنه لو توسط أرضا مغصوبة فعن بعضهم جواز اجتماع الأمر والنهي فيه
وفي أمثاله، بل ووقوعه وفعليته، وهو من التكليف بالمحال الذاتي، ومثله التكليف
بذي المقدمة بعد تفويت المقدمة، والتكليف بترك الحرام بعد إيجاد سببه. والذي
سوغه - عند القائل به - توهم أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
وربما زعم بعضهم أنه مأمور بالخروج ولا إثم عليه في ذلك من باب ارتكاب
أقل القبيحين.

(1) البحار: ج 5 ص 36 ح 52.
(2) البحار: ج 5 ص 301 ح 4.
(3) في هامش المطبوعة مما يقرب بذلك الموضع يوجد هذا العنوان: " في الإيماء إلى مخالفته
مد ظله مع والده (قدس سره) " ويبدو منه: أن هذه المباحث من ابن المؤلف (قدس سرهما). والله أعلم.
735

وينبغي القطع بالإثم في جميع تلك الموارد إذا تحقق التكليف فيها قبل
حصول الامتناع، لأنه باختياره أوجد سبب العصيان وبعدم جواز حدوث
التكليف بعد حصول الامتناع ولو بالاختيار لعدم تقصيره إذن في إيجاد سببه. إنما
الكلام في بقاء التكليف الحاصل قبل الامتناع، والصواب عدمه، كما يأتي في
مسألة اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.
الثالث: قد عرفت أن الجاهل قد يمتنع عليه الفعل لجهله، مع عدم خروجه عند
القائلين بالتخطئة عن موضوع المكلفين بالأحكام الواقعية الشأنية، لقضاء الحكمة
باطرادها وتشريعها في حق العالم والجاهل على حد سواء، وترتب الفوائد على
تعميمها ليصح الحكم على الوسائط بتبليغها وعلى المكلفين بتحصيلها، مع وضوح
تأخر العلم والجهل عن جعلها وانشائها، فلا يمكن تأخرها عن العلم بها. ومقتضى
ذلك إمكان شمول الحكم الواقعي لما يمتنع وقوعه بسبب الجهل عند ترتب الفائدة
على تعميمه، واقتضاء الحكمة له مع عدم تنجزه في حق المكلف حينئذ وعدم
ترتب الذم والعقاب على مخالفته. وقد يلحق به السهو والنسيان ونحوهما،
لاشتراكهما معه في العلة وحينئذ فالممتنع تنجز التكليف بالمحال.
ولتحقيق الكلام في ذلك محل آخر في مبحث التصويب والتخطئة.
ومنها: كونه ممكن الترك فلو وجب حصول الفعل من غير اختيار المكلف لم
يجز تعلق الطلب به كالمحال - كتكليف الأعمى والأصم والأخرس والأقطع بترك
المحرمات المتوقفة على تلك الجوارح والآلات - فالنواهي وإن كانت مطلقة لكن
يجب تقييدها بموارد الإمكان، فالتروك الحاصلة بغير الاختيار خارجة عنها وإن
كان المطلوب حاصلا بها.
وخالف في ذلك الأشاعرة أيضا لدوران الأمر في أفعال العباد عندهم بين
واجب الحصول وممتنع الحصول، لأن الشئ ما لم يجب لم يكن موجودا، وما لم
يمتنع لم يكن معدوما. فلا يمكن أن يكون على وجه يجوز فيه الوجهان، لوجوبه
مع علته وإلا لزم ترجح الممكن من غير مرجح. فالمراد من الممكن ما يجوز
وجوده بوجود علته، وعدمه بعدمها.
736

وفيه: أن الشئ قد يجب وقوعه أو لا وقوعه بإرادة المكلف واختياره، وقد
يجب بغير ذلك. وشرط التكليف تعلقه بالقسم الأول قبل الوجوب، وشبهة الجبر
باطلة.
ولتحقيق الجواب عن ذلك محل آخر، ويترتب على الشرط المذكور عدم
جواز التخيير بين الفعل والترك إلا مع توجيهه بما يرجع إلى غيره، لرجوعه إلى
وجوب أحد النقيضين، ومن البين امتناع ارتفاعهما فلا يعقل فيه وقوع المخالفة.
وفي ذلك إبطال لحكمة التكليف ونقض للغرض المقصود فيه: من ابتلاء المكلف
واختباره، وإرشاده إلى مصالحه، أو إيصال النفع إليه. بل ليس ذلك من حقيقة
التكليف في شئ، فهو لغو يمتنع على الحكيم، ومنه التكليف بما اضطر المكلف في
العادة إلى اختياره أو استكره عليه.
وحديث رفعهما عن هذه الأمة لا تدل على ثبوتهما على الأمم السالفة، ولو
دل على ذلك لزم حمله على نفي الآثار الوضعية، أو تأويله بما يرجع إلى نفي
الحرج والمشقة. ومثله التكليف المتعلق بما لا يرتبط بعمل المكلف في العرف
والعادة وإن أمكن وقوعه بحسب العقل. ولذا لو دار الحرام بين ما يتعلق بعمل
المكلف وغيره لم يجر فيه حكم المشتبه بالمحصور، كما يأتي في محله إن شاء الله
تعالى.
ومنها: أن لا يكون في فعله حرج أو مشقة على أكثر المكلفين، أو على
المكلف بذلك التكليف وإن لم يكن متعسرا على غيره. وهذا الشرط يستفاد من
كلام بعضهم حيث تمسكوا في إثباته بالدليل العقلي فلا يقبل التخصيص.
وغاية ما يستدل به على ذلك دعوى منافاته لما تقرر في محله من قاعدة
اللطف، فإنهم فسروه بما يقرب إلى الطاعة ويبعد عن المعصية وأطلقوا القول
بوجوبه في الحكمة. ولا شك أن الحرج والمشقة مما يقرب المكلف إلى المخالفة
ويبعد عن الطاعة، فيكون منافيا لتلك القاعدة. إنما الكلام في وجوب مطلق
اللطف بالمعنى المذكور، إذ يتصور ما لا يحصى من الأمور المقربة إلى الطاعة إلى
737

أن ينتهي إلى عدم وقوع العصيان من جميع أفراد الانسان وذلك مما يقطع بعدم
وقوعه في شئ من الشرائع والأديان، بل هو خلاف المعلوم بضرورة الوجدان، إذ
لا يحصل من عامة المكلفين إلا المخالفة والعصيان إلا من شذ من أفراد الانسان.
ولو حصل اللطف على الوجه المذكور لكان الأمر بالعكس، فلا بد من القول بإناطة
وجوبه بما يقبح التكليف بدونه فيتوقف الوجه المذكور على إثبات قبح التكليف
بما فيه الحرج. وقد يوجه بالتزام وجوب اللطف مطلقا إلا حيث يكون هناك
حكمة أخرى مانعة عنه. فيكون اللطف من حيث هو واجبا عقليا لولا المانع، فلا بد
أن يكون فيما لا يقع من الألطاف حكمة مانعة من ظهورها وتحققها. أما ما علم
كونه لطفا في حد ذاته ولم يظهر هناك مانع من تحققه فيمكن البناء على وقوعه في
الظاهر إلى أن يثبت المانع، تمسكا بالمقتضي المعلوم حتى يظهر خلافه.
وفيه: أن العمل بالمقتضي على فرض ثبوته إنما يصح حيث يمكن نفي المانع
بالأصل، وذلك بأن يكون الحكم الشرعي معلقا على مجرد عدم المانع، كما في
استصحاب الأمور الثابتة عند الشك في رافعها ومزيلها. وليس الحال في المقام
كذلك، إذ الغرض من التمسك بالمقتضي إن كان مجرد نفي الحكم إلى أن يقوم عليه
دليل، فذلك مما لا يتوقف على إثبات المقتضي لثبوت أصالة النفي، وإنما المتوقف
على المقتضي وجود الشئ لا نفيه. وإن كان غير ذلك كتخصيص العمومات الثابتة
ورفع الأحكام السابقة - كما هو الغرض الأصلي من عنوان المسألة - لم يثبت
بمجرد الأصل المذكور لتقدمها عليه. ولا يكفي في الحكم بوجود الحادث مجرد
المقتضي لعدم ترتبه على أصالة عدم المانع، لما تقرر من عدم حجية الأصول
المثبتة، فيكون أصالة عدمه سالمة عن المعارض، على أن تحقق الاقتضاء في
مطلق المقرب محل منع ظاهر. ولعل هذا مراد من قال: إن الواجب هو اللطف
الواقعي لا ما يتخيل أنه لطف، ولعل التكليف الواصل إلى حد الحرج لطف واقعا
ونحن لا نعرفه. فمحصله المنع من كون نفي الحرج لطفا واجبا في حكم العقل. إنما
الثابت ما يستقبح التكليف بدونه واقعا، فلا يرد عليه أنه يلزمه سد باب الحكم
بمقتضاه لانتفاء القدر الثابت منه فيما نحن فيه.
738

وقد يوجه في المقام بأن التكليف بما فيه الحرج قاض بوقوع كثرة المخالفة،
وهو مناف لمقتضى الرأفة الإلهية والعناية الأزلية، فإنه سبحانه أرحم بعباده من أن
يفتنهم بما يوقعهم في العذاب غالبا.
ألا ترى أن المولى لو أمر عبده بأمور شاقة لا تتحمل عادة عد ذلك خارجا
عن مقتضى اللطف مشوبا بالأغراض، بل لا يفعل ذلك إلا من يريد العقوبة ويطلب
إليها وسيلة، كما قد يقع ذلك من الأمراء والسلاطين إذا أرادوا عقوبة أحد من
خدامهم فيكلفونه بأمور شاقة لا يتحمل مثله لمثلها فيخالف فيأخذونه بذلك. وأما
الذي يريد تربية عبده ويقصد إصلاح حاله فإنما يأمره بأمور سهلة لا يشق عليه
ارتكابها تمرينا له على الالتزام بالطاعة إلى أن يسهل عليه ما فوقها، بخلاف
التكليف بما فيه الحرج والضيق فإنه من دواعي المخالفة وأسبابها، فيكون مذموما
عند العقلاء ويقولون: إن هذا ليس مقتضى اللطف بل اللائق أن يأمره بما لا يشق
عليه حتى لا يوجب خذلانه، بل ربما يقبل اعذار العبد في مخالفته بالمشقة، نظرا
إلى أن التكليف بالأمور الصعاب التي لا يتحمل غالبا لا يستحسن ممن لا غرض
له سوى التربية والتكميل.
واعترض بأن إفضاء التكليف المذكور إلى كثرة المخالفة ليس أمرا منافيا
لمقتضى اللطف، إنما هي نقص من جانب المكلف، ولو أوجب ذلك عدم التكليف
لزم أن يكون مقتضى اللطف عدم التكليف من رأس، لإيجابه المخالفة ولا فرق
فيها بين الكثرة والقلة، مع أنا نرى كثرة المخالفة بحيث تجاوزت عن الحد ولم
يوجبها إلا أصل التكليف.
وقد يجاب بأن المقتضي لكثرة المخالفة ليس نفس التكليف لتساوي نسبته
إلى الطاعة والمعصية، وكما يرجح جانب المعصية دواعي الشهوة والغضب كذا
يرجح جانب الطاعة كثرة الوعد والوعيد والترغيب والتهديد والثواب والعقاب،
مضافا إلى ما أنعم عليه من العقل المدرك لحسنها وقبح الخروج عنها لوجوه كثيرة.
فكثرة وقوع المخالفة بسوء اختيار المكلفين بعد إتمام الحجة عليهم ليست مستندة
739

إلى نفس التكليف بخلاف محل المسألة، إذ الحرج والضيق من دواعي المخالفة
وأسبابها. ومحال على الحكيم أن يقع منه أمر يفضي إلى العصيان، فإن طريقة
العقلاء في تربية العبيد تأبى عن ذلك.
وأنت خبير بما فيه إذ القدر الواجب في الحكمة أن يكون التكليف المذكور
مبنيا على مصلحة كاملة يستصغر معها ما يلحقه من الحرج.
ألا ترى أن العقلاء ربما يتحملون الأمور الصعبة ويرتكبون الأهوال العظيمة
لرجاء الوصول إلى المنافع المقصودة والمصالح المطلوبة. والأطباء قد يعالجون
المرضى بما فيه غاية الحرج والمشقة - كتقطيع الأعضاء المتآكلة - فيمدح ذلك من
فعلهم، وإذا ترتبت عليها الفوائد المقصودة انتشر بين العقلاء مدحهم والثناء عليهم،
وعد ذلك من أبلغ الحكمة وأحسن التدبر، واستحقوا بذلك أحسن الثناء وأكمل
الثواب. والمرضى متى وثقوا بقول الأطباء وظنوا بذلك العافية وحسن العاقبة
اشتد شوقهم إلى تحمل المعالجات الصعبة، وكذلك العقلاء متى وثقوا بقول أطباء
النفوس استلانوا ما استوعره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون.
ويشهد بما ذكرنا ما يظهر من الأخبار والآثار من وقوع التكليف بالأمور
الشاقة في الأمم السالفة حتى كانت أمة منهم إذا أصاب أحدهم قطرة بول
يقرضون لحومهم بالمقاريض، وإنما تفضل الله تعالى على هذه الأمة المرحومة
بوضع الشريعة الطاهرة على غاية اليسر والسهولة ورفع أقسام الحرج والمشقة
عنها، كما قال تعالى * (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) * (1) وكان
ذلك بدعائه (صلى الله عليه وآله) في ليلة المعراج بقوله * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته
على الذين من قبلنا) * (2) فقد جاء في تفسيره ما يدل على ذلك بأبلغ الوجوه، رواه
العياشي (3) وعلي بن إبراهيم (4) في تفسيرهما والطبرسي في الاحتجاج (5).

(1) سورة الأعراف: 157.
(2) سورة البقرة: 286.
(3) تفسير العياشي: ج 1 ص 159 ح 531.
(4) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1 ص 95.
(5) الاحتجاج: ص 221 - 222.
740

وفيه يعني بالإصر الشدائد التي كانت على من كان قبلنا، فأجابه الله تعالى
إلى ذلك فقال: قد رفعت عن أمتك الآصار التي كانت على الأمم السالفة، وذكر
جملة من أحكامها.
وروى في قرب الإسناد عنه (صلى الله عليه وآله) قال: أعطى الله أمتي ثلاث خصال لم يعطها
الأنبياء. وعد منها قوله: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (1) يقول من ضيق.
وقد يقال: إن التكاليف الشاقة التي كانت على بني إسرائيل إنما كانت شاقة
بالنسبة إلينا لو كلفنا مثل تكليفهم ولذلك رفعت عنا ولم يكن بالنسبة إليهم حرجا
وإصرا، نظرا إلى ما نقل من بسطة الأولين في الأعمار والأجسام وشدتهم
وطاقتهم على تحمل شدائد الأمور.
وربما يؤيده ما ورد في حديث المعراج من قول موسى (عليه السلام) لنبينا (صلى الله عليه وآله): إن
أمتك لا يطيق ذلك. فيكون الحرج منفيا في جميع الملل وإنما يختلف الحال
باختلاف أهلها فما هو حرج بالنسبة إلينا لم يكن حرجا حيث شرع، لكن الامتنان
بنفي الحرج في هذا الدين ورفع الأغلال والآصار يمنع من ذلك.
فالوجه في المقام التمسك بالأدلة النقلية: من الآيات الشريفة، والأخبار
المتواترة، وإجماع الطائفة المحقة. قال الله سبحانه: * (ما جعل عليكم في الدين من
حرج) * (2) وقال عز من قائل: * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) * (3) وقال جل
شأنه: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (4) وهو بمنزلة التعليل لحكم
إفطار المريض والمسافر.
وأما قوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (5) فظاهره عام في جميع
الأمم فالغرض نفي التكليف بما لا يطاق.
ومنه قوله (عليه السلام): الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون (6). وقوله: لم يكلف

(1) قرب الإسناد: ص 84 ح 277.
(2) سورة الحج: 78.
(3) سورة المائدة: 6.
(4) سورة البقرة: 185.
(5) سورة البقرة: 286.
(6) البحار: ج 5 ص 41 ح 64.
741

العباد ما لا يستطيعون (1) ونحو ذلك وأما قوله (عليه السلام): رفع عن أمتي تسعة أشياء،
فتوجيه اختصاصه بالأمة مذكور في محله.
وأما النصوص الواردة فيما ذكر فكثيرة.
منها: صحيحة زرارة في تفسير آية التيمم أنه تعالى أثبت بعض الغسل مسحا،
لأنه تعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها * (ما يريد الله ليجعل
عليكم من حرج) * (2) والحرج الضيق.
ومنها: صحيحة الفضيل بن يسار في الرجل الجنب يغتسل فينضح من الماء
في الإناء فقال: لا بأس * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (3).
ومنها: صحيحة أبي بصير عن الجنب بيده الركوة والتور فيدخل إصبعه فيه
قال: إن كان يده قذرة فليهرقه، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه، هذا مما قال
الله تعالى: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (4).
ومنها: حسنة محمد بن الميسر عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في
الطريق ويريد أن يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان، قال: يضع يده
ويتوضأ ثم يغتسل، هذا مما قال الله تعالى: * (ما جعل عليكم في الدين من
حرج) * (5).
ومنها: رواية عبد الأعلى عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة
فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله تعالى * (ما جعل
عليكم في الدين من حرج) * فامسح عليه (6).
ومنها: موثقة أبي بصير، إنا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر إلى جانب
القرية فيكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي وتبول الدابة وتروث فقال: إن عرض

(1) البحار: ج 5 ص 36 ح 52.
(2) الوسائل: ج 2 باب 13 من أبواب التيمم ص 980 ح 1.
(3) البحار: ج 2 ص 274 ح 15.
(4) نور الثقلين: ج 3 ص 524 ح 233.
(5) نور الثقلين: ج 3 ص 524 ح 236.
(6) نور الثقلين: ج 3 ص 524 ح 235.
742

في قلبك منه شئ فقل هكذا، يعني أخرج الماء بيدك ثم توضأ فإن الدين ليس
بمضيق، فإن الله عز وجل يقول * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (1).
ومنها: صحيحة البزنطي، عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري
أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال: نعم، ليس عليكم المسألة إن أبا جعفر (عليه السلام)
كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، إن الدين أوسع من ذلك (2).
ومنها: رواية حمزة البزنطي في حديث، قال: بعد ذكر قضاء الصلاة إذا نام
عنها، والصيام للمريض بعد الصحة، وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد
أحدا في ضيق - إلى أن قال - وما امروا إلا بدون سعتهم (3).
ومنها: النبوي بعثت بالحنيفية السهلة السمحاء (4). وقوله (عليه السلام) دين محمد (صلى الله عليه وآله)
حنيف (5). كما قال تعالى.
ومنها: ما أشرنا إليه من رواية الاحتجاج في بيان الآصار التي كانت على
الأمم السابقة، ورفعت عن هذه الأمة في تفسير الآية الشريفة. إلى غير ذلك مما
يقف عليه المتتبع في الأخبار.
ويشهد به تتبع الأحكام كما يظهر من التأمل في كيفية الصلاة وأعدادها،
وسائر العبادات وأحكامها، كإفطار المريض والمسافر، والعفو عن دم الجروح
والقروح وما دون الدرهم، ونجاسة ثوب المربية، وما لا يتم الصلاة فيه،
والمسلوس والمبطون والمستحاضة، وطهارة ماء الاستنجاء، وحكم ما يوجد في
أسواق المسلمين وأيديهم، وأصل الصحة في أفعالهم، وقاعدة الطهارة والحلية،
وتشريع التيمم في المضار اليسيرة، وحكم المشتبه بغير المحصور، والقصر في
صلاة المسافر والخائف، وسقوط الزكاة عن المعلوفة وغيرها، والحج عن غير

(1) نور الثقلين: ج 3 ص 524 ح 234.
(2) البحار: ج 2 ص 281 ح 54.
(3) البحار: ج 5 ص 301 ح 4.
(4) عوالي اللئالي: ج 1 ص 381 ح 3، وفيه " بعثت بالحنيفية السمحة ".
(5) وسائل الشيعة: ج 3 باب 23 من أبواب لباس المصلي ص 285 ح 1.
743

المستطيع الشرعي، وتناول الميتة في المخمصة، وارتكاب المحظورات عند
الضرورات، وعدم العبرة بالشك بعد المحل ومع الكثرة، وكفاية الظن في الصلاة،
والاكتفاء في مسحات الوضوء بأقل المسمى، وتشريع التقية في مواردها، وسقوط
قضاء الصلاة عن الحائض والنفساء، وجواز الإفطار للحامل المقرب والشيح
والمرضعة وذي العطاش، ونفي الضرر والضرار في الشرع، وشرعية التصرف في
البيوت المخصوصة والأنهار العظيمة والأملاك المتسعة، والاكتفاء بالشياع في
جملة من المقامات، وبالقسامة في تهمة القتل، وحكم الأخرس، وإنظار المعسر،
وإثبات الوصية، وشرعية الخيارات، والكفارات، والديات، والطلاق، والرجعة إلى
غير ذلك.
وبالجملة فجميع الأحكام الشرعية مبنية على كمال اليسر والسهولة، وينتفي
عنها أقسام الحرج والمشقة.
وقد يناقش بوجود التكاليف الشاقة أيضا - كوجوب الجهاد والثبات عليه
والصبر على السيوف والأسنة والرماح وحرمة الفرار عن الزحف، ولزوم الحج
على النائي ولو بمسافة سنة أو أكثر، والصوم ولو في أحر الأيام وأطولها، والهجرة
والتغرب عن الأوطان في طلب العلم، ومجاهدة النفس، والوضوء والغسل في
السفر، وفي الشتاء بالماء البارد، والمشاق التي تكون على جهة العقوبة على
الحرام وإن أدت إلى تلف النفس كالحدود والسياسات إلى غير ذلك - فيشكل
الجمع بين تلك الأحكام الثابتة وما ورد من نفي بعض التكاليف السهلة التي هي
دون تلك الأحكام بمراتب شتى بدليل العسر والحرج، كما مر في عدة من الأخبار
الواردة.
وقد اختلف الأصحاب في الجواب عن ذلك.
فمنهم: من رماه بالإجمال قائلا إنه لا يمكن الجزم به فيما عدا تكليف ما لا
يطاق وإلا لزم رفع جميع التكاليف، وكأنه زعم أن التكليف بمعنى الإيقاع في
الكلفة فلا يخلو شئ من التكاليف عن نوع من المشقة، فالمنفي إذن نوع
مخصوص من الحرج وحيث لا شاهد على تعيينه فيرجع إلى الاجمال.
744

وهو واضح الفساد، إذ الحرج موضوع للحكم الشرعي، ومرجعه كسائر
الموضوعات إلى اللغة والعرف. ومن البين عدم تحققه في معظم التكاليف الثابتة،
إذ ليس في مطلق الأفعال الاختيارية معنى الحرج، فكيف يعقل ثبوته فيها عند
وقوعها في حيز التكليف، وإنما يتحقق في بعضها فيدل ذلك على عدم تعلق
التكليف به، على أن المعلوم من سيرة الفقهاء وطريقتهم التمسك بنفي الحرج في
أبواب الفقه، كما ورد ذلك عن أئمة الهدى (عليهم السلام) في مقامات كثيرة مرت الإشارة
إلى جملة منها، ولو كان مجملا امتنع الاستناد إليه في شئ من الموارد.
وأما العسر فقد يقال بكونه أعم من الحرج مطلقا، فقد حكى في النهاية قولا
بأن الحرج أضيق الضيق.
وعن علي بن إبراهيم: أن الحرج الذي لا مدخل له والضيق ما يكون له
مدخل له (1).
وفي المجمع فسر الحرج والضيق بالتكليف بما لا طاقة للعباد به وما يعجزون
عنه. لكن قد مر في الأخبار تفسيره بمطلق الضيق، وبه فسر في الصحاح
والقاموس وغيرهما، يقال مكان حرج أي: ضيق، وفي الدعاء حرج المسالك،
فيوافق معنى العسر، إذ كل متعسر فلا يخلو من ضيق. ومع ذلك فالظاهر أن العسر
أعم من الحرج. فصيام المسافر لا يخلو من عسر كما يظهر من الآية وليس من
الحرج في الأغلب. فالصواب التمسك بما جاء في نفي الأمرين جميعا، وعدم
الاقتصار على نفي الحرج خاصة. وحينئذ فما ثبت من العسر في الأحكام
الشرعية خارج عن العموم بالدليل ولا يلزم منه التخصيص بالأكثر، ولو سلم فإما
أن يحمل العسر على الحرج لكونه المتيقن أو يقيد بما لا يتحمل مثله في العادات،
كما يظهر من التقييد به في جملة من العبارات فتأمل.
ومنهم من أنكر موضوع الحرج والمشقة في شئ من التكاليف الشديدة

(1) تفسير علي بن إبراهيم: ج 1 ص 216.
745

الواقعة في الشرع من الحج والجهاد والزكاة وتحمل العاقلة للدية ونحوها بناء
على أن العسر والحرج في الأمور مما يختلف باختلاف العوارض الخارجية، فقد
يصير الحرج باعتبارها سهلا وسعة.
فمنها: جريان العادة بارتكاب أمثالها من دون عوض وتكليف كالمحاربة
للحمية أو بعوض يسير. فما جرت العادة بالإتيان بمثله والمسامحة فيه وإن كان
عظيما في نفسه - كبذل النفس والمال - ليس من الحرج في شئ.
نعم تعذيب النفس وتحريم المباحات والمنع عن جميع المشتهيات أو نوع
منها على الدوام على ما كانت عليه طريقة القسيسين والرهبان حرج وضيق،
ومثله منتف في الشرع.
ومنها: مقابلته بالعوض الكثير، فإنا نرى العقلاء يستصعبون الأعمال اليسيرة
عند خلوها عن الأعواض ويعدون أعظم منها سهلا يسيرا بملاحظة كثرة أعواضها
ونفاستها. ومعلوم أن ما كلف الله سبحانه به من الأعمال الشاقة يقابله ما لا يحصى
من الأجر فلا يكون شئ منها حرجا، وما لم يرض به بأدنى مشقة فإنه من الأمور
التي لا يقابلها أجر ولا يستحق بفعلها عوض.
ومنها: اندفاع المضار العظيمة بفعله ألا ترى أن الأدوية المرة يصعب شربها
من دون حاجة ويطلب ذلك لدفع الأمراض المزمنة.
وأنت خبير بأن شيئا من ذلك لا أثر له في رفع المشقة الحاصلة في الأعمال
الشاقة، وإنما يقضي بتحملها طلبا لما هو أعظم منها أو أخذا بأقل المحذورين
وأهون المشقتين.
نعم ربما تقضي العادة بتخفيف المشقة الحاصلة فيها لصيرورتها كالطبيعة
الثانية، وقد لا يكون في الفعل مشقة بدنية ويكون فيه مشقة قلبية يصعب تحملها
على النفس تنشأ من فوات المحبوب أو وقوع المكروه كما في الضرر المالي
ويكون العلم بفوائدها وأفعالها، كما لا يشق بذل الأموال العظيمة في مقابلة
الأعواض المقصودة بخلاف الضرر اليسير الذي لا يقابل بعوض، وذلك أمر آخر
746

غير ما نحن فيه. على أن الوجه المذكور يؤدي إلى إبطال التمسك بتلك القاعدة
الشريفة في نفي شئ من الحرج عن الدين، لأن وقوعه في الدين يقتضي إذن
انتفاء موضوعه لما يترتب على الدين من الفوائد العظيمة ودفع المضار المتصورة،
فلا يمكن الحكم حينئذ بارتفاع شئ من التكاليف الشاقة إلا بعد إثبات خلوه عن
الفائدة، ولا يكون ذلك إلا بعد تحقق خروجه عن الدين، فالتمسك به إذن يشتمل
على دور ظاهر. وحمله على الإخبار بأن ليس في الدين تكليف شاق بغير فائدة
لا يرجع إلى معنى محصل، إذ لا فرق فيه بين الشاق وغيره.
ومنهم من زعم أن المراد بنفي العسر والحرج نفي ما هو زائد على ما هو لازم
لطبائع التكاليف الثابتة بالنسبة إلى طاقة أوساط الناس والقدر الذي هو معيار
التكاليف، بل هي منفية من الأصل إلا فيما ثبت وبقدر ما ثبت، فالغرض إن الله
سبحانه وتعالى لا يريد بعباده العسر والحرج والضرر إلا من جهة التكاليف الثابتة
بحسب أحوال المتعارف في الأوساط من الناس وهم الأغلبون، فالباقي منفي
سواء لم يثبت أصله أصلا أو ثبت ولكن على نهج لا يستلزم هذه الزيادة. وهذا في
الوهن نظير سابقه لكونه تقييدا لتلك القاعدة بما يخرجه عن الفائدة من غير علة،
إذ التكليف المفروض إن كان عليه دليل في الشرع لم يكن حينئذ منفيا، وإلا كان
مدفوعا بالأصل، ولولا ذلك لتوقف التمسك بها على إثبات عدم وروده في
الشرع، فلو توقف عليها لزم ما ذكر من الدور، هذا إذا قيد بغير الثابت من الأحكام
فيكون من أدلة أصل البراءة. ولو قيد بغير الواقع من التكاليف كان من اللغو الذي
لا يرجع إلى محصل، فكأنه قيل ما جعل زيادة على ما جعل وهو كما ترى.
ومنهم من زعم أن أدلة نفي الحرج إطلاقات وعمومات لا بد من ملاحظة
نسبتها مع أدلة التكاليف الشرعية فيجب الأخذ بقواعد المعارضة، فإن كانت النسبة
بين الدليلين من العموم المطلق لزم تقديم الخاص، وإن كان ذلك من العامين من
وجه تعين الرجوع إلى المرجحات الخارجية، ومع التعادل فعلى الخلاف فيه.
وهذا الوجه أيضا يقتضي قلة الفائدة في تمهيد تلك القاعدة الشريفة، لوضوح
747

كون نسبتها مع جميع ما يعارضها من العمومات المثبتة للتكاليف من القسم الثاني،
فلو لم يجز التمسك بها بمجردها في تلك الموارد اختص بما لا دليل عليه. وحينئذ
ففي الأصول العملية ما يغني عن التمسك بها، بل الصواب تقديمها على العمومات
المذكورة مطلقا، كما يظهر من طريقة الأصحاب في الاستدلال بها على أحكام
مواردها من غير تأمل منهم في ذلك من الجهة المذكورة.
نعم إن قام الدليل على إثبات ما فيه الحرج بحيث كان أخص بحسب المورد
من تلك الأدلة مطلقا قدم عليها لكونه إثباتا للحرج الخاص فيخص به الدليل العام
بخلاف العامين من وجه، إذ الأدلة المذكورة حاكمة على أدلة الأحكام مسبوقة بها
ناظرة إليها، فكأنها مفسرة لها مبينة لمواردها. ومن المعلوم أن أحد الدليلين متى
جرى مجرى التفسير والبيان لموارد الآخر قدم عليه، إذ ليس المفهوم منهما إذن
إلا ذلك.
ألا ترى أنه لو أمر المولى عبده بإكرام طوائف من الناس فيهم العدول
والفساق - كالفقهاء، والحكماء، والجيران، والأرحام إلى غير ذلك - ثم قال: ما
أوجبت عليك إكرام الفاسق لم يعقل من الخطابين في العرف والعادة إلا اخراج
الفساق من المكرمين في الخطابات السابقة فيرجع الثاني إلى تفسير الأول، فكأنه
قال: أردت من الفقهاء والحكماء وسائر من أمرت بإكرامهم سوى الفساق منهم،
بخلاف ما لو قال: لا تكرم الفساق، وكذا الحال فيما نحن فيه. ففرق بين قول القائل
ليس عليك حرج وقوله: ما جعلت عليك فيما أمرتك به من حرج أو ما أريد بك
العسر فيما أكلفك، إذ الأول لا نظر له إلى التكاليف السابقة والثاني بيان لما تقدمه
أو تأخره من الخطابات التي تعم موارد الحرج، أو إخبار باختصاصها بغيرها
مسوق لإظهار الامتنان بعدم تعلقها بها. فقوله سبحانه: * (وما جعل عليكم في
الدين من حرج) * (1) بيان لاختصاص المجعولات الشرعية والتكاليف الدينية بما

(1) سورة الحج: 78.
748

لا حرج فيه على العباد، فهو ناظر إلى الأحكام المجعولة التي يعبر عن مجموعها
بالدين، وليست الخطابات المثبتة لها ناظرة إلى الدليل المذكور وإن كانت شاملة
لما فيه الحرج مقتضية بعمومها لتخصيص نفي الحرج بغير مواردها من حيث
استلزام حملها على العموم لذلك لا من حيث النظر إليه والتفسير له، وبه يظهر
الفرق بين الدليلين. وكذا قوله تعالى * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) * (1) لما
فيه من الإشارة إلى المجعولات السابقة أو اللاحقة، وأنه ليس في شئ منها ما
يفضي إلى الحرج. وكذا نفي إرادة العسر في الآية الأخرى أيضا ناظر إلى ما يريده
من الأحكام، وأن المراد منها اليسر دون العسر. وهذا هو الحال في تعارض
عمومي الوارد والمورد عليه في بعض المقامات.
وتفصيل الكلام في ذلك مذكور في محله، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
ومما يشهد بتقديم القاعدة المذكورة على عمومات الأحكام ما جاء من
الأخبار في التمسك بها في مقابل بعض العمومات، كتعليل المسح على نحو
الجبائر بنفي الحرج مع عموم ما دل على وجوب غسل البشرة أو المسح عليها،
وكان المراد الاستناد إليها في سقوط غسل البشرة أو مسحها لا في إيجاب المسح
على الجبيرة. ونحوه ما مر في الماء القليل وغيره.
وبالجملة فالأصل سقوط التكليف بحصول الحرج في المكلف به إلا ما دل
الدليل على إثباته بخصوصه كالجهاد وشبهه.
ودعوى قبح ورود التخصيص على تلك الأدلة على نحو التخصيص في مثل
قوله تعالى * (وما الله يريد ظلما للعباد) * (2) ممنوعة، إذ ليست بينة ولا مبينة والمثال
من مستقلات العقل فلا يقبل التخصيص بخلاف نفي الحرج كما عرفت، ولا يأبى
عن ذلك وروده في مقام الامتنان لظهوره بوضع الحرج عن معظم الأحكام.
وقد يقال: إن ما ثبت في الشرع من الجهاد وشبهه فإنما وقع بصورة المبايعة

(1) سورة المائدة: 5.
(2) سورة آل عمران: 108.
749

من الله سبحانه مع خلقه في قوله سبحانه * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم
وأموالهم) * (1) الآية. ومن البين أن بيعها بأعلى القيم وأغلى الثمن ليس من الحرج
في شئ، كما قال تعالى: * (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) * (2) فتأمل.
وينبغي التنبيه على أمور:
منها: أن المنفي بأدلة نفي الحرج هل هو نوع التكاليف الشاقة بالإضافة إلى
أواسط الناس وإن لم يكن فيها مشقة بالنسبة إلى أقويائهم دون غيرها وإن كان
فيها مشقة على ضعفائهم، أو التكاليف الشاقة بالنسبة إلى أشخاص المكلفين فلا
يسقط التكليف عن القوي الذي لا مشقة عليه ويسقط عن الضعيف الذي يتعسر
عليه وجهان: والذي يظهر من عموم الأدلة ما أشرنا إليه في صدر المسألة من نفي
الأمرين جميعا، فالحكم الذي يتضمن الحرج في الأغلب منفي عن الشرع، لبناء
أحكام الشرع على ملاحظة حال الغالب من المكلفين فلا يكلف الأقوى بما لا
يكلف به أغلب الناس من حيث قوته على تحمل ما يضعف عنه غيره. ومع ذلك
فلو اتفق تعسر الامتثال على المكلف المخصوص من حيث ضعفه عن تحمل ما
يقوى عليه الأكثر سقط التكليف عنه أيضا، لأن نفي الحرج يقتضي نفي جميع
أفراده ومصاديقه.
فإن قلت: إن كان الملحوظ في تلك الأدلة حال النوع تعين الأول أو حال
الشخص تعين الثاني، فلا وجه للجمع بينهما.
قلت: لما كانت التكاليف والأحكام الشرعية مجعولة بالنسبة إلى نوع
المكلفين كان الحرج الحاصل في حق الأكثر وأفعالها من أصلها، إذ لم يجعل حكم
مخصوص بالنسبة إلى أقوى الناس، لكن العذر الشرعي قد يختص بواحد معين
فيقضي بسقوط التكليف عنه. ومنه الحرج والمشقة فيكون منفيا على كلا الوجهين،
كما هو قضية تعلق النفي بالطبيعة. فزيادة القوة عن المتعارف لا يقضي بزيادة

(1) سورة التوبة: 111.
(2) سورة التوبة: 111.
750

التكليف، ونقصانها قاض بحصول التخفيف، لاندراج الحرج النوعي والشخصي
معا في الأدلة بغير منافاة بينهما، فتأمل.
ومنها: أن الأدلة المذكورة كما تقضي بنفي التكاليف الحتمية المشتملة على
الحرج والمشقة من الإيجابية والتحريمية فهل يجري في موارد الاستحباب
والكراهة أيضا؟ وجهان: من أن أحد الأمرين إذا تعلق بما فيه الحرج استلزم إرادة
العسر، إذ الإرادة أعم من الحتم والإلزام وغيره بل يقتضي جعل الحرج في الدين
لاندراجهما في الدين أيضا، ومن أن موضوع الحرج ينتفي بتجويز الترك وعدم
إلزام المكلف بالامتثال فلا يصدق إيقاع المكلف في المشقة.
والوجه أن يقال: إن الحرج إن فرض حاصلا في متعلق الخطاب الواحد قضى
عموم دليل نفي الحرج بنفيه، وإن كان حاصلا في الإكثار من العمل بمصاديق
الماهيات المطلوبة أو في العمل بخطابات عديدة دون أحدها لم يمنع العمل
بأحدها من رجحان العمل بالباقي وإن أوجب الوقوع في غاية الحرج والمشقة.
ولذا كان أئمة الهدى (عليهم السلام) وأصحابهم الأبرار يتحملون المشاق العظيمة في طاعة
الله سبحانه، وذلك أن التكليف المتعلق بالماهية المطلوبة كقوله (عليه السلام): الصلاة خير
موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر (1)، ليس من إرادة العسر ولا من جعل
الحرج في الدين. وكذا كل واحد من الخطابات المتعلقة بالأدعية والأذكار
والصلوات وغيرها لا يصدق عليه ذلك وإن كان العمل بمجموعها مشقة عظيمة
بخلاف ما إذا تعلق الطلب الواحد بمجموع تلك الأفعال، فإن جعل ما فيه الحرج
في الدين وتعلق الطلب به يقتضي إرادة العسر ولو على سبيل الاستحباب، فإن
الإذن في الترك وإن كان رافعا للحرج عن العبد لكنه لا يمنع من صدق طلب
المشقة وإرادة العسر، لشمولها للطلب الاستحبابي والنهي التنزيهي أيضا.
ومن هنا قيل بعدم مطلوبية الاحتياط في الطهارة والنجاسة والحلية والحرمة،
إلا في المقامات الخاصة وعلى بعض الوجوه المخصوصة.

(1) البحار: ج 82 ص 308 ح 9.
751

فإن قلت: إن رجحان الأفراد المتكثرة من الماهية المطلوبة والخطابات
التعينية المتعلقة بالأفعال المتعددة يقتضي تعلق الطلب بالجمع المتعسر كما في
الطلب الإيجابي، وإلا رجع الأمر إلى مطلوبية بعض الأفراد والتخيير بين تلك
الأفعال.
قلت: هناك فرق بين بين الطلب الإيجابي وغيره، فإن الأول على الوجه
المذكور موجب لوقوع العبد في الحرج لمنعه من الإخلال بالبعض بخلاف الثاني،
لما عرفت من أن الإذن في الترك رافع للحرج عنه. وإنما قلنا بعدم تعلق الطلب
بالمجموع من حيث المجموع أخذا بظاهر نفي الجعل والإرادة للعسر، ولا يقضي
ذلك بنفي جعل الطبيعة المشتركة بين الكل والبعض أو خصوص شئ من
الخطابات المفروضة بعد عدم وقوع العبد من أجلها في المشقة. فالفارق بين
المقامين هو العرف مع اشتراكهما في عدم الحرج على العبد فتأمل.
ومنها: أن الأدلة المذكورة كما يقتضي نفي الحرج في التكاليف الأصلية كذا
يقتضي نفيه في الأحكام التبعية كالمقدمات العلمية، فإن إلزام المكلف بالفعل عند
دورانه بين أمور عديدة يتعسر الجمع بينها - كما في الشبهة الغير المحصورة
إيجابية كانت أو تحريمية - يستلزم إيقاع العبد في الحرج والمشقة، بخلاف حكم
الاستحباب والكراهة. والفرق بين المقامين هو ما عرفت من الفرق بينهما في
المسألة السابقة. ومن أجل ذلك قلنا بعدم وجوب الاحتياط عند انسداد سبيل
العلم بالواقع في الغالب وثبوت استحبابه.
وتوهم انصراف تلك الأدلة إلى نفس الأحكام المجعولة وهم فاحش، فإن
الموجب للحرج هو نفس الإلزام بتلك الأحكام في تلك الحال نظرا إلى استلزامه
للجمع المتعسر كما هو الحال في مقدمات الوجود فلو توقف أداء الفعل على
مقدمة متعسرة قضى نفي الحرج بعدم وجوبه لا بسقوط وجوبها الغيري، إذ لا
يجدي ذلك في رفع الحرج بعد ثبوت التوقف والأبدية. وكذا لو كان الحرج في
لوازم المأمور به كفى في سقوطه أيضا، مع عدم اتصاف اللوازم بالوجوب قطعا.
752

وأما الطلب الاستحبابي فيمكن الفرق فيه بين مقدمة العلم ومقدمة الوجود
نظرا إلى اختلافهما في الصدق العرفي على نحو ما عرفت في المسألة السابقة.
ومنها: أن الأدلة المذكورة كما تقضي بنفي الحرج في التكاليف التعيينية فهل
يجري في التخييرية الشرعية أو العقلية والكفائية والموسعة أيضا - بحيث يكون
الحرج في إحدى الخصال أو أحد الأفراد أو بعض المكلفين أو شئ من أجزاء
الوقت قاضيا بخروج ما فيه الحرج عن حيز التكليف واختصاصه بالموارد التي لا
مشقة فيها، فلا يكون الإتيان بالفرد المتعسر بعد تحمل المشقة في فعله قاضيا
بسقوط التكليف من أصله نظرا إلى عدم الإتيان بنفس المأمور به إلا إذا قام دليل
من خارج على سقوط التكليف به - أو لا يكون كذلك؟ وجهان: من إطلاق نفي
الجعل والإرادة للحرج والعسر فلا يقع في حيز التكليف لاستلزامه للإرادة
والجعل، ومن أن تجويز الترك واختيار البدل كاف في رفع المشقة عن العبد فلا
يكون في ذلك حرج عليه.
ويمكن الفرق في ذلك بين التخيير الشرعي والعقلي، فإن الطلب متى تعلق
بالفرد المتعسر بخصوصه صدق عليه جعل الحرج وإرادة العسر وإن لم يرد على
العبد مشقة في ذلك نظير ما عرفت في الاستحباب والكراهة، بل هو أولى منهما
نظرا إلى جواز الترك فيهما لا إلى بدل بخلاف المقام. وأما التخيير العقلي الحاصل
بين أفراد الطبيعة المأمور بها فالطلب إنما تعلق بالكلي، فمتى كان في أفراده ما لا
حرج في فعله لم يكن في الأمر به إرادة للعسر ولا جعل للحرج نظرا إلى تحققه
في ضمن الفرد المفروض، والحرج الحاصل في خصوصية بعض الأفراد ليس
بواقع في حيز الطلب فلا ينفيه الدليل ومنه الموسع، فإن الطلب فيه إنما تعلق بالفعل
المقيد بوقوعه في الوقت، فمتى تيسر الإتيان به في بعض أجزاء الوقت صدق
انتفاء الحرج في ذلك التكليف. فمن تحمل الحرج في فعله في الوقت الآخر كان
ذلك أداء للمأمور وخروجا عن عهدة التكليف به، من حيث كون فعله مصداقا له
وفردا من أفراده وإن لم يكن الخصوصية الحاصلة فيه مطلوبة للأمر، لعدم تعلق
753

الطلب بها بالمرة بل لو فرض كونها مقدمة لفعل المأمور به - كما زعمه بعضهم - كان
الحال فيها هو كالحال في المقدمات المحرمة إذا عصى المكلف بفعلها حتى ينتهي
إلى فعل المأمور به حيث لا ينحصر المقدمة فيها، كركوب المغصوبة مع إمكان
غيرها بخلاف التخيير الشرعي لتعلق الطلب فيه بالخصوصية.
ويمكن التفصيل فيه أيضا بين حصول الحرج في بعض الخصال على الوجه (1)
تعلق به وغير ذلك، إذ التكليف بها في تلك الحال جعل للحرج على ما ذكر.
بخلاف الثاني، إذ التكليف الواقع بالخطاب المفروض إنما تعلق بالأمور السهلة.
وعروض التعسر في بعض الخصال لا يقضي بسقوط الخطاب، لانتفاء الحرج على
العبد وعدم اندراجه حينئذ في إطلاق الأدلة المذكورة وإنما يندرج فيها عند تعسر
جميعها. وكذا الحال في الواجب الكفائي فإن جعل الإيجاب على من يتعسر عليه
الفعل حال الخطاب جعل للحرج ولو على سبيل الكفاية، بخلاف ما إذا تيسر الفعل
على المكلفين في حال الخطاب ثم عرض التعسر في حق البعض أو تعلق الطلب
بالعنوان الكلي مع حصول الحرج في خصوص البعض.
نعم يمكن أن يقال بسقوط الوجوب عمن تعسر عليه الفعل وإن عصى الباقون
بترك المأمور به، وإلا فمع ترك الباقين يتحتم الفعل على المكلف المفروض
فيستلزم إيقاعه في الحرج. أما لو تحمل الحرج في فعله قضى ذلك بسقوط
التكليف عن غيره وارتفاع العصيان عنه، لحصول المطلوب - الذي هو القدر
المشترك بين فعل الجميع - فيقوم غير الواجب مقام الواجب. بل له أن ينوي
الوجوب مع ذلك، لأن ترك الغير إنما يقضي بتعين البعض وإلزامه بالفعل بالنظر إلى
الواقع، فإذا تضمن الحرج سقط عنه. وإنما يتحقق ذلك في الظاهر عند خروج
الوقت وترك الجميع فيأثم الكل بذلك، سوى من كان عليه الحرج. أما قبل ذلك
فتكليف الجميع بالفعل على سبيل الكفاية باق على حاله، وليس في حرج البعض

(1) كذا، وفي العبارة تصحيف أو سقط.
754

ما يمنع عنه على ما عرفت، فينوي الوجوب الكفائي ويسقط بفعله عن غيره، لكن
لا يأثم بتركه وإنما يختص الإثم بغيره.
فإن قلت: إذا انتفى الإثم عنه في تركه وترك غيره فما معنى وجوبه عليه؟
قلت: يتصور ذلك على وجهين كما أشرنا إليهما:
أحدهما: أن يكون ثابتا قبل التعسر ويكون التعسر مسقطا له، إلا أن الفعل
الواقع منه مسقط للتكليف عن غيره، لحصول المطلوب به.
والآخر: أن يكون الوجوب ثابتا للعنوان الكلي الشامل لمن تعسر عليه الفعل،
ويكون فائدة شموله حصول الاجتزاء بفعله عن فعل غيره ويكون أثر الوجوب
ترتب الإثم على غيره عند ترك الجميع. ومع ذلك فالأوجه القول بانتفاء الوجوب
في حقه وعدم جواز قصده وتعلقه بسائر المكلفين، فيكون فعله مسقطا للواجب
عن غيره من غير أن يكون واجبا على نفسه. وهذا معنى ما هو المختار في
الواجب الكفائي.
وأما على سائر الأقوال فيه. وفي المخير والموسع، فيظهر الحال فيها من
التأمل فيما ذكر.
ومنها: أن الأدلة المذكورة هل تنفي الحرج في التكاليف الالتزامية الحاصلة
باختيار المكلف للسبب الموجب لها كالنذر والعهد واليمين والشرط والإجارة بل
وسائر العقود والإيقاعات الواقعة مع تعسر الوفاء بمقتضاها وتحمل الديون
والحقوق بالاختيار مع تعسر أدائها؟ قد يمنع من ذلك من حيث إن الحرج في تلك
الموارد ليس بأمر مجعول من الشارع، وإنما المجعول تجويز الالتزام المذكور
وشبهه وليس في نفس الإذن فيه شائبة الحرج، وإنما اختار المكلف إيقاع نفسه في
الحرج فلا يندرج في الأدلة.
وقد يفصل بين علمه في تلك الحال بتضمنه للحرج وعدمه. فيقال بسقوط
التكليف بما فيه الحرج منها مع جهله بذلك، إذ لو كلف بعد ذلك بوجوب تحمله كان
ذلك تكليفا بالحرج وإرادة للعسر، ولذا يسقط أداء الدين في المستثنيات وعلى
755

الوجوه المتعسرة مع أنه إنما يقع على المكلف باختياره في الغالب. بخلاف ما إذا
كان عالما بذلك في حال التحمل، فقد يقال في المثال المذكور بأن المعسر إذا
استدان شيئا باختياره مع علمه بتعسر أدائه أو انحصار الوجه فيه في بذل
المستثنيات فالأصل وجوب أدائه وإن تعسر عليه، لأنه الذي أوقع نفسه في
الحرج إلا أن يثبت خلافه من إطلاق الاستثناء. وكذا الحال في العقود الواقعة في
حال العلم بتعسر الوفاء بمقتضاها، كالإجارة على الأعمال الشاقة وغير ذلك.
وكذا غيرها من الأسباب الاختيارية.
ويمكن أن يقال: إن عموم ما دل على نفي الحرج قاض بعدم وجوب العمل
بما فيه الحرج وإن كان مستندا إلى الأسباب الاختيارية. بل وإن علم المكلف
باستلزامها للحرج، فإن إيجاب العمل بمقتضاها بعد وقوعها جعل للحرج وإرادة
للعسر وقد ثبت انتفاؤهما.
وهل يبطل العقد المفروض حينئذ من أصله نظرا إلى اقتضائه للزوم الموجب
للحرج أو ينقلب جائزا - لكون الحرج في لزومه لا في جوازه - أو يقع على وجهه
لكن لا يلزم العمل به ما دام الحرج باقيا ويدور مداره مع بقاء محله فلو زال
الحرج رجع إلى اللزوم كما أنه لو لم يتضمن الحرج حال وقوعه ثم عرضه الحرج
رجع إلى الجواز فإذا زال عاد حكم اللزوم؟ وجوه:
أشبهها الأخير، والوجه فيه أن ما دل على وجوب الوفاء بالعقود مقيد بغير
موارد الحرج كسائر التكاليف، فيختلف الحال في ذلك باختلافه وجودا وعدما ما
دام المحل باقيا فإذا فات المحل انحل العقد. هذا إذا كان الحرج في الوفاء بنفس
العقد أو الإيقاع كما في المثال المذكور - أعني الإجارة - أما لو اتفق حصول
الحرج في آثاره وما يترتب عليه فنفي الحرج لا يقضي بفساد الأمر الواقع. فلو
استتبع الطلاق أو العتق مشقة عظيمة في الفرقة الحاصلة وآثارها لم يمنع ذلك من
انعقادهما، لعدم تضمنهما للحرج من حيث نفسهما فلا يندرج في الأدلة.
ومنها: أن الحرج قد يتحقق في الفعل أو الترك بنفسه، وقد يتحقق في تكراره
756

أو استمراره عند تعلق الأمر بأحدهما. فمقتضى الدليل إناطة التكليف بهما بعدم
حصول الحرج فيستمر على أحدهما إلى أن يحصل الحرج.
وقد يقال: إن إناطة الحكم بالحرج ودورانه مداره حرج آخر، إذ ليس له حد
معين معلوم يقف عليه، بل لا بد من حصول العلم به ولا يحصل إلا بعد وقوع
الحرج ووجدانه من نفسه، كالاشتغال بقضاء الفوائت على القول بالمضايقة أو
الاحتياط في الموارد التي يقع الاشتباه فيها في تعيين المكلف به إلى أن يتحقق
عنده الحرج.
وفيه: أنه لا مانع من التزام الحرج بالقدر الذي يتوقف العلم بموضوعه عليه،
كالصبر على الإمساك المضر في أيام الصيام إلى أن يظهر الإضرار، وكذا الضرر
الحاصل في سائر المقامات الموجب لتبدل أحكام الواجبات والمحرمات.
ومنها: أن الحرج قد يكون في نفس الفعل أو الترك المأمور به، وقد يقع في
أجزائه أو شرائطه أو الاحتراز عن موانعه، فهل يسقط به التكليف بذلك من أصله
إلى أن يثبت خلافه أو يسقط به جزئية الجزء أو الشرط المتعسر فيجب الإتيان
بالباقي حتى يثبت ارتفاعه؟ والذي يظهر إجمال الدليل بالنسبة إلى ذلك، لتحقق
نفي الحرج على كلا الوجهين، فيرجع الأمر في ذلك إلى ما عرفت من حكم تعذر
الجزء أو الشرط وأن الأصل سقوط أصل الحكم، إلا حيث يقوم هناك دليل آخر
على تعلق الطلب بالباقي أو على قاعدة تقتضي ذلك.
ومنها: أن نفي الحرج هل يختص بالتكاليف السمعية أو يجري في الأحكام
العقلية أيضا كوجوب رد الوديعة وتحريم الظلم بأقسامه؟ الوجه أن يقال: إنه إن
استقل العقل بوجوب ما فيه الحرج أو تحريم ما في تركه الحرج فمقتضى التلازم
بين حكمي العقل والشرع بقاء التكليف بمقتضى حكم العقل، أما مع عدم استقلال
العقل في مورد الحرج فلا. ومن الأول وجوب استنقاذ النبي وشبهه من موارد
الهلاك وتحريم ظلمه وهتك حرمته.
ويمكن القول بأن مطلق قتل المسلم بغير حق من هذا القبيل. ومن الثاني
757

حرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه، ومنه قبول الولاية عن الجائر والعمل
بمقتضاها عند الخوف في غير القتل فتأمل.
- وسادسها -
أن الأصل في الأوامر وجوب المباشرة، فلا يكفي الاستنابة والتولية إلا حيث
يقوم الدليل عليه. ولو تعذرت المباشرة فالأصل سقوط التكليف وعدم قيام
الاستنابة أو التولية مقامها إلا بدليل، كما في الطهارات الثلاث والحج في بعض
المقامات. ويجوز الاستنابة اختيارا في الواجبات التوصلية، حيث يحصل
الغرض بها، كما في العبادات المالية. ويصح النيابة عن الأموات في مطلق
العبادات وعن الأحياء في الحج والطواف والزيارات وما يتبعها من الصلوات،
وهو تكليف آخر بدور مع الدليل المثبت له وجودا وعدما فلا ربط له بالأمر الأول.
وربما يحكى عن الأشاعرة أن الأصل جواز الاستنابة إلا مع قيام الدليل على
المنع، نظرا إلى حصول الغرض المقصود من وجود الفعل في الخارج ولو بواسطة
أو وسائط وهو فاسد من وجوه:
الأول: أن المتبادر من الخطاب طلب الفعل من المكلف، فامتثاله إنما يصدق
مع مباشرة المكلف للفعل المأمور به والاستنابة فعل آخر غير ما تعلق الأمر به.
فالاكتفاء بها يتوقف على أمر آخر يتعلق بها، أو بتحصيل المطلوب على الوجه
الشامل لها، فمع عدمه يتعين المباشرة ويصح سلب الفعل بدونها. هذا إذا كان
الدليل على الوجوب لفظ الأمر وما يقوم مقامه، فلا يجري فيما إذا كان الدليل
على ذلك من الألفاظ المجملة أو من الاجماع وشبهه مما يدل على وجوب الفعل
في الجملة.
الثاني: أن قضية الأصل عند دوران الأمر في الواجب بين الوجهين هو
الاقتصار على القدر المتيقن للعلم بحصول الامتثال مع المباشرة والشك فيه
بدونها، فقاعدة الاشتغال واستصحابه قاضيان بلزوم الاقتصار عليه. وهذا هو
758

الحال في كل موضع دار الأمر في متعلق التكليف فيه بين التعيين والتخيير، إذ
الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية المتوقفة على مراعاة الوجه الأول. ولا
فرق في ذلك بين كون الدليل على ذلك إجماعا أو نحوه، أو من الأدلة اللفظية.
وتوهم رجوع الأمر إلى تكليف زائد يتعلق بالمباشرة - ومقتضى الأصل في
مثله هو الاقتصار على القدر المعلوم وهو التكليف بإيجاد الفعل على الوجه الأعم.
وأما التكليف بما يزيد عليه فالأصل البراءة عنه - مدفوع، بأن المباشرة ليس
فعلا آخر غير إيجاد المأمور به حتى يرجع الشك في ذلك إلى الشك في وحدة
التكليف وتعدده. إنما هو شك في تعيين المكلف به وأنه الأعم أو الأخص.
وإرجاع المعنى الأخص إلى الأجزاء العقلية بالتحليل العقلي لا يجدي في ذلك
شيئا، إذ ليس هناك قدر متيقن ليحصل الامتثال للقدر المتيقن من التكليف به، إذ
الوجه الآخر مشكوك فيه من أصله، فلا يمكن الاكتفاء به في الخروج عن عهدة
التكليف المعلوم.
الثالث: أن الحكمة المقصودة من التكاليف وهي الابتلاء والاختبار بتحمل
المشاق الحاصلة فيها إنما يظهر بالمباشرة ولا يحصل بفعل الغير. واحتمال الفائدة
في استنابة الغير مدفوع، بأنها إذن فائدة أخرى غير ما هو الفائدة في نفس الفعل
المأمور به. فإذا لم يقع من المكلف لم يتحقق الفائدة المقصودة منه. ففائدة الجهاد
- مثلا - وهي الامتحان ببذل النفس لا يكاد يظهر بفعل النائب، وبذل المال من
المنوب عنه غير ما هو الفائدة في نفس الجهاد، إذ ليس الغرض منه بالأصالة بذل
المال، إنما هو فائدة العبادات المالية التي لا يقصد منها إلا ذلك. فيجوز الاكتفاء
بفعل النائب فيما لا يراد منه إلا الابتلاء ببذل المال الحاصل بالمباشرة والاستنابة
على حد سواء، بخلاف ما يكون بذل المال فيه بالتبع كما في الحج، إذ المقصود منه
الهجرة عن الأوطان وتحمل المشاق في الإتيان بتلك الأفعال المخصوصة وإن
لزمه بذل الأموال في الزاد والراحلة.
والحاصل: أنه إن علم أن غرض الآمر حصول الفعل في الخارج من أي
مباشر كان - كما في الواجبات التوصلية - جاز فيه التوكيل والاستنابة، بل يكفي
759

فيه حصول أثر الفعل ولو من غير الفاعل المختار حيث لا يقصد منه سوى حصول
الأثر، كما في إزالة النجاسات.
وهل الأصل فيما جاز فيه ذلك اشتراط العدالة في النائب أو عدمه؟ وفائدة
التوجهين إنما يظهر مع الشك في وقوع الفعل، إذ مع القطع به أو بعدمه لا فرق بين
عدالة النائب وفسقه، إنما يكون ذلك حيث يراد التعويل على قول النائب في
وقوع الفعل. فيمكن البناء على الاشتراط اقتصارا على المتيقن من سقوط
التكليف، وعملا بعموم ما دل على وجوب التبين في خبر الفاسق وما دل على عدم
كونه أهلا للأمانة والمنع من الركون إليه وسقوطه عن درجة الاعتبار والايتمان
ونحو ذلك. ويحتمل البناء على الصحة في قول النائب وفعله، للأمر بوضع أمره
على أحسنه وغيره مما دل على أصل الصحة في أفعال المسلمين. بل قاعدة
الصحة تعم فعل المسلم وغيره على ما قرر في محله.
وقد يفصل بين ما يكون مسقطا للتكليف عن الغير أو حجة عليه أو تصرفا في
ماله بدون إذنه وغير ذلك، فيشترط العدالة في الصور الأولى خاصة - كما في نائب
العبادات الواجبة عن الحي أو الميت باستنابة المنوب عنه بنفسه أو وليه أو وكيله
وإمام الجمعة والجماعة والشاهد والقاضي والكاتب والمترجم وعامل الصدقة
والمقوم والمقسم ومنصوب الحاكم في نظارة الوقف والحقوق العامة ومال الصبي
ومطلق المحجور عليه والأمانات الشرعية إلى غير ذلك - ومحل المسألة من
القسم الأول. لكن ظاهرهم قبول قول الوكيل في العقود والإيقاعات وتطهير
المتنجسات، بل مطلق المسلم بل الفاعل حيث يتحقق صدور الفعل منه، فيسمع
قوله فيما لا يعلم إلا من قبله أو فيما لا معارض له أو ما أشبه ذلك، مع استلزامه
لحجية قوله على غيره وسقوط التكليف عنه.
وتفصيل القول في ذلك يطلب من مظانه في الفقه، لرجوعه إلى الأدلة الخاصة
والقواعد الفقهية. وإلا فمن البين أصالة عدم حجية قول الغير إلا في موضع اليقين،
كما أن الأصل عدم الاكتفاء بفعله إلا مع قيام الدليل عليه على الوجه الذي دل عليه
كما لا يخفى.
760

- وسابعها -
أنه قد يقال: إن الأصل في الأوامر حصول الاجتزاء بفعل المأمور به على أي
وجه وقع، سواء وقع بقصد الامتثال والطاعة أو بدونه، بل وإن وقع بقصد الرياء أو
غيره، مستقلا أو منضما إلى قصد القربة على وجه يكون كل من القصدين مستقلا
في الداعي، أو يكون أحدهما مستقلا والآخر تبعا له، أو يكون المجموع هو
الداعي دون أحدهما، إلا أن استحقاق المدح والثواب يتوقف على الإتيان
بالمطلوب على وجه الامتثال وإطاعة الأمر، فالإتيان به بغير القصد المذكور إنما
يرفع عقوبة المخالفة.
ودعوى استلزام موافقة الأمر للإثابة ممنوعة، إنما يستحق العوض بالإتيان
بالفعل من حيث كونه مطلوبا للآمر وإن انضم إليه غيره من القصود أيضا.
وقد يقال بانصراف الأوامر إلى طلب الفعل المأمور به من حيث كونه مطلوبا
للآمر، فلو أتى به لغير تلك الجهة بل لأغراض اخر خارجة عن غرض الآمر لم
يكن من الواجب، فيبقى في عهدته حتى يأتي به على وجهه إلا أن يظهر من
القرينة حصول الغرض بمطلق الفعل، فالأصل في الأوامر أن يكون متعلقها عبادة
حتى يظهر خلافه. ويشهد به فهم العرف.
ألا ترى أنه لو أمر المولى عبده بشراء اللحم - مثلا - فاشتراه العبد لنفسه أو
لرجل آخر لم يكن آتيا بمطلوب المولى. وكذا لو أمر الموكل وكيله في شراء متاع
أو الموصي وصيه في عتق أو وقف فاشتراه لنفسه أو لغيره أو أعتق ووقف عن
نفسه أو عن رجل آخر لم يكن عاملا بمقتضى الأمر ولم يقع للآمر، ولو كان الأمر
المذكور شاملا لكلا الوجهين لزم وقوعه عنه. ولو أمر المستأجر أجيره بعمل من
الأعمال فعملها لنفسه أو لغيره أو من غير قصد الموافقة فلا شك في خروجه عن
غرض المستأجر ولا يستحق عليه شيئا من المسمى واجرة المثل. وهذا ينبغي أن
يكون وجها في عدم ترتب الثواب على الواجبات الواقعة لغير غرض الامتثال.
ولو اندرج ذلك في مدلول الأمر كان من المطلوب بعينه فينبغي ترتب الثواب عليه.
761

وفيه: أن القرائن في الأمثلة المذكورة ظاهرة دالة على إرادة العمل للآمر،
وليس الحال في الخطابات الشرعية من هذا القبيل. وقد تقدم تفصيل القول في
ذلك فيما سبق.
هذا كله إذا وقع الفعل على سبيل القصد والاختيار بعد العلم بالتكليف على
الوجه المعتبر في امكان الامتثال. أما إذا وقع على وجه السهو والغفلة عن نفس
الفعل أو عن تعلق الأمر به أو في حال الجهل بأصل الخطاب أو متعلقاته أو على
سبيل الإلجاء والاضطرار فلا يجزي عن الواجب، لامتناع تعلق الطلب بغير الفعل
الاختياري - كالساهي والغالط والمخطئ - أو توجه الخطاب إلى الجاهل المطلق
بالأمر والناسي له ونحوهما. فلا يكون الفعل الواقع في تلك الأحوال من المأمور
به كما سلف، ولذلك قلنا باشتراط التكليف بإمكان القصد إلى امتثال المأمور به
المتوقف على العلم بالتكليف وتذكره ولو على الاجمال على ما عرفت. ففرق بين
اشتراط إمكان قصد الامتثال واعتباره قيدا في المطلوب فالمعتبر هو الأول،
لامتناع تكليف الغافل. أما بعد وقوع التكليف وتذكر المكلف فالأصل سقوط
التكليف بمجرد وقوع المطلوب ولو على غير جهة الامتثال، لأن اشتراط القصد
إليه أمر زائد على ماهية المأمور به، فيتوقف اعتباره فيه على قيام دليل آخر عليه.
فإطلاق الأمر يقتضي عدم تقييد المطلوب والطلب بقيد زائد على الماهية وإن
امتنع توجهه إلى الغافل والجاهل المحض الذي لا طريق له إلى أداء المأمور به.
نعم قد تقرر شمول الخطابات الواقعية للجاهل والغافل بالتوجيه المذكور في
محله وإن توقف تنجزها على العلم والتذكر. فيمكن القول بوقوع المطلوب إذا
اتفق صدوره عن الغافل لاندراجه في الخطاب الواقعي، ويلزمه سقوط التكليف به
بعد العلم به نظرا إلى اقتضاء الأمر للاجتزاء، وإذا سقط الأمر الواقعي لم يتعلق به
في الظاهر بعد حصول العلم به.
فهناك فرق بين السهو والغفلة عن نفس الفعل أو عن الطلب المتعلق به.
فالأول: لا يمكن اندراجه في المأمور به، لامتناع التكليف به وظهور الأمر بحسب
العرف في طلب الفعل الصادر على وجه العمد دون الغفلة أو الالتباس بغيره.
762

والثاني: لا يمنع من التكليف بحسب الواقع والاندراج في المكلف به بعد
صدوره على وجه القصد والاختيار، فإطلاق الأمر يقتضي الاجتزاء به حتى يثبت
تقييده بما يقع على سبيل الطاعة والانقياد كما في العبادات.
وأنت خبير بأن هذا وإن كان مقتضى ما مر بيانه في متعلقات مسألة كون الأمر
للوجوب إلا أن المانع من اندراج فعل الغافل والساهي في المأمور به يمنع من
شمول الأمر للجاهل المطلق والغافل عن نفس الطلب أيضا، لأن استحالة التكليف
بالفعل مع غفلة المأمور وذهوله عن ذلك الفعل كاستحالته مع غفلته عن نفس الأمر
أو جهله به مطلقا، إذ لا فارق في نظر العقل بين تكليف الغافل عن الأمر والمأمور
به، لاشتراكهما في قبح التكليف في نظر العقل. فكون المأتي به أداء للواجب إنما
هو بعد العلم بالتكليف ولو على الاجمال على الوجه الذي مرت الإشارة إليه. فلو
أتى به قبل ذلك ثم انكشف التكليف به لم يكن ما أتى به واجبا حتى يسقط به ذلك
التكليف، إلا أن يظهر من الخارج تعلق الغرض بمجرد تحقق الفعل في الخارج
نظرا إلى حصول المصلحة المقصودة بمجرده. فلا إشكال في الاكتفاء به سواء
صدر من المأمور على سبيل القصد والإرادة أو وقع على وجه السهو والغفلة، من
غير فرق بين الغفلة عن الطلب أو المطلوب أيضا. وذلك أمر آخر غير ما هو
المقصود من النظر إلى مدلول الأمر بمجرده مع قطع النظر عن القرائن الخارجية،
فلا فرق بالنظر إلى ذلك بين الوجهين المذكورين أيضا.
نعم لو فرض علم المكلف بالطلب والمطلوب معا من غير حصول مانع من
تعلق الطلب به - من سهو أو خطأ أو غيرهما - كان إطلاق الأمر قاضيا بسقوط
الواجب بالإتيان بالفعل سواء قصد به الامتثال والإطاعة أو لم يقصد ذلك، إلا أنه
مع الإتيان به على الوجه الأول يكون مطيعا مستحقا للمدح والثواب، وعلى
الثاني يكون آتيا بالواجب من غير أن يكون مستحقا للمدح والثواب وإنما يندفع
به العقاب.
وأما إطلاقات ما دل على وجوب الطاعة المتوقفة على قصد الامتثال فقد مر
763

الجواب عنها، فالمعتبر في التكليف إمكان القصد إلى امتثاله على ما مر بيانه في
شرائطه دون وقوعه، فلا يتقيد المطلوب بخصوص القيد المذكور إلا بشاهد من
خارج.
وأما ما أجيب به عن لزوم التكليف بالمحال: من أن المدار في تعلق الطلب
في الواقع هو كون صدور الفعل محبوبا للآمر وإن كان المكلف معذورا من جهة
جهله، فيكفي في التعلق الواقعي أن يكون الفعل على وجه لو علم به المكلف كان
عليه الإتيان به نظرا إلى حسنه في ذاته وإرادة المكلف له وإن توقف تعلقه به في
ظاهر الشرع على فعلية العلم به. ففيه:
أولا: أن نسيان الطلب والمطلوب أو الجهل بهما أو نحوهما من الأعذار
العقلية في نظر العقل بمنزلة واحدة في جواز التكليف وعدمه، فإذا جاز التكليف
الواقعي مع فرض الأول جاز على الثاني أيضا، إذ الغرض منه على ما ذكر مجرد
كون الفعل على وجه لو علم به المكلف كان عليه الإتيان به، وهذا المعنى حاصل
على الوجهين من غير تصور فرق بينهما في ذلك بوجه من الوجوه.
وثانيا: أن مجرد ما ذكر من الفرض والتقدير إنما يصلح مجوزا لتقدير
التكليف ولا كلام فيه، لإمكان فرضه في جميع الأعذار العقلية ولا يجدي شيئا، إذ
الغرض من ذلك حصول الاجتزاء بوقوع الفعل في حال الغفلة ولا يترتب ذلك
على الأمر الفرضي كما هو ظاهر. وأما حصول التكليف بحسب الواقع في حال
الغفلة وشبهها من غير أن يكون معلقا على زوال العذر فذلك مما لا يجوز في نظر
العقل، والمعقول من ذلك على ما مرت الإشارة إليه. إنما هو التكليف الشأني الذي
يتعلق به العلم والجهل. ولا يعقل أن يكون مسبوقا بأحدهما أو متوقفا على العلم به
وإنما العلم به مسبوق بحصوله، وهو الذي يجب تحصيله وتعلمه وتعليمه وإيصاله
إلى المكلفين ويعذر الجاهل به إذا لم يكن مقصرا في تحصيله. فالعلم بالتكليف
وإن لم يكن كسائر الشرائط العقلية والشرعية من البلوغ والعقل ونحوهما فإمكانه
شرط في تنجزه وفعليته وترتب الآثار عليه فلا أثر له بدونه، إنما يثبت على سبيل
764

القوة والشأنية. وما هذا حاله فلا يستدعي الامتثال ما لم يخرج من القوة إلى
الفعل، فالإتيان بالمطلوب حينئذ لا يكون إتيانا بالواجب الفعلي، فلا يكون مسقطا
له إلا إذا ثبت قيامه مقامه، كفعل الساهي والنائم ونحوهما.
فإن قلت: إن تقيد الطلب بالقيد المذكور كان الحال في ذلك كسائر الشرائط
فينتفي الحكم الواقعي وقد ثبت خلافه، وإلا حصل المطلوب بدونه فكان أداء
للواجب بعينه.
قلت: إنما يثبت التقييد في الطلب الفعلي دون الشأني، وبه يظهر الفرق بينه
وبين سائر القيود.
فإن قلت: إن الأصل في الحكم عند القائلين بالتخطئة هو الحكم الواقعي وإنما
يترتب عليه الفعلية بإمكان العلم به، فإذا لم يتقيد الواقع بالقيد المذكور حصل
المطلوب لا محالة ويلزمه سقوط الواقع في نفس الأمر، فلا يترتب عليه الفعلية بعد
الانكشاف.
قلت: إن الطلب وإن كان مطلقا في الواقع لكن المطلوب مقيد بالإمكان، وكما
أن فعل الساهي والناسي والمخطئ خارج عن الفعل الاختياري كذا فعل الجاهل
بالحكم والغافل عنه خارج عن مورد الطلب وإن اتفق مصادفته للمطلوب
الواقعي، إذ الأمر الواقع بالبخت والاتفاق خارج عن القصد والشعور، ويمتنع معه
الالتفات إلى أداء المكلف به، ومن البين أن التكليف لا يتعلق إلا بالمقدور.
فإن قلت: إذا كان المكلف به مقيدا بأمر غير حاصل فقد انتفى التكليف قبل
حصول القيد في نفس الأمر - كتقييد الصيام بالنهار، والحج بالموسم وغيرهما - فلا
حكم لهما قبل ذلك في الواقع. وإذا كان الحال في المقام أيضا كذلك رجع إلى
التصويب.
قلت: فرق بين التقييد بزمان غير حاصل كالصوم المقيد بالنهار والتقييد
بوصف غير حاصل إذ التكليف به في معنى التكليف بتحصيل الوصف، وهو أيضا
وإن كان من التكليف بغير المقدور لكنه أمر شأني لا تنجز له، فلا يمتنع تعلقه بمثله
765

- كما مرت الإشارة إليه - بخلاف تعلقه بالزمان الغير الحاصل، لأنه لا يقبل وقوعه
في حيز الطلب ولو شأنا. وحينئذ فالفعل الواقع في حال الغفلة ليس من المأمور به
- كفعل الساهي وشبهه - فلا يجدي ولا يغني عن نفس المطلوب بعد فرض تنجزه
على المكلف، إذ ليس الإتيان به إتيانا بالواجب بعينه. إنما الواجب في الواقع
إيقاع الفعل على سبيل العمد والشعور، وهو الحكم الشأني الثابت في الواقع عند
المخطئة.
فظهر مما ذكر أن الأصل في الأوامر اعتبار إمكان القصد والشعور إلى أداء
المأمور به حال الإتيان به، إذ الغافل عن الأمر حين الفعل لا يتعلق به التكليف، بل
قد عرفت إمكان القول بانصرافها إلى ما قصد به ذلك فعلا، فإن الأمر يستدعي
الامتثال وينصرف إليه، فلا يكون الواجب إلا ما قصد به أداء المأمور به بالفعل.
نعم إطلاق الأمر يقتضي الاكتفاء بمطلق القصد إليه وإن انضم إليه من سائر
القصود ما لا يمنع من حصوله ولو كان من الرياء، إلا أن يتمسك في المنع منه
بعموم ما دل على اشتراط الإخلاص والمنع من التشريك في العمل، فيكون ذلك
قاعدة ثانوية مستندة إلى عمومات الكتاب والسنة كقوله تعالى * (وما امروا إلا
ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * (1) والأخبار الكثيرة الدالة عليه، فيكون الأصل في
الأوامر أن يكون متعلقها من العبادة بالمعنى الأخص حتى يثبت خلافه، وذلك أمر
آخر مبني على تمامية الأدلة الخاصة الدالة عليه وهو من القواعد الفقهية، وإنما
غرض الأصولي هو البحث عن الحكم الكلي مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة.
ويمكن التمسك فيه بعدم الفصل، لأنه إذا اقتضى إطلاق الأمر قصد الامتثال
بأداء المطلوب تعين اشتراطه بالإخلاص والخلوص عن شوائب الرياء وإن لم
يمنع منه سائر الضمائم على بعض الوجوه، فتأمل.
فتلخص مما قررناه أن في المقام أمورا خمسة: إمكان القصد إلى أداء الفعل

(1) سورة البينة: 5.
766

المخصوص ولو على الاجمال، ووقوع القصد المذكور، وإمكان القصد إلى امتثال
الأمر الخاص المتعلق به حال الإتيان به ولو على الاجمال، ووقوعه، وخلوصه
عن شوائب الرياء وغيره من القصود المنضمة إلى القصد المذكور على أحد
الوجوه الأربعة في الاستقلال والتبعية.
وقد تقدم في ذيل مسألة الأمر للوجوب اعتبار الأولين، وعرفت في شرائط
المكلف اعتبار الثالث. وأما الرابع فلا كلام في اعتباره في استحقاق الثواب
وتوقف صدق الإطاعة والامتثال عليه، إنما الكلام في اعتباره في الاجزاء
وسقوط التكليف وعدمه، ويبنى ذلك على انصراف الأمر إلى طلب إيقاع الفعل
لغرض الامتثال وعدمه. فإن تم ذلك دل على اشتراطه بذلك إلا مع اقترانه بقرينة
دالة على عدم اعتبار الخصوصية في المطلوب - كما في الواجبات التوصلية
والأوامر الصادرة من الموالي للعبيد وأمثالهم - وإلا كان الأمر على إطلاقه حتى
يثبت التقييد. والفرق بين وقوع القصد إلى نفس الفعل والقصد إلى الامتثال به أن
الفعل الواقع بدون القصد ليس من الاختياري الذي يمكن تعلق الأمر به بخلاف
الثاني، إذ بعد العلم بالأمر والمأمور به والالتفات إليهما لا يخرج المأتي به عن
الفعل الاختياري وإن لم يقصد به امتثال الأمر.
وأما الخامس فليس في نفس الأمر ما يدل على اعتباره فيتوقف على قيام
دليل آخر عليه، فإن تمت القاعدة المذكورة نظرا إلى إطلاقات الكتاب والسنة
فذاك، وإلا فإطلاق الأمر يقضي بالاجتزاء به مطلقا.
نعم إن قلنا بانصرافه إلى طلب الامتثال أمكن القول باعتباره على الاستقلال
وإن انضم إليه غيره من الدواعي على سبيل التبعية أو الاستقلال أيضا. أما لو كان
الامتثال مقصودا بالتبع أو كان الداعي مركبا من القصدين من دون استقلال
لأحدهما في ذلك فلا، إلا أن البناء على الإطلاق الشامل للوجوه الأربعة أظهر.
وأما قصد الرياء فهو مبطل للعبادة بأقسامها الأربعة كما ثبت في محله.
767

- ثامنها -
أن الخطابات المتعلقة بالأحكام الفرعية تعم المسلمين والكفار تكليفية كانت
أو وضعية، فالكفار أيضا مكلفون بالفروع معاقبون عليها كالأصول وإن كانت
مترتبة على الاسلام كترتب الإمامة في الأصول على النبوة، والنبوة على معرفة
الحق سبحانه.
غاية الأمر اشتراط صحة العبادات من الفروع بالتصديق والإقرار بالأصول
كاشتراط جملة من العبادات بالطهارات، فحصول الاسلام والإيمان من شرائط
وجودها دون وجوبها، وإنما الشرط في وجوبها هو التمكن منهما.
وقد ذهب إلى ذلك علماؤنا حتى حكى عليه كثير منهم اجماعنا عليه وإن
خالفهم في ذلك شرذمة من متأخري الأخباريين - كالمحدث القاساني في الوافي،
والاسترابادي في الفوائد المدنية، وصاحب الحدائق - فإن ذلك لا يقدح في
الاجماع المذكور. واختلفت العامة في ذلك على أقوال: فذهب كثير منهم إلى ما
ذكرناه، وذهب بعضهم إلى اختصاص التكليف بالفروع بالمسلمين فلا يكلف
الكافر إلا بأصول الدين وحكي اختياره عن أبي حنيفة.
وينبغي على هذا القول تخصيصه بغير ما يستقل به العقل من الأحكام السمعية
المتوقفة على ثبوت الشرع.
وأما ما يستقل بإدراكه العقل - كحسن الإحسان، وقبح الظلم والعدوان،
ووجوب شكر المنعم، والتحرز عن الضرر المخوف - فلا وجه للقول بتوقف
التكليف به على الاسلام. كيف! ومن المعلوم أن القول بوجوب النظر في المعجزة
والتأمل في الأدلة المفضية إلى معرفة الأصول مما يبتني على حكم العقل به تحرزا
عن الضرر المخوف، فلو لم يكلف العبد بمثله لزم إقحام الأنبياء وإعذار معظم
الكفار.
وعن بعضهم التفصيل في محل المسألة بين الواجبات والمحرمات، فزعم
768

اختصاص الأوامر بالمسلمين وشمول النواهي لجميع المكلفين. وعن السيد (رضي الله عنه)
أنه والله خلاف الاجماع.
حجة الأول وجوه:
الأول: عمومات الخطابات الواردة في الكتاب والسنة المثبتة للأحكام
الفرعية من الأوامر والنواهي وغيرها من الأحكام الوضعية.
فمن الأول قوله تعالى: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي
والد عن ولده) * (1) وقوله: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم) * (2) وقوله عز من قائل:
* (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (3).
وقوله سبحانه: * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو
مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) * (4) وقوله تعالى: * (ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا) * (5) وقوله: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء
ذي القربى) * (6) وجملة من الأوامر الواردة في الصلاة والزكاة والصوم والطهارة
وغيرها.
ومن الثاني قوله تعالى: * (ويل للمطففين) *... إلى آخر الآيات (7).
وقوله عز من قائل: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * (8) وقوله تعالى
* (ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (9) وقوله سبحانه: * (ولا تحسبن الله غافلا عما
يعمل الظالمون) * (10) وقوله: * (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) * (11) وقوله
* (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير) * (12) إلى غير ذلك.
ومن الثالث قوله تعالى: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) * (13)

(1 و 2) سورة لقمان: 33.
(3) سورة الذاريات: 56.
(4) سورة يس: 60.
(5) سورة آل عمران: 97.
(6) سورة النحل: 90.
(7) سورة المطففين: 1.
(8) سورة النساء: 93.
(9) سورة الزلزلة: 8.
(10) سورة إبراهيم: 42.
(11) سورة النحل: 90.
(12) سورة البقرة: 219.
(13) سورة النساء: 7.
769

الآيات وغيرها مما جاء في الكتاب والسنة من الأحكام الوضعية، ومرجعها إلى
الأحكام التكليفية وإن قلنا بثبوتها على الاستقلال أيضا. هذا مضافا إلى جميع ما
دل على اشتراك العباد في التكاليف والأحكام وأن حكم الله في حق الأولين
والآخرين سواء.
الثاني: ما جاء في حدود الاسلام والإيمان واشتمالها على العمل بالأركان
والإقرار باللسان، والأخبار في ذلك كثيرة جدا وفي جملة منها اعتبار الإتيان
بالفرائض المعروفة، فيكون التكليف بهما في معنى التكليف بتلك الفرائض
والأعمال.
فإن قلت: إن المعروف خروجها عن حقيقتهما كما يدل على ذلك أخبار كثيرة
أيضا، فالمقصود اعتبارها في بلوغهما حد التمام والكمال.
قلت: مقتضى القول بعدم تكليف الكفار بالفروع أن لا يكونوا مكلفين إلا
بشئ واحد هو الاعتقاد بالأصول المعروفة، فلا يكون لشئ من جوارحهم
تكليف أصلا، مع ما علم من تكثر درجات الإيمان ومراتبه وتوزيعه على
الجوارح والأعضاء بحسب الأفعال المتعلقة بكل منها. واعتبارها في الإيمان
الكامل لا يقدح في اندراجها في التكليف بالإيمان وإن ترتبت الواجبات بعضها
على البعض كترتب كل من الأصول والفروع بعضها على بعض، فليس الحال في
ترتب الفروع على الأصول إلا ما هو الحال في الترتب الحاصل بين أحكام
أحدهما، فيكون التكليف متعلقا بجميعها على الترتيب فلا تغفل.
الثالث: أن التكليف بالفروع لو اختص بأهل الاسلام لزم تساوي جميع الكفار
في استحقاق العقوبة مع شدة اختلافهم في الأخلاق والملكات والأفعال الحسنة
والقبيحة، فيلزم التسوية بين المرتكب منهم للقبائح العظيمة - كقتل الناس أجمعين،
وتخريب بلاد المؤمنين وسبي نسائهم وذراريهم ونهب أموالهم، وقتل الأنبياء
والأئمة (عليهم السلام) كمثل ما وقع في حق أهل البيت (عليهم السلام)، وما صدر من مثل چنكيز
وبخت النصر - وبين الكافر الأمين الذي أعان المؤمنين وآواهم ونصرهم وبذل
770

نفسه وماله وأسرته في نصرتهم وتشييد أركانهم والإحسان إليهم وإعانتهم على
نشر الاسلام والمجاهدة مع أعدائهم فضلا عن نشر العدل والإحسان في عامة
العباد والبلاد، فيلزم تساوي الفريقين في الجزاء.
ومن المعلوم بضرورة العقول فساد الالتزام بذلك، وكيف يجوز مع ذلك
إلزامهم في الدعاوي والمرافعات وسائر الأفعال بشئ وهو خلاف الضرورة.
والقول بتكليفهم في ذلك كله بفروع مذهبهم مخالف لمقتضى النسخ، على أنا نتكلم
في الكافر الذي لم يعتقد بشئ من الشرائع والأديان.
وفيه: أنه إن أريد تساوي الكفار بالنظر إلى الواجبات السمعية فبطلان التالي
ممنوع، وإن أريد تساويهم في ذلك مع اختلافهم في ارتكاب القبائح العقلية
وأقسام الحسن العقلي فالملازمة ممنوعة، لما عرفت من إمكان اختصاص محل
المسألة بغير الأحكام العقلية.
الرابع: خصوص عدة من الآيات والروايات الدالة على مؤاخذة الكفار
بالفروع، ففي النواهي مثل قوله سبحانه: * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا
يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما
يضاعف له العذاب) * (1) الآية. وفي الأوامر قوله عز من قائل: * (وويل للمشركين
* الذين لا يؤتون الزكاة) * (2) وقوله تعالى: * (فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب
وتولى) * (3) وقوله سبحانه: * (ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم
نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين) * (4).
وقد يورد بأن التهديد والذم على مخالفة المجموع المركب من الأصول
والفروع لا يستلزم استقلال البعض في ذلك، فلا يفيد المطلوب.
وضعفه ظاهر، إذ لو فرضنا عدم إرادة الفروع من الكفار لم يكن لمخالفتهم

(1) سورة الفرقان: 68.
(2) سورة فصلت: 6 - 7.
(3) سورة القيامة: 31 - 32.
(4) سورة المدثر: 42 - 46.
771

فيها مدخلية في الذم، وكان ضمها إلى مخالفة الأصول كضميمة ارتكاب المباحات
إلى المحرمات في الوعيد عليها، وهو قبيح.
حجة القول الثاني وجوه:
الأول: أنه لو كلف الكافر بالفروع صح منه فعلها واستحق الثواب عليها إذ
الصحة موافقة الأمر والامتثال يستلزم الثواب، وفساده ظاهر، لأن الحال في
الاسلام هو الحال في سائر مقدمات الوجود والشرائط المفقودة شرعية كانت أو
عقلية، مثل (1) الطهارة والاستقبال وستر العورة وقطع المسافة والإرادة وغيرها.
فإن أريد من الملازمة أن التكليف يستلزم صحة وقوع الفعل في الحال التي عليها
المكلف فهو مقطوع الفساد، وإن أريد صحة الفعل في الجملة فبطلان اللازم واضح
الفساد إذ المقدور بالواسطة مقدور.
الثاني: أن تكليف الكافر بالفروع يرجع إلى التكليف بما لا يطاق، فإن تكليف
الجاهل بما هو جاهل به تصورا وتصديقا عين التكليف بالمحال. وفيه:
أولا: أن الجاهل بالأصل كالجاهل بالفرع، فما هو الوجه في تكليف الأول
يجري في الثاني.
وثانيا: أن المعذور في المقامين إنما هو القاصر الذي لا طريق له إلى تحصيل
العلم، أما القادر على ذلك بتحصيل الأسباب المفضية إليه المقصر في تحصيله فلا
امتناع في حقه.
وثالثا: أن المقصود في المقام اثبات الحكم الواقعي، وذلك لا ينافي إعذار
المكلف فيه ورفع العقاب عنه لقصوره عن دركه وجهله به، كما هو مقتضى القول
بالتخطئة وإبطال التصويب.
الثالث: أنه لو كلف بالفروع أمكنه امتثالها، لوضوح أن التكليف فرع القدرة.
والكافر لا يتمكن من الامتثال، لأنه في حال الكفر باطل للقطع باشتراطه
بالإسلام وبعد الاسلام يسقط عنه.

(1) في الأصل: كما قبل الطهارة.
772

وفيه أولا: أن التكليف بفعل العبادة من أول الوقت بشرط الاسلام مما لا
يتصور له مانع أصلا وإن كانت مضيقة، إذ الاسلام لا يسقطه في وقت العبادة قبل
تعذرها وكان ذلك كتكليف المحدث بالصلاة. فيكون مكلفا بترك الكفر والإتيان
بالعبادة في زمانها، ولا يلزم منه القضاء لو لم يفعل، لأنه بأمر جديد، ولو كان
بالأمر الأول لاختص بما لم يقم فيه دليل على سقوطه كبعض العبادات التي لا
قضاء لها.
وثانيا: أن ما ذكر لا يجري في الواجبات التي لا تفتقر إلى القربة فضلا عن
النواهي، فلا شبهة في تمكن الكافر من الإتيان بتلك الواجبات - كرد الوديعة،
والوفاء بالعقود وما أشبه ذلك - والاجتناب عن المحرمات خصوصا فيما يستقل
العقل بإدراكه، كتحريم القتل والظلم وما أشبه ذلك بناء على تعميم محل المسألة
لمثل ذلك.
فإن قلت: إن من جملة الفروع هو التكليف بقضاء الفوائت والكفارات المقررة
في جملة من المقامات ومن البين اشتراطهما بالإسلام وسقوطهما بعده، فكيف!
يعقل تكليف الكافر بهما مع اشتراطهما بالإسلام الموجب لسقوطه، لرجوعه إلى
الأمر بهما بعد الاسلام فيكون منافيا لما دل على سقوطه بالإسلام، فيلزمه عدم
تكليف الكافر بهما وإن عوقب على موجبهما.
قلت: إن التكليف بهما ثابت عليه أيضا قبل حصول المسقط إكمالا للحجة
عليه، ولولاه لم يكن للإسقاط معنى محصل فيجب الإتيان بهما، وتعبيرهما من
الفروع مع ثبوت اشتراطها بالإسلام وتحقق وجوبه من باب المقدمة زيادة على
وجوبه الذاتي، إلا أن وقوع الاسلام في الخارج قاض بسقوط التكليف عنه من
حينه، ولا امتناع في التكليف بمثله.
نعم لو كان الاسلام كاشفا عن انتفاء التكليف من الأصل امتنع، وليس كذلك.
فإن قلت: إن التكليف بالفعل المشروط بالإسلام حينئذ في معنى التكليف
بالفعل بعد سقوطه، وهو محال.
773

قلت: إن كان الغرض إثبات التكليف بعد وقوع الاسلام كان الحال كما ذكر،
وليس كذلك. بل الغرض إثبات التكليف قبل وقوعه بمجرد التمكن من تحصيله،
إذ لا يشترط العبادات إلا بالتمكن من تحصيل مقدماتها التي منها الاسلام. ومن
المعلوم أن التمكن منه لا يوجب سقوطه عن المكلف، وانما المسقط وقوعه في
الخارج ولم يثبت بعده تكليف بذلك بل يسقط به.
فإن قلت: لا شك في كون حصول الاسلام شرطا في صحة العمل، فيكون
المسقط شرطا للمكلف به مع كونه رافعا لأصل التكليف.
قلت: لا مانع من كون حصول المسقط للحكم شرطا في موضوعه بعد عدم
كونه شرطا للحكم، لما عرفت من أن شرط الحكم مجرد التمكن دون الوقوع،
غاية الأمر امتناع وقوع المكلف به بوصف كونه مكلفا به، وليس ذلك من التكليف
بالمحال، إذ الوصف المذكور ليس من قيود الموضوع.
فإن قلت: لا شك أن الشرط مقدمة للمشروط سابق عليه، فيرجع التكليف
بذلك إلى الأمر بالعبادة بعد حصول الاسلام مع انتفاء وجوبها حينئذ.
قلت: لا أمر بالعبادة بعد حصول الاسلام وإنما الأمر سابق عليه لكن وقوعه
مأخوذ في موضوع المأمور به، فإذا تحقق في الخارج سقط الأمر، غاية ما في
الباب تعلق الطلب الغيري والنفسي بإيجاد المسقط للأمر ولا مانع منه.
فإن قلت: لا فائدة في الأمر بمثله بعد تعذر بقائه حين الفعل ليمكن امتثاله به
فيكون لغوا.
قلت: يكفي في فائدته صحة المؤاخذة عليه في ترك الإتيان بمقدمته المؤدي
إلى تركه فيتضاعف عقوبته في ذلك، ومن فائدته حكمة اطراد الأحكام وشمولها
أولا لكافة الأنام.
الرابع: أنه لو كلف الكافر بالفروع لوجب قضاؤها عليه كالمسلم استدراكا
للمصلحة الفائتة في تلك العبادات، وليس كذلك. وهو احتجاج غريب لبطلان
الملازمة وصحة التالي، إذ قد عرفت أن التكليف بالقضاء أيضا من الفروع إلا أنه
يسقط بالإسلام كغيره.
774

الخامس: عدة من الأخبار الظاهرة في اختصاص التكاليف الفرعية
بالمسلمين، كصحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) أخبرني عن معرفة الإمام
منكم واجبة على جميع الخلق، فقال: إن الله تعالى بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) إلى الناس
أجمعين رسولا وحجة منه على خلقه في أرضه، فمن آمن بالله وبمحمد رسول
الله (صلى الله عليه وآله) واتبعه وصدقه فإن معرفة الإمام منا واجبة عليه، ومن لم يؤمن بالله
ورسوله ولم يتبعه ولم يصدقه ويعرف حقهما، فكيف! يجب عليه معرفة الإمام
وهو لا يؤمن بالله ويعرف حقهما (1) الحديث.
والمروي في الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الزنديق، قال:
فكان أول ما قيدهم به الإقرار بالوحدانية والربوبية والشهادة أن لا إله إلا الله، فلما
أقروا بذلك تلاه بالإقرار لنبيه بالنبوة والشهادة بالرسالة، فلما انقادوا لذلك فرض
عليهم الصلاة ثم الصوم ثم الحج (2). الحديث.
والمروي في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: * (وويل للمشركين *
الذين لا يؤتون الزكاة) * قال: أترى أن الله عز وجل طلب من المشركين زكاة
أموالهم وهم يشركون به، حيث يقول: ويل للمشركين إنما دعى للإيمان به فإذا
آمنوا بالله ورسوله افترض عليهم الفرض (3).
والمروي في تفسير قوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم) * قال: كيف يأمر بإطاعتهم ويرخص في منازعتهم، إنما قال ذلك للمأمورين
الذين قيل لهم أطيعوا الله وأطيعوا الرسول (4). ويؤكد ذلك اختصاص كثيرا من
الخطابات الواردة في الفروع بالمؤمنين، كما في عدة من الآيات المقيدة بقوله
تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا) * وفي الأخبار الواردة في طلب العلم " إن طلب العلم
فريضة على كل مسلم ومسلمة " (5) وأما الخطابات المطلقة المصدرة ب‍ * (يا أيها

(1) الكافي: ج 1 ص 180 ح 3.
(2) البحار: ج 93 ص 122.
(3) تفسير علي بن إبراهيم: ج 2 ص 262.
(4) البحار: ج 23 ص 302 ح 60.
(5) البحار: ج 1 ص 171 ح 24 وغيره.
775

الناس) * وما يجري مجراه فمحمولة على المقيد حملا للعام على الخاص، كما هو
القاعدة المسلمة بينهم.
والجواب عن الأول وهو الأخبار الخاصة، أولا: المنع من دلالتها على
المدعى.
أما الأول، فلأن معرفة الإمام عندنا من الأصول، والتمسك بالفحوى أو العلة
المنصوصة فرع العمل به ولا أظن الخصم يلتزم به، إذ مقتضاه عدم وجوب
الإذعان بالنبوة أيضا إلا بعد المعرفة بالتوحيد. وأيضا فليس الغرض نفي وجوب
الإقرار بالأئمة (عليهم السلام) مطلقا، إذ الأخبار المتواترة ناطقة بخلافه، كحديث الميثاق
وعرض الأمانة وغيرهما، فيمكن تنزيله على الترتيب الحاصل في متعلقات عدة
من الأحكام ومواردها دون نفسها، إذ الواجب على جميع المكلفين أولا معرفة الله
تعالى ثم معرفة النبي ثانيا بعدها ثم معرفة الإمام ثالثا بعدهما ثم الفروع فتجب
الطهارة أولا ثم الصلاة بعدها وهكذا. ويشهد بذلك سياق الخبر في إحالته على
الوضوح كيف يجب عليه معرفة الإمام، إنما الغرض عدم وجوبه مقيدا بإنكار
الحق سبحانه وتعالى.
وإنما يترتب التكاليف بعضها على بعض كترتب الصلاة على الطهارة فيجب
الجميع على سبيل الترتيب.
وأما الثاني فمفاده ورود الأحكام على سبيل التدريج ولا كلام فيه، إنما
الكلام في ثبوتها بعد ورودها على الجميع.
وأما الثالث فمفاده أيضا ما ذكرناه من ترتب الأحكام والتكاليف، فيجب
الفروع بعد الأصول وإن ثبت التكليف بهما كذلك من أول الأمر. وكذا الحال في
الرابع.
وثانيا: أن غاية الأمر ظهور تلك الأخبار فيما ذكر، ولا يصلح ذلك لمعارضة
الآيات الكثيرة والأخبار المتواترة مع مخالفتها لعمل علمائنا وإجماعاتهم،
فظاهرها متروك، فيحمل على التقية أو غيرها من المحامل.
776

والمناقشة في حملها على التقية - لاشتمال بعضها على كون الإمام من أهل
البيت (عليهم السلام) - ضعيفة، لما تقرر من عدم كونه مانعا من الحمل على التقية سيما مع
موافقته لمذهب الزيدية مع عدم انحصار توجيه تلك الأخبار في حملها على ذلك.
وعن الثاني أن حمل المطلق على المقيد إنما يصح مع المنافاة ولا منافاة بين
إثبات الحكم لطائفة مع ثبوته لأخرى، ولعل تخصيص الأولى بالذكر من جهة
اختصاص الانتفاع به بالمسلمين ولتشريفهم بالتخصيص في الذكر أو نحو ذلك.
وحجة المفصل: أن الأفعال يفتقر إلى القربة ولا يتأتى ذلك مع الكفر بخلاف
التروك. وفساده ظاهر لإمكان القربة من الكافر بشرط الاسلام إذ ليس الغرض
من تكليف الكافر تكليفه بشرط الكفر، ولامتناع الترك المطلوب في النهي من
الكافر وهو الواقع على جهة الامتثال لتوقفه على معرفة المكلف والتكليف.
ومطلق الترك كالأفعال التوصلية التي لا تتوقف على القربة فلا فرق بينها في ذلك،
فالأوامر الواردة في غير العبادات كالنواهي، فلا وجه للتفصيل بينهما في ذلك كما
هو ظاهر.
ولنقطع الكلام في المجلد الثاني من كتاب
هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين
حامدين لله سبحانه مسلمين على رسوله والأئمة المعصومين من آله
ويتلوه الكلام في المجلد الثالث في النواهي
والمسؤول من الله عز شأنه أن ينفع به كما نفع بأصله،
وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم موجبا لثوابه الجسيم
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
777