الكتاب: تاريخ القرآن الكريم
المؤلف: محمد طاهر الكردي
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٦٥ - ١٩٤٦ م
المطبعة: مطبعة الفتح - جدة - الحجاز
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

كتاب
تاريخ القرآن الكريم
وهو أول كتاب من نوعه
ملتزم طبعه ونشره
مصطفى محمد يغمور بمكة
طبع للمرة الأولى بمطبعة الفتح
بجدة - الحجاز
عام 1365 ه‍ و 1946 م
تعريف الكتاب 1

كل نسخة لم تكن مختومة بختم الناشر تعد مسروقة
الختم
مؤلفات محمد طاهر الكردي الخطاط
صاحب هذا الكتاب غفر الله له
(1) تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه طبع ولله الحمد
(2) تاريخ الخط العربي وآدابه.. "
(3) تحفة العباد في حقوق الزوجين والوالدين والأولاد "
(4) حسن الدعابة فيما ورد في الخط وأدوات الكتابة "
(5) كراسة الحرمين في تعليم خط الرقعة.
" (6) مجموعة الحرمين في تعليم خط النسخ. "
(7) رسالة في الدفاع عن الكتابة العربية في الحروف والحركات "
(8) ارشاد الزمرة لمناسك الحج والعمرة (على المذهب الشافعي) سيطبع إن شاء الله
(9) تحفة الحرمين في بدائع الخطوط العربية. " "
(10) نفحة الحرمين في تعليم خطى النسخ والثلث "
(11) مختصر المصباح والمختار (في اللغة العربية). "
(12) بدائع الشعر ولطائفه.. "
(13) المحفوظات الأدبية الممتازة.. "
(14) أدبيات الشاي والقهوة. "
وقد كتب المذكور مصحفا كريما سماه مصحف مكة المكرمة وهو أول مصحف
كتبه بيده كما هو أول مصحف سيطبع إن شاء الله تعالى بمكة المشرفة
أدام الله عليه توفيقه وفضله ورضاه وختم حياته بخير على الايمان الكامل آمين
تعريف الكتاب 2

تاريخ القرآن
وغرائب رسمه وحكمه
يبحث عن تعريف القرآن وما يتضمنه، وعن جمعه وكتابته
وترتيب آياته وسوره وضبطه وتصحيحه، وعن غرائب
رسم كلماته وهل رسمه توقيفي أم لا، وعن حكم اتباعه
وسبب نقطه وتشكيله، وعن معرفة الصحابة للاملاء
والكتابة، وعن مقارنة كتاباتنا برسمه
وغير ذلك من المباحث القيمة
تأليف
محمد طاهر بن عبد القادر الكردي المكي الخطاط
بالمعارف العامة * بمكة المشرفة
لطف الله به وعامله برحمته واحسانه وستره في الدنيا والآخرة آمين
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
طبع سنة 1365 هجرية
بجدة
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمدا يليق بعظمته وجلاله، والصلاة والسلام
على نبينا محمد وصحبه وآله (وبعد) فلقد وفقنا الله تعالى لكتابة القرآن
العظيم (1) الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كتبناه
على وفاق رسم المصحف العثماني ناقلين عن المصحف الذي طبعته
الحكومة المصرية سنة ألف واثنين وأربعين هجرية تحت إشراف مشيخة
الأزهر المعمور ومشيخة المقارئ العمومية، لان اتباع رسمه واجب
بالاجماع وإن كتب بعض كلماته على غير طريقتنا المتبعة " ولدا يقال "

(1) انتهينا من كتابة هذا المصحف الكريم في ختام عام ألف وثلاثمائة واثنين وستين
هجري وقد تألفت لجنة من قبل الحكومة للعناية بتصحيحه، وهو أول مصحف
كتبناه كما هو أول مصحف سيطبع بمكة المشرفة إن شاء الله تعالى في عام 1366 ه‍
2

خطان لا يقاس عليهما خط المصحف وخط العروض (1)
والمراد بالمصحف العثماني مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه
الذي أمر بكتابته وجمعه وكانوا يسمونه " المصحف الامام " (2)

(1) أي لا تقاس كتاباتنا العامة على خط المصحف العثماني لمخالفته القواعد
الاملائية في بعض الكلمات كما بينا ذلك مفصلا في هذا الكتاب، وكذلك لا تقاس
كتاباتنا على خط العروض لأنه يكتب على حسب الملفوظ به فمثلا هذا البيت
تلق الأمور بصبر جميل * وصدر رحيب وخل الحرج
فان العروضيين يكتبونه هكذا
تلقق ل أمور بصبرن جميلن * وصدرن رحيبن وخلل ل حرج
ومثله هذا البيت
لا تسأل المرء عن خلائقه * في وجهه شاهد من الخبر
فإنهم يكتبونه هكذا
لا تسأل ل مرء عن خلائقهى * في وجههى شاهدن من ل خبري
(2) الأصل في هذه التسمية ما جاء في بعض الروايات ان عثمان بن عفان رضي الله عنه
لما بلغه اختلاف المعلمين في القرآن قال عندي تكذبون به وتلحنون فيه فمن نأى عنى كان
أشد تكذيبا وأكثر لحنا يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما - واما سبب تسميته
بالمصحف فإنه لما جمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن قال سموه فقال بعضهم سموه إنجيلا
فكرهوه وقال بعضهم سموه السفر فكرهوه فقال ابن مسعود رأيت بالحبشة كتابا
يدعونه المصحف فسموه به
3

من حيث اتباعه رسما وكتابة (1) وهو يشمل جميع المصاحف التي
كتبت بأمره رضي الله عنه وأرسلت إلى الأمصار، وقال بعضهم انه
خاص بمصحفه الذي كان يقرأ فيه.
هذا ولما شرعنا في كتابة مصحفنا المذكور ووصلنا إلى نحو خمسة
اجزاء منه، وجدنا في الرسم العثماني العجب العجاب، ورأيناه جديرا
بدراسته وتحقيق النظر فيه، وحريا بأن تؤلف فيه رسالة خاصة
تطبع وتنشر في الأقطار الاسلامية - فألفنا هذا الكتاب واستقصينا
جميع أنواع الكلمات المخالفة لقواعد كتاباتنا، اللهم الا ما شرد عن
النظر وغاب عن الفكر
والحق يقال - ان في رسم المصحف العثماني يقف الفكر حائرا،
والذهن تائها، إذ أنه في نفسه لا قاعدة له - فمثلا نجد كلمة " كتاب "

(1) فان قيل إن المصحف العثماني الامام لم يكن فيه نقط ولا شكل ولم تكن فيه
أرقام للآيات ولا علامات للاجزاء والأحزاب فكان الواجب حذف هذه الأشياء
من المصاحف اتباعا للمصحف العثماني - نقول - ان هذه الأمور حدثت
فيما بعد حيث اختلفت الألسن باختلاط العرب بالعجم لانتشار الاسلام فخوفا
من التصحيف والالتباس في كلمات القرآن اخترعوا هذه الأشياء التي هي
ليست داخلة في جوهر الحروف وانما هي من العلامات الدالة على القراءة
الصحيحة فصار وضعها من اللازم وسنتكلم عنها مفصلا في الخاتمة إن شاء الله تعالى
وكان تقسيم القرآن إلى اجزاء وأحزاب في زمن الحجاج
4

مرسومة في جميع القرآن بغير ألف ما عدا أربعة مواضع (1) فإنها
مرسومة بالألف نحو " لكل أجل كتاب " وكلمة " قال " مرسومة
في جميع القرآن بالألف ما عدا خمسة مواضع (2) فإنها بحذف الألف
نحو " قل رب احكم بالحق " وكلمة " أيها " مرسومة في جميع القرآن
بألف بعد الهاء ما عدا ثلاثة مواضع (3) فإنها بحذف الألف نحو
" أيه الثقلان " وكلمة " إبراهيم " مرسومة في سورة البقرة هكذا
" ابرهم " وفي بقية القرآن هكذا " إبراهيم " وكلمة " يا ابن أم "
مرسومة في سورة طه هكذا " قال يبنؤم " وفي الأعراف هكذا
" قال ابن أم " وكلمة " ما نشاء " مرسومة في سورة هود هكذا
" ما نشؤا " وفي سورة الحج هكذا " ما نشاء " وكلمة " الأمثال "
مرسومة بالألف بعد الثاء ومرسومة بحذف الألف. وحذفت الواو
والياء من آخر هذين الفعلين " ويدع الانسان - فهو يشفين " من غير علة
إلى غير ذلك من الكلمات التي قد تكتب في بعض المواضع بشكل
وفى بعضها بشكل آخر مع أن الكلمة هي هي بعينها لم تتغير (4) فمن
يرشدنا إلى سبب هذا التغاير في رسم المصحف العثماني الا الصحابة

(1) ذكرنا هذه المواضع كلها في آخر الفصل الثاني من الباب الخامس
(2) ذكرنا هذه المواضع كلها في آخر الفصل الثاني من الباب الخامس
(3) ذكرنا هذه المواضع كلها في آخر الفصل الثاني من الباب الخامس
(4) انظر في الجدول الثاني في الفصل الثاني من الباب الرابع، وانظر
أيضا في الفصل الرابع من الباب الخامس في بعض غرائب الرسم العثماني
5

الذين كتبوه بأمرنا عثمان وهذا إذا قاموا من قبورهم
ولقد صدق من قال " كما أن للقرآن معجز في ذاته فخطه معجز أيضا "
وإلى هذا المعنى أشار العلامة الشيخ محمد العاقب بن ما يأبى الشنقيطي
دفين فاس رحمه الله تعالى بقوله.
والخط فيه معجز للناس * وحائد عن مقتضى القياس
لا تهتدى لسره الفحول * ولا تحوم حوله العقول
قد خصه الله بتلك المنزلة * دون جميع الكتب المنزلة
ليظهر الاعجاز في المرسوم * منه كما في لفظه المنظوم
والحقيقة ان تأليف كتابنا هذا هو من بركة كتابتنا للمصحف المذكور
حيث كنا نتبع فيه الرسم العثماني كلمة كلمة، ولولاه لما كنا ندرك
معنى الرسم العثماني ووجهة مخالفته لقواعد املائنا - وغاية ما كنا
نعرف ان نحو * كتاب، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق وهارون،
وسليمان،،، مكتوب في المصحف بغير ألف، اما غيرها فلا تقع
أعيننا عليه لتعود ألسنتنا على القراءة الصحيحة - والسبب في عدم
ملاحظتنا هيئة رسم الكلمات في المصحف هو عدم الاعتناء بتعليم
القراءات وفن الرسم وعلم التجويد حتى اندثرت من غالب البلاد
الاسلامية وربما كانت مصر هي الوحيدة في المحافظة على هذه العلوم.
6

وهذا الكتاب هو أول كتاب من نوعه فإنه لم يؤلف في هذا
الموضوع على نمطه كتاب من قبل - نعم لقد ألف علماء القراءات
المتقدمون في رسم المصحف العثماني مؤلفات جليلة وحصروا مرسوم
القرآن كلمة كلمة على هيئة ما كتبه الصحابة رضي الله عنهم بحيث لم
يفهم شئ منه، الا انهم لم يبحثوا عنه كما بحثنا، ولم يقارنوا بين
مرسومه كما قارنا - على اننا لا ندعي المعرفة أكثر منهم بل نمشي
على ضوءهم مع ما يفتح الله به علينا من فضله الواسع فهو الفتاح
العليم لا راد لفضله.
ولقد بسطنا القول في هذا الكتاب عن القرآن العظيم من
جميع نواحيه بسطا وافيا ولم نتعرض للناسخ والمنسوخ ولا لوجوه
القراءات وتراجم القراء لان كلا من ذلك فن مستقل بذاته يحتاج
إلى مؤلف خاص، وجعلنا في ذيله هامشا لزيادة الايضاح وتمام الفائدة،
وحصرناه في ستة أبواب وخاتمة تحت كل باب جملة فصول،
وسميناه " تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه "
نسأل الله الحي القيوم أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به
من طالعه بقلب سليم، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يختم لنا
بخاتمة السعادة ويسترنا في الدارين، ويجعلنا من الذين لا خوف عليهم
ولا هم يحزنون، وأن يحشرنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
7

والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا آمين، وصلى
الله على نبينا محمد أبى القاسم الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
" وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب "
غرة جمادى الثانية
سنة 1365 هجرية
المؤلف
محمد طاهر الكردي
الخطاط بالمعارف العامة
بمكة المكرمة
8

الجدول الأول
وفيه بعض الكلمات بحسب رسم المصحف العثماني
الله يبدؤا الخلق
هي عصاي أتوكؤا عليها
أو من وراى حجاب
وما دعؤا الكافرين
إلى فرعون وملايه
وجائ يومئذ بجهنم
وجاءو على قميصه
قال يبنؤم لا تأخذ
بأييكم المفتون
وألو استقموا
والسماء بنينها بأييد
علمؤا بنى اسرءيل
الذين أسئوا السوآى
ولا تقولن لشائ
أصحاب لئيكة
امرأت فرعون قرت
قل هو نبؤا عظيم
ثلث مائة سنين
أفإين مات أو قتل
ألئن حصحص الحق
ومن يعظم شعئر الله
سنت الأولين
فقال الملؤا الذين
لايلاف قريش أي لفهم
لكم أيه الثقلان
لتخذت عليه أجرا
أفتوني في رءيى
رحمت الله وبركته
ومعصيت الرسول
ولا مستئنسين
وقد وضعنا جدولا آخر في الفصل الثاني من الباب الرابع يشتمل
على بعض كلمات بالرسم العثماني فراجعه في محله
9

الباب الأول
(وفيه ثلاثة فصول)
(الفصل الأول * في تعريف القرآن وما يتضمنه)
ذهبوا في معنى القرآن إلى جملة أقوال ذكرها السيوطي في
كتابه الاتقان والمختار منها ما نص عليه إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى
وهو: ان لفظ القرآن المعرف بأل ليس مهموزا ولا مشتقا بل وضع
علما على الكلام المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم
واما القرآن فقد قال أهل السنة القرآن كلام الله تعالى منزل غير
مخلوق منه بدأ واليه يعود وهو مكتوب في المصاحف محفوظ في
الصدور مقروء بالألسنة مسموع بالآذان
والاشتغال بالقرآن من أفضل العبادات سواء كان بتلاوته أو بتدبر
فيه - قال الله تعالى - إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة
وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم
ويزيدهم من فضله انه غفور شكور - وقال - كتاب أنزلناه إليك مبارك
ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب - وقال - الله نزل أحسن
الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم
وتلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشاء
ومن يضلل الله فماله من هاد
10

ولبعضهم:
وإذا أردت من العلوم أجلها * فعليك بالقرآن والاعراب
هذا لدينك ان أردت ديانة * وهدى وذاك لمنطق وخطاب
ولبعضهم أيضا:
نعم السمير كتاب الله ان له * حلاوة هي أحلى من جنى الضرب (1)
به فنون المعاني قد جمعن فما * تفتر من عجب الا إلى عجب
أمر ونهى وأمثال وموعظة * وحكمة أو دعت في أفصح الكتب
لطائف يجتليها كل ذي بصر * وروضة يجتنيها كل ذي أدب
فالقرآن يتضمن الاحكام، والشرائع، والأمثال، والحكم،
والمواعظ والتاريخ، ونظام الكون، وغير ذلك.
قال بعضهم:
ألا انما القرآن تسعة أحرف * سأنبيكها في بيت شعر بلا خلل
حلال حرام محكم متشابه * بشير نذير قصة عظة مثل
فالقران ما ترك شيئا من أمور الدين الا وبينه، ولا من نظام
الكون الا وأوضحه، وفيه يقول الله تعالى " ونزلنا عليك الكتاب
تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " ويقول " ولقد
ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون "

(1) الضرب بفتحتين العسل الأبيض قاله في المصباح
11

وقال عليه الصلاة والسلام " كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم
وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه
الله تعالى ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله تعالى وهو حبل الله المتين
وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء
ولا تلتبس به الألسنة ولا تشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد
ولا تنقضي عجائبه " أخرجه الترمذي. ومعنى لا يخلق لا يبلى
(وقال أيضا) " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه " رواه
البيهقي والحاكم عن أبي هريرة والمراد باعرابه معرفة معاني ألفاظه
وما أحسن ما رواه الامام السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه الاتقان
عن بعضهم حيث يقول: اعتنى قوم بضبط لغات القرآن وتحرير كلماته
ومعرفة مخارج حروفه وعددها، وعدد كلماته وآياته وسوره وأحزابه
وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات إلى غير
ذلك من حصر الكلمات المتشابهة والآيات المتماثلة، من غير تعرض
لمعانيه ولا تدبر لما أودع فيه فسمو القراء - واعتني النحاة بالمعرب
منه والمبنى من الأسماء والافعال والحروف العاملة وغيرها، وأوسعوا
الكلام في الأسماء وتوابعها وضروب الافعال واللازم والمعتدى
ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به حتى أن بعضهم أعرب
12

مشكله وبعضهم أعربه كلمة كلمة - واعتني المفسرون بألفاظه
فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد ولفظا يدل على معنيين ولفظا
يدل على أكثر فأجروا الأول على حكمه وأوضحوا معنى الخفي منه
وخاضوا في ترجيح أحد المحتملات ذي المعنيين أو المعاني وأعمل كل
منهم فكره وقال بما اقتضاه نظره - واعتني الأصوليون بما فيه من
الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية فاستنبطوا منه وسموا هذا
العلم بأصول الدين - وتأملت طائفة منهم معاني خطابه فرأت منها ما
يقتضى العموم ومنها ما يقتضى الخصوص إلى غير ذلك فاستنبطوا منه
أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز - وتكلموا في التخصيص والاخبار
والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والامر والنهى والنسخ،
إلى غير ذلك من الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء وسموا هذا
الفن أصول الفقه - وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر
فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام فأسسوا أصوله وفرعوا
فروعه وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنا وسموه بعلم الفروع
وبالفقه أيضا - وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة
والأمم الخالية ونقلوا أخبارهم ودونوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا
بدء الدنيا وأول الأشياء وسموا ذلك بالتاريخ والقصص -
13

وتنبه آخرون بما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي تقلقل قلوب
الرجال فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد، والتحذير والتبشير، وذكر
الموت والميعاد، والحشر والحساب، والعقاب والثواب، والجنة والنار
فصولا من المواعظ وأصولا من الزواجر فسموا بذلك الخطباء
والوعاظ - وأخذ قوم بما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير
ذلك من علم الفرائض واستنبطوا منها من ذكر النصف والربع والسدس
والثمن حساب الفرائض - ونظر قوم إلي ما فيه من الآيات الدالة
على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبروج
وغير ذلك فاستخرجوا منه علم المواقيت - ونظر الكتاب والشعراء
إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم وحسن السياق والمبادئ
والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب والاطناب والايجاز وغير ذلك
فاستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع - انتهى
جميع العلم في القرآن لكن * تقاصر عنه أفهام الرجال
ويعجبنا وصف الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله تعالى (1)
للقران الكريم حيث يقول في كتابه اعجاز القران ما نصه: القرآن
ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس
الحياة الآخرة، تذكر الدنيا فمنها عمادها ونظامها، وتصف الآخرة

(1) توفى الرافعي المذكور في 10 مايو 1937 م الموافق 29 صفر 1356 هجرية
14

فمنها جنها وضرامها، ومتى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك
في وجوه الغيوب، وان أوعدت جعلت الألسنة ترعد من حمى
القلوب، ومعان بينا هي عذوبة ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح
منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الايمان وجه الأمان، وبينا هي
ترف بندى الحياة على زهرة الضمير، وتخلق في أوراقها من معاني العبرة
معنى العبير، وتهب عليها بأنفاس الرحمة فتنم بسر هذا العالم الصغير،
ثم بينا هي تتساقط من الأفواه تساقط الدموع من الأجفان، وتدع
القلب من الخشوع كأنه جنازة ينوح عليها اللسان، وتمثل للمذنب
حقيقة الانسانية حتى يظن أنه صنف آخر من الانسان، إذا هي بعد
ذلك اطباق السحاب وقد انهارت قواعده، والتمعت ناره وقصفت
في الجو رواعده، وإذا هي السماء وقد اخذت على الأرض ذنبها
واستأذنت في صدمة الفزع ربها، فكادت ترجف الراجفة تتبعها
الرادفة، وانما هي عند ذلك زجرة واحدة، فإذا الخلق طعام الفناء وإذا
الأرض مائدة. انتهى كلام الرافعي رحمه الله تعالى
هذا وان ومن عظمة القرآن في ذاته اقرار علماء الإفرنج بسمو
مكانته واعترافهم برفيع منزلته، وخشوعهم لدي سماع ترتيل آياته،
واعجابهم بما حواه من نظام الكون ودستور المدنية والعمران.
15

وهناك بعض من نوابغ مستشرقي الإفرنج من يتخصص لحفظ القرآن
وفهم تفاسيره، ومن يعتنى بعلم القراءات وفن التجويد، ومن ينقطع إلى
دراسته وبيان مزايا دين الاسلام ولهم في ذلك مؤلفات. وان بقوا
على ديانتهم.
وان أول طبع للمصحف بالخط العربي كان في مدينة همبرج بألمانيا
وذلك في سنة 1113 هجرية (1) ويوجد من هذه الطبعة مصحف بدار
الكتب العربية المصرية بالقاهرة
قال المستشرق الألماني الدكتور شومبس في القرآن الكريم
في إحدى الجمعيات " يقول بعض الناس ان القرآن كلام محمد - وهو
خطأ محض - فالقرآن كلام الله تعالى الموحى على لسان رسوله محمد،
فليس في استطاعة محمد ذلك الرجل الأمي في تلك العصور الغابرة أن
يأتينا بكلام تحار فيه عقول الحكماء ويهدى الناس من الظلمات إلى
النور، وربما تعجبون من اعتراف رجل أو ربى بهذه الحقيقة،
انى درست القرآن فوجدت فيه تلك المعاني العالية والنظامات المحكمة
وتلك البلاغة التي لم أجد مثلها قط في حياتي، جملة واحدة منه تغنى

(1) وسببه على ما يظهر لنا ان اختراع المطبعة كان في ألمانيا سنة 1431 ميلادية
ثم عم انتشارها بقية الممالك، وأول دخولها إلى تركيا كان في زمن السلطان احمد
الثالث وكان طبع المصاحف في عهده ممنوعا وسنتكلم في آخر الكتاب عن ظهور
المطابع وانتشارها انشاء الله تعالى
16

عن مؤلفات هذا ولا شك أكبر معجزة اتى بها محمد عن ربه " اه‍ كلامه
وقال المستشرق ما كس مننى: ان مرشد المسلمين هو القرآن
وحده، والقرآن ليس بكتاب ديني فقط بل هو أيضا كتاب الآداب
وتجد به الحياة السياسية والاجتماعية، بل هو يرشد الانسان إلى
وظائفه اليومية، والاحكام الاسلامية التي لا توجد بالقرآن توجد في
السنة والتي لا تكون واضحة لا في القرآن ولا في السنة توجد في
الفقه الواسع الذي هو علم الحقوق الاسلامي اه‍ كلامه
وما قيمة ما يقوله الانسان في القرآن الكريم بعد قوله تعالى فيه
" كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " وقوله " أفلا
يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا "
وقوله " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من
خشية الله " وقوله " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون يمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا "
(قال المقرى في إضاءة الدجنة)
وأخبر الله بعجز الانس * والجن عن إتيانهم بالجنس
من مثله وطولبوا بسوره * فما استطاعوا مثلها ضروره
ومن لجلباب الحيا أزاحا * معارضا له حوى افتضاحا
كمثل ما جاء به مسيلمة * من ترهات باختلال معلمه
ركيكة في لفظها والمعنى * كقوله والطاحنات طحنا.. الخ
17

الفصل الثاني
(القرآن في اللوح المحفوظ)
جاء في تفسير ابن كثير في سورة القدر ما نصه: قال ابن عباس (1)
وغيره أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة
من السماء الدنيا ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة
على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وجاء فيه أيضا عند قوله تعالى " بل هو قرآن
مجيد في لوح محفوظ " ما نصه: وقال الحسن البصري ان هذا القرآن
المجيد عند الله في لوح محفوظ ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه
وقال الطبراني عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى خلق
لوحا محفوظا من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه
نور لله في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة يخلق ويرزق ويميت ويحيى
ويعز ويذل ويفعل ما يشاء. اه‍

(1) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ولد بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين
وصح انه صلى الله عليه وسلم دعا له بقوله اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل اللهم علمه
الحكمة وتأويل القرآن اللهم بارك فيه وانشر منه واجعله من عبادك الصالحين
قال الحسن كان ابن عباس يقوم على منبرنا هذا فيقرأ البقرة وآل عمران
فيفسرهما آية آية توفى رضي الله عنه بالطائف سنة ثمان وستين وقيل سنة تسع
وقيل سنة سبعين وعمره إحدى وسبعون سنة وله مناقب عظيمة
18

الفصل الثالث
(في انزال القرآن)
جاء في تفسير ابن كثير عند قوله تعالى " شهر رمضان الذي انزل
فيه القرآن الآية " ما ملخصه روى الإمام أحمد بن حنبل ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان
وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة خلت
من رمضان وانزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان، وفي
حديث جابر بن عبد الله ان الزبور انزل لثنتي عشرة خلت من رمضان
والإنجيل لثماني عشرة والباقي كما تقدم. وقال إسرائيل عن السدى عن
محمد بن أبي المجالد عن مقسم عن ابن عباس انه سأل عطية بن الأسود
فقال وقع في قلبي الشك قول الله تعالى " شهر رمضان الذي انزل فيه
القرآن " وقوله " انا أنزلناه في ليلة مباركة " وقوله " انا أنزلناه في ليلة
القدر " وقد انزل في شوال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي المحرم
وصفر وشهر ربيع فقال ابن عباس انه انزل في رمضان في ليلة القدر
وفي ليلة مباركة جملة واحدة ثم انزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور
والأيام * وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال انزل القرآن
19

في النصف الثاني من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العزة (1)
ثم انزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة (2) لجواب كلام الناس
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال نزل القرآن في شهر رمضان في
ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء
ولا يجئ المشركون بمثل يخاصمون به الا جاءهم الله بجوابه وذلك قوله
" وقال الذين كفروا لولا انزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت
به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل الا جئناك بالحق وأحسن
تفسيرا " اه‍ من تفسير ابن كثير
الباب الثاني
(وفيه خمسة فصول)
(الفصل الأول في جمع القرآن الكريم)
يطلق جمع القرآن تارة على حفظه في الصدور وتارة على كتابته
فعلى المعنى الثاني نقول: ان القرآن جمع ثلاث مرات (الجمع الأول)
كتب كله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن غير مجموع في موضوع واحد

(1) وهو البيت المعمور وهو مسامت للكعبة بحيث لو نزل لنزل عليها
(2) وفي رواية ابن عباس السابقة في ثلاث وعشرين سنة لان بعضهم يقول
كان صلى الله عليه وسلم أول ما نزل عليه القرآن في الأربعين من عمره على أرجح
الأقوال، وبعضهم يقول كان في الثالثة والأربعين وبعضهم يقول كان في الثانية والأربعين
وهجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت بعد مضى ثلاث وخمسين سنة من
مولده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
20

ولا مرتب السور بل كان مفرقا في العسب واللخاف والرقاع
والأقتاب (1) ونحوها مع كونه محفوظا في الصدور - فقد روي الحاكم في
المستدرك عن زيد بن ثابت قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن
من الرقاع الحديث - وعنه أيضا قال كنت أكتب الوحي عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو يملى علي فإذا فرغت قال اقرأه فأقرؤه فان كان فيه سقط أقامه
وروى البخاري عن البراء قال لما نزلت " لا يستوى القاعدون من
المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " قال النبي صلى الله عليه وسلم ادع لي زيدا
وليجئ باللوح والدواة والكتف أو الكتف والدواة ثم قال أكتب
لا يستوى القاعدون الحديث، وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكتبوا عنى شيئا غير القرآن (2) قال

(1) العسب بضم فسكون وبضمتين أيضا جمع عسيب وهو جريد النخل
كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض، واللخاف بكسر اللام
جمع لخفة بفتح فسكون وتجمع أيضا على لخف بضمتين وهي صفائح الحجارة
الرقاق، والرقاع بالكسر جمع رقعة بالضم وهي القطعة من النسيج أو الجلد
والأقتاب جمع قتب بفتحتين وهو رحل البعير
(2) قال النووي في شرحه على صحيح مسلم عند هذا الحديث ما ملخصه: قيل
انما نهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على
القارئ وقيل إن حديث النهي منسوخ بجملة أحاديث " ذكرها النووي في شرحه "
ثم قال قال القاضي كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في
كتابة العلم فكرهها كثيرون منهم وأجازها أكثرهم ثم أجمع المسلمون على جوازها
وزال ذلك الخلاف اه‍
21

الحارث المحاسبي في كتاب فهم السنن كتابة القرآن ليست بمحدثة فإنه صلى الله عليه وسلم
كان يأمر بكتابته ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب اه‍
وعدم جمعه في مجلد في حياته عليه الصلاة والسلام كان لامرين
(الأول) الامن فيه من وقوع خلاف بين الصحابة لوجوده صلى الله عليه وسلم بين
أظهرهم (الثاني) خوف نسخ شئ منه بوحي قرآن بدله، ففي الاتقان قال
الخطابي انما لم يجمع صلى الله عليه وسلم القرآن في مصحف لما كان يترقبه من ورود
ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته فلما انقضى نزوله بوفاته (1) ألهم الله
الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة
وإلى ما تقدم أشار العلامة الشيخ محمد العاقب الشنقيطي رحمه الله بقوله
لم يجمع القرآن في مجلد * على الصحيح في حياة أحمد
للأمن فيه من خلاف ينشأ * وخيفة النسخ بوحي يطرأ
وكان يكتب على الأكتاف * وقطع الادم واللخاف
وبعد إغماض النبي فالأحق * أن أبا بكر بجمعه سبق
جمعه غير مرتب السور * بعد إشارة إليه من عمر
ثم تولى الجمع ذو النورين * فضمه ما بين دفتين
مرتب السور والآيات * مخرجا بأفصح اللغات

(1) توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين 13 ربيع الأول سنة
إحدى عشرة للهجرة
22

(الجمع الثاني) جمع أبى بكر الصديق رضي الله عنه روى
البخاري في صحيحه عن عبيد بن السباق (1) ان زيد ابن ثابت
رضي الله عنه قال أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر
بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي الله عنه ان عمر أتاني فقال إن
القتل قد استحر يوم اليمامة (2) بقراء القرآن وانى أخشى أن
يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وانى
أرى أن تأمر بجمع القرآن فقلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح
الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد قال أبو بكر
انك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل

(1) قال في فتح الباري عبيد بن السباق بفتح المهملة وتشديد الموحدة مدني
يكنى أبا سعد ذكره مسلم في الطبقة الأولى من التابعين
(2) استحر القتل أي اشتد واليمامة واقعة جهة نجد وكانت مع مسيلمة
الكذاب الذي ادعى النبوة وقد قتل في هذه الوقعة وابتدأت غزوتها في أواخر
عام الحادي عشر وانتهت في ربيع الأول عام الثاني عشر للهجرة وفيها قتل من
القراء سبعون قارئا من الصحابة وقيل سبعمائة وقد قتل منهم مثل هذا العدد في بئر
معونة قرب المدينة في عهد النبي صلي الله عليه وسلم، ولا يخفي ان قتل مثل هذا
العدد من القراء ليس بقليل خصوصا والكتابة ما كانت منتشرة عندهم حتى
يرجعوا إلى ما كتبوه بل كان اعتمادهم على ما في صدورهم
23

جبل من الجبال ما كان أثقل على مما أمرني من جمع القرآن (1) قلت
كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هو والله خير فلم يزل
أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبى بكر
وعمر رضي الله عنهما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف
وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري
لم أجدها مع أحد غيره (2) " لقد جائكم رسول من أنفسكم عزيز عليه
ما عنتم " حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله

(1) استثقاله لهذا الامر لم يكن من جهة ما يحصل له من المشقة والتعب
وانما كان خوفا من اقدامه على امر لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم
يأمر به فلما ظهرت له المصلحة في ذلك أقدم عليه بهمة ونشاط
(2) أي لم يجد صحيفتها والا فهي محفوظة في الصدور، أولم يجد في آخر
سورة التوبة قراءة من الأحرف السبعة الا عند أبي خزيمة الأنصاري فتأمل -
ولم يذكره أحد انه من حفاظ القرآن ولكن قد يحفظ منه بعض السور والآيات
وقد جاء من طريق أبى العالية انهم لما جمعوا القرآن في خلافة أبى بكر كان الذي
يملي عليهم أبي بن كعب فلما انتهوا من براءة إلى قوله يفقهون ظنوا ان هذا
آخر ما نزل منها فقال أبي بن كعب أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم
آيتين بعدهن " لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر السورة "
قال في فتح الباري شرح صحيح البخاري - الأرجح ان الذي وجد معه آخر
سورة التوبة أبو خزيمة بالكنية والذي وجد معه الآية من الأحزاب خزيمة،
وأبو خزيمة قيل هو بن أوس بن زيد بن أصرم مشهور بكنيته دون اسمه وقيل
هو الحارث بن خزيمة واما خزيمة فهو ابن ثابت ذو الشهادتين اه‍ من الفتح
24

ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه (1) رواه
البخاري في كتاب التفسير في باب جمع القرآن ورواه أيضا في
الكتاب المذكور في سورة براءة وجاء في رواية ابن أبي داود أن عمر
ابن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله فقيل كانت مع فلان قتل يوم
اليمامة فقال انا لله فأمر بجمع القرآن - اي راجع أبا بكر حتى أمر بجمعه
(ويحتار بعضهم) في فهم هذه الرواية كيف ان الآية التي سأل عنها عمر
لا توجد الا مع فلان الذي قتل يوم اليمامة فنقول ان منطوق الرواية
لا يدل على حصر الآية عند فلان فهناك غيره ممن يحفظها أيضا فعمر لما
سمع بقتل فلان يوم اليمامة خاف من قتل حفاظ كلام الله تعالى ان يضيع

(1) تقول دائرة المعارف الاسلامية لماذا أو دعت الصحف عند حفصة ولم
تودع عند الخليفة الجديد الذي ولى امر المسلمين وهو عثمان بن عفان (فنقول)
أو دعت الصحف عند حفصة بوصية من أبيها عمر بن الخطاب لأنها كانت
تحفظ القرآن كله في صدرها وكانت تقرأ وتكتب وهي زوجة رسول الله صلى
الله عليه وسلم أم المؤمنين وابنة عمر بن الخطاب خليفة المسلمين، ثم انه لم يتعين خليفة
حين وفاة عمر حتى تسلم إليه لان عمر لم يوص بالخلافة إلى أحد وانما جعلها
شورى في بضعة أشخاص فلهذه الاعتبارات كانت حفصة رضي الله عنها أولى من
غيرها بحفظ المصحف، ونظر عمر أصوب وأحكم. وفي كتاب الإصابة قال
أبو عمر أوصى عمر إلى حفصة وأوصت حفصة إلى أخيها عبد الله بما أوصى به إليها
عمر وبصدقة تصدقت بها بالغابة. توفى عمر رضي الله عنه في ذي الحجة
سنة ثلاث وعشرين.
25

القرآن فراجع أبا بكر في ذلك حتى جمعه في الصحف.
وجاء في رواية أخرى: ان عمر بن الخطاب دخل على أبى بكر فقال إن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة يتهافتون تهافت الفراش في النار
وانى أخشى ان لا يشهدوا موطنا الا فعلوا ذلك حتى يقتلوا وهم حملة القرآن
فيضيع القرآن وينسى ولو جمعته وكتبته فنفر منها أبو بكر وقال أفعل
ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتراجعا في ذلك ثم ارسل أبو بكر إلى زيد
ابن ثابت (1) قال زيد فدخلت عليه وعمر مسربل (2) فقال لي أبو بكر

(1) هو زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي يقال انه شهد أحدا
واستصغر يوم بدر ويقال أول مشاهده الخندق وكتب الوحي وغيره للنبي صلى الله
عليه وسلم وكان من علماء الصحابة وأعلمهم بالفرايض وفيه جاء الحديث أفرض
أمتي زيد بن ثابت، وعن خارجة بن زيد عن أبيه قال اتي بي النبي صلى الله عليه
وسلم مقدمه المدينة فقيل هذا من بني النجار وقد قرأ سبع عشرة سورة فقرأت
عليه فأعجبه ذلك فقال تعلم كتاب يهود فاني ما آمنهم على كتابي ففعلت فما مضى
لي نصف شهر حتى حذقته فكنت اكتب له إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له،
استخلفه عمر بن الخطاب على المدينة ثلاث مرات وكان عثمان إذا حج يستخلفه
على المدينة أيضا ورمى زيد يوم اليمامة بسهم فلم يضره - مات وهو ابن ست
وخمسين وقيل أربع وخمسين واختلف في وقت وفاته فقيل سنة خمس وأربعين
وقيل غير ذلك قال أبو هريرة حين مات زيد اليوم مات حبر هذه الأمة وعسى الله
ان يجعل في ابن عباس منه خلفا اه‍ ملخصا من الإصابة والاستيعاب، والمراد بكتاب
يهود السريانية كما في الرواية الأخرى الآتية في الفصل الثاني، وقيل العبرانية
والله تعالى اعلم
(2) السربال ما يلبس من قميص أو درع - قاله في المصباح
26

ان هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه وأنت كاتب الوحي فان تكن
معه اتبعتكما وان توافقني لا أفعل فاقتص أبو بكر قول عمر وعمر
ساكت فنفرت من ذلك وقلت يفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
أن قال عمر كلمة وما عليكما لو فعلتما ذلك فذهبنا ننظر فقلنا لا شئ والله
ما علينا في ذلك شئ قال زيد فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الادم
وكسر الأكتاف والعسب (1) اه‍ وهذه الرواية أوردها الطبري في
تفسيره وهل اللفظ واحد أم لا يحتاج إلى المراجعة.
وكان زيد لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان فان أبا بكر
قال لعمر ولزيد اقعدا على باب المسجد فمن جاء كما بشاهدين على شئ من
كتاب الله فاكتباه - أخرجه ابن أبي داود من طريق هشام بن
عروة عن أبيه (2)
جاء في كتاب نهاية القول المفيد (فان قيل) كان زيد حافظا
للقرآن وجامعا له فما وجه تتبعه المذكورات (والجواب) انه كان
يستكمل وجوه قراءاته ممن عنده ما ليس عنده وكذا نظره في
المكتوبات التي قد عرف كتابتها وتيقن أمرها فلا بد من النظر فيها

(1) الادم بضمتين وبفتحتين أيضا جمع أديم وهو الجلد المدبوغ،
والأكتاف جمع كتف وهو عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان، والعسب بضم
فسكون وبضمتين أيضا جمع عسيب وهو جريد النخل إذا نزع منه خوصه
(2) انظر الفصل الثاني في احتياط الصحابة في كتابة القرآن
27

وان كان حافظا ليستظهر بذلك وليعلم هل فيها قراءة غير قراءته أم لا وإذا
استند الحافظ عند الكتابة إلى أصل يعتمد علية كان آكد وأثبت في
ضبط المحفوظ
وجاء في ارشاد القراء والكاتبين: ان زيدا كتب القرآن كله
بجميع اجزائه وأوجهه المعبر عنها بالأحرف السبعة الواردة في حديث
ان هذا القرآن انزل على سبعة أحرف فاقرؤا ما تيسر منه وكان
أولا اتاه جبريل فقال له إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على
حرف واحد ثم راجعه إلى السابعة فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك
القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤا عليه أصابوا (1) اه‍ من
عنوان البيان في علوم التبيان.
فأبو بكر رضي الله عنه هو أول من جمع القرآن الكريم بالأحرف
السبعة التي نزل بها واليه تنسب الصحف البكرية وكان ذلك بعد وقعة
اليمامة التي كان انتهاؤها سنة اثنتي عشرة للهجرة - فجمعه للقرآن
كان في سنة واحدة تقريبا (2) لأنه وقع بين غزوة اليمامة وبين وفاته

(1) سيأتي شرح هذا الحديث في الفصل الخامس من الباب الثاني
(2) لولا همة الصحابة الذين بذلوا أنفسهم لله لما تم في مدة سنة واحدة كتابة
المصحف بالأحرف السبعة كلها وجمعه من الأحجار والعظام والجلود ونحوها
فانظر إلى توفيق الله لهم وعنايته بهم وتأمل كيف خدموا الدين ونشروا الاسلام
رضي الله عنهم
28

رضي الله عنه التي كانت في جمادى الثانية سنة ثلاثة عشر - قال علي بن أبي طالب
أعظم الناس في المصاحف اجرا أبو بكر رحمة الله على
أبى بكر هو أول من جمع كتاب الله.
(ويسأل بعضهم) لما ذا لم يأمر أبو بكر أو عمر أن ينسخ
الناس مصاحف مما كتبه زيد بن ثابت ولماذا لم يحرص كبار
الصحابة على أن يكون لدي كل واحد منهم أو لدى بعضهم على
الأقل نسخ من هذه الصحف التي تتضمن كتاب الله.
(فنقول) ان أبا بكر رضي الله عنه لم يجمع القرآن لحدوث
خلل في قراءته وانما جمعه خوفا من ذهاب حملته بقتلهم في الغزوات وكان
جمعه له بالأحرف السبعة والناس يقرؤن بها إلى زمن عثمان فلا
يختلف مصحف أبى بكر عما يقرؤه الناس ويحفظونه فلا داعي إذا
لحمل الناس على مصحفه.
اما عثمان رضي الله عنه فإنه لم يجمع القرآن الا بعد أن رآى
اختلاف الناس في قراءته حتى أن بعضهم كان يقول إن قراءتي خير
من قراءتك وكان جمعه له بحرف واحد وهو لغة قريش وترك
الأحرف الستة الباقية فكان من الواجب حمل الناس على اتباع
مصحفه وعلى قراءته بحرف واحد فقط قبل ان يختلفوا فيه
29

اختلاف اليهود والنصارى كما ترى تفصيل ذلك في الجمع الثالث
اما عدم نسخ كبار الصحابة مصاحف على نمط ما جمعه أبو بكر
فلم يكن هناك ما يدعو لذلك لعدم اختلاف ما جمعه أبو بكر بما عند
الناس، وان بعضهم كتبوا مصاحفهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتلقوه منه
سماعا - فكان جمع أبى بكر بمثابة سجل للقرآن يرجع إليه إذا حدث
أمر كما وقع لعثمان حين جمعه القرآن فإنه رجع إلى الصحف البكرية
وكانت عند حفصة بنت عمر
(ويسأل بعضهم أيضا) لم لم يجتمع أبو بكر وعمر وعثمان وعلى
على نسخ المصحف وهم يحفظونه كله في صدورهم (فنقول) ان أبا بكر
هو خليفة المسلمين وهؤلاء هم كبار الصحابة وهم أصحاب الرأي
والشورى ومنهمكون في الغزوات ونشر الاسلام والنظر في مصالح
الأمة فاشتغالهم بأنفسهم بجمع القرآن يمنعهم عن النظر في شؤون
المسلمين لان التفرغ لجمعه يحتاج إلى مدة طويلة وعناء عظيم - وإذا
عرفت انهم كانوا يجمعونه مما كتب على نحو العظام والألواح
والحجارة وانهم ما كانوا يقبلون من أحد شيئا من القرآن الا
بشاهدين علمت أنهم يحتاجون في البحث والترتيب والمراجعة
30

والتصحيح إلى مدة غير قصيرة، وظهر لك ما تحملوه من المشقة
العظمى والتعب الكبير - خصوصا وانهم في هذه المرة جمعوه
بالأحرف السبعة كلها وهذا يستلزم أن يكون حجم مصحف أبى بكر
أضعاف حجم مصحف عثمان لان هذا جمعه على حرف واحد
من الأحرف السبعة.
لذلك أسند الخلفاء الأربعة جمع القرآن إلى زيد بن ثابت كاتب
الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي شهد العرضة الأخيرة
وكان من حفظة القرآن وأعلم الصحابة فقام بهذه المهمة خير قيام في
مصحف أبى بكر وفي مصحف عثمان رضي الله عنهم (1) وجزاهم عن
الاسلام والمسلمين خير الجزاء
والحقيقة لو لم يلهم الله تعالى هؤلاء الصحابة الكرام بجمع
القرآن العظيم بكتابته في الصحف لذهب بموت حفاظه وانقراض
الصحابة وهذا مصداق عز وجل " انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون "
ولقد كان سعى عمر رضي الله عنه لجمع القرآن من فضائله التي

(1) كان عمر زيد حين كتب مصحف أبي بكر نحو اثنتين وعشرين سنة
وكان عمره حين كتب مصحف عثمان نحو خمس وثلاثين سنة
31

لا تحصى ومناقبه التي لا تستقصى كيف وقد قال فيه صلى الله عليه وسلم ان الله
جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وقال * (لقد كان فيما قبلكم من الأمم
محدثون فان يكن في أمتي أحد فإنه عمر) * رواه البخاري ومسلم
قوله محدثون هو بفتح الدال المهملة وتشديدها أي ملهمون
وكما نزل القرآن بموافقته في أسرى بدر وفي الحجاب وفي تحريم
الخمر وافق عمر الحق والصواب وفى إشارته على أبى بكر بجمع القرآن
ولقد جمع بعضهم موافقات عمر رضي الله عنه في منظومة أولها
الحمد لله وصلى الله * على نبيه الذي اجتباه
يا سائلي والحادثات تكثر * عن الذي وافق فيه عمر
وما يرى انزل في الكتاب * موافقا لرأيه الصواب
(الجمع الثالث) جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه (1) ولم ينقل
انه كتب بيده مصحفا وانما امر بجمعه وكتابته على حرف واحد
من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن فلذلك ينسب إليه
ويقال " المصحف العثماني "

(1) تولى عثمان لآخر يوم من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين للهجرة
فاستقبل بخلافته المحرم عام أربع وعشرين وقتل في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين
32

وسببه كما في البخاري عن أنس ان حذيفة بن اليمان (1) قدم على
عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق

(1) هو حذيفة بن اليمان العبسي واسم اليمان حسيل بن جابر واليمان لقب
كان أبوه قد أصاب دما فهرب إلى المدينة فحالف بنى عبد الأشهل فسماه قومه
اليمان لكونه حالف اليمانية وتزوج والدة حذيفة وهي من الأنصار اسمها
الرباب بنت كعب بن عدي فولد له بالمدينة واسلم حذيفة وأبوه وأرادا شهود
بدر فصدهما المشركون وشهدا أحدا فاستشهد اليمان بها وشهد حذيفة الخندق
وله بها ذكر حسن وما بعدها * وروي حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم
الكثير وهو معروف في الصحابة بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى مسلم عن عبد الله بن يزيد الخطمي عن حذيفة قال لقد حدثني رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما كان وما يكون حتى تقوم الساعة وكان عمر ينظر إليه
عند موت من مات منهم فان لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر وكان فتح
همدان والري والدينور على يد حذيفة، سئل حذيفة اي الفتن أشد قال إن
يعرض عليك الخير والشر فلا تدرى أيهما تركب قال العجلي استعمله
عمر على المدائن فلم يزل بها حتى مات بعد قتل عثمان وبعد بيعة على بأربعين
يوما وذلك سنة ست وثلاثين اه‍ ملخصا من الإصابة والاستيعاب
وحذيفة هذا هو الذي يقول " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول
الله انا كنا الخ " وتمام الحديث في البخاري في كتاب الفتن وفي علامات
النبوة أيضا وتمامه في صحيح مسلم في كتاب الامارة في باب الأمر بلزوم الجماعة
ولولا التطويل لسقنا الحديث بتمامه. فإنه حديث مهم
(ونقول) بما ان النبي صلى الله عليه وسلم حدث حذيفة بما كان وما يكون
لي يوم القيامة لا يبعد أن يسر عليه الصلاة والسلام إليه ان يحرض عثمان
لجمع القرآن على حرف واحد إذا رآى اختلاف الناس في قراءته فكتم حذيفة
هذا الامر حتى جاء وقته
33

فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين
أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود
والنصارى (1) فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها
في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد
ابن ثابت (2) وعبد الله بن الزبير (3) وسعيد بن العاص (4) و عبد الرحمن

(1) وفي رواية قدم حذيفة من أرمينيا فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان
فقال يا أمير المؤمنين أدرك الناس. الخ. وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري
عند هذا الحديث روايات كثيرة فيما اختلفوا فيه من القراءات لم ننقلها هنا
خوف التطويل فراجعها ان شئت
(2) تقدمت ترجمة زيد عند جمع أبى بكر للمصحف في صحيفة 26
(3) هو عبد الله بن الزبير بن العوام وأمه أسماء بنت أبي بكر ولدته سنة
ثنتين من الهجرة وقيل ولد في السنة الأولى وهو أول مولود ولد في الاسلام
من المهاجرين بالمدينة وكانت به لسانة وفصاحة وكان كثير الصلاة والصيام
بويع له بالخلافة سنة أربع وستين وقيل خمس وستين وقتل في أيام عبد الملك
سنة ثلاث وسبعين. اه‍ ملخصا من الاستيعاب
(4) هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية ولد عام الهجرة
وقيل بل سنة أحدي وكان أحد اشراف قريش ممن جمع السخاء والفصاحة وهو
أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان استعمله عثمان على الكوفة وغزا بالناس
طبرستان فافتتحها توفى في خلافة معاوية سنة تسع وخمسين. اه‍ ملخصا من
الاستيعاب " وقد ورد ابن العاص بالياء وبغير ياء
34

ابن الحارث بن هشام (1) فنسخوها في المصاحف (2) وقال عثمان للرهط
القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن
فاكتبوه بلسان قريش فإنه انما نزل بلسانهم ففعلوا (3) حتى إذا نسخوا

(1) هو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي تزوج عمر
أمه فنشأ في حجر عمر وتزوج بنت عثمان ثم كان ممن ندبه عثمان لكتابة
المصاحف من شباب قريش قال ابن سعد كان من اشراف قريش قال ابن حبان
مات سنة ثلاث وأربعين. اه‍ ملخصا من الإصابة
(2) واخرج ابن أبي داود انه جمع اثنى عشر رجلا من قريش والأنصار
وقال لهم إذا اختلفتم في لغة فاكتبوه بلغة قريش فلم يختلفوا الا في التابوت
في البقرة فقال زيد بالهاء وقال عيره بالتاء فكتبوه بالتاء
(3) وفي البخاري في كتاب التفسير في باب نزل القرآن بلسان قريش
والعرب " وقال لهم (أي عثمان لزيد ومن معه من المذكورين) إذا اختلفتم أنتم
وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش فان
القرآن انزل بلسانهم ففعلوا ". جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري قال
القاضي أبو بكر الباقلاني معنى قول عثمان نزل القرآن بلغة قريش أي معظمه
وان لم تقم دلالة قاطعة على أن جميعه بلسان قريش فان ظاهر قوله تعالى انا جعلناه
قرآنا عربيا انه نزل بجميع ألسنة العرب.. الخ كلامه " وقال أبو شامة يحتمل
ان يكون قوله نزل بلسان قريش اي ابتداء نزوله ثم أبيح ان يقرأ بلغة غيرهم
كما سيأتي تقريره في باب انزل القرآن على سبعة أحرف اه‍ وتكميله ان يقول إنه
نزل أولا بلسان قريش أحد الأحرف السبعة ثم نزل بالأحرف السبعة المأذون
في قراءتها تسهيلا وتيسيرا كما سيأتي بيانه فلما جمع عثمان الناس على حرف واحد
رأى أن الحرف الذي نزل القرآن أولا بلسانه أولى الأحرف فحمل الناس عليه
لكونه لسان النبي صلى الله عليه وسلم ولما له من الأولية المذكورة وعليه يحمل
كلام عمر لابن مسعود أيضا اه‍ من فتح الباري، وكلام عمر لابن مسعود سيأتي
قريبا في الهامش
35

الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل
أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة
أو مصحف أن يحرق (1) قال ابن شهاب وأخبرني خارجة بن زيد
ابن ثابت سمع زيد بن ثابت قال فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا
المصحف قد كنت اسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها

(1) والسبب في احراقها هو قطع جذور اختلاف الناس في القراءة فقد
يكون بعضهم كتب شيئا من القرآن على غير وجه صحيح لما نشأ فيهم من الخلاف
الذي كان سببا في قيام عثمان بجمع القرآن وحمل الناس عليه - فباحراق تلك
الصحف تتوحد قراءتهم على حرف واحد حسب ما في مصحف عثمان * روي
أبو بكر بن أبي داود باسناد صحيح عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال أدركت
الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك أو قال لم ينكر ذلك
منهم أحد اه‍ " وانما لم يأمر عثمان بحرق صحف حفصة لأنها كتبت بأمر أبى بكر
بالأحرف السبعة لا يتطرقها الشك وعنها نقل مصحفه ولأنه وعدها بردها إليها
فبقيت عندها إلى وفاتها فلما توفيت استردها مروان حين كان أميرا بالمدينة من
جهة معاوية وأمر بتشقيقها وغسلها وقال انما فعلت هذا لأني خشيت ان طال
بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب " وقيل لما ماتت حفصة سلم
عبد الله بن عمر هذه الصحف لجمع من الصحابة فغسلت غسلا
36

مع خزيمة بن ثابت الأنصاري (1) " من المؤمنين رجال صدقوا
ما عاهدوا الله عليه " فألحقناها في سورتها في المصحف - رواه البخاري
في كتاب التفسير في باب جمع القرآن ورواه الطبري في تفسيره
بلفظ اخر
وفي رواية أبى قلابة فلما فرغ عثمان من المصحف كتب إلى
أهل الأمصار انى صنعت كذا وكذا ومحوت ما عندي فامحوا ما
عندكم اه‍ وفي رواية شعيب عند ابن أبي داود (2) والطبراني وغيرهما
وأمرهم ان يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي ارسل به اه‍.
(نقول) أكثر الروايات على الاحراق وبعضها على المحو فيمكن
الجمع بينها بأن نقول كان الاحراق فيما كتب على نحو الجلود والعظام
وكان المحو فيما كتب على نحو الألواح والحجارة والمحو قد يكون بالغسل
وقد يكون بالطمس.
وفي رواية أن حذيفة قال يا أمير المؤمنين أدرك الناس فقال
عثمان وما ذاك قال غزوت مرج أرمينيا فحضرها أهل العراق
وأهل الشام فإذا أهل الشام يقرؤن بقراءة أبي بن كعب فيأتون

(1) ستأتي ترجمة خزيمة في الفصل الثالث في ضبط وتصحيح المصحف
العثماني.
(2) هو ابن داود الظاهري وهو من جملة أصحاب الحديث
37

بما لم يسمع أهل العراق فيكفرهم أهل العراق وإذا أهل العراق يقرؤن
بقراءة ابن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفرهم أهل
الشام قال زيد فأمرني عثمان إلى آخر القصة (1)
وفى رواية اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان
والمعلمون (2) فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال عندي تكذبون به
وتلحنون فيه فمن نأى عنى من الأمصار كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا
يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما.
واخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال قال
على لا تقولوا في عثمان الا خيرا فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف
الا عن ملا منا قال ما تقولون في هذه القراءة فقد بلغني ان بعضهم
يقول قراءتي خير من قراءتك وهذا يكاد يكون كفرا قلنا فما ترى قال
أرى ان يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف

(1) اعلم أن أهل دمشق وحمص اخذوا عن المقداد بن الأسود وأهل
الكوفة عن ابن مسعود وأهل البصرة عن أبي موسى الأشعري وكانوا يسمون
مصحفه لباب القلوب وقرأ كثير من أهل الشام بقراءة أبي بن كعب.
انظر في الفصل الخامس من الباب الثاني في حديث انزل القرآن على سبعة أحرف
(2) فان قيل - كيف يتصور ذلك مع أن الطالب هو الذي يتلقى القرآن
والعلم من معلمه - نقول - يمكن ذلك بان يسمع من أهله وجيرانه قراءة غير
قراءة معلمه وتأكيدهم له بصحتها.
38

قلنا فنعم ما رأيت (1)
وقال على أيضا لو وليت لعملت بالمصاحف التي عمل بها عثمان.
وفي عنوان البيان قال الآلوسي في تفسيره وهذا الذي ذكرناه
من فعل عثمان هو ما ذكره غير واحد من المحققين حتى صرحوا بان
عثمان لم يصنع شيئا فيما جمعه أبو بكر من زيادة أو نقص أو تغيير
ترتيب سوى انه جمع الناس على القراءة بلغة واحدة وهي لغة قريش
محتجا بأن القرآن نزل بلغتهم اه‍ (2) وهو ظاهر في أن ترتيب
السور كترتيب الآيات كان في عهد أبى بكر رضي الله عنه خلافا
لما ذكره الحاكم في مستدركه. انتهى من عنوان البيان.

(1) الظاهر من هذه الرواية والتي قبلها ان عثمان رضي الله عنه كان في نيته
جمع الناس على مصحف واحد وعلى قراءة واحدة حين رآى اختلاف الناس
في قراءة القرآن غير أنه لم يعزم علي تنفيذ ما كان يضمره الا بعد أن أنذره حذيفة
صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عاقبة هذا الاختلاف * بل إن عمر شعر
بهذا في أيام خلافته فكتب إلى ابن مسعود يأمره ان يقرئ الناس القرآن بلغة
قريش كما يأتي بعد هذا الكلام
(2) واخرج أبو داود من طريق كعب الأنصاري ان عمر كتاب إلى ابن
مسعود ان القرآن نزل بلسان قريش فاقرئ الناس بلغة قريش لا بلغة هذيل
قال ابن عبد البر يحتمل ان يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار لان الذي
قرأ به ابن مسعود لا يجوز قال وإذا أبيحت قراءته على سبعة أوجه أنزلت جاز
الاختيار فيما أنزل اه‍ من فتح الباري على صحيح البخاري - وابن مسعود كان
من هذيل وستأتي ترجمته
39

قال ابن حجر وكان ذلك (أي جمع عثمان للمصحف) في سنة
خمس وعشرين قال وغفل بعض من أدركناه فزعم أنه في حدود
سنة ثلاثين ولم يذكر مستندا (1) قال ابن التين وغيره الفرق بين
جمع أبى بكر وجمع عثمان أن جمع أبى بكر كان لخشية ان يذهب
من القرآن شئ بذهاب حملته لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد
فجمعه في صحائف مرتبا لايات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم
وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرؤه
بلغاتهم على اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض فخشي
من تفاقم الامر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبا
لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجا بأنه نزل بلغتهم
وان كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعا للحرج والمشقة في ابتداء
الامر فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت فاقتصر على لغة واحدة اه‍
فلو تأملت ما كان يحصل لبعضهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من
الفزع وتغير الحال عند سماعه قراءة لا يعرفها كما سيأتي بيانه عند

(1) إذا تحققنا متى كانت غزوة أرمينيا وأذربيجان وقدرنا المدة التي تستغرق
كتابة المصحف ظهر لنا ذلك. وقد غزا العرب أرمينيا مرتين الأولى في عهد
عمر بن الخطاب سنة ثمانية عشر هجرية والثانية في عهد عثمان بن عفان سنة ست
وعشرين كما ذكره الأستاذ عبد الوهاب النجار في كتابة تاريخ الاسلام قال وجعل
الطبري ذلك سنة إحدى وثلاثين
40

حديث انزل القرآن على سبعة أحرف، لم تستغرب حدوث الاختلاف
في قراءة القرآن بعد وفاته عليه الصلاة والسلام بنحو خمسة عشر عاما
وان جمع عثمان القرآن بحرف واحد وحمل الناس عليه لهو عين الحكمة
وعين الصواب، وهو سر قوله تعالى " انا نحن نزلنا الذكر وانا له
لحافظون " ولو ترك الناس على ما كانوا عليه ولم تتوحد قراءتهم
للقرآن لوقع التحريف والتبديل فيه إلى يوم القيامة.. فرضي الله تعالى
عن صحابة رسول الله أجمعين
(فان قيل) لم امتثل زيد بن ثابت امر عثمان بجمع القرآن
ولم يمتثل أمر أبى بكر الا بعد نظر ومراجعة (نقول) كان ذلك
مع أبي بكر لان هذا الامر لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به
فخوفا من وقوعهم في محظور توقف هو وأبو بكر أيضا عن موافقة
عمر ثم بعد روية وتفكر ظهر لهم أن ذلك من المصلحة الدينية وأن
تركهم له قد يؤدى إلى ضياع ما أنزله الله على رسوله، فبعد أن جمع
زيد المصحف لأبي بكر لا مبرر له في عدم موافقته وامتثاله امر
عثمان خصوصا وقد رآى اختلاف الناس في قراءة القرآن
(وان قيل) لم أسند أبو بكر جمع المصحف لزيد وحده وأسنده
إليه عثمان وأشرك معه رجالا من قريش (نقول) اختص أبو بكر زيدا
41

وحده لما يعهده فيه من النشاط وقوة الشباب ولأنه كان يكتب
الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ادرى بأوجه القراءات كلها وعثمان انما أشرك
معه نفرا من قريش لأنه يريد جمع القرآن على حرف واحد وهو
لغة قريش ويد من الأنصار، ولأنه يريد سرعة انجاز جمعه خوفا
من تفاقم امر اختلاف الناس في القراءة
ولننقل هنا شيئا مناسبا مما ذكره الإمام محمد بن جرير الطبري
المولود سنه أربع وعشرين ومائتين في أول تفسيره بعد أن بين وجهة
حمل عثمان الناس على مصحفه وهو (فان قال) بعض من ضعفت
معرفته وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم
بقراءتها (قيل) ان أمرهم بذلك لم يكن أمر ايجاب وفرض وانما كان
أمر إباحة ورخصة الخ
(ويسأل بعضهم) لم لم تكن الأحرف الستة الموجودة وقد
أنزلت من عند الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وهو أقرأها أصحابه فان
نسخت فرفعت فما الدليل عليه، وان نسيتها الأمة وتركتها فذلك
تضييع ما قد أمروا بحفظه (فأجاب الإمام ابن جرير الطبري)
على هذه الأسئلة بقوله: لم تنسخ الأحرف الستة فترفع ولا ضيعتها
الأمة وهي مأمورة بحفظها ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن
42

وخيرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاعت وضرب
لها مثلا في الفقه وهو إذا حنث موسر في يمين فله ان يختار كفارة
من ثلاث كفارات اما بعتق أو اطعام أو كسوة فكذلك الأمة أمرت
بحفظ القرآن وقراءته وخيرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت
فرأت لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد (1) قراءته
بحرف واحد ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية ولم تحظر قراءته
بجميع حروفه على قارئه بما أذن له في قراءته به ثم أورد الطبري أنباء
ما قد حدث في أيام أبى بكر وعثمان من جمع المصحف اه‍ كلام ابن
جرير رحمه الله تعالى ولا يخفى ان جوابه سديد ومعتمد، وقد أطال
البحث في هذا الموضوع فراجع تفسيره ان شئت
وجاء في فتح الباري على صحيح البخاري قال أبو شامة وقد
اختلف السلف في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن هل هي مجموعة
في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم أو ليس فيه الا حرف واحد
منها مال الباقلاني إلى الأول وصرح الطبري وجماعته بالثاني
وهو المعتمد اه‍ منه

(1) فان قال قائل ما العلة التي أوجبت على الأمة الثبات على حرف واحد
من الأحرف السبعة قيل الخوف من ضياع القرآن باختلافهم في قراءته كما في
تفسير الطبري
43

وجاء في فتح الباري أيضا ما نصه: وسبب اختلاف القراءات
السبع وغيرها كما قال ابن أبي هشام ان الجهات التي وجهت إليها
المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة وكانت
المصاحف خالية من النقط والشكل قال فثبت أهل كل ناحية على
على ما كانوا تلقوه سماعا عن الصحابة بشرط موافقة الخط وتركوا ما
يخالف الخط امتثالا لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في
ذلك من الاحتياط للقرآن فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراءة الأمصار مع
كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة اه‍ من فتح الباري لابن حجر
(فخلاصة ما تقدم) أن أبا بكر أول من جمع القرآن بإشارة عمر
رضي الله عنهما وكان جمعه بالأحرف السبعة كلها التي نزل بها القرآن
وسببه الخوف من ضياعه بقتل القراء في الغزوات - ثم في خلافة
عثمان كثر اختلاف الناس في قراءة القرآن فخشي رضي الله عنه عاقبة
هذا الامر الخطير وقام بجمع القرآن على حرف واحد من الا حرف
السبعة وهو حرف قريش وترك الا حرف الستة الباقية حرصا منه على
جمع المسلمين على مصحف واحد وقراءة واحدة وعزم على كل من كان
عنده مصحف مخالف لمصحفه الذي جمعه أن يحرقه فأطاعوه
واستصوبوا رأيه - فالمصحف العثماني لم يجمع الا بحرف واحد من
44

الأحرف السبعة وان القراءات المعروفة الآن جميعها في حدود ذلك
الحرف الواحد فقط واما الأحرف الستة فقد اندرست بتاتا من الأمة
كما صرح بهذا الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره حيث قال " فتركت
الأمة القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها امامها العادل (يعنى عثمان)
في تركها طاعة منها له ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل
ملتها حتى درست من الأمة معرفتها وتعفت آثارها فلا سبيل لاحد
اليوم إلى القراءة بها لدثورها وعفو آثارها وتتابع المسلمون على رفض
القراءة بها من غير جحود منها بصحتها وصحة شئ منها ولكن نظرا
منها لأنفسها ولسائر أهل دينها فلا قراءة اليوم للمسلمين الا بالحرف
الواحد الذي اختاره لهم امامهم الشفيق الناصح دون ما عداه من
الا حرف الستة الباقية فان قال بعض من ضعفت معرفته وكيف جاز
لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بقراءتها قيل إن أمرهم
بذلك لم يكن امر ايجاب وفرض وانما كان إباحة ورخصة.. الخ اه‍
فتنبه لهذا الموضوع المهم ولا تفوتك معرفته فإنه مبحث نفيس.
ولقد اتينا بكلام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى لأنه من
كبار الأئمة ولأن عصره كان قريبا من عصر الصحابة والتابعين
فإنه ولد سنة مائتين وأربع وعشرين وطاف الأقاليم في طلب العلم وسمع
45

عن الثقات الأجلة وجمع من العلوم ما لم يشاركه أحد في عصره وله
تصانيف عديدة حكى انه مكث أربعين سنة فكتب في كل يوم
منها أربعين ورقة توفى في شوال عام ثلاثمائة وعشره وصلى على قبره
عدة شهور ليلا ونهارا اه‍ باختصار من طبقات الشافعية الكبرى
ولنختم هذا الفصل بأبيات في موضوع جمع القرآن من نظم
الامام الشاطبي رحمه الله تعالى في عقيلة أتراب القصائد وهي:
ان اليمامة أغواها مسيلمة * - الكذاب في زمن الصديق إذ خسرا
وبعد بأس شديد حان مصرعه * وكان بأسا على القراء مستعرا
نادى أبا بكر الفاروق خفت على القراء * فادارك القرآن مستطرا
فأجمعوا جمعه في الصحف واعتمدوا * زيد بن ثابت العدل الرضى نظرا
فقام فيه بعون الله يجمعه * بالنصح والجد والحزم الذي بهرا
من كل أوجهه حتى استتم له * بالأحرف السبعة العليا كما اشتهرا
فأمسك الصحف الصديق ثم إلى * - الفاروق أسلمها لما قضى العمرا
وعند حفصة كانت بعد فاختلف القراء * فاعتزلوا في أحرف زمرا
وكان في بعض مغزاهم مشاهدهم * حذيفة فرأى في خلفهم عبرا
فجاء عثمان مذعورا فقال له * أخاف أن يخلطوا فادارك البشرا
فاستحضر الصحف الأولى التي جمعت * وخص زيدا ومن قريشهم نفرا
على لسان قريش فاكتبوه كما * على الرسول به انزاله انتشرا
فجردوه كما يهوى كتابته * ما فيه شكل ولا نقط فيحتجرا
46

الفصل الثاني
(في احتياط الصحابة في كتابة القرآن)
جمع القرآن العظيم لأول مرة في التاريخ وهو مفرق في الألواح
والعظام وصدور الرجال ليس بالامر الهين، بل هو عمل خطير
يحتاج إلى عناية كبرى ونثبت تام * لذلك ما كانت اللجنة القائمة
بجمعه يعتمدون على ما في صدورهم منه وفيهم من يحفظه كله
كما أنهم ما كانوا يكتفون بمجرد نظر إلى ما هو مكتوب في الرقاع
ونحوها بل يأخذونه عمن تلقاه سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك
أدعى للاطمئنان والاحتياط وأبعد للشك والارتياب.
فقد اخرج ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن
حاطب قال قدم عمر فقال من تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من
القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح
والعسب وكان زيد لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان.
واخرج ابن أبي داود أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه
أن أبا بكر قال لعمر ولزيد اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين
على شئ من كتاب الله فاكتباه.
فهاتان الروايتان تدلان صريحا انهم ما كانوا يكتفون بمجرد
وجدان شئ من كتاب الله مكتوبا حتى يشهد به من تلقاه سماعا
47

زيادة في الاحتياط، وهذه الطريقة محكمة جدا وحيث يطمئن إليها
كل مسلم ولا تدع مجالا لطعن المنافقين.
قال ابن حجر - وكأن المراد بالشاهدين شاهد الحفظ والكتابة
قال السخاوي المراد انهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب
بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) والمراد انهما يشهدان على أن ذلك من
الوجوه التي نزل بها القرآن.
يقول بعض المعاصرين لنا - أن رواية الجلوس على باب المسجد
واستعراض ما لدى الناس من قرآن هي إلى الوهم أقرب منه إلى الحقيقة
- فنقول - ان جمع القرآن بالأحرف السبعة واستقصاؤها لا يكون
الا باستعراض ما لدى الناس من قرآن لما عسى ان توجد عند بعضهم
آية أو قراءة من الأحرف السبعة تلقاها من النبي صلى الله عليه وسلم لا توجد عند
آخر - ثم إن المسجد في ذلك العهد هو خير مكان يليق باستقبال الناس
لمثل هذا الامر الجليل، فالحضارة المدنية المستلزمة لانتظام دواوين
الحكومات لم تكن تعرف عند العرب وقتئذ بل كانوا في حالة من
البداوة وبساطة العيش حتى أن نفس المسجد النبوي كان سقفه

(1) يؤيد هذا المعنى رواية ابن عساكر الآتية قريبا وهي ان عثمان خطب
في الناس.. الخ
48

من الجريد وجدرانه من اللبن، فإذا علم ما ذكر زال الاستغراب من
هذه الرواية التي هي عين الحقيقة.
واخرج ابن أشتة في المصاحف عن الليث بن سعد قال أول
من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد وكان الناس يأتون زيد بن ثابت
فكان لا يكتب آية الا بشاهدي عدل وان آخر سورة براءة لم توجد
الا مع خزيمة بن ثابت (1) فقال اكتبوها فان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل
شهادته بشهادة رجلين (2) فكتب وان عمر اتى بآية الرجم

(1) ترجمة خزيمة بن ثابت ستأتي في الفصل الثالث في ضبط وتصحيح
المصحف الكريم - لكن ورد في بعض الروايات " مع أبي خزيمة الأنصاري "
فتأمل وقد تقدم الكلام عليه في جمع أبى بكر للقرآن
(2) سبب جعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين هو ان النبي صلى الله
عليه وسلم اشترى فرسا من سواد بن الحارث فاستتبعه ليقضيه ثمن الفرس فأسرع
النبي صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ البائع المذكور فجعل رجال يعترضونه يساومونه
في الفرس حتى زادوه على ثمنه وهم لا يعلمون ان النبي صلى الله عليه وسلم
اشتراه منه فأنكر الأعرابي بيعه للنبي صلى الله عليه وسلم فشهد له خزيمة بن ثابت
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بم تشهد ولم تكن حاضرا قال بتصديقك
وانك لا تقول الا حقا فقال عليه الصلاة والسلام من شهد له خزيمة أو عليه
فحسبه وفي رواية فجعل شهادته بشهادة رجلين - هذه خلاصة القصة وهي
مشهورة في كتب الأحاديث والسير قال الامام السندي في حاشيته على سنن
النسائي والمشهور انه صلى الله عليه وسلم رد الفرس بعد ذلك على الأعرابي فمات
من ليلته عنده، رواه النسائي في أواخر كتاب البيوع
49

فلم يكتبها لأنه كان وحده (1)
وروى ابن عساكر أن عثمان خطب في الناس يومئذ وعزم على كل
رجل عنده شئ من كتاب الله لما جاء به فكان الرجل يجئ بالورقة
والأديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة ثم دعاهم رجلا رجلا
فناشدهم أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو املاه عليك فيقول نعم فلما
فرغ من ذلك عثمان قال من اكتب الناس (2) قالوا كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) آية الرجم هي " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " وقد كانت
مكتوبة فنسخت تلاوتها وبقى حكمها معمولا بها - عن ابن عباس حدثني
عبد الرحمن بن عوف ان عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول ألا وان
ناسا يقولون ما الرجم في كتاب الله وانما فيه الجلد وقد رجم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ورجمنا بعده ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم ان عمر زاد في كتاب الله
ما ليس منه لأثبتها كما نزلت - رواه الإمام أحمد والنسائي - وقد ذكر
الشوكاني في كتابه نيل الأوطار في أوائل كتاب الحدود شيئا كثيرا عن آية
الرجم وحكمه فراجعه
(2) أي في معرفة فواعد الكتابة وحسن الخط - وترجمة زيد تقدمت
وكان يكتب السريانية أيضا فقد قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أتعلم
السريانية قال انى لا آمن يهود على كتابي فما مر بي نصف شهر حتى تعلمت
وحذقت فيه فكنت أكتب له صلى الله عليه وسلم واقرأ له كتبهم، وفي رواية تعلمتها
في سبعة عشر يوما - وذكروا انه تعلم العبرانية أيضا في خمسة عشر يوما
ولا يخفى ان الانسان يحتاج لبضعة أعوام لتعلم اي لغة قراءة وكتابة وكون
زيد يتعلم السريانية في نصف شهر لا شك ان ذلك من معجزاته صلى الله عليه
وسلم فإنه لما احتاج إلى من يكتب له السريانية وامر زيدا بتعلمها طوى الله له
مرحلة التعليم التي تحتاج لبضع سنين إلى نصف شهر
50

زيد بن ثابت قال فأي الناس أعرب (1) قالوا سعيد بن العاص قال فليمل
سعيد وليكتب زيد اه‍ - وفي الرواية السابقة ان عثمان أحضر معهما
عبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وقد تقدمت ترجمتهم
فرواية ابن عساكر هذه تقتضي ان عثمان استأنف في جمعه
أخذ القرآن من الناس وبعد أن استوثق بصحة ما اتوه به من الآيات
القرآنية أمر زيدا ومن معه بكتابته ونسخه، ورواية البخاري
المتقدمة في الفصل الأول تدل على أن عثمان انما نسخ مصحفه عن
صحف أبى بكر التي اخذها من حفصة وقد علمت أن جمعه وجمع
أبى بكر متفقان غير أن جمع عثمان كان بحرف واحد وهو لغة قريش
وجمع أبى بكر كان بجميع الأحرف السبعة
فعلى رواية ابن عساكر يمكن ان نقول ان عثمان فعل ذلك
للوقوف على ما عند الناس من القراءات، أو لأنه عزم في نفسه على
احراق ما كتبه الناس من القرآن إذا تم نسخ مصحفه - لا انه فعل
لشكه في صحة جمع أبى بكر وهو الذي اعتمد في نسخ مصحفه على
صحف أبى بكر

(1) أي أفصح وقد تقدم في ترجمة سعيد بن العاص انه ممن جمع السخاء
والفصاحة
51

ففي هذه الروايات كلها دلالة واضحة على شدة احتياطهم
في جمع القرآن الكريم وتثبتهم في كتابته لذلك أجمعت الصحابة
كلهم على هذا العمل المبرور وتلقوه بالقبول التام (1) وكان عددهم
حينئذ اثنى عشر ألفا تقريبا (2) رضي الله عنهم أجمعين
الفصل الثالث
(في ضبط وتصحيح المصحف الكريم)
قد يتوهم بعض قاصري العقول ان القرآن ربما سقط منه شئ
حين نسخهم وجمعهم له أو حصل فيه تغيير أو تحريف كما زعم ذلك

(1) ذكروا أن ابن مسعود رضي الله عنه لما حضر مصحف عثمان إلى
الكوفة لم يوافق على الرجوع عن قراءته ولا على اعدام مصحفه من غير أن
ينكر على عثمان عمله وقال أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه
وسلم بضعا وسبعين سورة.. الخ وابن مسعود هذا هو أحد الأربعة
المذكورين في حديث خذوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود وسالم
ومعاذ وأبى بن كعب كما في صحيح البخاري. وترجمة ابن مسعود ستأتي في
الفصل الخامس في نزول القرآن على سبعة أحرف
(2) الظاهر أنهم كانوا يحصون المسلمين فقد اخرج البخاري في كتاب
الوصايا في باب كتابة الامام الناس عن حذيفة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله
عليه وسلم اكتبوا لي من تلفظ بالاسلام من الناس فكتبنا له ألفا وخمسمائة
رجل.. الخ
52

بعض المستشرقين من الإفرنج وكما زعمت الشيعة ان الصحابة حرفوا
القرآن وأسقطوا كثيرا من آياته وسوره وكتموا ما نزل في امامة على
رضي الله عنه واستخلافه (1)
فنقول. ان الله تعالى قد تكفل بحفظ القرآن الكريم وضمن
صيانته من عبث العابثين بصريح قوله " انا نحن نزلنا الذكر وانا له
لحافظون " وقوله " وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه " وأي دليل أعظم على ذلك من مرور أربعة عشر قرنا
والقرآن هو هو ما مسته أيدي الخلائق بالتحريف ولا بالتزوير وهكذا
يكون محفوظا إلى أن يرفعه الله من الصدور والمصاحف فلا تبقى في
الأرض منه آية ويكون هذا في اخر الزمان قبل يوم القيمة كما جاء في
كثير من الاخبار (2)
فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم ما كانوا ليتهاونوا في امر المصحف
وهم الذين أيد الله بهم الاسلام، فقد ورد عن زيد بن ثابت انه قال كنت

(1) راجع تفسير الآلوسي في مقدمة الجزء الأول فإنه روى كثيرا من
أقوال الشيعة قاتلهم الله تعالى، وراجع أيضا تفسير القرطبي فإنه ذكر شيئا مما
طعن بعضهم في القرآن بالزيادة والنقصان والرد على قائل ذلك
(2) قال القرطبي ان رفع القرآن على هذه الكيفية الواردة في الأحاديث
انما يكون بعد موت عيسى عليه السلام وهدم الحبشة للكعبة اه‍
53

اكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يملى علي فإذا فرغت قال أقرأه
فأقرؤه فان كان فيه سقط أقامه.
وفي بعض الروايات عن زيد بن ثابت أيضا المتخصص في كتابة
القرآن أنه قال - فلما فرغت (أي من نسخ مصحف عثمان) عرضته
عرضة فلم أجد فيه هذه الآية من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا
الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (1)
قال فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم ثم
استعرضت الا نصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم حتى وجدتها
عند خزيمة (يعنى ابن ثابت) (2) فكتبتها ثم عرضته عرضة أخرى
فلم أجد فيه هاتين الآيتين لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه

(1) في سورة الأحزاب
(2) وترجمة خزيمة كما نلخصها من الإصابة هي. خزيمة بن ثابت بن
الفاكة الأنصاري الأوسي من السابقين الأولين شهد بدرا وما بعدها وقيل
أول مشاهده أحد وكان بكسر أصنام بني خطمة (بفتح المعجمة وسكون
المهملة) وكانت راية خطمة بيده يوم الفتح وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم
من شهد له خزيمة أو عليه فحسبه وجعل شهادته بشهادة رجلين (وقد تقدم
سبب ذلك) قتل خزيمة يوم صفين فإنه قال انا لا اقتل ابدا حتى يقتل عمار فلما
قتل عمار جرد سيفه فقاتل حتى قتل اه‍ وكانت وقعة صفين سنة سبع وثلاثين
54

ما عنتم حريص عليكم. إلى اخر السورة فاستعرضت المهاجرين فلم أجدها
عند أحد منهم ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد
منهم حتى وجدتها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضا (1) فأثبتها في آخر
براءة ولو تمت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة ثم عرضته عرضة
أخرى فلم أجد فيه شيئا ثم ارسل عثمان إلى حفصة يسألها ان تعطيه
الصحيفة وحلف لها ليردنها إليها فأعطته فعرض المصحف عليها فلم
يختلف في شئ (2) فردها إليها وطابت نفسه وأمر الناس أن يكتبوا
مصاحف (3)
فأنت ترى في كلام زيد بن ثابت أنه بعد فراغه من كتابة

(1) جاء في بعض الروايات ان آخر سوره التوبة لقد جاءكم رسول من
أنفسكم الخ وجد مع خزيمة الأنصاري وجاء في بعضها انه وجد مع أبي خزيمة
الأنصاري وقد تقدم الكلام على هذا في جمع أبى بكر للقرآن في الفصل الأول
(2) أي لم يختلف مصحفه مع مصحف أبى بكر في الحرف الذي أخذه
منه وهو حرف قريش هذا هو المقصود من كلامه لا أن مصحفه مطابق لمصحف
أبى بكر كلمة كلمة فان مصحف أبى بكر مكتوب بجميع الأحرف السبعة كما سبق
بيانه ومصحف عثمان كتب على حرف واحد منها
(3) هذه الرواية تدل على أن عثمان طلب صحف أبي بكر من حفصة بعد أن
تم نسخ مصحفه ليستعرضه عليها، والرواية التي سبقت عند جمع عثمان المصحف
تدل على أنه طلب الصحف منها عند الشروع في جمع مصحفه لينسخه منها فنأمل
55

المصحف راجعه ثلاث مرات ثم راجعه أمير المؤمنين عثمان بنفسه فلما
اطمأن قلبه حمل الناس على أن يكتبوا المصاحف على نمط هذا
المصحف الامام، فهل بعد هذه المراجعات الأربعة واجماع الصحابة
كلهم على قبوله يتطرق الشك إلى قلب أحد من المسلمين في كلام
رب العالمين القائل " انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون "
ولو جوزنا في نسخ القرآن وكتابته وجمعه السهو والنسيان
عليهم أو عدم معرفتهم لأصول الكتابة وقواعد الاملاء لادى ذلك
فيه إلى التغيير والتبديل والنقص والزيادة وهذا محال
فالقرآن سليم من اللحن والغلط ليس فيه حرف زايد ولا حرف ناقص
ولا تبديل في كلمة ولا تحريف في أخرى - وكيف لا يكون كذلك
والذين جمعوه هم كبار الصحابة وأشراف العرب الذين عنهم اخذت
الفصاحة وفيهم ظهر البيان وقد تلقوه غضا طريا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما ما ورد أن عثمان رضي الله عنه قال (ان في القرآن لحنا
ستقيمه العرب بألسنتها) فغير صحيح ولا يعقل ان عثمان يقول ذلك
لا قبل جمعه القرآن ولا بعده - نعم انه قال قبل جمعه لما بلغه
اختلاف الناس في القرآن حتى اقتتل الغلمان والمعلمون (عندي تكذبون به
وتلحنون فيه فمن نأى عنى من الأمصار كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا
يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما) ولا يخفى الفرق بين القولين
56

وقد رد القول الأول العلامة الآلوسي في أول تفسيره روح
المعاني بقوله. فالحق ان ذلك لا يصح عن عثمان والخبر ضعيف مضطرب
منقطع إذ كيف يظن بالصحابة أولا اللحن في الكلام فضلا عن القرآن
وهم هم ثم كيف يظن بهم ثانيا اجتماعهم على الخطأ وكتابته ثم كيف يظن
بهم ثالثا عدم التنبه والرجوع ثم كيف يظن بعثمان عدم تغييره وكيف
يتركه لتقيمه العرب وإذا كان الذين تولوا جمعه لم يقيموه وهم الخيار فكيف
يقيمه غيرهم فلعمري ان هذا مما يستحيل عقلا وشرعا وعادة اه‍ منه
ومن المشاهد انه لو أمر أحد الملوك أو الامراء بنسخ مصحف
أو كتاب لا يقدمه الكاتب إليه الا بعد العناية بتصحيحه والتثبت
من عدم وجود أي غلط فيه فكيف بهؤلاء الصحابة الذين بذلوا أنفسهم
لله لا يتحرون في كتابة وضبط المصحف الكريم الذي هو أساس
الدين الاسلامي الحنيف
هذا ولقد وصلت عدة مصاحف من جمع عثمان إلى البلدان
الاسلامية فلو وجدوا فيها خطأ أو غلطا لما سكت أحد من المسلمين عليه
ولكنهم أجمعوا على صحتها وقبولها وقد قال عليه الصلاة والسلام
" ان أمتي لن تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد
الأعظم " رواه ابن ماجة عن انس بن مالك وهو حديث صحيح
57

وقال أيضا في حديث العرباض بن سارية " فإنه من يعش منكم فسيرى
اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا
عليها بالنواجذ " رواه أبو داود والترمذي ولهذا كان اجماعهم حجة.
على انك لن تجد من المسلمين عناية بشئ كعنايتهم بكتاب الله
تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - سواء في
نسخه أو تصحيحه أو حفظه أو حرمته وهذا لا يحتاج إلى دليل.
وأنظركم من المصاحف التي لا تعد ولا تحصى قد كتبت منذ بدء
الاسلام إلى يومنا هذا " أي أربعة عشر قرنا " فهل رأيت فيه تبديلا
أو تغييرا مع كثرة أعداء الدين من مختلف الأجناس والعقول
(ولنختم هذا الفصل) بما رواه البيهقي عن يحيى بن أكثم قال دخل
يهودي على المأمون فأحسن الكلام فدعاه إلى الاسلام فأبى ثم بعد
سنة جاء مسلما فتكلم في الفقه فأحسن الكلام فسأله المأمون ما سبب
اسلامه قال انصرفت من عندك فامتحنت هذه الأديان فعمدت إلى
التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها البيعة (1) فاشتريت منى وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها
ونقصت وأدخلتها البيعة فاشتريت مني وعمدت إلى القرآن فكتبت

(1) قال في المنجد البيعة بكسر الباء المعبد للنصارى واليهود
58

ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها إلى الوراقين (1)
فتصفحوها فوجدوا فيها الزيادة والنقصان فرموا بها فلم يشتروها
فعلمت ان هذا الكتاب محفوظ فكان هذا سبب اسلامي - ذكره
الزرقاني على المواهب في الجزء الخامس
(حفظة القرآن)
(في عهد النبي صلى الله عليه وسلم)
حفظ كثير من الصحابة القرآن كله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فممن
حفظه من المهاجرين أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وطلحة، وسعد
وابن مسعود، وحذيفة (2) وسالم مولى أبى حذيفة (3) وأبو هريرة
وابن عمر، وابن عباس، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله، ومعاوية

(1) هم الذين يبيعون الكتب والورق
(2) تقدمت ترجمته عند جمع عثمان القرآن في صحيفة 33
(3) هو سالم مولى أبى حذيفة بن عتبة أحد السابقين الأولين، روى أن
عائشة احتبست على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما حبسك قالت سمعت قارئا
يقرأ فذكرت من حسن قراءته فأخذ رداءه وخرج فإذا هو سالم مولي أبى حذيفة
فقال الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك، وروى البخاري من حديث ابن عمر
كان سالم مولى أبى حذيفة يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء وفيهم أبو بكر
وعمر اه‍ ملخصا من الإصابة
59

وابن الزبير، و عبد الله بن السائب، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة (1)
وأم ورقة (2)
وممن حفظه من الأنصار * زيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبى
ابن كعب، وأبو الدرداء، ومجمع بن حارثة، وأنس بن مالك، وأبو زيد
الأنصاري أحد عمومة أنس بن مالك (3) رضى الله تعالى عنهم أجمعين
(ومما يناسب المقام) ما يروى. أن خزرجا كانت تفاخر أوسا بأربعة
ممن حفظوا القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أوسا كانت تفاخر خزرجا

(1) عائشة وحفصة وأم سلمة هن أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم وأم سلمة اسمها هند على الأصح وهي آخر أمهات المؤمنين موتا ودفنت
بالبقيع بالمدينة رضي الله عن أمهات المؤمنين أجمعين
(2) أم ورقة هي بنت عبد الله بن الحارث كانت قد جمعت القرآن وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يزورها ويسميها الشهيدة وقد كان أمرها أن تؤم أهل
دارها وكان لها مؤذن فغمها غلام لها وجارية كانت قد دبرتهما فقتلاها في امارة
عمر فقال عمر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول انطلقوا بنا نزور
الشهيدة اه‍ ملخصا من الإصابة
(3) قال في الإصابة في تمييز الصحابة. أبو زيد الذي جمع القرآن وقع في
حديث أنس في صحيح البخاري غير مسمى وقال أنس هو أحد عمومتي واختلفوا
في اسمه فقيل أوس وقيل ثابت بن زيد وقيل معاذ وقيل سعد بن عبيد وقيل
قيس بن السكن وهذا هو الراجح كما بينته في حرف القاف اه‍ منه
60

بأربعة ممن لهم مناقب أخرى وإلى مفاخرتهما أشار صاحب نظم عمود
النسب رحمه الله تعالى بقوله.
فاخرت الخزرج أوسا بنفر * مع النبي حفظوا كل السور
زيد بن ثابت معاذ بن جبل * ثم أبى وأبو زيد البطل
والأوس خزرجا بذى الشهادة * كانت شهادتين في الافاده
والمراد بذى الشهادتين خزيمة بن ثابت
وبما ان المقصود ذكر حفاظ القرآن لم نأت ببقية المفاخرة * وإذا
تأملت حالة العرب أول ظهور الاسلام وعدم انتشار الكتابة بينهم
علمت أن عدد الذين ذكرناهم ممن يحفظ القرآن كله ليس بقليل - ولا شك
ان جميع الصحابة رضي الله عنهم يحفظون منه بعض السور والآيات
كل منهم بحسب فراغه واستعداده وذلك لصلواتهم وعباداتهم.
الفصل الرابع
(في ترتيب آيات القرآن وسوره)
جاء في كتاب الاتقان للسيوطي ان الاجماع والنصوص المترادفة
على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك (اما الاجماع)
فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر بن الزبير في
مناسباته وعبارته ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره
61

من غير خلاف في هذا بين المسلمين (ومنها النصوص) فمنها حديث
زيد السابق كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع، ومنها
ما أخرجه احمد بأسناد حسن عن عثمان بن أبي العاص قال كنت جالسا عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص (1) ببصره ثم صوبه ثم قال أتاني جبريل
فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة (ان الله يأمر
بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى إلى اخرها) ومنها ما أخرجه احمد
وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال
قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة
وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم
ووضعتموها في السبع الطوال (2) فقال عثمان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) قال في المصباح شخص بصره من باب خضع إذا فتح عينيه وجعل
لا يطرف اه‍ منه
(2) قال في الاتقان. السبع الطوال بكسر الطاء وضمها أولها البقرة
وآخرها براءة " هذا بجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة " وقيل السابعة يونس
وقيل الكهف، والمئون ما وليها سميت بذلك لان كل سورة منها تزيد على مائة
آية أو تقاربها، والمثاني ما ولى المئين لأنها ثنتها أي كانت بعدها فهي لها ثوان
والمئون لها أوائل، وقال الفراء هي السورة التي آيها أقل من مائة آية وقد تطلق
على الفاتحة وعلى القرآن كله أيضا والمفصل ما ولى المثاني من قصار السور سمى
بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة ويسمى المفصل بالمحكم أيضا
وآخره سورة الناس بلا نزاع - واختلف في أوله على اثنى عشر قولا أحدها ق
والثاني الحجرات وصححه النووي.. الخ انظر الاتقان - وللمفصل طوال
وأوساط وقصار (قيل) طواله إلى عم وأوساطه منها إلى والضحى ومنها إلى آخر
القرآن قصاره. وقد ذكر صاحب الاتقان جملة أقوال فراجعه
وجاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة في الجزء الأول من قسم العبادات
ما ملخصه: الشافعية قالوا ان طوال المفصل من الحجرات إلى سورة عم يتساءلون
وأواسطه من سورة عم إلى سورة والضحى وقصاره منها إلى آخر القرآن *
والحنفية قالوا ان طوال المفصل من الحجرات إلى سورة البروج وأواسطه من
سورة البروج إلى سورة لم يكن وقصاره من سورة لم يكن إلى سورة الناس *
والمالكية قالوا ان طوال المفصل من سورة الحجرات إلى آخر والنازعات وأواسطه
من بعد ذلك إلى والضحى وقصاره منها إلى آخر القرآن * والحنابلة قالوا ان
طوال المفصل من سورة ق إلى عم وأواسطه إلى سورة والضحى وقصاره إلى
آخر القرآن انتهى من كتاب الفقه المذكور
62

تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا نزل عليه الشئ دعا بعض من
كان يكتب فيقول ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا
وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من اخر
القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت انها منها فقبض
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا انها منها فمن اجل ذلك قرنت بينهما ولم
اكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال
واخرج القشيري الصحيح ان التسمية لم تكن فيها (أي في براءة)
لان جبريل عليه السلام لم ينزل فيها
63

وقال البغوي في شرح السنة: الصحابة رضي الله عنهم جمعوا
بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله من غير أن زادوا
أو نقصوا منه شيئا خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته فكتبوه
كما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن قدموا شيئا أو أخروا
أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يلقن أصحابه ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو
عليه الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك واعلامه عند
نزول كل آية ان هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا
فثبت ان سعى الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه
فان القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب الذي أنزله الله
جملة إلى السماء الدنيا ثم كان ينزله مفرقا عند الحاجة وترتيب النزول
غير ترتيب التلاوة - اه‍ من الاتقان
(واما ترتيب السور) ففي كونه اجتهاديا أو توقيفيا خلاف
والجمهور على الأول قال أبو بكر الأنباري انزل الله تعالى القرآن
كله إلى سماء الدنيا ثم فرقه في بضع وعشرين فكانت السورة تنزل
لأمر يحدث والآية جوابا لمستخبر فيوقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على
موضع الآية والسورة فمن قدم أو أخر فقد أفسد نظم القرآن *
64

وقال أيضا اتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي صلى الله عليه وسلم
فمن قدم سورة أو اخرها فقد أفسد نظم القرآن. وفي ايقاظ الاعلام
قال أبو جعفر النحاس والمختار كون ترتيب السور توقيفا كالآيات
وقال الزركشي والخلاف بين الفريقين في ترتيب السور لفظي لان
القائل بعدم صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم يقول إنه رمز لهم بذلك والثاني
يقول إنه صرح لهم به ولذلك قال مالك انما ألفوا القرآن على ما كانوا
يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم اه‍
وذكر الامام النووي في شرحه على صحيح مسلم في باب صلاة
النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه في الليل عند حديث حذيفة قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم
ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلت يصلى بها
في ركعة فمضى فقلت يركع ذبها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران
فقرأها يقرأ مترسلا... الخ الحديث - ما نصه - قال القاضي عياض
فيه دليل لمن يقول إن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا
المصحف وانه لم يكن ذلك من ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم بل وكله إلى أمته
بعده قال وهذا قول مالك وجمهور العلماء واختاره القاضي أبو بكر
الباقلاني قال ابن الباقلاني هو أصح القولين مع احتمالهما قال والذي
نقوله ان ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة ولا في الصلاة ولا في
65

الدرس ولا في التلقين والتعليم وانه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك نص
ولا حد تحرم مخالفته ولذلك اختلف ترتيب المصاحف قبل مصحف
عثمان قال واستجاز النبي صلى الله عليه وسلم والأمة بعده في جميع الأعصار ترك
ترتيب السور في الصلاة والدرس والتلقين - قال واما على قول من
يقول من أهل العلم ان ذلك بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم حدده لهم كما
استقر في مصحف عثمان انما اختلف المصاحف قبل ان يبلغهم التوقيف
والعرض الأخير فيتأول قراءته صلى الله عليه وسلم النساء أولا ثم آل عمران هنا على أنه
كان قبل التوقيف والترتيب وكانت هاتان السورتان هكذا في
مصحف أبى قال ولا خلاف انه يجوز للمصلى ان يقرأ في الركعة الثانية
سورة قبل التي قرأها في الأولى وانما يكره ذلك في ركعة ولمن يتلو في
غير صلاة قال وقد اباحه بعضهم وتأول نهى السلف عن قراءة القرآن
منكوسا على من يقرأ من اخر السورة إلى أولها قال ولا خلاف ان
ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من الله تعالى على ما هي عليه الآن في
المصحف وهكذا نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم هذا آخر كلام القاضي
عياض والله تعالي اعلم انتهى ما ذكره النووي. قال السيوطي في
الاتقان والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي وهو أن جميع السور
ترتيبها توقيفي الا براءة والأنفال ولا ينبغي ان يستدل بقراءته صلى الله عليه وسلم
66

سورا ولاء على أن ترتيبها كذلك وحينئذ فلا يرد حديث قراءته النساء
قبل آل عمران لان ترتيب السور في القراءة ليس بواجب ولعله فعل
ذلك لبيان الجواز اه‍
وقال الكرماني: ترتيب السور هكذا هو عند الله تعالى في اللوح
المحفوظ وعليه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض على جبريل كل سنة ما كان
يجتمع عنده منه وعرض عليه في السنة التي توفى فيها مرتين، وقال
ابن الحصار ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها انما كان بالوحي كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ضعوا آية كذا في موضع كذا وقد حصل
اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومما
أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف اه‍ وقال البيهقي في المدخل
كان القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب الا
الأنفال وبراءة لحديث عثمان السابق اه‍ وقد ذكر السيوطي رحمه الله
تعالى في كتابه الاتقان روايات عديدة فراجعه ان شئت وإلى ما سبق
أشار الشيخ محمد العاقب الشنقيطي رحمه الله في نظمه كشف العمى بقوله:
قد أنزل القرآن دون ثنيا (1) * ليلته إلى سماء الدنيا
ثم على قلب النبي هجما * به الأمين أنجما منجما

(1) الثنيا بضم الثاء مع الياء والثنوى بالفتح مع الواو اسم من الاستثناء قاله
في المصباح أي انزل القرآن إلى السماء الدنيا جملة واحدة دون استثناء شئ منه
67

وليس ترتيب النزول كالأدا * وفي الأد الترتيب بالوحي اقتدى (1)
فهو كما هو عليه مستطر * في لوحه المحفوظ نعم المستطر
وذاك في السور في القول الاحق * والحق في الآي عليه متفق
ويحرم التنكيس فيه والخبر * جاء بتنكيس قراءة السور (2)
(واما أسماء السور) فبتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك من
الأحاديث والآثار فمن ذلك ما أخرجه احمد باسناد حسن عن عثمان بن أبي
العاص قال كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره
ثم صوبه ثم قال أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع
من هذه السورة إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى

(1) أي ليس ترتيب النزول كترتيب التلاوة فان أول ما نزل اقرأ باسم ربك
الذي خلق وأول القرآن الفاتحة
(2) أي يحرم التنكيس في الآيات مطلقا خطا وقراءة، واما في السور
فيحرم تنكيسها في الخط عن حالتها في المصحف، اما في قراءتها فقد ورد في
الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم فعله اه‍ من كتاب ايقاظ الاعلام لوجوب
اتباع رسم المصحف الامام للشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله
قال في فتح الباري واما ما جاء عن السلف من النهى عن قراءة القرآن
منكوسا فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها اه‍
68

إلى آخرها (ومنه) ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة ان البيت
الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله شيطان (ومنه) ما أخرجه مسلم أيضا
عن أبي الدرداء مرفوعا من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف
عصم من الدجال وفي لفظ من قرا العشر الأواخر من سورة الكهف *
ومن تتبع ما ورد في خصائص بعض السور ظهر له ذلك واضحا جليا
فلا داعي لإطالة البحث.
فعلم من جميع ما تقدم ان ترتيب آيات القرآن توقيفي باتفاق
العلماء، وكذلك تسمية السور بأسماء خاصة، وان ترتيب سوره مختلف
فيه فقال بعضهم انه توقيفي وقال بعضهم انه من اجتهاد الصحابة
رضى الله تعالى عنهم.
ولقد أنعمنا النظر في ترتيب السور فلم يظهر لنا ترجيح
أحد القولين على الآخر فلكل منهما وجهة ولا يسعنا الا أن نفوضه
إلى علام الغيوب، ولا بأس أن نذكر هنا ما يؤيد كلا القولين فنقول
(الدليل على أنه توقيفي) أن الصحابة رضى الله تعالى عنهم هم
أشد الناس اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأبعدهم عن الابتداع والعمل بالظن
والهوى، ومما لا شك فيه انه حين جمعهم للقرآن الكريم تحروا فيه
كل شئ فما قدموا سورة على أخرى الا باستناد إلى أمره صلى الله عليه وسلم أو فعله
69

أو تقريره، ولا يخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض القرآن على جبريل مرتين (1)
في السنة التي توفى فيها، ولا ريب أن القرآن حينئذ كان قد انزل كله
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضه على جبريل هذه المرة كان من أوله إلي
آخره، وبالضرورة يكون ترتيبه على ما هو في اللوح المحفوظ الموافق
على ما هو عليه الآن بهذه الصفة إذ لا يعرضه صلى الله عليه وسلم العرض الأخير
على جبريل الا مرتب الآيات والسور، وان زيد بن ثابت كان حاضرا
هذه العرضة الأخيرة وهو كاتب الوحي فعلى هذه العرضة كتب
مصحف أبى بكر ومصحف عثمان.
ثم لا يعقل أن يضعوا سور القرآن كيفما اتفق لهم، فلو كان
ترتيبها باجتهادهم لرتبوها اما بحسب تاريخ نزولها أو مواقعها، واما
بحسب طولها وقصرها، واما بحسب ترتيب مصحف أحد كبار الصحابة

(1) قال في فتح الباري شرح صحيح البخاري واختلف في العرضة الأخيرة
هل كانت بجميع الأحرف المأذون في قراءتها أو بحرف واحد منها وعلى الثاني
فهل هو الحرف الذي جمع عليه عثمان جميع الناس أو غيره وقد روى احمد وابن أبي
داود والطبري من طريق عبيدة بن عمر السلماني ان الذي جمع عليه عثمان
الناس يوافق العرضة الأخيرة اه‍ من الفتح
وتؤخذ من هذه العرضة جملة أمور - منها - اكمال نزول القرآن - ومنها
ترتيب الآيات والسور - ومنها الإشارة إلى قرب أجله صلى الله عليه وسلم فقد
روى البخاري انه أسر إلى ابنته فاطمة أن جبريل يعارضني بالقرآن كل سنة وانه
عارضني العام مرتين ولا أراه الا حضر أجلى.
70

كعلى بن أبي طالب وابن عباس وابن مسعود وأبى بن كعب -
وكل ذلك لم يكن فما هناك سوى التوقيف
(والدليل على أنه اجتهادي) ما جاء في صحيح مسلم عن
حذيفة قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع
عند المائة ثم مضى فقلت يصلى بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم
افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا.. الخ
الحديث، فكونه صلى الله عليه وسلم قرأ النساء أولا ثم آل عمران فيه دليل على أن
ترتيب سور المصحف من اجتهاد الصحابة كما تقدم ذلك من قول القاضي
عياض وان ترتيبها في الصلاة ليس بواجب
وأيضا ما جاء في صحيح البخاري عن يوسف بن ماهك قال انى
عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ جاءها عراقي فقال أي الكفن
خير قالت ويحك وما يضرك قال يا أم المؤمنين أريني مصحفك
قالت لم قال لعلي أولف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف قالت وما يضرك
أيه قرأت قبل انما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل.. الخ
الحديث، ففي قول عائشة للعراقي وما يضرك أيه قرأت قبل دليل
على أن ترتيب السور في التلاوة ليس بواجب، وهو كذلك في جميع
المذاهب فإنه يجوز ترك ترتيبها في الصلاة والتلاوة والدرس، لان كل سورة
71

مستقلة بذاتها مستوفية لآياتها - ويفهم من هذا الحديث أن الناس
كانوا يقرؤن القرآن ويكتبونه من غير ترتيب لسوره حتى جمع
عثمان مصحفه وحمل الناس عليه.
فلو كان ترتيب المصحف توقيفيا لم يختلف ترتيب السور في
مصاحف كبار الصحابة كعلى بن أبي طالب وأبى بن كعب، وعبد الله بن
عباس، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعائشة أم المؤمنين وزيد
ابن ثابت فكل واحد من هؤلاء كتب مصحفه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فمصحف على كان أوله اقرأ ثم المدثر ثم ن وهكذا إلى آخر المكي
والمدني ومصحف ابن مسعود كان أوله البقرة ثم النساء ثم آل عمران
على اختلاف شديد، وقد ذكر ابن النديم في كتابه الفهرست (1)
ترتيب سور مصاحف بعض الصحابة كما ذكره أيضا السيوطي في كتابه
الاتقان فراجعهما ان شئت.
فلو كان هناك أمر صريح أو إشارة خفية من النبي صلى الله عليه وسلم في ترتيب
سور المصحف لما عزب ذلك على هؤلاء وهم من أجلاء الصحابة وأكثرهم
اتصالا به عليه الصلاة والسلام

(1) الف ابن النديم كتابه الفهرست عام 377 هجرية وهو يعد من أقدم
الكتب وأهمها وقد ظهر الآن في عالم المطبوعات
72

(وختام المقام) أن ترتيب سور المصحف سواء كان توقيفيا أو
اجتهاديا فإنه يجب علينا اتباع المصحف العثماني في ترتيب سوره ورسم
كلماته، لأننا مأمورون باتباع الصحابة آثمون بمخالفتهم قال عليه
الصلاة والسلام كما في حديث العرباض بن سارية ".. فعليكم بسنتي
وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ (1) " ولهذا كان

(1) والحديث المروي عن عرباض بن سارية رضي الله عنه هو " قال وعظنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون
قلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال أوصيكم بتقوى الله والسمع
والطاعة وان تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات
الأمور فان كل بدعة ضلالة رواه أبو داود والترمذي - وفي رواية احمد وابن
ماجة عن عرباض أيضا " قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها
بعدي الا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم.. الخ الحديث
والعرباض بن سارية رضي الله عنه هو بكسر العين وسكون الراء كان من
أهل الصفة وهو ممن نزل فيه قوله تعالى " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم " قال
محمد بن عوف كان قديم الاسلام جدا، نزل الشام ثم سكن حمص ومات في فتنة ابن
الزبير سنة خمس وسبعين في خلافة عبد الملك بن مروان " فقوله صلى الله عليه وسلم
ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا " هذا من ضمن معجزاته عليه الصلاة
والسلام التي لا تحصى فلقد وقع ويقع كثير من الأمور والفتن التي أخبر بها
فكم من المغيبات ذكرا * فبعضها مضى وبعض سيرى
ومعجزات المصطفى ليست تعد * وفي الشفا منها كثير قد ورد
73

اجماعهم حجة، وقد أجمعوا على اعتماد مصحف عثمان ونسخوا
مصاحفهم على نمطه كما سبق بيانه - فلا يوجد مسلم على وجه الأرض
يرى مخالفته ولله الحمد وهذا مصداق قوله تعالى " انا نحن نزلنا الذكر
وانا له لحافظون "
عدد المصاحف
(التي فرقها عثمان رضي الله عنه في الأمصار)
تقدم أن عثمان بن عفان لما فرغ من جمع مصحفه أرسل إلى كل أفق
بمصحف مما نسخوا وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف
الذي أرسل به - وقد اختلفوا في عدة المصاحف التي فرقها في الأمصار
فقيل انه أربعة وهو الذي اتفق عليه أكثر العلماء، وقيل إنها خمسة
وقيل إنها ستة وقيل سبعة وقيل ثمانية
أما كونها أربعة فقيل انه أبقى مصحفا بالمدينة وأرسل مصحفا إلى
الشام ومصحفا إلى الكوفة ومصحفا إلى البصرة، وأما كونها خمسة
فالأربعة المتقدم ذكرها والخامس أرسله إلى مكة، وأما كونها ستة
فالخمسة المتقدم ذكرها والسادس اختلف فيه فقيل جعله خاصا لنفسه
وقيل أرسله إلى البحرين، وأما كونها سبعة فالستة المتقدم ذكرها
والسابع أرسله اليمن، واما كونها ثمانية فالسبعة المتقدم ذكرها والثامن
74

كان لعثمان يقرأ فيه وهو الذي قتل وهو بين يديه. اه‍ من نهاية
القول المفيد.
وبعث رضي الله عنه مع كل مصحف من يرشد الناس إلى قراءته
بما يحتمله رسمه من القراءات مما صح وتواتر (1) فكان عبد الله بن
السائب مع المصحف المكي، والمغيرة بن شهاب مع المصحف الشامي
وأبو عبد الرحمن السلمي مع المصحف الكوفي، وعامر بن قيس
مع المصحف البصري - وأمر زيد بن ثابت أن يقرئ الناس بالمدني.
ولا ندري لم لم يرسل عثمان رضي الله عنه لكل بلدة من البلاد
الاسلامية مصحفا أو بضعة مصاحف، والظاهر والله تعالى اعلم أن ذلك
كان لقلة النساخ في عهدهم ولعدم وجود الورق عندهم فقد كانوا يكتبونها
على الجلود والعسب واللخاف والأكتاف ونحوها فربما يلزم لكتابة
مصحف واحد قنطار من هذه الأشياء
ولقد وصف الزنجاني مصحف على رضي الله عنه بأنه كان في سبعة
اجزاء وقد أتى به يحمله على جمل وهو يقول هذا القرآن جمعته، وروى
أن الصاحب بن عباد المتوفى سنة 385 هجرية كان يحمل معه في أسفاره

(1) وهذا اختلاف قراءات في لغة واحدة لا اختلاف لغات، انظر في الفصل
الثاني من الباب الثالث لتقف على سبب اختلاف رسوم هذه المصاحف.
75

كتاب الأغاني على أربعين جملا، وذكروا أن الإمام الشافعي رحمه الله
تعالى كان كثيرا ما يكتب المسائل على العظام حتى ملاء منها خبايا (1)
كل ذلك كان لعدم انتشار الورق عندهم في ذلك الزمن (2)،
ولا ندري كيف كانوا يعثرون على مسألة من المسائل وهي مكتوبة على
نحو العظام واللخاف والأكتاف التي يعسر ترتيبها لا شك ان مراجعتها
والوقوف عليها ليس بسهل ومع ذلك كانوا أئمة الدين وأنجم الهدى
والذي نراه ان المصاحف العثمانية التي أرسلت إلى الأمصار كتبت
على الجلود وكتبت بالخط الكوفي الذي ما كانوا يعرفون من الخط
سواه وكتبت بغير نقط ولا شكل ولم يكن فيها علامات للاجزاء
والأحزاب ونحوها

(1) نستنتج مما ذكر: أن المصاحف التي رفعت على رؤس الرماح في الحرب
بين على ومعاوية رضي الله عنهما سنة 37 البالغ عددها نحو ثلاثمائة مصحف طلبا
للهدنة وحقنا للدماء، لم تكن بمصاحف كاملة وانما هي اجزاء من القرآن مكتوبة
على نحو العسب والألواح والأكتاف وبذلك يمكن للرجل رفع ما كتب من القرآن
على شئ مما ذكر، فاطلاق المؤرخين رفع المصاحف في هذه الحرب انما هو من
اطلاق الكل وإرادة الجزء والله أعلم
(2) إذا أردت الوقوف على ظهور الورق فعليك بمراجعة كتابنا " تاريخ
الخط العربي وآدابه " وهو مطبوع بمصر
76

الفصل الخامس
(في نزول القرآن على سبعة أحرف)
روى البخاري في كتاب التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل
أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف.
وأخرج أبو يعلى في مسنده ان عثمان قال على المنبر أذكر الله
رجلا سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال إن القرآن انزل على سبعة أحرف كلها شاف
كاف لما قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك فقال وانا اشهد معهم
رواه جمع من الصحابة يبلغ عددهم واحدا وعشرين صحابيا وقد نص
أبو عبيدة على تواتره.
وروي مسلم والبخاري واللفظ له عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال سمعت هشام بن حكيم (1) يقرأ سورة الفرقان في حياة
رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم
يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره (2) في الصلاة فتصبرت

(1) هو هشام بن حكيم بن حزام القرشي الأسدي أسلم يوم الفتح ومات قبل
أبيه كان من فضلاء الصحابة وخيارهم ممن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قال
أبو نعيم استشهد بأجنادين اه‍ من الاستيعاب (وأجنادين موضع بالشام من نواحي
فلسطين بعضهم يقول إنه بلغظ التثنية وبعضهم بلفظ الجمع قاله صاحب معجم البلدان)
(2) أساوره أي أثب عليه
77

حتى سلم فلببته (1) بردائه فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك
تقرأ فقال أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت كذبت فان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد أقرأنيها على غير ما قرأت (2) فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلت انى سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته
يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أنزلت ثم قال اقرأ يا عمر فقرأت
القراءة التي أقرأني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أنزلت ان هذا القرآن
انزل على سبعة أحرف فاقرؤا ما تيسر منه (3).

(1) أي اخذته بردائه وهو بفتح اللام وتشديد الباء الأولى
(2) وسبب اختلاف قراءتهما كما ذكره ابن حجر في فتح الباري ان عمر
حفظ هذه السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قديما ثم لم يسمع ما نزل
فيها بخلاف ما حفظه وشاهده، ولأن هشاما من مسلمة الفتح فكان النبي صلى الله
عليه وسلم أقرأه على ما نزل أخيرا فنشأ اختلافهما من ذلك، ومبادرة عمر للانكار
محمولة على أنه لم يكن سمع حديث انزل القرآن على سبعة أحرف الا في هذه
الواقعة اه‍
(3) روى البخاري هذا الحديث في كتاب التفسير في باب انزل القرآن على
سبعة أحرف ورواه أيضا في باب من لم ير بأسا ان يقول سورة البقرة وسورة
كذا وكذا في كتاب التفسير، ورواه مسلم في آخر كتاب صلاة المسافرين
وقصرها في فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه عند بيان ان القرآن انزل على سبعة
حرف. ورواه الطبري أيضا في تفسير.
78

قال ابن حجر في فتح الباري على صحيح البخاري عند هذا
الحديث ما نصه.
" فصل " لم اقف في شئ من طرق حديث عمر على تعيين
الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان وقد زعم
بعضهم فيما حكاه ابن التين انه ليس في هذه السورة عند القراء خلاف
فيما ينقص من خط المصحف سوى قوله وجعل فيها سراجا وقرى
سرجا جمع سراج قال وباقي ما فيها من الخلاف لا يخالف خط المصحف
قال ابن حجر قلت وقد تتبع أبو عمر بن عبد البر ما اختلف فيه القراء
من ذلك من لدن الصحابة ومن بعدهم من هذه السورة فأوردته
ملخصا وزدت عليه قدر ما ذكره وزيادة على ذلك وفيه تعقب على
ما حكاه ابن التين في سبعة مواضع أو أكثر اه‍ منه
ثم ذكر ابن حجر ما ورد من القراءات في سورة الفرقان فراجعه
ان شئت فلو نقلناه هنا لطال بنا الكلام اه‍
وفي رواية لأبي بن كعب (1) انه قال دخلت المسجد اصلى فدخل

(1) هو أبي بن كعب بن قيس الأنصاري النجاري سيد القراء وهو أحد فقهاء
الصحابة وأقرؤهم لكتاب الله تعالى وهو أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم
مقدمه المدينة كتب الوحي قبل زيد ومعه أيضا وروى أنس ان النبي صلى الله عليه
وسلم دعا أبيا فقال إن الله امرني ان اقرا عليك قال آلله سماني لك قال نعم فجعل أبى
يبكى قال انس ونبئت انه قرا عليه لم يكن الذين كفروا، مات أبى سنة اثنين
وعشرين فقال عمر اليوم مات سيد المسلمين وقيل مات في خلافة عثمان سنة ثلاثين
وقيل غير ذلك اه‍ ملخصا من الإصابة والاستيعاب.
79

رجل فافتتح النحل فقرأ فخالفني في القراءة فلما انفتل (1) قلت من
أقرأك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء رجل فقام وصلى فقرأ فافتتح النحل
فخالفني وخالف صاحبي فلما انفتل قلت من أقرأك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال فدخل قلبي من الشك والتكذيب أشد مما كان في الجاهلية فأخذت
بأيديهما وانطلقت بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت استقرئ هذين
فاستقرأ أحدهما فقال أحسنت فدخل قلبي من الشك والتكذيب أشد
مما كان في الجاهلية ثم استقرأ الآخر فقال أحسنت فدخل صدري
من الشك والتكذيب أشد مما كان في الجاهلية فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم
صدري بيده فقال أعيذك بالله يا أبى من الشك ثم قال إن جبريل
عليه السلام أتاني فقال إن ربك عز وجل يأمرك ان تقرأ القرآن على
حرف واحد فقلت اللهم خفف عن أمتي ثم عاد فقال إن ربك عز وجل
يأمرك ان تقرأ القرآن على حرفين فقلت اللهم خفف عن أمتي ثم عاد
فقال إن ربك عز وجل يأمرك ان تقرأ القرآن على سبعة أحرف
وأعطاك بكل ردة مسألة الحديث - وفي صحيح مسلم عن أبي بن كعب

(1) انفتل أي انصرف من صلاته.
80

رواية بهذا المعنى أيضا في آخر كتاب صلاة المسافرين وقصرها في فضل
من يقوم بالقرآن ويعلمه وللطبري رواية بهذا المعنى عن أبي بن كعب أيضا
وروى البخاري عن ابن مسعود (1) رضي الله عنه قال سمعت
رجلا قرأ وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته
فعرفت في وجهه الكراهية وقال كلا كما محسن ولا تختلفوا فان

(1) هو عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي أسلم قديما وهاجر الهجرتين
وشهد بدرا والمشاهد بعدها ولازم النبي صلى الله عليه وسلم وكان يحمل نعليه
قال أبو نعيم كان سادس من أسلم وكان يقول أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم
سبعين سورة واختلف في وفاته فقيل توفى سنة اثنين وثلاثين وقيل غير ذلك اه‍
ملخصا من الإصابة
وينسب إلى أمه أحيانا فيقال ابن أم عبد وكان يلج على رسول الله صلى الله
عليه وسلم ويلبسه نعليه ويمشي امامه ومعه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام وقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم اذنك على أن يرفع الحجاب وأن تسمع سوادي
حتى أنهاك رواه مسلم في كتاب السلام في باب استحباب السلام على الصبيان وكان
يعرف في الصحابة بصاحب السواد والسواك وزاد بعضهم والفراش والوساد
وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وإلى ما ذكر أشار صاحب نظم
عمود النسب بقوله
ومن هذيل صاحب السواد * والنعل والفراش والوساد
قال الامام النووي في شرحه على صحيح مسلم عند الحديث المذكور السواد
بكسر السين المهملة اتفق العلماء على أن المراد به السرار بكسر السين وبالراء
المكررة وهو السر والمسارر يقال ساودت الرجل مساودة إذا ساررته اه‍
81

من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا. رواه البخاري في كتاب بدء الخلق
في حديث الغار في أول باب منه
وللطبري وللطبراني (1) عن زيد بن أرقم قال جاء رجل إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أقرأني ابن مسعود سورة أقرأنيها زيد وأقرأنيها
أبي بن كعب فاختلف قراءتهم فبقراءة أيهم آخذ فسكت
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى إلى جنبه فقال على ليقرأ كل انسان منكم كما علم
فإنه حسن جميل.
وعن هشام بن علي عن زيد بن علقمة النخعي قال: لما خرج
عبد الله بن مسعود من الكوفة اجتمع إليه أصحابه فودعهم ثم قال
لا تنازعوا في القرآن فإنه لا يختلف ولا يتلاشى ولا ينفد بكثرة الرد
وان شريعته الاسلام وحدوده وفرائضه فيه واحدة ولو كان شئ من
الحرفين ينهى عن شئ يأمر به الآخر كان ذلك الاختلاف ولكنه
جامع ذلك كله لا تختلف فيه الحدود والفرائض ولا شئ من شرائع
الاسلام ولقد رأيتنا نتنازع فيه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمرنا نقرأ عليه
فيخبرنا ان كلنا محسن ولو أعلم أحدا أعلم بما انزل الله على رسوله منى

(1) الطبري هو الإمام محمد بن جرير الطبري المولود سنة 224 هجرية
والطبراني من أصحاب الحديث
82

لطلبته حتى ازداد علمه إلى علمي ولقد قرأت من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم
سبعين سورة قد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن في كل رمضان
حتى كان عام قبض فعرض عليه مرتين فكان إذا فرغ اقرأ عليه
فيخبرني انى محسن فمن قرأ على قراءتي فلا يدعنها رغبة عنها ومن قرأ
على شئ من هذه الحروف فلا يدعنه رغبة عنه (1) فان من جحد بآية
جحد به كله اه‍ رواه الطبري في تفسيره وهل اللفظ واحد أم لا يحتاج
إلى المراجعة.
وهناك روايات كثيرة في نزول القرآن على سبعة أحرف اكتفينا
بما ذكر لان سرد جميعها موجب للتطويل (2) فاختلاف هذه الأحرف
انما هو اختلاف ألفاظ وتلاوة لا اختلاف معان موجبة لاختلاف
أحكامه (مثال ذلك) ما رواه ابن فارس بسنده عن هانئ قال كنت عند
عثمان رضي الله عنه وهم يعرضون المصاحف فأرسلني بكتف شاة إلى
أبي بن كعب فيها " لم يتسن " و " فأمهل الكافرين " و " لا تبديل

(1) وفى هذا المعنى روى الطبراني عن ابن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال انزل القرآن على سبعة أحرف فمن قرأ على حرف منها فلا يتحول إلى غيره
رغبة عنه
(2) ذكر الإمام ابن جرير الطبري كثيرا من الروايات الواردة في نزول
القرآن على سبعة أحرف في أول تفسيره وأطال الكلام فيه
83

للخلق " قال فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين وكتب " لخلق الله "
ومحا فأمهل وكتب " فمهل " وكتب " لم يتسنه " ألحق فيها هاء
والقراءة في المصاحف على هذا الاصلاح.
ولقد ذهب العلماء في المراد بهذه الأحرف السبعة إلى نحو أربعين
قولا ذكرها الامام السيوطي في كتابه الاتقان في علوم القرآن نذكر
ملخص ذلك وهو. المختار منها أن المراد سبع لغات كما صححه البيهقي
في الشعب واختلفوا في تعيينها فقال أبو عبيدة قريش وهذيل وثقيف
وهوازن وكنانة وتميم واليمن وقيل غير ذلك، وجاء عن أبي صالح عن ابن
عباس قال نزل القرآن على سبع لغات (1) منها خمس بلغة العجز من
هوازن ويقال لهم علياء هوازن.
قال أبو عبيدة ليس المراد ان كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل
اللغات السبع مفرقة فيه فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه
بلغة هوازن وبعضه بلغة اليمن ومعناه ان جبريل عليه السلام كان يأتي
في كل عرضة بحرف إلى أن تمت الأحرف السبعة وذلك تخفيف

(1) قال بعضهم الحكمة في نزول القرآن على سبع لغات من أعيان العرب
تأليف قلوبهم لما كان فيهم من الحمية العربية ولطلب فهم المراد فافتخر كل بلغته
حين شاهدوا نزول القرآن فاستأنس كثير من فصحائهم فكان سبب ايمانه اه‍
84

وتيسير على الأمة في التكلم بكتابهم كما خفف عنهم في شريعتهم هذا
هو المعول عليه اه‍ (1)
وقال أبو شامة ظن قوم ان القراءات السبع الموجودة الآن هي
التي أريدت في الحديث وهو خلاف اجماع أهل العلم قاطبة وانما يظن
ذلك بعض أهل الجهل * وقال مكي بن أبي طالب واما من ظن أن قراءة
هؤلاء القراء كعاصم ونافع هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد
غلط غلطا عظيما قال ويلزم من هذا ان ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة
مما ثبت عن الأئمة وغيرهم ووافق خط المصحف لا يكون قرآنا وهو
غلط عظيم قال وهذه القراءات التي يقرأ بها اليوم وصحت رواياتها
عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن اه‍ من فتح
الباري على صحيح البخاري.
وقال ابن قتيبة لم ينزل القرآن الا بلغة قريش (2) واحتج بقوله
" وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه " فعلى هذا تكون اللغات السبع

(1) ويدل على هذا ما أخرجه أبو داود من طريق كعب الأنصاري ان عمر
كتب إلى ابن مسعود ان القرآن نزل بلسان قريش فأقرئ الناس بلغة قريش
لا بلغة هذيل اه‍ وابن مسعود كان من هذيل
(2) ومعنى ان القرآن نزل بلغة قريش سبق بيانه في الجمع الثالث عند رواية
البخاري فارجع إليه وهو في هامش صحيفة 35
85

في بطون قريش وبذلك جزم أبو على الأهوازي، وقال أيضا في كتاب
المشكل ان الله امر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقرئ كل أمة بلغتهم وما جرت به
عادتهم فالهذلي يقرأ عتى حين وغيره حتى حين والأسدي يعلمون
وتعلمون وتسود وجوه وألم إعهد إليكم بكسر حرف المضارعة والتميمي
يهمز والقرشي لا يهمز والآخر يقرأ قيل لهم وغيض الماء باشمام الضم
مع الكسر وهذا يقرأ عليهم وفيهم بضم الهاء وهكذا وكل ذلك ثابت
بالوحي المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم قال ابن قتيبة ولو أراد كل فريق من هؤلاء
ان ينزل عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا ويافعا وكهلا لاشتد
ذلك عليه وعظمت المحنة فيه ولا يمكنه الا بعد رياضة للنفس طويلة
وتذليل للسان وقطع للعادة فأراد الله برحمته ولطفه ان يجعل له متسعا في
اللغات ومتصرفا في الحركات كتيسيره عليهم في الدين اه‍ وهذه اللغات
والقراءة بها كانت موجودة ومعمولا بها إلى عهد عثمان رضي الله عنه
فلما اختلطت قبائل العرب وعرف كل لغة الآخر وسهل على كل
قبيلة النطق بلغة القبيلة الأخرى وحدث في عهده رضي الله عنه
ما يدعو إلى حمل الناس على القراءة بلغة واحدة أمر رضي الله عنه
بجمع القرآن وكتابته وقراءته بلغة واحدة. اه‍ كل ذلك
من كتاب الاتقان للسيوطي رحمه الله ومن غيره
86

وفي نهاية القول المفيد. قال المحقق ابن الجزري ولا زلت أستشكل
هذا الحديث (أي حديث ان هذا القرآن انزل على سبعة أحرف الخ)
وأفكر فيه وأمعن النظر من نحو نيف وثلاثين سنة حتى فتح الله على
بما يمكن أن يكون صوابا إن شاء الله تعالى وذلك انى تتبعت القراءات
صحيحها وضعيفها وشاذها فإذا هي يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه
لا يخرج عنها وذلك - إما في الحركات بلا تغيير في المعنى والصورة
نحو البخل باثنين ويحسب بوجهين - أو بتغيير في المعنى فقط نحو فتلقى
آدم من ربه كلمات - واما في الحروف بتغيير في المعنى لا في الصورة
نحو تبلوا وتتلوا وعكس ذلك نحو بسطة وبصطة - أو بتغييرهما نحو أشد
منكم ومنهم - واما في التقديم والتأخير نحو فيقتلون ويقتلون - أو في
الزيادة والنقصان نحو ووصى وأوصى - فهذه سبعة أوجه لا يخرج
الاختلاف عنها اه‍ كلامه (1)

(1) فمعنى قوله نحو البخل باثنين أي بقراءتين كآية " ويأمرون الناس بالبخل "
في سورة النساء فقد قرئ بالبخل بضم الباء وسكون الخاء وقرئ بفتحهما، ومعنى قوله
ويحسب بوجهين اي قرئ بفتح السين وكسرها كآية " يحسب أن ماله أخلده "
ومعنى قوله أو بتغيير في المعنى فقط نحو " فتلقى آدم من ربه كلمات " أي قرئ برفع
آدم على أنه فاعل ونصب كلمات على أنه مفعول به وقرئ بالعكس أي بنصب آدم
على أنه مفعول وبرفع كلمات على أنه فاعل، ومعني قوله نحو تبلوا وتتلوا أي قرئ
تعالى " هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت " بيونس بالتاء ثم بالباء قبل اللام وقرئ
تتلوا بتاءين، ومعنى قوله نحو أشد منكم ومنهم اي قرئ قوله تعالى " كانوا هم
أشد منهم قوة " بغافر أشد منهم وأشد منكم، ومعنى قوله واما في التقديم
والتأخير نحو فيقتلون ويقتلون اي قرئ قوله تعالى " يقاتلون في سبيل الله فيقتلون
ويقتلون " بالتوبة الأول بالبناء للمعلوم والثاني للمجهول وقرئ بالعكس اه‍
أخذنا هذا البيان مشافهة عن الصالح المبارك الشيخ احمد التيجي عمدة قراء
الحجاز بمكة المشرفة أطال الله حياته ونفع به الأمة آمين
قال السيوطي في الاتقان قلت ومن أمثلة التقديم والتأخير قراءة الجمهور
" كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار " وقرأ ابن مسعود على قلب كل
متكبر جبار اه‍
87

وقد حمل ابن قتيبة وغيره العدد المذكور في حديث انزل القرآن
على سبعة أحرف على الوجوه التي يقع بها التغاير في سبعة أشياء ذكرها
مفصلا ابن حجر في فتح الباري على صحيح البخاري عند الكلام
على هذا الحديث فراجعه ان شئت فانا لم ننقلها منه خوف التطويل
وقد استوفى ابن حجر رحمه الله شرح هذا الحديث في فتح الباري
ينبغي مطالعته فإنه مبحث مهم
ولا يبعد ان يكون هذا الحديث متشابها يفوض معناه إلى الله
تعالى كما ذهب إليه بعض العلماء وذلك لامرين - الأول - كثرة
اختلاف العلماء في معناه حتى بلغ نحو أربعين قولا - الثاني - ورود
أحاديث كثيرة في هذا المعنى بعبارات مختلفة (منها) قوله صلى الله عليه وسلم أقرأني
جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى
88

إلى سبعة أحرف، رواه الشيخان ولمسلم برواية أخرى، وللترمذي من وجه
آخر انه صلى الله عليه وسلم قال يا جبريل انى بعثت إلى أمة أميين منهم العجوز
والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط الحديث
(ومنها) انزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف كلها شاف
كاف رواه الطبراني (ومنها) انزل القرآن على سبعة أحرف فمن قرأ على
حرف منها فلا يتحول إلى غيره رغبة عنه رواه الطبراني (ومنها) انزل
القرآن على عشرة أحرف بشير ونذير وناسخ ومنسوخ وعظة ومتشابه
ومثل ومحكم وحلال وحرام رواه السجزي في الإبانة (ومنها) انزل
القرآن على ثلاثة أحرف رواه أحمد وغيره (ومنها) ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان عند أضاءة بنى غفار (1) فأتاه جبريل عليه السلام فقال إن الله
عز وجل يأمرك ان تقرئ أمتك القرآن على حرف قال اسأل الله
معافاته ومغفرته وان أمتي لا تطيق ذلك ثم اتاه الثانية فقال إن الله عز
وجل يأمرك ان تقرئ أمتك القرآن على حرفين قال اسأل الله معافاته
ومغفرته وان أمتي لا تطيق ذلك ثم جاءه الثالثة فقال إن الله عز وجل
يأمرك ان تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال اسأل الله معافاته
ومغفرته وان أمتي لا تطيق ذلك ثم جاءه الرابعة فقال إن الله عز وجل

(1) أضاءة هي بفتح الهمزة وبضاد معجمة ماء مستنقع كالغدير بالمدينة
89

يأمرك ان تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤا عليه
فقد أصابوا رواه النسائي في سننه * فإذا أمعنت النظر في هذه الأحاديث
ظهرت لك منها جملة معان فتأمل جيدا.
والحقيقة التي لا تنكر انه لولا عثمان رضي الله عنه جمع الأمة على
مصحف واحد وعلى حرف واحد لذهب المسلمون اليوم في القرآن الكريم
كل مذهب، ولاختلفت القراءات لديهم كل الاختلاف، ولوجد أعداء
الدين مسلكا سهلا لايقاع الشك والدسيسة في قلوب ضعاف المسلمين
وجهالهم، وإذا وقع الاختلاف والتكذيب في عهده رضي الله عنه
فكيف بنا اليوم وقد بدأ الاسلام يعود غريبا فجزى الله صحابة
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاسلام والمسلمين خير الجزاء ووفقنا لاتباع
مسلكهم القويم ومنهجهم المستقيم آمين
ولننقل هنا نص ما ذكره الإمام محمد بن جرير الطبري المولود سنة
أربع أو خمس وعشرين ومائتين في تفسيره بعد أن بين وجهة حمل عثمان
الناس على مصحفه وهو (فان قال) بعض من ضعفت معرفته وكيف
جار لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بقرائتها (قيل)
ان أمرهم بذلك لم يكن أمر ايجاب وفرض وانما كان أمر إباحة ورخصة. الخ
(ويسأل بعضهم) لم لم تكن الأحرف الستة موجودة وقد
90

أنزلت من عند الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وهو اقرأها أصحابه فأن نسخت
فرفعت فما الدليل عليه وان نسيتها الأمة وتركتها فذلك تضييع ما قد
أمروا بحفظه (فأجاب الإمام ابن جرير الطبري) على هذه الأسئلة
بقوله: لم تنسخ الأحرف الستة فترفع ولا ضيعتها الأمة وهي
مأمورة بحفظها ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن وخيرت في قراءته
وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت وضرب لها مثلا في الفقه
وهو إذا حنث موسر في يمين فله أن يختار كفارة من ثلاث كفارات
إما بعتق أو إطعام أو كسوة فكذلك الأمة أمرت بحفظ القرآن
وقراءته وخيرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت فرأت لعلة من
العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد قراءته بحرف واحد ورفض
القراءة بالأحرف الستة الباقية ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه
بما اذن له في قراءته به ثم أورد الطبري أنباء ما قد حدث في أيام أبى بكر
وعثمان عن جمع المصحف اه‍. ولا يخفى أن جواب ابن جرير سديد *
قال أبو شامة وقد اختلف السلف في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن
هل هي مجموعة في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم أو ليس فيه
الأحرف واحد منها مال الباقلاني إلى الأول وصرح الطبري وجماعة بالثاني
وهو المعتمد اه‍ من فتح الباري
91

وسبب اختلاف القراءات السبع وغيرها كما قال ابن هشام ان الجهات
التي وجهت إليها المصاحف كان بها من حمل عنه أهل تلك الجهة وكانت
المصاحف خالية من النقط والشكل قال فثبت أهل كل ناحية على
ما كانوا تلقوه سماعا عن الصحابة بشرط موافقة الخط وتركوا ما يخالف
الخط امتثالا لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك
من الاحتياط للقرآن فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراءة الأمصار
مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة اه‍ من فتح الباري على
صحيح البخاري
فوائد اختلاف القراءات
نزول القرآن بالأحرف السبعة لا يؤدى إلى التناقض في الأحكام الشرعية
وأصول الدين وفي الحلال والحرام والامر والنهى، فالاختلاف
الواقع بين هذه الأحرف انما هو اختلاف ألفاظ وتلاوة فقط وتؤخذ منه
جملة فوائد (منها) بيان حكم مجمع عليه كقراءة سعد بن أبي وقاص
وغيره " وله أخ أو أخت من أم " فان هذه القراءة تبين ان المراد بالاخوة
هنا الاخوة للام " ومنها " ترجيح حكم اختلف فيه كقراءة " أو تحرير
رقبة مؤمنة في كفارة اليمين " ففيها ترجيح لاشتراط الايمان كما ذهب
إليه الشافعي وغيره ولم يشترطه أبو حنيفة " ومنها " الجمع بين حكمين
92

مختلفين كقراءة يطهرن ويطهرن بالتخفيف والتشديد فينبغي
الجمع بينهما وهو ان الحائض لا يقربها زوجها حتى تطهر بانقطاع حيضها
وتطهر بالاغتسال " ومنها " ايضاح حكم يقتضى الظاهر خلافه كقراءة
" فامضوا إلى ذكر الله " فان قراءة فاسعوا يقتضى ظاهرها المشي السريع
وليس كذلك فكانت القراءة الأخرى موضحة لذلك " ومنها " تفسير
ما لعله لا يعرف كقراءة " كالصوف المنفوش " " ومنها " ما هو حجة
لترجيح قول بعض العلماء كقراءة " أو لمستم النساء " إذ اللمس يطلق
على الجس والمس (ومنها) ما هو حجة لأهل الحق ودفع لأهل الزيغ
كقراءة " وملكا كبيرا " بكسر اللام (1) وردت عن ابن كثير وغيره
وهي من أعظم الدليل على رؤية الله تعالى في الدار الآخرة وقد قيل وخير
ما فسرته بالوارد إلى غير ذلك - اه‍ من إجابة شيخ المقارئ المصرية
لأسئلتنا التي كنا بعثناها إليه من مكة المشرفة وسنذكر منها في هذا
الكتاب ما يناسب كل مقام وفصل إن شاء الله تعالى.

(1) من آية " وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا " بسورة
الانسان
93

الباب الثالث
(وفيه خمسة فصول)
(الفصل الأول * في رسم المصحف العثماني وقواعده)
المراد برسم المصحف ما كتبه الصحابة من الكلمات القرآنية
في المصحف العثماني على هيئة مخصوصة لا تتفق مع قواعد الكتابة
وينحصر امر هذا الرسم في ست قواعد (1) وهي: الحذف، والزيادة،
والهمز، والبدل والوصل، والفصل، وما فيه قراءتان فكتب على إحداهما
وقد جمع هذه القواعد العلامة المرحوم الشيخ محمد العاقب الشنقيطي بقوله:
الرسم في ست قواعد استقل * حذف زيادة وهمز وبدل
وما أتى بالوصل أو بالفصل * موافقا للفظ أو للأصل
وذو قراءتين مما قد شهر * فيه على إحداهما قد اقتصر
وشرح هذه القواعد يطول وأنما نأتى بجملة أمثلة اقتطفناها من كتاب
إيقاظ الاعلام لوجوب اتباع رسم المصحف الامام للعلامة المحدث
الشهير الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله تعالى (فمثال الحذف)
تعلمن مما علمت، ربى أكرمن، فأرسلون يوسف أيها الصديق

(1) أي في ستة أنواع فان رسمه لا قاعدة له ولا يتمشى مع القواعد الاملائية
94

وحذف واو داود، واحدى نون ننجي بالأنبياء، وحذف إحدى اللامين
من نحو الليل والذي، وحذف الألف من بسم الله، ومن لتخذت
عليه اجرا، وحذف الواو من نحو يمح الله الباطل، ويدع الانسان
وقد أشار الشيخ محمد العاقب إلى مواضع حذف الواو من آخر الفعل بقوله
وحذف الواو بغير داع * في يدع الانسان ويدع الداع
سندع صالح ويمح الله * إن سبق الباطل لا سواه (1)
" ومثال الزيادة " لكنا هو الله ربى، سأوريكم آياتي، وأولئك،
والسماء بنينها بأييد، بلقاءى ربهم، ولا تقولن لشائ، أو لأذبحنه
(ومثال البدل) يتوفيكم، ومن عصاني، والاقصا والصلاة،
والربو، والزكاة، وليكونا من الصاغرين، وان رحمت الله
(ومثال الوصل) ألن نجعل لكم، وألن نجمع عظامه، فأينما
تولوا فثم وجه الله، ويكان الله (ومثال الفصل) أن لا اله الا أنت
سبحانك، وأن لا اله الا هو بهود، ولكي لا يكون على المؤمنين حرج
ومال هذا الكتاب (ومثال ما فيهما قراءتان فكتب على إحداهما)

(1) يعني تحذف الواو من قوله تعالى " ويمح الله الباطل " بالشورى بخلاف
قوله " يمحوا الله ما يشاء ويثبت " بالرعد فإنه باثبات الواو
95

كالصراط كتبت بالصاد مع أن قراءة المكي من رواية قنبل بالسين
الخالصة وقراءة خلف باشمام الصاد زايا، ومثله بصطة وبمصيطر فيكتب
الجميع بالصاد لا غير، وكالألف المرسوم في لأهب لك غلاما زكيا
مع أنه قرئ بياء المضارعة إلى غير ذلك من الأمثلة (أما مثال الهمز)
فالهمز له أحوال متنوعة وأمثلة كثيرة تعرف من كتب الاملاء
وقد فصل علماء الرسم أحوال الهمز في القرآن لا داعي لذكرها هنا
خوف التطويل ومن أراد بسط القول فليرجع إلى كتب القراءات وسنذكر
إن شاء الله تعالي طرفا من أحوال الهمز في آخر الباب الرابع
الفصل الثاني
(في اختلاف رسم المصاحف العثمانية)
سبق الكلام على بيان عدد المصاحف التي أرسلها عثمان بن عفان رضي الله عنه
إلى المدن والأمصار وهذه المصاحف كلها تسمى المصاحف العثمانية
وهي التي يجب اتباع رسمها وان اختلف رسم كل مصحف عن الاخر
بالحذف والاثبات، فمن قال بالحذف مثلا في بعضها يدعى انه هو الموجود
في المصحف العثماني ومن قال بالاثبات يدعى عكس ذلك مع اتفاق
الطرفين على أن الموجود في المصحف العثماني هو الحق الثابت في نفس
الامر باجماع الأمة وذلك كالخلاف في كلمة " لدا " هل كتبت
بالألف أم بالياء كما أشار إليه الخراز في مورد الظمآن بقوله:
96

وفي لدا في غافر يختلف * وفي لدا الباب اتفاقا ألف (1)
وقال في كلمة الربا
وبعضهم في الروم أيضا كتبا * واوا بقوله تعالى من ربا
وقال في كلمة تعسا
وابن نجاح قال عن بعض أثر * تعسا بياء وهو غير مشتهر
وكالخلاف الواقع في هذه الكلمات: لأوضعوا، ولأنتم، ولأتوها
ولإلى - هل تزاد فيها ألف بعد الألف الأصلية كما زيدت في كلمة
" لأاذبحنه " أم لا.
(واعلم) أن الخلاف الواقع في رسم بعض كلمات المصحف ليس
خلافا حقيقيا بل هو خلاف صوري، اما الخلاف الواقع في وجوه
القراءات السبع فهو خلاف حقيقي واقع بينهم لكن مع تجويز كل واحد
من السبعة قراءة غيره واعترافه بأنها متواترة وانها من عند الله تعالى
وهذا الخلاف في وجوه القراءات ليس على حد الخلاف في الأحكام الشرعية
لان كلا من وجوه القراءات حق في نفس الامر كما صرح

(1) أي كتبت " لدا " بالياء في آية لدى الحناجر بغافر، وفي بعض المصاحف
كتبت بالألف بخلافها في آية لدا الباب بيوسف فإنها بالألف اتفاقا
97

به عليه الصلاة والسلام وكلا من الأحكام الشرعية حق باعتبار الاجتهاد
وفي نفس الامر الحق واحد ليس الا لحرمة العمل بالمقابل اه‍
من ايقاظ الاعلام.
ذكر جملة من الأمثلة
التي اختلفت كتابتها ورسومها في المصاحف
قوله تعالى " لئن أنجانا " في سورة الأنعام مكتوب في المصحف
الكوفي بالألف وفي غيره بالتاء بعد الياء أي أنجيتنا. وقوله تعالى
" كانوا أشد منهم قوة " مكتوب منكم بالكاف في المصحف الشامي
وبالهاء في غيره. وقوله تعالى " وإذ نجياكم من آل فرعون " هو هكذا
في امام أهل العراق وفى امام أهل الشام وأهل الحجاز وإذ نجاكم. وقوله
تعالى " وما عملت أيديهم " هكذا في بعضها وفي بعضها وما عملته أيديهم
وقوله تعالى " وجعل اليل سكنا " هكذا في بعضها وفي بعضها وجاعل
اليل بالألف. وقوله تعالى " سارعوا إلى مغفرة من ربكم " بغير واو
قبل السين وفي بعضها وسارعوا بالواو. وقوله تعالى) قل انما ادعوا
ربى " هكذا في بعضها وفى بعضها قال انما بالألف. وقوله تعالى
" والشمس والقمر حسبانا " في بعض المصاحف بحذف الألف من باء
حسبانا هكذا حسبنا. وقوله تعالى " هررت ومروت " في بعض
98

المصاحف باثبات الألف في الهاء والميم وفي بعضها بحذفها منهما. وقوله
تعالى " لومة لائم " في بعض المصاحف هكذا - لئم - بحذف ألف
المد. وقوله تعالى " فأحيكم ثم يميتكم " في بعضها فأحياكم بالألف وكلمة
" إبراهيم " مرسومة في سورة البقرة بحذف الياء في المصحف الشامي
والعراقي ومرسومة باثباتها في المصحف المكي والمدني. وألف التثنية
فد تحذف في بعض المصاحف وفي بعضها لا تحذف نحو قوله تعالى
" إذ همت طائفتان " وقوله " كانا يأكلان الطعام " إلى غير ذلك
وهذا حسبما ذكره أئمة القراءات المتقدمون ونقلوه بالسند المتصل
عن الثقاة العدول الذين شاهدوا تلك المصاحف العثمانية.
(سبب اختلاف رسوم المصاحف العثمانية)
لا ندري لم اختلفت رسوم تلك المصاحف التي كتبت بأمر عثمان
رضي الله عنه وأرسلت إلى المدن والأمصار وقد أجاب على هذا العلامة
الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوى وكيل الجامع الأزهر والمعاهد
الدينية بمصر المتوفى عام 1351 تقريبا رحمه الله تعالى في كتابه " عنوان
البيان في علوم التبيان " بقوله. ان هذا الاختلاف بين تلك المصاحف
انما هو اختلاف قراءات في لغة واحدة (1) لا اختلاف لغات قصد

(1) وهي لغة قريش كما سبق الكلام عند جمع عثمان المصحف
99

باثباته انفاذ ما وقع الاجماع عليه إلى أقطار بلاد المسلمين واشتهاره بينهم
وانما كتبت هذه في البعص بصورة وفي آخر بأخرى لأنها لو كررت
في كل مصحف لتوهم نزولها كذلك ولو كتبت بصورة في الأصل
وبأخرى في الحاشية لكان تحكما مع ايهام التصحيح ومثل هذا بعد امر
عثمان رضي الله عنه وبعثه إلى كل جهة ما أجمع الصحابة على الاخذ به لا
يؤدى إلى تنازع أو فتنة لان أن أهل كل جهة قد استندوا إلى أصل مجمع عليه
وامام يرشدهم إلى كيفية قراءته والحاصل ان المصاحف العثمانية كتبت
بحرف واحد وهو حرف قريش وان ذلك الحرف يسع من القراءات
ما يرسم بصور مختلفة اثباتا وحذفا وابدالا فكتب في بعضها برواية
وفي بعضها برواية أخرى تقليلا للاختلاف في الجهة الواحدة بقدر
الامكان فكما اقتصر على لغة واحدة في جميع المصاحف اقتصر على رسم
رواية واحدة في كل مصحف والمدار في القراءة على عدم الخروج عن
رسم تلك المصاحف ولذلك لا يحظر على أهل أي جهة أن يقرؤا بما
يقتضيه رسم الجهة الأخرى اه‍ كلامه رحمه الله تعال وهو كلام حسن
وجواب سديد.
ولم نقف على شئ من كلام المتقدمين والمتأخرين من العلماء في
هذا الموضوع سواه فمن لم يقتنع بجواب الشيخ العدوي المذكور نقول
100

له ان رسم المصاحف العثمانية سر من الاسرار التي لم تهتد إلى حله فحول
العلماء ونوابغ العقلاء كما سنتكلم عنه فما علينا غير الاتباع والتسليم.
الفصل الثالث
(في رسم القرآن الكريم هل هو توقيفي أم لا) اختلف العلماء في رسم المصحف العثماني فبعضهم يقول إنه من
اصطلاح الصحابة وبعضهم يقول إنه توقيفي ويستدلون عليه بأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يملي زيد بن ثابت القران من تلقين جبريل عليه
السلام كما يشهد بذلك اطباق القراء على قوله تعالى واخشوني في البقرة
باثبات الياء وفي المائدة بحذفها في الموضعين ونظائر ذلك كثيرة مما يدل
على أن هجاء القرآن وكتابته بالتوقيف وانه ليس من الرسم الموضوع
وقد كتب القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن غير مجموع في موضع
واحد ولا مرتب السور.
والذي يظهر لنا والله تعالى اعلم أن رسم المصحف العثماني غير
توقيفي ونستدل على قولنا هذا بخمسة أمور.
(الامر الأول) ان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كونه أميا
لا يكتب ولا يقرأ كتابا كما قال تعالى " وما كنت تتلوا من قبله
101

من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (1) " فكيف يملي
عليه الصلاة والسلام زيد بن ثابت على حسب قواعد الكتابة
والاملاء من نحو الزيادة والنقص والوصل والفصل.
فهل كان يقول صلى الله عليه وسلم لكاتب الوحي اكتب كلمة " إبراهيم "
في سورة البقرة كلها بغير ياء واكتبها في بقية القرآن بالياء واكتب
كلمة " بأييد (2) " بياءين. واكتب كلمة " وجائ يومئذ بجهنم "
بزيادة ألف بعد الجيم. واكتب كلمة " لشائ (3) " بزيادة ألف بعد
الشين واكتب كلمة " أفإن مات (4) " بزيادة ياء قبل النون. واكتب
كلمة " الله يبدؤا الخلق " بهمزة فوق الواو وألف بعدها. واكتب
هذه الكلمات " جاءو. فاءو. باءو. تبوءو " بغير ألف فيها بعد
واو الجماعة وفيما عدا هذه الكلمات أثبت الألف بعدها. واكتب كلمة
" مائة " بالألف واكتب كلمة " فئة " بغير ألف. واكتب كلمة

(1) فالأمية في حقه عليه الصلاة والسلام كمال وفي حق غيره نقص وذلك
لو كان متعلما الكتابة والقراءة لقالوا ان هذا القرآن ليس من عند الله وانما
وضعه من نفسه بقوة علمه ومعرفته
(2) من آية والسماء بنيناها بأييد
(3) من آية ولا تقولن لشئ انى فاعل ذلك غدا الا ان يشاء الله
(4) من آية أفإن مات أو قتل
102

" سعوا " التي بالحج بالألف بعد الواو. واحذفها من " سعو " التي
بسبأ. واكتب كلمة " واخشوني " بالياء في البقرة واحذفها منها
في التي بالمائدة واحذف اللام الثانية من كلمة " اليل " وأثبتها في كلمة
" اللؤلؤ " واكتب الكلمات " الصلاة. الزكاة. الربوا " بالواو
واكتب " قرت عين لي " بالتاء واكتب " قرة أعين " بالهاء
وافصل كي عن لا في " كي لا يكون دولة " وأوصلها في " لكيلا تأسوا "
وهكذا في جميع القرآن.
فان كان املاء النبي صلى الله عليه وسلم القرآن لكاتب الوحي بهذه الصفة
فالرسم توقيفي بلا جدال لكن لم نر منقولا ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يملي
كاتب الوحي بهذه الصفة والكيفية، فلو كان كذلك لتواتر عنه صلى الله عليه وسلم
وما كان ذلك خافيا على أحد، ولو كان كذلك أيضا لكان عليه الصلاة
والسلام عارفا بأصول الكتابة وقواعد الاملاء وكيف وهو النبي الأمي
(الامر الثاني) لما اختلف زيد بن ثابت ومن معه في كلمة " التابوت "
أيكتبونه بالتاء أم بالهاء رفعوا الامر إلى عثمان رضي الله عنه فأمرهم ان
يكتبوها بالتاء. فلو كان الرسم توقيفيا باملاء النبي صلى الله عليه وسلم بالكيفية التي
ذكرناها لقال لهم زيد إن النبي صلى الله عليه وسلم امرني بكتابتها بالتاء ولقال عثمان
لزيد كاتب الوحي اكتبها بالكيفية التي املاك بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
103

(الامر الثالث) لو كان الرسم توقيفيا لما اختلف الرسم
في المصاحف التي أرسلها عثمان رضي الله عنه إلى المدن والأمصار كما
سبق بيانه قبل هذا الفصل.
(الامر الرابع) لو كان الرسم توقيفيا لصرح بذلك الامام مالك
ولما جوز كتابة الصحف والألواح للصغار المتعلمين بغير الرسم العثماني
ولصرح بذلك أيضا جميع الأئمة.
(الامر الخامس) لو كان الرسم توقيفيا لنعتوه (بالرسم التوقيفي)
أو (بالرسم النبوي) وما كانوا نعتوه (بالرسم العثماني) نسبة لعثمان بن عفان
فاستدلالهم بأن زيد بن ثابت كتب كلمة (واخشوني) بالبقرة
باثبات الياء وكتبها في المائدة بحذفها في غير محله، لان ثبوت الياء
أو حذفها يعلم من وقوف القارئ على الكلمة، فان وقف بالسكون على
نون واخشوني كتبت بالنون فقط وان وقف على الياء كتبت بالياء
قال بعضهم
ان مدار الرسم والكتابة * معتبر بالوقف والبداءة
فزيد بن ثابت عرف ذلك من وقف النبي صلى الله عليه وسلم على الكلمة، فعلم
مما ذكرناه ان رسم المصحف ليس توقيفيا وانما هو من وضع الصحابة
واصطلاحهم لحكمة لم ندركها
104

بقى علينا أن نعرف لماذا لم يكتبوا المصحف على قواعد الكتابة
ولماذا لم يمشوا في كتابته على وتيرة واحدة هذا سؤال يجب ان يوجه
إلى الصحابة الذين كتبوه بأمر عثمان رضي الله عنه، وانى يكون ذلك
وقد ذهبوا إلى جوار ربهم الكريم - ومن هنا يقول العلماء إن رسم
المصحف سر من الاسرار لم يطلع عليه أحد وان خطه معجز كلفظه
المقروء.
هذا ولا تتوهمن عليهم السهو أو الخطأ في كتابة كلام الله تعالى
وقد مر عليك بطلان ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني في ضبط
وتصحيح المصحف الكريم، ولا يخطرن أيضا ببالك أنهم ما كانوا
يعرفون أصول الكتابة فلذلك اضطربوا في رسم المصحف فان هذا
وهم باطل كما سنقيم الدليل عليه في الفصل الخامس.
الفصل الرابع
(في حكم اتباع رسم المصحف العثماني)
حكم اتباع رسم المصحف العثماني الوجوب باتفاق الأئمة قاطبة
وان لم ندرك حكمة كتابته على هذه الصورة من الرسم المخالف لقواعد
الكتابة واليك تفصيل ذلك.
105

(قال بعضهم) لقد أجمع على كتابة المصاحف العثمانية اثنا عشر
ألفا من الصحابة رضي الله عنهم فيجب على كل مسلم ان يقتدى بهم وبفعلهم
لقوله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي
عضوا عليها بالنواجذ الحديث وقوله، اقتدوا باللذين من بعدي أبى بكر
وعمر فإنهما حبل الله المدود من تمسك بهما فقد تمسك بالعروة الوثقى
وقال البيهقي في شعب الايمان من يكتب مصحفا فينبغي ان يحافظ على
الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ولا يخالفهم فيه ولا يغير مما كتبوه
شيئا فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا وأعظم أمانة فلا ينبغي
ان نظن بأنفسنا استدراكا عليهم.
وسئل مالك رحمه الله تعالى (1) هل يكتب المصحف على ما أحدثه
الناس من الهجاء فقال لا الا على الكتبة الأولى رواه الداني في المقنع
ثم قال ولا مخالف له من علماء الأمة، وقال في موضع آخر سئل مالك
عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف أترى ان تغير في المصحف
ان وجد فيه كذلك قال لا قال أبو عمر ويعني الواو والألف المزيدتين
في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو أولو، وفى رواية قال أشهب سئل

(1) ولد الامام مالك سنة 95 هجرية وتوفى سنة 179
106

مالك فقيل له أرأيت من استكتب مصحفا أترى ان يكتب على ما أحدثه
الناس من الهجاء اليوم قال لا أرى ذلك ولكن يكتب على الكتبة
الأولى (1) قال الداني في المحكم ولا مخالف لمالك في ذلك من علماء الأمة
لان ما روى عنه هو مذهب باقي الأئمة ومستند الأئمة الأربع هو
مستند الخلفاء الأربع وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى (2) تحرم مخالفة
خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو الف أو غير ذلك، ونقل الجعبري
وغيره اجماع الأئمة الأربعة على وجوب اتباع هذا المرسوم
قال القرطبي في أوائل تفسيره وقال اشهب سمعت مالكا وسئل عن
العشور التي تكون في المصحف بالحمرة وغيرها من الألوان فكره ذلك
وقال تعشير المصحف بالحبر لا بأس به وسئل عن المصاحف يكتب
فيها خواتم السور في كل سورة ما فيها من آية قال انى أكره ذلك في
أمهات المصاحف ان يكتب فيها شئ أو يشكل فأما ما يتعلم به من الغلمان
من المصاحف فلا أرى بذلك بأسا قال أشهب ثم اخرج إلينا مصحفا

(1) يفهم من هذا ان الأمة في القرنين الأولين أدركت مخالفة الرسم
العثماني لقواعد كتاباتهم ورغبوا في كتابة المصاحف على القواعد الكتابية
فاستفتوا الامام مالكا فلم يفتهم بجواز ذلك فامتثلوا وأطاعوا وما علينا الا
اتباعهم والاقتداء بهم
(2) ولد الإمام أحمد سنة 164 هجرية وتوفي سنة 241
107

لجده كتبه إذ كتب عثمان المصاحف فرأينا خواتمه من حبر على عمل
السلسلة في طول السطور ورأيته معجوم الآي بالحبر اه‍ قوله معجوم
الآي بالحبر أي موضوع في آخر كل آية نقطة من الحبر للفصل بين
الآيات.
قال الخراز في مورد الظمآن مشيرا إلى إجابة مالك:
ومالك حض على الاتباع * لفعلهم وترك الابتداع
إذ منع السائل من أن يحدثا * في الأمهات نقط ما قد أحدثا
وانما رآه للصبيان * في الصحف والألواح للبيان
ووضع الناس عليه كتبا * كل يبين عنه كيف كتبا
اجلها فاعلم كتاب المقنع * وقد اتى فيه بنص مقنع
قوله وانما رآه للصبيان الخ أي ان مالكا رحمه الله جوز كتابة
الألواح والصحف بغير الرسم العثماني للصغار الذين يتعلمون القرآن
حتى لا يصعب عليهم التعليم وهذا القول عن مالك ذكره أيضا العلامة
الشيخ محمد مكي نصر في كتابه القول المفيد في علم التجويد
وقال الشيخ محمد العاقب الشنقيطي رحمه الله تعالى
رسم الكتاب سنة متبعة * كما نحا أهل المناحي الأربعة
لأنه اما بأمر المصطفى * أو باجتماع الراشدين الخلفا
108

وكل من بدل منه حرفا * باء بكفر أو عليه أشفا (1)
وقال القاضي عياض في آخر كتاب الشفا أجمع المسلمون ان من
نقص حرفا قاصدا لذلك أو بدله بحرف آخر مكانه أو زاد فيه حرفا مما لم
يشمل عليه المصحف الذي وقع عليه الاجماع واجمع على أنه ليس من
القرآن عامدا لكل هذا انه كافر اه‍ كلامه وأيده شراحه.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن القاضي المغربي ولا يجوز مخالفة
مرسوم المصحف العثماني ولا يلتفت إلى اعتلال من خالف بقوله ان
العامة لا تعرف مرسوم المصحف ويدخل عليهم الخلل في قراءتهم في
المصحف إذا كتب على المرسوم العثماني إلى آخر ما عللوا به فهذا ليس
بشئ لان من لا يعرف المرسوم من الأمة يجب عليه ان لا يقرأ في
المصحف حتى يتعلم القراءة على وجهها ويتعلم مرسوم المصحف فان فعل
غير ذلك فقد خالف ما أجمعت عليه الأمة وحكمه معلوم في الشرع
الشريف ومن علل بشئ فهو مردود عليه لمخالفته للاجماع المتقدم وقد
تعدت هذه المفسدة إلى خلق كثير من الناس في هذا الزمان فليحتفظ
من ذلك في حق نفسه وحق غيره اه‍ من ايقاظ الاعلام.
وجاء في كتاب نهاية القول المفيد في علم التجويد ما نصه: أجمع

(1) قال في المصباح أشفيت على الشئ بالألف أشرقت
109

أهل الأداء وأئمة القراء على لزوم تعلم مرسوم المصحف العثماني فيما
تدعو إليه الحاجة وقال الامام الخراز في كتابة عمدة البيان في الزجر
عن محالفة رسم المصاحف ما نصه:
فواجب على ذوي الأذهان * أن يتبعوا المرسوم في القرآن
ويقتدوا بمن رآه نظرا * إذ جعلوه للامام وزرا
وكيف لا يصح الاقتداء * بما اتى نصا به الشفاء
روى عياض انه من غيرا * حرفا من القرآن عمدا كفرا
زيادة أو نقصا أو إن بدلا * شيئا من الرسم الذي تأصلا
فعلم مما سبق اجماع الأئمة على عدم جواز كتابة القرآن بغير الرسم
العثماني، اما ما ذكره الدمياطي في كتابه اتحاف فضلاء البشر في
القراءات الأربعة عشر بأن شيخ الاسلام العز بن عبد السلام قال
لا يجوز كتابة المصحف الآن على المرسوم الأول باصطلاح الأئمة لئلا
يوقع في تغيير من الجهال فقد رد عليه بعضهم بقوله وهذا لا ينبغي
اجراؤه على اطلاقه لئلا يؤدى إلى درس العلم ولا يترك شئ قد أحكمه
السلف مراعاة لجهل الجاهلين لا سيما وهو أحد الأركان التي عليها مدار
القراءات (1) اه‍

(1) انظر الفصل الأول من الباب الرابع لتقف على ما يترتب عن مخالفة الرسم العثماني
110

(فان قيل) لم لم يقولوا باتباع رسم الصحف البكرية وهي كتبت
قبل مصحف عثمان (فنقول) ان مصحف أبى بكر كان مكتوبا بجميع
الأحرف السبعة ولابد أن تكون كتابة كل حرف منها برسم صريح
لا يحتمل قراءة حرف آخر، وان أبا بكر لم يحمل الناس على اتباع
مصحفه لعدم الضرورة إلى ذلك كما سبق بيانه (1) فان الناس كانوا
يقرؤن في زمنه بالأحرف السبعة فكان مصحفه الذي جمعه محفوظا
عنده ثم كان عند عمر ثم كان عند حفصة بنت عمر فلما ماتت غسل
غسلا فلم يبق له اثر (2)
اما مصحف عثمان فقد استنسخه من الصحف البكرية على حرف
واحد فقط من الأحرف السبعة وهو حرف قريش وترك الأحرف
الستة الباقية خشية اختلاف الناس في القراءة وامر بحرق جميع
الألواح والمصاحف غير مصحفه الذي جمعه حتى لا تكون فرقة ولا
اختلاف وحمل الناس على مصحفه ووافقه الصحابة على هذا العمل
المبرور فصار اتباعه واجبا في ترتيبه ورسمه، وان كل مصحف من المصاحف
التي أرسلها عثمان إلى المدن والأمصار كتب برسم غير رسم الآخر ليحتمل

(1) انظر الفصل الأول من الباب الثاني عند جمع أبى بكر للقرآن
(2) تقدم في الجمع الثالث سبب غسل الصحف البكرية التي كانت عند حفصة
رضي الله عنها بعد وفاتها
111

الرسم وجها من القراءات (1) فلما صار العمل على هذه المصاحف
العثمانية قالوا بوجوب اتباع رسم أي مصحف منها ولابد ان يكون
رسم مصحف عثمان موافقا لرسم الصحف البكرية في حدود الحرف
الواحد الذي جمع مصحفه عليه وهو حرف قريش خصوصا في حذف
الألف من نحو الكتب والانسان واسحق وإسماعيل وزيادة الواو
في نحو أولئك وأولو وغير ذلك والله تعالى اعلم بغيبه.
ومما يناسب هذا المقام ذكر أربعة أسئلة من الأسئلة التي كنا بعثناها
لمشيخة المقارئ المصرية (2) مع الإجابة عليها.
(فالسؤال الأول) هل من ضمن القراءات المتواترة (3) قراءة
روعي فيها رسم المصحف العثماني أم لا.

(1) انظر في آخر الفصل الثاني من الباب الثالث لتقف على علة اختلاف
الرسم في المصاحف العثمانية
(2) لما عزمتا على تأليف هذا الكتاب خطرت في بالنا جملة أسئلة عددها
تسعة عشر سؤالا مما يتعلق بالقرآن الكريم فاستفتينا فيها مشيخة المقارئ المصرية
فأجابتا عليها في اليوم العاشر من شهر شعبان عام ألف وثلاثمائة وثلاث وستين
هجرية، ونحن نذكر في هذا الكتاب من تلك الأسئلة والإجابة عليها ما يناسب
كل مقام، ولولا خوف التطويل لوضعنا جميع الأسئلة مع أجوبتها في ذيل هذا
الكتاب.
(3) سيأتي بيان القراءات المتواترة في السؤال الثالث قريبا
112

(فأجابنا عليه) شيخ القراء هناك فضيلة الأستاذ المحقق الشيخ محمد
على الضباع (1) بقوله: رسم المصحف ركن من أركان القراءة فكل قراءة
مراعى فيها هذا الرسم وقد وردت نصوص أئمة الأداء بأن أئمة القراءة
بالكوفة وأبا عمر والمازني ونافعا بن أبي نعيم المدني اعتنوا بمتابعة خط
المصحف في الوقوف الاختبارية (2) لقصد توقيف القارئ على حقيقة
رسمها واستحسن ذلك المحققون لسائر القراء. اه‍
(والسؤال الثاني) هل يطلق على من كتب مصحفا بقراءة
من القراءات المتواترة انه خالف رسم المصحف العثماني وانه ارتكب
محظورا أم لا.
(فأجابنا عليه) شيخ القراء المذكور بقوله: كاتب المصحف إذا رسم
هجاء كلماته بصورها الرسمية على وجه مما اثر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
والتزم فيما ورد فيه منها رسمان كل منهما لقراءة رسما يطابق قراءة معينة
من القراءات المتواترة ثم ضبطه بأي طريق من طرق الضبط على وجه

(1) الضباع بالضاد المعجمة والباء الموحدة المشددة
(2) الوقف الاختباري بالباء الموحدة هو اختبار القارئ ليعلم كيف يقف
على رسم المصحف العثماني من مقطوع وموصول وثابت ومحذوف وتاء تأنيث
لم تكتب بهاء
113

معتبر عند أهل الأداء فلا يقال انه خالف الرسم العثماني ولا انه ارتكب
محظورا وان كانت الصورة التي أتى بها لا تحكي صورة بعينها لمصحف
من المصاحف الستة (1) لان المعتبر في متابعة الرسم العثماني تصوير
الكلمة القرآنية على وجه أثر عن تلك المصاحف أو بعضها وأما الضبط
فقد جرى عمل المسلمين على الترخيص به دفعا للالتباس ومنعا للتحريف
والخطأ في كلام رب العالمين. اه‍
(والسؤال الثالث) ما هي القراءات المتواترة وكم عددها وما
أسماؤها وما معنى القراءة الشاذة وهل تصح الصلاة بها في أحد المذاهب
أم لا وما مثالها وهل من يقرأ بها في غير الصلاة للتعبد يثاب عليها أم لا
فان لم تصح الصلاة بها ولم يؤجر قارئها فما معنى كونها قراءة شاذة وهل
يترتب عليها حكم شرعي أم لا.
(فأجابنا عليه) شيخ القراء المذكور بقوله: القراءات المتواترة
هي كل قراءة صح سندها بنقل جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب
عن مثلهم من البداءة إلى المنتهى ووافقت العربية مطلقا ووافقت أحد
المصاحف العثمانية ولو تقديرا، والذي جمع في زماننا هذه الأركان الثلاثة

(1) هذا على القول بان المصاحف التي أرسلها عثمان بن عفان إلى الأمصار
ستة وقد تقدم ذكر الاختلاف في عددها فراجعه في صحيفة 74
114

هو قراءة الأئمة العشرة (1) - نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر
وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف - أخذها
الخلف عن السلف إلى أن وصلت إلينا فقراءة أحدهم كقراءة باقيهم في
كونها مقطوعا بها.. الخ ما أجابنا به شيخ القراء حفظه الله تعالى. اه‍
وقد اكتفينا بهذه النبذة من اجابته على سؤالنا المذكور المتشعب
بيانا للقراءات المتواترة ولم نذكر بقية الإجابة خوفا من التطويل مع أنها
نافعة قيمة كيف لا وهي صادرة من علامة محقق أكثر الله من أمثاله
ولما كان في الإجابة بعض جمل تحتاج لزيادة الايضاح رأينا أن
نعقب عليها بشرح مختصر نقلناه من كتاب عنوان البيان في علوم التبيان
وهو منقول عن الإمام ابن الجزري رحمه الله تعالى فنقول:
" قوله ووافقت العربية مطلقا " أي ولو بوجه من وجوه النحو
سواء كان أفصح أم فصيحا مجمعا عليه أم مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله
إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاه الأئمة بالاسناد الصحيح إذ هو
الأصل الأعظم والركن الأقوم وكم من قراءة أنكرها بعض أهل
النحو أو كثير منهم ولم يعتبر انكارهم كإسكان بارئكم ويأمركم وخفض
الأرحام والفصل بين المضافين في مثل " قتل أولادهم شركائهم "

(1) سيأتي الكلام على ذكرهم وتاريخ وفاتهم في الفصل الأول من الباب الرابع
115

فإذا ثبتت الرواية لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة لان القراءة
سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها.
" وقوله ووافقت أحد المصاحف العثمانية " يعنى ما كان ثابتا في
بعضها دون بعض كقراءة ابن عامر قالوا اتخذ الله ولدا في البقرة من
غير واو وبالزبر وبالكتاب المنير بزيادة الباء في الاسمين فأن ذلك ثابت
في المصحف الشامي فان لم يكن في شئ من المصاحف العثمانية فشاذ
لمخالفته الرسم المجمع عليه.
" وقوله ولو تقديرا " كملك يوم الدين فأنه كتب في الجميع بلا
ألف فقراءته بالألف توافقه تقديرا لحذفها في الخط اختصارا وقد يوافق
اختلاف القراءات الرسم تحقيقا نحو تعلمون بالتاء والياء ويغفر لكم
بالياء والنون ونحو ذلك مما يدل تجرده عن النقط والشكل في حذفه
واثباته على فضل عظم الصحابة رضي الله عنهم في علم الهجاء خاصة
وفهم ثاقب في تحقيق كل علم اه‍ من كتاب عنوان البيان للعلامة الشيخ
محمد حسنين مخلوف العدوى رحمه الله تعالى.
ولقد طلبنا من الأستاذ الجليل مرجع القراء وعمدتهم عندنا بمكة
المشرفة الشيخ أحمد بن محمد التيجي حفظه الله وأطال عمره ايضاح ما
ذكر من اسكان بارئكم ويأمركم وخفض الأرحام والفصل بين المضافين
116

في مثل قتل أولادهم شركائهم (فأجابنا بما يأتي):
إن أبا عمرو بن العلاء أحد أئمة القراء يقرأ كلمة " بارئكم " من
قوله تعالى " فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند
بارئكم فتاب عليكم " باسكان الهمزة تخفيفا - ويقرأ كلمتي " يأمركم
ويأمرهم " من قوله تعالى " ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها " ومن قوله تعالى " يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل
لهم الطيبات " باسكان الراء في الكلمتين للتخفيف - وإن حمزة أحد
أئمة القراء يقرأ كلمة " والأرحام " من قوله تعالى " واتقوا الله الذي
تساءلون به والأرحام " بكسر الميم عطفا على الضمير المجرور.
وأما قوله تعالى " وكذلك زين لكثير من المشركين قتل
أولادهم شركاؤهم " بسورة الانعام فيقرأ ابن عامر أحد أئمة القراء
زين بضم الزاي فعل مجهول، وقتل بضم اللام نائب فاعل، وأولادهم
بفتح الدال مفعول للمصدر، وشركائهم بكسر الهمزة مضاف إليه
وقتل هو المضاف وقد فصل بينهما بأولادهم - والفصل بين المضاف
والمضاف إليه لا يجوز عند أكثر النحويين الا في الشعر لان المضاف
إليه بمنزلة جزء المضاف كما لا يجوز عندهم اسكان الهمزة من قوله تعالى
فتوبوا إلى بارئكم وهو اسم مجرور واسكان الراء من قوله تعالى ان الله
117

يأمركم وهو فعل مضارع مرفوع. ولكن ثبوت القراءة بما ذكر عن
هؤلاء الأئمة مقدم على القواعد النحوية فالقراءة هي الأصل المعتبر اه‍
قول الشيخ التيجي أدام الله النفع به.
(والسؤال الرابع) هل يجوز اتلاف المصاحف المطبوعة على
غير رسم المصحف العثماني أم لا وهل لها حرمة أم لا.
(فأجابنا عليه) شيخ القراء المذكور بقوله: إذا كان في المصحف
المطبوع كلمات رسمت على خلاف الرسم العثماني المشهور وكانت هذه
الكلمات مما يترتب على رسمها كذلك اخلال بحكم من احكام تلاوة
القرآن كوصل ما اثر عن الرسم العثماني قطعه وعكسه أو كرسم هاء
التأنيث التي يقتضى الرسم العثماني رسمها بالتاء هاء فخشية ان يتسرب
التحريف إلى اللفظ الشريف يتعين اتلاف ذلك المصحف إذا تعذر
اصلاحه، أما إذا كانت تلك الكلمات مما لا يترتب على رسمها كذلك
اخلال بحكم من احكام اللفظ كاثبات بعض الألفات أو الياءات أو
الواوات المحذوفات في الرسم العثماني لقصد الاختصار فلا بأس ببقائه
واحترامه تبعا لما جرى عليه بعض متأخري المشارقة من الترخيص
باثباتها تيسيرا على العامة وتنزيلا لها منزلة الضبط لأنها تؤدي
ما يؤديه ولم أر في ذلك نصا يعتد به، وهل تعد هذه الأحرف من القرآن
118

أولا، الظاهر من عمل العادين أن منهم من عدها مراعاة للفظ ومنهم من
أسقطها مراعاة للخط العثماني وهذا أولى وأحوط محافظة على المرسوم
وخشية ان يزاد في القرآن ما ليس منه.
انتهت الأسئلة الأربعة والإجابة عليها.
فخلاصة ما تقدم: ان الواجب علينا اتباع رسم المصحف العثماني
وتقليد أئمة القراءات خصوصا علماء الرسم منهم والرجوع إلى دواوينهم
العظام كالمقنع لأبي عمر والداني والعقيلة للشاطبي فان أئمة القراءات
المتقدمين قد حصروا مرسوم القرآن الكريم كلمة كلمة على هيئة
ما كتبه الصحابة في المصاحف العثمانية ونقلوا ذلك بالسند المتصل عن
الثقاة العدول الذين شاهدوا تلك المصاحف.
هذا وقد بحثنا كثيرا في دور الكتب " الكتبخانات " بالحجاز
ومصر عن نفس المصاحف العثمانية فلم نقف على خبر موثوق نطمئن
إليه بوجودها.
ولقد جاء في خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى للسمهودي انه في
الحريق الأول الذي حصل للمسجد النبوي سنة ستمائة وأربع وخمسين
للهجرة كان من جملة ما احترق الكتب والمصاحف ولم يسلم من الحريق
سوى بعض أشياء منها المصحف الشريف العثماني.. الخ - فعلى هذا
119

كان المصحف العثماني موجودا بالحرم النبوي بالمدينة المنورة إلى التاريخ
المذكور ثم لا يعلم أحد أين ذهب، ويقول بعض من نعاصرهم انه كان
موجود بالمدينة المنورة إلى أن خرج الأتراك من الحجاز عام ألف
وثلاثمائة وأربع وثلاثين وانه ربما نقل إلى الآستانة.
ولقد رأينا في " مجلة الدنيا وكل شئ " التي تصدر بمصر في كل
أسبوع مرة واحدة بتاريخ 28 جمادى الثانية عام 1357 ه‍ الموافق
24 أغسطس عام 1938 - ان حكومة ألمانيا ستعيد في ستة أشهر من تنفيذ
المعاهدة الحالية إلى حكومة ملك الحجاز النسخة الأصلية لمصحف الخليفة
عثمان بن عفان رضي الله عنه والتي اخذت من المدينة المنورة بواسطة
القوات الأتراك وثبت انها سلمت للامبراطور السابق غليوم الثاني
هذا ما وقفنا عليه في هذا الشأن.
فوائد اتباع الرسم العثماني
اعلم أن في اتباع الرسم العثماني جملة فوائد (منها) وقوف الناس
على كيفية كتابة المصاحف في ابتداء الامر (ومنها) النص على بعض
اللغات الفصيحة ككتابة هاء التأنيث تاء على لغة طئ وكحذف ياء
يوم يأت لا تكلم نفس على لغة هذيل (ومنها) إفادة المعاني بالقطع
والوصل في بعض الكلمات نحو " أم من يكون عليهم عليهم وكيلا "
120

فان قطع أم عن من يفيد معنى بل دون وصلها بها (ومنها) أخذ القراءات
المختلفة من اللفظ المرسوم برسم واحد نحو " وما يخدعون الا أنفسهم "
فلو كتبت وما يخادعون لفاتت قراءة وما يخدعون ومنها عدم الاهتداء
إلى تلاوته على حقه الا بالتلقي شأن كل علم نفيس يتحفظ عليه. اه‍
من إجابة مشيخة المقارئ المصرية لأسئلتنا
الرد على الإفرنج
(القائلين باستنباط القراءات من الرسم)
يقول بعض المستشرقين من الإفرنج أمثال جولد زيهر اليهودي
ونولدكة الألماني المولود عام 1836 م (1) ان رسم المصحف هو الأصل
وان القراءات تابعة له نشأت عن عدم وجود الشكل والنقط أي
" الحركات والأعجام " في الحروف والكلمات أيام الصحابة فنحن نرد هنا
على قولهم هذا بالبرهان قاطع حتى لا يتوهم ذلك أحد من المسلمين

(1) كان بدء اهتمام الإفرنج باللغة العربية من القرن العاشر للميلاد ثم زاد
اهتمامهم باللغات الشرقية كالعربية والتركية والفارسية وتخصص أناس منهم في
دراستها فترجموا كثيرا من العلوم إلى لغاتهم، ومن القرن الثامن عشر للميلاد إلى
الآن نبغ كثيرون منهم - وقد ذكر جورجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة
العربية أسماء طائفة من المستشرقين وأعمالهم فراجعه ان شئت.
121

وأنى لهؤلاء الإفرنج أن يفهموا كلام رب العالمين وشريعة خاتم النبيين
محمد صلى الله عليه وسلم وهم قد كفروا به. ولئن استمعنا إلى فلسفتهم وآرائهم في
بعض المواضيع، لا نسمح لهم أن يتناولوا الأبحاث الدينية الاسلامية
ويخوضوا في المسائل الدقيقة المهمة - على اننا لا ننكر للغربيين
نظرياتهم الصائبة في بعض النواحي التاريخية، واستكشافاتهم
العظيمة للآثار العمرانية، ومخترعاتهم الهائلة في المصالح الحيوية -
وانما ننكر عليهم الخوض في الأبحاث الدينية الاسلامية لأنها غير مبنية
على التصورات العقلية والتخيلات الفكرية بل انها مبنية على قول الله
تبارك وتعالى وعلى سنة نبينا العربي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وهم لا يؤمنون
بكتاب الله، ولا يقرون برسالة نبينا، ولا يعرفون من اللغة العربية
ودقائقها ما يعرفه أهلها - فمن الانصاف والعدل أن يرجعوا إلى كبار
علمائنا الاعلام فيما يشكل عليهم من الأمور إذا ما أرادوا الوصول
إلى الحقيقة. واليك فساد رأيهم في بحث القراءات: اعلم اننا لو أخذنا
بقولهم هذا للزم ان الصحابة والتابعين هم الذين استنبطوا هذه القراءات
من رسم المصحف العثماني، فعليه يكون قد تطرق التحريف والتبديل
في القرآن العظيم وهذا مستحيل بصريح قوله تعالى " انا نحن نزلنا الذكر
وإنا له لحافظون " وقوله جل جلاله " وانه لكتاب عزيز لا يأتيه
122

الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد "
وحاشا لله ان يتهاون الصحابة أو يعلموا برأيهم في أ مر من أمور
الدين فضلا عن القرآن الكريم الذي هو أساس الدين الاسلامي
الحنيف، وانما هم تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة وسماعا كلمة كلمة
وآية آية وسورة سورة بالقراءات التي تدخل في معنى حديث " ان هذا
القرآن انزل على سبعة أحرف فاقرؤا ما تيسر منه ".
ولقد وصل إلينا القرآن المجيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتواتر القطعي
والاسناد الصحيح عن الثقاة العدول والعلماء الفحول طبقة بعد طبقة
فالقراءات مأخوذة من النبي صلى الله عليه وسلم مشافهة وسماعا وليست مستخرجة
من رسم المصحف بل الرسم تابع لها مبنى عليها وأي دليل
أعظم على هذا مما وقع لعمر بن الخطاب مع هشام ابن حكيم
حينما سمعه يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة لا يعرفها عمر،
ومما وقع لأبي بن كعب في المسجد مع الرجلين اللذين قرأ كل
منهما سورة النحل في الصلاة بقراءة تخالف قراءة أبى. ومما وقع
لعبد الله بن مسعود مع رجل سمعه يقرأ قراءة تخالف قراءته
ومما وقع كذلك مع غير هؤلاء، فيحتكمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقر
كلا منهم على قراءته ويقول " إن هذا القرآن انزل على سبعة أحرف
123

فاقرؤا ما تيسر منه " وتفصيل ما وقع لهؤلاء الصحابة الاجلاء مذكور
في الفصل الخامس في نزول القرآن على سبعة أحرف فراجعه.
ولقد أنعمنا النظر فوجدنا انه لا يمكن اخذ القراءات من رسم
المصحف العثماني إذ الرسم لم يوضع للدلالة على شئ منها، وما جاء من
قراءة بعض الكلمات بالغيبة والخطاب أو بالرفع والنصب انما هو
بالتلقي والاخذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لاحتمال ذلك من صورة الرسم الخالية
من النقط والتشكيل في ذلك الزمن واليك بيان ذلك ليتضح لك ما ذكرناه
فمثلا قول الله تعالى " أم تقولون ان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
ويعقوب والأسباط.. " (1) قرئ أم يقولون بالغيبة وأم تقولون
بالخطاب، وقوله تعالى " وما الله بغافل عما يعملون ولئن أتيت.. " (2)
قرئ يعملون بالغيبة وبالخطاب وقوله تعالى " والله بصير بما يعملون
قل من كان.. " (3) قرئ بالغيبة وبالخطاب، وقوله " ومن تطوع
خيرا.. " (4) قرئ بالغيبة وبالخطاب.
كل ذلك كان بالتلقي من النبي صلى الله عليه وسلم لا من رسم المصحف الذي
يحتمل القراءة بالياء والتاء لعدم وجود النقط فيه فلو كان كذلك لقرئ

(1) بسورة البقرة
(2) بسورة البقرة
(3) بسورة البقرة
(4) بسورة البقرة
124

قوله تعالى " ولا تنفعها شفاعة ولاهم.. " (1) بالياء والتاء مع أنه ما
قرئ الا بتاء التأنيث فقط، بخلاف قوله تعالى " ولا يقبل منها
شفاعة.. " (2) فقد قرئ بالياء والتاء.
وقول الله تعالى " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " (3)
قرئ يعقوب بالنصب والرفع، وقوله تعالى " ولا تسأل عن
أصحاب الجحيم ولن ترضى عنك.. " (4) قرئ ولا تسأل بالرفع
والجزم، وقوله تعالى " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " (5) قرئ
بكسر الخاء وفتحها، وقوله تعالى " فأمتعه قليلا.. " (6) قرئ
بالتشديد والتخفيف، وقوله تعالى " ولكن البر من آمن
بالله.. " (7) قرئ بتشديد ولكن ونصب البر وقرئ بتخفيف
ولكن ورفع البر.
كل ذلك كان بالتلقي من النبي صلى الله عليه وسلم لامن رسم المصحف الذي
يحتمل القراءة بالرفع والنصب أو بالكسر والجزم لعدم وجود الحركات
في المصحف في ذلك الزمن، فلو كان كذلك لقرئ قوله تعالى " إذا قضى

(1) هذه الآية قبل وإذا ابتلى إبراهيم ربه. بسورة البقرة
(2) هذه الآية بعد أتأمرون الناس بالبر بأربع آيات. بسورة البقرة
(3) بسورة هود
(4) بسورة البقرة
(5) بسورة البقرة
(6) بسورة البقرة
(7) بسورة البقرة
125

أمرا فإنما يقول له كن فيكون " (1) بنصب فيكون مع أنه ما قرئ
الا بالرفع فقط، بخلاف قوله تعالى " انما امره إذا أراد شيئا ان يقول
له كن فيكون " (2) فقد قرئ فيكون بالرفع وبالنصب.
ثم انه ما كل كلمة رسمت في المصحف العثماني لتدل على القراءات
لكن أحيانا توافق القراءات الرسم نحو: تعلمون بالتاء والياء
ويغفر لكم بالياء والنون، وفاكهين وفكهين، وأسرى وأسارى،
وتفادوهم وتفدوهم.
وأحيانا تقرأ الكلمة بجملة وجوه بينما الرسم لا يدل على كل ذلك نحو كلمة
" جبريل " فقد قرئت بكسر الجيم وفتحها، وقرئت جبرءيل بفتح الجيم
والراء وبعدها همزة مكسورة ممدودة، وقرئت جبرءل بفتح الجيم
والراء وبعدها همزة مكسورة غير ممدودة، وكلمة " ميكال " قرئت
بلا همز وقرئت ميكاءيل بهمزة مكسورة ممدودة وقرئت ميكاءل بهمزة
مكسورة غير ممدودة.
وأحيانا لا يرمز الرسم إلى شئ من القراءات وان خالف قواعد
الاملاء نحو: لأاذبحنه، ولا تقولن لشائ وجائ يومئذ بجهنم

(1) بآل عمران
(2) بيس
126

بزيادة ألف في الكلمات الثلاث - ونحو: والسماء بنيناها بأييد،
وبأييكم المفتون، بزيادة ياء فيهما - ونحو: سبحن الله، وسليمان
واسحق، وجاءو، وفاءو بحذف الألف المد منها. فهذه الكلمات ونحوها
ليس فيها غير قراءة واحدة وهي التي نقرؤها اليوم وان جاء رسمها
على خلاف القاعدة (1)
فعلم مما ذكرناه ان القراءات هي الأصل وان الرسم تبع لها لا كما يقول
المستشرقون من الإفرنج انها ناشئة من الرسم وتابعة له ولا نعتقد انه
يوجد مسلم على وجه الأرض يأخذ بآرائهم المبنية على التخيلات ويترك
أقوال أئمة المسلمين وعلمائهم المستندة إلى الكتاب والسنة.
الفصل الخامس
(في معرفة الصحابة لقواعد الاملاء والكتابة)
يعتقد كثير من الناس ان الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا
يعرفون قواعد الاملاء وأصول الكتابة ويستدلون على هذا برسم

(1) أخذنا ما ذكرناه من أوجه القراءات من الأستاذ الجليل الشيخ احمد
التيجي المتقدم ذكره في الفصل الخامس من الباب الثاني أطال الله حياته وادام
النفع به آمين.
127

المصحف العثماني حتى ابن خلدون يقول بهذا في مقدمته، على أنهم لو
قالوا ان الكتابة لم تكن منتشرة فيهم لكان أولى من نسبتهم إلى جهل
أصولها وقواعدها مع أنها ما وصلت إلينا الا منهم.
ونحن نعتقد اعتقادا جازما بأن الصحابة كانوا يعرفون قواعد الاملاء
والكتابة حق المعرفة (1) ونستدل على قولنا هذا استدلالا فنيا بثلاثة أمور
(الامر الأول) قال الآلوسي في تفسيره روح المعاني ما نصه:
والظاهر أن الصحابة كانوا متقنين رسم الخط عارفين ما يقتضي ان
يكتب وما يقتضى ان لا يكتب وما يقتضى ان يوصل وما يقتضى ان لا
يوصل إلى غير ذلك لكن خالفوا القواعد في بعض المواضع لحكمة اه‍
قوله في بعض المواضع أي من القرآن الكريم ورسم كلماته
فالآلوسي وهو العالم المتبحر وصاحب التفسير الكبير لا يقول هذا الا
بعد النظر والتحقيق وان لم يذكر الشواهد التي تؤيد قوله.
(الامر الثاني) مما لا يخفى على أحد ان الصحابة كانوا يراسلون
الملوك والامراء في مهمات الأمور وكانوا يكتبون فيما بينهم العقود

(1) لا ننكر ان الأمية كانت متغلبة عليهم والتعليم لم يكن منتشرا بينهم لكن
نقول ان المتعلمين منهم كانوا متقنين القراءة والكتابة على الوجه الصحيح
والقواعد المرعية كما سيظهر لك في هذا الفصل
128

والمستندات من بيع وشراء وضمان وعطاء، فلو كتبوا هذه الأمور على
غير قواعد الاملاء والكتابة لادى ذلك إلى الالتباس والخطأ في فهم
مرادهم مع أن الحروف والكلمات ما وضعت الا لتدل على الكلام الملفوظ (1)
فان اختلفت كتابته اختلف اللفظ فاختلف المعنى فاختلط الامر عليهم.
وأي دليل أعظم على نباهة العرب قبل اختراع الحركات " التشكيل "
من تفرقتهم في الكتابة بين عمر وبين عمرو بزيادة الواو في الاسم
الا خير لئلا يحصل لبس واشتباه، فلو تأملت لم اختاروا الواو علامة
للتفرقة بين الاسمين دون غيرها من الأحرف الهجائية لظهر لك ذكاؤهم
المفرط وقوة تفكيرهم في ذلك.
على أن بعض كتاباتهم وخطوطهم لا زالت محفوظة لدينا ففي
دار الكتب العربية بمصر يوجد كثير من كتابة القرن الأول والقرون
التي تليه على الأحجار والجلود والأوراق البردية (2)، وقد شاهدناها

(1) ولذلك عرفوا الخط بأنه تصوير اللفظ بحروف هجائية
(2) كان الورق البردي يصنع قديما من لب السيقان الطويلة للنبات المعروف
باسم (سيبرس بايبرس) بعد جعله شرائح رقيقة تصف بجانب بعض ليتكون منها
طبقة ثم تصقل بعد ذلك فتصير صحيفة رقيقة وقد بينا ذلك في كتابنا تاريخ الخط
العربي وآدابه المطبوع بمصر
129

بأنفسنا حين إقامتنا بها (1) وقرأناها فلم نجد فيها خطأ املائيا ولا غلطة
كتابية وكنا نرغب أن نضع هنا صورة صحيفة من القرآن الكريم
المكتوب في عهد الصحابة ورسم شئ من خطوطهم غير أن ظروف
الحالة لم تساعدنا على ذلك لكن وضعناها في كتابنا تاريخ الخط العربي
وآدابه فراجعه ان شئت
ولا نذهب بك بعيدا فهذه جبال الحجاز كم توجد في صخورها
وأحجارها من كتابات الصحابة وخطوطهم خصوصا في المدينة المنورة
ومكة المشرفة والطائف المأنوس، ولقد وقفنا عليها في هذه الأماكن
فعجبنا من حسن خطها وصحة كتابتها وتحقيق حروفها قد كتبت
بأنواع متعددة من الخط الكوفي نرجو الله ان يحفظها من التلف
فان كثيرا من الكتابات على الصخور لم يبق لها أثر لان الناس
يكسرونها إلى قطع لبناء البيوت (2) كما شاهدنا في صخور بعض الشعاب
والجبال من الكتابات التي يرجع عهدها إلى ما قبل الاسلام وغالبا هي

(1) ذهبنا إلى مصر لطلب العلم مرتين الأولى في عام ألف وثلاثمائة وأربعين
للهجرة ومكثنا بها سبع سنين، والثانية في عام ألف وثلاثمائة وثلاث وخمسين
ومكثنا بها سنتين وسنذهب إليها للمرة الثالثة إن شاء الله تعالى في شبان من عامنا هذا
وهو عام ألف وثلاثمائة وخمس وستين
(2) حبذا لو أمرت الحكومة بمنع العمال من اتلاف الصخور والأحجار
لمكتوبة فان في حفظها فوائد جمة كما أفادتنا رؤيتنا لها في هذا الموضوع المهم
130

مكتوبة بالحروف الحميرية أو المسند فإننا لم نتحقق من ذلك لأنه يحتاج
إلى التخصص والفراغ التام
وقد استنتجنا من رؤيتنا لها ان هذه الأماكن التي هي بين الجبال
كانت في يوم من الأيام مساكن لأقوام نزلوا بها ولا يبعد أن يعثر
الباحث بين هذه الجبال على كهوف وغيران تحتفظ في زواياها على
آثارهم وكنوزهم كما رأى بعضهم ذلك (1)

(1) روى ابن كثير في الجزء الثاني من تاريخه عند ذكر أخبار عبد الله بن
جدعان وبعد أن ساق نسبه قال. وهو ابن عم والد أبى بكر الصديق رضي الله عنه
وكان من الكرماء الأجواد في الجاهلية المطعمين للمسنتين وكان في بدء امره
فقيرا مملقا وكان شريرا يكثر من الجنايات حتى أبغضه قومه وعشيرته وأهله وقبيلته
وأبغضوه حتى أبوه فخرج ذات يوم في شعاب مكة حائرا بائرا فرأى شقا في جبل
فظن أن يكون به شيئا يؤذى فقصده لعله يموت فيستريح مما هو فيه فلما اقترب منه
إذا ثعبان يخرج إليه ويثب عليه فجعل يحيد عنه ويثب فلا يغنى شيئا فلما دنا منه
إذا هو من ذهب وله عينان هما ياقوتتان فكسره واخذه ودخل الغار فإذا فيه
قبور لرجال من ملوك جرهم ومنهم الحارث بن مضاض الذي طالت غيبته
فلا يدرى أين ذهب (ومضاض هو ابن عمرو الجرهمي وهو أول من صار
إليه أمر البيت بعد نابت بن إسماعيل عليه السلام وقد تزوج إسماعيل بنت
مضاض فجاءته باثني عشر بنينا) ووجد عند رؤوسهم لوحا من ذهب فيه تاريخ
وفاتهم ومدد ولايتهم وإذا عندهم من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة شئ
كثير فاخذ منه حاجته ثم خرج وعلم باب الغار ثم انصرف إلى قومه فأعطاهم
حتى احبوه وسادهم وجعل يطعم الناس وكلما قل ما في يده ذهب إلى ذلك الغار
فأخذ حاجته ثم رجع وكانت له جفنة يأكل منها الراكب على بعيره ووقع فيها صغير
فغرق.. الخ اه‍ من تاريخ ابن كثير
131

(الامر الثالث) ان الخط الكوفي وصل إلى الحجاز من أهل
الحيرة والأنبار (وهما من مدن العراق) ووصل إليهما من طارئ طرأ
عليهم من اليمن، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يكتبون بالخط الكوفي
الذي هو فرع من الخط الحميري العربي القديم الذي كان منتشرا باليمن
وليس من المعقول ان الخط الحميري الذي هو أساس الخط العربي لا
يكون له أصول وقواعد معروفة، بل إن للخطوط التي هي أقدم من
الخط الحميري بآلاف السنين قواعد تامة لا تخفى على من تخصص بفك
طلاسمها وترجمتها في وقتنا الحاضر وذلك كالخط الهيروغليفي بأنواعه
الثلاثة والفينيقي والآشوري والسرياني.
ولقد أجمع المؤرخون على أن أول من ادخل الكتابة إلى مكة
المشرفة حرب بن أمية (1) بن عبد شمس بن مناف القرشي وهو تعلمها

(1) وترجمته هي حرب بن أمية بن عبد شمس جد معاوية بن أبي سفيان
تعلم الخط من بشر بن عبد الملك حيث كان له صحبة بحرب بن أمية لتجارته عندهم
في بلاد العراق وقد سافر بشر معه إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب المذكور
أخت أبى سفيان وقد تعلم الخط من حرب المذكور جماعة منهم عمر بن الخطاب
وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله وغيرهم رضي الله عنهم
وحرب هذا كان قائد قريش كلها يوم الفجار وهو الذي تحمل الديات من ماله
حينما دعا الناس إلى الصلح في ذلك اليوم ورهن لسدادها ولده أبا سفيان وكان
حرب يسمر مع عبد المطلب بن هاشم وقد دامت الألفة بينها طويلا. اه‍
من الجزء الثاني من محاضرات الخضري بزيادة وتصرف، وفي كتاب الاعلام تزعم
العرب ان الجن قتلته بثأر حية وفيه قال الشاعر
وقبر حرب بمكان قفر * وليس قرب قبر حرب قبر
وقد فاتنا ان نذكر ترجمته هذه عند ذكر اسمه في كتابنا تاريخ الخط العربي
وآدابه.
132

في أسفاره من عدة أشخاص منهم بشر بن عبد الملك (1) ثم تعلم منهما
جماعة من قريش بمكة.

(1) وترجمته هي بشر بن عبد الملك أخوا كيدر بن عبد الملك بن عبد الجن
الكندي ثم السكوني صاحب دومة الجندل كان بشر المذكور يأتي الحيرة فيقيم بها
الحين وكان نصرانيا فتعلم الخط العربي من أهل الحيرة ثم أتى مكة في بعض شأنه
فرآه سفيان بن أمية بن عبد شمس وأبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب
يكتب فسألاه أن يعلمهما الهجاء ثم أراهما الخط فكتبا ثم إن بشرا وسفيان وأبا قيس
أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلم الخط منهم وفارقهم
بشر ومضى إلى ديار مضر فتعلم الخط منه عمرو بن زرارة بن عدس فسمى عمرو الكاتب
ثم اتى بشر الشام فتعلم الخط منه ناس هناك اه‍ بتصرف من كتاب فتوح البلدان
للبلاذري.
وفاتنا أن نذكر ترجمته هذه عند ذكر اسمه في كتابنا تاريخ الخط العربي وآدابه
133

اما المدينة فقد ذكروا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلها وكان فيها يهودي
من يهود ما سكة يعلم الصبيان الكتابة وكان فيها بضعة عشر رجلا
يعرفونها منهم زيد بن ثابت وكان يكتب العربية والسريانية ثم انتشرت
الكتابة بالمدينة أكثر من انتشارها بمكة بتحريض النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى أنه
امر عبد الله بن سعيد بن العاص ان يعلم الناس الكتابة، وجاء عن
عبادة بن الصامت قال علمت ناسا من أهل الصفة الكتابة والقرآن
ولقد جعل المسلمون فدية الكاتب من أسارى غزوة بدر الكبرى تعليم
عشرة من صبيان المدينة وبذلك كثر المتعلمون حتى بلغ عدد كتابه صلى الله عليه وسلم
نحو أربعين رجلا.
ومن بدء الهجرة إلى أمر عثمان رضي الله عنه بجمع القرآن يكون قد
مر ربع قرن أفلا يكون التعليم منتشرا في هذه المدة - فهل بعد هذا نقول
ان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ما كانوا يعرفون قواعد الكتابة
والاملاء، ومن أراد زيادة الايضاح عن دخول الخط في الحجاز فعليه
بمراجعة كتابنا تاريخ الخط العربي وآدابه وهو مطبوع بمصر.
(فان قيل) حيث ثبت انهم كانوا يعرفون قواعد الكتابة فلم
اضطربوا في كتابة بعض الكلمات في المصحف العثماني (نقول) ان
هذا الامر هو اللغز الذي جعل الأفكار حائرة، لم تهد إلى حله فحول
134

العلماء وكبار العقلاء ومن هنا نسبوا إلى الصحابة الجهل بقواعد الكتابة
فلو نظروا إلى كتاباتهم العامة المتداولة بينهم لما نسبوا ذلك إليهم
(وان قيل) ان قواعد الاملاء والنحو والصرف وضعها علماء الكوفة
وعلماء البصرة (1) (نقول) نحن لا ننكر ذلك ولكن ليس المعنى انهم
اخترعوا تلك القواعد من عند أنفسهم كلا، وانما وضعوا نصب أعينهم
لغة العرب وكتاباتهم فبنوا عليها قواعدهم واستنتجوها منها حتى يكون
النطق مطابقا لنطقهم والكتابة موافقة لكتاباتهم، فالقواعد دائرة على
لغة العرب وكتابتهم لا العكس.
والحقيقة ان قواعد كتاباتنا وشكل خطوطنا مأخودة عن العرب
الأقدمين، ومهما تعددت أنواعها وتطورت صورها فالأصل واحد
لم يتغير، ولو أردنا بسط هذا الكلام بحسب فن الخطوط لخرجنا عن
الموضوع الذي نحن بصدده، فتأمل ما ذكرناه لك جيدا فإنه مبحث

(1) امام البصريين هو سيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر واختلف في تاريخ وفاته
فقيل سنة 188 وقيل غير ذلك، وامام الكوفيين هو الكسائي على بن حمزة
أحد القراء العشرة واختلف في تاريخ وفاته أيضا فقيل سنة 192 وقيل غير ذلك - ولقد
جرى بينهما جدال طويل في بعض قضايا النحو فتشيع لسيبويه أهل البصرة
وللكسائي أهل الكوفة وبسبب ذلك نشأ الخلاف بين النحويين وإيجاد المذهبين
مذهب البصريين ومذهب الكوفيين ثم جاء بعدهما أئمة زادوا في تلك القواعد.
135

نفيس لا تجده في غير كتابنا هذا والله الموفق للصواب.
فهل بعد هذه الأدلة ننسب إلى الصحابة الجهل بقواعد الكتابة
والاملاء حاشاهم من ذلك وهم أنجم الهدى وأئمة الدين واللغة والكتابة
(ومن اللطائف) المناسبة لهذا المقام: ما يروى عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أنه لقي أعرابيا فسأله هل تحسن القراءة قال نعم فقال
اقرأ بأم القرآن فقال الأعرابي والله ما أحسن البنات فكيف الام
فضربه عمر بالدرة (بكسر الدال وتشديد الراء هي السوط) وأسلمه
إلى الكتاب ليتعلم فمكث فيه حينا ثم هرب فلما رجع لأهله أنشدهم
أتيت مهاجرين فعلموني * ثلاثة أسطر متتابعات
كتاب الله في رق صحيح * وآيات القران مفصلات
وخطوا لي أبا جاد وقالوا * تعلم سعفصا وقريشات
وما أنا والكتابة والتهجي * وما خط البنين مع البنات
وفي عنوان البيان: ان أول من جمع الأولاد في المكتب عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وأمر عامر بن عبد الله الخزاعي ان يلازمهم للتعليم وجعل
رزقه من بيت المال وأمره ان يكتب للبليد في اللوح ويلقن الفهيم
من غير كتب وسألوه تخفيف التعليم فأمر المعلم بالجلوس بعد صلاة
الصبح إلى الضحى العالي ومن صلاة الظهر إلى صلاة العصر ويستريحون
136

بقية النهار، ولما خرج رضي الله عنه إلى الشام عام فتحها ومكث شهرا
ثم رجع إلى المدينة وقد استوحش الناس منه فخرجوا للقائه تلقاه الصغار
على مسيرة يوم وكان ذلك يوم الخميس فباتوا معه ورجع بهم يوم الجمعة
فتعبوا في خروجهم ورجوعهم فشرع لهم الاستراحة في اليومين المذكورين
فصار ذلك سنة متبعة ودعا بالخير لمن أحيا هذه السنة - انظر الفواكه
الدواني على رسالة أبى زيد القيرواني - اه‍ من عنوان البيان
الباب الرابع
(وفيه فصلان)
(الفصل الأول * فيما لو كتبنا القرآن الكريم بقواعد كتاباتنا)
يقول بعض المتعلمين لو كان نسخ القرآن وطبعه بقواعد كتابتنا
لكان أولى وأحسن من الرسم العثماني - وكما سبق انه لا يجوز ذلك باجماع
الأئمة والعلماء فإننا نبين في هذا الفصل ما يترتب على قولهم هذا فنقول
اننا لو كتبنا القرآن على طريقتنا المألوفة لادى ذلك إلى ذهاب شئ من
وجوه القراءات، إذ من القواعد المقررة عند الأئمة أن الوقف الاختباري
على كلمات القرآن يتبع الرسم العثماني، والوقف الاختباري بالباء الموحدة
كما تقدم: هو اختبار القارئ ليعلم كيف يقف على رسم المصحف العثماني
من مقطوع وموصول وثابت ومحذوف وتاء تأنيث لم تكتب بهاء.
137

فمثلا ان كلمة " الضعفاء " مرسومة في المصحف العثماني بصورتين
(الصورة الأولى) كما تراها بألف بعد الفاء ثم همزة على السطر،
فهذه وما رسم مثلها لا اختلاف بين أئمة القراءات (1) في الوقف عليها
بالهمز تبعا للرسم ما عدا حمزة وهشام فيقفان عليها بالألف ولا ينظران
إلى الهمز (2)
(الصورة الثانية) هكذا " الضعفؤا " بحذف ألف المد من
الفاء ووضع الهمزة على واو وألف بعدها فهذه وما رسم مثلها بالواو أو ما
رسم بالياء نحو " أو من وراءى حجاب " يقفون عليها بالهمز

(1) أئمة القراءات عشرة وهم: أبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154 هجرية،
و عبد الله بن كثير المتوفى سنة 120 ه‍، ونافع بن نعيم المتوفى سنة 169 ه‍
و عبد الله بن عامر المتوفى سنة 118 ه‍ وعاصم بن بهدلة الأسدي المتوفى سنة 128 ه‍،
وحمزة بن حبيب الزيات العجلي المتوفى سنة 156 ه‍ وعلي بن حمزة الكسائي امام
النحاة المتوفي سنة 189 ه‍ وأبو جعفر بن يزيد القعقاع المدني المتوفي سنة 132 ه‍،
ويعقوب بن إسحاق الحضرمي المتوفى سنة 185 ه‍، وقيل سنة 205 ه‍ وخلف
ابن هشام بن طالب (ولم نقف على تاريخ وفاته)
(2) ان قيل لم لم يقفا على الهمزة اتباعا للرسم - قالوا وقفا عليها بحسب ما
تلقياه عن مشايخهما وهم عن مشايخهم إلى رسول الله صلى الله عليه، وحمزة هو
ابن حبيب الزيات أحد أئمة القراءات، وهشام هو ابن عمار وهو روى عن ابن
عامر أحد الأئمة
138

ولا ينظرون إلى زيادة الواو أو الياء في الرسم ما عدا حمزة وهشام فإنهما
يقفان على ما رسم بالواو باثني عشر وجها خمسة منها على القياس وسبعة
على الرسم ويقفان على ما رسم بالياء بابدال الهمز ألفا بخمسة أوجه
على الوجه القياسي وبأربعة أوجه على الرسمي ويعلم كل ذلك من علماء
القراءات.
وان كلمة " الملا " مرسومة بصورتين (الصورة الأولى) كما تراها
بوضع الهمزة على الألف فهذه وما رسم مثلها لا اختلاف بين القراء
في الوقف عليها بالهمز تبعا للرسم ما عدا حمزة وهشام فيقفان بابدال
الهمز ألفا ولهما روم حركة الهمزة فقط (والصورة الثانية) هكذا
" الملؤا " بهمزة على واو وألف بعدها فيقفون عليها بالهمز ولا ينظرون
إلى زيادة الواو بخلاف حمزة وهشام فإنهما يقفان عليها بالوجهين المتقدمين
ولهما الوقف بالواو فيقولون " الملوا " ولهما الروم والاشمام (1)
وان كلمة " رحمت " المرسومة أحيانا بالتاء وأحيانا بالهاء فبعضهم
يقف على التاء بحسب الرسم وبعضهم على الهاء بحسب الأصل ومثلها
كل كلمة تشابهها نحو " نعمت، وسنت، وامرأت "

(1) الروم بفتح الراء هو الاتيان بثلث الحركة، والاشمام هو ضم الشفتين
بعد اسكان الحرف
139

وان كلمة " إبراهيم " التي رسمت في البقرة هكذا " ابرهم " فقد
قرأها ابن عامر ابراهام وقد ورد في غير البقرة قراءة إبراهيم ابراهام
أيضا وذلك في بعض المواضع التي بينها الامام الشاطبي رحمه الله تعالى.
وان كلمة " ننج " في آية " كذلك حقا علينا ننج المؤمنين "
بيونس مرسومة بحذف الياء من الجيم بالاتفاق ولذا وقف كل القراء
عليها بحذف الياء تبعا للرسم ما عدا يعقوب فإنه يقف باثباتها للدلالة
على الأصل.
وان كلمة " لكنا " في آية " لكنا هو الله ربى " بالكهف
مرسومة بالألف وهي تحذف وصلا عند جميع القراء بخلاف ابن عامر فإنه
يمدها، أما في الوقف فإنهم يقفون عليها بالألف بالاتفاق حسب الرسم
وان كلمة " يخدعون " من آية " يخدعون الله والذين آمنوا "
لو رسمت بالألف هكذا " يخادعون " لفاتت قراءة يخدعون.
وان لفظ " كلمة " المرسوم بالتاء من آية " وتمت كلمة ربك صدقا
وعدلا " لو رسمت بالألف على قراءة الجمع هكذا " كلمات " لفاتت
قراءة الافراد ولذلك رسموها بالتاء بدل الهاء.
أما الكلمات التي ترسم أحيانا متصلة وأحيانا منفصلة نحو: أن لا
وأن لو، وبئسما، وعما، وكيلا - فالوقف على الحرف الأخير بالاتفاق
140

إن كانت متصلة، وعلى الحرف الأول أو الثاني إن كانت منفصلة أي
يكون القارئ مخيرا في ذلك اه‍ ذكرنا هذه الأوجه من القراءات نقلا
عن الشيخ احمد التيجي بمدرسة الفلاح بمكة حفظه الله
والأمثلة المذكورة تكفى اللبيب وتغني عن التطويل والحافظ
للقرآن الكريم بجميع القراءات يعرف مالا يعرفه غيره في هذا
الموضوع، فإذا فهمت ما شرحناه هنا ظهر لك خطورة نسخ القرآن
العظيم بقواعد كتابتنا المألوفة نعم إذا كتبنا نحو هذه الكلمات المرسومة
في المصحف العثماني هكذا: " رب العلمين، الرءيا، إسماعيل، اليل
مال هذا الرسول، هذا غلم، لأذبحنه، ولا تقولن لشائ
أرءيت الذي، وألو استقموا " بحسب قواعد كتاباتنا هكذا
" رب العالمين، الرؤيا، إسماعيل الليل، ما لهذا الرسول، هذا غلام
لأذبحنه، ولا تقولن لشئ، أرأيت الذي، وأن لو استقاموا "
لا بأس به إذ لا يضر هذا التعديل البسيط ولا يحصل به اخلال
بحكم من احكام التلاوة - لكن لم يجوز أحد من الأئمة والعلماء مخالفة
الرسم العثماني في نسخ المصحف وطبعه مطلقا ضر أو لم يضر ولم يستثنوا
من هذا الحكم شيئا من الكلمات.
141

الفصل الثاني
(فيما لو اتبعنا رسم المصحف العثماني في كتاباتنا)
لا يمكن لنا أن نتبع رسم المصحف العثماني في كتاباتنا العامة لان
مرسومه لا قاعدة له، فالصحابة رضي الله عنهم ما مشوا في كتابته على
وتيرة واحدة، فأحيانا يكتبون الكلمة في موضع بشكل وأحيانا
يكتبونها في موضع بشكل آخر، ولهذا قالوا " خط المصحف لا يقاس
عليه ".
نعم رسموا بعض كلمات في جميع القرآن على صورة واحدة وذلك
نحو " الملائكة، الانسان، الشيطان، سلطن، الصرط، العلمين
أساطير، هذا ذلك، هؤلاء أولوا أولئك " فإنهم حذفوا ألف المد
من هذه الكلمات وزادوا واوا في أولوا وأولئك.
ونحن نتبعهم في كتابة الكلمات الخمسة الأخيرة على ما رسموا غير
أننا نحذف الألف من آخر كلمة أولو، واما في المصحف فبالألف
هكذا أولوا.
ولنذكر لك طائفة من الكلمات المتماثلة لفظا المتباينة رسما في هذا
الجدول الثاني ليتضح لك ما ذكرناه من أن مرسومه لا قاعدة له.
142

الجدول الثاني
وفيه بعض الكلمات المرسومة في المصحف العثماني
في موضع بشكل وفي موضع بشكل آخر
ألم ذلك الكتب
وإذ قال ربك للملائكة
وكذبوا بآياتنا كذابا
إنا لما طغا (1) الماء حملناكم
الا من بعد ما جاءتهم البينة (3)
إن الصفا والمروة من شعائر (5) الله
القرون الأولى بصائر (7) للناس
لكل اجل كتاب
قل رب احكم بالحق
لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا
فأما من طغى (2) وءاثر الحياة
فهم على بينت (4) منه
والبدن جعلناها لكم من شعئر (6) الله
هذا بصئر (8) للناس

(1) بالألف بالحاقة *
(2) بالياء بالنازعات ومثلها ليطغى بالعلق
ومثلها انه طغي بطه ومثلها أو أن يطغى بطه أيضا *
(3) بالهاء في البينة
(4) بالتاء في فاطر *
(5) بالألف بالبقرة *
(6) بدون ألف بالحج
(7) بالألف بالقصص *
(8) بدون ألف بالجاثية
143

وإن تعدوا نعمة (1) الله لا تحصوها
سنة (3) من قد أرسلنا قبلك
وألفيا سيدها لدا (5) الباب
وامتازوا اليوم أيها (7) المجرمون
قال ابن أم (9) إن القوم
ونقر في الأرحام ما نشاء (11)
انظر كيف ضربوا لك الأمثال (13)
تبارك (15) الذي إن شاء جعل
قال له صاحبه (17) وهو يحاوره
وأصحب الأيكة (19) وقوم تبع
كي (21) لا يكون دولة بين الأغنياء
وإن تعدوا نعمت (2) الله لا تحصوها
فلن تجد لسنت (4) الله تبديلا
إذ القلوب لدى (6) الحناجر
سنفرغ لكم أيه (8) الثقلان
قال يبنؤم (10) لا تأخذ بلحيتي
أو أن نفعل في أموالنا ما نشؤا (12)
انظر كيف ضربوا لك الأمثل (14)
تبرك (16) الذي بيده الملك
إذ يقول لصحبه (18) لا تحزن
كذب أصحب لئيكة (20) المرسلين
لكيلا (22) تأسوا على ما فاتكم

(1) بالهاء بالنحل *
(2) بالتاء بإبراهيم *
(3) بالهاء بالاسراء
(4) بالتاء بفاطر *
(5) بالألف بيوسف *
(6) بالياء بغافر
(7) بالألف بيسن *
(8) بدون ألف بالرحمن *
(9) بالألف وبفصل ابن عن أم بالأعراف *
(10) بدون ألف مع اتصال ابن بأم بطه
(11) الهمزة على السطر بالحج *
(12) الهمزة على واو بهود *
(13) بالألف بالاسراء *
(14) بدون ألف بالفرقان *
(15) بالألف بالفرقان *
(16) بدون الف بالملك *
(17) بالألف بالكهف *
(18) بدون ألف بالتوبة *
(19) بألف بق
(20) بدون ألف بالشعراء *
(21) منفصلة بالحشر *
(22) متصلة بالحديد
144

أئذا (1) متنا وكنا ترابا
وأنا ظننا أن لن (3) تقول الانس
وأن الله ليس بظلام (5) للعبيد
وإذا لاتخذوك (7) خليلا
وما دعاء (9) الكافرين الا في ضلل
قل أؤنبئكم (11) بخير من ذلكم
يمحوا الله (13) ما يشاء ويثبت
لا يستأخرون (15) ساعة ولا يستقدمون
ولا تايئسوا (17) من روح الله
وهو الذي أحياكم (19) ثم يميتكم
أءذا (2) متنا وكنا ترابا
أيحسب الانسان ألن (4) نجمع عظامة
وأن الله ليس بظلم (6) للعبيد
لو شئت لتخذت (8) عليه اجرا
وما دعؤا (10) الكافرين الا في ضلل
أءلقى (12) الذكر عليه من بيننا
ويمح (14) الله البطل ويحق الحق
فلا يستئخرون (16) ساعة ولا يستقدمون
حتى إذا استيئس (18) الرسل
وكنتم اموتا فأحيكم (20) ثم يميتكم

(1) الهمزة الثانية على نبرة بالواقعة *
(2) الهمزة الثانية على السطر بالقمر
(3) باثبات النون بعد الألف ومثلها كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ومثلها
وانا ظننا أن لن نعجز الله - كل هذه الآيات في الجن *
(4) بحذف النون بعد الألف بالقيمة ومثلها وألو استقاموا على الطريقة بالجن *
(5) بالألف بآل عمران *
(6) بدون الف بالحج *
(7) بالألف بالاسراء *
(8) بدون الف بالكهف *
(9) الهمزة على السطر بالرعد *
(10) الهمزة على واو بغافر
(11) الهمزة الثانية على واو بآل عمران *
(12) الهمزة الثانية على السطر بالقمر *
(13) بالواو بآخر الرعد *
(14) بحذف الواو بالشورى *
(15) الهمزة على الألف بالأعراف *
(16) بحذف الف الهمزة بيونس *
(17) بزيادة الف بين التاء والياء بيوسف *
(18) بحذف الألف بيوسف *
(19) بالألف في آخر الحج *
(20) بحذف الألف في أول البقرة
145

فعلم مما ذكرناه في هذا الجدول ان الصحابة رضى الله تعالى عنهم
لم يتخذوا طريقة واحدة يسيرون عليها في كتابة المصحف العثماني
فكيف يسهل علينا اتباع رسمه في كتاباتنا العامة - وسنذكر
أن شاء الله تعالى في الفصول الآتية كثيرا من الأمثلة وغرائب الرسم
(بيان ما يسوغ لنا اتباعه)
(من المرسوم وما لا يسوغ)
إذا أمعنا النظر وقارنا بين مرسوم المصحف العثماني وبين طريقة
كتابتنا نجد في بعض الحالات لا يسوغ لنا اتباع رسمه لحصول الالتباس
وصعوبة القراءة، وفي بعض الحالات يستحسن لنا اتباعه.
(فبيان ما لا يسوغ لنا اتباع رسمه) نحو ما ذكرناه في هذا
الجدول الثاني وما ذكرناه في الجدول الأول الواقع في أول الكتاب
وكذلك حذف ألف المد من الكلمات نحو: رب العلمين، ذلك
الكتب لا ريب فيه، أضغث أحلم، هل أتى على الانسان
يجعلون أصبعهم، والمرسلت عرفا، فالعصفت عصفا
والنشرت نشرا، فالفرقت فرقا، فلملقيت ذكرا.
ونحو: امرأت، وقرت، ورحمت، ونعمت، وسنت
واليل - وحذف نبرة الهمزة أي سنتها من نحو السيئات
وخطئين، ومتكئين. إلى غير ذلك من الكلمات التي لا يمكن
146

استقصاؤها ولا تخفى مخالفتها ولنضرب مثالا لذلك بهذه الجمل
الآتية وهي:
(أيها الطلاب النجباء من حفظ العلوم والأدب، وسبق أقرانه
في الطلب، تعطى له جائزة من الديوان العالي، ويوظف حسب
درجة معلوماته، وقوة ملكته، فاجتهدوا رعاكم الله تعالى في طلب
العلم وصابروا عليه، تنالوا سعادة الدارين، فالعلماء نور البلاد، والجهلاء
شرار العباد، وأقرنوا العلم بالعمل تكونوا من الفائزين)
فإذا كتبنا هذه الجمل بحسب رسم المصحف العثماني تكون
صورتها هكذا:
(أيه الطلب النجبؤا من حفظ العلوم والأدب، وسبق
أقرنه في الطلب، تعطى له جئزة من الديون العلى، ويوظف حسب
درجت معلومته، وقوت ملكته، فاجتهدوا رعكم الله تعلى
في طلب العلم وصبروا عليه تنلوا سعادت الدرين، فالعلمؤا
نور البلد والجهلاء شرار العبد وأقرنوا العلم بالعمل تكونوا من
الفئزين).
فالفرق في كتابة الجمل المذكورة بالرسم العثماني وبقواعد كتابتنا
عظيم جدا كما هو ظاهر، فالرسم العثماني خاص بكتابة المصاحف فقط
147

الا يستسيغه الانسان في غيرها.
(أما بيان ما يستحسن لنا اتباعه) ففي نحو هذه الكلمات:
اشتريه، ومثويه، وإحديهما، ويغشها، وتقويها، وهل أتيك
وترضيه ونجيكم.
فكتابة الرسم العثماني لها أصح من كتابتنا لان أصلها يأتي
ونحن نكتبها بالألف هكذا: اشتراه، مثواه، إحداهما، يغشاها
تقواها، وهل اتاك، ترضاه، نجاكم.
(ويستحسن لنا اتباعه أيضا) في الهمزات المرسومة في نحو هذه
الكلمات: " واسئل، والمنشئات، والظمئان، وقرءان،
ومئاب ووطئا، وخطئا، وليطفئوا، ومسئولا، وشركاءى،
والمسئ ويسئمون، ويجئرون، وشطئه، وشيئا "
وقد نتفق مع مرسوم المصحف في كتابة بعض الكلمات ولكثرة
استعمالنا لها لا نشعر بذلك (مثاله) بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله
، هذا، ذلك، هأنتم، هؤلاء، ههنا، أولئك، أولاء، أولو (1)

(1) أي في زيادة الواو التي قبل اللام من أولو، اما الألف التي بعد الواو
الثانية فهي تثبت في الرسم العثماني وتحذف على قاعدتنا - وقد أشار بعضهم إلى زيادة
الواو في أولو، أولاء أولئك بقوله: تزاد واو وسط الثلاثة * أولى أولات وأولا الإشارة
وآخرا تزاد واو عمرو * في حالة الرفع كذا في الجر
148

لكن، إذا، طه، الذين، ووضع ألف بعد واو الجماعة، والهمزات
بأنواعها (عدا ما نستثنيه هنا) إلى غير ذلك مما لا يخفى.
وكان من حق هذه الكلمات أن تكتب هكذا:
(باسم اللاه الرحمان الرحيم، لا إلاه إلا اللاه، هاذا، ذلك
ها أنتم، هاألاء، هاهنا، ألائك، ألو، ألاء، لاكن، إذن
طاها، اللذين (1))
لان الكتابة تكون على حسب النطق فان كان الحرف ممدودا
تزاد فيه أحد حروف المد التي هي الألف والواو والياء، بحسب حركة
ذلك الحرف من فتح أو ضم أو كسر.
أحوال الهمزة في القرآن
اعلم أن جميع حالات الهمز في المصحف العثماني مضبوط على
القواعد المحررة ما عدا شئ يسير وهو في هذه الكلمات الآتية.
(أأمنتم، أءنزل، ءألد، أءذا، أءنا، أءنك، رأى، الرءيا

(1) القاعدة كما ذكره الخضري على ابن عقيل في أول اسم الموصول أن
يكتب الذي وجمعه والتي بلام واحدة لكثرة استعمالها واللذين واللتين مثنى
بلامين على الأصل في كل ما أوله لام حلى بأل وللفرق بينه وبين الجمع نصبا وجرا
وحمل الرفع عليهما اه‍ من الخضري - أما في رسم القرآن فقد كتب جميع ما
ذكر بلام واحدة.
149

ورءيا، أرءيت (1)، ألئن، الملؤا، نبؤا، لا تظمؤا
العلمؤا، الضعفؤا، نشؤا، شركؤا، شفعؤا
يتفيؤا، تفتؤا، ينشؤا، أتوكؤا، أنبؤا، يبدؤا
البلؤا، دعؤا (2) مستئنسين، فليستئذنوا، فلا
يستئخرون (3) ولا تايئسوا (4) يبنؤم، متكئا،
من ورائ - حجاب، إلى فرعون وملائه، يسئلك،
وسئل (5) يجئرون، ومنءاناءى اليل، لتنوأ)
ثم إن الهمزة قد توضع على نبرة " أي سنة " وقد لا توضع عليها
(فالحالة الأولى) في نحو هذه الكلمات " فئة، خاسئا، بالخاطئة
السيئة ".

(1) كتبت الهمزة في أرءيت الذي يكذب على السطر بخلافها في ورأيت
الناس يدخلون فإنها كتبت على الألف.
(2) يلاحظ أن الكلمات الستة عشر التي أولها الملؤا وآخرها دعؤا
زيدت في أواخرها ألف
(3) هذا في سورة يونس أما التي بالأعراف فإنها هكذا فلا يستأخرون
(4) أي وبزيادة الف وكذلك انه لا يايئس بخلاف فلما استيئسوا ومثلها
حتى إذا استيئس كلاما بدون الف وهذه الكلمات كلها في سورة يوسف
واما التي بسورة الرعد وهي أفلم يايئس فأنها بالألف
(5) الشاهد في الهمزة لا في حذف الألف التي قبل السين
150

(والحالة الثانية) في نحو هذه الكلمات " السيئات،
متكئا خطئين، متكئين، الأفئدة، شيئا " -
على أننا تأملنا الكلمتين الأخيرتين " الأفئدة وشيئا " ونحوهما
من كل همزة وقعت بعد ساكن لوجدنا حذف النبرة منهما أولى وأصح.
(ومما يناسب هذا المقام) ذكر سؤال من الأسئلة التي كنا بعثناها
لمشيخة المقارئ المصرية مع الإجابة عليه (1) وهو " المعروف ان
الهمزة اخترعها الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى عام مائة وسبعين فلم
تكن إذا موجودة في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه فلم لم
تكتب الهمزات في المصحف الأميري الذي طبعته الحكومة المصرية
عام ألف وثلاثمائة واثنين وأربعين هجرية على القواعد الاملائية فمثلا
كلمة أفرءيتم كتبت الهمزة الثانية على السطر وكذلك أرءيت الذي
مع أنهما مفتوحتان وما قبلهما مفتوح أيضا بخلاف ورأيت الناس
وكلمة أأنتم كتبت الهمزة الأولى على السطر فلم لم تكتب على الألف
مثل أيطمع ولم لم تكتب الهمزة الثانية من أءنا على الياء مثل أئذا
وكلتاهما مكسورتان وما قبلهما مفتوح "

(1) سبق أن ذكر في صحيفة 112 تاريخ ورود إجابة مشيخة المقارئ
المصرية على أسئلتنا وأن جميع الأسئلة والإجابة عليها محفوظ لدينا
151

(فأجابنا عليه) شيخ القراء هناك فضيلة الأستاذ الشيخ محمد على
الضباع إجابة طويلة نختصرها فيما يأتي وهو: ان صورة الهمزة ليست
في مصحف عثمان لأنها من علامات الضبط الذي أحدث بعد عهده
والهمز في القرآن إما أن يكون همز قطع أو وصل، فهمزة الوصل ترسم
ألفا ونص أهل الرسم على حذفها في خمسة أحوال (الأولى) مثل
وأتوا وفأتوا (الثانية) مثل وسئل فسئل (الثالثة) مثل للدار
للذين (الرابعة) مثل أتخذتم أفترى (الخامسة) مثل بسم الله.
واما همزة القطع فالأصل في رسمها أن تكتب ألفا إذا وقعت أولا
وإلا كتبت بصورة الحرف الذي تؤول إليه في التخفيف أو تقرب
منه فان كانت تخفف ألفا أو كالألف فقياسها ان تكتب ألفا، وان
كانت تخفف ياء أو كالياء فقياسها أن تكتب ياء، وان كانت تخفف واوا
أو كالواو فقياسها أن تكتب واوا، وان كانت تخفف بالحذف بنقل أو
غيره فقياسها الحذف.
وتفصيل هذا الأصل. ان همزة القطع على قسمين ساكنة
ومتحركة، والساكنة تقع وسطا وطرفا، والمتحركة تقع ابتداء ووسطا
وطرفا هذا هو القياس في العربية وخط المصاحف العثمانية.
وجاءت أحرف في خط المصاحف خارجة عن هذا القياس لمعنى
152

مقصود ووجه مستقيم يعرفه من قدر للسلف قدرهم.
ومن هذه الأحرف كلمة " رأيت " كيف جاءت بعد همزة الاستفهام
نحو: أرءيت، أفرءيت، أرأيتم، أفرءيتم، فإنه رسم في بعض المصاحف
بحذف الألف التي بعد الراء وقد ضبطت في المصحف الأميري بوضع
القطعة " الهمزة " مكانها لتدل عليها ولعلها حذفت لاحتمال القراءتين
فإنها قرئت بالهمزة وتركها.
ومنها " أأنذرتهم " وبابه فإنه رسم في المصاحف بألف واحدة
وهل هي الأولى أو الثانية، الذي جرى عليه العمل في المصحف الأميري
أنها الثانية ولذا وضعت قطعة الضبط وهي " الهمزة " مكان همزة
الاستفهام لتدل عليها.
ومنها " أءنا " ونحوه من كل ما اجتمع فيه همزتان مفتوحة
ومكسورة والأولى للاستفهام فإنه رسم في بعض المواضع بحذف
صورة الهمزة الثانية وهي الياء وقد وضع علماء الضبط القطعة مكانها
لتدل عليها.
وقد استوفى علماء القراءة والرسم ما خرج عن الأصل من باب
الهمز في كتبهم فارجع إليها ان شئت اه‍.
هذا مختصر ما أجابنا به فضيلة شيخ المقارئ المصرية حفظه الله تعالى
153

ولقد فصل جميع ما جاء مجملا عن أحوال الهمز في اجابته ونحن خوفا
من التطويل لخصناها فيما ذكر بما لا يخل بالمقصود.
الباب الخامس
(في ذكر شئ من مرسوم القرآن الكريم)
(وفيه أربع فصول)
(الفصل الأول * في رسم الكلمات الآتية)
إبراهيم، أيها سعوا، عتوا، لام الجر المقطوع عن مجرورها،
ابدال هاء التأنيث تاء - وغيرها
نذكر في كل فصل من فصول هذا الباب شيئا من الكلمات
القرآنية على رسم المصحف العثماني معتمدين في النقل على المصحف الأميري
الذي طبعته الحكومة المصرية سنة ألف وثلاثمائة واثنين وأربعين
هجرية.
فمثلا - كلمة " إبراهيم " مرسومة في سورة البقرة هكذا
" ابرهم " وفي بقية القرآن هكذا " إبراهيم " اما الألف التي بعد
الراء فمحذوفة من الصورتين وكلمة " أيها " مرسومة في جميع القرآن
بالألف بعد الهاء ما عدا ثلاثة مواضع فمرسومة فيها بحذف الألف
هكذا " أيه " نحو " سنفرغ لكم أيه الثقلان "
154

وكلمة " عتوا " التي بالأعراف وضعوا فيها ألفا بعد الواو
بخلاف " عتو " التي بالفرقان فإنهم حذفوها منها
وكلمة " سعوا " التي بالحج وضعوا فيها ألفا بعد الواو بخلاف
" سعو " التي بسبأ فإنهم حذفوها منها
وكلمة " مائة " كتبوها بالألف (1) ولم يكتبوا كلمة " فئة "
مثلها مع أنها تشابهها في الحركات، وأثبتوا الألف بعد واو فعل جمع
في القرآن كله (2) ما عدا أربع كلمات وهي: " جاءو. فاءو. باءو
تبوءو " فإنهم حذفوا الألف منها بعد الواو وأبدلوا هاء التأنيث
تاء (3) في ما يأتي من الكلمات وذلك في بعض المواضع التي تعرف من
علم التجويد وفن الرسم وهي: " رحمة، نعمة، سنة، امرأة، كلمة
شجرة، جنة، قرة، فطرة، بينة، بقية، ابنة، لعنة، معصية "

(1) والى زيادة الألف في مائة أشار بعضهم بقوله:
ووسطا تزاد في لفظ مائه * ولو مع الآحاد كالخمسمائة
(2) القاعدة الاملائية: أن تزاد الألف بعد واو فعل جمع نحو ضربوا
واضربوا ولم يضربوا، وإلى هذا أشار بعضهم بقوله:
تزاد في واو الضمير كاشعروا * بأنهم لم يظلموا إذ قدروا
الا جمع اسم كألو الفضل وضاربو زيد، وفعل مفرد كيدعو - لكن رسم
المصحف لا يتمشى مع القواعد فلم تحذف الألف من نحن أولوا قوة، ومن لمن
كان يرجوا الله وحذفت من الكلمات الأربع (جاءو. فاءو. باءو. تبوءو.)
(3) والقاعدة الاملائية أن كل تاء بعد الفتحة تربط.
155

مثال ذلك: رحمت الله، وبنعمت الله، سنت الأولين، امرأت
العزيز، كلمت ربك، ان شجرت الزقوم، وجنت نعيم، قرت
عين لي ولك، فطرت الله التي فطر الناس عليها، فهم على بينت
منه بسورة فاطر، بقيت الله خير لكم، ومريم ابنت عمران، أن
لعنت الله، ومعصيت الرسول.
فهذه الكلمات فيما عدا المواضع التي ذكرت في علم التجويد ترسم
بالهاء (1) ولولا خوف التطويل لذكرنا تلك المواضع كلها.
وإلى ما ذكر أشار العلامة المرحوم الشيخ محمد العاقب بقوله،
فما أتى من صور مزيده * فيه وحذف أحرف عديده
كالياء إذ زيدت لدى بأييد * وحذفت من قوله ذا الأيد
والألف المزيد في لفظ مائه * وفي أقاموا دون جاءو وفئه
والألف المرسوم في فعل سعوا * في الحج دون غيره وفي عتوا
ونعمت إذ رسمت بالتاء * طورا وطورا صورت بالهاء

(1) وبما أنه ورد في رسم المصحف العثماني ابدال هاء التأنيث تاء أحيانا كما
هو مذكور أعلاه لا نخطئ الأتراك في كتابتهم لبعض الأسماء التي في آخرها
هاء بالتاء نحو. نعمت، عصمت، شوكت، جودت، طلعت، رأفت، حكمت
دولت، حريت، عدالت، سماحت، نزاهت. والظاهر أنهم يكتبونها كذلك
بحسب نطقهم.
156

والأحرف التي يهجى القارى (1) * بها هجاء الألدة الصغار (2)
فكل ذا لعلة مقدره * وحكمة عن الحجا مخدره
أنفاسه للنفس لا تنسم * وسره عن الورى مطلسم
وقد تكلف شيوخ الكتبه * فسارعوا فيه لنحت الأجوبة
فذكروا من ذاك ما لا يقنع * قلبا ولا غل غليل ينقع (3)
ومثلا - قطعوا لام الجر عن مجرورها في أربعة مواضع نحو
" مال هذا الرسول ".
وقطعوا في عن ما بأحد عشر موضعا نحو " لمسكم في ما أفضتم "
وقطعوا كل عن ما في خمسة مواضع نحو " كل ما دخلت أمة "
وقطعوا من عن ما في ثلاثة مواضع نحو " فمن ما ملكت "
وقطعوا حيث عن ما في موضعين نحو " وحيث ما كنتم فولوا
وجوهكم شطره "
وقطعوا أن المخففة المفتوحة عن لا في عشرة مواضع نحو " أن لا
تشرك بي شيئا "
ووصلوا بئس بما في ثلاثة مواضع نحو " بئسما اشتروا به أنفسهم "

(1) المراد بالأحرف هنا فواتح بعض السور نحو حم وطسم وكهيعص
(2) الألدة بكسر الهمزة وسكون اللام الصبية
(3) أي لايل يز عطش عطشان
157

ووصلوا أين بما في خمسة مواضع نحو " أينما ثقفوا "
ووصلوا كي بلا في أربعة مواضع نحو " كيلا تحزنوا على ما فاتكم "
إلى غير ذلك مما لو أحصيناه لطال بنا الشرح، ولهذا لم نذكر
بيان كل المواضع في جميع ما تقدم ويعلم تفصيلها من كتب التجويد.
ولقد ذكر نوعي الفصل والوصل العلامة الشيخ محمد العاقب
الشنقيطي رحمه الله تعالى في نظمه كشف العمى بقوله
فصل وفى ما الفصل إحدى عشره * من بعد لا جناح أخرى البقرة
والشعرا والروم فيهما استقر * واثنان مع يبلوكم مثل الزمر
وبعدهم في الأنبياء ونقلا * قبل أفضتم وأوحى ولا
وباتصال الخط بيسما خلا * ما فاء أو لام عليه دخلا
وقطع مما قد أتى يقينا * من ما رزقنا في المنافقينا
وقبلها حرفان باستواء * مع ملكت في الروم والنساء
وكلما بالاتصال يدرى * الا سألتم وردوا تترا
وقطعت أم من يكون في النساء * وقبل يأتي وخلقنا أسسا
وأينما بالوصل عنهم يؤخذ * مع ثم يدرككم يوجه اخذوا
وسورة الأحزاب كي لا الأول * فيها وفي نحل وحشر يفصل
وحكم لام الجر أن ينفصلا * في مال هذا والذين هؤلاء
وأخرجت مخرج مال الله * مع انعدام الشبه والتضاهي
فصل وحيث ما بفصل قد فشا * عن ما نهوا عن من تولى ويشا
ولات حين ثم هم ويوم هم * في غافر والذاريات وابن أم
فصل ووصل أيما قد التزم * كويكأن فيم ممن عم مم
مهما والا ربما وأما * كأنما هلم مع نعما
هذا وغير ذا من البديهي * وذكره يقدح في النبيه
فاقطع إذا صح وصل ان لم يصح * والفرق بين ذا وذاك يتضح
158

الفصل الثاني
(في رسم البسملة، وهمزة نحو ائذا، وتبارك، وألف المد)
(وألف التثنية، وما كتب بلام أو لأمين وغيرها)
حذفوا من " بسم الله الرحمن الرحيم " ثلاث ألفات، الأولى من
بسم، والثانية من الله، والثالثة من الرحمن - والعلماء لم يبحثوا عن
حذف الألف من الاسمين الشريفين بل ذكروا تعليلات متنوعة عن
حذفها من بسم فقط، على أنه مهما ذكروا من التعليلات لحذفها منه فما
هو الا من قبيل الاستئناس والتمليح لا غير، لان الحقيقة التي لا تنكر
ان كتابة البسملة بهيئتها المعروفة لدينا هي من رسم المصحف العثماني
من ابتداء الامر قبل النظر في العلل والأسباب (1)
ثم لا ندري لم حذفت ألف بسم من البسملة فقط ولم تحذف من

(1) جاء في أول تفسير القرطبي روى الشعبي والأعمش ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يكتب باسمك اللهم حتى امر ان يكتب باسم الله فكتبها فلما نزلت قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن كتب بسم الله الرحمن فلما نزلت انه من سليمان
وانه بسم الله الرحمن الرحيم كتبها وفي مصنف أبى داود قال الشعبي وأبو مالك
وقتادة وثابت بن عمارة ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم
حتى نزلت سورة النمل اه‍ من التفسير المذكور ومعنى كتابة رسول الله صلى الله
عليه وسلم البسملة انه امر بكتابتها، وهذا من قبيل بنى الأمير المدينة فالنبي عليه
الصلاة والسلام أمي لا يقرا ولا يكتب.
159

" اقرأ باسم ربك " ومن " سبح اسم ربك " ومن " فسبح باسم
ربك العظيم " مع العلم بأنه كان من حق البسملة ان تكتب على حسب
النطق هكذا " باسم اللاه الرحمان الرحيم ".
ويرى بعضهم بمناسبة حذف الألف من بسم تطويل الباء
منها بمقدار نصف الألف ليدل عليها ولأنه أول حرف يكتب من
القرآن فتطويله من قبل التعظيم وإلى هذا أشار الشيخ محمد العاقب
رحمه الله تعالى بقوله:
يطول الباء ويحذف الألف * من لفظ بسم الله كيفما ألف
وحد طوله بلا ازدياد * مقدار نصف ألف المعتاد
وهل للاشعار بما قد سلبا * أو ليرى أول حرف كتبا
مقابلا بالرفع والتحسين * قولان في تفسير فخر الدين
(ونحن نقول) ان تطويل الباء وكتابة الحروف راجع لقواعد تحسين
الخط التي وضعها الخطاطون لاظهار جمال الحروف، ففي بعض أنواع
الخطوط يستحسن تطويل الباء الواقعة أول الكلمة كما في الخط
الكوفي وخط الثلث والنسخ وفي بعضها يستحسن تقصيرها كما
في الخط الفارسي وخط الرقعة.
160

ومن اللطائف المناسبة قول أبى سعيد الرستمي:
من الناس من يعطى المزيد على الغنى * ويحرم ما دون الرضا شاعر مثلي
كما ألحقت واو بعمرو زيادة * وضويق بسم الله في ألف الوصل
وحذفوا الألف من " واسئل " أينما وقعت في القرآن فيكتبونها
هكذا " وسئل، فسئل " ولم يحذفوها من نحو " واستغفره،
واستغنى، واستغشوا ".
وحذفوا إحدى اللامين من هذه الكلمات " اليل، والذي
والذان، والذين، والتي، والئى " وكان من حقها كتابتها بلامين
بحسب النطق * ولم يحذفوها من هذه الكلمات " اللطيف، اللؤلؤ
اللهو، اللعبين، اللغو، اللوامة، اللت، اللعنة، اللهب "
وحذفوا ألف المد الواقعة بعد الواو من نحو هذه الكلمات
" والقوعد، وحدة، إخونكم، أخولكم، أزوجه، لوقع، ألونكم
أبوبا، أمولكم، الصوعق، روسى، بأكوب بأفوههم، السماوات "
ولم يحذفوها بعد الواو من نحو هذه الكلمات " الواقعة، توارت
الجوار، الكوافر، لهى الحيوان، الكواكب، وأكواب، الحواريون
أواب، لواحة، خوار، الثواب "
وأثبتوا ألف المد في كلمة " لاهية قلوبهم " بأول الأنبياء وحذفوها
من هذه الكلمات " لبثين، لغية، لقيه، لعبين "
161

وحذفوا ألف المد أيضا من نحو " قالوا جزؤه (1)، وذلك
جزؤا (2)، وجزؤا سيئة (3)
ولم يحذفوها من نحو " جزاؤهم عند ربهم " (4)، جزاؤكم جزاء
موفورا (5)، لهم جزاء الضعف " (6)
وأثبتوا ألف المد غالبا إذا وقعت بعدها همزة نحو " حدائق،
الأرائك، الخائضين، خائفا، طائفة، وابتغاؤكم، هذا بصائر " (7)
ولم يثبتوها في نحو " سئحت، كبئر الاثم * الخبئث، اسرءيل "
وكتبوا الهمزة الثانية من " أئذا وأئنا " على السطر أحيانا وعلى
النبرة أحيانا أخرى نحو " أئذا متنا، أءذا كنا ترابا، أئنا لمخرجون،
أءنا لمبعوثون ".
وكتبوا " وإذا رأى الذين، ورءا المجرمون " بألف بعد الهمزة
التي على السطر بخلاف " ما كذب الفؤاد ما رأى، لقد رأى من ءايت
ربه " فإنه بياء بعد الهمزة التي رسمت فوق الألف.
وكتبوا بالواو هذا الثمانية الكلمات " الصلاة، الزكاة

(1) بسورة يوسف *
(2) بالحشر *
(3) بالشورى *
(4) بالبينة
(5) بالاسراء *
(6) بسباء
(7) كتبت بصائر بالألف في سورة القصص والاسراء والأعراف،
واما التي بالجاثية فقد كتبت بغير الف هكذا " بصئر "
162

الحياة (1) الربوا، النجوة، الغدوة، مشكاة، منوة "
وقد جمعها المرحوم الشيخ محمد العاقب في قوله.
وفى الصلاة والحياة فاكتبا * واوا بغير مضمر مثل الربا
مشكاة الزكاة والنجاة مع * مناة والغداة كيفما وقع (2)
وكتبوا قوله تعالى " وليكونا من الصاغرين " وقوله " لنسفعا
بالناصية " بالألف وكان الأولى كتابتهما بالنون لأنهما فعلان اتصلت
بهما نون التوكيد الخفيفة
وكتبوا " إذا " بالألف نحو " تلك إذا كرة خاسرة " اما كتابتها
في غير المصحف فقد اختلفوا فمنهم من يكتبها بالنون ومنهم من يكتبها
بالألف وانظر تفصيل ذلك في حاشية الخضري على ابن عقيل عند
قول الناظم (ونصبوا باذا المستقبلا). وإلى ما ذكر أشار بعضهم بقوله:
نون إذا ونون توكيد تخف * نحو إذا لنسفعا فبالألف
كذلك التنوين في اسم نصبا * مثاله اهلا وسهلا مرحبا
ما لم يكن.. الخ

(1) تكتب الثلاث الكلمات الأولى بالواو إذا لم تضف إلى ضمير فان
أضيفت كتبت بالألف نحو " الا حياتنا الدنيا، في صلاتهم، وكذلك وما ءاتيتم
من ربا " ما عدا أصلوتك تأمرك، وان صلاتك سكن لهم
(2) كان الأولى كتابة الكلمات في البيتين بالواو لكن عدلنا عن ذلك
لتسهل قراءتها.
163

ووضعوا ألفا بعد دال ثمود إذا وقعت في محل نصب فقط نحو
" إن ثمودا كفروا ربهم، وثمودا فما أبقى، وعادا وثمودا "
وحذفوا الألف من " تبرك اسمك ربك " ومن " تبرك الذي
بيده الملك " ومن " ماء مبركا " ومن " شجرة مبركة "
وأثبتوها في " فتبارك الله رب العلمين " وفي " فتبارك الله
أحسن الخلقين " وفي " وهذا ذكر مبارك " وفي " منزلا مباركا "
وحذفوا الألف من " أو أثرة من علم " في الأحقاف وفي
" على ءآثرهم " في الصافات وفى الزخرف وفي الحديد.
وأثبتوها في " على ءآثارهما " بالكهف وفي " وءاثارا في الأرض "
في آيتين بسورة غافر.
وحذفوا الألف من نحو " ويضرب الله الأمثل للناس " ومن
" أنظر كيف ضربوا لك الأمثل " بالفرقان ومن " وتلك الأمثل
نضربها للناس " وأثبتوها في " فلا تضربوا لله الأمثال " وفي " كذلك
يضرب الله الأمثال " وفي " انظر كيف ضربوا لك الأمثال " بالاسراء
وحذفوا الألف من لفظة (كتاب) في جميع القرآن ما عدا هذه
الآيات فإنهم كتبوها بالألف وهي " من كتاب ربك، لكل أجل كتاب،
إلا ولها كتاب معلوم، طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين ".
164

واثبتوا الألف في لفظة (قال) في جميع القرآن ما عدا هذه
الآيات فإنهم كتبوها بغير ألف وهي " قل رب احكم بالحق، قل كم
لبثتم في الأرض، قل إن لبثتم الا قليلا، قل ربى يعلم القول، قل
أولو جئتكم ".
الفصل الثالث
(في ألف التثنية * ورسم صيغ المبالغة، وصيغ المفرد والجمع)
(ورسم صاحبكم، وأسماء بعض الأنبياء، وألف المد)
لا يحذفون ألف التثنية غالبا نحو " هل يستويان، هذان خصمان،
تستفتيان، جنتان، يخصفان "
وقد يحذفونها نادرا نحو " إن هذن لسحرن "
ولا يحذفون غالبا ألف المد في صيغ المبالغة نحو " توابا، أواب
وهاجا، ثجاجا، ديارا، كبارا، الوهاب، الكفار، حمالة،
شاقوا الله، وأن الله ليس بظلام للعبيد " التي بآل عمران فقط.
وقد يحذفونها منها نادرا نحو " وما أنا بظلم للعبيد " التي بالحج
والتي بق، علم الغيوب، تشقون فيهم، ولا تحضون على طعام،
وهو الخلق العليم، إلى العزيز الغفر "
ولا يحذفون ألف المد في صيغ المفرد غالبا نحو " عالم الغيب،
165

لقادر، ناصر، ساجدا، كاذبة، فاعل، فاسق، شاكر، قانتا، كاشفة
صابرا، وكان الكافر، وهو ظالم لنفسه، كانت ظالمة، وعمارة، سقاية "
وقد يحذفونها منها نادرا نحو " وهي ظلمة، وانى لأظنه كذبا
إني عمل فسوف، عقبة، ميقت، فما متع "
أما حذف الف المد في صيغ الجمع فمطرد نحو " رب العلمين
الظلمين، شكرون، في السجدين، خمدون، الكفرون،
ان المنفقين، الرسخون، من الغبرين الحكمين "
وأثبتوا الألف في " وما صاحبكم بمجنون، قال له صاحبه وهو
يحاوره، ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة، وصاحبهما في الدنيا
معروفا، فنادوا صاحبهم فتعاطى، ولا تكن كصاحب الحوت "
وحذفوها من " فقال لصحبه، إذ يقول لصحبه، ما اتخذ
صحبة، وصحبته وبنيه "
وحذفوها من بعض الأسماء نحو " إبراهيم، إسماعيل، اسحق
سليمن، هارون، صلح. "
اما حذف الف المد واثباتها في غير ما ذكرناه فهو كثير في القرآن
الكريم فمثال الحذف: هذا غلم، بهتن، بضعة، خشعة،
إذ يتنزعون، والمحصنات، حفظون، الانسان، سلطن، شيطن
166

ومثال الاثبات: أنصار الله، وإذا خاطبهم، علمه البيان، عجاف
من أساور، واما الجدار * إلى نعاجه، المحراب، من عاصم، بحسبان
(ويقول) الحسن بن أحمد الهمداني صاحب كتاب الإكليل (1):
ان قاعدة الكتابة الحميرية إذا وقعت الألف في وسط الكلمة حذفت
نحو " همدان وريام " فإنهم يكتبونهما هكذا " همدن وريم " وكانوا
يثبتون واو عليهم وكما يثبتون ضمة آخر الحرف اه‍ غير أن رسم
المصحف لا يتبع قاعدة خاصة ولا يتمشى على طريقة واحدة كما رأيت.
الفصل الرابع
(في بعض غرائب رسم المصحف العثماني)
لقد ذكرنا في الفصول المتقدمة كثيرا من الكلمات المتنوعة،
ونذكر في هذا الفصل جملة من الكلمات التي تعد غريبا في بابها وطريفا
في كتابتها فمن ذلك:
انهم رسموا كلمة " لأاذبحنه " بزيادة ألف بعد ألفها الأصلية

(1) هو أوسع كتاب في الحروف الحميرية ويقع في عشرة اجزاء ولا يوجد
منها سوى جزءين في المكتبة الملوكية ببرلين ويقال انه موجود بكامل اجزائه في
مكتبة جلالة الامام يحيى ملك اليمن الحالي
والحسن بن أحمد الهمداني المذكور هو من أهل القرن الرابع للهجرة فإنه
توفى سنة 364 هجرية تقريبا وهو الذي ألف أيضا كتاب صفة جزيرة العرب.
167

ورسموا كلمة " أفإن مات " وكلمة " أفإن مت " بزيادة ياء
قبل النون في الكلمتين.
ورسموا كلمة " والسماء بنينها بأييد " وكلمة " بأييكم
المفتون " بياءين في الكلمتين.
ورسموا كلمة " سأوريكم دار الفسقين " بزيادة واو بعد الألف
بخلاف ما يماثلها نحو " ما أريكم " بسورة غافر.
ورسموا كلمة " يبنؤم " متصلة ببعضها بسورة طه بخلاف
ما يماثلها في الأعراف فإنها هكذا " قال ابن أم ".
ورسموا كلمة " وجائ يومئذ بجهنم " بالفجر وكلمة " وجائ
بالنبيين " بالزمر بزيادة ألف بعد الجيم فيهما بخلاف ما يماثلهما نحو
" سئ بهم وضاق بهم ذرعا " في سورة هود وفي سورة العنكبوت أيضا
ورسموا كلمة " ولا تقولن لشائ " بالكهف بزيادة الف
بعد الشين.
ورسموا كلمة " أصحب لئيكة " بالشعراء بحذف الألف بخلاف
ما يماثلها بسورة ق فإنها هكذا " أصحب الأيكة ".
ورسموا كلمة " من عباده العلمؤا " بفاطر بوضع الهمزة على
الواو وألف بعدها.
168

ورسموا مثلها كلمة " وما دعؤا الكافرين " التي بغافر، واما
التي بالرعد فإنها هكذا " وما دعاء الكافرين "
ورسموا كلمة " في أموالنا ما نشؤا " بسورة هود بوضع
الهمزة على واو فألف بعدها بخلاف ما يماثلها بالحج فإنها هكذا " ما نشاء "
ورسموا كلمة " الضعفؤا " بوضع الهمزة على واو فألف بعدها
وذلك بسورة غافر فقط بخلافها في غيرها فإنها كتبت هكذا " الضعفاء "
ورسموا كلمة " يا أيها الملؤا " وكلمة " قل هو نبؤا عظيم "
بوضع الهمزة على الواو فألف بعدها في الكلمتين.
ورسموا كلمة " إلى فرعون وملايه " بزيادة ياء قبل الهاء
ورسموا كلمة " لتخذت عليه أجرا " بالكهف بحذف الألف
بخلاف ما يماثلها نحو " وإذا لاتخذوك خليلا " بالاسراء فإنه باثبات الألف
ورسموا كلمة " مائة " بالألف بخلاف " فئة " فإنها بحذفها.
ورسموا كلمة " أياك نعبد وإياك نستعين " باثبات الألف
بخلاف ما يماثلها نحو " وايى فاتقون " فإنه بحذف الألف.
ورسموا هذه الكلمات فقط " جاءو. فاءو. باءو. تبوءو "
في القرآن كله بحذف الألف من واو فعل جمع.
ورسموا كلمة " ومن يعظم شعئر الله " وكلمة " والبدن جعلناها
169

لكم من شعئر الله " بدون ألف بعد العين فيهما بخلاف " ان الصفا
والمروة من شعائر الله " بالبقرة فإنها بالألف.
ورسموا كلمة " كبئر الاثم " بحذف الألف بعد الباء.
ورسموا كلمة " هذا بصئر للناس " التي بالجاثية فقط بدون ألف
بعد الصاد بخلاف التي بالأعراف وبالاسراء وبالقصص فإنها بالألف
ورسموا كلمة " رضية " التي بالقارعة فقط بدون ألف بخلاف
التي بالحاقة وبالغاشية وبالفجر فإنها بالألف
ورسموا كلمة " قل سبحان ربى " بالألف في هذه الآية فقط
وفي جميع القرآن بدون ألف هكذا " سبحن "
ورسموا كلمة " عبادنا " التي بصيغة الجمع بغير ألف في سورة ص
فقط في آية " واذكر عبدنا إبراهيم واسحق ويعقوب " وفيما عدا
هذه الآية رسموها بالألف في جميع القرآن.
ورسموا كلمة " آياتنا التي بيونس فقط بألف بعد الياء وفي جميع
القرآن بغير ألف هكذا " ءايتنا "
ورسموا كلمة " قرأنا عربيا " التي في أول الزخرف فقط بدون
ألف بعد الهمزة وفي جميع القرآن بالألف هكذا " قرءان "
ورسموا كلمة " من نخيل وأعناب " التي بأواخر البقرة فقط
170

بالألف وفي جميع القرآن بغير ألف هكذا " وأعنب "
ورسموا هاء التأنيث تاء أحيانا في نحو " نعمة. رحمة. سنة
شجرة " فيكتبونها أحيانا هكذا " نعمت. رحمت. سنت. شجرت "
وقد سبق بيان ما يماثلها في أول صحيفة 156
ورسموا كلمة " في روضات الجنات " التي بالشورى فقط بالألف
بعد النون وفي جميع القرآن بدون ألف هكذا " جنت ".
ورسموا كلمة " السماوات " التي بأول فصلت فقط بالألف
بعد الواو وفي جميع القرآن بدون ألف هكذا " السماوات " أما حذف
الألف بعد ميمها فمطرد في القرآن كله.
ورسموا كلمة " سعوا " التي بالحج بالألف واما التي بسبأ
فإنها بحذف الألف التي بعد الواو
ورسموا كلمة " عتوا " التي بالفرقان بدون ألف بعد الواو
اما التي بالأعراف فإنها بالألف.
ورسموا كلمة " سراجا " بالألف بعد الراء في جميع القرآن
ما عدا التي بالفرقان فإنها بدون ألف.
ورسموا كلمة " فأحيكم " التي بأول البقرة بدون ألف بعد الياء
واما التي بآخر الحج فإنها بالألف هكذا " فأحياكم ".
171

ورسموا كلمة " من نبائ المرسلين " التي بالأنعام الهمزة تحت
الياء بخلاف غيرها نحو " من نبإ موسى " بدون ياء
ورسموا كلمة " أو من ورائ حجاب " التي بالشورى الهمزة
على ياء بخلاف غيرها نحو " من وراء جدر " بدون ياء
ورسموا كلمة " وايتاءي ذي القربى " وكلمة " من تلقاءى نفسي "
وكلمة " ومن ءاناءى اليل " الهمزة بالياء في هذه الكلمات الثلاث
ورسموا كلمة " وكذلك ننجي المؤمنين " بالأنبياء بنون
واحدة وبياء بعد الجيم بخلاف التي بيونس فإنها بنونين وبحذف الياء
التي بعد الجيم هكذا " وكان حقا علينا ننج المؤمنين "
ورسموا كلمة " أن لن تقول الإنس والجن " باثبات النون بعد
الهمزة بسورة الجن بخلاف كلمة " ألن نجمع عظامه " بالقيامة فإنها
بحذفها وانظر صحيفة 145 في السطر الثاني مع الهامش
ورسموا كلمتي " الظهر والباطن " بحذف ألف المد من الظاهر
واثباتها في الباطن مع أن وزنهما واحد وهما من أسماء الله تعالى.
ورسموا كلمة " لدا الباب " بيوسف بالألف وكلمة
" لدى الحناجر " بغافر بالياء.
ورسموا كلمة " إنا لما طغا الماء " بالحاقة بالألف وكلمة
172

" فأما من طغى " بالنازعات وبغيرها بالياء.
ورسموا كلمة " أيها " بغير ألف بعد الهاء في ثلاثة مواضع فقط
في جميع القرآن وهي " أيه الثقلان، أيه المؤمنون، يأيه الساحر "
ورسموا كلمة " بأيتنا كذابا " بألف بعد الذال، واما كلمة
" لغوا ولا كذابا " فإنها بحذف الألف وكلتاهما بسورة النبأ.
ورسموا كلمة " إبراهيم " في سورة البقرة هكذا " ابرهم "
وفي بقية القرآن هكذا " إبراهيم "
ورسموا كلمة " ايلافهم " هكذا " لايلاف قريش إلفهم "
ورسموا كلمة " أنت ولى في الدنيا والآخرة " وكلمة
" ان ولى الله " كما تراهما هنا
ورسموا كلمة " هو يحى ويميت " وكلمة " فيستحى
منكم " كما تراهما هنا
ورسموا هذه الكلمات " النبيين، الحوارين،
الأمين " كما تراها هنا
ورسموا هذه الكلمات الثمانية بالواو وهى " الصلاة، الزكاة، الربا،
النجاة، الغداة، مشكاة، مناة، الحياة "
أي تكون كتابتها في المصحف هكذا " الصلوة، الزكوة، الحيوة،
النجوة، الربوا الغدوة، مشكوة، منوة "
173

ما لم تضف بعضها إلى ضمير وقد سبق قريبا بيان ذلك في الفصل
الثاني من هذا الباب في صحيفة 163 هامش رقم 1
ورسموا هذه الكلمات " قواريرا، سلسلا، الظنونا، السبيلا،
الرسولا " كما تراها هنا أي بزيادة ألف في أواخرها.
إلى غير ذلك مما لا يمكن حصره فلو تكلمنا على مرسوم القرآن
كلمة كلمة لقصر بنا الحال وطال بنا المجال وفيما ذكرناه هنا وفى
الفصول السابقة كفاية لأولي الألباب.
وإلى بعض ما تقدم أشار الشيخ محمد العاقب الشنقيطي رحمه الله بقوله:
للزيد بعد الهمز واو أدخلا * في سأورى أولو أولات وأولا
والياء في بأييد المنون * وأفإين ايتإى ذي القربى عنى
من نبإى الانعام مع ورإى * شورى وءاناءى ومن تلقإى
وأدخل الألف قبل همزة * ملايه بالخفض ثم مائة
وقبل يا لشائ إني أدخلا * ولفظ يايئس بعد لفظ لم ولا
وفي لااذبحن عن الهمز يجى (1) * وقيل في لا اوضعوا جاءو جاى (2)

(1) عن الهمز أي بعدها
(2) أي روى أن الألف قد جاء مزيدا في قوله تعالى لأاوضعوا عن بعض
علماء الرسم كما في لأاذبحنه وقد جاء عن بعضهم أيضا في لأانتم ولأاتوها ولإالى
لكن الراجح عدم الزيادة في هذه الكلمات اه‍ من ايقاظ الاعلام لوجوب
اتباع رسم المصحف الامام
174

(وخلاصة القول) اننا لم ندرك السر في رسم المصحف العثماني
كما لم يدركه من قبلنا من كبار الأئمة وفحول العلماء - وسواء فهمنا ذلك
أو لم نفهم فالواجب علينا اتباعه حرفا حرفا وكلمة وكلمة وما وسع
القرون الأولى وهم خير القرون يسعنا ونحن على أبواب الفتن وفي آخر
الزمن نسأل الله لطفه ورحمته وفضله واحسانه انه لطيف خبير.
فكل خير في اتباع من سلف * وكل شر في ابتداع من خلف
الباب السادس
(وفيه خمس فصول)
(الفصل الأول * فيما ذكره العلماء من التعليلات)
(لبعض مرسوم المصحف العثماني)
ذكر العلماء تعليلات متنوعة لبعض كلمات الرسم العثماني غير أن
هذه التعليلات ما هي الا من قبيل الاستئناس والتمليح لأنها لم توضع
الا بعد انقراض الصحابة رضي الله عنهم وهم قد كتبوا المصحف بهذا
الرسم لحكمة لم نفهمها وإشارة لم ندركها من غير أن ينظروا إلى العلل
النحوية أو الصرفية التي استنبطت بعدهم، ونحن نأتى هنا بشئ من
ذلك للعلم به.
(فمنها) انهم قالوا حذفت الألف من بسم الله طلبا للخفة
175

لكثرة استعمالها، قيل لما أسقطوا الألف ردوا طول الألف على الباء
ليكون دالا على سقوط الألف ولا تحذف الألف إذا أضيف الاسم
إلى غير الله ولا مع غير الباء.
(فنحن نقول) ما هي الخفة في بسم الله بحذف الألف وما هو الثقل
في " اقرأ باسم ربك " وفي " سبح اسم ربك " باثباتها ثم إن تطويل
الباء أو تقصيرها من بسم الله راجع إلى قواعد تحسين الخط ففي بعض
أنواع الخطوط تقصر وفي بعضها تطول حتى في الخط الكوفي القديم.
(ومنها) انهم قالوا حذفت الواو من " ويمح الله الباطل "
للإشارة إلى سرعة ذهابه واضمحلاله - وزيدت الياء في " والسماء بنيناها
بأييد " للفرق بين الأيدي التي بمعنى القوة والأيدي التي ليست
بمعنى القوة.
(فنحن نقول) إذا سلمنا بعلة حذف الواو من " ويمح الله الباطل "
فهل يمكن ان نشير إلى أن اثبات الواو في " يمحوا الله ما يشاء ويثبت "
يدل على التراخي في المحو والاثبات - وان جرينا على رأيهم أن زيادة
الياء في بأييد للفرق بين التي للقوة والتي ليست للقوة فما نقول في
زيادة الياء في " بأييكم المفتون " دون زيادتها في " أيكم أحسن عملا "
(ومنها) انهم قالوا ان زيادة الألف في " لأاذبحنه " إشارة
إلى أن الذبح لم يقع فكأنما لا نافية، وقيل إن زيادة الألف فيها إشارة
176

إلى الفتحة لان الفتحة عندهم ألف وكذلك الياء في " ايتاءى ذي القربى "
إشارة إلى الكسرة لأنها ياء والواو في " سأوريكم آياتي " إشارة إلى
الضمة لأنها واو أيضا.
(فنحن نقول): ان كان الامر كذلك فلم لم تكن الألف موجودة
في نحو " لأستغفرن لك " والياء موجودة في نحو " من وراء جدر "
والواو موجودة في نحو " ما أريكم ".
ثم هل ان زيادة الألف والواو والياء في الكلمات المذكورة هي
بمثابة الحركات والتشكيل فان كان كذلك فلم لم يضعوها في جميع كلمات
القرآن لتنوب عن الحركات.
(ومنها) انهم قالوا ان كلمة " أحيا " من نحو آية " وانه هو أمات
وأحيا " رسمت بالألف كراهة اجتماع متماثلين - فلم لم تكتب كلمة
" يحيى " من آية ثم لا يموت فيها ولا يحى كذلك لنفس العلة.
(ومنها) انهم قالوا ان الألف التي بعد الراء من كلمة " إبراهيم
" حذفت للاختصار - ونحن نقول ان هذه العلة ليست مطردة في جميع
القرآن فقد تحذف الألف من بعض الكلمات نحو: في عيشة رضية
بالقارعة، وجعل فيها سرجا بالفرقان، وحرم على قرية بالأنبياء
ان عذاب ربك لوقع بالطور. وقد لا تحذف من بعضها نحو
177

لسعيها راضية بالغاشية، وجعلنا سراجا وهاجا بالنبأ، ليلا من المسجد
الحرام بالاسراء، إذا وقعت الواقعة.
(ومنها) انهم قالوا حذفت ياء المضارع لغير جازم في " يوم يأت
لا تكلم نفس " على لغة هذيل - ونحن نقول ان هذه الكلمات يا عباد
فاتقون، ويا عباد الذين آمنوا " كلاهما في الزمر " ويدع الانسان، ويوم
يدع الداع، حذفت منها الياء والواو فهل هذا الحذف على لغة بعض
القبائل أيضا أم لا، ولم لم تحذف الياء من آية " يا عبادي الذين آمنوا "
في العنكبوت، ومن " قل يا عبادي الذين أسرفوا " في الزمر ولم تحذف
الواو من نحو " يمحوا الله ما يشاء ويثبت ".
(ومنها) انهم قالوا رسمت هاء التأنيث تاء نحو " رحمت ونعمت
وامرأت " على لغة طئ -
(ونحن نقول) لم لم يكن ذلك مطردا في جميع القرآن فان هذه
الكلمات نفسها ومعها بضع كلمات أخرى رسمت أحيانا بالهاء وأحيانا
بالتاء اما غيرها فإنها مكتوبة بالهاء على وتيرة واحدة نحو: قيمة، ذرة،
القارعة، مسغبة، رقبة، زجرة، خافية.
(ومنها) انهم قالوا في قوله تعالى " لايلاف قريش إلفهم "
حذفت الياء من ايلافهم للاقتصار.
178

وقالوا ان كلمة " ولييى " من آية " أنت ولى في الدنيا والآخرة "
ومن آية " ان ولى الله " اتفق شيوخ الرسم على كتابتها بياء واحدة
ورجح الداني وأبو داود في حرف الأعراف انها الثانية وفي حرف
يوسف انها الأولى ولهذا الترجيح كتب حرف الأعراف وضبط
هكذا " ولى " وكتب حرف يوسف وضبط هكذا " ولى "
ولا مانع من رسمهما وضبطهما معا بصورة منهما.
(ونحن نقول) هل هذه الكلمات الآتية مثلها أم لا وهى:
النبيين، الحوارين، الأمين، وهو يحى، ويميت.
فالخلاصة ان كل هذه التعليلات التي ذكرها العلماء من الزيادة
والحذف في بعض كلمات القرآن لا تغنى شيئا، والحقيقة هكذا وصلت
إلينا عن الصحابة الذين كتبوا القرآن الكريم ولم ينكشف سر
ذلك لاحد والله سبحانه علام الغيوب
الفصل الثاني
(في اختراع النقط والشكل)
لم يكن النقط والشكل " أي الاعجام والحركات " معروفا قبل
الاسلام فكانوا يقرؤن على الوجه الصحيح حسب الفطرة والغريزة
فلما انتشر الاسلام واختلط العرب بالعجم طرأ عليهم الخطأ والتصحيف
فاحتاجوا إلى وضع علامات تقيهم من ذلك فاخترعوا النقط والشكل
179

(وسبب تشكيل المصحف) ان زياد بن سمية وكان واليا على
البصرة لما رآى ظهور الخطأ عند العرب طلب من أبى الأسود الدؤلي ان يضع
طريقة لاصلاح الألسنة عند القراءة فلم يجبه إلى طلبه فدبر زياد حيلة
فقال لرجل من أتباعه اقعد على طريق أبى الأسود واقرأ شيئا من القرآن
وتعمد اللحن ففعل الرجل ذلك وقرأ " ان الله برئ من المشركين ورسوله "
وكسر اللام فلما سمعه أبو الأسود أعظم ذلك وقال عز وجه الله تعالى من
أن يبرأ من رسوله فذهب من فوره إلى زياد وقال له قد أجبتك إلى
ما سألت، ورأيت أن أبدأ باعراب القرآن فابغني كاتبا فبعث إليه ثلاثين
كاتبا فاختار واحدا منهم وقال له خذ المصحف وصبغا يخالف لون المداد
فإذا رأيتني فتحت شفتي بالحرف فانقط واحدة فوقه وإذا كسرتهما
فانقط واحدة أسفله وإذا ضممتهما فاجعل النقطة بين يدي الحرف فان
تبعت شيئا من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين وأخذ يقرأ بالتأني
والكاتب يضع النقط وكلما أتم صحيفة أعاد أبو الأسود نظره عليها
واستمر على ذلك حتى أعرب المصحف كله وترك السكون بلا علامة
فأخذ الناس هذه الطريقة عنه وكانوا يسمون هذه النقط شكلا ثم تفننوا
في هيئة النقط فمنهم من جعلها مربعة ومنهم من جعلها مدورة ثم زادوا
علامات في الشكل إلى أن وصلت إلينا بهذه الصورة التي نستعملها اليوم
180

(وسبب نقط المصحف) أن الناس مكثوا يقرؤن في مصاحف
عثمان رضي الله عنه نيفا وأربعين سنة ثم كثر التصحيف بالعراق ففزع
الحجاج (1) إلى كتابه في زمن عبد الملك وسألهم ان يضعوا علامات
لهذه الحروف المشتبهة ودعا نصر بن عاصم الليثي ويحى بن يعمر العدواني
(وهما ممن اخذ عن أبي الأسود) لهذا الامر وكانت عامة المسلمين تكره
ان يزيد أحد شيئا على ما في مصحف عثمان ولو للاصلاح وتوقف كثير
منهم في قبول الاصلاح الأول الذي أدخله أبو الأسود فبعد البحث
والتروي قرر نصر ويحى ادخال الاصلاح الثاني وهو أن توضع النقط
افرادا وأزواجا لتمييز الأحرف المتشابهة كالدال والذال فالأولى تهمل
والثانية تعجم من فوق بنقطة واحدة وهكذا في بقية الحروف وجرى
الناس عليه إلى الآن غير أن هناك اختلافا بين الفاء والقاف بين المشارقة
والمغاربة فالمشارقة ينقطون الفاء بواحدة من فوق والقاف بنقطتين من
فوق أيضا والمغاربة ينقطون الفاء بنقطة واحدة من أسفل والقاف
بنقطة واحدة من فوق ولا ضرر في اصطلاحهم حيث أمن اللبس
والاشتباه عندهم.

(1) توفى الحجاج بن يوسف الثقفي في شوال سنة خمس وتسعين للهجرة
وكان من حفاظ القرآن المعدودين.
181

ومن أراد زيادة البحث في هذا الموضوع فعليه بمطالعة كتابنا
تاريخ الخط العربي وآدابه فقد بسطنا القول فيه هناك.
والذي يغلب على ظننا والله أعلم بغيبه انه كما ادخل النقط والشكل
في المصاحف سيأتي على الناس زمان يدخلون فيها علامات الترقيم كعلامة
الاستفهام والتنصيص والتأثر وقد ذكرناها مفصلا في كتابنا تاريخ الخط
العربي وآدابه فراجعه.
والحقيقة لا نرى بأسا في ادخالها في المصاحف لأنها من دواعي
سرعة الفهم ومن محسنات الكتابة لا دخل لها في جوهر الحروف
والكلمات ولا تغير اللفظ ولا المعنى فيكون ادخالها في المصاحف
كادخال النقط والشكل ووضع علامات التجويد فوق الكلمات وعلامات
الضبط فيها.
الفصل الثالث
(في كتابة المصاحف قديما وحديثا)
روى عن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه انه يقول كانت المصاحف لاتباع انما يأتي الرجل بورقة
عند المنبر فيقوم الرجل المحتسب فيكتب له من أول البقرة ثم يجئ
غيره حتى يتم المصحف.
182

هكذا كان في ابتداء الاسلام ثم صار كثير من الناس يتفرغون
لكتابة المصاحف لعدم وجود المطابع في ذلك الزمن فكان يكتب
بعضهم مائة مصحف وبعضهم مائتين وبعضهم أقل أو أكثر، ولئن
كانت المطابع غير موجودة في زمنهم فقد كانت قلوبهم عامرة بالتقوى
ممتلئة ايمانا ويقينا وكانوا أكثر تلاوة للقرآن وأشد تمسكا بأحكامه وأكثر
رغبة وتنافسا في نسخه وكتابته واهدائه لبعضهم وجعله في المساجد
ودور العلم والتدريس رجاء الأجر والثواب.
ذكر ابن خلكان عند ترجمة إسحاق بن مرامر الشيباني النحوي
اللغوي قال ولده عمرو لما رجع (1) أبى اشعار العرب ودونها كانت نيفا
وثمانين قبيلة وكان كلما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفا
وجعله بمسجد الكوفة حتى كتب نيفا وثمانين مصحفا بخطه اه‍
فكم مثل اسحق من كتب عدة مصاحف يقصد بها وجه الله تعالى
ونفع المسلمين ولقد ذكرنا في كتابنا تاريخ الخط العربي وآدابه طائفة
ممن كتبوا القرآن الكريم عدة مرات فراجعه هناك ولم نذكرهم هنا
حتى لا نخرج عن الموضوع.
فقارن رحمك الله بين أيامنا وأيامهم ورجالنا ورجالهم فلا حول

(1) قال في المصباح المنير ورجعت الكلام وغيره أي رددته وبها جاء القرآن
قال تعالى (فان رجعك الله).. اه‍ المراد منه
183

ولا قوة الا بالله اللهم تداركنا برحمتك ولطفك وبرك واحسانك انك
على كل شئ قدير.
هذا ولما ظهرت المطابع في زماننا قل اشتغال الناس بكتابة
المصاحف ونسخها لكن لا يزال الملوك والامراء والأثرياء المثقفون
إلى يومنا هذا يفتخرون باقتناء المصاحف الخطية القيمة ويسندون
نسخها وكتابتها إلى من اشتهر بحسن الخط ويصرفون على ذلك المبالغ
الطائلة بسخاء وكرم فيكون المصحف المعتنى بنسخه وكتابته قيما جميلا
جديرا بالمحافظة عليه ليبقى اثرا خالدا.
والمصاحف في العهد الأول كانت تكتب بأنواع متعددة بالخط
الكوفي إلى القرن الخامس تقريبا، ثم لما تنوعت الخطوط صاروا
يكتبونها بخط الثلث إلى القرن الثامن أو التاسع، ولما ظهر خط النسخ
الذي هو من أجمل الخطوط صاروا يكتبونها به إلى عصرنا الحاضر (1)
والحق يقال ان جمال المصاحف لا يظهر الا إذا كتبت بخط النسخ
فقط اما بقية أنواع الخطوط فلا يستحسن كتاباتها بها كخط الرقعة
والديواني والفارسي وسياقت وشكسته لان قاعدة هذه الخطوط

(1) يوجد في دار الكتب العربية بمصر كثير من المصاحف القيمة الأثرية
المكتوبة بخطوط متنوعة من القرن الأول للهجرة إلى عصرنا الحاضر وقد ذكرنا
شيئا منها في كتابنا تاريخ الخط العربي فراجعه
184

عدم تشكيلها والمصاحف يجب تشكيلها صيانة للقارئ من اللحن.
بل قد يحرم كتابتها ببعض هذه الخطوط كخط سياقت
وشكسته فان هذين الخطين لا يعرفهما أحد في جميع البلدان العربية
ويندر جدا من يعرفهما في بلاد الترك والعجم وقد وضعنا صورتهما
وتكلمنا عنهما في كتابنا تاريخ الخط العربي وآدابه فراجعه.
فكتابة المصاحف بالخطين المذكورين يؤدى إلى الخلل والتحريف
وهذا لا يجوز، فان عم انتشارهما في البلاد الاسلامية ارتفع المحظور
ولم يبق للتحريم وجه وقد بسطنا القول في هذا الموضوع في أول كتابنا
تاريخ الخط المذكور عند شرح الأحاديث الواردة في الخط والكتابة
فراجعه ان شئت.
185

ظهور المطابع
كان أول اختراع المطابع في ألمانيا سنة 1431 ميلادية وبالضرورة
مضت مدة طويلة حتى أتقنت صناعتها وظهرت صلاحيتها، فدخلت
أولا في بلاد إيطاليا ثم فرنسا ثم في إنجلترا ثم انتشرت في جميع البلدان.
وفي عصرنا الحاضر تقدمت صناعة المطابع وادخل فيها من
التحسينات الفنية ما لم يكن في الحسبان - وان أول مصحف طبع
بالخط العربي كان في همبرج بألمانيا سنة 1113 هجرية ويوجد من هذه
الطبعة مصحف بدار الكتب العربية بمصر القاهرة، كما يوجد بها
مزامير داود عليه السلام بأربع لغات مع تفسير لاتيني طبعت في جنوة
بايطاليا سنة 935 هجرية، وبعد سنة 1516 ميلادية طبع المصحف أيضا
في البندقية بايطاليا وسبب طبع المصحف الكريم في همبرج والبندقية
وجود المطابع فيهما دون البلاد الاسلامية كما هو ظاهر.
ومن العجيب انه عند أول ظهور المطبعة في إيطاليا طعن علماؤهم
فيها طعنا جارحا حتى قالوا انها بدعة همجية ألمانية ونادى كهنتهم لنهدم
كيان الطباعة أو تهدم هي كياننا * وفى ابتداء ظهور الكتب المطبوعة
لم يقبل الناس على شرائها.
186

ولما دخلت المطبعة إلى تركيا في زمن السلطان احمد الثالث أفتت
مشيخة الاسلام بجواز استعمالها الا انه بقى طبع المصحف ممنوعا ثم عادت
الدولة العثمانية فمنعت المطبعة ثم جاء السلطان عبد الحميد الأول فأعادها
وجاء السلطان محمود الأول فاهتم بها أكثر * وأول كتاب طبع بالاستانة
" صحاح الجوهري " قيل إنه في سنة 1129 هجرية أفتى شيخ الاسلام
بالاستانة عبد الله أفندي بجواز طبع الكتب غير الدينية (1) وفيما بعد
سنة 1141 ه‍ طبعت كتب هامة في اللغة والأدب والتاريخ بالعربية
والتركية والفارسية ثم استصدروا الفتوى بطبع كتب الدين وتجليد
القرآن الكريم * ومن أشهر مطابع الآستانة القديمة مطبعة الجوائب
وأول من ادخلها إلى الديار التونسية محمد باشا باى الذي تولى امارة
تونس عام 1271 هجرية * وأول مطبعة ظهرت في حلب كان سنة 1698
ميلادية * ومن أقدم المطابع في لبنان مطبعة قزحيا وكانت أحرفها
سريانية ثم صارت عربية ومطبعة الشوير وطبع فيها المزامير
سنة 1733 ميلادية * وأقدم المطابع في بيروت مطبعة القديس جاورجيوس

(1) وقيل كانت فتوى شيخ الاسلام المذكور بجواز الطباعة في سنة 1103
هجرية وبالرجوع إلى المصادر التركية تظهر الحقيقة.
187

فإنها أنشئت سنة 1753 ميلادية * وبعدها المطبعة الأمريكية أنشئت
في مالطة سنة 1822 ميلادية ثم نقلت إلى بيروت سنة 1834 ميلادية
وبعدها المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين تأسست عام 1848
ميلادي وكانت تطبع على الحجر ثم صارت تطبع على الحروف سنة 1854
ميلادية وهي أكبر المطابع وفيها حروف عربية وافرنجية ويونانية
وسريانية وعبرانية وارمنية.
وأول مطبعة ظهرت بمصر مطبعة الحملة الفرنساوية جاء بها بونابرت
معه سنة 1798 ميلادية لطبع المنشورات والأوامر باللغة العربية وقد
سميت بالمطبعة الأهلية وكانت بالقاهرة إلى يونيو سنة 1801 ميلادية
حين انسحاب الفرنساويين من مصر وبعد ذلك ظلت مصر نحو عشرين
عاما بغير مطبعة حتى استقر الامر لمحمد على باشا فأنشأ المطبعة الأهلية
سنة 1821 ميلادية وتعرف بمطبعة بولاق لأنها وضعت أخيرا في بولاق
وأول ما طبع فيها قاموس ايطالي عربي سنة 1822 ميلادية وقد
اشتغلت هذه المطبعة أكثر من تسعين عاما وكانت أكبر مطبعة عربية
في العالم وهي التي تسمى بالمطبعة الأميرية * ثم كثرت المطابع الآن
بمصر على مختلف أنواعها كما أدخلت عليها تحسينات عظيمة حسب
التطور الحديث
188

ومن أراد التوسع في البحث عن تاريخ الطباعة العربية فليراجع
الجزء الرابع من كتاب تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان
ومجلة الهلال لسنتي 9 و 22، ومجلة المشرق لسنتي 3 و 4، والمقتطف
لسنة 7، وتاريخ جودت الجزء الأول.
وأول مطبعة ظهرت بمكة المشرفة هي المطبعة الأميرية التي سميت
فيما بعد (بمطبعة أم القرى) وهي التي أطلق عليها الآن (مطبعة
الحكومة) والذي استحضرها عثمان باشا نوري الذي كان واليا على
الحجاز في عهد الأتراك أتى بها في سنة 1303 هجرية تقريبا وجعلها
في المكان الذي هي فيه الآن بأجياد وكانت بادئ أمرها صغيرة الحجم
لكن في وقتنا الحاضر اهتمت الحكومة السعودية بها وجلبت لها
كثيرا من أدوات الطباعة وآلاتها الحديثة.
وفى عام 1327 ه‍ تقريبا استحضر الشيخ محمد ماجد الكردي
رحمه الله تعالى مطبعة على حسابه الخاص سماها (المطبعة الماجدية)
وجعلها في داره الكائنة بحارة القرراة وقد طبع بها كثير من الكتب
ثم استحضر الشيخ محمد صالح نصيف مطبعة في عام 1345 ه‍ تقريبا
سماها (المطبعة السلفية) وهي معطلة الآن لا تستعمل وللشركة العربية
للطبع والنشر مطبعة تسمى (المطبعة العربية) ومحلها بالشامية.
189

واما في المدينة المنورة ففيها مطبعة السيد عثمان حافظ استوردها
في سنة 1355 تقريبا على حسابه الخاص،
واما في جدة ففيها مطبعتان الأولى (مطبعة رمزي) جلبت في سنة 1329 ه‍ تقريبا،
والثانية (مطبعة الفتح الوطنية) لصاحبها: المحترم الشيخ
عبد الرحيم عبد الفتاح وفيها طبع كتابنا تاريخ القرآن الكريم وقد
تأسست في سنة 1350 ه‍
الفصل الرابع
(في عدم جواز قراءة القرآن وكتابته بغير العربية)
اتفقت الأئمة (1) على عدم جواز ترجمة القرآن وكتابته وقراءته
بغير العربية لان ذلك يؤدى إلى التحريف والتبديل بلا شك إذ لا
يعقل ترجمته ترجمة حرفية بالمثل - اما الترجمة التفسيرية فلا بأس بها

(1) قيل إن الامام أبا حنيفة جوز قراءة القرآن بالفارسية في خصوص
الصلاة للعاجز عن العربية ولقد قال الآلوسي في تفسيره عند قوله تعالى
" وانه لفي زبر الأولين " ان أبا حنيفة رجع عن قوله هذا كما صححه جمع من
الثقاة المحققين.
190

لأنها تشرح معانيه وتبين غوامضه وفى هذا الموضوع مؤلفات خاصة
تكفى الإشارة هنا إلى حكم ذلك.
وكيف يمكن كتابته أو ترجمته حرفيا باللغات الأجنبية ومخارج
حروفها ليست كمخارج الحروف العربية وعدد حروف هجائها قد
يزيد عنها وقد ينقص ومن هنا يعلم استحالة ترجمته حرفيا بغير اللغة العربية
(فالمصحف له مكانة خاصة) وحرمة كبيرة لدى كافة المسلمين
في مشارق الأرض ومغاربها، فكما اتفقت الأئمة على عدم جواز كتابته
بغير الرسم العثماني محافظة على هيئة كتابته الأولى، اتفقت أيضا على
عدم جواز كتابته وترجمته حرفيا بغير اللغة العربية خوفا من التغيير
والتبديل الذي لابد من حصوله بالترجمة، واتفقت أيضا على عدم جواز
مسه أو حمله للمحدث ولو حدثا أصغر كما هو مبسوط في كتب الفقه
وكيف لا يكون جديرا بالاحترام والتعظيم وهو كلام الخبير
اللطيف، وأساس الدين الحنيف، وقد قال فيه سبحانه وتعالى " لو أنزلنا
هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ".
وقال فيه عليه الصلاة والسلام من ضمن الحديث الذي أخرجه
الترمذي " هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط
المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا تشبع
منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ".
191

الفصل الخامس
(في عدد أجزاء القرآن وانصافه وسوره وآياته وحروفه)
عدد سور القران مائة وأربع عشرة سورة ومن عدها مائة وثلاث
عشرة سورة يجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة وعدد اجزائه
ثلاثون جزءا.
وأما أنصافه فقد قال بعض القراء: القرآن العظيم له أنصاف
باعتبارات فنصفه بالحروف النون من " نكرا " في الكهف والكاف
من النصف الثاني * ونصفه بالكلمات الدال من قوله " والجلود " في الحج
وقوله ولهم مقامع من النصف الثاني * ونصفه بالآيات ياء " يأفكون "
من سورة الشعراء وقوله فألقى السحرة من النصف الثاني * ونصفه
على عدد السور آخر الحديد والمجادلة من النصف الثاني * وهو عشره
بالأحزاب، وقيل إن النصف بالحروف الكاف من " نكرا " وقيل
الفاء من قوله " وليتطف ".
(وأما آياته) فعددها ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية
وهذا على حسب المصحف الأميري الذي طبعته الحكومة المصرية
عام 1342 قال الامام الداني اجمعوا على أن عدد آيات القران ستة آلاف
192

اية ثم اختلفوا فيما زاد على ذلك فمنهم من لم يزد ومنهم من قال ومائتا آية
وأربع آيات وقيل وأربع عشرة وقيل وتسع عشرة وقيل وخمس
وعشرون وقيل وست وثلاثون اه‍.
وتختلف الاعداد التي يعدون بها في سائر الآفاق إلى ستة أو سبعة
كالعدد الكوفي والعدد البصري والعدد المكي والعدد المدني. الخ ويعلم
كل ذلك من كتب القراءات، وقد بين ذلك شيخ المقارئ المصرية
سابقا الشيخ محمد بن علي بن خلف الحداد رحمه الله تعالى في كتابه سعادة
الدارين في بيان وعد آي معجز الثقلين فارجع إليه ان شئت فان معرفة
الآيات ضرورية ولها جملة فوائد لم نتعرض لذكرها خوف التطويل.
قال السخاوي في جمال القراء (فان قيل) فما الموجب لاختلافهم
في عدد آي القرآن (قلت) النقل والتوقيف (فان قيل) فلو كان ذلك
توقيفيا لم يقع اختلاف (قلت) الامر في ذلك على نحو من اختلاف
القراءات وكلها مع الاختلاف راجع للنقل.. الخ
(واما عدد كلماته) فقيل سبع وسبعون ألف كلمة وتسعمائة وأربع
وثلاثون كلمة وقيل وأربعمائة وسبع وثلاثون، قال للسيوطي وسبب
هذا الاختلاف في عد الكلمات ان الكلمة لها حقيقة ومجاز ولفظ
ورسم واعتبار * كل منها جائز وكل من العلماء اعتبر أحد الجوائز.
193

(واما عدد حروفه) فقيل ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون
ألف حرف وستمائة حرف وسبعون حرفا وقيل غير ذلك،
قال السيوطي والاشتغال باستيعاب ذلك مما لا طائل تحته وقد
استوعبه ابن الجوزي في فنون الأفنان وعد الانصاف والأثلاث
إلى الأعشار وأوسع القول في ذلك فراجعه منه اه‍.
وذكر بعضهم ان في القرآن كذا وكذا من الألف وكذا وكذا
من الباء وكذا وكذا من التاء وهلم جرا إلى آخر الحروف الهجائية
وفي أول حاشية الجمل على تفسير الجلالين بيان عدد كل ذلك وقال
فيه ان عدد جلالات القرآن ألفان وستمائة وأربعة وستون، وقد ذكر
أيضا ابن كثير رحمه الله تعالى في أول تفسيره عدد آيات القرآن
وكلماته وحروفه
وقد ذكر بعضهم أن عدة النقط على حروفه ألف ألف وخمس
وعشرون ألفا وثلاثون نقطة كما جاء ذلك في حاشية أسنى المطالب،
والحقيقة ان عد كلمات القرآن وحروفه أمر لا يستهان به إذ يحتاج
إلى صبر وجلد عظيمين وإلى انتباه تام فقل من يتصدى لذلك.
194

الخاتمة
(وفيها خمس فوائد)
(الفائدة الأولى - في فضائل القرآن)
اعلم أن حفظ القرآن في الصدور فرض كفاية على الأمة وكذلك
تعليمه، اما نسيانه فكبيرة كما صرح به النووي في الروضة وغيرها
لحديث أبى داود وغيره عرضت على ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من
سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها، وفى الصحيحين تعاهدوا
القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها
وفيهما أيضا مثل القرآن مثل الإبل المعقلة إن عقلها صاحبها أمسكها
وإن تركها ذهبت.
(اخرج) الشيخان لا حسد الا في اثنتين رجل علمه الله القرآن
فهو يتلوه آناء الليل والنهار فسمعه جار له فقال ليتني أوتيت ما أوتى
فلان فعملت مثل ما يعمل ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق فقال
رجل ليتني أوتيت مثل ما أوتى فلان فعملت مثل ما يعمل.
(واخرج) الشيخان أيضا وغيرهما الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام
البررة والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له اجران.
(واخرج) احمد والترمذي ما من مسلم يأخذ مضجعه فيقرأ سورة
195

من كتاب الله تعالى الا وكل الله به ملكا يحفظه فلا يقربه شئ
يؤذيه حتى يهب متى هب.
(واخرج) احمد من حديث معاذ بن انس من قرأ القرآن في سبيل
الله كتب مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
(وأخرج) مسلم من حديث جابر بن عبد الله خير الحديث كتاب
الله الخ (وأخرج) البخاري عن عثمان بن عفان قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ان
أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه (واخرج) النسائي وغيره من حديث
أنس قال أهل القرآن هم أهل الله وخاصته (واخرج) الطبراني من
حديث أنس جملة القرآن عرفاء أهل الجنة (واخرج) الطبراني من
حديث انس أيضا من قرأ القرآن يقوم به آناء الليل والنهار يحل حلاله
ويحرم حرامه حرم الله لحمه ودمه على النار وجعله مع السفرة الكرام
البررة حتى إذا كان يوم القيمة كان القرآن حجة له (واخرج) مسلم
اقرؤا القرآن فإنه يأتي يوم القيمة شفيعا لأصحابه (واخرج) الحاكم
من حديث عبد الله بن عمر الصيام والقرآن يشفعان للعبد (واخرج)
الديلي من حديث على حملة القرآن في ظل الله يوم لا ظل الا ظله
(واخرج) الحاكم من حديث أبي هريرة يجئ صاحب القرآن يوم
القيمة فيقول القرآن يا رب حله فيلبس تاج الكرامة ثم يقول يا رب
196

زده يا رب ارض عنه فيرضى عنه ويقال له اقرأ وارق ويزاد له بكل
آية حسنة (واخرج) البيهقي من حديث عائشة البيت الذي يقرأ فيه
القرآن يتراءى لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض (واخرج)
ابن ماجة وغيره من حديث ابن مسعود عليكم بالشفاءين العسل والقرآن
(واخرج) أيضا من حديث على خير الدواء القرآن (واخرج) البيهقي
في الشعب عن وائلة بن الأسقع ان رجلا شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجع
حلقه قال عليك بقراءة القرآن (واخرج) الطبراني من حديث ابن عمر
ثلاثة لا يهو لهم الفزع الأكبر ولا ينالهم الحساب هم على كثيب من
مسك حتى يفرغ من حساب الخلائق، رجل قرأ القرآن ابتغاء وجه الله
وأم به قوما وهم به راضون الحديث (واخرج) الشيخان مثل الذي
يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب والذي لا يقرأ
القرآن كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن
كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها طيب مر ومثل الفاجر الذي لا يقرأ
القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها (واخرج) مسلم ما اجتمع
قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم الا
تنزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله
فيمن عنده (وقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق
197

ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فان منزلك عند آخر آية نقرؤها (وقال)
عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى من شغله قراءة القرآن عن دعائي
أعطيته أفضل ثواب الشاكرين (وقال) صلى الله عليه وسلم ان الله يرفع بهذا الكتاب
أقواما ويضع به آخرين رواه مسلم (وعن أنس مرفوعا) سبع يجرى
للعبد أجرهن بعد موته وهو في قبره من علم علما أو أجرى نهرا أو
حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ترك ولدا يستغفر له من بعد
موته أو ورث مصحفا رواه ابن ماجة وغيره.
(هذه نبذة) مما ورد في فضائل القرآن جملة وقد ورد كثير من
الأحاديث في فضل سور بعينها لم نذكرها خوف التطويل.
(الفائدة الثانية في الاكثار من تلاوة القرآن الكريم)
ذكر الإله للقلوب قوت * إذا انتفى فإنها تموت
يستحب الاكثار من تلاوة القرآن قال الله تعالى مثنيا على تاليه
" يتلون آيات الله آناء الليل " وقال " ان قرآن الفجر كان مشهودا "
أي تشهده الملائكة وقال " ان الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة
وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم
أجورهم ويزيدهم من فضله انه غفور شكور " وقال " كتاب أنزلناه
إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب " وقال " الله نزل
198

أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون
ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من
يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد "
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرؤا القرآن فإنه يأتي يوم القيمة شفيعا
لأصحابه رواه مسلم في صحيحه (واخرج) البيهقي من حديث النعمان
ابن بشير أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن (وفى الحديث) يقول الله تعالى
من شغله قراءة القرآن عن دعائي أعطيته أفضل ثواب الشاكرين
(وفي البخاري) اقرؤا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم
فقوموا عنه.
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
أوصيك بتقوى الله تعالى فإنه رأس كل شئ وعليك بالجهاد فإنه رهبانية
الاسلام وعليك بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن فإنه روحك (1) في
السماء وذكرك في الأرض.
قال الليث في البستان: ينبغي للقارئ ان يختم في السنة مرتين
ان لم يقدر على الزيادة، وروى عن أبي حنيفة انه قال من قرأ القرآن
في كل سنة مرتين فقد أدى حقه لان النبي صلى الله عليه وسلم عرض على جبريل

(1) قال العزيزي على الجامع الصغير روحك بفتح الراء اي راحتك
199

في السنة التي قبض فيها مرتين * وقال غيره يكره تأخير ختمه أكثر من
أربعين يوما بلا عذر نص عليه احمد لان عبد الله بن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم
في كم نختم القرآن قال في أربعين يوما رواه أبو داود واخرج الشيخان
عن عبد الله بن عمرو قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ القرآن في شهر
قلت انى أجد قوة قال أقرأه في عشر قلت انى أجد قوة قال أقرأه في
سبع ولا تزد على ذلك.
قال النووي في الأذكار المختار ان ذلك يختلف باختلاف الأشخاص
فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل
له معه كمال فهم ما يقرأ وكذلك من كان مشغولا بنشر العلم أو فصل
الحكومات أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة فليقتصر على
قدر لا يحصل بسببه اخلال بما هو مرصد له ولا فوات كماله وان لم
يكن من هؤلاء المذكورين فليكثر ما أمكنه من غير خروج الا حد
الملل أو الهذرمة في القراءة اه‍
وقد كره غير واحد من السلف قراءة القرآن في أقل من ثلاث
لقوله صلى الله عليه وسلم من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه
ونهى عليه الصلاة والسلام عن الهذرمة بالقرآن (1)

(1) هذر في منطقة خلط والهذر بفتحتين الهذيان.
200

وعن أبي حمزة قال قلت لابن عباس انى سريع القراءة وانى اقرأ
القرآن في ثلاث فقال لان أقرأ البقرة في ليلة فأدبرها وأرتلها أحب
إلى من أن أقرأكما تقول (وفي تفسير ابن كثير) قال الأعمش عن أبي
وائل عن ابن مسعود قال كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن
حتى يعرف معانيهن والعمل بهن وقال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا
الذين كانوا يقرئوننا انهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا
تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل فتعلمنا
القرآن والعمل جميعا اه‍.
الفائدة الثالثة
(في تجويد القرآن العظيم)
قال في عنوان البيان فرض الله تعالى على الأمة ضبط القرآن
وتعلمه وروايته على الوجه الذي نزل به بمعنى انه يجب ان يكون في
كل عصر طائفة من الأمة تبلغ حد التواتر يقومون بتحمله وروايته
باللغة التي نزل بها ويحفظونه من التحريف والتغيير والتبديل وأن يكون
فيهم من يعرف أوجه القراءات والطرق والكيفيات المتلقاة من أفواه
المشايخ طبقة عن طبقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال وقد اجمعوا على أن
النقص في كيفية القرآن وهيئته كالنقص في ذاته ومادته فترك المد
201

والغنة والتفخيم والترقيق كترك حروفه وكلماته ومن هنا وجب تجويد
القرآن كما قال ابن الجزري.
والاخذ بالتجويد حتم لازم * من لم يجود القرآن آثم
لأنه به الاله انزلا * وهكذا منه إلينا وصلا
والتجويد هو اعطاء الحروف حقها وترتيلها ورد كل حرف إلى
مخرجه وأصله وتلطيف النطق به على كمال هيئته من غير اسراف ولا
تعسف ولا افراط ولا تكلف، قال ابن الجزري ولا اعلم لبلوغ النهاية
في التجويد مثل رياضة الألسنة والتكرار على اللفظ المتلقى من فم
المحسن، ثم قال وأهل الصدر الأول ما كانوا يقرءون القرآن ولا يعلمونه
الأطفال الا مرتلا مجودا حتى لا يخرج الصبي من المكتب الا على
رياضة تامة ومعرفة بتلاوة القرآن وترتيله لا ينقصه الا معرفة الاحكام
والاصطلاحات الفنية التي يسمونها الآن علم التجويد.
الفائدة الرابعة
(في آداب تلاوة القرآن)
(يستحب) الترتيل في القراءة قال الله تعالى " ورتل القرآن
ترتيلا " لأنه أقرب إلى الاجلال والتوقير وأشد تأثيرا في القلب
202

قال ابن مسعود لا تنثروه نثر الدقل (1) ولا تهذوه هذ الشعر (2) قفوا
عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكون هم أحدكم آخر السورة
قال الشيخ الأخضري رحمه الله تعالى
وانما يتلى بالارعواء * والحزن والخشوع والبكاء
فواجب تقديس ذكر الله * عن فعل كل عابث ولاه
اخرج البيهقي من حديث ابن عمر مرفوعا من قرأ القرآن فأعربه
كان له بكل حرف عشرون حسنة ومن قرأه بغير اعراب كان له بكل
حرف عشر حسنات، والمراد باعرابه معرفة معاني ألفاظه.
(ويستحب) تحسين الصوت بالقراءة لقوله صلى الله عليه وسلم زينوا القرآن
بأصواتكم رواه ابن ماجة، وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له يا أبا موسى لو رأيتني وانا استمع لقراءتك
البارحة فقال اما والله لو اعلم انك تستمع قراءتي لحبرتها لك تحبيرا وقال
الزهري عن أبي سلمة كان عمر إذا رآى أبا موسى قال ذكرنا ربنا يا أبا موسى
فيقرأ عنده، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيه لقد أوتى مزمارا من مزامير آل داود

(1) الدقل بفتحتين أردأ التمر
(2) هذ قراءته هذا أسرع فيها وهو بالذال المعجمة
203

وقال عثمان النهدي كان أبو موسى يصلى بنا فلو قلت انى لم اسمع صوت
صنج قط ولا بربط قط (1) ولا شيئا قط أحسن من صوته.
والحقيقة ان قراءة القرآن بالصوت الحسن تهيج الأرواح
وتحرك القلوب وتوقظ النفس عن غفلتها وتطرد الملل والسآمة عن
الفؤاد، هذا إذا كان في حدود التوقير والتعظيم، اما ما كان في قالب
الطرب والغناء فهو المنهي عنه، قال ابن كثير في كتاب فضائل القرآن
فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية
والقانون الموسيقائي فالقرآن ينزه عن هذا ويجل ويعظم أن يسلك
في أدائه هذا المذهب وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك اه‍ قال بعضهم:
واحذر من التطريب كالغناء * واحذر من التحزين للرياء
واحذر من الترعيد والتحريف * فان ذا من سائر التحريف
قال الرافعي في كتابه اعجاز القرآن: التطريب هو أن يترنم
بالقرآن ويتنغم به فيمد في غير مواضع المد ويزيد في المد إن أصاب
موضعه - والتحزين هو أن يأتي بالقراءة على وجه حزين يكاد يبكى
مع خشوع وخضوع (2) - والترعيد هو أن يرعد القارئ صوته

(1) الصنج والبربط آلتان من آلات اللهو
(2) القراءة بالحزن والخشوع بنية صادقة لا تكره وانما تكره للرياء كما هو
صريح في البيتين
204

كأنه يرعد من البرد أو الألم اه‍
وقال أيضا رحمه الله فيه: أول ما ظهرت القراءة بألحان الغناء كان
في المائة الثانية وكان ممن يقرأ بهذه الألحان الهيثم وأبان وابن أعين
ومحمد بن سعيد وهذا من أهل المائة الثالثة اه‍
(ويسن) الاستماع لقراءة القرآن وترك اللغط والحديث لقوله
تعالى " فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون "
(ويسن) أن يستاك عند القراءة فقد ورد " أن أفواهكم طرق للقرآن
فطيبوها بالسواك " وأن يجلس مستقبل القبلة بسكينة ووقار، وأن
تكون القراءة في مكان لائق والمسجد أفضل لأنه مكان العبادة (ويسن)
التعوذ قبل القراءة لقوله تعالى " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من
الشيطان الرجيم " وصفة التعوذ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وكان
جماعة من السلف يزيدون السميع العليم أي يقولون أعوذ بالله السميع
العليم من الشيطان الرجيم - وبعد التعوذ يأتي بالبسملة أول كل سورة
غير براءة (ويسن) التكبير من خاتمة والضحى إلى خاتمة قل أعوذ برب
الناس وصفة التكبير أن يقف القارئ بعد كل سورة وقفة لطيفة
ويقول الله أكبر وقيل لا إله إلا الله والله أكبر.
(ويسن) إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى عقب الختم
205

لحديث الترمذي وغيره " أحب الأعمال إلى الله الحال المرتحل الذي
يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل " واخرج الدارمي
بسند حسن عن ابن عباس عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ
قل أعوذ برب الناس افتتح من الحمد ثم قرأ من البقرة إلى وأولئك هم
المفلحون ثم دعا بدعاء الختمة ثم قام
(والدعاء) عند الختم مستجاب وعنده تنزل الرحمة، قال الامام
النووي يستحب الدعاء بعد قراءة القرآن استحبابا ويتأكد تأكيدا
شديدا وقد نص الإمام أحمد على استحبابه أيضا، أخرج الطبراني عن
العرباض بن سارية مرفوعا من ختم القرآن فله دعوة مستجابة،
وأخرج أيضا عن أنس أنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا - لذلك
كانوا يجتمعون عند ختمه
(والأفضل) ختم القرآن أول النهار أو أول الليل لما رواه الدارمي
بسند حسن عن سعد بن أبي وقاص قال إذا وافق ختم القرآن أول الليل
صلت عليه الملائكة حتى يصبح وان وافق ختمه أول النهار صلت عليه
الملائكة حتى يمسى
206

دعاء ختم القرآن
(نأتى هنا بدعاء جامع اقتبسناه من جملة أدعية مأثورة وهو:)
اللهم ارحمني بالقرآن واجعله لي إماما ونورا وهدى ورحمة * اللهم
ذكرني منه ما نسيت وعلمني منه ما جهلت وارزقني تلاوته آناء الليل
وأطراف النهار واجعله لي حجة يا رب العالمين * اللهم أصلح لي ديني
الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي
آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل
الموت راحة لي من كل شر * اللهم اجعل خير عمري آخره وخير عملي
خواتمه وخير أيامي يوم ألقاك فيه * اللهم إني أسألك عيشة هنية وميتة
سوية ومردا غير مخزي ولا فاضح * اللهم إني أسألك خير المسألة وخير
الدعاء وخير النجاح وخير العمل وخير الثواب وخير الحياة وخير الممات
وثبتني وثقل موازيني وحقق إيماني وارفع درجتي وتقبل صلاتي
واغفر خطيئاتي وأسألك العلا من الجنة * اللهم إني أسألك أن ترفع
ذكرى وتضع وزري وتصلح أمري وتطهر قلبي وتحصن فرجى وتنور
قلبي وتغفر ذنبي * اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي
الدنيا وعذاب الآخرة * اللهم أقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا
207

وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ومن اليقين ما تهون
به علينا مصائب الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا
واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا
ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا
ولا تسلط علينا من لا يرحمنا * اللهم إني أسألك موجبات رحمتك
وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة
والنجاة من النار * اللهم لا تدع لنا ذنبا الا غفرته ولا هما الا فرجته
دينا الا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة الا قضيتها يا ارحم
الرحمين * اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
النار وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا (آمين)
الفائدة الخامسة
(في آداب كتابة القرآن)
لكتابة القرآن الكريم آداب كثيرة - منها - أن يكون الكاتب
على وضوء بل هذا واجب على البالغ العاقل - ومنها - أن يكون على
نظافة في الثوب والبدن والمكان - ومنها - أن يحسن خطه فقد ورد
" من كتب بسم الله الرحمن الرحيم مجودة غفر له " وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال
لكاتبه " ألق الدواة وحرف القلم وأنصب الباء وفرق السين
208

ولا تعور الميم وحسن الله ومد الرحمن وجود الرحيم " وقد شرحنا هذين
الحديثين وغيرهما في أول كتابنا تاريخ الخط العربي وآدابه المطبوع
بمصر شرحا دقيقا فنيا لم يطرقه قبلنا أحد فانظره فيه فإنه مبحث نفيس
ومنها - أن يكتبه بحسب الرسم العثماني فاتباع رسمه واجب كما سبق
بيان ذلك في هذا الكتاب - ومنها - أن يكتبه بحروف بحيث يقرأ
بالبصر الصحيح من غير مشقة في تلاوته.
وقد نظم آداب كتابة القرآن الشيخ محمد العاقب الشنقيطي
رحمه الله تعالى في قوله:
مما به يهتم كل مسلم * ضبط كتابة الكتاب المحكم
فاستقر ما لها من الآداب * واعمل به تسلم من العتاب
قبل الشروع ألق الدواة * بصوفة وحرف الأداة
وإن أردت كتبه في رق * أو غيره فاكتبه دون مشق
وحسن الخط ولا تحرفا * نقط الحروف والحروف جوفا
كي لا تجئ أسطره مخلطة * ولا تري حروفه مقرمطة
وكتبه في الصحف الصغار * يكره كالكتب على الجدار
وكتبه على محل يوطأ * أو محوه فيه فذاك خطأ
ومن يعظم حرمات الله * فان ذاك من تقى الاله
قوله فاكتبه دون مشق أي لا تسرع في الكتابة.
209

(تنبيه) كثير من الخطاطين إذا أرادوا أن يكتبوا شيئا من القرآن
على ورق أو لوح أو نحوهما يركبون الكلمات بعضها فوق بعض مباعدين
حروفها بحيث تصعب قراءتها على من لم يحفظ القرآن وهذا كما لا يخفى
لا يجوز لحصول اللبس والاشتباه في القراءة، والسبب في كتابتهم
بهذه الصورة انهم ينظرون إلى جمال التركيب الخطى فقط غير ناظرين
إلى تفرقة أجزاء الكلمات القرآنية وهذا خطأ فاحش نلفت نظرهم إليه
على أن قليلا من العناية والتأمل يهديهم إلى جمال التركيب مع عدم
تفرقة الحروف والله الموفق للصواب.
(وانى) استغفر الله العظيم من هفوة القلم، وزلة القدم فإنه
غفور رحيم، وليكن ختام الكتاب بأربع أبيات من نظمي إقرارا
بوحدانية الله راجيا منه تعالى أن يثبتني بالقول الثابت في الحياة
الدنيا وفي الآخرة بفضله ورحمته وهي:
(الامر لله ليس الامر للفلك * ولا لزيد ولا عمرو ولا ملك)
(ما شاء كان وما لم لم يكن أبدا * فما هنالك مخلوق بمشترك)
(تنزه الله عن أهل وعن ولد * وعن شريك فما في الامر من شكك)
(إليه وجهت وجهي دائما أبدا * له صلاتي وصومي مخلصا نسكي)
210

(نسأل الله الحي القيوم لذي لا يموت * أن يعاملنا بما هو أهله)
(وأن يسترنا في الدارين ويجعلنا من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وأدخلنا)
(الجنة مع الأبرار امين وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين)
(سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين)
(والحمد لله رب العالمين)
(ولقد كان طبعه على نفقة الفاضل الشيخ مصطفى محمد يغمور بمكة)
(ومن عجيب الاتفاق ان تمام طبع هذا الكتاب كان في يوم سفر مؤلفه)
(من جدة إلى مصر وكردستان للزيارة وهو يوم الجمعة الموافق)
(عشرين شعبان عام ألف وثلاثمائة وخمس وستين من)
(الهجرة النبوية * وان طبعه بهذا الرونق)
(الجميل وظهوره بهذا الشكل البديع)
(كان في مطبعة الفتح الوطنية)
(لصاحبها المحترم الشيخ)
(عبد الرحيم عبد الفتاح)
(بجدة بالحجاز)
211

(قال محمد طاهر الكردي المكي الخطاط)
(مؤلف هذا الكتاب في الحكم والأمثال)
حركات المرء تدل على عقله * حفظ المعروف من المروءة * لا تهد
شيئا لمن لا يقدره * تقدير الأعمال يزيد نشاط العمال * مراعاة احساس
الأصدقاء تقوى حبل الصداقة * العزيز إذا افتقر هان * دوام العزلة
يميت النشاط والهمة * الاعتراف بالاحسان من كمال الانسان *
إذا افتقر العاقل تعرض للزلل * الاستبداد والقسوة يورثان البلادة
والجفوة * هضم الحقوق موجب للعقوق * لا ينهض المرء بفقره * الكريم
إذا ضاقت به الأحوال لم يختلط بالناس * المال أساس النجاح * الكريم
بلا مال كالشجاع بلا سلاح * المال يستر العيوب * الأحمق واللئيم يضيع
فيهما المعروف * كثرة الخضوع نفاق * لا يشقى من حالفه الحظ * لا تحتقر
ضعيف اليوم فقد يصبح غدا عظيما * لا تتودد إلى من لا يعتبرك * الفوضى
عاقبتها الفشل * الصبور إذا انتقم بطش * الانهماك في العمل يؤدى
إلى الملل * من احترم غيره فقد احترم نفسه
(ومن نظمه غفر الله له)
كم عاقل فاضل تلقاه مضطربا * وجاهل خامل تلقى به طربا
هذا له الحظ في الدنيا وذاك له * عز من الله في أخراه قد وجبا
212

(ومن نظمه أيضا)
لقد استراح من الحياة وكدها * ومن الهموم ورؤية الأهوال
من مات أو من جن أو متبتل * لزم القناعة صادق الأحوال
(ومن نظمه أيضا)
دع الامر تحت القضا والقدر * فما ينفع العقل لا والحذر
فمن رام سخطا على ما جرى * فذاك الكفور وشر البشر
ومن سلم الامر نال المنى * وما يبتغيه ونال الظفر
فصبرا جميلا على ما قضا * ه الاله عساه يزيل الضرر
ولا تتركن الدعا والطلب * فان اللطيف به قد أمر
ولا تركبن بحار الهوى * فان المعاصي قرين الخطر
(ومن نظمه أيضا متضرعا إلى الله تعالى)
زدني بفرط الابتلاء تصبرا * والطف بما قدرته فيما جرى
يا من له عنت الوجوه جميعها * رحماك فالعبد الذليل تحيرا
إن لم يكن لي منك لطف شامل * أو فضل احسان على مكررا
فمن الذي أرجو لكشف بليتي * أو من إليه أميل من بين الورى
والكل مفتقر إليك وسائل * من فيض جودك نقطه أن تقطرا
لا أرتجي أحدا سواك وأنت لي * نعم الملاذ ومن رجاك استبشرا
إني سألتك والهموم تراكمت * والدهر عاند والزمان تنكرا
حاشا تخيب من رجاك مؤملا * مهما جنى أو كان فيك مقصرا
213