الكتاب: الفصول الغروية في الأصول الفقهية
المؤلف: الشيخ محمد حسين الحائري
الجزء:
الوفاة: ١٢٥٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٤
المطبعة: نمونه
الناشر: دار أحياء العلوم الإسلامية - قم - ايران
ردمك:
ملاحظات:

اسم الكتاب: الفصول الغروية في الأصول الفقهية.
المؤلف: الشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الحائري.
الناشر: دار إحياء العلوم الاسلامية.
تاريخ النشر: 1363 ه. ش، 1404 ه. ق.
المطبعة: نمونه قم.
العدد: 3000 نسخة.
القياس: رحلي.
حق الطبع محفوظ.
إيران قم
تعريف الكتاب 1

مقدمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله الذي أرشدنا إلى
معالم الشريعة ومعارج اليقين ونور قلوبنا بزبدة من لوامع تمهيد
قواعد الدين ووفقنا التحصيل حاصل القوانين الممهدة لايضاح
مدارك شرعه المبين والصلاة والسلام على من اصطفاه واختاره على
العالمين محمد وآله الطيبين الطاهرين إلى يوم الدين أما بعد فيقول
المفتقر إلى رحمة ربه الكريم محمد حسين بن محمد رحيم غفر الله
ذنوبهما وحشرهما مع محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم
أجمعين إنه لما ساعدني سواعد التوفيقات الإلهية والتأييدات الربانية
على السلوك في المسالك العلمية وتحصيل المعارف الدينية من
العقلية والنقلية ورأيت أن أكثرها قد رأوا أجلها خطرا بعد العلم
الموسوم بعلم الكلام علم الفقه المتكفل لبيان الاحكام الكاشف عن
معضلات مسائل الحلال والحرام ووجدت مسائله مستمدة من علم
الأصول مستندة إليه في الرد والقبول ولم أجد فيه من علمائنا
الصالحين من المتقدمين والمتأخرين رضوان الله عليهم أجمعين ولا
غيرهم من الفحول والمحققين مصنفات يشفي العليل ويروي الغليل
مع ما أكثروا فيه من التصنيف والتأليف وأوردوا فيها من التوجيه
والترنيف فكم من تحقيق مقام تركوه وتوضيح مرام أهملوه صرفت
جهدي في تصنيف كتاب يحتوي على معظم تحقيقاته ويشتمل على
جل مهماته وفتح مغلقاته فأوردت فيه تحقيقات بلغ إليها نظري و
ذكرت فيه تنبيهات عثر عليها فكري مما لم يسبقني إليها أحد غيري
وحررتها بعبارات وافية وبيانات شافية محترزا عن الاطناب الممل و
الاختصار المخل موردا لما أورده من الرد والايراد مبينا لما فيه
من وجه ضعف أو فساد وحيث التمسني عند أخذي في تصنيف هذا
الكتاب بعض الأصحاب من أخلائي المؤمنين وأصدقائي الصالحين
أن أتعرض في طي تحريره لمناقشات تتجه عندي على كتاب القوانين
وهو المصنف المحقق المدقق الفاضل الكامل التقي الصفي من
فضلائنا المعاصرين أجبت ملتمسه بإنجاح مسؤوله وأسعفت مرامه
بنيل مأموله فتعرضت لما خطر ببالي الفاتر وأوردت لما ورد في
فكري القاصر معبرا عنه ببعض المعاصرين وبالفاضل المعاصر ناقلا
لكلامه غالبا بالمعنى موردا له بعبارة وجيزة أوفي ومع ذلك
فالناظر إذا أقدم ميدان الرقم لا يتمالك عنان القلم فاعذروني إن أكثرت
عن الرد والايراد أو صرحت بالضعف والفساد ولا ترموا
على ذلك بالشنع فإن الحق أحق بأن يبدي فيتبع وسميته بالفصول
الغروية في الأصول الفقهية وسلكت في ترتيبه مسلك المتأخرين
لأنه أقرب إلى طباع الناظرين ورتبته على مقدمة ومقالات وخاتمة و
المسؤول من الله الملك الوهاب أن يعصمني فيه من الزلل و
يرشدني إلى الصواب ويجعله خالصا لوجهه الكريم فإنه على من
رجاه عطوف رحيم
أما المقدمة ففي تعريف العلم وبيان موضوعه وذكر نبذة من مباديه
اللغوية
وربما يذكر فيها بعض مباحث المقاصد استطرادا وأما وجه الحاجة
إليه فسيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى القول في تعريفه
لأصول الفقه معنيان تركيبي إضافي وأفرادي علمي وقد جرى دأب
القوم بالبحث عن حده بالاعتبارين وظاهر مقالة كثير منهم يؤذن
بدعوى التطابق بين المعنيين وبه صرح بعضهم مع احتمال أن يكون
الغرض من إيراد المعنى الأول بيان المناسبة المصححة للنقل في
الثاني فأما معناه التركيبي، فبيانه مبني على بيان أجزائه فنقول الأصول
جمع الأصل وهو في اللغة ما يبتني عليه الشئ صرح به جماعة
من علماء الأصول وكان هذا مراد من فسره بأسفل الشئ ومن فسره
بالقاعدة التي لو توهمت مرتفعة لارتفع الشئ بارتفاعها وقد
يطلق ويراد به معنى السابق فيؤخذ تارة باعتبار الحقيقة كقولك أصل
الانسان التراب وأصل الخزف الطين يعنى حقيقته السابقة و
أخرى باعتبار الأحوال والصفات كقولك هذا في الأصل بغدادي و
هذا الأسود كان في الأصل أبيض يعنى في السابق وليس مبنيا على
المعنى السابق إذ لا يفهم منه هنا معنى البناء أصلا وإن كان حاصلا في
قسمه الأول فهو إما حقيقة بالاشتراك أو مجاز لوجود العلاقة و
في الاصطلاح يطلق غالبا على أحد المعاني الأربعة وهو الراجح و
الاستصحاب والقاعدة والدليل والمناسب من معانيه للمقام إما
المعنى اللغوي أو الأخيران من معانيه الاصطلاحية كما سيتضح لك
إن شاء الله والفقه في اللغة الفهم صرح به الجوهري وغيره وفسره
الرازي بفهم غرض المتكلم من كلامه واحترز به عن فهم غيره وفهمه
بغير كلامه وفسره بعضهم بفهم الأشياء الدقيقة واحترز به عن
فهم غيرها والمعروف هو الأول ثم الفهم هو الادراك وكأن هذا مراد
من فسره بأنه هيئة للنفس بها يتحقق معاني ما تحس وقيل هو
جودة الذهن من حيث استعداده لاكتساب
1

المطالب والآراء وكأن هذا مراد من فسره بسرعة الانتقال من المبادي
إلى المطالب نعم فرق بين ظاهر كل واحد من الحدين وظاهر
الاخر من حيث إن أحدهما ظاهر في الفعلي والاخر في الثاني و
ضعف الأول بعدم صدق الفهيم على البليد مع صدق المدرك عليه و
الثاني بشيوع استعماله في مطلق الادراك ويمكن الجواب عن الأول
على الأول بالتزام النقل في لفظ الفهيم أو بأنه صيغة مبالغة كعليم
فلا ينافي عدم إطلاقه على مطلق المدرك وأما في الاصطلاح فله
تعريفات عديدة أشهرها أنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها
التفصيلية فالعلم يطلق على معان عديدة منها الادراك المطلق وهذا
الاطلاق وإن كان متداولا عند أهل الميزان بل هو حقيقة في عرفهم
إلا أنه مجاز باعتبار العرف واللغة ومنها التصديق أعني الاعتقاد سوأ
اعتبر فيه الأمور الثلاثة من الجزم والثبات والمطابقة أو لم
تعتبر كلا أو بعضا وإطلاق العلم على ما يشتمل على الجميع حقيقة
لغة وعرفا كمجازية إطلاقه على ما ينتفي فيه الامر الأول وفي
إطلاقه على البواقي وجهان وقد نص كثير منهم على مجازيته وهو
الظاهر ومنها الملكة وهي الهيئة الراسخة الناشئة عن الممارسة
فيما أضيف إليه الملكة أو مطلقا أو مطلق التهيؤ والأول أظهر وإطلاقه
عليها وإن كان مجازا لغة لكنه حقيقة في مصطلح أرباب العلوم
بالغلبة أو النقل كما هو الظاهر وإليه يرشد ظاهر كلماتهم ومنها التصور
وإطلاقه عليه مبني على أخذه بمعنى الادراك ومنها المسائل
وهي القضايا أو المحمولات المنتسبة وإليه يرجع قولهم فلان يعلم
النحو أي مسائله وهل هو مجاز مطلقا من باب تسمية المعلوم ولو
بالقوة باسم العلم تمسكا بأصالة عدم الاشتراك أو حقيقة عرفية عامة
أو خاصة نظرا إلى شيوع إطلاقه فيه عليها وجهان والاحكام تطلق
أيضا على معان عديدة على خطابات الشرع المتعلقة بأفعال المكلفين
وهذا معناه المصطلح عليه عند القوم على ما سيأتي وعلى
التصديقات مطلقا أو مع المنع من النقيض والظاهر أن هذا المعنى
بالاعتبار الأخير ثابت لها بحسب اللغة والعرف واستعمالها فيها
شائع في العلوم لا سيما
علم الميزان لكنهم كثيرا ما يستعملونه في التصديق بالمعنى الأعم و
على المسائل وعلى النسب الحكمية والظاهر أن إطلاقها على هذين
المعنيين مجاز في المعنى السابق بعلاقة المجاورة أو الحلول وعلى
الأحكام الخمسة التكليفية وعلى مطلق الاحكام أعني الأعم من
التكليفية والوضعية وإطلاقها على هذا المعنى متداول في عرف
المتشرعة وإطلاقها على الخمسة التكليفية راجع إليه فإن فسر العلم
بالادراك جاز حمل الاحكام على النسب والمسائل وعلى مطلق
الاحكام أيضا إن اعتبرت من حيث انتسابها إلى موضوعاتها إلا أنه
يستلزم استدراك قيد الشرعية على ما هو الظاهر من اختصاصها بهذا
المعنى بالشرعية دون الأعم منها ومن غيرها والأظهر في هذه
الصور أن يجعل الظرف متعلقا بالمتعلق المقدر أي الادراك المتعلق
بالنسب أو المسائل أو الاحكام ولا يصح حملها حينئذ على
التصديقات إذ ليس إدراكها فقها إلا أن يراد بها تصديقات الشارع لكنه
مع بعده لا يختص بمن يرى صحتها وظاهر الاصطلاح لا يساعد
عليه ولا على الأحكام الخمسة لانتقاض عكس الحد حينئذ بالأحكام
الوضعية مع أنها داخلة في الفقه قطعا ومن التزم بخروجها منه و
جعل ذكرها فيه على التبعية أو لأولها إلى الأحكام التكليفية فقد أتى
بتعسف بين ولا على الخطابات سواء أريد به توجيه الكلام نحو
الغير لظهور أن العلم بهذا الامر النسبي ليس فقها ولا مستفادا من الأدلة
أو أريد به نفس الكلام الموجه لوضوح أن مجرد العلم به لا
يسمى فقها وللزوم اتحاد الدليل والمدلول حينئذ فإن من الأدلة
الكتاب وهو من جملة الخطابات المذكورة وقد أجابت الأشاعرة عن
هذا بجعل الاحكام عبارة عن الكلام النفسي والأدلة عبارة عن الكلام
اللفظي فلا اتحاد وأورد عليه الفاضل المعاصر بعد بطلان الكلام
النفسي في نفسه بأن الكتاب مثلا حينئذ كاشف عن المدعى لا مثبت
للدعوى فلا يكون دليلا في الاصطلاح هذا كلامه فإن أراد أن الكلام
النفسي حينئذ مطلوب إنشائي فلا يكون الكلام اللفظي دليلا عليه
حيث يعتبر عندهم أن يكون المطلوب به خبريا ففيه
أن المراد إنما هو العلم بالأحكام من حيث كونها ثابتة ومتحققة في
نفس الامر أو عند الشارع بدليل أن المراد بالعلم إما التصديق أو
الادراك التصديقي أو ملكتهما دون التصور أو ملكته كما سيتضح
وجهه ولا ريب أنها بهذا الاعتبار من المطلوب الخبري وإن كانت من
حيث ذواتها إنشاء وظاهر أن الأدلة إنما تعتبر أدلة لها بهذا الاعتبار فلا
إشكال وإن أراد أن الخطابات النفسية مداليل للخطابات
اللفظية فلا تكون أدلة عليها لان الألفاظ لا تثبت معانيها وإنما تكشف
عنها عند العالم بالوضع على سبيل البداهة والضرورة ففيه أن
الخطابات اللفظية لم تعتبر أدلة على الخطابات النفسية من حيث
اقتضائها لتصورها وحضورها في نظر السامع بل من حيث التصديق
بثبوتها عند المتكلم وإرادته لها وظاهر أن اللفظ يصح أن يكون دليلا
على معناه بهذا الاعتبار بالمعنى المصطلح لتوقف دلالته عليه
على تمهيد مقدمات عديدة ثم أجاب عن أصل الاشكال بجعل
الاحكام عبارة عما علم ثبوته من الدين ضرورة بالاجمال والأدلة
عبارة
عن الخطابات التفصيلية قال فإنا نعلم أولا بالبديهة أن لشرب الخمر و
أكل الربا أو نحو ذلك حكما أي خطابا من الخطابات من الاحكام
ولا نعرفه بالتفصيل إلا من قوله تعالى حرمت عليكم الميتة وحرم
الربا ونحو ذلك هذا كلامه وفيه ما لا يخفى فإن الخطابات التفصيلية
ليست أدلة على الخطابات الاجمالية وذلك واضح على أن الخطابات
الاجمالية كما اعترف به ثابتة بالضرورة والبداهة فلا تكون
حاصلة عن الأدلة مع أن العلم بالخطابات الاجمالية لا يسمى في
الاصطلاح فقها قطعا وإن أراد بها الاحكام الاجمالية من حيث
التفصيل
عاد المحذور فإن
2

الاجمال بهذا الاعتبار عين التفصيل وإن حمل العلم على التصديق
جاز حمل الاحكام على النسب والمسائل وعلى مطلق الاحكام أيضا
إن
اعتبرت من حيث انتسابها إلى موضوعاتها ليصح تعلق التصديق بها و
ما يقال هنا وفيما مر أن تفسير الاحكام بالنسب يوجب خروج
العلم بحدود موضوعات الفقه عنه مع أن بيانها من وظيفته فضعيف
لأنه إن أريد به لزوم خروج تصور حدود الموضوعات عنه أو
تصورها بحدودها عنه فهذا مما لا ضير فيه بل مما يجب المحافظة
عليه لئلا ينتقض طرد الحدية لان مسائل العلوم على ما تبين في محله
لا تكون إلا تصديقات وتصور الموضوع من المبادي التصورية التي
تبين في العلم إذ ليس لها موضع آخر تبين فيه فبيانها من وظيفة
العلم بالعرض على أن ذلك خارج عن أصل الحد بناء على تفسير
العلم بالتصديق وإن أريد لزوم خروج التصديق بصحة تلك الحدود و
مقتضاها عنه فممنوع لأنها حينئذ يشتمل على النسبة بالوصف
المذكور وهي أيضا داخلة فيه على الوجهين الأخيرين أما على الأول
فلأنها بهذا الاعتبار تكون من المسائل وأما على الثاني فلأنها حينئذ
تكون من جملة الأحكام الوضعية حيث إنها لا تنحصر عندنا في
الخمسة المعروفة ولا يصح تفسير الاحكام حينئذ بالتصديقات ولا
بالأحكام الخمسة ولا بالخطابات لما سبق وإن فسر العلم بالملكة
جاز أن يراد بالأحكام التصديقات أو المسائل أو مطلق الاحكام على
حد وما سبق ومن شنع على من فسر الاحكام بالتصديقات بأن
الفقه ليس عبارة عن التصديق بالتصديقات فكأنه غفل عن تفسير العلم
بهذا المعنى ولا يصح حينئذ أن يراد بها الخطابات ولا الأحكام الخمسة
لما مر ولا النسب إذ ليس ملكتها فقها إلا أن تفسير الملكة
بملكة التصديق أو الادراك بأن يراد بها التصديق أو الادراك بالملكة
فيستقيم المعنى بهذا التكلف كما مر أو يتعسف فيجعل الظرف متعلقا
بالمتعلق المقدر على أن تكون صفة للعلم ويعتبر تعلقها بالنسبة
على وجه يتناول تعلقها بها بواسطة تعلقها بما يتعلق بها من التصديق و
الوجهان إتيان على تقدير التفسير بالمسائل وبمطلق الاحكام
أيضا إلا أنه لا تعسف فيهما لشيوع
الاطلاق ثم تفسير أسماء العلوم بالملكة مما اشتهر في العبائر والألسنة
لكن قد يناقش فيه بأن الملكات أمور بسيطة لا تقبل التبعيض و
التجزئة وتقبل الضعف والشدة والمعهود من حال العلوم خلاف
ذلك وجوابه أن أسماء العلوم كما تطلق على المسائل كذلك تطلق
على
الملكات وهي تتصف بتلك الصفات بالمعنى الثاني دون الأول وكأن
المعترض اعتبر التعريف بالملكة للعلم بمعنى المسائل فأورد
عليه بذلك فتأمل وفي المقام كلام ستقف عليه ولا يصح أن يراد
بالعلم التصور إذ ليس الفقه عبارة عنه ولا المسائل لعدم استقامة
المعنى من غير تعسف والشرعية أما مأخوذة من الشرع بمعنى الشارع
سواء فسر به تعالى أو بالنبي صلى الله عليه وآله أو من الشرع
بمعنى الطريقة المنتسبة إليه نسبة الاحكام إلى الشرع بالمعنى الأول
من باب نسبة الأثر إلى المؤثر ولو تقريبا وبالمعنى الثاني من
باب نسبة الشئ إلى متعلقه أو وصفه أو نسبة الجز إلى الكل لان اللام
فيها للعموم الافرادي ولا يلزم منه نسبة الشئ إلى نفسه حيث
إن المنسوب داخل في المنسوب إليه لتغاير الاعتبارين ثم على تقدير
تفسيره بأحد الوجهين الأخيرين فالمراد به شرعنا كما هو الظاهر
المتبادر دون سائر الشرائع إذ لا يسمى من علم فروع شرع اليهود أو
النصارى عن أدلتها فقيها من حيث علمه بها ويشكل الحد بناء
على تفسيره بالمعنى الأول ولا مناص عنه إلا بحمل الاحكام على
الاحكام المعهودة إجمالا أو على الاحكام الفعلية أي الثابتة في هذه
الملة
كما هو الظاهر من إطلاقها ويؤيده إضافة الأدلة إن جعلت المعهد و
كيف كان فالمراد بها هنا ما كان للشرع مدخل فيه سواء استقل
بإثباته العقل أولا والمراد بالفرعية المسائل المعروفة التي دونت
مهماتها في الكتب المعهودة وربما تفسر بما يتعلق بكيفية العمل بلا
واسطة والظاهر أن المراد بالموصولة إما العلم الشرعي أو العلم
بالحكم الشرعي بمعانيها التي اعتبرناها في الحد كما يقتضيه ظاهر
المقام لا مطلقهما أو مطلق أحدهما أو مطلق الشئ لئلا يتضح فساد
طرده على بعض الوجوه الآتية فإن كل ما يتعلق بكيفية العمل بلا
واسطة
لا يكون فرعيا قطعا فيجوز أن يراد بها التصديق الشرعي أو الادراك
الشرعي أو المسائل الشرعية أو نسبها أو مطلق الاحكام أو ملكة
أحد هذه الأمور أو التصديق بأحد الثلاثة المتأخرة من الأولين و
الأنسب بالمقام أن يراد بها الحكم الشرعي بمعانيه المعتبرة في الحد
بقرينة وقوعها حدا لوصفه ويجوز أن يراد بكيفية العمل هيئته و
خصوصيته فيكون في اعتبارها تنبيه على أن الأحكام الشرعية لا
تتعلق
بالعمل من حيث كونه عملا ما لم يعتبر معه خصوصية وأن يراد بها
مطلق الاحكام فإنها كيفيات جعلية طارئة عليه فإن فسرت بالمعنى
الأول جاز أن يراد بالموصولة جميع المعاني المتقدمة على تعسف في
بعضها وإن فسرت بالمعنى الثاني لم يجز أن يراد بها المسائل و
لا مطلق الاحكام وصح إرادة بقية المعاني على ما مر وبعضهم ترك
قيد الكيفية نظرا إلى أن الحد يتم بدونها وعلى تقديره يصح أن
يراد بالموصولة جميع المعاني المتقدمة مما عدا التصديق والادراك
والملكة وربما أمكن اعتبارها بتعسف كما مر ثم لا يذهب عليك أن
بعض هذه الوجوه يبتني على إرجاع التفسير إلى الفرع دون الفرعية
كما يظهر بالتأمل وينبغي أن يراد بالعمل فعل المكلف ولو قوة
كما هو الظاهر لئلا ينتقض على بعض الوجوه المتقدمة بقول الحكيم و
المتكلم بامتناع صدور القبح منه تعالى أو أنه يمتنع منه إظهار
المعجزة على يد الكاذب وأنه تعالى مختار في أفعاله حكيم في صنعه
وكذا لو اعتبر ذلك بالنسبة إلى خصوصيات الافعال بل ينبغي أن
يخص بالمكلف الانساني لئلا ينتقض على بعض الوجوه المتقدمة
بنحو قوله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وسجد
الملائكة يدخلون وقالت الملائكة وبمؤدى مثل قوله تعالى وإذ قلنا
للملائكة
3

ومع ذلك يتجه على طرده بنحو قال موسى وقال فرعون وقال نسوة
فإنها تشتمل على نسب أو أحكام شرعية متعلقة بفعل المكلف
ابتدأ ولا مدفع له إلا بأن يفسر الموصولة أو الكيفية بمطلق الاحكام
أو يراد بالشرعية ما من شأنها أن تكون مأخوذة من الشارع من
حيث كونه شارعا كما هو الظاهر ونمنع تحقق الحيثية في المذكورات
فيندفع نقوض المذكورة وكذا يندفع النقض بمسألة الجبر و
الاختيار نعم يبقى الاشكال على عكسه بخروج كثير من الأحكام الوضعية
التي لا تعلق لها أولا بكيفية العمل عنه كمباحث النجاسات و
المطهرات والمواريث فإن قولهم كذا وكذا نجس أو مطهر أو يرث كذا
من كذا أحكام وضعية لا تعلق لها بالعمل ابتدأ بل بواسطة
أحكام أخر وعلى طرده بدخول مباحث أصل البراءة وأصل الإباحة
فيه ويمكن دفع الأخير بأن المراد تعلقه به تعلق المسائل
بموضوعاتها وليس للمسألتين المذكورتين تعلق بالعمل كذلك وفيه
تعسف ومع ذلك يبقى الاشكال بمثل مسألة التأسي وينبغي أن
يراد بالعمل ما يتناول العمل الوجودي والعدمي ليدخل فيه مثل
وجوب الترك أو استحبابه أو حرمته أو كراهته أو إباحته وإن دخلت
فيه باعتبار حرمة الفعل أو كراهته حيث يستلزم أو وجوبه أو استحبابه
أو إباحته أيضا وكذا مثل شرطية الترك أو مانعيته وإن دخلت
باعتبار اللازم من مانعية الفعل وشرطيته ثم إن أريد به ما يختص
صدوره بالجوارح انتقض عكس الحد بمباحث النية وإن أريد به ما
يتناول عمل القلب انتقض طرده بالأحكام التكليفية الأصولية والأدلة
جمع دليل وهو في اللغة المرشد وعرف في الاصطلاح بما يمكن
التوصل بصحيح النظر فيه إلى مجهول خبري فباعتبار الامكان دخل
فيه الأدلة المتعددة والذي لم ينظر فيه فإنها تتصف بإمكان
التوصل وإن لم يقع وينبغي أن يراد به الامكان العادي ليخرج الأدلة
المسبوقة بالضرورة فإنها لا تسمى دليلا اصطلاحا والنظر ترتيب
أمور معلومة للتأدي إلى مجهول وقد يعرف بأنه ملاحظة المعقول
للتأدي إلى مجهول وهو أولى إن جوزنا التعريف بالمفرد
كالخاصة وحدها والمراد بالنظر فيه ما يعم النظر في نفسه وصفاته و
أحواله فدخل المفرد كالعالم والمركب إذا أخذ بدون الترتيب و
يخرج عنه المقدمات المرتبة إذا اعتبرت مرتبة لاستحالة النظر فيها و
المراد بصحيحه ما اشتمل على شرائط المادة والصورة وقيد به
لعدم العبرة بالنظر الفاسد وإن حصل التوصل به اتفاقا وخرج
بالمجهول الخبري الموصل إلى مجهول تصوري فإنه لا يسمى دليلا
بل
معرفا وهذا التعريف لا يتناول الامارة وبعضهم أخرجها بقوله إلى
العلم بالمجهول وكيف كان فالمراد بها هنا الأدلة الأربعة من
الكتاب والسنة والاجماع والعقل واعتبارها أدلة صحيحة
بالاصطلاحين لان المراد بالمدلول عليه الاحكام في الجملة ظاهرية
كانت أو
واقعية وربما أمكن تخصيصها على الأول بالثاني لكن يكون الوصف
حينئذ باعتبار الغالب فإنها قد لا تقيد الاعتقاد بالواقع أصلا ثم هذا
الحد أوفق بالمقام من تحديد بعضهم كالعلامة له بما يفيد معرفة العلم
بشئ آخر إيجابا أو سلبا فإنه بظاهره إنما ينطبق على المقدمات
المرتبة لظهور أن ما عداها لا يفيد العلم وهذا لا ينطبق على موضوع
هذا العلم لأنه عبارة عن نفس المفردات كيف وجملة من طرق
النظر فيها إنما يعرف في هذا العلم فلا يمكن اعتبارها فيه نعم ما ذكره
معنى آخر للدليل مباين لما ذكرناه وهو المعنى الشائع في غير
المقام مع أن قوله إيجابا أو سلبا احتراز عن المعرف ولا حاجة إليه
لخروجه بقيد العلم فإن المفهوم منه التصديق وهو لا يستفاد إلا من
التصديق على أن هذا الحد بإطلاقه يتناول الدليل الفاسد فإنه قد يفيد
العلم بشئ آخر والظاهر أنه لا يسمى دليلا في الاصطلاح إلا
مجازا وأيضا لا يتناول الأدلة المتعددة إلا أن يتعسف بحمل الإفادة فيه
على ما يتناول شأنية الإفادة إذا تقرر هذا فنقول العلم جنس إن
فسر بالملكة على ما نراه من أن الملكات كيفيات مختلفة بالنوع و
الحقيقة لا بمجرد النسبة والإضافة أو فسر بالادراك وقلنا بأن
حقائق العلوم تابعة لحقائق معلوماتها كما يراه و
بعضهم وبمنزلة الجنس أيضا إن فسر بالتصديق مطلقا أو بالادراك إن
جعلنا التصور والتصديق من أصنافه لأنهما حينئذ نوع لما
يندرج تحتهما من العلوم والادراكات المختلفة باختلاف أقسام
المعلومات وتلك العلوم أصناف بالنسبة إليه وإن كانا جنسا بالنسبة
إلى ما يندرج تحتهما من المراتب المختلفة بالشدة والضعف على ما
هو التحقيق في كل عرض يكون كذلك ويخرج بتقييده بالأحكام
العلم بالذوات والصفات على ما ذكره جماعة وهو بظاهره يقتضي
حمل الاحكام على النسب وقد صرح به بعضهم فيكون المراد بالعلم
الادراك دون الملكة لما مر من أنه لا يتم حينئذ إلا بتكلف ودون
التصديق لان التصديق لا يتعلق بغير النسبة فيكون قيد الاحكام على
تقديره توضيحيا ولو أريد بالأحكام المسائل أو مطلق الاحكام
بالاعتبار المتقدم أمكن توجيه الاحتراز بها عن الصفات بأخذها
مجردة
عن النسبة لكن لا يلائمها الاقتصار عليها في الاحتراز لخروج العلم
بالنسبة على الأول والعلم بما عداه مطلق الاحكام على الثاني ومن
أردف الصفات بالافعال فقد أراد بها ما يغايرها ويجوز أن يحمل
الاحكام على التصديقات أيضا فيتعين حمل العلم على الملكة كما
عرفت ويتوقف صحة الاحتراز المذكور بظاهره على تفسيرها بمجرد
التهيؤ والاستعداد وينبغي حينئذ أن تؤخذ الصفات منتسبة كما
يرشد إليه تمثيل بعضهم ويعتبر الاحتراز بالنسبة إلى الامرين لتحقق
الاحتراز عن النسبة أيضا حيث إنها تخرج بالتقييد بها أيضا و
الوجه في عدم ذكرها مستقلا عدم كونها مستقلة بالعلم والادراك ثم
إن فسر العلم بالملكة كان التقييد بالأحكام مطلقا احترازا عن ملكة
غيرها وإن فسرت
4

الاحكام بمطلق الاحكام كانت مخرجة من العلم مطلقا للعلم بما
عداها من الاحكام التي ليست شرعية فيكون قيد الشرعية حينئذ
مستدركا ويخرج بقيد الشرعية على تقدير حمل الاحكام على غير
الاحكام غيرها كالعقلية المحضة وبقيد الفرعية الأصولية وبقولنا
عن أدلتها علم الله وعلم الملائكة والنبي صلى الله عليه وآله والأئمة
والفرعية الضرورية إذ ليس شئ منها مستفادا من الأدلة كذا قالوا
أقول وهذا الاحتراز إنما يصح إذا حمل العلم على غير الملكة من
التصديق أو الادراك وفسرا بالمعنى الأعم لا بمعناه المصطلح عليه
عند
أهل الميزان وأما إذا حمل على الملكة كما صرحوا به فإن فسرت
بمجرد التهيؤ و الاستعداد كان علمه تعالى خارجا عن أصل الحد وكذا
إذا حمل على التصديق أو الادراك وفسرا بالمعنى المصطلح عليه
عند أهل الميزان لأنهم يعنون بهما ما يختص بالحصول وكذلك علم
الملائكة على ما يراه الفلاسفة وإن اعتبر معه أن يكون ناشئا عن
الممارسة والمزاولة كان علم الأنبياء والأئمة والملائكة والعلم
بالأحكام الضرورية خارجا عنه أيضا وعلى التقديرين لا يكون هذا
القيد احترازا عن الجميع اللهم إلا أن يحمل العلم على الأعم من التهيؤ
والعلم الفعلي وهو بعيد جدا لا يساعد عليه كلماتهم ثم الوجه في
الاحتراز بهذا القيد عن الفرعية الضرورية مطلقا غير واضح لان عدم
استفادتها عن الأدلة كما عللوا به إنما يوجب بظاهره فساد الحد حيث
يقتضي أن يكون العلم بجميع الاحكام عن الأدلة بناء على حملها
على العموم كما هو الظاهر مع أنه ليس كذلك ولا مخلص عنه إلا بأن
يقال أخذ هذا القيد في الحد قرينة على أن المراد بالأحكام خصوص
الاحكام النظرية فتكون الضرورية خارجة عنها بقيد الاحكام لكنهم
اعتبروا الاحتراز عنها فيه دونها نظرا إلى أن الدلالة المذكورة لما
كانت بالقرينة فهي إنما تتم عند ذكرها فأسندوا الاحتراز إلى القيد
مراعاة لهذا الاعتبار ثم إذا فسر العلم بما يدخل فيه بعض تلك العلوم
أو كلها صح الاحتراز عنها بهذا القيد سواء جعل الظرف لغوا متعلقا
بالعلم كما هو الظاهر بحمله على التصديق أو الادراك دون الملكة إذ
الملكة لا تكون عن
الأدلة بل عن الممارسة والمزاولة ووجه الاحتراز حينئذ أن تلك
العلوم غير مستفادة من الدليل أما علمه تعالى فظاهر وأما علم
الملائكة
والنبي صلى الله عليه وآله والأئمة فلأنهم يستفيدون الاحكام من
الوحي والالهام لا من النظر والاجتهاد كما يقول به المخالفون في
الأئمة ويقول به بعضهم في النبي صلى الله عليه وآله أيضا وأما ما
يستفاد من بعض الاخبار من أنهم عليهم السلام يستفيدون بعض الأحكام
من الكتاب والسنة فغير مناف لذلك لان استفادتهم لها منها
ليس على سبيل النظر والفكر بل على سبيل الضرورة والبداهة و
الذي يقتضيه الحد أن يكون العلم بها عن الأدلة من حيث كونها أدلة
كما هو الظاهر من التعليق على الوصف فإن قلت قد شاع إطلاق
الفقيه عليهم عليهم السلام في الاخبار فكيف يصح الاحتراز عنه في
الحد قلت كلامنا هنا في الفقه بحسب معناه المصطلح عليه في عرفنا
و
إطلاق الفقيه عليهم عليهم السلام إنما هو بحسب عرفهم أو متعلقا
بالأحكام بحملها على التصديقات لا غير فيكون العلم حينئذ بمعنى
الملكة لا غير سواء فسرت بمطلق التهيؤ أو بما يكون عن الممارسة
لكن الاحتراز بها إنما يصح على الوجه الأول ووجهه حينئذ أن النبي
صلى الله عليه وآله والأئمة والملائكة لا يوجد فيهم تهيؤ التصديق
عن الدليل لا لقصورهم بل لعلو رتبتهم عليهم السلام حتى إنهم متى
هموا بحكم علموه من غير توسط الاستدلال وكذلك الاحكام
الضرورية فإن الفقيه متهيئ للعلم بها عن الضرورة لا عن الدليل أو
جعل
مستقرا صفة أو حالا للعلم أو للأحكام وما يقال من أن الظروف في
حكم النكرة فلا يصلح وصفا للمعارف فليس بمرضي على إطلاقه
لان الموصوف إذا لم يكن مدلوله أمرا بعينه كما في المقام جاز وصفه
بالنكرة وإن كان معرفا لفظيا على ما صرح به غير واحد منهم
كصاحب الكشاف حيث جعل غير المغضوب صفة للموصول معللا
بأنه لا توقيت فيهم وجملة يحمل صفة للحمار وجملة لا يستطيعون
صفة
للمستضعفين إلى غير ذلك ووجه الاحتراز حينئذ أما على الوجهين
الأولين فظاهر لان العلوم المذكورة ليست حاصلة عن الأدلة كما هو
قضية ظاهر الوصفية والحالية وأما على الوجهين الأخيرين فلان تعليق
الحكم على الوصف يشعر بقيد الحيثية التعليلية فيخرج به تلك
العلوم فإنه وإن صدق عليها أنها علم بالأحكام الحاصلة عن الأدلة أو
حال كونها حاصلة عنها لكنه ليس علما بها من حيث كونها حاصلة
عن الأدلة لكن يشكل البناء على هذا في الاحتراز عن علم المقلد
بالقيد الآتي كما سنشير إليه وكذا إذا جعل الظرف مرتبطا بالشرعية أو
بالفرعية على بعد فيه سواء جعل متعلقا بهما أو صفة لهما أو حالا
عنهما ووجه الاحتراز به على هذه الوجوه ما مر في الوجهين
الأخيرين
لا يقال لا نسلم خروج علمه تعالى على تقدير دخوله بالقيد المذكور
لأنه لما كان علمه تعالى بالأشياء على الوجه الأتم لزم أن يعلمها
بعللها إذا كانت معللة أو يقال لما كان علمه تعالى الأشياء لعلمه بذاته
الذي هو سبب العلم بمعلولاته فعلمه يكون عن الدليل فلا يخرج عن
الحد بالقيد المذكور لأنا نقول بعد المساعدة على الدعوى في
المقامين أن ذلك لا يسمى دليلا بحسب الاصطلاح كما مر فإن قلت لا
نسلم
خروج الاحكام الضرورية بهذا القيد إذ المراد بكونها ضرورية أن العلم
بصدورها عن الرسول صلى الله عليه وآله ضروري لا أن العلم
بكونها أحكاما صحيحة حقة متلقاة من الوحي ضروري كيف وهو
مبني على إثبات الرسالة وهو يتوقف على إثبات المرسل وعدله و
حكمته وغير ذلك من الأمور النظرية التي ذكرت في محلها والفقه
إنما هو العلم بالأحكام بهذا الاعتبار فتكون بأسرها نظرية
لابتنائها على أمور نظرية قلت أما أولا فلا نسلم أن العلم بصدق
الرسول نظري بل من الضروريات التي قياساتها معها كما زعمه بعضهم
وسننبه عليه في مسألة الحسن والقبح إن شاء الله تعالى ولهذا نراه
يحصل للبله والصبيان ونحوهم ممن ليس لهم قوة النظر و
الاكتساب نعم من سبق ذهنه بشبهة يكون العلم المذكور عنده نظريا
فالاشكال المذكور لو تم فإنما يتجه بالنسبة إليه دون غيره وأما
ثانيا فلنا أن نختار أن المراد بالأحكام الشرعية الاحكام التي صدرت
5

عن النبي صلى الله عليه وآله على أنها شرعية عنده والقيد الأخير
لاخراج أحكامه العادية فإن الشرع كما يطلق عليه تعالى كذلك يطلق
على النبي صلى الله عليه وآله أيضا ويلغى قيد الحيثية المستفادة من
الوصف مقيسة إلى الواقع لئلا يعود الاشكال أو نقول المراد
بالشرعية ما يسمى عرفا شرعية أو نقول نظرية القيد لا يستلزم نظرية
المقيد وكيف كان فلا ريب في أن من الاحكام بهذا الاعتبار ما
هو ضروري لا حاجة إلى اعتبار كونها حقة مستفادة من الوحي لأنها من
لوازمها إذا أخذت الاعتبارين الأولين نعم يشكل حينئذ بأن
العلم بالأحكام بهذا الاعتبار مما يصح حصوله لمن لا يقول بالرسالة
حتى العلم بالظاهرية منها إذا علم من الضرورة حكم الرسول صلى
الله عليه وآله بأصولها وطرقها مع أن مثل هذا لا يسمى فقها في
الاصطلاح اللهم إلا أن يقال هذا فرض لا يكاد يقع والحدود التي تورد
في مثل هذا المقام إنما يحافظ عليها بحسب الوقوع دون الامكان أو
يقال بأن المراد بالعلم ما يعتد به في إطلاق اسم العلم عليه عرفا كما
سيأتي فيخرج العلم المذكور لعدم إطلاق الاسم عليه وأما ثالثا فلنا أن
نجعل إضافة الأدلة للعهد فيصح الاحتراز بها عن العلم بتلك
الاحكام لأنها على تقدير كونها نظرية لا يكون العلم بها مستفادا عن
تلك الأدلة بل عن أدلة غيرها وهذا أوفق بالمقام لسلامة عكس
الحد على تقديره من خروج العلم بالمسائل الاجماعية على ما يراه
المتأخرون في الاجماع من أنه الانفاق الكاشف بطريق الحدس ومن
خروج علم بعض رواتنا الفقهاء كزرارة لكثير من الاحكام بطريق
السماع المفيد للعلم بالحكم بطريق الضرورة غالبا هذا وينبغي أن
يراد بالأدلة ما يعم الأدلة الأربعة وغيرها لئلا يرد على عكسه النقض
بعلم البعض لبعض الاحكام عن مثل الشهرة والقياس فإنه يعد
بالنسبة إليها فقيها قطعا ولا يندفع برجوع حجيتهما إلى أحد الأدلة لان
ذلك دليل الدليل والمعتبر هو الدليل وإلا لانحصرت في العقل
لرجوع حجية غيره إليه ولا يرد على طرده النقض بعدم علم كثير منهم
لشئ من الاحكام عن بعضها إما لعدم مسيس حاجته إليه أو
لكونه ممن ينكره
كمن يمنع وقوع الاجماع أو الاطلاع عليه أو ينكر حجيته كمن يمنع
حجية الكتاب أو العقل وذلك لتحقق الملكة عنده بناء على تفسير
العلم بها أو بما يعمها ويخرج بقيد التفصيلية علم المقلد بالأحكام
فإنه مأخوذ من دليل إجمالي مركب من صغرى وجدانية وكبرى
اتفاقية مطرد في جميع المسائل وهو هذا ما أفتى به المفتي وكل ما
أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقي فينتج المطلوب وهذا الاحتراز
مبني على أن يكون الظرف لغوا متعلقا بالعلم أو بالأحكام أو مستقرا
للعلم صفة له أو حالا عنه بناء على ما هو الظاهر المتبادر وأما إذا
جعل مستقرا للأحكام أو لإحدى صفتيها فلا يتم الاحتراز وإن اعتبر
قيد الحيثية إذ يصدق على علم المقلد أنه علم بالأحكام الشرعية
الفرعية الحاصلة أو حال حصولها عن الأدلة عند المفتي من حيث
كونها كذلك إلا أن يقال المتبادر حصوله عند العالم حال علمه بها
فيخرج وفيه تعسف لا يقال اختلاف الأصغر بحسب اختلاف فتاوى
المفتي في كل واقعة يوجب اختلاف الدليل وتعدده عنده فيكون
للمقلد أيضا أدلة تفصيلية أو يقال علم المقلد أيضا مأخوذ عن الأدلة
التفصيلية كعلم المفتي إلا أنه من دون واسطة وعلم المقلد بواسطة أو
يقال هذا الدليل إنما يفيده وجوب العمل بمقتضى ما أفتى به المفتي و
لا يقتضي علمه بالحكم الشرعي فلا حاجة إلى إخراجه بالقيد
المذكور لأنا نقول أما الأول فمدفوع بأن مجرد هذا الاختلاف لا
يقتضي أن يصدق عليها أنها أدلة تفصيلية بل لا معنى للدليل الاجمالي
إلا
ما يكون فيه مثل هذا الاختلاف وقد يجاوب بأن إضافة الأدلة للعهد و
المراد بها الأدلة الأربعة فيخرج علم المقلد إذ ليس منها ويكون
قيد التفصيلية حينئذ توضيحية أما الثاني فمدفوع بأن ظاهر الحد أن
يكون العلم مستفادا من الأدلة بدون واسطة وأما الثالث فمدفوع
بأن الدليل إذا اقتضى وجوب العمل بشئ في حق المكلف اقتضى
علمه أيضا بأن ذلك حكم الله في حقه قطعا وقد أغرب الفاضل
المعاصر
حيث التزم
بالاشكال الأخير ووجه الحد بأن قيد التفصيلية لاخراج العلم
بالأحكام الاجمالية فإنها مستندة إلى الأدلة الاجمالية من ضرورة أو
عموم
آية أو سنة وهي أدلة إجمالية لا تفصيلية والعلم الاجمالي المستفاد
منها لا يسمى فقها بل الفقه معرفة تلك الأحكام الاجمالية عن الأدلة
التفصيلية ثم تعجب من غفلة الفحول عن ذلك وفساده ظاهر مما مر
فإن العلم بالأحكام الاجمالية لا يسمى في الاصطلاح فقها قطعا مع
أن العلم الاجمالي كما اعترف به مستند إلى الضرورة فكيف يستند
إلى الأدلة الاجمالية أو التفصيلية وعد الضرورة من جملة الأدلة
يؤذن بغفلته عما ذكروه في معنى الدليل مع أنه قد اعترف قبل ذلك به
حيث التزم بخروج الضروريات عن حد الفقه معللا بأن العلم
المستند إلى الضرورة لا يعد في العرف علما حاصلا عن الدليل وهنا
قد التزم بدخولها في ذلك وأخرجها بقيد التفصيلية فبين كلاميه
تدافع واضح هذا فإن قلت إذا كان علم المقلد مستفادا من دليل
إجمالي لكان خارجا بقيد الأدلة فلا حاجة إلى قيد التفصيلية قلت لما
كان
الدليل المذكور كما مر ينحل إلى دلائل عديدة لم يكتفوا في إخراجه
بقيد الأدلة بل اعتبروا معها قيد التفصيلية ليتضح الاحتراز ثم لهم
على المقام إشكالان أحدهما أن العلم ظاهر في اليقين والاحكام
ظاهرة في الاحكام الواقعية وظاهر أن الفقيه لا يحصل له في معظم
المسائل إلا الظن بالحكم الواقعي فكيف أطلق لفظ العلم وهذا
الاشكال ظاهر الورود على ما هو الصواب من القول بالتخطئة وأما
على
القول بالتصويب فإن كان القائلون به قاطعين بمذهبهم فلا ورود له
عليهم وإلا اتجه
6

عليهم أيضا وقد أجيب عنه بوجهين أحدهما بارتكاب التأويل في
لفظ العلم فحملوه تارة على الظن وأخرى على الأعم منه ومن اليقين
أعني الطرف الراجح وكلاهما مردود أما أولا فبأن إطلاق العلم على
كل من المعنيين مجاز ولا قرينة عليه ومجرد الشهرة كما ادعي لا
يصلح لها فلا يصح أن يرتكب سيما في الحدود وأما ثانيا فبأن بعض
الأدلة ربما لا يفيد الظن بالواقع أيضا كأصالة البراءة و
الاستصحاب المعمول في نفي التكليف أو إثباته مع أن الاحكام
المثبتة بهما من الفقه قطعا وأما ثالثا فلان الظن أو الاعتقاد الراجح
كثيرا ما لا يتعلق بما هو الحكم الواقعي لتطرق الخطأ إلى غير العلم و
لو أريد بالحكم الواقعي ما هو كذلك في ظن المعتقد لزم
التصرف في الحكم أيضا وهو كما سيأتي مغن عن التصرف في العلم و
أما رابعا فبأنه قد يحصل الظن بالأحكام لمن ظن بصدق الرسول
صلى الله عليه وآله مع أنه لا يسمى فقها كما عرفت ويمكن دفع هذا
بما مر على أن استدلال الفقيه قد ينتهي إلى القطع بالحكم فيلزم
على الأول أن يكون خارجا من الفقه والتزامه كما وقع من البعض مما
لا يلتفت إليه وقد يجاب بأن المراد العلم بوجوب العمل أو العلم
بمدلول الدليل وليس بشئ لأنه إن أريد أن المراد بالحكم ما يجب
العمل به أو مدلول الدليل رجع إلى المعنى الآتي إذ لا نعني بالحكم
الظاهري إلا ذلك فلا وجه لذكرهما في مقابلته وإن أريد أن ذلك
مدلول لفظ العلم كما صرح به الفاضل المعاصر وهو الظاهر من كلام
غيره فلا بد أن يكون المراد أن لفظ العلم مستعمل في المقيد لا في
المجموع لعدم العلاقة فيتجه عليه أن هذا التأويل مع ما فيه من
التعسف
في لفظ العلم وفي متعلق الظرف لا يغني عن التصرف في الاحكام
المغني عن هذا التعسف فيكون تكلفا مستدركا ثم العلاقة على هذين
التقديرين علاقة الاطلاق والتقييد كما هو الظاهر لا علاقة المشابهة
كما زعمه المعاصر المذكور حيث ذكر أن العلم حينئذ استعارة
للظن بمشابهة وجوب العمل به وهو كما ترى لان من فسر العلم بأحد
هذين التفسيرين أراد به ما يقابل الظن لا الظن مع أن وجوب
العمل بالحكم المظنون أو كونه مدلول
الدليل أمر معلوم لا مظنون فلا يستقيم إرادة الظن بالعلم الثاني بالتزام
التصرف في الاحكام بحملها على الأعم من الواقعية والظاهرية
أعني الاحكام الفعلية ولا ريب في أن الفقيه عالم بها بهذا الاعتبار و
ينبغي أن ينزل عليه ما أجاب به العلامة من أن ظنية الطريق لا تنافي
علية الحكم فلا يرد عليه ما قيل من أنه يبتني على التصويب لان ذلك
إنما يتجه إذا أراد بها الاحكام الواقعية لا مطلق الاحكام وتوضيح
ذلك أنه قد تفرد عندنا أن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا لولا
عروض المانع وهو جهل المكلف به لكان عليه أن يعمل على حسبه
و
هذا هو المعبر عنه بالحكم الواقعي ثم المجتهد إنما يجب عليه أن
يصرف سعيه في طلبه ويبذل مجهوده في إدراكه وبعد السعي والكد
إن أصابه وإن لم يصبه فالذي أدى إليه دليله وبلغ إليه نظره هو حكم
الله في حقه بمعنى أنه الذي يجب عليه أن يعمل به ويبنى على
حسبه فينتظم عنده في كل حكم مقدمتان صغريهما وجدانية وهي
هذا ما أدى إليه نظري وكبريهما اتفاقية وهي كل ما أدى إليه نظري
فهو حكم الله في حقي فينتج أن هذا حكم الله تعالى في حقه وحيث
كانت المقدمتان قطعيتين كانت النتيجة أيضا قطعية فيكون الفقيه
قاطعا بالأحكام جازما بها وقد أورد على هذا الجواب بأن علم الفقيه
على هذا التقدير يكون مأخوذا من دليل إجمالي لا من الأدلة
التفصيلية كما يقتضيه الحد وأجيب عنه بوجهين الأول أن الظرف
متعلق بمقدر صفة للأحكام ويعتبر الحيثية ليخرج علمه تعالى وعلم
الملائكة والنبي صلى الله عليه وآله والأئمة وعلم المقلد و
الضروريات وقد مر بما فيه الثاني أن الملحوظ في قوله هذا ما أدى إليه
نظري هو تلك الأدلة التفصيلية فتكون هي مأخوذة فيه فيصدق أن
علمه حاصل عنها وفيه نظر لان الأدلة التفصيلية إنما تلاحظ فيها على
وجه التصور لا التصديق وقد تقرر في محله أن التصديق لا يكون
حاصلا من التصور بل من التصديق ويمكن الجواب بأن المراد بكونه
حاصلا عنها مجرد كونها معتبرة في حصوله وإن لم تكن كاسبة له وفيه
تعسف أقول والأولى حينئذ
أن يغير ذلك الدليل الاجمالي ويجعل دليلا على قطعية الأدلة عنده و
ذلك بأن يقال الفقيه قاطع بالأحكام عن أدلتها المعهودة للاجماع
على حجية تلك الأدلة في حقه فينتظم عنده في كل دليل مقدمتان من
صغرى وجدانية ومن هذا الدليل مما أدى نظري إلى كونه حجة و
كبرى اتفاقية وهي كلما يكون كذلك فهو حجة في حقي فينتج أن
الدليل المذكور حجة في حقه فينتظم له في الاحكام أدلة متعددة
كقوله
حكم كذا مما دل عليه ظاهر الكتاب وكلما دل عليه ظاهر الكتاب فهو
ثابت أو دل عليه الخبر الصحيح وكلما دل عليه الخبر الصحيح فهو
ثابت وعلى هذا القياس فيندفع الاشكال لان علمه حينئذ مأخوذ من
الأدلة التفصيلية وإن رجع إثبات حجيتها أو حجية بعضها إلى دليل
إجمالي فيصدق عليه الحد بهذا الاعتبار لكن يتجه الاشكال حينئذ
بدخول علم المقلد إذ على هذا البيان يمكن أن يجعل فتاوى المفتي
له
أدلة تفصيلية ويقرر الدليل الاجمالي على وجه يكون دليلا على
حجيتها ووجه التفصي عنه إما بأن يقال مثل ذلك لا يسمى أدلة
تفصيلية
عرفا لان مرجعها إلى دليل إجمالي وإن اختلف فيه مصداق طرفي
الصغرى أو باعتبار العهد في الأدلة كما مر أو بأن يعتبر تعدد الأدلة
بحسب النوع ويجعل قيد التفصيلية للتوضيح أو يحمل المجموع
على ذلك لظهوره فيه فيخرج علم المقلد إذ أدلته نوع واحد وهو
فتوى
المفتي وإن تعددت أو تعددوا لكن لا يستقيم حينئذ طرد الحد إلا
على تقدير المنع من التجزي مطلقا واعلم أن ما مر غاية توجيه المقام
وهو عندي بعد غير مصحح لطرد الحد لان العلم المذكور قد يحصل
لمن ليس له أهلية الفتوى نظرا إلى زعمه ذلك بنفسه كما تراه في
بعض أبناء زماننا فإن التباس حاله عليه وقطعه بأن له أهلية الفتوى
يوجبه قطعه بالأحكام و
7

وتعذره فيها الامتناع التكليف بما فوق العلم إلا أن المطلعين على
حاله من أهل الصنعة لا يعدون فقيها أ لا ترى أن الجاهل بعلم النحو
الخابط في معظم مسائله مثلا لا يعد نحويا عند أهل صناعة النحو وإن
زعم أنه عالم بها متقن لمباحثها ولا مدفع لهذا الاشكال إلا بأن
يحمل العلم على مطلق العلم المعتد به في إطلاق اسم العلم عرفا
فيخرج مثل ذلك لعدم صدق الاسم عليه ولا يخلو من تعسف وإنما
اعتبرنا الاطلاق في العلم لئلا يلزم استدراك قيود الحد وهذا الاشكال
كما ترى سار في سائر معاني العلم ويندفع بالتوجيه المذكور و
يندفع به أيضا بعض الاشكالات السابقة والآتية الثاني أن المراد
بالأحكام إما كلها بحمل اللام فيها على الاستغراق أو بعضها بحملها
على
الجنس أو العهد الذهني دون الخارجي لعدم احتماله إذ ليس هناك
قدر معين معهود مع مشاركته لأخويه في الاشكال أما الأعم من الكل
والبعض كما يحتمله الحمل على الجنس فمشارك للأخير في
الاشكال فإن كان الأول لم ينعكس لخروج علم أكثر الفقهاء بل كلهم
عنه إذ
ليسوا عالمين بجميع الاحكام فإن الفروع لا تقف على حد وإن كان
الثاني لم يطرد لدخول علم المقلد فيه إذا تمكن من معرفة بعض الأحكام
عن الأدلة وقد أجيب عنه تارة بأنا نختار البعض ويطرد الحد
أما على القول بتجزي الاجتهاد فظاهر لان العلم المذكور داخل
فيه وأما على القول بعدمه فلانتفاء العلم بالبعض حينئذ حقيقة فإن
فرض البعض على هذا التقدير لا ينفك عن فرض الكل وهذا إنما
يستقيم إذا حمل العلم على اليقين كما هو الظاهر إذ على القول بعدم
التجزي لا قطع بأن مؤدى ظنه حكم الله تعالى في حقه فلا ينتظم
عنده قياس يوجب علمه بالحكم الظاهري وأما إذا حملناه على الظن
أو على الاعتقاد الراجح فلا يتجه الجواب المذكور لتحقق العلم بهذا
المعنى عنده قطعا وإنكار بعضهم له نظرا إلى أن المتجزي حيث لم
يحط بالكل يجوز تجويزا مساويا أن يوجد دليل يقتضي خلاف ما
يقتضيه الدليل الذي عثر عليه فمكابرة بينة وسيأتي تفصيل الكلام فيه
في محله إن شاء الله تعالى ثم أقول لا ريب في أن المقلد قد يؤدي
اجتهاده إلى القطع
بالحكم ولا ينبغي أن يرتاب في حجيته وإن لم نقل بحجية ظنه فيلزم
على الحمل المذكور أن يكون علمه فقها مطلقا والتزام صدقه عليه
هنا وفيما سبق مطلقا وإذا كانت ثلاثة محافظة على أقل الجمع كما
أشار إليه بعضهم تعسف ظاهر لا سيما إذا كان قوله بالتجزي مبنيا
على التقليد وأخرى بأنا نختار الكل وينعكس الحد لان المراد بالعلم
الملكة والتهيؤ والفقيه له ملكة العلم بجميع المسائل وإن لم يكن
عالما بها بالفعل وأما تردد الفقهاء في بعض الأحكام فإنما هو تردد في
مقام الاجتهاد لا الفتوى والحكم نعم يلزم على هذا التقدير
خروج علم المتجزي على القول بالتجزي فنلتزم بأن الحد مبني على
مذهب المانعين منه أو نقول بأن علمه لا يسمى في العرف فقها وإن
قلنا بوجوب العمل به لا يقال إذا تعذر الإحاطة بجميع المسائل تعذر
تحصيل ملكتها أيضا لان الملكة هي القوة القريبة من الفعل فإذا امتنع
الفعل امتنع القوة القريبة منه لأنا نقول المراد بملكة الكل القوة التي
يقتدر صاحبها على تحصيل كل حكم يرد عليه أو تحصيل الجميع و
لو
لم يكن على وجه الجمع بقي الكلام في صحة تفسير العلم بالملكة
فنقول قد تداول بينهم في هذا الفن وغيره تفسير أسامي العلوم
بالملكات والذي يظهر لنا بالتتبع في موارد استعمالاتهم أن تلك
الأسامي ليست أسماء بإزاء ملكات العلوم فقط كما هو الظاهر من
كلماتهم بل يعتبر مع ذلك اطلاع صاحبها على كثير من مسائلها أ لا
ترى أن الجاهل بمعظم مسائل المنطق مثلا ربما يحصل له بمزاولة
بعض العلوم النظرية قريحة يتمكن بها من تحصيل جميع مسائله
بأدنى مراجعة إلى الكتب المدونة فيه مع أنه لا يسمى بذلك منطقيا
قطعا
وكذلك لا يصدق المنطقي على العالم بكثير من مسائل المنطق إذا
قصر نظره عن تحصيل البواقي فإذا تحقق اعتبار الامرين في التسمية
من الملكة والاطلاع على كثير من المسائل بحيث يعتد بها عرفا فلك
أن تقول بأن أسماء العلوم موضوعة بإزاء الملكة الحاصلة للعالم
بكثير من مسائل العلم أو لعلم صاحب
الملكة بتلك المسائل أو لهما معا والوجوه الثلاثة محتملة لكن فرض
حصول الملكة في المقام بدون العلم بكثير من المسائل لا يخلو من
بعد لا يقال لا سبيل إلى تلك الوجوه لأنها رد إلى الجهالة إذ لا حد
لكثير من مسائل العلم وأيضا إن كان المعتبر فيه العلم الفعلي لم
يصدق على الغافل والنائم ونحوهما إذ ليسوا عالمين بها بالفعل نعم
لهم استعداد بحيث لو تنبهوا وتأملوا علموا وإن كان المراد التهيؤ
والاستعداد رجع إلى المعنى الأول لأنا نقول أما الجهالة فهي مرتفعة
بالرد إلى العرف وأما المراد من الاحتمالين فهو الاحتمال الأول و
لا ينافيه الغفلة لقيام التصديق بالنفس وحصوله لها ثم الكلام الذي
أوردناه مبني على تفسير الملكة بالتهيؤ والاستعداد والقوة القريبة
كما نص عليه بعضهم وأما إذا فسرت بالقوة الناشئة عن الممارسة في
العلم الذي حصلت فيه كما هو الظاهر فلا حاجة إلى القيد المذكور
إذ لا ينفك الملكة بهذا المعنى عن العلم بكثير من المسائل عادة لكن
يبقى الكلام في العكس ثم على المقام إشكال آخر وهو أن قوة
الشئ تنافي فعليته فإن بينهما نسبة التقابل على ما تحقق في محله
فعلم الفقيه ببعض الاحكام بالفعل يوجب زوال القوة عنه بالنسبة إليها
ما دام عالما بها وإن غفل عنها فلا يصدق حينئذ أن له ملكة الجميع
بل البعض خاصة ويمكن دفعه بأن المراد ملكة العلم تحصيلا أو إبقاء
ملكة تحصيله ولو على تقدير زواله بالنسيان وشبهه أو بحمل العلم
على الأعم من الادراك بالقوة والادراك بالفعل فيستقيم عكس الحد
لحصول أحد الامرين في الفقيه بالنسبة إلى الجميع لكنه مجاز غير
معروف فيمكن القدح في الحد باعتباره لعدم القرينة عليه أو بحمل
القوة المفسر بها الملكة على
8

ما يتناول قوة التذكر أيضا أو يختص بها ويندفع الاشكال لان الفقيه
حال تذكره لبعض الاحكام له قوة التذكر لها ولو بحسب زمان
آخر لكن يلزم حينئذ أن لا يكون فقيها باعتبار تذكره لها كما يلزم أن لا
يكون فقيها على الأول باعتبار خصوص أحد الامرين ولا غرو
في التزام ذلك وإذا تبين لك الحال في الجزءين الماديين فلنبحث عن
الجز الصوري فنقول أولا قد ذكروا أن إضافة اسم المعنى تدل
على اختصاص المضاف بالمضاف إليه باعتبار الصفة التي تدل عليها
وأرادوا باسم المعنى المعنى المصطلح عليه عند النحاة أعني ما دل
على معنى قام بغيره فإن هذا هو المفهوم من إطلاقه في مثل المقام
فيتناول المصدر أيضا وزعم المحقق الشريف أن المراد به ما دل على
شئ باعتبار معنى وحاصله المشتق وما في معناه ورد على من فسره
بالمعنى الأول بأنه متناول للمصدر ولا يدل إضافته على
الاختصاص باعتبار المعنى الذي عنى بالمضاف بل باعتبار معنى آخر
فإن إضافة الدق مثلا إلى الثوب لا يفيد الاختصاص باعتبار الدق
بل باعتبار التعلق وهو خارج عن مدلوله بخلاف إضافة الكاتب إلى
القاضي فإنها تفيد الاختصاص باعتبار الكاتبية وهو مما دل عليه
المضاف وفيه نظر لأنه إن اعتبر الاختصاص من حيث الوجود كما هو
الظاهر من إطلاق الاختصاص صح دخول المصادر في الحكم
المذكور ولا حاجة إلى اعتبار التعلق وإلا لم يستقم اعتبار الاختصاص
في المشتقات أيضا إذ لا معنى لاختصاص الكاتبية بزيد ما لم
تؤخذ باعتبار الوجود وإنما اعتبروا قيد الاعتبار تنبيها على أن
الاختصاص المستفاد من هذه الإضافة ليس إلا بحسب الصفة
المأخوذة
في المضاف فإن قولك هذا مكتوب زيد يدل على اختصاصه به من
حيث المكتوبية دون الملموسية والمنظورية ونحوهما وخصوا هذا
الحكم باسم المعنى لما ذكروا من أن إضافة اسم العين تدل على
اختصاص المضاف بالمضاف إليه مطلقا أي لا باعتبار صفة داخلة في
المضاف وإن كان الاختصاص يستلزم أن يكون باعتبار بعض صفاته
كما في قولك دار زيد فإنه يفيد اختصاص الدار بزيد باعتبار
الملكية أو السكنى لكن هاتان الصفتان خارجتان
عن مفهوم الدار ثم هل تستند هذه الدلالة إلى الوضع أو إلى ظهور
الإضافة عند الاطلاق وجهان أظهرهما الثاني والذي يظهر من
كلماتهم هو الأول إذا عرفت هذا فاعلم أن الأصول هنا إما من الأصل
بمعنى المبني عليه الشئ كما مر في معناه اللغوي أو بمعنى الدليل
كما مر في معناه الاصطلاحي وعلى التقديرين فهي من أسماء المعاني
فيفيد إضافتها إلى الفقه اختصاصها به من حيث كونها دليلا أو
مبنيا عليها وحينئذ فمعنى أصول الفقه الأدلة المخصوصة بالفقه أو
الأمور التي يبتني عليها الفقه فقط وبهذا الاعتبار يخرج مثل النحو و
الصرف والمنطق مما يبتني عليه الفقه ويعد من أدلته لعدم
اختصاصها به في ذلك كذا قالوا وفيه نظر لان كثيرا من مسائل هذا
العلم
مما يستدل بها في علمي أصول الدين والأخلاق بل قد يستدل فيه به
فكيف يتم دعوى الاختصاص اللهم إلا أن يقال لما كان لعلم الفقه
مزيد حاجة إلى هذا العلم بل هو الغرض الداعي إلى تدوينه نزل ذلك
منزلة الاختصاص تسامحا وعبر عنه بالإضافة الظاهرة في
الاختصاص توسعا وربما يخرج ما عدا هذا العلم عن الحد معللا بأن
المراد ما يستند إليه الفقه استنادا قريبا لأنه المتبادر فيختص
بمسائل الفن وفيه تحكم ظاهر ولك أن تفسر الأصول بمعنى القواعد
وإن لم أقف على من يذكره فإن مسائل هذا الفن قواعد للفقه ثم
الكلام في الإضافة والاختصاص ما مر وعندي أن حملها عليها أوفق
بالمقام لسلامته عن أكثر الاشكالات الآتية وكأنهم تركوه نظرا إلى
ظهور الإضافة حينئذ في البيانية فيدل على خلاف المقصود ثم على
المقام إشكالات ينبغي التنبيه عليها الأول أن الأصول إن فسرت
بالأدلة لم تتناول جميع مسائل الفن كمباحث الاجتهاد وإن فسرت
بالمبني عليها دخل فيها علم الرجال لابتناء الفقه عليه أيضا الثاني أن
أصول الفقه بالمعنى الإضافي يتناول موضوع هذا الفن أعني الأدلة
الأربعة بكل من التفسيرين لابتناء الفقه عليها وكونها أدلة له وقد
تقرر في محله أن موضوع كل علم خارج عنه لا يقال قيد الاجمال
ملحوظ في الأصول فيخرج عنها تلك الأدلة لكونها
تفصيلية لأنا نقول هذا حمل لا شاهد عليه من اللفظ فلا يلتفت إليه و
ما استند إليه بعضهم من أن التفصيل مأخوذ في حد المضاف إليه و
ليس مستند التفصيل إلا الأدلة الاجمالية فمدفوع بأن تفاصيل الفقه
كما تستند إلى الأدلة الاجمالية كذلك تستند إلى الأدلة التفصيلية بلا
فرق ومجرد أخذ الثاني في حده مما لا يصلح قرينة على إرادة الأول
مما أضيف إليه مع أن من الأدلة الأربعة ما هي أدلة إجمالية فيلزم
دخولها فيه على التأويل المذكور الثالث أن معناه الإضافي لا ينطبق
على معناه العلمي لان الأول على ما مر نفس المسائل والثاني على ما
سيأتي هو العلم بها والعلم بالشئ يغاير الشئ ولو بحسب الاعتبار و
قد أجيب عنه بتقدير مضاف في الأول أي علم أصول الفقه وفيه
تعسف إذ المقصود مطابقة معنى هذا الاسم باعتبار الإضافة لمعناه
باعتبار العلمية واعتبار التقدير مخل بذلك فالوجه أن يجاب بأن
هذا الاسم كأسامي سائر العلوم موضوع تارة بإزاء نفس المسائل و
أخرى بإزاء العلم بها على ما يرشد إليه تتبع موارد استعماله فمعناه
الإضافي منطبق على معناه العلمي بالاعتبار الأول ولا حاجة إلى
التقدير المذكور هذا ملخص القول في معناه الإضافي وأما معناه
العلمي
وهو المراد به هنا فالظاهر أنه لاحق للمضاف مقيدا بما أضيف إليه كما
نقول به في بعض الألفاظ المضافة كمأ العنب وماء الرمان مع
احتمال أن يكون لاحقا للمجموع المركب كما هو الظاهر منهم وإليه
ينظر وصفنا له بالافرادي في مبدأ التعريف وكيف كان فقد
ذكروا له تعريفات عديدة أظهرها أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط
الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية فالعلم جنس أو
بمنزلته على ما مر والمراد به إما الملكة أو الادراك أو التصديق اليقيني
بحمل القواعد على
9

الظاهرية أو الأعم منه ومن الظني أعني مطلق الاعتقاد بحملها على
الواقعية والكل محتمل ويعرف وجهها بالمقايسة إلى ما مر والمراد
بالقواعد القضايا الكلية فيخرج بالتقييد بها العلم بغيرها من القضايا
الشخصية وغير القضايا من التصورات مطلقا وفسرها بعضهم
بالأمور الكلية فتشمل القضايا وغيرها وهو بعيد لعدم مساعدة
الاستعمال عليه وإذا فسر العلم بغير الملكة ينبغي أن يحمل اللام فيها
على الاستغراق العرفي لئلا يرد النقض بما لو جهل الأصولي بعض
المسائل النادرة منها ويخرج بهذا القيد العلم بالجزئيات وبقولنا
الممهدة إلى الفرعية العلم بالقواعد الممهدة لغير الاستنباط كالكلام أو
لاستنباط غير الاحكام كمباحث التصورات من علم المنطق فإنها
ممهدة لاستنباط التصورات النظرية من التصورات الضرورية ولو فسر
القواعد بالأمور الكلية خرج معها الحدود أيضا أو للأحكام
الغير الشرعية كبعض العلوم الرياضية الممهدة لاستنباط الاحكام
النجومية أو الشرعية الغير الفرعية كبعض قواعد الكلام المقررة
لاستنباط بعض مباحث الأصول كقبح إظهار المعجزة على يد الكاذب
وقبح الكذب فإنهما ممهدان للعلم بصدق الرسول وامتناع الخلف
في مواعيده تعالى وقولنا عن أدلتها التفصيلية متعلق بالاستنباط و
زعم بعضهم أنه لا حاجة إليه بعد انحصار طرق الاستنباط فيها وفيه
أن الأحكام الشرعية قد تستنبط من الأدلة الاجمالية كما في حق
المقلد فلو ترك القيد لدخل فيه مبحث التقليد وقد صرحوا بخروجه
منه و
أنه إنما يذكر استطرادا ويؤيده خروجه عن معناه الإضافي اللهم إلا أن
يمنع صدق الاستنباط عليه ثم على طرد الحد إشكالات الأول أنه
يتناول النحو والصرف وغيرها مما يستنبط منه الاحكام وجوابه أن
اللام للاختصاص فيخرج تلك العلوم لأنها ليست ممهدة لخصوص
ذلك نعم يتجه الاشكال على حد من قال إنه العلم بالقواعد التي
يستنبط منها الأحكام الشرعية الفرعية والاعتذار عنه بأن الوصف
يفيد
الاختصاص مما لا يصغى إليه ثم
الكلام في الاختصاص ما مر الثاني أن جميع القواعد الفقهية داخلة في
الحد إذ يستنبط منها أحكام فروع كثيرة لا يقال مفاد الحد أن
مجموع تلك الأحكام مستنبطة عن مجموع تلك القواعد فلا تدخل
القواعد الفقهية في تلك القواعد الممهدة وإلا لكان المستنبط بعض
تلك الأحكام
لأنا نقول غاية ما في الباب أن يكون تلك القواعد داخلة في
الجمعين ولا بأس به مع اختلاف الاعتبارين وهذا الاشكال ظاهر
الورود على التعريف الثاني ويحتاج في توجيهه على التعريف الأول
إلى نوع تعسف والجواب أن تلك القواعد ليست ممهدة في الفقه
للاستنباط بل الغرض من بيانها فيه معرفتها لا نفسها واستنباط الفروع
منها مما لا ينافيه الثالث أن الحد صادق على علمه تعالى وعلم
الملائكة والأنبياء والأئمة عليهم السلام بتلك القواعد مع أن شيئا
منها لا يسمى في العرف أصولا بدليل عدم صدق وصف الأصولي
هناك
ويمكن دفعه بالتزام حمل العلم على الملكة الناشئة عن الممارسة مع
أنه على تقدير حمله على الادراك فالظاهر منه العلم الحصولي فلا
يتوجه النقض بالأول ولو أريد بالاستنباط استنباط العالم بها اندفع
النقض بجميع موارده القول في موضوعه موضوع كل علم ما يبحث
فيه عن عوارضه الذاتية والمراد بالعرض الذاتي ما يعرض الشئ
لذاته لا بواسطة في العروض سواء احتاج إلى واسطة في الثبوت ولو
إلى مباين أعم أو لا أما الأول فكالأحوال الاعرابية الطارية على الكلمة
والكلام بواسطة الوضع وهو أمر مباين للفظ وإن كان له نوع
تعلق به أعم وبحسب الوجود لتحققه في النقوش وغيرها أيضا و
كالأحكام الشرعية الطارية على أفعال المكلفين باعتبار وعلى الأدلة
باعتبار بواسطة جعل الشارع وخطابه وهو أمر مباين للأفعال والأدلة و
إن كان له نوع تعلق بهما وأعم من كل منهما لتحققه في
الأخرى وأما الثاني فكالحاجة اللاحقة للممكن المبحوث عنه في فن
المعقول فإنها يتصف بها من حيث الذات على ما هو التحقيق و
كالأحوال الطارية على الاشكال كمعادلة
زوايا الثلاث لقائمتين المبحوث عنها في علم الهندسة فإن لحوق تلك
الأحوال لموضوعاتها مستندة إلى ذواتها وكذلك الأحوال اللاحقة
للعدد المبحوث عنها في علم الحساب وأما ما يعرض للشئ بواسطة
في العروض مطلقا ويعبر عنه بالعرض الغريب كالسرعة والشدة
اللاحقتين للجسم بواسطة الحركة والبياض فلا يبحث عنه في علم
يكون موضوعه ذلك الشئ بل في علم يكون موضوعه ذلك العرض
لان تلك الصفات في الحقيقة إنما لاحقة له وإن لحقت غيره بواسطته
نعم قد يكون موضوع العلم عبارة عن عدة أمور نزلت منزلة أمر
واحد لما بينها من الارتباط و المناسبة من حيث الغاية كموضوع هذا
العلم في وجه فيبحث عن كل بحسب ما يعرض له بدون واسطة في
العروض وإن عرض للاخر بالواسطة أو لم يعرض له أصلا إذ ليس
البحث عنه فيه بهذا الاعتبار هذا ما يساعد عليه النظر الصحيح و
المشهور أن المراد بالعرض الذاتي الذي يبحث عنه في العلم هو ما
يعرض للشئ لذاته أو لأمر يساويه وأن ما يعرض للشئ بواسطة
أمر مباين كالحرارة العارضة للماء بواسطة النار أو أعم كالحركة بالإرادة
العارضة للانسان باعتبار جزئه الأعم وهو الحيوان أو أخص
كالتعجب اللاحق للحيوان بواسطة كونه ناطقا فهو من الاعراض الغريبة
التي لا يبحث عنها في العلم أقول إن أرادوا بقولهم العرض
الذاتي ما يعرض للشئ لذاته أو لأمر يساويه أن يكون العارض عارضا
لنفس الذات أو لأمر يساويها أي بلا واسطة غير الذات وغير
المساوي فهذا مع عدم مساعدة كلامهم عليه كما يظهر من عدهم لما
لا يبحث عنه في العلم وأمثلتهم لها مردود بما عرفت من أن مباحث
العلم لا تكون إلا من القسم الأول أعني العوارض اللاحقة
10

لذات الموضوع دون ما يعرض له بواسطة أمر ولو مساو فإنه ليس في
الحقيقة من عوارض الموضوع بل من عوارض ما يساويه فاللازم
أن يبحث عنه في علم يكون موضوعه ذلك المساوي وإن أرادوا أن
يكون العروض معلولا للذات أو للامر المساوي كالزوجية اللاحقة
للأربعة المستندة إلى ذاتها وكقوة الضحك المستندة إلى قوة التعجب
المساوية للانسان فهو فاسد أما أولا فلانه بظاهره يوجب أن
يكون كل مبحث من مباحث العلم متناولا لجميع جزئيات موضوعه
لامتناع تخلف المعلول عن العلة وهذا مما لا يكاد ينطبق على شئ
من
العلوم وأما ثانيا فلان العوارض المحمولة في كثير من العلوم إنما تلحق
لموضوعاتها بواسطة أمور مباينة كما في علم اللغة والنحو و
الصرف وتوابعها وعلم الفقه والأصول والطب أ لا ترى أن اختصاص
كل لفظ بالدلالة على معنى واختصاص كل معرب بنوع من
الاعراب واختصاص كل صيغة بمادة إنما يلحق الألفاظ بواسطة وضع
الواضع وتخصيصه وهو أمر مباين لها وكذلك إنما تعرض
الاحكام لفعل المكلف ويعرض الحجية للكتاب والسنة مثلا بواسطة
حكم الشارع ووضعه وهو أمر مباين لهما وأما ما سبق إلى بعض
الأوهام من أن لواحق الشئ لا تستند إلى ما يباينه وتعسف في
عروض الحرارة على الماء بواسطة النار بأنها غير مستندة إلى نفس
النار بل إلى مماستها وهي من عوارض الماء فليس مما يصغى إليه و
منشأ عدم الفرق بين المقتضي والشرط هذا فإن قلت ليس موضوع
النحو مطلق الكلمة والكلام بل هما من حيث الاعراب والبناء و
كذلك ليس موضوع الفقه مطلق أفعال المكلفين بل هي من حيث
الاقتضاء
والتخيير مثلا فالاحكام لاحقة لها بهذا الاعتبار بالذات وعلى قياسه
الكلام في موضوع سائر العلوم قلت إن أردت أن الموضوع نفس
الحيثية فخطأ أو المركب فكذلك أو بشرط الحيثية يلزم منه أن يكون
اللحوق مستندا إلى المشروط مع انتفاء الفائدة في تقييده بها وأما
ما اشتهر من أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وتمايز الموضوعات
بتمايز الحيثيات فمما لم نقف له على وجه
لان موضوع أحد العلمين أن تميز بنفسه عن موضوع الاخر فالتمايز
بين العلمين حاصل بنفس الموضوع ولا حاجة إلى اعتبار الحيثية و
إن اشترك فاعتبارها لا يوجب التمايز أ لا ترى أن اللفظ العربي الذي هو
موضوع لعلوم العربية إذا أخذ من حيث الاعراب والبناء مثلا
كما هو المعروف في الكتب النحوية لم يوجب اختصاصه بعلم النحو
لأنه حال تقيده بهذا الاعتبار يعرض له أيضا أحوال الأبنية ويلحقه
أحكام الفصاحة والبلاغة وغيرها لظهور أن لا منافاة بينها فيصح أن
يقع مقيدا بهذه الحيثية موضوعا لتلك العلوم وكذا إذا اعتبر مقيدا
بسائر الحيثيات وإن اعتبرت الحيثية تعليلية لم يستقم المعنى كما لا
يخفى فالتحقيق في المقام أن يقال تمايز العلوم إما بتمايز
الموضوعات كتمايز علم النحو عن علم المنطق وتمايزهما عن علم
الفقه أو بتمايز حيثيات البحث كتمايز علم النحو عن علم الصرف و
تمايزهما عن علم المعاني فإن هذه العلوم وإن اشتركت في كونها
باحثة عن أحوال اللفظ العربي إلا أن البحث في الأول من حيث
الاعراب والبناء وفي الثاني من حيث الأبنية وفي الثالث من حيث
الفصاحة والبلاغة فهم وإن أصابوا في اعتبار الحيثية للتمايز بين
العلوم لكنهم أخطئوا في أخذها قيدا للموضوع والصواب أخذها قيدا
للبحث وهي عند التحقيق عنوان إجمالي للمسائل التي تقرر في
العلم ولك أن تتعسف في كلماتهم بحيث ترجع إلى ما ذكرناه إذا تقرر
هذا فنقول لما كان البحث في هذا العلم عن الأدلة الأربعة أعني
الكتاب والسنة والاجماع ودليل العقل وعن الاجتهاد وعن التعادل
والتراجيح من حيث استنباط الأحكام الشرعية منها نظر بعضهم
إلى ظاهر ذلك فجعل موضوعه هذه الأمور الثلاثة وبعضهم أدرج
الثالث في الأول نظرا إلى أن البحث عن التعادل والتراجيح راجع في
الحقيقة إلى البحث عن دلالة الأدلة وتعيين ما هو الحجة منها عند
التعارض وذهب بعض المحققين إلى أن موضوعه الأدلة الأربعة وأن
سائر المباحث راجعة إلى بيان أحوالها وذلك لان البحث عن الأدلة
أما من حيث دلالتها
في نفسها وهو الامر الأول أو من حيث دلالتها باعتبار التعارض وهو
الامر الثالث أو من حيث الاستنباط وهو الامر الثاني وهذا أولى
بالضبط إلا أن إرجاع مباحث الاجتهاد إلى بيان أحوال الأدلة لا يخلو
من تعسف وأما التقليد فمباحثه خارجة عن مباحث الفن وإن
التزموا بذكرها استطرادا كما مر ولو جعلنا ذكرها فيه بالأصالة أمكن
إدراجه في الاجتهاد على التغليب فإن قلت أكثر مباحث الفن
باحثة عن أحوال غير الأدلة كمباحث الأمر والنهي والعام والخاص و
المطلق والمقيد وكالمباحث التي يبحث فيها عن حجية الكتاب و
خبر الواحد وكالمباحث التي يبحث فيها عن عدم حجية القياس و
الاستحسان أما القسم الأول فلان مباحثها عامة كعموم مباحث النحو و
الصرف واللغة ولا اختصاص لها بالأدلة وأما القسم الثاني فلان
البحث فيها ليس عن الأدلة إذ كونها أدلة إنما تعرف بتلك المباحث و
أما القسم الثالث فلان البحث فيها ليس عن الدليل بل عما ليس بدليل
قلت أما المباحث الأول فإنما يبحث عنها باعتبار وقوعها في
الكتاب والسنة فعند التحقيق ليس موضوع مباحثهم مطلق تلك الأمور
بل المقيد منها بالوقوع في الكتاب والسنة ولا يقدح في ذلك
بيانهم لوضعه اللغوي والعرفي إذ المقصود بيان مداليل تلك الألفاظ
بأي وجه كان لا يقال يجوز أن يكون بحثهم في الفن عن هذه
الأمور عن مطلقها ولا يلزم الاشكال لان مطلقها جز من الكتاب و
السنة كما أن المقيد منها جز منهما أو لان المطلق جز من المقيد و
المقيد جز من الموضوع فيكون المطلق أيضا جز منه لان جز الجز
وقد علم أن موضوع مسائل الفن قد يكون بعض أجزاء الموضوع
لأنا
11

نقول إنما يبحث في العلم عن أجزاء الموضوع وجزئياته من حيث
كونهما أجزاء أو جزئيات له ليصح رجوع تلك المباحث إلى البحث
عن
الموضوع ومن هنا يتبين أن بحث علماء المعاني مثلا عن وضع الأمر والنهي
يمايز بحث علماء الأصول عنه من حيث تمايز الموضوعين
لان علماء المعاني يبحثون عن الأمر والنهي المطلقين والأصولي إنما
يبحث عنهما من حيث كونهما مقيدين وإن أهملوا التصريح
بالحيثية تعويلا على الظهور وعلى هذا القياس بحثهم عن أدوات
العموم والمفاهيم وما أشبه ذلك فإن المطلق المأخوذ بوصف إطلاقه
يغاير المقيد المأخوذ بوصف تقييده وإن كان هناك تمايز باعتبار تمايز
حيثية البحث أيضا وبعد اعتبار الحيثية المذكورة فيها يرجع
الموضوع في تلك المباحث إلى ما ذكرناه ثم كون الأمور المذكورة
جز من الكتاب والسنة إنما يصح إذا جعل الكتاب عبارة عن
مجموع الألفاظ المدلول عليها بما بين الدفتين والسنة عبارة عن
مجموع الاخبار المنقولة وأما إذا جعل الكتاب عبارة عن القول المنزل
للاعجاز والسنة عبارة عن قول المعصوم أو ما قام مقامه كانت تلك
الأمور جزئيات له قطعا وأما ما ذكر من أن المطلق جز من المقيد
فليس بسديد بل التحقيق أنه نفسه وإن غايره في وصف اعتبار التقييد
معه وعدمه نعم لو اعتبر التقيد جز من المقيد كان جز منه كما
ذكر هذا وأما بحثهم عن حجية الكتاب وخبر الواحد فهو بحث عن
الأدلة لان المراد بها ذات الأدلة لا هي مع وصف كونها أدلة فكونها
أدلة من أحوالها اللاحقة لها فينبغي أن يبحث عنها أيضا وأما بحثهم
عن عدم حجية القياس والاستحسان ونحوهما فيمكن أن يلتزم بأنه
استطرادي تتميما للمباحث أو يقال المقصود من نفي كونها أدلة بيان
انحصار الأدلة في البواقي فيرجع إلى البحث عن أحوالها أو أن
المراد بالأدلة ما يكون دليلا ولو عند البعض أو ما يحتمل عند علماء
الاسلام ولو بعضهم أن يكون دليلا فيدخل فيها وفيه تعسف فإن
قيل المسائل التي تذكر في الأدلة العقلية هي بنفسها أدلة عقلية فيلزم
أن يكون الموضوع من
المسائل قلنا الدليل العقلي عبارة عن المفردات العقلية كالاستصحاب
وأصل البراءة والمسائل عبارة عن إثبات حجيتها ووجوب العمل
بها فلا محذور القول في المبادي اللغوية تقسيم اللفظ الموضوع إما أن
يتحد في الاعتبار أو لا وعلى التقديرين إما أن يتحد المعنى
الموضوع له أو لا فإن اتحد اللفظ وتعدد المعنى فإن تعدد الوضع
فمشترك وإن كانت الأوضاع ابتدائية بأن لم يلاحظ في بعضها
مناسبة للاخر ولا عدمها وإلا فإن لوحظ في الثاني مناسبة للأول
فمنقول تعييني أو تعيني والثاني مسبوق بالتجوز إن لم يكن النقل من
المطلق إلى المقيد أو من العام إلى الخاص وإلا فمرتجل وقد يترك
القيد الأخير في حد المشترك فيتناول المرتجل وقد يقتصر فيه
على مجرد تعدد الوضع فيتناول المنقول أيضا وهذا أقرب إلى الاعتبار
إلا أن المعروف هو الأول وإن لم يتعدد الوضع فالوضع عام و
الموضوع له خاص وإن تعدد اللفظ واتحد المعنى وكانت الدلالة من
جهة واحدة فالألفاظ مترادفة وإن تعددا فمتباينة وقد يجتمع
بعض هذه الأقسام مع البعض ويفرق بالحيثية ثم اللفظ إن لم يقبل
نفس تصور معناه الشركة فجزئي وإلا فكلي متواط إن تساوت فيه
الافراد وإلا فمشكك والتواطي والتشكيك يعتبران تارة بالقياس إلى
صدق المعنى وتحققه وأخرى بالقياس إلى الدلالة وصدق اللفظ
ومرجع التشكيك في الأول إلى الاختلاف في الشدة والضعف و
يقابله التواطي بالاعتبار الأول ويستند في الثاني تارة إلى الاختلاف
السابق لكنه لا يطرد في موارده فإنه لا ينصرف إطلاق السواد والبياض
عرفا إلى أشد أفرادها وأخرى إلى غيره كالاختلاف في
الأشهرية والأكملية والأوفقية بالإرادة ولو بحسب مقام التخاطب و
يقابله التواطي بالاعتبار الثاني فاتضح أن النسبة بين الاعتبارين
عموم من وجه والأوفق بمباحث الألفاظ هو الثاني ثم اللفظ إن
استعمل فيما وضع له واعتبر من حيث إنه كذلك فحقيقة وإن
استعمل في
غيره لعلاقة فمجاز والحقيقة تنسب إلى ما
ينسب إليه واضعها من حيث إنه واضعها إن لغة فلغوية أو عرفا فعرفية
أو خاصة شرعية أو غيرها وإنما اعتبرنا الحيثية واحترازا عما
لو وضع المتكلم الفقيه مثلا لفظا في الكلام أو الفقه فإنه بعد
الاستعمال لا يعد حقيقة فقهية على الأول ولا كلامية على الثاني
لانتفاء
الحيثية وإن حصلت النسبة وما يقال من أن الحقيقة تنسب إلى
واضعها فضعفه يعرف مما ذكرناه وكذلك المجاز ينسب إلى ما تنسب
إليه حقيقته واعلم أن التقسيم إلى الكلي والجزئي إنما يلحق اللفظ
باعتبار نفس معناه المطابقي في الذهن بقبول الصدق على كثيرين و
عدمه وظاهر أن الوصف به كذلك يقتضي كون المعنى بحيث يمكن
ملاحظة العقل إياه بنفسه وهذا إنما يجري في الأسماء التي تستقل
بالدلالة على معانيها المطابقية دون الحروف لان مداليلها معان آلية
يمتنع ملاحظة العقل إياها بنفسها وإن أمكن ملاحظتها بوجهها
فصحة وصفها بالخصوصية والجزئية بهذا الاعتبار كما سيأتي في
تقسيم الوضع وغيره لا ينافي ذلك ودون الافعال لاشتمالها على
النسبة الاستنادية التي هي معنى حرفي ولهذا يمتنع الحمل عليها و
دون الأسماء التي تتضمن معنى الحرف كأسماء الإشارة والضمائر و
الموصولات فإن أسماء الإشارة موضوعة للذات المشار إليها وهو
معنى ملحوظ في نفسه سواء اعتبر أمرا عاما أو خاصا مع الإشارة
الحسية المأخوذة آلة لتعرف حال المشار إليه وكذلك الضمائر
موضوعة للغائب أو المخاطب أو المتكلم مع صفة الغيبة أو الخطاب
أو
التكلم المأخوذة باعتبار كونها آلة لتعرف أحوال موصوفها وكذلك
الموصولات تتضمن الإشارة إلى مداليلها المتعينة بصلاتها وهو
معنى حرفي
12

مر ويحتمل بعيدا أن يكون تقييد المذكور معتبرا في وضع هذه
الأسماء على أن يكون خارجا من معانيها المطابقية مشخصا لها
فتدخل في التقسيم المذكور فيكون دلالتها على تلك الأحوال
بالالتزام وحينئذ فتكون من متحد المعنى لخروج القيد والتقييد عنه و
إن
اعتبرا فيه وما اشتهر بين النحاة من تعليل البناء فيها بتضمنها معاني
الحروف فإنما يرشد إلى الوجه الأول وهو الظاهر من موارد
الاستعمال هذا إنما يتم إذا قلنا بأن معاني الحروف معاني آلية كما هو
التحقيق وأما إذا قلنا بأنها معان مستقلة كما يظهر من بعضهم فلا
وجه لعدم طرد التقسيم إليها وإلى ما يتضمن معناها كما هو المعروف
بينهم هذا وقد يقال في الأسماء المذكورة ما حاصله إنا إن قلنا
بأنها موضوعة بالوضع العام لمعان خاصة أشبهت الحروف من حيث
مناسبتها إياها في الوضع فلا بد أن لا تتصف بالكلية والجزئية و
إنما يتصف بهما حينئذ كل واحد من مواردها الخاصة وإن قلنا بأن
الموضوع له فيها أيضا عام فهو داخل في الكلي وفيه نظر فإن
مشابهتها للحروف في كونها موضوعة للخصوصيات لا توجب
خروجها عن التقسيم إذ ليس المانع من دخول الحروف فيه كونها
موضوعة لمعان خاصة كيف والجزئيات بأسرها موضوعة لمعان
خاصة مع أنها داخلة في التقسيم بل كونها موضوعة لمعان آلية غير
مستقلة كما عرفت ثم قوله وإنما المتصف هو كل واحد من الموارد
ينافي منعه السابق إذ ليس على ظاهر كلامه لتلك الألفاظ عند
أصحاب هذا القول معنى سوى تلك الموارد الخاصة فاتصافها
بالجزئية يوجب اتصاف ألفاظها بها فإن هذا التقسيم عندهم لاحق
للفظ
باعتبار ما يعرض لمعناه وأما الانقسام إلى الحقيقة والمجاز و
المشترك والمترادف والمنقول وغير ذلك فمشترك بين الكل إذ لا
يستدعي شئ منها كون المعنى ملحوظا في نفسه نعم حيث يبتني
صحة المجاز على العلاقة وهي إنما يمكن مراعاتها في المعاني
الحرفية إذا اعتبرت على الاستقلال لا جرم يكون التجوز فيها تبعيا
لتبعيتها لمعانيها الاسمية كما في تنزيل ترتب الحزن والعداوة
المترتبين على الالتقاط منزلة العلة الغائية الباعثة على الالتقاط أعني
المحبة والتبني في قوله تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا
وحزنا وكذلك الافعال إذا تجوز فيها باعتبار معانيها الحديثة فإنها تتبع
مراعاة العلاقة بالنسبة إلى معانيها المصدرية فيكون التجوز
فيها أيضا تبعيا كما في قولك قتل زيد عمرا إذا أريد به الضرب الشديد
وأما باعتبار معانيها الهيئة وهي بمنزلة الحروف وقس على
ذلك بقية المشتقات وقد توهم بعض أهل البيان أن التجوز في الافعال
والحروف تبع للتجوز في متعلقاتها كالفاعل في قولك نطقت
الحال بكذا وذلك لأنه لما شبه الحال بالانسان أثبت لها بعض لوازمه و
هو النطق وكالمجرور في الآية السابقة فإنه لما شبه العداوة و
الحزن بالمحبة والتبني أثبت لهما بعض لوازمهما من العلية للالتقاط و
منشأ هذا الوهم عدم الفرق بين التصرف في معاني الافعال و
الحروف وبين التصرف في متعلقاتها مع أن التصرف فيها لا يوجب
التجوز كما سننبه عليه في الاستعارة بالكناية وبالجملة فنحن لا
نتحاشى عن جواز ما ذكره لكن نمنع قصر وجوه التصرف عليه هذا و
أما ما يقال من أن الاعلام الشخصية لا تتصف بحقيقة ولا مجاز
فهو بظاهره فاسد وقد يؤول بأن المراد لا تتصف بالحقيقة والمجاز
اللغويين أي المختصين بلغة دون أخرى لئلا يلزم الاشكال في
تقسيمها إلى لغوي وعرفي وإنما لم يختص الاعلام بلغة لعدم تغيرها
باختلافها واعلم أن الحروف حيث كانت موضوعة بإزاء المفاهيم
الملحوظ بها حال ما تعلقت به لا جرم كان معانيها الحقيقية معان
خاصة مقيدة بمتعلقاتها الخاصة وتلك المعاني وإن كانت في حد
أنفسها كلية إلا أن اعتبار تقيدها باللحاظ على الوجه الذي سبق يصيرها
شخصية ممتنعة الصدق على الافراد المتكثرة فإن المهية متى
اعتبرت بشرط التقييد بالوجود الذهني وهو المراد باللحاظ أو
بالوجود الخارجي خرجت عن كونها كلية لا محالة فإنها من صفات
المهية الموجودة في الذهن عند تجريد النظر عن وجودها فيه ولا
يلزم مما
قررنا أن يكون الحروف باعتبار كل واحد من معانيها من متكثري
المعنى ذاتا نظرا إلى تعدد ما يعتريها من اللحاظ لان المسمى نفس
المفهوم وهو لا يختلف في موارده وإن تعدد القيد المعتبر في لحوق
الوضع له فإنه شرط خارج عن المسمى وليس بشطر داخل فيه
فهي عند التحقيق موضوعة بإزاء المفاهيم المقيدة بأحد أفراد الوجود
الذهني الآلي من غير أن يكون القيد أو التقييد داخلا فيكون و
مداليلها جزئيات حقيقية متحدة في مواردها ذاتا ومتعددة تقييدا و
قيدا نعم لو قلنا بأن التقييد داخل فيما يعتبر مقيدا كما يلوح من
بعضهم لزم أن يكون الحروف باعتبار كل واحد من معانيها من متكثر
المعنى ذاتا ومتعدد الحقيقة لكنه بمعزل عن التحقيق لا يقال علي
هذا البيان لا يستقيم التقسيم بالنسبة إلى الاسم أيضا إذ لا يصح وصف
الأسماء الموضوعة بإزاء معان كلية بالكلية لأنها إنما تكون أسماء
باعتبار كون معانيها ملحوظ على الاستقلال والمفاهيم الكلية إذا
أخذت باعتبار كونها ملحوظة موجودة في الذهن كانت جزئيات فإن
الكلية إنما تعرض المفاهيم إذا جرد النظر عن وجوداتها الذهنية وهي
بهذا الاعتبار تخرج عن كونها معان اسمية وإن اعتبر عروض
الكلية لها ولو عند تجريد النظر عن وجوداتها الذهنية لزم جريان
التقسيم في الحروف أيضا لأنها إذا جردت عن وجوداتها الذهنية
التبعية صح وصفها بالكلية كالأسماء لأنا نقول الأسماء المستقلة في
مداليلها موضوعة بإزاء معانيها من غير اعتبار لوجودها في الذهن
فضلا عن اعتبار وجودها فيه على الاستقلال فالمراد بقولنا معاني
الأسماء مستقلة بالمفهومية أنها مما يصح ملاحظتها من حيث كونها
معاني لها على وجه الاستقلال لا أن تلك الملاحظة معتبرة فيها شطرا
أو شرطا
13

ولهذا يصح ملاحظتها على وجه التبعية والالية أيضا أ لا ترى أن
الوجود والعدم قد يلاحظان من حيث كونهما مفهومين وموجودين
في
الذهن فيحكم عليهما بالمفهومية والموجودية في الذهن وقد
يلاحظان من حيث كونهما عنوانين لامرين خارجين عن نفس
مفهومهما
فيحكم عليهما بامتناع الوجود في الذهن أو الخارج مع أنهما من نوع
الاسم على التقديرين وعلى هذا فيستقيم تقسيم ما استقل منها
بالمفهومية إلى القسمين دون ما لم يستقل بها كالحروف بالبيان الذي
سلف تحديد الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له من
حيث إنها كذلك فبقيد الاستعمال خرجت الكلمة المجردة عن
الاستعمال فإنها لا تسمى حقيقة كما لا تسمى مجازا وبقولنا فيما
وضعت له
خرجت الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له وبقيد الحيثية خرج
مثل لفظ الصلاة إذا استعملها المتشرع في الدعاء أو اللغوي في
الأركان فإنه وإن صدق عليها حينئذ أنها كلمة مستعملة فيما وضعت
له بالوضع اللغوي أو الشرعي إلا أن الاستعمال ليس من هذه الحيثية
بل من حيث تحقق العلاقة بينها وبين معناها الشرعي أو اللغوي و
أهمل بعض قيد الحيثية واعتبر بدله قوله في اصطلاح به التخاطب
احترازا عما ذكر وهو لا يصحح طرد الحد بالنسبة إلى اللفظ المشترك
في اصطلاح واحد إذا كان بين المعنيين علاقة التجوز وكذا إذا
لم يكن بين المعنيين علاقة واستعمل في أحدهما باعتبار وضعه
للاخر غلطا وإنما لم نتعرض له لبعد وقوعه جدا بخلاف المذكور منه
كالأمر عند من يجعله مشتركا بين الوجوب والندب لغة وكالامكان في
عرف أهل الميزان بناء على اشتراكه لفظا بين الامكان العام و
الخاص فإنه إذا استعمل كل منهما باعتبار أحد معنييه في معناه الاخر
مجازا صدق عليه الحد المذكور مع خروجه عن المحدود والمجاز
هي الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة فخرج بقيد
الاستعمال ما مر وبقولنا في غير ما وضعت له الكلمة المستعملة فيما
وضعت
له واللفظ المستعمل الغير الموضوع وإن استعمل في مثله وبقولنا
العلاقة يخرج الكلام الغلط وإن اشتمل على علاقة لان المراد بها
العلاقة المعتبرة وكذا يخرج به الموضوع إذا استعمل في مثله بدون
الوضع أو اعتباره على ما سيأتي بيانه فإن الاستعمال
حينئذ وإن كان العلاقة لكن لا لعلاقة بينه وبين المعنى الموضوع له
كما هو المراد في الحد ويخرج أيضا مثل لفظ الصلاة إذا استعملها
المتشرع في الأركان المخصوصة فإنها وإن كانت مستعملة في غير ما
وضعت له بالنسبة إلى الوضع اللغوي لكن ليس استعمالها حينئذ
لعلاقة وزاد بعضهم قوله مع قرينة مانعة عن إرادة الموضوع له ليخرج
الكناية وهذا ضعيف لما سنحققه من أنها داخلة فيه أو في الحقيقة
وليست قسما ثالثا واعلم أن اللام في الكلمة في الحدين قد ينزل على
الاستغراق دون الجنس كما هو المتعارف في الحدود لان الحقيقة
والمجاز عندهم متغايران بالمورد لا بمجرد الاعتبار كما يشهد به
تصفح كلماتهم وما يقال من أن التعريف إنما يكون بالجنس لا
بالافراد فإنما يسلم في الحدود الحقيقية دون اللفظية نعم على قول من
جوز استعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي معا مع بقائهما
على وصفهما يكون التغاير عنده في المورد المذكور اعتباريا فيحتاج
إلى اعتبار قيد الحيثية في المجاز أيضا وأما في غيره فالتغاير
عنده أيضا بحسب المورد ويمكن أن يجعل اللام فيها للجنس ويراد
بالاستعمال الاستعمال الواحد الشخصي لما مر وكان هذا أظهر من
الوجه السابق لكن يلزم على الوجهين أن يكون وضع اللفظين وضع
المبهمات وهو كما ترى إلا أن يجعل الحدان لبيان ما يطلق عليه
اللفظان وفيه تكلف بل التحقيق أن اللام في الكلمة والاستعمال
للجنس كما هو الظاهر ولا ينافي ذلك كون المغايرة بينهما بالمورد
لان الكلمة المقيدة بأحد صنفي الاستعمال صنف مغاير للمقيد منها
بالآخر وقد يعرف الحقيقة والمجاز باستعمال الكلمة على الوجه
المذكور ولا إشكال في حمل اللام حينئذ على الجنس
فصل
الوضع تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه فالتعيين جنس يشمل
جميع التعيينات والمراد به هنا ما يتناول التعيين عن قصد كما في
المرتجل ويسمى هذا النوع من الوضع بالوضع التعييني وكما في
المجاز على ما عليه الجمهور من أنه معين بإزاء معانيه المجازية
بالتعيين النوعي والتعيين من غير قصد كما في المنقولات بالغلبة و
يسمى هذا النوع من الوضع بالوضع التعيني وكما في المجاز على ما
هو التحقيق عندنا من أن تعيين اللفظ لمعناه يستلزم تعيينه لما يناسبه
بإحدى العلاقات وإن لم يقصد به ذلك وكذلك تعيين اللفظ لمثله
على ما زعمه التفتازاني من أن دلالته غير ناشئة عن وضع قصدي بل
عن الاتفاق والاصطلاح و أما على ما نراه من أنها ناشئة عن
المناسبة الصورية بمعونة القرينة فليس فيه تعيين أصلا وخرج بتقييده
باللفظ تعيين غيره ولو للدلالة كالخطوط والنصب فإنه ليس
بالوضع المصطلح عليه هنا والمراد به ما يتناول الحرف الواحد و
الهيئات كالحركة والسكون ولو بالتوسع في لفظه وخرج بقولنا
للدلالة على معنى تعيين اللفظ للتركيب كما في الحروف الهجائية في
وجه أو للاستعمال ولو لدلالة لان المراد بالدلالة فيه قوة الدلالة
أعني صيرورة اللفظ بحيث يدل على المعنى عند الاستعمال لا الدلالة
الفعلية فيختص بتعيين المستعمل إياه عند الاستعمال ولا الأعم
فيتناوله ويتناول تعيينه السابق على الاستعمال فيلزم عدم مطابقة
الحد للمحدود على الأول ودخول ما ليس منه فيه على الثاني ولك
أن تقول الظاهر من كون التعيين للدلالة أعني الدلالة حال الاستعمال
كونه بلا واسطة وحينئذ فيخرج التعيين للاستعمال والتعيين
للوضع أيضا وقولنا بنفسه احترازا عن المجاز فإن فيه تعيينا للدلالة
على المعنى لكن لا بنفسه بل بواسطة القرينة وما يقال من أنه لا
حاجة إلى القيد المذكور لان التعيين ظاهر في التعيين التفصيلي و
الذي في المجاز تعيين إجمالي فليس بشئ لان المراد بالتعيين هنا
معناه الأعم
وإلا لخرجت الأوضاع النوعية كوضع المشتق منه نعم يتجه أن يقال
ليس التعيين في المجاز للدلالة لحصولها بالقرينة كما في
14

الغلط بل لصحة الاستعمال فلا حاجة إلى القيد المذكور ويمكن دفعه
بأن اللفظ إذا أطلق وأقيم قرينة على عدم إرادة معناه الحقيقي كما
في قولنا أسد يرمي ترددنا بين المعاني التي لم يوضع بإزائها اللفظ مما
يوجد بينه وبين المعنى الحقيقي علاقة معتبرة كالشجاع وبين
غيره كالأبخر والحساس والحيوان وغير ذلك فإذا لاحظنا تعيين
الواضع تعين عندنا إرادة المعنى الأول فصح أن التعيين في المجاز
أيضا للدلالة وفيه نظر لان التعيين يكون حينئذ لتعيين المراد لا الدلالة
مع أنه قد لا يطرد والأظهر أن يراد بالدلالة الدلالة المعتبرة
فيندفع الاشكال واعترض على عكس الحد بالمشترك فإن فهم
المعنى منه يتوقف على القرينة وبالحرف فإنه معرف بما لا يدل على
معنى في نفسه والجواب أما عن الأول فبأن فهم المعنى أعني ما وضع
له اللفظ في المشترك لا يتوقف على القرينة ضرورة أن العالم
بالوضع ينتقل بسماعه إلى معناه غاية الامر أن يتوقف تعيين المراد منه
على القرينة وهذا على ما زعم مبني على القول بأن الدلالة لا
تتوقف على الإرادة وسيأتي تفصيل الكلام فيه وأما عن الثاني فبأن
الضمير في قولنا بنفسه راجع إلى اللفظ وفي قولهم في نفسه راجع
إلى المعنى وهم أرادوا بهذا القيد أن معنى الحرف ليس ثابتا في نفسه
وملحوظا لذاته بل هو آلة لملاحظة حال غيره وهذا المعنى لا
ينافي أن يكون الدال نفس الحرف فإنه وإن اشترط في دلالته ذكر
متعلقه نظرا إلى قصور معناه وعدم استقلال مفهومه لكنه يدل على
المعنى عند ذكر متعلقه بنفسه بخلاف المجاز فإنه لا يدل على المعنى
المجازي عند ذكر القرينة بنفسه بل بمعونة القرينة وبالجملة
فالقصور ثابت في المقامين إلا أنه في المجاز من حيث اللفظ فصح أنه
لا يدل بنفسه وفي الحرف من حيث المعنى فلا ينافي دلالته بنفسه
وبهذا يسقط ما التزم به التفتازاني من أن صحة الحد متوقفة على القول
بعدم اشتراط ذكر المتعلق في دلالة الحرف هذا والتحقيق في
الجواب أن دلالة الحرف على معناه إنما تستدعي تصور معنى متعلقه
ولو إجمالا على ما سيأتي تحقيقه وهو مما يحصل في النفس بسماع
الحرف مع العلم بالوضع ولا حاجة إلى ذكره في
اللفظ فصح أن الحرف يدل على المعنى بنفسه أي من غير حاجة إلى
ضميمة وتوقفه على تصور متعلقه ولو إجمالا لا ينافي ذلك لأنه من
قبل اللوازم البينة للمدلول فينتقل إليه عند تصور المعنى كما في
الانتقال إلى البصر عند الانتقال إلى مدلول العمى بخلاف المجاز فإن
مجرد لفظه لا يكفي في الدلالة ثم عندي على الحد إشكال آخر وهو
أن المراد بالتعيين فيه إن كان التعيين القصدي لم ينعكس لخروج
وضع المنقول بالغلبة منه وإن كان الأعم كما ذكرنا لم يطرد لدخول
تعين المجاز المشهور بالشهرة فيه ولا سبيل إلى إخراجه بأن
الشهرة قرينة عليه أو بأنه إذا قدر عدمها لم يكن للفظ دلالة عليه لأنا لا
نعقل من القرينة إلا ما يوجب تعين المعنى والوضع التعييني أيضا
كذلك مع أنه لا فارق بين التعين الناشئ من الشهرة في المنقول وبينه
في المجاز المشهور فإدخال أحدهما في الحد يوجب دخول الاخر
فيه واختلال الدلالة بتقدير عدمها لا ينافي كونها وضعا كيف والحال
في جميع الأوضاع كذلك ومثل قرينة الشهرة ما لو نص
المستعمل على إرادته للمعنى المجازي عند إطلاقه اللفظ والنقض به
وارد على تقدير تخصيص التعيين بالقصدي أيضا ويمكن دفعه بأن
المراد بالدلالة الدلالة المعتبرة كما مر وهي غير ناشئة هناك عن
الشهرة أو تنصيص المستعمل فقط وفيه تكلف أو بالتزام عود
الضمير في نفسه إلى التعيين دون اللفظ فيخرج التعيين المذكور فإنه لا
يقتضي الدلالة المعتبرة بنفسه بل بضميمة الرخصة أو الوضع
السابق وبهذا يظهر الفرق بينه وبين المنقول فإنه لا مدخل في دلالته
على المعنى المنقول إليه لملاحظة وضعه السابق بل يكفي مجرد
تعينه الناشئ من الغلبة وبهذا التوجيه يخرج سائر أنواع المجاز أيضا إذ
لا يكفي في دلالتها مجرد تعيينها بل لا بد معه من نصب القرينة
ويدخل فيه تعيين الحروف بالتوجيه السابق ويخرج به أيضا تعيين
المستعمل اللفظ للدلالة فإنه لا يدل بمجرد تعيينه ذلك ولا حاجة إلى
ما تكلفناه سابقا في إخراجه وكذلك يخرج به تعيين الواضع اللفظ
للوضع للمعنى فإن مجرد ذلك التعيين لا يكفي في الدلالة ولا يخرج
على الوجه
السابق إذ يصدق على تعيين الشئ للملزوم أنه تعيين له للازمه
المقصود منه أيضا إلا أن يرتكب التكلف المتقدم ومن هنا يظهر أن
إرجاع الضمير إلى التعيين أولى من إرجاعه إلى اللفظ كما فعلوه ثم
أقول ويمكن تقرير الاشكال بوجه آخر يطرد في جميع أنواع
المجاز بحيث لا ينفع فيه التوجيه المذكور وذلك بأن يقال إن أرادوا
بالحد أن يدل اللفظ مع قطع النظر عن ذلك التعيين فهو فاسد لان
اللفظ الموضوع إذا قطع النظر عن وضعه وجرد عنه لا دلالة له على
المعنى إما في الجملة أو مطلقا كما يشار إليه قولهم في تعريف
الدلالة الوضعية بأنها فهم المعنى من اللفظ عند العالم بالوضع أي من
حيث علمه بالوضع كما هو الظاهر من التعليق وإن أرادوا أن يدل مع
قطع النظر عما عدا ذلك التعيين فهو منقوض بمثل المجاز المشهور
فإنه لا حاجة في دلالته على معناه المجازي بعد ملاحظة تعيينه
المنحل
إلى تعيينين تعيين واضع المجاز أو واضع الحقيقة إياه بإزائه المحصل
لصحة الاستعمال وتعيين الشهرة المحصل للدلالة إلى ملاحظة أمر
آخر فهو أيضا تعيين للدلالة على المعنى بنفسه إذ لم يعتبر فيه أن
يكون عن أمر واحد وهذا الاشكال متجه على البيان الأول أيضا ولا
يجدي فيه الدفع السابق فالأظهر عندي أن يعرف الوضع بأنه تعيين
اللفظ للمعنى على وجه يصحح الاستعمال من غير اعتماد على تعيينه
لمعنى آخر فيخرج المجاز بأقسامه لاعتماد صحة الاستعمال فيها
على تعيينه لمعنى آخر وكذلك يخرج تعيين اللفظ للوضع أو
الاستعمال
فإنه لا مدخل له في صحة الاستعمال وكذا تعين الحكاية للمحكي
على ما هو المختار فإنه لا يسمى تعيينا وإن أريد به ما يعم غير
القصدي
يدخل فيه المنقول بالغلبة لان المراد بالتعيين ما يعم التعيين بالقصد و
بدونه والأولى أن يراد أو تعينه لظهوره في القصدي وكذلك
يدخل الحروف إما على التوجيه السابق أو مطلقا لان
15

عدم الاعتماد على تعيين آخر لذلك اللفظ فلا يقدح الاعتماد على
تعيين آخر لغيره نعم ربما يشكل ذلك نادرا في صورة الاشتراك بين
معناه ومعنى متعلقه حيث يحتاج حينئذ إلى ملاحظة وضعه الاخر إلا
أن يدفع باعتبار الحيثية فتأمل فيه ثم الواضع أن لاحظ في وضعه
أمرا جزئيا حقيقيا كان الموضوع له حينئذ أيضا جزئيا لا محالة فيكون
الوضع خاصا والمعنى خاصا كما في الاعلام الشخصية ومنهم من
أجاز أن يكون الموضوع له حينئذ عاما كما لو شاهدنا حيوانا فتوصلنا
به إلى وضع اللفظ بإزاء نوعه وفيه أن الملحوظ في الوضع حينئذ
إنما هو الكلي المنتزع من الجزئي دون نفس الجزئي والوضع أيضا
بإزائه فيكون من القسم الآتي وإن لاحظ أمرا كليا فالوضع عام و
حينئذ فإن وضع اللفظ بإزائه من غير اعتبار خصوصية معينة نوعية أو
شخصية معه شطرا أو شرطا فالموضوع له عام كما في أسماء
الأجناس وإن وضعه بإزائه مع اعتبارها فالموضوع له خاص لكونه
جزئياته الحقيقية أو الإضافية كما في الاعلام الأجناس بناء على أنها
موضوعة للأجناس من حيث تعيناتها الذهنية وكما في الحروف و
أسماء الإشارة والضمائر والموصولات وغيرها مما يتضمن معاني
الحروف فإن التحقيق أن الواضع لاحظ في وضعها معانيها الكلية و
وضعها بإزائها باعتبار كونها آلة ومرآة لملاحظة حال متعلقاتها
الخاصة فلاحظ في وضع من مثلا مفهوم الابتداء المطلق ووضعها
بإزائه باعتبار كونه آلة ومرآة لملاحظة حال متعلقاتها الخاصة من
السير والبصرة مثلا فيكون مداليلها خاصة لا محالة وكذلك لاحظ في
وضع أسماء الإشارة مفهوم المشار إليه ووضعها بإزاء ذاته
بضميمة الإشارة الخارجة المأخوذة آلة ومرآة لتعرف حال الذات
فيكون معانيها جزئيات لا محالة لوضوح أن الماهية إذا أخذت مع
تشخص لاحق لها كانت جزئية مع احتمال أن يكون قد لاحظ في
وضع الحروف معانيها الكلية ووضعها بإزاء كل جزئي جزئي من
جزئياتها المأخوذة آلة ومرآة لملاحظة حال متعلقاتها ولاحظ في
وضع أسماء الإشارة مفهوم الذات المشار إليها ووضعها بإزاء كل
جزئي من جزئياتها المأخوذة آلة ومرآة لملاحظة حال متعلقاتها
ولاحظ في وضع أسماء الإشارة مفهوم الذات المشار إليها ووضعها
بإزاء كل جزئي من خصوصيات الذات مع الإشارة المأخوذة آلة و
مرآة لتعرف حال تلك الذات وعلى هذا القياس والفرق بين
الاعتبارين أن الخصوصية مأخوذة في أحدهما باعتبارين وفي الاخر
باعتبار واحد وهو أقرب لسلامته عن الاعتبار الزائد هذا على ما هو
المختار وفاقا لجماعة من المحققين لان المتبادر منها ليس إلا
المعاني الخاصة وأنها لا تستعمل إلا فيها ومنهم من أنكر ذلك وجعل
الوضع في تلك الألفاظ بإزاء معانيها الكلية واشتهرت حكاية هذا
القول عن المتقدمين واستدلوا لهم بأن أهل اللغة صرحوا بذلك حيث
قالوا أنا للمتكلم ومن للابتداء إلى غير ذلك وأن أحدا لم يذكر تلك
الألفاظ في متكثر المعنى حيث حصروها في المشترك والحقيقة و
المجاز والمنقول والمرتجل وهي ليست بأحدها وأن وضعها
للجزئيات يقتضي أوضاعا غير متناهية وهو محال والجواب أما عن
الأول فبأن ما وقع في عبائرهم لبيان مدلول هذه الكلمات من لفظ
المتكلم والابتداء ونظائرهما فمحمول على ما مر للقطع بأنها لم
تستعمل في تلك المعاني قط وما يقال من أنها وضعت للمفاهيم
الكلية
ثم استعملت في الجزئيات بقرائن مقامية أو مقالية فكل من الوضع و
الموضوع له فيها عام والمستعمل فيه خاص فمدفوع بأنه لو تم ذلك
لوجد فيه خصائص المجاز من الانتقال إلى معانيها الجزئية بعد
الانتقال إلى معانيها الكلية وملاحظة العلاقة والقرينة ولو إجمالا و
ليس
الامر فيها كذلك قطعا مع أنها لو كانت حقائق في تلك المفاهيم لجاز
أن تستعمل فيها على الحقيقة وفساد التالي يقتضي بفساد المقدم
وما قيل من أن ذلك لمنع من قبل الواضع فمما لا يقبله الاعتبار
الصحيح وأما عن الثاني فبأن عدم ذكر المتقدمين إياها في متكثر
المعنى مبني على طريقهم حيث لم يثبتوا هذا القسم فتبعهم
المتأخرون في التقسيم تسامحا وأما عن الثالث فبأن وضعها للجزئيات
إجمالي فلا يلزم تعدد الوضع فضلا من عدم تناهيه هذا ولو نزلت
مقالتهم على أنها موضوعة لمفاهيمها المقيدة بالقيود
المذكورة على أن يكون كل من القيد والتقييد خارجا عن المعنى
معتبرا فيه وادعي كلية المفهوم والمعتبر كذلك استقام كلامهم و
اندفع عنهم الاشكالات المذكورة وكان أبين من القول السابق ثم أقول
ولقائل أن يقول كون هذه الألفاظ حقائق في الخصوصيات إنما
يثبت به عموم الوضع بالمعنى المتقدم إذا قلنا بأن الواضع ليس هو
الله تعالى حيث إنه ليس لغيره الإحاطة بجميع تلك الخصوصيات
على
التفصيل وإنما يحيط بها على الاجمال بملاحظة مفهوماتها الكلية
فيلزم منه عموم الوضع حيث إن الملحوظ فيه معنى علم وإلا جاز أن
تكون موضوعة بإزاء تلك الخصوصيات ابتدأ من غير ملاحظة لذلك
المعنى العام فيه لإحاطة علمه تعالى بالجزئيات كإحاطته بكلياتها
فتكون تلك الألفاظ على حد الألفاظ المشتركة في كونها موضوعة
لآحادها وضعا ابتدائيا غاية ما في الباب أن يكون للآحاد التي
تشترك فيها مع كثرتها وخروجها عن قوة ضبطنا قدر جامع يمكننا
معرفة ما يحتاج إليه منها بالرجوع إليه بخلاف سائر المشتركات
وهذا لا يصلح وجها لافرادها عن المشترك وجعلها قسما برأسها و
جوابه أن اختصاص إفراد معنى عام بوضع اللفظ مع اطراده بالنسبة
إليها يوجب ملاحظته في وضعه لها لظهور أن ليس ذلك مبنيا على
مجرد الاتفاق وتبادرها منه من حيث كونها أفراد آلية يوجب أن
يكون الحيثية مأخوذة في مدلوله لا مجرد كونها مأخوذة في عنوان
الوضع فإذا ثبت أن مدلوله الافراد من حيث كونها أفرادا للعام ثبت
القسم المذكور سواء كانت تلك الافراد ملحوظة عند الواضع تفصيلا
أو إجمالا وظهر الفرق بينه وبين المشترك فإن المشترك إنما
يوضع لمعانيه لا باعتبار معنى مشترك فيه وإن فرض وضعه بإزائها
إجمالا بملاحظة عنوان لا تكون حيثية معتبرة في المعنى ككل
واحد من هذه المعاني ومن هنا يتوجه مناقشة على تعريف المشترك
حيث اعتبر فيه تعدد الوضع ولا
16

تعدد فيه هناك وحيث لم يثبت القسم المذكور كان الامر بالقياس إليه
سهلا ثم اعلم أن اللفظ الموضوع إن عين من حيث الخصوصية
فالوضع شخصي وهذا ظاهر وإلا فنوعي ومنه وضع أكثر صيغ
المشتقات فإن التحقيق أن منها ما هو موضوع بالوضع الشخصي من
الماضي والمضارع المجردين فإن اختلاف هيئاتهما في المواد
المختلفة مع عدم قدر جامع بين ما اتفق منها فيها يوجب كونهما
موضوعين بالوضع الشخصي وكون أفعال السجايا موضوعة على
الضم على تقدير ثبوت الاطراد فيها لا يجدي في غيرها وغاية ما في
الباب أن يقال عين الواضع مصادر كل باب ووضع كل واحد من كل
جملة بهيئة معينة أو وضع كل هيئة معينة طارئة على كل واحد من
آحاد كل جملة بإزاء معان معينة فلو سمي مثل ذلك وضعا نوعيا فلا
مشاحة ومنها ما هو موضوع بالوضع النوعي كسائر صيغ الماضي و
المضارع وجملة صيغ الامر واسم الفاعل والمفعول فإن التحقيق أن
الواضع لاحظ كل نوع منها مما له قدر جامع بعنوان كلي وهو ذلك
القدر الجامع ووضع كل واحد من خصوصياتها الملحوظة تفصيلا أو
إجمالا على ما مر بإزاء معانيها المعهودة وعلى هذا فالمشتقات تدل
على معانيها من الحدث والزمان والنسبة وغيرهما بوضع واحد
شخصي أو نوعي هذا ما يساعد عليه التحقيق والمعروف بينهم أن
مواد
المشتقات أعني حروفها الأصلية موضوعة بالوضع الشخصي لمعانيها
الحدثية وهيئاتها موضوعة بالوضع النوعي للمعاني الزائدة عليها
من الزمان والنسبة أو غيرها بمعنى أنها موضوعة كذلك في كل مادة
للمعنى اللاحق لمعناها من حيث الخصوصية ويشكل بأنهم إن
أرادوا أن المواد موضوعة بوضع المصادر فمتضح الفساد لان هيئات
المصادر معتبرة في وضعها لمعانيها قطعا وإن أرادوا أنها
موضوعة للمعاني الحدثية بوضع آخر مشروط باقترانها بإحدى
الهيئات المعتبرة لئلا يلزم جواز استعمالها بدونها فبعد بعده جدا كما
لا
يخفى على الأنظار السليمة مما لم نقف لهم فيه على دليل وغاية ما
في الباب أن يقال لما كان كل من ألفاظ معاني المشتقات
ومعانيها يشتمل على جزين يدور ثبوت كل جز من جزئي المعنى
مدار ثبوت جز من جزئي اللفظ حصل هناك قدران مشتركان
لفظا وقدران مشتركان معنى فالأولى أن يكون كل قدر مشترك من
اللفظ موضوعا بإزاء كل قدر مشترك من المعنى وأنه لا بد في
فهم معاني المشتقات من ملاحظة كل من المادة والهيئة وتعيينهما
لينتقل من ملاحظة المادة إلى بعض المعنى ومن ملاحظة الهيئة إلى
بعض آخر ولهذا قد يعرف إحداهما وينكر الأخرى فينتقل إلى أحد
جزئي المعنى دون الاخر فلو كان المجموع موضوعا بوضع واحد
لما حصل التفكيك في الفهم وكلا الوجهين ضعيف أما الأول فلان
الأولوية المذكورة على تقدير ثبوتها ترجع إلى مجرد الاستحسان و
هو لا ينهض حجة في مباحث الألفاظ ولا يصلح لمعارضة ما قدمناه
من الاستبعاد وأما الثاني فلان تعيين كل من المادة والهيئة كما لا بد
منه على الوجه الثاني لكونه تعيينا للموضوع كذلك لا بد منه على
الوجه أيضا لكونه تعيينا لحدود الموضوع ولا نسلم أن فهم بعض
المعنى يستند إلى جز اللفظ بل إلى كله لكن لا خفاء في أنا إذا علمنا
أن صيغة معينة موضوعة بإزاء ما دل عليه مصدرها مع أمر آخر
يشاركها فيه صيغة أخرى لا جرم ننتقل بالعلم بأحد الامرين إلى بعض
المعنى وليس ذلك انتقالا من بعض اللفظ إلى بعض المعنى بل من
كل اللفظ إلى بعض المعنى ومن هنا يتبين أيضا دفع ما عساه أن يستند
إليه من أن كلا من جزئي المعنى يتبادر من كل من جزئي اللفظ و
ذلك آية كونه موضوعا له وحقيقة فيه ووجه الدفع أنه إنما يتبادر من
مجموع اللفظ الموضوع ولو بتعيين بعض حدوده بعض المعنى
من حيث كونه في ضمن الكل الملحوظ ولو إجمالا وليس في ذلك
شهادة على تعدد الوضع بل على وحدته وعلى هذا ينزل كلامنا حيث
نتمسك بأن المتبادر من الهيئة كذا أو من المادة كذا هذا وربما أمكن أن
يقال إن المشتقات وإن وضعت بموادها وهيئاتها بوضع واحد
إلا أن قضية مشاركتهما فيما مر يوجب انحلال وضعها إلى وضعين وإن
لم يتعلق قصد الواضع به ولا يخفى ما فيه من التعسف
فصل هل الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي أو من حيث
كونها مرادة للافظها
وجهان يدل على الأول بعد مساعدة التبادر عليه أمران الأول إطلاقهم
بأن الوضع تعيين اللفظ للدلالة على المعنى من غير اعتبار حيثية و
يمكن دفعه بأن الحيثية المذكورة إن اعتبرت داخلة في المعنى
فاعتباره يغني عن اعتبارها لأنها حينئذ جزؤه وإن اعتبرت خارجة عنه
فلا بد حينئذ من اعتباره مقيدا بها كما يدل عليه ظاهر معناه الأصلي
فلا يصدق على المجرد عنها فلا حاجة إلى التصريح بالقيد الثاني أن
الحيثية المذكورة أمر زائد على المعنى فالأصل عدم اعتبارها في
الوضع ويضعفه أن الأصل المذكور من الأصول المثبتة ولا تعويل
عليها حيث لا يساعدها دليل كما في أصالة عدم النقل ونحوه ويدل
على الثاني تبادر المعاني منها عند الاستعمال من حيث كونها مرادة
فتكون موضوعة لها بهذا الاعتبار مع أن الغرض من الوضع إنما هو
إفادة المداليل واستفادتها بهذه الحيثية فلا بد من اعتبارها في
الوضع لئلا ينتفي الغرض فيلغو الوضع ويمكن دفع هذين الوجهين
بأن تبادر كون المعنى مرادا مستندا إلى ما هو الظاهر من الغرض
الداعي إلى الاستعمال كتبادر اتباع الواضع بدليل تبادر المعنى وحده
عند تجريد النظر عن ذلك وحينئذ فلا يلزم من عدم اعتبارها في
الوضع عراؤه عن الفائدة على أنه يلزم على تقدير أن تكون الحيثية
داخلة في المعنى أن يكون كل لفظ متضمنا معنى حرفيا وهو بعيد
عن الاعتبار ثم إن قلنا بأنها موضوعة للمعاني من حيث كونها مرادة
سواء اعتبرناها شرطا أو شطرا اتجه أن لا يكون للألفاظ معان
حقيقية عند عدم إرادتها ضرورة أن الكل عدم عند عدم جزئه و
المقيد من حيث كونه مقيدا عدم عند عدم قيده والظاهر أن ما حكي
عن
الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي من مصيرهما إلى أن الدلالة
17

تتبع الإرادة ناظر إلى هذا وتحقيقه أن اختصاص الوضع بالمعنى الذي
تعلق به إرادة اللفظ يوجب انتفائه عند انتفائه فتنتفي الدلالة
المستندة إليه وأما ما يرى من سبق المعنى عند العلم بعدم الإرادة
فيمكن دفعه على هذا التقدير بأن ذلك انتقال إلى ما يصلح له اللفظ
من
حيث العلم بالوضع وليس انتقالا إلى ما وضع له اللفظ بالاعتبار الذي
وضع له والفرق بين الانتقالين هو الفرق بين الانتقال إلى الشئ
بحقيقته والانتقال إليه بوجهه
فصل
الدلالة عقلية إن استقل بها العقل كدلالة اللفظ المسموع من وراء
الجدار على وجود لافظه وطبعية إن كانت بمعونة الطبع كدلالة آخ
على
التزجر [التضجر] ومن هذا الباب دلالة أصوات الحيوانات عند أبناء
نوعها ووضعية إن كانت بمعونة الوضع وهي إما غير لفظية كدلالة
الخط على اللفظ أو لفظية كدلالة زيد على مسماه وعرفوا هذه الدلالة
بأنها فهم المعنى من اللفظ عند إطلاقه بالنسبة إلى من هو عالم
بالوضع وأورد عليه أولا بأن العلم بالوضع يتوقف على فهم المعنى
ضرورة أن الأمور النسبية لا تعقل إلا بعد تعقل طرفيها فلو توقف
فهم المعنى على العلم بالوضع كما هو ظاهر التعليق لزم الدور وجوابه
أن العلم بالوضع إنما يتوقف على فهم المعنى ولو من غير لفظه و
فهمه منه يتوقف على العلم بالوضع له فلا دور وثانيا بأن الفهم صفة
السامع والدلالة صفة اللفظ فلا يصلح أحدهما تعريفا للاخر وأجيب
بأن المصدر بمعنى المفعول أي مفهومية المعنى من اللفظ أي كون
اللفظ بحيث يفهم منه المعنى غاية الامر أن يكون تعريفا باللازم ولا
بأس به عند ظهور المراد وفي المقام أبحاث تركناها لقلة الجدوى في
إيرادها وثالثا بأنه منتقض بدلالة زيد على لافظه بالنسبة إلى من
كان عالما بوضعه وجوابه أن قيد الحيثية معتبر في التعريف والمعنى
فهم المعنى بالنسبة إلى من هو عالم بالوضع من حيث إنه عالم به
وظاهر أن الفهم هناك ليس من هذه الحيثية وقد تتحقق الدلالة على
معنى واحد باعتبارين كدلالة أنا على المتكلم فيفرق باعتبار
الجهتين ورابعا بأن تقييد الفهم بكونه عند العالم بالوضع يوجب فساد
عكس الحد لان الدلالة قد تتحقق عند غير العالم بالوضع أيضا و
لولا ذلك لما صح عد التبادر من علامات الوضع وإلا لكان دورا و
جوابه أن المراد بالعلم بالوضع ما يتناول العلم الاجمالي والتفصيلي
ولا نسلم أن الفهم في الصورة المذكورة ينفك عنهما وإنما المسلم
انفكاكه عن أحدهما ولولا ذلك لما كان اللغات توقيفية أو نقول
المراد بالوضع هنا الاختصاص دون التخصيص ولو بالغلبة وإن كان
الفرق بينهما عند التحقيق
اعتباريا فما يتوقف عليه الفهم هو العلم بالاختصاص المستفاد من
المحاورات دون التخصيص وما يتوقف على الفهم هو العلم
بالتخصيص دون الاختصاص فلا إشكال ويمكن أن تعرف الدلالة
المذكورة بأنها إفادة اللفظ للمعنى بسبب الوضع وهو أولى من الحد
السابق لسلامته عما فيه من التكلف وهي تنقسم إلى أقسام ثلاثة لان
دلالة اللفظ إما أن تكون على تمام ما وضع له أو لا والثانية إما أن
تكون على جزئه أو لا ويسمى الأولى إن كانت من حيث إن المدلول
تمام الموضوع له مطابقة والثانية إن كانت من حيث إنه جزؤه
تضمنية والثالثة إن كانت من حيث إنه خارج لازم له التزامية وحيث
اعتبرنا في الحد قيد الحيثية التعليلية وتركناها في التقسيم استقام
الحد وصار التقسيم عقليا وإنما اعتبرنا الحيثية تعليلية لا تقييدية إذ لا
جدوى في اعتبارها إذ يصدق على الدلالة المقيدة بكونها دلالة
اللفظ على تمام ما وضع له أنها مقيدة أيضا بكونها دلالة على جزئه أو
لازمه حيث يكون جزا أو لازما أيضا لكنها لا تستند إلى الجميع بل
إلى أحدها أو المجموع والمراد أن دلالة واحدة لا تستند إلى علل
عديدة بل إما أن تستند إلى واحدة منها إذا اتحدت أو المجموع
الملتئم
من اثنين منها أو الثلاث إذا اجتمعت لان العلل متى اجتمعت صارت
علة واحدة فيخرج عن كونها عللا متعددة وأما إذا قلنا بأنها معرفات
أي علامات للمعاني فيجوز أن يجتمع
عديد منها على معلول واحد فلا تصير علة واحدة بل يبقى على صفة
تعددها ولك أن تقول العلامات علل إعدادية للعلم بالشئ فلا يجوز
أن يستند العلم إلا إلى واحدة منها أو المجموع منه رحمه الله إلا إذا
قلنا بأنها معرفات فيجوز تواردها على محل واحد أو أن العلل
الحقيقية إذا تواردت صارت بمنزلة علة واحدة فنلتزم حينئذ بخروج
مثل هذه الدلالة عن الحدود الثلاثة ولا بأس به مع دخولها في
التقسيم لان الغرض تحديد الدلالات التي يصح الاستعمال بحسبها و
الجمهور لما حاولوا الجمع بين التقسيم والتعريف فمنهم من اعتبر
قيد الحيثية ومنهم من أهملها فأورد على تقسيم الأول بأن الحصر لا
يكون حينئذ عقليا وأنه المقصود وربما تفصى بعضهم باعتبار قيد
الحيثية في غير القسم الأخير وتركها فيه زعما منه أنه لا حاجة إليها في
صحة التعريف بعد أخذها في القسمين الأولين وضعفه ظاهر
لورود الاشكال عليه بصدق حده عليهما في الفرض الآتي وعلى
التعريف الثاني بأنه ينتقض كل قسم بكل من قسيميه فيما لو كان اللفظ
مشتركا بين الكل والجز واللازم أو بأحدهما فيما إذا كان مشتركا بين
الكل والجز أو الملزوم واللازم وقد تفصى عنه بعض من
أهمل قيد الحيثية بأن اللفظ لا يدل بذاته بل باعتبار الإرادة واللفظ
حين يراد منه معناه المطابقي لا يراد منه معناه التضمني فهو يدل على
معنى واحد لا غير وهذا الجواب حكاه العلامة عن المحقق الطوسي
وهو يدل بظاهره على أنه جعل مورد القسمة دلالة اللفظ على تمام
معناه المستعمل فيه لظهور أن مطلق الدلالة
على المعنى لا تتوقف على إرادته كما سبق التنبيه عليه وأنه أراد
بالإرادة والدلالة في قوله لا يراد معناه التضمني وقوله يدل على معنى
واحد الإرادة والدلالة المستقلتين فيرجع كلامه في التقسيم إلى أن
الدلالة الاستعمالية مطابقة إن كان المعنى تمام ما وضع له اللفظ و
تضمن إن كان جزه والتزام إن كان خارجه اللازم له ولا خفاء في ورود
الاشكال عليه أيضا لان المشترك المذكور إذا استعمل في
أحد معنييه من الجز واللازم بالوضع أو العلامة صدق عليه أيضا حد
الاخر نظرا إلى تحقق الإرادة مع ما فيه من الخروج عما هو
المعروف عند القوم من أخذهم مورد القسمة مطلق الدلالة اللفظية
الوضعية أعني الدلالة التي يكون لوضع اللفظ مدخل فيها حتى إنهم
صرحوا بجواز اجتماع الدلالات الثلاث في إطلاق واحد كالانسان
المستعمل في الحيوان الناطق فجعلوا دلالته على المركب بالمطابقة و
على كل من جزيه بالتضمن وعلى لوازمه ككونه ضاحكا أو كاتبا
بالالتزام و
18

المعاصر وجه الجواب بتوجيه آخر وأطال الكلام في تقريبه وملخص
ما ذكره هو أن المراد بدلالة اللفظ على تمام ما وضع له في حد
المطابقة دلالته عليه المطابقة لإرادة اللافظ الجارية على قانون الوضع
وبدلالته على جز ما وضع له في حد التضمن دلالته عليه تبعا
لدلالته على الكل مطابقة وبدلالته على الخارج اللازم في حد الالتزام
دلالته عليه تبعا لدلالته على الملزوم مطابقة والدلالة المطابقية
كما مر تتوقف على الإرادة وهي لا يتحقق في الاستعمال الواحد إلا
بالنسبة إلى معنى واحد فلا تتصادق الحدود على دلالة واحدة وحيث
كان في كلام المجيب ما لا يلائم ذلك تعسف في تأويله فحمل قوله لا
يراد معناه التضمني على معنى لا يراد معناه التضمني الحاصل بسبب
ذلك المطابقي بإرادة مستقلة مطابقية أخرى بالنظر إلى وضعه الاخر و
حمل قوله فهو يدل على معنى واحد لا غير على معنى أنه لا يدل
إلا على معنى مطابقي واحد ولا يخفى ما في هذا التأويل من التكلف
في كلام المجيب والتمحل في تنزيل الحد إذ القيود التي اعتبرها مما
لا يساعد عليها لفظ الحد ما لم يعتبر فيه قيد الحيثية ومعه يبطل
دعوى عدم الحاجة إليها ولا يختص الاندفاع بالقول المذكور ثم
المطابقة لا تستلزم التضمن لجواز بساطة المعنى ولا التزام إن اعتبر
اللزوم فيه بالمعنى الأخص إذ كثيرا ما نتصور بعض المعاني ولا
يخطر بالبال من تصوره تصور غيره وإن اعتبر بالمعنى الأعم استلزمه
إذ لا أقل من أن يستلزم أنه ليس غيره والتضمن والالتزام
يستلزمان المطابقة لامتناع تعقل الجز من حيث كونه جزا واللازم
من حيث كونه لازما بدون تعقل الكل أو الملزوم ضرورة أن
المضاف من حيث كونه مضافا لا يعقل بدون تعقل ما أضيف إليه و
على المقام إشكال مشهور وهو أن الفعل موضوع للحدث والزمان و
النسبة إلى فاعل معين فإذا ذكر مع فاعله دل على الأمور الثلاثة وهو
معناه المطابقي وإذا لم يذكر معه دل على الحدث والزمان دون
النسبة لامتناع تعقل النسبة الخاصة بدون تعقل طرفيها فيتحقق
التضمن بدون المطابقة وهذا الاشكال وإن أورده في الفعل باعتبار
دلالته التضمنية لكنه لا يختص به بل يجري في مثل الموصولات
أيضا إذا استعملت بدون الصلة لأنها موضوعة للمعنى المتعين بالصلة
من حيث كونه متعينا بها فيمتنع تعقله بدون تعقلها ولا بها بل
يجري في الدلالة الالتزامية أيضا كذلك كدلالة ضرب بدون الفاعل
على الايلام وأجيب عنه بوجوه الأول أن الدلالة عبارة عن التفات
النفس إلى المعنى من حيث كونه مرادا اللافظ فهي متأخرة عن تذكر
الوضع لتوقفها عليه وهو متأخر عن تذكر طرفيه من اللفظ و
المعنى لكونه نسبة بينهما والسامع ينتقل إلى المعنى تارة من حيث
تذكر الوضع وأخرى من حيث كونه مقصود اللافظ من حيث اقتضاء
الوضع له والدلالة هي الانتقال بالاعتبار الثاني دون الأول وحينئذ
فالسامع عند سماع الفعل بدون الفاعل لا ينتقل إلى بعض المعنى
من حيث أنه مراد حتى يتحقق التضمن بدون المطابقة بل إنما يتذكر
الوضع فيتصور بعض المعنى وليس ذلك من دلالة اللفظ حتى يتجه
الاشكال وفيه نظر لان هذا المجيب إن بنى على أن اللفظ موضوع
للمعنى من حيث كونه مرادا كانت حيثية الإرادة معتبرة في المعنى
الموضوع له وهو واحد طرفي النسبة فلا بد من الانتقال إليها قبل تذكر
الوضع أيضا على ما يقتضيه التعليل فيكون الانتقال إلى المعنى
قبل تذكر الوضع كالانتقال إليه بعده في كونه مأخوذا من حيث الإرادة
فيكون دلالة على ظاهر ما اعترف به حيث فسرها بالانتقال إلى
المعنى من حيث كونه مرادا فيعود الاشكال وإن كان بين الإرادة
المنتقل إليها لتذكر الوضع والإرادة المنتقل إليها بعده من الوضع فرق
نبهنا عليه وإن بنى على أنه موضوع للمعنى من حيث هو كما يلوح من
بيانه لم يكن لاخذ الإرادة في الدلالة وجه إلا أن ينزل على اصطلاح
مستحدث وهو لا يجدي لورود الاشكال على مطلق الدلالة مع أن ما
ادعاه من أن السامع لا ينتقل بسماع الفعل بدون الفاعل إلى بعض
المعنى من حيث كونه مرادا وإن كان عالما بالوضع مجازفة واضحة
ضرورة أنا كثيرا ما ننتقل بسماع الفعل إلى إرادة الحدث والزمان
منه قبل سماع الفاعل على أن دعوى تأخر دلالة اللفظ عن تذكر الوضع
المتأخر عن تذكر طرفيه مما يكذبه الوجدان في الألفاظ
المتداولة نعم لا بد
في الدلالة الوضعية من العلم بالوضع ولو إجمالا كما هو الغالب وهو
لا يتوقف على تصور طرفيه تفصيلا كما هو لازم بيانه ولو كان
الانتقال من اللفظ إلى المعنى متوقفا على تذكر الوضع تفصيلا لادى
إلى التسلسل في الوضع الثاني أنا نفسر الدلالة التي هي المقسم
بكون اللفظ متى أطلق إطلاقا صحيحا فهم المعنى منه وإطلاق الفعل
بدون الفاعل غير صحيح فلا يدخل في المقسم وفيه مع عدم
مساعدته على دفع الاشكال بتمامه لظهور وروده على مطلق الدلالة
أن إطلاق الفعل بدون الفاعل إنما لا يصح إذا ترك الفاعل في الكلام
بالكلية وأما إذا تعقبه ذكره فلا ريب في صحته ويجري فيه الاشكال
لأنه يدل قبل ذكر الفاعل على الحدث والزمان دون النسبة لما مر
الثالث أن التضمن لا يقتضي المطابقة الفعلية بل يكفي فيه المطابقة
التقديرية فيندفع الاشكال وفيه ما عرفت في تفسير التضمن الرابع
أن الفعل لا يدل على النسبة وإنما هي تستفاد من الهيئة التركيبية كما
في الجمل الاسمية الصرفة إذ يبعد أن يكون هيئة ضرب زيد،
عاريا عن الوضع ويكون هيئة زيد ضارب موضوعا لإفادة النسبة ولأنه
يفهم النسبة من الجمل الفعلية على التفصيل والموضوع
للمركب إنما يدل على أجزائه بالاجمال ولأنهم عرفوا الفعل بأنه ما
دل على معنى في نفسه أي مستقل بالمفهومية فلو اعتبرت النسبة في
مفهومه لم يكن مستقلا بتمام مفهومه لا يقال العبرة بجز المعنى إذ
المراد بالدلالة الدلالة التضمنية والفعل يستقل في الدلالة على جز
معناه لأنا نقول فينتقض حينئذ طرد الحرف بالفعل وعكس الاسم
بالاسم الذي لا جز لمعناه بل ينتقض طرد الاسم بالحرف أيضا إذ
جز معانيها وهي المفاهيم الكلية كالابتداء المطلق الذي هو جز من
معنى من وهو الابتداء الخاص يستقل بالمفهومية وفيه أولا أن
الوجه
19

المذكور على تقدير تسليمه لا يجري في غير الفعل والاشكال المورد
في المقام لا يختص به كما مر وثانيا أن منع تضمن الفعل للنسبة
بعيد عن الاعتبار والوجوه المذكورة في بيانه ضعيفة والجواب عنها
أما عن الأول فبأن الذوق والتبادر شاهدان على الدعوى و
رافعان للاستبعاد المدعى وأما عن الثاني فبأن النسبة معنى حرفي لا
يعقل إلا على جهة واحدة وهي جهة الالية والتبعية في المفهوم فلا
يختلف الحال بكونه مدلولا مطابقيا للفظ أو تضمنيا بخلاف المعاني
المستقلة بالمفهومية فإنها تصلح لان تلاحظ على وجه الاستقلال كما
لو دل عليها بدلالة مطابقية وإن تلاحظ على وجه التبعية كما لو دل
عليها بدلالة تضمنية فإن أجزاء المركب إنما تلاحظ بملاحظة المركب
تبعا لا مستقلا وأما عن الثالث فبأن المراد بالدلالة ما هو أعم من
التضمن والمطابقة فالاسم يستقل بمعناه المطابقي أو التضمني و
الفعل
يستقل بمعناه التضمني فقط والحرف لا يستقل بشئ منهما أما
بالمعنى المطابقي فظاهر وأما بالمعنى التضمني فلان جز معناه إن
كان من ذاتياته فلا ريب في عدم استقلاله بالمفهومية لان الفرد إذا كان
موجودا بوجود الالية والتبعية كانت ذاتياته موجودة بذلك
الوجود لا محالة وإن لم يكن من ذاتياته فلا بد وأن لا يستقل
بالمفهومية وإلا لم يكن المركب معنى حرفيا وحينئذ فلا إشكال وقد
تعتبر الدلالة في الاسم والحرف بطريق المطابقة على ما هو المتبادر
منها وفي الفعل بطريق التضمن بالنسبة إلى الحدث وهذا مع عدم
مساعدة الحد المعروف عليه غير مستقيم في الأسماء لان منها ما
يتضمن معنى حرفيا كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات و
الأسماء اللازمة للإضافة بناء على أن منشأ لزومها للإضافة تضمنها
نسبة الإضافة الخامس أن للفعل معنى مطابقيا تفصيليا هو الحدث و
الزمان والنسبة إلى فاعل معين في القصد ومعنى مطابقيا إجماليا وهو
الذي لاحظه الواضع عند الوضع أعني الحدث والزمان والنسبة
إلى فاعل معين عند المستعمل والفعل إنما يحتاج إلى ذكر الفاعل و
تعيينه في الدلالة على معناه المطابقي بالنسبة إلى الاعتبار الأول
دون الثاني فدلالته
على جزئه أعني الحدث عند عدم ذكر الفاعل إنما هي بالنسبة إلى
معناه المطابقي الاجمالي فلا محذور وهذا الجواب قريب من
التحقيق
إلا أنه يقتضي أن يكون مدلول الفعل عند عدم ذكر الفاعل إجماليا لا
تفصيليا ولا يخلو من تعسف فإن المفهوم من الفعل على تقدير
ذكر الفاعل وعدمه إنما هو معنى واحد لا يختلف أصلا كما يشهد به
النظر الصحيح ولولا ذلك للزم الانتقال إلى معنى الفعل الذي تعقبه
ذكر الفاعل مرتين تارة إجمالا وأخرى تفصيلا والوجدان السليم
يكذبه بل التحقيق عندي في الجواب أن يقال تصور النسبة إنما
يستدعي تصور طرفيها ولو بالوجه فيكفي في تصور النسبة الاسنادية
التي تضمنها الفعل تصور المسند إليه ولو بالوجه كتصوره
بعنوان كونه فاعلا معينا في نظر المستعمل ولا خفاء في أن تصور
مدلول الفعل لا ينفك عن تصور الفاعل ولو بهذا الوجه وظاهر أنه لا
حاجة في تصوره كذلك إلى سبق الذكر فلا يلزم تحقق التضمن بدون
المطابقة وعلى هذا فالفعل بدون الفاعل يدل على معناه التفصيلي
وبهذين الوجهين يندفع الاشكال الذي أوردناه في البواقي أيضا و
كذلك يندفع أيضا إشكال يمكن إيراده في الحرف تقريره أن
الحروف على ما يساعد عليه التحقيق غير مستقلة بالمفهوم لأنها
موضوعة لمعان آلية ملحوظ بها حال غيرها من متعلقاتها فيمتنع
تجردها في التصور عن تصور متعلقاتها مع أنا نجد أنها إذا أطلقت
مجردة دلت على معانيها ضرورة أن من يدل على الابتداء باعتبار
كونه آلة لملاحظة حال غيره وإلى يدل على الانتهاء كذلك إلى غير
ذلك وتقرير الدفع على الوجه الأول أن وضعها على الوجه المذكور
إنما تنافي دلالتها عند التجرد على معانيها التفصيلية دون الاجمالية
كيف والواضع إنما وضعها بإزاء المعاني التفصيلية بملاحظة تلك
المعاني الاجمالية وظاهر أن دلالتها على معانيها الاجمالية أيضا
بالمطابقة فإن قلت كيف يدل اللفظ بحسب وضع واحد على معنيين
بالمطابقة قلت لا تغاير بين المعنيين بحسب الحقيقة بل بمجرد اعتبار
الاجمال والتفصيل وعلى الوجه الثاني أن تصور تلك المعاني إنما
تستدعي
تصور متعلقاتها ولو بالوجه وهو لا يتوقف على سبق ذكرها كما سبق
تنبيه،
قد اشتهر بين أهل العلم أن التضمن يتبع المطابقة وحمله بعضهم على
ظاهره من أن الانتقال إلى الجز بعد الانتقال إلى الكل واعترض
عليه بأن فهم الجز سابق هذا مبني على حمل السبق على السبق
الزماني كما هو الظاهر منه في المقام واعلم أن الجز مقدم على الكل
طبعا وهو لا يستلزم سبق تصوره على تصور الكل منه على فهم الكل
فالانتقال إلى المعنى المطابقي بعد الانتقال إلى المعنى التضمني لا
قبله وضعفه ظاهر لان تصور الكل إنما يستلزم سبق تصور الاجزاء إذا
كان تصور تفصيليا وظاهر أنه غير معتبر في المطابقة وأما
سبق تصورها على تصوره تفصيلا فليس من الدلالة الوضعية لعدم
استناده بهذا الاعتبار إلى الوضع وإن استند إليه باعتبار سبق
الاجمال وذهب جماعة من المحققين إلى أن التضمن فهم الجز في
ضمن الكل فالدلالتان متحدتان ذاتا متغايرتان بحسب الاعتبار و
الإضافة وحملوا التبعية على التبعية لما هو المقصود من الوضع أعني
الدلالة على المجموع من حيث المجموع ويمكن أن يجعل التبعية
في
الدلالة بحسب الاعتبار وفيه نظر لأنه ينتقض حصر الأقسام حينئذ
بدلالة اللفظ على الجز بعد دلالته على الكل ولو بضميمة قرينة فأنها
داخلة في الدلالة اللفظية الوضعية قطعا على ما فسروها به مع أنها
ليست بأحد أقسامها فالتحقيق أن يحمل التضمن على ما يعم القسمين
ليستقيم الحصر أو يقتصر على الوجه الأول لان التضمن بالمعنى الذي
ذكروه داخل في المطابقة ولا يلزم حصر المقسم في التقسيم
بجميع اعتباراته ثم المشهور أن العبرة في الالتزامية باللزوم وعدم
الانفكاك في الجملة وقيل بل يعتبر اللزوم الذهني وهو مبني على
تفسير الدلالة بأنها كون اللفظ بحيث كلما أطلق عند العالم بالوضع فهم
منه المعنى وأشكلوا عليه بلزوم خروج دلالة معظم أقسام المجاز
منها لانتفاء اللزوم بالمعنى المذكور
20

فيها واجب بأن دلالتها إنما تعتبر مع القرينة ولا ريب أنها حينئذ لازمة
للفظ ومطردة وأورد عليه بأن الملزوم إن كان المجاز مع
القرينة فالقرينة قد تكون غير اللفظ فلا تكون هذه الدلالة قسما من
الدلالة اللفظية وقد جعلوها منها وإن كان اللفظ حين مقارنته
للقرينة أو حال وجود القرينة فاللزوم حينئذ ممنوع لعدم لزوم القرينة
فإنهم صرحوا بأن حركة الأصابع غير لازمة لذات الكاتب حال
الكتابة وإن امتنعت بدونها نظرا إلى عدم لزوم الكتابة له وإن كان اللفظ
بشرط القرينة أو بشرط مقارنة القرينة فاللزوم مسلم لكن
الملزوم حينئذ إنما هو المجموع المركب من المجاز والقرينة أو
مقارنتها له على حد قولهم في المشروطة العامة أن الملزوم هو
المجموع المركب من ذات الكاتب وصفة الكتابة فيكون الدال هو
المجموع المركب من المجاز والقرينة أو مقارنتها لأنه الملزوم فيعود
الاشكال الأول والجواب أنا نختار القسم الأخير وهو أن الدال هو
اللفظ بشرط القرينة أو بشرط مقارنتها ولا نسلم أنه يلزم من ذلك
أن يكون الدال مجموع اللفظ والقرينة أو مقارنتها كيف وقضية
الشرطية خروج الشرط بل الدال حينئذ إنما هو المشروط أعني اللفظ
و
القرينة معتبرة في دلالته أ لا ترى أن قولنا كل كاتب متحرك الأصابع
بشرط الكتابة أو ما دام كاتبا إنما يقتضي ثبوت حركة الأصابع
لذات الكاتب لا للمجموع المركب من ذات الكاتب وصفة الكتابة إذ
ليس للمجموع أصابع يثبت لها الحركة وبالجملة فاشتراط دلالة
المجاز بالقرينة أو بمقارنتها من قبيل اشتراط أصل الدلالة بالعلم
بالوضع فكما لا يوجب ذلك كون الدال هو المجموع المركب من
اللفظ
وغيره فكذلك الاشتراط فيما نحن فيه وقد يعترض على تقدير أخذ
الشرط مقارنة القرينة بأنه يلزم فهم تلك المقارنة عند الدلالة وأن
الوجدان يكذبه وجوابه أن الشرط ليس مفهوم المقارنة بل ما صدق
عليه المقارنة ولا ريب أن الدلالة لا تتحقق إلا بعد إدراكه ضرورة
أن مجرد إدراك لفظ أسد ولفظ يرمي لا يوجب الانتقال إلى الرجل
الشجاع ما لم تلاحظ مقارنة أحدهما للاخر وانضمامه إليه سلمنا
لكن اشتراط المقارنة لا يوجب اشتراط العلم بها وإنما يوجب
حصولها عند الانتقال ولا ريب في اعتباره
فظهر مما ذكرناه أن القولين متقاربان وإنما يظهر الثمرة بينهما في كون
المعنى المنتقل إليه بمعونة القرائن هل هو مدلول التزامي
للفظ مطلقا أو بشرط مقارنة القرينة والامر في ذلك سهل
تتميم
فالمطابقة بالمعنى المذكور لا تتناول المجاز وأما التضمن فإن فسر
بفهم الجز في ضمن الكل لم يتناوله أيضا وإن فسر بفهم الجز
بعد فهم الكل أو بأعم من ذلك دخل بعض أقسام المجاز فيه ودخل
البواقي في الالتزام على ما مر الإشارة إليه فإن قلت لا يخلو إما أن
يراد بالوضع في الحدود الثلاثة الوضع الشخصي أو الأعم منه ومن
النوعي فإن أريد الأول لم ينحصر الأقسام في الثلاثة لخروج
الموضوعات بالأوضاع النوعية كالمشتقات منه وإن أريد الثاني دخل
المجاز بأنواعه في المطابقة بناء على أنها موضوعة بالوضع
النوعي فينحصر الدلالة فيها قلت ليس المراد بالوضع خصوص الوضع
الشخصي ولا مطلق الأعم منه ومن النوعي بل المراد به الوضع
الحقيقي المتناول للأوضاع الشخصية وجملة من الأوضاع النوعية
لأنه المتبادر من إطلاق الوضع فلا يتناول المجاز فيندرج في القسمين
الأخيرين على أنا لو قلنا بأن المراد به المعنى الأعم لا يلزم انحصار
الدلالة في المطابقة إذ لا يصح التجوز بالنسبة إلى جميع المعاني
التضمنية والالتزامية ومع الاغماض عن ذلك فغاية ما في الباب أن
يلزم صدق كل من حد التضمن أو الالتزام وحد المطابقة في المجاز
باعتبارين ولا بأس به مع اختلاف الحيثية وقد تفسر المطابقة بدلالة
اللفظ على تمام معناه والتضمن بدلالته على جزئه والالتزام
بدلالته على خارجه اللازم ويعتبر الحيثية احترازا عن تداخل الأقسام
وعلى هذا فالمجاز بأنواعه من المطابقة ويثبت لها تضمن و
التزام كالحقيقة ثم لنا على الحدود المذكورة للدلالات إشكال ودفع
أما الاشكال فبيانه أن المراد باللفظ في هذه الحدود أما خصوص
المفرد أو الأعم منه ومن المركب فإن كان الأول لم يستقم حصرها في
الثلاثة لخروج لوازم المركبات منه كالجود اللازم لكثرة الرماد
والتردد اللازم لقولك تقدم رجلا وتأخر أخرى وغير ذلك فإن هذه
الدلالة مستندة إلى وضع اللفظ فهي لفظية وضعية وليست أحد
الأقسام كذلك ويخرج عنها دلالة المركبات على معانيها التركيبية
باعتبار كونها كذلك لكن يمكن إدخالها حينئذ في المطابقة
باعتبار مفرداتها وخروجها عنها بالاعتبار المذكور غير
قادح إذ المعتبر في التقسيم حصر ذات المقسم في أقسامه لا حصره
فيها بجميع الاعتبارات الطارية عليه وإن كان الثاني لزم أن يكون
دلالة المركبات على تمام معاني بعض مفرداته بالتضمن لأنه جز من
المركب الذي دل عليه اللفظ بالمطابقة مع أن دلالتها عليه باعتبار
بعض مفرداته دلالة عليه بالمطابقة لا غير فيلزم أن يكون دلالته عليه
أيضا بالمطابقة فيكون دلالة واحدة ذاتا واعتبارا مطابقة و
تضمنا وهو محال وأما الدفع فتقريره أنا نختار أن المراد باللفظ ما يعم
المفرد والمركب كما هو الظاهر من إطلاقه ولا نسلم أنه
يصدق على الفرض المذكور كل من حدي المطابقة والتضمن بل
يصدق عليه حد المطابقة فقط دون التضمن أما أنه يصدق عليه حد
المطابقة فلما مر من أن المركب باعتبار دلالة بعض مفرداته عليه
بالمطابقة فيكون دلالته عليه بالمطابقة وأما أنه لا يصدق عليه حد
التضمن فلان المركب لا دلالة له على الجز حقيقة وإنما الدال عليه
الجز ونسبة الدلالة عليه إليه مجاز في الحقيقة والمعتبر في التضمن
أن يكون الدلالة ثابتة للفظ على الحقيقة ودلالة اللفظ على جز معناه
المطابقي إنما يلزم أن يكون تضمنية إذا كان اللفظ مفردا وإن
كان جز من مركب وإلا جاز أن يكون دلالته على الكل بالمطابقة و
على الجز أيضا بالمطابقة هذا كله على ما نراه من أن المركبات لا
وضع لها مغاير الوضع مفرداتها وأما على القول بأن لها وضعا مغايرا
فلا خفاء في صدق التضمن عليها بهذا الاعتبار أيضا ولا إشكال
لاختلاف الحيثية
فصل
وينقسم اللفظ ببعض الاعتبارات إلى مفرد ومركب وقد شاع تعريف
المفرد بما لا يقصد بجز
21

الدلالة على جز المعنى وبما لا يراد بجز لفظه الدلالة على جز
المعنى والمركب بخلافه وإنما اعتبروا القصد والإرادة لئلا ينتقض
الحد بالأعلام المركبة ونحوها كالحيوان الناطق علما [لانسان]
للانسان فإنه وإن صدق عليه عند إطلاقه عليه بحسب وضعه العلمي
أن
جز لفظه يدل على جز معناه العلمي لكن تلك الدلالة غير مقصودة
ولا مرادة في ذلك الاطلاق أقول إن اعتبروا التقسيم للفظ مقيسا
إلى معنى واحد وفسروا الموصولة به واعتبروا قيد الحيثية في الحد
فلا حاجة في الاحتراز المذكور إلى اعتبار قيد القصد والإرادة ولا
إلى ذكر اللفظ إذ يكفي أن يقال المفرد ما لا يدل جزئه على جز معناه
من حيث إنه كذلك والمركب بخلافه فيحصل الاحتراز المذكور و
إلا فلا فائدة في الاعتبار القصد والإرادة في ذلك لأنه يصدق على
الحيوان الناطق المستعمل في معناه العلمي أنه لفظ قصد بجز منه
الدلالة على جز معناه ولو بحسب استعمال آخر وكذا يصدق عليه
حد الافراد باعتبار التركيب مع أن القصد والإرادة لا مدخل لهما في
الافراد والتركيب فإن اللفظ الدال بجزئه على جز معناه من حيث إنه
كذلك مركب سواء قصدت تلك الدلالة أو لم يقصد ومثله المفرد
نعم يتجه ذلك في حد المركب على قول من جعل الدلالة فرع الإرادة
وقد تقدم الكلام فيه وأما حد المفرد فلا يستقيم على القولين
لصدقه على المركبات التي لا يقصد بها معانيها أصلا ككلام النائم و
الساهي ومن حد المفرد بما وضع لمعنى ولا جز له يدل فيه أي في
ذلك الوضع والمركب بخلافه كالحاجبي فقد سلم عما عدا المناقشة
بترك الحيثية ويمكن أن يكون التعويل فيه على الوضوح لكن يرد
عليه وعلى الحدين السابقين أنه يلزم أن يكون نحو ضارب ومخرج
مركبا الدلالة كل من المادة والهيئة فيهما على جز المعنى على ما
تقرر عندهم ولا يعيدان إلا مفردا وهذا الاشكال مبني على أن يكون
الهيئة عبارة عن الحركة والسكون والحرف الزائد كما هو
الظاهر دون الكيفية الاعتبارية الطارية على اللفظ بانضمام الحركة و
السكون والحرف الزائد إليه فإنها حينئذ تكون لفظا قطعا وأن
يكون الحركة والسكون صوتا لا كيفية طارئة عليه كجهره وهمسه و
أن لا يكون السكون مجرد عدم الحركة بل أمر وجودي يستلزم ذلك
المعنى العدمي وذلك لأنها تسمع مع الحروف ابتدأ وما يكون
كذلك يكون صوتا ولفظا لا محالة وإلا فلا ورود للاشكال المذكور لان
الهيئة إما أن تكون نفس الحركة أو السكون أو المركب منهما
ومن الحرف الزائد وكيف كانت فهي لا تكون لفظا أما على الأول
فظاهر وأما على الثاني فلان ما لا يكون بعضه لفظا لا يكون كله
لفظا فلا يكون جز منه نعم قد يقال علي تقدير أن لا تكون الهيئة لفظا
إنه لا ينافي في كونها جز من اللفظ فإن جز الشئ لا يلزم أن
يكون من جنسه كما في العدد فإنه مركب من الواحد وليس منه وقد
يجاب عن الاشكال المذكور أن المراد بالجز الجز المترتب في
السمع ولا ترتيب بين المادة والهيئة في ذلك فلا ينتقض به الحد إلا
أن يقال لا إشعار في لفظ الحد بذلك فيفسد من هذه الجهة والحق
أن هذا التوجيه على بعده لا ينهض بدفع الاشكال بتمامه لتوجه
النقض بعد بنحو ضربا ورجل وضربة وهندي لترتب الاجزاء فيها و
التزام التركيب في مثلها تعسف وبالتأكيد اللفظي إذا أخذه مع مؤكده إذ
لا دلالة لكل منهما على جز المعنى بل على تمامه مع أنه مركب
قطعا وأما إذا اعتبرت دلالة الهيئة دخل في المركب لأنها تدل على
التأكيد وهو جز المعنى هذا إذا حمل الدلالة على المطابقية كما هو
الظاهر وإن حمل على الأعم منها ومن التضمنية اتجه النقض بالتأكيد
في البسائط فقط هذا محصل الكلام في حد المفرد والمركب على
طريقة المنطقيين وأما حدهما على طريق النحاة فمنه ما ذكره بعض
المحققين من أن المفرد هو اللفظ بكلمة واحدة والمركب بخلافه و
أراد بالوحدة الوحدة العرفية ليدخل في المفرد نحو ضارب وهندي
لأنه يعد عرفا كلمة واحدة وفي حد المركب نحو غلام زيد وعبد
الله علما لأنهما يعدان عرفا مركبين من كلمتين واعترض عليه بلفظ إن
شاء فإنه مركب من لفظ إن وشاء ولا يعد إلا مفردا ويمكن
الجواب بأن العبرة في تحقق التركيب اعتباره حال الوضع أو ظهوره منه
لا مطلق حصوله ولا نسلم أن اللفظ المذكور كذلك فإن قلت
الفتحة التي في
آخر الفعل جز منه فلا بد في تحققه من اعتبارها ولو تقدير الحال
الوقف بخلاف الاسم المعرب فإنه يوضع مجردا عن الحركات فلا
يتحقق التركيب في الكلمة المذكورة قلت هذا إنما يتم إذا تعينت كلمة
شاء للفعلية وليست كذلك لأنها قد تأتي اسما معربا مع عدم
اختصاص مورد النقض بها لجريانه في مثل انطباق وانحساب و
ياقوت ونحو ذلك ثم على الحد إشكالان الأول أن المراد بالكلمة إن
كان معناها اللغوي تناول الكلام الواحد والمهمل وإن كان معناها
الاصطلاحي لزم الدور لأنها المحدود باللفظ الموضوع لمعنى مفرد
وأجيب بعد اختيار الأخير بأن هذا الحد تعريف لفظي لمن عرف
معنى الكلمة في الاصطلاح ولم يعرف معنى لفظ المفرد والذي
يتوقف
عليه معرفة الكلمة إنما هو معنى المفرد فلا دور الثاني أن لفظ اللفظ
مستدرك إذ لو قيل إنه كلمة واحدة لكفى والجواب أن ذكر العلم و
تعقيبه بالخاص مما لا غبار عليه سيما في الحدود التي يقصد فيها
التنبيه على أجزاء المحدود ولوازمه وهذا ظاهر
فصل
قد يطلق اللفظ ويراد به نوعه مطلقا أو مقيدا كما يقال ضرب موضوع
لكذا أو فعل أو إنه في قولك زيد ضرب خبر إذا لم يقصد به
شخص القول وقد يطلق ويراد به فرد مثله كقولك زيد في قولك
ضرب زيد فاعل إذا أريد به شخص القول وربما يرجع هذا كسابقه
إلى القسم الأول إذا كانت الخصوصية مستفادة من خارج وأما لو أطلق
وأريد به شخص نفسه كقولك زيد لفظ إذا أردت به شخصه ففي
صحته بدون تأويل نظر لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول أو تركب
القضية من جزين مع عدم مساعدة الاستعمال عليه ثم الدلالة
المذكورة ليست بالوضع وإلا لكانت جميع الألفاظ موضوعة
لاشتراكها في هذه الدلالة وهو ظاهر
22

الفساد وأيضا يلزم أن يكون جميع الألفاظ الموضوعة مشتركة وهو
مما لم يقل به أحد ولا بالطبع سواء أريد به طبع اللفظ أو اللافظ أو
السامع والوجه ظاهر ولا بالعقل على ما يذهب إليه الوهم لأنه إن أريد
أن دلالة اللفظ على إرادة اللفظ منه عقلية فظاهر الفساد إذ لا
ملازمة ولا اطراد كما هو شأن العقليات وإن أريد أن دلالة اللفظ على
نفس اللفظ عقلية فممنوع أما في الصورة الأولى فلان تصور
الشخص مطلقا لا يستلزم تصور نوعه أو صنفه وأما في الصورة الثانية
فلظهور أن لا ملازمة بين تصور لفظ وتصور لفظ مماثل له و
هذا مما لا سترة عليه اللهم إلا أن يفسر الدلالة العقلية بمعنى آخر على
أن مجرد الدلالة لا يصحح الإرادة وإلا لجاز أن يقال ديز متكلم و
بيز قائم لدلالتهما على اللافظ الموصوف بتلك الصفتين وفساده مما
لا يخفى على أحد بل الحق أن هذه الدلالة أنما تستفاد من اللفظ
بواسطة قرائن مقامية أو مقالية كما في المجاز فإن قولك اسم أو فعل أو
مبتدأ أو نحو ذلك قرينة ظاهرة على أن المراد بزيد أو ضرب
مثلا نفس اللفظ دون المسمى والمعنى ولهذا تجد أن الذهن لا
ينصرف إليه إلا بعد ملاحظة القرينة والمجوز لهذا النوع من
الاستعمال
أنما هو العقل والطبع نظرا إلى وجود المناسبة الصورية بينهما أعني
المشابهة اللفظية وهذا نظير ما نقول به في باب المجاز على ما
سيأتي لا يقال يجوز أن يكون الدال على اللفظ في قولك زيد مبتدأ
مثلا مقدر أو يكون الغرض من ذكر زيد تعيين المشار إليه فقط و
يكون الكلام في قوة قولنا زيد هذا اللفظ مبتدأ لأنا نقول هذا تعسف
ظاهر والوجدان أن يشهد على أن زيدا في الكلام المذكور هو
المبتدأ والدال دون المقدر وزعم العلامة التفتازاني أن هذه الدلالة لم
تنشأ عن وضع قصدي ليلزم الاشتراك في كل لفظ موضوع بل
إنما نشأت من الاصطلاح والاتفاق حيث جرت طريقتهم على إطلاق
الألفاظ وإرادة أنفسها وفيه نظر لأنه إن أراد أنهم اتفقوا أولا على
هذا الاستعمال غلطا ثم صح الاستعمال لاتفاقهم فهو غلط لا يلتزم به
أحد وإن أراد أنه قبل الاتفاق كان هناك ما يصحح الاطلاق ثم إنه
زال بعد وقوع
الاتفاق أو غلب عليه أثر الاتفاق فمدفوع بأن الاتفاق لم يتحقق إلا
بالنسبة إلى بعض الألفاظ وهذه الدلالة متحققة بالنسبة إلى الجميع و
احتمال أن يكون الاستعمال في البعض المتفق عليه على وجه ينشأ
منه وضع نوعي مع بعده جدا مما لم يساعد عليه وجدان ولا برهان
فانقدح مما ذكرناه من أن هذه دلالة بالقرينة ما اشتهر بينهم من انحصار
الدلالات في العقلية والطبعية والوضعية إلا أن تفسر العقلية
بما لا يكون للوضع والطبع مدخل فيه فتدخل فيها وكذلك ينقدح
حصرهم للاستعمال الصحيح في الحقيقة والمجاز لخروجها عن حد
الحقيقة وهو ظاهر وكذا عن حد المجاز إذ قد لا يكون له معنى وضع
له مع أنهم أرادوا بالعلاقة العلاقة التي تكون بين المعنى الحقيقي و
المستعمل فيه كما يفصح عنه كلماتهم وظاهر أنها غير متحققة في
المقام
فصل
حكي عن سليمان بن عباد الصيمري القول بأن دلالة الألفاظ على
معانيها ذاتية إذ لو كانت وضعية للزم الترجيح من غير مرجح وقد
يعزى إليه القول بأن الوضع لمناسبة ذاتية وإلا لزم الترجيح من غير
مرجح ووافقه على ذلك بعض من تأخر عنه وأنكره الأكثرون
فجعلوا الدلالة وضعية والوضع مجردا عن مناسبة ذاتية واحتجوا
عليه بأنه لو كانت الدلالة أو الوضع لمناسبة ذاتية لامتنع اشتراك لفظ
بين الضدين لان ما يناسب أحدهما لا يناسب الاخر والتالي باطل
لاشتراك القر بين الحيض والطهر والجون بين الأسود والأبيض و
غير ذلك كالغابر للزمان الماضي والمستقبل بنص أهل اللغة وشهادة
العرف والحق أن مستند القولين ضعيف أما الأول فلجواز أن
يكون المرجح أمرا آخر غير المناسبة الذاتية لعدم انحصاره فيها وأما
ما أجاب به المنكرون من أن إرادة الواضع مرجحة فهو بظاهره
مبني على القول بجواز الترجيح من غير مرجح والحق خلافه وأما
الثاني فلجواز أن يشترك الضدان في معنى ذاتي يكون بينه وبين
اللفظ المشترك مناسبة ذاتية أو يكون للفظ جهتان ذاتيتان يناسب بكل
منهما كلا منهما فالتحقيق أن القائل بالمناسبة الذاتية إن أراد أن
دلالة الألفاظ في موارد الاستعمال ذاتية أو أنها ملحوظة عند كل واضع
ففساده أجلى من أن يحتاج إلى البيان إذ يشهد ببطلانه صريح
الوجدان على أنه لو تم الأول لزم أن لا يجهل أحد شيئا من اللغات ولو
تم الثاني لامتنع النقل والهجر لامتناع تخلف ما بالذات عنها وإن
أراد أن هناك مناسبات خفية لا يطلع عليها إلا الأوحدي من الناس أو
ادعى ذلك بالنسبة إلى بعض الألفاظ أو اللغات الأصلية فهذا وإن لم
يقم دليل عليه ظاهرا إلا أنه لا دليل على فساده لا سيما إذا قلنا بأن
الواضع هو الله تعالى أو أن الوضع بإلهامه هذا
ثم اختلف القائلون بالوضع في تعيين الواضع فذهب الأشعري و
جماعة إلى أنه الله تعالى وذهب أصحاب أبي هاشم إلى أنه البشر إما
واحد أو أكثر وأن التعريف حصل بالإشارة والترديد بالقرائن وذهب
أبو إسحاق الأسفرايني إلى أن القدر الضروري يعني المحتاج
إليه في الاصطلاح من الله تعالى والباقي من البشر احتج الأولون
بأمرين الأول قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها وجه الدلالة أن المراد
بالأسماء إما معناها الأصلي أعني العلامات فيتناول الألفاظ لكونها
علامة لمعانيها والتعليم فرع الوضع أو معناها العرفي أعني ما يقابل
الافعال والحروف فيدل على وضعه لها بتقريب ما مر على وضعه لهما
لتعسر أداء المراد بها غالبا بدونهما ولعدم قائل بالفصل ويرد
عليه أن حمل الأسماء على معناها العرفي باطل لتأخره عن ورود الآية
وحملها على العلامات لا يتناول الألفاظ إلا على تقدير ثبوت
كونها علامة فعلية بالنسبة إلى حال التعليم كما هو أحد الاحتمالين في
جميع الوصف المعرف وهو في محل المنع وقد يجاب بأن المراد
بالتعليم إلهام الحاجة إلى الوضع والاقدار عليه أو بأن المراد بالأسماء
صفات الحقائق وخواص الطبائع أو بأنه على تقدير تعليمه تعالى
لا يلزم كونه تعالى واضعا لجواز سبق الوضع من مخلوق سابق و
يضعف الأول
23

بأنه مجاز في التعليم والثاني بأنه يوجب التجوز في التعليق أو في
مورده أو التقدير وعلى التقادير فهو خروج عن الظاهر من غير
قرينة فتدبر والضمير في عرضهم راجع إلى المسميات دون الأسماء
بدليل قوله تعالى أنبئوني بأسماء هؤلاء والثالث بأصالة عدم سبق
الحادث الثاني قوله تعالى واختلاف ألسنتكم وجه الدلالة أنه تعالى
جعل اختلاف الألسنة من آياته وليس المراد به العضو المخصوص إذ
ليس له اختلاف بين بحيث يصلح لان يفرد من بين الجوارح بالذكر مع
أن الاختلاف في غيره أشد وأظهر بل المراد اختلاف اللغات
بالتوسع فيها بعلاقة السببية أو في الإضافة أو بتقديرها مضافا أو ظرفا و
إنما يكون اختلافها من آياته إذا كان هو الواضع لها وفيه أن
كون اختلاف اللغات من آياته لا يستلزم أن يكون هو الواضع لها بل
يكفي فيه إقدار عباده على ذلك بل هو أحرى بأن يكون آية احتج
أصحاب أبي هاشم بقوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه
حيث دل على سبق اللغة على الارسال فلو كان الواضع هو الله
تعالى لتقدم الارسال عليها لتوقف البيان عليه وفيه أن المتبادر من
الرسول الشخص المبعوث لتشريع الاحكام وتبليغها عنه تعالى إلى
الأنام فلا ينافي سبق الارسال لتعليم اللغة عليها ولو سلم فيجوز أن
يكون البيان بطريق التعليم دون الرسالة وقد يجاب أيضا بأن
التعليم يجوز أن يكون بطريق خلق الأصوات أو العلم الضروري و
الأول لا ينفك عن الثاني فيما يتوقف عليه الافهام ورد بأنه خلاف
المعتاد فلا أقل من أن يظن بخلافه إن لم يقطع به احتج أبو إسحاق
على أن القدر المحتاج إليه في الاصطلاح من الله تعالى أنه لو كان من
البشر لدار أو تسلسل لتوقفه على اصطلاح آخر وفيه أن طريق العلم
بالأوضاع لا ينحصر في الألفاظ لامكانه بطريق الإشارة والترديد
بالقرائن الحالية كالأطفال يتعلمون اللغات من غير سبق علم منهم بلغة
فصل
الجمهور على أن المجاز موضوع بالوضع التأويلي التعييني النوعي و
أن صحته متوقفة على نقل النوع ولا حاجة إلى نقل الآحاد وخالف
في ذلك شرذمة فاعتبروا نقل الآحاد ويلزمهم أن يكون المجازات
التي أحدثها فصحاء المتأخرين وغيرهم مما لا يسع أحد حصرها
غلطا وهو غلط لا يلتزم به ذو مسكة وربما فصل بعض الأفاضل بين
الألفاظ التي ضبطوا معانيها المجازية كالحروف وصيغ الامر و
النهي وبين غيرها فاقتصر في الأول على القدر المنقول دون الثاني فإن
أراد الظاهر في الصورة الأولى أن لا يكون هناك معنى آخر
يكون بينه وبين معانيها الحقيقية علاقة معتبرة لحصرهم المعول فيه
عندهم على الاستقراء فله وجه إن ثبت منهم في مقام حصر وإلا
فضعفه ظاهر ثم ذكر جماعة أن أنواع العلاقة ترتقي إلى خمسة و
عشرين نوعا ونحن نذكر عدة منها ويمكن إرجاع البواقي إليها و
هي المشابهة إما بالاشتراك في الشكل كالفرس للصورة المنقوشة أو
الجسم المعمول على هيئته أو في صفة ظاهرة كالأسد للرجل
الشجاع واحترزوا بقيد الظهور عن إطلاقه على الأبخر ونحوه فإنه لا
يصح وأن معناه المستعمل فيه كان على معناه الأصلي كالعنب
للعصير وأنه يئول إليه كالعصير للعنب وكونه جزه كالأصابع للأنامل و
بالعكس كالرقبة للانسان والعين للربيئة واشترطوا في هذا
النوع أن يكون الجز من مقومات الكل حتى إنه يصح إطلاق العين
على الربيئة من حيث كونه ربيئة ولا يصح إطلاقه عليه من حيث كونه
إنسانا وكونه أعم منه كالمرسن للأنف أو أخص منه كالأنف للمرسن إذا
أريد به من حيث الخصوصية وكونه مسببا عنه كالغيث للنبات
أو سببا له كالنبات للغيث أو مشروطا به كإطلاق الايمان على الصلاة
في قوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم على ما قيل وكونه
حالا فيه كالقرية لأهلها وعكسه كعكسه وكونه مظروفا له كالنهر لمائه
وعكسه كعكسه وكونهما في محل واحد كالحياة للعلم و
المجاورة في الخارج في محلين أو حيزين ومثل بإطلاق السلطان على
الوزير أو في
الخيال كإطلاق أحد الضدين على الاخر لأنهما كالمتلازمين في التصور
كما في قوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها فاعتدوا عليه بمثل ما
اعتدى عليكم أو في الذكر ويعبر عنها بعلاقة المشاكلة أيضا ومرجعها
إلى التعبير عن الشئ بلفظ غيره لوقوعه في جنبه كإطلاق
الطبخ على الخياطة في قوله قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت
اطبخوا لي جبة وقميصا ومن حصر العلاقة في الاتصال صورة أو
معنى
أراد بالاتصال الصوري علاقة المشاكلة وبالاتصال المعنوي البواقي و
منهم من جعل إطلاق الطبخ على الخياطة لعلاقة المجاورة في
الخيال لان خياطة الجبة والقميص لما كانت مطلوبة عنده ارتسم
صورتها في خياله لكثرة ما ناجى به نفسه فإذا أورد صورة الطبخ في
خياله جاز أن يعبر به عنها ورد على من جعل الاستعمال فيه بعلاقة
المجاورة في الذكر بأن الأكثر لم يذكروها وأن حصولها بعد
الاستعمال والعلاقة لا بد أن تكون حاصلة قبله ويمكن دفع الأول بأن
الأكثر لم يحافظوا على حصر الأنواع فلا يكون في عدم ذكرهم
لها ودلالة على عدم اعتبارها والثاني بأن المراد بالمجاورة ما يتناول
المجاورة الشأنية وهي حاصلة قبل الاستعمال أيضا هذا و
التحقيق عندي أن هذه العلاقة والتي قبلها مما لا عبرة بهما فإن إطلاق
أحد الضدين على الاخر ليس للمجاورة في الخيال للقطع بأنها
غير ملحوظة عند الاستعمال على ما هو شأن العلاقة المصححة بل إما
لعلاقة التضاد أو لغيرها من العلاقات فإن كون الشئ فرد المفهوم
أحد الضدين يصحح تنزيله منزلة كونه فردا لمفهوم الضد الاخر و
استعارة لفظه له قصدا إلى التمليح أو التهكم كقولك للجبان هو أسد
فتنزل ما فيه من الجبن منزلة الشجاعة أو تنزله منزلة أحد أفراد الشجاع
قصدا إلى ما ذكروا العلاقة هي التضاد بالتأويل المذكور وقد
يطلق عليه اسم الضد لعدم الاعتداد بما فيه من الوصف كقولك للعالم
هو جاهل أو للمشابهة ومنها إطلاق السيئة على مجازات السيئة حيث
إنها تقع على صورة السيئة وإن تجردت عن وصفها ويجوز أن يكون
لعلاقة الثانية لأنها من شأنها أن تكون سيئة وإن عرت عنها
بالعرض كما في إطلاق المنكر على الخمر المراقة وأن يكون لعلاقة
السببية و
المسببية حيث إنها مسببة عنها وأما إطلاق الطبخ على الخياطة فليس
لعلاقة المجاورة بكلا قسيمها لما مر من أنها غير ملحوظة في
24

بل لعلاقة الاشتراك في المطلوبية وتحقيقه أن السامع ينزل ما هو
مطلوب عنده واقعا من الجبة والقميص منزلة ما فرضه السائل مطلوبا
له من الشئ المطعوم الذي واعده على بذله بدليل نسبة الطبخ إليه
فهو يدعي اتحادهما في الجنس قصدا إلى إلزام المخاطب على
حسب
ما التزم به وعلى هذا فكل من الجبة والقميص استعارة بالكناية لعلاقة
الاشتراك في وصف المطلوبية وهي وإن كانت في نفسها
ضعيفة لكنها تقوى بالنكتة المذكورة أعني ترتب الالزام بالفعل
المطلوب ونسبة الطبخ حينئذ إلى الجبة والقميص من قبيل نسبة
النقض
إلى العهد فتكون استعارة تحقيقية واعلم أن من جملة العلائق علاقة
الاستعمال ولم أقف على من تنبه لذلك وهي أن يستعمل اللفظ
الموضوع لمعنى في معنى آخر لا يكون بينهما في نفسهما علاقة
معتبرة لكن ينضم إليهما بحسب بعض الموارد نكات وخصوصيات
تحققها فيها كما مر في إطلاق الطبخ على الخياطة فيستعمل فيها في
المعنى الاخر مجازا فيتحقق من جهة الاستعمال هناك ولو بعد
التكرير علقة يصح معها الاستعمال فيه وإن تجرد عن تلك النكتة و
الخصوصية فإن الاستعمال كما قد يوجب النقل كذلك قد يوجب
تحقق العلاقة المعتبرة وكثيرا ما يوجب الاستعمال تكميل العلاقة
الناقصة على حذو ما مر ولهذا ترى أن التجوز قد يصح في لفظ ولا
يصح في مرادفه كما في الرقبة فإنها تطلق على العبد والجيد يرادفها و
لا يطلق عليه وأما ما يتخيل من أن المجاز قد يصح بدون العلاقة
إذا نص الواضع على الرخصة في بعض الموارد بدونها ويجعل منه
التجوز في جملة من معاني الحروف حيث لا علاقة بينها وبين معانيها
الأصلية فيظهر ضعفه مما قررناه مضافا إلى مخالفته لاجماع القوم
حيث اعتبروا العلاقة المعتبرة في صحة المجاز وإن لزم مخالفتهم
على الأول في عدم اختصاص العلاقة المعتبرة بتحققها بين المعنيين و
الامر فيه سهل ثم اعلم أن الأكثر لم يبالغوا في في حصر أنواع
العلاقة وضبطها كما يشهد به تصفح كتبهم وكان ذلك تنبيه منهم على
أن المعتبر في العلاقة إنما هو تحقق المناسبة التي يقبل الطبع
إطلاق اللفظ الموضوع لأحدهما على الاخر وأن الوجوه المذكورة من
مظانها وهذا هو التحقيق الذي ينبغي تنزيل كلماتهم عليه و
أما ما سبق إلى بعض الأوهام من أن الواضع قد اعتبر هذه الأنواع من
حيث الخصوص وأن أهل اللغة قد نقلوها فليس لنا التعدي عما
نقلوه ففي غاية السقوط للقطع بأن ليس هناك نقل ينتهي إلى الواضع و
لا ادعاه أحد وإنما القوم تصفحوا كلمات العرب فوجدوهم
يطلقون بعض الألفاظ على ما يناسب معانيها الأصلية فعمدوا إلى
تلك المناسبة فوجدوها في موضع مناسبة المشابهة وفي آخر مناسبة
السببية إلى غير ذلك فعبروا عن كل باسم يخصه ثم إنهم إن أرادوا
بذلك ما ذكرناه فلا كلام وإن أرادوا أن الواضع قد اعتبر هذه
العلاقات بخصوصها كما نسبه التفتازاني إليهم مدعيا عليه الوفاق
فمجرد الاستعمال لا يساعدهم على ذلك وليس لهم مستند سواه
على
أنه لو اعتبر هذه الأنواع على الخصوص فإن كان على الاطلاق لزم
الاطراد والضرورة قاضية بعدمه وأما ما اعتذر به عنه بعضهم من أن
عدم الاطراد في بعض الموارد لمانع خارجي كنصهم بالمنع أو
لخصوصية المحل أو عدم اكتفاء الواضع في مثل الصورة الممنوعة
بتلك
العلائق فضعفه واضح أما الأول فلان الموارد الممنوعة مع اشتمالها
على موارد مستحدثة مما لا حصر لها فيتعذر النص عليها والضبط لها
على الخصوص وليس هناك قاعدة كلية يمكن معرفتها بالرجوع إليها
سوى ما ذكرناه مع أن موارد الرخصة أقل منها فهي بالنص عليها
أولى وأما الأخيران فلان الفرض إطلاق الوضع والرخصة وتأثير
المحل فيه غير معقول ودعوى عدم اكتفاء الواضع لا يلائم الاطلاق
المدعى وإن اعتبروها بشرط كونها بحيث يقبل الطبع إطلاق لفظ
أحدهما على الاخر فاعتبار قبول الطبع مغن عن اعتبار خصوصية
الموارد فيلغو اعتبارها وإن اعتبروها في الجملة لزم القول بتوقفه على
النقل وقد أشرنا إلى فساده فظهر مما حققنا أن المعتبر في
العلاقة المصححة للتجوز هي المناسبة التي يقبلها الطبع سواء وجدت
في ضمن إحدى العلاقات المذكورة أو في غيرها والعلاقات
المذكورة إنما تعتبر إذا تضمنت هذه المناسبة لا يقال فعلى هذا يلزم
الدور لان استحسان الطبع كان دورا لأنا نقول لا يتوقف
استحسان الطبع على رخصة الواضع بل على تحقق العلاقة
ولهذا يمكن الحكم بحسن مجاز مع الشك في جوازه ثم المدار في
الطبع على طبع أهل الاستعمال وهذا قد يختلف باختلاف الطباع و
لهذا يرى أن بعض المجازات المعتبرة في اللغة العربية لا يستحسن في
مرادفاتها من لغة أخرى ثم اعلم أن العلائق المعروفة إنما تعتبر
إذا كانت بين المعنى المجازي وبين المعنى الموضوع له فلا تعتبر إذا
كانت بينه وبين معنى مجازي آخر إلا إذا كانت بحيث توجب
العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي فتعتبر من هذه الحيثية ولهذا تراهم
يمنعون سبك المجاز من المجاز والدليل عليه عدم مساعدة الطبع
أو الرخصة على الاعتداد بمثل تلك العلاقة لبعدها عن الاعتبار
تنبيه
التحقيق عندي أنه لا حاجة في المجاز إلى الوضع والرخصة بل جوازه
طبعي مبني على المسامحة والتأويل في الوضع الأصلي حيثما
يتحقق بين المعنيين علاقة معتبرة عند الطبع وإن كان وقوع الاستعمال
في بعضها مما يوجب تأكد العلاقة أو تعميم مواردها فإن
الضرورة قاضية بأن من وضع لفظا بإزاء الشمس جاز إطلاقه على وجه
يشابه الشمس في الحسن والبهاء بملاحظة وضعه للشمس وإن
قطع النظر عن كل اصطلاح إلى غير ذلك وهذا في الاستعارة ظاهر و
في غيرها لا يخلو من نوع خفاء ولا يلزم من ذلك خروج
المجازات عن كونها عربية إذ يكفي في النسبة توقفها على أوضاع
عربية وابتنائها عليها وكذلك نسبة المجاز إلى سائر اللغات و
الاصطلاحات
فصل
قد عرفت أن المجاز قد تكون علاقته المشابهة وقد تكون غيرها وقد
اصطلح علماء البيان على تسمية النوع الأول استعارة والثاني
مجازا مرسلا وفي المقامين أبحاث يناسب المقام إيرادها فنقول ذهب
الجمهور إلى أن الاستعارة مجاز لغوي بمعنى أن التصرف في
أمر لغوي بدليل أنها موضوعة للمشبه به لا المشبه ولا الأعم منهما و
قد استعملت
25

في المشبه ضرورة أن المراد بقولنا أسد يرمي إنما هو الرجل الشجاع لا
غير فيكون مجازا لغويا
وخالف في ذلك شرذمة فجعلوها مجازا عقليا بمعنى أن التصرف في
أمر عقلي واحتجوا بأنها لم تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء أنه من
جنس المشبه به فهي مستعملة فيما وضعت له فتكون حقيقة لغوية و
أجيب عن هذه الحجة بأن دعوى دخول المشبه في جنس المشبه به
لا
توجب دخوله فيه حقيقة فلا تكون مستعملة فيما وضعت له حقيقة
فلا تكون حقيقة أقول والتحقيق أنه إن أطلق الأسد وأريد به الرجل
الشجاع أو زيد مثلا وادعي أنه الأسد اتجه مقالة الجمهور لظهور أن
دعوى كونه أسدا لا يجعله أسدا ولفظ الأسد موضوع للأسد
الحقيقي لا الادعائي وإن أطلق وأريد به معناه الحقيقي أعني طبيعة
السبعية وقيدت بخصوصية الرجل الشجاع أو زيد مثلا بدلالة
القرينة لدعوى حصولها وتحققها في ضمنه على حد تقييدها
بخصوصية الفردية عند إرادتها في ضمن الفرد الحقيقي اتجه مقالة
البعض
من أن لفظ الأسد مستعمل فيما وضع له غاية الامر أن يكون وجودها
في ضمن ذلك الفرد مبنيا على مجرد الدعوى وذلك لا يوجب
التجوز في لفظ الأسد لأنه موضوع للماهية من حيث هي نعم يوجبه
في التنوين حيث تكون للتنكير لأنها حينئذ موضوعة لتقيد مدخولها
بأفرادها الواقعية على البدلية لا الادعائية ولو أعمل هذا التصرف في
تمام مدلول النكرة لم يوجب التجوز في التنوين أيضا ولا خفاء في
صحة الاستعمال على الوجهين وبه يسقط كلية الدعوى في كلام
الفريقين هذا إذا أطلق لفظ المشبه به على المشبه وأما إذا حمل عليه
كما
في قولك زيد أسدا وعلمته أسدا أو نحو ذلك فالأكثر على أنه تشبيه
بليغ أما كونه تشبيها فلاشتماله على ذكر المشبه وقد اشترطوا في
الاستعارة أن يطوي ذكره بالكلية بحيث لا يكون في الكلام لا لفظا ولا
تقديرا وأما كونه بليغا فلحذف ركني التشبيه منه أعني الوجه و
الأداة فيقرب من الاستعارة ويلوح من دلائل الاعجاز الفرق بين ما
يضعف فيه تقدير أداة التشبيه كالمثال المذكور أو يمتنع كقوله
أسد،
دم الأسد الهزبر خضابه وبين غيره كقولك زيد الأسد فجعل الأول
استعارة والثاني تشبيها واختار التفتازاني أن الأسد في المثال
المذكور استعارة لأنه مستعمل في الرجل الشجاع والمعنى زيد رجل
شجاع كالأسد واحتج على ذلك بأنه كثيرا ما يتعلق به حرف الجر
كما في قوله أسد علي وفي الحروب نعامة والمعنى مجترئ علي إذ لا
يتعلق حرف الجر باسم الذات واعترض عليه بأنه يجوز أن يكون
أسد مستعملا في معناه الحقيقي ويتعلق به حرف الجر لما لوحظ فيه
من معنى الوصفية كما لو جعل استعارة عن الرجل الشجاع فإن
الشجاع قيد خارج عن معنى اللفظ كما اعترف به في مقام آخر فلا
يكون في تعلق حرف الجر به دليل على كونه استعارة ولو جعل
بمعنى الشجاع لم يكن استعارة بل مجازا مرسلا من إطلاق الملزوم
على اللازم هذا والتحقيق أنه إن كان زيد في المثال المذكور هو
المشبه فهذا مع بعده يتعين الحمل فيه على التشبيه لئلا يكون الكلام
من قبيل قولنا زيد زيد فإن هذا المعنى غير مفهوم منه قطعا وأما ما
عللوا به من أن شرط الاستعارة حذف المشبه من الكلام بالكلية فليس
بشئ لأنه منقوض بمثل قولك صادفت الأسد زيدا إذا أردت
بالأسد زيدا بعلاقة الشجاعة وجعلت زيدا بيانا له فإنه حينئذ استعارة
لا غير مع أن المشبه مذكور وكذلك الخيط الأبيض في قوله
تعالى حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فإن
التحقيق أن الخيط الأبيض استعارة للفجر أو للشئ الأبيض
المستطيل ولفظ من الفجر بيان له وقرينة على الاستعارة والحمل
على التشبيه كما فعلوه بعيد لأنه يستدعي تكلفا لا حاجة إليه حتى
إنهم حملوا الخيط الأسود أيضا على التشبيه لان بيان المشبه في
الخيط الأبيض بالفجر يرشد إلى بيان المشبه في الخيط الأسود بسواد
آخر الليل فيكون المشبه فيه مقدرا وإن لم يكن هو المشبه جاز الحمل
على التشبيه بتقدير سائر أركانه والاستعارة بحمل الأسد على
معنى رجل شجاع ويجوز الحمل على الحقيقة بالتأويل في الاسناد
لاجرائه على غير من هو له حقيقة وأول الوجوه أبعدها
وهو على بعده يتطرق في كثير من أقسام الاستعارة والأخير أقرب
سيما بالنسبة إلى المواضع التي يقصد فيها المبالغة وما قيل في
دفعه من أن حمل الأسد على معناه الحقيقي ينافي حمله على زيد
فضعيف لان ذلك إنما ينافي الحمل بحسب الحقيقة لا بحسب
الدعوى إذ
دعوى أن زيدا قد بلغ في الشجاعة إلى أن صار من أفراد الأسد
الحقيقي مما لا غبار عليه وأما المعنى الثاني فغير بعيد في نفسه وإن
كان بعيدا عن مقام المبالغة
ثم اعلم أن محققي علم البيان زعموا أن مبنى الاستعارة على دعوى
دخول المشبه في جنس المشبه به فمنعوا الاستعارة في الاعلام
الشخصية لان العلمية تنافي الجنسية إلا أن يشتمل على نوع وصفية
كحاتم ووجه التفتازاني بما حاصله أن المستعير يتأول في وضع
اللفظ فيجعله كأنه موضوع للمعنى الأعم مثلا يجعل لفظ الأسد كأنه
موضوع للشجاع ويجعل حاتم كأنه موضوع للجواد وبهذا التأويل
يتناول الفرد المتعارف الذي هو الحيوان المخصوص والرجل
المعروف من قبيلة طي والفرد الغير المتعارف الذي هو الرجل الجواد
لكن استعماله في الفرد الغير المتعارف استعمال له في غير ما وضع له
فيكون استعارة هذا محصل كلامه ويؤيده من كلامهم ما ذكروه
في تقسيم الاستعارة من أنها إن كانت اسم جنس فأصلية وإلا فتبعية
فإن الاستعارة في العلم أصلية قطعا فيتعين أن يكون اسم جنس ولا
يتم إلا بالتأويل المذكور لكن يشكل هذا بأنهم عرفوا اسم الجنس بما
دل على ذات كلية لا باعتبار صفة فلا يدخل فيه العلم قبل التأويل
لعدم الكلية ولا بعده لاعتبار الصفة فيه هذا ونحن نقول إن أرادوا أن
الاستعارة تختص باستعمال لفظ المشبه به في المشبه على
26

دعوى دخوله فيه فمخالف لما ذكروه من أن المجاز إن كان علاقته
المشابهة فاستعارة وإلا فمجاز مرسل ولما ذكروه في حد
الاستعارة من أنها المجاز الذي يكون علاقته المشابهة أو أنها الكلمة
المستعملة في غير ما وضعت له بعلاقة المشابهة إلى غير ذلك وإن
أرادوا أن هذا النوع من العلاقة أعني المشابهة لا تعتبر إلا حيث يتحقق
الادعاء المذكور ففساده ظاهر لان علاقة المشابهة لا تقصر عن
سائر العلاقات في حصول المناسبة المصححة للاستعمال بها فكما
يصح إطلاق القرية على أهلها والغيث على النبات مثلا لما بينهما من
المناسبة الناشئة من الحلول والسببية من غير أن يقع هناك دعوى
دخول أحدهما في جنس الاخر كذلك يصح إطلاق اللفظ على مشابه
معناه نظرا إلى الارتباط الحاصلة بينهما من المشابهة من غير حاجة إلى
دعوى دخول أحدهما في جنس الاخر بل المشابهة أقوى في
حصول العلاقة والارتباط بها فهي أولى بأن يصح التعويل عليها
بمجردها الذي يدل على ذلك القطع بصحة إطلاق الانسان مثلا على
الصورة المنقوشة بعلاقة المشابهة وإن لم يتعلق الغرض بادعاء
المذكور نعم كثيرا ما يتعلق الغرض بالادعاء المذكور إذا كان المقام
مقام مبالغة على ما عرفت تحقيق القول فيه هذا إذا كان لفظ الاستعارة
اسم جنس وأما إذا كان علما شخصيا فالادعاء المذكور لا يتأتى
فيه قطعا وذلك أن قول القائل رأيت اليوم حاتما يحتمل وجوها
أحدها أن يكون تشبيها بتقدير سائر أركانه لكنه بعيد كما مر الثاني
أن يكون استعارة للمرئي بعلاقة المشابهة الثالث أن يكون استعارة
على دعوى أنه الشخص المعروف وهذا هو الظاهر من مقام
المبالغة الرابع أن يكون بمعنى الجواد المطلق فيكون مجازا مرسلا
الخامس أن يكون مستعملا في معنى الرجل الجواد المشبه بحاتم
فيكون استعارة والوجوه المحتملة لا تزيد على الخمسة وليس
المشبه في شئ من هذه الصور داخلا في المشبه به أما في الثلاثة
الأول
فظاهر وأما في الصورة الرابعة فلعدم اعتبار المشابهة وأما في الخامسة
فلان المشبه هو الرجل الجواد وهو غير داخل في
حاتم إذ لا يصدق حاتم عليه وعلى غيره وأما ما ذكره التفتازاني في
تحقيق كلامهم فليس بشئ لأنه بعد التأويل في وضع اللفظ بأن
يجعل الأسد كأنه موضوع للشجاع وحاتم كأنه موضوع للجواد إن
استعمل في هذا المعنى التأويلي كان مجازا مرسلا لا استعارة كما مر
وأيضا لا وجه حينئذ لجعل الرجل الشجاع والرجل الجواد من الافراد
الغير المتعارفة بل هما بعد التأويل من الافراد المتعارفة قطعا إلا
أن يراد بها ما يتعارف إطلاق اللفظ عليها مطلقا وعند عدم القرينة و
هو تكلف بين وإن أراد أنه إنما استعمل بعلاقة المشابهة وأن
التأويل المذكور إنما هو لدخول المشبه في المشبه به ففساد ظاهر إذ لا
فائدة حينئذ في اعتبار التأويل هذا إذا كان المذكور لفظ
المستعار منه وهو المعبر عنه بالاستعارة المصرحة وأما إذا كان
المذكور لفظ المستعار له ويعبر عنه بالاستعارة بالكناية كما إذا
أطلق المنية على الموت بادعاء السبعية لها ودل عليه بإثبات ما هو
من خواص السبع لها من الأنشاب والأظفار ونحوهما فقد زعم
السكاكي أنه من المجاز اللفظي لان المنية في الفرض المذكور لم يطلق
إلا على السبع بادعاء السبعية لها ورده غيره بالقطع بأن لفظ
المنية لم تطلق إلا على المنية ودعوى السبعية لها لا يخرجها عن كونها
مستعملة في معناها فلا يكون مجازا وظني أن السكاكي يدعي أن
لفظ المشبه قد أخذ بمعنى المشبه به مجازا وأطلق على المشبه
كإطلاق الانسان بمعنى الضاحك على الانسان فيكون مجازا لا غير و
الذي
ينبه على أنه أراد ذلك دعواه الترادف بين لفظ المنية والسبع وقوله
إنهما موضوعان لمعنى واحد والقوم لما غفلوا عن هذه الدقيقة
أخذوا في الاعتراض عليه بما لا مساس له بكلامه نعم يرد على
السكاكي أن ذلك تعسف لا يساعد ظاهر الاستعمال عليه ثم قد يكون
قرينتها استعارة تخييلية كما مر من إثبات الأظفار للمنية فإن المراد بها
معناه الحقيقي ودعوى السكاكي أنها استعارة لصورة وهمية
في المنية فيكون من أقسام الاستعارة التصريحية مما لا وجه له وقد
يكون
استعارة تصريحية كما في قوله تعالى ينقضون عهد الله فإنه لما نزل
العهد منزلة الحبل نزل إبطاله منزلة نقضه فالتنزيل الثاني قرينة
على التنزيل الأول
تتمة
المعروف بينهم أن المجاز كما يكون في المفرد على ما سبق بيانه
كذلك يكون في المركب وحده استعمال المركب أو المركب
المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما وإن كانت العلاقة مشابهة
سميت استعارة تمثيلية أيضا كقولهم للمتردد في أمر أراك تقدم
رجلا وتأخر أخرى فيصح فيه أن يلاحظ ما يلزم من يقدم رجلا ويؤخر
أخرى عادة من التردد وعدم ثبات الرأي فيطلق عليه الألفاظ
الموضوعة بإزاء ملزومه بعلاقة اللزوم فيكون مجازا مركبا وأن يشبه
حالة إقبال المخاطب المتردد على الامر تارة وإدباره عنه أخرى
بحالة من يتردد في سلوك طريق فيقدم رجلا ويؤخر أخرى بجامع
التردد وعدم الثبات والتداني إلى المقصود تارة والتباعد عنه
أخرى فيكون استعارة تمثيلية أيضا ثم إنهم بنوا أمر المجاز المركب
على ثبوت الوضع للمركبات فالتزموا القول بأن المركبات
موضوعة بإزاء المعاني المركبة كما أن المفردات موضوعة بإزاء
المعاني المفردة وخالف في ذلك العضدي فأنكر المجاز المركب
رأسا
وخصه بالمفرد محتجا عليه بأن المركبات لا وضع لها فلا يتطرق
التجوز إليها إذ التجوز من توابع الوضع والحق ما ذهب إليه
الأكثرون من ثبوت المجاز في المركب لكنه عندي لا يبتني على أن
يكون للمركب وضع مغاير لوضع مفرداته كما زعموه بل يكفي فيه
مجرد وضع مفرداته لمعانيها الافرادية فإن كل مفرد من المفردات إذا
دل على معناه الافرادي بالوضع فقد دل المركب منها على
المركب منه بالوضع إذ المراد بالمعنى المركب هو نفس مداليل
المفردات المشتملة على النسبة كما أن
27

باللفظ المركب هو نفس الألفاظ المفردة المشتملة على النسبة اللفظية
وكما يجوز بقاعدة الوضع أو الطبع أن يستعمل اللفظ المفرد في
غير معناه الأصلي إذا كان بينه وبين معناه الأصلي علاقة كذلك يجوز
بالقاعدة المذكورة أن يستعمل اللفظ المركب في غير معناه
الأصلي إذا كان بينهما علاقة وإن لم يكن بين المفردات علاقة
فالمركب المستعمل في غير معناه الأصلي مجاز بالنسبة إلى وضع
مفرداته فظهر أنه يكفي في مجازية المركب استعماله في غير ما وضع
له مفرداته كما أنه يكفي في كونه حقيقة فيه استعمال مفرداته
فيما وضعت بإزائه وأما ما التزموا به من أن المركبات موضوعة بإزاء
معانيها التركيبية بوضع مغاير لوضع مفرداتها ففساده ظاهر إذ
بعد وضع المفردات أعني الطرفين والنسبة لا حاجة إلى وضع
المركب لحصول المقصود بدونه فإن وضع الطرفين لطرفي الحكم و
النسبة اللفظية للنسبة الذهنية من حيث قصد مطابقتها للواقع وكشفها
عنه كاف في إفادة ما هو المقصود قطعا فلا يبقى هناك حاجة
تمس إلى وضع المركب وأيضا لو كان المركب من الطرفين والاسناد
موضوعا بإزاء المركب من مداليلها لدل كل جملة خبرية بحسب
وضعها على الاخبار بوقوع مدلولها مرتين تارة تفصيلا كما ذكرناه و
أخرى إجمالا لما ذكروه وعلى قياسها الجمل الانشائية وغيرها
وهذا مما لا يلتزم به ذو مسكة نعم لو قيل بأن الهيئة التركيبية أو ما يقوم
مقامها موضوعة لمجرد النسبة والربط والمجموع المركب
موضوع لإفادة مطابقتها للواقع لم يلزم منه المحذوران لكنه مع فساده
في نفسه بشهادة الوجدان على خلافه ومخالفته لظاهر كلماتهم
بل صريحها غير مجد في المقام إذ لم يقصدوا بالتجوز في المركب
التجوز في مثل هذا المعنى ثم إن العلامة التفتازاني قطع بأن
المفردات في المجاز المركب مستعملة في معانيها الأصلية والتجوز
إنما هو في استعمال المركب ووافقه المحقق الشريف عليه ومن
الناس من ذهب إلى أنها مستعملة في معانيها المجازية نظرا إلى انتفاء
التقديم والتأخير والرجل مثلا هناك هذا ما وقفنا عليه من
كلماتهم ولا يخفى ما فيها من الضعف لان اللفظ في إطلاق واحد لا
يصح أن يقع مستعملا في معنييه على ما سيأتي تحقيق الكلام
فيه سواء كان إفراديين أو كان أحدهما إفراديا والاخر تركيبيا وسواء
كانا حقيقيين كما لو قيل عبد الله وأريد به مسماه باعتبار
معناه التركيبي ورجل آخر باعتبار معناه الإضافي أو مجازيين كما في
المقام على الوجه الثاني أو كان أحدهما حقيقيا والاخر مجازيا
كما في المقام على الوجه الأول لان مستندنا على المنع مطرد في
الجميع على أن كلامهم لا يبتني على مجرد الجواز بل على تعيين
الاستعمال أو ظهوره كما لا يخفى وهو أظهر فسادا من القول بالجواز
بل التحقيق أن مفردات المجاز المركب غير مستعملة في شئ من
معانيها لا الحقيقية ولا المجازية وإنما المستعمل هو المجموع وما
يسبق إلى النظر من أن اللفظ المفرد لا يقع في صحيح الاستعمال إلا و
المراد به إما معناه الحقيقي أو المجازي فإنما يتجه إذا كان اللفظ المفرد
يبقى على إفراده وأما إذا جعل مركبا مجازيا صح أن يتجرد
عنهما كما لو جعل مركبا حقيقيا مع أن الحصر منقوض بصورة الحكاية
كما مر ثم قولهم بأن مفرداتها مستعملة في معانيها الحقيقية لا
يتجه بالنسبة إلى ما يدل على الاسناد إلا حيث يقصد الاسناد وظاهر
أن صحة المجاز المركب لا يتوقف عليه وقول المحقق الشريف في
المثالين المذكورين ولا تجوز في الهيئة التركيبية لان إسناد التردد إلى
المخاطب حقيقة وإنما المجاز فيما عبر عن التردد ظاهر
الفساد لان الاسناد اللفظي في تقدم وتأخر موضوع لاسناد المعنى
الذي أريد من حدثي التقدم والتأخر إلى المخاطب لا لاسناد حدث
آخر إليه أريد من المركب لا منفردا ولا منضما فإن ذلك على تقدير
صحته لا يكون إلا مجازا ولو اعتبر التجوز في تقدم وتأخر فقط
خرج عن كونه استعارة تمثيلية مع أنه تكلم على تقديرها ويشبه أن
تكون كلماتهم هذه ناشئة من الخلط بين المجاز المركب والكناية
المركبة لتقاربهما في المعنى وتوضيحه أن قولنا أراك تقدم رجلا و
تأخر أخرى يستعمل تارة باعتبار التركيب في معنى قولنا أراك
مترددا بحيث لا يراد به إلا هذا المعنى وظاهر أن هذا المعنى غير
معناه الأصلي فيكون مجازا لا محالة وليس شئ من مفرداته حينئذ
مستعملا في معنى وإنما لوحظ معانيها واستعمل المجموع و
يستعمل أخرى ويراد به معاني مفرداته حقيقة أو مجازا لينتقل منها
إلى
لازمها وهو إسناد التردد إلى المخاطب ويكون حينئذ كناية وكذلك
قولك هو كثير الرماد وجبان الكلب ومهزول الفصيل فإنها قد
تطلق ويراد بها كونه جوادا فيكون حينئذ مجازا مركبا وقد تطلق ويراد
به معناها لينتقل منه إلى لازمه وهو كونه جوادا وحينئذ
يكون كناية ولك أن تعتبر الوجهين في جانب المحمول فإن المجاز
المركب على ما يساعد عليه التحقيق لا يختص بالمركبات التامة فما
ذكروه من أن المفردات في المثال المذكور مستعملة في معانيها إنما
يتم على التقدير الثاني وما ذكروه من أن المجموع مستعمل في
معنى أراك مترددا إنما يتم على التقدير الأول ثم اعلم أن محققي
علماء البيان جعلوا الكناية قسيما للحقيقة والمجاز وعرفوها بلفظ
أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه فأخرجوها عن حد الحقيقة
لكونها مستعملة في غير ما وضعت له وعن حد المجاز لاعتبارهم فيه
الاقتران بالقرينة المانعة عن إرادة ما وضعت له وعدمه فيها فالمراد
بطويل النجار وكثير الرماد طويل القامة والجواد مع جواز إرادة
معناهما الأصلي أيضا ووجهه التفتازاني بأن المراد جوازه من حيث
كونه كناية وإن امتنع من حيث خصوص المادة كما في قوله تعالى
ليس كمثله شئ إذا جعلناه كناية من قبيل قولهم مثلك لا يبخل على
ما صرح به صاحب الكشاف وأيضا كثيرا ما تخلو الكناية عن إرادة
المعنى الحقيقي كما يقال فلان كثير الرماد وجبان الكلب وإن لم يكن
له رماد ولا كلب واعترض بذلك على السكاكي حيث جعل المراد
في الكناية معنى اللفظ مع لازمه أقول والتحقيق أن الكناية تقع على
أنحاء الأول أن يستعمل اللفظ في الملزوم لينتقل منه إلى اللازم أو
اللفظ المستعمل كذلك فإن كان الملزوم معنى حقيقيا للفظ كان
استعماله حقيقة
28

وإن كان معنى مجازيا كان مجازا فقولنا زيد كثير الرماد جملة خبرية إن
استعملت في معناها الحقيقي بأن قصد بها الاخبار عن كثرة
الرماد حقيقة لينتقل منه إلى لازم معناه أعني كونه جوادا كان اللفظ لا
محالة لأنه لم يستعمل حينئذ إلا فيما وضع له وقصد الانتقال منه
إلى لازمه غير مخل بذلك وإن استعملت في صورة معناها بأن قصد
بها صورة الاخبار عن كثرة رماده لينتقل منه إلى لازمه لزم
التجوز في الاسناد لأنه لم يوضع لصورة الاخبار بل لحقيقته فيكون
اللفظ باعتباره مجازا وعلى التقديرين تكون الكناية في المركب و
يمكن أن يجعل المحمول حقيقة في المثال المذكور هو الجواد
المدلول عليه بذكر ملزومه ولفظ كثير الرماد وإن كان محمولا عليه
بحسب الظاهر لكن إنما جي به لينتقل منه إلى المحمول الحقيقي
أعني الجواد فيحمل عليه فتكون الكناية في المفرد أعني المحمول و
على التقادير يكون اللفظ مستعملا في الملزوم للانتقال إلى اللازم فكل
منهما مراد منه لكن أحدهما بلا واسطة والاخر بواسطة وأما لو
استعمل كثير الرماد في الجواد نظرا إلى علاقة اللزوم كان مجازا مرسلا
قطعا كما مر الثاني أن يستعمل اللفظ في لازم معناه بقرينة
خفية وأمارة ضعيفة في موارد يتسامح فيها في الدلالة ويكتفي فيها
بمجرد الايهام والإشارة حتى إن المستعمل حينئذ قد تدعوه
الحاجة إلى الانكار فينكر إرادة اللازم ويمنع السامع من التسامح في
تنزيل كلامه ولو فسر الكناية بهذا الوجه أمكن الفرق بينها وبين
المجاز بحسب الاصطلاح باشتراط الصراحة في قرينته أو الظهور
المعتد به ويصح تثليث الأقسام بالنسبة إلى علم البيان لتعلق القصد
فيه ببيان مطلق الدلالة وتثنيتها بالنسبة إلى هذا العلم إذ لا عبرة في
مقام الاستدلال بمثل تلك الدلالة الثالث أن يستعمل اللفظ في معناه
أو في لازمه مع نصب أمارة موجبة لتردد السامع بينهما تنبيها على أن
إرادة كل منهما مناسب للمقام وهذا في غير المشترك إنما يتم
على القول بأن قرينة المجاز قد تكافؤ ظهور الحقيقة بحيث يحصل
التردد بينهما كما ينبه عليه مصير بعضهم إلى التوقف في المجاز
المشهور وأما على القول بأن عدم ظهور المجاز يوجب ظهور الحقيقة
فلا يتم ذلك الرابع أن يستعمل
اللفظ في أحد معانيه المتكافئة في الظهور حقيقية كانت أو مجازية أو
مختلفة وينبه بقرينة خفية يعول عليها في مقام التسامح قصدا إلى
التمكن من الانكار مع الحاجة الخامس أن يستعمل اللفظ ويراد به
أحد معانيه الحقيقية أو المجازية وينبه بقرينة حالية أو مقالية على أن
المعنى الاخر أيضا مناسب للمقام وهذا النوع متداول في الاستعمال
هذا وأما ما ذكروه من أن لفظ الكناية مستعمل في اللازم مع
الملزوم أو مع جواز إرادته معه فمبني على القول بجواز استعمال
اللفظ في معنييه وهو باطل عندنا على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وأما الفرق بينها وبين المجاز بوجود القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة
فيه دونها فغير مستقيم لان القرائن التي توجد في المجاز غالبا
إنما تساعد على إرادته دون نفي إرادة الحقيقة أ لا ترى أنهم يمثلون
المجاز بنحو رأيت أسدا يرمي أو في الحمام مع أن القرينة
المذكورة لا تنافي إرادة الحقيقة أيضا بدليل صحة عطف قولنا و
يفترس على الأول وفي الآجام على الثاني
تذنيب الحق أن النسبة الخبرية اللفظية موضوعة بإزاء النسبة الذهنية
المأخوذة من حيث كشفها عن الواقع وإراءتها له سواء طابقته أو لا
علم بها أو لا بشهادة التبادر وليست موضوعة لنفس النسبة الواقعية
وإلا لزم أن لا يكون لها في الاخبار الكاذبة معنى لانتفاء النسبة الواقعية
وليس في صحة السلب دلالة عليه ولا لنفس النسبة مجردة عن
اعتبار المطابقة للواقع وإلا لما دلت عليها وضعا ولا لها من حيث
مطابقتها للاعتقاد فقط أو مع الواقع لما مر من قضية التبادر نعم تدل
على المطابقة للاعتقاد بالالتزام فاعلم أيضا أن من المصادر ما معناه
الايجاد والابداع كالخلق والانبات ومنها ما معناه التسبب
الاعدادي ولو بوجه مخصوص كالولادة والايلاد ومنها ما معناه
القبول والاتصاف كالطلوع والاصفراء ومنها ما معناه الأعم ولو
بحسب بعض الأقسام كالسرور حيث يشترك بين القسمين الأولين
فيختلف ما يتعلق إسناد هذه المصادر وما يشتق منها بحسب
اختلافها في هذه المعاني فإن المسند إليه الحقيقي في القسم الأول هو
الفاعل الموجد وفي الثاني السبب المعد وفي الثالث المتصف و
القابل وهكذا ولعدم فرق بين هذه الأقسام توهموا أن إسناد السرور
إلى الرؤية في قولك سرني رؤيتك والطلوع إلى الشمس في
قولك طلعت الشمس مجاز عقلي كإسناد الانبات إلى الربيع ومنشؤه
عدم الفرق بين الفعل والفاعل باعتبار معناهما اللغوي وبينهما
باعتبار معناهما الاصطلاحي فإن الفعل الاصطلاحي قد لا يكون
مدلوله فعلا لغويا بل غيره كأن يكون انفعالا فيكون فاعله الاصطلاحي
حقيقة ما يكون قابله دون فاعله اللغوي وهكذا ثم اعلم أن في مثل
قولهم أنبت الربيع البقل وجوها أحدها أن ينزل الربيع منزلة الفاعل و
يدل عليه بإثبات بعض لوازمه من إسناد الانبات إليه فيكون الربيع
حينئذ استعارة بالكناية ويكون الانبات أو إسناده إليه استعارة
تخيلية ولا تجوز حينئذ فيه أما في طرفي الاسناد فظاهر وأما في
الاسناد فلان المراد به معناه الحقيقي على ما مر ولا يلزم الكذب
لابتنائه على التأويل في أحد طرفيه بخلاف الكذب فإنه لا يبتني
على التأويل الثاني أن يكون إسناد الانبات إليه مبنيا على دعوى كونه
فاعلا له نظرا إلى كونه سببا إعداديا له وحينئذ يكون المجاز
عقليا حيث أعطي ما ليس بفاعل حكم الفاعل وأثره وأقيم مقامه و
الفرق بين هذا الوجه والوجه المتقدم أنه لا تأويل هنا في نفس الربيع
بخلاف الوجه السابق الثالث أن ينزل تسببه الاعدادي منزلة التسبب
الفاعلي فيعبر عنه باللفظ الدال عليه وحينئذ يكون الاسناد مجازا
لغويا لأنه غير موضوع في مثل أنبت للتعلق بالسبب الاعدادي بل
الفاعلي هكذا ينبغي تحقيق المقام
فصل
لا ريب في أن اللفظ بعد الوضع وقبل الاستعمال لا يسمى حقيقة كما
لا يسمى مجازا لما عرفت من أنهما من نوع المستعمل ثم الحقيقة
29

لا تستلزم المجاز لجواز أن يختص الاستعمال بالمعنى الموضوع له و
هذا ظاهر وأما عكسه ففيه قولان والظاهر أن النزاع هنا في
الألفاظ اللغوية وأن المراد بالحقيقة والمجاز ما يتناول المفرد و
المركب على ما يرشد إليه حجتهم حجة القول بالاستلزام أنه لو لم
يستلزم لعرى الوضع عن الفائدة إذ فائدته الاستعمال في تراكيب
الكلام واللازم باطل قطعا وأجيب تارة بمنع الملازمة لان صحة
التجوز فيه فائدة تترتب عليه وأخرى بمنع بطلان اللازم إذ لا يجب أن
يترتب على الشئ ما قصد به ويمكن المناقشة في الأول بأن
فائدة الوضع للمعنى المجازي أكثر لاستغنائه عن مئونة القرينة و
الخروج عن ظاهر الاستعمال فالعدول عنه إخلال بالحكمة وفي
الثاني بأنه يتم إذا ثبت أن الواضع ليس هو الله تعالى وأن الوضع ليس
بإلهامه لان قصد ما لا يترتب على الشئ راجع إلى الجهل بحاله و
الوجهان كما ترى ويمكن أن يستند في منع الملازمة إلى جواز وقوع
الاستعمال في المعنى الموضوع له بعد الاستعمال في غيره إذ لا
يلزم مقارنة الاستعمال للوضع حجة النافي للاستلزام وجهان الأول أنه
لو استلزمها لكان لنحو قامت الحرب على ساق وشابت لمة الليل
من المركبات حقيقة والتالي منتف قطعا وأورد عليه أولا بالنقض بأنه
مشترك الورود فإن المجاز يستلزم الوضع لمعنى بالضرورة
فإذا لم يكن هناك معنى ليستعمل فيه لم يكن معنى ليوضع له وثانيا
بالحل بأن الوضع والاستعمال لا يستدعيان تحقق المعنى في الواقع
لتحققهما بالنسبة إلى الممتنعات فإن قولنا الواحد ضعف الاثنين وأن
النقيضين يجوز أن يرتفعا إلى غير ذلك موضوع للاسناد وإلا لما
صدق على المخبر به أنه مخبر كاذب مع أن المعنى لا تحقق له إلا في
الفرض وإن أريد بالتحقق ما يتناول ذلك منعنا انتفاءه في المقام و
الجواب أن ورود هذين الايرادين مبني على أن يكون الوجه في انتفاء
التالي عدم تحقق المعنى وليس كذلك إذ ليس المأخوذ فيه إلا
انتفاء الحقيقة وذلك لا يقتضي إلا انتفاء الاستعمال فمرجعه إلى
دعوى القطع بأن هذين المركبين أو هذين التركيبين لم يستعملا في
غير المعنى المجازي فاندفع المحذوران ولا يمكن النقض بإحداث
الاستعمال في معناهما الحقيقي لان المقصود يتم بالاستعمالات
السابقة مع أن الكلام لا يختص بهما
بل يجري في نظائرهما مما لا حصر له وأجاب العضدي عن الدليل
المذكور بأن المركبات لا وضع لها وإنما الوضع لمفرداتها والتجوز
من توابع الوضع فلا مجاز إلا في المفردات فالمجاز في الفرض
المذكور أما في المسند أو المسند إليه ولا ريب في ثبوت الحقيقة
فيهما
أما الاسناد فليس له إلا جهة واحدة في الكل لا يخطر بالبال غيرها عند
الاستعمال فلا يتطرق التجوز إليه ورد بأن البيان المذكور إنما
يتجه في مثل شابت لمة الليل فإن التحقيق فيه أن اللمة مجاز عن سواد
الليل والشئب مجاز عن حدوث البياض فيه وأما نحو قامت الحرب
على ساق ونظائره فلا يتجه فيه ذلك إذ لا تجوز في شئ من مفرداته
بل في المركب حيث شبه حال الحرب بحال من يقوم ولا يقعد
فيكون استعارة تمثيلية على حد قولهم للمتردد أراك تقدم رجلا و
تأخر أخرى هذا وتحقيق المقام أن المستدل إن أراد بمقالته أن الهيئة
في قامت الحرب على ساق مثلا موضوعة للاسناد إلى الفاعل
الحقيقي ولم تستعمل فيه واستعملت في الاسناد إلى الفاعل
المجازي
فتكون مجازا لغويا بلا حقيقة اتجه عليه أن يقال لا نسلم أن الهيئة
موضوعة للاسناد إلى الفاعل الحقيقي وإلا لزم أن لا يكون لها في
الاخبار الكاذبة معنى بل للاسناد إلى مطلق الفاعل ولو كانت فاعليته
ادعائية إذ لا يعقل من الاسناد إلا معنى واحد وهو جار في جميع
الموارد نعم إذا أسند الفعل حينئذ إلى غير من هو له كما في أنبت
الربيع كان هناك مجاز بحسب العقل حيث جعل غير الفاعل فاعلا و
أعطي حكمه حتى صح إسناد الفعل إليه على الحقيقة وظاهر أن
النزاع هنا في المجاز اللغوي لا غير وإن أراد أن الهيئة الموضوعة
للاسناد قد استعملت في المقام في غير الاسناد كما لو استعملت
الهيئة في أنبت الربيع البقل وأريد بها النسبة الظرفية أي في الربيع
فللخصم أن يمنع صحة اعتباره في المقام لكن قد سبق أن التحقيق
جواز ذلك في مثل الفرض المذكور فيفسد ما ادعاه المجيب من عدم
تطرق التجوز إلى الاسناد لكنه لا يجدي المستند أيضا لجواز سبق
استعماله في المعنى الاخر عليه وإن أراد أن المجموع المركب من
تلك المفردات موضوع لإفادة المركب من معانيها ولم يستعمل فيه و
استعمل في مشابهه على طريق التمثيل وذلك بأن شبه ثبات
الحرب واستقرارها
بصورة موهومة وهي قيامها على ساق فعبر عن المعنى الأول
بالمركب الموضوع للمعنى الثاني استقام كلامه بناء على ما عليه
جماعة
من أن المركبات موضوعة بإزاء معانيها التركيبية كما أن المفردات
موضوعة بإزاء معانيها الافرادية إلا أن الخصم لم يساعد على ذلك و
قد مر تحقيق الكلام فيه وأما التجوز في المسند فيمكن باستعمال
القيام المقيد بقولنا على ساق في معنى الاشتداد فيكون من باب
المجاز في المركب ولا يشكل بلزوم توسط أجنبي بين أجزاء المركب
لأنه يتسامح به في المجاز المركب حيث يقصد المحافظة على
التركيب الأصلي أو بأن يراد بالقيام الثبات أو ما يقرب منه وبالساق
الجانب ويكون المجموع كناية من اشتدادها أو يراد بالساق
الشدة كما فسر بها قوله تعالى يوم يكشف عن ساق فيكون من باب
المجاز في المفرد وأما التجوز في المسند إليه فلا يتم إلا بتنزيل
الحرب منزلة إنسان ذي ساق فيستعمل فيه مجازا أو يطلق على
الحرب من باب إطلاق الكلي على المفرد فيكون من باب الاستعارة
بالكناية على مذهب السكاكي وقد مر تحقيق الكلام فيه وقس على
ذلك الكلام في نظائره الثاني أن لفظ الرحمن موضوع في الأصل
الرقيق القلب ولم يستعمل فيه واستعمل فيه تعالى مجازا فيتحقق
المجاز بدون الحقيقة وقد يقرر بوجه آخر وهو أن لفظ الرحمن
موضوع لذي الرحمة مطلقا ولم يستعمل فيه تعالى من حيث
الخصوصية مجازا فيثبت المقصود والأول أظهر وكذلك الافعال
المنسلخة
عن الزمان فإنها كانت في الأصل موضوعة للزمان كما هو قضية كونها
أفعالا ولم تستعمل إلا مجردة عن الزمان مجازا وأورد عليه من
وجهين الأول أنهم أطلقوا رحمان اليمامة على مسيلمة الكذاب حتى
قال فيه بعضهم وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا فانقدح قولكم إنه لم
يستعمل في معناه الحقيقي الثاني أنا لا نسلم أن الألفاظ المذكورة لم
تستعمل في معانيها الأصلية في
30

اللغة إذ عدم الاطلاع لا يقضي بعدم الوقوع وأجيب عن الأول بأن
الاطلاق المذكور مردود لوقوعه بعد النقل وهجر المعنى الأول فلا
يعتد به وهذا مبني على أن اللفظ إذا هجر بالنسبة إلى معنى لم يصح
إطلاقه عليه بحسب ذلك الوضع والتزامه بعيد اللهم إلا أن يقال
حصل هناك منع عرفي بحيث قبح إطلاق اللفظ المذكور على غيره
تعالى وهو بعد محل نظر وأما ما يقال من أن الاطلاق المذكور تعنت
في كفرهم فلا يصلح للجواب إذ لا ينافي ذلك صحة الاستعمال كسائر
كلمات الكفر وقول التفتازاني بأن الاطلاق المذكور كإطلاق لفظ
الجلالة على زيد تعنتا فإنه لا يعتد به لظهور الفارق فإن لفظ الجلالة غير
موضوع لزيد لا لغة ولا عرفا فلا يصح الاستعمال بوجه بخلاف
لفظ الرحمن بل التحقيق في الجواب أن يقال يكفي في إثبات
المقصود الاستعمالات السابقة على ذلك الاستعمال وعن الثاني
بالاستقراء
فإنا تتبعنا كلماتهم فلم نظفر باستعمالاتهم إياها في معانيها الأصلية و
ظاهر أن عدم الاطلاع بعد الاستقراء يورث الظن بالعدم هذا و
يبقى الكلام في حجية الظن في مثل هذه المسألة
فصل
الحق كما عليه المحققون إمكان الاشتراك ووقوعه في اللغة ومنهم
من أوجب وقوعه ومنهم من أحاله والظاهر أن النزاع في الألفاظ
اللغوية الأصلية أو فيها وفيما يجري مجراها لا غير ضرورة أن كل
واضع لا يلزم أن يكون حكيما ولا مطلعا على جميع أوضاع لغته و
ينبغي أن يراد بالاشتراك هنا مجرد كون اللفظ الواحد موضوعا بأوضاع
متعددة لمعان متعددة سواء كانت الأوضاع ابتدائية أو لا
فيتناول النقل التعييني والارتجال فإن حجة الموجبين لا تقتضي تعيين
النوع الأول وحجة القول بالإحالة تقتضي الحالة الأقسام الثلاثة
نعم لو اعتبر الهجر فيهما لم يتوجه القول بالإحالة إليهما ثم المراد
بالوجوب لزوم وقوعه من حيث الحكمة الداعية إليه على التعيين و
بالامتناع لزوم عدمه من حيث إخلاله بها وبالامكان انتفاء ما يوجب
شيئا من ذلك وعلى هذا فلا يلزم القائل بوقوعه القول بوجوبه
نظرا إلى ما تحقق في محله من أن ما لم يجب لم يوجد لاختلاف معنى
الوجوب ويلزم الأشاعرة المصير إلى إمكانه على أصلهم المعروف
من نفي التحسين والتقبيح ثم من القائلين بوقوعه في اللغة من منع
وقوعه في القرآن والحق وقوعه فيه أيضا لنا على إمكانه عدم ما
يقتضي وجوبه وامتناعه وعلى وقوعه في اللغة نص اللغويين عليه
في ألفاظ كثيرة كالقر في الطهر والحيض والعين في الجارية و
الجارحة وعسعس في أقبل وأدبر وظاهر أن نقلهم إذا سلم عن
المعارض كان حجة اتفاقا ثم ثبوت الاشتراك في هذه الألفاظ يقضي
بوقوعه في القرآن لوقوعها فيه حجة من أوجب وقوع الاشتراك أمران
الأول أن المعاني غير متناهية والألفاظ متناهية لتركبها من
حروف متناهية فإذا وزعت الألفاظ على المعاني بقي ما زاد على عدد
الألفاظ مجردا عن لفظ يكون بإزائها وحينئذ فإما أن لا تكون تلك
الألفاظ وضعت ثانيا بإزائها فيلزم الاخلال بالمصلحة التي تضمنها
الوضع أو وضعت فيلزم الاشتراك الثاني أنه لو لم يقع لكان الموجود
في القديم والحادث مشتركا معنى والتالي باطل أما الملازمة فلان هذا
اللفظ يطلق عليهما إطلاقا حقيقيا فلو لم يكن من جهة وضعه
لخصوصهما لكان من جهة
وضعه لما يشترك بينهما وهو المقصود باللازم وأما بطلانه فلان
المسمى به إن كان نفس الذات فليس بمشترك وإن كان صفة فهي
في القديم واجب وفي الحادث ممكن فلا يكون أمرا واحدا وإلا لكان
الواحد بالحقيقة واجبا لذات وممكنا لأخرى وهو لا محالة و
الجواب أما عن الأول فبأن المعاني وإن كانت غير متناهية لكن وضع
الألفاظ بإزاء آحادها يوجب أوضاعا غير متناهية وهي على
تقدير صحة صدورها من الواضع لا فائدة إلا في قدر متناه منها لامتناع
تعقل أمور غير متناهية أو استعمال الألفاظ بحسب أوضاع غير
متناهية فيلغو الوضع فيما زاد عليه سلمنا لكن المعاني إنما لا تكون
متناهية بجزئياتها وأما بالنظر إلى كلياتها العالية أو ما قاربها فهي
متناهية وظاهر أن الوضع بإزائها مغن غالبا عن الوضع بإزاء
الخصوصيات والجزئيات لحصول المقصود بتركيب بعضها ببعض
سيما
مع انفتاح باب المجاز فلا يلزم تناول الوضع لجميع الألفاظ فضلا عن
وقوع الاشتراك فيها وقد يجاب بمنع تناهي الألفاظ لأنها مركبة
من الحروف بتراكيب غير متناهية فهي أيضا غير متناهية وإن كانت
الحروف التي تتركب منها متناهية كمراتب الاعداد ويمكن دفعه
بأن القدر الذي يصح معه الانتفاع في الاستعمال متناه قطعا فيتم به ما
أراده الخصم إلا أن هذا لا يصحح ظاهر كلامه ولو تمسك
المستدل بأن القدر الذي يصح الانتفاع به من الألفاظ أقل من القدر
الذي يحتاج إلى التعبير عنه من المعاني فالحكمة الداعية إلى الوضع
داعية إلى الاشتراك لكان أقرب إلى منهج السداد ولم يحتج إلى أخذ
تلك المقدمات المتضحة الفساد لكنه أيضا مدفوع بما عرفت نعم
يتجه البيان المذكور في إثبات وجوب الاشتراك في غير الألفاظ
اللغوية الأصلية كالاعلام فإن الحاجة تمس إلى وضع اللفظ بإزاء
مسمياتها وقلة الألفاظ التي يصح الانتفاع بها بالنسبة إليها يوجب وقوع
الاشتراك فيها وقد نبهنا على خروج ذلك عن محل النزاع و
أما عن الثاني فبأنا نختار أنه صفة ولا يلزم أن لا يكون أمرا واحدا لان
الاختلاف في صفتي الايجاب والامكان لا يقتضي الاختلاف في
موصوفيهما كما في سائر الصفات الاعتبارية إذ عند التحقيق يتحقق
الوجوب والامكان
في منشأ الانتزاع مع أن هذا الدليل على تقدير تسليمه لا يقتضي
وجوب الاشتراك بل وقوعه وهو أعم مما ادعاه المستدل احتج من
أحال
الاشتراك بأنه يخل بالتفهيم المقصود من الوضع لخفاء القرائن و
جوابه أن البيان ممكن بمعونة القرائن الواضحة مع أن القصد قد يتعلق
بالبيان الاجمالي لحكمة داعية إليه حجة من منع وقوعه في القرآن أنه
لو كان مبينا لزم التطويل بلا فائدة لامكان الأداء بدونه وإلا لزم
عدم الإفادة وشئ منهما لا يليق بكلامه تعالى والجواب أن المقام
ربما يعين المعنى المقصود من غير حاجة إلى قرينة لفظية فلا يلزم
التطويل مع أن القرينة اللفظية ربما تكون مقصودة في الخطاب لنفسها
كما في قوله تعالى وفجرنا الأرض عيونا فلا يلزم التطويل
بغير فائدة على أن اللفظ المشترك قد يكون أفصح من غيره وأوفق
بالقافية ونحو ذلك فيترجح من جهته مضافا إلى أن المشترك لا
يخلو من دلالة إجمالية والغرض قد يتعلق بها
31

واعلم أنه قد اشتهر أن المجاز يستدعي قرينتين إحداهما صارفة عن
المعنى الحقيقي والأخرى معينة للمعنى المراد من المعاني المجازية
بخلاف المشترك فإنه إنما يستدعي قرينة واحدة معينة للمعنى المراد
من بين المعاني الحقيقية لا غير وكان هذا الفرق مبني على القول
بأن الكناية قسيم للحقيقة والمجاز وأن المجاز استعمال اللفظ في
اللازم مع عدم جواز إرادة الملزوم والكناية استعماله في اللازم مع
جواز إرادة الملزوم معه فإن المجاز حينئذ يستدعي قرينتين أي ما يدل
على الامرين وإن كان أمرا واحدا بخلاف المشترك وأما على
ما حققناه في معنى الكناية وما سيأتي تحقيقه من عدم جواز استعمال
اللفظ في أكثر من معنى واحد فالقرينة المعتبرة في المقامين هي
القرينة المعينة للمعنى المراد والصرف يأتي فيهما من جهة المنع عن
الجمع
فصل
الترادف واقع في اللغة لنص اللغويين عليه في ألفاظ كثيرة خلافا
لبعضهم حيث منع من وقوعه وجعل ما عد منه من باب اختلاف
الذات و
الصفة كالحيوان والماشئ أو اختلاف الصفات كالمنشئ والكاتب أو
اختلاف الصفة وصفة الصفة كالمتكلم والفصيح ونحو ذلك و
احتج بأمرين أحدهما أن أحد الوضعين مغن عن الاخر لحصول
المقصود وهو الافهام به فيكون عبثا فيمتنع صدوره عن الواضع
الحكيم
والثاني أنه لو وقع فاللفظ الثاني تعريف لما عرف بالأول وهو لا محالة
للزوم تعريف المعرف وتحصيل الحاصل والجواب أما عن
الحمل المذكور فبأنه تعسف ظاهر في كثير من الموارد يأبى عنه
كلماتهم فلا وجه لان يرتكب من غير ضرورة تلجئ إليه وأما عن
الاحتجاج الأول فبأنه إنما يتم إذا كان المقصود من الوضع الثاني مجرد
التفهيم وليس كذلك إذ قد يقصد به التوسعة في المحاورة و
تيسير التفنن في المكالمة وموافقة الوزن والسجع وتيسير أنواع البديع
إلى غير ذلك وأما عن الثاني فبأن الوضع الثاني ليس محصلا
لشخص التعريف الحاصل بالأول بل لمثله كما في الأسباب المتعددة
ولا محذور فيه واعلم أن ما ذكرناه إنما يتجه بالنسبة إلى مطلق
الألفاظ العربية أو اللغوية كما هو الظاهر وأما إذا كان بالنسبة إلى
الألفاظ التي وضعها الواضع الأول فالذي أوردناه في معرض
الاثبات لا ينهض دليلا عليه لان نص اللغويين على ترادف بعض
الألفاظ لا يقتضي ذلك أن يكون بحسب أصل اللغة مع أن الأصل تأخر
الحادث
تتمة
ومنهم من جعل الحد والمحدود من باب الترادف لأنه تبديل لفظ
بلفظ أحلى ويدفعه أن الحد يدل بمفرداته على المعنى التفصيلي
بأوضاع متعددة بخلاف المحدود فإنه يدل على المعنى الاجمالي
بوضع واحد فلا يكون الدلالة من جهة واحدة نعم إن أريد بالحد ما
يعم
التعريف اللفظي وكان الحكم إيجابا جزئيا أو لم يعتبر اتحاد الجهة في
الترادف اتجه ذلك ثم هل يجب صحة وقوع أحد المترادفين
موضع الاخر قيل نعم لأنه لو امتنع فأما من جهة التركيب ولا حجر فيه
إذا صح وأفاد المقصود وذلك معلوم من اللغة قطعا وأما من جهة
المعنى ولا يعقل ذلك فيه لأنه واحد فيهما وفيه نظر لأنا نختار أن
الامتناع من جهة التركيب وذلك لجواز أن يكون الواضع قد اعتبر
في استعمال أحدهما ما لم يعتبره في الاخر كما في الضمائر المتصلة و
المنفصلة وقد يستدل على ذلك بأن ذا ترادف صاحب ولا تقع
مكانه عند الإضافة إلى بعض المعارف وهذا إنما يتم إذا لم تجعل
الألفاظ اللازمة للإضافة متضمنة لمعنى الإضافة وقد تقدم الكلام فيه
احتج المانع بأنه لو صح لصح تبديل لفظ الجلالة في تكبيرة الاحرام
بمرادفه العجمي والتالي باطل أما الملازمة فلأنهما مترادفان و
التقدير صحة وقوع أحدهما موضع الاخر وفيه منع الملازمة لان
المقصود صحة وقوع أحدهما موضع المعنى بحسب الوضع لا في
ترتب
الاحكام عليه بمقتضى الشرع وربما منع بعض العامة من بطلان التالي
بناء على صحته في مذهبه وقد يجاب بأن المنع لاختلاط اللغتين
وهو ضعيف لورود الاشكال عليه بما لو بدل أكبر أيضا بمرادفه
فصل
يعرف كل من الحقيقة والمجاز بعلامات ودلائل منها نص أهل اللغة
عليه مع سلامته من المعارض ومما يوجب الريب في نقله كالتمسك
بما لا دلالة فيه على دعواه مع الاقتصار عليه وكذا الخبير بكل
اصطلاح إذا أخبر كذلك وهذا مما لا يعرف فيه خلاف وأما عند
التعارض
فإن أمكن الجمع تعين وإلا فإن كان التعارض بين النفي والاثبات تعين
القول بالاثبات ما لم يعتضد الاخر بما يترجح به عليه لان مرجع
الاثبات إلى الاطلاع ومرجع النفي إلى عدم الاطلاع غالبا وإلا
فالتعويل على ما كان الظن معه أقوى كالمعتضد بالشهرة أو بأكثرية
اطلاع نقلته أو حذاقتهم أو نحو ذلك ثم التعويل على النقل مقصور
على الألفاظ التي لا طريق إلى معرفة حقائقها ومجازاتها إلا بالنقل و
أما ما يمكن معرفة حقيقته ومجازه بالرجوع إلى العرف وتتبع موارد
استعماله حيث يعلم أو يظن عدم النقل فلا سبيل إلى التعويل فيه
على النقل ومن هذا الباب أكثر مباحث الألفاظ المقررة في هذا الفن
كمباحث الأمر والنهي والعام والخاص ولهذا نراهم يستندون في
تلك المباحث إلى غير النقل والسر في ذلك أن التعويل على النقل
من قبيل التقليد وهو محظور عند التمكن من الاجتهاد ولأن الظن
الحاصل منه أضعف من الظن الحاصل من غيره كالتبادر وعدم صحة
السلب بل الغالب حصول العلم به فالعدول عنه عدول عن أقوى
الامارتين إلى أضعفهما وهو باطل ومنها التبادر وتبادر الغير فالأول
علامة الحقيقة والثاني علامة المجاز والمراد بالتبادر ظهور
اللفظ المجرد عن القرينة في المعنى وانسباقه منه إلى الفهم فلا يرد
النقض بالمجاز المحفوف بالقرينة حيث يتبادر منه المعنى المجازي
لأنه إذا تجرد عنها لم ينسبق معناه المجازي إلى الفهم ولا فرق في
القرينة بين أن يكون شهرة أو غيرها لكن تجريد اللفظ عن القرينة
الشهرة لا يمكن حال الاشتهار إلا بتجريد النظر عنها لكونها لازمة له و
منهم من نفي تحقق ذلك وجعله مجرد فرض لا حقيقة له نظرا
منه إلى أن اللفظ إذا بلغ في الاشتهار إلى حيث
يتبادر منه المعنى فقطع النظر عن الشهرة لا يخرجه عن تبادره وجوابه
أنا قد نجد من الألفاظ ما إذا أطلق تبادر منه معناه الحقيقي لكن
32

النفس تنصرف عنه إلى معناه المجازي بملاحظة شهرة إطلاقه عليه
فإن التبادر المستند عند السامع إلى الشهرة يستلزم ملاحظتها عند
حصوله ولو إجمالا ويمتنع مع قطع النظر عنها وأما نعم لقائل أن
يقول لا فرق حينئذ بين الشهرة في المنقول بالنسبة إلى من حصل
النقل عنده بالشهرة وبين الشهرة في المجاز المشهور فإن كلا من
الشهرتين سبب للتبادر وقطع النظر عن كل منهما يقتضي عدم
حصول التبادر ويمكن دفعه بأن الشهرة في المنقول لا يلزم ملاحظتها
وإنما يلزم ملاحظة الاختصاص الناشئ منها كما في سائر
الحقائق فإن الوضع بكلا نوعيه يوجب اختصاص اللفظ بالمعنى وهو
يعرف غالبا بمراجعة الوجدان عند ملاحظة اللفظ والعلم به كاف
في الانتقال ولا حاجة إلى العلم بسببه من التعيين أو الغلبة بخلاف
الشهرة في المجاز المشهور فإنها قرينة على التجوز فلا بد من
ملاحظتها ولو إجمالا ليتحقق الصرف إليه نعم يبقى الاشكال فيما إذا
استند العلم بالنقل إلى ملاحظة الشهرة والغلبة وهذا لا يندفع له
فالتحقيق أن يقال التبادر الذي نعتبره علامة للحقيقة هو التبادر
الابتدائي ولا ريب أن المعنى المنقول إليه يتبادر من المنقول أولا
بخلاف المعنى المجازي في المجاز المشهور فإنه يتبادر منه من حيث
كونه متفرعا على معنى آخر ولهذا تجد الآثار المقصودة من
المجاز كالمبالغة والبلاغة وغيرهما مما يبتني على ملاحظة المعنى
الحقيقي ولو إجمالا مترتبة عليه بخلاف المنقول فإنه بعد النقل
يتجرد عن تلك الآثار كسائر الحقائق وبهذا يتضح الفرق بين المنقول و
المجاز المشهور ويسقط وهم من أنكر الفرق بينهما ومما
حققنا يظهر ضعف ما زعمه الفاضل المعاصر تبعا لبعض المتأخرين
في الفرق بين المنقول والمجاز المشهور من أن التبادر في المجاز
المشهور بواسطة الشهرة وفي المنقول من نفس اللفظ ووجه الضعف
أن التبادر في المنقول أيضا قد يستند إلى ملاحظة الشهرة كما
عرفت فلا يتم الفرق ثم على المقام إشكالات منها أنه لو صحت علامة
الحقيقة لكان كل لفظ حقيقة في أن له لافظا لان هذا المعنى يتبادر
منه عند الاطلاق وبطلان التالي يقضي ببطلان المقدم والجواب أن
ذلك تبادر من التلفظ لا من اللفظ أعني الملفوظ والمراد
هنا هو الثاني لأنه الموضوع مع أنا نمنع صدق المعنى على المدلول
الأول مع أن المراد تبادر المعنى من حيث استناده إلى الوضع ولا
يلزم الدور لان المراد مطلق الاستناد وهو مشترك بين الحقيقة و
المجاز ومنها أن اللفظ المشترك إذا استعمل في غير ما وضع له فلا
ريب في كونه مجازا مع أنه لا يتبادر منه غيره فلا ينعكس علامة المجاز
فلئن قيل يتبادر منه مفهوم أحد المعاني فيكون متواطيا وقد
فرض مشتركا وأيضا إطلاق المشترك على مفهوم أحد المعاني مجاز
قطعا فيجب أن لا يتبادر وإلا لانتقضت علامة الحقيقة به و
الجواب أن المتبادر هناك إنما هو كل واحد مما صدق عليه أحد
المعاني وهو غيره ولا ريب في أن اللفظ حقيقة فيه هذا إذا قلنا بأن
الدلالة لا تتوقف على الإرادة فلا تتوقف دلالة المشترك على ذكر
القرينة وأما إذا قلنا بالتوقف فلا يستقيم الجواب المذكور بل الوجه
حينئذ أن يلتزم بعد انعكاسها ولا ضير فيه لجواز أن تكون علامة
الشئ أخص منه وقس على ذلك الحال في استعمال المشترك في
أحد
معانيه بالنسبة إلى علامة الحقيقة ولك أن تمنع توقف دلالة المشترك
على القرينة على القول المذكور لان اللازم عليه توقف الدلالة على
الإرادة لا على تعيين موردها ومنها أن هذه العلامة دورية لتوقف
التبادر على العلم بالوضع ضرورة أن الجاهل بالوضع لا ينتقل من
اللفظ إلى المعنى الموضوع له فلو توقف العلم بالوضع على التبادر لزم
الدور وأيضا تبادر الغير إنما يكون علامة المجاز إذا لم يتبادر
نفس المعنى وإلا لورد النقض بالمشترك وعدم تبادر المعنى إنما
يعتبر إذا كان منشؤه العلم بعدم الوضع إذ على تقدير الجهل به
يحتمل أن يكون الوضع متحققا ويكون الجهل به مانعا من حصول
التبادر فلا يمكن الاستناد إليه لا يقال فيلزم الاشتراك والمجاز أولى
منه لأنا نقول فتكون العلامة حينئذ خلافية لوقوع الخلاف في الأصل
المذكور مع أن ظاهرهم الاتفاق عليها على أن الأصل يجوز انخرامه
بثبوت خلافه بخلاف العلامة فإنه يجب اطرادها فلا يصح أن تعتبر
فيها ويمكن دفعه باعتباره طريقا فيها لا جز منها هذا فلو توقف
العلم بعدم الوضع على تبادر الغير لزم الدور والجواب أن ما يتوقف
عليه التبادر إنما هو العلم بالوضع ولو إجمالا وما يتوقف على التبادر
إنما هو العلم به تفصيلا فلا يتحد الطرفان على أن ما يتوقف
على علمنا بالوضع إنما هو نفس التبادر وأما علمنا بالتبادر كما هو
المقصود هنا فلا يتوقف على علمنا بالوضع بل يمكن استفادته من
تنصيص أهل اللغة والتتبع في موارد إطلاق اللفظ والتصفح في
مواضع استعماله كما إذا استقر بنا فوجدنا أهل العرف حيثما أطلقوا
لفظا بغير قرينة تبادر إليهم معنى وإذا أرادوا منه معنى غيره نصبوا
قرينة فنعلم من ذلك أنه حقيقة في الأول مجاز في الثاني لا يقال
مجرد التبادر في الموارد مع عدم مصادفة القرينة لا يستلزم الحقيقة
لجواز أن يكون التبادر لقرينة خفية لازمة للفظ كما في المجاز
المشهور لأنا نقول لما كان المدار في إثبات وضع الألفاظ على الظن
غالبا فمثل هذا الاحتمال لندرته لا يورث الوهن فيه فإن الظن إنما
يلحق الشئ بالأعم الأغلب ومما يرشد إلى ذلك أن أعظم طرق
اللغويين في تميز المعاني الحقيقية عن المجازية هو هذه العلامة على
ما
هو الظاهر وظاهر أن هذا الاحتمال قل أن لا يتطرق إليها فلو كانوا
يلتفتون إليه لما حصل لهم التميز في معظم الألفاظ ولك أن
تتمسك أيضا في نفي القرينة بأصالة عدمها لأنها لم تكن قبل
الاستعمال فالأصل بقاؤها على العدم ولا يشكل بأن الأصل مما يصح
تخلفه
عن مقتضاه لقيام أمارة عليه بخلاف العلامة فإنها عبارة عن الخاصة و
هي لا تتخلف لان الأصل على ما قررنا طريق إلى العلم بتحقق
العلامة وليس بها ولا منها فصحة التخلف متطرقة إلى طريق العلامة لا
إلى نفسها فلا إشكال ومن هنا يتبين أن الأصل في التبادر أن
يكون وضعيا فيبنى عليه إلى أن يتبين كونه إطلاقيا أو بمعونة قرينة
أخرى ومنها أن اللفظ الموضوع للحقيقة المطلقة كثيرا ما يطلق و
يتبادر منه الحقيقة
33

في ضمن الافراد المتعارفة أو الكاملة في تلك الحقيقة وحينئذ لو
صحت تلك العلامة لكان اللفظ حقيقة في تلك الافراد ومجازا في
الحقيقة المطلقة والمفروض خلافه والجواب أن المتبادر من اللفظ
الموضوع للحقيقة المطلقة ليس إلا الحقيقة المطلقة وتبادر أفرادها
المتعارفة أو الكاملة ليس بالنظر إلى نفس اللفظ الموضوع بل بالنظر
إلى أمور خارجة وبالجملة هناك أمران إرادة الحقيقة وإرادة
كونها في ضمن أفراد مخصوصة فاللفظ إنما يدل على الأول بالوضع و
الثاني إنما يستفاد من شواهد خارجة ومنها أن اللوازم البينة
للمعنى تتبادر من اللفظ معه باعتبار وضعه له فلو كان التبادر يقتضي
الحقيقة لوجب أن يكون اللفظ حقيقة فيها أيضا بالنظر إلى وضعه
وهو خلاف الفرض وجوابه أن التبادر الذي هو علامة الحقيقة هو
التبادر الناشئ عن نفس اللفظ والتبادر المذكور ليس ناشئا من
اللفظ بل من المعنى فإن اللفظ إنما يدل على لوازم معناه بواسطة
دلالته عليه فلا إشكال ومنها صحة سلب المعنى وعدمها بحسب
نفس
الامر أي من غير بناء على المسامحة والتأويل والأول علامة المجاز و
الثاني علامة الحقيقة وإنما اعتبرنا القيد الأخير احترازا عما لو
اعتبر صحة السلب وعدمها بحسب الدعوى والتأويل في الصحة أو
الاسناد أو المسند أو المسند إليه كما لو قيل زيد حمارا وليس
بإنسان وادعي صحة ذلك من غير تأويل أول الاسناد كما لو جعل
النفي للاثبات أو بالعكس أو المسند كما لو أريد بالحمار البليد و
بالانسان النوع الكامل منه أو المسند إليه بفرض حقيقته من حقيقة
المحمول أو مغايرته لها فإنه وإن صح ذلك كله لكنه لا يقتضي
الحقيقة ولا المجاز وكذلك اللفظ المستعمل بمعنى اللفظ كما لو
أطلق زيد وأريد به لفظه فإن عدم صحة السلب متحقق ولا حقيقة و
ذلك
لان الاستعمال فيه مبني على المسامحة والخروج عن ظاهر
الاستعمال فإن الظاهر من الاستعمال أن يكون على حسب قوانين
الوضع
لأنه المتداول وزعم بعض المعاصرين أنه لا حاجة إلى القيد المذكور
لان المراد صحة سلب المعنى الحقيقي حقيقة وعدمها والأصل في
الاستعمال الحقيقة ولا يخفى ما فيه ثم على هذه العلامة إشكالان
الأول أنها منتقضة بالمجاز المستعمل في الجز أو اللازم المحمولين
كالانسان في الناطق والضاحك
فإنه لا يصح أن يقال الانسان ليس بناطق أو ليس بضاحك مع أنه ليس
حقيقة فيه وكذلك العام إذا استعمل في الخاص فإن عدم صحة
السلب متحقق ولا حقيقة والجواب أن هذا الاشكال إنما يتوجه إذا
اعتبر السلب بالحمل المتعارف كما زعمه بعضهم وأما إذا اعتبر
بالحمل الذاتي أعني ما يكون مفاده الاتحاد في الحقيقة فلا إشكال إذ
يصدق في تلك الأمثلة أن مفهوم الانسان ليس نفس مفهوم الناطق
والضاحك وأن مفهوم العام ليس نفس مفهوم الخاص هذا إذا كان
الخاص معتبرا من حيث الخصوصية وإلا فلا ريب في أنه حقيقة فيه
هذا ما يستفاد من كلمات القوم والتحقيق عندي أن السلب بالحمل
المتعارف معتبر في المقام أيضا ولا إشكال إذ ليس المقصود أن عدم
صحة السلب أي سلب المعنى الغير التأويلي علامة للحقيقة مطلقا بل
المراد أنه علامة لها في الجملة فإن كان السلب بحمل هو هو كان علامة
لكون اللفظ حقيقة فيما لا يصح السلب عنه من حيث الخصوصية أي
باعتبار نفس المعنى كما مر وإن كان بالحمل المتعارف المقابل
للحمل الذاتي كان علامة لكونه حقيقة فيه إن أطلق عليه باعتباره وإن
كان بالحمل المتعارف بالمعنى الأعم أعني ما يكون مفاده مجرد
الاتحاد في الخارج كان علامة لكونه حقيقة فيه في الجملة وأما صحة
السلب فيصح أن يعتبر بالحمل الذاتي فتكون علامة لكونه مجازا فيه
من حيث الخصوصية وأن تعتبر بالحمل المتعارف بالمعنى الأعم
فيكون علامة لكونه مجازا فيه مطلقا وأما إن اعتبرت بالحمل
المتعارف المقابل للحمل الذاتي فلا تصلح علامة للمجاز لان الانسان
يصح سلبه من الحيوان الناطق بهذا الحمل وليس مجازا فيه قطعا
الثاني أن هذه العلامة دورية لاشتمالها على الدور أما في المجاز فلان
العلم به يتوقف على صحة سلب جميع المعاني الحقيقية عنه لان
سلب البعض غير مفيد لجواز الاشتراك والعلم بصحة سلب الجميع
يتوقف على العلم بأن المعنى المبحوث عنه ليس منها وإلا لم يحصل
العلم بصحة سلب الجميع والفاضل المعاصر علل التوقف هنا بقوله
لاحتمال الاشتراك فإنه يصح سلب بعض معاني المشترك عن بعض و
لا يذهب عليك أن التعليل المذكور لا تعلق له بهذه المقدمة بل
بالمقدمة الأولى فالصواب ذكره
عندها كما فعلناه ثم ذلك يتوقف على العلم بكونه مجازا فيه وإلا لجاز
أن يكون أيضا من المعاني الحقيقية فلا يحصل العلم بأنه ليس منها
فلو توقف العلم بكونه مجازا على العلم بصحة السلب لزم الدور و
على هذا التقدير فالدور مضمر لكن لا يخفى ما فيه بل الوجه أن يقرر
هكذا المراد بصحة السلب صحة سلب جميع المعاني الحقيقية لما مر
والعلم بصحة سلب الجميع يتوقف على أمرين العلم بجميع المعاني
الحقيقية والعلم بأن المعنى المبحوث عنه ليس منها أما توقفه على
الأول فظاهر وأما على الثاني فلانه لولا ذلك لم يمكن الحكم بصحة
السلب لاحتمال أن يكون ذلك المعنى منها فيلزم سلب الشئ من
نفسه والعلم بخروجه عن جميع المعاني الحقيقية هو العلم بكونه
معنى
مجازيا إذ لا نعني بهذه العلامة إلا استعلام ذلك لان الكلام في
الاستعمال الصحيح المستند إلى الوضع ولقصورها عن إفادة غير
ذلك
فلو توقف المجاز على صحة السلب لزم الدور أو نقول يتوقف العلم
بخروج ذلك المعنى عن المعاني الحقيقية على العلم بصحة السلب إذ
هو في مرتبة العلم بالمجازية فيتوقف على ما يتوقف عليه فلو توقف
العلم بصحة السلب عليه لزم الدور فالدور على هذين التقديرين
ظاهر إلا أنه في الأول بين الامر المستعلم وبين العلامة وفي الثاني في
نفس العلامة وأما في الحقيقة فلان العلم بها يتوقف على العلم
بعدم صحة السلب وهو يتوقف على العلم بكون اللفظ حقيقة فيه و
هو دور ظاهر وزعم الفاضل المعاصر أن الدور فيه مضمر لان العلم
بأن الانسان مثلا حقيقة في البليد يتوقف على العلم بعدم صحة سلب
المعاني الحقيقية للانسان عنه والعلم بهذا يتوقف على العلم بعدم
معنى حقيقي للانسان يجوز سلبه عن البليد كالكامل في الانسانية و
العلم بهذا يتوقف على العلم بأن الانسان حقيقة في البليد وذلك لان
عدم صحة السلب على تقدير أن يكون السلب جزئيا
34

لا يثبت به إلا الحقيقة في الجملة ولئن اكتفوا بذلك هنا لكان عليهم أن
يكتفوا في المجاز أيضا بالسلب الجزئي ويجعلوه علامة للمجاز
في الجملة هذا محصل كلامه أقول لا خفاء في أن الغرض من هذه
العلامة إنما هو استعلام حال اللفظ بالنظر إلى المعنى المقصود من
كونه
حقيقة فيه فيجري في المشترك وغيره لا أنه لا يستعمل في المعنى
المقصود إلا حقيقة فيختص مورد العلامة بما يتحد معناه الحقيقي ولا
ريب في أن العلم بأن الانسان مثلا حقيقة في البليد أي في المعنى
الذي يطلق باعتباره على البليد إنما يتوقف على العلم بعدم صحة
سلب
أحد معانيه الحقيقية عنه إذا كان له حقائق متعددة فيعلم أنه حقيقة فيه
باعتبار ذلك المعنى لا عدم صحة سلب الجميع ضرورة أن بعض
معاني المشترك مما يصح سلبه عن بعض وهذا بخلاف المجاز لان
العلم به يتوقف على العلم بصحة سلب الجميع إذ مجرد سلب البعض
لا
يقتضي أن يكون مجازا كما لا يقتضي أن يكون حقيقة وأما إذا صح
سلب الجميع لزم أن يكون مجازا وإلا لكان غلطا والكلام في
الاستعمال الصحيح نعم لو أخذ صحة السلب في المجاز باعتبار
المعنى الحقيقي الذي استعمل اللفظ باعتباره في المعنى المقصود أو
صح
ذلك فيه لم يحتج إلى أخذ صحة السلب بالنسبة إلى جميع المعاني
الحقيقية بل كان أخذها بالنسبة إلى المعنى المعتبر مغنيا عن ذلك لكن
القوم لما اعتبروا علامة الحقيقة في اللفظ المجرد عن هذا الاعتبار
ناسب أن يعتبروا علامة المجاز أيضا في اللفظ المجرد عن الاعتبار
المذكور ليتوافق مورد العلامتين فاحتاجوا في المجاز إلى اعتبار صحة
السلب بالنسبة إلى جميع المعاني الحقيقية مع أن اللفظ في إطلاقه
على المعنى المقصود إن كان مأخوذا بحسب معناه الحقيقي فلا يتم
في غير الاستعارة التي مبناها على التصرف في أمر عقلي وقد حققنا
سابقا أنه ليس من باب المجاز ولو سلم لعلامة غير مقصودة عليه
عندهم وإن كان مأخوذا بحسب معنى آخر واعتبر المعنى الحقيقي
لمجرد تحصيل العلاقة فالعلم بمجازية ذلك المعنى حينئذ حاصل من
حيث اعتبار العلاقة فلا يتوقف على اعتبار العلامة فتدبر ثم أقول
تقرير الدور على الوجه الذي ذاكره بظاهره مبني
على تخصيص مورد العلامة باللفظ الذي ينحصر معناه الحقيقي في
معنى واحد وأن يكون الغرض منها معرفة حال اللفظ الذي لا يقع
مستعملا في المعنى المبحوث عنه إلا حقيقة وهذا مع ما فيه من قلة
الجدوى والمخالفة لصريح كلمات القوم مدفوع بأن الدور فيه أيضا
ظاهر لان العلم بكون الانسان حقيقة في البليد لا غير مثلا أي في
المعنى الذي يطلق باعتباره على البليد يتوقف على العلم بعدم معنى
حقيقي للانسان يصح سلبه عنه وإلا لجاز أن يكون مجازا فيه باعتبار
بعض معانيه وهو يتوقف على العلم بكونه حقيقة فيه لا غير وأما
العلم بعدم صحة سلب المعاني الحقيقية للانسان عن البليد ففي مرتبة
العلم بعدم معنى حقيقي للانسان يصح سلبه عن البليد بل هو عينه
إن لم يقصد الفرق بينهما بالتفصيل والاجمال فلا يعقل الترتب و
التوقف بينهما هذا وإن أراد أن المعتبر في العلامة أن لا يكون للفظ
كالانسان باعتبار أحد معانيه إذا كانت له معان متعددة مورد كالكامل
في الانسانية ونحوه بحيث يصح سلبه عن المعنى المبحوث عنه
كالحيوان الناطق ليكون علامة لكونه حقيقة فيه من حيث الخصوصية
ففيه مع عدم استلزامه إضمار الدور كما عرفت أنه إن اعتبر السلب
بالحمل الذاتي لم يستقم قطعا ضرورة أن كل مورد من الخصوصيات
مما يصح سلبه عن المعنى المبحوث عنه بالحمل الذاتي إذا كان
اللفظ حقيقة فيه بخصوصه وإن اعتبره بالحمل على الوجه الأعم فمع
كونه على خلاف الوجه المعتبر لأخصية المسلوب عن المسلوب عنه
لا
يثبت به كون اللفظ حقيقة فيه بخصوصه ضرورة أنه لا يصح سلب
الانسان بهذا الحمل عن الناطق والضاحك مثلا مع أنه ليس حقيقة فيه
بخصوصه وقد أجيب عن الاشكال بوجوه منها أن المراد بصحة
السلب وعدمها أن يكون إطلاق اللفظ عليه باعتبار معنى يصح سلبه
عنه
أو لا يصح مثلا إذا أطلق الحمار على البليد فإنما هو باعتبار معنى يصح
سلبه عنه وهو الحيوان الناهق وإذا أطلق الانسان عليه فإنما هو
باعتبار معنى لا يصح سلبه عنه وهو الحيوان الناطق هذا حاصل ما
ذكره بعض المتأخرين وعندي فيه نظر لأنه إن أراد بالمعنى الذي
اعتبر
صحة السلب وعدمها باعتباره خصوص المعنى الحقيقي أو الغير
التأويلي كما سبق ففيه أن العلامة حينئذ تختص باستعلام حال
الاطلاق
على غير المعنى الموضوع له كما يساعد عليه تمثيله ضرورة أن
الانسان إنما يطلق على الحيوان الناطق وهو نفس المعنى ابتدأ لا
باعتبار معنى آخر ولو تعسف في التعميم إليه لبقي إشكال الدور فيه
بحاله إذ ليس في بيانه ما يساعد على دفعه والتزام هذا
الاختصاص غير مناسب للمقام مع أن هذا لا يستقيم بناء على اعتبار
السلب بالحمل الذاتي كما مر في دفع الاشكال الأول ضرورة أن
اللفظ باعتبار معناه الحقيقي مما يصح سلبه عن جميع موارده الخاصة
ولوازمه العقلية بهذا الحمل على أن العلم بصحة السلب وعدمها
حينئذ مبني على العلم بخروج المورد عن المعنى الموضوع له و
عدمه وهو في مرتبة العلم بكون الاستعمال فيه مجازا أو حقيقة أو
نفسه
على ما مر فيبقى إشكال الدور بحاله وإن أراد به المعنى الأعم انتقض
علامة الحقيقة حينئذ بأكثر أقسام المجاز مثلا إذا أطلق الكاتب
بمعنى الانسان على زيد لا من حيث الخصوصية صدق عليه أنه قد
أطلق عليه باعتبار معنى لا يصح سلبه عنه وهو الحيوان الناطق و
ظاهر
أنه ليس حقيقة فيه لا يقال المراد بقوله باعتبار معنى مجرد ملاحظته و
لا ريب في أن استعمال اللفظ في معناه المجازي مبني على
ملاحظة معناه الحقيقي واعتبار العلاقة ولو إجمالا فيستقيم الجواب
إذ يصدق في المثال المذكور أنه أطلق الكاتب بمعنى الانسان على
زيد باعتبار معنى يصح سلبه عنه وهو مفهوم الكاتب ضرورة أن
مفهوم الكاتب ليس نفس مفهوم الانسان لأنا نقول غاية الامر أن
يصدق علامة المجاز بالاعتبار المذكور كما يصدق عليه علامة
الحقيقة بالاعتبار الذي ذكرناه وليس هناك ما يعين أحد الاعتبارين
فيبقى محذور الفساد بحاله ومنها أن الاشكال
35

المذكور إنما يتمشى فيما لو أطلق لفظ على معنى ولم يعلم أنه حقيقة
فيه أو مجاز وأما إذا علم معناه الحقيقي والمجازي وشك في
المراد فصحة نفي المعنى الحقيقي عن مورد الاستعمال تدل على
إرادة المعنى المجازي كما إذا قيل طلع البدر علينا فإنه إذا كان مورد
الاستعمال أعني مقام الخطاب بحيث يصح أن يقال ليس الطالع هو
البدر حقيقة كان المراد به معناه المجازي وفيه أنه خروج عن محل
البحث لان الكلام في معرفة المعنى الحقيقي والمجازي لا في تعيين
المراد منهما عند الاطلاق واعلم أن هذا الجواب على ما نقلناه مطابق
لما نقله العضدي والتفتازاني في دلالته على دفع إشكال الدور عن
علامة المجاز من غير تعرض لدفعه عن علامة الحقيقة والمحقق
الشريف صرح بعدم جريانه في علامة الحقيقة معللا بأن اللفظ
الموضوع للعام إذا استعمل في الخاص كان مجازا مع امتناع سلب
المعنى
الحقيقي عن المورد واعترض عليه المدقق الشيرازي بأن ذلك إنما
يقتضي عدم اطراد الجواب المذكور لا عدم دفعه لاشكال الدور و
لعله يريد أن عدم اطراد الجواب المذكور لا يقتضي إلغاءه رأسا كما
يظهر من عبارة المحقق الشريف لامكان إجرائه في غير المورد
المذكور فلا يرد عليه ما قيل من أن مقصود المحقق الشريف أن
الجواب المذكور وإن دفع الدور إلا أنه لا جدوى فيه لورود الايراد
المذكور عليه نعم يرد عليه أنه ليس للعلامة حينئذ قاعدة يمكن
اطرادها في مواردها بحيث يعتد بها إذ لا اختصاص للنقض باستعمال
العام في الخاص فإنه لو فرض وجود حمار وبليد في الدار وقيل في
الدار حمار وأريد به البليد كان الاستعمال مجازا قطعا مع أن
المعنى الحقيقي لا يصح سلبه عن مورد الاستعمال لاحتمال المقام له
إلى غير ذلك هذا وأورد الفاضل على الجواب المذكور بأنه كما
يصح صحة سلب المعنى الحقيقي عن مورد الاستعمال علامة لإرادة
المعنى المجازي كذلك يصلح صحة سلب المعنى المجازي عن مورد
الاستعمال علامة لإرادة المعنى الحقيقي فلا يختص العلامة المذكورة
بالمجاز ثم أورد على هذا الوجه سؤالا وهو أن الماهيات والحقائق
المجازية قد تتعدد فنفي حقيقة منها لا يوجب تعيين إرادة بعض
معاني اللفظ فلا يوجب تعيين إرادة المعنى الحقيقي وأجاب
بأن المجيب المذكور قد اعتبر في جوابه دوران الاحتمال بين معنى
حقيقي معين ومعنى مجازي معين ففرض التعدد خارج عن مفروضه
مع أن لنا أن نجعل العلامة على تقدير تعميم الفرض سلب جميع
المعاني المجازية فيتم بلا إشكال لان سلب الجميع يوجب تعيين
إرادة
المعنى الحقيقي إذ لا مخرج عنهما هذا محصل كلامه بعد التنقيح و
التوضيح وفيه نظر لان العلامة المقررة عند القوم في المقام إنما هي
صحة سلب المعنى في نفس الامر وعدم صحة سلبه كما ذكره
العضدي أو صحة سلب المعنى الحقيقي وعدم صحة سلبه كما
اختاره
المورد المذكور في تحرير العنوان ولا ريب أن المعنى المجازي ليس
بمعنى نفس أمري للفظ ولا بمعنى حقيقي له حتى يعتبر صحة
سلبه علامة للحقيقة مع أن المعتبر عندهم في علامة الحقيقة عدم
صحة السلب لا صحته وظاهر أن الكلام في المقام في دفع الدور
المورد
على العلامتين المقررتين عندهم لا في إحداث علامة أخرى وهذا
واضح نعم غاية ما يمكن أن يقال علي المجيب حينئذ هو أن القوم لو
اعتبروا صحة سلب المعنى الحقيقي علامة لإرادة المعنى المجازي لا
لاثبات كون المعنى مجازيا لكان عليهم أن يعتبروا صحة سلب
المعنى المجازي علامة لإرادة المعنى الحقيقي أيضا فيلزمهم ترك ما
ينبغي التعرض له ولا ريب أن التزام مثل ذلك هين بالنسبة إلى ما
يلزمهم من إشكال الدور وفساد العلامة ثم أورد على ما ذكره المحقق
الشريف أن العام إنما يكون مجازا في الخاص إذا استعمل فيه من
حيث الخصوصية ولا ريب في صحة سلب معناه الحقيقي عنه حينئذ
وفيه نظر أيضا لأنه إن اعتبر السلب بالحمل المتعارف كما هو
الظاهر من إطلاقه للسلب فلا ريب في أن العام لا يصح سلبه عن
الخاص بهذا الحمل مطلقا لا من حيث تحقق العام في ضمنه ولا من
حيث
الخصوصية ضرورة أن الحيوان لا يصح سلبه عن الناطق الذي يغايره
بالمفهوم فضلا عن صحة سلبه عن الانسان المركب منه ومن
الناطق مع أن استعماله فيهما مجاز قطعا ولو أراد صحة سلب كونه
معنى حقيقيا للفظ بقي إشكال الدور بحاله وإن اعتبر السلب
بالحمل الذاتي فمع منافاته لجوابه الآتي غير وارد على المحقق
الشريف لان المجيب اعتبر السلب بالنسبة إلى مقام الخطاب دون
المستعمل فيه إذ الغرض قصد
تعيينه بالعلامة والوجه المذكور إنما يجدي في الثاني دون الأول و
منها أن المراد سلب ما يفهم من اللفظ المجرد عن القرينة وعدمه و
فيه أنه إذا علم المعنى المستفاد من اللفظ المجرد كفي أن يقال إنه
حقيقة فيه ومجاز في غيره كما مر في العلامة السابقة ولا حاجة إلى
السلب المذكور سلمنا لكن معرفة ما يفهم من اللفظ المجرد عن القرينة
متوقف على معرفة الوضع فلو توقف معرفة الوضع عليه كان
دور أو يمكن تقرير الجواب المذكور بوجه يرجع إلى ما نختاره في
الجواب كما لا يخفى ومنها ما يجري في المجاز فقط وهو منع
توقفه على العلم بصحة سلب جميع معانيه الحقيقية حتى يرد
الاشكال المذكور بل يكفي صحة سلب بعض معانيه الحقيقية عنه لأنه
حينئذ
إن لم يكن مجازا في المعنى المسلوب عنه لكان حقيقة لأن المفروض
صحة الاستعمال فيلزم الاشتراك وهو خلاف الأصل وفيه أولا أن
العلامة تكون حينئذ خلافية وظاهرهم الاتفاق عليها وثانيا أن الأصل
المذكور إنما يجري حيث يكون بين المعنيين علامة معتبرة إذ
بدونها لا محيص عن ثبوت وضع آخر وحينئذ لا يمكن نفيه عن
المعنى المستعمل فيه بالأصل مع أن العلامة المذكورة لا تختص به و
ثالثا أن الأصل قد يتخلف عن مورده لقيام دليل عليه والعلامة لا يجوز
تخلفها عن شئ من مواردها كما مر فلا يصح أخذه جزا ومنها
ما زعمه الفاضل المعاصر من أن المراد بعلامة المجاز صحة سلب
المعنى الحقيقي في الجملة وحينئذ فإن اتحد المعنى الحقيقي كان
مجازا
مطلقا وإن تعدد كان مجازا بالنسبة إلى الحقيقة المسلوبة وكذلك
المراد بعلامة الحقيقة عدم صحة سلب المعنى الحقيقي في الجملة و
هو
علامة لكون ما لا يصح السلب عنه معنى حقيقيا بالنسبة إلى ذلك
المعنى الذي لا يجوز سلبه عنه وإن احتمل أن يكون مجازا بالنسبة
إلى
معناه الاخر فلم يتوقف العلم بكون اللفظ حقيقة في المعنى على العلم
36

حقيقة فيه حتى يلزم الدور وهذا حاصل كلامه بعد التنقيح وهو فاسد
أما في المجاز فلان مجرد صحة سلب بعض المعاني الحقيقية عنه لا
يستلزم أن يكون مجازا بالنسبة إليه ولو مجازا ثانيا بل يتوقف على
وجود العلاقة مثلا صحة سلب العين بمعنى الذهب عن الميزان لا
يقتضي أن يكون العين بمعنى الذهب مجازا فيه لعدم العلاقة
المصححة والعجب أنه تفطن لهذا الاشكال فأورده على وجه السؤال
وأجاب
عنه بأنه إنما يرد لو أردنا كونه مجازا عنها بالفعل وأما إذا كان المراد
كونه مجازا بالنسبة إليها لو استعمل فيه فلا يرد ذلك وهو
كاف فيما أردناه هذا لفظه أقول لا خفاء في أن قوله لو استعمل فيه إنما
يدفع السؤال إذا أراد به الاستعمال على الوجه الصحيح كما هو
الظاهر بأن يكون هناك علاقة مصححة فيكون محصل كلامه بعد
التصحيح أن صحة سلب اللفظ باعتبار أحد معانيه عن مورد
الاستعمال
علامة لمجازيته فيه على تقدير وجود العلاقة ووقوع الاستعمال
بحسبها وفيه ما لا يخفى لان العلامة حينئذ إنما تفيد كون الاستعمال
فيه مجازا شأنيا على تقدير مجهول إذ لم يعتبر العلم بالعلاقة في
العلامة وظاهر أن الغرض من العلامة تعيين أحد القسمين وإلا فالعلم
الاجمالي لا يحتاج إلى إعمال علامة لا يقال إذا صح سلب اللفظ
باعتبار معناه الحقيقي عن مورد الاستعمال كان ذلك آية كونه مجازا
فيه
في الجملة ولو مجازا شأنيا ولا حاجة إلى اعتبار صحة استعماله فيه
باعتباره ولا إلى اعتبار أن يكون هناك علاقة لأنه حينئذ لا يخلو
إما أن يكون مشتركا بينهما أو لا فإن كان الثاني كان مجازا فيه مطلقا وإن
كان الأول فلا أقل من أن يكون مجازا فيه إن أول اللفظ
بالمسمى حال جعله مثنى أو مجموعا أو منكرا وإن لم يجز مطلقا
لعدم العلاقة كذلك لأنا نقول مثل ذلك لا يتعلق مقاصد العقلا
باستعلام حاله بعلامة مستقلة كما لا يخفى سيما مع إمكان تحريرها
على وجه يعم سائر الأقسام وأما في الحقيقة فلانه إن أراد بالحقيقة
التي التزم توقف عدم صحة السلب عليها ما جعل عدم صحة السلب
علامة لها فلزوم الدور ظاهر وإن أراد غيرها فظاهر إذ لا توقف
هناك لان العلم ببعض معاني المشترك
لا أثر له في العلم ببعض آخر ولئن نزل كلامه على إرادة أن الكلي إذا
أطلق على الفرد كالانسان بمعنى الحيوان الناطق على البليد فعدم
صحة سلبه عن البليد يتوقف على العلم بأنه حقيقة في الحيوان الناطق
ولا يتوقف العلم بهذا على العلم بعدم صحة سلبه عن البليد لتوجه
عليه أن إطلاق الكلي على الفرد إن كان باعتبار الخصوصية فمجاز
قطعا وإن كان باعتبار الكلي المتحقق في ضمنه فذلك في الحقيقة
إطلاق اللفظ على معناه الكلي إذ معنى الانسان الذي أطلق عليه البليد
بهذا الاعتبار ليس إلا الحيوان الناطق فعلى ما التزمه من توقفه على
العلم بأنه حقيقة في الحيوان الناطق يتوجه الدور اللهم إلا أن يريد
حينئذ أن المقصود من هذه العلامة استعلام حال الفرد باعتبار وجود
الكلي في ضمنه وعدمه فيرجع إلى الجواب الآتي وقد عده غيره و
ربما أمكن الفرق بأن المقصود بالعلامة على الجواب الآتي استعلام
حال الفرد فقط وعلى هذا الجواب استعلام ما هو أعم من ذلك
فيدخل فيه مثل إطلاق الناطق على الانسان لكن يتجه عليه
الاشكالات
الآتية فيه ومنها ما ذكره هذا المعاصر أيضا وهو أن المقصود بهذه
العلامة استعلام الحكم في الافراد المشكوكة كما لو علمنا بأن للماء
معنى حقيقيا ومعنى مجازيا وشككنا في بعض الافراد أنه يندرج
تحت الأول أو الثاني فيستخبر الحال بالقاعدة المذكورة أقول وفيه
خروج عن محل البحث فإن الكلام في العلامة التي يعرف بها المعنى
الحقيقي والمجازي لا ما يعلم بها تحقق المعنى الحقيقي في ضمن
الفرد وعدمه على ما يقتضيه ظاهر بيانه إلا أن يقال إن المقصود من
ذلك استعلام حال الاستعمال في الفرد فلا يخرج عن محل البحث
لكن يرد عليه مع عدم ملائمته لظاهر المقام أو عدم نهوضه بدفع
الاشكال بتمامه مضافا إلى مخالفته لما مر في دفع الاشكال السابق من
اعتبار السلب بالحمل الذاتي أن إشكال الدور وارد على ظاهره أيضا
لان العلم بصحة السلب أو عدمها من الفرد المشكوك فيه يتوقف
على العلم بخروجه عن المعنى الحقيقي أو بدخوله فيه فلو توقف
العلم بذلك على العلم بصحة السلب أو عدمها
فتدبر هذا والذي اختاره في الجواب أن يقال المقصود بالعلامة إنما
هو تحصيل العلم التفصيلي بالحقيقة والمجاز وهو لا يتوقف على
العلم بالوضع وعدمه فضلا عن توقفه على العلم التفصيلي به إذ كثيرا
ما يعلم ذلك من تنصيص أهل اللسان العارفين بطرق المقال أو
شهادة الوجدان عن الخبير بكيفية الاستعمال والثاني هو الغالب
المتداول فإن قلت حكم الوجدان بصحة السلب وعدمها يتوقف على
العلم بالوضع وعدمه ضرورة أن دلالة الألفاظ ليست ذاتية كما توهمه
ابن عباد في ظاهر ما نسب إليه فلو توقف العلم بالوضع وعدمه
على ذلك لزم الدور وأيضا قلت لا ريب في أن معنى اللفظ كثيرا ما
يثبت في النفس ويتقرر فيها على الوجه المتقرر عليه عند أهل
العرف لكثرة مصادفته في المحاورات وموارد الاستعمال ولو بمعونة
القرائن والامارات لكن على نوع من الخفاء وضرب من الاجمال
فإذا أريد تبيينه وتعيينه احتيج إلى إعمال العلامة فالعلم التفصيلي
يتوقف على اعتبار العلامة وهي إنما تتوقف على العلم الاجمالي كما
مر في التبادر فلا دور فإن قيل هذا التوجيه لا يتجه في هذه العلامة فيما
يعتبر فيه السلب بالحمل الذاتي فإن السلب لا يعتبر بين المعنى
واللفظ إذ لا شك في صحته دائما ولا بينه وبين مفهوم المعنى
لوضوح صحة السلب بالنسبة إلى غير المعنى دائما بل يعتبر بينه وبين
معناه الغير التأويلي فيتوقف العلم بعدم صحة سلب المعنى عن
المعنى المبحوث عنه على العلم بأنه المعنى الغير التأويلي للفظ ولا
ريب أن
العلم بهذا هو العلم بكونه معنى حقيقيا فيعود إشكال الدور فنقول
نختار القسم الأخير ونمنع لزوم الدور بما ذكرناه من الفرق بين
العلم الاجمالي والتفصيلي لان العلم بعدم صحة سلب المعنى الغير
التأويلي عن المعنى المبحوث عنه
37

إنما يستدعي العلم به ولو إجمالا والمقصود تعيينه تفصيلا فلا إشكال
تتميم
كما يصح أن يعتبر عدم صحة السلب من غير تأويل علامة للحقيقة
كذلك يصح أن يعتبر صحة الحمل من غير تأويل علامة لها فإن صح
ذلك بالحمل الذاتي كان علامة لكونه حقيقة فيه من حيث الخصوص
وإن صح بالحمل المتعارف المقابل للحمل الذاتي كان علامة لكونه
حقيقة فيه إن أطلق عليه باعتبار ذلك المعنى وإن صح بالحمل
المتعارف بالمعنى الأعم كان علامة لكونه حقيقة فيه في الجملة و
أيضا
كما يصح أن يعتبر صحة السلب من غير تأويل علامة للمجاز كذلك
يصح أن يعتبر عدم صحة الحمل من غير تأويل علامة له ويجري في
المقامين سائر الكلمات المتقدمة وكان القوم لم يتعرضوا لهما استغناء
عنهما بصحة السلب وعدمها فإنهما يستلزمان عدم صحة الحمل
وصحته ولا يذهب عليك أنهم لو اعتبروا صحة الحمل علامة
للحقيقة بدلا عن عدم صحة السلب لكان أقرب إلى الاعتبار مع أنه
المتداول
في موارد الاستعمال حيث يستكشف الحال بمراجعة العرف واللغة و
منها الاطراد وعدمه أما الأول فهو علامة الحقيقة على ما نص عليه
بعض المتأخرين والمراد به أن يكون المعنى الذي صح باعتباره
الاستعمال من غير تأويل بحيث كلما تحقق صح الاستعمال فيه كذلك
و
ذلك كرجل وضارب فإن المعنى الذي صح باعتباره إطلاقهما على
زيد مثلا من غير تأويل هو بحيث كلما وجد صح إطلاقهما عليه كذلك
ونحو هذا فإن المعنى الذي صح باعتباره استعماله في خصوص زيد
من غير تأويل وهو كونه فردا من أفراد المذكر المشار إليه هو
بحيث كلما تحقق صح استعماله في خصوصه كذلك حيثما يتحقق
الاطراد على الوجه الأول فهو علامة لكون كل من الوضع والمعنى
عاما
وحيثما كان على الوجه الأخير فهو علامة كون الوضع عاما و
الموضوع له خاصا وإنما اعتبرت الاطلاق والاستعمال من غير تأويل
مع
أني لم أقف على من يعتبره لئلا يرد النقض بالكليات المستعملة في
الخصوصيات مثلا يصدق أن المعنى الذي صح باعتباره استعمال
الانسان في خصوص زيد هو بحيث كلما ثبت صح الاستعمال فيه
بخصوصه فالاطراد بهذا المعنى متحقق ولا حقيقة بل ربما يرد النقض
بمطلق أقسام المجاز على ما سنشير إليه وكذلك إطلاق اللفظ على
مثله على ما مر تحقيق القول فيه هذا غاية توجيه الكلام في المقام و
هو بعد محل نظر لأنه إن اعتبر الاستعمال مطلقا انتقض بالمجاز كما
عرفت وإن قيد بكونه على وجه الحقيقة أو من غير تأويل كما فعلنا لزم
الدور لان العلم بصحة استعمال اللفظ حيثما يتحقق ذلك المعنى
حقيقة أو من غير تأويل مبني على العلم بأنه موضوع لذلك المعنى أو
لخصوصيات أفراده فلو توقف العلم بذلك على العلم بالاطراد لزم
الدور فإن قيل يمكن العلم بصحة الاستعمال على الوجه المذكور
بمراجعة الوجدان أو بملاحظة محاورات أهل اللسان على ما مر البيان
فلا يلزم الدور قلنا فإذا علمنا المعنى الذي صح باعتباره الاستعمال
حقيقة أو من غير تأويل فقد كفانا علامة لكون اللفظ حقيقة في ذلك
المعنى ولم نحتج إلى اعتبار كونه بحيث يصح استعماله حيثما يتحقق
ذلك المعنى على وجه الحقيقة وكان هذا هو السر في عدم اعتبار
المتقدمين إياه علامة للحقيقة وإن اعتبروا عدم الاطراد علامة للمجاز
ثم أقول والأظهر عندي أن يفسر الاطراد بأن يكون المعنى الذي
صح باعتباره استعمال اللفظ على الحقيقة أو من غير تأويل في موارده
المعلومة من حيث القدر المشترك بحيث يصح أن يستعمل كذلك
في موارده المشكوكة فيستعلم من ذلك أن اللفظ موضوع للقدر
المشترك بين تلك الموارد وأن المعنى الذي يصح استعمال اللفظ
باعتباره متحقق في الجميع كما لو علمنا مدلول اللفظ الماء الحقيقي
إجمالا وترددنا في تفصيله وتعيينه بين أن يكون موضوعا
لخصوص القدر المشترك بين المياه الصافية أو الأعم من ذلك أعني
القدر المشترك بينها وبين المياه الكدرة فبصحة إطلاقه على المياه
الكدرة من غير تأويل باعتبار ذلك المعنى نستعلم كونه حقيقة في
المعنى الأعم فإن قيل فالعلامة حينئذ دورية لان العلم بصحة إطلاق
لفظ الماء مثلا من غير تأويل على الماء الكدر مبني على العلم بأنه
موضوع للقدر المشترك بينه وبين الماء الصافي فلو توقف العلم بذلك
على العلم بكونه حقيقة فيه لزم
الدور قلنا لا يتوقف العلم بكونه مستعملا في الماء الكدر من غير
تأويل على العلم بكونه موضوعا للقدر المشترك تفصيلا بل يكفي
العلم
به إجمالا ولو بمراجعة الوجدان على ما مر البيان فلا دور وأما عدم
الاطراد فقد ذكره جماعة علامة للمجاز ومثلوا بنحو اسأل القرية
فإن المصحح لاستعمال القرية في أهلها علاقة الحلول وليس كلما
تحققت هذه العلامة صح الاستعمال إذ لا يقال اسأل البساط والحجرة
و
نحوهما واعترض على طرده بلفظ الرحمن فإنه لا يطلق على غيره
تعالى والسخي والفاضل فإنهما لا يطلقان عليه تعالى والقارورة
فإنها لا تطلق على غير الزجاجة فعدم الاطراد متحقق لعدم صدق هذه
الصفات هناك مع حصول مباديها ولا مجاز وأجيب بوجهين الأول
أن عدم الاطراد إنما يعتبر إذا كان من غير مانع لغة أو شرعا وقد منع
الشارع من الأولين واللغة من الثالث فلا قدح بها وأورد عليه
باستلزامه الدور حينئذ لان عدم الاطراد لا يعلم إلا بسببه لأنه ممكن
غير محسوس بذاته ولا بحسب آثاره وصفاته وقد تقرر في محله
أن كل ممكن يكون كذلك لا يعلم إلا بسببه والسبب ليس وجود
المانع إذ التقدير عدمه بل عدم المقتضي ومنه الوضع فإذن يتوقف
العلم
بعدم الاطراد على العلم بعدم الوضع فلو توقف العلم بعدم الوضع
عليه كان دورا ولمانع أن يمنع بعض مقدماته الثاني أن الرحمن معناه
البالغ في الرحمة غايتها فيختص به تعالى والفاضل العالم الذي من
شأنه أن يجهل والسخي الجواد الذي من شأنه أن يبخل فيمتنع أن
يطلقا عليه تعالى والقارورة منقولة عن معناها الأصلي إلى الزجاجة
التي يستقر فيها الشئ فلا يطلق على غيرها والوجه في ذلك أن
هذه الألفاظ لما دارت بين أن يكون موضوعة للمعاني المطلقة أو
المعاني المقيدة فبعدم إطلاقها على بعض معانيها المطلقة دليل على
أنها موضوعة بإزاء المعاني المقيدة هذا حاصل ما ذكروه في المقام و
الحق أن المجاز أيضا
38

يطرد حيثما توجد علاقة معتبرة وهي المناسبة المصححة لإعارة لفظ
أحدهما للاخر في مصطلح التخاطب فإن هذا هو المعيار في سبك
المجاز وعليه المدار في الاستعمال وأما العلاقات التي ذكروها فهي
على إطلاقها لا تعتبر قطعا على ما مر تحقيق القول فيه فعدم
الاطراد باعتبارها غير قادح فتسقط العلامة المذكورة رأسا ومنها
الاستقراء وهو تصفح كثير من الجزئيات لاثبات حكم كليها أو ما
يلازم حكم كليها كحكمنا على كل فعل بأنه يجمع على فعول و
كحكمنا على كل فاعل بأن حقه الرفع وعلى كل مفعول بأن حقه
النصب
إلى غير ذلك من القواعد المقررة في محلها فإن تلك القواعد وإن لم
يسمع كلها أو جلها من العرب لكن ما نجده من محافظتهم عليها في
الموارد التي تصفحناها مما يوجب القطع أو الظن بتأسيس الواضع
لتلك القواعد ووضعه إياها ويسمى الحكم المستفاد منه عند علماء
الأدب حكما قياسيا ويمكن إرجاع هذا بنوع من التوجيه إلى علامة
الاطراد وحجية هذا الطريق مما لا خلاف فيه ومنها صحة الاستثناء
وعدمها وهذه العلامة توجب تمييز اللفظ الصالح للعموم وضعا من
غيره كما تقول في الجمع المحلى إنه يفيد العموم عند عدم العمد
بنفسه لصحة الاستثناء منه وإن المفرد المحلى لا يفيده ما لم ينضم
إليه اعتبار زائد على مدلوله لعدم صحة الاستثناء منه كذلك لا يقال
صحة الاستثناء إنما يقتضي أن يكون المستثنى منه مستعملا في
العموم أما كونه على وجه الحقيقة فلا ضرورة أن اللفظ المستعمل في
العموم مجازا يصح أن يستثني منه وأيضا يتوقف العلم بصحة
الاستثناء على العلم بعموم اللفظ فلو توقف العلم بعموم اللفظ على
العلم
بصحة الاستثناء كان دورا وكذا الكلام في العلم بعدم صحة الاستثناء
لأنا نقول المراد صحة الاستثناء من غير بناء على التأويل فيندفع
الاحتمال المذكور لكن هذا إنما يستقيم على ما نذهب إليه من أن
الاستثناء لا يوجب التجوز في لفظ العام كما سيأتي بيانه ثم نمنع
توقف
العلم بصحة الاستثناء وعدمها على العلم بعموم اللفظ على حذو ما
سبق واعلم أن بعضهم غير العلامة فجعل اطراد الاستثناء علامة
للعموم
وعدمه علامة لعدمه وفيه أنه إن اعتبر الاستثناء من غير بناء على
التأويل لم يحتج
إلى اعتبار الاطراد وإلا لم ينفعه اعتباره فإن المجاز قد يطرد وربما
يلحق بهذه العلامة صحة التقييد وعدمها ويستند إلى أن الأصل
في القيد أن يكون احترازيا و منها أصالة عدم النقل وهي كالقياس من
الدلائل وليست من العلائم فيستدل بها عند ثبوت حقيقة أو مجاز
في زمان على ثبوته في زمان آخر سابق أو لاحق إذا ثبت استعماله فيه
كقول الأكثرين الامر حقيقة في الوجوب عرفا فكذلك لغة و
شرعا لأصالة عدم النقل وهل التعويل على هذا الأصل من حيث
إفادته الظن نظرا إلى عدم الاختلاف غالبا فيدور مداره أو من حيث
التعبد لان مرجعه إلى عدم نقض اليقين السابق فيطرد وجهان أظهرها
الأول لان المدار في مباحث الألفاظ على الظن مع أن الوجه
الثاني لا يجري حيث يكون الاستدلال بثبوته في الزمن المتأخر على
ثبوته في الزمن المتقدم ومنها القياس على ما ذكره جماعة وهو
عبارة عن إثبات معنى للفظ إلحاقا بمشابهه أو إثبات لفظ لمعنى إلحاقا
له بمشابهه كما يقال الامر يدل على التكرار لدلالة النهي
المشابه إياه في الدلالة على الطلب عليه وإن السارق حقيقة في
النباش لشبهه به في الاخذ على الخفية وتمسكوا في ذلك بوجوه
ضعيفة و
الحق عدم التعويل على ذلك لأنه لا يحصل به ظن يوثق به أو نقول لا
نسلم حجية مطلق الظن في مباحث الألفاظ بل نقتصر على ما ثبت
حجيته بإجماع أو دليل غيره لان عدم إمكان التوصل إلى العلم
بموضوعات الألفاظ أو إلى العلم بالمراد كما هو الوظيفة أولا لا يوجب
جواز التعويل على كل ظن مع ثبوت بعض الطرق القطعية التي أفاد
الدليل حجيتها وترد هنا أبحاث يظهر مما أوردناه في مبحث حجية
أخبار الآحاد ويمكن أن يتمسك أيضا بما دل من الروايات على منع
التعويل على القياس والاستحسان فإنها وإن كانت واردة في
موارد الأحكام الشرعية لكنها بعمومها وإطلاقها ربما تتناول المقام
أيضا حيث يستفاد من مساقها أن لا تعويل على القياس من حيث
كونه قياسا هذا وقد أورد بعضهم للمجاز علامات أخر منها أن يوجد
اللفظ مستعملا في معنيين ويعلم أنه حقيقة في أحدهما بخصوصه و
يشك في الاخر فيحكم بكونه مجازا فيه لئلا يلزم الاشتراك المخالف
للأصل
على ما سيأتي بيانه وهذا إنما يتم إذا كان بين المعنيين علاقة مصححة
للتجوز كما مر التنبيه عليه ومع ذلك فهو إنما يصلح دليلا لا
علامة وقد يضاف إلى ذلك اختلافهما في الجمع وهذا إنما يحتاج
إليه إذا علم أن إطلاقه على أحدهما على الحقيقة ولم يعلم أنه من
حيث
الخصوصية أو باعتبار قدر مشترك فينفي كون الوضع للقدر المشترك
باختلاف الجمع وكونه لكل منهما بالأصل المذكور ومنها أن
يعتبر في إطلاقه على المعنى انضمامه إلى مشاكله كالطبخ في قوله
قلت اطبخوا لي جبة وقميصا ومنها التزام تقييده في إطلاقه على
معنى بحيث لا يستعمل فيه عند الاطلاق كيد الشمال ونار الحرب و
نحوهما وهذا ليس بشئ لان التحقيق أن كلا من لفظي اليد والنار
استعارة تخييلية مستعملة فيما وضعت له ولو سلم أنها مجاز كما
ذهب إليه بعضهم من أنها مستعملة في صورة وهمية مشتبهة بمعناها
الأصلي فالعلامة بعد غير مستقيمة لانتقاضها بمثل لفظ الماء فإنه لا
يستعمل في المياه المضافة إلا مضافا والتزام كونه مجازا بعيد عن
التحقيق
فصل
متى ورد من المتكلم لفظ وعرف مراده بالقرائن الخارجية من شواهد
علمية أو أمارات ظنية مما يعول عليه في المحاورات العرفية حمل
عليه سواء كان حقيقة أو مجازا وإذا انتفت القرائن الخارجية فإن اتحد
معناه الحقيقي واحتمله المقام من غير معارض حمل عليه كما
سيأتي وإن تعدد فلا يخلو إما أن يكون بطريق الاشتراك أو النقل فإن
كان الأول فإن كان لبعض المعاني اشتهار أو اختصاص في
عرف المتخاطبين حمل عليه وإلا بأن انتفي الأمران وجب الوقف و
الرجوع إلى الأصول وعلى هذا القياس مشترك الكتابة إذا تجرد
عن القرينة كحديث لا سبق المحتمل للفتح فيدل على تحريم أخذ
المال المشترط والسكون فيدل على حرمة العمل ويلزمها حرمة
المال
فيبنى على الأول لأصالة جواز الفعل مع احتمال ترجيح الثاني في خصوص
39

بأصالة عدم حركة العين وبأصالته للأول فيرجح على الفرع وقد
يتطرق هذان الوجهان في اللفظ المسموع إذا شك في حركته ولو
لتطرق النسيان إليه والأخير خاصة فيما إذا تساوى الأصل والفرع
هيئة كفلك مفرد أو جمعا وإن اختص الاختصاص بأحد المعنيين أو
الاشتهار فيه بعرف أحدهما وبالاخر في عرف الاخر ففي الحمل على
ما يقتضيه عرف المتكلم والمخاطب أو الوقف وجوه هذا إذا علم
بعلم المتكلم يعرف المخاطب أو جهل به وإن علم بعدم علمه حمل
على مقتضى عرف المتكلم بلا إشكال كما أنه يحمل على عرف
المخاطب إذا علم بعلم المتكلم بعدم علمه بعرفه وإن كان الثاني فإن
علم سبق النقل على الاستعمال أو العكس فلا كلام وإلا أمكن
ترجيح المعنى المنقول منه مع العلم بتاريخ الاستعمال والمعنى
المنقول إليه مع العلم بتاريخ النقل أخذا بأصالة تأخر الحادث ما لم
يعتضد
خلافه بشواهد خارجية ومن هنا وقع النزاع في الألفاظ التي وردت
مستعملة في الشرع مما تعارض فيه العرف واللغة فقيل بتقديم اللغة
للأصل وقيل بتقديم العرف بدلالة الاستقراء وهو قوي
ثم للفظ أحوال خمسة معروفة
مخالفة للأصل هي المجاز والاشتراك والنقل والتخصيص والاضمار
فلا يصار إليها إلا لدليل فإن اقتضى الدليل بعضا منها معينا توبع
مقتضاه وإن اقتضى بعضا منها لا بعينه فهذه صور تعارض الأحوال و
التعارض يقع في مادة واحدة فصاعدا بين حالتين منها فصاعدا
فإن دار الامر بين المجاز والاشتراك قدم المجاز لكثرته أنواعا وأفرادا
وسعة واستغنائه عن تعدد الوضع الغير الثابت وأما الرخصة
أو الوضع الثانوي أو التأويلي على القول بتوقف صحة المجاز عليه فهو
أمر ثابت لا سبيل إلى نفيه فلا يعارض حدوث الوضع المحتمل و
قد يرجح المجاز باستغناء حقيقته عن القرينة وأبلغيته وأوفقيته
بالطبع مع ما فيه من تيسر بعض أنواع البديع فيعارض بأبعدية
الاشتراك عن الخطأ أو مع عدم القرينة أو خفائها يتوقف وفي المجاز
يحمل على الحقيقة فيؤدي إلى خلاف المقصود باطراد الاشتراك
وصحة الاشتقاق منه بالمعنيين إذا كان مما يشتق منه وفي هذا نظر و
استغنائه عن الحقيقة والعلاقة وليس فيه مخالفة ظاهر مع أن
المشترك أيضا قد يكون أوفق بمقتضى الحال حيث يتعلق القصد
بالاجمال ويتيسر به أيضا بعض أنواع البديع ولا خفاء في أن هذه
الوجوه مع معارضتها بالوجوه المتقدمة لا يصلح لاثبات الوضع لان
مرجعها إلى مجرد الاستحسان وإذا دار بين النقل والاشتراك رجح
الاشتراك لانفراد النقل عن الاشتراك بعد مشاركتهما في الحاجة إلى
تعدد الوضع بالاحتياج إلى هجر المعنى الأول مع أصالة عدمه و
عدم احتياج الاشتراك إليه هذا إذا أريد بالمنقول المنقول بالغلبة و
الهجر كما هو الظاهر ولو أريد ما وضع للمعنى الثاني لمناسبة
المعنى الأول من غير بناء على الهجر أو حصوله أمكن ترجيح
الاشتراك أيضا بأصالة عدم هذه الملاحظة ومنه يظهر رجحان
الاشتراك
على الارتجال أيضا هذا وقد يرجح النقل بأن الاشتراك يقتضي تعدد
الحقيقة فيختل الفهم دون النقل وهو استحسان لا سبيل إلى إثبات
اللغات به وإذا
دار بين الاضمار والاشتراك رجح الاضمار لان وجوب الاضمار من
توابع عدم الاشتراك ولوازمه بالنسبة إلى بعض موارد الاستعمال
فلا يصلح لمعارضته وقد يعارض ذلك بأن الاشتراك أغلب من
الاضمار فيرجح عليه وهذه الغلبة على تقدير تسليمها ليست بحيث
تصلح
لمكافأة ما مر وإذا دار بين التخصيص والمجاز رجح التخصيص
لكثرته وشيوعه بالنسبة إلى المجاز وإن قلنا بأنه منه إذ المراد
بالمجاز هنا ما عدا التخصيص بقرينة المقابلة والتقييد هنا في حكم
التخصيص بل أولى منه ولهذا يرجح عليه حيث يدور الامر بينهما
لان عموم التخصيص وضعي فيرجح على ما عمومه حكمي وإذا دار
بين التخصيص والاشتراك رجح التخصيص لرجحانه على المجاز
الراجح على الاشتراك وإذا دار بين المجاز والنقل رجح المجاز
لرجحانه على الاشتراك الراجح عليه وإذا دار بين الاضمار والنقل
رجح
الاضمار لرجحانه على الاشتراك الراجح على النقل وإذا دار بين
المجاز والاضمار قيل بتساويهما لاحتياج كل منهما إلى القرينة و
يمكن ترجيح المجاز لغلبته وإذا دار بين التخصيص والاضمار
فالترجيح للتخصيص لغلبته واعلم أن كلا من التخصيص والمجاز و
الاضمار قد يكون قريبا في نوعه وقد يكون بعيدا فيه فيعتبر ما قررناه
من الترجيح في كل من النوعين أو الأنواع بالنسبة إلى المماثل
في نوعه أو الأدون وأما القريب من مرجوح النوع والبعيد من راجحه
فلا يجري فيه إطلاق ما ذكر بل لا بد من ملاحظة جهتيه مع جهتي
الاخر واعتبار الترجيح فقد يرجح بعيد النوع على بعيد الشخص إذا
زاد بعده على بعد الاخر وقد يتوقف مع التساوي والامر في ذلك
موكول إلى النظر ولا سبيل فيه إلى الضبط وكذا الكلام فيما إذا دار
الامر بين مجازين أو تخصيصين أو إضمارين في مورد واحد أو
موردين فيتوقف مع التساوي ويرجح مع الاختلاف نعم إذا ورد
خطابان وقام الدليل على أن الحكم في أحدهما بالخصوص خاص
فاحتيج إلى ارتكاب التخصيص أو التجوز أو الاضمار فيه وأمكن
التخلص عنه بارتكابه في الاخر فالظاهر قصر المتصرف على مورد
الدليل وسيأتي بيان ذلك في مبحث التخصيص واعلم
أن حجية ظواهر الألفاظ موضع وفاق وعليه مبنى التفهيم والتفاهم
في المحاورات قديما وحديثا ولا فرق بين الظهور المستند إلى
نفس اللفظ كالحقيقة أو إلى القرائن الحالية أو المقالية ولا بين الألفاظ
الملفوظ بها والمكتوبة وأما ظواهر الكتابة حيث يكون المرسوم
محتملا للفظين أو ألفاظ ويكون بعضها أظهر فالظاهر جواز التعويل
عليها أيضا فيما وضع للإفادة والاستفادة لا سيما إذا انقطع
طريق التعيين كما في كتب الاخبار والفتاوى إذ لو أريد بها ما هو
خلاف الظاهر لنبه عليه لئلا تفوت الفائدة في تدوينها أو يلزم
الاغراء بالجهل ومن هذا الباب حديث الماء يطهر ولا يطهر فإن فيه
وجوها تسعة أظهرها أن يكون الأول مبنيا للفاعل والثاني
للمفعول وكذلك حديث الدنيا رأس كل خطيئة فإن الظاهر أن الدنيا
كلمة ورأس كلمة وإن احتمل بعيدا
40

أن يكون الدينار كلمة وأس بضم الهمزة وتشديد السين بمعنى
الأساس كلمة إلى غير ذلك واعلم أيضا أن الكتابة قد يتطرق إليها
احتمال الاشتراك والنقل والزيادة والنقصان الأصليين فيصح
التمسك في نفيها بالأصل مع الظن به وقد تتعارض الأحوال وتعرف
وجوه الترجيح فيه مما مر في الألفاظ ولو تطرق إليها احتمال الغلط
جاز التعويل مع ظن الصحة على أصالة عدمه
فصل قد اشتهر بينهم أن الأصل في الاستعمال الحقيقة وأن
الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز
وبين هاتين القاعدتين بحسب الظاهر تدافع لكن لكل منهما مورد
مخصوص فمن موارد القاعدة الأولى ما لو علم المعنى الحقيقي و
جهل
المراد فيحمل على المعنى الحقيقي عند التجرد عن القرائن لظهوره و
رجحانه ولأن مبنى المحاورات عليه وهذا مما لا نزاع لاحد فيه و
قد حكى الاتفاق عليه غير واحد منهم ولا فرق في ذلك بين أن يكون
السامع مخاطبا باللفظ أو لا ومنها ما لو اتحد المستعمل فيه وجهل
الموضوع له والمراد أن يتحد منه ما يحتمل أن يكون اللفظ حقيقة فيه
وإن كان مستعملا في غيره أيضا إذا علم بكونه مجازا فالأكثر
على أنه حقيقة في ذلك المعنى وربما نقل الاتفاق عليه لان ظاهر
الاستعمال والمتبادر منه ذلك ولأنه إذا وجب حمل اللفظ على
المعنى
الحقيقي عند الجهل بالمراد وجب حمل اللفظ على ذلك عند العلم
به أيضا إذ لا يعقل للعلم بالمراد وعدمه أثر في ذلك ويؤيده ما قيل
من
أن الحقيقة أرجح من المجاز لتوقفه على الوضع والعلاقة والنقل و
القرينة والحقيقة إنما تتوقف على الوضع فالحمل عليها أولى وعن
ابن جني أنه مجاز لان أكثر اللغات مجازات فإن أراد الأكثرية بحسب
الاستعمال فممنوع لشهادة الوجدان على خلافه وإن أراد الأكثرية
بحسب المعنى فمسلم لكنه لا يجديه لمعارضته بما هو أقوى منه من
أكثرية الاستعمال في المعنى الحقيقي وبعض أهل العصر اشترط فيه
التفحص والتتبع إلحاقا له بالخطاب الشرعي حيث إنه لا يكون دليلا
للفقيه إلا بعد بذل الجهد والفحص عن المعارض وفيه نظر لأنه
إن ادعى عدم حصول الظن بالموضوع له بمجرد الاستعمال فورود
المنع عليه ظاهر وإن ادعى عدم حجية الظن الحاصل منه ما لم
يحصل العجز عن تحصيل ما هو أقوى منه بالتتبع والفحص فمدفوع
بعد مخالفته لظاهر كلمات القوم بأن ما دل على حجية مثل هذا
الظن في مباحث الألفاظ من إجماع أو غيره إن اقتضى حجيته مطلقا
فلا وجه لتخصيصه في المقام بهذا الاشتراط وإلا فلا وجه لتخصيص
هذا الاشتراط بالمقام ولعله يعمم الاشتراط وإن تعرض لذكره في
خصوص المقام وهو قوي ويمكن تنزيل كلمات القوم على وجه لا
ينافيه وتوقف الفاضل المعاصر بين الحمل على الحقيقة والمجاز
نظرا
إلى أن المجاز متداول وشائع ولا يتوقف إلا على مجرد ثبوت الوضع
كالحقيقة فلا مرجح لأحدهما وفيه ما عرفت على أن المتداول
الشائع هو سبك المجاز عن الحقيقة إذ المجاز الذي لا حقيقة له لا
حقيقة له وإن قلنا بجوازه سلمنا لكنه نادر جدا فيبعد حمل الاستعمال
عليه والتزام حقيقة غيره يتوقف على سبق الاستعمال فيه والأصل
عدمه وكان هذا الأصل هو الذي دعاه إلى اعتبار منع توقف المجاز
على الحقيقة وظني أنه لا حاجة إليه لان الغالب سبق الاستعمال و
كونه في هذا المعنى ليس بأولى من غيره فلا يتوقف على المنع
المذكور فتدبر ومنها أن يتعدد الموضوع له والمستعمل فيه ويتحد
الوضع ويكون بعض موارده بحيث يحتمل أن يكون داخلا في
الموضوع له بأن يكون المعتبر فيه المفهوم الأعم فيكون حقيقة فيه و
يحتمل عدمه بأن يكون المعتبر فيه المفهوم الأخص فيكون مجازا
فيه فيبنى على الدخول وأن المعتبر هو المفهوم الأعم لأصالة الحقيقة
المجردة عن المعارض فإن أصل الاستعمال ثابت والكلام في
تعيين مورد الوضع فينهض ظاهر الاستعمال دليلا على تعيين الأعم و
يؤيده أصالة عدم ملاحظة الخصوصية حيث يتوقف ملاحظة الخاص
على ملاحظته كما لو ترددنا بين أن تكون أداة الاستثناء موضوعة
لخصوصيات مطلق الاخراج أو إخراج الأقل فقط فيرجح الأول لما مر
وأما أصالة عدم تحقق الوضع في مورد الشك فلا يصلح معارضا
للأصل المذكور لأنه ظاهر فينهض حجة عليه هذا ولم أقف منهم على
كلام فيه نعم ربما يؤذن مقالتهم في المورد السابق بالموافقة لما ذكرناه
ومنها ما لو استعمل اللفظ في معنيين لا يكون بينهما علاقة
التجوز فيحتمل الاشتراك بينهما وأن يكون موضوعا لمعنى ثالث أو
لمعنيين آخرين فيستعمل فيهما مجازا والمعتمد الأول لان ظاهر
الاستعمال يعين الوضع للمستعمل فيه وينفيه عن غيره فيلزم تعدده
فيهما دفعا للزوم الغلط وكذا الحال فيما لو تعدد المستعمل فيه و
تحققت العلاقة في جانب دون آخر وعلم بالوضع لذي العلاقة في
جانب دون آخر وعلم بالوضع لذي العلاقة كاللفظ المستعمل في
الكل
وفي الجز الذي لا ينتفى بانتفائه إذا علم الوضع للجز فيبنى على
الاشتراك بينهما لما مر ومنها ما لو جهلنا وضع اللفظ ووجدناه تارة
مستعملا بغير قرينة وأخرى
محفوفا بها وجوزنا أن يكون المراد به في الاستعمالين معنى واحد
فعلى ما مر يكون الاستعمال حقيقة في الموضعين والمعنى واحد أو
يجري فيه النزاع المتقدم ومورد القاعدة الثانية أن يتعدد المستعمل
فيه ويجهل الموضوع له أو يعلم الوضع في البعض ويجهل في
الباقي ويكون بحيث يحتمل الاشتراك والمجازية لوجود العلاقة
المعتبرة وهذا القيد لا بد من اعتباره وإن لم أقف على من يعتبره إذ
بدونه يتعين المصير إلى الاشتراك لامتناع الحمل على الغلط وبعد
ثبوت الوضع لما لم يثبت الاستعمال فيه وقد مر ذكره في بعض
موارد القاعدة السابقة فالسيد يبني في ذلك على الاشتراك ويجعل
استعمال اللفظ في المعاني المتعددة كاستعماله في المعنى الواحد
من غير فرق والأكثر على أن المجاز أولى من الاشتراك وأن الاستعمال
أعم من الحقيقة والمجاز بمعنى أن الاستعمال في مثل المقام
بمجرده لا يقتضي شيئا منهما وهذا هو الحق لان الاشتراك يتوقف
على تعدد الوضع فحيث لا دليل عليه فالأصل عدمه وأيضا سبب
التجوز معلوم الحصول بخلاف سبب الاشتراك للشك في الوضع و
إسناد المسبب المعلوم إلى السبب المعلوم أولى من إسناده إلى سبب
غير معلوم والفرق بين متحد المعنى ومتعدده أنه على تقدير الاتحاد
لا ريب في ثبوت أصل الوضع من حيث توقف صحة الاستعمال عليه
فيبقى تعيين الموضوع له فيصلح الاستعمال دليلا على تعيينه بخلاف
صورة التعدد
41

فإن القدر اللازم لصحة الاستعمال إنما هو الوضع للبعض ويبقى الزائد
عليه ولا يصلح الاستعمال دليلا على إثباته نعم لو ثبت إجمالا
بدليل آخر صح أن يجعل الاستعمال دليلا على تعيينه كما في الصورة
السابقة فإن قضية الاستعمال على ما يساعد عليه التحقيق لا تزيد
على ذلك ولئن سلم أن الاستعمال بنفسه ظاهر في الحقيقة فيمكن
الفرق أيضا بأن الظهور في الصورة الأخيرة مع ضعفه بمعارضة
الأصل منقوض بأظهرية المجاز من الاشتراك لغلبته عليه فلا يبقى
وثوق به بخلاف الصورة السابقة وما يقال من أن أصالة عدم تعدد
الوضع على تقدير الاشتراك معارضة بأصالة عدم ملاحظة العلاقة
على تقدير المجازية فيتساقطان فساقط لان ملاحظة العلاقة من
شرائط صحة الاستعمال ولوازمها على تقدير عدم تعدد الوضع فلا
يصلح أصالة عدمها لمعارضة أصالة عدمه ولهذا تحقيق يأتي في
محله
إن شاء الله وقد يفصل في المقام بين ما إذا كان أحد المعاني أعم من
الباقي وبين غيره فيختار في الأول أن معناه الحقيقي هو المعنى
الأعم لأنه لو كان حقيقة في غيره فقط أو في الجميع لزم المجاز أو
الاشتراك وكل منهما مخالف للأصل وأما إذا كان حقيقة في الأعم
كان حقيقة في الجميع وهذا التعليل وإن قرره المفصل فيما إذا
استعمل اللفظ في معان أحدها قدر مشترك بين بقية المعاني لكنه
يجري
أيضا فيما إذا استعمل اللفظ في معنيين وكان أحدهما أعم من الاخر و
لم يعلم كونه موضوعا لأحدهما بخصوصه كما قررنا والتحقيق
عندي أنه إن تبين استعمال اللفظ في الخاص من حيث الخصوصية
فوضعه للعام أو القدر المشترك غير رافع للمجازية والاشتراك إن
صح التعويل على أمثال هذه التعليلات في معرفة الموضوعات وإن
لم يعلم الاستعمال كما هو الغالب رجع إلى متحد المعنى لان اللفظ إذا
وجد مستعملا في معنى ثم شك في استعماله في معنى آخر بني على
أصالة عدم التعدد وقد عرفت أن اللفظ إذا كان متحد المعنى تعين
حمله على الحقيقة واعلم أنه لو تعدد المستعمل فيه وشك في تعدد
العلاقة فالظاهر التوقف لمعارضة غلبة المجاز بغلبة عدم تحقق
العلاقة المعتبرة بين المعاني وأصالة عدم الوضع بأصالة عدم حصول
مجوز التجوز في خصوص محل البحث وإن ثبت القاعدة الكلية
للشك في تعلقها به فصل
الحقيقة الشرعية هي الكلمة المستعملة في معناها الشرعي بوضع
شرعي فخرج بقولنا في معناها الشرعي ما استعمل في غيره ولو
بوضع
شرعي كإبراهيم وبقولنا بوضع شرعي الكلمة المستعملة في معناها
الشرعي بوضع لغوي أو عرفي أو بوضع شرعي لمعنى آخر فإن
المتبادر منه أن يكون بمقتضاه الأولى أو لان الظاهر منه أن يكون
الوضع سببا مستقلا في صحة الاستعمال وليس الامر في المجاز
كذلك وينبغي أن يعتبر قيد الحيثية في الوضع الشرعي ليخرج مثل
لفظ الحسن والحسين فإنه وإن كان لمسماهما تعلق بالشرع لحكم
الشارع بوجوب اتباعهما والاعتراف بإمامتهما وعصمتهما إلا أنه لم
يضع اللفظين بإزائهما من حيث كونه شارعا بمعنى أن لا مدخلية
لكونه شارعا في التسمية بخلاف مثل لفظ الصراط والميزان والجنة و
الحساب بناء على أنها حقائق في معانيها الشخصية أو المخصوصة
فإن لجهة الشرع مدخلا فيها لان الغرض الداعي إلى وضعها إنما هو
بيان آثارها الشرعية وبالجملة فنظير ذلك وضع الفقيه والأصولي
وغيرهما أسامي لأولادهم فإن ذلك لا يصيرها حقائق فقهية أو أصولية
مثلا وإن قدر لهم تعلق بتلك الصناعة بخلاف ما وضعوه
ليستعمل في عرفهم بالاعتبار المذكور ثم إن فسر الشارع بالنبي فالمراد
به هنا نبينا صلى الله عليه وآله وإن فسر به تعالى فإن قلنا
بأن واضع اللغات مما عدا الألفاظ المبحوث عنها غيره تعالى فلا
إشكال وإلا احتيج إلى اعتبار الحيثية المذكورة أيضا للفرق بين
الحقائق الشرعية وغيرها وينبغي تخصيصه على التقديرين الأخيرين
بالوضع في شرعنا لا مطلقا وإن احتمل لعدم مساعدة كلمات
القوم عليه ثم هذا الحد كما ترى يتناول بإطلاقه ما إذا كانت منقولات
أو موضوعات مبتدئة سواء وجدت المناسبة حينئذ ولم تلاحظ أو
لم توجد والنوع الأخير هي الحقيقة الدينية التي أثبتها المعتزلة حيث
عرفوها بأنها ما لا يعرف أهل اللغة لفظه أو معناه أو كليهما و
خصوها بأسماء الذوات والصفات كالمؤمن والكافر وما يشتقان منه
دون أسماء الافعال كالصلاة والحج فإنهم أرادوا بقولهم أو معناه
أن لا يعرفوه ولو بطريق المجاز ليتعين كونها موضوعات مبتدئة فإنه إذا
تحققت المناسبة فقد عرفوا المعنى إجمالا لعلمهم بصحة
الاستعمال على حسب نوع المجاز ومما يرشد إليه قولهم في
الاحتجاج بأن الايمان في اللغة التصديق وفي الشرع العبادات ولا
مناسبة
مصححة للتجوز ومنه يظهر أنهم وإن رددوا الدعوى عند التحرير بين
الأنواع الثلاثة لكنهم إنما يقولون بثبوت النوع الثاني منها هذا
لكن لقائل أن يقول لا يلزم من انتفاء العلاقة المصححة للتجوز هناك
على تقدير تسليمه أن تكون موضوعات مبتدئة إذ لا نسلم أن
المناسبة المعتبرة في النقل التعييني لا بد أن تكون مصححة للتجوز
فكيف كان فليس في التعرض لمقالتهم كثير فائدة فلنقصر على ما
ذكرناه وإذا تحقق معنى الحقيقة الشرعية فنقول قد اختلف القوم في
إثباتها ونفيها فذهب إلى كل فريق والظاهر من مثبتي
المتقدمتين إثباتها بالوضع التعييني لكن ذكر الحاجبي في رد إيراد أورد
على بعض حجج المثبتين ما توضيحه أنه إن أريد أن الشارع
استعمل هذه الألفاظ في معانيها الشرعية مجازا ثم اشتهرت فأفادت
بغير قرينة فهو المدعى والظاهر أنه أراد الاشتهار في لسان
الشارع دون غيره ولو معه فإن ذلك لا يثبت المدعى فيستفاد منه أن
مقصود المثبتين إثبات الوضع ولو على سبيل التعين وهذا منه
خلاف ما هو المعروف من مقالتهم ومخالف لما يقتضيه ظاهر حجتهم
ثم من المتأخرين من فصل بين ألفاظ العبادات والمعاملات
فأثبتها في الأول ونفاها في الثاني ومنهم من فصل بين ما يكثر
استعمالها وبين غيرها فذهب إلى الاثبات بالوضع التعييني في الأول
وإلى النفي في الثاني ثم من النافين من ذهب إلى صيرورة هذه الألفاظ
حقيقة عند المتشرعة في زمن الشارع ومنهم من خصه بالألفاظ
المتداولة ويظهر من بعضهم نفي ذلك أيضا حيث ذكر أن الشارع لم
يستعمل هذه الألفاظ في معانيها الشرعية إلا مجازا وقد يحكى عن
بعضهم نفيها فيما تقدم على زمن الصادقين أيضا ومن
42

القولين الأولين قولا بثبوت الحقيقة الشرعية فقد سها أو أحدث
اصطلاحا وربما عزي إلى الباقلاني القول بأن هذه الألفاظ باقية في
معانيها اللغوية والزيادات شروط لقبولها وصحتها وهو غير ثابت ثم
النزاع هنا إما في الألفاظ التي هي حقيقة عند المتشرعة في
معانيها الشرعية واستعملها الشارع ولم يعلم أنه من مصطلحاتهم أو
في الألفاظ التي كانت حقيقة فيها في أول زمن وقع فيه هذا النزاع
أعني زمن الصادقين على ما قيل فالوجهان متقاربان ولعل الأول أوفق
بالاعتبار ويظهر من بعضهم أن النزاع في مطلق الألفاظ التي
هي حقائق عند المتشرعة وهو بعيد إذ منها ما يعلم أنه من
مصطلحاتهم فكيف يتصور وقوع النزاع فيه إذا عرفت هذا فالذي
يقوى
عندي أن جملة من تلك الألفاظ قد كانت حقائق في معانيها الشرعية
في الشرائع السابقة كالصلاة والصوم والزكاة والحج لثبوت
ماهياتها فيها كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن عيسى بن مريم و
أوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وقوله تعالى لإبراهيم وأذن
في الناس بالحج وقوله تبارك اسمه كتب عليكم الصيام كما كتب على
الذين من قبلكم إلى غير ذلك وإذا ثبت أن هذه الماهيات كانت
مقررة في الشرائع السابقة ثبت كون هذه الألفاظ حقيقة فيها في لغة
العرب في الزمن السابق لتدينهم بتلك الأديان وتداول ألفاظها
بينهم وعدم نقل لفظ آخر عنهم بإزائها ولو كان لقضت العادة بنقله و
لا يقدح وقوع الاختلاف في ماهياتها بحسب اختلاف الشرائع و
إن قلنا بأن مسمياتها الماهيات الصحيحة كما هو المختار حيث إنها
بهذه الكيفية كانت فاسدة حال الوضع لأنا نلتزم بأنها موضوعة
بإزاء القدر المشترك الصحيح فيكون الاختلاف في المصاديق لا في
نفس المفهوم كاختلاف مصاديق ماهياتها المعتبرة في شرعنا
باختلاف الأحوال تمكنا وعجزا تذكرا ونسيانا وغير ذلك فكما لا
يوجب هذا الاختلاف تعدد الوضع مع تفاحشه في البعض كالصلاة
فليكن الاختلاف المذكور كذلك ثم على تقدير تحقق هذه الحقائق في
الشرائع السابقة فهل هي بوضعه تعالى لها فيها أو بوضع أول نبي
شرعت تلك الماهيات في شرعه أو بغلبة الاستعمال في لسانه أو
لسان متابعيه أو الجميع وجوه يمكن
معرفتها بما فيها مما يأتي من الحجج فعلى ما اخترناه تكون تلك
الألفاظ حقائق لغوية في معانيها الشرعية حيث إن الحقيقة اللغوية هي
الحقيقة التي تكون قبل زمن النبي صلى الله عليه وآله كما هو الظاهر و
لا ينافي ذلك كون العبادات توقيفية لان معانيها الشرعية على
هذا البيان مجهولة الكنه والحقيقة ولا سبيل إلى معرفتها بعد العلم
بالاختلاف في أمور كثيرة إلا بالتلقي من صاحب الشريعة وأما غير
ذلك من الألفاظ التي لم يثبت مشروعية معانيها في الشرائع السابقة
فإن كانت مما تشتد الحاجة إليها فالظاهر ثبوت النقل فيها بغلبة
الاستعمال في زمانه صلى الله عليه وآله في لسانه صلى الله عليه و
آله ولسان متابعيه بحكم العادة وليس هذا بالحقيقة الشرعية كما
نبهنا عليه وإلا فحيث يعلم بحصول النقل فيه من الأزمان المتأخرة و
سيأتيك توضيح بعض هذه المواضع حجة القول الأول وجوه الأول و
هو المعروف من المتقدمين القطع بأن الصلاة والصوم والحج أسماء
لمعانيها الشرعية لتبادرها منها إلى الفهم عند الاطلاق وأن ذلك لا
يكون إلا بتصرف الشارع ونقله إياها إلى تلك المعاني والجواب أن
التبادر المدعى إن كان بالنسبة إلى زمان أهل الشرع فمسلم لكن
لا يثبت به إلا الحقيقة عندهم وإن كان بالنسبة إلى زمان الشارع
فممنوع لا يقال لا سبيل إلى المنع بعد وقوع النقل لما مر من أن
المسائل اللغوية يكتفي فيها ولو بنقل الواحد لأنا نقول الظاهر أن
المستدل بذلك لم يطلع على أكثر مما اطلعنا عليه في المقام فنقل
التبادر منه على تقدير عدم ثبوته عندنا بعد الفحص موهون على أن
كلامه ظاهر في دعوى التبادر بالنسبة إلى زمانه لا زمان الشارع
فالكلام المذكور معه مناقشة ظاهرية سلمنا لكن لا نسلم أن ذلك لا
يكون إلا بنقل الشارع لها لجواز أن يكون بغلبة الاستعمال بين
المتشرعة في زمانه الثاني أن هذه المعاني مما يشتد الحاجة إلى
إيرادها والتعبير عنها فمقتضى الحكمة أن يضع الشارع بإزائها ألفاظا
ليستغني به عن تكلف القرينة مع أن في الوضع من السلامة من
الاخلال بالفهم ما ليس في القرينة إذ ربما تخفي فيختل فهم المقصود
ثم
إذا ثبت الوضع فليس الموضوع إلا هذه الألفاظ المتداولة على ألسنة
أهل الشرع وذلك ظاهر والجواب أن مرجع هذا الوجه إلى
الاستحسان ولا تعويل عليه
سيما في إثبات الوضع مع أنها لا تقتضي خصوص الوضع بل ما
يوجب الغناء عن تكرير القرينة ولو بنصب قرينة عامة كقوله كلما أطلق
هذه الألفاظ فالمراد معانيها الشرعية مجازا ما لم أنصب قرينة على
الخلاف أو يفهمهم ذلك بقرائن الأحوال الثالث الاستقراء فإنا تتبعنا
استعمالات الشارع لهذه الألفاظ فوجدناه يستعملها غالبا في معانيها
المخترعة عنده حتى كاد أن لا يوجد استعماله إياها في معانيها
اللغوية مع ما نرى من كثرة استعماله لها وتكررها في كلامه فإن ذلك
يفيدنا الظن بأنه قد بنى من أول الامر على نقل هذه الألفاظ إلى
معانيها الشرعية أ لا ترى إذا نحكم على الألفاظ المتداولة في عرف
أرباب العلوم والصنائع بأنها منقولات عندهم بمجرد غلبة استعمالهم
إياها في معانيها المخترعة عندهم وإن انضم إلى ذلك النقل في بعض
الموارد وظاهر أن الشارع لا يقصر عن عرفهم في ذلك فليحكم
بالنقل هنا كما يحكم به هناك والجواب أن غلبة الاستعمال لا يوجب
البناء على النقل لجواز البناء على التجوز فإن رجح الأول بأنه أوفق
بالحكمة رجع إلى إثبات الوضع بالاستحسان وقد مر فساده وتمثيل
ذلك بالألفاظ المتداولة عند أرباب العلوم والصنائع مدفوع بأن
النقل التعييني غير ثابت في كثير من تلك الألفاظ وإن تحققت الغلبة
فيها ولو قلنا بثبوته هناك كما صدر عن البعض فمبني على
المسامحة رعاية لبعض الامارات الضعيفة إذ لا يترتب عليه ثمرة
فتأمل ولا يذهب عليك أن هذا الاستقراء ليس بالاستقراء الذي ذكرنا
أنه حجة في مباحث الألفاظ الرابع نقل جماعة من العلماء وقوعها و
ظاهر أن هذه المسألة لغوية يكتفي فيها بنقل الواحد فضلا عن
المتعذر لا يقال نقل البعض وقوعها معارض بنقل غيرهم عدم وقوعها
فلا يبقى تعويل عليه لأنا نقول المثبت مقدم على النافي لان مرجع
النفي إلى عدم الاطلاع غالبا وهو لا يصلح لمعارضة مدعيه كما مر
التنبيه عليه على أن القول
43

بالاثبات أشهر فهو بالترجيح على تقدير التكافؤ أجدر والجواب أن
مستند المثبتين لما كان بعض الوجوه المتقدمة والآتية بل
المعروف منهم الاستناد إلى الحجة الأولى كما عرفت وهي لا تنهض
دليلا على الاثبات لم يتجه الاستناد إلى نقلهم فإن نقلهم ليس حجة
في نفسه بل من حيث إفادته الظن ولا وثوق به على تقدير ضعف
المستند وقد مر التنبيه عليه سابقا فإن قلت ضعف المستند المذكور لا
يقتضي ضعف النقل لجواز أن يكون لهم مستند آخر لم يتعرضوا لذكره
قلت لا ريب في أنه خلاف الظاهر من مقام الاستدلال ولا يكفي
في الوثوق مجرد الاحتمال الخامس أن علماء الاعصار والأمصار كانوا
لا يزالون يحملون هذه الألفاظ على معانيها الشرعية ويستدلون
بها في موارد الحاجة ومواضع الخلاف ولم يكن لهم على ذلك من
نكير وذلك إجماع منهم على أن هذه الألفاظ كانت في عرف الشارع
حقائق في معانيها الشرعية والجواب أن الاجماع المدعى على
الحمل المذكور إن كان بالنسبة إلى المثبتين فمسلم لكن لا يثبت به
الدعوى كما لا تثبت بمقالتهم وإن كانت بالنسبة إلى المنكرين أيضا
فممنوع سلمنا لكن استعمال الشارع لهذه الألفاظ لا يكاد يوجد
مجردا عن القرائن المعينة للمراد فلعل منشأ حملهم لها على هذه
المعاني وجود تلك القرائن دون الوضع السادس أن كثيرا من هذه
الألفاظ كلفظ الصلاة والصوم والزكاة والحج والطواف والركوع و
السجود كانت حقائق في معانيها الشرعية في الشرائع السابقة كما
يرشد إليه تتبع القصص الواردة في القرآن وغيره فيثبت المقصود فيها
بضميمة أصالة عدم الهجر وفي الباقي بضميمة عدم القول
بالفصل إذ لا فارق هنا بين النفي والاثبات الكليين أما التفاصيل التي
ذهب إليها المتأخرون فلا عبرة بها لوقوعها بعد ما انعقد عليه
إجماع المتقدمين لا يقال لا يلزم من كون تلك الماهيات مشروعة في
الأمم السابقة أن يكون تلك الألفاظ موضوعة بإزائها لجواز أن
يكون قد وضع بإزائها ألفاظ أخر ورد الحكاية عنها بهذه الألفاظ لأنا
نقول هذه الاحتمال مدفوع بأصالة عدم تعدد الوضع على أنه لو
وقع ذلك لنقله لنا نقلة اللغة وإذ ليس فليس والجواب أن كلام
المثبتين ليس صريحا في الاثبات الكلي وإن عزي إليهم ولو
سلم فصحة الاستناد في مثل المقام إلى عدم القول بالفصل ممنوعة
بعد ما تبين الحال واتضح وجه المقال علي أن الذي أراده المثبتون
كما يظهر من كلامهم وصرح به بعضهم هو أن الشارع نقل تلك الألفاظ
عن معانيها اللغوية ووضعها بإزاء معانيها الشرعية لا أنها كانت
موضوعة لتلك المعاني قبل زمان الشارع بل ربما يشعر كلام بعضهم
بإنكار ذلك ففي البناء على الدليل المذكور نقض لكلام الفريقين
وإحداث قول في البين السابع وهو يختص بإثباتها بالوضع التعيني أن
العادة قاضية بأن هذه الألفاظ قد أكثر الشارع استعمالها في
معانيها الشرعية دون معانيها اللغوية لظهور توفر دواعيه عليه ومسيس
حاجته إليه حيث إنه صلى الله عليه وآله كان لا يزال يبين
للناس أحكامها ويحثهم على المواظبة عليها ويأمرهم بتعلم وظائفها
وأدائها وتعليم غيرهم إياها وذلك كله غالبا لا يكون إلا بتكرير
الألفاظ المعينة بإزائها وكل لفظ بلغ في معناه المجازي هذه الغاية و
استمر على هذه المثابة ولو أياما قليلة ولا ريب في صيرورته
حقيقة في المنى المجازي كما يشهد به الاعتبار السليم وحيث إن هذا
الدليل لا يساعد على الاثبات الكلي اقتصر بعضهم على حسب ما
يتناوله من الألفاظ التي يتداول ذكرها وتمس الحاجة غالبا إلى
استعمالها وعول على أصالة عدم النقل فيما عداها والجواب أن
الغلبة
في لسان الشارع مسبوق بالغلبة في لسان الآخرين قضاء لحكم العادة
نظرا إلى كثرتهم وتوفروا دواعيهم على الاستعمال فيكون
صيرورتها حقيقة عندهم متقدما على صيرورتها حقيقة عند الشارع و
بعد صيرورة اللفظ حقيقة عندهم يتبعهم لسان الشارع لان لسان
الواحد من القوم تابع للسان الآخرين فلا يتحقق إذن إلا الحقيقة عند
المتشرعة وبهذا المقال يتبين وجه القول الأول بل الثاني أيضا من
التفاصيل المحكية عن النافين ويمكن رده بأن النقل المذكور إنما
حصل في لسان الشارع وغيره فتخصيصه بغيره أيضا لا وجه له إذ
كما لا يمكن نسبة النقل المذكور إلى الشارع فقط لعدم استقلاله به
كذلك لا يكن نسبته إلى المتشرعة فقط لعدم استقلالهم به وترجيح
الثاني بالغلبة
منقوض برجحان الأول بالتأسيس مع ما فيه من الخروج عن المعنى
المتنازع فيه واستدل المفصل بين ألفاظ العبادات وغيرها بأن
العبادات ماهيات مخترعة في الشرع بخلاف المعاملات وتوابعها
كالبيع والصلح والهبة والدين والرهن والإجارة والعارية و
الوديعة والغصب والقصاص والدية وغيرها فإنها باقية على حقائقها
الأصلية إذ لم يتصرف الشارع فيها إلا بأن جعل لها شرائطا و
أحكاما وذلك لا يقتضي اختلاف ماهيتها لان الشرط خارج عن حقيقة
المشروط ومن هنا قالوا العبادات توقيفية دون المعاملات و
أرادوا بذلك موضوعاتها بمعنى أن موضوعات العبادات تتوقف على
بيان الشارع دون موضوعات المعاملات فإن المرجع فيها إلى
العرف ولم يريدوا أحكامها فإن الاحكام كلها توقيفية لا بد فيها من
الاخذ من الشارع وأجيب بمنع الاطراد في المقامين أما في العبادات
فلان مثل لفظ الاحرام والطواف ونظائرهما باق على معناه الأصلي إذ
لم يجعل الشارع لها إلا شرائط وهو لا يقتضي الاختلاف في
الماهية وأما في غيرها فلان لفظ الخلع والمباراة والنكاح والايلاء و
العدالة والفسق والطهارة والنجاسة والحدث وغيرها منقولات
في الشرع إذ لم يعهد مفاهيمها من أهل اللغة وليست بألفاظ وفيه نظر
لكن يرد أن مستند هذا القائل في ثبوت النقل في ألفاظ العبادات
راجع إلى الوجوه المتقدمة وقد عرفت ما فيها حجة القول بالنفي
وجوه الأول أصالة عدم وقوع النقل من الشارع لأنه حادث فيستصحب
عدمه تمسك به جماعة كصاحب المعالم وغيره وهو إنما يقتضي
نفي الحقيقة الشرعية في الظاهر دون الواقع كما يقتضيه الوجهان
الاتيان الثاني أن الشارع لو نقلها إلى معانيها الشرعية لفهمها المخاطبين
بها حيث إن الفهم شرط التكليف ولو فهمهم إياها لنقلوا إلينا
لمشاركتنا لهم
44

في التكليف واشتراطه به ولو نقل فإما بالتواتر ولم يقع قطعا وإلا لما
وقع الخلاف فيه وإما بالآحاد وهو لا يفيد القطع على أن
العادة في مثله تقتضي وقوع التواتر لا يقال إن أريد بتفهيمها إياهم
تفهيم المعاني المنقولة من حيث كونها منقولة كما هو الظاهر منعنا
الملازمة إذ لا نسلم أن التفهيم بهذه الحيثية شرط التكليف وإن أريد
تفهيم المعاني من غير ملاحظة حيثية فلا نسلم بطلان التالي
ضرورة بثبوت التفهيم كذلك ووقوع النقل إلينا بالتواتر لأنا نقول المراد
هو الوجه الأول والدليل على اعتبار الحيثية أنه لو لم يقع
التفهيم كذلك لانتفى فائدة الوضع وكأنهم تركوا هذه المقدمة تعويلا
على ظهورها والجواب منع الملازمة الثانية إن أريد نقل النقل إلينا
إذ الشركة في التكليف لا تقتضي إلا بيان المراد وهو يمكن بذكر
القرينة ولا حاجة إلى التصريح بالنقل وإن أريد نقل المراد فبطلان
التالي ممنوع لا يقال لا فائدة في منع الملازمة إذ على تقدير عدم
نقلهم لا يكون لنا سبيل إلى إثبات النقل فيتم ما أراده النافي لأنا نقول
غرض النافي على ما يرشد إليه كلامه إقامة الدليل على عدم الوقوع لا
بيان عدم الدليل على الوقوع ففي المنع المذكور نقض لدعواه ولا
يلزم من منع الملازمة نفي أحد الطرفين لجواز صدق الاتفاقية مع أن
أدلة المثبتين لا تختص بالنقل فنفيه لا يقتضي القدح في قولهم هذا
مع أن الدليل المذكور مبني على مقدمات أخر ممنوع لان مخالفة قوم
لا يقتضي نفي التواتر عند آخرين وعدم إفادة نقل الآحاد للقطع لا
يخرجها عن الحجية لما عرفت من أن المدار في مباحث اللغة على
الظن غالبا وقولهم العادة تقتضي في مثله التواتر ممنوع لظهور المراد
غالبا في الخطابات الشرعية فلا يكون في نقل النقل على تقدير وقوعه
كثير فائدة الثالث أن هذه الألفاظ لو كانت منقولة في الشرع
لزم خروج القرآن عن كونه عربيا والتالي باطل فكذا المقدم بيان
الملازمة أن هذه الألفاظ لم يضعها واضع لغة العرب بإزاء هذه
المعاني فلا تكون عربية وقد اشتمل القرآن عليها فلا يكون عربيا لان
ما بعضه عربي وبعضه غير عربي لا يكون كله عربيا وأما
بطلان التالي فلقوله تعالى إنا أنزلناه قرآنا عربيا والجواب أن العربي
أعم مما وضعه واضع لغة العرب أو وضعه غيره ليستعمل في لغته
وكذا الكلام في صدق سائر اللغات ولهذا
تجدهم يعدون منقولات كل لغة منها سلمنا لكن نمنع كون الناقل لها
في الشرع والواضع للغة العرب غيره تعالى سلمنا لكن بطلان
التالي ممنوع ولا ينافيه وصف القرآن بكونه عربيا لان المراد أن
أسلوبه عربي لا أن جميع ألفاظه عربية لاشتماله على ألفاظ معربة
كسجيل ومشكاة وعلى أعلام لم يضعها واضع لغة العرب كإبراهيم و
إسماعيل وزيد ويمكن أن يجاب أيضا بمنع الملازمة إذ على
تقدير النقل لا يوجب أن يكون استعمالها في القرآن حقيقة تبعا
لأوضاعها الشرعية بل يجوز أن يكون مجازات تبعا لأوضاعها اللغوية
فإن المجازات الحادثة عربية قطعا لكن ينتفي معه ثمرة النزاع بالنسبة
إلى استعمالاته تعالى وأجاب العضدي وغيره بأنا لا نسلم أنها لا
تكون حينئذ عربية كيف وقد وضعها الشارع لها حقائق شرعية
مجازات لغوية والمجازات المستحدثة عربية وإن لم يصرح العرب
ب آحادها و كلامهم هذا يقتضي أن تكون استعمالات الشارع لها
حقائق ومجازات باعتبارين فتدخل في العربية باعتبار كونه مجازات
وإن خرجت عنها باعتبار كونها حقائق وهو بمعزل عن التحقيق لان
المجاز على ما مر تحقيقه عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما
وضع له لعلاقة فاستعمال الشارع لها بعد النقل إن كان بالنقل فهو
حقيقة شرعية لا غير وإن كان بالعلاقة فهو مجاز لغوي لا غير وإن
أريد أن الشارع قد اعتبر كلا الامرين في استعماله فهو مع بعده عن
الأنظار السليمة يتضمن إسناد عبث إلى الشارع تعالى عنه لان في
التعويل على أحد الامرين غنية عن اعتبار الاخر وليس في اعتبارهما
معا تأكيد للدلالة أو لصحة الاستعمال إن لم نقل بأن فيه وهنا
لذلك لعدم مساعدة الطريقة الجارية بين أهل الاستعمال عليه و
الظاهر من طريقة الأكثرين أن بين وصفي الحقيقة والمجاز تضادا و
تنافيا فيمتنع اجتماعهما في استعمال واحد وقد يمنع بطلان التالي و
يجعل الضمير للسورة ولو بتأويل المذكور والمقروء واعترض
حينئذ بأنه قد أطلق عليه القرآن والسورة ليست قرآنا إذ يصدق عليها
أنها بعضه وبعض الشئ غير الشئ وأجيب تارة بأن القرآن
موضوع للقدر المشترك بين الكل والجز بدليل وقوع الحنث إذا
حلف أن لا يقرأ
القرآن فقرأ بعضه فيصدق على المجموع وعلى الابعاض كلفظ الماء
فيصدق أن السورة قرآن وبعض القرآن بالاعتبارين كما يصدق
على ماء النهر أنه ماء وبعض الماء باعتبارين وأخرى بأن القرآن
موضوع للقدر المشترك وأخرى للمجموع من حيث المجموع
فيصدق
أن السورة قرآن بالاعتبار الأول وبعضه بالاعتبار الثاني من غير حاجة
إلى اعتبار زائد وهذا الجواب ضعيف لان لفظ القرآن
موضوع للمجموع فقط كأسماء سائر الكتب كما يشهد به التبادر ولا
ينافيه صدق قرأته عرفا بقراءة بعضه لصدق قراءة السورة والآية
بقراءة أبعاضها أيضا مع أنهما موضوعتان للمجموع فقط بل هذه
مسامحة عرفية في التعليق مرجعها إلى التنزيل تعلق الفعل بالبعض
منزلة تعلقه بالكل وهذا لا يختص بالمقام بل له نظائر كثيرة مع أنه إن
أريد بالسورة ما فيها هذا اللفظ فالاشكال وارد باعتباره أيضا
وإن أريد غيرها فبعيد عن مساق الآية نعم لو أجيب بحمل القرآن على
معناه اللغوي استقام ولم يتجه عليه الاشكالان ويمكن حمل كلام
المجيب عليه بتكلف
تتمة
يظهر الثمرة بين القول بثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني وبين
القول بالنفي مطلقا فيما إذا أردت تلك الألفاظ في كلام الشارع
مجردة عن القرينة فإنها تحمل على معانيها الشرعية بناء على الأول و
على معانيها اللغوية بناء على الثاني لما تقدم من أن كل لفظ
اصطلحه المتكلم في معنى فحيثما أورد في كلامه حمل على
مصطلحه قضاء لحق التبادر وهذا إنما يتم إذا ثبت تأخر الاستعمال
عن زمن
النقل ويمكن إثباته حيث لا شاهد عليه بالخصوص بدلالة الغالب
عليه إن تم وبأصالة التأخر على ما سيأتي وهذه الثمرة جارية أيضا
بين القول بالوضع التعيني والقول بالنفي مطلقا عند العلم بتأخر زمن
الاستعمال عن زمن النقل وأما عند الجهل به كما هو الغالب فقد
قطع بعض محققي المتأخرين بعدم الحكم
45

بأصالة التأخر لانتقاضه بيقين سبق الاستعمال في الجملة تحقيقا للغلبة
فلا يترتب الثمرة أقول يقين السبق المحصل للغلبة لا ينافي ترتب
الثمرة بل يحققها إلا أن يكون المراد ترتبها من حيث الوضع لكن يهون
معه أثر المنع وأيضا إنما يرفع اليقين الاجمالي حكم الأصل على
تقدير تسليمه إذا أدى إلى عدم حصول الظن به حيث يكون التعويل
عليه من حيث إفادته كما في المقام وهو ممنوع ولا ثمرة بين القول
بالنفي مع إثبات النقل في زمانه صلى الله عليه وآله وبين القول
بالاثبات تعيينا أو تعينا على تقدير العلم بالتأخر وكذا مع عدمه إن
عملنا أصل التأخر وإلا فالثمرة ظاهرة بين القول بثبوتها بالوضع
التعييني وبين القولين الآخرين إذ الغالب تأخر الاستعمال عن زمن
النقل التعييني ولا ثمرة بينهما ومما قررنا يتضح الحال في الثمرة بين
المذهب المختار وبين سائر الأقوال ثم أقول ولقائل أن يرفع
الثمرة ويلتزم بحمل هذه الألفاظ حيثما وردت في كلام الشارع مجردة
عن القرينة على معانيها الشرعية وإن لم يثبت نقلها ويستند
في ذلك إلى أمور الأول أن الغالب المتداول استعمال الشارع لها في
معانيها الشرعية لمسيس الحاجة إليه دون معانيها اللغوية فحيثما
وردت في كلامه تعين حملها على المعنى الشرعي إلحاقا لها بالأعم
الأغلب لكن هذا لا يطرد في جميع الألفاظ الثاني أن هذه الألفاظ قد
اشتهرت في عرف الشارع في معانيها الشرعية كما مر فحيث لا يعلم
تقدم استعمالها على زمن الاشتهار كما هو الغالب فقضية الأصل
تأخره ومعه يتعين حملها على معانيها الشرعية وإن لم يثبت النقل
تقديما للمجاز المشهور وهذا أيضا لا يطرد الثالث أن الشارع قد
استعمل هذه الألفاظ في معانيها الشرعية أضعاف ما نقل إلينا قطعا لما
مر واستعماله إياها في غير معانيها الشرعية زائدا على القدر
المعلوم غير ثابت فحيثما نجد استعماله إياها من دون قرينة يتعين
حملها على القسم الأول لأنه المتيقن صدوره عنه دون القسم الثاني
للشك في صدوره عنه والأصل عدمه فإن استشكل هذا بأنه لا ريب
في أن الشارع قد استعمل ألفاظ كثيرة في معانيها اللغوية فينتقض
الأصل بهذا اليقين الاجمالي فالجواب عنه ما مر
فصل اختلفوا في أن ألفاظ العبادات هل هي أسام للصحيحة أو الأعم
منها والفاسد
وهذا النزاع إنما يتفرع على القول بأن هذه الألفاظ موضوعة بإزاء
معانيها الشرعية سواء قيل بالتعيين أو بالتعين في زمان الشارع أو
غيره وأما على ما عزي إلى الباقلاني من أنها باقية على معانيها اللغوية
كما مر فإن أراد بقاءها على تلك المعاني إلى زماننا هذا فالنزاع
لا يتوجه إليه ووجهه ظاهر ومن محققي المتأخرين من فرع النزاع
على القول بأن هذه الألفاظ مستعملة عند الشارع في معانيها
الشرعية سواء كان بالنقل أو لا ووافقه فيه بعض المعاصرين وفيه نظر
إذ لا ريب في أن الشارع قد استعمل هذه الألفاظ كلا أو بعضا
في غير الصحيحة كما سيأتي فكيف يتأتى لاحد إنكار ذلك نعم ربما
يتصور النزاع في أنه هل الأصل استعمال الشارع لها في المعاني
الصحيحة على تقدير إرادة معانيها الشرعية أو الأعم منها ومن الفاسدة
فلا يتوقف على تقدير ثبوت النقل لكنه بعيد عن التحرير
المعروف وقولهم له هي أسام للصحيحة أو الأعم ظاهر أو صريح في
أن النزاع فيه بحسب الوضع لا مطلق الاستعمال ودون التأويل فيه
خرط القتاد ويساعد على ما ذكرنا ظاهر الأدلة الآتية ثم المراد بألفاظ
العبادات ما يكون مداليلها ماهيات مخترعة في الشرع للتقرب
بها كالصلاة والزكاة والحج و الصوم دون ما ليس كذلك كالزيارة و
العيادة والقرأة والركوع والسجود فإن المدار فيها على
أوضاعها اللغوية والعرفية وما ثبت لها في الشرع من شرط فإنما هو
شرط لرجحانها ومطلوبيتها لا لحصول ماهياتها ومسمياتها فإن
القراءة المباحة أو المرجوحة قراءة حقيقة وكذا الزيارة والعيادة وغير
ذلك وهذا ظاهر لا سترة عليه وأما ألفاظ المعاملات فسيأتي
تحقيق القول فيها إذا تقرر هذا فالحق ما ذهب إليه الأولون لنا وجوه
الأول تبادر المعاني الصحيحة منها وقد مر أنه علامة الحقيقة و
صحة سلب الاسم عن غير الصحيحة وعدم تبادر المعنى الأعم منها و
قد تقدم أنهما علامة المجاز فتكون حقائق في الصحيحة مجازات في
الفاسدة لا يقال إن أريد بالتبادر ما يكون ناشئا عن الاطلاق فبعد
تسليمه لا يثبت المقصود وإلا فممنوع وصحة سلب
الاسم عن الفاسدة لعلها مبنية على التأويل بتنزيل الفاسدة منزلة أمر
مغاير للماهية نظرا إلى عدم ترتب الفائدة المقصودة منها عليها
فلا تدل على كونها مجازا فيها لأنا نقول معيار الفرق والتميز في نظائر
المقام إنما هو الوجدان ونحن إذا رجعنا وجداننا وجدنا
المعاني الصحيحة متبادرة من تلك الألفاظ مع قطع النظر عن إطلاقها و
وجدنا صحة سلبها عن الفاسدة من غير ابتناء على التأويل فلا
يصغى إلى المنع المورد على المقامين الثاني لا ريب في أن في الشرع
ماهيات مخترعة مطلوبة هي ذوات أجزاء وشرائط قد تصدى
الشارع لبيانها ببيان أجزائها وشرائطها وأحكامها وحث في المواظبة
عليها وظاهر أن هذه ليست إلا العبادات الصحيحة وحيث كان
أسهل طرق التفهيم والتفاهم بتأدية الألفاظ مست الحاجة إلى نصب
ألفاظ على تلك الماهيات أما بالوضع فقضية الحكمة والعبادة حينئذ
أن يكون الوضع بإزاء تلك الماهيات المطلوبة لا الأعم منها لئلا يختل
فهم المراد في الموارد التي هي أهم موارد استعمالاتها مع ما فيه من
الاقتصار على قدر الحاجة وأما بالتجوز فلا يكون المستعمل فيه في
أكثر الموارد كموارد الامر والبيان في ذكر الشرائط والاحكام و
نحو ذلك إلا تلك الماهيات لا الأعم منها لعدم تعلق الطلب حقيقة إلا
بها وعدم تعلق القصد ببيان غيرها وعدم كون الشرائط والاحكام
ثابتة لغيرها وظاهر أن هذه الموارد هي معظم موارد استعمال هذه
الألفاظ حتى إنه يندر استعمالها في غيرها فتصير تلك الألفاظ
حقائق في تلك الماهيات بالغلبة وهو المطلوب لا يقال يجوز أن
يكون قد تجوز بها واستعملها في المعنى الأعم وأطلقها على المعنى
الذي أراده من باب إطلاق العام على الخاص لا من حيث الخصوصية
لئلا يلزم سبك مجاز من مثله لأنا نقول هذا بعيد فإن الظاهر ممن
تجوز بلفظ في معنى اخترعه أنه تجوز به فيه لا في غيره ولا ينبغي
التأمل في حجية مثل هذا الظهور في مباحث الألفاظ وكذا الكلام لو
قلنا بصيرورتها حقائق بغلبة الاستعمال
46

في لسان المتشرعة ولو مع الشارع أو بصيرورتها حقائق قبل زمانه
الثالث ما ورد في الأخبار المستفيضة من أنه لا صلاة إلا بطهور و
لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ولا صيام لمن لم يبت الصيام من الليل إلى
غير ذلك مما يدل بظاهره على نفي الماهية عند انتفاء بعض
الاجزاء والشرائط فيلزم أن لا يكون اللفظ موضوعا لها حينئذ ويتم
المقصود فيها عند انتفاء غير تلك الأجزاء والشرائط وفي غير تلك
العبادات بعدم القول بالفصل وأورد بالمنع من تعلق النفي في تلك
الموارد بنفس الماهية لجواز تعلقه بما هو خارج عنها كالصحة و
الكمال كما في قوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ولا عمل
إلا بنية ونحو ذلك على أن حمل النفي في الرواية الثانية على نفي
الماهية غير ممكن لصحة الصلاة في صورة نسيانها أو عدم القدرة على
قرأتها أو كون المصلي مأموما وكذا الرواية الثالثة إذ قد يصح
الصوم مع عدم بيتوته من الليل والجواب أن ظاهر اللفظ إنما يقتضي
نفي الماهية لتعلقه بها وحمله على نفي صفاتها بالتقدير أو
بالتجوز خروج عن الظاهر فلا يصار إليه من غير ضرورة تلجئ إليه و
إلحاقه ببعض نظائره قياس فلا يلتفت إليه وعدم البطلان في
بعض الصور لا يورث القدح في الحمل المذكور لشيوع التخصيص و
رجحانه على سائر أنواع المجاز على أن الكلام يتم بالرواية الأولى
أيضا الرابع أن جميع العبادات مطلوبة للشارع متعلقة لامره ولا شئ
من الفاسدة كذلك فلا شئ من الفاسدة بعبادة وهو المطلوب أما
الصغرى فلامرين الأول الأوامر المتعلقة بها وذلك ظاهر الثاني أن
العبادة ليست إلا ما رجح فعله على تركه وظاهر أن الرجحان إنما
يتحقق بعد تعلق أمر الشارع وطلبه بها فلا بد في كونها عبادات من
كونها متعلقة لطلب الشارع وأمره وهو المقصود في الصغرى و
أما الكبرى فظاهر ضرورة أن أوامر الشارع لا تتعلق بالفاسدة وإلا
لخرجت عن كونها فاسدة ويمكن أن يناقش في الوجه الأول
بالتزام التقييد في تلك الاطلاقات وفي الثاني بالمنع من تفسير مطلق
العبادة بما رجح فعله على تركه بل ذلك معنى الصحيحة منها دون
الأعم فإنه أعم من الراجح وغيره نعم يعتبر أن يكون نوعها راجحا في
الجملة ليتميز عما ليس بعبادة ولا يخفى ما في المقامين
من التعسف لا سيما الأخير ولو قيل بالفرق بين اسم العبادة وأسامي
العبادات وأن الاسم يختص بالصحيحة بخلاف الأسامي كان
أوضح الخامس لو كانت تلك الألفاظ موضوعة للصحيحة كان له أوجه
ضبط في المعنى الموضوع له كالصحيحة أو المبرئة للذمة أو
المطلوبة للشارع أو نحو ذلك وأما إذا كانت موضوعة للمعنى الأعم لم
يكن لها وجه ضبط بحيث يمكن تعقله حتى يصح أن تكون تلك
الألفاظ موضوعة بإزائها ولا يمكن القول بأنها موضوعة لجملة من
تلك الأفعال لعدم صدقها عندهم على كل جملة منها ولا يصح
أخذها
على وجه يعتبر فيه الصدق عرفا للزوم الدور فإن الصدق عرفا يتوقف
على الوضع فلو توقف الوضع عليه كان دورا وربما يحكى عن
البعض التخلص عن هذا بتعيين جملة من الاجزاء فقال في لفظ الصلاة
إنها موضوعة بإزاء الأركان المخصوصة مع الطهارة وبمثله في
غيرها وقد وقفت على مثل هذه الدعوى في كلام الفاضل المعاصر
حيث ادعى أن الصلاة اسم للتكبيرة والقيام والركوع والسجود و
أن البواقي شرط لمطلوبيتها وأيد ذلك بمقالة الفقهاء إن تلك الأمور إن
كان بخلاف ما عداها وفساده واضح للقطع بأن مجرد الاتيان
بتلك الاجزاء غير مصحح للاطلاق مع أنها لو كانت موضوعة بإزائها
لزم عدم الصدق عند انتفاء بعضها كالتكبيرة والقيام ولو حصلت
مع سائر الأجزاء والشرائط والتزامه على هذا المذهب تعسف واضح
وليس في تسميتها أركانا ما يشعر بأنها تمام المسمى كما لا يخفى
على من وقف على مصطلحهم في لفظ الركن نعم يمكن التفصي عن
أصل الاشكال بالتزام كونها موضوعة للأعم من الصحيحة ومما
يقاربها في الهيئة عرفا فلا يلزم الدور السادس أنها لو لم تكن موضوعة
لخصوص الصحيحة لزم ارتكاب التقييد في الأوامر المتعلقة بها
لظهور أنها لا تتعلق بالفاسدة والتقييد على خلاف الأصل وأما إذا
كانت موضوعة للصحيحة فلا يلزم ذلك وهذا ضعيف إذ لا عبرة بهذا
الأصل ونظائره في إثبات الأوضاع حجة القول بأنها موضوعة للمعنى
الأعم وجوه منها التبادر وعدم صحة سلبها عن الفاسدة و
الجواب
المنع من ذلك كما مر لا يقال إنكاره التبادر في ذلك غير مسموع بعد
شهادة العرف عليه فإن من أخبر بأن زيدا يصلي لا يفهم منه إلا
أنه متشاغل بإتيان هذه الماهية من غير دلالة على كونها صحيحة أو
فاسدة ولهذا لو أخبر بعد ذلك بأن صلاته تلك كانت فاسدة لم يعد
مناقضا لكلامه السابق ولا منافيا لظاهره لأنا نقول بعد المساعدة على
الادعاء المذكور أن القرينة الحالية في مقام الاخبار قائمة على
عدم إرادة الصحيحة بخصوصها وهي بعد الاطلاع على السرائر و
كثيرا ما يكون المقصود بالاخبار عنها بيان حال الفاعل لها من تلبسه
بتلك الافعال وتشاغله بها من غير تعرض لبيان الصحة والفساد
فيصلح أن ينهض ذلك قرينة على إرادة المعنى الأعم وظاهر أن تبادر
المعنى من اللفظ عند قيام القرينة لا يوجب الوضع له ومنها أن كون
هذه الألفاظ موضوعة للصحيحة على تقدير تسليمه لا يقتضي أن لا
يطلق على الفاسدة حقيقة بدليل أن الاعلام موضوعة بإزاء تمام
الأشخاص بشهادة قولهم دلالة زيد على يده وإصبعه دلالة تضمنية و
مع
ذلك يصدق عليه بالوضع السابق عند انتفاء بعض أجزائه أو زيادته
عليها ويلزم من ذلك أن تكون حقيقة في الأعم وهو المطلوب و
الجواب أن فرض اختصاص الوضع بالصحيحة يأبى عن صدق الاسم
على الفاسد حقيقة إلا أن يدعى انقلاب الوضع حينئذ إلى الوضع
للأعم
وإن كان على خلاف ما قصده الواضع بمساعدة العرف نظرا إلى
إلغائهم قيد الصحة وهذا على الظاهر مما لا يمكن الالتزام به وأما
التمسك بالعلم فمدفوع بأنه إنما يوضع بإزاء نفس الشخص مع ما
يتبعه من البدن من غير تعيين لمقدار مخصوص منه فيصدق عليه
حقيقة
عند نقصان جز منه وزيادته عليه وليس الوضع في جميع المركبات
بهذه المثابة فلا سبيل إلى الالحاق والتعدية ومنها
47

أن هذه الألفاظ لو كانت موضوعة للصحيحة لزم فيما لو نذر أن يعطي
مصليا حال تشاغله بالصلاة درهما أن لا تبرأ ذمته بإعطائه لمن
يراه مصليا وإن كان عنده في أعلى مراتب العدالة والصلاح ما لم
يبحث عن كيفية صلاته ويطلع على صحتها الواقعية باستكمالها
الأجزاء والشرائط وذلك مما لا يلتزم به أحد وكذا الكلام في جواز
الائتمام به والجواب أما أولا فبالنقض بما لو نذر الاعطاء لمن يأتي
بالصلاة الصحيحة مع أن الاشكال المذكور وارد عليه على القول
بالأعم أيضا وأما ثانيا فبالحل وهو أن قضية أصالة صحة أفعال
المسلمين على ما تقرر في الشرع عدم وجوب البحث والتفتيش في
المقامين والاكتفاء بظاهر الحال ما لم ينكشف الخلاف ولهذا يحكم
في المقام الأول بعدم البراءة إذا انكشف الخلاف ويلزم القائل بالأعم
أن يلتزم بالبراءة فيه بل وفيما إذا تبين الفساد قبل الاعطاء ولو
عند الفاعل أيضا وهو من أقبح المفاسد اللازمة على هذا القول اللهم
إلا أن يتفصى عنه بأن المتبادر من الاطلاق خلاف ذلك فيرجع عند
التحقيق إلى ما ذكرناه وأما ما يقال من أفعال المسلمين إنما تحمل
على الصحيح عندهم دون الواقع فلا يجدي في المقام فضعيف بل
قضية الأدلة الدالة على ذلك في المقام ونظائره الصحة الواقعية ولولا
ذلك لما حل أكل ذبائحهم ولا لبس الجلود التي توجد في أيديهم
إلى غير ذلك إلا بعد العلم بحصول التذكية الشرعية وهو خلاف
الاجماع وسيأتي لهذا زيادة بيان في محله إن شاء الله ومنها أن هذه
الألفاظ مستعملة في الصحيحة والفاسدة فالأولى أن تكون موضوعة
للأعم ليكون استعمالها فيهما على الحقيقة كما هو الأصل والجواب
أن وقوعها مستعملة في خصوص الصحيحة مما لا ريب فيه ومعه لا
يتم الأولوية للأعم ليكون استعمالها فيهما على الحقيقة كما هو الأصل
والجواب أن وقوعها مستعملة في خصوص الصحيحة مما لا ريب فيه
ومعه لا يتم الأولوية المدعاة كما مر مرارا على أنا قد بينا ما يوجب
الخروج عن مقتضاها على تقدير تسليمها ومنها صحة تقسيمها إلى
الصحيحة والفاسدة وصحة وصفها بهما ولولا أن المقسم و
الموصوف أعم لم يصح ذلك والجواب أن التقسيم والوصف قرينة
على أنها مستعملة في المعنى الأعم والاستعمال
أعم من الحقيقة كما مر وإن أريد صحة تقسيمها ووصفها باعتبار
معناها الحقيقي فممنوع ومنها أنها لو كانت موضوعة للصحيحة لزم
تكرار معنى الطلب في الأوامر المتعلقة بها والتالي باطل فكذا المقدم
بيان الملازمة أن الامر حينئذ يرجع إلى الامر بالمطلوب إذ هو
معنى الصحيحة فيكون المعنى اطلب مطلوبي وهو المراد بالتالي و
أما فساده فظاهر وأيضا لا معنى للصحيحة إلا ما تعلق به الطلب فإذا
كان متعلق الطلب هو الصحيحة لزم الدور لتوقف الطلب حينئذ على
الصحة والصحة على الطلب والجواب أنا لا نعتبر الصحة جزا
لمدلول اللفظ بل نعتبرها صفة له خارجة عنه وحينئذ فلا تكرار ثم
المراد بالصحة موافقة الفعل للطلب الواقعي فتوقف الطلب الظاهري
عليه لا يوجب الدور وأما الطلب الواقعي فهو لا يتعلق بالفعل
الصحيح أعني ما يكون صحيحا قبل تعلق الطلب به بل يتعلق بالفعل
من حيث
هو والصحة من لوازمه وتوابعه أو بما يكون صحيحا بذلك الطلب فلا
إشكال ومنها ما ورد في الروايات المستفيضة من الامر بإعادة
الصلاة عند حصول بعض المنافيات وهي عبارة عن الاتيان بالفعل
ثانيا بعد الاتيان به أولا فيكون المراد بها المعنى الأعم إذ ليس الامر
هناك بإعادة الصحيحة وعلى قياسه الكلام في سائر الألفاظ و
الجواب أن ذلك لا يقتضي إلا مجرد الاستعمال وهو لا يقتضي
الحقيقة
كما مر غير مرة ويكفي في صدق الإعادة عرفا مجرد سبق العزم على
الفعل والتشاغل ببعض أجزائه على ما يساعد عليه الاستعمال في
المقام وغيره فليس في شئ منهما دلالة على كون الوضع للأعم و
منها أنها لو كانت أسامي للصحيحة لزم أن يدل النهي عنها على
صحتها والتالي باطل فكذا المقدم بيان الملازمة أن النهي حينئذ إنما
يتعلق بالصحيحة لان أداته إنما يتعلق بما هو موضوع بإزائها على
ما هو المفروض فلا بد من إمكانها حينئذ حتى يصح تعلقه بها وإلا
لكان النهي عنها عن أمر ممتنع وهو ممتنع وأما بطلان التالي فواضح
على ما سيأتي بيانه والجواب أن هذا الدليل إنما يثبت مجرد
الاستعمال وهو لا يوجب الحقيقة مع أنه يمكن أن يكون المراد بها
الماهية
الصحيحة بتنزيل النهي على نفي الفعل لا المنع من إيقاعه أو يكون
اللفظ مستعملا في الصحيحة حال ذكر النهي ويكون الفساد طارئا
عليها بالنهي لكن
هذا إنما يتم إذا كان العمل مطلوبا على الوجه المنهي عنه قبل النهي و
قصد بالنهي عنه إنشاء عدم مطلوبيته به ومنها أنها لو كانت
موضوعة بإزاء الصحيحة لزم أن يكون مورد النذر فيما لو نذر أن لا
يصلي في مكان مرجوح هي الصلاة الصحيحة والتالي باطل
فالمقدم مثله أما الملازمة فلان التقدير أنها موضوعة للصحيحة وأما
بطلان التالي فلان تعلق النذر بها يستلزم النهي عنها وهو يستلزم
فسادها على ما سيأتي وفسادها يستلزم عدم تعلق النذر بها إذ التقدير
أنه متعلق بالصحيحة لا غير وما يقتضي وجوده عدمه فهو محال
مع أن النذر المذكور منعقد والجواب أما أولا فبالنقض بما لو نذر أن لا
يصلي فيه صلاة صحيحة فيتأتى فيه الاشكال المذكور بعينه بناء
على الأعم أيضا ولو منع جواز تعلقه بها حينئذ لاتجه لنا منع جوازه
على التقدير الأول أيضا إلا أن يجعل تعلقه بها قرينة على إرادة الأعم
لكن لا يثبت به إلا مجرد الاستعمال على أن تعلقه بالأعم يستلزم
تعلقه بنوعيه من الصحيح والفاسد إذ تخصيصه بغير التصحيح غير
صحيح فيتأتى الاشكال المذكور بالنسبة إلى تعلقه بالصحيح وفيه نظر
ظاهر وأما ثانيا فبالحل وهو أن النذر حينئذ إنما يتعلق
بالصحيحة والفساد إنما يأتيها بعد تعلق النذر بها فلا منافاة والمعتبر
في صحة تعلق النذر بشئ إمكانه على تقدير عدم تعلق النذر به
لا إمكانه مطلقا إذ لا دليل عليه غاية ما في الباب أن يمتنع الحنث فيه و
يكون أثر النذر مجرد الفساد ولا دليل على خلافه وقد يقال
يتعلق النذر حينئذ بما يكون صحيحا على تقدير عدم تعلق النذر بتركه
فيحنث بفعله وإن وقع فاسدا وله أيضا وجه لان النذر إنما
يتعلق بالصحيح حال النذر فلا ينافيه لحوق الفساد من جهته نعم لا
يتحقق منه الحنث إلا إذا أتى به قاصدا به القرينة وهو لا يكون إلا مع
زعمه عدم فساده بالنذر ومنها ما ذكره بعض المعاصرين من أنها لو
كانت أسامي للصحيحة لزم أن يكون لكل صلاة ماهيات متكثرة
بحسب اختلاف أحوال المكلفين كالحاضر والمسافر والحافظ و
الناسي والشاك والصحيح والمريض والمضطر والامن و
48

إلى غير ذلك مع اشتمال كل واحد من هذه الأقسام على أقسام عديدة
سيما إذا اعتبر بعضها مع بعض وأما على القول بأنها موضوعة
للأعم فلا يلزم ذلك لان هذه أحكام مختلفة ترد على ماهية واحدة و
أيضا لا مدخل لاشتراط شئ بشئ في اعتباره في التسمية و
الجواب أما عن الأول فبأن مجرد كون الصلاة اسما للصحيحة لا
يوجب اختلاف تلك الأقسام بحسب الماهية لجواز أن يكون
الاختلاف
فيها بحسب العوارض الطارية على ماهية واحدة وهي ماهية
الصحيحة سلمنا لكن لا نسلم بطلان التالي إذا لم يأت عليه بحجة و
بينة وأما
عن الثاني فبالمنع من عدم المدخلية كيف وقضية الاشتراط زوال
المشروط عند زوال الشرط وهو يوجب انتفاء الاسم ومنها ما ذكره
المعاصر المذكور أيضا وهو أن الفقهاء قد اتفقوا على بطلان الصلاة
بزيادة أحد أركانها كالركوع مثلا وظاهر أن الركوع الزائد
فاسد لتعلق النهي به مع أنهم أطلقوا عليه لفظ الركوع وذلك شاهد
على أنه حقيقة في المعنى الأعم ولا يمكن أن يراد به صورة الركوع
إذ لا تبطل الصلاة بمجرد المكث مقدار الركوع منحنيا لاخذ شئ من
الأرض ويتم الكلام في البواقي بعدم القول بالفصل والجواب أنهم
أرادوا بزيادة الركوع زيادة صورة الركوع بقصد كونها ركوعا ومجرد
الاستعمال لا يقتضي الحقيقة كما مر غير مرة على أنا نقول
ليس الركوع من أسماء العبادات بل هو على حد القيام والقرأة و
الاستقرار ونحوها في البقاء على المعنى الأصلي وما ثبت لها في
الشرع من شرط فليس شرطا لتحققها بل لصحتها ومطلوبيتها هذا غاية
ما يتخيل في أدلة الفريقين
بقي الكلام في الثمرة
فنقول ذكر جماعة أن فائدة النزاع تظهر في إجراء أصل البراءة عند
الشك في جزئية شئ أو شرطيته للعبادة والشك في المانعية راجع
إلى الشك في الشرطية من حيث إن عدم المانع شرط بالمعنى الأعم
فإنه على القول بأنها موضوعة للأعم يمكن إجراء الأصل المذكور في
نفيها بعد تحصيل ما يصدق عليه الاسم لان الامر حينئذ إنما تعلق
بالمفهوم العام وقضية الأصل إجزاء كل ما يصدق عليه ذلك المفهوم
ما
لم يثبت اعتبار أمر زائد عليه شطرا وشرطا وأما على القول بأنها
موضوعة بإزاء الصحيحة فلا يمكن نفي ما شك فيه بالأصل المذكور
للشك في حصول الماهية بدونه كما لا يمكن التمسك به في نفي ما
شك اعتباره في صدق الاسم على المذهب الأول بل الذي يقتضيه
أصالة الاشتغال على القول بالصحة وجوب الاتيان بجميع ما يحتمل
اعتباره في الصحة من الأجزاء والشرائط المعلومة والمشكوكة
تحصيلا للبراءة اليقينية كما أنها تقتضي وجوب الاتيان بما يحتمل
اعتباره في الصدق على القول بالأعم لا بمعنى أن الأصل المذكور
يجعل الأجزاء والشرائط المشكوكة أجزاء وشرائط للماهية كما قد
يتوهم فيظهر الثمرة حينئذ في مسألة الشك بل المراد مجرد توقف
العلم بالبراءة على الاتيان بها وظاهر أن ذلك لا يقتضي الحكم
بالجزئية والشرطية وأما المتوقف بين القولين فيلزمه ما يلزم القائل
بالصحة أخذا بالمتيقن ووجهه واضح هذا والتحقيق عندي أن أصل
البراءة وما في معناه من الأصول الظاهرية كأصل العدم يتساوى
نسبة جريانه في نفي الأجزاء والشرائط المشكوك فيهما إلى القول
بالصحة والقول بالأعم لمشمول أدلة النفي والاثبات لهما فالفرق
بينهما في ذلك كما هو المتداول في ألسنة المتأخرين والمعاصرين
غفلة بينة ومن هنا ترى أن من يمنع من جريان الأصل المذكور على
القول بالصحة يمنع من جريانه على القول بالأعم أيضا حيث يكون
الشك في الصدق كما نبهنا عليه وفي حكمه ما لو شك في شمول
إطلاق الخطاب المتعلق بالماهية لها عند انضمامها ببعض
الخصوصيات حيث يقدح في ظهور الاطلاق ما يصلح للقدح فيه وإن
لم ينهض
حجة على إثبات الخلاف كالشهرة وإطلاق آخر وأما صحة الحكم
بنفي الجزئية والشرطية على القول
بالأعم حيث يعلم صدق الاسم مع سلامة الاطلاق عن المعارض فمن
جهة تحكيم الاطلاق كما مر التنبيه عليه وليس من جهة تحكيم
الأصل
المذكور كما توهم لجريانه أيضا حيث ينتفي العلم بالصدق أو ينتفي
ظهور الاطلاق إذ لا يعتبر في دلالة دليل انضمامه إلى دليل آخر و
يلزم حينئذ أن يتساوى الحال بين القول المذكور وبين القول بالصحة
كما عرفت فاتضح مما حققناه أن الثمرة التي تترتب على القولين
هي نهوض الاطلاق السالم عن المعارض حجة على نفي ما يحتمل
جزئيته أو شرطيته بعد تحصيل القدر المعبر في صدق الاسم عرفا
على
القول بالأعم دون القول بالصحة ثم قضية ما قررناه أولا عدم جريان
أصل البراءة وما في معناه نفي الجز والشرط المشكوك فيهما
حيث لا يقوم دليل على النفي مطلقا على القولين ومن المعاصرين من
يرى جريان الأصل المذكور في ذلك على القولين ورام بذلك نفي
الثمرة والذي يصلح حجة لمقالته وجوه الأول أنا لو تركنا إعمال
الأصل المذكور في نفي الأجزاء والشرائط المشكوكة لزم الاجمال في
ماهية العبادات إذ لا يسلم كلها أو جلها عن جز مشكوك أو شرط
مشكوك فيلزم أن لا يتعلق التكليف بها لما ورد من أنه لا تكليف إلا
بعد البيان وهذا ضعيف لأنه كما ضعيف لأنه كما يمكن رفع الاجمال
عن الماهية المأمور بها بإعمال أصل البراءة كذلك يمكن رفعه عنها
بإعمال أصل الاشتغال والآتيان بما شك فيه فالملازمة ممنوعة هذا
إذا أريد رفع الاجمال بحسب الظاهر وأما إذا أريد رفعه بحسب
الواقع فشئ من الأصلين لا يساعد عليه سلمنا أن أصل الاشتغال لا
يصلح لتعيين الماهية كما مر لكنه يصلح التعيين ما يجب الاتيان به و
هو كاف في صدق البيان على أنا نمنع عود البيان في الرواية إلى ما
تعلق به التكليف بل إلى نفس التكليف ولا إجمال فيه في محل
البحث وقد يستدل على فساد التالي بامتناع تعلق التكليف بالمجمل
وليس بشئ لان المجمل الذي لا يجوز تعلق التكليف به هو الذي لا
يكون للمكلف سبيل إلى الامتثال به وظاهر أن الاجمال الحاصل في
المقام لا يوجب ذلك لامكان الامتثال بإتيان الجميع الثاني لو لم
يصح التمسك بالأصل المذكور هنا لم يصح التمسك به في شئ من
الأحكام الشرعية والتالي باطل بالاتفاق فكذا المقدم بيان الملازمة
أنه لا فرق
بين ما نعلم بأنا مكلفون بالصلاة ولا نعلم أن جز كذا منها أو لا وبين ما
نعلم من أنا مكلفون بالأحكام الواردة في الشريعة ولا نعلم أن
حكم كذا منها أو لا فلئن قيل قد علمنا هناك بعض الأحكام فيمكن
نفي ما لم نعلمه بالأصل قلنا بمثله في المقام فإنا قد علمنا بعض
الاجزاء
49

والشرائط فيه فيمكن نفي ما لم نعلمه بالأصل وهذا أيضا ضعيف إذ لا
ريب في أن صحة بعض أجزاء العبادة منوطة بوقوع بقية الاجزاء
والشرائط فقضية الاشتغال بها عدم البراءة بخلاف سائر الموارد التي
يتمسك فيها بأصل البراءة فإن الامتثال ببعضها لا يناط بالامتثال
بغيرها فلا تعارض لأصل البراءة فيها فاتضح الفرق بين المقامين و
بطلت الملازمة المتوهمة في البين الثالث أن التكاليف المتعلقة
بالماهيات المجملة إنما هي بحسب ما تبين منها للمكلفين بها فكما أن
الحاضرين لمجلس الخطاب إذا أمرهم الشارع بعبادة ثم بينها لهم
بأن ذكر لها أجزاء وشرائط لم يكونوا مكلفين إلا بما اشتمل على تلك
الأجزاء والشرائط المبنية وإن احتمل عندهم أن يكون لها جز أو
شرط لم يبينه لهم فكذلك إذا علمنا أن الشارع قد أمرنا بعبادة و
تصفحنا فوقفنا لهم على أجزاء وشرائط ثم لم نعثر على ما يقتضي
الزيادة لم نكن مكلفين إلا بالقدر المبين وفيه نظر لان الحاضرين
لمجلس الخطاب يمكنهم التمسك في حصر الأجزاء والشرائط في
الأمور المبينة بعدم جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب أو الحاجة
لتيسر البيان وقبح التعويل حينئذ على البناء على الاحتياط مع عدم
التصريح به وأما من عداهم فقد يتعذر وصول البيان إليهم مع وقوعه
فلا يبعد حكم العقل بوجوب الاحتياط في موارد الشك في حقهم
تحصيلا للبراءة اليقينية أو نقول ظاهر الاقتصار في مقام البيان يعطي
الانحصار فلهم أن يعولوا عليه وأما غيرهم فربما لا تيسر لهم
بيان يفيد ذلك فلا يكون لهم مستند على الحصر الرابع أصالة عدم
تعلق الوجوب التبعي بتلك الأجزاء والشرائط استصحابا للحالة
السابقة فإنها لم تكن قبل ورود الامر بتلك الماهيات مطلوبة فالأصل
بقاؤها عليه وفيه نظر لأنه إن أريد بهذا الأصل إثبات تعلق
الوجوب النفسي بماهية الأقل دون الأكثر فهو من الأصول المثبتة التي
لا تعويل عليها عند المحققين وإلا فلا جدوى له في المقام الخامس
وهو يختص بنفي المانع أصالة عدم منع ما يحتمل مانعيته استصحابا
للحالة السابقة لا سيما إذا كان طارئا في أثناء العمل لاعتضاده
حينئذ باستصحاب بقاء الصحة إذ التحقيق عدم الفرق في
الاستصحاب بين الشك في قدح العارض أو عروض القادح
فكما لو علم بمانعية النجاسة وشك في عروضها أو شك في نجاسة
أمر علم بعروضه توجه التمسك بالاستصحاب في نفيهما وحصل
الامتثال بالفعل على تقديره فكذا لو علم بعروض نجاسة وشك في
مانعيتها توجه التمسك بالاستصحاب في نفيها وصح التعويل عليه
في الامتثال وفيه نظر لان الاستصحاب على ما نحققه في محله إنما
يجري حيث يكون قضية الشئ المستصحب بقاؤه عادة أو شرعا
على تقدير عدم الطرو المانع المحتمل طريانه أو منع الطاري المحتمل
مانعيته كما في المقامين الأولين فإن قضية الطهارة الثابتة أولا
بقاؤها شرعا ما لم يرفعها رافع فحيث يشك في عروض الرافع أو رفع
العارض يصح التمسك بأصالة بقائها بخلاف المقام الأخير إذ
ليس فيه ما يكون قضية البقاء على تقدير عدم طرو الرافع أو رفع
الطاري إلا الاشتغال فيستصحب إلى أن يثبت الرافع له فيجب الاتيان
بجميع الأجزاء والشرائط المعلومة والمحتملة والاحتراز عن جميع
الموانع المعلومة والمحتملة إذ لا يثبت رفعه بغيره وأما عدم المانع
فمرجعه إلى حصول المطلوب على تقديره فهو مخالف للاستصحاب
لا موافق له فإن الفعل لم يكن أولا بجميع تقاديره مطلوبا غاية الامر
أن الدليل دل على مطلوبيته على بعض التقادير فيقتصر عليه و
يستصحب في غيره حكمه السابق من عدم المطلوبية وبالجملة
فقضية
الاستصحاب في المقامين الأولين إثبات موضوع الشرط فيثبت
الامتثال بالمشروط المقارن له بعموم ما دل على تقدير مقارنة الشرط
وقضية اعتباره في الأخير نفي الاشتراط وهو غير مستقيم لان مرجعه
إلى مطلوبية الفعل بدون الشرط المحتمل وهو خلاف قضية
الاستصحاب وأما التمسك باستصحاب بقاء صحة العمل حيث
يصادف المانع الاحتمالي في الأثناء فواضح الوهن لأنه إن أريد إثبات
بقاء
صحة الأجزاء المأتي بها أولا بعد طرو المانع الاحتمالي فغير مجد لان
البراءة إنما تتحقق بفعل الكل دون البعض وإن أريد إثبات عدم
مانعية الطاري بذلك أو صحة بقية الأجزاء أو الكل فساقط لما عرفت
من عدم التعويل على الأصول المثبتة السادس ما ذكره الفاضل
المعاصر في مسألة أصل البراءة ومحصله أن أصل البراءة عن الجز و
الشرط
المشكوك فيهما وأصالة عدم الجزئية والشرطية يفيدان الظن بالعدم
حيث لا يعارضهما شئ من الأدلة فيبنى على مقتضاه لان ذلك
قضية قاعدة انسداد باب العلم وبقاء التكليف ولأن القدر المتيقن من
التكليف الاتيان بالقدر المظنون إذ لا إجماع على التكليف بما زاد
على المظنون ولا دليل على أنا مكلفون بالواقع لا يقال قضية
الخطابات الشرعية ذلك لما تحقق في محله من أن الألفاظ موضوعة
بإزاء
المعاني الواقعية دون العلمية والظنية لأنا نمنع توجه تلك الخطابات
إلينا بل إلى المشافهين خاصة فينحصر الدليل في حقنا في الاجماع
وهو لا يساعد على ثبوت التكليف بما زاد على مظنوننا كما مر ولئن
تمسك بأدلة الشركة في التكليف لكان لنا منع كون المشافهين
مكلفين بالواقع أيضا بل بما حصل لهم الظن بأنه مورد التكليف بدليل
أن البيان لهم بخطابات لفظية وهي لا تفيد القطع بالمراد ولو
غالبا وإنما تفيد الظن به وهذا يقتضي أن لا يكونوا مكلفين إلا
بمظنونهم وقضية الشركة في التكليف أن يكون من عدلهم أيضا
مكلفين
بمظنونهم فثبت المطلوب والجواب أن أصل البراءة وأصل العدم إن
قيسا إلى الواقع فلا يستلزمان حصول الظن بمفادهما قطعا وهذا
واضح وإن قيسا إلى الظاهر فالحق أن أصل البراءة يفيد القطع بالبراءة
الظاهرية عقلا ونقلا عند خلق الواقعة عن دليل الاشتغال
بالكلية وبدونه لا يفيد علما بها ولا ظنا وقد عرفت أنه قد قام الدليل
في المقام على ثبوت التكليف بالجز والشرط المشكوك فيهما و
هو قضاء العقل بأن قضية الشغل اليقيني وجوب تحصيل البراءة
اليقينية وأما أصل العدم فإن أريد به عدم التكليف كان بمعنى أصل
البراءة وقد مر الكلام فيه وإن أريد به عدم الحكم الوضعي فإن أريد به
نفي لوازمه من الأحكام التكليفية رجع إلى أصل
50

البراءة وإن أريد به نفي الحكم الوضعي بنفسه فالحق أن العقل لا
يستقل بإثباته إلا حيث يعلم العدم كما سنشير إليه في محله إن شاء
الله
ومن الواضح أن المقام ليس منه نعم ربما يمكن استفادة ذلك من
النقل لكن الشأن في بيان وجهه ولا إشارة في كلامه إليه وأما التمسك
بقاعدة انسداد باب العلم على حجية الظن المستفاد من الأصل على
تقدير إفادته له فغير مرضي لأنه إنما يقتضي حجية الظن في أدلة
الاحكام دون نفس الاحكام كما سنحققه في محله وأما جعل
التكليف متعلقا بالماهيات الظنية دون الواقعية فواضح السقوط لأنه إن
أراد
أن التكاليف الواقعية متعلقة بالماهيات الظنية دون الواقعية فظاهر أنه
خطأ عند من لا يقول بالتصويب والأدلة التي نقررها على إبطال
التصويب من الاجماع وغيره ناهضة على إبطاله وإن أراد أن التكاليف
الظاهرية متعلقة بها مع تسليم أن التكاليف الواقعية متعلقة
بالماهيات الواقعية ففيه أن قضية ثبوت التكليف بالماهيات الواقعية
وجوب تحصيل العلم أو ما علم قيامه مقامه بحصول البراءة منها فلا
يتم التمسك بأنه لا دليل أو لا إجماع على ثبوت التكليف بغير
المظنون ودعوى أن التكليف بالماهيات الواقعية تكليف بالمحال
بمكان
من السقوط لان ذلك إنما يلزم إذا كان التكليف بها مطلقا وأما إذا كان
مشروطا بعدم تعذر معرفتها ولو بمساعدة طريق معتبر
فظهر أن اعتبار الشارع في معرفة الماهيات بطرق ظنية لا يوجب أن
يكون التكاليف الواقعية متعلقة بالماهيات الظنية ولا سقوط
التكليف بالماهيات الواقعية مطلقا وإن لزم سقوط التكليف بها عند
عدم مساعدة الطريق على معرفتها قضاء لحكم الشرطية ودعوى
أن الخطابات اللفظية لا تقيد العلم بالمراد مطلقا أو غالبا حتى في حق
المشافهين مجازفة بينة يشهد بفسادها الرجوع إلى المحاورات
العرفية مع أنه يلزم على الأول أن تكون المسائل الشرعية بأسرها حتى
الأصولية منها ظنية وفسادها مما لا يخفى على ذي مسكة السابع
عموم قوله عليه السلام في الموثق ما حجب الله علمه عن العباد فهو
موضوع عنهم وغير ذلك مما يفيده مفاده كالصحيح رفع عن أمتي
تسعة وعد منها ما لا يعلمون ومثله قوله عليه السلام من عمل
بما علم كفي ما لم يعلم فإن لفظة ما للعموم فيتناول حكم الجز و
الشرط أيضا لا يقال لا نسلم حجب العلم في المقام لقيام الدليل وهو
أصل الاشتغال على وجوب الاتيان بالأجزاء والشرائط المشكوكة لأنا
نقول المراد حجب العلم بالحكم الواقعي وإلا فلا حجب في الحكم
الظاهري وفيه نظر لان ما كان لنا إليه طريق ولو في الظاهر لا يصدق
في حقه حجب العلم قطعا وإلا لدلت هذه الرواية على عدم حجية
الأدلة الظاهرية كخبر الواحد وشهادة العدلين والاستصحاب وغير
ذلك مما يفيد العلم بالظاهر فقط ولو التزم تخصيصها بما دل على
حجية تلك الطرق تعين تخصيصها أيضا بما دل على حجية أصالة بقاء
الاشتغال من عمومات أدلة الاستصحاب ووجوب مقدمة العلم بل
التحقيق عندي أن يتمسك بالروايات المذكورة باعتبار دلالتها على
نفي الحكم الوضعي نظرا إلى حجب العلم وانتفائه بالنسبة إلى
جزئية الجز المشكوك وشرطية الشرط المشكوك فيكون بمقتضى
النص موضوعا ومرفوعا عنا في الظاهر ونكون مكفئين عنه فلا
تكلف به لان ما ثبت عدم جزئيته أو عدم شرطيته في الظاهر لا يجب
الاتيان به في الظاهر قطعا كما لو قام عليه نص بالخصوص و
أصل الاشتغال ووجوب مقدمة العلم لا يثبت الجزئية والشرطية في
الظاهر بل مجرد بقاء الاشتغال وعدم البراءة في الظاهر بدونهما و
بالجملة فمقتضى عموم هذه الروايات أن ماهية العبادات عبارة عن
الأجزاء المعلومة بشرائطها المعلومة فيتبين موارد التكليف ويرتفع
عنه الابهام والاجمال وينتفي الاشكال ولو تشبث مانع بضعف عموم
الموصولة وادعى أن المتبادر منها بقرينة ظاهر الوضع والرفع
إنما هو الحكم التكليفي فقط فأمكن دفعه أولا بأن الوضع والرفع لا
اختصاص لهما بالحكم التكليفي فإن المراد رفع فعلية الحكم و
وضعها وهو صالح للتعميم إلى القسمين فيكون التخصيص تحكما و
ثانيا بأن من الأصول المتداولة المعروفة ما يعبرون عنه بأصالة
العدم وعدم الدليل دليل العدم فيستعملونه في نفي الحكم التكليفي
والوضعي ونحن قد تصفحنا فلم يجد لهذا الأصل مستندا يمكن
التمسك به غير عموم هذه الأخبار فيتعين تعميمها إلى الحكم
الوضعي ولو بمساعدة إفهامهم وحينئذ
فيتناول الجزئية والشرطية المبحوث عنهما في المقام ولك أن تقول
بأن ضعف شمول الرواية للمقام منجبرة بالشهرة العظيمة التي
كادت أن تكون إجماعا على ما حكاه الفاضل المعاصر وربما يظهر
أيضا بالتفحص في مصنفاتهم والتتبع في مطاوي كلماتهم نعم
ينبغي تخصيصه بالموارد التي تعتضد فيها بالامارات الموجبة للظن
بمقتضاه وكان كلام الأصحاب ناظر إليه لأنا نراهم قد يتمسكون
بأصل الاشتغال والاحتياط أيضا والتنزيل على ذلك طريق جمع
بينهما وربما يؤكد ذلك أن مرجعه حينئذ إلى حصول الظن بوضع
اللفظ
وقد جرى طريقتهم على الاعتداد به غالبا في إثبات اللغة وقد يتوهم
أن تمسكهم بالأصل المذكور دليل على مصيرهم إلى القول بأنها
موضوعة بإزاء الأعم وليس بشئ كما عرفت مما ذكرناه هذا ولنا في
المقام كلام آخر يأتي بيانه في الأدلة العقلية إن شاء الله واعلم أنه
يمكن أيضا أن يستدل على نفي ما شك فيه من الأجزاء والشرائط
بالأخبار الواردة في بيان العبادات فعلا أو تقريرا فإن مظاهر
الاقتصار يقتضي الانحصار كالاخبار المشتملة على ذكر الوضوء البياني
وكقوله الوضوء غسلتان ومسحتان وكصحيحة حماد المشتملة
على بيان الصلاة إلا أنها مسوقة لبيان الأجزاء دون الشرائط وكحديثي
حصر نواقضها في خمسة واردة إلا أن ظاهرهما الحصر بالنسبة
إلى ما يطرأ في أثناء الصلاة إلى غير ذلك لكن ذلك لا يجدي عند
التعارض والشك في الدلالة وأما ما يقال من أن السبيل في بيان
الماهية منحصر في الاجماع ويوجه مواضع الخلاف بأن المخالف إذا
سلم أن دليله لو كان باطلا لكانت الماهية على حسب ما يقتضيه
دليل الخصم وإن لم يصرح بذلك كفي ذلك في كون الماهية إجماعية
إذا ظهر للخصم بطلان دليله ففيه أن تسليم المخالف ذلك مما لا
يحصل العلم به في كل مقام إذ يحتمل أن يكون عنده دليل آخر
يساعد على صحة الخصم أو يكون عنده دليل آخر كذلك يوجب
المصير
إلى قول
51

لا يقال يمكن دفع الأول بمخالفته للظاهر من مقام الاستدلال والثاني
بأن قول الاخر حينئذ إن كان ثابتا بين الأقوال فترك الاحتجاج
له به ظاهر في عدمه كما مر وإلا فهو خرق للاجماع المركب فيعلم به
بطلانه وبطلان دليله لأنا نقول أما الأول فمدفوع بأن التعويل في
ذلك على الظاهر يصير الاجماع ظنيا فيسقط عن الحجية وأما الثاني
فالوجه الأول منه مدفوع بما مر وندفع الثاني بأن المقصود إن
كان مساعدة المخالف على حجة الخصم على تقدير فساد دليله فهو
لا يثبت بالبيان المذكور لجواز عدم تحقق الاجماع عنده أو أنه على
تقدير فساد دليله يرى التوقف أو الاحتياط ولا يبني على ما يقتضيه
دليل الخصم على أنه لا خفاء في أن المخالف إنما يبني على ما
يقتضيه دليل الخصم على تقدير بطلان دليله بحسب الواقع لا بحسب
ظن الخصم غاية ما في الباب أن الخصم يظن غالبا بطلانه بحسب
الواقع وهذا لا يوجب إلا الظن بمساعدة المخالف غالبا دون القطع به
كما هو المعتبر في الاجماع مع أن بطلان الدليل لا يوجب بطلان
المدعى فالقطع بالأول لا يوجب القطع بالثاني كيف ولو تم ذلك
لكانت جميع المسائل الاجتهادية إجماعية لعين ما ذكره ولا سترة
بفساده وبالجملة فالمدار في الاجماع عندنا على القطع بموافقة
المعصوم وظاهر أن الطريق المذكور بمجرده لا يوجبه
وهنا فوائد
الأولى
أحدث بعض متأخري المتأخرين في المقام قولا ثالثا ففصل بين
الأجزاء والشرائط فاعتبر الأول في صدق الاسم دون الثاني وفرع
عليه صحة التمسك بالأصل في نفي الشرط الاحتمالي دون الجز
الاحتمالي وكأنه ينظر إلى أن جز الشئ داخل في ماهيته ومقوم
لحقيقته فيتعين اعتباره فيه بخلاف الشرط فإنه إنما يعتبر في المطلوبية
ولا مدخل له في الصدق وأن أدلة القول بالصحة لا تساعد على
اعتبار ما زاد على الأجزاء في صدق الاسم وأدلة القول بالأعم لا تنفي
اعتبار ما عدا الشرائط وضعفه ظاهر لأنه إن عول في ذلك على
التبادر الظاهري فلا فرق فيه في الصدق بين فوات جز أو شرط وإن
عول على التحقيق الذي أسلفناه فهو يقتضي اعتبار الشرائط
كالأجزاء ودعوى أن الأجزاء معتبرة في الماهية إن أريد بها الماهية
المطلوبة فالشرائط أيضا كذلك أو مطلق الماهية فممنوع أو الماهية
الموضوع لها فمصادرة
الثانية الحق أن ألفاظ المعاملات أيضا موضوعة بإزاء الصحيحة فقط
سواء قلنا بأنها أسام للآثار المخصوصة كتمليك العين في البيع و
المنفعة في الإجارة أو تملكهما أو قلنا بأنها أسام للصيغ المستتبعة لها
أما على الأول فظاهر إذ لا أثر في الفاسدة وظن من لا خبرة له بالواقع
به غير مجد لان الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية على ما هو
التحقيق وأما على الثاني فلان وصف كونها محصلة لها معتبر في
صدق الاسم للقطع بأن مثل عقد النائم والساهي والهاذل ليس عقد
إلا
بيعا ولا صلحا ولا نكاحا إلى غير ذلك وبالجملة فالحجة على ما
نختاره تبادر الصحيحة عرفا وصحة سلب الاسم عن الفاسدة وإذا
ثبت ذلك عرفا ثبت لغة وشرعا بضميمة أصالة عدم النقل وأما ما
ثبت لها في الشرع من شرائط مستحدثة فإنما هي شرائط لتحقق
معانيها اللغوية من الآثار أو العقد المستتبع للآثار فلا ينافي ما ذكرناه من
عدم النقل نعم فرق بينها وبين ألفاظ العبادات بعد مساواتها
إياها في ذلك من حيث إن المرجع في هذه الألفاظ عند الاطلاق إلى
المعاني المتداولة والحقائق المعهودة بين أهل العرف بخلاف ألفاظ
العبادات ومنشؤه أن العبادات ماهيات مخترعة في الشريعة ليس
لأهل العرف واللغة خبرة بها وإن قلنا بأن أوضاعها لغوية كما مر فلا
يمكن معرفتها إلا بتنصيص من الشارع بخلاف ألفاظ المعاملات فإن
مداليلها كانت معروفة عندهم متداولة بينهم كغيرها من الألفاظ
فمتى أطلقت ألفاظها لم ينصرف الذهن إلا إلى تلك المعاني فيتعين
أخذها على حسب ما تداولت بينهم ما لم يقم دليل على اعتبار أمر
زائد فيتبع
الثالثة
قال الشهيد رحمه الله في القواعد الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم
وسائر العقود لا يطلق على الفاسدة إلا الحج لوجوب المضي فيه
فلو حلف على ترك الصلاة والصوم اكتفي بمسمى الصحة وهو
الدخول فيها فلو أفسدها بعد ذلك لم يزل الحنث ويحتمل عدمه لأنها
لا
تسمى صلاة شرعا ولا صوما مع الفساد وأما لو تحرم في الصلاة أو
دخل في الصوم مع مانع من الدخول لم يحنث قطعا انتهى والظاهر
أنه يريد بقوله لا يطلق الاطلاق بطريق الحقيقة لا مطلق الاطلاق لان
إطلاقها على الفاسد في الجملة مما لا سبيل إلى إنكاره ولا الاطلاق
في الأوامر الشرعية كما توهمه بعض المعاصرين لأنه إن أراد بالفاسد
الذي منع إطلاق الاسم عليه ما يكون فاسدا على تقدير عدم تعلق
الامر به فلا ريب في أن جميع الأوامر المتعلقة بالعبادات متعلقة بما
هي فاسدة بهذا المعنى ضرورة أن الصحة إنما تلحقها بعد تعلق الامر
والطلب بها فلا يكون المنع المذكور معقولا وإن اعتبر الصحة بحسب
الواقع فلمانع أن يمنع لزوم تقدمها على الامر لجواز إنشائها به و
إن أراد ما يكون فاسدا بالقياس إلى الامر المتعلق به فما ذكره في غير
الحج غير مفيد وما ذكره فيه غير سديد لان ما تعلق به الامر لا
يكون فاسدا بالقياس إليه بالضرورة كما يعرف من تعريفه وإن أراد ما
يكون فاسدا بالقياس إلى أمر آخر فهذا مع بعده عن مساق
كلامه مما لا يساعد عليه تفريع مسألة الحنث عليه كما لا يخفى هذا و
فيما ذكره الشهيد نظر من وجهين أما أولا فإن وجوب المضي في
فاسد الحج لا يقتضي كونه موضوعا بإزاء الأعم فإنه مع انتقاضه بفاسد
الصوم حيث يجب المضي فيه مدفوع بعدم دليل يدل على الملازمة
فإن قيل الحج الفاسد صحيح باعتبار الامر الثاني لموافقته له وإن كان
فاسدا باعتبار الامر الأول فالتسمية فيه أيضا لاحقة للصحيح قلنا
الامر الثاني إنما يتعلق بإتمامه لا بتمامه لامتناع تعلق الامر اللاحق
بالفعل السابق ولا ريب أن الباقي بعض الحج فلا يكون حجا ولهذا لو
نذر الحج لا تبرأ ذمته به نعم يصح وصف الافعال التي تقع بعد الافساد
بالصحة بالقياس إلى الامر الثاني كما يصح وصفها بالفساد
بالقياس إلى الامر الأول وأما ثانيا فلان ما ذكره من التمثيل بمن حلف
على ترك الصلاة
والصوم فارقا فيه بين ما إذا تلبس به صحيحا فيحنث أو فاسدا فلا
يحنث غير مستقيم بظاهره لان الحلف المذكور حيث ينعقد يوجب
انتفاء وصف الصحة عن مورده لامتناع توارد الأمر والنهي على شئ
واحد فلا يتحقق الدخول فيه صحيحا ويمكن تنزيله على إرادة
الصحة على تقدير عدم
52

الحلف وله وجه وقد تقدم ولو مثل بمن نذر أن يعطي مصليا درهما
فأعطاه لمن دخل في صلاة صحيحة ثم أفسدها كان أولى هذا و
قوله وسائر العقود يحتمل أن يكون عطفا على الصلاة وأن يكون
عطفا على الماهيات الجعلية لكن يشكل الأول بأن ماهيات
المعاملات
ليست من المجعولات في هذه الشريعة بل كانت متداولة بين أهل
اللغة أيضا لظهور أن معايش الأنام لا تنتظم بدونها ولهذا يرجع في
تعيين مداليلها إلى العرف واللغة بخلاف العبادات إلا أن يراد كونها
مجعولة في الجملة ولو بالتقرير عليها أو باعتبار بعض الشرائط و
أنها من المجعولات الشرعية في الجملة ولو في الشرائع السابقة و
كيف كان فلا إشارة في كلامه إلى ثبوت الحقيقة الشرعية في الجملة و
لو في الشرائع السابقة وكيف كان فلا إشارة في كلامه إلى ثبوت
الحقيقة الشرعية في ألفاظ المعاملات فما زعمه الفاضل المعاصر من
أن في كلامه المذكور دلالة على مصيره إلى القول بثبوت الحقيقة
الشرعية في ألفاظ المعاملات ضعيف بل لم نظفر بحكاية هذا القول
عن
أحد نعم ذهب العلامة في تهذيبه إلى أن صيغ العقود منقولات في
الشرع من معانيها اللغوية أعني الاخبار إلى معانيها الشرعية أعني
النشاء محتجا عليه بأنه لولاه للزم الكذب أو مسبوقية كل صيغة
بأخرى ويتسلسل وهذا كما ترى ليس قولا بثبوت الحقيقة الشرعية
في
ألفاظ المعاملات بل في خصوص الصيغ ولا يذهب عليك ضعف ما
ادعاه إذ الدليل الذي تمسك به واضح الاندفاع لان الصيغة إذا
استعملت
في النشاء مجازا بضميمة قرائن حالية أو مقالية لا يلزم على تقديره
شئ من المحذورين ولعله مبني على القاعدة المشهورة من أن
العقود اللازمة لا تنعقد بالألفاظ المجازية وهذا على تقدير تسليمه
محمول على ما يكون مجازا بمادته أو ندعي أن هذه الألفاظ قد نقلت
بالغلبة في أصل اللغة إلى معنى النشاء ولو بالنسبة إلى مقام العقد و
يؤيد ذلك عدم ملاحظة العلاقة عند الاطلاق في مقام العقد
فصل
اختلفوا في استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد إلى أقوال ثالثها
الجواز في التثنية والجمع دون المفرد ورابعها الجواز في النفي
دون الاثبات ثم من المجوزين من ذهب إلى أن ذلك بطريق الحقيقة
مطلقا ومن هؤلاء من زاد أنه ظاهر في الجميع عند التجرد عن
القرينة وقال بعضهم أنه بطريق المجاز مطلقا ومنهم من فصل فجعله
في التثنية والجمع بطريق الحقيقة دون المفرد ولا بد قبل
الخوض في الاستدلال من تحرير محل النزاع فنقول استعمال
المشترك في أكثر من معنى واحد يقع على وجوه أحدها أن يستعمل
في
معنى يتناول جميع معانيه أو جملة منها كمفهوم المسمى ولا نزاع في
جوازه في الجملة فإن كان ذلك المعنى أحد المعاني التي وضع
اللفظ بإزائها كان حقيقة وإلا كان مجازا ويعتبر حينئذ فيه العلاقة وهذا
هو الذي يسمونه بعموم الاشتراك الثاني أن يستعمل ويراد به
كل واحد من معانيه على وجه الترديد والبدلية كالنكرة سواء جعل
الترديد شطرا من المعنى أو شرطا له ولا ريب في عدم جواز ذلك
حقيقة خلافا لصاحب المفتاح ضرورة أن ما وضع له اللفظ كل واحد
منها بعينه وهو يغاير كل واحد منها لا بعينه ولا مجازا لعدم العلاقة
المصححة بل التحقيق أن الاستعمال على هذا الوجه غير معقول و
إلحاقه بالنكرة قياس مع الفارق لتحقق قدر مشترك فيها يصح أخذ
التقييد بالخصوصيات على وجه الترديد بالقياس إليه بخلاف
المشترك إذ لا يصح اعتبار الترديد فيه ما لم يضمن أو يقدر معنى أزيد
و
هو متضح الفساد وقد ينزل كلام السكاكي على إرادة مفهوم أحد
المعاني ويدعى رجوعه إلى القسم السابق وأما نحو مررت بأحدكم و
بأحمد بالتنوين فمؤول بالمسمى لان مدلول العلم حقيقة لا يحتمل
النكارة الثالث أن يستعمل ويراد به مجموع معنييه أو معانيه من حيث
المجموع سواء تعلق الحكم به أيضا من حيث المجموع أو تعلق به من
حيث الآحاد بأن كان كل واحد منها مناطا للحكم ومتعلقا للنفي و
الاثبات وهذا أيضا كالوجه الأول مما لا نزاع في جوازه في الجملة فمع
ثبوت الوضع يكون حقيقة ومع انتفائه يتبع العلاقة
فيجوز معها مجازا كلفظ الشمس المشترك بين الجرم والنور إذا
استعمل في المجموع حقيقة أو مجازا والفرق بين الوجه الأول وهذا
الوجه أن شمول المعنى المستعمل فيه لمعانيه على الأول من قبيل
شمول الكلي لافراده وعلى هذا من قبيل شمول الكل لاجزائه وهو
ظاهر ومن منع الاستعمال على الوجه الأخير مدعيا عليه الوفاق فقد
سها سهوا بينا الرابع أن يستعمل في كل واحد من المعنيين أو
المعاني على أن يكون كل واحد مرادا من اللفظ بانفراده كما إذا كرر
اللفظ وأريد ذلك وهذا قد يكون بأن يطلق المشترك على كل
واحد من المعاني بملاحظة العلاقة مع الاخر أو يلاحظ الوضع في
بعض والعلاقة في آخر فيكون من استعمال اللفظ في معانيه المجازية
أو الحقيقة والمجازية وسيأتي الكلام في عدم جوازهما بقول مطلق
مع ما فيه في محل الفرض من اعتبار العلاقة في الاستعمال وإهمال
الوضع وجوازه غير واضح وقد يكون بأن يطلق ويلاحظ جميع
أوضاعه أو جملة منها ويراد بحسب كل وضع معناه وهذا محل النزاع
و
لا فرق حينئذ بين أن يكون كل واحد منها متعلقا للحكم ومناطا للنفي
والاثبات أو يكون المجموع كذلك كما في صورة التكرير و
يظهر من صاحب المعالم أن النزاع في استعمال اللفظ المشترك في
المعنيين أو المعاني على أن يكون كل منهما مناطا للحكم ومتعلقا
للاثبات والنفي وهو غير مستقيم طردا وعكسا لدخول استعمال
المشترك في مجموع معنيين أو معان حقيقة أو مجازا أو غلطا حيث
يعتبر تعلق الحكم بكل واحد من المعاني بل ربما يدخل استعماله في
معنى متناول لمعانيه إذا اعتبر الحكم متعلقا بكل واحد مع أن شيئا
من ذلك مما لا نزاع فيه ويخرج منه استعمال اللفظ في كل واحد من
معانيه على الوجه الذي قررناه في محل النزاع إذا اعتبر تعلق الحكم
بالمجموع مع أن النزاع متوجه إليه إذ العبرة في المقام بكيفية استعمال
المشترك لا باعتبار تعلق الحكم به ثم النزاع في المقام ينبغي
أن يكون في جواز استعمال اللفظ في معنييه أو معانيه الحقيقية حقيقة
ليغاير النزاعين الآتيين ولا يكون ذلك إلا إذا أريد به تمام
المعنيين أو المعاني فالقول بجوازه مجازا نظرا إلى استلزامه
فوات جز المعنى أعني قيد الوحدة فيكون من استعمال الموضوع
للكل في الجز خروج عن محل البحث لان مرجعه إلى جواز
استعماله في
53

معنييه أو معانيه المجازية وهو نزاع آخر لا يختص مورده بالفرض
المذكور وعند التحقيق يذهب هذا القائل إلى المنع فيما هو محل
النزاع هنا فذكره من جملة القائلين بالجواز ليس على ما ينبغي نعم
يمكن إلغاء جهة كون الاستعمال في المعنى الحقيقي على وجه
الحقيقة
في تحرير النزاع ويعتبر التغاير بين النزاعات الثلاثة بوجه آخر وذلك
بأن يقال إذا أطلق اللفظ وأريد به كل من معنييه أو معانيه على
الاستقلال فلا يخلو إما أن يكون استعماله في كل واحد بملاحظة
وضعه له في الجملة سواء كان الاعتماد في الاستعمال على الوضع
فقط
أو على مراعاة العلاقة أيضا فهذا هو النزاع في استعمال اللفظ
المشترك في معنييه أو معانيه الحقيقية وإما أن يكون استعماله في كل
بدون هذه الملاحظة وهو النزاع في استعماله في معنييه أو معانيه
المجازية أو يكون استعماله في البعض بالملاحظة المذكورة وفي
البعض بدونه وهو النزاع في استعمال اللفظ في معناه الحقيقي و
المجازي وحينئذ فيمكن أن يكون استعماله في معناه الحقيقي في
القسم الأول والأخير بطريق الحقيقة وأن يكون بطريق المجاز ثم
استعمال المشترك في المثنى والمجموع في أكثر من معنى واحد
يتصور على وجهين الأول أن يعتبر التعدد المقصود بالتثنية والجمع
بالنسبة إلى أفراد كل واحد من المعنيين أو المعاني المرادة من
مفرده أو بالنسبة إلى لفظه المأخوذة آحاده بمعنيين أو معان من مدلوله
سواء اعتبرت الفردية للمعنى معه أو لا والأول مبني على القول
باعتبار الاتحاد في معنى المفرد فإن المراد به أن يكون التعدد
المستفاد من التثنية والجمع مأخوذا بالنسبة إلى المعنى الذي أريد
بالمفرد وإن تعدد لا الاتحاد حقيقة فإن ذلك لا يتم إلا على القول
بعدم جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد وعلى هذا
فمعنى عينين فردان من الجارية وفردان من الباصرة وهكذا ومعنى
عيون ثلاثة أفراد من كل واحد أو أكثر على حسب ما أريد من هيئة
الجمع والثاني مبني على القول بكفاية الاتحاد في اللفظ في بنائهما
فيعتبر التعدد بالنسبة إليه وعلى هذا فمعنى عيون عين مكرر ثلاثا
فما زاد فيراد بكل معنيان فصاعدا على التساوي أو الاختلاف ومثله
الكلام في التثنية الثاني أن يعتبر التعدد المراد منهما بالنسبة
إلى الجميع من المعنيين أو المعاني سواء اعتبرت الفردية للمعنى معه
أو لا أو من اللفظين أو الألفاظ المراد بكل واحد منها معنى واحد مع
اعتبار الفردية وبدونه ولا خفاء في أن النزاع فيهما على الوجه الأول
بقسميه إنما يتفرع على النزاع في المفرد جوازا وحقيقة ومجازا
ونزاع المفصلين بين المفرد وغيره في ذلك مبني على الوجه الثاني
بل القسم الثاني منه كما يشير إليه حجتهم ثم قضية إطلاق كلماتهم
وأدلتهم في المقام عدم الفرق بين ما إذا كان اللفظ مشتركا بين معنيين
إفراديين أو إفرادي وتركيبي لكن قد عرفت مما مر في بعض
المباحث السابقة أن القائلين بالوضع في المركبات يقولون بظهورها
في المعنيين حتى إنهم يلتزمون بالتجوز فيها على تقدير عدم
إرادة أحد المعنيين منها أما في مفرداتها أو في المركب حيث يقولون
بتعيين استعمالها بحسب كل من الوضعين إما في الموضوع له أو
في غيره والعجب أنهم لم يتفطنوا الاندراج ذلك في عنوان الباب ولا
لشمول أدلته له ولهذا لم يتعرض أحد منهم لنقله في المقام ثم إنهم
وإن حرروا النزاع في المشترك وفسره كثير منهم عند تقسيم اللفظ إليه
وإلى غيره بما يقابل المنقول والمرتجل لكن الكلام يتسرى
إليهما وإلى ما يكون فيه الوضع عاما والموضوع له خاصا أيضا لجريان
الأدلة التي تمسكوا بها في الجميع من غير فرق ولو حرروا
النزاع في استعمال اللفظ في معنييه الحقيقيين فما زاد تناول الجميع
من غير تكلف إذا عرفت ذلك فنقول الحق أن هذا الاستعمال غير
جائز مطلقا لا في المفرد ولا في غيره لا حقيقة ولا مجازا من غير فرق
بين الأقسام المذكورة لنا على أنه غير جائز في المفرد مطلقا
حقيقة وجوه الأول أن الوضع على ما يساعد عليه التحقيق عبارة عن
نوع تخصيص ينشئه الواضع ومرجعه إلى قصر اللفظ على المعنى و
يدل عليه تعريف بعضهم له بأنه تخصيص شئ بشئ وهو الظاهر
من تعريف آخرين له بأنه تعيين شئ بشئ وحينئذ فإذا وضع لفظ
لمعنيين فقضية كل وضع أن لا يستعمل إلا في المعنى الذي وضع
اللفظ بإزائه فإذا أطلق وأريد به أحدهما صح الاستعمال على ما هو
قضية
أحد الوضعين وإن أطلق وأريد به كلا المعنيين لم يصح لان
قضية كل من الوضعين أن لا يراد منه المعنى الاخر ففي الجمع بينهما
نقض لهما فلا يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له بحسب شئ من
الوضعين لا يقال فعلى هذا البيان يلزم أن يمتنع الاشتراك سيما إذا كان
من واضع واحد وخصوصا إذا وضع في زمن واحد لان قضية
كل وضع نفي الاخر على ما قررت من التنافي لأنا نقول الوضع
تخصيص جعلي منوط بتوظيف الواضع فلا استحالة في توارد متعددة
على اللفظ الواحد في نفسه لدوران تحققه مدار الجعل والتوظيف ولا
من حيث الحكمة لعدم ترتب قبح عليه ولا من حيث الاستعمال لان
مراعاة ما قرره الواضع إنما يلزم المستعمل التابع لوضعه في متابعته له
لا غير سواء قلنا بأن الواضع إنما يضع اللفظ الذي يستعمل على
حسب وضعه أو قلنا بأنه يضع اللفظ مطلقا وأما على الأول فظاهر وأما
على الثاني فلانه وإن أطلق الوضع إلا أنه لا يقع إلا مقيدا بمعنى
أن مقتضاه لا يلزم لغير المتبع له لعدم مساعدة ما يدل على اعتباره
على إطلاقه وظاهر أن الواضع لا يتبع في شئ من أوضاعه وضعا
آخر فلا يلزمه أحكامه هذا على ما يقتضيه النظر الصحيح في المقام و
لقائل أن يقول لا نسلم أن الوضع عبارة عن قصر اللفظ على المعنى
والحد الدال عليه ممنوع أو مؤول بل عبارة عن جعل المعنى لازما
للفظ وتابعا له فأثر الوضع إنما هو تحقق هذا للزوم والتبعية دون
الاختصاص وعلى هذا فلا يكون في استعمال اللفظ في أكثر من معنى
واحد ما ينافي مقتضى الوضع لجواز أن يكون لملزوم واحد لوازم
وتوابع عديدة ولا يخفى بعده الثاني الاستقراء فإنا تتبعنا لغة العرب
من قديمهم وحديثهم وتصفحنا في موارد استعمالاتهم ومجاري
كلماتهم فلم يتحقق عندنا صدور مثل هذا الاستعمال ممن يعتد منهم
بكلامه في نظم ولا نثر بل تصفحنا فلم نقف على ذلك في سائر
اللغات
54

وقفنا عليها أيضا مع ما نرى من شيوع الاشتراك بينهم ومسيس
الحاجة كثيرا إلى التعبير به عما زاد على معنى واحد ولا خفاء في أن
عدم الوجدان في مثل ذلك بعد الاستقراء يدل على عدم الوجود و
هو يوجب ظنا قويا بعدم الجواز إن لم يوجب العلم به وقد تقرر أن
مثل هذا الظن حجة في مباحث الألفاظ الثالث أن الذي ثبت من
الوضع جواز استعمال اللفظ في معنى واحد وأما استعماله فيما زاد
عليه
فلم يتبين لنا بعد الفحص ما يوجب جوازه ومجرد إطلاق الوضع على
تقدير تسليمه مدفوع بعدم مساعدة الطبع عليه فقضية كون
الأوضاع توقيفية الاقتصار على القدر المعلوم الرابع ما ذكره بعض
المعاصرين من أن الوضع إنما صدر مع الانفراد وفي حال الانفراد لا
بشرط الانفراد فيلزم أن تكون الوحدة جز للموضوع له وحينئذ
فاستعماله في الزائد على المعنى الواحد إخلال بالوضع وفيه نظر لان
حال الانفراد إن اعتبرت قيدا في الوضع فهو معنى بشرط الوحدة وقد
أنكره وما زعمه من أن هذا الاشتراط يقضي بجزئية الوحدة
للموضوع له فليس بشئ كيف وقضيته الاشتراط خروجها عنه وإن
لم تعتبر قيدا وشرطا فلا يقتضي منع الاستعمال عند عدمها
ضرورة أن الأسماء تصدق عند تغير الحال في مسمياتها حيث لم يعتبر
بقاؤها في التسمية الخامس أن اللفظ المشترك بين المعنيين أو
المعاني إما أن يكون موضوعا للمجموع أيضا أو لا يكون فإن كان الأول
فإن أريد به المجموع فقط كان مستعملا في بعض معانيه دون
الجميع ولا كلام فيه وإن أريد به كل واحد أيضا لزم التناقض لان إرادة
كل واحد يقتضي الاكتفاء به وإرادة المجموع يقتضي عدم
الاكتفاء به وذلك تناقض وإن كان الثاني كان استعماله فيه استعمالا
في غير ما وضع له فيكون مجازا فلا يكون مستعملا في شئ من
معانيه ولا كلام فيه وإن أريد به كل واحد من معانيه أيضا لزم التناقض
كما مر إذ قضية إرادة أحدهما الاكتفاء به وقضية إرادة الاخر
عدم الاكتفاء به والعجب من العلامة حيث ذكر هذه الحجة إلى قولنا
فيكون مجازا وتمسك بها على جواز الاستعمال مجازا مع أنها لو
تمت لدلت على نفيه مجازا أيضا وفيه نظر لان النزاع على ما عرفت
في استعمال اللفظ في نفس المجموع أي في كل واحد من المعاني لا
المجموع من حيث المجموع وحينئذ فنختار
كلا من التقديرين الأخيرين ولا إشكال إذ لا نسلم أن إرادة كل واحد
يقتضي الاكتفاء به فيما أريد من اللفظ وإنما يقتضيه لو لم يكن
غيره مرادا أيضا وإن أريد الاكتفاء به بحسب إرادته فلزوم التناقض
ممنوع السادس ما استدل به بعضهم ومحصله بعد تنقيحه و
تصحيحه أنه لو جاز ذلك لكان بطريق الحقيقة والتالي باطل فكذا
المقدم بيان الملازمة أن الفرض كون اللفظ موضوعا لكل من المعاني
مستعملا فيه ولا نعني بالحقيقة إلا ذلك وأما بطلان التالي فلان اللفظ
موضوع لكل واحد من المعاني مقيدا بكونه وحده فإذا استعمل في
الجميع كان المراد به كل معنى من المعاني وحده على ما يقتضيه
الوضع ولا وحده على ما يقتضيه الاستعمال وذلك تناقض وأورد
عليه
بعضهم بأن المراد استعماله في معنييه لا بقيد الوحدة فإن منع كونه
حينئذ مستعملا في معنييه لفوات بعض المعنى منه وهو قيد الوحدة
رجع البحث إلى مجرد التسمية وهو قليل الجدوى وهذا الايراد
كأصل الدليل مبني على كون الألفاظ موضوعة لمعانيها مع قيد الوحدة
و
هو عندنا فاسد كما سيأتي التنبيه عليه مضافا إلى ما في الايراد من
الخروج عن محل النزاع على ما عرفت ولنا على عدم جواز
الاستعمال في المفرد مجازا مطلقا مضافا إلى شمول بعض الأدلة
السابقة له أن الفرض استعمال اللفظ في معنييه الحقيقيين أو معانيه
الحقيقية فيكون مستعملا فيما وضع له فلا يكون مجازا ولو أريد
بالمعنى الحقيقي نفس المعنى وإن تجرد عن الوصف فقد عرفت في
تحرير محل النزاع على أن إرادة كل واحد من المعاني منه على تقدير
الجواز منوطة بملاحظة وضعه بإزائه والاستعمال المستند إلى
الوضع لا يكون مجازا على أن القائل كل واحد من المعاني منه على
تقدير الجواز منوطة بملاحظة وضعه بإزائه والاستعمال المستند إلى
الوضع لا يكون مجازا على أن القائل بمجازيته إنما يقول به من جهة
مصيره إلى أن اللفظ موضوع للمعنى مع قيد الوحدة فيتجرد عنها
عند استعماله في أكثر من معنى واحد فيكون من استعمال الموضوع
للكل في الجز ونحن سنبين فساد ذلك ونحقق أن اللفظ موضوع
لنفس المعنى من غير ضميمة الوحدة فيبطل احتمال المجازية
ومع الاغماض عن ذلك فالمجاز يتوقف على علاقة معتبرة وهي غير
متحققة في المقام لما عرفت من بشاعة الاستعمال وقد مر في
بعض الوجوه السابقة ما يدل عليه ولنا على عدم جوازه في التثنية و
الجمع حقيقة أن أداتهما إنما تدل على إرادة فردين أو أفراد من
معنى المفرد فمفادها التعدد في أفراد مدلول المفرد فإذا لم يكن
مدلول المفرد إلا أحد المعنيين أو المعاني كما بينا لم يكن التعدد
المستفاد منها إلا بحسب أحد المعنيين ولنا على عدم جوازه فيهما
مجازا أن ذلك إما بالتصرف في مدلول المادة أعني المفرد وقد
عرفت فساده أو بالتصرف في الأداة باستعمالها مجازا في إفادة التعدد
في لفظ المفرد فيراد بحسب كل معنى أو في إفادته بالنسبة
إلى ما أريد من المادة وما لم يرد منها وكلاهما مما لا يساعد الطبع و
الاستعمال على جوازه فإن معاني الحروف إنما تعتور على
المعنى الذي أريد من مدخولها دون لفظه أو معنى آخر لم يرد من
مدخولها أ لا ترى أن اللام مثلا في قولك العين للإشارة إلى ما أريد
من لفظ العين كالباصرة ولا يصح أن يراد بها الإشارة إلى اللفظ حتى إنه
لو أريد به اللفظ والإشارة إليه من حيث إنه معناه أو معنى
آخر لم يقصد في الاستعمال كالجارية وكذلك التنوين في قولك عين
وعلى هذا القياس بقية اللواحق ولا فرق في ذلك بين أن يعتبر
التعدد المستفاد من التثنية والجمع بالنسبة إلى كل واحد من المعاني
أو بالنسبة إلى الجميع فقط حجة من أجازه مجازا أن اللفظ موضوع
لكل واحد من المعاني بقيد الوحدة فإذا استعمل في الجميع فلا بد
من إلغاء هذا القيد دفعا للتناقض فيكون من استعمال اللفظ الموضوع
للكل في الجز مجازا وهو غير مشروط بشئ كما اشترط في عكسه و
جوابه أن اللفظ غير موضوع للمعنى مع قيد الوحدة قطعا
ضرورة أن دلالة الانسان على نفس مفهومه ودلالة زيد على نفس ذاته
بالمطابقة لا بالتضمن على أن الوحدة إن أريد بها ما يتصف بها
المعنى في نفسه فاعتبارها مفهوما أو مصداقا مع كونه حشوا إذ كل
معنى فله في حد ذاته وحدة غير مجد في ذلك ضرورة
55

جواز إرادة جميع الوحدات وكذا لو جعل اللفظ موضوعا للمعنى مع
مفهوم وحدة الاستعمال أو الإرادة أو مصداقهما وإن اعتبرت معنى
خبريا متعلقا بالمعنى أو بالاستعمال أو بالإرادة وذلك بأن يكون لفظ
الانسان مثلا موضوعا لمفهومه المعروف ولمعنى آخر وهو أنه
معناه وحده أي لا مع غيره أو أن اللفظ مستعمل فيه وحده أو مراد منه
وحده على طريقة الاخبار صح ما ذكروه من لزوم التناقض لكن
يلزم على تقديره أن يكون كل لفظ مفرد مشتملا على معنى مفرد و
جملة خبرية تامة وذلك مما لا يلتزم به ذو مسكة ومع ذلك لا يثبت
به المنع من حيث الوضع وغاية توجيه كلامهم أن يقال المراد أن اللفظ
موضوع للمعنى الواحد أي المنفرد عن غيره في تلك الإرادة أو
ذلك الاستعمال بصفة وحدته سواء اعتبرت معنى اسميا أو حرفيا بأن
أخذت آلة لملاحظة حال المعنى واعتبرت داخلة في مدلول اللفظ
كما في دخول الإشارة في مدلول اسم الإشارة فيستقيم ما ادعاه
المستدل من التنافي ولا يلزم عليه الاشكال المذكور لكنهما ضعيفان
لا
سيما الوجه الأول لشهادة التبادر والاستعمال على خلافه كما مر و
مما ينبه عليه أنا إذا رجعنا وجداننا عند وضع اللفظ للمعنى وجدنا
حصول الوضع منا لنفس المعنى من غير أن تعتبر معه الإرادة فضلا عن
اعتبار الوحدة معها ونقطع بأن هذا هو الشأن في جميع الأوضاع
مع أن ما ذكروه على تقدير تسليمه لا يدل على عموم المنع لأنا لو
وضعنا لفظا لمعنيين على الاشتراك من غير ملاحظة أمر آخر فلا ريب
في جوازه والاعتداد به فيلزمهم الالتزام بجواز استعماله في المعنيين
حقيقة لانتفاء المانع مع أن الوجدان لا يساعد عليه كما في غيره ثم
لا يذهب عليك أنهم لو جعلوا اللفظ موضوعا للمعنى بشرط كونه
مرادا منه أو مستعملا فيه وحده على أن يكون الشرط معتبرا فيه
خارجا
عنه وجعلوا إطلاقه عليه بدون الشرط حيث يراد معه غيره استعارة
بعلاقة المشابهة لكان أقرب إلى السداد وأسلم من الفساد التزموا به
من جزئية الوحدة وإن كان مشاركا معه في الضعف وقد يستدل على
القول المذكور بأن المتبادر من استعمال اللفظ استعماله في
معنى واحد وإن لم يتبادر ذلك من نفس اللفظ فيكون مجازا في
المتعدد وجوابه أن الاستعمال من حيث نفسه
لا وضع له وإنما الوضع للفظ المستعمل فالخروج عما هو المتبادر منه
على تقدير تسليمه لا يوجب التجوز حجة من أجازه حقيقة أن اللفظ
موضوع لكل من المعاني لا بشرط الوحدة ولا عدمها فيجوز أن
يستعمل فيما زاد على المعنى الواحد ويصدق عليه بالنسبة إلى كل
واحد
من المعاني المرادة أنه استعمال اللفظ فيما وضع له فيكون حقيقة في
الجميع وجوابها يظهر من تقرير الحجة على المنع وأجاب عنها في
المعالم بما يرجع حاصله إلى منع الدليل في المفرد لتبادر الوحدة منه
عند الاطلاق فتكون الوحدة جز للمعنى منافية لإرادة غيره و
تسليم المدعى في التثنية والجمع لأنهما في قوة تكرير المفرد
بالعطف فيجوز أخذه بمعان مختلفة ووجوه فساده واضح مما قررنا
من
منع تبادر الوحدة لا سيما على سبيل الجزئية ثم منافاتها لإرادة معنى
آخر من حيث الوضع وعدم كون التثنية والجمع في قوة تكرير
المفرد مطلقا بل مع اتحاد معنى المكرر ونزيد الكلام على تسليمه لما
ادعاه هذا القائل في التثنية والجمع أنه في غير محله فإن القائل
المذكور إن لم يعتبر الاتحاد المعنوي في التثنية والجمع كان تجويزه
للاستعمال المذكور فيهما أعم من تجويز صاحب المعالم على ما
يقتضيه بيانه وإلا كان مباينا له كما يتضح مما نبهنا عليه عند تحرير
محل النزاع احتج القائل بظهوره في الجميع عند عدم القرينة بأنه
حينئذ إما أن يحمل على أحد المعاني لا بعينه فيلزم الاجمال أو يعين
ولا مرجح له فيتعين الحمل على الجميع ولقوله تعالى ولله يسجد
من
في السماوات ومن في الأرض إلى قوله وكثير من الناس فإن السجود
مشترك بين الخضوع ووضع الجبهة على الأرض وقد استعمل
فيهما أما في الأول فبدليل إسناده إلى الشجر والدواب وأما في الثاني
فبدليل إسناده إلى كثير من الناس إذ مطلق الخضوع لا يختص
بالكثير وقوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي فإن الصلاة من
الله الرحمة ومن غيره طلبها وهو مشترك بينهما وقد استعمل
فيهما بدليل الاسناد والجواب أما عن الأول فبأنه إنما يتفرع على
تقدير صحة الاستعمال بل كونه حقيقة وقد عرفت وجه المنع منها و
لو سلم فمخالفة الاستعمال المذكور للأصل من حيث ندرة مورده
على تقدير تحققه لا يقصر عن مخالفة الاجمال له إن لم يزد عليه
فيتعارض الأصلان فيجب
الوقف وأما عن الثاني فبالتزام تقدير فعل في الآيتين بقرينة المذكور
فيقدر في الأول يسجد وفي الثاني يصلي على حد قوله نحن بما
عندنا وأنت بما عندك راض وربما يستشكل بأن مجرد المشاركة في
اللفظ لا يصلح قرينة على الحذف وفيه أن فيه أيضا مناسبة
مدلول ومساعدة مقام أو نحمل السجود والصلاة على المعنى الأعم
فيراد به الخضوع وبها إظهار الشرف ووجه تخصيص الكثير أن
خضوعهم لما كان أتم لمزيتهم فيه على غيرهم من حيث الاظهار على
الجوارح والجوانح ناسب ذكرهم بخصوصهم وإن اندرجوا مع
غيرهم في عموم في الأرض ثم لو سلم اشتراك اللفظين واستعمالهما
في الآيتين في المعنيين فليس فيه ما يوجب كونه على الحقيقة ولو
سلم فهو ظهور بالقرينة فمن أين يثبت الظهور عند عدمها كما هو
المدعى احتج من أجازه في المفرد مجازا وفي التثنية والجمع حقيقة
أما في المفرد فبما مر في حجة القائلين بالمجازية وقد عرفت الجواب
عنها وأما في التثنية والجمع فبأنهما في قوة تكرير المفرد فكما
يجوز أن يراد به عند التكرير معان متعددة كذلك يجوز فيما في قوته و
أيضا لا ريب في جواز سبكهما من الاعلام وظاهر أن الاتفاق
هناك إنما هو في مجرد اللفظ والجواب أنا لا نسلم أنهما في قوة تكرير
المفرد مطلقا حتى في جواز إرادة المعاني المختلفة منهما و
سبكهما من الاعلام مؤول بالمسمى مجازا وذلك لان أداة التثنية و
الجمع كأداة العموم إنما تدل على التعدد في معنى المفرد لا في لفظه
كما يشهد به التبادر فيختص لحوقها بأسماء الأجناس فإن المفهوم من
قولك رجلان فردان من مفهوم رجل لا من لفظه ومن قولك
رجال أفراد من مفهوم رجل لا من لفظه كما في التثنية والجمع من
سائر اللغات وإلا لامتنع جريان حكم المسمى عليهما من غير تكلف
و
مما يدل على التأويل المذكور في الاعلام دخول لام التعريف عليها
حينئذ مع امتناع دخولها على مفردها ووصفها معها بالمعرف وعند
التجريد بالمنكر وأما نحن هذان رفعا
56

وهذين نصبا وجرا فهما موضوعان بوضع مستقل للإشارة في
الحالتين إلى كل فردين مما يشار إليهما وليسا بتثنية هذا لامتناعها
بدون التأويل ومعه يلزم عدم اختصاصه بالفردين المشار إليهما لكلية
المسمى مع أن المتبادر خلافه ومن اكتفي في بناء التثنية و
الجمع باتحاد اللفظ فله أن يلتزم بأن كلا منهما موضوع بأداته بوضع
واحد كما قررنا وأن لفظ المفرد مستعمل في لفظه والأداة
مستعملة لإفادة تعدده على أن يكون المعنى مرادا من كل واحد
فيكون الحكم اللفظي متعلقا بلفظهما باعتبار تعلق الحكم المعنوي
بمعنى
معناهما أو أن المفرد المذكور مستعمل في معناه والأداة مستعملة
لإفادة اعتبار لفظ آخر مثله على أن يكون معناه مرادا أو موردا
للحكم المذكور وذلك لئلا يمتنع جريان حكم المسمى عليهما كما
يشهد به ضرورة الاستعمال حجة من جوزه في التثنية والجمع دون
المفرد أنهما يدلان على التعدد فيجوز إرادة المعاني المختلفة منهما
بخلاف المفرد وجوابه أنهما يدلان على التعدد في المعنى الذي
أفاده المفرد فإذا لم يكن مدلول المفرد إلا أحد المعاني فمن أين يدلان
على التعدد فيما زاد عليه حجة من خص الجواز بالنفي أن النفي
يفيد العموم فيجوز أن يتعدد بخلاف الاثبات وجوابه ظاهر فإن النفي
إنما يقتضي العموم فيما أفاد الاثبات فإذا كان مفاد الاثبات أحد
المعاني لم يكن أثر النفي إلا إفادة العموم فيه وأيضا لو تم التعليل
المذكور لزم أن لا يختص الجواز بالنفي لان الاثبات قد يفيد العموم
أيضا ولا يعم كل نفي إذ قد يكون المشترك معرفة كالعلم فلا يقتضي
وقوعه في سياق النفي للعموم فإذن يكون الدليل أعم من المدعى
من وجه وأخص من وجه ويمكن دفع الثاني بأن مقصود المستدل أن
المشترك في صلوحه لكل معنى من معانيه على البدلية كالنكرة في
صلوحها لكل فرد من أفرادها على البدلية فإذا وقع في سياق النفي
أفاد العموم فيما يصلح له على البدلية كالنكرة المنفية فلا يدور مدار
التنكير ويتجه عليه أن مدلول المشترك أحد المعاني بعينه فنفيه لا
يقتضي إلا نفي أحد المعاني بعينه بخلاف النكرة فإن مدلولها أحد
المعاني لا بعينه فنفيه يقتضي نفي الجميع وسيأتي توضيح ذلك في
محله إن شاء الله وإن كان القول المذكور مبنيا على ما زعمه
السكاكي
فهو مع فساده في نفسه كما أشرنا إليه يوجب بظاهره الخروج عن
محل البحث واعلم أنه كما لا يجوز استعمال مشترك اللفظ في
معنيين فصاعدا كذلك لا يجوز استعمال مشترك الكتابة في لفظين
فصاعدا والمستند عليه ما عرفت وكذا الكلام في أبعاض اللفظ فلا
يجوز في نحو ضربلال في ضرب بلال وليس الادغام في موارده منه
لأنه في معنى حرفين وربما يرتكب مثله في الكتابة مع أمن اللبس
فصل اختلفوا في جواز استعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي
معا
فمنعه قوم مطلقا وجوزه آخرون وهم بين من يجعله مجازا وبين من
يجعله حقيقة ومجازا بالاعتبارين ومحل النزاع أن يطلق اللفظ و
يراد به كل واحد من معنييه كما لو كرر وأريد به ذلك وذلك إنما يكون
بأن يطلق ويراد معناه الحقيقي بملاحظة الوضع والمجازي
بملاحظة العلاقة ومنه يظهر أن القول بكون الاستعمال المذكور مجازا
نظرا إلى استلزامه إلغاء قيد الوحدة وهو جز المعنى الحقيقي
خروج عن محل البحث كما مر مثله في المسألة السابقة نعم هو من
جزئيات المسألة الآتية وأما استعماله في معنى يتناول المعنيين أما
تناول الكل لاجزائه أو تناول الكل لافراده فلا ريب في جوازه مع
الوضع وبدونه مع العلاقة ويسمى النوع الثاني بعموم المجاز ولا
فرق في المقامين بين أن يكون كل منهما مناطا للحكم ومتعلقا
للاثبات والنفي وبين عدمه وتحرير بعضهم النزاع في القسم الأول
غير
مستقيم طردا وعكسا وقد مر التنبيه عليه في المشترك ثم قضية
إطلاق كلماتهم وأدلتهم عدم الفرق بين ما إذا كان المعنى المجازي
مجازيا للمعنى المراد أو لغيره وهذا ظاهر ولا بين ما إذا كان المعنيان
إفراديين أو كان أحدهما إفراديا والاخر تركيبيا فيلزم
القائلين بالوضع في المركبات جواز ذلك بل التزم بعضهم بتعيينه في
المجاز المركب وقد مر الإشارة إليه والحق عندي عدم جواز
ذلك مطلقا لنا أن هذا الاستعمال ليس على الحقيقة قطعا فإما أن يكون
بطريق المجاز وهو غير مستقيم لان لحوقه للاستعمال إن كان
بالقياس إلى كل واحد من الاعتبار فلحوقه أن الاستعمال باعتبار
الوضع مما لا وجه له وإن كان بالقياس إلى المجموع فهو مركب منه و
من اعتبار الحقيقة فلا يكون بأحدهما وإما بطريق الحقيقة والمجاز و
قد عرفت أن استعمال اللفظ في معناه الحقيقي ينافي إرادة غيره
معه للأدلة التي سبق ذكرها فلا يمكن الجمع بينهما وقد يتمسك في
ذلك بما ذكره أهل البيان من أن المجاز ملزوم لقرينة معاند لإرادة
المعنى الحقيقي فيعانده ضرورة أن ملزوم معاند الشئ معاند له
فيمتنع أن يجتمع معه واعترض عليه بعض أهل التدقيق بأنه يمكن أن
يقال المعتبر في المجاز نصب القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي
بدلا عن إرادة المعنى
المجازي وأما لزوم كون القرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي بإرادة
أخرى منضمة إلى إرادة المعنى المجازي فممنوع بل هو عين
المتنازع فيه فلا يلزم الجمع بين المتنافيين ولا يخفى ما فيه لان
المستدل إنما يتمسك على اعتبار القرينة المعاندة في المجاز بما ذكره
علماء البيان ولا ريب أن المفهوم من كلامهم كونها معاندة لإرادة
المعنى الحقيقي مطلقا ولو بإرادة أخرى مستقلة لا بدلا عن تلك
الإرادة فقط فإن ذلك تأويل بعيد في كلامهم فلا يصغى إليه مع أن
وجود القرينة المعاندة بالمعنى المذكور لا يصلح فرقا بين المجاز و
الكناية على ما هو المعروف بين علماء البيان في الكناية من أنها
مستعملة في الملزوم مع اللازم أو مع جواز إرادته معه فإن قرينة الكناية
حينئذ مانعة من إرادة الملزوم بدلا عن إرادة اللازم وإنما يصح أن
يجعل ذلك فرقا بناء على ما يذهب إليه البعض من أنها الكلمة
المستعملة في اللازم مع إرادة جواز الملزوم بدله وكأنه مبني عليه نعم
يرد على المستدل أمران الأول أن المراد بالمجاز المبحوث عنه
هنا ما هو المعروف في مصطلح الأصوليين من اللفظ المستعمل في
غير ما وضع له لعلاقة بقرينة دالة عليه أو استعماله كذلك كما يدل
عليه حصرهم له في التقسيم بينه وبين الحقيقة وعدم تعرضهم لذكر
الكناية لا المجاز المصطلح عليه بين علماء البيان حيث اعتبروا فيه
كون القرينة مانعة عن إرادة الحقيقة وجعلوه قسيما
57

فالاستدلال المذكور ناشئ عن الخلط بين الاصطلاحين الثاني أن قول
علماء البيان بأن المجاز ملزوم لقرينة معانده لإرادة المعنى
الحقيقي يحتمل وجهين الأول كونها مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي
مطلقا ولو مجازا الثاني كونها مانعة عن إرادته على سبيل الحقيقة
والأول باطل قطعا لانتقاضه باللفظ الموضوع للجز إذا استعمل في
الكل مجازا كالرقبة في الانسان فإن معناه الحقيقي مراد في ضمن
الكل مجازا قطعا وإلا لم يكن مستعملا في الكل بل في جز آخر و
ظاهر أن القرينة لا تعاند لإرادته كذلك بل يستلزمها وعلى الثاني لا
ينهض الاستدلال المذكور حجة على من أجاز الاستعمال مجازا لا
يقال يمكن أن نختار الاحتمال الأول ويدفع الاشكال بأن المراد
معاندتها لإرادته مطلقا بإرادة مستقلة وإرادة الجز في الكل ضمنية فلا
يتم النقض بها لأنا نقول هذا الاحتمال في كلامهم ليس بأولى من
الاحتمال الثاني فعلى المستمسك به إثباته إذ الاستدلال لا يتم بمجرد
الاحتمال اللهم إلا أن يجعل مقابلتها بالكناية قرينة عليه احتج
المجوزون بأنه لا منافاة بين إرادة المعنيين فيجوز اجتماعهما ثم
تمسك من جعله مجازا بأن المعنى المجازي لم يكن داخلا في
الموضوع
له فإذا اعتبر دخوله كان مجازا لان اللفظ لم يوضع لهما وبأن اللفظ
موضوع للمعنى مع قيد الوحدة فإذا أريد معه غيره وجب إلغاؤها
فيكون الاستعمال باعتباره مجاز أيضا وتمسك من جعله حقيقة و
مجازا بأنه مستعمل في المعنى الحقيقي والمجازي فلكل من
الاعتبارين حكمه وجواب الكل يظهر مما قررناه في حجة المنع و
اعلم أن من اكتفي في بناء التثنية والجمع بمجرد اتحاد اللفظ كصاحب
المعالم يلزمه القول بجواز استعمالهما في المعنى الحقيقي والمجازي
حقيقة ومجازيا بالاعتبارين فإطلاقه المنع منه بالاعتبار المذكور
ليس في محله
فصل لا يجوز استعمال اللفظ في معنييه المجازيين
فما زاد مطلقا بأن يكون كل منهما مرادا على الاستقلال كما مر إذ لم
يعهد مثله عن اللغة ولم يساعد عليه الاستعمال ولك أن تستنبط
مذاهب القوم فيه مما ذكروه في المبحثين المتقدمين وأما إذا استعمل
في معنى مجازي شامل لمعنيين أو معان مجازية فلا إشكال في
الجواز ولا يذهب عليك أن من قال بأن مفردات المجاز المركب
مستعملة في معانيها المجازية يلزمه القول باستعمال اللفظ في معنييه
المجازيين والكلام فيه على حد وما سبق ولا يجوز استعمال اللفظ
في اللفظ باعتبار فردين منه على أن يكون كل منهما مرادا على
الاستقلال لعدم مساعدة الطبع والاستعمال عليه وأما إذا استعمل في
المعنى الكلي وأريد فردان منه أو ما زاد بقرينة معينة فلا إشكال
في جوازه وكذا الكلام في استعماله فيه وفي معناه الحقيقي أو
المجازي معا وكذا استعماله في المتعدد من بعض هذه الأقسام و
المتحد
من الاخر أو المتعدد منه
تنبيه
قد ورد في كثير من الاخبار أن للقرآن سبعة بطون أو سبعين بطنا وورد
في بعضها تفسير بعض البطون فربما يظن أن ذلك من باب
استعمال اللفظ في معانيه الحقيقية أو المجازية أو الحقيقية والمجازية
فيتمسك به على الجواز وأيضا لا إشكال على الظاهر في جواز
قصد الدعاء بالقراءة فربما أمكن أن يتوهم أن ذلك من استعمال اللفظ
في معنيين اللفظ حيث يقصد به اللفظ المحكي وإلا لم يكن قرآنا
والمعنى على ما هو المفروض من قصد الدعاء بها وكلاهما ممنوع أما
الأول فلجواز أن يكون بطون القرآن بطونا لظاهره وإن لم
يساعد أفهامنا على التوفيق بينهما فتكون حينئذ مرادة بإرادته أو يكون
مستعملا في معناه الظاهر ويكون دلالته على بقية المعاني من
باب التنبيه والايماء كما في الكناية مع احتمال أن يكون القرآن عبارة
عن الألفاظ المؤلفة دون استعمالها فيجوز حينئذ أن يراد
بتأليفها ما يصلح له مما فوق المعنى الواحد وهو خارج عن محل
البحث مع إمكان أن يكون الاستعمال متعددا على حسب تعدد
البطون و
ليس في تلك الأخبار دلالة على أن الكل مراد باستعمال واحد وفيه
بعد وأما الثاني فلان الحكاية فيه ليست من باب استعمال اللفظ في
اللفظ وإلا لكان مفردا ولم يصح السكوت عليها من غير ضميمة يتم
المعنى بها بل بمعنى استعمال اللفظ على أنه نفس اللفظ المطلق
بإطلاق آخر أو مشابهة على اختلاف الاعتبارين ماهية وشخصا
فيكون الاستعمال على وجه التبعية المحضة وهذا ليس من استعمال
اللفظ في اللفظ ولو سلم لها حكاية بالمعنى الأول لأمكن التفصي عنه
بأن المعنى يقصد من اللفظ الذي هو المعنى كما في أسماء الافعال
عند من يجعلها موضوعة لألفاظ الافعال فلا إشكال أيضا وقد يتوهم
أن مبنى الاستخدام على استعمال اللفظ في معنيين أحدهما المعنى
الذي يرجع الضمير إلى اللفظ باعتباره والاخر ما أسند إليه الحكم
المتقدم أو علق عليه مما يغاير المعنى الأول وهو ضعيف بل التحقيق
أن اللفظ لم يستعمل هناك إلا في معنى واحد وأن عود الضمير إليه
باعتبار معنى آخر لا يقتضي استعماله
فيه بل يكفي مجرد دلالته عليه ولو بالالتزام ومن هنا كان الاستخدام
على خلاف الأصل لان الظاهر من الضمير عوده إلى المعنى المراد
من اللفظ دون غيره وقد يظن أن التورية من هذا الباب وليس بشئ إذ
المقصود بها ليس إلا المعنى المخالف للظاهر وأما المعنى
الظاهر فهو غير مراد منها وإنما يتوهمه السامع تعويلا على الظاهر إذ لو
أراده المتكلم أيضا لوقع في الكذب ولم ينفعه إرادة خلاف
الظاهر معه
فصل المشتق
هو اللفظ المأخوذ من لفظ ويسمى الأول فرعا والثاني أصلا ولا بد
بينهما من مناسبة ليتحقق الاخذ والاشتقاق وأقسامه ثلاثة لان
الفرع إما أن يشتمل على أصول حروف الأصل وترتيبه أو لا والأول
هو المشتق بالاشتقاق الصغير ويقال له الأصغر أيضا والثاني إما
أن يشتمل على حروف الأصل أو لا والأول هو المشتق بالاشتقاق
الكبير كذاك وكنى وجبذ وجذب ويقال له الصغير أيضا والثاني هو
المشتق بالاشتقاق الأكبر كثلم وثلب وحيث يطلق المشتق هنا فالمراد
منه القسم الأول وحده لفظ وافق أصلا بأصول حروفه ولو حكما
مع مناسبة المعنى وموافقة الترتيب فالمراد بالأصل اللفظ المأخوذ
منه لفظ آخر أو الموضوع بالوضع الابتدائي من حيث اللفظ فدخل
الحلب والحلب بالسكون والتحريك بناء على أن الأول أصل للثاني و
هو مشتق منه كالقتل والمقتل ومنهم من أنكر الاشتقاق في ذلك و
58

واحترز عنه في الحد بإضافة الأصل إلى ضمير اللفظ وقد أشكل على
هذا الحد بلزوم الدور حيث إن معرفة الأصل متوقفة على معرفة
الاشتقاق وهو المقصود بمعرفة المشتق إذ الكلام في معرفة من حيث
الاشتقاق فتكلف بعضهم في دفعه بأن المراد بالأصل إنما هو
الأصل الجزئي فكأنه قيل ما وافق جزئيا من جزئيات الأصل معرفته
إنما تتوقف على معرفة الاشتقاق الجزئي وهو غير مقصود
بالتعريف وإنما المقصود تعريف ماهية الاشتقاق وفساده ظاهر لان
جزئي الأصل إنما اعتبر في الحد باعتبار كونه جزئي الأصل
حيث عنون به فيتوقف على معرفة ماهيته فيلزم الدور وأيضا إذا
توقف معرفة الأصل الجزئي على معرفة الاشتقاق الجزئي فمعرفة
الاشتقاق الجزئي تتوقف على معرفة اشتقاق الكلي ضرورة أن معرفة
الأصل الجزئي إنما يتوقف على معرفة الاشتقاق الجزئي من حيث
كونه اشتقاقا جزئيا فإذا توقف معرفة الاشتقاق الكلي على معرفة
الأصل الجزئي لزم الدور وأيضا الغرض من تعريف ماهية الاشتقاق
إنما هو التوصل بمعرفتها إلى معرفة جزئياتها فإذا توقف معرفة
جزئيات الأصل المأخوذ في تعريفها على معرفة جزئيات الاشتقاق
لزم
الدور ويمكن أن يجاب بأن هذا الحد تعريف لفظي لمن عرف معنى
الأصل والفرع وجهل مدلول لفظ المشتق والاشتقاق والتحقيق أن
يجاب بأن المراد بالمشتق المبحوث عنه هنا هو المشتق بالاشتقاق
الصغير كما نبهنا عليه وما يتوقف عليه معرفة الأصل والفرع هو
معرفة الاشتقاق بالمعنى الأعم فلا يلزم الدور وقولنا بأصول حروفه
احتراز عن المشتق بالاشتقاق الأكبر كثلم وثلب وعن دخول مثل
الاستعجال والاستخراج حيث يتوافقان في الحروف الزوائد وعن
خروج مثل الخروج والاستخراج حيث لا يتوافقان في الحروف
الزوائد وقولنا أو حكما لدخول نحو قول وقال فإن الألف المقلوبة عن
الواو في الاعلال مثلا واو حكما وكذلك عد من الوعد فإن الفاء
المحذوفة بحكم المذكور وقولنا مع مناسبة المعنى احتراز عن مثل
أضرب بمعنى أعرض بالنسبة إلى الضرب بمعناه المعروف وهو
يتناول ما إذا اتحد المعنى فيهما كالقتل والمقتل وقد يخرج ذلك عن
حد المشتق ويعتبر مخالفة ما بينهما في المعنى نظرا إلى عدم
فائدة في الاشتقاق بدونها واختلف سواء كان بالزيادة كضرب من
الضرب أو بالنقص كضرب من ضرب على ما
يراه الكوفيون وقولنا مع موافقة الترتيب احتراز عن المشتق بالاشتقاق
الكبير فإنه وإن اشتمل على الحروف الأصلية لكنه لا يشتمل
على ترتيبه والمراد به ما يتناول الترتيب الحقيقي كما مر والحكمي
كقه من الوقاية وقد يدخل في المشتق المعدول وهو ما خرج عن
صيغته الأصلية والفرق بينه وبين غيره من أنواع المشتق أن صيغته
مأخوذة من صيغة أخرى على أن الأصل بقاؤه عليها بخلاف بقية
المشتقات فإنها غير مأخوذة من مباديها على أن يكون الأصل بقاءها
عليها واعلم أنه لا بد في الاشتقاق من تغيير في اللفظ تحقيقا لمعنى
الأصلية والفرعية وذلك إما بزيادة حرف أو حركة أو نقصان أحدهما
أو بالمركب منهما ثنائيا أو ثلاثيا أو رباعيا فيرتقي الأقسام إلى
خمسة عشر قسما وينبغي أن يراد بالتغيير ما يعم التغيير الحقيقي و
الحكمي ليدخل فيه نحو فلك مفردا وجمعا ثم البحث عن المشتق
هنا ليس من حيث الاشتقاق وكيفيته فإنه موكول إلى فن الصرف ولا
من حيث مفاد مبدئه فإنه محال إلى كتب اللغة بل البحث هنا في
صدقه ومفاده من حيث الاشتقاق والكلام فيه في موارد يرد عليك
تفضيلها ثم اعلم أنهم أرادوا بالمشتق الذي تشاجروا على دلالته في
المقام اسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة وما يلحق بها على
ما سنحققه ولا بأس بالتنبيه على مدلول بواقي المشتقات فمنها
الفعل الماضي المتصرف وهو حقيقة في قيام المبدأ بفاعله في الزمان
الماضي إما بالنسبة إلى حال النطق وذلك إذا وقع مطلقا كضرب
أو بالنسبة إلى غيرها إن اعتبر المضي بالنسبة إليه كما في قولك
سيجئ زيد وقد أكرم أباك وقس على ذلك الحال في الحال و
الاستقبال وخرج بتقييده بالمتصرف نحو عسى ونعم وبئس إذ لا
دلالة لها على زمان أصلا وإن كانت تدل عليها في أصل الوضع على
ما زعمه النحاة حيث حافظوا بالتزامه على عكس حد الفعل وطرد
حد الاسم ومنها الفعل المستقبل وهو حقيقة في قيام المبدأ بفاعله
في
الحال أعني أوائل زمان الاستقبال أو الاستقبال وهي ما بعدها كما
عرفت على الاشتراك اللفظي أو المعنوي والثاني أظهر على ما
يساعد عليه الاعتبار نحو أكرمك الان أو غدا وكان زيد يكرم أباك و
قيل حقيقة في الاستقبال مجاز في الحال وفسر الحال بأواخر
زمان الماضي وأوائل زمان الاستقبال وقد يقترن
بلم ولما فيختص بالماضي كما أن الماضي قد يقترن بأدوات الشرط
فيختص بالاستقبال غالبا وظاهر كلامهم أن استعمالهما مجاز
حينئذ وكان الذوق لا يساعد على ذلك وأما استعمال كل منهما
بمعنى الاخر في غير ذلك فمجاز قطعا لنصهم عليه مع شهادة
الاستعمال
به ومنها فعل الأمر والنهي وسيأتي تحقيق الكلام فيهما ومنها اسم
المفعول وهو حقيقة في الذات التي وقع عليها المبدأ في الحال كما
أنه مجاز في الذات التي يقع عليها المبدأ في الاستقبال ثم قد يطلق و
يتبادر منه ما يعم الحال والماضي كقولك هذا مقتول زيد أو
مصنوعه أو مكتوبه وقد يختص بالحال نحو هذا مملوك زيد أو
مسكونه أو مقدوره ومنه دابة مسرجة وديار مزخرفة وأوراق
منشورة ولم نقف فيه على ضابطة كلية فالمرجع فيه إلى العرف و
يعرف بعض الكلام هنا بالمقايسة إلى ما سيأتي في اسم الفاعل ومنها
اسم الزمان وهو حقيقة في الزمن الذي وجد فيه المبدأ ومجاز في
غيره ومنه إطلاقه على يوم يشابهه من أيام السنة كقولهم مقتل
الحسين عليه السلام ليوم عاشوراء ولا يعتبر الاستيعاب بل يكفي
وجود المبدأ فيه ولو في بعض أجزائه ومنها اسم المكان وهو حقيقة
في المكان الذي حصل فيه المبدأ والمرجع فيه إلى العرف والكلام
فيه كالكلام في سابقه ومنها اسم الآلة وهو حقيقة فيما أعد للآلية أو
اختص بها سواء حصل به المبدأ أو لم يحصل ومنها صيغة المبالغة و
هي حقيقة في الذات التي كثر اتصافها بالمبدأ عرفا وذلك يختلف
باختلاف المبادي ولا يعتبر الاتصاف حال النطق ويظهر من بعضهم
دخول ذلك في محل النزاع الآتي وهو بعيد
فصل إطلاق المشتق على الذات المتصفة بمبدئه في الحال حقيقة
اتفاقا كما أن إطلاقه على ما يتصف به في الاستقبال مجاز اتفاقا وفي
إطلاقه على ما اتصف به في الماضي أقوال ثالثها حقيقة إن كان
مما لا يمكن بقاؤه وإلا فمجاز ورابعها حقيقة إن كان الاتصاف أكثريا
بحيث لا يعتد بما يطرأ عليها من عدم الاتصاف مع عدم الاعراض
59

وإلا فمجاز ولا بد أولا من تحرير محل النزاع وذلك يتم برسم أمور
الأول لا خفاء في أن المشتق المبحوث عنه هنا لا يعم الافعال و
المصادر المزيدة فإن عدم مساعدة النزاع المحرر على ذلك واضح
جلي وحينئذ فهل المراد به ما يعم بقية المشتقات من اسمي الفاعل و
المفعول والصفة المشبهة وما بمعناها وأسماء الزمان والمكان والآلة
وصيغ المبالغة كما يدل عليه إطلاق عناوين كثير منهم
كالحاجبي وغيره أو يختص باسم الفاعل وما بمعناه كما يدل عليه
تمثيلهم به واحتجاج بعضهم بإطلاق اسم الفاعل عليه دون إطلاق
بقية الأسماء على البواقي مع إمكان التمسك به أيضا وجهان أظهرهما
الثاني لعدم ملائمة جميع ما أوردوه في المقام على الأول والعلامة
التفتازاني خص موضع النزاع باسم الفاعل الذي يكون بمعنى
الحدوث دون مثل المؤمن والكافر والأبيض والحر والعبد مما يعتبر
في بعضه الاتصاف به مع عدم طريان المنافي وفي بعضه الاتصاف به
بالفعل وهو ممنوع لعدم مساعدة إطلاق عناوينهم وأمثلتهم عليه
وبعضهم خصه بما إذا لم يتصف المحل بالضد الوجودي ونقل
الاتفاق في المتصف به على المجازية مطلقا واحتج عليه بأن الاجماع
منعقد على عدم تسمية المؤمن كافرا بالنظر إلى كفره السابق والوجه
فيه أن الكفر قد زال واتصف محله بوصف وجودي مضاد له وفيه
أن الاجماع لو كان منعقدا على ذلك لما تعسف القائلون بأنه حقيقة
في الماضي مطلقا بأن المنع هناك شرعي لا وضعي وإن أريد إجماع
أهل اللسان على ذلك فلا دلالة فيه على عدم وقوع الخلاف فيه و
أضعف من ذلك تخصيص بعضهم للعنوان المذكور بما إذا كان
المشتق
محكوما به ونقل الاتفاق على كونه حقيقة مطلقا إذا كان محكوما عليه
محتجا عليه باتفاق المسلمين على أن قوله تعالى الزاني والزانية
فاجلدوا كل واحد منهما السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما واقتلوا
المشركين ونحو ذلك يتناول من لم يتصف بهذه المبادي حال
النزول وفيه أن الكلام في وضع المشتق من حيث نفسه لا فيما يقتضيه
بحسب التراكيب وظاهر أن وضع المشتق لا يختلف بحسب كونه
محكوما عليه أو محكوما به أو غير ذلك وأما تلك الدلالة فإنما نشأت
من حيث كون المشتق كليا متناولا لجميع أفراد طبيعة لا من حيث
كونه محكوما عليه إذ لو كان محكوما عليه باعتبار فرد معهود وأفراد
معهوده
نحو المشرك أو المشركون كذا اقتضى التلبس حال النطق ولو كان كليا
ولم يكن محكوما عليه اقتضى أيضا ثبوته مطلقا كما في قولك
اجلد الزاني واقطع السارق ومنه واقتلوا المشركين فاتضح أنه لو اعتبر
العموم والكلية بدل ما اعتبره من كونه محكوما عليه لكان
أقرب مما ذكره مع أن انتفاء النزاع في المحكوم عليه لا يقتضي بظاهره
تخصيصه بالمحكوم به كما لا يخفى الثاني الأزمنة المعتبرة في
إطلاق المشتق إما أن تؤخذ بالقياس إلى النطق كما صرح به بعضهم و
ربما يساعد عليه ظاهر اللفظ فيكون المراد بالحال حال النطق و
بالماضي ما تقدم عليه وبالاستقبال ما تأخر عنه فيدخل في الأول نحو
أكرمت أو سأكرم قائما إذا كان الاتصاف حال النطق دون حال
الاكرام ويخرج نحو كان أو سيكون زيد عالما إذا لم يكن الاتصاف
حال النطق فيخرج الأولان عن القسمين الأخيرين ويدخل الأخيران
فيهما أو تؤخذ بالقياس إلى التلبس والاتصاف كما صرح به بعض
المحققين وهو الموافق للتحقيق فيكون المراد بإطلاقه على الحال
إطلاقه على المتصف بالمبدأ باعتبار حال التلبس وعلى الماضي
إطلاقه على المتصف به باعتبار ما بعد الاتصاف وعلى المستقبل
إطلاقه عليه باعتبار ما قبله فيدخل في الأول نحو كان أو سيكون زيد
عالما إذا أطلق عليه باعتبار زمان الاتصاف وأكرمت أو سأكرم
قائما إذا كان الاتصاف حال الاكرام ويخرج منه ما لو أطلق ذلك
باعتبار ما قبل زمن الاتصاف أو الاكرام أو ما بعده سواء صادف حال
النطق أو لا فيدخلان في القسمين الأخيرين ومن هنا يظهر أن كلا من
الأزمنة الثلاثة المقيسة إلى النطق صالحة لكل من الأزمنة الثلاثة
المقيسة إلى حال التلبس والأولى أن يؤخذ الأزمنة الثلاثة باعتبار
الزمن الذي أطلق المشتق على الذات باعتباره ليستقيم مقابلته بحال
النطق فالماضي ما تقدم عليه حال التلبس والحال ما قارنته و
المستقبل ما تأخرت عنه والفرق بين هذا الوجه والوجه الأخير
اعتباري
الثالث أن مفهوم الزمان خارج عن مدلول المشتق وضعا وقيد لحدثه
باعتبار الصدق والاطلاق فالفاعل مثلا إنما وضع ليطلق على
الذات المتصفة بمبدئه الخاص أعني المبدأ المأخوذ باعتبار زمن
الاتصاف أو الأعم منه ومن ما بعده وبهذا فارق الفعل من حيث إن
الزمان جز من
معناه فإن أطلق باعتبار زمن آخر أو اعتبر الزمان في مدلوله كان مجازا
من غير فرق في الثاني بين زمن الحال وغيره فما ذكره
النحاة من أن اسم الفاعل يعمل عمل فعله إن كان بمعنى الحال و
الاستقبال ولا يعمل إن كان بمعنى الماضي لا يبتني على أخذ الزمان
جزا من معناه على ما سبق إلى بعض الأوهام إذا عرفت هذا فالحق أن
المشتق إن كان مأخوذا من المبادي المتعدية إلى الغير كان حقيقة
في الحال والماضي أعني في القدر المشترك بينهما وإلا كان حقيقة
في الحال فقط لنا على ذلك الاستقراء فإن الضارب والقاتل و
الساكب والكاسر والهازم والقاطع وكذا ما أخذ من باب الافعال و
التفعيل والاستفعال كمكرم ومتصرف ومستخرج ونحوها إذا
أطلقت تبادر منها ما اتصف بالمبدأ حال الاتصاف وما بعدها وإن نحو
عالم وجاهل وحسن وقبيح وطاهر ونجس وطيب وخبيث و
حائض وطامث وحامل وحائل وحي وميت وقائم وقاعد وراكع و
ساجد ويقظان ونائم ومعتل ومنكسر وصحيح ومريض و
محب ومعاد ومبغض وصاحب ومالك إلى غير ذلك يتبادر منها
المتصف بالمبدأ حال الاتصاف فقط وقد سبق أن التبادر من آيات
الحقيقة وهذا الاختلاف هل هو ناشئ من تعدد الوضع أو من تركب
الهيئة مع المواد المتعدية والغير المتعدية وجهان واعلم أنه قد يطلق
المشتق ويراد به المتصف بشأنية المبدأ وقوته كما يقال هذا الدواء
نافع لكذا ومضر وشجرة كذا مثمرة والنار محرقة إلى غير ذلك
وقد يطلق ويراد به المتصف بملكة المبدأ أو باتخاذه حرفة وصناعة
كالكاتب والصانع والتاجر والشاعر ونحو ذلك ويعتبر في
المقامين حصول الشأنية والملكة أو الاتخاذ حرفة في الزمان الذي
أطلق المشتق على الذات باعتباره وفي الثاني خاصة سبق مزاوله مع
عدم الاعراض ثم اعلم أن الزمان الذي يطلق المشتق على الذات
باعتباره قد يكون حال
60

وذلك فيما إذا حمل على الجزئيات نحو زيد قائم والفاضل المعهود
كريم وكذا النداء نحو يا قائم ويا قاتل وقد يكون حال وجود
الموضوع وذلك فيما إذا حمل على الطبائع والكليات نحو الانسان أو
كل إنسان مدرك وقد يكون حال وقوع حدث وذلك إذا تعلق
فعل أو شبهه به كما في أعطيت أو سأعطي فقيرا أو ضاربا درهما
فيعتبر في المبادي الغير المتعدية حصولها في تلك الأزمنة وفي
المتعدية حصولها فيها أو فيما قبلها حجة القول بأنه حقيقة في الماضي
مطلقا أنه مستعمل فيه والأصل في الاستعمال الحقيقة ولا يعارض
بوقوعه مستعملا في المستقبل أيضا لأنه خارج بالاجماع وبأن النحاة
أطبقوا على أنه اسم فاعل وظاهر التسمية يقتضي أن يكون
الموصوف فاعلا حقيقة وبأن معنى المشتق من حصل له المبدأ و
خرج من قوة الاتصاف إلى الفعل وهو يتناول الماضي أيضا وبأن كلا
من المؤمن والعالم يصدق على النائم والغافل حقيقة وليس إلا
باعتبار قيام المبدأ بهما في الزمن الماضي إذ لو كان مجازا لصدق
السلب
ومن الظاهر خلافه والجواب أما عن الأول فبأن الاستعمال أعم من
الحقيقة إن أريد به إثبات الاشتراك اللفظي وإن أريد به إثبات
الاشتراك المعنوي فإنما يتم على تحقيقنا المتقدم في المشتقات
المأخوذة من المبادي المتعدية حيث لم يثبت استعمالها في خصوص
الحال والماضي وإنما ثبت مجرد إطلاقها عليهما وأما فيما عدا ذلك
فاستعمالها في خصوص الحال ثابت وحينئذ فلا يتم التمسك
بالأصل المذكور على ما مر تحقيقه مع أنا قد بينا ما يوجب الخروج
عن الأصل في المشتقات الغير المتعدية على تقدير تسليمه وأما عن
الثاني فبأن المدار في التسمية عندهم على مجرد الصيغة بأي معنى
استعملت كما في الماضي والمضارع وأما عن الثالث فبأن المراد من
له المبدأ أو ذو المبدأ والتعبير تسامح وأما عن الرابع فبأن الايمان
عبارة عن صورة علمية وهي قائمة بالنفس حال النوم والغفلة أيضا
غاية الامر أنه ذاهل في هاتين الحالتين عن حصولها ومثله الكلام في
العالم حجة القول بأنه مجاز في الماضي أنه يصدق السلب المطلق
أعني السلب في الجملة لصدق الأخص منه وهو السلب في الحال فلا
يكون حقيقة فيه لا يقال ثبوته في الحال أخص
من ثبوته مطلقا ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم لأنا نقول ليس
الحال قيدا للمنفي بل للنفي فليس المقصود أن نفي المقيد يستلزم
نفي
المطلق بل المراد أن النفي المقيد يستلزم النفي المطلق وهذا واضح
فإن قيل إنما يلزم من ذلك النفي في الجملة وهو لا ينافي الثبوت في
الجملة قلنا كيف لا ينافي وصريح العرف واللغة يحكم بالتكاذب
بينهما فإذا ثبت أنه ليس حقيقة فيه كان مجازا لوجود العلاقة
المصححة
وأجيب بأنه إن أريد الصدق بحسب اللغة فممنوع أو بحسب العقل
فلا منافاة والتحقيق في الجواب أن يقال إن أريد أن صدق قولنا ليس
بضارب الان يستلزم صدق قولنا ليس بضارب فممنوع لان ذلك سلب
المطلق لا مجرد سلب مطلق لان المنفي حيث كان موضوعا للقدر
المشترك بين الماضي والحال فنفيه لا يصدق عقلا ولغة إلا حيث
ينفي بكلا فرديه فيناقض إيجاب المقيد قطعا وإن أريد أنه متى صدق
قولنا الضرب منفي في الحال صدق قولنا الضرب منفي في الجملة و
أنه ينافي قولنا الضرب ثابت في الجملة أو أنه ضارب فممنوع إذ لا
منافاة بين ذلك لا لغة ولا عقلا حجة القول بأنه حقيقة في الماضي إذا
لم يمكن البقاء أنه لو لم يكن كذلك لما كان للمتكلم والمخبر و
الماشئ والمتحرك ونحوها حقيقة والتالي باطل بالضرورة فكذا
المقدم بيان الملازمة أن مباديها مركبة من أجزاء يمتنع اجتماعها في
الوجود وأجيب بأن مبنى العرف واللغة على التسامح في مثل ذلك
فإن المتكلم ما دام متشاغلا بالكلام يصدق عليه عندهم أن مبدأ
التكلم
باق فيه غير منقض عنه وكذا الكلام في بواقي الصفات والحق أن هذا
القائل إن أراد أن المشتقات المأخوذة من المصادر السيالة حقيقة
في الماضي ما دام الموصوف متشاغلا ببعض الأجزاء صح كلامه و
رجع نزاعه إلى اللفظ حيث اعتبر البقاء بحسب العقل فنفاه واعتبره
غيره بحسب العرف فأثبته وإن أراد أنه حينئذ حقيقة في الماضي
سواء بقي التشاغل بتلك الأجزاء أو لم يبق كان النزاع معنويا لكن لا
ينهض دليله حينئذ على دعواه حجة القول بأنه حقيقة في الماضي إذا
كان الاتصاف أكثريا أنهم يطلقون المشتقات على المعنى المذكور
من غير نصب قرينة كما في لفظ الكاتب والخياط والقاري والمتعلم و
المعلم وغيرها والجواب أن تلك المشتقات إن اعتبرت من حيث
صيرورة مباديها ملكات لمحالها فصدقها
بدون القرينة عليها حال عدم التشاغل بالمبادي لا يثبت المدعى وإن
اعتبرت بحسب نفس مباديها فلا نسلم أنها تطلق على من قام به
المبدأ في الماضي من غير قرينة مع أن ما ذكر من أغلبية الاتصاف مما
لا أثر له في الأمثلة المذكورة
تنبيهات
الأول
مفهوم المشتق عند بعض المحققين معنى بسيط منتزع من الذات
باعتبار قيام المبدأ بها ومتحد معها في الوجود الخارجي فما اشتهر في
العبائر والألسنة من أن معنى المشتق ذات أو شئ له المبدأ فإما
مسامحة منهم في التعبير وتفسير للشئ بلوازمه أو وارد على خلاف
التحقيق لان المراد بالذات والشئ إن كان مفهومهما لزم دخول
العرض العام في مفهوم الفصل فيكون الفصل عرضيا للنوع لان مفهوم
الذات والشئ عرضي لافراده والمركب من الذاتي والعرضي لا
يكون ذاتيا بالضرورة وإن أريد ما صدق عليه الذات أو الشئ فمع أنه
لا يناسب وقوعه محمولا يلزم أن ينقلب مادة الامكان الخاص
ضرورية لان ذاتا أو شيئا له الكتابة أو الضحك هو الانسان لا غير
فيصدق
كل إنسان كاتب أو ضاحك بالضرورة لان ثبوت الشئ لنفسه ضروري
ويمكن أن يختار الوجه الأول ويدفع الاشكال بأن كون
الناطق مثلا فصلا مبني على عرف المنطقيين حيث اعتبروه مجردا عن
مفهوم الذات وذلك لا يوجب أن يكون وضعه لغة كذلك ويمكن
أن يختار الوجه الثاني أيضا ويجاب بأن المحمول ليس مصداق
الشئ والذات مطلقا بل مقيدا بالوصف وليس ثبوته حينئذ
للموضوع
بالضرورة لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريا وفيه نظر لان الذات
المأخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا إن كانت مقيدة به واقعا
صدق الايجاب بالضرورة وإلا صدق السلب بالضرورة ولكن يصدق
زيد الكاتب بالفعل أو بالقوة بالضرورة ولا يذهب عليك أنه
يمكن التمسك بالبيان المذكور على إبطال الوجه الأول أيضا لان
لحوق مفهوم الذات أو الشئ لمصاديقهما أيضا ضروري
61

ولا وجه لتخصيصه بالوجه الثاني ثم لا يخفى أنه لا يلزم من نفي
جزئية الذات أو الشئ مفهوما أو مصداقا لمدلول المشتق بساطة
مدلوله
فالدليل المذكور على تقدير تسليمه أخص من المدعى
الثاني
زعم جماعة من أهل المعقول أن الفرق بين المشتق ومبدئه هو الفرق
بين الشئ لا بشرط وبينه بشرط لا فحدث الضرب إن اعتبر
بشرط لا كان مدلولا للفظ الضرب وامتنع حمله على الذات الموصوفة
به وإن اعتبر لا بشرط كان مدلولا للفظ الضارب وصح حمله
عليها وعلى هذا القياس فجعلوا الفرق بين العرض والعرضي كالفرق
بين الهيولى والجنس وبين الصورة والفصل وهذا عندي غير
مستقيم وتحقيق المقام أن حمل الشئ على شئ يستدعي أن يكون
بينهما مغايرة باعتبار الذهن في لحاظ الحمل واتحاد باعتبار
الظرف الذي يعتبر الحمل بالقياس إليه من ذهن أو خارج ثم التغاير قد
يكون اعتباريا والاتحاد حقيقيا كقولك هذا زيد والناطق
حساس وقد يكون التغاير حقيقيا والاتحاد اعتباريا وذلك بتنزيل
أشياء المتغايرة منزلة شئ واحد وملاحظتها من حيث المجموع و
الجملة فيلحقه بذلك الاعتبار وحدة اعتبارية فيصح حمل كل جز من
أجزائه المأخوذة لا بشرط عليه وحمل كل واحد منها على الاخر
بالقياس إليه نظرا إلى اتحادهما فيه كقولك الانسان جسم أو ناطق فإن
الانسان مركب في الخارج حقيقة من بدن ونفس لكن اللفظ إنما
وضع بإزاء المجموع من حيث كونه شيئا واحد فإن أخذ الجزءان
بشرط لا كما هو مفاد لفظ البدن والنفس امتنع حمل أحدهما على
الاخر
وحملهما على الانسان لانتفاء الاتحاد بينهما وإن أخذا لا بشرط كما
هو مفاد الجسم والناطق صح حمل أحدهما على الاخر وحملهما
على
الانسان لتحقق الاتحاد المصحح للحمل فقد تحقق مما قررنا أن حمل
أحد المتغايرين بالوجود على الاخر بالقياس إلى ظرف التغاير لا
يصح إلا بشروط ثلاثة أخذ المجموع من حيث المجموع وأخذ
الأجزاء لا بشرط واعتبار الحمل بالنسبة إلى المجموع من حيث
المجموع
ولو بالاعتبار إذا تبين عندك هذا فنقول أخذ العرض لا بشرط لا يصح
حمله على موضوعه ما لم يعتبر المجموع المركب منهما شيئا
واحدا ويعتبر الحمل بالقياس إليه ولا خفاء في أنا إذا قلنا زيد عالم أو
متحرك لم نرد بزيد المركب من الذات وصفة العلم أو الحركة و
إنما نريد به الذات وحدها فيمتنع حمل العلم والحركة عليه وإن
اعتبرا لا بشرط بل التحقيق أن مفاد المشتق باعتبار هيئة مفاد ذو فلا
فرق بين قولنا ذو بياض وقولنا ذو مال فكما أن المال إن اعتبر لا بشرط
لا يصح حمله على صاحبه فكذلك البياض ومجرد استقلال
أحدهما بالوجود دون الاخر لا يجدي فرقا في المقام فالحق أن الفرق
بين
المشتق ومبدئه هو الفرق بين الشئ وذي الشئ فمدلول المشتق
أمر اعتباري منتزع من الذات بملاحظة قيام المبدأ بها ولا يتوهم أن
ذلك يؤدي إلى أن يكون الفصول عرضية لأنواعها لان المراد بها معان
ذاتية بها تحصل تلك الأنواع على سبيل النقل أو التجوز و
التمسك في إثبات المباحث اللغوية باستعمال أهل المعقول غفلة و
ذهول
الثالث
يشترط في صدق المشتق على شئ حقيقة قيام مبدأ الاشتقاق به من
دون واسطة في العروض إن كان صفة كالضارب والقاتل فإن
مبدأهما الضرب والقتل بمعنى الفاعل وهما تأثير ولا قيام له إلا
بالمؤثر وكالقائم والقاعد والنائم فإن مباديها آثار وصفات وإنما
قيامها بالمتأثر والمتصف وأما إذا كان المبدأ ذاتا فلا يعتبر فيه القيام
كما في البقال والحداد وإنما قلنا من دون واسطة في المقام
احترازا عن القائم بواسطة فإنه لا يصدق إلا مجازا كالشدة والسرعة
القائمتين بالجسم بواسطة الحركة واللون فإنه يقال الحركة
سريعة أو اللون شديد ولا يقال الجسم سريع أو شديد هذا وخالف
في ذلك جماعة فلم يعتبروا قيام المبدأ في صدق المشتق واستدلوا
بصدق الضارب والمؤلم مع قيام الضرب والألم بالمضروب والمؤلم
وجعلوا من هذا الباب إطلاق المتكلم عليه تعالى حيث إن الكلام
مخلوق في الهواء وقائم به ومنشأ هذا الوهم عدم الفرق بين المصدر
بمعنى الفاعل وبينه بمعنى المفعول فإن الضرب والايلام بمعنى
الفاعل تأثير وقيامهما بالفاعل كما أنهما بمعنى المفعول أثر وقيامهما
بالمفعول وكذا الكلام في المتكلم فإنه بمعنى الفاعل عبارة عن
إنشاء الكلام ولا قيام له إلا بالمتكلم كما أنه بمعنى المفعول عبارة عن
نفس الكلام وقيامه بجوهر الهواء وانتصر لهم بعض أفاضل
المتأخرين بصدق العالم والقادر ونحوهما عليه تعالى مع عينية
صفاته تعالى كما هو الحق وبصدق الخالق عليه تعالى مع عدم قيام
الخلق به وكلا الوجهين ضعيف أما الأول فلانه مشترك الورود إذ
الظاهر إطباق الفريقين على أن المبدأ لا بد أن يكون مغايرا لذي
المبدأ وإنما اختلفوا في وجوب قيامه به وعدمه فالوجه التزام وقوع
النقل في تلك الألفاظ بالنسبة إليه تعالى ولهذا لا يصدق في حق
غيره ومن هذا الباب إطلاق الموجود على الشئ بناء على عينية
الوجود وقد يتكلف في إثبات صدق ذلك بأن مدلول المشتق واجد
المبدأ ووجدان الشئ لنفسه ضروري مستندا إلى ذاته فهو أولى من
وجدان غيره له فهو أولى بصدق الاسم وهو كما ترى إذ ليس مبنى
العرف على مراعاة مثل هذه الأمور الخفية وأما الثاني فلان الخلق إن
اعتبر بمعنى الفاعل كان
بمعنى الجعل والتأثير ولا نسلم عدم قيامه به تعالى لكن قياما
صدوريا لا حلوليا كما في العفو والعطاء والرزق وإن اعتبر بمعنى
المفعول فليس مبدأ لصيغة الخالق فليس في عدم قيامه به تعالى ما
يخل بالمقصود ومما قررنا يظهر أنه يلزم من قيام مبدأ الاشتقاق
بشئ صدق المشتق منه عليه فعدم إطلاق السخي ونحوه عليه تعالى
إما لمنع شرعي بناء على أن أسماءه تعالى توقيفية أو لعدم قيام
المبدأ به تعالى كما يظهر وجهه مما مر آنفا وسابقا
المقالة الأولى في جملة من المباحث المتعلقة بالكتاب والسنة
القول في الامر
فصل الحق أن لفظ الامر مشترك بين الطلب المخصوص
كما يقال أمره بكذا وبين الشأن كما يقال شغله أمر كذا لتبادر كل منهما
من اللفظ عند الاطلاق مع مساعدة ظاهر كلام بعض اللغويين
عليه ويؤيده أن الامر بالمعنى الثاني يجمع على الأمور دون الامر
بالمعنى الأول وذلك في غير صورة الاشتراك بعيد هذا بحسب
العرف واللغة وأما بحسب الاصطلاح فقد يطلق ويراد به الطلب
المخصوص كما هو معناه الأصلي ومنه قولهم الامر بالشئ هل
يقتضي
كذا أو لا وقد يطلق ويراد به القول المخصوص أعني ما كان على هيئة
افعل وليفعل ونظائرهما ومنه قولهم الامر حقيقة في كذا و
يجمعونه على الأوامر على خلاف القياس وهذا الاصطلاح موافق
لمصطلح أهل المعاني وقريب منه مصطلح النحاة فإنهم يخصونه
بالنوع
الأول منه ثم إن
62

كثيرا منهم نقلوا الاتفاق على كونه حقيقة في هذا المعنى أعني قول
المخصوص وجعلوا النزاع في بقية معانيه فذهب بعضهم إلى أنه
مجاز
فيها لأنه أولى من الاشتراك ومنهم من جعله مشتركا معنويا بينه وبين
الشأن حذرا من المجاز والاشتراك المخالفين للأصل ومنهم من
جعله مشتركا لفظيا وعلى هذا جرت كلمة من وقفنا على كلامه وهو
منهم بمكانة من الوهن ومنشؤه الخلط بين المعنى المصطلح عليه و
بين غيره لأنا نقطع بأن الامر لا يطلق على نفس القول لا لغة ولا عرفا
إلا مجازا فإن المفهوم من قول القائل أنا آمر بكذا وزيد أمر بكذا
وقوع الطلب منه دون صدور لفظ منه نعم ربما يسبق ذلك إلى الفهم
في مثل الفرض الثاني نظرا إلى أنه الطريق المتداول في التأدية عن
الطلب فلو سلم دلالة اللفظ عليه فإنما هو من باب الملازمة العرفية
الناشئة من الغلبة دون الوضع مع أنهم لو أرادوا بالقول المخصوص
نفس اللفظ أعني الملفوظ كما هو الظاهر من كلماتهم لكان بمنزلة
الفعل والاسم والحرف في مصطلح علماء العربية فكان اللازم عدم
صحة الاشتقاق منه لعدم دلالته حينئذ على معنى حدثي مع وقوعه
منه بجميع تصاريفه ويمكن توجيه ما وقع في كلام الأشاعرة من
تفسير الامر باعتبار اللغة بالقول بحمله على القول النفسي بناء على ما
هو المعروف من مذهبهم فيرجع إلى ما ذكرناه هذا وأما ما
تمسك به القائل بمجازيته في غير القول فمدفوع بأن الأولوية إنما
تصلح مستندا إذا لم يقم هناك ما يوجب الاشتراك وقد بينا ثبوته
بدليل التبادر وغيره فلا سبيل إلى الاستناد إليها مع أن المجاز يتبع
العلاقة ولا علاقة بين القول المخصوص وبين الشأن بحيث يعتمد
عليها في الاستعمال ويعول عليها في المقال وكذا ما تمسك به القائل
بالاشتراك المعنوي مدفوع على تقدير تسليم أصله بأنا لا نجد
هناك قدرا مشتركا بين القول وبين الشأن إلا مفهوم أحدهما ولا ريب
أن المتبادر منه عند الاطلاق ما صدق عليه مفهوم أحدهما دون
نفس مفهوم أحدهما فلا يكون حقيقة فيه ثم المراد بالطلب
المخصوص طلب العالي من الداني حصول الفعل على سبيل الالزام
فخرج
الدعاء والالتماس لعدم الوصفين والندب لعدم الالزام ودخل فيه
الطلب بالقول المخصوص وبقول غيره وبغير القول كالإشارة و
الكتابة ومن خصه بالنوع الأول فقد تعسف
لشهادة العرف على خلافه مضافا إلى تصريح أئمة اللغة به والمراد
بالفعل مطلق الحدث أعني ما دل عليه لفظ المصدر فخرج الاستفهام
باعتبار معناه الحرفي وإن دخل فيه باعتبار ما يلزمه من المعنى
الاسمي أعني طلب الفهم كما في نحو علمني وفهمني إذا اشتمل
على
بقية القيود ودخل نحو اترك باعتبار الترك فإنه أمر به حقيقة وإن
صدق باعتبار المقيد به أنه نهي عنه وخرج نحو لا تترك فإنه نهي
عن الترك وإن صدق عليه باعتبار الفعل المقيد به أنه أمر به وبالجملة
فهما داخلان في الامر باعتبار وفي النهي باعتبار ومنهم من
عين دخول الأول في النهي والثاني في الامر جمودا على ظاهر الحد
نظرا إلى أن الفعل ظاهر في الامر الوجودي وهذا منه مخالفة للغة
والعرف والاصطلاح ثم منهم من اعتبر الاستعلا بدل العلو ومنهم
من اعتبرها معا والحق أن اختصاص لفظ الامر وضعا بالطلب
الصادر عن العالي يوجب إظهار المستعمل وإفادته لعلو من يسنده
إليه على المأمور كما أن اختصاص الدعاء بطلب السافل من العالي
يوجب عكس ذلك واختصاص الالتماس بطلب أحد المتساويين في
الرتبة من الاخر يوجب إفادة تساويهما في الرتبة وعلى هذا
فاختصاص الامر بالعالي اختصاص وضعي وقد يسبق إلى النظر أن
اختصاص الامر بالطلب الإلزامي يقتضي اختصاصه بالعالي لان
الالزام بمعنى جعل الشئ لازما حقيقة إنما هو شأن العالي دون غيره
فيفيد الاستعلا على ما تقدم ويدفعه أنا لا نريد بالالزام إلا طلب
الفعل مع عدم الرضا بتركه وهذا لا يستلزم الالزام الحقيقي على أن
الالزام الحقيقي لا يختص بالعالي لجواز صدوره عن المساوي و
السافل كما لو التزم المولى بإنجاح حاجة لعبده ولو بعبد وشبهه أو
واعده على وجه يلزمه الوفاء به عقلا فإن الالزام يتحقق منه شرعا
أو عقلا مع أنه لا يصدق الامر ثم إن أراد القائل بأنه يدل عليها معا ما
أردناه فلا مشاحة معه وإن لم يساعد لفظ الاستعلا عليه فإن معناه
طلب علو النفس وإظهاره لا ما يعم إظهار علو الغير وإلا فندفع قوله و
قول من اعتبر الاستعلا فقط بعد عدم المأخذ بشهادة التبادر
على خلافه ثم هل يعتبر في العالي أن يكون عاليا حقيقيا ولو بحسب
العرف والعادة أو يكفي كونه عاليا في دعواه أو دعوى من يسند
إليه الامر أو أحدهما وجوه وأما قوله تعالى
حكاية عن قول فرعون لملئه فما ذا تأمرون فإن قدرنا المفعول العساكر
والرعايا فلا إشكال في كونه حقيقة وإن قدرناه ضمير
المتكلم كان مبنيا على تنزيلهم منزلة العالين استمالة لهم فيبتني كون
الاستعمال حقيقة أو مجازا على الوجوه المذكورة ثم ما اعتبرناه
في الحد من قيد الالزام مما نفاه بعضهم فأدرج الندب فيه والذي يدل
على ما اخترناه بعد مساعدة التبادر عليه قوله صلى الله عليه وآله
لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك حيث نفي الامر مع ثبوت
الاستحباب وما نقل أن بريرة لما أراد النبي صلى الله عليه وآله منها
الرجوع إلى زوجها قالت تأمرني يا رسول الله فقال لا بل إنما أنا شافع
فنفي الامر وأثبت الشفاعة وهي للندب ويساعد عليه ظاهر
بعض الآيات الآتية حيث اشتملت على تهديد مخالف الامر وذمه و
يمكن المناقشة فيها بأن استعمال الامر في هذه الموارد في الايجاب لا
يوجب أن يكون موضوعا له بخصوصه بل يكفي ظهوره فيه عند
الاطلاق مع أن مجرد الاستعمال لا يقتضي الحقيقة واستدل بعض
المعاصرين بأن دلالة الامر على الاستعلا تقتضي الايجاب والالزام إذ
لا معنى لاظهار العلو في المندوب لأنه إرشاد وليس بشئ إذ لا
نعني بالاستعلا إلا طلب العلو وإظهاره بإطلاق لفظ موضوع للعالي
على ما عرفت وظاهر أن إفادة هذا المعنى لا تقتضي أن يكون
هناك حكم على المخاطب أو غيره فضلا عن كونه إيجابا وبالجملة
فالعالي في أوامره الايجابية وغيرها غير خارج عن كونه عاليا فإذا
أتى بلفظ منبئ عن علوه كان ذلك منه استعلا ألا ترى أن التعبير عن
المفرد بلفظ الجمع يفيد التعظيم لتنزيله منزلة الجماعة ولم يسبق
إلى وهم أنه يقتضي حكما أو إلزاما وهذا ظاهر وأما تعليله بأن
المندوب إرشاد فعري عن الجدوى لأنه إن أراد بالارشاد الدلالة إلى ما
هو طريق السداد فالايجاب أيضا كذلك وإن أراد ما هو قسيم الطلب
فظاهر الفساد احتجوا بأنهم قسموا الامر إلى إيجاب وندب ولا بد
أن
63

المقسم أعم وفيه أن التقسيم قرينة على أن الامر هناك مستعمل في
المعنى الأعم والاستعمال لا يوجب الحقيقة مع أنهم قد قسموه إلى ما
ليس حقيقة فيه قطعا كالارشاد والتعجيز والتسخير وبأنه يستعمل تارة
في الايجاب وأخرى في الندب فلو كان موضوعا للقدر
المشترك لم يلزم المجاز ولا الاشتراك وفيه أن الاستعمال في
خصوص الايجاب واقع وقد سبق منا أن الأصل المذكور لا ينهض
دليلا
على هذا التقدير على أنا قد بينا ما يوجب الخروج عنه على تقدير
تسليمه وبأن فعل المندوب طاعة وكل طاعة فهو فعل المأمور به و
فيه
منع الكبرى إن أريد بالامر معناه الحقيقي وإلا فلا يفيد المدعى
فصل اختلفوا في أن صيغة الامر هل تقتضي الايجاب أو لا
إلى مذاهب ومنهم من عنون المبحث بقوله صيغة افعل وما في
معناها يتناول بظاهره كل ما دل على معنى افعل ولو مجازا مع أنه
خارج
عن المبحث قطعا إلا أن يراد بما في معناها وضعا وأيضا يتناول ما كان
بمعنى الامر من أسماء الافعال مع أن الظاهر خروجها عن
النزاع لفظا وإن دخلت فيه معنى فالتعبير عنه بما ذكرنا أسد وأولى ثم
الظاهر من كلام الأكثر أن الامر هنا بمعنى مطلق الصيغة و
يظهر من بعضهم أن المراد به الصيغة الصادرة عن العالي ولا يخلو من
بعد والتحقيق هو الأول نعم لما كان الغرض هنا لا يتعلق بالبحث
عن الصيغة مطلقا بل من حيث وقوعها في الكتاب والسنة كما في
سائر مباحثنا المتعلقة بالألفاظ لئلا يخرج عن كونها مسائل لهذا الفن
فلا محيص من اعتبار صدورها عن الشارع لكن لا على أن يكون ذلك
داخلا في مدلول لفظ أمر بأن يكون معناه خصوص الصيغة
الواردة في الكتاب والسنة بالنقل أو التجوز بل على أن يكون ذلك
مدلولا للفظ الامر من حيث العهد أو معتبرا في البحث عن الصيغة كما
في لفظ العام والخاص والمطلق والمقيد إلى غير ذلك ومما يدل
على اعتبار الحيثية المذكورة هنا مضافا إلى ما ذكرناه ظواهر
الألفاظ المتداولة منهم في المقام من لفظ الوجوب والايجاب و
الندب فإن المفهوم منهم إطلاق الوجوب على كون الفعل بحيث
يستحق
فاعله المدح والثواب وتاركه الذم والعقاب وعلى قياسه الندب و
هذه إنما تصلح لان تكون معاني التزامية للصيغة إذا أخذت بالحيثية
المذكورة ويحتمل أن يكون مرادهم بالوجوب والايجاب هنا مجرد
الالزام أعني طلب الفعل مع عدم الرضا بالترك وبالندب طلبه مع
الرضا به فتدل عليه الصيغة بالتضمن وحينئذ فلا يكون له دلالة على
ما ذكرناه لكنه تكلف من غير حاجة تمس إليه وأما احتجاج القائلين
بدلالة الامر على الايجاب بذم العبد على مخالفة أمر سيده فلا ينافي
أن يكون المقصود دلالته على الالزام مطلقا كما سبق إلى بعض
الأوهام فإن تخصيص البيان به إنما هو بالنظر إلى أن أثر الالزام لا يظهر
إلا في مثله ثم اعلم أن الفاضل المعاصر زعم أن نزاع القوم في
صيغة الامر يتصور على ثلاث صور الأولى أن العالي إذا أورد هذه
الصيغة مجردة عن القرائن هل يفهم منها الايجاب الاصطلاحي أعني
ما يذم تاركه ويعاقب عليه أو لا الثانية أن هذه الصيغة بمجردها هل
تفيد الالزام مطلقا فيلزمها فيما إذا صدرت عن العالي إفادة الايجاب
الاصطلاحي أو لا الثالثة أن الصيغة بمجردها هل تفيد الايجاب
الاصطلاحي نظرا إلى دلالتها على الالزام وعلو المتلفظ بها ما لم
ينكشف الخلاف أو لا وفرق بين الصورتين الأوليين بعد ما نفاه أولا
بجواز كون دلالة الصيغة على الالزام في الصورة الأولى مستندة إلى
صدورها عن العالي فلا يفيده إذا صدرت عن غيره بخلاف الثانية
فإنه قد صرح فيها بكونه مفاد الصيغة وبأنه لا تعرض في الأولى بكون
الصيغة الصادرة عن غير العالي حقيقة أو مجازا وقد صرح في
الثاني بكونها حقيقة وبين الصورتين الأخيرتين بأن حصول الذم و
العقاب خارج عن مدلول الصيغة في أوليهما داخل فيه في الأخرى ثم
اختار الصورة الأخيرة وجعل نزاعهم فيها مع اعترافه بعدم مساعدة
تحرير كثير منهم لمحل النزاع على ذلك هذا ملخص كلامه و
محصل مرامه وأنت خبير بأن مدلول افعل لا يزيد على طلب الفعل
فقط أو مع المنع من الترك فدعوى أن الصيغة بمجردها تفيد أن
المتلفظ بها عال مما لا يكاد يلتزم به من له أدنى درية بالمحاورات
فرمي الأكثرين به كما هو قضية كلامه عجيب وأعجب من ذلك أنه
استقرت بعد ذلك مقالتهم التي رماهم بها في الصيغة وبنى عليها
متمسكا بحجتهم وكان الذي أوقعه في ذلك ما وجده في كلامهم من
لفظ الوجوب والايجاب أو تسميتهم إياها أمرا فزعم أنهم يقولون بأن
مدلول الصيغة أمر حقيقة وأن مطلق الامر يقتضي الوجوب و
الايجاب الاصطلاحيين لغة وفساده يعرف مما مر ثم ذكر أن
الاحتمالات التي قررها في صيغة الامر تجري في لفظ الامر أيضا و
جعل
الحكم فيهما واحد والتحقيق أن ما اختاره هناك من توجه النزاع إلى
الصورة الأخيرة متجه هنا لكن مع تبديل علو المتلفظ بعلو المسند
إليه كما عرفت والفرق غير خفي إذا تقرر هذا فالحق عندي أن صيغة
الامر حقيقة في طلب الفعل فقط مطلقا لكن حيث يطلق الطلب
يتبادر منه الالزام وعدم الرضا بالترك تبادرا إطلاقيا ولهذا
نحمل الأوامر المطلقة على الايجاب مع أنا نجعل استعمالها في
الندب حقيقة أيضا والأكثر على أنها حقيقة في الوجوب أعني
الايجاب فقط
وذهب علم الهدى إلى أنها مشتركة بينهما لفظا بحسب اللغة وأما
بحسب الشرع فهي حقيقة في الوجوب فقط ومرجع كلامه إما إلى
دعوى أن الشارع وضع لفظ الامر للوجوب فقط بعد أن كان في اللغة
مشتركا بينه وبين الندب فمتى ورد في كلامه حمل على مصطلحه
أو أنه بنى في استعمالاته الشرعية أو مطلقا على متابعة وضعه
للوجوب فقط حتى إنه لو استعمله في الندب اعتبر العلاقة بينه وبين
الوجوب وهنا أقوال أخر شاذة لا ينبغي أن يلتفت إليها لنا على أن
الامر حقيقة في مطلق الطلب شهادة التبادر عليه فإنا لا نفهم من نفس
الصيغة إلا مجرد الطلب وذلك آية الحقيقة وإذا ثبت ذلك عرفا ثبت
لغة وشرعا بضميمة أصالة عدم النقل وعلى أن الطلب المطلق ظاهر
في عدم الرضا بالترك إنه حيثما ورد طلب مطلق سواء كان بصيغة
افعل أو غيرها تبادر منه ذلك عرفا ولذا نجد أن العقلا يذمون
العبد على ترك ما طلب منه مولاه مطلقا كما لو صرح بالالزام وليس
ذلك إلا لاستظهارهم منه الالزام ولولا ذلك لما دلت الجمل
الخبرية المستعملة في
64

الطلب ك آية الرضاع ونحوها على الوجوب لان القرينة الصارفة إياها
عن معناها الأصلي وهو لزوم الكذب على تقدير قصد الاخبار أو
منافاته لمساق الكلام لا يعينها للوجوب فكان اللازم على تقدير عدم
ظهور الطلب في الوجوب حملها على الندب عملا بالأصل ودعوى
أن الوجوب أقرب إلى معنى الاخبار لدلالته على الوقوع ودلالة
الايجاب على لا بدية الوقوع وهي أشبه بالوقوع فينصرف عند قيام
الصارف إليه تكلف لا يساعد على اعتباره الوجدان وأما ما يقال من أن
الطلب سواء استفيد من لفظ أو غيره كإجماع أو عقل فهو ظاهر
في الوجوب أو محمول عليه فبعيد عن التحقيق إذ لا تعويل على
الظواهر في غير الألفاظ وأما التعويل على ظاهر الكتابة والإشارة
فبواسطة التعويل على ظاهر مدلولهما من الألفاظ والإشارة عند أهل
العرف كاللفظ لا يقال دعوى تبادر الالزام من الطلب هنا تنافي ما
ذكر أولا من أن المتبادر من الامر مطلق الطلب من غير تبادر الالزام لأنا
نقول قد مر الإشارة سابقا إلى أن التبادر على قسمين قسم
يستند إلى اللفظ مع قطع النظر عن إطلاقه أي ترك تقييده وعن سائر
القرائن اللاحقة له وهذا هو الذي ذكرناه علامة للحقيقة وقسم
يستند إلى ملاحظة إطلاقه وهذا لا يقتضي الحقيقة فتبادر الطلب
المطلق إنما هو بالاعتبار الأول وتبادر الالزام منه إنما هو بالاعتبار
الثاني فلا منافاة ومع التنزل نقول استعمال الصيغة في القدر المشترك
ثابت واستعمالها في كل من الوجوب والندب من حيث
الخصوصية غير ثابت وإنما الثابت إطلاقها عليهما في الجملة فيلحق
باللفظ للذي يتحد معناه المستعمل فيه من بين ما يحتمل أن يكون
اللفظ حقيقة فيه وقد مر في المبادي أن قضية الأصل في مثل ذلك
الحقيقة وذلك لان المعنى المشكوك فيه لا سيما بعد الفحص بمنزلة
العدم كما هو الظاهر وإن علم بأصل الاستعمال في الجملة إذ لو كان
مجرد احتمال تعدد المستعمل فيه قادحا لما أمكن التمسك بالأصل
المذكور في موارده وفيه نظر وقد استبعد بعضهم استعمال الامر في
القدر المشترك من حيث إن الطالب إذا لم يكن غافلا عن تركه
فإما أن يريد المنع منه فيكون وجوبا أو لا يريده فيكون ندبا وإنما
يتصور إرادة الطلب المجرد عند الغفلة من الترك قال وحيث إن
العمدة في مباحث الامر على أوامر الشارع ففرض الاستعمال
في القدر المشترك غير معقول وفيه ما لا يخفى أما أولا فلان الايجاب
معنى بسيط وليس المنع من الترك من أجزائه بل من توابعه و
لوازمه فإن مرجع الايجاب إلى الطلب المتأكد الذي من لوازمه المنع
من الترك على تقدير التفطن له ولهذا كثيرا ما يأمر الموالي ولا
يخطر ببالهم مفهوم الترك فضلا عن المنع منه ومع ذلك يستحق
مماليكهم على المخالفة الذم والعقاب ولو كان الامر حينئذ للقدر
المشترك لما ترتب عليها ذلك هذا إن أريد بالمنع كراهة الفعل و
مبغوضيته وإن فسر بمعنى طلب الترك المتأكد كما هو الظاهر فهو
راجع إلى طلب الفعل المتأكد لأن النفي في النفي راجع إلى الاثبات و
هذا لا يكون جز من طلب الفعل بل طلب الفعل جز منه نعم لو
جعل
المنع من الترك مجازا عن تأكد الطلب كان جزا من الوجوب وفصلا
له وحينئذ لكن لا ينفك تصوره عن تصور الوجوب ولا يتوقف
على تصور الترك وأما ثانيا فلان عدم انفكاك الطلب عن أحد القيدين
في حق غير الغافل لا يوجب استعمال لفظه فيه مع أنه قد ورد في
بعض أخبارنا المأثورة تعلق أمر واحد بأمور متعددة بعضها واجبة و
بعضها مندوبة كما ورد فيها نهي واحد متعلق بأمور متعددة
بعضها محظورة وبعضها مكروهة ولا بد في مثل ذلك من الحمل على
القدر المشترك لئلا يلزم استعمال اللفظ في معنييه هذا واستدل
بعض من وافقنا في المذهب بوجهين آخرين الأول أن الامر قد
استعمل تارة في الوجوب وأخرى في الندب فلو كان موضوعا لهما
معا
كان مشتركا أو لأحدهما فقط كان مجازا في الاخر وهما على خلاف
الأصل فيتعين أن يكون موضوعا للقدر المشترك وهذا الوجه
بظاهره غير مستقيم لأنه تمسك بالاستحسان في إثبات اللغة ويمكن
توجيهه بحيث يرجع إلى ما ذكرناه وقد يعارض بأنه على تقدير
كونه موضوعا للقدر المشترك يلزمه أحد المحذورين من الاشتراك و
المجاز بالنسبة إلى كل من الخصوصيتين بل التجوز اللازم على
تقدير وضعه للقدر المشترك أكثر لقلة استعماله فيه وشيوعه في كل
من القسمين فلحوق الوضع له أولى من لحوقه للقدر المشترك و
هذه المعارضة بناء على ما حققناه من عدم ثبوت استعماله في كل من
الخصوصيتين متضحة الاندفاع لان المدار في ذلك ليس على إمكان
الاستعمال بل على الواقع
الثاني أن الرجحان ثابت بالضرورة من اللغة وأما تقييده بجواز الترك و
عدم جوازه فمما لم يثبت لتكافؤ أدلة الفريقين فيه فيتعين
للرجحان وهو القدر المشترك وهذا ضعيف لان الرجحان الثابت فيه
أعم من أن يكون مستقلا أو في ضمن أحدهما بخصوصه فلا يثبت
أحدهما بخصوصه إلا بدليل واعلم أن هيئة الامر موضوعة عندنا بإزاء
الطلب الصادر من الامر لا من حيث كونه معنى مستقلا باللحاظ بل
من حيث كونه آلة ومرآة لملاحظة حال المأمور به باعتبار وحال
المأمور باعتبار فتكون على حد الحروف موضوعة بالوضع العام
للمعنى الخاص فللأمر بحسب هذين الاعتبارين نسبتان تعليقيتان وله
نسبة ثالثة إلى الامر وهي نسبة صدورية فقولنا الامر موضوع
للقدر المشترك بين الوجوب والندب أعني الطلب المطلق معناه أنه
موضوع لخصوصيات القدر المشترك من حيث كونها خصوصيات له
نظرا إلى أن العنوان الملحوظ في وضعه بإزائها هو ذلك للقدر
المشترك كما أن القائل بأنه موضوع للوجوب أو الندب أو غيرهما
على
هذا التحقيق يريد بأنه موضوع لخصوصياته الملحوظة بذلك العنوان و
على هذا فاستعماله في كل فرد من أفراد الايجاب والندب حقيقة
إن كان من حيث كونها من أفراد الطلب ولو أريد به الفرد مع ما يلحقه
بحسب المرتبة من المنع من النقيض وعدمه فلا ريب في كون
الاستعمال على الثاني مجازا لان عدم المنع أمر خارج عن ماهية
الطلب وأما على الأول فإن جعلنا المنع من النقيض عبارة عن فصل
الايجاب وجعلناه من سنخ الطلب بناء على ما تقرر عند جماعة من
أهل المعقول من أن العرض القوي يمايز الضعيف بفصل هو من سنخ
ذلك العرض لا بأمر خارج فهو حقيقة في كل فرد من أفراد الوجوب و
إن ضم إليه اعتبار المنع من النقيض وإلا كان مجازا ولك أن
تنزل قولهم بأن الامر حقيقة في الوجوب أو الندب أو القدر المشترك
بينهما أو غير ذلك على ظاهره من أنه حقيقة في هذه
65

المفاهيم الكلية أو أفراده المستقلة لكنه على خلاف التحقيق فالحمل
على ما ذكرناه أولى واعلم أيضا أنا نريد بخصوصيات الطلب و
أفراده مفهومه المقيد بالنسب الثلاث لا كل فرد من أفراده الحقيقية
فيصح تعلق أمر واحد بأمور عديدة على الاستقلال كما يصح تعلقه
كذلك بأمر واحد لاشتراك الجميع في كونه طلبا مقيدا بنسب ثلاث
غاية الامر أن المعنى المذكور في القسم الأول ينتزع من موارد
عديدة وذلك لا يوجب تعدد المعنى حتى يلزم استعمال لفظه في
أكثر من معنى واحد ولا فرق في ذلك بين أن يكون أفراد الطلب
إيجابية أو ندبية أو إيجابية وندبية لاشتراك الطلب المقيد بالنسب
الثلاث بين الجميع إذ لم يعتبر انتسابه إلى فعل واحد أو فاعل واحد
فيصح إطلاقه على الواحد والمتعدد ومن هنا كان نحو صلوا إذا جعل
خطابا إلى من يجب عليه ومن يستحب في حقه وصل الفرائض و
النوافل ونحو ذلك على الحقيقة حجة المشهور أمور الأول القطع بأن
المولى إذا قال لعبده افعل كذا مجردا عن القرينة فخالف عد عاصيا
وذمه العقلا عليه وذلك آية الوجوب وإذا ثبت عرفا ثبت لغة و
شرعا لأصالة عدم النقل الثاني أن علماء الاعصار والأمصار لم يزالوا
يستدلون بظاهر الأوامر الواردة في الكتاب والسنة على الوجوب من
غير نكير وليس ذلك إلا لكونه حقيقة فيه وذلك إجماع منهم على
المدعى الثالث قوله تعالى مخاطبا لإبليس ما منعك أن لا تسجد إذ
أمرتك فإنه إنكار منه تعالى لوجود المانع من السجود أي ما يصلح
للمنع منه عقلا أو شرعا لا مطلق المانع لامتناع الترك بدونه وذلك
لامتناع حمل الاستفهام منه تعالى على حقيقته لعلمه بالمانع على
تقدير تحققه ويدل مع ذلك على توبيخه وذمه على مخالفته لامره
المشار إليه في قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم والذم و
التوبيخ دليل الوجوب لا يقال امتناع حمل الاستفهام منه تعالى على
حقيقته لا يعين حمله على الانكار التوبيخي الذي لا يكون إلا على
ترك الواجب أو فعل المحرم لامكان حمله على إرادة التقرير و
الاعتراف بالمانع أو على الانكار اللومي الذي يكون على ترك
المندوب
أيضا ولا ينافيه اللعنة والطرد المترتبين عليه كما يدل عليه الآية
الأخرى لجواز أن يكون ذلك بسبب إنكاره لحكمة التكليف أو
استكباره حيث قال أنا خير منه وأما ما يقال في دفعه من أن استكباره
لم يكن
عليه تعالى بل على آدم فيرجع بالنسبة إليه تعالى إلى مجرد المخالفة
فليس بشئ لابتنائه على أن الاستكبار وإظهاره لا سيما على مثل
آدم وترك طاعته في استحقاره لا يوجب الطرد واللعنة لا سيما
بالنسبة إلى الذين يرون أنفسهم بمكان من العبودية والانقياد وهذا
كله في محل المنع ومما يدل على حرمة استكباره قوله تعالى
استكبرت أم كنت من العالين وقوله تعالى ما يكون لك أن تتكبر فيها
لأنا
نقول الظاهر من مساق الآية أن يكون الاستفهام للانكار لا للتقرير
بالمانع وحيث يدور الامر بين الذم واللوم فالمتبادر من الاطلاق
هو الذم على ما يساعده عليه متفاهم العرف والسر فيه أنه الفرد
المتكامل في الانكار بخلاف اللوم فيتعين الحمل عليه فتأمل فإن قلت
هذا الاستدلال مبني على أن يكون الطلب منه تعالى واقعا بهذه اللفظة
وهو ممنوع لجواز أن يكون بإلهام أو وحي ولو سلم فلعله كان
محفوفا بقرائن تدل على إرادة الايجاب ولو سلم فغاية ما يترتب عليه
أن يكون الامر حقيقة في عرف الملائكة وذلك لا يقتضي أن
يكون كذلك في عرفنا قلت ظاهر الآية يقتضي صدور هذا القول أو ما
يرادفه والخروج عنه يحتاج إلى مستند ولا يكفي فيه مجرد
الاحتمال واحتمال القرينة مدفوع بأصالة عدمها وبأنها لو كانت
لاقتضى ظاهر الحكاية نقلها اللهم إلا أن يقال استغنى عن حكايتها
بحكاية الذم على المخالفة والاختلاف بين عرفنا وعرف الملائكة
مدفوع بأصالة عدم تعدد الوضع بناء على أن الواضع هو الله تعالى و
إلا أمكن دفعه بأن الحكاية ظاهرة في الموافقة للمحكي وفيه نظر يظهر
مما مر ويمكن الاحتجاج بهذه الآية أيضا باعتبار إطلاق الامر
فيها على الطلب المستفاد من لفظ اسجدوا بناء على ما حققناه من أنه
حقيقة في الطلب الإلزامي ويتجه عليه بعض المناقشات المتقدمة
الرابع قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو
يصيبهم عذاب أليم فإنه تعالى هدد مخالف أمره حيث أمره بالحذر
عن الفتنة أو العذاب وهذا الامر للوجوب قطعا إذ لا معنى لندبية
الحذر عن العذاب لان المقتضي له إن كان موجودا حسن الحذر و
وجب
وإلا لم يحسن فلا يلزم الدور وأما ما يقال من أنه لا عموم في الامر ولا
نزاع في عدم جواز مخالفة بعض الأوامر ولو سلم فلعل المراد
منه العموم المجموعي دون
الافرادي فلا يلزم المقصود إذ لا يجوز المخالفة في جميع المندوبات
فمدفوع بأن الظاهر من ترتب التحذير على مخالفة مطلق الامر
دون خصوص المحفوف منه بالقرينة كون مطلقه للوجوب أو أن الامر
مصدر مضاف وهو ظاهر في العموم الافرادي كذا قالوا ويشكل
الأخير ببقاء الاشكال على تقديره إذ لا يصدق مخالفة كل أمر إلا مع
مخالفة الجميع إلا أن يراد به العموم البدلي وهو بعيد والتحقيق أن
المصدر المضاف لا يفيد العموم بنفسه بشئ من الاعتبارين فالمعتمد
هو الوجه الأول ويمكن أن يقال أيضا بأن الآية بحسب مفاهم
العرف في قوة قولنا فليحذروا عن مخالفة أمره إما بتعليق الظرف
المذكور بجملة فليحذر فيكون التقدير فليحذر الذين يخالفون أمره
أي يريدون مخالفته أو أشرفوا على مخالفة أمره أو بتقدير عن مخالفة
أمره فيكون جملة أن تصيبهم منصوبا على التعليل فيدل على
وجوب الحذر عن مخالفة جنس أمره على حد غيره من المفردات
المضافة فيعم الحكم مخالفة كل أمر لان الحذر عن الجنس إنما يتحقق
بالحذر عن جميع أفراده نعم لقائل أن يقول لا نسلم أن المراد بالامر
هنا نفس الصيغة بل الطلب الإلزامي كما هو معناه اللغوي والعرفي
على ما مر وعلى تقدير التنزل فلا أقل من احتمال ذلك وهو كاف في
نقض الاستدلال اللهم إلا أن يتمسك في دفعه بأن مدلول الصيغة
المجردة عن القرائن الصادرة عن العالي يسمى في العرف واللغة أمرا
وإثبات هذا القدر لا يتوقف على إثبات كون الامر أو صيغته
للوجوب وأيضا المخالفة إنما تتعدى بنفسها وتعديتها بعن يقتضي
تضمينها معنى الاعراض والمنع عن المخالفة على وجه الاعراض و
التنفر وعدم المبالاة لا يقتضي المنع عن المخالفة بدون ذلك وما
يقال في دفعه من أخذ الاعراض واعتباره إنما هو لمجرد المحافظة
على القاعدة النحوية وأنه لا يلزم من ذلك اعتباره في المعنى المراد
فجدير بالاعراض عنه نعم لا يبعد أن يقال تعدية المخالفة بعن
66

تقتضي تضمنها الاعراض بالمعنى الأعم أعني صرف النفس عن
الامتثال فيتم المقصود إذ كل مخالفة تتضمن الاعراض بهذا المعنى ثم
لا
نسلم أن الفتنة والعذاب لا يترتبان على ترك المندوب لجواز أن يكون
ترك المندوب مكروها ويترتب عليه فتنة أو عذاب دنيوي
فيكون الامر بالحذر أمرا ندبيا فإن قيل ظاهر العذاب في مثل المقام هو
العذاب في الآخرة ولو سلم فوصفه بالأليم يمحضه لذلك فيثبت
به أن الامر للوجوب قلنا سلمنا لكن مخالف الامر لم يوعد بإصابة
العذاب فقط بل بأحد الامرين منه ومن إصابة الفتنة وهي مما يجوز أن
يترتب على فعل المكروه لا سيما إذا أريد بها الابتلاء ببعض التكاليف
الشاقة مع أن من عذاب الآخرة وآلاها ما يترتب على بعض
المكروهات بل المباحات أيضا كطول الحساب المترتب على جميع
الحلال فلا يقتضي ترتبه على مخالفة الامر تمحضه للوجوب وأيضا لا
نسلم أن المقتضي للعذاب إذا لم يكن متحققا لم يحسن الامر بالحذر
للقطع بحسن الامر به عند احتمال المقتضي أيضا وهذا كما ترى إنما
يرد على بيان الدليل لا عليه لان ظاهر الآية تعليل الامر بالحذر بإصابة
الفتنة والعذاب لا باحتمال إصابتهما إذ التقدير كراهة أن
تصيبهم وأيضا لا تقتضي الآية أن يكون الامر حقيقة في الوجوب لا
لغة ولا شرعا غاية الامر أن تكون قرينة عامة على أن المراد به
الوجوب في الشرع وأين أحدهما من الاخر الخامس قوله تعالى وإذا
قيل لهم اركعوا لا يركعون فإنه ذم على مخالفتهم الامر بالركوع و
هو آية الوجوب لا يقال لا نسلم أن الآية ذم لجواز أن يكون لوما وهو
يقع على ترك المندوب ولو سلم فلا نسلم أن الذم على ترك
المأمور به بل على تكذيب الرسل وعدم الاعتداد بقولهم بدليل قوله
تعالى ويل يومئذ للمكذبين ولو سلم فلعل الصيغة عند الخطاب
كانت مقرونة بما يفيد الوجوب ولا نزاع على تقديره لأنا نقول المفهوم
من مساق الآية أنها ذم وأنه على مجرد مخالفة الامر بالركوع
فلا يصغى إلى الاحتمالات المذكورة السادس أن تارك المأمور به
عاص وكل عاص متوعد بالعذاب أما الصغرى فلقوله تعالى لا يعصون
الله ما أمرهم وقوله تعالى حكاية عن موسى أ فعصيت أمري والمراد
بالامر قوله عليه السلام لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح
كما يدل عليه الآية السابقة وأما الكبرى فلقوله تعالى ومن يعص الله و
رسوله فإن له نار جهنم خالدا فيها فإن من من أداة العموم
فيتناول كل عاص ويرد على الصغرى أن الآية الأولى إنما تقتضي كون
مخالف الامر عاصيا لا مخالف الصيغة وقد حققنا المغايرة
بينهما لغة وعرفا إلا أن يتمسك بأن الامر يطلق على مدلول الصيغة
المجردة عن القرائن الصادرة عن العالي لغة وعرفا فيتم به
الاحتجاج والآية الثانية إنما تفيد الذم وترتب العصيان على مخالفة
الصيغة المذكورة وإطلاق الامر على مدلولها وذلك لا يقتضي إلا
مجرد كونها مستعملة في الايجاب ومجرد الاستعمال لا يقتضي
الحقيقة ويجري فيه بعض ما مر من المناقشات وعلى الكبرى أن
الايعاد بالخلود في النار يوجب تخصيص العصيان بالكفر وشبهه لان
فاعل غيره لا يخلد به ومعه لا يثبت المطلوب والجواب عن الكل
بعد المساعدة على ما فيها من المقدمات أنها لا تقتضي أن تكون
الصيغة موضوعة للايجاب من حيث الخصوصية نعم يقتضي ظهورها
فيه
عند الاطلاق وهو كذلك كما مر احتج من قال بأنه حقيقة في الندب
بقوله صلى الله عليه وآله إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم
حيث رد الامر إلى مشيتنا وهو معنى الندب وبأن أهل اللغة قالوا لا
فارق بين الامر والسؤال إلا الرتبة والسؤال لا يدل إلا على الندب
فيلزم أن لا يدل الامر إلا عليه لئلا يبطل حصر الفرق وأجيب عن الأول
بالمنع من رده إلى مشيتنا بل إلى استطاعتنا فيفيد الوجوب و
فيه نظر لان الرد إلى الاستطاعة لا دلالة له على كون الامر للوجوب إلا
إذا ثبت أن قوله فأتوا للوجوب وهو يفضي إلى الدور بل
الصواب أن يقال فلا يفيد الندب أقول ولو سلم أن الاستطاعة حقيقة
في المشية أيضا فكلمة ما في الرواية إما أن تكون وقتية أو موصولة
أو موصوفة وعلى التقديرين الأخيرين إما أن يراد بها الفرد أو الجز و
على التقادير إما أن يكون المراد بالاستطاعة القدرة أو المشية
فالاحتمالات عشرة وإن كان صدر الرواية كما سنذكره في مبحث
التكرار لا يلائم البعض والاستدلال إنما يتم على الاحتمال الأول و
الأخير من الاحتمال الأخير وهو معارض بغيره سلمنا لكن غاية
ما تقتضيه الرواية كون الامر للندب وهو غير الصيغة سلمنا لكنه إنما
تقتضي كون أمره عليه السلام للندب ولا يقتضي كونه حقيقة فيه
حتى يثبت في أمر غيره مع أن سند الرواية غير معتبر فلا يصح
الاعتماد عليه وعن الثاني بأن من قال بأن الامر يدل على الايجاب قال
بأن السؤال يدل عليه أيضا لان صيغة افعل عنده موضوعة لطلب
الفعل مع المنع من الترك لكن الايجاب في الثاني لا يستلزم الوجوب
لأنه
إنما يثبت بالشرع ولهذا لا يلزم المسؤول القبول واعترض عليه أولا
بأن الايجاب والوجوب متلازمان فدلالة السؤال على الايجاب
يستلزم دلالته على الوجوب وعدم دلالته على الوجوب يستلزم عدم
دلالته على الايجاب ففي إثبات أحدهما ونفي الاخر تدافع وثانيا
بأن المقصود دلالة الصيغة على الوجوب لغة فدعوى عدم ثبوته بغير
الشرع مما لا وجه له والجواب أما عن الأول فبأن مراد المجيب
بالايجاب طلب الفعل مع المنع من الترك بقرينة تفسيره بعد ذلك به و
بالوجوب كون الفعل بحيث يستحق فاعله الثواب وتاركه العقاب
بقرينة تخصيص ثبوته بالشرع ولا ملازمة بين الايجاب والوجوب
بهذين التفسيرين وإنما الملازمة بين الايجاب بمعنى طلب الفعل مع
المنع من الترك وبين الوجوب بمعنى كون الفعل مطلوب الحصول
ممنوع الترك وكذلك الحال بين الايجاب بمعنى جعل الفعل بحيث
يستحق فاعله الثواب وتاركه العقاب وبين الوجوب بمعنى كون الفعل
بحيث يستحق فاعله الثواب وتاركه العقاب وأما عن الثاني فبأن
المقصود بيان أن الامر للوجوب شرعا بحسب وضعه لغة فإن الامر إذا
كان موضوعا لغة لطلب الفعل مع المنع من الترك فإذا صدر عن
الشارع دل على وجوب الفعل لترتب الذم والعقاب على مخالفة منع
الشارع نعم يرد على المجيب أن تخصيص الوجوب
67

بالشرع لا وجه له ولعله مبني على مقالة الأشاعرة وأجاب عنه في
المعالم بأن النقل المذكور غير ثابت عن أهل اللغة بل صرح بعضهم
بخلافه ولا يخفى ما فيه إذ التزام تعدد وضع الامر بالنسبة إلى العالي و
غيره مما يأبى عنه الذوق السليم هذا والظاهر أن أهل اللغة
أرادوا بالامر والسؤال لفظهما لا صيغة افعل ونظائره صادرة من العالي
وغيره إذ ليس شأن اللغويين إلا بيان المواد فلا يكون لما نقل
عنهم تعلق بمحل البحث احتج السيد على اشتراكها لغة بين الوجوب
والندب باستعمالها في كل منهما والأصل في الاستعمال الحقيقة و
على كونه حقيقة في الوجوب فقط في عرف الشرع حمل الصحابة و
التابعين أوامر الكتاب والسنة عليه من غير نكير فيهم ثم ادعى
إجماع الإمامية على ذلك وجعل نزاعهم في المقام في تعيين المعنى
اللغوي فقط والجواب أما عن الأول فبما حققناه سابقا من أن المجاز
أولى من الاشتراك على أنا قد بينا في المقام ما يوجب الخروج عن
الأصل المذكور على تقدير صحته وأما عن الثاني فبأن حملهم إياها
على الوجوب لا يقتضي أن تكون موضوعة للوجوب بخصوصه على
ما عرفت
تذنيب
استشكل بعض متأخري أصحابنا في الحكم بوجوب شئ بمجرد
ورود الامر به في أحاديثنا المروية عن الأئمة عليهم السلام نظرا إلى
شيوع استعماله في عرفهم في الندب حتى صار من المجازات
الراجحة المساوي احتمالها الحقيقة وهذا الاشكال ضعيف لان
المجاز لا
يكافئ الحقيقة بمجرد الاشتهار ولا سيما إذا كان الاشتهار بالقرينة فإن
الوضع يرجح الحقيقة والقرينة توهن أثر الشهرة وشهرة
استعمال الامر في الندب في الاخبار المأثورة على تقدير ثبوتها مما لا
جدوى فيه ما لم يثبت الاشتهار بحسب الواقع وهو غير واضح
لجواز عدم نقل جميع الأوامر الايجابية إلينا بل الاهتمام بشأن
الواجبات يقتضي تكرر الامر في شأنها أضعاف ما ورد في المندوبات
سلمنا لكن استعمال الامر في الندب بدون قرينة مصحوبة غير ثابت و
لو ثبت فنادر جدا وعدم النقل في بعض الموارد لا يقضي بالعدم
لجواز الاستغناء عنها بضرورة أو إجماع أو نحوهما ومما يدل على أن
الشهرة المذكورة بعد تسليمها ليست بحيث توجب القدح في
دلالة الامر على الوجوب أنا لم نقف في أصحاب الحديث والفقهاء
على من يستشكل في دلالة الامر على الوجوب مع كونهم من أهل
اللسان ووقوفهم على شهرة استعماله في الندب وقد سمعت
الاجماع الذي حكيناه عن السيد على أنا نقول إن كانت الشهرة
المذكورة
عند هذا القائل بحيث يصلح لان تكون قرينة صارفة للامر عن
الايجاب إلى الندب تعين عليه أن يلتزم بحمله على الندب ولا وجه
لحكمه
بمساواة احتماله لاحتمال الايجاب وإلا تعين عليه حمله على
الايجاب لان اللفظ لا يعدل عن معناه الحقيقي ما لم يقم قرينة معينة
لإرادة
معناه المجازي ومجرد احتمالها غير كاف ما لم يثبت والتحقيق أن
القرينة قد توجب التردد وعدم الوثوق بالحقيقة فالوجه المنع من
حصول الاشتهار المؤدي إلى ذلك كما تقدم ومما يؤكد ما ذكرناه من
عدم قدح الشهرة المذكورة في ظهور الامر في الوجوب أن
التخصيص قد بلغ في الاشتهار إلى حيث قيل فيه ما من عام إلا وقد
خص ومع ذلك لا يتوقف القائل المذكور ولا غيره عن المحققين في
دلالته على العموم عند عدم المخصص فاتضح أن مجرد الاشتهار لا
ينهض قرينة على المجاز ولا موجب لمكافأته مع الحقيقة ما لم يكن
بحيث يساعد عليه طباع أهل الاستعمال ومما
قررناه يظهر ضعف الاشكال على الوجه الذي قررناه في الامر أيضا
تنبيهات
الأول
مفاد الامر فرد من الطلب أو الالزام يوقعه الامر والطلب عند التحقيق
نفس إرادة الفعل من الغير والالزام نوع منه هذا هو المعروف
بين أصحابنا وذهبت الأشاعرة إلى أنه يغاير الإرادة وقد يفارقها وربما
ساعدهم بعض المتأخرين على الأول وخالفهم في الثاني لنا
أن الضرورة قاضية بعدم الفرق في محصل المعنى بين قولنا أريد منك
كذا وبين قولنا أطلب منك كذا أو افعل كذا والمنازع في ذلك
مكابر لا يلتفت إليه وإنما قلنا في محصل المعنى لان أريد وأطلب
يدلان على مفهوم الإرادة الكلية الملحوظة على الاستقلال وصيغة
الامر إنما تدل على ذلك باعتبار كونه آلة لملاحظة حال المادة كما هو
الشأن في دلالة الافعال على ما عدا معانيها الحدثية كالزمان و
النسبة لكن ذلك لا يوجب الفرق في محصل المعنى احتجت
الأشاعرة بأن الامر قد يريد إظهار عذره في عدم طاعة المأمور فيأمره و
لا
يريد وقوعه منه لمنافاته لغرضه وبصحة قولنا أريد منك الفعل ولا
آمرك به وبأنه تعالى أمر الكافر بالايمان ولم يرده منه لامتناعه
في حقه والجواب عن الأول أن الامر هناك ليس أمرا حقيقيا بل أمر
صوري والاختبار المقصود يتحقق به أيضا حيث إن المأمور لا علم له
بحقيقة الامر ولهذا يرى أن الامر يحافظ على عدم اطلاع المأمور على
حقيقة الحال لئلا ينتفي غرضه وكما يصح أن يقول حينئذ افعل
كذلك يصح أن يقول أريد أو أطلب منك من غير فرق هذا والتحقيق
أن الامر هناك أمر حقيقي واطلاع المأمور على غرض الامر لا أثر
له ووجهه أن مدلول الامر إرادة إيقاعية أي إرادة ينشؤها الامر و
يحدثها ومرجعها إلى إرادة وقوع الفعل من المكلف وهي تغاير
إرادة وقوعه منه والفرق أن الظرف متعلق في الأول بالإرادة وفي
الثاني بالوقوع وجواز انفكاك إحداهما عن الأخرى واختلاف
مصالحهما أمر معلوم بالوجدان فإنا كثيرا ما نريد صدور الفعل من
شخص ولا نريده منه وكذا الحال في العكس فليتأمل فإن فيه نوع
غموض وخفاء وعن الثاني أن إثبات الإرادة دليل على أن المراد بنفي
الامر نفي الالزام كما هو الظاهر منه أو مبني على ما حققناه آنفا
وعن الثالث أن الممتنع باختيار المكلف مما يصح إرادته
منه والتكليف به مع بقاء اختياره فيه كالواجب بالاختيار وإنما
المستحيل إرادة ما امتنع أو وجب بغيره أو ما خرج عن الاختيار و
يمكن
تقرير الدليل بوجه آخر وهو أنه تعالى لم يرد إيمان الكافر وإلا لامن
لامتناع تخلف إرادته عن مقتضاها قال الله تعالى ولو شاء ربك
لامن من في الأرض كلهم جميعا ومع ذلك فقد أمره بالايمان فيكون
الامر غير الإرادة والجواب أن الإرادة على قسمين إرادة تكوينية و
إرادة تكليفية وما يمتنع تخلفه عن مقتضاه إنما هو إرادته بالمعنى
الأول وهو المراد بالمشية في الآية دون الثاني وتحقيق ذلك أن
الإرادة التكوينية راجعة إلى إيجاد الشئ أو إيجاب أسبابه الموجبة له
ولو بواسطة اختيار العبد وإرادته تعالى بهذا المعنى مما يمتنع
تخلفه عن مراده ولو بواسطة اختيار العبد
68

والإرادة التكليفية راجعة إلى الرضا بالفعل ومحبوبيته كما أشار إليه
تعالى بقوله وإن تشكروا يرضه لكم وإرادته تعالى بهذا المعنى
يجوز تخلفها عن المراد وسيأتي ما يتضح به ذلك في مبحث القبح و
الحسن إن شاء الله والعجب أن من خالفهم في إثبات الملازمة
وافقهم في نفي الاتحاد على الاحتجاج بالحجة الأولى وهي كما ترى
لو تمت لدلت على نفي الملازمة أيضا ثم إن الأشاعرة نفوا كون
مدلول الامر نفس الإرادة ولم يتبينوا له معنى فأورد عليهم بلزوم وضع
الظاهر بإزاء المضمر وربما فسره من وافقهم بأنه نوع من
الميل وهو غير واضح ثم اعلم أن الفرق بين الوجوب والايجاب و
اللزوم والالزام اعتباري فإن الصادر من الامر أمر واحد إن قيس إليه
باعتبار صدوره عنه كان إيجابا وإلزاما وإن قيس إلى الفعل باعتبار
قيامه به كان وجوبا ولزوما فهما متحدان ذاتا ومتغايران
اعتبارا وليس في قولك أوجبته فوجب دلالة على المغايرة الذاتية
لجواز ترتب الشئ باعتبار على نفسه وباعتبار على آخر ومرجعه
إلى ترتب أحد الاعتبارين على الاخر ولا ينافي ذلك كون الايجاب من
مقولة الفعل والوجوب من مقولة الانفعال وكون المنقولات
متباينة لأنا لا نريد اتحاد الفعل مع الانفعال كيف والأول قائم بالفاعل
أعني الموجب والثاني قائم بالفعل أعني الواجب وتغاير
الموصوفين قاض بتغاير الوصفين وإنما نريد اتحاد المورد أعني ما
انتزع منه الاعتباران مقيسا إلى غيره وكذلك الحال في الايجاد و
الوجود والتأثير والأثر ولهذا قد ينعدم الاعتبار الأول فيبقى الاعتبار
الثاني كما في كثير من التأثيرات الاعدادية
الثاني
صيغة الامر كاشفة عن مدلولها باعتبار دلالتها عليه على حد كشف
سائر المركبات عن معانيها ومصححة لتحققه في الخارج باعتبار
دلالتها عليه نظرا إلى امتناع التكليف بدون الاعلام والافهام وهما
متغايران بحسب الزمان وأما بحسب الرتبة فالدلالة تتوقف على
المدلول وهو ظاهر ولا يتوقف المدلول عليها بل يستلزمها بمعنى أنه
لا يصح وقوعه في الخارج بدونها فيندفع الدور والتحقيق في
دفعه أن يقال مدلول الامر إرادة أو إلزام معلق تعلقه بالمكلف على
علمه به ضرورة أن العلم من شرائط التكليف فمتى حصل العلم ولو
بعد مضي زمن حال الخطاب تعلق الالزام به على حد سائر الشرائط
التي تعتبر فيه فالدلالة تتوقف على وجود المدلول ووجوده لا
يتوقف على وجود الدلالة وإنما يتوقف فعليته في حق المكلف على
العلم بها بهذا ومما قررنا يظهر أن الصيغة كما تكشف عن مدلول
الامر وتحققه كذلك يجوز أن يكشف عنه غيرها كالاجماع والعقل و
أن تكرر الامر للتأكيد لا يصيره مجازا كما سبق إلى بعض
الأوهام حيث زعم أنه موضوع لنشاء الطلب وإيقاعه فحيث تأتي
للتأكيد لا يكون المقصود به ذلك وإلا لكان تحصيلا للحاصل فيكون
مجازا لوقوعه مستعملا في غير ما وضع له ووجه دفعه أن الامر
موضوع بإزاء المعنى الذي أنشأه المتكلم في نفسه من إرادة الفعل أو
الالزام به كما يرشد إليه التبادر واقتضاؤه وقوع الطلب به من توابعه
المترتبة عليه عند عدم سبق علم المكلف به وليس الوضع بإزائه
الثالث
الامر بالفعل مطلقا هل يقتضي مطلوبيته مطلقا أو بقصد الامتثال
وجهان بل قولان أقواهما الأول ويدل عليه بعد مساعدة إطلاق اللفظ
عليه القطع بأن العبد المأمور بشراء اللحم مطلقا مثلا إذا أتى به لا لأمر
المولى لم يعد عاصيا لمخالفة الامر ولا يجب عليه الاتيان به ثانيا
لامره بل كان ما أتى به نفس الواجب وعين المطلوب بشهادة العقل و
العرف نعم لا يترتب على فعله حينئذ مدح ولا ثواب نظرا إلى عدم
قصده الامتثال به ولا ملازمة بين فعل الواجب وبين ترتب ذلك عليه
وهذا واضح ويعرف بمقايسة الحال في النهي فإن المطلوب في
النواهي المطلقة نفس الترك وإن تجرد عن قصد الامتثال ويتوقف
ترتب المدح والثواب عليه على قصده به هذا كله في الامر الايجابي
أما الامر الندبي فإن دل دليل على ترتب الثواب على مورده مطلقا كما
دل عليه في بعض الواجبات كالايمان والنية أو على كراهة تركه
من حيث إيجابه لمنقصة دينية أو دنيوية موجبة لمنقصة دينية أو
لخوفها لم يلزم أن يعتبر في استحبابه وقوعه بنية القربة ولا دلالة
للامر أيضا عليه وإلا لزم فيه ذلك لانتفاء رجحانه على تقدير عدم
القربة والفرق بينه وبين الواجب أن الواجب يترتب على تركه
استحقاق العقوبة الموجب لمرجوحيته المستلزمة لرجحان الفعل
مطلقا قضاء لحق المقابلة بخلاف المندوب الذي لا ثواب في فعله
بدون
القربة ولا كراهة في تركه فإنه لا رجحان في فعله بدون القربة أصلا
فيتعين أن يكون استحبابه مقصورا على تقدير قصد القربة به
لرجحانه حينئذ باعتبار ترتب الثواب عليه ومما حققنا يتبين أن ترك
المندوب لا يستلزم الكراهة وإن استلزم المرجوحية لقضاء
المقابلة به هذا ويمكن أن يوجه الوجه الثاني بأن الامر إما أن يقصد
إلزام المأمور بالفعل له أو لا له إذ لا مخرج عنهما والثاني باطل
ضرورة أن قول القائل افعل لا لي قبيح عرفا وعقلا بل ربما يعد من
قبيل الالزام بالمحال فيتعين إرادة الأول وهو المطلوب وحينئذ
فلا بد من ارتكاب التأويل فيما لا يعتبر في براءة الذمة منه
إلى قصد الامتثال بجعل إلزامه فيه على تقدير عدمه من باب الاسقاط
وجوابه أن المطلوب في الامر المطلق حصول الفعل مجردا عن
القيدين أي من غير اعتبار شئ منهما وعدم كونه مجردا عنهما في
الواقع لا يستلزم أن يكون معتبرا في تعلق الطلب بالفعل وقبح
التكليف به مقيدا على تقدير تسليمه لا يوجب قبحه مطلقا فإن قبح
التكليف في الفرض المذكور إنما هو من حيث كون التكليف مقيدا لا
من حيث كون الفعل مقيدا إذ لا استحالة في إتيان الفعل لا بقصد
الامتثال وإنما يستحيل تخصيص التكليف به إن تم مما يناظر المقام
في
عدم جواز التكليف به مقيدا وجوازه مطلقا الواجب الذي يمكن
التوصل إليه بمقدمة جائزة ومقدمة محرمة فإن التكليف به مطلقا جائز
و
مقيدا بالتوصل إليه بالمقدمة المحرمة قبيح هذا مع أن دعوى عدم
جواز أمر الامر بالاتيان لغيره في محل المنع كما يدل عليه وجوب
الامر بالعبادات الواجبة والحث عليها ووجهه أن المأمور متمكن من
إحداث الدعاوي الإلهية في نفسه فيصح أن يأمر بتحصيلها واحتج
العلامة على
69

الثاني بقوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين و
الاستدلال به إما من حيث إن العبادة لا تتحقق إلا بقصد الامتثال أو من
حيث إن الدين عبارة عن مجموع العقائد والأعمال الشرعية و
الاخلاص بها لا يتم إلا بقصد الامتثال وبرواية إنما الأعمال بالنيات
حيث
يدل على اعتبار النية في كل عمل ومنه فعل الواجب وفي معناها
رواية لا عمل إلا بنية وقد يستدل أيضا بقوله تعالى أطيعوا الله و
أطيعوا
الرسول حيث إن الإطاعة لا تصدق إلا عند قصد الامتثال وبرواية إنما
لكل امرئ ما نوى وهذه الوجوه لو تمت لدلت على اعتبار قصد
الامتثال شرعا فيما تعلق به أمر الشارع بالأصالة وبالعرض فيقيد بها
الأوامر المطلقة حيث لا دليل على خلافه لكنها موضع نظر أما
الأول فلان الآية إنما تقتضي أن يكون السبب الداعي إلى الامر حصول
التعبد ووقوعه وذلك أعم من حصوله به أولا كما في الامر
بالصلاة أو بواسطة كما في الامر بمقدماتها للفرق بين قولنا ما أمروا إلا
بالعبادة وبين ما أمروا إلا للعبادة فإن الأول يقتضي حصر
المأمور به في العبادة دون الثاني فلا يكون لها دلالة على وجوب قصد
التعبد في كل ما أمر به إلا على تقدير العلم بأن لا مدخل لمجرد
وقوعه في عبادة ولو مدخلية خفية وهذا على تقدير حصوله نادر
جدا مع أن الظاهر من سياقها أنها قصر إفراد وردت ردا على الكفار
حيث زعموا أنهم ومأمورون بعبادة غيره تعالى أيضا والتقدير وما
أمروا العبادة إلا لعبادته تعالى ثم أكد ذلك بذكر الاخلاص في
الدين وهو ما يدان الله به ويعبد فلا يكون فيها شهادة على المدعى
للمنع من كون المطلوب في الأوامر المطلقة عبادة وحمل الدين على
ما يتناول الأعمال بعيد ودعوى الحقيقة الشرعية فيه غير ثابتة و
إطلاقه عليها في بعض الموارد على تقدير ثبوته لا يصلح قرينة على
إرادتها منه حيث لم يثبت فلان تمسك بأن الظاهر من القصر أن يكون
حقيقيا فلا يعدل عنه إلى الإضافي من غير دليل لتوجه عليه بلزوم
التخصيص على تقديره إذ كثيرا من الواجبات مما لا يعتبر فيها قصد
القربة اتفاقا ورجحان التخصيص على غيره من أنواع الخروج عن
الظاهر على إطلاقه ممنوع لا سيما بعد مساعدة
السياق على ما ذكرناه من الحمل على القصر الافرادي ومع التنزل فلا
أقل من تساوي الاحتمالين فيسقط الاستدلال وأما الثاني فلان
المتبادر من الأعمال في الرواية إنما هو العبادات ولو سلم فسلامة
سندها غير معلومة ولا جابر لها في غير ما ذكر فيتعين الاقتصار
عليه على أنا نقول إنما يدل الرواية على أن العمل لا يكون عملا إلا
بنية فيدل على عدم الاعتداد بعمل الغافل والساهي والمكره وناوي
الخلاف حتى في العقود والايقاعات وشبهها ولا دلالة فيها على أنه
لا يكون عملا إلا بنية التقرب إذ لا شاهد فيها على هذا التقييد فلا
يكون لها دلالة على المتنازع فيه فإن قلت لا يسقط التكليف بالمأمور
به إلا بموافقة أمره وهو عمل فلا يكون إلا بنية قلت العمل إنما هو
نفس الفعل وأما موافقته للامر فهي من لوازمه على تقدير إطلاق الامر
وليست بعمل وأما عن الثالث فبأن الامر بالإطاعة مطلق ولا
يتناول كل أمر والقطع بعدم إرادة إيجاد الإطاعة في الجملة ولو في
ضمن أمر لا يقتضي القطع بإرادة إيجادها في ضمن كل أمر حتى
في مورد النزاع وأما عن الرابع فلما مر في الوجه الثاني فإن الروايتين
متقاربتان في المعنى
فصل اختلف القائلون بأن الامر للوجوب فيما إذا ورد عقيب الحظر
فالأكثر على أنه حينئذ للإباحة وقيل بل للوجوب وقيل إن علق الامر
بزوال علة عروض النهي كان كما قبل النهي قال العضدي بعد نقله
وهو غير بعيد ثم الظاهر من الحظر في كلامهم هو النهي النفسي و
حمله على ما يتناول النهي التنزيهي والغيري بعيد لا سيما الأول نعم
لا يبعد إلحاقهما به لا سيما الثاني وفي حكم سبق الخص كون المقام
مظنة له أو سبق ظن المخاطب أو وهمه ولا بد في كل ذلك من
اعتبار كون مساق الامر لبيان رفع النهي أو لتأكيد ما دل عليه بحيث
يستفاد ذلك منه ولو ظهورا بالفحوى وينبغي حمل كلماتهم عليه
ثم يرجع النزاع إلى أن سبق الحظر أو توهمه هل يصلح قرينة لإرادة
الإباحة به أو لا ومن توهم أن النزاع في تعيين ما وضع له الامر
حينئذ فقد سها سهوا بينا والتحقيق عندي أن حكم الشئ قبل الحظر
إن كان وجوبا أو ندبا كان الامر الوارد بعده ظاهرا فيه فيدل على
عود الحكم السابق وإن كان غير ذلك كان ظاهرا في الإباحة كما ذهب
إليه الأكثرين وعلى هذا فلا حاجة لنا إلى تخصيص الدعوى
بغير الامر بالعبادة ويلزم القائلين بالإباحة مطلقا ذلك لان إباحة العبادة
غير معقولة لنا على ما ذكرناه في المقامين مساعدة العرف و
الاستعمال عليه كما يظهر بالرجوع إلى ما يتفق من موارده في العرف و
سيأتي التنبيه على بعض أمثلته مع أن ذلك هو الغالب في
الأوامر الشرعية الواردة عقيب الخطر كما يشهد به الفحص والاختبار
فيتعين حمل مواضع الشك من الموارد النادرة على تقدير ثبوتها
عليه فمن موارد القسم الأول قوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم
فاقتلوا المشركين وأمر الحائض بالصلاة والصوم بعد ما نهيت عنها و
من القسم الثاني قوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا فإذا قضيت الصلاة
فانتشروا فإذا تطهرن فأتوهن وقوله صلى الله عليه وآله كنت
نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروها إلى غير ذلك فتعين
حمل مواضع الشك من الموارد النادرة على تقدير ثبوتها عليه
إلحاقا لها بالأعم الأغلب مع مساعدة الأصل في صورة إرادة الإباحة
بل الندب أيضا عليه حجة القول بالإباحة مطلقا تبادرها من الامر
عند ملاحظة سبق الحظر
عليه وغلبة استعماله فيها حينئذ في محاورات الشرع فيلحق به
مواضع الشك وأورد عليه النقض بقوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر
الحرم
فاقتلوا المشركين وبأمر الحائض بالصوم والصلاة وجوبا بعد ما نهيت
عنهما فأجيب بأنه شاذ فلا يقدح في ظهور الإباحة وغلبتها و
ضعفه ظاهر مما قدمنا واحتج بعضهم بأن ضدية الإباحة للحرمة
توجب تبادرها من الامر المسبوق بالحظر وليس بشئ لان الأحكام الخمسة
كلها متشاركة في الضدية احتج القائلون بالوجوب مطلقا أولا
بجواز تصريح الامر حينئذ بالوجوب فلو كان وقوعه عقيب الحظر
منافيا لذلك لما جاز والجواب أن المقصود ظهور الامر في غير
الوجوب بالنسبة إلى موارده بالنظر إلى القرينة الظاهرية وذلك لا
ينافي جواز التصريح بالخلاف وثانيا بأن قول
70

المولى بعده اخرج من المحبس إلى المكتب ظاهر في الوجوب مع
سبق الحظر من الخروج عليه والجواب أن الحظر عن الخروج إن كان
بعد الامر بالذهاب إلى المكتب فلا نزاع لنا فيه كما عرفت وإن كان
بدونه فلا خفاء في أنا إنما نريد كون سبق الحظر في نفسه قرينة
صالحة لصرف الامر عن الوجوب وذلك لا ينافي قيام قرينة أخرى
موجبة لخلافه فإن القرائن الظنية قد تتعارض وفهم الوجوب هناك
على تقدير تسليمه مستندا إلى ما سبق العلم به أو ما هو ظاهر الحال
من كون الخروج إليه مطلوبا عند عدم ما يمنع منه نظرا إلى أن
العادة جارية بالاهتمام بشأنه أو لنحو ذلك ونظيره أوامر الحائك ومن
يقرب إليه في الصناعة لمن يعمل بين يديه حيث يأمره بالذهاب
تارة وبالمجئ أخرى بعد ما ينهاه عنهما ويأمره بالارسال تارة و
بالامساك أخرى بعد ما ينهى عنهما فإن السر في فهم الايجاب من
تلك الأوامر مع سبق الحظر عليها سبق الامر عليه مضافا إلى كون
المقام مقتضيا لطلب التشاغل بالفعل ونواهيه إنما يكون على قدر
الضرورة والحاجة هذا وأجاب بعض المعاصرين عن الامر بالخروج
بأنه خارج عن محل البحث لان الكلام فيما إذا اتحد مورد الامر و
النهي إطلاقا وتقييدا والنهي في المثال المذكور متعلق بمطلق
الخروج والامر بالمقيد منه بالذهاب إلى المكتب فدلالته فيه على
الوجوب لا ينافي المقصود هذا ما يظهر من كلامه وضعفه ظاهر لان
النهي عن المطلق يقتضي النهي عن المقيد فيكون الامر به عقيب
الحظر عنه على أن اشتراط اتحاد المورد من حيث الاطلاق والتقييد
يوجب خروج أكثر أمثلة الباب أو كلها منه كما لا يخفى وإن أراد أن
النهي في المثال المذكور متعلق بالجزاء أعني الخروج والامر متعلق
بالمجموع المركب منه ومن الذهاب إلى المكتب فيتدافع قضية
الجزين فيرجح جانب الحقيقة فضعفه ظاهر لان متفاهم أهل العرف
والاستعمال لا يساعد على الفرق أ لا ترى أن المولى إذا قال لعبده
لا تأخذ هذه الخمسة ثم قال له خذ العشرة مشيرا إليها وإلى خمسة
أخرى أنه لا يفهم منه الوجوب حيث لا يفهم من قوله خذ الخمسة و
كذا
إذا قال سائل هل يجوز بيع أحد النقدين بالآخر فقيل له بع أحدهما
بالآخر واقبض في المجلس فإنه لا يفهم منه أيضا إلا إباحة البيع على
الوجه المذكور و
على قياسه الحال في نظائره ومن هنا يتضح أن الحكم المذكور لا
يختص بالامر بالشئ بعد الحظر عنه بل يتناول الامر الوارد في
سياق الامر المذكور أيضا نعم يعتبر أن يكون له تعلق به كما يظهر من
المثال المذكور ثم اعلم أن القوم حرروا هذا النزاع على القول
بأن الامر للوجوب ولا يختص به بل يجري على سائر الأقوال في الامر
مما عدا القول بالإباحة أيضا ووجهه ظاهر
فصل الحق أن هيئة الامر لا دلالة لها على مرة ولا تكرار
وفاقا لجماعة من المحققين وقال قوم بأنها تفيد التكرار إن أمكن و
نزلوها منزلة أن يقول افعل أبدا وقال آخرون بأنها تفيد المرة و
قيل باشتراكها بين المرة والتكرار وتوقف جماعة وهم بين متوقف في
الاشتراك وعدمه وبين متوقف في تعيين المرة والتكرار و
الظاهر أن نزاعهم في الدلالة الوضعية كما يشير إليه حججهم وهو نص
القول بالاشتراك وفي الأوامر التي لا يكون في معنى النهي كما
ترك واجتنب فإن الكلام فيهما كالكلام في النهي وإنما حررنا النزاع
في الهيئة لنص جماعة عليه ولأن الأكثر حرروا النزاع في الصيغة
وهي ظاهرة بل صريحة فيها ولأنه لا كلام في أن المادة وهي المصدر
المجرد عن اللام والتنوين لا تدل إلا على الماهية من حيث هي
على ما حكى السكاكي وفاقهم عليه وخص نزاعهم في أن اسم
الجنس هل يدل على الجنس من حيث هو أو على الفرد المنتشر بغير
المصدر ويؤيد ذلك أو يدل عليه عدم احتجاج القائل بالمرة هنا
بدلالة المادة عليها مع أن من المواد ما لا نزاع في دلالته على الدوام و
استمر ثم هل المراد بالمرة الفرد الواحد وبالتكرار الافراد أو المراد بها
الدفعة الواحدة وبالتكرار الدفعات وجهان استظهر الأول
منهما بعض المعاصرين ولم نقف له على مأخذ والتحقيق عندي هو
الثاني لمساعدة ظاهر اللفظين عليه فإنه لا يقال لمن ضرب بسوطين
دفعة إنه ضرب مرتين أو مكررا بل مرة واحدة على أن القائل بالتكرار
يقول بوجوبه مع الامكان على تقدير أن يكون الامر للوجوب و
لا قائل ظاهرا بوجوب الاتيان بما زاد على الفرد الواحد دفعة إذا تمكن
منه وفي كلامهم تلويحات إليه كقول القائل بالتكرار هو للتكرار
مدة العمران أمكن وقول البعض حكاية عنهم ونزلوها منزلة أن يقول
افعل أبدا إلى غير ذلك مع أنهم لو أرادوا بالمرة الفرد لكان
الأنسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي من أن
الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد فيقال عند ذلك وعلى تقدير تعلقه
بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد أو لا يقتضي شيئا
منهما ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث
كما فعلوه وأما على ما اخترناه فلا علقة بين المسألتين فإن للقائل بأن
الامر يتعلق بالطبيعة أن يقول بأنه للمرة أو التكرار بمعنى أنه
يقتضي وجوب إيجادها مرة واحدة أو مرارا بالمعنى الذي سبق وأن لا
يقول بذلك وكذا القائل بأنه يتعلق بالفرد دون الطبيعة إذ ليس
المراد به الفرد الواحد بل مطلق الفرد وبهذا يندفع ما أورده المحشي
الشيرازي على الحاجبي حيث نفي دلالة الامر على المرة والتكرار
مع قوله بأن الامر يتعلق بالفرد دون الطبيعة من أنهما لا يتوافقان إذ لا
شك أن الجزئي هو الماهية المقيدة بوحدة ما ثم ما أجاب عنه
بقوله إلا أن يقال مرادهم من المرة أن لا يكون متكررا مردود بأن ذلك
مما لا إشعار به في كلامهم كما ستقف عليه بل أقول على تقدير
تفسير المرة بالفرد لا منافاة بين قول الحاجبي أيضا لان المراد بالمرة
حينئذ إنما هو الفرد الواحد كما أن المراد بها على التقدير الاخر
الدفعة الواحدة فقوله يتعلق الامر بالفرد دون الطبيعة لا يقتضي القول
بتعلقه بفرد واحد حتى يلتجئ في المقام إلى التزام القول بالمرة
بل له أن يقول بها وبالتكرار وأن لا يقول بشئ منهما بأن يجعله لطلب
الفرد مجردا عن اعتبار الوصفين كما هو ظاهر مذهبه إذا
عرفت هذا فلنا على القول المختار وجوه الأول التبادر فإن المفهوم من
الصيغة عند الاطلاق ليس إلا طلب إيجاد الفعل وظاهر أن المرة
والتكرار خارجان عنه وإذا ثبت ذلك عرفا ثبت لغة وشرعا بضميمة
أصالة عدم النقل ولا ينافي ذلك عدم انفكاك المطلوب عن
أحدهما واقعا على التخيير والبدلية بناء على ما تحققه من أن
المطلوب بالامر
71

إما الوجود الخارجي أو الماهية الخارجية لان مجرد عدم انفكاك شئ
لا يوجب أخذه في وضع اللفظ بإزائه الثاني أن الامر قد يقيد
بالمرة كما يقال افعله مرة وقد يقيد بالتكرار كما يقال افعله مرارا و
المقيد بالقيود المتقابلة لا دلالة له على خصوص أحدها وهذا القدر
من البيان ضعيف لجواز أن يكون القيد على أحد التقديرين تأكيدا و
توضيحا وعلى الاخر بيانا لإرادة خلاف الظاهر ولو اعتبر مع ذلك
تساوي نسبته إلى كل من القيدين بشهادة العرف تم واستقام وقد
يتمسك في نفي الأول بأولوية التأسيس على التأكيد والثاني بأصالة
عدم مخالفة الظاهر وهو ضعيف إذ جواز التعويل على مثل ذلك في
إثبات الوضع غير ثابت الثالث استعمال صيغة الامر في القدر
المشترك ثابت وفي خصوصية كل من المرة والتكرار وغير ثابت و
إنما الثابت إطلاقها على المقيد بهما فيكون بالنسبة إلى القدر
المشترك من قبيل متحد المعنى إذ المعنى المشكوك فيه بمنزلة العدم
فقضية الأصل أن يكون حقيقة فيه على ما سبق تحقيقه في متحد
المعنى الرابع ما ذكره العلامة من أنها تستعمل تارة في المرة وتارة في
التكرار فلو كان حقيقة في أحدهما بخصوصه لزم المجاز أو
فيهما معا كذلك لزم الاشتراك وهما على خلاف الأصل فيتعين أن
يكون للقدر المشترك ليكون الاستعمال فيهما على الحقيقة وهذا
الاستدلال عندي غير مستقيم كما مر غير مرة الخامس ما أشار إليه
العلامة أيضا وهو ينهض حجة على نفي التكرار فقط وتقريره لو
كان الامر للتكرار لكان كل عبادة ناسخة لما تقدمها والتالي بإطلاقه
باطل بالاتفاق بيان الملازمة أن الامر الثاني يوجب رفع التكرار
الذي أفاده الامر الأول بحسب ما يختص به من زمن الامتثال به فيكون
ناسخا له وهو المراد بالتالي وفيه نظر لان القائل بالتكرار
إنما يقول به إذا تمكن المكلف منه عقلا أو شرعا كما حكاه بعضهم و
هو الظاهر من إطلاق الامكان على ما مر في تحرير العنوان و
ظاهر أن الامر الثاني إنما يرفع تمكن المكلف في الزمن المتأخر ولا
يرفع الحكم فيه إذ لا ثبوت له مع عدم التمكن حجة من قال
بالتكرار وجوه الأول أنها لو لم تكن للتكرار لما تكرر الصوم والصلاة و
قد تكررا وأجيب تارة بمنع الملازمة لجواز أن يكون التكرار
ثابتا فيهما بدليل آخر وأخرى بالمعارضة بالحج حيث أمر به و
لا تكرار ويمكن أن يعارض أيضا بالصلاة بالنسبة إلى كل وقت من
أوقاتها حيث أمر بها فيه ولا تكرار لا يقال يمكن دفع المعارضة
بنحو ما مر في الوجه الأول من أن عدم التكرار هناك لعله مستفاد من
دليل آخر لأنا نقول لا يستقيم الاستدلال بمجرد منع ما يوجب
القدح فيه بخلاف منع بعض مقدماته فإنه يوجب القدح في
الاستدلال قطعا الثاني أن النهي يقتضي التكرار والامر يشاركه في
الدلالة
على الطلب فيكون أيضا كذلك وأجيب عنه أولا بأنه قياس في اللغة و
هو باطل كما مر وثانيا ببيان الفارق وذلك من وجهين الأول أن
النهي يقتضي انتفاء الحقيقة وذلك لا يكون إلا بانتفائها في جميع
الأوقات والامر يقتضي إيجادها وهو يحصل ولو في ضمن المرة و
يمكن دفعه بأن دلالة النهي على انتفاء الحقيقة في جميع الأوقات
ليس من جهة أن انتفاء الحقيقة لا يكون إلا عند انتفائها كذلك لان
انتفاء
الحقيقة كما يكون عند انتفائها في جميع الأوقات كذلك يكون عند
انتفائها في بعض الأوقات فالفرق ممنوع وهنا كلام يأتي ذكره في
مبحث النهي الثاني أن التكرار في الامر مانع من فعل غير المأمور به
بخلاف النهي فإن الترك يجامع غيره من الافعال وأورد عليه بأن
القائل بالتكرار لا يقول به حيث منع مما يلزم فعله شرعا أو عقلا لانتفاء
التمكن الشرعي أو العقلي في ذلك وقد اعتبره فيه وهذا الايراد
مما لا مساس له بكلام المجيب إذ ليس فيه ما يقتضي تخصيص
دعوى مانعية التكرار بما يلزم فعله شرعا أو عقلا وإنما أراد أن تكرار
فعل المأمور به ينافي غيره من الافعال بخلاف تكرار ترك المنهي عنه
فإنه يجتمع مع غيره من الافعال وجعل هذا فارقا بين الامر و
النهي وليس في اعتبار التمكن ما ينافي ذلك نعم ينبغي تنزيل كلامه
على إرادة الغالب لان تكرار فعل المأمور به قد لا ينافي لغيره من
الافعال كما في الامر بالسكوت وتكرار ترك الفعل المنهي عنه قد
ينافي لبعض الافعال كما في النهي عن مقدمة الفعل التعينية ويمكن
الجواب أيضا بأن النهي لا دلالة له على التكرار بل على الاستمرار وهو
غير التكرار إلا أن يقال المراد بالتكرار استمرار الاشتغال بفعل
المأمور به أو يقال إذا دل النهي على الاستمرار كان القياس أن يدل
الامر عليه أيضا فإذا تعذر دلالته عليه ناسب أن يدل على التكرار
لان
التكرار في الفعل بمنزلة الاستمرار في الترك لكن الوجه الثاني
استحسان في قياس وقد مر أنه لا تعويل عليه في مباحث الألفاظ
الثالث
أن الامر بالشئ نهي عن ضده والنهي يقتضي دوام الترك فيلزم منه
تكرار المأمور به والجواب أن النهي عن الضد إنما يكون على
حسب ما يقتضيه الامر لأنه تابع له فإذا لم يدل الامر على التكرار فمن
أين يدل النهي على دوام ترك الضد إذ الفرع لا يزيد على أصله و
اعلم أنه ينبغي حمل الضد في كلام المستدل على إرادة الترك إذ لو
حمل على إرادة الأضداد الوجودية فهو مع توقفه على القول
بالاقتضاء لا يقتضي وجوب التكرار وإن اقتضى وقوعه لأنه حينئذ من
جملة المقارنات كما سيأتي في دفع شبهة الكعبي احتج من قال
بالمرة بأن السيد إذا قال لعبده ادخل النار فدخلها مرة عد ممتثلا عرفا
وذلك آية كونه حقيقة في المرة والجواب أن ذلك لا يقتضي
كونها حقيقة في المرة بخصوصها وإنما يقتضي ظهورها فيها عند
الاطلاق ونحن لا نتحاشى عن ذلك ولهذا لو قال ادخلها مرتين أو
مرارا لم يكن فيه تجوز أصلا ودعوى مغايرة وضعه مطلقا لوضعه
مقيدا مع مخالفتها للأصل مخالفة لما يشهد به الذوق والوجدان هذا و
المعروف بينهم في الجواب أنه إنما يعد ممتثلا لايجاد الطبيعة لا لكون
المأتي به مرة لان الامر ليس للمرة كما أنه ليس للتكرار بل للقدر
المشترك ويحصل في ضمنهما وهذا الجواب لا يستقيم على أصلنا
الآتي من أن المطلوب بالامر إما الوجود الخارجي أو الماهية الخارجية
فإن ذلك يوجب مطلوبية المرة عند عدم مطلوبية التكرار قال
العضدي بعد ذكر الجواب المذكور ولولا ذلك لما امتثل بالتكرار و
اعترض عليه بعضهم بأنه في حيز المنع فإن المرة يحصل في ضمن
التكرار يعني يجوز أن يتمثل بالتكرار باعتبار ما يتضمنه من المرة
كما أنه يمتثل به على القول الاخر باعتبار ما يتضمنه من الطبيعة ثم قال
اللهم إلا أن يراد بالمرة لزوم الاقتصار على المرة
72

حتى يكون في الاتيان بها مرتين أو أكثر مخالفة للامر وهذا الاعتراض
بجوابه مع أصل التعليل فاسد أما فساد الاعتراض فلان مقصود
العضدي حصول الامتثال بالمرة الثانية والثالثة فما زاد وهذا على
القول بالمرة غير متجه وما زعمه المحشي الشيرازي في دفع ذلك
من أن القائل بالمرة يريد بها الطبيعة المقيدة بالوحدة المطلقة فيصدق
على المأتي به ثانيا فما زاد أنه طبيعة مقيدة بالوحدة المطلقة كما
يصدق عليه أنه طبيعة فالفرق بينهما في حصول الامتثال تحكم
ضعيف إذ ليس المفهوم من المرة ما ذكره بل الطبيعة المقيدة بمرة
شخصية أي المرة الصادقة على آحاد المرات على البدل وما تأوله به
تعسف ظاهر وأما فساد الجواب فلان القائل بالمرة لم يزد على
اعتبارها شيئا وليس في ذلك دلالة على اعتبار النهي عما زاد عنها بل
ولا عدم مطلوبية الزائد اللهم إلا إذا كان ممن يقول بحجية مفهوم
القيد مطلقا فيلزمه الالتزام بالثاني وأما فساد التعليل فسيأتي بيانه
احتج القائل بالاشتراك بوجهين الأول وقوع الاستعمال في كل
منهما وقضية الأصل أن يكون حقيقة فيهما والجواب ما مر من أن
الاستعمال أعم من الحقيقة ولو سلم فقد بينا ما يوجب الخروج عنه
الثاني حسن الاستفهام عن إرادة المرة والتكرار وذلك آية الاشتراك و
الجواب المنع من ذلك فإن الاستفهام قد يحسن لدفع
الاحتمالات المرجوحة أيضا احتج المتوقفون بأنه لو ثبت فإما بالعقل
ولا مدخل له فيه وإما بالنقل وهو إما بالآحاد وهي لا تفيد العلم و
إما بالتواتر وهو يمنع وقوع الخلاف وقد مر هذا الاستدلال بجوابه
تتمة الحق أن تعليق الامر على الشرط والصفة بمجرده لا يفيد التكرار
بحسب تكررهما نعم كثيرا ما يستفاد ذلك من أمور خارجة كعموم
الشرط أو تبادر العلية التامة من التعليق بحسب مقتضى المقام وهو
شائع بل قد يستفاد منه إرادة التكرار ما دام الوصف باقيا أو بمجرد
حصول الشرط وإن لم يتكرر لكن كل ذلك خارج عن المبحث و
خالفنا في ذلك بعض من وافقنا في الأصل المتقدم على نفي التكرار
لنا أن المتبادر من التعليق في المقامين ليس إلا تقييد الطلب و
التكرار معنى خارج عنه احتجوا بأنه قد تكرر الامر في قوله تعالى إذا
قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وإن كنتم جنبا فاطهروا والزاني و
الزانية فاجلدوا والسارق والسارقة فاقطعوا وقد دل الاستقراء على أن
منشأ فهم التكرار منها نفس التعليق والجواب أنه إن أريد أن
الاستقراء دل على أن الدال على التكرار هناك مجرد التعليق فممنوع و
إن أريد أنه دل على أن الدال نفس تلك الآيات أو التعليق في
الجملة فبعد تسليمه لا يثبت به المقصود لان التعليق في مثل تلك
الموارد يفيد العلية التامة عرفا وقد يستدل على الحكم الثاني بأن
تعليق
الحكم على الوصف يشعر بالعلية اتفاقا فيجب أن يتكرر الحكم حيثما
يتكرر الوصف لامتناع تخلف المعلول عن العلة والجواب أنهم
أرادوا أنه يشعر بالعلية في الجملة لا أنه يشعر بالعلية التامة فحينئذ لا
يستحيل الانفكاك سلمنا لكن اطراد هذا الاشعار ممنوع كما
ستقف عليه واعلم أن بعض المعاصرين نقل عنهم الاحتجاج
بالاستقراء وقرره بما حاصله أن تتبع الموارد المذكورة وغيرها مما
أفاد
التعليق فيه التكرار لكثرتها وغلبتها يوجب الظن بإرادة التكرار من
التعليق حيث يشك فيه وأجاب بأن الغلبة في الموارد التي تستفاد
منها العلية لا يوجب ثبوت الحكم في غيرها ولم نقف على هذا
التقرير في كلامهم وكأنه سهو في التقرير السابق
تذنيب يشتمل على تنبيهين
الأول
إذا ثبت أن مدلول الامر إنما هو طلب الحقيقة من غير دلالة على مرة و
لا تكرار فإذا أتى المكلف بالفعل مرة واقتصر عليها فلا ريب في
صدق الامتثال وخروجه عن عهدة التكليف بها ولو لم يقتصر عليها
فهل يصدق الامتثال على الاتيان بما زاد عليها قيل نعم لوجود
الطبيعة المأمور بها فيه فإن الصيغة لما كانت للقدر المشترك بين المرة
والتكرار وهو طلب الحقيقة فلا جرم يحصل الامتثال بأيهما
وقع على ما يشهد به العرف وفيه نظر لأنه لا ريب في سبق المرة فلا
بد من حصول الامتثال بها لكونها أحد الامرين اللذين فرض
حصول الامتثال بأيهما وقع فإذا حصل الامتثال بها لم يبق وجه
للامتثال بما زاد عليها إذ الامتثال عقيب الامتثال مع وحدة الطلب غير
معقول لأدائه إلى تحصيل الحاصل على أنا نقول حصول الامتثال بما
زاد على المرة مبني على تعلق الطلب به إما إيجابا أو ندبا وهو بكلا
قسميه باطل أما بطلان تعلق الطلب به إيجابا فلانه يستلزم عدم
الخروج عن عهدة التكليف بالمرة وهو خلاف الفرض لأنه راجع إلى
القول بالتكرار وأما بطلان تعلق الطلب به ندبا فلتوقفه على القول
بجواز استعمال اللفظ فيما زاد على معنى واحد وهو مع فساده في
نفسه لا يصار إليه عند عدم القرينة ولا يذهب عليك أن هذا إنما يتم
على القول بأنه حقيقة فيهما أو في أحدهما فقط وأما على القول بأنه
حقيقة في القدر المشترك كما هو المختار أمكن اعتبار الايجاب
بالنسبة إلى المرة الأولى والاستحباب بالنسبة إلى المرات المتأخرة
من
غير أن يستعمل الامر في شئ منهما كما لو تعلق بواجب ومندوب
نعم يرد عليه المنع من مساعدة العرف على هذا التقدير على هذا
التنزيل عند الاطلاق والتجرد عن القرائن كما هو محل البحث وأيضا
إذا لم يكن مدلول الامر عند الاطلاق إلا طلب الحقيقة كما تمسكوا
به على نفي المرة والتكرار فمن أين يستفاد وجوب المرة وندبية ما
زاد عليها وهل هذا إلا تهافت هذا إذا فسرت المرة بالدفعة وأما
إذا فسرت بالفرد اتجه التفصيل حينئذ بين الاتيان بما زاد على الواحد
دفعة وبين
الاتيان به على التعاقب فيرد عليه ما ذكرناه على التقدير الثاني دون
الأول لان الطبيعة المأمور بها متحققة في ضمن الجميع كتحققها
في ضمن الواحد فلا سبيل إلى تعيينه ثم هذا كله مبني على القول
بجواز تعلق الاحكام والمطلوبية بالطبائع من حيث هي كما هو مقالة
البعض كالفاضل المعاصر على ما صرح به في غير المقام فإن قلت
على هذا القول يكون المطلوب أيضا طبيعة الامتثال لا الفرد الحاصل
منه بفعل المرة وإن كان الفرد مطلوبا تبعيا عند أهل هذا القول من باب
المقدمة لان الكلام في المطلوب الأصلي وظاهر أن طبيعة
الامتثال إذا أخذت من حيث هي لم يكن لها تعدد في صورة التكرار
حتى يلزم التعاقب مع أن الامتثال عبارة عن موافقة الامر ومرجعه
إلى الاتيان بالمأمور به
73

على وجهه فدعوى امتناع التكرار فيه راجعة إلى دعوى امتناعه في
فعل المأمور به وهي مصادرة قلت المراد بالامتثال الخروج عن
عهدة التكليف بموافقة الامر ولا ريب في حصول بالمرة الأولى فلا
يعقل حصوله بالثانية فما زاد لما مر ولا سبيل إلى نقل الكلام إلى
الخروج من حيث إن المطلوب منه على القول المذكور أيضا طبيعة من
حيث هي ولا تعدد لها وإن تعدد أفرادها لأنا نتكلم على وقوع
الخروج لا على المطلوب منه هذا وأما على ما نحققه من أنها لا تتعلق
بالطبائع إلا باعتبار وجودها في الخارج فيمكن توجيه ذلك بأن
الطبيعة إذا أخذت بهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكل
من التفسيرين بحيث لا يمكن اعتبار تجريدها حينئذ عنهما
فحيث لا دليل على تعيين أحدهما يتعين التخيير بينهما دفعا للترجيح
بلا مرجح إلا أن مرجع التخيير على تقدير تفسيرهما بالفرد و
الافراد إلى وجوب الخصوصيات لا على وجه التعين وعلى تقدير
تفسيرهما بالدفعة والدفعات إلى وجوب ملزومهما لا على وجه
التعيين
هذا إذا استلزمت الدفعة للفرد وإلا فمرجعه إلى عدم تعيين شئ
منهما فيتخير المأمور بينهما فيندفع الاشكالات المتقدمة أما الأول
فلان الامتثال بالمرة إنما يقع حينئذ إذا لم يتعقب التكرار ومعه يقع
الامتثال به لا بالمرة كما سيأتي نظيره في التخيير بين الأقل و
الأكثر وأما الثاني فلانا نختار أن الامر يتعلق به إيجابا إن كان للايجاب و
لا يلزم منه القول بالتكرار لان القائل بالتكرار يريد به
تعيين التكرار ويجعل مطلوبية كل واحد على الاستقلال ونحن إنما
نقول به على وجه التخيير فيكون مطلوبية كل واحد في صورة
التكرار على وجه التبعية وأما الثالث فلان الدلالة المذكورة غير ناشئة
عن نفس الصيغة بل عن اعتبار خارج فلا ينافي ما ذكر من أن
مدلول الصيغة ليس إلا طلب الحقيقة والتحقيق أن إطلاق الامر لا
يقتضي إلا مطلوبية فرد واحد لان تعلق الطلب بالطبيعة باعتبار الخارج
على تحقيقنا الآتي يرجع إلى تعلقه بها باعتبار كونها فردا ولا ريب أن
أقل المراتب اعتبارها في فرد واحد لا على التعيين دفعا للترجيح
بلا مرجح فيبقى الزائد مشكوكا فيه منفيا عنه الحكم بالأصل نعم إذا
أتى بما زاد على الواحد دفعة
واحدة وقع الجميع على وجه المطلوبية كما يأتي في الواجب المخير
مع أن اعتبار التخيير بين الفرد وما زاد والمرة والتكرار إنما
يستقيم إذا اعتبر الفرد والمرة بشرط لا كما مر وليس في إطلاق الامر
إشعار به نعم لقائل أن يقول بأن الصيغة وإن لم تفد وجوب ما
زاد على المرة بحسب الوضع لكن ندعي قيام الحجة على وجوب
التكرار ومطلوبيتها وتقرير الحجة من وجهين الأول أن الطبيعة
المأمور بها أمر وحداني وقد اتصفت بصفة الوجوب والمطلوبية و
قضية الاستصحاب بقائها بعد الاتيان بها مرة إلى أن يتبين زوالها و
لا يذهب عليك أن هذا على القول بأن المطلوب بالامر نفس الطبيعة
متجه الورود لان الاحكام اللاحقة للطبائع من حيث هي لاحقة
لافرادها بالضرورة ولا يرتفع عن البعض إلا بطريق النسخ وأما على ما
نختاره من أن المطلوب به الطبيعة باعتبار الخارج فواضح
السقوط كما يظهر من بياننا المتقدم الثاني قوله صلى الله عليه وآله إذا
أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم فإن المراد ما دمتم
مستطيعين لا الذي استطعتم أو شيئا استطعتم منه سواء فسر بالفرد أو
بالقدر بمعنى الأجزاء وذلك بشهادة ما قبله عليه على ما روي
من أنه خطب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال إن الله كتب عليكم
الحج فقام عكاشة ويروى سراقة بن مالك فقال أ في كل عام يا
رسول الله فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا فقال ويحك وما
يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجب ولو وجبت ما استطعتم
ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتم وإنما هلك من كان قبلكم بكثرة
سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه
ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه لا يقال إذا من أداة
الاهمال والتكرار في البعض مما لا كلام فيه وأيضا يختص الحكم
المذكور بأوامر الرسول على ما يقتضيه الاسناد والمقصود أعم من
ذلك لأنا نقول أما الأول فمدفوع بعد المساعدة على الدعوى بأن
المقام قرينة على إرادة العموم وذلك ظاهر وأما الثاني فيمكن دفعه
بأن الظاهر عدم الفرق بين سيرة الرسول والأئمة عليهم السلام
في ذلك وبأن أوامرهم كاشفة عن أوامر الرسول فيتبعها حكمها لكن لا
يخفى أن الرواية إنما تقتضي ندب التكرار لا وجوبه وإلا
لانتفى فائدة التحذير عن السؤال وحمله على قصد عدم تأكد
الوجوب بعيد مع عدم مساعدة سندها على إثبات الوجوب غاية ما
في
الباب أن ينهض دليلا على الاستحباب تسامحا في دليله
وفي تسرية الحكم المذكور إلى الأوامر الندبية وجه
الثاني لا خفاء في ثمرة النزاع
بين القول بالمرة والقول بالتكرار وبين القول بالتكرار والقول بالطبيعة
بناء على عدم الامتثال بما زاد على المرة مطلقا أو الامتثال
به على التخيير أو الاستحباب مع كون الامر للوجوب وأما إذا كان
الامر للندب وقلنا بندبية التكرار من حيث الآحاد لا من حيث الجملة
فلا ثمرة فيه بين القولين وأما القول بالمرة والقول بالطبيعة فالثمرة
بينهما ظاهرة بناء على الامتثال بما زاد على المرة وإلا فالثمرة
اعتبارية من حيث كون المرة مطلوبة على القول بالمرة من حيث كونها
مرة وعلى القول الاخر باعتبار تحقق الطبيعة في ضمنها ولا
فرق في ذلك بين تفسيري البدعة ولا بين تفسيري المرة وربما يتوهم
أنه إن فسرت المرة حينئذ بالفرد ظهرت الثمرة فيما لو أتي
بالزائد دفعة واحدة فإنه على القول بالطبيعة تمثيل بالجميع لان تحقق
الطبيعة في ضمن الواحد كتحققها في ضمن الأكثر وحيث لا دليل
على تعيين أحدهما يتعين التخيير بينهما وأما على القول بالمرة فإنما
يمتثل بأحدهما لا غير ويستخرج بالقرعة إن احتيج إلى التعيين و
التحقيق أنه على القول بالمرة يمتثل بالجميع أيضا لامتناع عدم
الامتثال للاتيان بالمطلوب على وجهه أو الترجيح لعدم المرجح هذا
إذا
اعتبرت المرة لا بشرط كما هو الظاهر وأما إذا اعتبرت بشرط لا كما
زعمه بعضهم فإن فسرت المرة بالدفعة فإن أريد مجرد نفي
مطلوبية الزائد فالثمرة تظهر حينئذ على تقدير تفسير البدعة بإدخال ما
علم خروجه من الدين فيحرم التكرار على القول بالمرة دون
الطبيعة وأما على التفسير الاخر فلا ثمرة إلا إذا التزم القائل بالطبيعة
بالامتثال بالزائد فتظهر الثمرة فيه وإن أريد أن عدم التكرار
شرط في مطلوبيته حتى إنه
74

لو وقع مكررا امتنع الامتثال مطلقا فالثمرة ظاهرة إذ على القول
بالطبيعة يمتثل بالمرة في صورة التكرار بل وبالتكرار أيضا على
قول البعض وعلى القول بالمرة لا يمتثل بالمرة وإن أريد مجرد المنع
من التكرار فالثمرة تظهر على تقدير تفسير البدعة بالمعنى
المعروف في مستند المنع فإنه على القول بالطبيعة كونه بدعة وعلى
القول بالمرة ظاهر الامر أيضا ولا خفاء في الثمرة على التفسير
الاخر وإن فسرت المرة بالفرد وجي بالزائد دفعة فلا ثمرة على
الاحتمال الأول لتحقق الامتثال على القولين كما نبهنا عليه في
الاحتمال الظاهر على هذا القول وعلى الاحتمالين الأخيرين يمتثل
على القول بالطبيعة ولا يمتثل على الاحتمال الأول في المرة لانتفاء
الشرط وكذا على الثاني عند من يمنع من اجتماع الأمر والنهي
لجهتين وأما على القول بالجواز فيمتثل بالجميع ويعصى به باعتبارين
وأما ما قيل من أن المطلوب حينئذ يستخرج بالقرعة فواضح الفساد إذ
لا تعلق لذلك حينئذ بمسألة الاجتماع مع أن القرعة إنما تصلح
لتعيين ما هو معين في الواقع غير معين في الظاهر وظاهر أن المقام
ليس منه إذ لا تعيين في الواقع للزوم الترجيح بلا مرجح ثم هذا كله
إذا فسرت الوحدة بالوحدة الشخصية بالمعنى المتقدم وأما إذا فسرت
بالوحدة المطلقة كما زعمه المحشي الشيرازي لم يكن فرق بين
القولين مطلقا إلا في الاعتبار إذ الفعل المأتي به في الوقت الثاني كما
أنه فرد للطبيعة من حيث هي كذلك فرد للطبيعة من حيث هي
كذلك فرد للطبيعة المقيدة بالوحدة المطلقة فإن قلنا بحصول الامتثال
به على الأول اتجه القول به على الثاني أيضا وإن منعناه في الأول
اتجه المنع في الثاني أيضا هذا محصل الكلام في ثمرة النزاع من حيث
المعنى وأما من حيث اللفظ فإن كان القائلون بالمرة والتكرار
يجعلونه مجازا في غيره كما هو الظاهر فالثمرة ظاهرة وإن كانوا
يجعلونه ظاهرا في ذلك فلا ثمرة من حيث اللفظ لكن القول بالمرة
بهذا المعنى يرجع إلى القول بالطبيعة على ما حققناه وأما القائل
بالاشتراك والمتوقف فمرجعهما في مقام العمل إلى القول بالمرة و
يعرف الثمرة بينهما أو بين سائر الأقوال مما مر
فصل الحق أنه لا دلالة لصيغة الامر بمجردها على فور ولا على تراخ
وفاقا لجماعة من المحققين وخلافا للشيخ وجماعة حيث ذهبوا إلى
أنها تقتضي الفور والتعجيل وللسيد حيث جعلها مشتركة بينه وبين
التراخي وتوقف جماعة وهم بين من يقول إذا بادر لم يقطع بكونه
ممتثلا لجواز أن يكون المقصود هو التأخير وبين من يقول إذا بادر
كان ممتثلا قطعا وإن أخر لم يقطع بخروجه عن العهدة وموضع النزاع
دلالة الامر باعتبار الصيغة أعني الهيئة كما مر في المبحث
السابق وأما باعتبار المادة فلا ريب في أنه قد يقتضي أحدهما وقد لا
يقتضيه ولهذا لم يوردوا على المستدلين بالآيتين على الفورية
بلزوم الدور وإن أمكن دفعه بتغاير الجهة ثم المراد بالفور إما الزمن
الثاني من الخطاب أو أول أزمنة الامكان وقد وقع التفسيران في
تضاعيف كلماتهم والأول أقرب لفظا والثاني أوفق اعتبارا والفرق
بينهما ظاهر فإن أول أزمنة الامكان قد يكون هو الزمن الثاني من
الخطاب وقد يكون غيره كما في الأوامر المشروطة بما يتراخى
حصوله وكما في الأوامر المطلقة التي أريد بها الفعل بحسب زمن
متراخ كما في المستطيع النائي فإن الفورية بالمعنى الأول يمتنع
اعتبارها فيهما بخلافها بالمعنى الثاني نعم لو أريد بالخطاب تعلق
مؤداه الفعلي انحصر التفارق في القسم الثاني وكيف كان فالمراد بها
الفورية العرفية لا العقلية فإن خطابات الشرع إنما ترد على
حسب أفهام العرف ويعرف الكلام في التراخي بالمقايسة ثم النزاع إما
في الدلالة من حيث الوضع كما يظهر من الحجة المعروفة
لمنكري الاقتضاء حيث اقتصروا فيها على نفيه ويرشد إليه القول
بالاشتراك أيضا وهذا يتصور تارة بأخذ الفور أو التراخي داخلا في
مدلول الصيغة بأن تكون موضوعة للمركب وأخرى يأخذه قيدا
لمدلولها خارجا منها فيكون دلالته عليه بالالتزام أو في الدلالة من
حيث
الظهور كما يرشد إليه القول بالفورية فإنه يبعد جدا التزام كونها مجازا
في التراخي وربما يؤيده إحراز بعضهم قيد الاطلاق في عنوان
النزاع حيث حرره في الامر المطلق فإنه أراد بإطلاقه خلوه عن القرائن
المفيدة لتقييده بأحد القيود الثلاثة لا مطلق الاطلاق إذ لا تعلق له
بالمقام أو في إثبات الحكم ولو من حيث دليل خارجي كما يرشد إليه
استدلالهم ب آية المسارعة والاستباق وبلزوم خروج الواجب عن
كونه واجبا ويؤكده عدم تعرض كثير منهم في الجواب عنها بخروج
قضيتها على تقدير المساعدة عليها عن محل النزاع فالمثبتون لا
تخرج مقالتهم عن أحد هذه الوجوه وأما المنكرون فالظاهر أنهم
ينكرون الجميع بدليل إطلاقهم القول بعدم الاقتضاء الشامل للجميع
لنا
أنه لو اقتضاه فإما أن يقتضيه لفظا أو معنى والتالي بقسميه باطل أما
الملازمة فظاهرة وأما بطلان القسم الأول من التالي فلانتفائه
بأقسامه الثلاثة أما المطابقة والتضمن فلان المتبادر من الصيغة ليس إلا
طلب الحقيقة والفور والتراخي خارجان عنه وأما الالتزام
فلانه لا ملازمة بين طلب الفعل وبين طلب إيقاعه فورا أو متراخيا لا
عقلا ولا عرفا بدليل صحة تقييده بكل منهما من غير تناقض ولو
في الظاهر ولا تكرار ولو على سبيل التأكيد وأما انتفاؤه معنى فلما
سنبينه من بطلان ما تمسك به الخصم وعدم ما يصلح له سواه ولنا
أيضا أن استعماله في القدر المشترك ثابت وفي كل من الخصوصيتين
غير ثابت وإنما الثابت إطلاقه على المقيد بهما وقضية الأصل
كونه حقيقة فيما ثبت استعماله فيه وأيضا لو كان موضوعا للقدر
المشترك كان إطلاقه على كل من الفور والتراخي على الحقيقة من
غير اشتراك ولو كان موضوعا لاحد مما لزم المجاز أو الاشتراك
المخالفان للأصل وقد مر الاستدلال الأخير بما فيه واعلم أن هذين
الوجهين إنما ينهضان على بعض المقصود من نفي الاقتضاء الوضعي
والوجه الأول على ما حررناه ينهض على تمام المقصود لدلالته على
نفي الاقتضاء مطلقا حيث ألحقنا فيه بنفي الاقتضاء اللفظي نفي
الاقتضاء المعنوي فإن المراد به ما يعم العقلي والشرعي والمعروف
بينهم ترك هذا الالحاق والحجة معه قاصرة عن إفادة المقصود احتج
القائلون بالفور بوجوه الأول أن المولى قال لعبده اسقني فأخر
السقي عد عاصيا وليس ذلك إلا لدلالة الصيغة على الفور والجواب
أن القرينة هناك قائمة على إفادة الفور حيث إن العادة تقضي بأن
طلب السقي لا يكون إلا عند الحاجة إليه والكلام عند فقد القرينة
الثاني قوله تعالى مخاطبا لإبليس ما منعك أن لا تسجد إذ
75

حيث إنه تعالى ذمه على ترك السجود ولو لم يكن الامر للفور لم
يتوجه عليه إذ كان له أن يقول لم تأمرني بالبدار وسوف أسجد و
الجواب أنه لم يؤمر بالسجود مطلقا بل في وقت مخصوص وهو إما
زمان التسوية بناء على أن إذا ظرف زمان للجزاء كما يراه
البصريون وإما زمان متاخم لزمان التسوية على ما تقتضيه الفاء فإنها
للتعقيب من غير تراخ ولو سلم أن إذا لمجرد الشرطية أو لتعليق
مفاد هيئة الامر على الايجاب دون مادته على حصول زمن الشرط و
أن الفاء الجزائية لا تفيد التعقيب فلا نسلم أن الفورية قد استفيدت
من الامر لجواز أن تكون قد استفيدت من قرينة حالية أو مقالية مع أنا لا
نسلم أن الاستفهام ذم لجواز أن يكون تقريرا على الباعث
الثالث قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم فإن المراد بالمغفرة
ليس حقيقتها لامتناع مسارعة العبد إليها لأنها فعل الله تعالى و
هو غير مقدور للعبد بل المراد سببها وهو فعل المأمور به فيدل على
وجوب الفور في الاتيان بالمأمور به لما مر من أن الامر يقتضي
الوجوب لا يقال ليس المراد بالمغفرة إلا التوبة دون غيرها من
الطاعات وإلا لزم ما ذهب إليه بعض المعتزلة من القول بالحبط و
التكفير وأنه باطل عندنا لأنا نقول الحبط والتكفير بالمعنى الذي قال
به بعض المعتزلة وقام النص والاجماع عندنا على بطلانه هو
إذهاب كل من الحسنة والسيئة على قدر ما لها من المرتبة ضعفا وقوة
للأخرى مع ذهابها على قدر إذهابها وهذا غير المغفرة التي هي
عبارة عن تجاوزه تعالى عن ذنوب العبد تفضلا عليه بسبب إقدامه
على الطاعة من غير حبط شئ من ثوابه وغير الحبط الذي هو
إذهاب بعض الذنوب لجميع الحسنات أو بعضها من غير أن يذهب
بذلك شئ من الذنب كالكفر والحسد فإن هذا لا يعتريه أثر الشك
لدلالة الكتاب والسنة عليه فإن قيل هذا الدليل أخص من المدعى من
وجهين الأول أنه لا يتناول من لا ذنب له بالأصل أو بالعارض إذ لا
يتصور مغفرة في حقه الثاني أنه لا يتناول كل أمر إذ لا دليل على أن
امتثال كل أمر يوجب المغفرة قلنا يمكن إتمام القول فيهما بعدم
الفارق مضافا في الثاني إلى عموم قوله تعالى إن الحسنات يذهبن
السيئات ولو قرر الاستدلال بقوله تعالى وجنة عرضها السماوات و
الأرض كان
سالما من الاشكالين وطريق الاستدلال به يعرف مما مر بل الوجه في
الجواب منع عموم المغفرة ووجوب البدار إلى البعض كالتوبة
مما لا ريب فيه وما يقال من أن المغفرة وصفت بكونها من الرب وهي
من صفات جنسها والنكرة إذا وصفت بصفة الجنس أفادت
العموم كما في قوله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير
بجناحيه فمدفوع بأن المغفرة لا تختص بكونها من الرب بل قد
تكون من العبد أيضا فلا يكون الصفة للجنس على أن فائدة وصف
النكرة بصفة الجنس لا تنحصر في إفادة العموم بل قد تكون غيره
كإفادة التعظيم والترغيب فلعل المقام منه ولو سلم أن المراد بها
العموم فلا بد من حمل الامر بالمسارعة على مطلق الطلب والرجحان
لئلا يلزم التخصيص إلى الافراد النادرة فإن كثيرا من أسباب المغفرة
مندوبة وكثيرا مما يجب قد ثبت عدم وجوب فوريتها من الشرع
وظاهر أن حمل الامر على مطلق الطلب أولى من ارتكاب هذا
التخصيص المستبشع على تقدير صحته وتمسك العضدي تبعا
للحاجبي
في حمل الامر بالمسارعة على الأفضلية بأنه لو حمل على الوجوب
لوجب الفور فلم يكن مسارعا لأنه إنما يتصور في الموسع دون
المضيق أ لا ترى أن العبد إذا أمره مولاه بصوم غد فصامه لا يقال إنه
سارع في الامتثال ووافقه فيه صاحب المعالم رحمه الله إلا أنه تأمل
فيه من حيث إن رفع المنافاة الحاصل بين الهيئة والمادة كما يمكن
حمل الامر على الاستحباب كذلك يمكن حمل سارعوا على معنى
بادروا فيكون دليلا على الفور قال ولعل الأول أرجح وفيما ذكروه نظر
للقطع بأن الامر إذا أمر بالصوم ثم قال أوجبت المسارعة إليه
كان كلامه صحيحا متجها فالمسارعة لا تنافي وجوبها وتحقيق ذلك أن
المسارعة إنما تطلق حيث يكون الفعل محتملا للتقديم والتأخير
في نفسه وحيث إن الصوم المقيد بكونه في الغدير محتمل لهما لم
يصح هناك إطلاق المسارعة بخلاف ما فرضناه فإن الصوم بحسب
أمره السابق يحتمل التقديم والتأخير فيصح إيجاب المسارعة إليه و
كذا الكلام في ندبية المسارعة إلى المندوب وظاهر أن موضع
النزاع من القسم الثاني دون الأول فلا يتم البيان فيه سيما على القول
ببقاء الطلب بعد ترك المسارعة كما لا يخفى ولو قرر المنافاة
بأن في
لفظ المسارعة دلالة على أن الفعل المأمور به بحسب ما دل عليه الامر
صالح للتقديم والتأخير إذ لا يصدق فيما عين له وقت مضيق وهو
ينافي ما يظهر من القائلين بالفورية من أنها مفاد الصيغة لتوجه عليه بأن
ذلك في صورة تعيين لوقت المضيق مسلم وأما في صورة عدم
التعيين فلا فيصح أن يكون الامر بالمسارعة تصريحا بما دل عليه ظاهر
الامر من الفورية بناء على دلالته عليها ولو قلنا بعدم سقوط
التكليف بعد التأخير فعدم التنافي أوضح وأما ما تأمل به صاحب
المعالم في كلام العضدي والحاجبي فليس بشئ لان سارعوا و
بادروا
بمعنى واحد فالتفرقة بينهما غير معقولة إلا أن يريد به معنى الاستباق
فلا يفيد الفورية كما يأتي ومع ذلك يلزم التجوز في الهيئة أيضا
إذ لا قائل بوجوبه الرابع قوله تعالى فاستبقوا الخيرات فإن فعل المأمور
به من الخيرات فيجب الاستباق إليه والجواب عنه ما مر في الآية
السابقة من أن حمل الامر على الأفضلية أولى من تخصيص العام إلى
الفرد النادر مع أن الظاهر من الاستباق طلب السبق على الغير بل هو
معناه وضعا وهو أعم من الفور من وجه ولا قائل بوجوبه من حيث
نفسه كما هو مفاد اللفظ فيتعين الحمل على الاستحباب وأجاب
الحاجبي ومتابعوه بما مر في آية المسارعة من أن وجوب الاستباق
ينافي الاستباق فيتعين الحمل على الاستحباب دفعا للتنافي بين
المادة والهيئة وضعفه ظاهر مما بيناه الخامس لو جاز التأخير لكان
إلى وقت معين والتالي منتف فكذا المقدم بيان الملازمة أنه لو لم
يكن إلى وقت معين لكان إلى آخر أزمنة الامكان اتفاقا وهو باطل لأنه
غير معلوم للمكلف فيلزم التكليف بالمحال حيث يجب عليه
حينئذ أن لا يؤخر الفعل عن وقت لا يعلمه ويمكن بيان ذلك بوجه
آخر وهو أنه إذا أخره المكلف والحال هذه فصادف ما يوجب الفوات
فلا يخلو إما أن يعاقب على ترك الواجب أو لا لا سبيل إلى الأول لقبح
العقاب على ترك
76

المأمور به في وقت لا يعلمه أو مع الرخصة في التأخير ولا إلى الثاني
للزوم خروج الواجب عن كونه واجبا إذ ما يثاب على فعله ولا
يعاقب على تركه هو المندوب لا يقال لا نسلم حينئذ لزوم خروج
الواجب عن كونه واجبا لان المكلف إن علم ب آخر أزمنة الامكان أو
ظنه
عوقب على تركه فيه لأنا نقول عدم الخروج حال العلم أو الظن لا
يجدي في الخروج حال عدمهما فيبقى المحذور بحاله في بعض
الصور
وهو ما إذا لم يحصل العلم أو الظن ب آخر أزمنة الامكان وهو كاف في
لزوم الاشكال إذ يكفي في فساد حكم لزوم الفساد على بعض
تقاديره وأيضا هذا التحديد بظاهره يوجب سقوط التكليف فيهما إذا
عصي بالتأخير وانكشف الخلاف لخروج الوقت والتزامه كما
وقع عن القاضي ضعيف لأنه تقييد لاطلاق الأوامر من غير دليل فإن
قيل المراد وجوب الاتيان بالفعل عند العلم أو الظن بالفوات لما دل
على وجوب التعويل عليهما لان آخر أزمنته وجوب الفعل فلا يلزم
حينئذ خروج الوقت إذا انكشف الخلاف قلنا فإذن هناك أمران
أحدهما طلب الفعل والمنع من تأخيره عن زمان لا يعلمه المكلف و
الثاني وجوب الاتيان به عند العلم أو الظن بالفوات والكلام إنما هو
في صحة التكليف على الوجه الأول إذ منه ينشأ الاشكال ويلزم
التكليف بالمحال دون الثاني والاعتذار بأن انضمام الثاني إلى الأول
يصححه ويسوغه ممنوع وأما انتفاء التالي فظاهر إذ لا إشعار في الامر
بتعيين الوقت ولا عليه دليل من خارج بحكم الفرض والجواب
أما أولا فبالنقض تارة بما لو صرح بجواز التأخير فإنه لا كلام في إمكانه
وأخرى بالواجبات الموسعة التي تمتد بامتداد العمر فإن
ثبوتها في الجملة ولو في النذر وشبهه ليس مما ينكر وعلى تقديره
يلزم الاشكال المذكور بعينه بل يتجه النقض أيضا بالواجبات
الموسعة إلى وقت معين إذا صارف المكلف في أثنائها ما يوجب
فواتها فيلزم فيه ما ذكر من لزوم خروج الواجب عن كونه واجبا أو
التكليف بالمحال وأما ثانيا فبالحل وهو أنا لا نسلم أنه يجب عليه أن
لا يؤخر الفعل عن وقت لا يعلمه بل يجب عليه أن لا يؤخر إذا علم
ب آخر أزمنة الامكان أو ظنه ونمنع لزوم خروج الواجب عن كونه
واجبا على تقديره نظرا إلى عدم ترتب العقاب على تركه مع عدم
العلم
أو الظن به إذ الواجب على ما يساعده عليه التحقيق هو ما ألزم الشارع
بفعله أو ما يستحق على
تركه العقاب من غير بدل ولا عذر والجهل ب آخر أزمنة الامكان عذر
فلا يضر عدم الاستحقاق على تقديره وأجاب العضدي تبعا
للحاجبي عن الوجه الأول بالمنع من لزوم التكليف بالمحال على
تقديره فإنه إنما يلزم إذا تعين التأخير وأما إذا جاز فلا لامكان
الامتثال بالمبادرة وتبعهما على هذا الجواب صاحب المعالم وأورد
عليه بعض الأفاضل بأن هذا وإن رفع التكليف بالمحال إلا أنه
التزام بوجوب الفورية في العمل لتحصيل البراءة إذ جواز التأخير
حينئذ مشروط بمعرفة لا يمكن تلك المعرفة فينحصر الامتثال
بالمبادرة فيجب الفور وتنظر فيه بعض المدققين بأن جواز التأخير غير
مشروط بمعرفة ممتنعة نعم العلم بالجواز مشروط بمعرفة
ممتنعة واللازم منه عدم حصول العلم بالجواز لا عدم الجواز في
الواقع وتوقف الجواز على العلم به ممنوع ثم قال فعلى هذا لو أخر و
تيسر له فعله لم يأثم وإلا أثم ولا امتناع في مثل هذا التكليف وهذا
النظر حكاه الفاضل المعاصر بالمعنى لكن تصرف فيه بزيادة حيث
علل عدم توقف الجواز على العلم ب آخر أزمنة الامكان بأن الجواز في
نفس الامر لا يتوقف على العلم بالجواز بل يكفي فيه عدم العلم
بالمنع على ما يقتضيه أصالة الإباحة ولا يخفى أن هذا التعليل لا يلائم
كلام المنظر بل يفسده وذلك لان غرض المنظر على ما يشهد به
نص كلامه أن جواز التأخير مشروط بنفس تيسر الفعل مع التأخير فإن
صادف الشرط لم يعص وإلا عصي وأنه لا مدخل للعلم في ذلك
فلا يلزم القول بالفورية لعدم العصيان بالتأخير حينئذ على تقدير تيسر
الفعل في الزمن المتأخر وهذا كما تراه مبني على دعوى أن
هناك جوازا واحدا هو الجواز الواقعي المشروط بالتيسر يناط به
عصيان المكلف وعدمه وظاهر أن أصالة عدم المانع إنما تثبت
الجواز الظاهري وهو ينافي ما أراده لأنه يوجب عدم العصيان على
تقدير عدم تيسر الفعل أيضا ثم ما ذكره المنظر مبني على جواز خلو
مثل تلك الواقعة عن حكم ظاهري والتزامه غير بعيد بناء على عدم
الملازمة بين العقل والشرع إذ اشتراط التكليف بالعلم على إطلاقه
ممنوع وإنما المسلم منه ما أدى إلى التكليف بما لا يطاق وحصوله
في المقام في محل المنع لامكان الامتثال بالمسارعة وسيأتي لهذا
مزيد تحقيق إن شاء الله عند بحث الواجب الموسع ومن هنا يتبين
وجه منع آخر على
الوجه الأول من الوجه الثاني من بيان بطلان التالي وقد يوجه كلام
المورد بوجوب الاحتياط وبأن الشغل اليقيني يستدعي الفراغ
اليقيني ولا يتم إلا بالمبادرة وكلاهما ضعيف لان وجوب الاحتياط
في مثل المقام ممنوع والمسلم من قضية الشغل اليقيني استدعاؤه
الفراغ اليقيني بمعنى قبل ما يقطع بأنه مأمور به وهذا لا تعلق له
بالمقام واعلم أن جواز التأخير على القول بعدم وجوب الفور مشروط
بحسب الواقع بتمكن المكلف عن الامتثال في الزمن المتأخر وأما
بحسب الظاهر فيجوز أن يوجب الفور كما زعمه المورد فيعصى
بالتأخير مطلقا وإن تيسر له الفعل أو يجوز له التأخير فلا يعصى
بتأخيره مطلقا وإن فاجأه المانع أو لا يكون هناك حكم ظاهري أصلا
كما زعمه المنظر فيدور عصيانه وعدمه مدار الواقع فكما أن الاحتمال
الأول مناف لظاهر ما بصدده المجيب كذلك الاحتمال الأخير
غير متعين عليه لجواز أن يلتزم بالوجه المختار ومن هنا يتبين أن كلا
من كلامي المورد والمنظر ليس على ما ينبغي السادس والسابع
أن النهي يفيد الفور فكذلك الامر قياسا عليه بجامع الطلب وأن الامر
بالشئ يقتضي النهي عن الضد والنهي يقتضي الفور فيلزم الفور
في المأمور به والجواب عنهما يظهر مما مر في بحث نفي التكرار التام
أن الامر فعل وقد أطبق النحاة على أن كل فعل مقترن بأحد
الأزمنة بحسب أصل الوضع حتى إنهم اعتذروا عن كاد وغيرها من
الافعال المنسلخة عن الزمان بأنها كانت مقترنة بالزمان بحسب
أصل الوضع ثم انسلخت عنه في الاستعمال حتى هجر معناها
الأصلي فإذا ثبت أن الامر يدل على الزمان بحسب أصل الوضع فليس
إلا
الحال والأصل عدم الهجر مع أن أحدا لم يدع خلاف ذلك والجواب
أن الاتفاق المذكور غير ثابت كيف واحد أئمتهم ابن الحاجب وهو و
إن وافقهم على ذلك في كافيته لكن خالفهم في مختصره حيث أخذ
فيه بمقالتنا مع أن إجماعهم منقوض بمخالفة أكثر محققي علماء
الأصول المؤيد
77

بشهادة الاستعمال والتبادر على أن كلامهم غير صريح في أن الزمان
جز من مدلول الفعل فيمكن توجيهه بأن المراد أن الزمان مدلوله
ولو بالالتزام كما يشعر به لفظ الاقتران فيجعل الحال في الامر ظرفا
لوقوع الطلب فإن قولك افعل إنشاء لطلب حال التكلم وبهذا
يرتفع الاختلاف بين كلامي الحاجبي في كتابيه والعضدي في شرحه
في تقسيم الكلمة وفي هذا المبحث ولا يخفى بعده حيث إنهم
عرفوا الفعل بما دل على معنى في نفسه واقترن بأحد الأزمنة و
الضمير في قولهم واقترن يرجع إلى المعنى المقيد بكونه في نفسه و
ليس إلا معناه الحدثي وإرجاعه إلى مطلق المعنى تعسف واضح و
الأظهر في الجواب أن يقال دلالة الامر على الزمان لا يوجب دلالته
على
خصوص الحال بل الأعم منه ومن الاستقبال كما مر نظيره في فعل
المضارع وهذا أقرب في رفع التنافي بين كلماتهم وإن كان
احتجاجهم بأن المتبادر من الامر ليس إلا طلب الحقيقة ربما يأبى ذلك
لكن ينبغي تنزيله على القصر الإضافي لعدم انحصار مدلول الامر
في طلب الماهية ويدل على ذلك ما ذكره الحاجبي والعضدي و
غيرهما في الجواب عن الاحتجاج الآتي كما سيأتي فإنه يشعر
بالتزامهم
بدلالته على الاستقبال ومنع الاختصاص بالحال هذا والتحقيق أن
صيغة الامر لا دلالة لها على الزمان وضعا أصلا وإنما يفهم منه الزمان
التزاما من حيث عدم انفكاك الفعل في الخارج عنه ولو غالبا يدلك
على ذلك بعد مساعدة التبادر عليه أن خصوص الفور والتراخي
غير مفهومين منها قطعا و اعتبار الزمن المشترك بينهما في معناها مما
لا جدوى فيه لعدم انفكاك طلب الفعل عنه لامتناع توجه الطلب
إلى الزمن الماضي فهو مختص به في نفسه عقلا و عادة فلا حاجة إلى
تخصيص الواضع بخلاف الماضي والمضارع فإن مفادهما الاخبار
بوقوع الحدث وهو في نفسه لا يختص بزمان فاختصاص كل زمان
دليل على تخصيص الواضع إياه به وعلى هذا فالوجه أن يمنع
إجماع النحاة أو صحته ويمكن أن يجاب حينئذ بأن فعل الامر مقترن
بالزمان بحسب الأصل أما الغائب منه فظاهر وأما الحاضر فلانه
عند التحقيق فعل مضارع مصدر باللام فحذفت اللام تخفيفا وحرف
المضارعة تبعا كما يقول به الكوفيون وأبو الحسن فهو بحسب
الأصل دال على الزمان وإن تجرد عنه بعد دخول لام الطلب
عليه لصيرورته إنشاء والافعال الانشائية مجردة عن الزمان كبعت و
اشتريت ونحو ذلك وهذا القول ذكره ابن هشام في بحث اللام
المفردة من كتابه ووجهه بأن الامر معنى حرفي فحقه أن يؤدى بحرف
ولأنه أخو النهي ولا يدل عليه إلا بالحرف ولأنه يجزم
بالحذف في معتل اللام ولم يعهد البناء بالحذف ولأنه قد ينطبق
بأصله كقراءة بعضهم فبذلك فلتفرحوا وقوله لتقم أنت يا بن خير
قريش وهذا قريب لكن لا يتم الوجه الثاني على هذا البيان التاسع أن
كل مخبر كالقائل زيد قائم وعمرو في الدار وكل منشئ كالقائل
أنت طالق وأنت حر إنما يقصد الزمان الحاضر فكذلك الامر حملا له
على الأعم الأغلب وأجيب عنه أولا بأنه قياس في اللغة حيث قيس
الامر على غيره من الخبر والنشاء في دلالته على الفور وهو باطل و
فيه نظر لان الدليل المذكور استقراء لا قياس كما يظهر من
دعواه الأغلبية وعدم تعرضه للجامع وثانيا ببيان الفارق وهو أن الامر
إنما يتوجه إلى الاستقبال دون الحال لامتناع تحصيل الحاصل
وحينئذ فيحتمل مطلق الاستقبال والأقرب منه إلى الحال الذي هو
عبارة عن الفور فلا يصار إلى الثاني إلا بدليل وفيه أيضا نظر لان
المعتبر هي الحال العرفية واعتبارها في كثير من الأوامر ممكن ويمكن
إتمام القول في الباقي بعدم القول بالتفصيل بل التحقيق في
الجواب المنع من تحقق الغلبة المذكورة بحيث يصلح مستندا للالحاق
لشيوع الاخبار عن الماضي والاستقبال احتج السيد بأن الامر قد
استعمل تارة في الفور وأخرى في التراخي وظاهر الاستعمال أن
يكون حقيقة فيهما على حذو ما مر غير مرة وبأنه يحسن من المكلف
أن يستفهم عند فقد القرائن أنه هل أريد منه الفور أو التراخي ولا
يحسن الاستفهام إلا مع احتمال اللفظ والجواب أما عن الأول فبالمنع
من وقوع استعماله فيهما أولا وإنما المسلم إطلاقه على المقيد بهما و
المنع من ظهور الاستعمال في الحقيقة مطلقا الثاني فبأن الاستفهام
قد يحسن لدفع الاحتمالات الغير الظاهرة كما مر إليه الإشارة هذا و
لقد كان الأنسب بطريقة السيد دعوى اشتراكه بين كل من المعنيين
والقدر المشترك لشيوع إطلاقه عليه أيضا
تذنيب
على القول بأن الامر للفور هل يجب على المكلف إذا لم يأت بالفعل
في الوقت الأول أن يأتي به في الوقت الثاني وهكذا أم لا قولان و
بنى العلامة وغيره الخلاف على أن قول القائل افعل هل معناه افعل
في الوقت الثاني من الامر فإن عصيت ففي الثالث وهكذا أو معناه
افعل في الزمن الثاني من غير بيان الحال الزمن الثالث وما بعده فإن
قلنا بالأول اقتضى الامر الفعل في جميع الأزمان وإن قلنا بالثاني
لم يقتضه فالمسألة لغوية واعترض عليه في المعالم بأن هذا الكلام و
إن كان صحيحا إلا أنه قليل الجدوى إذ الاشكال إنما هو في مدرك
الوجهين اللذين بني عليهما الحكم لا فيهما فكان الواجب أن يبحث
عنه ويمكن دفعه بأن ما ذكروه بيان لمدرك الوجهين فإن القائلين
بالفور لما تمسكوا في إثباته بالتبادر تفرع عليه الترديد المذكور وكان
المرجع في التعيين إلى أفهامهم إذ لا سبيل لمن أنكر تبادر
الفور من الامر إلى تعيين كونه على أحد الوجهين ولو بعد التنزل و
التسليم وكأن هذا هو الوجه في عدم ترجيح العلامة لاحد الوجهين
لكن يشكل بأنهم تمسكوا على الفور بالتبادر المستند إلى القرائن
الحالية كما مر في الدليل الأول فيمكن تعيين أحد الوجهين بعد التنزل
والتسليم لكون التبادر ناشئا عن نفس اللفظ أو كون التبادر مع القرينة
علامة للحقيقة إلا أن يعتذر بأن القرائن الحالية لما لم تكن
منضبطة لاختلافها باختلاف الموارد لم يتجه الترجيح نعم يرد على
العلامة أن حجج القول بالفور لا تنحصر في التبادر فلا وجه لقصر
البحث عليه وتحقيق المقام أن الوجوه التي تمسكوا بها مما عدا
التبادر على تقدير تسليمها مختلفة المفاد فكثير منها بل أكثرها صالحة
لكل من المذهبين فإن منها آية الذم وهي إنما تدل على عصيان إبليس
بتركه السجود زمن الامر به كما يدل عليه الآية المذكورة إن
جعلنا إذ فيها زمانية أو مع الملائكة كما يدل عليه قوله تعالى في آية
أخرى ما لك أن لا تكون مع الساجدين ولا دلالة فيها على سقوط
التكليف به
78

بعد ترك البدار ولا على عدمه لا يقال تخصيص الذم بترك السجود
وقت الامر أو مع الملائكة يقتضي تعيين الوجه الأول وإلا لكان
المناسب تعميمه لكونه أدخل في التشنيع عليه لأنا نقول هذا إنما يتم
إذا ثبت تأخر وقوع الذم عن زمن المخالفة وهو ممنوع لجواز
المقارنة ومنها الدليل العقلي وهو إنما يساعد على عدم جواز
الرخصة في تأخير الواجب إلى وقت غير معين وأما بقاء التكليف
بالفعل
بعد التأخير وعدمه فمما لا دلالة له عليه ومنها إيتاء المسارعة و
الاستباق وهما إنما تدلان على وجوب المسارعة إلى فعل الواجب ما
دام باقيا على وجوبه لكونه حينئذ من أسباب المغفرة ومن جملة
الخيرات لا مطلقا ولا دلالة لهما على بقائه بعد التأخير ولا على
سقوطه
نعم من اعتمد على هذه الوجوه مما عدا الوجه الأول في إثبات الفور
ولم يعول على غيرها من الأدلة المفيدة للسقوط لزمه القول بعدم
السقوط عملا بإطلاق الامر ومن حججهم ما يفيد بظاهره البقاء على
تقدير تسليمه وهو قياسه بالنهي بناء على أن النهي يفيد الدوام
فيصح أن يقاس الامر حينئذ على النهي في دلالته على الفور وعدم
سقوط التكليف به على تقدير المخالفة وإن لم يلتزم ببقائه على
تقدير عدمها نظرا إلى وجود المعارض وفيه إشكال ينشأ من أن عدم
السقوط في النهي إنما كان متفرعا على ثبوت الدوام فيه فيبعد
الالحاق بعد تسليم عدم المساواة في العلة وأما على ما حكي عن
الشيخ في العدة من مصيره إلى منع دلالة النهي على الدوام مع قوله
بدلالته على الفور فالحجة المذكورة ناهضة على القول بعدم البقاء إن
التزم في النهي بالسقوط وعلى البقاء إن التزم فيه بعدم السقوط
وكذلك الحال في احتجاجهم بأن الامر بالشئ يقتضي النهي عن
ضده ويعرف بالقياس إلى ما سبق ومن حججهم ما يفيد عدم البقاء و
هو إلحاقه بالأعم الأغلب فإن الالحاق إنما يثبت الفورية إذا لم يتضمن
الامر الأزمنة المتأخرة وإلا لاحتمل ثبوت الحكم فيها على سبيل
التخيير فلا يتم التقريب وكذا الاحتجاج بالوجه الثامن إلا أنه لا إشارة
إليه في كلامهم وأما ما زعمه صاحب المعالم من أن من اعتمد في
استدلاله على الفور على غير الآيتين المأمور فيهما بالمسارعة و
الاستباق فلا مفر له من القول بالسقوط بعد التأخير ومن اعتمد عليهما
فله أن يقول بعدم السقوط فواضح الضعف والسقوط مما قررناه
ثم اعلم أن من قال بأن الامر للتكرار يلزمه القول بالفورية بالنسبة إلى
الفرد الأول قطعا وكذا بالنسبة إلى ما قاربه من الافراد إن بقي
صدق الفورية عرفا ويلزمه القول بالتراخي بالنسبة إلى غيرها إن
فسرت الفورية بالزمن الثاني من ورود الخطاب وأما إذا فسرت
بأول أزمنة الامكان أو بالزمن الثاني من وقوع مؤدى الخطاب الفعلي و
جعل التكليف باللاحق مشروطا بحضور زمانه تحققت الفورية
بالنسبة إلى الجميع وربما أمكن أن يعتبر الفورية على الوجه الأول
بالنسبة إلى المجموع أيضا نظرا إلى أنها تصدق إذا تحققت بالنسبة
إلى الفرد الأول ولحقته بقية الافراد كما يصدق على العمل المتكثر
الأجزاء إذا جي بجز منه فورا وتوبع بالأجزاء الاخر أو يقال الزمن
الثاني من الخطاب هو الزمن الذي يوقع فيه الفعل على الوجه الذي
أمر به فيدخل زمن التكرار فيه وأما على مذهب الآخرين فلا يتعين
عليهم شئ من الأقوال
تمهيد مقال لتوضيح حال
ينقسم الواجب ببعض الاعتبارات إلى مطلق ومشروط فالمطلق منه ما
لا يتوقف وجوبه بعد حصول شرائط التكليف من البلوغ والعقل و
العلم والقدرة على شئ كالمعرفة وإنما اعتبرنا الاطلاق بعد التقييد
بتلك الأمور لامتناع الاطلاق بالنسبة إليها عقلا أو شرعا ويقابله
المشروط وهو ما يتوقف وجوبه على غيرها كالحج وقد يطلق
الواجب المطلق ويراد به ما لا يتوقف تعلقه بالمكلف على حصول
أمر
غير حاصل سواء توقف على غير ما مر وحصل كما في الحج بعد
الاستطاعة أو لم يتوقف كما مر وهو بهذا المعنى محل النزاع في
المبحث الآتي ويقابله المشروط وهو ما يتوقف تعلقه بالمكلف على
حصول أمر غير حاصل والنسبة بين كل من المطلقين ومشروطه
تباين وبين كل منهما وكل من الآخرين عموم من وجه وقد يعتبر
الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى شئ معين فيقال الحج واجب مشروط
بالنسبة إلى الاستطاعة ومطلق بالنسبة إلى شراء الزاد والراحلة
فالواجب بالنسبة إلى سببه التام أو الجز الأخير منه لا يكون إلا مطلقا
لئلا يلزم إيجاب الشئ بشرط وجوبه فإنه يعد سفها قطعا وأما بالنسبة
إلى غيره من المقدمات فيجوز أن يكون مطلقا وأن يكون
مشروطا وحينئذ فهل الأصل في الامر المطلق أي المجرد عن التقييد
بالشرط أن يكون مطلقا أو يتوقف بينه وبين أن يكون مشروطا
قولان الأكثر على الأول وهو المختار وذهب السيد إلى الثاني لنا أن
الظاهر من الامر المطلق هو الاطلاق بشهادة الاعتبار والاستعمال
أ لا ترى أن السيد إذا أمر عبده بأمر فتركه نظرا إلى احتمال أن يكون
مشروطا بشئ ذمه العقلا معللين ذمه بمخالفته لظاهر الامر و
إطلاقه احتج السيد بأن الامر يستعمل تارة في الاطلاق وأخرى في
التقييد فيشترك بينهما فلا بد في التعيين من قرينة والجواب أن
مجرد الاستعمال لا يوجب الاشتراك إن أراد به الاشتراك اللفظي كما
هو الظاهر من كلامه وقد سبق تحقيقه وإن أراد به الاشتراك
المعنوي فلا نسلم أنه يتساوى بالنسبة إلى فرديه حال الاستعمال بل
ينصرف عند الاطلاق إلى الاطلاق كغيره من أنواع المطلق على ما
يشهد به الاعتبار والاستعمال ومن هنا يتضح أن مطلق الامر موضوع
للأعم من القسمين
وأنه حقيقة مع كل من الاعتبارين وما يظهر من بعض المعاصرين من
مجازيته في التقييد فليس بسديد وسيأتي مزيد بيان لهذا في
بعض المباحث الآتية وينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه
بالمكلف ولا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة وليسم
منجزا أو إلى ما يتعلق وجوبه به ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور
له وليسم معلقا كالحج فإن وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن
الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقف فعله على مجئ وقته وهو غير
مقدور له والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أن
التوقف هناك للوجوب وهنا للفعل لا يقال إذا توقف فعل الواجب
على شئ غير مقدور له امتنع وجوبه قبله وإلا لزم أحد الامرين من
عدم توقفه عليه حيث وجب بدونه أو التكليف بالمحال حيث ألزم
المكلف بالفعل في زمن يتعذر فيه حصول ما يتوقف عليه لأنا نقول
ليس المراد بوجوب الفعل قبل حصول ما يتوقف عليه
79

أن يكون الزمان المتقدم ظرفا للوجوب والفعل معا بل المراد أنه يجب
على المكلف في الزمان السابق أن يأتي بالفعل في الزمن اللاحق
كما يجب على المكلف في المكان الممنوع من العبادة فيه مثلا أن
يأتي بها خارجة فالزمن السابق ظرف للوجوب فقط والزمن اللاحق
ظرف لهما معا فإن قلت إذا وجب الفعل قبل حصول ما يتوقف عليه
من الامر الغير المقدور فوجوبه إما أن يكون مشروطا ببلوغ
المكلف إلى الوقت الذي يصح وقوعه فيه أو لا يكون فإن كان الأول
لزم أن لا يكون وجوب قبل البلوغ إليه كما هو قضية الاشتراط وإن
كان الثاني لزم التكليف بالمحال فإن الفعل المشروط بكونه في ذلك
الوقت على تقدير عدم البلوغ إليه ممتنع قلت إن أردت بالبلوغ
نفسه اخترنا الشق الثاني ونمنع لزوم التكليف بالمحال على تقديره
لأنه إنما يلزم إذا وجب عليه إيجاد الفعل المقيد بالزمن اللاحق على
تقدير عدم بلوغه إليه وهو غير لازم من عدم اشتراطه بنفس البلوغ و
إن أردت بالبلوغ ما يتناول بعض الاعتبارات اللاحقة بالقياس
إليه ككونه ممن يبلغ الزمن اللاحق منعنا توقف الوجوب على سبق
البلوغ أو مقارنته له بل يكفي مجرد حصوله ولو في الزمن اللاحق
فيرجع الحاصل إلى أن المكلف يجب عليه الفعل قبل البلوغ إلى وقته
على تقدير بلوغه إليه فيكون البلوغ كاشفا عن سبق الوجوب واقعا
وعدمه كاشفا عن عدمه كذلك ومما حققنا يتبين لك الفرق بين
الواجب المعلق والواجب المشروط وأن الموقوف عليه في
المشروط
شرط الوجوب وفي المعلق شرط الفعل فلا تكليف في الأول بالفعل و
لا وجوب قبله بخلاف الثاني كما أشرنا إليه ففرق إذن بين قول
القائل إذا دخل وقت كذا فافعل كذا وبين قوله افعل كذا في وقت كذا
فإن الأولى جملة شرطية مفادها تعلق الامر والالزام بالمكلف عند
دخول الوقت وهذا قد تقارن وقت الأداء فيه لوقت تعلق الوجوب كما
في المثال وقد يتأخر عنه كقولك إن زارك زيد في الغداة فزره
في العشي والثانية جملة طلبية مفادها إلزام المكلف بالفعل في الوقت
الآتي وحاصل الكلام أنه ينشأ في الأول طلبا مشروطا حصوله
بمجئ وقت كذا وفي الثاني ينشئ طلبا حاليا والمطلوب فعل مقيد
بكونه في وقت كذا ومن هذا النوع كل واجب مطلق توقف وجوده
على
مقدمات مقدورة غير حاصلة فإنه يجب قبل وجوب المقدمات إيجاد
الفعل بعد زمن يمكن إيجادها فيه وإلا لزم خروج الواجب المطلق
عن كونه واجبا مطلقا أو التكليف بما لا يطاق وكلاهما ضروري الفساد
واعلم أنه كما يصح أن يكون وجوب الواجب على تقدير حصول
أمر غير مقدور وقد عرفت بيانه كذلك يصح أن يكون وجوبه على
تقدير حصول أمر مقدور فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم
حصوله وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله وذلك كما لو
توقف الحج المنذور على ركوب الدابة المغصوبة فالتحقيق أن
وجوب الواجب حينئذ ثابت على تقدير حصول تلك المقدمة وليس
مشروطا بحصولها كما سبق إلى كثير من الأنظار والفرق أن
الوجوب على التقدير الأول يثبت قبل حصولها وعلى الثاني إنما
يثبت بعد تحققها لامتناع المشروط بدون الشرط وبعبارة أخرى
حصول المقدمة على الأول كاشف عن سبق الوجوب وعلى الثاني
مثبت له كما مر وتظهر الثمرة في وجوب المقدمات التي يؤتى بها
قبلها فعلى الأول يجب الاتيان بها على تقدير إتيانه بها لاطلاق الامر
حينئذ فيصح قصد القربة بها وإيقاعها على وجه الوجوب بخلاف
الوجه الثاني ويظهر أيضا فيما لو كانت المقدمة المحرمة مما يعتبر
حصولها في أثناء التشاغل بالواجب كالاغتراف من الآنية المغصوبة
في الطهارة الحدثية مع الانحصار وكترك الواجب المتوصل به إلى
فعل الضد فإن العبادة تصح على الوجه الأول لوجوبها ومطلوبيتها
على تقدير حصول تلك المقدمة وعلى الثاني لا يصح لانتفاء الطلب
والوجوب قبلها والذي يدل على المذهب المختار أن ما دل على
عدم
وجوب الواجب عند حرمة مقدمته المتعينة هو لزوم التكليف
بالمحال الممتنع وقوعه بالعقل والسمع ولا ريب أنه إنما يلزم ذلك لو
كلف
بالواجب مطلقا على تقدير الاتيان بالمقدمة المحرمة وعدمه وأما لو
كلف به مطلقا على تقدير الاتيان بها خاصة فلا فيبقى إطلاق الامر
فيه بحاله فيرجع حاصل التكليفين بملاحظة القاعدة المذكورة إلى
مطلوبية ترك الحرام مطلقا لا على تقدير ومطلوبية فعل الواجب
مطلقا على تقدير حصوله ولا فرق في ذلك بين أن يكون المقدمة
المحرمة سببا أو غيره وإن كان الحكم في السبب لا يخلو عن نوع
خفاء نعم يعتبر فيه من اعتبار أمر زائد
على المسبب لئلا يلزم إيجاب الشئ على تقدير وجوبه فإنه مما
يستقل العقل بقبحه فتوقف الواجب على حصول هذه المقدمة
الاختيارية
من قبيل توقفه على حصول المقدمة الغير الاختيارية كتذكر المكلف
وقت الفعل وقدرته فيه بمعنى خلوه في تمام الوقت من الموانع
الاضطرارية بالنسبة إلى زمن التكليف مع ثبوت الوجوب على تقدير
حصولهما قبله أيضا وأما القدرة مطلقا فليس حصولها معتبرا
لجواز أن يمتنع الفعل في الوقت مع ثبوت التكليف قبله كما في
المتقاعد عن الحج فالموقوف عليه في الحقيقة في هذه الصور هو كون
المكلف بحيث يأتي بالمقدمة المحرمة ولو في زمن لاحق أو كونه
بحيث يكون وقت الفعل متذكرا خاليا من الموانع الغير المستندة إليه و
هذا وصف اعتباري ينتزع من المكلف باعتبار ما يطرأ عليه في الزمن
المستقبل من هذه الصفات وهو غير متأخر عن زمن الوجوب و
إن تأخرت عنه الصفة التي تنتزع عنه باعتبارها ولو كان نفس العلم و
الخلو من الموانع في الوقت شرطا لتأخر زمن الوجوب عن زمن
الفعل فلا يبقى مورد للتكليف ومن هذا القبيل كل شئ يكون وقوعه
مراعى بحصول شئ آخر كالصحة المراعاة بالإجازة في
الفضولي فإن شرط الصحة فيه كون العقد بحيث يتعقبه الإجازة و
ليست مشروطة بنفس الإجازة وإلا لامتنعت قبلها وينقسم الواجب
باعتبار آخر إلى نفسي وغيري فالواجب النفسي ما تعلق الطلب به
لنفسه والواجب الغيري ما تعلق الطلب به للوصلة إلى غيره واللام هنا
للتعليل على وجه مخصوص لا لمطلق التعليل وإلا لانتقض الحدان
بكثير من الواجبات النفسية وتوضيح ذلك أن المطلوب من المكلف
في
الواجب الغيري إنما هو إيجاده للتوصل به إلى غيره على أن يكون
التوصل به إليه مطلوبا منه وإن كان حاملا على الطلب أيضا و
المطلوب منه في الواجب النفسي إيجاده فقط والتوصل به إلى أمر
آخر أو
80

حصوله إن كان مطلوبا فهو أمر خارج عن كونه مطلوبا منه وإنما هو
حامل على الطلب فالواجب النفسي ما يكون المطلوب من المكلف
في إيجاده نفسه دون توصله به إلى غيره والواجب الغيري ما يكون
التوصل به إلى غيره مطلوبا من المكلف فاتضح وجه الخصوصية
أيضا وإنما قيدنا المطلوب بقولنا عن المكلف احترازا عن الغايات
المطلوبة في التكليف إذا لم تكن مطلوبة من المكلف إذ لا يناط الفرق
بها ولا بد أن تعتبر الحيثية في الحدين لئلا ينتقضا بصورة الاجتماع ثم
هل يعتبر في وقوع الواجب الغيري على صفة وجوبه أن يترتب
عليه فعل الغير أو الامتثال به وإن لم يقصد به ذلك أو يعتبر قصد
التوصل إليه أو إلى الامتثال به وإن لم يترتب عليه أو يعتبر الأمران
أو لا يعتبر شئ منهما وجوه والتحقيق من هذه الوجوه هو الوجه
الأول لان مطلوبية شئ للغير يقتضي مطلوبية ما يترتب ذلك الغير
عليه دون غيره لما عرفت من أن المطلوب فيه المقيد من حيث كونه
مقيدا وهذا لا يتحقق بدون القيد الذي هو فعل الغير وأما القصد فلا
يعقل له مدخل في حصول الواجب وإن اعتبر في الامتثال به نعم إن
كان عبادة وكان مطلوبيتها من حيث كونها للغير فقط اعتبر فيه
ذلك كما في الوضوء والغسل بناء على نفي رجحانهما الذاتي ويظهر
الثمرة فيما لو وجب عليه الدخول في ملك الغير بغير إذنه لانقاذ
غريق يتوقف عليه فدخله لغير ذلك فبدا له فأنقذه وكذا الحال فيما لو
نذر أن لا يدخله حيث ينعقد فيه النذر أو حلف أو عاهد عليه فعلى
ما حققناه ليس عليه معصية الغصب والحنث وإنما عليه معصية
التجري بيان ذلك أن التصرف في الفرض المذكور يقع تارة واجبا وهو
ما إذا ترتب عليه الانقاذ وأخرى حراما وهو ما إذا لم يترتب عليه ذلك
فإذا علم من نفسه أن الذي يرتكبه من نوع الواجب وصادف
الانقاذ فلا إشكال وإن علم أنه من نوع الحرام حرم عليه الاقدام فإن
أقدم والحال هذه فإن لم ينكشف الخلاف بأن لم يترتب عليه
الانقاذ كان ما أتى به حراما وإلا كان واجبا وعصى بالتجري فقط كمن
تصرف في ماله على أنه مال غيره أو أتى زوجته على أنها
أجنبية إلى غير ذلك هذا إذا قلنا بأن المتجري إنما يعصي
بعزمه المقرون بالعمل ولو قلنا بأنه يعصي بعمله كما هو الظاهر أمكن
اعتبار الثمرة في جهة التحريم والتحقيق أن الوجوب على هذا
التقدير مقصور على تقدير العلم أو الظن بالانقاذ لانتفاء الوجوب
بطريان التحريم ولو من جهة التجري لتضاد الاحكام فيرتفع المانع
من ثبوت تحريمه الأصلي وأما لو أتى بالواجب الغيري للامتثال بالغير
ولم يترتب عليه اختيارا كما لو نقض عزمه أو اضطرارا كما لو
طرأ مانع عقلي أو شرعي لم يمتثل به من حيث كونه واجبا في الواقع
نعم يمتثل في الصورة الثانية من حيث إنه ظنه واجبا وبعبارة
أخرى يمتثل التكليف الظاهري ويترتب عليه آثاره من المدح و
الثواب دون الواقعي فامتثاله في هذا الفرض على حد عصيانه في
الفرض السابق وأما في الصورة الأولى فلا ريب في عدم استحقاقه
المدح والثواب بشهادة العقل والعادة وإلى هذا ينظر قولهم بأن
الأجير على الحج من البلدان قطع المسافة وفاته الحج لموت وشبهه
استحق أجرة القطع بالنسبة وإن تركه متعمدا لم يستحق شيئا وهل
ذلك حبط لعمله السابق أو كاشف عن عدم مطلوبيته بحسب الظاهر
أيضا لكونه مراعى بعدم ترك ذي المقدمة اختيارا وجهان وعلى ما
قررنا فمن نذر أن يغتسل غسل الزيارة فاغتسل لها ثم بدا له فلم يزر أو
منعه مانع منها لم تبرأ ذمته وكذا لو نذر أن يصلي ركعة غير
الوتر انعقد نذره لو اعتبرها لا بشرط الوحدة ووجب عليه من باب
المقدمة أن يأتي بالركعة الأخرى لتقع الركعة راجحة شرعا فإذا أتى
بالركعة ثم بدا له قطع الصلاة فقطعها أو فاجأه بعض القواطع لم تبرأ
ذمته إلى غير ذلك وذلك لان مطلوبية الغسل في الفرض الأول و
الركعة في الفرض الثاني إنما هي للغير أعني الزيارة في الأول و
المجموع في الثاني وعلى تقدير عدم حصوله ينكشف عدم
المطلوبية
فلا يقع المنذور وهذا مبني على ما هو الظاهر من لفظ الغسل والركعة
ونظائرهما أعني الصحيح الذي تعلق به الطلب الواقعي ولو أراد
به مطلق الراجح منها ولو في الظاهر برئت ذمته بالمذكور في غير
صورة العمد ووجهه ظاهر ومما يتفرع أيضا على ما حققناه مسألة
التيمم في سعة وقت الفريضة
لغاية غيرها بناء على مراعاة التضييق فإنه إذا لم يترتب عليه الغاية
كشف عن بطلانه فيبطل الفريضة أن صلاها به ولو في آخر وقتها و
كذا لو تيمم للفريضة عند ضيق وقتها ففاتته نعم لو ترتب على تيممه
في المقامين غاية كان تيممه حين وقوعه مطلوبا لها أيضا صح و
جاز الدخول به في غاياته المتأخرة إذ قصد الغاية بالمقدمة غير معتبر
في مطلوبيتها كما بيناه ويكفي في انعقاد العبادة مطلوبيتها
واقعا مع قصد القربة بها فقد اتضح ما قررنا أن الواجب الغيري إذا لم
يترتب عليه فعل الغير جاز أن يتصف بغير الوجوب من سائر الأحكام
حتى الحرمة لانتفاء الوجوب المضاد لها حينئذ واحفظ هذا
فإنه ينفعك في بعض المباحث الآتية واعلم أن الراجح للغير يستدعي
عقلا رجحان الغير بالاعتبار الذي رجح له ويكون رجحانه على حد
رجحانه إن واجبا فواجبا وإن مندوبا فمندوبا على اختلاف
مراتبهما ضعفا وقوة وهذا عند التأمل مما لا خفاء فيه وأما رجحان
غسل اليدين للاكل ووضوء الجنب للنوم من غير فرق بين أن يكون
الاكل والنوم راجحين أو مرجوحين فغير مناف لذلك لان الاكل و
النوم إذا وقعا مسبوقين بالغسل والوضوء تجردا عن وصف منقصة و
مرجوحية لهما على تقدير وقوعهما بدونهما فالغسل والوضوء
راجحان للتخلص عن تلك المنقصة والمرجوحية وكذلك كل فعل
أوجب
تخفيفا في كراهة فعل آخر فإنه يكون راجحا لذلك كمضمضة الجنب
استنشاقه للاكل والشرب الموجبين لتخفيف كراهتهما إلى غير
ذلك وبالجملة فكما أن التخلص عن المرجوحية راجح كذلك
التخلص عن تأكد المرجوحية راجح واعلم أيضا أن الواجب النفسي
قد
يكون وجوبه لفائدة التهيؤ والاستعداد لواجب آخر مشروط بشرط
غير حاصل فيجوز أن يكون
81

من هذه الجهة مراعى بوجوب ذلك الواجب المشروط على تقدير
الاتيان بهذا الواجب والامتثال به مراعى بوقوعه فيجوز أن يترتب
على
ترك مثل هذا الواجب ما يترتب على ترك الاخر إذا أدى تركه إلى عدم
تحقق وجوبه لاستناد فوات فوائده إليه وينبغي أن يجعل من هذا
الباب استحقاق المرتد الذي لا يقبل توبته العقوبة على ما يفوته
بالارتداد من الواجبات المشروطة بأمور غير حاصلة حال الارتداد لو
قلنا بذلك وأن يجعل منه وجوب تعلم الصلاة وأحكامها قبل دخول
وقتها مع أن وجوبها مشروط بدخول وقتها لو قلنا بذلك ويقرب
هذا النوع من الواجبات النفسي إلى الواجب الغيري بالمعنى المتقدم
لمساواته إياه في جملة من الثمرات وربما يظن أنه منه وليس كما
يظن إذ لا يعقل الوجوب الغيري عند عدم وجوب الغير فكيف يكون
من بابه نعم لو فسر الوجوب الغيري بمعنى آخر أعم من المعنى
المتقدم جاز وينقسم الواجب باعتبار آخر إلى أصلي وتبعي فالأصلي
ما فهم وجوبه بخطاب مستقل أي غير لازم لخطاب آخر وإن
كان وجوبه تابعا لوجوب غيره والتبعي بخلافه وهو ما فهم وجوبه
تبعا لخطاب آخر وإن كان وجوبه مستقلا كما في المفاهيم و
المراد بالخطاب هنا ما دل على الحكم الشرعي فيعم اللفظي وغيره و
زعم بعض المعاصرين أن الواجب الأصلي هو الذي استفيد وجوبه
من اللفظ وقصده المتكلم منه والتبعي بخلافه وهو غير واضح و
العجب أنه خص نزاعهم الآتي في وجوب مقدمة الواجب بالواجب
الأصلي
بالمعنى الذي ذكره مع أن نزاعهم هناك يجري فيما ثبت وجوبه باللفظ
وبغيره كالاجماع والعقل وقد صرح هو به أيضا قبل ذلك و
التدافع واضح بل التحقيق أن نزاعهم هناك في وجوبها التبعي بالمعنى
الذي ذكرنا وأعجب من ذلك أنه بعد أن جعل الدلالة الالتزامية
البينة بنوعيها من الدلالة اللفظية ادعى كون تلك الدلالة مرادة للمتكلم
من الخطاب لتكون [فيكون] أصلية مع ظهور أنه لا يلزم إرادته
للازم في البين الأخص ولا تنبهه له في البين الأعم كالسامع فضلا عن
إرادته له ثم الأصالة والتبعية قد يفترقان بالمورد وقد يفترقان
بالاعتبار كما لو صرح بوجوب
بعض المقدمات من الشرائط الجعلية وغيرها فإن وجوبها من حيث
كونه مستفادا من وجوب ذي المقدمة ولو بعد ثبوت الشرطية تبعي
ومن حيث كونه مصرحا بخطاب مستقل أصلي وأنت إذا أحطت خبرا
بما تلونا عليك من أقسام الواجب وأحكامها تيسر لك الاطلاع على
أقسام الحرام والمندوب والمكروه وما يتبعها من الاحكام فإنه أيضا
تنقسم إلى مطلق ومشروط نفسي وغيري تنجيزي وتعليقي
أصالي وتبعي ويظهر الكلام فيها بمقايسة ما مر
فصل الحق أن الامر بالشئ مطلقا يقتضي إيجاب ما لا يتم بدونه من
المقدمات الجائزة
وفاقا لأكثر المحققين وإنما قيدنا الامر بكونه مطلقا احترازا عن
مقدمات الامر المشروط قبل حصول الشرط فإنها لا تجب من حيث
كونها مقدمة له إجماعا لظهور أن وجوب المقدمة على القول به
يتوقف على وجوب ذي المقدمة فيمتنع بدونه والمراد بالمقدمات
الجائزة ما تكون جائزة ولو حال كونها مقدمة مع قطع النظر عن أدلة
التشريع فدخل مثل الدخول في الأرض المغصوبة لانقاذ النفس
المحترمة لجوازه عند عدم التمكن منه بدونه والصلاة إلى غير جهة
القبلة وفي الثبوت المتنجس بغير العفو عند الاشتباه لعدم حرمتها
حينئذ من غير جهة التشريع ولو قلنا بأن لها جهة تحريم مع قطع النظر
عن التشريع كانت من القسم الأول أيضا وإنما قيدنا المقدمات
بكونها جائزة لامرين الأول الاحتراز عن المحرمة منها مطلقا ولو حال
كونها مقدمة سواء انحصرت فيه أو لم تنحصر أما الأول فلما
عرفت في التمهيد من أن الامر على تقدير حصول المقدمة مطلق
بالنسبة إليها وإن كان مشروطا بالنسبة إلى ما أضيف إليها من كونه
أتيا بها على ما مر البيان مع أن الامر بالشئ يمتنع أن يقتضي الامر
بمثل هذه المقدمة لما سيأتي ولا يذهب عليك أن هذا الكلام يتمشى
بالنسبة إلى المقدمة الجائزة أيضا فإن وجوب الواجب على تقديره
يوجب وجوب مقدماته باعتباره على ذلك التقدير فلو وجبت هي
أيضا على ذلك التقدير [أيضا فيلزم في الفرض المذكور] أن يكون
وجوب المقدمة على تقدير وجودها وهو متضح الفساد لكن حيث لم
نظفر بوقوعه في أصل الشرع لم نحافظ على إخراجه من العنوان وربما
أمكن وقوعه في النذر وشبهه ولو حرر النزاع في المقدمات
المقدورة التي لا يكون وجوب الواجب معلقا عليها ولا على تقدير
حصولها حصل الاحتراز به عن ذلك أيضا وأما الثاني فظاهر
لاستحالة تعلق الأمر والنهي بشئ واحد والثاني الاحتراز عن غير
المقدورة منها سواء انحصرت فيه كحضور أيام الحج بالنسبة إلى
أفعاله أو لم تنحصر كسير الزمن ماشيا مع تمكنه منه راكبا أما الأول فلما
عرفت من أن الامر مطلق بالنسبة
إليها وليس مشروطا بحصولها وإلا لما تعلق الخطاب إلا بعد حصولها
فيلزم أن لا يتعلق الخطاب بالمقدمات التي قبلها تبعا للخطاب
بالحج كما في الفريضة بالنسبة إلى دخول الوقت وليس كذلك مع أن
الامر بها ممتنع وأما الثاني فلاستحالة الامر بغير المقدور ولو
على وجه التخيير ووجه الاحتراز أن الجواز حكم شرعي لأنه جنس
للأحكام الأربعة والحكم الشرعي لا يتعلق بغير المقدور وما يقال
في أخيري الامرين من أن الواجب بالنسبة إلى المقدمة الجائزة و
المقدورة مطلق وبالنسبة إلى المحرمة وغير المقدورة مشروط
فيخرج عن العنوان فمما لا يصغى إليه وهذا هو السر في تقييد كثير
منهم للمقدمة في العنوان بكونها مقدورة وإن قصر عن إفادة
الاحتراز عن الامر الأول اللهم إلا أن يؤول بما يتناول المقدورة شرعا
أيضا فيرجع إلى ما ذكرناه وحيث خفي وجه هذا التقييد على
الفاضل المعاصر تركه معترضا على من اعتبره بأنه لا وجه له إلا
التوضيح فإن الامر المطلق لا تكون مقدماته إلا مقدورة وأن الواجب
بالنسبة إلى المقدمة الغير المقدورة يكون مشروطا وقد سبقه إلى ذلك
غيره وهو كما ترى هذا وقال قوم بعدم الاقتضاء مطلقا و
فصل جماعة فأثبتوه في السبب دون غيره وآخرون فأثبتوه في الشرط
الشرعي دون غيره ثم من المثبتين من صرح بأن المراد من
الاقتضاء اللزوم العقلي ومنهم من أطلق ولا بد أولا من تحرير محل
82

النزاع فنقول كما لا نزاع في وجوب المقدمة بالوجوب العقلي بمعنى
اللزوم واللا بدية إذ إنكار ذلك يؤدي إلى إنكار كون المقدمة
مقدمة كذلك لا نزاع في عدم تعلق الخطاب الأصلي بها بحيث يكون
الخطاب بالشئ خطابا بأمرين به وبمقدمته لظهور أن معنى افعل
ليس إلا طلب الفعل فقط دون ذلك مع طلب مقدماته ولا في عدم
كونها مطلوبة لنفسها ضرورة أن مطلوبية شئ لنفسه لا توجب
مطلوبية ما يتوقف عليه لنفسه أيضا وإنما النزاع في وجوبها بالوجوب
الغيري التبعي وقد عرفت تحقيق الكلام فيهما وما قيل من أن
النزاع في الوجوب بمعنى كونها بحيث يترتب عليها الثواب والعقاب
أو بمعنى كونها بحيث يشتمل تركها على مفسدة فليس بسديد أما
الأول فلانه راجع إلى النزاع في الثمرة على تقدير القول به وأما الثاني
فلانه إن أريد بالمفسدة ترك الواجب أو ما يترتب على تركه
فهو مما لا يقبل النزاع وإن أريد بها ترتب العقاب على تركها رجع إلى
الأول وزعم الفاضل المعاصر أن القائلين بوجوب المقدمة لا بد
لهم من القول بأنها مع كونها واجبة توصلية واجبة نفسية أصلية وذلك
لأنهم جعلوا ثمرة النزاع في أمرين في عدم الاجتماع مع الحرام و
في ترتب الثواب والامر الأول لا يترتب إلا على الوجوب النفسي إذ
الوجوب التوصلي يجتمع مع الحرام والامر الثاني لا يترتب إلا على
الوجوب الأصلي إذ لا دليل على ترتبه على التبعي أقول فعلى ما زعمه
قد يكون وجوب المقدمة من حيث كونها مقدمة أقوى من وجوب
ذي المقدمة وهذا مما لا يمكن إسناده إلى ذي مسكة وأما ما استند
إليه في إلزامهم بذلك من الامرين المذكورين فواضح الفساد إذ ما
ذكره من أن الوجوب التوصلي يجتمع مع الحرام غير سديد كيف و
لزوم التكليف بالمحال على تقديره ظاهر جلي نعم يجوز أن يجتمع
التوصل مع الحرام وهذا هو الذي نص بعض المحققين على جوازه و
الثواب كما يترتب على الوجوب الأصلي كذلك يترتب على الوجوب
التبعي كما سيأتي بيانه في بيان ثمرة النزاع ثم المقدمات منها الجز و
المعد والشرط والسبب ولا تنحصر فيها كما يعرف من
حدودها وحصر بعض المعاصرين لها في الشرط والسبب غير
مستقيم والظاهر أن نزاعهم في المقام يتوجه إلى الجميع كما يرشد
إليه
تعبيرهم
عن محل النزاع بمقدمة الواجب أو ما لا يتم الواجب إلا بدونه أو ما
يتوقف عليه الواجب وأما ما نقل عن البعض من نقل الاتفاق على
وجوب أجزاء الواجب المركب فإن أراد الوجوب النفسي على البيان
الآتي فخارج عن محل النزاع وإن أراد الوجوب الغيري فممنوع لما
عرفت وأما الاحتجاج عليه بأن وجوب المركب يدل على وجوب
أجزائه بالتضمن فخطأ لان الوجوب النفسي لا يتركب من وجوبات
غيرية نعم دلالة الواجب عليه بالتضمن وأما دلالة وجوبه على وجوبها
الغيري فبالالتزام كسائر المقدمات والمراد بالمعد هنا ما يعتبر
وجوده وعدمه في حصول المطلوب مع بقاء الاختيار معه على الفعل
كنقل الاقدام في الوصول إلى الحج واحترزنا بالقيد الأخير عن
الأسباب الاعدادية فإنها داخلة في السبب والوجه في سائر القيود
ظاهر والمراد بالشرط الخارج الذي يقتضي عدمه عدم المشروط مع
عدم قيام البدل ولا يقتضي وجوده وجوده فخرج الجز لدخوله و
لوازم الشرط لعدم اقتضاء لها حقيقة والمعد لان عدمه المقارن لا
يقتضي العدم كيف وقد اعتبر في المقتضي نعم عدمه مطلقا يقتضي
ذلك لكن ظاهر لفظ الحد هو الأول وقد يعرف بما يلزم من عدمه
عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجوده وهو منقوض طردا
بالمقتضي المجامع لعدم الشرط أو لوجود المانع وببعض أجزائه و
أجزاء المشروط إن كان مركبا وخروج الثلاثة الأول عن الحد الأول
مبني على تعميم الاقتضاء المنفي إلى الفعلي والشأني والاستقلالي
والضمني وباللوازم إن لم يجعل من سببية وعكسا بالشرط المتأخر
عن المقتضي كالإجازة في الفضولي على القول بحصول الأثر من
حين الإجازة وقول بعض المعاصرين بدخول جميع العلل الناقصة في
الشرط غريب وأغرب منه أنه عمم السبب إلى السبب الناقص و
جعله في مقابلة الشرط مع أن الأسباب الناقصة علل ناقصة والسبب
قد يطلق ويراد به السبب التام ويرادفه العلة التامة وقد يطلق و
يراد به الجز الأخير منه وحد بهذين الاعتبارين بما يستحيل انفكاكه
عن الشئ مطلقا وهو غير مطرد لدخول لوازم السبب واللوازم
المساوية للمسبب فيه وحده بعضهم بالاعتبار الأول بما يلزم من
وجوده وجود الشئ ومن عدمه عدمه وهو أيضا غير مطرد لدخول
اللوازم والجز الأخير من المركب والجز الأخير من العلة وما قبله إن
استلزمه فيه وإن جعلت من سببيته خرجت اللوازم لكنه يوجب
الدور إلا أن تجعل للسببية المطلقة ومع ذلك ينتقض عكسه بما إذا
قام مقام السبب سبب آخر والأظهر أن يحد بالخارج الذي يمتنع
انفكاكه عن المسبب مع توقفه عليه فيخرج الجز لدخوله وما عدا
الجز الأخير لجواز الانفكاك واللوازم لعدم التوقف واعتبار
المسبب في الحد لا يوجب الدور إذ يكفي فيه تصوره الاجمالي و
تفسير السبب بأحد هذين المعينين في هذا المبحث ونظائره كما وقع
عن البعض غير سديد أما الأول فلان من قال بالوجوب في السبب
دون غيره من المقدمات من حيث المجموع وهو ظاهر وأما الثاني
فلان الجز الأخير ربما لا يكون فعلا اختياريا في نفسه والقائل
بالاقتضاء في السبب إنما يقول به في السبب الاختياري على ما
يساعد
عليه حجته مع أن السبب قد يكون مركبا من أجزاء كصيغة العتق وهذا
القائل لا يخص الوجوب بالجز الأخير منه وكذلك من قال بأن
الامر بالمسبب راجع إلى الامر بالسبب لا يريد به مجموع المقدمات و
لا الجز الأخير الغير الاختياري ولا الجز الأخير من السبب
الاختياري إذا كان مركبا كما يفصح عنه دليله وفسره الفاضل المعاصر
بما يستلزم وجوده وجود المسبب وعدمه عدمه لذاته وقيد
بقوله لذاته لئلا ينتقض عكس الحد بالسبب الذي لم يستلزم وجوده
وجود المسبب لمانع كعدم الشرط أو عدمه العدم لوجود سبب آخر
لتحقق استلزام الوجود في الأول والعدم في الثاني بالنظر إلى ذات
السبب هذا حاصل كلامه وهو صريح في أن القيد المذكور معتبر في
المقامين وأن المراد بالسبب ما يتناول السبب الناقص أيضا وفيه نظر
لان الظاهر أن من قال بالاقتضاء في السبب لم يقصد به السبب
الناقص أعني ما
83

يصادف وجود المانع ولو مع العلم به لظهور أن لا غرض للامر في
فعله وكذا من يجعل الامر بالمسبب راجعا إلى الامر بالسبب لم
يقصد به السبب الناقص كما يفصح عنه دليله مع أن إطلاق السبب
على السبب الناقص مجاز ولا قرينة عليه في كلامه فلا يصح حمله
عليه
ثم أقول في حده إن أراد بالاستلزام دوام الاستلزام لم يتناول السبب
الناقص وكذا إن أراد الاستلزام من حيث الذات كما هو الظاهر من
لفظ الحد لامتناع تخلف ما بالذات عنها على ما حقق في محله وإن
أراد الاستلزام في الجملة دخل الشرائط أيضا لأنها قد تستلزم وذلك
إذا أخذت بشرط المقارنة لغيرها من تتمة العلة ثم السبب بهذا المعنى
أعم منه بالمعنى الأول فيرد عليه الاشكال المورد عليه على أن قوله
ويلزم من عدمه العدم مستدرك لحصول الاحتراز عن المانع كما ذكره
بما ذكره من الاستلزام في جانب الوجود وما زعمه من أن تقييد
الاستلزام في جانب العدم مستدرك لحصول الاحتراز عن المانع كما
ذكره بما ذكره من الاستلزام في جانب الوجود وما زعمه من أن
تقييد الاستلزام في جانب العدم بقوله لذاته لادخال الأسباب
المتعددة غير سديد لان عدم كل سبب في ذاته لا يستلزم عدم
المسبب و
إلا لامتنع وجوده بسبب آخر لما مر وإنما يستلزمه بشرط عدم بقية
الأسباب أو يستلزمه عدم جميع الأسباب إلا أن يتعسف بحمله على
الاستلزام في الجملة كما مر في بعض الوجوه والتحقيق أن المراد
بالسبب هنا هو الجز الأخير من الفعل الاختياري الخارج المقتضي
وجوده وجود المسبب فخرج الغير الاختياري في نفسه لما عرفت و
الأجزاء لدخولها ولوازم السبب وجزؤه إن كان مركبا والأسباب
الناقصة والمعدات والشرائط إذ لا اقتضاء لها حقيقة وإن كان
للأسباب الناقصة شأنية الاقتضاء ودخل المقتضي بواسطة مسببه لان
المقتضي للسبب مقتض لمسببه أيضا عرفا ثم اعلم أن مقدمة الواجب
المطلق قد ينحصر في المقدور كالطهارات الثلاث بالنسبة إلى
المتمكن وقد يشترك بينه وبين غير المقدور كتطهير الثوب فإنه
يحصل تارة بغسله المقدور وأخرى بوقوعه في الماء من غير قصد و
بغسل غيره له من غير إذنه إلى غير ذلك مما لا يستند إلى قدرة
المكلف ولا ريب في أن وجود الواجب في
مثله لا يتوقف على التقدير الأول فقط بل على أحد التقديرين منه و
من التقدير الثاني فيكون مقدمة الواجب أحد الامرين لكن الوجوب
على القول به إنما يتعلق بالمقدمة المقدورة على التعيين دون غيرها و
لو على التخيير لاستحالة التكليف بغير المقدور مطلقا نعم يسقط
وجوب المقدورة عند القائلين به بحصول غير المقدورة ولا يلزم منه
وجوبه كسقوط ما في ذمة زيد بأداء عمرو وكسقوط وجوب إزالة
النجاسة عن المسجد باستباق السيل والمطر إليها مع أن الوجوب في
الصورتين تعييني إذا تقرر هذا فالمستند على القول المختار وجوه
الأول شهادة الضرورة بذلك فإن من راجع وجدانه حال إرادته لشئ و
طلبه له وقاس نفسه إلى ما يتوقف عليه من مقدماته وأنصف
قطع بأنه مريد لها للوصلة إليه على حد إرادته له وقطع بأن منشأ هذه
الإرادة إنما هو إرادة ذي المقدمة وأنها تستلزمها حتى إنه لو بنى
على عدم إرادتها حال إرادته وجد ذلك من نفسه مجرد فرض لا
حقيقة له لمخالفته مقتضى عقله واعترض عليه بأن الامر كثيرا ما
يذهل
عن تعقل المقدمات فيمتنع إرادته لها إذ تعلق الإرادة والطلب بأمر
غير معقول والجواب أنه إن أريد امتناع ذلك في الطلب الأصلي
فخارج عن محل البحث وإن أريد امتناعه في الطلب التبعي فممنوع
فإن لوازم الخطاب مرادة بإرادته كتعيين أقل الحمل من الآيتين و
إن قدر الذهول عنها أو نقول المقدمة مرادة على تقدير الذهول عنها
بالإرادة الشأنية بمعنى أنها بحيث لو تنبه الامر لها لأرادها وهي
منزلة منزلة الإرادة الفعلية بحكم العقل والعادة كمحافظة العبد على ما
يجده من مال مولاه في معرض التلف وكإنقاذه للغريق من أهله و
صديقه إذا تمكن من ذلك من دون مانع فإنه يذم على الترك في ذلك
قطعا وإن لم يسبق إليه خطاب به وليس ذلك إلا لكون المقام
بحيث لو اطلع عليه مولاه لألزمه به على أنه لا خفاء في أن الوجوب
المتنازع فيه إنما هو الوجوب الشرعي وهو مستند إلى أمره تعالى و
إرادته ويمتنع الذهول والغفلة عليه وأما الوجوب المستند إلى أمر من
يجب طاعته شرعا فراجع إلى أمره تعالى فإنه تعالى حيث أمرنا
بالطاعة أمرنا بمقدماتها
أيضا الثاني أن صريح العقل قاض بأن اتصاف الامر المقدور بالرجحان
النفسي المانع من النقيض بالفعل يوجب اتصاف ما يتوقف عليه
من مقدماته التي تقدم ذكرها بالرجحان له أعني الرجحان الغيري
كذلك وقضية ما تقرر عند أهل التحسين والتقبيح من أن أحكام
الشرع تابعة لما تتضمنه الافعال من وجوه المصالح والجهات
المرجحة أن يكون الراجح النفسي مطلوبا لنفسه والراجح الغيري
مطلوبا
للغير على اختلاف مراتب الطلب بحسب تفاوت مراتب الرجحان و
حيث إن رجحان الواجب رجحان مانع من النقيض فلا بد أن يكون
رجحان مقدماته أيضا كذلك وذلك يستلزم وجوبها على القاعدة
المذكورة وهو المطلوب الثالث أنها لو لم تجب لجاز تركها وحينئذ
فإن بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بالمحال لامتناعه حال
عدمها وإلا لزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا وبطلان
كل منهما ظاهر واعترض عليه بعد التزام القسم الأول تارة بمنع بطلان
التالي لجواز التكليف بالمحال إذا كان ناشئا من قبل المكلف و
أخرى بمنع الملازمة لان القدرة لا ترتفع بجواز الترك إذ تأثير الايجاب
في القدرة غير معقول والاعتراض الأول أنسب بأن يكون قول
المستدل وحينئذ بمعنى حين الترك والثاني أنسب بأن يكون معناه
حين الجواز والجواب عن الأول أن التكليف بالمحال مما يستقل كل
من العقل والنقل ببطلانه سيما إذا ترتب على أمر جائز وعن الثاني أن
المقصود ليس تأثير إيجاب المقدمة في القدرة على ذي المقدمة
بل في صحة التكليف به بحيث يترتب الذم على تركه لأنه إذا لم تجب
المقدمة عليه لم يصح ترتب الذم عليه لعدم صدور مخالفة منه إذ
حال القدرة لا يجب عليه التوصل إلى الواجب بإتيان مقدماته وبعدها
لا تكليف عليه وإلا لزم التكليف بالمحال وأما ما يقال من أن
اللازم على تقدير وجوب المقدمة حينئذ وقوع المخالفة فيها لا في
ذي المقدمة فيبقى الاشكال فيه بحاله بناء على عدم جواز التكليف
بالمحال
84

فيمكن دفعه بأن وجوب المقدمة ليس لنفسها بل للتوصل إلى
المطلوب فمرجع المخالفة فيها إلى المخالفة فيه وبهذا يندفع أيضا ما
عساه
يقال من أن الدليل المذكور إنما يقتضي وجوب المقدمة ولو لنفسها و
المقصود إنما هو إثبات وجوبها لغيرها وإن كانت واجبة لنفسها
أيضا كما في المعارف الخمس هذا غاية توجيه الدليل والتحقيق أن
وجوب المقدمة لا مدخل له في ترتب الذم والعقاب على ترك ذي
المقدمة بل المدار في ترتبهما على مجرد ترك الواجب مع العلم و
التمكن ولو في بعض أزمنة الوجوب والذي يفصح عن ذلك أن
العقلا
يذمون تارك الواجب معللين بأنه علم وتمكن ولم يفعل فلو كان
وجوب المقدمة أيضا مما يعتبر في وجوب الواجب لاعتبروه في
ترتب
الذم عليه كالعلم والتمكن وأيضا وجوب المقدمة من لوازم وجوب
الواجب وتوابعه المتوقفة عليه بالضرورة فلا يكون مما يتوقف عليه
وجوب الواجب ويعتبر فيه كما يقتضيه الدليل المذكور وإلا لكان دورا
وعلى هذا فالتحقيق أن المكلف ما دام متمكنا من ذي المقدمة
فهو مأمور به ولا مدخل لوجوب المقدمة فيه وبعد ارتفاع تمكنه منه
يرتفع عنه التكليف لقبح التكليف بغير المقدور فقول المستدل و
إلا لزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا إن أراد خروجه
عنه بالنسبة إلى حال ثبوت القدرة بأن لا يكون ما فرض واجبا
مطلقا حال القدرة واجبا مطلقا فيها فبطلانه واضح لان الملازمة
ممنوعة إذ لا يلزم من عدم بقاء الوجوب حال ارتفاع القدرة عدمه قبل
ارتفاعها كما لا يلزم من ارتفاعه بعد فعل الواجب أو فوات وقته عدمه
قبلهما وكذا نمنع الملازمة إن أراد خروجه عنه بالمعنى المذكور
بالنسبة إلى حال ارتفاع القدرة إذ لا يثبت فيها وجوب حتى يتحقق
الخروج عنه ولا ينافي ذلك ترتب الذم والعقاب على المخالفة إذ لا
يشترط فيه استمرار التكليف إلى زمان الفعل وإن أريد بالخروج ارتفاع
الوجوب المطلق عند ارتفاع القدرة فالملازمة مسلمة لكن
بطلان التالي ممنوع كما أشرنا إليه الرابع أنها لو لم تجب لجاز تصريح
الامر بجواز تركها والتالي باطل بيان الملازمة أن جوازه حينئذ
حكم من الاحكام فيجوز بيانه لا يقال الخطاب به عبث فلا يقع من
الحكيم لأنا نقول إن كان في الوجه في ذلك ظهور الحكم فظاهر
خلافه لمصير كثير من الاعلام إلى خلافه مع أن اعتضاد
حكم العقل بالشرع مما لا غبار عليه وإن قدر وضوحه كما وقع في غير
المقام وإن كان غير ذلك فلا بد من بيانه حتى نتكلم عليه وأما
بطلان التالي فمما تشهد الضرورة به حتى اعترف به بعض المنكرين
للوجوب واعتذر عنه بأن الحكم بالجواز هنا عقلي لا شرعي و
وجهه بعضهم بأن مقدمة الفعل لازمة له وحكم الشارع بجواز ترك
اللازم دائما يستلزم حكمه بجواز ترك الملزوم ويدفعه أن تفكيك
حكم الشرع عن حكم العقل غير سديد كما سيأتي بيانه في محله إن
شاء الله وأن عدم حكم الشارع بجواز الترك إن كان مع الحكم
بعدم جواز الترك فقد ثبت المطلوب وإلا فمردود بانتفاء الواسطة بين
الأحكام الخمسة حجة النافين الأصل وأنه لا دلالة لصيغة الامر
على ذلك بواحدة من الثلاث أما المطابقة والتضمن فظاهر وأما
الالتزام فلانه لا ملازمة عقلا ولا عرفا بين وجوب الشئ ووجوب
مقدمته وأنه لو استلزم لعصى بتركه والتالي باطل للقطع بأن ترك
الصلاة معصية واحدة لا معاص متعددة بحسب تركها وترك
مقدماتها وأنه يجوز تصريح الامر بعدم الوجوب كأن يقول أوجبت
عليك غسل الوجه ولا أوجب عليك غسل ما زاد عليه وأن الامر
كثيرا ما يذهل عن المقدمات فيمتنع تعلق طلبه بها وأنها لو وجبت
لوجبت نيتها وأنه باطل والجواب أما عن الأول فبأن الأصل لا
يعارض الدليل وأما عن الثاني فبما مر من بيان الملازمة إن أريد بها
اللزوم البين بالمعنى الأعم وإن أريد بها اللزوم البين بالمعنى
الأخص سلمنا انتفاء الدلالة بهذا الاعتبار لكنه لا يوجب نفي الدلالة
مطلقا وقد مر ما يقتضي ثبوتها معنى وعقلا وأما عن الثالث فبمنع
الملازمة فإن الظاهر من العصيان إنما هو المخالفة في الطلب الإلزامي
النفسي دون الغيري وإن فسر بمخالفة مطلق الطلب الإلزامي
كان بطلان التالي على تقديره ممنوعا إذ المذكور في بيانه إنما يقتضي
نفي العصيان بالمعنى الأول وأما عن الرابع فبأن المنفي إن
كان الوجوب النفسي فصحة التصريح به لا يثبت المدعى وإن كان
الوجوب الغيري أو ما يعمه فقد مر أن الضرورة تشهد بخلافه وأما
المثال المذكور فليس مما نحن فيه في شئ لأنه إيجاب شئ و
تصريح بعدم وجوب مقدمة شئ آخر فإن غسل ما زاد على الوجه
مقدمة
للعلم
بالغسل لا لنفس الغسل فنفي وجوبه ينافي تحصيل العلم بغسل تمام
الوجه لا وجوب غسل تمام الوجه وأما عن الخامس فبما مر وأما عن
السادس فبمنع الملازمة كما في إزالة النجاسة ونظائرها ثم هذه الأدلة
كلا أو بعضا مشتركة بين الأقوال الثلاثة واحتج من خصها بغير
السبب بأن وجوب السبب ليس محل خلاف يعرف بل ربما نقل
الاتفاق عليه وبأن القدرة غير حاصلة مع المسببات فيبعد تعلق
التكليف
بها وحدها ولا يخفى ضعف الوجهين أما الأول فلان عدم معروفية
المخالف لا تعويل عليه عندنا بل ولا عند المستدل فإنه أنكر حجية
عدم معلومية المخالف وهو يستلزم إنكاره لحجية عدم معروفية
المخالف بطريق أولى وكذا لا تعويل عندنا على نقل الاجماع في
نظائر المقام حيث إن الظاهر منه إرادة مجرد الاتفاق لا الاتفاق
الكاشف عن قول المعصوم أو المشتمل عليه وإن كان النقل المذكور
في
كلام أهل الخلاف كما هو الظاهر فعدم الاعتداد به أوضح وأما الثاني
فلان مجرد الاستبعاد لا يثبت به الحكم الشرعي وذلك ظاهر مع
أنه جار في غير السبب من المقدمات أيضا إذ القدرة غير حاصلة مع
ذي المقدمة بدونها أيضا فيجري فيها الاستبعاد المذكور واعلم أن
القول بوجوب مقدمة الواجب إذا كانت سببا مبني على القول بعدم
رجوع الامر بالمسببات إلى الامر بأسبابها إذ على تقدير الرجوع
تخرج الأسباب عن كونها مقدمة للواجب كما هو محل البحث
فاحتجاج الفاضل المعاصر على القول بوجوب مقدمة الواجب إذا
كانت سببا
بالحجة الآتية للقول برجوع الامر بالمسببات إلى الامر بأسبابها وتنزيله
للقول المذكور على ذلك وهم واضح كيف والبحث هنا عن
وجوبها الغيري التبعي والبحث هناك عن وجوبها النفسي الأصلي و
لعل منشأ الوهم تعرض صاحب المعالم لنقل هذا القول وحجته في
أثناء الاحتجاج فتوهم منه اتحاد القولين واحتج من خصها بغير
85

الشرط الشرعي أن الشرط الشرعي لو لم يجب لم يكن شرطا إذ بدونه
يصدق أنه أتى بجميع ما أمر به فيجب صحته وهو مناف للشرطية
وفيه أنه بدون الشرط لا يصدق أنه أتى بما أمر به لامتناع تحقق
المشروط بدون الشرط وإن لم يجب ولو جعلنا التقييد بالشرط داخلا
فالمنع أوضح وأما ما أورد على الحجة المذكورة من أنها تجري في
غير الشرط الشرعي من سائر المقدمات فمما لا وجه له لعدم إمكان
الاتيان بالواجب ولو صورة بدونها بخلاف الشرط الشرعي وقد
يستدل بأن ترك الشرط سبب لترك الواجب فيحرم فيجب فعله وهذا
مع جريانه في سائر المقدمات مبني على تحريم السبب الشأني
للحرام وهو ممنوع كما يأتي ثم لا يذهب عليك أن بعض الوجوه التي
أوردوها لنفي الوجوب في غير السبب والشرط لو تم أفاد نفي
الوجوب فيهما أيضا كما لا يخفى واعلم أن القوم وإن خصوا البحث
في
المقام بمقدمة الواجب لكنه يجري في مقدمة المندوب أيضا و
التحقيق بأنه مندوب للوصلة إليه والكلام فيه كالكلام في مقدمة
الواجب و
قد يشكل ذلك باستلزامه نفي المباح إذ ما من مباح إلا وتركه مقدمة
لفعل مندوب فيكون مكروها لرجحان تركه المستلزم لمرجوحية
فعله وسيأتي بيان دفعه في ذيل مبحث الضد مضافا إلى ما في كلية
الدعوى من وضوح توجه المنع إليها واعلم أيضا أن الكلام في
مقدمات الواجب المشروط كالكلام في مقدمات الواجب المطلق
فيجب مقدماته بالوجوب الشرطي حيث يجب مقدمات الواجب
المطلق
بالوجوب المطلق نعم يستثنى منها المقدمة التي هي شرط الوجوب
من حيث نفسه أو تقديره فإنها لا تجب بالوجوب الشرطي من حيث
كونها مقدمة للواجب المشروط وإلا لزم وجوب الشئ بشرط وجوده
أو على تقدير وجوده وهو محال وقس على ذلك الحال في
مقدمات المندوب المشروط
تنبيهات
الأول
قد ذكرنا أن وجوب مقدمة الواجب غيري وبينا أيضا أنه يعتبر في
اتصاف الواجب الغيري بالوجوب كونه بحيث يترتب عليه الغير الذي
يجب له حتى إنه لو انفك عنه كشف عن عدم وقوعه على الوجه الذي
يجب فلا يتصف بالوجوب ونقول هنا توضيحا لذلك وتأكيدا له أن
مقدمة الواجب لا تتصف بالوجوب والمطلوبية من حيث كونها مقدمة
إلا إذا ترتب عليها وجود ذي المقدمة لا بمعنى أن وجوبها مشروط
بوجوده فيلزم ألا يكون خطاب بالمقدمة أصلا على تقدير عدمه فإن
ذلك متضح الفساد كيف وإطلاق وجوبها وعدمه عندنا تابع
لاطلاق وجوبه وعدمه بل بمعنى أن وقوعها على الوجه المطلوب
منوط بحصول الواجب حتى إنها إذا وقعت مجردة عنه تجردت عن
وصف الوجوب والمطلوبية لعدم وجوبها على الوجه المعتبر
فالتوصل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط
الوجوب وهذا عندي هو التحقيق الذي لا مزيد عليه وإن لم أقف
على من يتفطن له والذي يدل على ذلك أن وجوب المقدمة لما كان
من
باب الملازمة العقلية فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور و
أيضا لا يأبى العقل أن يقول الامر الحكيم أريد الحج وأريد المسير
الذي يتوصل به إلى فعل الحج له دون ما لا يتوصل به إليه وإن كان من
شأنه أن يتوصل به إليه بل الضرورة قاضية بجواز التصريح
بمثل ذلك كما أنها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقا أو
على تقدير التوصل بها إليه وذلك آية عدم الملازمة بين وجوب
الفعل ووجوب مقدمته على تقدير عدم التوصل بها إليه وأيضا حيث
إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله فلا
جرم يكون التوصل إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها فلا تكون
مطلوبة إذا انفكت عنه وصريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئا
لمجرد حصول شئ لا يريده إذا وقع مجردا عنه ويلزم منه أن يكون
وقوعه على الوجه المطلوب منوطا بحصوله
الثاني
إذا تركب الواجب في الخارج من أجزاء كالصلاة فكل جز من أجزائه
واجب بالوجوب النفسي والغيري باعتبارين فباعتبار كونه في
ضمن المركب واجب نفسي فإن المركب عبارة عن نفس الأجزاء وإلا
لم يكن مركبا فوجوبه عبارة عن وجوبها لكن تعلق الوجوب بكل
جز حينئذ ليس مستقلا بل في ضمن الكل فالدال على طلب الكل
بالمطابقة دال على طلب الجز بهذا الاعتبار أيضا بالمطابقة وإن كان
الدال على متعلقه الأول أعني الكل بالمطابقة دالا على متعلقه الثاني
أعني الجز بالتضمن لا يقال هذا إنما يتم فيما إذا اجتمعت أجزاؤه في
الزمان دون ما إذا تفرقت فيه كالصلاة والحج إذ لا وجود للكل في
الخارج حال وجود الجز حتى يعتبر وجوده في ضمنه وقد تقرر
في الكتاب أن الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالطبائع باعتبار وجوداتها
الخارجية لا غير لأنا نقول قد حققنا في محله أن الأحكام الشرعية
أمور اعتبارية تلحق الافعال الخارجية في الذهن باعتبار كونها
خارجية ولا ريب أن الافعال الخارجية مجتمعة في الذهن وإن
أخذت من حيث كونها خارجية فيصح اعتبار الجز في ضمن الكل في
ظرف الاتصاف ومن هنا صح وصف الكل بالوجوب مع أن ثبوت
الوصف فرع ثبوت الموصوف ولا وجود للكل في الخارج وإنما
الموجود أجزاؤه التدريجية وليس شئ منها صالحا للاتصاف لعدم
استقلاله به هذا وباعتبار كونه مما يتوصل به إلى الكل واجب غيري
لتوقفه عليه ضرورة أن وجود المركب مسبوق بوجود أجزائه
فيدل الامر به على الامر بها بالاستلزام فيتعلق الوجوب بها على
الاستقلال وليس بالتضمن لان الوجوب النفسي بسيط وإن تعلق
بمركب فلا يتركب من وجوبات غيرية وكأن من ادعى عدم الخلاف
في وجوب الجز يريد به الوجوب بالاعتبار الأول فيكون خارجا
عن محل النزاع
الثالث
المقدمة كما تكون مقدمة وجوب ومقدمة وجود كذلك قد تكون
مقدمة علم كغسل جز من الرأس لتحصيل العلم بغسل تمام الوجه
فتجب
حيثما يجب ومرجع هذه المقدمة عند التحقيق إلى مقدمة الوجود
حيث يتوقف حصول العلم الواجب عليها فوجوبها إنما يستفاد من
الخطاب بتحصيل العلم الثابت في موارده بالعقل أو السمع لا من
الخطاب بالفعل إذ لا توقف له عليها وهذا ظاهر وقس على ذلك
الحال
في مقدمة الظن حيثما يعتبر ولا يذهب عليك أن وجوب تحصيل
العلم أو الظن في موارده غيري إذ الواجب في الحقيقة هو العمل
المعلوم
أو المظنون وجوبه دون نفس العلم أو الظن ولهذا لا يعاقب تارك
الواجب على ترك تحصيل العلم أو الظن به أيضا إذا تمهد هذا فمن
86

فروعه ما لو اشتبه الواجب بالجائز فعلى ما حققناه يجب الاتيان بما
يعلم معه الاتيان بالواجب وربما قيل بعدم الخلاف في وجوب مثل
هذه المقدمة وأنكره بعض المعاصرين في غير ما ورد فيه نص فعلى ما
ذكرنا يجب فيما لو اشتبهت جهة القبلة بغيرها أن يأتي بصلوات
متعددة بحسب الجهات المشتبهة لا يقال تجب الصلاة إلى جهة القبلة
ولا تجوز إلى غيرها فلا يكون من اشتباه الواجب بالجائز بل
بالحرام لأنا نقول عدم جواز الصلاة إلى غير جهة القبلة إنما هو من جهة
كونها بدعة من حيث عدم تعلق طلب الشارع بها وظاهر أن هذا
يختص بغير حال الاشتباه إذ حال الاشتباه يتعلق بها طلب غيري بناء
على ما مر نظرا إلى إطلاق الامر وأصالة بقاء الاشتغال فيخرج عن
كونها بدعة فالمراد بالجائز ما يكون جائزا مع قطع النظر عن كونه بدعة
كما مر التنبيه عليه في عنوان المبحث هذا إذا قلنا بأن حرمة
الصلاة إلى غير جهة القبلة تشريعية محضة وأما إذا قلنا بأنها محرمة
ذاتية كما يستفاد من بعض الأدلة فلا خفاء في أن تحريمها مقصور
على غير صورة الاشتباه لعدم مساعدة دليل التحريم على ثبوته في
صورة الاشتباه فيتم التفريع المذكور أيضا وعلى هذا فينوي عند
الاتيان بكل واحد من آحاد المشتبه أنه يأتي بالواجب ولو أريد تعيين
كونه نفسيا أو غيريا عينه بالنفسي الاحتمالي والغيري القطعي و
وجهه ظاهر ثم لا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون الواجب فعلا كما مر أو
تركا كما في الحرام المشتبه بغيره مع الانحصار فيجب
الاجتناب عن كل واحد من باب المقدمة لتوقف العلم بترك الحرام
الواجب عليه صرح بذلك جماعة منهم العلامة وأنكره بعض
المعاصرين بناء على وجوب مقدمة الواجب معللا بأن الواجب ترك
ما علم حرمته لا ما كان حراما بحسب نفس الامر إذ لا دليل عليه وهو
ضعيف إذ العقل لا يفرق بين المقامين وسيأتي تحقيق الكلام فيه في
محله إن شاء الله واعلم أن هذه القاعدة تقتضي جواز الاتيان بالزائد
على الواجب لتحصيل العلم بإتيانه ولو مع التمكن من تحصيل العلم
بغيره إذ غاية الامر أن يكون وجوبه على هذا التقدير تخييريا لا
تعيينيا لكن الطريقة المتلقاة من صاحب الشريعة لا تساعد عليه في
العبادات الموظفة عند التمكن من الاستعلام
للقطع بعدم جواز الصلاة إلى الجهات الأربع أو في الثياب المتعددة مع
التمكن من تعيين جهة القبلة وتحصيل الثوب الطاهر فينبغي
تخصيصها فيها بصورة عدم التمكن ومنه يظهر أن للصلاة الفاقدة
للشرط عند التمكن جهة قبح زائد على قبح التشريع أعني فعل غير
المأمور به على أنه مأمور به إذ لو انحصر فيه لزم وجوبها على وجه
التخيير على ما تقتضيه الأدلة السابقة فإن قضيتها عدم انفكاك
مقدمة الواجب بقيودها المعتبرة في العنوان عن الوجوب الغيري ولو
على وجه التخيير حيث تعدد
الرابع تظهر ثمرة النزاع في مواضع
منها في صحة قصد الامتثال والقربة بفعلها من حيث كونها مقدمة
فعلى القول بالوجوب يصح قصد ذلك لان تعلق الطلب بفعل ولو
للغير
يوجب صحة قصد الآتي به لتعلق الطلب به إنه يأتي به لذلك فيصح
وقوعها على وجه العبادة إذا كان مشروعيتها كذلك كما في الصلاة
إلى الجهات وفي الأثواب المشتبهة ولا يصح على القول الاخر لانتفاء
الطلب ومنها ترتب الثواب وقد أنكره جماعة والحق أنهم إن
أرادوا بالثواب أمرا غير المدح والقرب فربما كان له وجه نظرا إلى أن
العقل لا يستقل بإثباته في جميع موارده وثبوته في بعض
الموارد شرعا كالسير إلى الجهاد ونحوه لا يثبت الكلية وقوله تعالى لا
يضيع عمل عامل منكم لا دلالة له على تعيين ترتب أمر غيرهما و
إن أرادوا الأعم منهما فترتب الامر الأول أعني المدح مما لا ريب فيه
لشهادة العقل والعادة به أ لا ترى أن المولى إذا أمر عبده بأمر فأخذ
يسعى في تحصيل مقدماته ويرتكب المكاره في تمهيد أسبابه
للوصلة إلى مطلوبة أن العقلا يمدحونه معللين حسن مدحه بفعله
ذلك
للتوصل إلى مطلوب مولاه والمنع منه مكابرة لا يعبأ به وكذا الامر
الثاني على ما يشهد الفطرة السليمة إذ لا ريب في أن فعل المقدمة
على الوجه المذكور إطاعة وانقياد ومن البين أنهما يستلزمان القرب
إلى المطاع حيث يتجردان عن الموانع الخارجية وهذا ظاهر عند
من استشعر بمعنى العبودية هذا إذا أتى بالمقدمة وصلة إلى المطلوب
من حيث كونه مطلوبا وأما إذا أتى بها لغيره فلا ريب في عدم
ترتب الثواب عليها من هذه الجهة نعم يجوز أن يترتب عليها الثواب
حينئذ من حيث نفسها إن كانت راجحة كذلك كما في الطهارة على
القول برجحانها الذاتي كما يجوز أن يترتب عليها العقاب حينئذ إذا
كانت محرمة في نفسها ووجب فعلها وصلة إلى ما هو أهم منها
كترك الفريضة المضيقة المتوقف عليه إنقاذ الغريق إذا أتي به لغيره و
بهذا التحقيق يظهر ضعف ما تمسك به بعض المعاصرين في
تخصيص الثواب بالواجبات الأصلية من أنه لا دليل على ترتبها على
الواجبات التبعية وأما تركها فلا يترتب عليه الذم والعقاب من حيث
كونه تركا لها
وإن ثبت وجوبها بخطاب أصلي أيضا على ما يساعد عليه النظر
الصحيح وأما ترتب الذم والعقاب على تارك مقدمة الواجب وإن لم
يصادف بعد زمن الواجب كما يشهد به العقل والعادة ولهذا يزجر و
يعزر عليه فلا نسلم أنه يترتب عليه من حيث كونه تاركا لمقدمة
الواجب بل من حيث كونه متجريا على ترك الواجب فإن التحقيق أن
التجري على المعصية معصية أيضا لكنه إن صادفها تداخلا وعدا
معصية واحدة وإنما تظهر الثمرة فيما لو تخلف عنها وأما ما ورد من
أن نية السوء لا تكتب على هذه الأمة فلا ينافي ما ذكرناه لان
الاستحقاق هنا إنما هو من جهة التجري الناشئ من الترك المقرون
بالنية لا من حيث نفس النية مع أن نفي المؤاخذة لا ينافي الاستحقاق
وترتب الذم كما في الصغائر لا يقال لو ترتب الثواب على فعل مقدمة
الواجب من حيث كونها مقدمة ولم يترتب العقاب على تركها
كذلك لم تكن واجبة بل مندوبة لان ذلك معنى المندوب لأنا نقول
حد الواجب عندنا على ما يساعد عليه التحقيق أمران أحدهما ما
يخص
بالواجب النفسي وهو ما يستحق العقاب على تركه من غير بدل ولا
عذر والثاني ما يتناول الواجب الغيري أيضا وهو ما ألزم الشارع
بفعله وفي حد المندوب أيضا أمران أحدهما ما يختص بالنفسي منه و
هو ما تعلق به طلب الشارع لنفسه مع عدم المنع من تركه مطلقا
الثاني ما يتناول الغيري أيضا وهو الحد المذكور بحذف قولنا لنفسه و
قس
87

ذلك حد الحرمة والكراهة وحينئذ فلا يلزم خروج مقدمة الواجب
عن حد الواجب ولا صدق حد المندوب عليها بهذه الحيثية إن قلنا
بعدم
ترتب العقاب على تركها من حيث كونه تركا لها بل من حيث ما يلزمه
من التجري على ترك الواجب كما هو التحقيق وأما ما زعمه بعض
المعاصرين من أن القائلين بوجوب المقدمة يقولون بترتب العقاب
على تركها واستفاد ذلك من احتجاجهم على فساد ضد الواجب إذا
كان عبادة بتعلق النهي به من باب المقدمة حيث زعم أن النهي
المقتضي للفساد ليس إلا ما كان فاعله معاقبا ففيه ما لا يكاد يخفى بل
النهي المقتضي للفساد أعم من ذلك كما سينبه عليه وزعم أيضا أن
الواجب الغيري إذا كان وجوبه أصليا يترتب العقاب على تركه
بخلاف التبعي وضعفه ظاهر بل التحقيق أن الواجب الغيري لا
يستحق على تركه العقاب وإن كان أصليا كما أن الواجب النفسي
يستحق
على تركه العقاب وإن كان تبعيا للقطع بأن المولى إذا قال لبعض عبيده
اذهب إلى السوق واشتر اللحم منه وقال لاخر اشتر اللحم منه
من غير أمر بالذهاب إليه كانا متساويين في استحقاق العقوبة على
المخالفة من هذه الجهة فلا يعاقبان إلا عقابا واحدا [ومنها بطلان
العبادة الموسعة إذا كان تركها مقدمة الواجب مضيق على ما زعمه
جماعة وسيأتي تحقيق الكلام فيه] ومنها ما ذكره بعضهم من
الاجتماع
مع الحرام وعدمه فعلى القول بالوجوب لا يجتمع مع الحرام وعلى
القول الاخر يصح أن يجتمع أقول وهذه الثمرة مستدركة إذ لا خلاف
ظاهرا بين من قال بوجوب المقدمة ومن لم يقل بوجوبها في أن
المكلف إذا توصل بالمقدمة المحرمة سقط عنه وجوب غيرها وصح
منه
الواجب إن تقدم فعلها عليه كالسير بالنسبة إلى الحج وأما إن قارنته
فإن عول على ما نحققه من أن الواجب مطلوب حينئذ على تقدير
حصول المقدمة صح على القولين وإلا بطل على القولين فغاية ما
تقتضيه القاعدة المذكورة اختصاص الوجوب فيها على القول به بغير
المحرم وهذا ليس ثمرة للنزاع بل تخصيص له وقد يجعل من ثمرة
النزاع براءة ذمة الناذر وعدمها فيما لو نذر أن يأتي بواجب فأتى
بمقدمته فإنه تبرأ ذمته بفعلها على القول بوجوب المقدمة ولا تبرأ
على القول الاخر وهذا إنما يتم إذا نوى مطلق الواجب و
إلا فالاطلاق ينصرف إلى الواجب النفسي الخامس زعم بعضهم أن
الامر بذي السبب الغير المقدور بنفسه راجع إلى الامر بسببه الصادر
من المكلف من غير واسطة لا مطلق السبب فيلزم ارتفاع التكليف
لانتهاء الأسباب إليه تعالى فالامر بالقتل الذي هو عبارة عن إزهاق
الروح مثلا راجع إلى الامر بقطع الأوداج والالقاء من شاهق أو نحو
ذلك وذلك لان الامر لا يتعلق بغير المقدور والقدرة لا تتعلق بغير
الأسباب وضعفه ظاهر لان المعتبر في صحة التكليف بشئ عقلا و
عرفا هو كونه مقدورا ولو بالواسطة ولا ريب في أن المسببات
مقدورة بواسطة أسبابها فلا باعث على صرف اللفظ عن ظاهره وقد
يفرق بين ما إذا كان المسبب فعل الغير كالاحراق الذي هو فعل
النار وبين غيره فيلتزم بمقالة الخصم في الأول فيجعل الامر بالاحراق
مثلا أمرا بسببه مجازا كالالقاء في النار ومرجع هذه الدعوى إلى
منع كون السبب لحصول الاحتراق مثلا مصححا لاسناد الاحراق
حقيقة وأنه يتعين حينئذ أن يكون المراد فعل السبب مجازا وكلاهما
ممنوع أما الأول فلانه لو تم لجرى في جميع الأفعال الصادرة بواسطة
الأسباب فيسقط الفرق بل التحقيق أن معنى الاحراق التسبب
لوجود الاحتراق ولو بواسطة النار فيكون إسناده إلى المكلف حقيقة
كإسناده إلى النار وعلى قياسه سائر الأفعال التي معناها التسبب
نعم ينبغي أن يستثنى من ذلك الافعال التوليدية التي هي فعل إنسان
آخر باختياره فإن إسنادها إلى السبب مجاز كأمر السلطان
للوزير ببناء دار أو صنع سرير أو فتح حصن فإن إسنادها إليه مجاز ومن
هنا ترى الفقهاء يقولون بأن الوكيل على أمر ليس له توكيل
غيره إلا مع شهادة الحال عليه أو تصريح الموكل به وأن من آجر نفسه
على أن يعمل عملا مع الاطلاق ليس له أن يستنيب غيره عليه [و
أما قولهم بأن الأجير على عمل مع الاطلاق له أن يستنيب غيره عليه
فمستند إلى دليل خارجي] ومن هنا يظهر أن ما ذكره في الروضة
من عدم الفرق في منع القاتل من الإرث بين المباشر والسبب في
ظاهر المذهب للعموم محل نظر وأما الثاني فلانه لو سلم مجازية
الاسناد فحمل الامر على إرادة السبب بعيد بل الظاهر إرادة المسبب
بالسبب لحصوله
ولو بواسطة السبب مجازا فيكون فعل السبب مطلوبا غيريا لا نفسيا
السادس ذكر الفاضل المعاصر في غير موضع أن الامر بالطبيعة
يقتضي الامر بالفرد من باب المقدمة وقد سبقه إلى ذلك غيره وهو
عندي غير مرضي لان الطبيعة عين الفرد في الخارج إن فسر
الفرد بالطبيعة المتشخصة كما هو الظاهر فالاتيان به عين الاتيان
بالمأمور به فيمتنع التوقف عليه في الخارج [وأما حصول ما يغاير
الطبيعة المأمور بها في العقل بحصوله فبالتلازم لا بالتوقف والتوصل]
وإن فسر بالمجموع المركب من الطبيعة والتشخص فإن قلنا
باتحادهما في الخارج فكما مر ولا يقدح توقف وجودها على
التشخص حينئذ لأنه توقف عقلي في طوف التحليل لا خارجي و
المعتبر
في المقدمة هو التوقف في الخارج إذ به يناط التكليف وإن قلنا
بتغايرها فيه فعدم التوقف أوضح لان وجود الجز لا يتوقف على
وجود الكل بل الامر على العكس وهذا بعد التنبيه عليه مما لا خفاء
فيه السابع زعم جماعة أن القول بوجوب المقدمة يوجب القول بانتفاء
المباح لان ترك الحرام واجب ولا يتم إلا بفعل من الافعال فيجب
ذلك الفعل بناء على وجوب مقدمة الواجب وحيث استصعب هذه
الشبهة
على جماعة تفصى عنها بعضهم بإنكار المقدم كالحاجبي حتى إنه
جعلها أحد الأدلة عليه ومنهم من اعترف بالتالي واشتهرت حكاية
هذا
القول عن الكعبي وربما ذكروا له حجة أخرى أيضا وهي أن ترك
الحرام واجب وهو مستلزم لوجود فعل من الافعال فيجب لامتناع أن
يختلف حكم المتلازمين والجواب عن الأول أما أولا فبأن الشبهة
المذكورة على تقدير صحتها لا توجب نفي المباح رأسا فإن المكلف
قد
لا يتمكن من الحرام فلا يجب عليه تركه لان النهي عن الممتنع قبيح
كالأمر بالواجب فلا يجب عليه مقدمته أيضا وذلك كالتشاغل حال
الغفلة عن الحرام أو تعذره منه وهذا مما لا حصر له وأما ثانيا فإن ترك
الحرام إنما يتوقف على وجود الصارف فقط ولا ريب في
وجوبه دون غيره من الافعال إذ لا يتوقف عليها بل يستلزمها فإنها من
لوازم وجود المكلف حينئذ بمعنى عدم إمكان انفكاكه عن
جميعها على تقدير ترك الحرام وقد ظن جماعة أن ذلك مبني على
القول بعدم بقاء الأكوان أو أنها على تقدير البقاء تحتاج إلى المؤثر
أولا فلا ملازمة أيضا لجواز خلو المكلف عن كل فعل فلا يتحقق منه إلا
الترك سواء فسر بالكف أو بنفس أن
88

لا تفعل وهذا التفصيل مبني على أن تكون الأكوان على تقدير عدم
البقاء مستندة إلى المكلف والبقاء على تقدير الحاجة مستندا إلى علة
الحدوث وإن كانت علة إعدادية وكلاهما في محل المنع لجواز أن
يقال بعدم بقاء الأكوان ويلتزم بخلو المكلف عن جميع الأفعال بأن
الكون الأول صادرا عنه وبقية الأكوان مستندة إلى علة أخرى كالكون
الأول من حيث إعداده لحصولها أو يكون كل كون لاحق مستندا
إلى الكون السابق من حيث إعداده لحصوله وهذا هو الظاهر على هذا
القول بدليل صدورها حال الغفلة وعدم الشعور أيضا أو يقال
بالبقاء واحتياجه إلى المؤثر ويلتزم بالخلو نظرا إلى استناد البقاء إلى
غير المقتضي للحدوث أعني المكلف كما في كثير من الآثار
الاعدادية وربما يتوهم أن الشبهة المذكورة مبنية على أحد القولين
الأولين إذ على التقدير الثالث ينثلم دعوى التوقف والاستلزام فلا
يتم التقريب وليس بشئ لان ترك الحرام على هذا التقدير يتوقف
على أحد الامرين من التشاغل بفعل من الافعال والخلو من الجميع
أو يستلزمها فإن جعلنا الخلو مما يصح أن يتعلق به التكليف كان أحد
أفراد الواجب المخير وإلا تعلق الوجوب بالفرد الاخر على التعيين
وإن سقط بحصول الخلو كما مر الإشارة إليه فيما لو دار المقدمة بين
المقدور وغير المقدور وسيأتي لهذا زيادة توضيح في المبحث
الآتي فإن قلت لا ريب في أن وجود كل فعل من الافعال مانع من
حصول الاخر كما هو شأن التضاد فيكون سببا لعدمه كما هو قضية
المانعية فإذا حرم الفعل وجب الترك فيجب سببه الذي هو فعل المانع
من باب المقدمة غاية الامر أن الأسباب متعددة فيجب الكل على
التخيير قلت وجوب الترك إنما يقتضي وجوب ما يستند إليه استنادا
فعليا لا ما يستند إليه استنادا شأنيا لما عرفت من تحقيقنا السابق
من أن مطلوبية المقدمة للغير إنما تقتضي مطلوبيتها له على تقدير
ترتب الغير عليها واستناده إليها لا مطلقا وظاهر أن ترك الحرام
إنما يستند بالفعل إلى وجود الصارف دون فعل الضد لسبقه عليه كيف
لا وهو من شرائط حصوله فلا يقتضي إلا وجوب الصارف ولا
كلام فيه نعم لو فرض التوقف على غير الصارف أحيانا بحيث لا
يتمكن من ترك الحرام إلا بالتشاغل بفعل اتجه الحكم بوجوبه كما في
الساقط المحاذي لنفس محترمة إذا كان بحيث
لا يمكنه التخلص من الوقوع عليها إلا بالتشبث بحبل وشبهه ولا يلزم
الدور لتغاير المتوقف من الفعل والترك للمتوقف عليه منهما و
كذا لو تمكن منه بدونه لكن كان الصارف فيه ضعيفا بحيث يعلم أو
يخاف وقوعه في المحرم اختيارا بدونه لقوة ما يجده في نفسه من
الامر الداعي إليه فيجب تقوية الصارف بالمجاهدة أو تضعيف الداعي
بما يوجبه من الافعال بحيث يقاومه الصارف الضعيف فيكون
الفعل مقدمة بدلية فيجب عليه على وجه التخيير وإلى هذا ينظر قول
الفقهاء بوجوب النكاح على من يخاف الوقوع في المحرم بتركه و
على هذا لو تعذر في حقه الفعل تعين عليه الاخر من تقوية الصارف
بالمجاهدة ولا عذر له في فعل المحرم مع التمكن منه هذا وقد
يجاب
بأن ترك الحرام لا يختص بالمباح بل قد يتم بالواجب أيضا وبأنه لو
صح ذلك لزم أن يكون الحرام واجبا كالقتل لتوقف ترك السرقة
مثلا عليه وأن يكون الواجب حراما إذا ترك به واجب آخر ولا يخفى
ما في هذه الوجوه أما الأول فلان الواجب المتوصل به إلى ترك
الحرام عند هذا القائل أحد أفراد الواجب الغيري وأما الثاني فلان
القتل يراعى فيه الجهتان على ما قيل وهو خطأ بل ينبغي تخصيص
الدعوى بغير المحرم على ما عرفت في تحرير العنوان وأما الثالث
فلان إلزام الكعبي بصيرورة الواجب محرما إنما يتجه عليه إذا التزم
بكون الفعل سببا للترك وحينئذ فيلزم تحريم فعل الواجب إذ لا
إشكال في تحريم سبب الحرام لكن ربما يفسد مقالته حينئذ بلزوم
الدور عليه إذ كما أن وجود السبب سبب لوجود المسبب كذلك عدمه
سبب لعدمه كما يدل عليه حدودهم للسبب فإذا كان فعل كل واحد
من الضدين سببا لترك الاخر لزم أن يكون ترك الاخر سببا لفعله ولا
يخفى ما فيه لمنع الملازمة كما في المانع وأما إذا جعل الفعل
مقدمة غير سببية للترك فتوجه المنع عليه جلي إذ لا دليل على تحريم
مقدمة الحرام مطلقا ما لم يقصد بها التوصل إليه والتزام التحريم
على تقديره مما لا بعد فيه وإن كان مبنى الجواب على أن ترك الفعل
مقدمة لفعل ضده فإذا وجب مقدمة الواجب لزم تحريم الواجب في
الفرض المذكور فهذا مع ما فيه كما سننبه عليه في مبحث الضد غير
وارد على الكعبي لان التزامه
بتوقف ترك أحد الضدين على فعل الاخر لا يوجب التزامه بتوقف
فعله على تركه ولو فرض التزامه به لكان إلزامه بشناعة الدور اللازم
على هذا التقدير أولى من إلزامه بتحريم فعل الواجب ولو أورد هذان
الوجهان على الوجه الثاني من الحجة لكان أولى كما لا يخفى وعن
الوجه الثاني بعد تسليم الاستلزام أن دعوى امتناع اختلاف حكم
المتلازمين مما لم يساعد عليه عقل ولا نقل فإن زعم أن الأحكام الخمسة
متضادة وأن اجتماع اثنين منها في المتلازمين يوجب اجتماع الضدين
وأنه محال ففساده واضح لان الممتنع إنما هو اجتماع الضدين
في محل واحد لا في محلين وإن كانا متلازمين وإن اعتبر التضاد من
حيث اجتماعهما في المكلف صدورا أو في المكلف تعلقا فهو أيضا
واضح الفساد إذ لا فرق في ذلك بين المتلازمين وغيرهما فيلزم أن لا
يصدر من مكلف واحد حكمان في زمان واحد أو لا يتعلقا بمكلف
واحد كذلك وهو باطل بالضرورة وإن زعم أن الحكم يتسرى من أحد
المتلازمين إلى الاخر كالمقدمة لأنه لو وجب أحدهما ولم يجب
الاخر لجاز تركه لكن تركه غير جائز لأنه يفضي إلى ترك الواجب
فمدفوع بأن ذلك بالنسبة إلى الواجب ومقدمته متجه وأما بالنسبة
إلى غيره فلا إذ لا توقف للواجب عليه وقصارى ما هناك أنه يصدر عن
المكلف عند صدور الواجب عنه وذلك لا يفيد وجوبه لا يقال
إباحة الفعل عند تحريم لازمه سفه إذ لا يترتب عليها فائدتها فلا تقع
من الحكيم وحينئذ فلا بد من القول بتسري حكم لازمه إليه أو
يلتزم بخلوه من جميع الأحكام نظرا إلى صيرورته بالنسبة إلى تكليفه
كالممتنع فلا يصلح لتعلق حكم به لأنا نقول إن فعل ملزوم الحرام
وتركه عند عدم توقفه عليه متساويان بالنسبة إلى نفسه وهو ظاهر و
كذا بالنسبة إلى لازمه إذ لا توقف له عليه ولا نعني بالمباح إلا
ذلك ويترتب عليه ثمرته من عدم ترتب مدح ولا ذم عليه
89

بالاعتبارين وخلو فعل مقدور عن الأحكام الخمسة غير معقول و
دعوى كونه كالممتنع ممنوعة كيف وجواز تعلق التكليف به حينئذ
ضروري ومما حققنا يندفع أيضا ما زعمه بعض المتأخرين من أن
انتفاء التحريم في المعلول يستلزم انتفاءه في العلة محتجا عليه
باستبعاد العقل خلاف ذلك مع أن مجرد الاستبعاد على تقدير تسليمه
لا ينهض حجة لا سيما في مثل هذه المسألة هذا وقد يخطر بالبال
للكعبي شبهة أخرى لا بأس بالتنبيه عليها وهي أن فعل المباح عين
ترك الحرام في الخارج وإن غايره بحسب العقل ولا ريب في أن
ترك الحرام واجب فيجب فعل المباح من حيث اتحاده معه فإن
المباح المتحد مع الواجب واجب كما أن المباح المتحد مع الحرام
حرام و
وجهه واضح مما نحققه في مبحث النهي والحجة على أن ترك الحرام
عين فعل الواجب [المباح] في الخارج أن معنى الترك التسبب لعدم
الفعل وهو في الخارج عين التسبب لفعل الضد لصدقه عليه مثلا
يصدق على الصدق من حيث الخارج أنه لا كذب كما يصدق على
الانسان
لا شجر ولا حجر وقضية الحمل الاتحاد في الوجود فيكون التسبب
لوجود الصدق عين التسبب لما يتحد معه من عدم الكذب فيكون
فعل
الصدق عين ترك الكذب والجواب أما أولا فبالمنع من اتحاد الصدق
وعدم الكذب في الخارج بل هما متباينان كالانسان والضحك و
إنما الثابت اتحاده مع مفهوم عادم الكذب أو ذي عدم الكذب وقول
المنطقيين الانسان لا شجر أو لا حجر ليس معناه أنه نفس عدمهما
في الخارج للقطع ببطلانه كما عرفت بل معناه أنه عادمهما أو ذو
عدمهما وأما ثانيا فبأنه لا ريب في أن التارك للفعل يتصف بتركه
أولا من حيث إنه تاركه مع قطع النظر عن تشاغله بأضداده ويتصف به
ثانيا بواسطة اتصافه بأضداده التي هي متصفة به ضرورة أن
صفة الصفة صفة بالتبع وهما متغايران قطعا لاختلافهما في القيام و
لتعدد الثاني بتعدد الافعال التي هي منشأ لانتزاعه وانتفائه
بانتفاء موصوفه بخلاف الأول فإنه أمر متحد لا يتعدد إلا بتخلل الفعل
ومن الواضح أن المطلوب بالنهي إنما هو الأول دون الثاني
لتحققه مع الفعل أيضا إذ لا يختص انتزاعه بالضد فإن لا كذب يصدق
على الجلوس المجامع للكذب مع وضوح عدم مطلوبيته فسقط الوهم
المذكور رأسا واعلم أن
المقالة المنقولة عن الكعبي في المقام لا تخلو عن نوع إجمال إلا أن
قضية احتجاجه الأول أن يجب بالوجوب الغيري كل ضد مقارن لترك
الحرام وقضية الاحتجاج الثاني أن يجب كل ضد للحرام فإن تعين
فتعيينا وإلا فتخييرا وفي اقتضائه للوجوب النفسي أو الغيري نظر ثم
اعلم أنه لو تمت شبهة الكعبي للزم نفي المندوب والمكروه أيضا و
ظاهر القوم إسناد نفي المباح إليه خاصة فيمكن أن يكون ذلك
قصورا منه أو منهم في البيان لا قصرا في الحكم أو ينزل المباح فيما
نقل عنه من وجوب كل مباح على معناه الأعم فيدل على نفي
الأحكام الثلاثة
وحينئذ لا حاجة إلى ما تكلفه بعضهم في دفع التنافي في قوله
بوجوب كل مباح من أن المراد وجوب ما هو مباح عند القوم أو أن
ما هو مباح بالذات واجب بالعرض إلا أن بعض كلمات القوم كرد
البعض له بأن ترك الحرام قد يتم بفعل الواجب يأبى عن ذلك الثامن لا
ريب في وجوب مقدمة ترك الحرام فإن مرجعه إلى وجوب مقدمة
الواجب فإن ترك الحرام واجب وأما مقدمة فعله فالتحقيق أن تحريم
الشئ لا يقتضي تحريم مقدمته وإن ترتب عليها ما لم يكن سببا فعليا
أو قصد بها التوصل إليه وإن لم يترتب عليها فيحرم حينئذ من
حيث التجري أما الأول فلأصالة عدم تحريمها السالم عن المعارض و
الفرق بينها وبين مقدمة الواجب أن التوصل إلى الواجب لا يمكن
بدون مقدمته فتستلزم مطلوبيته مطلوبيتها بخلاف ترك الحرام فإنه
يمكن مع الاتيان بمقدمته ولو حرم مقدمة الحرام مطلقا لحرم
جميع الأفعال أو معظمها لامكان التوصل بها إلى محرم وبطلانه
ضروري وأما الثاني فلشهادة العقل والشرع والظاهر أنه موضع
وفاق ولهذا تراهم يحكمون بحرمة السفر الذي قصد به محرم وإن لم
يترتب عليه المحرم وظاهرهم استحقاق العقوبة عليها بل تجويز
ترتبها عليها نعم يستثنى من ذلك نية المحرم فإنها بمجردها لا عقاب
عليها بل الظاهر أنه لا حرمة فيها أيضا لما ورد من أن نية السوء لا
تكتب على هذه الأمة تفضلا منه تعالى عليهم وذلك لا ينافي قبحه
العقلي وهذا مما لا إشكال فيه على ما نحققه من أن تكاليف الشرع
إنما
تتبع جهات التكليف وأن منها جهات المكلف به وأما على ما هو
المعروف من أنها تتبع جهات
المكلف به فقط فلا محيص إلا بالمنع من قبحها العقلي أو إثبات قسم
ثالث للمعصية غير الكبيرة والصغيرة ولهذا المقام تفصيل يأتي في
محله وإذا تركب المحرم فكل جز من أجزائه إن أخذ في ضمن الكل
كان محرما بحرمة الكل فإن اتصاف الكل بصفة يوجب اتصاف كل
جز منه بها في ضمن الكل وإن أخذ منفردا كان محرما إن قصد به
التوصل إلى الكل أو كان بمنزلة السبب كالجز الأخير في وجه وإلا
فلا والكلام في مقدمة المكروه كالكلام في مقدمة الحرام التاسع إذا
توقف الواجب الموقت موسعا كان أو مضيقا على مقدمة مقدمة على
وقته في الحصول أو توقف الموسع عليها في أول وقته كذلك وجب
فيه بحكم العقل أحد الامرين من اختصاص وجوبه في تمام الوقت أو
أوله بواجد المقدمة فيكون وجوبه مشروطا بحصولها ومن وجوبه ولو
في حق فاقدها قبل حضور الوقت وجوبا مطلقا ولو بمقدار فعل
المقدمة فيكون وجوبها حينئذ أيضا مطلقا وإلا لزم التكليف بالمحال
حال صدور التكليف ووقوعه وهو محال بالضرورة فمن فروع
المسألة عدم وجوب إيقاع الصلاة في أول الوقت على فاقد بعض
شرائطها المعتبرة في حقه بمقدار زمن يمكن تحصيل الشرط فيه وإن
وجب عليه فيه إيقاعها فيما تأخر عنه ومن فروعها أيضا وجوب
الغسل للصوم الواجب على المحدث بالأكبر قبل الفجر فإنه إذا ثبت
وجوب الصوم من الفجر المشروط بالطهارة في حق المحدث و
المتطهر ثبت وجوبه قبله ولو في حق المحدث لتحصيل الطهارة لا
بمعنى أن ما قبل الفجر ظرف للواجب بل لوجوبه كما مر ولا يذهب
عليك أن هذا البيان إنما يقتضي مطلوبية الصوم قبل الفجر بقدر ما
يغتسل فيه وأما ما زاد عليه فلا لاندفاع التكليف بالمحال به فيمكن أن
يوجه على هذا قول من قال بوجوبه إذا بقي للفجر بمقدار الغسل
بأن أصحاب هذا القول قد اقتصروا في إثبات الوجوب على محل
اليقين
90

إلى أصالة عدمه في غيره لكن يرد أن ذلك إنما يتم إذا لم يكن هناك ما
يدل على وجوب الصوم مطلقا من غير اعتبار حضور شئ من
الأوقات من الآيات والاخبار وهو غير واضح بل قضية تلك
الاطلاقات إطلاق الوجوب في جميع الأوقات والأحوال وإن كان
فعل
الواجب مقيدا بحضور وقت مخصوص فإذن يتجه القول بوجوب
الغسل له مطلقا لكن بعد دخول الليل كما هو ظاهر آخرين وهي تضيق
الوقت بتضييق الوقت نعم لا يقع فعله على وجه الوجوب الغيري إلا
إذا ترتب عليه فعل الصوم الواجب كسائر المقدمات على ما مر
تحقيقه
فلا يجوز قصد الوجوب به مع العلم أو الظن بعدم ترتبه عليه وفي
الشك وجهان وحيث قد خفي هذه الدقيقة على كثير من أفاضل
أصحابنا حيث لم يفرقوا بين زمن الوجوب وزمن الفعل فزعموا أن
زمن الوجوب هو زمن الفعل أشكل عليهم الحال في المسألة المذكورة
حتى تفصى عنه بعضهم بإلزام وجوب الغسل لنفسه مع أنه كما ترى
مما لا جدوى له في ثبوت التكليف والعصيان بالصوم على تقدير
المخالفة في الغسل نعم يمكن توجيهه في ترتب عقوبة عليه بالتقريب
الذي مر التنبيه عليه في آخر المقصد لكن لإشارة في كلامهم إليه و
المنكرون لوجوبه النفسي قد تخلصوا عنه بوجوه أخر غير موجهة منها
ما حكاه بعضهم عن ابن إدريس من منع التوقف مع تسليمه
لبطلان الصوم بدونه زعما منه أن الصوم الواجب يتم بالغسل بنية
الندب أيضا فلا يتوقف على قصد الوجوب به وضعفه ظاهر لورود
النقض عليه بسائر المقدمات فإن فعل الواجب إنما يتوقف على فعلها
لا على فعلها بنية الوجوب والحل مشترك وهو أن المقدمة الواجبة
هي ما يتوقف على فعلها فعل الواجب لا ما يتوقف فعله على فعلها
بنية الوجوب ومنها ما زعمه بعضهم من أنه إذا بقي لطلوع الفجر بقدر
ما يغتسل فيه فهذا الزمان منزل منزلة حضور الوقت فيجب الغسل فيه
وهذا أيضا ضعيف لأنه إذا كان زمن وجوب الصوم واقعا هو أول
الفجر يغتسل كما هو المفروض فالتنزيل المذكور مما لا يعقل له وجه
لان الاحكام العقلية مبنية على التحقيق لا على التسامح ومنها ما
توهمه بعض أفاضل
المتأخرين من أن وجوبه للتوطين على إدراك الفجر طاهرا وهذا أيضا
ضعيف لأنه إن أراد بالتوطين التهيؤ للصوم بفعل ما يعتبر في
صحته من الغسل وغيره فمصادرة وإن أراد به العزم على فعل الصوم
فهذا وإن توقف في حق العالم بالحال على فعل الغسل لامتناع
العزم على الصوم الصحيح مع العلم بوجود المانع إلا أن وجوب العزم
تابع لوجوب الفعل ولا يعقل وجوب الصوم المشروط بالفجر في
حق المحدث حتى يجب عليه العزم عليه مع أن وجوب العزم على
فعل الواجب المشروط قبل حصول شرطه في محل المنع ومنها ما
تخيله
بعض أفاضل متأخر المتأخرين وهو أن مقدمة الواجب يصح أن
يتصف بالوجوب الغيري قبل أن يتصف ما وجبت له به واحتج عليه
بقضاء الضرورة به حيث لا يسع وقت الفعل لفعل المقدمة كالحج
بالنسبة إلى قطع المسافة وهذا أيضا ضعيف لاطباق كلمة الأصوليين
على عدم وجوب مقدمة الواجب المشروط من حيث كونه مقدمة له
قبل حصول شرطه فحكمه بوجوبها له حينئذ خرق لاجماعهم
المطابق
لما يشهد به صريح العقل كما مر بيانه وما ذكره من مثال الحج فغير
مطابق للدعوى لان وجوب الحج غير مشروط بحضور زمانه بل
بالاستطاعة ومتى حصلت وجب الحج وإن تأخر زمن فعله وما ذكره
في عدم وجوب الطهارة للصلاة قبل وقتها من أنه خرج بالاجماع
غير سديد لان وجوب الواجب يقتضي وجوب جميع مقدماته
المقدورة الخالية عن صفة القبح ولو بعد صيرورتها مقدمة وجوبا فعليا
بقول مطلق فإن عممنا ذلك إلى الواجب المشروط امتنع تخصيصه
بالطهارة لخلوها عن صفة القبح قبل دخول الوقت وإلا لم تكن مندوبة
والقواعد العقلية لا تقبل التخصيص وبالجملة فمنشأ هذه الخيالات
ما أشرنا إليه من عدم الفرق بين زمن الوجوب وزمن الواجب وبعد
الوقوف على ذلك ببياننا المتقدم يتبين كيفية التخلص عن الاشكال
المذكور بما لا مزيد عليه
فصل اختلفوا في أن الامر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده أو لا
ولا بد قبل الخوض في تحرير النزاع من بيان محله فنقول ضد المأمور
به هو ما لا يمكن اجتماعه معه لذاته فيتناول أضداده الوجودية و
العدمية من العقلية والشرعية والعادية وإنما قلنا لذاته احترازا عن
لوازم الضد فإنها لا تسمى ضدا وإن امتنع اجتماعهما مع فعل المأمور
به ومن التزم بلزوم تساوي المتلازمين في الحكم مطلقا أو حيث يكون
بينهما علية أو تشارك في العلة فإن التزم في المقام بالاقتضاء
لزمه القول به في لوازم الضد أيضا على مقتضي أصله وحيث أفردنا
بيان ذلك فلا حاجة إلى تعميم المقام إليه وقد تداول بينهم أن
يعتبروا عن الترك بالضد العام وعن غيره بالضد الخاص وتسمية
الأول ضدا إما حقيقة عرفية أو مجازا نظرا إلى العلاقة وزعم بعضهم
أن من فسر الترك بالكف فقد استراح عن ذلك وكان الضد عنده على
معناه المعروف وهو غير واضح لان الضدين بالمعنى المعروف
هما الوصفان الوجوديان اللذان يمتنع تواردهما معا على محل واحد
لذاتهما وهذا يقتضي أن يصح ورود كل منهما على ما يصح ورود
الاخر عليه لئلا يكون التنافي باعتبار المورد كالعلم والسواد وظاهر أن
الكف وفعل الضد لا يتوارد أن غالبا على محل واحد لان
الأول من صفات النفس والثاني من عوارض الجوارح وكذا إن أخذا
بمعنى التأثير وقلنا بأنه عين الأثر ذاتا وإلا فالمخالفة أوضح
لظهور أن التأثيرين لا يتنافيان من حيث ذاتهما بل من حيث تنافي
الاثرين ويمكن أخذهما بالمعنى الأول يجعل الوصف للنوع أو الفرد
فيرتفع الاشكال لاتحاد الموضوعين فيه فتدبر ثم وصف الأول
بالعموم والثاني بالخصوص أما من حيث عموم الوصف المشتق منه
في
الأول وخصوصية في الثاني كتارك الصلاة وفاعل الاكل مثلا وأما من
حيث تحقق الأول حيث يتحقق فيه الثاني من دون عكس ولو
غالبا وقد يطلق الضد العام ويراد به أحد أضداده الخاصة وهذا راجع
إلى الضد الخاص معنى ويترتب عليه ما يترتب عليه ثم الكلام في
91

المقام يجري في الواجب النفسي بجميع أنواعه بالنسبة إلى جميع
أضداده عبادة كانت أو غيرها فيختلف اقتضاء الامر للنهي عن الضد
على حسب اختلاف نوعي الوجوب والضد فقد يقتضي الامر
التخييري للنهي عن الضد على التخيير وقد يقتضيه على التعيين و
هكذا و
يتجه اعتبار جريانه في الواجب الغيري أيضا إلا أنه خلاف الظاهر من
إطلاق عناوين المبحث ولا ثمرة له بالنسبة إلى ما يكون ضدا له و
لما وجب له إلا في مجرد الاعتبار ويعرف الكلام فيه بالمقايسة ثم
المراد بالنهي هنا ما يعم النهي النفسي الأصلي والغيري التبعي
فيتعين الأول حيث يدعى فيه العينية قطعا وكذا التضمن على أظهر
الوجهين والثاني حيث يدعى فيه الالتزام بالنسبة إلى غير الضد العام
ومن هنا يظهر أن المراد بالاقتضاء ما يعم أقسامه الثلاثة بل الأربعة
لينطبق على جميع أقسام المسألة وأقوالها وزعم بعض المعاصرين
أن النزاع هنا إنما هو في الواجب المضيق الذي يكون ضده واجبا
موسعا وهذا خلط منه بين موضع النزاع والموضع الذي تظهر فيه
الثمرة مع أن الثمرة على ما سنبين يظهر في غير ذلك أيضا وزعم أيضا
أن النزاع في استلزامه النهي الأصلي دون التبعي إذ النهي
التبعي ليس محط النزاع في شئ وقد سبق مثل ذلك منه في بحث
المقدمة وأشرنا هناك إلى فساده ثم اعلم أن النزاع في الضد الخاص
يتأتى في مقامين في أصل الاقتضاء وفي كيفيته وأما الضد العام
بمعنى الترك أعني عدم الفعل فإنما يتأتى النزاع فيه في كيفية الاقتضاء
فقط بناء على تفسير النهي بطلب الترك بمعنى عدم الفعل إذ منع
الاقتضاء فيه حينئذ مطلقا ينافي معنى الوجوب وقد يحكى عن
المرتضى وبعض العامة إنكار الاقتضاء بالنسبة إليه أيضا لان الأمير
كثيرا ما يأمر ولا يتصور الترك فضلا عن النهي عنه وأنت خبير
بأن هذا التعليل على تقدير تسليمه إنما يقتضي نفي الاقتضاء باللزوم
البين بالمعنى الأخص دون الاقتضاء بطريق العينية في المعنى أو
الجزئية أو اللزوم البين بالمعنى الأعم أو اللزوم الغير البين وكذا إن فسر
الترك بمعنى الكف بناء على عدم تعلق الطلب بالأمور العدمية
ثم أنه قد اضطرب كلام جماعة في تحرير محل النزاع فمنهم من أطلق
لفظ الضد ومنهم من جعل النزاع في الضد العام وسكت عن الضد
الخاص ومنهم من جعل النزاع في الخاص ونفاه عن العام لان إنكاره
يؤدى إلى خروج الواجب عن كونه واجبا وهذا التعليل لا يقتضي نفي
النزاع فيه بالاعتبار الثاني فالتحقيق ما ذكرناه إذا عرفت هذا
فالحق أن الامر بالشئ عين النهي عن ضده العام بمعنى الترك معنى
إن فسر الترك فيه وفي النهي بعدم الفعل ونفيه كما هو الظاهر و
يستلزمه بالبين بالمعنى الأعم إن فسر فيهما أو في أحدهما بالكف و
كذا يستلزم النهي عن ضده الخاص سواء فسر النهي بطلب الترك
أو بطلب الكف ما لم يكن الضد على التفسير الأول وجود ما تعلق
الامر بعدمه ولو في ضمن الكل فيكون عين النهي عنه ولو في ضمن
الكل ومن هنا يتبين الحال في الأضداد العامة للأجزاء فإن الامر
بالشئ عين النهي عن أضداد أجزائه العامة باعتبار ويستلزمه باعتبار
وذهب قوم إلى أن الامر بالشئ عين النهي عن ضده في المعنى و
آخرون إلى أنه يستلزمه وهم بين مطلق للاستلزام ومصرح ثبوته
لفظا ومنهم من نفي الدلالة في الضد الخاص لفظا وأثبتها معنى و
ذهب بعض المتأخرين إلى نفي الاقتضاء في الضد الخاص مطلقا و
أثبته في الضد العام بالتضمن لنا على أن الامر بالشئ عين النهي عن
الضد العام إن فسر الترك فيهما بعدم الفعل أن معنى النهي عن
الترك حينئذ طلب ترك الترك لان معنى النهي طلب الترك وطلب
ترك الترك عين طلب الفعل في المعنى وذلك ظاهر وإنما قلنا إنه
عينه في المعنى إذ لا ريب في تغايرهما بحسب المفهوم كالوجود و
عدم العدم واعترض بأن النزاع يرجع حينئذ إلى اللفظ حيث سمي
طلب الفعل طلبا لترك تركه فعبر عنه بالنهي عن الضد وطريق ثبوته
النقل عن أهل اللغة ولم يثبت ولو ثبت فمرجعه إلى أن الامر
بالشئ له عبارة أخرى كالأحجية ومثله لا يليق أن يدون في الكتب
العلمية والجواب أن الكلام في عينية المفهومين بحسب الصدق لا
في
التسمية إذ لم يدع أحد أن النهي عن الضد له معنى غير معناه المتداول
أعني طلب الترك حتى يطالب فيه بالنقل وعينيته المفهومين في
الصدق وإن كانت من الأمور الواضحة إلا أن التشاجر في نظائرها غير
عزيز في كتب القوم ولنا على أنه يستلزم النهي عن ضده
العام إن فسر الترك فيهما أو في أحدهما بالكف أن عدم الكف أو
الكف عن العدم أو الكف عن الكف حيثما يتوقف عليه فعل الواجب
معتبر في حصول المأمور به فيجب له على ما عرفت في بحث
المقدمة ووجوب عدم الكف هو معنى النهي عنه أو نقول ترك
المأمور به
حرام والكف سببه فيحرم له وعلى التقديرين يكون النهي غيريا تبعيا
على ما هو شأن المقدمة وإنما لم نقل أن عدم الكف سبب
لحصول المأمور به ليكون الاستلزام أوضح لظهور أن الفعل لا يستند
إلى مجرد عدم الكف بل إلى ملزومه من الإرادة وهذا ظاهر ولنا
على أنه يستلزم النهي عن الضد الخاص حيث لا يكون الضد وجود ما
تعلق الامر بتركه ولو في ضمن الكل أن ترك الضد حينئذ مما
يتوقف عليه حصول الواجب فيجب لما مر من وجوب مقدمة
الواجب ووجوب الترك للتوصل إلى الواجب معنى النهي الغيري و
قد يستدل
على ذلك بأن فعل الضد مستلزم لترك الواجب المحرم فيحرم
لاستحالة اختلاف حكم المتلازمين وقد مر ضعفه سابقا حيث بينا أن
مستلزم الحرام لا يكون من حيث كونه مستلزما له حراما ما لم يكن
سببا فعليا ولا ريب أن فعل الضد وإن كان لمانعيته سببا لترك
الواجب إلا أنه سبب شأني غالبا لاستناد ترك الواجب إلى الصارف
دون فعل الضد فيحرم الصارف دونه وكذا الحال فيما لو فسر النهي
بطلب الكف حيث يتوقف فعل الواجب عليه ولنا على أنه عين النهي
عن ضده الخاص حيث يكون الضد وجود ما تعلق الامر بتركه ولو في
ضمن الكل أن مطلوبية الترك عين النهي عن الفعل فإن كان الترك تمام
المطلوب فلا إشكال فإن قول القائل اترك كذا أمر بترك الفعل
وهو معنى النهي عنه ومثله تجنب واحترز وكف فإن المفهوم منها
عرفا إنما هو طلب الترك وإن كان جزه كما في الصوم فإن اعتبر
منفردا كان واجبا غيريا من
92

باب المقدمة كما مر وهو معنى النهي عن فعله وإن اعتبر في ضمن
الكل كان واجبا نفسيا بوجوب الكل والأولى إخراج هاتين
الصورتين عن موضع النزاع نظرا إلى أن ليس فيهما أمر بالشئ وإن
أمكن تعميم الشئ بحمله على المفهوم والمعنى بحيث يتناول
ذلك وقد نص بعضهم على الخروج في الأول والأولى إرجاع الضد
الخاص فيه إلى الضد العام لان الفعل الذي يضاد الترك هو نفس
ترك الترك ورفعه الذي هو ضد عام وإن غايره في المفهوم فينحصر
اقتضاء الامر للنهي عن الضد الخاص عندنا في الالتزام وهذا
أوفق بتعميم بعض المباحث الآتية واعلم أن قضية ما قررنا من أن الامر
بالشئ يقتضي النهي عن ضده الخاص من باب المقدمة أن يكون
كل واحد من آحاد الواجب المخير منهيا عنه بالنهي التخييري من باب
المقدمة إذا تضادت وتوقف وجود كل واحد منها على عدم الاخر
وهو كذلك على ما يساعد عليه النظر الصحيح فإن ما قررناه من
وجوب مقدمة الواجب المطلق ليس مخصوصا بغير هذه المقدمة لكن
لقائل أن يقول قضية التخيير تساوي الآحاد في المطلوبية بمعنى أن
مطلوبية كل واحد على حد مطلوبية الاخر فلا يكون تركه مطلوبا له
وإلا لساواه في المطلوبية على ما مر الإشارة إليه في بحث المقدمة
فيلزم تساوي فعله وتركه في المطلوبية فيرجع إلى الإباحة مع أن
طلب شئ لشئ يستدعي رجحانه له وهو يستدعي مرجوحية
الفعل وهو ينافي رجحانه فضلا عن مساواته للاخر في الرجحان و
جوابه
أولا بالنقض بما إذا كان الضد شرعيا كما لو خير بين الجميع ومنع من
الجمع فإنه لا ريب في مطلوبية ترك كل واحد للتوصل إلى
الامتثال بفعل الاخر مجردا عن وصف الاجتماع فيتأتى الاشكال فيه و
الفرق بينه وبين الضد العادي أو العقلي غير معقول كالفرق بين
المقدمات وثانيا بالحل أما عن الأول فبأن مطلوبية الترك التوصل إلى
الفرد الاخر إنما تقتضي مطلوبية ما يتوصل به إليه لا مطلقا على
ما حققناه سابقا فالتخيير بين الفعل وترك خاص لا يكون إباحة وإنما
الإباحة هو التخيير بين الفعل ومطلق الترك وأما عن الثاني
فبأن رجحان الفعل على وجه التخيير لا يستلزم مرجوحية
تركه مطلقا وإنما يستلزم مرجوحية تركه المجرد عن المعادل فلا ينافي
رجحان تركه المتوصل به إلى المعادل وسيأتي لهذا مزيد
بيان في مبحث النهي حجة من قال بأن الامر بالشئ عين النهي عن
الضد أنه لو لم يكن عينه لكان أما مثله أو ضده أو خلافه والتالي
بأقسامه باطل بيان الملازمة أن المتغايرين إما أن يتساويا في الصفات
النفسية أو لا والمراد بالصفات النفسية ما لا يفتقر اتصاف
الذات بها إلى تعقل أمر زائد على الذات كالانسانية للانسان والحيوانية
للحيوان فإن تساويا فمثلان كسوادين وبياضين وإلا فإن امتنع
اجتماعهما في محل واحد بالنظر إلى ذاتهما فضدان كسواد وبياض و
إلا فخلافان كالبياض والحلاوة وأما بطلان التالي بأقسامه
فلأنهما لو كانا مثلين أو ضدين لامتنع اجتماعهما في محل واحد لان
ذلك شأن المثلين والضدين لكنهما يجتمعان في محل واحد مكلفا
أو مكلفا أو مكلفا به أما الأولان فواضح وأما الأخير فلان الحركة
يجتمع فيها الامر بها مع النهي عن السكون الذي هو ضدها يعني
يجتمع
فيها وصف كونها مأمورا بها ووصف كونها منهيا عن ضدها ومن هنا
يظهر فساد ما قيل من أن أحدهما باعتبار الذات والاخر
باعتبار المتعلق فليس في اجتماعهما إخلال بحقيقة الضدية كحسن
زيد وقبح الغلام فإنهما يجتمعان مع أن بين وصف الحسن والقبح
تضادا وذلك لان الكلام في حال هذا الوصف المتعلق بحال
الموصوف لا نفسه ولو كانا خلافين لجاز أن يجتمع كل واحد منهما مع
ضد
الاخر لان ذلك حكم الخلافين ويمتنع اجتماع الامر بالشئ مع ضد
النهي عن الضد أعني الامر بالضد لأنه تناقض أو تكليف بالمحال و
أجيب بمنع ما جعله لازما للخلافين من جواز الاجتماع مع ضد الاخر
لأنهما قد يكونان متلازمين كإضاءة العالم ووجود النهار أو ضدين
لأمر ثالث كالعلم والقدرة المضادين للنوم فيستحيل أن يجتمع كل
منهما مع ضد الاخر لأدائه إلى انفكاك المتلازمين أو اجتماع الضدين
وهذا إنما يستقيم إذا انحصر الضد أو كانت الدعوى بالنسبة إلى جميع
الأضداد والتحقيق أن القائل المذكور
إن ادعى العينية بالنسبة إلى الضد العام بالمعنى الذي سبق أو الضد في
الجملة وفسر النهي بما ذكرناه صحت دعواه لما بينا وإن فسدت
حجته لما ذكر وإلا فسدت دعواه وحجته حجة من قال بأن الامر
بالشئ يتضمن النهي عن ضده العام أن ماهية الوجوب يعني
الايجاب
مركبة من أمرين من طلب الفعل والمنع من الترك فصيغة الامر الدالة
على الايجاب دالة على النهي من الترك بالتضمن والجواب أن
مدلول الامر لا يزيد على طلب الفعل كما مر في مدلول الصيغة فالمنع
من الترك إن كان بمعنى النهي عنه فطلب الفعل راجع إليه أو إلى
جز مدلوله وإن كان بمعنى تأكد الطلب فهو من عوارضه الطارية عليه
بحسب بعض مراتبه وكيف كان فلا يكون المنع من الترك جزا
له حتى يدل عليه الامر بالتضمن سلمنا أن الامر يدل على الايجاب
لكن المنع من الترك إن فسر بطلب ترك الترك المتأكد كما هو
الظاهر فهو في الحقيقة عين الايجاب أعني طلب الفعل المتأكد وإن
غايره في المفهوم فلا يكون جزا منه وإن فسر المنع بطلب الكف
أو فسر الترك بالكف ففساد مقالته أوضح فإن الامر بالشئ لا يتضمن
معنى الكف فضلا عن طلب عدمه أو طلب الكف عنه كما يشهد به
الاعتبار الصحيح على أنا نقول إذا كان النهي عن الترك أو الكف الذي
تعلق به الطلب واجب لتحقق معناه فيه ولاستحالة اتصافه بغيره
من الاحكام وإلا لم يكن الامر للايجاب فإذا قلنا بأن النهي عن الترك
جز من معنى الايجاب لزم تركب كل إيجاب من إيجابات ونواه
غير متناهيتين وذلك ظاهر الفساد حجة من قال بالاستلزام وجهان
الأول أن حرمة النقيض جز من ماهية الوجوب فاللفظ الدال عليه
يدل على حرمته بالتضمن وفي هذا الاحتجاج إشعار بأن المأخوذ في
الدعوى مطلق الاستلزام لكنه تعسف الثاني أن الايجاب طلب
93

يذم على تركه اتفاقا وهو إما نفس الكف أو فعل ضد غير الكف إذ لا
ذم إلا على فعل لأنه المقدور وأيهما كان فالذم عليه يستلزم للنهي
عنه وأجيب عن الأول بأنه إن أريد بالنقيض الترك فلا نزاع لنا في دلالة
الامر على النهي عنه بالتضمن وإن خالف فيه القائلون بالعينية
وإن أريد به أحد الأضداد الوجودية فلا نسلم أنه جز من معنى
الوجوب إذ لا يزيد مفهومه على رجحان الفعل مع المنع من الترك و
عن
الثاني بالمنع من أنه لازم إلا على فعل بل قد يذم على عدم الفعل
سلمنا لكن نقول ليس الذم على فعل الضد بل على الكف ولا نزاع فيه
و
أنت إذا أحطت خبرا بما ذكرنا وبما سيأتي ذكره وقفت على ما في
الاحتجاجين وجوابيهما من الوهن والضعف واحتج الفاضل
المعاصر على كون الامر بالشئ مستلزما للنهي عن ضده العام
استلزاما بينا بالمعنى الأعم بأن الامر حقيقة في الطلب الحتمي و
يلزمه إذا
صدر من الشارع ترتب العقاب على تركه والممنوعية منه وكأنه يزعم
أن المنع من الترك مغاير للحتم والالزام معنى وأن الامر
موضوع للطلب المقيد بكونه حتميا على أن يكون القيد خارجا عن
مدلول اللفظ كالبصر بالنسبة إلى العمى وقد صرح بهذا في بعض
مقدمات مبحث المقدمة حيث جعل دلالة الامر على الحتم والالزام
من باب اللزوم البين بالمعنى الأخص وضعفه ظاهر لان المتبادر من
الامر إنما هو الالزام بالفعل وهو نفس الحتم والايجاب وإليه يرجع
المنع من الترك وهذا التبادر عندهم وضعي لا إطلاقي كما عرفت
فلا يكون الحتم قيدا خارجا عن المدلول وأما الممنوعية من الترك
بمعنى مبغوضيته فهي وإن كانت من لوازم إيجاب الفعل والالزام به
إلا أنها خارجة عن محل البحث لان الكلام في النهي عن الضد ومع
ذلك فهي لا يختص بأمر الشارع بل يعم جميع الأوامر الالزامية نعم لا
يترتب عليها أثرها من استحقاق الذم والعقاب في غير أوامر العالي
حجة من نفي الاقتضاء في الضد الخاص أنه لو اقتضاه لكان بطريق
الاستلزام والتالي باطل أما الملازمة فلما مر من بطلان العينية و
التضمن وانحصار طرق الاقتضاء في الثلاثة ظاهر جلي وأما بطلان
التالي فلانه لو استلزمه لكان إما من جهة أن فعل الضد يستلزم ترك
الواجب وهو محرم فيحرم فعل الضد لان مستلزم المحرم محرم و
إما من جهة أن فعل الواجب يتوقف
على ترك الضد فيجب من باب المقدمة ووجوب الترك في معنى
حرمة الفعل وكلاهما مدفوع أما الأول فلما مر من منع لزوم تساوي
المتلازمين في الحكم ما لم يكن بينهما علية على التفصيل السابق و
هي في المقام ممنوعة وقد سبق منا تحقيق الكلام في ذلك وأما
الثاني فلهم في دفعه وجوه الأول أن مقدمة الواجب لا تجب ما لم يكن
شرطا شرعيا كما يراه الحاجبي أو سببا كما يقول به صاحب
المعالم وظاهر أن ترك الضد ليس بأحدهما وربما يشكل على الأول
بالأضداد الشرعية مع أن إطلاق كلامه يقتضي منع الاقتضاء فيها
أيضا وربما أمكن توجيهه بأن الكلام هنا في الاقتضاء من جهة الضدية
وهي مغايرة لجهة الشرطية وإن استلزمها فاعترافه بالاقتضاء
في الضد الشرعي بالاعتبار الثاني لا يوجب اعترافه به فيه بالاعتبار
الأول وفيه تكلف والجواب واضح مما حققناه سابقا من وجوب
مقدمة الواجب مطلقا وفساد التفصيلين المذكورين فلا حاجة إلى
إعادته الثاني ما ذكره بعض الأفاضل من أن ترك الضد ليس مقدمة
لفعل الواجب إذ لا توقف له عليه وإنما هو يستلزمه بل توهم التوقف
في عكسه أولى كما زعمه الكعبي قال ومنشأ التوهم عدم
انفكاكهما ولذلك يتوهم من الطرفين مع أنه محال انتهى وأراد بقوله و
لذلك يتوهم من الطرفين الرد على الحاجبي والعضدي حيث
التزما بالتوقف في المقامين وقوله مع أنه محال إشارة إلى لزوم الدور
الظاهر على هذا التوهم وهذا الرد متضح الورود وقد أغرب
الفاضل المعاصر حيث استغرب قوله مع أنه محال معترضا عليه بأن
المقامين متغايران وهو مما يقتضي بعدم وقوفه على مقصوده مع أن
دلالة كلامه عليه في غاية الوضوح والظهور وإنما جعل توهم التوقف
في العكس أولى لان الفعل يستلزم الترك بخلاف الترك و
الجواب قضية تضاد الافعال والأكوان أن يكون وجود كل فرد منها
مشروطا بعدم الاخر فإن عدم الضد لمانعيته معتبر في وجود الضد
الاخر بخلاف عدم فرد منها فإنه لا يعتبر فيه وجود الاخر وإنما ذلك
من لوازم وجود الموضوع على ما مر التنبيه عليه سابقا فالفرق
بين المقامين في غاية الظهور فإن قلت قضية مانعية شئ لشئ أن
يكون وجوده سببا لعدمه فإذا كان وجود كل من الضدين مانعا من
وجود الاخر كان سببا لعدمه وهذا ينافي ما قررت من أن
عدم كل منهما شرط لوجود الاخر لاستلزامه الدور قلت قضية المانعية
تأثير المانع في عدم الشئ لو لم يسبقه في التأثير سبب آخر لا
التأثير الفعلي وليس الشرط في وجود أحد الضدين عدم الاخر
المستند إليه بل عدمه مطلقا وإن استند إلى أمر آخر كعدم الإرادة و
عدم المقتضي هذا كله إذا كانت المانعية من الجانبين وأما إذا كانت من
جانب واحد كالضحك والاستدبار والحدث والكلام بالنسبة
إلى الصلاة حيث إن تلك الأمور مانعة من وجودها بل مستلزمة لعدمها
ضرورة استلزام الشئ لعدم المانع فالكلام المذكور إنما يجري
هناك من جهة المانع ولا يتوهم فيه الاشكال المذكور هذا ومن
عجائب الأوهام ما سنح للفاضل المعاصر في المقام حيث استظهر أن
يكون منشأ توهم الفاضل المذكور هو أنه لما وجد أن ترك أحد
الضدين يتخلف غالبا عن فعل الاخر توهم أنه لا مدخل له في فعله أو
أنه
لما توهم أن مقدمة الفعل عبارة عما يتوقف عليه في نظر المكلف عند
التفطن ووجدان الأضداد كثيرا ما يتركها الفاعل من غير أن
يتفطن بتوقفه على تركها توهم عدم كون الترك حينئذ مقدمة له ثم
غفل فطرد الكلام إلى حال التفطن فمنع من كونه مقدمة له مطلقا أو
أنه لما لم يجد التوقف عند ترك الضد إذ لا تحقق له حتى يتحقق هناك
التوقف أنكر التوقف فيه ثم غفل فطرد الكلام إلى حال الاشتغال
فتوهم عدم توقفه عليه مطلقا هذا محصل كلامه بعد تنقيحه و
تصحيحه وأنت خبير بأن الفاضل المذكور بمكانة من متانة النظر فهو
أجل
من أن يخطر بباله هذه التوهمات الواهية فضلا من أن يعترف بصحتها
ويستند إليها بل الظاهر أن منشأ توهمه على ما يستفاد من بيانه
هو أنه لما وجد ترك الضد متوقفا على الصارف فقط ووجد فعل الضد
من جملة المقارنات توهم مثله في جانب الترك ولم يتنبه للفرق
بين المقامين هذا وأما ما استند إليه المعاصر المذكور في منع توقف
ترك أحد الضدين على فعل الاخر كما ذكره الفاضل
94

المذكور من جواز خلو المكلف عنهما جميعا فمحل نظر لأنه إن أراد
الخلو عنهما مع التشاغل بغيرهما من الأضداد ففيه أن أحدا لا يقول
بتوقف ترك الضد على التشاغل بضد آخر على التعيين بل يقول
بتوقفه على فعل أحد الأضداد على البدل كما مر التصريح به في حجة
الكعبي فلا يقدح جواز خلوه عنهما في التوقف على فعل أحدهما كما
هو مناط الاشكال وإن أراد الخلو عنهما وعن سائر الأضداد كما
ذكره قبل ذلك وصرح به في دفع شبهة الكعبي أيضا وقد أخذه من
صاحب المعالم وغيره ففيه أن ذلك مع ابتنائه عندهم على أصل
فاسد غير مفيد لان حالة الخلو وهي حالة التساقط وترك النفس
لتصرفاتها الإرادية في البدن حالة وجودية فيه مضادة لجميع الافعال
بالضرورة فتكون كأحد الأضداد الفعلية في توقف ترك الفعل الخاص
عليها غاية ما في الباب أن لا تجب من باب المقدمة بناء على
خروجها عن قدرة المكلف حينئذ لكن قد حققنا سابقا أن الواجب إذا
كان له مقدمتان بدليتان إحداهما مقدورة والأخرى غير مقدورة
تعلق الوجوب بالمقدورة على التعيين وسقط عن المكلف بحصول
غيرها إن اتفق فظهر أن جواز خلو المكلف عن جميع الأفعال ما لا
جدوى له في منع التوقف البدلي على الافعال ومعه يبقى الاشكال
بحاله على أنه لا خفاء في أن حالة الخلو وإن لم يستند وجودها إلى
قدرة المكلف استنادا تاما لكن لقدرته مدخل فيها قطعا لظهور أنه
مشروط بعدم إرادته رفعها وهذا القدر من الاستناد كاف في صحة
التكليف كما سنشير إليه في مبحث النهي فيتساوى حالة الخلو وسائر
الأحوال في ذلك وقد سبق لهذا مزيد بيان الثالث ما ذكره
المعاصر المذكور من أن وجوب المقدمة أصالة كما هو محل البحث
ممنوع ووجوبها لغيرها تبعا غير مقيد إذ النهي الغيري التبعي لا
يوجب العقاب ولا يترتب عليه الفساد والجواب عنه ظاهر مما مر فإنا
قد بينا أن الكلام في الضد الخاص إنما هو في النهي الغيري
التبعي والمنع من ترتب العقاب والفساد عليه كلام في الثمرة وهو
نزاع آخر مع أن النهي الغيري التبعي وإن لم يترتب عليه العقاب من
حيث نفسه لكنه لا يجتمع مع الوجوب لامتناع توجه الأمر والنهي إلى
شئ واحد شخصا وجهة والاختلاف في جهة النفسية والغيرية و
الأصالية والتبعية لا يوجب اختلافا في المتعلق لا حقيقة ولا اعتبارا
وسيأتي لهذا مزيد بيان إذا تقرر هذا فاعلم أن جماعة زعموا أن ثمرة
النزاع في الضد الخاص تظهر فيما إذا دار الامر بين واجب مضيق
وعبادة موسعة فإنه لو أتى حينئذ بالموسع عصى وصحت عبادته بناء
على القول بعدم الاقتضاء إذ لا مانع من الصحة وبطلت على القول
بالاقتضاء نظرا إلى انتفاء الرجحان الذي به قوام العبادة حيث إن تركه
حينئذ راجح ويمتنع رجحان الفعل مع الترك للتناقض ولأنه
منهي عنه بالنهي الغيري فلو صح لكان مأمورا به أيضا لان صحة
العبادة موافقتها للامر فيلزم اجتماع الأمر والنهي في الواحد الشخصي
وهو محال ومن المتأخرين من أنكر الثمرة المذكورة حيث أثبت
بطلان الضد على القول الأول أيضا نظرا إلى أن الامر بالشئ يقتضي
عدم الامر بضده وإلا لزم التكليف بالمحال لامتناع الجمع بين
المتضادين فيبطل إذا كانت عبادة لان صحتها متوقفة على تعلق
الطلب
بها ويمكن أن يستدل على ذلك أيضا بأن فعل الضد يتوقف على ترك
الواجب وتحقق الصارف عنه وهما محرمان ويمتنع طلب الشئ
حال تحريم مقدمته فهذه وجوه أربعة تقتضي بطلان الضد إذا كانت
عبادة يتفرع الأولان منها على القول بالاقتضاء فقط والأخيران
يتفرعان على القولين ثم إن جماعة قصروا موضع الثمرة على الصورة
المذكورة ونفوها في المضيقين لأنهما إن تساويا فالتخيير وإلا
تعين الأهم وامتنع الامر بالآخر وهو ضعيف إذ ليس منشأ هذا الامتناع
عند التحقيق إلا لزوم الامر بالشئ وبضده وهذا بعينه وارد في
الموسع أيضا كما سننبه عليه ووجه التفصي عنه في المقامين واحد
كما سنذكره بل أقول ويظهر الثمرة في غير أوامر الشرع أيضا ممن
ليس له أهلية الايجاب كأمر صاحب الدار لمن أذن له بمطلق التصرف
فيها بأمر فعلى القول باقتضاء الامر بالشئ النهي عن أضداده
الخاصة يحرم عليه جميع التصرفات المضادة له ما عدا الخروج منها
إذ ليس له المنع منه فيبطل لو كانت عبادة وكذا الحال بالنسبة إلى
لابس ثوب الامر وشبهه هذا ولما كان القول بمقتضى ذلك أعني
بطلان الضد مطلقا بعيدا عن الطريقة السمحة بل مقطوعا بالعدم حيث
يلزم في مثل ما لو ترك المكلف أداء دين مضيق عليه أن يفسد كل
صلاة صلاها في السعة حال علمه وتذكره به بل كل عبادة منافية
لأداء الدين إذا أتى بها كذلك ولو استوعب تمام عمره والمعهود من
المذهب خلافه تفصى عنه بعض مشايخنا الاعلام بأن الحكم بالصحة
وإن خالف القواعد المقررة لكن لا بد من القول بها لقيام الاجماع و
السيرة القطعية عليها وكان غرضه أن الوجوه المذكورة لا يعتد بها
لكونها شبهة في مقابلة الضرورة وإلا فالقواعد العقلية لا تقبل
التخصيص ومما يعضد ما ذكره أن أهل العرف والعقلا الذين سلمت
فطرة أذهانهم عن الشبهات المذكورة لا يرتابون في أن العبد المأمور
بأمرين متشاركين في بعض الوقت أحدهما مضيق والاخر موسع
أنه تمثيل إذا أتى بالموسع في وقت المضيق وإن حكموا بعصيانه من
حيث مخالفته للامر بالمضيق وكذا لو تضيق وقتهما وكان أحدهما
أهم في نظر الامر فتركه وأتى بغير الأهم وتفصى في المعالم عن
إشكال منافاة مطلوبية ترك الضد بناء على وجوب المقدمة لصحته
بأن الذي يقتضيه التدبر في أدلة وجوب المقدمة كون وجوبها للتوصل
إلى ذي المقدمة فيختص بحال عدم الصارف عنه إذ حال وجوده
لا يمكن التوصل إليه فلا معنى لوجوب المقدمة وعن منافاة حرمة
مقدمة الضد لصحته بأن وجوب المقدمة ليس على حد وجوب غيرها
بأن يكون المطلوب حصول نفسها بل التوصل إلى الغير فمتى حصل
التوصل ولو بمقدمة محرمة حصل المطلوب وسقط وجوب غيرها
كما لو سار إلى الحج على دابة غصبية فإن الحج يصح وإن وقع السير
على الوجه المحرم ولا يجب عليه إعادة السير على وجه محلل و
في كلا الوجهين نظر أما في الأول فلان وجود الصارف لا يرفع تمكن
المكلف من الفعل كيف وهو مكلف بالفعل في تلك الحالة فيكون
مكلفا بمقدمته أيضا والأدلة التي سبقت على وجوب المقدمة تنهض
دليلا على وجوبها مع الصارف وبدونه وهذا ظاهر لا سترة عليه و
ربما أمكن أن يتوهم الاحتجاج
95

على القول المذكور بظاهر قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
حيث علق فيها الامر بالوضوء الذي هو مقدمة الصلاة على إرادتها
بناء على أن المراد بالقيام إرادة القيام كما ذكره أهل التفسير فيدل
بالمفهوم على عدم وجوب الوضوء عند عدم إرادة الصلاة ويتم
الكلام في باقي المقدمات بعدم القول بالفصل وجوابه أن المفهوم من
التعليق في الآية بمساعدة سياقها إنما هو مجرد اشتراط الصلاة
بالوضوء ووجوبه لها لا توقف وجوبه على إرادتها كما يظهر بالرجوع
إلى العرف فيها وفيما يرد من نظائرها مع أن القيام فيها
مفسر في بعض الاخبار بالقيام من النوم ومعه لا تعلق للآية بالمقام و
مع التنزل فالآية ظاهرة في ذلك فلا تنهض دليلا في مقابلة ما
قدمناه من الأدلة القاطعة وأما في الثاني فلانه لا ينهض بدفع الاشكال
على الوجه الذي قررناه من امتناع التكليف بالشئ حال تحريم
مقدمته إذ غاية ما يتحصل منه جواز التوصل إلى الواجب بالمقدمة
المحرمة وهذا مما لا إشكال فيه وإنما الاشكال في وجوب الواجب
على تقدير حرمة مقدمته وقياس ذلك بصحة الحج بالركوب على
الدابة المغصوبة قياس مع الفارق لان تلك المقدمة مقدمة في
الحصول
على حصول ذي المقدمة فيصح الامر به بشرط حصولها من غير
إشكال بخلاف فعل الضد فإن مقدمتيه المحرمتين مقارنتان له في
الحصول مستمرتان باستمراره فيمتنع التكليف به بشرط حصولهما
لوجوب مقارنة تمام الشرط لتمام المشروط وهو هنا مستحيل و
قد يتفصى عن إشكال لزوم توارد الأمر والنهي في الضد بأن الامر
النفسي يجوز أن يجتمع مع النهي الغيري وإنما الممتنع اجتماعه مع
النهي النفسي وهذا ضعيف بناء على ما يظهر منهم من تفسير النهي
بطلب الترك المطلق لان المانع من اجتماع النفسيين إنما هو تنافي
قضيتهما فإن كون الشئ الواحد بالشخص مرادا ومحبوبا كما هو
قضية الامر ينافي كونه مكروها ومبغوضا كما هو قضية النهي وهذا
كما ترى لا يختص بالنفسيين بل يجري فيهما وفي الغيريين والملفق
منهما وهذا على ما نقول به من امتناع الاجتماع واضح وأما ما
يراه جماعة من المتأخرين من جواز ذلك مع تغاير الجهتين فلانتفائه
في المقام لظهور أن المأمور به بالامر النفسي هو عين المنهي عنه
بالنهي الغيري وأما جهة النفسية والغيرية فهما لاحقتان للامر والنهي
والاختلاف فيهما لا يوجب تغايرا في متعلقهما
ولو بحسب الاعتبار وهذا واضح وأيضا لو جاز أن يجتمع الوجوب
النفسي مع الحرمة الغيرية لجاز أن يجتمع الحرمة النفسية مع
الوجوب الغيري إذ لا نعقل فرقا بين المقامين مع أن ظاهرهم الاطباق
على المنع في الثاني حيث خصوا وجوب المقدمة بغير الفرد
المحرم وأسقطوه بفعله من غير نقل خلاف فيه فيتوجه المنع إلى
الأول أيضا وتظهر ثمرة النزاع فيما ذكرناه في سبب الحرام و
مقدمته التي قصد بها التوصل إليه فإنهما محرمان غيريان على ما هو
التحقيق ويمتنع أن يكونا مع ذلك واجبين نفسيين أو غيريين كما
في الجهر بالقراءة حيث يكون سببا لتنبيه راقد محرم أو مؤديا إلى قتل
شخص محترم وأما في غيره فلا ثمرة فيه على ما ستقف عليه
من تحقيقنا الآتي لا يقال لا نسلم وحدة المتعلق في ذلك لان
المطلوب بالامر نفس الفعل والمطلوب بالنهي التوصل إلى الواجب
بالترك
لا نفس الترك وهذا معنى مطلوبية المقدمة للتوصل فإن المطلوب
ليس نفسها بل التوصل بها غاية ما في الباب أن تكون تسميته نهيا عن
الضد توسعا ولا بأس بالتزامه لأنا نقول مطلوبية التوصل يوجب
مطلوبية نفس المقدمة لأنها مقدمة له ولا سبيل إلى أن يجعل
المطلوب
حينئذ التوصل إلى التوصل دون نفس المقدمة للزوم التسلسل ومع
ذلك لا يجدي لان التوصلات الغير المتناهية إذا أخذت بأسرها كانت
مستندة إلى نفس المقدمة فيلزم مطلوبيتها لها هذا والتحقيق أن
مطلوبية الشئ يستلزم مطلوبية ما يتوقف عليه من نفس المقدمات و
أما التوصل إلى الواجب فهو عند التحقيق راجع إلى فعل الواجب وهو
واجب نفسي كما أن التوصل إلى المقدمة راجع إلى إيجادها وفعلها
وهو واجب غيري فاندفعت الشبهة رأسا ثم لا يخفى أن الجواب
المذكور على تقدير صحته لا ينهض بدفع جميع الاشكالات السابقة
هذا
وقد يتفصى أيضا عن الاشكال المذكور بأن الأمر والنهي يجوز
تواردهما على شئ واحد إذا كانا مترتبين سواء كانا نفسيين أو
غيريين أو مختلفين وإن قلنا بأن التكليف بالمحال محال مطلقا إذ لا
يمتنع عند العقل أن يقول المولى الحكيم لعبده أحرم عليك الكون
في دار زيد مطلقا لكن لو عصيتني وكنت فيها فأنا أوجب عليك أن
تكون في موضع كذا منها فأنت حال كونك في موضع كذا منها منهي
عن الكون فيه مطلقا ومأمور به بشرط الكون فيها فالمكلف مأمور
أولا بفعل الواجب وترك الضد لكنه إذا عزم على المخالفة وتحقق فيه
الصارف عنه وجب عليه فعل الضد مع بقائه على وصف الحرمة
فوجوب الضد مشروط بحصول الصارف عن الواجب بخلاف
الواجب فإن وجوبه مطلق بالنسبة إلى ذلك أقول قضية ما ذكر توجه
الامر
المطلق عند وجود شرطه وضرورة العقل قاضية بامتناع توجه الامر و
النهي إلى الشئ الواحد بالشخص والجهة مطلقا والدليل
المذكور ينهض حجة عليه حتى أنا لم نعثر في ذلك على مخالف من
القائلين بامتناع التكليف بالمحال مطلقا نعم يتجه جواز ذلك عند من
أجاز التكليف بالمحال إذا كان من قبل المكلف كما سيأتي لكنه غير
سديد عندنا كما سننبه عليه إن شاء الله وأقول في المثال المذكور
إن كان مقصود الامر أن الكون في موضع كذا منها أقل تحريما من
الكون في غيره وأطلق لفظ الوجوب عليه توسعا فخارج عن محل
البحث وإن أراد أنه مع كونه مبغوضا له مطلقا مطلوب له على تقدير
الكون في الدار حتى إنه يصح قصد الامتثال والتقرب به ليصح
تنظيره بالمقام ففساده ضروري كما مر ثم الاعتذار بأن وجوب الضد
مشروط بحصول الصارف مما لا مأخذ له أصلا ومع ذلك فستقف
على ما فيه بما لا مزيد عليه ويمكن التفصي عن الوجوه المذكورة
أيضا بالتزام جواز التكلف بالمحال إذا كان من قبل المكلف كما يقول
به بعض المتأخرين فيمنع الوجه الأول لان الرجحان المعتبر في
العبادة إنما هو جهة مطلوبيتها وهي متحققة في فعل الضد بتعلق الامر
به والتكليف بالمحال اللازم في الوجوه المتأخرة غير مانع من الامر
بالضد لاستناده إلى المكلف حيث عصى بترك الواجب وضعفه
واضح مما نحققه من أن التكليف بالمحال محال مطلقا وأجاب
الفاضل المعاصر عن الوجه الثالث بأن الذي يقتضيه الامر بالشئ
مضيقا
إنما هو عدم الامر بضده مضيقا وأما عدم الامر به موسعا فلا لان معنى
الواجب الموسع وجوب الفعل في مجموع الوقت من غير تعيين
لجز
96

أجزائه ولا استحالة فيه وهو نظير ما نجوزه من اجتماع الأمر والنهي
في الشئ الواحد مع تعدد الجهة فإنه من سوء اختيار المكلف هذا
محصل كلامه وفيه نظر أما أولا فلان ما التزم به من البطلان فيما إذا كانا
مضيقين غير مستقيم كما ستقف عليه من تحقيقنا الآتي ومع
ذلك فالضرورة قاضية بعدم الفرق فيما لو ترك الانقاذ الواجب و
اشتغل بالصلاة بين ما إذا وقع ذلك في أثناء الوقت أو آخره فالتزامه
البطلان في الثاني دون الأول مجازفة واضحة ويمكن التفصي عن
الأخير بالفرق بين التضييق الأصلي والتضييق العارضي بسبب تأخير
الموسع إلى آخر الوقت فإن الامتثال فيه أيضا ليس باعتبار إيقاعه في
آخر الوقت بل في مجموع الوقت وأما ثانيا فلان ما ذكره في
الموسع مبني على أن الامر يتعلق بالفعل الكلي في كلي ذلك الوقت
فلا يضاد الواجب بهذا الاعتبار وإنما يضاده باعتبار الفردية وعدم
مطلوبيته لا ينافي مطلوبيته الطبيعة لان الفرد مقدمة للتوصل إلى
الطبيعة ويجوز التوصل إلى الواجب بالمقدمة الغير المطلوبة وهذا
فاسد من وجوه الأول أن المطلوب بالامر أما الوجود أو الايجاد
الخارجيان أو الطبيعة المأخوذة من حيث الخارج ولا شئ من هذه
الأمور بكلي كما سيأتي تحقيقه الثاني أن الكلي عين الفرد في الخارج
فلا يكون مقدمة له وقد مر بيانه الثالث أن المطلوب بالامر
الموقت إيجاد الطبيعة في الوقت الخارجي لا الوقت المفهومي ولا
الذهني وذلك واضح وظاهر أن الوقت الخارجي جزئي مشتمل على
أجزاء فقضية التوقيت التخيير بين الأجزاء فتكون الطبيعة مطلوبة في
كل جز على وجه البدلية وإن لم يعد مثل ذلك في الاصطلاح
تخييرا ولا خفاء في أن الطبيعة المقيدة بوقت الواجب مضادة لفعله
فيبقى الاشكال وهو الامر بالشئ مع الامر بضده بحاله ثم أقول و
التحقيق عندي أن العبادة المذكورة صحيحة على القول بالاقتضاء
أيضا كما هو المختار وأن الوجوه المذكورة فاسدة لا تنهض حجة
على الفساد أما إجمالا فبالنقض بالواجبات والمندوبات التخييرية
المتفاوتة في الفضل أنواعا وأفرادا إذا توقف فعل غير الأرجح منها
على ترك الأرجح فإنه لو تم ما ذكروه لزم بطلان كل فعل راجح عند
التمكن من فعل الأرجح
والتالي باطل قطعا بيان الملازمة أن الوجوه المذكورة جارية فيه فإن
ترك الراجح مطلوب للتوصل إلى الأرجح وراجح له فلا يكون
فعله مطلوبا ولا راجحا للتنافي وتعلق الامر بضده على التعيين وترك
مقدمته كذلك توجب عدم تعلق الامر به وإلا لزم الامر بالضدين
والامر بالشئ مع النهي عن مقدمته وإن كان كل من الأمر والنهي
للطلب الغير المانع من النقيض ضرورة أن التكليف بالمحال محال
مطلقا ولا يذهب عليك أن هذا النقض يبتنى على أمرين الأول أن
تكون مقدمات المندوب مندوبة وقد بيناه سابقا الثاني أن يكون
أفضل الفردين المخير بينهما مندوبا على التعيين كما يراه بعضهم لكنه
غير مرضي عندنا كما سيأتي بيانه في محله وعلى تقديره يكون
النقض إلزاميا وأما تفصيلا فنقول في الوجه الأول أن رجحان ترك
الضد للتوصل به إلى فعل الواجب لا ينافي رجحان فعله في نفسه
مطلقا ولو على تقدير عدم التوصل بتركه إلى فعل الواجب وإنما
ينافي رجحانه في نفسه مطلقا أو على تقدير التوصل فيقتصر على
نفيه ولا ريب أن التقدير الأول من لوازم فعل الضد فلا يقع بحسب هذا
الاعتبار إلا صحيحا وتحقيق المقام أن الرجحان والمرجوحية
من الصفات المتنافية المتقابلة فلا يمكن تواردهما على موصوف
واحد ولا تحقق أحدهما بدون الاخر وهما قد يكونان عينيين
تعيينيين
فيعتبران بالنسبة إلى الفعل ونقيضه وقد يكونان تخييريين أو كفائيين
فيعتبران بالنسبة إلى الفعل وما هو أخص من نقيضه وهو
المجرد من البدل وقد يعتبران بالنسبة إلى فعل وفعل آخر فيقال هذا
أرجح من كذا أو أشد مرجوحية منه ولا خفاء في أن الراجحية و
المرجوحية المعتبرتين في ماهية الأحكام التكليفية العينية التعينية
إنما هما بالاعتبار الأول وحينئذ فمتى اتصف فعل مطلق أو مقيد
بالرجحان المطلق أو المقيد المأخوذ بهذا الاعتبار لزم بحكم التقابل أن
يتصف تركه بالمرجوحية على حسبه إطلاقا وتقييدا وعلى
قياسه رجحان الترك المطلق المتعلق بالفعل سواء كان الرجحان مطلقا
أو معلقا وأما رجحان الترك المقيد المتعلق بالفعل فقضيته
مرجوحيته ترك هذا الترك المقيد لمكان التناقض دون
الفعل لعدم مناقضته معه نعم قد يكون تركه المطلق راجحا أيضا
كالافطار في شهر رمضان فيكون فعله مرجوحا بهذا الاعتبار كما مر
في القسم الأول وحيث إن ترك الضد كان راجحا لكونه مقدمة لفعل
الواجب كان اتصافه به مشروطا بحصول التوصل به إلى فعل
الواجب على ما أسلفنا تحقيقه في بحث المقدمة وقد عرفت أن قضية
رجحان ترك خاص مرجوحية ترك هذا الترك الخاص دون الفعل
فلا ينافي رجحانه على بعض الوجوه وقد بينا أن رجحان فعل الضد
مبني على تقدير عدم التوصل بتركه إلى فعل الواجب فقضيته
مرجوحية تركه على هذا التقدير لا مطلقا ومرجعه إلى مرجوحية تركه
الغير المتوصل به لان تقييد الصفة يستلزم تقييد الموصوف من
حيث الاتصاف فلا ينافي رجحان الترك المتوصل به فاندفع المنافاة
لان مبناه على اجتماع وصفي الرجحان والمرجوحية في محل واحد
وعلى ما قررنا يغاير مورد كل واحد لمورد الاخر وإنما يلزم الاجتماع
إذا كان ترك الضد راجحا على الاطلاق أو راجحية فعله على
الاطلاق أو على تقدير التوصل بتركه وقد بينا خلافه ونقول في الوجه
الثاني أن المقام ليس من باب اجتماع الأمر والنهي الذي نقول
بامتناعه إذ يعتبر في ذلك تعلق النهي بمعنى طلب الترك المطلق
بمورد الامر ليلزم منه كون الشئ الواحد واجبا وحراما كما سيأتي
التنبيه عليه في محله إن شاء الله وهو غير حاصل هنا إذ المطلوب
بالنهي الغيري المتعلق بالضد عندنا الترك المقيد بالتوصل به لا
المطلق وقضية ذلك تحريم ترك هذا الترك المقيد دون الفعل فلا يلزم
من وجوبه على تقدير عدم التوصل بتركه اجتماع الوجوب و
التحريم في شئ منهما فإن قلت هذا الجواب راجع إلى ما ذكره
جماعة من جواز اجتماع الامر النفسي مع النهي الغيري فلم عدلت
عنه قلت
وجه العدول أنهم يفسرون النهي الغيري
97

على ما هو ظاهر كلماتهم بل صريحها بطلب الترك المطلق للغير و
يزعمون أنه مما يجوز اجتماعه مع الامر النفسي ثم كثير منهم أطلق
الامر النفسي وربما فسره بعض الأفاضل بما إذا كان مشروطا بمخالفة
النهي ونحن لا نقول بشئ من ذلك وإنما يجوز اجتماع النهي
الغيري بمعنى طلب الترك المقيد بقيد كالتوصل به إلى فعل الغير مع
الامر النفسي المشروط بكون المكلف بحيث لا يأتي بذلك الترك
المقيد فحصل الفرق بين مقالتنا ومقالتهم من وجوه عديدة وبالجملة
فلا مدخل للنفسية والغيرية عندنا في ذلك كما زعموه وإنما
العبرة بتقييد الترك في النهي وتقييد الامر بتقدير عدمه فحيث يتحقق
الأمران يجوز الاجتماع من غير فرق بين النفسيين والغيريين و
الملفق منهما وحيث ينتفي أحدهما أو كلاهما يمتنع الاجتماع مطلقا
وتنقيح المقام وتوضيح المرام أن الطلب العيني التعييني بكلا نوعيه
من الايجابي والتحريمي يستلزم مبغوضية نقيض مورده كالرجحان و
المرجوحية فمطلوبية فعل مطلق أو مقيد مطلقا أو مقيدا يستلزم
مبغوضية تركه على حسب مطلوبيته إطلاقا وتقييدا ومطلوبية الترك
المطلق المتعلق بفعل مطلق أو مقيد مطلقا أو مقيدا يستلزم أيضا
مبغوضية الفعل على حسبه إطلاقا وتقييدا ومطلوبية تركه المقيد
المتعلق بفعل مطلق أو مقيد مطلقا أو مقيدا يستلزم مبغوضية ترك هذا
الترك المقيد لمكان المناقضة دون الفعل لعدم مناقضته معه من حيث
ارتفاعهما في الترك المجرد عن القيد لا يقال ترك الترك المقيد
أعم من الفعل والترك المجرد وحرمة العام يستلزم حرمة الخاص لأنا
نقول العموم بحسب الوجود لا يستلزم ذلك وبحسب الصدق
ممنوع وقد مر بيانه في رد شبهة الكعبي وتظهر الثمرة فيما لو نذر
التعبد بترك مرجوح كالسفر منفردا فإنه يجب عليه تركه متقربا
فلو عصى وسافر كان سفره مباحا وأما تحريم فعل الافطار في شهر
رمضان مع أن المطلوب تركه المقيد بالنية فليس من جهة وجوب
تركه المقيد بل لوجوب تركه المطلق أيضا ولهذا يحرم عليه وإن ترك
النية ابتدأ أو أفطر وربما يحرم من حيث تسببه لترك الواجب
أيضا كما لو شرع في الصوم ثم بدا له الافطار بناء على عدم العبرة
بالاستدامة الحكمية في نيته وعلى تقدير اعتباره يعصي بنقض النية
لاستناد الابطال إليه وقد عرفت أن المطلوب في النهي عن الضد
الترك المتوصل به إلى فعل الواجب وأن الامر إنما يتعلق بفعله
على تقدير عدم التوصل بتركه إليه فقضية مطلوبية ترك الضد
المتوصل به مبغوضية تركه دون الفعل وقضية مطلوبية فعله على
تقدير
عدم التوصل مبغوضية تركه الغير المتوصل به لا الترك المتوصل به
فلا منافاة في اجتماع الحكمين لعدم استلزامه اجتماع وصفي
المطلوبية والمبغوضية في الشئ الواحد فإن قلت فعل الضد
المطلوب مطلق وإن كانت مطلوبيته مقيدة فيكون تركه المبغوض
أيضا
مطلقا وإن كانت مبغوضيته مقيدة لما مر من أن إطلاق أحدهما و
تقييده مستلزم لاطلاق الاخر وتقييده وقضية مبغوضية ترك المطلق
ولو مقيدة به بتقدير عدم التوصل مبغوضية فرديه من التوصل به و
غيره ولو مقيدة بالتقدير المذكور مع أن تركه المتوصل به مطلوب
على كل تقدير فيجتمع المطلوبية والمبغوضية في الترك المتوصل به
على تقدير عدم التوصل وهو محال قلت تقييد الطلب يستلزم
تقييد المطلوب باعتبار كونه مطلوبا ففعل الضد باعتبار كونه مطلوبا
مقيد بصورة عدم التوصل بتركه فيكون مبغوضية تركه مقيدة
بذلك أيضا ولو بواسطة تقييد الطلب فلا يكون مطلوبا على الاطلاق و
السر فيه أن ما هو شرط لوجوب الواجب من حيث نفسه أو
تقديره يمتنع أن يكون مبغوضا بالقياس إلى ذلك الواجب وكذا لوازم
شرطه وإن جاز اتصافه بذلك من حيث نفسه أو لأمر آخر وقد
نبهنا على ذلك لا يقال فيلزم على تقدير ترك الواجب أن يجب ترك
الضد المتوصل به إلى فعل الواجب على الاطلاق كما هو قضية كونه
مقدمة للواجب المطلق وأن يجب فعله على الاطلاق نظرا إلى
حصول ما قرر من شرط وجوبه وهو كون المكلف بحيث لا يتوصل
بتركه
إلى فعل الواجب ويستحيل التكليف الفعلي بالفعل وبتركه معا لأنا
نقول استحالة مثل هذا التكليف إن كان من حيث استلزامه لاجتماع
وصفين متنافيين في شئ واحد من كونه مطلوبا ومبغوضا أو راجحا و
مرجوحا فقد عرفت خلافه حيث بينا أن مورد كل منهما مخالف
لمورد الاخر وإن كان من حيث استلزامه للتكليف بالمحال حيث إن
قضية فعلية التكليفين الجمع بين الضدين من الفعل والترك وإن
اعتبرا مقيدين وأنه ممتنع ففيه أن التكليفين وإن كانا فعلين لكن ليس
مقتضاهما الجمع بين الفعل والترك
حتى يلزم منه التكليف بالمحال كيف وانتفاء أحدهما معتبر في
مطلوبية الاخر وإنما يمتنع التكليف بالضدين إذا آل إلى طلب الجمع
بينهما وبالجملة لا يمنع العقل من التكليف بالضدين معا إذا كان
التكليف بأحدهما مبنيا على تقدير الخلو من الاخر لا لجواز التكليف
بالمحال إذا استند إلى المكلف بل لان التكليف بهما على الوجه
المذكور ليس تكليفا بالمحال حيث إن ثبوت أحدهما منوط بعدم
وقوع
الاخر فكما يصح رجحان أحد الضدين مطلقا والاخر على تقدير عدم
التشاغل به ولا يلزم منه رجحان الممتنع أعني الجمع بين الضدين
فكذلك الحال بالقياس إلى التكليف والطلب وبهذا يتبين الجواب عن
الوجه الثالث أيضا وتوضيحه أن ما ذكروه من لزوم التكليف
بالمحال إنما يتجه إذا كان المطلوب حصول الضدين معا وأما إذا كان
المطلوب أولا هو حصول أحدهما ويكون مطلوبية الاخر على
تقدير المخالفة في الأول فلا استحالة لان منشأها عدم تمكن المكلف
من فعل الضد وهو مخصوص بحال التشاغل بالواجب إذ حال عدم
التشاغل به يتمكن من ضده فيصح إلزامه به فإن التنافي إنما هو في
فعل الضدين لا في تعلق التكليف بهما إذا لم يرجع إلى طلب الجمع
بينهما وبالجملة فوجوب الواجب مطلق بمعنى أنه ليس على تقدير و
وجوب الضد مقيد بمعنى أنه إنما يجب على تقدير وقوع المخالفة
في الواجب وليس مشروطا بترك الواجب ولهذا لا يعتبر في تعلقه
بالضد وقوع المخالفة في الواجب بل المعتبر كونه ممن يترك
الواجب ويخالف فيه ويكفي علم المكلف به بمراجعة نفسه وفي
كفاية الظن وجهان ولا حاجة في إفادة ذلك إلى التصريح به بل يكفي
التعويل على مجرد العموم والاطلاق وقد سبق التنبيه عليه عند
بحث المقدمة وفي الوجه الرابع أن الممتنع إنما هو إيجاب الشئ
حال
تحريم مقدمته مطلقا وأما إيجابه على تقدير حصولها كما نقول به في
المقام
98

فلا بأس به وإن كانت مقارنة له في الحصول وقد مر تحقيق ذلك و
اعلم أنه قد يستدل على الفساد بعموم قوله تعالى إنما يتقبل الله من
المتقين وجوابه أن البناء على ظاهر الآية يقتضي بطلان كل عبادة
تصدر عن غير المتقي مطلقا وإن كان عدم انتفائه من غير جهة
العبادة وهو خلاف الاجماع بل الضرورة فيدور الامر بين التخصيص و
بين حمل القبول على القبول الكامل فإن لم يترجح الاحتمال
الثاني فلا أقل من تكافؤ الاحتمالين ومعه لا يتم الدلالة ثم اعلم أن
الصارف عن الواجب قد يكون إرادة الضد وقد يكون غيرها وجريان
ما ذكرناه في الوجه الأخير متضح وأما في الوجه الأول فقد يستشكل
من حيث إن الإرادة حينئذ سبب لامرين ترك الواجب وفعل الضد
فتحرم لحرمة أحد معلوليها وهو ترك الواجب فيمتنع وجوب معلولها
الاخر أعني فعل الضد لان إيجاب الشئ حال تحريم علته محال و
لا سبيل إلى الاعتذار هنا على حسب ما مر في بعض الوجوه بأن
وجوب الضد بعد الصارف عن الواجب لان وجود الضد بعد تحقق
الصارف واجب ويمتنع إيجاب الفعل بعد وجوبه وحصول سببه و
الجواب أما أولا فبالنقض بالعبادات المترتبة في الفضل إذا كان
ترك الأفضل منها مستندا إلى إرادة ما دونها لان ترك المفضول حينئذ
مطلوب للتوصل إلى الأفضل على التعيين فينافي مطلوبية فعله
فلا يدل على البيان المذكور من أن يجعل مطلوبيته على تقدير وجود
الصارف عن الأفضل وهو لا يستقيم فيما إذا استند ترك الأفضل
إلى إرادة المفضول للزوم ما ذكر من مطلوبية الشئ على تقدير وجوبه
وحصول سببه ويعرف الكلام في ذلك مما مر في النقض
المتقدم وأما ثانيا فبالحل وهو أن الاستحالة المذكورة إن كان مبناها
على ما زعمه بعضهم من أن حكم المعلول لا يغاير حكم العلة حتى
إنها إذا حرمت لحرمة أحد معلوليها حرم معلولها الاخر لحرمتها و
استحال حينئذ وجوبه فمدفوع بما مر في بحث المقدمة من جواز
الانفكاك وعدم الملازمة وإن كان مبناها على ما أشير إليه في دفع
الاعتذار من كونه إيجابا للشئ بشرط وجوبه وحصول سببه كما
مر في دفع الاعتذار المذكور فمردود بأنا لا نسلم أن وجوب الضد
يتوقف على وجود الصارف
عن الواجب بل يتوقف على نفس عدم حصول الواجب لأنه الذي
ينافي اشتغاله بالضد بنفسه فبعدمه يتمكن منه بخلاف الصارف فإنه
من
لوازمه وحينئذ فلا يلزم إيجاب الشئ بعد وجوبه ويمكن دفعه بأن
وجوب الضد إذا توقف على ترك الواجب فقد توقف على وجود
الصارف الذي هو سببه أيضا لان ما يتوقف على المعلول يتوقف على
علته أيضا بالضرورة فيلزم المحذور أيضا لا يقال لا نسلم أن
ترك الواجب مستند إلى وجود الصارف بل إلى عدم الإرادة وهو من
لوازم وجود الصارف فلا يتم الدفع أو يقال الأسباب على قسمين
قسم يرتفع قدرة المكلف عن مسبباتها حال حصولها ولا ريب في
امتناع التكليف بمسبباتها حينئذ كالالقاء من الشاهق بالنسبة إلى
القتل وقسم يبقى معه الاختيار كالاختيار فإن المختار لا يخرج
بالاختيار والإرادة عن كونه مختارا وإلا لسقط التكليف عنه حال
حصولها وهو ظاهر الفساد فحينئذ يجوز أن يكون التكليف بفعل الضد
مبنيا على إرادته ولا يعقل فرق بين بقاء التكليف حال الإرادة و
بين إنشائه فيها لأنا نقول أما الأول فمدفوع بأن استناد ترك الواجب إلى
عدم الإرادة لا ينافي استناده إلى وجود الصارف أيضا فإن
عدم الإرادة في الفرض المذكور مستند إلى وجود الصارف وأما الثاني
فمدفوع بأن الفرق بين الأسباب الاختيارية في ذلك ضعيف
لان المكلف حال التشاغل بها قادر على ترك الفعل من غير فرق بين
الإرادة وغيرها وبعدها لا يتمكن من الترك فيهما أما في غير
الإرادة فظاهر وأما في الإرادة فلأنها بعد حصول ما هو سبب تام منها
يمتنع تخلف الفعل الذي هو معلولها عنه والتقدير أن هذا هو
الصارف الذي يستند ترك الواجب إليه حال وقوع الضد فيبقى
الاشكال بحاله لان وجوب الضد يتوقف على ترك الواجب المستند
إلى
إرادة الضد التي هي سبب لحصوله على ما هو المفروض فيلزم
وجوب الشئ بعد وجوب وجوده بل التحقيق في الجواب ما حققناه
سابقا
من أن تعلق الوجوب بالضد لا يتوقف على وقوع ترك الواجب ليلزم
المحذور بل إنما يتعلق على تقدير وقوع الترك لان وجوبه
بالنسبة إليه مطلق لا مشروط
ووقوع الترك كاشف عن تعلق الوجوب لا مثبت له لا يقال إذا كان
تعلق الوجوب على تقدير حصول المسبب كان تعلقه على تقدير
حصول السبب أيضا لكن التالي باطل أما الملازمة فلما عرفت عند
بحث المقدمة من أن مرجعها إلى اشتراط الوجوب بكون المكلف
بحيث يصدر منه المسبب ولا ريب في أنه مستند إلى كونه بحيث
يصدر منه السبب فتوقفه على الأول يوجب توقفه على الثاني وأما
بطلان الثاني فلانه إيجاب للشئ على تقدير وجوبه وحصوله سببه
من غير اعتبار أمر زائد إذ لم يقصد في التكليف إلا مسبب [سبب]
تلك الإرادة وفساده ضروري لأنا نقول وجوب الضد ثابت على تقدير
عدم حصول الواجب سواء استند إلى إرادة الضد أو لا وبعبارة
أخرى سواء أراد فعل الضد أو لا ولا ريب في أن التكليف كذلك مما لا
غبار عليه وإن صادف حصول الإرادة كما في سائر التكاليف
نعم يمتنع التكليف على تقدير حصول الإرادة فقط وظاهر أن المقام
ليس منه وهذا الجواب كما يدفع الاشكال على الوجه الذي قررناه
كذلك يدفع الاشكال على الوجه الأول أيضا ومما يوضح ذلك أنه إذا
وجب على المكلف بنذر أو شبهه التشاغل بالقراءة أو الذكر في
وقت معين إذا كان متطهرا فيه فإنه إذا استند محافظته على الطهارة في
ذلك الوقت إلى إرادته لفعل القراءة الواجبة أو الذكر الواجب
فيه فالضرورة قاضية بأن التكليف بذلك لا يرتفع عنه حينئذ مع أن
الشبهة المذكورة جارية فيه لظهور أن وجوب القراءة أو الذكر
مستند إلى وجود الطهارة أو عدم الحدث المستند إلى إرادة تلك
القراءة أو ذلك الذكر فيستند وجوب القراءة أو الذكر إلى وجود علتها
الموجبة لها ومثله الكلام فيما لو استند ترك السفر إلى إرادة الصوم و
وجه الدفع والحل ما عرفت من أن التكليف بالقراءة أو الذكر
المشروط بوجود الطهارة أو عدم الحدث أو بالصوم المشروط
بالحضور مطلق وليس مقيدا بما إذا كان سبب
99

الشرط الإرادة الموجبة للقراءة أو الذكر الواجب فلا استحالة في
التكليف على تقديره نعم يرد على الوجه المذكور أن ترك الواجب لو
كان نفسه شرطا في تعلق التكليف بالضد لكان تركه في تمام الوقت
شرطا كما هو قضية هذا الاشتراط ويلزم منه عدم تعلق التكليف
بالضد في أثنائه فيثبت الثمرة المذكورة مع أن المقصود نفيها بذلك و
تمام تحقيق الكلام يطلب مما حققنا عند بحث المقدمة فإذا تبين
لك فساد التفصيل المذكور بما لا مزيد عليه فاعلم أن من فضلائنا
المعاصرين من فصل في المقام بين ما إذا كان فعل الضد رافعا لتمكن
المكلف من فعل الواجب وبين عدمه فالتزم بالتحريم والبطلان في
الأول ومنع منهما في الثاني وملخص ما ذكره في توجيه مرامه هو
أن إيجاب الشئ إنما يقتضي بحكم العقل والشرع والعرف إيجاب
التهيؤ له والتوسل إليه فيجب فعل ما يقتضي وجوده وجوده
كالسبب وترك ما يقتضي تركه فعله كترك الحركة المقتضي لتحقق
السكون الواجب وما يقتضي فعله عدم التمكن منه كالمنافيات
فالضدان كان مما يوجب فعله لعدم التمكن من الواجب كالسفر المانع
من إيصال الحق المضيق إلى صاحبه فهو محرم سواء قصد به الغاية
المحرمة أم لا لان إباحته تقتضي عدم الاثم فيما يترتب عليه وإن قدر
إرادة الواجب بعده فلو لم يكن الضد الموجب لعدم التمكن منه
محرما لزم خروج الواجب عن كونه واجبا ولأن قضية إناطة الاحكام
بالحكم والمصالح هو تحريم ما يقتضي رفع التمكن من فعل
الواجب ولما ورد من النهي عن دخول البحر قبل الصلاة لمن لا
يتمكن من الخروج عنه لأدائها وغير ذلك وإن لم يرفع تمكنه بل كان
في جميع أفعال الضد متمكنا من تركه وأداء الواجب كما لو ترك أداء
الحق المضيق وتشاغل بالصلاة فإنه يتمكن في كل حال من أحوالها
أن يتركها ويتشاغل بالواجب وليس في فعل الصلاة ما يقتضي رفع
تمكنه منه عقلا وهو واضح ولا شرعا لسبق الحق المضيق على
الدخول فيها فيجوز الابطال له كالابطال لغيره من الأمور المقررة عليها
فلا يلزم من إيجاب الواجب تحريم مثل هذا الفعل إذ ليس في
تركه مدخلية في أداء الواجب ولا فائدة يترتب على تركه مع ترك
الواجب إذ التمكن حاصل على التقديرين هذا محصل كلامه ومرجعه
إلى قضاء وجوب الشئ بوجوب ما يوجب التهيؤ له ومنه إبقاء
التمكن
فيحرم فعل الضد الرافع دون غير الرافع أقول وهذا التفصيل عندي
محل نظر لأنه إن أراد أن التمكن من الفعل شرط في بقاء التكليف
فيجب إبقاؤه والمحافظة عليه لذلك فهذا فاسد قطعا لان إبقاء
التكليف غير واجب بالنظر إلى نفس التكليف فضلا عن وجوب
مقدمته
لذلك وقد سبق في بحث المقدمة أن الواجب المشروط لا يقتضي
وجوب مقدمته التي هي شرط الوجوب والضرورة قاضية بأنه كما لا
يجب تحصيل شرط الوجوب من حيث كونه شرطا له كذلك لا يجب
تحصيل شرط بقائه من حيث كونه شرطا لبقائه لان البقاء عند
التحقيق في معنى الحدوث وإن أراد أن التمكن شرط للتوصل إلى
فعل الواجب فيجب المحافظة عليه للتوصل به إليه ففيه أن رفع
التمكن
حينئذ يكون على حد سائر الأضداد الغير الرافعة للتمكن ضرورة أن
ترك الكل شرط في التوصل إلى الواجب كما هو قضية ما بينهما من
التضاد فيتحد الكلام في المقامين ويبطل الفرق المتوهم في البين و
تحقيق المقام وتوضيحه أن الامر بالشئ يقتضي إيجابه لنفسه و
إيجاب ما يتوقف عليه من المقدمات للتوصل إليه على ما سبق ذكره
في الفصل المتقدم ولا خفاء في أن من جملة مقدمات الفعل إبقاء
التمكن منه وهو يتوقف على ترك الأضداد المنافية له فيجبان للتوصل
إلى فعل الواجب لان مقدمة المقدمة مقدمة وقد حققنا أن قضية
وجوب شئ لشئ إنما هو وجوبه مقيدا لا مطلقا فلا يتصف
بالوجوب إلا على تقدير حصول الاخر وترتبه عليه ومرجعه إلى
مطلوبية
المشروط بكونه بحيث يترتب عليه الاخر فحيث لا يأتي المكلف
بالواجب النفسي لا يتصف شئ من مقدماته انتهى أتى بها في الخارج
بالوجوب والمطلوبية الواقعية باعتبار كونها مقدمة له لانتفاء شرط
وقوعها على وجه المطلوبية فيصح أن يتصف بغيره من الاحكام
حتى التحريم لخلو المحل عن الضد المانع فيعمل المقتضي عمله لا
يقال إذا تشاغل المكلف حينئذ بفعل الضد فإما أن يتعلق به التكليف
بالواجب بالنسبة إلى الزمن الذي ارتفع تمكنه عنه بفعل الضد أو لا فإن
كان الأول لزم التكليف بالمحال وهو محال وإن كان من قبل
المكلف على ما هو التحقيق وإن كان الثاني خرج عن محل الفرض إذ
الكلام في صحة تعلق التكليف بضد الواجب حال وجوبه لا بعد
سقوط وجوبه إذ
لا إشكال في جواز تعلق الوجوب بشئ وبضده في زمانين وذلك
كما لو ترك سجدتي السهو على القول بفوريتهما وتشاغل
بالفريضة عند سعة وقتها فإن انعقادها منه حينئذ يوجب رفع تمكنه
من فعل السجدتين شرعا إلى أن يفرغ منها إذ لا يجوز له قطع
الصلاة ولا إيقاعهما في أثنائها وكما لو ترك أداء الدين المضيق وسار
إلى الحج فإن بعده عن صاحب الحق يوجب رفع تمكنه من الأداء
عقلا إلى أن يرجع إليه مثلا لأنا نقول نختار القسم الثاني ونمنع خروج
الصورة المذكورة عن محل النزاع إذ يجري الكلام فيها بالنسبة
إلى ما قبل التشاغل بفعل الضد فعلى ما حققناه يتوجه إليه الخطاب
بهما على الوجه المتقدم وكذا حال التشاغل به إذا تمكن من فعل
الواجب في زمن يخل فعل الضد به وإلا كان أثر التكليف بالواجب
جاريا عليه وإن انقطع عنه الخطاب بالنسبة إلى زمن عدم تمكنه ثم لا
يذهب عليك أن عدم جواز نقض العبادة غير رافع للتمكن الشرعي
من الواجب بل المكلف في أثنائها مأمور بنقضها لأداء الواجب لان
صحة العبادة ورجحانها حينئذ مبنية على تقدير عدم صدور الواجب
منه في زمان يخل به فعلها فإذا بدا له العزم على الواجب في زمان
يخل إتمامها به عقلا أو شرعا كان ذلك كاشفا عن عدم تعلق الامر بها
به في الواقع فتبطل وليس هذا إبطالا حتى يطالب فيه بالحجة
المجوزة له هذا وأما الوجوه التي تمسك بها الفاضل المذكور فلا
تنهض بإثبات دعواه من حرمة الضد الرافع للتمكن من الواجب بمعنى
مطلوبيته تركه مطلقا أما الوجه الأول وهو لزوم خروج الواجب عن
كونه واجبا فلانه الدليل المعروف بين القوم على وجوب مقدمة
الواجب وقد بينا فساده في بحث المقدمة وعلى تقدير صحته فلا
دلالة له على مطلوبية المقدمة مطلقا وإنما يقتضي مطلوبية المقدمة
التي
يتوصل بها إلى ذي المقدمة بالفعل إذ يندفع به شبهة لزوم خروج
الواجب
100

عن كونه واجبا وأما الثاني وهو كون الاحكام معللة بالحكم فلان ذلك
لا يقتضي مطلوبية ترك الضد مطلقا وإنما يقتضي مطلوبيتها
على تقدير التوصل بها إلى فعل الواجب إذ لا فائدة في فعل المقدمة
مجردة عن فعل الواجب فلا حكمة في إيجابها كذلك وهذا مما
يشترك فيه جميع المقدمات وأما الثالث وهو النواهي المتعلقة
بالافعال الرافعة للتمكن في خصوص بعض الموارد فلظهور أن
المفهوم
منها ليس إلا مطلوبية تركها للتوصل بها إلى فعل الواجب وما هذا شأنه
لا يكون تركه مطلوبا على تقدير عدم التوصل به إلى فعل
الواجب فيجوز أن يتصف بغيره من الاحكام ولو سلم أن المفهوم منها
التحريم مطلقا فإنما يثبت بها ذلك في خصوص الموارد التي ورد
النهي فيها فلا يتسرى إلى غيرها من الأضداد التي لم يرد فيها نهي و
دعوى أن المفهوم من سياقها سريان الحكم إلى جميع الأضداد
المانعة وعدم مدخلية خصوصيات تلك الموارد في ذلك في حيز
المنع كما لا يخفى فيبقى إطلاقات الأوامر وعموماتها سليمة عن
المعارض ثم أقول في كلامه أنظار لا بأس بالتنبيه عليها منها أنه قرر أولا
أن إيجاب الشئ يقتضي إيجاب التهيؤ له والتوسل إلى
تحصيله ثم فرع عليه وجوب ترك الضد الرافع للتمكن دون الضد الغير
الرافع وهذا غير سديد لأنه إن أراد بالتهيؤ والتوسل ما هو
الظاهر منه من الاتيان بمقدمات الشئ للتوسل بها إليه فهذا مع كونه
خلاف التحقيق كما مر لا يتم به الفرق لأنه يصدق على ترك الضد
الرافع وغير الرافع مع قصد التوسل به ولا يصدق مع عدمه وإن أراد
إتيان ما يكون له [مدخل] تأثير في التمكن من الواجب والآتيان به
كما هو معنى مطلق المقدمة فهذا مما يتساوى [يساوي] فيه الضد
الرافع للتمكن والغير الرافع له لوضوح أن ترك كل منهما معتبر في
وجود الواجب وشرط له على ما عرفت مما حققنا سابقا حيث أبطلنا
القول بأنها من باب المقارنات الاتفاقية فيكون في ترك كل منهما
تهيؤ لفعل الواجب وتوسل إلى تحصيله بالمعنى المذكور فيجبان و
يحرم فعلهما على الاطلاق وإن أراد بالتهيؤ والتوسل إتيان ما يلزم
من وجوده وجود الواجب فهذا يرجع إلى القول بعدم وجوب غير
السبب من المقدمات وهو لا يقول به كما يظهر
من تمثيله بالسبب وذكره لترك المنافيات الرافعة للتمكن ومع ذلك
فقد أوضحنا فساد هذا القول في بحث المقدمة ولا يعقل للتهيؤ و
التوسل معنى يتناول جميع ما يتوقف عليه الواجب من مقدماته ما
عدا ترك الفعل الغير الرافع للتمكن نعم لو بنى على القول بعدم توقف
الواجب على ترك الضد ولو بالنسبة إلى خصوص الضد الغير الرافع
للتمكن استقام كلامه لكن قد أوضحنا فساد هذا القول بما لا مزيد
عليه وكلامه نص في عدم البناء عليه وإلا لم يحتج إلى التطويل
المذكور ومنها أنه جعل ترك الحركة مقتضيا للسكون وليس بصحيح
بل ترك الحركة عين السكون إن أخذا بالمعنى المصدري وعينه أو
لازمة المنتزع عنه بالقياس إلى ضده أن أخذا بالمعنى الحاصل من
المصدر نعم يصح جعل ترك الحركة بالاعتبار الأول علة للسكون لا
باعتبار الثاني ولو بضرب من التوسع لكنه حينئذ ليس من باب
كون ترك شئ علة لشئ بل من باب كون التأثير علة للأثر ومنها أنه
جعل فعل الصلاة مما لا ينافي أداء الحق على المسير كما هو
المفروض في كلامه فلا ريب أن الهوي إلى السجود رافع للتمكن منه و
لو بالنسبة إلى زمن يسير وهو زمن النهوض فيحرم على ما
التزمه به من حرمة الضد الرافع للتمكن منه فتبطل الصلاة لان حرمة
الجز لا يجامع مطلوبية الكل فإن قلت التضيق عرفي وفوات التمكن
في مثل هذا الزمان لا يخل به وإنما يخل بالتضييق العقلي وخطاب
الشرع لا ينزل عليه قلت هذا إنما يتم في التضييق المستفاد من
الخطاب اللفظي دون التضييق العقلي الناشئ من قبل المكلف بتأخيره
الواجب المضيق نظرا إلى أصالة بقاء التعيين السابق في حقه فإن
كل تضييق عرفي بعد التأخير يرجع إلى التضييق العقلي تفصيا من
العصيان ولا بد من دليل على سقوطه ولولا ذلك لم يستقم قوله بعدم
جواز السفر المانع عن إيصال الحق لان السفر لا يتحقق في الخارج إلا
على التدريج فلا يؤتى بجز منه إلا والآتيان بالجز الذي بعده لا
يخل بالفورية العرفية بالنسبة إلى حال التشاغل بالجز الذي يليه فتدبر
هذا ومما يتفرع على هذا النزاع صحة كل عبادة وجب تقديم
غيرها
عليها فجئ بها قبله أو بدونه ما لم يستفد منه الشرطية وذلك كما لو
نذر أن يتنفل قبل الفريضة فبدأ بها قبل النافلة فإن فعل الفريضة
أولا رافع للتمكن من تقديم النافلة ومن هذا الباب ما ذهب إليه جماعة
من وجوب الترتيب بين أفعال مبني مع حكمهم بالأجزاء إذا خالف
الترتيب وربما يظهر من الفاضل المذكور مساعدته في المقام على
الصحة بناء على مقتضي الأصل وهو على مذهبه غريب واعلم أن
حكمنا بصحة الصلاة على ملاحظة مجرد إطلاق الامر فلو قام دليل
على الفساد في مقام تعين الحكم به كما لو قام الدليل على فساد
الصلاة الغير المكتوبة في وقتها المضيق وفساد صوم غير شهر رمضان
فيه ونحو ذلك فيقيد به إطلاق الامر وكذا يبتني على ما إذا
تجرد الضد عن الموانع الخارجية ومنه ما لو أتى به للتشاغل عن
الواجب أو للتوصل به إلى تركه فإنه لا إشكال حينئذ في التحريم و
الفساد بناء على قاعدتهم المعروفة من أن كل فعل قصد به محرم فهو
محرم وعليك بإمعان النظر فيما حققناه وأوردناه فإنه بمكان من
الغموض والخفاء
تنبيه النهي عن الشئ عين الامر بضده العام أعني الترك
إن فسر النهي بطلب الترك كما هو التحقيق وهذا ظاهر مما مر ولا
يقتضي الامر بالكف ولا بضده الخاص إلا إذا توقف الترك عليه نعم
من فسر النهي بطلب الكف يتعين عليه القول بالعينية بالنسبة إليهم و
منهم من اعتبر الضد بمعنى أحد الأضداد الوجودية التي يندرج فيها
الكف وأطلق القول بالعينية وبعضهم أطلق القول بالتضمن وزعم
الكعبي أنه يقتضي الامر بجميع أضداده الخاصة وقد مر الكلام في
بعض ذلك ويظهر الحال في غيره بالمقايسة واعلم أن ما ذكرناه في
الأوامر الايجابية والنواهي التحريمية جار في الأوامر الندبية و
النواهي التنزيهية أيضا ويظهر الكلام فيهما أيضا بالمقايسة ومنهم من
زعم أن الامر الندبي لا يقتضي كراهة الضد
101

الخاص وإلا لكان جميع المباحات مكروهة لاستيعاب المندوبات
المضادة لها تمام العمر وليس بشئ لان الكراهة النفسية والغيرية
غير لازمة إذ غاية ما يلزم من قاعدة الضدية رجحان تركها للتوصل به
إلى فعل المندوب وهذا مما لا إشكال فيه وإنما الاشكال في
وقوع المباحات مكروهة أي متصفة بالمرجوحية وهو غير لازم في
غير سبب ترك المندوب كما يظهر مما حققناه في معنى الوجوب
الغيري مع أن المعتبر في الكراهة ليس مجرد المرجوحية وإلا لكان
تارك كل مندوب فاعلا لمكروه هو تركه ولا خفاء في فساده بل
المرجوحية الموجبة لمنقصة دينية في فاعلها غير محرمة ولا ريب أن
مجرد تفويت الثواب أو ترك الراجح لا يوجب ذلك وبهذا يظهر
الفرق بين الترك المكروه وخلاف الأولى
فصل إذا تعلق الامر بشيئين أو أشياء على التخيير
كما في خصال الكفارة فالحق أن كل واحد منها واجب على التخيير
بمعنى أنه واجب يجوز تركه إلى الاخر وهذا هو المعروف بين
أصحابنا وذهبت الأشاعرة إلى أن الواجب فيه واحد لا بعينه و
استظهر العلامة وغيره تبعا للفخر الرازي عدم الفرق بين هذا القول و
القول المتقدم معنى وهو بعيد لان الواجب على القول الأول كل
واحد بعينه لا على التعيين لا واحد لا بعينه كما هو نص القول الثاني
على
أن العضدي بعد أن اختار هذا القول صرح في أثناء الاحتجاج بأن
المراد وجوب مفهوم الواحد الصادق على كل واحد من مصاديقه لا
بعينه
أي على البدلية لا المصداق لا بعينه فيلزم التكليف بالمبهم والواجب
على الأول كما عرفت نفس المصداق دون مفهوم الواحد فلا يمكن
التوفيق بين القولين وحكي في المقام أقوال أخر ضعيفة منها أنه يجب
الجميع ويسقط بفعل البعض ومنها أنه يجب معين ويسقط بفعله
أو فعل معادله ومنها أن الواجب معين عند الله وهو ما يفعله المكلف
قال العلامة وجماعة وهذا مذهب تبرأ كل من المعتزلة والأشاعرة
منه ونسبه إلى صاحبه ونحن لا نبحث عن هذه الأقوال لوضوح
فسادها واستغنائها عن تكلف البيان لنا أن معنى قول القائل أعتق رقبة
أو أطعم ستين مسكينا طلب العتق بعينه وطلب الاطعام بعينه على
التخيير وليس معناه طلب مفهوم خارج عنهما صادق عليهما على
البدلية كمفهوم أحدهما فيكون ذلك مطلوبا على التعيين لان الهيئة
الدالة على الطلب متعلقة بكل منهما بعينه فيكون هو المطلوب وليس
في الكلام ما يكون معناه مفهوم أحدهما حتى يصح تعلق الطلب به و
لفظ أو ونحوه إنما يفيد التخيير والبدلية بينهما بمعنى جواز ترك
كل منهما إلى الاخر لان كلا منهما مطلوب باعتبار صدق مفهوم
أحدهما عليه ولا بمعنى أن كل واحد واجب تعييني إن لم يتحقق
الاخر
فيلزم أن يجب الجميع تعيينا على تقدير المخالفة فيها فيكون بذلك
تاركا لعدة واجبات تعيينية فيستحق المعاقبة على كل واحد منها
مستقلا بل بمعنى أن كل واحد واجب يجوز تركه إلى الاخر ومثل هذا
لا يستحق بحكم العقل والعادة فيه إلا عقابا واحدا على ترك
الجميع نعم يصدق على الامر بالوجه المذكور أنه أمر بأحدهما
أو أحدها لكن مجرد الصدق لا يقتضي العينية في المفهوم أ لا ترى أن
الامر بضرب زيد يصدق عليه أنه أمر بضرب الانسان والضاحك و
غيرهما من المعاني الصادقة عليه مع أنهما متغايران بحسب المفهوم
قطعا وأما جواز ترك البعض في الجملة أو عدم ترتب استحقاق
العقاب عليه كذلك فلا ينافي وجوبه لما عرفت من أن الواجب على ما
يساعد عليه التحقيق هو ما يستحق العقاب على تركه من غير بدل و
لا عذر ولا ريب أنه هنا يستحق العقاب على ترك الجميع ويمكن أن
يحتج لمن قال بأن الواجب مفهوم أحدهما بأنه لو لم يكن ذلك لكان
الواجب ما صدق عليه هذا المفهوم إذ لا قائل بغيرها بالفصل والتالي
باطل لان ما صدق عليه أحدهما إن اعتبر مبهما امتنع وجوده
فيمتنع وجوبه وإن عين كلا أو بعضا خرج عن موضع النزاع إذ لا تخيير
على تقديره لا يقال الممتنع وجود المبهم في الخارج بشرط
الابهام وعدم التعيين لا لا بشرط التعيين كما في المقام أ لا ترى أن
النكرة موضوعة لفرد غير معين من الطبيعة فإن أخذ بشرط كونه
غير معين امتنع وجوده وامتنع تعلق التكليف به وإن اعتبر من حيث
ذاته أعني نفس الموصوف لا بشرط التعيين كما هو المفهوم منه
أمكن وجوده وصح تعلق التكليف به فالنكرة مبهمة بالاعتبارين إلا أن
منشأ إبهامها على الأول اشتراط الابهام فيها وعلى الثاني عدم
اعتبار التعيين فيها والفرق واضح على أن الاشكال الأخير متجه على
تقدير أن يكون الواجب مفهوم أحدهما أيضا إذ لا تخيير حينئذ في
نفس الواجب والتخيير في الافراد لا يوجب صيرورة الواجب تخييريا
وإلا لكانت الواجبات التعيينية المتعلقة بالطبائع الكلية تخييرية و
لا قائل به لأنا نقول أما الأول فمدفوع بأن التوجيه المذكور إنما يتجه
فيما إذا كان هناك أمر واحد يصلح لان يتصف بالابهام تارة و
بالتعيين أخرى كما في النكرة وبدون ذلك لا يستقيم قطعا وليس هنا
ما يصلح لذلك سوى مفهوم أحدهما فيتعين أن يكون هو
الموصوف بالوجوب وهو المطلوب وأما عن الثاني فبأن المراد
بالواجب المخير ما صرح الشارع بالتخيير فيه أو يكون التخيير فيه
بين أمور متخالفة بالحقيقة وينبغي أن يراد به ما يكون كذلك إما
بحسب الحقيقة أو في
نظر الشارع كالاطعام والاكساء فإنهما وإن كانا من نوع البذل لكنهما
يعدان في الشرع حقيقتين متخالفتين بخلاف التخيير بين
إطعام زيد وعمرو فإن التغاير بينهما لمجرد الإضافة وهذا لا يتأتى في
الواجبات العينية إذ التخيير بين أفرادها من قبل العقل فقط أو
بين أمور لا تخالف بينها بحسب الحقيقة وهذه التفرقة مبنية على
مجرد الاصطلاح فلا يتجه المشاحة فيها والأظهر عندي في الفرق أن
الوجوب في الواجب المخير يتعلق بالآحاد من حيث الخصوصية
المفهومية التعيينية وفي غيره يتعلق بها لا بهذه الحيثية وإنما قيدنا
الخصوصية بكونها مفهومية احترازا عن اعتبار خصوص الوجود بناء
على ما سنقرره في تحقيق مدلول الامر بالطبيعة فإن الامر بها لا
يعد واجبا تخييريا في الاصطلاح مع تعلق الوجوب ب آحاد وجوداتها
من حيث الخصوصية على البدلية فمثل أكرم زيدا أو عمرا وأكرم في
يوم الخميس أو يوم الجمعة واجب تخييري وإن لم يكن هناك تخالف
بالحقيقة ومثل افعل مندوبا أو راجحا ليس بواجب تخييري وإن
كانت الافراد متخالفة بالحقيقة ولا
102

بالتصريح باللفظ لتحقق التخيير بين الواجبات العقلية كمقدمة الواجب
إذا دارت بين أمور جائزة فإن كل واحد منها مقدمة من حيث
الخصوصية فيجب كذلك عقلا على التخيير وهذا الفرق يبتني على ما
اخترناه في معنى الوجوب التخييري ولك أن تجعل الفرق اعتباريا
فإن الوجوب إن قيس إلى الطبيعة التي لا يدل لها سمي تعيينيا وإن
قيس إلى وجوداتها البدلية سمي تخييريا هذا وفرق الفاضل
المعاصر بأن الكلي في المخير جعلي منتزع من الافراد تابع لها في
الوجود كأحد الابدال بخلافه في التعيينيات فإنه متأصل وعلة للأفراد
وسابق عليها طبعا وهو كما ترى والجواب أنا نختار أن الواجب هو
الجميع لكن لا على التعيين بل على التخيير فإن الوجوب كما يكون
تعيينيا كذلك يكون تخييريا ووجوب الجميع بالوجوب التخييري لا
يوجب خروجه عن محل النزاع بل يصحح دخوله فيه وتحقيق هذا
المقال وتوضيح هذا الاجمال أنه لا ريب في أن الوجوب باعتبار كونه
وجوبا ينافي جواز الترك المطلق مطلقا فيمتنع أن يكون الواجب
باعتبار كونه واجبا جائز الترك مطلقا لكنه لا ينافي جواز الترك في
الجملة فيصح أن يكون الواجب باعتبار كونه واجبا جائز الترك
إلى بدل كما يصح أن يكون الواجب باعتبار كونه واجبا غير جائز الترك
إلى غيره مطلقا وقد جرى مصطلحهم على تسمية الوجوب
الذي يشوبه جواز الترك بالمعنى المذكور بالوجوب التخييري نظرا
إلى عدم اقتضائه تعيين الفعل وتسقيه ما لا يشوبه الجواز المذكور
وجوبا تعيينيا لتعيينه إياه فقولنا في الخصال العتق واجب لا على
التعيين معناه أن العتق واجب بوجوب لا يقتضي تعيينه في الجملة و
ذلك
لما فيه من شوب جواز الترك إلى البواقي وليس معناه أن العتق واجب
مجردا عن اعتبار تعيينه فإنه على تقدير صحته لا جدوى فيه
ضرورة أن العتق المجرد عن اعتبار تعيينه ليس إلا عتقا ثم أقول من قال
بأن الواجب في صورة التخيير هو أحد الأمور إن أراد به
مصداقا لا بعينه ورد عليه ما مر من امتناع وجوده في الخارج وإن أراد
به المفهوم الحاصل في ضمن الافراد كما نص عليه الحاجبي و
العضدي اتجه عليه إشكالان الأول أنه لا يتم على القول بعدم وجود
الطبائع في الخارج كما يراه الحاجبي حيث اختار المنع من تعلق الامر
بالطبيعة وخص تعلقه بالافراد واحتج عليه بامتناع وجود
الكلي الطبيعي في الخارج مع أنه قد اختار في المقام أن الواجب
مفهوم الأحد الحاصل في ضمن الافراد فبين ما اختاره في المقامين
تدافع
الثاني أن الطلب المتعلق بمفهوم الأحد غير متعلق به باعتبار كونه
مفهوم أحد وإلا لامتثل بإتيان غير المذكور بل متعلق به باعتبار
كونه مقيدا بأحد الأمور المذكورة ولا ريب أن المفهوم المقيد بكل
واحد يباين المفهوم المقيد بالآخر كنفس القيد إذ قضية مباينة القيود
مباينة التقييدات المقتضية لمباينة المقيدات من حيث كونها مقيدات
فإن تعلق الوجوب بواحد من تلك المقيدات لا بعينه كان مبهما وورد
عليه ما مر من أنه ممتنع وإن تعلق بمفهوم أحدها عاد الكلام إليه
فاتضح مما حققنا أن صرف الوجوب في الواجب المخير إلى مفهوم
أحد
الأمور غير مجد في رفع الاشكال وأن طريق التخلص منحصر فيما
ذكرناه ومما حققنا في معنى الواجب يتبين أن المكلف إذا أتى
بالجميع دفعة واحدة امتثل الطلب التخييري بالجميع إذا لم يكن منهيا
عن الجمع لوقوع الجميع على وجهه ولامتناع عدم الامتثال حينئذ
أو الامتثال بالمبهم لان الامتثال أمر وجودي، يستدعي محلا وجوديا و
المبهم لا وجود له أو ترجيح البعض لانتفاء المرجح لا يقال قضية
الوجوب التخييري أن لا يكون كل واحد مطلوبا حال حصول الاخر
فإن ذلك قضية بدلية كل واحد عن الاخر فإذا أتى المكلف بما زاد
على الواحد دفعة كان حصول كل واحد مقارنا لحصول الاخر فيلزم أن
لا يكون الكل مطلوبا حال وقوعه ويلزم منه أن لا يحصل
الامتثال بها أصلا لأنا نقول نمنع المقدمة الأولى تارة ولزوم المدعى
أخرى وذلك لأنا إن قلنا ببقاء التكليف حال الفعل كما يراه جماعة
منعنا كون قضية التخيير أن لا يكون كل واحد مطلوبا حال حصول
الاخر بل بعد حصوله وإلا لزم أن يئول كل واجب تخييري إلى
وجوب تعييني فيمتنع أن يقع من المكلف واجب تخييري على صفة
كونه واجبا تخييريا وهو متضح الفساد وإن قلنا بعدم بقاء التكليف
حال الفعل كما يراه آخرون وهو الحق منعنا الاستلزام المذكور لان
عدم المطلوبية حال الفعل لا ينافي حصول الامتثال به على هذا
القول وإنما المنافي له عدم مطلوبيته قبله ولا ريب أن جميع أفراد
الواجب المخير متشاركة حينئذ في كونها مطلوبة
على وجه التخيير قبل حصول البعض فيصح وقوع الكل على وجه
المطلوبية وإن لم تكن مطلوبية حال الحصول فقد اتضح مما قررنا أن
الواجب على القول المختار متعدد وعلى القول الاخر لا تعدد فيه
فتظهر الثمرة بين القولين فيما لو نذر أن يأتي بواجبات متعددة في
زمان أو مكان مخصوص فإن ذمته تبرأ بما لو أتى بالخصال فيه على
الأول دون الثاني وفي مبحث النية فإنه يصح أن يتقرب
بالخصوصية على الأول دون الثاني وفي مسألة اجتماع الأمر والنهي
فإنه على ما قررنا يمتنع تعلق النهي التعييني بأحد أفراد الواجب
المخير وأما على ما قرروه فيبتني جوازه وعدمه على كفاية تعدد
الجهة وعدمها ومن نفي ثمرة النزاع فكأنه غفل عن ذلك أو لم يعتد
بها واعلم أن الواجب التخييري قد يطلق على ما يتناول الواجبات
التعيينية المترتبة كالخصال حيث تترتب والطهارة المائية والترابية
فيقال الواجب التخييري إما ترتيبي أو غير ترتيبي والحق أن هذا
الاطلاق مجاز إذ لا تخيير هناك أصلا نعم هناك بدلية من حيث إفادة
الثمرة المقصودة كوقوع التكفير في الأول والاستباحة في الثاني ولعله
لهذه العلاقة أطلق اللفظ عليه
تتميم
إذا ورد التخيير بين الأقل والأكثر فالظاهر من المقابلة في متفاهم
العرف إرادة الأقل بشرط لا أي بشرط عدم لحوق الزيادة فيصح
فيما إذا كان التخيير إيجابيا أن يكون كل واحد منهما واجبا على
التخيير مطلقا ومن هذا الباب التخيير بين القصر والاتمام في مواضعه
بناء على استحباب التسليم وعدم الاعتبار بالنية والتخيير بين
التسبيحة الواحدة والثلاث في الركوع والسجود ونحوها مما يقع
على
التدريج والتخيير بين المسح بإصبع واحدة والثلاث ونحوه مما يقع
دفعيا ولا يشكل حينئذ بلزوم تحصيل الحاصل ولا خروج الواجب
المخير عن كونه واجبا مخيرا ولا وقوع الترجيح من غير مرجح وذلك
لان الامتثال بالأقل مع وقوع الأكثر غير معقول
103

على التقدير المذكور وعند التحقيق لا يشتمل الأكثر على ماهية الأقل
على الوجه الذي يتصف بالوجوب ومعه لا يتوجه شئ من
الاشكالات وهل العبرة حينئذ بمطلق الزيادة أو بتمام القدر الزائد
وجهان أظهرهما الثاني لان الظاهر من المقابلة كون الأقل مأخوذا
بشرط عدم وقوع الاخر فقط لا عدم ما زاد عليه مطلقا وحيث تقوم
قرينة على إرادة وجوب الأقل لا بشرط ولم يعتبر النية في تعيين
الأقل خرج التخيير عن كونه تخييرا حقيقيا فيتعين أن يكون الأقل
واجبا على التعيين والزيادة مندوبة إن لم يتحدا في الخارج وجودا
كالتخيير بين مطلق الذكر وذكر خاص وكالتخيير بين مطلق الشئ و
مقيده لما سنحققه من أن تضاد الاحكام يمتنع من اجتماع فردين
منها في مورد واحد والظاهر أن الامر بالأكثر حينئذ للأفضلية أو يتحدا
زمانا مع كون الزيادة من جنس الأقل المأمور بأحد أفراده لا
على التعيين كالتخيير بين إطعام فقير أو فقيرين إذا أطعمهما دفعة لما
مر من وقوع كل منهما حينئذ على وجه الوجوب فالوجه أن يكون
الامر بالأكثر حينئذ للقدر المشترك إن شاع صورة الاتحاد في الزمان و
إن ندر الاتحاد فالوجه أن يحمل على الاستحباب كما أن الوجه
في عكسه الحمل على الوجوب ولا فرق فيما يتعين فيه الأقل
للوجوب والزيادة للندب بين أن يقعا دفعة كالتخيير بين عتق عبد و
أمة إذا
أعتقهما معا أو على التدريج كالتخيير بين نزح ثلاثين وأربعين وذلك
لامتناع الحمل على الوجوب حينئذ أما في الصورة الأولى فلان
المكلف إذا أتى بالأكثر فقد أتى بالأقل أيضا على الوجه الذي يتصف
بالوجوب فإن اتصف أحدهما بالوجوب بالخصوص لزم وقوع
الترجيح من غير مرجح لتساويهما في مطابقة الامر وموافقته وإن
اتصف كل منهما بالوجوب لزم أن يكون المكلف آتيا بواجبين وهذا
مخالف للفرض من حيث إن التقدير كون الأكثر أحد الآحاد مع أنهما
إن كانا واجبين تعينيين أو كان أحدهما واجبا تعينيا خرج عن
محل الفرض وإن كانا تخييريين فليس معادل الأقل إلا الأكثر لأنه
المفروض فيلزم التخيير بين الشئ ونفسه لتحققه فيه وأما في
الصورة الثانية فلان وقوع الأقل إن قضى بسقوط التكليف كان قضاء
الاخر به أيضا تحصيلا للحاصل وإن لم يقض به خرج عن كونه
أحد آحاد الواجب المخير لان قضية ذلك سقوط
التكليف بمعادله ولا فرق في ذلك بين أن يكون الزيادة من جنس
الأقل وغيره ولا بين أن يقع قبل وقوع الأقل وبعده [ولا في الثاني
بين أن يقع قبله أو معه أو بعده ولا في الأول بين المعين وغيره] و
حينئذ فيتعين أن يكون الامر بالأقل للوجوب التعييني وبالأكثر
للقدر المشترك أو للندب لان المركب من الواجب والمندوب راجح
يجوز تركه ولو لجواز ترك أحد جزئيه ولا ينافيه ما قيل من أن
المركب من الداخل والخارج خارج لان المراد خروجه من شخص ما
تركب منه لا من جنسه ولا بد حينئذ من التأويل في التخيير إذ لا
معنى للتخيير بين الواجب ونفسه أو بينه وبين المندوب إذ الظاهر
حمل الامر بالأكثر على الأفضلية ومثله ما لو ورد التخيير بين
المطلق والمقيد كأعتق عبدا أو عبدا مؤمنا وإلا فالامر كما مر هذا ما
يساعد عليه النظر الصحيح وفي المقام أقوال أخر منها أن التخيير
بين الأقل والأكثر مطلقا يقتضي وجوب كل واحد منهما لظاهر الامر و
منها أن الزيادة مندوبة مطلقا لأنها مما يجوز تركها ومنها ما
نقله بعض المعاصرين بعد نقل القولين المتقدمين واستظهره وهو أنه
إن كان حصوله تدريجيا بحيث يوجد الناقص قبل الزائد
فالواجب هو الأقل لحصول الامتثال به وإلا فكل واحد منهما واجب
لأنه فرد من الواجب وأنت إذا أحطت خبرا بما بيناه وقفت على ما فيه
وفي سابقيه من الضعف والسقوط
فصل ينقسم الواجب ببعض الاعتبارات
إلى موقت وغير موقت فالمؤقت ما عين له وقت كالصلاة اليومية و
غير الموقت بخلافه كالصلاة المقضية وقد يوقت بعض الواجب دون
بعض كصلاة من أدرك ركعة من الوقت بناء على أن ما أتى به خارج
الوقت لا وقت له ولا بد من كون الوقت بحيث يسع لأداء الموقت فإن
ساواه فمضيق وإلا فموسع ولا نزاع في جواز الأول ووقوعه على ما
حكاه بعضهم والتحقيق أن ذلك إنما يستقيم إذا حمل المساواة على
العرفية أو أخذت الدعوى جزئية فيصح في مثل الصوم دون مثل
الصلاة فإن تحصيل المقارنة الحقيقية فيها لجز معين من الوقت كأول
الزوال دائما متعذر وتحصيل العلم أو الظن به ولو مرة ممتنع عادي
اللهم إلا أن يتسامح في طريقه كأن يكتفي فيه بمجرد عدم العلم
بالخلاف وأما الثاني أعني الواجب الموسع فالحق جوازه عقلا و
وقوعه شرعا وخالف في ذلك جماعة فأحالوه عقلا فمنعوا من
وقوعه
شرعا وحاولوا تأويل الأوامر التي بظاهرها تفيد التوسعة فخص
الوجوب بعضهم بأول الوقت وآخرون ب آخره وهم بين قائل بأن
الاتيان به في أول الوقت نفل يسقط به الفرض كتقديم الزكاة على
القول به وبين قائل بأن تقديمه يقع مراعى فإن بقي المكلف فيه على
صفات التكليف تبين أن ما أتى به كان واجبا وإلا كان نفلا وهذا القول
بظاهره لا يستقيم على أصله من امتناع التوسعة في وقت
الواجب لان وقوع الواجب في صورة التقديم مراعى إنما يتم إذا كان
وجوبه فيما قبل آخر الوقت مشروطا بكون المكلف بحيث يدرك
آخر الوقت بصفات التكليف فيلزمه القول بالتوسعة على تقدير
حصول الشرط إذ لم يعين للفعل وقتا غير الاخر وهذا واضح لنا على
جوازه عقلا عدم ما يقتضي خلافه لما سنبين من بطلان ما تمسك به
الخصم وعدم ما يصلح له سواه وعلى وقوعه شرعا تعلق بعض
أوامر الشرع بالفعل في زمن يفضل عنه كأمره بإقامته الصلاة لدلوك
الشمس إلى غسق الليل إذ ليس المراد استيعابه بالفعل بتكريره
فيه أو بتطبيق طرفيه على طرفيه بالاتفاق بل بمجرد إيقاعه فيه و
جميع الأجزاء متساوية
بالنسبة إليه فتعيين الأول أو الاخر خروج عن ظاهر اللفظ من غير دليل
احتجوا بأنه لو لم يتعين وقت الفعل لجاز تركه من وقت إلى
آخر فيلزم جواز ترك الواجب وأنه ينافي الوجوب فيتعين أن يكون
الوجوب في وقت لا يجوز تركه فيه وهو إما أول الوقت أو آخره إذ
لا قائل بالواسطة ثم احتج من خصه بأول الوقت بأنه لو كان الاخر لما
برئت ذمته بأدائه في الأول وأنه باطل بالاجماع فيتعين الأول
لكنه إذا عصى وأتى به قبل خروج الوقت استحق العفو لما ورد من أن
أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله لا يقال لو صح ذلك لكان
المصلي في آخر الوقت قاضيا وأنه باطل بالاجماع لأنا نقول عدم
جواز التأخير لا يوجب صيرورة الفعل قضاء كما في صورة نذر
التقديم واحتج من خصه
104

ب آخر الوقت بأنه لو كان الأول لعصى بالتأخير وأنه باطل بالاجماع
فيتعين الاخر فإن قيل يلزم حينئذ أن لا يصح تقديم الفعل على آخر
الوقت كما لا يصح لو قدم على أصل الوقت قلنا قد ثبت الصحة و
الجواز هنا بالنص وغيره والتمثيل المذكور مع كونه قياسا مع الفارق
منقوض بما مر من تقديم الزكاة والجواب أن معنى الواجب ليس ما
يستحق العقاب على تركه مطلقا وإلا لخرجت الواجبات التخييرية
عنه بل ما يستحق العقاب على تركه من غير بدل ولا عذر كما مر فلا
ينافي جواز الترك في الجملة كتركه إلى بدل كما في المقام فإن
إيقاع الفعل في كل جز من أجزاء الوقت بدل عن إيقاعه في بقية
الأجزاء وأما ما يقال من أن ترك الفعل في بعض الوقت ليس تركا
للواجب لان الفعل إنما يجب في تمام الوقت ولا ريب في استحقاق
العقاب على تركه فيه ففيه أنا نقول بوجوب الفعل في كل جز فيكون
تركه فيه تركا للواجب لا محالة والبيان المذكور لو تم فإنما يتم على
القول بتعلق الطلب بالطبائع من حيث هي فيكون الواجب هناك
أمرا كليا وحدانيا لا يصدق تركه إلا بتركه في تمام الوقت وهو عندنا
بمعزل عن التحقيق كما سنشير إليه وإذا انهدم بناء هذا الأصل
سقط ما فرعوا عليه من التفاصيل مع أن كلا من المتحاجين
المتخاصمين قد تصدى لابطال مذهب الاخر بما فيه غنية وكفاية و
اعلم أن
بعض من وافقنا في الحكم المذكور كالعلامة وغيره صرح بأن الواجب
الموسع ينحل إلى واجبات تخييرية ثم منهم من جعل التخيير
بحسب أجزاء الزمان فذهب إلى أن معنى صل لزوال الشمس إلى
غروبها أنه يجب أداء الصلاة في الجز الأول أو الثاني أو الثالث إلى
آخر الوقت فجعل الفرق بينه وبين التخيير في الخصال أن التخيير
هناك بين جزئيات الفعل وهنا بين أجزاء الوقت ومنهم من جعل
التخيير بين أشخاص الفعل كالصلاة المؤداة في الجز الأول والمؤداة
في الجز الثاني وهكذا وفرق بينه وبين التخيير في الخصال
بأن التخيير فيها بين الحقائق المتخالفة وفيه بين الجزئيات المتخالفة
بالشخص فقط وعند التحقيق لا فرق بين القولين في المعنى وإن
عدهما بعضهم متغايرين لان التخيير تكليف فيمتنع تعلقه بأجزاء
الوقت ما لم يؤخذ باعتبار إيقاع الفعل فيها فيرجع إلى التخيير بين
جزئيات الفعل وتحقيق الكلام في الفرق يطلب مما أسلفناه
في الواجب المخير وقد يفرق أيضا بأن الواجب في الموسع أداء
الفعل في مجموع الوقت من غير ملاحظة شئ من خصوصيات
الأجزاء إلا
على التبعية بدليل أن لفظ الامر إنما تعلق بالمجموع دون الأجزاء نعم
تعلقه بالمجموع يقتضي تعلقه بالأجزاء والجزئيات على التبعية
فيستحق التخيير فيها بهذا الاعتبار وهذا بظاهره إنما يتم على القول
بأن المطلوب بالامر الطبيعة من حيث هي وأن الافراد إنما تجب
من باب المقدمة وفساد ذلك واضح مما يأتي
تتميم
زعم بعض القائلين بالتوسعة أن جواز ترك الفعل في أول الوقت أو
وسطه إنما يجوز بإيقاع بدله فيه وأنه العزم على أدائه في الجز
اللاحق منه أما الأول فلانه لولاه لم ينفصل عن المندوب لا سيما إذا
فاجأه المانع وأما الثاني فللاجماع على عدم بدلية غيره على تقدير
وجوب البدل وضعفه ظاهر لأنه إذا صح عدم منافاة جواز ترك
الواجب إلى بدل في وجوبه كما هو مبنى القول بالتوسعة فلا فرق بين
مقارنة وقوع البدل لزمن المبدل منه وعدمها إذ لا يعقل للمقارنة أثر في
البدلية فيكفي بدلية الفعل في الوقت اللاحق ولا حاجة إلى
بدلية العزم ولا يقدح مفاجأة المانع إذ الواجب على ما يساعد عليه
التحقيق وهو ما لا يجوز تركه من غير بدل ولا عذر والجهل بمفاجأة
المانع عذرا إذا كان مع الاذن في التأخير فلا ينافيه جواز ترك الفعل
معه وقد يستدل أيضا بأن الواجب قبل الوقت جائز الترك لا إلى
بدل فلو جاز تركه بعد دخول وقته من غير بدل وهو العزم أيضا لساوى
نسبة الواجب إلى الوقت وما قبله وضعفه أيضا ظاهر لان
الواجب يصح فعله في الوقت ولا يجوز تركه مع العلم بمفاجأة المانع
بخلاف ما قبل الوقت ثم إنه قد أورد على القول المذكور بوجهين
الأول القطع بأن فاعل الصلاة مثلا إنما يتمثل لكونها صلاة بخصوصها
لا لكونها أحد الامرين كما هو شأن الامتثال بالواجبات التخييرية
واعترض عليه بأن قصد البدلية غير لازم على تقدير ثبوتها فإن هذه
البدلية راجعة إلى بدلية الصوم عن العتق لا بدلية التيمم عن الوضوء
وقصد جهة البدلية لا يعتبر في مثله وفيه أن ليس المقصود أنه يلزم
قصد جهة البدلية على التقدير المذكور بل المقصود أنه يلزم أن
يكون جهة الامتثال ومنشؤه في الواقع كون الصلاة أحد الامرين كما
هو الشأن في الواجبات التخييرية عند المورد وأن القطع بخلافه
نعم يرد عليه أن دعوى القطع بالخلاف غير مسموعة عند الخصم و
قد يعتذر بأن البدل هنا تابع ومسبب عن ترك مبدله الواجب أصالة
كتحصيل الظن بالواجب الكفائي فلا يلزم أن يكون الامتثال من جهة أنه
أحد فردي الواجب تخييرا ولا يخفى أن العزم على هذا البيان
يخرج عن كونه واجبا مخيرا بينه وبين
فعل الواجب اصطلاحا كما سننبه عليه وكلام المستدل مبني على
هذا التقدير إذ لا جدوى لما ذكره في المقام فإن الواجب المسبب عن
ترك واجب آخر واجب مستقل ولا يصلح للبدلية عنه كوجوب
الانفاق على العبد عند ترك عتقه الواجب على وجه التخيير بينه وبين
الصوم فإنه لا يصلح للبدلية عن العتق ولا أثر له في صحة مجامعة
جواز تركه مع الوجوب الثاني أن قضية البدلية مساواة البدل للمبدل
منه وهي منتفية هنا لتعدد البدل دون المبدل منه وأيضا لو كان العزم
بدلا لسقط الواجب بعده وإلا لزم لزوم الجمع بين البدل و
المبدل منه وهو ينافي معنى البدلية وقد يجاب بأن العزم بدل قبل
الضيق لا مطلقا وهو كما ترى لان الفعل في مجموع الوقت إنما يجب
مرة واحدة فوقوعه في كل جز من الوقت بدل عن وقوعه في بقية
الأجزاء فإذا كان العزم في أول الوقت مثلا بدلا عن إيقاع الفعل فيه و
التقدير أن إيقاعه فيه بدل عن إيقاعه في بقية الوقت لا جرم يقوم العزم
في أول الوقت مقام الفعل في مجموع الوقت ضرورة أن بدل
البدل بدل كالمبدل فيلزم ما ذكر من سقوط الواجب بمجرد العزم نعم
يمكن التفصي عن ذلك بوجه آخر وهو أن من قال ببدلية العزم
لا يجعله بمجرده بدلا عن الواجب بل إما أن يجعل العزم على أداء
الفعل في الوقت الثاني مع أدائه فيه بدلا عن أدائه في الوقت الأول أو
يجعل خصوصية الوقت الثاني مع العزم بدلا
105

خصوصية الوقت الأول وإطلاقه القول ببدلية العزم مسامحة منه
لظهور المراد وحينئذ يتعدد المبدل منه على حسب تعدد البدل ولا
يلزم سقوط الوجوب بمجرد العزم واعلم أن جماعة صرحوا بوجوب
العزم على أداء الواجبات من الموقتة وغيرها قبل دخول الوقت و
بعده عند التذكر بها والتحقيق أنه لا يبعد القول بحرمة العزم على ترك
الواجب أو فعل الحرام للقطع بقبحه حتى إن العقلا لو علموا من
المكلف ذلك لبادروا إليه بالذم والانكار وذلك آية التحريم وما ورد
من أنه من منن الله تعالى على هذه الأمة أن نية السوء لا تكتب
عليهم فيمكن أن يقال لا ينافي تحريم النية لان نفى وقوع المؤاخذة لا
يقتضي نفي الاستحقاق المستفاد من العقل ك آية نفي التعذيب قبل
البعثة بل ربما يظهر من فحوى الرواية ما يؤكد حكم العقل وأما مجرد
العزم عليه بالتردد في الفعل فالقول بالتحريم فيه مشكل و
الوجه المتقدم ليس ظاهر الورود فيه وعلى تقدير القول به فلو رام
الخصم أن يتمسك به على إثبات مطلوبه بأن يقول إذا دخل الوقت
فالمكلف يجب عليه أحد الامرين من أداء الفعل والعزم عليه لأنه إن
أتى بالفعل سقط عنه وجوب العزم وإن لم يأت به تعلق به وجوب
العزم بناء على ما مر فالجواب عنه أن الواجب المخير ما تعلق
الوجوب ب آحاده تعلقا ابتدائيا لا ترتيبيا ولهذا لا يقال كل من الصوم و
الافطار واجب على التخيير بل الصوم واجب تعييني على من لم
يندرج في عنوان المسافر والافطار واجب كذلك على من اندرج في
عنوانه والمكلف بالخيار في التزام كل من العنوانين لنفسه وبأيهما
التزم منه حكمه على التعيين وكذلك المكلف مخير في الفرض
السابق ولو على وجه التبعية بين أداء الفعل في الجز الأول من الوقت
وبين تركه فيه وأدائه في الجز الثاني منه وهكذا إلى أن يتضيق
الوقت فإذا تركه في أول الوقت لزمه حكم من عليه واجب من وجوب
العزم على أدائه لا أنه مخير أولا بين الفعل والعزم عليه ومثله
الكلام في تحصيل العلم بقيام غيره بفعل الواجب الكفائي أو الظن به
حيث يعتبر ومما قررنا يظهر فساد ما يقال من أن التخيير بين
العزم وفعل الواجب ثابت بالنظر إلى ما هو الواجب الأصلي من
الطاعة والانقياد لحصول ذلك بكل منهما ووجه فساده بعد ابتنائه
على
مقدمة غير ثابتة أعني القول بوجوب
العزم هو أن أحد الواجبين إذا كان وجوبه مستندا إلى ترك الاخر لا
يلزم أن يكونا تخييريين بل يجوز أن يكونا تعيينيين غاية الامر أن
يكون وجوب أحدهما مشروطا بعدم الاخر وذلك لا يحقق التخيير و
إنما يتحقق التخيير إذا كان مطلوبية أحد البدلين في مرتبة
مطلوبية الاخر تنبيهان الأول إذا ظن المكلف بنفسه السلامة فأخر
الواجب الموسع أو الواجب الذي وقته العمر عن أول وقته ففاجأه
الموت أو مانع غيره لم يعص بتركه بناء على ما يقتضيه أصول
المذهب من جواز التأخير والحال هذه لوضوح قبح العقاب على
تقدير
التجويز وفصل الحاجبي في ذلك فذهب إلى أنه يعصي فيما وقته
العمر دون الموسع ووافقه العضدي في ظاهر كلامه وعلل العصيان
في الأول بأنه لو لم يعص لخرج الواجب عن كونه واجبا وعدمه في
الثاني بأن التأخير جائز له فلا يعصي بالجائز قال لا يقال شرط
الجواز سلامة العاقبة إذ لا يمكن العلم بها فيؤدي إلى التكليف بالمحال
هذا كلامه ولا يخفى أن قضية صحة كل من تعليلية فساد حكمه
الاخر فإن لزوم خروج الواجب عن كونه واجبا لو صلح دليلا على
العصيان في الأول لقضي به في الثاني أيضا وجواز التأخير لو نهض
دليلا على عدم العصيان في الثاني لاقتضاه في الأول أيضا فالفرق
تحكم منه مضافا إلى ما يرد على ظاهر الأول من أن عدم العصيان
بتركه لعذر لا يقدح في الوجوب وعلى الثاني بأن جواز التأخير ليس
تكليفا حتى يلزم من تعليقه على ما لا يمكن العلم به التكليف
بالمحال ولو تعلق بأن تعليق الجواز على ما لا يمكن العلم به يوجب
تعليق عدم الجواز أيضا على ما لا يمكن العلم به وهو تكليف قطعا
لتوجه عليه أن ذلك إنما يوجب التكليف بالمحال إذا تعين عليه
التأخير وأما إذا جاز فلا لتمكنه من الامتثال بالمبادرة والتكليف
بالمحال إنما يصدق حيث يستحيل الامتثال ولو نزل تعليله الأول
على ما يراه الأشاعرة من جواز التكليف بالمحال ناقضه ما أجاب به
عما أورده على تعليله الثاني هذا كله مناقشة معه في الدليل وأما أصل
الدعوى فلا إشكال فيما ذكره في الموقت إمكانا ووقوعا وقد
اتضح وجهه مما ذكرناه وأما ما ذكره في غير الموقت فمما لا دليل
على وقوعه قطعا وأما إمكانه فمتجه على مذهب الأشاعرة وربما
يتجه بناء على أصول
العدلية أيضا كما أشرنا إليه في مبحث الفور وتنقيح المبحث أن قضية
التوسعة الواقعية جواز التأخير الواقعي وكلاهما مشروط ببقاء
التمكن واقعا ثم عند جهل المكلف بالشرط لا يخلو إما أن يجعل له
حكم في الظاهر من وجوب التعجيل مطلقا فيعصي بالتأخير مطلقا أو
جواز التأخير مطلقا فلا يعصي به مطلقا أو لا يجعل له في الظاهر حكم
فيناط حاله بالواقع فإن صادف تركه عدم التمكن عصى وإلا لم
يعص وهذا القسم في الحقيقة واسطة بين القسمين الأولين إذ ليس
فيه عصيان على الاطلاق ولا عدم عصيان على الاطلاق بل عصيان
على تقدير وعدم عصيان على تقدير وقضية جواز وقوع كل من
المطلقين جواز وقوع كل من المقيدين إذ لا يعقل للانضمام مدخل في
الجواز نعم يحكم العقل بوجوب المسارعة إلى الفعل حينئذ عند ظن
الفوات أو خوفه وجوبا ظاهريا وإن لم يتحقق الفوات واقعا دفعا
للضرر المخوف كما أنه يحكم بعدم وجوبها عند ظن السلامة أو العلم
بها فلا يتم القول بنفي الوجوب الشرعي في الأول والجواز
الشرعي في الثاني عند من يلتزم بالملازمة بين حكم العقل والشرع
مطلقا وذلك واضح ثم اعلم أن الوجوه المذكورة لا تختص بالمقام
بل تجري في غيره أيضا كما لو اشتبه المحرم بالجائز فيجوز أن يكلف
في الظاهر بترك ما يحتمل كونه الحرام فيعصي بارتكاب
البعض وإن لم يصادف الحرام وإن تأكدت الحرمة مع مصادفة المحرم
وأن يكلف به مع الرخصة في ارتكاب بعض لا يقطع فيه
بارتكاب المحرم فلا يعصي به وإن صادف المحرم وعدم العصيان
بفعل المحرم لعذر لا ينافي التحريم كما مر في الوجوب وأن لا
يجعل له في الظاهر حكم بل يحال حاله إلى الواقع فيعصي إن صادف
المحرم ولا يعصي إن لم يصادفه على حسب ما مر الثاني يتضيق
الموسع بتضيق وقته أو بتضيق زمن التمكن منه ويشاركه الغير الموقت
في الثاني لكن في المقامين تفصيل يعرف من الفصل الآتي و
طريق ذلك العلم أو الظن بل مطلق الخوف في وجه
106

فلو خالف وانكشف الخلاف أثم باجترائه وبقي على الوقت أن بقي
منه وذهب القاضي إلى خروج الوقت وصيرورته قضاء لوقوعه بعد
وقته المعين له في الشرع بحسب ظنه قال العضدي ولا خلاف معه
في المعنى [الأول] إلا أن يريد وجوب نية القضاء وهو بعيد إذ لم يقل
به أحد وإنما النزاع في التسمية وتسميته أداء أولى ثم أورد عليه
النقض بالواجب الموسع إذا أخره المكلف معتقدا ضيق الوقت قبل
دخول الوقت ثم انكشف له بقاء الوقت فإنه يعصي ويبقى الفعل ما
بقي الوقت أداء بالاتفاق وفيه نظر ظاهر واعلم أنه قد يختلف كيفية
الواجب الموسع بحسب اختلاف أحوال المكلف فإن كان مرجعه إلى
اختلاف حال العجز والقدرة تضيق عليه بحسب تضيق [تضييق] زمن
أداء الكيفية الواجبة المنوطة بالقدرة كما إذا علم المكلف بأنه لا
يتمكن بعد تأخير الصلاة عن بعض الوقت من أدائها بالطهارة المائية أو
الطهارة الخبثية أو القيام أو غير ذلك فإنها تتضيق عليه قبله مقدار أدائها
بالكيفية الواجبة وإن بقي زمن الأداء إلى آخر الوقت مع بقاء
التمكن كما يظهر أثره في النية عند التأخير وفي عدم جواز التأخير عن
الوقت وإن رجع إلى غير ذلك كالقصر والاتمام المستندين
إلى حال السفر والحضور لم يتعين عليه أحدهما بخصوصه بمجرد
دخول الوقت بل يراعى فيه حال الفعل جريا على ظاهر الخطاب وما
يقال من أنه يستصحب ما وجب عليه أول الوقت من قصر أو إتمام وإن
انتقل إلى حالة أخرى فضعيف
فصل الحق أن الوجوب في الواجب الكفائي يتعلق بكل واحد
ويسقط بفعل البعض وفاقا للمحققين وقيل بل يتعلق ببعض غير
معين وقيل بل بالمجموع من حيث المجموع لنا أنهم إذا تركوه أثم كل
واحد منهم واستحقوا الذم والعقاب عليه بشهادة العقل والعادة وهو
دليل الوجوب عليهم وأما سقوطه بفعل البعض فلانه مفاد الخطاب
الدال على الوجوب الكفائي والاجماع حجة من قال بأنه يتعلق ببعض
غير معين وجوه مرجعها إلى وجهين الأول آية النفر حيث دلت
بظاهرها على وجوب النفر على خصوص طائفة غير معينة من الفرقة و
لا مانع من حملها على ذلك إلا الابهام وهو لا يمنع لتحققه في
الواجب المخير وقد قلتم بجوازه وكذا الكلام في بقية الموارد و
أجيب بالفرق بين المقامين فإن تكليف واحد غير معين غير معقول
بخلاف تكليف معين بشئ غير معين فإنه لا بأس به فيجب حمل
الآية ونظائرها على خلاف ظاهرها وهو أنه يجب على الجميع و
يسقط
بفعل البعض جمعا بين الدليلين والتحقيق أن الوجوب هنا كالوجوب
في المخير فكما أن الوجوب هناك مشوب بجواز الترك إلى بدل
يفعله المكلف وبه يمتاز عن الوجوب التعييني كذلك الوجوب هنا
مشوب بجواز الترك إلى بدل يفعله غيره وبه يمتاز عن الوجوب
العيني نعم يعتبر هنا أن يكون البدل واجبا على الاخر أيضا كذلك لئلا
يرد النقض بوجوب أداء المدين فإنه عيني لسقوطه بأداء البري و
إن قدر وجوبه عليه عينا بنذر وشبهه وذلك لان وجوبه على المدين و
إن كان مشوبا بجواز الترك إلى بدل هو فعل البري مثلا لكن
لا يجب على البري ولو وجب عليه كما في الفرض المذكور فليس
وجوبه مشوبا بجواز الترك إلى بدل هو أداء المدين مثلا بل مشروط
بتمكنه ومنه عدم سبق المدين أو غيره به إن كان النذر مطلقا ومعه
ينكشف عدم الوجوب إن انكشف عدم التمكن لامتناع المشروط
عند عدم شرطه وإن انكشف فساد ظنه في بقائه كان سقوطه عنه
لعذر الجهل لا لكونه جائز الترك إلى فعل غيره كما في سائر
الواجبات العينية الموسعة وبالجملة فالواجب الكفائي هو الواجب
الذي يتعلق
باثنين فصاعدا على وجه يجوز تركه لكل واحد عند قيام الاخر به و
مما حققنا يتبين [تعين] أن السقوط بفعل البعض هو مفاد الخطاب و
ليس فيه خروج عن الظاهر وأنه يكفي في جواز ترك الواجب الكفائي
العلم بقيام الغير به في زمن يجوز تأخيره إليه وإن علم بارتفاع
تمكنه قبله وكذا الكلام في الواجبات العينية التي يجوز تركها إلى بدل
إن ثبت جواز تركها كذلك ثم الظاهر عدم جواز التعويل على
الظن في ذلك إلا حيث ما قام الدليل على اعتباره كشهادة العدلين أو
إخبار الوكيل أو ما أشبه ذلك وعند التحقيق ليس التعويل على
ذلك من حيث إفادته للظن بل من حيث التعبد الثاني لو وجب على
الجميع لما سقط بفعل البعض والفرض أنه يسقط وأجيب بأنه لا مانع
من سقوط الواجب بفعل البعض إذا حصل به الغرض ومنع ذلك
مجرد استبعاد لا شاهد عليه مع ثبوت نظيره في الشرع كسقوط ما في
ذمة زيد بأداء عمرو والتحقيق في الجواب ما عرفت حجة من قال بأنه
يتعلق بالمجموع من حيث المجموع أنه لو وجب على كل واحد
لكان سقوطه بفعل البعض نسخا لكونه رفعا للطلب بعد تحققه و
النسخ يستدعي ورود خطاب جديد وإذ ليس فليس فلا يجب على
كل
واحد وأما لو تعلق بالمجموع فلا يتسرى إلى الآحاد إلا بالعرض
فيكون الاثم أيضا للمجموع ويتسرى إلى الآحاد بالعرض والجواب
أن النسخ ليس رفع الطلب مطلقا بل إذا كان ظاهرا في البقاء و
الاستمرار وليس مفاد الخطاب في الكفائي بقاؤه بعد قيام البعض به
حتى يكون رفعه نسخا ثم لو ترك الجميع فعقاب المجموع دون
الآحاد غير معقول ومع عقابهم يثبت المطلق والتسري يستدعي
موضوعين ونحن لا نتصور هنا مجموعا يصح تعلق التكليف به لو
ترتب العقاب عليه سوى نفس الآحاد
فصل
لا خفاء في أن الامر على ما تقرر عندهم يشتمل على جز صوري به
يدل على طلب الايجاد والنسبة وعلى جز مادي به يدل على
المعنى
المأمور به أي المأمور بإيجاده وقد اختلفوا في أن المعنى المأمور به
هل هو الطبيعة أو الفرد فذهب إلى كل فريق والمختار هو الأول لنا
تبادر الطبيعة منها وقد مر أنه علامة الحقيقة وأن المشتقات مأخوذة
من المصادر المجردة عن أداة التعريف والتنكير وهي حقيقة في
الطبيعة من حيث هي بحكم التبادر مضافا إلى ما عزي إلى السكاكي
من حكاية الاتفاق عليه فيتعلق بها مدلول الهيئة من طلب الايجاد و
إذا ثبت أن مدلول الامر لا يزيد على طلب إيجاد الطبيعة من حيث هي
فلا يصلح للمنع من الحمل على ظاهره إلا ما تخيله الخصم وسنبين
فساده احتجوا بأن الطبيعة من حيث هي يمتنع وجودها في الخارج
107

لما تبين في محله من امتناع وجود الكلي الطبيعي في الخارج فيمتنع
تعلق التكليف بها فيتعين أن يكون المطلوب به الفرد وهو
المطلوب والجواب منع المقدمة الأولى فإن التحقيق إمكان الوجود
الكلي الطبيعي في الخارج كما عليه معظم المحققين وبيانه موكول
إلى فنه وأجاب الفاضل المعاصر بعد التنزل عن الأصل المذكور بأن
من ينكر وجود الكلي الطبيعي في الخارج لا ينكر وجوده في العقل
وأن العقل ينتزع من الافراد الخارجية باعتبار نفس ذواتها أو بانضمام
أمور طارئة عليها مفاهيم كلية لها نوع اتحاد مع الافراد فنقول
حينئذ لا مانع من تعلق الطلب بذلك المفهوم الكلي وإن امتنع وجوده
في الخارج لان امتناعه مبني على التدقيقات الحكمية وأهل العرف
يفهمون من تلك الخطابات أن المطلوب ذلك المفهوم الكلي من غير
عبرة بخصوصيات الافراد ويزعمون إمكان وجوده في الخارج في
ضمن الفرد ولا ريب أن الخطابات الشرعية تحمل على حسب ما
يتفاهمه أهل العرف لا على ما يقتضيه التدقيقات الحكمية هذا
محصل
كلامه أقول لا خفاء عند أولي الأنظار المستقيمة أن تكاليف الشارع إنما
تتعلق بما يصح تعلقها به واقعا لا ما يصح في زعم أهل العرف
فالطبيعة من حيث هي إذا امتنع في الواقع تحققها في الخارج امتنع
تعلق التكليف بها لأنه تكليف بالممتنع وهو مما يقبح صدوره عن
الحكيم العالم وزعم أهل العرف إمكان حصولها في ضمن الفرد لا
يؤثر في رفع الاستحالة والقبح بعد علم الامر بخلافه وهل ذلك إلا
كطلب إبصار الجسم حقيقة إذا زعم أهل العرف أنه مما يمكن إبصاره
مع أنه قد تقرر في محله أنه محال نعم يجوز أن يكلف بإيجاد ما
يزعم أن الطبيعة موجودة فيه أو يزعم أنه إبصار للجسم لكنه يرجع في
الحقيقة إلى الامر بالفرد لا بالطبيعة وبإبصار اللون والشكل لا
الجسم لا يقال ما ذكر إنما يتجه إذا أريد تعلق الطلب بالطبيعة باعتبار
نفسها وأما إذا أريد تعلقه بها باعتبار ما تصدق عليه من الافراد
فلا لأنا نقول كلام المجيب مبني على الوجه الأول إذ الوجه الثاني
يرجع إلى تعلق الطلب بالفرد دون الطبيعة ومعه يتم مقصود الخصم و
اعلم أنه قد اشتهر في العبائر والألسنة أن الأحكام الشرعية لا تبتني
على التدقيقات الحكمية والعقلية بل تنزل
على حسب الافهام العرفية ولهذا الكلام تحقيق وهو أن من الافراد و
الأجزاء ما يكون فرديته وجزئيته بحسب العقل دون العرف حتى
أنهم يفهمون من ألفاظها في المحاورات ما عدا ذلك الفرد وذلك
الجز كما في لون النجس إذا تخلف في جسم طاهر فإنه لا ينفك عن
أجزاء صغار متخلفة من ذلك في ذلك النجس بناء على امتناع انتقال
العرض وأن حصوله ليس بالاعداد أو علم ذلك في خصوص مورد
كما في الدخان المتصاعد عن النجس والبخار الحاصل منه فإنهما لا
ينفكان عن أجزاء متصاغرة جدا من العين النجسة عند التحقيق و
التدقيق إلى غير ذلك مع أن أهل العرف لا يعدونها أجزاء منها ففي
مثل ذلك لا يحمل اللفظ إلا على حسب ما يتفاهمه أهل العرف وقس
على ذلك الحال في نظائره كوحدة الموضوع وتعدده وبقائه و
انعدامه في جريان الاستصحاب وعدمه إلى غير ذلك وليس المراد
أن
التدقيقات العقلية إذا قضت بامتناع شئ لم يعبأ بها لمخالفة أهل
العرف لها فإن ذلك ربما يؤدي إلى هدم أساس الشريعة ثم إنه أورد
على القول المذكور إيرادين أحدهما أنه يلزمهم كون أكثر خطابات
الشرع مجازات حيث أطلق اللفظ الموضوع بإزاء الطبيعة من حيث
هي وأريد به الفرد ويمكن دفعه بأن الامر على هذا لا يستعمل إلا في
طلب الافراد فلا يكون موضوعا لغيره ولو سلم فاللازم صيرورته
منقولا إليه بالاستعمال والهجر فإن قيل يمكن دفعه أيضا بأن إطلاق
الكلي على الفرد إنما يوجب التجوز إذا أطلق وأريد به الفرد من
حيث الخصوصية وأما إذا أطلق وأريد الفرد من حيث يتحقق الطبيعة
الكلية فيه وأريد خصوصية الفرد من قرينة خارجية كامتناع تعلق
الحكم بالطبيعة من حيث هي لم يلزم ذلك قلنا هذا إنما يتم على
القول بوجود الطبائع في الخارج كما هو المختار وأما على القول
بعدمه
كما يراه الخصم فلا إذ لا تحقق للطبيعة حينئذ في ضمن الافراد حتى
يطلق عليه اللفظ باعتباره الثاني أن الدليل المذكور إنما يفيد أن
المطلوب هو الفرد في الجملة فإن عين كان تحكما وإن اعتبر فردا ما
بقي الاشكال لأنه كلي أيضا وفيه نظر لأنا لا نسلم أن فردا ما
كلي بل جزئي
مردد وتوضيح ذلك أن الماهية تعتبر تارة من حيث هي هي بهذا
الاعتبار إذا وجدت في العقل كانت صالحة للصدق على كثيرين فهي
كلي بلا إشكال وتارة من حيث تحققها في ضمن فرد بخصوصه وهذا
جزئي بلا إشكال وأخرى من حيث تحققها في ضمن أحد الافراد لا
على التعيين وهذا أيضا جزئي لان الماهية حينئذ مأخوذة مقيدة بقيد
التشخص المانع من الشركة والصدق على كثيرين إلا أن تقييدها
بكل شخص تقييد ترديدي لا تعييني وذلك لا يصيرها كليا لظهور أن
هذا المفهوم لا يتم إلا بأخذ تشخص من التشخصات معه ومعه لا
يحتمل الصدق على غيره وإن كان التقييد بكل شخص غير لازم على
التعيين ووصف الجزئية إنما يعرض للماهية ومن حيث تقييدها
بالتشخص ولا مدخل لكون التقييد تعيينا [تعينا] في ذلك فتبين من
تحقيقنا هذا أن النكرات من المفردات المنونة بتنوين التنكير وما
في حكمها والمثنى والمجموع جزئيات وليست بكليات كما سبق
إلى كثير من الافهام ولو كان مدلول النكرة الماهية المقيدة بمفهوم
الفرد دون مصداقه لامتنع إفادتها لمعنى البدلية ضرورة أن الكلي
المقيد بكلي آخر كلي ثالث يتساوى نسبة صدقه إلى جميع أفراده من
غير بدلية لامتناع وجود كلي في أفراده بطريق البدلية لكن هذا البيان
بظاهره كما ترى إنما يتجه على القول بوجود الكلي الطبيعي في
الخارج فلا يلائم مقالة الخصم بل الوجه في توجيه كلامه أن يقال مفاد
النكرة عند هذا القائل كل واحد من الافراد على وجه يجوز قيام
الاخر مقامه في كونه مفاد اللفظ ومتعلقا للحكم أو يقال ليس المراد
بالفرد مفهوم الفرد باعتبار كونه هذا المفهوم بل باعتبار ما صدق
عليه وهو جزئي قطعا فيرجع التكليف على هذا إلى مطلوبية مصداق
فرد من الماهية لا على التعيين فالامر يعتبر الماهية آلة لملاحظة
حال أفرادها ويأمر بكل واحد منها على البدلية فيكون بمنزلة الواجب
108

وإن فارقه ببعض الوجوه المتقدمة ككون التخيير في التعييني بين متفق
الحقيقة وفي التخييري بين مختلفها أو كون التخيير في
التخييري مصرحا به لفظا وفي التعييني مستفادا من قرينة العقل وأما
على القول بوجود الكلي الطبيعي في الخارج فهناك فرق آخر من
حيث إن الطلب هنا في نفسه غير مشوب بجواز الترك إلى بدل وإنما
المطلوب مأخوذ من حيث التقييد على البدلية بخلاف الواجب
المخير فالبدلية مأخوذة هنا في تمامية المطلوب وفي الواجب المخير
في تمامية الطلب ولو سلم تساويهما في المعنى وليس في عدم
تحريرهم للنزاع الذي سبق في الواجب المخير فيه ما ينافي ذلك كما
زعمه المورد المذكور إذ عدم النقل هنا لا يقتضي العدم لجواز أن
يكون أحاله إلى ذلك المبحث ولو سلم فلعل أكثر القائلين بهذا الحكم
متفقون على بعض تلك الأقوال فخصوا تحرير النزاع بغيره ثم
اعلم أنا نفرق بين ما تعلق به الامر أعني مفاد اللفظ باعتبار الهيئة وبين
ما تعلق به الطلب فالامر عندنا لا يتعلق إلا بالطبيعة من حيث هي
على ما عرفت تحقيقه وتوكده بيانا وتوضيحا أن فردية الطبيعة على ما
تقرر في محله إنما يكون بانضمام الوجود إليها إذ الطبائع
بأسرها كليات ولا يتحصل من انضمام كلي إلى كلي ثالث فتعلق الامر
بالفرد على الحقيقة يؤدي إلى طلب تحصيل الحاصل وهو محال و
إن أول بأن المراد ما هو فرد بانضمام الوجود المطلوب إليه فهو التزام
في الحقيقة بتعلقه بنفس الطبيعة كما لا يخفى وأما الطلب فلا
يتعلق إلا بالفرد وهو الايجاد الخارجي الذي هو عين الوجود
الخارجي بحسب الذات وإن غايره بحسب الاعتبار وهو فرد للوجود
المطلق أعني مفهوم الكون المصدري وليس المطلوب هذا المفهوم إذ
ليس تحصيل الطبيعة به ولا قدرا مشتركا بين آحاد الوجود لأنها
متباينة الحقائق على ما تحقق في محله فالامر يجعل مفهوم الوجود أو
الايجاد آلة لملاحظة أفراده الخارجية التي هي مجهولة الكنه و
يطلب كل واحد منها على وجه يجوز تركه إلى آخر أو جملة منها على
حسب ما يتعلق به قصده ثم هذا كله إنما يجري على ما هو التحقيق
عندنا في مدلول الامر من أنه طلب إيجاد الطبيعة وأما إذا قلنا بأن
المطلوب به الحقيقة الخارجية أو الحقيقة المقيدة بالوجود
الخارجي فإن فسر بالامر أمر ثالث غير الطبيعة من حيث هي وغير
الفرد وهي الطبيعة المقيدة
فصل اختلفوا في جواز الامر بالشئ مع علم الامر بانتفاء شرطه
فأجازه أكثر المخالفين حتى إن من متأخريهم من أجازه مع علم المأمور
بالانتفاء أيضا لكن جماعة منهم نقلوا الاتفاق على عدم الجواز
حينئذ وذهب أصحابنا إلى عدم جوازه ما لم يكن الامر جاهلا فيخرج
عن عنوان المبحث والتحقيق أنهم إن أرادوا بالشرط شرط الامر
أي شرط وقوعه وصدوره بإرجاع ضميره إليه مأخوذا بهذا الاعتبار فلا
إشكال في انتفاء الامر عند انتفاء الشرط بل لا إشكال في
امتناعه عند امتناع الشرط وكذا لو أخذ الامر بشرط عدم الشرط و
وجهه واضح ضرورة أن المشروط عدم عند عدم شرطه فيكون
المراد بالجواز حينئذ الامكان وبعدمه عدمه والحق في الصورتين
الأخيرتين عدم الجواز وفي الصورة الأولى الجواز مع عدم الوقوع و
لا فرق في ذلك بين تفسير الامر بالامر الواقعي والظاهري والصوري و
لا بين الامر المطلق والمشروط وشئ من ذلك مما لا يقبل
النزاع ولا يصلح له المقام كما لا يخفى فلا سبيل إلى تنزيل كلماتهم
عليه ولو اعتبر النزاع حينئذ بالنسبة إلى الامر الظاهري أو
الصوري والشرط بالنسبة إلى الامر الواقعي أو اعتبر النزاع بالنسبة إلى
الامر المشروط والشرط بالنسبة إلى الامر الواقعي كان بعيدا
عن ظاهر اللفظ جدا ومع ذلك فهو راجع إلى ما سيأتي وكذا يرجع
إليه ما لو أريد بشرط الامر شرط تعلقه وإن أرادوا بالشرط شرط
الشئ المأمور به بإرجاع ضميره إليه وهو أقرب إليه لفظا فحينئذ إن
أراد المانعون أن علم الامر بانتفاء شرط المأمور به أي شرط
التمكن منه يوجب أن لا يجوز الامر بالمشروط على الاطلاق بالنسبة
إلى الشرط الذي علم الامر انتفاءه فالحكم على مذهب العدلية متجه
والوجه فيه متضح وهو قبح التكليف بالمحال نعم يتأتى الحكم بجواز
ذلك حيث يستند انتفاء الشرط إلى المكلف عند من أجاز التكليف
بالمحال والحال هذه بل قد التزموا بوقوعه مع علم المأمور به أيضا
فقالوا بأن من ترك المسير إلى الحج الواجب مأمور بالحج وإن
ارتفع تمكنه منه ويمكن تخصيص نزاعهم هنا بغير ذلك بل نقول لا
يختص الحكم بصورة العلم بانتفاء الشرط بل حال العلم أو الجهل
بوجود الشرط أيضا لا يجوز الامر بالمشروط على الاطلاق بالنسبة إليه
بمعنى أن يأمر ولو على تقدير أن لا يوجد
الشرط المعلوم أو المجهول وجوده لأنه أيضا تكليف بالمحال وهو
باطل وإن لم يكن فيه حرج على المكلف لقطع العقل بكونه سفها و
لا يذهب عليك أن حمل كلمات المخالفين على تجويز مثل ذلك
بعيد بل غير سديد كما يشهد به حججهم الآتية كيف والحكم بالجواز
على
ما عرفت مبني على جواز التكليف بالمحال وكثير منهم لا يقول به
على أن القائلين به لا يقولون بوقوعه على ما قيل وهم في المقام
قائلون بالوقوع ولو أرادوا بالشرط في الفرض المذكور شرط وجوبه
رجع إلى القسم السابق وقريب من ذلك ما لو أرادوا المنع من
جواز الامر الفعلي إلى أن ينكشف انتفاء الشرط للمأمور أو إلى زمن
الانتفاء بمعنى أن يكون المأمور في عمدة التكليف بالمأمور به
حقيقة أو إلى إحدى الغايتين ويكون البلوغ إليها مسقطا للتكليف
الواقعي لا كاشفا عن عدمه في الواقع وإلى إثبات مثل هذا يرشد
حجج المخالفين كما لا يخفى لمن تدبر لكن لا يساعد عليه ظاهر ما
وقفنا عليه من كلمات أصحابنا كما يظهر من احتجاجهم على المنع و
أجوبتهم عن حجج الخصم وعند التحقيق يتفرغ الكلام في ذلك على
مذهب العدلية على الكلام في أن معنى الطلب هل هو الإرادة أو
غيرها فلا يستقيم القول بالجواز هنا ممن لا يرى المغايرة هناك أو التزم
فيه بالاستلزام ومرجع الشرط حينئذ إلى شرط بقاء التكليف
وسيأتي التنبيه على ذلك في مباحث النسخ إن شاء الله وإن أرادوا أن
العلم بانتفاء الشرط أي شرط التمكن من المأمور به أو شرط
مطلوبيته بذلك الامر يوجب عدم جواز الامر بالمشروط ولو بتعليقه
على تقدير وجود
109

الشرط المعلوم عدمه كما يظهر من السيد وغيره كصاحب المعالم بل
يظهر منهما المنع حال تمكن الامر من استعلام الحال أيضا فإن
أرادوا أنه في نفسه غير جائز فممنوع إذ لا ريب في أن الفعل قد يكون
بحيث لو وجد الشرط لكان مطلوبا وظاهر أن مفاد الامر به
على وجه الاشتراط لا يزيد على ذلك فلا بأس بالكشف عن ذلك
المعنى بطريق الامر مع التعليق ولا فرق في ذلك بين التصريح
بالاشتراط حال الامر أو بعدها أو التعويل على دلالة العقل وإن أرادوا
أن الامر حال العلم بعدم الشرط مما لا فائدة فيه فيكون سفها
فهو على إطلاقه ممنوع إذ قد يترتب عليه فوائد كما سيأتي التنبيه
عليها وتسرية المنع إلى الجاهل المتمكن من تحصيل العلم بالشرط
على الاطلاق أوضح فسادا إذ قد يكون الامر بالشرط أسهل من
الاستعلام فيرجح عليه وأما ما تمسك به السيد رحمه الله من أن
الشرط
إنما يحسن ممن لا يعلم العواقب فلا نرى منه ذلك إلا مجرد دعوى إذ
لا شاهد له عليه لا عقلا ولا نقلا وقد ورد للتعليق على الشرط في
الكتاب في مواضع كثيرة كقوله تعالى إن كنتم جنبا فاطهروا وإن ظنا أن
يقيما حدود الله وإن أردتم استبدال زوج وإن كان ذو
عسيرة إلى غير ذلك وكان السيد يخص الدعوى بما إذا انتفي الشرط
مطلقا وأما إذا انتفي بالنسبة إلى البعض أو في بعض الأحوال فلا
مانع هنا من ذكر الشرط لتشخيص المكلف أو لتعيين محل الحكم فلا
يرد عليه النقض بالآيات المذكورة واحتجاج الفاضل المعاصر على
المنع بلزوم التكليف بالمحال غير مستقيم على هذا التقدير وإنما يلزم
ذلك لو كان الامر مطلقا ثم لا فرق في ذلك بين أن يكون الشرط
مقدورا للمكلف أو لا كأمر من يعلم الامر أنه يسافر في أثناء النهار أو لا
يتمكن من الصوم بالصوم وأما لزوم الكفارة في بعض الصور
فلا ينافي الاشتراط الكاشف عن عدم الامر به واقعا لجواز أن يكون
ذلك على التجري أو على ترك الامساك الواجب قبل حصول المانع
ولا دليل على انحصار الكفارة في إفطار الصوم المأمور به بالامر
الواقعي وفي إلحاق شرط عدم النسخ بما مر وجه هذا كله إذا حمل
الامر في عنوان النزاع على الامر الحقيقي كما هو الظاهر وأما إذا حمل
على الامر الصوري كما استظهره بعضهم من كلماتهم ففي الحكم
بجوازه وجهان والجواز أقرب على ما يساعد
عليه الاعتبار لا يقال الامر على ما ذكرت في التقدير المتقدم يتوقف
على شرط لا تحقق له فينتفي بانتفاء شرطه فلا يكون أمرا حقيقيا
إذ المعدوم لا حقيقة له بل يكون أمرا صوريا فيتحد الوجهان لأنا نقول
معنى كون الامر حقيقيا على تقدير حصول الشرط أنه لو تحقق
الشرط تحقق الامر لان الامر يتحقق بدون الشرط فإن ذلك مخل
بمعنى الاشتراط والفرق بين الامر الحقيقي بهذا المعنى والامر
الصوري أن معنى الامر مقصود حقيقة على الأول ولهذا لزم اعتبار
الشرط وأما الامر الصوري فلا يتعلق القصد فيه بطلب شئ أصلا بل
المقصود فيه إنما هو إبراز صورة الامر ليتوهم المخاطب أنه أمر حقيقي
ليترتب عليه ما هو المقصود من التخويف أو الاختبار أو شبهه و
هذا مما لا حاجة فيه إلى اعتبار الاشتراط إذا عرفت هذا فنقول حجة
المجوزين وجوه الأول أنه لو لم يجز ذلك لما عصى أحد والتالي
باطل بالضرورة أما الملازمة فلان كل ما لم يوجد فقد انتفي بعض علته
التامة وأقله إرادة المكلف فيمتنع وحينئذ فلا تكليف فلا معصية
والجواب أن ذلك خارج عن موضع النزاع إذ البحث في شرائط
الوجوب والإرادة من شرائط الوجود وامتناع الفعل لعدم الإرادة لا
يوجب سقوط التكليف والعصيان لان الممتنع بالاختيار لا ينافي
الاختيار نعم ربما أمكن توجيه [توجه] الدليل المذكور على مذهب
الأشعري الثاني أنه لو لم يجز لما علم أحد بأنه مكلف والتالي باطل
بالضرورة بيان الملازمة أن المكلف حال الفعل وبعده ينقطع عنه
التكليف وقبله لا يعلم به لجواز أن لا يتحقق بعض شرائطه فيمتنع فلا
يكلف به فلان قيل قد يحصل العلم قبل الفعل كما في الموسع إذا
اجتمعت الشرائط عند دخول الوقت وذلك كاف في نقض الملازمة
قلنا نفرض وقت الموسع زمنا زمنا فكل جز إما أن يقارن زمن
الفعل أو يتأخر عنه أو يتقدم عليه ولا تكليف على الأولين ويحتمل
على الثالث أن لا يبقى بصفة التكليف فلا يعلم به والجواب أنه إن
أريد بالتالي عدم العلم بالتكليف الظاهري فالملازمة ممنوع إذ جواز
عدم البقاء بصفة التكليف لا يقدح في استصحاب البقاء المثبت
للحكم الظاهري بل ربما يكفي في ثبوت
الحكم الظاهري مجرد تجويز التمكن وإن لم يساعده الاستصحاب و
إن أريد عدم العلم بالتكليف الواقعي فبطلانه ممنوع ودعوى
الضرورة فيه مكابرة ويمكن أن يجاب حينئذ أيضا بمنع الملازمة إذ قد
يحصل العلم لآحاد الناس إذا كان زمن الفعل يسيرا وكانت
شرائطه مبتذلة وكذا إذا أخبر بالبقاء من يحصل العلم بإخباره [خبره]
أو نحو ذلك لكن هذه فروض نادرة وكأن مبنى الاستدلال ليس
عليها الثالث أنه لو لم يجز لما علم إبراهيم عليه السلام بوجوب ذبح
ولده إسماعيل والتالي باطل أما الملازمة فلانتفاء شرط الوجوب
حال الفعل أعني عدم النسخ وامتناع الخطأ في علم الأنبياء وأما فساد
التالي فلانه لو لم يعلم لما أقدم على الذبح ولم يحتج إلى فداء و
قد أجيب عنه بالمنع من بطلان التالي لأنه لم يؤمر بنفس الذبح بل
بمقدماته المختصة وأما الفداء فلعله عما ظن أنه سيؤمر به من الذبح
أو
بعض مقدماته إذ لا يلزم أن يكون الفداء من جنس المفدي واعترض
عليه بعض المعاصرين بأن ذلك لا يليق بأن يمتحن به مثل إبراهيم و
إسماعيل و يشتهرا بالفضل له ولا ما ورد من أن المراد بذبح عظيم هو
الحسين عليه السلام وفيه أن الامتحان والفضل إنما يتحققان
على تقدير عدم الذبح بتوطين النفس عليه وهو كما يتحقق في الامر
به كذلك يتحقق بما يدل عادة على الامر به كالأمر بمقدماته التي لا
يؤتى بها في العادة إلا له والرواية غير واضحة الدلالة على المقصود
مع أنها بظاهرها مطروحة لدلالتها على انحطاط رتبة الحسين عليه
السلام عن رتبة إسماعيل وهو خلاف المذهب إلا أن يراد بالفداء
مجرد البدلية أو يجعل الباء للسببية لا للتعدية وكلاهما بعيد ثم قال و
أما تصديق الرؤيا فمعارض بقوله إني أذبحك ولا بد من التأويل فهو
في الأول أولى انتهى وتوضيحه أن الذي صدر منه لم يكن إلا
مقدمات الذبح وحينئذ فظاهر التصديق ينافي ظاهر الاخبار بوقوع
الذبح منه في المنام إذ تصديق
110

الرؤيا عبارة عن جعلها صادقة مطابقة للخارج بناء على أنه من تصديق
القول بمعنى جعله صادقا لا من التصديق بمعنى الاذعان فإذن لا
بد من التأويل أما في قوله أذبحك بحمله على فعل مقدمات الذبح
مما أتى بها في الخارج أو بحمل التصديق على تصديق البعض أعني
المقدمات فقط ولا ريب أن الثاني أنسب بالاشفاق والامتحان و
حديث الفداء لأنه كان مأمورا بالاتيان بما يفعله في منامه كما يرشد
إليه قوله يا أبت افعل ما تؤمر فارتكابه أولى لا يقال الأولوية ممنوعة إذ
يلزم على هذا التقدير ارتكاب التخصيص أو النسخ فيما دل على
كونه مكلفا بفعل ما يراه في منامه ولا يلزم ذلك على التقدير الأول لأنا
نقول لا نسلم لزوم ذلك لجواز أن يكون مأمورا بذلك على
تقدير عدم ورود الامر بالبدل لكن لما خفي ذلك على إبراهيم امتحانا
له في أمر ولده وجب عليه بحسب الظاهر أن يقدم على ذبحه فإن
الأنبياء كما يكلفون بالأحكام الواقعية كذلك قد يكلفون بالأحكام
الظاهرية فكأن الامر بالفداء أو المجئ به كاشفا عن عدم تعلق الامر
بالذبح به واقعا فلا يلزم شئ من المحذورين وعلى هذا البيان يساعد
لفظ الفداء إذ المتبادر منه سقوط الحكم عن المفدي عنه بسببه و
العجب من المعترض المذكور أنه بعد أن رد الجواب المذكور بما مر و
جوابا آخر بظاهره التزام بمقالة الخصم حكاه عن بعضهم وهو
أن ذلك من باب البدأ الذي تقول به الشيعة قال فالأولى جعل ذلك
من باب النسخ والقول بجوازه قبل العمل أو من باب إرادة العزم و
التوطين وظاهر أن الجواب الأول راجع إلى تسليم كلام الخصم على
ما عرفت والثاني راجع بظاهره إلى الوجه الذي اعترض عليه الرابع
أن الامر كما يحسن لمصالح في المأمور به كذلك يحسن لمصالح في
نفس الامر كما في المقام فإن المأمور حيث لا يعلم انتفاء الشرط
يتعين عليه الاقدام على الامتثال فإن أقدم استحق بذلك اللطف و
الكرامة وإن استنكف استحق الخذلان والمهانة وكذلك قد يقصد به
استخبار حال المأمور أو غيره من الانقياد وعدمه أو غير ذلك وأجاب
عنه في المعالم بأنه لو سلم فالطلب هناك ليس للفعل بل للعزم
عليه والانقياد إليه فيخرج عن محل النزاع ولا يخفى أنه تعسف بل
الظاهر في مثله
أن يحمل الامر إما على الامر الصوري أو المشروط كما عرفت والثاني
أظهر وقوله لو سلم كأنه إشارة إلى أن جواز الاستعمال
المذكور في محل المنع ولو عند من منع تأخير البيان عن وقت
الخطاب فإن هذه اللفظة كثيرا ما تستعمل للتنبيه على مثل ذلك وليس
غرضه المنع من جواز ذلك الاستعمال عنده كما استظهره بعض
المعاصرين منها إذ مستند المنع منحصر في لزوم الاغراء بالجهل كما
تمسك به شارح التهذيب وهو لا يقول به كما نص عليه في مبحث
التخصيص وغيره ثم لا يخفى أن هذا النزاع من جزئيات النزاع في
جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب فلا يناسب إيراده في المقام بهذا
العنوان كما فعله البعض واعلم أن الفاضل المعاصر أجاب عن
الحجة المذكورة بأنه خروج عن المتنازع فيه وتوجيهه أن المراد من
الامر حينئذ لا يكون نفس المأمور به بل المصالح المترتبة على
الامر فيكون مجازا والنزاع المعروف إنما هو فيما إذا كان المراد نفس
المأمور به وهذا التوجيه وإن لم يصرح به لكنه مستفاد من
تحريره لمحل النزاع ومن مساق كلماته وضعفه ظاهر لان إرادة نفس
الفعل لا تنافي إرادة تلك المصالح فإن تلك المصالح في الحقيقة
تترتب على إبراز تلك الإرادة وكذا لا يلزم التجوز في لفظ الامر إذ ليس
مستعملا حينئذ في طلب تلك المصالح بل في طلب نفس
المأمور به مع أن من جملة المصالح الاختبار والامر به غير معقول و
قصد ترتب تلك المصالح لا يوجب استعمال اللفظ فيه وهذا ظاهر
جدا
فصل الحق أنه إذا نسخ الوجوب
المستفاد من الامر [لا يوجب] لا يبقى معه الدلالة على الجواز وأن
الجواز الثابت في ضمن الوجوب لا يبقى بعد نسخه وفاقا لأكثر
المحققين نعم نقول بثبوت الجواز بمعنى الإباحة في غير العبادات و
في غير ما يحكم العقل بتحريمه ظاهرا عند عدم دليل على خلافه
كالحد بالنظر إلى الأصول والقواعد المقررة سواء كان الفعل المأمور به
متصفا بغيرها قبل الاتصاف بالحكم المنسوخ أو لا وأما إذا
كانت عبادة وقصد بها القربة فلا ريب في حرمته من حيث التشريع و
ما قيل من أنه يرجع إلى الحكم السابق على الوجوب فهو على
إطلاقه غير مستقيم لان الحكم السابق على الوجوب قد يكون غير
الإباحة وظاهر أن نسخ الوجوب بمجرده لا يقتضي عوده ويمكن
تنزيله على ما ذكرناه لتقدم الإباحة عليه في مواردها أيضا ثم خالف
قوم فحكموا ببقاء الجواز والظاهر أنهم أرادوا به الجواز بالمعنى
الأعم كما صرح به بعضهم بقرينة لفظ البقاء ويساعد عليه ظاهر
الاستدلال الآتي ويمكن أن يكون المراد به الجواز بالمعنى الأخص
كما
نص عليه بعض المتأخرين ولا بد حينئذ من حمل كلماتهم على أن
الامر والنسخ يقتضيان ذلك والاستدلال الآتي وإن وفي بإثباته أخيرا
إلا أن مساقه أولا يدل على إرادة المعنى الأول ثم منهم من ذهب إلى
أنه يقتضي الاستحباب لنا أن الجواز بكلا نوعيه حكم شرعي
يستدعي إثباته بدليل أن يكون ذلك الدليل صالحا للدلالة عليه وليس
في الامر المنسوخ ولو مع النسخ دلالة عليه لما سنبين من بطلان
ما تمسك به الخصم في إثبات دلالته عليه وعدم ما يصلح له سواه و
لنا أيضا أنه لو دل لفظ الامر عليه كما يراه الخصم لكانت دلالته عليه
بالتضمن باعتبار زمان وبالمطابقة باعتبار زمان آخر [وهو غير جائز] و
بعبارة أخرى لكان تمام ما استعمل فيه الامر معنى حقيقيا
باعتبار زمان ومعنى مجازيا باعتبار زمان آخر وهو لا يستقيم مع اتحاد
الاستعمال وببيان أوضح إما أن يكون المدلول المراد من
الامر حينئذ الكل أو البعض أو كليهما على الاستقلال والأول يوجب
ارتفاع المدلول بارتفاع بعض المعنى ضرورة أن الكل ينعدم
بانعدام الجز فترتفع الدلالة لظهور أنها أمر نسبي بين اللفظ والمعنى
يمتنع وجودها بدون طرفيها والثاني يوجب أن يكون
المستعمل فيه هو الجز دون الكل وهو خلاف الفرض والثالث
يقتضي استعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي وقد مر فساده و
على تقدير صحته لا يصار إليه إلا بالقرينة الدالة على إرادتهما والتقدير
انتفائها ولا يتوجه النقض بنسخ الحكم عن بعض أفراد العام
لان
111

إما إلى بيان ما أراده أولا فلا يلزم تعدد المراد أو إلى رفع ما ثبت
بالدلالة دون الدلالة فلا يلزم تعدد الدلالة ولا المدلول وأما أن
الجواز الثابت في ضمن الوجوب لا يبقى بعد نسخه فلانه متقوم فيه
بفصل المنع من الترك وسنبين فإن زوال الفصل مستلزم لزوال
الجنس احتج القائلون ببقاء الجواز بأن المقتضي للجواز موجود وهو
المقتضي للوجوب لأنه جزؤه والمقتضي للمركب مقتض لاجزائه و
لا مانع منه بحكم الأصل والفرض إلا ما تخيله الخصم من نسخ
الوجوب وهو لا يصح مانعا لان رفع المركب يتحقق برفع بعض أجزائه
فيكفي في رفع الوجوب رفع أحد جزيه أعني المنع من الترك فيبقى
بقاء الجواز بلا مانع لا يقال جواز الفعل جنس للوجوب كما أن المنع
من الترك فصل له ولا نسلم بقاء الجنس بعد انعدام الفصل لان الفصل
علة لوجود حصة من الجنس معه كما صرح به جماعة من المحققين
والمعلول ينتفي بانتفاء علته لأنا نقول إنما يتوقف الجنس في الوجود
والبقاء على فصل ما لا على فصل بخصوصه ولا ريب أنه إذا
انعدم الفصل الأول أعني المنع من الترك تحقق جواز الترك إذ لا
مخرج عنها وهو فصل الإباحة فيقوم به جنس الوجوب الذي هو
الجواز
والاذن في الفعل فيتحقق الإباحة والتعليل بأن الفصل علة لوجود
الجنس عليل لان الجنس والفصل موجودان في الخارج بوجود واحد
و
لولاه لما صح الحكم بأن أحدهما عين الاخر كما هو مفاد الحمل فلا
يعقل التوقف والعلية بينهما بل بمعنى علية الفصل للجنس أن مفهوم
الفصل إذا انضم إلى مفهوم الجنس في الذهن ميزه عن إبهامه المانع
من قبوله للوجود خارجا بل وذهنا إلا في مجرد الاعتبار وكان علة
لتصيره نوعا مخصوصا صالحا للوجود ذهنا وخارجا وذلك لا يوجب
العلية بينهما في الوجود سلمنا لكن لا نسلم أن زوال العلة يقتضي
زوال المعلول مطلقا بل إذا لم يقم مقامه علة أخرى وقد بينا قيام فصل
الإباحة مقام فصل الوجوب فلا وجه لزوال الجنس مع أنه يكفي
احتمال تحقق الفصل ولا حاجة إلى إثباته وأصالة عدمه لا يعارض
أصالة بقاء الجنس لكونه أصلا مثبتا وهو غير معتبر كما سيأتي بيانه
في محله فإن قيل كما يمكن نسخ الوجوب برفع أحد جزءيه أعني
المنع من الترك كذلك يمكن برفع المجموع وبرفع الجز الاخر
المستلزم لرفعه فبقاء الجنس غير معلوم حتى يستفاد الجواز من
انضمام فصل جواز الترك إليه قلنا لا ريب في أن النسخ يقتضي رفع
المنع من الترك ورفع الجواز غير معلوم فيستصحب بقاؤه إذ لا
يختلف تحصل الجنس باختلاف الفصول المنضمة إليه لا يقال الأصل
عدم التقييد والارتباط لأنه حادث فيتعارض الأصلان لأنا نقول بعد
منع التعارض التقييد أمر اعتباري لا يستدعي إلا تحقق الطرفين وبعد
تحققهما لا وجه لعدم اعتباره إذ انتزاعه لا يتوقف على أمر آخر
غير الطرفين وقد بينا وجودهما مع أن التقييد هنا معلوم الحصول و
إنما الشك في تعيين القيد فيثبت بالاستصحاب واعترض عليه
بعض المعاصرين بعد تسليم ذلك بأن الأصل عدم تيقن اللحوق و
الانضمام وهو مستصحب غاية الامر حصول ظن باللحوق
للاستصحاب
ولا يقين به لا لان الانضمام في نفسه يحتاج إلى دليل بل لان اليقين
بالانضمام يستدعي اليقين بثبوت المنضم إليه وهو غير متيقن لما
مر من جواز تعلق النسخ بالمجموع والاستصحاب لا يوجب اليقين
فيتعارض الأصلان فيتساقطان فيبقى المورد بلا حكم ثم قال و
بعبارة أخرى فكما أن الأصل بقاء جز معنى الوجوب أعني الجواز
فكذلك الأصل عدم تحقق الإباحة أن الأصل عدم جميع الأحكام الشرعية
هذا كلامه ملخصا مشتملا على ما فيه من الاختلاف في
مؤدى العبارتين وفيه ما لا يخفى لان تيقن اللحوق وعدمه من الأمور
الوجدانية التي لا يشتبه أمرها في مثل المقام على ذي مسكة فلا معنى
لنفيه بالأصل واستصحاب عدمه وجعل هذا الاستصحاب معارضا
لاستصحاب الجواز على أنه إن أراد باليقين اليقين بالواقع فلا جدوى
في نفيه إذ يتم المقصود بغيره وإن أراد اليقين بالظاهر فنفيه
ممنوع لان الاستصحاب يفيد ذلك على ما سيأتي تحقيقه ثم إذا ثبت
جواز الفعل والترك لزم الإباحة لا محالة إذ لا نعني بها إلا جواز
الفعل والترك ولا حاجة إلى إثبات انضمام أحدهما إلى الاخر بل
يكفي مجرد ثبوتهما وهذا ظاهر وبه يظهر فساد قوله الأصل عدم
تحقق الإباحة على أن نسخ الوجوب لا ينفك عن ثبوت أحد الاحكام
الاخر فلا يمكن نفيه بالأصل بناء على أنه ينتقض باليقين الاجمالي
فيبقى استصحاب الجواز سالما عن المعارض وأما ما وقع في عبارة
المعالم من أن أصالة عدم تعلق النسخ بالجميع معارض بأصالة عدم
وجود القيد فيتساقطان فهو بظاهره ظاهر الفساد لان وجود القيد
مقطوع به بالنسخ فلا سبيل إلى نفيه بالأصل فالوجه أن يعتبر القيد
الذي نفاه بالأصل بقيد الحيثية فيرجع النفي عند التحقيق إلى القيد
الجنسية دون مقيده أعني القيد فيرجع محصله إلى ما ذكرناه من أصالة
عدم حصول التقييد وهذا وإن كان فاسدا أيضا كما عرفت إلا
أن فساده ليس بذلك الوضوح إن قلت كل من الاذن في الفصل والاذن
في الترك يشتركان بعد الانضمام بين أحكام ثلاثة كما أنهما
يشتركان قبل الانضمام بين أحكام أربعة فلا يتحصل من الانضمام نوع
معين بل أمر مشترك بين أنواع ثلاثة وهو أيضا مبهم يحتاج في
التحقيق والوجود إلى انضمام أحد القيود الممنوعة إليه غاية ما في
الباب أن يقال الاذن في الفعل المتحقق في الوجوب إذن مجرد عن
رجحان الترك وطلبه فلا يتناول الكراهة لكن يبقى معه الاشتراك قبل
الانضمام بين أحكام ثلاثة وبعده بين حكمين فلا يتعين لأحدهما
بنفسه بل يتوقف على انضمام رجحان الفعل أو طلبه في أحدهما و
عدمه في الاخر ولا ريب أن كلا من الاعتبارين أمر زائد على مفهوم
الاذن في الترك فيتوقف ثبوته على قيام مقتضيه قلت يمكن دفع ذلك
بوجهين الأول المنع من جزئية رجحان الفعل وطلبه الوجوب
عندهم بدليل أنهم قرروا في الدليل أن ماهية الوجوب مركبة من جواز
الفعل مع المنع من الترك ولم يتعرضوا الذكر رجحان الفعل و
طلبه حينئذ فيكون الاذن في الفعل المتحقق في الواجب مجردا عن
القيدين فيتحصل بانضمام الاذن في الترك المستفاد من
112

النسخ إليه الإباحة لا محالة ولو بمعونة أصالة عدم حدوث رجحان أو
طلب في أحدهما لكن هذا مع فساده في نفسه مخالف لما صرحوا
به في غير موضع من أن ماهية الوجوب مركبة من طلب الفعل مع
المنع من الترك بل الوجه أنهم تسامحوا هنا في البيان فاقتصروا على
بيان بعض أجزاء ماهية الوجوب أو أرادوا بالمنع ما يتناول طلب الفعل
وإن أرادوا به ما يغايره حيث يذكرونه معه وأما رجحان الفعل
فالحق أنه إما راجع إلى طلب الفعل أو من عوارضه ولوازمه فلا يتوجه
به الاشكال الثاني أن أصحاب هذا القول يلتزمون بأن نسخ
الوجوب يقتضي نسخ طلب الفعل مع المنع من الترك ويلزمه تحقق
الاذن في الترك المجرد عن القيدين أعني الرجحان والطلب وإن
كان إثبات تجريده عنهما بمعونة الأصل فإذا انضم إلى الاذن في الفعل
المجرد عنهما لما مر لزم تحقق الإباحة ويشكل بأن دعوى تعلق
النسخ بكلا الجزأين مع إمكان تعلقه بأحدهما على ما يقتضيه بيانهم
تحكم بحت وسيأتي توضيحه في حجة القول بالاستحباب وكيف
كان فتلك مناقشة في جز المدعى لا إبطال له من أصله [على ما قيل
في حجة القول بالاستصحاب] فإن قيل لا نسلم أن الوجوب مركب من
جواز الفعل والمنع من الترك بل هو معنى بسيط وذانك المفهومان
من لوازمه العارضة لمحله سلمنا لكن التركيب المذكور مبني على
التدقيقات العقلية فإن أهل العرف لا يفهمون من الوجوب إلا معنى
بسيطا وحيث أن التعويل في الاستصحاب على الاخبار التي دلت
على
عدم جواز نقض اليقين بغيره فهي لا تتناول لمثل هذا المورد سلمنا
لكن لا خفاء في أن للنسخ تعلقا أوليا بأحد جزئي الوجوب بناء على
عدم تعلقه كذلك بهما للأصل وظاهر أن لا علم بلحوق هذا التعلق
بأحدهما بعينه وإن علم لحوق مطلق تعلقه بالمنع من الترك ولو
بواسطة تعلقه بالجز الاخر وحينئذ فينتقض الأصل باليقين الاجمالي
قلنا لا نعقل من الوجوب عند التحليل إلا طلب الفعل المشتمل على
الاذن فيه مع المنع من الترك ودعوى بساطته إن كانت بالقياس إلى
التحليل فممنوعة سلمنا لكن زوال الملزوم لا يوجب زوال اللازم و
إن استند في الوجود إليه لجواز قيام ملزوم آخر مقامه يستند في
الوجود إليه ولا يمكن نفيه بالأصل للعلم بطريان حادث هناك في
الجملة بناء على أن اليقين
الاجمالي ينقض الأصل وجواز الفعل ثابت في الواجب عقلا وعرفا
سواء كان داخلا في مفهوم الوجوب أو خارجا عنه فيدخل في عموم
الاستصحاب نعم يلزم على الثاني فساد حجتهم على حسب ما قرروه
لكن لا يلزم فساد دعواهم لما قررنا ثم الكلام هنا فيما إذا كان
النسخ بلفظ نسخت الوجوب والأجزاء غير ملحوظة فيه على
التفصيل بل على الاجمال فلا مميز بينها في هذا الاعتبار ليمكن الفرق
بين ما
تعلق به النسخ أولا وما تعلق به ثانيا بل التحقيق في الجواب المنع من
اتحاد تحصل الجنس عند تعدد الفصل كما يراه جماعة من المحققين
لا لان الفصل علة له بل لان الجنس والفصل متحدان في الخارج ولا
ينعدم أحدهما إلا بزوال وجوده الذي هو عين زوال وجود الاخر
فزوال أحدهما عين زوال الاخر فلا يستقيم استصحابه لا يقال هذا
منتقض بالاعراض العامة والخاصة فإنها أيضا متحدة مع النوع في
الخارج فإن الضاحك بالفعل عين الانسان في الخارج مع أن زواله لا
يقتضي زوال الحصة المتحدة معه من الانسان مثلا لأنا نقول فرق
بين المقومات الحقيقة والعوارض الاعتبارية فإنه يجوز أن يكون
حقيقة واحدة كالانسان بحيث ننتزع منها تارة معنى اعتباريا
كالضارب باعتبار قيام صفة الضرب بها ولا ينتزع منها أخرى لانعدام
تلك الصفة عنها ولا يجوز ذلك في المقومات الحقيقية وتحقيق
الكلام فيه يطلب من محله على أن عدم الزوال في الثاني ممنوع عند
بعض أهل المعقول مضافا إلى أن من يفسر المشتق بذات له المبدأ لا
يلتزم بزوال نفس المحمول هناك بل قيده وهو خارج فإن قلت سلمنا
أن الجنس لا يصح أن يستصحب بعد انعدام الفصل لما مر من
اتحادهما في الوجود لكن المادة التي ينتزع منها الجنس يغاير وجودها
لوجود الصورة التي ينتزع منها الفصل كما تقرر في محله وقد
تقرر فيه أيضا أنه لا يلزم من انعدام الصورة انعدام المادة فيصح أن
يستصحب بقاؤها ومتى ثبت بقاؤها صح أن ينتزع الجنس منها لما
تحقق في محله من أن الفرق بين المادة والجنس هو الفرق بين الشئ
بشرط لا والشئ لا بشرط وكذلك الفرق بين الصورة والفصل
غاية ما في الباب أن يكون الجنس المنتزع منها قبل انعدام الفصل غير
الجنس المنتزع منها بعده بحسب الوجود
وهذا لا يخل بما هو المقصود الأصلي من إثبات جنس الجواز
بالوجوب المنسوخ قلت هذا البيان إنما يتجه في أنواع المركبة أعني
الأنواع الجوهرية وأما الأنواع البسيطة وهي الأنواع العرضية فليس
الحال فيه على ما ذكرت وتفصيل الكلام فيه خارج عن الفن و
ظاهر أن الوجوب وأخواته من الأنواع العرضية الاعتبارية فلا يتم فيه
البيان المذكور حجة من قال ببقاء الاستحباب أن الوجوب مشتمل
على الرجحان مع المنع من النقيض و قضية النسخ رفعه ويكفي في
رفع المركب رفع بعض أجزائه ولا ريب في ارتفاع المنع من النقيض
بالنسخ فيبقى ارتفاع الرجحان مشكوكا فيه وقضية الأصل عدمه
فيثبت الرجحان المجرد عن المنع من النقيض وهو معنى الاستحباب
و
الجواب عنه ظاهر مما مر فلا نطيل بإعادته ثم لا يذهب عليك أن
قولهم الوجوب مركب من الاذن في الفعل والمنع من الترك تسامح
لظهور أن الوجوب من صفات الفعل والاذن والمنع من صفات
الموجب فالوجه أن يحمل الاذن والمنع على موجبهما اعتبارا
للمصدر
بمعنى المفعول ويمكن إبقاؤهما على ظاهرهما وحمل الوجوب
على معنى الايجاب [واعتبار التركيب في مستند الوجوب بتقديره
لقوة
في الكلام لكن فيه بعد] واعلم أن مرجع نزاعهم على ما يقتضيه
استدلالهم إلى أن رفع بعض أجزاء الماهية هل [هو] ينافي بقاء البعض
الاخر أو لا وهذا لا يختص بنسخ الوجوب ولا بالنسخ بل يجري في
نسخ سائر الأحكام وفي غير النسخ فيتأتى الكلام في أن نسخ
الاستحباب هل يقتضي أحد الامرين من الإباحة أو الوجوب نظرا إلى
تركبه من جواز الفعل ورجحانه مع الاذن في الترك وإن أمكن
ترجيح الأول بمعونة أصل البراءة أو لا وأن نسخ الحرمة هل يقتضي
الإباحة أو الكراهة على حسب ما مر في الوجوب أو لا وأن نسخ
الكراهة هل يقتضي أحد الامرين من الإباحة أو التحريم على حسب ما
مر في الاستحباب أو لا وأن نسخ الإباحة مع قطع النظر عن أصل
البراءة هل يستلزم أحد الأحكام الأربعة باعتبار انضمام الحاصل
بالنسخ إلى الباقي من أجزائه
113

بعده وإن استلزمه باعتبار عدم خلو واقعة عن أحد الأحكام الخمسة
أيضا أو لا لكن ربما يبتني النزاع في بعض هذه التقادير على مسألة
أخرى وهي أن رفع الجنس هل يقتضي رفع الفصل اللاحق له وإن
تعقبه جنس يصلح للحوقه به أو لا وكذا الكلام في غير النسخ كالتعليق
بالغاية نحو صم إلى الليل فإن قضية كون الليل نهاية للوجوب ارتفاعه
عند ارتفاعه ورفع المركب يتحقق برفع بعض أجزائه فهل يقتضي
ذلك بقاء جواز الصوم أو رجحانه بعد الليل أو لا وربما يسري الكلام
من المقام إلى كل مقيد بالنسبة إلى قيده فيقال تعلق الحكم بالمقيد
هل يوجب زواله عند زوال قيده أو لا كما لا يوجب زوال قيد الفصل
لزوال الجنس على ما مر فيستصحب بقاؤه وذلك كما لو ترك أداء
الموقت في وقته لعذر أو لغيره أو لم يتمكن من الفعل في المكان الذي
أمر بأدائه فيه فعلى تقدير البقاء يتعين عليه الاتيان في غير الوقت
وخارج المكان بخلاف البناء على التقدير الاخر وإليه يرجع النزاع في
أن الامر بالأداء هل يقتضي الامر بالقضاء أو لا وأن من التزم
بفعل في وقت معين ولم يأت به فيه فهل يجب عليه الاتيان به بعده أو
لا أو التزم بما يتعلق بفرد معين كتصدق شاة معينة فهل يتسرى
الحكم منه إلى نوعه أو جنسه عند تعذره أو لا إلى غير ذلك وكذا
الكلام فيما لو نذر أن يصلي نافلة الفريضة في مكان لا رجحان فيه بناء
على اعتبار الرجحان في النذر أو في مكان مرجوح فهل ينعقد مطلقا
لان عدم اعتبار خصوصية الخاص في النذر لعدم رجحانها أو
[لمرجوحيتها] مرجوحيتها وقد اعتبر في متعلقة الرجحان لا يستلزم
عدم اعتبار العام الراجح لما مر أو ينعقد مقيدا لان النذر إنما تعلق
به وهو راجح باعتبار حصول المطلق في ضمنه ولا يشترط في النذر
رجحانه بجميع الجهات والاعتبارات [وهذا هو الحق] وأما عدم
انعقاد النذر المذكور مطلقا كما يظهر من الفاضل المعاصر فمما لا وجه
له في الفرض الأول ويبتني في الفرض الثاني على ما سيأتي منه
في بعض مباحث النهي من أن مكروه العبادة مرجوحة مطلقا وستقف
على ما فيه نعم لو نذر أن يصلي في مكان لا رجحان فيه [من غير
أن يلتزم فيها] بمعنى أن لا يفعلها في غيره لم ينعقد وكذا لو أذن
المولى عبده أو وكله ثم أعتقه هل يرتفع الاذن والوكالة لارتفاع
الاذن الحاصل من
جهة المالكية أو لا هذا والتحقيق أن إلحاق غير النسخ مما مر به قياس
مع الفارق والفرق بين المقامين في غاية الوضوح لان وجود القيد
معتبر في لحوق الحكم المتعلق بالمقيد به فيلزم من زواله ولا سبيل
إلى استصحابه حينئذ لانتفاء ما يقتضي بقاءه وتجويز قيام قيد آخر
مقامه مفيد مفاده مدفوع بأصالة عدمه وهذا بخلاف الفصل فإن
وجوده وإن كان معتبرا في تقوم الجنس وتحصله إلا أنه ربما أمكن
توهم بقاء الجنس عند زواله لثبوت ما يقتضي بقاءه من الامر وانتفاء
المانع لنيابة فصل آخر منامه مترتب وجوده على عدم الفصل الأول
كما يقتضيه حجتهم المذكورة وأما ما اشتهر بينهم من أن بطلان
الخاص لا يقتضي بطلان العام فما وقفنا عليه من موارد استعماله مما
لا
تعلق له بالمقام وإن زعم تعلقه به لأنهم يريدون العام المتحقق في
ضمن خاص آخر لا العام المتحقق في ضمن الخاص الذي ثبت بطلانه
وأما مسألة بقاء وكالة العبد بعد عتقه فلا تعلق له بالمقام بل الحق أنه
يتبع شاهد الحال من عموم التوكيل أو اختصاصه بصورة بقاء
الملكية
فصل الحق أن الامر بالشئ في وقت معين بمجرده لا يقتضي الامر به
بعده
مع فواته فيه لا أداء ولا قضاء وقيل بل يقتضيه قضاء وهو خيرة
جماعة ولا بد أولا من [تحرير] بيان معنى القضاء ليتضح المرام فنقول
قد يطلق القضاء على الحكم ومنه قوله تعالى والله يقضي بالحق و
على الفعل ومنه قوله تعالى فإذا قضيتم مناسككم وعلى أداء ما فات
في وقته أو محله على البدلية سواء اتحدت الهيئة كقضاء الأربع بالأربع
وقضاء التشهد والسجدة أو لا كقضاء المريض والغريق بعد
ارتفاع العذر وكقضاء الجمعة ظهرا فيما إذا مضى من الزوال مقدار
أدائها وتمكن منها دون الظهر كما إذا اعتراه بعده ما يوجب سقوط
التكليف بالظهر عنه كالجنون [في وجه] إن قيل به وأما إذا تمكن من
الظهر وتركها فليس قضاء للجمعة بل للظهر لانتقال الحكم إليها
وأما إطلاق القضاء على قضاء الحج الفاسد فيمكن أن يكون بالمعنى
الثاني وأن يكون بمعنى استدراك ما فات وقته سواء كان على
وجه البدلية أو لا والمراد في المقام هو المعنى الثالث إذا عرفت هذا
فلنا أنه لا دلالة لقولنا صم يوم الخميس على صوم يوم الجمعة مثلا
بإحدى الدلالات حتى إنه لو صرح بنفيه لم يكن نقضا لكلامه السابق و
لا منافيا لظاهره وذلك معلوم بالرجوع إلى العرف واللغة ولنا
أيضا أن الامر قد تعلق بالماهية المقيدة وزوال القيد موجب لزوال
التقييد وهو موجب لزوال المقيد لان المفهوم والمتبادر منه المقيد
باعتبار كونه مقيدا وقد يستدل بأنه لو اقتضاه لكان بمنزلة أن يقول صم
إما يوم الخميس أو يوم الجمعة وهو تخيير بينهما فيلزم أن
يكون الثاني أيضا أداء وأيضا يلزم أن لا يعصي بالتأخير لكونهما سوأ
ثم لا خفاء في أن الدليلين الأولين مما لا مدفع لهما وأما
الأخيران فربما يتجه عليهما ما يقال من أن للخصم أن يدعي أن الامر
المذكور أمر بالصوم وبإيقاعه يوم الخميس فلما فات إيقاعه الذي
هو كمال المأمور به بقي الوجوب مع نقص فيه فلا يلزم كونهما أداء ولا
كونهما سواء لكن يرد عليه أمران الأول أن الدعوى المذكورة
إنما يتجه من الخصم إذا ساعد عليها أدلته وظاهر لمن تأملها أن
مفادها ليس متحدا الثاني أن البيان المذكور وإن اقتضى أن لا يكونا
سوأ
لكن لا يقتضي كون الثاني قضاء إذ يعتبر في القضاء البدلية كما عرفت
وهو لا يساعد عليها أ لا ترى أن الامر في مثل أداء الدين وإزالة
النجاسة عن المسجد كذلك مع أن القضاء لا يصدق عليه عند التأخير
قطعا احتج الخصم بوجوه الأول أن الزمان من لوازم فعل المأمور به
وليس داخلا فيه فلا يسقط باختلاله والجواب أما أولا فبالنقض بصورة
التقديم فإنه غير مجز اتفاقا مع أن الكلام المذكور جار فيه وأما
ثانيا فبأن البحث في الفعل المقيد بوقت مخصوص والمفهوم منه
عرفا ولغة اعتبار التقييد فينتفي عند انتفائه بالضرورة الثاني أن
الوقت في المقام من قبيل الاجل في الدين فكما لا يسقط الدين
بتأخير الأداء فكذلك فعل المأمور به والجواب أما
114

فبأنه قياس وهو باطل عندنا وأما ثانيا فببيان الفارق وهو أنه قد عرفت
أن الغرض من الامر بأداء الدين إبراء الذمة والخروج عن حق
الغير فلا يسقط بالتأخير لوجود السبب بخلاف المقام الثالث لو وجب
القضاء بأمر جديد لكان أداء والتالي باطل بالاتفاق بيان الملازمة
أنه أمر به بعد الوقت فأداؤه فيه أداء في الوقت والجواب منع الملازمة
إذ ليس كل فعل أدى في الوقت الذي أمر بالأداء فيه أداء بل يعتبر
أن لا يكون على وجه البدلية عما فات وقته كما عرفت وقد يستدل
من قبل الخصم بروايتي إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم و
الميسور لا يسقط بالمعسور وهما لو تمتا لدلتا على ثبوت أصل الحكم
لا على دلالة الامر عليه كما هو محل البحث والجواب بعد تسليم
السند أما عن الرواية الأولى فبأن المفهوم من سياقها الاتيان بالمأمور به
ما دامت الاستطاعة باقية والفعل المقيد بوقت معين لا
يستطاع خارجه فلا تدل الرواية على الامر به وكذا لو فسرت
الموصولة بالفرد وقد تقدم ذكرها في فصل نفي دلالة الامر على
التكرار
وأما عن الثانية فبأن الظاهر من نفي السقوط نفي سقوط الحكم السابق
فيكون المراد من الميسور الواجب الميسور أو فرده وكذا
المعسور دون جزئه أو ما بحكمه فتكون الرواية واردة على حسب
الضابطة ولو سلم عدم الظهور فلا أقل من الاحتمال ولو سلم تناوله
للجز وما بحكمه فلا اختصاص له بالواجب فيتعين حمل عدم
سقوطه على الأعم من الوجوب والندب أعني مطلق المطلوبية
ليستقيم في
المندوب غالبا فلا تدل على الوجوب في الواجب ومع ذلك ينافيه
لفظ السقوط فإن مقتضى نفيه بقاء الحكم السابق لا حدوثه ولا سبيل
إلى حمله على عدم سقوط حكمه السابق من مطلوبيته مقيدا أو في
ضمن الكل أو للكل لان ذلك مقطوع السقوط أما الأولان فواضح وأما
الثالث فلما نبهنا عليه عند بحث المقدمة من أن وجوب المقدمة بدون
وجوب ذيها غير معقول مع أنه لا يفيد مقصود المستدل ومن هنا
يتبين وجه التفريع على الظهور الذي ادعيناه أولا نعم للخصم أن
يتفصى عن الاشكال الأول بعدم القول بالفصل فإن من قال برجحان
قضاء الواجب قال بوجوبه وعن الثاني بجعل نفي السقوط بمعنى
عدم خلوه عن مثل الحكم السابق لأنه أقرب المجازات إلى نفي
السقوط
أو بمنع سقوط
أصل الحكم السابق وإن سقط كيفيته ولو على حسب متفاهم العرف
ولا يخفى ما فيهما من التكلف المستغنى عنه وقد يستدل أيضا
بقوله من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته وفيه أن الظاهر منها الصلاة لا
مطلق الواجب وأولى من ذلك الاحتجاج بقوله تعالى وهو الذي
جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا فإن الامتثال و
الاتيان بالمأمور به شكر لا سيما على تفسير بعضهم له بأنه
صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه فيما أمره به فينوب فعله خارج
الوقت مناب فعله في الوقت لان ذلك قضية كونه خلفة وفيه بعد
تسليم
صدق الشكر على فعل المأمور به أنه إنما يصدق عليه إذا ثبت كونه
مأمورا به ولا كلام على تقديره وإنما الكلام في إثبات الامر ولا
دلالة للآية عليه واعلم أن العضدي بنى الخلاف على أن صوم يوم
الخميس هل هو شيئان في الخارج كما في اللفظ والذهن فيبقى
أحدهما
بعد انتفاء الاخر أو شئ واحد فينتفي أحدهما بانتفاء الاخر ثم جعل
ذلك ناظرا إلى الخلاف في أن الجنس والفصل هل يتمايزان في
الخارج أو يتحدان فيه واعترض عليه بوجوه الأول أن بناء العرف و
اللغة على التدقيقات الحكمية ليس على ما ينبغي وفيه أن ذلك إنما
يرد عليه ما لو ادعى دلالة اللفظ عليه بحسب العرف واللغة وأما لو
ادعى ذلك بحسب العقل فلا ورود له عليه مع أن أهل اللغة والعرف
قد يدركون بعض الدقائق الحكمية على وجه الاجمال فيجوز أن يكون
بناء فهمهم عليه الثاني أن دعوى تمايز الجنس والفصل في
الخارج بعيدة عن التحقيق على ما تبين في محله وللخصم أن لا يلتزم
بذلك ويقرر مبنى الخلاف بوجه آخر وهو أنه لا ريب في أن
المطلوب في الفرض المذكور إنما هو نفس المقيد والقيد خارج عنه
معتبر فيه لكنه يحتمل أن يكون معتبرا في الصحة فينتفي الوجوب
بانتفائه أو في الكمال فيبقى الوجوب فمبنى النزاع على بيان أن أيهما
أظهر الثالث أنه يجوز أن يكون المطلوب على التقدير الأول
إتيانهما مجتمعين فينتفي المطلوب بانتفاء أحدهما أو يكون المطلوب
على التقدير الثاني الماهية المطلقة ويكون ذكر الخاص لكونه
محصلا لهما
فلا ينتفي المقصود بانتفاء الخصوصية وأورد عليه بعض المعاصرين
بأن الوجه الأول مدفوع بأن احتمال اعتبار لا اجتماع وإن اعتضد
بأصالة البراءة عن القضاء لكن يعضد الاحتمال الاخر أصالة عدم
الاجتماع مع أن الاشتغال بمجمل التكليف مستصحب لا يحصل
البراءة
منه إلا بالقضاء ولا يكفي فيه احتمال البراءة وأن الوجه الثاني مدفوع
بأن احتمال إرادة المطلق من المقيد لا يكفي في نفي البراءة
الأصلية مع أن المتبادر من المقيد اعتبار التقييد فيه ولا يخفى ما فيه إذ
مقصود العضدي بيان منشأ النزاع كما هو نص كلامه لا بيان
التحقيق في المقام على كل من التقديرين وحينئذ فلا مدفع له عن
الاعتراض المذكور وأما الأصول المذكورة فما لم يثبت تعويل كل من
المتخاصمين عليه في المقام مع ما في أصالة عدم اعتبار الاجتماع و
قضاء استصحاب الاشتغال بمجمل التكليف بتحصيل البراءة منه
بالقضاء من الوهن الواضح الرابع أن القول بتمايز الجنس والفصل في
الخارج لا يقتضي جواز انفكاك أحدهما عن الاخر سيما على القول
بعلية الفصل فلا يلزم بمجرد ذلك القول بأن القضاء بالامر الأول وأيضا
لا ريب في أن الجنس لا يتقوم في الخارج إلا بالفصل سواء قلنا
بأنهما يتمايزان فيه أو لا فيتوقف بقاء الجنس عند زوال فصله على
وجود فصل آخر فكما أن الأصل بقاء الجنس بعد زوال فصله كذلك
الأصل عدم حصول فصل آخر فلا يلزم القول بالاقتضاء وفيه نظر إذ
عدم اقتضاء تمايز الجنس والفصل في الخارج لجواز الانفكاك لا
ينافي جواز الانفكاك الثابت بالأصل فيصح تفريع النزاع عليه سلمنا لا
يلزم من عدم جواز الانفكاك هناك عدم جوازه هنا مع أن النزاع
هناك في جواز الانفكاك بحسب الموجود والتحصل وهو لا ينافي
جواز الانفكاك بحسب المطلوبية كما هو المقصود في المقام الخامس
أن تنظير
115

المقام بالجنس والفصل غير مستقيم إذ الجنس لا تقوم له بدون الفصل
ولا تمايز بينهما في الخارج على ما هو التحقيق بخلاف القيد و
المقيد أعني الصوم ويوم الخميس فإنهما شيئان متمايزان في الخارج
قطعا وفيه نظر إذ مقصود العضدي ابتناء النزاع على تمايز
المطلق والمقيد في الخارج لا على تمايز القيد والمقيد فيه كما لا
يخفى بل الوجه أن يبين الوجه في عدم استقامة التنظير بأن الجنس و
الفصل متمايزان بحسب الحقيقة قطعا فجاز أن يتمايزا بحسب الخارج
أيضا بخلاف المطلق والمقيد فإنهما متحدان في الحقيقة وإن
تغايرا في اعتبار العقل بحسب وصفي الاطلاق والتقييد فإن الماهية لا
تتصف بالاطلاق إلا في اعتبار العقل فلا يعقل التمايز بينهما في
الخارج بل ولا في العقل إلا في مجرد الاعتبار وإلا لزم التسلسل أو
عراء المقيد عن المطلق والملازمة كبطلان التالي بكلا شقيه ظاهرة
هذا إذا جعل التقييد وصفا للمقيد خارجا عنه وأما إذا جعل جزا له
داخلا فيه أمكن جعل التنظير باعتبار وجود التقييد في الخارج متميزا
فيكون المقيد مركبا فيه وعدمه فيكون بسيطا فيه وكذا لو اعتبر في
المبنى ما هو أعم من هذا التقدير والتقدير السابق ثم لا يذهب
عليك أن ما ذكره العضدي والمعترض في مبنى النزاع على تقدير
صحته لا يقتضي أن يكون الثاني قضاء بالمعنى الذي سبق بل واجبا
مستقلا والمقصود خلافه على ما مر
فصل اختلفوا في أن الامر بالشئ هل يقتضي الأجزاء إذا أتى به
المأمور على وجهه أو لا
ولا بد أولا من تحرير معنى الأجزاء ليتضح محل النزاع فنقول قد يطلق
الأجزاء ويراد به إسقاط القضاء ولعل المراد إسقاطه على تقدير
ثبوته فلا يرد على عكسه خروج مثل صحيح العيدين ولا على طرده
دخول فاسدهما مع أنه لا إسقاط فيه حقيقة وإنما المتحقق السقوط
وقد يطلق ويراد به إفادة الامتثال واعترض بعض المعاصرين على من
حده بالمعنى الأول بأنه يوهم خلاف المقصود إذ بظاهره يدل
على إرادة إسقاط القضاء فقط فيكون الفعل الغير المجزي ما لا يسقط
القضاء فقط وإن أسقط الإعادة وهو فاسد لان ما لا يسقط القضاء
لا يسقط الإعادة بالطريق الأولى هذا محصل كلامه وهو عند التأمل
مما لا محصل له وزعم أيضا أن ما يسقط القضاء قد لا يسقط الإعادة
كناسي القصر إذا تذكر بعد خروج الوقت وكذا ناسي النجاسة على
القول بالتفصيل بين المقامين أقول بناء على التفصيل إن لم يتذكر
في الوقت سقط عنه الإعادة والقضاء وإلا لم يسقطا عنه بل وجب
عليه الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه على تقدير عدم الاتيان
بها
كما هو الشأن في كل مقام يجب فيه القضاء فلا يثبت الانفكاك بينهما
في السقوط نعم يجوز الانفكاك من الجانبين عقلا إلا أنه غير واقع
شرعا إلا فيما مر وحيث يتعذر فيه الإعادة كالصوم المعين لكن لا
إسقاط فيه حقيقة ثم النزاع هنا في الأجزاء بالمعنى الأول كما اتفقت
عليه كلمتهم وأما الأجزاء بالمعنى الثاني فقد صرحوا بأنه لا نزاع في
أن الامر يقتضيه حتى نفي الريب عنه جماعة وهذا المقال لا يخلو
من شوب إجمال والتحقيق أن موافقة الامر الواقعي يوجب الامتثال
بحسبه كما أن موافقة الامر الظاهري يوجب الامتثال بحسبه ولا
يلزم من حصول الامتثال بأحد الاعتبارين حصوله بالاعتبار الاخر ما لم
يتحد المورد وسيأتي تحقيق الكلام فيه في آخر المبحث إذا
تقرر هذا فنقول ذهب الأكثرون إلى أن موافقة الامر يستلزم الأجزاء و
ذهب أبو هاشم وعبد الجبار إلى أنه لا يستلزمه قال عبد الجبار
فيما نقل عنه لا يمتنع عندنا أن يأمر الحكيم ويقول إذا فعلته أثبت
عليه وأديت الواجب ويلزم القضاء
مع ذلك هذا كلامه قوله ويلزم القضاء مع ذلك يحتمل أن يكون من
تتمة الحكاية فيكون مفاده الامر بالقضاء وأن يكون عطفا على
مدخول أن على أن يكون لازما من اللزوم أو متعديا من الالزام وكيف
كان فالمستفاد من كلامه جواز تعلق الامر بالقضاء مع حصول
الأداء والظاهر أنه أراد بالقضاء معناه المعروف في العرف من أداء
الفعل بعد الوقت استدراكا لفواته فيه أو بدلا عنه فيه على ما هو
المتبادر من إطلاقه ويساعد عليه قوله عندنا إذ لا نزاع لاحد في جواز
الامر بالفعل وبالمثل ثم ليس في كلامه تصريح بأن الامر
بالقضاء هل هو مستفاد من الامر بالأداء أو من غيره نعم ظاهر كلامه هو
الثاني كما تنبه له التفتازاني ويشهد له قولهم في العنوان أن
الامر هل يقتضي الأجزاء أو لا حيث جعلوا القول الاخر عدم اقتضائه
الأجزاء لا اقتضائه عدم الأجزاء ومنهم من حمل دعواه على الوجه
الأول زعما منه أن النزاع على الوجه الثاني يرجع لفظيا لرجوعه إلى
تسميته قضاء وهو سهو إذ الاشكال في المقام إنما ينشأ من حيث
كون الثاني قضاء حقيقة لا من حيث كونه مستفادا من الامر الأول إذ
مرجع ذلك إلى ثبوت الوضع أو العلاقة دون العقل كما يقتضيه كلام
الفريقين وحجتهم ثم الكلام هنا يأتي في مقامين الأول أن موافقة الامر
الظاهري هل يوجب سقوط القضاء بالنسبة إلى الامر الواقعي أو
لا الثاني أن موافقة كل من الامرين هل يقتضي سقوط القضاء بالنسبة
إليه أو لا والظاهر من إطلاق المثبتين في تأدية الدعوى إثبات
الوجهين معا كما أن الظاهر من إطلاق المنكرين إنكارهما معا لكن مفاد
أدلتهم مختلف فإن منها ما يبتني على الأول ومنها ما يبتني
على الثاني كما سنشير إليه وكيف كان فالحق في المقام الأول مع
منكري الاقتضاء في القضاء بل في الإعادة أيضا فيثبت الإعادة بنفس
الامر والقضاء بما دل على ثبوته على تقدير الفوات وفي المقام الثاني
مع مثبتيه ونحن نذكر أدلة الفريقين ونحرر البحث فيهما على
الوجهين وزعم الفاضل المعاصر أن من قال بأن الاتيان بالمأمور به
على وجهه مسقط للتعبد به يريد أنه لا يقتضي ذلك الامر فعله ثانيا
قضاء ومن قال بأنه لا يسقط يقول لا مانع من اقتضائه فعله ثانيا قضاء
في الجملة لا دائما فالنزاع في أن الامر بالشئ هل يقتضي فعله
ثانيا قضاء في الجملة أو لا لا أنه هل يجوز أن يكون معه أمر آخر
يقتضي فعله ثانيا قضاء أو لا إذ لا ريب في جواز ذلك فيعود النزاع معه
لفظيا لرجوعه إلى تسميته قضاء انتهى وقد عرفت مما حققناه أن هذا
الكلام مما لا مساس له بمقالة القوم في المقام لان كلامهم في
اقتضائه
116

الأجزاء أي استلزامه لسقوط التعبد به قضاء وعدمه كما يشهد به
عناوينهم وحججهم لا في عدم اقتضائه التعبد به قضاء أو اقتضائه
ذلك
ولو في الجملة كما ذكره على أن تنزيله لمقالة الخصم على دعوى
الاقتضاء في الجملة لا مطلقا مع خلو كلامه عنه غير سديد لان
الاقتضاء
إن كان عقليا وجب اطراده وإن كان لفظيا فلا بد أن يكون بوضع نوعي
فيلزم اطراده أيضا حيث لا نقل ولا قول به هنا ثم توهم أن
النزاع على الوجه الذي حرره لا يتفرع على النزاع المتقدم من أن الامر
بالقضاء هل يتبع الامر بالأداء أو لا بل يجري على كل من القولين
وكذا لا يتفرع على النزاع في أن الامر هل يفيد المرة أو التكرار أو لا و
اكتفي في بيان الأول بالإحالة إلى الوضوح وعلل في الثاني
بأن نفي المرة للغير إنما هو بالتنصيص وإسقاط القضاء على القول
بالأجزاء من جهة عدم الدليل وثبوت فعله ثانيا على القول بالتكرار
إنما هو بالأصالة وهنا على القول بعدم الأجزاء من باب القضاء و
الإعادة أقول من منع دلالة الامر بالأداء على الامر بالقضاء على تقدير
الاخلال به يلزمه المنع من ذلك على تقدير عدم الاخلال به بطريق
الأولوية فإن النزاع هناك بين النفي والاثبات الكليين كما عرفت فلا
يتأتى النزاع على القولين وكذا من قال بأن الامر للطبيعة فقط أو للمرة
فقط ليس له أن يقول لا مانع من اقتضائه فعله ثانيا قضاء في
الجملة وإلا لخرج عن كونه قائلا بذلك اللهم إلا أن يجوز ذلك بطريق
التجوز لو ساعدناه على ثبوت العلاقة لكن ينهدم على تقديره ما
بنى عليه في الاحتجاج على الخصم كما سنذكره فإنه لا يقتضي نفي
جوازه مجازا بل كان اللازم على هذا التوجيه أن يجعل هذا القول أحد
أقوال تلك المسألة لأنه قول بالتكرار لكن بغير المعنى المعهود من
القائلين به هذا كله مضافا إلى مناقشات أخر ترد على كلامه لا تكاد
تخفي على المتأمل وأما على تحريرنا لمحل النزاع فعدم التفرع ظاهر
لا سترة عليه واعلم أنه إن فسرت الإعادة بمعنى الاتيان بالفعل
في الوقت ثانيا لخلل في الأول كما نص عليه بعضهم كان بحكم
القضاء فيما ذكر إلا أن الخصم لم يصرح بالجواز فيها وإن فسرت
بمجرد أداء الفعل في الوقت ثانيا فعلى ما حررنا لا يقبل النزاع إذا
عرفت هذا فالذي تمسك به الأكثرون أمران الأول أن الاتيان بالمأمور
به على وجهه يستلزم عدم فوات المصلحة المقصودة بإتيانه
فاستدراكها بالقضاء تحصيل للحاصل وربما يرجع ذلك إلى دليلين
لاشتماله على الفساد من وجهين أحدهما خلاف الفرض إذ التقدير
أنه أتى بالمأمور به على وجهه ولم يفت منه شئ والاخر لزوم
تحصيل الحاصل كما يدل عليه الاستدراك المعتبر في مفهوم القضاء و
اعترض التفتازاني على الدليل المذكور بوجهين الأول أن ذلك يعني ما
نقلناه من كلام عبد الجبار مشعر بأن ليس النزاع في الخروج
عن عهدة الواجب بهذا الامر بل في أنه هل يصير بحيث لا يتوجه إليه
تكليف بذلك الفعل بأمر آخر أو لا ولا خفاء في أن المأتي به ثانيا لا
يكون نفس المأتي به أو لا بل مثله فلا يكون تحصيلا للحاصل الثاني أنا
لا نسلم أن القضاء عبارة عن استدراك ما فات من مصلحة الأداء
بل عن الاتيان بمثل ما وجب أولا بطريق اللزوم وأجاب بعض
الناظرين في كلامه عن الوجه الأول بأن الواجب في الحقيقة إنما هو
نفس
الطبيعة دون خصوصيات الافراد ولا ريب في أن الطبيعة التي وقعت
أداء هي التي وقعت قضاء فإذا أتى بها المكلف أداء ولم يسقط به
القضاء فقد وجب الاتيان بها بعد ما حصلت وهو تحصيل الحاصل إذ
ليس الواجب إلا تحصيل الطبيعة في الجملة قال الفاضل المعاصر في
دفعه وهذا قريب من الهذيان إذ ذلك يستلزم أن يكون الاتيان بجميع
الأنواع المندرجة تحت جنس بعد الاتيان بواحد منها تحصيلا
للحاصل هذا كلامه وفيه نظر إذ ليس غرض المجيب لزوم تحصيل
الحاصل هناك من حيث الاتيان بالطبيعة كما هو قضية الدفع بل من
حيث الاتيان بالواجب على تقدير أن يكون المطلوب تحصيل الطبيعة
في الجملة ولزوم ذلك على هذا التقدير ظاهر وكأنه لم يستوف
كلامه كما يشعر قصور عبارته عن نقل مرامه نعم يرد على المجيب أنا
لا نسلم أن الواجب في الأداء والقضاء شئ واحد هو نفس الطبيعة
المطلقة بل الواجب في الأداء الطبيعة المقيدة بكونها في الوقت وفي
القضاء الطبيعة المقيدة بكونها خارج الوقت فيتعدد كيف ولو كان
الواجب تحصيل
الطبيعة في الجملة لم يتحقق هناك صفة الأداء والقضاء قطعا ويرد
على أصل الاعتراض أن المأتي به ثانيا وإن كان غير المأتي به أولا
لكن المصلحة التي قصد تحصيلها به حاصلة بالمأتي به أولا فلزوم
تحصيل الحاصل به كما تضمنه الاستدلال المذكور مما لا محيص عنه
نعم هذا إنما يتجه بالنسبة إلى المقام الثاني من المقامين اللذين
حررناهما في محل النزاع وأما بالنسبة إلى المقام الأول فساقط لان
الذي قصد تحصيله ثانيا هو الاتيان بالمأمور به على وجهه ولو بطريق
شرعي لم ينكشف فساده وهو لم يحصل والذي حصل هو
موافقة الامر الظاهري بطريق انكشف عدم مطابقته للامر الواقعي ولم
يقصد حصوله فلا يلزم ما ذكره المستدل من تحصيل الحاصل و
يمكن الجواب عن الثاني بما مر من أن الظاهر من لفظ القضاء ما ذكرناه
وفي كلامه ما يؤيد ذلك وأما تفسير القضاء بالمعنى المذكور
فبعيد وعلى تقديره فالكلام معه مبني على التقدير الاخر كما أشرنا
إليه وقد يجاب عن هذا الاعتراض أيضا بما مر في الجواب الذي
زيفناه من لزوم تحصيل الحاصل وقد عرفت ما فيه الثاني أنه لو لم
يستلزم سقوطه لم يعلم امتثال أبدا والتالي باطل بالضرورة و
الاتفاق أما الملازمة فلان التقدير جواز أن يأتي المأمور به على وجهه و
لا يسقط عنه بل يجب عليه أن يأتي به قضاء وكذلك إذا فعل
القضاء وفيه نظر لان الملازمة ممنوعة أولا فلان الخصم صرح
بحصول الامتثال وإن لم يقل بسقوط القضاء وأما ثانيا فلانه إنما ادعى
عدم اللزوم عقلا فلا ينافي العلم بسقوطه في بعض الموارد شرعا ولو
جعل التالي عدم العلم بالخروج عن عهدة التكليف بالأداء و
اقتصر في إبطاله على الضرورة أو بين الملازمة بأن الامتثال إنما يتحقق
بتحصيل المصلحة المقصودة ولا علم بتحصيلها مع تجويز
الامر باستدراكها بعد
117

المستلزم لفواتها اندفع الأول لكن يكون هذا الدليل على الوجه الثاني
والدليل الأول بدليين فلا يتعددان ويمكن دفع الثاني بأن المراد
عدم العلم بالنظر إلى ذلك الامر واستدل بعض المعاصرين بما مر
سابقا من أن المتبادر من الامر ليس إلا طلب الماهية المطلقة من غير
اعتبار مرة ولا تكرار فلا يدل على ثبوت القضاء وهو مبني على
تحريره السابق وقد عرفت ما فيه احتج النافون بوجهين الأول لو
سقط لسقط قضاء الحج بإتمام فاسده لتعلق الامر به وأنه لا يسقط
بالاتفاق والجواب بعد تسليم أن الثاني قضاه بالمعنى الذي سبق أن
القضاء ليس للمأتي به بل للذي لم يؤت به وهو الحج الصحيح وأما
وجوب إتمام الفاسد فليس للامر بالحج بل لأمر آخر فهو مجز عن
الامر الثاني لوقوعه على وجهه ولهذا لا يقضي فاسدا وغير مجز عن
الامر الأول إذ لم يأت به على وجهه ولا يذهب عليك أن الدليل
المذكور إنما يتجه بالنسبة إلى المقام الثاني إذ الامر بإتمام الحج أمر
واقعي لا ظاهري الثاني لو سقط لسقط عن المصلي بظن الطهارة
الشرعي إذا انكشف له الخلاف والتالي باطل أما الملازمة فللاتفاق
على أنه مأمور حينئذ بالعمل على حسب ظنه وأما بطلان التالي
فبالاتفاق وأجيب أولا بالمنع من انتفاء التالي لوقوع الخلاف فيه وهذا
المنع ضعيف عندنا وإن بطل مستند الخصم عليه من نقل الاتفاق
وثانيا بأن الثاني واجب مستأنف وتسميته قضاء مجاز لأنه مثل الأول
ولا يخفى أن هذه الكلمات من الاستدلال وجوابيه إنما يتجه
بالنسبة إلى المقام الأول دون الثاني قال التفتازاني في دفع الجواب
الأخير وهذا بعيد إذ لم يعهد للامر مثلا فرض غير الأداء والقضاء
ولو سلم فيمكن أن يقال بذلك في كل قضاء فلا يوجد قضاء حقيقة
قطعا وفيما ذكره أخيرا نظر إذ لمانع أن يمنع إمكان ذلك في كل
مقام لقيام الدليل عليه في بعض المواضع قطعا والتحقيق في المقام ما
أشرنا إليه من أن الامر بالصلاة هناك أمر ظاهري لا يقتضي العمل
بحسبه إلا الأجزاء الظاهري فإذا انكشف الخلاف انكشف عدم
حصول الأجزاء والامتثال للامر الواقعي فيترتب عليه أحكامه و
تحقيق
ذلك أن الأحكام الشرعية سواء كانت تكليفية
أو وضعية إنما تتبع متعلقاتها الواقعية لا الاعتقادية علما كان أو ظنا لان
الألفاظ التي تعلقت تلك الأحكام بها موضوعة بإزاء المعاني
الواقعية على ما يشهد به صريح العرف واللغة وأما العلم أو ما قام
مقامه فإنما هو طريق إليها فلا يعتبر إلا من حيث كونه كاشفا عنها
موصلا إليها فالمكلف في الفرض المذكور مأمور بالصلاة المقرونة
بالطهارة الواقعية وقد جعل الشارع له مضافا إلى العلم الذي هو
طريق عقلي طرقا فإذا عول على بعض تلك الطرق ثم انكشف له
فساده من عدم إيصاله إلى الواقع تبين أنه لم يأت بما أمر الشارع به من
الصلاة المقرونة بالطهارة الواقعية فيلزم استدراكها ولو خارج الوقت
لصدق الفوات في حقه غاية ما في الباب أن لا يكون إثما به
لتحقق العذر في حقه وببيان آخر هناك أمران أمر بالصلاة المقرونة
بالطهارة الواقعية مشروطا فعليته أو بقاؤه بعدم العذر المانع و
منه أداء الطريق العقلي أو الشرعي كالاستصحاب إلى خلاف الواقع و
أمر فعلي بالصلاة المقرونة بالطهارة الظاهرية الثابتة بأحد الطرق
الشرعية وإن تخلف عنها الايصال إلى الواقع وهذا الامر ناش من
وضع الطريق عند العلم بالامر الأول فإن تطابق الأمران امتثلهما
المكلف وعد امتثالهما واحدا لأولهما إلى أمر واحد وإن تعددت
الجهة كما مر نظيره في المحرم وإلا امتثل الامر الذي أتى بالفعل على
وجهه وبقي في عهدة الاخر وما يتخيل من أن المفهوم من أدلة حجية
الاستصحاب أو خبر العدلين أو العدل الواحد على القول به أو غير
ذلك كون التكليف على حسب مؤداها لا غير حتى إنه لو عمل
بمقتضاها كان ممتثلا بحسب الواقع سواء تبين له الخلاف أو لم يتبين
فيجب تأويل ما يقتضي بظاهره أن يكون التكليف على حسب الواقع
فليس بشئ بل المفهوم من تلك الأدلة إنما هو مجرد وجوب
التعويل عليها كالأدلة الدالة على وجوب التعويل على العلم ولا منافاة
بينها وبين ما دل على أن التكليف الواقعي على حسب الواقع وهي
ظواهر تلك الخطابات كما يشهد به صحة التصريح بهما من غير أن
يكون هناك شوب منافاة وتعارض فإذا لا داعي إلى ارتكاب
التأويل في غير ما قام عليه الدليل
نعم مقتضى الأصول الأولية وجوب تحصيل العلم بحصول المطلوب
ما لم يقم دليل على خلافه وتلك الأدلة قامت على الاكتفاء بغيره و
بالجملة فلا سبيل إلى جعل الامتثال للامر الظاهري موجبا للامتثال
للامر الواقعي عند اختلاف المورد إذ حصول الامتثال بأمر من غير
إتيان بمورده غير معقول نعم يجوز أن يكون مسقطا لبقاء التكليف به
عند قيام دليل على السقوط فيقيد به الاطلاق المقتضي لعدم
السقوط وأما حكمنا بالامتثال في بعض موارد المقام كما في التلبس
بالصلاة قبل دخول الوقت أو في الثوب النجس على تفصيل تقرر
في محله فلتعميمنا مورد الحكم الواقعي هناك إلى ما أدى إليه الطريق
المعتبر شرعا لدلالة الدليل عليه وذهب الفاضل المعاصر على ما
يظهر من كلامه إلى القول بأن موافقة الامر الظاهري يجزي عن الامر
الواقعي بمعنى أنه يقتضي سقوطه ما لم يدل دليل على خلافه و
احتج عليه بالأصل وبأن الظاهر من الامر الثاني إسقاط الامر الأول
بشهادة العرف واللغة ثم قال نعم لو ثبت من الخارج أن كل مبدل
إنما يسقط بالبدل ما دام غير متمكن منه فلما ذكر وجه وأنى لك
بإثباته بل الظاهر الاسقاط مطلقا فيرجع النزاع إلى إثبات هذه
الدعوى لا أن الامر مطلقا يقتضي القضاء أو يفيد سقوطه فتصير
المسألة فقهية لا أصولية انتهى أقول لا ريب في أن قضية إطلاق الامر
بشئ عدم سقوطه بفعل غيره وإن كان مأمورا به بأمر آخر ودعوى
سقوطه به تقييد للامر ولو فسر المأمور به بما يؤدي إليه طريق
شرعي كان مجازا وعلى كل من التقديرين لا بد من قيام دليل عليه و
ليس في الامر الثاني ما يقتضي ذلك لا عرفا ولا لغة كما عرفت و
التمسك بأصالة البراءة وأصل العدم في مثل المقام فاسد من وجهين
الأول أن الذي يتجه فيه أصل الاشتغال لا أصل البراءة وأصل بقاء
118

التكليف لا أصل العدم وذلك للقطع بحصول الاشتغال والشك في
البراءة عنه وسقوطه فيستصحب الثاني أن الاستناد إلى الأصول
الظاهرية إنما يصح حيث لا يعارضها ظاهر خطاب وقد عرفت أن
الظاهر من إطلاق الامر عدم السقوط وأما ما ادعاه من أن ما أمر به
بالامر الظاهري بدل عما أمر به بالامر الواقعي فممنوع إذ لا شاهد عليه
على أنا نقطع بأن الصلاة بالطهارة اليقينية أو الظنية لم يؤمر
بها من حيث كونها بدلا عن الصلاة بالطهارة الواقعية بل من حيث كونها
هي فالاعتداد بالظن أو اليقين إنما هو من حيث كونه كاشفا
عنها موصلا إليها وأما ما ثبت بدليته على تقدير العجز عن المبدل
كالتيمم عن الوضوء وكالقعود وما بعده من الحالات المترتبة عن
القيام فالدعوى متجهة فيه إذ الظاهر من البدلية عرفا ولغة سقوط الامر
بالمبدل منه مطلقا نعم إذا كان الامر بالبدل على تقدير عدم
التمكن من المبدل في تمام الوقت فعلم ذلك أو ظن حيث يعتبر الظن
وأتى به ثم انكشف الخلاف رجع إلى الأصل السابق ثم لا يخفى أن
الغرض الأصلي من هذا المبحث بيان كيفية دلالة الامر الذي هو دليل
شرعي لا بيان حال البدل والمبدل اللذين هما فعل المكلف
فالمسألة أصولية لا فقهية
فصل اختلفوا في أن الامر بالامر بالشئ أمر للمأمور الثاني بذلك
الشئ أو لا
والحق أن مجرد الامر بالامر أو ما بمعناه كالايجاب لا يقتضي الامر لغة
إلا إذا توقف صدور حقيقته من المأمور على الامر باتباعه فيه
فيقتضي بظاهره الامر به بواسطة أمر المأمور لئلا يلزم الخروج عن
ظاهر اللفظ أو التكليف بالمحال فلو قال له أوجب عليه كذا أو
افرض عليه كذا أو قال أمره بكذا فإن كان المأمور الثاني ممن يجب
عليه طاعة المأمور الأول ولو بنذر وشبهه أو كان المأمور الأول
في الفرض الأخير أعلى مرتبة من المأمور الثاني بحيث يصح معه
صدق الامر عرفا وإن تخلف عن الوجوب لو قلنا به لم يقتض الامر
المذكور أمره بالاتباع لجواز صدوره ممن ليس له أهلية أمره أو الايجاب
عليه وإلا أفاد بظاهره الامر به بواسطة أمر المأمور كما مر و
يجوز أن يكون مفاده حينئذ ولو بالالتزام جعل سلطان وولاية له على
المأمور الثاني بحيث يكون له الامر من قبل نفسه من غير حاجة
إلى أن يكون مأمورا باتباعه ومن هذا الباب أمر الشارع ولي الصبي
بأمره في موارده المقررة ولهذا يستحق الصبي معاقبة الولي عقلا
وشرعا على تقدير مخالفته له دون معاقبة الشارع لعدم مخالفته له و
أما عرفا فالظاهر منه الامر به مطلقا ما لم يقم قرينة على خلافه
فإنهم يعدون الامر الثاني مبلغا لا منشأ للتكليف ومؤسسا كما يشهد به
تتبع موارد استعماله وإن كان اللفظ باقيا على معناه الأصلي هذا
إذا كان المأمور به مادة الامر ونحوه وأما إذا كان صيغة الامر كقوله قل
له افعل كذا فالتحقيق أنه لا يقتضي الامر بالفعل لغة مطلقا إذ
ليس معناه إلا الامر بإطلاق هذا القول نعم يقتضيه بحسب العرف كما
مر هذا كله إذا أطلق الامر بالامر أما إذا قال له مره عني بكذا أو قال
له عني افعل كذا فلا ريب في أنه يدل على أمر المأمور من قبله وأن
المخاطب مبلغ عنه وإن قال مره من قبل نفسك أو قل له افعل كذا من
قبل نفسك دل على عدم كونه مبلغا فإن كان المأمور له أهلية الامر وإلا
كان قضية ظاهر الامر في الأول إعطاؤه أهلية ذلك كما مر و
الظاهر أن هذين القسمين خارجان عن محل النزاع وأما ما احتج به
النافون من قوله عليه السلام مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين
حيث لا وجوب على الصبيان ومن أنه لا تناقض بين قول القائل
مر عبدك بأن يتجر وبين قوله للعبد لا تتجر فغير مناف لما بيناه كما
عرفت ويلحق بما مر ما لو ترامت الأوامر أوامره بالامر به ندبا
أو ندب إليه الامر به وجوبا أو ندبا ومثله الإباحة والارشاد وقس على
الامر حال النهي والملفق منهما ولو مع غيرهما وقد يعد من
فروع المسألة قول القائل مر عمرا ببيع عبدي فهل له أن يبيعه قبل أمره
أو لا وكذا لو قال إنه وكيلي عن بيعه
فصل إذا تعاقب أمران بمتماثلين
فإن كان هناك ما يرجح الحمل على المرة تعين الحمل عليها نحو صل
ركعتين صل الركعتين وكقول المولى لعبده اسقني ماء فإن ظهور
اللام في العهد وقرينة المقام في الثاني شاهد على عدم إرادة التكرار و
كذا إذا كان ظاهر الخطاب أو المقام مفيد الإرادة التأكيد و
وحدة المطلوب وإلا حمل على التكرار سواء كان في اللفظ ما يرجح
الحمل عليه كقوله صل ركعتين وصل ركعتين إذ التأكيد بالواو قليل
وأولى منه العطف بالفاء وثم أو لم يكن لان التأسيس أظهر من التأكيد
في متفاهم العرف وهذا التعليل غير مطرد والتحقيق أن يفصل
حينئذ بين ما إذا أورد لكل منهما سببا مغايرا لسبب الاخر كما لو قال إن
جاءك زيد فأعطه درهما ثم قال إن أكرمك فأعطه درهما
فاتفق المجئ والاكرام أو ذكر لأحدهما سببا وأطلق الاخر واتفق
حصول السبب فيختار التأسيس في هاتين الصورتين على التأكيد
على إشكال في الصورة الأخيرة لاحتمال حمل المطلق فيها على
المقيد لكنه ضعيف على ما سيأتي تحقيقه في مقامه وإلى ذلك ينظر
القول بأصالة عدم تداخل الأسباب وبين ما إذا لم يذكر له سببا له أصلا
أو ذكر السبب الأول بعينه فيبتني في هاتين الصورتين على
التأكيد كل ذلك يظهر بالتأمل في محاورات العرف مضافا في الثاني
إلى أصالة عدم تعدد التكليف فقد اتضح بما قررنا ضعف القول
بالمرة مطلقا وضعف القول بالتكرار مطلقا
القول في النهي
فصل لفظ النهي عرفا ولغة
عبارة عن طلب العالي من الداني ترك الفعل على سبيل الالزام فخرج
الدعاء والالتماس لعدم الوصفين والكراهة لعدم الالزام ومن
أدخلها فيه أسقطه من الحد والمراد بالفعل مطلق الحدث أعني
مدلول المصدر على ما سبق في حد الامر فدخل نحو لا تترك باعتبار
الترك لتعلق النهي به حقيقة وإن خرج عنه باعتبار الفعل المقيد به و
خرج نحو اترك باعتبار الترك وإن دخل فيه باعتبار الفعل
المقيد به على ما مر وأما نحو كف واكفف عن الزنا فهو من باب الأمر
عندنا سواء أخذ الكف مطلقا أو مقيدا بالزنا لصدق حده عليه
دون حد النهي وما زعمه بعض المعاصرين هنا من أنه نهي باعتبار
كون الكف آلة لملاحظة حال الزنا فضعيف إذ ليس اكفف موضوعا
لطلب الكف بهذا الاعتبار كيف وما ذكره معنى حرفي والكف
المأخوذ فيها معنى اسمي ولو سلم فلا نسلم أنه يكون حينئذ نهيا
لعدم
119

صدق حده عليه نعم يصدق النهي عليه باعتبار ما يلزمه عرفا بل يفهم
منه من طلب الترك ولا كلام فيه ومن منع تعلق التكليف بالترك
أبدل لفظه في الحد بالكف وإنما تركنا قيد الاستعلا وإن اعتبره
بعضهم لما مر بيانه في معنى الامر ثم ما ذكرناه من أنه حقيقة في
الالزام بالترك هو الظاهر من موارد استعماله فإطلاق المنهي عنه على
المكروه مجاز بدليل التبادر ويساعد عليه الآية الآتية وخالف
في ذلك بعض فجعلوه حقيقة في المكروه أيضا ويعرف الكلام فيه
بمقايسته إلى ما مر في بحث الامر وقد يطلق ويراد به صيغة لا تفعل
ونظائرها وهذا هو المعنى المصطلح عليه عندنا وعند أهل العربية و
قد اختلفوا في مدلوله بهذا المعنى كاختلافهم في مدلول الامر
فالأكثر على أنها حقيقة في التحريم وقيل بل في الكراهة وقيل بل
مشترك بينهما والحق أنه موضوع للقدر المشترك أعني طلب ترك
الفعل كما ذهب إليه بعضهم لكنه عند الاطلاق ظاهر في عدم الرضا
بالفعل فيفيد التحريم والحظر والمستند على ذلك التبادر كما مر
في بحث الامر ولك تمشية بقية الأدلة السابقة هنا أيضا احتج
الأكثرون بالتبادر فإن المولى إذا قال لعبده لا تفعل كذا ففعل عد عاصيا
و
ذم لفعله ما نهى عنه المولى وذلك آية التحريم وإذا ثبت ذلك عرفا
ثبت لغة وشرعا لأصالة عدم النقل وبأن العلماء كانوا لا يزالون
يستدلون بالنواهي المطلقة على التحريم من غير نكير وذلك إجماع
منهم على أنها حقيقة في التحريم والجواب عن الأول أن التبادر
المذكور إطلاقي فلا يقتضي الحقيقة كما مر وعن الثاني بأنا لا نتحاشى
عن دلالة الصيغة المجردة على التحريم وإنما نمنع دلالتها عليه
وضعا وليس فيما نقل عنهم دلالة عليه وقد يستدل بقوله تعالى وما
نهيكم عنه فانتهوا فإن الامر للوجوب كما مر وجوب الانتهاء نفس
حرمة الفعل لا يقال هذا وارد في نواهي الرسول فلا يتناول نواهيه
تعالى ولا نواهي الأئمة عليهم السلام والمقصود إثبات الدلالة في
الجميع أو يقال لا نسلم أن وجوب الانتهاء يقتضي حرمة الفعل بل
الأعم منها ومن كراهية إذ معناه وجوب العمل بمقتضى النهي ولا
ريب
في وجوب الانتهاء عن المكروه أيضا بمعنى وجوب العمل بمقتضى
كراهته لأنا نقول أما الأول فمدفوع بأن المقصود يتم في الباقي
بعدم القول بالفصل وقد يتمسك في إلحاق نواهيه تعالى بالأولوية و
هي في محل المنع لعدم وضوح المناط وأما الثاني فمدفوع بأن
المفهوم من الانتهاء موافقة النهي بترك الفعل وأما القول بمقتضاه مع
الفعل فلا يسمى انتهاء حقيقة لا لغة و لا عرفا في أصل الحجة بحث
وهو أن لفظ النهي إن كان موضوعا لطلب الترك على وجه الالزام كما
اخترناه فهو لا يتناول مدلول الصيغة ما لم يثبت استعمالها في
الخطر فإثبات استعمالها في الخطر بتناوله لها دور وإن كان موضوعا
لمطلق طلب الترك دار الامر بين أحد التأويلين من تخصيص
الموصولة أو حمل الامر على الطلب المطلق أعني القدر المشترك و
التخصيص وإن كان في نفسه أرجح إلا أنه هنا من حيث استلزامه
إخراج أكثر الافراد على الظاهر أما مرجوح بالنسبة إلى التأويل في الامر
أو مساو له وكيف كان فلا ينهض دليلا على المقصود وفيه
نظر إذ يكفي في التمسك بالآية الاستناد إلى العرف واللغة في تسمية
مدلول الصيغة المجردة عن القرينة الصادرة عن العالي نهيا وهذا
ظاهر بالرجوع إلى المحاورات ولا حاجة إلى تعيين معنى النهي و
الصيغة نعم يتجه على أصل الاحتجاج أن الآية إنما تقتضي مجرد
الاستعمال أو الاطلاق وهو لا يقتضي الوضع كما هو المقصود و
يعرف حجة القول بالكراهة والاشتراك بالمقايسة إلى ما مر في مبحث
الامر ثم من القائلين بأنها للتحريم من توقف في دلالتها عليه إذا وردت
في الاخبار المروية عن الأئمة نظرا إلى شيوع استعمالها في
عرفهم في الكراهة حتى صارت فيها من المجازات المساوي احتمالها
لاحتمال الحقيقة وقد تقدم نظير هذا الكلام منه في الامر والجواب
الجواب
فصل الحق أن المطلوب بالنهي إنما هو ترك الفعل
أعني التسبب لعدمه ونفيه وذهب جماعة إلى أنه أمر وجودي وهو
الكف عنه لنا وجوه الأول أن النهي حقيقة في طلب الترك مجاز في
طلب الكف لتبادر الأول منه دون الثاني وليس هناك ما يستدعي
صرفه من معناه الحقيقي إلا ما تخيله الخصم وهو لا يصلح له على ما
سنبين فساده فتعين الحمل عليه وهو المطلوب الثاني أن المطلوب و
لو كان نفس الكف لوجب العزم على الفعل والميل إليه لتوقف
صدقه عرفا عليه ولعصى بالترك إذا تجرد عن الكف لعدم الاتيان
بالمطلوب وفساد كل من اللازمين يقضي بفساد الملزوم لا يقال
مفاد النهي طلب الكف عند إرادة الفعل والعزم عليه لا مطلقا فيندفع
المحذوران لأنا نقول هذا التقييد مما لا يستفاد من الصيغة عند
إطلاقها فلا وجه لارتكابه على أنا نقطع بأن المكلف حال عدم إرادة
الفعل منهي ولا اختصاص له بحال الإرادة الثالث أنه لو كان
المطلوب نفس الكف لزم أن لا يكون عقاب على نفس الفعل بل على
ترك الكف لان الطلب لم يتعلق إلا به وأنه باطل قطعا وما يقال في
دفعه من أن المطلوب بالذات إنما هو الترك لكن لما لم يكن مقدورا
تعلق الطلب بالكف وسيلة إليه فغير جيد إذ العقاب لا يترتب عقلا و
عادة إلا على مخالفة ما طلب من المكلف دون الآثار التي قصد ترتبها
على الفعل المطلوب إذا لم يتعلق بها طلب حقيقة الرابع أنه يلزم
على التقدير المذكور أن لا يستحق عقاب على معصية والتالي باطل
بيان الملازمة أن ما يستحق عليه العقاب إما ترك واجب أو فعل
حرام وشئ منهما لا يصلح لترتبه عليه أما أنه لا يصلح لترتبه على
ترك الواجب فلان الترك بنفسه غير مقدور على زعم الخصم ولا
عقاب على غير المقدور إذ كل ما يصح ترتب العقاب عليه يصح تعلق
التكليف والخطاب به قطعا وأما الكف عنه فهو وإن كان مقدورا
لكن ترتب العقاب عليه يقتضي أن يكون متعلقا للتكليف ولا تعلق له
به أما بفعله فظاهر وأما بتركه فلما مر وأما بالكف عنه فلعود
الكلام إليه ويتسلسل وأما أنه لا يصلح لترتبه على فعل الحرام فلانه
إما على نفسه وقد مر
فساده في الوجه الثاني أو على ترك الكف عنه وقد مر فساده في
الوجه الأول وأما بطلان التالي فمعلوم بالضرورة و
120

ولعل الخصم يتعسف فيكتفي في ترتب الذم والعقاب على فعل
يتعلق التكليف بضده وهو كما ترى أو يلتزم بأن كلا من ماهية الوجوب
والحرمة مركبة من مطلوبية شئ ومبغوضية شئ فوجوب الواجب
مركب من مطلوبية الفعل ومبغوضية الكف وحرمة الحرام مركبة
من مبغوضية الفعل ومطلوبية الكف فكما يصح ترتب الثواب على
فعل المطلوب كذلك يصح ترتب العقاب على فعل المبغوض و
يشكل
هذا البيان بأن المطلوبية والمبغوضية صفتان متقابلتان كالفعل والترك
فمتى اتصف أحدهما بإحداهما وجب بحكم التقابل أن يتصف
الاخر بالأخرى فإذا اتصف الفعل بالمطلوبية لزم أن يتصف الترك
بالمبغوضية على حسب مطلوبية الفعل وإذا اتصف الفعل
بالمبغوضية
وجب أن يتصف الترك بالمطلوبية على حسب مبغوضية الفعل وأما
الكف فلا تقابل له مع الفعل فلا يجدي اتصافه بالوصف المقابل
الخامس ما أورده في المعالم من أن تارك المنهي عنه كالزنا مثلا يعد
في العرف ممتثلا ويمدحه العقلا على أنه لم يفعل من دون نظر
إلى تحقق الكف عنه بل لا يكاد يخطر الكف ببال أكثرهم وذلك دليل
على أن متعلق التكليف ليس هو الكف وإلا لم يصدق الامتثال ولم
يحسن المدح على مجرد الترك هذا كلامه وفيه نظر يظهر مما سيأتي
ولو قال تارك المنهي عنه لأجل النهي يعد ممتثلا بالترك ويمدح
عليه تم وسلم عن الاشكال ولك أن تجعل هذا دليلا سادسا احتج
الخصم بأن الترك عدم فلا يؤثر القدرة فيه فلا يتعلق التكليف به فلا
يكون مطلوبا بالنهي فيتعين الحمل على الكف إذ لا يخرج عنهما اتفاقا
وهو المطلوب والدليل على أن القدرة لا تتعلق بالعدم أن العدم
نفي محض وهو لا يصلح أثرا للقدرة وأنه سابق على القدرة وتأثير
المتأخر في المتقدم غير معقول وأنه مستمر أزلي والقدرة
تستدعي أثرا متجددا يستند إليها لا يقال العدم قد يكون مسبوقا
بالوجود كترك القيام بعد حصوله فهو متأخر عن القدرة متجدد
بعدها فينتقض كلية الدعوى في الدليلين الأخيرين لأنا نقول الكلام في
الاعدام الخاصة ولا ريب في أنها أزلية إذ عدم قيام زيد في وقت
خاص مستمر من الأزل
أو نقول إذا ثبت المقصود في الاعدام الأزلية ثبت في غيرها لعدم
الفارق والجواب أن الترك ليس مجرد العدم بل جعله والتسبب له و
نمنع من عدم كون العدم مقدورا كيف ولو لم يكن العدم مقدورا لم
يكن الوجود أيضا مقدورا لتساوي نسبة القدرة إلى طرفي الوجود
والعدم إذ القدرة على أحدهما خاصة اضطرار لا قدرة ودعوى أن
العدم المحض لا يصلح أثرا للقدرة مصادرة وقد تحقق في محله أن
أثرية كل أثر بحسبه مع أن المطلوب بالنهي جعل عدم لاحق للموجود
وله عند بعض أهل المعقول حظ من الوجود الاعتباري باعتبار
وجود منشأ الانتزاع وليس المراد أن العدم السابق على القدرة مستند
إليها بل العدم المقارن فإن عدم الفعل قبل وجود الفاعل يستند
إلى عدمه وعدم علمه وقدرته وإرادته وهذا غير مقدور له ولا
مطلوب منه بالنهي وبعد وجوده ووجود علمه وقدرته يستند إلى
عدم إرادته فقط وهذا مقدور له لاستناده في الحقيقة إلى القادر من
حيث كونه قادرا وتوضيحه أن القادر المختار إذا علم ببعض
مقدوراته الفعلية فلا بد له من أن يختار إما فعله فيريده أو تركه فلا
يريده وليس له حينئذ حالة ثالثة فكل من إرادته وعدمها مستند
إلى اختياره فيستند أثرهما إليه لا محالة أو نقول يكفي في استناد العدم
إلى القدرة توقفه على عدم تعلقها برفعه عند حصول شرائطها
وهذا القدر من الاستناد كاف في صحة التكليف به قطعا كما يكفي في
صحة التكليف بمسبب مجرد القدرة على سببه المعد لحصوله على
أن المراد بأزلية العدم إن كان أزليته بحسب الذات فممنوع لان الفعل
ممكن والممكنات في حد ذواتها عرية عن وصفي الوجود والعدم
وإن كان أزليته بحسب الزمان فدعوى عدم تأثير القدرة فيه مطلقا
ممنوعة إلا أن هذا المنع إنما يتجه بالنسبة إلى القدرة الأزلية ومحل
البحث إنما هو القدرة الحادثة وقد يجاب بأن أثر القدرة استمرار العدم
لا نفس العدم ولا نسلم أن استمراره لا يصلح أثرا للقدرة لان
القادر يمكنه أن لا يفعل فيستمر أو يفعل فلا
يستمر فأثر القدرة إنما هو الاستمرار المقارن لها وهو مستند إليها و
متجدد بها وفيه نظر لان استمرار العدم وبقاءه صفة له فيكون
معدوما أيضا لا محالة فهو إذن بحكم العدم في عدم جواز تعلق القدرة
والتكليف به على ما أفاده دليل الخصم فإن تم لزم عدم جواز
تعلق التكليف به أيضا وإلا فلا مانع من تعلقه بنفس العدم فالتفرقة غير
مسموعة مع أن الاستمرار غير معقول فيما إذا كان العدم
مسبوقا بالفعل ودعوى أن الاعدام الخاصة أزلية كما سبقت لا جدوى
لها هاهنا لظهور أنه لا يفهم من النهي طلب استمرار الاعدام
الخاصة باعتبار كونها أزلية مع أن الخصوصية إن اعتبرت قيدا للعدم
فهو حادث قطعا لانتفائه قبلها وإنما يتم دعوى أزلية الزمانية إن
اعتبرت الخصوصية قيدا للمعدوم فقط على أن هذا مناف لما ذكر في
الدعوى من تعلق الطلب بنفس العدم إذ على هذا البيان يلزم أن
يكون المطلوب بالنهي استمراره لا نفسه وفيه أيضا خروج عن وضع
الصيغة فإن المتبادر منها طلب ترك الطبيعة كما عرفت لا طلب
استمرار الترك السابق ويمكن أن يتمسك في دفعه أيضا ببعض
الوجوه التي أسلفناها في دفع القول بالكف وقد يستدل على القول
المذكور بأن المطلوب بالنهي لو كان نفس العدم لزم أن يكون المكلف
ممتثلا ومثابا بمجرد الترك ولو لغير الامتثال والتالي باطل
أما الملازمة فلإتيانه بالمطلوب وأما بطلان التالي فبشهادة العرف و
العقل وقد يضاف إلى ما ذكر في التالي حصول الامرين على
تقدير الترك حال عدم القدرة على الفعل وهو خطأ لان التكليف
بأنواعه لا يتعلق بالمكلف في غير حال القدرة والجواب لا نسلم أن
الاتيان بالمطلوب بمجرده يوجب الامتثال بل إنما يوجبه إذا كان
الداعي
121

موافقة الطلب أما لو أتى به بدون ذلك فإن كان المقصود مجرد حصوله
سقط عنه التكليف بحسب ما أتى به من غير مخالفته وكان ما
أتى به عين المطلوب وإن كان المقصود حصوله على وجه الامتثال
كما في الصوم لم يسقط بمجرد حصوله على حذو ما مر في الامر و
من هنا يتبين ضعف ما مر ذكره في الدليل الخامس ثم اعلم أن من قال
بأن الطلب لا يتعلق بالعدم يلزمه القول بأن النهي عن الشئ عين
الامر بضده العام أعني الكف إن سمي طلب الكف أمرا بمعنى أنهما
لفظان عبر بهما عن مفهوم واحد وعلى قياسه الكلام على القول
الاخر وهذا ظاهر ثم للفاضل المعاصر إشكالان أحدهما أنه لا فرق
بين المقام والمقام الذي مرت الإشارة إليه وهو أن النهي عن الشئ
هل يقتضي الامر بضده أو لا وفيه نظر لان الكلام هنا في تعيين
المطلوب بالنهي مع قطع النظر عما يلزمه من الاعتبارات والبحث
هناك
إنما هو عما يلزمه من الاعتبارات مع قطع النظر عن تعيين المطلوب به
هذا إذا أرادوا بالضد الضد العام أعني مجرد الترك أو الكف و
أما إذا أرادوا به مطلق الضد أو الضد الخاص كما يظهر من إلزامهم
القائلين بالاقتضاء بوجوب المحرم للتوصل إلى ترك ضده المحرم
فالفرق بين النزاعين واضح الثاني أنه على القول بكون المطلوب
بالنهي هو الكف يئول الامر إلى النهي عن ضد الكف أيضا على القول
بأن الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده فيلزمه الدور هذا لفظه وفيه
أن من يجعل المطلوب بالنهي الكف يفسر الامر بطلب فعل غير
كف فلا يلزمه القول بالاقتضاء المذكور في طلب الكف ولو سلم
التعميم فوجه لزوم الدور غير ظاهر لأنه إن أراد بضد الكف نفس
الفعل المنهي عنه فغاية ما يلزم أن يكون الامر بالكف مقتضيا للنهي
عنه والنهي عنه مقتضيا للامر بالكف وهذا لا يكون دورا لجواز أن
يكون الاقتضاء على وجه العينية أو التلازم والتحقيق أنه لا مغايرة
بينهما إلا في مجرد التعبير فإطلاق الاقتضاء تسامح وإن أراد به
إرادته فالكف عن الفعل كف عنها فغاية ما يلزم أن يجب الكف عن
الفعل باعتبار كونه كفا عن إرادته أيضا ولا دور فيه وإن أراد به
الكف عن الكف فاللازم منه على تقدير صحته التسلسل دون الدور
نعم يلزم الدور أو
التسلسل على الوجه الأول إذا قلنا بأن الامر بالشئ يتضمن النهي عن
الضد والنهي عن الشئ يتضمن الامر بالضد كما ذهب إليه بعضهم
فإن ذلك يوجب جزئية الشئ لنفسه إن جعلنا الامر الثاني عين الأول
وهو دور أو جزئيته مثله له إن جعلنا الثاني غير الأول وهو
تسلسل وكذا إن قلنا بأن كلا منهما يستلزم الاخر استلزام السبب
لمسببه كما يظهر ممن أثبت ذلك من باب المقدمة فيلزم مع الاتحاد
الدور ومع التغاير التسلسل ولا فرق على التقديرين بين أن يفسر النهي
بطلب الكف أو طلب الترك وإن كان القائل بها قد فسره
بطلب الكف فتدبر
فصل اختلفوا في دلالة النهي على الدوام والتكرار
فأثبتها قوم وعزي إلى الأكثر ونفاها آخرون وإنما جمعنا في تحرير
العنوان بين الدوام والتكرار لان الأول أوفق بالقول بأن
المطلوب بالنهي مجرد عدم الفعل والثاني أنسب بالقول بأنه الكف و
ربما ناسب القول الأول أيضا إن قلنا بعدم بقاء الأكوان مطلقا
حتى العدمية منها والتزمنا باستنادها إلى المكلف والظاهر من مقالة
المثبتين دعوى كونه موضوعا للتكرار بالخصوص فيدل عليه مع
قطع النظر عما سواه حتى عن إطلاقه والظاهر من مقالة النافين نفي
دلالته على التكرار ولو مع ملاحظة إطلاقه ما لم يقم قرينة خارجية
على خلافه فالنزاع على هذا معنوي والحق أنه بحسب أصل الوضع لا
يدل إلا على طلب الترك ولهذا يصح تقييده بكل من الاستمرار و
عدمه على الحقيقة وأما عند الاطلاق فمقتضاه الدوام والاستمرار لا
غير وبعبارة أخرى إن اعتبر النهي مجردا عن الاطلاق والتقييد
كان لطلب نفي الماهية مجردا عن الدوام أو عدمه وإن اعتبر مطلقا كان
لطلب نفي الماهية دائما ويمكن تنزيل مقالة النافين على الوجه
الأول ومقالة المثبتين على الوجه الثاني فيكون النزاع لفظيا لكنه بعيد
كما لا يخفى قلنا إذن في المقام دعويان لنا على أوليهما وجوه
أحدها التبادر فإن المفهوم من النهي عند تجريد النظر عن إطلاقه و
تقييده ليس إلا طلب ترك الماهية مجردا عن الوصفين وقد سبق أن
التبادر من شواهد الحقيقة ويمكن تقرير هذا الدليل بوجه أوضح وهو
أن النهي كالأمر يشتمل على جز مادي به يدل على الطبيعة لا
بشرط وجز صوري وهو أداة النفي والهيئة به يدل على طلب الترك
أو النسبة ولا دلالة لهذين المفهومين على التكرار لا منفردا ولا
منضما فيكون للقدر المشترك بينهما وهو المطلوب الثاني أن
استعمال النهي في القدر المشترك بين التكرار وعدمه ثابت و
استعماله
في كل من الخصوصيتين غير ثابت وإنما الثابت إطلاقه عليهما فقضية
ما أسلفناه من أصالة الحقيقة في متحد المعنى أن يكون حقيقة في
القدر المشترك وللخصم أن يمنع وقوع استعماله في القدر المشترك
إذ ليس له مورد ظاهر يمكن إلزامه به الثالث أنه لو كان موضوعا
للتكرار بخصوصه كما زعمه الخصم لزم
أن يكون مجازا عند تقييده بغيره وليس كذلك للقطع بأن قولنا
للحائض لا تصومي أيام حيضك وللجنب لا تدخل المسجد ولا
تمس خط
الكتاب إلى أن تغتسل إلى غير ذلك مما لا حصر له حقيقة لا غير و
دعوى أن للمقيد وضعا آخر مدفوعة بأصالة عدم الاشتراك ولنا على
الثانية أيضا وجوه الأول التبادر فإن المفهوم من النهي المطلق عرفا
ليس إلا طلب الترك على الاستمرار وذلك ظاهر عند الرجوع إلى
المحاورات الثاني أن علماء الاعصار والأمصار لم يزالوا يستدلون
بالنواهي الواردة في الكتاب والسنة على دوامه من غير نكير وذلك
إجماع منهم على ظهوره في الاستمرار الثالث قضية وقوع المادة
المطلقة التي مفادها الماهية المطلقة في سياق النفي المستفاد من
النهي
حيث إن معناه طلب النفي عموم النفي فيتناول جميع الأزمان وهو
المراد بالاستمرار لا يقال قضية عموم النكرة المنفية تناول الافراد
دون الأزمان أ لا ترى أن قول القائل كل من دخل داري فله كذا يعد
عاما بالنسبة إلى الافراد حتى إنه لو استثنى منه بعض الافراد صح
من غير حاجة إلى تقدير ومطلقا بالنسبة إلى الأزمان ولهذا لا يصح أن
يستثني منه بعض الأزمان إلا بعد تقدير لفظ كل زمان و
122

وشبهه ولو كان له عموم بالنسبة إليها أيضا لصح ذلك من غير تقدير
لأنا نقول ليس الغرض شمول النفي للأزمان أصالة بل تبعا من
حيث شموله لجميع الافراد المتحققة في جميع الأزمان كما هو قضية
رفع الطبيعة المطلقة إذ بدونه لا يكون المنفي هي الماهية المطلقة بل
المقيدة بزمان دون زمان وهو خلاف الفرض ومما يؤكد ذلك ما تقرر
في محله من أن الزمان من مشخصات الفعل فالفرد الحاصل في
كل جز من الزمان لا يكون إلا موجودا فيه فلا ينفك عموم الافراد
حقيقة عن عموم الأزمان وأما عدم صحة استثناء بعض الأزمان في
المثال المذكور من غير تأويل فإنما هو لعدم التجانس المعتبر في
الاستثناء المتصل فلا ينافي تناوله للأفراد المتحققة فيها وإنما يتم ما
ذكر إذا لم يصح استثناء بعض الافراد المقيدة ببعض تلك الأزمان وهو
ممنوع ومما حققنا يظهر ضعف فرق بعض المعاصرين بين
شموله لافراد زمان واحد وشموله للأفراد الحاصلة في جميع الأزمنة
حيث قطع بدلالته على الأول دون الثاني بل منع من دلالته عليها مع
أنهما على ما عرفت من باب واحد وإن شئت مزيد بيان للمقام وزيادة
توضيح للمرام فاعلم أن للماهية بحسب الاعتبار حالات ثلاث
لأنها إما أن تعتبر مقيدة أو لا والثاني هي الماهية لا بشرط وعلى الأول
إما أن يكون القيد وجود شئ أو عدمه فالأول هو الماهية
بشرط شئ والثاني هو الماهية بشرط لا فتقسم الماهية إلى هذه
الأقسام بواسطة انقسام ما يلحقها من الأحوال الاعتبارية والمقسم هو
الماهية المعتبرة مجردة عن تلك الاعتبارات ولا يقدح لزوم ارتفاع
النقيضين من ثبوت التقييد بالاعتبارين وعدمه عنها لجوازه
بالنسبة إلى مرتبة الذات لان مرجعه إلى سلب اقتضائها لهما لا إلى
اقتضائها لسلبهما عنها وحينئذ فتتغاير الأقسام في الاعتبار و
تتقابل لتقابل الاعتبارات وقد تعتبر هذه الأقسام بالنسبة إلى الواقع من
الذهن والخارج ثم الماهية الممكنة المأخوذة بشرط شئ بكل
من الاعتبارين يتبع في الامكان وعدمه إمكان لحوق الشرط لها و
عدمه وهذا واضح والماهية المأخوذة بشرط لا بالاعتبارين إن
اعتبرت بالقياس إلى شئ معين جاز وجودها حقيقة ذهنا وخارجا
في
الجملة كالانسان بشرط عدم كونه متحركا بالفعل وإلا امتنع إذ لا أقل
من تقيدها بالوجود ولوازمه نعم للعقل أن يعتبرها بشرط
عرائها عن جميع ما يعتريها من اللواحق حتى من وجودها الذهني
الذي هو نفس تصورها لكن وجودها حينئذ اعتباري لا حقيقي و
الماهية لا بشرط إن أخذت بالاعتبار الأول أمكن وجودها حقيقة ذهنا
وخارجا إذ عدم اعتبار الشرط لا يقتضي العدم وإن أخذت
بالاعتبار الثاني امتنع وجودها لاستحالة خلو الموضوع الموجود عن
عين المحمول ونقيضه وعند التحقيق الماهية المعتبرة لا بشرط
بالاعتبار الأول هي ماهية مأخوذة بشرط لا بالنسبة إلى ذلك الاعتبار
بالاعتبار الثاني فإذا تبين عندك مما حققناه أن للماهية بالنظر
إلى الاعتبار والتصور كما هو المعتبر حال الوضع حالات ثلاث و
بالنظر إلى الوجود والواقع كما هو المعتبر حال الاستعمال حالتين
لاستحالة وجودها بالحالة الثانية ظهر صحة ما ادعيناه في المقامين
فإنه إن لوحظ نفي الماهية وجرد النظر عما لها من التقييد بشئ و
عدمه كملاحظة الواضع لها حين الوضع لم يوجد له دلالة على عموم
النفي لصلوحه له ولخلافه لان نفي الماهية المأخوذة بهذا الاعتبار
مردد بين أن يكون نفيا للماهية المطلقة والمقيدة لظهور أن النفي إنما
يتعلق بالماهية الملحوظة على ما تقرر عليه في اللحاظ واقعا ولا
يدور مدار الاعتبار وهي بهذا الاعتبار غير منفكة عن أحد الاعتبارين و
إن جرد النظر عنهما وإن لوحظ باعتبار ما لها من التقييد
بعدم شئ معها وهو اعتبار إطلاقها دل على عموم النفي إذ لا يصدق
رفع الماهية الغير المقيدة مع وجود مقيد من مقيداتها ويمكن
تقرير الدليل بوجه آخر أوضح وهو أن صيغة النهي عند الاطلاق تدل
على طلب نفي الماهية في الزمن المشترك بين الحال والاستقبال
بدليل أنها مأخوذة من المضارع الموضوع للقدر المشترك بين الزمنين
كما هو المختار ولا يصدق نفي الماهية في الزمن المشترك بين
الزمنين إلا بترك جميع أفرادها في جميع أفرادهما كما لا يصدق قولنا
ما ضرب زيد إلا بانتفاء جميع أفراد الضرب منه في جميع أفراد
الزمن الماضي للبيان الذي سبق فيلزم من ذلك دلالتها على الدوام
عند الاطلاق وهو المقصود الرابع ما وجدناه في كلام بعض
المعاصرين في توجيه حجة المثبتين وهو أن المطلوب بالنهي المطلق
إن لم
يكن دوام الترك لكان المطلوب منه الترك في وقت معين والتالي
باطل إذ لا دليل على التعيين فيلزم الاغراء بالجهل ورده بعد ما عده
وجها وجيها بما حاصله منع الملازمة لجواز أن يكون المطلوب طبيعة
الترك في أي وقت اتفق كما مر نظيره في الامر فلا يثبت الدوام ثم
بنى على هذا الرد والتحقيق أن الملازمة فيه في الجملة ظاهرة لان
ترك الفعل في الجملة مما لا يصلح غالبا لان يكون مطلوبا للعقلا و
مقصودا لهم لوقوعه من كل فاعل لا محالة فإن كل زان يترك الزنا في
الجملة وكل سارق يترك السرقة في الجملة وهكذا وصيرورة
الترك بالنهي صالحا لان يقصد به الامتثال فيترتب عليه آثاره مما لا
يعتد به في مثل المقام فائدة نعم يتجه على الملازمة أمران الأول أن
المطلوب بالنهي قد يكون الترك على وجه الامتثال وهو غير لازم
الحصول على تقدير عدم النهي ويمكن دفعه بأن الكلام في النهي
المطلق وهو ظاهر في طلب الترك المطلق على حذو ما مر تحقيقه في
مبحث الامر الثاني أن الفعل المنهي عنه قد يكون مما يمكن بقاؤه
واستمراره كالتعرب عن البلدان وهجر الاخوان والتخلق بمساوي
الأخلاق وغير ذلك مما لا يلزم فيه وقوع الترك في الجملة ويمكن
دفعه بأنه لا محيص من التزام القول بالاستمرار في غيره فيمكن إتمام
الكلام فيه بعدم القول بالفصل وربما أمكن منع بطلان التالي
بالتزام القول بالفورية دون الاستمرار لكنه ضعيف ولا يخفى أن هذا
الوجه لا يصلح مستندا للمثبتين لأنه لا يقتضي دلالة
123

بالوضع ولهذا تركنا ذكره عند ذكر أدلتهم احتج الأولون بأمرين الأول
تبادر التكرار منه بدليل أن العبد يذم إذا أتى بما نهى عنه مولاه
مطلقا بعد تركه مدة يتمكن من إيقاعه فيها الثاني أن النهي يقتضي
المنع من إدخال الماهية في الوجود وهو لا يتحقق إلا بالامتناع من
إدخال كل فرد فيه وأجيب عن الأول بالمنع من تحقق التبادر و
التحقيق أن يقال إن كانت دعوى التبادر بالنسبة إلى النهي المطلق
فمسلمة لكن لا يثبت بها المدعى وإن كانت بالنسبة إلى النهي مجردا
عن ملاحظة الاطلاق فممنوعة ولا شاهد في المثال المذكور عليها
والجواب عن الثاني أن المنع من إدخال الماهية في الوجود قدر
مشترك بين الدوام وعدمه بدليل صحة تقييده بكل منهما فلا يختص
بأحدهما إلا بضميمة إطلاق أو تقييد احتج الآخرون أولا بأنه لو كان
للدوام لما انفك عنه وقد انفك حيث إن الحائض نهيت عن الصلاة و
الصوم ولا دوام والجواب منع الملازمة لان مقصود الخصم كونه
حقيقة في الدوام وهو إنما يقتضي ظهوره فيه فلا ينافي الانفكاك لقيام
قرينة أو دليل وثانيا بأن النهي قد ورد تارة للتكرار كما في قوله تعالى و
لا تقربوا الزنى وأخرى بخلافه كقول الطبيب لا تشرب اللبن
فيكون القدر المشترك لئلا يلزم الاشتراك أو المجاز المخالفان للأصل
وأجيب بأن عدم الدوام في قول الطبيب إنما يستفاد للقرينة و
لولاها لكان المتبادر هو الدوام على أن المجاز لازم على تقدير أن
يكون موضوعا للقدر المشترك أيضا إذا استعمل في إحدى
الخصوصيتين فلا ترجيح وفي كلا الوجهين مع أصل الحجة نظر أما
في الوجه الأول فلما عرفت مما حققناه من أن الدوام وعدمه إنما
يستفادان بملاحظة أمر خارج عن نفس النهي وأما في الوجه الثاني
فلانا نمنع ثبوت استعماله في شئ من الخصوصيتين كما مر وأما
في أصل الحجة فلان مجرد كونه موضوعا للقدر المشترك بينهما لا
يوجب تساويهما عند الاطلاق مع أن التعليل بلزوم الاشتراك أو
المجاز عليل كما نبهنا عليه سابقا وثالثا بأنه يصح تقييده بالدوام من
غير تكرار وبخلافه من غير نقض وهو آية كونه القدر المشترك
ورد بأن
التجوز جائز والتأكيد واقع فالقيد على الأول تأكيد وعلى الثاني قرينة
على المجاز وضعفه ظاهر مما مر والحق أن الحجة متجهة إلا
أنها لا دلالة لها على نفي الدوام عند الاطلاق
تذنيب
كل من قال بأن النهي للدوام والتكرار ولو من جهة الاطلاق يلزمه
القول بأنه للفور كما يقتضيه حجته وإلا لجاز التأخير إلى حيث لا
يتمكن من الترك إلا مرة واحدة وإن علم به إذ لا دليل على التوقيت و
ذلك ينافي وجوب الدوام والتكرار وأما من قال بأنه لا يقتضي
الدوام والتكرار فله أن يقول بدلالته على الفور كما نقل عن الشيخ في
العدة وأن لا يقول به كما نقل عن العلامة في التهذيب ووجهه
ظاهر وأما ما ادعاه بعضهم من أن من لا يقول بالتكرار يلزمه عدم القول
بالفور فكأنه سهو من القلم والصواب لا يلزمه القول بالفور و
هذا واضح
فصل اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد
ولا بد قبل الخوض في المسألة من تحرير محل النزاع فنقول الوحدة
قد تكون بالجنس وهذا مما لا ريب في جواز الاجتماع فيه في
الجملة كالسجود حيث اجتمع فيه الأمر والنهي باعتبار إيقاعه له
تعالى وللصنم وربما منع منه من زعم أن الحسن والقبح من
مقتضيات
الجنس فجعل مورد النهي تعظيم الصنم دون السجود له فيختلف
المحل وهو مع شذوذه ظاهر الفساد وقد تكون الوحدة بالشخص و
حينئذ فإن اتحدت الجهتان أعني الطبيعة المأمور بها والطبيعة المنهي
عنها أو تغايرتا وانحصرت أفراد النوع الأول في الثاني ولو
اتفاقا أو تعلقا بجزئي ابتدأ وما جرى مجرى ذلك فلا ريب في عدم
جواز الاجتماع فيه إلا على قول الأشاعرة حيث جوزوا التكليف
بالمحال وربما منعه بعضهم فيما يتحد فيه الجهة نظرا إلى كون نفس
التكليف محالا من حيث إن الوجوب يتضمن جواز الفعل وهو
يناقض التحريم لأنه يقتضي عدم الجواز وقد يوجه استحالة التكليف
بأن الطلب مسبوق بالإرادة واجتماع إرادة الفعل مع إرادة الترك
محال يعني أن إرادة الترك المستفادة من النهي يستلزم كراهة الفعل و
هي لا تجتمع مع إرادته المستفادة من الامر ضرورة أن كراهية
الشئ ومبغوضيته تنافي إرادته ومحبوبيته ولا يخفى أن هذا لا
يستقيم على ما هو المعروف من الأشاعرة من أنهم يجعلون الطلب
أمرا
مغايرا للإرادة مفارقا إياها حتى إنهم صرحوا بأن الامر قد يأمر بما
يكرهه فلا يلزم عندهم من توارد الأمر والنهي على شئ اجتماع
الإرادة والكراهة فيه هذا إذا لم يستند الاجتماع إلى اختيار المكلف و
إلا فقد أجازه من أجاز التكليف بالمحال حينئذ إن جعله من بابه و
سيأتي الكلام فيه في المبحث الآتي وإن اختلفت الجهتان وكان
للمكلف مندوحة في الامتثال فهو موضع النزاع ومن ترك القيد الأخير
فقد اتكل على الوضوح لظهور اعتباره وإطلاق الأمر والنهي في
العنوان ينصرف إلى النفسيين العينيين التعيينيين وسنشير
في أثناء المبحث إلى ما هو التحقيق في البواقي ويعتبر في اجتماعهما
وحدة زمنهما فلو تعدد جاز تعلقهما بشئ واحد عندنا وإن اتحد
زمن وقوعه سواء تعددت جهتهما أو اتحدت كما في الخروج من الدار
المغصوبة فإنه منهي عنه قبل الدخول ومأمور به بعده وسيأتي
تحقيقه في المبحث الآتي والمراد بالنهي هنا طلب الترك المطلق
سواء تعلق بمطلق أو بمقيد لأنه الظاهر من إطلاقه وليلزم من اجتماعه
مع الامر اجتماع الوجوب والتحريم في الشئ الواحد كما هو مناط
البحث فاجتماع النهي بمعنى طلب ترك خاص مع الامر سواء كان مع
تغاير الجهتين كما في محل البحث أو بدونه مع كونه على وجه التخيير
أو الترتيب بأن يكون تعلق الامر مبنيا على تقدير المخالفة في
النهي لجائز خارج عن محل البحث وذلك كما في الواجب المنهي
عنه تعيينا أو تخييرا للتوصل بتركه إلى غيره فإن المطلوب بالنهي
الغيري تركه المتوصل به إلى الغير كما بيناه في بحث المقدمة وهو لا
ينافي مطلوبية الفعل على تقدير عدم التوصل والسر في ذلك أن
مستندنا
124

على المنع من لزوم اجتماع المطلوبية والمبغوضية والرجحان و
المرجوحية في الشئ الواحد غير متجه عليه فإن قضية مطلوبية
الترك
يتوصل به إلى فعل الواجب ورجحانه مبغوضية ترك هذا الترك و
مرجوحيته دون الفعل وقضية مطلوبيته على تقدير عدم التوصل
بتركه ورجحانه مبغوضية تركه الغير المتوصل به ومرجوحيته لا الترك
مطلقا ولا الترك المتوصل به فاختلف المورد وقد مر توضيح
ذلك في مسألة الضد وكان عد هذا النوع من باب الأمر بالمتنافيين
أقرب من عده من باب اجتماع الأمر والنهي وإنما اعتبرنا في القسم
الأخير كون الأمر والنهي على وجه التخيير أو الترتيب لأنهما لو كانا
على وجه التعيين والاطلاق امتنع تواردهما على محل واحد
لاستلزامه اجتماع الامر مع النهي بمعنى طلب الترك المطلق المستفاد
من الامر المطلق في الترك الخاص وأما إذا كان النهي عن الفعل
مطلقا والامر ببعض أفراده مشروطا ولو بالعزم على مخالفة النهي فهذا
مما يمتنع إجماعا من القائلين بامتناع التكليف بما لا يطاق
مطلقا فإن مورد الامر فيه عين مورد النهي شخصا وجهة فيلحق بالنوع
الأول وقد مر التنبيه على ذلك في بعض المباحث السابقة ثم لا
فرق في موضع النزاع بين أن يكون بين الجهتين عموم من وجه
كالصلاة والغصب وبين أن يكون بينهما عموم مطلق مع عموم
المأمور
به كما لو أمره بالحركة ونهاه عن التداني إلى موضع مخصوص فتحرك
إليه فإن الحركة والتداني طبيعتان متخالفتان وقد أوجدهما
في فرد واحد والأولى منهما أعم وبعض المعاصرين خص موضع
النزاع بالقسم الأول وجعله فارقا بين هذا النزاع والنزاع الآتي في
الفصل اللاحق حيث يختص بالقسم الثاني وقد سبقه إلى ذلك غيره و
أنت خبير بأن قضية الأدلة الآتية في المقام وإطلاق عناوين كثير
منهم عدم الفرق بين المقامين وسيأتي تحقيق الفرق بين النزاعين إذا
عرفت هذا فنقول المعروف بين أصحابنا هو القول بعدم جواز
الاجتماع وعليه بعض مخالفينا وخالف فيه جماعة من متأخري
المتأخرين فأجازوا ذلك تبعا لجمهور المخالفين والحق عندي ما
ذهب
إليه الأولون من استحالة الاجتماع وهو عندي من باب التكليف
المحال بالمحال كالاجتماع مع اتحاد الجهة وسيظهر
وجهه من بياننا الآتي فيتعدد جهة الامتناع ولا يبتني على القول
باستحالة التكليف بالمحال لا كما يظهر من بعض المانعين من كونه من
باب التكليف بالمحال خاصة لنا أمران الأول أن الطلب مما يمتنع
تعلقه بالطبائع المجردة عن اعتبار الوجود والعدم وذلك ظاهر
بشهادة العقل والعرف ضرورة أن الأمر والنهي يشتركان في هذا القدر
أعني طلب الماهية فلا يتمايزان ما لم يعتبر مطلوبية الماهية
في أحدهما من حيث الوجود وفي الاخر من حيث العدم وأيضا
الماهية من حيث هي ليست إلا هي فلا يعقل طلبها من المكلف و
أيضا لا
تأثير للقدرة إلا في الوجود والعدم فلا يصح التكليف إلا بهما لقبح
التكليف بغير المقدور فظهر أن المطلوب لا يكون إلا وجود الماهية
أو عدمها وحيث إن المطلوب في الامر وجود الطبيعة على وجه
يستلزم مبغوضية تركها وفي النهي عدمها على وجه يستلزم مبغوضية
فعلها فإذا اتحدت الطبيعتان في الخارج بأن وجدتا بوجود واحد
كالصلاة في المكان المغصوب المتحدة مع الغصب لزم على تقدير
الاجتماع اجتماع المطلوبية والمبغوضية في الوجود الذي هو واحد
شخصي على ما تقرر في محله وهو باطل ضرورة أن المطلوبية و
المبغوضية وصفان متضادان يستدعيان متعلقين متغايرين مع أن
الرخصة في فعل المنهي عنه على الاطلاق مما ينافي قضية النهي عنه
فضلا عن الامر به وكذلك الرخصة في ترك المأمور به على الاطلاق
مما ينافي قضية الامر به فضلا عن النهي عنه ولا فرق في ذلك بين
أن يعتبر حيثية الجهة تعليلية أو تقييدية أما على الأول فظاهر وأما على
الثاني فلان ما توارد عليه الوصفان حقيقة إنما هو المقيد وعلى
ما قررنا أمر وجداني إذ لا يخرج عن وحدته بتعدد القيود المنضمة إليه
فإن قيل يجوز أن يكون المأمور به والمنهي عنه نفس الطبيعتين
المقيدتين بالوجود الخارجي على أن يكون القيد خارجا وحينئذ فلا
يلزم وحدة المتعلق لتغاير المقيدين وإن اتحد القيد قلنا لا جدوى
في ذلك بعد الاغماض عما فيه لان الطبيعتين متحدتان إن أخذتا
باعتبار كونهما مقيدتين بالوجود الخارجي ضرورة عدم التمايز
بينهما فيه فيلزم عليه ما مر وإن جردتا عن ذلك الاعتبار خرجتا عن
كونهما مطلوبيتين
فلا ينفع التغاير فيه لا يقال لا نسلم أن المتعلق فيهما على التقدير الأول
واحد لتحقق المغايرة الاعتبارية فإن الوجود المذكور من حيث
كونه منشأ لتحصيل الطبيعة المأمور بها غيره من حيث كونه منشأ
لتحصيل الطبيعة المنهي عنها وإن أريد المغايرة الحقيقية فلا نسلم أن
الضرورة تشهد على اعتبارها سلمنا لكن لا نسلم أن المطلوب في الامر
حقيقة الوجود الخارجي كيف وهي مما يمتنع تعقلها وحصولها
في الأذهان وإلا لانقلبت خارجا على ما تبين في محله والطلب إنما
يتعلق بأمر معقول بل المطلوب هو الوجود بالمعنى العام الضروري
الذي هو عرضي لافراد الخارجية ومنتزع منها وحينئذ فلم لا يجوز أن
يكون الوجود بهذا المعنى متعددا بحسب تعدد الطبائع
الموجودة فإن انتزاع الوجود بهذا المعنى من وجود إحدى الطبيعتين
من حيث كونه وجودها كالصلاة مثلا ليس نفس انتزاعه من وجود
الأخرى كذلك كالغصب إذ المدار في تعدد الأمور الاعتبارية على
تعدد مأخذها ولو بالاعتبار لأنا نقول قضية المغايرة الاعتبارية فيما
ذكر تغاير الاعتبارين لا تغاير ما تواردا عليه ضرورة أن ذات المضاف لا
تتعدد بتعدد الإضافة ولا ريب في أن مورد الأمر والنهي إنما
هو نفس الوجود العيني الذي به تحقق الحقيقة في الخارج على ما
يشهد به صريح العقل والعرف فتعدد الاعتبارات المذكورة لا يوجب
التعدد فيه ولا ينافيه امتناع تحققه في العقل لان الممتنع إنما هو
تحققه فيه بالكنه والحقيقة لا بالوجه فإن الوجود بالمعنى العام وجهه
فيصح تعلق الطلب به باعتباره فيكون هذا المفهوم مطلوبا لكن لا من
حيث كونه هذا المفهوم كيف وهو بهذا الاعتبار كسائر المفاهيم
بل من حيث كونه آلة لملاحظة أفراده التي يصح وقوعها في الخارج
فيكون المطلوب في الحقيقة نفس أفرادها التي هي حقيقة الوجود
الخارجي واعلم أن هذا
125

الدليل يبتني على أصلين أحدهما أن لا تمايز بين الجنس والفصل و
لواحقهما العرضية في الخارج كما هو المعروف وأما لو قلنا
بالتمايز لم يتحد المتعلق فلا يتم الدليل الثاني أن للوجود حقائق
خارجية ينتزع منها هذا المفهوم الاعتباري كما هو مذهب أكثر
الحكماء
وبعض محققي المتكلمين وأما إذا قلنا بأنه مجرد هذا المفهوم
الاعتباري ينتزعه العقل من الماهيات الخارجية ولا حقيقة له في
الخارج
أصلا كما هو مذهب جماعة فلا يتم الدليل أيضا لكن الأصل الأول مما
لا يرتاب فيه أكثر المخالفين في المسألة إن لم يكن كلهم وإنما
النازع فيه شاذ ومع ذلك فهو من الأمور الجلية التي أقيم عليها البرهان
في محله وأما الثاني فهو وإن كان عندنا من واضحات علم
المعقول لكن لا يساعد عليه أكثر المخالفين في المسألة إن لم يكن
كلهم فيبتني الاستدلال على تقدير ثبوته ولنا أن نقرر الدليل بوجه لا
يبتني على هذا الأصل فنقول لا ريب في أن الطلب لا يتعلق بالماهية
من حيث هي ولا من حيث كونها في الذهن بل من حيث كونها في
الخارج لا بمعنى أن الطلب لا يتعلق إلا بما هو موجود في الخارج
كيف وتعلق الطلب سابق على وجود المطلوب لامتناع تحصيل
الحاصل
بل بمعنى أن العقل يلاحظ الماهية الخارجية من حيث كونها خارجية
ويجعلها بهذا الاعتبار موردا للطلب والمنع كما نقول في الفرض
السابق أنه يلاحظ الوجود الخارجي من حيث إنه وجود خارجي و
يجعله موردا للطلب والمنع ولا ريب في أن الماهيتين متحدتان في
هذا
الاعتبار على ما أشرنا إليه في الأصل السابق فعلى تقدير الاجتماع يلزم
تواردهما على الواحد بالشخص وقد مر فساده ولا يذهب عليك
أنه يمكن إجراء الدليل على الوجه الأول باعتبار الايجاد أيضا فإن
معنى الامر طلب الايجاد الخارجي والنهي طلب عدمه فيلزم على
تقدير الاجتماع اجتماع المطلوبية والمبغوضية في الايجاد وهو
واحد شخصي ضرورة أنهما يوجدان بإيجاد واحد وكذا يمكن إجرائه
على الوجه الثاني باعتبار الجعل أيضا فإن الماهيتين مجعولتان بجعل
واحد واعلم أن الفرق بين الوجود والايجاد اعتباري لان الوجود
إن قيس إلى الفاعل وأخذ من حيث صدوره منه كان إيجادا ومبدأ
لوصف
الموجدية له وإن قيس إلى الطبيعة كان وجودا ومبدأ لوصف
الموجودية لها فهما متحدان ذاتا متغايران بالاعتبار وذلك لما تقرر في
محله من أن التأثير عين الأثر في الحقيقة وإن غايره في الاعتبار دفعا
للتسلسل واعلم أيضا أن في الامر أمور ثلاثة ولو بالاعتبار يصح
نسبته إلى كل واحد منها وهي الايجاد والوجود والماهية فيصح
القول بأن المأمور به هو الايجاد بناء على حمل الامر على الإرادة و
الطلب وأنه الوجود بناء على حمله على إرادة الجعل وطلبه وأنه
الماهية بناء على حمله على تمام مدلول الهيئة عدا النسبة أعني إرادة
الايجاد وطلبه ولا خفاء في أن لفظ الامر حقيقة في المعنى الأخير
خاصة بدليل أنه قسيم للنهي بخلاف الطلب وطلب الجعل وليعلم أن
قولنا هنا وفيما سيأتي من أن الأمر والنهي إنما يتعلقان بالطبائع باعتبار
الخارج ناظر إلى ما هو محط أنظار القوم في المقام من
الأمر والنهي المتعلقين بأفعال الجوارح وإلا فهما قد يتعلقان بأفعال
القلب أيضا كالعقائد والنيات فيكون متعلقهما الطبائع من حيث
وجوداتها الذهنية ويعرف الكلام في ذلك بالمقايسة إلى الافعال
الخارجة الثاني أن قاعدة التحسين والتقبيح على ما تقرر عندهم
قاضية بأن الامر يستتبع حسنا في المأمور به والنهي يستتبع قبحا في
المنهي عنه فمتى اجتمعت الجهتان في شئ فإما أن يتكافأ فيرجع
حكمه إلى الإباحة أو يترجح إحداهما على الأخرى فيرجع حكمه إلى
أحد الأحكام الأربعة بحسب مراتب الرجحان واختلافه فالفرد الذي
وجدت فيه الطبيعتان متحد معهما في الخارج وقد جاز الجهتين على
ما هو قضية الأمر والنهي وحينئذ فإما أن يتكافأ أو يترجح
إحداهما على الأخرى وكيف كان فلا يتحقق الاجتماع والذي يكشف
عما ذكرناه أن الحسن والقبح وإن كانا من الأمور الاعتبارية
لكنهما من لواحق الأمور الخارجية بمعنى أنهما أمران يثبتان في العقل
للأفعال الخارجية باعتبار كونها خارجية أ لا ترى أن من تصور
ماهية الصلاة أو الصوم أو الحج أو الجهاد أو الصدقة أو الصدق النافع أو
غير ذلك من العبادات الراجحة شرعا أو عقلا وأوجد حقائقها
في ذهنه لم يعد بمجرد ذلك فاعلا لفعل حسن ولم يستحق به
عند العقل مدحا ولا ثوابا مع أنه قد أوجد تلك الطبائع حقيقة وكذا
من تصور عبادة الأصنام وقتل النفوس المحترمة والزنا وشرب
الخمر وغير ذلك من الافعال المنكرة لم يستحق بمجرد ذلك ذما ولا
عقابا ولم يعد فاعلا للقبيح مع أنه قد أوجد طبائعها حقيقة فظهر
أن الحسن والقبح إنما يعرضان للطبائع باعتبار وجوداتها الخارجية و
العقل إنما يحكم عليها بأحد الوصفين باعتبار الخارج فثبوتهما
للأفعال من قبيل ثبوت الوحدة للواحد والزوجية للاثنين لا من قبيل
ثبوت الجنسية للحيوان والفصلية للناطق فإن لحوقهما بحسب
الوجود الذهني لا غير ولا ريب في أن الطبيعتين بهذا الاعتبار أعني
اعتبار الخارج متحدتان على ما مر فيمتنع أن يتصف إحداهما
بالحسن والأخرى بالقبح لان ذلك يؤدي إلى اتصاف الشئ الواحد
بهما وهو مستحيل ضرورة أن الشئ الواحد باعتبار كونه واحدا لا
يكون حسنا وقبيحا ولا يجدي تغاير المحل بحسب العقل لان
الوصف لم يثبت له باعتباره ومعنى كون الحسن والقبح بالوجوه و
الاعتبار أن الوجوه والاعتبار أسباب مقتضية لكون الفعل الخارجي
باعتبار كونه خارجيا حسنا أو قبيحا لا أن الحسن والقبح من
الصفات الاعتبارية الطارية على الطبائع باعتبار وجودها العقلية
كالجنسية والفصلية وإلا لما صح الحكم على الفعل الخارجي باعتبار
كونه خارجيا بحسن ولا قبح لا يقال هذا منقوض بمثل الوحدة و
الكثرة فإنهما من الصفات المتضادة المنتزعة من الأمور الخارجية
باعتبار كونها خارجية ومع ذلك يجوز انتزاعها من موصوف واحد
كالعشرة فإنها تتصف بالوحدة والكثرة كذلك باعتبارين فظهر
أن المغايرة الاعتبارية كافية في اتصاف الشئ بوصفين اعتباريين وإن
كانا متضادين لأنا نقول بين الموصوفين هناك مغايرة
خارجية فإن الموصوف بالكثرة نفس الآحاد المنضمة و
126

الآحاد مع الهيئة التركيبية ولا ريب أن أحدهما ليس نفس الاخر بدليل
صحة السلب فاتصاف أحدهما بصفة لا تنافي اتصاف الاخر
بضدها كالانسان فإنه يتصف بصفة الكاتبية والجوهرية وإن أخذ مقيدا
بصفة البياض مثلا ولا يتصف المركب منهما بها بل يتصف
بصفة نقيضها وذلك بخلاف ما نحن فيه فإن الموصوف بالحسن في
الخارج عين الموصوف بالقبح فيه ضرورة أن لا ميز بين الصلاة و
الغصب في الخارج إذا وقعت في المكان المغصوب ولا مغايرة بينهما
فيه أصلا حتى يتصور تغاير بين الموردين ولك تمشية هذا الدليل
في الوجود والايجاد والجعل أيضا كما مر في الدليل السابق أيضا و
عند التحقيق يرجع كل من الدليلين إلى دلائل أربعة واعلم أن قضية
هذين الدليلين بالوجوه التي أشرنا إليها امتناع اجتماع الأمر والنهي
الفعليين معا في واحد شخصي سواء كانا نفسيين أو غيريين مع
تحقق الغير أو كان أحدهما نفسيا والاخر غيريا كذلك وسواء كانا
تعيينيين عينيين أو كان أحدهما والاخر تخييريا أو كفائيا وسواء
كان تعلقهما بالفعل تعلقا استقلاليا كالصلاة والغصب أو ضمنيا كأجزاء
الواجب والمحرم أو كان أحدهما استقلاليا والاخر ضمنيا كجز
الواجب إذا كان حراما وبالعكس والوجه في الكل واضح مما مر وأما
إذا كانا تخييريين أو كفائين فلا إشكال في جواز الاجتماع لان
المطلوب بالامر حينئذ وجود الطبيعة المقرون بعدم البدل وبالنهي
عدمها المقرون بوجود البدل فلا يتحد المورد واعلم أيضا أن
الاختلاف في جهة النفسية والغيرية لا يفيد الاختلاف في الجهة
التقييدية فينبغي أن لا يرتاب في امتناع اجتماعهما من يحكم بامتناعه
مع
اتحاد الجهة إذ مطلوبية شئ بكل من النوعين ينافي مبغوضيته بالآخر
كما نبهنا عليه هذا ما يقتضيه النظر الصحيح وفصل جماعة من
متأخري المتأخرين فأحالوا الاجتماع في النفسيين وأجازوا في
الغيريين والملفق منهما مع مصيرهم إلى أن النهي طلب الترك المطلق
و
أنت خبير بأن قضية ما تمسكنا به عدم الفرق ويشبه أن يكون النزاع
بيننا وبينهم بلا ثمرة لان الصورة التي يزعمون أنها من باب
الاجتماع ويجوزونه فيها
هي صورة تجرد المنهي عنه بالنهي الغيري والمأمور به بالامر الغيري
عن فعل الغير كما يظهر من المواضع التي يلتزمون فيها بذلك و
هذا ليس عندنا من بابه كما حققناه وما هو من بابه وهو صورة ترتب
فعل الغير عليه فلا أظن أنهم يقولون بجواز الاجتماع فيه بل ربما
يعد فعل المقدمة حينئذ حراما نفسيا نظرا إلى التجري فيرجع إلى
القسم الممتنع وإذا تبين عندك مما حققناه عدم جواز توارد الامر و
النهي على شئ واحد فاعلم أنه إذا ورد أمر ونهي وكان بين مورديهما
المتغايرين بالحقيقة كما هو محل البحث عموم مطلق تعين
تخصيص مورد النهي بالامر إن تعلق النهي بالأعم أو تقييد مورد الامر
بالنهي إن تعلق بالأخص ويمتنع العكس ووجهه ظاهر وأما إذا
كان بينهما عموم من وجه جاز كل من الامرين فإن كان هناك ما يقتضي
تعيين أحدهما من دليل خارجي تعين وإلا تعين تقييد مورد
الامر بالنهي بشهادة العرف فإن أهل العرف يفهمون عند إطلاق الامر و
النهي أن المراد بالمأمور به ما عدا المنهي عنه وهذا أمر ظاهر
لا يرتاب فيه من له درية بالمحاورات وإن بالغ في إنكاره بعض
المعاصرين وحينئذ فيجب صرف الامر عن إطلاقه على حد سائر
المواضع مضافا في إثبات نفي الامتثال بالفرد المشترك مطلقا إلى
أصالة عدم الخروج عن العهدة لكن لا يثبت بمجرده التحريم وفي
خصوص العبادات إلى امتناع قصد القربة لتوقفه على العلم بكون
المأتي به مطلوبا والتقدير انتفاؤه إذ لا أقل من الشك فيثبت فيه
التحريم بالنهي لعدم كون المأتي به حينئذ مطلوبا وعبادة فيدخل
تحت عموم النهي ويؤكده أدلة التشريع ثم هذا كله إذا لم يكن هناك
احتمال النسخ وإلا ففيه تفصيل آخر والكلام فيه خارج عن محل
البحث وقد يتمسك في تغليب جهة النهي بوجوه أخر منها أن دفع
المفسدة أهم من جلب المنفعة ورد بأن في ترك الواجب أيضا مفسدة
إذا تعين وهذا الرد ضعيف لان الكلام في صورة عدم التعيين كما
مر نعم يرد عليه أنه إن أريد بالمفسدة والمصلحة تحققهما فهو مناف
لأصل المقصود من منع الاجتماع وإن أريد احتمالهما أو ماهيتهما
فهو إنما يصلح لتعيين الترك لا لتعيين المراد ويمكن
تنزيل غرض المستدل على بيان ذلك ومنها أن النهي أقوى دلالة من
الامر لاستلزامه انتفاء جميع الافراد بخلاف الامر واعترض عليه
الفاضل المعاصر بأن النهي كالأمر لا يقتضي إلا طلب الترك في الجملة
وأحال الامر في ذلك إلى ما ذكره في مبحث النهي والذي ذكره
هناك هو أن النهي إنما يقتضي نفي جميع الافراد في الجملة وأما نفيها
في جميع الأزمان فلا وفساده واضح لان المقصود يتم بالتزام
الأول وأما الثاني فثبوته في المقام أعني الغصب ونظائره معلوم
بالنص والاجماع بل الضرورة فلا حاجة في إثباته إلى التمسك بدلالة
لفظ النهي عليه مع أنك قد عرفت مما حققناه في الفصل السابق دلالة
النهي عليه أيضا نعم أصل الدليل غير مطرد كما لا يخفى ومنها
الاستقراء وهو أنا تتبعنا الموارد التي يجتمع فيها احتمال الوجوب و
الحرمة كالعبادة أيام الاستظهار والطهارة بالاناء المشتبه
فوجدنا أن الشارع قد غلب فيها جهة الحرمة على جهة الوجوب و
ذلك يورث العلم أو الظن بتغليب جهتها في سائر الموارد وهذا الوجه
ضعيف لان الاستقراء المذكور على تقدير تسليمه لا يفيد العلم ولا
دليل على حجية الظن المستفاد منه إلا أن يرجع إلى الظن في دلالة
اللفظ وهو بعيد قيل ويمكن القلب عليه بأن ترك الواجب حرام و
ترك الحرام واجب فيلزم تغليب جهة الوجوب وفيه نظر لان المستدل
إنما يستند إلى الاستقراء في تغليب جهة حرمة الفعل على جهة
وجوبه لا تغليب جهة الحرمة على جهة الوجوب مطلقا وهذا ظاهر و
احتج
الخصم بوجوه الأول أنه لو لم يجز لكان لوحدة المتعلق اتفاقا والتالي
باطل لان الاحكام إنما تتعلق بالطبائع دون الافراد ولا ريب أن
الطبيعة التي تعلق بها الامر كالصلاة مثلا مغايرة للطبيعة التي تعلق بها
النهي كالغصب وإيجادها في الخارج لا بشرط ممكن ولو
127

بواسطة إيجاد الفرد فيجب الفرد من باب المقدمة ولا ينافيه تعلق
الحرمة به أيضا من باب المقدمة نظرا إلى كونه مقدمة للمحرم لان
الواجب إنما يتوقف في الوجود على فرد ما وهو كلي لا على فرد
بخصوصه كالفرد الشخصي المحرم لكن حيث لا محيص عن التزام
وجوب الافراد الخاصة للتوصل بها إليه على التخيير والبدلية العقلية
نخص الوجوب بغير الفرد المحرم ولا ينافي المطلوب لامكان
التوصل إلى الواجب بالمقدمة المحرمة بأن يكون الاتيان بها مسقطا
للتكليف بغيرها لحصول الغرض من التوصل إلى الواجب واعلم أن
هذا الدليل كما ترى يتفرع على القول بوجود الكلي الطبيعي في
الخارج والفاضل المعاصر لم يفرعه عليه نظرا منه إلى ما نقلناه عنه
في
بحث تعلق الامر بالطبيعة وقد بينا هناك فساده ومن هنا يظهر أيضا
ضعف مقالة الحاجبي حيث أجاز أيضا الاجتماع واحتج عليه بأن
مورد الأمر والنهي متغايران مع مصيره إلى أن الأوامر إنما تتعلق
بالافراد دون الطبائع معللا بامتناع تحققها في الخارج اللهم إلا أن
يلتزم بأن العقل يحلل الفرد الخارجي إلى فردين يتعلق الامر بأحدهما
والنهي بالآخر وفيه ما لا يخفى والجواب عن هذه الحجة ظاهر
مما مر فإن الطلب على ما بينا مما لا يعقل تعلقه بالطبيعة من حيث
هي ولا من حيث وجودها في الذهن بل من حيث وجودها في
الخارج و
هما متحدان فيه فيكون مورد المطلوبية والمبغوضية واحدا شخصيا
على ما مر بيانه مع أن الحجة المذكورة يشتمل على الخلل من وجوه
أخر لا يكاد يخفى على المتأمل الثاني لو لم يكن تعدد الجهة مجديا
في اجتماع الأمر والنهي لما صح أن يتصف شئ من العبادات
بالكراهة والتالي باطل بالنص والاجماع بيان الملازمة أنه لا مانع من
الاجتماع إلا التضاد وهو لا يختص بالوجوب مع الحرمة بل يتأتى
فيه وفي الندب مع الكراهة أيضا فإن الأحكام الخمسة كلها متضادة
فكما يعتد في العبادة المكروهة بتغاير جهتيها حيث إن رجحانها
من حيث الذات ومرجوحيتها من حيث الخصوصية فليعتد به في
المقام أيضا لظهور أن هذا القدر من التغاير ثابت فيه فيتعين فيه القول
بالجواز أيضا فإن ضدية الحرمة للوجوب كضدية الكراهة له وللندب و
الجواب أن الكراهة إن فسرت بمعنى مطلوبية الترك مع عدم
المنع
من الفعل فلا نسلم اتصاف شئ من العبادات بها لامتناعه عقلا و
النص الدال عليه مأول والاجماع المدعى عليه ممنوع وإن فسرت
بمعنى آخر أو وصف بها أمر خارج عن العبادة ارتفع التنافي بينها وبين
مطلوبية الفعل فلا يكون في اجتماعهما معها دلالة على
المطلوب وقد يستدل على امتناع اتصاف العبادة بالكراهة بالمعنى
الأول بأنها لو اتصفت بها فلا يخلو إما أن يترجح فعلها على تركها
أو يترجح تركها على فعلها أو يتساويا فعلى الأول لا يتحقق الكراهة و
على التقديرين الأخيرين لا يكون المفروض عبادة عبادة لزوال
الرجحان الذي به قوام العبادة ولعدم التمكن من قصد القربة بها لعدم
ترتبها عليها وإلا لامتنع الحكم بزوال رجحانها لان جهة كونها
مفيدة للقرب إليه تعالى جهة حسن لا يكافئها ما عداها من الجهات مع
مشاركة الثاني منهما للأول في استلزامه عدم الكراهة وأجاب عنه
الفاضل المعاصر بأن النهي إن تعلق بالعبادة باعتبار ذاتها كقراءة
الحائض فلا إشكال لأنا نلتزم حينئذ بمرجوحية فعلها ورجحان
تركها ولا حاجة فيها إلى تكلف وإن تعلق بها باعتبار وصفها فلنا أن
نلتزم برجحان الفعل ومرجوحيته ولا منافاة لان للفعل
اعتبارين من حيث الماهية ومن حيث الخصوصية فهو بالاعتبار الأول
راجح وبالاعتبار الثاني مرجوح فإن كان مما له بدل كالصلاة في
الحمام فلا إشكال لان النهي عن الخصوصية لا يستلزم طلب ترك
الماهية فنختار إيقاعها في غير هذه الخصوصية وإن كان مما لا بدل
له كالصوم في السفر والنوافل المبتدئة في الأوقات المكروهة فنقول
قضية النهي عنها غلبة جهة المرجوحية الناشئة عن الخصوصية على
الرجحان الثابت لماهية العبادة ورفعها إياه فيكون الفعل مرجوحا عريا
عن المثوبة كما يدل عليه ما ورد من أنهم عليهم السلام كانوا
يتركون تلك العبادات وينهون شيعتهم عنها ولولا ذلك للغا النهي
عنها وكان عن أمر مباح أو راجح وهو قبيح والمعتبر في العبادة
رجحان الماهية دون الخصوصية إذ لا دليل عليه وأما قصد القربة فلا
نسلم أنه يتوقف على حصولها وإلا لما صح أكثر عباداتنا التي لا
توجب قربا ولا يترتب عليها ثواب أصلا إن لم نقل بترتب العقاب
عليها نظرا إلى عدم
حضور القلب والالتهاء عنها وأما أنه لا يجوز مع ذلك ترك الواجب
منها فإنما هو لحماية الحمى وحسم سبيل تسويل النفس والشيطان
فيما هو العمود لفسطاط الدين فإن أكثر أحكام الشرع من هذا القبيل
كتشريع العدة لحفظ الأنساب مع أنه لا يدور مداره ولعله يكفي
في قصد القربة وصحة العبادة كون المأتي به صورة العبادة إذا تجرد
عن الموانع الشرعية مع أن قصد التقرب كما يكون بمعنى طلب
المثوبة والوصول إلى رحمته تعالى كذلك قد يكون بمعنى موافقة
الامر أي كون المأتي به من أفراد الطبيعة المأمور بها وإن لم يكن
مأمورا به من حيث الخصوصية على أنا نقول إن لم يصح قصد التقرب
به من حيث الطبيعة أو الخصوصية يصح قصده من حيث كونه متعبدا
أو داخلا في زي المتعبدين وهذا أمر ثالث غير الامرين السابقين بل
نقول لا يستحيل عند العقل أن يقول المولى الحكيم لعبده أريد منك
هذه الطبيعة وأريد أن لا توجدها في ضمن هذا الفرد أيضا لكن لو
عصيتني وأوجدتها فيه لعاقبتك لمخالفتك إياي في كيفية الايجاد لا
لأنك لم توجد مطلوبي وهذا معنى مطلوبية الطبيعة الحاصلة في
ضمن الفرد ولا غبار عليه إذ الامر المنهي عنه خارج عن العبادة فيصح
قصد التقرب باعتبار الاتيان بالطبيعة لا بشرط الحاصلة في ضمن الفرد
لا بإتيانه لها في هذا الفرد الخاص المنهي عنه وسمي هذا الوجه
بالسر المحجوب هذا محصل كلامه ومنقح مرامه نقلناه عنه من عدة
مقامات أقول ويتوجه عليه النظر في مقامين الأول فيما بنى عليه من
مرجوحية العبادات المكروهة التي لا بد لها وهو مما لا يخفى فساده
على ذي مسكة ضرورة أن العبادة تتوقف على الطلب وهو لا
يجامع المرجوحية كما مر وما ادعاه من رجحان الطبيعة من حيث هي
غير مجد بعد التزامه بوقوعها من المكلف على وجه المرجوحية
لمكان الخصوصية إذ الكلام
128

في كون الواقع عبادة ولا ريب أنه ينافي كونه مرجوحا صرفا وأيضا
فالعبادة المقيدة بالخصوصية المرجوحة إما أن يكون المطلوب
وجودها أو عدمها أو وجودها وعدمها فإن كان الأول لزم عدم الكراهة
وإن كان الثاني لزم خروجها عن كونها عبادة وإن كان
الثالث لزم التكليف بالمحال لا يقال هناك جهتان إحداهما مطلوبة و
الأخرى مكروهة ومجرد المقارنة في الوجود الخارجي لا يوجب
أن يخرج المطلوب عن كونه مطلوبا ولا المكروه عن كونه مكروها و
هل ذلك إلا كارتكاب مكروه حال التشاغل براجح فإنهما لا
يخرجان عن الوصف الذي هما عليه من المرجوحية والرجحان لأنا
نقول هذا ينافي ما اعترف به القائل المذكور من زوال الرجحان و
غلبة جهة المرجوحية مع أنه قد التزم في النوافل المبتدئة على ما
سيأتي بأن لكل زمان يسع لأداء ركعتين وظيفة مطلوبة وهي الركعتان
ولا ريب في أن وظيفة كل زمان يستلزم خصوصية ذلك الزمان وإلا
لخرجت عن كونها وظيفة له فيكون الامر بالوظيفة والنهي عن
الخصوصية من قبيل الامر بأحد المتلازمين والنهي عن الاخر وهو
طلب للمحال وأيضا لا ريب في عدم جواز ذلك في الامر الايجابي و
النهي التحريمي فكذلك في الامر الندبي والنهي التنزيهي لظهور أن
المناط عدم التمكن من الامتثال وأنه قدر مشترك بينهما نعم يمكن
التفصي عن ذلك بوجه آخر وهو أن يقال لا نسلم أن المطلوب في
الفرض المذكور هي الطبيعة المقيدة بل الطبيعة المطلقة وكراهة
إيقاعها في الأزمنة المخصوصة لا ينافي كونها مطلوبة من حيث هي
لتعدد الجهة مع إمكان الامتثال بإيقاعها في غيرها فيكون من قبيل
ما له بدل لكن يرد عليه وعلى الوجه السابق أن مورد المطلوبية و
المبغوضية على ما مر هو الوجود الخارجي أو الماهية الخارجية وهما
عين الوجود المقيد بالخصوصية أو الماهية المقيدة بها وكذا إذا جعل
موردهما جعل أحدهما فيلزم أن يتواردا على الواحد الشخصي وأنه
محال وقد ظهر مما قررنا فساد فرقه بين ما له بدل وما لا بدله له في
لزوم الاشكال وأما ما تمسك به من أنهم عليهم السلام كانوا
يتركون تلك العبادات وينهون شيعتهم عنها فسيأتي
الجواب عنه بما لا مزيد عليه الثاني فيما ذكره في قصد القربة فنقول ما
ادعاه من أن قصد القربة لا يتوقف على العلم بحصولها بل يتحقق
مع العلم بعدم حصولها أمر غير معقول إذ ليس المقصود من قصد
القربة مجرد الاخطار بالبال وإلا لصحت عبادة المرائي وشبهه معه
بل إما الداعي كما هو الحق أو الاخطار بالبال المقرون به ولا ريب في
أن من علم عدم ترتب أثر على فعل امتنع أن يكون الداعي له إليه
ترتب ذلك الأثر فمن علم أن عبادة مخصوصة لا توجب له القرب
امتنع أن يكون الداعي له إليها ترتب القرب عليها وأما وقوع العتق من
الكافر مع اشتراطه بقصد القربة فلا ينافي ذلك لان قصد القربة منه
مبني على زعمه الفاسد من تيسر حصولها له حال كفره واعتداد
الشارع به دليل على أن المعتبر فيه مجرد قصدها سواء حصلت أم لم
تحصل تسهيلا لأمر الفك والتخليص ولو قلنا بصحته ممن ينكر
الإلهية كان الشرط حينئذ مجرد إبراز صورة القربة سواء اعتقد به و
حصلت أم لا وهذا خارج عن محل الفرض وكذا الكلام في تغسيل
الكافر الميت المسلم عند فقد المماثل والمحرم على القول به فإن
العبرة فيه بمجرد الصورة ومما قررنا يظهر فساد قوله وإلا لما صح
أكثر عباداتنا إلخ وقوله ولعلمه يكفي وقوله مع أن قصد القربة إلخ إذ
دعوى أن الداعي هو القربة مع العلم بعدم حصولها مما يقطع
بفساده وإن أراد تفسير القربة بمجرد كون المأتي به صورة عبادة أو
مجرد موافقة الامر كما هو الظاهر من بيانه فواضح السقوط و
أيضا ضرورة العقل قاضية بأن الامتثال وموافقة الامر لا ينفك عن
حصول قرب ولو في الجملة فدعوى عدم حصوله في البعض أصلا
غير مسموعة نعم ورد في جملة من الاخبار المروية عن الأئمة الأطهار
عليهم السلام أن الصلاة تقبل من فاعلها على حسب ما يقبل عليها
فربما يوهم ذلك أن الصلاة التي لا تشتمل على الاقبال لا توجب قربا
أصلا لعدم القبول وجوابه أن القبول فيها محمول على ما يوجب
القرب الوافر أو المعتد به أو كمال المقبولية جمعا بينها وبين ما دل
على ترتب الأجر والثواب على فعلها من العقل والنقل وظاهر أن
ذلك أيضا ممن مراتب القرب مع احتمال أن لا توجب قربا لفاعلها
أصلا وإن صانته عن البعد المترتب على تركها فقصد التقرب بها على
هذا التقدير بمعنى قصد السلامة من البعد المترتب على الترك و
لا يخفى بعده وكيف كان فلا يترتب القرب بشئ من معانيه على
مكروه العبادة على ما ذكره فلا يتأتى من العالم به قصده بها ثم ما
ادعاه من صحة قصد القربة باعتبار الدخول في ذي المتعبدين إنما
يصح إذا كان المأتي به عبادة وقد بينا فساده ولو اكتفى بكونه
صورة عبادة نقلنا الكلام إليها فإن صورة العبادة إنما تكون عبادة إذا
تعلق بها الطلب هذا ودعوى أن المطلوب في النوافل المبتدئة في
الأوقات المكروهة ونحوها إنما هو صورة الصلاة دون حقيقتها
مجازفة واضحة وأما ما عزاه إلى الحكيم من قوله أريد هذه الطبيعة و
لا أريد إيجادها في ضمن هذا الفرد فمحصله أن للحكيم هناك إرادتين
وحكمين إحداهما إرادة نفس الطبيعة وإيجابها والأخرى إرادة
عدم إيجادها في ضمن الفرد المخصوص والنهي عنه وأنهما
يجتمعان في إيجاد ذلك الفرد ولا منافاة وفساد هذا الكلام مما لا
يكاد
يخفى بعد ما مر إذ تعلق الإرادة والايجاب بالطبيعة من حيث هي غير
معقول وتعلقها بها باعتبار الخارج أو الوجود أو الايجاد أو
الجعل يوجب توارد المطلوبية والمبغوضية على واحد شخصي
بالنسبة إلى ذلك الفرد وقد عرفت فساده وبهذا يظهر فساد ما اعتذر
به
من أن ما تعلق به النهي خارج عن العبادة ثم ما ذكر من أنه يصح قصد
التقرب باعتبار نفس الطبيعة الحاصلة فمما لم نقف له على محصل
لان الطبيعة المأتي بها مقيدة بالخصوصية المرجوحة كما هو
المفروض أو هي عينها فإن أراد أنها حينئذ توجب لفاعلها القرب فهو
هدم
لما بني عليه من مرجوحية العبادات المكروهة في حد أنفسها إذ ما
يترتب عليه القرب إليه
129

كيف يوصف بالمرجوحية وليت شعري هل تزيد جهته على هذه
الجهة حتى يمكن نسبته المرجوحية إليها باعتبارها وإن أراد أنها لا
توجب قربا أصلا لمعارضة الجهة المرجوحية ورد عليه ما مر من
امتناع قصد القربة حينئذ هذا وغاية توجيه كلامه أن يقال للعبادة
المكروهة اعتباران وحكمان متغايران لاحقان لها من حيث الأجزاء و
من حيث الجملة فأما من حيث الأجزاء فهو مشتملة على جهتين
إحداهما راجحة يترتب عليها القرب ترتبا فعليا والأخرى مرجوحة
يترتب عليها البعد المترتب على المكروهات ترتبا فعليا لكن
المرجوحية التي في الجهة المرجوحة زائدة على الرجحان الذي في
الجهة الراجحة وكذلك البعد المترتب على الجهة المرجوحة زائدة
على القرب المترتب على الجهة الراجحة كما يرشد إليه تركهم عليهم
السلام لها ونهيهم عنها وأما من حيث الجملة فهي مرجوحة صرفة لا
يترتب عليها إلا البعد وذلك لان وصفي الراجحية والمرجوحية
الناشئتين من الجهتين لما تعارضتا في الجملة لوحدتهما فيها وامتناع
توارد الوصفين المتنافيين على موضوع واحد سقط من المرجوحية ما
ساواها من الراجحية وبقي الزائد منها من غير معارض وتلك
الزيادة مرجوحية صرفة لا يشوبها شئ من الرجحان فتبقى ثابتة في
الجملة عارضة لها فلا توصف الجملة إلا بالمرجوحية وكذلك
القرب والبعد المترتبان على الجهتين لما تعارضا سقط من البعد ما
وازاه من القرب وبقي الزائد عنه من غير معارض وهو بعد خالص
لا يمازجه قرب وبهذا البيان يرتفع التنافي بين كلاميه حيث أثبت أولا
أن الجهتين موصوفتان بالراجحية والمرجوحية وصرح بعد
ذلك بزوال الرجحان وغلبة جهة المرجوحية بتنزيل كلامه الأول على
اعتبار التفصيل والثاني على اعتبار الجملة ويصح قصد القربة
على هذا البيان باعتبار الجز المقرب وإن صادفها من الجهة الأخرى
ما يوجب رفعها بالكلية لان ترتبه عليها أمر مقطوع به كيف لا و
لولاه لكان البعد المترتب على الجهة الأخرى أكثر لخلوها عن
المعارض فمرجع القرب على هذا إلى تقليل البعد المترتب على
الجهة
المرجوحة فكما أن عدم البعد يصح أن يكون مطلوبا كذلك تقليله
يصح أن يكون مطلوبا
وفساد هذا التوجيه أيضا واضح لأنه بظاهره إنما تمشي حيث يكون
هناك طبيعتان متغايرتان في الحقيقة ولو بحسب الذهن وبعد
التحليل ليصح أن يتصف إحداهما بالرجحان وإفادة القرب والأخرى
بالمرجوحية وإفادة البعد ومن الواضح أن العبادات المكروهة
ليست كذلك لأنها عبادات خاصة ولا يعقل لها ماهيتان متغايرتان
بالحقيقة حتى يصح توارد تلك الصفات المتنافية عليها باعتبارهما
ضرورة أن الصلاة في الأزمنة أو الأمكنة المكروهة هي نفس ماهية
الصلاة ولا مغايرة بينهما في الحقيقة أصلا وإنما بينهما مغايرة في
مجرد الاعتبار والمغايرة الاعتبارية غير مجدية في ذلك إذ لا يعقل أن
يكون حسن الفعل وقبحه ولوازمهما من إفادة القرب وعدمها
منوطة باعتبار المعتبر فإن اعتبره من حيث هو أي لا بشرط اتصف
بالحسن وإفادة القرب وإن اعتبره بشرط شئ اتصف بالقبح و
إفادة البعد والسر فيه أن الاحكام اللاحقة للماهية لا بشرط تلحقها مع
كل شرط قدر لحوقه بها وإلا لما كانت لاحقة للماهية لا بشرط بل
للماهية بشرط عدم لحوق ذلك المنافي لها فإن صح ما ذكروه من أن
الصلاة لا بشرط راجحة ومقربة لفاعلها امتنع أن تكون الصلاة في
الأزمنة أو الأمكنة المكروهة مرجوحة غير مقربة وإلا فلا يكون
الرجحان والقرب مترتبين على الصلاة لا بشرط بل بشرط لا ولو في
الجملة كعدم تقيدها بخصوصية تلك الأزمنة أو الأمكنة المكروهة و
ربما أمكن أن يسبق إلى الوهم أن إيجاد الصلاة شئ وتقييدها
بزمان معين أو مكان معين شئ آخر فالأول محل للرجحان وإفادة
القرب والثاني محل للمرجوحية وإفادة البعد وضعفه ظاهر لان
تقييد الصلاة بزمان معين أو مكان معين ليس إلا إيجادها في زمان
معين أو مكان معين فإذا كان الايجاد المذكور راجحا ومقربا امتنع
أن يكون مرجوحا ومبعدا مع أن الاشكال الذي أوردناه على قصد
القربة لا يجدي في دفعه التكلف المذكور لظهور أن المكلف إذا علم
بأن المقيد لا يوجب له قربا أصلا بل يوجب له البعد امتنع أن يكون
داعيه إلى الفعل تحصيل القرب وقصد التخلص من البعد أو من مزيده
إنما يتصور
حيث لا يكون البعد ناشئا من نفس الفعل كما احتملناه في الصلاة
العارية عن الاقبال فلو قدر هناك قيام ما يقتضي تعلق القصد بتحصيل
القرب على هذا الوجه فإن كان من الدواع الشرعية والغايات القربية
كأمر السيد أو الوالدين أو التماس مؤمن فإن ترتب القرب على
الفعل بعد تلك الضمائم وترجح رجحانه على مرجوحيته ولو بطريق
الرجاء والاحتمال جاز قصد القربة من غير إشكال وخرج عن
محل البحث وإلا امتنع قصده لما مر وأما إذا كانت الدواعي غير
شرعية ولو مثل إلزام المنكر وإثبات الدعوى فصحة عمله في موضع
المنع لا سيما في بعض صوره وتفصيل الكلام فيه موكول إلى موضعه
مع أن دعوى اختصاص الداعي إلى فعل العبادات المكروهة
بالدواعي الغير الشرعية عند العالم بالحقيقة مما يكذبه وجدان كل من
له خبرة بالشريعة و وقوف على الطريقة وبالجملة فالفاضل
المذكور قد سلك مسلك الاعتساف في بيان مكروه العبادة لا سيما
في تصحيح أمر القربة حيث التزم فيها بأمور لا حاجة له إلى التزامها
مما هو متضح الفساد بل التحقيق على القول بتعلق الاحكام بالطبائع
من حيث هي أن يقال العبادة المكروهة مشتملة على جهتين إحداهما
راجحة و مطلوبة الوجود يترتب على فعلها الثواب والقرب مطلقا و
هي ماهية الصلاة مثلا والأخرى مرجوحة مطلوبة الترك يترتب على
تركها الثواب والقرب مطلقا وهي ماهية وقوعها في مكان أو زمان
مخصوص مثلا فإن كانت العبادة مما لها بدل جاز أن يكون جهة
المرجوحية أقل من جهة الرجحان بل قد يتعين كما في الواجبات
المكروهة وأن تكون مساوية أو أزيد وأما فيما لا بدل لها فنلتزم
برجحان جهة المرجوحية على جهة الرجحان ولو غالبا فيكون الثواب
والقرب المترتبان على الترك أكثر من الثواب والقرب
المترتبين
130

على الفعل لا أن الفعل على تقدير وقوعه خلو عنهما بالكلية وينزل
عليه تركهم عليهم السلام لها ونهيهم عليهم السلام عنها وقريب مما
ذكرنا ما ذكره بعض من أجاز الاجتماع في حاشيته على العضدي و
حينئذ فلا يرد عليه شئ من الاشكالات التي أوردناها على ما ذكره
في بيان مورد الرجحان والمرجوحية وفي قصد القربة وإن اتجه عليه
الاشكالات الاخر التي أوردناها على أصل المبنى كما لا يخفى ثم
إن للمانعين في بيان معنى الكراهة في العبادة وجوها منها أن الكراهة
في مثل ذلك تابعة لأمر خارج عن العبادة كالتعرض للرشاش و
السيل وأنفار الإبل في كراهة الصلاة في الحمام والبطائح ومعاطن
الإبل إلى غير ذلك فالنواهي التنزيهية لا تتعلق إلا بأمر خارج عن
العبادة بخلاف النواهي التحريمية فإنها تتعلق بنفسها بدليل الاستقراء
وهذا الوجه ضعيف لأنه خروج عن الظاهر من غير حاجة تمس
إليه وقد ذكر الفاضل المعاصر في دفعه وجوها منها المنع من
الاستقراء وحجيته وهذا إنما يتجه إذا أريد به الاستقراء الناقص وأما
إذا
أريد به الاستقراء التام كما هو الظاهر فلا يرد عليه إلا المنع من تحققه و
منها أن معنى كراهة التعرض للرشاش كراهة الكون في معرض
الرشاش ولو حال الصلاة وهذا الكون عين الكون الذي هو جز
الصلاة في الخارج فيلزم اجتماع الامر مع النهي التنزيهي في الكون
الشخصي وهو المحذور وفيه نظر إذ لا نسلم أن الكون في معرض
الرشاش عين الكون الذي هو جز الصلاة كما سيأتي تحقيقه وإن
اعترف به بعض من عول على الجواب المذكور كالعلامة ومنها أن
الفرق بين النواهي التنزيهية والنواهي التحريمية تحكم إذ به لقائل أن
يقول ليس النهي في مثل لا تصل في الدار المغصوبة عن نفس الصلاة
بل عن التعرض للغصب وفيه أيضا نظر لظهور الفارق فإن الباعث
على ارتكاب التأويل في النواهي التنزيهية موجود بخلاف التحريمية
مع أن الاجماع منعقد في الغصب على تعلق النهي فيه بنفسه إن أراد
تعميم التأويل إليه بخلاف الصلاة في الحمام ومنها أن الحمل المذكور
يوجب زوال الكراهة فيما يؤمن فيه من الرشاش والتزامه بعيد و
يمكن دفعه بأن المراد بالتعرض للرشاش الكون في مكان أعد
للرشاش فلا يلزم زوال الكراهة بمجرد الامن منه ومنها أن التوجيه
المذكور لا
يجري بالنسبة إلى الصلاة في مواضع التهمة فإن نفس الكون فيها منهي
عنه فلا بد لهم من القول بالبطلان وهو غير معهود منهم فيكون
هذا أيضا مما يدل على بطلان مذهبهم وفيه أن للموجه المذكور أن
يجعل النهي فيه أيضا عن التعرض للتهمة ودعوى عدم جريان هذا
الاحتمال فيه على تقدير جريانه في الفرض السابق تعسف بين على
أن الكون في موضع التهمة غير الكون الذي هو جز الصلاة فالنهي
عنه لا ينافي الامر بالصلاة المقارنة له على ما سيأتي تحقيقه فلا دلالة
فيه على فساد مذهبهم الثاني أن المراد بالكراهة قلة الثواب و
نقصانه وأن المراد بالنواهي التنزيهية المتعلقة بالعبادات ذلك فلا يلزم
منه توارد حكمين متضادين في مورد واحد والقلة إما أن تعتبر
بالنسبة إلى عبادة أخرى مطلقا أو عبادة مضادة لها أو بالنسبة إلى بعض
أفراد نوعها مطلقا أو بالنسبة إلى ثواب مطلق الطبيعة أي
المجردة عن اعتبار الخصوصيات ومثله ما لو اعتبر بالنسبة إلى الفرد
الذي يساوي ثوابه ثوابها فإن الخصوصية قد توجب نقصا في
ثواب الطبيعة كما مر وقد توجب الزيادة فيه كالصلاة في المسجد وقد
لا توجب شيئا منهما كالصلاة في الدار وصحيح هذه الوجوه هو
الوجه الأخير وإن صرح بعضهم بغيره لانتقاض الأول والثالث طردا
بمثل نوافل النهار والصلاة في مسجد الكوفة فإنهما أقل ثوابا من
نوافل الليل والصلاة في المسجد الحرام مع أنهما لا توصفان بالكراهة
بهذا الاعتبار قطعا وانتقاض الثاني عكسا بما لا ضد له كالنوافل
المبتدئة والصوم في السفر على القول بجوازه وربما أمكن توجيه هذا
الوجه على تحقيقنا الآتي لكن لا حاجة معه إلى هذا التأويل و
اعترض عليه المعاصر المذكور بأن هذا التوجيه غير مفيد لان النهي إن
كان بمعنى طلب الترك فهو ينافي الامر الدال على مطلوبية
الفعل وإن تغايرت الجهة إذ التقدير عدم الاعتداد به وإن كان بمعنى
قلة الثواب مجردا عن طلب الترك فهو مع كونه تعسفا لا يجدي
بالنسبة إلى الواقع إذ المطلوب إما حصول فعله أو تركه أو هما معا
فعلى الأول يلزم عدم الكراهة وعلى الثاني عدم الوجوب وعلى
الثالث يعود المحذور على أن قلة الثواب لا
تصلح سببا لتفويته حيث إنهم عليهم السلام كانوا يتركون تلك
العبادات وينهون شيعتهم عنها وإن أريد ترك الناقص واختيار الزائد
فهو إنما يستقيم فيما له بدل كالصلاة في الحمام ونحوها دون ما ليس
له بدل كالتطوع بالصوم في السفر والنافلة المبتدئة في
الأوقات المكروهة فإن كل يوم من الأيام يستحب الصوم فيه وكل
مقدار من الزمان يسع لأداء الركعتين يستحب الصلاة فيه ولا يعقل
بدلية فرد منها لاخر لان كل واحد منها مستحب مستقل وما يعتذر به
عنه من أن الاحكام واردة على حسب المعتاد لان الناس لا
تستغرق أوقاتهم بالنوافل فإن أريد به أن ما يقع في الوقت الراجح ليس
من وظيفته بل بدل من وظيفة الوقت المرجوح فهذا ليس بأولى
من أن يقال ما يقع في الوقت الراجح وظيفة له ولا وظيفة للوقت
المرجوح وإن أريد به أن المقصود ترك الطبيعة في الوقت المرجوح و
إيجادها في الوقت الراجح فهذا اعتراف بأن الراجح تركها في الوقت
المرجوح من غير بدل فيعود الاشكال مع أن دعوى البدلية بعيدة
فيما يقل وقوعه ويترقبه الناس من بين الأيام كصوم يوم الغدير وأول
يوم من رجب في السفر فإنه لا معنى للنهي عنه إلى بدل لا وجود
له هذا محصل كلامه والجواب عنه أما أولا فبأنا نلتزم بما هو ظاهر
كلام القوم من أن الكراهة في العبادة بمعنى قلة الثواب وأن تلك
النواهي إرشادية مجردة عن معنى طلب الترك ولا يلزم عليه شئ من
المفاسد المذكورة إذ التعسف اللازم على تقديره إنما هو مجرد
مخالفة للظاهر وهو مما يجب ارتكابه عند قيام الحجة عليه ثم
الكراهة بهذا المعنى لا تنافي مطلوبية الفعل بل يستلزمها فتختار الشق
الأول وهو مطلوبية الفعل ونمنع لزوم عدم الكراهة بهذا المعنى على
تقديرها والسند عليه ظاهر وما نسب إليهم عليهم السلام من أنهم
كانوا يتركون تلك العبادات فلا نسلم أنه كان لرجحان الترك على الفعل
بل للاشتغال بما هو أفضل منها
131

كما يستفاد من كراهة صوم يوم عرفة لمن خاف أن يضعفه من الدعاء و
على مثل هذا يمكن أن يحمل ما نسب إلى الإمام موسى بن جعفر
عليه السلام من أنه عليه السلام كان يترك النوافل إذا أصابه هم أو غم
فإن النفس إذا أصابها هم أو غم امتنعت عن التوجه بالكلية إليه
تعالى والاقبال عليه بأفعال الصلاة فجاز أن يترجح حينئذ عليها ما لا
يترجح عليها في غير هذه الحالة ولو مثل التوصل إلى قضائها عند
التوجه والاقبال فإن استبعد مثل ذلك بالنسبة إلى منصب الإمامة
أمكن الحمل على أن الغرض منه التعليم والارشاد كما يوجه به ما ورد
من تركهم عليهم السلام أحيانا لبعض الأمور الراجحة مطلقا مع
احتمال أن يكون تركه عليه السلام للتشاغل بتدبير أو إصلاح أو نحوه
مما هو أهم من النافلة وأما أنهم عليهم السلام كانوا ينهون شيعتهم
عنها فلا نسلم أنهم كانوا يقصدون به طلب الترك بل الارشاد
للتوصل إلى البدل الأفضل ولو مثل رفع سأمة العبادة عن النفس
بحيث تشتاقها وتترقبها وما ذكر من أن ذلك لا يجري فيما لا بدل له
كالصوم في السفر والنافلة المبتدئة في الأزمنة المكروهة ففيه أن ليس
المراد بالبدل ما يكون مشروعيته على وجه البدلية أو ما يعتبر
فيه نية البدلية بل المراد ما يكون بدلا في الاختيار والارتكاب وبهذا
يظهر ضعف قوله وهذا اعتراف بأن الراجح تركها في الوقت
المرجوح من غير بدل قوله مع أن هذا بعيد عما يقل وقوعه إلخ فيه أن
هذا الاستبعاد إنما يتجه فيما إذا كان المقصود بدلية صوم يوم
آخر وأما إذا كان المقصود بدلية عبادة أخرى ولو غير الصوم كما في
صوم عرفة فلا فرق بين ما يقل وقوعه وبين غيره وأما ثانيا
فبأنا نختار أن الكراهة فيها بمعنى رجحان الترك وأن النواهي مستعملة
في طلب الترك تنزيها كما هو الظاهر منها لكن نقول رجحان
الترك وطلبه غيري فلا ينافي رجحان الفعل ومطلوبيته لنفسه وذلك
لان المطلوب للغير والراجح له إنما يكون مطلوبا وراجحا على
تقدير حصول الغير لا مطلقا على ما سبق تحقيقه عند بحث المقدمة
فالعبادة المكروهة إذا صدرت عن المكلف لا تتصف حقيقة إلا
بالرجحان وبالجملة فالعبادة المكروهة مطلوب فعلها على تقدير عدم
التوصل بتركها إلى فعل الأرجح وتركها على تقدير التوصل
بتركه إلى
فعله فلا يلزم توارد الرجحان والمرجوحية على شئ واحد نعم من
التزم برجحان المقدمة مطلقا فلا محيص له عن الاشكال المذكور و
لا يخفى أن هذا الوجه بهذا البيان قريب من الوجه الآتي أو راجع إليه
هذا ولقائل أن يقول قضية هذا البيان أن المقصود بتلك النواهي
تركها للوصلة إلى ما هو أرجح منها وهو فيما لا بدل له بعيد إذ معظم
أخبار النهي فيه مطلقة ولا تعرض فيها لبيان الأرجح الذي يترجح
الترك للوصلة إليه مع ظهور أنه لا يمكن الوقوف عليه من غير طريق
النص غالبا فلو كان المقصود منها رجحان الترك لذلك لوجب
البيان لئلا يدعها السامع من غير بدل أو إلى بدل دونها أو مثلها في
الفضل والتزام وقوع البيان وعدم النقل بعيد جدا لان المقام مما
يعم به البلوى وطريقتهم في مثل ذلك جارية على النقل ويمكن دفعه
بأن ذلك مجرد استبعاد لا يكافئ ما مر من الأدلة القطعية مع
وقوع البيان في الجملة كما في صوم يوم عرفة ثم أقول والذي يساعد
عليه النظر الصحيح أن الكراهة بالمعنى المصطلح عليه يشتمل
على رجحان الترك ومطلوبيته ومرجوحية الفعل وهذه الأمور
مشتركة عند التحقيق بين مكروه الراجح من الواجب والمندوب و
غيره
إلا أن مرجوحية الفعل في مكروه غير الراجح مأخوذة بالنسبة إلى
الترك ومطلوبية الترك ورجحانه معتبران فيه لنفسه ولا إشكال و
أما مكروه الراجح فيصح تصوير ذلك بوجهين الأول أن يكون
مرجوحية الفعل فيه بالنسبة إلى طبيعة المعراة عن اللواحق الموجبة
لتأكد
رجحانها كما مر الإشارة إليه ويكون مطلوبية الترك ورجحانه فيه
للتوصل إلى ما هو الأفضل وهذا مطرد في مكروه الواجبات
النفسية وقد يجري في مكروه المندوب أيضا كصوم يوم عرفة في حق
من يضعفه عن الدعاء إن قلنا بأن إيراثه الفتور والضعف عن
الدعاء يوجب منقصة في رجحانه على حسب ما مر الثاني أن يكون
المرجوحية فيه لاحقة لفعله المقيد بقصد القربة مقيسا إلى تركه المقيد
به والمطلوبية والرجحان لاحقين لتركه المقيد به لنفسه فيكون كل من
الفعل بقصد الامتثال راجحا ومطلوبا لنفسه ويكون الترك
أرجح من الفعل فيكون الفعل مرجوحا بالنسبة إليه وبهذا البيان يقرب
مكروه
العبادة من مكروه غيرها فيجوز في مثل الصوم في السفر على القول
بجوازه أن يكون كل من فعله على وجه الامتثال وتركه كذلك
مطلوبا على التخيير والبدلية مع أفضلية الترك بل الظاهر أن الامر في
كثير من مكروه المندوبات التي لا بدل لها كذلك بل يمكن أن
يتصور ذلك في مكروه الواجب أيضا إلا أن وقوعه في أصل الشرع غير
ثابت ويصح اعتباره في الملتزم وبه يندفع الاستبعاد المذكور
وينحسم الاشكالات السابقة وهو أوفق بظاهر تركهم عليهم السلام لها
ونهيهم عنها وتحقيق ذلك أن من الافعال ما يترجح فعله على
تركه مطلقا أي سواء وقع على وجه العبادة أو لا لتعلق طلب الشارع به
كذلك وهذا كالواجبات التي لا يعتبر في وقوعها قصد القربة
كأداء الدين وإنقاذ الغريق ودفن الموتى فإن في فعلها سلامة من
العصيان واستحقاق العقاب المترتب على تركها فيترجح على تركها
الموجب له مطلقا ومنها ما يترجح فعله على تركه لا مطلقا بل إن وقع
على وجه الامتثال فقط وهذا كالواجبات التي لا تقع إلا بقصد
القربة كالصلاة والزكاة والحج فإن هذه الأفعال إنما تترجح إذا وقعت
بقصد الامتثال لتعلق أمر الشارع بها كذلك وكذلك التروك قد
يتعلق بها غرض الشارع مطلقا كترك الزنا والسرقة وقد تتعلق بها إذا
وقعت بقصد الامتثال كترك مفطرات الصوم ثم كل منهما إما
أن يترجح فعله مثلا على تركه المطلق فيقتضي مرجوحية تركه مطلقا و
هذا كالواجبات التعينية وقد يترجح بالنسبة إلى ترك مخصوص
فلا يقتضي إلا مرجوحيته دون مرجوحية الترك مطلقا وهذا
كالواجبات التخييرية التي يتعذر الجمع بينها شرعا أو عقلا عادة أو
اتفاقا
كما في خصال الكفارة حيث لا يمكن الجمع بينها فإن فعل العتق
حينئذ مثلا راجح على تركه المجرد عن فعل سائر الخصال أو غير
راجح
على تركه المترتب عليه فعلها لأنه مقدمة لها فيكون مطلوبا على حد
مطلوبيتها
132

ما عرفت بيانه سابقا ففي الحقيقة كل واجب مخير يتعذر فيه الجمع
يستلزم التخيير بين فعله وتركه الخاص أعني تركه المتوصل به إلى
فعل الفرد الاخر ومثله التخيير في المقام إلا أن التخيير هناك بين
نفسي وغيري وهنا بين نفسيين كالتخيير بين الخصال وتوضيح
المقام أن الرجحان والمرجوحية من الصفات المتضايفة فلا يتحقق
أحدهما بدون الاخر ويستلزم إطلاق أحدهما وتقييده لاطلاق الاخر
وتقييده وهما يعتبران في ماهية الاحكام العينية التعيينية بالنسبة إلى
طرفي نقيض الافعال فقضية رجحان الفعل المطلق أو المقيد
مطلقا أو مقيدا عينيا أو تعيينيا مرجوحية تركه على حسبه وبالعكس و
كذا الكلام في رجحان الترك المطلق وقضية رجحان ترك مقيد
عينا وتعيينا مرجوحية ترك هذا الترك لمكان المناقضة دون الفعل
لانتفائها بالنسبة إليه وقد سبق تحقيق ذلك في مسألة الضد و
يعتبران في الاحكام الكفائية والتخييرية بالنسبة إلى الفعل وما هو
أخص من نقيضه فإن المرجوحية غير لاحقة لمطلق تركها بل لتركها
المجرد عن البدل وهو أخص من مطلق تركها المناقض لفعلها ثم كما
يصح أن يجعل البدل في الواجب التخييري فعلا آخر كالعتق و
الاطعام أو تركه على وجه مخصوص كالعتق والصوم كذلك يجوز أن
يجعل ترك نفسه على وجه مخصوص بدلا عن فعله مطلقا أو على
وجه مخصوص كما في المندوب الراجح تركه على وجه الإجابة ولا
يلزم منه توارد الرجحان والمرجوحية على محل واحد لتغاير
الموردين فإن الترك المجرد عما هو بدل عن الواجب مباين للترك
الذي هو بدل عنه وإنما اعتبرنا في المقامين كون الترك على وجه
مخصوص لان التخيير بين الفعل مطلقا وبين تركه مطلقا إباحة و
التخيير بين الفعل على وجه مخصوص وبين تركه مطلقا كفعل النافلة
متطهرا أو تركها راجع إلى تحريم الفعل على غير ذلك الوجه فليس في
هذين الصورتين إيجاب فعل أصلا وإنما المتحقق في الثانية
تكليف واحد وتحريم فعل خاص إذا تقرر هذا ظهر أنه لا منافاة بين أن
يكون الصوم في السفر مثلا على القول بجوازه بقصد الامتثال
راجحا نفسيا ويكون تركه أيضا كذلك راجحا نفسيا أو أرجح بل يتعين
الثاني لمكان الكراهة فيكون رجحانهما بالنسبة إلى الترك
المجرد عن القيد فيصح تعلق الطلب بهما كذلك لكن على وجه
التخيير لئلا يلزم التكليف بالمحال لا يقال هذا تخيير بين الفعل و
الترك فيرجع إلى الإباحة فلا يتحقق الطلب لأنا نقول ليس مطلق
التخيير بين الفعل والترك إباحة بل إذا كانا متقابلين بأن يمتنع فيه
الواسطة وليس المقام منه كما عرفت وهل هذا التخيير إلا
كالتخيير بين فعل وترك فعل آخر إذا تنافيا في الاجتماع غاية الامر أن
التنافي هنا من حيث الذات وهناك بواسطة أمر خارج بل
كالتخيير بين الفعل والترك على وجه خاص إذا اشتمل كل منهما على
مرجح شرعي كإنجاح الملتمس فإن كلا منهما راجح إذا قصد به
ذلك ومثله إتمام الصوم المندوب عند عرض المفطر ولا يبعد إلحاقه
بالمكروه فإن قلت إطلاق النهي يقتضي مطلوبية الترك مطلقا و
تنزيله على مطلوبية الترك بقصد الامتثال تقييد وخروج عن الظاهر فلا
يصار إليه إلا لدليل قلت لما ثبت مما قررنا امتناع إبقاء النهي
هنا على ظاهره فلا ريب أن التنزيل المذكور أقرب المحامل إليه وقد
مر في مبحث الامر ما يقرب ذلك وهذا من تحقيقاتنا التي تفردنا
بها وعليك بإمعان النظر فيه فإنه بمكان من الغموض والخفاء الثالث
أن المراد بكراهة العبادة مرجوحيتها بالنسبة إلى الغير ويرادفها
خلاف الأولى فالرجحان ذاتي والمرجوحية إضافية ولا منافاة كالقصر
في المواطن الأربعة فإنه مرجوح بالنسبة إلى الاتمام مع أنه أحد
أفراد الواجب المخير فكما يجتمع الوجوب النفسي مع الاستحباب
الغيري كغسل الجنابة للصلاة المندوبة على القول بوجوبه لنفسه و
الاستحباب النفسي مع الوجوب الغيري كوجوبه للصلاة الواجبة على
القول الاخر كذلك يجتمع الرجحان الذاتي مع الكراهة للغير كصلاة
الصائم عند انتظار الرفقة والمكروهات للغير كثيرة منها الاتزار فوق
القميص للصلاة ومصاحبة الحديد البارز لها ونحو ذلك و
اعترض عليه المعاصر المذكور بأن تلك المرجوحية الإضافية إن
أوجبت مرجوحية لذات العبادة بحيث يترجح تركها بالنظر إلى ذاتها
عاد المحذور وهو لزوم كون شئ واحد في حد ذاته راجحا و
مرجوحا وإن لم توجب ذلك كان معناه كون الغير أرجح بالنسبة إليه و
هذا لا يستقيم فيما إذا كان الأرجح موازيا لأصل الطبيعة في الرجحان
إذ يصير المرجوح بالنسبة إليه
حينئذ مرجوحا بالنسبة إلى أصل الطبيعة فيحصل له منقصة ذاتية أيضا
ولا يمكن أن يجعل المنقصة من جهة الخصوصية لا من جهة أصل
العبادة لمنافاته لأصل المجيب حيث لا يعتد بتعدد الجهة بل لا
يستقيم ذلك في غير هذه الصورة مما تكون المرجوحية فيها بالنسبة
إلى
الافراد الراجحة على أصل الطبيعة أيضا إذ نقول بعد تسليم كونه
حينئذ راجحا بالذات ومرجوحا بالنسبة إلى الغير أنه إما أن يكون
مطلوب الفعل أو مطلوب الترك أو مطلوب الفعل والترك فيلزم على
الأول عدم المرجوحية وما يلزمه من الحرمة أو الكراهة وعلى
الثاني عدم الرجحان وما يلزمه من الوجوب أو الندب وعلى الثالث
يلزم التكليف بالمحال ولا سبيل إلى اعتبار مطلوبية الفعل بالنسبة
إلى الذات ومطلوبية الترك بالنسبة إلى الغير لان ذلك ينافي ما بنى
عليه المجيب من عدم الاعتداد بتغاير الجهة مع وحدة المتعلق فإن
قيل نختار القسم الأخير وهو مطلوبية الفعل والترك ولا نسلم لزوم
التكليف بالمحال لجواز الفعل والترك معا قلنا لا يجدي ذلك فيما
إذا أراد المكلف الفعل واختار الفرد المرجوح وجواز الفعل والترك لا
يجوز اجتماع المتضادين في صورة اختياره وهو واضح مع أنه
لا فارق بين قولنا لا تصل في الدار المغصوبة ولا تصل في الحمام
فكما يعتبر الرجحان في الفرض الثاني بحسب الذات والمرجوحية
بحسب الغير فليعتبر ذلك في الفرض الأول أيضا وذلك بأن يقال
رجحان الصلاة في الدار المغصوبة ذاتي ومرجوحيتها إضافية
بالنسبة إلى الغير وما يقال في دفعه من أن الفارق هو كون الصلاة ثمة
عين الغصب وهي هنا غير الكون في الحمام فيصح أن يختلف
الحكم في الثاني دون الأول فتكلف واضح ومع ذلك فهو مبني على
أن الاتحاد في الوجود الخارجي يوجب ارتفاع الاثنينية في الحقيقة و
هو ممنوع على أن في التمثيل لما نحن فيه بلا تصل في الدار
المغصوبة خلطا بين المسألة المبحوث عنها هنا وبين المسألة
133

الآتية إذ النهي متعلق فيه بالصلاة في الدار المغصوبة لا بالغصب
المتحد مع الصلاة في الخارج كما هو محل البحث وما تمسكنا به من
النقض بالعبادة المكروهة فإنما هو من باب الأولوية وإلا فليست من
أمثلة المبحث وإن شئت التطبيق فطابق بين قولنا صل ولا تغصب
وبين قولنا صل ولا تكن في مواضع التهمة وطابق بين قولنا لا تصل
في الحمام ولا تصل في الدار المغصوبة والنقض الذي سبق في
الاستدلال على جواز تعلق الامر بالأعم المطلق والنهي بالأخص
المشتمل عليه كما في قولنا صل ولا تصل في الحمام والمعارضة
التي
ذكرناها حيث قلنا لا فارق بين قولنا لا تصل في الدار المغصوبة ولا
تصل في الحمام إنما هي لنقض عدم جواز تعلق النهي بالخاص مع
مطلوبية الطبيعة المطلقة الحاصلة في ضمنها كما في قولنا صل ولا
تصل في الدار المغصوبة بجوازه في مثل صل ولا تصل في الحمام و
ما
ذكر في دفع هذه المعارضة حيث قيل إن الفارق كون الصلاة ثمة عين
الغصب وهنا غير الكون في الحمام إنما يناسب ما لو كان
المقصود المعارضة لجواز اجتماع الأمر والنهي في مثل قولنا صل ولا
تغصب بجوازه في مثل صل ولا تصل في الحمام ثم اعترض على
قوله وكما يجتمع الوجوب النفسي مع الاستحباب الغيري إلى قوله
كذلك يجتمع الرجحان الذاتي مع الكراهة للغير بأنه رجوع عن أول
الكلام فإن المرجوحية بالنسبة إلى الغير غير المرجوحية للغير وكذا
الوجوب والاستحباب وإما الاستشهاد باجتماع الوجوب النفسي
أو الغيري مع الاستحباب الغيري أو النفسي على القولين المذكورين
فمدفوع بأن الوجوب الغيري على القول بالاستحباب النفسي إنما
يثبت بعد الوقت والاستحباب إنما يثبت قبله فلا يلزم اجتماع
الحكمين في وقت واحد وأما على القول الاخر فمرجع الاستحباب
الغيري
إلى استحباب أداء الفعل حال كونه مغتسلا لا أنه يستحب له الغسل
فيختلف محل الحكمين إلا أن يقال يتوقف إيقاع الفعل حال وقوع
الاغتسال على الغسل فيستحب له من باب المقدمة وحينئذ فلا
مناص إلا باعتبار تعدد الجهة وبدونه يمتنع الاجتماع لان الاستحباب
و
الوجوب متضادان ومن قبيل ذلك الصلاة المكتوبة في المسجد و
أفضل أفراد الواجب المخير فإنه واجب من حيث كونه فردا من الكلي
و
مستحب من حيث الخصوصية والشخص وما أدري ما يقول
المجيب هنا قبالا لما ذكره في الفرد المرجوح اللهم إلا أن يقول الفرد
الأفضل راجح بالنسبة إلى الفرد الاخر وهو فاقد لذلك الرجحان
والمزية الموجودة في الأفضل بالنظر إلى أنه أحد فردي المخير لا
بالنسبة إلى ذاته فحينئذ يخرج عن المقابلة ومن جملة تلك المواضع
تداخل الأغسال الواجبة والمندوبة وقد اضطرب فيه كلام الأصحاب
حيث تشعبوا في توجيهه في الأبواب والوجه ما ذكرنا فيما مر من
اعتبار تعدد الجهة هذا محصل كلامه ومبين مرامه ولا يخفى ما فيه إذ
يمكن أن يلتزم بما أورده أولا بأن تلك المرجوحية توجب
مرجوحية العبادة في ذاتها ولا يرد عليه ما أورده من عود المحذور
لجواز أن يعتبر جهة التقابل مختلفة كما عرفت من مسلكنا المتقدم
أو يلتزم بأنها عبارة عن مجرد كون الغير أرجح كما هو الظاهر من كلام
الموجه ويستقيم سواء كان ذلك الأرجح موازيا لأصل الطبيعة
في الرجحان أو لم يكن إذ غاية ما في الباب أن يكون للطبيعة المقيدة
ببعض الجهات المرجوحة منقصة في الرجحان بالنسبة إلى المجرد
عنها وهذا مما لا إشكال فيه لان مرجعه عند التحقيق إلى ضعف
وصف رجحانها بضميمة الخصوصية لا إلى اجتماع وصفي الرجحان
و
المرجوحية فيها فنلتزم بأنها مطلوبة الفعل فقط ولا يلزم منه عدم
الكراهة بالمعنى المذكور أعني المرجوحية بالنسبة إلى الغير وإنما
يلزم عدم الكراهة بمعنى مطلوبية الترك لو ساعدنا عليه أو نلتزم بأنها
مطلوبة الفعل والترك معا لكن مطلوبية فعلها باعتبار الذات و
مطلوبية تركها باعتبار الغير ولا فساد فيه لا لمجرد تعدد الجهة فينافي
بما مر بل لتعدد المورد وكون التكليف فيه على التخيير كما
نلتزم بمثله في الفرض الأول ومرجع الوجه الثاني عند التحقيق إلى
الوجه الأخير ولا يذهب عليك أن مذاق الموجه المذكور لا يساعده
على ذلك فالاعتذار المذكور تصحيح للجواب على مذهبنا لا على
مذهبه وأما ما أورده في السؤال من جواز أن يجتمع مطلوبية الفعل مع
مطلوبية الترك عند جواز الفعل والترك فقد عرفت فساده حيث أحلنا
اجتماع حكمين في شئ واحد من جهة عدم التمكن من العمل
بمقتضاهما ولا مدخل لاختيار المكلف وإرادته في ذلك كما اعتبره
في الجواب وأما ما ذكره
في الضميمة فبعد خروج المثال المذكور فيها عن محل النزاع كما نبه
عليه أخيرا مردود بأن الداعي التأويل في النواهي التي تبين كونها
تنزيهية متحقق وهو عدم معقولية إباحة العبادة فضلا عن كراهتها
بخلاف ما عداها فإنه لا داعي فيه إلى التأويل وأما ما حكاه عن
بعضهم في دفع الضميمة من الفرق فمتجه بعد ملاحظة النهي عن
الغصب لا تكلف فيه أصلا لان الصلاة عبارة عن جملة حركات و
سكنات
وهي متحدة في الخارج مع الغصب إذا وقعت في المكان المغصوب
فيكون لا تصل في الدار المغصوبة مؤكدا لعموم ما دل على تحريم
الغصب بخلاف الكون في المكان فإنه معنى يغايرها كما سيأتي فتعلق
الامر بأحدهما لا ينافي تعلق النهي بالآخر إذا كان للمكلف
مندوحة في الامتثال نعم يبقى الكلام في الصارف للنهي عن الصلاة
في الحمام إلى الكون فيه حال الصلاة فإن كان امتناع كراهة العبادة
كما مر فهو لا يعين هذا التأويل وما زعمه من أن كون الغصب عين
الصلاة مبني على أن لا اتحاد في الوجود الخارجي يوجب ارتفاع
الاثنينية في الحقيقة وهو ممنوع فضعيف لأنه إن أراد ارتفاع الاثنينية
في الحقيقة الخارجية باعتبار كونها خارجية فهو مما لا ريب فيه
كما صرح به فحول الحكماء والمتكلمين ومع ذلك فهو في المقام من
الأمور الواضحة التي لا تكاد تشتبه على العوام فضلا عن غيرهم إذ
لا يرتاب ذو مسكة في كون أفعال الصلاة عين الغصب في الخارج إذا
وقعت في الدار المغصوبة وإن أراد ارتفاعها بحسب التحليل في
الوجود الذهني فالمنع في محله لكن لا نسلم أن ما ذكر في الدفع مبني
على ارتفاع الاثنينية بهذا الاعتبار بل بالاعتبار الأول لما حققنا
سابقا من أن الحكم لا يتعلق بالطبائع إلا بالاعتبار الخارج ولا تعدد
بينهما في هذا الاعتبار وإن أراد ارتفاعها عنهما بحسب مرتبة
التقرر ففيه
134

مضافا إلى ما مر أنهما في هذه المرتبة عريتان عن وصف الاتحاد و
الاثنينية ولهذا قد تتحدان وقد تتغايران وتحقيقه يطلب من محله
ثم اعلم أنه ينبغي أن يحمل الغير في قول القائل بأن كراهة العبادة
عبارة عن مرجوحيتها بالنسبة إلى الغير على الطبيعة المجردة عن
جميع الاعتبارات الزائدة أو الفرد الذي في مرتبتها كما مر في الجواب
السابق إذ لو أطلق لم يستقم لظهور أن كل ما يكون مرجوحا
بالنسبة إلى الغير لا يسمى مكروها أ لا ترى أنه لا يقال الزكاة مكروهة
لأنها مرجوحة أي أقل رجحانا بالنسبة إلى الصلاة ولا الصلاة
مكروهة لأنها مرجوحة بالنسبة إلى المعرفة ولا يقال الصلاة في
مسجد السوق مكروهة لأنها أقل رجحانا من الصلاة في مسجد الجامع
إلى غير ذلك وحينئذ فيكون ترك الفرد المرجوح مقدمة للتوصل إلى
الفرد الأرجح حيث يتوقف عليه كما هو الغالب فيكون مرجوحا له
من باب المقدمة لا محالة فيكون قوله فكما يجتمع الوجوب النفسي
مع الاستحباب الغيري إلى آخره دفعا للاشكال الوارد على التفصيل
المذكور باعتبار ما يلزمه في أكثر الموارد فإن مرجوحية عبادة بالنسبة
إلى أخرى تستلزم رجحان تركها لها إذا توقفت عليه ومرجعه
إلى الدفع بطريق النقض فلا يرد عليه ما أورده عليه من أن فيه رجوعا
عما بنى عليه الكلام أولا وأما ما ذكره في دفع الاستشهاد
المذكور فضعفه ظاهر مما قررناه هنا وفي مبحث الواجب المخير و
التحقيق أن الوجوب والندب إما أن يتحدا جهة بأن يكونا نفسيين
أو غيريين مع اتحاد الغير أو لا فإن كان الأول امتنع الاجتماع لمنافاة
المنع من ترك الفعل حينئذ لعدم المنع منه وهذا ظاهر واعتبار
تغاير الجهة كما فعله المعاصر المذكور غير مجد في دفع التناقض إذ لا
تغاير بين مورد الحكمين لظهور أن إيقاع الصلاة في المسجد و
هو الموصوف بالرجحان الندبي عين إيقاع الصلاة الموصوف
بالرجحان الوجوبي في الخارج وقد عرفت أن الاحكام إنما تتعلق
بالطبائع باعتباره وربما سبق إلى بعض الأوهام أن مورد الاستحباب
اختيار الفرد الأفضل ومورد الوجوب هو فعل الواجب وهو
واضح الفساد لأنه إن أراد بالاختيار الإرادة فمع فساده في نفسه كما لا
يخفى يوجب الخروج عن محل النزاع لان الكلام في استحباب
الواجب لا في
استحباب إرادته وإن أراد شيئا آخر فهو مما لا يساعد النظر الصحيح
على إدراكه وأما حكم بعض الأصحاب باستحباب بعض أفراد
الواجب النفسي التخييري عقلا أو شرعا لنفسه كالصلاة في المسجد و
كالاتمام في المواضع الأربعة أو الغيري للغير كالسير ماشيا للحج
فيمكن تنزيله على معنى أنه أرجح من الافراد المجردة عن الاعتبارات
المؤثرة في رجحانها أو أكثر ثوابا منها بقرينة تفسيرهم لمكروه
العبادة بما يقابل التفسيرين ويمكن أن يعتبر الاستحباب باعتبار
تحصيل الرجحان الثابت في الفعل الزائد على الرجحان الوجوبي
فإنه رجحان يرجح تحصيله على التعيين مع جواز تركه لا إلى بدل
مطلقا ولا يرد أن ذلك يجري أيضا فيما لا تخيير فيه بتحليل ما فيه من
الرجحان مع أنه لا يعتبر فيه وذلك لان امتياز تلك الزيادة هنا بمقابلة
البدل يصلح وجها لاعتبارها منفردة بخلاف ما لا تخيير فيه لكن
يضعفه أن تحصيل الرجحان الزائد عين تحصيل رجحان الوجوبي
فيبقى الاشكال بحاله وإن كان الثاني جاز الاجتماع إذ لو امتنع لكان
إما باعتبار الرجحان ولا حجر من هذه الجهة إذ انضمام الرجحان إلى
الرجحان لا يوجب إلا تأكد الرجحان أو باعتبار ما تقوما به من
المنع من النقيض وعدمه ولا حجر من هذه الجهة أيضا لان الوجوب
والندب حيث كانا باعتبار جهتين كان المنع من الترك وعدمه أيضا
باعتبارهما ولا منافاة بين المنع من ترك الفعل لنفسه أو لغيره وبين
عدم المنع منه لغيره أو لأمر آخر فإن عدم المنع من النقيض بأحد
الاعتبارين راجع إلى عدم اقتضاء ذلك الاعتبار للمنع وهو لا ينافي
اقتضاء اعتبار آخر له وبالجملة فاللازم له عدم منع خاص فلا
يقتضي عدم العام أعني المنع مطلقا فجاز أن يتحقق المنع من النقيض
بالاعتبار الاخر وببيان آخر يصدق على الواجب لنفسه أنه ليس
بواجب لغيره وذلك يوجب أن لا يكون ممنوع الترك لغيره فإذا انضم
إليه رجحانه له حصل ماهية الاستحباب لغيره وكذلك يصدق على
الواجب لغيره أنه ليس بواجب لنفسه وذلك يوجب أن لا يكون
ممنوع الترك لنفسه فإذا انضم إليه رجحانه لنفسه كان استحبابا نفسيا لا
يقال يمكن أن يقال علي الوجه الأول أيضا إن الصلاة المكتوبة ممنوعة
من تركها من حيث ذاتها فهي واجبة بهذه الحيثية وغير ممنوعة
منه من حيث وقوعها
في المسجد إذ ليس لوقوعها في المسجد تأثير في وجوبها بل هي
واجبة في ذاتها وقعت في المسجد أو لم تقع فيه لكنها راجحة من هذه
الحيثية على التعيين فيكون مندوبة على التعيين من هذه الحيثية
لصدق كلا جزئيه من الرجحان وعدم المنع لأنا نقول عدم المنع من
تركها من حيث وقوعها في المسجد لا يقتضي عدم المنع من الترك
الذي به قوام المندوب بأحد الاعتبارين أعني النفسي والغيري لثبوت
المنع بالاعتبار الأول على ما هو المفروض بل إنما يقتضي عدم
استناده إلى وقوعها في المسجد وهذا لا يكفي في تحصيل ماهية
المندوب النفسي لان المعتبر فيه عدم المنع النفسي لا عدم استناده
إلى أمر معين وهذا بخلاف الواجب الغيري ومندوبه فإنه يجوز أن
يختلف باختلاف الاعتبار والسر في ذلك أن الواجب النفسي عندهم
عبارة عما كان رجحانه أو مطلوبيته لنفسه مع كونه ممنوعا من
النقيض لنفسه والمندوب النفسي عبارة عما كان موصوفا بذلك
الرجحان أو المطلوبية لكن مع عدم المنع من النقيض لنفسه والمنع
من
النقيض وعدمه لنفسه مما لا يجتمعان في محل واحد والمطلوب
الغيري ما كان مطلوبيته للتوصل إلى غيره وهذا يخالف المطلوب
النفسي ويختلف باختلاف الاعتبار لاعتبار مطلوبيته بالقياس إليها و
لهذا صح أن يكون مقدمة واجبة لنفسها أو لأمر ومندوبة لاخر
فيصدق عليها الواجب النفسي أو الغيري والمندوب الغيري على
الحقيقة نعم لو فسر الوجوب النفسي برجحان الفعل في نفسه المانع
من
النقيض والاستحباب النفسي برجحانه لنفسه الغير المانع من النقيض
احتمل الاجتماع لارتفاع التنافي إلا أن المعروف بينهم هو الأول و
لهذا حكموا بتضاد الأحكام الخمسة والسر فيه أن الرجحان النفسي لا
يتعدد بتعدد الجهات المقتضية له إلا في التحليل الذي ليس مبنى
اعتبار الاحكام عليه بل يتأكد ويتقوى بتكثرها ويكون الحاصل
135

واحد فيمتنع لحوق الفصول المتناقضة ثم ما ذكرناه من جواز الاجتماع
في بعض الصور إنما يتم إذا فسر الاستحباب برجحان الفعل مع
عدم المنع من الترك كما هو المعروف وأما إذا فسر برجحان الفعل أو
مطلوبيته مع الاذن في الترك أي مع كونه مأذون الترك أو جائز
الترك امتنع الاجتماع ضرورة أن الاذن في الترك مطلقا كما هو المعتبر
في الاستحباب ينافي عدمه المعتبر في الوجوب مطلقا ولا
يجدي تغاير الجهة والحد الأول أسد وأولى وتحقيقه أن الرجحان لما
كان من الصفات المشتملة على المراتب المختلفة بالشدة و
الضعف فالنوع الكامل رجحان يشتمل على المنع من النقيض وهو
الرجحان الوجوبي والناقص منه رجحان لا يشتمل على المنع وهو
الرجحان الندبي وأما كون تركه مأذونا فيه فخارج عن حقيقة الرجحان
ومقوماته وإنما هو من المقارنات الاتفاقية حيث لا يوجد في
الفعل جهة تقتضي المنع من تركه ومما حققنا يتضح الحال في
اجتماعهما مع الحرمة والكراهة واجتماع إحداهما مع الأخرى فإن
الأول
يمتنع مطلقا لظهور التدافع بين إرادة الفعل والترك معا على الاطلاق و
لا يجدي فيه تغاير الوجه والجهة وقد نبهنا عليه سابقا والثاني
يبنى على تعيين ماهية الحرمة والكراهة فإن فسرتا برجحان الترك مع
المنع من الفعل أو عدمه جاز الاجتماع على نحو ما مر بأن كان
أحدهما نفسيا والاخر غيريا أو كانا غيريين مع تعدد الأغيار وإن فسرتا
برجحانه مع الاذن في الفعل أو عدمه امتنع الاجتماع مطلقا و
أما تداخل بعض العبادات كالأغسال فلا إشكال في تداخل الواجبات
منها ولا في تداخل المندوبات منها مع اعتبار النية لان مرجعه عند
التحقيق إلى التخيير بين أفعال تشتمل كل واحد منها على نية وبين
فعل يشتمل على تلك النيات وهما متغايران وفي الأخير إن جعلت
النية شطرا تعدد الموضوع فيتعدد الاحكام مطلقا وإن جعلت شرطا
لم يتعدد فيتأكد الحكم ما لم يختلف بالنفسية والغيرية وكذا لو
قلنا بتداخلها قهرا فيرجع إلى تأكد الوجوب أو الاستحباب عند تعدد
الأسباب ما لم يختلف بالنفسية والغيرية ولا غبار عليه أيضا وأما
تداخل الواجب منها مع المندوب فلا إشكال في الغيرية منهما مع
تعدد الغير ولا في الغيرية مع النفسية كما مر وكذا في النفسية منها إن
جعلنا
الوجوب والندب لاحقين للفعل مع النية الخاصة بأن جعلنا النية
شرطا من العمل لتغاير المورد فمحل الوجوب في المثال المذكور
الغسل
مع نية رفع الجنابة ومحل الاستحباب مع نية كونه للجمعة ولا ريب
في تباين المركبين غاية ما في الباب أن يشتركا في جز وهو ما
عدا النية فيلزم وجوبه في ضمن أحدهما واستحبابه في ضمن الاخر
ووجوبه لأحدهما واستحبابه للاخر ولا إشكال في شئ منهما أما
الأول فلان عدم المنع من تركه في ضمن مركب أعم من عدم المنع من
تركه لا في ضمنه لصدقه على فعله مع ترك ما ينضم إليه فلا ينافي
عدم جواز تركه في نفسه أو في ضمن مركب آخر وإن جعلناهما
لاحقين للفعل بشرط النية كان بحكم الواجب المخير مع رجحان
بعض
آحاده فيمتنع اعتبار الندب فيه بمعناه الحقيقي ويصح اعتباره بمعنى
كونه أفضل وأكثر ثوابا ويتعين هذا إذا قلنا بالتداخل القهري ولا
سبيل إلى أن يعتبر الاستحباب بالنسبة إلى تحصيل الرجحان الزائد
نظرا إلى أن الفاعل لغسل الجنابة إذا انضم إلى فعله قصد غسل
الجمعة مثلا حصل لفعله مزيد رجحان لما يتبعه من مزيد صفة كمالية
وهذه الزيادة من الرجحان مما لا منع من تركها ولا يلزم منه عدم
المنع من ترك أصل الفعل أيضا لان تركها أعم من تركه كما لو أتى به و
أهمل قصده وظاهر أن العام لا يستلزم الخاص وذلك لما مر
من اتحاد التحصلين فيلزم اجتماع المتنافيين فيه وبالجملة فلا تضاد
عندنا بين الوجوب والاستحباب إذا اختلفا وجها وجهة بأن اختلفا
في النفسية والغيرية أو كانا غيريين وتعدد الأغيار أو كانا نفسيين و
اعتبر كل منهما أو أحدهما في ضمن مركب فهذه أقسام ستة من
الوجوب والاستحباب لا تضاد بينهما فيها وعلى قياسهما الحرمة و
الكراهة فقد اتضح مما حققنا أن اجتماع الوجوب مع الاستحباب في
الموارد المذكورة مبني إما على التأويل في الاستحباب بحمله على
معنى الأفضلية فيكون دعوى الاجتماع على هذا التقدير توسعا أو
على
اعتبار التغاير في وجهي الوجوب والندب حيث يتحقق المغايرة
فيرتفع التضاد لا على اعتبار التغاير في جهتي الفعل بأن يكون الفعل
الواحد باعتبار ممنوع الترك مطلقا وباعتبار آخر غير ممنوع الترك
مطلقا كما زعمه
الموجه المذكور ثم التغاير بحسب الوجه على ما قررناه إنما يجدي في
اجتماع الوجوب مع الندب والتحريم مع الكراهة وأما اجتماع
الوجوب أو الندب مع الكراهة أو التحريم فلا لظهور التدافع بين إرادة
الفعل والترك معا على الاطلاق وإن كان أحدهما نفسيا والاخر
غيريا إذا ترتب عليه الغير وقد نبهنا على ذلك سابقا ومنه يظهر
ضعف الاستشهاد بجواز الأول على جواز الثاني كما مر ممن فسر
كراهة العبادة بالمعنى الثالث الثالث أن السيد إذا أمر عبده بخياطة
ثوب ونهاه عن الكون في مكان فخاطه فيه فلا ريب في أنه يعد في
العرف مطيعا وعاصيا باعتبار الجهتين وأجيب عنه بأن الظاهر في
المثال المذكور إرادة تحصيل الخياطة بأي وجه اتفق سلمنا لكن لا
نسلم أن الكون جز من مفهوم الخياطة فيختلف المتعلق سلمنا لكن
نمنع كونه مطيعا والحال هذه واعترض المعاصر المذكور على
الوجه الأول بأنه اعتراف بمذهب الخصم لا دفع له إذ مرجع قوله أراد
تحصيل الخياطة بأي وجه اتفق أن حصول الامتثال بالفرد
المخصوص إنما هو لتعلق الطلب بنفس الطبيعة والنهي بالخصوصية
وهل هذا إلا ما عناه الخصم ويمكن دفعه بأن غرض المجيب حمل
الخياطة في المثال على الأثر القائم بالثوب دون نفس الفعل الذي هو
مقدمة لحصوله فحاصل كلامه أن المراد طلب الخياطة بهذا المعنى
بأي مقدمة حصلت أي سواء حصلت بمقدمة جائزة كما لو خاطه في
غير ذلك المكان أو بمقدمة محرمة كما لو خاطه فيه لا يقال فيجتمع
الامر الغيري مع النهي النفسي لان الكون الخاص المحرم مقدمة
للواجب فيجب له ويعود الاشكال لأنا نقول وجوب الواجب إنما
يقتضي
وجوب المقدمات الجائزة دون المحرمة لكن إذا جي بها سقط
وجوب التوصل بغيرها وصح لامتثال بالواجب فإن مبغوضية المقدمة
لا
ينافي مطلوبية ذي المقدمة نعم يتجه عليه الاشكال بأن التوجيه
المذكور إنما يستقيم
136

عندنا حيث لا تكون المقدمة المحرمة سببا كما مر في بحث المقدمة
وظاهر أن فعل الخياطة سبب لحصولها فلا يمكن الامتثال بالتوصل
به إليها وعلى الوجه الثاني بأن الخياطة كالصلاة عبارة عن أفعال
مخصوصة ودعوى أن الكون جز منها دونها تحكم واضح أقول إذا
قلنا بأن الكون جز من الصلاة لم نرد به كون المكلف أي وجوده كما
قد يسبق إلى الوهم فإنه ليس جز من الصلاة ضرورة أن وجود
الموضوع ليس جزا من العرض القائم به ولا كونه في المكان أعني
تخيره فيه لان مفهوم التخير خارج عن مفهوم الصلاة كما سننبه
عليه بل نريد به الأكوان التي يكون المصلي عليها من حركاته وسكناته
كقيامه وركوعه وسجوده ولا ريب أن القيام في المكان
المغصوب عين الغصب وجز من الصلاة وعلى حده بقية الأكوان
فيكون الصلاة في المكان المغصوب بجميع أجزائها الفعلية غصبا
لأنها
عبارة عن حركات وسكنات مخصوصة هي غصب إذا وقعت في
المكان المغصوب نعم لو قلنا بأن النية جز من الصلاة كان ما عداها
من
بقية الأجزاء غصبا وفي القراءة وجهان والتحقيق أنها ليست غصبا و
إنما هي مسببة عن تصرف غصبي فيمتنع مطلوبيتها مع تحريمه
كما مر وأما الخياطة فهي بمنزلة الصلاة في كون الكون بالمعنى الأخير
جزا منها لكن ليس النهي في الفرض المذكور عنه بل عن
الكون بالمعنى الثاني لأنه المتبادر من قول القائل لا تكن في مكان كذا
وهو خارج عنها وتوضيح ذلك أن كون الانسان في الدار ليس
نفس كونه متحركا أو ساكنا بل للانسان المتحرك أو الساكن فيها صفتان
متمايزتان إحداهما كونه في الدار وتخيره فيها وهي صفة
لاحقة للذات باعتبار ما شغله من القضاء والأخرى كون الحركة أو
السكون قائمة به ولو كان التخير أعني الكون في المكان عين
الحركة والسكون لصدق أن بعض التخير حركة أو سكون كما يصدق
في المثال المتقدم أن بعض الصلاة غصب إذ المناط في الحمل
مجرد الاتحاد في الخارج وظاهر أنه لا يصدق وأما ما يقال من أن
الحركة كون الجسم في المكان الثاني بعد كونه في المكان الأول
أعني مجموع الكونين فتسامح بل التحقيق في حدها ما ذكره الآخرون
من أنها خروج
الجسم من مكان إلى مكان فيكون أمرا مغايرا للكون في المكان مضافا
إليه لا يقال فالحركة الخاصة لكونها أمرا إضافيا تتوقف على
الكون الخاص ضرورة أن المضاف الخاص يتوقف على خصوص ما
يضاف إليه فيجب الكون الخاص من باب المقدمة فيجتمع فيه الامر و
النهي لأنا نقول ليس المراد أن الحركة صفة مضافة إلى الكون في
المكان بل إلى نفس المكان والكون فيه من لوازمه فلا توقف لها عليه
أصلا ومع الاغماض عن ذلك نقول إنما تجب الحركة الخاصة
بالوجوب التخييري نظرا إلى كونها أحد أفراد الواجب التعييني على
تقدير
حصول مقدمتها من الكون المحرم لا مطلقا ووجوب الواجب على
تقدير حصول مقدمة لا يقتضي وجوبها فلا يلزم اجتماع الحرمة معه
فيها فالكلام في المقام على حد الكلام في الضد حيث يجب على
تقدير حصول مقدمته من ترك الواجب المحرم مع أنه لا يقتضي
وجوبه و
قد مر تحقيق ذلك فإن قلت قضية النهي عن طبيعة الكون حرمة كل
واحد من أفرادها والخروج من مكان سبب للكون في مكان آخر و
هو محرم لأنه أحد أفراد الكون المحرم فيحرم الخروج منه لحرمة
معلوله قلت كما أن الخروج من مكان سبب للتوصل إلى الفرد الثاني
كذلك سبب للتخلص عن الفرد الأول وكما أن الأول جهة لتحريمه
كذلك الثاني جهة لوجوبه وهما متساويان في المرتبة إذ التقدير
تساوي نسبة التحريم إلى جميع الأكوان الخاصة فتتعارضان و
تتساقطان فيبقى السبب بالنظر إلى هاتين الجهتين خاليا عن الحكمين
فإذا تحقق له جهة أخرى مقتضية لوجوبه صح اتصافه به ولو فرض
كون الحركة رافعة للتمكن من الخروج ولو في زمن يسير لم يؤثر
فيها ذلك جهة قبح زائد يعرف وجهه مما أسلفناه في مسألة الضد
حيث لم نفرق فيه بين الرافع منه للتمكن وغيره ويظهر مما قررنا أنه
لو كانت الحركة في جوانب المكان بحيث يتسبب لزوال الكون المباح
وحدوث الكون المحرم كانت محرمة وحينئذ فربما أشكل الامر
في مسألة الخياطة إذا فرض وقوعها في جوانب الدار بحيث يكون
تحريك اليد فيها من خارجها إليها مع أن أهل العرف لا يفرقون في
الحكم بالامتثال بينه وبين وقوعها في الدار وجوابه أنا إن قلنا بأن
المفهوم من قول القائل لا تكن في الدار المنع من كون أصل الجثة فيها
خاصة كما يشهد به عدم الاعتداد بإدخال مثل يده فيها مع خروج
الجثة في حصول المخالفة ولا بإخراجها مع دخول الجثة في رفع
المخالفة أو تخفيفها كان كون اليد في الدار غير محرمة فلا ينافي في
وجوب حركتها إليها وفيها مطلقا وبه يتضح وجه آخر في الجواب عن
الاستدلال المذكور أيضا وإن جعلنا المدار على ما يعد عرفا
كونا له فيها كما هو التحقيق فلا خفاء في أنه ليس للعبد فيها إلا كون
واحد فإن كان فيها بتمام أعضائه عد كون المجموع كونا واحدا
محرما وإن ترك بعض أعضائه كاليد خارجها كان كون البقية كونا
واحدا محرما فهما فردان من الكون في مرتبة واحدة من التحريم
فتحريك اليد في الفرض المذكور من قبيل التسبب للانتقال من فرد
محرم إلى مثله وقد عرفت خلو مثله عن التحريم هذا فإذا ثبت مما
حققنا أنهما أمران متغايران جاز أن يتعلق الامر بأحدهما والنهي
بالآخر وخرج عن محل النزاع فلا مطابقة بين المثال المذكور وبين
المقام وإن أريد المثال المطابق فليمثل بما لو أمر المولى عبده بخياطة
ثوب ونهاه عن التصرف في مكان فخاطه فيه ولا ريب في أنه لا
يعد ممتثلا نعم يجوز أن يسقط عنه التكليف بالخياطة حينئذ بأن لا
يكون عاصيا بتركها أيضا نظرا إلى حصول الغرض إذا عرفت هذا
تبين لك أنه يمكن توجيه كلام المجيب بحمل الكون الذي نفي كونه
جزا من الخياطة على الكون بالمعنى الثاني لأنه مورد النهي فيستقيم
كلامه ويسقط به الاستدلال المذكور هذا غاية تحقيق المقام وإن كان
كلام كثير منهم لا يساعد عليه واعلم أنه يتفرع على ما حققناه من
أن النهي عن الكون في مكان لا يقتضي النهي عن مطلق التصرف فيه لا
عقلا ولا عرفا أحكام كثيرة متفرقة في أبواب الفقه منها أن من
نذر أن لا يكون في مكان أو نهاه عنه من يجب عليه إطاعته شرعا
137

صحت صلاته وكذلك بقية عباداته الغير الكونية فيه ومنها أن من آجر
نفسه على الكون في مكان كان له أن يؤجر نفسه لاخر على عمل
كالخياطة والتجارة والصلاة فيه إذا ساغ له التصرف فيه ومنها أن من
كان في مكان رياء صحت صلاته وسائر أفعاله الراجحة التي
أوقعها فيه إن لم يراء فيها ومنها صحة الصلاة في مواضع التهمة وإن
بلغ حد التحريم وقد مر التنبيه عليه ومنها صحة الصلاة ونحوها
تحت جدار يخاف هدمها أو في مكان يخاف على نفسه مع تمكنه من
التخلص بالذهاب ومنها أن المعتكف إذا تحرك في المسجد حركة
محرمة أو سكن سكونا محرما لم يبطل اعتكافه بذلك بخلاف ما لو
كان كونه فيه كونا محرما كما لو نذر أن لا يكون في بعض جوانبه
ولو في بعض الأحوال فكان فيه فإن قضية الأصل فيه البطلان إلى غير
ذلك فإن حرمة الكون في هذه المواضع لا ينافي صحة العمل وإن
توقف في بعضها على ما مر تحقيقه من أن الامر بالشئ لا يقتضي
فساد الضد وعلى الوجه الثالث بأن إنكار حصول الامتثال بالخياطة
مكابرة تشهد الضرورة بخلافها ويمكن دفعه بأن المجيب إنما أنكر
الامتثال على تقدير أن يكون الكون في المكان جزا منها فهو
كالتزام محال على تقدير محال ولا غبار عليه إذا تحقق اللزوم بينهما أو
أنه مبني على حمل الكون على المعنى الثالث وحينئذ فلا تشهد
الضرورة على خلاف ما ادعاه إن لم تشهد عليه ومع الاغماض عن
ذلك كله فلنا أن نمنع حجية العرف في مثل هذه المسألة فإنها من
المباحث العقلية النظرية فيجوز تطرق الخطأ فيها إلى أفهام العوام
غاية الامر أنه إذا ورد من المولى الحكيم العارف بالحال مثل هذا
الخطاب وجب عليه أن ينبه الجاهل في مقام الحاجة على مورد
الخطأ ببيان أن مراده الاتيان بالفعل في غير ذلك المكان كما يجب
عليه
التنبيه على سائر الشروط المعتبرة عنده مما لا مسرح للعقل فيها و
اعلم أن من فروع المسألة ما لو صلى في الدار المغصوبة بل مطلق
المكان المغصوب مع العلم بالتحريم وقد مر فتبطل على القول بعدم
جواز الاجتماع لما مر ويصح على القول بجوازه إن لم يدل دليل
على خلافه ومنها ما لو صلى في ملبوس مغصوب ولو كان خاتما بل
مطلق المحمول نعم يعتبر هنا وقوع بعض الأفعال فيه كالهوي إلى
الركوع والسجود والانتصاب
منهما بناء على كونهما جزا من الصلاة وأما لو كان حال استقراره فقط
فالقاعدة تقتضي الصحة على القولين لا سيما إذا كان متسترا
بغيره فعلى هذا لو حمل ثوبا مغصوبا حال القيام وألقاه عند ركوعه ثم
حمله فيه وألقاه عند الانتصاب منه والهوي إلى سجوده وهكذا
صحت صلاته ومنها ما لو صلى على مغصوب من أرض أو ثوب أو
شبهه ويعتبر في البطلان وقوع بعض الفعل الواجب عليه كما لو وضع
رجليه عليه حال القيام الواجب والركوع أو وضع أحد المساجد
السبعة عليه كما في القيام ولو قام على غيره ووضع أصابع رجليه
عليه
أو سجد على غيره ووضع أصابع يديه عليه أو كان الوضع في غير
حال وجوبه فالوجه عدم البطلان ومن لواحق المسألة ما لو أذن له
مالك الدار في التصرف فيها مطلقا ونهاه عن أكل شئ مطلقا فأكله
فيها فعلى ما اخترناه يكون آثما بفعله وعلى القول الاخر لا إثم عليه
لتغاير الطبيعتين وقد مر نظيرها في مسألة الضد ولو زكى في مكان
مغصوب أو خمس أو تصدق فيه فالوجه صحة عمله لان نقل المال
إلى الاخذ أو تخصيصه به أمر معنوي لا يشتمل على التصرف في
المكان والقبض والاقباض وإن اشتملا على التصرف فيه إلا أنهما
شرط في وقوع ذلك فالنهي عنهما من حيث كونهما غصبا لا يقتضي
فساد المشروط كما سيأتي
فصل
حكي عن القاضي في مثل من توسط أرضا مغصوبة القول بأنه مأمور
بالخروج ومنهي عنه وأنه عاص بفعله وتركه وعزي ذلك أيضا
إلى جماعة من أصحابنا وذهب قوم إلى أنه مأمور بالخروج وليس
منهيا عنه ولا معصية عليه والحق أنه مأمور بالخروج مطلقا أو بقصد
التخلص وليس منهيا عنه حال كونه مأمورا به لكنه عاص به بالنظر إلى
النهي السابق وكان ما عزي إلى الفخر الرازي من القول بأنه
مأمور بالخروج وحكم المعصية جار عليه راجع إلى ما ذكرناه لنا أن
المكلف في الزمن الذي لا يتمكن من الخروج فيما دونه لا يتمكن
من ترك الغصب فيه مطلقا فلا يصح النهي عنه مطلقا إذ التكليف
بالمحال محال عندنا وإن كان ناشئا من قبل المكلف للقطع بكونه
سفها نعم ربما يجوز أن يؤمر به حينئذ على وجه التعجيز والسخرية
لكنه خارج عن المتنازع فإذن لا بد من ارتفاع النهي عن الغصب
في تلك المدة على بعض الوجوه وليس إلا صورة الخروج إذ لا قائل
بغيره ولدلالة العقل والنقل على أنه مأمور بالخروج وهو يقتضي
عدم النهي عنه وإلا لعاد المحذور من التكليف المحال والتكليف
بالمحال نعم يجري عليه حكم المعصية في تلك المدة على تقدير
الخروج بالنسبة إلى النهي السابق على وقوع السبب أعني الدخول
لتمكنه منه حينئذ وهذا حكم كلي يجري في جميع ذوات الأسباب
التي
لا تقارن حصولها حصول أسبابها كالقتل المستند إلى الالقاء من
الشاهق ومثله ترك الحج عند الاتيان بما يوجبه من ترك المسير وغير
ذلك فإن التحقيق في مثل ذلك أن التكليف بالفعل يرتفع عند ارتفاع
تمكن المكلف منهما ويبقى حكم المعصية من استحقاق الذم و
العقاب جاريا عليه وكذا الكلام في الامر فإن التكليف بالمأمور به
يرتفع عند الاتيان بالسبب الموجب له ويبقى حكم الامتثال والطاعة
من استحقاق المدح والثواب جاريا عليه حال حصوله هذا وينبغي أن
يعلم أن الخروج إنما يجب ويتعين إذا انحصر سبيل التخلص من
الغصب على الوجه المشروع حال الغصب فيه كما هو الغالب وعليه
يحمل إطلاق كلماتهم وأما لو علم بحصول أحد الأسباب المبيحة
للتصرف في مدة لا يزيد على
زمن الخروج كما لو علم بانتقال العين أو المنفعة إليه أو إلى من يبيح له
التصرف أو علم بحصول رضى المالك لم يجب عليه الخروج إلا
أن يعين عليه المالك في وجه ولو تمكن من التخلص ببذل وشبهه لم
يتعين عليه الخروج احتج من قال بأنه مأمور بالخروج ومنهي عنه
بأنهما دليلان تواردا فلا بد من إعمالهما إذ المانع منهما إما العقل و
ليس إلا لكونه تكليفا بالمحال وهو لا يصلح مانعا لجوازه إذا كان
من قبل المكلف وإما العرف ولا دلالة عليه فإن قيل الخروج أخص
من الغصب وتوارد الأمر والنهي على العام والخاص يفيد عرفا
تخصيص
138

بالآخر أعني تخصيص النهي بالامر وإن قلنا بأنه لا يستفاد في العامين
من وجه قلنا لا نسلم أن الخروج مورد الامر من حيث كونه
خروجا بل من حيث كونه أنه تخلص من الغصب وهو أعم منه من
وجه وإن انحصر في الخروج اتفاقا فإن الظاهر أن العام الذي أفراده
الموجودة في الخارج منحصرة في الفرد بحسب العادة بل في نفس
الامر أيضا لا يخرج عن كونه عاما في باب التعارض ولو فرض
ورود الامر بخصوص الخروج فالظاهر أنه من جهة كون الفرد الغالب و
هذا الجواب بسؤاله قد أورده بعض المعاصرين ووجوه فساده
غير خفية على المحصلين والجواب ما مر من أن التكليف بالمحال
محال وإن كان من قبل المكلف بل هذا التكليف في نفسه محال كما
يظهر وجهه مما أسلفناه في المبحث المتقدم فلا محيص من إهمال
دليل النهي لكونه ظنيا مستندا إلى مجرد الظاهر احتج من قال بأنه
مأمور بالخروج ولا معصية عليه بما ذكرناه من استحالة التكليف
بالمحال وجوابه أن ذلك إنما يقتضي عدم المعصية بنهي مقارن لا
عدمها بنهي سابق كما بيناه فإن المكلف منهي قبل الدخول عن جميع
أنحاء التصرف في ملك الغير بغير إذنه نهيا مطلقا غاية الامر أن
النهي يرتفع عنه على بعض الوجوه بالنسبة إلى المدة التي لا يتمكن
من الترك فيها وذلك لا يوجب عدم كونه عاصيا لا يقال لو صح ذلك
لزم أن يكون الخروج طاعة وعصيانا وهو محال لان الطاعة والعصيان
أمران متنافيان بالضرورة فيمتنع استنادهما إلى شئ واحد
أو تواردهما على محل واحد لأنا نقول إن أريد أن الطاعة والعصيان
متنافيان من حيث نفسيهما فممنوع لان معناهما موافقة الطلب و
مخالفته ولا منافاة بينهما مع تعدد الطلب وإن أريد أنهما متنافيان من
حيث ما أضيفا إليه من الأمر والنهي فممنوع أيضا لأنهما إنما
يتنافيان إذا اجتمعا في الزمان كما هو شأن التضاد وقد بينا أن زمن
الامر غير زمن النهي وتوضيح المقام أن ترك الغصب مراد من
المكلف بجميع أنحائه التي يتمكن من تركه إرادة فعلية مشروطا
بقاؤها ببقاء تمكنه منه وحيث إنه قبل الدخول يتمكن من ترك
الغصب
بجميع أنحائه دخولا وخروجا فترك الجميع مراد منه قبل دخوله فإذا
دخل فيه ارتفع تمكنه من تركه بجميع أنحائه مقدار ما يتوقف
التخلص عليه وهو مقدار خروجه مثلا فيمتنع بقاء إرادة تركه كذلك و
قضية ذلك أن لا يكون بعض أنحاء تركه حينئذ مطلوبا فيصح أن
يتصف بالوجوب لخلوه عن المنافي والعقل والنقل قد تعاضدا على
أن ليس ذلك إلا التصرف بالخروج فيكون للخروج بالقياس إلى ما
قبل الدخول وما بعده حكمان متضادان أحدهما مطلق وهو النهي
عن الخروج والاخر مشروط بالدخول وهو الامر به وهما غير
مجتمعين فيه ليلزم الجمع بين الضدين بل يتصف بكل في زمان و
يلحقه حكمهما من استحقاق العقاب والثواب باعتبار الحالين ولو
كانت مبغوضية شئ في زمان مضادة لمطلوبيته في زمان آخر لامتنع
البدأ في حقنا مع وضوح جوازه وإنما لا يترتب هنا أثر الأول
لرفع البدأ له بخلاف المقام ولا يشكل بانتفاء الموصوف في الزمن
السابق لوجوده في علم العالم ولو بوجهه الذي هو نفسه بوجه ولولا
ذلك لامتنع تحقق الطلب إلا مع تحقق المطلوب في الخارج وهو
محال ثم على المذهب المختار هل يصح منه الصلاة المندوبة وما
بحكمها موميا حال الخروج وما بحكمه وجهان من ارتفاع الجرح عن
تصرفه في تلك المدة ومن أنها كانت مطلوبة العدم قبل الدخول
فلا تكون مطلوبة الوجود بعده وإلا لزم أن تكون فاسدة بالنسبة إلى
حال وصحيحة بالنسبة إلى حال وهو محال لان الصحة والفساد
وصفان متضادان يمتنع تعلقهما بمحل واحد ولو باعتبار زمانين و
المعتمد هو الأول والجواب عن الثاني أن تأثير النهي في البطلان
ليس كتأثيره في استحقاق العقوبة مطلقا بل مشروط ببقائه ومع انتفائه
ينتفي موجب البطلان فيبقى موجب الصحة بلا معارض نعم قد
يتطرق الاشكال إلى الصحة باعتبار توقفها على أمر يزيد على الخروج
ولتحقيق ذلك مقام آخر ثم لا يذهب عليك أن فرض المسألة في
توسط الأرض المغصوبة من باب المثال وإلا فالكلام يجري في نظائره
مما لا حصر له كنزع الثوب المغصوب وإخراج الآلة من فرج
الزانية ورد المال المغصوب إلى مالكه وغير ذلك
فصل اختلفوا في دلالة النهي على الفساد المنهي عنه إلى أقوال
ثالثها أنه يدل في العبادات دون المعاملات وهو خيرة العلامة وعزي
إلى المحقق أيضا ثم اختلف القائلون بالدلالة فمنهم من أثبتها
شرعا ولغة ومنهم من أثبتها شرعا بالنقل ونفاها لغة واختاره
الحاجبي وهو المحكي عن السيد المرتضى وفصل بعض الأفاضل
فأثبتها في العبادات لغة وفي المعاملات شرعا إن تعلق بها بعينها كبيع
الميتة أو لصفة لازمة لها كبيع الملامسة والمنابذة ونكاح
الشغار ونفاها في غير ذلك مطلقا وذهب شاذ إلى أنه يقتضي الصحة
ولا بد أولا من تحقيق المعنى المتنازع فيه وتحرير محل النزاع
فنقول العبادة قد تطلق ويراد بها الماهية المخترعة في الشرع التقرب
بها وبعبارة أخرى ما يتوقف صحتها على قصد القربة سوأ
كان فعلا كالطهارة والصلاة والزكاة والحج والاعتكاف أو تركا كالصوم
وقد تطلق على كل ما وقع على وجه التعبد به سواء كان
أمرا مخترعا له في الشرع كالمذكورات أو لا كأداء الدين والزيارة ودفن
الأموات والمعاملات الراجحة إذا قصد بها القربة وهي
بالمعنى الثاني أعم منها بالمعنى الأول وقد تعرف العبادة بما لم يعلم
انحصار المصلحة فيها في شئ وهذا غير سديد لانتقاضه عكسا
بالعبادة التي علم انحصار المصلحة فيها في الامتثال بغيرها ونحوه
كالطهارة وطردا بالواجبات التي ليست عبادة ولا ينحصر
مصالحها في شئ كوجوب توجيه الميت إلى القبلة والمعاملة قد
تطلق ويراد بها العقود المفتقرة إلى إيجاب وقبول وهي التي لا يقع
صيغها إلا من شخصين ولو بالقوة كالبيع والصلح والإجارة والنكاح و
قد يطلق ويراد بها ما يتناول الايقاعات أيضا وهي التي يقع
صيغها من شخص واحد كالعتق والطلاق والمناسب للمقام تفسير
العبادة بالمعنى الأول ليستقيم اعتبار الصحة والفساد فيها من غير
تعسف والمعاملة بالمعنى الثاني لعدم اختصاص هذه المباحث بها
بالمعنى الأول ثم الصحة والفساد وصفان متقابلان يوصف بهما
العبادات تارة
139

والمعاملات أخرى واختلفوا في تحديدهما بالاعتبار الأول
فالمتكلمون على أن صحة العبادة موافقتها لأمر الشارع وينبغي أن
يراد
بالامر معناه الأعم ليتناول صحة المندوبة منها أيضا والفقهاء على أنها
عبارة عن كونها مسقطة للقضاء وكان المراد بالاسقاط منعها
من تعلق الخطاب بالقضاء بمعنى أنها لولاها لتعلق الامر بالقضاء وإلا
فلا ثبوت له حال الفعل حتى يسقط ففسادها على الأول مخالفتها
لأمر الشارع وعلى الثاني عدم إسقاطها للقضاء وقد اشتهر بينهم أن
هذين الحدين يتفارقان في صلاة من صلى بظن الطهارة ثم
انكشف له الخلاف فإنها صحيحة على الأول لحصول الموافقة و
فاسدة على الثاني لعدم إسقاطها القضاء ويشكل بأن العبرة في
المقامين
إن كانت بالامر الظاهري كانت الصلاة في الفرض المذكور صحيحة
على الحدين أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فلاسقاطها
القضاء بالنسبة إلى ذلك الامر ضرورة أنها لا تقضى على حسبه وإن
كان العبرة بالامر الواقعي لم يصدق وصف الصحة عليها بشئ من
الحدين وهو ظاهر وكذا إن أريد به فيهما ما يعم القسمين وغاية ما
يمكن تكلفه في المقام أن يحمل الامر في الأول على الأعم من الامر
الظاهري والواقعي ويعتبر الاسقاط في الثاني بالنسبة إلى الامر
الواقعي فقط هذا وكان منشأ اختلافهم في ذلك اختلاف محل
أنظارهم
فإن الأنسب بمقاصد الكلام البحث عن الفعل من حيث حصول
الامتثال به ولو في الجملة وعدمه والأنسب بمقاصد الفقه البحث
عنه من
حيث تعلق الخطاب بقضائه وعدمه هذا واعترض على الحد الثاني
للصحة بأنه أخص من المحدود لخروج ما لا قضاء له كصحيح العيدين
لان الاسقاط فرع الثبوت ولو في الجملة وإن أريد به ما يتحقق معه
السقوط بمعنى عدم الثبوت وإن لم يستند إليه أصلا ففيه مع عدم
مساعدة اللفظ عليه فساد حدهما طردا وعكسا بفاسدتهما وأجيب
تارة بأن المراد بالقضاء ما يتناول الإعادة وأخرى بأن المراد ما
أسقط القضاء على تقدير أن يكون له قضاء وكلاهما ضعيف أما الأول
فلانه مع اشتماله على مخالفة ظاهر الاصطلاح غير مصحح للحد
لبقاء الاشكال بصحيح العيدين عند ضيق الوقت وصحيح الصوم
المندوب وصحيح النوافل المبتدئة وما بحكمها ولو عول على
التأويل
المتقدم
اتجه الاشكال بفاسدة المذكورات وأما الثاني فلانه لو تم ففساده لعدم
مساعدة اللفظ عليه لا يقصر عن فساد أصل الاشكال فالأولى
تحديدها على طريقتهم بموافقة العبادة للامر الواقعي أو باشتمالها
على ما يقتضي الامر اشتمالها عليه والفساد بما يقابله وأما
المعاملات والمراد بها ما يتناول الايقاعات أيضا فصحتها عبارة عن
ترتب الأثر المقصود من جعلها شرعا كتملك العين في البيع و
المنفعة في الإجارة والبضع في النكاح ووقع البينونة في الطلاق و
الحرية في العتق إلى غير ذلك ويقابلها الفساد بمعنى عدم ترتب
ذلك عليها والتحقيق أن وصفي الصحة و الفساد في العبادات عقلي و
في المعاملات شرعي من أحكام الوضع وهو ظاهر من البيان
المتقدم ثم اعلم أن الفرق بين المقام والمقام المتقدم هو أن الامر و
النهي هل يجتمعان في شئ واحد أو لا أما في المعاملات فظاهر و
أما في العبادات فهو أن النزاع هناك فيما إذا تعلق الأمر والنهي
بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة وإن كان بينهما عموم مطلق وهنا
فيما إذا اتحدتا حقيقة وتغايرتا بمجرد الاطلاق والتقييد بأن تعلق
الامر بالمطلق والنهي بالمقيد وما ذكره بعض المعاصرين في بيان
الفرق من أن النزاع هناك فيما إذا كان بين الموردين عموم من وجه و
هنا فيما إذا كان بينهما عموم مطلق فغير مستقيم وقد مر التنبيه
عليه واعلم أيضا أن من قال باقتضاء النهي فيما مر للفساد أراد
الاقتضاء من جهة النهي كما هو ظاهر عنوانهم ونص حججهم ومن
قال
باقتضائه الصحة أراد أنه يقتضيها من جهة المادة والمتعلق أعني الفعل
المنهي عنه كما ينادي به حجته لا من جهة نفس النهي فما أورده
بعض المعاصرين على هذا القول من أن النهي حقيقة في التحريم و
ليس ذلك عين المصلحة ولا مستلزما لها فناش عن عدم التفطن لذلك
ثم قد يتخيل أن النزاع في المقام لا يختص بصيغة النهي بل يجري فيها
وفيما يجري مجراها كلفظ التحريم في قوله تعالى حرمت عليكم
أمهاتكم الآية وذكر الصيغة في العنوان وارد على سبيل التمثيل و
ضعفه ظاهر لان المفهوم من إسناد التحريم إلى المذكورات تحريم
وطئهن أو الاستمتاع بهن وهو صريح في فساد العقد عليهن لدلالته
على نفي ترتب الآثار على عقدهن
فلا يكون من مسألة الباب نعم لو استند التحريم إلى العقد فقيل يحرم
عقد كذا وكذا كان من مسألة الباب لكن دلالته على الفساد حينئذ
غير واضح وتوجه النزاع المعروف إليه غير ظاهر إذا عرفت هذا
فالحق أن النهي في العبادات يقتضي الفساد عقلا ويلزمه وضعا عرفا
ولغة سواء تعلق النهي بها لنفسها أو لغيرها لكن يعتبر في الثاني ترتب
الغير ليكون النهي فعليا وأما في المعاملات فلا يقتضيه عقلا ولا
وضعا مطلقا ويقتضيه بحسب الاطلاق عرفا إن تعلق بها من حيث
كونها معاملة مخصوصة لا لجهة غير الفساد فيستفاد من النهي حينئذ
نفي الأثر فقط أو التحريم باعتبار عدم ترتب الأثر فينزل على صورة
التشريع بأن يقصد مشروعيتها أو على صورة ما لو قصد أن
يعامل معها معاملة الصحيحة فيحرم لحرمة ما قصد بها وذلك لان
ألفاظ المعاملات موضوعة عندنا لخصوص الصحيحة كألفاظ
العبادات
فإذا استظهرنا من تعلق النهي بمعاملة فسادها تعين أن يراد من لفظها
في ذلك الاستعمال فاسدتها مجازا إن لم يكن جعل الفساد بذلك
النهي ولا ريب أن فاسدتها المشتملة على قصد الالتزام ب آثار
المعاملة الصحيحة فيها أقرب من فاسدتها المجردة عنه فيتعين الحمل
عليه
وإن كان جعل الفساد بذلك النهي فالتقريب أوضح فيرجع مفاد النهي
حينئذ إلى حرمة تلك المعاملة من حيث التشريع نظرا إلى عدم
ترتب الأثر الشرعي المقصود بها عليها ثم لا فرق بين أن تكون
الخصوصية ناشئة من حقيقة أحد الطرفين كبيع الخمر أو الشراء بها أو
منهما كبيعها بمثلها أو من وصف أحدهما كبيع المجهول أو من
وصفهما كبيع المجهول بالمجهول وإن تعلق بها لا من حيث كونها
معاملة
بل من حيث إنها متحدة بحقيقة محرمة أو لجهة غير الفساد فلا يقتضيه
عرفا أيضا فيتمحض النهي حينئذ للتحريم وما نقل عن الأسدي
من نقل الاجماع على عدم فساد المعاملة إذا كان النهي
140

عنها لأمر خارج ربما يرشد إلى ذلك فمن النوع الأول البيع في المكان
المغصوب ومثله ذبح الحيوان المغصوب أو الذبح بالآلة
المغصوبة أو في المكان المغصوب وهذا بخلاف بيع المغصوب و
الفرق أن النهي متعلق بالثاني باعتبار كونه معاملة مخصوصة أعني
بيعا للمغصوب بخلاف الأول فإن النهي لم يتعلق به باعتبار كونه
معاملة مخصوصة مثلا بل باعتبار كونه غصبا وبعبارة أخرى منشأ
النهي عند التحليل في الأول نفس المقيد وفي الثاني نفس القيد وإن
اتحدا في الخارج ولم يتمايزا فيه وهذه التفرقة ثابتة عقلا مرعية
عرفا وكذا لو نذر أن لا يبيع الأكفان فإن تعلق النهي به ليس لكونه بيعا
بل للنذر ومثله العهد واليمين وما أشبه ذلك ومن النوع
الثاني البيع وقت النداء فإن النهي إنما تعلق به للموصلة إلى الفريضة و
المحافظة على أدائها ولو على سبيل الحكمة لنا على ثبوت
الاقتضاء في العبادات أن صحتها بكلا المعنيين يتوقف على تعلق
الامر بها وتعلقه بها على تقدير النهي عنها ممتنع ضرورة أن كلا من
الأمر والنهي يستدعي موردا مغايرا لمورد الاخر على ما مر في الفصل
السابق ولا ريب أن المطلق عين المقيد في الخارج لاتحادهما فيه
والمغايرة الاعتبارية الثابتة بحسب العقل غير مجدية لما عرفت من أن
الطلب إنما يتعلق بالطبيعة باعتبار الخارج ولا مغايرة بينهما
فيه أو نقول مورد الأمر والنهي إنما هو وجود الماهية أو إيجادها لا
نفسها على ما سبق بيانه وظاهر أن المطلق والمقيد يوجدان في
الخارج بوجود وإيجاد وحدانيين فيلزم على تقدير الاجتماع توارد
الأمر والنهي على واحد شخصي هذا مضافا إلى ما مر من قاعدة
التحسين والتقبيح فإن الحسن والقبح على ما عرفت من الصفات
اللاحقة للأفعال الخارجية باعتبار كونها خارجية وهما متضادان و
الطبيعتان باعتبار الخارج متحدتان فلو صحت لزم تواردهما على
موضوع شخصي وهو محال بل نقول إذا ثبت عدم جواز الاجتماع
في المسألة السابقة مع تغاير الموردين فيها بحسب الذات والحقيقة
ثبت عدم جوازه في المقام بطريق الأولوية إذ لا تغاير بين
الطبيعتين هنا إلا بحسب وصفي الاطلاق والتقييد ثم أقول لو سلم أن
المطلوب والمبغوض في الأمر والنهي إنما هو الطبيعة من حيث
هي فغاية
ما يترتب عليه جواز الاجتماع في المقام المتقدم وأما في المقام فلا و
توضيح ذلك أنه لما كان تعلقهما في المبحث السابق بطبيعتين
متغايرتين فربما أمكن أن يتوهم جواز الاجتماع من حيث تغاير كل من
المتعلقين في حد نفسه وأما في المقام فهما إنما يتعلقان بطبيعة
واحدة ذهنا وخارجا ضرورة أن المطلق والمقيد متحدان ذاتا وإنما
يتغايران بحسب الاطلاق والتقييد فإن الماهية التي لا يلاحظ معها
شئ من الاعتبارات هي عين تلك الماهية إذا أخذت ببعض
الاعتبارات فتوارد الأمر والنهي عليها يوجب تواردهما على موضوع
واحد
غاية ما في الباب أن يعتبر في لحوق النهي لها لحوق القيد وهذا لا
يخل بوحدة الموضوع والمتعلق ولو استظهرنا من النهي فيها
الارشاد إلى الترك لفساد العمل بمعونة العرف حصل المقصود أيضا و
لنا على نفي الاقتضاء في المعاملات عقلا أن صحتها عبارة عن
ترتب آثارها عليها من انتقال الثمن والمثمن في البيع والمنفعة و
أجرتها في الإجارة وارتفاع الزوجية في الطلاق إلى غير ذلك و
ظاهر أن ترتب تلك الآثار لا ينافي مبغوضيتها المستفادة من النهي
كترتب الضمان على الغصب والدية على القتل والجرح المحرمين و
المهر على بعض صور الزنا وغير ذلك ومنه يظهر نفى الاقتضاء فيها
وضعا أيضا ولنا على اقتضائه عرفا فيما مر أن المفهوم من
إطلاق النهي هناك نفي الأثر ولو بالفحوى كما يرشد إليه التدبر في
نظائره كنواهي الطبيب عند صفة الأدوية والمعاجين ونواهي كل
ذي حرفة وصناعة فيما يتعلق بحرفته وصناعته فإنه يفهم من تلك
النواهي نفي الأثر عند حصول الامر المنهي عنه وبالجملة فالفساد
هنا إنما يستفاد من إطلاق صيغة النهي من جهة ظهورها في أن الحكمة
الباعثة عليه هي الفساد وأن الخصوصية المعتبرة في المعاملة
المنهي عنها من موانع صحتها وقد تقرر أن ظواهر الألفاظ حجة لا من
جهة كون التحريم الذي هو مفاد النهي مستلزما للفساد ولما
عرفت من عدم الاستلزام ولهذا لو ثبت التحريم بدليل غير لفظي
كالاجماع والعقل لم يحكم بالفساد وإن قدر ظهوره في الفساد إذ
الظواهر الغير اللفظية لا دليل على اعتبارها نعم لو استكشف بالاجماع
عن ورود خطاب
لفظي ظاهر فيه اتجه الحكم به ومما حققنا يتضح وجه آخر في دلالة
النهي المتعلق بالعبادات الخاصة على الفساد وهو ظهور تلك
النواهي في مانعية الخصوصية وكونها مفسدة للعبادة ومنه يظهر فساد
ما قيل من تخصيص دلالة النهي على الفساد في مثل لا تصل في
الحرير المحض بصورة العلم لان النهي لا يتوجه إلى الجاهل والغافل
فكذلك لازمه وهو الفساد ووجه ضعفه أنا لا نثبت الفساد حينئذ
لكونه لازما للتحريم بل لان المستفاد من إطلاق النهي كون المنشأ هو
الفساد لمانعية الخصوصية فلا فرق بين قولنا لا تصل في الحرير
وبين قولنا لا تصل في الحرير لان الصلاة فيه فاسدة إلا في الظهور و
الصراحة فكما أن دلالة الثاني على الفساد لا يختص بصورة العلم
فكذلك الأول ومن هنا تراهم يحكمون ببطلان المعاملات التي تتعلق
النهي بها حيث يقال بدلالته على البطلان وإن صدر حال الجهل
بالموضوع أو الحكم وكذلك الأوامر التي تقع في هذا المساق فإن
المفهوم منها الصحة تارة والجزئية أو الشرطية أخرى وهذا مما لا
يكاد يخفى على من له درية بالمحاورات ولنا على انتفائه عرفا أيضا
فيما لو كان النهي لا باعتبار كونها معاملة أو لا لنفسها أن
المفهوم من النهي حينئذ إنما هو مجرد التحريم على ما هو الأصل و
هو لا يقتضي نفي الأثر لجواز ترتبه على أمر محرم كما مر حجة
النافين للدلالة مطلقا لغة وشرعا أنه لو دل لكان مناقضا للتصريح
بالصحة والتالي منتف إذ يصح أن يقول نهيتك عن البيع الفلاني
لكنك لو فعلت أثمت وحصل به الملك والجواب المنع من الملازمة
بالنسبة إلى القسم الأول من المعاملات إذ الظاهر قد يصرح بخلافه و
المنع من بطلان اللازم بالنسبة إلى العبادات إذ لزوم المناقضة على
تقديره عقلا ظاهر جلي وإن أنكره بعض المعاصرين متمسكا بأن
الأوامر إنما تتعلق بالطبائع من حيث هي فلا منافاة عقلا بين
141

الطبيعة من حيث هي كما هو مقتضى الامر وبين مبغوضية المقيد كما
هو مقتضى النهي لتغاير الموردين لكنه اعترف بثبوت الدلالة
عرفا فانظر إلى أن أهل العرف يفهمون من تلك النواهي تقييد مطلوبية
تلك الطبائع المطلقة بصورة عدم تقييدها بتلك القيود فيجب
تنزيل خطاب الشارع عليه كما هو الشأن في سائر خطاباته وجوابه
واضح مما قررنا فلا نطيل بإعادته وقد يستدل على جوازه عقلا
بأن مورد الامر هو البسيط ومورد النهي هو المركب وهما متغايران و
هذا فاسد أما أولا فلان مورد النهي إنما هو المقيد وهو أيضا
بسيط لان القيد خارج عنه وإن اعتبر فيه إذ من الواضح أن النهي عن
الصلاة في المكان المغصوب ليس نهيا عن مجموع الصلاة والمكان
لان المكان ليس من فعل المكلف بل عن الصلاة المقيدة بالمكان
المغصوب ولو اعتبر التركيب بالنسبة إلى الصلاة وتقييدها بالمكان
المغصوب فغير مفيد لان التقييد أمر اعتباري مجعول بجعل الصلاة
فيمتنع أن يخالف حكم جعل مثل هذا المركب لجعل المقيد لاتحاده
و
كذا الكلام في النهي عن الصلاة في الثوب النجس وما أشبه ذلك وأما
ثانيا فلانا إن سلمنا أن النهي هناك عن المركب فلا ريب أن النهي
عن المركب نهي عن كل جز من أجزائه في ضمن الكل كما بيناه في
مبحث المقدمة فيلزم على تقدير وجوبه توارد الأمر والنهي
النفسيين في الجز وهو واضح الفساد كما في صورة العكس حجة
المثبتين لها مطلقا بحسب الشرع واللغة أمران أحدهما أن علماء
الاعصار والأمصار لم يزالوا يستدلون على الفساد بالنهي في أبواب
الفقه وذلك إجماع منهم على دلالته على الفساد الثاني أن الامر
يقتضي الصحة لدلالته على الأجزاء بكلا معنييه والنهي نقيضه فيلزم
أن يقتضي نقيضها وهو الفساد إذ النقيضان مقتضاهما نقيضان و
الجواب عن الأول أن الاجماع المذكور غير ثابت سيما بالنسبة إلى
النهي المتعلق بالمعاملة لا باعتبار كونها معاملة أو لا لنفسها أو كان
الظاهر منه حكمة غير الفساد فإن أمر الخلاف فيه ظاهر معروف و
التزامهم بالفساد في مواضعه لا يوجب أن يكون مستفادا من مجرد
النهي لجواز أن يكون لهم عليه مستند آخر من ضرورة أو إجماع أو
غيرهما وعن الثاني بالمنع من لزوم اختلاف أحكام المتضادين إذ
قد يشتركان في معنى كالسواد المشارك للبياض في العرضية واللونية
والوجود وغير ذلك وأجاب الفاضل المعاصر تبعا لصاحب المعالم
بعد تسليم الحجة المذكورة بأن نقيض قولنا يقتضي الصحة أنه لا
يقتضي الصحة ولا يلزم منه أن يقتضي الفساد وفيه نظر لان ذلك نفي
للاقتضاء لا إثبات للتناقض في المقتضي كما هو مقتضى تسليم
الحجة لا يقال إذا لم يقتض النهي للصحة فقد اقتضى عدم الاقتضاء و
الامر حيث اقتضى الصحة فقد اقتضى الاقتضاء فيحصل التناقض في
المقتضي أيضا لأنا نقول ليس اقتضاء المقتضي للمقتضي باقتضاء
مغاير وإلا لتسلسل أو الاعتذار بأنه تسلسل في الأمور الاعتبارية فلا
يمنع كما وقع عن البعض في نظائر المقام غير مسموع والتفصيل فيه
خارج عن مقاصد الفن على أن ذلك ينافي قضية التسليم فإن
المتناقضين لا يلزم أن يتناقض مقتضاهما بهذا البيان كيف والتقدير
أنهما متشاركان في اقتضاء الاقتضاء احتج المفصلون بين اللغة و
الشرع على انتفائها لغة بأن فساد الشئ عبارة عن انتفاء أحكامه ولا
دلالة للفظ النهي عليه والجواب أن ذلك إنما يتجه في المعاملات و
أما في العبادات فلا لما مر في حجة القول المختار وعلى ثبوته شرعا
بوجهين الأول أن علماء الاعصار والأمصار لم يزالوا يستدلون
بالنهي على الفساد والجواب عنه ما مر الثاني أنه لو لم يفسد لكان في
تركه حكمة موجبة للنهي عنه وفي فعله حكمة موجبة للصحة و
التالي باطل لان الحكمتين إما أن يتساويا فيتعارضان ويتساقطان
فيكون فعله على حد تركه فيمتنع النهي عنه حينئذ لعدم حكمة فيه و
إما أن تترجح حكمة أحدهما فامتناع الاخر أولى لانتفاء حكمته مع ما
فيه من تفويت القدر الزائد من حكمة الاخر وهي حكمة محضة
حيث لا معارض لها والجواب أن ذلك إنما يتم في العبادات لان
صحتها تستلزم تعلق الامر بها وحكمة الامر فيها تعارض حكمة النهي
فيرجع إلى أحد الوجوه المذكورة وأما في المعاملات فالحكمة
الموجبة لترتب آثارها عليها لا تنافي حكمة النهي عنها لجواز أن
يترتب
على محرم أثر شرعي هذا إن أريد بالحكمة الجهة الموجبة لثبوت
الحكم والأثر وإن أريد بها الجهة الموجبة لرجحان الفعل فاعتبارها
فيها ممنوع والسند ظاهر واحتج من أثبت دلالته على فساد المعاملة
شرعا فيما إذا تعلق بعينها أو لازمها بما يرجع محصله إلى وجوه
الأول الاجماع ووجهه
بأنا نرى إطباق المتقدمين والمتأخرين على فساد المعاملات التي
تعلق النهي بها بأحد الوجهين مستندين في ذلك إلى ورود النهي عنها
وليس لهم مستند سواه إذ لو كان لوقفنا عليه فعدم وقوفنا عليه في مثل
المقام بعد الفحص يقضي عادة بالعدم لكثرة الموارد وعموم
الحاجة إلى أكثرها ودعوى استنادهم في ذلك إلى الاجماع أو
الضرورة مدفوعة بأن الكلام في دليل المجمعين ولا ريب أنه غير
الاجماع وغير الضرورة لتأخرها عنه في الوجود وهذه الدلالة ليست
لغوية إذ لا يزيد مدلول النهي على التحريم وهو لا يدل على نفي
آثار المعاملة بإحدى الثلاث فتعين أن تكون شرعية مستندة إلى نقل
الشارع له في خصوص المقامين إلى ما يتضمن الفساد أو يستلزمه
والجواب أن استناد الكل في الحكم بالفساد إلى مجرد النهي غير
معلوم إن لم يكن خلافه معلوما واستناد البعض غير مفيد وعدم
وجدان المستند في مثل ذلك لا يقتضي عادة بالعدم لجواز كونه دليلا
واحدا عاما لموارده لم يصل إلينا وإنما يستبعد عدم الوصول إذا
تعدد الدليل بحسب تعدد الموارد مع أن الدليل في جملة من الموارد
معلوم كقوله تعالى في الربا الذين يأكلون الربا الآية وقوله تعالى لا
تأكلوا الربا وقوله صلى الله عليه وآله في بيع الخمر أن الذي حرمها
حرم ثمنها وقد ورد في أخبار عديدة أن ثمن الكلب الذي لا
يصطاد به وثمن الخمر وثمن النبيذ وثمن المسكر وثمن الميتة وأجر
الكاهن والربا ومهر البغي سحت إلى غير ذلك مما يقف عليه
المتتبع على أن الوجه الثالث وهو الاخبار على ما زعمه دليل عام
على المقام قد عثر عليه فكيف يدعي أنه لم يعثر في ذلك على دليل
لهم
إلا أن يريد أنهم لم يتمسكوا بها في مقام الحكم بالفساد فكأنهم أثبتوه
بغيرها وهو كما ترى مع احتمال أن يكون مستندهم إجماع من
تقدم عليهم فما ذكره من أن دليل المجمعين غير الاجماع إن أراد دليل
المجمعين ممن وقفنا
142

على قولهم من أصحابنا غير الاجماع فممنوع لجواز أن يستند إلى
إجماع آخر وإن أراد أن دليل المجمعين في الصدر الأول غير
الاجماع فمسلم لكن ليس لا كذم مصنف مبسوط معروف ليستعلم أن
مستندهم على الفساد هل هو مجرد النهي أو غيره على أن مستندهم
لو كان نفس النهي فلا ريب في أنه ظاهر في الفساد مع أنا نرى
الأصحاب قاطعين به في أكثر موارده فكيف يستند القطع بالحكم إلى
دليل ظني بل الظاهر أنهم تمسكوا في ذلك بظاهر النهي المعتضد في
أكثر موارده بأدلة خاصة من نص قاطع أو إجماع أو ضرورة و
ظهور النهي في ذلك ليس من جهة كونه منقولا في عرف الشرع إليه
لما عرف من أن هذه الدلالة ثابتة في نهي الطبيب وغيره من أرباب
الصنائع ولا قائل بالنقل في عرفهم أيضا وبالجملة فالنهي الوارد في
أمثال هذه الموارد إن تعلق بالماهية المطلقة دل على فسادها وإن
تعلق بها مقيدة بقيد دل على فساد القيد فيستفاد منه مانعية القيد من
صحتها حيث يتحقق ثبوت الصحة للطبيعة كما أن المستفاد من الامر
بالطبيعة وشبهه نحو وكاتبوهم والصلح خير صحتها ومن الامر بها
مقيدا أو بالقيد عند فعلها اشتراط الصحة به مع أن أحدا لا يلتزم
بنقل الامر في تلك الموارد إلى ما يتضمن أو يستلزم الصحة أو
الشرطية بل الظاهر أن المستفاد من الأمر والنهي عرفا في مثل ذلك
ليس هو إلا الارشاد إلى فعل ما هو الصحيح أو ترك ما هو الفاسد نظير
أوامر الطبيب ونواهيه في صنع الأدوية والمعاجين وإن تعلقا
بمن له أهلية الايجاب والتحريم في حقه كالمملوك وقد يعترض على
الدليل المذكور بأن كلام الفقهاء في النهي عن المعاملات مضطرب
لأنهم قد يستدلون بالنهي على الفساد وقد يصرحون بأن النهي عن
المعاملة لا يقتضي فسادها وأجاب عنه المفصل المذكور بأن
المصرح بالنفي إن كان ممن يذهب في المسألة إلى نفي الاقتضاء له
مطلقا فتصريحه به في بعض جزئياتها غير قادح كما لا يقدح
تصريحه بالنفي في أصل المسألة وإن كان غيره كان ذلك قرينة
واضحة على مصيره إلى التفصيل في ذلك وأنه يقتضي الفساد عنده
في بعض الموارد دون بعض والذي يظهر بالتتبع في موارد الاثبات أنه
يثبت الاقتضاء حيث يتعلق النهي بعين المعاملة أو بصفة لازمة
لها وينفيه في غير ذلك وقد يجمع بين
كلماتهم بأنهم يستدلون بالنهي على الفساد حيث يكون دليل الصحة
مقصورا على مورد الحل كما في البيع لقوله تعالى وأحل الله البيع و
أما حيث لا يكون مقصورا عليه فنمنع من دلالته فيه على الفساد كذبح
الغاصب لعموم ما دل على حلية المذكى كقوله تعالى وكلوا مما ذكر
اسم الله عليه وكوطي الحائض لدخوله تحت عموم ما دل على لزوم
تمام المهر بالوطي كقوله تعالى إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن
فنصف ما فرضتم وضعفه ظاهر لان دليل صحة البيع لا ينحصر في
دليل حليته بل يتناوله عموم الامر بالوفاء بالعقود كذلك غيره من
سائر العقود ولا يذهب عليك أن التنزيل الأول ضعيف لأنا نراهم
يحكمون بفساد معاملات كثيرة تعلق النهي بها باعتبار قيود غير
لازمة كبيع المجهول أو البيع بالمجهول وبيع غير المقبوض وبيع
الصرف بدون القبض وبيع الآبق بدون الضميمة وبيع الثمرة قبل
بدو الصلاح على التفصيل المقرر في محله إلى غير ذلك فلو تعسف
بأن تلك القيود لازمة لتلك المقيدات إذا أخذت من حيث كونها
مقيدات لتوجه عليه بأن الحال في الوصف الغير اللازم أيضا كذلك فإن
البيع وقت النداء إذا أخذ من حيث كونه مقيدا بوقت النداء كان
القيد لازما له ومن هنا يظهر أن التفصيل المذكور مما لا محصل له لأنه
إن اعتبر لزوم الوصف بالنسبة إلى ماهية المعاملة فظاهر أنه
غير متحقق في الأمثلة التي قررها من بيع المنابذة والملامسة ونكاح
الشغار ولا في غيرها وإن اعتبر لزومه بالنسبة إلى الصنف أو
الشخص منها لزم أن يكون جميع الأوصاف كذلك للزومها الصنف
المتصف بها بل الأقرب تنزيل كلماتهم على ما اخترناه من التفصيل و
توضيحه أن النهي المتعلق بالشئ يستدعي حكمة داعية إليه و
حكمة الفساد هي الحكمة الظاهرة من النواهي المتعلقة بالمعاملات
عند
خلوها عن قرينة تدل على أن فيها حكمة غير الفساد كنواهي الطبيب و
إليه يرجع ما اخترناه من التفصيل وحيث يستظهر من قرينة
مقالة أو شهادة حال أن حكمة النهي أمر آخر غير الفساد فلا يستظهر
الفساد عرفا كالنهي عن البيع وقت النداء وعن بيع الأمة قبل
الاستبراء فإن الظاهر منه في الأول بقرينة القيد أن الحكمة الداعية إليه
التهيؤ لصلاة
الجمعة وعدم التشاغل عنها بالبيع وفي الثاني الاحتياط لئلا تباع
أمهات الأولاد وحينئذ فلا يظهر منه الفساد إذ يكفي في حسن النهي
ترتب الحكمة المذكورة عليه فينتفي ظهور النهي في الفساد فيبقى
عموم ما دل على صحة البيع سليما عن المعارض وإن شئت توضيح
ذلك فلاحظ قول السيد الطبيب لعبده لا تصنع هذا المعجون في وقت
كذا فإن لي إليك في ذلك الوقت حاجة فإنه لا يفهم منه عرفا أنه لو
صنعه في ذلك الوقت لم يترتب عليه آثاره بخلاف ما لو قال لا تصنعه
في وقت كذا من غير إشعار بالعلة فإنه يفهم منه عرفا أن صنعه في
ذلك الوقت يخل بترتب أثره عليه وإنما اعتبرنا سيادة الطبيب على
المخاطب لئلا يفرق بين نواهيه ونواهي الشارع بأن الطبيب ليس
له أهلية التكليف والتحريم فيتعين نواهيه للارشاد والدلالة على
الفساد بخلاف الشارع الثاني أن هذه المسألة من قبيل المسائل اللغوية
يكفي فيها نقل الواحد فضلا عن المتعدد إذ لا فرق في الطريق بين
الأوضاع الحادثة والقديمة فيكتفي بنقل القائلين بكون النهي منقولا
في عرف الشارع إلى ما يتضمن الفساد أو يستلزمه وإن لم يبلغ حد
الاجماع ولا يعارضه نقل النافي لتقدم المثبت مضافا إلى ما حكاه
السيد في المقام من الاجماع وقد مر والجواب أن التعويل على النقل
مقصور على المباحث اللغوية التي لا سبيل لنا إلى استعلام الحال
فيها بالبحث والفحص لانقطاع مداركها عنا وتحققها عند النقلة لان ما
دل على جواز التعويل على النقل وهو الاجماع لا يساعد على
جوازه في غير ذلك بل الظاهر أن الاجماع منعقد في غيره على عدم
جواز التعويل فيه على النقل ولولا ذلك لا اكتفي علماء الأصول في
مباحث الألفاظ بقول غيرهم فيها فلم يتكثر بينهم الأقوال ولم
يحتاجوا إلى تجشم الاستدلال ولا خفاء في أن المقام من القسم
الأخير
فإن مدرك الناقل
143

على ما اعترف به إنما هو فهم الفقهاء منه الفساد وقد عرفت أن ذلك
لا يساعد على مطلوبه ومنه يظهر ضعف ما نقل في المقام من
الاجماع الثالث ظاهر جملة من الاخبار منها ما رواه زرارة في الصحيح
عن أبي جعفر عليه السلام قال سألته عن مملوك تزوج بغير إذن
سيده فقال ذلك إلى سيده إن شاء أجازه وإن شاء فرق بينهما فقلت
أصلحك الله إن الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهم
يقولون أصل النكاح فاسد فلا يحل إجازة السيد له فقال أبو جعفر عليه
السلام إنه لم يعص الله إنما عصى سيده فإذا أجازه فهو جائز و
في روايته الأخرى بعد أن ذكر حكمه بصحة نكاح العبد مع لحوق
الإجازة قال فقلت لأبي جعفر عليه السلام فإنه في أصل النكاح كان
عاصيا فقال أبو جعفر عليه السلام إنما أتى شيئا حلالا وليس بعاص
لله وإنما عصى سيده ولم يعص الله إن ذلك ليس كإتيانه ما حرم
الله تعالى عليه من نكاح في عدة وشبهه ووجه الدلالة أن الروايتين
دلتا على أن نكاح العبد الغير المأذون إنما لم يفسد مع لحوق
الإجازة لأنه لم يعص الله فيه وإنما عصى سيده فيدل على أن عصيان
الله في النكاح الذي من أقسام المعاملة يوجب الفساد فإن قيل كيف
أثبت على العبد عصيان السيد عند عدم الإذن مع أن عدم الإذن أعم
من المنع وهو الموجب للعصيان وأيضا عصيان السيد يستلزم
عصيانه تعالى حيث أوجب على العبد طاعته فكيف أثبت أحدهما و
نفي الاخر قلنا أما الأول فمدفوع بأنه يمكن تقييد العصيان بصورة
المنع من النكاح فالمعنى إنما عصى سيده على تقدير منعه منه و
يمكن تركه على إطلاقه بتنزيل العادة منزلة المنع من حيث إن سيرة
الموالي جارية على عدم الرضا بإقدام العبد على مثل هذا الامر بدون
الاذن وأما الثاني فقد أجيب عنه تارة بتنزيل عصيانه تعالى على
معنى أنه لم يعص الله واقعا حيث لم يعص السيد واقعا مع لحوق
إجازته وتنزيل عصيان السيد على عصيانه في الظاهر قبل وقوع
الإجازة وأخرى بأن المراد بالمعصية المنفية المعصية الخاصة وهي
المعصية الموجبة للفساد فلا ينافي الظاهر قبل وقوع الإجازة و
أخرى بأن المراد بالمعصية المنفية المعصية الخاصة وهي المعصية
الموجبة للفساد فلا ينافي استلزام معصية السيد لمعصيته تعالى و
اختار الفاضل المذكور هذا الوجه واستشهد
عليه بقوله عليه السلام في الرواية الثانية أن ذلك ليس كإتيانه ما حرم
الله تعالى عليه من نكاح في عدة وشبهه ومنها معتبر منصور بن
حازم عن أبي عبد الله عليه السلام في مملوك تزوج بغير إذن سيده أ
عاص لله وقال عاص لمولاه قلت حرام هو قال ما أزعم أنه حرام
قل له أن لا يفعل إلا بإذن مولاه ومنها ما ورد في من طلق ثلاثا في
مجلس أنه ليس بشئ من خالف كتاب الله رد إلى كتاب الله و
بمضمونه أخبار معتبرة في بعضها من خالف كتاب الله والسنة رد إلى
كتاب الله والسنة وفي بعضها كل شئ خالف كتاب الله فهو رد
إلى كتاب الله ووجه الدلالة أنها تضمنت قاعدة كلية وهي وجوب رد
كل شئ خالف الكتاب أو السنة إليه أي رده باطلا إلى ما يقتضيه
الكتاب والسنة من البطلان والمعاملة المحرمة مخالفة لأحدهما
فيجب ردها باطلا إليه ولولا أن النهي موجب للفساد لما كان الرد
موجبا له والجواب أما عن الروايتين الأوليين فبأن الظاهر من العصيان
فيهما بقرينة المقام الاتيان بما لم يمض أو لم يرض بصحته
فالمعنى أن العبد لم يأت بنكاح لم يمضه الله أو لم يرض بصحته على
تقدير الإجازة وإنما أتى بنكاح لم يمضه السيد أو لم يرض بصحته
على تقدير عدم الإجازة ووجه إطلاق العصيان على ذلك وقوع
التعبير عنه غالبا بالنهي ومما يدل على ما قررناه حكمه بعصيان العبد
لسيده المحمول على صورة المنع مع أن الظاهر اختصاص المنع
بالنكاح الصحيح دون الفاسد وهو غير حاصل حال المنع ويؤكده
قوله
عليه السلام فإذا أجازه فهو له جائز فإن المراد إذا رضي بصحته فهو له
صحيح على أن الرواية الثانية ضعيفة والأولى صالحة للتنزيل
على إلزام المخالفين فإن الحكم بن عتيبة على ما صرح به في الرجال
عامي والظاهر أن إبراهيم النخعي مثله وفي الرواية أيضا إشعار
بذلك وكيف كان فلا دلالة للروايتين على أن النهي عن المعاملة
يوجب الفساد ومع التنزل فحملهما على التفصيل الذي ذكره ليس
بأولى
من حملهما على تفصيلنا المختار وعلى التقديرين لا إشعار فيهما
بالنقل وأما عن الرواية الثالثة فبأنها مما لا إشعار لها بالمقصود و
لعل ذكرها في الأدلة وقع سهوا من القلم وأما عن الروايات الأخيرة
فبأن الظاهر من المخالفة فيها المخالفة في الحكم الوضعي وإن
كان مستفادا من ظاهر الأمر والنهي عرفا كما قررنا بقرينة ما ذكر فيها
من الأسباب كالطلاق بدون الاشهاد وتطليق المطلقة ولو
سلم أن المراد بها مطلق المخالفة فليس في رد ما خالف الحكم
التكليفي إليهما ما يوجب الفساد إذ لم يثبت بعد دلالتها عليه فتكون
ثمرة الرد عند المخالفة في الحكم التكليفي إجراء حكم المعصية عليه
من الفسق والتعزير والالزام بالتوبة ودعوى أن المعنى رده باطلا إليها
على الاطلاق في محل المنع مع أن المستدل لا يقول به وحمله
على التفصيل الذي ذكره بعيد إذ لا شاهد عليه واحتج من قال بدلالته
على الصحة بأن المنهي عنه لو لم يكن صحيحا لم يكن شرعيا و
التالي باطل لأنا نعلم أن المنهي عنه في صوم يوم النحر والصلاة في
الأوقات المكروهة هو الصوم والصلاة الشرعيان لا الامساك و
الدعاء وأيضا لو لم يصح لكان ممتنعا فلا يكون في النهي عنه فائدة و
الجواب أما أولا فبالنقض بمثل قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح
آباؤكم وقوله صلى الله عليه وآله دعي الصلاة أيام أقرائك فإن المنهي
عنه فيهما لا يقع صحيحا إجماعا وأما ثانيا فبالحل بارتكاب
التأويل أما في النهي بتجريده عن معنى الطلب وحمله على نفي
الحقيقة فيكون معنى لا تنكحوا لا نكاح ومعنى دعي الصلاة لا صلاة
لك
في تلك الأيام وهكذا وأما في المنهي عنه بحمل النكاح والصلاة
على إيقاع صورتهما بقصد المشروعية لأنه أقرب إلى الحقيقة من
الحمل على مطلق الصورة وذلك لان الظاهر يترك عند مخالفته للعقل
أو معارضته بما هو أقوى منه في الظهور ثم لا يخفى أن التمثيل
بالنهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة تمثيل بما هو خارج عن
محل البحث وقد تقدم الكلام فيها بما لا مزيد عليه ويمكن أن يجاب
عن الوجه الثاني أيضا بأن المنهي عنه يجوز أن يكون ممتنعا بهذا المنع
والمحال منع الممتنع بغيره وقد سبق الكلام فيه
تنبيهات
الأول
قد عرفت مما حققنا عدم الفرق بين المنهي عنه لنفسه أو لجزئه أو
لقيده المحمول كالوصف أو غيره ومنهم من ذهب إلى أن المنهي عنه
لوصفه يرجع حكم النهي فيه إلى الوصف دون الموصوف فحكم في
الربا المنهي عنه لوصف الزيادة أنه لو طرح الزيادة عادة
144

الربا صحيحا واحتج بأنه لو دل لناقض التصريح بالصحة ولا تناقض و
لوجب أن لا يعتبر ذبح ملك الغير والجواب عنهما يظهر مما مر
فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه الثاني كما قد يتعلق النهي بنفس العبادة
وقد مر الكلام فيه كذلك قد يتعلق بجزئها بأحد الاعتبارات
المتقدمة كقراءة إحدى العزائم في الصلاة أو القراءة الجهرية في
موضع الاخفات وبالعكس ولا ريب في اقتضائه الفساد في الجز
عقلا
ولغة لان جز العبادة عبادة لا محالة فيجري فيه ما يجري فيها وقضية
فساده فساد المركب لان عدم مطلوبية الجز يستلزم عدم
مطلوبية الكل لأنه في الحقيقة نفس الأجزاء نعم يمكن حصول
الامتثال بالباقي على تقدير قيام دليل عليه فيستكشف به عند التحقيق
عن
بدلية المركب الثاني عن المركب الأول ولو على تقدير المخالفة في
الجز وكذا لو تعلق بشرطها وكانت عبادة سواء تعلق النهي بنفسه
بأحد الاعتبارات المتقدمة كالطهارة بالماء المغصوب أو بجزئه كذلك
كغسل اليد في الوضوء منكوسا لان ذلك يوجب فساد الشرط
بالبيان المتقدم وفساده يوجب فساد المشروط لو لم يتخلفه غيره وأما
إذا لم يكن الشرط عبادة فالنهي عنه لا توجب فساد المشروط
عقلا لامكان التوصل بالمحرم إلى فعل الواجب ويقتضيه عرفا حيثما
يقتضيه في المعاملات على التفصيل السابق لان الشرطية من الأمور
الجعلية والوضعية فيكون على حد المعاملات في ذلك وعلى هذا
فلو ورد النهي عن التستر بشئ في الصلاة كالحرير وجلد الميتة دل
على الفساد بخلاف ما لو نذر أن لا يتستر بثوب فستر به فيها وكذا لو
نهاه عنه من يجب عليه طاعته وقد يتعلق النهي بأمر خارج عن
العبادة وحينئذ فإن لم يكن النهي عنه للعبادة كالنظر إلى الأجنبية في
الصلاة فلا إشكال في عدم اقتضائه الفساد مطلقا وإن كان
للعبادة كالتكفير المنهي عنه للصلاة فهو لا يقتضي الفساد عقلا لتعدد
المتعلق لكن يستفاد منه الفساد منه عند الاطلاق عرفا نظرا إلى
استفادة المانعية منه ما لم يظهر إرادة مجرد التحريم كما لو نذر أن لا
يلتفت فيها يمينا أو شمالا أو لا يفرقع أصابعه أو نحو ذلك فإن
النهي الناشئ من النذر نهي تحريمي لا غير فلا يفيد الفساد هذا وقس
على النهي حال الامر
الثالث
ما مر في النهي المتعلق بالمعاملات من دلالته على نفي ترتب الأثر
المقصود وعدمها يجري في النهي المتعلق بغيرها من الأمور الوضعية
التي لها آثار شرعية كالتطهير والتذكية ونظائرهما فإن النهي عن
التطهير بالماء المتنجس يفيد عرفا عدم وقوع أثر التطهير به و
النهي عن الذبح بغير الحديد حالة الاختيار يفيد عدم وقوع التذكية به
والنهي عن التطهير بالماء المغصوب أو التذكية بالآلة المغصوبة
أو ما نذر أن لا يتصرف فيه بجوارحه لا ينافي ترتب أثر الطهارة و
التذكية عليه إلى غير ذلك وكذا الكلام في الامر كل ذلك يعرف
بالمقايسة إلى ما سبق
القول في المنطوق والمفهوم
فصل المنطوق ما دل عليه اللفظ
وكان حكما لمذكور والمراد باللفظ والمذكور ما يتناول المقدر و
المنوي أولا والمفهوم ما دل عليه اللفظ وكان حكما لغير مذكور و
هذا التحديد مستفاد من كلام بعضهم كالعضدي وغيره والمشهور
بينهم أن المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق والمفهوم ما دل
عليه لا في محل النطق والظاهر أن الظرف في المقامين متعلق بدل و
أن المراد بكون الدلالة في محل النطق أن تكون ناشئة من اللفظ
ابتدأ أي بلا واسطة المعنى المستعمل فيه ومن كونها لا في محل
النطق أن تكون ناشئة بواسطة المعنى المستعمل فيه فإن قولنا إن
جاءك زيد فأكرمه يدل على تعليق وجوب الاكرام على المجئ و
على تعليق عدم الوجوب على عدم المجئ لكن يدل على التعليق
الأول
بلا واسطة وعلى التعليق الثاني بواسطة دلالته على التعليق الأول هذا
والعضدي بعد أن ذكر الحد الأول فسره بقوله أي يكون حكما
لمذكور وحالا من أحواله وذكر الاخر وفسره بقوله بأن يكون حكما
لغير المذكور وحالا من أحواله ومنه يظهر أن الظرف في
المقامين خبر لكان حذفت مع اسمها وتقدير الكلام ما دل عليه اللفظ
وكان موضوعه في محل النطق أو لا في محله ولا يخفى بعده و
الأظهر أنه تفسير باعتبار اللازم فإن الحكم إذا كان المذكور كان الحكم
مدلولا عليه في محل النطق وإن كان لغير مذكور لم يكن
كذلك قال بعض المعاصرين وفي الحدين تسامح لان المدار في
الفرق على كون موضوع الحكم مذكورا وعدمه فلا يتم جعل قوله في
محل النطق حالا عن الموضوع إلا بارتكاب نوع من الاستخدام ثم قال
ولو جعل الموصول كناية عن الموضوع يلزم خروجه عن المعنى
المصطلح وارتكاب نوع استخدام في الضمير المجرور هذا محصل
كلامه ويشكل بأن الضمير المجرور في الحد لا يصلح للاستخدام
للزوم وقوع الموصول بلا عائد فإنه إنما يستدعي الضمير باعتبار
المعنى الذي استعمل فيه وكذا الحال في ضمير الحال فإنه إنما يرجع
إلى ذي الحال باعتبار المعنى الذي استعمل فيه لا غير وبالجملة
فالاستخدام إنما يتأتى في الضمائر التي يصح وضع المرجع
موضعها وذلك يتعذر في مثل ما مر ثم تسميته لجعل الظرف حالا من
الموصول بمعنى الموضوع استخداما إما لشبهه به أو باعتبار
لزومه في ضمير الحال وفيه أن الموصول بمعنى الموضوع مما لا
عامل له فيلزم خلو الحال عن العامل وهو باطل ثم ما ذكره من
الخروج عن المعنى المصطلح بناء على تفسير الموصول بالموضوع
فمما لا خفاء فيه إذ ليس المنطوق والمفهوم في مصطلحهم من أسماء
الموضوع وأما ما ذكره من لزوم الاستخدام على هذا التقدير فغير
واضح بل يتعين رجوع الضمير حينئذ إلى الموصول باعتبار المعنى
الذي أريد منه نعم لو أريد بالموضوع اللفظ اتجه اعتبار الاستخدام في
الضمير المجرور لكنه مع ما يلزمه من ركاكة لفظ الحد يستلزم
بقاء الموصول بلا عائد كما مر ثم هذه الحدود ظاهرة الانطباق على
قول من يجعلها من صفات المدلول وأما من يجعلها من صفات
الدلالة كالحاجبي فيتعين عليه أن يتوسع في الدلالة أو يجعل ما
مصدرية والضمير المجرور راجعا إلى المدلول عليه بالدلالة ويمكن
إرجاعه إلى المنطوق والمفهوم بطريق الاستخدام إلا أنه بظاهره ربما
يوجب الدور ثم أقول وفي الحدود المذكورة إشكالات ينبغي
التنبيه عليها منها أن كلا من الحدين الأولين بل الأخيرين أيضا على
توجيه البعض منقوض بمثل قول القائل أكرم خدام العالم حيث يدل
على إكرامه بطريق الأولوية فإن مثل هذا يعد مفهوما على
145

ما يقتضيه طريقتهم مع أن ما ثبت له الحكم وهو العالم مذكور لا يقال
لعل المراد أن يكون ما ثبت له الحكم مذكورا لاثبات الحكم له و
العالم في المثال المذكور غير مذكور لاثبات الحكم له بل لما أضيف
إليه فلا يلزم خروجه عن حد المفهوم ولا دخوله في حد المنطوق
لأنا نقول لا سبيل إلى ذلك لعدم مساعدة ظاهر اللفظ عليه مع أنه
يوجب ورود النقض على الحدين بمثل دلالة الآيتين على أقل الحمل
طردا وعكسا لان الحمل غير مذكور فيه لبيان أقله بل الوجه في
الجواب أن ما ثبت له الحكم أعني الوجوب إنما هو إكرام العالم كما أن
ما ثبت له الحكم في قولك إن جاءك زيد عدم مجئ زيد لا زيد ولا
ريب أن إكرام العالم غير مذكور وإنما المذكور إكرام الخادم فلا
إشكال ومنها أنها منقوضة بدلالة الآيتين على أقل الحمل لان
الموضوع فيه مدلول الأقل دون الحمل وهو غير مذكور ولو تكلف
بجعل
المفهوم مدلول قولنا الحمل أقله كذا منعنا اعتباره في المقام وإلا
لخرج مفهوم آية التأفيف عن حده إذا جعل الأبوان موضوعا وقيل
الأبوان يحرم شتمهما وضجر بهما وما التزم به بعضهم من أن مدلول
الآية إن أخذ بهذا الاعتبار كان منطوقا كما أنه إن أخذ بالاعتبار
الاخر كان مفهوما فتعسف ركيك لظهور أن عرفهم لا يساعد عليه و
كذلك الحال في مفهوم الشرط فإنه يصح أن يقال في المثال
المتقدم منه زيد إن لم يجئك فلا يجب إكرامه فيكون موضوع الحكم
مذكورا إلى غير ذلك بل التحقيق أن العبرة في ذلك بالمعنى
المنسبق إلى الفهم من الكلام وإليه ينظر ظاهر الحد وبه يضمحل
الوهم المذكور ومنها أن الحدين الأولين بل الأخيرين أيضا على
توجيه البعض منقوضان بمفهوم الحصر المستفاد من إنما إذا أريد بها
قصر الموصوف على الصفة فإن موضوع حكم المفهوم وهو
الموصوف مذكور وكذا إذا أريد بها قصر الصفة على الموصوف في
مثل قولك إنما غير زيد أكرمت ومنها أن الحدين الأخيرين على ما
عرفت لا يصلحان إلا بالتوجيه الذي ذكرناه وعلى تقديره ينتقضان
بأمور منها أنهما ينتقضان بالمنطوق المدلول عليه بدلالة الإشارة
لان اللفظ لا يدل عليه أيضا ابتدأ ومنها أنهما منقوضان
بمفهوم الحصر المستفاد من إنما ونحوها فإنها تدل بالوضع في
الاثبات على إثبات الحكم المذكور للمذكور ورفعه عن غيره أو رفع
ما عداه عنه وفي النفي بالعكس فتكون الدلالتان ابتدائية وفي محل
النطق ويمكن الجواب عنه بأن إنما ليست موضوعة لإفادة نفي
الحكم عن غير المذكور أو إثباته له مثلا كيف وهو معنى اسمي حملي
وهي حرف لا تستقل بالمفهومية بل موضوعة لمعنى نسبي وهو
قصر ما بعدها على ما يليه مأخوذا باعتبار كونه آلة لتعرف حالهما فتدل
على نفي الحكم عن غير المذكور أو إثباته له مثلا بالالتزام
فتكون الدلالة عليه لا في محل النطق ومنها أن حد المفهوم منقوض
بدلالة الامر بالشئ على الامر بمقدمته وبدلالته على فساد الضد
على القول به ونحو ذلك مع أن شيئا منها لا يسمى مفهوما اصطلاحا و
يمكن دفعه بأن المعتبر في المفهوم والمنطوق أن يكونا مدلول
اللفظ أو دلالته بقرينة أن المقسم عندهم أحدهما ولا نسلم أن اقتضاء
الامر لما ذكر يعد من دلالة اللفظ بل من دلالة العقل وهذا في الثاني
واضح وفي الأول يتوقف على كون دلالة اللفظ على اللازم البين
بالمعنى الأعم غير لفظية ومنها أن حد المفهوم لا ينطبق على شئ
من
مصاديقه لأنها مركبة مما دل عليه اللفظ في محل النطق ومما دل عليه
لا في محله والمركب من الشيئين ليس بأحدهما ويمكن الجواب
عنه بأن المراد بما دل عليه اللفظ في حده ما دل عليه في الجملة ولو
على بعضه فيكفي خروج بعض المدلول عن محل النطق ولا يخفى
بعده أو أن المراد ما دل عليه باعتبار التركيب واللفظ لا يدل على شئ
من أبعاضه بهذا الاعتبار في محل النطق ومنها أن حد المفهوم
يصدق على لوازم المفردات أو دلالتها عليها كالأسد بالنسبة إلى
الشجاعة أو دلالته عليها مع أنها لا تسمى مفهوما في الاصطلاح و
يمكن
الجواب عنه بأن المراد بالموصولة في حده المدلول المركب أو يجعل
الضمير راجعا إليه فقد اتضح مما ذكرنا أن الحدود المذكورة كلها
مدخولة بل لا يكاد يأتي لهما بحد سالم فالوجه في المقام أن يجعل
الحدود المذكورة حدود اللفظية تقريبية ويرجع في معرفتهما إلى
عرف القوم هذا ولو عرف المفهوم بأنه مدلول خبري أو إنشائي
غير مذكور لازم لمدلول خبري أو إنشائي مذكور مع اختلافهما في
الحكم نفيا وإثباتا أو اتفاقهما فيه مع ظهور الأولوية والمنطوق
بما عداه لكان قريبا وقد يعزى إلى البعض أنه جعل ما عدا المنطوق
الصريح من المفهوم وهو على إطلاقه غير جيد
فصل قسموا المنطوق إلى صريح وغير صريح
فالصريح ما دل عليه اللفظ بالدلالة الوضعية المطابقية وألحقوا به
المدلول التضمني وليس على ما ينبغي وغير الصريح ينقسم إلى ما
دل عليه اللفظ بدلالة اقتضاء أو إيماء أو إشارة لان ما يدل عليه اللفظ
إما أن يكون مقصودا للمتكلم في الخطاب أو لا والثاني هو
المدلول عليه بدلالة الإشارة كدلالة الآيتين على أقل الحمل فإن
إحداهما مسوقة لبيان حق الوالدة والأخرى لبيان أكثر مدة الفصال و
يلزم منهما تعيين أقل الحمل وإن كان الأول فهو على قسمين الأول أن
يتوقف صدق الكلام أو صحته عليه وهذا هو المدلول عليه بدلالة
الاقتضاء فالصدق نحو رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فإن صدق الكلام
يتوقف على تقدير المؤاخذة ونحوها والصحة قد تكون عقلية
كما في قوله تعالى واسأل القرية فإنه لو لم يقدر الأهل لم يصح الكلام
عقلا وهذا مبني على تقدير عدم التجوز في لفظ القرية وقد
تكون شرعية كقولك أعتق عبدك عني على ألف فإن اختصاص العتق
بالملك يوجب تقدير الملك أي مملكا على ألف الثاني أن يقترن
بالحكم ما لو لم يكن علة له لاستبعد اقترانه به فيحمل على التعليل و
إن لم يصرح به وهذا هو المدلول عليه بدلالة الايماء كما لو قال
القائل واقعت أهلي في نهار شهر رمضان فقال عليه السلام له كفر فإن
اقتران قوله كفر بقول السائل يقتضي أن يكون المراد كون
الوقاع المسؤول عنه علة لوجوب الكفارة ولا يذهب عليك أنه ينبغي
تنزيل ما ذكروه في هذا النوع على التمثيل لا التخصيص لعدم
اختصاصه به فالضابط فيه أن يقال
146

هو ما دل عليه اللفظ لاقترانه بما يستبعد معه عدم إرادته واعلم أن
القرائن التي توجب صرف اللفظ عن معناه الحقيقي إلى المعنى
المجازي قد توجب ذلك لتوقف صدق الكلام عليه كالنفي في قوله
تعالى لا يمسه إلا المطهرون فإنه محمول على النهي مجازا والقرينة
عليه لزوم الكذب على تقدير حمله على النفي أو صحته كقولك
جئني بأسد يرمي فإن الأسد الحقيقي لا يصح إسناد الرمي إليه أو
لاقترانه
بما لولاه لكان مستبعدا من شهادة حال أو ضميمة مقال كقولك رأيت
أسدا في الحمام فإن التقييد بكونه في الحمام يبعد كونه أسدا
حقيقيا وكذا إذا كان في المقام ما يفيد ذلك ولا خفاء في أن قرينة
المجاز لا تخلو عن أحد هذه الأقسام فدلالته ترجع إلى إحدى هذه
الدلالات فيكون دلالته على الأوليين دلالة اقتضائية وعلى الأخير
دلالة إيمائية وزعم بعض المعاصرين أن دلالة المجاز الذي يكون
قرينة غير العقل داخلة في المنطوق الصريح أو لا بد من ذكر قسم آخر
يشملها وذلك لما استظهر من أمثلتهم للدلالة الاقتضائية من
اختصاصها بالمجاز في الاعراب أو ما يكون قرينة العقل وهذا فاسد
من وجوه أما أولا فلان إدخال المجاز في المنطوق الصريح غير
سديد لأنه ليس بمدلول مطابقي على ما هو للمعروف بينهم في
تعريف المطابقة مع أن العضدي صرح هنا باعتبار الوضع كما فعلناه و
لم نقف على من ينكر ذلك منه وذلك آية كون الاصطلاح جاريا عليه
وأما ثانيا فلان جعل القسمة غير شاملة لمثل هذا القسم مع أنه من
معظمها وأظهرها مما لا يقبله الذوق السليم لما فيه من دعوى خفاء
مثل هذا الامر البين على أنظار المحققين وأما ثالثا فلان عناوينهم
لبعض الأقسام المذكورة يشمل بإطلاقها المجاز بأقسامه فلا وجه
لتخصيصه بالمجاز في الاعراب أو المجاز الذي قرينته العقل بمجرد
ذكرهم مثالا أو مثالين من بابه مع أن المثال الذي ذكروه للذي قرينته
العقل من باب المجاز في الاعراب أيضا وهذا ظاهر
فصل اختلفوا في أن التقييد بالشرط هل يقتضي نفي الحكم عند
انتفائه أو لا
فذهب إلى كل فريق والأكثرون على الأول ولنبين أولا معنى الشرط
ليتضح مورد البحث فنقول الشرط في اللغة إلزام الشئ والتزامه
صرح به غير واحد منهم ومنه الشروط التي تقع في العقود وأما
الشرط بمعنى العلامة فالظاهر أنه بالتحريك كما نص عليه بعضهم و
منه اشتراط [أشراط] الساعة وليس بالسكون على ما زعم وأما عرفا
فقد يطلق ويراد به مصطلح أهل المعقول وقد مر تحقيقه في بحث
المقدمة وقد يطلق ويراد به السبب صرح به بعضهم وقد يطلق ويراد
به الجملة المصدرة بإحدى أدوات الشرط كإن وأخواتها وهذا هو
المراد في المقام وقد جرى عليه مصطلح علماء العربية ثم منهم من
قرر النزاع في الامر المقيد بالشرط ومنهم من قرره في الحكم المقيد
به ومنهم من جعله في التعليق به والظاهر أنه لا فارق في المقام فإن
الأخيرين متوافقان وتخصيص الأول له بالامر ناظر إلى وقوع
بحثه عنه في مبحث الامر والظاهر أن النزاع في المقام لا يختص
بالتعليق بكلمة إن وتحرير جماعة لموضع النزاع في التعليق بها ليس
نصا في التخصيص لامكان التنزيل على التمثيل فيطابق تحرير غيرهم
له في التعليق على الشرط وحينئذ فهل يختص النزاع بأدوات
الشرط أعني إن ولو وإذا إذا استعملت في الشرط أو يجري فيها وفيما
يتضمن بمعنى الشرط من الظروف المبنية أو يجري فيهما و
فيما يشعر به كالفاء الداخلة على جزاء الموصول أو الموصوف حيث
إنها مشعرة باعتبار معنى الشرط بين الجملتين على ما هو الظاهر
أو كالموصول والموصوف حيث يدخل الفاء على خبرهما بناء على
ما ذكره أهل العربية من تضمنهما حينئذ معنى الشرط وجوه ثم من
المثبتين من نص على أن الدلالة المذكورة ثابتة بالوضع ومنهم من
أثبتها بالنظر إلى دليل الحكمة وأطلق الباقون والظاهر من مثبتيها
بالوضع ثبوتها عندهم بطريق الالتزام وذهب بعض الأفاضل إلى
ثبوتها بالتضمن ثم الظاهر من أكثر المثبتين القول بدلالته على انتفاء
الجزاء عند انتفاء الشرط مطلقا والظاهر من النافين نفي دلالته على
ذلك مطلقا والتحقيق أنه يدل بالالتزام على انتفاء الجزاء عند انتفاء
الشرط بالوضع في الجملة وبالاطلاق مطلقا لنا أن المتبادر من التقييد
بإن وأخواتها تعليق الجزاء على الشرط
بمعنى إفادة أن الثاني لازم الحصول لحصول الأول ومرجعه إلى أن
للشرط علقة بالجزاء يقتضي بها عدم انفكاكه عنه وحيث تنحصر
هذه العلقة أعني علقة اللزوم في علقة العلية بأنواعها الثلاثة صح أن
يكون الشرط سببا للجزاء إما سببا عقليا كقولك إذا أراد الله شيئا
كان أو وضعيا نحو إن ظاهرت فكفر وأن يكون مسببا عنه مساويا له
نحو إن كان النهار موجودا كانت الشمس طالعة وأن يكونا
معلولين لعلة واحدة كذلك نحو إن كان النهار موجودا كان العالم مضيئا
فأدوات الشرط في هذه الموارد ونظائرها إنما تستعمل لإفادة
كون الجزاء لازم الحصول للشرط وإما أن الشرط سبب للجزاء أو
مسبب عنه أو مشارك له في العلة فمستفاد من اعتبار أمور خارجة و
لا اختصاص لها بأحدها نعم حيث يكون الجزاء إنشاء لا يصح أن يعتبر
الشرط فيه مسببا عن الجزاء لظهور أن المعنى لا يستقيم فيتعين
أن يكون شرطا أي سببا له نحو إن ظاهرت فكفر فإن الظهار سبب
وضعي لوجوب الكفارة ومطلوبيتها أو ملزوما لشرطه بأن يكونا
معلولين لعلة واحدة نحو إذا شاهدت موضع كذا فقل كذا إذا كان
السبب الوضعي للطلب ما هو لازم المشاهدة كالقرب المخصوص
دون
نفسها لكن حيث إن الظاهر من اللزوم عند الاطلاق هو اللزوم بدون
الواسطة يتبادر منه عند الاطلاق كون الشرط شرطا والجزاء
مشروطا بل نقول الظاهر من اعتبار المقدم ملزوما والتالي لازما أن
يكون الملزوم شرطا بالمعنى المتقدم واللازم مشروطا له مطلقا
ومنشؤه أن صفة اللازمية لازمة للمشروط دون الشرط فإنه قد لا يكون
لازما فلها مزيد اختصاص به ولهذا ينصرف مطلقها إليه فهذا
هو السر في تبادر شرطية الشرط للجزاء عند الاطلاق مطلقا لا كون
إرادته موضوعة لذلك إذ المفهوم منها في الموارد المذكورة ليس
إلا معنى واحد وهو كون الجزاء لازما للشرط وإذا ثبت أن قضية
إطلاق التعليق شرطية المقدم للتالي لا سيما إذا كان إنشاء فنقول كما
أن
147

من التعليق شرطية المقدم كذلك الظاهر من إطلاق الشرطية كون
المذكور شرطا على التعيين لا على البدلية كما يرشد إليه قولك
حصول المجئ شرط لوجوب الاكرام وسيأتي لهذا مزيد بيان فإذا
كان المفهوم من إطلاقه كون المذكور شرطا على التعيين فلا جرم
يلزم من انتفائه انتفاء الجزاء لاستحالة وجود المشروط بدون الشرط
فظهر أن دلالة التعليق بالشرط على انتفاء التالي على تقدير
انتفاء المقدم في الجملة مستندة إلى الوضع لان ذلك قضية التعليق و
على انتفائه عند انتفائه مطلقا مستندة إلى ظهور التعليق في شرطية
المقدم وظهور الشرطية في الشرطية التعيينية فقول القائل إن جاءك
زيد فأكرمه وإن أكرمك فأكرمه مخالف للظهور دون الوضع و
أما نحو أكرم زيدا إن جاءك وإن لم يجئك فالظاهر أنه مخالف للوضع
إذ لا تعليق فيه حقيقة فإن قلت تنزيل الخطابات العرفية على هذه
التدقيقات الخفية غير سديد لقصور أكثر الافهام عن الوصول إليها
فكيف يبتني محاورات أهل العرف عليها قلت الانتقال إلى أمثال
هذه الدقائق بطريق الاجمال مما يشترك فيه العالم وغيره وإنما يمتاز
العالم بالوصول إلى تفاصيل تلك الدقائق والتمكن من بيانها أ
لا ترى أن كثيرا من وجوه البلاغة المودعة في علم البيان مطالب دقيقة
خفية ومع ذلك فهي مأخوذة من اعتبار أهل العرف لها في
محاوراتهم ومن مراعاتهم لها في مجازي استعمالاتهم فهم يتنبهون
لتلك النكات لكن بطريق الاجمال ولهذا لو كلفوا ببيانها لعجزوا
عنه وكذلك الحال في جملة من مباحث العلم فإنا نراهم يحكمون
بعدم قضاء الامر بالشئ ببطلان ضده وبعدم جواز اجتماع الامر و
النهي في شئ واحد إلى غير ذلك مع أن تفاصيل الكلام فيهما مما قد
عجز أساطين العلماء عن الوصول إليها ومن هذا يظهر أن من
يجعل تفاصيل فكره تابعة لمجملات وجدانه أقرب إلى الصواب ممن
يتزاول التفاصيل ولا يلتفت إلى المجملات أو يجعلها تابعة
للتفاصيل ثم لا فرق فيما ذكر بين التعليق بإن والتعليق بغيرها كلو وإذا
إلا أن التعليق بلو يختص في الماضي بالشرط والجزاء الممتنع
حصولهما كما أن التعليق بإن يختص بالشرط والجزاء المشكوك
حصولهما والتعليق بإذا يختص بالشرط والجزاء المعلوم حصولهما و
أما
ما اشتهر بينهم من أن إن للشرط المشكوك حصوله وإذا للشرط
المعلوم حصوله فلعله ليس على ما ينبغي لأنه وإن استلزم ما ذكرناه
في إذا لكنه لا يستلزمه في إن وإفادة هذه الأدوات لتلك الصفات في
مدخولها ليست باعتبار كونها مستعملة فيها بل باعتبار
اختصاصها بها من قبيل إفادة لفظ الامر علو رتبة الامر والدعاء
انحطاط رتبة الداعي وقد مر التنبيه عليه وهل هذه الدلالة ناشئة في
المقام من الوضع أو من غلبة الاستعمال وجهان أظهرهما الأول لا
سيما في غير إن وخصوصا في لو وهو قضية إطلاق كلماتهم فلو يدل
على ما دل عليه التعليق بباقي الأدوات من كون الثاني لازم الحصول
على تقدير حصول الأول بدلالة استعمالية مع الدلالة على أن الواقع
انتفاؤهما بدلالة اختصاصية ولا اختصاص لها وضعا بكون الأول سببا
للثاني ولا مسببا عنه وإن كان عند الاطلاق ينصرف إلى
السببية كما عرفت في قولك لو جئتني لأكرمتك فإن الظاهر منه أن
المجئ كان على تقدير حصوله سببا للاكرام لكنه لم يحصل المجئ
فيحصل الاكرام أي فيترتب عليه حصول الاكرام وكثيرا ما يصرح بهذا
الاستدراك تأكيدا لهذا الظهور كما يقال لو جاءني زيد لأكرمته
لكنه لم يجئني أي لم يجئني فأكرمه ومثله قوله ولو دامت الدولات
كانوا كغيرهم رعايا ولكن ما لهن دوام أي ما لهن دوام فيكونوا
رعايا كغيرهم وأما قوله ولو طار ذو حافر قبلها لطارت ولكنه لم يطر
فالظاهر أنه ليس مما يكون الثاني فيه مسببا عن الأول كما
زعمه التفتازاني لان طيران ذي حافر لا يصلح سببا لطيران فرسه بل
من باب الاستلزام حيث ادعى أن فرسه قد استجمعت لكل صفة
كمالية تكون لذي حافر فأخذ هذه الدعوى مسلمة وفرع عليها
الشرطية المذكورة نظرا إلى أن الطيران على تقدير حصوله من تلك
الصفات فالمعنى لم يطر ذو حافر قبلها فتطير على حد قولك لو بلغنا
موضع كذا لبلغنا الكوفة لكن لم نبلغه أي لم نبلغه فنبلغها فليس
المقصود من نفي المقدم في هذه الموارد إنتاج نفي التالي على ما سبق
إلى بعض الأوهام فاستشكل بأن استثناء نقيض المقدم في
القياس الشرطي لا يوجب نفي التالي
على ما تقرر في محله بل المراد ما عرفت من الدلالة على أن الشرط لم
يحصل فيحصل الجزاء أي لم يحصل ليترتب عليه حصول الجزاء و
مرجعه إلى نفى الشرط المتعقب لحصول الجزاء المنفي لا الاستدلال
بانتفاء الشرط على انتفاء الجزاء أو الدلالة على أن نفي الجزاء
متفرع على نفي الشرط خاصة وحيثما وقع استدراك نفي المقدم و
تفريع عدم الجزاء عليه فلا بد فيه من تأويل كدعوى انحصار السبب
في الشرط نعم إذا تركبت لو مع لا أفادت سببية وجود شرطها لانتفاء
الجزاء بحيث لا يحتمل غيرها كما في قوله لولا علي لهلك عمر
فإنه إنما يدل على أن وجود علي سبب لعدم هلاك عمر ومن هنا
يتقوى قول البصرية حيث قالوا لولا كلمة برأسها وليست لو الداخلة
على لا كما ذهب إليه الكسائي فجعل الاسم الواقع بعدها فاعلا لفعل
محذوف هذا ما يساعد عليه التحقيق والمشهور بين الجمهور أن لو
لامتناع الثاني لامتناع الأول واعترض عليهم الحاجبي بأن الأول سبب
والثاني مسبب وانتفاء السبب لا يدل على انتفاء المسبب لجواز
تعدد الأسباب بخلاف العكس فعكس الامر وجعلها لامتناع الأول
لامتناع الثاني لان عدم المسبب يقتضي عدم جميع أسبابه واستشهد
عليه بقوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا حيث سيق ليستدل
بامتناع الفساد على امتناع تعدد الالهة دون العكس وافقه على
ذلك جماعة ممن تأخر عنه إلا أن منهم من التزم بدعواه وأفسد دليله
نظرا منه إلى أن الشرط المبحوث عنه هنا لا يختص بالسبب بل قد
يكون مسببا عن الثاني أو مشاركا له في العلة وأورد عليهم التفتازاني
بأن الجمهور لم يقصدوا أنها للاستدلال بامتناع الأول على
امتناع الثاني ليرد عليه ما ذكر بل أرادوا أنها للدلالة على أن انتفاء الثاني
إنما هو بسبب انتفاء الأول من غير التفات إلى أن علة العلم
بانتفاء الجزاء ما هي هذا محصل كلامه ونحن نقول ليس غرض
الحاجبي أن الجمهور يجعلون لو ليستدل بامتناع شرطها على امتناع
جوابها وأن الامر على العكس كما زعمه التفتازاني بل غرضه أنهم
يجعلونها
148

لامتناع الجزاء لامتناع الشرط وليس كذلك لما مر الامر بالعكس و
ليس في توجيه التفتازاني ما يوجب دفع ذلك إلا ما زاده من اعتبار
الحصر وهو مردود أما أولا فبعدم مساعدة ظاهر كلامهم عليه وأما
ثانيا فبأن الاشكال المورد على كلام القوم وارد على اعتبار هذا
الحصر إذ لا نسلم أن الجزاء إنما امتنع لامتناع الشرط كيف وعدم
المسبب يستند إلى عدم جميع أسبابه دون عدم سبب مخصوص نعم
يتجه ذلك إذا كان السبب منحصرا في الشرط ومنه قوله تعالى ولو
شاء لهديكم أجمعين لكن كثيرا ما يرد على خلافه بل المفهوم منها
أن لعدم الأول مدخلية في عدم الثاني سواء استقل كما إذا انحصر فيه
أو لا كما إذا انضم إليه عدم سائر الأسباب أ لا ترى أن قولك لو
كان زيد كريما لأكرمته لا يقتضي حصر سبب الاكرام في كونه كريما و
لهذا يصح أن تردفه بقولك ولو كان عالما لأكرمته ولو
أكرمني لأكرمته ونحو ذلك من غير تجوز وبهذا يظهر ضعف
الاعتراض المذكور أيضا لان مبناه على أن يكون المراد أن لو يقتضي
سببية عدم الأول لعدم الثاني سببية تامة وكلامهم غير صريح في إرادة
ذلك مع أنك قد عرفت أنها لا تفيد السببية وضعا ويفيد
السببية التعينية إطلاقا ويمكن تنزيل كلام الجمهور عليه هذا كله بعد
المساعدة على طريقة القوم وإلا فالتحقيق ما أشرنا إليه من أن لولا
يدل إلا على أن الجزاء الممتنع كان لازم الحصول على تقدير
حصول الشرط الممتنع من غير اختصاص له بكون الأول سببا للثاني
أو
بالعكس فإن المفهوم من قول القائل لو جاءني زيد لأكرمته أن الاكرام
الممتنع كان لازم الحصول على تقدير حصول المجئ الممتنع و
ظهورها في سببية الأول للثاني في مثل ذلك سببية تعيينية إنما هو
بواسطة الاطلاق وخصوصية المورد هذا وأما ما اختاره الحاجبي
من أنها لامتناع الأول لامتناع الثاني فهو بظاهره واضح الفساد للقطع
بأن قولك لو جاءني زيد لأكرمته ليس لإفادة أن المجئ امتنع
لامتناع الاكرام أو الاستدلال على امتناع المجئ بامتناع الاكرام كيف و
المجئ سبب الاكرام فعدمه مقدم على عدمه فيمتنع أن يستند
إليه والاستدلال به إنما يصح حيث يعلم عدم الاكرام أو يبرهن عليه و
كثيرا ما يأتي بالكلام المذكور مجردا عن
البيان حيث لا علم بطرفي التعليق أو بالجواب ولو اكتفي في بيانه
بوقوعه في الجملة الشرطية فعدم الشرط واقع فيها أيضا فلا حاجة
إلى الاستدلال عليه بما يساويه في المعلومية وقد يوجه كلامه بأن
قوله هي لامتناع الأول لامتناع الثاني معناه ليدل انتفاء الجزاء على
انتفاء الشرط وهو مع كونه خروجا عن ظاهر كلامه غير مصحح له
لظهور عدم استقامة الدعوى على إطلاقها بل في أغلب موارد
استعمالها لوضوح أن ليس المقصود بقولك لو جاءني زيد لأكرمته أن
يدل انتفاء الجزاء على انتفاء الشرط وأما ما استشهد به من الآية
فقد التزم التفتازاني بما أورده فيها وأجاب بأنها واردة على مصطلح
أرباب المعقول في أدوات الشرط فإنها عندهم لمجرد التلازم
فتدل على لزوم الجزاء للشرط من غير قصد إلى القطع بانتفائهما ولهذا
صح عندهم استثناء عين المقدم لاثبات عين التالي فهي
تستعمل عندهم للدلالة على أن العلم بانتفاء الثاني علة للعلم بانتفاء
الأول ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء اللازم من غير التفات إلى
أن علة انتفاء الجزاء في الخارج ما هي ثم قال لكن الاستعمال على
قاعدة اللغة هو الشائع المستفيض وتبعه في ذلك بعض المعاصرين
أقول ليس لأرباب المعقول في أدوات الشرط من حيث إفادتها للتعليق
اصطلاح جديد بل استعمالاتهم لها باعتباره جارية على حسب
أوضاعها الأصلية نعم كثيرا ما يأتون بإذا لغير الشرط والجزاء
المعلومين وبلو لغير الشرط والجزاء الممتنعين وهذا أيضا شائع في
عرف غيرهم كالفقهاء وبالجملة فهم من حيث التعليق لا يقصدون بها
إلا تعليق الجزاء على الشرط كما هو مدلولها في الأصل فهم
يريدون بقولهم لو كانت الشمس طالعة فالنهار موجود أن وجود النهار
لازم لطلوع الشمس فيستدلون بعدم الثاني على عدم الأول و
بوجود الأول على وجود الثاني وليس غرضهم أن العلم بوجود النهار
يستلزم العلم بطلوع الشمس كما يتوهم لوضوح أن لا ملازمة بين
العلمين إذ كثيرا ما يعلم وجود المقدم أو عدم التالي وينكر وجود
التالي أو عدم المقدم لعدم العلم باللزوم ولهذا تمس الحاجة إلى
إثبات الملازمة فكيف يستقيم اعتبار التعليق بين العلمين
وأما كون الغرض الداعي إلى إيرادها الاستدلال بها فليس فيه ما
يوجب الخروج عن معناها الأصلي لان الواضع لم يعتبر في وضعها أن
لا يكون الغرض من إيرادها ذلك كما في القضايا الحملية التي تؤخذ
في الأقيسة فإن المقصود من إيرادها فيها الاستدلال بها على
نتائجها ولا يوجب ذلك خروجها عن معانيها الأصلية والسر فيه أن
ذلك من المقاصد المتعلقة بمعانيها من غير أن يستعمل لفظها فيها
فظهر أن كون الآية مسوقة لاثبات امتناع الشرط وهو تعدد الالهة
لامتناع الجزاء وهو الفساد لا ينافي كون لو فيها مستعملة في معناها
الأصلي من الدلالة على أن الجزاء الممتنع لازم الحصول لوجود
الشرط الممتنع كيف وعليه مبنى ما أريد إفادته بالآية فاستعمالها فيها
موافق لوضعها الأصلي في إفادة التعليق والامتناع واستعمالها في مثل
هذا المقام شائع لغة وعرفا تقول في رد من قال لك زيد غني أنه
لو كان غنيا لما صنع كذا وفي رد من قال عمرو في البلد أنه لو كان في
البلد لجأ إلينا إلى غير ذلك واعلم أن لو قد تخرج عن موردها
الأصلي فيؤتى بها تارة حيث لا يمتنع الشرط والجزاء وقد مر وأخرى
حيث لا يمتنع الجزاء فقط وذلك حيثما يكون الشرط في الظاهر
مقتضيا لنقيض الجزاء فوقوعه جزاء يفيد دوام حصوله نحو نعم العبد
صهيب لو لم يخف الله لم يعصه فإن عدم العصيان إذا كان لازما
على تقدير عدم الخوف فعلى تقدير الخوف يكون ثابتا بطريق أولى
فيلزم منه دوام عدم العصيان واستمراره وليس ذلك مستفادا من
استعمال لو فيه على ما يظهر من التفتازاني إذ ليس معنى لو فيه إلا
التقدير وأما ما يقال من أن لو فيها جارية على أصلها وأن المنفي
في الجزاء ليس عدم العصيان المطلق بل المقيد منه بعدم الخوف
فكما أن عدم الخوف ممتنع كذلك عدم العصيان المقيد به ممتنع
فضعيف لان الجزاء المقيد بالشرط مطلق وليس في اللفظ ما
149

يوجب تقييده مع ما فيه من البعد وقد التزم به الحاجبي حيث يكون
الجزاء مثبتا لأنه حينئذ لا يقتضي العموم كما في قولك لو أهنتني
لأكرمتك بخلاف المنفي كما في المثال المذكور ويضعفه أن الجزاء
المنفي كما يقتضي العموم وتخصيصه خروج عن الظاهر كذلك
الجزاء المثبت يقتضي الاطلاق وتقييده خروج عن الظاهر إذ ليس
التقييد بنفس التقييد الذي اشتمل عليه الشرطية وإلا لزم تقدمه على
نفسه بل بتقييد آخر يقدر اعتباره ولا يعارضه لزوم التجوز في لو لما
فيه من البعد عن مظان الاستعمال بخلاف التجوز فيها وما يقال
من أن التقييد أو التخصيص خير من المجاز فليس على إطلاقه ثم اعلم
أن النفي في المفهوم يتعلق بعين ما تعلق به الاثبات في المنطوق و
بالعكس فيفيد عموم السلب حيث يتعلق الاثبات بالجنس أو الفرد
المنتشر وسلب العموم حيث يتعلق الاثبات بالجميع وكذا إذا تعلق
بالجنس باعتبار فرد لا بشرط سواء كان معينا في الواقع أو لا ويفيد
عموم الاثبات حيث يتعلق النفي بالكل وفي غير ذلك لا يفيده هذا
ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول للقوم في المقام تمسكات والذي يصلح
منها للذكر أمور منها ما تمسك به العلامة من أن الشرط ليس علة
لوجود الجزاء ولا مستلزما له فلو لم يستلزم عدمه العدم لخروج عن
كونه شرطا وإلا لجاز أن يكون كل شئ شرطا لكل شئ هذا
كلامه ولا يخفى أنه لو خلط بين الشرط بالمعنى المبحوث عنه في
المقام وبين الشرط بالمعنى الذي سبق في بحث المقدمة وقد عرفت
أن الشرط المبحوث عنه هنا يستلزم وجوده وجود الجزاء لامتناع
وجود الملزوم بدون اللازم وهذا ظاهر لا سترة عليه ومنها ما
تمسك به في المعالم من أن قولنا إن جاءك زيد فأكرمه يجري في
العرف مجرى قولنا الشرط في إكرامه مجيئه والمتبادر منه انتفاء
الاكرام عند انتفاء المجئ فيكون الأول أيضا كذلك وأورد عليه بعض
المعاصرين بأن المتبادر من أدوات الشرط هو سببية الشرط
دون شرطيته سواء فسرت بالمعنى المقابل للسبب أو بما يتناوله
فتفسيرها بالشرط ناشئ عن الخلط بين المعنيين هذا محصل كلامه و
جوابه أن لفظ الشرط كما يطلق على المعنيين المذكورين كذلك يطلق
على السبب والعلة كما نص
عليه بعضهم فيمكن حمله عليه في كلامه دفعا للخلط المذكور نعم
يتجه على ما حققناه أن يقال إن كان المقصود إثبات الدلالة والتبادر
في المقامين باعتبار الاطلاق فمسلم وإلا فممنوع على ما مر ومنه
يظهر ضعف التبادر المدعى في الايراد أيضا لكن يبقى في الدليل
المذكور شئ وهو أنه يجوز أن يكون ما ذكره في قوله الشرط في
إكرامه مجيئه مستفادا من حمل المجئ على الشرط حيث إنه يفيد
الحصر لما سيأتي من أنه لولاه للزم الاخبار بالخاص عن العام وظاهر
أن هذه النكتة غير متحققة عند التعبير بأدوات الشرط فلا يلزم
أن يساويه في الدلالة فالأظهر أن يقال إنه يجري مجرى قولنا مجئ
زيد شرط في وجوب إكرامه فإن المفهوم منه أيضا ما ذكره على ما
يشهد به الاعتبار الصحيح ومنها أنه لو لم يكن مفاد التعليق ذلك لكان
لغوا ويمتنع على الحكيم وأورد بعض المعاصرين في دفعه أن
ذلك إنما يقتضي فائدة ما دون خصوصية هذه الفائدة وأصالة عدم
غيرها لا ينتفي احتماله مع أن الغالب وجوده مضافا إلى أن هذا لا
يناسب القول بالحجية ولا يوافق القول بالدلالة اللفظية على ما هو
المعهود من القائلين بالحجية كما يظهر من استنادهم إلى التبادر و
فهم أهل اللسان ذلك منه في بعض الموارد مع أن المقصود في مثل
المقام إثبات الحقيقة ليصح التمسك به عند عدم قيام دليل على
الخلاف ولو كان المقصود إثبات الدلالة باعتبار العقل لم يكن لذلك
اختصاص بمفهوم الشرط ولا بالمفاهيم ولا يقتضي تأصيل أصل
مستقل له على أن الفائدة إنما تثبت حينئذ إذا لم يظهر للشرط فائدة
أخرى ومع ذلك يرجع النزاع حينئذ إلى تجويز اللغو على الحكيم و
عدمه لو وجد مثل هذا الفرض وهو مما لا يقبل النزاع ودعوى أن
اللفظ إذا لم يتصور له إلا فائدة معينة فالاستقراء يقتضي أن يكون
موضوعا بإزائها ممنوعة غاية الامر أن تكون مرادة منه أما كونه
موضوعا لها فلا وما قيل من أن مفهوم الشرط إنما يكون حجة إذا لم
يظهر له فائدة أخرى ظهورا مساويا أو أزيد فمدفوع بأن ذلك لا يثبت
الدلالة اللفظية أما العقلية الناشئة من القرائن الخارجية فالظاهر
أن أحدا لا ينكر ذلك لكنه لا يوجب ثبوت
قاعدة كلية تخص المقام كما هو شأن قواعد الفن فالذي يناسبها حينئذ
إثبات أظهريتها إلا أنها إذا كانت أظهر كانت حجة هذا ملخص
كلامه ومواضع النظر فيه غير خفية نعم يتجه على الدليل ما أورده أولا
من أن الفائدة في التعليق لا تنحصر في إفادة المفهوم فالأولى أن
يضاف إلى ذلك دعوى ظهور الفائدة المذكورة في التعليق من بين
الفوائد المحتملة في التعليق حيث لا شاهد على التعيين فيتم
الاحتجاج
فإن حجية ظواهر الألفاظ مما لا يدانيه وصمة الريب ولا يعتريه أثر
الشك وإن لم يستند إلى نفس الوضع فيناسب القول بالحجية و
يوافق الدلالة اللفظية ويلائم تأصيل قاعدة كلية كما في المقام بقرينة
الحكمة وليس مرجع النزاع حينئذ إلى جواز صدور اللغو عن
الحكيم وعدمه فإن النزاع في الحكم لا يستلزم النزاع في مدركه
لامكان الغفلة عنه أو عن دلالته عليه وقد يتخيل أن هذا الدليل على
تقدير صحته يدل على نفي الجزاء عند انتفاء الشرط مطلقا إذ كما أن
إلغاء الاشتراط يحصل على تقدير موافقة المسكوت عنه بجميع
أفراده للمنطوق كذلك يحصل على تقدير الموافقة في الجملة بالنسبة
إلى البعض الموافق وضعفه ظاهر إذ يكفي في صون الاشتراط عن
الالغاء مخالفة المسكوت عنه للمنطوق في الجملة فإن الفائدة
المترتبة على القيد يعتبر بالقياس إلى عدم القيد لا بالقياس إلى قيد
آخر و
منها الاخبار منها ما رواه عبيد بن زرارة قال سألت الصادق عليه السلام
عن قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه قال ما أبينها من
شهد منكم الشهر فليصمه ومن سافر فلا يصمه يعني فلا يجب عليه
صومه كما هو قضية الانتفاء عند انتفاء الشرط فالتعبير عنه بصيغة
النهي توسع وهو في مثل المقام متداول ويمكن إبقاؤه على ظاهره
فيكون تفسيرا للمفهوم مع ملاحظة ما ثبت في الشرع من حرمة
التشريع وأيضا عنه عليه السلام في تفسير قوله تعالى فمن
150

في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه قال فلو سكت لم يبق
أحد إلا بتعجل لكنه قال ومن تأخر فلا إثم عليه وقد يستدل برواية
حسن بن ديان قال سألته عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجت بالمتعة أ
تحل لزوجها الأول قال لا يحل له حتى تنكح زوجا غيره لأنه
تعالى يقول فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما
حدود الله والمتعة ليس فيها طلاق ولا دلالة فيها على اعتبار
المفهوم لجواز أن يكون المقصود أن ذكر الطلاق عقيب النكاح مسندا
إلى الزوج قرينة واضحة على أن النكاح المحلل هو الدوام دون
المتعة وبما في صحيحة جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال
له رجل جعلت فداك أن الله تعالى قال ادعوني أستجب لكم وإنا
ندعو فلا يستجاب لنا فقال إنكم لا توفون بعهده فإنه تعالى يقول أوفوا
بعهدي أوف بعهدكم والله لو وفيتم لله سبحانه لوفي لكم ولا
دلالة فيها على ذلك أيضا فإن المستفاد منها أن ما وعد الله به عباده
من إجابة دعائهم مقيد بصورة وفائهم بعهده فلا وعد بالإجابة على
تقدير عدم الوفاء به وهذا المعنى يستفاد من ضم أحد المنطوقين إلى
الاخر من غير حاجة إلى اعتبار المفهوم وقد يستدل أيضا
بروايات أخر مما لا دلالة لها على ذلك تركنا التعرض لها مخافة
الاطناب واحتج من أثبت الدلالة المذكورة بطريق التضمن أنه لا
ملازمة
عقلا ولا عرفا بين ثبوت شئ عند ثبوت شئ آخر كما هو مفاد
المنطوق وبين انتفائه عند انتفائه كما هو مفاد المفهوم وقد ثبت
بالتبادر وغيره دلالة الشرط على كل من الامرين فيتعين أن يكون
موضوعا للدلالة عليهما فيكون دلالته على كل منهما بالتضمن و
الجواب أن مفاد الشرط في المنطوق ليس مجرد ثبوت شئ عند
ثبوت شئ آخر بل تعليق ثبوت شئ على ثبوت شئ آخر فيستلزم
الانتفاء عند الانتفاء عقلا وعرفا مع أن التعليق بالشرط لو دل على نفي
الحكم عند انتفاء الشرط بالتضمن لكان دلالته عليه بالمنطوق لا
بالمفهوم وهو مجمع على فساده ولجاز إلغاء المنطوق واعتبار
المفهوم خاصة عند قيام القرينة كما يجوز العكس لتساوي نسبة
الجزئية إليهما وبطلانه واضح حجة المخالف أمران الأول أن أدوات
الشرط إنما يقتضي
شرطية الشرط ولا يلزم من انتفائه المشروط لجواز قيام شرط آخر
مقامه الثاني لو كان انتفاء الشرط مقتضيا لانتفاء ما علق عليه
لكان قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا
مقتضيا لعدم تحريم الاكراه على تقدير عدم إرادتهن التحصين وإنه
باطل بالاتفاق وأجيب عن الأول بأنه إن علم وجود ما يقوم مقامه لم
يكن ذلك الشرط وحده شرطا بل الشرط حينئذ مفهوم أحدهما و
هو لا ينتفى إلا بانتفائهما وإن لم يعلم له بدل كما هو مفروض البحث
اختص الحكم به ولزم من عدمه عدمه وفيه نظر لان الشرط على
تقدير العلم بما يقوم مقامه هو ما صدق عليه مفهوم أحدهما لا نفس
هذا المفهوم ضرورة أن شرط الصلاة مثلا فعل الوضوء أو الغسل و
شرط قبول شهادة العدل انضمام شهادة عدل آخر أو امرأتين أو يمين
إليه إلى غير ذلك دون مفهوم أحدهما أعني هذا المعنى
الاعتباري الذي هو من المعقولات الثانية وقد مر في بحث الواجب
المخير ما ينبه على ذلك بل الجواب ما أشرنا إليه سابقا من أن
المتبادر من اعتبار شئ شرطا عند الاطلاق أن يكون شرطا على
التعيين وهذا الظهور لا يختص بالمقام أ لا ترى أن المتبادر من
قولك هذا واجب أو مندوب أنه كذلك على التعيين مع أن الكل
حقيقة في البدل أيضا على ما هو التحقيق هذا إذا أريد المنع من إطلاق
المفهوم وإن أريد المنع منه مطلقا فالجواب عنه واضح إذ لا خفاء في
أن زوال الشرط يستلزم زوال المشروط في الجملة وعن الثاني
بوجوه مرجعها إلى وجهين الأول أن قضية الشرط عدم تحريم الاكراه
على تقدير عدم إرادتهن التحصن وهو لا يستلزم الإباحة لانتفاء
الموضوع الذي هو محل الحلم لأنهن إذا لم يردن التحصن وهو
التعفف فقد أردن البغاء وعلى تقدير إرادتهن له يمتنع إكراههن عليه لا
يقال لا نسلم الملازمة لجواز أن يغفلن فلا يردن شيئا منهما لأنا نقول
الاكراه يستلزم التنبيه المستلزم لاحد الامرين الثاني أن المقصود
ظهور التعليق بالشرط في انتفاء الحكم عند انتفائه وذلك لا ينافي قيام
قرينة على عدم إرادته كما في المقام حيث قام الاجماع فيه على
تحريم الاكراه
مطلقا وأما النكتة في التعبير عنه بلفظ التعليق فلعلها الحث على
الانتهاء على الاكراه يعني أنهن إذا أردن العفة مع قصورهن فالموالي
أحق بإرادتها أو أن الآية نزلت فيمن أكره فتياته على البغاء وهن يردن
التحصن أو نحو ذلك
فصل لا كلام في أن تقييد الحكم بالوصف إنما يقتضي ثبوت الحكم
في محل الوصف
دون غيره في غير مقام الأولوية حتى إنه يصح أن يتمسك في نفيه عنه
بالأصل إن كان مخالفا له وإنما الكلام في أنه هل يقتضي انتفاءه
عند انتفائه وهو المعبر عنه بمفهوم الوصف أو لا فأثبته جماعة وعزي
ذلك إلى ظاهر الشيخ وحكي عن الشهيد أنه جنح إليه في
الذكرى ونفاه جماعة وهو المنقول عن السيد والمحقق والعلامة و
فصل شاذ من أهل الخلاف فأثبته في صور ثلاث هي ما إذا كان ذكر
الوصف للبيان أو التعليم أو كان ما ليس له الصفة داخلا فيما له الصفة
كما لو قال احكم بشاهدين والشاهد الواحد داخل فيه فيدل على
عدم الحكم به ونفاه فيما عداها وهو مع شذوذه ضعيف لا ينبغي أن
يلتفت إليه ولنحرر أولا محل البحث فنقول الظاهر من كلمات
القوم اختصاص النزاع في المقام بالوصف الصريح لكن بعض
المعاصرين أدرج فيه غير الصريح وكأنه ينظر إلى ما حكي عن أبي
عبيدة في حديث امتلأ البطن بالشعر كما يظهر من تمثيله وهو لا
يقتضي مطلوبه ثم الظاهر أنه لا فارق في المقام بين أن يكون
الموصوف مذكورا كقولك أكرم الرجل العالم أو لا كقولك أكرم العالم
كما يرشد إليه احتجاجهم بمقالة أبي عبيدة وإن كان ظاهر
احتجاجهم بلزوم العراء عن الفائدة إنما يساعد على الأول وقد اقتصر
بعضهم في تحرير محل النزاع عليه نعم يعتبر أن يكون الوصف
أخص من الموصوف وجودا ولو من وجه إذ لو ساواه لم يبق مورد
للمفهوم وكذا إذا كان أعم على ما يظهر من أمثلتهم على إشكال فيه
وفي سابقه لاحتمال أن لا يساعد عليه بعض القائلين بالثبوت فيلتزم
في مثل قولك أشتهي العسل الحلو أنه يدل بمفهومه على عدم
اشتهاه الرمان الحامض كما قال بعضهم إن قولنا في الغنم السائمة زكاة
يدل على عدم الزكاة في معلوفه غير الغنم أيضا إذا تقرر هذا
فالحق عندي أن التقييد بالوصف
151

لا إشعار فيه في نفسه بانتفاء الحكم من غير محله نعم كثيرا ما يفيد
ذلك لمعاضد خارجي من قرينة مقال أو شهادة حال فيتجه التعويل
عليه حينئذ كما لو وقع التقييد به في جواب من سأل عن مطلق
الموصوف كما لو قال السائل هل في الغنم زكاة فأجاب بأن في
السائمة
منها زكاة واقتصر عليه فإنه يدل على نفيه عن غيرها ونحو ذلك و
حيث إن مثل ذلك خارج عن محل البحث فالمختار إذن ما ذهب إليه
النافون لنا أنه لو اقتضاه لكان بإحدى الثلاث لظهور أنه لا يقتضيه معنى
باتفاق المثبتين بدليل أنهم يجعلونه من المفهوم الذي هو من
أقسام الدلالة اللفظية وهي منفية أما بالنسبة إلى المطابقة والتضمن
فظاهر مع أنه لو كان كذلك لكانت الدلالة بالمنطوق على ما مر لا
بالمفهوم وهو متفق على فساده وأما بالنسبة إلى الالتزام فلعدم ظهور
اللزوم بينهما لا عقلا ولا عرفا ولنا أيضا القطع بأن قول القائل
اشتر لي عبدا حبشيا لا يدل على عدم أمره بشراء عبد رومي أيضا و
قوله جئني برمانة حامضة لا يدل على عدم أمره بإتيان رمانة حلوة
أيضا وقوله اشتر لي معزا أبيض لا يدل على عدم أمره بشراء معز أسود
أيضا إلى غير ذلك مما لا حصر له احتج الخصم بأنه لو ثبت
الحكم مع الوصف وبدونه لعري التقييد به عن الفائدة ولكان بمنزلة
قولك الانسان الأبيض لا يعلم الغيب والأسود إذا نام لا يبصر و
بأن أبا عبيد أو أبا عبيدة قال في قوله صلى الله عليه وآله لي الواجد
يحل عقوبته وعرضه أنه يدل على أن لي غير الواجد لا يحل عقوبته
وعرضه وقال في قوله صلى الله عليه وآله مطل الغني ظلم أنه يدل
على أن مطل غير الغني ليس بظلم ورد من حمل الشعر في قوله لئن
يمتلئ بطن الرجل قيحا خير من أن يمتلئ شعرا على مطلق الهجاء أو
هجأ الرسول بأنه لو كان كذلك لم يكن لذكر الامتلا معنى إذ قليله
وكثيره سواء فأثبت المفهوم لما هو في تقدير الصفة حيث إن الامتلا
من الشعر في قوة الشعر الكثير فكيف إذا صرح به وهو من أهل
اللسان بل من أئمة اللغة فيجب التعويل على قوله مع أن قوله معتضد
بموافقة جماعة من العارفين باللغة له والمسألة لغوية يكتفي فيها
بنقل الواحد فكيف إذا تعددوا والجواب أما عن الأول فبمنع الملازمة
في المقامين أما في الأول فلان الفائدة لا تنحصر فيما
ذكر لا وضعا ولا ظهورا بل كما يؤتى بالوصف لذلك كذلك يؤتى به
للاهتمام ببيان حكم محل الوصف كما في قوله تعالى وحافظوا
على الصلوات والصلاة الوسطى أو لاحتياج السامع إليه أو لدفع توهم
عدم تناول الحكم له أو لعلم المخاطب بحكم غير محل الوصف إما
لوضوحه أو لسبق بيان أو لعدم المصلحة في بيان حكم غير محل
الوصف أو للكشف عما أريد بالموصوف والتوضيح له حتى إنه حكي
عن الأخفش أن وضع الصفة للتوضيح فقط وهذا بظاهره وإن لم يكن
مرضيا عندنا إذ لا نلتزم باختصاصه بالتوضيح لعدم مساعدة
العرف عليه مع ما في احتمال النقل من البعد الموجب لعدم الاعتماد
على مقالة مدعيه سيما في موضع الخلاف إلا أنه يشتمل على ما هو
المقصود من عدم اختصاصه بما يراه الخصم وأما في الثاني فلان منشأ
استهجان الوصفين في المثالين عراؤهما فيهما عن الفائدة حتى
إنه لو قدر لهما فائدة بحيث يعتد بها الطبع منعناه وأما ما أجاب به
بعض المعاصرين من أن الاستهجان هناك إنما هو لوضوح أصل
الحكم فليس على ما ينبغي لان الحكم المذكور كثيرا ما يؤتى به مجردا
عن الوصف في مواضع يليق بها من غير استهجان وأما عن الثاني
فبأن فهمه ذلك في الأمثلة المذكورة لا يوجب أن يكون مستندا إلى
ظهوره مطلق التقييد بالوصف فيه بل يجوز أن يكون مستندا إلى
ظهوره في خصوص تلك الموارد فإنا لا نتحاشى عن إفادته ذلك في
بعض الموارد إذا كان أظهر فوائده وأجلاها سلمنا لكن المسألة
اجتهادية وليس وظيفتنا التعويل فيها على اجتهاد الغير مع تمكننا من
الاجتهاد بمراجعة العرف إذ دعوى حصول النقل فيه مع ما فيها من
البعد مما لم يصدر عن أحد على أن النقل المذكور مخالف لما نقل عن
الأخفش من اختصاصه بالتوضيح فيتعارضان ويتساقطان وما
زعمه بعض المعاصرين من أن ما نقل عن الأخفش يعارض ما نقل عن
أبي عبيدة ولما نجده في أفهامنا من ظهوره في التقييد والاحتراز
فيتساقطان ويثبت المقصود من عدم الدلالة فليس بشئ إذ يكفي في
سقوط قول الأخفش معارضته لقول أبي عبيدة لأنه أيضا من أئمة
اللغة فيبقى
ما نجده من الظهور على تقدير ثبوته سالما من المعارض ثم لو سلم أن
النقل المذكور عن الأخفش غير ثابت كما ادعاه بعضهم فقول
غيره من المعتنين باللغة والعرف بعدم الدلالة ثابت فيصلح للمعارضة
ورجحان قول المثبت على النافي في مثل المقام يدور مدار الظن
وليس على الاطلاق ولا ريب أن مساعدة العرف على النفي يؤيده و
يقويه بما لا يصلح ذلك لمعارضته واعلم أنه قد اشتهر بينهم أن
تعليق الحكم على الوصف يشعر بعلية المبدأ فلو رام الخصم أن
يتمسك به على دعواه بعد توجيهه بما ذكرناه في مفهوم الشرط كأن
يقول إذا ثبت أن التعليق عليه ظاهر في علية المبدأ وهي ظاهرة في
العلة التعيينية كان اللازم منه عدم الحكم عند عدم الوصف لامتناع
المعلول بدون العلة لدفعناه أولا بأن إشعار التعليق بالعلية غير مطرد
بل في بعض الموارد فإن قولك اشتريت عبدا أسود واشتر لي
عبدا أسود مما لا دلالة له على أن علة وقوع الشراء أو الامر به سواده
إلى غير ذلك وثانيا بأن الظواهر العرفية الثابتة في بعض الموارد
ليست بحيث يلزم اطرادها في جميع الموارد والمقامات بل قد
تتخلف فالعلية المستفادة من التقييد بالوصف على تقدير إشعاره بها لا
ظهور لها في العلية التعيينية بل العلية في الجملة
تذنيب لو قلنا بمفهوم الوصف
فهل نجعله على خلاف المنطوق في الكلية والجزئية أو لا وجهان
ذهب بعضهم إلى الأول حيث قال قولنا كل غنم سائمة فيها الزكاة
مفهومه ليس كل غنم معلوفة كذلك وهو في قوة السلب الجزئي و
قولنا بعض السائمة فيها الزكاة مفهومه لا شئ من المعلوفة كذلك و
ذهب بعضهم إلى الثاني حيث قال مفهوم قولنا كل حيوان مأكول اللحم
يتوضأ من سؤره ويشرب منه أنه لا شئ مما لا يؤكل لحمه كذلك
وكان
152

الأقرب هو الأول وحيث أبطلنا أصل الدلالة فالبحث في تعيين
أحدهما مما ليس فيه كثير فائدة
فصل اختلفوا في أن التقييد بالغاية هل يقتضي مخالفة ما بعدها لما
قبلها أو لا
فذهب الأكثرون إلى الأول وجماعة إلى الثاني والمراد بالغاية هنا غير
الغاية في قول النحاة إلى لانتهاء الغاية فإن المراد بها هناك
المسافة على ما صرح به بعضهم وهو الموافق لكلام نجم الأئمة وغير
الغاية في قولهم هل يدخل الغاية في المغيا أو لا فإن المراد بالغاية
هناك ما دخلت عليه أداة الغاية كالكوفة في قولك سرت إلى الكوفة و
الليل في قولك صمت إلى الليل ووجه تسميته غاية كونه نهاية إما
ببداية أو بنهاية على الخلاف المذكور ويمكن أن يحمل الغاية في
قولهم إلى لانتهاء الغاية على هذا المعنى بأن يكون المعنى أنها لإفادة
كون الغاية أي مدخولها غاية ونهاية وإنما المراد بها هنا النهاية وهي
عند التحقيق أمر اعتباري ينتزع من المغيا من حيث ينقطع
استمراره فهي في قولك صم إلى الليل أمر اعتباري بين الصوم والليل
بناء على خروج الغاية إن قيس إليه الصوم كان متقدما عليه وإن
قيس إليه الليل كان متأخرا عنه نظيره السطح المشترك بين الجسمين
فدخل ما بعد الأداة في محل النزاع على القول بعدم دخول الغاية
في المغيا أو عند قيام قرينة عليه إذ يصدق عليه حينئذ أنه ما بعد
الغاية بالمعنى المذكور ويخرج عنه على القول الاخر أو إذا قام قرينة
زائد على خروجه ويدخل فيه ما بعده وحمل الغاية في المقام على
المعنى الثاني غير سديد لأنه يوجب خروج ما بعد الأداة عن محل
النزاع مع أن النزاع متوجه إليه أيضا بناء على عدم الدخول ولو لقيام
قرينة عليه كما يشهد به حجتهم فما يظهر من بعض المعاصرين
من أن النزاع هنا فيما بعد الغاية كما بعد الليل في مثل صم إلى الليل و
نزاع النحاة في نفس الغاية كالليل في المثال فتوهم بعيد يتضح
ضعفه مما قررنا وكذا ما يتوهم من أن المراد بما بعد الغاية هنا هو
المذكور بعد الأداة فقط كالليل في المثال المذكور فيكون المراد
بالغاية أداتها لعدم جريان النزاع حينئذ على القول بدخول الغاية وكذا
ما ذكره العضدي من أن الكلام في الاخر يعنى الغاية نفسه لا فيما
بعده ففي قوله إلى المرافق المرافق آخر وليس النزاع في دخول ما بعد
المرافق فإنه ناش عن الخلط بين المعنيين
بل بين النزاعين كما يظهر من آخر كلامه فإن النحاة يبحثون عن محل
النهاية لا عما بعدها والبحث هنا عما بعدها لا عن محلها كيف و
البحث عن المحل ليس بحثا عن المفهوم بل عن المنطوق وتحقيق
المقام وتوضيحه أنهم تنازعوا فيما يتقيد بالغاية في مقامين الأول في
أن الغاية أعني ما دخلت عليه أداة الغاية كإلى وحتى هل هي داخلة
في المغيا يعني في حكمه المذكور مطلقا فيكون مفاد قولنا صمت إلى
الليل وقرأت القرآن إلى سورة كذا دخول الليل فيما حكم بصومه و
السورة المذكورة فيما حكم بقراءته أو لا مطلقا فيكون المراد فيما
مر وقوع الصوم فيما قبل الليل والقرأة فيما قبل تلك السورة من غير
دلالة على ثبوتهما فيهما أو يفصل بين الغاية المدلول عليها بإلى
والمدلول عليها بحتى فيختار الأول في الأول والثاني في الثاني أو بين
ما إذا اختلف الغاية والمغيا جنسا كما في المثال الأول وبين ما
إذا اتحدا فيه كما في المثال الثاني فيختار الثاني في الأول والأول في
الثاني أو يتوقف لتعارض الاستعمال أقوال أظهرها القول الثاني
من أنها لا تقتضي الدخول مطلقا بدليل التبادر وصحة السلب فإن
السير في الكوفة ليس سيرا إلى الكوفة قطعا وكذلك الصوم في الليل
ليس صوما إلى الليل قطعا وتبادر الدخول في مثل قولك قرأت
الكتاب من أوله إلى آخره واشتريت الثوب من هذا الطرف إلى هذا
الطرف بناء على تفسير الاخر والطرف فيهما بالجز الأخير فبواسطة
القرينة وهي شهرة استعمالها في مثل ذلك لإفادة الاستيعاب و
لو فسرا بالنهاية كما هو الظاهر فلا إشكال وكذلك حتى إذا كانت
بمعنى إلى كما في قوله تعالى حتى يطهرن حتى تفئ إلى أمر الله
حتى يرجع إلينا موسى حتى أتاهم نصرنا إلى غير ذلك والظاهر أن كل
فرقة من الفرق الباقية غير المتوقفة يتمسك على مذهبه بأمثلة
تساعد بظاهرها على دعواه ويلتزم بالتأويل فيما عداها وأما مستند
المتوقف فواضح وهو تعارض الاستعمال وحكى بعضهم عن
الفخر الرازي أنه أبطل القول بالتوقف باستلزامه اشتراك اللفظ بين
وجود الشئ وعدمه وأنه غير جائز للزوم خلو الوضع عن الفائدة
وهذا الكلام بظاهره ظاهر الفساد لان التوقف لا يقتضي المصير إلى
الاشتراك بل ينافيه واشتراك
اللفظ بين وجود الشئ وعدمه لا ضير فيه ودعوى انتفاء الفائدة
ممنوعة هذا ثم إن كثيرا منهم تكلموا في مدخول إلى بما عرفت و
سكتوا عن مدخول من الابتدائية مع أنه بمنزلته في دخوله في الحكم
المذكور تارة وخروجه عنه أخرى ففي مثل قولك قرأت القرآن من
أوله إلى آخره ظاهر في الدخول وفي مثل قولك اشتريت من دار زيد
إلى دار عمرو ظاهر في عدم الدخول والحق أنها في الأصل لا
يقتضي الدخول وقد تستعمل فيه مجازا كما مر فإن السير في البصرة
ليس سيرا من البصرة قطعا والثاني فيما هو المتداول في كتب
الأصول من أن التقييد بالغاية أي النهاية هل يقتضي مخالفة ما بعدها
لما قبلها أو لا ولا فرق في هذا النزاع بين القول بدخول الغاية في
المغيا وعدمه كما عرفت ولنحرر أولا محل النزاع فاعلم أن النزاع
يتصور هنا في مقامين الأول أن التقييد بالغاية هل يقتضي مخالفة ما
بعدها لما قبلها مطلقا بحيث يكون المفهوم من قولنا صم إلى الليل أنه
لا أمر بالصيام بعدها مطلقا ولو بأمر آخر ولا يقتضي ذلك الثاني
أن التقييد بها هل يقتضي المخالفة بالنسبة إلى الحكم المذكور بحيث
يكون المفهوم في المثال المذكور انقطاع الصوم المأمور به بذلك
الامر عند مجئ الليل أو لا يقتضي ذلك حتى إنه يجوز أن يكون
الصوم المطلوب بذلك الخطاب مستمرا بعد الليل أيضا من غير شهادة
في اللفظ على خلافه فنقول إن كان النزاع في المقام الأول كما هو
ظاهر
153

بل صريح بعضها فالحق فيه مع من أنكر الدلالة وإن كان في المقام
الثاني فالحق فيه مع من أثبتها قلنا في المقام إذن دعويان نفي
الدلالة في المقام الأول وإثباتها في المقام الثاني لنا على أولهما أن قول
القائل صم إلى الليل إنما يقتضي عرفا ولغة تعلق طلبه بالصوم
المغيا بالليل وظاهر أن هذا لا ينافي تعلق أمره أيضا بصوم الليل إلى
الفجر مثلا بطلب آخر مستقل فإن مرجع الامرين حينئذ إلى طلب
كل من الصومين المحدودين بالغاية المذكورة وهذا كما ترى لا
يستدعي خروجا عما يقتضيه ظاهر الامر ولا عما يقتضيه ظاهر الغاية
وينبغي حمل مبالغة السيد رحمه الله في نفي الفرق بين مفهوم الغاية
ومفهوم الصفة على هذا التقدير كما يرشد إليه ظاهر كلامه ولنا
على الثانية أن المفهوم من قول القائل صم إلى الليل انقطاع الصوم
المأمور به بذلك الخطاب ببلوغ الغاية من أول الليل أو آخره على
الخلاف السابق إذ لو فرض بقاؤه بعدها لم يكن ما فرض غاية غاية إذ
غاية الشئ ما ينتهي عنده الشئ وهو خلاف ظاهر المنطوق و
تحقيق ذلك أن توابع الفعل من متعلقاته وهو قيود لمدلول مادته
فمعنى صم إلى الليل طلب إمساك مقيد بكون نهايته الليل فلو فرض
أن
المطلوب إنما هو إمساك ما زاد عليه لم يكن الامساك إلى الليل مطلوبا
لنفسه وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ فلا بد حينئذ إما من
حمل الامر على الطلب الغيري وهو عندنا وإن كان حقيقة إلا أنه
خلاف الظاهر من الاطلاق أو حمل الليل على الجز المتأخر عنه أو
معنى
آخر حيث يصح أو ارتكاب التجوز في إلى بحملها على معنى بلوغ
الفعل المطلوب إلى الليل سواء انقطع عنده أو لا وكيف كان فهو
يستدعي مخالفة أصل من تقدير أو تجوز أو خروج عن الظاهر فقول
القائل سر إلى البصرة ومنها إلى الكوفة ومنها إلى مكة إن جعل
كل سير تكليفا برأسه فلا إشكال وإلا تعين فيه أحد الوجوه المذكورة و
أما لو ورد مثل ذلك في الاخبار كما لو قيل سرت إلى البصرة
ومنها إلى الكوفة ومنها إلى مكة فالظاهر أن ذلك أخبار متعددة إذ
ليس المقصود في كل واحد منها الاخبار بمطلق السير بل بجملة
مخصوصة منه تعلق الغرض ببيانها منفردة كالتي [كالمشي] بين
البصرة والكوفة والتي [المشي] بين الكوفة ومكة فيكون اعتبار كل
من الابتداء و
الانتهاء فيها على الحقيقة ولا بد حينئذ من تقدير الفعل وارتكاب
التقييد ولا يلزم التجوز لجواز أن يراد ذلك من غير لفظ الفعل بل
نقول هذا المعنى هو المفهوم في نظائر الخبر المذكور حيث لا تعلق
للغرض فيه غالبا بالاخبار عن مطلق السير بل عن جملة منه ولهذا لا
يفهم من قول القائل سرت إلى البصرة وأقمت بها كذا عدم تجاوز
سيره عنها ومن يرى أن المفهوم منه ذلك فقد لبس على وجدانه هذا
وإنما لم نتعرض للوجه الثاني في مفهوم الوصف مع جريانه فيه لعدم
الجدوى فيه فإن اختصاص وجوب زكاة السائمة بها وعدم تعديه
إلى غيرها مع وضوحه في نفسه مما لا يترتب عليه ثمرة لظهور أنه لا
ينافي وجوبها في غيرها بخطاب آخر وأما في المقام فالثمرة
ثابتة غالبا حيث يعلم عدم تعدد التكليف كما لو ورد أمر بالصوم إلى
سقوط القرص وورد أمر أخبر به إلى سقوط الحمرة فنحكم
بينهما بالتعارض للعلم بعدم تعدد التكليف أو يكون التحديد لأمر لا
تعدد فيه كأوقات الصلاة فيحكم بالتعارض بين ما دل على أن وقت
المغرب يمتد إلى ذهاب الحمرة وبين ما دل على امتداده إلى ثلث
الليل أو نصفه إلى غير ذلك ومن هنا يتبين الوجه في عدم التعرض له
في مفهوم اللقب ونظائره أيضا احتج النافون بمثل ما مر من أنه لو دل
لكانت بإحدى الثلاث وهي منتفية أما المطابقة والتضمن فظاهر
وأما الالتزام فلانتفاء اللزوم هناك عقلا وعرفا وبأنه مستعمل تارة مع
البقاء وأخرى مع الانتفاء فيكون للقدر المشترك لئلا يلزم
المجاز أو الاشتراك والجواب أن النفي إن كان بالنسبة إلى المقام الأول
فمتجه كما مر وإلا فالوجهان مردودان بما ذكرناه آنفا و
سابقا ثم إنهم خصوا البحث في المقام بإلى وما بمعناها مع أن نظيره
آت في من الابتدائية أيضا من أنها هل تقتضي مخالفة ما قبلها لما
بعدها أو لا والحق أنها تقتضي ذلك في المقام الثاني دون الأول و
وجهه ظاهر مما مر
فصل ومن المفاهيم مفهوم الاستثناء
وإنما والحصر أما مفهوم الاستثناء فمما لا كلام في ثبوته في الجملة و
هو من النفي إثبات ومن الاثبات نفي فهو في مثل كل شئ
هالك إلا وجهه ليس وجهه هالكا وفي مثل لا إله إلا الله الله موجود
بناء على تقدير الخبر أو الله إله بناء على عدم الحاجة إلى تقديره كما
عليه كثير من المحققين وإليه ينظر كلام التفتازاني حيث جعل المفهوم
فيه الله إله واعتراض المحشي الشيرازي عليه بأن فيه دلالة على
ذهوله عن كون الخبر فيه عاما مقدرا فيه دلالة على ذهوله عما ذكرناه
من القول بعدم الحاجة إلى تقدير الخبر واكتفي بعض
المعاصرين من ذكر الاستثناء بذكر ما وإلا واستظهر أن تكون الدلالة
فيها بالمنطوق لا بالمفهوم وكأنه ناظر إلى لفظ الحد حيث إن
من له الحكم مذكور وقد عرفت أن حدودهم المذكورة مؤولة أو غير
مستقيمة وأن التحقيق في ذلك أن يتكل على العرف ولا ريب أن
عرفهم إنما يساعد على تسميته مفهوما لا منطوقا حتى إنهم نقلوا
الخلاف في القصر المفهوم من إنما والحصر وأن بعضهم عده منطوقا
ولم نظفر منهم بنقل مثله في المقام وبالجملة فما وقفنا عليه من
كلماتهم متفقة على تسميته مفهوما فعدم مساعدة حدودهم عليه إنما
يوجب القدح فيها لا في تسميته مفهوما وأما مفهوم إنما المكسورة
فقد أنكره بعضهم والمشهور ثبوته وهو المختار فيفيد مع تأكيد
الحكم المذكور نفيه عما عداه ويعتبر تأخر المقصور عليه عن
المقصود غالبا وقد يتقدم إذا كان التقديم مفيدا للحصر كما في قولك
إنما زيد ضرب والمستند على ذلك التبادر واحتجاجهم عليه بأنه لا
فرق بين إنما إلهكم الله وبين لا إله لكم إلا الله راجع إلى ما ذكرناه
إذ المقصود نفي الفرق بينهما باعتبار مؤديهما في العرف فلا يرد عليه
ما أورده العضدي من أن دليلهم هذا تقرير للمدعى بعبارة
أوضح فيتوجه المنع عليه أيضا واحتجوا أيضا بوجوه أخر منها حديث
إنما الأعمال بالنيات وإنما الولا لمن أعتق حيث يتبادر منهما عدم
صحة العمل بلا نية وعدم الولا لغير المعتق وأورد عليه أيضا بأن
الحصر فيهما مفهوم من عموم الأعمال والولا لا من إنما لأنه إذا كان
كل عمل بالنية فلا عمل
154

بدونها وإذا كان كل ولا للمعتق فلا ولا لغيره ولو مشاركا معه وإلا
لزم أن لا يكون له بعض الولا وهو ما لغيره لامتناع قيام عرض
واحد بموضوعين فينثلم الكلية فلئن قيل هذا تغاير بالإضافة لا تغاير
بالوجود أجيب بأنه من قبيل ما يقال ملكية الدار لزيد فإنه ظاهر
في الاستقلال وإن احتمل الشركة وذلك لما عرفت من أن ملكية غيره
ملكية وليست له هذا ملخص كلامه وما أورده على الحديث الثاني
مبني على حمل اللام في الولا على الاستغراق ولا يخفى بعده بل
الصواب أن يجعل فيه للجنس كما هو الظاهر من المفرد المعرف عند
عدم العهد ويوجه الايراد بأن الحصر مستفاد من اللام المفيدة
للاختصاص فإن اختصاص جنس الولا بالمعتق يستلزم أن لا يكون
ولا
لغيره لا استقلالا ولا اشتراكا كما في قولك المال لزيد ومنها أن إن
للاثبات وما للنفي ولا يجوز أن يكون تواردهما على الحكم
المذكور للزوم التناقض ولا لنفي المذكور وإثبات ما عداه للاجماع
على بطلانه فيتعين أن يكون للاثبات بالنسبة إلى المذكور والنفي
بالنسبة إلى ما عداه وهو المقصود ورد بأن إن لا تدخل على الفعل و
أنها تأتي لتأكيد النفي كما تأتي لتأكيد الاثبات وأن ما لا تنفي إلا
ما دخلت عليه وأن إن لا تدخل عليها ومنها أنها متضمنة معنى ما و
إلا لقول المفسرين معنى إنما حرم عليكم الميتة بالنصب ما حرم
عليكم إلا الميتة ولقول النحاة إنما لاثبات ما بعدها ونفي ما عداه و
لأنه يصح انفصال الضمير معها كقولك إنما يقوم أنا مع أن
الانفصال لا يصح على ما صرح به النحاة إلا مع تعذر الاتصال و
حصروا وجوه التعذر في صور كلها منتفية هنا سوى أن يقدر الفصل
لغرض وهو أن المعنى لا يقوم إلا أنا احتج الخصم بأنه لا فرق بين إن
زيدا قائم وبين إنما زيد قائم إلا في اشتمال الثاني على زيادة ما
والزائد بمنزلة المعدوم والجواب المنع من ذلك بل إنما هي كلمة
بحبالها موضوعة لإفادة القصر وأما أنما المفتوحة فقد توهم بعضهم
أنها للقصر أيضا وهو ضعيف بل الحق أنها مركبة من أن وما الزائدة و
ليس مفادها إلا التأكيد بشهادة التبادر وقد نص عليه بعض
المحققين وأما مفهوم الحصر والمراد به القصر
المستفاد من تأخير الموصوف عن الوصف حملا له على الوصف نحو
صديقي زيد والعالم عمرو حيث لا عهد وقد يطلق مفهوم الحصر
على ما يعم الأقسام المذكورة وغيرها فقد اختلفوا في إثباته ونفيه و
ربما يظهر من تمثيلهم بما ذكر اختصاص البحث بالوصف المحلى
باللام والمعرف بالإضافة ومنهم من عمم البحث في تقديم كل ما
حقه التأخير والحق أن حمل الوصف المحلى أو الحمل عليه ظاهر
في
التخصيص مطلقا وأما ما سواه فلا ظهور له فيه على الاطلاق بل
يختلف باختلاف الموارد والمقامات لنا على المقام الأول وجوه منها
التبادر فإن المفهوم من قول القائل زيد الصديق أو الصديق زيد عند
عدم العهد قصر وصف الصداقة على زيد ولا ريب في صحة
التعويل على مثل هذا الظهور ومنها ما زعمه العلامة التفتازاني في
المسند المعرف ومحصله أن اللام إن حملت حينئذ على الاستغراق
فوجه الحصر ظاهر لأنه حينئذ بمنزلة قولنا كل صديق زيد على طريقة
أنت الرجل كل الرجل وإن حملت على الجنس كان مفاد الحمل
حينئذ اتحاد زيد مع جنس الصديق في الخارج لامتناع حمل أحد
المتمايزين في الخارج على الاخر فيلزم أن لا يصدق جنس الصديق
إلا
حيث يصدق زيد وهو المقصود ثم أورد عليه سؤالا حاصله أن ما ذكر
جار في اسم الجنس المنكر المحمول أيضا ولا يفيد القصر وأجاب
عنه بأن المحمول حينئذ ليس نفس الجنس بل فرد من أفراده ثم تنظر
فيه بأن المحمول على ما هو طريقة الحمل نفس المفهوم دون
الفرد فلا يتم الفرق وكلامه هنا [هذا] جيد وبه يظهر فساد تعليله بناء
على الوجه الثاني فالنقض وارد والحل مشترك وهو أن الحمل و
الصدق إنما يستدعيان الاتحاد في الوجود لا في المفهوم كيف و
قضيتهما التغاير فيه ولو بحسب الاعتبار وأما الوجه الأول فقد وافقه
المحقق الشريف عليه وتبعهما فيه بعض المعاصرين ولم نظفر من
غيرهم بكلام فيه ونحن نقول حمل اللام في المثال المذكور على
استغراق الافراد مما لا يساعد عليه الذوق لبعده عن ظاهر المقام و
الاستعمال إذ ليس المفهوم منه أن كل صديق زيد كما زعموه و
كذلك ليس اللام ولا لفظ كل في قولهم أنت الرجل كل الرجل
لاستغراق الافراد إذ ليس المعنى
زيد كل فرد من أفراد الرجل لظهور ما فيه من الاستبشاع مع عدم
مساعدة صوغ الكلام عليه إذ لو أريد ذلك لكان اللازم تنكير الرجل
بل التحقيق أن لفظة كل فيه بمعنى التمام وهي التي يؤتى بها
لاستغراق الابعاض حيث يشتمل مدخولها عليها وذلك لأنه قد
أخذت حقيقة
الرجل فيه مقيدة باعتبار الخارج فاعتبرت من حيث تمام تحققها و
تحصلها فيه بقرينة الإشارة إليها باللام فإن الإشارة يستدعي تعين
المشار إليه ولا تعين للماهية الخارجية عند عدم العهد إلا بهذا
الاعتبار وعلى هذا فقولك أنت الرجل يدل على أن مخاطبك قد
استكمل
هذه الحقيقة الخارجية وحاز تمامها ويلزم منه القصر نظرا إلى أنه إذا
أحاز الكل لم يبق لغيره حظ منها وإلا لم يكن حائزا للكل بل
للبعض وإردافه بكل الرجل تأكيد لهذا المعنى وتصريح به وعلى هذا
القياس قولنا زيد الصديق بدليل صحة تأكيده بكل الصديق من
غير حصول مخالفة في المعنى إلا في الوضوح وهذا وجه ثالث
تحقيقي وبه يظهر سر التبادر المدعى في الوجه الأول ومنها أن
المقصود بالحمل عند تعريف المحمول باللام لو كان مجرد الاتحاد
في الوجود لضاع تعريف المحمول لان هذا المعنى مما يفيده
المحمول المنكر أيضا فلا بد أن يكون المقصود به الاتحاد في الحقيقة
أو المفهوم ولو ادعاء وبالجملة فتعريف المحمول قرينة على أن
المقصود به الحمل الذاتي أعني حمل هو هو دون الحمل المتعارف و
يلزم منه القصر فإن الشئ لا يتجاوز عن نفسه مع الدلالة على أن
الموضوع ليس له حقيقة سوى حقيقة المحمول فيكون فيه من
المبالغة ما لا يخفى ومنها أن المعرف إذا وقع محكوما عليه ولم
ينحصر
في المحكوم به لزم الاخبار بالخاص عن العام والتالي باطل أما
الملازمة فظاهرة إذ التقدير عدم اختصاص الوصف المحكوم به به و
أما بطلان التالي فلان ما يثبت للشئ يثبت الجميع
155

جزئياته فيلزم ثبوت زيد لعمرو وبكر وغيرهما لثبوته للصديق الثابت
لهم وفيه نظر لان ما ذكر في بطلان التالي إنما يتجه إذا
كانت القضية كلية وهي ممنوعة إذ ليس في اللفظ ما يوجبها واحتجاج
بعض المعاصرين عليها بأنه إذا لم يكن نفس حقيقة الجنس لكان
مصداقه وهو ليس بفرد خاص لعدم العهد وعدم فائدة في الحمل
على العهد الذهني فيحمل على الاستغراق مردود بأنا لا نسلم عدم
الفائدة على تقدير الحمل على العهد الذهني إذ مفاده حينئذ اتحاد
المحكوم به يفرد من أفراد المحكوم عليه وكذا إذا حمل على الاهمال
نعم ربما يشكل من جهة التركيب حيث إن العهد الذهني في معنى
النكرة فربما منع الاخبار عنه بالمعرفة الصرفة أو نختار حمل اللام
على الجنس ولا يلزم من اتحاده مع الفرد باعتبار الخارج كما هو قضية
الحمل المتعارف الحصر لجواز اتحاده أيضا مع غيره من الافراد
مضافا إلى ما عرفت من استبشاع الحمل على الاستغراق الافرادي
احتج الخصم بأنه لو كان العالم زيد مفيدا للحصر لكان العكس وهو
قولنا زيد العالم مفيدا له أيضا وأنهم لا يقولون به أما الملازمة
فلاشتراك المستند فإنهم تمسكوا على إفادته للحصر في صورة
التقديم
بأن العالم لا يصلح للجنس لأنه ماهية كلية ويكذب الاخبار عنه بأنه
زيد الجزئي ولا للعهد إذ التقدير انتفائه فيتعين الحمل على
الاستغراق فيفيد أن كل ما صدق عليه العالم زيد وهو معنى الحصر و
هذا بعينه آت في صورة التأخير أيضا وأيضا لو كان الأول مفيدا
للحصر دون الثاني لكان التقديم والتأخير مغيرا لمفهوم الكلمة والتالي
باطل بيان الملازمة أن الفرض تساوي المركبين إلا في التقديم
والتأخير فلو اختلفا في إفادة الحصر لكان من جهة ما يختلفان فيه
لامتناع أن يختلفان من جهة ما يتساويان فيه وأما بطلان التالي
فلان التقديم والتأخير إنما يغير الهيئة التركيبية دون مداليل المفردات
وأجيب عن الأول بأن الوصف إذا وقع محكوما عليه كان معناه
الذات الموصوفة بالوصف العنواني وإذا وقع محكوما به كان معناه
ذات موصوفة به وهو عارض للأول فالاتحاد مع الذات الموصوفة
يقتضي الحصر بخلاف الاتحاد مع عارض له فإنه لا ينافي مشاركة
معروض آخر له فيه واعترض عليه التفتازاني بأنه إنما يتجه في
الوصف المنكر دون المعرف فإن معناه الذات الموصوفة فردا أو جنسا
فلا يتم الفرق ورده المحشي الشيرازي بأن هذا إنما يراد إذا كانت اللام
موصولة وأما إذا كانت للتعريف فلا فرق بين حمل المعرف بها
وبين حمل المنكر في كون المحمول فيهما المفهوم دون الذات و
هذان التفصيلان مردودان بأنه لا فرق في المقام بين الوصف المنكر و
غيره من المحلى بلام الموصولة وغيرها في أن المفهوم منه عند
الحمل هو المفهوم وتحقيق المقام وتنقيح المرام أنه قد اشتهر في
مسألة
الوضع والحمل بين أهل العلوم لا سيما المنطقيين منهم قاعدتان
إحداهما أن المراد بالموضوع الفرد أو الافراد وبالمحمول المفهوم أي
المفهوم الكلي والثانية أن المراد بالموضوع الذات وبالمحمول
الوصف فظن جماعة في القاعدة الأولى أن الفرد أعني الجزئي
الحقيقي
لا يقع محمولا البتة بل ادعى المحقق الشريف عليه الضرورة حيث
أحال الامر فيه إلى مراجعة الفطرة السليمة وظن بعضهم في القاعدة
الثانية كالفخر الرازي على ما نسب إليه أن الاسم في مثل هذا المنطلق
زيد يتعين للابتداء لدلالته على الذات والصفة للخبرية لدلالتها
على أمر نسبي أي معنى قائم بغيره في الخارج كما يظهر من مقابلته
بالذات لا أنه يدل على الحدث المنسوب إلى الغير كما نقول به في
الفعل لظهور فساده لان ما عدا الافعال من المشتقات لا تتضمن نسبته
وكلاهما فاسد أما الأول فلان ضرورة الوجدان قاضية بأنه كما
يجوز أن يقال زيد بعض الانسان بجعل زيد موضوعا كذلك يجوز أن
يقال بعض الانسان زيد بجعله محمولا من غير تأويل والسر في
ذلك أن قضية الحمل على ما صرحوا به إنما هو إثبات المحمول
للموضوع بمعنى إفادة أن الامرين المتغايرين في الذهن حقيقة أو
اعتبارا متحدان في الخارج وظاهر أن هذا المعنى لا يقتضي أن يكون
شئ من الطرفين كليا فيجوز أن يكونا كليين أو جزئيين أو
متخالفين كما في قولك الانسان حيوان ناطق إذا أردت بهما نفس
الحقيقتين وقولك هذا هو الذي أكرمك بالأمس فإن المراد
بالموصولة الشخص المعهود ولا ريب أنه محمول بهذا الاعتبار نعم
القضايا المتعارفة في العلوم والمتداولة على ألسنة أهلها بل الغالبة في
محاورات أهل العرف أيضا هي التي تكون موضوعاتها الفرد أو
الافراد ومحمولاتها المفاهيم الكلية وعلى هذا ينزل قاعدتهم الأولى
لا غير لا يقال جواز وقوع الجزئي محمولا يوجب كونه كليا لصدقه
حينئذ على الكثيرين من موضوعات يصح أن يحمل عليها مثلا
يصدق زيد على بعض الانسان وبعض الحيوان وبعض الكاتب وغير
ذلك
فينتقض به الحدان لأنا نقول الكثرة المأخوذة في الحدين هي الكثرة
باعتبار الافراد حقيقة كانت أو تقديرية أو فرضية وبعبارة أخرى
هي الكثرة بحسب ظرف الصدق لا الكثرة بمجرد المفهوم وحينئذ فلا
إشكال وأما الثاني فلان منشأه عدم تحقيق معنى الذات والوصف
في كلامهم ومجمل القول فيه أن الذات كما تطلق عندهم على
الحقيقة المتأصلة في الخارج ومنه الذاتي الذي يقابلون به العرضي و
الوصف على المعنى الغير المتأصل فيه ويرادفه العرضي كذلك يطلق
الذات على المفهوم المتأصل في اللحاظ إلى الملحوظ على
الاستقلال
والوصف على المعنى الملحوظ تبعا ولاحقا للغير من غير فرق بين أن
يكون المفهوم أو المعنى ذاتا أو صفة وهذا هو الذي ينبغي أن
يكون مقصودهم في المقام دون المعنى الأول لظهور بطلانه واتضاح
فساده فالموضوع في قولك كل كاتب إنسان أفراد الكاتب وهي
وإن كانت في الخارج عرضية لافراد الانسان لكنها لوحظت في القضية
مستقلة أي غير لاحقة لغيرها ومفهوم الانسان وإن كانت
حقيقة مستقلة في الخارج متأصلة فيه إلا أنه لوحظ باعتبار كونه ثابتا
لغيره لاحقا له ولو قلنا بأن النسبة الحكمية قائمة بالمحمول متعلقة
بالموضوع كما صرح به بعضهم كان ذلك أوضح كما لا يخفى وإذا
عرفت هذا ظهر لك أن
156

في المقام بين ما إذا كان الوصف المحمول معرفا وعدمه كما فعله
المعترض أو بين ما إذا كان لامه للموصول وعدمه كما فعله المورد
غير متجه على القاعدتين نعم يتجه على ما ذكرناه في القاعدة الأولى
التفصيل بين المعهود وغيره لكن البحث هنا على تقدير عدم العهد
كما عرفت ثم أقول أن الجواب المذكور يشتمل على الفرق بين
الوصف المعرف إذا كان محكوما عليه وبينه إذا كان محكوما به من
وجهين الأول أن مدلوله في الأول الذات الموصوفة بالتعريف وفي
الثاني ذات موصوفة بالتنكير وهذا الفرق مدفوع بما ذكره
التفتازاني من أن الوصف إذا كان محلى باللام كما هو محل البحث كان
مدلوله في الصورتين الذات الموصوفة ولا فرق بين أن تكون
موصولة أو للتعريف الثاني مدلول الوصف على تقدير أن يكون
محكوما عليه معروض على تقدير أن يكون محكوما به عارض وظاهر
كلام التفتازاني أن مدلول الوصف المعرف معروض وإن كان محكوما
به وظاهر كلام المورد التزام ذلك فيه حيث يكون اللام
للموصول وكلاهما مردود بما ذكرناه آنفا فالفرق الثاني متجه على
إطلاقه نعم يرد على المجيب أن فرقه بين صورتي اتحاد الشئ مع
الوصف باعتبار كونه معروضا وبين اتحاده معه باعتبار كونه عارضا بأن
الأول يفيد الحصر دون الثاني تحكم صرف بل مجازفة
ظاهره إذ لا مدخل لوصف المعروضية والعارضية في ذلك بل الكلام
على ما تضمنه الدليل المذكور من حمل الوصف على الاستغراق و
هو لا يختص بأحدهما ويرد على المستدل أولا أن الاخبار عن الجنس
أعني العالم بأنه زيد بالحمل المتعارف مما لا غبار عليه لان
المهملة في قوة الجزئية فكأنه قيل بعض العالم زيد وإنما يكذب
بالحمل الذاتي ولو سلم فهو لا يجري في العكس لأنه إخبار عن زيد
يصدق عليه فلا يتعين فيه الحد على الاستغراق وثانيا أن دعوى عدم
مصيرهم إلى القول بالحصر في العكس ممنوعة كيف وقد صرح
بإفادته له جماعة من علماء الأصول وأطبق عليه علماء البيان على ما
هو الظاهر فالدليل المذكور إنما يصلح ردا على من فصل بين
المقامين لا على ما اخترناه من القول بالاثبات المطلق ثم لا يذهب
عليك أن الدليل الذي ذكره المستدل على النفي من قبل المثبتين
ظاهر
الوهن ويمكن معرفة ما فيه مما أوردناه
على بعض الأدلة السابقة وأجيب عن الثاني بأنه إن أريد بتغيير
المفهوم هذا القدر منه أعني صيرورة العارض أعني ذات موصوفة
معروضا أعني الذات الموصوفة فلا نسلم بطلانه لان ذلك من لوازم
العكس وإن أريد غير هذا التغيير فلا نسلم لزومه أقول قد عرفت
أن مجرد الاختلاف في العارضية والمعروضية لا يكفي في إفادة
الحصر فمنعه لزوم غيره فيها غير مسموع بل الوجه في الجواب منع
الملازمة إن أريد التغيير في مداليل المفردات والمنع من بطلان التالي
إن أريد التغيير في مفاد المركب وذلك لجواز أن يكون الواضع
قد وضع الهيئة الحاصلة من التقديم والتأخير لإفادة ذلك أو يكون
ذلك هي النكتة الظاهرة من صوغ الكلام على خلاف مقتضى أصله و
طبعه كيف لا وقد اشتهر في العبائر والألسنة أن تقديم ما حقه التأخير
لإفادة الحصر وهذه القاعدة على إطلاقها وإن لم تكن ثابتة
عندنا لان فوائد التقديم لا تنحصر في الحصر ودعوى أظهريته من
بينها مطلقا لا يخلو من بعد إلا أن ثبوتها في الجملة مما لا ينبغي
التأمل فيه على أن الدليل المذكور على تقدير صحته إنما يقتضي نفي
القول بالتفصيل وقد عرفت أن المختار عندنا هو الاثبات المطلق
واعلم أن من مثبتي هذه الدلالة أعني الدلالة على الحصر الذي هو
معنى زائد على إثبات المحمول للموضوع من يجعلها من باب
المنطوق
وليس بشئ لان عرفهم وحدودهم لا تساعد عليه
تنبيهات
الأول
ذكر علماء المعاني أن الفصل بين المسند والمسند إليه بضمير الفصل
يفيد الحصر نحو زيد هو القائم وكنت أنت الشهيد عليهم
الثاني
حكي عن عبد القاهر أن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي يفيد
الحصر إن ولي حرف النفي نحو ما أنا ضربت زيدا قال ولهذا يمتنع ما
أنا ضربت زيدا ولا غيري للتناقض والظاهر أنه يريد به الحصر
الإضافي من قصر الافراد أو قصر القلب لا الحصر الحقيقي لوضوح
عدم مساعدة اللفظ عليه
فصل ومن المفاهيم مفهوم اللقب
وهو نفي الحكم عما لم يتناوله الاسم ومفهوم العدد وهو نفي الحكم
عما زاد عليه أو نقص عنه ومفهوم الزمان والمكان وهو نفي
الحكم عما وقع خارجا عنهما وقد اختلفوا في إثبات هذه المفاهيم و
نفيها وحيث إن النزاع في كل واحد منها دائر بين النفي الجزئي و
الاثبات الكلي فالمختار عندي ما ذهب إليه النافون لنا أما إجمالا فبأنها
لو دلت لكانت واحدة من الثلاث وهي ظاهرة الانتفاء بشهادة
العرف وأما تفصيلا فعلى نفيه في اللقب أنه لو ثبت لكان قول القائل
زيد موجود وعمرو عالم وعيسى رسول الله دالا على نفي الوجود
والعلم عنه تعالى وعلى نفي الرسالة عن سائر الأنبياء فيلزم به كفر
قائله وفساده ضروري وعلى نفيه في العدد أن قولنا لمن صام
ثلاثة أيام من كل شهر كذا لا يدل على نفيه على تقدير الزيادة أو
النقيصة وعلى نفيه في الزمان والمكان أن قولنا للمتصدق في يوم
الجمعة أو في المسجد كذا من الفضل لا يدل على نفيه في يوم آخر
كيوم عرفة أو مكان آخر كأحد المشاهد المشرفة احتج المثبتون
لمفهوم اللقب بأن التخصيص بالذكر يستدعي مخصصا وليس إلا نفي
الحكم عن غير المذكور ولو بضميمة أصالة عدمه وبأن قول
القائل لست زانيا ولا أختي زانية يدل على رمي المخاطب وأخته
بالزنا ومن هنا التزم بعضهم بوجوب الحد عليه والجواب أما عن
الأول
فبأن التخصيص بالذكر إنما يستدعي فائدة يترتب على ذكر المذكور و
أما غير المذكور فيكفي في تركه عدم اشتماله على فائدة
مقصودة إذ ليس اللقب قيدا زائدا في الكلام حتى يكون ذكره محوجا
إلى فائدة زائدة على فائدة الكلام وأما عن الثاني فبمنع ثبوت
الدلالة فيه مطلقا بل يختص بموارد التعريض وحينئذ يخرج عن محل
البحث إذ الكلام في إثبات الدلالة عند التجرد عن القرائن احتج
القائلون بمفهوم العدد بما رووه من قوله صلى الله عليه وآله والله
لأزيدن على السبعين بعد ما نزل قوله تعالى إن تستغفر لهم سبعين
مرة فلن يغفر الله لهم حيث فهم صلوات الله عليهم أن ما زاد على
السبعين حكمه
157

بخلاف السبعين وذلك مفهوم العدد وأما أنه صلى الله عليه وآله لم
يفهم أن حكم ما دون السبعين أيضا بخلافه فلا ينافي ما حكي عن
القائلين بمفهوم العدد من أنهم يقولون به في جانب النقيصة أيضا
لانتفاء شرطه وهو عدم الأولوية كما سيأتي والجواب فبمنع صحة
الحديث وأن الظاهر أن ذكر السبعين للمبالغة والمراد نفي الغفران
بالاستغفار الكثير سلمنا لكن ليس فيما نقلوه عنه صلى الله عليه و
آله دلالة الآية على حصول الغفران فيما زاد بل على عدم دلالتها على
نفيه فيه وهو خارج عن محل النزاع وأما مفهوما الزمان والمكان
فيعرف الكلام فيهما بمقايسة ما مر واعلم أن ما ذكرناه مبني على
تقدير أن يكون القول بالنفي جزئيا والقول بالاثبات كليا بمعنى أن
يكون المفهوم هو الظاهر منها ما لم يقم قرينة على خلافه كما هو
الظاهر من محل النزاع وقد أشرنا إليه وأما الاثبات الجزئي بمعونة
القرائن أو بواسطتها فمما لا ريب فيه فإن قولك زيد جاءني في جواب
من قال لك أجاءك زيد أو عمرو يفيد الحصر وكذلك قوله عليه
السلام انزح ثلاثين لموت كذا فإن المفهوم منه أن العدد المذكور تمام
الواجب أو المندوب لا سيما إذا وقع في مقام البيان ولهذا نحكم
بأنه يعارض لما دل فيه على ما زاد عليه أو نقص عنه وأما الحكم بعدم
وجوب الزائد على عدد الحد فليس بالمفهوم بل لعموم ما دل على
منع الايذاء بغير حق وأما أن عدد الحد لا يزيد على ذلك فلما مر في
مثال النزح من أن المفهوم في مثله عرفا كونه تمام العدد وأما عدم
جواز الاكتفاء بما دونه فلعدم حصول تمام العدد وقس على ذلك
الحال في الشهادة ونظائرها
تذنيب يشتمل على أمور
الأول
ذكر الحاجبي وغيره أن لمفهوم المخالف بأقسامه شروطا الأول أن لا
يكون المسكوت عنه أولى بالحكم أو مساويا للمذكور فيه و
الأول على ثبوت الحكم فيه من باب مفهوم الموافقة الثاني أن لا يكون
خارجا مخرج المعتاد نحو وربائبكم اللاتي في حجوركم فإن
المعتاد كونهن في الحجور فقيد به لذلك أو لتنزيلهن منزلة الولد لا
لمخالفة حكم اللواتي لسن في الحجور لحكمهن ومثل أيضا بقوله
تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به
حيث أن الخلع لا يكون غالبا إلا عند الخوف فلا يدل على عدم جواز
الخلع عند عدم الخوف الثالث أن لا يكون جوابا لسؤال عن المذكور
كما لو سئل هل في الغنم السائمة زكاة ونحو ذلك الرابع أن لا
يكون هناك ما يوجب السكوت عن غير المذكور من جهالة أو خوف
فتنة أو نحو ذلك
الثاني
ذكر بعضهم أن فائدة المفهوم إنما تظهر إذا كان الحكم فيه مخالفا
للأصل وأما إذا كان موافقا له كما في الأمثلة التي استشهدوا بها
فالحكم إنما يثبت فيها بالأصل ودعوى الحجية إنما نشأت من الغفلة
عن ذلك لكون حكم المفهوم مركوزا في العقل من جهة الأصل ولا
يخفى ما فيه إذ المفهوم الذي نقول بحجيته لا فرق فيه بين أن يكون
موافقا للأصل أو مخالفا له مع أن الثمرة تظهر في الموافق عند
التعارض
الثالث
لا ينحصر المفهوم في الموارد التي ذكرناها بل قد يوجد في موارد
غيرها فمنها لفظ البعض فإن قولك أكلت بعض الرمان يدل على
عدم أكل الجميع وقولك لا يحل أكل بعض اللحوم يدل على حلية
أكل بعضها وقول المنطقيين لا منافاة بين صدق الجزئية والكلية مبني
على عرفهم حيث إن طريقهم الجمود على المداليل الأصلية وعدم
الاعتداد بالظواهر العرفية ومنها ليس كل إذا استعملت في السلب
الكلي فإن قولك ليس كل كلام مفيدا وليس كل صديق وفيا يدل على
أن بعض الكلام مفيد وبعض الصديق وفي وجواز وقوعه مستعملا
في خلاف ذلك لا ينافي الظهور كما في قوله تعالى والله لا يحب كل
مختال فخور حيث إنه للسلب الكلي وقس على ذلك ما يناظره
القول في العام والخاص
فصل اعلم أن للقوم في العام حدودا كثيرة
لا يسلم كلها أو جلها عن المناقشة أو الخلل المحوج إلى ارتكاب
التعسف أو التحمل والتعرض بها بكثرتهما وكثرة ما يرد عليها يوجب
التطويل الباعث على الملل فلنقتصر على ذكر حد واحد منها بما يرد
عليه ثم نشير إلى بعض الحدود مع بعض ما يرد عليه في تضاعيف
الكلام وفي ضمن الحد المختار فنقول قيل العام هو اللفظ المستغرق
لما يصلح له واعترض على عكسه أولا بالمشترك إذا استغرق جميع
أفراد أحد معانيه إذ لا يتناول أفراد معنى آخر وهو يصلح لها قلت و
كذا الكلام بالنسبة إلى المعنى الحقيقي والمجازي في وجه فزاد
بعضهم قوله باعتبار وضع واحد محافظة على دخول ذلك ويمكن
دفعه بأن المراد استغراقه لجميع ما يصلح له على الوجه الذي يصلح
له
وهذا لا يتحقق فيما ذكر إلا باعتبار أحد المعاني على ما هو التحقيق
لكنه لا يخلو من بعد وثانيا بالجمع المعرف فإن عمومه باعتبار
تناوله لكل فرد ولا يصلح له لفظ الجمع نعم ينعكس عند من يجعل
عمومه باعتبار الجماعات لكنه خلاف التحقيق وهذا الاعتراض مبني
على اعتبار قيد الحيثية في الحد وإلا فكون عمومه باعتبار الافراد لا
ينافي صدق الحد عليه باعتبار كونه مستغرقا للجماعات أيضا نعم
ربما يشكل ذلك فيما لو انحصرت الافراد في الثلاثة وأما إذا كانت
الافراد أربعة أو خمسة فيمكن أن يعتبر الصلوح بالنسبة إلى كل
ثلاثة فإن تناوله لتلك الآحاد يوجب تناوله للجماعات المؤتلفة منها
هذا إذا قلنا بأن أقل الجمع ثلاثة وإلا فالاشكال إنما يتجه في الاثنين
والتوجيه إنما يحتاج إليه في الثلاثة وقد يتفصى عن إشكال الجمع
بوجهين الأول أن اللام يبطل معنى الجمعية فيصدق أن الجمع
يستغرق جميع جزئيات مفهومه بعد اللام وفيه تعسف لان لفظ
الجمع لا يصلح للمفرد لا قبل دخول اللام ولا بعده ولفظ الحد إنما
يقتضي ذلك نعم لو تأول بمعنى ما يصلح هو أو ما قام مقامه استقام
عكسه بهذا التكلف لكن يبقى الكلام حينئذ في طرده الثاني أن
المراد جميع جزئيات مدلول اللفظ أو ما اشتمل عليه اللفظ حقيقة
كالرجال أو حكما كالنساء فإنها بمنزلة الجمع للفظ مرادف للمرأة لا
يقال هذا منقوض بمثل عشرة حيث إنه متناول لجميع الآحاد التي هي
من جزئيات مفهوم الواحد الذي يتضمنه العشرة لأنا نقول ليس
العشرة بمنزلة الجمع للفظ مرادف للفظ الواحد بدليل عدم صحة
إطلاقه على ما يزيد عليه أو ينقص عنه والأظهر أن يقال يستغرق
158

عشرة جميع أفراد الواحد كما اعتبر في الحد بل بعضها فيخرج ولا
يخفى أن هذا الوجه أيضا تعسف لعدم مساعدة ظاهر الحد عليه و
اعلم أن الاشكال بالجمع لا يختص بالمعرف منه باللام بل يجري في
المضاف منه أيضا ويمكن التفصي عنه أيضا بأحد التعسفات
المذكورة وعلى اطراده تارة بالمشترك إذا استعمل في جميع معانيه
حقيقة على القول بجوازه وهذا إنما يتجه على قول غير الشافعي
لالتزامه بعموم المشترك في جميع معانيه حيث قسم العام إلى قسمين
قسم متفق الحقيقة وقسم مختلف الحقيقة ويمكن دفعه بأن
التعريف مبني على القول بالمنع كما هو التحقيق وقد استراح عن
ذلك من اعتبر صلوحه له بحسب وضع واحد كما مر وأخرى بنحو
عشرة ومائة من المركبات لاستغراقه لما يصلح له من أجزائه ومثله
ضرب زيد عمرا من الجمل لأنه يستغرق ما يصلح له من معاني
مفرداته وأجيب بأن ما يصلح له عشرة جميع العشرات لا ما يتضمنها
من الآحاد وهو لا يستغرقها وأن الجملة لا تصلح لمعاني مفرداته و
اعترض عليه بأن مبنى الاعتراض على أن المراد بصلوحه للجميع أعم
من أن يكون لجميع جزئيات مفهومه أو أجزائه ولو خص بالأول لم
يتناول لمثل الرجال أو المسلمين أو بالثاني لم يتناول لمثل الرجل ولا
رجال وإذا أريد الأعم صدق على الأمثلة المذكورة ولم ينفع فيه
الجواب المذكور والجواب أن لفظ الحد نص في كون المستغرق نفس
ما يصلح له اللفظ لا أجزاؤه إذ اللفظ لا يصلح لها وتقدير لفظ
الأجزاء والجزئيات مفسد له إذ لا إشعار له به فتعين تخصيصه
بالمعنى الأول ولا ريب أن لفظ العشرة إنما يستغرق لما لا يصلح له من
الوحدات دون مجموع العشرات وهو ظاهر ودون مجموع الوحدات
إذ لا يصدق عليه أن اللفظ يستغرقه كما لا يصدق أن لفظ الواحد أو
لفظ زيد يستغرق معناه ومثله الكلام في سائر المركبات نعم يبقى
الاشكال بمثل الرجال والمسلمين ويمكن دفعه بما مر من التعسف
والمختار في حده أن يقال هو ما استغرق جميع جزئيات مفهومه
وضعا والمراد بالموصولة ما يتناول المفرد والمركب فدخل نحو كل
رجل إذ يصدق عليه أنه يستغرق جميع
جزئيات مفهوم الرجل المشتمل عليه مفهوم كل رجل ودخل فيه
أيضا نحو الرجال لاستغراقه جميع جزئيات مفهوم الرجل المشتمل
عليه
مفهوم الجمع المعرف وكذلك النكرة المنفية ويمكن تخصيص
الموصولة بالمفرد نظرا إلى أن العموم هناك ليس صفة للكل بل للجز
المقيد أعني الرجل المضاف إليه الكل والنكرة المنفية وهذا أقرب
إلى الاعتبار والمراد بالمفهوم ما يعم المفهوم المعتبر مطلقا و
المعتبر مقيدا فدخل الجمع المعرف لتناوله جزئيات مفهوم المطلق
أعني المجرد عن اعتبار التقييد بوصف الجمعية وإن اعتبر مقيدا
بغيره كالوصف ودخل نحو علماء البلد من المجموع المضافة وشبهها
لشمولها جزئيات مفهومها المقيد وهي داخلة في الحد السابق
أيضا لان العموم في الجمع المضاف إنما يطرأ عليه بالتأويل السابق
بعد طرو الإضافة والعبرة في عموم المقيد يتناوله لجميع ما يصلح
له مفهومه المقيد دون المطلق ومثله الجمع المعرف باللام المقيد
بوصف وشبهه كالعلماء الطوال بناء على ما هو التحقيق عندنا من أن
دخول اللام عليه بعد اعتبار التقييد فيه وكذلك النكرة الموصوفة في
سياق النفي وشبهه كقولك ما من رجل عالم في الدار فإن حرف
النفي إنما سلطه على رجل بعد أخذه واعتباره مقيدا بالوصف فحرف
النفي هنا وأداة التعريف فيما سبق وإن تقدما على التقييد لفظا
لكنهما متأخران عنه حكما وتعلقا لكن كلماتهم لا تساعد على دخول
غير الجمع المضاف لأنهم جعلوا التقييد بالوصف من باب
التخصيص فيشكل عليهم الفرق في ذلك ويدخل أيضا نحو لا رجلان
ولا رجال ولا يقدح عدم تناوله لنفي الفرد الواحد أو الفردين مع
أنهما من أفراد مفهومه على ما مر لان المنفي فيهما ليس مفهوم الرجل
المطلق بل المقيد بكونه في ضمن فردين وما زاد ولا ريب أن
المقيد بذلك لا يتناول المقيد بفرد واحد أو فردين وكذلك يدخل فيه
الجمع المعرف بلام العهد كما لو قلت أكرم العلماء وأردت به
جماعة معهودة فإن اللام فيه للإشارة إلى مدلول مدخولها على حد
سائر مواردها ومدلول الجمع أفراد
متعينة باعتبار العهدية وحيث إن الإشارة مسبوقة بملاحظة المشار
إليه المتعين بوصف تعينه كان تعلقهما بالجمع متأخرا عن اعتبار
مدلوله متعينا بتعهد العهدي فهو على حد المقيد بالإضافة والوصف
في طرو العموم عليه بعد التقييد لكن نص على خروجه عنه جماعة
منهم الحاجبي حيث حده بما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت
فيه مطلقا ضربة فاحترز بقوله مطلقا عن المعهود فإنه يدل على
مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مع قيد خصصه بالمعهودين ومعنى
قوله ضربة دفعة واحترز به عن النكرة في الاثبات لأنها
تستغرق أفرادها لكن لا دفعة بل على البدل وأنت إذا أحطت بما
ذكرناه وقفت على ما فيه لأنه لا يخلو إما أن يريد بالامر المشترك
المدلول المطلق أو الأعم منه ومن المقيد فعلى الأول يلزم خروج
الجمع المضاف عنه وقد أطبقوا على دخوله وكذلك الجمع المضاف
إلى
المضاف والموصول المقيد صلته بقيد كعلماء بلد زيد ومن أكرم
غلامي في الدار وعلى الثاني يلزم دخول مثل الجمع المعهود لتناوله
جميع مسميات مدلوله المقيد وقولنا وضعا احتراز عن اللفظ
المستغرق لجميع جزئيات مفهومه مجازا كالمفرد المستعمل في
العموم
مجازا عند من يراه مجازا فيه فإن القصد لا يتعلق بالبحث عنه في
جملة من المباحث الآتية وإنما ينبغي تعميم العناوين على حسب ما
يحتاج إليه مع احتمال دخوله لامكان تعميم بعض المباحث بالنسبة
إليه وممن صرح باعتبار القيد المذكور بعض المتأخرين حيث عرفه
باللفظ الموضوع للدلالة على استغراق أجزائه أو جزئياته فاحترز بقيد
الموضوع للدلالة على الاستغراق عن المثنى والجمع المنكر و
أسماء العدد فإنها لم توضع للدلالة على ذلك وإن دلت كذا ذكره
بعض المعاصرين ويشكل بمثل النكرة في
159

النفي فإنها تفيد الاستغراق ولم توضع للدلالة عليه على ما هو
التحقيق إذ كما أن لفظ العشرة موضوع للمجموع المستلزم لاستغراق
الآحاد لا لاستغراقها كذلك حرف النفي موضوع للنفي واسم الجنس
مثلا موضوع للجنس والاستغراق إنما يستفاد من ورود النفي على
الجنس نظرا إلى أن الجنس لا يرتفع مع وجود الفرد ولهذا نجد دلالتها
حينئذ على العموم ثابتة في سائر اللغات بل الوجه أن يراد
بالوضع في تعريفنا المختار ما يعم الوضع للعموم نفسه ككل رجل و
نظائره أو لمعنى يستلزمه كالنكرة المنفية على ما نراه من أن وضع
أداة النفي للنفي والنكرة للفرد المنتشر مثلا في معنى وضع المجموع
لنفي الفرد المنتشر الذي هو سلب كلي ومثله الكلام في الجمع
المعرف والمضاف والموصولات بناء على ما حققناه فإن وضع اللام
للإشارة وتضمن الموصولات لها ووضع الإضافة لإفادة التعيين
يستلزم إرادة جميع الافراد حيث لا يتعين البعض واعلم أن الحد الذي
ذكرناه ينطبق على العام الافرادي والعام المجموعي لان كليهما
يستغرقان جزئيات المفهوم الذي اشتملا عليه وإن كان الاستغراق في
أحدهما من حيث الافراد في الاخر من حيث المجموع وعلى
قياسه الكلام في باقي الحدود وكذلك ينطبق على العام الشمولي
كالجمع المعرف والموصولات والعام البدلي كمن وأي في الاستفهام
وقد يستشكل بأن تطبيق الحد على ذلك يوجب دخول النكرة فيه
أيضا لأنها أيضا تستغرق أفراد مفهومها على البدلية ودفعه واضح لان
النكرة لا تستغرق أفراد مفهومها وضعا بل بقرينة الحكمة بخلاف
أدوات الاستفهام فإنها تستغرق أفراد مفهومها أو مدخولها وضعا
بيان ذلك أن النكرة موضوعة للطبيعة المقيدة بأحد التشخصات
الفردية لا بشرط أي من غير تعيين لتقييدها بأحدها بالخصوص فهي
بحسب وضعها صالحة لان تؤخذ مرددة بين الجميع بأن لا يعتبر معها
تعيين البعض أصلا ولخلافه بأن يعتبر معها تعيين البعض بحسب
الواقع وإن امتنع اعتباره في إطلاقها فليس لها في نفسها دلالة على
العموم والمشمول بخلاف من وأي فإن مدلولها طلب تعيين الفرد
الموصوف بالوصف المذكور من بين جميع أفراد مفهومهما فيكون
مدلولهما مستغرقا لجميع الافراد على سبيل الترديد في تعيين الفرد
المقيد منها بالوصف ولهذا يصح الاستثناء منهما من غير تكلف
على ما قيل تقول من جاءني أو أيكم جاءني إلا زيدا فتخرج زيدا عن
الافراد التي تردد بينها في السؤال ويمكن أن يعتبر عمومهما
بالنسبة إلى أفرادهما المقيدة بالوصف المذكور حيث يتعدد الافراد و
لهذا يتعين الجواب بالجميع وبهذا يظهر وجه فرق آخر بينهما و
بين النكرة واعلم أنه قد يطلق العام على اللفظ المستغرق لجميع أفراد
مفهومه ولو بقرينة حكمة كما يقال إن ماء في قوله تعالى وأنزلنا
من السماء ماء طهورا للعموم الشمولي لوروده في مقام الامتنان و
رجل في قولك جئني برجل للعموم البدلي دفعا للترجيح من غير
مرجح ثم اعلم أن عموم العام قد يكون حقيقيا نحو أن الله بكل شئ
عليم وقد يكون عرفيا نحو جمع الأمير الصاغة فإن المراد جميع
صاغة بلده لا صاغة الدنيا كذا قرره جماعة والتحقيق أن العموم في
الثاني أيضا حقيقي لشموله جميع صاغة بلده كما لو قيل جمع صاغة
بلده أو الصاغة الموجودين في بلده غاية الامر أن قرينة الحال تغني
عن ذكر القيد والتصريح به كما لو قيل أكرم العلماء فإنه لا يراد به
جميع أفراد العالم من الموجودين حال الخطاب وقبله وبعده بل ولا
جميع الموجودين حال الخطاب بل خصوص الذين يتمكن
المخاطب
من إكرامهم فإن قلت تقييد الامر بالتمكن يغني عن تقييد متعلقه به
فيجوز حينئذ تنزيله على عمومه كما هو قضية الأصل قلت تعلق الامر
اللفظي بما لا يتحقق الشرط بالنسبة إليه مع علم الامر والمأمور به كما
في المثال المذكور ونظائره بعيد جدا بل مجمع على فساده إلا
ممن شذ كما مر في محله فيتعين تقييد المتعلق بالافراد التي يتمكن
المأمور من إكرامهم مضافا إلى مساعدة العرف في متفاهم
الاستعمال عليه ولا يقدح ذلك في عموم اللفظ لان العبرة في عموم
المقيد بتناوله لجميع أفراد مفهومه المقيد كما أن العبرة في عموم
المطلق بتناوله لجميع أفراد مفهومه المطلق نعم لو فرق بين العامين
بأن الأول مطلق أو مقيد بمذكور والثاني مقيد بما يفهم عرفا من
قرينة الحال ويجعل التسمية دائرة مدار ذلك فلا
مشاحة إلا أن عبائرهم قاصرة عن إفادة ذلك والأولى أن يفسر العام
الحقيقي بما يتناول جميع أفراده كالمثال المتقدم والثاني بما
يتناول أكثر أفراده بحيث لا يعتد بالخارج عرفا لندرته كما في نحو
جمع الأمير صاغة بلده فإنه يصدق هذا القول على إطلاقه عرفا عند
جمعه للأكثر وإن ترك النادر ومبناه عند التحقيق على التسامح في
الاطلاق كما تراهم يتسامحون في إطلاق موضوعات المساحات و
الأوزان الخاصة على ما نقص منها أو زاد بيسير من غير تقييد وهذه
المسامحة غير معتبرة في الخطابات الشرعية بل المراد فيها في
المواضع الثلاثة ونظائرها على التحقيق لا لان الظواهر العرفية غير
معتبرة فيها كيف وهو الأصل المحكم حيث لا دليل على خلافه بل
لان تسامحهم في مثل ذلك مقصور على موارد التسامح وليست
الخطابات الشرعية عندهم من جملتها ولهذا تراهم يعزلون تلك
الألفاظ
على حقائقها إذا وردت في تلك الخطابات ونظائرها كالوصايا و
الأقارير وعلى هذا فالعام العرفي خارج عن العام الأصولي لعدم
صدق حده عليه واعلم أيضا أن العام كما ينقسم باعتبار الدلالة إلى
المجموعي والافرادي كذلك ينقسم باعتبار تعلق الحكم به إلى
القسمين أيضا فالعام المجموعي باعتبار الدلالة قد يكون أفراديا
باعتبار الحكم كقولك كل الناس يعرفون هذا الشئ فإن لفظ كل
مشترك بين المعنيين فإذا أضيف إلى معرف باللام تعين كونه مجموعيا
ومعناه حينئذ مجموع ما أضيف إليه كما أنه إذا أضيف إلى منكر
كان الظاهر منه كونه أفراديا ومعناه حينئذ كل واحد مما يصدق عليه
مدخوله على البدلية فيفيد تعلق الحكم بجميع مصاديقه البدلية على
وجه الشمول وقد يأتي حينئذ بمعنى المجموع نحو جئني بكل شاة
أي بتمام أحد أفرادها وهو خارج عن العام عندنا
فصل اختلفوا في أنه هل للعموم صيغة تخصه أو لا
فذهب
160

جماعة إلى الأول وهو المحكي عن المحقق والشيخ والعلامة وعزاه
بعضهم إلى الأكثر وذهب قوم إلى الثاني وتوقف بعضهم ثم اختلف
النافون فمنهم من جعلها مشتركة بينه وبين الخصوص وحكي عن
السيد موافقته لهم على ذلك لغة مع مصيره إلى أنها نقلت في عرف
الشرع إلى العموم خاصة ومنهم من جعلها حقيقة في الخصوص و
مجازا في العموم ثم هل يختص النزاع بألفاظه المخصوصة أعني
أسماء
الشرط والاستفهام والموصولات والجمع المعرف والمضاف و
مفرديهما والنكرة في سياق النفي أو يجري في مطلق ألفاظه حتى إنه
يدخل فيه مثل لفظ كل وأجمع وتوابعه والذي نص عليه العضدي
هو الأول والذي صرح به في المعالم هو الثاني ويساعد عليه كلمات
بعض الأصحاب وهو المعتمد ثم إن كان النزاع بين النفي الكلي و
الاثبات الجزئي كما حررناه فلا إشكال وإن كان بين النفي و
الاثبات الكليين كما نص عليه العضدي فيشكل بأن كثيرا من الصيغ
المتنازع فيها كالمفرد والجمع بقسميهما يأتي للعهد وهو عندهم
ليس من العام كما أشرنا إليه والتزام كونها مجازا فيه بعيد عن أنظار
المحققين اللهم إلا أن يقال ليس النزاع على هذا التقدير في تلك
الصيغ مطلقا بل إذا تجردت عن قرينة العهد كما صرح به العضدي في
الجمع المعرف ونص عليه بعض الناظرين في كلامه في جملة من
البواقي فمرجع النزاع على هذا التقدير إلى أن هذه الألفاظ عند عدم
العهد هل تختص بالعموم كما هو مذهب المحققين أو تشترك بينه و
بين الخصوص كما هو قول البعض أو تختص بالخصوص كما هو قول
بعض آخر وحينئذ فلا ينافي ذلك كونها حقيقة في المعهود عند
العهد كما عزاه بعضهم إليهم هذا لكن كان عليهم ترك ذكر المفرد
المعرف والمضاف في هذا النزاع وأفراده بالبحث لوقوع النزاع فيه
بين القائلين بأن للعموم لفظا يخصه ولهذا أفردنا البحث عنه في فصل
مستقل ثم التحقيق أن النزاع إن كان في اختصاص هذه الألفاظ
بالعموم من حيث وضع الواضع إياها لخصوص العموم فالحق هو
القول بالاثبات الجزئي لثبوته في مثل كل رجل بدليل التبادر والنقل
على ما سيأتي التنبيه
عليه وإن كان في اختصاصها به ولو من حيث الظهور أو من حيث
وضعه لمعنى يستلزمه عند التجرد عن الضمائم الخارجية المنافية
للعموم فالحق هو القول بالاثبات الكلي لكن في غير المفرد المعرف و
المضاف كما سيأتي وهذا المعنى أنسب بالنزاع المحرر في
المقام وينبغي تنزيل كلماتهم عليه وحيث إن التقييد بالعهد ونحوه لا
ينافي عموم اللفظ عندنا مطلقا كما حققناه سابقا فلا حاجة إلى
اعتبار عدمه مطلقا كما ارتكب في الحد نعم ينبغي التقييد بما يخرج به
المعهود في فرد أو فردين لعدم صدق العموم على ذلك إذا تقرر
هذا فلنا على المذهب المختار مضافا إلى نص اللغويين عليه في بعض
الألفاظ تبادر العموم منها عرفا فإن السيد إذا قال لعبده لا تضرب
أحدا فهم منه العموم عرفا حتى إنه لو ضرب واحدا عد مخالفا وكذا
إذا قال أكرم العلماء أو علماء البلد أو كل عالم أو أحسن إلى من
زارني أو من أكرمني أكرمه أو مهما أكرم زيدا أكرمه تبادر العموم ولهذا
لو ترك الاكرام والاحسان إلى بعضهم أو في بعض أزمنته
إكرامه عد عاصيا وإذا ثبت العموم في هذه الألفاظ عرفا ثبت لغة
لأصالة عدم النقل ومما يؤيد ما ذكرناه أنه في كثير من الموارد التي
استعملت فيها الصيغ المذكورة قد استدل بها أهل اللسان على العموم
فمنها قصة ابن الزبعرى فإنه لما سمع قوله تعالى إنكم وما
تعبدون من دون الله حصب جهنم قال لأخصمن محمدا صلى الله
عليه وآله فجأه فقال يا محمد أ ليس عبد عيسى وموسى والملائكة
فلو
لا أنه فهم منه العموم لما قال ذلك لأنه من أهل اللسان ويؤكد ذلك
تقريره صلى الله عليه وآله إياه على العموم حيث لم يجبه بمنعه بل
باختصاص ما بغير ذوي العقول ومنها رده تعالى قول اليهود وما أنزل
الله على بشر من شئ بقوله من أنزل الكتاب الذي جاء به
موسى ومنها الاتفاق على أن كلمة التوحيد مفيدة له وهو مبني على
كون النكرة في سياق النفي دالة على العموم وعلى أن قول القائل
من رد علي ضالتي فله كذا يوجب استحقاق الجعالة لكل راد لها و
على وقوع الحنث فيما إذا حلف أن لا يضرب أحدا إذا ضرب واحدا و
كذا إذا نذره إلى غير ذلك مما لا حصر له وقد يستدل أيضا بوجهين
الأول أنها لو كانت مشتركة لكان تأكيدا لجمع المعرف بكل و
أجمعين مؤكدا للالتباس
والتالي باطل أما الملازمة فلتكرير اللفظ الدال عليه فإن تكرر الدال
يوجب تأكد المدلول وكان المراد بتأكد الالتباس تأكده في الكلام
وتقويه بتعدد موارده حيث كان قبل ذكر التأكيد في المؤكد فقط وبعده
فيهما فيتم الملازمة لا تأكد الالتباس في المؤكد فيرد ما قيل
من أن تأكيد المبهم بمثله لا يوجب تأكيد إبهامه والتباسه وهذا ظاهر و
أما بطلان التالي فلانا نعلم ضرورة أن المقصود من التأكيد
إنما هو تكثير الايضاح وإزالة الاشتباه ويمكن دفعه بأن قرينة التأكيد
الناشئة من إرادة العموم في موارد استعماله عند ذكر التأكيد
قائمة هناك على إرادة العموم فلا محذور الثاني أن العموم معنى ظاهر
تمس الحاجة إلى التعبير عنه فيجب وضع لفظ بإزائه مراعاة
للحكمة وفيه نظر لان ذلك لا ينافي الاشتراك على أنا لا نسلم وجوب
الوضع لكل ما تمس الحاجة إلى التعبير عنه لامكان التأدية في
البعض بطريق المجاز حجة القائلين بالاشتراك لغة أمران الأول أن تلك
الألفاظ تستعمل في العموم تارة وفي الخصوص أخرى والأصل
في الاستعمال الحقيقة والجواب منع الأصل المذكور أولا كما مر
تحقيقه وبيان الدليل الموجب للخروج عنه على تقدير تسليمه ثانيا
كما
عرفت من قضية عدم التبادر وغيره الثاني أنها لو كانت للعموم لعلم إما
بالعقل ولا مدخل له فيه وإما بالنقل والآحاد منه لا يوجب العلم
ولو كان متواترا لما وقع الخلاف فيه وهذا الدليل مع ظهور فساده من
جهات شتى قد سبق ذكره بجوابه حجة السيد [المستدل] على
كونها منقولة في عرف الشرع إلى العموم فقط نظير ما مر في بحث
الامر من أن علماء الاعصار والأمصار لم يزالوا يحملون تلك
الألفاظ على العموم ويستدلون بها والكلام فيه ما مر حجة من جعلها
حقيقة في الخصوص فقط أمران الأول أن إرادة الخصوص ولو في
ضمن
161

العموم معلومة بخلاف العموم لاحتمال أن يكون المراد به الخصوص
فقط وجعل اللفظ حقيقة في المتيقن أولى من جعله حقيقة في
المحتمل الثاني أنه قد اشتهر التخصيص وشاع حتى قيل ما من عام إلا
وقد خص إلحاقا للقليل بالعدم مبالغة والظاهر يقتضي كونه
حقيقة في الأشهر الأغلب تقليلا للمجاز وأجيب عن الأول أولا بأنه
إثبات للغة بالترجيح والاستحسان وهو باطل وثانيا بأنه معارض
بكون الحمل على العموم أحوط لاحتمال أن يكون مرادا فيوجب
الحمل على الخصوص الاخلال ببعض مقصوده وهذا لا يطرد إذ قد
يكون الحمل على الخصوص أحوط وعن الثاني بأن مجرد الشهرة لا
يوجب الحقيقة سيما إذا كان مبناها على ذكر قرينة التخصيص و
خصوصا بعد ما قام الدليل على كونها حقيقة في العموم فقط تمهيد
مقال لتوضيح حال الحق أن اسم الجنس كرجل مجردا عن اللواحق
موضوع للماهية من حيث هي وعليه المحققون وقيل بل موضوع
للفرد المنتشر وهو مردود بشهادة التبادر على خلافه مع أن هذا
القائل يخص النزاع على ما حكاه السكاكي بغير المصادر المجردة عن
اللام والتنوين ومن الظاهر عدم مساعدة الوجدان على الفرق و
لا فرق في ذلك بين وقوعه مستعملا مع اللواحق من اللام والتنوين و
أدوات التثنية والجمع وبدونها وزعم الفاضل المعاصر أنه مع
اللواحق موضوع بأوضاع نوعية بإزاء معانيها المعهودة ثم أورد على
نفسه سؤالا حاصله أن اسم الجنس إنما يستعمل مع اللواحق وهو
حينئذ موضوع بأوضاع نوعية وبدونها لا يقع في صحيح الاستعمال
فلا حاجة إلى القول بأنه موضوع حينئذ للماهية من حيث هي وأجاب
عنه أولا بأن الماهية من حيث هي مفهوم مستقل يحتاج إلى لفظ في
التفهيم وثانيا بأنه يستعمل مجردا عن اللواحق في الأسماء المعدودة
وليس حينئذ بمهمل وثالثا بأن من اللواحق ما لا يفيد معنى جديدا
في معنى مدخوله كما في تنوين التمكن كقولك رجل جاءني لا امرأة
هذا محصل كلامه وفي الوجوه التي أجاب بها نظر أما في الأول فلان
مسيس الحاجة إلى ما ذكر لا يوجب وضع المجرد كيف وهو لا يقع
في صحيح الاستعمال أعني الاستعمال الذي يتعلق به مقاصد العقلا
والحاجة إنما تدعو إلى وضع
ما يقع فيه وأما في الثاني فلان الأسماء المعدودة ليست بأسماء
أجناس من حيث كونها أسماء معدودة لأنها غير مستعملة في معانيها
الوضعية بل هي حكايات عن الألفاظ المستعملة فيها فهي أسماء
لأسماء الأجناس ولا نسلم أن المسمى أعني الألفاظ المحكية تتجرد
عن
اللواحق مع أن الأسماء المعدودة لا يقع في صحيح الاستعمال مجردة
عن اللواحق ولو تقديرا بناء على عدم خلو المحكي عنها وضعا فلا
يتم بها المقصود ولو أراد تجردها عنها لفظا فغير مفيد كما في صورة
الوقف في غيرها من الأسماء المتمكنة لأنها تستعمل حينئذ
بحسب أوضاعها النوعية بناء على ثبوتها كما يقول به ولهذا يستفاد
منها مفاد تلك الأوضاع بل يمكن أن يجعل أحدها شخصيا والباقي
نوعيا وأما في الثالث فلان للخصم أن يقول بأن اسم الجنس مع تنوين
التمكن موضوع للماهية من حيث هي وأنه عند التجرد عنها وعن
سائر اللواحق ليس موضوعا لمعنى بدليل عدم صحة الاستعمال
كذلك فلا يثبت ما قصده المجيب وبالجملة فالسؤال المذكور مما لا
محيص للقائل المذكور عنه إلا أن يمنع الوضع النوعي بالنسبة إلى
المنون بتنوين التمكن وهو بعيد جدا على هذا القول كما لا يخفى و
مع
ذلك فلا يجديه إلا الجواب الأخير أو يتمسك بأن الأوضاع النوعية
اللاحقة لاسم الجنس مع اللواحق تتوقف على وضعه مجردا وفيه أن
كون تلك الأوضاع بأسرها نوعية مما لا داعي إليه حتى يرتكب له هذا
الوضع الذي لا يقع الاستعمال الصحيح على حسبه بل يمكن أن
يجعل أحدها شخصيا والباقي نوعية وأما على القول المختار فالسؤال
المذكور واضح الاندفاع فإن قولنا في رجل مثلا أنه مجردا عن
اللواحق اسم جنس وموضوع للماهية من حيث هي ليس معناه أنه
يكون كذلك بشرط التجرد عن اللواحق بل معناه أن اللفظ المذكور
بمجرده أي من غير اعتبار ضميمة معه موضوع للماهية من حيث هي
وأنه بهذا الاعتبار ويسمى اسم جنس وظاهر أن ذلك لا ينافي
طريان اللواحق إذ لا ريب أن اللفظ المجرد بهذا المعنى مما يصح
استعماله فيتم ما ذكرناه من دعوى التبادر هذا ثم ما يقال من أن اسم
الجنس مع اللواحق موضوع بأوضاع نوعية بمعنى أن الواضع وضع
وضعا إجماليا كل اسم جنس منونا لفرد منتشر ومعرفا باللام
للماهية الحاضرة في
الذهن تارة وللمعهود تارة وللاستغراق أخرى ففي مكان من الضعف
فإنا لا نفرق بين تركب اسم الجنس مع حرف التعريف والتنكير
وتركبه مع سائر الحروف ولعل منشأ الوهم اتصال هذه الأدوات
بمدخولها بحيث يعد عرفا كلمة واحدة ويدفعه أن ذلك لا يجدي في
مقابلة التبادر واتفاق كلمتهم على أن الأدوات يفيد المعاني الزائدة
على معاني مدخولها وقد التزم بها الفاضل المذكور في اللام حيث
صرح بأنها في اسم الجنس المعرف للإشارة إلى مدلول مدخولها فإن
ذلك يقتضي أن يكون لها وضعا بانفرادها أيضا وحينئذ فلا حاجة
إلى ما التزم به من الوضع النوعي وربما كان ذلك مبنيا على ما زعمه
جماعة من أن المركبات موضوعة بإزاء معانيها التركيبية كما أن
المفردات موضوعة بإزاء معانيها الافرادية وأنها حين الاستعمال
تستعمل في معانيها الافرادية والتركيبية بحسب الوضعين وقد بينا
فساد ذلك في مقدمات الكتاب بما لا مزيد عليه بل التحقيق أن اسم
الجنس المجرد عن اللواحق موضوع للماهية من حيث هي بحكم
التبادر كما مر وتلك اللواحق موضوعة بأوضاع حرفية بإزاء معان
لاحقة لها كسائر الحروف فلفظ رجل وإنسان وحيوان وجسم و
غيرها موضوع بإزاء ماهيات مخصوصة بوضع اسمي والتنوين
الداخلة عليها موضوعة بإزاء تقييدها بفرد لا بعينه لا باعتبار كونه
مفهوما مستقلا فيكون معنى اسميا بل باعتبار كونه آلة لملاحظة حال
مدخولها كما هو الشأن في وضع الحروف وكذلك حرف اللام
موضوعة للإشارة لا باعتبار كونها ملحوظة لذاتها فيكون معنى اسميا
كمدلول لفظ الإشارة بل باعتبار كونها مرآة لتعرف حال ما
أشير بها إليه من الماهية المعينة لان الإشارة تقتضي ملاحظة المتعين
بصفة تعينه وهذا هو التحقيق المطابق للقواعد الموافق لما يساعد
162

الذوق والتبادر وتفصيل المقام وتوضيح المرام أن لاسم الجنس في
صحيح الاستعمال حالات إحداها أن يتجرد عن جميع اللواحق كما
إذا كان غير منصرف كحمراء وصفراء فإذا قيل رأيت حمراء وأريد أن
الرؤية وقعت على الفرد فإن أريد بحمراء نفس الجنس وأريدت
الفردية بقرينة الرؤية أو غيرها كان حقيقة وإن أريد الفردية منه كان
مجازا ومن هنا يظهر وجه ضعف آخر في السؤال المذكور
الثانية أن يحلقه تنوين التمكن وهو يفيد تمامية الاسم فقط وهذا في
المعنى يرجع إلى القسم السابق وأغلب ما يكون كذلك إذا كان اسم
الجنس محمولا كقولك هذا رجل فإن الظاهر من مقام الحمل قصد
الجنسية دون الفردية لعدم استقامة اعتبارها مع التساوي ولزومها
للحمل مع أخصية الموضوع فيلغو اعتبارها في المحمول وكذا إذا
قيل جاءني رجل لا امرأة في أحد الوجهين الثالثة أن يلحقه تنوين
التنكير ويسمى حينئذ نكرة وقد يطلق النكرة على ما يتناول الأقسام
الثلاثة ومدلولها فرد من الجنس لا بعينه بمعنى أن شيئا من
الخصوصيات غير معتبر فيه على التعيين فيصح أن يجتمع مع كل
تعيين لا أن عدم التعيين معتبر فيه فلا يجتمع مع تعيين وبالجملة
تقييد
الحقيقة بكل واحد من الافراد غير متعين بل بحيث يصلح أن يقع بدل
كل فرد فرد آخر فتقييده تقييد ترديدي لا تعييني فالتقييد بالفرد
المأخوذ في مدلوله ليس مفهوم التقييد باعتبار كونه مفهومه بل باعتبار
كونه آلة لملاحظة حال الجنس ومنه يظهر أن مدلول النكرة
جزئي وليس بكلي كما سبق إلى كثير من الأوهام فإن الجنس المأخوذ
باعتبار كونه مقيدا بفرد أي متحدا معه جزئي لا غير ولا فرق
فيما ذكرناه في تحقيق مدلول النكرة بين أن يكون الفرد معينا عند
المتكلم كما في جاءني رجل أو عند المخاطب كما في أي رجل أتاك
أو يكون غير معين عندهما كما في جئني برجل إذ التعيين الحاصل
في المثالين الأولين زائد على مدلولها وخارج عنه ولهذا لو أريد بها
معه كان مجازا ولا يتوهم أن اسم الجنس على هذا التقدير مستعمل
في الفرد بل مستعمل في نفس مفهومه أعني الجنس وإن أطلق على
الفرد لان
التقييد بالفرد إنما يستفاد من التنوين وتحقيق المقام وتوضيحه أن
إطلاق الكلي على الفرد يقع على وجهين أحدهما أن يطلق عليه
باعتبار تحقق الطبيعة الكلية التي هي مدلول فيه كإطلاق الانسان على
زيد باعتبار كونه إنسانا في قولك رأيت إنسانا وهذا حقيقة
قطعا لان إطلاق اللفظ على فرد مفهومه بهذا الاعتبار إطلاق له على
نفس مفهومه وعلى قياسه الاطلاق في الفرض المذكور الثاني أن
يطلق عليه من حيث الخصوصية وهذا مجاز لان اللفظ غير موضوع له
كذلك وهذا كما لو أطلق إنسان وأريد به زيد باعتبار خصوصيته
والفرق بين الاطلاق أن اللفظ في الاطلاق الأول مستعمل في الطبيعة
من حيث هي لان إطلاقه على الفرد باعتبار ما حل فيه من الطبيعة
إطلاق له في الحقيقة على نفس تلك الطبيعة فيكون حقيقة إذ التقدير
أن اللفظ موضوع بإزائها وفي الاطلاق الثاني مستعمل في المركب
من الطبيعة وقيد الخصوصية أو التقييد بها واللفظ غير موضوع بإزائه
بل بإزاء جزئه فاستعماله فيه استعمال له في غير ما وضع له
بعلاقة الجزئية والكلية فيكون مجازا والمراد أنها غير موضوع له
باعتبار وضعه للطبيعة من حيث هي وأنه مجاز باعتباره فلا ينافي
كونه حقيقة فيه باعتبار وضع آخر كما لو كان اللفظ مشتركا بين الكلي و
الفرد وكذلك الحال في إطلاق المنون على فرد معين من
مدلوله فإنه قد يطلق ويراد به الماهية المقيدة بفرد معين على أن
يكون التعيين مرادا من غير لفظه فيكون حقيقة إذ لا يزيد مدلوله على
الطبيعة المقيدة بأحد أفرادها وقد أريد ذلك من لفظه وأريد التعيين
من غيره وقد يطلق ويراد التعيين من لفظه فيكون مجازا هذا
تحقيق ما نص عليه جماعة من المحققين وهو بمكان من الظهور و
الوضوح وزعم الفاضل المعاصر في توجيه كون إطلاقه حقيقة على
الوجه الأول أن معنى رجل مثلا حينئذ في ظرف التحليل شخص
متصف بأنه رجل فالنسبة التقييدية المستفادة من المادة والتنوين
تستلزم هذه النسبة الخبرية أعني النسبة في قولنا هو رجل بالحمل
المتعارف فهو على حد الحمل حيث لا تجوز في شئ من طرفيه و
النسبة هذا محصل كلامه وهو بعد بعده عن الأنظار المستقيمة مما لا
يعرف له وجه إذ لا حاجة إلى تكلف إرجاعه إلى الحمل كما عرفت
من توجيهنا مع أنه ليس بين مدلول المادة ومدلول التنوين نسبة
تقييدية كما يقتضيه ظاهر كلامه لان التنوين كما عرفت موضوع للتقييد
بالفرد باعتبار كونه آلة لتعرف أحوال الطبيعة وهو بهذا
الاعتبار معنى نسبي يمتنع أن يحتمل نسبة لان النسبة تستدعي تصور
طرفيها بالاستقلال وهذا ظاهر جدا وزعم في توجيه كونه
مجازا في الوجه الثاني أن مدلول اللفظ حينئذ فرد هو الكلي لا غير
بدعوى أن الكلي والفرد حقيقة واحدة وموجود واحد فيفيد حصر
الكلي فيه فيلزم التجوز لان زيدا لا غير مثلا معنى مجازي للفظ رجل
قال وهذا معنى قولهم إذا أطلق العام على الخاص مع قيد
الخصوصية كان مجازا ثم قال فإن قلت إرادة الخصوصية من الفرد لا
تستلزم دعوى انحصار الكلي في الفرد بل معناه أن هذا الشخص
مع الخصوصية رجل فاستعمل اللفظ الموضوع للجز في الكل بطريق
الحمل المتعارف وهو لا ينافي تحقق الرجل في غير هذا الشخص و
الحاصل أن اللفظ الموضوع للماهية لم يستعمل فيها بل في الفرد مع
قيد الخصوصية فيكون مجازا ولا يلزم منه إفادة الحصر وأجاب
عنه بأنه ناش عن الغفلة عن فهم الحقيقة والمجاز ثم أورد في بيانه
كلاما حاصله أن الحقيقة عبارة عن الكلمة المستعملة فيما وضعت له
استعمالا مستلزما في ظرف التحليل للحمل الذاتي كما لو علمنا أن
لفظ الأسد موضوع لحيوان ولم نعلمه بعينه فإذا وصف لنا وميز و
قيل هذا الأسد فهذا حمل ذاتي والمجاز عبارة عن الكلمة المستعملة
في غير ما وضعت له
163

بأن يفيد أن هذا يعني المعنى الغير الموضوع له ذاك يعني المعنى
الموضوع له بالحمل الذاتي لا الحمل المتعارف فإن أسدا في قولنا
رأيت
أسدا يرمي مستعمل في الرجل الشجاع على دعوى أنه الحيوان
المفترس لان التشبيه لم يقع إلا بينهما استعمالا مستلزما للحمل
الذاتي و
الرجل الشجاع يعني لفظ الأسد المستعمل فيه في زيد استمالا
مستلزما للحمل المتعارف فهو مجاز بالاعتبار الأول وحقيقة بالاعتبار
الثاني وكذا الكلام في سائر أنواع المجاز كإطلاق الغيث على النبات
في مثل رعينا الغيث لان إطلاقه عليه مبني على أن دعوى النبات هو
الغيث الحقيقي لا أنه فرد من أفراده فيكون صدقه عليه بالحمل الذاتي
نعم إطلاق الغيث بمعنى النبات على نبات مخصوص من باب إطلاق
الكلي على الفرد بالحمل المتعارف فلهذا نجعله بهذا الاعتبار حقيقة
إذ المجاز لا بد فيه من الحمل الذاتي فظهر أن ما نصوا على مجازيته
من استعمال العام في الخاص راجع إلى ادعاء كون العام منحصرا في
الخاص تحقيقا للحمل الذاتي المعتبر في المجاز انتهى ملخص كلامه
أقول والنظر فيه في مواضع الأول فيما بنى عليه من اعتبار الحمل
الذاتي في حدي الحقيقة والمجاز وهو غير واضح لأنه إن اعتبر
الحمل
الذاتي بين اللفظ والمعنى فواضح الفساد ضرورة أنهما متباينان وإن
اعتبره بين المعنى المستعمل فيه ونفسه فغير مفيد لظهور أن كل
شئ يحمل على نفسه بهذا الحمل وإن اعتبره بين المعنى المستعمل
فيه والموضوع له فإن أراد نفس هذا المفهوم فغير سديد لان
المفهوم زائد عليه قطعا وإن أراد به معروضه الملحوظ بهذا العنوان
فهو مما لا حاجة إلى اعتباره في جانب الحقيقة وغير مستقيم على
إطلاقه في جانب المجاز أما أنه مما لا حاجة إلى اعتباره في جانب
الحقيقة فلانه يكفي في معرفتها العلم بأنه يصدق على تمام المعنى
المستعمل فيه أعني ما أريد من اللفظ أنه موضوع له اللفظ بالحمل
المتعارف ولا غبار عليه أصلا كما لا يخفى وأما أنه لا يستقيم على
إطلاقه في جانب المجاز فلان مرجع ما بنى عليه أمر المجاز إلى
دعوى كون معناه متحدا مع المعنى الحقيقي بحسب الحقيقة وهذا
كما
ترى إنما يتجه في بعض أنواع الاستعارة كما مر تحقيقه في أوائل
الكتاب وأما في المجاز المرسل فمما لا يعقل له وجه أصلا لوضوح أن
إطلاق الغيث
على النبات ليس مبنيا على دعوى كون الغيث الحقيقي هو النبات و
كذا إطلاق القرية على أهلها ليس مبنيا على دعوى كونهم نفس القرية
فإن ركاكة الدعوى في الأول وقبحها في الثاني مما لا يخفى على أحد
وقس عليه الكلام في سائر الأقسام بل مبنى المجاز على وجود
العلاقة بين المعنيين فمتى وجدت جاز إطلاق اللفظ الموضوع
لأحدهما على الاخر من غير حاجة إلى دعوى أن أحدهما هو الاخر و
مرجع
ذلك في الحقيقة إلى تنزيل أحد المعنيين منزلة الاخر [في اختصاص
اللفظ به] وإعارة اللفظ الموضوع بإزائه له نظرا إلى ما بينهما من
المناسبة والعلاقة لرخصة وضعية أو طبيعية ولا يلزم من جواز تنزيل
أحدهما منزلة الاخر في إرادته من لفظه دعوى العينية والاتحاد
في الحقيقة نعم يتأتى الدعوى المذكورة في كثير من أنواع الاستعارة
بل اعتبارها فيها مما يوجب مزيد حسنها وبلاغتها كما مر لكن
ليس المدار في جميع أقسام المجاز عليه بل الاستعارة الثاني فيما
ذكره من أن إطلاق الأسد على الشجاع مجاز وإطلاقه بمعنى الشجاع
على زيد حقيقة ومحصله أن للاستعمال المذكور اعتبارين حقيقة
بأحدهما ومجاز بالآخر وهذا في غاية السقوط والضعف لان
الاستعمال الواحد لا يتصف بالحقيقة والمجاز معا وإن أراد أن هناك
استعمالين ولو بالقوة فضعفه أظهر وأيضا الأسد بمعنى الشجاع
ليس موضوعا لزيد لا بخصوصه ولا من حيث كونه شجاعا فلا يستقيم
دعوى أنه حقيقة فيه باعتبار الثالث فيما فسر به كلام القوم من
قولهم إطلاق العام على الخاص باعتبار الخصوصية مجاز حيث زعم
أنهم أرادوا به قصر مدلول العام على الخاص وهذا غير سديد
لفساد الدعوى في نفسها وعدم مساعدة كلامهم عليها أما أنها فاسدة
في نفسها فلانا لا نسلم صحة استعمال رجل في قولك رأيت رجلا
في هذا المعنى بأن يراد به من هو الرجل لا غير لبعده عن مظان
الاستعمال وكأنه قاس ذلك بمثل زيد الرجل حيث يقصد به الحصر
على
سبيل المبالغة وهو قياس مع وضوح الفارق وتوضيح المقام أن إطلاق
الكلي على الفرد أو حمله عليه قد يكون بقصر دلالته عليه وقد
يكون
بقصر مدلوله عليه فتارة من حيث المراد ومرة من حيث الوجود و
حينا من حيث الماهية وهذا قد يكون قصرا على ماهية الفرد بدعوى
أنهما حقيقة واحدة وقد يكون قصرا على نفسه ومنشأ الوهم في ذلك
عدم الفرق بين هذه الأقسام فإن ما ذكره من إفادة الحصر إنما
يتم على التقدير الثالث والأخير فإن قصر وجود المحمول على
الموضوع أو قصر ماهية عليه يستلزم الحصر بيان ذلك أنك قد تقول
زيد الشجاع وتريد به مجرد حصر وجود ماهية الشجاع في زيد وعدم
تجاوزه إلى غيره وقد تريد به أن لا ماهية لزيد سوى ماهية
الشجاع والحمل على هذين التقديرين متعارف وقد تزيد على ذلك
فتدعي أنه نفس ماهية الشجاع والحمل على هذا إذا أتى ولا خفاء
في وجه دلالة الأول على الحصر وأما وجه دلالة الأخير عليه فلان
قضية كون زيد نفس ماهية الشجاع أن لا يكون غيره شجاعا لان
الشئ لا يتجاوز عن نفسه وأما القسم الثاني فلا دلالة على الحصر فإن
كون الكلي تمام ماهية الفرد لا يستلزم اختصاصه به وإلا
لانحصر أفراد كل نوع في فرد واحد ولا تجوز في القسم الأول من هذه
الأقسام الثلاثة مطلقا لان الكلي لم يطلق فيه إلا على معناه الكلي
ولا في القسمين الأخيرين إن كانت الدعوى متفرعة على الاستعمال
كما هو الظاهر بأن أطلق الشجاع على مفهومه ثم ادعى أنه نفس
زيد أو نفس ماهيته ووجهه ظاهر وإن كان الاستعمال متفرعا على
الدعوى بأن استعمل الشجاع في زيد أو في ماهية بعد دعوى أنه
الشجاع فلا ريب في مجازيته لان الألفاظ على ما هو التحقيق موضوعة
بإزاء معانيها الواقعية لا الادعائية وأما إطلاق الكلي على الفرد
بقصر مدلوله عليه من حيث الإرادة والحكم فلا إشكال في كونه
حقيقة حيث لم يستعمل الكلي حينئذ إلا في معناه الكلي إذ لم يرد
كونه
في ضمن
164

الفرد من لفظه وإلا لكان قصرا في دلالته بل من غيره وأما استعماله
فيه بقصر دلالته عليه فلا ريب في كونه مجازا لكونه مستعملا في
غير معناه لمكان ضميمة الخصوصية ولا إشعار في شئ من هذين
الاستعمالين بالحصر فظهر أن للكلي بالنسبة إلى الفرد في إطلاقه
عليه أو حمله عليه هو باعتبار الاطلاق أو الحمل اعتبارات خمسة
يشتمل اثنان منها على إفادة الحصر دون البواقي وهما لا يتأتيان في
محل البحث بل محل البحث هو القسم الأول وأما أن كلامهم لا
يساعد عليها فلان قولهم إطلاق العام على الخاص باعتبار الخصوصية
مجاز مما لا إشعار فيه بالمعنى المذكور بل صريح فيما ذكرناه وهو أن
يطلق العام أعني الكلي ويراد به الخاص مع قيد الخصوصية فإن
الخاص مشتمل على ماهية العام وخصوصية لاحقة لها فإذا أطلق
على الخاص باعتبار تحقق ماهية العام فيه كان حقيقة لأنه في الحقيقة
إطلاق له على ماهية العام لا غير كما عرفت وكونه في ضمن
خصوصية إنما أريد من غير لفظه وإن أطلق وأريد معها الخصوصية أو
التقييد بها كان مجازا لان اللفظ غير موضوع للمركب فإن قلت العام و
الخاص متحدان في الخارج وإن تمايزا بحسب العقل فإطلاق
لفظ العام على الخاص الخارجي سواء كان باعتبار عمومه أو خصوصه
أو المجموع لا يكون إلا حقيقة قضاء لحكم العينية فلا يتم ما
ذكرت من التفصيل قلت لفظ العام أعني الكلي موضوع للماهية من
حيث هي لا من حيث تحققها في الذهن ولا من حيث تحققها في
الخارج
كما هو التحقيق فإطلاقه على الماهية الخارجية على الحقيقة لا بد أن
يكون لا من حيث كونها خارجية بل من حيث هي وهي بهذا الاعتبار
وإن كانت عين كل خاص إلا أنها لا اختصاص لها بمعين فتخصيصها به
في الاستعمال يوجب إرادتها منه مع الخصوصية واللفظ غير
موضوع لها كذلك فيكون مجازا لا محالة ثم اعلم أن تنوين التنكير كما
يأتي لإفادة الوحدة الشخصية فيؤكد حينئذ بنفي المثنى و
المجموع بطريق قصر الافراد الفردي نحو جاءني رجل لا رجلان ولا
رجال كذلك تأتي لإفادة الوحدة الجنسية بطريق قصر القلب أو
الافراد الجنسي فيؤكد بنفي الجنس الاخر نحو جاءني رجل لا امرأة
كذا قيل والأظهر أن التنوين في المقامين لإفادة
التنكير أعني أخذ الماهية مقيدة بأحد تشخصاتها الفردية كما هو
مفادها في سائر المواضع لكن الحكم المتعلق بمدخولها قد يعتبر
تعلقه
به لا بشرط أي من غير اعتبار زائد عليه كما هو الظاهر من الاطلاق و
حينئذ فلا ينافي تعلقه بفرد آخر ولا بنوع آخر ولهذا يصح أن
يقال جاءني رجل ورجل آخر أو امرأة وقد يعتبر تعلقه به بشرط لا و
حينئذ فقد يؤخذ ذلك بالقياس إلى نفس مدلول المدخول أعني
الجنس فيدل على نفيه عن جنس آخر اعتبر الحصر بالقياس إليه فيقال
جاءني رجل لا امرأة ويجوز أن يكون تنوينه حينئذ للتمكن وقد
يؤخذ بالقياس إلى مدخوله منونا أعني أحد الافراد فيدل على نفيه عن
الزائد فيقال جاءني رجل لا رجلان ولا رجال وقد يؤخذ بالقياس
إليهما فيدل على نفيه عن جنس آخر وعن الزائد فيقال جاءني رجل لا
امرأة ولا رجلان الرابعة أن يلحقه لام التعريف وهي حرف
وضعت للإشارة إلى الحقيقة المتعينة باعتبار تعينها الجنسي أو
الشخصي وإنما احتيج إلى اعتبار التعيين لان الإشارة لا تقع بدونه و
يمكن القول بأنها موضوعة لملاحظة مدلول مدخولها متعينا بالتعين
الجنسي أو الشخصي مجردا عن اعتبار الإشارة والأول أظهر و
مثلها أم في لغة ثم إنها تأتي لأمور الأول أن يشار بها إلى الحقيقة
المتعينة بالتعين الجنسي باعتبار تعينها الجنسي وينقسم إلى أقسام
ثلاثة لان الحقيقة المأخوذة بالاعتبار المذكور إما أن تجرد عن اعتبار
تحققها في الفرد أو تؤخذ باعتبار تحققها فيه وعلى التقدير
الثاني إما أن يعتبر تحققها في جميع الافراد أو فرد لا بعينه فالأول هو
المعرف بلام الجنس والحقيقة كما في قولك الرجل خير من
المرأة فإن اللام في الرجل والمرأة إشارة إلى الحقيقتين باعتبار تعينهما
الجنسي فكأنه قيل هذه الحقيقة المتعينة خير من هذه الحقيقة
المتعينة ومنه اللام الداخلة على المحدود كقولهم الانسان حيوان
ناطق فإن التعريف لا يكون إلا للماهية من حيث هي وحيث إن
الإشارة
المستفادة من اللام تقتضي ملاحظة الحقيقة المشار إليها بتعينها
الجنسي أوجبت تعريف مدخولها وميزت مصحوبها عن المجرد عنها
و
إن كان المعنى متعينا في
نفسه على التقديرين بيان ذلك أن المعرفة عبارة عما دل وضعا على
معين باعتبار كونه معينا فاسم الجنس إذا تجرد عن اللام دل على
معين لكن لا باعتبار كونه معينا إذ لم يوضع له كذلك ومصاحبة التعيين
غير اعتباره وملاحظته ولهذا كانت نكرة وإذا قرن بها دل
على معين باعتبار كونه معينا فتكون معرفة وعلى قياسه علم الجنس
كأسامة فإنها موضوعة للماهية المعينة باعتبار تعينها الجنسي أو
الذهني ولهذا يعد معرفة ويعامل معاملتها وبه يفرق بينه وبين اسم
الجنس الموضوع للماهية المعينة لا باعتبار تعينها كأسد ولا فرق
بين علم الجنس والمعرف بلام الجنس إلا أن التعريف في الأول ذاتي
وملحوظ في وضع الكلمة وفي الثاني عارضي وطار على الكلمة
بضميمة أمر خارج وأن الثاني يتضمن الإشارة إلى الماهية بخلاف
الأول هذا على ما نراه من أن المعتبر في المعرف بلام الجنس وعلمه
هو التعين الجنسي لكن المتداول في كتب القوم وغيرهم أن المعتبر
فيها التعيين الذهني حيث صرحوا بأن أسدا يدل على الماهية
الحاضرة في الذهن لكن لا باعتبار حضورها وتميزها فيه ولفظ الأسد
وأسامة يدلان عليها باعتبار حضورها وتميزها فيه وهذا
أيضا لا يخلو من وجه إلا أن الأول أسد وأقرب إلى الاعتبار والفرق
بين التعين الجنسي والتعين الذهني مما لا يكاد يخفى فإن الأول
مما يثبته العقل للماهية وإن قطع النظر عن وجودها فيه والثاني لا
يثبته إلا بملاحظة وجودها فيه فإن قلت إذا كان كل من علم الجنس
والمعرف بلامه عبارة عن الماهية الحاضرة في الذهن باعتبار
حضورها وتميزها فيه كما يقولون لكان معنى أكرم الرجل أكرم
الماهية الحاضرة في الذهن باعتبار حضورها فيه ولكان معنى رأيت
أسامة رأيت الماهية الحاضرة في الذهن باعتبار حضورها فيه و
ظاهر أن الماهية باعتبار
165

في الذهن مما لا يصلح لتعلق الاكرام والرؤية به وعلى قياسه سائر
الموارد قلت يمكن التفصي عنه بأن ملاحظة الماهية باعتباره
فإطلاق اللفظ عليه لا يوجب أن يكون الحكم عليها بذلك الاعتبار
فيجوز أن يلاحظ الماهية باعتبار حضورها في الذهن ويحكم عليها
باعتبار آخر وفيه تعسف واعلم أن الغالب دخول لام الجنس على
المفرد وقد يدخل على الجمع كما في قولهم فلان يركب الخيل و
المراد ركوبه على جنسها لكنه قليل لا يصار إليه إلا لقرينة ثم اعلم أن
الخبر كثيرا ما يعرف بلام الجنس قصد إلى قصره على المبتدأ و
لو على سبيل المبالغة كما في قولك زيد الأسد وأنت الرجل وقد
سبق تحقيق الكلام فيه وحينئذ فيتحقق للمعرف بلام الجنس قسم
رابع
وهو أن يشار بلامه إلى الجنس باعتبار تمام تحققه وتحصله في
الخارج من غير اعتبار لكونه فردا أو أفراد فإن للماهية بهذا الاعتبار
نوع تعين وتميز فيصح الإشارة إليها بهذا اللحاظ واعلم أيضا أن
المعرف بلام الجنس قد يحكم على مدلوله باعتبار تحققه في الخارج
نحو النار حارة وقد يحكم عليه باعتبار تحققه في الذهن نحو الحيوان
جنس وقد يحكم عليه من حيث هو مجردا عن الاعتبارين نحو
الانسان حيوان ناطق ويعبر عن هذا الاعتبار بمرتبة التقرر وقد يحكم
عليه بالاعتبارين نحو اللاشئ ليس بموجود والثاني هو
المعرف بلام الاستغراق الجنسي نحو الانسان لفي خسر والثالث هو
المعرف بلام العهد الذهني كما في ادخل السوق حيث لا عهد وليس
مفاد اللام في هذين القسمين إلا الإشارة إلى الحقيقة باعتبار تعينها
الجنسي وإنما يستفاد اعتبار كونها في ضمن جميع الافراد أو
بعضها من أمر خارج كقرينة الاستثناء في الأول وتعلق ادخل به في
الثاني وحيث إن مفاد المعهود الذهني بعد اعتبار القرينة فرد من
الحقيقة لا بعينه كان بحكم النكرة وصح وصفه بها كما في قوله ولقد
أمر على اللئيم يسبني بناء على أن يسبني صفة للئيم نعم فرق بينه و
بين النكرة من حيث إن الحقيقة في العهد الذهني مأخوذة باعتبار
تعينها الجنسي أو حضورها الذهني لمكان اللام ولهذا قد تعامل
معاملة
المعارف و
في النكرة مجردة عن هذا الاعتبار ويظهر من بعض المعاصرين أن
المعرف بلام العهد الذهني مستعمل في فرد لا بعينه باعتبار
معهودية الفرد وكونه جزئيا من جزئيات الماهية ومثل له بالمثال
المذكور وقال فإنه لا يجوز فيه إرادة الماهية من حيث هي ولا من
حيث وجودها في ضمن جميع الافراد بقرينة إسناد الدخول إليه ولا
من حيث وجودها في ضمن فرد معين إذ التقدير عدم التعيين
فيتعين إرادة فرد منه لا بعينه وفيه نظر أما أولا فلان قرينة ادخل إنما
يقتضي أن يكون الامر بالدخول متعلقا بالماهية من حيث تحققها
في ضمن فرد ما أما كونه مرادا من اللفظ الدال عليها فلا فلا يصار إليه
لمجازيته من غير قرينة وأما ثانيا فلان معهودية الماهية لا توجب
معهودية فرد غير معين منها وإن اعتبر من حيث كونه جزئيا من
جزئياتها وإنما الثابت معهودية الماهية فقط وحينئذ فلا يصح أن
يجعل اللام للإشارة إلى الفرد المراد نظرا إلى تعيين الماهية وأما ثالثا
فلانه يرى وجود الطبائع في الخارج ويقول بجواز تعلق
الاحكام بها من حيث هي وحينئذ فليس في تعليق الدخول على
السوق دلالة على إرادة الفرد لجواز تعليقه على الماهية من حيث هي
وإنما
يلزم الاعتبار المذكور عند من يمنع جواز تعلق الاحكام بالطبائع من
حيث هي كما هو المختار ثم التعريف بلام العهد الذهني كما يتحقق
في المفرد وهو الغالب كذلك يتحقق في المثنى والمجموع ومثل
للأخير بقوله تعالى من النساء والولدان لا يستطيعون حيلة فإن المراد
بالجمع أفراد غير معلومة بقرينة الوصف بالنكرة فيكون اللام للإشارة
إلى الطبيعة من حيث هي ويكون اعتبار تحققها في ضمن أفراد
غير معينة طارئا على اعتبار التعريف كما في تعريف المفرد بها لا سيما
إذا اشتمل على مفرد من لفظه فإن أداة الجمع حينئذ يجوز أن
تكون لاحقة للمعرف بلام الجنس أن اللام داخلة على المجموع وكذا
الحال في تثنية علم الجنس وجمعه واعلم أن ما قررناه من أن
المعرف بلام العهد الذهني والاستغراق الجنسي راجع إلى المعرف
بلام الجنس هو المطابق لما قرره بعض المحققين كالتفتازاني و
غيره وخالف فيه بعض المعاصرين فمنع من رجوعهما إليه لان مدلول
المعرف بلام الجنس الماهية المعراة عن ملاحظة الفرد فاستعماله في
الفرد استعمال له في غير ما وضع له فإنه وإن لم يوضع بإزاء
الماهية بشرط التعري عن ملاحظة الفرد لكنه وضع لها في حال التعري
والأوضاع توقيفية فلا رخصة في إرادة غيرها معها ثم اختار
كونه مجازا فيهما وفيه ما فيه فإن المعرف بلام الجنس في القسمين
غير مستعمل في الفرد كما ذكره في بيان المنع بل في الماهية
المتعينة من حيث تعينها واعتبارها من حيث وجودها في ضمن فرد
غير معين أو جميع الافراد مراد من غير لفظه كما صرح به أولا عند
نقل مقالتهم فلا يكون مستعملا إلا في معناه وكونه موضوعا للماهية
في حال التعري عن الفرد راجع إلى كونه موضوعا لها لا بشرط
التعري فلا ينافي اعتبار تقييدها بالفرد إذا أريد من أمر آخر ولولا ذلك
لامتنع تركيب الألفاظ بحسب مداليلها الحقيقية الثاني أن
يشار بها إلى مدلول مدخولها المتعين بالتعين العهدي باعتبار كونه
كذلك ففي المفرد يشار بها إلى الحقيقة المتعينة كذلك وفي
التثنية والجمع يشار بها إلى الفردين المتعينين أو الافراد المتعينة
كذلك ويسمى هذا بالمعهود الخارجي ثم هذا التعيين قد يكون
حضوريا كما في قولك يا أيها الرجل فإن اللام في الرجل إشارة إلى
الحقيقة المتعينة بالحضور باعتبار كونها كذلك وكذلك نحو يا
أيها الرجلان ويا أيها الرجال فإن اللام فيهما للإشارة إلى الفردين
الحاضرين أو الافراد الحاضرة باعتبار كونها كذلك وقد يكون
ذكريا كما في قوله تعالى كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون
الرسول فاللام في الرسول إشارة إلى الحقيقة المتعينة بالذكر
باعتبار كونها كذلك وكذلك جاءني رجلان أو رجال فأكرمت الرجلين
أو الرجال وبيانه يظهر مما مر وقد يكون بغير ذلك كما في
قولك جاءني الرجل الذي كان معنا أمس أو
166

الرجلان اللذان كانا أو الرجال الذين كانوا معنا أمس وبيانه أيضا على
قياس مما سبق ثم لام العهد كما تأتي لتعيين الفرد والافراد كما
مر كذلك قد تأتي لتعيين النوع كما إذا قلت أكرم الفقير العدل ثم قلت
أعط الفقير مشيرا بها إلى الفقير العدل وقد تأتي لتعيين المعنى
كما إذا كان أحد معاني اللفظ معهودا بينك وبين مخاطبك فتشير
باللام إليه نحو جئني بالعين مشيرا بها إلى أحد معانيه المعهودة هذا
فقد ظهر مما ذكرناه هنا وفيما سبق أن المعرف بلام العهد الذهني و
الاستغراق يرجعان إلى المعرف بلام الجنس وإن افترقا عنه
باشتمالهما على اعتبار لا يشتمل هو عليه وأن المعرف بلام العهد
الخارجي لا يرجع إليه وهذا هو المطابق لما نص عليه جماعة من
المحققين كالتفتازاني والمحقق الشريف لكن رجوع العهد الذهني إلى
المعرف بلام الجنس متعين لان اللام على ما عرفت موضوعة
للإشارة وهي تستدعي تعين الحقيقة التي أشير إليها وهي إنما تتعين
في العهد الذهني باعتبار الجنس دون الفرد لابهامه وأما إرجاع
الاستغراق إلى المعرف بلام الجنس فغير متعين لأنه كما يجوز أن يشار
إلى الماهية المأخوذة بحسب تعينها الجنسي ويعتبر تحققها في
ضمن جميع الافراد كذلك يجوز أن يشار إليها باعتبار تحققها في
ضمن جميع الافراد بدون اعتبار لتعينها الجنسي لان ذلك أيضا نوع
تعين لها كاف في صحة الإشارة إليها كما في الجمع المستغرق ثم إن
المحقق الشريف بين وجه خروج المعرف بلام العهد الخارجي عن
المعرف بلام الجنس دون العهد الذهني بأن معرفة الجنس غير كافية
في تعيين شئ من أفراده بل يحتاج إلى معرفة أخرى وأورد عليه
الفاضل المعاصر بالنقض بالاستغراق والعهد الذهني فإن تعيين
الجنس لا يكفي أيضا في تعيين جميع الافراد أو فرد ما بل لا بد من
معرفة أخرى وفيه ما لا يخفى فإن مقصود المحقق الشريف بالمعرفة
التعيين المحصل للتعريف المعتبر في المعارف لا العلم أو الدلالة
كما هو مبنى الايراد وتوضيح ذلك أن اللام في العهد الذهني وفي
الاستغراق في المفرد على البيان المعروف ليس إلا لتعريف الجنس و
أما كون الجنس مرادا من حيث تحققه في ضمن فرد ما أو جميع
الافراد فمستفاد من أمر خارج كما نبهنا عليه بخلاف العهد الخارجي
فإن اللام فيه لتعيين الفرد ولا يكفي فيه التعيين الجنسي فوجب أن
يكون تعيينا آخر فاتضح التغاير بين التعيينين وبه حصل التغاير
بين القسمين ثم استظهر المحقق الشريف أن يكون العهد الخارجي
موضوعا بوضع آخر عام بإزاء خصوصية كل معهود ويظهر ضعفه
مما مر فإن وضع اللام للإشارة إلى الجنس باعتبار تعين من التعينات
اللاحقة له كاف في حصول هذه الأقسام ولا حاجة إلى الالتزام
بتعدد الموضع هذا فظهر مما قررنا أن الفرق بين العهد الذهني و
الخارجي من وجهين الأول أن الحقيقة في العهد الذهني مقيد بفرد
غير
معين وفي العهد الخارجي مقيدة بفرد معين الثاني أن تقييد الحقيقة
بالفرد في العهد الذهني إنما يعتبر بعد أخذها متعينة ومتميزة
بالإشارة إذ الإشارة لا تقع إلى غير معين وفي العهد الخارجي يعتبر
قبله لصحة الإشارة إلى الحقيقة المقيدة بخصوصية معينة الثالث أن
يشار بها إلى جميع أفراد الحقيقة ويسمى بلام الاستغراق كما في
قولك أكرم العلماء حيث لا عهد فإن اللام فيه للإشارة إلى ما دل عليه
لفظ علماء من مجموع الافراد كما سيأتي وأنت إذا أحطت خبرا بما
حققناه في المقام تبين عندك أن اللام موضوعة بالوضع الحرفي
لمعنى وحداني وهي الإشارة إلى مدلول مدخولها وأن الأقسام
المذكورة ناشئة من انقسام التعيين المعتبر في صحة الإشارة إليها و
اتضح لديك بطلان القول بأن اللام مشتركة بين هذه المعاني
بالاشتراك اللفظي أو المعنوي أو حقيقة في البعض ومجاز في البعض
كما
ذهب إلى كل بعض واعلم أن اللام لا يجامع التنوين والسر فيه أن
تنوين التنكير يقتضي تقييد مدلول مدخولها بأحد مصاديقه مأخوذا
باعتبار عدم اعتبار تعيينه للمخاطب حال الاطلاق واللام يقتضي
أخذه باعتبار التعيين حال الاطلاق فيتدافعان وأما عدم مجامعتها
لتنوين التمكن فلكونها على صورة التنكير أو لمنع الواضع وأما عدم
مجامعتها مع الإضافة فلان قضية الإضافة تعيين مدلول المضاف
بنسبته إلى ما أضيف إليه ولو في الجملة فلا يصح اعتبارها في المنكر
لكونه مأخوذا بشرط عدم اعتبار التعيين حال الاطلاق مطلقا ولا
ينافيه
جواز تعيينه بالوصف لتأخر اعتباره عن حال الاطلاق مع أن مفاد
الوصف مجرد التقييد دون التعيين ولو في الجملة وإن كان قد
يستلزمه فلا يلائم اعتبارها في المعرف لتعينه بدون الإضافة وحيث
إن لا منافرة كلية بينهما فقد رخص في الجمع بينهما في بعض
الموارد كما قرر في محله ثم هاهنا مباحث جليلة سيرد عليك تحقيقها
مفصلا
وينبغي التنبيه على أمور
الأول
المتداول المعروف في موارد استعمال اسم الجنس من منكرة ومعرفة
بأقسامه أن يطلق ويراد به الجنس من حيث هو ويراد
الخصوصية حيثما تكون مرادة من غير لفظه ولو بقرينة حالية وإطلاقه
على الفرد من حيث الخصوصية بالمعنى الذي جعلناه مجازا وإن
جاز بالنظر إلى وجود العلاقة لكن لم يثبت وقوعه في مقام لان القرائن
المتداولة التي تدل على إرادة الجنس باعتبار الفرد لا تدل على
إرادة ذلك من لفظ الجنس بل إنما هي كاشفة عن حصول تلك الإرادة
وظاهر أنه لا يصار إلى حمل اللفظ على معناه المجازي ما لم يقم
قرينة موجبة لذلك وعلى هذا القياس من صيغة الامر على ما اخترناه
من أنها موضوعة للطلب المطلق المشترك بين الايجاب والندب
فإنها لم تقع مستعملة فيما هو المعهود من موارده إلا في مجرد الطلب
وإنما يفهم الايجاب والندب من الشواهد الخارجية فيسقط ما قيل
عليه من لزوم التجوز فيها في أغلب موارد استعمالها نظرا إلى أنها
تستعمل غالبا في مقام الايجاب أو الندب وذلك لأنه إنما يلزم
التجوز فيها حينئذ إذا أريد منها الايجاب أو الندب وقد عرفت أن الامر
على خلافه
الثاني
قد ذكرنا أن المراد باسم الجنس الماهية من حيث هي وبمعرفه
الماهية لا من حيث هي بل من حيث تعين جنسي أو شخصي لاحق
لها
فربما يرى أن بينهما تنافيا لان إرادة الماهية من حيث هي تنافي إرادتها
لا من حيث هي ووجه الدفع أن هناك إرادتين إرادة من لفظ
الجنس وإرادة من غيره فإرادة
167

الماهية من حيث هي أي من غير اعتبار أمر زائد عليها إنما هي بالنسبة
إلى لفظ الجنس بمعنى الايراد منه ما يزيد على الماهية وإرادتها
لا من حيث هي بمعنى إرادتها مع اعتبار أمر زائد عليها من كونها في
ضمن فرد معين ونحوه إنما هي بالنسبة إلى ما لحقه من اللام إذ
يستفاد منها الاعتبار اللاحق للجنس وكذا الكلام في سائر اللواحق فلا
منافاة
الثالث
الفرق بين الاطلاق والاستعمال أن الاستعمال يطلق على ما هو
مقصود من اللفظ لذاته بخصوصه والاطلاق يستعمل في الأعم من
ذلك و
لهذا يقال إطلاق الكلي على الفرد على قسمين ولا يقال استعماله فيه
إلا تسامحا فالنسبة بينهما عموم مطلق وربما توهم بعضهم أن
الاطلاق يختص بما لا يكون مقصودا لذاته فيتباينان وهو بعيد جدا و
الأظهر أنهما مترادفان أو متساويان وإن كان الغالب استعمالهما
على النهج المذكور
الرابع
يفترق اسم الجنس على ما اخترناه افتراق الاسم عن المسمى وعن
المعرف بلامه وعلمه لفظا بالتنكير والتعريف ومعنى بما عرف من
اعتبار تعين الجنس فيهما دونه وهذان يتفارقان بأن التعريف في
المعرف عارضي بدخول أداته وفي علمه أصلي معتبر في وضع
الكلمة وقد مر الإشارة إلى ذلك وافتراق هذه الأقسام عن العهد
بأقسامه وعن الاستغراق وافتراق بعضها عن بعض ظاهر مما مر و
يفترق الجمع عن اسم الجمع من حيث إن الجمع يدل على الماهية
بمادته على وصف الجمعية بهيئته وأداته إن كان مصححا أو مطلقا
بناء
على ثبوت الوضع لمادة المكسر واسم الجمع يدل عليهما بجوهره
سواء لم يكن له مفرد من لفظه كقوم ونسأ أو كان ولكن لم يعتبر
في وضعه كصحب وركب بدليل أن الجمعية يفهم منها من نفس اللفظ
دون الهيئة لكونها كهيئة المفردات وأما الفرق بينه وبين الجمع
المكسر على ما نختاره فيه من وحدة الوضع كما مر في المشتق فيمكن
كون وضع الجمع نوعيا بخلاف اسمه وقد يفرق بأن الجمع ما دل
على آحاد مجتمعة واسم الجمع ما دل على مجموع الآحاد وهو وهم
وافتراقهما عن الجنس واسمه واضح والجنس والكلي الطبيعي
متساويان وهو ظاهر وزعم بعض المعاصرين أن بينهما عموما مطلقا
وعلله بأن كل جنس لا يكون كليا طبيعيا لان الكلي الطبيعي
معروض لمفهوم الكلي ونفس الكلي جنس فالجنس أعم مطلقا هذا
لفظه وهو كما ترى يدل على أن مورد التفارق في نفس الكلي أقول
إن أراد بنفس الكلي نفس مفهومه كما هو الظاهر من كلامه ففساده
ظاهر لان مفهوم الكلي كلي طبيعي قطعا لأنه معروض للكلي
المنطقي حيث يصلح للصدق على جزئيات مفهومه ككلية الانسان و
كلية الحيوان وغير ذلك والكلي الطبيعي كما يكون أمرا حقيقيا
كذلك يكون أمرا اعتباريا والشي كما يجوز أن يتصف بمفهوم نقيضه
كالسلب المطلق فإنه يتصف بالثبوت الذهني أو ما يضاده
كمفهوم الجزئي فإنه يتصف بمفهوم الكلي كذلك يجوز أن يتصف
بمفهوم نفسه كمفهوم الكلي والوجود والشي والموجود والواحد
ونحو ذلك لا يقال فيلزم أن يكون الشئ أعم من نفسه لأنا نقول
الأعمية بحسب الصدق لا فساد فيها وبحسب الحقيقة غير لازمة و
إن أراد أن معرض الكلي المنطقي باعتبار كونه كليا منطقيا أي باعتبار
صدقه على كثيرين جنس وليس بذلك الاعتبار كليا طبيعيا بل
باعتبار كونه صالحا لان يتصف بالكلية المنطقية إذا وجد في الذهن و
هو بهذا الاعتبار أيضا جنس فهذا مع بعده عن ظاهر كلامه
مدفوع بأنه إن أراد الماهية المقيدة بذلك الاعتبار فلا ريب في صدقه
عليها وإن أرادها مع القيد فلا نسلم أن الماهية بهذا الاعتبار يسمى
جنسا
الخامس
جعل الفاضل المعاصر المعرف باللام المستعمل في العهد الذهني
حقيقة باعتبار وضع المدخول مجازا باعتبار وضع المعرف ورد على
من جعل المعرف حقيقة فيه وعده من باب إطلاق الكلي على الفرد لا
من حيث الخصوصية بأن المعرف بلام الجنس معناه الماهية المتعينة
في الذهن المعراة عن ملاحظة الافراد وإطلاقه على الفرد خروج عن
معناه الحقيقي فإن أخذ الماهية معراة عن ملاحظة الافراد وإن لم
يستلزم ملاحظة عدمها في الافراد حتى ينافي تحققها في الافراد لكنه
ينافي اعتبار وجودها فيها وبأنه لا مدخل للام في دلالة لفظ الكلي
على فرده فيلزم إلغاء اللام وبأنه لا معنى لوجود الكلي في ضمن فرد
ما إذ لا وجود له وإنما الكلي موجود في ضمن فرد معين وبأن
المعرف موضوع للماهية في حال عدم ملاحظة الافراد ولم يثبت
رخصة استعماله في حال ملاحظتها ثم أورد على نفسه بأن ذلك يتجه
بالنسبة إلى المدخول أيضا وأجاب بأن ما ذكره من كونه حقيقة في
الفرد إنما هو باعتبار الحمل دون الاطلاق وهو غير متصور في
العهد الذهني لعدم صحة حمل الطبيعة على فرد ما إذ فرد ما لا وجود
له حتى يتحقق الطبيعة في ضمنه وإنما الموجود مصداقه وتفصى
عن النقض بإطلاق النكرة كرجل في جئني برجل بأنها موضوعة
بالوضع النوعي من حيث التركيب مع التنوين بإزاء فرد ما وهو أيضا
كلي فيكون طلبه طلبا للكلي لا للفرد ولا للكلي في ضمن الفرد حتى
إنه لو أريد به في المثال المذكور ذلك أعني الطبيعة الموجودة في
ضمن الفرد كان مجازا لعدم وجودها بالفعل اللازم لصحة الاطلاق
بالفعل وأما رجل في نحو جاء رجل فحقيقة سواء أريد به النكرة أو
الجنس لأنه أطلق على الطبيعة الموجودة ثم تعجب من القوم حيث
أخرجوا العهد الخارجي عن حقيقة الجنس مع أنه أولى بالدخول قال
و
لعلهم توهموا أنه لما أطلق هنا وأريد به الفرد بخصوصه فهو مجاز ثم
أفسد هذا الوهم بأن ليس ذلك معنى إرادة الخصوصية فإن المشار
إليه في قولنا هذا الرجل هو الماهية الموجودة في الفرد لا أن المراد أن
المشار إليه هو هذا الكلي لا غير حتى يكون مجازا وزعم أن من جعل
العهد الذهني من أقسام المعرف بلام الجنس قد نظر إلى أن
الأحكام المتعلقة بالطبائع التي هي مداليل المعرف بها منها ما يتعلق
بالماهية من حيث هي من غير حاجة إلى ملاحظة الافراد أصلا
كالحسن والقبح والحل والحرمة ونحو ذلك ومنها ما يتعلق بالماهية
أصالة ويدل على التعلق بالافراد تبعا كقولنا اشتر اللحم فإنه
يدل على طلب طبيعة اللحم أصالة وعلى طلب الاتيان بفرد ما تبعا
من باب المقدمة فظن في القسم الثاني أن هذا المعنى التبعي مدلول
اللفظ مع أنه ليس كذلك بل لازم لمدلوله هذا محصل كلامه وملخص
مرامه وفيه ما لا يخفى فإن المعرف بلام العهد الذهني مستعمل في
الجنس المأخوذ باعتبار تعينه الجنسي أو الذهني فهو مستعمل في
معناه الحقيقي واعتبار تقييده بأحد الافراد على البدلية مراد من دلالة
خارجة من لفظه كمتعلق الدخول به في
168

ادخل السوق فلا ينافي كونه حقيقة وهذا معنى قولهم إنه من باب
إطلاق الكلي على الفرد لا من حيث الخصوصية ولا يقدح كون
المعرف
بلام الجنس معناه الماهية المعينة المعراة عن ملاحظة الافراد فإن
المراد كونها معراة عن ملاحظة الافراد على أن تكون الافراد مرادة من
لفظها فلا ينافي ملاحظة الافراد بدلالة خارجة وإلا لبطلت الحقائق
عند طريان التركيب عليها ومن هنا يظهر ضعف قوله وبأن
المعرف موضوع للماهية إلخ ولا يلزم إلغاء اللام إذا لم يكن لها مدخل
في دلالة الكلي على الفرد إذ ليس الغرض من الاتيان بها الدلالة
على ذلك بل على أخذ الجنس من حيث كونه متعينا ومتميزا و
التقسيم ناظر إلى انضمام الاعتبارات الخارجة إلى المقسم فإن إرادة
الالغاء بالنسبة إلى تلك الاعتبارات بمعنى عدم دلالتها عليها فلا
محذور ومعنى وجود الكلي في ضمن فرد ما وجوده في ضمن كل
فرد
اعتبر تقيده به على البدلية والترديد وبعبارة أخرى المراد وجوده
بوجود الكلي المقيد بأحد أفراده على البدلية وهذا المعنى مما لا
غبار عليه ولو جعلنا فردا ما كليا فلا ريب في اشتماله على مفهوم
الكلي وزيادة اعتبارية كالفرد المعين فحيثما يوجد فرد ما يوجد
الكلي في ضمنه فمعنى وجوده في ضمنه وجوده في ضمنه عند
وجوده وأما الايراد الذي أورده على نفسه فواضح الورود ولا يختص
بالمدخول بل يجري في جميع الحقائق كما نبهنا عليه وأما ما أجاب
به عنه فغير متضح المقصود والظاهر أنه يريد بالحمل حمل مدلول
مدخول اللام بحسب وضعه الافرادي على مدلول المعرف بحسب
وضعه التركيبي وهو كما ترى لأنه إن أراد أن بينهما حملا بحسب
مفاد اللفظ فواضح السقوط وإن أراد إمكان اعتبار الحمل بينهما فهو
مع خلوه عن الجدوى مما لا يساعد كلامه السابق عليه فإن المفهوم
منه كون الاطلاق حقيقة لا كون الحمل حقيقة و مع ذلك ينافيه قوله و
هو غير متصور في العهد الذهني لعدم صحة حمل الطبيعة على فرد
ما لا معنى العهد الذهني على مذهبه أيضا فرد ما من الطبيعة غاية
الامر أنه يجعله مجازا فيه وهو لا يصحح الحمل عليه حقيقة كما
يقتضيه
بيانه ثم إنكاره لصحة حمل الطبيعة على فرد ما مما لا يصغى إليه لان
فردا ما إذا كان متحدا مع
الطبيعة في الخارج جاز حملها عليه باعتباره يدلك على ذلك صحة
قولك جئني بإنسان يكون عالما وقوله فإن فردا ما لا وجود له في
الخارج إن أراد أن لا وجود له خارجا عن الافراد المعينة فغير مفيد إذ لا
يعتبر ذلك في صحة الحمل وإن أراد أن لا وجود له أصلا فإن
أراد بفرد ما أحد الافراد لا بشرط التعيين ففساده ظاهر لوجوده بوجود
الافراد المعينة والمعنى المأخوذ لا بشرط يجامع كل شرط و
إن أراد بشرط عدم التعيين فهو ليس بالمعنى المبحوث عنه وأما ما
التزم به في لفظ النكرة من إثبات وضع نوعي لها فمما لا أصل له
كما نبهنا عليه وأما إبطاله لكونها بمعنى الكلي الموجود في ضمن
الفرد بأنه لا وجود له فيه بالفعل فغير سديد إذ لا يعتبر في إطلاق
اللفظ حقيقة وجود معناه في الخارج حال الاطلاق وإلا لكان المقصود
بالامر المستعمل على وجه الحقيقة تحصيل الحاصل بل ولا وجوده
في غير حال الاطلاق كما إذا لم يتفق صدور الفعل من المأمور مع أن
الرجل في المثال الذي ذكره موجود حال الاطلاق غاية الامر أنه لم
يعتبر تعينه وهو لا ينافي وجوده مع التعينات وأما إخراج القوم للعهد
الخارجي عن المعرف بلام الجنس فوجهه واضح مما قررنا فإن
مدلول المعرف بلام العهد الخارجي هو الجنس باعتبار تعيينه
الخارجي وهو يغاير مدلول المعرف بلام الجنس لان مدلوله الجنس
باعتبار تعيينه الذهني أو الجنسي وأما إدخال المعهود الذهني فيه
فوجهه ظاهر مما بيناه ثم قد تبين مما قررنا أن المعهود الخارجي
يستعمل في الفرد المعين حقيقة وأن خصوصية الفرد مرادة من قرينة
الإشارة لا من لفظ الجنس وأن ما ادعاه من أن استعمال العام في
الخاص يقتضي الحصر مما لا وجه له كما مر سابقا ثم ما زعمه من أن
الحسن والقبح والحل والحرمة يتعلق بالطبائع من حيث هي قد
أفسدناه في بعض مباحث النهي بما لا مزيد عليه وكذا ما زعمه من أن
الامر بالطبيعة يستلزم الامر بأفرادها من باب المقدمة قد بينا ما
فيه في بحث المقدمة مع أنه لو تم فإنما يتم في الطبيعة المأمور بها
دون ما تعلقت به كما هو محل البحث
فصل الجمع المعرف يقتضي العموم
حيث لا عهد وعليه محققو مخالفينا ولا خلاف فيه بين أصحابنا على
ما حكاه بعضهم وكأنه لم يعتد بخلاف السيد أو أراد نفي الخلاف
عند من قال بأن للعموم لفظا يخصه أو يرى أن السيد لا ينكر إفادته
للعموم حينئذ لغة ولو بالنظر إلى ظهور اللفظ فيه وإن لم يختص
عنده بحسب الوضع لكن يأبى عنه ما أورده في الاحتجاج على إثبات
النقل الشرعي في ألفاظه أو أراد بالجمع المعرف ما ورد منه في
الشريعة لئلا يخرج المسألة عن مسائل الفن وأراد بالاقتضاء الاقتضاء
في الجملة ولو بحسب الشرع وهذا أقرب المحامل كما لا يخفى و
كيف كان فالمسألة واضحة بعد ملاحظة العرف واللغة وأثر الشك فيها
هين فلا ينبغي أن يلتفت إليه ثم هنا مباحث لا بد من التنبيه عليها
الأول إفادة الجمع المعرف للعموم ليست لكون اللام فيه موضوعة
للعموم كما سبق إلى أوهام كثير من القاصرين ولا لكون المركب من
الجمع والأداة موضوعا بوضع نوعي لذلك كما توهمه بعض
المعاصرين بل لعدم تعين شئ من مراتب الجمع عند الاطلاق بحيث
يصلح
لان يشار إليه لدى السامع سوى الجميع فيتعين للإرادة بيان ذلك أن
مدلول الجمع عبارة عما فوق الفردين لان أداته الملحقة بمفرده و
هو اسم الجنس المجرد موضوعة بوضع حرفي لملاحظة مدلول ما
لحقت به متحدا مع ما زاد على الفردين وقد مر أن اللام موضوعة
للإشارة إلى ما يتعين من مدلول مدخولها فهي في الجمع للإشارة إلى
الافراد المتعينة فحيثما يكون هناك ما يقتضي تعيين جملة من
الافراد كعهد أو وصف أو شبهه كانت الإشارة راجعة إليها وإلا تعين
الحمل على الجميع لأنه المتعين عند السامع بخلاف ما دونه من
المراتب حتى أقل الجمع لتردده عنده بين كل جملة فلا يصلح لرجوع
الإشارة إليه وقريب من ذلك الوجه في إفادة الموصولات للعموم
حيث لا عهد مع أنها حقيقة في الخصوص عند العهد نحو زيد الذي
أكرم أباك وذلك لأنها موضوعة لمعانيها
169

المتعينة بصلاتها من حيث كونها متعينة بها مع تضمن بعضها للإشارة
أيضا كالذي والتي وأولى ولولا ذلك لما كانت معارف ولتمت
معانيها بدون صلاتها ولا ريب أن معانيها إنما تتعين بصلاتها إذا كانت
معهودة باعتبارها أو أخذت من حيث حلولها في جميع الافراد
المقيدة بها فحيث لا عهد يوجب المصير إلى الأول يتعين الثاني فهي
في المعنى إما بمنزلة المعرف بلام العهد أو المعرف بلام الاستغراق
ولا فرق فيما ذكرناه بين مفرد الموصول ومثناه ومجموعه وكذا لا
فرق في ذلك بين أن يكون الجمع موضوعا للماهية المقيدة بإحدى
المراتب كما هو المختار وبين أن يكون موضوعا بالوضع العام
لخصوصية كل مرتبة من المراتب كما هو أبعد الوجوه في الجمع إذ لا
تعيين لغير الجميع على التقديرين كما بيناه وأما نحو قولهم فلان
يركب الخيل حيث لا يقصد به إلا الركوب على جنسها من غير اعتبار
لكونه فيما فوق الاثنين فمبني على المسامحة في التعليق حيث علق
الفعل المتعلق بالبعض على الكل على حد قرأت الكتاب ولمست
الثوب
أو على استعمال الجمع في مدلول اسم جنسه بإلغاء وصف الجمعية
مجازا وأما ما يقال من أن الجمع فيه باق على معناه وأن الإشارة فيه
راجعة إلى جنس الافراد لا إليها فإن أريد بجنس الافراد جنس مفهومها
فغير سديد لان الفردية الملحوظة في الجمع بمعنى حرفي لا
يصلح للإشارة إليه وإن أريد به جنس معروضها أعني مدلول المفرد
فقد يشكل بأن الجنس في مدلول الجمع مأخوذ باعتبار تحققه في
ضمن الافراد فإن أشير إليه بهذا الاعتبار كانت الإشارة إلى الافراد لا
إلى الجنس وحده كما هو المقصود وإن أشير إليه مجردا عن
الاعتبار المذكور فهو بهذا الاعتبار ليس بمدلول الجمع فلا يصلح لان
يشار إليه باللام لأنها تختص بالإشارة إلى مدلول مدخولها نعم
إذا كان الجمع مأخوذا عن مفرد معرف بلام الجنس صح ما ذكر فيه
فيكون بمنزلة العهد الذهني في المفرد كما سبق الإشارة إليه لكن لا
يستقيم اعتباره في المثال المذكور إذ لا مفرد له بل ولا فيما له مفرد لم
يسلم بناؤه فيه كالجمع المكسر إذ التحقيق فيه أنه موضوع لما
زاد على الفردين من مدلول مفرده بوضع وحداني نوعي أو شخصي
كالمشتق على ما سبق تحقيقه ولا سبيل إلى اعتبار الإشارة إلى
جز المعنى أعني
الجنس فيجري فيما لا مفرد له أيضا لعدم مساعدة الاعتبار عليه ولا
إلى القول باعتبار الواضع أخذه من المفرد المعرف أيضا فيكون
كجمع علم الجنس في المعنى لاستلزامه صيرورة اللام جزا من
الجمع وهو معلوم البطلان مضافا في المقام إلى عدم تعلق القصد
بالركوب على الثلاثة أو ما زاد في موارد إطلاقه غالبا ولا يذهب عليك
أن تطرق هذا الاحتمال المذكور حيث يصح لا ينافي ما قررناه
من ظهور الجمع المعرف في الاستغراق للوجه السابق لبعد الاحتمال
المذكور فإن الظاهر دخول اللام على المجموع لا دخول أداته على
المعرف لان اتصالها بالكلمة أقوى من اتصال اللام بها الثاني إذا وقع
الجمع المعرف في سياق النفي كما في قول القائل والله لا أتزوج
الثيبات ولا أزور الفساق كان المفهوم منه السلب الكلي ولهذا يحنث
إذا تزوج ثيبة أو زار فاسقا فإن حملنا الجمع حينئذ على العموم كما
هو قضية إطلاقهم هناك أشكل الامر في وجه إفادته للسلب الكلي هنا
فإن سلب العموم لا يستلزم إلا سلب الجزئي كما في قوله ما كل
يتمنى المر يدركه وإن حملناه على الجنس على حد قولهم فلان
يركب الخيل واستظهرنا منه ذلك حيثما يقع في سياق النفي ارتفع
الاشكال المذكور لان نفي الجنس يقتضي نفي جميع الافراد لكنه
ينافي إطلاقهم القول بأن الجمع المعرف يقتضي العموم حيث لا عهد
من
غير تخصيص له بسياق الاثبات اللهم إلا أن يقال تلك دلالة بالقرينة
حيث يلزم في المثالين ونظائرهما عراء الكلام عن الفائدة لو حمل
على العموم وثبوتها فيما لا يلزم ذلك فيه لو سلم استطرادا بمعونة
العرف وكلامهم مبني على تقدير التجرد عن القرينة وما بحكمها و
التحقيق أن يبنى على الوجه الأول ويجاب بأن السلب المتعلق بالعام
يعتبر تعلقه به تارة من حيث الوصف أعني العموم وأخرى من حيث
الموصوف أعني الافراد فإن أخذ باعتبار الأول كما يتعين في العام
المسور بكل كان مفاده سلب العموم الذي هو في قوة السلب الجزئي
لان رفع العموم لا يقتضي إلا رفع بعض الافراد وإن أخذ بالاعتبار
الثاني كما يتعين في الجمع المعرف والمضاف والموصول كان
مفاده السلب الكلي لتعلق السلب حينئذ بنفس الافراد لأنها معناها و
كذلك الفعل المنفي يعتبر تارة إسناده إلى العام أو تعليقه
به قبل اعتبار النفي فيه وذلك بأن يعتبر ورود النفي على الفعل
المسند أو المعلق بالعام فلا يقتضي النفي حينئذ إلا نفيه عن البعض و
يعتبر أخرى نفيه قبل اعتبار الاسناد أو التعليق بأن يسند المنفي إلى كل
فرد أو يعلق به فيقتضي حينئذ عموم السلب فمن قبيل الأول
قولك ما أكلت كل رمانة بل بعضها حيث نفيت الاكل المتعلق بكل فرد
فلا يقتضي إلا سلبه عن البعض فلا ينافي إثباته للبعض ومن قبيل
الثاني قوله تعالى إن الله لا يحب كل مختال فخور فإن المنفي فيه لم
يتعلق بحب كل فرد بل الحب المنفي تعلق بكل فرد ولهذا كان
مفاده عموم السلب فكون الجمع المحلى في سياق النفي للعموم لا
ينافي عمومية السلب المتعلق به بمعونة العرف وسيأتي لهذا مزيد
تحقيق إن شاء الله تعالى الثالث قال بعض المعاصرين قضية الأصل أن
يكون الجمع المحلى باللام لاستغراق الجماعات دون الآحاد لان
مدلول الجمع جنس الجماعة فإذا عرف باللام وأريد منه الاستغراق
كان استغراقه لجميع ما يصدق عليه مدخوله من الجماعات فيكون
على قياس المفرد حيث إن استغراقه عبارة عن تناوله لما يصدق عليه
مدخوله من الافراد إلا أن الاتفاق والتبادر أخرجاه عن ذلك إلى
العموم الافرادي بسلخ معنى الجمع منه والظاهر أن معناه الأصلي قد
هجر وأن الهيئة التركيبية موضوعة لذلك بوضع مستقل هذا ملخص
مرامه على ما يستفاد من تضاعيف كلامه وقد اقتفي في ذلك أثر
جماعة ممن تقدموا عليه أقول وفساده ظاهر مما تلوناه عليك في
تحقيق معنى اللام وما أوردناه في تحقيق الاستغراق في الجمع
المعرف وإن شئت مزيد بيان للمرام وزيادة توضيح للمقام فنقول إن
ما
يساعد عليه التحقيق ويرشد إليه التدبر بالنظر الدقيق أن اللام
موضوعة بوضع حرفي للإشارة إلى مدلول مدخولها أعني الجنس من
غير فرق بين المفرد والمثنى والمجموع
170

إلا أن المفرد لما كان مدلوله الجنس من غير اعتبار زائد كان صالحا لان
يؤخذ بهذا الاعتبار ويشار إليه باللام وأن يؤخذ باعتبار
تحقيقه في ضمن جميع الافراد أو بعض معين منها ويشار إليه بها على
ما سبق تفصيله ومدلول الجمع على ما عرفت هو الجنس باعتبار
تحققه فيما زاد على الفردين فاللام فيه للإشارة إلى الجنس المأخوذ
بهذا الاعتبار وحيث إن الجنس المأخوذ بالاعتبار المذكور عين
الافراد صح ما ذكرناه سابقا من أن اللام في الجمع للإشارة إلى الافراد و
أما إفادته للاستغراق فمبني على ما عرفته من أن الإشارة
تستدعي تعين المشار إليه عند المتكلم عقلا وعند المخاطب وضعا
أو ظهورا إطلاقيا وعند عدم القرينة لا يكون شئ من مراتب الجمع
متعينا عند السامع إلا الجميع فإشارة المتكلم حينئذ دليل على إرادة
ما هو المتعين عند السامع أعني الجميع دون غيره ومن هذا التحقيق
يظهر أنه لا فرق بين استغراق المفرد المعرف وبين استغراق الجمع
المعرف معنى حيث إن اللام فيهما للإشارة إلى الجنس المأخوذ
باعتبار تحققه في ضمن جميع الافراد وكون الجنس مأخوذا في الأول
في أظهر وجهيه باعتبار تعينه الجنسي وفي الثاني باعتبار تعينه
الافرادي لا يوجب الفرق بين الاستغراقين وإنما يوجب الفرق بين
المعنيين وكذا كون الاستغراق في الأول أفراديا وفي الثاني صالحا
له ولغيره لا يوجب الفرق بينهما في نفس الاستغراق بل في كيفيته و
إن افترقا لفظا من حيث إن الجمع يدل على كون الجنس ملحوظا
في ضمن الافراد بواسطة جزئه وهو الأداة وليس في المفرد ما يدل
على ذلك وإنما يستفاد اعتبار المتكلم إياه من أمر خارج ومن هذا
البيان يظهر فساد ما زعمه من أن حمل العموم في الجمع على العموم
الافرادي يوجب انسلاخ معنى الجمعية وإبطالها كيف ولو صح ما
ذكره لصح إطلاق الجمع حينئذ على الواحد والاثنين كصحة إطلاقه
على ما زاد إذ المانع من ذلك قبل دخول اللام إنما هو معنى الجمعية
المعتبرة في مدلول الصيغة وقد بطلت ولم يحدث بعده مانع آخر و
هو مما لا يلتزم به أحد وزعم المحقق الشريف أن الجمع لما دل على
الجنس مع الجمعية فلو أجري حالة الاستغراق على قياس المفرد كان
معناه كل جماعة فيلزم التكرار في مفهومه لان الثلاثة
مثلا إحدى الجماعات فيندرج فيها بنفسها وجز من الأربعة فما زاد
حتى المجموع فيندرج في ضمن كل مرتبة وكذلك سائر
الجماعات فيكون مدلوله تكرارا محضا قال ولهذا يرى الأئمة يفسرون
الجمع المستغرق تارة بكل واحد واحد وهو الغالب فيكون
كالمفرد في استغراقه كأنه قد بطل منه معنى الجمعية فصار للجنسية و
تارة بالمجموع من حيث المجموع كما في قولك للرجال عندي
درهم حيث حكموا بأنه إقرار بدرهم واحد للكل هذا ملخص كلامه و
ضعفه ظاهر إذ غاية ما يلزم من اعتبار عموم الجمع بحسب
الجماعات أن يكون قول القائل أكرم العلماء بمنزلة قوله أكرم كل
جماعة منهم أو أكرم كل علماء فكما لا تكرار في الثاني بحكم العرف
واللغة فكذا ما هو بمنزلته وتحقيقه أن التكرار إنما يلزم هناك على
تقدير الجمود على ما يقتضيه اللفظان بحسب أصل الوضع لكن لا
يتعلق القصد به في الاستعمال كذلك بل يراد غير التكرار ويلغى صور
التكرار إما بقرينة عدم الفائدة في اعتبارها أو لغير ذلك ثم ما
توهمه من أن تفسيرهم للجمع المعرف بمعنى كل فرد يوجب سلخ
معنى الجمعية منه مردود بما عرفت آنفا بما لا مزيد عليه بقي الكلام
في أن عموم الجمع المعرف مجموعي أو أفرادي فنقول الذي يقتضيه
الأصل هو الأول لان مدلول الجمع مجموع الآحاد لا كل واحد واحد
وليس مفاد اللام الداخلة عليه إلا الإشارة إلى تلك الافراد والظاهر من
تعلق حكم أو نسبة بما يدل على المجموع تعلقه به من حيث
المجموع فقول القائل جئني بالعلماء بمنزلة قوله جئني بهذه الجملة
فقولهم في الصورة المذكورة إقرار للكل بدرهم واحد جار على
الأصل هذا إذا لم ينصب قرينة على اعتبار تعلق الحكم بالمجموع من
حيث الآحاد وإن نصبت عليه قرينة كما هو المستفاد غالبا من
الحكم المتعلق به كان للعموم الافرادي وأمثلة كثيرة
فصل اختلفوا في أن المفرد المعرف هل يفيد العموم عند عدم العهد
أو لا
فذهب إلى كل فريق والظاهر أن حكم المثنى المعرف حكم المفرد
في ذلك فيمكن أن يفسر المفرد هنا بما يقابل المجموع فيتناوله
احتج الأولون بوجهين الأول جواز وصفه بالجمع على ما حكاه
بعضهم من قولهم أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر وهذا
ضعيف لان الاستعمال المذكور شاذ نادر لاختصاص البعض بنقله في
خصوص الموردين فيمكن القدح في صحته أو ثبوته ولو سلم فهو
مقصور على مورد السماع فلا يثبت المقصود في غيره ومع ذلك فهو
إرادة بالقرينة فلا يثبت عند عدمها على أنه معارض باستعمالهم
له في الجنس في مثل قولهم الرجل خير من المرأة وهو مطرد في
الحدود والتمسك بأحد الاستعمالين ليس بأولى من التمسك بالآخر
و
أجيب أيضا بالمنع من دلالته على العموم لان مدلول العام كل فرد و
مدلول الجمع مجموع الافراد وبينهما بون بعيد واعترض عليه
الفاضل المعاصر تبعا لصاحب المعالم بأنه مبني على أن لا يكون
عموم الجمع أفراديا كعموم المفرد وهو خلاف التحقيق وضعفه ظاهر
لان مدلول المفرد المعرف على تقدير إفادته للعموم كل فرد ومدلول
الجمع مجموع الافراد على ما مر بيانه لا كل فرد فيمتنع أن
يوصف أحدهما بالآخر ولا ينافي ذلك ما قررناه من أن عموم الجمع
في الغالب أفرادي لا مجموعي لان ذلك بحسب تعلق الحكم بمدلوله
لا باعتبار نفس مدلوله والوصف إنما يكون باعتبار نفس المدلول لا
باعتبار تعلق الحكم به وهذا واضح نعم يبقى الكلام في تعلق
الجواب المذكور بدفع الدليل فيمكن تنزيله على منع صغرى الدليل
من جواز وصفه بالجمع فيرجع إلى المنع من صحة ما تمسك به عليه
من المثالين أو منع ثبوته أو اطراده لما مر من المنافرة أو بمنع كبراه من
كون الموصوف بالجمع عاما أفراديا بل مجموعيا لما مر وهو
غير موضع النزاع الثاني صحة الاستثناء منه كما في قوله تعالى إن
الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وأجاب عنه بعضهم بأنه مجاز لعدم
الاطراد وأورد عليه بعض المتأخرين بأنه لا مجال لانكار إفادة المفرد
المعرف العموم في بعض الموارد حقيقة كيف ودلالة أداة
التعريف على الاستغراق حقيقة وكونه أحد معانيها مما لا يظهر فيه
خلاف
171

فالكلام حينئذ إنما هو في دلالته على العموم مطلقا بحيث لو استعمل
في غيره لكان مجازا على حد سائر صيغ العموم التي هذا شأنها و
من البين أن هذه الحجة يعني وقوع الاستثناء منه في الآية لا ينهض
بإثبات ذلك بل إنما يثبت المعنى الذي لا نزاع فيه هذا كلامه ونحن
نقول قد عرفت بما حققنا سابقا أن مفاد اللام في المفرد وغيره ليس
إلا الإشارة إلى مدلول مدخولها مأخوذا بتعين لاحق له فمفادها
في المفرد الإشارة إلى الحقيقة التي يدل عليها لفظه بتعينها الجنسي أو
الشخصي ومفادها في الجمع الإشارة إلى الافراد المتعينة ولو
بعهد وشبهه فمن زعم أن اللام مستعملة في شئ من موارده في
الاستغراق فقد أخطأ نعم هي تفيد الاستغراق في الجمع لا بمعنى أنها
تستعمل فيه في الاستغراق بل بمعنى أنها تمحضه لاستغراق جميع
الآحاد عند عدم ما يقتضي تعيين ما دونه لما سبق ذكره وأما في
المفرد فهي ظاهرة في الإشارة إلى الحقيقة من حيث تعينها الجنسي
حيث لا يكون تعين عهدي نعم قد يؤخذ الحقيقة المشار إليها
بالاعتبار الأول باعتبار تحققها في جميع الافراد لا بدلالة اللام أو
المعرف بها عليه إذ ليس مدلولهما كما عرفت إلا الإشارة والحقيقة
بل بدلالة أمر آخر عليه كقرينة الاستثناء في الآية ونحوها فيفيد
العموم بمعونته بل كما يؤخذ الحقيقة المشار إليها باللام المدلول
عليها
بلفظ معرف باعتبار تحققها في جميع الافراد ويدل عليه بأمر خارج
كذلك يؤخذ الحقيقة المجردة عن الإشارة المدلول عليها بلفظ
منكر بالاعتبار المذكور ويدل عليه بأمر خارج كما في قوله تعالى
علمت نفس ما أحضرت وقولهم تمرة خير من جرادة فلا فرق في
استفادة الاستغراق من المفردين بين معرفة ومنكرة فكما أن المفيد له
في الثاني غير لفظه فكذلك في الأول وبهذا يسقط ما ذكره
التفتازاني من أن النكرة قد تستعمل في العموم مجازا وساق المثالين و
غيرهما وذلك لأنا لا نسلم أنها مستعملة في تلك الموارد و
نظائرهما في غير معناها الأصلي إذ القرينة التي تدل على اعتبار
العموم فيها لا تدل على كونه مقصودا من لفظها والتجوز إنما يلزم
على تقديره كما مر هذا ويجوز أن يجعل اللام في المفرد أيضا للإشارة
إلى الحقيقة المتعينة من حيث
تحققها في ضمن جميع أفرادها كما مر الإشارة إليه ولعله خلاف
الظاهر منه حيث يراد به الاستغراق من حيث إن تعين الجنس من
حيث
وجوده في ضمن جميع أفراده تعين ضعيف لشوبه بضرب من الابهام
فلا ينصرف ظاهر الإشارة إليه فظهر مما حققناه بطلان كل من
الاستدلال والجواب والايراد بقي الكلام فيما جعله المورد موردا
للنزاع وبطلانه مما لا يكاد يخفى إذ كون المفرد المعرف حقيقة في
الجنس والعهد مما لا يرتاب فيه أحد وكلماتهم مصرحة به فكيف
يتصور وقوع النزاع في اختصاصه بالاستغراق بل الذي يناسب أن
يجعل محلا للنزاع بحيث يوافق كلمات القوم ولا ينافي ما حققناه هو
أن المفرد المعرف إذا استعمل مجردا عما يعينه للعهد مع عدم
صلوح الحكم للتعلق بالجنس من حيث هو فهل الظاهر تعلق القصد
بمدلوله باعتبار تحققه في جميع الافراد أو لا فمن قال بالأول قال بأنه
يفيد الاستغراق ومن قال بالثاني نفي ذلك فالمراد بالإفادة الإفادة ولو
بواسطة الاطلاق توسعا احتج الآخرون أيضا بوجهين الأول
عدم تبادر العموم منه عند الاطلاق الثاني أنه لو عم لجاز الاستثناء منه
مطردا وهو منتف قطعا وهاتان الحجتان كما ترى إنما تثبتان
بظاهرهما كون المفرد المعرف مجازا في العموم إذا استعمل فيه أو
كونه غير لازم لمعناه عند الاطلاق وهما مما لا ريب فيه لكن قد
تمسك بهما من قال بالاشتراك بين الاستغراق وبين غيره وحمل كلام
الآخرين ممن وافقه على نفي العموم عليه وهو غير واضح نعم
يمكن تأويل الدليل الأول بأن المراد عدم تبادر العموم منه على
التعيين فلا يكون حقيقة فيه على التعيين لكن يشكل تنزيل الدليل
الثاني
لان عدم الاطراد لو صلح دليلا فإنما يصلح دليلا على المجازية لا على
الاشتراك إلا أن يراد عدم اطراده بالنسبة إلى كل ما يصلح له
المفرد المعرف حقيقة وفيه تعسف
تنبيه
قد عرفت أن مدلول المفرد المعرف هو الحقيقة الملحوظة باعتبار
تعين لاحق لها فمدلوله في غير العهد هي الحقيقة الملحوظة باعتبار
تعينها الجنسي وحينئذ فإذا تعلق بها ما يصلح لان يكون لاحقا لها من
حيث هي فلا إشكال وهذا الاستعمال مطرد في موارد الحدود التي
هي من قبيل التصورات وفي غيرها شاذ ولهذا تسمع المنطقيين
يقولون لا عبرة بالقضايا الطبيعية في العلوم وإلا كان تعلق الحكم بها
قرينة على اعتبارها من حيث الفرد وهذا مطرد في الأحكام الشرعية
فإن تعلقها بالطبائع من حيث هي غير معقول فإن الحقيقة من حيث
هي مجردة عن اعتبار الوجود والعدم مما لا يصح تعلق الإرادة أو
الكراهة بها وتعلقها بها باعتبار الوجود تعلق بها باعتبار الفرد لان
الحقيقة بهذا الاعتبار لا تكون إلا جزئية ولا نعني بالفرد إلا ذلك ولا
يتوهم أن هذا ينافي القول بأن الأوامر تتعلق بالطبائع دون
الافراد لان المراد هناك ما يتعلق به صيغة الامر ولا ريب أن ما يفيده
الصيغة إنما هو طلب الايجاد وهو إنما يتعلق بالطبيعة من حيث
هي لأنها مدلول المادة التي وردت عليها الهيئة عندهم دون الفرد وإن
كانت الطبيعة بالقياس إلى الطلب جزئية لأنه إنما يتعلق بها
باعتبار وجودها الخارجي وهي بهذا الاعتبار شخصية لا محالة وقد
مر التنبيه على هذا مرارا وإذا حققت ذلك في الأحكام التكليفية
فقس عليه الحال في الأحكام الوضعية فإن شرطية الحقيقة من حيث
هي أو سببيتها أو مانعيتها أو صحتها أو بطلانها غير معقولة بل كل
ذلك إنما يلحق الماهية باعتبار تحققها في الخارج ومما حققنا يظهر
فساد ما زعمه بعض المعاصرين حيث قال والقول بأن الطبائع
إنما تصير متعلقة للأحكام باعتبار وجودها كلام ظاهري بل الطبائع
بنفسها تصير متعلقة للأحكام ومتصفة بالحسن والقبح قال و
غاية ما يمكن أن يقال إنه لا وجود لها إلا بالافراد وفيه أنا نقول بتعلقها
بها لا بشرط شئ لا بشرط أن لا يكون معها شئ حتى لا يمكن
التكليف بها ثم قال ولا فرق بين تعلق الامر به أو تعلق الحل والجواز و
الحرمة ونحوها هذا كلامه ونحن نقول من الأمور الواضحة
الجلية التي لا يكاد
172

يعتريها شك أو تخفي على أوائل العقول أن مطالب العقلا بل و
غيرهم لا تتعلق بالطبائع إلا باعتبار وجودها أو عدمها وتعلقها به من
حيث هي ممتنع حتى إنه لو قدر قول قائل لا أريد ماهية الشراء مثلا
من حيث وجودها وعدمها بل أريدها من حيث هي وأكلف بها كذلك
لم يشك أحد في كونه سفها وهذيانا ومع ذلك لا يتبين كونه أمرا أو
نهيا لان إرادة الماهية من حيث هي قدر مشترك بينهما حيث إنها
مرادة في الامر باعتبار الوجود وفي النهي باعتبار العدم فإذا تجردت
عن الاعتبارين بقيت مرددة بينهما وأنت عند التأمل والتحقيق
تجد أن من أجاز ذلك فقد شبه على نفسه ولبس أمر وجدانه عليه
لسبق ذهنه ببعض الشبهات فأخذ الماهية المطلوبة بأحد الاعتبارين و
زعم أنها مجردة عنهما وقد مر التنبيه على ذلك في مباحث النهي و
كذلك الحسن والقبح بالمعنى الذي يستتبع الاحكام وأما الحسن
بمعنى كمال الماهية والحقيقة والقبح بمعنى نقصها فيجوز أن يلحق
الماهية من حيث هي وإليه ينظر قولهم الرجل خير من المرأة فإن
وجه الخيرية كمال حقيقته بالنسبة إلى حقيقتها ونقصان حقيقتها
بالنسبة إلى حقيقته وكذلك الحال في متفاهم الاستعمال بالنسبة إلى
الطبائع التي تقع قيودا للمطلوب أو لمتعلق الحكم ولو بواسطة أو
وسائط كما في ادخل السوق وإن أمكن عدم اعتباره نعم يستثنى من
ذلك ما يقع منها قيدا للوجود أو الايجاد من غير واسطة كما في أوجد
الاكرام فإن المراد بها حينئذ نفس الطبيعة وقد مر التنبيه على
ذلك سابقا وإذا تبين لك مما حققنا أن الحقيقة متى تعلق بها حكم
شرعي أو ما يكون بمنزلته لزم اعتبارها من حيث الفرد والوجود
فنقول إذا كان الحكم مما يصح تعلقه بالحقيقة باعتبار فرد ما بحيث لا
يكون في الحمل عليه ما ينافي مقتضى المقام حمل عليه لان امتناع
تعلق الحكم بالحقيقة من حيث هي إنما يقتضي أخذها باعتبار الفرد
في الجملة وأقله أخذها باعتبار فرد ما فإذا لم يكن هناك ما يوجب
اعتبار ما يزيد عليه تعين الاقتصار عليه كما في قولك أعط الفقير
درهما أو جئني بالرجل حيث لا عهد وإن كان في أخذ الحقيقة
باعتبار فرد لا بعينه ما ينافي قضية المقام كلزوم الاجمال حيث لا
يكون هناك شاهد على التعيين كالعهد وشبهه تعين أخذها باعتبار
جميع الافراد كما
في قوله تعالى وأحل الله البيع فإن الحمل على حلية فرد ما منه مبهم
غير معقول لان المبهم لا وجود له فيمتنع قيام الصفة الوجودية وإن
كانت اعتبارية به وحمله على فرد معين عندنا ترجيح من غير مرجح
وعلى معين في الواقع يوجب الاجمال المنافي لمقتضى الحال حيث
إنه سبق في مقام البيان وعلى فرد لا بعينه على البدلية مخالف
لاطلاق الكلام على ما هو المفروض في المقام فإن مرجع ذلك إلى
اشتراط حلية كل واحد بعدم حصول الاخر وليس في اللفظ ما يدل
عليه فيتعين التعميم وقد يصار إلى التعميم نظرا إلى كونه أنسب بما
تقتضيه المقام وأوفق بما سيق له الكلام من إظهار الامتنان والانعام و
منه قوله عليه السلام خلق الله الماء طهورا الحديث وهذه الحكمة
كما توجد في المفرد المعرف فيوجب حمله على العموم كذلك قد
توجد في النكرة فيوجب حملها عليه ومنه قوله تعالى وأنزلنا من
السماء ماء طهورا فإن التنوين فيه إما للتمكن والمراد بالماء الجنس
باعتبار تحققه في جميع الافراد بقرينة ما ذكرناه أو للتنكير و
المقام يفيد مفاد لفظ كل فكأنه قيل كل ماء والفرق بين الحكمتين أن
الثانية تقتضي التعميم بحسب الافراد التي يتحقق فيها الامتنان و
الأولى يقتضي ذلك بحسب الافراد المتساوية في تعلق الحكم بها
دون المرجوحة وإلى هذا ينظر ما تعارف بينهم من حمل المطلق على
الافراد المتعارفة أي المتعارفة بحسب مقام الحكم وتحقيقه أن تعلق
الحكم بالحقيقة حيث يتعذر تعلقه بها من حيث هي يقتضي أخذها
باعتبار تحققها في ضمن فرد ما فيعم كل فرد لا رجحان لغيره في ذلك
الحكم عليه فإذا تحقق رجحان للبعض ككونه أوفق بالحكم
المذكور من غيره بحيث يوجب في متفاهم العرف صرف المراد إليه
عند الاطلاق تعين الحمل عليه وهذا مما يختلف باختلاف المقام و
الأحوال فلفظ العبد في مثل قول القائل وكلتك في شراء العبد
ينصرف إلى العبد الصحيح السليم دون المريض والمعيب فالاطلاق
تقتضي المقام يقوم مقام التصريح بالقيد بخلاف ما لو نذر أن يعتق
عبدا فإن الصحيح وغيره في ذلك سواء فالفرد الصحيح السليم هو
الراجح المتعارف في مقام التوكيل في الشراء دون مقام النذر وكذلك
الحال في مثل قولك اشتر لي عبدا أو نذر أن يعتق عبدا مع أن
النكرة موضوعة لفرد لا بعينه ومما حققنا يتضح لك فساد ما زعمه
بعض المعاصرين في المقام من أن انصراف المطلق إلى الافراد
الشائعة لعله مبني على ثبوت الحقيقة العرفية في ذلك اللفظ مع هجر
معناه اللغوي أو مع بقائه واشتهار المعنى العرفي أو على صيرورته
فيها مجازا مشهورا فيرجح على الحقيقة المرجوحة ثم أورد على الأول
باستبعاد وقوعه وعلى الثاني بأنه لا مدخل للشهرة في تعيين أحد
معاني المشترك وعلى الثالث بمعارضة الشهرة لأصالة الحقيقة ثم
عين لحوق الحكم للأفراد الشائعة لتحقق إرادتها على إرادة كل من
المعنيين على التقديرين الأخيرين بخلاف غيرهما ولا يخفى أن منع
كون الشهرة قرينة على تعيين أحد معاني المشترك مع كونه
مكابرة مناف لما ذكره في الأخير من معارضتها لأصالة الحقيقة وكون
الافراد الشائعة محققة الإرادة لا يصلح إلا لاثبات الحكم
الظاهري في مقام العمل ومقصود القوم من دعوى انصراف المطلق
إلى الافراد الشائعة تعيين المراد كما أوضحنا وجهه ومع ذلك
ففساد الاحتمالات المذكورة ظاهر إذ ليس شئ منها من انصراف
المطلق إلى الافراد الشائعة لا سيما الأول إذ لفظ العبد في مثال
التوكيل غير منقول إلى الفرد الصحيح السليم وإلا لفهم ذلك منه في
مثال النذر أيضا ولكان قولك اشتر لي عبدا صحيحا كان أو مريضا
سليما كان أو معيبا مجازا وهو معلوم الخلاف واحتمال أن يكون
موضوعا عند الاطلاق في مثل مقام التوكيل لخصوص الصحيح
السليم
مما لا يكاد يخفى فساده بعد التأمل في كيفية الدلالة ومنشئها وإلا
لأمكن سد باب المجاز بفتح هذا الباب فيقال المجاز موضوع لمعناه
المجازي عند احتفافه بالقرينة فلا يتحقق مجاز أصلا بل التحقيق أنه
ليس مستعملا إلا في معناه والتقييد بالصحيح والسليم إنما يفهم من
قرينة الاطلاق لا من نفس اللفظ
فصل الجمع المضاف
ظاهر
173

في العموم كمعرفه باللام وهذا مما لا خفاء فيه بعد ملاحظة موارد
إطلاقه وإنما الاشكال في منشأ هذا الظهور ولعل السر في ذلك كون
الإضافة بحسب الأصل مقتضية لان يكون المراد بالمضاف الشئ
المعهود عند المخاطب بالإضافة باعتبار كونه معهودا عنده بها لأنها
موضوعة لنسبة المضاف إلى ما أضيف إليه باعتبار كونه متعينا عند
المخاطب بتلك النسبة وإلى هذا أشار بعض محققي النحاة حيث قال
تعريف الإضافة باعتبار العهد فلا تقول جاءني غلام زيد إلا لغلام
معهود بينك وبين المخاطب قال نجم الأئمة هذا أصل وضع الإضافة
لكنه قد يقال جاءني غلام زيد من غير إشارة إلى معين كالمعرف باللام
وهو خلاف وضع الإضافة لكنه كثير في الكلام وحينئذ فحيث
لا يكون قرينة توجب تعيين البعض يتعين الحمل على الجميع لتعينه
عند المخاطب بخلاف ما دونه من المراتب لتردده بين الجملة فكما
عرفت في المبحث المتقدم هذا إذا كان الجمع مضافا إلى المعرف
كعلماء البلد ورجال الدار وأما إذا كان مضافا إلى النكرة كرجال دار
وعلماء بلد فيحتاج إلى مزيد توجيه وذلك بأن يقال إضافة الجمع إلى
النكرة لما لم توجب التعيين من حيث ما أضيف إليه نظرا إلى
إبهامها بهذا الاعتبار وإن أوجب التخصيص فلو لم يعتبر المضاف
أعني الجمع حينئذ باعتبار الجميع بل باعتبار بعض غير معين ازداد
فيه الابهام المنافي لوضع الإضافة ولو اعتبر من حيث المجموع قل
نظرا إلى كون الابهام فيه حينئذ من حيث ما أضيف إليه فقط وهو
أقرب بالنسبة إلى أصلها فيكون بحكم أقرب المجازات في وجوب
الحمل عليه عند تعذر الحقيقة وأما المفرد المضاف فالحق أنه لا يفيد
العموم بنفسه مطلقا كما يظهر بالتصفح في موارد استعماله لا يقال
يمكن التمسك في إثبات عمومه بالبيان المتقدم في الجمع وتوجيهه
أن يقال ليس المراد بالمضاف الطبيعة من حيث هي لما مر بل من
حيث الفرد فحيث لا قرينة على إرادة البعض يتعين الحمل على
الجميع
لئلا يلزم الترجيح من غير مرجح أو الخروج عما يقتضيه أصل الإضافة
لأنا نقول الظاهر من تعريف المفرد بالإضافة عند عدم العهد
تعريفه باعتبار الجنس أو التميز في الذهن فمعنى غلام زيد هذه
الطبيعة الخاصة من الغلام فلا يجري فيه
الوجه المذكور والفرق بينه وبين الجمع أن مدلول الجمع الافراد ولا
تعيين لشئ من مراتبها لدى السامع عند عدم العهد إلا الجميع
بخلاف المفرد فإن مدلوله الماهية والجنس فيمكن اعتبار التعيين فيه
بحسب مدلوله الجنسي أو حضوره الذهني كما في المفرد المعرف
باللام أو الصنفي كما في المقام أو الشخصي كما في العهد ولا يشكل
ذلك باستلزامه تعريف المضاف إلى المنكر لان التعيين بالمنكر لا
يفيد كمال التعيين المعتبر في التعريف وإن أفاد التخصيص واعلم أن
بعض الأصوليين صرح في بعض مباحث الامر بأن المصدر
المضاف يفيد العموم وأثبت به عموم الامر في قوله تعالى فليحذر
الذين يخالفون عن أمره واستشهد عليه بصحة الاستثناء منه في الآية
والحق أن المصدر المضاف كغيره من المفردات المضافة مما لا إشعار
له بالعموم بنفسه فإن قولنا أعجبني ضرب زيد مما لا دلالة له
على إعجاب كل ضرب صدر منه وأما الامر في الآية فهو مفيد للعموم
لا لما ذكروه بل لوقوعه في سياق ما هو في معنى النهي كما مر
التنبيه عليه في محله
فصل الأكثر على أن الجمع المنكر لا يفيد العموم
وقيل بل يفيده وعن الشيخ أنه يفيده نظرا إلى الحكمة ولا فرق في
موضع النزاع بين أنواع الجمع ولا بين المنون منه وغيره نعم ينبغي
أن يراد به ما عدا المضاف لما مر من إفادته العموم والحق عندي ما
ذهب إليه الأكثرون لنا أن الجمع بحكم التبادر موضوع للماهية
الملحوظة باعتبار كونها متحدة مع ما زاد على الفردين والماهية
المأخوذة بهذا الاعتبار صالحة للصدق على كل جملة من الافراد حتى
الجميع فإذا دخل عليه التنوين وهي ظاهرة في النكارة التي مفادها
مصداق من مصاديق ما دخلت عليه لا بعينه كان مدلوله أحد تلك
المصاديق لا على التعيين فيتردد بين الجميع وما دونه من المراتب
مما فوق الاثنين فلا يختص بالجميع والظاهر أن لا نزاع في صلوحه
للجميع على البدلية وإن كان منونا قال العلامة التفتازاني لا نزاع في أن
الجمع المنكر صالح للجميع من حيث إنه أحد أفراد الموضوع له
للقطع بأن جميع الرجال رجال على الحقيقة وإنما النزاع في كونه
ظاهرا في العموم على حد سائر الصيغ هذا ثم عندي على صلوح
الجمع
المنون لجميع الافراد وعلى لحوق التنكير به إشكالان ينبغي التعرض
لهما ولدفعهما تنقيحا للمرام وتحقيقا للمقام الأول أن قضية
كون أداة الجمع حرفا وكون الحروف بأسرها موضوعة بالوضع العام
لمعان خاصة على ما تحقق في أوائل الكتاب أن يكون مدلول
الجمع خصوص مرتبة من المراتب التي فوق الاثنين دون القدر
المشترك بينهما لأنه كلي فينافي وضع الحرف فلحوق التنوين به
يوجب
طريان النكارة عليه بحسب مصاديق المرتبة التي استعمل فيها الجمع
وظاهر أن هذا لا يتحقق في حق الجميع إذ لا تعدد في مصاديقه
الثاني أن التنكير لا يخلو إما أن يكون لاحقا لما عرضت عليه وصف
الجمعية أو لنفس الوصف والأول يوجب التدافع بين مفاد التنوين
الدالة على الوحدة الفردية ومفاد الجمعية الدالة على التعدد والثاني
باطل لما سبق التنبيه عليه من أن الجمعية المفهومة من الجمع معنى
آلي وأنها غير ملحوظة لنفسها بل لملاحظة حال ما تعلقت به بدليل أن
الدال عليها حرف
أو ما بحكمه بالاتفاق ومعاني الحروف مما يمتنع وصفها بوصف أو
تقييدها بقيد لان كلا من الوصف والتقييد في قوة الحكم يستدعي
كون الموصوف والمقيد متصورا لنفسه ملحوظا في ذاته وإلى هذا
ينظر ما يقال من عدم جواز دخول الحرف على الحرف إذ ليس
المراد دخوله عليه لفظا فإن جوازه من الأمور الجلية التي لا يعتريها
وصمة الانكار بل المراد دخوله عليه معنى على حد دخوله على
الاسم
والفعل ووجهه أن الحروف حيث كانت موضوعة لمعان آلية ملحوظ
بها أحوال ما دخلت عليه وارتبطت به فلا جرم كان مدخولها معان
مستقلة بالذات ملحوظة في نفسها فإن ما يلاحظ لغيره يستدعي كون
الغير ملحوظا لنفسه بالضرورة والسر فيه أن وجود معنى الحرف
في الذهن وجود عرضي فيمتنع قيامه بمثله للزوم قيام المعنى
بالمعنى وهو محال وتعلقه بشئ عبارة عن قيام لحاظه به فلا يتعلق
بمثله وأما
174

اشتهر بين علماء الميزان في بيان الفرق بين الموجبة المعدولة و
السالبة المحصلة من أن السلب في المعدولة متعلق بالمحمول وفي
السالبة بالنسبة فتسامح لان السلب لا يتعلق بالنسبة لما عرفت بل
التحقيق أنهما مشتركان في كون حرف السلب فيهما متعلقا بالمحمول
وإنما الفرق أن تعلق السلب في المعدولة متقدم على اعتبار النسبة في
المحمول أعني أخذ المحمول محمولا وفي السالبة متأخر عنه
فالنفي يتعلق في السالبة بالمحمول المنتسب وتتعلق النسبة في
المعدولة بالمحمول المنفي هذا وينبغي تنزيل كلامهم هذا ونظائره
عليه ووجه دفع الأول أن كون الجمع موضوعا للقدر المشترك بين
المراتب لا ينافي كون أداته موضوعة بوضع الحروف وذلك لان
معنى كون الوضع عاما والموضوع له خاصا أن الواضع لاحظ معنى
كليا ووضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى منضما إلى إحدى خصوصيات
أفراده كما في أسماء الإشارة والضمائر أو خصوصيات ما جعل ذلك
المعنى آلة لملاحظة حاله كما في الحروف بأسرها فإن من مثلا
موضوعة لمفهوم الابتداء الملحوظة به حال ما دخلت عليه وارتبطت
به حتى إنه لو تعدد ذلك المعنى في مدخولها كان للقدر المشترك
بين الكل لا أنها موضوعة لخصوص كل فرد من أفراد الابتداء للقطع
بأن المفهوم منها في قولك سرت من البصرة أو سر من البصرة إنما
هو خصوص ابتدأ وهو ما لوحظ به حال السير مقيسا إلى البصرة لا
خصوص فرد منه هذا إذا اعتبر خصوصية المفهوم مجردا عما
يعتريه من اللحاظ وإلا فلا ريب في كونه جزئيا حقيقيا بهذا الاعتبار
كما سبق تحقيقه وحينئذ فكون أداة الجمع موضوعة للقدر
المشترك بين المراتب لا ينافي كون وضعها حرفيا مع أن الاشكال
المذكور وارد على تقدير كونها موضوعة لخصوصية كل مرتبة من
المراتب أيضا لأنه أيضا كلي وإن كان أخص من الأول وينبغي تنزيل
كلامهم عليه ووجه دفع الثاني أن النكارة ليست لاحقة لوصف
الجمعية ولا لموصوفها المجرد عن اعتبارها أعني مدلول المفرد من
الماهية من حيث هي بل لاحقة لتمام مدلول الجمع أعني الماهية
المأخوذة باعتبار تحققها فيما زاد على الفردين ولا ريب أن الماهية
المأخوذة بهذا الاعتبار صالحة
للكل لصلوحها للبعض فاعتبار التنكير فيها يوجب ترددها بين ما
يصلح له من المصاديق من غير اختصاص له ببعض دون بعض نعم
ينبغي أن يستثنى من ذلك صورة وهي ما إذا وقع الجمع المنكر في
مقام الاخبار كقولك جاءني رجال من أهل الدار فإن الظاهر منه عدم
مجئ الجميع أو عدم العلم به وإلا لكان المناسب تعريفه فيتعين
الأول حيث يتبين عدم الثاني هذا تحقيق المقام على ما يساعد عليه
النظر الجلي والتحقيق أن الجمع المصحح مشتمل غالبا على مادة
موضوعة للجنس وعلى هيئة أو أداة موضوعة بوضع حرفي لملاحظة
الجنس أعني مدلول المفرد مقيدا بمصداق من مصاديق ما فوق
الاثنين لا على التعيين فيكون تقييده بكل مصداق تقييدا ترديديا
بمعنى أن
تقييده بكل مصداق على وجه يصلح لتقييده بمصداق آخر على
البدلية ومثله الجمع المكسر وما لا مفرد له من لفظه إلا أنهما
موضوعان
بهذا المعنى بوضع وحداني كما مر في المشتق فحكم الجمع حكم
المفرد المنون والمثنى في أن مدلوله لا يتم إلا بعد أخذ الجنس مقيدا
بالشخص وإن افترقت من حيث أن المعتبر في المفرد تقييده بشخص
واحد وفي المثنى بشخصين وفي الجمع بأشخاص ومن حيث إنه
قد اعتبر في وضع التنوين عدم اعتبار التعيين في مدلول مدخولها حال
الاطلاق كما مر ولم يعتبر ذلك في أداة التثنية والجمع فاتضح
من تحقيقنا هذا أن مدلول الجمع والمثنى كمدلول المفرد المنون
جزئي لا كلي كما يقتضيه التحرير الأول ومما يحقق ذلك أن التعدد
المستفاد من التثنية والجمع ليس راجعا إلى نفس الحقيقة لوضوح
عدم تعددها في نفسها ولا إلى مفهوم الفرد لظهور عدم تعدد هذا
المفهوم في نفسه بل إلى المصداق فيكون مدلولهما الطبيعة المقيدة
بمصداق الفردين أو ما زاد فيكونان جزئيين لان الطبيعة المأخوذة
من حيث التقيد والاتحاد بالفرد جزئية لا محالة ولا يشكل ذلك بنحو
كليين وكليات وجنسيين وأجناس ونوعين وأنواع فإن المثنى و
المجموع في مثل ذلك جزئي بالقياس إلى مدلول الكلي والجنس و
النوع وإن كان المعروض لها كليا ومن هنا يظهر الحال في المفرد
المنكر بالمقايسة ومما قررنا يتضح أيضا أن التنوين الداخلة
على الجمع إما للنكارة فيكون مؤكدة للنكارة المعتبرة في مدلوله بل
ممحضة إياه للتنكير ولهذا لا يقبل التعريف معها فإن مفاد الجمع
الماهية المقيدة بمصداق ما فوق الاثنين لا بشرط اعتبار تعيين
المصداق ولا بشرط اعتبار عدمه فيصح أن يعتبر المصداق معينا و
يدل
عليه بأداته كلام العهد والاستغراق وأن يعتبر من حيث عدم اعتبار
التعيين فيه ويدل عليه التنوين المفيدة لذلك أو لمجرد التمكن و
ربما يؤيده الاستغناء عنه في الجمع بالواو والنون لتمامية الاسم فيه
بنون الجمع هذا واحتج موافقونا بوجهين الأول القطع بأن رجالا لا
يصلح لكل مرتبة من مراتب الجمع بدلا كصلوح رجل لاحاد جنسه
بدلا فكما أن رجلا ليس للعموم فيما يتناوله كذلك يجب أن لا يكون
رجال للعموم فيما يتناوله من المراتب وفيه نظر لان الظاهر أن من قال
بعموم الجمع المنكر لم يقل بأنه لعموم المراتب والجماعات بل
إنما يقول باختصاصه بالمرتبة الأخيرة فالذي يناسب الاستدلال به
على عدم إفادته العموم أن يقال فكما أن رجلا لا يختص بشئ من
آحاده كذلك يجب أن لا يختص رجال بشئ من مراتبه التي منها
الجميع لتساويهما في الصلوح وللزوم الترجيح من غير مرجح على
تقدير التخصيص ببعض دون بعض هذا على ما يقتضيه ظاهر الدليل
المذكور من إلحاق الجمع المنكر بالمفرد المنكر في عدم
الاختصاص بالعموم وإن أريد إلحاقه به في عدم الدلالة على العموم
مطلقا اتجه عليه أن يقال لا نسلم دعوى المساواة بينهما لحصول
الفرق فإن العموم بمعنى جميع الافراد أحد مصاديق الجمع المنكر و
ليس بأحد مصاديق المفرد المنكر فعدم دلالة المفرد عليه لا يوجب
عدم دلالة الجمع عليه فتدبر الثاني لو قال له عندي عبيد صح تفسيره
بأقل الجمع اتفاقا ولو كان للعموم لما صح وأورد عليه بأن هذه
175

دلالة بالقرينة لظهور أن أحدا لا يملك عبيد الدنيا ورده التفتازاني و
غيره بأن معنى العموم جميع عبيده لا غير كما في قولنا له عندي
العبيد ولا قرينة على نفي ذلك وهو جيد حجة القول بأنه للعموم
وجوه الأول أن الجمع حقيقة في كل مرتبة من مراتبه فلو حمل على
الجميع فقد حمل على جميع حقائقه فكان أولى وأجيب عنه أولا
بالنقض بالمفرد المنكر فإنه حقيقة في كل واحد على البدل ولا
يوجب
ذلك حمله على الجميع وهذا الجواب إنما يستقيم إذا كان مقصود
المستدل حمله على جميع مراتبه على أن يكون كل مرتبة بخصوصها
مرادة منه بالمطابقة فيكون موضوعا بالوضع العام لخصوصيات
المراتب وهذا وإن كان بظاهر كلامه أوفق إلا أنه في نفسه بعيد بل
ربما كان راجعا إلى القول بأن المشترك وما في حكمه عند الاطلاق
ظاهر في جميع معانيه وأما إذا كان المقصود حمله على جميع
الافراد المشتملة على جميع حقائقه تضمنا فالنقض المذكور منقوض
بأن بينهما فرقا من حيث إن جميع الافراد ليس بأحد الآحاد التي
يصدق عليها المفرد المنكر على البدل بخلاف الجمع المنكر فإنه
حقيقة في الجميع أيضا وهو يشتمل على جميع حقائقه فيكون
الحمل عليه
أولى وعلى هذا فقوله فقد حمل على جميع حقائقه معناه فقد حمل
على معنى يتضمن جميع حقائقه وثانيا بأن الجمع ليس حقيقة في كل
مرتبة من المراتب بل في القدر المشترك بينها فلا يكون له دلالة على
خصوص شئ منها وهذا الجواب قد اختاره العضدي واعترض
عليه التفتازاني بأن كل مرتبة من المراتب فهي من أفراد القدر المشترك
فيكون الجمع حقيقة فيها من حيث كونها من أفراد الموضوع له
ولا حاجة إلى الدلالة عليها بخصوصها كما إذا جاءك زيد وقلت
جاءني إنسان وهذا الاعتراض لا يخلو من ضعف لان كلام المستدل
ظاهر في أن الجمع حقيقة في كل مرتبة بخصوصها وأنه لو حمل
حينئذ على العموم فقد حمل على جميع ما هو حقيقة فيه بخصوصه
فيندفع بالجواب المذكور ومبنى الاعتراض على أن المراد كونه حقيقة
في كل مرتبة ولو من حيث القدر المشترك وهذا بعيد عن ظاهر
كلام المستدل نعم على تقديره لا يتجه الجواب المذكور لكن نظر
المجيب إلى ظاهر الدليل هذا وللمستدل أن يتمسك بالأولوية
المذكورة على تقدير أن يكون
الجمع للقدر المشترك أيضا فيجعلها قرينة على كونه مأخوذا باعتبار
الفرد الأعم وهو الجميع فالتحقيق في الجواب منع الأولوية
المذكورة لان مرجعها إلى الاستحسان ولا تعويل عليه على ما سبق و
اعلم أن ما ذكره المستدل من أن الجمع حقيقة في كل مرتبة من
مراتبه يحتمل بظاهره وجهين الأول أن الجمع موضوع للحقيقة باعتبار
كونها متحدة بمرتبة من المراتب الكلية لا على التعيين فيكون
بحكم المفرد المنكر في كونه حقيقة في كل مرتبة من المراتب لا على
التعيين لكن يأبى عن هذا ظاهر قوله فقد حمل على جميع حقائقه إذ
لا يكون للجمع على التقدير المذكور إلا حقيقة واحدة فإنه لا يزيد
حينئذ مفاده باعتبار الهيئة على مفهوم التقييد الملحوظ به حال
الطبيعة والمراتب وظاهر أنه مفهوم واحد كمفهوم مادته وإن تغاير
قيوده المعتبرة على وجه البدلية لخروجها عنه كخروج لحاظ
حال الغير به عن مدلوله وإن اعتبر فيه تحقيقا للحرفية فإن ذات
الحصة أعني الماهية المضافة متحدة في مواردها وإن تعدد إضافاتها
وقيودها ولا ينافي ذلك جزئيتها حيث تضاف إلى الجزئي ومثله
الكلام في المجموع على ما اخترناه إلا أن القيود المعتبرة فيه عندنا
مصاديق المراتب وعلى القيود المذكور نفس المراتب ومنه يظهر
الحال في المفرد المنكر والمثنى أيضا ويمكن أن يجعل تعدد حقائقه
باعتبار تعدد موارد إطلاقه فلا ينافي الوجه المذكور الثاني أنه موضوع
باعتبار الهيئة بالوضع العام بإزاء كل واحدة من المراتب
بالخصوص كوضع أسماء الإشارة بالنسبة إلى آحاد مفهوم المشار إليه
فيكون بحكمها في كونه حقيقة في كل مرتبة على التعيين
فيتحقق له حقائق كاسم الإشارة وكل من الوجهين لا وجه له أما الأول
فلانه لو كان مدلول الجمع ما ذكر فيه لصح أكرم كل مسلمين
مريدا به العموم بحسب المراتب كما يقال أكرم كل مسلم ويراد به
العموم بحسب الافراد وبطلان التالي قاص ببطلان المقدم وأما
الثاني فلانه لو كان ذلك معنى الجمع لما تناول قولنا أكرم كل رجال
الافراد ما زاد على مرتبة واحدة وفساد الثاني يقضي أيضا بفساد
الأول بل الحق أنه إما موضوع للقدر المشترك بين المراتب كما يراه
العضدي وغيره أو لخصوص مصداق من مصاديق ما فوق
الاثنين كما حققناه والفرق بين هذا المعنى والمعنى المذكور في
الوجه الأول مما لا يكاد يخفى لان معنى الجمع على الوجه الأول كلي
فإن مفهوم الرجل المقيد بمفهوم الثلاثة والأربعة فما فوقها قدر
مشترك بين أفراد كثيرة صادق على موارد عديدة كمفهومه المقيد
بمفهوم الواحد أو الاثنين عند من يرى ذلك معنى المفرد المنكر و
المثنى بخلافه على الوجه المختار فإن الطبيعة المتحدة بالمصداق أو
المصاديق لا تكون إلا جزئية واعلم أنه يظهر من صاحب المعالم أنه
نزل مقالة المستدل في الجمع على اشتراكه بين المراتب اشتراكا
لفظيا ورده بعد المنع من الاشتراك بأن استعمال المشترك في أكثر من
معنى واحد مجاز فلا يصار إليه عند عدم القرينة ولا خفاء في
بعد التنزيل المذكور لاستلزامه القول باشتراك صيغ الجمع بين معان
غير متناهية وكونها موضوعة بأوضاع غير متناهية وهو واضح
الفساد جدا ولو ثبت مثل هذا القول لادى غرابته إلى اشتهار نقله مع
أن أحدا لم ينبه عليه وأما ما أورده عليه من كونه مجازا فمبني على
مختاره من أن الاستعمال المذكور مجاز في المفرد فإن الاشتراك هنا
في أداة الجمع وهي من المفردات وقد عرفت في محله أن
المختار عندنا المنع من ذلك مطلقا الثاني أنه لو لم يكن للعموم لكان
مختصا بالبعض وهو باطل لأنه تخصيص من غير مخصص و
الجواب أما أولا فبالنقض بالمفرد المنكر فإنه ليس للعموم قولا واحدا
فيكون مختصا بالبعض ويلزم الفساد المذكور وأما ثانيا فبالحل
وهو أنه لا يلزم من عدم اعتبار قيد وهو العموم اعتبار عدمه وهو
الخصوص حتى يلزم التخصيص من غير مخصص بل هو إما للقدر
المشترك بين العموم والخصوص فيكون صالحا لكل منهما من غير
اختصاص له بأحدهما أو للطبيعة المقيدة بأحد المصاديق
176

على البدلية فلا يتعين حدهما الثالث أن هذه اللفظة محتملة للقلة و
الكثرة فإذا وردت في كلام الحكيم مجردة عن القرينة وجب حملها
على الكل إذ لو أراد البعض لبينه وهذا الاحتجاج محكي عن الشيخ و
أجيب عنه أولا بالمعارضة بأنه لو أراد الكل لبينه أيضا وهذه
المعارضة كأصل الحجة تحتمل وجوها تصح على بعضها دون بعض و
توضيحه أن قول المستدل لو أراد البعض إن أراد به البعض على
التعيين فصحيح لكن التعليل به عليل لان عدم إرادة البعض على
التعيين لا يوجب إرادة الكل على التعيين لجواز إرادة كل منهما لا على
التعيين كما هو مفاد الجمع وإن أراد البعض لا على التعيين فإن أراد
بالبيان مطلق البيان اتجه عليه المنع من بطلان التالي لأنه قد بين
ذلك بلفظ الجمع المنكر الصالح للكل والبعض وإن أراد البيان بغيره
اتجه عليه منع الملازمة وقول المجيب لو أراد الكل مستقيم على
الوجه الأول وفاسد على الوجهين الأخيرين إلا أنه على التقدير الأخير
يصح أن يكون إلزاميا وثانيا بأنا نمنع عدم القرينة لان كون أقل
الجمع مرادا قطعا يصلح قرينة واعترض عليه بأنه لا يلزم من كون أقل
المراتب مرادا قطعا أن لا يكون ما زاد عليه مرادا أيضا بل الوجه
في الجواب أن اللفظ حيث كان موضوعا للقدر المشترك بين الكل و
البعض كان محتملا لهما إلا أن أقل المراتب مراد قطعا وما عداه في
محل الشك إلى [إلا] أن يقوم عليه دليل وليس فيه ما ينافي الحكمة و
فيه أن اللفظ إذا كان محتملا للأقل والأكثر وكان الأقل معلوم
الإرادة بخلاف الأكثر فإرادة الأقل منه لا يستدعي بيانا بل يكفي فيها
التعويل على ترك البيان بخلاف إرادة الأكثر فيصح أن يعتبر
ذلك قرينة على إرادة الأقل وإليه ينظر كلام المجيب هذا على ما
يساعد عليه كلام المعترض في جوابه وإلا فالتحقيق أن لفظ الجمع إن
كان موضوعا لاحد مصاديق ما فوق الاثنين لا على التعيين كما نقول به
فإرادة ذلك لا يقتضي تعيين شئ من المصاديق ولا رجحانه و
إن كان للقدر المشترك بين الأقل والأكثر كما عليه الأكثرون ظاهرا
فإرادته لا يقتضي إرادة شئ من الخصوصيتين أو رجحان
إرادتها فإن صدقه على الأقل على حسب صدقه على الأكثر من غير
رجحان فبطل ما وقع في الجوابين
من أن أقل المراتب مراد قطعا وأن غيره غير مراد أو مشكوك في
إرادته نعم يتجه ذلك فيما إذا كان الحكم لاحقا له لا باعتبار الجمعية
بل باعتبار الافراد فالصواب في الجواب أن يفصل بين ما إذا تعلق
الحكم بالجميع باعتبار المجموع وبين ما إذا تعلق به باعتبار الافراد
فيجاب على التقدير الأول بناء على المذهب المشهور في الجمع أما
على القول بجواز تعلق الاحكام بالطبائع من حيث هي فبأن القصد لم
يتعلق حينئذ بالافراد أصلا حتى يكون عدم بيان البعض قرينة على
إرادة الكل وأما على القول الاخر فبأن الحكم على هذا القول يتعلق
بمدلول الجمع باعتبار ما يصدق عليه من أفراده ولا ريب في أن نسبته
إليها على نهج واحد من غير أن يكون هناك قدر متيقن وبهذا
يجاب على المذهب المختار في الجمع أيضا ويختار في الجواب
على التقدير الثاني بما ذكره المجيب الأول على التوجيه الذي ذكرناه
نعم ينبغي أن يستثنى من ذلك صورة وهي ما إذا كان تعلق الحكم
ببعض لا على التعيين موجبا للاجمال المنافي لمقتضي الحال كما لو
قيل خلق الله مياها طاهرة أو أحل الله عقودا فإن طهورية جملة من
المياه أو حلية جملة من العقود لا على التعيين غير معقول ومعه بدون
البيان يوجب مخالفة الحكمة فيتعين التعميم وقد مر نظيره في المفرد
المنكر هذا لكن ذلك في الجمع المنكر مجرد فرض لم نقف له في
الكتاب والسنة على أثر
فصل اختلفوا في أقل ما يصدق عليه الجمع
فالأكثر على أنه ثلاثة وهو المختار وقيل اثنان ثم اختلف الأولون
فمنهم من منع إطلاقه على ما دون الثلاثة مطلقا ومنهم من أجاز
إطلاقه على الاثنين مجازا ومن هؤلاء من سرى الجواز إلى الواحد
أيضا وهو جيد حيثما تساعد عليه العلاقة ودعوى الاطلاق كما يظهر
من مدعيه ضعيفة ولنحرر أولا محل النزاع فنقول الظاهر أنه لا فارق
في هذا النزاع بين سالم الجمع ومكسره واسمه وضميره وما دل
على معناه من الموصول واسم الإشارة ولا بين مذكر هذه الأقسام و
مؤنثها فيمكن أن يكون المراد بالجمع في عنوان هذا المبحث ما
يعم هذه الأقسام توسعا من باب عموم المجاز ويمكن أن يكون المراد
معناه المصطلح عليه وهو القسمان الأولان بقسميهما ويكون
الباقي داخلا في النزاع معنى وتبعا وأما لفظ الجمع فلا ريب في
خروجه عن هذا النزاع باعتبار معناه المصدري فإنه بهذا الاعتبار
عبارة عن مطلق الضم وإطلاقه على الشيئين المجتمعين أو الأشياء
المجتمعة توسع من باب إطلاق المصدر على معنى اسم المفعول و
أما
باعتبار معناه الاسمي فالنزاع ثابت فيه في الجملة فما حكاه العضدي
عن المنتهى من دعوى الوفاق عليه غير مسموع أو محمول على
الجمع باعتبار معناه المصدري أو يخص النزاع بمن تأخر عنه وكان
هذا أظهر على ما يستفاد من الجواب المعروف عن الاحتجاج
بحديث الجماعة فيمكن إدخاله في محل النزاع لا باستعمال لفظ
الجمع فيه بأن يكون المراد به لفظه ومعناه فإنه غير جائز إذ ما يقتضي
المنع من استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد يقتضي المنع من
ذلك أيضا بل باستعماله في معنى صادق عليه وعلى غيره والأولى
أن يفسر الجمع في العنوان بمعناه المصطلح ويجعل شمول النزاع
للبواقي باعتبار المعنى والتبعية وأما نحو نحن وإننا ونضرب و
ضربنا فلا نزاع في أنه حقيقة في الاثنين فما زاد وقد نبه عليه بعضهم و
أما المجموع المضافة إلى التثنية والجمع فهي داخلة في النزاع
باعتبار كونها حقيقة أو مجازا فما حكاه العضدي عن المنتهى من أن
نحو صغت قلوبكما خارج عن محل النزاع لأنه موضع وفاق فهو
بظاهره غير سديد فإن ظاهر إطلاقهم يأبى عن ذلك مع ما فيه من التزام
الاشتراك في
الجمع بحسب حال الإضافة وعدمها وهو بعيد لا يساعد عليه الذوق
فالوجه أن يحمل كلامه على الاتفاق في جواز الاستعمال فإن ذلك
غير بعيد نظرا إلى وقوعه في الكتاب العزيز ثم الظاهر منهم أن لا فرق
بين جمع يكون مفرده فردا أو يكون زوجا أو جمعا فكما أن
أقل الأول على القول بالثلاثة ثلاثة أفراد كذلك أقل الثاني ثلاثة أزواج و
أقل الثالث ثلاثة جموع وإلى هذا ينظر قول من قال أقل جمع
الجمع
177

إلا أن وقوعه غير ثابت هذا وحكى المحقق الشيرازي عن العلامة عن
الفتوحات المكية أن مؤلفها قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و
آله في بعض الوقائع فسألته عن أقل مراتب الجمع وقلت ذهب فريق
إلى أنه ثلاثة وفريق إلى أنه اثنان فما الحق فقال صلى الله عليه وآله
أخطأ هؤلاء وهؤلاء بل ينبغي أن يفصل ويقال الجمع إما جمع فرد أو
جمع زوج فأقل مراتب الأول ثلاثة وأقل مراتب الثاني اثنان ومثل
له بعضهم بالخفين فإنه يطلق على زوجين من جنس الخف وجمعه
خفاف ولا يطلق على ثلاثة أفراد من هذا الجنس وهو محل نظر إذا
تمهد هذا فلنا على عدم كونه حقيقة فيما دون الثلاثة عدم تبادره و
تبادر غيره وقد سبق أن ذلك يقتضي أن لا يكون حقيقة فيه وإذا
ثبت ذلك عرفا ثبت شرعا ولغة لأصالة عدم النقل وعلى جواز إطلاقه
على الواحد والاثنين مجازا وجود العلاقة المصححة له كالتعظيم
تنزيلا لغير الجماعة منزلتها أو لنحو ذلك وقد قيل في قوله تعالى وإنا
له لحافظون إن المراد به هو الله تعالى وحده تعظيما حيث
جرت عادة العظماء أن يتكلموا عنهم وعن أتباعهم بصيغة التكلم و
الجمع ثم استعيرت منه للعظمة وجردت عن معنى الجمعية ويمكن
أن
يكون المراد به هو تعالى مع الملائكة الحفظة بأمره وقد فسر الناس
بعض الناس في قوله تعالى الذين قال لهم الناس بنعيم بن مسعود
مدعيا وفاق المفسرين عليه وهو اسم جمع وفسر الموصول في قوله
تعالى والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون بأمير المؤمنين علي عليه السلام كما نطق به جملة من الاخبار
وغير ذلك احتج القائلون بأنه حقيقة في الاثنين بوجوه منها قوله
تعالى فإن كان له إخوة والمراد ما يتناول الأخوين للاجماع على
حجبهما ومنها قوله تعالى إنا معكم مستمعون والمراد بضمير
الخطاب موسى وهارون ومنها قوله صلى الله عليه وآله الاثنان فما
فوقها جماعة والجواب أما عن الأول فبأن الاجماع إنما قام على
حجب الأخوين لا على كونه مستفادا من الآية سلمنا لكنه مجرد
استعمال وهو لا يوجب الحقيقة لثبوت استعماله فيما فوق الاثنين
أيضا و
الاشتراك على خلاف الأصل كما حققناه وسابقا ولو سلم أنه على
الأصل فقد بينا ما يوجب الخروج عنه وأما عن الثاني فبالمنع من
إرادتهما فقط بل مع فرعون مضافا إلى ما سبق
في الآية السابقة وأما عن الثالث فبأن المراد أن صلاة الاثنين فما فوقها
صلاة جماعة فيقدر طرفا الاسناد أو أنها بحكم الجماعة في
انعقاد الجماعة والفضيلة كما ورد المؤمن وحده جماعة إذا لم يكن
من يصلي معه وذلك لان شأن الشارع بيان الأحكام الشرعية لا بيان
موضوعات اللغة وقد يجاب أيضا بأنه خارج عن محل النزاع لان
الكلام في صيغة الجمع لا في لفظه وكأنه ناظر إلى إجماع المنتهى أو
يريد به معناه المصدري والحق أن لفظ الجمع والجماعة بمعناهما
الاسمي حقيقة أيضا فيما فوق الاثنين كالصيغة بدليل تبادرهما منهما
وعدم تبادر ما دونهما على ما يظهر من العرف احتج القائلون بالمنع
مطلقا بما نقل عن ابن عباس من أن الأخوين ليسا بإخوة وأنه لو
صح الاستعمال في الاثنين لجاز جاءني رجلان عالمون ورجال
عالمان إذا أريد عالمان ورجلان وأجيب عن الأول بأنه معارض بقول
زيد الاخوان إخوة فالوجه أن يجمع بينهما بحمل كلام النافي على نفي
كونه حقيقة وحمل كلام المثبت على كونهما مرادين منه مجازا و
عن الثاني بمنع الملازمة لأنهم ربما راعوا في ذلك صورة اللفظ و
استبعده العضدي بما حاصله أنه لو كان الوجه مراعاة الصورة لجاز
جاءني زيد وعمرو العالمون نظرا إلى انتفاء الصورة ورده التفتازاني و
غيره بأن مقصود المجيب مراعاة الصورة أعم من أن يكون
حقيقة كما في التثنية أو حكمية كما في العطف والأظهر على ما
اخترناه من إثبات الجواز في الجملة أن يجاب بأن ثبوت المنع في
صورة
مخصوصة لا يوجب ثبوته مطلقا كيف وقد بينا وقوعه في بعض
الموارد الموجب لجوازه فيها والسر في ذلك أن جوازه يتبع العلاقة و
هي غير مطردة في جميع الموارد
تنبيه قد اشتهر بين النحاة أن أقل جمع القلة ثلاثة إلى العشرة
وأقل جمع الكثرة ما فوق العشرة إلى ما لا حصر له وربما يحكى
وفاقهم عليه وهو ضعيف إذ صريح العرف قاض بعدم الفرق وربما
يظهر من عدم تعرض علماء الأصول لذلك إطباقهم على فساده و
يمكن الجمع بأن كلام النحاة ناظر إلى أصل اللغة والجمع فيها على
التفصيل المذكور وكلام الأصوليين ناظر إلى العرف وهم لا يفرقون
بينهما لكن التزام مخالفة العرف للغة في مثل ذلك لا يخلو عن
بعد ثم اعلم أن أهل الميزان كثيرا ما يطلقون الجمع ويريدون به ما
فوق الواحد وهل هو منقول في عرفهم إلى ذلك أو مجاز مشهور
وجهان أظهرهما الأول وهو المعروف بين أهل العلم
فصل لا ريب في أن النكرة في سياق النفي تقتضي العموم
بمعنى أن النفي أو الحكم المنفي يتعلق بكل فرد فرد من آحاد مفهومها
فتارة بالنصوصية وذلك إذا كان النفي بلا التي لنفي الجنس كما
في قولك لا رجل في الدار أو كانت مقرونة بمن ظاهرة نحو وما من
دابة أو مقدرة نحو ولا رطب ولا يابس وكذلك شئ وبد واحد و
نظائرها إذا وقعت في سياق النفي مطلقا كقولك ما شئ عندي وليس
أحد في الدار وليس بد من هذا الامر وتارة بالظهور كما إذا
وقعت النكرة مما عدا المذكورات اسما ليس أو ماء يشابهها من ما ولا
النافيين كقولك ليس رجل أو لا رجل أو ما رجل في الدار وإنما
جعلنا عمومها من باب الظهور دون النصوصية لأنها كما تأتي لعموم
النفي كما هو الظاهر الغالب كذلك قد تأتي لنفي فرد واحد دون ما
زاد عليه فيقال ما في الدار رجل بل رجلان أو رجال بخلاف القسم
الأول فإنه لا يصح أن يقال لا رجل أو ما من رجل في الدار بل رجلان
أو ليس فيهما أحد بل اثنان وهكذا وما يتوهم من أن جواز الاستثناء
منها ينافي نصوصيتها في العموم فمع عدم جريانه على الوجه الذي
نختاره في الاستثناء مدفوع بأن المراد بكونه نصا في العموم تمحضه
له بحسب الوضع وإن جاز أن يستعمل في غيره مجازا عنه بخلاف
المنفي في القسم الثاني فإنه بحسب الوضع لا يتمحض للعموم هذا
تحقيق ما ذكروه ونحن نقول لا ريب في أن النكرة في سياق النفي
إنما تقتضي العموم على حسب إطلاقها وتقييدها فالعموم في النكرة
178

المطلقة بالنسبة إلى أفراد مفهومها المطلق وفي النكرة المقيدة بالنسبة
إلى أفراد مفهومها المقيد فقولك ما جاءني رجل يقتضي العموم
بالنسبة إلى جميع أفراد الرجل وقولك ما جاءني رجل عالم أو لا رجل
عالما في الدار يقتضي العموم بالنسبة إلى أفراد الرجل العالم لا
مطلق الرجل وليس هذا عندي من باب التخصيص بل من باب التقييد
لان السلب إنما يسلط على المقيد بعد أخذه مقيدا وعلى هذا فإذا
قيل
ليس في الدار رجل فإن أريد به فرد لا بشرط كما هو معناه الأصلي كان
تعلق السلب به مستلزما لسلب جميع ما يصدق عليه هذا المفهوم
وهو جميع الافراد وامتنع قولك بل رجلان أو بل رجال لأنهما
يشتملان على فرد لا بشرط فنفيه بلا وإثباته ببل تناقض وإن أريد به
فرد بشرط لا أي بشرط عدم الزيادة كان تعلق السلب به مستلزما لنفي
كل فرد بشرط لا لا مطلق الفرد لما عرفت من أن عموم النكرة
المنفية على حسب إطلاقها وتقييدها فإذا كان المنفي مقيدا بشرط لا
فلا جرم يكون العموم على حسبه وصح حينئذ قولك بل رجلان أو
بل رجال ولا تناقض لأنهما لا يشتملان على مدلول فرد بشرط عدم
الزيادة بل بشرطها فظهر أن النكرة في سياق النفي نص في
العموم مطلقا من غير فرق بين أدواته ومواردها وبطل فرقهم بين لا
النافية للجنس وبين باقي أدوات السلب إذا دخلت على غير
الألفاظ المذكورة حيث جعلوا الأول نصا في العموم كغيره من أدوات
السلب الداخلة على الألفاظ المذكورة والثاني ظاهرا فيه مستندين
فيه بامتناع عطف المثنى والجمع ببل على الأول دون الثاني وذلك
لأنهم إن أرادوا أن مدلول المنفي عند العطف فرد لا بشرط فهو
خطاب ظاهر مما بينا وإن أرادوا أن مدلوله فرد بشرط لا فإن أرادوا أنه
حينئذ لا يقتضي العموم بالنسبة إلى كل ما يصدق عليه أنه فرد
بشرط لا فمخالف لما يشهد به صريح العرف بل العقل أيضا فإن فردا
بشرط لا مأخوذ لا بشرط فنفيه يقتضي نفي جميع آحاده وإن
أرادوا أنه لا يقتضيه بالنسبة إلى مطلق أفراد الرجل ففيه أن المنفي
حينئذ ليس المطلق بل المقيد وعموم النكرة المنفية ليس على
الاطلاق
بل على حسب إطلاق مفهومها وتقييده من غير فرق بين النافية
للجنس وما بمعناها وبين غيرها نعم فرق بينهما باعتبار آخر وهو أن
التي لنفي
الجنس لا تدل إلا على الجنس دون الفرد سواء اعتبر لا بشرط أو
بشرط لا ومن هنا امتنع عطف المثنى والمجموع عليها ببل لان ذلك
إنما يصح إذا كان المنفي فردا بشرط لا وأما غيرها فيصلح لنفي
الجنس والفرد بالاعتبارين فيصح أن يعطف عليها بالمذكور فالوجه
أن يحمل كلامهم على أن التي لنفي الجنس وما بمعناها صريحة في
عموم النفي بالنسبة إلى أفراد مدخولها وما عداها ظاهر فيه وإن
كان صريحا في العموم في الجملة ثم إنهم خصوا حكم الوقوع في
سياق النفي بالنكرة مع أن كثيرا من المعارف أيضا يفيد العموم في
سياق النفي كالموصول في قولك لا تهن من يكرمك والجمع المعرف
في قولك لا تهن العلماء ونحو ذلك فنقول ليس المقصود تخصيص
الحكم المذكور بالنكرة حتى يلزم منه أن لا يكون مثل هذه المعرفة في
سياق النفي للعموم كيف وقد حكموا بأنها للعموم من غير
تخصيص لها بسياق الاثبات بل المقصود أن إفادة النكرة للعموم
يختص بما إذا وقعت في سياق النفي حتى إنها إذا وقعت في سياق
الاثبات لم يفده وضعا بشهادة العرف والاستعمال وأما احتجاج
بعض المعاصرين عليه بعدم صحة الاستثناء منه مطردا فضعيف لان
الاستثناء إنما يطرد فيما لولاه لوجب دخوله كما في العام الشمولي فلا
فيما لولاه لجاز دخوله كما في العام البدلي وإن أراد بمجرد
الجواز فعدم اطراده مطلقا حتى إذا وقع في سياق النشاء ممنوع نعم
ينبغي أن يفسر النكرة في العنوان بما يكون نكرة بحسب المعنى
أعني ما دل على الطبيعة المجردة أو المأخوذة باعتبار كونها متحدة مع
فرد لا على التعيين فيخرج مثل كل في قولك ما رأيت كل رجل
فإن مدلوله المقيد بالرجل معنى معين لا يقبل الابهام والاشتراك و
يدخل فيه العهد الذهني والعلم الجنسي إذا أخذ باعتبار فرد لا بعينه
والمضاف إلى أحدهما فإن وقوعها في سياق النفي يوجب العموم
فإن المفهوم من قولك لا ندخل السوق ولا تدن من أسامة ونحو ذلك
هو العموم وبهذا التوجيه يستقيم حصرهم صيغ العموم فيما مر
بالنسبة إلى ذلك وكذا الحال في المعرف بلام الجنس فإنه إذا وقع في
سياق النفي دل على العموم أيضا نحو لا توجد القتل ولا تفعل الزنا و
لا تصنع الظلم ونحو ذلك فإنه لا يصدق نفي جنس
إلا بنفي جميع أفراده ويلحق بالنفي النهي لأنه طلبه فيشتمل عليه و
الاستفهام الانكاري لرجوعه إلى النفي وكذلك نحو كف واحذر و
اجتنب مما يفيد مفاد النفي وقد يلحق به الشرط أيضا وهو حسن إن
أفاد العموم كمتى ومهما فإنهما كما يفيدان عموم الأزمان كذلك
يفيدان عموم ما يقع في سياقهما من فعل الشرط وتوابعه فقولنا متى
جاءك رجل فأكرمه يتناول جميع أفراد المجئ والرجل ولا يبعد
تعميم الحكم إلى وقوع النكرة في سياق سائر ألفاظ العموم فإنها تعم
أفرادها تبعا لعموم العام لافراده ولا فرق فيما مر بين تعلق
السلب وشبهه بالنكرة أو بما تعلق بها ولو بواسطة أو وسائط فيدخل
مثل لفظ فاسق في قولك لا تكرم عالما تراه جليسا لفاسق ثم
الجمع المنكر إذا وقع في سياق النفي وشبهه كان حكمه حكم المفرد
فيفيد العموم بحسب الجماعات دون الافراد وكذلك المثنى ولهذا
قيل عموم المفرد في النفي أشمل من عموم المثنى وعمومه أشمل
من عموم الجمع وذلك لان السلب الوارد على المفرد ظاهر أو نص
في
نفي الآحاد المستلزم لنفي المثنى والجمع بخلاف نفي الجمع فإنه لا
يستلزم نفي المفرد والمثنى وبخلاف نفي المثنى فإنه لا يستلزم
نفي المفرد ويستلزم بظاهره نفي الجمع كالمفرد
فصل
اختلفوا في أن الألفاظ التي وضعت للخطاب كيا أيها الناس ويا أيها
الذين آمنوا هل يكون خطابا لغير الموجودين ويعمهم بصيغته أو لا
ذهبت الحنابلة على ما حكي عنهم إلى الأول والمعروف بين أصحابنا
هو الثاني وعليه أكثر أهل الخلاف والمراد بغير الموجودين غير
الموجودين في زمن الخطاب كما هو الظاهر وربما فسر بغير
الموجودين في مهابط الوحي وله وجه إلا أن ظاهر اللفظ المذكور و
الأدلة الآتية لهم لا تساعد عليه ولنحرر أولا محل البحث فنقول
نزاعهم في المقام يحتمل وجوها الأول أن يكون في جواز تعلق
الخطاب
بمعناه الحقيقي بالمعدومين
179

وعدمه فيكون الألفاظ الموضوعة بإزائه حقيقة فيهم على الأول دون
الثاني الثاني أن يكون في جواز استعمال لفظ الخطاب في
المعدومين ولو مجازا وعدمه الثالث أن يكون في قيام الدليل على
تناول ألفاظ الخطاب الواردة في لسان الشرع للمعدومين ولو على
سبيل التجوز وعدمه والظاهر أن النزاع المعروف هنا إنما هو في
الوجه الأول بل ربما يتعين حمل كلام المانعين عليه دون الوجه
الأخيرين وإن احتملهما إطلاق منعهم لان حجتهم المعروفة لا تساعد
إلا على منعه وجوابهم عن حجة المثبتين مفصح عن إرادته أما كلام
المثبتين فيحتمل الوجه الثالث أيضا وعلى تقديره يرجع النزاع لفظيا و
كيف كان فالكلام في المقام من جهة توجه الخطاب إلى المعدوم
لا من جهة إطلاق لفظ الناس أو الذين آمنوا عليه فإن جواز إطلاق
الأول عليه حقيقة والثاني مجازا حيث يتجرد عن معنى المضي ليس
من
موضع النزاع في شئ وإن احتمله بعض الأفاضل إذ لا يرتاب أحد
في أنهما في قوله تعالى ملك الناس إله الناس وفي قوله تعالى وعد
الله الذين آمنوا الآية صالحان لتناول المعدومين منهم حال الخطاب
بل متناولان لهم ثم النزاع كما ترى يختص بالخطاب اللفظي
الشخصي كما يظهر من تحريرهم لمحل البحث ويساعد عليه ظاهر
حججهم وأما الخطاب النفسي الذي يزعمه الأشاعرة فقد حكي
عنهم
أنهم يقولون بجواز تعلقه بالمعدومين وهو قضية قولهم بقدمه و
تفصيل الكلام فيه يطلب من موضعه وأما الخطاب بالكتابة شخصيا
كان أو نوعيا وبالنوع من اللفظ فلا إشكال في جواز تعلقه بالمعدومين
ولو مشروطا بوجودهم واستجماعهم شرائط تعلق الخطاب
بهم كما سيأتي والظاهر أنه خارج عن محل البحث ثم الخطاب
بالمعنى المذكور قد يكون بلفظ دال عليه كما في المثال المذكور وقد
يكون بغيره كقولك لمخاطبك زيد قائم وعمرو قاعد وتعبيرهم عن
محل النزاع بما وضع لخطاب المشافهة وتمثيلهم بما مر يوجب
تخصيصه بالأول والتحقيق أنهما متساويان في وجه المنع والجواز و
إن افترقا على تقدير الجواز من حيث إن الأول يستلزم التجوز
في لفظ الخطاب على ما سنحققه بخلاف الثاني ثم هل النزاع في
خطاب المعدومين مطلقا أو عند انضمام الموجودين إليهم وجهان و
منهم من
نص على التفصيل كالتفتازاني حيث أجاز خطاب المعدومين بضميمة
الموجودين ومنع من خطاب المعدومين خاصة والحق عندي
امتناع تعلق الخطاب اللفظي الشخصي بمعناه الحقيقي بالمعدومين
بل غير الحاضرين مطلقا وجواز تعلقه بهم مجازا مطلقا حيث يشتمل
على فائدة فلنا في المقام إذن دعويان لنا على أوليهما أن الخطاب [
على ما يساعد عليه العرف عبارة عن توجيه شخص الكلام في
الخارج إلى نحو الغير للأفهام به وهذا يستدعي] شخص الكلام إلى
الغير تحقيقا والظاهر من المغايرة الحقيقة ويحتمل الأعم منها ومن
الاعتبارية فيعم مخاطبة الانسان نفسه وإطلاقه على توجيهه إليه
تقديرا بتنزيل المعدوم أو غير الحاضر منزلة الموجود الحاضر وعلى
توجيه المدلول أعني المعاني المرادة وعلى توجيه نوع الكلام وعلى
توجيه المكتوب إليه شخصا أو نوعا وعلى الأعم من قسمين منها أو
من أقسام مجاز بشهادة التبادر وتبادر الغير وصحة السلب مع أولوية
المجاز من الاشتراك فإذا ثبت أنه حقيقة في المعنى الأول فنقول
حصول هذا المعنى يستدعي عقلا أمرين الأول مقارنة وجود الموجه
إليه لوجود الكلام لامتناع وقوع التوجيه نحو المعدوم أو وقوعه
بلفظ معدوم أما الأول فلان توجه شئ نحو غيره وانسباقه إليه
يستدعي تميزا فيما توجه إليه بالضرورة وقد ثبت في محله أن
المعدوم الخارجي لا تميز له فيه حال عدمه فيمتنع التوجه إليه لأنه
عبارة عن إيجاد التوجه وإنشائه ولأن مرجع التوجه هنا إلى الابلاغ
وهو مما يمتنع تحققه في الخارج بدون تحقق المبلغ إليه بالضرورة و
أما الثاني فلظهور أن التوجه أمر يحصل بحصول اللفظ وينقطع
بانقطاعه ولا بقاء له بعد انقضائه وهذا من الأمور البينة التي لا يعتريها
أثر الارتياب فيمتنع وقوعه بلفظ معدوم فظهر أن الخطاب
بمعناه الحقيقي يمتنع أن يتعلق بالمعدوم الثاني حضور الموجه إليه
بمعنى كونه بحيث يبلغه شخص الكلام إذ على تقدير عدمه لا يقع
التوجيه والابلاغ إلى المخاطب ولو اعتبر فيه كون التوجيه للأفهام كما
يظهر من بعضهم فاعتبار الحضور أوضح إذ على تقدير عدمه لا
يقع الفهم به فيمتنع من العالم به قصد الافهام به ولو اعتبرنا مع ذلك
حصول الافهام به أيضا كما هو الظاهر من موارد استعماله امتنع
مع عدم الحضور مطلقا من غير فرق بين العالم بالحال وغيره فظهر أن
الخطاب بالمعنى الحقيقي لا يتعلق بغير الحاضر أيضا و
على هذا فحيث يكون اللفظ موضوعا للخطاب يختص استعماله على
الحقيقة بما إذا كان المخاطب موجودا حاضرا سواء كان الخطاب
تمام معناه كالكاف الحرفية التي في ذلك وأخواتها أو جزأه كالكاف
الاسمية في جئتك والتاء المفتوحة في ضربت وأخواتهما فإنها
موضوعة لشخص المخاطب والخطاب باعتبار كونه آلة لتعرف حاله
أو لازمه كيا وأخواتها فإن معناها طلب التوجه من المنادي
المخاطب كل ذلك بدليل التبادر كما يفصح عنه التصفح في موارد
إطلاقها ولنا على الثانية وجود العلاقة المصححة للاستعمال من
تنزيل المعدوم وغير الحاضر منزلة الموجود الحاضر فإن توجه النفس
نحو الشئ و انصرافها إليه يوجب تميز ذلك عندها أكمل تميز
حتى يرى كأنه أمر محسوس حاضر فيصح منها الإشارة إليه والخطاب
معه تنزيلا لذلك منزلة الامر الواقع ومنه قولك عند ذكرك لمن
تكرهه وتعاديه أيها اللئيم والخبيث صنعت كذا وكذا فتناديه و
تخاطبه وتسند إليه بما يليق به عندك بلفظ المشافهة من غير فرق بين
المعدوم حال خطابك وغير الحاضر وهذا شائع في العرف واللغة
في النظم والنثر وعلى قياسه الخطاب إلى الملفق من الحاضر و
غيره بل الوجه فيه أظهر ومنه قوله تعالى فمن تبعك منهم فإن جهنم
جزاؤكم جزاء موفورا وكون الخطاب أمرا نسبيا إنما يستدعي
وجود المخاطب وحضوره إما على الحقيقة كما في الخطاب الحقيقي
أو على سبيل الفرض والتنزيل كما في الخطاب المجازي فإن ذات
المخاطب متحدة في المقامين لظهور أن المخاطب بالخطاب الحقيقي
هو بعينه المخاطب بالخطاب المجازي وإنما يختلف بحسب
الاعتبارات اللاحقة له على كل من التقديرين فإنها في الأول واقعية و
في الثاني تقديرية وعلى قياسه التعبير عنه بضمير الغيبة واسم
الإشارة ونحوها وعند التحقيق إنما يتأتى التجوز في هذه
180

في نظائر المقام من حيث معانيها الحرفية دون الاسمية وأما التكاليف
المستفادة من تلك الخطابات إذا فرض اشتمالها عليها فإنما
تتعلق بالمخاطبين بها على تقدير وجودهم بالشرائط المعتبرة ومن
جملتها بلوغها إليهم فيمتنع تعلقها بهم بدونها لامتناع تحقق
المشروط بدون شرطه وليس الامر ولواحقه حينئذ من باب الاخبار
بحصول الطلب عند حصول الشرط على ما سبق إلى بعض الأوهام
كيف والامر على الوجه المذكور مما لا يحتمل الصدق والكذب ولو
كان من باب الاخبار لاحتملهما بل إنما هو إنشاء طلب مشروط و
توضيحه أن الامر كما قد ينشئ طلبا مطلقا غير مقيد وقوعه بشئ
كذلك قد ينشئ طلبا مشروطا مقيدا وقوعه بحصول شئ ففي الأول
يتعلق الطلب بالمأمور حال النشاء وفي الثاني يتوقف تعلقه به على
حصول الشرط وعند حصوله يتعلق به بذلك النشاء إن لم ينسخه و
يمكن حمل الخطابات الشرعية الصالحة للتعميم على مثل هذا
المعنى إلا أنه في خطابات النبي صلى الله عليه وآله والأئمة خروج
عن
الظاهر من غير مستند ظاهر لان الوجوه التي تمسكوا بها مدخولة وأما
بالنسبة إلى خطاباته تعالى فغير بعيد إن جعلناها من الخطابات
الشخصية نظرا إلى أنها إنما كانت تبلغ الحاضرين بواسطة جبرائيل و
النبي فالذي كان يبلغ إليهم لم يكن نفس تلك الخطابات بل
حكاياتها وهي تبلغ المعدومين أيضا والتجوز حاصل على التقديرين
مع أن التزام اختصاص تلك الخطابات لأهل المجلس مطلقا أو
خصوص المجلس الأول تعسف ظاهر والتعميم إليهم وإلى غيرهم
من الموجودين فقط ليس بأولى من التعميم إليهم وإلى غيرهم للزوم
الخروج عن ظاهر الخطاب على التقديرين فإن رجح الأول بأنه أقرب
إلى الحقيقة أمكن معارضته بأن الثاني أوفق بما هو المقصود في
المقام من تعميم الاحكام مع أنه يمكن أن يجعل ذلك قرينة على
التعميم وإن قلنا بأن الخطاب حقيقة على التقادير الأول ولا يتوهم أنه
يلزم على هذا التقدير استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي
حيث إنه مستعمل في الحاضرين أو الموجودين الذين هم مدلوله
الحقيقي وفي غيرهم وهم مدلوله المجازي وذلك لان الموجودين
أو الحاضرين إنما يكون مدلوله الحقيقي إذا أطلق وأريدوا منه
خاصة وأما
إذا أطلق وأريدوا منه مع غيرهم فلا ريب في أن المجموع المركب
ليس بالمعنى الذي وضع اللفظ بإزائه فيكون استعماله فيه مجازا لا
محالة وأما ما ذكره بعض الأفاضل من أن جميع الخطابات الشرعية
متعلقة على شرائط التكليف وهي مختلفة بالنسبة إلى آحاد
المكلفين فمن حصلت له اندرج تحته وهذا أمر واحد لا تعدد فيه فلا
يلزم استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي فغير سديد لان
ما يصلح للتعليق إنما هو الحكم المستفاد من الخطاب دون نفس
الخطاب وهذا واضح وقولنا بجواز تعلقه بالمعدوم حال الخطاب لا
ينافي كونه منجزا كيف ولولاه لم يحتج إلى تنزيل المعدوم منزلة
الموجود الحاضر نعم يتجه اعتبار ذلك في الخطاب النوعي بالنسبة
إلى أفراده الذهنية أو الخارجية الحادثة عند توجه المخاطب إليه كما
سيأتي ولكنه بعيد عن مساق كلامه وأما ما يقال عليه من أن التعليق
لا يصح من العالم بالعواقب فقد بينا ما فيه في بحث الواجب
المشروط واعلم أنه كما يصح الخطاب باللفظ كذلك يصح بما يدل
عليه من
الخطوط والنقوش وكما يصح بشخص اللفظ والخط كذلك يصح
بنوعيهما وتحقيق ذلك أن الخطوط ليست موضوعة بإزاء المعاني
ابتدأ وإلا لتعسر ضبطها ولا لشخص من الكلام على التعيين أو على
البدلية لعدم دلالتها عليه مع تخلفها عنها وإنما هي موضوعة بإزاء
الملفوظات أعني ما يقع التلفظ بها سواء تلفظ بها أو لم يتلفظ ولا ريب
أنها أمور كلية منطبقة على جزئيات متكثرة ولا يتخلف عنها في
الدلالة إلا عند الجاهل بأوضاعها فكما أن اللافظ يخاطب بالألفاظ
فيوجهها إلى من يقصد توجيهها إليه لتفهيم معانيها كذلك الراقم
يخاطب بما يخطه فيوجهه إلى من يقصد توجيهه إليه لتفهيم الألفاظ
من حيث دلالتها على معانيها ولا فرق في ذلك بين أن يكون
المقصود مخاطبا بعينه كما في المكاتيب المتداولة أو غير معين وإن
اشتمل على تعيين إجمالي كما في مقالة المصنفين اعلم وافهم و
تدبر ونحوها فإنها خطابات منهم إلى كل من وقف على تلك الرقوم و
لا يقدح في ذلك إفراد الضمير وتعدد المخاطبين مع ما ثبت
عندنا من المنع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد لان مدلول
المكتوب
هو النوع دون الشخص فيصح اعتبار تعلقه بالمتعدد ولو بحسب تعدد
تحققاته الخارجية أو تعدد تحصلاته الذهنية الناشئ من تعدد
تصوراتهم له مع احتمال أن يجعل الخطاب إلى نوع الناظر في كلامهم
فكأنه قيل اعلم أيها الناظر في الكتاب فلوحظ الجميع بعنوان واحد
وخوطبوا بخطاب واحد بتنزيلهم منزلة شخص واحد بل مصنفاتهم
من أولها إلى آخرها خطابات إلى الناظرين إليها ممن لهم أهلية
النظر فيها وإن لم يشتمل على لفظ خطاب إلا ما شذ منها وندر كقولهم
في مفتح الكتاب نحمدك اللهم وشبهه ولذلك لا فرق فيما مر
بين الخطوط التي قصد التوجيه والخطاب بأشخاصها كما في
المكاتيب أو قصد بأنواعها أعني القدر المشترك بين المرسوم منها و
بين
غيره من الافراد كما في الكتب المصنفة فإن المصنفين إنما يقصدون
توجيه نوع ما رسموه إلى الناظرين إليه حتى إن النسخ المأخوذة
من نسخهم أيضا موجهة إلى الناظرين إليها لتحقق النوع الموجه فيها
نعم لا بد من اعتبار قصد الحكاية أو الاختصاص العرفي ليتحقق
التميز ولا تتداخل عبائر الكتب ومما يبين ذلك أن الوضع إنما يلحق
الأمور الكلية من اللفظ والخط وشبههما دون الشخصية لانتفاء
الفائدة المعتد بها في حقه فكما أن الواضع لم يضع شخصا من اللفظ
بعينه بإزاء معنى بل وضع الامر الكلي الدائر بين مصاديقه له كذلك
لم يضع شخصا من الخط بإزاء اللفظ بل وضع القدر المشترك بين
مصاديقه له فيصح التوجيه والخطاب في المقامين بالشخص والنوع
لا
يقال إذا لم يكن الشخص موضوعا فكيف يتحقق التوجيه به إذ لا وجه
لتوجيه غير الموضوع في غير مقام الحكاية لأنا نقول حيث كان
الشخص في الخارج عين النوع فتوجيه أحدهما عين توجيه الاخر في
الخارج وإن تغايرا في العقل والفارق بين الوجهين المذكورين أن
المقصود في أحدهما
181

توجيه النوع في ضمن شخص دون غيره وهذا متعين في الألفاظ
الموضوعة للخطاب إذا استعمل في معانيها الحقيقية كما يظهر مما مر
وفي الاخر توجيهه باعتبار موارده وأفراده فهما في الحقيقة اعتباران
يطروان على توجيه النوع هذا ويمكن أن يجعل الموضوع في
القسمين نفس الجزئيات بأن يكون الواضع قد لاحظ القدر المشترك و
وضع كل جزئي من جزئياته بإزاء المعنى ولا يلزم من ذلك أن
يكون جميع الأوضاع نوعية لامكان الفرق باتحاد النوع الموضوع و
عدمه لكنه بعيد عن الاعتبار وعلى تقديره فالوجه أن يجعل
الخطاب في كتب المصنفين بحسب خصوصيات النقوش ومداليلها
من خصوصيات الألفاظ المتصورة الملفوظة وتوضيحه أن المخاطب
حينئذ يلاحظ نوع الكلام الذي يؤلفه ويتوصل بملاحظته إلى ملاحظة
خصوصياته من أفراده المحدثة عن القاصدين حكاية كلامه أو ما
قام مقامه ويوجهه إلى من تعلق قصده بمخاطبته وعلى قياسه الكلام
في النقوش ولا يخفى أن تسميته ما عدا توجيه شخص اللفظ المعين
خطابا مجاز كما عرفت في مفتتح الاحتجاج لكن لا يستلزم التجوز
فيما خوطب به ما لم تكن من الألفاظ الموضوعة للخطاب إذا تحقق
هذا فنقول خطاباته تعالى في الكتاب لا تخلو إما من قبيل الخطاب
بالألفاظ أو بالنقوش أو بالألفاظ والنقوش والفرق بين هذا وسابقه
مع استلزامه للخطاب بالألفاظ أيضا على ما مر أن الخطاب بالألفاظ
هناك تبع للخطاب بالنقوش وهنا أصلي على أحد تقديريه تبعي
على الاخر وعلى التقادير إما أن يكون الخطاب بالنوع أو بالشخص أو
بالنوع من أحدهما وبالشخص من الاخر وعلى بعض هذه
التقادير إما أن يكون الخطاب إلى معين من الموجودين حال الخطاب
أو الحاضرين أو غير معين منهم ومن غيرهم الصور المحتملة لا
تزيد على هذه الصور والأظهر أنها من قبيل الخطاب بالألفاظ النوعية
إلى الموجودين حال الخطاب والحاضرين لا بالكتابة لعدم
نزولها على الظاهر كذلك وإن كان في بعض الآيات دلالة عليه ولا
بالألفاظ الشخصية لان الشخص إنما كان يبلغ غير المخاطبين بها
غالبا من جبرائيل أو النبي وإنما كان يبلغ المخاطبين حكاياتها
فيستدعي توجه الخطاب إليهم على هذا الخروج
عن الظاهر بارتكاب التأويل بتنزيلهم منزلة الحاضرين ولا ريب أن
حمله على النوع أقرب إليه ومع ذلك فهو أوفق بما هو المقصود من
تعميم الاحكام فتعلق خطاباته تعالى بكل من يصلح لان يخاطب بها
عند وقوعه عليه من الغائبين والمعدومين كتعلقها بالموجودين و
الحاضرين ممن لهم أهلية الفتوى وغيرهم وإن توقف بناء غيرهم في
تعيين مراده تعالى ولو غالبا على تقليدهم ويحتمل أنه تعالى
خاطب الناس خصوصا أو عموما بلسان رسوله بشخص ما خاطبهم به
إما أولا أو مطلقا بمعنى أنه إنشاء الخطاب بكلامه بتنزيله منزلة
كلام نفسه كما هو قضية كونه خليفة عنه فيكون كلامه بمنزلة الكلام
الذي يخلقه تعالى في الهواء ابتدأ كما في مخاطباته تعالى لموسى
عليه السلام وفيه تعسف والفرق بين ومما حققنا يتضح أن النزاع
المعظم مع الحنابلة إما في جواز تعلق الخطاب بمعناه الحقيقي
بالمعدومين أو في قيام الدليل على أن خطابات الشرع مستعملة في
غير معانيها الحقيقية وقد أشرنا إلى ذلك في صدر المبحث وإلا
فجواز استعمال لفظ الخطاب في غير الموجود أو غير الحاضر في
الجملة مما لا مجال لانكاره ثم الحجة المعروفة للمانعين أمران الأول
القطع بأنه لا يقال للمعدومين يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا وإنكاره
مكابرة الثاني أنه يمتنع خطاب الصبي والمجنون ونحوهما
مع وجودهم وإدراكهم لقصورهم عن الخطاب فالمعدوم بالمنع أجدر
لكونه عن الفهم أبعد وأجاب التفتازاني عن الأول بأنه حق فيما
إذا كان الخطاب للمعدومين خاصة وأما إذا كان الموجودين و
المعدومين وكان إطلاق لفظ الناس والذين آمنوا عليهم بطريق
التغليب
فلا قال ومثله شائع في الكلام يعرفه علماء البيان وأنت خبير بأن هذا
الجواب مما لا مساس له بالدليل المذكور على ما استظهرناه في
محل النزاع من حمل الخطاب على الخطاب الحقيقي أعني الخطاب
الشفاهي لظهور أن اللفظ بعد التغليب وتنزيل المعدومين منزلة
الموجودين لا يكون للخطاب الحقيقي نعم لو كان المقصود منع
استعمال ألفاظ الخطاب في المعدومين مطلقا كما يوهمه إطلاق
الدليل
المذكور نهض الجواب المذكور على دفعه لكن يرد عليه أن
التزامه المنع فيما لو اختص الخطاب بالمعدومين مما لا وجه له على
هذا التقدير أيضا فإن جواز استعمال لفظ الخطاب في خصوص
المعدومين وما بحكمهم من الجمادات ونحوها في الجملة تنزيلا لها
منزلة الموجودين وذوي العقول مما لا يكاد يخفى لاشتهاره في
النظم والنثر اللهم إلا أن يدعى المقصود عدم جواز ذلك بالنسبة إليه
تعالى لانتفاء الفائدة في حقه وهو لو تم فإنما يتم بالنسبة إلى ما
هو محل البحث من الخطاب اللفظي وأما بالنسبة إلى غيره فممنوع
فإن الذي يستفاد من بعض الآيات والاخبار أن لجميع المخلوقات
حتى الجمادات والنباتات والحيوانات العجم نوع شعور وإدراك
تدرك به بارئها وصانعها وتسبحه وتقدسه بحسب ذلك الشعور و
الادراك قال الله تعالى وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون
تسبيحهم وقال جل شأنه والطير صافات كل قد علم صلاته و
تسبيحه وقال تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه
إلا أمم أمثالكم وتدل أيضا على أن الله تعالى يخاطبها وهي
تخاطبه بلسان يناسب حالها قال تعالى وأوحى ربك إلى النحل أن
اتخذي من الجبال بيوتا الآية وقال تعالى وقال لها وللأرض ائتيا
طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين وقال وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا
سماء أقلعي وقال جل جلاله ويوم نقول لجهنم هل امتلأت و
تقول هل من مزيد من الآيات إلى غير ذلك وأجاب عن الثاني بأن
عدم توجه التكليف بناء على الدليل لا ينافي عموم الخطاب وتناوله
لفظا ورد بأن هذا إنما يرد إذا كان استدلالهم بعدم توجه التكليف على
عدم عموم الخطاب وليس كذلك كيف والمعدوم عند
الأشاعرة منهم مكلف لا على وجه التنجيز بأن استدلالهم بعدم توجه
الخطاب إليهم على عدم عموم الخطاب له قال بعض الناظرين في
كلامه بعد نقل الرد المذكور وهذا وإن رفع
182

الجواب إلا أن الاستدلال لا يخلو عن شبهة مصادرة لان عدم توجه
الخطاب إلى المعدوم في قوة عدم تناوله له انتهى وفيه نظر لان
مقصود الدافع في الرد أن الاستدلال إنما هو بعدم توجه الخطاب إلى
الصبي والمجنون ونحوهما على عدم توجهه إلى المعدوم وأنه
ينافي أن يكون الخطاب متناولا له لفظا على ما وقع في الجواب و
ظاهر أن هذا ليس من المصادرة في شئ و إنما يلزم المصادرة ما لو
أراد أن الاستدلال بعدم توجه الخطاب إلى المعدوم على عدم تناوله
له لكنه خلاف الظاهر من كلام الدافع كما يرشد إليه أنه جمع
الضمير في المستدل به وأفرده في المستدل عليه وإلا لكان عليه
إفراده في الموضعين وكأن الناظر غفل عن ذلك وحمل كلامه على
الوجه الثاني نعم يرد على الدافع أن مقصود المجيب على ما يظهر من
كلامه أن لا ملازمة بين أن يعم الخطاب لفظا للصبي والمجنون و
نحوهما ولا يعم التكليف المستفاد منه نظرا إلى انتفاء الشرط في
حقهم لظهور أن القائل بعموم الخطاب للمعدوم قائل بعمومه للصبي و
المجنون أيضا وحيث إن المستدل لم يأت عليه بحجة بل اقتصر على
مجرد الدعوى كان المنع كافيا في الجواب ودعوى الدافع أن
الاحتجاج بعدم توجه الخطاب لا بعدم توجه التكليف لا يجدي في
ذلك بل فيه إشعار بذهوله عن مقصود المجيب والتحقيق أن المجيب
لم
يقصد أن الاستدلال بعدم التكليف وإنما عنى أن الأدلة إنما تنفي تعلق
التكليف بهم لا تعلق الخطاب ومن هنا يظهر أيضا ضعف ما
أورده بعض الأفاضل عليه من أنه إنما يتجه لو حرر النزاع في شمول
الخطاب للمعدوم وضعا وعدمه وأما لو حرر في دخوله في المراد
وقرر الدليل بأنهم لم يدخلوا في المراد فكذلك المعدوم فلا إذ لا
فائدة في تناول الصيغة لهم بعد تسليم خروجهم عن المراد إذ لا يكون
ذلك منعا لحكم الأصل ولا للأولوية فإن منشأه عدم الفرق بين
الخطاب وبين الحكم المستفاد من الخطاب فإنه قد يختلف متعلقهما
كما
في الامر الفائت وقد يتحد مع اتحاد الزمان ولو عرفا كما في تحرك أو
اختلافه كما في قولك حج إن استطعت مع تأخر زمن
الاستطاعة عن زمن الخطاب فكون الخطاب منجزا لا ينافي كون
الحكم المستفاد منه معلقا
على أمر غير حاصل فمقصود المجيب أن الثابت في حق الصبي و
المجنون عدم التكليف لا عدم الخطاب فيرجع إلى منع الأصل
احتجت
الحنابلة أيضا بوجهين الأول لو لم يكن الرسول مخاطبا لمن بعده لم
يكن مرسلا إليهم والتالي باطل بالاتفاق بيان الملازمة أنه لا لا
معنى لارساله إلا أنه أمر بتبليغ الاحكام ولا تبليغ بغير هذه العمومات
وهي لا تتناولهم الثاني أن علماء الأمصار لم يزالوا يحتجون على
أهل الاعصار بتلك الخطابات وهو إجماع على تتناولها لهم وأجيب
عن الأول بأنا لا نسلم أن التبليغ منحصر في العمومات التي هي
خطاب المشافهة إذ التبليغ لا يتعين فيه المشافهة بل كما يحصل
للمشافهين بالمشافهة كذلك يحصل لغيرهم بنصب الدلائل و
الامارات
الدالة على مشاركتهم لهم في الحكم وعن الثاني بأنه لا يقتضي أن
يكون ذلك لعلمهم بتوجه الخطاب إليهم بل لعلمهم بثبوت حكمهم
عليهم للأدلة الدالة على اشتراك التكليف بين الحاضرين وغيرهم و
أورد التفتازاني على الجوابين سؤالا حاصله أن الأدلة الأخرى أيضا
من قبيل الخطابات أو ما يرجع دليل حجيته إليها كالاجماع فلا يصح
الاحتجاج بها إذ التقدير أنها لا تتناول المعدومين وأجاب بأنه
يجوز أن يثبت ذلك بإجماع أو تنصيص على ثبوت الحكم أو حجية
الأدلة في حق الموجودين والمعدومين بطريق آخر غير تناول
الخطاب لهم كما في قوله عليه السلام الجهاد ماض إلى يوم القيامة ولا
يجتمع أمتي على الضلال انتهى والأظهر في الجواب أن يقال ثبت
الحكم في حق المعدومين بطريق إخبار الموجودين وإعلامهم بتعلق
الاحكام بهم عند وجودهم واستكمالهم لشرائط التكليف فإن تلك الأخبار
تكشف عن حصول مفاد الخطاب عند الوجود واستكمال
الشرائط إذ لا نعني بالحكم إلا الأثر اللازم من الخطاب فظهر أن
الحجتين المذكورتين لا تنهضان بإثبات العموم سواء أريد به عموم
الخطاب الحقيقي أو أريد به إرادة العموم من ألفاظها الواردة في
الشرع وقد يتشبث على الاثبات بوجوه أخر منها قوله تعالى كن عند
إرادة الايجاد كما دل عليه الآيات فإن خطابه هذا يتعلق بالمعدوم
وإلا لكان تحصيلا للحاصل وهو بمكان من الوهن والضعف
إذ ليس المراد به صدور هذه اللفظة وإلا لتسلسل بل هو مجاز في
الإرادة الحقية والمشية كما يدل عليه العقل والنقل وكفاك في ذلك
قول الإمام ومولى الأنام زين العابدين وسيد الساجدين عليه السلام
في دعائه المعروف ومضت على إرادتك الأشياء فهي بمشيتك
دون قولك مؤتمرة وبإرادتك دون نهيك منزجرة إلى غير ذلك ولو
سلم فليس المراد به الخطاب لان المعدوم غير قادر على الكون
فطلبه منه محال على أن الامر المذكور يتساوى بالنسبة إلى ذوي
العقول وغيرهم من الجمادات والاعراض فيلزم عليه التزام جواز
خطابه تعالى باللفظ للجمادات والاعراض حتى المعدومة ومنها
مطلقا وهو مما يشهد صريح العقل بقبحه وفساده ومنها أن دليل
المنع
على تقدير صحته لا يجري في خطابه تعالى لان الموجودين في زمن
الخطاب والمعدومين عنده سواء وهذا أيضا ضعيف لأنه إن أريد
أن الخطابات المتعلقة بالمكلفين في أزمنة وجودهم مع ما بينهما من
الاختلاف بحسب التقدم والتأخر الزمانيين إن قيست إليه تعالى
كانت على حد سواء فهذا مما لا ينافي المقصود بل ربما كان اعترافا به
وإن أريد أن نسبة المكلفين إلى خطابه تعالى متساوية وإن
اختلف أزمنة وجودهم فغير معقول بالنسبة إلى ما هو محل البحث من
الخطاب اللفظي لأنه زماني غير مستمر فكيف يتساوى نسبتهم
إليه ولو التزم باستمراره لزم أن يكون كل فرد من آحاد المكلفين
مخاطبا بالأحكام في كل جز من أجزاء الزمان وهذا في غير زمان
وجوده فاسد لما مر من أن الخطاب أمر نسبي يمتنع تحققه في الخارج
بدون وجود المخاطب على أن هذا غير معقول بعد حصول
الامتثال أو انعدام المكلف للزوم تحصيل الحاصل على الأول و
التكليف بالمحال على الثاني وأجيب أيضا بأن خطابه تعالى لما كان
مقرونا
183

الرسول لزم أن يعتبر فيه وجود المخاطبين واعترض عليه بأن التبليغ
يتبع الخطاب فإذا كان الخطاب عاما وجب أن يكون التبليغ
أيضا عاما وفيه أن مقصود المجيب بالتبليغ تبليغ الرسول بنفسه كما
هو الظاهر وحينئذ فلا يتصور العموم فيه ومنها أنه تعالى خاطب
الناس قبل خلقهم بقوله أ لست بربكم كما هو نص الآية فلو كان قبيحا
لما وقع وضعفه ظاهر أيضا إذ لا نسلم أن الخطاب هناك
للمعدومين بل للموجودين لأنه تعالى خلقهم في عالم الذر ثم
خاطبهم كما يدل عليه قوله تعالى قبل ذلك وإذا أخذ ربك من بني
آدم من
ظهورهم ذريتهم وقد نطق بمضمونه جملة من الاخبار وأما ما يقال من
أنا نلتزم بمثل ذلك في المقام فنقول بأنه تعالى خاطبهم
بالأحكام في عالم الذر ففيه أنه خروج عن المبحث إذ الكلام في جواز
تعلق الخطاب بالمعدوم والتقدير المذكور لو ثبت لا يكون منه مع
أن الكلام في عمومات الخطابات الواردة في ظاهر الشريعة ودعوى
أنها متوجهة إلى الموجودين في عالم الذر على وجه يتحقق به
مخاطبتهم بالمعنى الذي سبق مجازفة بينة ومنها ما ورد من الامر بقول
لبيك بعد قول يا أيها الذين آمنوا وقول لا بشئ من آلا رب
أكذب بعد قول فبأي آلا ربكما تكذبان فإن ذلك يدل على أن القاري
مخاطب بهما وإلا لما حسن قول ذلك بعدهما ورد بأن المقصود
من ذلك إظهار الايمان لا جواب الخطاب بدليل عدم استحبابه عقيب
يا أيها الناس واستحبابه عقيب يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا
أصواتكم وفي الاستشهاد بالآية الأخيرة نظر لامكان تعميم حكمها لا
سيما بالنسبة إلى قوله ولا تجهروا له بالقول والأظهر في الجواب
أن يقال ما دل على استحباب المتكلم بذينك اللفظين لا صراحة له في
كون اللافظ بهما مخاطبا بذينك الخطابين على الحقيقة أما في
الثاني فظاهر لعدم اشتماله على ما يقتضي ذلك فإن مفاده الاعتراف
بعدم كونه مكذبا وذلك لا يوجب كونه مخاطبا وأما في الأول
فلجواز أن يكون المقصود منه التلفظ بذلك تنزيلا لنفسه منزلة أحد
المخاطبين به بمناسبة المشاركة لهم في الحكم مع بيان كونه متهيئا
للقبول مستعدا لامتثال
وخص ذلك بالخطاب بيا أيها الذين آمنوا لما فيه من إظهار الايمان
دون يا أيها الناس وعلى هذا ينبغي أن ينزل ما قيل من أن قول
لبيك في الحج جواب عن ندأ إبراهيم عليه السلام حيث أمره تعالى
بأن يؤذن في الناس بالحج ففعل هذا ومنها قوله تعالى لينذركم به و
من بلغ سواء جعل جملة الموصول مرفوعة بالعطف على الفاعل أو
منصوبة بالعطف على المفعول وتخصيص الاحتجاج به على الوجه
الأول وهم كيف والثاني أقرب لفظا وأوفي دلالة ورد بأن الانذار
بالقرآن لا يستلزم تعلق خطاباته بالمنذرين بل يجوز أن يكون
لبيانه صلى الله عليه وآله مساواة غير الحاضرين لهم ومشاركتهم
إياهم في ذلك بقي الكلام في ثمرة النزاع فاعلم أن بعضهم ذكر أن
الثمرة تظهر في مقامين الأول في أن الخطابات الشرعية على تقدير
تناولها للمعدومين لا يجب عليهم الفحص عن مداليلها بحسب عرف
الموجودين ولا البحث عما فهموه بل وظيفتهم حملها على ظواهرها
عندهم لان الحكيم لا يخاطب بما له ظاهر عند المخاطب ويريد
خلافه من غير نصب قرينة بالنسبة إليه وأما على تقدير عدم التناول
فليس وظيفتهم التعويل على ظواهرها عندهم بل يتعين عليهم أن
يجتهدوا في تحصيل ما فهمه الموجودون حال الخطاب بالبحث عن
مصطلحهم وعن وجود القرائن الموجبة لصرفها عن ظاهرها عندهم
وعدمه لأنهم مشاركون لهم في التكليف وفيما فهموه من تلك
الخطابات لا في العمل بظواهر تلك الخطابات عندهم فإن ما دل على
أن
حلال محمد صلى الله عليه وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام
إلى يوم القيامة وأن حكم الله تعالى في الأولين هو حكم الله في
الآخرين وأمثال ذلك إنما يقتضي الشركة في التكليف لا في تعويل كل
قوم على ما هو الظاهر عندهم من الخطابات الشرعية الثاني أن
الخطابات المطلقة على القول بالشمول تحمل على إطلاقها في حق
غير الحاضرين عند عدم ثبوت التقييد من خارج فيثبت الحكم في
شأنهم من غير فرق بين أن يتحدوا في الصنف مع الحاضرين وعدمه و
أما على القول الاخر فإنما يثبت الحكم في حقهم إن اتحدوا في
الصنف وذلك كصلاة الجمعة
حيث أمر بالسعي إليها من غير تقييد بحضور السلطان العادل أو نائبه
الخاص مع تحققه في حق الحاضرين فإن جعلنا الخطاب مختصا
بالحاضرين لم يكن في إطلاقه دلالة على نفي الاشتراط بذلك لتحققه
في حقهم والواجب المشروط مطلق بالنسبة إلى الواجدين للشرط
وإن جعلناه متناولا لغيرهم أيضا دل إطلاقه على عدم اعتبار الشرط
المذكور لان منهم من لا يتحقق الشرط المذكور في حقه وإنما
خصصنا الكلام هنا بالحاضرين اقتصارا على ما ذكروه وفي المقامين
نظر أما في المقام الأول فلان الفرق في حجية ظواهر الألفاظ في
حق السامعين بين المخاطبين منهم وغير المخاطبين أمر متضح
الفساد منحرف عن منهج السداد للاجماع ظاهرا على حجية ظواهر
الألفاظ في حق السامعين لهما مطلقا ولولا ذلك لم يعتبر ظواهر
الأقارير والوصايا والعقود والشهادات ونحو ذلك في حق غير
المخاطبين بها ولم يجز شهادتهم على شئ من ذلك ومن تتبع
الاخبار تبين له أن الرواة كانوا كثيرا ما يعولون على مخاطبات الأئمة
عليهم السلام لغيرهم من السائلين ودعوى اقتصارهم في ذلك على
صورة حصول العلم بالمراد مجازفة واضحة ثم ما فرع على القول
بالتناول من حجية ظواهر الخطابات في حقنا من غير حاجة إلى
البحث والاجتهاد أوضح فسادا من سابقه فإنا بعد ما ثبت لدينا من
طريان النسخ والتجوز والتخصيص والتقييد على كثير من تلك
الخطابات لم يبق لنا وثوق بما نجده من تلك الظواهر قبل الفحص بل
يخرج بذلك العلم الاجمالي عن حد الظهور والإفادة إلى حد
الاجمال وعدم الدلالة فيجب الفحص والتتبع في معرفة تلك الموارد
و
التعويل في تعيينها إلى الأدلة المعتبرة وهذا أيضا مما لا فرق فيه بين
المخاطبين وغيرهم وأما في الثاني فلان اعتبار
184

الاتحاد في الصنف حتى الكون في زمان النبي صلى الله عليه وآله
يوجب هدم أسامي الشريعة وسد باب الاحكام بالكلية كذا قيل و
ليس
بشئ لان المراد اعتبار الاتحاد حيث لا يقوم دليل على عدم اعتباره و
الاتحاد في الكون في زمان النبي صلى الله عليه وآله مما قام
الاجماع بل الضرورة على عدم اعتباره في معظم الاحكام فلا يلزم
على تقدير اعتباره حيث لا يقوم عليه الحجة ما ذكره من الانهدام و
الانسداد نعم يرد عليه أن إطلاق التكليف ينفي اشتراطه بالكون في
زمان النبي صلى الله عليه وآله والاعتذار بأن التكليف المشروط
مطلق بالنسبة إلى الواجدين للشرط إنما يستقيم حيثما يستمر الشرط
دون ما ينقطع كالكون في زمان النبي صلى الله عليه وآله و
احتمال قيام القرينة الدالة على الاشتراط عندهم منفي بالأصل و
الاجماع منعقد على أن كل حكم تعلق بالمشافهين مطلقا كان تعلقه
بغيرهم أيضا مطلقا مضافا إلى عموم ما دل على أن حكم الله في
الأولين جار في حق الآخرين فظهر أن الاستدلال بظاهر الآية على
وجوب صلاة الجمعة متجه إن لم يكن هناك ما يوجب صرفها عن
ظاهرها لعدم استدامة الشرط المعتبر في وجوبها في حقهم
تنبيهات
الأول
أن الخطاب إلى الواحد لا يقتضي التعميم نعم نقول بعموم الحكم
المستفاد منه حيث لا يفهم قصد الخصوصية منه لقيام الأدلة الخارجية
عليه كالفحوى وكقوله عليه السلام حكمي على الواحد حكمي على
الجماعة وعزي إلى الحنابلة القول بأنه يقتضي التعميم وهو متضح
الفساد بل ربما قيل بأنهم لا يقولون أيضا بالتعميم من حيث اللفظ بل
من باب القياس
الثاني
لا كلام ظاهرا في أن الخطاب بصيغة المؤنث كيا أيتها المؤمنات لا
يتناول الرجال وأما العكس كيا أيها المؤمنون فالظاهر اختصاصه
بالرجال ما لم يقم قرينة على خلافه بدليل التبادر لاجماع أهل العربية
على أن واحدة المذكر وهو لا يتناول المؤنث وقيل بالدخول لان
أهل اللسان يغلبون المذكر على المؤنث عند الاجتماع كما في قوله
تعالى اهبطوا وجوابه أن وقوع ذلك لا ينافي ظهوره في خلافه وما
ذكر إنما يسلم إذا قام قرينة ولو حالية على إرادة الجميع ولا كلام على
تقديره
الثالث
الخطاب بمن يستوي فيه المذكر والمؤنث لكن إذا كان الضمير العائد
إليه مؤنثا اختص بالمؤنث وأما إذا كان مذكرا اشترك فيه
المذكر والمؤنث وقيل بل يختص بالمذكر وهو بعيد عن ظاهر
الاستعمال وما مثل من في الشمول والخلاف
الرابع
آيات الكتاب منها ما هو خطاب منه تعالى أما إلى الناس عموما كيا أيها
الناس اتقوا يا عباد فاتقون ومثله الامر بضمير الجمع المذكر
حيث لا يتقدم ما يقتضي تخصيصه بالبعض كحافظوا على الصلاة بناء
على استظهار العموم منه حينئذ أو إلى نوع منهم خصوصا
كالمؤمنين وأولي الألباب وأهل الكتاب كما في الآيات المشتملة على
الخطاب إليهم أو إلى شخص أو إلى أشخاص كيا أيها النبي إن
تتوبا ويا نساء النبي ومنها ما ألفه تعالى لان يخاطب به النبي صلى الله
عليه وآله إياه تعالى نحو قل رب اغفر والناس عموما نحو قل
يا أيها الناس أو صنفا منهم مخصوصا نحو قل يا أهل الكتاب قل يا أيها
الذين هادوا قل للمخلفين من الاعراب ستدعون ويمكن أن يجعل
الخطاب في ذلك منه تعالى إليهم ويكون الامر بالقول أمرا بتبليغ
الخطاب فيرجع إلى القسمين الأولين وأن يكون مأمورا بأن يخاطبهم
بما يدل على تلك المعاني وإن لم يكن بخصوص تلك الألفاظ أو لان
يخاطب به المسلمون كما في قوله قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا و
يحتمل فيه الوجه الأخير أيضا أو لان يخاطبوا به النبي صلى الله عليه
وآله كقوله وقولوا انظرنا أو لان يخاطب به جبرائيل النبي صلى
الله عليه وآله نحو ما نتنزل إلا بأمر ربك وما منا إلا له مقام معلوم و
يحتمل أن يكون الخطاب في الثاني إلى جميع الناس أو لان
يخاطب العباد به ربهم ك آيات الحمد ومن هذا القبيل تأليفهم للأدعية
والزيارات لمخاطبة الداعين والزائرين ويحتمله المراثي
المنظومة للحسين عليه السلام والظاهر أن النزاع المتقدم في خطاباته
تعالى يجري فيما ألفه لمخاطبة نبيه صلى الله عليه وآله أيضا و
إن لم نجعله خطابا له تعالى واعلم أن حكاية الخطاب خطاب إلى من
خوطب بالحكاية وليس المحكي خطابا إليه بل إلى من خوطب به
أولا وكذا لو ترتبت الحكايات
القول في التخصيص والمخصص
مقدمة
التخصيص قصر العام أو حكمه على بعض ما يتناوله والمراد بالعام ما
اعتبر في استعماله وضعه للعموم سواء استعمل فيه أو لم يستعمل
فدخل العام الذي أريد به جميع مسمياته ثم صرف عنه الحكم إلى
البعض كما في بدل البعض على أظهر الوجوه وأخرج منه البعض كما
في التخصيص بالاستثناء على ما سيأتي وبالشرط والغاية من حيث
دلالتهما على إخراج الفرد الذي لا يشتمل على الشرط مطلقا أو لا
يقارن ما قبل الغاية مطلقا فإن التقييد بهما وإن لم يكن معتبرا في الفرد
لكن الفرد المقيد بهما فرد قطعا وليس الحكم لاحقا له وإما
من حيث دلالتهما على زوال الحكم عن المحكوم عليهم عند زوال
الشرط أو بعد الغاية فليس من تخصيص العام أو لا عموم له بالنسبة
إلى
ذلك بل إما من باب التقييد إن دل اللفظ عليه بالاطلاق أو من
تخصيص ما دل على عموم الحكم بالنسبة إليهما إن كان هناك ما يدل
عليه
والتحقيق أن مفادهما بالاعتبار الأول أيضا ليس من تخصيص العام بل
إما من تقييد الحكم كما في الشرط لان الحكم فيه إنما يتعلق
بالجميع لكن لا مطلقا بل إذا تحقق الشرط أو من تقييد العام ضمنا كما
في الغاية بالنسبة إلى الافراد التي لا تقارن ما قبلها مطلقا فإن
المراد بالعلماء في قولنا أكرم العلماء إلى أن يفسقوا أو إلى يوم كذا
العلماء الغير الموصوفين بالفسق والموجودون قبل الغاية المذكورة
إذ لا معنى للتحديد بالغاية بالنسبة إلى من استمر الفسق في حقهم من
زمن الخطاب أو تأخروا عن الغاية كذلك يدخل العام الذي أريد به
البعض ابتدأ بأن أطلق العام على الخاص باعتبار عمومه وأما إطلاق
العام على الخاص لا باعتبار عمومه بل باعتبار كونه موضوعا له
بحياله فليس من التخصيص وإن قدر ظهوره عند الاطلاق في العموم
سواء غاير وضعه وضع العام كما لو أطلق لفظ الرجال علما لرجل
عليه باعتبار كونه علما له أو لا كما في الجمع المعرف المعهود أو
الموصوف على ما عرفت وخروج ذلك عن الحد إما لعدم تسميته
عرفا قصرا بل هو تعيين لاحد محتملات اللفظ أو لان قيد الحيثية
مفهوم من قولنا بعض ما يتناوله فالمعنى قصره على بعض ما يتناوله
185

من حيث إنه بعض ما يتناوله وليس الاستعمال فيما ذكر كذلك لكن
يشكل ذلك في بدل البعض فإن الحكم لا يلحقه من حيث كونه بعض
مدلول اللفظ بل من حيث كونه مدلول لفظ آخر وجوابه أن البدل
الصحيح لما كان يستدعي علقة [علاقة] معنوية مخصوصة لظهور
عدم
صلوح كل لفظ للبدلية كذلك من كل لفظ لزم أن يعتبر في بدل البعض
من الكل علقة [علاقة] كونه بعضا من الكل فيشتمل على قصر حكم
العام على بعض ما يتناوله من حيث إنه بعض ما يتناوله وإن كان من
حيث إنه مدلول لفظا آخر أيضا وأما قصر المعهود على بعض ما
يتناوله كقولك جاءني رجال فأكرمت الرجال إلا بعضهم فدخوله في
الحد وخروجه عنه مبني على دخوله قبل القصر في حد العام و
خروجه عنه وحيث اخترنا سابقا دخوله في حد العام لا جرم يدخل
قصره في حد التخصيص ومثله الجمع المعرف والموصوف وقد
تقدم الكلام فيه وقد يعرف التخصيص بأنه إخراج بعض ما يتناوله
الخطاب عنه وأورد عليه بأن الخطاب لا يتناول ما أخرج عنه و
أجيب تارة بأن المراد ما يتناوله لولا الاخراج كما يقال هذا عام
مخصص مع أن المخصص لا يكون عاما فإن المراد ما يكون عاما لولا
التخصيص وأخرى بأن المراد ما يتناوله وضعا وإن لم يكن مقصودا و
هذا أظهر لخروج تقييد المطلق منه حينئذ ولا يخرج على الوجه
الأول وقد يطلق التخصيص على قصر المركب على بعض أجزائه
بأحد الاعتبارين كما قد يطلق عليه العام باعتبار شموله للاجزاء
فيسمى مثل العشرة عاما وقصرها على بعض أجزائها بأحد الاعتبارين
تخصيصا ولا يذهب عليك أن الحد الثاني للتخصيص متناول له
بهذا المعنى أيضا ومن منع من دخول الجمع المعهود في العام جعل
قصره على البعض تخصيصا له بهذا المعنى ثم إن التخصيص قد يكون
بالمتصل وهو ما لا يستقل بنفسه وحصر في خمسة الاستثناء
المتصل نحو أكرم الناس إلا زيدا وإنما خص بالمتصل لان المنفصل لا
تخصيص فيه والشرط نحو أكرم الناس إن كانوا علماء والصفة نحو
أكرم الرجال العلماء والغاية نحو أكرم الناس إلى أن يجهلوا وبدل
البعض نحو أكرم الناس علماءهم وقد عرفت تحقيق القول في هذه
الوجوه وقد يكون بالمنفصل وهو ما يستقل بنفسه عقليا كان كما
في قوله تعالى الله خالق كل شئ أو لفظيا كقوله تعالى خلق لكم ما في
الأرض جميعا وقوله تعالى حرمت عليكم الميتة الآية
فصل لا ريب في جواز التخصيص في الجملة
وإنكار بعض الناس له مباهتة فلا ينبغي أن يلتفت إليه واختلفوا في
منتهى التخصيص فذهب الأكثرون إلى اعتبار بقاء جمع يقرب من
مدلول العام وربما يفسر بما فوق النصف والأظهر حمله على ما يعد
عرفا قريبا منه وهو أخص من التفسير المذكور وقيل يجوز إلى
أن يبقى جمع غير محصور وقيل إلى أن يبقى اثنان وقيل إلى أن يبقى
ثلاثة وقيل يجوز إلى الواحد وفصل بعضهم بين الجمع وغيره
فاعتبر الثلاثة في الجمع وأجازه في غيره إلى الواحد والحاجبي بعد
أن نقل جملة من الأقوال المذكورة اختار في المقام تفصيلا آخر
ففصل في التخصيص بالمتصل بين أن يكون باستثناء أو بدل وبين أن
يكون بغيرهما من شرط أو صفة فأجازه في الأول إلى الواحد
نحو له على عشرة إلا تسعة وأخذت العشرة أحدها وفي الثاني إلى
اثنين نحو أكرم الناس العلماء أو إن كانوا علماء وفي التخصيص
بالمنفصل بين أن يكون في محصور قليل نحو قتلت كل زنديق وهم
ثلاثة أو أربعة وبين أن يكون في غير محصور أو في عدد كثير
فأجاز في الأول إلى الاثنين أيضا وفي الثاني إلى ما ذهب إليه الأكثر من
بقاء جمع يقرب من مدلول العام ولا بد قبل الخوض في الأدلة
من بيان موضع النزاع فنقول قد سبق أن التخصيص كما يطلق عندهم
على قصر حكم العام كذلك قد يطلق على استعمال العام في
الخاص والظاهر أن نزاعهم هنا في التخصيص بالمعنى الثاني كما
يظهر من بعض حججهم وللفرق بينه وبين انتزاع الآتي في الاستثناء
فإن جماعة كالعلامة و الحاجبي أفردوا لكل منهما مبحثا ونسبوا القول
باشتراط بقاء جمع يقرب من مدلول العام هنا إلى الأكثر و
هناك نسبوا إلى الأكثر القول بجواز الاستثناء إلى ما فوق النصف ولا
يشكل ما ذكرناه بما نقلوه عن الأكثر من مصيرهم في دفع
إشكال التناقض المورد في الاستثناء إلى أن المستثنى منه مستعمل
في الباقي وأن الاستثناء قرينة عليه حيث إن المستثنى منه عندهم
من العام المستعمل في الخاص فينافي قولهم بجوازه إلى ما دون
النصف لقولهم هنا باشتراط بقاء جمع يقرب من مدلول العام وذلك
لجواز أن يكون أولئك
الأكثرون غير هؤلاء الأكثرين باعتبار الأكثرية في الكل أو البعض
بالنسبة إلى القائلين ب آحاد بقية الأقوال دون المجموع ولك أن
تمنع صحة ما نقوله عن الأكثر في أحد المواضع لوقوعه في كلام
البعض أو تخص نزاعهم هنا بالتخصيص بغير الاستثناء وتجعل
نزاعهم
في التخصيص بالاستثناء في المبحث الآتي قرينة عليه فيصح حمل
التخصيص هنا حينئذ على المعنى الأعم وإن بعد لكن لا بد حينئذ من
إخراج التخصيص بالشرط والغاية أيضا بناء على دخولهما فيه إذ لا
ريب في جواز المستوعب من الأول فضلا عن غيره كما سننبه عليه
في ذيل المبحث ولا يعقل في الثاني وجه للقول ببقاء جمع يقرب من
مدلول العام إن اعتبر التخصيص بحسب الافراد الحادثة بعد الغاية
لظهور غلبتها غالبا وإن اعتبر بحسب الأزمان ففساده أوضح مع أنه لا
عموم له بحسبها بل الوجه حينئذ إخراج التخصيص بالصفة أيضا
لوضوح جوازه إلى الأكثر فيبعد إنكاره من الأكثر وقد ورد في الكتاب
في عدة مواضع كقوله تعالى إنه من عبادنا المخلصين وقوله
عبادنا الصالحين وقوله إلا عبادك منهم المخلصين وقوله ولله
الأسماء الحسنى بل التكاليف المتعلقة بالعمومات لا تتعلق إلا بالافراد
المقدورة وهي أقل من غيرها وكيف كان فالتفصيل الذي ذهب إليه
الحاجبي في المقام ليس في محله لأنه تفصيل بين ما هو من محل
النزاع وما هو خارج عنه ومما حققناه يظهر ضعف ما ذكره بعض
المعاصرين من المنافاة بين ما نسب إلى الأكثر في المقامات الثلاثة
فزعم أن كلامهم في هذا المبحث أعني مبحث التخصيص مبني على
ظاهر الأدلة وكلامهم هناك أعني مبحث الاستثناء ناشئ عن الغفلة
عما بنوا عليه الامر
186

هذا إذا عرفت ما حققناه فالمختار عندي ما ذهب إليه الأكثرون من
اعتبار بقاء جمع يقرب من مدلول العام لكن لا مطلقا بل من حيث
يكون الاستعمال بعلاقة العموم والخصوص وأما إذا استعمل بغير
هذه العلاقة كالجمع المعرف والموصولات إذا جردت عن اعتبار
التعيين الحقيقي فيها بناء على ما حققناه من أن التعيين معتبر في
معانيها جاز تخصيص الجمع منها إلى ثلاثة والمفرد إلى الواحد وكذا
إذا كان المقصود به المبالغة أو التعظيم أو نحو ذلك جاز التخصيص
إلى الواحد وكان هذه الصور خارجة عن محل النزاع كما يشعر به
تمثيلهم وقد نص عليه بعضهم في التعظيم ويؤيده اعتراف كل من
الفريقين به فيما سيأتي لنا أن العلاقة المذكورة إنما تعتبر حيث
يساعد عليها الطبع كما مر تحقيقه في أوائل الكتاب وهذا بحكم
الاستقراء إنما يتحقق بين المجموع وما يقاربه دون مطلق الابعاض و
إلى هذا يرجع ما استدل به الأكثر من القطع بقبح قول القائل أكلت كل
رمانة في البستان وفيه آلاف وقد أكل واحدة أو اثنين وقوله
كل من جاءك فأكرمه وفسره بزيد أو هو مع عمرو وبكر ونحو ذلك و
لا كذلك إذا فسره بجمع يقرب من مدلول العام فإنهم أرادوا
بالقبح فيه ما يساوق الغلط كما هو الظاهر من إطلاقه في مثل المقام لا
مجرد الاستبشاع وخروج اللفظ عن حد الفصاحة فإنه لا ينافي
الجواز وأما ما استدل به بعض المعاصرين من أن جواز الاستعمال
توقيفي والقدر الثابت منه في المقام ما ذكرناه ويكفي في نفي ما
عداه عدم قيام دليل على جوازه فليس على ما ينبغي لأنه إنما يقتضي
التوقف في الجواز لا نفيه واقعا حتى إنه لو فرض أن رواية اشتملت
عليه فليس له ترك العمل بمؤداها لان عدم العلم بالجواز لا ينافي
الجواز احتج من قال بجواز التخصيص إلى اثنين أو ثلاثة بما قيل في
الجمع من أن أقله اثنان أو ثلاثة ففرعوه على كون الجمع حقيقة في
أحد الامرين وأجيب بأن الكلام في أقل مراتب التخصيص لغة لا في
أقل مراتب الجمع فإن الجمع ليس بعام ولا دليل على تلازم الحكمين
واعترض عليه بعضهم
بأن المستدل إذا ثبت ذلك فيما إذا كان العام جمعا فله أن يثبت في
غيره بعدم القول بالفصل ثم أجاب بأن العام المخصص مجاز والجمع
إذا استعمل مجازا لا يلزم بقاؤه على حقيقته وفيه ما لا يخفى احتج
القائلون بجوازه إلى الواحد بوجوه منها أنه يجوز أكرم الناس إلا
الجهال وإن كان من عداهم واحدا بالاتفاق والجواب أن هذا خارج
عن محل النزاع على ما عرفت في تحرير فإن التخصيص بالاخراج لا
يوجب التجوز في لفظ العام كما سنحققه ولو تعسف بارتكاب التجوز
فيه منعنا جوازه في مثل المثال المذكور ولا اتفاق عليه ومنها أن
استعمال العام في الخاص بطريق المجاز وليس بعض الافراد أولى من
بعض فيجب الجواز إلى الواحد وأجيب عنه أولا بالمنع من عدم
الأولوية فإن أقربية الأكثر يوجب أولويته حكاه في المعالم عن العلامة
وتنظر فيه بأن الأقربية إنما توجب أرجحية إرادة الأكثر لا
امتناع إرادة غيره كما هو المدعى وفيما تنظر فيه نظر لان الأقربية إنما
توجب الأرجحية مع ثبوت العلاقة بدونها لا مطلقا ولا خفاء
في أن مقصود المجيب رد الدليل المذكور لا إثبات المدعى به وحيث
إن المستدل بنى دليله على عدم أولوية بعض الافراد من بعض كفي
في هدم ما أسسه من إثبات الأولوية ولا حاجة إلى بيان ما يزيد عليه و
قد يعارض بأن الأقل متيقن الإرادة بخلاف الأكثر فتكافئ تلك
الأولوية وهذه المعارضة لا تخلو من نوع مصادرة لان المجيب لم
يساعد على عدم كون الأكثر متيقن الإرادة كيف وقد منع من
الاستعمال في الأقل فتأمل على أن هذه الأولوية على تقدير تسليمها
لا توجب أولوية الاستعمال في الأقل وإنما توجب أولوية الحمل عليه
عند الشك ولا مدخل له في المقام وقد يوجه كلام المستدل بأن
مقصوده أن الاستعمال المذكور بعلاقة العموم والخصوص وليس
بعض
الافراد في هذه العلاقة أولى من بعض فيندفع عنه الجواب المذكور
لأنه لا يوجب الاختلاف فيها وفيه نظر لأنه إن أريد أن العلاقة
الحاصلة من جهة العموم و الخصوص متساوية في الجميع فتكون
معتبرة في الجميع فتوجه المنع عليه جلي
كما قرر في الجواب لأنها مقولة على أفرادها بالتشكيك لا بالتواطي و
إن أريد أن القدر المشترك المعتبر منها في صحة الاستعمال إنما
هو مجرد التناسب بالعموم والخصوص وهو متساو في الجميع فهو و
إن كان تعسفا في كلام المستدل لكن لا يتجه على تقديره الجواب
المذكور بل الوجه في الجواب حينئذ أن يقال لا نسلم أن استعمال
العام في الخاص بمطلق علاقة العموم والخصوص حتى يلزم تساوي
جميع صور التخصيص فيها بل بنوع مخصوص منها وهو ما يوجد بين
الكل وما يقاربه و ثانيا بأن استعمال العام والخاص على ما
اعترف به المستدل مجاز فلا جرم يستدعي علاقة مصححة وليست
علاقة الكل والجز ليلزم تساوي الأجزاء فيها حيث لا تشترط بشرط
كما يشترط في عكسها لان مدلول العام كل فرد لا مجموع الافراد بل
علاقة المشابهة الناشئة من الاشتراك في صفة الكثرة وهي إنما
تكون بين الأكثر والمجموع دون غيره وفيه نظر أما أولا فلان النزاع في
هذا الأصل على ما يظهر من إطلاقهم لا تختص بالعام
الافرادي بل في مطلق العام أفراديا كان أو مجموعيا وقضية الجواب
المذكور التزام جواز التخصيص في العام المجموعي إلى الواحد
دون الافرادي أو هذا التفصيل مع بعده عن الأنظار المستقيمة مما لا
مصرح به بل لا قائل به ظاهرا فيمكن دفعه بأنه خرق للاجماع
المركب وأما ثانيا فلان العلاقة التي تصح أن تعتبر في المقام لا تنحصر
في علاقة المشابهة حتى يختص ثبوتها بأكثر الافراد بل يجوز
أن تعتبر فيه أيضا علاقة العموم والخصوص فإنها أيضا علاقة برأسها
معتبرة في الاستعمال كما نص عليه جماعة من المحققين وهي
مشتركة بين العام وجميع جزئياته متساوية بينها على بعض الوجوه
السابقة فيبقى الاشكال بحاله وقد ينكر علاقة العموم والخصوص
بالمعنى المبحوث عنه وينزل العموم في مقالة من ذكر هذه العلاقة
على العموم المنطقي وهو غير
187

واضح لان العلاقة المصححة للاستعمال كما يتحقق بين الكلي و
الجزئي باعتبار الكلية والجزئية كذلك يتحقق بين مدلول كل فرد وبين
أكثر الافراد باعتبار الشمول والاندراج ولو على وجه مخصوص فلا
وجه لعدم اعتبارها حينئذ وأما ثالثا فلان شمول ألفاظ العموم لما
يندرج فيها من أفراد مفهومها قد يكون بطريق المطابقة كما في النكرة
المنفية والمضاف إليها لفظ الكل وشبهه بناء على أن
الموصوف بالعموم هناك نفس النكرة المقيدة كما هو الظاهر وقد
يكون بطريق التضمن كما في الجمع المعرف فإن ما يتناوله من
أفراد مفهومه أجزاء له لما عرفت من أن المراد به مرتبة معينة بالعهد و
شبهه أو جميع الافراد على التقديرين تكون الآحاد أجزاء للمرتبة
وليست بجزئيات للجمع لعدم صدقه عليها كما نبهنا عليه عند إبطال
قولهم بإبطال اللام معنى الجمعية وصدق على كل ثلاثة منها فما
زاد على تقدير تحققه غير مفيد لعدم تعلق القصد والحكم بمدلوله
بهذا الاعتبار فدعوى أن شمول العام لما يندرج فيه من قبيل شمول
الكلي لجزئياته لا من قبيل شمول الكل لاجزائه إنما يتم في القسم
الأول دون الثاني وإن كان عمومه باعتبار تعلق الحكم به أفراديا إذ
العبرة بدلالة العام لا بكيفية تعلق الحكم به فيرجع هذا عند التحقيق
إلى الوجه الأول مع أن للخصم أن يعكس العلاقة في الأول فيجعل
الاستعمال فيه من باب إطلاق اللفظ الموضوع للجز في الكل حيث
إن الكلي جز من الجزئي فيكون المراد بالرجل في قولك لا رجل
الطبيعة مع بعض خصوصيات أفرادها فيختص النفي بها وعلى قياسه
نحو كل رجل ولا يقدح اشتراطه بكون الجز بحيث يلزم من
عدمه عدم الكل لان زوال كل كلي يؤدي إلى زوال جزئية المتقوم به و
إن كان عرضيا كالضاحك فإن زواله يستلزم زوال فرده الذي
هو تمام حقيقته كهذا الضاحك ولا ينافي عدم استلزامه لزوال الانسان
إذ ليس الاطلاق باعتباره ولو سلم أن مبنى العرف ليس على
هذه التدقيقات فلا ريب في مساعدته على الانتفاء في الذاتيات وهو
كاف في إبطال ما أراده المجيب من عموم المنع نعم لا يلائم هذا
البيان لما حررناه في محل النزاع
وكيف كان فالتحقيق في الجواب أن يقال أنواع العلائق بأسرها إنما
تعتبر حيث يساعد عليها الطبع على ما مر تحقيقه في أوائل الكتاب
والبيان المذكور إنما ينهض بإثبات نوع منها في المقام وهو بمجرده لا
يوجب جواز الاستعمال ما لم تثبت المساعدة المذكورة ومنها
قوله تعالى وإنا له لحافظون والمراد به هو سبحانه وحده وأجيب عنه
بأنه خارج عن محل النزاع أما أولا فلان الكلام في صيغة العموم
لا في صيغة الجمع ولو تعسف في إدخالها بتفسير العام بما يتناول ذا
الأجزاء كالثلاثة منعنا توجه النزاع هنا إليه وأما ثانيا فبأنه
للتعظيم وليس من التعميم والتخصيص وذلك لما جرى به العادة من
أن العظماء يتكلمون عنهم وعن أتباعهم فيغلبون المتكلم فصار
ذلك استعارة للعظمة ولم يبق معنى العموم ملحوظا أصلا وهذا
الوجه مما ذكره بعض المحققين كالعضدي وغيره وفيه إشارة إلى ما
قررناه في محل النزاع ويمكن استفادة التعظيم من تنزيل الواحد منزلة
الجماعة ولعله بعيد في الآية ويمكن الجواب أيضا بأن المراد به
تعالى مع الحفظة أو الحفظة خاصة فلا يكون مستعملا في أقل من
ثلاثة ومنها قوله تعالى الذين قال لهم الناس والمراد به نعيم ابن
مسعود باتفاق المفسرين ولم يستهجنه أهل اللسان وأجيب بأنه أيضا
خارج عن محل النزاع إذ الكلام في تخصيص العام والناس هنا
للمعهود وليس المعهود بعام وهذا الجواب وإن وقع ممن ينكر عموم
المعهود رأسا إلا أنه هنا جيد لا ينافي ما ذكرناه من اختيار
العموم لان ذلك يختص عندنا بما إذا كان المعهود جماعة كما أشرنا
إليه وقد ينكر اتفاق المفسرين على ذلك ويمنع صحة إطلاق اسم
الجمع المعرف على فرد واحد معهود لكن قد ورد التفسير به في
رواياتنا المروية عن الأئمة عليهم السلام فينبغي توجيهه إما بجعله من
باب التوسع في النسبة كما في قولهم قتل بنو فلان فلانا حيث أسندوا
الفعل الصادر من الواحد إلى الكل توسعا أو بحمله على الجنس كما
في قولهم فلان يركب الخيل أو بأن القائل المذكور لما قال ذلك من
قبل جماعة كما يشهد به حكايته المعروفة نزل منزلة تلك الجماعة و
أطلق عليه لفظ الناس وكيف
كان فلا يكون الاستعمال بعلاقة العموم والخصوص ومنها أنه لا ريب
في جواز أكلت الخبز وشربت الماء مع أن المأكول والمشروب
منهما قدر قليل والجواب أن هذا أيضا خارج عن محل النزاع إذ كل
من لفظي الخبز والماء ليس بعام بل هما للجنس واللام فيهما
لتعريفه وكون المقصود بعض أفراده إنما يستفاد من تعليق الاكل و
الشرب بهما فإنه قرينة على أن ليس المراد بهما الجنس من حيث
هو بل من حيث الوجود في ضمن بعض الافراد واعلم أنا لو جعلنا
التقييد بالشرط من باب التخصيص لزم القول بجواز التخصيص
المستوعب فيما إذا انتفي الشرط رأسا كما قال أكرم العلماء إن كانوا
شعراء ولم يتفق عالم شاعر وتعميم النزاع المتقدم إليه بعيد جدا
فإن إطباقهم على جواز أكرم زيدا إن كان شاعرا على خلاف لهم فيما لو
علم الامر بانتفاء الشرط كما مر في بعض مباحث الامر يوجب
إطباقهم في العام أيضا والفرق بين المثالين غير معقول
تمهيد مقال
في دفع إشكال قد تأتي إلا للاستثناء فتستعمل تارة في إخراج ما دخل
في الحكم السابق سواء كان تناوله بدليا أو شموليا أفراديا أو
مجموعيا على إشكال في النوع الأول و سواء كان دلالته على الشمول
بالوضع أو لا وأخرى بمعنى لكن فتستعمل حيث يصح أن تستعمل
لكن فيعتبر أن يكون الحكم السابق موهما لخلاف الحكم الثابت
لمدخولها فيأتي بها استدراكا كالدفع ذلك الوهم سواء اختلف
الحكمان
في الكيف نحو جاءني القوم إلا حمارا أو لا نحو ما زاد إلا ما نقص وما
نفع إلا ما ضر والظاهر أنها في المثال متضمنة لنفي الحكم
السابق عن اللاحق أيضا ولا حاجة فيه إلى الاضمار بخلاف المثالين
الأخيرين فإن مفادها فيهما مجرد الاستدراك فينقسم إلى قسمين و
قد تأتي بمعنى غير فتقع صفة
188

نحو لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وهل هي حقيقة في المتصل فقط
أو مشتركة بينه وبين المنقطع لفظا أو معنى أقوال أظهرها الأول
بشهادة التبادر ولبعد المنقطع عن ظاهر الاستعمال وقد يؤكد ذلك
بأنهم حملوا قول القائل له علي عشرة دراهم إلا ثوبا على قيمة
الثوب فرجحوا التجوز في الثوب أو إضمار القيمة على الانقطاع و
الظاهر أن وجه الترجيح عدم ملائمة المقام للحمل على الانقطاع
حيث
إنه لا إيهام في الحكم السابق بخلاف اللاحق مضافا إلى أصالة البراءة
عن الزائد حتى إنه لو تحقق الايهام في مقام كما لو ادعاهما المقر
له فأقر له بذلك حمل على الانقطاع احتجوا بظاهر الاستعمال وبأنهم
قسموا الاستثناء إلى متصل ومنقطع فيكون المنقطع استثناء
حقيقة والجواب أن ظاهر الاستعمال لا يوجب الحقيقة بعد وجود
أمارات المجاز وكون لفظ الاستثناء حقيقة في المنقطع مطلقا أو في
الاصطلاح لا يوجب كون الإرادة أيضا كذلك ثم في الاستثناء إشكال
مشهور وهو أن مدلوله مناقض لمدلول الجملة التي قبله حيث إنها
تقتضي دخول المستثنى في الحكم المذكور وهو يقتضي خروجه عنه
ولهم في التفصي عنه وجوه ثلاثة الأول أن المراد بالمستثنى منه
تمام معناه لكن لا يسند إليه إلا بعد الاخراج فلا يتعلق الاسناد إلا
بالباقي وهو ما عدا المستثنى وعزي هذا القول إلى جماعة من
أصحابنا
منهم العلامة واختاره الحاجبي وغيره الثاني أن المراد بالمستثنى منه
ما عدا المستثنى مجازا إطلاقا للكل على البعض والقرينة عليه
الاستثناء وحكي هذا القول عن السكاكي في المفتاح ونسبه غير
واحد إلى الأكثر الثالث أن مجموع المستثنى منه والأداة والمستثنى
موضوع للباقي ومستعمل فيه والاسناد إنما يقع عليه وهذا القول
محكي عن القاضي ومرجع هذه الأقوال إلى أن الكلام المذكور لا
يشتمل إلا على إسناد واحد وهو إنما يتعلق بما عدا المستثنى وبه
يندفع شبهة التناقض ولما كانت الأقوال المعروفة في المسألة
منحصرة في الثلاثة ولا رابع لها كان اللازم في زعمهم من إبطال قولين
منها صحة القول الثالث فاحتج الأولون على صحة مقالتهم ببيان
بطلان مقالة الآخرين فلفقوا له وجوها
منها ما هو مشترك الورود على القولين ومنها ما يختص بأحدهما فمن
الوجوه المشتركة إجماع علماء العربية على أن الاستثناء المتصل
إخراج بعض من كل ولو كان المراد بالمستثنى منه أو بالمجموع ما عدا
المستثنى لم يتحقق هناك كل ولا بعض ولا إخراج ورد بأن
لهم أن يؤولوا الاجماع بأن المراد تحقق الكلية والجزئية والاخراج و
لو بحسب الظاهر فلا ينافي ذلك ويشكل بأن دلالة الاستثناء على
الاخراج ولو في الظاهر يتوقف على وضعها له وهو يتوقف على كونه
بحيث يصح استعمالها فيه حذرا من هذرية الوضع مع أن أصحاب
القولين قد التزموا بمنعه وجوابه أن المراد بالاخراج دلالته على ارتفاع
الحكم الثابت ظاهرا أو واقعا لا الاخراج حقيقة ووضعها لذلك
غير مناف للحكمة لا يقال كيف يصح على القول الثالث دعوى أنها
تدل على الاخراج ولو في الظاهر مع أنها لا تقع في التركيب إلا مهملة
لأنا نقول إنما تستعمل مهملة عند هذا القائل في الاستثناء المتصل أما
في المنفصل فلا لدلالتها فيه على رفع الحكم المتوهم من الكلام
السابق عما بعدها فله أن يعتبر الاخراج بالمعنى المذكور في المتصل
بالنسبة إليه ومنها أنه يلزم أن لا يكون لنا في الألفاظ التي تكون
لها معان تركيبية ما هو نص في معناه التركيبي والتالي باطل بيان
الملازمة أن الألفاظ التي لها معنى تركيبي يجوز أن يستثنى منها
بعض المدلول فيكون المراد بها الباقي أو تقع مهملة في التركيب فلا
يبقى نصا في الكل وأما بطلان التالي فلانا نقطع بأن لفظ العشرة
مثلا نص في مدلوله وأجيب بأن النص ما لا يحتمل إلا معنى واحدا
عند عدم القرينة والعشرة إذا تجردت عن قرينة الاستثناء كان كذلك
ورد بأن النص هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا مطلقا لا عند عدم
القرينة فإن الظاهر أيضا كذلك والتحقيق أن النص هو ما لا يحتمل إلا
معنى واحدا ولو بمساعدة القرائن ولفظ العشرة إذا تجرد عن القرائن
لا يحتمل لما دونها وقد يجاب عنه على القول الأخير بأنه إنما
يقتضي عدم نصوصية العشرة حين صيرورته جزا للكلمة ولا خلاف
في أن النص إذا صار جزا للكلمة خرج عن كونه نصا بل لفظا دالا
وإن أريد أنها حال الاستثناء
نص كان مصادرة لابتنائه على كونه اسما وهو محل النزاع ولا يخفى
ما فيه ومنها أنه لا مانع من حمل المستثنى منه على تمام معناه و
الاسناد إليه بعد إخراج المستثنى منه فإن هذا مما يصح اعتباره في
نفسه ويصلح اللفظ له فيتعين الحمل عليه لما فيه من إبقاء الألفاظ
المفردة على معانيها الأصلية وأما على القولين الأخيرين فلا بد من
ارتكاب تجوز في المستثنى منه أو التزام وضع للمركب وكلاهما
خروج عن الظاهر من غير ضرورة داعية إليه ويمكن الجواب بأن
الخروج عن الظاهر مما لا محيص عنه على كل تقدير أما على القولين
الأخيرين فظاهر كما مر وأما على القول الأول فلاستلزامه صرف
الاسناد إلى بعض المسند إليه وهو أيضا على خلاف الظاهر ومما
أورد على القول الأول من القولين أن قول القائل اشتريت الجارية إلا
نصفها إما أن يكون الضمير فيه للجارية [بكمالها أو بمعنى النصف
والأول باطل لاستلزامه استثناء النصف وهو مستوعب وكذا الثاني
للتسلسل لان المراد بالمستثنى منه هو الباقي على ما قرروا الباقي
بعد إخراج النصف من النصف هو الربع] بمعنى تمامها أو لها بمعنى
الباقي بعد إخراج النصف منها والأول يستلزم استعمال المستثنى
منه في تمام معناه وهو مناف لمذهب هذا القائل والثاني يوجب
التسلسل لان الباقي بعد إخراج النصف من الجارية النصف فيكون هو
المراد منها وهو يستلزم أن يكون المراد بها الربع لأنه الباقي بعد
إخراج النصف من النصف لعود ضميره إلى الجارية بمعناه وهو
يستلزم أن يكون المراد بها الثمن لأنه الباقي بعد إخراج النصف منها و
هكذا وأجيب بأن المراد بالجارية نصف تمامها والضمير في
المستثنى راجع إلى الجارية لا باعتبار معناها المجازي أعني النصف
بل باعتبار معناها الحقيقي أعني التمام على سبيل الاستخدام [فلا
يلزم الاستيعاب لان المراد بالنصف المستثنى غير النصف المستثنى
منه نعم يلزم أن يكون المستثنى حينئذ خارجا عن المستثنى منه و
القائل المذكور يلتزم بذلك ويفرق بين المتصل والمنفصل في دخول
ظاهر ما أريد من اللفظ قبل الاستثناء وعليه] فلا إشكال ومنها
القطع بأن المراد بالجارية في المثال المذكور تمامها وأن الضمير راجع
إليها باعتبار الكمال ويمكن الجواب بأن الخصم لا يساعد على
القطع المذكور لأنه في قوة
189

بالمدعى ورجوع الضمير إلى الجارية باعتبار الكمال يعني تمام
معناها لا ينافي ما ذكره لجواز أن يكون على سبيل الاستخدام ولو تم
الوجه المذكور لتوجه على القول الاخر أيضا كما لا يخفى ومما أورد
على القول الثاني أنه خروج عن القوانين اللغوية إذ ليس فيها لفظ
مركب من ثلاثة ألفاظ فصاعدا يعرب الجز الأول منه وهو غير مضاف
ومنها لزوم عود الضمير إلى جز الاسم في مثل ما اشتريت
الجارية لا نصفها فإنه حال كونه جزا لا دلالة له فلا يصح عود الضمير
إليه ولا يذهب عليك أن هذا إنما يتجه إذا كان القاضي يقول بأن
الموضوع للباقي هو المستثنى منه والمستثنى والأداة خاصة وأما إذا
قال بأنها مع لواحقها إن كان لها لواحق موضوعة له لم يتجه عليه
ذلك لان الضمير في المثال المذكور يكون أيضا جزا وهو حال كونه
جزا لا يكون ضميرا فلا يلزم العود احتج الذاهبون إلى الوجه
الثاني بأمرين أحدهما أن المراد بالعشرة في قول القائل له علي عشرة
إلا ثلاثة إما العشرة أو السبعة للقطع بأنه لم يهمل والأول باطل
للاجماع على أنه ما أقر بالعشرة فتعين الثاني وهو المراد والجواب أما
على الأول فبأن الاقرار إنما يتقرر بالاسناد وهو إنما يتعلق
بالعشرة بعد إخراج الثلاثة منها فلا يكون الاقرار بالسبعة لأنه الباقي
بعد الاخراج وأما على القول الأخير فبأن دعوى القطع بأن
العشرة لم تهمل غير مسموعة عند القاضي لأنه عين المتنازع فيه و
ثانيهما أنه لو كان المراد بالمستثنى منه ما يعم المستثنى لزم
التناقض من إثبات الحكم له ونفيه عنه بالاستثناء وأجيب بأن الاثبات
لم يتعلق بالمستثنى منه مطلقا بل بعد إخراج المستثنى منه فلا
ينافي النفي عنه واحتج القاضي بأنه إذا بطل القول الأول بما ذكر في
حجة القول الثاني وبطل القول الثاني بما ذكر في حجة القول
الأول تعيين المصير إلى القول الثالث إذ لا رابع لها والجواب أن حجة
كل من الفريقين كما تنهض بإبطال مذهب الاخر كذلك تنهض
بإبطال المذهب الثالث بل هما متفقان على إبطاله فهو أجدر بالبطلان
ثم اعلم أن العضدي أراد رد القول الأول في المقام إلى أحد
القولين الأخيرين فأورد في بيانه تحقيقا حاصله أن الحكم في قوله له
على عشرة إلا ثلاثة إنما هو على السبعة وليس عشرة بسبعة
سواء اعتبر مطلقا أو مقيدا بإلا ثلاثة لان العشرة عشرة مطلقا ولا شئ
من السبعة بعشرة مطلقا فالمعنى الحقيقي للمركب المذكور أما
أن يكون هو العشرة المقيدة بإلا ثلاثة فيكون مجازا في السبعة وهو
القول الثاني وإما أن يكون هو الباقي منه بعد إخراج الثلاثة
فيكون حقيقة في السبعة لا بأن يكون المركب المذكور كلمة برأسها بل
بمعنى أن مفرداته مستعملة في معانيها الحقيقية ومحصل
مجموعها معنى يصدق على السبعة كالأربعة والثلاثة وهذا مذهب
القاضي ثم قال والمذهب الأول راجع إلى أحدهما ووجهه التفتازاني
بأن الحكم على السبعة إما أن يكون باعتبار أنها مدلول مجازي للمركب
أو أمر يصدق عليه معناه المتبادر منه ثم قال وهذا اعتراف
بحقية المذهب الأول ورجوع المذهبين إليه لان المركب سواء جعل
حقيقة في المعنى الذي أسند إليه أو مجازا لا بد من استعمال مفرداته
في معنى فيكون العشرة مستعملا في كمال معناه والحكم بعد إخراج
الثلاثة وإلا لزم التناقض أو كون العشرة مجازا عن السبعة و
اعترض عليه المحشي الشيرازي بأن العشرة المقيدة مجردة عن قيدها
مستعملة في كمال معناها بناء على القول الأول وفي السبعة على
القول الثاني فكيف يصح رجوع المذهبين إلى المذهب الأول بل
يرجع مذهب القاضي إليه ثم قال فظهر أن قول العضدي والمذهب
الأول راجع إلى أحدهما مسامحة والأظهر أن يقول إلى الثاني أعني
مذهب القاضي أقول وهذا الاعتراض لا يوافق ظاهر كلام العضدي
فإن الذي يستفاد من بيانه هو أن المجموع المركب من المستثنى منه و
الأداة والمستثنى مستعمل على القولين في السبعة والاسناد
متعلق به فيتأخر اعتباره عن الاخراج وأن مقصود القائل بأن المراد
بعشرة إلا ثلاثة السبعة مجازا أن مفاد المركب المذكور إنما هو
العشرة المقيدة بالاخراج المذكور فاستعماله في السبعة مجاز لا أن
المراد بالعشرة المستثنى منها السبعة مجازا فيكون من باب المجاز
المفرد وكلام التفتازاني مبني على ذلك كما يعطيه بيانه وحينئذ فلا
يتجه عليه الاعتراض المذكور وعلى هذا البيان فالقائل بأن
العشرة مستعمل في تمام معناه وأن الاسناد
بعد الاخراج يحتمل أن يجعل المركب مجازا في السبعة فيرجع إلى
قول الأكثر أو حقيقة فيه فيرجع إلى قول القاضي ومن هنا يظهر
ضعف ما رمي به العضدي من المسامحة في البيان حيث جعل
المذهب الأول راجعا إلى أحد المذهبين لا على التعيين دون الثاني
على
التعيين وذلك لان ما ذكر في المذهب الأول على هذا البيان لا
اختصاص له بأحد المذهبين لما عرفت من أن كلا منهما على تحقيقه
يقول
بأن الاسناد إلى محصل معنى المركب من السبعة فلا منافاة بين ما ذكره
هذا القائل من أن العشرة مستعمل في المركب في تمام معناه و
أن الاسناد بعد الاخراج وبين ما ذكره الآخرون من أن المركب
مستعمل في السبعة حقيقة أو مجازا بل الظاهر أنهم يوافقون هذا
القائل
فيما ذكره كما نبه عليه التفتازاني فمرجع كل من القولين الأخيرين إلى
ما ذكره القائل الأول إنما هو باعتبار ما ذكره من اعتبار
الامرين وإن كان مرجعه إلى أحد القولين الأخيرين باعتبار كونه حقيقة
في الباقي أو مجازا فاستقام قول العضدي برجوع المذهب
الأول إلى أحد المذهبين الأخيرين وقول التفتازاني برجوعهما إليه ثم
اعترض المحشي المذكور على أصل التحقيق بأن اعتبار العشرة
المقيدة بإخراج الثلاثة منها من قبيل اعتبار الشئ مع عدم بعض
ذاتياته وهو يقتضي أن يكون ذاته غير ذاته وهذا المعنى مما لا يمكن
تصوره حتى يصح وضع المركب بإزائه ليتفرع عليه كونها حقيقة فيها و
مجازا في السبعة فإن كل ذلك فرع لامكان تصور المعنى و
حيث تنبه لفساد هذا الوجه من حيث إن المعنى المذكور مما يمكن أن
يتصوره العقل بوجهه كما هو الحق المحقق فإن تصور العنوان
المذكور تصور له بالوجه وهذا القدر كاف في إمكان الوضع استدركه
متشبثا بوجه آخر فقال سلمنا لكن لا يتم البيان حينئذ بقوله و
ليس عشرة بسبعة
190

وقوله ولا شئ من السبعة بعشرة إذ العشرة المقيدة بالاخراج
المذكور كما يصدق عليها أنها عشرة كذلك يصدق عليها أنها ليست
بعشرة كالأربعة التي ليست بزوج فإنه كما يصدق عليها أنها أربعة
كذلك يصدق عليها أنها ليست بأربعة فالأربعة التي ليست بزوج هي
الأربعة التي ليست بأربعة والعشرة التي أخرج منها ثلاثة هي العشرة
التي ليست بعشرة هذا محصل كلامه أقول وهذا الاعتراض منه
ناش عن قلة التدبر وذلك لان العشرة المقيدة بالاخراج المذكور
يمكن أن تعتبر بوجهين الأول أن تعتبر عشرة بلا ثلاثة أي ناقصة من
تمام عددها ثلاثة على أن يكون النقص مأخوذا حال اعتبارها عشرة و
معناها حينئذ عشرة هي سبعة الثاني أن تعتبر عشرة تامة أخرج
منها ثلاثة على أن يكون الاخراج بعد اعتبار التمام ولا خفاء في أن
المفهوم من الجمل الاستثنائية هو هذا المعنى دون المعنى الأول كما
توهم المعترض فإن معنى قولنا عشرة إلا ثلاثة عشرة أخرج منها ثلاثة
إلا العشرة التي تكون بلا ثلاثة وكلام العضدي ناظر إلى هذا كما
لا يخفى فيتجه ما ذكره من أن العشرة سواء اعتبرت مطلقا أو مقيدا
عشرة ولا شئ من السبعة بعشرة مطلقا فهو من قبيل قولك الماء
الذي ينقلب حجرا أو هوأ ماء ولا شئ من الحجر أو الهواء بماء و
نحو ذلك فسقط ما أورده المعترض رأسا ثم أقول وما جعله العضدي
تحقيقا للمقام كلام عار عن التحقيق لان مبناه على أن الحكم في
التركيب المذكور ليس على مدلول لفظ العشرة مطلقا لأنه حكم على
السبعة وليست العشرة مطلقا بسبعة بل على محصل التركيب المذكور
وهذا واضح الفساد لان الحكم عند غير القاضي لا يكون على
مفاد التركيب بل على ما استعمل فيه لفظ العشرة بعضا كما هو
المذهب الأول أو كلا كما هو المذهب الثاني وقوله ليست عشرة
بسبعة
غير وارد على القولين أما على الأول فلان الحكم ليس على العشرة بل
على بعضها فعدم كونها سبعة لا ينافي كون الحكم على السبعة و
أما على الثاني فلان السلب المذكور إنما يصدق إذا كانت العشرة
مستعملة في معناها الحقيقي أعني تمام العشرة وأما إذا كانت
مستعملة
في معناها المجازي أعني السبعة فصحة السلب ممنوعة للزوم سلب
الشئ عن نفسه ثم ما حمل عليه كلام الجمهور من
أن المركب المذكور حقيقة في العشرة بمعنى أن محصل معناه
الحقيقي عشرة مقيدة لا السبعة مما لا يلتزم به ذو مسكة فكيف يصح
تأول
كلامهم به بل التحقيق للمقام تثليث الأقوال وتوجيهه بأن يقال لا ريب
في أن قولنا له علي عشرة إلا ثلاثة إقرار السبعة لا غير فالاسناد
فيه إما إلى العشرة المطلقة أو المقيدة بالاخراج المذكور أو المجموع
المركب فإن كان الأول تعين حمل العشرة على السبعة مجازا
بقرينة الاستثناء وهو القول الثاني وإن كان الثاني تعين اعتبار الاسناد
فيه إلى بعض العشرة وهو الباقي بعد الاخراج دون تمامها و
هو القول الأول وإن كان الثالث تعين اعتبار المركب كناية عن السبعة أو
مجازا فيها والاسناد إليه باعتبار معناه الكنائي أو المجازي
على ما مر تحقيق الكلام فيهما في أوائل الكتاب وعلى هذا ينبغي أن
يحمل كلام القاضي لا على ما هو ظاهر كلامه من أن المجموع نزلت
منزلة كلمة واحدة ووضعت بإزاء الباقي فإن فساده مما لا يكاد يخفى
على أحد فاتضح مما حققناه أن الوجوه المذكورة تصرفات لفظية
لا حجر في حمل اللفظ عليها من جهة ما ذكروه نعم يرد عليها أنه لو
صح ما ذكروه لجاز أن يستثنى ما يساوي المستثنى منه أو يزيد عليه
إذا استثني منه ما يوجب بقاء بعضه كقولك له علي عشرة إلا عشرين
إلا خمسة عشر والتالي باطل بيان الملازمة أما على مذهب
السكاكي فلان العشرين مستعمل في الخمسة لأنه الباقي بعد الاخراج
ولا ريب في جواز استثناء الخمسة من العشرة وأما على مذهب
الحاجبي فلان الاشكال لا يندفع على طريقته إلا إذا جعل الاسناد
لاحقا لما بقي من المستثنى منه بعد جميع الاخراجات إذا كان هناك
إخراجات متعددة ولا ريب أن الباقي من العشرين بعد إخراج خمسة
عشر منه إنما هو خمسة وهو يصحح إخراجه من العشرة والاسناد
إلى ما بقي منه وأما على مذهب القاضي فإن تسمية الباقي بهذا الاسم
أعني الجملة نوعية لا شخصية فلا بد من التزام جوازها بكل ما دل
عليه وصلح له وأما بطلان التالي فمعلوم من العرف والاستعمال بل
الظاهر أن لا مخالف فيه كما يرشد
إليه إطباقهم على بطلان الاستثناء المستوعب من غير تعرض للفرق
بين ما إذا تعقبه استثناء آخر مفاده بقاء البعض أو لم يتعقبه لكن
صرح الشهيد الثاني في الروضة بصحة ذلك وأخرجه من الاستثناء
المستوعب نظرا إلى أن الاخراج في الحقيقة بالباقي من المستثنى
بعد الاخراج وهو لا يستوعب وأن الكلام جملة واحدة لا يتم إلا
ب آخره وآخره يصير الأول غير مستوعب وأنت خبير بأن ما ذكره إنما
يتجه إذا ساعد الطبع والاستعمال عليه ونحن إذا راجعنا وجدنا
بشاعة الاستعمال المذكور وعدم مساعدة الطبع عليه وهو كاف في
إثبات المنع ومنه يظهر عدم كون المبنى في الاستثناء على حسب ما
قرروه على أن فيها خروجا عما هو الظاهر المتداول في الاستعمال
فإن المفهوم من قولك جاءني الرجال إلا زيدا إسناد المجئ أولا إلى
جميع آحاد الرجال دون بعضهم ومما يدل على ذلك أو يؤيده أنه
إذا كان في الدار مثلا ثلاثة رجال فأتاك رجل أو رجلان منهم تقول
الرجال جاؤني إلا واحدا أو اثنين منهم دون جاءني أو جاءاني فلو
كان الفعل مسندا إلى الواحد أو الاثنين المدلول عليهما بلفظ الجمع أو
المركب أو المستعمل فيهما لفظ الجمع لكان اللازم إفراد الضمير
أو تثنيته ليوافق المرجع بل لا أقل من جواز ذلك مراعاتا لجانب
المعنى مع ما يلزمهم من عدم دلالة الاستثناء على مخالفة ما بعدها لما
قبلها في الحكم إذ قضية الأقوال أن يكون مفاد الجملة مجرد لحوق
الحكم بالباقي بعد الاخراج وذلك لا يقتضي لحوق خلافه له ولا يلزم
خلو الاخراج حينئذ عن الفائدة لجواز تعلق القصد ببيان حكم الباقي
فقط ولو لعدم العلم بحال غيره ودعوى أظهرية تلك النكتة غير
مسموعة مع أن ذلك يقتضي أن يكون الاستعمال حقيقة فيما خالفها و
صريح العرف والاستعمال يكذبه ويمكن دفعه على القولين
الأولين بأن الأداة عندهم ليست موضوعة لمطلق الاخراج بل لاخراج
ما لا يشارك
191

الباقي في الحكم واقعا وعلى الثالث بأن الواضع خص المركب
المذكور بالباقي فيما إذا لم يشارك مدلول مدخول الأداة له في الحكم
واقعا وفي مدلول الوجهين تعسف لا سيما الأخير مضافا إلى ما يرد
على القول الأول من لزوم وقوع الاسم باعتبار معناه المستعمل فيه
معربا بالحركات الثلاث من غير تعلق عامل لفظي أو معنوي به فإن
العشرة على القول المذكور مستعمل في معناه الأصلي وهو مجموع
الوحدات ولم يقع عليه الاسناد والتعليق بل على بعضه كالسبعة و
ظاهر أن ما لا يتعلق العامل ببعض معناه لا يتعلق بكلمة فيلزم تجرد
العشرة باعتبار معناه المستعمل فيه وهو المجموع عن العامل مع
اختلافه بحسب اختلاف العوامل في الاعراب وغاية ما في الباب أن
يقال لما كان لفظ العشرة هناك قائما مقام السبعة مثلا عومل معاملته و
أجري عليه حكمه أو يقال إسناد العامل إلى جز المعنى يقوم
مقام إسناده إلى الكل فيلحقه ما يقتضيه من الاعراب ولا يخفى ما
فيهما من التعسف وعلى القول الثاني من أن إطلاق العشرة على
السبعة مما لا يساعد عليه الذوق فإنا نقطع بأن قول القائل خذ هذه
العشرة مثلا مشيرا إلى السبعة أو الأربعة قبيح بل غلط إذ مجرد علاقة
الكلية والجزئية لا يوجب صحة الاستعمال ما لم يساعد عليها الطبع
على ما مر تحقيقه سابقا ودعوى جوازه في خصوص التركيب
المذكور تعسف بعيد وعلى القول الثالث من أن المجاز المركب و
الكناية المركبة إنما يتبعان أصلهما في الاعراب لأنهما من قبيل
الأمثال وهي لا تتغير واللفظ المذكور لا أصل له ليعتبر إعرابه مع
اختلافه باختلاف العوامل الداخلة عليه اللهم إلا أن يقال إنما يلزم
ذلك
إذا كان التركيب تاما أو مع العامل وإلا فلا واعلم أن من القوم من زاد
في التفصي عن إشكال التناقض وجها آخر فقال ولك أن تريد
أنه مخرج عن النسبة إلى المتعدد بأن تريد جميع المتعدد وتنسب
الشئ إليه فتأتي بالاستثناء لاخراجه عن النسبة ولا تناقض لان
الكذب صفة للنسبة الاعتقادية ولم ترد بالنسبة إفادة الاعتقاد بل
قصدت النسبة لتخرج منها شيئا ثم تفيد الاعتقاد وهذا
غير مستقيم لان النسبة غير موضوعة لإفادة الاعتقاد بل للكشف عن
الواقع فإن استعملت فيه عاد الاشكال من لزوم التناقض لتحققه
بإثبات النسبة ورفعها ولا مدخل لإفادة الاعتقاد فيه وإن استعملت
في الربط الذهني مجردا عن اعتبار الكشف والوقوع لم تدل على
وقوع الحكم بالنسبة إلى الباقي بعد الاخراج وإن أريد أنها مستعملة
في الكشف باعتبار الباقي وفي مجرد الربط بالنسبة إلى المخرج
فصحته بظاهره مبنية على جواز استعمال اللفظ في إطلاق واحد في
معنييه الحقيقي والمجازي وقد سبق بطلانه إلا أن يقال إنها
مستعملة في معنى واحد وهو مجرد الربط وهو ظاهر في الكشف عن
الواقع بالنسبة إلى ما لا قرينة على خلافه لكن يشكل حينئذ في
إفادة الاستثناء لمخالفة حكم ما بعدها لما قبلها إلا بالبناء على
التعسف السابق وإذا تبين لك مما ذكرنا ضعف الوجوه المذكورة
فاعلم
أن لنا في التفصي عن الاشكال المذكور وجهين آخرين أحدهما وهو
قريب في البعد إلى الوجوه المتقدمة أن إسناد الحكم إلى العشرة
مثلا كما يصح باعتبار لحوقه بتمامه كذلك يصح باعتبار لحوقه لبعضه
توسعا بتنزيل لحوقه للبعض منزلة لحوقه للكل وحيث كان
ذلك خروجا عن الظاهر فإن الظاهر من إسناد شئ إلى الكل ثبوته
للكل احتيج إلى نصب قرينة تدل عليه من استثناء ونحوه وبالجملة
نتخلص بالتصرف في الاسناد لكن لا كما زعمه الحاجبي ومتابعوه
حيث جعلوه متعلقا ببعض المستثنى منه أعني الباقي بعد الاخراج و
لا
كما زعمه البعض حيث جعل الاسناد إلى غير المخرج لإفادة الاعتقاد
وإليه للاخراج بل نجعله لاحقا للكل بعلاقة لحوقه للبعض فإنه كما
ينزل الكل منزلة البعض فيثبت له لفظه ويسمى باسمه كذلك قد ينزل
منزلته فيثبت له حكمه فهو في الحقيقة من إسناد الشئ إلى غير
ما هو له حيث يسند إلى الجميع والتقدير أنه غير مسند إليه واقعا ولا
يكون كذبا لابتنائه على التأويل والتنزيل بخلاف الكذب لا يقال
لو كان إسناد الحكم إلى الجميع باعتبار ثبوته للبعض لما دل الكلام
على ثبوت الحكم للباقي بعد الاخراج مع تعدده لان البعض
الذي صح الاسناد إلى الكل باعتبار ثبوته له على ما مر أعم منه لأنا
نقول إسناد الحكم إلى الكل باعتبار ثبوته للبعض مما يختلف قربا و
بعدا باختلاف البعض قلة وكثرة وهذا ظاهر فثبوت الحكم لغير ما نص
على خروجه أقرب إلى الاسناد إلى الكل من ثبوت لبعضه
فيكون ظاهرا فيه لا محالة ودلالة الكلام المذكور على ثبوت الحكم
للباقي ليست بالنصوصية بل بالظهور فيصح أن يستند إلى ذلك ثم
إن قلنا بأن إسناد الشئ إلى غير ما هو له حقيقة كما ذهب إليه جماعة
من المحققين لم يكن في اللفظ المذكور تجوز أصلا وإلا كان
التجوز في الاسناد فقط ويضعف هذا الوجه خروجه عن الظاهر من
حيث النسبة فإن الظاهر منها في المقام عدم الابتناء على التأويل
المذكور ومن حيث الأداة فإن الظاهر منها الاخراج ولا إخراج على
التأويل المذكور الثاني وهو المعتمد أن المراد بالمستثنى منه ما
يتناول المستثنى والنسبة متعلقة به بهذا الاعتبار كما هو الظاهر من
اللفظ والمتبادر عند الاستعمال والاخراج راجع إليه ولا إشكال
عليه لأنه إن أريد بالتناقض المورد عليه التناقض بحسب ظاهر مؤدى
الخطاب فالتزامه مما لا ضير فيه إذ ليس فيه قبح لا عقلا ولا عرفا
وإن أريد التناقض بحسب ما هو المقصود من الخطاب حقيقة أعني ما
تعلق به القصد بالذات على ما يساعد عليه ظاهر الاستعمال
فممنوع لظهور أن المقصود بالذات إنما هو الاسناد إلى ما عدا
المستثنى والاسناد إليه في ضمن الكل إنما قصد تبعا لشمول اللفظ له
و
كذلك لا يلزم الكذب إذ المدار فيه على عدم مطابق النسبة المقصود
بالذات على ما يستفاد من الكلام ولو بمعونة المقام إذ كما لا عبرة
بعدم مطابقة النسبة التي يدل عليه الكلام ما لم تكن مقصودة وإلا
لكان قولنا رأيت
192

يرمي كلاما كاذبا كذلك لا عبرة بعدم مطابقة النسبة المقصودة ما لم
تكن مقصودة بالذات وإلا لكذبت الكنايات التي لا تطابق معانيها
الأصلية للواقع كما في قولك زيد كثير الرماد ومهزول الفصيل وجبان
الكلب حيث لا يكون له رماد ولا فصيل ولا كلب فإن صحة
الاستعمال المذكور وجوازه حينئذ مما لا مجال لانكاره وقد نبه عليه
بعضهم مع أنه يشتمل على نسب جزئية مقصودة غير مطابقة
للواقع بناء على ما حققناه في بعض وجوه الكناية من أنها اللفظ
المستعمل في الملزوم لينتقل منه إلى لازمه فلو اقتصر في الكذب
على
مجرد ذلك لاتجه المنع فيها وحيث اعتبرنا أن تكون النسب الغير
المطابقة مقصودة بالذات خرجت عنه لان النسب التي تشتمل عليها
غير مقصودة لذاتها بل للانتقال منها إلى لازمها وهو كونه جوادا كما
يقتضيه قرينة الكناية ولهذا يعتبر صدقها وكذبها بالنسبة إليه و
قد عرفت أن النسبة المقصودة بالذات في المقام إنما هي بالنسبة إلى
الباقي دون الجميع ولا يتوهم أن ذلك مما يؤدي إلى استعمال
النسبة اللفظية في معنيين لأنها على ما قررنا غير مستعملة إلا في معنى
واحد وهو إفادة النسبة الواقعية والكشف عنها وكونها
مقصودة بالذات أو غير مقصودة بالذات إنما هو من لواحقها المفهومة
من إطلاقها حيث لا قرينة على الخلاف أو القرائن المحفوفة بها فلا
يوجب تعدد المعنى المراد بها
فصل لا خلاف في بطلان الاستثناء المستوعب
كما لا خلاف في صحة استثناء ما دون النصف حكى ذلك غير واحد
منهم والتحقيق عندي أن يفصل في المقام الأول بين ما إذا اتحد
المستثنى والمستثنى منه مفهوما نحو أكرم كل إنسان إلا كل إنسان أو
اختلفا أو انحصر أفراد المستثنى في أفراد المستثنى منه عقلا أو
عادة نحو أكرم كل إنسان إلا كل ضاحك أو كل حيوان وبين ما إذا
اختلفا وانحصرت أفراده في أفراده اتفاقا نحو قوله أكرم كل من
يزورني إلا الفاسق واتفق أنه لم يزره إلا الفاسق فيحكم بالمنع في
القسمين الأولين دون الأخير للقطع بجواز ذلك فيما إذا لم يزده أحد
فكذا إذا لم يزره غير الفاسق على إشكال فيما إذا علم بالحال ويعرف
وجهه مما مر في بحث الامر بالشئ مع علم الامر بانتفاء الشرط
هذا وفي جوازه إلى النصف وما فوقه إذا لم يستوعب أقوال فالأكثر
على ما قيل على الجواز وعن الحنابلة والقاضي المنع فاعتبروا
بقاء الأكثر وربما قيل بجواز المساوي خاصة وفصل شاذ بين ما إذا
كان المستثنى منه عددا صريحا كعشرة وبين ما إذا لم يكن
صريحا كالجمع المعرف والمضاف فاعتبر في الأول بقاء الأكثر دون
الثاني وموضع النزاع جواز الاستعمال وعدمه مطلق لا جوازه
حقيقة كما زعمه الفاضل المعاصر لعدم مساعدة عناوينهم وأدلتهم و
سائر كلماتهم فيها عليه هذا [هنا] والمختار ما ذهب إليه الأولون
لنا وجوه منها أنه لو امتنع فإما أن يكون من جهة المستثنى منه أو النسبة
المتعلقة به ولا حجر فيهما إذا صحا وأفادا لما عرفت من أن
الاستثناء لا يوجب التجوز فيهما وإما من جهة الأداة ولا حجر فيها
أيضا لأنها موضوعة لمطلق الاخراج بدليل التبادر على ما يشهد به
الوجدان فيستوي فيه إخراج الأقل والأكثر نعم قد يبلغ إخراج الأكثر
إلى حد الاستبشاع فيقبح لكن لا من جهة الخروج عن قانون
الوضع بل من جهة ركاكة التعبير ولهذا من اتصف في مثل قول القائل
له
علي ألف إلا تسعمائة وتسعة وتسعين وفي مثل قوله له علي ألف إلا
واحدا وواحدا وواحدا إلى مائة أو مائتين لم يفرق في بشاعة كل
من التعبيرين بل ربما كان الثاني عنده أقوى في البشاعة من الأول مع
أن ظاهرهم الاتفاق على صحة الثاني فيتعين الصحة على الأول
فظهر أن مجرد البشاعة وقبح التعبير لا ينافي صحة الاستعمال من
حيث الوضع نعم لو ثبت أن الاستثناء يوجب التجوز في المستثنى منه
أو في النسبة اتجه المنع حيث يكون الاستبشاع من قبلهما نظرا إلى
انتفاء العلاقة المصححة فإن قلت أي فرق بين الاستبشاع على تقدير
الحقيقة وبينه على تقدير المجاز حيث يتأتى المنع في الثاني دون
الأول قلت الفرق أن الاستبشاع في الثاني ناشئ من نفس استعمال
اللفظ فيمتنع وفي الأول من مجرد التركيب وهو أمر خارج عن
استعمال اللفظ طار عليه وفساده لا يقتضي فساد استعمال اللفظ و
منها
قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين
فاستثنى الغاوين وهم الأكثر بالوجدان وبدليل قوله وما أكثر
الناس ولو حرصت بمؤمنين فإن ما عدا المؤمنين هم الغاوون ولورود
عكسه في قوله تعالى حكاية عن إبليس لأغوينهم أجمعين إلا
عبادك منهم المخلصين فيمتنع اشتراط الأكثرية واعترض بأن
الاستثناء منقطع والمراد بعبادي المؤمنون بدليل أن الإضافة
للتشريف
فلا إخراج سلمنا لكن لا نسلم أكثرية الغاوين لان العباد يتناول
الملائكة والجن أيضا والغاوون أقل بالنسبة إلى الباقين والجواب أن
الاستثناء المنقطع مجاز كما مر فلا يضار إليه ما لم يتعذر الحقيقة وكون
الإضافة للتشريف ممنوع لمنافاته لعموم المضاف وربما يؤيد
ما ذكروه قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفي بربك
وكيلا فإن المراد بالعباد هنا خصوص المؤمنين بقرينة عدم
الاستثناء وقضية التوفيق بين الآيتين حمل العباد في الآية السابقة أيضا
عليهم ويضعفه أن إرادة الخصوص في أحدهما لا ينافي إرادة
العموم في الأخرى مع مساعدة ظاهر
اللفظ عليه ولا يلزم التوفيق بين الآيتين في مداليل المفردات بل في
محصل المعنى وظاهر أنه لا يختلف على التقديرين مع احتمال أن
يراد بالعباد في هذه الآية أيضا جميع العباد ويراد بنفي سلطانه عليهم
نفي اقتداره على إقهارهم وإجبارهم على المعاصي بحيث
يخرجهم عن حد التمكن والاختيار كما فسر به قوله تعالى وما كان له
عليهم من سلطان إلا لنعلم الآية وقوله حكاية عن الشيطان لعنه
الله
193

وما كان لي عليكم من سلطان ويراد بالسلطان في الآية السابقة الغلبة
عليهم بالتسويل والوسوسة والاغواء مع بقاء القدرة والاختيار
وليس المراد بعبادي إلا بنو آدم بشهادة سوق الآية عليه مع تصريح
المفسرين به واعترض بعض المعاصرين أيضا بأن ظاهر العام
أعني عبادي لما كان متناولا لأصناف كثيرة فإخراج صنف واحد منهم
هم الغاوون وإن كثرت أفراده لا يستلزم كون الأصناف الباقية
أقل أ لا ترى أنه إذا كان هناك جماعة من العلماء والشعراء والظرفاء
فأضفتهم وكان عدد الظرفاء أكثر من الباقين فإذا قيل جاء
الأصناف إلا الظرفاء أمكن تصحيحه بما ذكر لان الباقي حينئذ أكثر و
أما لو قيل جاء الأصناف إلا زيدا وعمرا وبكرا وخالدا إلى آخر
الظرفاء عد قبيحا هذا محصل كلامه وجوابه أن الجمع المضاف
بظاهره إنما تقتضي العموم بحسب الافراد فلا يعم الأصناف من حيث
كونها أصنافا وإن تناولها من حيث تناوله للافراد فحمله على العموم
من حيث الأصناف خروج عن الظاهر من غير شاهد فلا يعبأ به و
أما التمسك بصحة جاء الأصناف إلا الظرفاء كما في بعض النسخ
فليس بشئ لان لفظ الأصناف إنما يعم الافراد من حيث الصنفية و
الظرفاء من حيث كونهم صنفا ليسوا بأكثر من الباقي وإن كانوا من
حيث الافراد أكثر وفي بعض النسخ جاء الأصناف إلا الظرفاء و
يتوجه عليه ما مر من أن عموم الجمع المعرف أفرادي لا أصنافي
فاستثناء الظرفاء منهم استثناء للأكثر وأما ما ادعاه من قبح ذلك عند
قوله إلا زيدا وعمرا إلى آخر الظرفاء فإنما يسلم منه القبح بمعنى
الاستبشاع لا لما ذكره بل لاشتماله على التطويل من غير فائدة لا
القبح بمعنى الغلط على ما عرفت ومع ذلك فاللازم لمقالته أن يصح
ذلك لا سيما إذا وصفهم بعد ذلك بكونهم الظرفاء حيث إن المخرج
حينئذ صنف من الأصناف والباقي أكثر منه إذ لا فرق بينه وبين القسم
السابق إلا في كيفية التعبير حيث إن المستثنى مذكور هناك على
وجه الاجمال وهنا على وجه التفصيل ومنها ما ذكره العضدي من
القطع بصحة قول القائل كلكم جائع إلا من أطعمته و
إن كان الباقي أقل واعترض عليه بأن هذا قطع في محل النزاع فيتجه
المنع عليه ورد بأن هذه العبارة واردة في الحديث القدسي فلا
سبيل إلى منع صحتها واعترض عليه المعاصر المذكور أيضا بأنه يجوز
أن يكون المعنى لا يقدر على الاطعام إلا أنا فكلكم يبقى على
صفة الجوع لو أراد الاطعام من غيري قال وهذا معنى واضح على من
كان له ذوق سليم فلا دلالة فيه على دعواهم ولا يخفى أن هذا
التوجيه مما لا يساعد عليه ذوق سليم لبعده عن مساق الحديث مع ما
يلزمه من ارتكاب تخصيصه بالأكثر أيضا لان أكثر الناس يريدون
الاطعام من غيره تعالى ولا يبقون على صفة الجوع ومنها إطباق
العلماء على أن من قال له على عشرة إلا تسعة لم يلزم إلا بواحد و
ذلك
دليل على صحته ولو ألغوه لألزموه بتمام العشرة كما في الاستثناء
المستوعب والظاهر أن الاتفاق فيه غير ثابت لنقل البعض عن
بعضهم القول بإلزامه بتمام العشرة واعترض المعاصر المذكور على
هذا الدليل بأن اتفاقهم على إلزام الواحد لا يدل على اتفاقهم على
صحة الاستثناء لجواز أن لا يقول بعضهم بصحته ويقول بإلزام الواحد
نظرا إلى أن الافراد عنده عبارة عما يفهم منه اشتغال الذمة
بعنوان النصوصية ولو بلفظ مجازي أو غلط تعويلا على أصالة البراءة
كما لو رفع تسعة فإنه لا يحكم عليه أيضا إلا بالواحد وإن كان
الاستعمال غلطا وهذا بخلاف الاستثناء المستوعب فإنه لغو محض
فيأخذ بأول الكلام هذا محصل كلامه ويمكن أن يقال عليه بالفرق
بين أن يكون الاستثناء غلطا وبين أن يكون إعراب المستثنى غلطا فإنه
على الأول يتعين إلغاؤه كالاستثناء المستوعب وكما لو أبدل
همزتهما أو لامها بحرف آخر من غير مانع أو عبر عن المستثنى بلفظ
غلط كما لو أبدل دال الدرهم بحرف آخر لتساوي الكل في كونها
غلطا وعلى الثاني يمكن القبول نظرا إلى أن الاخراج يتحقق بالأداة و
المستثنى وليس صحة استعمالهما منوطة بصحة الاعراب مع أن
بعض الأصحاب كالشهيدين منع من القبول فيه وله وجه وبأن التفرقة
بين الاستثناء
المستوعب وبين المثال المذكور على تقدير كونه غلطا في محل المنع
فإن كون المستوعب لغوا محضا إما لان نفس الاستثناء غلط أو
لاستلزامه إلغاء ما قبله حيث يراد منه ما لا يصح إرادته منه وكلا
الوجهين جاريان في المثال المذكور فالاستثناء فيه أيضا لغو محض
بالاعتبارين فكما يؤخذ بمؤدى الثاني من كونه إقرارا بواحد مع كونه
غلطا فيؤخذ أيضا بمؤدى الأول من عدم اشتغال ذمته بشئ وإن
كان غلطا فإن معنى له علي عشرة إلا عشرة أن ليس له علي شئ وإن
كان استعمالا على خلاف القانون وجريان أصالة البراءة هنا
أولى نعم يتجه أن يقال لما كان صحة الكلام المذكور خلافية كان
الظاهر من حال المستعمل البناء على الصحة اجتهادا أو تقليدا تنزيلا
لكلام العقلا على الوجه الصحيح بقدر الامكان فكما لو أقر به من
يعرف من مذهبه الصحة لم نلزمه بما زاد على الواحد قطعا وإن منعنا
جوازه فكذلك من جهل حاله في الاستعمال وأما من علم من مذهبه
المنع فلا يبعد إلزامه بتمام العشرة حجة الخصم وجوه منها ما ذكره
المعاصر المذكور وحاصله أن الاستثناء موضوع بالوضع النوعي
للاخراج والأوضاع النوعية إنما تستفاد بالتتبع في كلمات أهل
الاستعمال والقدر الثابت بالتتبع فيها كون الاستثناء موضوعا لاخراج
الأقل وأما كونه موضوعا لمطلق الاخراج فغير ثابت فيتوقف
ثبوته على قيام دليل عليه ومجرد استعماله في إخراج الأكثر في بعض
الموارد لا يدل على كونه حقيقة فيه فإن الاستعمال أعم منها
فيجوز أن يكون ذلك لعلاقة المشابهة أو ادعاء القلة مبالغة في التحقير
أو نحو ذلك ولا يبعد أن يدعى التبادر فيما لو كان المخرج أقل
فيكون حقيقة فيه فقط فإن أهل العرف يعدون مثل قول القائل له علي
مائة إلا تسعة وتسعين مستهجنا
194

ركيكا لا لأنه إطالة من غير فائدة بل لمخالفته لما بلغهم من طريقة
الاستعمال نعم قد يقال ذلك في مقام السخرية والتمليح ثم أيد ذلك
بأن المستثنى في معرض النسيان غالبا لقلته وأن الغالب وقوع
الاستثناء البدائي كما هو السابع في ألسنة العوام وهو لا يتحقق إلا في
حق القليل وليس ذلك إلا لمطابقته لأصل وضع الاستثناء انتهى كلامه
ملخصا وجوابه بعد خروج مقالته عن محل البحث كما أشرنا إليه
أنا قد بينا بموجب التبادر أن أداة الاستثناء موضوعة لمطلق الاخراج
أي لكل فرد من أفراد الاخراج إجمالا من غير اختصاص له ببعض
دون بعض فلا يصغى إلى ما ذكر على أن لنا أن نتمسك عليه بظاهر
الاستعمال فإنه في مثل المقام يقتضي الحقيقة وما ذكره من أن
الاستعمال أعم من الحقيقة إنما يسلم حيث يستدعي الحقيقة تعدد
الوضع وليس المقام منه وقد سبق تحقيق ذلك في المقدمة وأما ما
يرى
من الاستبشاع في بعض صور إخراج الأكثر كما في المثال الذي ذكره
فليس لعدم الوضع بل لعدم ملائمة بين الحكم المدلول عليه بأول
الكلام وبين الحكم المدلول عليه ب آخره من غير نكتة توجب
المصير إلى ارتكابه ولهذا قد يترتب عليه نكتة تمليح أو تهكم أو نحو
ذلك
فيحسن من غير بشاعة ثم البشاعة الحاصلة على تقدير عدمها ناشئة
في التركيب من قبل الطبع دون الوضع كما في بشاعة عطف أحد
المتنافرين على الاخر فإنها مستندة إلى الطبع لان أداة العطف على ما
يساعد عليه التحقيق لا تختص وضعا بعطف أحد المتناسبين على
الاخر ولهذا نجد بشاعة العطف في الوصل بدون العطف أيضا وأما ما
ذكره من أن المستثنى في معرض النسيان غالبا ففساده في
معرض الغناء عن البيان لتوجه المنع عليه أولا ومنافاته للوجوه
المذكورة في دفع التناقض ثانيا فإنه على مختاره فيه إذا أطلق
المستثنى
منه وأريد به تمامه فكيف يراد بعد ذلك بذلك الاطلاق بعضه وعلى
قياسه الكلام على بقية الوجوه ولهذا لو اعترف المقر بأنه أراد
بقوله له علي عشرة الاقرار بتمام العشرة ثم تذكر أن الذي عليه سبعة
فيتداركه بقوله إلا ثلاثة ألزم بتمام العشرة في وجه قوي لأنه
عند التحقيق من باب الانكار بعد الاقرار فلا يسمع نعم قد يتفق
النسيان للمتكلم فيتذكر وهو بعد غير متعد عن المحل فيتدارك
بالاستثناء مخيلا للسامع أنه كان قاصدا إياه من أول الامر وصونا
لكلامه عن التدافع فيؤخذ بالظاهر هذا ولا يذهب عليك أن ما ذكره
من أن وضع الاستثناء نوعي غير مرضي عندنا بل التحقيق أنه شخصي
وقد مر الكلام في نظائره ومنها أن قضية الأصل عدم جواز
الاستثناء لما فيه من التناقض خالفناه فيما دون النصف لقيام الدليل
عليه فيبقى ما عداه ممنوعا بحكم الأصل وجوابه ما عرفت مما
حققناه في دفع التناقض ومنها أنه لو قال له علي عشرة دراهم إلا تسعة
وتسعة أعشار درهم عد مستهجنا وليس إلا لكونه استثناء
للأكثر فيدل على عدم جوازه مطلقا وجوابه أنه إن أريد إثبات عدم
الجواز من حيث الوضع فمجرد الاستهجان لا يقتضيه وإن أريد
إثبات عدم جواز الاستعمال من حيث الطبع نظرا إلى اشتماله على
التطويل والتنافر فالدليل المذكور لا يقتضي ثبوته مطلقا وأما
القولان الأخيران فمستندهما غير واضح
فصل الاستثناء من النفي يقتضي الاثبات وبالعكس
وخالفت الحنفية في المقامين فجعلوا مفاد الجملة لحوق الحكم
للباقي بعد الاستثناء من غير حكم على المستثنى فجعلوا مفاد
الاستثناء
السكوت والاعلام بعدم التعرض للمستثنى في المستثنى منه إلا أنهم
ذهبوا إلى ثبوت حكم المفهوم في المقام الثاني بالأصل ومن هنا
توهم من نسب إليهم القول بثبوت المفهوم في المقام الثاني دون الأول
ويشكل عليهم بأن حكم المفهوم قد يكون مخالفا للأصل فكان
عليهم أن يخصوا الاثبات بصورة الموافقة ثم لا يذهب عليك أن ثمرة
النزاع إنما تظهر فيما إذا كان الاستثناء وترا لا شفعا لان الاعلام
بعدم التعرض للمستثنى الثاني في الاعلام بعدم التعرض للمستثنى
الأول في الحكم اللاحق للمستثنى منه يوجب لحوق ذلك الحكم له
حيث لم يقصدهم فيمن نبه على أنه لم يقصدهم في الحكم المذكور
نعم ربما يظهر للنزاع هناك ثمرة في بعض الأحكام كما سننبه عليه
في مسألة التعاقب فلنا أولا أن المتبادر من أداة الاستثناء عرفا إخراج
المستثنى عن المستثنى منه باعتبار ما تعلق به من النسبة الواقعية
وذلك يوجب مخالفته له فيها وإذا ثبت ذلك عرفا ثبت شرعا ولغة
بضميمة أصالة عدم النقل وثانيا أن المستثنى لو كان في حكم
المسكوت لجاز تشريكه مع المستثنى منه في الحكم نحو جاءني
القوم إلا زيدا وجاءني زيد وفساده معلوم من العرف واللغة وثالثا
الاتفاق على أن كلمة التوحيد تفيده ولو كان مدلول الاستثناء الاعلام
بعدم التعرض لحال المستثنى لم تفده وما يقال من أنها تفيده
بحسب عرف الشرع لا اللغة فمدفوع بأن النبي صلى الله عليه وآله
كان يكتفي بها في إسلام قائلها من غير تفتيش عن اطلاعه على
عرف الشرع وتبعيته له في الاستعمال ويشكل بأن نزاع الكفار و
مخالفتهم لم يكن في أصل الإلهية إذا لم ينكر أحد منهم وجود صانع
مدبر للنظام على الظاهر وإنما كان في الصفات كالتوحيد ونفي التعدد
فاعترافهم بنفي إلهية غيره تعالى يستلزم اعترافهم
بإلهيته تعالى مع أنه تعالى ما كان يكتفي في الاسلام بمجرد الاقرار
المذكور ما لم ينضم إليه الاقرار بالرسالة وهو يستلزم الاقرار
بإلهية قطعا ورابعا إجماع علماء العربية على أن الاستثناء من النفي
إثبات وبالعكس على ما حكاه جماعة وتأويلهم إياه في الثاني بأنه
مجاز حيث عبروا عن عدم الحكم بالحكم بالعدم نظرا إلى كونه لازما
له فتعسف واضح يأبى عنه صريح كلماتهم ورام العضدي التوفيق
بين الاجماع المذكور وبين مقالة الحنفية فأورد فيه كلاما حاصله أن
الخبر يشتمل على نسبة ذهنية لها تعلق بالنسبة الخارجية فإن قيس
الاستثناء إلى النسبة الذهنية دل على نفيها عما بعده حيث يقتضي
عدم الحكم النفسي فيه وإن قيس إلى النسبة
195

لم يكن له دلالة على نفيها ولا على إثباتها فحمل إجماع علماء العربية
على المعنى الأول وجعل نزاع القوم مع الحنفية في المعنى الثاني و
اعترض عليه التفتازاني بأن النزاع على هذا التوجيه لا يتأتى في الجمل
الانشائية التي هي العمدة في المقام إذ ليس لها نسبة خارجية
فيلزم أن لا يكون زيد في مثل أكرم الناس إلا زيدا في حكم المسكوت
عنه بل محكوما عليه بعدم إيجاب إكرامه بلا خلاف ودفعه
المحشي الشيرازي أولا بأن هناك إيجابا خاصا وإيجابا مطلقا واللازم
مما ذكر أن يكون زيد في المثال المذكور محكوما عليه بعدم
وجوب إكرامه بالايجاب الخاص أعني الايجاب الذي أنشأه بقوله أكرم
لا عدم إيجاب إكرامه مطلقا ولو بأمر آخر فيمكن تحرير نزاعهم
في المقام الثاني فيكون مراد الحنفية بكون المستثنى مسكوتا عنه أنه
غير محكوم عليه بعدم الايجاب المطلق وإن كان محكوما عليه
عندهم بعدم الايجاب الخاص بناء على ما مر وثانيا بأن مدلول
الاستثناء عند الحنفية فيما مر الاعلام بعدم قصد تعلق الايجاب بإكرام
زيد وهذا غير ما يجعله غيرهم مدلولا له من الحكم بعدم تعلق
الايجاب بإكرام زيد وإن كان مستلزما له فإن الكلام في الدلالة اللفظية
التي هي مقصودة للمتكلم لا في الدلالة مطلقا وثالثا بأن السكوت و
عدم التعرض إنما ذكر في النسبة الخارجية دون النفسية وليس في
الجمل الانشائية نسبة خارجية فهي خارجة عن محل البحث وهذا
محصل كلامه ومنقح مرامه ولا يخفى أن الوجه الأول تعسف في
كلامه
لعدم مساعدة الاستعمال عليه لامتناع قولك أكرم العلماء إلا زيدا و
أكرم زيدا فليتأمل والثاني يقتضي أن يكون النزاع في كيفية الدلالة
لا في أصل الدلالة كما هو المعروف والثالث اعتراف بما ذكره
المعترض وتنزيل كلام الحنفية عليه بعيد فإن الظاهر منهم عدم الفرق
بين النشاء والخبر والتحقيق أن ما جعله العضدي توفيقا بين مقالة
علماء العربية وبين مقالة الحنفية تعسف بعيد لا يكاد يخفى ضعفه
على أحد فإن المفهوم من مقالة علماء العربية أن الاستثناء من النفي
يقتضي الاثبات وبالعكس أنه
يقتضي ذلك باعتبار النسبة الخارجية دون النسبة الذهنية فقط كما
ذكره مع أنه لا يستقيم في الاستثناء من النفي فإنهم جعلوه للاثبات و
على ما ذكره يكون للنفي أيضا احتجوا بمثل لا علم إلا بحياة ولا صلاة
إلا بطهور فإنه لو دل الاستثناء فيه على الاثبات لدل على ثبوت
العلم بمجرد الحياة والصلاة بمجرد الطهارة وإنه باطل بالضرورة و
الاتفاق والجواب أن استثناء الطهور من الصلاة والحياة من العلم
غير صحيح لعدم الجنسية فلا بد من تقدير إما في جانب المستثنى بأن
يكون المعنى لا صلاة إلا صلاة بطهور ولا علم إلا علم بحياة أو في
جانب المستثنى منه بأن يكون المعنى لا صلاة بشئ أو بوجه إلا
بطهور ولا علم بشئ أو بوجه إلا بحياة فإن زعموا أن العبارتين على
التقدير الأول تقتضيان ما ذكروه فضعفه ظاهر كما أشار إليه التفتازاني و
غيره من أن الاستثناء من النفي إنما يقتضي الاثبات الجزئي
فقولنا لا صلاة إلا بطهور إنما يقتضي إثبات صحة الصلاة مع الطهور في
الجملة لا مطلقا إذ ليس هناك ما يقتضي العموم وتحقيق ذلك
أن الجمل الاستثنائية تقوم غالبا مقام جمل فعلية أو اسمية فتفيد
مفادها في العموم وعدمه فإذا قلنا جاءوا القوم أو ما جاءوا إلا المشاة
كان قولنا إلا المشاة في قوة قولنا ما جاء المشاة أو جاءوا فيدل بظاهره
على عموم النفي أو الاثبات بدليل صحة الاستثناء منه كأن يقال
إلا حفاتهم من غير خروج عن الظاهر فإذا قلنا ما جاءني إلا العالم دل
على مجئ العالم كما لو قلت جاءني العالم لا على مجئ كل فرد منه
وكذا إذا قلت إلا عالم عند قصد الجنسية ولا خفاء في أن المقام من
هذا القبيل فيكون في قوة المهملة وإذا قلنا جاء القوم إلا العالم كان
الظاهر منه العموم عند عدم العهد كما لو قلنا ما جاءني العالم نعم إذا
كان المستثنى نكرة من الاثبات كان الظاهر نفي الحكم عن فرد لا
بعينه لا عموم النفي فإذا قلنا جاءني الرجال إلا عالما دل على أن عالما
لم يجئ لا أن كل فرد منه لم يجئ بدليل عدم صحة الاستثناء
منه من غير خروج عن الظاهر على أن الحمل على الاثبات الكلي في
البيان المذكور مستقيم بناء على تعلق النفي بالماهية الحقيقية سوأ
قلنا بأنها الصحيحة كما هو الصحيح أو الأعم ولا يلزم خلو الكلام عن
الفائدة لدلالتها على شرطية الطهور وعدم تحققها بدونه وإن
زعموا أنهما يقتضيان ذلك على التقدير الثاني نظرا إلى أن مفادهما
حينئذ أن الصلاة تكون مع الطهور أو بالطهور فقط وأن العلم
يكون مع الحياة أو بالحياة فقط كما هو قضية الحصر الحقيقي فينافي
شرطية غيرها فهو بظاهره متجه ولا مخلص عنه إلا بحمل القصر
فيه على القصر الإضافي وهو متداول في المقام شائع في الاستعمال
ومعه يندفع الاشكال ويبطل الاستدلال وأما ما يقال من أن
المفهوم من الكلام المذكور عرفا هو مجرد شرطية الطهور للصلاة لا
أنها تحصل بمجرده فمبني على استظهار كون القصر في ذلك
إضافيا فيرجع [فلا ينافي] إلى ما ذكرناه واحتجوا أيضا بأن الاستثناء
يقتضي رفع الحكم السابق وهو أعم من الحكم بالرفع وجوابه أن
أداة الاستثناء إنما وضعت لرفع النسبة المستفادة من الكلام السابق عن
مدخولها فإن كانت تلك النسبة نسبة إنشائية كما في قولك
أكرم العلماء إلا زيدا فلا ريب أن رفعها يقتضي رفع ما أنشأه من طلب أو
غيره بالنسبة إليه وإن كانت نسبته خبرية فقد حققنا سابقا
أنها موضوعة للنسبة الذهنية من حيث كونها كاشفة عن النسبة
الخارجية فرفعها رفع للنسبة الخارجية لان الحكم اللاحق لوجه الشئ
باعتبار كونه وجها له لاحق لذلك الشئ فيكون مفادها في القسمين
ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى لامتناع ارتفاع النقيضين
فصل إذا خص العام فقد اختلفوا في كونه حقيقة
196

أو مجازا إلى أقوال ثالثها حقيقة إن كان الباقي غير منحصر بأن يكون له
كثرة يعسر العلم بقدرها وإلا فمجاز ورابعها حقيقة إن خص
بغير المستقل كالشرط والصفة والاستثناء وإلا فمجاز وخامسها
حقيقة إن خص بشرط أو استثناء لا بصفة وغيرها وعزي ذلك إلى
القاضي وسادسها حقيقة إن خص بشرط أو صفة لا باستثناء وغيره و
حكي القول به عن عبد الجبار وسابعها حقيقة إن خص بدليل
لفظي متصل أو منفصل وثامنها حقيقة في تناوله مجاز في الاقتصار
عليه ونسب إلى الرازي والتحقيق عندي أن العام المخصوص إن
كان تخصيصه باستعماله في الخاص باعتبار كونه للعموم وضعا فمجاز
سواء كان موضوعا للعموم ابتدأ ككل وتوابعه أو كان
موضوعا لمعنى يلزمه العموم ولو بحسب مورد الاستعمال كالنكرة
في سياق النفي والجمع المحلى والمضاف والموصول عند عدم
العهد وإن كان التخصيص بإخراج البعض كما في الاستثناء أو بصرف
النسبة إليه كما في البدل أو بتقييد مدلوله كما في الوصف أو
حكمه كما في الشرط والغاية بناء على عد الثلاثة المتأخرة من هذا
الباب فحقيقة إن لم يوجد فيه جهة أخرى توجب التجوز فيه فالعام في
نحو زارني كل عالم أو العلماء أو من زرته أو ما زارني عالم إذا أريد
بلفظه في الموارد الأربعة البعض المقارب للكل حقيقة أو حكما
باعتبار كونه للكل وبعبارة أخرى إذا أطلق اللفظ المخصوص بالكل
وضعا على الجمل تنزيلا منزلة الكل فهو مجاز ونحو أكرم كل
رجل عالم أو العلماء العدول أو إن كانوا عدولا أو إلى أن يفسقوا أو إلا
الفساق أو العلماء عدولهم أو من أكرمك بأحد القيود الأربعة
المتأخرة أو لا تهن رجلا بأحد القيود الأربعة المتقدمة فهو حقيقة فلنا
في المقام إذن دعويان لنا على أوليهما أن العام إذا كان للعموم
بحسب الوضع فاستعماله في غيره باعتباره استعمال له في غير ما
وضع له فيكون مجازا لا محالة وسيأتي لهذا مزيد توضيح في دفع
حجج المنكرين ولنا على الثانية أن العام على التقادير المذكورة
مستعمل في تمام معناه الأصلي فيكون حقيقة وكون المقصود بالذات
في الاستثناء تعلق الحكم [واقعا]
بالبعض لا يوجب التجوز فيه لان ذلك إرادة من غير لفظ العام كما
حققناه سابقا وعموم النكرة المتعقبة للنفي والمسورة بكل على
حسب إطلاقها وتقييدها ففي الحقيقة اعتبار العموم فيهما متأخر عن
اعتبار التقييد على تقدير اشتمالهما عليه وأما التخصيص بالشرط
والغاية فهما راجعان في الحقيقة إلى تقييد الحكم المتعلق بالعام و
استلزامه قصر العام على الافراد المشتملة على الشرط والمتحققة قبل
الغاية راجع إلى تقييد مدلوله كما مر حجة القائلين بأنه حقيقة مطلقا
أمران الأول أن العام كان متناولا للباقي حقيقة قبل التخصيص و
التناول باق بعد لم يتغير وإنما طرأ عليه عدم تناول الغير وهو لا
يوجب كونه مجازا فيما يتناوله والجواب أما أولا فبالنقض
باستعمال اللفظ الموضوع للكل في الجز كإطلاق الانسان على بعضه
فإن البيان المذكور جار فيه وليس حقيقة قطعا وأما ثانيا فبالحل
وهو أنه كان قبل التخصيص يتناوله مع غيره وبعده يتناوله وحده و
هما متغايران فكونه حقيقة في الأول لا يوجب كونه حقيقة في
الثاني وأما منع بعض المعاصرين كون تناوله للباقي في ضمن تناوله
للكل على وجه الحقيقة فليس بشئ لان المراد بتناوله للباقي على
وجه الحقيقة تناوله له بالوضع أو حال كون الاستعمال حقيقة فالعام إن
كان مجموعيا فالدال على الكل دال بتلك الدلالة على الجز
فالدلالتان متحدتان ذاتا وإن تغايرتا في الاعتبار وقد مر بيانه في
مبحث الدلالات وإن كان أفراديا فدلالته على كل فرد على وجه
الوضع كما مر فالبيان فيه أوضح وأما ما يقال من أن كونه لا يتناول غيره
أو يتناوله لا يغير صفة تناوله لما يتناوله فمدفوع بأن ذلك
كيف لا يغير صفة تناوله لما يتناوله وقد لزم منه الاختلاف في كونه
بحيث يتناول الغير أيضا أو لا يتناوله فإذا كان التناول حقيقة على
أحد التقديرين فقط لزم أن يكون مجازا على الاخر الثاني أن العام
المخصص بعد ملاحظة قرينة التخصيص يسبق منه الباقي إلى الفهم
بحيث لا يحتمل غيره والتبادر علامة الحقيقة والجواب أن علامة
الحقيقة هي التبادر بدون القرينة وإلا فالمعنى المجازي
أيضا يتبادر من المجاز بعد ملاحظة القرينة فتبادر الباقي منه بعد
ملاحظة قرينة التخصيص لا يوجب كونه حقيقة فيه وأما ما يقال من
أن تبادر الباقي وإرادته منه لا يحتاج إلى القرينة وإنما المحتاج إليها
عدم إرادة المخرج فجوابه أن الذي لا يحتاج إلى القرينة هو
تبادر الباقي وإرادته في ضمن تبادر الكل وإرادته لا تبادره وإرادته
مطلقا حجة القول بأنه مجاز في الباقي مطلقا وجهان الأول أنه
لو كان حقيقة فيه أيضا لكان مشتركا والتالي باطل بيان الملازمة أنه
حقيقة في العموم والباقي مغاير له ضرورة مغايرة البعض للكل
فإذا كان حقيقة فيه أيضا لكان حقيقة في معنيين متغايرين فيكون
مشتركا بينهما وأما بطلان التالي فلان الكلام في الألفاظ التي
تختص بالعموم وضعا الثاني أنه لو كان حقيقة فيه لكان كل مجاز
حقيقة والتالي متضح البطلان أما الملازمة فلانه إنما يحكم بكونه
حقيقة لأنه ظاهر في الخصوص مع القرينة وإن كان بدونها ظاهرا في
العموم وكل لفظ بالنسبة إلى معناه المجازي كذلك قال العضدي
بعد أن ذكر الدليلين وقد يقال إرادة الاستغراق باقية إذ المراد بقول
القائل أكرم بني تميم الطوال عند الخصم أكرم من بني تميم من
علمت من صفتهم أنهم الطوال سواء عمهم الطول أو اختص ببعضهم
ولذلك يقول أما القصار منهم فلا تكرمهم ويرجع الضمير إلى بني
تميم لا إلى الطوال منهم وأيضا فلم يرد الباقي بوضع واستعمال ثان
بل بالوضع والاستعمال الأول وإنما طرأ عليه عدم إرادة المخرج
بخلاف المجاز وبه يعرف الجواب عن الثاني هذا كلامه وفي الوجهين
نظر أما في الأول فلان وصف بني تميم بكونهم طوالا يوجب أن
يراد به خصوص الموصوفين منهم بالطول دون غيرهم لامتناع وصف
الجميع بكونهم طوالا إذا كان فيهم من
197

لا يتصف به وأما ما تأول به أمر الصفة فتعسف واضح يقطع بفساده كل
من له مسكة بمداليل الألفاظ فإن وجوه تركيب اللفظ يختلف
باختلاف طرق التأدية ففرق بين قول القائل أكرم طوال بني تميم لو
أكرم بني تميم طوالهم أو أكرم بني تميم الطوال حيث عبر في
الأول بطريق الإضافة وفي الثاني بطريق البدلية وفي الثالث بطريق
الوصف ولا يلزم من اتحاد المؤدى في هذه الصور اتحاد طرق
التأدية والمساواة في الاحكام وأما الضمير في قوله أما القصار منهم
فراجع إلى مطلق بني تميم المفهوم من ذكر المقيد ولو بطريق
الاستخدام ودعوى رجوعه إلى بني تميم باعتبار ما دل عليه و
استعمل فيه مجرد دعوى لا يساعد عليها الوجدان وأما في الثاني
فلان
لفظ العام إذا كان موضوعا لخصوص الجميع كان إرادة البعض منه
موجبا لإرادة غير الموضوع له ضرورة أن البعض غير الجميع
فيكون مجازا فيه لا محالة نعم يتجه على أصل الحجة أنها لا تستقيم
على إطلاقها فإن الجمع المعرف مختص بالعموم وضعا حيث لا
يتعين
ما دونه من المراتب وكذلك الموصول مع أنه لو تعين كان استعماله
فيه حقيقة أيضا ولا اشتراك فإن مدلول الجمع المعرف ما فوق
الاثنين من الافراد المتعينة باعتبار تعينها وكذا مدلول الموصول
الشئ أو الشخص المتعين بصلته باعتبار تعينه بها فحيث لا شاهد
على
التعيين يتعين الحمل على الجميع لتعينه من بين المراتب ولهذا إذا
تعين البعض بعهد أو وصف أو شبهه صح الاستعمال فيه من غير تجوز
ولا اشتراك ويعرف الكلام في نظائره مما مر حجة القول بأنه حقيقة
إن كان الباقي غير منحصر أن معنى العموم حقيقة كون اللفظ
متناولا لما لا ينحصر في عدد فحيث يكون الباقي كذلك يكون عاما و
الجواب منع كون ذلك معنى العموم بل معناه تناوله لجميع أفراد
مفهومه وأما كون الافراد محصورة أو غير محصورة فلا مدخل له في
ذلك فإذا اختص بالجميع وضعا واستعمل في غيره كان مجازا لا
محالة وإلا فلا تجوز سواء انحصر أو لم ينحصر كما عرفت قال
العضدي ولا يخفى أن هذا منشؤه اشتباه كون النزاع في لفظ العام أو
في
الصيغ يعني كون اللفظ متناولا لما لا ينحصر معنى لفظ العام لا معنى
صيغته المبحوث عنها في المقام ولا يخفى ما فيه إذ لا نسلم أن ذلك
معنى العام أيضا وإلا لكان ذلك مدلول صيغته أيضا بل معناه أعم من
ذلك كما عرفت حجة من فصل بين التخصيص بما لا يستقل وبين
التخصيص بالمستقل أن التخصيص بما لا يستقل كالمقيد بالصفة مثل
الرجال المسلمين أو بالشرط كأكرم بني تميم إن دخلوا لو كان
موجبا للتجوز لكان مسلمون للجماعة والمسلم للجنس أو للعهد و
نحو ألف سنة إلا خمسين عاما مجازا والتالي بأقسامه باطل بالاتفاق
بيان الملازمة أن كل واحد من المذكورات مقيد بقيد هو كالجز له وقد
صار وضعا حيث لا يتعين ما دونه من المراتب وكذلك
الموصول مع أنه لو تعين كان استعماله فيه حقيقة أيضا ولا اشتراك فإن
مدلول الجمع المعرف جز للكلمة والمجموع لفظ واحد واللام
في المسلم وإن كانت كلمة اسما أو حرفا لكن الدال هو المجموع لأنه
يعد عرفا كلمة واحدة لا أن مسلما للجنس واللام للقيد والاستثناء
إخراج بعد إرادة العموم من اللفظ وشئ من ذلك لا يتحقق في العام
المخصص فلا يلزم من كونه مجازا كونها مجازات وفيه نظر لأنه
إن أريد أن الواو في مسلمون واللام في المسلم ليس موضوعا لجز
المعنى بوضع مستقل فهذا مع فساده في نفسه بشهادة التبادر على
خلافه غير ملائم لما ذكروه في حد المركب من أن حروف المضارعة
في المضارع تدل على جز المعنى وجوهرة يدل على الجز الاخر
وكذلك نحو ضارب وسكران مما يشتمل على مادة تدل على جز
المعنى وهيئته تدل على الجز الاخر فإن الالتزام بتعدد الوضع
هناك يوجب الالتزام به هنا بطريق أولى وإن أريد أنهما وإن كانا
موضوعين بوضعين مستقلين ودالين على المعنى بدلالتين لكنهما
يعدان في العرف كلمة واحدة لعدم استقلالهما من حيث اللفظ ففيه أن
مدار الاستدلال ليس على كونهما كلمتين عرفا إذ لا مدخل لهذه
التسمية في ذلك بل على كونهما موضوعين ودالين فإن الحقيقة و
المجاز من توابع الموضوع المستعمل
سواء وصف عرفا بكونه كلمة أو لا ومن هنا يتبين أن من عرف الحقيقة
والمجاز بالكلمة ينبغي أن يكون مراده بها المعنى الأعم لئلا
ينتقض عكسه بمثل ذلك وأما ما ذكر في المثال الأخير من أن
الاستثناء إخراج بعد إرادة العموم فلم يثبت منافاته لمقالة الخصم فلا
يصلح جوابا عنه وتحقيق المقام أن المستدل إن أراد بمقالته أن
التخصيص بما لا يستقل من قبيل التقييد في عدم استلزامه التجوز و
أراد
بذلك التخصيص لا بمعنى استعمال ما اختص بالعموم وضعا في
الخصوص استقام كلامه حيث إنهما يشتركان حينئذ في كونهما
مستعملين في تمام المعنى وأن الزائد عليه من التخصيص أو التقييد
مراد من أمر آخر ولا حاجة له حينئذ إلى التمسك بمثل مسلمون و
المسلم مما يكون التقييد فيه كالجز حتى يرد عليه منع كونهما كلمتين
عرفا بل له أن يتمسك بكل مطلق ورد عليه التقييد كقولك اضرب
زيدا فإن اضرب مجردا عن القيد موضوع لطلب مطلق الضرب وبعد
التقييد بالمفعول صار مفاد المجموع طلب ضرب خاص بحيث لا
يحتمل غيره وهو غير ما وضع له لفظ اضرب ويتم به تقرير النقض و
أما الحل فبيانه أن مجازية اللفظ المستعمل إنما يكون بإرادة غير
معناه الموضوع له منه لا بأن يكون المراد منه ومن غيره غير معناه
الموضوع له فإن ذلك لا يوجب صيرورة اللفظ مجازا وإلا لكان كل
لفظ مجازا إذا تركب مع غيره ولا ريب أن القائل اضرب زيدا لا يريد
بقوله اضرب إلا طلب الضرب المطلق وتقييده بزيد لا ينافي إرادة
ذلك وإن دل على إرادة طلب الضرب المقيد لان إرادة المقيد تشتمل
على إرادة المطلق إذ المراد بالمطلق ذات المطلق لا هي بصفة
الاطلاق وعلى هذا القياس مسلمون والمسلم وإن أراد أن التخصيص
بغير المستقل مطلقا من قبيل التقييد كما يشعر
198

إطلاق كلامه ففساده ظاهر لان لفظ العام إذا اختص بالعموم وضعا
كلفظة كل فإذا أطلق وأريد به البعض كما لو قيل أكرم كل عالم إلا
زيدا وأريد بلفظة كل البعض أعني من عدا زيد يكون مجازا قطعا و
نظيره في التقييد ما لو قيل اضرب رجلا جاهلا وأريد بالرجل
خصوص الجاهل وجعل الوصف قرينة عليه فإنه حينئذ مجاز أيضا و
لا يخفى أن مثل هذا الفرض بعيد عن المحاورات وكأن كلام
المفصل مبني على ما هو الظاهر المتداول ثم لا يذهب عليك أن
دعوى المستدل الاتفاق على أن ألف سنة إلا خمسين عاما حقيقة
ينافي ما
ذكروه في الاستثناء من مصير الأكثر إلى أن المستثنى منه مستعمل فيما
عدا المستثنى مجازا إذ لا مصرح في ذلك بالفرق بين لفظ العام
وغيره حجة القاضي ما مر في حجة المفصل المتقدم إلا أنه أخرج
الصفة منها نظرا إلى أنه عنده بمنزلة مخصص مستقل وليس
تخصيصها
لفظيا حيث إن الصفة قد تشمل جميع أفراد الموصوف كما في
الصفات التوضيحية كالجسم الحادث والحيوان النامي وقد لا تشتمل
كما
في الصفات الاحترازية لكن يعلم ذلك من أمر خارج لا من نفس الصفة
فلا يتناولها الدليل ولعله يستدل بمثل ذلك في إخراج الغاية و
البدل فإنهما لا يستلزمان التخصيص في نفسهما وإنما يستلزمانه من
جهة خصوصية المادة والجواب أن الوصف لا يقتضي التخصيص
مطلقا بل إذا كانت الصفة أخص من الموصوف وتخصيصها حينئذ
لفظي لاستناده إلى مدلول اللفظ وكذا الكلام في الغاية والبدل مع أن
التخصيص بالشرط أيضا لا يستلزم الاخراج في نفسه بل لخصوصية
المادة بدليل أن قولك أكرم العلماء إن تمكنت لا يفيد التخصيص إذا
كان كلهم أتقيأ فالفرق تحكم وتتمة الكلام فيه تعرف مما مر حجة
عبد الجبار ما مر إلا أنه استثنى الاستثناء نظرا إلى أنه ليس عنده من
التخصيص في شئ لما يراه أن المستثنى منه مستعمل في العموم و
أن التخصيص في الاسناد وهذا منه مناقشة لفظية وفسادها يظهر
مما مر ثم إنه قد استثنى الغاية والبدل في تحرير الدعوى أيضا ولم
يتعرض
لهما في الاستدلال والوجه في الأخير واضح لجريان العلة المذكورة
فيه وأما الأول فالفرق بينه وبين الشرط والصفة تحكم حجة
المفصل بين التخصيص اللفظي وغيره أن المخصص بالدليل اللفظي
إذا كان مجازا لكان المسلم والمسلمون مجازا إلى آخر ما مر و
الكلام فيه على حذو ما سبق حجة الرازي أن العام بمنزلة تكرير الآحاد
كما نص عليه العلماء العربية فكما أن بطلان إرادة البعض عند
تكرير الآحاد لا يصير الباقي مجازا فكذا ما بمنزلته وجوابه ظاهر لا
يحتاج إلى البيان لمنع تساويهما في جميع الأحكام فإن الوضع
هناك متعدد فمخالفة وضع البعض لا يقتضي مخالفة وضع غيره
بخلاف المقام
فصل إذا تخصص العام بمجمل سقط عن الحجية في مورد الاجمال
اتفاقا
وإنما خصصناه بمورد الاجمال لأنه إذا اشتمل على مورد غير مجمل
كما في قولنا أكرم الذين في الدار إلا بعض علمائهم دخل باعتبار
غير مورد الاجمال في النزاع الآتي واختلفوا فيما إذا تخصص بما
عداه في أنه هل يبقى حجة في الباقي أو لا إلى أقوال ثالثها أنه إن خص
بمتصل كان حجة فيه وإلا فلا ورابعها أنه إن كان لفظ العموم منبئا عنه
قبل التخصيص كإنبائه عن غيره كان حجة كما في نحو اقتلوا
المشركين فإنه ينبئ عن الحربي إنبائه عن الذمي وإلا فلا كما في
السارق والسارقة فاقطعوا فإنه لا ينبئ عن كون المال نصابا و
مخرجا عن الحرز ولعل المراد الفرق بين العام المخصوص بالشرط أو
الغاية وبين غيره فإنه لا ينبئ في الأولين عن عدم تقيد الحكم
بالشرط والغاية المستلزمين لعدم تعلقه ببعض أفراده من الفاقد للشرط
والحادث بعد الغاية بخلافه فيما عداهما وخامسها أنه إن كان
قبل التخصيص لا يحتاج إلى بيان فهو حجة نحو اقتلوا المشركين فإنه
بين في المراد قبل إخراج الذمي وإلا فلا كأقيموا الصلاة فإنه
يفتقر إلى البيان قبل إخراج الحائض وسادسها أنه حجة في أقل الجمع
من الاثنين والثلاث على اختلاف القولين دون ما زاد عليه والحق
عندي أنه حجة مطلقا كما عزي إلى أصحابنا وعليه المحققون من
مخالفينا وربما ذهب بعض الفضلاء المعاصرين إلى أنه أقوى من العام
الغير المخصص نظرا إلى أنه أبعد من احتمال التخصيص لنا على ذلك
بعد مساعدة القواعد اللفظية عليه فهم أهل العرف منه لحوق الحكم
للباقي بعد التخصيص ولهذا يذم العبد إذا قال له مولاه أكرم من دخل
داري إلا زيدا أو قال بعد ذلك لا تكرم زيدا فترك إكرام غيره
أيضا ولا ريب أن فهمهم إذا استند إلى اللفظ كان حجة وأيضا فإن
الصحابة وتابعيهم كانوا يستدلون بالعمومات المخصصة من غير
نكير فيهم وذلك منهم إجماع على حجيتها وقد يستدل بأن اللفظ كان
متناولا للباقي فيستصحب وارتضاه بعض
المعاصرين بناء على أن يكون المراد استصحاب حكم التناول
الظاهري بمعنى أنه كان حجة في الجميع وكان يجب العمل بمقتضاه
فيه
فخرج المخرج لقيام الدليل وبقي الباقي فيستصحب حجيته و
وجوب العمل به فإن أريد به التناول الواقعي فهو مختص بما يكون
تخصيصه بدائيا ولا علم به أو التناول الظاهري فلا معنى لاستصحاب
الظهور والسر فيه أن ظهوره في الباقي قبل التخصيص ظهور
تبعي وضعي بخلافه بعده فلا يتحد الموضوع ليستصحب وقد
يستدل أيضا بأنه لو لم يكن حجة في الباقي لكان تناوله له متوقفا على
إفادته للمخرج والتالي باطل أما الملازمة فظاهرة وأما بطلان التالي
فلان التوقف إن كان ثابتا على تقدير العكس أيضا كان دورا و
إلا كان ترجيحا بلا مرجح والأظهر أن يقال كان ترجيحا بلا مرجح إذ
ليس هناك ترجيح حقيقة وجوابه أنه إن أريد بتوقفه على إفادته
للمخرج ما يتناول التوقف على سبيل المعية فبطلان التالي ممنوع وإن
أريد به التوقف على سبيل العلية فالملازمة ممنوعة حجة النافي
مطلقا أمران الأول أن اللفظ حقيقة في العموم ولم يرد منه وما دونه
من المراتب مجازات واللفظ صالح لها
199

ولا دليل على تعيين البعض فيبقى اللفظ مجملا مترددا بينها قال بعض
الفضلاء ومن هذا يظهر ضعف حجة المفصل أعني المفصل الأول
فإن المجاز عنده إنما يتحقق في المنفصل للبناء على الخلاف في
الأصل السابق الثاني أن تخصيص العام يخرجه عن كونه ظاهرا وما لا
يكون ظاهرا لا يكون حجة والجواب عن الأول أما أولا فبأنا لا نسلم أن
كل تخصيص يوجب التجوز وقد سبق تحقيق القول فيه ولا يلزم
حينئذ تساوي المراتب نظرا إلى اشتراكها في كونه حقيقة فيها أما في
التخصيص بالوصف فلورود موجب العموم على المقيد فيفيد
التناول لجميع أفراده وأما في الشرط والغاية فلأنهما من قيود الحكم
فلا ينافيان عموم العام ولو سلم خروج بعض الافراد فإنما هو
لإفادتها تقييد المورد كالوصف وأما في البدل فلوجود موجب العموم
فيه وأما في الاستثناء فلأقربية لحوق الحكم المقصود بالباقي من
لحوقه بما دونه أو لان ظاهر الاستعمال يقضي بكون المستعمل فيه
مرادا أصاليا خالفناه في مورد التخصيص لقيام أمارته فيتعين الاخذ
بمقتضاه في الباقي وأما ثانيا فبأن ما دون العموم من المراتب على
تقدير كونها مجازات له ليست متساوية بل بعضها وهو الباقي
أظهر مما دونه لكونه أقرب إلى العموم من حيث المعنى فيتعين
بالترجيح ومن هذا يظهر الجواب عن الحجة الثانية أيضا فإن خروجه
عن ظاهر العموم لا يقتضي أن لا يكون له ظاهر في مراتب التخصيص
واعلم أنه قد يستشكل في المقام بأن قضية النزاع هنا أن يكون
القول بعدم الحجية مطلقا والدليل المذكور يقتضي اختصاصه بالقول
بكون العام المخصوص مجازا في الباقي إذ لا ينهض على من قال
بكونه حقيقة فيه وأيضا الكلام في الفصل المتقدم يقتضي كونه حجة
في الباقي لان كلا من الحقيقة والمجاز ظاهر في معناه والكلام هنا
يقتضي الخلاف في الحجية وضعف هذا الكلام مما لا يكاد يخفى إذ
لا نسلم أن النزاع هنا يقتضي أن يكون القول بعدم الحجية مطلقا إذ لا
شاهد عليه أصلا بل مقصور على تقدير المجازية كما يشهد به الحجة
المذكورة وحينئذ فتنهض على دفع القول بكونه حجة في
الباقي لكونه حقيقة فيه بضميمة مبناها مع احتمال تعميم النزاع إلى
القول بكونه حقيقة فيه أيضا نظرا إلى عموم الدليل الثاني والنزاع
في كونه حقيقة في الباقي أو مجازا فيه لا يقتضي ظهوره فيه لجواز أن
يكون حقيقة أو مجازا فيه مساويا لما دونه من المراتب الحقيقية
أو المجازية وليس النزاع في الفصل المتقدم مبنيا على القول بالحجية
كما سبق إلى بعض الأوهام لمنافاته الاحتجاج على عدمها
بالمجازية ولبعضهم هنا كلام طويل تركناه لعدم الجدوى في إيراده و
كذا حجج بقية الأقوال فصل اختلفوا في التمسك بالعام قبل
استقصاء البحث عن المخصص فذهب الأكثرون إلى المنع بل نقل
الحاجبي عليه الاجماع وجعل النزاع في مبلغ البحث وهو مردود
بنقل
جماعة مصير البعض إلى جواز العمل به قبل البحث مطلقا وربما
وجهه بعضهم بأن مراد قائله وجوب الاعتقاد بعمومه قبل العمل و
ظهور
المخصص ثم إن لم يتبين فذلك وإلا تغير الاعتقاد ثم نسبه إلى غباوة
قائله لخروجه عن مطارح العلماء ولا يخفى بعده ويحكى عن
العلامة أن كلامه في التهذيب مشعر باختيار القول بالجواز مع استقرابه
المنع في النهاية وكلامه في هذا المبحث من التهذيب وإن كان
ظاهر في ذلك إلا أن عبارته فيه في مبحث المبين نص في المنع مع
دعوى الاجماع عليه ومن متأخري أصحابنا من نص على جواز العمل
به قبل البحث عن المخصص بل بكل دليل يحتمل المعارض قبل
الفحص عنه ثم اختلف المانعون فذهب أكثرهم إلى كفاية فحص
يغلب
معه الظن بعدم المخصص وربما يتحصل من فحوى كلامهم هذا أنه لو
حصل الظن بعدم المخصص قبل البحث كفي وهو قوي مع قوة
الظن وقال القاضي لا بد من القطع بانتفائه ولا يكفي الظن به والحق
عندي ما ذهب إليه الأكثرون من عدم جواز العمل بالعام قبل
الفحص الموجب للظن بعدم المخصص والمعارض كما هو الأصل
في كل دليل ظني يحتمل المعارض وهذه المسألة في الحقيقة من
جزئيات تلك المسألة كما أشار إليه بعض الأفاضل إلا أنهم
تداولوا إفرادها بالبحث نظرا إلى أن احتمال المعارض فيها أقوى لنا أن
علمنا بوجود المخصص لأكثر العمومات التي بلغت إلينا كما
يشهد به أدنى تتبع مع شيوع حكايته واستفاضة نقله من المتتبعين
يوجب عدم الوثوق بعموم عام نصادفه بمجرد عدم مصادفة
المخصص معه إذ يتساوى حينئذ عندنا احتمال كونه من العمومات
المخصصة واحتمال كونه من غيرها إن لم يترجح الأول بالنظر إلى
الغلبة المذكورة ولا دليل على حجية تلك العمومات مطلقا حتى عند
عدم البحث وعدم الوثوق بعمومها لعدم مساعدة الاجماع والعقل
على ذلك وهذا ظاهر وكذلك الكتاب والسنة إذ ليس فيهما ما
يقتضي حجيتها حينئذ كما سنشير إلى البعض وأما بعد التتبع المورث
للظن بالعدم فيتجه التعويل عليه إذ لو اعتبرنا العلم بذلك لزم العسر و
الحرج المنفيان عن الشريعة السمحة وتفويت الوقت في تحصيل
قليل من المسائل وطرح أكثر العمومات لعدم التمكن من تحصيل
العلم بعدم المخصص فيها وهذا الدليل بعينه يجري في سائر الأدلة
الظنية سواء كان ظنيتها من حيث السند كخبر الواحد أو من حيث
المتن كالأمر والنهي والمطلق وغيرها من الظواهر اللفظية فإنا متى
صادفنا شيئا منها لم نلتزم بمؤداه ما لم نبحث عن المعارض فنظن
عدمه وذلك لعلمنا بوجود المعارض الوجود المساوي أو الراجح في
كثير منها فنحتاج في تحصيل الظن بأن ما صادفناه ليس من جملتها إلى
الفحص والتتبع واعلم أن القدر الكافي من الفحص والتتبع ما
يحصل معه الظن والوثوق بعدم المعارض كما مر ويكفي فيه تتبع
الأبواب التي هي مظان ذكر ما يتعلق بالحكم المقصود من الكتب
المبوبة وربما يكفي فيه موافقة الأكثر والمعظم وعدم
200

الإشارة من المتتبعين منهم إلى المعارض حيث يكون وظيفتهم ذلك
كما في بعض الكتب الاستدلالية ونحو ذلك احتج المجوزون مطلقا
بأنه لو وجب البحث عن المخصص في التمسك بالعام لوجب البحث
عن المجاز في التمسك بالحقيقة أيضا والتالي باطل بالاتفاق بيان
الملازمة أن إيجاب طلب المخصص إنما هو للتحرز عن الخطأ وهو
موجود في المجاز أيضا والجواب الالتزام بالتالي والمنع من
الاجماع المدعى على بطلانه كما ذكرنا آنفا وقد يجاب بالفرق بين
المقامين بأن التخصيص قد بلغ في الشيوع إلى حيث قيل ما من عام
إلا وقد خص فصار حمل اللفظ على العموم مرجوحا في النظر قبل
البحث عن المخصص بخلاف الحقيقة فإن أكثر الألفاظ محمولة على
الحقائق وما يقال من أن أكثر اللغات مجازات فمحمول على المبالغة
أو أن المراد أن أكثر الألفاظ لها معان مجازية أو مطروح بشهادة
الوجدان على خلافه وإلى هذا يرجع ما قيل من أن التخصيص أكثر
وقوعا من غيره من أنواع المجاز فحصول الظن بعدم الثاني قبل
الفحص لا يوجبه في الأول وهذا الفرق وإن كان في نفسه ضعيفا إلا
أنه ينهض جوابا عن الدليل المذكور وزاد بعض المعاصرين جوابا
ثالثا وهو الفرق بين المقامين بقيام الاجماع على عدم وجوب البحث
في الثاني على تقدير تسليمه دون الأول وكأن مقصوده أن التعليل
المذكور وإن كان في نفسه عاما لكنه دليل ظاهري فيجب قصره على
مورد لا دليل فيه على خلافه ورابعا وهو الفرق بين المقامين من
حيث إن التخصيص قد بلغ في الكثرة إلى حيث صار من المجازات
الراجحة المساوي احتمالها لاحتمال الحقيقة فيحتاج إلى الفحص
بخلاف سائر أنواع المجاز وهذا الوجه قد ذكره صاحب المعالم أيضا
ويشكل بأن التخصيص لو كان من هذا القبيل لكان العام من قبيل
المجمل في عدم تعين شئ من إرادة العموم أو الخصوص منه إلا
بدليل كما هو شأن المجمل ولما كفي في المصير إلى العموم مجرد
عدم
وجدان المخصص كما لا يخفى في المصير إلى الحقيقة المرجوحة
مجرد عدم القرينة على المجاز الراجح عند القائلين بمساواة احتماله
لاحتمال الحقيقة ويمكن الجواب بأن غلبة ورود التخصيص على
العمومات معارضة بغلبة مصادفة المخصص
على تقدير وجوده فيتكافئان بعد الفحص ويبقى ظاهر العموم سليما
عن المعارض لكن يشكل بجريان مثل ذلك بالنسبة إلى قرينة كل
مجاز راجح فلا يتم دعوى المساواة واستدل بعض المتأخرين على
عدم وجوب البحث عن المخصص بل مطلق المعارض بوجوه أخر
منها
إجماع أصحاب الأئمة والتابعين على ذلك حيث إن أحدا منهم لم
يطلب في مسألة تشاجروا فيها النظرة من صاحبه حتى يبحث عن
المعارض والمخصص بل كان يسكت أو يتلقى منه بالقبول وإلا لنقل
خلافه إلينا وإذ ليس فليس ومنها أن الأصول الأربعمائة كلها لم
تكن موجودة عند أكثر أصحاب الأئمة بل بعضها كما يشهد به
التفحص في أحوال الرجال والأئمة عليهم السلام كانوا يعلمون بأنهم
يعملون بما عندهم فلو لم يجز ذلك لأمروهم بتحصيل الكل ولنهوهم
عن العمل بالبعض إذ لا يتم البحث عن المخصص إلا بتحصيل
الجميع ومنها آية التثبت حيث تدل بمفهومها على عدم وجوب
التثبت في خبر العدل والبحث عن المخصص والمعارض تثبت
فيكون
منفيا بمفهوم الآية ومنها آية النفر حيث تدل على وجوب التحذر عند
إنذار الواحد من غير تقييد بالبحث عن المعارض والمخصص و
الجواب أما عن الأول فبأن ما ذكر فيه لا يدل على إجماعهم على
المقصود لان الغالب في مقام التحاج سكوت أحد المتحاجين وذلك
لا
يقتضي علمه بصحة مذهب الخصم بل لعدم علمه بفساده على أن
أكثر المتأخرين منهم كانوا متفحصين في الاخبار متتبعين في الآثار و
كانوا مع ذلك مستحضرين إياها بجملتها أو بأكثرها ولو بحسب موادها
ومفادها فيجوز أن يكون عدم مطالبتهم بالتوقف اكتفاء
منهم بعدم وجدان المعارض بعد الفحص فيما حفظوه وتذكروه منها
أن ذلك كثيرا ما يوجب الوثوق بعدم المعارض ولا يستدعي
حصوله كثير زمان ولو صدر منه مطالبة ذلك أحيانا فليس في نقله ما
يقضي العادة بوقوعه وأما عن الثاني فبأن الظاهر من تعويلهم
على بعض تلك الأصول أنه كان لوثوقهم بما فيه فإن أكثر العمومات بل
مطلق الظواهر كانت في الصدر الأول محفوفة بقرائن حالية أو
مقالية موجبة لتعيين المعنى المراد منها من غير حاجة إلى كثير تتبع
ومزيد تفحص وهذا بخلاف ما نحن فيه من الاختلاف والخلاف و
انقطاع أكثر القرائن والامارات لتباعد العهد المقتضي لعدم الوثوق
بالمراد وكثرة الوسائط الموجبة لالتباس حال العادل بالفاسق و
الكذوب بالثقة وغير ذلك بحيث لا يحصل لنا وثوق بشئ منها بدون
الفحص والتتبع فلا سبيل إلى مقايسة حالنا بحالهم وأما عن الثالث
فبعد تسليم دلالة الآية على عدم وجوب التبين والتثبت في خبر
العدل حتى في مثل المقام أن المفهوم منها عدم وجوب التثبت فيه
من حيث كونه خبرا بمعنى حمله على الصدوق وتلقيه بالقبول من
حيث
الصدور لا من حيث كونه مخبرا أعني من حيث دلالته وإن كانت ظنية
أو احتمالية وهذا ظاهر في نفسه ويؤكده التعليل المذكور بعده
مع أنا كثيرا ما نعول على خبر من لم يثبت عدالته أو غير العدل ولا
يجري فيه الوجه المذكور وأما عن الرابع فبعد المساعدة على
تناوله للمقام أن الانذار إنما يتحقق بعد تحقق المعنى المراد من اللفظ
والكلام في تحققه حجة من اعتبر القطع بعدم المخصص بأن القطع
مما يتيسر حصوله بالفحص لان الحكم المستفاد من العام إن كان مما
كثر البحث عنه ولم يطلع على ما يوجب تخصيصه فالعادة قاضية
بالقطع بانتفائه وإلا فبحث المجتهد يوجب القطع بانتفائه إذ لو أريد
بالعام الخاص لأطلع عليه إذ الحكم مع عدم اطلاعه على المخصص
هو العموم قطعا والجواب أن عدم الاطلاع مع كثرة بحثهم أو بحثه عنه
لا يوجب القطع بالعدم إن أريد عدمه حقيقة إذ غاية ذلك عدم
الوجدان وهو لا يقتضي عدم الوجود وإن أريد أنه عند عدم ما يوجب
القطع بعدمه يكفي عدم وقوف المجتهد عليه بعد الفحص في
القطع بوجوب البناء على عدمه والتعويل على العموم في العمل أو
في الحكم الظاهري عاد
201

لفظيا فإن من اكتفي بالظن بالعدم أراد به الظن بالعدم واقعا فلا ينافي
قول من اعتبر القطع به ظاهرا كيف وقد تقرر عندنا أن م آل
الظنون الاجتهادية إلى القطع في الحكم والعمل وأن الظن إنما هو في
طريقه
فصل إذا تعقب المخصص المتصل جملا
أو مفردات متعاطفة وصح عوده إلى الجميع وإلى الأخيرة فلا كلام
في جواز عوده إلى الأخيرة وحدها وإلى الجميع فإن كان هناك ما
يوجب تعيين الكل أو البعض فلا إشكال وإلا فالأخيرة مخصوصة به
قطعا وهل يختص بها أو يخص معها الباقي فيه خلاف ونحن نذكر
الاستثناء المتعقب للجمل أولا كما هو المعروف في كتب القوم ثم
نعقبه ببيان بقية الأقسام فنقول في الاستثناء المتعقب للجمل الصالح
للعود إلى الجميع وإلى الأخيرة أقوال فذهب الشيخ والشافعية إلى أنه
ظاهر في العود إلى الجميع وفسره العضدي بكل واحدة من الجمل
أي كل واحدة على الشمول وكأنه يريد بذلك دفع توهم أن يكون
المراد به المجموع من حيث المجموع وفيه نظر كما سنشير إليه و
زعم بعض المعاصرين أن المراد كل واحدة على البدل فتوهم أن
القائل برجوعه إلى الجميع يقول بأن الاستثناء مستعمل في إخراجين
أو
أكثر على البدلية وكأنه يريد أن قصد كل إخراج عن لفظه بدلي بمعنى
أن تلك الاخراجات لا تراد منه دفعة بل على سبيل التعاقب و
البدلية وإن كانت تلك الاخراجات المرادة منه على البدلية مرادة
عنده في الواقع على سبيل الاجتماع لا البدلية كما يرشد إليه قوله في
نحو اضرب غلماني والق أصدقائي إلا واحدا أن المعنى اضرب
غلماني إلا واحدا والق أصدقائي إلا واحدا قال وإن فسر الجميع
بالمجموع لكفي إخراج واحد من المجموع ولا يخفى ما فيه من
التكلف المستبشع مع أنه لا يستقيم فيما إذا كان المستثنى جمعا معرفا
بل التحقيق أن القائل برجوعه إلى الجميع إنما يقول بأن المراد به
إخراج واحد متعلق بالجميع لا إخراجات متعددة كما سيأتي هذا و
ذهب آخرون إلى أنه ظاهر في العود إلى الأخيرة وذهب السيد إلى أنه
مشترك بينهما لفظا فيتوقف في تخصيص الباقي إلى قيام
قرينة وتوقف بعضهم فلم يدروا أنه حقيقة في أي الامرين وهذان
القولان موافقان للقول الثاني في الحكم وإن خالفاه في
المأخذ حيث إن القائل بالقول الثاني يقول به لظهور عدم التناول وهو
لا يقولون به لعدم ظهور التناول كذا [كما] ذكر العضدي وغيره
وتوهم منه بعض المعاصرين أن المراد أن الأقوال الثلاثة متوافقة في
لزوم تخصيص الأخيرة وعدم تخصيص غيرها لا في إبقاء غيرها
على صفة العموم فإن عدم التخصيص أعم من القول بالعموم بل
القائل باختصاصه بالأخيرة يحمل ما عداها على العموم على ما هو
ظاهر
اللفظ ويتوقف غيره في الحمل عليه لعدم علمه بالحال إما لتصادم
الأدلة أو للاجمال الناشئ من الاشتراك ثم جعل ذلك من الثمرة
المتفرعة على نزاعهم ومرجع كلامه إلى حمل الحكم في كلامهم على
الحكم بتخصيص الأخيرة وعدم البناء على تخصيص ما عداها لا
على الحكم المستفاد من الجمل والذي دعاه إلى ذلك ما توهمه من
أن عدم التخصيص لا يستلزم بقاء اللفظ على العموم معللا ذلك على
ما
يستفاد من كلامه بما استفاده من أقوالهم وأدلتهم من أن النزاع في
الهيئة التركيبية من الاستثناء المتعقب للجمل فقضية القول باشتراك
الهيئة أنها حقيقة في الرجوع أما إلى الجميع فيلزم عدم بقاء العموم في
كل واحد منها بحاله أو إلى الأخيرة فقط فيلزم بقاؤه فيما عداها
بحاله وقضية القول بالوقف التردد بين الامرين فيكون اللفظ على
القولين مرددا بين أن يكون المراد منه العمومات المخصوصة بناء
على إرادة المعنى الأول أو العمومات الغير المخصوصة يعني ما عدا
الأخيرة منها بناء على الثاني فيتعين التوقف قال والشك في أن
المراد من اللفظ هل هو العام المخصص أو غيره غير الشك في أن
العام مخصص أو لا ثم ذكر أن أصالة عدم التخصيص إنما يجري في
الثاني دون الأول وعلله بأن كون العام مخصصا أو غير مخصص جز
من مدلول اللفظ هنا وقد شك في تعيين المراد منه وهو ليس
أمرا خارجا عنه فلا يمكن نفيه بأصالة الحقيقة وأصالة عدم التخصيص
وجعل ذلك نظيرا للعام المخصص بالمجمل ورد بذلك على
المدقق الشيرازي حيث نفي الاشكال في موافقة القولين الأخيرين
للقول الثاني
في الحكم المستفاد من الجمل نظرا إلى أن اللفظ يدل على العموم
دلالة معتبرة ولم يتحقق عندهم ما يقتضي التخصيص إذ التقدير أن
أصحاب القولين بحثوا في المسألة فلا يصرف اللفظ عن ظاهره بمجرد
احتمال إرادة خلافه أقول وفيه نظر أما أولا فلان دعوى أن
نزاعهم في مفاد الهيئة التركيبية فاسدة في نفسها ورميهم بها معلوم
الخلاف أما الأول فلانه إن أراد أن الهيئة التركيبية أعني تعقب إلا
للجمل وانضمامها بها موضوعة للاخراج على الوجه المذكور دون
الأداة فهذا مع ظهور فساده مخالف لما أجمعوا عليه من أن أداة
الاستثناء موضوعة للاخراج وإن أراد أن كلا منهما موضوع لذلك فهو
أيضا فاسد لان المفهوم من الكلام المشتمل على الأداة إنما هو
إخراج واحد ولأن في وضع أحدهما غنية عن الاخر فيبقى وضعه بلا
فائدة مع أن ذلك لا يوجب أن يكون النزاع في الهيئة فقط وإن أراد
أن المجموع المركب من الأداة والهيئة موضوع للاخراج دون كل
منهما منفردا فهو أيضا فاسد لان الاخراج إنما يفهم من الأداة كما
يفهم سائر المعاني الحرفية من أدواتها دون الهيئة ولأنه مخالف لما
أطبقوا عليه من أن ذلك معنى الأداة وإن أراد أن الأداة موضوعة
للاخراج والهيئة موضوعة لإفادة ربطه بالمستثنى والمستثنى منه
واحدا كان أو متعددا على الوجه المذكور فهو أيضا فاسد لان
الحروف على ما تقرر في محله واعترف هو أيضا به موضوعة لمعان
آلية ملحوظ بها حال متعلقاتها فأدوات الاستثناء موضوعة على هذا
التحقيق للاخراج الملحوظ به حال المستثنى منه باعتبار والمستثنى
باعتبار فهو في
202

نفسه معنى ربطي فلا حاجة في ربطه بمعنى إلى ربط آخر بل لا يمكن
اعتباره فيه ما لم يخرج عن كونه معنى ربطيا فيخرج عن كونه
معنى حرفيا وإن أراد أن المجموع المركب من المستثنى والاستثناء و
الجمل حيث يعود إليها موضوع بوضع تركيبي بإزاء المخصص
منها أو الجملة الأخيرة حيث يعود إليها للمخصص منها اتجه ما ادعاه
من لزوم التوقف على القولين وناسبه جعله نظيرا للعام المخصص
بالمجمل لأنه حينئذ من قبيل اللفظ المشترك بين العموم والخصوص
إلا أن هذا لا يتم إلا على ظاهر مذهب القاضي وهو مردود عند
غيره كما عرفت ولا وجه لتنزيل النزاع المعروف في المقام على هذا
القول النادر وأما الثاني فلما عرفت من أنه على ما اعترف به إنما
استفاد ذلك من أقوالهم وأدلتهم وهي كما ترى لا إشعار فيها بذلك
أصلا نعم ذكر صاحب المعالم في نفي القول بالاشتراك ما لفظه و
لا تعدد في وضع المفردات غالبا ولا دليل على كون الهيئة التركيبية
موضوعة وضعا متعددا فيدل على أن النزاع ربما يتأتى باعتبار
الهيئة أيضا وظاهر أنه لا يثبت بمجرد ذلك ما ادعاه من أن نزاعهم هنا
باعتبار الهيئة وأما ثانيا فلان ما ألزم به القائل بالاشتراك و
التوقف من عدم حمل ما عدا الأخيرة على العموم نظرا إلى أن عدم
التخصيص لا يستلزم البقاء على العموم غير سديد لان المخصص إذا
قصر عن إفادة التخصيص تعين المصير إلى العموم سيما على القول
بمجازية التخصيص مطلقا إذ لا يجوز ترك الظاهر بمجرد احتمال
قيام الصارف والمعارض والشك في تعيين المعنى المراد
بالمخصص من حيث الاشتراك أو الجهل بالوضع لا يوجب الشك في
دلالة
العام فإن ظهور العام في العموم لا يسقط باحتمال المخصص ومن هنا
يتبين أن ما ادعاه من أن نزاعهم في الهيئة مما لا مدخل له في ذلك
وما استند إليه من أن ذلك أعني كون العام مخصصا أو غير مخصص
جز من مدلول اللفظ فيرجع الشك إلى تعيين المدلول فاسد لان
الأداة أو الهيئة إنما وضعت للاخراج وهو معنى بسيط والتعدد إنما هو
فيما تعلقت به وسيأتي التنبيه عليه مع أن ما ذكره
هنا ينافي ما ذكره سابقا من أنه على القول برجوعه إلى الجميع يكون
مستعملا في إخراجين أو أكثر على البدلية إذ لا يعقل تناول الكل
لاجزائه على البدلية ثم في المقام أقوال أخر منها ما حكي عن أبي
الحسن البصري ووافقه عليه العلامة في تهذيبه أنه للأخيرة إن تبين
استقلال الثانية عن الأولى بالاضراب عن الأولى وذلك بأن لا يتشارك
الجملتان في غرض وأن يختلفا نوعا أو اسما ولم يكن الاسم
الثاني ضميرا للاسم الأول أو حكما أو اسما وحكما فالأول نحو أكرم
بني تميم والنحاة هم العراقيون إلا زيدا فإن أحدهما إنشاء و
الاخر إخبار وهل يقتصر في ذلك على مجرد الاختلاف في نوعي
الاخبار والنشاء أو يسري إلى مطلق الاختلاف في النوع كما لو كان
إحداهما حملية والأخرى شرطية أو كان إحداهما من أحد أنواع
النشاء من الأمر والنهي والتمني والقسم ونحو ذلك والأخرى من
نوع آخر وجهان يدل على الأول ظاهر اقتصاره عليه وعلى الثاني
تحقق الاضراب المذكور في كثير من تلك الأقسام والثاني نحو
أكرم بني تميم وربيعة إلا زيدا وهذا التمثيل غير سديد لان الكلام في
الجمل المتعاطفة لا في المفردات فالصواب أن يقول وأكرم
ربيعة والثالث نحو أكرم بني تميم واستأجر بني تميم إلا زيدا والرابع
نحو أكرم بني تميم واستأجر ربيعة إلا زيدا ثم أصول الأقسام
التي ذكرها ثلاثة وترتقي بضميمة صور التركيب إلى سبعة فكان ينبغي
عليه إما تثليث الأقسام أو تسبيعها فتربيعها كما فعله مما لا
وجه له وإلا كان للجميع وذلك بأن لم يظهر منه الاضراب إما بأن
يكون الاسم الثاني ضميرا للأول سواء اتحدا نوعا أو حكما أو اختلفا
نحو أكرم بني تميم واستأجرهم أو وهم طوال إلا زيدا أو بأن يشتركا
في غرض نحو أكرم بني تميم واخلعهم أو هم مقربون إلا زيدا و
جعل منه قوله تعالى فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة
أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا حيث اشتركا في الغرض و
هو الإهانة والانتقام والثاني ضمير الأول وإن اختلفا حكما ونوعا و
الثاني ما اختاره الحاجبي وهو أنه
إن ظهر الانقطاع فللأخيرة وإن ظهر الاتصال فللجميع وإلا فالتوقف
قال العضدي وهذا راجع إلى القول بالتوقف لان الاتصال و
الانفصال قرينة على العود إلى الجميع وعدمه وهو بعيد إن حمل
الاتصال والانفصال على ارتباط الجمل بعضها ببعض كما هو الظاهر
لان المتوقف يتوقف على تقدير ظهور الاتصال بل الانفصال أيضا كما
هو ظاهر كلامه وهذا القائل لا يتوقف فيه وتنزيل الاتصال و
الانفصال في كلامه على القرينة المفيدة لتعلق الاستثناء بالبواقي و
عدمه يوجب أن يكون تفصيله في غير محل النزاع وهو خلاف
الظاهر مع أن حمل التوقف في كلامه على التوقف في المراد دون
الوضع محتمل فلا وجه لترجيح الأول والثالث ما ذهب إليه في
المعالم
من أنه صالح للعود إلى الجميع وإلى الأخيرة وإلى أيهما عاد كان
حقيقة فيه من حيث الخصوص لا لكونه مشتركا بينهما لفظا كما يذهب
إليه السيد بل لكونه موضوعا بالوضع العام لخصوصيات الاخراج وقد
توهم المعاصر المذكور في كلامه حيث زعم أنه يذهب إلى القول
بالاشتراك المعنوي ويقول بأن الاستثناء موضوع لمطلق الاخراج وأن
استعماله في كل فرد من الاخراج حقيقة غاية الامر الاحتياج إلى
القرينة في فهم المراد لكون أفراد الكلي غير متناهية والعجب أنه
نسب ذلك إليه وقد نقل عنه بعد ذلك تصريحه بأن أدوات الاستثناء
موضوعة بالوضع العام لخصوصيات الاخراج وكأنه يؤول
الخصوصيات بالخصوصيات النوعية والصنفية كالاخراج عن الأخيرة
و
الاخراج عن الجميع ولا يخفى ما فيه لخروجه عن ظاهر كلامه و
لمخالفته للشواهد الموجودة فيه كما سننبه عليه مع أن ذلك لا يوجب
كونه موضوعا لمطلق الاخراج كما هو ظاهر كلامه بل لمطلق إخراج
على أن ذلك لا يصحح إطلاق القول بكون
203

استعماله في كل فرد من الاخراج على الحقيقة اللهم إلا أن يراد بالفرد
أحد تلك الأنواع أو يعتبر استعماله فيه لا من حيث الخصوصية و
يمكن أن يتعسف بحمل الاشتراك المعنوي في كلامه على ما يكون
الوضع فيه عاما وإن كان الموضوع له خاصا ويكون قوله موضوع
لمطلق الاخراج بمعنى كونه موضوعا لخصوصيات مطلق الاخراج أو
لمطلق خصوصيات الاخراج على تقدير مضاف أي لجميع تلك
الخصوصيات فيكون في مقابلة القول بأنه لبعضها وربما يرشد إلى
ذلك ما ذكره في بيان الفرق بين مختار صاحب المعالم ومختاره
من أنه يقول بأن الواضع تصور معنى الاخراج عن متعدد بعنوان
العموم ووضع أدوات الاستثناء لكل واحد من خصوصيات أفراده
فيشمل
العام المتصور ما صدق على الاخراج عن المتعدد الواحد والمتعدد
عن البدل وعن المتعدد المؤول بالواحد وعن متعدد واحد من
المتعددات مثل الأخيرة فقط وكذلك الخصوصيات الموضوعة
بإزائها تحتمل خصوصيات جميع هذه المفاهيم هذا كلامه فتدبر
الرابع ما
ذهب إليه المعاصر المذكور وهو أن أدوات الاستثناء موضوعة
بالوضع العام لخصوصيات الاخراج عن متعدد واحد أي مدلول واحد
مشتمل على عدة أجزاء أو جزئيات وجعل إرجاعها إلى متعدد متعدد
مجازا لتنزيله منزلة متعدد واحد كهذه الافعال والجماعات
فتحصل مما ذكرنا أن أقوالهم في المسألة تنتهي إلى ثمانية وهل النزاع
في ذلك باعتبار الوضع أو الظهور وجهان والأظهر وقوع
النزاع بالاعتبارين كما يستفاد من أقوالهم وحججهم هذا والتحقيق
عندي أن أداة الاستثناء موضوعة بالوضع العام لخصوصيات أفراد
الاخراج مطلقا من غير فرق بين أن يكون المستثنى منه واحدا أو
متعددا ولا حاجة على الثاني إلى تأويل أو تنزيل نعم يعتبر صلوح
المستثنى لذلك لفظا وهذا راجع إلى ما اختاره في المعالم على ما
توجه كلامه به وأما من حيث الظهور الناشئ من ملاحظة عموم ما عدا
الأخيرة فالحق اختصاصه بالعود إلى الأخيرة لنا أن المتبادر من أداة
الاستثناء إنما هو إخراج ما بعدها عما
قبلها واحدا كان أو أكثر فإنا إذا راجعنا وجداننا وقطعنا النظر عن
القرائن وجدنا نسبة عود الاستثناء المتعقب للمتعدد إلى كل واحد
كنسبة عوده إلى الأخيرة بحيث يتبادر كل واحد منهما من غير فرق و
ذلك آية كونه موضوعا بالوضع العام لكل واحد من تلك
الخصوصيات ولهذا إذا سمعنا قول القائل أكرم العلماء وأعط الفقراء
وجالس الشعراء والظرفاء إلا الفساق منهم أو إلا الفاسق منهم إذا
لم يكن عهدا وإلا زيدا إذا اجتمعت فيه تلك الصفات ترددنا أولا في
عوده إلى الجميع وإلى البعض وإن رجحنا عوده إلى الأخيرة نظرا
إلى الشواهد الخارجية كقربها وأصالة بقاء ما عداها على العموم و
أيضا كلمة إلا وما بحكمها تقوم مقام جملة استثنى فإذا جاز عود
قولنا فيما مر استثنى منهم الفساق أو الفاسق أو زيدا إلى الجميع وإلى
الأخيرة من غير تجوز جاز ذلك فيما هو بمنزلته نعم يعتبر
صلوح المستثنى لذلك كأن لا يكون نكرة فإنها لا تصلح لان يراد بها
فردان كما لو قيل فيما مر إلا رجلا إذا كانت الافراد متخالفة و
كذلك الافعال الناقصة كليس ولا يكون بناء على أن معانيها معان
حرفية وإلا فهي في حكم الحروف من حيث تضمنها للنسبة ولو
باعتبار النسبة التركيبية وكذلك أسماء الاستثناء فإنها متضمنة للنسبة
الإضافية ولهذا كانت لازمة الإضافة وسيأتي توضيح ذلك و
اعلم أن الاستثناء المتعلق بالجمل وما في حكمها قد يتعلق بها من
حيث المجموع كما إذا كان المستثنى جمعا معرفا أو ما في معناه و
اختلفت أفراده المندرجة فيها كما لو قال أكرم العلماء وأكرم التجار إلا
الفساق وكان فساق أحدهما غير فساق الاخر كلا أو بعضا و
كذا لو قال إلا عشرة منهم وفسرها بخمسة من الأول وخمسة من
الثاني وقد يتعلق بالجميع باعتبار كل واحد على سبيل الشمول كما
لو قال في المثال المذكور إلا الفاسق أو اتحد فساق أحدهما وفساق
الاخر وقد يتعلق بالجميع على سبيل البدلية كما لو قال في المثال
إلا زيدا من العلماء أو عمرا
من التجار ولك أن تجعل المستثنى أحد الشخصين من المجموع
فيرجع إلى أحد القسمين الأولين أو تقدر الأداة بعد أو فيكون من
الاستثناء من الواحد وفيهما تعسف والأوضح تثليث الأقسام وجعل
الاعتبارات الثلاثة خارجة عن مدلول الاستثناء مستفادة من أمر
خارج كوحدة المستثنى وتعدده ثم إن صاحب المعالم أورد في
تقريب مرامه مقدمة ثم فرع مذهبه عليها ونحن نذكر كلامه ملخصا مع
تنبه على مواضع الاخلال وتوضيح لمواقع الاجمال فنقول محصل
كلامه في المقدمة أن الوضع أعني المعنى الملحوظ في الوضع بنفسه
و
الموضوع له أعني المعنى الذي عين اللفظ بإزائه قد يكونان عامين و
عد منه المشتقات ويشكل هذا على ما هو المعروف بينهم من أن
المشتق مشتمل على مادة موضوعة للحدث وهيئة موضوعة للدلالة
على الذات المتصفة بمدلول المبدأ الذي طرأت عليه فإن وضع الهيئة
حينئذ عام والموضوع له خاص لما لوحظ في وضعها مفهوم الذات
المتصفة بمدلول المبدأ ووضعت بإزاء خصوصياتها ولا ينافي ذلك
كونه كليا لان المراد بالخاص هنا الجزئي الإضافي بقرينة كونه مأخوذا
بالقياس إلى الوضع العام فيتناول الجزئي الحقيقي كما في
أسماء الإشارة والكلي الأخص كما في الموصولات فإنها موضوعة
بالوضع العام لخصوص ما تعين منه بالصلة من الشئ أو المذكر
العاقل أو غير ذلك فلوحظ مطلق الشئ أو المذكر العاقل مثلا ووضع
الموصول بإزاء خصوصيات ما تقيد منه بالصلة وكذلك المشتق
نعم يتجه دعوى عموم الوضع والموضوع له على ما نراه من أنها
وضعت بوضع واحد بإزاء معانيها وأنه لا تعدد في وضع المادة و
الهيئة
أما على القول بأنها موضوعة بإزاء
204

بسيط منتزع من الذات بواسطة قيام المبدأ بها كما يراه بعض المحققين
فإنه لا يتصور حينئذ تعدد الوضع وأما على القول بأنها
موضوعة بإزاء معنى ملتئم عن عدة أمور يجمعها قولنا ذات أو شئ له
المبدأ كما هو المعروف بين القوم وعلماء العربية فلما نبهنا عليه
سابقا في أول الكتاب وكذا لو قيل بتعدد الوضع والتزم بأن الهيئة
الموضوعة ليست مطلق الهيئة بل الهيئات الخاصة الملحوظة إجمالا
بواسطة ملاحظة الهيئة الكلية لانحلال الوضع حينئذ إلى أوضاع
متعددة على حسب تعدد الموضوعات فيكون الوضع حينئذ بالقياس
إلى
كل موضوع عاما لما لوحظ في وضعه من الامر العام ولو بطريق
الاجمال ويكون الموضوع له أيضا عاما لوضعه بإزائه ويضعفه مضافا
إلى ما مر عدم قيام شاهد على اعتبار الواضع لخصوصية الهيئات إلا
أن يقال إنه لازم لوضعها للذات المقيدة بمدلول ما طرأت عليه وهو
ممنوع وإلا لكان وضع الحروف بأسرها كذلك ولا يتوهم أن
الموضوع له على هذه التقادير خاص لما لاحظ الواضع في الوضع أمرا
كليا ووضع المشتقات الخاصة أو الهيئات الخاصة بإزاء خصوصياته إذ
يعتبر في ذلك وحدة الموضوع والفرض هنا تعدده فإن قلت على
تقدير أن يكون مدلول المشتق ذات أو شئ له المبدأ أو من قام به
المبدأ يتضمن المشتق نسبة تقييدية مفادها ربط الذات بالمبدأ
ضرورة أن معناه ليس مجرد ذات ومبدأ وحينئذ فيلزم أن يكون
الوضع عاما والموضوع له خاصا على حد غيره من الألفاظ المتضمنة
لمعاني الحروف كالأفعال وأسماء الإشارة فلا يصح الحكم بعموم
الموضوع له قلت أخذ المعنى الحرفي في مدلول اللفظ إنما يقتضي
صيرورة الموضوع له خاصا إذا أوجب تعددا في معنى اللفظ كما في
أسماء الإشارة ونظائرها وأما إذا لم يوجب ذلك بل بقي المعنى
على وحدته فلا وينبغي أن ينزل ما قررناه في ذلك سابقا على ما
حققناه هنا واعلم أن الموضوع في المشتق إن كان الهيئة الكلية
فالوضع شخصي وكذا لو قلنا بأن الموضوع كل صيغة خاصة أو هيئة
خاصة والتزمنا بأن الواضع لاحظهما
في وضعه تفصيلا لكنه بعيد ولو قلنا بأنه لاحظهما وتوصل
بملاحظتهما إلى وضع جزئياتهما فالوضع نوعي وهذا ظاهر ثم قال و
قد
يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا وعد منها المبهمات كأسماء
الإشارة والموصولات وقد اتضح وجهه مما مر قال ومن هذا القبيل
وضع الحروف فإنها موضوعة باعتبار معنى عام وهو نوع من النسبة
لكل واحدة من خصوصياته وهذا البيان صالح للحمل على ما
حققناه سابقا في الحروف من أنها موضوعة لمعانيها الملحوظ بها حال
متعلقاتها الخاصة فإن ذلك يستلزم أن يكون الوضع بإزاء
خصوصيات مصاديق معانيها قال وفي معناها الافعال الناقصة وهذا
إنما يتم بالنسبة إلى كان وما كان في معناها بناء على ما يراه
المنطقيون من أنها موضوعة للربط الزماني وأما على ما يظهر من
النحاة من أنها تستقل بالدلالة على معناها الحدثي بدليل عدهم إياها
من باب الفعل وتعريفهم له بما دل على معنى في نفسه مع أن الفعل
على ما هو التحقيق لا يستقل بالدلالة على غير الحدث فحكمها حكم
بقية الافعال نعم عدها بعضهم من الافعال المنسلخة عن الحدث
فيرجع محصله إلى الوجه الأول ويمكن تنزيل كلام الآخرين عليه ثم
على
الوجه الأول ينتقض عموم ما ذكره في المشتقات من أنها موضوعة
بالوضع العام لمعان عامة إذ لا بد حينئذ من تخصيصها بغير المأخوذ
من المصادر الناقصة قال وأما الافعال التامة فوضعها باعتبار النسبة عام
والموضوع له خاص ولم يصرح بالثاني تعويلا على ظهوره
من مساق كلامه ومن حيث الحدث خاص وأحال الامر فيه إلى
الوضوح وهذا سهو من قلمه والصواب أن يقول كل من الوضع و
الموضوع له فيها بهذا الاعتبار عام وهذا ظاهر ويمكن التعسف
بتنزيله على أن وضع الافعال باعتبار النسبة الخاصة أي النسبة
الاسنادية أي باعتبار ما يدل عليها وهي هيئاتها الكلية عام وذلك
بملاحظة الواضع في وضعها مفهوم النسبة الاسنادية ومن حيث
الحدث يعنى ما وضع بإزائه الهيئة من حيث اعتباره لخصوصية
الحدث فيه
خاص لوضعه إياها بإزاء النسب الخاصة بكل حدث طرأت على ما
يدل عليه وهي المادة وإن كان له خصوصية أخرى أيضا باعتبار
خصوصية ما يسند إليه الحدث ولا يخفى بعده عن [سياق] مساق
عبارته ثم قال إذا تمهد هذا قلنا أدوات الاستثناء كلها موضوعة
بالوضع
العام لخصوصيات الاخراج هذا تصريح بما ظهر من كلامه أولا و
سيأتي ما يؤكده فما يرى في بعض عبائره مما يدل بظاهره على خلاف
ذلك فلا بد من تنزيله على ذلك كما هو قاعدة الجمع وسنشير إليه
قال أما الحروف فظاهر وأما الفعل فلان الاخراج به إنما هو
باعتبار النسبة وقد علمت أن الوضع بالإضافة إليها عام يريد به العموم
الخاص أعني ما يكون الموضوع له فيه خاصا لينطبق دليله على
دعواه وفيه نظر لأنا لا نسلم أن الاخراج باعتبار النسبة فقط بل باعتبار
المادة والنسبة معا ضرورة أن النسبة بمجردها لا يقتضي
الاخراج فالوجه أن يقال أفعال الاستثناء موضوعة بالوضع العام
لخصوصيات الاخراج أما على تقدير اتحاد الوضع فيها بحسب المادة
و
الهيئة كما هو الظاهر لا سيما في الافعال الغير المتصرفة فواضح وأما
على تقدير التعدد فلان ذلك لازم مقتضى الوضعين إذ انضمام
وضع الهيئة إلى المادة يوجب اختصاص المادة بكل إخراج خاص و
إن كانت المادة في نفسها موضوعة لمطلق الاخراج كما في ليس أو
لمطلق ما هو معتبر في تحقق الاخراج كما في لا يكون هذا إذا التزمنا
بأن هيئات هذه الأفعال موضوعة للنسبة إلى منصوباتها أعني
المستثنى أيضا وإلا فالكلام المذكور يجري بالنسبة إلى هيئاتها الناشئة
من التركيب قال وأما الاسم يريد به مثل غير فلانه من قبيل
المشتق قيل يعني به المغاير والوضع فيه عام كما عرفت وهذا
205

بظاهره غير صحيح لان كونه مثل المشتق يقتضي أن يكون الموضوع
له فيه أيضا عاما فلا يتم التقريب والأظهر أن يقال يريد بالمشتق
الهيئة الاشتقاقية كما هو معنى المشتق من حيث كونه مشتقا فيبتني
على ما هو المعروف من أنها موضوعة بالوضع العام لمعان خاصة أو
يريد به الفعل مطلقا على ما يختاره أو باعتبار الهيئة على ما هو
المعروف وكيف كان فالوجه في عموم الوضع فيها وخصوص
الموضوع له أنها متضمنة للنسبة التي بها يتحقق الاخراج ولو في
الجملة أعني النسبة الإضافية ولهذا كانت لازمة الإضافة على ما مر
الإشارة إليه في صدر الكتاب فيكون وضعها وضع الافعال أو الأسماء
المتضمنة لمعاني الحروف قال ثم فرض إمكان عود الاستثناء إلى
كل واحد يقتضي صلاحية المستثنى لذلك وذلك بأن يكون مدلوله
أمرا مندرجا في مدلول كل واحد من الأمور المستثنى منها فإن
الاخراج فرع الدخول وهي تحصل بأمور منها كون المستثنى موضوعا
وضع الأداة أعني الوضع العام والظاهر أنه يريد بذلك ما
يتناول عموم الموضوع له وخصوصه بقرينة تمثيله بالمشتق والاسم
المبهم فإنه قد صرح فيما سبق بأن المشتقات موضوعة بالوضع
العام لمعان عامة وأن المبهمات موضوعة بالوضع العام لمعان خاصة
وصلوح المستثنى حينئذ للرجوع إلى كل واحد ظاهر لا سترة به
نعم ينبغي تقييد الثاني بما لا يكون موضوعا لجزئي كاسم الإشارة لئلا
يخرج عن محل الفرض وحينئذ فأي المعنيين أريد من الاستثناء
كان حقيقة فيه واحتيج في فهم المراد منه إلى القرينة فإن إفادة المعنى
المراد من الموضوع بالوضع العام إنما هي بالقرينة يريد به
العموم الخاص أعني ما يكون الموضوع له فيه خاصا كما صرح به أولا
في أدوات الاستثناء ولأن الموضوع له إذا كان عاما فلا حاجة في
إفادة معناه إلى القرينة إلا لعارض الاشتراك وشبهه وهو خارج عن
مفروضه نعم لو أطلق حينئذ على فرد بعينه احتاج في إفادته إلى
ضميمة يدل عليه لكنه ليس حينئذ من جهة إفادة معنى الموضوع له
بالوضع العام بل معنى آخر زائد عليه ثم
فرق بين الموضوع بهذا الوضع وبين المشترك من وجهين الأول اتحاد
الوضع فيه بخلاف المشترك فإن الوضع فيه متعدد الثاني أن
القرينة في المشترك إنما يحتاج إليها لتعيين المراد لا للدلالة لحصولها
عند العالم بالأوضاع عند عدم القرينة أيضا وقد سبق ما يتعلق
بذلك في أوائل الكتاب بخلاف الموضوع بالوضع العام لمعان خاصة
فإنه لا يدل على شئ من معانيه عند عدم القرينة لأنها أمور غير
متناهية لا يمكن حصول جميعها في الذهن ولا البعض دون البعض
لاستواء نسبة الوضع إليها وفيه نظر لجواز حصول أمور غير متناهية
في الذهن إجمالا فيصح أن يكون القرينة فيها أيضا لتعيين المراد ولو
اعتبر في الدلالة حصول المعنى في الذهن تفصيلا لانتقض
بالمشترك حيث يتكثر معانيه كالعين المشتركة بين سبعين معنى على
ما قيل فإن جميع المعاني لا يحضر في الذهن غالبا تفصيلا على
أنه يجوز حصول البعض في الذهن لمرجح غير الوضع والقرينة
كحضوره في الذهن وانسباقه إليه لابتذاله ومقارنته لتذكر السامع له
ونحو ذلك فيدل عليه اللفظ بالوضع فإن من الواضح أن من سمع لفظ
هذا من وراء الجدار جاز أن ينتقل إلى جملة من معانيه مجوزا أن
يكون المتلفظ مريدا به أحدها أو غيرها مما لم يتصوره تفصيلا ومنها
كون المستثنى من الألفاظ المشتركة والأولى أن يراد بها ما يعم
المنقول والمرتجل بحيث يكون صلاحيته للعود إلى الأخيرة باعتبار
معنى وإلى الجميع يعني إلى غير الأخيرة باعتبار آخر وإنما سمي
رجوعه إلى غيرها رجوعا إلى الجميع لان رجوعه إليه بعد الرجوع
إليها بتحقق رجوعه إلى الجميع أو يريد باعتبار آخر اعتبار كونه
مستعملا في كل من المعنيين أو المعاني فإنه مغاير لاعتباره مستعملا
في أحدها و ذلك نحو أكرم العلماء واخلع التجار إلا زيدا مع تحقق
مسمى بزيد في كل من الفريقين فيكون حكمه يعني استعماله المذكور
أو صلوحه لما ذكر حكم المشترك في الامتناع والجواز مجازا أو
حقيقة مع الظهور وبدونه مطلقا أو على التفصيل المقرر في محله و
قريب منه استعمال اسم الإشارة في فردين من المشار إليه على
الوجه المذكور ومثله الكلام فيما إذا كان المستثنى صالحا
للرجوع إلى الأخيرة باعتبار معناه الحقيقي وإلى الباقي باعتبار معناه
المجازي أو بالعكس أو كان صالحا للرجوع إليهما باعتبار
معان مجازية أو معان معتبرة في الاستعمال لا حقيقية ولا مجازية أو
ملفقة من النوعين كما لو قيل أكرم العلماء واقرأ هذه الكلمات إلا
زيدا إذا فرض وجود رجل في العلماء مسمى بزيد وكلمة زيد في تلك
الكلمات ولا فرق في هذه الصورتين أن يتحد كل من المعنيين أو
يتعدد أو يتحد البعض ويتعدد الاخر أو كان باعتبار تمام معناه متحدا
كان أو متعددا حقيقيا كان أو غيره صالحا للرجوع إلى الأخيرة
وإلى الجميع نحو أكرم العلماء وأعط الفقراء إلا زيدا إذا قدر دخول
زيد في العلماء وفي الفقراء وحيث يستدعي الاستعمال المذكور
قرينة فلا بد من اعتبار كونها مفيدة لمجرد إرادة الزائد على معنى واحد
ولو بدلالة القرينة على إرادته بالنسبة إلى الأخيرة لا لرجوعه
إلى الجميع لئلا يخرج عن محل البحث إلا أن يقال المقصود بيان
وجوه الصلاحية مطلقا فلا حاجة إلى اعتبار المذكور وزعم المعاصر
المذكور في توجيه الامر الثاني أنه يريد أن صلاحية المستثنى للعود
إلى كل واحد قد يكون لاشتراكه بين معنيين صالح من جهة أحدهما
للرجوع إلى الأخيرة ومن جهة الاخر للرجوع إلى الجميع كما لو قيل
أكرم بني تميم واخلع بني أسد إلا فارسا إذا فرض كون شخص
من بني أسد يسمى فارسا وفرض وجود الفارس بمعنى الراكب في
الفريقين فيصح رجوعه إلى الجميع بالاعتبار الثاني ويختص
بالأخيرة بالاعتبار الأول ثم اعترض عليه بأن فرض المستثنى مشتركا
على الوجه المذكور يوجب الخروج عن محل النزاع إذ الكلام
فيما يكون المخصص صالحا للرجوع إلى الجميع والبعض ولا يمكن
الحكم بالصلاحية في الصورة المذكورة أولا لاحتمال إرادة المعنى
العلمي منه وهو
206

لا يصلح للرجوع إلى غيرها وبعد تعيين إرادة المعنى الأصلي يصلح
لذلك لكن لا حاجة إلى اعتبار الاشتراك في الصلاحية وأنت خبير
بأن هذا الاعتراض مما لا ورود له عليه على ما وجهنا به كلامه ووجهه
ظاهر مع أن ما ذكره من منع الصلاحية أولا على توجيهه ممنوع إذ
يكفي فيها صلوحه لإرادة المعنى الغير العلمي منه فإن المراد
بالصلاحية هنا الصلاحية من حيث اللفظ لا من حيث المعنى المراد و
إلا
لانتفت عند عدم إرادة الاخراج من غير الأخيرة أيضا فيتوقف ثبوتها
على دليل يدل على تعلق الاخراج بالجميع فيخرج عن محل الفرض
فتأمل ثم قال ولئن مثل بنحو أكرم بني تميم وأضف بني خالد واخلع
بني أسد إلا الزيدين مع فرض وجود شخص مسمى بزيد في كل
واحد من الطوائف ووجود شخص مسمى بزيدين في بني أسد كان
أقرب من المثال المذكور لكنه أيضا خارج عن المبحث للزوم إرادة
كل واحد من العمومات على الاجتماع لا على البدل ولأن الظاهر من
اعتبارهم صلوح المستثنى للجميع وللأخيرة صلوحه لهما باعتبار
المعنى المستعمل فيه لا باعتبار مجرد لفظه انتهى ملخصا ووجه
أقربية هذا المثال أنه لا يلزم فيه عدم الحاجة إلى اعتبار الاشتراك في
الصلاحية كيف وصلوحه للأخيرة خاصة باعتبار معنى وللجميع
باعتبار معنى آخر بخلاف المثال المتقدم فإنه باعتبار معناه الجنسي
صالح للرجوع إلى الأخير خاصة وإلى الجميع ثم قال صاحب المعالم
وقد اتضح بهذا يعني بما بينه في تحقيق وضع أداة الاستثناء بطلان
القول بالاشتراك مطلقا أي سواء جعل الاشتراك باعتبار الأداة أو الهيئة
كما يظهر من ذيل كلامه وتوهم بعض الناظرين في كلامه أن
الاطلاق قيد لمدخول البطلان فيكون رفعا للايجاب الكلي بقرينة قوله
غالبا في التعليل الآتي لا سلبا كليا ولا يخفى ضعفه لمنافاته لما
ذكره سابقا من أن أدوات الاستثناء كلها موضوعة بالوضع العام
لخصوصيات الاخراج وليس في قوله غالبا دلالة عليه والظاهر أنه نزل
العبارة على الوجه الآتي وسيأتي ما فيه قال فإنه لا تعدد في وضع
المفردات غالبا يعني أن الغالب في جواهر الألفاظ أن لا يكون
مشتركة فيكون
وقوع الاشتراك فيها مرجوحا لا يصار إليه إلا لدليل ولا دليل على كون
الهيئة التركيبية موضوعة وضعا متعددا لكل من الامرين أن
الأداة ليست موضوعة للاخراج والهيئة لإفادة تعلقه بكل من الامرين
على سبيل الاشتراك لعدم دليل عليه وقد مر منا بيان الدليل على
امتناعه في البعض واعترض عليه المعاصر المذكور بأن القائل
بالاشتراك إنما يقول بعدم تعيين الرجوع إلى الجميع وإلى الأخيرة
لعدم علمه بالمعنى المراد بالاستثناء لا لعدم علمه بالمعنى المراد من
المستثنى وبينهما بون بعيد وهذا كما ترى مبني على إرجاع
الإشارة في قوله فقد اتضح بهذا إلى ما ذكره أخيرا في وجه صلوح
المستثنى وضعفه ظاهر بل التحقيق أنه راجع إلى ما ذكره أولا في
تحقيق وضع أدوات الاستثناء وإنما تعرض لصلوح المستثنى في البين
استطرادا وتبعا ثم اعترض على أصل مذهبه بأنا نمنع كون العام
المتصور حين الوضع شاملا للصورة المذكورة ودعوى تحقق الوضع
لافراد مطلق الاخراج أول الكلام ثم أورد على نفسه سؤالا وهو أن
الوضع إنما هو لافراد الاخراج عن المتعدد وهو مطلق ولا تقييد فيه و
ما ذكرته من اعتبار الوحدة خلاف الأصل ولا دليل عليه والوضع
للماهية يستلزم جواز استعماله في كل الافراد حقيقة وأجاب بما
حاصله أن الواضع إنما وضع حال الوحدة لا بشرط الوحدة حتى يتجه
نفيه بالأصل حيث لا دليل عليه قال فالاطلاق أيضا قيد يحتاج إلى
الدليل فما ذكرناه معنى دقيق لا مطلق ولا مقيد بشرط الوحدة ولا
بشرط عدمها فالتكلان على التوظيف والتوقيف مع أنا ندعي التبادر و
هو دليل الحقيقة فيما ذكرناه انتهى وجوابه أنا قد بينا عموم
الوضع بموجب التبادر فلا يصغى إلى المنع المذكور وأما السؤال
الذي أورده على نفسه ففاسد من وجهين أما أولا فلان التمسك بأصالة
عدم اعتبار القيد في الوضع على إثبات عمومه ليس بشئ لأنه مدفوع
بأصالة عدم تحقق الوضع في غير المقيد لظهور أن كلا منهما
حادث مسبوق بالعدم فيتساقطان نعم يمكن أن يتمسك عليه بظاهر
الاستعمال
ويخرج ذلك الأصل تأييدا له كما سبق تحقيق القول فيه وأما ثانيا
فلان قوله والوضع للماهية يستلزم جواز استعماله في كل الافراد
حقيقة بظاهره خارج عن محل البحث لما تقرر في كلام المستدل و
المعترض مع أن الموضوع له نفس الافراد والخصوصيات دون
الماهية وأما ما أجاب به عن السؤال المذكور ففيه دلالة على أنه يزعم
أن عود الاستثناء إلى الجميع يوجب استعمال الاستثناء في أكثر
من معنى واحد وقريب من ذلك احتجاجه على ما ذهب إليه حيث
تمسك بأن كلا من الاستثناء والمستثنى موضوع بوضع وحداني على
سائر الحقائق والمجازات فلا يجوز إرادة فردين من الاخراج ولو على
البدلية ولا بالنكرة المفردة فردين من الماهية ولو على البدلية
فلو فرض إرادة الارجاع إلى أكثر من جملة فلا بد من إرادة معنى متحد
منتزع من الجمل السابقة كهذه الافعال والجماعات ليرجع إليه
وهو مجاز لا يصار إليه إلا بدليل وقد سبق منه في تحرير محل النزاع
ما يؤكد ذلك ولا يخفى ما فيه لان من يقول بعوده إلى الجميع لا
يقول بأنه مستعمل في معنيين أعني إخراجين مثلا ولو على البدلية بل
في معنى واحد وهو إخراج متعلق بالجميع كما سبق أ لا ترى أنك
إذا ذكرت جملا ثم قلت أستثني منها أو من بعضها كذا لم يكن لفظ
أستثني مستعملا على التقديرين إلا في معنى واحد وهو الاخراج وإن
اختلف متعلقه كلا أو بعضا فكذلك أداة الاستثناء عند أهل هذا
المذهب مستعمل على التقديرين في معنى واحد وإن تعدد متعلقه
على أحد
التقديرين فإن ذلك لا ينافي اتحاد المعنى ثم ما ذكره من أن الاطلاق
قيد يحتاج إلى دليل إنما يتم حيث يشك في أن الأداة هل هي
موضوعة للاخراج مطلقا أو مقيدا بالوحدة فإن الثابت حينئذ أمر مردد
بين الامرين لا يصار إلى
207

إلا بدليل وأما إذا علم بأنها موضوعة للاخراج من غير اعتبار ضميمة
كما هو قضية كلامه حيث جعل ذلك نظير ما ذكره في المشترك
فثبوت الاطلاق لا حاجة له إلى دليل وهو واضح قوله فما ذكرناه معنى
دقيق لا مطلق ولا مقيد إلخ فيه أنه لا معنى لذلك ولا دقة فيه فإن
الواسطة بينهما بحسب الواقع غير معقولة لامتناع أن يرتفع عين
المحمول ونقيضه عن الموضوع الموجود نعم يجوز أن يعتبر الماهية
و
لا يعتبر فيها غيرها حتى إطلاقها فيتجرد في ذلك اللحاظ عن
الاعتبارين لكنها في واقع ذلك اللحاظ مطلقة ويتم على تقديره مقالة
الخصم من لحوق الوضع للمطلق احتج القائلون برجوعه إلى الجميع
بوجوه منها أن العطف يصير المتعدد بمنزلة المفرد حيث يقوم
الجميع بحرف الجمع منزلة الجميع بلفظ الجمع فيقوم الجمل
المتعاطفة مقام الجملة الواحدة ولا ريب أن الاستثناء إذا كان من
الجملة
الواحدة عاد إلى الجميع فكذلك ما هو بمنزلته فلا فرق بين قولنا
اضرب الذين قتلوا والذين سرقوا والذين زنوا إلا من تاب وبين قولنا
اضرب الذين هم قتلة وسراق وزناة إلا من تاب فكما أن المفردات
الواقعة موقع الخبر صارت بالعطف بمنزلة اسم واحد حتى عاد
الاستثناء فيها إلى الكل اتفاقا كذلك الجمل المتعاطفة صارت بالعطف
منزلة الجملة الواحدة فيعود الاستثناء فيها إلى الكل أيضا و
الجواب أما أولا فبأن ذلك قياس في اللغة وقد حققنا بطلانه سابقا و
أما ثانيا فببيان الفارق وهو أن لا ترتيب بين المتعدد في صورة
الأداء بلفظ الجمع فيمتنع الترجيح بالنظر إلى اللفظ بخلاف صورة
العطف ومنها أن الاستثناء بالمشيئة إذا تعقب جملا كما لو قال والله
لا أكلت ولا شربت ولا ضربت إن شاء الله تعالى عاد إلى الجميع
بالاتفاق فكذلك غيره وأجاب عنه العضدي بأن هذا شرط لا استثناء
و
هو خارج عن محل النزاع ولو أريد إلحاقه به بجامع كونه تخصيصا
متصلا مثله كان قياسا في اللغة وقد أبطلناه سلمنا لكن الشرط
متقدم [مقدم] ولو تقديرا بخلاف الاستثناء سلمنا لكنه يعود إلى
الجميع بقرينة اليمين عليها حيث يقتضي إيصال الجمل فلا يقتضي
العود
إليه عند فقد القرينة كما هو المدعى ثم قال وقد يقال علي الثاني بأن
الشرط إنما تقدم
تقديرا على ما يرجع إليه فلو كان للأخيرة قدم عليها فقط فلا يصلح
فارقا هذا كلامه مخلصا ولا يذهب عليك أن الوجوه المذكورة كلها
مناقشة في مثال المستدل على تقدير أن يكون المثال منه فله أن يدفع
ذلك عن الدليل بالتمثيل بلا أكلت ولا شربت إلا أن يشأ الله كما
هو إحدى العبارتين في تأدية الاستثناء بالمشيئة على ما يظهر من
الكتاب العزيز فقد جاء فيه إلا أن يشأ ربنا خالدين فيها ما دامت
السماوات والأرض إلا ما شاء الله إلا ما شاء ربك على بعض التفاسير
وجاء فيه أيضا ستجدني إن شاء الله من الصالحين وإنا إن شاء
الله لمهتدون إلى غير ذلك وصاحب المعالم بعد أن اقتفي أثره في
المنع من كونه استثناء لعدم وجود أداته منع من كونه شرطا أيضا و
احتج عليه بدخوله على الماضي كما تقول حججت وزرت إن شاء
الله قال وإنما دخلت المشية في كل هذه المواضع لتقف الكلام عن
النفوذ والمضي لا لغير ذلك ثم جعل الاجماع فارقا بين تعقب المشية
حيث يعاد إلى الجميع وبين تعقب غيرها حيث يحتمل فيه ذلك و
يحتمل عوده إلى الأخيرة فقط ولا يخفى أن ما ذكره من نكتة الوقوف
إنما تترتب على تقدير قصد الاستثناء والتعليق الظاهر من الآية
الامرة به أيضا ذلك فالمنع منه في غير محله وحينئذ فدخوله على
الماضي ونحوه يستدعي تأويلا كالتبرك أو تقديرا كالقبول في مثال
الحج والزيارة ونحوه في نحوه ثم ما ذكره من أن الاجماع هو الفارق
بظاهره غير سديد لأنه إذا ثبت المقصود في ذلك ثبت في غيره
بضميمة أصالة عدم النقل بل التحقيق أن يجاب بأن ذلك إرجاع إلى
الجميع بالقرينة لظهور أن المقصود من ذكر المشية إما الامتثال أو
خوف الفوات والحرمان بتركه كما يدل عليه ظاهر حكايته تعالى
لبلوى أصحاب الجنة وهو مطرد في الجميع حتى إنه لو انتفي في
البعض منعنا لحوقه به والاجماع المدعى على خلافه ممنوع ومنها
أنه لو كرر الاستثناء مع كل جملة كما لو قيل في آية القذف لا تقبلوا
لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا عد
مستهجنا ركيكا وليس ذلك إلا لعود الأخير إلى الجميع فيكون
الباقي تكرارا محضا
والجواب أن عد مثل ذلك مستهجنا إنما هو لكونه تطويلا مع إمكان
الاقتصار على الأخيرة بنصب القرينة على عوده إلى الجميع ومنها
أنه صالح للعود إلى كل واحد وحيث لا قرينة يجب عوده إلى الجميع
إذ الحكم بأولوية البعض تحكم والجواب المنع من عدم أولوية
البعض فإن قرب الأخيرة يصلح مرجحا لصرفه إليه ومنها أنه لو قال له
علي خمسة وخمسة إلا ستة كان للجميع اتفاقا فكذا في غيره من
الصور دفعا للاشتراك والمجاز والجواب أنه خارج عن محل النزاع إذ
الكلام إنما هو في الجمل دون المفردات وفي الرجوع إلى كل
واحد لا إلى المجموع وفيه نظر يعرف مما مر بل الوجه في الجواب
أن قرينة الرجوع إلى الجميع هنا قائمة وهي عدم استقامة المعنى
على تقدير الرجوع إلى الأخيرة فقط فلا يقتضي الثبوت عند عدمها
على أنه إن أريد تخصيص إرجاعه بالجميع وضعا كما هو قضية
بيانهم فلزوم الاشتراك أو المجاز على تقديره ظاهر جلي لأنها تستعمل
في الرجوع إلى خصوص الأخيرة أيضا اتفاقا ومنها أن لواحق
الكلام كالشرط والاستثناء يجب إلحاقه به ما دام المتكلم متشاغلا
بالكلام فيجب عود الاستثناء المتعقب للجمل المتصلة إلى الجميع
لبقاء
التشاغل بها والجواب أن بقاء التشاغل إنما يقتضي صحة اللحوق لا
تحقق اللحوق ولا كلام فيه حجة من خصه بالأخيرة وجوه منها أن
الاستثناء خلاف الأصل لدلالته على مخالفة الحكم الأول تركنا العمل
به في الأخيرة دفعا لمحذور الهذرية فيبقى الأصل في باقي الجمل
سالما عن المعارض وأما تعيين الأخيرة فلقربها ولأنه لا قائل بعوده
إلى غيرها على تقدير عدم عوده إلى الجميع فلئن قيل إن أريد
بمخالفة الاستثناء للأصل أنه يوجب التجوز في لفظ العام وهو خلاف
الأصل فله وجه لكن لا يستقيم التعليل بمخالفته للحكم الأول إذ لا
مخالفة فيه سواء قلنا بأن الاسناد بعد الاخراج
208

أو قلنا بأن المجموع عبارة عن الباقي أو قلنا بأن المراد بالمستثنى منه
ما بقي بعد الاستثناء مجازا إذ لا يتعدد الحكم على هذه التقادير
حتى يتحقق المخالفة ثم التمسك في ترك العمل بالأصل في الجملة
الواحدة بدفع محذور الهذرية هذر فإن الخروج عن أصالة الحقيقة إلى
المجاز عند قيام القرينة مما لا ريب في جوازه ولا يصلح دفع الهذرية
بمجرده سببا للخروج عن الأصل وإلا لصح الاستثناء وإن انفصل
عنه في النطق عرفا وإن أريد أن الظاهر من المتكلم باللفظ العام إرادة
العموم منه والاستثناء مخالف لهذا الأصل فممنوع للاتفاق على
أن المتكلم ما دام متشاغلا بالكلام له أن يلحق به ما شاء من اللواحق و
هذا يقتضي وجوب التوقف عن الحكم بإرادة المتكلم ظاهر اللفظ
حتى يتحقق الفراغ وينتفي احتمال إرادة غيره ولولا ذلك لكان
التصريح بالخلاف ولو قيل بالأخيرة حال التشاغل منافيا له ووجب
رده ولا يجدي دفع محذور الهذرية قلنا يمكن توجيه التعليل
بمخالفته للحكم الأول على بعض الوجوه التي ذكرناها في دفع
التناقض
المورد في الاستثناء إلا أنه لا ينفع المستدل حيث لا يقول به أو يحمل
مخالفته للحكم الأول على مخالفته للحكم الذي دل عليه الكلام أولا
أي عند عدم القرينة الاستثناء فيرجع إلى أصالة الحقيقة أو ما يقرب
إليها ثم التمسك في تخصيص العام بدفع محذور الهذرية راجع إلى
بيان وجه كون الاستثناء مفيدا للتخصيص وقيامه قرينة عليه فلا يرد
عليه أن الخروج عن أصالة الحقيقة إلى المجاز عند قيام القرينة مما
لا ريب في جوازه وأيضا لا يلزم من اعتباره قرينة صورة الاتصال
اعتباره قرينة صورة الانفصال فإنه إنما يحافظ على دفع محذور
الهذرية بالجمع بين الكلمات المتخالفة ما لم يؤد إلى ارتكاب هذر
آخر كإهمال القواعد اللفظية المحكمة ولهذا إذا كان المقتضى
للتخصيص جملة مستقلة وكان الحكم إنشاء جاز وإن انفصل عنه في
النطق وإنما منع من ذلك في الجمل المتصلة نظرا إلى بطلان
الاستعمال لمخالفة الوضع ثم لا نسلم عدم ظهور اللفظ في معناه
الحقيقي ما دام المتكلم متشاغلا بالكلام فإن ضرورة الوجدان قاضية
بخلافه وجواز اللحوق واعتباره لا ينافي
الظهور كما لا يخفى ولولا ذلك لما اتجه التعويل على كلام من فاجأه
عارض منعه عن الكلام حال تشاغله به بعد أن أتى بما يصح
السكوت عليه إذا كان صالحا للواحق بل الوجه في الجواب أن الدليل
المذكور إنما يقتضي عدم عود الاستثناء إلى ما عدا الأخيرة عند
التجرد عن القرينة نظرا إلى أصالة بقائه على العموم ونحن لا نتحاشى
عنه لكن أين ذلك من اختصاصه بها بحسب الوضع كما هو
المدعى لا يقال أصالة بقاء ما عدا الأخيرة على العموم معارضة بأصالة
عدم لحوق الحكم له على العموم حيث يكون الحكم فيه على خلاف
الأصل كما هو الغالب فيتساقطان فلا يتم التمسك بأحدهما لأنا نقول
أصالة بقاء اللفظ على العموم أصل لفظي فيترجح على أصالة البراءة
وأصالة العدم وغيرها مما يعد من الأصول العقلية الظاهرية وتحقيقه
أن تلك الأصول بمقتضى الأدلة التي أفادتها إنما تنهض حجة حيث
لا دليل على خلافها وظاهر اللفظ دليل فلا تنهض حجة في مقابلته
نعم لو كان الأصل السابق مستفادا أيضا من دليل لفظي غير مقيد
بصورة عدم الدليل حصل التعارض ولا بد حينئذ من مطالبة المرجح
الثاني لو جاز تعليق الاستثناء بما عدا الأخيرة بعد تعليقه بها لجاز
تعليق المستقل بغيره والتالي باطل بيان الملازمة أنه بعد تعليقه
بالأخيرة يستقل فلو علق بغيرها أيضا كان تعليقا للمستقل وهو المراد
بالتالي وأما بطلانه فلان المقتضي للتعلق إنما هو عدم الاستقلال إذ
المستقل لا يتعلق بغيره وأجيب بأن المستقل وجوبا لا يجوز أن
يتعلق بغيره وأما المستقل جوازا كما في المقام حيث يجوز تعلقه
بالجميع وبالأخيرة جاز تعلقه بغيره والأظهر أن يجاب بأن الاستثناء
محتمل للعود إلى الجميع وإلى الأخيرة فهو على تقدير عوده إلى
الجميع لا يستقل بالعود إلى الأخيرة وإلا لزم الترجيح من غير مرجح
إذ تعلقه بالكل تعلق دفعي وليس على التدريج كما يشعر به كلام
المستدل الثالث أن من حق العام أن يحمل على عمومه ما لم يقم
ضرورة
تؤدي إلى ارتكاب خلافه فمتى خصصنا الأخيرة لم يبق ضرورة
تحوجنا إلى ارتكاب التخصيص فيما عداها فلا يجوز لنا تمشية
التخصيص إليه وهذا الدليل قريب
من الدليل الأول بل لا يختلف معه إلا في التعبير فالجواب عنه
الجواب عنه الرابع إذا عاد الاستثناء إلى كل جملة فإن قدر معها لزم
مخالفة الأصل وإلا لزم تعدد العامل على معمول واحد في إعراب
واحد وهو باطل لنص سيبويه عليه وقوله حجة وللزوم اجتماع
مؤثرين مستقلين على أثر واحد والجواب أنا نختار عدم الاضمار ولا
نسلم لزوم تعدد العامل على معمول واحد وإنما يلزم ذلك لو
كان العامل في المستثنى هو العامل في المستثنى منه وهو ممنوع بل
العامل فيه أداة الاستثناء كما يذهب إليه جماعة من النحاة لنيابتها
مناب أستثني وقيام معناه بها والعامل ما به يتقوم المعنى المقتضى
كما أن العامل في المنادى هو أداة النداء لقيامها مقام أنادي سلمنا
ذلك لكن لا نسلم عدم جواز تعدد العامل على معمول واحد إذ لا
نجد فيه ما يقتضي المنع وقول سيبويه بالمنع معارض بنص الكسائي
و
الفراء على الجواز بل معارض بما ذكره هو في باب الصفة من جواز
نحو قام زيد وذهب عمرو الظريفان مع ذهابه إلى أن العامل في
الصفة هو العامل في الموصوف فإن قضية كلامية هناك جواز توارد
العاملين على معمول واحد وقد اختار هذا المذهب بعض المحققين
مستشهدا عليه بإخبارهم عن الشئ الواحد بأمرين متضادين نحو هذا
حلو حامض حيث إن فيهما ضميرا واحدا بالاشتراك وذلك لعدم
جواز خلوهما عن الضمير بالاتفاق واعتباره في كل واحد منهما
بخصوصه يقتضي كون كل واحد منهما محكوما به على المبتدأ وهو
جمع بين الضدين أو في أحدهما فيلزم استقلال ما فيه الضمير
بالخبرية وانتفائها عن الخالي وهو خلاف الفرض وفيه نظر لأنا نختار
القسم الأول ونمنع لزوم إشكال التناقض عليه وذلك لان كلا من
الحلو والحامض إما أن يكون مأخوذا بشرط أن لا يكون ممتزجا
209

بالآخر وهذا يوجب التناقض ولا ينفع فيه وحدة الضمير فإن ذلك لا
يصحح الجمع بين المتضادين وهذا ظاهر وإما أن يكون مأخوذا لا
بشرط وحينئذ فلا حاجة إلى اعتبار وحدة الضمير إذ لا تناقض بينهما
بهذا الاعتبار نعم لما كان كل منهما ظاهرا في معناه بالاعتبار
الأول احتيج إلى ضم الاخر إليه قرينة على إرادته بالاعتبار الثاني هذا و
توهمهم أن ذلك من باب توارد المؤثرين على أمر واحد ضعيف
لان العوامل ليست عللا حقيقية بل علامات ومعرفات الخامس لو
قال له علي عشرة إلا أربعة إلا اثنين كان قوله إلا اثنين راجعا إلى
الأخيرة دون ما تقدمه اتفاقا فكذا في غيره والجواب عنه أما أولا فبأنه
خارج عن محل البحث إذ النزاع في الجمل المتعددة المتعاطفة و
ليس هناك جمل ولا عطف وأما ثانيا فبأن عدم جواز العود إلى
الجميع هنا إنما هو لقرينة لزوم التناقض بناء على المذهب المشهور أو
دفع محذور اللغو والهذرية بناء على مذهب المستدل حيث يكون
مفاد الكلام عند اعتبار عوده إلى الجميع هو مفاده السابق عليه فإن
إخراج الاثنين من الأربعة والعشرة يقتضي الاقرار بالستة وقد أفاده
بالاستثناء الأول وسيأتي توضيح ذلك فيتعين عوده إلى أحدهما
ورجح ما يليه لقربه إليه فلا يلزم منه تعين العود إلى الأخيرة حيث لا
قرينة عليه السادس الجملة التالية حائلة بين الاستثناء وبين الجملة
السابقة كالسكوت فتكون مانعة من تعلقه بها فإن الظاهر من حال
المتكلم أنه لم ينتقل إلى الجملة التالية إلا بعد استكمال غرضه من
السابقة كما لو سكت فإنه يقتضي استيفاء غرضه من الكلام والجواب
المنع من كونها حائلة بحيث تقتضي منع تعلق اللواحق بها كيف و
هو عين المتنازع فيه احتج السيد بوجوه الأول أن الاستثناء تستعمل
تارة بالعود إلى الأخيرة وأخرى بالعود إلى الجميع بلا خلاف في
وقوع الاستعمال على الوجهين وظاهر الاستعمال يقتضي الحقيقة و
الجواب أن أصالة الحقيقة إنما تفيد كون الاستعمالين على الحقيقة
أما كونهما على سبيل الاشتراك وتعدد الوضع فلا لجواز أن يكون
ذلك بوضع واحد كما قررناه وقد يجاب بأن الاستعمال أعم من
الحقيقة وهو لا يستقيم هنا على ما
حققناه الثاني أن القائل إذا قال لغيره اضرب غلماني والق أصدقائي إلا
واحدا حسن أن يستفهم هل [الاستثناء] أستثني من الجملتين أو
من الجملة الأخيرة وذلك آية احتمال اللفظ واشتراكه والجواب أما
أولا فبأن الاستفهام قد يحسن لدفع الاحتمال المرجوح أيضا تحصيلا
للقطع أو الظن القوي بالمراد وأما ثانيا فبأن الاستثناء في المثال
المذكور لا يحتمل العود إليهما والاخراج منهما معا بل إلى أحدهما أو
إليهما والاخراج من أحدهما على البدلية لظهور أن استثناء الواحد لا
يفيد إخراجه من جملتين ما لم يشتركا ولو في بعض الافراد وحمل
المثال عليه بعيد الثالث لا بد في الاستثناء المتعقب للجملتين من
عوده إليهما أو إلى إحداهما لامتناع أن لا يكون عائدا إلى شئ منهما
و
قد نظرنا إلى أدلة من يخصه بالأخيرة وأدلة من يخصه بالجميع فلم
نجد فيهما ما يوجب القطع بأحدهما فوجب أن نقف ولا نقطع
بالعود إلى أحدهما والجواب أن عدم دليل معتبر على أحد القولين لا
يوجب المصير إلى الاشتراك بل إلى التوقف مع أنا قد بينا ما
يوجب المصير إلى ما اخترناه الرابع أن الحال والظروف إذا وقعت
عقيب جملة فعلية كما لو قلت ضربت غلماني وأكرمت جيراني و
أخرجت زكاتي قائما أو صباحا أو في مكان كذا احتمل أن يكون
العامل فيه جميع الأفعال المتقدمة كما يحتمل الأخير وليس لنا في
ذلك
أن نقطع بأحد الامرين ما لم تقم قرينة عليه فكذلك الاستثناء قياسا
عليها بجامع أن الكل فضلة في الكلام يأتي بها بعد تمامه والجواب
أن اللغة لا تثبت بالقياس كما مر مرارا مع أن الفارق في المقام موجود و
هو أهونية التقييد من التخصيص على أن الحكم المدعى في
الأصل في محل المنع إن أريد تساوي الاحتمالات للقطع بأن تعلقه
بالأخيرة أقرب مضافا إلى منع علية الجامع وإن سلم فليس هناك ما
يقتضي خصوص الاشتراك بل الأعم منه ومما قلناه وقد تقدم حجة
صاحب المعالم والفاضل المعاصر عند ذكر حجتنا وحجة البصري
ظاهرة من بيانه وهو أن الاضراب عن الجملة الأولى يقتضي عدم
العود إليها فينافي رجوع الاستثناء
إليها بخلاف ما لا يشتمل عليه ولا يخفى ما فيه إذ لا نسلم أولا حصول
الاضراب المنافي للعود فيما ذكره على الاطلاق وعلى تقدير
تسليمه كما في بعض الصور يكون ذلك قرينة حالية على عدم العود
إلى الجميع والكلام عند فقد القرائن مطلقا حالية كانت أو مقالية ثم
لا نسلم ثانيا تعين الرجوع إلى الجميع عند عدم الاضراب لان ذلك
إنما يقتضي إمكان الرجوع لا وقوعه وحجة المتوقف راجعة إلى
تصادم الأدلة عنده أو إلى ما مر مرارا من أنه لو ثبت فإما بالعقل ولا
مدخل له وإما بالنقل فوقوع التواتر منه يوجب عدم الخلاف و
الآحاد منه لا يفيد العلم وجوابه يعرف مما سبق ولم يتعرض
الحاجبي للحجة على ما صار إليه واحتج عليه العضدي بأن الاتصال
يجعلهما
كالجملة الواحدة والانفصال يجعلهما كالأجانب والاشكال يوجب
الشك وضعفه ظاهر لان الاتصال إنما يقتضي إمكان الرجوع لا
وقوعه والانفصال إنما يبعد الرجوع في بعض موارده لا مطلقا
تتمة فيها فائدتان
الأولى
إذا تعقب الاستثناء لمفردات أو جمل ومفردات أو تعقب غير
الاستثناء من أنواع التخصيص بالمتصل المعروفة لجمل أو مفردات أو
جمل
ومفردات وأمكن العود إلى الجميع ففي [جريان] انسحاب النزاع
المذكور إليه وعدمه وجهان وتخصيص كثير منهم لعنوان النزاع
بالاستثناء المتعقب للجمل يشعر بالثاني وفي المعالم بعد أن صرح
بالأول قال وقد جرت عادتهم بفرض الخلاف والاحتجاج في تعقب
الاستثناء ثم يشيرون في باقي أنواع المخصصات إلى أن الحال فيها كما
في الاستثناء وهذه الدعوى عندي غير واضحة والتحقيق أن
الاستثناء إن تعقب جملا تامة أو ناقصة فالظاهر عوده إلى الأخيرة كما
عرفت وإن تعقب مفردات لم يبعد ظهوره في العود إلى الجميع
ما لم يتخلل منها جملة فلا
210

فلا يرجع إلى ما قبلها كما مر كل ذلك لمساعدة العرف عليه و
التخصيص بالبدل كالتخصيص بالاستثناء في جميع ما ذكر و
التخصيص
بالشرط المتعقب للجمل صالح للعود إلى الجميع وضعا إلا أنه ظاهر
في العود إلى الأخيرة لما مر في الاستثناء وفي المفردات يتعين
عوده إلى الجميع لأنه قيد للعامل المتعلق بها ومع الاختصاص
بالأخيرة لا بد من تقدير العامل لها ومثله التقييد بالغاية والفرق بينهما
أن الشرط قيد للتكليف والغاية قيد للمكلف به والظاهر من
التخصيص بالصفة عوده إلى الأخيرة في الجمل وإلى الجميع في
المفردات
وحكم المختلفات ظاهر مما مر
الثانية
إذا تعقب الاستثناء للاستثناء فلا يخلو إما أن يكون هناك قرينة
خارجية تقتضي التعين فلا إشكال حينئذ في التعين أو لا يكون و
حينئذ
فإما أن يشتمل المتأخر على عاطف أو لا وعلى الثاني إما أن يستوعب
الثاني للأول أو لا فإن اشتمل على العطف كقوله له على عشرة إلا
أربعة وإلا ثلاثة رجع الثاني إلى ما رجع إليه الأول كما هو قضية العطف
من التشريك في الحكم وإن تجرد عن العطف فإن كان الثاني
مستوعبا للأول نحو له على عشرة إلا أربعة إلا أربعة أو خمسة تعين
رجوع الثاني أيضا إلى ما رجع إليه الأول لئلا يلزم الاستيعاب أو
التناقض واللغو كما سيأتي وإن لم يكن مستوعبا رجع إلى المتأخر لأنه
أقرب دون المتقدم وحده لبعده ولا مع المتأخر سواء كان
بطريق التشريك أو الاستقلال للزوم التناقض حيث إن قضية إخراجه
عن المستثنى منه لحوق حكم المستثنى به وقضية إخراجه عن
المستثنى لحوق حكم المستثنى منه به لما عرفت من أن الاستثناء من
النفي إثبات وبالعكس على ما هو التحقيق عندنا وأما على القول
الاخر فللزوم اللغو لان الاعلام بعدم التعرض للمستثنى الثاني في
الاعلام بعدم التعرض للمستثنى الأول وفي الحكم اللاحق للمستثنى
منه يفيده مفاد الاستثناء الأول إذا اقتصر عليه ومجرد المغايرة
الاعتبارية في القصد غير رافعة لمحذور الهذرية لان المدار فيه على
العرف وهو لا يعتد بمثل ذلك فعلى ما قررناه إذا قال له على عشرة إلا
تسعة إلا ثمانية حتى انتهى إلى الواحد كان إقرارا بنصفها أعني
الخمسة وعلى هذا القياس لو قال له على مائة إلا تسعين إلا ثمانين
حتى انتهى إلى العشرة أو قال له على ألف إلا تسعمائة حتى انتهى إلى
المائة والضابط أن يجمع الاعداد المثبتة وهي الأزواج والمنفية وهي
الافراد ويسقط جملة المنفية عن جملة المثبتة ولو عكس القسم
الأول فبدأ بالواحد وختم بالتسعة لزمه واحد ولو ختم بالواحد لزمه
خمسة ولو أنه بعد أن وصل في القسم الأول إلى الواحد قال إلا
اثنين إلا ثلاثة إلى أن وصل إلى التسعة لزمه واحد ولنا في صحة ما
عدا الأول من الثلاثة المتأخرة نظر لاستلزامه الاستثناء المستوعب
في قوله إلا ثمانية متصاعدا وإن تعقبه ما يخرجه عن حد الاستيعاب و
قد مر منا اختيار عدم جوازه نعم يقبل إقرار من أقر على الوجه
المذكور حملا لكلامه على الوجه الصحيح عنده بطريق التقليد أو
الاجتهاد
فصل إذا تعقب العام ضمير يرجع إلى بعض ما يتناوله
فهل يقتضي ذلك تخصيصه به أو لا ذهب إلى كل فريق وتوقف قوم و
قد مثلوا له بقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء
إلى قوله وبعولتهن أحق بردهن فإن المطلقات يتناول البائنات و
الرجعيات والضمير في قوله بردهن يرجع إلى الرجعيات خاصة إذ لا
حق للزوج في الرجوع إلى غيرهن إجماعا وكذلك الضمير في قوله و
بعولتهن في أظهر الوجهين ثم الظاهر أن النزاع فيما إذا كان
العام والضمير في كلامين مستقلين كما يساعد عليه التمثيل بالآية و
فيما إذا كانا في كلام واحد واستغنى العام عن عود الضمير إليه
نحو أكرم العلماء وخدامهم إذا علم اختصاص الحكم بخدام العدول
منهم وأما إذا كان في كلام واحد واستدعى العام عود الضمير إليه
كما لو قيل المطلقات أحق أزواجهن بردهن فلا إشكال في تخصيص
العام بتخصيص الضمير بالبعض لبعد الاضمار وتعذر الاستخدام و
لهذا لم يحرر النزاع أحد في قوله تعالى والمطلقات يتربصن مع
اختصاص الحكم ببعض المطلقات ثم الاحتمال الأول في مثل الآية
دائر
بين وجوه خمسة الأول أن يخص العام بالبعض الذي يختص به حكم
الضمير وهذا على تقدير كونه مجازا لا يوجب التجوز في الضمير
لأنه موضوع للرجوع إلى مدلول المرجع حقيقة كان أو مجازا الثاني أن
يراد بالعام العموم ويعتبر عود الضمير إلى البعض بطريق
الاستخدام الثالث أن يراد بالعام وبضميره العموم ويرتكب
التخصيص بطريق الاخراج في الضمير الرابع أن يضمر لفظ البعض
فيقدر
برد بعضهن الخامس أن يتوسع في النسبة إلى الضمير بأن يراد بالعام و
بضميره العموم ويعتبر إثبات الحكم للجميع في الجملة الثانية
باعتبار ثبوته للبعض توسعا والأظهر عندي ارتكاب الاستخدام في
الضمير وإبقاء العام على عمومه وفاقا للشيخ ومتابعيه لنا على
ترجيح الاستخدام في الضمير على بقية وجوه التصرف فيه مما عدا
التخصيص أن الاستخدام في المقام نوع من التخصيص لان
التخصيص كما يكون بالاخراج كما
في الاستثناء كذلك يكون باستعمال العام في الخاص كما في المقام
فإن الضمير الراجع إلى العام ظاهر في العود إلى مجموع أفراده
فقصره على البعض تخصيص له ولا ريب في رجحان التخصيص على
بقية وجوه التصرف لتداوله وغلبته بخلاف ما عداه وليس لهذا
التخصيص خصوصية من بين أفراد التخصيص يوجب عدم مساواته
لها في الحكم المذكور فإن ظهور الضمير في شموله لأجزاء مرجعه
ليس بأقوى من ظهور العام في شموله لافراد مفهومه وعلى ترجيحه
على التخصيص بالاخراج أن المتبادر من التخصيص بالمنفصل أن
يكون بطريق استعمال العام في الخاص كما أن المتبادر من التخصيص
بالمتصل أن يكون بطريق الاخراج وعلى ترجيح تخصيص
الضمير على تخصيص المرجع أن الدليل الدال على عدم ثبوت
الحكم المتعلق بالضمير لجميع أفراد مرجعه إنما يقتضي منع عموم
الضمير
دون المرجع فيتعين التخصيص فيه وإغناء التصرف في المرجع عن
التصرف في الضمير لا يوجب التكافؤ لان التصرف في مورد
التعارض ودلالة الدليل أولى من
211

التصرف في غيره اعتبارا وهو الظاهر عرفا كما يرشد إليه التدبر في
نظائره ومع التنزل فلا أقل من الشك في تحقق التكافؤ وهو لا
يكفي في صرف ما ثبت عمومه عن العموم بل لا بد من ثبوت
الصارف وفي هذا نظر والمعتمد ما قررناه أولا لا يقال الضمير موضوع
للعود إلى مرجع معهود بين المتكلم والمخاطب فإذا استعمل في
البعض من غير قرينة على التعيين لزم التجوز فيه ومجازيته بهذا
الاعتبار غير المجازية باعتبار التخصيص فلا يلزم أن يساويه في الحكم
أو يقال التجوز الحاصل من صرف الضمير عن وضعه من
المطابقة للمرجع غير التجوز الحاصل له باعتبار التخصيص فلا يكون
من تعارض التخصيص لأنا نقول الضمائر موضوعة للعود إلى
مرجع معين عند المتكلم وأما كونه متعينا عند المخاطب فغير معتبر
في وضعها وإن كان على خلاف الظاهر من اعتبار التعيين ولهذا
إذا تعدد المرجع وصلح الضمير عند المخاطب للعود إلى كل واحد و
أراد المتكلم معينا منها لم يكن مجازا أصلا بل كان حكمه حكم
المشترك إذا تجرد عن قرينة التعيين مع أن المرجع في محل البحث
غالبا مأخوذ أيضا باعتبار كونه معهودا ومعلوما كالجمع في المثال
فإنه لافراد معينة لمكان اللام المفيدة للإشارة المستلزمة لاخذ المشار
إليه من حيث كونه متعينا ومتميزا فتخصيصه بالبعض يوجب
انتفاء التعيين بالنسبة إلى المخاطب والتحقيق أن ظهور الضمير في
الرجوع إلى تمام مدلول المرجع كظهور الجمع المعرف في الدلالة
على جميع الافراد في كونه مستفادا مما اشتمل عليه من الإشارة
المستدعية لتعيين ما أشير إليه عند المتكلم الظاهرة في اعتبار تعينه
عند المخاطب أيضا وأن استعمالهما مجردا عن اعتبار التعيين عند
المخاطب مخالف للظاهر دون الوضع فيتساويان في كون تخصيص
كل منهما مخالفا للظاهر ولو سلم أن الإشارة تستدعي تعين لظاهر
اللفظ المشار إليه عند المخاطب أيضا بحسب الوضع فهما
متساويان في مخالفة الوضع فبطل ترجيح تخصيص المرجع ومنه
يظهر فساد الوجه الأخير إذ ليس عدم مطابقة الضمير للمرجع أمرا
زائدا على تخصيصه واحتج موافقونا بأن العام يجب إجراؤه على
عمومه وما لم يقم
دليل على تخصيصه ومجرد اختصاص الضمير العائد إليه غير صالح
لذلك لان كلا منهما لفظ مستقل فلا يلزم من خروج أحدهما عن
حقيقة خروج الاخر عن حقيقته ورد بالمنع من عدم الصلوح لان
إجراء الضمير على حقيقته يستلزم تخصيص المرجع لكنه لما كان
موجبا للتجوز في لفظ العام حصل التكافؤ الموجب للتوقف وفي كل
من الايراد والحجة نظر أما في الايراد فلما عرفت من منع التكافؤ
فإن التصرف في مورد التعارض أولى كما مر وأما في الحجة فلابتنائها
على ما يظهر من ذيلها على أن التجوز في المرجع يوجب
التجوز في الضمير وهو غير سديد بل التحقيق أن الضمير موضوع
للعود إلى ما أريد من مرجعه حقيقة كان أو مجازا وصريح التبادر
المعتضد بإطلاق كلمات النقلة دليل عليه نعم صدر الحجة صالح
للتنزيل على ما ذكرناه كما لا يخفى احتج القائلون بتخصيص العام بأن
إبقاءه على عمومه مع تخصيص الضمير يوجب مخالفته للمرجع وأنه
باطل والجواب المنع من بطلانه لامكان تخصيص الضمير و
ارتكاب الاستخدام فيه بل هو أولى على ما مر البيان احتج المتوقف
بأن كلا من تخصيص العام وارتكاب الاستخدام يستلزم المجاز ولا
مرجح فيجب الوقف والجواب المنع من استلزامهما المجاز وعدم
المرجح كما عرفت والعجب من صاحب المعالم حيث جعل
الاستخدام
هنا مجازا مغايرا للتخصيص ومع ذلك حكم بالتكافؤ وضعفه ظاهر
فإن رجحان التخصيص على غيره من أنواع المجاز مما لم ينقل فيه
خلاف وقد صرح به هو أيضا في غير المقام واعلم أن من أمثلة الباب
أيضا قوله تعالى والذين يؤلون من نسائهم إلى قوله وإن عزموا
الطلاق فإن الجمع المضاف يعم الدائمات والمتمتع بهن والضمير في
عزموا راجع إلى النوع الأول إذ لا طلاق للمتمتع بها إجماعا
فصل لا كلام في جواز التخصيص بمفهوم الموافقة
وفي جوازه بمفهوم المخالفة حيثما يكون حجة قولان فذهب
الأكثرون إلى الجواز وهو المختار وآخرون إلى المنع احتج الأولون
بأنهما دليلان تعارضا وتخصيصه به طريق جمع بينهما فيتعين لكونه
أولى من الطرح وفيه أن الجمع كما يمكن بإلغاء العموم كذلك
يمكن بإلغاء المفهوم فيستدعي ترجيح الأول من مرجح ومجرد كونه
طريق جمع لا يكفي فإن الثاني أيضا طريق جمع والأولى في
الاحتجاج أن يقال تخصيص العام أولى من إلغاء المفهوم لان الغاية
يوجب التجوز فيما دل عليه وقد مر في تعارض الأحوال أن
التخصيص أولى من المجاز واحتج الآخرون بأن المنطوق وإن كان
عاما فهو أقوى دلالة من المفهوم وإن كان خاصا فلا يصلح
لمعارضته فإن الخاص إنما يقدم على العام إذا كان أقوى دلالة منه و
أجاب في المعالم بمنع كون دلالة العام أقوى بالنسبة إلى مورد
الخاص بل التحقيق أن دلالة المفهوم لا يقصر عنه غالبا في القوة هذا
كما ترى لا يلائم ما اختاره من القول بالتخصيص إذ دعوى المساواة
على تقدير تسليمها تنافي ترجيح التخصيص وتوجب المصير إلى
الوقف وتعليل بعضهم له بأن في التخصيص حينئذ جمعا بين الدليلين
وهو أولى من إلغاء أحدهما عليل لما عرفت من أن طريق الجمع لا
ينحصر في التخصيص إذ كما يمكن بإلغاء بعض المدلول في من الدال
على العموم كذلك يمكن بإلغاء بعض المدلول من الدال على المفهوم
وهذا واضح بل الذي يتأتى على القول بالتخصيص أن يقال دلالة
الخاص وإن كان مفهوما أقوى من دلالة العام وإن كان منطوقا فيتعين
تخصيصه به ودعوى المستدل خلاف ذلك غير مسموعة وربما
يتخيل أن ليس لأحدهما ترجيح على الاخر على الاطلاق بل يختلف
باختلاف الموارد والمقامات فقد يترجح جانب المفهوم إما لقوة في
دلالته كمفهوم إنما وما وإلا أو لشواهد خارجية وقد يترجح جانب
العام إما لقوة دلالته في العموم ككل مع كون المفهوم ضعيفا
كمفهوم الشرط الغير الصريح
212

ومع التساوي أو الشك في الترجيح بعد الفحص يبنى على التساقط أو
التخيير على القولين وبالجملة فهو من جملة ما يتعارض فيه
الدليلان فيجري فيه ما يجري هناك وضعفه يعرف مما مر مضافا إلى
أن الكلام هنا في ترجيح المفهوم أو العام على الاخر باعتبار
نفسهما لا بملاحظة أمر آخر
فصل لا ريب في جواز تخصيص كل من الكتاب والخبر المتواتر
وما في معناه من الخبر المحفوف بقرائن العلم بنفسه وبالاخر و
تخصيص خبر الواحد حيث نقول بحجيته بنفسه وبهما وتخصيص
الكل بالاجماع القطعي والعقل وفي جواز تخصيص الكتاب بخبر
الواحد المجرد عن قرائن العلم على تقدير حجيته أقوال فأجازه
العلامة
وجماعة ومنعه آخرون ومنهم السيد المرتضى بعد التنزل عن أصله و
فصل ثالث بين العام المخصص بدليل قطعي متصل أو منفصل و
بين غيره فأجازه في الأول دون الثاني وفصل رابع بين العام المخصص
بدليل منفصل ولو ظني وبين غيره فأجازه في الأول ومنعه
في الثاني وتوقف قوم والمختار عندي هو الأول لنا أنهما دليلان
ظاهريان وقد تعارضا على وجه يمكن الجمع بينهما فكان ذلك أولى
من طرح أحدهما لما فيه من العمل بالدليلين فإن لم يمكن الجمع
بينهما بغير طرق التخصيص تعين وإلا ترجح التخصيص نظرا إلى كونه
أقرب من غيره لغلبته وشيوعه ما لم يعتضد ما يخالفه بدليل خارجي
لكنه خارج عن محل البحث لان كلامنا في ترجيح التخصيص
بالقياس إلى نفسه مع قطع النظر عن القرائن الخارجية والتحقيق أنا
حيث أثبتنا في محله انسداد باب العلم ووجوب التعويل على الطرق
الظنية فلا ريب أن الظن هنا في جانب العمل بالخبر الخاص دون
عموم الكتاب أخذا بما هو المعروف بين أصحابنا بل كاد أن يكون
إجماعا كما يظهر بالتصفح في مظانه كحكمهم بحرمة كثير من المطاعم
من الحيوانات وغيرها بأخبار الآحاد مع دلالة عموم قوله
تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي الآية على حلية الجميع وإن عمم
محل البحث إلى العموم الحكمي فقد حكموا بحرمة كثير من أنواع
الانتفاع بأخبار الآحاد مع دلالة عموم قوله تعالى خلق لكم ما في
الأرض جميعا على إباحتها وعلى هذا القياس حكمهم ببطلان كثير
من
العقود أو عدم لزومها ولو لاختلال بعض الشرائط الثابتة بأخبار الآحاد
مع دلالة عموم قوله تعالى أوفوا بالعقود على لزومها إلى غير
ذلك مما يعرف بالتتبع في كتب الفقه وأبوابها فلا نطيل الكلام بذكر
تفاصيلها وأما ما وقع في كلام بعض المعاصرين بأنه قل ما
يوجد خبر لا يكون مخالفا لعام من عمومات الكتاب فلا أقل من
مخالفته لأصل البراءة الثابت بقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
و
نحوه فضعفه ظاهر لان عمومات أصل البراءة إنما يقتضي البراءة حيث
لا دليل على التكليف كالآية التي تمسك بها بناء على دلالتها على
ذلك فإن عمومها مختصة بالاستثناء فلا يعارضها أدلة التكاليف بوجه
وإنما هي مصاديق لمفهوم ما تخصصت به احتج المانع بوجوه
الأول أن الكتاب قطعي وخبر الواحد ظني والقطعي لا يعارض
بالظني والجواب المنع من كون الكتاب قطعيا إن أريد كونه دليلا
قطعيا وإن أريد أن متنه أعني صحة صدوره قطعي فهو لا يوجب كونه
دليلا قطعيا إذ المعارضة بينهما إنما هي من حيث كونهما دليلين
وليس الكتاب بمجرد متنه دليلا بل به وبدلالته فيبتني كونه دليلا على
الامرين فإذا كان أحدهما ظنيا لم يكن المبتنى عليه المبني عليه
قطعيا بالضرورة فظهر أن المعارضة هنا إنما هي بين دليلين ظنيين
فيتوقف الترجيح على وجود بعض المرجحات وقد عرفت أن
الجمع بينهما بالتخصيص أولى من طرح دليل الخاص لا يقال حجية
الكتاب مقطوع بها ولا قطع بحجية خبر الواحد مطلقا حتى حال
معارضته لعموم الكتاب لوقوع الخلاف في حجيته حينئذ والمحتمل
لا يصلح لمعارضة القطعي لأنا نقول كما لا قطع حينئذ بحجية خبر
الواحد لوقوع الخلاف فيها كذلك لا قطع بحجية دلالة الكتاب بالنسبة
إلى مورد التخصيص لوقوع الخلاف فيها أيضا فيتساويان في
كون كل منهما حجة غير قطعية وما يقال من أن دلالة الكتاب قطعية
لان الحكم لا يخاطب بما له ظاهر ويريد خلافه فإنما يسلم حيثما
لم يرد قرينة على خلافه إلى وقت العمل كما سيأتي تحقيقه ثم حينئذ
تكون دلالته قطعية في حق المكلف في الظاهر لا في الواقع لجواز
وقوع البيان وعدم وصوله إليه أو لنحو ذلك وأما لو وصل إليه البيان و
لو بطريق أخبار الآحاد حيث نقول بحجيتها لم يلزم قبح في
الخطاب بما له ظاهر إذا لم يرده هذا وما وقع في كلام صاحب المعالم
تبعا للعضدي من أن العام في المقام قطعي المتن ظني الدلالة و
الخبر الخاص ظني المتن قطعي الدلالة فلكل جهة قوة فهو بظاهره غير
مستقيم لان
دلالة الخاص كثيرا ما يكون ظنيا أيضا لتطرق احتمال التجوز إليه بل
كثيرا ما يكون أيضا عاما محتملا للتخصيص كالأصل ولو أراد
بقطعية دلالته كونها أقوى من دلالة العام لوجه عليه المنع من مساواة
الجهتين الثاني لو جاز التخصيص به لجاز النسخ به واللازم باطل
بالاتفاق فالملزوم مثله بيان الملازمة أن العلة التي تمسكوا بها على
رجحان التخصيص وهو الجمع بين الدليلين جار بعينه في النسخ فلو
صلحت علة لصلحت لها في المقامين والجواب أنه لو سلم قيام
الاجماع على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد كان ذلك فارقا بين
المقامين
ومخرجا لخصوص النسخ عما تقتضيه القاعدة الأصلية فيبقى ما عداه
أعني التخصيص على حكم الأصل وقد يفرق أيضا بأن احتمال
النسخ أبعد من احتمال التخصيص لغلبته وندرة النسخ فعدم مقاومة
خبر الواحد للقوي لا يستلزم عدم مقاومته للضعيف وبأن النسخ
دفع لما ثبت حصوله من الدلالة أو المدلول أعني الحكم والتخصيص
دفع لما يثبت حصوله والدفع أسهل من الرفع واعترض عليه
الفاضل المعاصر بما حاصله أن دعوى أسهلية أحدهما من الاخر لا
يستقيم فيما يستند إلى فعله تعالى لتساوي كل الحوادث بالنسبة إليه و
مع ذلك فهو مبني على أن الممكن لا يحتاج في البقاء إلى مؤثر جديد
وهو ممنوع انتهى وفي كلا الوجهين نظر أما في الأول فلأنهم إن
أرادوا بأسهلية الدفع من الرفع كونه أقرب في النظر إلى الوقوع باعتبار
قلة ما يتوقف عليه بالنسبة إلى الاخر أو المراد أن ارتكابه
213

باعتبار موافقته للاستصحاب ومخالفة الاخر له وليس المراد أن
صدوره من الحاكم أسهل فإن الضرورة حاكمة بتساويهما بالنسبة
إليه من غير اختصاص له به تعالى وأما في الثاني فلانه إن أريد بالمؤثر
الجديد المؤثر الحادث بعد الأول منعنا حاجة الممكن في البقاء
إليه وإن أريد بقاء المؤثر السابق منعنا توقف الدليل على عدم الحاجة
إليه بل ربما يتقوى على تقدير ثبوتها لتأكد استصحاب بقاء الأثر
باستصحاب بقاء المؤثر ومما حققنا يتبين فساد ما يقال في إثبات
الملازمة من أن النسخ نوع من التخصيص لأنه رفع لعموم الحكم
الثابت بحسب الأزمان فقضية جواز التخصيص بخبر الواحد جواز
النسخ به أيضا وذلك لان التخصيص المبحوث عنه هنا ليس مطلق
التخصيص بل ما عدا النسخ والمناقشة لفظية مع أنا نمنع كون النسخ
نوعا من التخصيص بل هو رفع للحكم الثابت على تقدير عدمه
بخلاف التخصيص وسيأتي بيانه في مبحث النسخ الثالث قوله تعالى
فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ولا ريب أن
الكتاب أحسن من الخبر فينبغي اتباعه والجواب أما أولا فبالنقض بما
إذا كان الخبر متواترا أو مقرونا بقرائن العلم فإن الخصم لا يلتزم
بعدم تخصيص العام الكتابي به وأما ثانيا فبالحل وهو أن الخاص
أقوى دلالة من العام فهو من هذه الجهة أحسن من العام وإن كان
العام باعتبار آخر أحسن منه ولك أن تمنع عموم الآية للمقام لعدم
مساعدة السياق عليه وقد يستدل على المنع بالاخبار التي دلت على
طرح الاخبار التي تخالف كتاب الله فإنها بعمومها أو إطلاقها تتناول
المقام أيضا والجواب أن عموم تلك الأخبار للمقام معارضة بعموم
ما دل على حجية أخبار الآحاد من الاخبار وقاعدة الجمع وإن قضت
بتحكيم الأول فيه إلا أن الثاني لمعاضدته بالعمل كان بالترجيح
أجدر على ما عرفت مضافا إلى منع شمول إطلاق المخالفة في تلك الأخبار
لمثل ذلك فإن المتبادر منها المخالفة التامة بحيث لا يتيسر
الجمع ولهذا لا تعرض في أخبار العلاج عند تعارض الاخبار لوجوه
الجمع على أن المخالفة المذكورة لو تناولت مثل مخالفة الخاص
للعام لتناولت مثل مخالفة المقيد
للمطلق لتقاربهما في الدلالة وعلى تقديره يلزم طرح عموم تلك الأخبار
للمقام لأنه مخالف لاطلاق آية التبين والنفر بناء على دلالتهما
على حجية خبر الواحد وما يستلزم صحته فساده فهو فاسد بالضرورة
وأما آية وما آتاكم الرسول فخذوه فلا مخالفة بينها وبين تلك الأخبار
كما زعمه بعض المعاصرين حيث ذكرها معهما فإن هذه الآية
إنما تدل على وجوب العمل بقول الرسول لا بقول من يخبر عن
قوله إذا لم يوجب العلم به وهذا ظاهر وأما ما يقال من أن جواز
تخصيص الكتاب بخبر الواحد يستلزم تخصيص تلك الآيات بهذه
الاخبار فيلزم عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد فمردود بأن
تلك الأخبار قاصرة عن تخصيص الكتاب إذ غاية الامر أن
يتعارضا من وجه وهو لا يوجب التخصيص وكون دلالة تلك الأخبار
على المنع بالعموم والوضع ودلالة تلك الآيات بمجرد الاطلاق لا
يقتضي الترجيح مع معارضتها لمرجحات أخر تقتضي تأكد تلك
الاطلاقات وترجيحها كما مر احتج المفصلون على صورة المنع بما مر
من أن الخاص ظني فلا تصلح لمعارضة العام القطعي وعلى صورة
الجواز بأن العام فيها ظني لصيرورته مجازا أما عند الفرقة الأولى
فبمطلق التخصيص وأما عند الفرقة الثانية فبالتخصيص بالمنفصل
فيصلح الدليل الظني لمعارضته والجواب أنه إن أريد أن العام قطعي
بمتنه فلا يعارضه الدليل الظني فهذا لا يختلف بكونه حقيقة أو مجازا
قطعا فعلى تقدير ترجيحه يلزم أن لا يعارضه الظني مطلقا وهم لا
يقولون به وإن أريد أن دلالته على تقدير بقائه على الحقيقة قطعية
أيضا فإن أريد أنها قطعية بحسب الواقع ففساده واضح مع أنه لو
كان قطعيا كذلك لم يحتمل معارضا مطلقا وإن أريد أنها قطعية بحسب
الظاهر فالعام المخصوص أيضا كذلك ومثله خبر الواحد لقيام
الأدلة الدالة على حجيته فلا يكون من معارضته القطعي بالظني بل
بقطعي آخر ويرد على الفرقة الثانية مضافا إلى ذلك أن تخصيصهم
لجواز التخصيص بصورة تخصصه بدليل منفصل ولو ظني يقتضي
تسليم القول بجواز تخصيصه بخبر الواحد مطلقا لأنه من قبيل
المخصص
المنفصل الظني إلا أن يقال أرادوا به ما عدا الخبر الواحد لكن يبقى
عليهم حينئذ إثبات الفارق احتج المتوقف بتعارض الأدلة وعدم
المرجح وجوابه ما عرفت من وجوه ترجيح الخبر بقي الكلام في
تخصيص الخبر المتواتر والمحفوف بخبر الواحد والظاهر أن الكلام
فيه كالكلام في تخصيص الكتاب به وإن لم أقف على من ينبه عليه
لجريان أكثر الوجوه المذكورة فيه
تنبيه
ذكر بعض أفاضل متأخري المتأخرين أن استصحاب الحكم المخالف
للأصل دليل شرعي مخصص للعمومات ولا ينافيه عموم أدلة
حجيته من الأخبار الدالة على عدم جواز نقض اليقين بغيره إذ ليس
العبرة في العموم والخصوص بدليل الدليل وإلا لم يتحقق لنا في
الأدلة دليل خاص لانتهاء حجية كل دليل إلى أدلة عامة بل بنفس
الدليل ولا ريب أن الاستصحاب الجاري في كل مورد خاص به لا
يتعداه
إلى غيره فيقدم على العام كما يقدم غيره من الأدلة عليه ولذا يرى أن
الفقهاء يستدلون في إثبات الشغل والنجاسة والتحريم
بالاستصحاب في مقابلة ما دل على البراءة الأصلية وطهارة الأشياء و
حليتها ومن ذلك استنادهم إلى استصحاب النجاسة والتحريم في
صورة الشك في ذهاب ثلثي العصير وفي كون التحديد به تحقيقيا لا
تقريبيا وفي صورة صيرورته قبل ذهاب الثلثين دبسا إلى غير
ذلك هذا محصل كلامه أقول ولا يخفى ما فيه بل التحقيق أن هنا
مقامين الأول تخصيص العام ورفع شموله لبعض ما يتناوله
بالاستصحاب والثاني إبقاء حكم التخصيص بعد قيام دليله في بعض
ما يتناوله العام بالاستصحاب أما المقام الأول فلا ريب في عدم
حجية الاستصحاب فيه سواء كان موافقا للأصل أو مخالفا له لان أدلة
حجيته مقصورة على صورة عدم دلالة دليل على الخلاف وإن كان
في أدنى درجة من الحجية
214

وعموم العام دليل فلا يصلح الاستصحاب لمعارضته ولأنه لا كلام في
أن ظاهر الأمر والنهي لا يعارضان باستصحاب براءة الذمة وإلا
لم يثبت بمجردهما إيجاب ولا تحريم أصلا فكذلك ظاهر العام
لمشاركة الجميع في كونه دليلا لفظيا مقدما على الأصول الظاهرية و
لأنه لو صلح الاستصحاب دليلا على تخصيص العام لبطل الاحتجاج
بالعمومات المخالفة له لوجوب قصر حكمها حينئذ على بعض لا
يجوز
تطرق التخصيص إليه لان القدر الثابت بها ارتفاع حكم الاستصحاب
بالنسبة إلى ذلك البعض وأما بالنسبة إلى غيره فليس هناك ما
يدل على رفعه إلا العموم وقد فرض عدم صلوحه له والفرق في ذلك
بين الاستصحاب الموافق للأصل والمخالف له مما لا وجه له بعد
اشتراك المستند وعموم أدلة حجيته نعم يستثنى من ذلك استصحاب
عدم النسخ عند سبق المخصص الغير المستوعب فإنه ينهض دليلا
على التخصيص بضميمة مورده لقرب التخصيص وبعد النسخ كما
سيأتي وأما المقام الثاني فلا ريب في حجية الاستصحاب فيه إذا
اشتمل على شرائط الحجية من غير فرق بين الموافق للأصل و
المخالف له وهو مما لا خلاف فيه بين القائلين بحجيته لكنه ليس من
باب
تخصيص العام بالاستصحاب في شئ ومن هذا الباب ما ذكره من
الأمثلة فإن عمومات البراءة إنما دلت على البراءة عند عدم قيام دليل
على الاشتغال فإذا دل الاستصحاب على بقاء الاشتغال أو على بقاء
موضوع يتفرع عليه الاشتغال ثبت الاشتغال وليس شأن
الاستصحاب حينئذ تخصيص تلك العمومات بل تحقيق عنوان
اختصت تلك العمومات بغيره وكذلك الكلام بغيره وكذلك الكلام
في
عمومات الطهارة وقد يتخيل أن حكمنا بنجاسة الكر الملتئم من
قليلين متنجسين مبني على تخصيص عمومات طهارة الماء
بالاستصحاب وضعفه يعرف مما قررناه فإن أدلة طهارة الماء منها ما
يفيد طهارته الابتدائية واستدامتها يعرف بالاستصحاب فإذا دل
دليل على عروض النجاسة عليه بالملاقاة أو التغيير لم يكن مخصصا
لذلك العموم بل رافعا لاستمرار الطهارة
المستفاد من الاستصحاب ومنها ما يفيد طهارة الماء إلى أن يعلم
نجاسته ولو بدليل شرعي وهذا العام مما لا مخصص له أصلا وحيث
يقوم دليل على الانفعال كان ذلك محققا لعنوان الغاية لا مخصصا
لعموم المعنى نعم لو تمسكنا في الفرض المذكور بالاستصحاب في
مقابلة قوله عليه السلام إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا بناء على
عمومه للخبث السابق واللاحق كما هو الظاهر كان تخصيصا للعموم
بالاستصحاب لكن الرواية ضعيفة غير معمولة والاستدلال
بالاستصحاب هنا لضعف الدليل وقصوره عن الحجية لا لان
الاستصحاب
مخصص لعمومه فاتضح مما حققنا أن الفاضل المذكور قد خلط بين
المقامين من حيث إن صدر كلامه يدل على مصيره إلى الجواز في
المقام الأول وذيله يدل على إثبات الجواز في المقام الثاني واتضح
أيضا ضعف دليله وعدم مساعدة ما استشهد به من كلام
الاستصحاب على دعواه فتثبت ولا تغفل
فصل إذا ورد عام وخاص وتنافيا في الظاهر
فإن كانا في كلامه تعالى أو في كلام رسوله صلى الله عليه وآله أو كان
أحدهما في كلامه تعالى والاخر في كلام الرسول وفي حكم
اللفظ ما قام مقامه من الفعل والتقرير فلا يخلو إما أن يعلم تقارنهما أو
تفارقهما بالعلم بتأخر الخاص أو تقدمه سواء علم مع ذلك تاريخ
الصدور أو لا أو يجهل ذلك فهذه صور أربع الأولى أن يعلم التقارن و
المراد به التقارن العرفي ولا إشكال حينئذ في وجوب حمل العام
على الخاص سواء تقارنا حقيقة ولا يتصور إلا في الخاص الفعلي أو
التقريري أو تقدم العام على الخاص في الذكر أو تأخر عنه بحيث لا
يقدح في التقارن العرفي نعم يشترط في القسم الثاني عدم حضور
وقت الحاجة قبل ورود الخاص وإلا لكان نسخا له لا محالة للبيان
الآتي ولم يتعرض أحد لهذا الاستدراك ولعله لبعد الفرض الثانية أن
يعلم تأخر الخاص عن العلم وحينئذ فإن علم ورود الخاص بعد
العمل بالعام في مورده أو بعد حضور زمانه المعين له وإن لم يعمل به
ولو ببدله إن كان له بدل عصيانا تعين كونه ناسخا لئلا يلزم
تأخير البيان عن وقت الحاجة وذلك كما لو قال أكرم كل عالم أو قال
أكرمهم في كل خميس أو قال في الصورتين ويقوم إكرام
إخوتهم مقام إكرامهم مطلقا أو عند تعذر إكرامهم ثم قال لا تكرم زيدا
العالم بعد إكرامه أو إكرام أخيه أو بعد مضي الوقت وإن خالف
عاصيا نعم يعتبر أن لا يمنع من تقديم البيان مانع فإن التأخير في مثل
ذلك لا يوجب النسخ وعليه ينزل إطلاق كلماتهم في المقام و
نظائره وإن علم وروده قبله تعين كونه مخصصا بناء على عدم جواز
النسخ حينئذ واحتملها بناء على جوازه والأظهر حينئذ ترجيح
التخصيص لغلبته وندرة النسخ سيما ما كان منه قبل وقت العمل وكذا
إن جهل وروده قبله سواء علم تاريخ العمل أو لم يعلم تغليبا
لجانب التخصيص لما مر من غلبته وشيوعه مع احتمال تقديم النسخ
فيهما نظرا إلى أصالة تأخر الحادث وأصالة مقارنته للجز المتأخر
فلو كان تخصيصا لزم الاغراء بالجهل على تقديره ويمكن دفعه
بأنه أصل مثبت ولا تعويل عليه هذا كله على القول بجواز تأخير البيان
عن وقت الخطاب وأما على القول بعدمه فإن أجاز هذا القائل
وقوع النسخ قبل حضور وقت العمل أجاز وقوع ذلك مطلقا وعلى
تقدير الوقوع يتعين عنده أن يكون نسخا وإلا منع من وقوعه قبل
العمل وعلى تقدير وقوعه بعده يجعله نسخا لا غير ثم لا يذهب
عليك أن ما ذكرناه على هذا القول إنما يتمشى بالنسبة إلى نفس كلامه
تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله أو ما قام مقامه من الفعل و
التقرير وأما بالنسبة إلى الرواية الحاكية لذلك فيمكن اختيار
التخصيص مع عدم ثبوت ورود الخاص بعد العمل بعموم العام في
مورده لكونه أولى لا ينافيه عدم نقل اقتران المخصص لجواز ثبوته و
ترك الراوي له غفلة أو لتجويزه تأخير البيان أو لغير ذلك ويحتمل كونه
نسخا أخذا بظاهر النقل
215

المجرد حملا لفعل المسلم لا سيما الثقة على ظاهره وهو بعيد نعم لو
صرح راوي العام بعرائه عن المخصص حصل التعارض بين نقله و
نقل الاخر للمخصص ويمكن ترجيح الثاني لتقدم المثبت على النافي
والأظهر الحمل على النسخ الثالثة أن يعلم تأخر العام عن الخاص
فإن علم تقدمه على زمان العمل به تعين أن يكون تخصيصا بناء على
عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل وإن أجزناه أو علم تأخره
عنه تعارض عموم الخاص باعتبار دلالته على ثبوت حكمه بحسب
جميع الأزمان وعموم العام باعتبار دلالته على ثبوت حكمه بحسب
جميع الافراد والظاهر ترجيح التخصيص على النسخ وقيل بل يرجح
النسخ وهو محكي عن الشيخ ومنهم من توقف لنا أن التخصيص
أقرب من النسخ في النظر لغلبته وندرة النسخ بالنسبة إليه فإن أكثر
العمومات الواردة في الشريعة مخصصة وقل من الاحكام ما هي
منسوخة فيتعين الحمل عليه ولأن التخصيص دفع للامر الغير الثابت
والنسخ رفع للامر الثابت فيترجح احتماله عليه ولأن في
التخصيص جمعا بين الدليلين وفي النسخ إهمال لأحدهما ولا ريب
أن الجمع أولى من الاهمال وفي الوجهين الأخيرين نظر أما في الأول
فلان الاعتبار إن كان بالظاهر فلا ريب أن كلا من النسخ والتخصيص
رفع حيث أنهما يرفعان ما ثبت في الظاهر من عموم الحكم
للأفراد كما في التخصيص أو للأزمان كما في النسخ وإن كان بالنسبة
إلى الواقع فظاهر أن كليهما دفع للامر الغير الثابت فيه من
التناول لجميع الافراد أو الأزمان لظهور أن الحكم غير ثابت فيهما واقعا
وإلا لزم البدأ ويمكن دفعه على الأول بأن العام المتأخر لا
ظهور له في العموم أصلا لسبق الخاص بخلاف عموم الخاص المتقدم
فإنه حين وروده لا معارض له فيثبت له ظهور في الجملة وعلى
الثاني بأن النسخ رفع للحكم الثابت واقعا ضرورة ثبوته كذلك قبله وإن
كان ثبوته بحسب زمن النسخ مبنيا على الظاهر أو يلتزم بأن
الحكم المنسوخ ثابت بحسب الواقع مطلقا ورفعه بالنسخ لا يوجب
البدأ لأنه عبارة عن تغير العلم أو الإرادة الحقيقية والتكليف عبارة
عن الإرادة الالزامية الابتلائية وأما في
الثاني فلانا لا نسلم أن النسخ يقتضي إهمال أحد الدليلين بمعنى إلغائه
رأسا و إنما يوجب إهمال عمومه للزمن المتأخر وهذا حاصل في
التخصيص أيضا واحتج القائل بالنسخ بوجوه الأول أن من قال اقتل
زيدا ثم قال لا تقتلوا المشركين كان ذلك بمنزلة أن يقول لا تقتل
زيدا ولا عمرا إلى آخر الافراد فكما أن الثاني لا يحتمل إلا النسخ فكذا
الأول لأنه بمنزلته والجواب منع عموم المنزلة والتساوي في
جميع الأحكام فإن افتراقهما بالاجمال والتفصيل يوجب جواز
التخصيص في الأول دون الثاني الثاني أن المخصص للعام مبين له فلا
يصح تقدمه عليه والجواب أن تقدمه عليه ذاتا لا غبار عليه وإنما
الممتنع تقدمه عليه بصفة البيانية وهو غير لازم على تقدير التخصيص
فإن وصف التخصيص إنما يعرض له بعد ورود العام الثالث لو لم يكن
العام المتأخر ناسخا لزم تأخير البيان عن وقت الخطاب وإنه
غير جائز وجوابه بعد المنع من عدم جواز تأخير البيان عن وقت
الخطاب كما سيأتي أن هذا ليس من باب تأخير البيان بل هذا من باب
مقارنة البيان لمقارنة المبين له من حيث كونه مبينا وإن تقدم عليه من
حيث ذاته وأما مناقشة بعض المعاصرين فيه بأن دعوى المقارنة
وهم فإن وصف البيانية متأخرة عن المبين طبعا فوهم واضح لان
المراد بها المقارنة العرفية كما هو الظاهر من إطلاقها في مثل المقام
لا المقارنة العقلية أعني المقارنة بحسب الرتبة يدلك على ذلك أنهم
جعلوا الصورة الأولى من باب المقارنة وليست المقارنة فيها غالبا إلا
عرفية كما نبهنا عليه هذا ومما بيناه يظهر أيضا فساد توجيه بعضهم
للدليل بأن المراد عدم جواز إخلاء العام عند إرادة التخصيص عن
بيانه إذ لا نسلم أن العام حينئذ خال عن بيان التخصيص ووجهه ظاهر
مما مر الرابع كما أن الخاص المتأخر يبطل حكم العام المتقدم
لكونه منافيا متأخرا فكذلك العام المتأخر يبطل حكم الخاص المتقدم
لكونه أيضا منافيا متأخرا وهو معنى نسخه له والجواب أن إبطال
الخاص لحكم العام المتقدم ليس لمجرد كونه منافيا متأخرا بل ذلك
مع قوة
دلالته وعدم صلوح العام المتقدم لابطاله لأدائه إلى إلغاء دليل
الخاص رأسا وشئ منهما غير متحقق في العام المتأخر الخامس ما
نقل
عن ابن عباس من قوله كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث والجواب منع
ثبوت النقل المذكور وعلى تقدير تسليمه لا نسلم صحة التمسك به إذ
لا تعويل عندنا على مقالة ابن عباس وفعله وبعد التنزل ننزل كلامه
على الصور التي لا يحتمل التخصيص وإن جهل تقدمه على زمن
العمل أو تأخره عنه كان حكمه حكم الجهل في الصورة السابقة الرابعة
أن يجهل تقارنهما وتفارقهما على الوجه المذكور سواء علم
تاريخ صدور أحدهما أو لم يعلم وعلى ما حققناه في الصور السابقة
من ترجيح التخصيص على النسخ ما لم يتبين الخلاف يترجح هنا
احتمال التخصيص مطلقا مع احتمال ترجيح النسخ حيث يعلم تاريخ
العام ولا يعلم تاريخ الخاص نظرا إلى أصالة تأخره فيقارن آخر زمن
العمل بالعام لان كلا منهما حادث دون زمن ورود العام للعلم بسبقه
على زمن العمل بخلاف الخاص فإنه لا علم بسبقه على زمن العمل
بالعام ولو عين مع ذلك الزمن الذي يقتضي العام وقوع العمل به فكان
الاحتمال المذكور أظهر لكن مع معارضته ذلك بأظهرية
التخصيص من جهة الغلبة لا جدوى فيه يعتد بها غالبا إذ لا بد من
الاخذ بالخاص ورفض العلم بالعام في مورده على التقديرين وإن
قدر كون العام قطعيا والخاص ظنيا لان أصالة التأخر لا يصلح حجة
لاهمال الدليل مع ظن حجيته وما يقال من أن الخاص المتأخر إن
كان واردا قبل حضور وقت العمل كان مخصصا وإن كان واردا بعده
كان ناسخا ويبتني حجيته على الثاني على ما إذا كان الخاص
قطعيا أو كان العام
216

وبدون ذلك لا يصلح الخاص للنسخ فيسقط عن درجة الاعتبار و
حينئذ فيدور الامر في الخاص بين أن يكون مخصصا مقبولا وناسخا
مردودا فكيف يبنى على القبول مطلقا فمدفوع بما عرفت من أن الامر
متى دار بين التخصيص والنسخ رجح التخصيص على النسخ
لغلبته وشيوعه هذا إذا جهل التقارن والتفارق بالكلية وأما لو علم
عدم تقدم أحدهما أو عدم تأخره أو عدم تقارنه وجهل الصورتان
الأخيرتان فيمكن التمسك في الأوليين بأصالة التقارن مضافا إلى
رجحان التخصيص على النسخ وربما يشكل فيما لو علم عدم تقدم
الخاص مع العلم بزمن الحاجة لامكان التمسك حينئذ بأصالة تأخر
الخاص عنه فيكون نسخا وهو مدفوع بغلبة التخصيص وبهذا يترجح
احتمال التخصيص في الصورة الأخيرة أيضا فإنها وإن احتملت
وجوها ثلاثة يتعين التخصيص في بعضها والنسخ في بعض آخر إلا أن
رجحان التخصيص بعين البناء عليه عند عدم ما يعين النسخ وإن كانا
في كلام أحد الأئمة أو كان العام في كلامه تعالى أو كلام الرسول
والخاص في كلامهم أو بالعكس تعين الحمل على التخصيص لامتناع
وقوع النسخ بعد الرسول وما يقال من أنه يجوز أن يكون الحكم
مغيا بغاية معينة فبينه الرسول صلى الله عليه وآله للناس على سبيل
الاستمرار وبين الغاية لأوصيائه المعصومين فإذا انتهت المدة و
بينوا ارتفاع الحكم كان ذلك نسخا منهم فناشئ عن عدم تحقق معنى
النسخ وذلك لان النسخ عبارة عن إزالة الحكم الثابت استمراره
عند الأمة فإذا فرض علم الوصي بارتفاع الحكم بإخبار النبي صلى الله
عليه وآله إياه لم يكن استمراره ثابتا عند جميع الأمة بل بعضهم
فرفعه حينئذ لا يكون نسخا لكن هذه مناقشة معه في التسمية ويبقى
الكلام في ترجيح تخصيص عموم العام على تخصيص عموم الخاص
والوجه فيه ما مر من أغلبية النوع الأول وشيوعه وندرة الثاني و
شذوذه والظهور المستند إلى الغلبة وشبهها مما لا ريب في حجيته
في مباحث الألفاظ بل الظاهر أنه موضع وفاق واعلم أنه لا فرق فيما
مر بين أن يكون كل من العام والخاص قولا كما هو الغالب
المتداول وقد سبق التمثيل أو فعلا أو تقريرا أو يكون أحدهما من
أحدها والاخر من أحد الآخرين
كما لو اجتنب الثوب المتنجس في الصلاة على وجه عرف منه عمومه
لكل ثوب متنجس أو أقر مجتنبا منه على الوجه المذكور ثم أجاز
الصلاة في المتنجس بما دون الدرهم أو أقر من ترك التجنب عنه عليه
نعم لو كان الفعل منه احتمل أن يكون من خواصه أيضا وسيأتي
الكلام فيه ولا فرق على التقادير بين أن يكونا قطعيين أو ظنيين أو
يكون أحدهما قطعيا والاخر ظنيا على خلاف في بعض الصور تقدم
الإشارة إليه ثم اعلم أن هذا كله يجري في العام والخاص المطلقين و
أما العام والخاص من وجه فلا يحمل أحدهما على الاخر ما لم يقم
هناك شاهد عليه لامتناع الترجيح بلا مرجح وصريح العرف و
الاستعمال قاض بذلك ولو قام شاهد على تخصيص أحدهما بالآخر
تعين كما لو ورد أحدهما بعد العمل بمورد التعارض من الاخر فإنه
حينئذ يتعين تخصيص المتأخر وإلا لزم نسخ المتقدم بالنسبة إلى
مورد العمل وهو مرجوح بالنسبة إلى التخصيص ومنهم من زعم أن
كلامهم السابق في العام والخاص المتنافيين يتناول العامين من
وجه أيضا وهو كما ترى بين الفساد
تتمة
إذا ورد حكم إيجابي أو تحريمي على سبيل العموم وفعل النبي صلى
الله عليه وآله في بعض موارده ما يخالفه كشف عن ثبوت ذلك
الحكم المخالف في حقه قطعا سواء كان العموم المذكور متناولا له
صلى الله عليه وآله أو لا لامتناع الخطأ عليه عندنا وهل يقتضي
ذلك ثبوت الحكم في حق الأمة أيضا نظرا إلى عمومات التأسي
فيخص به العام أو لا قولان والتحقيق أن عمومات التأسي تعارض
لعموم
ذلك العام معارضة العامين من وجه فيستدعي ترجيح أحدهما على
الاخر من مرجح فإن تحقق هناك مرجح كضعف عموم العام بكثرة
ورود التخصيص عليه وقوة عموم التأسي لندرة وروده عليه ونحو
ذلك أو بالعكس تعين الاخذ بمقتضاه وإلا فاللازم التوقف لانتفاء
المرجح وما يقال من أن المخصص لعموم العام ليس عموم التأسي
وحده بل هو مع الفعل وهو أقوى ففيه أن التنافي بين العامين إنما
يتأتى بسبب الفعل فلا اختصاص له بأحدهما إذ كما يمكن تخصيص
العام بعموم التأسي مع الفعل كذلك يمكن تخصيص عموم التأسي
بعموم العام مع الفعل لا يقال العبرة في مقام التعارض بنفس الدليل لا
بدليل الدليل وإلا لم يتحقق لنا في الأدلة دليل خاص إذ مرجع
حجية كل دليل إلى أدلة عامة والفعل هنا خاص وإن كان دليل حجيته
عاما فيجب تخصيص العام به لأنا نقول إنما يتم ما ذكر إذا كان
الخاص في نفسه دالا وإلا كان التعارض بين دلالتي العامين فإن الفعل
مشخص لعنوان أحد العامين وليس بدال ثم ما ذكرناه في الحكم
الايجابي والتحريمي يجري في سائر الأحكام الثلاثة أيضا ولا فرق
في ذلك بين القول بوجوب التأسي أو باستحبابه أو بإباحته إلا أن
العام في هذه الموارد إذا كان متناولا له فالتخصيص في حقه غير لازم
لجواز تركه للمندوب وفعله للمكروه والمباح بقصد التعليم وإن
كان فعلهما بعد انضمام القصد المذكور إليهما راجعا إلى فعل الراجح
فالوصف لاحق لهما مع قطع النظر عن ضميمة القصد هذا إذا دار
الامر بين تخصيصين وأما إذا دار بين تخصيص ونسخ فالظاهر تقديم
التخصيص على ما سبق ثم ما ذكرناه في فعله يجري في فعل
الأئمة ما عدا
احتمال النسخ ويعرف الكلام فيه بالمقايسة
القول في المطلق والمقيد
فصل المطلق ما دل على معنى شائع في جنسه
شيوعا حكميا فالمراد بالموصولة اللفظ الموضوع بدليل أن الغرض
هنا لا يتعلق بالبحث عن غيره فخرجت المهملات ولك أن تقول هنا
ما سيأتي ذكره في حد المجمل وبالمعنى كل ما صح أن يقصد باللفظ
فدخل المعنى الحقيقي والمجازي حتى المقيد الذي استعمل فيه
لفظ
المطلق من حيث الخصوصية إذا اعتبر من حيث شيوعه والمراد
بقولنا شائع في جنسه أن يكون المعنى حصة محتملة لحصص الجنس
أي
فردا منتشرا بين أفراد الجنس كما هو الظاهر منه فخرج العلم الشخصي
والمعرف بلام العهد الخارجي وألفاظ العموم الشمولي و
النكرة
217

المستعملة في حصة معينة والمطلق المقيد وما دل على الماهية من
حيث هي وأما العلم الشخصي والمعرف بلام العهد فظاهر إذ لا
شيوع
فيهما وأما ألفاظ العموم الشمولي فلان مداليلها جميع الحصص
أفراديا أو مجموعيا لا حصة شائعة وما يقال من أن ألفاظ العموم أيضا
تدل على حصة شائعة فلا بد في الاحتراز عنها من زيادة قولنا على
البدل فإن أريد العموم الشمولي ففيه منع الصدق كما عرفت وإن
أريد العموم البدلي ففيه أن زيادة القيد المذكور لا تساعد على
إخراجها كما سيأتي وأما النكرة المستعملة في حصة معينة في الواقع
فلعدم احتمالها لغيرها واقعا وإن احتمله في نظر السامع أو المستعمل
وأما المطلق المقيد فلانه وإن دل على حصة شائعة حيث يدل
عليها إلا أنها غير شائعة بين جميع ما يتناوله اللفظ بالشيوع الحكمي
عند التجرد عن القيد كما هو الظاهر من إطلاق الحد بل بعضها و
إنما لم نعتبر الشيوع في جميع حصص الجنس لئلا يخرج المطلقات
المنصرفة إلى أفرادها الشائعة فإنها تعد مطلقات وإن لم يتحقق لها
الشياع المذكور ومما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره صاحب المعالم تبعا
للعضدي من أن المراد كونه دالا على حصة محتملة لحصص
كثيرة فإن الحد بهذا المعنى يصدق على المطلق المقيد مع أنه لا
يسمى بحسب الاصطلاح مطلقا قطعا وإن سمي به حيث المركب
أعني
مجموع القيد والمقيد كما يسمى به من حيث ذاته مع قطع النظر عن
التقييد وأما ما دل على الماهية من حيث هي فلعدم دلالته على معنى
شائع بالمعنى الذي سبق ويخرج بقولنا شيوعا حكميا ألفاظ العموم
البدلي كمن في الاستفهام فإنه وإن دل على معنى شائع في أفراد
جنسه أعني جنس العاقل مثلا إلا أن شيوعه وضعي لا حكمي والقوم
قد أهملوا هذا القيد فيرد ذلك على طردهم ويبقى في الحد النكرة
المطلقة والعهد الذهني فإن المراد بدلالته على الحصة ما يعم دلالته
عليها ولو بضميمة خارجية كتعلق الحكم الشرعي به فإنه كما مر
يستحيل تعلقه بالطبيعة إلا من حيث وجودها وهي بهذا الاعتبار
حصة لا غير وما يقال من أن الأحكام الشرعية يجوز تعلقها بالطبائع
من حيث هي فلا حاجة إلى أخذها حيث يتعلق
بها باعتبار الحصة فكلام ظاهري قد أظهرنا فساده في غير موضع لكن
يخرج عن الحد مثل المفرد المعرف والمنكر حيث يؤخذان
باعتبار العموم الشمولي بقرينة حكمة أو مقام لعدم دلالتهما مع
الضميمة على حصة شائعة بل على جميع الحصص ولا بأس بالتزامه
كما
يرشد إليه تعرضهم لتلك المباحث في مبحث العام دون المطلق وإن
كان التعرض لها هناك تبعيا عند من اعتبر العموم الوضعي في
تعريف العام كما هو المعروف مع إمكان إدخاله في المطلق فيكون
تعرضهم لها في مبحث العموم منزلا على الاستطراد وعدم تعرضهم
هنا لها لسبق الذكر كما تركوا جملة من مباحث المقام لذلك وربما
يساعد على ذلك أنه لما كان غرض الأصولي يؤدي إلى البحث عن
الألفاظ المتناولة لجزئيات مداليلها من حيث إنها متناولة لها وكان منها
ما يتناول أفراد مفهومه بالوضع ومنها ما يتناولها بالحكمة
فاحتاجوا إلى البحث عن كل منها فأفردوا لكل منهما مبحثا فأوردوا ما
كان من القسم الأول في المبحث السابق وما كان من القسم
الثاني في هذا المبحث وربما استطردوا ببعض مباحث الثاني في
الأول رعاية لقضية المقام وعلى هذا فينبغي أن يعرف المطلق بأنه
اللفظ المستغرق لحصص جنسه استغراقا حكميا والوجه في قيوده
ظاهر مما مر ومنهم من جعل المطلق عبارة عن الماهية من حيث هي
فرق بينه وبين النكرة بأنه عبارة عن الماهية من حيث هي وهي عبارة
عن الماهية بشرط الوحدة أعني الفرد المنتشر وغلط القائل بأن
المطلق عبارة عن الدال على واحد لا بعينه ووافقه الشهيد الثاني في
ذلك حيث فرق بين المطلق والعام بأن المطلق هو الماهية لا بشرط
شئ والعام هو الماهية بشرط الكثرة المستغرقة ولا ريب أن هذا
المعنى مما لا يوافق مصطلح القوم في المقام لاطباقهم على أن مثل
تحرير رقبة مطلق وربما يوجه تنزيله على أن المراد برقبة هو الجنس و
التنوين فيها للتمكن كما في جاءني رجل لا مرأة وتعين
الامتثال بفرد منها لا ينافيه نظرا إلى حصول الطبيعة فيه وامتناع
تحصيل الحاصل وهو كما ترى مع أن كلا من المطلق و
النكرة والعام في مصطلحهم موضوع لما هو من جنس اللفظ فلا وجه
لتفسيره بالماهية التي هي من قبيل المعنى مع أن ما أورد في
تعريف النكرة ربما يتناول العهد الذهني أيضا مع أنه لا يسمى في
الاصطلاح نكرة قطعا وما أورد في تعريف العام يتناول بظاهره
مدلول النكرة حيث يؤخذ على البدلية بين الافراد إذ لم يعتبر أن تكون
دلالتها على الكثرة وضعية ولو أريد بها الكثرة الشمولية لا
البدلية لا تنقض عكس الحد بالعام البدلي وكذا يتناول العام
المخصص والمطلق المقيد إذا اشتملا على كثرة إذ لم يعتبر استغراقه
لجميع الافراد ويمكن توجيه كلام الشهيد بتنزيله على التوسع و
التسامح بحمل الماهية فيه على ما دل على الماهية أو أن المراد
بالمطلق
والعام مدلولهما نظرا إلى أن تعريف أحدهما موصل إلى تعريف الاخر
وأن المراد بالشرط الذي اعتبر نفيه في المطلق ما اعتبر ثبوته
في العام أعني الكثرة المستغرقة وأراد بها ما اعتبر منها في وضع اللفظ
وبالنسبة إلى جميع الافراد فيرجع كلامه إلى أن المطلق ما
وضع للماهية لا بشرط الكثرة المستغرقة والعام ما وضع الماهية
بشرط الكثرة المستغرقة لافرادها ولا يخفى ما فيه من التعسفات و
يمكن تمشية بعضها في الفرق الاخر أيضا وقد يوجه بأن الشئ
المعتبر نفي اشتراطه في حد المطلق عبارة عن شئ خاص ويعتبر
الاطلاق بالنسبة إليه فيصدق على مثل رقبة مؤمنة نظرا إلى عدم
اشتراط قيد الصغر أو الكبر مثلا فيها أو أن المراد في الفرق الأول أن
مثل رقبة مطلق من حيث دلالتها على الماهية لا بشرط ونكرة من
حيث تقيدها بالفرد المنتشر ولا يخفى ما فيه هذا والمقيد ما اختص
دلالته ببعض ما دل عليه المطلق من حيث إنه كذلك فدخل فيه العلم
وما بحكمه والمطلق
218

المستعمل في المقيد مجازا والعام واسم الجنس مفرد أو مركبا إذا
اختصت بالدلالة على بعض ما دل عليه المطلق واعتبرت بالقياس
إليه كما لو قال أكرم عالما ثم قال أكرم زيدا العالم أو هذا الرجل العالم
أو الفقهاء أو الفقيه أو العلماء الفقهاء أو العالم الفقيه ونحو ذلك
وهذا التعميم هو المناسب لما يقتضيه المقام فإن الظاهر أن المباحث
اللاحقة للمقيد عندهم لاحقة للجميع ويخرج عنه المذكورات حيث
لا
يكون لها مطلق أو لا تعتبر بالنسبة إليه فإنها حينئذ لا تسمى مقيدا في
الاصطلاح وقد يعرف بأنه ما أخرج من شياع فيختص بالمطلق
المقيد كرقبة مؤمنة فإن الرقبة وإن كانت باعتبار نفسها مطلقة من حيث
شيوعها في حصص جنسها لكنها باعتبار تقييدها بوصف
المؤمنة مقيدة لخروجها بهذا الاعتبار عن الشيوع واختصاصها
بالبعض وربما يتناول المطلق الذي أخرج من شياعه بالوضع أيضا
كالانسان إذا جعل علما لرجل إلا أن يقال المراد ما أخرج بالتقييد لأنه
المتبادر من إطلاقه هنا فلا يتناول ذلك وقد نص صاحب المعالم
على أن هذا هو الاصطلاح الشائع في المقيد وهو غير بعيد إلا أن
الأظهر هو المعنى الذي ذكرناه على ما يساعد عليه فحاوي مباحثهم و
إطلاق المقيد فيه على غير المطلق المقيد كالعلم إنما هو باعتبار تحقق
المطلق مقيدا فيه أو باعتبار الحكم وعرفه العضدي بما دل لا على
شائع في جنسه قيل وإنما أخر اعتبار النفي عن الدلالة لئلا ينتقض
بالمهمل ويضعفه أن المهمل لا جنس له كما يقتضيه لفظ الحد في
متفاهم أهل الاستعمال وهذا التعريف يتناول اسم الجنس مطلقا لعدم
دلالته على حصة شائعة وكذلك ألفاظ العموم الشمولي ومطلق
المعهود الخارجي والمطلق المقيد ولا يدخل فيه العلم الشخصي
مطلقا إذا أريد كون الجنس مدلولا عليه في المقيد بالمطابقة وتدخل
إن
أريد ما يعم الدلالة التضمنية مطلقا ومثله العام الذي يدل على جنسه
بالتضمن كالنساء والموصولات والتحقيق أن هذا المعنى أيضا غير
مناسب للمقام كما لا يخفى
فصل إذا ورد مطلق ومقيد
فإما أن يكون مؤداهما حكمين تكليفيين متحدين نوعا أو مختلفين أو
وضعيين كذلك أو يكون أحدهما تكليفيا والاخر وضعيا فإن كان
الأول فإن تعدد مورد الحكم فلا حمل سواء كانا مرسلين أو معللين مع
اتحاد الموجب واختلافه أو كان أحدهما مرسلا والاخر معللا نحو
أكرم هاشميا جالس هاشميا عالما إذ وقوع التقييد في أحدهما لا
يوجب وقوعه في الاخر لا عقلا ولا عرفا وإن قدر بين إطلاق أحدهما
وتقييد الاخر منافاة ويظهر الثمرة فيما لو نسخ عنه الامر بالمقيد أو
عصي فيه على ما مر تحقيقه في مسألة الضد وكذا إذا اتحد مورد
الحكم مع تعدد الموجب نحو إن ظاهرت فأعتق رقبة وإن أفطرت
فأعتق رقبة مؤمنة لما مر وخالف في ذلك الشافعي فالتزم فيه بحمل
المطلق على المقيد وحمله أكثر الشافعية على ما إذا كان هناك جامع
فيكون الحمل بالقياس وحكى بعضهم عنه المصير إلى الحمل وإن
لم يكن فيه جامع لان كلام الله واحد يفسر بعضه بعضا وضعف كل
من القولين على أصولنا ظاهر لا سيما الأخير وأما على أصولهم
فالقول الأول متجه لكن قد وافقنا على منعه بعض أهل الخلاف و
احتج عليه بأنه لو جاز لكان نسخا للحكم الشرعي وهو التخيير الثابت
من الاطلاق بالقياس وأنه غير جائز وأورد عليه أولا بالنقض
بالتخصيص فإن هذا البعض قد أجاز تخصيص العام بالقياس فيلزمه أن
يكون القياس ناسخا للحكم الشرعي وهو العموم وهذا النقض إنما
يرد لو أجاز هذا القائل تخصيص العام بالقياس على أصل متأخر
الورود عن العام وأما لو خصه بالمتقدم فلا ورود له عليه إذ لم يثبت
عمومه حينئذ لمقارنة القياس معه ومنه يظهر بطلان إطلاقه المنع
في المقام أيضا وثانيا بأن مفاد الامر بالمطلق ليس الامر بمقيداته على
التخيير وإنما مفاد الامر بالامر الكلي سواء فسر المطلق
بالماهية من حيث هي أو بالحصة الشائعة أما على الأول فظاهر وأما
على الثاني فلان الحصة الشائعة أيضا كلي لصدقه على
حصص كثيرة نعم لما كان مأمورا بإيجاد الطبيعة وهي لا يتحقق إلا في
ضمن الفرد وجبت الافراد تخييرا من باب المقدمة ويضعف هذا
الوجه ما حققناه سابقا من أن مورد الطلب إنما هو الامر الخارجي من
الوجود الخارجي أو الماهية الخارجية وهما شخصيان وأن مدلول
النكرة جزئي مردد لا كلي فيرجع التكليف بهذا الاعتبار ولو بضميمة
الحكمة إلى التخيير وإن رجع باعتبار الطبيعة المطلوب إيجادها
إلى التكليف التعييني نعم يتجه عليه أنا لا نسلم أن النسخ عبارة عن
مطلق رفع الحكم الثابت ولو في الظاهر وتحقيق الكلام فيه يأتي في
بحث النسخ إن شاء الله وإن اتحد مورد الحكم واتحد الموجب فإن
كانا أمرا فقد أطبقوا فيه على وجوب حمل المطلق على المقيد بمعنى
تعين العمل بالمقيد بعد وروده واشترط فيه بعضهم كالسيد العميد أن
يعلم وحدة التكليف ولا حاجة إليه لان الكلام فيما يقتضيه المطلق
والمقيد بالنظر إلى ذاتهما ولا ريب أن الظاهر منهما بحسب العرف
وحدة التكليف نعم لو قام دليل في مقام على تعدد التكليف فلا
حمل إذ لا موجب له كما لو تعدد المورد وينبغي تنزيل إطلاق كلام
الآخرين على ذلك ثم اختلفوا في وجه الحمل فالأكثرون على أن
المقيد مبين للمراد بالمطلق سواء تقارنا أو تقدم أحدهما على الاخر و
ذهب قوم إلى أن المقيد إذا تأخر كان ناسخا للمطلق وهذا النزاع
يحتمل أن يكون لفظيا ويحتمل أن يكون معنويا وتحقيقه أن لقول
القائل إن ظاهرت فأعتق رقبة شمولا من حيث الافراد وشمولا من
حيث الأزمان فإذا تعقبه قوله إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة احتمل أن
يكون رافعا لشموله الافرادي فيكون تقييدا ولشموله الازماني
فيكون نسخا والنزاع على هذا معنوي أو نقول لا كلام في أن الثاني إنما
يرفع الشمول الافرادي حقيقة وإنما الكلام في أنه هل يسمى
نسخا نظرا إلى رفعه للحكم
219

ظاهرا في بعض الأزمان أولا والنزاع على تقديره لفظي لكنه بعيد هذا
والتحقيق عندي في المقام تفصيل آخر وهو أن المقيد إما أن
يرد بعد حضور وقت الحاجة أو قبله ففي الأول يتعين إبقاء المطلق
على إطلاقه والتصرف في الامر بالمقيد يجعله تكليفا آخر أو بحمله
على الوجوب التخييري أو الأفضلية أو الندب لكن الأخير إنما يتم
على القول بجواز توارد الوجوب والندب على الشئ الواحد مع
تغاير
الجهة وقد مر الكلام فيه نعم لو علم وحدة التكليف وأن الامر بالمقيد
للوجوب التعييني تعين كونه ناسخا لئلا يلزم تأخير البيان عن
وقت الحاجة وما سبق إلى أنظار بعض المتأخرين من أن المقيد إذا
ورد بعد العمل بإطلاق المطلق يكون ناسخا لا غير فهو على إطلاقه
غير مستقيم لان الامر بالمقيد حينئذ إذا احتمل أحد الوجوه المذكورة
رجح الحمل عليه على النسخ وإن كان مجازا لتقدم المجاز على
النسخ من حيث ندرة النسخ وشيوع المجاز مضافا إلى أصالة بقاء
الحكم الثابت وأما على ما نراه من كون الامر حقيقة في الموارد الثلاثة
وإن كان خروجا عن ظاهره فالرجحان أظهر وكأنه قاس ذلك بالخاص
الوارد بعد العمل بعموم العام وهو كما ترى لظهور التنافي
هناك بخلاف المقام وفي الثاني يتعين حمل المقيد على المطلق و
تنزيل المقيد على كونه بيانا للمطلق ما لم تيقن إطلاقه بمعاضد
خارجي
كالشهرة والتأكيد فيحمل على إطلاقه مع الترجيح وحينئذ فيحمل
الامر بالمقيد على التخيير أو الأفضلية ويتوقف مع التكافؤ ويرجع
الثمرة حينئذ إلى التقييد لكن مثل ذلك خارج عن محل البحث إذ
الكلام في المحمل من حيث الاطلاق والتقييد لا من حيث القرائن
الخارجية والمستند على التقييد فيما ذكرناه فهم العرف كما يظهر
بالتأمل في مواقعه وموارد استعماله ولأن الظاهر من الامر
الايجاب التعييني كما أن الظاهر من المطلق الاطلاق فيتعارضان إذ
التقدير اتحاد التكليف فلا أقل من تكافؤ الاحتمالين إن لم نقل
برجحان التقييد لشيوعه فيتعين العمل بالمقيد تحصيلا للبراءة اليقينية
فإن العمل بالمقيد يوجب تعين
الخروج عن العهدة لاشتماله على العمل بالمطلق أيضا بخلاف العمل
بالمطلق في غير مورد التقييد فإنه لا يوجب تعين الخروج عن العهدة
ولا امتثال شئ من الخطابين أما الخطاب بالمقيد فظاهر وأما
بالمطلق فلجواز أن لا يراد به الاطلاق وأيضا شمول المطلق لغير
المقيد
مستند إلى دليل الحكمة وهو لزوم الترجيح من غير مرجح ومع ورود
الامر بالمقيد يتحقق المرجح وهو كون المقيد مقطوعا بالإرادة
فلا يتمشى الدليل واحتجوا في المشهور بأن في العمل جمعا بين
الدليلين لان العمل بالمقيد يستلزم العمل بالمطلق بخلاف العكس و
اعترض عليه بأن هذا إنما يتم إذا لم يكن هناك احتمال التجوز في
الامر بالمقيد بإرادة التخيير أو الأفضلية أو كان ذلك الاحتمال لكن
كان مرجوحا بالنسبة إلى التقييد وأما مع تساوي الاحتمالين فيشكل
الحكم بترجيح أحدهما بل يحصل التعارض المقتضي للتساقط أو
التوقف ويبقى المطلق سليما عن المعارض وأجيب بأن الحمل على
المقيد يوجب يقين البراءة في العمل بخلاف الحمل على المطلق فإنه
لا
يوجب اليقين فيتعين بالترجيح ورد بأنه مع احتمال التجوز في المقيد
لا علم باشتغال الذمة بما زاد على المطلق فلا يجب تحصيل العلم
بالبراءة منه وأورد عليه بعض المعاصرين بأنه إنما يتم إذا علمنا بأنا
مكلفون بعتق رقبة ما ثم شككنا في كون الايمان شرطا فيه
فتمسك في نفيه بالأصل وليس المقام كذلك لأنا عالمون فيه بأنا
مكلفون إما بالمطلق أو بالمقيد فالمكلف به مجمل لا يحصل اليقين
بالبراءة منه إلا بالمقيد وعندي في جميع ما ذكروه نظر أما في
الاحتجاج فلان مجرد الجمع لا ينهض دليلا على التقييد لان في حمل
الامر على الأفضلية أو التخيير أيضا جمعا بين الدليلين فلا بد أيضا من
بيان الوجه في ترجيح هذا الحمل كما فعلناه أما في الاعتراض فلان
البحث هنا فيما إذا ورد أمر بالمطلق وأمر بالمقيد ولا ريب أن مجرد
ذلك لا يوجب احتمال التجوز في الامر أو الخروج عن ظاهره
احتمالا مساويا للتقييد أو راجحا عليه فإن التقييد
لشيوعه وغلبته يترجح على غيره من أنواع المجاز ومخالفة الظاهر و
إن فرض هناك ما يوجب تقوية الاطلاق والوهن في دلالة الامر
فهو خارج عن محل البحث كما نبهنا عليه ثم على تقدير تساوي
الاحتمالين يتعين التوقف والرجوع إلى الأصول والقواعد الخارجية
إذ
لا نسلم بقاء المطلق حينئذ سليما عن المعارض كيف وقضية التساوي
سقوط كل عن درجة الاعتبار وذلك لأنه إن أبقي حينئذ كل منهما
سليما كان إخلالا بما يقتضيه التعارض وإن أبقي أحدهما كان ترجيحا
بلا مرجح فيتعين إسقاطهما ويرجع في الثمرة إلى التقييد لا
يقال لعل لرد بقاء إطلاق سليما عن المعارض للشك في تقييد المطلق
إياه للشك في تقييد المطلق لأنا نقول هذا على بعده عن ظاهر
كلامه غير مستقيم لان إطلاق الامر بعد التعليق تابع لاطلاق المتعلق أو
المجموع دون نفس الامر كما يظهر بالتأمل في نظائره كالأمر
المتعلق بالمشترك بين الجزئي والكلي أو الكل والجز وغيرهما ولا
إطلاق هنا بشئ من الاعتبارين وأما في الجواب فلان ظاهره
يؤذن بالاعتراف بما ادعاه المعترض من بقاء المطلق عند تساوي
الاحتمالين سليما عن المعارض فنقول الاطلاق السليم عن المعارض
حجة شرعية يوجب العلم بالبراءة في العمل بحسبه كما لو لم يكن
هناك مقيد أصلا فلا حاجة في تحصيله إلى العمل بالمقيد وأما في
الرد
فلما بيناه في محله من عدم جريان أصل البراءة في الأجزاء والشرائط
نعم من يرى جريان الأصل المذكور فيها يلزمه صحة التمسك به
هنا ومنه يظهر ضعف إيراده على مذهبه وما يخيله من الفرق ففساده
مما لا يحتاج إلى بيان وقد يستدل على ترجيح التقييد بأن
220

إرادة التخيير والاستحباب من الامر مجاز مطلقا بخلاف إرادة المقيد
من المطلق فإن له جهة حقيقة كما صرحوا به وهذا لا يستقيم على
ما نراه من أن الامر حقيقة في الايجاب التخييري والاستحباب أيضا
بل كونه حقيقة في الامر الأول مما لا ينبغي التأمل فيه وإن كان
خلاف الظاهر من إطلاقه ثم حمله على الاستحباب غير مستقيم
بظاهره كما حققناه في مبحث عدم جواز اجتماع الأمر والنهي نعم
يستقيم حمله على الأفضلية وهي راجعة إلى التخيير وإن كانت
أخص منه والفاضل المعاصر بعد أن سلم مجازية الامر في الامرين
أورد
عليه بأنه إن أراد بذلك مجرد هذه الملائمة وهي إمكان إطلاق المطلق
على المقيد في نفسه بطريق الحقيقة وإن كان الواقع منه في
المقام خلافه فله وجه وإن أراد أن استعماله في المقام بطريق الحقيقة
ولو في بعض موارده فمدفوع بأن خصوصية القيد مرادة من
المطلق في المقام وإن لم يتعين عند المخاطب فلا يكون الاستعمال
على وجه الحقيقة نعم يمكن دعوى الحقيقة مع عدم التعيين عند
المخاطب في القصص والحكايات لكن ليس المقام من هذا القبيل
لاستحالة تعليق الحكم على المبهم ولو فرض وقوعه والعلم به بقرينة
متأخرة ظهر بعد القرينة أنه كان مجملا فيكون مجازا أيضا لخروجه عن
ظاهره إلى الاجمال فإن الاجمال كما يتحقق فيما ليس له ظاهر
كذلك يتحقق فيما له ظاهر كما صرحوا به والظاهر الحقيقة فالخارج
عن الظاهر خارج عن الحقيقة هذا محصل مرامه وفساده من وجوه
أما أولا فلان ظاهر كلامه يعطي بالتزامه بتمامية الاحتجاج على تقدير
إرادة الوجه الأول وليس كذلك لان مجرد إمكان إطلاق المطلق
على المقيد حقيقة على تقدير لا يوجب ترجيح مجازه على غيره من
المجازات ثم على تقدير تماميته فلا وجه لايراده في مساق الايراد كما
يظهر من بيانه وأما ثانيا فلان منعه من جواز إطلاق المطلق في المقام
على المقيد بطريق الحقيقة غير سديد وتعليله بأن الخصوصية فيه
مرادة من المطلق عليل لتوجه المنع عليه حيث لا قرينة عليه كما هو
المتداول ولعل منشأ الوهم عدم الفرق بين دخول القيد فيما أريد من
مجموع الكلام ولواحقه وفيما أريد من لفظ المطلق أو توهم الاستلزام
بينهما مع وضوح الفرق وانتفاء الملازمة وأما ثالثا فلان احتجاجه على
المنع في المقام بلزوم تعلق الحكم بالمبهم غير صحيح لأنه إن
أراد الابهام بحسب الظاهر كما يساعد عليه التزامه بالاجمال على
تقدير الوقوع فبطلان اللازم عند القائلين بجواز تأخير بيان المجمل
كما هو مختاره غير معقول وإن أراد الابهام بحسب الواقع فالملازمة
ممنوعة ولعل منشأ توهمها أن مدلول المطلق قد يؤخذ لا بشرط و
يحكم عليه بحكم فيثبت له الحكم على الاطلاق ويكون المطلق
حينئذ مطلقا على الماهية باعتبار الاطلاق وقد يؤخذ بشرط ويحكم
عليه
بحكم فيكون الحكم مقصورا على موارد الشرط ويكون المطلق
حينئذ مطلقا على الماهية باعتبار الخصوصية وحيث ينتفي الاحتمال
الأول كما في المقام يتعين الثاني فيلزم أن يكون الاستعمال مجازا ولا
سبيل إلى جعل الحكم حينئذ متعلقا بمدلول المطلق مجردا عن
الاعتبارين لأنه مبهم فيمتنع وجوده فيمتنع وجوبه وضعفه ظاهر لان
مدلول المطلق ليس إلا نفس الماهية أو الماهية المقيدة بوحدة
شخصية مجردة عن اعتبارها مقيدة بالشرط الزائد على مدلولها و
عدمه نعم لا يتعلق بها حكم إلا بأحد الاعتبارين ولا يلزم من ذلك أن
يكون الاعتبار داخلا في مدلولها بل يجوز أن يكون خارجا عنها
مستفادا من أمر مقارن أو متأخر وبالجملة فالمتكلم إذا لم ينصب
قرينة على إرادة المقيد من المطلق مطلقا فأي ثمرة يمكن تعلقها بين
أن يريد به المقيد من حيث الخصوصية أو لا من حيث الخصوصية لان
دلالة المطلق في نظر السامع على التقديرين سواء وكما يصح أن يريد
الامر المتكلم بالمطلق المقارن للقيد معناه لا من حيث الخصوصية
ويريد الخصوصية من القيد والتقييد كذلك يصح في صورة التفارق و
الفرق تحكم واضح واعلم أن من أنكر ظهور الأوامر الواردة في
أخبارنا المروية عن الأئمة في الوجوب عند تجردها عن القرينة لشيوع
استعمالها في الندب لا مدفع له عن الاعتراض المذكور بالنسبة
إلى ما ورد في كلامهم إن كان ممن يرى جواز حمل الامر بالمقيد على
الاستحباب لان مجرد الاحتمال لا تكافئ الظاهر ولا يعدل عن
الدليل لكن من هؤلاء من عول على الجواب
المذكور في دفع الاعتراض من غير تفصيل وهو كما ترى هذا وزعم
بعض المتأخرين أن إطباقهم على وجوب حمل المطلق على المقيد
هنا مبني على قولهم بحجية مفهوم الوصف حيثما يرد في مقابلة
المطلق ورجحان التأسيس على التأكيد وأن اختلافهم فيه في مبحث
المفاهيم مبني على ملاحظته في نفسه وبالجملة فكلامهم هنا في
ثبوت الدلالة في مورد خاص بالقرينة وكلامهم هناك مبني على قطع
النظر عنها فإنهم قد يبحثون عن دلالة اللفظ باعتبارين تارة باعتبار كونه
مطلقا وأخرى باعتبار كونه مقيدا فنفي الدلالة أو إثباتها
في أحدهما لا ينافي خلافه في الاخر ونظيره مصير الأكثر إلى أن الامر
يقتضي الايجاب مع اختلافهم في مبحث آخر في دلالته عليه إذا
ورد عقيب الحظر هذا محصل كلامه ومنقح مرامه وفساده واضح لان
ما ينفرد به التقييد بالوصف في المقام عن التقييد في غيره إنما
هو وروده في مقابلة المطلق وهو لا يصلح وجها لثبوت المفهوم وإلا
لكان ثبوته عند عدم وروده في مقابل المطلق أولى لعرائه حينئذ
عن المعارض المنافى ولو أضاف إلى ذلك الوجوه المتقدمة لاتجه
عليه أن قضية تلك الوجوه بثبوت التقييد بنفسها لا بالمفهوم بل
التحقيق أن مبنى ذلك على ملاحظة المنطوقين كما يرشد إليه
احتجاجهم عليه بالجمع بين الدليلين وشبهه ولهذا لا يختص الحكم
بما إذا
كان القيد مشتملا على وصف بل يثبت وإن لم يشتمل عليه كما إذا
كان المقيد ذاتيا أو مضافا أو ظرفا أو لقبا أو شبه ذلك وإلزام الكل
بالتزامهم ثبوت المفهوم في جميع ذلك حيث يرد في مقابلة مطلق
مما لا خفاء في سقوطه نعم للقائل بتلك المفاهيم كلا أو بعضا أن
يتمسك به هنا أيضا إلا أن مجرد ذلك لا يكفيه في الحمل هذا وأورد
بعض المعاصرين على الوجه المذكور بأن مفاد الكلام على تقدير
اعتبار
221

الحمل بالمفهوم مجرد عدم وجوب ما عدا المقيد وعلى تقدير اعتبار
الحمل بالمنطوق عدم جواز ذلك لان المطلق بالخطابين إما مطلق
الطبيعة أو خصوص المقيد وعلى التقديرين فالمقصود يتحقق بفعل
المقيد فيكون الاتيان بغيره حراما هذا ما يقتضيه ظاهر كلامه وهو
مما لا يعقل له وجه إذ ليس قضية الحمل باعتبار المنطوق إلا مطلوبية
الخاص وأما عدم جواز فعل ما عداه فهو إنما يأتي من قبيل
التشريع وهو آت على تقدير اعتبار المفهوم أيضا على أنا لم نقف على
مصرح في المقام بأن قضية الجمع عدم جواز الاتيان بما عدا
المقيد فما المانع من تنزيل كلامهم على ما ادعاه في المفهوم من قضاء
الجمع بعدم وجود ما عدا المقيد نعم ربما يتجه عكس ما ذكره بناء
على تفسير البدعة بإدخال ما علم خروجه من الدين فيه كما لا يخفى
حجة الأكثر على كون المقيد بيانا للمطلق أن التقييد المتأخر لو كان
نسخا لكان التخصيص المتأخر أيضا نسخا لتساويهما في نفي الشمول
ولكان المطلق عند تأخره عن المقيد أيضا نسخا له لان ما يوجب
ذلك وهو التنافي متحقق من الطرفين وبطلان كل من اللازمين معلوم
بالاتفاق وأجيب عن الأول بأن في التقييد حكما شرعيا يرفع
حكما شرعيا فيكون نسخا بخلاف التخصيص فإنه لا حكم فيه ولا
رفع بل إنما هو مجرد دفع وعن الثاني بأن التقييد المتأخر يثبت
حكما لم يكن قبل بخلاف العكس لثبوت حكم المطلق فيه مع الزيادة
وهو إنما يرفع تلك الزيادة ويرد على الجواب الأول أن في
التخصيص أيضا حكما شرعيا يرفع حكما شرعيا فإن المراد
بالتخصيص التخصيص بالمخالف كما يقتضيه بيان الملازمة ولا ريب
في
أن التخصيص بقولنا لا تكرم هذا العالم يرفع حكما شرعيا استفيد من
العام المتقدم أعني قولنا أكرم العلماء مثلا وهو وجوب إكرام
ذلك العالم ويثبت حكما شرعيا لم يكن ثابتا وهو عدم وجوب إكرامه
فيبطل الفرق المذكور وعلى الجواب الثاني بأن المطلق المتأخر
لو رفع حكم الزيادة كما عليه مبنى الجواب لكان مثبتا للحكم في
المطلق من حيث كونه مطلقا ورافعا له عن المقيد من حيث كونه مقيدا
فيكون كالمقيد المتأخر في كونه مثبتا لحكم شرعي فلا يستقيم الفرق
المذكور بل الوجه في الفرق أن المطلق يتعين حمله على المقيد سوأ
تقدم عليه أو تأخر كما عرفت لكن في صورة تقدم المطلق يثبت به
حكم شرعي يرتفع بالمقيد فيكون نسخا له بخلاف صورة تأخره فإنه
يحمل من أول الامر على المقيد فلا يثبت به حكم شرعي حتى يرفع
بالمقيد فيكون رفعه نسخا كذا قال بعضهم وهو مبني على أن النسخ
عبارة عن رفع الحكم الثابت ولو في الظاهر فيعود على تقديره
الاشكال السابق وهو أن يكون التخصيص أيضا نسخا وهو خلاف ما
اصطلح عليه الكل احتج من قال بأنه نسخ بأنه لو كان بيانا لكان
المراد بالمطلق هو المقيد فيكون مجازا وهو مبني على الدلالة وهي
منتفية إذ لا دلالة للمطلق على مقيد خاص والجواب أما أولا
فبالنقض بالتخصيص فإنه لا يسمى نسخا اتفاقا كما حكاه بعضهم مع
أن الوجه المذكور جار فيه بل جريانه فيه أظهر وأما ما قيل من
النقض بما لو تقدم المقيد فإن المراد بالمطلق حينئذ هو المقيد مجازا
ولا دلالة فيمكن دفعه بأن الدلالة متحققة في صورة السبق كما في
صورة المقارنة بخلاف صورة التأخير وقد مر التنبيه عليه وكذا ما قيل
أيضا من النقض بتقييد الرقبة بالسلامة فإنه مجاز ولا دلالة لها
عليه لما مر وذلك لجواز أن يكون التقييد المذكور عند الخصم
مستفادا من ظهور الاطلاق فيه لا لنص متأخر ولو ثبت فلا نسلم أن
الخصم يساعد على عدم كونه نسخا والحال هذه وأما ثانيا فبالمنع
من كون التقييد مجازا وسيأتي بيانه إن شاء وأما ثالثا فبالمنع من
توقف المجاز على الدلالة إن أريد بها الدلالة المقارنة وإن أريد ما هو
أعم من ذلك منعنا انتفاءه في المقام لتحققها بعد ورود المقيد ثم
لا يذهب عليك أن ما ذكرناه في هذه الصورة من حمل المطلق على
المقيد يجري فيما لو كانا مفردين منكرين كما مر أو معرفين بلام
العهد الذهني نحو إن ظاهرت فأعتق الرقبة إن ظاهرت فأعتق الرقبة
المؤمنة أو مثنيين أو مجموعين منكرين نحو إن ظاهرت فأعتق
رقبتين أو رقابا إن ظاهرت فأعتق رقبتين مؤمنتين أو رقابا مؤمنة وكذا لو
كانا عامين بدليلين
نحو إن ظاهرت فأعتق أي رقبة تيسرت إن ظاهرت فأعتق أي رقبة
مؤمنة تيسرت وأما إذا تعلق أحدهما بالعام المطلق والاخر بالعام
المقيد نحو إن أفطرت فأعتق كل رقبة تملكها إن أفطرت فأعتق كل رقبة
مؤمنة تملكها أو قال فأعتق الرقاب التي تملكها ثم قال فأعتق
الرقاب المؤمنة التي تملكها فلا حمل من حيث الاطلاق والتقييد نعم
يجوز التخصيص حيث نقول بحجية المفهوم المذكور وبجواز
التخصيص به وأما نحو إن جاءك زيد فأكرم العلماء إن جاءك زيد
فأكرم العلماء ببذل الهدايا لهم أو في يوم كذا أو مكان كذا أو ما
أشبه ذلك فهذا من باب المطلق والمقيد فيتعين الحمل إذ عموم
الفعل بالنسبة إلى أفراد العالم لا يقتضي عمومه بالنسبة إلى أفراده ولا
أفراد الزمان والمكان وهذا واضح ثم لا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون
الأمران إيجابيين أو ندبيين لمساعدة العرف على الحمل فيهما
وربما يتخيل في الأخير إبقاء الامر بالمطلق على إطلاقه وحمل الامر
بالمقيد على الأفضلية وهو بالنظر إلى نفس الخطابين بعيد جدا
نعم كثيرا ما يستفاد ذلك بمعونة القرائن لكنه خارج عن محل البحث و
لو كان الأمران مرسلين أو كان أحدهما مرسلا والاخر معللا
فإن استفدنا منهما أو من دليل آخر وحدة التكليف فلا إشكال في لزوم
الحمل كما أنا لو لم نستفد ذلك فلا إشكال في إبقاء كل على
حاله وأما إذا كان نهيين فلا حمل مطلقا بل يتعين العمل بكل منهما
نحو لا تعتق مكاتبا لا تعتق مكاتبا كافرا وهذا القسم قد ذكره
الحاجبي وغيره واعترض عليه العضدي بأنه خارج عن محل البحث
لأنه من باب تخصيص العام لا من باب تقييد المطلق لعموم النكرة
المنفية وجوابه أن عموم النكرة المنفية إنما هو على حسب إطلاق
النكرة وتقييدها كما مر تحقيقه سابقا والكلام
222

هنا إنما هو في تعيين المنفي في الخطاب المتضمن لنفي المطلق و
بيان كونه هو المطلق لا المقيد وإن ورد منفيا بخطاب آخر فلا يخرج
عن محل البحث لا في بقاء النكرة المنفية على عمومها وعدم
تخصيصها بالمقيد فيلزم الخروج عنه والفرق بين المقامين بين ولا
حاجة
إلى ما تكلفه بعضهم من تخصيص التمثيل بصورة لا يقصد فيها
الاستغراق كما في اشتر اللحم مع أن هذا التكلف كما ترى غير مفيد
لأنه
إن أراد بالنكرة فردا لا بشرط كما هو الظاهر من التمثيل لزم من تعلق
النفي بها نفي جميع مصاديقها فيلزم الاستغراق ويعود الاشكال
وإن أراد بها فردا بشرط لا فهذا على بعده مما يتعين فيه حمل المطلق
على المقيد كما مر في الصورة السابقة لاشتراكهما في منشأ الحمل
فلا يصح الحكم بعدم الحمل ويبطل دعوى الاتفاق على العمل بهما
معا كما وقع في كلامه لأنه على تقدير تسليمه إنما يجري في الموارد
المتداولة كما يظهر من التمثيل وعليه ينزل إطلاق كلامهم دون
الفروض النادرة على أن من قال بحجية مفهوم الوصف أو القيد قال
بجواز تخصيص العام به لا يلتزم هنا بالعمل بعموم العام مطلقا فكيف
يتم دعوى الاتفاق عليه هذا ولا فرق فيما ذكرناه بين النواهي
التحريمية والتنزيهية لاشتراك المستند وكذا ما دل على الإباحة فإنه
لا يحمل المطلق منه على المقيد إذ لا موجب له وكذا إذا كان
الحكمان وضعيين أو كان أحدهما وضعيا والاخر تكليفيا مطلقا كما لو
قال الكلب نجس ثم قال السلوقي نجس أو قال اغسل ما يلاقيه إلا
إذا تنافيا نحو أعتق رقبة لا تملك رقبة كافرة فيتعين تقييد الرقبة في
العتق بالمؤمنة إذ لا عتق إلا في ملك نعم على القول بحجية مفهوم
الوصف أو القيد يقع التعارض بين مفهوم المقيد ومنطوق العام أو
المطلق حيث يتنافيان فيحتاج في الترجيح إلى مرجح وقد مر الكلام
فيه في مبحث التخصيص
تنبيه
التحقيق أن التقييد لا يوجب التجوز في المطلق وإن كان على خلاف
الأصل لان اسم الجنس على ما حققناه سابقا موضوع للطبيعة من
حيث هي ومفاد التنوين الداخلة عليه إن كان منونا فرد منها لا على
التعيين أي لا باعتبار التعيين لا باعتبار عدم التعيين فينافي اعتبار
التعيين فيلزم عند اعتباره الخروج عن الوضع وحينئذ فإذا اعتبر معه
تعيين فرد مخصوص أو وصف مخصوص أو عدم التعيين وأريد
ذلك من غير لفظه كان الاستعمال على الحقيقة لان اللفظ لم يستعمل
حينئذ إلا في معناه الأصلي كما في قولك جاءني رجل وأكرم رجلا
عالما ولا وجود لانسان مبهم نعم لو أريد التعيين أو عدمه من لفظ
الجنس أو التنوين أو المجموع كان مجازا قطعا لان اللفظ لم يوضع
له لكن المتداول في الاستعمال خلافه كما نبهنا عليه سابقا وكذا
الكلام في المعرف بلام العهد الذهني وما جرى مجراه ثم لا فرق في
ذلك بين مقارنة المقيد للمطلق وبين عدمها غاية ما في الباب أنه يلزم
على الثاني تأخير بيان بعض المطلوب فيظهر منه أن المطلق لم
يكن مطلوبا بإطلاقه كما في صورة مقارنة المقيد واعلم أن في المقام
مباحث أغناني عن التعرض لذكرها سبق الإشارة إليها منها أن
شمول المطلق لافراده ليس كشمول العام لافراده فإن شمول العام
لافراده بالوضع وشمول المطلق لها بالعقل ومنها أن المطلق
ينصرف عند الاطلاق إلى الافراد المتعارفة في الفردية بحسب مقام
الحكم وإن كانت نادرة الوجود بخلاف ما يقتضي العموم وضعا
فإنه يتناول الجميع ما لم يقم قرينة على خلافه ومنها أن المطلق كما
يأتي للعموم البدلي كذلك يأتي للعموم الشمولي بقرينة مقام أو
شهادة حال كقوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا وقوله تعالى
علمت نفس ما أحضرت وأحل الله البيع وحرم الربا إذا جعل اللام
فيهما لتعريف الجنس من حيث هي وفي إخراج هذا النوع من باب
المطلق وإدخاله في باب العام وجه قد نبهنا عليه سابقا
القول في المجمل والمبين
فصل المجمل ما دل على معنى أو حكم ولم يتضح دلالته
فما بمنزلة الجنس ويخرج بقولنا دل على معنى ما لا دلالة عليه
كالمهمل وما يدل بدلالة غير معتبرة كالغلط المحفوف بالقرينة فإن
الظاهر من الدلالة هي الدلالة المعبرة وقولنا أو حكم عطف على معنى
وبه يدخل مجملات تقرير المعصوم وفعله فإنه يدل على حكم
الفعل شرعا وإن لم يقصد به الدلالة عليه ليكون معنى وإنما قيدنا
الدلالة بأحد القيدين احترازا عن الاجمال في الدلالة العقلية الصرفة
كدلالة صوت على كون الصائت إنسانا أو حمارا فإنه لا يسمى مجملا
في الاصطلاح وقولنا لم يتضح دلالته احتراز عن المبين وقد يجد
بما لم يتضح دلالته فيخرج المبين وهو بين وكذا المهمل لان ظاهره
تحقق الدلالة وانتفاء الوضوح لا يقال قد سبق أن لمهملات الألفاظ
دلالة على أنفسها ولو بضميمة القرائن والمراد بها هنا ما يتناول ذلك
وإلا لانتقض بمجملات المجاز وحينئذ فلا يتجه الاحتراز عنها
بالقيد المذكور فنقول المراد إخراج المهملات بالنسبة إلى ما لا دلالة
لها عليه باعتبار كونه معنى وإن دلت عليه لا بهذا الاعتبار
كدلالتها على لافظها وأما بالنسبة إلى ما يدل عليه بالاعتبار المذكور
فإنما يخرج منها عنه ما اتضحت دلالته لما اعتبر فيه من عدم
وضوح الدلالة ويدخل ما يشتمل منها على عدم وضوح الدلالة
بالنسبة إلى مدلوله ولا بأس به كما لو قيل زيد فاعل وتردد بين لفظين
أو ألفاظ فإن المراد بالدلالة ما يعم الوضعية وغيرها ولولا ذلك لما تم
تقسيم المجمل إلى القول والفعل كما فعله بعضهم ولك إن تنزل
الحد على ما سبق ذكره في حد المطلق وتجعل التقسيم مبنيا على
التوسع في المقسم وقد يعرف أيضا بأنه اللفظ الذي لا يفهم منه عند
الاطلاق شئ ونوقض طردا بالمهمل وبمثل لفظ الممتنع و
المستحيل وعكسا بمثل قوله وآتوا حقه يوم حصاده فإنه يفهم منه
عند
الاطلاق شئ هو المعنى الاجمالي ويمكن دفع الأول بأن المراد
باللفظ اللفظ الموضوع بقرينة أن البحث عن أحوال ألفاظ الكتاب و
السنة
والثاني بأن المراد بالشئ مطلق المدلول فيتناول المفهوم الذهني
أيضا والثالث بأن الظاهر من الشئ الشئ المعين أو أنه
223

حذفت الصفة اختصارا وفيه تعسف ومع ذلك فعكسه منقوض
بمجمل الافعال وقد أطبقوا على دخوله إلا أن يجعل المجمل الذي
هو
موضوع الباب مخصوصا بمجمل الألفاظ وينزل تعرضهم في الأثناء
لغيره من أنواع المجمل بالمعنى الأعم على الاستطراد وعرفه
بعضهم بأنه عبارة عن كون اللفظ بحيث يفهم منه معنى مع احتمال
إرادة غيره احتمالا مساويا وهذا منقوض بمجمل الافعال عند من
يرى
دخوله فيه وبالمجمل الذي يكون إجماله من حيث الجهل بوضعه
فإنه لا يفهم منه معنى قطعا ثم المجمل بالمعنى الأعم قد يكون فعلا و
ذلك حيث لا يقترن به ما يدل على وجه وقوعه وقد يكون لفظا وهو
إما مفرد والاجمال فيه وقد يكون في نفسه كالعين ومثله ما لو
استعمل المتواطي في معين واقعي من غير تعيين في الظاهر نحو و
آتوا حقه يوم حصاده وقد يكون في هيئته الأصلية كتضرب
لاشتراكه بين المؤنث والمذكر أو العارضية كمختار حيث اتحد فيه
هيئة الفاعل والمفعول لما طرأ عليه من الاعلال أو مركب كما في
قوله تعالى أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فإن الموصول بصلته
يحتمل ولي الزوجة فيكون أثر العفو براءة ذمة الزوجة أو الزوج
فيكون أثره استحقاقهما كمال المهر ومنه الاستثناء بمجمل نحو أحل
لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ولا يذهب عليك أن الفرق بين
هذين القسمين اعتباري ثم الاجمال كما يكون بالنسبة إلى المعنى
الحقيقي كذلك يكون بالنسبة إلى المعنى المجازي وذلك حيث
يستعمل اللفظ مع قرينة صارفة ويتعدد المعاني المجازية من غير
قرينة معينة كقولك رأيت شمسا يتكلم حيث يتردد فيها بين الانسان
الجميل والجليل أو يتعين المعنى المجازي لكن يطلق باعتباره على
فرد معين لا دليل في الظاهر على تعيينه نحو جئني بأسد كان معنا
أمس في الحمام وقد يكون بين المعنى الحقيقي والمجازي وذلك
حيث يكون المجاز مشهورا كصيغة الامر في الوجوب والندب عند
صاحب المعالم ومتابعيه وقد يقع الاجمال في الكتابة كحديث لا
سبق المحتمل للسكون والتحريك وفي الإشارة كما لو سئل عن عدد
شئ فأشار
بأصابعه الأربع مثلا مرتين حيث يتردد بين أن يكون المراد بالتكرير
التأكيد أو التأسيس إلى غير ذلك إذا عرفت هذا فاعلم أن هنا
مواضع قد وقع الخلاف في كونها من المجمل ولا بد لنا من إيرادها و
تحقيق ما هو الحق فيها فمنها قوله تعالى والسارق والسارقة
فاقطعوا أيديهما فذهب السيد وجماعة إلى أنها مجملة باعتبار لفظ
اليد حيث يطلق على العضو المعروف إلى الأشاجع وإلى الزند وإلى
المرفق وإلى المنكب فيقال أدخلت يدي في الماء إلى الأشاجع وإلى
الزند وإلى المرفق وإلى المنكب وأعطيت بيدي وإنما أعطاه
بأنامله وكتبت بيدي وإنما كتبه بأصابعه وظاهر الاستعمال دليل
الحقيقة فيحصل الاشتراك ويتأتى الاجمال ومنهم من جعلها مجملة
باعتبار لفظ القطع أيضا لأنه يطلق على الإبانة وعلى الجرح كما يقال
لمن جرح يده بالسكين قطعها وذهب المحققون إلى أنه لا إجمال
فيها بالاعتبارين أما باعتبار اليد فلأنها حقيقة في المجموع فقط بدليل
التبادر فلا اشتراك فلا إجمال وأما إطلاقها على الابعاض
فمجاز بدليل أنها لا تفهم إلا بالقرينة وليس في الموارد المذكورة إلا
مجرد الاستعمال وهو أعم من الحقيقة كما مر والتحقيق أنه يجوز
أن تكون اليد في المواضع المذكورة مستعملة في المجموع ويكون
المسامحة في التعليق حيث علق الفعل المتعلق بالبعض أنه يجوز أن
تكون اليد في المواضع المذكورة مستعملة في المجموع ويكون
المسامحة في التعليق حيث علق الفعل المتعلق بالبعض على الكل و
هو
شائع في الاستعمال يقال دخل زيد في الماء إلى ركبته وإلى ظهره و
إلى ترقوته على أنا لا نسلم استناد الاعطاء والكتابة في المثالين
الأخيرين إلى بعض اليد بل إلى تمامها مع احتمال أن يكون إطلاق اليد
على غير المعنى الأول من معانيها المذكورة على الحقيقة لا
بطريق الاشتراك اللفظي بل المعنوي بأن تكون موضوعة للآلة التي
يتعاطى بها الافعال المعهودة فيصدق على اليد إلى الزند وما فوقه
على الحقيقة لكن يعتبر في صدقه على ما دون المجموع الانفصال و
أما مع الاتصال فالمجموع يد
واحدة قطعا كالحبل والعصي ولهذا لا يقال أي يد يمنى زيد جرحت
إذ لا أيدي يمنى لزيد وأما باعتبار القطع فلانه ظاهر في الإبانة أو
حقيقة فيها بدليل التبادر وإطلاقه على الجرح على خلاف الظاهر و
لهذا لا يصار إليه إلا بقرينة فلا إجمال فيه أيضا ومنها قوله صلى الله
عليه وآله لا صلاة إلا بطهور ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب لا صيام لمن
لم يبت الصيام من الليل لا نكاح إلا بولي إلى غير ذلك مما تعلق
النفي فيه بنفس الفعل فعدها بعضهم من المجمل وفصل بعضهم بين
ما إذا كان الفعل المنفي شرعيا أو لغويا له حكم واحد وبين ما إذا
كان لغويا له أكثر من حكم واحد فعد الثاني منه دون الأول والأكثر
على عدم الاجمال مطلقا وأنه إن أمكن الحمل على نفى المسمى
تعين وإلا فإن أمكن الحمل على نفي الصحة تعين أيضا وإلا حمل
على نفي الكمال وهو المختار لنا على المقام الأول أن ظاهر النفي
يقتضي نفي الماهية لتعلقه بها والتقدير إمكانه فيتعين الحمل عليه ولا
إجمال ولا يذهب عليك أن هذا إنما يتجه في ألفاظ العبادات و
المعاملات بناء على ما نذهب إليه من أنها موضوعة لخصوص
المعاني الصحيحة وأما على القول بأنها موضوعة للأعم منها ومن
الفاسدة
فيمتنع حمل النفي على نفي الماهية مطلقا لان المعنى الأعم لا يلزم
أن ينتفي بانتفاء بعض أجزائه أو شرائطه وعلى المقام الثاني أن
الظاهر من مثله عرفا نفي الصحة أقرب فيتعين تقديرها ولا إجمال لان
ظواهر العرفية حجة كنصوصها والمشهور في الاحتجاج عليه
أن نفي الصحة أقرب إلى نفي الذات من نفي غيرها فيتعين الحمل
عليها لأنها أقرب المجازين بالنسبة إلى الحقيقة المتعذرة واعترض
عليه بأنه من إثبات اللغة بالترجيح وهو فاسد وأجيب بالمنع من كونه
إثباتا لها بمجرد الترجيح بل بمساعدة فهم العرف وهو راجع
إلى ما قلناه واستدل عليه بعضهم بأن الدال على نفي الذات دال على
نفي الصفات أيضا فإذا ترك العمل به في نفى الذات لتحققها وجب
العمل به في الثاني لعدم الموجب ثم أورد على نفسه بأن دلالة النفي
على نفي الصفات عند تعليقه على
224

الذات باللزوم فإذا انتفي الملزوم أعني الدلالة المطابقية انتفي اللازم
أيضا وأجاب بأن اللفظ بالنسبة إلى معانيه المطابقية والالتزامية
بمنزلة العام بالنسبة إلى أفراده فإذا قام الدليل على عدم إرادة المعنى
المطابقي بقي معمولا به في المعاني الالتزامية لعدم المعارض هذا
ملخص كلامه والحق أن الايراد المذكور وارد والجواب فاسد إذ لا
نسلم عموم المنزلة وصريح العرف والاستعمال يكذبه أ لا ترى أنه
حيث يتعذر حمل الأسد في قول القائل رأيت أسدا يرمي على معناه
الحقيقي لا يحمل على الشخص المتصف بجميع ما يمكن اتصافه به
من
لوازمه حتى النجر ونقصان الادراك ولنا على المقام الثالث أن حمل
النفي فيه على نفي الكمال متعين إذ التقدير تعذر نفي الذات و
الصحة وعدم ما يساويه من احتمال آخر ومن هذا الباب قوله عليه
السلام لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد وأما نحو لا علم إلا ما
نفع ولا كلام إلا ما أفاد فقد قيل إن المقصود فيه نفي الفائدة والجدوى
وهو يستلزم خلوه عن الفائدة والجدوى كما لا يخفى بل
الأظهر أن المنفي فيه نفس العلم والكلام تنزيلا لغير النافع منهما منزلة
الخارج عن حقيقتهما كما في قولك للبليد ليس بإنسان احتج
الأولون بأن العرف في مثله يفهم نفي الصحة تارة ونفي الكمال أخرى
وذلك يوجب التردد الموجب للاجمال وأجيب بأنه إن أريد أن
بعض أهل العرف يفهمون الصحة وبعضهم يفهمون الكمال فهذا بعد
تسليمه لا يوجب التردد بل كل صاحب مذهب يحمله على ما هو
الظاهر عنده وإن أريد أن أهل العرف في بعض المواضع يفهمون نفي
الصحة وفي بعضها نفي الكمال فمدفوع بأن فهمهم نفي الكمال
مبني على وجود القرينة المعينة لإرادته وأما عند فقدها كما هو
المفروض فلا يتبادر عندهم إلا نفي الذات أو الصحة احتج المفصل
على
عدم الاجمال في الفعل الشرعي بما مر وفي الفعل اللغوي إذا كان له
حكم واحد بأن ذلك الحكم يختص بالنفي على تقدير تعذر تعلقه
بالذات فلا يلزم أيضا إجمال وعلى ثبوت الاجمال في الفعل اللغوي
إذا تعدد الحكم بأن النفي يصلح حينئذ لان يتعلق بكل واحد ولا
مرجح فيتأتى الاجمال والجواب المنع من عدم
المرجح وقد مر بيانه ومنها التحريم المضاف إلى الأعيان كقوله
حرمت عليكم الميتة الآية وحرمت عليكم أمهاتكم إلى غير ذلك فإن
إضافة التحريم إلى العين غير معقولة فلا بد من إضمار فعل يصلح
متعلقا له فعده بعضهم من المجمل نظرا إلى أن الافعال كثيرة ولا
يمكن إضمار الجميع لان ما يقدر للضرورة يقدر بقدرها فيتعين البعض
ولا مرجح فيتردد وذهب المحققون إلى عدم الاجمال لان مثله
حيثما يطلق فالمتبادر منه عرفا نفي الفعل المقصود منه كالأكل في
المأكول والشرب في المشروب واللبس في الملبوس والنكاح في
المنكوح إلى غير ذلك وهو كاف في ترجيح البعض وهذا فيما يتحد
فيه الفعل المقصود ظاهر وأما المتعدد نحو حرم عليكم صيد
الحرم حيث يحتمل أن يكون المحرم اصطياده أو أكله فالقول
بالاجمال فيه متجه ما لم يكن منافيا للحكمة فيتعين الحمل على
العموم و
كذا الكلام في إضافة سائر الأحكام إلى الأعيان نحو وطعام الذين
أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ومنها آية المسح في
الوضوء
فعدها بعضهم من المجمل لأنه يحتمل مسح كل الرأس وبعضه ولا
أولوية فيتأتى فيها الاجمال والحق عدم الاجمال كما عليه المحققون
إذ يكفي مسح البعض في صدق المسح به عرفا أو نقول الظاهر من
الباقي مثل المقام التبعيض فيكون مرجحا للحمل عليه ولا عبرة
بإنكار سيبويه مجيئها له في سبعة عشر موضعا من كتابه بعد مساعدة
الفهم عليه ومصير بعض المحققين إليه مضافا إلى دلالة بعض
الاخبار عليه واستدل العلامة على نفي الاجمال بأن الباء إن كانت
للتبعيض ثبت التواطؤ فيتخير المكلف بين الابعاض وإلا وجب
الاستيعاب وضعفه ظاهر لان الخصم يدعي تكافؤ الاحتمالين وليس
في ذلك ما يوجب دفعه وقد يجاب أيضا بأن الباء إن دخلت على
محل المسح تعدى الفعل إلى الآلة كما في الآية فيستوعبها دون
المحل وإن دخلت على الآلة تعدى إلى المحل فيستوعبه دون الآلة
نحو
مسحت رأس اليتيم بيدي والظاهر أن العرف لا يساعد على هذا الفرق
فالتفصيل غير مرضي ومنها قوله عليه السلام الاثنان فما فوقها
جماعة والطواف بالبيت
صلاة ونحوه مما له محل لغوي وشرعي فإنه يحتمل أن يكون المراد
به تسمية الطواف بالبيت صلاة والاثنين جماعة أو أن الطواف
بالبيت كالصلاة في اشتراطه بالطهارة والاثنان فما فوقها كالجماعة في
حصول فضيلة الجماعة بهما فمنهم من عد ذلك مجملا لتساوي
الاحتمالين ومنهم من رجح الاحتمال الثاني لان شأن الشارع بيان
الأحكام الشرعية لا اللغوية ويمكن الفرق بين أن يكون الوضع أو
الاستعمال شرعيا وبين أن يكون عرفيا أو لغويا فيبنى على الاجمال
في الأول إذ كما أن شأن الشارع بيان الأحكام الشرعية كذلك
شأنه بيان موضوعاتها ويحمل على بيان الحكم في الثاني لما مر و
ربما أمكن المناقشة فيه بالمنع لما نرى من تشاغله ببيان غير
الاحكام كتشاغله ببيانها فلا ترجيح ويدفعه أن ذلك غير مناف للظهور
المدعى مراعاة لحق المنصب
فصل المبين بالفتح نقيض المجمل وقسيمه
يوصف به اللفظ تارة والفعل أخرى وإن كان وصف اللفظ باعتبار
اتصاف معناه به وأما بالكسر فيوصف به فاعل البيان تارة وما
يقع به البيان أخرى من اللفظ وما بحكمه أو المعنى كما مر وقريب منه
البيان فإنه قد يطلق على التبيين كالكلام والسلام على التكليم و
التسليم ويعرف بهذا الاعتبار بأنه الاخراج من حيز الاجمال إلى حيز
الوضوح وعلى ما يحصل به البيان ويسمى بهذا الاعتبار دليلا
أيضا وعلى الادراك المتعلق به فيقال هو العلم بالدليل والاطلاق
الأخير غير شائع ويعرف المبين بالمعنى الأول بأنه ما اتضحت دلالته
على المعنى المراد فيعم ما يتضح بنفسه كقوله تعالى إن الله بكل
شئ عليم أو بواسطة الغير إذا أخذ معه كقوله تعالى وآتوا حقه وقوله
عليه السلام فيما سقت السماء العشر وينبغي أن يفسر الموصول بما
يتناول المفرد والمركب فإنه يعتبر بالنسبة
225

كالمجمل ويشكل الحد بعدم شموله لمبين الفعل مع أن قضية
المقابلة شموله له إلا أن ينزل على القول بعدم شمول المجمل له ثم
المبين
القولي ينقسم إلى نص ويسمى بالمحكم أيضا وهو ما يدل على معنى
معين ولا يحتمل خلافه في متفاهم أهل الاستعمال سواء كان ذلك
في نفسه أو بمعونة القرائن وإلى ظاهر وهو ما يدل على معناه مع
احتمال غيره إذا كان الاحتمال مرجوحا وقد يطلق المحكم على ما
يعم القسمين ويسمى الطرف المرجوح مؤولا وعرف بالمعنى الثاني
بالاعتبار الثاني بأنه ما دل على المراد بخطاب لا يستقل بنفسه في
الدلالة على المراد واعترض على طرده بالكلام الدال على المعنى
الذي أريد بالمجمل إذا لم يقصد به بيانه كما لو رأى ذهبا فقال رأيت
عينا ثم قال رأيت ذهبا ولم يقصد بالثاني بيان الأول فلا بد في إخراجه
من زيادة قولنا من حيث إنه كذلك أي مراد بذلك الخطاب فإنه
في الفرض المذكور وإن دل على المراد إلا أنه لا يدل عليه من حيث
إنه مراد وفيه نظر لأنا لا نسلم أنه لا يسمى حينئذ مبينا فإن الذي
يظهر من عرف القوم أن العبرة في صدق المبين على مجرد كونه مبينا
سواء قصد به البيان أو لم يقصد ولولا ذلك لاشكل الحال في
كثير من المبينات للشك في تعلق القصد فيها بالبيان ولئن سلمناه فلنا
أن ندفع النقض باستفادة الحيثية من تعليق الدلالة على الوصف
أعني المراد حيث إن فيه إشعارا بالحيثية لكن لا يجدي ذلك إلا بعد
تخصيص الدلالة في صدر الحد بالدلالة المقصودة وعلى عكسه أولا
بالترجمة لمن خوطب بلغة لا يعرفها لكذب الحد عليه إذ يصدق على
الخطاب بتلك اللغة أنه تستقل بالدلالة بالنسبة إلى العارف بها فلا
بد من تقييد قوله يستقل بنفسه بقولنا بالنسبة إلى المخاطب ويمكن
دفعه بأنه كما يصدق على تلك اللغة أنها تستقل بالدلالة ولو
بالنسبة إلى العارف كذلك يصدق عليها أنها لا تستقل بالدلالة ولو
بالنسبة إلى غير العارف فنمنع كذب الحد عليه لكن يرد على هذا
التوجيه أمران الأول أنه خروج عن ظاهر اللفظ فإن المفهوم من قولنا لا
تستقل عدم استقلاله عند كل أحد لوقوعه نكرة في
سياق النفي فيقتضي العموم بخلاف قولنا يستقل بالدلالة فإنه يكفي
في صدقه حصوله ولو عند البعض ولا يشكل الحال بالمجمل حيث
يكون المتكلم مثلا عالما بالمراد لان المراد عدم استقلاله من حيث
الدلالة ولو بضميمة ما اعتراه من الحالة وهذا مما لا يختلف بالنسبة
إلى المتكلم وغيره الثاني أن التأويل المذكور وإن حافظ على عكس
الحد من هذه الجهة إلا أنه يوجب فساد الطرد من حيث صدقه على
الترجمة المذكورة بالنسبة إلى العارف باللغة لصدق عدم استقلال
الخطاب بها بالدلالة ولو بالنسبة إلى غيره مع أنه لا يسمى مبينا بهذا
الاعتبار ويمكن دفعه بأن الظاهر من مساق الحد اعتبار الدلالة وعدم
الاستقلال بالنسبة إلى من اعتبر البيان بالقياس إليه فلا إشكال
وبهذا الجواب يندفع أصل الاشكال أيضا فيمكن الاكتفاء به عن
الجواب المذكور وثانيا ببيان المراد من العام المخصوص فإنه مبين
قطعا مع كذب الحد عليه فإن العام يستقل بالدلالة على القدر المراد و
قد يدفع هذا بأن المراد بالدلالة دلالة المطابقة ودلالة العام على
البعض المقصود إنما هي بالتضمن وهذا مع عدم اطراده في ألفاظ
العموم كما عرفت سابقا إنما يستقيم إذا فسرت المطابقة بدلالة اللفظ
على تمام معناه لا بدلالته على تمام ما وضع له كما هو المعروف ثم لا
يذهب عليك أن الاشكال ببيان العام المخصص يتجه باعتبارين
باعتبار عدم دخول العام المخصص في الخطاب الذي لا يستقل
بالدلالة على المراد وجوابه ما مر والثاني باعتبار أن المبين المذكور لا
يدل على المراد من الخطاب بل على ما ليس بمراد وهذا لا يندفع بما
مر بل الجواب عنه أن المراد بالمراد إنما هو تمام المراد من حيث
إنه تمامه أعني المراد المطابقي ومرجعه إلى المراد بشرط لا ولا ريب
أن المخصص يدل على المراد بالعام بهذا الاعتبار والعام لا دلالة
له عليه كذلك فيندفع به الاشكال الأول أيضا وثالثا ببيان وجوه الفعل
فإنه بيان مع أن الفعل ليس بخطاب ويمكن دفعه بأن الاجمال
في الفعل يرجع إلى الاجمال في دليله اللفظي أعني دليل التأسي وهو
خطاب فيكون المبين مبينا له ولو قيل بأنه يسمى حينئذ مبينا من
حيث بيانه للفعل أيضا وإن قطع النظر عن
الدليل اللفظي ولا يتناوله الحد لأمكن دفعه بأن المعتبر في عكس
الحد شموله لافراد المحدود بحسب ذواتها لا بجميع ما يلحقها من
الاعتبارات ثم المبين قد يكون كاشفا عن المراد بالمجمل وهذا يكفي
فيه أن يكون له ولو أدنى درجة الاعتبار سندا ودلالة وقد
يكون كاشفا عن المراد بغير المجمل مما له ظاهر وهذا يعتبر فيه أن
يكون أقوى منه في الدلالة فلو ساواه كالعامين من وجه امتنع
الترجيح وأن يكون مساويا إياه في السند إن كان ناسخا أو أقوى دون
العكس عند من منع من نسخ القطعي بالظني وكذا إذا كان
مخصصا عند من منع تخصيصه به أيضا ثم المبين يصح أن يكون قولا
اتفاقا وفعلا على الأصح وخالف فيه بعضهم تمسكا بأن الفعل
يطول والبيان به يستلزم تأخيره مع إمكان تعجيله وأنه غير جائز و
المقدمات الأربع كلها ممنوعة مضافا إلى ما سنبين من وقوعه
المستلزم لجوازه ثم كون الفعل مبينا قد يعلم بالضرورة من قصده وقد
يعرف بالنظر كما لو أمر بمجمل ثم فعل في وقت الحاجة ما
يصلح أن يكون بيانا له فيعلم كونه مبينا له لأنه لولاه للزم تأخير البيان
عن وقت الحاجة وقد يعلم بتصريحه كما في قوله صلى الله عليه
وآله صلوا كما رأيتموني أصلي فإنه ليس بيانا بل دليل على كون الفعل
بيانا ويحتمل بعيدا جعل المجموع بيانا وقد يعلم بغير ذلك و
قد يتركب من القول والفعل كما لو بين بعضا بالقول وبعضا بالفعل ثم
لا نزاع عند العدلية في عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة
على ما حكاه جماعة وهو ليس على ظاهر إطلاقه للقطع بأن كثيرا من
الاحكام لم يبلغ بيانها إلى آحاد المكلفين بل المراد إما عدم جواز
تأخير بيان الحكم الذي تعلق بالمكلف تعلقا فعليا واقعيا كان أو ظاهريا
فيصح أن يكون عدم جواز التأخير حينئذ بمعنى مانعية التأخير
عن
226

تعلق التكليف أو إبقائه أو عدم جواز تأخير بيان الحكم المشروط
فعليته بالبيان أو بوصوله مع ارتفاع الموانع المقتضية لعدم البيان أو
لعدم البلوغ كالتقية ونحوها فيكون عدم جواز التأخير حينئذ بمعنى
قبح التأخير من حيث أدائه إلى الاخلال باللطف الواجب والمعتمد
هو الأول ويمكن تفسير عدم الجواز فيه بالمعنى الثاني أيضا بل هو
الأظهر وحينئذ فيصح تعميم العنوان إلى القسمين لكن لا يساعد
عليه احتجاجهم عليه بلزوم التكليف بالمحال ثم الحكم المذكور
أعني عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة مما لا ريب فيه في
الاحكام الاقتضائية بل موضع وفاق عند العدلية واحتجوا عليه
باستلزامه التكليف بالمحال أو طلب المحال وأنه محال وربما سبق
إلى
بعض الأنظار جواز تأخير بيان المندوب والمكروه مطلقا لأنهما ليسا
بتكليف فلا يلزم التكليف بما لا يطاق بتأخير بيانهما واستدعاء
مطلق الطلب الفهم ممنوع ولو سلم فهو إنما يقتضي فهم الطلب لا
المطلوب ولو سلم فالفهم حاصل على سبيل الاجمال واستدعائه
الفهم
التفصيلي ممنوع وضعفه ظاهر لان العلة في المنع لا تنحصر في لزوم
التكليف بما لا يطاق على تقدير تسليم خروجهما عن حقيقته وإن
كانت المناقشة فيه لفظية بل هناك علة أخرى مشتركة بين الكل وهي
قبح طلب المحال ومنعه مكابرة وتسفيه العقل لفاعله ضروري و
مجرد فهم الطلب أو المطلوب على الاجمال لا يجدي في دفع ذلك و
هو واضح وقد يحكى عن بعض متأخري المتأخرين القول بجواز
تأخير البيان عن وقت الحاجة مطلقا متمسكا بما ورد في بعض الاخبار
من قولهم عليهم السلام عليكم أن تسألوا عنا وليس علينا أن
نجيب فإن ادعى ذلك في التكليف الفعلي ففساده ضروري وليس
فيما تمسك به إشعار به وإن ادعاه في التكليف الشأني أي الثابت
على
تقدير البيان فإن أراد جواز ذلك فيه في الجملة ولو مع المانع فهو مما
لا يقبل النزاع كما مر وإن أراد جوازه مطلقا ولو مع ارتفاع
الموانع من التقية وشبهها فهو واضح الفساد لاخلاله باللطف الواجب
والحكمة المقصودة من إنزال الكتب وإرسال الأنبياء ونصب
الأوصياء نعم ربما يدل إطلاق الرواية المذكورة على خلاف
ذلك لكنها غير محمولة على ظاهرها لمنافاتها لما مر من دلالة العقل
المعتضدة بالنقل قال الله تعالى لتبين للناس وقال تعالى لتبين لهم
وقال تعالى يبين لكم إلى غير ذلك وسيأتي بيان جملة من الاخبار
المصرحة بذلك في مبحث الاجماع بل الوجه تنزيل الرواية
المذكورة على تقدير تسليم صحتها على صورة قيام مانع من البيان
كالتقية ولقد أعرض الإمام عليه السلام في بعض الموارد عن جواب
السائل إلى غيره للتقية كما سئل عن قول آمين عقيب غير المغضوب
عليهم ولا الضالين فأجاب بأنهم اليهود والنصارى فعدل عليه
السلام عن بيان حكم السؤال إلى تفسير الآية لمكان التقية إلى غير
ذلك ثم ما تمسكنا به على منع التأخير من لزوم التكليف بالمحال أو
طلب المحال مبني على طريقة القوم وإلا فهو عندي محل نظر لان
المجمل المكلف به إذا كان من الافعال العادية وشبهها جاز وقوعه
من المكلف بدون البيان بل قد يقع وهو يقدح في استحالته المدعاة
على تقدير عدم البيان نعم قد يكون الفعل بحيث يمتنع عادة أن
يهتدي إليه المكلف إلا بالبيان والتعليم كالصلاة والحج فيتجه
الدعوى فيه لكن لا تثبت به الكلية كما هو المدعى فإن قلت الكلام في
التكليف الفعلي مع عدم البيان وهذا لا يخلو إما أن يتعلق بالمكلف
على تقدير عزمه عليه وفعله أو مطلقا والأول يوجب التكليف
بالشئ على تقدير وجوبه وحصوله وهو قبيح بالضرورة والثاني
يتضمن التكليف بالمحال إذ صدور الفعل من المكلف على وجه
الاختيار مع عدم عزمه وإرادته له كما هو أحد فرديه ممتنع ولا يرد
مثل ذلك على تقدير البيان لتمكن المكلف حينئذ من الفعل لتعينه
عنده فيصح أن يكلف به وبالعزم عليه وإن آثر المخالفة وهذا هو
المراد بما ذكروه وإنما لم يتعرضوا للقسم الأول لان الكلام في
تأخير بيان التكليف الذي يصح وقوعه مع عدم تأخير بيانه وليس
ذلك منه قلت إن أرادوا بالمحال في الدليل المحال بغير الاختيار كما
هو الظاهر اتجه عليه ما ذكرناه من أنه لا يتحقق في حق الفعل الممتنع
بالاختيار والبيان المذكور لا يقتضي كونه محالا بغير الاختيار إذ
تأثير البيان في ذلك غير معقول ولو أرادوا
الأعم اتجه عليه المنع من بطلانه إذ لا قبح في التكليف بالمحال
بالاختيار من حيث كونه كذلك مع بقاء الاختيار ثم إنا وإن التزمنا في
المقام باستحالة إطلاق التكليف أيضا لكنا لا نلتزم به بالنسبة إلى العزم
بل بالنسبة إلى عدم أداء الطريق الظاهري الثابت على هذا
التقدير عقلا أعني الاخذ بالاحتمال إلى خلافه كما في سائر التكاليف
الواقعية التي قرر لها طرق ظاهرية فإن التكليف بها بالنسبة إلى
تلك الطرق ليس على الاطلاق بل مشروط بعدم أداء الاخذ بالطريق
المعتبر إلى الخلاف مع أن استحالة إطلاق التكليف بالنسبة إلى ذلك
ليس من جهة كون المكلف به محالا كما هو المقصود لما عرفت من
إمكان صدوره من المكلف بل من جهة منافاته للحكمة الداعية إلى
وضع الطريق فإن قلت المراد لزوم التكليف بالمحال من حيث تعذر
تحصيل العلم الواجب أو المطلوب بالبراءة من الواجب أو المطلوب
حينئذ أو من حيث تعذر الامتثال لتوقفه على أن يكون الداعي إلى
الفعل هو الموافقة وهذا لا يتيسر مع عدم العلم بالمطلوب قلت
التكليف
بالفعل لا يستلزم التكليف بالعلم بالبراءة والامتثال فيجوز الانفكاك
كما في وجوب الصلاة إلى جهة القبلة أو ما يليها مع اشتباهها
بغيرها عند ضيق الوقت عن التكرير إذا قلنا بفسادها مع عدم مصادفة
الجهة والامر بالفعل بمجرده لا يقتضي أن يكون الداعي إليه
موافقة الامر على ما سبق بيانه في مبحث الامر ولو سلم أو قدر توقفه
عليه لثبوت كونه عبادة أمكن وقوعه بقصد الموافقة بمجرد
الاحتمال كما في الصلاة عند الاشتباه وضيق الوقت على أنه لا إشكال
في ذلك فيما إذا دار بين أمور راجحة أو قلنا بأن التشريع عبارة
عن إدخال ما علم خروجه من الدين فيه مع أن حرمة التشريع سمعية و
الكلام في
227

دلالة العقل بل التحقيق في الاحتجاج أن يستند إلى قضاء الضرورة
بقبح التكليف والطلب مع عدم البيان أو مع تأخيره عن وقت الحاجة
إليه لكونه سفها فإن الغرض الأصلي من التكليف بل مطلق الطلب
تعيين الفعل على المكلف وهو لا يحصل مع عدم التعيين بالبيان
فيكون
التكليف حينئذ من باب التكليف المحال لا التكليف بالمحال وإن كان
بحسب بعض موارده من هذا الباب أيضا كما أشرنا إليه ثم أقول
إطلاق كثير منهم المنع من تأخير البيان عن وقت الحاجة يعم بيان
الحكم وبيان موضوعه فإن فسر وقت الحاجة بزمن الاحتياج إلى
البيان استقام كلية الدعوى ببياننا المتقدم وإن فسر بوقت العمل أو
بوقت يصح فيه إيقاع العمل كما يظهر من كلماتهم وقد صرح به
بعضهم انتقض كليتها بالمجمل المردد بين عدة أشياء إذا كانت بحيث
يتمكن المكلف من تحصيل العلم بالبراءة منه بفعل الكل كالصلاة
مع اشتباه القبلة أو الساتر عند التمكن من التكرير أو بترك الكل كما في
المحرم أو النجس في المشتبه المحصور وبمجمل المركبات
حيث يمكن الاحتياط كما في الصلاة على القول بأنها اسم للصحيح أو
كان الظن أو الشك في حصوله كافيا كالمثال المتقدم فإن جواز
التأخير في مثل ذلك ليس موضع تأمل مع أن العنوان على الوجه
الأول قاصر عن الوفاء بالمقصود لعدم تناوله لتأخير بيان المجمل مع
عدم وقوع العمل مع أنه الغالب فيه والثاني يقتضي قبح تأخير البيان و
إن استند إلى المكلف كما لو التزم المكلف ببيانه على تقدير
إقدامه على الفعل ولم يقدم عليه إما بالمخالفة كما في التكليف
العيني التعييني أو بدونها كما في الكفائي أو التخييري إذا قام غيره به
أو
أتى بالبدل وإنما اعتبرنا في هذه الصور التزام المكلف بالبيان على
تقدير إقدام المكلف وحاجته الفعلية إليه لقبح التكليف بدونه فإن
تمكين المكلف من تحصيل البيان حيث يحتاج إليه معتبر في صحة
التكليف ومن هنا يتجه أن يقال الممتنع في الحقيقة على هذا التفسير
إنما هو تأخير تمكين المكلف من تحصيل البيان عن وقت الحاجة
حيث يحتاج إلى البيان لا تأخير نفس البيان وما سبق إلى بعض
الأوهام من أن تأخير البيان في الواجب الموسع إلى أن يتضيق
الوقت جائز لأنه لا يوجب التكليف بالمحال ففساده ظاهر مما بينا و
أما إذا فسرنا وقت الحاجة بوقت الاحتياج إلى البيان ولزومه لم
يتجه عليه شئ من ذلك إذ لا حاجة إلى البيان عند التمكن من إيقاع
المطلوب بالاتيان بالمحتملات أو اكتفي في طريقه بالظن أو
الاحتمال مثلا أو حصل المسقط أو أعرض المكلف عن البيان أو عزم
على ترك الفعل فاتضح مما حققنا استحالة تأخير بيان الفعلي من
الأحكام الأربعة الاقتضائية عن وقت الحاجة مطلقا لقبح الطلب
الفعلي بدون البيان وكذا بيان موضوعه على بعض التقادير واستحالة
تأخير بيان الواقعي منها مع انتفاء المانع من البيان لاخلاله بقاعدة
اللطف وأما الإباحة الفعلية فإن كان ثبوتها في الظاهر لا يتوقف على
بيان ولو لقضاء الأصل بها فلا تأخير وإلا فلا يعقل ثبوتها لمخالفته
لحكم العقل وأما الواقعية منها ففي تأخير بيانها إخلال بقاعدة
اللطف فلا يجوز مع عدم المانع وأما الأحكام الوضعية فإن كان التأخير
فيها مستلزما لتأخير بيان الحكم التكليفي رجع إليه وإلا فلا
يعقل لها وقت حاجة يمتنع التأخير عنها بل لا يعقل فائدة في وضعها
إلا أن يكون المقصود به إثبات حكم في حق آخر أو ترتب أمر
دنيوي أو أخروي عليه كترتب الخلود في النار على الكفر ونحو ذلك
وأما تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ففيه أقوال
ثالثها وهو خيرة العلامة تبعا لبعض العامة الجواز فيما ليس له ظاهر
كالمجمل والمنع فيما له ظاهر كالعام والمطلق والمنسوخ ما لم
يقترن بالبيان الاجمالي فيرجع إلى القسم الأول وإلى هذا ذهب السيد
المرتضى أيضا على ما يظهر منه في أثناء الاحتجاج وإن اقتصر
في الدعوى على ذكر العام في عرف الشرع إلا أنه أجاز تأخير بيان
المنسوخ إجمالا وتفصيلا مدعيا عليه الاجماع وعد ذلك من شرائط
النسخ والحق ما ذهب إليه المجوزون مطلقا لنا بعد الأصل وجوه
الأول أنه لو لم يجز ذلك لكان لمانع يقتضي قبحه ولا مانع بحكم
الفرض من ذلك إلا ما تخيله الخصم وسنبين أنه لا يصلح للمنع فإذا
لم يكن هناك ما يقتضي المنع ثبت الجواز لامتناع الواسطة وأما ما
تداول بينهم في الاحتجاج من أنه
لا يمتنع عند العقل فرض مصلحة فيه يحسن لأجلها فكأنه ليس على
ما ينبغي لان الكلام في إثبات الجواز لا في إثبات جواز الرجحان و
إن استلزمه الثاني أن من خاطب بمجمل أو أورد كلاما له ظاهر ثم بين
المقصود بالمجمل أو صرح بإرادة خلاف الظاهر من الكلام عند
حضور وقت الحاجة لم يلحقه بذلك ذم ولم ينكر عليه أحد من
العقلا كما يشهد به المراجعة إلى مخاطبات أهل العرف ومحاوراتهم
و
ذلك آية الجواز الثالث أنه لو لم يجز لما جاز تأخير بيان الناسخ مطلقا
عن المنسوخ والتالي باطل فكذا المقدم بيان الملازمة أن لفظ
المنسوخ لا بد أن يكون ظاهرا في الاستمرار تحقيقا لمعنى النسخ
فجواز تأخير بيانه يوجب جواز تأخير البيان في كل ما له ظاهر إذ
التفصيل بين النسخ وغيره غير معقول بعد اشتراك المستند كما سننبه
عليه وجواز ذلك فيما له ظاهر يوجب الجواز في غيره أيضا لما
مر ولعدم القول بالفصل وأما بطلان التالي فبالاجماع على ما حكاه
السيد وإنما اقتصرنا على إيراد النقض بالنسخ اختصارا وإلا
فستعرف أنه لا يختص به حجة المانعين مطلقا على عدم جواز تأخير
البيان في غير المجمل ما سيأتي في أدلة المفصلين وعلى عدم
جوازه في المجمل أنه لو جاز لجاز خطاب العربي باللغة الزنجية من
غير أن يبين له في الحال والتالي باطل بالضرورة بيان الملازمة
أنه لا فارق بينهما في ذلك لاشتراكهما في أن السامع لا يعرف المراد
منهما والجواب منع الملازمة لظهور الفرق فإن العربي لا يفهم من
الزنجية شيئا بخلاف المخاطب باللفظ المجمل ولو فرض حصول
الفهم من الزنجية كالمجمل منعنا بطلانه كما لو فرض عدم حصول
الفهم من المجمل مطلقا كالزنجية فإنا نمنع جوازه أيضا ويظهر من
قولهم في الحجة من غير أن يبين لهم في الحال جواز مخاطبة العربي
بالزنجية مع البيان في الحال و
228

وهو على إطلاقه ممنوع احتج السيد على جواز تأخير بيان المجمل
بما مر وعلى عدم جوازه في غيره بوجوه الأول أن ذلك استعمال
اللفظ في غير ما وضع له من غير قرينة حال الخطاب وأنه قبيح بشهادة
العرف حيث يعدون قول القائل افعل كذا قاصدا به التهديد أو
اقتل زيدا مريدا به الضرب الشديد أو رأيت حمارا مريدا به البليد من
غير قرينة تدل على المراد قبيحا ومنكرا فإن الفارق بين الحقيقة و
المجاز عندهم إنما هو القرينة ولا يجري هذا في تأخير بيان المجمل
لأنه مستعمل فيما وضع له والأولى أن يضيف إلى ذلك أو مستعمل
في غير ما وضع له مع القرينة ليتم التعليل في موارده الثاني أن المتكلم
إن أراد بالكلام حينئذ ظاهره فقد دل على خلاف مراده وإلا فقد
دل على الشئ بما لا دلالة فيه لا يقال إنما يستقر الدلالة عند وقت
الحاجة لأنا نقول لا مدخل لوقت الحاجة في دلالة اللفظ لان اللفظ إذا
دل على شئ في وقت الحاجة فإنما يدل لأمر يرجع إليه وذلك قائم
قبل وقت الحاجة أيضا على أن وقت الحاجة إنما يكون فيما تضمن
تكليفا دون غيره كالاخبار فيلزم أن يجوز تأخير البيان فيه إلى غير وقت
الخطاب من مستقبل الأوقات إذ ليس هناك وقت يصلح
للتعيين كما في التكليف وذلك يؤدي إلى سقوط الاستفادة من الكلام
الثالث لو جاز ذلك لما استفاد أحد من خطاب شيئا لتجويزه
لحوق البيان وذلك يوجب الاخلال بفائدة الوضع حيث إن الغرض
منه حصول الإفادة والاستفادة لا يقال يجب أن يعتقد الظاهر إلى أن
يتبين خلافه لأنا نقول ليس هذا بأولى من القول بأنه يجب أن يعتقد
خلافه إلى أن يتبين عدم ما يوجبه غاية الامر أن يقال يعتقد أحد
الامرين فيلزم ما قلناه من انتفاء الفائدة وأيضا يلزم فيما إذا كان الظاهر
لفظ العموم أن يتوقف بينه وبين الخصوص وذلك نص
أصحاب الوقف فيه فلا يصح ممن يذهب إلى أنه ظاهر في الاستغراق
هذا جملة ما احتج به السيد على دعواه نقلناه ملخصا مع تصرفات
لائقة بمرامه مستفادة من مساق كلامه وقد يستدل عليه أيضا بأن
تأخير البيان فيما له ظاهر يستلزم الاغراء بالجهل حيث يعتقد السامع
بسماعه كون المراد ما أفاده ظاهر اللفظ تعويلا على أصالة الحقيقة و
الواقع خلافه والجواب أما إجمالا فبالنقض بالنسخ فإن السيد قد
نقل الاتفاق على جواز تأخير ذكر الناسخ مطلقا كما يقتضيه كلامه و
بإسماع العام المخصوص بأدلة العقل وإن لم يعلم السامع أن العقل
يدل على تخصيصه فإنهم لم ينقلوا في جواز ذلك خلافا عن أحد وأما
ما اعترض به بعض المعاصرين من أن المخاطب إن تعقل
التخصيص حال الخطاب ولم يتعقل العموم أو لم يتعقل عموم العام
لمورد التخصيص فلا إغراء فلا قبح وإن تعقل العموم ولم يتعقل
التخصيص يعني مطلقا فلا ريب في قبحه وإن تعقله ولم يتعقل
التخصيص إلا بعد زمان فهذا يكون من باب تأخير البيان عن وقت
الخطاب ونلتزم فيه بالاغراء ونمنع القبح فمدفوع بأن ظاهر كلامهم
نقل الاتفاق على جواز تأخير البيان فيه مطلقا فالتزامه القبح و
المنع من قبل الخصم في الصورة الثانية مما لا يصغى إليه لأنه خروج
عن ظاهر مذهبه وأيضا منعه القبح في الصورة الأخيرة راجع إلى
تسليم الجواب فلا يستقيم اعتراضا وبإسماع العام المخصص بالدليل
السمعي من غير اسماع المخصص إذا وجد المخصص في الأصول
فإن السيد وجماعة أجازوا ذلك مع أن ما ذكره من وجوه المنع جارية
في المقامات الثلاثة إذ قضيتها عدم جواز إيراد كلام له ظاهر مع
إرادة خلافه من غير نصب قرينة حال الخطاب عليه وهي مشتركة
بينها نعم يمكن التفصي عن الأول بدعوى أن الناسخ ليس مبنيا لما
أريد بالمنسوخ وإنما هو رافع له وتحقيقه أن التكليف عبارة عن إرادة
جعلية يوقعها المكلف ومرجعها إلى إلزام المكلف بأحد طرفي
الفعل وتعيينه عليه أو جعل رجحان فيه أو التخيير وهذا مما يجوز أن
تقع بحسب جميع الأزمنة من غير أن يؤخذ فيه الاختصاص بزمان
دون زمان ثم يرفع بالنسبة إلى الكل كما في النسخ قبل حضور وقت
العمل أو البعض كما في النسخ بعده نعم لو ثبت أن التكليف هي
الإرادة الحقيقية امتنع ذلك في حقه تعالى للزوم البدأ لكنه ممنوع
فإن قيل ليس للسامع في المقامين الأخيرين أن يحمل اللفظ على
العموم قبل الفحص بل يتعين
عليه التوقف حينئذ وأما بعد الفحص فيطلع على المخصص فيبني
على مقتضاه قلنا بمثله في محل البحث فإن المخاطب بلفظ العام
ليس له
أن يحمله على العموم قبل حضور وقت الحاجة وعنده يطلع على
المخصص لعدم جواز تأخير بيانه عنه فيبني على حسبه وبالجملة كما
يتعين على المكلف هناك أن يعتقد إجمالا أنه يمتثل بما يبين له و
يتوقف عن اعتقاد التفصيل إلى أن يبحث عن المخصص وبعد البحث
يعتقد التفصيل كذلك هنا يتعين عليه أن يعتقد إجمالا أنه يمتثل
الظاهر أو خلافه إن تبين له ويتوقف عن اعتقاد التفصيل إلى حضور
زمان الحاجة وعنده يعتقد التفصيل ويبني على حسبه وأما التفرقة
بوجود القرينة وتمكن المكلف من الرجوع إليها هناك وانتفائها
في محل البحث فغير مجدية لان العلم بالقرينة يتعذر إلا بعد زمان
يتوقف عليه الرجوع قصيرا كان أو طويلا وعلى تقديره يلزم ما
ذكرناه من جواز إيراد كلام له ظاهر مع إرادة خلافه من غير قرينة وليس
زمان الرجوع كزمان مهلة النظر فإن ذلك مما لا بد منه عقلا
بخلاف زمان الرجوع فإن المخاطب قادر على أن يقرن البيان بالخطاب
فيستغني عنه ويمكن النقض أيضا بتأخير البيان إلى حيث لا
يخرج الكلام عن وحدته العرفية كما في الاستثناء المتعقب للجمل
المتعاطفة المتعلق بالجميع ولو بمعونة القرينة فإنه لا خلاف في جواز
ذلك مع أن الوجوه المذكورة جارية فيه على حذو نظائره وما اعتذر
عنه بعض المعاصرين من أن تشاغل المتكلم بالكلام مانع فيجوز
أن يسوغ معه ما لا يسوغ مع السكوت فليس بشئ لان التأخير إن كان
قبيحا لا يسوغ ارتكابه بمثل هذا المانع الذي لا يصلح للمنع لا
عقلا ولا عرفا وإلا لجاز ارتكاب سائر القبائح بسبب التشاغل بالكلام
إذ لا فرق بين القبح الناشئ من
229

الكلام وغيره وأما تفصيلا فنقول في الوجه الأول بأنا لا نعرف من
العرف شهادة على قبح تأخير البيان في محل النزاع والأمثلة التي
ذكرها في بيانه منها ما يحتمل أن يكون من محل النزاع ولا قبح فيه
على تقديره وهو قوله افعل كذا تهديدا واقتل زيدا مريدا به
الضرب الشديد فإنه إن كان وقت الحاجة متأخرا عن زمان الخطاب فلا
نسلم القبح فيهما وإلا فالقبح مسلم لكنه خارج عن محل البحث و
منها ما هو خارج عن المبحوث عنه وهو قوله رأيت حمارا مريدا به
البليد لأنه خبر وليس له من حيث كونه خبرا وقت حاجة يجوز
التأخير إليه بل يجب فيه مقارنة القرينة فيه لحال الخطاب لان تجريده
عنها يصيره كذبا لان المدار فيه على عدم مطابقة مدلول الكلام
للواقع أو للاعتقاد أو لهما معا على اختلاف الآراء ولا ريب في قبحه و
أما قوله الفارق بين الحقيقة والمجاز هو القرينة فإن أراد
مقارنتها للخطاب فهو على إطلاقه ممنوع وإلا فمسلم ولا جدوى له
فيه وأما عن الثاني فبأن المكلف به إنما دل على مراده بالكلام مع
القرينة اللاحقة له لا به وحدها ولا ريب في أن المجموع دال عليه وما
ادعاه من أنه لا مدخل لوقت الحاجة في دلالة اللفظ فإن أراد به
دلالة اللفظ على المعنى في الجملة فمسلم ولا جدوى فيه وإن أراد
دلالته عليه من حيث كونه هو المراد فممنوع بعد ما مر القول في
نظائره وأما منعه من جواز التأخير في الاخبار ففي محله كما عرفت و
ليس فيه قدح لما ذهبنا إليه وأما عن الثالث فبأن غاية ما يقتضيه
أن يكون الخطاب به بالنسبة إلى ما قبل وقت الحاجة بمنزلة الخطاب
بالمجمل وقد بينا جوازه وأجازه المفصلون والفرق بين القول
بأن العام ظاهر في الاستغراق والقول بالوقف إنما يظهر عند وقت
الحاجة حيث يبني من قال بالأول على العموم عند عدم ظهور
المخصص بخلاف من قال بالثاني وأما عن الوجه الأخير فبأنا لا نسلم
أن إيقاع الغير في اعتقاد يخالف الواقع قبيح مطلقا إذ لا دليل عليه
من عقل ولا نقل بل وقوعه في المقام في جانب النقل كما يظهر
بالتتبع يقتضي بجوازه وقياسه على الكذب ممنوع إذ لا نسلم أن
الكذب
إنما
قبح لكونه إغراء بل لكونه إغراء مخصوصا أو من حيث الخصوصية و
لهذا يقبح وإن لم يؤثر في الاعتقاد ومن هنا لا يقبح خروج الفقير
في ذي الغنى والقبيح في ذي الجميل ونحو ذلك وإن اشتمل على
إغراء الجاهل بحاله مع قبح إخباره بذلك هذا هو التحقيق الذي لا
مزيد
عليه في الجواب ويمكن أن يجاب أيضا بأن الاغراء إنما يلزم حيث لا
يحتمل التجوز وقد بينا أن الاحتمال قائم فيما قبل الحاجة وأصالة
الحقيقة بمجردها لا توجب القطع بإرادتها وإنما توجب الظن بها ولا
نسلم أن حمل المخاطب عليه إغراء له بالجهل إذ الظن عند العقل
كالشك لا اعتداد له به إلا حيث ينهض دليل على اعتباره ومن قال بأن
من قال الأصل في الاستعمال الحقيقة أراد أن اللفظ مع فوات وقت
القرينة وتجرده عنها يحمل على الحقيقة لا مطلقا فكأنه أراد بالحمل
ما يوجب القطع بالمراد ولو في الظاهر كما ذكرنا وحينئذ لا يتجه
عليه ما أورده بعض المعاصرين من أن تفسير الأصل بهذا المعنى مما
لم يقل به أحد وأنه لا ريب في أن الظاهر من اللفظ المجرد عن
القرينة بعد الفراغ من الكلام هو الحقيقة وذلك لان كلام المجيب على
ما أولناه به في الدلالة القطعية دون الظنية نعم يتجه ذلك على
ظاهره
القول في النسخ وما يتعلق به
فصل النسخ يأتي لغة للإزالة
يقال نسخت الشمس الظل إذا أزالته وللنقل ومنه التناسخ في الأبدان
والتناسخ في المواريث قيل ومنه أيضا نسخت الكتاب إذا نقلت ما
فيه وفيه ضرب من التوسع إذ لا نقل هناك حقيقة وهل هو مشترك
بين المعنيين أو حقيقة في أحدهما مجازا في الاخر أقوال والبحث
فيه موكول إلى علم اللغة وأما في عرف الشرع أو المتشرعة فقد ذكروا
له حدودا عديدة لا يسلم جلها أو كلها عن وصمة الخلل فقال
الفخر الرازي هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول
وقال الغزالي هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت
بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه وقالت
المعتزلة هو اللفظ الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم
زائل
عنه على وجه لولاه لكان ثابتا وقال الفقهاء هو النص الدال على انتهاء
أمد الحكم الشرعي مع تراخيه عن موارده وأورد على الجميع أولا
بأن كلا من اللفظ والنص والخطاب دليل النسخ فلا يصح تحديده به و
يمكن دفعه بأن النسخ كما يطلق على الرفع كذلك يطلق على ما
يدل عليه وتعريفه باللفظ وما في حكمه مبني على أخذه بالمعنى
الثاني ولا خفاء في أن تحديده بكل من المعنيين يستلزم تحديده
بالمعنى الاخر ولهذا يستغنى بذكر أحدهما عن الاخر وثانيا بدخول
أخبار الراوي بالنسخ إذ يصدق عليه تلك الحدود مع أنه خارج عن
المحدود وما يقال من أن المراد الرافع بالذات وقول الراوي إنما
يكشف عنه فتعسف واضح وثالثا بخروج النسخ بفعله صلى الله عليه
وآله فإن النسخ لا يختص بالقول وربما أمكن دفعه عن الحد الثاني
بحمل الخطاب فيه على الخطاب النفسي كما يراه الأشاعرة
فيتساوى فيه القول والفعل أقول ويرد عليها رابعا بدخول مثل إخبار
الوكيل بالطلاق فإن عدمه شرط لدوام الزوجية وبقائها ومثله
الكلام في سائر الأخبار أو الشهادات التي تضاهي المقام وخامسا
بدخول الاحكام الرافعة لأصل الإباحة
فإن شرط بقاء الحكم الثابت به عدم مجئ دليل على خلافه مع أنه لا
يسمى نسخا كما ستقف عليه وربما أمكن دفعه عن الحد الأخير بأن
المراد بالحكم الشرعي فيه ما يقابل الحكم العقلي وسيأتي الكلام فيه
إن شاء الله وسادسا بمثل قوله لا تفعل بعد قوله افعل كذا إلى أن
أقول لك لا تفعل وسأقول لك لا تفعل مع أنه من باب التقييد بالغاية
عند جماعة وسابعا بأن لفظ الظهور في الحد الأول مستدرك فإن
مدلول النسخ الانتفاء لا ظهور الانتفاء وإن كان أثره لا يظهر في الظاهر
إلا بعد ظهوره قالوا والقيدان الأخيران
230

من الحد الثاني مستدركان أيضا أما الأول فلان الرفع لا يكون إلا إذا كان
الحكم بحيث لولا الخطاب لكان ثابتا وأما الثاني فلانه لولاه
لم يتقرر الحكم الأول وكان دفعا لا رفعا كالتخصيص وكذلك القيد
الأخير من الحد الثالث لما مر مع أنه كالحد الأول يتناول مثل ما لو
قال يجب عليك الحج في تمام العمر مرة واحدة فإن قيد المرة يدل
على ارتفاع مثل الحكم السابق بعدها وهو وجوب الحج بجميع القيود
المعتبرة قلت بل يرد عليه النقض بكل تخصيص متأخر ولا يختص
بالفرض المذكور وعرفه الحاجبي بأنه رفع الحكم الشرعي بدليل
شرعي متأخر فاحترز بقيد الشرعي عن رفع المباح الثابت بحكم
الأصل فإن دفعه ليس بنسخ وإلا لكان ثبوت كل حكم مما عدا الإباحة
نسخا وليس كذلك وكذا الحال في رفع سائر الأحكام العقلية الظاهرية
كوجوب تحصيل العلم بالبراءة عن المكلف به ومنه ترك المباح
المشتبه بالحرام وكالتخيير بين المقدمات البدلية إلى غير ذلك من
أحكامها الظاهرية وأما الواقعية منها فيه غير قابلة للنسخ و
تخصيص بعضهم كالعضدي لذلك برفع الإباحة الأصلية منزل على
التمثيل بالغالب وبقوله بدليل شرعي عن رفعه بالموت والنوم و
الغفلة والمجنون فإن الحكم هناك إنما يرتفع بطريان تلك الأحوال
بحكم العقل وأما قوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاثة فبيان لكونها
رافعة ومؤكد لما دل عليه العقل عند ورود الخطاب السابق ويشكل
هذا على قولهم بنفي التحسين والتقبيح العقليين وبقيد المتأخر عما
لو لم يتأخر الرافع كقوله صلى الله عليه وآله صم إلى آخر الشهر و
جعله العضدي قيدا توضيحيا لان دلالة الكلام بالتمام فلم يثبت بأول
الكلام حتى يرفع أقول ويرد على طرده أولا بما مر في الايراد الرابع و
السادس وثانيا بالمخصص والمقيد المتأخرين فإنهما دليلان
شرعيان يرفعان الحكم الشرعي عن بعض موارده وثالثا بدليل
المعارض الأقوى إذا وجده المجتهد بعد أن أفتى بمقتضى الأضعف و
رابعا بما دل على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب اللفظي عن موضوع
معين عند طريان وصف عليه إذا ورد متأخرا عنه كارتفاع نجاسة
العصير بعد ذهاب ثلثيه بما دل على ارتفاعها بعده وكارتفاع نجاسة
النجس بعد الاستحالة أو المتنجس بعد الغسل المعهود بما دل عليه
من النص إذا كان وروده متأخرا إلى غير ذلك مما لا حصر له لا يقال
إنما يرتفع الحكم هناك بالسبب الطاري لا بالخطاب اللاحق فإنه
إنما يكشف عنه لأنا نقول سببية الطاري إنما هو بجعل الشارع ووضعه
وهو حكم شرعي فالارتفاع في الحقيقة إنما يكون به وخامسا
بأن تفسير الحكم الشرعي بما ورد خطاب من الشارع به مما لا يساعد
عليه اللفظ فإن المتبادر منه ما من شأنه أن يكون مأخوذا من
الشارع سواء استقل بإثباته العقل أو لا كما مر في صدر الكتاب في
تعريف الفقه ومع التنزل فنمنع عدم ورود خطاب لفظي بالإباحة
الأصلية كيف لا وهو مفاد قوله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها وقوله
صلى الله عليه وآله رفع عن أمتي إلى قوله وما لا يعلمون وما ورد
من أنه لا تكليف إلا بعد البيان إلى غير ذلك ويمكن التفصي عما
أوردناه في الايراد الرابع وما ذكرناه في الوجه الثاني والثالث بأن
المراد بالحكم الشرعي هو الحكم الواقعي فقط والحكم الثابت في
تلك الموارد إنما هو حكم ظاهري أما في الأول فلان الاخبار إنما
يكون رافعا بالقياس إلى الظاهر وأما بالقياس إلى الواقع فإنما هو بيان
لوجود الرافع وأما في الثاني فظاهر وأما في الثالث فلان
الحكم الأول إن كان ظاهريا فلا إشكال وإن كان واقعيا فهو لا يرتفع
بالدليل الثاني وإنما يعذر المجتهد به ومن هذا الجواب يندفع
الاشكالات التي أوردناها على الحدود السابقة أيضا لكن يشكل على
تقدير تفسير النسخ بالارتفاع وعما أوردنا في الايراد السادس
بأن قيد الحيثية في الدليل الشرعي معتبر وظاهر أن قوله لا تفعل إنما
يرفع من حيث كونه قول لا تفعل لا من حيث كونه دليلا شرعيا و
إن كان في نفسه دليلا شرعيا لكن يبقى الاشكال بما إذا جعل الغاية
نفس الدليل الشرعي كما إذا قال صم إلى أن تقف على دليل شرعي
يقتضي عدم وجوبه وستقف عليه ويمكن دفعه بالتزام كون مثله
نسخا إذا كان الرفع في الواقع بذلك الدليل
كما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى وعن الرابع بأن الظاهر من
سببية الدليل استقلاله به عند ثبوته وظاهر أن الرفع هناك لا
يستند إليه على الاستقلال بل بضميمة طريان المورد وعن الخامس
بأن الحكم الشرعي كما يطلق على المعنى المتناول للحكم العقلي
كذلك قد يطلق على ما يقابله وهو المراد به هنا ولو بقرينة بيانهم و
ورود الخطاب اللفظي بمقتضاه لا يخرجه عن كونه عقليا لسبق
حكم العقل به فيكون ذلك تأكيدا له كالخطاب الدال على ارتفاع
التكليف بالعجز مع استقلال العقل به ومثله الكلام في وجوب
المقدمة و
قد ظهر مما حققنا أن حد الحاجبي أظهر الحدود التي أوردوها في
المقام وقد اختاره العلامة وزاد عليه قوله على وجه لولاه لكان ثابتا
واحترز به عما لو نهى عما أمر به على الاطلاق بعد الاتيان به مرة فإن
مقتضاه رفع الحكم السابق ولا يعد نسخا وضعفه ظاهر لان
الامر إن كان للدوام كان النهي رافعا له فيكون نسخا قطعا كما لو صرح
بالدوام فلا وجه لاخراجه مع أن القيد المذكور لا يساعد على
خروجه وإن لم يكن للدوام كان الحكم مرتفعا بنفس الامتثال فلا
يكون الرفع بالنهي حتى يتجه دخوله في الحد وجعله الفاضل
المعاصر احترازا عن الحكم المحدود إلى وقت أو الوارد بصيغة الامر
بناء على عدم إفادته للتكرار فيبقى إثبات الحكم بعنوان الاطلاق
القابل للاستصحاب مثل الحكم بحل الأشياء وحرمتها ونحو ذلك
هذا لفظه وفيه نظر لان التحديد بالوقت إن كان مقارنا للخطاب
فهو خارج بقيد المتأخر وإن تأخر لم يخرج بالقيد المذكور وأما ما
ذكره من أن الحكم الثابت بالامر المطلق قابل للاستصحاب فإن
أراد أنه مما يصح إثباته بدليل الاستصحاب فضعفه ظاهر وقد مر
التنبيه عليه في مبحث الامر وإن أراد أنه مما يجوز بقاؤه في الواقع
ففيه أن النسخ ليس عبارة عما يرفع احتمال
231

بل ما يرفع الحكم المتحقق وما توهمه من أن الرفع في الحد ليس
مستعملا في حقيقته وإلا لزم البدأ الممتنع في حقه تعالى فليس
بشئ
لان البدأ إنما يلزم حينئذ إذا جعلنا النسخ عبارة عن رفع الحكم عن
زمان ثبت بقاؤه فيه واقعا وليس كذلك بل هو عبارة عن رفعه عن
مورده في زمان ثبت بقاؤه فيه قبله لا فيه وبالجملة فكما أن ثبوت
الحكم واقعي مستند إلى الإرادة المقتضية له كذلك رفعه أيضا واقعي
مستند إلى رفع تلك الإرادة فإن رفع السبب رفع للمسبب كما أن
إيجاده إيجاد له ومعنى الرفع إعدام الشئ بعد ثبوته وكما أن وجود
الممكن مستند إليه تعالى كذلك عدمه مستند إليه تعالى مع أنه إن
جعل عبارة عن رفع الحكم بالنسبة إلى زمان ثبت بقاؤه فيه فهو إنما
يوجب البدأ إذا قلنا بأن التكليف عبارة عن الإرادة الحقيقية [أو
عدمها ولو قلنا بأنه عبارة عن أمر جعلي وأنه لا يستلزم الإرادة
الحقيقية] لم يلزم عليه بدأ ثم النسخ كما يطلق على رفع الحكم
كذلك قد يطلق على رفع بعض ألفاظ الكتاب وآياته بمعنى إخراجها
عن
كونها كتابا وقرآنا ويمكن إرجاعه إلى رفع الحكم لان كونها كتابا وقرآنا
حكم وضعي ومرجع النسخ إلى رفعه فيجوز أن يكون
النسخ حقيقة فيه بالاشتراك المعنوي أو اللفظي أو مجازا لوجود
العلاقة وأما الانساء فهو نسخ اللفظ على وجه لا يبقى معه الذكر وفرق
الزمخشري بينه وبين النسخ بأن النسخ إذهاب إلى بدل والانساء
إذهاب لا إلى بدل وهو لا يلائم قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها
نأت بخير منها أو مثلها لان ظاهره الاتيان بالبدل على التقديرين
فصل اختلفوا في أن النسخ هل هو رفع للحكم الشرعي أو بيان لانتهاء
أمده
وربما كان في الحدود السابقة ما يشير إلى ذلك ولنحرر أولا محل
البحث فنقول لا كلام في أن وقوع النسخ يستلزم وقوع أمرين
أحدهما ارتفاع الحكم السابق والثاني طريان ضده من أحد الاحكام
الاخر بالنسبة إلى من يتحقق في حقه شرائط التكليف لكن يتوقف
الثاني على القول بعدم جواز خلو الفعل من الاحكام أو القول بأن
الخلو من الجميع أيضا ضد وإنما يتصور النزاع في مقامين الأول أن
ارتفاع الحكم السابق هل يستند إلى طريان الضد أو يستند إلى نفسه [
بمعنى أنه يزول عند عدم العلة لبقائه] ويكون طريان الضد من
المقارنات أو من لوازم الموضوع وهذا النزاع على ما نبه عليه الفخر
الرازي ناظر إلى النزاع المعروف بين أهل المعقول من أن
الاعراض هل تبقى بعد وجودها فيكون زوالها بطريان الضد أو لا تبقى
فيكون زوالها بنفسها الثاني أن الحكم السابق هل يتناول لما
بعد زمن النسخ أيضا بحسب الواقع فلا يرتفع إلا برافع أو يختص بما
قبله وإن كان بعمومه متناولا لما بعده بحسب الظاهر فيرتفع
الحكم بنفسه فيكون الناسخ مثبتا للغاية وكاشفا عنها وعلى الوجهين
فالنزاع غير لفظي وتوهم العضدي أن نزاعهم في المقام لفظي و
وجهه بأن القول بأن النسخ عبارة عن انتهاء أمد الحكم دون رفعه
يحتمل وجوها ثلاثة اثنان فاسدان وواحد لفظي لأنهم إن أرادوا أن
كلا من الحكم والتعلق قديم فلا يتصور رفع شئ منهما فهذا فاسد لان
انتهاء الحكم على ما التزموا به يستلزم رفعه وإن أرادوا أن
المتعلق بفعل مستقبل لا يمكن رفعه فإذا نسخ علم أنه لم يكن متعلقا
به وهذا أيضا فاسد لأنه يستلزم القول بامتناع النسخ قبل العمل و
هم لا يقولون به وإن أرادوا أن النسخ بيان لأمد الحكم بحسب الواقع و
رافع للظن ببقائه بحسب الظاهر فهذا مراد القائلين بالرفع
فالنزاع لفظي وفيه نظر لأنا نمنع حصر القسمة لجواز أن يراد بالانتهاء
عدم الحاجة إلى طريان الضد كما أن المراد بالرفع ثبوت
الحاجة إليه أو نختار القسم القسم الأول ونمنع كون الانتهاء مستلزما
للرفع فوجهه واضح أو نختار القسم الثاني ونقول إنما أرادوا أن
المتعلق بحسب الواقع بفعل مستقبل لا يمكن رفعه على وجه لا يلزم
البدأ وأما المتعلق به بحسب الظاهر فجائز الرفع ومنه النسخ قبل
العمل لكنه ليس من باب
الرفع حقيقة بل من باب الارتفاع مع أن ورود الاشكال عليهم لا
يقتضي أن يكون نزاعهم لفظيا وأما ما ذكره أخيرا من أن مراد القائلين
بالرفع أنه بيان لأمد الحكم بحسب الواقع ورافع للظن ببقائه بحسب
الظاهر فتأويل بعيد بل التحقيق أنهم أرادوا أنه رافع بحسب الواقع
كما يفصح عنه أدلتهم إذا عرفت هذا فالحق أن تحقيق المسألة مبني
على تحقيق التكليف فإن قلنا بأن مرجع التكليف إلى الإرادة الحقيقية
تعين أن يكون النسخ كاشفا عن ارتفاع الحكم بالنسبة إلى زمن النسخ و
مفيد الانقضاء أمده وامتنع أن يجعل رفعا حقيقيا للحكم الثابت
في زمن النسخ وإلا لاستلزم البدأ وهو ممتنع في حقه تعالى نعم
يصح أن يقال حينئذ بأن النسخ رفع حقيقي للحكم الثابت قبل زمن
النسخ من حيث أن وجود الحكم وعدمه كليهما مستندان إلى
المكلف فكما يصح أن يقال إنه يثبت الحكم ويوجد بإرادته المستندة
إلى
اختياره كذلك يصح أن يقال إنه يرفعه وينفيه بعدم إرادته المستند إلى
اختياره إذ ليس موجبا في شئ منها إلا أن القائل بالرفع لم يرد
به مثل ذلك فإن الرفع بهذا المعنى متحقق في كل ذي غاية ولا
اختصاص له بالنسخ وإن جعلناه عبارة عن مجرد أمر اعتباري يحدثه
المكلف في المكلف كإلزامه به أو جعل الفعل في حقه بحيث يستحق
عليه الثواب أو العقاب أو جعلناه أعم منه ومن الأول فالحق أنه يصح
حينئذ أن يكون النسخ عبارة عن رفع الحكم الثابت في زمن الرفع لولا
الرفع وسيأتي لهذا مزيد بيان احتج الأولون بأنه قد ثبت تعلق
الخطاب بالفعل فلا ينعدم لذاته وإلا لامتنع وجوده لامتناع تخلف
الذاتي عنها بل بغيره وليس إلا طريان الناسخ وفيه نظر لأنه إن
أريد بثبوت تعلق الخطاب بالفعل ثبوته ظاهرا فهذا خارج عن محل
النزاع وإن أريد ثبوته واقعا فهو أول الكلام ولو سلم فيجوز أن لا
يكون انعدامه لطريان الضد بل الانعدام سببه بناء على أن الممكن
الباقي يحتاج في بقائه أيضا كما هو التحقيق احتج الآخرون بوجوه
الأول أنه لو لم يرتفع الحكم الأول بنفسه لم يرتفع بغيره وإلا لكان
مرتفعا بطريان الضد وهو باطل لان انتفاء الضد
الباقي بالطاري ليس بأولى من انتفاء الضد الطاري بالباقي فإن قيل
يجوز أن يكون الطاري أقوى إما لأنه حال حدوثه مع السبب
فيقوى بتعلقه به بخلاف الباقي فإنه منقطع عن السبب أو لأنه يشتمل
على أفراد متعددة والباقي فرد واحد أجيب عن الأول
232

الأول بأن الثاني أيضا متعلق بالسبب لما تحقق في محله من أن
الممكن الباقي يحتاج في بقائه أيضا إلى العلة لأن علة الحاجة هي
الامكان
دون الحدوث وعن الثاني بأنه يقتضي توارد الأمثال وهو محال ولو
نزل السؤال على أنه يجوز أن يشتمل الطاري على أفراد متعددة
وهمية ولا يشتمل عليه الباقي فيرجع محصله إلى جواز أن يكون
الطاري بالنسبة إلى مرتبته أشد من الباقي بالنسبة إلى مرتبته لم
يندفع بالجواب المذكور نعم يدفعه أن ذلك يوجب عدم جواز نسخ
الأحكام الأربعة الاقتضائية إلى الإباحة ولا الأقوى منها كالوجوب
إلى الأضعف كالاستحباب ولا قائل به وربما انتصر بعضهم للحجة
المذكورة بأن الطاري إما أن يقتضي عدم الباقي حال وجوده أو
حال عدمه وكلاهما محال أما الأول فللزوم اجتماع الضدين وأما
الثاني فلان عدمه لا يؤثر وإلا لامتنع وجود الحكم أولا أيضا لسبق
العدم وضعفه ظاهر لأنا نختار أنه يقتضي عدم الباقي حال وجوده ولا
يلزم اجتماع الضدين إدخال وجوده حال عدم الاخر ضرورة
أن العلة والمعلول متقارنان في الزمان وإن ترتبا في الرتبة الثاني أن
حكم الله تعالى خطابه وخطابه كلامه وهو قديم فيمتنع عدمه و
أجيب بأن خطابه حادث وليس نفس الحكم بل دليل عليه وقد
يجاب بأن خطابه تعالى قديم وتعلقه حادث فيصح رفعه ويرده أن
الخطاب أمر نسبي يمتنع تعلقه إلا متعلقا فحدوث أحدهما يستلزم
حدوث الاخر الثالث أنه تعالى إما أن يعلم دوام الحكم أو يعلم
انقطاعه
فعلى الأول يستحيل النسخ ويخرج عن محل البحث وعلى الثاني
ينتهي الحكم بذاته لا بطريان الضد وهو المطلوب وأجيب بأنه يجوز
أن يكون قد علم الانقطاع بالناسخ فلا يلزم الانقطاع بنفسه
فصل لا ريب في إمكان النسخ ووقوعه مطلقا وفي خصوص القرآن
ومخالفة اليهود في الأول والأصفهاني في الأخيرين ضعيفة وشبههم
واهية لا يليق بالذكر والضرورة تنادي بخلافه فلنبحث عن
شروطه وهي أمور الأول أن يكون الناسخ والمنسوخ ثابتين بالخطاب
الشرعي فقط فلو كانا أو كان أحدهما ثابتا بخطاب العقل لم
يكن نسخا وإن عاضده خطاب شرعي وإلا لكان جميع الأحكام
التكليفية نسخا من حيث رفعها لحكم الإباحة الأصلية ولكان طريان
جميع الموانع العقلية نسخا من حيث رفعها للأحكام الثابتة قبل
طريانها ولو بخطاب شرعي وإن كان مانعية تلك الموانع ثابتة بخطاب
الشرع أيضا نعم لو ثبت الإباحة الواقعية في مورد بخطاب الشرع ثم
رفعت كان رفعها نسخا والفرق بين ذلك وبين ما ورد خطاب
الشرع بإباحته عند عدم قيام دليل على خلافها بطريق العموم أن الأول
يدل على الحكم الواقعي وهو لم يثبت بالعقل بخلاف الثاني فإنه
إنما يدل على الحكم الظاهري وقد دل عليه العقل أيضا وكذا الحال
فيما إذا دل العقل على فساد معاملة أو إيقاع للأصل وإن عاضده في
إفادة ذلك خطاب شرعي بخلاف ما إذا دل الخطاب على فساد
معاملة واقعا ثم رفع بخطاب آخر فإنه يعد نسخا وكذا الكلام في
وجوب
التجنب عن الشبهة المحصورة من حيث توقف تحصيل العلم الواجب
عند العقل بحكم الأصل عليه فلو دل خطاب شرعي على عدم
وجوب
تحصيل العلم وعدم وجوب الاجتناب منها لم يكن نسخا نعم إذا دل
خطاب على وجوب تحصيل العلم واقعا ثم دل خطاب آخر على رفعه
كان نسخا وأما رفع وجوب المقدمة برفع وجوب ذي المقدمة فالظاهر
أنه لا يعد نسخا وإن كانت المقدمة شرعية وأما رفع وجوبها
مع بقاء وجوبه فهو يعد نسخا إن نص على وجوبها من باب المقدمة
كما في المقدمة الشرعية على ما سيأتي إن شاء الله ومنها أن يكون
حكم المنسوخ مستمرا ولو في الظاهر بمعنى أن يكون عمومه أو
إطلاقه متناولا لزمن النسخ أيضا وإن كان منقطعا بعده فلو قال صم
إلى الليل لم يكن ارتفاعه عند
الليل نسخا نعم لو رفعه قبل الليل كان نسخا وقد أطلق العلامة حينئذ
اشتراط الاستمرار وينبغي تنزيله على ما ذكرناه ومنها أن يتأخر
الناسخ في الورود عن المنسوخ فلو تقارنا لم يكن نسخا نعم ربما أمكن
فرضه فيما إذا كان الفعل المكلف به يسيرا متيسرا حال الخطاب
فأتى به ثم قارنه الناسخ كما لو قال تصدقوا في كل يوم بدرهم فتصدقوا
به من حيث فقال نسخ عنكم ولو فسر التأخر بتحلل العمل
استقام عكس الشرط لكن يفسد طرده عند من أحاز النسخ قبل حضور
وقت العمل ولا يشترط ورود الناسخ عند انتهاء زمن المنسوخ
بل يصح أن يتقدم عليه فلو قال لا تفعلوا كذا أبدا ثم قال يجوز لكم
ذلك بعد مضي مدة كذا كان نسخا هل يعتبر تأخر الناسخ بالبيان
التفصيلي والاجمالي أو يكفي تأخر بيانه التفصيلي وإن قارن بيانه
الاجمالي قولان ذهب السيد المرتضى إلى الأول على ما حكي عنه
في المعالم وذهب العلامة في التهذيب إلى الثاني وتظهر الثمرة في
مثل قوله دوموا على هذا الفعل إلى أن نسخه عنكم ثم نسخه فإنه
على الثاني نسخ بخلافه على الأول والمختار عندي هو الثاني للاتفاق
على أن شريعة نبينا صلى الله عليه وآله ناسخة لشريعة من قبله
من الأنبياء مع أنهم قد أخبروا قومهم بمجيئه وينسخ دينه سائر الأديان
كما يدل عليه قوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي
كانت عليهم فلم يقدح ذلك البيان الاجمالي في كونه نسخا ومنها أن
يكون الفعل مما يصح أن يتغير جهاته في الحسن والقبح فلو تعين
جهة حسنه كالايمان أو جهة قبحه كالكفر امتنع طريان النسخ عليه
لأدائه إلى الاخلال باللطف وأما ما ورد من أن نية السوء لا تكتب
على هذه الأمة منة منه تعالى عليهم فإن قلنا بعدم استقلال العقل
بقبحها فلا إشكال وإن قلنا باستقلاله به أمكن دفعه بأن الرواية إنما
دلت على نفي المؤاخذة من حيث التفضل وهو لا ينافي التحريم من
حيث التفضل وهو لا ينافي التحريم من حيث ثبوت الاستحقاق هذا
على ما تداول بينهم من أن حسن التكليف تابع لجهات الفعل من
حسنه وقبحه وأما على ما نراه من أنه تابع لجهات التكليف
وأنها لا تنحصر في جهات الفعل فلا بد من تبديل هذا الشرط باشتراط
كون التكليف مما يصح أن يتغير جهاته في الحسن والقبح فلو
233

تعين امتنع النسخ ولا إشكال حينئذ في النية
فصل لا ريب في جواز النسخ بعد حضور وقت العمل
سواء وقع الفعل أو لم يقع مع العصيان كما في الواجب التعييني العيني
وبدونه كما في الواجب المخير إذا اقتصروا [اقتصر] على أحد
فرديه أو أفراده سواء حضر زمان الباقي أو لم يحضر أو كان التكليف
مشروطا بشئ فالتزموا [فالتزم] بترك شرطه كوجوب تقديم
صدقات بين يدي نجوى الرسول المشروط بإرادة النجوى إذا تركوها و
المراد تعلقه بما بعد وقت العمل سواء ورد قبله أو حاله أو بعده
ثم العبرة بوقت العمل في غير الموسع بانقضاء زمن يتمكن المكلف
من إيقاع الفعل أو بدله فيه على وجهه فدخل نسخ الواجب المشروط
بعد مضي زمن يتمكن من إيقاعه فيه على وجهه وخرج النسخ في
أثناء العمل فإنه من باب النسخ قبل العمل وأما الموسع فالعبرة فيه
بأحد الامرين من وقوع الفعل أو انقضاء الوقت أما الثاني فظاهر وأما
الأول فلان الفعل في بعض الأزمنة يقوم مقامه في الجميع كما هو
شأن البدلية فيكون النسخ بعده وقبل انقضاء الوقت بمنزلة النسخ بعد
انقضائه ومثله ما لو خيره بين أجزاء الوقت أو أفراده سواء اتحد
الفعل أو تعدد واختلفوا في جوازه قبل وقت العمل بمعنى تعلقه بما
قبله كما لو قال صم يوم الخميس وقال قبل مجيئه لا تصم يوم
الخميس فذهبت الأشاعرة وأكثر الشافعية إلى الجواز ومنع منه
آخرون احتج المانعون بوجهين الأول أنه لو جاز ذلك للزم البدأ
لاستلزامه التغيير في الإرادة مع اتحاد الفعل ذاتا وجهة وهو ممتنع في
حقه تعالى الثاني أن الفعل إن كان مشتملا على مصلحة امتنع
النهي عنه فيمتنع النسخ وإلا امتنع الامر به فإن قيل يجوز أن يكون
الناسخ متعلقا بمثل ما تعلق به المنسوخ دون نفسه قلنا إن كان
الحكم الأول باقيا فلا نسخ وإلا عاد الاشكال أو نقول إن أمكن التميز
بينهما فلا نسخ وإلا لزم التكليف بما لا يطاق لتعذر الامتثال [و
سيظهر ما في هذين الوجهين مما يأتي] احتج المجوزون بوجوه الأول
قوله تعالى يمحوا الله ما يشأ ويثبت فإنه بعمومه يتناول محل
النزاع أيضا ويمكن دفعه بأنه علق المحو على المشية ونحن نمنع
حصولها في المقام لما دللنا عليه من استلزامه للبداء وهو محال في
حقه تعالى فيختص المحو بسائر
الحوادث ولا يستلزم الكذب لان الأمور المثبتة في اللوح إما إخبار
مرسومة فتكون مقيدة بما إذا لم يمنع مانع إما تقييدا صريحا أو
مفهوما من فحوى الاصطلاح الذي بني عليه أمر ذلك اللوح وبالجملة
فهي أخبار معلقة على عدم المانع وإنما يلزم الكذب لو كانت أخبارا
بتية وإما عبارة عن اقتضاءات جلية متعلقة بأمور مستقبلة يظهر في
القوى العالية المدبرة لما تحتها بإذن بارئها فتنكشف تلك الأمور
عليها أو على أبصار المشاهدين لها انكشاف الخطوط المرسومة على
الألواح ثم يحجزها عن مقتضاها لكونها عللا ناقصة أو لكونها
مبادي اقتضاء لا حقيقة اقتضاء اقتضاءات خفية تظهر فيها عند قرب
زمن الوقوع فيظهر فيها خلاف ما ظهر فيها أولا وعلى هذا فلا
إشكال رأسا أقول بل الذي يظهر لي أن المرسوم في اللوح المذكور
أوامر إلهية متعلقة بأمور تكوينية متوجهة إلى الملائكة القدسية
المدبرات لما تحتها بإذن بارئها لحكم ربانية مقتضية لذلك ثم قد
يوجد هناك ما يقتضي عدم وقوع بعض تلك الحوادث فينسخ عنهم
تلك الأوامر إلى غيرها ولولا ورود الناس لصدر عنهم تلك الأمور التي
أمروا بها أولا لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما
يؤمرون من هذا الباب اندفاع البلا بالصدقة وامتداد العمر أو قصره
بصلة الأرحام أو قطعها وإليه يرجع أمر الشفاعة فإن العبد الاثم
قد يكون مستوجبا لدخول النار مع عدم شفاعة شفيع فيؤمر به إلى
النار ثم تدركه الشفاعة من أهلها لأهليته لها فينسخ ذلك الامر و
يؤمر به إلى الجنة والسر في ذلك أن أهلية الشئ واستعداده الناشئ
عن الحكم الظاهرة أو الكامنة على نوعين أهلية سابقة وإن كانت
لأمور لاحقة وأهلية لاحقة مخالفة لأهلية السابقة والأوامر المتفرع
جهاتها على جهات المأمور به تتبع لما له من الأهلية الفعلية وإن شئت
توضيح ذلك فانظر إلى الأوامر المنجزة المتعلقة بأمور متأخرة كالحج
بالنسبة إلى المستطيع النائي والتعليقية التي لم يتحقق بعد ما هي
معلقة عليها كالصلاة قبل دخول الوقت فإن المكلف
لما كان له أهلية التكليف بالحج قبل حضور وقته أمر به كذلك ولما لم
يكن أهلية التكليف بالصلاة قبل دخول الوقت تأخر التكليف بها
إلى دخول الوقت [وقد مر ما يؤكد ذلك] وبهذا البيان يتم مقصود
المستدل بالآية وإن كان ما أورده في توجيه الاحتجاج بها قاصرا
عن إفادته الثاني أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ولده إسماعيل عليه
السلام بدليل قوله تعالى إني أرى في المنام أني أذبحك وقوله يا
أبت افعل ما تؤمر وقوله إن هذا لهو البلا المبين ونسخ عنه الامر قبل
وقوع الذبح بدليل قوله وفديناه بذبح عظيم إذ لو كان قد ذبح
لما احتيج إليه وإذا ثبت وقوعه ثبت جوازه لاستحالة وقوع غير الجائز
منه تعالى والجواب عنه وجوه الأول أنه لم يأت في المنام بفعل
الذبح بل بمقدماته وإطلاقه على مثل ذلك أمر شائع والدليل عليه
قوله تعالى قد صدقت الرؤيا فإن التصديق المتعدي بنفسه ظاهر في
جعل الشئ صادقا مطابقا للواقع فتصديق الرؤيا إنما يتحقق إذا كان
الصادر منه في المنام نفس المقدمات التي أتي بها في اليقظة دون
الذبح فلا يلزم النسخ قبل العمل وأما عد ذلك بلا فمن حيث توطينه
النفس على الذبح على تقدير الامر به من حيث قضاء الظاهر بورود
الامر بالشئ بعد الامر بمقدماته وأما الفداء فيجوز أن يكون عما
قضى الظاهر بوقوعه أو عما كان يؤمر به على تقدير عدمه وما
يتوهم من أن ذلك يوجب الظن الكاذب والاجتهاد على الأنبياء و
إنهما باطلان فباطل إذ لا نسلم لزومهما وأما الأول فلانه يكفي في
ترتب الامرين من الابتلاء والفداء مجرد الخوف وهو لا يستلزم الظن
على أنا لا نسلم امتناع الظن الكاذب على الأنبياء مطلقا إذ لا دليل
عليه وأما الثاني فواضح مما مر فإن قيل كما يمكن حمل قوله أذبحك
على فعل مقدمات الذبح مجازا فيبقى
234

على ظاهر معناه كذلك يمكن حمل التصديق على تصديق البعض
الذي هو في معنى تصديق الكل في الدلالة على التسليم والانقياد من
العزم على الفعل والآتيان بمقدماته القرينة فيبقى قوله أني أذبحك
على ظاهر معناه قلنا يكفي في نقض ما أراده الخصم احتمال ما
ذكرناه فلا يتم له الاستدلال به الثاني يجوز أن يكون أمره تعالى إياه
بذبح ولده مشروطا بإمكان صدوره منه عليه السلام وحيث خفي
عليه ذلك ووجد نفسه بحسب الظاهر متمكنا وجب عليه الاقدام
عليه فلما أقدم وأشرف عليه عرف من نفسه عدم التمكن فانكشف له
عدم التكليف الواقعي [في اليقظة] وأما حديث البلا والفداء على
هذا فكما مر الثالث أنه لم يؤمر بالذبح بخطاب لفظي وإنما رأى في
منامه أنه متشاغل به كما يدل عليه قوله أني أذبحك وقد كان مأمورا
بأن يأتي في الخارج بما يرى نفسه متشاغلا به في المنام كما يدل
عليه قوله يا أبت افعل ما تؤمر وهذا التكليف مما لا يستقل به العقل
على الظاهر فلا بد أن يكون قد استفاده من خطاب لفظي أو شبهه
متناول بعمومه أو إطلاقه تلك الواقعة فوجب عليه الاقدام على الفعل
بعد الرؤيا حيث لم يعثر قبل الاشراف عليه على ما يوجب التخصيص
أو التقييد ثم لما عثر عند الاشراف والتوطين عليه ترك الفعل وحصل
الابتلاء وناسب مجئ الفداء فيكون ما دل على عدم وجوب
الذبح عليه عند الاشراف مخصصا للعموم أو مقيدا للاطلاق لا ناسخا
للتكليف إذ لم يكن على هذا هناك تكليف في الواقع الرابع أنه عليه
السلام أمر بالذبح وأتى به لكن الله أوصل ما قطع كما ورد في بعض
الاخبار وحصول الابتلاء على هذا التقدير واضح وأما الفداء
فيجوز أن يكون بدلا عما تقتضي العادة بوقوعه بعد الذبح من زهوق
الروح وانقطاع الحياة وأما ما ذكره بعض المعاصرين في دفع
هذا الوجه من أن المتبادر من الذبح المأمور به هو ما يزهق الروح
فيرجع إلى إخراج الكلام عن الظاهر فضعيف لان المفهوم من الذبح لا
سيما في المقام ليس إلا فري الأوداج وزهوق الروح من لوازمه العادية
المتفرعة عليه وليس بمعتبر في التكليف الثالث ما ورد في
بعض الأخبار المستفيضة
من أن الأمة كلفوا ليلة المعراج بخمسين صلاة ثم لم يزل
النبي يراجع إلى أن عادت خمسا وأجيب بالطعن في تلك الأخبار
حيث إنها تتضمن الطعن على الأنبياء بالاقدام على المراجعة في
الأوامر المطلقة وضعفه ظاهر لان ذلك من باب الشفاعة شفقة منه
على
الأمة ولاحرازه فيه أصلا لا يقال شفقته تعالى على الأمة أكثر من شفقته
صلى الله عليه وآله عليهم فلو كان هناك حكمة تقتضي الشفقة
بالتخفيف لكان اللازم وقوعه منه تعالى قبل المراجعة وإلا لم يجز
وقوعه منه صلى الله عليه وآله لأنا نقول هذا منقوض بالشفاعة عن
الذنب مع أن ثبوتها ضروري والحل أن الحكمة قد تقتضي وقوع
التخفيف والعفو بعد المراجعة والشفاعة فلا يقع قبلها مع أن ذلك كله
في الحقيقة راجعة إليه تعالى فإن قيل لعله صلى الله عليه وآله لم يكن
مأمورا بالخمسين بل كان الحكم بالنسبة إلى الأمة فقط وهم أيضا
غير مأمورين به لارتفاعه قبل التبليغ ولا تكليف إلا بعد البيان قلنا
الظاهر مشاركته صلى الله عليه وآله لهم في الحكم والتبليغ إنما هو
شرط لفعلية التكليف والاشكال متجه على مطلق التكليف بناء على
أنه من قبيل الإرادة فإن قلت لعل أمرهم بالخمسين كان مشروطا
بعدم مراجعة النبي صلى الله عليه وآله وبعدها انكشف انتفاء الشرط
فارتفع [وارتفاع] التكليف قلت المفهوم من روايات الباب أن
التكليف قد ثبت ثم ارتفع بالمراجعة لا أن المراجعة كشف عن ارتفاعه
واقعا الرابع أنه يحسن من المولى أن يأمر عبده بخياطة ثوبه
بشرط أن لا ينهاه عنها فكذا يحسن من الشارع وأجيب بأن جواز ذلك
من المولى إنما هو لجواز وقوع البدأ منه وهو ممتنع في حق
الشارع فيمتنع سريان الجواز إليه ولو أريد جواز ذلك من المولى من
غير أن يقع منه بدأ اتجه المنع من حسنه لان هذه الدعوى في
مرتبة المدعى الخامس أن التكليف قد يشتمل على مصلحة في وقت
دون وقت فيثبته المكلف حيث يشتمل على المصلحة ويرفعه حيث
لا
يشتمل عليها وإن اشتمل الفعل على المصلحة في الوقت والأظهر أن
يقال كما يحسن الامر لمصالح ناشئة من المأمور به كذلك يحسن
لمصالح ناشئة من نفس الامر وتلك
المصالح قد تحصل وترتفع قبل الفعل فيأمر وينسخ قبل الفعل
لحصول المقصود وأجيب بأن حسن التكليف تابع لحسن الفعل فإذا
قدر
حسنه في الوقتين لزم منه حسن التكليف في الوقتين بالضرورة وفيه
نظر يظهر مما نحققه في مباحث الأدلة العقلية هذا ملخص كلمات
القوم بتصرفات لائقة بها والتحقيق أنا إن قلنا بأن النسخ عبارة عن رفع
الظن بالحكم الشرعي كما نص عليه العضدي ومثله ما لو فسر
برفع الحكم الظاهري فالقول بجوازه قبل حضور وقت العمل مما لا
يقبل النزاع ولا تنهض حجة المانع على منعه لكن تعريف النسخ بهذا
المعنى مما لا يكاد يصح لانتقاضه بالتخصيص والتقييد المتأخرين و
بقرينة التجوز المتأخرة وغاية ما يمكن أن يقال في الفرق أن
الحكم الظاهري الثابت في المنسوخ مما يعتبر فيه أن يتعلق غرض
المكلف بإثباته في الظاهر للابتلا والاختيار بخلاف الصور
المذكورة فإن الحكم الثابت فيها في الظاهر مما لم يتعلق قصد
المكلف بإثباته وإنما وقع منه إما لمجرد عدم الداعي إلى تعجيل
البيان
أو لوجود ما يقتضي التأخير مما عدا ما ذكر وأنت تعلم أن حدودهم
المذكورة مما لا تساعد على ذلك وإن قلنا بأن النسخ رفع للحكم
الواقعي فإن جعلنا التكليف عبارة عن الإرادة الحقيقية فامتناعه قبل
حضور وقت العمل في حق من يمتنع عليه البدأ [غير واضح كما
نبهنا عليه] مما لا يقبل النزاع أيضا وكذا لو فسر الحكم الواقعي
بالحكم المسطور في اللوح المحفوظ وحجج المجوزين لا تنهض
بإثبات
جواز مثله وإن جعلنا التكليف عبارة عن أمر جعلي مغاير للإرادة كما
مر أو جعلناها عبارة عن الإرادة المبرزة أو الاحكام المسطورة
في لوح المحو والاثبات فجواز رفعه قبل وقت العمل مما لا ينبغي
التأمل فيه ولا يساعد على رفعه [دفعه] حجة المانعين لأنه لا يوجب
البدأ الممتنع ولا دلالة
235

للعقل على امتناع تعلق التكليف بهذا المعنى بما لا مصلحة في فعله
إذا تعقبه الاعلام برفعه قبل الفعل ويمكن أن ينزل عليه حكاية إبراهيم
عليه السلام ويستقيم الدليلان الأخيران على ما وجهناها عليه ثم إن
السيد العميد اعترض على الأشاعرة بأنهم قالوا بجواز النسخ قبل
وقت العمل مع مصيرهم إلى أن الامر إنما يتوجه إلى المأمور عند
مباشرته للفعل وأن الامر السابق على الفعل إخبار بوقوع الامر حال
الفعل فإن الأول ينافي قولهم هنا بثبوت الامر قبل وقت الفعل والثاني
يستلزم الكذب إذ الفرض انتفاء التكليف حال الفهم أقول ما
عزاه إلى الأشاعرة من الامرين المذكورين مما لم أقف له على أثر في
كلامهم وقد نقل العضدي الاجماع على ثبوت التكليف قبل الفعل
ثم أورد نزاعهم في التكليف حال الفعل نعم ذكر شيخ الأشاعرة أن لا
قدرة على الفعل إلا حال وقوعه ولعل ذلك أوهم مصيره إلى أن لا
تكليف قبل الفعل إذ لا تكليف بغير المقدور ثم فرع عليه المسألة
الثانية لكن أصحابه ألزموه بالقول بجواز التكليف بالمحال وهو
المناسب لمصيره إلى أن أفعال العباد اضطرارية ثم لو سلم النقل
المذكور فيمكن دفع الاشكال الأول بأن شأنية حصول الحكم عند
الفعل
حاصلة قبله والنسخ إنما يكون باعتباره والثاني بأن الأخبار المذكورة
مقيدة بما إذا لم يطرأ الناسخ ولا يقدح عدم التصريح به لأنه
مفهوم ضمنا
فصل اختلفوا في النسخ لا إلى بدل
فذهب الأكثرون إلى الجواز وهو الحق والآخرون إلى المنع ولنحرر
أولا محل النزاع فنقول لا ريب في أن النسخ كما يقتضي رفع
الحكم المنسوخ كذلك يستلزم ثبوت حكم آخر بناء على امتناع خلو
الواقعة عن جميع الأحكام فالبدل المبحوث عنه في المقام ليس
مطلق
البدل وإنما هو البدل الشرعي أعني الحكم المدلول عليه ببيان شرعي
وإن كان إباحة فإنه الذي يمكن انفكاكه عن النسخ حيث يقع
بلفظ نسخت وشبهه فإن الإباحة حينئذ إنما تثبت بحكم العقل لا
ببيان الشرع والعضدي خص البدل بالبدل التكليفي ولم أقف على ما
أخذه وكأن منشأه أن النسخ لا ينفك عن ثبوت بدل ما حكما كان
المنسوخ أو تلاوة وهل النزاع في مطلق النسخ فيتعين أن يكون المراد
به البدل التكليفي وضعفه ظاهر مما مر أو أن إطلاق البدل ينصرف إلى
البدل التكليفي في مثل المقام وهو غير بعيد إلا أنه في محل
المنع وهل النزاع في مطلق النسخ حكما كان المنسوخ أو تلاوة أو في
نسخ الحكم فقط دون التلاوة وجهان وبعضهم كالعضدي خص
النزاع بنسخ الحكم وهو الأظهر ثم المراد بالجواز هنا عدم ما يعين
عدمه ولو من الشرع وبعدم الجواز وجود ما يقتضي ذلك فقول
العضدي في بعض مناقشاته في الاحتجاج بالآية بأنها إنما تقتضي
عدم الوقوع والنزاع في الجواز بعيد إذ لا سبيل إلى إنكار الجواز
العقلي بعد البناء على جواز النسخ إذا عرفت هذا فلنا على الجواز
عدم ما يقتضي المنع لما سننبه [سنبينه] من ضعف ما تمسك به
الخصم و
عدم ما يصلح للمنع سواه وأيضا لو لم يجز لما وقع في الشرع وقد
وقع كنسخ تقديم صدقات بين يدي النجوى بناء على أنه لم يجعل له
بدل كما هو الظاهر ويعاضده الأصل وأما قوله تعالى بعد ذلك فإن لم
تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلا دلالة له
على بدلية إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة عنه لثبوتهما قبل نسخه أيضا بل
المقصود مزيد تأكيد بفعلهما كما يظهر بالنظر إلى ما يقع من
نظائره في المخاطبات العرفية احتج
الخصم بقوله ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وأجيب
بوجوه الأول أن المفهوم من نسخ الآية نسخ لفظها لا نسخ حكمها
فلا دلالة فيه على المجئ بالبدل في الثاني وما يقال من أن النسخ
حقيقة شرعية في نسخ الحكم كما يدل عليه حدودهم المعروفة
فحمله
على نسخ اللفظ مجاز فلا يصار إليه من غير قرينة فمدفوع بالمنع من
ثبوت الحقيقة الشرعية في ذلك لجواز أن يكون باقيا على معناه
الأصلي أعني الرفع مع أن دعوى اختصاصه في العرف بنسخ الحكم
في محل المنع لامكان دعوى اشتراكه بينه وبين نسخ اللفظ الثاني أن
عدم الحكم قد يكون خيرا من ثبوته وقت نسخه فإن المصالح في
الافعال مما يجوز أن تختلف باختلاف الأزمان والأحوال فلا يلزم
الاتيان ببدل وجودي واعترض عليه أولا بأن العدم شر فلا يكون خيرا
وفيه أن هذا الأصل مأخوذ من كلام الفلاسفة وقد نص بعض
المتكلمين على أنه مما يساعد عليه وجدان ولم يقم عليه برهان
فيمكن القدح فيه بالمنع ولو سلم فلا خفاء في أن من أثبت الحكم
المذكور إنما أراد به أن العدم من حيث كونه عدما شر وإن جاز أن
يكون من حيث ما يتبعه من اللوازم المقتضية لوجود أمور آخر خيرا
كعدم الكفر وعدم الظلم ونحو ذلك فيصح دخول العدم المبحوث
عنه في الخير [في الخارج] بهذا الاعتبار فإن الحسن والقبح مما
يختلف بالوجوه والاعتبار وثانيا بأن العدم لا يوصف بكونه مأتيا به
لأنه لا يحصل بالفاعل وتحقيقه أن العدم أزلي فلا يتعلق به الاتيان
والتأثير لان متعلقهما الحوادث أو أن العدم نفي صرف والآتيان و
التأثير إنما يتعلقان بالأمور الوجودية وفيه أن الكلام في العدم
المضاف إلى فعل المكلف باعتبار كونه مسبوقا بالوجود وهو بهذا
الاعتبار حادث وليس بنفي صرف والمراد بالاتيان به أو التأثير
فيه تقريره وتثبيته في حق المكلفين ولو برفع نقيضه وهو لا يقتضي
أن يكون متعلقه وجوديا وثالثا بأنه لا فائدة في الكلام حينئذ
لان كل أحد
يعلم أن دفع كل شئ يقتضي تحقق نقيضه وفيه أن المقصود بثبوت
نقيضه بأحد الوصفين لا مطلقا ورابعا بأنه رتب الاتيان على رفع
الحكم لأنه معنى النسخ فيجب مغايرته له وفيه إنه يكفي كون الجواب
أخص فيغايره مغايرة العام للخاص الثالث أن الآية على تقدير
تسليم دلالتها عامة فتقبل التخصيص بالمورد الذي ثبت فيه النسخ لا
إلى بدل ولا يخفى أن هذا إنما يتم إذا
236

قلنا بجواز تأخير البيان في الاخبار وهو بمعزل عن التحقيق أو التزم
باقترانها ببيان ولو إجمالي من السنة وهو بعيد عن الظاهر و
يمكن أن يجاب أيضا بناء على الوجه الذي ذكرناه في محل النزاع بأنه
يجوز أن يكون المأتي به الإباحة العقلية وهو أمر وجودي وأن
يكون حكمه بثبوتها بعد النسخ مساوية لحكمه ثبوت الحكم
المنسوخ قبله أو أولى وأن يكون الاتيان بها بلسان العقل أو
بالعمومات
العاضدة له أو يجاب بأن الآية ظاهرة في الاستقبال والمقصود أعم من
ذلك ونفي الخاص لا يقتضي نفي العام
فصل لا ريب في جواز النسخ إلى المساوي والأخف والحق جوازه
إلى الأثقل أيضا
وفاقا للمحققين وخالف في ذلك قوم لنا انتفاء المانع وجواز قضاء
المصلحة به ووقوعه كنسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين
الصوم ولا ريب أن التعيين أشق ونسخ صوم عاشوراء بصوم شهر
رمضان وهو أشق ونسخ حبس الزانية بالجلد وهو أشق من الحبس
احتجوا بوجوه الأول أن النقل إلى الأشق أبعد من المصلحة فلا يجوز و
الجواب أما أولا فبالنقض بالأحكام الرافعة لأصل الإباحة فإنها نقل
إلى الأشق وأما ثانيا فالمنع لجواز أن تكون المصلحة في الأشق الثاني
قوله تعالى ما ننسخ من آية الآية فإنها تدل على الحصر في الخير
وهو الأخف والمثل وهو المساوي والجواب أن المراد بالخير ما هو
أكثر ثوابا أو أتم مصلحة فيتعين الأشق أو يتناوله والثالث قوله
تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله يريد الله أن
يخفف عنكم والجواب أما عن الأول فبأن الأثقل بالنسبة إلى
المنسوخ يجوز أن يكون يسرا في نفسه أو المراد اليسر في المال وإن
كان عسرا في الحال وأما عن الثاني فبأنه غير صريح في
المقصود لجواز أن يكون المراد به التخفيف عند الحساب ونحوه و
يمكن الجواب عنهما أيضا بأن المراد اليسر والتخفيف بالنسبة إلى
تكاليف الأمم السابقة أو بأنه لا عموم فيهما فيجوز أن يراد ذلك
بالنسبة إلى بعض الأحكام ويمكن الجواب أيضا بارتكاب التخصيص
على تقدير تسليم العموم في الموارد التي تخالفها لكن يشكل بما مر
فصل يجوز نسخ الكتاب بمثله وبالسنة
المتواترة وفي حكمها السنة المحفوف بقرائن العلم لأنهما دليلان
قطعيان في الجملة فيجب الجمع بينهما لامتناع العمل بهما للتنافي أو
طرحهما لعدم الموجب أو طرح أحدهما لعدم المرجح ثم إن كانت
السنة قطعية الدلالة فلا إشكال وإن كانت ظنية اعتبر أن يكون
ظهورها في النسخ أقوى من ظهور الكتاب في الاستمرار وإلا لوجب
التوقف أو تنزيلها على غير النسخ وقد خالف أبو مسلم الأصفهاني
في المقامين وقد مر وخالف الشافعي في الثاني واحتج بقوله تعالى
نأت بخير منها أو مثلها فإنه سبحانه أسند [استند] الاتيان بالناسخ
إليه تعالى والسنة ليست منه تعالى ووصفه بالخيرية أو المساواة وما
هو غير القرآن لا يكون خيرا منه ولا مساويا إياه وبقوله لتبين
للناس والناسخ ليس مبنيا وبقوله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء
نفسي فإنه ينفي كون النبي ناسخا له فإن النسخ تبديل والجواب أما
عن الأول فبإمكان الحمل على نسخ اللفظ فيخرج عن محل البحث و
لو سلم أن المراد نسخ الحكم أيضا كما هو الظاهر فلا نسلم أن السنة
ليست منه تعالى كيف وقد قال وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي
يوحى ولا ينافي الوصف بالخيرية أو المساواة لان المراد حينئذ
خيرية الحكم أو مساواته لا خيرية [ألفاظه] اللفظ الدال عليه أو
مساواته حتى يمنع ذلك بالنسبة إلى غير القرآن وأما عن الثاني فالمنع
من عدم كون الناسخ بيانا على ما يراه جماعة كيف وقد اشتمل على
بيان المراد بالمنسوخ سلمنا لكن المراد منه بيان البعض أو التبليغ
ولو مجازا لظهور أن جميع ما نزل لا يحتاج إلى البيان وأما عن الثالث
فبأنه قد خص نفي التبديل فيه بكونه من تلقاء نفسه وهو لا
يقتضي نفي التبديل بالوحي بل ربما كان الظاهر من القيد إثباته مع أن
الظاهر منه تبديل اللفظ ولا كلام فيه على أنا نمنع كون النسخ
مستلزما للتبديل لجواز أن يكون النسخ من غير بدل كما مر وكذا يجوز
نسخ السنة المتواترة باللفظ أو المعنى أو بهما بالكتاب أو
بالسنة المتواترة ونسخ خبر الواحد على تقدير حجيته
به أو بأحدهما والمستند ما عرفت من الجمع بين الدليلين واختلفوا
في جواز نسخهما بخبر الواحد على تقدير حجيته والمختار المنع
وفاقا للمحققين بل الظاهر أنه متفق عليه عند أصحابنا وخالف في
ذلك شرذمة من العامة لنا أن ما دل على حجية أخبار الآحاد مما لا
يساعد على حجيتها في المقام لان المستند على ذلك إن كان الاجماع
فلا ريب في انتفائه في هذه الصورة وإن كان ظاهر الآيات و
الاخبار فظاهر أن دلالتهما على حجيتها حينئذ من باب العموم أو
الاطلاق وهو مع معارضته لظاهر الدليلين وعمومات ما دل على
حجيتهما موهون بمصير المعظم بل الكل إلى المنع فلا يبقى لنا تعويل
عليه وإن كان ما نحققه في محله من انسداد باب العلم وبقاء
التكليف في الاحكام فلا خفاء في أن [ظاهره] هذا الطريق إنما يقتضي
التعويل على الطرق التي هي مظنونة الصحة لا غير فإنا كما نعلم
علما إجماليا بعد الانسداد بأنا مكلفون بالأحكام كذلك نعلم علما
إجماليا بأنا مكلفون بتحصيلها عن طرق مخصوصة قد جعلها الشارع
لنا طريقا إليها فحيث لا سبيل إلى تحصيل تلك الأحكام بالطرق
المعلومة لانسداد باب العلم بالنسبة إليها تعين تحصيلها بالطرق
المظنونة وظاهر أن أخبار الآحاد المقتضية لنسخ الكتاب أو السنة
المتواترة ليست من جملة تلك الطرق كيف والمظنون أن لا تكون
منها إن لم نقطع بذلك ومن هنا يظهر الفرق بينه وبين التخصيص فإن
مصير الأكثر هناك إلى جواز تخصيصهما بخبر الواحد مع
أمارات أخر معتضدة بذلك مما يورث الظن بكونه حينئذ من تلك
الطرق واحتج من وافقنا على المنع بأن الكتاب والسنة المتواترة
قطعيان وخبر الواحد ظني والقطعي لا يقابل بالظني وفيه نظر أما أولا
فبالنقض بجواز تخصيصهما بخبر
237

وقد أجازه الأكثرون منهم مع أن الدليل المذكور جار فيه بعينه وأما
ثانيا فبالحل وهو أنه إن أريد أنهما قطعيان من حيث السند أو من
حيث الدلالة في الجملة فلا جدوى فيه لان المعارضة ليست بهذا
الاعتبار خاصة وإن أريد أنها قطعيان باعتبار دلالتهما على استمرار
الحكم أيضا فممنوع بل دلالتهما عليه ظنية إذ الفرض فيما [إنما]
يكون كذلك وإلا لامتنع نسخه بمثله أيضا فيكونان دليلين ظنيين كخبر
الواحد فيتكافئان ويمكن أن يقال أيضا كما أن الكتاب والمتواتر
قطعيان باعتبار المتن كذلك خبر الواحد قطعي باعتبار دلالته و
كما أن خبر الواحد ظني باعتبار متنه كذلك الكتاب والخبر المتواتر
ظنيان باعتبار الدلالة فيتساويان لكن هذا الوجه لا يتجه حيث
يحتمل الخبر التقية والتجوز إلا أن يتمسك في التعميم بعدم الفارق
احتج المجوزون بوجوه الأول أنه لو امتنع نسخهما بخبر الواحد
لامتنع تخصيصهما به أيضا والتالي باطل كما اعترف به أكثر المانعين
فالمقدم مثله بيان الملازمة أن النسخ تخصيص بحسب الأزمان
كما أن التخصيص تخصيص بحسب الافراد فهما متشاركان في حقيقة
التخصيص وإنما يتفارقان في التسمية الاصطلاحية وظاهر أن
مجرد ذلك لا يوجب الافتراق في الاحكام وأجيب بأن النسخ إبطال
للدليل ودفع له بخلاف التخصيص فإنه بيان له ودفع لشموله فلا
يلزم من جواز الثاني جواز الأول ويمكن دفعه بأن النسخ والتخصيص
إن قيسا إلى الظاهر كانا دفعا [رافعا] لما ثبت فيه وإبطالا له و
إن قيسا إلى الواقع كانا دفعا للشمول وبيانا للمراد فالتفرقة غير
مسموعة وتتمة الكلام فيه تعرف مما مر في تحقيق معنى النسخ ومما
مر في مبحث التخصيص والأظهر أن يجاب بما نبهنا عليه من أن
الفارق إنما هو قيام الدليل على جواز التخصيص به دون النسخ الثاني
أنه لو امتنع لما وقع لكنه قد وقع فإن التوجه إلى بيت المقدس كان
متواترا عند أهل قبا فلما سمعوا منادي الرسول ينادي بأن القبلة قد
حولت إلى الكعبة استداروا إليها ولم ينكر صلى الله عليه وآله عليهم
وقد نسخ قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي الآية بما روي آحادا
عنه صلى الله عليه وآله من أنه صلى الله عليه وآله نهى عن أكل كل
ذي ناب ونسخ قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم بقوله صلى الله
عليه وآله المروي آحادا لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها و
الجواب عن الأول أنه يجوز أن يكون ذلك الخبر قد أفادهم القطع
نظرا إلى انضمام القرائن الحالية إليه من كون المنادي إنما نادى
بمحضر منه صلى الله عليه وآله على رؤوس الاشهاد والمنادى به
واقعة
عظيمة فلو كان كذبا لنادى غيره بخلافه كما تشهد به العادة وعن
الثاني بالمنع من كون الرواية نسخا بل تخصيص لعموم الحصر
المستفاد من الآية أو نقول معنى الآية لا أجد الان كما هو الظاهر فلا
يدل على نفي التحريم بالنسبة إلى المستقبل وإنما يكون النهي
ثابتا فيه بالأصل وقد مر أن رفعه لا يعد نسخا وعن الثالث بأنا لا نسلم
أنه من باب النسخ بل التخصيص لجواز ورود الرواية قبل العمل
بعموم الآية الثالث أن تتبع الآثار يقضي بأنه صلى الله عليه وآله كان
يبعث الآحاد لتعليم الاحكام وهي مشتملة على الناسخ وغيره ولم
ينقلوا الفرق بين ذلك فيلزم أن يكون أخبارهم حجة في الأول كما أنه
حجة في الثاني والجواب أن هذا إنما يسلم في نسخ ما ثبت
بالآحاد أو ما كان الخبر فيه محفوفا بقرائن الصدق وفي غير ذلك
ممنوع ودعوى عدم نقل الفرق غير مسموعة لورود أخبار العرض
على الكتاب وهي قاضية بالفرق مع أن مجرد عدم نقل الفرق لا
يقتضي عدم الفرق ولو سلم فدعوى مساواتنا لهم في مثل هذا الحكم
ممنوعة لوجود الفارق وهو ما أشرنا إليه وأما الاجماع فالمعروف
بينهم أنه لا يكون ناسخا ولا منسوخا لان دلالته متوقفة على وفاته
صلى الله عليه وآله ولا نسخ بعده وضعفه على مذهبنا ظاهر لان
الاجماع إن كان عبارة عن الاتفاق الكاشف عن قول المعصوم كما هو
المختار فهذا مما يمكن تحققه في حياته صلى الله عليه وآله فيصح
أن يكون ناسخا ومنسوخا وإن كان عبارة عن اتفاق جماعة أحدهم
المعصوم على وجه لا يعرف شخصه بينهم فهذا أيضا مما يمكن
وقوعه في زمانه صلى الله عليه وآله سواء علم بدخوله بينهم أو
بدخول
معصوم غيره وكذا الكلام على طريقة الشيخ وأما على مذهب
مخالفينا فالأدلة التي تمسكوا بها على حجيته مختلفة المفاد وقضية
أكثرها
عدم حجيته في زمانه صلى الله عليه وآله كاحتجاجهم بالاجماع على
القطع بحجيته لانتفائه في محل البحث وكاحتجاجهم بالآيات و
الروايات لأنها مخصوصة أو مقيدة بغير زمانه بالاجماع إن تم أو
موهونة الشمول لمحل البحث بقيام الشهرة العظيمة على الخلاف و
مثله الاحتجاج بالضرورة وقضية بعضها الحجية مطلقا كاحتجاجهم
على حجيته بإحالة العادة الاجتماع على حكم من غير دليل قطعي
هذا
كله إذا كان الاجماع كاشفا عن تحقق النسخ حال انعقاده وأما إذا كان
كاشفا بعد زمانه عن وقوعه في زمانه فلا نزاع في جوازه [وفلا
نزاع في جوازه] هذا وقد يتوهم أن الاجماع الواقع عقيب الخلاف
ناسخ لتخيير العامي في الاخذ بأحد القولين أو الأقوال وضعفه ظاهر
لان تخييره ظاهري مبني على عدم قيام دليل عنده يقتضي التعيين
فإذا انعقد عنده الاجماع صادف الدليل فيرتفع التخيير كما لو تخير
المجتهد في الاخذ بأحد الدليلين المتكافئين المتعارضين ثم وجد ما
يقتضي ترجيح أحدهما
فصل زيادة عبادة مستقلة على العبادات ليست نسخا
لأنها إنما ترفع حكما عقليا من عدم وجوبها أو استحبابها أو انحصار
عددها وقد عرفت أن رفع الحكم العقلي لا يعد نسخا ولا فرق
بين أن يصرح أولا بعدم وجوبها أو لا لان الحكم بعدم الوجوب ليس
من جملة الاحكام وكذا لا فرق بين أن يكون الزيادة في عدد
الصلوات أو غيرها والثاني موضع وفاق وقد اختلفوا في الأول فذهب
شرذمة إلى أن الزيادة فيها نسخ لكونها مخرجة للوسطى عن
كونها وسطى فتكون ناسخة لحكمها من تأكد وجوب المحافظة عليها
وضعفه ظاهر لأنه إن أريد بالوسطى صلاة بعينها فالزيادة لا
توجب زوال حكمها وإن أريد الصلاة الموصوفة بها فثبوت الحكم في
حقها قبل الزيادة منوط بثبوت
238

الوصف فيها فارتفاعه بارتفاع الوصف لا يكون نسخا له وإنما هو من
باب ارتفاع الحكم لانتفاء الموضوع وكذلك الحال في زيادة
حكم مستقل في غير العبادات ومن هذا القبيل ما لو زيد جلد عشرين
على الثمانين في حد القذف أو زيد التغريب على الجلد مائة في حد
الزنا لان الحكم السابق باق على ما كان وإنما الزيادة حكم مستقل وإن
اتحد المقتضي وهو القذف والزنا أو اتحد الاثم وهو كونه حدا
لأحدهما وأما زيادة عبادة غير مستقلة كزيادة ركعة أو ركعتين فإن
كانت الزيادة مع بقاء الماهية المأمور بها على حكمها كما لو قال
صلوا صلاة الظهر وهي ركعتان ثم قال هي أربع كانت نسخا للحكم
الوضعي لرفعه بعد إثباته على وجه يقتضي الاستمرار وليست
نسخا للحكم التكليفي لتعلقه بماهية واحدة وإن اختلف كيفيتها
بحسب الأزمان وإن كانت مع ارتفاعها كما لو قال صلوا عند الزوال
ركعتين ثم قال صلوا أربعا فهي نسخ من حيث رفع حكم الكل فإن ما
وجب أولا مغاير لما وجب آخرا وتعدد الموصوف قاض بتعدد
الوصف وليس نسخا من حيث رفعه لعدم زيادة الجز أو وجوبه أو
فساد ما كان يصح قبل الزيادة أو صحة ما كان فاسدا قبلها لان
ذلك كله رفع لحكم عقلي لا شرعي لان عدم الزيادة وعدم الوجوب
مستندان إلى الأصل ولو فرض التصريح بذلك فهو ليس من
الاحكام والصحة والفساد في العبادات بمعنى موافقة الامر وعدمها
من الاعتبارات العقلية ومنه يظهر الحال في زيادة الشرط وأما
نقصان عبادة مستقلة فهو نسخ لتلك العبادة فقط وهذا ظاهر مما مر و
ليس نسخا لعدد البواقي ولا لعدم البراءة بالاقتصار على ما
عداها ونحو ذلك فإن ذلك كله حكم عقلي مترتب على ثبوت العبادة
نعم لو كانت شرطا لعبادة أخرى كان رفعا لشرطيتها وهو حكم
وضعي فيكون نسخا بهذا الاعتبار وأما نقصان عبادة غير مستقلة فإن
كانت جزا ولم يستلزم نقصانه لتعدد الماهية التي هي موضوع
الحكم كان نسخا لحكمه الوضعي أعني الجزئية وإن استلزمه كان
نسخا باعتبار
رفع حكم الكل كما عرفت في جانب الزيادة وإن كان شرطا فهو نسخ
للاشتراط الثابت بالخطاب السابق إلا أن يتعدد الماهية على
تعدده كما لو قال صلوا أربعا عند الزوال مستقبلين بيت المقدس ثم
قال نسخت حكم ذلك صلوا عنده أربعا مستقبلين الكعبة فيكون
نسخا للحكم التكليفي لما مر
فصل يتحقق النسخ تارة بالتصريح بلفظه
كقوله نسخت عنكم كذا أو بمرادفه نحو رفعته وأزلته عنكم وأخرى
بما يستلزمه كما لو وضع حكما منافيا للحكم السابق إما من حيث
الذات كما لو أمر بما نهى عنه أو نهى عما أمر به أو أمر بالحركة في
وقت ثم أمر بالسكون فيه أو بواسطة كما لو أمر بشئ ثم نهى عن
مقدمته التي لا يمكن الاتيان به إلا بها إما عقلا كما لو أمر بالحج ثم نهى
عن قطع المسافة إلى البيت أو شرعا كما لو أمر بالعتق ثم نهى
عن تملك الرقيق ويتوقف معرفة الناسخ في غير القسم الأول على
تعيين المتأخر منهما إما بدليل قطعي كالاجماع والسنة المتواترة أو
ظني كخبر الواحد وهو مقبول هنا وإن كان المنسوخ كتابيا أو سنة
مقطوعة لان تعيين مورد النسخ ليس على حد إثبات أصله والكلام
فيما مر إنما هو فيما لو كان الخبر مستقلا بالدلالة على النسخ ولا سبيل
إلى إثبات ناسخية المحتمل للتأخر بأصالة التأخر إذا كان
تاريخ أحدهما معلوما والاخر مجهولا لما سنحققه في محله من أنه
أصل مثبت لا تعويل عليه ولو لم يثبت تأخر أحدهما وجب الوقف و
الرجوع في العمل إلى الأصل مع إمكانه كما لو كان أحدهما تحريما و
الاخر تنزيها أو أحدهما إيجابا والاخر ندبا فيتمسك بأصالة
البراءة عن المنع من النقيض في نفي الوجوب والتحريم وكذا لو كان
أحدهما أحد الأحكام الأربعة والاخر الإباحة الشرعية وإلا فإلى
الاحتياط مع إمكانه كما لو كان أحدهما وجوب شئ في العبادة
الواجبة والاخر استحبابه ويحتمل الرجوع هنا إلى أصل العدم بناء
على
جريانه في أجزأ العبادة وشرائطها الغير المعلومة وإلا كما لو كان
أحدهما إيجابا والاخر تحريما فالمتجه التخيير في العمل بأحدهما
تقديما لمحتمل الصحة على معلوم البطلان ولو كان عدم ثبوت التأخر
من جهة تعارض أخبارنا الواردة في تعيين المتأخر أمكن البناء
على التخيير مع فقد المرجح مطلقا عملا بما دل على ذلك عند
تعارض الاخبار وعلى هذا فما ذكره الفاضل المعاصر فيما إذا لم يعلم
النسخ
بالتنصيص أو بالاجماع أو بالعلم بالتأخر من أنه يجب التوقف لا
التخيير مدعيا أن هذا ليس من قبيل أخبار أئمتنا إذا حصل التعارض
بينهما غير واضح بل التحقيق ما عرفت تم المجلد الأول من كتاب
الفصول الغروية ويتلوه المجلد الثاني إن شاء الله تعالى كتبه الفقير
إلى ربه الغني محمود القمي اللهم اجعل عواقب أمورنا خيرا واغفر
لمن دعانا بالخير آمين يا رب العالمين بحق شفيعنا ونبينا محمد و
آله الطاهرين
239

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
المقالة الثانية في الأدلة السمعية
القول في الكتاب
فصل اتفق علماء الاسلام والمنتسبين إليه من الأنام على حجية
الكتاب الكريم
والقرآن العظيم والمنكر لحجيته مخالف لضرورة الدين وربما خرج
عن فرقة المسلمين ثم المعروف بينهم حجية محكماته من
نصوصه وظواهره وإن لم يرد تفسيرها في السنة بل لا يعهد في ذلك
خلاف من السلف ولهذا لا يرى لهذه المسألة عنوان في كتبهم ولا
يعثر له على ذكر في زبرهم مع تداول احتجاجهم به وركونهم إليه و
ليس ذلك إلا لعدم حجيته من المطالب الضرورية والمباحث
البديهية بعد ثبوت حقيقة الشريعة المبنية كحجية قول النبي صلى الله
عليه وآله وأوصيائه المعصومين عليهم السلام بعد ثبوت مناصبهم
في أمر الدين وبالجملة فقد جرى طريقة علماء الاسلام من الموافقين
والمخالفين على التمسك بالكتاب المبين والرجوع إليه في مقام
التنازع في مباحث الدين إلى أن انتهت النوبة إلى جماعة من متأخري
الأخبارية الذين كانت نهاية درجتهم في المعالم الدينية والمعارف
الشرعية معرفة ظواهر الآثار والاخبار والبحث عن مداليلها بنظر عار
عن التدبر والاعتبار فأنكروا حجيته ما لم يفسر منه في السنة و
إن كان نصا من حيث الدلالة وفصل بعضهم بين نصوصها وظواهرها
فوافقهم في الثاني دون الأول فقال إن أرادوا يعني المنكرين
حجية الكتاب أنه لا يجوز العمل بالظواهر التي ادعيت إفادتها للظن
لصيرورة أكثرها متشابها بالنسبة إلينا فلا تفيد الظن وما أفاد
الظن منه منعنا عن العمل به مع قبول أن في القرآن محكما بالنسبة إلينا
فلا كلام معهم وإن أرادوا أن لا محكم فيه أصلا فباطل انتهى
ملخصا وهذا كما ترى صريح في منع حجية ما هو ظاهر منه في المراد
دون ما هو صريح فيه وفيه أيضا دلالة على تنزيله لاخبار المنع
عن العمل بالنوع الأول دون الأخير فما أورده بعض المعاصرين عليه
من أن التفصيل المذكور غفلة عن محل النزاع فإن المتشابه على
الوجه الذي ذكره لا يختص بالكتاب بل يجري في الاخبار أيضا بل
النزاع في خصوص الكتاب من جهة الاخبار التي دلت على المنع من
العمل به مما لا ورود له عليه نعم يبقى الكلام في ترديده في بيان مراد
المانعين
حيث يشعر بعدم صراحة كلامهم في المنع مطلقا ولا يخفى ضعفه لنا
وجوه منها إطباق الطائفة المحقة من زمن ظهور الأئمة إلى زمن
الغيبة بل علماء الاسلام كافة على حجيته ووجوب العمل به مطلقا و
لا ريب في أن مثل هذا الاتفاق كاشف عن قول رؤسائهم وتقريرهم
إياهم على ذلك بل يمكن أن يستكشف بذلك عن قول النبي صلى
الله عليه وآله لامتداد سلسلة الاتفاق إلى عصره وزمانه ومنها أنه لو
لم يكن ألفاظ الكتاب في نفسها دليلا على إرادة معانيها بدون التفسير
لتوقف كونها معجزة على ورود التفسير لظهور أن من أظهر
وجوه إعجازه اشتماله على الفصاحة والبلاغة التي لا يسعها طاقة
البشر حتى اعترف به فصحاء العرب وأقروا بالعجز عن المعارضة
بالمثل ولا ريب أن ذلك لا يتم إلا بمعرفة مداليله ومعانيه لوضوح أن
وصف البلاغة لا يعرض اللفظ إلا بالقياس إلى ما أريد به من
المعنى ألا ترى أن من عبر بعبارة فصيحة عن معنى يستبشع أهل
الاستعمال صوغ ذلك الكلام لبيان ذلك المعنى خرج كلامه عن حد
البلاغة بل قد يخرج عن حد كلام أهل العقول ويرمى إلى الهذيان و
الفضول ولم ينقل أنه صلى الله عليه وآله كان يحاج العرب بالقرآن
بعد تفسيره وبيانه لهم بل لو كان ذلك لشاع وذاع ولبلغ حكايته
الاسماع مع أن ذلك يوجب خروج القرآن عن كونه معجزا بالبلاغة
لتوقفه كما بينا على التفسير وصحته مبينة على ثبوت النبوة فإذا توقف
ثبوتها على كونه معجزا لزم الدور ويوجب أيضا أن يكون
إعجازه بالفصاحة في أمثال زماننا ظنيا لثبوت التفسير غالبا بطريق ظني
وربما أمكن الاستناد في التفصي عن ذلك إلى كونه معجزا
من حيث الأسلوب فقط لكنه مع بعده لا يجدي في إثبات كونه معجزا
من حيث البلاغة كما عليه إطباق الأمة ومنها الآيات الدالة على ذلك
كقوله تعالى أفلا يتدبرون القرآن وقوله تعالى ليدبروا آياته وقوله
تعالى هذا بيان للناس وما هو إلا ذكر للعالمين هدى ورحمة و
إذا تتلى عليهم آياتنا إلى غير ذلك ووجه الاستدلال أن هذه الآيات و
نظائرها بعد ملاحظة سياقها يوجب القطع بإرادة ما أردناه من
حجية القرآن بنفسه ولو في الجملة وهذه الدلالة قطعية فلا دور ومنها
الاخبار وهي كثيرة جدا
منها رواية الثقلين المدعى تواترها بين العامة والخاصة فإنها قد
اشتملت على الامر بالتمسك بالكتاب وبالعترة ولا ريب في أن
التمسك بالعترة غير مشروطة بموافقة الكتاب فكذلك العكس إذ
استقلال أحدهما في وجوب التمسك به يوجب عدم إرادة التمسك
بهما
معا في كل واقعة وذلك يوجب الاستقلال من الجانب الاخر وتنزيلها
على وجوب التمسك بالكتاب بشرط بيان العترة حتى بالنسبة إلى
الصريح منها والظاهر خلاف الظاهر من مساقها ومنها قول علي أمير
المؤمنين وإمام المتقين صلوات الله عليه في خطبته المعروفة
كأنهم لم يسمعوا الله
240

يقول تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا
فسادا الآية وجه الدلالة أن القرآن لو لم يكن حجة في نفسه فأي
إنكار يتوجه عليهم بمجرد سماعها ومنها قوله عليه السلام فيمن
شرب الخمر وادعى جهله بتحريمها ابعثوا معه من يدور به على
مجالس المهاجرين والأنصار من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد
وجه الدلالة أن الكتاب لو لم يكن في نفسه حجة فكيف يصح ترتب
الحد عليه بمجرد تلاوة آية التحريم عليه ومنها الأخبار الدالة على
عرض الخبرين المتعارضين على الكتاب والاخذ بالموافق وطرح
المخالف وأنه زخرف ويضرب به وجه الجدار فإن سياق تلك الأخبار
يدل على كمال الاعتداد بما هو المفهوم من الكتاب وليس فيها
إشعار بتخصيص ذلك بما إذا كانت الآية المعروض عليها مفسرة فإن
ذلك قليل في مورد التعارض بل الظاهر أن المخالف لا يلتزم به
فإن قلت لعل موافقة أحد الخبرين للآية يكفي في كونها مفسرة فلا
ينافي ما ذكروه قلت تعميم التفسير إلى مجرد الموافقة بعيد جدا و
نحن نحتج بهذه الاخبار على المخالف على ما يظهر لنا من كلامه ولو
نزلوا هذه الأخبار على أن موافقة أحد الخبرين للكتاب مرجحة
للعمل به وإن لم يكن الكتاب على مدلوله حجة فمنافرة مساقها لذلك
مما لا يكاد يخفى على أحد واعلم أن الأخبار الدالة على حجية
الكتاب كثيرة يقف عليها المتتبع وفيما أوردناه في المقام غنية وكفاية
احتجوا بظاهر جملة من الاخبار منها ما روي عن الصادق عليه
السلام إنما يعلم القرآن من خوطب به ومنها قوله عليه السلام وجعل
للقرآن ولعلم القرآن أهلا إلى أن قال وهم أهل الذكر الذين أمر
الله هذه الأمة بسؤالهم ومنها الأخبار الدالة على عدم جواز تفسير
الكتاب بالرأي وقد حكم بصحتها الشيخ الطبرسي في مجمع البيان
حيث قال واعلم أن الخبر قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله و
الأئمة القائمين مقامه أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح و
النص الصريح قال وروى العامة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال
من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فأخطأ ثم قال ذكر جماعة من
التابعين القول في القرآن بالرأي كسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله
وغيرهم والجواب أن هذه الأخبار على تقدير تسليم صراحتها
في نفي حجية الكتاب معارضة بالاخبار المتقدمة الدالة على حجيته و
لا ريب في أن الترجيح لتلك الأخبار
لكثرتها واعتضادها بعمل الأصحاب وصريح الكتاب مضافا إلى
بعض الوجوه السابقة مع أنا لا نسلم صراحتها فيما زعموه بل ولا
ظهورها فيه فإن الرواية الأولى مع شمولها لغير المعصومين من
المخاطبين وهم لا يقولون بحجيته في حقهم بدون البيان إنما تدل
على
حصر العلم بالقرآن بمن خوطب به وهو أعم من العلم بكله وبعضه إذ
ليس المراد العلم بنفس القرآن بل بمعانيه كلا أو بعضا كالمتشابه
وتقدير المعاني فيه ليس بأولى من تقدير المتشابه ولو سلم ظهوره في
العموم فتنزيله على العموم المجموعي غير مفيد لا سيما إذا
عممناه إلى العلم ببطونه وعلى الافرادي ممنوع خصوصا بعد
مساعدة بعض الامارات كوضوح معاني أكثر الآيات عليه وبهذا يتضح
الجواب عن الرواية الثانية وأما الروايات التي رواها الطبرسي فلا دلالة
لها على ما ذكروه لان التفسير كما يظهر من العرف ويساعده
تصريح البعض به هو كشف المغطى والمتشابه ولا ريب في عدم
جواز ذلك من غير أثر معتبر مع أن الظاهر من التفسير بالرأي أن
يكون المبنى فيه على الرأي والتشهي وليس الامر في محل البحث
كذلك فإن مبناه على ما يقتضيه جواهر الألفاظ وما يعرضها من
الهيئات بحسب أوضاعها اللغوية أو العرفية نعم يتجه ذلك في تفسير
المتشابه حيث إن نسبة اللفظ إلى بعض محامله كنسبته إلى غيره
فيكون التعيين من غير دليل مبنيا على مجرد الرأي والتشهي ولا ريب
في عدم جوازه هذا وأجاب عنها الشيخ الطبرسي بوجه آخر
حيث قال بعد ذكر ما مر نقله عنه والقول في ذلك إن الله ندب إلى
الاستنباط وأوضح السبيل إليه ومدح أقواما عليه وقال لعلمه الذين
يستنبطونه منهم وذم آخرين على ترك تدبره والاضراب عن التفكر
فيه فقال أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وذكر أن
القرآن منزل بلسان العرب فقال إنا جعلناه قرأنا عربيا إلى أن قال هذا و
أمثاله يدل على أن الخبر متروك الظاهر فيكون معناه إن
صح أن من حمل القرآن على رأيه ولم يعلم شواهد ألفاظه فأصاب
الحق فقد أخطأ الدليل وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال إن
القرآن ذلول أي ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه إلى آخر ما
ذكره وأما ما زعمه بعض أهل هذا القول من موافقة الشيخ الطبرسي
لهم فناشئ عن قصور نظره من استنباط
مطالب العلماء من عبائرهم هذا وربما كان حجة المفصل أن إطلاق
التفسير يتناول بيان الظاهر فيشمله الأخبار الدالة على تحريم
التفسير بالرأي وأن الآيات التي يحتمل طريان النسخ عليها من جملة
الظواهر وقد ورد المنع من العمل بالكتاب في حق من لا يعلم
بمنسوخاته وهو يستلزم عدم جواز العمل بما يستظهر فيه عدم النسخ
لان عدم العلم أعم من الظن بالعدم وإذا ثبت عدم جواز العمل
بهذا الظاهر ثبت بغيره إذ لا قائل بالفصل والجواب أما عن الأول
فبالمنع من صدق التفسير بالرأي على بيان ما له ظاهر بل يختص
ببيان المتشابه وقد مر بيانه وأما عن الثاني فبأن تلك الأخبار إنما
وردت في حق من يتمكن من تحصيل العلم بمنسوخات الكتاب
بالرجوع إلى الامام لحضوره فلا يثبت في حق من يتعذر ذلك بالنسبة
إليه أو نقول المراد بالعلم ما يتناول الطريق الذي ثبت اعتباره
شرعا ولولا ذلك لما جاز العمل بالآيات التي دلت أخبار الآحاد على
سلامتها من النسخ ولا خفاء في أن أصالة عدم النسخ بعد الفحص
المعتبر طريق معتبر على إثبات عدم النسخ عملا بعموم روايات
الاستصحاب فلا يكون العمل بها من غير علم بعدم النسخ وأما ما
يقال
من أن أصحاب الأئمة عليهم السلام ما كانوا يعملون بعمومات الكتاب
بمجرد الوقوف عليها وكانوا يعملون بعمومات الروايات المعتبرة
بمجرد ورودها فبعد تسليمه مما لا ينافي ما قررناه لجواز أن يكون
عمومات الكتاب [عندهم] موهونة بالعلم الاجمالي بورود
التخصيص على جملة منها دون عمومات الأخبار التي يرد عليهم
فكان حالهم بالنسبة إلى عمومات الكتاب كحالنا بالنسبة إلى سائر
العمومات حيث لا يجوز لنا الاعتماد على شئ منها لكان العلم
الاجمالي بورود التخصيص على كثير منها إلا بعد الفحص عن
المخصص
كما سبق بيانه في محله إذا عرفت هذا فاعلم أنه يجوز تفسير الكتاب
بما يقتضيه جواهر الألفاظ على حسب ما ثبت لها عند النزول من
الأوضاع إذا تجردت عن أمارات الخلاف مع
241

مراعاة ما يقتضيه الهيئات اللاحقة لها على حسب ما قرر في العلوم
العربية وبما فسر به في الأخبار المعتبرة وإن كان على خلاف
الظاهر ويسقط الاحتجاج حينئذ بظاهره ما لم يتبين كونه تفسيرا
للباطن فلا ينافي حجية الظاهر ومع الشك فالظاهر هو الأول وقد
جاء في بعض الاخبار تفسير بعض المطلقات ببعض الافراد كتفسير
الزور واللغو بالغناء فيمكن أن يكون من بيان الفرد الكامل أو
الأكمل أو من باب حصر المراد فيه والثاني أوفق بظاهر التفسير وإن
كان الأول أنسب بإطلاق اللفظ فإن قام قرينة على ترجيح
أحدهما وإلا فالظاهر هو الأول ومثله تفسير أهل الذكر بالأئمة عليهم
السلام ولا عبرة بمقالة المفسرين من العامة فيما لا يرجع إلى
اللغة ولا بمقالة الخاصة ما لم يبلغ حد الاجماع أو الشهرة المعتبرة بناء
على ما قررنا من حجية الظن في الأدلة
القول في الاجماع
مقدمة الاجماع في اللغة يأتي لمعنيين
العزم ومنه لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل وبه فسر قوله تعالى
فأجمعوا أمركم والاتفاق ومنه قولك أجمع القوم على كذا إذا
اتفقوا وأما في الاصطلاح فقد نقل من معناه الأخير إلى اتفاق
مخصوص واختلفوا في تعريفه فعرفه مخالفونا بحدود فعن النظام أنه
قول قامت حجته ورام بذلك الجمع بين إنكار كونه حجة وبين تحريم
مخالفته وهذا منقوض بقول غير هذه الأمة عن حجة وبقولهم في
غير المسائل الشرعية نفسها أو فيها عن تقليد لقيام حجة التقليد أو
لقيام حجته عند مجتهده وبقول آحاد الفقهاء عن حجة وبقول النبي
صلى الله عليه وآله إن جعلنا المعجزة القائمة على صدق قوله حجة
أو قام على قوله حجة فإن شيئا من ذلك لا يسمى إجماعا وعرفه
الغزالي بأنه اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وآله على أمر من الأمور
الدينية واحترز بإضافة الأمة إليه صلى الله عليه وآله عن اتفاق سائر
الأمم وبقوله على أمر من الأمور الدينية عن اتفاقهم على ما عداها من
الأمور اللغوية والعادية ونحوها فإن ذلك لا يسمى إجماعا ويرد
عليه أن الظاهر من أمته صلى الله عليه وآله كل من تابعه لأنها في
معنى الجمع المضاف فيتناول العوام أيضا وليس قولهم معتبر في
الاجماع عند محققيهم إلا أن ينزل الحد على القول الأخير بل يتناول
من لم يوجد بعد من الأمة واعتبار موافقتهم يؤدي إلى امتناع تحققه
اللهم إلا في العصر المتأخر أو حيث يقطع بموافقتهم أيضا بناء على
حمل الموافقة على ما يتناول مثل هذه الموافقة الشأنية أيضا وحصوله
في غير الضروريات بعيد بل يتناول من تدين بشرعه صلى الله عليه و
آله من الجن أيضا واعتبار قولهم في الاجماع يوجب عدم إمكان
الاطلاع عليه عادة ويمكن التفصي عن هذا بأن الظاهر من الأمة من
تابعه من الانس خاصة كما هو الظاهر من الرواية التي تمسكوا بها
على حجية الاجماع هذا وأيضا ينتقض طرده باتفاقهم على فعل
عبادة من حيث كونه اتفاقا على فعلها لأنها أيضا أمر من الأمور الدينية
و
لا يسمى إجماعا وإن كان اتفاقهم على كونها عبادة إجماعا ويمكن
دفع الأول بحمل الأمة على علمائها مجازا بالنقل أو بالحذف وفيه
تعسف والثاني بتخصيصهم بالموجودين في عصر واحد وقد ارتكبوا
الوجهين في لفظ الرواية فيكون التعريف ناظرا إليه والثالث
بأن قيد الحيثية معتبرة في الأمة أو في القيد الأخير والمراد اتفاقهم من
حيث كونهم أمة أو على أمر ديني من حيث كونه أمرا دينيا ولا
يخفى أن التعويل في الحد على
مثل هذا الاشعار ليس على ما ينبغي وعرفه الفخر الرازي بأنه اتفاق
أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وآله على أمر من
الأمور والمراد بأهل الحل والعقد على ما نبه عليه غير واحد منهم
المجتهدون واحترز به عن اتفاق العوام فإنه لا يعتبر في الاجماع لا
منفردا ولا منضما وقوله على أمر من الأمور قيد توضيحي لان الاتفاق
لا يعقل إلا عليه وكان الغرض منه التنبيه على أنه لا يختص بأمر
معين ويرد عليه مضافا إلى ما مر في الاشكال الثاني على الغزالي أن
أمرا من الأمور يعم الشرعيات وغيرها بل يتناول غير الاحكام
أيضا كالأكل والشرب ولا يسمى اتفاقهم عليه إجماعا ويمكن دفعه
باعتبار قيد الحيثية في القيد الأول فيكون المراد اتفاق أهل الحل و
العقد من حيث كونهم أهل الحل والعقد ولا ريب في أن اتفاقهم على
غير الأحكام الشرعية ليس بهذا الاعتبار وعرفه الحاجبي بأنه
اجتماع المجتهدين من هذه الأمة في عصر على أمر ونبه بقوله في
عصر على أن اجتماع السلف والخلف غير معتبر في كون الاتفاق
إجماعا والكلام في سائر القيود واضح مما مر ويشكل عليه بأن
المفهوم من الامر في الحد ليس إلا معنى الشأن دون ما يقابل النهي
لوضوح عدم استقامة العكس على تقديره فيرد على طرده ما مر في
الاشكال المتأخر ويمكن التفصي عنه بما مر لكنه قد التزم بدخول
اتفاقهم على أمر دنيوي في الاجماع واعترض على الغزالي في أخذه
قيد الدين ويرد بأن الامر الدنيوي إن تعلق به عمل أو اعتقاد فهو
ديني وإلا فلا يتصور حجية فيه وأما أصحابنا رحمه الله فقد أوردوا له
أيضا حدودا فعرفه العلامة بما ذكره الفخر الرازي وقد سبق و
يشكل مضافا إلى ما مر بأنهم عرفوا أهل الحل والعقد بالمجتهدين فلا
تناول المعصوم على مذهب الإمامية مع أن حجيته عنده من جهة
دخوله فيهم اللهم إلا أن يريد به مطلق أحكام الشرع ولم أجد من
يفسره بهذا المعنى لكنه أوفق بمعناه الأصلي وأيضا يصدق الحد
المذكور على الاتفاق الذي يعرف فيه قول المعصوم بشخصه مع أنه لا
يسمى عندنا إجماعا وأيضا إن أراد بأهل الحل والعقد الجميع كما
هو الظاهر لم ينعكس لخروج ما لو اتفق ما دون الجمع وعلم بدخول
المعصوم فيهم فإن ذلك عندنا إجماع على ما صرح هو به وغيره
وإن أراد ما يتناول البعض لم يطرد لصدقه على اتفاق كل بعض وإن لم
يعلم بدخول المعصوم فيهم بل وإن علم بخروجه منهم وعرفه
بعضهم بأنه اجتماع رؤساء الدين من هذه الأمة في عصر على أمر و
هذا الحد هو حد الحاجبي وإنما تصرف فيه بتبديل المجتهدين
برؤساء الدين ليتناول المعصوم لاعتبار دخوله فيهم عنده وعدم
صدق عنوان المجتهد عليه ويرد عليه ما أوردناه على الحاجبي مضافا
إلى الاشكالين الأخيرين اللذين أوردناهما على حد العلامة وعرفه في
المعالم بأنه اتفاق من يعتبر قوله من الأمة في الفتاوى الشرعية
على أمر من الأمور الدينية والوجه في قيوده ظاهر مما مر ويشكل
عليه بأن المراد بالموصولة إما الجنس أو العموم فإن كان الأول فهو
مع كونه مجازا أو خروجا عن الظاهر من غير قرينة يوجب نقض طرد
الحد باتفاق كل جماعة وإن لم يعلم دخول المعصوم فيهم أو علم
بعدم دخوله فيهم وأيضا
242

ينتقض باتفاق المعصومين فإنه لا يعد عندنا إجماعا وإلا لكانت
جميع الأحكام الشرعية عندنا إجماعية ولو بحسب الواقع فإن قلت
المراد باتفاقهم في الفتوى أن يكون كل واحد منهم مفتيا والفتوى
كالاجتهاد لا يصدق عرفا في حق المعصوم قلت هذا ممنوع ولو سلم
فالمراد بها هنا المعنى الأعم لئلا يفسد الحد إذ الغرض دخول الامام
عنده في المتفقين وإن كان الثاني فهو مع عدم انعكاسه على مذهبه
غير مطرد لصدقه على ما لو علم بدخول المعصوم فيهم بعينه ولم
يكن لقولهم مدخل في الكشف عن قوله فإن ذلك لا يسمى إجماعا
عندنا كما سيأتي فالصواب أن يعرف الاجماع على قول من يعتبر
دخول المعصوم في المتفقين على وجه لا يعرف نسبه بأنه اتفاق
جماعة يعتبر قولهم في الفتاوى الشرعية على حكم ديني بحيث يقطع
بدخول المعصوم فيهم لا على التعيين ولو في الجملة أو اتفاقا
جماعة على حكم ديني يقطع بأن المعصوم أحدهم لا على التعيين
مطلقا فخرج اتفاق المعصومين صلوات الله عليهم لان المعصوم
يعرف
فيهم بعينه مع أن الظاهر من اعتبار دخول المعصوم في المتفقين أن
يكون فيهم غير معصوم والمراد بقولنا في الجملة عدم التعيين بين
البعض ومطلقا عدم التعيين بين الكل والكلام في سائر القيود ظاهر
مما مر والنسبة بين الحدين عموم من وجه لان الأول يتناول
اتفاق جماعة يقطع بأن بعضهم على التعيين غير المعصوم ولا يتناول
ما إذا قطع بدخول المعصوم في جماعة لا يعتبر قول من عداه في
الفتاوى كالعوام والثاني على العكس والذي يساعد عليه مصطلحهم
على ما يظهر من تضاعيف كلماتهم هو الأول والذي يقتضيه في
الحجية هو الثاني فإن قلت لعل الوجه أن الواقع منه ليس إلا هذه
الصورة وهي ما إذا كان المتفقون ممن يعتبر قولهم في الفتاوى وإن
ضم من علم أنه ليس بمعصوم استطرادا قلت الاختصاص في الوقوع
لا يوجب التخصيص في الماهية مع أن الظاهر عدم وقوع تلك
الصورة أيضا كما سنشير إليه والاستطراد لا يصلح للتعليل لان الكلام
فيما هو حجة حقيقة هذا والذي يساعد عليه النظر الصحيح أن
مورد الاجماع لا يختص بالصورة المذكورة بل له صور أخرى أيضا كما
سيأتي أظهرها أن يتفق جماعة مطلقا أو من أهل الفتوى على
قول ديني بحيث
يكشف عن موافقة قول المعصوم لهم ولو بمعونة ضميمة خارجية و
الوجه في الترديد ما عرفت والطريقة التي تفرد بها الشيخ في
الاجماع جارية على هذه الصورة ومن اعتبر في الاجماع دخول
المعصوم في المتفقين فله أن يعرف هذه الصورة بأنها اتفاق جماعة
يقطع بدخول المعصوم فيهم بعينه قطعا مستندا إلى اتفاق من عداه و
يردد بينها وبين ما مر والفرق بين هاتين الصورتين اعتباري و
المراد بالقول في هذه الحدود الرأي والمذهب سواء دل عليه بقول أو
فعل أو غيرهما فقد تلخص مما حققنا أن الاجماع عبارة عن اتفاق
جماعة على حكم ديني يقطع بأن المعصوم أحدهم لا بعينه أو يقطع
به فيهم بعينه ويكون القطع بقوله مستندا إلى اتفاق الآخرين ولك أن
تجعل الاجماع في الصورة الثانية عبارة عن الاتفاق الكاشف دون
المجموع المركب من الكاشف والمستكشف عنه ولو عرف الاجماع
بأنه الاتفاق الكاشف عن قول المعصوم على حكم ديني كان أخصر و
أجمع
فصل اختلف القائلون بحجية الاجماع في مدركها
فلأصحابنا رضوان الله عليهم طرق ثلاثة الأول ما ذكره العلامة و
جماعة وهو أن الأمة إذا قالت بقول فقد قال المعصوم به أيضا لأنه من
الأمة بل سيدها ورئيسها والخطأ مأمون عليه وهذا التعليل ناظر إلى
تفسير الاجماع باتفاق جميع علماء هذه الأمة فمرادهم باتفاق الأمة
هنا اتفاق علمائها بقرينة الحد وكان السر في تخصيص الاجماع و
طريقه باتفاق الكل مع عدم اختصاصها عندهم به كما نبهنا عليه هو
أنهم تكلموا أولا على الاجماع بالمعنى المتداول عند العامة ثم نبهوا
على الصورة التي ليس فيها اتفاق الكل جريا على طريقة الخاصة هذا
واعترض على الطريق المذكور بأنه إن علم بوجود قول المعصوم بين
الأقوال فالحجة هو قوله ولا مدخل لانضمام قول الآخرين إليه
فيلغوا اعتباره وإن لم يعلم بطل دعوى موافقته لهم وأجيب بوجهين
الأول ما حكاه بعضهم عن المرتضى رضي الله عنه بأنا لسنا بادئين
بالحكم بحجية الاجماع حتى يرد كونه لغوا وإنما بدأ بذلك
المخالفون وعرضوه علينا فلم نجد بدا من موافقتهم عليه لعدم تحقق
الاجماع الذي هو حجة عندهم في كل عصر إلا بدخول الإمام عليه السلام
في المجمعين سواء اعتبر إجماع الأمة أو المؤمنين أو العلماء
فوافقناهم في أصل الحكم لكونه حقا في نفسه وإن خالفناهم في علته
ودليله هذه عبارته المنقولة عنه ولا يخفى أن مرجع كلامه إلى
إنكار كون الاجماع حجة مستقلة ودليلا برأسه يعتد به كما هو
المعروف بين أصحابنا حيث إنهم جعلوه أحد الأدلة الأربعة وذكروه
في
مقابلة العقل والكتاب والسنة وأطالوا البحث عنه فإن ما هذا شأنه لا
يكون البدأة بحجيته لغوا كما ذكره الثاني ما وجدته في كلام بعض
المعاصرين من الفرق بين العلم الاجمالي والتفصيلي وحاصله أن
الاشكال المذكور إنما يراد إذا كان المقصود العلم بأقوال الأمة أو
بقول الإمام عليه السلام فيهم على التفصيل والتعيين وليس كذلك بل
المقصود العلم بقول الامام في ضمن العلم بقول الأمة إجمالا فإنا إذا
علمنا علما إجماليا بأن جميع الأمة متفقة على حكم نحكم بأن ذلك
حجة لان الامام من جملتهم فالعلم بقول الامام هنا كالعلم
بالمطلوب في كبرى الشكل الأول فإن العلم بجسمية الانسان في قولنا
كل حيوان جسم إجمالي لا تفصيلي فلا يتوقف عليه التصديق
بقولنا كل حيوان جسم وبه يندفع ما أورده بعض أهل التصوف على
أهل النظر من أن الشكل الأول دوري وبقية الاشكال راجعة إليه
فيبطل النظر والاستدلال ثم قال وهذا هو السر في اعتبارهم وجود
شخص مجهول النسب في المجمعين ليجامع العلم الاجمالي ولو
بدلوا ذلك بعدم العلم بأجمعهم تفصيلا لكان أولى ولعلهم يريدون به
ذلك أقول يمكن تقرير الاعتراض في المقام بوجهين الأول أن
الاتفاق ليس دليلا على الحكم وإنما الدليل عليه قول المعصوم
المعلوم في ضمن الاتفاق فلا وجه لعده دليلا الثاني أن قول جميع
الأمة
ليس دليلا على قول المعصوم لان العلم بقول الجميع يتوقف على
العلم بأقوال الآحاد التي من جملتها قول المعصوم فيتوقف على العلم
بقوله أيضا فلو توقف العلم
243

على العلم بقول الجميع كان دورا ولا خفاء في أن الاعتراض المذكور
إنما يناسب الوجه الأول وما أجاب به الفاضل المذكور لو تم فإنما
ينهض بدفع الوجه الثاني كما يشهد به جعله من باب كبرى الشكل
الأول دون الوجه الأول إذ لا مدخل لاعتبار الاجمال في دفعه إذ
للمعترض أن يقول ليس العلم الاجمالي بقول جميع الأمة هو الحجة
لان حجيته باعتبار المعلوم فهو في الحقيقة علم إجمالي بالحجة وبما
ليس حجة وذلك لا يقتضي أن يكون ما ليس بحجة حجة بل الحجة
هو قول المعصوم المعلوم في ضمن العلم الاجمالي بقول الكل وما
عداه
ليس بحجة فلا يكون الاجماع حجة لان المركب من الداخل والخارج
خارج ومع ذلك فقضية كلامه أن الاجماع المعتبر من الأدلة على
البيان المذكور هو العلم باتفاق الكل إجمالا وهو غير مستقيم طردا و
عكسا إذ قد يعلم قول الجميع على التفصيل ويكون مع ذلك
إجماعا وحجة كما في صورة كشف قول المجمعين عن قول المعصوم
فيصح ضم الكاشف إلى المستكشف عنه ووصف المجموع
بالحجية وقد يعلم قول الكل إجمالا ولا يكون حجة كما إذا استند
الاجمال إلى التفصيل في غير صورة كشف قول المعصوم عن قوله
للزوم الدور حينئذ أو استند إلى أمر واحد فلا بد هناك من تفصيل و
توضيح المقام وتنقيح المرام أن العلم بالاتفاق ليس من العلوم
الأولية التي يكفي في حصولها مجرد تصورها بل لا بد له من منشأ
يستند إليه وما يصلح أن يكون سببا لحصوله أمور الأول استقصاء
أقوال جميع الأمة على التفصيل بحيث يعلم إطباقهم على الحكم و
هذا مع تعذره أو تعسره وندرة وقوعه على تقدير إمكانه يتصور على
صور منها أن يعرف الامام فيهم بشخصه ووصفه وقوله وحينئذ
فالحجة في قوله ولا مدخل لانضمام قول الآخرين إليه أصلا كما ذكره
المعترض سواء عرف الباقون بأشخاصهم وأقوالهم وأوصافهم وهو
كونهم من أهل الفتوى أو لا وقد نبه على هذا صاحب المعالم حيث
قال وفائدة الاجماع تعدم عندنا إذا علم الإمام بعينه انتهى والتحقيق
أنه لا يسمى إجماعا عندنا لان الاجماع عند الفريقين معدود من
أدلة الاحكام وليس في مثل هذا الاتفاق على طريقتنا دلالة على
الحكم أصلا وإطلاق
صاحب المعالم عليه الاجماع في العبارة المنقولة عنه إن كان باعتبار
معناه اللغوي أو المصطلح عليه عند العامة فلا كلام وإلا ورد عليه
ما ذكرناه وقد نبهنا على ذلك في الحد فتدبر ومنها أن يعلم قول الإمام
فيهم بعينه من دون نظر إلى الأقوال الاخر [أقوال الآخرين]
سواء اتحدت لفظا أو اختلفت لكن مع عدم العلم بشخص الامام أو
بوصفه وهذا إنما يتصور إذا علم المتتبع أن الذي أفتاه في وقت معين
أو مكان معين هو الامام لكن جهل شخصه بين الأشخاص أو عرف
الأشخاص لكن جهل الموصوف منهم بالإمامة أو عرف صوت
المعصوم أو خطه بمعجزة أو بإخبار صادق ولم يعلم بشخصه أو
وصفه والكلام هنا كالكلام في الصورة السابقة إذ حيث يعلم قول الإمام
بعينه فالحجة فيه ولا مدخل لانضمام قول الآخرين إليه ومن
هنا يتبين [تبين] أنه لو قال صاحب المعالم فيما مر إذا علم قول الإمام
بعينه بدل قوله إذا علم الإمام بعينه كان أشمل وأولى ومنها أن
يعلم الامام بشخصه ووصفه مع عدم العلم بشخص قوله كما إذا
كانت هناك أقوال مختلفة اللفظ متحدة المفاد بحيث يعلم أن أحدها
قوله فيمكن القول حينئذ بتحقق الاجماع وفائدته من حيث توقف
العلم بقول الامام ورأيه على العلم بأقوال الجميع وتوافق آرائهم و
على هذا يتجه مؤاخذة على عبارة صاحب المعالم حيث أطلق فيها
القول بانتفاء فائدة الاجماع مع العلم بشخصه ولم يقيده بصورة العلم
بشخص قوله أيضا ويمكن دفعه بأن معرفة رأي الامام حينئذ لا
يتوقف على معرفة آراء الآخرين بل على معرفة نفس الأقوال وتوافقها
في المعنى إذ عدم تعيين قوله من بين أقوال لها قائل كعدم تعيينه
بين أقوال لا قائل لها فكما أن ثبوت الحكم في الثاني مستند إلى العلم
بصدور أحد تلك الأقوال منه لا إلى موافقة غيره له فكذلك في
الأول فإن قلت يمكن الفرق بأنه يمكن التوصل إلى قوله في الأول بكل
من الطريقين بخلاف الثاني والتعيين تحكم فلا يبعد أن يعد
إجماعا إن اعتبر التوصل من حيث الاتفاق قلت معرفة آراء كل واحد
من المجمعين في الفرض المذكور يتوقف على العلم بصدور أحد
تلك الألفاظ عنه
وحيث إن الفرض علمه بدخوله عليه السلام فيهم فلا بد أن يحصل له
العلم بقول الامام قبل اعتبار الاتفاق فلا يكون الاتفاق دليلا عليه و
منها أن يعلم بدخول الامام في المتفقين مع جهل شخصه وشخص
قوله المعلوم دخوله في الأقوال من جهة العلم بدخوله فيهم سواء
اتحدت
الأقوال لفظا أو اختلفت لكن مع توافقها في المفاد وهذا يتصور إذا
جهله المتتبع لعدم سبق تعيين أو لطريان مانع هناك كالظلمة أو مع
جهل وصف الإمامة في كل واحد مع العلم بثبوتها في أحدهم كما لو
اتفق بعد وفاة الامام السابق وقبل تعيين الحجة بعده عند المتتبع و
بالجملة موضع الفرض ما إذا علم اتفاق الكل على حكم بلفظ واحد أو
بألفاظ مختلفة وعلم بأن الامام أحدهم من غير تعيين له ولا لقوله
كما مر فالحق أن الاتفاق هنا إجماع لأنه كاشف عن قول المعصوم و
موصل إليه بدليل أنه لو انتفي العلم بقول غيره لانتفي العلم بقوله
فيكون حجة إذ لا نعني بالحجة إلا ما هو الكاشف عن الحكم والمثبت
له سواء كان كاشفا عنه بالذات أو بالواسطة فكما أن قول
المعصوم حجة لأنه كاشف عن مراده ومراده حجة لأنه كاشف عن
قول النبي صلى الله عليه وآله وهو كاشف عن قوله تعالى فكذلك ما
كشف عن لفظه الكاشف عن مراده بل إذا صح تسمية الخبر الواحد
حجة نظرا إلى أنه كاشف عن قول المعصوم كشفا ظنيا فتسمية
الاتفاق الكاشف عن قوله كشفا قطعيا أولى ولا يتوجه على هذه
الصورة شئ من الاشكالين أما الأول فلان اعتبار قول غير الامام
حينئذ لا يكون لغوا كيف وهو الطريق الموصل إلى قوله وأما وصفه
بالحجية فلما عرفت من أن العبرة في صدق عنوان الحجة والدليل
على شئ بكونه كاشفا عن الحكم ولو بالواسطة وقد بينا أن الاتفاق
المذكور كاشف عن الحكم بواسطة كشفه عن قول الإمام وأما
الثاني فلان العلم
244

بقول الجميع وإن توقف على العلم بقول الامام لأنه أحد آحاد
المجمعين لكنه لا يتوقف على العلم بقوله من حيث كونه إماما بل
يتوقف
على العلم بقوله من حيث كونه أحد المجمعين والمقصود بتحصيل
العلم بقوله من حيث كونه إماما لأنه الناهض حجة على الحكم فلا دور
الثاني أن يتظافر نقل إطباق الكل واتفاقهم إلى أن يبلغ حد التواتر أو
يخبر به عدد دون التواتر وينضم إليه القرائن المفيدة وحيث
يحصل العلم باتفاق الكل بأحد الطريقين كان إجماعا وحجة لكشفه
عن قول المعصوم ولا يتوجه عليه شئ من الاشكالين أما الأول
فلكشف الاتفاق المذكور عن الحكم ولو بواسطة كشفه عن قول
المعصوم ولهذا لو كان المخبر هو قول البعض لم يستلزم الكشف
فصح إطلاق الحجة والدليل عليه ولم يلزم عليه لغو وأما الثاني فلان
العلم بالجميع في هذه الصورة غير مسبوق بالعلم بالآحاد حتى
يتوجه إليه إشكال الدور لظهور عدم استناده إليه بل كلاهما مستندان
إلى الخبر المتواتر أو المحفوف بقرائن الصدق إلا أن العلم
بالثاني تفصيلا مستند إليه بواسطة العلم بالأول وكذا الكلام فيما لو
حصل العلم بقول البعض بطريق التتبع وبقول الآخرين بطريق
النقل الثالث أن يعلم قول من عدا المعصوم أو جماعة منهم بأحد
الطريقين السابقين ونعلم قوله وحده أو مع قول الباقين بالعلم بقولهم و
لا فرق حينئذ بين أن يعرف الامام بشخصه ووصفه أو لا أما القسم
الأول فلا إشكال في كون الاتفاق فيه إجماعا وحجة مطلقا لان قول
من عدا المعصوم حينئذ كاشف عن قوله مطلقا وقوله كاشف عن
الحكم فقول الكل حجة على الحكم وكاشف عنه فهو على حد
الصورة
السابقة التي حكمنا بالكشف فيها وإن كان فرق ما بينهما من أن أقوال
الجميع هناك كاشف عن قول المعصوم وهنا قول من عداه
كاشف عن قوله وأما القسم الثاني فلا إشكال فيه في حجية القول
الكاشف عن قول المعصوم كما لا إشكال في حجية المجموع منهما
كما عرفت لكنه خارج عن محل الفرض لان الكلام في الاجماع
بمعنى اتفاق الكل وهو هنا مشتمل على ما ليس بحجة وهو القول
المستكشف عنه كاشفا عنه مما عدا قول المعصوم فإنه مما لا مدخل
له في الكشف عن الحكم فلا يصح وصفه بالحجية كما عرفت نعم لو
كان القول المستكشف عنه كاشفا عن قول المعصوم صح إطلاق
الحجة عليه
وعلى المجموع كما لو كشف قول المتأخرين عن قول المتقدمين و
كشف قول المتقدمين عن قول المعصوم الرابع أن يوجد على الحكم
حجة واضحة من آية محكمة أو سنة متواترة أو سيرة قطعية بحيث
يكشف عن إطباق الكل على مقتضاها كشفا قطعيا فيقطع بقول
المعصوم أيضا والتحقيق أن هذا الاتفاق مع خلو العلم به عن الفائدة
لسبق الدليل القطعي عليه مما لا ينبغي أن يسمى إجماعا إذ لا مدخل
له
في الكشف وربما أمكن أن يفصل حينئذ بين الاتفاق الذي لو قطع
النظر عن كشف الدليل المذكور عن قول المعصوم لكشف عنه الاتفاق
وبين غيره فيسمى الأول إجماعا نظرا إلى كونه دليلا على الحكم
بمعنى كونه مما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب دون
الثاني ومما قررنا يتضح أن اعتبارهم في الاجماع وجود رجل مجهول
النسب في المجمعين مما لا حاجة إليه فإنه إنما يتم مع العلم بنسب
الكل أيضا وكذا لا حاجة إلى ما أول الفاضل المذكور كلامهم به من
عدم العلم بأجمعهم تفصيلا فإنه يمكن مع العلم به [بهم] تفصيلا
أيضا و
أعلم أنهم إنما اعتبروا دخول مجهول النسب في الاجماع ليجامع
العلم الاجمالي بدخول المعصوم في المجمعين ولا خفاء في أنه مع
اتحاد
شخصه يرتفع الجهالة ويوجب العلم بأنه هو المعصوم فيلزم أن ينتفي
فائدة الاجماع على ما اعترف به صاحب المعالم وغيره بل يلزم
على ما قررنا انتفاء ماهية الاجماع ولو اعتبر تعددهم فمع خلو أكثر
كلماتهم عنه يوجب أن تكون الحجة في اتفاقهم فيلغى اعتبار اتفاق
الباقين ولا قائل به ثم لا يذهب عليك أن أكثر الصور المذكورة مما
يبعد وقوعه في زمن ظهور الأئمة عليهم السلام ويتعذر في زمن
الغيبة فتعميم الاجماع الذي هو أصل من الأصول الشرعية إليها عري
من الثمرة والبحث عنها عديم الجدوى والفائدة الثانية ما ذكره
الشيخ وجماعة وهو أن الأمة إذا اتفقت على حكم ولم يكن في
الكتاب والسنة المقطوع بها ما يدل على خلافه تعين أن يكون حقا و
إلا
لوجب على الامام أن يظهر ويظهر خلافه ولو بإعلام بعض ثقاته حتى
يؤدي الحق إلى الأمة ولا بد أن تكون معه معجزة يدل على صدقه
ليمكن التعويل على دعوته والذي يدل على ذلك أمور منها أن
التكليف بما يقتضيه الواقع لطف والاخلال باللطف قبيح وهو
موقوف
في محل الفرض على البيان بالوجه المذكور فيجب ومنها أن
اتفاق الأمة على الباطل قبيح والامام متمكن من ردعهم إلى الحق كلا
أو بعضا بإظهار المعجزة وإقامته البينة فيجب عليه الظهور و
ردعهم ولو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنها أن
الحكمة الداعية إلى تشريع الاحكام الباعثة على بعث الأنبياء ونصب
الأوصياء داعية إلى تشريع الحكم الخاص أيضا فيجب تبليغه كما
يجب تبليغها لينحسم عذر الخلق على الحق في أمر التكاليف ولا
يكون
للناس على الله حجة فيها ومنها أن الغرض الداعي إلى نصب الإمام
إنما هو تبليغ الاحكام فإذا قدر عدم إمكان التبليغ في حقه أو عدم
مساعدة الحكمة عليه لم يكن فائدة في نصبه ووجوده فيبطل ما
اتفقت الامامية عليه ونطقت به الاخبار من عدم خلو عصر عن الحجة
و
منها ما ورد في جملة من الاخبار من أن الزمان لا يخلو عن حجة كي إن
زاد المؤمنون شيئا ردهم وإن نقصوا أتم لهم ولولا ذلك لاختلط
على الناس أمورهم وعن النبي صلى الله عليه وآله أن لكل بدعة من
بعدي يكاد بها الايمان وليا من أهل بيتي موكلا يذب عنه ويبين
الحق ويرد كيد الكائدين وعنهم عليهم السلام أن لنا في كل خلف
عدولا ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل
الجاهلين وعن أمير المؤمنين عليه السلام اللهم لا بد من أرضك من
حجة لك على خلقك يهديهم إلى دينك ويعلمهم علمك لئلا يبطل
حجتك ولا يضل تبع أوليائك بعد إذ هديتهم به إما ظاهر ليس
بالمطاع أو مكتم مترقب إن غاب عن الناس شخصه في حال هدايتهم
فإن علمه وآدابه في قلوب المؤمنين مثبتة فهم بها عاملون وقد جاء
في عدة أخبار في تفسير قوله إنما أنت منذر ولكل قوم هاد أن
المنذر رسول الله صلى الله عليه وآله وفي كل زمان إمام ما يهديهم
إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وهذه الطريقة ضعيفة و
الوجوه المذكورة مدفوعة أما أولا فبالنقض بالمسائل التي وقع
الخلاف فيها بين
245

أصحابنا الذين بذلوا مجهودهم في تحصيل الاحكام وبالغوا في
تهذيب مداركها وتنقيح مسالكها مع خلوص قصدهم في الافتاء عن
الاغراض النفسانية والدواعي الشهوانية فإن الخلاف المشتمل على
طرفي النقيض ممتنع أن يكون حقا عند غير أهل التصويب فقضية ما
قرر من الوجوه وجوب ظهور الإمام على من أخطأ في النظر ولو سرا
لارشاده إلى الحق إما بحجة بينة أو بإقامة معجزة ولو وقع مثل
ذلك لشاع وذاع ولأدى إلى انحسام مادة النزاع وانقطاع الاختلاف
بين أولى الدراية والانصاف وكل ذلك معلوم الخلاف وأما ثانيا
فبالحل وهو أن الذي يساعد عليه العقل ويعاضده الواقع إنما هو
وجوب تبليغ الاحكام في الجملة لا مطلقا فإنا نرى بالعيان أن كثيرا من
الكفار النائين عن بلاد الاسلام ولا سيما المخدرات منهم في الحجال
ما بلغت إليهم دعوة النبي صلى الله عليه وآله ولا سمعوا بمعجزاته
ولا خطرت بأوهامهم وجوب الفحص والتتبع لتحصيل الحق فلو كان
الواجب عليه تعالى هو التبليغ العام وإتمام الحجة على جميع الأنام
لكان في عدم تبليغ أولئك المذكورين وعدم إتمام الحجة عليهم تاركا
للواجب ومرتكبا للقبيح تعالى عن ذلك علوا كبيرا وكذا الكلام
بالنسبة إلى الذين ماتوا في الفترة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله
أو قبل وصول الخبر إليهم أو قبل ثبوت الحق لديهم وبالجملة لو
وجب التبليغ العام على الاطلاق لحصل التبليغ بالنسبة إلى كل من بلغ
عاقلا من غير أن يتأخر التبليغ في حقه من أول زمن بلوغه وعقله
مع أن انتفاءه معلوم بالوجدان والمشاهدة والعيان بل نقول لا يجب
عليه تشريع الاحكام على الاطلاق فضلا عن وجوب تبليغها على
الاطلاق فإن الصبي المراهق الذي لم يبلغ حد البلوغ قد يكون أذكى و
أعقل من كثير من البالغين ومع ذلك لم يشرع في حقه الاحكام
الايجابية والتحريمية فاتضح أن الواجب عليه تعالى إنما هو تشريع
الاحكام في الجملة ولو بالنسبة إلى الذين بلغوا حد البلوغ وكذلك
الواجب عليه تعالى إنما هو التبليغ في الجملة ولو بالطريق المعتاد بين
العباد فيكفي إرسال الرسل ونصب الحجج مع تبليغ البعض سواء
تمكنوا من التبليغ إلى الكل وبلغوا أو حصل هناك موانع منعهم عن
التبليغ إلى البعض فلم يبلغوا إليهم فإنه لا يجب [عليه تعالى إبقاء
المكلفين إلى أن يحصل التبليغ في حقهم ولا تمكين المبلغين من
التبليغ إلى الباقين] عليه تمكينهم من التبليغ إليهم بدفع مكائد
الطواغيت
ودفع شرورهم عنهم وبهذا البيان يندفع الوجوه الثلاثة الأول فإن قلت
فما الفائدة في إرسال الرسل ونصب الحجج إذا لم يتمكنوا [إذا
منعوا]
من التبليغ العام بالنسبة إلى الذين لم يتمكنوا من تبليغهم وأيضا أي
فرق بين منعهم وبين منعه تعالى إياهم عن التبليغ قهرا مع أن ذلك
على إطلاقه متضح الفساد قلت الفائدة تحمل الطواغيت لأوزار من
حالوا بينهم وبين وصول التبليغ إليهم حيث ظلموهم بما حجبوهم
فيحصل الغرض الداعي إلى التكليف في حق المانع والممنوع كما
يحصل على تقدير الوصول وبهذا يظهر الفرق بين الصورتين وبه
يندفع الوجه الرابع ولعل هذا هو الذي أشار إليه المحقق الطوسي في
تجريده من أن وجوده يعني الامام لطف وتصرفه لطف آخر و
عدمه منا وقريب منه ما ذكره السيد المرتضى رضي الله عنه حيث
قال ولا يجب عليه الظهور إذا كنا نحن السبب في استتاره فكل ما
يفوتنا من الانتفاع به وبتصرفه وبما معه من الاحكام يكون قد آتينا من
قبل نفوسنا ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدى
إلينا الحق الذي عنده انتهى ومما مر يظهر الجواب عن الاخبار أيضا
فإن فيها قيدا قد طوى ذكره تعويلا على الوضوح والظهور و
المراد ردهم وأتم لهم إن تمكن منه تمكنا عاديا فإن العبرة في التمكن
هنا التمكن العادي كما يدل عليه ملاحظة سيرتهم ومجرى
طريقتهم وعلى قياسه الكلام في بقية الاخبار ويمكن تنزيلها على أنه
عليه السلام يساعدهم عند وجود الموانع من ظهوره بالإفاضات
المعنوية والفتوحات [والفيوضات] السرية على الوصول إلى
المهمات الشرعية التي يفضي إنكارها إلى الخروج من الايمان أو
نقصان
درجة صاحبه فيه كما يرشد إليه قوله عليه السلام فإن آدابه في قلوب
المؤمنين مثبتة وفي غير واحد من الاخبار أنهم ينتفعون بالحجة
القائم في غيبته كما ينتفع بالشمس إذا سرها السحاب ثم اعلم أن
الشيخ قد صرح في العدة بما حاصله أنا لو وجدنا بين الطائفة قولا ولم
نقف له على مخالف ولا على ما يقتضي صحته أو فساده وجب القطع
بصحة ذلك القول وأنه موافق لقول المعصوم صلوات الله عليهم إذ
لو خالفه لوجب عليه أن يظهر خلافه وعلله ببعض الوجوه المذكورة
فعلى هذا يكفي في الحجية قول الواحد أيضا لكن ينبغي أن لا يسمى
إجماعا لاتفاقهم على أخذ الاتفاق في تعريفه وإن اختلفوا في سائر
قيوده إلا أن يأخذ القول الكاشف مع المستكشف عنه ويسمى
المجموع إجماعا ويشكل بأن مجرد عدم وجدان
وجود المخالف لا يقتضي عدم وجوده وطريقته على تقدير صحتها
إنما تساعد على عدم وجوب الظهور عند عدم وجود المخالف لا
عند عدم وجدانه وقد يعترض على الشيخ بأنه يكفي في إلقاء
الخلاف بينهم أن يظهر ولو على وجه لا يعرف كونه إماما ويظهر القول
بالخلاف بل يكفي قول الفقيه المعلوم النسب به بل يكفي وجود
رواية دالة عليه وهذا الاعتراض غير متجه إذ الوجه الأول لا يوافق
غرض
الشيخ من ردع الأمة وردهم إلى الحق والثاني خارج عن محل الفرض
إذ الكلام حيث لا يوجد مخالف والوجه الثالث راجع إلى أحد
الوجهين السابقين لان الرواية الموجودة إن كانت بحيث تنهض حجة
في الظاهر عند الكل أو عند العاثر بها فهي سنة قطعية على الخلاف
وقد اعتبر الشيخ عدمها فإنه أراد بها ما تكون قطعية ولو في الظاهر كما
يساعد عليه طريقته فيخرج عن محل الفرض وإن لم ينهض
حجة في الظاهر لم يجد وجودها في دفع ما جعله الشيخ سببا لوجوب
الظهور نعم كان على الشيخ أن يشترط في قطعية الاجماع بعد
اشتراطه عدم وجود دليل قطعي على الخلاف أمورا منها أن يكون
ذلك الدليل القطعي قد بلغ إلى المتفقين كلا أو بعضا فلو قدر وجود
دليل قطعي وخفي على المتفقين لم يكن مغنيا عن ظهور الإمام على
ما يقتضيه طريقته ومنها مضي زمان يمكن ظهور المعصوم فيه بعد
انعقاد الاجماع إذ لا حجية في الاجماع [للاجماع] قبله لعدم العلم
حينئذ بموافقة المعصوم ومنها أن يعلم بقاء المتفقين على آرائهم في
تلك
المدة فلو احتمل رجوعهم أو رجوع بعضهم لم يحصل القطع بموافقة
المعصوم لهم وإن قطع بعدم ظهوره على أحدهم ومنها أن يعلم
بعدم حدوث قول بالخلاف في تلك المدة إذ مع تجويزه ذلك لا يقطع
بقول المعصوم لجواز أن لا
246

في القول ولا يظهر لتحقق الخلاف قبل تمكنه من الظهور أو حاله و
ربما أمكن التمسك في نفي الاحتمالين الأخيرين بالأصل لكن يكون
الاجماع معه ظنيا لا قطعيا ويلزم على طريقة الشيخ أمور منها أنه إذا
قال بعض الأصحاب واحدا كان أو أكثر بقول لمستند اجتهادي و
تحققت هناك الشرائط المعتبرة ثم انكشف له فساد المستند المذكور
لزمه وجوب البناء على الحكم السابق والقطع به بحسب الواقع و
إن لم يكن مفاد الدليل السابق إلا الظن به أو مجرد ثبوته في الظاهر إذ
فساد الدليل لا يوجب فساد الدعوى والامر الأخير لازم على
تقدير عدم انكشاف فساد الدليل أيضا ومنها وجوب حفظ أقوال
علماء العصر وحصرها وضبطها كحفظ الاخبار صونا للدليل القطعي
عن الاضمحلال والانعدام ومنها عدم جواز الحكم والفتوى عند
إمكان البحث والاطلاع على آراء علماء العصر إلا بعد البحث و
الاطلاع
لئلا يخالف الدليل القطعي أو يعدل مع التمكن منه إلى الظني ولأن
ذلك من جملة الأدلة فلا بد من الفحص عنه كما يجب عن غيره ولا
خفاء في أن الالتزام بهذه اللوازم لا يخلو من بعد تسليم أصل الطريق
الثالث وهو الطريق المعزى إلى معظم المحققين أن يستكشف عن
قول المعصوم باتفاق علمائنا الاعلام الذين ديدنهم الانقطاع إلى
الأئمة في الاحكام وطريقتهم التحرز عن القول بالرأي ومستحسنات
الأوهام فإن اتفاقهم على قول تسالمهم عليه مع ما يرى من اختلاف
أنظارهم وتباين أفكارهم مما قد يؤدي بمقتضى العقل والعادة عند
أولي الحدس الصائب والنظر الثاقب إلى العلم بأن ذلك قول أئمتهم و
مذهب رؤسائهم وأنهم إنما أخذوه منه واستفادوه من لدنهم إما
بتنصيص أو بتقرير وهذا إنما يكشف أولا عن قول المعصوم الذي إليه
مرجع فتاويهم وأقوالهم واحدا كان أو أكثر ويكشف عن قول
الباقين وعن قول الرسول صلى الله عليه وآله وعن قول الله بواسطة
القواعد العقلية والنقلية القاضية بأن علومهم مستفادة من علم
النبي صلى الله عليه وآله وعلمه صلى الله عليه وآله مستفاد منه
تعالى ثم قد يستقل هذه الطريقة بالاستكشاف وذلك إنما يكون غالبا
حيث يكون الحكم على خلاف الأصول الظاهرية المسلمة عريا عن
الشواهد الاعتبارية وقد يحتاج إلى انضمام شواهد خارجية و
مؤيدات
تقريبية من الآثار والاخبار ولا اختصاص لهذه الطريقة بالاستكشاف و
ذلك إنما يكون غالبا حيث يكون الحكم على خلاف الأصول
الظاهرية عن قول المعصوم بل قد يستكشف بها عن قول بقية الرؤساء
المتبوعين فإنه قد يعرف مذاهبهم وآرائهم من اتفاق أتباعهم
الذين طريقتهم عدم التخطي عن جادتهم وترك الانحراف عن
طريقتهم بل لا حاجة في الاستكشاف بهذه الطريقة إلى العلم باتفاق
الكل
بل قد يستكشف باتفاق جماعة من الخواص الموصوفين بالأوصاف
المقررة لا سيما إذا كانوا من أصحابهم كزرارة وأبي بصير ومحمد
بن مسلم وأضرابهم ثم الاستكشاف بهذه الطريقة يقع على وجوه
الأول أن يستكشف بها عن قوله الواقعي وذلك حيث ينتفي في قوله
دواعي التقية والاتقاء ويسلم عن شبه الخفاء والتأويل ومنه اتفاقهم
على عدم انفعال الكر بالملاقاة وانتفاء العول في الميراث وأمثال
ذلك ولا يقدح الاعتضاد ببعض الشواهد الخارجية من الاخبار والآثار
إذ المراد بكون الاتفاق كاشفا أن يكون له مدخل في الكشف كما
مر نظيره في مسألة التواتر واعترض على هذا الوجه بوجوه منها أن
هذه الطريقة لا تجري إلا في القطعيات من غير طريق الاجماع ولا
حاجة فيها إلى التمسك به وهذا ضعيف لان الوجدان في الفقيه لا
يساعد عليه نعم هذه الطريقة قليلة الوقوع لكن ذلك لا يوجب إهمالها
بل لا بد من تعميم العنوان بحيث تندرج فيه ومنها أن هذه الطريقة لا
تبتني على القاعدة الكلامية المختصة بالامامية التي عليها مبنى
حجية الاجماع عندهم بل على مقتضى العقل والعادة المشتركين إن
تما بين الفريقين وضعفه ظاهر لان العقل والعادة المشتركين إنما
يؤثران في كشف الطريقة المذكورة لا في إثبات حجيتها بل حجيتها
إنما هي باعتبار حجية القول المستكشف عنه المبنية على القاعدة
الكلامية المختصة بالامامية لما نبهنا عليه من أن الكاشف عن الحجة
حجة في الاصطلاح حقيقة كنفس الحجة المستكشف عنها مع أن
كشفها عن رأي المعصوم أيضا قد تبتني على القاعدة الكلامية حيث
يتوقف على إثبات العصمة من السهو والخطأ وعدم القول بخلاف
معتقده حيث لا داعي ومنها أن الاجماع أصل من الأصول المبتنية
التي عليها مبنى أكثر الأحكام الشرعية والطريقة المذكورة
غير منضبطة المبنى فلا وجه لاخذها مناطا في حجيته وضعفه أيضا
ظاهر لانضباط الطريقة المذكورة بالإحالة إلى الوجدان في حصول
الاستكشاف بها وإن اختلف حصوله باختلاف المحصلين في قوة
الحدس وكثرة التتبع والممارسة وهذا الاختلاف غير قادح بعد
وضوح المبنى والمناط وإن أراد بعدم انضباط المبنى أن ليس هناك
عدد معين يمكن الاستكشاف به على الاطلاق غير فهذا صائر كما
في التواتر الثاني أن يستكشف بها عن قوله الظاهري وذلك حيث
يكون احتمال التقية أو كون الدلالة غير جلية ومنه قول المعظم
بطهارة المخالفين عدا ما استثني فإن هذا الحكم وإن قطع بصدوره
عنهم عليهم السلام قولا وتقريرا نظرا إلى مصير المعظم إليه مع
اعتضاده بمساعدة السيرة المستمرة لكن لا قطع بأن ذلك قولهم
الواقعي ومذهبهم الذي بنوا عليه في نفس الامر لاحتمال أن يكون
الداعي إليه التقية وحفظ الشيعة عن فتن العامة ويرد على هذا الوجه
أيضا الشكوك المتقدمة على الوجه الوجه الأول ولا اختصاص لها به
كما زعم وتندفع بما مر الثالث أن يستكشف بها عن وجود دليل قطعي
واقعي عقلي أو نقلي متواتر أو آحاد محفوف بقرائن الصدق و
الصحة فيستكشف به عن قول المعصوم الواقعي بواسطة استكشافه
عن الدليل المذكور وربما يكون هناك دليل ظني فيستكشف بهذه
الطريقة عن كونه قطعيا إما بتعدد الاسناد أو بانضمام قرائن قطعية
المفاد وأورد على هذه الطريقة بأمور منها أنها غير منضبطة
المبنى وقد نبهنا على ما فيه سابقا ومنها أنها لا تبتني على القاعدة
الكلامية التي انفرد بها الامامية لان مرجعها إلى قضاء العادة وفيه
نظر لأنه إن أراد عدم ابتناء كشف هذه الطريقة على القاعدة المذكورة
فيه كما عرفت وإن أراد عدم ابتناء حجيتها عليها فهو إنما يتجه
إذا كان المستكشف عنه دليلا عقليا أو نقليا كتابيا أو نبويا أو كان مرددا
بينهما وإذا كان المستكشف عنه حديثا إماميا أو محتملا له
كما هو الغالب على تقدير الوقوع توقف حجية الطريقة المذكورة على
القاعدة الكلامية قطعا ووجهه واضح فلا يتم إيراده على
247

الاطلاق مع أن لنا أن نمنع توقف حجية الاجماع بجميع أقسامه على
المسألة الكلامية وإنما المسلم توقفها عليها في الجملة ومنها أن
المتفقين إن كان تعويلهم على دليل ظني فكيف يكشف لنا ذلك عن
دليل قطعي للزوم زيادة الفرع على الأصل وإن كان على قطعي
فإثباته لا يخلو عن صعوبة لان طريقتهم المعروفة جواز التعويل على
الدليل الظني ولو من حيث الدلالة ويمكن دفعه بأنه قد تبين
بشواهد يظفر عليها المتتبع الممارس أن الكل لم يعولوا على دليل
واحد بل لهم على ذلك دلائل تفرد كل ببعضها فيستكشف باتفاقهم
عن دلائل ظنية فيصح أن يستفاد منها العلم أو يستكشف به عن دليل
ظني ويقوم عند شواهد وأمارات أخر يفيد بمعونتها العلم أو
يستكشف بالتتبع والفحص عن تعويلهم على دليل قطعي ويقطع
أيضا بكونه دليلا قطعيا لحكم العادة بامتناع تواطئهم على الخطأ
فإن قيل الدليل القطعي أمر غير حسي فكشف الاتفاق عنه يقدح فيما
ذكروه في التواتر من اشتراط أن يكون المخبر به أمرا حسيا قلنا
إنما قصدوا بذلك أن التواتر في غير الحسيات لا يستلزم إفادة العلم
كما نبهنا عليه في محله لا أنه يستلزم عدم إفادة العلم فلا ينافي ما
ذكرناه مع أن لنا أن نمنع عدم كون الدليل مفيدا للعلم حسيا إذا كان
المستكشف عنه دليلا سمعيا ولا يقدح كون الدلالة أمرا عقليا
لاستنادها إلى الحس كما في تواتر التواتر وكذا لا ينافي ذلك ما
سنذكره في دفع بعض حجج العامة من جواز أن يجتمع الكل على
الخطأ فإن ذلك سلب للايجاب الكلي فلا ينافي الايجاب الجزئي و
اعلم أنه قد يستكشف بالاتفاق عن وجود دليل ظاهري معول عليه
عند الكل أو عندنا بل قد يستكشف به عن كون الدليل نصا
بالخصوص وذلك كما اتفق على الحكم جماعة وقد عرف من
طريقتهم
الجمود على متون الاخبار كالصدوقين ومن يحذو حذوهما
فيستكشف به تارة عن كون الدليل نصا معتبر الاسناد متضح المفاد و
ذلك حيث يعرف من طريقة المتفقين الطعن في الاخبار بمجرد
ضعف الاسناد أو التردد في الحكم أو الميل إليه بمجرد خفاء الدلالة و
عدم وضوح المراد مع الوثوق التام بأفهامهم وأنظارهم لضبطهم وعلو
مقامهم في علوم العربية وعلم الدراية بل قد يستكشف به عن
كون النص الموجود صحيحا أو حسنا حيث
يعرف منهم الجمود على العمل بهما ويستكشف به أخرى عن كونه
نصا في الجملة فيعول عليه بانضمام الاتفاق الكاشف عنه إذا بلغ حد
الشهرة وصلح لجبره إذ لا فرق بين العلم الاجمالي بالدليل أو العلم
التفصيلي به في وجوب الاخذ به والركون إليه لكن شئ من ذلك لا
يسمى إجماعا إذ المعتبر في الاجماع الاتفاق الكاشف عن رأي
المعصوم كشفا قطعيا لا الكاشف عن مطلق الدليل وأما مخالفونا فقد
استدلوا على حجية الاجماع بوجوه عقلية ونقلية من الكتاب والسنة
فمنها قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و
يتبع غير سبيل المؤمنين الآية وجه الدلالة أن سبيل المؤمنين أقوالهم و
فتاويهم وقد جمع في الوعيد بين مشاقة الرسول واتباع غير
سبيل المؤمنين ولا ريب في حرمة الأول على الاستقلال فيكون الثاني
أيضا محرما مستقلا وإلا لما حسن الجمع بينهما في الوعيد لقبح
قولنا من سرق وشرب الماء وجب قطع يده وإذا حرم اتباع غير سبيل
المؤمنين وجب اتباعهم إذ لا مخرج عنها والاعتراض عليه من
وجوه منها أنه قد اعتبر في المشاقة كونها بعد تبين الهدى فيعتبر ذلك
في الاتباع المعطوف عليها أيضا لان العطف يقتضي التشريك
فيلزم أن يكون القيد المعتبر في المعطوف عليه معتبرا في المعطوف
أيضا لأنهما كالجملة الواحدة وحرمة مخالفة الاتفاق مع تبين كونه
هدى لا يقتضي حرمته مخالفته مع عدمه كما هو المقصود إذ الكلام
في حرمة مخالفة الاتفاق المجرد عن الحجة لا المقرون بها وأما ما
ذكره بعضهم في توجيه الاعتراض بأن اللام في الهدى للعموم فيتوقف
ترتب الوعيد على اتباع غير سبيل المؤمنين على تبين كل ما هو
هدى ومن جملته الدليل الدال على حكم الاجماع ففساده غير خفي
لأنه يؤدي إلى عدم ترتب الوعيد المذكور على أحد من المنافقين و
المتبعين لغير سبيل المؤمنين لعدم ظفرهم بكل ما هو هدى بل
بالبعض فالوجه ما ذكرنا وفيه بحث لمنع قضاء العطف بالمشاركة
مطلقا وتحقيق القول فيه أن العطف إما أن يكون بين الجمل التامة أو
بين غيرها وعلى الثاني إما أن يكون القيد من لواحق المعطوف
عليه أو من لواحق ما قبله ففيما عدا الصورة الأخيرة لا يلحق القيد
للمتأخر إلا أن ينهض هناك قرينة ولو حالية على اعتباره لأصالة عدمه
مع قصور العطف
عن إفادته فإن قلت يمكن استفادته من ظاهر العطف من حيث إن
مبناه على المناسبة وهي أقوى مع المشاركة في القيد قلت إنما يصح
التعويل على مثل هذه النكتة حيث يساعد عليها العرف والاستعمال
وعدمه معلوم للمتتبع وأما في الصورة الأخيرة فالظاهر لحوق
القيد بالنسبة إلى المعطوف مع إمكانه أما على القول بأن العامل في
المعطوف هو العامل في المعطوف عليه فواضح لان تعلقه بأحدهما
مقيدا يوجب تعلقه بالآخر أيضا مقيدا لاتحاده وأما على القول بأن
العامل في المعطوف مقدر بقرينة المذكور فالظاهر أن يكون المقدر
على حد المذكور فيكون أيضا مقيدا مثله وظاهر أن الآية من الصورة
السابقة فيحتاج إثبات القيد في المعطوف إلى دليل والقول بأن
المعطوف والمعطوف عليه بمنزلة الجملة الواحدة على إطلاقه
بحيث يتناول المقام ممنوع ولو سلم فالهدى المعتبر تبينه في ترتب
الوعيد على المشاقة وهو كون الرسول حقا وحرمة مشاقته فقضيته
مشاركة المعطوف للمعطوف عليه في القيد اعتبار تبين ذلك في
ترتبه على اتباع غير سبيل المؤمنين أيضا وهذا لا يقتضي العلم
بمستند الاتفاق ومنها أن غير وسبيل إن كانا أو كان أحدهما للعموم
دلت الآية على ترتب الوعيد على من اتبع كل سبيل مغاير لكل سبيل
من سبيل المؤمنين أو اتبع كل مغاير لبعض أو بعض مغاير لكل و
هذا كله خارج من محل النزاع وإن لم يكونا للعموم بل كانا للبعض لم
يثبت به المقصود إذ لا ريب في حرمته مخالفة ما أجمع عليه
المؤمنون في الجملة ولو بالنسبة إلى المسائل المعلومة من الدين نظرا
أو ضرورة وفيه أيضا بحث لمنع الحصر والتحقيق أنهما للجنس
ووقوعهما في سياق الموصول يقتضي عمومهما لجميع الافراد
عموما أفراديا بدليا لا شموليا ولا مجموعيا فيندفع الاشكال ومنها أن
السبيل حقيقة في الطريق المسلوك وهو غير
248

مراد هنا قطعا وإطلاقه على ما وقع عليه الاتفاق غير مستقيم لانتفاء
العلاقة المصححة للتجوز فتعين أن يراد به الدليل لأنه سبيل معنوي
في الوصول به إلى المقصود فتدل الآية على حرمة مخالفة دليل
المؤمنين لا اتفاقهم ولو سلم صحة إطلاقه على المعنى الأول فلا أقل
من
تساوي الاحتمالين إن لم يكن الثاني أظهر فيلزم الاجمال المقتضي
لسقوط الاستدلال ولا يخفى أن حمل سبيل على الدليل غير ملائم
لسياق الآية ثم صحة إطلاقه على المعنى الأول لا يوجب الاجمال بل
قضية التعميم كما مر شموله لكل منهما ومنها أن المراد بسبيل
المؤمنين السبيل الذي صاروا به مؤمنين أو سبيلهم في متابعته صلى
الله عليه وآله والاقتداء به أو نصرته بدليل اقترانه بمشاقة الرسول
والجمع بينهما في الايعاد ويمكن دفعه بمنع صلوح ذلك قرينة على
التخصيص على تقدير التعميم ومنها أن المستفاد من الآية على
تقدير تسليم التعميم نقيض المقصود إذ كان سبيل المؤمنين عدم اتباع
غير الدليل فالقول بوجوب اتباعهم من غير دليل اتباع لغير
سبيلهم والتحقيق أن مقتضى هذا الاعتراض لزوم التنافي في ظاهر
مدلول الآية من حيث اتفاقهم قبل نزولها على عدم جواز الاخذ
بالاتفاق المجرد عن الدليل ومقتضى الآية على ما بني عليه
الاستدلال وجوب الاخذ بكل اتفاق ومن جملتها الاتفاق المذكور
فوجوب
الاخذ بالاتفاق المذكور يوجب عدم جواز الاخذ بالاتفاق المجرد عن
الدليل ووجوب الاخذ به يوجب عدم جواز الاخذ بالاتفاق المذكور
وهو تناقض فلا بد في دفعه من تخصيصها إما بما عدا ذلك الاتفاق أو
بما عدا الاتفاق المجرد عن الدليل وهي إنما تنهض حجة إذا حملت
على المعنى الأول لكنه معارض باحتمال الثاني ولا سبيل إلى ترجيح
الأول بقلة التخصيص لتغاير الموردين فإن الاتفاق الأول اتفاق عن
دليل هو أصل العدم بخلاف الثاني والترجيح بقلة التخصيص إنما يتم
إذا اندرج الأقل في الأكثر ومنها أن حرمة اتباع غير سبيل
المؤمنين لا يوجب وجوب متابعة سبيلهم لامكان الواسطة بترك
الاتباع مطلقا ويشكل بأنه إن أريد إثبات الواسطة من حيث إن الاتباع
معتبر في مفهومه موافقة الغير ويجوز أن لا يكون مخالف الاجماع
متبعا لاحد ففيه أن
المراد بالاتباع مجرد الاخذ بدليل تعديته إلى غير سبيل المؤمنين لا
إلى سبيل غير المؤمنين ولو سلم فاتباع غير سبيلهم اتباع لغيرهم
ولو للهوى والشيطان فلا يتحقق الواسطة وإن أريد بالواسطة عدم
الحكم والتوقف ففيه أن حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين بحسب
الواقع يوجب حصر الجواز في اتباعهم فإن أريد بالوقف مجرد
السكوت وعدم الحكم فليس مذهبا ولا يخل بالمقصود إذ الكلام في
عدم جواز مخالفة الاجماع لا في جواز السكوت في محل الاجماع مع
أنه لا يتم حيث يتعين فيه الحكم والفتوى بل غير متصور في حق من
وقف على الاجماع وأذعن بدلالة الآية وإن أريد به الحكم بالوقف و
التزام أحكامه كما هو المقصود به حيث يعد المتوقف من أهل
المذاهب فالآية تدفعه حيث تدل على بطلان قول المخالف للاجماع
فيلزم صحة قول المجمعين إذ لا مخرج عنهما بحسب الواقع ومنها أن
المؤمنين إذا اتفقوا على فعل مباح فإن وجب اتباعهم لزم اتباع غير
سبيلهم في الحكم وإن لم يجب فقد جاز ترك متابعة سبيلهم وفيه
أن المراد وجوب اتباعهم في الحكم والفتوى ونحوهما دون الافعال
المباحة ونحوها ومنها أن المؤمنين هم الذين علم منهم الايمان
بأن علم أن باطنهم وفق لظاهرهم وهذا مما لا يقطع به في غير
المعصوم لاحتمال المخالفة في حقه وهذا الاعتراض قد أورده
المرتضى
واختاره جماعة ممن تأخر عنه كالعلامة وغيره وضعفه ظاهر لان منع
العلم بإيمان غير المعصوم مكابرة واضحة مع أنا لا نسلم انحصار
الطريق إلى معرفة المؤمن في العلم بإيمانه بل يكفي إظهاره للايمان
كما يعرف من معاملة الشارع [الشرع] معه معاملة المؤمن في سائر الأحكام
ودعوى أن هذا الطريق يعتبر بالنسبة إلى بعض أحكام
المؤمنين دون بعض مجازفة بينة ومنها أن المفهوم من السبيل الواقعي
والقطع به يتوقف على القطع بانتفاء الدواعي المقتضية لا يراد خلاف
المعتقد كالتقية وشبهها ولا سبيل إليه غالبا فلا يثبت بالآية
حجية الاجماع مطلقا وجواز التعويل في ذلك على ظاهر قولهم غير
واضح لأنه إنما يفيد الظن بمعتقدهم ولا دليل على جواز التعويل
عليه في المقام فإن قيل فيلزم إلغاء الآية
لانقطاع السبيل حينئذ إلى تحصيل سبيل المؤمنين قلنا لا نسلم ذلك
لامكان الاطلاع عليه في بعض الموارد بل وقوعه في الاحكام
الضرورية وما قام عليها حجة قطعية جلية ليس بموضع إنكار وفيه
تعسف ومنها ما ذكره الحاجبي ووافقه العضدي في ظاهر كلامه و
هو أن دلالة الآية على حجية الاجماع بعد التسليم ظنية لان مرجعها
إلى ظاهر اللفظ وحجيتها إنما تثبت بالاجماع فلو ثبت حجية
الاجماع بها كان دورا وفيه نظر إذ لا نسلم أن حجية الظواهر لا يثبت إلا
بالاجماع لامكان إثباتها بالسيرة القاطعة المستمرة بين
المسلمين الكاشفة عن الدليل القاطع أو بطريق العقل نظرا إلى بقاء
التكليف وانسداد طريق القطع إليه ولا ريب في وجوب التعويل معه
على الظن أو نقول إجماعهم على حجية ظواهر الألفاظ إجماع على
القطع بها وقد اعترف بأنهم متى أجمعوا على القطع فالعادة تقتضي
أن لا يكون قطعهم إلا عن دليل قاطع فلا يتوقف إثبات حجية هذا
الاجماع على إثبات حجية مطلق الاجماع ومنها قوله تعالى كنتم خير
أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ووجه
الدلالة أنه تعالى وصفهم بكونهم خير أمة وذلك يقتضي أن لا يجتمعوا
على باطل وإلا لانتفي منهم وصف الخيرية ووصفهم بأنهم يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر واللام فيهما للاستغراق لأنه
المناسب لمقام المدح إذ لا فضل في الامر بمعروف واحد والنهي عن
منكر واحد فيدل على أنهم آمرون بكل معروف والناهون عن كل
منكر وذلك ينافي اجتماعهم على الخطأ وإلا لكانوا آمرين بالمنكر و
ناهين عن المعروف وهو خلاف ما وصفهم الله تعالى به وفيه
نظر لان الآية إن حملت على ظاهرها دلت على عصمة جميع الأمة و
هو مخالف للواقع بالضرورة فلا بد من تأويلها بتنزيلها على بيان
أنه تعالى أكرمهم بهذه الأهلية من بين الأنام أو أن الخطاب مخصوص
ببعض هذه الأمة وهم
249

عليهم السلام ويؤيده ما ورد في بعض أخبارنا من أنه في مصحف أهل
البيت عليهم السلام كنتم خير أمة وأما حملها على أن ما يجتمع
الأمة على الامر به فهو معروف وما تجتمع على النهي فهو منكر فأبعد
من الوجهين المذكورين سلمنا لكن وقوع الخطأ بعد الاجتهاد و
بذل الوسع لا ينافي الخيرية ولا عموم المعرفين لان ما أدى اجتهادهم
إلى كونه معروفا فهو معروف وإن كان منكرا في الواقع وما
أدى اجتهادهم إلى كونه منكرا فهو منكر وإن كان معروفا في الواقع مع
أن الخيرية لا يستلزم عصمتهم بل يكفي كونهم أقل خطأ سلمنا
لكن يكفي في صدق الآية أمرهم بكل معروف واقعي ولو إجمالا و
نهيهم عن كل منكر واقعي ولو إجمالا فلا يدل على عدم خطأهم في
التفصيل مع أن الآية أخص من المقصود من حيث إن الآية لا تدل على
خطأهم فيما عدا الوجوب والتحريم من حكم الوضع والإباحة و
المندوب والمكروه أما الأولان فواضح وأما الأخيران فلعدم صدق
الأمر والنهي في حقهما مع أن المنكر لا يعم المكروه ولو سلم أن
المراد بها معانيها الأعم ولو مجازا كطلب الفعل أو الترك ومطلق
المرجوح لكان مفادها أيضا أخص من المطلوب من حيث عدم دلالتها
على عدم وقوع الخطأ منهم في الواجب بالحكم بندبيته أو في
المندوب بالحكم بوجوبه أو في المحرم بالحكم بكراهته أو في
المكروه
بحرمته ومنها قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء
على الناس وجه الدلالة أنه تعالى وصفهم بكونهم وسطا وهو
يقتضي عدم انحرافهم عن جادة الشريعة فيمتنع اتفاقهم على الخطأ
لان ذلك يوجب خروجهم عنها وأيضا التعليل بأن يكونوا شهداء على
الناس يقتضي اتصافهم بالعدالة الواقعية المانعة من اجتماعهم على
الباطل وضعفه ظاهر مما مر لان ظاهر الآية على هذا التأويل يقتضي
عصمة جميع الأمة فلا بد من تنزيلها على مجرد الأهلية أو تخصيصها
بالبعض كالأئمة ومنه يظهر فساد الاستناد إلى التعليل مع أن
المعتبر في قبول الشهادة حصول العدالة حال الأداء دون التحمل
فيجوز أن يكونوا عدولا في الآخرة وإن لم يكونوا عدولا في الدنيا
بحصول ملكتها فيهم قبل الموت أو بعده مع جوازه أن تقبل شهادة
المؤمن الفاسق في القيمة ودعوى عدم جوازه كما في
الدنيا قياس مع الفارق ومنها قوله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه
إلى الله والرسول فإنه يدل بمفهومه على أن الرد إليه تعالى و
إلى رسوله غير واجب على تقدير عدم التنازع وهو صورة الاتفاق و
ليس ذلك إلا لكون الاتفاق حجة مغنية عن تحصيل حجة غيرها و
هذا الاحتجاج مدفوع أما أولا فالنقض بقول الجماعة فأدونها إذا تجرد
عن الدليل بمجرد خلوه عن المنازع مع أن المستدل لا يقول به و
يمكن دفعه بالتزام التخصيص وأما ثانيا فبأن الظاهر من المنازعة
التخاصم في الحقوق والأمور المالية دون الأحكام الشرعية كما يدل
عليه قوله تعالى في الآية الأخرى يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت
فيستقيم المفهوم إذ المحاكمة فرع المنازعة ولأن المتنازعين في
الاحكام إن كان نزاعهم عن دليل لم يجب عليهم الرد وإلا لكان
نزاعهم محرما لما فيه من الحكم من غير دليل وتخصيص الآية بهذا
الفرض المحرم تعسف بين وحملها على صورة تعارض الاخبار أو
الأدلة مع بعده يوجب عدم مساعدتها على المقام كما لا يخفى سلمنا
لكن مقتضى المفهوم على ما ذكروه عدم وجوب الرد على غير
المتنازعين وهو إما أن يخص بغير المتفقين أو يعم المتفقين و
المترددين فإن كان الأول خص الحكم بالمتفقين ودار مدار صدق
الوصف الدائر مدار وجود الدليل لان المراد الاتفاق بالرأي لا بالقول
فلا يتناول غير المتفقين ولا المتفقين حال عدم الاتفاق فلا يدل على
حجية الاجماع بوجه وإن كان الثاني فهم إما مترددون في الحكم
فهؤلاء وظيفتهم الرد اتفاقا فيجب تقييد إطلاق المفهوم بغير هذه
الصورة وإما أن يكون بعضهم متفقين وبعضهم مترددين فإن اتحد
العصر وجب الرد على المترددين وهو أيضا موضع وفاق فيجب تقييد
الاطلاق بغير هذه الصورة أيضا وإن كان المترددون في عصر
متأخر دل مفهوم الآية على عدم وجوب الرد عليهم وهو مستلزم
لحجية الاجماع في حقهم لكنه معارض بدلالة منطوق الآية على
وجوب
الرد عليهم على تقدير نزاعهم فإنه يقتضي عدم حجية الاجماع في
حقهم وهو يستلزم عدم حجيته في صورة ترددهم أيضا بالاجماع
المركب ولا سبيل إلى التمسك به على الوجه الأول لتوقفه على ثبوت
حجية الاجماع فيدور بخلاف الوجه الثاني فإن التمسك بالاجماع
المركب فيه مبني على تقدير حجيته لا على ثبوته مضافا على
اعتضاده بقول العدم وبقوة دلالة المنطوق بالنسبة إلى المفهوم مع أن
عدم
وجوب الرد لا يستلزم وجوب الموافقة وإنما يستلزم جوازها و
المقصود إثبات الوجوب إلا أن يتمسك بعدم القول بالفصل واعلم أن
قوله تعالى وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون أوضح دلالة
على عدم اجتماع الأمة على الباطل من الآيات التي تمسكوا بها لكنه
ظاهر في وجود معصوم بين الأمة وكثير منهم لا يقول به ولعلهم تركوا
الاستدلال به لذلك وأما السنة فقوله صلى الله عليه وآله لا
يجتمع أمتي على الخطأ وقوله صلى الله عليه وآله لم يكن ليجتمع
أمتي على الخطأ وقوله صلى الله عليه وآله مع الجماعة وقوله صلى
الله عليه وآله يدل الله على الجماعة والجواب أما أولا فبالطعن
بالسند ودعوى الغزالي أنها متواترة معنى وإن كانت من حيث اللفظ
آحادا مباهتة وعناد لان من شرائط التواتر بلوغ المخبرين عداد يمتنع
في العادة لكثرتهم اجتماعهم على الكذب وانتفاؤه في المقام
أوضح شئ حتى أعرف به جماعة من أهل الخلاف كالحاجبي و
العضدي ورد فيه على الغزالي ولأن من شرائطه توافقها في المعنى
المدعى تواترها فيه وانتفاؤه في المقام أيضا جلي وأما ثانيا فبمنع
دلالتها على المقصود أما الرواية الأولى فلان لفظ الخطأ فيها ظاهر
في الجنس وقد حققناه في بحث المفرد المعرف فيكون مفادها عدم
اجتماع الأمة
على جنس الخطأ وقضية ذلك ما يقوله الامامية من عدم خلو الأمة
عن المعصوم وإنما يتم ما زعموه إذا كان المراد بالخطإ فردا منه وهو
خلاف الظاهر من الفرد المعرف قطعا والعجب أنه قد اعترض بما
ذكرناه بعض أهل الخلاف وغفل عما يلزمه من فساد مذهبه وبطلان
طريقته سلمنا لكن مفاد الرواية أن جميع الأمة أو جميع علمائها من
المعروفين والمستودعين لا يجتمعون على الخطأ وهذا مسلم عندنا
حيث نقول بعدم خلو عصر من الاعصار من معصوم حافظ الشريعة و
لا دلالة لها على حجية إجماع علماء العامة ولا العلماء الظاهرين من
الأمة ولا على الاجماع من حيث كونه إجماعا كما زعموا وبهذا يظهر
الجواب عن الرواية الثانية وأما الرواية الثالثة فإن حملت على
إطلاقها لزم منه وجوب موافقة كل جماعة وإن كانوا بعضا من أهل
الحل والعقد وهم لا يقولون به ومع العدول عنه فليس هناك معنى
ظاهر يترجح الحمل عليه فحملها على صورة اتفاق الكل من العامة
ليس بأولى من حملها على إرادة جماعة مخصوصين وهم كبار
الصحابة الذين عرفت لهم المزية على غيرهم علما وعملا كعلي عليه
السلام وسلمان وأبي ذر ومقداد وعمار وأضرابهم ممن اعترف
بفضلهم العامة والخاصة وهؤلاء الذين هم أنكروا بيعة الأول بعد ما
عرضت عليهم حتى ألزموهم بها بالتخويف والتهديد فالتجئوا إليها
تقية منهم ولا ريب أنه يسوغ عند الخوف ما هو أعظم من ذلك قال
الله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالايمان وقال إلا أن تتقوا منهم تقاة وكان فيها تعريض بمتابعتهم في
ذلك وتنزيلها على هذا المعنى ليس بأبعد من تنزيلها على ما
ذكروه من حجية اتفاق السفلة الذين عقدوا بيعة الثلاثة وأما الرواية
الأخيرة
250

فقصور دلالتها على ما ذكروه أوضح وحملها على المعنى المتقدم
ممكن وأما العقل فتقرر بوجهين الأول أن العادة مخيل اجتماع الكل
على الحكم الشرعي من غير دليل قاطع لما ترى من اختلاف أنظارهم
وأفكارهم فإن الدليل الظني مما لا يتفق التوافق عليه عادة و
فساده واضح لجواز توافقهم عن دليل ظني أجمعوا على حجيته كخبر
الواحد أو عن أدلة ظنية عول كل فرقة منهم على بعضها ولا يستفاد
القطع من مجموعها وبالجملة لا نسلم قضاء العادة في جميع الموارد
بعدم الاتفاق عن دليل ظني نعم قد يكشف الاجماع عن كون
المستند قطعيا لكنه لا يثبت المقصود وهو كون الاجتماع حجة على
الاطلاق الثاني أن الجميع قد أطبقوا على القطع بتخطئة المخالف
للاجماع والعادة تخيل اجتماعهم على القطع بحكم شرعي من غير
دليل قاطع وأورد عليه أمران الأول أن الشيعة وغيرهم كبعض
الخوارج والنظام قد منعوا من حجيته فكيف يدعى إطباق الجميع و
أجاب عنه بعض من أخذته الحمية لدين آبائه وغشي بصيرته التحفظ
لطريقة كبرائه بأن هؤلاء لشرذمة قليلون من أهل البدع والأهواء قد
نشئوا بعد اتفاق الآراء فلا يعتد بهم ولا بخلافهم وأنت خبير بأن
ما نسبوه إلينا من إنكار حجية الاجماع افتراء منهم علينا كسائر
مفترياتهم في ترويج طريقتهم الكاسدة وتصحيح مبتدعاتهم الفاسدة
فإنا لا ننكر حجية الاجماع مطلقا وإنما ننكر حجيته من حيث كونه
إجماعا وننكر انعقاده في زمن الغيبة بمجرد اتفاق العلماء
المشاهدين مع أن منا من يعتد به في الحجية كما عرفت والثاني أنه
إثبات حجية الاجماع بالاجماع وأنه دور وجوابه واضح لان حجية
هذا الاجماع على ما عرفت من الدليل ليس لحجية مطلق الاجماع بل
لكشفه عن الدليل القاطع فلا يلزم الدور أقول ويرد عليه المنع من
قطع الكل بحجية الاجماع فإن فساد هذه الدعوى مما لا يكاد يشتبه
على الجهال فضلا عن غيرهم بل قد قيل إن أول من ألقى هذه الشبهة
بين الناس واستخف قومه بها هو الثاني حيث رام ردع الخلق عن أهل
الحق فلم يجد سبيلا إليه سواها فروى لهم أنه سمع من الرسول
صلى الله عليه وآله أنه قال لا تجتمع أمتي على الخطأ فأشار لهم إلى
الاجتماع على أمير والبيعة معه وأنهم إذا فعلوا ذلك كانوا على
الحق بذلك وعجل بذلك مخافة أن يفرغ صلوات الله عليه ومن كان
معه من خواص الأمة من تغسيل الرسول
وتجهيزه صلى الله عليه وآله ودفنه والصلاة عليه ويخلوا بمرامه
فتركوا تشييع جنازة نبيهم والصلاة عليه وتفرقوا من حوله و
سارعوا إلى عقد البيعة ونصب الأمير ثم قد وقع التشاجر بينهم هناك
مما لا يخفى على من وقف على كتب الفريقين واطلع على الأحوال
التي جرت في البين فإن زعموا أن الذين اجتمعوا على بيعة الأول كانوا
قاطعين بحجية الاجماع ولو لتلك الرواية لقطعهم بصحة
صدورها وبمراده منها فمجازفة واضحة إذ بعد تسليم وثاقة
المجمعين وورعهم والتزامهم بعدم التخطي عن منهج الشريعة و
خلوصهم
من الدواعي النفسانية من حب الرئاسة والطمع في منصب الامارة أو
بعض أهل الحق المنبعث من شقوتهم الذاتية وخبث فطرتهم الأصلية
مع أن الكل ممنوع والآثار المنقولة سند واضح عليه فلم لا يجوز أن
يكونوا قد عولوا على تلك الرواية من حيث كونها خبر آحاد وأنه
حجة كما في سائر المسائل الشرعية وأن ظاهر اللفظ يقتضي ذلك فلا
يعدل عنه من غير قرينة كيف لا وقد كان أكثرهم عواما همجا
رعاعا وقد أنكر عليهم ذلك أولو الدراية والبصيرة التامة كعلي عليه
السلام وسلمان وأبي ذر ومقداد فلم ينفع فيهم الانكار وأصروا
على المعاندة والاستكبار حتى أنهم ألزموهم بها بالتحذير والتخويف
ولو كان غرضهم عدم التخطي عن جادة الشريعة لما سلكوا
هذه الطريقة الشنيعة مضافا إلى منكرات أخر صدرت منهم كغصب
فدك ورد شهادة أهل العصمة وضرب عمار ونفي أبي ذر وطبخ
المصاحف إلى غير ذلك مما يشهد به الرجوع إلى الكتب المعروفة و
الاسفار المشهورة وأما من تأخر عنهم فإن صح قطعهم بحجية
الاجماع فإنما هو قطع عما غايته إثبات الظن في حق من قبلهم مع قلة
الواسطة وقرب العهد وبالجملة فليس لهم في تأصيل مذهبهم
مستند إلا الاجماع ولا لهم دليل على حجية الاجماع يصلح للذكر إلا
هذه الروايات المقدوحة سندا ودلالة لان كتبهم وطواميرهم
مشحونة بذلك ولو كان لهم دليل أقوى ومستند أجلى لذكروه و
انتصروا به إذ طال ما تشاجروا في تصحيح مذهبهم الفاسد وترويج
طريقهم الكاسد فلم يزيدوا على ذلك شيئا يكون أقوى دلالة وأوضح
إفادة ولقد أفرط بعض سفهاء هؤلاء القوم وسفلتهم فادعى
الضرورة على حجية
الاجماع والظاهر أنه لما ضاق عليه المجال وانقطع به طريق
الاستدلال استراح بجعل الدعوى ضرورية خوفا من شناعة الالزام و
محافظة على أساس دين آبائه وكبرائه من الانهدام وإلا ففساد هذه
الدعوى في المقام مما لا يكاد يشتبه على أحد من الأنام واحتج
منكروا الاجماع بوجوه سخيفة غير صالحة لان تذكر فالصفح عنها
أولى وأجدر بقي في المقام مباحث مهمة لا بد من التنبيه عليها الأول
ذهب بعض العامة إلى امتناع الاطلاع على الاجماع في غير زمن
الصحابة نظرا إلى انتشار العلماء في أقطار الأرض وعدم إمكان
الإحاطة بهم والوقوف على آرائهم وأما في زمن الصحابة فقد كان
الاطلاع عليه ممكنا لقلة المسلمين واجتماعهم فكان الإحاطة بهم و
بآرائهم متيسرة ورام باستثناء الصورة المذكورة تصحيح مذهبهم
حيث إن مبناه على الاجماع واعترض عليه العلامة بأنا نجزم
بالمسائل المجمع عليها جزما قطعيا ونعلم اتفاق الأمة عليها علما
وجدانيا حصل بالتسامع وتظافر الاخبار عليه وأورد عليه في المعالم
بأن مقصود ذلك القائل عدم إمكان الاطلاع على الاجماع ابتدأ من
غير جهة النقل وما ذكر إنما يدل على حصول العلم به من طريق
النقل كما يدل عليه كلامه أخيرا فلا ورود له عليه ورده بعض
المعاصرين بأن مراد العلامة تظافر الاخبار على نقل كل فتوى من
فتاوى
العلماء لا على نقل الاجماع ومنشأ الغفلة إفراد الضمير المجرور في
عليه أقول وفي كل من الرد والايراد والاعتراض مع أصل الدعوى
نظرا ما في الرد فلانه مع كونه تعسفا في كلام العلامة من حيث تذكر
الضمير مع تأنيث المرجع الذي ذكره مضافا إلى عدم سبق ذكره
ضعيف لان العلم بالاجماع على تقديره أيضا يكون بالنقل غايته أن
يكون النقل تفصيليا وإطلاق كلام المورد يتناول النقل التفصيلي و
الاجمالي وأما في الايراد فلان مقصود القائل منع إمكان
251

الاطلاع على الاجماع المنعقد بعد زمن الصحابة مطلقا وغرض
المعترض إمكان الاطلاع عليه بطريق النقل فالتدافع واضح نعم لو أراد
المعترض بيان إمكان الاطلاع على الاجماع المنعقد في زمن الصحابة
بطريق النقل لم يكن لاعتراضه مساس بكلام القائل لكنه غير صالح
لهذا التنزيل وأما في الاعتراض فلان قضية ما ذكره القائل من كثرة
العلماء وانتشارهم في أقطار الأرض إن تم وصلح دليلا على منع
إمكان الاطلاع على أقوال العلماء بغير طريق النقل كما هو ظاهر
الاعتراض لصلح دليلا على منع إمكان الاطلاع عليها بطريق نقل
الآحاد
أيضا فضلا عن النقل المتظافر إذ ليس الإحاطة بنقل الوسائط في العقل
والعادة أولى من إحاطتنا بالأقوال فالمنع من إمكان الثاني في
مرتبة المنع من إمكان الأول وأما في أصل الدعوى فبأن الاطلاع على
الاجماع في غير زمن الصحابة بالوقوف على أقوال المعروفين و
لو بطريق النقل وعلى أقوال الباقين ولو بطريق الحدس من حيث
وضوح المدرك وظهور المسألة مما لا يكاد تناله يد التشكيك فمنعه
شبهة في مقابلة الضرورة فلا يلتفت إليها ثم إن صاحب المعالم قد
اقتفي أثر هذا القول فقال الحق امتناع الاطلاع عادة على حصول
الاجماع في زماننا هذا وما ضاهاه من غير جهة النقل إذ لا سبيل إلى
العلم بقول الامام كيف وهو موقوف على وجود المجتهدين
المجهولين ليدخل في جملتهم ويكون قوله مستورا بين أقوالهم وهذا
مما يقطع بانتفائه فكل إجماع يدعى في كلام الأصحاب مما يقرب
من عصر الشيخ إلى زماننا هذا وليس مستندا إلى نقل متواتر أو آحاد
حيث يعتبر أو مع القرائن المفيدة للعلم فلا بد من أن يراد به ما
ذكر الشهيد رحمه الله من الشهرة وأما الزمان السابق على ما ذكرناه
المقارب لعصر ظهور الأئمة عليهم السلام وإمكان العلم بأقوالهم
فيمكن فيه حصول الاجماع والعلم به بطريق التتبع وإلى مثل هذا نظر
بعض علماء أهل الخلاف وساق القول المذكور مع ما اعترضه
العلامة وأجاب بما حكيناه عنه أقول الظاهر أن من اعتبر في الاجماع
دخول المعصوم في المجمعين على وجه لا يعرف نسبه إنما يقول
به بالنسبة إلى زمن الغيبة مطلقا نظرا إلى أن الإمام عليه السلام لا
يتمكن فيه من الظهور بطريق يعرف نسبه فيظهر بسيرة عالم من
علماء
الشيعة مع إخفاء نسبه لالقاء الحق بينهم وربما أمكن هذه الدعوى
بالنسبة إلى بعض أزمنة الظهور أيضا كالزمن الذي يشتد فيه أمر
التقية أو يكون الامام فيه محبوسا وأما بالنسبة إلى الزمن الذي كان
الامام فيه ظاهرا متمكنا من نشر الاحكام فبشاعة هذه الدعوى غير
خفية على أحد ومما يدل على ما ذكرناه أن دعوى الاجماع إنما توجد
في كلمات أصحابنا الذين نشئوا بعد الغيبة ودعوى أنهم عثروا
في ذلك على اتفاق العلماء في زمن ظهور الأئمة أو ما يقرب منه على
وجه قطعوا بدخول المعصوم فيهم على وجه لا يعرف نسبه مجازفة
بينة مع أن الاطلاع عليه لا يكون إلا بطريق النقل وطريقهم لا ينحصر
فيه بل الغرض في ظاهر كلام صاحب المعالم في غير صورة النقل
مطلقا وإن أمكن تنزيله على النقل الاجمالي والتحقيق فساد هذه
الدعوى في زمن الغيبة أيضا لان مبناها إما على ما ذكره الشيخ من
الوجوه المتقدمة فقد عرفت فسادها وأنها لا توجب القطع بل ولا
الظن بذلك أو على أن الامام موجود بين العلماء الظاهرين من الشيعة
لكن على وجه لا يعرف أنه إمام وهذا إن لم يقطع بخلافه فلا أقل من
الظن القوي بعدمه فكيف يمكن دعوى القطع به والتحقيق أن
الاجماع الذي يمكن الاطلاع عليه هو الاتفاق الكاشف عن موافقة
المعصوم ورأيه كما مر وهذا مما لا يختلف الحال فيه بالنسبة إلى زمن
ظهور الإمام وخفائه ثم تعليله لامتناع الاطلاع على الاجماع في زمن
الغيبة بانتفاء وجود المجتهدين المجهولين عليل إذ لا بعد في
وجودهم عقلا وعادة ودعوى القطع بانتفائهم في زمن الغيبة حتى
بالنسبة إلى زمن المدعين للاجماع ووجودهم في زمن الظهور
مجازفة واضحة وأما تنزيل الاجماع في كلامهم على معنى الشهرة فلا
يخلو من بعد لعدم مساعدة الاصطلاح المعروف عليه وانتفاء
القرينة الصارفة ظاهر في كلامهم وأما ما ذكره بعض العامة فليس له
كثير تعلق بمقالته لان مبنى المنع فيه على انتشار العلماء بعد عصر
الصحابة ومبنى المنع فيها على عدم وجود المجتهدين المجهولين و
كان غرضه مجرد المماثلة في المنع لا في التعليل الثاني إذا أفتى
جماعة وسكت الباقون أو لم يعلم مخالفتهم ولم يحصل الاستكشاف
عن قول المعصوم فلا ريب في عدم كونه إجماعا وتسمية النوع
الأول بالاجماع السكوتي إما مجاز
والوصف قرينة عليه أو حقيقة باعتبار التركيب أو التقييد واختلفوا في
حجيته فعن الشهيد في الذكرى اختيار حجيته لكن المصرح به
في كلامه هو النوع الثاني ويستفاد منه حجية النوع الأول بالفحوى و
فصل الفاضل المعاصر فاختار حجية الثاني دون الأول محتجا
على المقامين بأدلة الطرفين وهو بمكان من الغرابة وذهب آخرون
إلى المنع مطلقا هذا والتحقيق أنه إن كان بحيث يستكشف به عن
وجود دليل معتبر عندنا كرواية ولو ضعيفة إن صلح قولهم لجبرها كان
حجة وإلا فلا أما حجيته في الصورة الأولى فظاهرة وقد سبق
التنبيه عليه وأما عدم حجيته في الثانية فللأصل وضعف مستند القول
بحجيته كما سيأتي نعم من سلك في حجية الاجماع مسلك الشيخ
يلزمه القول بالحجية في المقام خصوصا بالنسبة إلى القسم الأول وقد
عرفت ضعفه مما سبق احتج الشهيد في الذكرى بأن عدالتهم تمنع
من الاقتحام على الافتاء بغير علم وأنه لا يلزم من عدم الظفر بالدليل
عدم الدليل والجواب أن عدالتهم إنما تمنع عن الافتاء من غير
دليل معتبر عندهم ولا يلزم من كون دليل معتبرا عندهم أن يكون
معتبرا عندنا لوقوع الاختلاف في الأدلة كوقوعه في الاحكام وقد
يستدل للشهيد بأن قولهم يفيد الظن وإن قلوا لخلوه عن المعارض و
أنه حجة عند انسداد باب العلم وبأن الأصحاب كانوا يأخذون بما
يجدونه في شرائع الصدوق عند إعواز النصوص لحسن ظنهم به وعد
فتواه كروايته والجواب أن انسداد باب العلم إنما يوجب حجية
الظن في الأدلة لا في الاحكام كما سيأتي تحقيقه في محل وإن عمل
الأصحاب بما كانوا يجدونه في الشرائع غير ثابت على وجه يصح
الاستناد إليه مع أن تعويلهم عليه لم يكن من جهة كونه قولا لم يعثروا
لمخالفه وإلا لما اقتصروا على الشرائع ولما تعدوا إلى المواضع
التي عبروا فيها بالمخالف بل من حيث وثوقهم بأن فتاويه متون
الاخبار المعول عليها وقد عرفوا ذلك منه بالتتبع
252

كلماته أو بتصريحه بذلك فلا تعلق له بالمقام واحتج بعض العامة على
حجية الاجماع السكوتي بأن السكوت دليل الرضا والقبول فعلى
هذا يرجع الاجماع السكوتي إلى الاجماع المطلق والجواب المنع بل
السكوت أعم من الرضا لاحتماله التوقف أو التمهل للنظر أو
لتجديده في حق غير المعصوم أو التقية لخوف الفتنة بالانكار أو لأنه لا
يلزم المجتهد الانكار على مثله عند مخالفته لان وظيفة كل
الرجوع إلى مؤدى نظره الثالث نقل الشهيد في الذكرى أن بعض
الأصحاب ألحق المشهور بالمجمع عليه واستقر به إن أراد الالحاق في
الحجية دون التسمية وعلله بأمرين الأول أن عدالتهم تمنع من
الاقتحام على الفتوى بغير علم وليس في عدم وجداننا للدليل دلالة
على
وجوده في الواقع وضعفه ظاهر لان عدالتهم إنما تمنع من الافتاء من
غير ما ثبت حجيته عندهم ولا يلزم من ثبوت حجية شئ عندهم
ثبوت حجيته عندنا بعد ما ظهر من وقوع الخلاف في الأدلة وقد مر
التنبيه على ذلك الثاني قوة الظن في جانب الشهرة أقول هذا
التعليل إن لم يجعله مبنيا على قاعدة انسداد باب العلم وبقاء
التكليف كما هو الظاهر من بيانه فلا خفاء في سقوطه إذ الأصل عدم
جواز
العمل بالظن وإن كان قويا ما لم يبلغ درجة العلم وفرضه في المقام
يوجب كون الشهرة إجماعا وهو ليس محل البحث وجواز التعويل
على خبر الواحد وظاهر الكتاب ليس من جهة كونه مفيدا للظن
المطلق أو الظن القوي حتى تيسر الحكم منه إلى الشهرة بل من حيث
التعبد أو من حيث كونه مفيدا للظن الخاص فلا يتعدى إلى سائر موارد
الظن العارية عن الدليل وإن جعله مبنيا على تلك القاعدة فهو و
إن كان مستقيما على طريقة بعض متأخري المتأخرين إلا أنه غير
مرضي عندنا لما سنحققه من أن انسداد باب العلم ثابت في الاحكام
و
الأدلة وبقاء التكليف بهما معلوم وقضية ذلك وجوب التعويل في
الاحكام على الأدلة الظنية لا على مطلق الظن في الاحكام وكون
الشهرة من جملة تلك الأدلة ممنوع كيف والمشهور بينهم حجيتها و
أجاب عن الدليل الثاني في المعالم بأن الشهرة التي يحصل معها قوة
الظن هي الحاصلة قبل ومن الشيخ رحمه الله لا الواقعة بعده كما هو
الغالب وذلك لان أكثر الذين نشئوا
بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوى تقليدا له لحسن ظنهم به ثم نقل
هذه الحكاية عن جماعة وربما أوهم كلامه هذا التزامه بحجية
الشهرة التي كانت قبل زمن الشيخ نظرا إلى إفادتها للظن وهو الذي
يناسب احتجاجه على حجية خبر الواحد بانسداد باب العلم إلى
الاحكام ووجوب التعويل معه على الظن فيها فيشكل عليه بأن
الشهرة بعد الشيخ قد يكون من غير أتباعه فكيف أطلق المنع من
حجيتها
وقد عرفت مما قررنا ضعف الطريق المذكور من تأمل في عبارة
المعالم في المقام وفي المبحث المتقدم عليه وقف على ضعف
الوهم
المذكور ثم لا يخفى أن ما نسبه إلى العلماء الذين كانوا بعد الشيخ من
تقليدهم إياه يشبه أن يكون وهما من حيث إنهم لما وافقوه في
المسلك والطريقة غالبا أفضى ذلك إلى موافقتهم له في الاحكام أيضا
غالبا فأشبه ذلك في بادي النظر أنهم إنما عولوا فيها على تقليده
مع أن فتاوى الشيخ مختلفة ولو كان تعويلهم على تقليده لوجب
عليهم الرجوع إلى رأيه المتأخر مع وضوح خلافه بل قد خالفوا الشيخ
في
بعض المواضع كما نبه عليه بعضهم ثم هذا لا يجامع ما اشتهر بينهم
من عدم جواز تقليد الأموات إلا أن يكون مع إعواز المجتهد الحي في
زمانهم وهو بعيد وقد يستدل على حجية الشهرة بعموم قوله خذ بما
اشتهر بين أصحابك وقوله عليه السلام واترك الشاذ الذي ليس
بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه فإن ما من أداة
العموم فيتناول الشهرة في الفتوى أيضا وأيضا يتناوله عموم المجمع
عليه فإن المراد به المشهور أو ما أجمع عليه الأكثر لا ما اتفق عليه
الكل كما هو الظاهر لمنافرته لتعليل الاخذ بالمشهور به وأيضا تعليق
الحكم بعدم الريب على الوصف أعني المجمع عليه بالمعنى الذي
سبق يدل على أنه كذلك من حيث قيام المبدأ به فيدل على ثبوت
الحكم
للمقام أيضا لاشتراك العلة ثم المفهوم من التعليل المذكور أن حجية
الشهرة ليست من حيث نفسها بل من حيث كونها مفيدة للظن لأنه
المراد بنفي الريب عنه فيوافق ما مر في الدليل الثاني وجوابه أن
المراد بالموصولة في المقامين الرواية دون الفتوى بقرينة أن السؤال
عن تعارض الروايتين وما يقال من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص
المورد إنما يتم مع وجود ما يقتضيه في اللفظ وهو منتف في
المقام لسبق الرواية بالذكر بحيث يصلح للعهد
إليها وقد اعترفوا في محله أن الموصولات إنما تفيد العموم حيث لا
عهد وإشعار الدليل ضعيف سلمنا لكن سند الرواية قاصرة عن
التعويل عليها والعمل بها إنما يوجب الانجبار في محله ولا سبيل إلى
التعدي عنه ولو سلم فمخالفتها للمشهور بالنسبة إلى المقام
يوجب طرحها فيه كما سنشير إليه وقد يورد على القائلين بحجية
الشهرة بأنها لو كانت حجة لزم من حجيتها عدم حجيتها لان المشهور
عدم حجيتها وما يلزم من وجوده عدمه فهو ممتنع وأجيب بوجوه
الأول ما ذكره بعض المعاصرين من أن الشهرة التي نقول بحجيتها
هي الشهرة في الفروع والشهرة التي انعقدت على عدم حجية الشهرة
إنما هي الشهرة في الأصول ولا نقول بحجيتها حتى يلزم منه عدم
حجيتها في الفروع وفيه نظر لان الحجتين اللتين تمسكوا بهما على
حجية الشهرة إن تمتا لدلتا على حجيتها في الأصول أيضا فإن
عدالتهم كما تمنع من الاقتحام على الفتوى من غير دليل في الفروع
كذلك تمنع منه في الأصول أيضا ودليل انسداد باب العلم مشترك
بين مباحث الأصول والفروع كما سيأتي تحقيقه في محله والظن
بالشهرة حاصل في المقامين الثاني أن الحجة إنما تنهض بحجية كل
شهرة تفيد الظن بموردها والشهرة التي انعقدت على عدم حجية
الشهرة مما لا تفيد الظن به فلا يصح التعويل عليها في منع حجية
الشهرة وفيه أيضا نظر لان الشهرة في نفسها تفيد الظن ما لم يقدح فيها
قادح وليس في مقابلة هذه الشهرة ما يصلح للقدح فيها سوى
الأصل أعني أصالة عدم قيام دليل على عدم حجيتها بعد انسداد
طريق العلم بناء على حجية كل ظن لا دليل على عدم حجيته حينئذ
كما هو
قضية ما قرروه في الطريق العقلي أو عموم الرواية على تقدير تسليم
شمولها للمقام وشئ منهما لا يصلح للقدح أما الأول فلان مرجعه
إلى عدمه العلم وهو لا يصلح لمعارضة أمارته وإلا لانتفي فائدة القول
بحجية الشهرة وأما الثاني فلانه مجرد عموم ولا ريب في
رجحان الدليل الخاص
253

عليه مع أن من يقول بحجية الشهرة يستعملها في مقابلة العمومات و
المطلقات بل وسائر الظواهر فلا يتم القدح به أيضا الثالث أن
الدليل الدال على حجية الشهرة وهو القاعدة المذكورة قطعي الدلالة
فلا يعارضه الشهرة القائمة على عدم حجيتها لأنها ظنية الدلالة و
فيه أيضا نظر لان الدليل الدال على حجية مطلق الشهرة إن أفاد
حجيتها بحسب الواقع امتنع ورود التخصيص وإن أفاد حجيتها
بحسب
الظاهر ما لم يقم دليل على خلافها فاستلزام حجيتها لعدم حجيتها
دليل يصلح للدلالة على حجيتها فوجب الاخذ به هذا ويمكن أن
يجاب
أيضا بأن الدليل الدال على حجية الشهرة لا يدل على حجية الشهرة
على عدم حجية الشهرة لأنها غير صالحة للحجية لما يلزم من وجودها
عدمها فيرجع مفاد الدليل إلى حجية شهرة لا يمتنع حجيتها وهي ما
عدا الشهرة على عدم حجية الشهرة ويشكل بأن مفاد الدليل
المذكور حجية مطلق الشهرة فتقييده بغير ما انعقد على عدم حجيته
الشهرة ليس بأولى من تقييده بما انعقد على غيرها فيتكافأ الوجهان
وفيه ما فيه بل التحقيق أن الشهرة القائمة على عدم حجية الشهرة
نافعة لنفسها خاصة لان ما قضية ثبوته عدم نفسه وعدم غيره لا يثبت
حتى يمنع من ثبوت غيره فيبقى بقية الشهرات سالمة عما يدل على
عدم حجيتها وإذا ثبت بقاعدة انسداد باب العلم إلى أدلة الاحكام
حجية كل ظن لا دليل على عدم حجيته اندرجت الظنون الناشئة من
تلك الشهرات في العموم لا محالة فتدبر ثم من فضلائنا المعاصرين
من فصل في الشهرة العارية عن الدليل بين الشهرة المعتضدة برواية
ضعيفة وبين الشهرة المجردة فمنع من حجية الثانية وإن حصل
الظن منها لما مر من قيام الشهرة على عدم حجيتها وبنى على حجية
الأولى لما مر في الدليل الثاني مع عدم ثبوت الشهرة على عدم
حجيتها وهو ضعيف لان الشهرة منعقدة على الظاهر على عدم حجية
الشهرة مطلقا نعم يصلح عند كثير منهم الشهرة لمعاضدة الرواية
الضعيفة وجبرها وذلك لا يقتضي القول بحجيتها وإلا لكان حجيتها
مع صحة الرواية أولى ومن هنا ربما ينشأ الوهم حيث يتوهم أن
تعويلهم في ذلك على الشهرة المعتضدة بالرواية لا على الرواية
المعتضدة بالشهرة والذي ظهر لنا هو الثاني ثم التحقيق عندي أن
الشهرة إن كشف عن وجود حجة معتبرة عندنا ولو بمساعدة الشهرة
كرواية ولو ضعيفة سندا ودلالة بحيث تصلح الشهرة لجبرها
كانت حجة وجاز التعويل عليها والكلام في حجيتها كالكلام الذي
سبق في حجية الاجماع وإلا فهي حجة في أدلة الاحكام دون نفس
الاحكام قلنا في المقام دعويان لنا على أولهما ما نحققه في مبحث
الاخبار من أنا كما نعلم بالضرورة من الدين بأنا مكلفون في زماننا
بالأحكام المقررة في الشريعة كذلك نعلم بأنا مكلفون بتحصيلها و
استفادتها من طرق مخصوصة
قد اعتبرها الشارع طريقا إليها وبعبارة أخرى نعلم بأنا مكلفون بالفعل
بالعمل بمقتضى [بمؤدى] أدلة مخصوصة وقد قررنا هناك أن
تلك الأدلة وإن أمكن تحصيل العلم أو ما يثبت قيامه مقامه ببعضها
إجمالا لكن العمل بها يبتني على معرفة تفاصيلها ولا طريق إلى
تحصيلها بالعلم ولا بطريق علمي فتعين التعويل فيها على الظنون التي
لا دليل على عدم حجيتها فيها ولو بعد انسداد الطريقين أو
الطرق الظنية التي هي كذلك ولا خفاء في أن الشهرة عند خلوها عن
المعارض من الامارات المفيدة للظن بما انعقدت عليه ولا دليل على
عدم حجيتها في الأدلة بعد انسداد طريق العلم إليها فيتعين القول
بحجيتها ولا يقدح في ذلك انعقادها على عدم حجية نفسها لان
قضية
هذه الشهرة الظن بعدم حجية نفسها كما أن قضيتها الظن بعدم حجية
غيرها فلا يحصل ظن بعدم حجية غيرها سالم عن المعارض إذ
مفادها ظن مظنون بها عدم حجيته فيسقط عن درجة الاعتبار
كالدليلين المتعارضين إذا تكافئا فيبقى الظن الحاصل من الشهرة
المنعقدة على حجية طريق أو على عدم حجية طريق غير الشهرة
سالما عن المعارض السالم ويحتمل القول بالأخذ بأقوى الشهرتين
لكونه أقوى الظنين وليس بمعتمد والتحقيق هو الأول ولا فرق بين أن
يكون الدليل المثبت حجيته بالشهرة نوعا كليا كالخبر الموثوق
والاجماع المنقول أو شخصا جزئيا كما لو انعقدت على حجية رواية
ضعيفة ولو عامية أو أصل مثبت أو سيرة ظنية أو تقديم ظاهر في
مقابل أصل أو غير ذلك فإن التحقيق عندنا عدم حجية أكثر أنواع هذه
الطريق لكن إذا قامت شهرة على حجية فرد منها في خصوص
مقام كان حجة ولا يتعدى إلى غير مورد الشهرة حتى إنها لو انعقدت
على العمل برواية ضعيفة عامية في بعض مواردها فقط اقتصر
على العمل في مورد العمل ولا يتعدى إلى بقية مواردها وكذا لو
انعقدت على العمل ببعض الرواية دون بعض فإنه لا يتعدى إلى غير
محل العمل ولا يتوهم أنه يلزم من هذا البيان حجية كل شهرة إذ لا بد
للقائلين من مستند معتبر عندهم فإن عدالتهم يمنع من الافتاء
بدونه ويثبت اعتباره عندنا على تقدير عدمه بقيام الشهرة عليه و
ذلك لأنه لا يلزم من توافقهم على الحكم توافقهم على المستند لجواز
أن يستند بعضهم إلى غير
ما يستند إليه البعض الاخر بحيث لا يتحقق شهرة على مستند نعم لو
عرفت منهم الاشتراك في المستند بالتصريح أو بالفحوى صح
التعويل عليه كما بيناه ولا يذهب عليك أن قولنا بحجية الشهرة في
أمر إنما هو بالنظر إلى نفسها كما هو الشأن في البحث عن كل دليل
صحيح وإلا فقد نأخذ بخلاف المشهور عند قيام أمارة أقوى منها أو
اتضاح فساد مأخذها ولنا على عدم حجيتها في نفس الاحكام أن
الطريق إليها منحصر في الطرق المعلومة والمظنونة وعدم كونها من
الطرق العامية واضح وكذلك عدم كونها من الطرق الظنية بعد ما
عرفت من أن المعروف بين أصحابنا عدم حجيتها بنفسها نعم تصلح
الشهرة على الحكم لجبر الرواية الضعيفة الدالة عليه إذا كانت
مروية من طرقنا حيث لا نعلم باستناد الشهرة إلى غيرها لو علمنا به
لكن لم يكن ذلك للاعراض عنها بل لعدم العثور عليها نظرا إلى
حصول الوثوق حينئذ بصحة صدورها لا سيما إذا تمسك بها جماعة
وخصوصا إذا كانت قوية باعتبار السند وقد حققنا آنفا وفي
مبحث الاخبار [السنة] حجية الاخبار الموثوق بصحتها وإن كان
لامارة خارجة وأما إذا كانت الرواية عامية مروية من طرق مخالفينا
فالظاهر عدم انجبارها بالشهرة على الحكم لان القول بحجيتها يؤدي
إلى القول بوجوب المراجعة إلى كتب أخبار المخالفين في مثل
ذلك كوجوبها إلى كتب أصحابنا لوجوب بذل المجتهد وسعه في
الأدلة وفساده ظاهر من الطريقة المعروفة بين أصحابنا ولو اعتضد
في بعض الرواية بالشهرة اقتصر على موضع الانجبار لأنه صدق
الراوي في بعض ما يرويه لا يوجبه في غيره وكذا لو اعتضد بعض
المدلول فيقتصر على موضع الانجبار لجواز أن يكون النقل بالمعنى و
اعلم أن الشهرة الغير الكاشفة قد تنعقد على الحكم ودليله وقد
تنعقد على الحكم دون دليله وقد تنعقد على الدليل دون الحكم وقد
عرفت مما حققنا أن النوع الأول حجة وأن الثاني ليس بحجة لكنه
صالح لجبر الاخبار الضعيفة المروية من طرقنا وأما النوع الثالث فإما أن
ينعقد فيه الشهرة على خلاف حكم الدليل أو لا أما الثاني فلا
إشكال في بقاء الدليل فيه على حجيته ما لم يعارضه معارض وأما
الأول فالحق أنه لا يسقط الدليل المخالف للمشهور فيه عن الحجية ما
لم يستكشف
254

بالشهرة عن وجود خلل خفي فيه أو تنعقد على معارض معين وكونه
أقوى وقد يوجد في كلام بعض المعاصرين من أن الشهرة يتقوى
بكثرة الاخبار التي تخالفها وأنه كلما كانت الاخبار التي تخالفها أكثر و
أشهر كانت الشهرة أقوى لا سيما إذا كانت الاخبار صحيحة
صريحة وخصوصا إذا لم يكن على المشهور دليل ظاهر أو كان عليه
دليل ضعيف وهذا على إطلاقه غير جيد لان مجرد وجود المعارض
عندهم أو كونه أقوى لا يوجب كونه كذلك عندنا واعلم أن الشهرة
تنقسم إلى محصلة ومنقولة فالمحصلة هي الشهرة التي علم بها
بالتتبع في كتب الأصحاب أو بنقل من يحصل القطع بنقلهم إما
لكثرتهم أو لمساعدة أمارات خارجة والمنقولة هي التي تصدى لنقلها
من
لا يحصل القطع بنقله وثبوتها بالطريق الأول ليس موضع خفاء وأما
بالطريق الثاني فموضع كلام والتحقيق أنه إن أمكن الاطلاع عليها
بالطريق الأول لم يجز التعويل على الثاني للأصل ولعدم حصول
الاستفراغ التام المعتبر في الاجتهاد حينئذ وإلا جاز مع حصول
الوثوق بنقله تعويلا على الظاهر من نقل الثقة فإن قلت لا تصنيف
لكثير من أصحابنا وكثير من أصحاب التصنيف قد اضمحلت
مصنفاتهم
واندرست كتبهم فليس من يطلع على قوله من الأصحاب إلا البعض
فكيف يمكن الوقوف على الشهرة والعلم بها مع الجهل بقول
الآخرين وأيضا تدوين الفتاوى لم تكن متداولة بين قدماء أصحابنا و
إنما كان طريقتهم الجمود على تدوين الاخبار غالبا كما نبه عليه
بعضهم فكيف يمكن الاطلاع على مذاهبهم وآرائهم قلت أساطير
الأصحاب ورؤساؤهم المعروفون أولو مصنفات معروفة وكتب
مشهورة وقد تقاربت أزمانهم وأعصارهم والغالب وقوفهم على
مذهب معاصريهم ومن قرب إلى عصرهم وتصديقهم لنقل أقوالهم و
لو بطريق الاجمال وعدم تعيين القائل فمع عدم نقل الخلاف إلا عن
قليل مما يستكشف به غالبا من عدم مخالف يعتد به سواهم وأما
قدماء أصحابنا فيعرف مذاهبهم غالبا بكتب الاخبار التي دونها للعمل
أو بالنقل أو بمساعدة أمارات خارجية يقف عليها المتتبع على أنه
لا يبعد أن يقال إن الشهرة المفيدة للظن وهي التي يناط بها الاحكام
السابقة هي الشهرة بين
من وقف على قوله من أصحابنا الذين تداولت كتبهم ونقلت آراؤهم
دون غيرهم ممن يتعذر الوصول إلى معرفة قوله غالبا واعلم أيضا
أنه قد تتعارض الشهرة بين المتقدمين والشهرة بين المتأخرين فيمكن
ترجيح شهرة المتقدمين لكونهم أقرب إلى زمن المعصوم وأطلع
على الاخبار والآثار وترجيح شهرة المتأخرين لكونهم أدق نظرا و
أعرف بوجوه الاستنباط وقد قيل رب حامل فقه إلى من هو أفقه
منه ويحتمل عدم الاعتداد بخصوصية إحداهما والرجوع إلى ما هو
المشهور بين الكل على تقدير تحققه ولو قيل بالرجوع إلى ما
يكون والظن معه أقوى وإن ذلك يختلف باختلاف الموارد كان قويا
هذا كله في الشهرة في الفتوى وأما الشهرة في الرواية فالحق
أنها تنهض بجبر الرواية الضعيفة وإن لم يساعدها الشهرة في الفتوى و
يتحقق بتكرر موضع الضعف من السند بحيث يحصل معه
الاعتماد بصدق الخبر ويختلف ذلك باختلاف مراتب الضعف ولو
تحقق الضعف في جميع رجال السند اعتبر التكرر في الجميع وأما
اشتهار نقل الرواية في كتب المحدثين فلا يخلو من نوع تأييد لكن لا
يبلغ بمجرده درجة الحجية
فصل ينقسم الاجماع إلى بسيط ومركب
فالاجماع البسيط هو الاجماع المنعقد على حكم واحد ولو تعددت
الاحكام وانعقد الاجماع على كل واحد منها فإجماعات بسيطة و
يقابله المركب وهو الاجماع المنعقد على حكمين أو أحكام مع عدم
انعقاده على كل واحد سواء كان في موضوع واحد كاستحباب الجهر
في ظهر الجمعة وحرمته حيث افترق الأصحاب فيه فرقتين فالقول
بوجوبه مثلا خرق للاجماع المركب أو في موضوعين فما زاد
كتبديل الركعتين من جلوس بركعة من قيام في الشك بين الثنتين و
الثلاث وبين الثلاث والأربع فإن من قال بجواز تبديلهما بها قال
به في المقامين ومن منع منه في المقامين فالقول بجوازه في أحدهما
دون الاخر خرق للاجماع المركب ويسمى هذا النوع بعدم القول
بالفصل أيضا وهو أعم من الاجماع المركب من وجه لجواز الاتفاق
على عدم الفرق بين حكم موضوعين فصاعدا مثلا من غير أن يستقر
الآراء على التعيين مطلقا على مذهب العامة أو في الظاهر مع القطع
بدخول المعصوم عليه السلام مع احتمال وجود مانع في حقه كالتقية
بناء على مذهبنا أو لعدم علمنا مما استقرت عليه الآراء عند الفريقين
والأظهر أن يخص الاجماع المركب بما يتحد فيه مورد الأقوال و
يجعل لما يتعدد فيه المورد عنوان عدم القول بالفصل لئلا يلزم التكرار
في بيان أقوال المسألتين وذكر أحكامهما إذا تحقق عندك هذا
فلا بد لنا هنا من تحقيق مقامات الأول لا يجوز عندنا مخالفة الاجماع
البسيط على طريقتنا حيث يكون كاشفا عن قول المعصوم الواقعي
مطلقا ووجهه واضح وأما ما كشف عن قوله الظاهري فيجوز مخالفته
مع قيام دليل على خلافه كما لو استكشف بالاتفاق عن حكم
الامام بطهارة المخالفين في الجملة فإنه يجوز مخالفته عند قيام دليل
كاشف عن كونه حكما ظاهريا منوطا بالتقية وكذا لو استكشف
بالاجماع عن تأصيله لأصل عام على وجه يقبل [يفيد] التخصيص
عند قيام دليل عليه ولو علم إجمالا بورود الحكم منه مورد
التقية ولم يظفر بدليل يدل على تعيين المخالف ففي جواز الاخذ به و
عدمه وجهان أظهرهما الأخير نعم لو علم أن المنظور فيه مراعاة
مصلحة في المكلفين وعلم ببقائها في حقنا وجب الاخذ به وفي
صورة الظن بهما أو بأحدهما مع العلم بالآخر وجهان وقريب منها
صورة الشك ولا يذهب عليك أن هذا التفصيل لا ينافي ما قررناه
سابقا من حجية الاجماع مطلقا لان الملحوظ هناك إنما هو الاجماع
من
حيث نفسه كقولنا بحجية قول المعصوم فإن الملحوظ فيه نفس القول
ولو فسرنا القول بالرأي الواقعي أو ما لم ينكشف مخالفته للواقع
دون ما أبداه في الظاهر مطلقا كما هو الظاهر زال الاشكال بالنسبة إلى
بعض الموارد المتقدمة الثاني إذا
255

الاجماع على قولين أو أقوال في موضوع لا يجوز إحداث قول آخر فيه
بلا خلاف يعرف فيه بين أصحابنا وعليه أكثر مخالفينا وخالف
فيه [في ذلك] بعضهم فذهب إلى جوازه لنا أنه إذا علم بدخول قول
المعصوم بين القولين أو الأقوال أو بموافقته لأحدهما كان القول
الاخر مخالفا لقوله قطعا فيكون معلوم البطلان فلا يجوز المصير إليه و
لا يذهب عليك أن هذا إنما يتم إذا كان الاجماع كاشفا عن
الحكم الواقعي وإلا اتجه فيه التفصيل المتقدم وينبغي أن يستثنى من
ذلك ما إذا أدى دليل الاحتياط إلى إحداث قول ثالث فإنه يجوز
إحداثه وإن كان الاجماع المنعقد في ذلك المقام كاشفا عن الحكم
الواقعي كما لو انعقد الاجماع المركب على إباحة شئ أو حرمته أو
إباحته ووجوبه فإنه يجوز الحكم في الأول بالكراهة ظاهرا وفي الثاني
بالاستصحاب للاحتياط مع القطع بمخالفته للحكم الواقعي و
احتج موافقونا من مخالفينا بعموم أدلة الاجماع وهو على عمومه
ممنوع إذ من أدلتهم الاجماع على القطع بتخطئة المخالف وهو في
المقام غير واضح لتحقق الخلاف فيه بينهم وعدم وضوح قطع
الموافق ومنها الاخبار وهي مختلفة المفاد فمنها ما يساعد على
التعميم و
هي رواية لا تجتمع أمتي على الخطأ بناء على حمل اللام على
الجنس كما هو الظاهر ومنها ما لا دلالة عليه وهي رواية لا تجتمع
أمتي
على خطأ فإن النكرة ظاهرة في الفرد الواحد وأما الآيات فهي صالحة
للتعميم كما لا يخفى احتج المجوزون بأن اختلافهم يقتضي أن
يكون المسألة اجتهادية وأنه يسوغ العمل فيها بمؤدى الاجتهاد فلا
يدل على المنع فيه والجواب أما أولا فبالنقض بالمسائل التي انعقد
الاجماع فيها بعد الخلاف مع جريان ما ذكر فيه وأما ثانيا فبالحل وهو
أن اختلافهم إنما يدل على جواز العمل بمؤدى الاجتهاد هنا في
موضع الخلاف أعني في تعيين أحد القولين أو الأقوال لا في غيره إذ لا
خلاف لهم فيه كما أن الاختلاف في النقض المذكور إنما يدل على
جواز الاخذ بمؤدى الاجتهاد ما دام الخلاف باقيا لا مطلقا كما سيأتي
التنبيه عليه وبالجملة فمفاد الاختلاف في المقامين جواز الاخذ
بمؤدى اجتهاد خاص فيقتصر فيه على مورده لا
مطلق الاجتهاد كما هو مبنى الاحتجاج الثالث إذا لم يفصل الأمة بين
الحكمين أو أحكام في موضوع واحد أو أكثر ولم تفصل بين
موضوع أو موضوعات في حكم واحد فهل يجوز لنا التفصيل في ذلك
أقوال مثال ذلك أن كل من قال بنجاسة خر الطائر الغير المأكول
قال بوجوب التجنب عنه في الصلاة وكل من قال بطهارته قال بعدم
وجوب التجنب عنه فيها فالقول بطهارته ووجوب التجنب عنه في
الصلاة قول بالفصل أو كل من قال بانفعال القليل قال بحرمة الغناء و
كل من قال بعدمه قال بعدمها فالقول بانفعاله وعدم تحريمها أو
بالعكس قول بالفصل وقد مر التمثيل بكيفية الاحتياط في الشك
فذهب بعض أصحابنا إلى المنع مطلقا ولعله المعروف بينهم وذهب
بعض الجمهور إلى الجواز مطلقا وفصل العلامة في النهاية على ما
حكي عنه فمنع من إحداث القول الثالث في المسألة مع نصهم على
عدم
الفصل وإلا جاز ويظهر من تهذيبه تفصيل آخر وهو الفرق بين ما إذا
نصوا على عدم الفصل أو اتحد الطريق وبين غيره فمنع في
الأول وذهب إلى الجواز في الثاني والتحقيق أنه إن قام دليل من
إجماع أو غيره على المنع من التفصيل مطلقا ولو بحسب الظاهر أو
قام على أحد القولين أو الأقوال ما يكون حجيته باعتبار إفادة الواقع لم
يجز التفصيل وإلا جاز لنا على المنع في الصورة الأولى أما في
القسم الأول منها فلانه إذا قام دليل معتبر على المنع من التفصيل ولو
عند عدم قيام دليل على أحد القولين أو الأقوال أو الجميع كان
التفصيل معلوم البطلان ظاهرا أو واقعا فلا سبيل إلى المصير إليه وهذا
واضح وأما في القسم الثاني فلانه إذا كان الدليل موافقا للواقع
ومعتبرا من حيث إفادته إياه كخبر الواحد عند عدم المعارض
المكافئ كانت دلالته على أحدهما مستلزمة لدلالته على الاخر ولو
بمعونة العلم بدخول المعصوم عليه السلام في المجمعين فيكون
إثبات الحكم الاخر به من قبيل إثبات اللوازم العقلية لمدلول الخبر أو
لوازمه الشرعية أو العرفية به إذ لا فرق بين أن يكون اللزوم مستندا إلى
نفس المدلول أو إليه بضميمة مقدمة خارجية
كما في تنقيح المناط المتفرع على دليل ظني ويمكن المناقشة في
المقامين حيث يثبت الملازمة بواسطة مقدمة عقلية بالمنع ويستند
فيه
بمسألة القبلة والوقت فإنا قد نعول على الظن في معرفة القبلة ولا
نعول على القبلة المظنونة في معرفة الوقت مع جريان الملازمة
المذكورة فيه وجوابه أن مسامحة الشارع في معرفة بعض الشرائط لا
توجب مسامحته في معرفة غيره لجواز مزيد اعتناء به بخلاف
المقام فإن الدليل المثبت لاحد شطري الاجماع صالح لاثبات شطره
الاخر ومثله الكلام في تنقيح المناط إلا أنه قد لا يصلح كما لو
عارضه ما هو أقوى منه ولنا على الجواز في الصورة الثانية عدم قيام
دليل صالح للمنع فيجب اتباع ما يقتضيه الأدلة التي مفادها الظاهر
وإن أدى إلى القول بالتفصيل وخرق الاجماع ولا يقدح العلم
الاجمالي ببطلان أحد القولين بحسب الواقع لان ذلك لا ينافي
صحتهما
بحسب الظاهر كما يكشف عنه ثبوت نظائره في الفقه في موارد كثيرة
كقولنا بصحة الوضوء بالماء القليل الذي لاقى أحد الثوبين
المشتبه طاهرهما بالمتنجس وبطلان الصلاة فيه مع أن هذا التفصيل
باطل بحسب الواقع قطعا لان الثوب الملاقى إن كان نجسا بطل
الوضوء والصلاة معا وإن كان طاهرا صحا معا وكقولنا فيما لو ادعى
الزوجية أحد الزوجين وأنكر الاخر بأنه يلزم المدعي بما عليه
من الحقوق والاحكام دون ما له فيلزم فيما إذا كان زوجا بالمهر ويمنع
من نكاح أختها وأمها وبنت أخيها وأختها بدون رضاها و
الخامسة وفيما إذا كانت زوجة تمنع عن التزويج بغيره ما لم يحصل ما
يوجب البينونة على تقدير الزوجية فتمنع حينئذ عن التزويج
بابن المنكر وأبيه إلى غير ذلك من الاحكام وبالجملة يعامل المقر
منهما على مقتضى أصل الاقرار ويعامل المنكر منهما على مقتضى
أصل العدم مع
256

وضوح التدافع بين الأصلين بالنسبة إلى الواقع إلى غير ذلك مما لا
حصر له وهذا عند التحقيق من قبيل مسألة واجدي المني في الثوب
المشترك حيث يحكم عليهما بالطهارة لا من قبيل مسألة الإناءين
المشتبه طاهرهما بالنجس حيث يحكم فيهما بوجوب التجنب لليقين
الاجمالي وسيتضح وجهه مما تحققه في ذيل مبحث الاستصحاب إن
شاء الله تعالى احتج المجوزون أولا بما تقدم في المقام السابق من
أن قضية اختلافهم في المسألة جواز العمل فيها بمؤدى الاجتهاد
مطلقا وقد عرفت الجواب عنه وثانيا بأن الصحابة قالوا للام ثلث
الباقي
فيما إذا مات الزوج وخلف معها أبا وزوجة أو ماتت الزوجة وخلفت
معها أبا وزوجا وقال ابن عباس لها ثلث الأصل في المقامين ثم
أحدث ابن سيرين قولا ثالثا فقال لها ثلث الأصل في مسألة الزوج و
ثلث الباقي في مسألة الزوجة وأحدث تابعي قولا رابعا فعكس الحكم
ولو لم يجز ذلك لم يقع ولأنكروا عليهم والجواب أن المسألة
المبحوث عنها لما كانت خلافية لم يكن في مخالفتهم وعدم إنكار
غيرهم
عليهم دليل على صحة مقالتهم كما في سائر المسائل الخلافية وثالثا
بأن التفصيل لا يشتمل على مخالفة إجماع فإن قولنا بجواز الفسخ
ببعض العيوب الخمسة دون بعض بعد الاتفاق على أنه يفسخ بكل
واحد منها أو لا يفسخ بشئ منها موافقة لكل في شئ وقضية الأصل
جواز ذلك واعترض عليه بأن من قال بالايجاب الكلي قال ببطلان
السلب الجزئي ومن قال بالسلب الكلي قال ببطلان الايجاب الجزئي
فالفريقان متفقان على بطلان المركب منهما ورد أولا بأنه لا صراحة
في القول بالايجاب أو السلب الكليين على بطلان ما يقابله من
الجزئيين وإنما دلالته عليه بالالتزام وضعفه ظاهر إذ لا يعتبر في
حجية الاجماع كونه مصرحا به بدلالة المطابقة بل يكفي مجرد ثبوته
فإن انعقاده على القولين مثلا يقتضي أن يكون أحدهما حقا وذلك
يستلزم بطلان المركب لا محالة وثانيا بأنه لا تركيب هنا حقيقة فإن
كلا من الجزأين مسألة برأسها اتفق للمفصل القول بهما من غير أن
يعتبرهما بشرط التركيب وضعفه أيضا ظاهر لان ما ذكره المانع
من التفصيل لا يبتني على تقدير أن يكون بينهما
تركيب حقيقي بل يكفي التركيب الاعتباري فلا ينافي أن يكون كل
منهما مسألة برأسها وثالثا بأن بطلان أحد الجزأين إنما يستلزم
بطلان المركب من حيث كونه مركبا ولا يقتضي بطلان جميع أجزائه و
ضعفه أيضا ظاهر لأنه إذا بطل أحد الجزأين فقد بطل القول
بالتفصيل وهل هذا إلا ما عناه المانع بل التحقيق في الجواب يعرف
مما أوردناه في تحقيق المذهب المختار ولعل مستند العلامة على
تفصيله في النهاية هو أنهم إذا لم ينصوا على بطلان القول الثالث لم
ينعقد إجماع على بطلانه بخلاف ما إذا نصوا عليه وضعفه ظاهر مما
مر وحجته على ما فصله في تهذيبه أما على المنع فيما لو نصوا على
عدم الفرق فبما مر وفيما لو اتحد طريق المسألتين اتحاد الطريق
المقتضي لثبوت الحكم في المقامين ويشكل هذا على ظاهره بأن
طريق المسألتين إذا كان عاما قابلا للتخصيص أو مطلقا قابلا للتقييد
أو نحو ذلك فلا يلزم من الالتزام به في إحدى المسألتين أن يلتزم به في
الأخرى لجواز أن يعارضه فيها ما يوجب سقوطه عن درجة
الاعتبار اللهم إلا أن يجعل ذلك قادحا في اتحاد الدليل وأما على
الجواز فيما عدا ذلك فانتفاء الاجماع ولزوم أن لا يجوز لمن قلد
مجتهدا في أحد الحكمين أن يقلد آخر في الاخر وأنه باطل بالاتفاق و
يمكن أن يقرر هذا ببيان آخر وهو أنه لو لم يجز ذلك لوجب على
من وافق مجتهدا في حكم تفرد به أن يوافقه في جميع الأحكام و
التالي باطل لما مر بيان الملازمة أن الاحكام الاخر إن وافقه الآخرون
فيها فقد وافق الأول وإلا وجب عليه الرجوع إلى الأول لئلا يلزم خرق
الاجماع المركب ويمكن الجواب عن هذا بأن المقلد ليس في
وسعه الوقوف على موارد الاجماع غالبا وإلزامه بالتقليد في ذلك
يؤدي إلى الحرج والضيق المنفيين عن الشريعة السمحة لكثرة
المسائل المحتاج إليها وتعيين تقليد مجتهد واحد عليه إلا فيما علم
عدم خرق الاجماع بتقليد غيره فيه باطل بالاتفاق كما مر وحينئذ
فعدم الاعتداد به في حق المقلد لا يوجب الاعتداد به في حق
المجتهد ويمكن أن يقال الاحكام الثابتة بالتقليد أحكام ظاهرية
فلا حرج في الجمع بين جملة يقطع بمخالفة بعضها للواقع كما عرفت
نظيره في الاخذ بمقتضى الأصول المتنافية
فصل إذا اتفقت الأمة على قولين
مثلا ولم يقم هناك ما يقتضي التعيين سواء لم يكن هناك دليل أصلا أو
كان ولكن لم يسلم من المعارض تخير المجتهد في العمل بأيهما
شاء وفاقا للشيخ وجماعة وقيل يسقطهما ويرجع إلى حكم الأصل
من إباحة أو حظر على اختلاف القولين وربما كان الأوجه على هذا
القول التماس دليل يقتضي تعيين ما عداهما ويرجع [والرجوع] بعد
انتفائه إلى حكم العقل وكيف كان فهو مدفوع بما ذكره الشيخ من
أن ذلك يوجب طرح قول الإمام فيكون خطأ قطعا نعم ينبغي تنزيله
على بعض صور الاجماع كما يعرف مما مر وأورد عليه المحقق بأن
التخيير أيضا خارج عما اتفقت عليه الأمة فالبناء عليه أيضا يوجب
طرح قول الإمام وارتضاه في المعالم بعد ما حكاه وضعفه ظاهر لان
التخيير في الفتوى لا ينافي التعيين في الحكم المفتى به كما هو مفاد
الاجماع بل هو طريق إلى تحصيله كما في التخيير في العمل بأحد
الخبرين المتكافئين وقس على ذلك الحال في الاجماع المركب من
مسألتين إذا قام على أحد شطري إحداهما دليل وعلى الاخر من
الأخرى وتكافئا أو تجردت المسألتان عن الدليل يجوز الاجماع بعد
الخلاف وقبل استقراره قولا واحدا وبعد استقراره عند أصحابنا
وعليه محققو مخالفينا ولا فرق في ذلك بين الاجماع البسيط و
المركب ووجه الجواز ظاهر وهو أن أحد المتخاصمين ربما يظفر بما
يقتضي عنده فساد مقالته وصحة مقالة خصمه فيرجع إلى قوله و
احتج المانعون أولا بقوله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله و
الرسول يعني الكتاب والسنة والاجماع غيرهما وجوابه أما على
طريقتنا فواضح لان الرد إلى الاجماع رد إلى
257

المعصوم وهو رد إلى الله ورسوله وأما على طريقة مخالفينا فبأن
حجية الاجماع لما ثبت بالكتاب والسنة على ما زعموه كان الرد
إليه ردا إليهما لو أن المراد ما دمتم متنازعين والتحقيق أن المتنازعين
ليس لهم التمسك بالاجماع إلا بعد الرد ولو في أول الامر وهو
كاف في العمل بمقتضى الآية إذ الامر لا يفيد الدوام وأما من عداهم
فلم يندرجوا في عنوان المتنازعين حتى يجب عليهم الرد فيجوز لهم
التمسك بالاجماع مضافا إلى أن الظاهر من النزاع في شئ هو النزاع
في الدعاوي المالية وشبهها وأن الرد بمعنى التحاكم والترافع
كما مر التنبيه عليه وثانيا بأن المتنازعين عند التنازع أجمعوا على عدم
تعيين أحد الأقوال فلو أجمعوا على أحدها كان ذلك منهم إجماعا
على تعيين ما أجمعوا على عدم تعيينه وذلك يوجب تعارض
الاجماعين وحيث إنه لا يتطرق إليه النسخ يتعين أن يكون أحدهما
باطلا و
هو خلاف المذهب وجوابه أما أولا فبالنقض بما قبل زمن استقرار
الخلاف وقبل النظر والاجتهاد مع جريان ما ذكر فيه وأما ثانيا
فبالحل وهو أن إجماعهم أولا على التخيير مبني على الظاهر
كإجماعهم على جواز التعويل على أصل الحل والجواز حيث لا دليل
فهو
اتفاق على ثبوت حكم ظاهري عند عدم إمكان الوقوف على الواقع و
الاحكام الظاهرية يرتفع عند قيام دليل على رفعها ولا يذهب
عليك أن الوجهين المذكورين لو تما لدلا على عدم الجواز قبل
استقرار الخلاف أيضا وكأنهم لم يلتزموا به محافظة على مذهبهم فإن
الاجماع على خلافه الأول إنما انعقد بعد الخلاف إلا أنه في زعمهم لم
يكن مستقرا ثم عدم الجواز هنا لعله بمعنى عدم الامكان وإلا فلا
معنى لتحريم القول بالحق بعد انكشافه وإلى هذا يرجع ما قيل من أن
التخيير مشروط بعدم الاتفاق فينعدم عند عدم شرطه
فصل لا كلام في حجية نقل الاجماع بالخبر المتواتر
إن كان المنقول اتفاق جماعة أحدهم المعصوم أو نقل به الاتفاق
الكاشف عند المخبر وإن لم يكن كاشفا عند المخبرين وأما إذا كان
كاشفا عندهم فقط فحجيته مبنية على حجية الاجماع المنقول بخبر
الآحاد لان التظافر في العقليات بمجرده لا يوجب القطع ما لم ينضم
إليه شواهد خارجية وفي حكم نقله بطريق التواتر نقله بطريق الآحاد
مع انضمامه بقرائن العلم وأما الاجماع المنقول بخبر الواحد
المجرد عن قرائن العلم ففي حجيته خلاف والظاهر أن هذا النزاع غير
متوجه على القول بعدم حجية خبر الواحد كما في السنة كما صرح
به بعضهم فأصحاب هذا القول لا يختلفون في عدم حجيته وأما ما
يقال من أن طريقة هؤلاء التمسك بالاجماعات المنقولة في كتب من
قبلهم وإن لم تكن محصلة عندهم وإنهم كانوا يقدمونها على العمل
بظاهر الكتاب فيشبه أن يكون رجما بالغيب مع وضوح ما يتطرق
إليه من الريب كما لا يخفى على من وقف على حجيتهم على المنع
على أن نقل قول المعصوم المستند إلى الحس أقرب إلى القبول من
نقل
قوله المستند إلى التتبع والحدس ولذا تراهم يشترطون في التواتر
استناد المخبرين إلى الحس نظرا إلى أن التظافر في غير الحسيات
لا يوجب القطع غالبا فمنعهم من حجية الأول يقتضي المنع من حجية
الثاني بطريق أولى مضافا إلى أن نقل الاجماع لو كان عندهم من
الأدلة لتعرضوا لذكره في الكتب الأصولية ولنبهوا عليه في كتب الفقه
ومما ينبه على ذلك أن السيد بعد أن منع من حجية الخبر الواحد
بين وجه الاستغناء عنه في معرفة الاحكام فذكر لها طرقا ولم يذكر من
جملتها نقل الاجماع ولو كان ذلك عنده من جملة الطرق لذكره
واستراح به لعظم فوائده وكثرة موارده فاتضح أن النزاع في المسألة
مقصور على القول بحجية خبر الواحد ثم الذي يظهر أن
المتقدمين على المحقق لم يتعرضوا لهذه المسألة لا عموما ولا
خصوصا وأما المحقق فهو إن لم يتعرض لهذه المسألة
أيضا بعنوان كلي لكن منع من حجية جملة من الاجماعات المحكية
كالاجماع الذي حكاه السيد على دلالة الامر على الفور والاجماع
الذي
حكاه بعض القائلين بتضييق قضاء الفريضة عليه فرد عليهم بأن
الاجماع غير ثابت وأنه حجة في حق من علمه ومثله ما ذكره في رد
قول
الشيخ بجواز العمل بخبر الثقة الغير الامامي محتجا عليه بعمل الطائفة
ولم يعلم منه الاستناد إلى الاجماع المنقول في مقام فيظهر من
ذلك مصيره إلى عدم الحجية مطلقا وذهب العلامة في تهذيبه إلى
حجيته واختاره في نهايته لكن تردد فيها بعد ذلك على ما يظهر من
آخر كلامه واشتهر القول بحجية بين من تأخر عنه إلا أن طريقتهم في
الفقه جارية غالبا على عدم الاعتداد به وعدم ذكره في طي الأدلة
ورده بمنع ثبوته وعدم تحققه وقل ما تمسكوا به وركنوا إليه مع ما
نرى من وفور نقله وكثرة حكايته يعرف ذلك بالتتبع في كتبهم
ومصنفاتهم ومبنى ذلك إما على اختلاف آرائهم في حجيته بحسب
موارد المنع والقبول أو على قبول حجيته باعتبار نقل الكاشف دون
المنكشف فمنعهم له في موارده ناظر إلى المنع من حصول الانكشاف
لهم أو أنهم إنما يقولون بحجيته حيث لا يوجد له معارض أو ما
يوجب الوهن فيه فحيث منعوا قد صادفوا فيه موهنا أو معارضا وإن لم
يصرحوا به أو أنهم إنما يقولون بحجيته حيث يكون وثوق بصحة
النقل بأن كون المدعى المقام فيه الاجماع من مظانه وذلك بعد
الفحص والاطلاع على اتفاق الكل أو ما يقرب إليه إذ لا يقدح ندرة
المخالف لا سيما مع عدم معروفيته بناء على اعتبار الكشف أو مع
معروفيته بناء على دخول المعصوم عليه السلام والوجهان الأولان في
غاية البعد والأخيران مع تقاربهما قريبان والأول أقرب بل يتعين
تنزيل كلامهم عليه لان ذلك قضية إطلاقهم القول بحجيته إذا عرفت
هذا فالمختار عندي ما ذهب إليه القائلون بالاثبات لنا أن ناقل الاجماع
ناقل لقول المعصوم ولو بالالتزام فما دل على جواز التعويل
على نقل الآحاد في السنة يدل على جواز التعويل عليه في الاجماع
أيضا بيان ذلك أنا إن عولنا في حجية
خبر الواحد في السنة على قاعدة انسداد باب العلم مع العلم ببقاء
التكليف فهي على ما حققناه يقتضي جواز التعويل على الظن في
الأدلة و
لا ريب أن نقل الاجماع مما يظن حجيته لمصير أكثر من أصحابنا
المتعرضين له إليه ولا يقدح عدم تعرض الأوائل له لامكان ذهولهم
عنه كذهولهم عن غيره مما لم يتنبه له إلا المتأخرون فإن العلم يتكامل
بتلاحق الأفكار وتوارد الأنظار مع أن
258

الاعتداد به قليلة كما سننبه عليه فربما تسامحوا لذلك في التنبه عليه
والإشارة إليه وكذا لا يقدح رد القائلين بحجيته له في أكثر
الموارد لان ذلك ليس لعدم حجيته عندهم في نفسه بل لعدم
استجماعه لشرائط القبول كما سننبه عليه ومما يؤكد الظن بحجيته أنه
في
معنى الرواية فيكون بحكمها في الحجية ولا يقدح كونها مستندة إلى
الحدس ووقوع الخطأ والاشتباه في الحدسيات غالبا دون
الحسيات لان الكلام في النقل الذي تجرد عن أمارات الوهن ولا ريب
أنه مع هذا القيد وإن قل حصوله لا يقصر عن بعض أنواع الرواية
المعتبرة بل ربما يزيد عليها وإن كانت الرواية المعتبرة أقرب إلى
الاعتماد والاعتداد غالبا من نقل مطلق الاجماع ومنشأ الوهم
مقايسة أحد النوعين إلى الاخر والذهول عن حال الأصناف والافراد
ومما يحقق ذلك عدم الفرق بين نوعي القطع في باب الشهادة
فيعول على شهادة من يستند قطعه إلى الحدس كما يعول على شهادة
من يستند قطعه إلى الحس والقول باشتراط المشاهدة في
الشهادة غير واضح وليس في لفظ الشهادة شهادة عليه لغلبة إطلاقها
على المجردة منها كما في الشهادتين وغيرهما وكذا الحال في
إخبار الوكيل وإخبار ذي اليد فإنه يجوز التعويل على إخبارهم وإن
علم استناد علمهم إلى الحدس وكذلك إخبار العدل عن فتوى
المفتي فإن علمه بها كما قد يستند إلى الحس كذلك قد يستند إلى
الحدس بملاحظة قول أتباعه أو عملهم أو لوقوفه على طريقته في
الفقه أو ما أشبه ذلك وهذا في الحقيقة في حق المقلد كنقل الاجماع
في حق المجتهد مع أن الاستناد في الرواية كما يكون إلى الحس
كذلك قد يكون الحدس كما في المكاتبة والوجادة فبطل دعوى
اختصاصها بالنوع الأول ومن هنا يتضح وجه حجيته بناء على انسداد
باب العلم إلى تفاصيل بعض الأدلة فقط كخبر الواحد دون مجملات
الأدلة فإن نقل الاجماع داخل في الخبر الذي نعلم حجيته بالأدلة
المقررة في الجملة فإن المستفاد منها حجية نقل قول المعصوم و
حكايته في الجملة ويبقى معرفة التفاصيل ولا طريق علميا إليها
فيتعين التعويل على الظن الذي لا يعلم عدم جواز التعويل عليه بل و
لا يظن به أيضا ولا ريب أن الشهرة لا سيما إذا اعتضدت بالامارات
المذكورة مفيدة لذلك فيجب التعويل عليها وإن قلنا بأن قضية انسداد
باب العلم مع بقاء التكليف جواز التعويل
على الظن في الاحكام كما زعمه بعضهم فلا ريب أن نقل الاجماع
على الوجه الذي نعتبره مما يفيد الظن بالحكم فيجب التعويل عليه و
إن
عولنا على الآيات فمنها آية الانذار والتحذير عن الكتمان ولا ريب
في تناولهما للمقام فإن التفقه في الدين والاطلاع على الاحكام كما
يكون بطريق الحس كذلك يكون بطريق الحدس وقضية وجوب البيان
على الاطلاق وجوب القبول على الاطلاق إلا ما قام الدليل على
خلافه مضافا إلى ما في ذيل الآية الأولى من الامر بالحذر وهو في
معنى الامر بالقبول ومنها آية النبأ فهي وإن كانت عندنا غير
مساعدة على قبول خبر العادل إلا أن جماعة ذهبوا إلى دلالتها على
ذلك بالمفهوم وعلى تقديره يتناول المقام أيضا فإن ناقل الاجماع
منبئ عن قول المعصوم عليه السلام فيجب قبوله واعترض بأن النبأ و
ما يرادفه كالخبر إنما يطلق على نقل ما استند إدراكه إلى الحس
كالسماع والمشاهدة وبهذا فارق الفتوى فإنها عبارة عن نقل ما استند
إدراكه إلى الدليل والحجة وأما ما يقال من أن الخبر ما كان له
نسبة تطابقه أو لا تطابقه أو قول يحتمل الصدق والكذب أو نحو ذلك
فمبني على اصطلاح مستحدث لان المسائل المدونة في العلوم لا
تعد أنباء وأخبارا وضعفه ظاهر لأنه إن أريد أن النبأ لا يطلق إلا على
الأشياء التي من شأنها أن تدرك بالحس وإن أدركها المخبر
بطريق الحدس وشبهه فهذا مما لا ينافي المقصود فإن المخبر عنه هنا
قول المعصوم عليه السلام أو فعله أو تقريره وهو أمر من شأنه
أن يدرك بالحس وإن كان طريق الناقل إليه الحدس وإن أريد أنه لا
يطلق النبأ إلا على ما كان علم المخبر به بطريق الحس فواضح
الفساد للقطع بأن من أخبر عن إلهام أو وحي أو مزاولة بعض العلوم
كعلم النجوم يعد منبئا ومخبرا قال الله تعالى حكاية عن عيسى عليه
السلام وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ولا ريب أن
إخباره عليه السلام لم يكن عن حس ومثله قوله تعالى في غير موضع
فينبئكم بما كنتم تعملون فإن علمه تعالى ليس عن حس وقوله تعالى
نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم فإن كونه تعالى هو الغفور
الرحيم ليس أمرا حسيا وقوله تعالى نبئوني بعلم إن كنتم صادقين بعد
قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فإن
التحريم ليس أمرا حسيا إلى غير ذلك وكذا الكلام فيما دل على حجية
خبر الواحد من الاخبار لما عرفت من شمول الخبر ومرادفاته لنقل
الاجماع وإن كان المستند وجوب التمسك بالعترة عليه عليهم
السلام الصادق على التمسك بالاخبار المأثورة عنهم عند تعذر
الوصول إليهم فهذا مما يتساوى فيه الخبر المستند إلى الحس و
المستند
إلى الحدس ودعوى صدق التمسك على النوع الأول دون الثاني
مجازفة وقد يستدل على حجيته نقل الاجماع بأن الاجماع من
الحجج
الشرعية الثابتة في نفس الامر والواقع كالسنة المأثورة فحيث يتعذر
تحصيله بطريق العلم يتعين تحصيله بطريق الظن كما في السنة
لان ذلك قضية انسداد باب العلم ونقل الثقة العارف يفيده فيجب
التعويل عليه وفيه نظر لان انسداد باب العلم على ما حققنا في محله
إنما يوجب جواز التعويل على الظن في تعيين موضوع الأدلة لا في
إثبات مصاديقها ما لم يرجع إلى الظن في الموضوع والظن بحصول
الاجماع بنقل الثقة كالظن بقول الامام عند قول الراوي أظنه قال كذا و
شبهه مما لا شاهد على حجيته حجة المانع أمور [وجوه] الأول
الأصل وقد عرفت الجواب عنه حيث بينا ما يوجب الخروج عنه
الثاني أن التعويل على نقل الاجماع تقليد لناقله في مؤدى نظره و
اجتهاده فإن الاجتهاد قد يؤدي إلى القطع بالحكم فيصح أن يسنده
القاطع إلى كل من يقطع بحقية علمه في ذلك من الامام وغيره ومنه
ينفتح باب الاجماع فالتعويل على نقله راجع عند التحقيق إلى التعويل
على فتوى الناقل وهذا مخالف لما تقرر عندهم من عدم جواز
تقليد المجتهد مع التمكن من الاجتهاد وعدم جواز تقليد الأموات مع
التمكن من مراجعة الاحياء والجواب أن التعويل
259

على نقل الاجماع ليس من باب التقليد للناقل كيف وهو مبني على
التتبع وتحصيل الوثوق بصحة النقل والاطلاع على خلوه من
المعارض
وشئ من ذلك لا يعتبر في التقليد بل هو من قبيل التعويل على
الرواية فكما أن ذلك لا يعد تقليدا للراوي نظرا إلى إعمال الضوابط
الاجتهادية فيه فكذلك التعويل على نقل الاجماع ولو سلم أن مثل
ذلك يعد تقليدا فكلية الكبرى ممنوعة لثبوته في حق المجتهد في
بعض
المباحث كمباحث اللغة والجرح والتعديل فما المانع من ثبوته في
المقام أيضا الثالث أن الاجماع المحكية في كلام الأصحاب غير سالمة
عن وصمة الوهن القادح في جواز التعويل عليها على تقدير حجيتها و
هي أمور منها عدم اعتداد الأكثرين به كما هو الغالب إن لم يكن
مطردا في موارده فيكون على تقدير التنزل كالصحيح المهجور و
الجواب أن الطريقة المعروفة جارية على عدم ذكر الاجماع المنقول
في طي الأدلة كالاجماع المحصل ألا ترى أنهم كثيرا ما يقولون الحكم
كذا إجماعا لدليل كذا ولا يقولون ولدليل كذا فالاطلاع على عدم
اعتداد الأكثر بالنقل مع عدم مخالفتهم له في الحكم بعيد جدا ومنها
نقله عند وضوح الخلاف وكثرة المخالفين والجواب أن ذلك غير
مطرد في موارد نقل الاجماع ومع ذلك فقد لا يقدح حصوله في
الوثوق بالنقل عند اعتضاده ببعض الشواهد والامارات ومنها
معارضته
بنقل آخر الاجماع على خلافه والجواب أن ذلك مع اختصاصه
ببعض الموارد لا ينافي الحجية لوجوب الرجوع معه إلى المرجحات و
مع
التكافؤ فالتخيير كما في تعارض الروايات ومنها كثرة دعوى مدعيه
الاجماع في موضع الخلاف بحيث يرتفع الوثوق بدعواه والجواب
أن ذلك مع اختصاصه بالبعض لا يقدح في الاعتماد على نقله حيث
يعتد بأمارات الوثوق كغير الضابط فإنه قد يعول على روايته عند
اعتضادها ببعض الامارات ومنها مصير ناقله عند نقله أو بعده ولو في
كتاب آخر إلى خلافه فيكون بمنزلة الرجوع في الرواية و
الاعتراف بالخطإ في النقل على تقدير لحوقه بها والجواب أن ذلك مع
اختصاصه ببعض الموارد لا ينافي الحجية مع حصول الوثوق به
بمساعدة
بعض الامارات لجواز أن يكون الرجوع لشبهة أو غفلة كما في الرواية
إذا رواها الراوي وأفتى بخلافها فإن ذلك لا يوجب سقوط
الرواية عن درجة الاعتبار لجواز استناد المخالفة إلى اجتهاده وهو غير
معتبر في حقنا ومنها معارضته بأدلة قوية لا يسعه مقاومتها و
الجواب أن الكلام في حجيته في نفسه لا مع وجود معارض أقوى و
منها وقوع الشك في مقصود ناقله حيث نسب إليه أنه يعبر عن
المشهور بالمجمع عليه كما حكاه الشهيد عن بعضهم أو يكتفي
بمجرد عدم وجدان المخالف كما نقله صاحب المعالم عن بعض
الأصحاب
والجواب أن هذه الحكاية غير ثابتة والخروج عن ظاهر اللفظ بمجرد
النقل المذكور مع منافاته للضوابط غير واضح مع أن ذلك لا يعم
الجميع ومنها معارضته بظن آخرين أعرف منه بالفن وأقوى منه في
النظر والجواب أن ظن المخالفين معارض بظن الموافقين ولو
فرض قوة الأول فالكلام عند سلامته عن أمارات الوهن ومنها قرب
عهد الناقل أو معاصرته بحيث يقطع أو يظن بعدم وقوفه على أكثر
مما وقفنا عليه من الامارات الغير الموجبة للقطع في محل النقل و
الجواب أن الكلام في حجيته حيث يتجرد عن أمارات الوهن فعدم
حجيته في مثل ذلك لا ينافي المقصود ومنها نقله الاجماع بعبارة
يقتضي اتفاق الجميع مع وقوفنا على سبق المخالف وعدم ندرته و
الجواب أن الخطأ في دعوى اتفاق الجميع لا يستلزم الخطأ في حكاية
قول المعصوم عليه السلام إلا أن يعلم أن طريقته [طريقه] ذلك
فيعتريه الوهن لذلك وهو بعيد مع إمكان تنزيل كلامه على عدم
الاعتداد بالمخالف بعدم العلم بمخالفته للمعصوم على أن ذلك لا
يجري
إلا في بعض الموارد ومنها نقله الاجماع في موارد لا يكاد يمكن
القطع فيها بقول المعصوم عليه السلام إما لعدم تعرض السلف له مع
استبعاد وقوفه على دليل قاطع لم نقف عليه أو لعدم مساعدة المقام
عليه كعدم قبول الشهادة على الرضاع إلا مفصلة والجواب أن ذلك
لا يتجه إلا في موارد نادرة ولا يقدح فيما أوردناه من إثبات حجيته في
نفسه كما مر ومنها تعويل ناقله في الاستكشاف على طريق لا
تعويل عليه كمصيره إلى أن العبرة في الاجماع بدخول المعصوم عليه
السلام في المجمعين على وجه لا يعلم نسبه فإن هذا مما يقطع أو
يظن عادة بعدم وقوعه أو يكتفي في الاستكشاف بمصير واحد أو
جماعة إلى الحكم من غير مخالف أو من غير ظهوره فيقطع بموافقة
المعصوم عليه السلام وإلا لظهر وأظهر الخلاف كما يراه الشيخ و
جماعة وقد مر والجواب أن العلم والظن ببطلان الطريق لا يوجب
بطلان النقل نعم يوجب الوهن فيه فإذا اعتضد بأمارات توجب الظن
بصحة نقله اتجه التعويل عليه وبالجملة فنحن ندعي أن نقل الثقة
لقول الإمام عليه السلام في ضمن نقل الاجماع حجة من حيث نفسه
لكنه غالبا لا ينفك عن أمارات توجب الوهن فيه من جهة الطريق و
غيره ولا خفاء في أنها أمور خارجة عن أصل النقل لا تنافي حجيته في
نفسه فيعتبر في جواز التعويل على نقل الاجماع انتفاء الامارات
الموهنة فيه ولو بتحقق أمارات معاضدة لصحة نقله معارضة لتلك
الامارات القادحة فيه ولهذا ترى أن كثيرا من أصحابنا يقولون بحجية
الاجماع المنقول ولا يعولون عليه إلا في موارد قليلة نظرا إلى قلة ما
يتحقق فيه شرائط القبول هذا وربما أمكن أن يقال قد يرتفع و
عند التحقيق إنما يرتفع الوهن المذكور عن النقل إذا ظهر لنا من كلام
الناقل أو بالتتبع في موارد النقل أن الطريق المعتبر عندنا كان
حاصلا عند الناقل أيضا وإن لم ينبه عليه أو لم ينبه له فإن الاجماع
بالطريق الذي نعتبره مما كان حصوله ميسرا في حق السلف بل كان
أولى لقرب عهدهم وتكثر الامارات لديهم وإن قصر أنظارهم عن
تحريره وبيانه كما قد وقع نظيره في جملة من مباحث الألفاظ و
غيرها وبالجملة فهم قد وصلوا إلى هذا المعنى إجمالا وإن لم يصلوا
إليه تفصيلا ولا ريب في حجيته بالاعتبارين فإذا حصل لنا ظن
بالنظر إلى الامارات بتعويل الناقل على الطريق المذكور أيضا
260

ارتفع هذا الوهن وجاز التعويل على نقله وربما يكفي عدم الظن
بالخلاف عن مساعدة الامارات الخارجة على صحته فإن بطلان طريق
خاص بمجرده لا يوجب بطلان مؤداه مطلقا فتثبت في المقام فإنه من
مزال الاقدام وأما ما تفصى به بعض المعاصرين عن الاشكال
الأخير من أن طريق الشيخ لا ينحصر فيما ذكر فحيثما يدعي الاجماع
فالظاهر أنه يريد به معناه المعروف وهو الاتفاق الكاشف دون
المعنى الذي اصطلح عليه وإلا لنصب عليه قرينة لئلا يلزم التدليس
فبمكان من الضعف والسقوط لان معنى الاجماع لا يختلف باختلاف
الطرق الموصلة إليه حتى يلزم منه تعدد الاصطلاح فلا يريد الشيخ
بالاجماع حيث يدعيه إلا معناه المعروف أعني الاتفاق الكاشف وإن
كان مستند كشفه الطريق المذكور ولو سلم أن ذلك يوجب تعدد
الاصطلاح في الاجماع فبعد ما صرح الشيخ باصطلاحه لا سبيل إلى
تنزيل كلامه على مصطلح غيره ولزوم التدليس بعد التصريح به في
عدة مواضع من عدته ممنوع بل قد نقل عنه في التمهيد وموضعين
من العدة دعوى انحصار الوجه في حجية الاجماع والقطع بقول الامام
في الغيبة في الوجه الذي ذكره وأبطل سائر وجوه حجيته فإن
قيل إذا قال الثقة هذه المسألة إجماعية وجب تنزيله على المعنى
الصحيح بحسب الواقع ما لم يتبين لدينا خلافه ولا عبرة باحتماله وإن
ساعد عليه مذهب الناقل كما ينزل قول علماء الرجال في الجرح و
التعديل على ثبوت الوصف بحسب الواقع ما لم يتبين خلافه وإن
احتمل من حيث وقوع التشاجر في تعيين معنى العدالة والفسق وفي
طريق إثباتهما بل قد يعلم بأن مذهب المعدل أو الجارح مخالف و
مع ذلك يأخذ بظاهر تعديله أو جرحه وينزل على المعنى الواقعي
حملا لقول المسلم العدل على المعنى الصحيح بقدر الامكان قلنا
فرق
بين المقامين فإن نقل الاجماع راجع إلى حكاية الاعتقاد وتحصيل
ناقله القطع بقول المعصوم عليه السلام فحمله على المعنى الصحيح
إنما
يقتضي الحكم بثبوت ذلك الاعتقاد فيه بحسب الواقع ولا يقتضي
الحكم بثبوت متعلقه من كونه قول المعصوم عليه السلام بخلاف
الجرح
والتعديل فإن
مرجعه إلى نقل تحقق وصف في الراوي بحسب الواقع فحمله على
المعنى الصحيح إنما يقتضي الحكم بثبوته في الواقع وهذا كما ترى
بل
التحقيق في الجواب أن التعويل على نقل الاجماع منوط بحصول
الوثوق به أو بسلامته عما يوجب الوهن فيه فظاهر أن الأصل المذكور
بمجرده مما لا يوجبه وكذا الحال في جرح الراوي وتعديله كما نبهنا
عليه في محله واعلم أن القائل بحجية الاجماع المنقول من حيث
كونه نقلا لقول المعصوم ربما يلزمه القول بحجية مطلق قطعيات كل
مجتهد على آخر وإن لم يعبر عنها بالاجماع أو لم يكن طريق
قطعه الاتفاق إذا حصل الوثوق بإصابته في قطعه أو تجرد عن أمارات
الوهن لكن الوقوف على ذلك في كلام الأصحاب في غير ما عبر
عنه بلفظ الاجماع بعيد جدا وكان هذا هو السر في عدم تعرضهم له و
أما تصريحهم بقطعية الفتوى في بعض الموارد فالمراد به ما
يقابل التردد في الاجتهاد ومرجعه إلى القطع بحسب ما يقتضيه الأدلة
عنده لا القطع بقول المعصوم عليه السلام لا يقال إذا كان قطعيات
المجتهد حجة وإن لم يعبر عنها بالاجماع فإن خص ذلك بما قطع به
من حيث الواقع لزم عدم حجية الاجماعات المنقولة على الاحكام
الظاهرية بل عدم حجيته ما يحتمل ذلك أيضا إلا أن يستظهر فيه منه
القسم الأول وإن عمم لزم حجية كل فتوى من فتاوى مجتهد على
آخر لقطعه بالنسبة إلى الظاهر لأنا نقول نختار القسم الأخير ونفرق بين
القطع بالظاهر الذي بينه المعصوم في خصوص الواقعة وبين
غيره وبعبارة أخرى نفرق بين ما إذا علم بثبوته في حق الكل حتى
المجتهدين وبين ما إذا علم بثبوته في حقه وحق مقلديه فقط فالمراد
حجية النوع الأول دون الأخير ثم اعلم أن نقل الاجماع ينحل إلى نقل
الكاشف من الاتفاق المستكشف به عن قول المعصوم عليه السلام و
إلى نقل المستكشف الذي هو قول المعصوم فالقائل بحجيته قائل
بجواز التعويل على النقلين ومن قال بعدم حجيته قال بعدم جواز
التعويل على أحدهما إذ يكفي في رفع المركب رفع أحد جزئيه ولا
ريب في عدم جواز التعويل على نقل المنكشف على هذا القول وأما
نقل الكاشف فقد ذهب بعض أصحاب هذا القول إلى جواز الاعتماد
عليه وإن تجرد
عن نقل المنكشف إذا كان بحيث لو صح وطابق الواقع لكشف لنا عن
قول المعصوم أو عن وجود حجة فيلتئم قياس من صغرى نقلية
ظنية وكبرى قطعية وجدانية فيكون النتيجة ظنية لا محالة ولا فرق بين
نقل الكاشف بطريق الاجمال كقوله أجمع علماؤنا على كذا أو
عليه كافة علماؤنا أو أهل العلم أو عند الأصحاب أو أصحابنا أو نحو
ذلك أو بطريق التفصيل كان يحصيهم بأسمائهم أو المركب منهما
كان يصرح باسم البعض ويذكر الباقين بعنوان مجمل واعلم أيضا أنه
قد يعد مثل قولهم عند أصحابنا أو الأصحاب أو بلا خلاف أو
اتفاقا ونحو ذلك إجماعا منقولا وهو بظاهره غير مستقيم لان مجرد
الاتفاق أو عدم الخلاف لا يوجب القطع بقول المعصوم كما هو
المعتبر في الاجماع اللهم إلا أن يسمى إجماعا باعتبار الكشف
المنقول أو يعلم من طريقة الناقل اكتفاؤه في القطع والاستكشاف
بذلك
أو يستكشف بالتتبع في مظان كلماته أنه يريد بذلك نقل الاجماع
تنبيهان
الأول
قد ذكرنا أن نقل الاجماع يكون بطريق الآحاد ويكون بطريق التواتر و
لبعض المتأخرين على القسم الثاني إشكال وهو أن العبرة في
الاجماع باتفاق الآراء وهو أمر غير محسوس فلا يقع التواتر فيه فإنهم
قد اشترطوا فيه أن يكون الاخبار عن حس وأما الأقوال فهي و
إن كانت محسوسة إلا أنها غير كاشفة عن الآراء كشفا قطعيا لتطرق
احتمال الكذب والسهو والتقية إليها وفيه ما لا يخفى لان اشتراط
الحس في التواتر ليس لاستلزام عدمه عدم حصول العلم به بل لعدم
استلزامه حصوله به وسيأتي التنبيه عليه في مبحث التواتر وحينئذ
فكما يمكن العلم باتفاق الكل على قول بملاحظة قيام القرائن الحالية
الدالة على مطابقة أقوالهم لمعتقدهم كذلك يمكن العلم به بإخبار
عدد يحصل بخبرهم العلم بصدور تلك الأقوال عنهم محفوفة بتلك
القرائن وربما يكون
261

معلومة عندنا فيكفي لنا نقل أقوالهم إلا أن وقوع الفرضين في الأحكام الشرعية
فيما عدا الضروري منها لا يخلو من بعد هذا مع أن
الاشكال المذكور لا ورود له على القول بأن الاجماع هو الاتفاق
المشتمل على قول المعصوم عليه السلام إذ يكفي فيه نقل القول غاية
الامر أنه إذا كان هناك احتمال التقية في حقه كان المستكشف عنه
حكما ظاهريا ولا على ما قررناه في معنى الاجماع من أنه الاتفاق
الكاشف عن قول المعصوم بطريق الحدس إذ يكفي فيه اتفاق الذين
عرف من طريقتهم الالتزام بالاتباع في الأقوال أو قول يكفي فيه
العلم بآراء جماعة يحصل الكشف بآرائهم وإن لم يحصل العلم
بآراء الكل ودعوى عدم حصول العلم به أيضا في نقل وفاق الآراء
بطريق
التواتر والتظافر مجازفة بينة ومكابرة جلية ولو تم ذلك لا نسد باب
التواتر بالكلية لان العلم إنما يستفاد من توافق علوم المخبرين و
هي مستفادة من أقوالهم فمع تجويز الكذب أو السهو أو التقية على
الجميع يرتفع الوثوق بخبرهم إذ لا يحصل العلم بمعتقدهم فلا
يحصل
العلم بخبرهم فالاشكال المذكور إنما يتم غالبا على القول بأن الاجماع
اتفاق الكل كما هو مذهب العامة وهو كما يتجه على منقوله يتجه
على محصله أيضا وأجاب عنهم بعض الأفاضل بأن الرواية التي
تمسكوا بها على حجية الاجماع من قوله صلى الله عليه وآله لا
تجتمع
أمتي على الخطأ كما يقتضي نفي اجتماعهم على الرأي الخطأ
كذلك يقتضي نفي اجتماعهم على القول الخطأ فلا حاجة إلى البحث
عن
مطابقته لمعتقدهم وحينئذ فنقول هذا القول المتفق عليه إن ثبت
بالتواتر فقطعي وإلا فظني لظنية طريقه لا لظنية نفسه وهو كالمتن
القطعي الثابت بالسند الظني هذا كلامه ملخصا وهو جيد إلا أن تعميم
الرواية إلى نفي الاتفاق على القول الخطأ بعيد وأورد عليه
الفاضل المعاصر بأنه لا معنى محصل للاجتماع على القول الخطأ إذا
أريد منه محض اللفظ إلا إذا أريد به اتفاقهم في كيفية قراءة اللفظ و
إعرابه ثم قال ومع ذلك فأي فائدة له في المسائل الفقهية إلا أن يقال
فائدته صيرورة المتن قطعيا وإن كانت الدلالة ظنية ولا يخفى ما
فيه لظهور أن ليس مراد المجيب بالاتفاق على القول الاتفاق على
مجرد ذكر اللفظ وإن علم عدم قصد المعنى لوضوح وقوع هذا الاتفاق
في موارد ثبت بطلان مؤداها بالضرورة كالألفاظ الدالة على تعدد الالهة
ونفي الرسالة والمعاد وغير ذلك مما ورد ألفاظها بطريق
الحكاية في الكتاب العزيز بل المراد الاتفاق على إيراد اللفظ في
مساق بيان الحكم وإفادته وإن لم يطابق الاعتقاد واقعا وهذا المعنى
مما لا غبار عليه في نفسه وإن كان الظاهر من إطلاق الرواية غيره كما
نبهنا عليه وأما تنزيله على الاتفاق على قراءة اللفظ وإعرابه
فمع كونه بعيدا عن سياق كلام المجيب مما لا وجه له لأنه إن فرض
اتفاقهم على سماع قراءة المعصوم عليه السلام فهذا خبر متواتر
لاجماع فإن الاجماع إنما يكون في الفتوى فيكون نقله نقل خبر متواتر
لا نقل إجماع وإن فرض اتفاقهم على أن لفظ الكتاب مثلا كذا و
إعرابه كذا من غير استناد إلى السماع فهذا يجري فيه ما يجري في
الاجماع على سائر الأحكام من جواز عدم مطابقة أقوالهم لآرائهم
كما ذكر في أصل الاشكال فلا يجدي فيه الجواب أصلا ومع
الاغماض عن ذلك ففائدته في المسائل واضحة على تقدير تحققه إذ
قد
يصير معه الحكم قطعيا ظاهريا بل واقعيا أيضا فإن اللفظ على بعض
التقادير قد لا يحتمل إلا معنى واحدا ولو لقيام الاجماع على بطلان
بقية محتملاته قوله إن ثبت بالتواتر فقطعي يعني أن هذا القول المجمع
عليه المسوق للكشف عن الحكم الشرعي إن ثبت بالتواتر فقطعي
لقطعية طريقه وإلا فظني لظنية طريقه لكونه ثابتا بإخبار من لا يحصل
العلم بخبره لا لظنية نفسه إذ المخبر عنه اتفاق الكل على القول
وقد فرض أن الدليل القاطع دل على عدم مخالفة مؤداه للواقع فهذا
من إثبات القطعي الشأني بالظني الفعلي ونزل الفاضل المذكور
هذه العبارة تارة على أن المراد من نفي ظنية نفسه كونه قطعي الدلالة و
أورد عليه بأن الفرض قطع النظر عن المراد لعدم القطع به و
فيه أن المفروض عدم القطع بكون مفاده مطابقا لمعتقد القائلين وهو
لا ينافي القطع بدلالته على الحكم المستفاد منه بعد ملاحظة دليل
الاجماع وشموله وأخرى على أن المراد أن الاتفاق على اللفظ يعني
على قرأته وإعرابه كما يظهر من بيانه السابق إن ثبت بالتواتر
فقطعي
بمعنى أنه مقطوع بموافقته للواقع قال وحينئذ لا معنى لقوله وإلا
فظني لظنية طريقه لا لظنية نفسه وفيه أن هذا التنزيل إنما نفسده
لكونه مما لا يساعد عليه كلام المجيب ولا يجديه كما نبهنا عليه وإلا
فهو في نفسه صحيح فإن الاتفاق على القراءة مثلا دليل قطعي عليها
في نفسه وإنما الظن في طريق الموصل إلى وقوعه حيث يثبت
بالآحاد ثم أورد على هذا التنزيل سؤالا حاصله أن المقام من قبيل نقل
الآحاد كون آية من القرآن المعهود بين الناس فإنه نقل قطعي بظني و
أجاب بأنه ليس من هذا القبيل بل من قبيل ما ورد في الشواذ من
نقل ألفاظ زائدة على ما في النسخ المعهودة إذ ليست الاجماعيات
متعينة في الخارج بأشخاصها حتى يفرض حصول الشك في أن ذلك
منها أو لا بل الشك في أنها إجماعي أو لا وأنت خبير بأن كلا من
السؤال والجواب عند التأمل مما لا محصل له قوله فهو كالمتن
القطعي
الثابت بسند ظني يعني أن القول المذكور الثابت بنقل الآحاد من قبيل
نقل قول المعصوم القطعي المفاد بطريق الآحاد في كون القول في
كل من المقامين دليلا قطعيا على الحكم في نفسه وإن كان الطريق إليه
نقل الآحاد وهو ظني وأورد عليه الفاضل المذكور بأنه إن أراد
بالمتن القطعي الصدور فهو لا يجامع فرض كون السند ظنيا وإن أراد
القطعي من حيث الدلالة والمفروض عدمه وفيه أن المراد كونه
قطعي الدلالة على الحكم لقيام دليل الاجماع عليه وليس في كلام
المجيب نفي كون الاجماع على القول قطعي الدلالة على ثبوت
الحكم
كيف وهو في صدد إثبات كونه قطعي الدلالة عليه وإنما المفروض
في كلامه عدم كونه قطعي الدلالة على ثبوته في معتقد القائلين و
الفرق بينهما جلي جدا والنظر إنما هو بحسب الاعتبار الأول فتبصر و
لا تغفل واعلم أن قول المجيب إن ثبت بالتواتر فقطعي وإلا
فظني بظاهره
262

غير مستقيم لورود منع الحصر عليه وهو ظاهر
الثاني
قد يقع التعارض في نقل الاجماع وقد يقع بينه وبين الرواية المعتبرة
فيرجح الأقوى ومع التكافؤ فالتخيير وللترجيح وجوه عديدة
تعرف مما مر ومما يأتي في بحث التراجيح وقد يتوهم أن الاجماع
إذا عارض الرواية رجح عليها مطلقا لتعدد الوسائط في الرواية و
انتفائها في نقل الاجماع وهو من جملة وجوه الترجيح ويضعف بأن
هذا الوجه معارض في الغالب بقلة الضبط في نقل الاجماع بالنسبة
إلى نقل الخبر والاعتماد على بعض وجوه الترجيح مشروط بانتفاء ما
يساويه أو يزيد عليه في الجانب الاخر
الكلام في الخبر
الخبر في اللغة النبأ وهو المعنى الذي ينبأ به دون الحديث ولهذا لا
ينصرف وربما يخصان بما إذا كان الاخبار والأنباء عن حس و
ليس بمرضي لشهادة التبادر والاستعمال على خلافه وقد كثر مجئ
الانباء في الكتاب العزيز للاخبار عن غير الحس نحو ينبئكم نبأ
عبادي أنبئكم بما تأكلون إلى غير ذلك وقد مر التنبيه على ذلك وأما
في الاصطلاح فقد يطلق ويراد به ما يقابل الانشاء وعرف في
المشهور بوجهين الأول أنه كلام لنسبة خارج تطابقه أو لا تطابقه
فالكلام جنس والمراد به إما معناه اللغوي فيتناول المهمل على ما
قيل
أو معناه المصطلح فيختص بالمركبات التامة ويخرج بالقيود المذكورة
ما عدا الخبر كالمركبات الناقصة والتامة الانشائية إذ ليس
لنسبتها خارج والمراد بثبوت خارج لنسبته أن يكون الخارج منشأ
لانتزاعها سواء كان ظرفا لوجودها أو ظرفا لنفسها على اختلاف
القولين في ذلك أو لم يكن ظرفا لها بأحد الاعتبارين بل كان ظرفا لما
ينتزع منه كما في قولك زيد موجود على القول الثاني وتحقيق
ذلك أن مفاد النسبة هو الوجود الارتباطي فمن قال بأن الخارج ظرف
لوجود الوجود لا تسلسل لأنه اعتبار ناشئ من ذاته قال بأن
الخارج ظرف لوجود النسبة مطلقا ولا إشكال عليه ومن قال بأنه
ظرف لنفس الوجود لا لوجوده وإلا تسلسل يلزمه القول بانتفاء
وجود الربط في الخارج مطلقا وانتفاء نفسه في المثال المذكور
فيحتاج في إدخال الثاني إلى التكليف المذكور ثم المراد بالخارج هنا
الخارج عن نفس النسبة فدخل نحو علمت وعرفت مما يعد في
العرف خبر أو ليس لنسبة خارج من الذهن ومع ذلك يتجه على
عكسه
خروج مثل قول القائل كلامي في هذا اليوم خبر إذا لم يتكلم فيه بغيره
اللهم إلا أن يفسر الخارج بما هو خارج ولو بحسب الاعتبار و
مثل قوله كلامي في هذا اليوم كاذب إذا لم ينطبق بغيره إلا أن يؤول بأن
المراد ما يقتضي نسبة ذلك بالنظر إلى نفس ذاتها وبه يندفع
الاشكال الأول أيضا ويرد على طرده دخول المحمول المأخوذ مع
النسبة الحكمية أو الموضوع المأخوذ معها إن فسر الكلام بمعناه
اللغوي مع أنه لا يسمى خبرا وإنما يسمى به المجموع المركب ويرد
عليه أيضا دخول النسب الناقصة فإن قولك رجل عالم على الوصفية
يشتمل على نسبة وصفية ذهنية لها خارج وهو الاتصاف الخارجي و
مثله قولك غلام زيد وكذلك الجمل الشرطية كقولنا إن كانت
الشمس طالعة فإنها يشتمل على نسبة ذهنية هي نسبة الطلوع إلى
الشمس باعتبار الخارج وكذلك الذي ضرب وما أشبه ذلك نعم لو
فسر الكلام بالمعنى المصطلح اختص ورود النقض بالنسبة المذكورة
فيما لو وقعت في الجمل الانشائية وكذلك يرد النقض بالاستفهام
والتمني والترجي والعرض فإن قولك أريد قائم يشتمل على نسبة
إسنادية لها خارج تعلق الاستفهام باعتباره وعلى قياسه الكلام في
البواقي والجواب أن المراد بأن يكون لنسبة خارج أن يكون نسبة
مقتضية لنسبة خارجية ثبوتية أو سلبية اقتضاء كشفيا لا مجرد أن
يكون معتبرة بالقياس إلى الخارج فسقط النقض بالاستفهام وما بعده
ثم الظاهر من اقتضاء النسبة كذلك اقتضاؤها بذاتها فسقط
النقض بجملة الصلة وما قبلها فإنه وإن صح اعتبارها بالقياس إلى ما
هو الواقع في الخارج إلا أنه خارج عن مقتضى ذاتها إذ مفادها
بمجرد أخذ أمر لاحقا لأمر من غير اعتبار أنه واقع أو غير واقع ولو
حمل النسبة التامة والقيد الأخيرة وهو قولهم يطابقه أو لا يطابقه
مستدرك ولأن ذلك قضية ثبوت خارج للنسبة ولهذا تركه بعضهم
الثاني أنه قول يحتمل الصدق والكذب فالقول جنس يتناول المهمل
في وجه والمستعمل من المفرد والمركب بأنواعهما والمراد به ما
يعم الملفوظ والمنوي والمقدر وخرج بقولنا يحتمل الصدق و
الكذب ما عدا المركب التام الاسنادي من المفردات والمركبات
الانشائية والاسنادية الناقصة فإن شيئا منها لا يحتمل ذلك بيانه أن من
أنواع الكلام ما لمدلوله من حيث كون ذلك المدلول خارج عنه فإذا
لوحظ المدلول بالقياس إليه جاز أن يطابقه فيكون صدقا وأن لا
يطابقه فيكون كذبا ومنها ما ليس كذلك فمفاد قولنا زيد قائم ثبوت
القيام لزيد وقيامه به وهذا
المعنى وإن كان أمرا ذهنيا إلا أنه مأخوذ بالقياس إلى الخارج ومعتبر
بالنسبة إليه فلا جرم كان صالحا للمطابقة وعدمها بخلاف
قولك اضرب فإن معناه إيقاع طلب الضرب وإنشائه لا الاخبار عن
وقوعه وإن استلزمه وظاهر أن هذا المعنى مما لا خارج له عن نفسه
حتى يتصور فيه المطابقة وعدمها وعلى قياسه بقية الانشائيات كصيغ
العقود والايقاعات فإن معنى قول القائل بعت أو اشتريت أو هي
طالق أو هو حر إنشاء تمليك وإزالة علقة زوجة أو رقبة وأما حصول
التمليك وزوال علقة الزوجية والرقية فليس خارج تلك النسبة بل
لازمها حيث تصادف الشرائط وبالجملة فمفاد الجمل الانشائية نفس
الجعل لا الاخبار عن وقوعه وعلى الحد إشكالات ينبغي إيرادها
منها أن احتمال الصدق والكذب إن كان بالنظر إلى اللفظ فاللفظ لا
يحتمل إلا الصدق وإن كان بالنظر إلى الواقع فظاهر أن أحد
الامرين متعين فيه ولا يحتمل الاخر وجوابه أن مورد الاحتمال
مدلول الخبر من حيث ملاحظة العقل إياه مقيسا إلى الواقع مع قطع
النظر
عما هو الواقع فلا إشكال ومنها أن الخبر إن طابق الواقع لم يحتمل
الكذب وإلا لم يحتمل الصدق
263

فبطل قولكم يحتملهما فإن الواو يفيد الجمع وجوابه أن المراد
الاحتمال في نظر العقل كما مر والمستحيل إنما هو اجتماع الامرين
المحتملين دون نفس الاحتمالين وأجيب أيضا بأن الواو للترديد و
ضعف بأنه لا معنى للاحتمال حينئذ ومنها أن من الخبر ما لا يحتمل
الصدق عند العقل كقولنا الواحد ضعف الاثنين ومنه ما لا يحتمل
الكذب كقولنا الواحد نصف الاثنين فلا ينعكس الحد وجوابه أن تلك الأخبار
إذا لوحظت بأنفسها وجرد النظر عن ملاحظة ما هو الواقع
كانت محتملة لهما وإليه يرجع ما قيل من أن المراد ما يحتملهما
باعتبار الهيئة وإن لم يحتملهما باعتبار المادة فلا محذور ومنها أن
قولنا زيد أفضل من عمرو خبر قطعا ولا يحتمل الكذب إذ يصح
أن يقال ما فضلت زيدا وجوابه أن للكلام المذكور مدلولين أحدهما
مطابقي وهو اتصاف زيد في الواقع بوصف الأفضلية وهذا المعنى
يحتمل الصدق والكذب قطعا وليس بمنفي في قوله ما فضلت زيدا و
إنما هو منفي في قولك ما زيد بأفضل من عمرو الثاني الترامي و
هو تفضيل المتكلم إياه على عمرو بمعنى إيراده بلفظ دال على ذلك
وظاهر أن هذا المعنى لا يحتملهما وهو المنفي الممنوع صحة نفيه
في قوله ما فضلت زيدا وحيث إن العبرة في عدد الكلام خبرا أو إنشاء
بالمعنى المطابقي كان الكلام المذكور مندرجا في الخبر وبهذا
الجواب يندفع الاشكال بكل إنشاء ينشأ من الاخبار وإخبار ينشأ من
الانشاء فإن قولك تمنيت كذا إخبار عن إنشاء وهو إنشاء إخبار و
قولك ما أحسن زيدا إنشاء تعجب ويلزمه الاخبار عن وقوعه ووقوع
موجبه إلى غير ذلك ومنها أن طرد الحد منقوض بالصفة و
شبهها نحو يا زيد العالم فإنه ليس بخبر قطعا مع أنه يحتمل أن يطابق
الواقع وذلك بأن يكون زيد عالما في الواقع وأن لا يطابقه بأن
لا يكون عالما وجوابه أن المعتبر في الصدق والكذب ليس مطلق
المطابقة وعدمها بل مطابقة النسبة التامة وعدمها والنسبة الوصفية
وشبهها ناقصة بدليل عدم صحة السكوت عليها فلا يشكل الحد بها و
قد يجاب بأن النسبة الوصفية وشبهها من حيث نفسها لا يحتمل
المطابقة وعدمها وإنما يتطرق ذلك إلى ما يلزمها من الاخبار وهذا
راجع إلى ما نبهنا عليه في الحد السابق ومنها أن التعريف دوري
لاشتماله على الصدق والكذب المعرفين بمطابقة الخبر للواقع و
عدمها فيتوقف معرفته على معرفتهما ومعرفتهما على معرفته و
جوابه أن الصدق والكذب يمكن أن يعرفا بمطابقة الكلام أو النسبة
الحكمية للواقع وعدمها فيندفع الدور وتوضيح ذلك أن المقصود
بهذا التعريف ليس بيان حقيقة الخبر لعدم مساعدته عليه ولا تميزه
في حد نفسه لوضوحه كسائر التراكيب بل المراد بيان مدلول لفظ
الخبر واللازم حينئذ أن يتوقف معرفة مدلول لفظ الخبر على معرفة
الصدق والكذب ومعرفتهما لا يتوقف على معرفة مدلوله بلفظه بل
على معرفته ولو بلفظ آخر فلا دور ومنهم من رام التفصي عن ذلك
فعدل عن الصدق والكذب إلى التصديق والتكذيب وهل هو إلا كر
على ما فسر ومنها أن أحد لفظي الصدق والكذب مستدرك لتمام
التعريف بدونه وجوابه إن جي باللفظين لحسن المقابلة وتوضيح
الدلالة ومراعاة لجانب الاحتمال فإنه لا يتحقق فيما دون أمرين و
منها أن عكس الحد منقوض بمثل قول القائل كلامي غدا صادق إذا
كان كلامه في الغد كلامي أمس كاذب فإن كلا منهما خبر قطعا ولا
يحتمل الصدق والكذب إذ يلزم من صدق كل منهما كذبه وهو محال
وجوابه أن المراد ما يحتملهما بالقياس إلى نفسه فلا يقدح عدم
احتمالهما بعد ملاحظة الخارج كما عرفت نظيره في عدم احتماله
لأحدهما ولا ريب أن كلا من الخبرين المذكورين إذا لوحظ في نفسه
كان محتملا لهما وإن لم يحتملهما بعد ملاحظة كونه مأخوذا بالقياس
إلى الاخر فلا إشكال هذا هو التحقيق في الجواب ولجماعة في
دفع هذا الاشكال تكلفات بعيدة لا جدوى في إيرادها
تنبيه الأكثرون على أن صدق الخبر مطابقته للواقع
وكذبه عدم مطابقته له وهو الأقرب وخالف في ذلك النظام فجعل
صدق الخبر وكذبه عبارة عن مطابقته لاعتقاد المخبر وعدمها و
ذهب الجاحظ إلى أن الصدق عبارة عن مطابقة الاعتقاد والواقع و
الكذب عبارة عن مخالفتهما والظاهر من الاعتقاد هو الطرف
الراجح وقد صرح به بعضهم فيتناول الظن والجزم بأقسامه الثلاثة من
العلم والتقليد والجهل المركب فعلى المذهب المختار لا واسطة
بين صدق الخبر وكذبه وكذا على القول الثاني إن أراد بعدم مطابقة
الاعتقاد ما يتناول صورة عدم الاعتقاد كما صرح به بعضهم وإلا
كانت هي الواسطة وأما على المذهب الأخير فثبت الواسطة حيث لا
يطابق الواقع والاعتقاد وإن كان لعدم الاعتقاد كما صرحوا به
فالأقسام ستة وتتحقق الواسطة في أربعة منها وهي ما إذا خالف
الواقع والاعتقاد مع مطابقة الثاني في الأول أو الأول في الثاني أو
مصادفة عدم الاعتقاد مع موافقة الواقع لنا على ما اخترناه شهادة
العرف والاستعمال به فإنا نقطع بأن الكافر إذا أخبر بأن الاسلام حق
عد صادقا بحيث لا يصح سلبه عنه من غير تأويل وصح سلب كونه
كاذبا مع أنه لا يعتقد به وإذا أخبر بخلافه عد كاذبا وصح سلب كونه
صادقا كذلك مع أنه يعتقد به وإذا ثبت ذلك عرفا ثبت لغة وشرعا
بضميمة أصالة عدم النقل مع أنه لا قائل به فإن قيل قد صرح الحافظ
بأن المعارف بديهية فيتحقق موافقة الاعتقاد في الأول ومخالفته في
الثاني أيضا فلا يتم الاحتجاج المذكور عليه قلنا بداهة المعارف
على تقدير تسليمها لا يوجب العلم بها من غير واسطة كما تقرر في
محله في تحقيق البديهي فيجوز عدم العلم بها لعدم الاطلاع على ما
يوجب العلم بها كالمعجزة أو لقيام شبهة رادعة للنفس عن الاذعان
بمقتضاها وبالجملة فنحن نقرر الدليل فيما إذا صدر القول المذكور
عمن لا يعتقد حقيقة دين الاسلام ودعوى عدم تحققه مكابرة جلية و
احتج النظام بقوله تعالى والله يشهد
إن المنافقين لكاذبون حيث إنه تعالى نسبهم إلى الكذب في قولهم
نشهد إنك لرسول الله وظاهر أن كذبهم ليس لمخالفة كلامهم
264

بل لمعتقدهم والجواب أنا حيث دللنا بالتبادر وغيره أن المعتبر في
كذب الخبر مخالفته للواقع فقط وجب ارتكاب التأويل في الآية و
هو يصح من وجوه وذلك لان قولهم نشهد إن حملناه على الاخبار كما
هو الظاهر من اللفظ جاز أن يكون نسبة الكذب إليهم باعتبار
عدم وقوع الشهادة منهم في المستقبل أو عدم استمرارهم عليها بناء
على دلالة فعل الاستقبال عليه أو لعدم حصول الاعتقاد أو الشهادة
في قلوبهم بناء على أن المعنى نعتقد أو نشهد بقلوبنا وإن حملناه على
الانشاء كما هو ظاهر المقام جاز أن يكون نسبة الكذب إليهم
باعتبار الاخبار اللازم لشهادتهم من كونهم عالمين بمضمونها أو
عاملين بمقتضاها أو يجوز أن يكون المراد أنهم قوم من شأنهم
الكذب فلا تعتقد بصدقهم في هذا الخبر وأنهم كاذبون فيما حلفوا
عليه من عدم الاتفاق كما ورد في بعض الآثار احتج الجاحظ بقوله
تعالى أفترى على الله كذبا أم به جنة وجه الدلالة أن الكفار كانوا
قاطعين بعدم مطابقة كلام الرسول صلى الله عليه وآله للواقع فيما
كان يدعيه من أمر الرسالة والحشر والنشر لكنهم ترددوا بين أن يكون
مخالفا لمعتقده أيضا فيكون كاذبا ومفتريا وبين أن يكون
مطابقا له أو صادرا منه من غير اعتقاد فيكون مجنونا لزعمهم أن
الاعتقاد بمضمون تلك الدعاوي بل الشك في صحتها لا يتحقق في
حق
العاقل فاعتبروا مخالفة الاعتقاد والواقع في الكذب وأثبتوا الواسطة و
اعلم أن الذي يقتضيه الآية على حسب ما تمسك به الخصم خروج
الوسائط الأربعة عن الكذب لاندراج القسمين المذكورين في قولهم أم
به جنة واستفادة نفي القسمين الأخيرين المشتملين على مطابقة
النسبة للواقع من مساق الكلام ويعرف بالمقابلة معنى الصدق أيضا و
زعم بعض المعاصرين أن قولهم أم به جنة يتناول وسائط ثلاثة
الاخبار مع اعتقاد المطابقة أو من غير قصد وشعور وليس على ما
ينبغي بل الأولى إدخال الأخيرين في الاخبار من غير اعتقاد وعدم
اعتبارهما قسمين مستقلين وأما ما أورده بعض المعاصرين عليه من
منع تناول القول المذكور للوسائط الثلاثة نظرا إلى أن
خبره صلى الله عليه وآله جزئي لا يقبل إلا أحد الاحتمالات فمدفوع
بأن المراد تناوله لها على البدلية وأن المعتبر في مقابلة الكذب
القدر المشترك بين الأقسام الثلاثة وهو كونه كلام ذي جنة فلا إشكال
حينئذ فيه من هذه الجهة والجواب أن الافتراء عبارة عن تعمد
الكذب إما لاختصاص الفرية به أو لظهور الفعل المسند إلى المختار
في صدوره عنه بالقصد والشعور وحينئذ فيكون ترديدهم بين أن
يكون الرسول مدعيا لأمر الرسالة وتوابعها عن قصد وشعور فيكون
مفتريا وبين أن يكون مدعيا لها من غير قصد وشعور كما هو
الغالب في أفعال المجانين فيكون مجنونا فلا يدل على اعتبار مخالفة
الاعتقاد في الكذب ولا على تحقق الواسطة بينه وبين الصدق ولو
سلم عدم ظهور هذا الاحتمال فلا أقل من مساواته للاحتمال الأول فلا
يتم الاستدلال ومع التنزل فغاية ما ثبت به مجرد الاستعمال وهو
لا ينهض بإثبات الحقيقة في مقابلة ما مر
تتمة
قد ذكر بعضهم في بيان ثمرة النزاع المذكور وإن المدعي لو قال كذبت
شهودي سقط دعواه على مذهب الأكثر والجاحظ ولم تسقط
على مذهب النظام ولو قال لم تصدق شهودي سقط الدعوى على
مذهب الأكثر ولم تسقط على مذهب الجاحظ والنظام وهذه الثمرة
مبنية على أن يكون المراد بالاعتقاد في كلام النظام والجاحظ اعتقاد
المخبرون واصف الكلام بالصدق والكذب وهذا أمر بين لا يكاد
يعتريه وصمة الارتياب وأجلى من أن يزل فيه قدم عارف بطريق
التأدية والخطاب والعجب من الفاضل المعاصر حيث تلبس عليه
الحال مع وضوح المقال فمنع من ترتب الثمرة المذكورة زاعما أن
مقصود النظام بالاعتقاد إنما هو اعتقاد واصف الخبر بالصدق و
الكذب دون المخبر وأن المراد بالمخبر في كلامه من يلاحظ الخبر و
إن لم يخبر به فيكون ثمرة النزاع في الفرض المذكورة اعتبارية
وحمل استدلال النظام بالآية على أن المعنى إنهم لكاذبون في
معتقدهم من حيث مخالفة خبرهم لمعتقدهم وأن ما أجاب عنه
الأكثرون
من أن المراد إنهم لكاذبون في معتقدهم من حيث زعمهم مخالفة
كلامهم للواقع واستشهد على ذلك بأنه لو كان مقصود النظام كما زعم
من موافقة اعتقاد المخبر ومخالفته لزم أن لا يكون الخبر في نفسه
متصفا للصدق والكذب بل بالنظر إلى ملاحظة حال المخبر فقط و
أنه واضح الفساد أقول أما ما تأول به كلام الفريقين ونزل عليه مقالة
المحتاجين فهو تعسف فاسد وتكلف بارد لا يقبله العارف بتأدية
المقاصد مع احتجاجه تبعا لغيره على قول الأكثر بالاجماع على أن
اليهودي لو أخبر بأن الاسلام حق كان صادقا مما لا وجه له على هذا
التنزيل لأنه إن أريد أنه صادق عند اليهود فواضح السقوط أو عند
المسلمين فلا يختص بمذهب الأكثر وأما ما تمسك به على التعويل
المذكور فهو بمكان من القصور لأنه مع اختصاصه بطريقة النظام غير
متجه في المقام إذ لا ضرورة على أن الخبر من حيث نفسه يحتمل
الصدق والكذب بمعنييهما
الحقيقيين وإنما الضرورة قائمة على قبوله في نفسه للاتصاف
بالمطابقة للواقع وعدمها على أنا نمنع لزوم عدم اتصاف الخبر
بالصدق
من حيث نفسه على التفسير المذكور لظهور أن كل خبر من حيث نفسه
كما أنه قابل لان يكون مطابقا للواقع وأن لا يكون مطابقا له
كذلك قابل لان يكون مطابقا لمعتقد مخبره ولو تقديرا وأن لا يكون
مطابقا له فدعوى صحة اعتبار الأول بالنسبة إلى نفس الخبر
دون الثاني تحكم واضح ثم المستفاد من مقالة النظام والجاحظ أن
مطابقة الاعتقاد وعدمها معتبران حال الاخبار فلو أخبر معتقدا
مطابقته للواقع ثم اعتقد الخلاف لم يخرج عن كونه صادقا في ذلك
الاخبار على مذهب النظام مطلقا وعلى مذهب الجاحظ مع المطابقة
ولو أخبر معتقدا عدم المطابقة ثم اعتقد الخلاف لم يخرج عن كونه
كاذبا على المذهبين كما مر وعلى ما توهمه الفاضل
265

المذكور يدور صدق الوصفين على مذهب النظام مدار الاعتقاد
فيكون الخبر في الفرض المذكور صدقا في وقت وكذبا في آخر كما
أنه يكون صدقا بالنسبة إلى شخص وكذبا بالنسبة إلى آخر وإنكاره
لزوم ذلك بعد تنزيل كلامه على ما مر مما لا وجه له اللهم إلا أن
ينزل الاعتقاد في كلام النظام على الاعتقاد المطابق للواقع وهو أغرب
من التنزيل السابق ثم اعلم أن العضدي ذكر أن النزاع في هذه
المسألة لفظي ليس فيه كثير فائدة ووجهه التفتازاني بأن هذه المسألة
لغوية لا تعلق لها بعلم الأصول كثير تعلق لا أنه نزاع يتعلق
بالاصطلاح على ما يشعر به كلام الآمدي إذ لا قائل بنقل اللفظين هذا
ملخص كلامه وأورد الفاضل المذكور عليه بأن كون المسألة لغوية
لا يوجب عدم تعلقها بعلم الأصول كيف ومعرفة ماهية الخبر
المبحوث عنها في علم الأصول تتوقف على معرفتهما فيجب البحث
عنهما
كبحثهم عن سائر الموضوعات وزعم أن قول العضدي ليس فيه كثير
فائدة يمكن أن يكون ناظرا إلى ما ذكره في توجيه كلام الجاحظ
والنظام قال وإلا قرنت بالفروع المذكورة فائدة كثيرة والجواب أن قول
التفتازاني لا تعلق لها بعلم الأصول صفة احترازية لا
توضيحية وحاصله أن هذه المسألة من المسائل اللغوية التي لا حاجة
للأصولي إلى تحقيقها ولا توقف لمعرفة ماهية الخبر عليها لصحة
الحد على جميع التفاسير وحصول التميز المقصود بالتعريف بأيها
قيل مع أن غرض الأصولي لا تتعلق بالخبر بالمعنى المذكور بالمعنى
الآتي ومعرفة حقيقة لا يتوقف على معرفتهما أصلا وأما تنزيل كلام
العضدي على التأويل المذكور فهو كما ترى مع أنه مناف لنقله
الاجماع على تصديق اليهودي إذا أخبر بأن الاسلام حق وتكذيبه إذا
أخبر بخلافه كما عرفت ولا ينافي لما ذكره ثبوت الفروع
المذكورة لأنها فوائد قليلة خفية يتفرع على معرفة مدلول هذين
اللفظين وليس محط نظر الأصولي إلى أمثاله وإلا لكان عليه البحث
عن جميع الألفاظ اللغوية المختلف فيها مما يترتب عليه ثمرات فقهية
كالصعيد والقر والمرفق والمنكب وما أشبه ذلك بل نظر
الأصولي مقصور على البحث عن القواعد الكلية كما يفصح عنه حد
علم الأصول ومنها البحث
عن مداليل الهيئات اللفظية كهيئة الأمر والنهي وألفاظ العموم كالجمع
والمفرد المعرفين والمضافين والنكرة المنفية والموصول وأما
بحثهم عن مثل لفظ الأمر والنهي والعام فاستطرادي كما لا يخفى هذا
واعلم أن الفاضل الجواز بعد أن نقل عن الجاحظ إثبات الواسطة
ونبه على فساده قال واعلم أن النزاع في هذه المسألة كاللفظي فإنا
نقطع أن كل خبر إما مطابق للمخبر عنه أو لا فإن اكتفي في الصدق
بالمطابقة كيف كان وجب القطع بأنه لا واسطة وإن اعتبر العلم
بالمطابقة أيضا في الصدق والعلم بالعدم في الكذب يثبت الواسطة
بالضرورة وهو الخبر الذي لا يعلم فيه المطابقة كذا قيل وفيه نظر يعلم
بأدنى تأمل انتهى قال الفاضل المعاصر وجه النظر أن النزاع
في إثبات الواسطة بعينه هو النزاع في معنى الصدق والكذب وليس
شيئا على حدة حتى يتفرع عليه ويصير النزاع لفظيا انتهى أقول لا
شك في تعدد النزاعين وإن تفرع أحدهما على الاخر ضرورة أن النزاع
في معنى الصدق والكذب غير النزاع في ثبوت الواسطة بينهما
وإن تفرع عليه بل التحقيق أن وجه النظر أن النزاع في الواسطة معنوي
محض وأن وضوح الحكم على كل من التقديرين لا يصير النزاع
كاللفظي وإلا لكان كل النزاعات أو جلها كاللفظية إذ يصح أن يقال فيها
إن صحت الأدلة التي تمسك بها صاحب هذا القول فلا ريب في
ثبوت دعواه وإن صحت أدلة الاخر فكذلك فيصير النزاع كاللفظي و
لعل هذا المتوهم قد اعتبر بظاهر عبارة العضدي ومن حذا حذوه
حيث ذكروا أن النزاع هنا كاللفظي فلاحظ أن اللفظي لا يستقيم فيه
بمعناه المعروف فنزله على طريق الاستعارة والتشبيه ووجهه بما
مر وقد عرفت أن مرادهم باللفظي ليس شئ من ذلك وإنما أرادوا أن
النزاع لغوي لا تعلق له بعلم الأصول كما نبه التفتازاني عليه
فصل ويطلق الخبر أخرى ويراد به ما يرادف الحديث
وهو من مصطلح أهل الدراية وعرف حينئذ بأنه ما يحكي قول
المعصوم أو فعله أو تقريره غير قرآن ولا عادي ويسمى عندهم ذلك
المحكي سنة فالموصولة مع صلتها بمنزلة الجنس والمراد بها ما
يتناول اللفظ والكتابة وإن فسرت بمطلق الدال تناولت الإشارة أيضا
وفي تناول المحدود لها نظر وخرج بتقييدها بأحد الثلاثة ما يحكي
غيرها وإن تعلق بالمعصوم كحكاية صفات بشرية وكيفية خلقته
والمراد بالقول المركب التام فيخرج مفردات الحديث إذا أخذت من
حيث الافراد ويمكن حمله على معناه الأصلي فيتناول البعض والكل
كاسم الجنس والمراد بالمعصوم ما يتناول النبي والأئمة وفي شموله
للزهراء عليها السلام وجه فيكون التذكير مبنيا على التغليب و
ظاهر الحديث يتناول قول سائر الأنبياء عليهم السلام وكأنهم يلتزمون
بتناول المحدود له أيضا ولا يخلو من بعد ويتناول قول
الملائكة أيضا والتزام تناول المحدود له بعيد وحمل اللام على العهد
بدفع الاشكالين ثم اعتبارا المعصوم عليه السلام مبني على مذهب
أصحابنا الامامية والعامة يكتفون بالانتهاء إلى أحد الصحابة أو
التابعين وقولهم غير قرآن يخرج حكاية القرآن إن اعتبر من حيث
كونه مقولا للمعصوم كالآيات التي وقع الاستشهاد بها في الاخبار وأما
إذا اعتبر من حيث صدوره عنه تعالى وكونه مقولا له فهو خارج
بقيد المعصوم وأما الحديث القدسي فهو خارج باعتبار كونه حكاية
لقوله تعالى وداخل باعتبار كونه حكاية لقول المعصوم والظاهر
أنه يسمى بالاعتبار الأول حديثا قدسيا على الحقيقة إما نظرا إلى معناه
اللغوي أو لكونه مقيدا بالقدسي حقيقة فيه عرفا وكيف كان فهو
لا ينافي منع إطلاق مطلق الحديث عليه عرفا على الحقيقة وقولهم و
لا عادي يخرج حكاية أفعالهم وأقوالهم العادية مما اشتمل عليه كتب
التواريخ وشبهها فإنها لا تسمى خبرا ولا حديثا وذلك كحكايتهم
لفعل غير المعصوم عليه السلام أو قوله نظما أو نثرا أو بعضهم ترك
قوله غير أن ولا عادي فأورد عليه النقض بحكايتهما ثم على الحد
إشكالات منها أن قولهم غير قرآن إما راجع إلى الموصولة أو القول
فقط أو إليه مع تالييه فعلى الأول ينتقض طرد الحد
266

بما سبق الاحتراز عنه به مضافا إلى عدم مساعدة عطف قولهم ولا
عادي عليه وعلى الثاني ينتقض طرد الحد بحكاية العادي من فعله و
تقريره لان قولهم ولا عادي عطف على قولهم غير قرآن فيرجع إلى ما
يرجع إليه وعلى الثالث ينتقض عكسه بحكاية فعله في الصلاة
لقراءة سورة معينة أو سورة كاملة أو نحوها أو تقريره عليها مع أنها
داخلة في الخبر قطعا مع أن إرجاع قولنا غير قرآن إلى الفعل و
التقرير يستدعي تكلف الاضمار أي غير متعلقين بقرآن مضافا إلى
انتقاض طرد الحد على التقديرين الأخيرين بحكايته تعالى في
القرآن لقول المعصوم عليه السلام أو فعله وهو كثير كقوله وقيله يا رب
قام عبد الله يدعوه وتقلبك في الساجدين الذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون يوفون بالنذر إلى غير ذلك ولو
عممنا المعصوم عليه السلام إلى الملائكة وسائر الأنبياء فموارد
النقض أكثر ويمكن التفصي عن ذلك بجعل قولهم غير قرآن راجعا إلى
الموصولة والقول وقولهم ولا عادي راجعا إلى القول وتالييه
لكن فيه تعسف ظاهر ومنها أن الحد يصدق على فعل الحاكي به فعل
المعصوم عليه السلام مع أنه لا يسمى خبرا ومنها أن الخبر كثيرا ما
يطلق على ما يتناول الحكاية قول الراوي الغير المعصوم وقوله مع
عدم صدق الحد عليه ويمكن دفعه بالتزام كونه من باب التوسع و
التجوز لكن في مساعدة عرفهم عليه إشكال ومنها أنه يتناول لفتاوي
الفقهاء فإنها من قبيل الحكاية لقول المعصوم عليه السلام بالمعنى
فيفسد الطرد به وجوابه أن مقصودهم بذكر الفتوى ليس حكاية قول
المعصوم عليه السلام بل بيان مؤدى نظرهم واجتهادهم وما ثبت
كونه حكم الله تعالى عندهم بدليل احتجاجهم عليها بقول المعصوم
حيث يكون هو المستند ومنها أنه لا يتناول الاخبار المكاتبة لأنها
حكاية لمكتوبه وهو غير الثلاثة وكذلك الاخبار الحاكية لإشارته كقوله
فقال برأسه لا أو الحاكية لاعراضه أو ما أشبه ذلك ويمكن
الجواب بإدخال الجميع في القول بحمله على الأعم من اللفظ المفيد
وما قام مقامه في الإفادة عرفا أو في الفعل سواء فسر بالمعنى الأعم
من معنى المصدر وحاصله أو خص بالأول أو الثاني لكن الثاني
يوجب تعسفا في إدخال حكاية المكتوب بإرجاعها إلى حكاية الكتابة
و
الأخير يوجب في حكاية فعله بصيغة الفعل وشبهه بإرجاعها إلى
حكاية الحاصل ولا يذهب عليك أن مباحثهم المحررة في الفعل لا
يساعد على تعميم الفعل إليها
ومنها أنه لا يتناول الكلام المسموع من المعصوم إذا لم يكن محكيا
عن مثله فيلزم أن لا يكون أحد وقد سمع منه عليه السلام حديثا في
غير ما حكاه عن مثله وبعضهم رام التفصي عن هذا الاشكال فعرف
الخبر بأنه قول المعصوم أو حكاية قوله إلى آخر ما مر والأظهر أن
يلتزم بخروج ذلك من المحدود فإن كلام المعصوم سنة وهي غير
الخبر في عرفهم ومنعه مجرد استبعاد لا شاهد عليه مع أن قوله
إنشاء غالبا فلا يناسب إدخاله في الخبر بخلاف حكايته فإنه خبر لا
محالة وأما ما ذكره بعض المعاصرين من أن متن الخبر غير الخبر
فكيف يجعل نفس الخبر فللخصم أن يدفع ذلك بجعل الإضافة بيانية
كما في خاتم فضة
فصل ينقسم الخبر باعتبار حال المخبر
كثرة وقلة إلى متواتر وآحاد وعرفوا المتواتر بأنه خبر جماعة يفيد
بنفسه العلم بصدقه واحترزوا بقولهم بنفسه عن خبر جماعة علم
صدقهم بالقرائن الزائدة على الأحوال التي يكون في الخبر والمخبر و
المخبر عنه فإنه لا يسمى متواترا وأما إذا علم صدقهم بالقرائن
الراجعة إلى الأمور المذكورة كلا أو بعضا سمي متواترا ولهذا يختلف
عدد التواتر باختلاف الأحوال ضعفا وقوة وأشكل عليهم بصدق
الحد مع قلة المخبرين كما إذا كانوا ثلاثة أو أربعة وحصل العلم
بخبرهم بضميمة القرائن الداخلة لقوتها مع أنه لا يسمى عرفا متواترا إذ
يعتبر فيه أن يكون للمخبرين كثرة يستند إليها العلم ويمكن دفعه بأن
المراد بالأحوال الداخلة الأحوال التي تكون في أغلب الاخبار و
يمنع حصول العلم بها إلا بضميمة الكثرة وقد يعرف بأنه خبر جماعة
يمنع تواطؤهم على الكذب ويرد عليه مضافا إلى ما مر صدقه على
خبرهم المحفوف بالقرائن الخارجة وأن امتناع تواطئهم على الكذب
لا ينافي كذبهم بدون التواطؤ عليه إلا أن يقال المراد بتواطئهم
مجرد موافقتهم وإن تجرد عن القصد والنبأ وهو خروج عن ظاهر
الحد من غير قرينة عليه ويمكن أن يعرف بأنه خبر جماعة يفيد
العلم بصدقه لكثرتهم والقيد الأخير لاخراج ما مر والمراد به الكثرة
الخاصة بقرينة الإضافة فيتناول القرائن الداخلة في المخبرين وأما
القرائن الداخلة في الخبر والمخبر عنه فهي راجعة إلى خصوصية
الخبر فلا يقدح اعتبارها في العلم وأما القرائن الداخلة في المخبر
فالمراد بها الأحوال الحاصلة فيه الموجبة لسرعة قطعه به أو بطائه
فالحق عدم العبرة بها بل المدار على إفادته للعلم عادة كما سيأتي و
هذه الحدود يتناول المتواتر بالمعنى أيضا إذ المراد بالخبر ما يتناول
الصريح وغيره وإخبارهم عن الكل أو الملزوم في قوة الاخبار
عن الجز أو اللازم ثم يعتبر في المتواتر أمور قد أفصح الحد عنها منها
أن يبلغ المخبرون في الكثرة حدا يمتنع كذبهم أجمع عادة ولو
على سبيل السهو والخطأ سواء اتحدت الطبقة أو تعددت لكن يعتبر
في صورة التعدد
أن يتحقق التواتر في كل طبقة سواء علم تحققه بالتواتر أو بغيره من
الطرق العلمية ولا حصر لأقلهم بل المرجع فيه إلى العادة وحصره
بعضهم في خمسة لعدم حصوله بالأربعة وإلا لم يحتج إلى تزكية
شهود الزنا وآخر في اثني عشر عدد نقباء بني إسرائيل لأنهم إنما
أخبروا لحصول العلم بخبرهم وآخر في عشرين لقوله تعالى وإن يكن
منكم عشرون الآية وذلك ليحصل العلم إذا أخبروا بإسلام
المقاتلين وآخر في أربعين لقوله تعالى حسبك الله ومن اتبعك من
المؤمنين وكانوا أربعين والكفاية إنما تكون إذا حصل العلم
بخبرهم وآخر في سبعين عدد ما اختاره موسى من قومه حيث أراد
بذلك حصول العلم بخبرهم وآخر في ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد
أصحاب بدر حيث كان يحصل العلم بإخبارهم من معجزات الرسول و
قيل يعتبر أن يكونوا عددا لا يمكن حصرهم وفساد هذه الأقوال
غني عن البيان فلا نطيل الكلام فيه ومنها أن يكون إخبارهم عن
محسوس ولو بحسب آثاره ولوازمه البينة كما في تظافر الاخبار
بشجاعة علي عليه السلام وسخاوته فإن الشجاعة والسخاوة وإن لم
يكونا من الأمور المحسوسة إلا أن
267

ولوازمهما البينة المحسوسة فلا تواتر في الاحكام العقلية ضرورية
كانت ككون الكل أعظم من الجز أو نظرية كحدوث العالم وقدمه و
تركب الجسم من الهيولى والصورة أو الجواهر المفردة لا بمعنى أن
العلم لا يحصل بأقوال أهلها وإن كثروا لوضوح أن العلم قد يحصل
بها كما نجده في أنفسنا بالنسبة إلى بعض المسائل المنطقية و
المباحث الحسابية والهندسية التي لم نزاول مقدماتها ووجدنا أربابها
قاطعين بها متسالمين عليها وذلك بعد علمنا بمدرك تلك العلوم و
طرق استنباطها إجمالا وبعلو مرتبة أربابها فيها فإن العادة قد
يتخيل تظافر مثلهم على الخطأ في الاستنباط عن مثل تلك المدارك
وقد صرح بعض المحققين بأن إطباق جميع من يعتد به من العقلا
الأولين والآخرين على وجود صانع مبدع للأنام مدبر للنظام مما يفيد
العلم العادي بصدقهم وعدم تواردهم على الخطأ في ذلك بل
بمعنى أن اتفاقهم وتسالمهم على قول واحد لا يسمى متواترا وإن
أفاد العلم بصحته والفرق بين الامرين بين ومنها أن لا يكون السامع
عالما لواقعة من غير طريق التواتر ولهذا لا يقال وجود بلداننا التي
شاهدناها متواترة عندنا وعلل بأن الخبر حينئذ لا يفيد العلم للزوم
تحصيل الحاصل ويشكل فيما لو تأخرت المشاهدة عنه ومنها أن لا
يكون السامع قد سبق إليه شبهة أو تقليد يؤدي إلى عدم الوثوق
بالخبر ذكره السيد ورام بذلك الفرق بين الأخبار المتواترة بوجود
البلدان والأخبار المتواترة بكثير من معجزات النبي صلى الله عليه
وآله التي يتفرد بها المسلمون ورواية النص الجلي على إمامة علي
عليه السلام وخلافته التي يتفرد بها الامامية والتحقيق أن هذا
الشرط شرط في حصول العلم بالتواتر لا في تحققه فإنا نقطع بأن
الأخبار المذكورة متواترة عند كثير من لا يقول بمقتضاها من الكفار
والمخالفين وإن أنكروا كونها متواترة لعدم إفادتها للعلم عندهم ولهذا
نقول إن الحجة قد تمت ولزمت في حقهم إذ لا عبرة بشبهة
الجاحد بعد وضوح مسالك الحق وظهورها وقد يشترط في التواتر أن
يكون المخبرون من أهل بلدان مختلفة واعتبر بعض اليهود أن
لا يكونوا من أهل دين واحد
وهما بمكان من الضعف والسقوط وافترى بعض العامة علينا القول
باشتراط دخول المعصوم في المخبرين ولعله توهم ذلك مما يقول
به جماعة من أصحابنا في حجية الاجماع
فصل قد يتحقق التواتر بالنسبة إلى المدلول المطابقي للخبر
فإن اتحد المدلول المطابقي للاخبار علم به صدق الجميع بناء على
تفسير الصدق بمعناه المشهود كالاخبار بأن مكة موجودة وإن
اختلف مداليلها ولم يكن بينهما تلازم علم بالتواتر صدق بعض منها لا
على التعيين وفي إطلاق المتواتر على مثل ذلك وجه غير بعيد و
ذلك كما لو أخبرنا مخبر بأنه سأل زيدا فأعطاه دينارا وآخر بمثله و
هكذا إلى أن تظافرت الاخبار عندنا بذلك فيقطع بها أن زيدا قد
أعطى سائلا دينارا أو أعطى جماعة من السائلين منهم دنانير وهذا
القدر المتيقن صدقه بالتواتر من تلك الأخبار مدلول مطابقي لبعض
تلك الأخبار ومن هذا الباب ما نقل لنا من وقائع على أمير المؤمنين
فإنا نقطع بتلك الأخبار لكثرتها وتظافرها صدق جملة منها وإن
جهلنا التعيين وكذا ما نقل عنه عليه السلام من خوارق العادات و
الاخبار بالمغيبات فإن بعضها وإن كان متواترا بالخصوص إلا أن
الحال في كثير منها كما مر وقد يتحقق مثل هذا في خبر الواحد فإنه لو
أخبرنا مخبر بوقائع فقد نقطع بصدق بعضها نظرا إلى امتناع
الكذب في حقه بالنسبة إلى المجموع عادة لكنه لا يسمى متواترا و
لقائل أن يقول لو كان تكاثر الاخبار المختلفة يوجب العلم بصدق
بعضا فلا ريب في أنا نعلم بأن الاخبار الكاذبة الموجودة في الدنيا
لكثرتها تبلغ درجة التواتر بل تزيد عليه فيجب أن نعلم بصدق بعضها
مع أن التقدير علمنا بكذبها أجمع وجوابه أنا لا نعتبر في التواتر عددا
معينا ولا ندعي أن الاخبار متى بلغت عددا مخصوصا لا بد وأن
تكون متواترة بل الامر في حصول التواتر عندنا محال إلى العادة فمتى
بلغت الاخبار في الكثرة ولو بمساعدة الامارات الداخلة بحيث
يستحيل أن تكون بأجمعها كذبا كان ذلك تواترا والكثرة بهذا الاعتبار
تمتنع تحققها في الفرض المذكور وإن أريد أن تكاثر الاخبار
المختلفة لا يفيد العلم بصدق شئ منها وإن بلغت في كثرة ما بلغت
فمكابرة جلية إذ يشهد ضرورة الوجدان بخلافه شهادة بينة وقد
يتحقق التواتر بالنسبة إلى المدلول التضمني للخبر كما لو أخبرنا مخبر
بأن زيدا كان في ذلك في وقت كذا في موضع كذا من الكوفة و
آخر في موضع آخر منها وهكذا فيمكن أن يحصل لنا العلم بتلك الأخبار
بأنه كان في وقت في الكوفة وهو مدلول تضمني لتلك الأخبار
وقد يتحقق بالنسبة إلى المدلول الالتزامي وهذا قد يكون اللازم فيه
لازما لكل واحد من الاخبار وقد يكون لازما للقدر المشترك
بينها وقد يكون لازما للقدر المعلوم به منها وإن كان هو الجميع وأيضا
قد يكون اللازم مما أريد إفادته بتلك الأخبار وقد لا يكون
كذلك ثم الغالب في تواتر اللازم أن يتواتر معه الملزوم أيضا سواء كان
معنى مطابقيا لها معينا أو مرددا أو تضمنيا استند العلم باللازم
إلى العلم بالملزوم أولا وقد يتواتر اللازم بدون الملزوم فيعلم به صدق
اللازم دون الملزوم ولا يجوز حينئذ أن يستند العلم باللازم
إلى العلم بالملزوم إذ التقدير انتفاؤه بل إلى الاخبار به اللازم للاخبار
بالملزوم وحصول التواتر في اللازم مع عدمه في الملزوم إنما
يتم عند اختلافها في عدد التواتر وذلك كما لو أخبرنا مخبر بقطع عنق
زيد وآخر بإحراقه وآخر بإلقائه من شاهق وآخر بإلقاء حجر
عظيم عليه إلى غير ذلك من الاخبار بأسباب موته فيمكن أن يحصل
لنا من تلك الأخبار العلم بموته الذي هو مدلولها الالتزامي وإن لم
نقطع بشئ من تلك الأسباب بل جوزنا موته بسبب آخر ولا يذهب
عليك أن هذا لا يتم إلا حيث يكون اللازم لازما لكل واحد من الاخبار
أو ما يقرب من ذلك بحيث يمكن تحقق التواتر فيه بها فلو كان اللازم
لازما لمجموع الاخبار خاصة امتنع تحقق هذا القسم فما ذكره
بعض المعاصرين من أن التواتر قد يتحقق بالنسبة إلى اللازم الذي هو
لازم لمجموع الاخبار وإن لم يكن
268

لازما لآحادها مع عدم العلم بصدق شئ منها فغير واضح وقد نزل
على ذلك كلام العضدي في التواتر المعنوي وعبارته صالحة للتنزيل
على غير ذلك كما لا يخفى على من لاحظها
تنبيه
قال الفاضل المعاصر قد يشتبه ما يحصل العلم فيه بالتسامع والتظافر
وعدم المخالف بالتواتر فمثل علمنا بالهند والصين وحاتم ليس
من جهة التواتر لأنا لم نسمع ذلك إلا من أهل عصرنا ولم يرووا لنا عن
سلفهم أصلا فضلا عن عدد يحصل به التواتر وذلك وإن لم
يستلزم عدم حصول التواتر في نفس الامر إلا أن علمنا لم يحصل من
جهته بل الظاهر أنه من إجماع أهل العصر وعدم نقل مخالف عن
سلف وذلك نظير الاجماع على المسألة الشرعية وأكثر الأمثلة التي
تذكر في الباب من هذا القبيل وليس من باب التواتر وكم من فرق
بينهما والمثال المناسب لهذا العصر نقل زلزلة تتفق في بلد ويتظافر
المشاهدون لها في الاخبار عنها حتى يحصل القطع بها انتهى
ملخصا أقول تحقق التواتر في الأمثلة التي ذكرها ونظائرها مما لا
مجال لانكاره ودعوى استناد العلم فيها إلى مجرد الاتفاق مما لا
إشكال في فساده ومنشأ هذا الوهم عدم الفرق بين نفس التواتر وبين
الطريق الموصل إليه وتحقيق المقام أن التواتر على ما عرفت هو
إخبار جماعة يمنع كثرتهم تواطأهم على الكذب ولا ريب أن وجود
التواتر في الخارج بمجرده لا يوجب العلم بالواقعة بل لا بد من العلم
به والطريق إليه أمور منها الوقوف عليه بسماع الخبر من العدد الذي
يحصل التواتر بخبرهم وهذا لا يجري إلا حيث يتحد فيه الطبقة و
ما ذكره من مثال الزلزلة من هذا القبيل وكذا مثال وجود الهند بالنسبة
إلى كثير من الناس ومنها أن يعلم به بتواتر الاخبار به كإخبار
كل مخبر في الطبقة الأولى عن كل مخبر في الطبقة الثانية وهكذا أو
إخبار كل مخبر عن مخبر مغاير لمخبر الاخر ولا يلزم حينئذ أن
يزيد الطبقة العالية على عدد التواتر ليحصل العلم بإخبار عدد يحصل
به التواتر في تلك الطبقة بل يكفي تنزيل كل سلسلة منزل خبر
واحد فإذا امتنع اتفاق الجميع على الكذب لكثرتها كان تواترا ومن
هذا الباب حديث الغدير الذي ترويه الخاصة والعامة بطرق متكثرة
ومنها أن يعلم به خبر الواحد المحفوف بالقرائن الصدق ومنه إخبار
المعصوم به ومنها طريق الحدس وهو الغالب في العلم بحصول
التواتر في الطبقة العالية بيانه أنا إذا وجدنا
أهل زماننا متفقين على الاخبار صريحا أو التزاما بوقوع واقعة مثلا في
سالف الزمان فقد نقطع بملاحظة العادة في تلك الواقعة أن
اتفاقهم على ذلك لا يكون إلا عن اتفاق مثله على الاخبار بذلك إلى
أن ينتهي السلسلة إلى الشاهدين اللذين نقطع بمقتضى العادة في تلك
الواقعة بلوغهم درجة التواتر فيكون علمنا بالواقعة مستندا إلى التواتر
المتأخر الكاشف عن التواتر المتقدم المعلوم لنا بطريق الحدس و
ما ذكرنا من مثال وجود حاتم من هذا القبيل وقد يستكشف بإخبار
جماعة عن إخبار جماعة أخرى يحصل عدد التواتر بخبر مجموعهم
فاتضح أن ما زعمه من أن أكثر أمثلة الباب من باب الاتفاق دون التواتر
مما لا وجه له فتفطن ولا تغفل
فصل اتفق أهل العقل على إمكان التواتر ووقوعه
وحصول العلم به وخالف في ذلك السمينة والبراهمة ولهم على
ذلك شكوك واهية منها أنه كاجتماع الخلق الكثير على طعام وأنه
ممتنع وجوابه منع المشابهة إن أريد به الطعام الواحد بالشخص
لامكان الاجتماع وتوفر الدواعي غالبا هنا دون ما ذكروا إن أريد به
الواحد بالجنس أو بالنوع فامتناعه ممنوع لا سيما الأخير وسند العيان
مغن عن سند البيان ومنها أن كل واحد من المخبرين يجوز عليه
الكذب وذلك يستلزم تجويز الكذب على الجميع لأنه نفس الآحاد و
جوابه منع الملازمة بدليل أن آحاد العسكر لا يقومون بفتح البلاد
بخلاف الجميع مع أنه نفس الآحاد وأن الجماعة الكثيرة يقومون برفع
الحجر العظيم بخلاف آحادهم إلى غير ذلك من النظائر ومنها
أنه يقتضي العلم بالمتناقضين إذا وقع التواتر فيهما وجوابه المنع من
جواز وقوع مثل ذلك عادة ولو سلم فهو ممتنع بالنسبة إلى
شخص واحد في زمن واحد نعم يصح وقوعه بالنسبة إلى شخصين أو
شخص واحد في زمانين لكنه لا يوجب محالا كما في سائر الأدلة
القطعية المتعارضة ومنها أنه يوجب تصديق اليهود والنصارى فيما
نقلوه عن موسى وعيسى عليه السلام من أنه لا نبي بعدهما وذلك
ينافي نبوة محمد صلى الله عليه وآله وهذا منهم دليل إلزامي وجوابه
منع ثبوت الخبر المذكور عندهم بطريق الآحاد فضلا عن تواتره
عندنا كيف والمذكور في التوراة والإنجيل خلاف ذلك ومجرد
الدعوى غير مسموعة وقد يقال إن بخت النصر قد استأصل اليهود و
لم يبق منهم عدد يحصل التواتر بخبرهم ومنها أنه لو حصل به العلم
الضروري لكان كسائر الضروريات وليس كذلك لأنا إذا راجعنا
وجداننا فرقنا بين علمنا بوجود إسكندر وعلمنا بأن الواحد نصف
الاثنين والجواب أن الضروريات قد تختلف وضوحا وخفاء ولزوم
التساوي فيها ممنوع والوجدان أوضح سند على ذلك ومنها أن
الضروري يستلزم الوفاق وقد خالفناكم والجواب منع الملازمة لجواز
العناد والمباهتة واعلم أن هذه الشكوك لو تمت لدل الأول منها على
استحالة وقوع التواتر والشكوك الثلاثة التي بعدها تدل على عدم
حصول
العلم منه بالنسبة إلى من تفطن لها والتزم بصحتها والشك الذي بعدها
يقتضي أن لا يكون العلم الحاصل منه ضروريات والشك الأخير
يقتضي أن لا يكون العلم بكونه مفيدا للعلم ضروريا
فصل اختلفوا في العلم المستفاد من التواتر
فالأكثرون على أنه ضروري وذهب قوم إلى أنه نظري وفصل بعضهم
فجعل بعض أنواعه ضروريا وبعضها نظريا وعن الغزالي أنه
جعله قسما ثالثا فقال في بعض مصنفاته على ما نقل عنه العلم
الحاصل بالتواتر ضروري بمعنى أنه لا يحتاج إلى الشعور بتوسط
واسطة
مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن وليس ضروريا بمعنى أنه
حاصل من غير واسطة قال التفتازاني يريد أنه ليس بديهيا
أوليا ولا كسبيا بل من الضروريات التي قياساتها معها كقولنا العشرة
نصف العشرين وقد ينزل كلامه على أنه من النظريات التي
يشترك فيها الخواص
269

والعوام ونقل عنه العلامة في التهذيب القول بالنظرية ولعله ناظر إلى
هذا التنزيل وهو أوفق بما بنى عليه من توقفه على توسط
مقدمتين وإن كان الأول أوفق بتسميته له ضروريا والحق عندي ما
ذهب إليه الأولون لنا أنه لو كان نظريا لاستدعى حصوله توسط
مقدمتين والتالي باطل أما الملازمة فلان ذلك هو الشأن في جميع
النظريات كما لا يخفى على الخبير بعلم الميزان وأما بطلان التالي
فلانا إذا رجعنا وجداننا وجدنا أنفسنا عالمين بالمتواترات بمجرد
العلم بتواترها من غير حاجة إلى ملاحظة أمر آخر فلو توقف العلم
بها على مقدمة أخرى لوجب ملاحظتها أيضا وسيأتي لهذا مزيد بيان
واستدلوا على ذلك أيضا بوجوه آخر منها أنه لو كان نظريا لما
حصل لمن ليس له أهلية النظر والاكتساب كالعوام والبله والصبيان و
بطلان التالي قاض ببطلان المقدم ويشكل لجواز أن يكون
علمهم مستندا إلى التقليد ولذا نراهم يقطعون بأخبار الأحاديث لا
يقطع بها غيرهم على أنا لا نسلم قصورهم عن إدراك النظريات
مطلقا وإنما المسلم قصورهم عن إدراك النظريات الخفية ونفي
الخاص لا يستلزم نفى العام ومنها أنه لو كان نظريا لما حصل مع
ترك النظر قصد أو التالي باطل بيان الملازمة أن النظري ما يكون
الطريق إلى اكتسابه إعمال النظر وقضية ذلك عدم حصوله على
تقدير إهمال النظر وأما بطلان التالي فلانا نجد أنفسنا عالمين بوجود
مكة مثلا وإن قطعنا النظر عن كل نظر ويشكل بجواز أن
يكون نظريا مكتسبا من أوائل البديهيات بحيث ينتقل إليها في بادي
النظر من غير إعمال روية ولو سلم فإنما يتم بالنظر إلى النظر
الابتدائي إذ بعد النظر والوصول إلى المقصود يكفي في العلم به العلم
الاجمالي بوجود ما يوجبه ونقيضه ولا حاجة إلى ملاحظته
تفصيلا ومنها أنه لو كان نظريا لساغ الخلاف فيه ولم يعد مخالفه
مباهتا ومكابرا كما في غيره من النظريات وبطلان التالي معلوم
بالضرورة ويشكل أولا بمنع الملازمة لجواز أن يكون من النظريات
الجلية التي تبتني على مقدمات واضحة بحيث يتنبه لها بأدنى توجه
والملازمة إنما تسلم في النظريات الخفية وثانيا بالمنع من بطلان
التالي مطلقا وإنما المسلم بطلانه في المتواترات الجلية احتج القائل
بنظريته
بأن حصوله يتوقف على توسط مقدمتين وهما أن المخبرين جماعة لا
داعي لهم إلى الكذب والمخبر عنه محسوس فلا يشتبه وأنه كلما
كان كذلك فخبرهم ليس بكذب والجواب أن العلم بصدق الخبر لا
يستند إلى ملاحظة هاتين المقدمتين بل العلم بمقدمة الأولى كاف في
العلم به من غير حاجة إلى ضم المقدمة الثانية إذ العلم بها في مرتبة
العلم بصدق الخبر أو مستند إليه فلا يتوقف عليه وبهذا يظهر فساد
ما ذكره الغزالي من أن العلم بصدق المتواتر يتوقف على توسط
مقدمتين وإن لم يشعر العالم بهما إحداهما أن هؤلاء مع كثرتهم و
اختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع والثانية أنهم اتفقوا
على الاخبار عن هذه الواقعة ووجه فساده أن الذي يتوقف عليه
حصول
العلم بالتواتر إنما هو العلم بإخبار الجماعة الكثيرة بالصفات المعتبرة
عن الواقعة الخاصة وأما ما ذكر في المقدمة الأولى من أنه لا
يجمعهم على الكذب جامع فهو عين النتيجة وفي مرتبتها فلا يتوقف
العلم بها عليه وليس مجرد إمكان تأليف قياس ينتج المطلوب
موجبا لكونه نظريا بل لا بد معه من كونه مستفادا منه وإلا لأمكن تأليفه
في كل ضروري كقولنا الكل مشتمل على الجز وزيادة وكل
مشتمل على الجز وزيادة فهو أعظم من الجز فالكل أعظم من الجز
ونحو هذا ما أبصرته متحركا وكل ما أبصرته متحركا فهو
متحرك فهذا متحرك إلى غير ذلك احتج المفصل بأن من المتواتر ما
يعلم صدقه بالضرورة كوجود مكة ومنها ما ليس كذلك كمعاجز
الأنبياء والأئمة فإن حصول العلم بتلك الأخبار يتوقف على إمعان
النظر فيها والوقوف على حال المخبرين من تكاثرهم وتباين
آرائهم واختلاف بلادهم وتحرزهم كلا أو بعضا عن تعمد الكذب و
كون المخبر عنه أمرا حسيا غير صالح لوقوع السهو والخطأ فيه
منهم إلى غير ذلك من الأمور التي تعتبر في حصول العلم بصحة الخبر
ولا بد من ملاحظة تلك الأمور والالتفات إليها في حصول العلم
حتى أنه لو اتفق ذهول المخبر عنها فربما زال عنه العلم بصدق الخبر و
احتاج في تحصيله إلى مراجعة جديدة والجواب أن توقف العلم
على ملاحظة هذه الأمور في بعض الموارد والأحوال تفصيلا لا تصيره
نظريا وإن كانت
تلك الأمور كلا أو بعضا خفية في حد أنفسها أو عند الناظر لان النظري
على ما تحقق في محله وأشرنا إليه هو ما يتوقف الانتقال إليه
على توسط مقدمتين مشتملتين على هيئة القياس وما عدا ذلك لا
يعد نظريا وإن توقف الانتقال إليه على توسط أمر خفي ولو نظري
كالتصديق البديهي المتوقف على تصورات نظرية فحكم العقل بامتناع
تواطئ المخبرين واجتماعهم على الكذب كما قد يستند إلى أمر
جلي ينتقل إليه في بادي النظر ككثرتهم واختلاف دواعيهم بحيث
يستغنى عن ملاحظة سائر الاعتبارات كذلك قد يستند إلى أمر خفى
لا ينتقل إليه إلا بعد التخلية عن الشبهات والتأمل في حال المخبرين و
الخبر بطريق الانصاف فكما أن الأول ضروري كذلك الثاني
ضروري وما يكشف عما ذكرناه وقوع مثله في الحسيات فإنه قد
ينتقل إلى مؤداها بأدنى توجه وقد ينتقل بعد التخلية وتلطيف
الادراك مع أنه لا تأمل في أن مدركاتها ضرورية مطلقا
فصل خبر الواحد ما لم يبلغ حد التواتر
سواء كان المخبر واحدا أو أكثر وسواء أفاد العلم أو لا وينبغي أن يقيد
بما إذا كان المخبر غيره تعالى وغير المعصوم عليه السلام إذ
لا يعد إخباره تعالى وإخبار المعصوم عليه السلام في عرفهم من باب
الاخبار الآحاد وعرفه التفتازاني بما لا يفيد العلم بنفسه أي بدون
القرائن الخارجة وأورد عليه بالخبر المفيد للعلم بالنظر إلى القرائن
الداخلة ويمكن دفعه بأن المراد بالقرائن الخارجة القرائن التي
ينفك نوعها عن الخبر غالبا ويقابلها القرائن الداخلة وهي التي لا
ينفك نوعها عن الخبر غالبا والخبر بالنسبة إلى القرائن التي لا
تنضم إليه غالبا لا يفيد العلم ولهذا نجد ما نفيده منه نادرا وقد نبهنا
على هذا في المتواتر لكن يحتاج الحد على هذا التقدير إلى التقييد
السابق وقد يحد بما أفاد الظن وهو منقوض بما لا يفيده
270

سواء أفاد غيره كما مر أو لم يفده أيضا إما لسبقه بأحدهما أو لاحتفافه
بأمارات توجب عدم الاعتداد به ولو أفاد قوة الظن وقلنا بأن
الضعيف منه يخالف القوي في النوع وبأن الجنس لا يبقى بعد انعدام
الفصل أمكن شمول الحد له ويبقى النقض بما عداه وقد يجاب بأن
المراد ما أفاده بنفسه فلا يقدح عدم إفادته له لمانع ويشكل بأن الخبر
في نفسه لا يفيد شيئا وإنما يفيده بضميمة القرائن الداخلة و
الخارجة ولو أريد به تجريد النظر عن القرائن الخارجة فقط بقي النقض
بحاله لان الخبر بالنظر إلى القرائن الداخلة قد يفيد العلم وقد
لا يفيد الظن أيضا ويمكن دفعه بما ذكرناه في حد التفتازاني وينقسم
باعتبار كثرة رواته وعدمها إلى مستفيض وغير مستفيض لان
رواته إن كان فوق الثلاثة فهو المستفيض وإلا فغيره وبعضهم يجعل
المستفيض أعم من المتواتر وهو غير معروف وباعتبار حال
الراوي إلى خبر عدل وإلى خبر غيره واختلفوا في خبر العدل فقيل
يفيد العلم مطلقا وقيل لا يفيده مطلقا وهما في طرفي إفراط و
تفريط والحق ما ذهب إليه الآخرون من أنه قد يفيده إذا انضمت إليه
القرائن وقد لا يفيده بل الحق عدم اختصاصه بخبر العدل فإن خبر
الفاسق أيضا قد يفيده كما يظهر من كلام كثير بل الظاهر أنه لا قائل
بالفرق في ذلك ولهذا حرر النزاع في مطلق خبر الواحد من ترك
التعرض للقول الأول لنا شهادة الوجدان بذلك فإنا كثيرا ما نعلم الوقائع
بإخبار آحاد يخبروننا بها حيث لا يخالجنا في صدقهم شك و
ارتياب وقد مثلوا لذلك بأنه إذا أخبر ملك بموت ولد له قد أشرف
عليه وخرجن المحذورات على صورة منكرة لا يخرجن لغير موت
مثله عادة فإنا نقطع بصدق ذلك الخبر وأما ما يقال من أن المفيد للعلم
هو القرائن دون الخبر فمدفوع بأن المفيد هو الخبر بمعونة
القرائن إذ قبل الخبر كنا نجوز موت غيره احتج المانع بوجوه منها أنه لو
أفاد العلم لكان عاديا والتالي باطل بيان الملازمة أنه لا ترتب
ولا علية إلا بإجراء الله عادته بإيجاد شئ عقيب آخر وأما بطلان
التالي فلانه لو كان عاديا لاطرد ومن المعلوم خلافه والجواب إن
أريد بلزوم الاطراد لزومه في الاخبار
المحفوفة بالقرائن المقتضية للعلم فبطلان التالي ممنوع أو في مطلق
الاخبار حتى المجرد عن القرائن فالملازمة ممنوعة ومنها أنه يؤدي
إلى تناقض المعلومين إذا حصل الاخبار بهما على ذلك الوجه إذ وقوع
مثل ذلك جائز وهو يؤدي إلى الجمع بين المتناقضين والجواب
المنع من ذلك لأنه متى اتفق وقوع مثل ذلك لاحد في قضية امتنع أن
يتفق مثله في نقيضها معه إذ يعتبر في حصول العلم بأحدهما عدم
الاخر وإن أريد لزوم حصول العلمين في زمانين فبطلانه ممنوع
لتحققه في سائر الأدلة القطعية ومنها أنه لو أفاد العلم لوجب القطع
بتخطئة من يخالفه بالاجتهاد وهو باطل بالاجماع والجواب أن وقوع
ذلك عندنا في الاحكام غير ثابت وعلى تقدير ثبوته ممتنع
بطلان التالي والاجماع المدعى عليه توهم لأنه على غير الجهة
المحفوف هذا ويلزم على القول الأول أن لا يحتاج في الشهادة إلى
تعدد
الشهود بل يلزمه أن يكتفي بقول المدعي مع عدالته وأن يمتنع
التعارض في أخبار العدول مع أن المناط في إفادة العلم وصف العدالة
و
هي تثبت بأمارة ظنية كالاستصحاب فكيف يستند العلم بالصدق إليها
فصل لا ريب في جواز التعبد بخبر الواحد
المحفوف بالقرائن التي تفيد بمعونتها العلم عقلا وشرعا كالخبر
المتواتر وهو موضع وفاق وأما المجرد عنها فالمعروف بين
أصحابنا جواز التعبد به عقلا وأنكره بعض قدماء أصحابنا كابن قبة
فمنع منه عقلا وحكى ذلك عن جماعة من مخالفينا أيضا والتحقيق
أن القائلين بالجواز إن أرادوا به الجواز بمعنى عدم حكم العقل فيه
بالامتناع والقبح الواقعيين كما يظهر من احتجاجهم عليه بالضرورة
فالحق هو الجواز والمستند ما ذكروه وإن أرادوا به الجواز الواقعي
بمعنى أن العقل يحكم بأنه لا قبح في العمل به واقعا وأنه لا يمتنع
منه تعالى بمقتضى الحكمة أن يكلفنا بالعمل به كما يظهر من بعض
المعاصرين فالحق بطلان القول بالجواز كالقول بالامتناع إذ ليس
العمل بخبر الواحد مما يدرك العقل جهاته الواقعية حتى يحكم فيه
بجواز أو امتناع بالأحكام وإن أرادوا به الجواز الظاهري بمعنى عدم
القبح ما لم ينكشف الخلاف فإن اعتبر مطلقا فالحق خلافه لان العقل
لا يستقل بجواز الاعتماد على خبر الآحاد في معرفة الاحكام ولو مع
التمكن من العلم ولو خص بصورة الانسداد فلا ريب في ثبوت الجواز
لكن يبعد حد التزام المانع بالمنع فيها بل ظاهر كلامه ينصرف
إلى غيرها إذ لزوم التكليف بالمحال على تقديره جلي والذي ينبغي
للمانع حينئذ أن يحيل الفرض المذكور لا أن يمنع عن حجية خبر
الواحد على تقديره وحيث علمت أن الأظهر من وجوه محل النزاع
هو الوجه الأول فلنجري الكلام عليه فنقول الحجة على ما اخترناه من
الجواز قضاء الضرورة به وقد أشرنا إليها وأما المانعون فقد احتجوا
بوجهين الأول أن العقل يجوز كذب المخبرين وعلى تقدير
كذبهم يؤدي العمل بخبرهم إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال وهو
قبيح عقلا فيمتنع تجويزه والجواب من وجهين الأول النقض
بالفتوى بناء على عدم التصويب كما هو الصواب أو بشهادة الشاهدين
وما قام مقامهما وبالأصول المسلمة كأصل البراءة وبالظنون
اللفظية ونحو ذلك ووجه النقض أنه قد يقع الخطأ في مؤدى هذه
الطرق كما يشهد به الاعتبار
والاختبار وعلى تقديره يجري فيها ما ذكروه في خبر الواحد بعينه من
لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال فيلزم عدم جواز التعويل
عليها وهو باطل بالضرورة والاجماع وربما أمكن النقض بالقطع أيضا
لوقوع الخطأ فيه وإن كان أقل من غيره وأما ثانيا فبالحل و
هو أنه إن أريد بتحليل الحرام وتحريم الحلال وتحليل ما هو حرام
ظاهرا فالملازمة ممنوعة إذ ثبوت الاحكام في الظاهر منوط
بمساعدة الأدلة عليها ولا فرق حينئذ بين أن يعتبر التحليل والتحريم
المستفاد من خبر الواحد ظاهريين أو واقعيين وإن أريد تحليل
ما هو حرام واقعا وتحريم ما هو حلال واقعا فإن اعتبر التحليل و
التحريم من حيث الواقع فالملازمة أيضا ممنوعة وإن اعتبر من حيث
271

الظاهر فبطلان التالي ممنوع فإن ثبوت الاحكام عندنا تابع لحسن
تشريعها فقد يحسن وضع القاعدة وتعميمها إلى مواردها تسهيلا
لأمر التكليف وإن أدى إلى ارتكاب القبيح الواقعي ومن هذا الباب
جواز الاعتماد على الامارات الشرعية من الاستصحاب وقول ذي
اليد
والشهادة مع إمكان الفحص عن الواقعة وتحصيل العلم بها ولو قرر
النزاع في صورة انسداد باب العلم وبقاء التكليف فالمنع أوضح إذ
قد يحسن الامر بالقبيح محافظة على ما هو أعم منه من فعل الحسن و
يحسن النهي عن الحسن محافظة على ما هو أهم من ترك القبيح
فكما أن القبيح قد يكون مقدمة تعيينه لما هو أهم منه من فعل الحسن
فيجوز لنا ارتكابه بل يجب للتوصل إليه مع علمنا بقبحه وقد يكون
الحسن سببا لحصول قبيح تركه أهم من فعله فيجوز لنا تركه بل يجب
تحرزا عن حصول القبيح مع علمنا بحسبه فكذلك الحال فيما لو
اشتبه علينا الحال فلم يمكن من تميز القبيح عن الحسن فيحسن في
حقنا ارتكاب القبيح أو ترك الحسن للتوصل إلى الأهم فيحسن من
الشارع أن يلزمنا به مع قضاء المصلحة بعدم وضع أسباب التمييز ومن
هذا جملة من الطرق الشرعية بالنسبة إلى مواردها التي لا سبيل
لنا إلى تحصيل العلم بها كأخبار الآحاد والشهادات فإنها وإن لم
تستلزم الإصابة للواقع بل قد يتخلف عنها لكن الغالب فيها الإصابة
فجاز أن يحسن منها الاخذ بها بجميع مواردها حتى موارد التخلف مع
عدم العلم به وأن يحسن من الشارع أن يكلفنا به تحصيلا لما هو
الغالب فيها من الإصابة وأما بالنسبة إلى الموارد التي يتمكن فيها من
تحصيل العلم بالواقعة فتسويغ الاخذ بتلك الامارات مبني على
الوجه السابق ثم هذا مبني على ما حققناه في محله من أن حسن
الفعل وقبحه ليسا من لوازمه وذاتياته غالبا بل مبناهما على الوجوه و
الاعتبارات اللاحقة له فيختلفان باختلاف الأحوال فتصح في قتل
النفس المحترمة الذي هو قبيح قبل قيام الشهادة الزور المعتبرة في
ظاهر الشريعة أن يكون حسنا بعد قيامها وهكذا الكلام في نظائر ذلك
وأما ما يجاب به من أن الغرض الداعي إلى تشريع الاحكام
أمران أحدهما الوصول إلى لوازمها وجهاتها الواقعية والثاني إظهار
الامتثال والعبودية والامر الأول وإن جاز تخلفه عن التعويل
على تلك
الطرق إلا أن الامر الثاني مما لا يتخلف عنها بعد تشريع الشارع لها و
الامر بالأخذ بمقتضاها فمع ابتنائه بناء على ما نحققه في محله من
أن جهات التكليف لا ينحصر في جهات الفعل فلا يقول به المجيب
بما لا حاجة إليه في مقام بناء على تخصيصه لمحل النزاع بصورة
انسداد باب العلم وبقاء التكليف كما عرفت من بياننا آنفا وعلى تقدير
عدم التخصيص فالبيان قاصر عن إفادة المدعى الثاني لو جاز
التعويل على خبر الواحد في الاخبار عن المعصوم عليه السلام لجاز
التعويل عليه في الاخبار عن الله تعالى والتالي باطل اتفاقا أما
الملازمة فلان كلا منهما خبر مشتمل على الشرائط المعتبرة في قبوله
فيجب القبول حيثما يتحقق والجواب منع الملازمة فإن الدواعي في
الاخبار عنه تعالى تتوفر على الكذب على تقدير القبول لما فيه من
إثبات منصب الرئاسة والفوز بمقام النبوة والرسالة ومع ذلك
فالاخبار عنه تعالى يستدعي مزيد استعداد يندر حصوله فيتعذر قبوله
ولهذا يحتاج إلى انضمام المعجزة بخلاف المقام واعلم أنه قد
يحكى عن بعض القول بوجوب العمل بخبر الواحد عقلا لما فيه من
دفع الضرر المظنون فإن أراد إثبات ذلك حيث يعلم ببقاء التكليف و
ينسد باب العلم إليه فهو متجه إلا أنه خروج عن محل البحث على ما
عرفت وإن أراد ذلك مطلقا ولو مع انتفاء أحد الامرين ففساده
واضح إذ لا ظن بالضرر حينئذ بل قطع بعدمه لقبح التكليف بدون
البيان المعتبر
فصل ثم اختلف القائلون بجواز التعبد بخبر الواحد عقلا في وقوعه
شرعا
فذهب السيد المرتضى وجماعة من قدماء أصحابنا إلى عدم وقوع
التعبد به وصار الأكثرون إلى وقوع التعبد به وهو الحق لنا وجوه
الأول قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة
منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا
إليهم لعلهم يحذرون وجه الدلالة أن المراد بالنفر أما النفر إلى الجهاد
كما نص عليه بعض المفسرين وذكر أنه لما نزل في المتخلفين
ما نزل كانوا إذا بعث النبي صلى الله عليه وآله سرية إلى الكفار ينفرون
جميعا ويتركونه منفردا فنزلت الآية وعلى هذا فالضمير في
يتفقهوا وينذروا وقومهم وإليهم راجع إلى الفرقة باعتبار ما بقي منهم
وفي البواقي إلى الطائفة وأما النفر إلى طلب العلم وتعلم
الاحكام فالضمير في الثلاثة الأول وفي رجعوا راجع إلى الطائفة وفي
البواقي إلى الفرقة وعلى التقديرين فالمستفاد من الآية وجوب
التحذر عند إنذار الطائفة أو من بقي من الفرقة وهو يقتضي حجية
خبرهم في الانذار أما الثاني فواضح وأما الأول فلوجهين الأول أنها
دلت على وجوب الانذار وهو يستلزم وجوب العمل بمقتضاه بسبب
التحذر وأما وجه دلالتها على وجوب الانذار فلان لولا إما للتنديم
أو للتخصيص وعلى التقديرين يستفاد منها وجوب النفر فإذا كان
المراد بالنفر النفر إلى تعلم الاحكام كان كل من التفقه والانذار
واجبا حيث جعلا غاية للنفر الواجب فإن وجوب شئ لشئ يستلزم
وجوب ما يجب له كما نبهنا عليه عند بحث المقدمة مضافا إلى أن
ذلك هو المفهوم من فحوى الخطاب عرفا ولا سبيل إلى حمل اللام
على العاقبة لأنه مجاز ولا قرينة عليه مع حصول التخلف إلا أن ينزل
على الغالب فيزداد تعسفا لا يقال يكفي في وجوب النفر وجوب
بعض غاياته ولا ريب في وجوب التفقه فيبقى وجوب الانذار منفيا
بالأصل لأنا نقول ظاهر الآية يقتضي وجوب النفر للامرين وهو يقتضي
وجوبهما إذ كما لا يعقل وجوب شئ للتوصل به إلى مندوب
كذلك لا يعقل وجوبه للتوصل به إلى واجب ومندوب والعرف
يساعده على ذلك أيضا ولو فسر النفر بالنفر إلى الجهاد
أمكن أن يستفاد منها بضميمة صدرها وجوب مكث البعض للتفقه و
الانذار ويتم الاستدلال به بالبيان المتقدم وأما وجه استلزام
وجوب الانذار لوجوب العمل بمقتضاه فلان المفهوم من إطلاق
وجوب الانذار عرفا هو جواز العمل بمقتضاه بل وجوبه كما يظهر
بالتدبر في نظائره والظواهر المستندة إلى دلالة الألفاظ حجة وإن
فهمت منها بطريق الالتزام ولأن الامر بالانذار مع المنع من العمل
به يعد
272

لغوا وسفها وهو ممتنع في حقه تعالى وبهذا البيان يتضح وجه
الاستدلال على تقدير ندبية الانذار أيضا فإن رجحانه يستلزم جواز
العمل به لما مر فثبت الوجوب بالاجماع المركب وكذا لو امتنع
استلزام وجوب الانذار لوجوب العمل بمقتضاه كما في حق الولي و
الصبي إذ لا سبيل إلى منع استلزامه لجوازه فثبت الوجوب بما مر لا
يقال لا نسلم انحصار فائدة الانذار في جواز العمل به مطلقا بل يكفي
جوازه في الجملة ولو عند احتفافه بالقرائن القطعية أو بلوغه حد
التواتر لأنا نقول هذه ثمرة نادرة الحصول والاعتبار الصحيح لا
يساعد على اعتبارها في مثل المقام الثاني أن قوله تعالى لعلهم
يحذرون معناه وجوب الحذر لتعذر حمله على ظاهره لاستحالة
الترجي
عليه تعالى ووجوب الحذر عند إنذارهم في معنى وجوب العمل بما
يشمل عليه أخبارهم لا يقال تعذر الحمل على الترجي لا يعين الحمل
على الايجاب لامكان الحمل على الندب لا سيما مع مساعدة الأصل
عليه لأنا نقول قد حققناه سابقا أن الظاهر من الألفاظ المستعملة في
الطلب هو الايجاب بشهادة العرف والاستعمال فلا يصار عليه إلا
الدليل مع أن ثبوت الرجحان كاف في إثبات المقصود بل في إثبات
الوجوب أيضا بضميمة ما عرفت من الاجماع المركب وقد يتفصى
عن السؤال المذكور بوجهين آخرين الأول ما ذكره بعض أفاضل
المعاصرين من أن المقتضي للمحذور إن كان موجودا وجب وإلا لم
يحسن فلا يعقل ندبية الحذر وفيه نظر لان المقتضي قد يكون
محتمل الوقوع فيحسن الحذر تحفظا عن إصابة المحذور كما في كثير
من المكروهات فالملازمة ممنوعة الثاني ما ذكره بعض
المعاصرين من أن ندبية الحذر العمل بخبر الواحد غير معقول لان خبر
الواحد قد يشتمل على إيجاب شئ أو تحريمه ولا يعقل ندبية
العمل بالواجب أو الحرام نعم قد يتصور ندبية العمل بالواجب في
الواجب التخييري لكن لا يكون التخيير إلا بين أمرين وليس الامر
الاخر هنا إلا العمل بالأصل إذ الكلام في حجية خبر الواحد حيث لا
معارض له بالخصوص وحينئذ فإما أن يعتبر التخيير بين الاخذ و
العمل بكل منهما أو بين مؤداهما والأول تخيير في المسألة الأصولية
سواء اعتبر
التخيير بينهما على الاطلاق أو في خصوصيات الموارد أما الأول
فواضح وأما الثاني فلان التخيير فيه من جزئيات التخيير في الأول و
فروعه والمفهوم من الآية على ما بنى عليه المؤول هو التخيير في
المسألة الفقهية دون الأصولية على أن مرجع ذلك إلى التخيير بين
اعتقاد الوجوب وعدمه ولا معنى لجواز اعتقاد الوجوب ومع ذلك
فلا تعارض بين الاعتقادين حتى يستلزم التخيير أرجحية أحدهما
فإن الاعتقاد بجواز العمل بالأصل قبل العثور على الدليل لا ينافي
الاعتقاد بجواز العمل بخبر الواحد بعد العثور عليه ولا سبيل إلى منع
الوجوب وإثبات الجواز مع الاستحباب ليرتفع التنافي إذ بعد بقاء
التكليف بالأحكام وجواز الاستنباط من خبر الواحد يلزم وجوب
العمل به من باب المقدمة ولا يجدي في صحة التخيير إمكان
الاستنباط من الأصل إذ العمل بالأصل إنما يصح عند تعذر معرفة
الحكم
بغيره والثاني تخيير في المسألة الفقهية وهو يؤدي إلى اجتماع
المتنافيين فإن جواز الواجب أو استحبابه غير معقول كما مر وجعله
من
باب التخيير بين العمل بالخبرين المتعارضين أو فتوى المجتهدين غير
مستقيم لان ذلك تخيير عند الاضطرار أو بخلاف المقام فإن
الآية واردة في حق الحاضرين المتمكنين من معرفة الاحكام على أن
التخيير هناك إرشاد لطريق العمل لا لمعرفة أن أحدهما هو الحكم
الشرعي بالخصوص انتهى ملخصا أقول وفيه أيضا نظر لان المفهوم
من التحذير إنما هو العمل على حسب إنذارهم من فعل أو ترك
دون الاتيان به على الجهة التي اشتمل إنذارهم عليها إذ التحقيق أن نية
الوجه غير معتبرة وقد وقع نظير ذلك في السنن عند من
يتسامح في أدلتها إذ كثيرا ما يدل الخبر على وجوب فعل أو ترك وهم
يعملون بها على وجه الاستحباب نظرا إلى قصورها عن إفادة
الوجوب لا يقال الاخبار بوجوب شئ أو تحريمه يستلزم الاخبار
بجواز الاتيان به بنية الوجوب أو تركه بنية التحريم فإذا كان مفاد
الآية استحباب العمل بخبرهم مطلقا لزم المحذور المذكور وكذا لو
فرض تصريح المخبر بذلك لأنا نقول الاخبار بالجواز لا يعد إنذارا
فيخرج عن مورد الآية ولو عمم الحكم إليه بالاجماع المركب يمكن
التمسك
به من أول الامر ولم يحتج إلى التطويل المذكور ثم ما ذكره من عدم
مساعدة التأويل المذكور على التخيير بين العمل بالأصل وخبر
الواحد واضح الاندفاع لان المستفاد من الآية جواز العمل بخبر
الواحد فحمله على الوجوب التخيير لا يقتضي إلا التخيير بين العمل
بخبر
الواحد ومعادله لا التخيير في مؤداهما مع أنه أيضا غير مستقيم كما
عرفت ولقد كان له أن يتمسك أيضا بأن خبر الواحد قد يقتضي
الوجوب التعييني فلا يعقل أن يجب على التخيير العمل بالواجب
التعييني وما ذكره من أن التخيير في المسألة الأصولية راجع إلى
التخيير
بين اعتقاد الوجوب وعدمه غير مستقيم بل راجع إلى التخيير في
البناء على حجية كل من الدليلين وأما ما ذكره من أن التخيير هنا في
مقام الاختيار والتخيير بين الخبرين المتعارضين والفتاوى المتعارضة
تخيير عند الاضطرار فإن أراد أن التخيير في الصورتين إنما
يثبت حال الاضطرار فهو لا ينافي ما أريد بالتنظير وإن أراد أن التخيير
بين الدليلين لا يكون إلا عند الاضطرار فهو في محل المنع ثم لا
يذهب عليك أن ما ذكره من أن الاستحباب يجتمع مع الوجوب
التخيير وقد أوضحنا فساده في بعض مباحث النهي مع أنه لا قائل في
المقام بوجوب العمل بخبر الواحد على سبيل التخيير بينه وبين
العمل بالأصل فلا وجه لإطالة الكلام عليه مما لا طائل فيه واعلم أن
هذه
الآية يتناول إطلاقها الانذار بدون الواسطة ومعها مع تعدد الوسائط و
بدونه لان وجوب العمل بإنذار المنذرين يقتضي جواز التعويل
على روايتهم في معرفة الاحكام وذلك معنى التفقه في الدين فيجب
عليهم إنذار غيرهم ويجب عليهم القبول وهكذا نعم من يزعم أن
العلم بوجوب العمل لا يستلزم العلم بالحكم فله منع دلالتها على
حجية خبر الواحد مع الواسطة إلا
273

يلتزم بعدم توقف الانذار على التقية واعلم أيضا أن إطلاق هذه الآية
تعارض إطلاق منطوق آية النبأ معارضة العامين من وجه فيرجح
إطلاق آية النبأ لتقويته بالتعليل والموافقة للأصل وحينئذ فيعتبر في
المنذرين أن يكونوا عدولا فلا يستفاد من الآية إلا حجية خبر من
يثبت عدالته بالقطع أو بطريق قطع ولا ريب في تعذر الامرين في
زماننا بالنسبة إلى جل أخبار آحادنا المأثورة بل كلها فلا سبيل إلى
استفادة حجيتها من هذه الآية لا يقال إذا تعذر العلم بعدالة الراوي
تعين التعويل فيها على الظن وهو مما يمكن حصوله في حق الموثقين
غالبا لأنا نقول انسداد باب العلم إنما يوجب فتح باب الظن مع العلم
ببقاء التكليف فيه ونحن لا نعلم ببقاء وجوب العمل بخبر الواحد
الواقعي بعد انسداد طريق العلم إليه بل الثابت حينئذ إما ذاك أو
وجوب العمل بمطلق الظن والظنون الخاصة التي من جملتها العمل
بخبر
من يحصل الوثوق بصدقه وإن لم يحصل الوثوق بعدالته مع أن دلالتها
ممنوعة من جهة أخرى أيضا وهي أنه لا خفاء في أن مجرد
الاخبار عن أمر مخوف لا يسمى إنذارا ما لم يقصد معه التخويف و
هذا خلاف طريقة أهل الرواية فإن الذي يظهر منهم أنهم يعنون في
رواياتهم مجرد النقل والحكاية لا إلزام السامع المجتهد بالعمل بما
يروونه بل الامر في ذلك عندهم محال إلى نظره وترجيحه ولهذا
ترى أنهم كثيرا ما يروون الرواية ولا يعملون بها وأما حيث يقصدون
الالزام فهو في الحقيقة من باب الافتاء وعلى مقلديهم ليس حجة
في حق المجتهد قطعا ودعوى حجية إخبارهم على المجتهد عند
انضمامه إلى هذا القصد وإن لم يكن هو معتبرا في حقه لا يخلو عن
مجازفة فإن قلت فعلى هذا يتعين القول بأن المراد بالانذار الانذار
بطريق الفتوى ولا يقدح عدم تعين تقليد مفت على المقلد لان وظيفة
المفتي إنذاره على مذهبه عند عدم تقليده لغيره مما يخالفه وإن لم
يتعين عليه القبول حيث يتعدد المفتي قلت الانذار بطريق الرواية قد
كان متداولا في العصر الأول ومعتبرا كما سيأتي التنبيه عليه في بعض
المباحث الآتية وقضية الاطلاق تعميم الحكم إليه أيضا نعم يتجه
أن يقال إذا ثبت بالآية جواز العمل بالخبر عند قصد
الانذار ثبت مع عدمه لعدم قائل بالفرق ثم على الآية إشكالات أخر
منها أنها صالحة لتنزيل آخر وهو أن المراد بالنفر النفر إلى الجهاد
والمراد بتفقههم أنه إذا شاهدوا غلبة المسلمين مع قلة عددهم و
كونهم بلا زاد ولا سلاح على المشركين مع قوتهم وكثرة عددهم و
شاهدوا في ذلك صنع الله وإعلاء كلمته ووقفوا على المعاجز و
الدلائل على حقية الدين رجعوا إلى قومهم وأنذروهم بما عاينوا من
دلائل الحق ليحذروا عن الكفر والنفاق فلا دلالة للآية على حجية خبر
الواحد وأما تعويل الفرقة الباقية على إخبار الطائفة فليس للحجية
في الشرع وإلا لدار بل لبلوغه حد التواتر أو لانضمامه بالامارات
المفيدة للوثوق بالخبر والجواب أن هذا التفسير وإن كان منقولا عن
بعضهم لكنه شاذ لا يساعد عليه ظاهر مساق الآية فلا يعتد به ومنها
أن المراد بالانذار الانذار بطريق الفتوى دون الرواية بقرينة ذكر
التفقه واعتبار قول الواحد فيها خارج عن محل البحث والجواب أن
الانذار يعم الانذار بطريق الفتوى والرواية وتقييده بالأول خروج
عن الظاهر من غير دليل وليس في لفظ التفقه دلالة عليه لان الفقه في
اللغة المطلق الادراك وتخصيصه بالملكة المخصوصة أو الادراك
المخصوص مبني على اصطلاح مستحدث بين الأصوليين ولو سلم
فلا شهادة فيه على التخصيص فإن الفقيه قد ينذر بطريق الرواية لمن
يعتبر الرواية في حقه وقد يقال لا مدخل للتفقه أعني معرفة الحكم
في قبول الرواية وإنما يعتبر ذلك في قبول الفتوى فاعتباره في
قبول الانذار دليل على أن المراد به الفتوى خاصة وجوابه أن التفقه لم
يعتبر في الآية شرطا لقبول الانذار بل حصل غاية للنفر كالانذار
ولا يلزم من جعل أمرين غاية لشئ أن يكون أحدهما معتبرا في الاخر
ولهذا لا يعتبر في التفقه الانذار مع أن فرض الانذار بطريق
الرواية مع عدم التفقه بعيد جدا والآية واردة على حسب الغالب
المعتاد وقد يخص الآية بالانذار بطريق الرواية لان تعميمها إلى الانذار
بطريق الفتوى يوجب وجوب قبول المجتهد لفتوى مثله فإن القوم
المنذرين قد يكونون مجتهدين أو يكون فيهم
مجتهد مع أن فتاوى المجتهد لا تعتبر في حق مثله فإن قيل تخصيص
الانذار بالانذار بطريق الرواية ليس بأولى من تخصيص القوم بغير
المجتهدين فما وجه الترجيح قلنا عموم القوم المضاف لافراده
وضعي بخلاف شمول الانذار لنوعيه فإنه حكمي فيرجح تقييده على
تخصيصه والتحقيق أن فرض بلوغ القوم المنذرين مرتبة الاجتهاد كلا
أو بعضا بعيد عن سياق الآية فشمول غير واضح بخلاف شمول
الانذار لنوعيه فكان تركه على إطلاقه أولى ولا يقدح ذلك في إثبات
حجية خبر الواحد في حق المجتهد لان ثبوتها في حق غيره يقتضي
ثبوتها في حقه إما لوضوح المناط أو للاجماع المركب فتدبر ومنها أنها
لا يتناول الاخبار التي لا إنذار فيها كأخبار الندب والكراهة و
لا تناول أخبار الوجوب والحرمة أيضا إذا تجردت عن التصريح
بالانذار إذ بمجرد الاخبار بها لا يسمى إنذار والجواب أن الاخبار
بإيجاب شئ أو حرمته في قوة الانذار بتركه أو بفعله وإن لم يصرح به
وإطلاق الانذار يتناول الصريح منه والضمني وقبول قول
الواحد فيهما يوجب قبوله في بقية الاحكام بطريق أولى بل نقول إذا
ثبت وجوب القبول في البعض ثبت في الكل لوضوح المناط وعدم
القول بالفصل ومنها أن الحكم المذكور إنما ثبت في حق المشافهين
فلا يثبت في حق غيرهم إلا بالاجماع وهو منتف في محل النزاع و
الجواب بعد تسليم اختصاص مثل الخطاب المذكور بالمشافهين أنه لا
نزاع هنا في شركة التكليف بل في ثبوت أصل الحكم إذ على
تقدير ثبوته في حق الحاضرين لا كلام في ثبوته في حق الغائبين مضافا
إلى قيام سائر الأدلة الدالة على شركة التكليف من الاخبار عليه
ومنها أن الآية ظاهرة في المقصود والمسألة أصولية يطالب فيها
بالقطع والجواب أن الظواهر التي قام على حجيتها قاطع كظواهر
الألفاظ يعول عليها في المباحث الشرعية وإن كانت أصولية كما أن
الظواهر التي لا دليل على حجيتها لا يعول عليها
274

فيها وإن كانت فروعية الثاني قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا
وجه الدلالة أنه تعالى علق وجوب تبين النبأ على مجئ الفاسق به
فيدل بمفهومه على عدم وجوب التبين عند مجئ العادل به و
مقتضاه جواز القبول لان الامر يطلب البيان إما كناية عن عدم جواز
القبول أو مجاز عنه أو مخصوص بما لو أريد العمل بمقتضى بنائه
فيكون وجوبه شرطيا ويرجع إلى الوجه السابق وبمواضع خاصة لا
بد من التبين فيها منها الواقعة التي نزلت الآية فيها حيث يجب فيها
طلب البيان بمطالبتهم بالصدقات فإن انقادوا إلى الحق وأدوها تبين
كذب النبأ قضاء بظاهر الحال وإن استنكفوا عنها وأظهروا التمانع و
المعادات تبين صدقه ووجب التهجم على جهادهم لكن هذا في
الحقيقة راجع إلى طلب أمر مخصوص تحصل به البيان وليس بطلب
نفس البيان حقيقة وبالجملة فلا بد من حمل الامر بالتبين على أحد
هذه الوجوه للاجماع على عدم وجوب التبين عند خبر الفاسق مطلقا
وعلى هذا فما تداول في كتب القوم في بيان وجه الاستدلال من أنه
تعالى علق وجوب تبين النبأ على مجئ الفاسق به فعلى تقدير مجئ
العادل به إما أن يجب القبول فهو المدعى أو يجب الرد فيلزم أن
يكون العادل أسوأ حالا من الفاسق غير مستقيم إذ مرجع الامر بالتبين
فيما عدا الوجه الأخير إلى رد بنائه وفي الوجه الأخير يجب
التبين في بناء العادل وأيضا إنما يتم ما ذكروه إذا حمل الامر بالتبين
على وجوبه مطلقا وهذا مما لا ذاهب إليه ثم المعروف بينهم أن
الدلالة المذكورة ناشئة من تعليق الحكم على الشرط وبعضهم جعلها
ناشئة من تعليقه على الوصف وعلى كل من التقديرين يتوقف على
القول بثبوت مفهومه وقد حققنا سابقا أن تعليق الحكم على الشرط
يدل على انتفائه عند انتفائه بخلاف التعليق على الوصف فيبطل
الاستدلال على الوجه الأخير وربما جنح إلى التمسك به بعض من
وافقنا في أصله على المنع كالفاضل المعاصر نظرا إلى أن المفهوم من
الآية بمساعدة العرف قبول بناء العادل وهذا ناظر إلى ما حققناه سابقا
من أن التعليق على الوصف وإن لم يكن في نفسه مقتضيا لنفي
الحكم من
غير محل الوصف إلا أنه قد يقتضيه بمعونة المقام أقول وفيه نظر لان
مساعدة المقام على استفادة حكم المفهوم من التعليق على
الوصف بناء على عدم دلالته عليه في نفسه إما أن يكون لقرائن حالية
وثبوتها في المقام ممنوع قطعا أو لقرائن لفظية راجعة إلى
انحصار فائدة في التعليق في الاحتراز أو ظهورها بحسب مقام التعليق
من بين الفوائد فهذا إنما يتصور جريانه بحسب تحصيل الوثوق و
الاعتداد به فيما إذا تعقب الخاص الوصف للموصوف العام كما في
قولك إن جاءك مخبر فاسق أو رجل فاسق بنبأ ونحو ذلك مما
يشتمل على التقييد اللفظي المقتضي اعتباره في الكلام لفائدة زائدة
على فائدة بيان الحكم وظاهر أن المقام ليس من بابه بل من باب
ترجيح التعبير عن موارد الحكم بعنوان خاص على التعبير عنه بعنوان
عام ومثل هذا لا يستدعي فائدة ظاهرة تزيد على فائدة بيان
الحكم في المورد الخاص ومع الاغماض عن ذلك فلا نجد لتعليق
الحكم على الوصف في المقام مزيد خصوصية لا توجد في غيره فإن
ما
ذكروه في منع دلالته على حكم المفهوم في غير المقام من عدم
انحصار الفائدة فيه وأن من جملة الفوائد كون محل الوصف محل
الحاجة
متجه في المقام أيضا مضافا إلى أن له في المقام نكتة أخرى أيضا وهي
التنبيه على أن المخبر المتصف بالفسق بعيد عن مقام الاعتماد و
الاستناد جدا إذ يحتمل في حقه ما يحتمل في حق مخبر العادل من
السهو والنسيان مع زيادة وهي احتمال تعمده الكذب أو تعويله في
خبره على أمارات ضعيفة وأوهام سخيفة ناشئتين من انتفاء صفة
العدالة عنه الحاجزة على الاقتحام في مثل ذلك وهذا ظاهر لا سترة
عليه وأما على الوجه الأول وهو إثبات المفهوم بالتعليق على الشرط
فيتجه فيه الاشكال من وجوه منها أن مفهوم الآية بمقتضى التعليق
على الشرط إن لم يجئكم فاسق بنبأ فلا يجب أن تتبينوا لا إن جاءكم
عادل بنبأ فلا يجب أن تبينوا كما هو المقصود وأجيب بأن عدم
مجئ الفاسق بالنبأ أعم من عدم مجئ أحد به أو مجئ عادل به
فيتناول المقصود
ويشكل بأن المراد بالتبين إما عدم جواز القبول فهذا مما لا يصح
اعتبار نقيضه جزأ للأعم إذ لا معنى لجواز قبول النبأ عند عدم مجئ
أحد به إذ لا نبأ حينئذ حتى يحكم عليه بجواز القبول أو وجوب طلب
ما يحصل به البيان وحينئذ فيتعين تخصيصه بمواضع مخصوصة ولا
ريب في وجوب تبين نبأ العادل فيها أيضا فتعين إلغاء المفهوم بالنسبة
إلى ما هو المقصود من أحد نوعيه ويمكن اختيار الشق الأول و
التزام التخصيص في الشرط بقرينة اختصاص الجزاء ويمكن أيضا
حمل الامر بالتبين على وجوب الرد لا عدم جواز القبول لتساوي
صلوح اللفظ بالنسبة إليهما فيصح اعتباره حينئذ للأعم لكن يبقى
الاشكال حينئذ في ترجيحه ويمكن أن يجعل صحة تعميم المفهوم
من
أماراته ومنها أن قوله تعالى فتبينوا يحتمل للمعنى الأخير من المعاني
المذكورة وعلى تقديره لا يتم الاحتجاج بالآية كما مر ويمكن
دفعه بأنه بعيد عن الظاهر ولا قرينة على إرادته فلا يصار إليه ومنها أن
مفهوم الشرط في الآية عدم وجوب تبين خبر الفاسق عند عدم
مجيئه به لا عدم وجوب تبين خبر العادل عند مجيئه به لوجوب
المحافظة على مادتي الشرط والجزاء منطوقا ومفهوما وإن تغايرا نفيا
وإثباتا لا يقال فيلغو المفهوم حينئذ إذ لا محصل له لأنا نقول ليس
اعتبار المفهوم من اللازم بل قد يلغى وأمثلة كثيرة وبالجملة فعدم
ثبوت محصل للمفهوم يوجب إلغاءه لا تبديله بمادة يكون لها محصل
وربما أمكن أن يقال إنا إن استفدنا من مساق الآية ولو بمساعدة
العرف أنها مسوقة لبيان حال النبأ كانت في قوة قولنا النبأ إن جاءكم
فاسق به فتبينوا فتدل حينئذ على عدم وجوب تبين بناء العادل
بمفهوم الشرط وإن استفدنا أنها مسوقة لبيان حال الفاسق كانت في
قوة قولنا الفاسق إن جاءكم بنبأ فتبينوه فلا يكون لها دلالة على
حكم نبأ العادل والتحقيق أنه على التقدير الأول أيضا لا دلالة لها على
المفهوم لاختلاف لوازم الكلام باختلاف طرق تأديته
275

وبهذا يتضح سقوط الاحتجاج بالآية على المقصود ومنها أن مفهوم
الآية ليس حجة في موردها وهو نسبة الارتداد إلى من ثبت إسلامه
قبلها والتمانع من أداء بعض الحقوق الواجبة إليه فلا يكون لوصف
الفسق مدخل في وجوب التبين أما الأول فلما روي في شأن نزولها
من أن النبي صلى الله عليه وآله أرسل وليد بن عتبة إلى بني المصطلق
ليأخذ منهم صدقاتهم فلما قرب إلى منازلهم خرجوا إليه ليتلقوه
تعظيما لحقه فهابهم لما كان بينه وبينهم في الجاهلية من العداوة
فهرب إلى النبي وأخبره بتمانعهم من أداء الصدقات وقد يروى أنه
أخبر بارتدادهم فنزلت الآية وأما الثاني فلان قول العدل الواحد لا
يقبل في مثل ذلك فلا يكون المنشأ في عدم قبول قول الوليد فسقه
فيكون التعليق للتنبيه على فائدة غير المفهوم كتعيير المخبر وأجيب
تارة بارتكاب التقييد في المفهوم فإنه مقدم على إلغائه بالكلية و
أخرى بأن المراد تبينوا نبأه مطلقا وإن انضم إليه نبأ مثله فيدل بمفهومه
على قبول نبأ العدل في الجملة ولو حيث ينضم إليه نبأ مثله ولا
يخفى ما فيهما من التكلف المستشبع ومنها أن التعليل بقوله أن
تصيبوا قوما بجهالة الآية يقتضي تخصيص الحكم بما إذا كان هناك
إصابة وخوف ندامة على تقدير ظهور الخطأ فيختص بمورده ولا
يتعدى إلى محل البحث والجواب أن الإصابة والندامة على تقدير
ظهور الخطأ قد يتحققان في العمل بخبر الواحد في الاحكام أيضا كما
إذا ورد في قصاص أو حد أو ما أشبه ذلك ويتم الكلام في الباقي
بعدم القول بالفصل ويمكن الجواب أيضا بأن العبرة بعموم الحكم لا
بخصوص التعليل لامكان وروده لتقريب الحكم إلى الفهم في محل
الحاجة أو أن المراد أن العمل بخبر الفاسق مما يؤدي إلى الوقوع في
مثل تلك المفسدة غالبا فلا بد من التحرز عن العمل به مطلقا فتدبر
ويتوجه على الاحتجاج بهذه الآية أيضا إشكالان آخران تقدم ذكرهما
في الآية السابقة وهما أنها خطاب إلى المشافهين فلا يثبت في
حق غيرهم إلا بالاجماع وهو منتف في محل النزاع وأنها ظاهرة بعد
تسليم دلالتها في المقصود والمسألة أصولية يطلب فيها بالقطع و
قد تقدم الجواب عنهما الثالث قوله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا
من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم
الله ويلعنهم اللاعنون وجه الدلالة أن الموصولة بعمومها يتناول
الأحكام الشرعية والتهديد على كتمانها يقتضي وجوب بيانها و
إظهارها وهو يقتضي وجوب عمل السامعين بها وإلا لانتفي الفائدة
في بيانها كما مر نظيره في الآية الأولى ويرد عليه وجوه منها أن
المراد إنذار اليهود حيث كانوا يخفون أوصاف الرسول مما كان مذكورا
عندهم في التوراة فلا تعلق له بالمقام ويمكن دفعه بأنه
تخصيص لا شاهد عليه إذ على تقدير تسليم وروده في ردعهم فالعبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص المورد وفيه تكلف ومنها أنه لا يتناول
ما بينه الرسول أو الإمام عليه السلام إذا لم يكن مبينا في الكتاب كما
هو محل الحاجة من خبر الواحد والجواب أن كل ما بينه الرسول أو
الإمام عليه السلام فقد تبين في الكتاب ولو بعمومات الامر بالطاعة و
التحذير عن المعصية أو بالخصوص كما يدل عليه قوله تعالى و
أنزلنا إليك الكتاب تبيانا لكل شئ ولا يقدح عدم وقوفنا عليه في
ظاهر الكتاب لجواز أن يكون بيانه في بعض مراتب بطونه ولا
ينافيه اعتبار كون البيان للناس إذ ليس المراد به جميع الناس لعدم
تحقق البيان لهم بل بعضهم ويكفي في صدقه تحققه بالنسبة إلى
النبي والأئمة ولو خص الكتاب بالمتواترات كما هو الظاهر من السياق
وبه صرح أهل التفسير كما مر في الوجه السابق سقط الجواب و
منها أن تحريم الكتمان مقيد بكونه مبينا في الكتاب فيكون القبول
مقيدا به أيضا ولا بد من العلم بالقيد ومعه لا يبقى ثمرة لقبول الخبر
ومنها أن الامر بالبيان لا ينحصر فائدته في وجوب العمل به مطلقا بل
يكفي وجوبه إذا أفاد القطع وأنه خطاب إلى المشافهين فلا
يتناول غيرهم وأنه ظاهر والمسألة أصولية يطلب فيها العلم وقد سبق
ذلك كله بأجوبته الرابع قوله تعالى فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم
لا تعلمون وجه الدلالة أنه تعالى أمر عند عدم العلم بمسألة أهل الذكر
والمراد بهم إما أهل القرآن أو أهل العلم وكيف كان فالمقصود من
الامر بسؤالهم إنما هو استرشادهم والاخذ بما عندهم من العلم و
السؤال عند عدم العلم كما يقع عن حكم الواقعة كما هو
شأن المقلد فيجاب بذكر الفتوى كذلك قد يقع عما صدر عن
المعصوم من قول أو فعل أو تقرير كما هو شأن المجتهد فيجاب
بحكايته و
نقله وهو المعبر عنه بالخبر والحديث وقضية الامر بسؤالهم وجوب
قبول ما عندهم فتوى كان أو رواية ما لم يمنع منه مانع فيدل على
حجية أخبارهم كما يدل على حجية فتاويهم وتخصيصه بالثاني كما
هو المعروف في كتب القوم بعيد لان الآية بظاهرها تفيد الاطلاق و
لا يختص دلالتها بحجية إخبار المجتهدين بل مطلق أهل العلم أو أهل
القرآن وإن خص في جانب الفتوى بالمجتهدين حيث لا يقصد
حكايتها عنهم لما دل على عدم جوازها من غيرهم ولو سلم فيمكن
إتمام الكلام في التعميم بعدم القول بالفصل ويشكل بأن سياق الآية
محتملة لان يكون المراد بأهل الذكر علماء اليهود وإن لم يكن ظاهرة
فيه وإن المراد مسألتهم عن أحوال الأنبياء السلف وكونهم رجالا
لا ملائكة وذلك لان أعوام الكفار لما استبعدوا أن يكون النبي
المبعوث من قبله تعالى إلى العباد بشرا كما حكى الله ذلك عن الأمم
السالفة بقوله تعالى فقالوا أ بشر يهدوننا وقالوا أ بشرا منا واحد نتبعه و
قالوا لو شاء الله لأنزل ملائكة وأمثال ذلك ردهم الله تعالى
بأن الأنبياء الذين أمنوا بنبوتهم من المرسلين قبله صلى الله عليه وآله
ما كانوا ملائكة وإنما كانوا رجالا وأمرهم بمسألة علمائهم عن
ذلك إن كانوا جاهلين به فهو خاص باعتبار السائل والمسؤول عنه فلا
يتناول المقام إلا بتعميم المواضع الثلاثة والبعض منه ممنوع
فضلا عن الكل فإن قلت قد ورد في بعض الاخبار أن ليس المراد بأهل
الذكر
276

اليهود ورد الإمام عليه السلام على من زعم ذلك بأنه تعالى كيف
يأمرنا بمسألتهم مع أنهم لو سئلوا لأمروا بالأخذ بشريعتهم فيبطل
التفسير المذكور قلت الظاهر أن الزاعم المذكور زعم وجوب مسألتهم
مطلقا أو في حقيقته هذه الشريعة كما يظهر من الرد المذكور و
إلا فهو بحسب الظاهر لا يتم بناء على تخصيص المسألة بما ذكرناه
سلمناه لكن أهل الذكر في الرواية المذكورة وغيرها من روايات
أهل الذكر مفسر بأهل البيت عليهم السلام وعلل ذلك في بعضها بأن
الله تعالى قد سمى نبيه صلى الله عليه وآله ذكرا في قوله إنا
أرسلنا إليكم ذكرا رسولا فأهل الذكر هم أهل الرسول والتحقيق [
الانصاف] أن مساق الآية لا يأبى عن الحمل على ذلك كما لا يخفى و
كيف كان فلا بد من تنزيلها عليه لصراحة تلك الأخبار فيه فيختص أهل
الذكر بالأئمة فلا يتناول غيرهم من المحدثين والمجتهدين فلا
يتم الاحتجاج بالآية أيضا اللهم إلا أن ينزل الاخبار على بيان الفرد
الكامل من أهل الذكر دون التخصيص ولا يخلو من بعد الخامس
الاجماع فإنا نستكشف باتفاق القائلين لجواز العمل بخبر الواحد عن
قول المعصوم به ولو بمساعدة أمارات خارجية ولا يقدح مخالفة
جماعة فيه إذ المدار في الاجماع عندنا على انعقاد الاتفاق الكاشف لا
على اتفاق الكل كما مر تحقيقه في محله وأما الاجماع الذي حكاه
الشيخ على حجية خبر الواحد فهو لا يخرج عن كونه خبرا واحد
فالتمسك به على حجيته دور ظاهر السادس السيرة القطعية المستمرة
بين المسلمين فإن طريقة السلف والخلف ما عدا النادر منهم جارية
على نقل الأحاديث المروية بطريق الآحاد وتدوينها والعمل بها و
قد استمر ذلك من لدن زمن الرسول وزمن ظهور الأئمة إلى يومنا هذا
فإن كثرة المكلفين مع تباعد بلادهم ومنازلهم وكثرة ما
يحتاجون إليه من الاحكام مما تأبى عادة من تمكنهم من تحصيلها
بطرق السماع عن المعصوم عليه السلام أو الاقتصار فيها على الأخبار المتواترة
أو المحفوف بقرائن الصدق كما يشهد به مقايسة حالهم
بالمقلدين في زماننا في مراجعتهم إلى أقوال المجتهدين مع تعددهم
و
بالجملة فتعويلهم على أخبار الآحاد بعد
التأمل فيما ذكر أمر ضروري لا يكاد يعتريه وصمة الشك والارتياب و
ذلك يكشف عن قول المعصوم به أو تقريره إياهم عليه كشفا
ضروريا بل إذا حققت النظر وجدت الطريقة في سائر الشرائع جارية
على ذلك إذ ما من ذي ملة أو طريقة إلا وله في ملته وطريقته
أحكام لا يعرف كلها أو جلها إلا بواسطة أخبار لا يبلغ عنده درجة
التواتر ولا معها قرائن تفيده القطع في صحة النقل ومن هنا يتبين أنه
لو ادعيت الضرورة على حجية خبر الواحد كان متجها واعلم أن الفرق
بين الاجماع والضرورة والسيرة بعد اشتراك الجميع في
الكشف القطعي عن قول المعصوم هو أن الكشف في الأول بآراء
العلماء ظنية كانت أو علمية نظرية ولو غالبا وفي الثاني بقطع العلماء
والعوام بطريق الضرورة ولو غالبا ولو اختصت الضرورة بالعلماء عد
من ضرورياتهم خاصة وفي الثالث بعمل الذين يحصل
الاستكشاف بعلمهم السابع ولا ريب في أنا مكلفون بطاعة العترة
الطاهرين والتمسك بهم في معرفة أحكام الدين كما يدل عليه قوله يا
أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم وقوله
عليه السلام في حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين المشتمل
على الامر بالتمسك بالعترة المصطفين وغيره من الاخبار والآثار و
التمسك بهم والطاعة لهم إنما يصدقان باتباع أقوالهم بمعناها
منهم مشافهة أو نقلت لنا بطريق التواتر أو الآحاد المحفوفة بقرائن
الصدق أو ما ثبت بالسمع قيامه مقام ما ذكر ومع تعذر ذلك كله و
بقاء التكليف بها كما هو معلوم بالضرورة يتعين التعويل على الظن
المستند إلى نقل الآحاد لان التمسك والطاعة في كل من حالتي
التمكن من تحصيل العلم وعدمه بحسبهما فكما يصدقان عند
التمكن من العلم بالأخذ بقولهم المعلوم بأحد الطرق المذكورة كذلك
يصدقان عند تعذره على الاخذ بقولهم المنقول بطريق ظني وإنما
خصصنا الطريق بنقل الآحاد دون سائر الظنون لعدم صدق الطاعة و
التمسك عرفا معها هذا غاية التوجيه في الدليل المذكور فلو تم لدل
على حجية الظنون المستندة إلى أخبار الآحاد دون
مطلق الظن لكنه ضعيف إذ لا نسلم عدم صدق التمسك والطاعة
بالتعويل على أقوالهم المستفادة بسائر الطرق الظنية وإنكاره غير
مسموع وما أشبه هذه المقالة بمقالة من يدعي عدم حجية قطعيات
العقل بدون معاضدة السمع لعدم صدق الطاعة والعصيان بدونه و
سننبه على فساده في محله نعم لو ثبت أن خبر الواحد طريق معتبر
شرعا في معرفة أقوالهم عليهم السلام ولو بعد انسداد باب العلم تم
ما ذكر لكن المقصود إثبات كونه طريقا شرعيا بذلك وهل هذا إلا دور
الثامن الدليل المعروف بدليل انسداد باب العلم ويمكن
تقريره بوجهين الأول وهو المعتمد وإن لم يسبقني إليه أحد وهو أنا
كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية
كثيرة لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها
بالقطع أو بطريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع على
قيامه أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره كذلك نقطع بأن الشارع
قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة وكلفنا تكليفا
فعليا بالرجوع إليها في معرفتها ومرجع هذين القطعين عند التحقيق
إلى أمر واحد وهو القطع بأنا مكلفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى
طرق مخصوصة وحيث إنه لا سبيل لنا غالبا إلى تحصيلها بالقطع ولا
بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص أو قيام طريقه كذلك
مقام القطع ولو بعد تعذره فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم
العقل إنما هو الرجوع في تعيين الطرق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل
على عدم حجيته لأنه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع مما عداه و
إنما اعتبرنا في الظن أن لا يقوم دليل معه على عدم جواز الرجوع
إليه حينئذ لان الحكم بالجواز هنا ظاهري فيمتنع ثبوته مع
277

انكشاف خلافه ومع تعذر هذا النوع من الظن فالرجوع إلى ما يكون
أقرب إليه مفادا من المدارك التي لا دليل على عدم حجيتها مع
الاتحاد ومع التعدد والتكافؤ التخيير لامتناع الاخذ بما علم عدم جواز
الاخذ به كما مر أو ترجيح المرجوح أو الترجيح مع عدم المرجح
ومما يكشف عما ذكرناه أنا كما نجد على الاحكام أمارات نقطع بعدم
اعتبار الشارع إياها طريقا إلى معرفة الاحكام مطلقا وإن أفاد
الظن الفعلي بها كالقياس والاستحسان والسيرة الظنية والرؤيا وظن
وجود الدليل والقرعة وما أشبه ذلك مما لا حصر له كذلك نجد
علينا أمارات أخر نعلم بأن الشارع قد اعتبرها كلا أو بعضا طريقا إلى
معرفة الاحكام وإن لم يستفد منها ظن فعلي بها ولو بمعارضة
الامارات السابقة وهذه أمارات محصورة منها الكتاب والسنة الغير
القطعيين والاستصحاب والاجماع المنقول والاتفاق الغير الكاشف
والشهرة وما أشبه ذلك فإنا نقطع بأن الشارع لم يعتبر بعد الأدلة
القطعية في حقنا أمارات أخرى خارجة عن هذه الامارات ومستند
قطعنا في المقامين الاجماع مضافا في بعضها إلى مساعدة الاخبار و
الآيات حتى إن القائلين بحجية مطلق الظن كبعض متأخري
المتأخرين لا تراهم يتعدون في مقام العمل عن هذه الامارات إلى
غيرها وإن لم يستفد لهم ظن فعلي بمؤداها وحيث إنه قد وقع النزاع
في تعيين ما هو المعتبر من هذه الامارات في نفسه وفي صورة
التعارض ولا علم لنا بالتعيين ولا طريق علميا إليه مع علمنا ببقاء
التكليف بالعمل بها كان اللازم الرجوع في ذلك إلى ما يستفاد اعتبارها
من هذه المدارك الاحتمالية لتقدمها في نظر العقل حينئذ على
المدارك المعلوم عدم اعتبارها شرعا مقدما للأقرب منها في النظر إلى
غيره مع تحققه فثبت مما قررنا جواز التعويل في تعيين ما
يعتبر من تلك الطرق التي هي أدلة الاحكام على الظن الذي لا دليل
على عدم حجيته ثم على ما هو الأقرب إليه كذلك ولا ريب أن خبر
الواحد إن لم يكن من الطرق القطعية فهو من الطرق الظنية للوجوه التي
مر ذكرها فيجب العمل به وهو المطلوب واعلم أن العقل يستقل
بكون العلم طريقا إلى إثبات الحكم
المخالف للأصل ولا يستقل بكون غيره طريقا إليه ولو مع تعذره
حيث لا يعلم ببقاء التكليف معه بل يستقل حينئذ لعدم كون غير العلم
طريقا في الظاهر وبسقوط التكليف ما لم يقم على حجية غير العلم
قاطع سمعي واقعي أو ظاهري معتبر مطلقا أو عند انسداد باب العلم
إلى الدليل مع حصوله [وأما الاعتداد بظن التكليف وتجويزه في
وجوب الفحص عقلا فليس من حجية الظن أو التجويز في ثبوت
التكليف المظنون أو المحتمل وإلا لما وجب الفحص بل لعدم تعويل
العقل على أصل البراءة إلا بعد الفحص وعدم العثور على الدليل
المعتبر] ثم إن دل الدليل السمعي بأحد أنواعه على حجية طريق
مطلقا كان في مرتبة العلم مطلقا فيجوز التعويل عليه ولو مع إمكان
تحصيل العلم في تلك الواقعة وإن دل على حجيته عند تعذر العلم لم
يجز التعويل عليه إلا عند تعذره فيقدم العمل بالعلم وبما دل الدليل
السمعي على قيامه مقامه مطلقا مع تيسره وأما إذا انتفي الجميع و
علم ببقاء التكليف معه ثبت بحكم العقل وجوب العمل بالظن الذي لا
دليل على عدم حجية ثم الأقرب إليه على ما مر وهذه مرتبة ثالثة
متوقفة على تعذر المرتبتين المتقدمتين على أنه لو دل الدليل السمعي
على حجية الظن عند تعذر العلم وما في مرتبته كان حجيته باعتبار
الدليل السمعي خاصة دون الدليل العقلي وإن كان المؤدى واحدا لما
عرفت من توقف دلالته على عدم السمعي فلا يتحقق معه إلا على
سبيل التقدير [ولأن حجية الظن حينئذ في مرتبة غيره ولو فرض قيام
السمع عليه ولا ريب في تقديم مرتبة حجيته على مرتبة الظن
المستند إلى دلالة العقل ولهذا يقدم عليه وكذا ما في مرتبته] فاتضح
أن
للطريق ثلاثة مراتب لا يعول على اللاحقة منها إلا بعد تعذر السابقة و
نحن حيث علمنا مما مر أن الشارع قد قرر في حقنا إلى معرفة
الاحكام أصولا وفروعا ولو بعد انسداد باب العلم وما في مرتبته طرقا
مخصوصة لم يجز لنا العدول إلى المرتبة الثالثة والاخذ بما
يقرره العقل طريقا إلى معرفة الاحكام بل يجب علينا تحصيل تلك
الطرق التي علمنا بنصب الشارع إياها وتعيينها بالعلم أو بما علم
قيامه بالخصوص مقامه ولو بعد تعذره ومع تعذر ذلك كله كما هو
الثابت في حقنا غالبا يجب الرجوع في التعيين إلى ما يقتضيه العقل
من العمل بأقوى تلك الامارات على ما مر البيان فتبين أن طريقنا إلى
معرفة فروع الاحكام الغير القطعية إما في المرتبة الأولى أو
الثانية وإلى معرفة تفاصيل ذلك الطريق في المرتبة الثالثة والسر في
الفرق أنا لما راجعنا طريقة أصحابنا وجدناهم يعتمدون في
فروع الاحكام على طرق و
مدارك مخصوصة مطبقين على نفي حجية ما عداها مع إمكان الرجوع
إليها مطلقا وفي إثبات حجية تلك الطرق وتعيين ما هو المعتبر
منها على أدلة قطعية عندهم كالاجماع والكتاب كما يدل عليه
احتجاج الشيخ وغيره فكان طريقهم في معرفة طرق الفروع في
المرتبة
الأولى من المراتب المتقدمة وحيث إن الاجماع غير ثابت عندنا على
التفاصيل ودلالة الكتاب عليها أيضا غير واضحة ومثلها دلالة
الأخبار المتواترة وجب علينا الرجوع في معرفة التفاصيل إلى ما
يقتضيه العقل من العمل بالظن الذي لا دليل على عدم حجيته ثم ما
يقرب إليه بالتفصيل المتقدم ولا ينافي ذلك ما مر من قيام الاجماع و
غيره عندنا على حجية خبر الواحد في الجملة حيث إن طريق
حجيته يكون حينئذ عندنا أيضا في المرتبة الأولى لان مساق هذا
الدليل مبني على الاغماض عنه مع أن ذلك لا يجدي في مقام العمل
إذ لا
بد فيه من معرفة التفاصيل وشئ من تلك الأدلة لا تساعد عليها و
يتوجه على هذا الوجه إشكالات لا بد من التنبيه عليها وعلى دفعها
منها أنا لا نسلم بقاء التكليف بالعمل بالأدلة المقررة من حيث
الخصوص بعد انسداد باب العلم إليها حتى يتفرع عليه وجوب العمل
بالظن في تعيينها وإنما المسلم حينئذ ثبوت التكليف بالعمل بها في
الجملة ولو من حيث القطع ببقاء التكليف بالأحكام وانفتاح باب
الظن إليها على الوجه الذي قرر حصوله بتلك الأدلة وإذا لم يثبت بقاء
التكليف بالعمل بتلك الأدلة من حيث الخصوص بطل ما فرع عليه
من وجوب العمل بالظن في تعيينها والجواب أن الأدلة المخصوصة
بعد نصب الشارع لها دليلا من جملة أحكام الوضع فتندرج في
الأحكام الشرعية فلا يسقط اعتبارها بعد انسداد باب العلم إليها كسائر
الاحكام فإن الاجماع
278

منعقد على بقاء التكليف بالأحكام الشرعية بقول مطلق بعد انسداد
باب العلم إليها غاية الامر أن البقاء مشروط عقلا ونقلا بمساعدة
دليل عليه ولو في الظاهر لئلا يلزم التكليف بالمحال وقد ثبت مما
قررنا قيام الدليل العقلي المعتبر على الأدلة الصالح للتعيين على بقاء
التكليف بها كقيامه على الاحكام على الفرض الاخر فلا سبيل إلى
الحكم بالسقوط ومنها أن انسداد باب العلم إلى الاحكام الفرعية مع
العلم ببقاء التكليف بها كما يقتضي بحكم العقل عند عدم العلم
بنصب الشارع لنا إلى معرفتها دلائل مغايرة للدلائل التي يستقل بهما
العقل وجوب التعويل على كل ظن لا دليل على عدم حجيته إن تيسر
وإلا فكل أمارة لا علم بعدم حجيتها لقرب مفادها إلى الظن فيتعين
الاخذ بها مع الاتحاد ويرجح الأقرب مع التعدد والاختلاف ويخير
مع التساوي كذلك يقتضي ذلك عند علمنا بنصب الشارع لنا أمارات
خاصة إلى معرفتها إذا لم يكن الامارات معلومة عندنا على التفصيل و
التعيين وإن علمنا ببقاء التكليف بالعمل بها بعد انسداد باب العلم
إليها وذلك لأنه ليس في هذا العلم الاجمالي بالأدلة ما يقدح في
الحكم العقلي الكلي الثابت على تقدير عدمه لأنا إذا أخذنا بما تفيدنا
من
تلك الامارات ظنا فعليا بالحكم ثم بالأقرب منها إليه كما مر لم يكن
منافيا لعلمنا الاجمالي بنصبها أمارة وطريقا إلى الاحكام ولا لعلمنا
ببقاء التكليف بالعمل بها أو التقدير وقوع العمل بها فإذن لا معدل لنا
عن ذلك لان حكم العقل بما قررناه حكم قطعي ظاهري لا يرتفع
إلا عند قيام قاطع على خلافه والجواب أن كون العمل بالظن في
الاحكام على الوجه المذكور إنما يتم إذا لم نعلم بحكم الشارع بحجية
جملة من الطرق ولو إجمالا إلا بعد الرجوع إلى ما يقتضيه قاعدة
الانسداد عقلا وأما إذا علمنا به مع الاغماض عن ذلك كما مر الإشارة
إليه فعلمنا بالظن في الاحكام على الوجه المذكور مناف لحكم هذا
العلم عقلا وإن لم يكن منافيا لنفسه إذ قضية هذا العلم الاجمالي
علمنا
بأنا مكلفون بالأحكام بشرط مساعدة تلك الطرق عليها فلا يجدي
الظن الناشئ منها بالحكم ما لم يظن الطريق إذ التقدير بقاء التكليف
بالعمل به بل اللازم حينئذ تحصيل الظن
بالطريق خاصة وأما الحكم فهو تابع له فلا حاجة إلى تحصيل الظن به
إلا إذا كان الطريق المظنون هو الظن بالحكم مطلقا أو في
خصوص مقام فيعتبر الظن به لا من حيث كونه ظنا به بل من حيث
الظن بطريقه وبالجملة فوجوب تحصيل الحكم عن طريق مخصوص
يوجب دوران الحكم مدار ذلك الطريق فلا يعتبر غيره فيه وهذا
واضح ومنها أن وجوب العمل بالطرق المخصوصة تعبدا على تقدير
تسليمه لا يختص بفروع الاحكام الغير القطعية بل يجري في مطلق
الأحكام الشرعية الغير القطعية سواء تعلقت بالفروع أو بالأصول
لعلمنا في الكل بأن الشارع كما كلفنا بها كلفنا باستفادتها عن مدارك
مخصوصة ولجريان طريقة الاحتجاجات في الكل على ذلك ولا
ريب أن إثبات الطرق وتعيينها على ما قرر من أنها غير قطعية داخلة
في تلك الأحكام فالتعويل فيها على الطرق المخصوصة يستلزم إما
توقف الشئ على نفسه أو الدور واللازم بقسميه باطل أما الملازمة
فلان كل واحد من تلك الطرق إن أثبت حجيته بنفسه لزم الامر
الأول وإن أثبت بالآخر نقلنا الكلام إليه وإن أثبت حجيته بنفسه عاد
المحذور وإن أثبت بما أثبت حجيته به لزم الامر الثاني وأما
بطلان اللازم بقسميه فواضح والجواب ما مر الإشارة إليه من الفرق
بين مباحث الفروع ومباحث الأصول طريق غير القطعي من
الفروع إما في المرتبة الأولى من المراتب الثلاث التي سبق ذكرها
كالكتاب والسنة القطعية الصدور في وجه أو في المرتبة الثانية
كالأصول الظاهرية والسنة الغير القطعية وما يظهر من بعض الأصحاب
من جعل الأخير في المرتبة الأولى فغير واضح إذ لا يقوم من
الاخبار مقام العلم مع إمكانه على ما يظهر من الأدلة إلا خبر من علم
عدالته شرعا وأكثر رجال أخبارنا ليسوا كذلك لا يعلم بوجود
العدل فيهم ولا سبيل إلى العلم بالتعيين فيعول على الظن فيه فيكون
حجية أخبارنا المعتبرة في المرتبة الأولى وإن كان طريقنا إلى
معرفة عدالة رواتنا المعتبرة في المرتبة الثالثة لأنا نمنع بقاء التكليف
بخبر العدل كونه خبر عدل بعد انسداد باب العلم إلى معرفته فلا
ينفتح باب الظن إليه لما عرفت من ابتنائه على ثبوت هذه المقدمة
أيضا وذلك لان كون الراوي عدلا ليس من جملة الاحكام حتى
يشمله الأدلة المنعقدة على بقاء الاحكام بعد انسداد باب العلم إليها
من الاجماع وغيره نعم نفس الوصف من الاحكام وأما الاتصاف فهو
من الأمور العادية الراجعة إلى الموضوعات ولا دليل على بقاء حكم
الموضوع بعد انسداد باب العلم إليه وبالجملة فأخبارنا الغير
القطعية على تقدير في المرتبة الثانية لعلمنا بنصب الشارع لها طريقا
بعد تعذر العلم وما في مرتبته أو لعلمنا بنصبه حينئذ لما يحتمل
أن يكون تلك الأخبار من جملتها بل التحقيق أن حجية الكتاب والسنة
القطعية الصدور أيضا بالنسبة إلى أمثال زماننا في المرتبة الثانية
لعلمنا إجمالا بأن كثيرا من ظواهر الخطابات الشرعية قد أريد بها
خلافها إما بطريق التجوز أو التخصيص أو التقييد ولا سبيل لنا غالبا
إلى تحصيل العلم بسلامة ما نعمل به منهما عن ذلك إلا بالطرق الظنية
ولولا ذلك لما جاز لنا تقييد شئ منهما ولا تخصيص ولا تأويل
بشئ من أخبار الآحاد التي حجيتها عندنا في المرتبة الثانية إذ مع
إمكان العلم وما في مرتبته لا سبيل إلى التمسك بما يبتني حجيته
على انتفاء الامرين وأما المباحث الغير القطعية وما في حكمها من
الأصول فهي في حقنا في المرتبة الثالثة إذ ليس لنا إلى معرفتها
طريق تفصيلي يعلم من السمع جواز الرجوع إليه ولو بعد انسداد باب
العلم وأما علمنا بنصب الطريق إليها إجمالا فلا يصيرها في
المرتبة الأولى أو الثانية لأنا ننقل الكلام إلى ذلك الطريق فيكون
حجيته أيضا في مرتبة مدلوله وهكذا لا لامتناع الترجيح من غير
مرجح فنمنع إثبات حجية شئ من تلك الطرق بل طريق الفروع و
طريق طريقها وإن تعددت الإضافات في مرتبة واحدة هي المرتبة
الثالثة كما عرفت لعدم طريق سمعي يساعد على معرفة تفاصيلها
فيصح إثبات حجية بعضها بما يصح إثبات حجية الأخير به من غير
فرق وهو الظن الذي لا دليل على عدم جواز التمسك به ثم ما يقرب
إليه كما هو قضية حكم العقل في هذه المرتبة فإذا ظننا أن خبر
الواحد حجة في الفروع مثلا بما لا دليل على عدم حجيته وإن كان ظنا
خبريا يثبت به
279

خبر الواحد كما أنه لو دل على حجيته ما يظن حجيته لامارة لا دليل
على عدم حجيتها ثبت به حجية الطريق فيثبت به حجية خبر الواحد و
بالجملة فالعمل بالطريق سواء كان طريقا إلى حكم فرعي أو أصولي
مع عدم قيام قاطع سمعي على تعينه لا يتم إلا بإرجاعه إلى المرتبة
الثالثة إذ بدونه يلزم إما الحكم من غير دليل أو الدور أو التسلسل أو
توقف الشئ على نفسه وفساد اللازم بأقسامه بين جلي ولو
أرجع بعض الطرق إليها خاصة لزم الترجيح من غير مرجح وهو أيضا
بين الفساد فاتضح الفرق بين من يتمكن من تحصيل العلم
بتفاصيل الأدلة من غير أن يستند إلى قاعدة الانسداد كما يظهر من
جماعة من أصحابنا وبين من لا يتمكن منه إلا بالاستناد إليه كما هو
الثابت في حقنا وأن التكليف في مطلق الاحكام الغير القطعية حتى
الأصولية منها بالعمل بالمدرك المنصوبة من حيث التعبد إنما يتم في
حق الأول دون الأخير ومنها أنا لا نسلم أن انسداد باب العلم إلى
تعيين الطرق يوجب حجية كل ظن لا دليل على عدم حجيته بل
حجية كل
ظن نظن حجيته خاصة لأنه أقوى وللاقتصار في مقام الضرورة على
أقل ما تندفع به والجواب أن كون الظن المظنون حجيته أقوى مع
كونه على إطلاقه ممنوع لاختلاف مراتب الظن لا يقتضي منع حجية
الأضعف أو لا لوجب الاقتصار على أقوى مراتب الظنون وهو واضح
الفساد بل العبرة في الحجية بمجرد الظن بها إذ يحصل به في نظر
العقل رجحان ظاهري يصح معه الترجيح في الظاهر فلا أثر لقوة
الظن في إثبات أصل الحجية وإنما يظهر أثرها في مقام التعارض وهو
أمر آخر وعلى ما قررنا فلو ظن بطريق يظن عدم حجيته حجية
طريق وجب الاخذ بأقوى الظنيين لتساوي نسبته حجية الظن إليها
فيرجح الأقوى ولو كان الظن بعدم الحجية معارضا بما في مرتبة
سقوط اعتباره وجب الاخذ بالظن بالطريق لسلامته عن المعارض
السالم ومن هذا الباب كل تنعقد على حجيته طريق فإنه يجب الاخذ
بها عند خلوها عن المعارض لحصول الظن بها ولا يعارضها انعقاد
الشهرة على عدم جواز الاخذ بالشهرة لمعارضة تلك الشهرة لنفسها
فلا تصلح لمعارضة غيرها وقد سبق تحقيق
ذلك في مبحث الشهرة ومنها أن قضية البيان المذكور حجية الظن في
تعيين أدلة الاحكام عند انسداد باب العلم إلى معرفتها أو معرفة
بعضها إجمالا أو تفصيلا مع العلم ببقاء التكليف بها وهو وإن كان في
نفسه مستقيما لكنه مجرد فرض لا تحقق له في حقنا إذ لا خفاء في
أن من طرق الاحكام ما نتمكن من معرفة جملة من تفاصيله بطريق
القطع ولا قطع لنا ببقاء التكليف بالعمل بما لا قطع لنا به منه وهو
الاجماع والأدلة العقلية فينتفي بالنسبة إلى كل واحد من نوعيه أحد
الشرطين المعتبرين في جواز العمل بالظن فيه ومنها ما نقطع
بحجيته بطريق الاجمال دون التفصيل ونقطع أيضا ببقاء التكليف
بالعمل به وهو الكتاب وخبر الواحد لقيام الحجة القاطعة من السيرة
والاجماع المعتضدين بالاخبار المتكاثرة المتظافرة على حجيتهما في
الجملة وعلى بقاء التكليف بالعمل بهما ولا قطع بحجية ما عدا
هذه الأدلة الأربعة ابتدأ ولا ببقاء التكليف بالعمل به حتى يتفرع عليه
جواز التعويل في تحصيله على الظن نعم لو استفدنا منها حجية
طريق آخر كنقل الاجماع والشهرة اتجه القول بحجيتهما من هذه
الجهة ولا يقدح ذلك في عد هذا الوجه من الأدلة على حجية خبر
الواحد
لان مبناه على قطع النظر عن سائر الأدلة المفيدة للعلم الاجمالي بها
نعم يصح التمسك بهذه الطريقة في معرفة تفاصيل ما يجب علينا
العمل به من الكتاب والسنة فإنا حيث علمنا علما إجماليا بثبوت
التكليف بالعمل بهما في الجملة وقد تعذر علينا معرفة تفاصيلها
بطريق
القطع والطريق القطعي مع توقف العمل على التفاصيل وجب
الاعتماد فيها على الظن الذي لا دليل على عدم حجيته ثم ما هو أقرب
إليه
بالتفصيل المتقدم لا يقال إذا ثبت انسداد باب العلم إلى معرفة
تفاصيل ما هو الحجة من الكتاب والسنة ثبت انسداد باب العلم إلى
الأدلة
وكان الظن في تعيين تفاصيلهما كالظن بحجية غيرهما وتفاصيله
لمشاركتهما في كون كل منهما دليلا مظنون الحجية والقطع بحجية
أحدهما مجملا غير صالح للفرق إذ الحاصل في التفاصيل ليس إلا
الظن بالحجية لأنا نقول إنما وجب العمل بالظن في تفاصيل الكتاب و
السنة للعلم ببقاء التكليف بالعمل بهما في الجملة مع انسداد طريق
باب العلم التفصيلي وهذه العلة غير متحققة في غيرهما
فلا سبيل إلى التعدي إليه بالعمل بالظن فيه وبهذا يتضح الفرق بين
الظن بحجية ما علم حجية نوعه مجملا وبين غيره والجواب أن
البيان المذكور إنما يتم إذا علم بوجوب العمل بالأدلة المذكورة و
ببقائه بعد انسداد باب العلم على الاطلاق حتى في صورة معارضتها
لسائر الأدلة التي لا دليل على عدم حجيتها وليس كذلك لتحقق
الخلاف في حجية خبر الواحد عند معارضته لنقل الاجماع أو الشهرة
أو
نحوهما وبالجملة ففرض العلم بحجيته على الاطلاق ينافي عدم
العلم بحجية غيرها ولو في صورة التعارض كما هو المفروض فإذا لم
يكن هناك قاطع على حجية تلك الأدلة مع علمنا بوجوب العمل بها
أو بمعارضها وجب الرجوع في التعيين إلى الظن أو ما قام مقامه كما
مر ومنها المنع من انسداد باب العلم إلى الأدلة فإن للأحكام مضافا
إلى الأدلة القطعية أدلة ظنية قام على حجيتها دليل قاطع كظاهر
الكتاب والخبر الصحيح وأصل البراءة فإن الاجماع والسيرة القطعية
قاضيان بحجية الأولين والعقل قاض بحجية الأخير مضافا إلى ما
ورد في الموارد الثلاثة من الاخبار المتظافرة ولا يقدح في انعقاد
الاجماع مخالفة الأخبارية في الأول والسيد وجماعة في الثاني
لحصول الاستكشاف لنا بمقالة الآخرين وحينئذ فكل حكم دل عليه
حجة قاطعة أو ما ثبت حجيته بقاطع كظاهر الكتاب والخبر الصحيح
علمنا به وفيما عدا ذلك لا قطع لنا ببقاء التكليف فيعمل بأصل البراءة
لقطع العقل بحجيته حيث لا دليل معلوم الحجية عند العامل به على
خلافه لا يقال إن أريد حجية ظاهر الكتاب والخبر الصحيح في الجملة
سلمنا قطعيتهما لكنه لا يجدي في منع حجية ما عداهما وإن أريد
حجيتهما مطلقا وإن عارضهما إجماع منقول أو شهرة أو رواية موثقة أو
حسنة أو ضعيفة منجبرة بقطعيتهما حينئذ ممنوعة لعدم
مساعدة الاجماع والسيرة على حجيتهما حينئذ وأما الاخبار فغاية ما
يستفاد منها حجيتهما في الجملة ورواية الثقلين المتواترة بين
الفريقين وإن دلت
280

على جواز التمسك بالكتاب مطلقا لكن شمولها للصور المذكورة ظني
ولا دليل على حجيته في المقام إذ المستند على حجية الظن في
الألفاظ إنما هو الاجماع وهو ممنوع في محل النزاع مع أنه خطاب إلى
المشافهين ولا إجماع على مساواة غيرهم لهم فيه على الاطلاق
لأنا نقول الاجماع منعقد على أن وظيفة الفقيه البناء على ما أفاده ظاهر
الكتاب والخبر الصحيح ما لم يعارضه ما ثبت حجيته عنده ولا
نزاع في صحة هذا الحكم عند العاملين بهما وإن تنازعوا في حجية
بقية الطرق وفي تعيين الأرجح عند التعارض ولا خفاء في أن إثبات
حجية تلك الطرق إذا كان في حقنا مبنيا على ثبوت حجية مطلق الظن
كما هو المفروض وهو مبني على انسداد باب العلم فيما لم يعلم فيه
بقاء التكليف وهو لا يتم على تقدير حجية ظاهر الكتاب والخبر
الصحيح ولنا أيضا أن نتمسك بظاهر رواية الثقلين ومنع الاجماع على
حجية هذا الظاهر مردود بأن الاجماع لم ينعقد على حجية الظن في
الألفاظ باعتبار خصوصيات مواردها بل إنما انعقد على عنوان كلي
وهو حجيته في مطلق الألفاظ حيث لا يعارضه ما ثبت صلوحه
لمعارضته فمن لم يعول على هذا الظاهر في مقام فإنما هو لعثوره
بالمعارض لا لعدم اعتداده بخصوص ذلك الظاهر في نفسه كما مر
الإشارة إليه ونحن حيث لم نعثر بما لم يعارضه لانحصار طريق
ثبوته عندنا في انسداد باب العلم وقد منعناه لم يكن لنا سبيل إلى
العدول عنه ثم على تقدير ثبوت الحكم في حق المشافهين يثبت في
حق غيرهم إذ لا قائل بالفصل والجواب أن الجمود على ظاهر الكتاب
على تقدير تسليم حجيته مطلقا لا يجدي في معرفة جميع الأحكام
لأنه مشتمل على مجملات جملة منها والاجماع المدعى على حجية
الخبر الصحيح إن كان من حيث الخصوص تم لان كثيرا من العاملين
بخبر الواحد يعملون بالاخبار المظنونة الصدق لا سيما المتقدمين من
أصحابنا فإن الذي يظهر بالتتبع في كلماتهم أنهم كانوا يعولون
على الاخبار الموثوق بصدقها من غير الجمود على الصحيح بمصطلح
المتأخرين كما نبه عليه بعضهم ولذا تراهم كثيرا ما يعملون
بالاخبار الضعيفة ويطرحون الأخبار الصحيحة نعم كانت عدالة الراوي
ووثاقته عندهم من جملة الامارات
المفيدة للوثوق وإن كان من حيث حصول الظن لصدوره [بمؤداه]
فهو مع عدم جريانه في مقام تعارضه أمارة أقوى منه أمر مشترك
بينه وبين غيره من الأدلة الظنية فلا يتم الجمود عليه فاتضح أن لا
إجماع على حجية الخبر الصحيح بالخصوص فثبت الانسداد وتعين
التعويل على الظن في الأدلة مع أنه لو تم الاشكال المذكور لثبت
المقصود من حجية خبر الواحد في الجملة وإن فسد الدليل لان كلامنا
هنا في مقابلة من أنكر حجيته مطلقا الوجه الثاني وهو المعروف في
ألسنة المتأخرين أن التكليف بالأحكام ثابت في حقنا بالضرورة و
طريق العلم إليها منسد غالبا كما يشهد به الوجدان فيسقط التكليف
بتحصيله فيها لامتناع التكليف بما فوق الطاقة فتعين التعويل على
الظن لقطع العقل به من جهة قربه إلى العلم والتعليل الأخير مما لا بد
منه وإن أهمله بعضهم إذ المقدمات المذكورة بمجردها لا يوجب
تعيين العمل بالظن بل الأعم منه ومن غيره وإذا ثبت حجية الظن في
الحكم الشرعي ثبت حجية خبر الواحد فيه لأنه من أماراته فإن قيل
لا نسلم انسداد باب العلم لامكان العمل بالاحتياط والآتيان بجميع
المحتملات قلنا هذا يؤدي إلى العسر والحرج المنفيين في الشريعة
السمحة السهلة كما لا يخفى على من له أدنى خبر بالطريقة فعدم
تعيين الشارع له طريقا أمر مقطوع به مع أن ذلك لا يتم حيث يدور
الامر بين الوجوب والتحريم كما لو تعارضت الحقوق وليس من هذا
الباب صلاة الجمعة كما توهم لان حرمتها تشريعية فترتفع حيث
يترجح الاحتياط كالصلاة إلى غير القبلة عند تعذر معرفتها لتحصيل
العلم بالصلاة إليها أقول إن أريد بهذا الدليل إثبات حجية خبر
الواحد به على تقدير عدم هو ظن دليل أخر عليه كما يظهر من
صاحب المعالم حيث أورده في جملة الأدلة ولم يلتزم بمقتضاه في
شئ
من موارده لاعتماده في الحقيقة على غيره فهو متجه إلا أن الكلام
حينئذ على تقديره غير واقع وإن أريد به بيان كون الاعتماد في حجية
خبر الواحد في أمثال زماننا على هذا الدليل فضعفه ظاهر لأنا نمنع
انسداد باب العلم إلى الاحكام الثابتة في حقنا من غير طريق العقل
حتى يترتب عليه بعد فرض بقاء
التكليف بها وجوب الاعتماد على ما ينسبه العقل حينئذ طريقا لعلمنا
بعد مراجعة السمع بأن الشارع قد نصب في حقنا أدلة مخصوصة و
كلفنا بالعمل بمقتضاها غاية ما في الباب أن تلك الأدلة غير معلومة
عندنا على التعيين والتفصيل فيجب علينا الاعتماد في معرفتها على
الظنون الناشئة منها كما عرفت وجهه مما مر نعم يتم الدليل المذكور
إن ثبت من السمع بقاء التكليف بالأحكام الفرعية بعد انسداد باب
العلم إليها ولم يثبت منه نصب طريق مخصوص إلى معرفتها لا إجمالا
ولا تفصيلا أو ثبت ذلك ولم يثبت بقاء حكمه بعد انسداد باب
العلم إليه والأول مخالف لما عرفت بيانه في الوجه الأول والثاني
مخالف لما أجمعوا عليه من بقاء التكليف بالأحكام الشرعية مطلقا
بعد
انسداد باب العلم إليها مع أن التفصيل بين الاحكام في بقاء التكليف
بها مما لا سترة بفساده على أنا نقول لا علم لنا ببقاء التكليف
بالأحكام الواقعية في حقنا مطلقا وإنما المعلوم بقاؤه عند مساعدة
بعض الطرق المخصوصة عليها فعلى من يدعى بقاءه في غير هذه
الصورة إقامة الدليل عليه ولا سبيل إلى التمسك بإطلاق أدلة الشركة
في التكليف لأنها لا يفيد العلم بالاطلاق لا سيما في مقابلة ما
أسلفناه وبالجملة فعلمنا بأنا مكلفون بالأحكام الفرعية المقررة في
الشريعة عند تعذر طريق العلم والطريق العلمي إليها لا يفتح لنا
باب الظن إليها بعد علمنا بنصب طرق مخصوصة لمعرفتها أ لا ترى أنا
علمنا بأنا مكلفون في المرافعات بإيصال كل حق إلى صاحبه لا
يوجب في حقنا فتح باب الظن في تعيين الحقوق لعلمنا بأن الشارع
كما كلفنا بذلك كذلك جعل لنا إليها طرقا مخصوصة وكلفنا بالعمل
بمقتضاها كاليد والشهادة واليمين فإذا انسد علينا معرفة تلك الطرق
أيضا لم نعمل بالظن في تعيين الحقوق بل في تعيين الطرق
المقررة لها فإن قلت من جملة مباحث الأصول
281

مسألة جواز التعويل على مطلق الظن في مباحث الفقه وعدمه بعد
انسداد باب العلم فعلى ما قررت من حجية الظن في الأصول إذا
حصل
لنا ظن بجواز التعويل على ذلك ثبت ما ذكروه من حجية مطلق الظن
في الفقه وبطل ما ذكرته من حجيته في الأصول قلت أولا لا سبيل
إلى حصول الظن بذلك بعد تسليم الانسداد لمن سلك جادة
الانصاف وترك طريق التمحل والاعتساف فإن الذي يظهر لنا من
طريقة
أصحابنا قديما وحديثا اقتصارهم على حجية الظنون المخصوصة و
التزامهم بأصالة عدم حجية ظن لا دليل على حجيته فإنا إن لم نقطع
بإطباقهم على ذلك بفساد حجية مطلق الظن فلا أقل من حصول ظن
قوي لنا به وأما ركون بعض متأخري متأخريهم إلى هذه الطريقة
فمبني على ما عرفت من عدم قيام دليل قاطع على الاحكام ولا على
إثبات ما تندفع به الضرورة من طرقها وقد عرفت أن ذلك متجه
عندنا لكنه إنما يوجب جواز العمل بالظن في الطريق وأما ثانيا فلانه لا
ينافي ما قررناه من التعويل على الظن في الأصول مع عدم
التمكن من تحصيل العلم فيها فإنا إنما نريد التعويل عليه فيها على قدر
الحاجة في الفقه فإذا قدر حصول الظن بهذه المسألة العامة
المورد حصل قدر الحاجة لإغنائها عن الظن في بقية مباحثها فيكون
التعويل في الظنون الفقهية من حيث الظن في الأصول وهو
المقصود ثم إنهم أوردوا على البيان المذكور من وجهين الأول أن
انسداد باب العلم إنما يوجب جواز العمل بالظن إذا لم ينصب الشارع
حينئذ طريقا مخصوصا وهو ممنوع للاجماع على حجية بعض الطرق
كظاهر الكتاب وأصل البراءة والجواب أن الطرق المعلومة لا
تنهض إلا بمعرفة قليل من الاحكام ولا ريب في بقاء التكليف بما
عداها مما لا طريق قطعيا إليها فيتعين التعويل على الظن في معرفتها
أو معرفة طريقها على ما مر وأجاب بعض المعاصرين أيضا بمنع
الاجماع على حجية أصل البراءة مع ورود خبر الواحد على خلافه و
فيه
نظر يعرف مما مر وهو أنه لا كلام في حجية أصل البراءة حيث لا دليل
معلوم الحجية على خلافه وإنما الكلام في حجية ما يخالفه من
خبر الواحد
وغيره الثاني ما ذكره بعض المحققين وملخصه أنا لا نسلم بقاء
التكليف إلا حيث نقطع به أو يدل عليه أمارة قام على حجيتها قاطع و
يمنع بقاؤه حيث ينتفي فيه الأمران فنعمل فيه بأصل البراءة لا لكونه
مفيدا للظن فيعارض بالظن الحاصل من خبر الواحد مثلا ولا
للاجماع فيمنع قيامه في محل النزاع بل لقطع العقل بأنه لا تكليف
حيث لا قطع ولا قطعي ويؤكده ما ورد من النهي عن اتباع الظن و
على هذا ففيما يكون لنا مندوحة عنه كغسل الجمعة يحكم فيه بجواز
الترك على مقتضى الأصل وأما حيث لا مندوحة فيه كوجوب الجهر
والاخفات في التسمية حيث ذهب إلى كل فريق ولا يمكن ترك
التسمية فلا محيص لنا عن الاتيان بأحدهما فنحكم بالتخيير فيهما ولا
حرج لنا في شئ منهما واعترض عليه بعض المعاصرين بوجوه
الأول أن الضرورة قاضية ببقاء التكليف فيما عدا القطعيات ولو في
الجملة فلا يصغى إلى المنع المذكور والعمل بالأصل إنما يتم حيث لا
قطع ببقاء الاشتغال أصلا لا إجمالا ولا تفصيلا وهذا متجه لكن
يمكن المناقشة فيه بأن ما عدا القطعيات لا سيما الخلافيات منها كما
هو الأكثر مما يمكن أن يؤدي فيه نظر العامل بخبر الواحد أو بمطلق
الظن إلى القول بالبراءة لا للأصل بل للأدلة الخاصة والظاهر جواز
التعويل على نظره حينئذ إما لعدم القطع بمخالفة شئ منها للواقع و
إما لان القطع الاجمالي لا يجدي في رفع ما قام عليه حجة في الظاهر
لا سيما إذا خرج عن حد الحصر وقد مر ما يؤيد ذلك في مبحث
الاجماع المركب وحينئذ فيبقى العدول عن العمل بالأصل أو لا بلا
فائدة ولا يخفى ما فيه لان الفرض المذكور مما يحيله العادة وإن
كان ممكنا في نفسه فلا يلزم خلو العدول عن الفائدة الثاني أن
القطعيات أمور إجمالية غالبا كالصلاة والحج ولا سبيل إلى معرفة
تفاصيلها من أجزائها وشرائطها إلا بالظن ولا يجدي العلم ببعض
أجزائها وشرائطها للعلم الاجمالي بوجوب أمور أخر فيها مما عداها
وكذا الحال في الحكم بين الناس فإن وجوبه معلوم بالاجماع وكذا
بعض أحكامه ككون البينة على المدعي واليمين على المنكر لكن لا
سبيل إلى
معرفة تفاصيل ذلك من تعيين حقيقة المدعي والمنكر وتعيين البينة
وتحقيق ما يعتبر فيها من العدالة وغير ذلك ليس إلا بالظن و
يمكن المناقشة فيه أيضا بأن دعوى القطع الاجمالي بوجوب غير
الاجزاء والشرائط المعلومة في محل المنع لا سيما إذا اختص موضع
الشك بالمسائل الخلافية مع انتقاضه بما لو أدى نظر العامل بالظن إلى
القول بالنفي ولو في أكثر المواضع التي لا قطع فيها بحيث لا
يبقى قطع بالتكليف بالنسبة إلى الباقي وبأنه يمكن الاقتصار في
الحكم بين الناس على موارد اليقين ويعمل في غير موارده بما يعمل
به العامل بالظن عند تصادم الظنون والتردد من الالزام بالصلح أو
الاحتياط أو التخيير ووجه الدفع ما عرفت الثالث أنا لا نسلم قطعية
مقتضى أصل البراءة مطلقا ولو سلم فمخصوص بما قبل ورود الشرع
وأما بعده فلا لان علمنا الاجمالي بثبوت الاحكام فيه يمنعنا عن
العمل بمقتضاه ولو سلم فإنما يسلم حيث لا يعارضه خبر صحيح و
إن أراد الحكم الظني الناشئ من جهة الاستصحاب فهو أيضا مستفاد
من ظواهر الآيات والاخبار ولا دليل على حجيتها بالخصوص مع أنه
ممنوع بعد ورود خبر مفيد لظن أقوى منه وهذا ضعيف إذ
التحقيق عندنا أن أصل البراءة من الأدلة القطعية المستفادة من العقل و
النقل على الاحكام الظاهرية في حق من لم يقم عنده دليل على
خلافه من غير فرق بين ما قبل ورود الشرع وما بعده ولا ما بين وجود
خبر صحيح على خلافه لم يثبت عنده حجيته وبين عدمه نعم لا
يتجه التمسك به في في الماهيات التي علم بها إجمالا عند جماعة و
المتجه على هذا القول إعمال أصل الاشتغال والآتيان بما يحصل معه
اليقين بالبراءة الرابع أن قوله ويؤكده إلخ مدفوع بأن تلك العمومات لا
تفيد إلا الظن بل هي ظاهرة في غير الفروع ودعوى الاجماع
على حجية ظاهر الكتاب حتى فيما هو محل البحث ممنوعة وإن
تمسك فيه بالاخبار فهي ظنية الشمول للمقام وإن فرض التواتر فيها و
هذا أيضا ضعيف لان
282

إنما جعل تلك العمومات مؤكدة ومؤيدة لقطع العقل بالبراءة عند
عدم الدليل ولم يجعلها دليلا مستقلا ولو سلم فهي من الأدلة الظنية
التي قام على حجيتها قاطع إذ الاجماع منعقد على حجية ظواهر
الكتاب حيث لا تعارضها ما ثبت عند العامل بها كونه معارضا ودلالة
الاخبار وإن كانت ظنية إلا أن الاجماع منعقد على حجية الظن في
الألفاظ عند عدم ثبوت المعارض وقد مر الإشارة إلى ذلك مرارا
الخامس أن قوله يحكم بجواز تركه إلى آخره إن أراد نفي الوجوب مع
عدم الحكم بالاستحباب فهو لا ينطبق على مقصوده لمنافاة ذلك
لما ثبت من الشرع يقينا وإن أراد نفي الوجوب مع عدم الحكم
بالاستحباب فهذا إنما يصح بترجيح الحديث الدال على الاستحباب
على
الحديث الدال على الوجوب بسبب اعتضاده بأصل البراءة وفيه كر
على ما فر وإن أراد إثبات الرجحان بالاجماع ونفي المنع من
الترك بالأصل ليتحقق الاستحباب ففيه أنه على تقدير أن يكون
الرجحان الثابت في نفس الامر الرجحان الثابت في ضمن الوجوب
كما
هو أحد الاحتمالين لا جرم يكون الرجحان متقوما بالمنع من الترك
فمع نفيه بالأصل ينتفي الرجحان أيضا إذ لا بقاء للجنس بدون
الفصل فكيف يحكم بالاستحباب فاتضح أن غسل الجمعة من قبيل
الجهر بالبسملة والاخفات بها على ما فهمه حيث إن الخبر الظني فيه
ليس في مقابلة أصل البراءة وهذا أيضا ضعيف إذ للمورد أن يختار
القسم الثالث كما هو الظاهر من كلامه فيثبت الرجحان بالاجماع و
جواز الترك بالأصل وما زعمه من أن ذلك يؤدي إلى بقاء الجنس
بدون الفصل على تقدير أن يكون فصله المنع من الترك فمدفوع بأن
الممتنع بقاء الجنس مع انتفاء فصله الخاص في الواقع لا بقاؤه مع
عدم ثبوت فصله الخاص إلا أن يقال عدم ثبوت فصل الوجوب أعني
المنع من الترك يستلزم عدمه في الواقع إذ لا تكليف إلا بعد البيان وإن
أطلق الوجوب أو التكليف مجازا أو اصطلاحا فإن الكلام في
المعاني دون الألفاظ فنقول لا خفاء هنا في ثبوت الجنس متقوما بأحد
الفصلين في الواقع وإنما الشك في تعيينه المعتبر في فعليته و
تعلقه فنفي أحدهما بالأصل الذي هو في معنى إثبات الاخر به طريق
إلى تعيين ما يتقوم به الجنس لا رفع لما تقوم به في الواقع وفيه أن
الأصل المثبت لا تعويل عليه بل التحقيق في الجواب أن العلم بتحقق
الرجحان في ضمن أحد النوعين واقعا ولو مشروطا فعليته بعلم
المكلف يستلزم بالضرورة تحقق الرجحان الفعلي ظاهرا في ضمن ما
يؤدي إليه طريق المكلف من الوجوب والاستحباب فإذا اعتبرنا
أصل البراءة طريقا إلى نفي المنع من النقيض دون الاحتياط طريقا إلى
إثباته يثبت الاستحباب لتكامل أجزائه فإن الثابت ظاهرا مغاير
للرجحان الثابت واقعا ومن هذا البيان تظهر أن الاستحباب الثابت في
المقام حكم
ظاهري لا ملفق منه ومن الواقعي فاتضح أن التمثيل بغسل الجمعة هو
المطابق لفرض المورد حيث أراد بيان طريق التخلص عن العمل
بخبر الواحد حيث يدور الامر بين الوجوب والاستحباب كما لا يخفى
السادس قوله فيما لم يكن له مندوحة إلخ إن أراد التخيير بمعنى
الإباحة ففيه أن دليل القولين يتساقطان بعد التعارض فلا يبقى شئ
في مقابل أصل البراءة حتى يعدل عنه إلى الأصل لظنيته بل الكلام
في جريان الأصل هنا كالكلام فيه حيث لا نص فيه فإنه لا معارض
للأصل في ذلك لأدلة الاحتياط وهي مما لا يلتزم بها المستدل ولا
المورد وإن أراد التخيير في العمل بأحد القولين حتى إنه إذا اختار
أحدهما تعين عليه كما في التخيير بين الدليلين أو الرجوع إلى
المجتهدين فهذا مما لا معنى لأصل البراءة فيه لثبوت التكليف فيه
على كل من التقديرين وهذا أيضا ضعيف جدا إذ المورد أن يختار
الشق الأول ويدفع الاشكال المورد عليه بأن كلا من الدليلين وإن
أمكن اعتباره في مقابلة الاخر فيتساقطان ويبقى الأصل سليما عن
المعارض لكن يمكن اعتباره في مقابلة الأصل أيضا فيسقط ويتعين
العمل بالأصل وبالجملة فكل من الدليلين ساقط عن درجة الاعتبار
باعتبارين من معارضته لمثله ومخالفته للأصل وتمثيل المورد به
مبني على اعتبار الثاني مع أن الدليلين المتعارضين قد يكون الظن
مع أحدهما أقوى فلا يلزم تساقطهما بالنظر إلى نفسهما فإن قلت العلم
بالأصل هنا ينافي العلم الاجمالي بالتكليف قلت للمورد أن يمنع
التكليف الفعلي مع عدم التمكن من الوصول وله أن يختار الشق الثاني
ويدفع الاشكال المورد عليه بأن الغرض من البيان المذكور ليس
طرح ما يقابل الأصل من الدليل الظني والعمل به بل المقصود بيان
كيفية التخليص بناء على عدم التعويل على الظن في مثل المورد
المذكور وهذا ظاهر فاتضح مما قررنا أن هذه الاعتراضات غير ناهضة
بدفع الايراد المذكور بل التحقيق في دفعه ما قررناه أولا من
أن المقطوع به من الطريقة هو التكليف الفعلي بالعمل بمؤدى أدلة
مخصوصة وحيث لا سبيل لنا إلى تحصيلها بطريق العلم فيتعين و
التعويل على الظن فإن قلت للمورد أن يقول لا نسلم أنه إذا انسد باب
العلم إلى معرفة تلك الطرق وجب العمل بالظن لجواز أن يقتصر
على وجوب العمل بمقتضى الطرق القطعية ويعول على أصل البراءة
فيما عداها قلت إن أردت من الأصل براءة الذمة عن العمل بسائر
الأدلة حتى بالأصل فهو غير معقول إذ لا بد في كل واقعة من حكم ولو
في الظاهر ولا بد له من دليل يتوصل به إليه ولا أقل من الأصل و
إن أردت أن الأصل البراءة في غير تلك المورد فهذا غير سديد إذ
وجوب العمل بالأصل مشارك لوجوب العمل بسائر الأدلة في كونه
مخالفا للأصل فيبقى الترجيح من غير مرجح نعم لو قدر الظن بذلك
صح التعويل عليه ولا كلام لنا حينئذ لكنه كما ترى ويمكن دفع
الايراد المذكور أيضا بدعوى القطع بعدم مساعدة الطريقة الملقاة من
صاحب الشريعة على جواز التعويل على الطريق المذكور في هذا
الزمان لأدائها غالبا إلى تفويت كثير من الاحكام فينحل بمقصوده
فتدبر ثم على هذا الوجه بالتقرير المذكور إشكالان الأول أن
مقتضاه حجية جميع الظنون المتعلقة بالأحكام وهو باطل للقطع
بعدم حجية بعض الظنون كالظن الحاصل من القياس والاستحسان و
لا
سبيل إلى إخراجهما بالاجماع لان القواعد العقلية لا تقبل التخصيص
وأيضا مفاده حجية الظن من حيث كونه ظنا وهذه جهة واحدة فإن
صحت صحت في الكل وإن بطلت بطلت في الكل لأنها جهة تعليلية
فإن تمت وجب أن لا يتخلف عن مقتضاها في مواردها وأجاب عنه
الفاضل المعاصر بوجوه الأول المنع من حصول الظن بالقياس و
الاستحسان بعد ما ورد في الشرع من النهي عن العمل بهما وحينئذ
فلا
حاجة إلى التخصيص وفيه نظر لان نهي الشارع عن العمل بمقتضاهما
لا يوجب عدم حصول الظن بهما فإن الظن أمر وجداني يضطر
إليه النفس عند
283

حصول أماراته وغاية ما يمكن في توجيهه أن يقال يستكشف من نهي
الشارع عن العمل بهما عن وقوع الخطأ في إفادتهما غالبا وذلك
يوجب الظن بخلاف مقتضاهما إلحاقا له بالأعم الأغلب فيقدح به
الظن الحاصل بمقتضاهما للتعارض وهو كما ترى لمنع أصل التعليل
أولا وعدم لزوم التكافؤ ثانيا ولهذا لا يعد موافقة القياس من قوادح
العمل بالرواية ثم إنه تمسك في مبحث الاجتهاد على عدم إفادة
القياس الظن بما ورد في الأخبار المتواترة من المنع عنه مع ما في
بعضها من التعليل بأن دين الله لا يصاب بالعقول لان الحكم الكامنة
في الأشياء لا يعلمها إلا الله الحكيم العليم وما ورد من أن الله لا يسأل
كيف أحل وكيف حرم وما يرى من جمع الشارع بين المختلفات و
تفريقه بين المؤتلفات كما في منزوحات البئر وغيرها فكيف يكون
مجرد المناسبة والمماثلة منشأ لحصول الظن بالقياس ثم أكد ذلك
بالاخبار الدالة على أن أول من قاس إبليس حيث لم يعرف الفرق بين
النار والطين وبين آدم ونفسه فقاس آدم بالطين وبما دل على
بيان وجه بطلان القياس من أن القتل يثبت بشاهدين والزنا لا يثبت إلا
بأربعة شهداء مع أن القتل أكبر والبول يوجب الوضوء مع أنه
من المني أكثر وصلاة الحائض لا يقتضي مع أنها أكبر من الصيام وسهم
المرأة نصف الرجل في الميراث مع أنه أقوى منها إلى غير ذلك
فما لا يدرك العقل فيه الحكمة إدراكا قطعيا لا يجوز الحكم فيه
بالأوهام البادية التي تزول بملاحظة ما ذكر أقول دعوى أن القياس لا
يفيد الظن بالحكم أصلا نهي الشارع عنه في مرتبة دعوى بعض
الأخبارية قطعية الاخبار سندا ودلالة من جهة أمر الشارع بالعمل بها و
كلاهما مكابرة يشهد صريح الوجدان على خلافهما وكيف كان
فالوجوه المذكورة مدفوعة أما إجمالا فبأن العلة في القياس كما قد
تكون معلومة فيعلم بتعدي حكم الأصل إلى الفرع كذلك قد يكون
مظنونة فيلزم منه ظن ذلك ودعوى أن العلة إما أن تكون معلومة أو لا
يكون مظنونة وأنه لا واسطة بينهما مخالف لما يشهد به الاعتبار
الصحيح فإن اختلاف مراتب ما يوجب لحصول الاعتقاد قوة وضعفا
يوجب اختلاف
آثارها فينبعث منه القطع أو الظن بمراتبهما كما في الحدسيات وأما
تفصيلا فبأن النهي عن العمل بأمارة لا ينافي حصول الظن منهما و
إنما تنافي جواز العمل بها أ لا ترى أن الشارع نهى عن سوء الظن
بالمؤمنين ومع ذلك يحصل به عند وجود أماراته وإلا لامتنع مخالفة
هذا النهي ولو كان النهي عن سوء الظن قبل حصوله باعتبار فعل
الأسباب المفضية إلى حصوله ثم إلى بقائه وبعد حصوله وتعذر رفعه
فالنهي عنه باعتبار البناء عليه والعمل على حسبه ولو كان النهي عن
العمل بالظن موجبا لزواله لما تحقق الحكم الأخير وأما عن بقية
الاخبار فبأن منها ما يدل على أن حكم الاحكام خفية لا يهتدى إليها و
هذا منزل على الغالب فإن حكم بعض الأحكام مستفادة من العقل و
الشرع ومنها ما يدل على طرق الخطأ والاشتباه إلى القياس في موارد
عديدة وليس الغرض من بيان تخلف إصابة القياس في تلك
الموارد منع حصول الظن به مطلقا لان مثل التخلف المذكور متحقق
في الاخبار بدليل وقوع التعارض فيها الكاشف عن خطأ أحد
المتعارضين مع أنها لا تخرج بذلك عن إفادة الظن في الجملة بل
المقصود الرد على أبي حنيفة وأشباهه من العامة القائلين بحجية
القياس مطلقا والمقصود أن كثيرا من أنواعه مما لا يعتد بها لأنها بمرتبة
الأمثلة المذكورة أو أضعف منها فلا محيص من الرجوع فيها
إلى الحجية وأما مبنى الشريعة على الجمع بين المختلفات والتفريق
بين المتفقات فلا أثر له في منع حصول الظن بالقياس وإلا لاثر في
منع حصول العلم في تنقيح المناط بطريق أولى والوجدان أقوى
شاهد على ذلك أ لا ترى أن حكم الشارع بصحة بيع الفضولي يوجب
الظن بالمناط الموجب لسريانها إلى العقود وحكمه بإيجاب إفضاء
الزوجة بالدخول بها قبل التسع لتحريمها عليه مؤبدا ووجوب
الانفاق عليها يوجب الظن بالمناط لانسحاب الحكم إلى غير الزوجة
بل وإلى الكبيرة وإلى الافضاء بغير الدخول وربما كان المناط في
البعض منقحا إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع في الفقه مما لا
حصر له الثاني أن التكليف بما لا يطاق
وانسداد باب العلم مع بقاء التكليف لا يوجبان العمل بالظن الواقعي و
لا بما يفيد الظن من حيث كونه مفيدا له بل بما يفيد الظن في نفسه
مع قطع النظر عما يفيد خلافه وحينئذ يمكن استثناء القياس و
الاستحسان وبعد الاستثناء إذا تعارضت سائر الأدلة اعتبر الظن
الواقعي ورجح على غيره وفيه أيضا نظر لان الدليل المذكور لو تم
فإنما يدل على وجوب العمل بما يفيد الظن الفعلي من حيث كونه
مفيدا له لا ما له شأنية إفادة الظن إذ لا فرق في نظر العقل بين الظن
الشأني إذا تجرد عن الفعلية وبين الشك أو الوهم فكما أن الوظيفة
الأولية هي العمل بما يفيد العلم الفعلي من حيث كونه مفيدا له لا من
شأنه إفادة العلم كذلك الوظيفة الثانوية المستندة إلى انسداد الطرق
إلى الوظيفة الأولي هي العمل بما يفيد الظن الفعلي من حيث كونه
مفيدا له لا من شأنه إفادة الظن على أنا نقول لو دل الدليل المذكور
على حجيته ما له شأنية إفادة الظن لدل عليه من حيث إن له شأنية
إفادة ذلك لظهور أن هذا الوصف هو المناط والعلة في حكم العقل
بحجيته وهذا أيضا جهة واحدة فاللازم عدم اختلاف حكمها
باختلاف مواردها فالعدول عن كون الدليل مفيدا للظن الفعلي إلى
الظن
الشأني لا يجدي في دفع شئ من الاشكالين ولعل منشأ العدول أن ما
يفيد الظن في نفسه لا بد وأن يتعدد حيث يوجد أمارة ثبت عدم
اعتبارها شرعا إذا كان مقتضاه مخالفا للامارة لم يثبت عدم اعتبارها
شرعا صح ترجيح الثانية لامتناع حكم العقل حينئذ بجواز العمل
بهما معا امتناع حكمه بالتخيير لوجود المرجح الشرعي في البعض
فضلا عن حكمه بترجيح المرجوح وإلى هذا يرجع محصل الاستثناء
فإذا اختلفت الامارات وانتفي المرجح الشرعي اعتبر المرجح العقلي
فيقدم ما أفادت الظن الفعلي
284

على غيره وعلى هذا البيان يلغو اعتباره لعدم اعتبار الحيثية فيما أفاد
الظن في نفسه غاية الامر أن يكون هذه الحيثية فيما إذا اختلفت
الامارات مقتضية الحجية أحدها ويلزمه حجية القياس والاستحسان
عند موافقتهما للدليل المعتبر بل يلزم منه حجيتهما في نفسهما غاية
الامر عدم نهوضهما بدفع ما يعارضهما كالأصل مع أنهم منعوا عن
حجيتهما على الاطلاق وكذا الكلام فيما عداهما من الأدلة التي ثبت
عدم اعتبارها شرعا كخبر الفاسق عند من يعول به الثالث أنا لا نسلم أن
انسداد باب العلم بالنسبة إلى مورد القياس ونحوه لأنا نعلم
حرمة العمل بمؤداه فنعلم أن حكم الله غيره وإن لم يعلم أي شئ هو
ففي تعينه يرجع إلى سائر الأدلة وإن كان مؤداهما نفس مؤداه
يعني أن الظن القياسي مثلا إذا اقتضى حكما من الاحكام فذلك
الحكم باطل من حيث كونه مؤدى القياس وإن كان صحيحا من حيث
كونه مؤدى دليل آخر وحينئذ فلا يتوجه الدليل المذكور بالنسبة إليه
لعدم انسداد باب العلم فيه وفيه أيضا نظر لأنه إن أراد بالعلم
ببطلان الحكم من حيث كونه مؤدى القياس العلم ببطلان نفس الحيثية
على تأدية القياس كما هو الظاهر من بيانه فهذا راجع إلى العلم
بعدم كون القياس حجة ولا جدوى له في دفع الاشكال كيف ومبنى
الاشكال على العلم بعدم حجية القياس وإن أراد العلم ببطلان نفس
المؤدى فهو غير معقول مع تجويز صحته لقيام دليل آخر الرابع المنع
من ثبوت حرمة العمل بالقياس ضرورة حتى في زمن انسداد باب
العلم أقول إن أراد مجرد المنع من كون تحريم العمل بالقياس في زمن
انسداد باب العلم ضروريا فمع تسليمه لا يجدي في دفع الاشكال
إذ يكفي في وروده ثبوت التحريم ولو بالدليل وإن أراد المنع من
حرمة العمل بالقياس هنا كذلك كما هو ظاهر كلامه بل صريحه فهو
عند أصحابنا الامامية غلط واضح وخطأ فاحش قد صدرت مثل هذه
المقالة الواهية عن ابن الجنيد فنقل أن الشيعة تبرأت منه حتى إنه لم
يستطع المقام بينهم فخرج من بلادهم ثم استبصر وتاب ورجع و
بالجملة لا يرتاب أحد من أصحابنا في بطلان العمل بالقياس و
الاستحسان ما دامت الأدلة المعهودة من الكتاب والكتب الأربعة و
غيرها موجودة يمكن المراجعة إليها وإن قدر أن شيئا منها ليس
بقطعي و
منع قيام ضرورتهم على ذلك مكابرة جلية لا يليق بالالتفات إليه وأما
تنزيله للأخبار الدالة على حرمة العمل بالقياس على المنع من
التشريع والبدعة والاستقلال لاقتضاء العلة ذلك لا لان الشارع حكمه
كذا لأجل العلة كما في العمل بالخبر ففيه ما فيه أقول بل التحقيق
في الجواب أن يقال انسداد باب العلم وبقاء التكليف إنما تقتضي
حجية الظنون التي لا دليل على عدم حجيتها عند الانسداد من حيث
إنها
ظنون لا دليل على عدم حجيتها كذلك وهذا مطرد في جميع موارده
وبالجملة فالعقل إنما يحكم على العنوان الخاص لا أنه يحكم على
العنوان العام ثم يطرؤ عليه التخصيص فالذي يكشف عن ذلك أن
العقل لا يحكم بمجرد انسداد باب العلم وبقاء التكليف لجواز العمل
بكل ظن حتى بالظنون التي علم عدم جواز التعويل عليها ولو بعد
انسداد العلم بل بما عدا ذلك من الظنون المحتمل الحجية ومن هنا
يظهر أن القائل بحجية الظن المطلق إنما ينبغي له أن يقول بحجية
مطلق الظن الذي لا دليل على عدم حجيته فيعتمد على كل ما لا دليل
على عدم حجيته مما يفيد الظن الفعلي بعد قطع النظر عن معارضة ما
ثبت عدم الاعتداد بمعارضته واعلم أنا لو التزمنا بانسداد باب
العلم مع بقاء التكليف بها فلا يخلو إما أن نقول بأن قضية ذلك عقلا
وجوب العمل بالظن فيها واقعا وحينئذ فيمتنع المنع من العمل ببعض
الظنون كالظن القياسي وشبهه وإن قلنا بأن قضية ذلك وجوب العمل
بالظن ظاهرا لم يمتنع المنع من العمل ببعض الظنون لقيام دليل
على المنع كسائر الاحكام العقلية الظاهرية كالبراءة وشبهها وقد
عرفت مما حققنا أن حكم العقل بحجية الظن هنا حكم ظاهري فلا
إشكال في المنع من العمل بالقياس وشبهه فيرجع في مورده بحكم
العقل إلى الأقرب إلى الواقع من بعده ولو مع قطع النظر إلى القياس
مثلا وإن لم يكن ظنا فعليا ويظهر من استشكال الفاضل المعاصر في
إخراج الظن القياسي والتجائه إلى منع حصول الظن به تارة و
منع بطلان حجيته أخرى ونحو ذلك من الوجوه المتقدمة توهمه
للوجه الأول وهو كما ترى وكيف كان فالمعتبر على الأول كل أمارة
مفيدة للظن وعلى الثاني كل أمارة من الامارات التي لا دليل على عدم
حجيتها ولا أقرب منها في النظر إلى إصابة الواقع بعد الاغماض
عما ثبت عدم حجيته سواء كان أفاد الظن أو لا والفرق بين أن تعتبر
الامارات على أحد
هذين الوجهين وبين أن تعتبر على وجه التعبد أن الامارات المعتبرة
على وجه التعبد لا يعتبر فيها إفادتها للظن ولا كونها أقرب في
النظر إلى الواقع وإن فرض حصوله فليس الحكم بالحجية منوطا به بل
كان من المقارنات الاتفاقية كما في العمل بأصل البراءة و
الاستصحاب بخلاف الامارات المعتبرة على أحد هذين الوجهين فإن
حجيتهما منوطة بالوصف المعتبر فيهما من الظن والأقربية ومن
هنا يتضح ضعف ما ظنه المعاصر المذكور حيث زعم أن القول بحجية
الفتوى في حق المقلد تعبدا بالشئ مما اشتهر بين الأصحاب من
عدم جواز تقليد الميت فإن قول الميت قد يفيد الظن فلا يحصل من
فتوى الحي فيكون الرجوع إليه تعبدا لعدم إناطته بحصول الظن و
إن ذلك ينافي احتجاج بعض الأصحاب على تقديم الأفضل والأورع
بكونه أرجح وأقوى من المفضول ووجه ضعفه أنه لا يكفي في كونه
أمارة تعبدية عدم إناطة حجيتها بحصول الظن الفعلي منها بل يعتبر مع
ذلك عدم إناطتها بما لا قرينة في نظر العامل كما عرفت و
المنع من قبول قول الميت إنما يوجب عدم الإناطة بالظن الفعلي لا
قرينة بل التحقيق أن المنشأ في ذلك ما نقرره من قيام الاجماع و
الضرورة ودلالة الكتاب والسنة على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم
من غير إناطة بوصف الظن والأقربية في نظره وهذا مع اتحاد
المفتي موضع وفاق وأما مع تعدده واختلافهم في الأفضلية و
الأورعية فربما يوهم كلام بعضهم أنه يؤخذ بما هو الأقوى والأرجح
في
نظره في إصابة الحكم الفعلي وأنه قول الأفضل والأورع وهذا مع
بطلان كليته كما لا يخفى لا ينافي كونه تعبديا بالمعنى الذي ذكره
إذ لا يلزم من تقديم الأقوى والأرجح من أقوال المفتين إناطته بالظن
مع احتمال أن يكون المراد قول الأفضل والأورع أقوى وأرجح
في
285

حكم الحجية له فلا ينافي كونه تعبديا أصلا بل يكون الترجيح حينئذ
تعبديا كأصل التقليد كما في تقديم بعض البينات على بعض عند
التعارض فإن وجوه الترجيح فيها تعبدية كأصل حجيتها ثم إن قلنا بأن
حجية خبر الواحد تعبدية مطلقا فلا كلام وإن قلنا بأن حجيته
ليست تعبدية فقد استشكل الفاضل المذكور من جهة منافاة ذلك
لعدم حجية القياس إذا لم يفد الخبر الظن وإفادة القياس فإن القول بأن
الخبر حجة إن لم يفد الظن قول بحجيته تعبدا وأجاب عنه أولا بمنع
إفادة القياس الظن لا سيما إذا عارضه خبر وثانيا بأنا لا نعمل
حينئذ بالخبر ولا بالقياس لحرمة العمل بهذا وعدم حصول الظن
بذلك بل نعمل بالأصول والقواعد ونحكم بالتخيير حينئذ ولو
اخترنا العمل بما هو مقتضى القياس فليس من جهة أنه مقتضاه بل لأنه
أحد طرفي التخيير أقول عدم حجية خبر الواحد تعبدا بناء على
حجيته لا يوجب أن يكون حجيته لحصول الظن الفعلي به خاصة بل
الأعم منه ومن الظن الشأني ففي الفرض المذكور لو لم يكن احتمال
ثالث بأن كانا على طرفي النقيض أو كان الاحتمال الاخر معلوم البطلان
قدم الخبر على القياس لأنه لو لوحظ في نفسه وجرد النظر عن
القياس كان مفيدا للظن ولو كان هناك احتمال آخر لامارة أخرى
معتبرة قدم الأقوى منها ومع التكافؤ بني على التخيير بينهما ولا
يلتفت إلى القياس على التقديرين لان ما ثبت عدم حجيته ينزل
وجوده منزلة العدم في عدم الاعتداد به وأما الوجهان اللذان أجاب
بهما
فبمكان من الضعف أما الأول فقد مر ما فيه وأما الثاني فلانه إن بني
على أن قضية الانسداد حجية كل ظن فعلي واقعا فهذا ينافي القول
بعدم حجية القياس المفيد للظن وإن بني على حجيته ظاهرا كما مر
في الوجه الثاني من الوجهين فقد عرفت أن مقتضاه أعم من الظن
الفعلي والأقرب إليه مع بعد الثاني فيجب على هذا التقدير أن يعمل
بالخبر ويترك القياس ولو ادعي أن مقتضاه حجية الظن الفعلي
الذي لا دليل على عدم حجيته خاصة فحيث ينتفي يبنى على التخيير
ولا يعتبر الظن الشأني فضعفه واضح لأنه إذا كان في مقابل الظن
الفعلي الغير المعتبر أمارات أو أخبار متعارضة مختلفة بالقوة والضعف
فإن التزم بالتخيير بين الكل لزم الحكم بمساوات المرجوح
مع الراجح وقد كان مبنى الدليل العقلي على خلافه وإن اعتبر التخيير
بين مؤدى القياس وأقوى تلك الامارات خاصة ففيه أن الظن
القياسي بعد دلالة الدليل على عدم اعتباره يتساوى وجوده وعدمه و
كيف يرجح مورده على مورد الذي دل الامارة الضعيفة عليه و
أيضا لو فرض معارضة الامارة الضعيفة مع القياس فلا بد من التزام
التخيير فيه أيضا فلا وجه لعدم اعتباره عند معارضة أمارة الأقوى
معها الثاني أنه لو تم ما ذكر لزم من ثبوته نفيه وذلك لان مقتضاه حجية
كل ظن لم يثبت عدم حجيته من الشرع بالخصوص والظنون
من الطريقة المتداولة بين الأصحاب عدم حجية كل ظن لم يثبت
حجيته بالخصوص وبعبارة أخرى قضية ما ذكر أصالة عدم حجيته
الظن
بعد انسداد باب العلم والمظنون من الشريعة أصالة عدم حجيته بعد
انسداد باب العلم وذلك لان طريقة أصحابنا قديما وحديثا جارية
على إقامة الدليل على حجية كل ظن عولوا عليه وركنوا إليه ولم
يكتفوا فيه بمجرد كونه ظنا لم يقم دليل على خلافه يعرف ذلك منهم
بالتتبع في مظان كلماتهم ومطاوي مباحثهم وهذا إن لم يفدنا القطع
بأصالة عدم حجية الظن بعد انسداد باب العلم فلا أقل من أن
يفيدنا الظن بذلك لكونها شهرة قريبة من الاجماع معتضدة بعموم
الآيات والروايات الدالة على عدم جواز التعويل على الظن مطلقا و
حينئذ فإن كان الأصل في كل ظن أن يكون حجة كان الأصل في كل
ظن أن لا يكون حجة وأما ما زعمه بعض المعاصرين من أن الظاهر
من طريقة الفقهاء العمل بكل ظن لم يقم دليل على خلافه فإن أراد به
فقهاءنا كما هو الظاهر فتوجه المنع إليه جلي كما يظهر من تعرضهم
لشروط قبول خبر الواحد إذ لو كان العبرة بإفادة الظن لما كان لذكر تلك
الشروط والحكم بعدم جواز العمل بفاقدها على الاطلاق
وجها لظهور أن الظن لا يدور مدارها وأضعف من ذلك تنزيله
لتعرضهم للبحث عن حجية خبر الواحد بالخصوص على أن الغرض
إثبات حجيته عند عدم انسداد باب العلم والتنبيه على عدم قيام دليل
على عدم حجيته بالخصوص كالقياس إذ لا خفاء
في أن مساق كلماتهم واعتنائهم بمباحث المقام مما لا يساعد على
ذلك بل التحقيق في الجواب على مذاقهم أن البرهان المذكور على
أصالة حجية الظن مفيد للعلم بها فيمتنع حصول الظن بخلافه من أمارة
لامتناع تعلق العلم والظن بطرفي النقيض وأما أن أصحابنا لم
يعولوا على هذا الأصل في الاحكام فإن ثبت فلا بد أن يكون ذلك
لتمكنهم من العلم والطريق العلمي إليها والتقدير في حقنا عدم
التمكن
من العلم فلا يكون حكمنا مساويا لحكمهم هذا ولا يخفى ما فيه مما
مر في الوجه الأول التاسع ما استدل به العلامة في النهاية وغيره فهو
أن خبر الواحد مفيد للظن فلو لم يجب العمل به لزم ترجيح المرجوح
على الراجح وهو ظاهر البطلان يعني على تقدير عدم وجوب العمل
بالظن يلزم جواز الاخذ بالموهوم الذي هو طرف المرجوح في النظر و
اختياره على الظن الذي هو الطرف الراجح في النظر وترجيح
المرجوح على الراجح قبيح بالضرورة ولا يخفى أن هذا الدليل
بظاهره ظاهر الفساد للقطع بأن الشارع لم يغير كثيرا من الظنون في
الموضوعات والاحكام فكيف يقال بكون الاخذ بالموهوم قبيحا
مطلقا فالوجه أن يبتنى على ما عدا المقدمة الأخيرة أعني أقربية الظن
إلى العلم من غيره من المقدمات المذكورة في الدليل المتقدم فأصل
التقرير هكذا التكليف بمؤدى الأدلة أو بالأحكام ثابت بالضرورة و
طريق العلم إليها منسد كما يشهد به الوجدان فيسقط التكليف
بتحصيله لامتناع التكليف بغير المقدور فيجب التعويل على الظن
المستفاد من خبر الواحد وإلا لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو
ظاهر البطلان فيكون المغايرة بين الدليلين بمجرد المغايرة في
إحدى المقدمات أقول إن قرر الدليل المذكور على حجية الظن في
الأدلة استقام وكان قريبا من الوجه الذي قررناه وإن قرر دليلا
على حجية الظن في الاحكام اتجه عليه ما أوردناه على التقرير الثاني
فإن قيل لا نسلم أن ترجيح المرجوح في النظر على الراجح فيه قبيح
وإنما المسلم قبح ترجيح المرجوح بمعنى القبيح على الراجح
286

بمعنى الحسن وليس المقام منه على أنه لو صح ذلك لادى إلى
وجوب العمل بالظن مطلقا وإن عارضه دليل شرعي إذ القواعد
العقلية لا
تقبل التخصيص مع أنه معلوم الفساد قلنا أما المنع المذكور فمكابرة
فإن الضرورة قاضية في الفرض المذكور برجحان العمل بالطرف
الراجح من حيث كونه طرفا راجحا على العمل بالطرف المرجوح من
حيث كونه طرفا مرجوحا وأما النقص بصورة المعارضة [بالدليل
الشرعي] فمدفوع بأن حكم العقل بذلك ليس على الاطلاق بل
مقصور على مورد يقطع ببقاء التكليف فيه وينقطع عنه طريق العلم
السمعي بالكلية ومثل هذا لا يعقل فيه معارضة دليل شرعي هذا و
بعض المعاصرين بعد أن فسر الترجيح في عبارة الدليل بالاختيار
قال والمرجوح عبارة عن القول بأن الموهوم حكم الله والعمل
بمقتضاه والراجح عبارة عن القول بأن المظنون حكم الله والعمل
بمقتضاه ومبدأ الاشتقاق في لفظ الراجح والمرجوح هو الرجحان
بمعنى استحقاق فاعله المدح والذم والمعنى أن الفتوى والعمل
بالموهوم مرجوح عند العقل وبالراجح حسن ووجهه أن الأول يشبه
الكذب بل هو هو بخلاف الثاني ولا يجوز ترك الحسن واختيار
القبيح انتهى ملخصا أقول لا يخفى ما في تأويله مع ضعف تعليله أما
الأول فلان تفسير المرجوح والراجح بالقول والعمل ليس على ما
ينبغي بل الوجه اعتباره في الترجيح فإن الاختيار كما يكون بالقول
كذلك يكون بالرأي والعمل ثم تفسيره الرجحان الذي هو مبدأ
لاشتقاقهما باستحقاق فاعله المدح والذم غير سديد لأنه بهذا المعنى
مبدأ لاشتقاقهما بمعنى آخر ومنه المرجوح في قوله الفتوى و
العمل بالموهوم مرجوح والفرق واضح ثم عطفه الذم على المدح في
تفسير الرجحان لا يتم إلا بتعسف وأما الثاني فلانه مع اختصاصه
بالقول مدفوع بأن المشابهة على تقدير تسليمها لا يقتضي بالمشاركة
في الحكم والعينية ممنوعة فإن العبرة في الصدق والكذب
بموافقته ومخالفته دون الاعتقاد فإن قلت نعم لكن المدار في
الاتصاف بالحسن والقبح على الاعتقاد قلت لا نسلم حسن القول
المظنون
الصدق وإنما المسلم حسن القول المعلوم الصدق هذا وقد يعترض
على الدليل المذكور بأنه إنما يتم إذا ثبت
وجوب الافتاء أو العمل عند عدم القطع وهو ممنوع إذ لا دليل عليه
عقلا ولا نقلا والاجماع المدعى عليه ممنوع لمخالفة الأخباريين فيه
ومصيرهم إلى وجوب التوقف والاحتياط وضعفه واضح إذ وجوب
الافتاء عند عدم القطع على التفصيل الآتي والعمل به ضروري و
مخالفة الأخباريين غير قادحة فإنهم يدعون حصول القطع بالاخبار
المدونة في الكتب الأربعة وسننبه على فساده بما لا مزيد عليه و
على تقدير عدم حصول القطع بها فلا أظنهم يخالفون في وجوب
العمل بالاخبار وعلى تقدير مخالفتهم فهم مخرجون بالاجماع و
الضرورة ووجوب التوقف إن كان بالنسبة إلى الحكم الظاهري فغير
معلوم مع أنه لا يجامع القول بوجوب الاحتياط وإن كان بالنسبة
إلى الواقع فغير مفيد والالزام بالاحتياط مع أنه قد يتعذر في بعض
الموارد وحرج وضيق فينافي ما دل على نفيهما عن الشريعة مع أنه
لا قطع بالبراءة من وجوب الافتاء وتعليم الاحكام بالاحتياط وترك
الافتاء بخلافه بالكلية إن لم يقطع بعدمها فلا يكون التعويل على
الاحتياط قطعيا أيضا العاشر أن مخالفة الخبر الواحد مظنة الضرر و
الاحتراز عن الضرر المظنون واجب فيجب العمل بمقتضاه وقد
أورد عليه تارة بمنع الصغرى لان علمنا بأن الشارع لم يكلفنا بما لا
يتمكن فيه من تحصيل العلم يؤمننا من الضرر وأخرى بمنع الكبرى
لان ظن الضرر يقتضي أولوية الاحتراز محافظة على الاحتياط دون
وجوبه ولو سلم فإنما يسلم في العقليات الصرفة المتعلقة بأمر
المعاش دون المسائل الشرعية المتعلقة بأمر المعاد فإن العقل إنما
يستقل بالأول دون الثاني والجواب أما عن الأول فبأن الدليل مبني
على انسداد باب العلم وبقاء التكليف بالأحكام وحينئذ فلا علم
بعدم التكليف فيما لا يتمكن فيه من العلم هذا إذا أريد به العلم
الابتدائي و
أما إذا أريد به العلم في الجملة ولو من جهة كون الطرق علميا ولو
ظاهريا فالايراد المذكور مما لا مدفع له لظهور أنا لا نسلم بعد
انسداد باب العلم إلى الاحكام ببقاء التكليف بها في حقنا مطلقا بل
بشرط مساعدة طريق إليه بعلم بحجيته ولو بملاحظة انسداد باب
العلم فيتوقف ثبوت الضرر بمخالفة الظنون وجوبه أو تحريمه على
ثبوت
حجية الظن بذلك عندنا فإذا توقف ثبوت حجية الظن بذلك عندنا
على ثبوت الضرر كان دورا وعن الثاني بأن العقل يستقل بوجوب
دفع الضرر والمظنون مطلقا على أنه لو ثبت الجواز في المقام ثبت
الوجوب إذ لا قائل بالفصل ومنع استقلال العقل بأمر المعاد غير
مسموع مع أنه يكفي في المقام مجرد ظنه وإنكاره مكابرة ثم لا يذهب
عليك أن هذا الدليل لو تم لاقتضى التعويل على الظن في الأدلة و
لكنهم قرروا الدليل المذكور على حجية الظن في الاحكام ويعرف ما
فيه مما مر ثم يرد على هذا الدليل وسابقه ما مر من الاشكالين و
الجواب الجواب واعلم أن بعض المعاصرين زعم أن الدليل العقلي
الدال على حجية الظن بعد انسداد باب العلم أوفي بإثبات ما هو
المطلوب من القول بحجية خبر الواحد من الأدلة المتقدمة لان تلك
الأدلة إنما تدل على حجية المراد من الخبر الواحد لأنه المتبادر من
النبأ والانذار وهو المستفاد من الاجماع دون ما يفهم من لفظ الخبر و
فيه نظر لان النبأ والانذار يصدقان على ما يستفاد من كلام
المنذر والمنبئ سواء كان بطريق النص أو الظهور والاجماع منعقد
على حجية ظواهر الألفاظ عند خلوها عن المعارض مطلقا كما مر و
اعلم أيضا أن الأدلة المتقدمة على حجية خبر الواحد ليست متحدة
المفاد فإن منها ما يقتضي حجيته تعبدا كالآيات والاخبار ومنها ما
يقتضي حجية ما كان منه مفيدا للظن الفعلي أو الشأني لا ما كان حجيته
مظنونا من الأدلة المحتملة للحجية كدليل الانسداد ومنها ما
يقتضي حجيته في الجملة كالاجماع والسيرة وزعم الفاضل المعاصر
أن آية النفر وآية النبأ تدلان على حجية الخبر المفيد للظن من جهة
إفادته له وفساد هذا الوهم في آية النفر واضح لان الانذار عبارة عن
الاخبار بإصابة المكروه والحذر عنه عبارة عن الاجتناب عنه و
هما يجامعان الشك بل الوهم أيضا وأما آية النبأ فربما كان فيه نوع
خفاء نظرا إلى إناطة قبول خبر الفاسق فيها بالتبين وهو طلب
ظهور الحال
287

فيصدق على المظنون لصدق الظن عليه وأيضا لا ريب أن خبر العادل
لا يفيد غالبا إلا الظن وقد دل مفهوم الآية على قبوله فيكون
المراد بالتبين في خبر الفاسق ما يبلغ به درجة خبر العادل في إفادة
الظن وأيضا تعليل الامر بالتبين بإصابة قوم بجهالة يدل على
قبول خبر الفاسق المفيد للظن إذ لا جهالة على تقديره إذ الظان للشئ
ليس بجاهل له وأيضا مخافة أن تصيبوا ولا خوف على تقدير
الظن وفساد هذه الخيالات مما لا يكاد يخفى على من أدنى أنس
بالعلم لكن لا بأس بالتنبيه عليه فنقول أما فساد الأول فلان التبين
حقيقة في طلب العلم لا لطلب الظن ولهذا يصح أن يقال ما تبين
عندي هذا الامر ولكني أظنه فينتفي التبين حقيقة مع إثبات الظن و
كذلك لفظ البيان والتبيان والتبين ونحو ذلك وكذلك والظهور و
إطلاقه على الظن اصطلاح مستحدث ولو سلم أن مفهوم الظاهر
أعم منعنا المساواة بين المفهومين وأما الثاني فلان الآية على تقدير
دلالتها بالمفهوم على حجية خبر العادل لا دلالة لها على أن حجيته
من جهة إفادته للظن حتى يسري إلى خبر الفاسق المفيد له بل للتعبد
كالآيات الدالة على حجية الشهادة ومما يؤكده أن خبر الفاسق
يفيد الظن غالبا كخبر العادل وإن كان أقل بالنسبة إليه وحينئذ فلا وجه
لاطلاق القول بحجية خبر العادل وعدم حجية خبر الفاسق بل
كان ينبغي أن يقال إن جاءكم خبر لا يفيدكم الظن فتبينوا أو ما يفيد هذا
المقام وأما الثالث فلان الجهل نقيض العلم فالظان جاهل قطعا
كالشاك والمتوهم ولا يرد أن خبر العادل لا يفيد العلم غالبا فعلى
تقدير اعتبار المفهوم لا يستقيم التعليل لجريانه في خبر العادل
أيضا لان العمل بالطريق المعتبر شرعا عمل بالعلم قطعا وإن كان
بالنسبة إلى الظاهر كالعمل بالشهادة ونحوها فلا يجري فيه
التعليل أعني العمل بجهالة وأما الرابع فلان التقدير كراهة أن تصيبوا و
تقدير المخافة غير مناسب للمقام وزعم أيضا أن أخبار العلاج
مفيدة لحجية الخبر المفيد للظن الفعلي وهو أيضا كما ترى لان تلك الأخبار
إن نزلت على ظاهرها كان المستفاد منها الترجيح بإحدى
الامارات المذكورة فيها تعبدا وأين هذا من دعوى دلالتها على حجية
الخبر
الواحد من حيث إفادته للظن وإن نزلت على أن المقصود منها ترجيح
الأقوى من المتعارضين بتلك الوجوه ونظائرها فهذا لا يقتضي
حجية ما يفيد منها للظن وإن نزلت على أن المقصود منها للظن الفعلي
من حيث إفادته له فضلا عن إفادة ذلك بالنسبة إلى الاخبار الغير
المتعارضة لان الخبرين المتعارضين إذا عارضهما أمارة غير معتبرة
كالقياس اندرجا في عموم تلك الأخبار في وجوب الاخذ بما هو
أقوى منهما مع عدم إفادة شئ منهما للظن الفعلي حجة المانعين
أمور الأول الآيات التي تضمنت النهي عن اتباع الظن والذم عليه كقوله
تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم فإن ما للعموم فيتناول المقام أيضا
وقوله تعالى أن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا
وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون إلى غير ذلك من الآيات الدالة على
عدم جواز التعويل على الظن وظاهر أن أخبار الآحاد لا يفيد إلا
الظن على ما هو المفروض في محل البحث فيندرج في الظن المنهي
عن اتباعه والجواب أما إجمالا فهو أن هذه الآيات على تقدير تسليم
دلالتها على حرمة العمل بالظن إنما يتناول الظن الحاصل من الخبر
الواحد بالعموم أو الاطلاق فهي معارضة بالآيات التي دلت على
جواز العمل بخبر الواحد بالخصوص فيتعين تخصيصها وتقييدها فإن
قيل النسبة بين الآيات الواردة في المقامين عموم من وجه لان
الآيات الدالة على قبول خبر الواحد تتناول الخبر المفيد للعلم وغيره
كما أن الآيات الدالة على حرمة العمل بالظن تتناول الظن الحاصل
من خبر الواحد وغيره فيبقى ترجيح تخصيص الثانية بالأولى مجردا
عن المرجح قلنا لا خفاء في أن خبر الواحد غالبا لا يفيد العلم
فتنزيل الآيات الدالة على حجيته مطلقا على صورة إفادته للعلم تنزيل
لها على الفرد النادر بخلاف العكس وكفي بمثله مرجحا في مثل
المقام مضافا إلى الأدلة السابقة سلمنا لكنهما متكافئان فيتساقطان
فيبقى بقية الأدلة سليمة عن المعارض سلمنا لكن تناولها لجميع
الأزمان والأحوال من باب الظهور دون القطع وهو لا يصلح لمعارضة
ما أسلفنا من الأدلة القاطعة
على حجية الظن عند انسداد باب العلم فيتعين تخصيصها والتحقيق
أن لا معارضة بين تلك الآيات لان ما دل منها على جواز العمل بخبر
الواحد لم يدل على جوازه من حيث كونه مفيدا للظن بل من حيث
كونه خبرا واحدا وما دل على عدم جواز العمل بالظن إنما يدل على
عدم جواز العمل به من حيث كونه ظنا لا من حيث كونه خبرا واحدا
فلا منافاة بين حرمة العمل [التعويل] على الظن الحاصل من خبر
الواحد وبين جواز التعويل على نفسه كما في الشهادة وأخبار ذي اليد
والاستصحاب ونحو ذلك فإن التعويل على الظن الحاصل منها
تشريع محرم وعليها من حيث أنفسها واجب معتبر وأجاب بعض
المعاصرين بأن مفاد هذه الآيات حرمة العمل بالظن مطلقا فإن صح
لزم منه حرمة العمل بها أيضا لأن مفادها لا تزيد على الظن وما يلزم
من وجوده عدمه فهو محال وفيه نظر لان المتبادر من النهي عن
العمل بالظن على تقدير كونه ظنيا النهي عن العمل بما عدا هذا الظن
مع أن تعميم حكمه إلى نفسه يوجب اللغو الممتنع صدوره عن
الحكيم
على أن المقصود ليس منع حجية كل ظن بل الظن الغير الكتابي أو
الظن الحاصل من خبر الواحد لقيام الاجماع على حجية الظن المستند
إلى ظاهر الكتاب في حق المجتهد حيث لا يعارضه ما ثبت حجيته
عنده كما هو الشأن في كل حجة ظاهرية وأما تفصيلا فنقول الحكم في
الآية الأولى مختص بالنبي والتعدي إلى يستدعي دليلا وهو في
المقام منتف ويمكن دفعه بآية التأسي مع أن عموم الآية مبني على
أن
يكون ما موصوفة لا موصولة وهو غير معلوم ذكره بعض المعاصرين و
هو ضعيف لان الآية على تقدير الثاني أيضا تفيد العموم لان
عموم الموصولة أفرادي لا مجموعي وآيات الذم إنما وردت في حق
الكفار حيث عولوا على الظن في أصول دينهم فلا يدل على تعميمه
إلى الفروع
288

والفرق بين المقامين غير خفي فالمناط ممنوع ويمكن دفعه بأن
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المحل والمورد مع أن بعض الآيات
ظاهر أو صريح في الاحكام كقوله تعالى قل آلذكرين إلى قوله نبئوني
بعلم إن كنتم صادقين وقوله تعالى قل إن الله لا يأمر بالفحشاء
أتقولون على الله ما لا تعلمون وقوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش
إلى قوله وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون إلى غير ذلك والمراد
بالعلم في الآية الأخيرة ما يتناول الظن لشيوع الاطلاق عليه لا ما
يختص باليقين وبهذا يجاب عن الآية الأولى وفيه أنه خلاف الظاهر
فلا يصار إليه إلا لقرينة وقد يجاب عنها بأن الخطاب فيها شفاهي فلا
يتناول غير الحاضرين لمجلس الخطاب أو غير الموجودين زمن
الخطاب إلا بالاجماع وثبوته ممنوع في محل النزاع ويمكن دفعه
بالتمسك في تعميم الحكم بالروايات الدالة بعمومها على التعميم إن
ثبت خروجه عن حد الآحاد لئلا يؤدي حجيتها إلى عدم حجيتها و
يمكن الجواب أيضا بأن هذه الآيات إنما تدل على حرمة العمل بالظن
الذي لا قاطع على حجيته إذ العمل بالظن الذي قام دليل قاطع على
حجيته راجع عند التحقيق إلى العمل بذلك الدليل القاطع فإذا دلنا
أمارة قام على وجوب العمل بها قاطع على حكم واقعة فاتباعنا لها
اتباع القطع وقولنا بمقتضاها قول بما نعلم ويؤيد ذلك في الآية
الثانية أنها وردت ذما على الكفار في اتباعهم الظن ولا ريب أنهم كانوا
يتبعون ظنا لا قاطع لهم على حجيتها مع أنه لا معنى للذم على
اتباع الظن المقطوع بوجوب اتباعه ولهذا الكلام مزيد بيان يأتي في
مبحث الاجتهاد والثاني الأخبار الدالة على حرمة العمل بغير العلم
كالموثق إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به وإن جاءكم ما لا تعلمون فها و
أهوى بيده إلى فيه وفي أخرى لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا
تعلمون إلا الكف عنه الحديث وفي الحسن ما حق الله على خلقه
فقالوا أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عما لا يعلمون إلى غير ذلك و
الجواب أن هذه الأخبار على تقدير تسليم تواترها بالمعنى إنما تدل
على تحريم القول والعمل بغير العلم ولا ريب أن العمل بما قام على
جواز العمل به قاطع عمل بالعلم وإن لم يكن في نفسه مفيدا للعلم
كما في العمل بالشهادة وأخبار ذي اليد وظاهر اللفظ وغير ذلك و
قد بينا الأدلة المفيدة للعلم بجواز العمل بخبر الواحد فلا يندرج تحت
عموم هذه الأخبار الثالث الاجماع الذي حكاه السيد في جواب
مسائل التباينات فقال إنا نعلم علما ضروريا لا يدخل في مثله ريب و
لا شك أن علماء الشيعة الإمامية يذهبون إلى أن أخبار الآحاد لا
يجوز العمل بها في الشريعة ولا التعويل عليها وأنها ليست حجة ولا
دلالة وقد ملئوا الطوامير وسطروا الأساطير في الاحتجاج على
ذلك والنقض على مخالفيهم فيه ومنهم من يزيد على هذه الجملة و
يذهب إلى أنه مستحيل عن طريق العقول أن يتعبدنا الله بالعمل
بأخبار الآحاد ويجري ظهور مذهبهم في أخبار الآحاد مجرى ظهوره
في إبطال القياس في الشريعة وخطره وقال المسألة التي
أفردها بالبحث عن العمل بخبر الواحد أنه بين في جواب المسائل
التباينات أن العلم الضروري حاصل لكل مخالف للامامية أو موافق
بأنهم لا يعلمون في الشريعة بخبر لا يوجب العلم وأن ذلك قد صار
شعارا لهم يعرفون به كما أن نفي القياس في الشريعة شعارهم الذي
يعلمه منهم كل من خالطهم وأجاب في الذريعة عن التمسك بعمل
الصحابة والتابعين بأن الامامية تدفع وتقول إنما عمل بأخبار الآحاد
المتأمرون الذين يتحشم التصريح بخلافهم والخروج من جملتهم
فإمساك النكير عليهم لا يدل على الرضا بما فعلوه لان الشرط في دلالة
الامساك على الرضا أن لا يكون له وجه سوى الرضا من تقية وخوف و
ما أشبه ذلك كذا نقل عنه في المعالم والجواب أن الاجماع
المدعى على ذلك غير متحقق عندنا إن لم نقل بتحققه على خلافه و
نقل السيد له غير خارج عن كونه خبرا واحدا ففي التعويل عليه نقض
لدعواه على أن حكايته معارضة بحكاية الشيخ الاجماع على خلافه
حيث قال في العدة على ما نقل عنه وأما ما اخترته من المذهب فهو
أن
خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة وكان
مرويا عن النبي صلى الله عليه وآله أو عن
واحد من الأئمة عليهم السلام وكان ممن لا يطعن في روايته ويكون
سديدا في نقله ولو لم يكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه
الخبر لأنه إذا كان هناك قرينة تدل على ذلك كان الاعتبار بالقرينة وكان
ذلك موجبا للعلم ونحن نذكر القرائن فيما بعد جاز العمل
به والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة فإني وجدتها مجتمعة
على العمل بهذه الاخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في
أصولهم لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعون حتى إن أحدا منهم إذا أفتى
بشئ لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا فإذا أحالهم على كتاب
معروف أو أصل مشهور وكان رواية ثقة لا ينكرون حديثه سكتوا و
سلموا الامر في ذلك وقبلوا قوله وهذه عادتهم وسجيتهم من
عهد النبي صلى الله عليه وآله ومن بعده من الأئمة عليهم السلام إلى
زمان الصادق عليه السلام جعفر بن محمد الذي انتشر العلم عنه
فكثرت الرواية من جهته فلو لا أن العمل بهذه الاخبار كان جائزا لما
أجمعوا على ذلك ولأنكروه ولأن إجماعهم لا يكون إلا عن معصوم
عليه السلام لا يجوز عليه الغلط والسهو ثم قال فإن قيل كيف تدعي
الاجماع الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد والمعلوم من حالها
أنها لا ترى العمل بخبر الواحد كما أن من المعلوم من حالها أنها لا ترى
العمل بالقياس فإذا جاز ادعاء أحدهما جاز ادعاء الاخر قيل له
المعلوم من حالها الذي لا ينكر ولا يدفع أنهم لا يرون العمل بخبر
الواحد الذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد ويختصون بطريقته فأما ما
يكون راويه منهم وطريقه أصحابهم فقد بينا أن المعلوم على خلاف
ذلك وبينا الفرق بين ذلك وبين القياس أيضا وأنه لو كان معلوما
خطر العمل بخبر الواحد لجرى مجرى العمل بالقياس وقد علم
خلاف ذلك انتهى وفي كلامه هذا تعريض لمقالة السيد كما لا يخفى
على
الفطن العارف ثم لو سلمنا الاجماع الذي حكاه
289

السيد على المنع فهو إنما يتجه بالنسبة إلى زمن التمكن من تحصيل
الاحكام بطريق القطع كزمنه لقرب عهده بصاحب الشريعة وتوفر
الامارات عنده وقد نبه على ذلك حيث قال إن معظم الفقه يعلم
بالضرورة من مذاهب أئمتنا عليهم السلام وبالاخبار المتواترة وما لم
يتحقق فيه ذلك فنعول على إجماع الإمامية وفي سائر المتخالفات
يرجع إلى التخيير بين الأقوال انتهى ولا خفاء في أن ما ادعاه من
معلومية معظم الفقه بالضرورة من المذهب مما لا سبيل إليه في زماننا
هذا بل جملة من طرق الفقه منسدة في زماننا هذا بالنسبة إلى
معظم الاحكام فلا يتمشى إجماع المذكور إليه وقد اعترف السيد في
مسألة الامر بالشئ مع علم الامر بانتفاء شرطه أن الظن يقوم
مقام العمل عند انسداد الطريق وهذا التزام منه بوجوب العمل بالظن
في أمثال زماننا هذا ومن هنا يتبين ضعف ما ذكره أخيرا من
التخيير بين الأقوال عند انقطاع طريق العلم إذ قضية ما ذكره هناك
وجوب الرجوع حينئذ إلى الطرق الظنية ثم إن بعض المتأخرين رام
الجمع بين الاجماع الذي حكاه السيد والاجماع الذي حكاه الشيخ
لتناقضهما مع تقارب عهدهما فنزل كلام الشيخ على حجية الاخبار
التي
يقطع بصدورها عن المعصوم قطعا عاديا بمعنى ما يطمئن النفس
بصدورها عن المعصوم قال وهذا مراد السيد بالعلم لأنه معناه عرفا
ولغة وإطلاقه على ما لا يحتمل النقيض عقلا مبني على اصطلاح
علماء المعقول وزعم أن ما عول عليه الشيخ من أخبار العدول و
الثقات
مما يفيد العلم العادي بصحتها وصدقها واستشهد على ذلك بأنه إذا
أخبرنا ثقة بما يستند إلى مشاهدته أو سماعه وجدنا لأنفسنا
سكونا وركونا إلى خبره وهذا معنى العلم العادي وأنت خبير بأنه
تكلف بارد وتوجيه فاسد فإن كلام الشيخ نص في حجية الاخبار
الغير المفيدة للعلم حيث اعتبر تجردها عن القرائن المفيدة للعلم و
أفرد ذكر الاخبار المحفوفة بالقرائن مع أنها لو كانت مقطوعة
الصحة عنده لما كان لاحتجاجه على حجيتها بالاجماع معنى
لتساويهما في الظهور والحجية كما لا يخفى ومن هنا يظهر أيضا
ضعف
ما زعمه صاحب المعالم من أنه لم يظهر من الشيخ مخالفته للسيد
لقرب عهده بزمان المعصومين عليهم السلام ووجود القرائن
المعاضدة
كما ذكره السيد ورد بذلك على العلامة حيث نسب الخلاف إلى
الشيخ ونزل على ذلك ما ذكره المحقق من أن ما يستفاد من كلام
الشيخ
تعويله على هذه الأخبار التي رويت عن الأئمة عليهم السلام ودونها
الأصحاب دون مطلق الخبر وإن كان الراوي عدلا أمينا وأنت خبير
بأن كلام المحقق مما لا دلالة على ذلك ثم دعوى إفادة الخبر الواحد
الثقة للعلم في نفسه مما يخالف البديهية والعيان ويكذبه الوجدان لا
سيما إذا تعددت الوسائط وخصوصا إذا كان الاخبار عن المطالب
العلمية مع ما نرى من كثرة الاختلاف وتوافر أسباب الخلط و
الاشتباه على أن وثاقة كثير من الرواة مما لا قطع للشيخ ظاهرا فكيف
بما يقطع بما يتفرع عليها ولو كان خبر الثقة في نفسه مفيدا
للعلم لجرى الطريقة على قبول قول الشاهد الواحد الثقة بل قول
المدعي وحده إذا كان ثقة وقد يتعذر للسيد بأنه اعتد فيما ذكره على
أوائل المتكلمين من أصحابنا والعمل بخبر الواحد بعيد عن طريقتهم
فغفل وعم الدعوى وأن الشيخ نظر إلى مسلك الفقهاء والمحدثين
من أصحابنا وطريقتهم جارية على العمل به الرابع أن الظن الحاصل
من خبر الواحد معارض بالظن الحاصل من أصل البراءة فيتكافئان
فلا يبقى وثوق بالخبر والجواب أن الأصل بمجرده لا يفيد الظن
بالبراءة لا سيما إذا ورد في مقابلة خبر معمول عليه وإلى هذا يرجع ما
قيل من أن الظن الحاصل من الأصل أضعف من الظن الحاصل من
الخبر فلا يصلح لمعارضته الخامس أنه حيثما يوجد خبر واحد فهناك
يجوز وجود معارض أقوى منه ولو من نوعه فلو عمل به لزم العمل
بالأضعف مع وجود الأقوى والجواب أن مجرد التجويز لا يقدح في
حصول الظن بالخبر إذا كان وجود المعارض موهونا بعيدا كما هو
محل الفرض السادس أن النبي صلى الله عليه وآله توقف في العمل
بخبر ذي اليدين حيث قال أ قصرت الصلاة أم نسيت فقال كل ذلك لم
يكن حتى أخبره آخران به وذلك يدل على عدم قبول قول الواحد
و
الجواب أن الرواية المذكورة مخالفة لما تحقق عندنا من امتناع السهو و
النسيان على النبي صلى الله عليه وآله فهي مطروحة لانتفاء
شرط القبول في حقها ولو سلم فلا ريب في أن خبر الواحد إنما يقبل
مع استجماعه لشرائط القبول فلعل بعضها كان مفقودا في حق
المخبر كما يدل عليه قبول الخبر عند انضمام خبر الآخرين القبول إليه
فإن ذلك لا يخرجه عن كونه خبرا واحدا مع أن المقصود إثبات
حجية خبر الواحد في الاحكام لا في موضوعاتها والرواية إنما تدل
على المنع في الثاني على أن التمسك بهذه الرواية مع كونها خبرا
واحدا على عدم حجية خبر الواحد بظاهره تدافع إلا أن يكون
المقصود إلزام القائلين بحجيته ولا يخفى ما فيه
فصل يشترط في قبول خبر الواحد
بناء على جواز العمل به أمور وهذه الشروط إنما تعتبر عند من قال
بحجية خبر الواحد من حيث الخصوص كما هو المعروف بين
أصحابنا سواء قال بحجيته من حيث كونه مفيدا للظن المخصوص أو
من حيث نفسه والفرق بينهما عند التحقيق اعتباري إذ على الأول
يراعى في وصفه بالحجية حصول الظن به بعد قطع النظر عن معارضة
ما لم يثبت الاعتداد بمعارضته شرعا بخلافه على الثاني وهذا
إنما يتم على القول بعدم انسداد باب العلم إلى الأدلة التي يجب علينا
العمل بها إجمالا وتفصيلا وعلى القول بانسداد باب العلم إليها بناء
على ما اخترناه من أن قضية ذلك فتح باب الظن في معرفة الأدلة وأما
على ما بنى عليه جماعة من متأخري المتأخرين من حجية خبر
الواحد من حيث كونه مفيدا للظن المطلق فلا وجه لذكر هذه الشرائط
إلا أن يلتزموا بعدم حصول الظن من فاقدهما فيكون المقصود
بذلك تعيين موارد الظن وهذا على إطلاقه ممنوع قطعا أو أن الفاقد لها
مما قام دليل على عدم حجيته كالقياس والاستحسان
290

وهذا على إطلاقه بعيد جدا فمنها البلوغ فلا يقبل رواية الصبي وإن
كان مميزا بلا خلاف بين أصحابنا كما حكاه جماعة ووافقنا عليه
أكثر مخالفينا واحتجوا بأن الصبي لا يتمكن من الضبط فلا وثوق بخبره
وبأن عدم قبول خبر الفاسق كما سيأتي يقتضي عدم قبول
خبر الصبي بطريق أولى لأنه باعتبار علمه بانتفاء التكليف عنه لا حاجز
له عن الكذب بخلاف الفاسق فإن له باعتبار التكليف خشيته
من الله فربما يحجزه عن الكذب ويمكن دفع الأول بأن الصبي قد
يكون ضابطا ومنعه على الاطلاق غير مسموع والثاني بأن الحاجز
عن الكذب لا ينحصر في الخشية منه تعالى بل قد يكون لسلامة
الفطرة أو طلبا للكمال أو تنزها عن رزائل الافعال أو طلبا للمثوبة أو
القرب إليه تعالى بمعانيه المقررة أو خوفا من إصابة مكروه دنيوي أو
تفويت شرف أخروي مع أن دعوى وجود الخشية في الفاسق
ممنوع بالنسبة إلى كثير من أفراده كما يشاهد بالعيان بل التحقيق أن
يتمسك في منع قبول خبره بناء على الطريقة التي حققناها بعدم
كونه مما يظن حجيته إن لم يقطع أو يظن بخلافها وأما على الطريقة
العاملين بمطلق الظن فلقيام الاجماع على عدم جواز العمل به
فيستثنى من جملة الطرق كما يستثنى القياس وشبهه منها لقيام الدليل
عليه ولو منع من تحقق المحصل منه فلا ريب في تحقق المنقول
منه بخبر الواحد فإن قلنا بحجية خبر الواحد في الأصول أيضا وجعلنا
نقل الاجماع منه تم المنع وإلا فلا وذهب بعض العامة إلى قبول
خبر المميز قياسا له بجواز الاقتداء به ورد بمنع حجية القياس أولا و
بمنع الحكم في المقيس عليه ثانيا وببيان الفارق ثالثا لتجويزهم
القدوة بالفاسق مع عدم قبول خبره ثم العبرة في هذا الشرط بالنسبة
إلى حال الأداء دون التحمل فلو تحمله صبيا وأداه بعد البلوغ قبل
إذا تحققت في حقه بقية الشرائط ولهذا قبلوا رواية ابن عباس و
أضرابه ممن تحمل الرواية قبل البلوغ ولم نقف في ذلك على مصرح
بالخلاف وما يقال من أن عدم قبول الصدوق لما يرويه محمد بن
عيسى عن يونس بن عبد الرحمن إنما هو لتحمله عنه حال صغره غير
ثابت الثاني العقل فلا يعتبر خبر المجنون اتفاقا ووجهه واضح نعم
لو كان أدواريا وأخبر حال إفاقته قبل أن استجمع لبقية الشرائط وكذا
الحال في النائم والمغمى عليه والسكران الثالث الاسلام و
الاجماع على اعتباره محكي في كلام الخاصة والعامة فلا يقبل رواية
الكافر وإن انتحل الاسلام في الظاهر كالغالية والناصبة و
المجسمة ومن أنكر بعض الضروريات من غير شبهة أو فعل ما يقتضي
بكفر فاعله من الإهانة والاستخفاف بالشرع وأما تعويل
الأصحاب على رواية هشام مع رميه بالتجسم وقبول بعضهم لرواية
جابر الجعفي مع رميه بالغلو إلى غير ذلك فمبني على عدم ثبوت
ذلك عندهم فقبول ما ثبت عندهم للتأويل لقيام أمارة أو دليل عليه أو
أنهم إنما عولوا على خبرهم عند اعتضاده بأمارات خارجية مفيدة
للوثوق به وهذا الشرط إنما يعتبر عند خلو الخبر عن تلك الامارات
كبقية الشرائط ومن هذا الباب اعتمادهم في بعض الموارد على
رواية علي بن أبي حمزة مع رمي بعض له بالنصب واحتجوا على
اعتبار هذا الشرط بالاجماع وبقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا
ووجه الدلالة أن الكافر فاسق في العرف المتقدم كما يظهر بالاستقراء
وإن اختص في العرف المتأخر بالمسلم الفاسق بجوارحه ويدل
عليه قوله تعالى ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ولئن سلم
اختصاصه في العرف المتقدم به أيضا لدلت الآية على المنع من
قبول خبر الكافر بمفهوم الموافقة وفيه أولا أن الاحتجاج المذكور إنما
يتم إذا كانت العلة في عدم قبول خبر الفاسق عدم الوثوق به و
هو ممنوع وإلا لزم اختصاصه ببعض الفساق لحصول الوثوق بخبر
البعض وهو خلاف المنطوق ومع ذلك لا يعم الحكم كل كافر و
يمكن دفعه بأنه لما كان المناط في قبول الخبر حصول الوثوق بمخبره
ولو غالبا وكان الغالب في الفاسق عدم الوثوق به ولم يكن
سبيل إلى ضبط محل الوثوق منع من قبول قوله مطلقا والعلة
الموجودة في الفاسق موجودة في الكافر فيتسرى الحكم إليه وفيه ما
فيه و
ثانيا أن الدلالة بمفهوم الموافقة إنما تتم إذا كانت العلة وهي انتفاء
الوثوق والاعتماد بخبر الكافر أقوى من انتفائه بخبر الفاسق وهو
ممنوع وإنما المسلم المساواة وأما ما يقال من
أن الاعتماد على الكافر الثقة أكثر من الفاسق الغير المتحرز عن الكذب
فيمكن دفعه بأن المدار على نوع الفاسق لا على خصوص فرد
منه فأكثرية الاعتماد بالنسبة إلى بعض الافراد غير مفيدة والأولى أن
يقال تعليل الحكم بما ذكر مستفاد من مساق الآية فهو بمنزلة
منصوص العلة وإن لم يصرح بها لفظا أو أنه من باب تنقيح المناط و
ذكر الفاضل المعاصر في توجيه الاحتجاج بالآية وجها ثالثا وهو
أنا لو سلمنا عدم تبادر الكافر من الفاسق فلا نسلم تبادر عدمه منه غاية
الامر الشك فيه وحيث إن الحكم معلق على الفاسق الواقعي
فقبول الخبر مشروط بعدم كونه فاسقا واقعيا وهو غير معلوم في حق
الكافر فلا يمكن الحكم بقبول خبره ويشكل بأنه يكفي في
قبول قول الكافر عدم تبادره من الفاسق إذ اللفظ إنما يحمل على ما هو
المتبادر منه وكأنه يريد أنا لو سلمنا عدم العلم بتبادر الكافر
من الفاسق فلا نسلم العلم بعدم تبادره منه كما يدل عليه قوله غاية
الامر الشك وحينئذ فيتجه الاشكال عليه بعدم إثباته للمدعى هذا و
التحقيق أن الاستدلال بالآية لا يتم كما سننبه عليه فالوجه أن يتمسك
بالاجماع المدعى على الاشتراط إن تم وإلا فإن عول على ما
حققناه من أن التعويل بعد انسداد باب العلم إلى تعيين ما هو الحجة
من الاخبار على الظن فلا ريب أن لا ظن بحجية خبر الكافر إن لم
نظن بعدمها وكذا إذا قلنا بانسداد باب العلم إلى الأدلة وأما على القول
بحجية مطلق الظن في الاحكام بعد انسداد باب العلم فإن قلنا
بحجية نقل الاجماع في الأصول تم الاحتجاج به أيضا وإلا فلا محيص
عن القول بحجية ما أفاد منه الظن وأما ما ذكره بعض المعاصرين
من أن الاجماع المنقول في المقام يضعف الظن الحاصل بخبر الكافر
فغير سديد لان غاية ما يلزم منه عدم الظن بحجيته لا عدم الظن
بما
291

عليه الرابع الايمان ذكره جماعة ونسبه في المعالم إلى المشهور ولم
يثبت فلا يقبل رواية غير الامامي من المخالفين وغيرهم كالزيدية
والكيسانية والناووسية والفطحية والواقفية وذهب جماعة إلى عدم
اشتراط ذلك واختاره العلامة في أحد قوليه وهو الأقوى لنا أن
الشيخ قد نقل اتفاق الطائفة على العمل بخبر عبد الله بن بكير و
سماعة وعلي بن حمزة وعثمان بن عيسى وبما رواه بنو فضال و
الطاطريون فيكون أخبارهم من الطرق الظنية فيجب التعويل عليها و
أما على القول بجواز العمل بالظن في الاحكام فالتقريب واضح و
ربما يؤيد ما ذكرناه ما رواه الشيخ عن الصادق عليه السلام أنه قال إذا
نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنا فانظروا إلى ما
رووه عن علي عليه السلام فاعملوا به واحتجوا بعموم قوله إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا إذ لا فسق أعظم من عدم الايمان وأجيب تارة
بأنا لا نسلم صدق الفاسق على غير المؤمن إذا كان متورعا في دينه
ملازما لمذهبه ومحافظا على طريقته لا سيما إذا لم يكن مقصرا في
ذلك بحسب معتقده وأخرى بأن غير الامامي إذا لم يكن موثقا لا
تعويل على خبره كما لا تعويل على خبر الامامي الغير الموثق فالكف
عن العمل بخبره إلى أن يثبت وثاقته وتحرزه عن الكذب نوع تبين و
تثبت وفي كلا الوجهين نظر أما في الأول فلان منع صدق الفاسق
في العرف المتقدم على العاصي في الاعتقاد بمجرد محافظته في
العمل على حسب معتقده وتحرزه عن الكذب بعيد لقضاء الاستقراء
بخلافه مع بعد الفرض إذ الغالب أن الفسق في الاعتقاد يؤدي إلى
الفسق في أفعال الجوارح ويتم الكلام في غير المقصر على تقدير
تسليم وقوعه بعدم القول بالفصل وأما في الثاني فلان الظاهر من
التبين طلب البيان والظهور وذلك إنما يصدق عرفا إذا حصل العلم
بالصدق أو ما ثبت قيامه مقام العلم شرعا والأول معلوم الانتفاء مع
خروجه عن محل الفرض وإثبات الثاني بالآية دور والتحقيق في
الجواب بعد إمكان المنع من عموم الآية للمقام من حيث إن من أداة
الاهمال على ما صرح به جماعة من المحققين أن الخطاب بها متوجه
إلى المخاطبين المتمكنين من تحصيل الاحكام بالعلم أو بطريق علمي
يثبت عندهم
قيامه مقام العلم وتعميمه في الاحكام إلى غيرهم من فاقدي الوصف
يتوقف على قيام دليل عليه من إجماع أو نص وانتفاء الأول في
محل النزاع واضح وعموم الثاني لمحل البحث ممنوع سلمنا لكن
عموم هذه الآية معارض بعموم آية النفر فربما أمكن أن يرجح عموم
أنه الثانية لاشعار التعليل في الأولى باختصاص حكمها بالموضوعات
ولا يقدح عدم صدق الانذار على حكاية رواتنا الاخبار على ما مر
بيانه فيسلم عموم الآية الأولى إذ لا قائل بالفرق على أنا نقول حيث
أثبتنا بالبرهان المتقدم وجوب التعويل على الظن في المقام عند
انسداد طريق العلم وبقاء التكليف وبينا أن خبر غير الامامي الغير
الموثق مظنون الحجية على ما يظهر بالتتبع في طريقة السلف مضافا
إلى الاجماع المحكي على ذلك فيجب تخصيص عموم الآية أو
الرواية به كما يجب تخصيص عموم آية النهي عن اتباع الظن ونظائرها
به
بناء على أن المراد اتباع ما مفاده الظن إذ مساق الكل حينئذ واحد و
هذا هو المعتمد الخامس العدالة ولنتكلم أولا في بيانها [بيان
معناها] فنقول قد اختلف الأصحاب في حقيقتها إلى أقوال الأول
المعروف بين المتأخرين أنها ملكة نفسانية باعثة على ملازمة التقوى و
المروة وأرادوا بالملكة الصفة الراسخة التي يعسر زوالها ونبهوا بذلك
على عدم العبرة بالأحوال وهي التي يسرع زوالها وفسر
التقوى جماعة من أجلا الأصحاب باجتناب الكبائر والصغائر و
آخرون باجتناب الكبائر مع عدم الاصرار على الصغائر ثم اختلفوا في
تعيين الكبائر فالمشهور على الظاهر المصرح به في كلام بعض كل
ذنب توعد الله تعالى عليه العقاب في الكتاب العزيز واحتجوا عليه
بجملة من الاخبار مشتملة على أن الكبائر هي ما توعد الله عليها النار
أو أوجب النار وهي لا يختص بكون الوعد في الكتاب إلا أن
يستظهر منها ذلك بمساعدة الاطلاق والشهرة وكون المذكور فيها من
المعاصي المتوعد عليها في الكتاب وقيل الذنوب كلها كبائر و
إنما يطلق الصغيرة عليها بالقياس إلى ما هو أكبر وظاهر مجمع البيان
نقل إجماع أصحابنا عليه واستشكل هذا القول بقوله تعالى إن
تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم إذ لا سيئة غير الكبائر
على هذا القول وأجيب بأن من عن له ذنبان أحدهما
أكبر من الاخر ومالت نفسه إليهما بحيث شق عليه الامتناع فترك الأكبر
وارتكب الأصغر كان ترك الأكبر كفارة لفعل الأصغر كما لو
عدل عن الوطي إلى اللمس ومنه إلى النظر وهذا على إطلاقه غير
مستقيم للقطع بأن من عن له قتل جماعة فاقتصر على قتل بعضهم أو
قتل شخص فعدل إلى قطع يده وما أشبه ذلك لا يعد صغيرة مكفرة
بترك الأكبر وربما يقوى في النظر أن الصغيرة هي المعصية التي
عرف من الشرع سهولة الخطب فيها في نظر الشارع وأن ما عداها
كبيرة ومنه يظهر أن الأصل فيما ثبت تحريمه أن يكون كبيرة ما
لم يثبت الخلاف وذلك تختلف باختلاف الافعال والأحوال ووضوح
الحكم عند المكلف وخفائه فمثل النظر إلى الأجنبية من الصغائر و
مثل شرب الماء المتنجس وشربه عند الاضطرار الشديد الغير البالغ
درجة الرخصة من الصغائر وكذلك بعض المحرمات المختلف فيها
اختلافا يعتد به إذا مال المجتهد فيه إلى التحريم فارتكابه في حقه من
الصغائر وكذا لو عول المقلد فيها على قول المحرم مع علمه
بمصير غيره ممن يعتد بقوله إلى خلافه وربما كان من هذا الباب
العمل بالظن القوي الغير المعتبر شرعا في مقابلة الاستصحاب و
شبهه المفيد للتحريم في بعض الموارد كما لو ظن طهارة الماء
المتنجس فسر به ولو فرض في هذه الصورة إتيانه لها للعدول عما هو
أكبر منها كان الحكم المذكور فيها أوضح وقسم الشهيد الثاني الاصرار
إلى فعلي وفسره بالمداومة على نوع واحد من الصغائر بلا
توبة أو الاكثار من جنسها بلا توبة وإلى حكمي وفسره بالعزم عليها
بعد الفراغ فعلى هذا لو فعل الصغيرة ولم يخطر بباله التوبة ولا
عزم على فعلها لم يقدح في عدالته وقيل بل الاصرار على الصغائر
عبارة عن الاكثار منها سواء كان من نوع واحد أو من أنواع
292

مختلفة وقيل بل هو المداومة على نوع واحد منها وربما قيل بأن
المراد بالاصرار عدم التوبة ولعل المراد عدمها مع التذكر فيرجع إلى
أحد الأقوال السابقة وأما فعل المكروه وترك المندوب فلا يقدح في
العدالة ما لم تبلغ درجة التهاون والاستخفاف فيدخل بهذا
الاعتبار في المحرم كما نبه عليه بعضهم والمراد بالمروة على ما صرح
به جماعة اتباع محاسن العادات والتحرز عن مساويها من
المباحات التي تنفر عنها النفس وتؤذن بدناءة فاعلها كالأكل في
الأسواق والمجامع والبول في الشوارع عند سلوك الناس ولبس
الفقيه لباس الجندي ولمضايقته في اليسير الذي لا يناسب حاله ونقل
الماء والأطعمة بنفسه ممن لا يليق به ذلك إن كان عن شح وبخل
وأمثال ذلك ولا يذهب عليك أن هذا يختلف باختلاف الأحوال و
الأزمان والبلاد فقد يكون الفعل الواحد منافيا للمروة في حال دون
حال أو في زمان دون زمان أو في بلد دون بلد ثم حجتهم على اعتبار
ملكة التقوى ما سيأتي في صحيحة ابن أبي يعفور وغيرها وأما
المروة فلم نقف لهم فيها على حجة ولهذا أنكر بعض المتأخرين
اعتبارها بالمعنى الذي ذكروها في العدالة لخلو أخبار الباب عنه وقال
إنه لم يوجد اعتبارها في كلام من تقدم على العلامة وإنما هو مذكور
في كتب العامة وتبعهم فيه العلامة وتبعه جماعة ممن تأخر عنه و
ينبغي القطع باعتبارها إذا كان في مخالفتها دلالة على ضعف العقل و
قصور التميز المورث لعدم الاعتداد بتقوى صاحبها وبشهادته و
ما أشبه ذلك وربما ينبه على ذلك قول الكاظم عليه السلام في
حديث هشام ألا لا دين لمن لا مروة له ألا لا مروة لمن لا عقل له وأما
ما
ورد في بعض الاخبار من أن المروة إصلاح المعيشة وفي بعضها هي
أن يضع الرجل خانه بفناء داره وأنها مروتان مروة في الحضر و
مروة في السفر الحديث وفي بعضها ستة من المروة ثلاثة منها في
الحضر وثلاثة منها في السفر الحديث فمحمول على بيان أظهر
الافراد والأحوج إلى البيان بحسب المقام السؤال لا الانحصار كما
يظهر من اختلافها في البيان ماهية وعددا بل ربما كان ذلك صريح
الرواية
الأخيرة حيث دلت على أن الستة من المروة لا نفسها وأما إذا لم يكن
في مخالفتها دلالة على ذلك فاعتبارها غير واضح وإن كان
الأحوط مراعاته الثاني ما حكي عن جماعة من المتقدمين من أنها
عبارة عن الاسلام مع عدم ظهور الفسق وعن الخلاف دعوى الاجماع
عليه بل قال البحث عن عدالة الشهود ما كان أيام النبي صلى الله عليه
وآله ولا أيام الصحابة ولا أيام التابعين وإنما هو شئ أحدثه
شريك بن عبد الله القاضي ولو كان شرطا لما أجمع أهل الاعصار
على تركه واحتج لهذا القول بجملة من الاخبار أظهرها الصحيح
المروي عن أبي عبد الله عليه السلام حيث قال في شهود الزنا إذا كانوا
أربعة من المسلمين ليسوا يعرفون بشهادة الزور أجيزت
شهادتهم إلى أن قال عليه السلام وعلى الوالي أن يخبر شهادتهم إلا أن
يكونوا معروفين بالفسق وفي حديث علقمة عن الصادق عليه
السلام لو لم يقبل شهادة معترف الذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء و
الأوصياء لأنهم هم المعصومون دون سائر الخلق فمن لم تره
بعينك يرتكب ذنبا ولم يشهد عليه شاهدان فهو من أهل العدالة و
الستر وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنبا ومال الشهيد
الثاني إلى هذا القول وأيده بأن حال السلف يشهد به وبدونه لا يكاد
ينتظم الاحكام للحكام خصوصا في المدن الكبيرة والقاضي
القادم إليها من بعد والجواب المنع من الاجماع والدعوى المذكورة
إن سلمت فإنما تسلم بالنسبة إلى الصحابة والتابعين الذين لا عبرة
بمذاهبهم وآرائهم والاخبار معارضة بما هو أشهر منها فتوى ورواية و
أقوى سندا ودلالة مع مخالفتها لمذهب العامة على ما يدل عليه
حكاية الشيخ وموافقيها للأصل والاحتياط ولظاهر قوله تعالى و
أشهدوا ذوي عدل منكم فإن الظاهر منه اعتبار صفة ثبوته في
الشاهدين زائدة على كونهما من المسلمين بل الظاهر منه كونهما
معتدلين في أمر الدين والاعتدال فيه إنما يتحقق بالمحافظة على فعل
الواجبات وترك المحرمات لا بمجرد عدم ظهور الفسق إلا أن يجعل
ذلك طريقا شرعيا إلى معرفته فيتوجه المنع إلى ثبوته ومفهوم
القيد وإن لم يكن معتبرا في نفسه لكن قد يعتبر بمساعدة المقام عليه
كما في المقام ولا يعارضه قوله تعالى فاستشهدوا شهيدين من
رجالكم لان المطلق يحمل على المقيد ولا اختلال في ذلك لنظام
الحاكم لامكان تعويلهم على حسن الظاهر المستند إلى المعاشرة ولو
في الجملة أو لاستفاضة أو تعديل من علمت عدالته بأحد الطريقين و
لا يبعد أن يكون مراد أهل هذا القول بعدم ظهور الفسق عدم
ظهوره بعد معاشرة في الجملة وما في حكمها وفي بعض كلمات
الشيخ ما يشير إليه فيرجع إلى حسن الظاهر وهو القول الثالث نعم
ربما أمكن الفرق بينهما في تعيين القدر المعتبر من المعاشرة الثالث
حسن الظاهر والقول به معزى إلى أكثر متأخري المتأخرين و
الظاهر أنهم يريدون بحسن الظاهر أن لا يظهر منه كبيرة بعد الفحص
عن حاله أو المعاشرة معه قدرا يعتد به في وصفه بحسن الظاهر
عرفا وليس مرادهم مجرد عدم ظهور الفسق كما توهم لبعده عن ظاهر
اللفظ ولرجوعه إلى القول الثاني والظاهر منهم إنكاره و
استدل لهذا القول بما رواه في الفقيه في الصحيح عن ابن أبي يعفور
قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام بم يعرف عدالة الرجل من
المسلمين حتى يقبل شهادته لهم وعليهم فقال عليه السلام أن يعرفوه
بالستر والعفاف وكف البطن والفرج واليد واللسان ويعرف
باجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار من شرب الخمر و
الزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك و
الدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على
المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه ويجب عليهم
تزكيته وإظهار عدالته في الناس إلى أن قال بعد ذكر مواظبته على
الصلوات الخمس وعدم تخلفه عن جماعة المسلمين إلا من علة فإذا
سئل
293

عنه في قبيلته ومحلته قالوا ما رأينا منه إلا خيرا مواظبا على الصلوات
معاهدا [متعاهدا] لأوقاتها في مصلاه فإن ذلك يجيز شهادته و
عدالته بين المسلمين إلى أن قال بعد التأكيد على حضور الجماعة و
من لزم جماعتهم حرمت عليه غيبته وتثبت عدالته بينهم ورواه
الشيخ أيضا لكن بسند غير صحيح مع اختلاف يسير في ألفاظه و
التحقيق أن هذه الرواية ظاهرة المفاد في أن العدالة هي تجنب الكبائر
بل ملكتها كما هو الظاهر من الآية وقد نبهنا عليه وأن حسن الظاهر
طريق إلى معرفة ذلك يدل على الأول قوله عليه السلام أن يعرفوه
بالستر والعفاف وقوله ويعرف باجتناب الكبائر بناء على أن الثاني
بيان للأول وتوضيح له ولو جعل تأسيا كما تخيله بعض الأفاضل
دل على اعتبار تجنب الصغائر أيضا وهو بعيد وعلى الثاني قوله و
الدلالة على ذلك كله إلخ وقوله ومن لزم جماعة من المسلمين إلخ و
لعل أهل هذا القول لا يتحاشون عن ذلك وإن تسامحوا في التعبير
حيث فسروا العدالة بحسن الظاهر فيرجع مقالتهم في تفسير العدالة
إلى القول الأول وربما يرجع القول الثاني إليه كما نبهنا عليه نعم يبقى
الكلام حينئذ في معرفة الطريق إليها وينبغي القطع بكفاية
حسن الظاهر بالمعنى المذكور طريقا إليها لدلالة هذه الرواية عليه و
تعذر تحصيل ما فوق ذلك أو تعسره كما عرفت كما عرف وجهه
من كلام الشهيد الثاني ويمكن تنزيل الاجماع الذي حكاه الشيخ على
ذلك ومما يؤكد ذلك ما ورد في الموثق من قبول شهادة النساء إذا
كن مستورات معروفات بالستر والعفاف مطيعات للأزواج وما ورد في
حسنة البزنطي من أن من ولد على الفطرة أجيزت شهادته
على الطلاق بعد أن يعرف منه خير وما ورد في الخبر إذا كان الرجل لا
تعرفه يؤم الناس ويقرأ القرآن فلا تقرأ خلفه واعتد بصلاته
إلى غير ذلك وربما كان في المسألة قول آخر وهو أنه يكفي في
العدالة أن يكون المكلف بحيث لا يرتكب المعاصي إلا على سبيل
الندرة ويكون في غالب أوقاته متجانبا عنهما ولو اتفق صدور معصية
منه تذكر واستغفر كما قال تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة أو
ظلموا
أنفسهم ذكروا الله واستغفروا لذنوبهم وهذا القول غير واضح لأنه إن
أريد أن صدور المعصية على سبيل الندرة لا يقدح في العدالة
حال صدورها أو قبل التوبة عنها وإن كانت كبيرة فضعفه واضح وإن
أريد أنه بعد الاستغفار ويحكم بعدالته فلا يخالف القول
المختار وقد يطلق العدالة ويراد بها الملكة المذكورة بالنسبة إلى
مذهب صاحبها أو حسن الظاهر بالنسبة إلى طريق صاحبه وهي بهذا
المعنى أعم منه وبالمعنى الأول لاختصاص المعنى الأول بالامامي
بخلاف الثاني وحيث يطلق العدالة فالظاهر منها هو المعنى الأول و
إطلاقه على غيره مجازا إذا عرفت هذا فنقول هذا الشرط قد ذكره
جماعة ونسب إلى المشهور والشيخ في العدة نفي الخلاف عنه و
الشهرة غير ثابتة وكلام الشيخ مؤول بما سيأتي ذكره وذهب جماعة
إلى كفاية تحرز الراوي عن تعمد الكذب وإن كان فاسقا
بجوارحه وادعى الشيخ في كتاب الحديث أن الطائفة عملت بأخبار
جماعة هذه صفتهم قال المحقق بعد نقله ونحن نمنع هذه الدعوى و
نطالب بدليلها ولو سلمناها لاقتصرنا على المواضع التي عملت فيها
بأخبار خاصة ولم يجز التعدي في العمل إلى غيرها انتهى وقد
تقدم من الشيخ نقل الاجماع على اشتراط العدالة فيتحقق التعارض
بين كلاميه ويمكن الجمع بحمل العدالة هناك على معناها الأعم
بقرينة
كلامه هذا لكن يشكل بتصريحه هنا بكونه فاسقا بجوارحه وهو لا
يجتمع مع العدالة بمعنييها إلا أن يريد ما لا يكون فسقا في مذهبه و
هو بعيد أو يريد بالعدالة هناك مجرد التحرز عن الكذب وهو إطلاق
غير معروف ويمكن الجمع أيضا بتنزيل كلامه الأول على أن
العدالة شرط في جواز العمل بالخبر وإن تجرد عن معاضد خارجي و
كلامه هذا على جواز العمل به مع وجود المعاضد وربما يؤيد ذلك
ما ذكره المحقق في المعتبر حيث قال أفرط الحشوية في العمل بخبر
الواحد حتى انقاد والكل خبر وما فطنوا لما تحته من التناقض فإن
من جملة الاخبار قول النبي صلى الله عليه وآله ستكثر بعدي القالة
علي وقول الصادق عليه السلام إن لكل رجل منا رجلا يكذب عليه و
اقتصر بعض عن هذا الافراط
فقال كل سليم السند يعمل به وما علم أن الكاذب قد يصدق والفاسق
قد يصدق ولم يتنبه على أن ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في
المذهب إذ لا مصنف إلا وهو قد يعمل بخبر المجروح كما يعمل
بخبر العدل إلى آخر ما ذكره لكن كلامه هنا ينافي ما حكينا عنه من
منعه العمل بخبر غير العدل في غير ما ثبت إجماع العصابة فيه
بالخصوص ويمكن الجمع بتنزيل ذلك على ما إذا تجرد عن معاضد
خارجي أو ينزل كلامه هنا على العمل مع ثبوت الاجماع لكن التأييد
إنما يتم على الوجه الأول وكيف كان فالأقرب عندي الاكتفاء بكون
الراوي ممدوحا بما يوجب الظن بتحرزه عن الكذب ويحصل
الاعتماد على روايته وإن لم يبلغ درجة التوثيق لا سيما إذا كان إماميا و
خصوصا إذا لم يصرح بكونه فاسقا بجوارحه لنا أن المدار في جواز
العمل بخبر الواحد في أمثال زماننا على الظن بصدقه وصحة
صدوره إما باعتبار ضبط الراوي وتحرزه عن الكذب أو باحتفافه بأمارة
خارجية مفيدة للوثوق به كالشهرة وعمل الطائفة وهذا هو
الذي يظهر من طريقة المتقدمين من أصحابنا فإنا نراهم كثيرا ما
يعملون بالمراسيل ويعتمدون على الروايات الضعيفة الأسانيد بل
ربما تجدهم يطرحون الأخبار الصحيحة ويعملون بالاخبار الضعيفة
لاعتضادها بالامارات المرجحة يعرف ذلك بالتتبع في كلماتهم و
التصفح في مطاوي مصنفاتهم وأما الجمود على الأخبار الصحيحة
فقط أو مع الموثقة كما ارتكبه المحقق وجماعة ممن تأخر عنه فمع
عدم مساعدة دليل عليه كما سننبه عليه مخالف للاعتبار فإن صحة
كثير من تلك الأخبار وتوثيق رجالها والتميز بين مشتركاتها ظنية
مبنية على أمارات اجتهادية مستنبطة من قرائن الأحوال أو مستفادة
من كلمات علماء الرجال والترجيح بين مختلفات الأقوال ولا خفاء
في
294

التعويل على تلك الظنون إنما هو لتحصيل الظن بصدق الرواية و
صحة صدورها فإذا حصل الظن بذلك من غير جهة عدالة الراوي بل
من
جهة الظن بتحرزه عن الكذب ساوى تلك الظنون في الإفادة وقضية
وحدة المناط عدم الفرق بينهما في الحجية مع أنا قد بينا حجية
الظن في الأدلة وحجية مثل هذه الأخبار إن لم تكن قطعية فلا أقل من
أن يكون ظنية بملاحظة ما ذكرناه فتكون حجة وهو المطلوب
احتج المشترطون للعدالة بوجهين الأول قوله تعالى إن جاءكم فاسق
بنبأ فتبينوا وأجيب بأن الوقوف على التوثيق نوع تبين وأن
التعليل بإصابة قوم بجهالة إنما يجري في الفاسق الغير الموثق إذ نبأ
الفاسق الموثق يفيد الظن كالعادل فلا يصدق في حقه الإصابة
بجهالة فيختص الحكم به لتوافق التعليل ويشكل الأول بأن التبين
تطلب البيان ولا يصدق على صورة الظن ولهذا لا يقول الظان تبين
لي كذا وهذا بين جدا والثاني بأن الجهالة ليس معناها عدم الاعتقاد
الراجح بل عدم العلم فيندرج الظن فيها كأخويه من الشك والوهم و
لا يعارض ذلك بأن العلم كثيرا ما لا [لم] يحصل بخبر العادل فيلزم أن
يكون العمل فيها بجهالة لان المراد بالعلم الذي يقابل به الجهالة
ما يعم العلم العقلي والشرعي وبعبارة أخرى ما يتناول العلم الواقعي
والظاهري فالعامل بما نصبه الشارع طريقا عامل بالعلم كالعامل
بالعلم العقلي والعالم بغير العلم بنوعيه عامل بالجهالة كالعامل بالظن
الغير الشرعي هذا هو التحقيق في توجيه التعليل وظهر أن لا
منافاة بين ظاهر التعليل وإطلاق ما علل به هذا بل الوجه في الجواب
ما نبهنا عليه آنفا من منع العموم وعلى تقدير تسليمه يخص بما مر
من الأدلة الثاني ما ذكره المحقق من أن دعوى التحرز عن الكذب مع
ظهور الفسق مستبعد والجواب منع الاستبعاد لأنا نرى بالعيان أن
كثيرا من الفساق يوجد فيهم ملكة التحرز عن بعض المعاصي حتى
يكاد يبلغ فيه درجة الوسواس ولا يبالي لغيره من المعاصي ثم إن
بعض العامة ذهب إلى جواز العمل بخبر مجهول الحال ومال إليه
بعض متأخري أصحابنا أو احتجوا
عليه بمفهوم الآية السابقة ووجهوا الاحتجاج بها بأن الفاسق من علم
فسقه فيندرج مجهول الحال ومعلوم العدالة في إطلاق المفهوم فلا
يجب التبين في بنائه والجواب بعد منع مفهوم الآية كما عرفت أن
الفاسق موضوع لمن اتصف بالفسق واقعا لا لمن علم فسقه لان
الألفاظ على ما هو التحقيق موضوعة بإزاء معانيها الواقعية لا
الاعتقادية بدليل التبادر وصحة السلب مع أن من يجعلها موضوعة
بإزاء
معانيها الاعتقادية يريد به معتقد المستعمل لا مطلق الاعتقاد ولا
معتقد المخاطب كما يفصح عنه دليله فلا أثر لمعتقد المخاطب فيه
كما
هو مبنى الاستدلال قال بعض الأفاضل إذا علق أمر بشئ فالظاهر أن
المراد ما هو مدلول ذلك الشئ بحسب الواقع فإذا قيل زيد صالح
أو فاسق أو شاعر أو كاتب فالمراد اتصافه بالصفة المذكورة بحسب
نفس الامر لا بحسب معتقد المخاطب وإلا لانحصر فائدة الخبر
في إفادة لازم معناه واضح للمخاطب الجزم بكذب المتكلم بمحض
عدم اعتقاده بما أخبر به ولما كان إثبات المتكلم لتحقق المحمول في
نفس الامر إثباتا لما أخبر به ولما صح طلب إقامة الدليل عليه لأنه
حينئذ بمنزلة أن يقول أقم الدليل على أني معتقد بذلك وبطلان
اللوازم كلها بينة فظهر أن المتبادر من الفاسق هو الفاسق الواقعي انتهى
ملخصا وأورد عليه بعض المعاصرين بأنه من الاشتباه بين
النسبة الخبرية المصرحة أعني النسبة التامة التي بين المحمول و
الموضوع والنسبة التقييدية الحاصلة بين ذاتي الموضوع والمحمول
و
وصفيهما العنوانين الثابتين لهما فإن معنى زيد صالح أن ما هو زيد في
الواقع صالح في الواقع والتعبير عن المحمول ليس بجيد والوجه
ما هو صالح في الواقع فكلمة في الواقع في الموضعين قيد للنسبتين
التقييديتين المأخوذتين في طرفي النسبة الخبرية وليس المراد
بالواقع هنا ما يقابل الامكان أعني ما يرادف الفعلية بل ما يقابل معتقد
المخاطب ولا ما هو واقع في معتقد المتكلم بل ما هو واقع في
الواقع وأما النسبة الخبرية المستفادة من الجملة فلا يلزم أن يكون
مقيدة بالواقع نعم ظاهر المتكلم دعوى مطابقته
للواقع وأنه معتقد لذلك ووضع الجملة الخبرية لإفادة هذه النسبة ولا
يجري فيه توهم إرادة ثبوت النسبة على معتقد المخاطب حتى
يتفرع عليه اللوازم المذكورة فالملازمة ممنوعة وإن كان بطلان اللوازم
ظاهرا أقول وهذا لا يراد غير منقح المفاد ولا متضح المراد و
لم نجد لمحصله بعد التأمل تعلقا بمقالة المجيب بل الوجه في الدفع
أن يقال من يدعي أن الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها الاعتقادية يجعل
مداليل الألفاظ ومصاديقها دائرة مدار الاعتقاد فما يعتقد كونه مسمى
للفظ يصح استعماله فيه وما يعتقد كونه مصداقا للمسمى يصح
إطلاقه عليه فمعنى زيد صالح أن ما يسمى زيدا في الاعتقاد هو ما
يسمى صالحا في الاعتقاد وبعبارة أخرى ما يعتقد كونه مدلول زيد
هو ما يعتقد كونه مدلول صالح والمراد بالنسبة المأخوذة في الحمل
أيضا ما يعتقد كونه معناها وهو غير اعتقاد وقوع معناها ولو
أطلق صالح على رجل فقيل جاءني صالح أو جئني بصالح فالمراد ما
يعتقد كونه فردا لما يعتقد كونه مدلولا لصالح لهذا المفهوم وعليه
مبنى الاستدلال بناء على حمل الاعتقاد على اعتقاد المخاطب أو
على ما يتناوله فاتضح الفرق بين النسب التقييدية المأخوذة في إطلاق
الكلي على الفرد كما هو محط كلام المستدل وبين النسب الخبرية
المأخوذة في الجمل الحملية كما هو مورد كلام المجيب فإن وقوع
النسبة في الأول مأخوذ بحسب الاعتقاد فيتم الاستدلال وفي الثاني
مأخوذ باعتبار الخارج فلا يستقيم الجواب نعم لو التزم المستدل
بأن الوقوع في النسب الخبرية مأخوذ أيضا بحسب اعتقاد المخاطب
فلا محيص له عن الاشكالات المذكورة فإن قلت أخذ النسبة
التقييدية التي في المحمول باعتبار المعتقد يكفي في ترتب اللوازم
المذكورة
295

عليه فإنه إذا كان معنى صالح ذات له الصلاح في المعتقد كان معنى
زيد صالح زيد ذات له الصلاح في المعتقد فيجري فيه الاشكالات
قلت
هذا مع ابتنائه على القول بأن مدلول المشتق مركب من مفهوم ذات له
المبدأ وأنه ليس معنى بسيطا منتزعا من الذات باعتبار قيام المبدأ
به إنما يتم إذا أخذت النسبة التامة فيه باعتبار الاعتقاد دون الواقع فإنه
إذا اعتقد بأن ذاتا ما له الصلاح ولم يعلم بأنه زيد فقيل زيد هو
ذا لم يلزم عليه شئ من المفاسد المذكورة إذ مفاد المحمول حينئذ
ذات مخصوصة لا يقال يشترط في صحة الحمل قيام المحمول
بالموضوع فإذا كان المحمول الصلاح المعتقد فلا قيام له بزيد حيث لا
يعتقده المخاطب لأنا نقول ليس المحمول هو الصلاح المعتقد
قيامه بزيد حتى يلزم ما ذكر بل الصلاح المعتقد قيامه بذات ما فلا يلزم
المحذور نعم يتجه الاشكال فيما إذا لم يعتقد المخاطب اتصاف
ذات بالصلاح لكنه غير مذكور في الجواب هذا ولا يذهب عليك أنه
قد اضطرب كلام المجيب في تعيين الاعتقاد فتارة جعله اعتقاد
المتكلم كما يظهر من دليله الأول فإن لازم الخبر على ما هو المعروف
اعتقاد المتكلم دون المخاطب وأخرى جعله اعتقاد المخاطب كما
يدل عليه دليله الثالث وبه صرح في العنوان حيث قال لا بحسب
معتقد المخاطب وهذا أيضا هو المناسب لمساق الجواب فإن مبنى
الاستدلال على أن معنى الفاسق من كان فاسقا في معتقد المخاطبين
فيتحقق مجهول الحال بالنسبة إليه ويخرج عن عنوان المنطوق لا
من كان فاسقا عنده تعالى فيرجع إلى الفاسق الواقعي ولا يكون الفرق
إلا بمجرد الاعتبار ولا يتحقق حينئذ مجهول الحال ولو نزل
كلام المستدل على أن قضية قانون الوضع أن يحمل كل من المتكلم و
السامع الألفاظ بإزاء ما يعتقده من المعاني ارتفع التنافي في كلام
المجيب لكن يستدعي تطبيق دليله الأول على دعواه إلى إضمار
مقدمة ولو أراد المستدل أن الألفاظ وإن كانت موضوعة للمعاني
الواقعية إلا أن الاعتقاد طريق إلى معرفتها وبعد ضم حكم الطريق إلى
مفاد المنطوق رجع المحصل إلى وجوب التبين في
خبر من علم فسقه فيكون المفهوم عدم وجوب التبين في خبر من لم
يعلم فسقه فيندرج فيه مجهول الحال لتوجه عليه أن الحكم في
المنطوق والمفهوم على القول بأن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية
معلق على من كان فاسقا في الواقع وعلى من لم يكن فاسقا في
الواقع ونسبة كون العلم طريقا إلى كل منهما على حد واحد وليس
التعليق في المنطوق معتبر بالنسبة إلى الطريق أعني العلم حتى يتم
المقصود وبهذا يتضح فساد ما يقال من أنه تعالى علق وجوب التثبت
على فسق المخبر وليس المراد الفسق الواقعي وإن لم يعلم به
للزوم التكليف بالمحال فيكون المراد الفسق المعلوم فانتفاء الامر
بالتثبت ليس بالرد للزوم كونه أسوأ حالا من معلوم الفسق وهو
باطل بل بالقبول وهو المقصود وذلك لان لزوم التكليف بالمحال لا
يوجب أن يكون التعليق اللفظي على العلم بالفسق والدليل إنما
يتم به وأما الاحتجاج بالأصل في نفي الفسق فمدفوع بأن الفسق و
العدالة كلاهما وصفان وجوديان فكما أن الأصل عدم الأول كذلك
الأصل عدم الثاني لكن يشكل هذا على القول بأن المناط في القبول
عدم الفسق المتحقق في العادل والواسطة فيتجه حينئذ استصحابه أو
استصحاب حكمه من قبول بنائه ولا يعارضه العلم بطريان أحد
الوصفين من الفسق والعدالة بعد مضي مدة قضاء لحكم العادة إذ ليس
ذلك علما بطريان الرافع القادح في جريان الاستصحاب ويمكن
التفصي عنه بوجهين الأول أن استصحاب عدم الفسق معارض
بالظاهر فإن الغالب في المكلفين ثبوت وصف الفسق فيهم فيتساقطان
ويحتاج إثبات كل منهما إلى دليل وهذا الوجه وإن اتجه
جريانه في المقام حيث إن التعويل في تعديل الراوي وجرحه على
الظنون الاجتهادية إلا أنه لا تجري في سائر المواضع لمنع حجية
الظاهر حيث لا دليل على حجيته فلا يقاوم الأصل الثاني أن
الاستصحاب المذكور معارض بأصالة عدم الامتثال والخروج عن
عهدة ما
ثبت في حقه من التكاليف الموجب لثبوت وصف الفسق فيه بل هو
عينه لا يقال لو تم هذا الأصل لجرى في مستصحب العدالة فيتعارض
الأصلان
فيه فيلزم أن لا يثبت عدالة بالاستصحاب لأنا نقول لا تعارض بين
الأصلين بل يحكم كل منهما في مورده كأصالة بقاء حياة الغائب و
أصالة عدم تنفسه مثلا يترتب على كل منهما حكمه الشرعي إن كان له
حكم شرعي على أنا نقول قضية بقاء ملكة العدالة قيام صاحبها
بالوظائف الشرعية فيمكن إثبات القيام بها باستصحاب الملكة لأنه من
توابعها الثابتة بثبوتها شرعا وليس إثباتها بنفس الاستصحاب
لعدم الاعتداد بالأصول المثبتة كما يأتي بل لافادته الظن بذلك وهو
كاف في المقام بخلاف عدم الفسق المجرد عن الملكة الثابت في
أول البلوغ فإنه لا يقتضي الظن بقيام صاحبه بشئ بل قضية الشهوات
الموجودة في المكلف خروجه عن الحدود الشرعية بالاختيار ما
لم يمنع منه مانع وحيث إن وجود المانع حادث فقضية الأصل عدمه
وأما ما يقال من أن أفعال المسلمين يحمل على الصحة فشموله
لجميع
الافعال ممنوع ولو سلم فشموله للتروك ممنوع ولو سلم فنمنع كون
المقصود إثبات جميع لوازم الصحة به حتى العدالة وهذا ظاهر و
إذا اتضح عندك مما حققنا أن الوجه في منع صدق الفاسق حقيقة
على غير الفاسق الواقعي إنما هو التبادر وصحة سلبه عن الفاسق
الاعتقادي الغير الواقعي فنقول قضية التعليق في الآية وجوب التبين
في نبأ الفاسق الواقعي وعدم وجوبه في غيره وحيث لا واسطة في
محل الحاجة بين كون المخبر عادلا في الواقع وبين كونه فاسقا فيه
يتردد خبر المجهول الحال بين وجوب العمل وبين حرمة العمل به
إذ لا قائل بالإباحة هنا فيترجح الثاني إما على الضابطة المعروفة من
ترجيح جانب التحريم حيث يدور الامر بينه وبين الوجوب وإما
لان مرجع ذلك إلى التردد بين حجيته وعدم حجيته فيرجح الثاني
لأصالة عدم
296

الحجية وإنما قيدنا الحكم بعدم الواسطة بمحل الحاجة أعني ناقل
الرواية لامكان تحقق الواسطة في غيرها فإن المكلف في أوائل بلوغه
إذا لم يكن له ملكة حاجزة ولم يصدر عنه معصية لا يوصف بالعدالة و
لا بالفسق وكذا الحال في المجنون قبل البلوغ إذا أفاق بعده و
كذا المكلف إذا كانت له ملكة حاجزة عن فعل المعاصي مع ارتكابه
لمنافيات المروة فإن قضية اعتبارهم لتركها في حد العدالة عدم
صدقها بدونه هذا كله بحسب الواقع وأما بحسب الظاهر فربما يتعسر
العلم بعدم الاتصاف بالفسق في غير الصورة الأخيرة لان جملة
من أسبابه باطنية يبعد العلم بانتفائها مع عدم العلم بوجود الملكة و
يشكل بجواز العلم بوجود الملكة بالنسبة إلى أسبابها الباطنية مع
العلم بعدم صدور البواقي منه أو يكتفي في تركها بالظن المستند إلى
ظاهر الحال كما هو قضية الاكتفاء بحسن الظاهر في طريق
الملكة وقد يستند في منع العمل بخبر الواسطة بدلالة التعليل
بالإصابة عليه لمشاركته الفاسق في خوف الإصابة والوقوع في الندم
إذ
المنشأ عدم الملكة دون وقوع الفسق فتأمل فيه السادس الضبط وهو
أن يكون حفظه غالبا على سهوه ونسيانه ولا خلاف ظاهرا في
اعتباره فإن من لا ضبط له لا وثوق بخبره لاحتمال الزيادة في روايته و
النقصان والتغيير والتحريف احتمالا مساويا لعدمها أو قريبا
منه فلا يبقى تعويل على خبره واعتبار هذا الشرط على قاعدة انسداد
باب العلم وهي المعتمد عليها في الباب على ما مر واضح وأما
على تقدير التعويل على الآيات أو الاخبار فلا بد من تخصيص
عمومها أو تقييد إطلاقها بذلك لما مر وفي التعليل المذكور في آية
النبأ
إيماء إليه هذا والعبرة بالضبط في الرواية فلا يقدح عدم الضبط في
غيرها مما لا تعلق له بها وإن بعد الفرض ولو كان ضابطا للألفاظ
والمعاني عول على نقله باللفظ مطلقا وبالمعنى بناء على جوازه ولو
كان ضابطا في أحدهما خاصة جاز التعويل عليه فيه خاصة ولو
كان ضابطا في حال دون حال عول على نقله في حال الضبط واختص
المنع بغيره وكذا لو كان ضابطا في الاخبار المتعلقة ببعض
أبواب الفقه كالطهارة والصلاة دون بعض كالحيض وكان ضابطا مع
عدم تطاول الزمان مع العلم به أو إخبار ضابط به أو إخباره مع
ضبطه فيه لا مع تطاوله ولو تدارك غير الضابط بالكتابة ونحوها على
وجه يحصل الوثوق بخبره جاز التعويل عليه وهل ثبوت الضبط
على الأصل لأنه مقتضى الفطرة الانسانية لولا عروض المانع المنفي
بالأصل وبشهادة الغالب به فلا حاجة إلى التصريح به بل يكفي عدم
التصريح بخلافه أو على خلاف الأصل لكونه صفة حادثة والأصل
عدمها وجهان أقواهما الأول لا سيما بالنسبة إلى مقام الرواية لما
عرفت من أن التعويل فيها على الظن وبهذا يتضح الوجه في جواز
الاعتماد على قولهم صالح أو متدين أو نحو ذلك مما لا إيماء فيه إلى
الضبط وأما قولهم ثقة فهو متضمن للضبط إذ لا وثوق بغير الضابط و
مثله قولهم مسكون إلى روايته أو أجمعت العصابة على تصحيح ما
يصح عنه ونحو ذلك
فصل تعرف عدالة الراوي بالاختبار والصحبة
الكاشفة عن وجود الملكة فيه كشفا قطعيا أو ظنيا مستندا إلى دلالة
حسن ظاهره عليه وربما يظهر من بعضهم الاقتصار على القسم
الأول وهو بعيد جدا لتعذره غالبا مع أن التعديل مما يتوفر الدواعي
عليه ويكثر الاحتياج إليه ومن تتبع أحوال الرسول صلى الله عليه
وآله وخلفاء المعصومين عليهم السلام علم بأن سيرتهم وطريقتهم
كانت جارية على التعويل في العدالة على حسن الظاهر إما لأنه
العدالة أو لأنه طريق إليها وفي بعض الأخبار المعتبرة السابقة دلالة
واضحة عليه وفي حكم المعاشرة الوقوف على جملة من أحواله و
أفعاله الكاشفة عن وجود الملكة وحسن الظاهر فيه وبتزكية العدلين
فما زاد وهو موضع وفاق وباشتهاره بين الناس خصوصا بين
العلماء والمحدثين ومعاملتهم معه معاملة العدل الثقة بالرجوع إليه و
القبول لما يرويه وإن لم يصرح بتوثيقه كالصدوق ويمكن
إرجاعه إلى الطريقة السابقة لكشفه عن حسن الظاهر وبتزكية العدل
الواحد على المشهور وقيل بل يعتبر التعدد ومرجع النزاع إلى
أن تزكية الراوي هل هي من باب الشهادة أو من باب الرواية أو مبناها
على الظنون الاجتهادية فمن اعتبر فيها التعدد جعلها من القسم
الأول ومن لم يعتبر فيها التعدد جعلها من أحد القسمين الأخيرين و
من هنا يظهر أن الشهادة والرواية تفترقان بعد اشتراكهما في
كونهما من نوع الخبر في أن الشهادة يتوقف قبولها على تعدد المخبر و
ما في حكمه بخلاف الرواية وهذا مبني على مجرد الاصطلاح
فلا يترتب عليه ثمرة ولا يتطرق إليه المشاحة وفرق الشهيد رحمه
الله في قواعده بعد أن شركهما في نوع الخبر القطعي بأن المخبر
عنه إن كان عاما لا يختص بمعين فهو الرواية وإن اختص بمعين فهو
الشهادة ثم قال ويقع اللبس بينهما في مواضع منها رؤية الهلال
من حيث إن الصوم لا يختص بمعين ومن اختصاصه بهذا العام بل
بهذا الشهر ومنها المترجم من حيث صيرورته عاما للترجمة ومن
حيث
إخباره عن كلام معين ومنها المقوم والخارص والقاسم من حيث
كونهم منصوبين
لمطلق التقويم والخرص والقسمة ومن حيث إن إخبارهم إلزام بمعين
أو تعيين له ومنها المخبر عن عدد الركعات والأشواط من حيث
إلزامه لحقه تعالى فهو كالرواية ومن أنه إلزام بمعين ومثله المخبر
بالطهارة والنجاسة ودخول الوقت والقبلة قال ويمكن الفرق بين
طهرته ونجسته فتقبل في الأول لاستناده إلى الأصل بخلاف الثاني و
لو كان ملكة فلا شك في القبول ثم نفي الخلاف في قبول قول
المفتي والحاكم وعلل الثاني بأنه ناقل عن الله تعالى فهو كالراوي قال
وأما قبول قول الواحد في الهدية وفي الاذن في دخول الدار و
نحو ذلك فليس لكونه من باب الرواية لأنه خاص بل للقرينة المفيدة
للقطع ولهذا يقبل وإن كان صبيا ثم قال
297

لفظه ولو قيل بأن هذه الأمور قسم ثالث خارج عن الشهادة والرواية
كان قويا وليس إخبارا ولهذا لا يسمى الأمين المخبر عن فعله لا
شاهدا ولا راويا مع قبول قوله وحده هذا مزكى أو ميتة لما في يده و
قول الوكيل بعت أو أنا وكيل وهذا ملكي انتهى ملخصا ويظهر
مما ذكره أخيرا وجه فرق آخر وهو أن الرواية خبر مقتضاه الالزام بحقه
تعالى فيكون الشهادة بمقتضى المقابلة عبارة عن خبر
مقتضاه الالزام بحق غيره تعالى لكنه رحمه الله صرف الفرق عن
ظاهره ولم يراع التقابل نظرا إلى عدم مساعدة مقامه عليه فوجه كون
الاخبار بالمذكورات شهادة بكونها إخبارا بمعين وهو لا يقابل الأول
إلا أن يكون قد اعتبر فيه الالزام بحقه تعالى لا على وجه التعيين
بقرينة المقابلة فيشكل بعدم جريانه في مثل عدد الركعات والأشواط
لتعينها وبالجملة فالذي يتحصل من كلامه أن عموم المخبر عنه و
كونه حقا له تعالى من خواص الخبر وكون المخبر عنه خاصا من
خواص الشهادات وهذا بظاهره ظاهر الفساد لان الرواية بالمعنى
المصطلح إخبار عن خصوص قول المعصوم أو فعله أو تقريره فيلزم
خروجها عن عنوان الرواية واندراجها في عنوان الشهادة وأما ما
أورد عليه من النقض بإخبار زيد بمجئ ولده فإنه رواية مع أن المخبر
عنه خاص فغير وارد إذ لا نسلم كونه رواية بالمعنى المبحوث
عنه بدليل أنه لا يكتفي في ثبوته شرعا بإخباره هذا إذا اعتبر العموم و
الخصوص في نفس المخبر عنه كما هو الظاهر وإن اعتبرا
بالنسبة إلى ما يترتب عليه من اللوازم فلا ريب في أن الشهادة يترتب
عليها أحكام عامة كعدم جواز تصرف أحد في المال بدون إذن
المشهود له وجواز بيعه وصلحه وإجارته عموما إلى غير ذلك و
يترتب على الرواية أحكام خاصة متفرعة على ثبوت الاحكام العامة
كعدم ثبوت الشفعة في هذا المال الذي لا يقبل القسمة لعموم لا شفعة
فيما لا يقسم والأولى في توجيه الفرق بالعموم والخصوص أن
يقال الحكم الشرعي الثابت أولا بالخبر إن كان عام المورد فرواية وإن
كان خاص المورد فشهادة فيندفع الاشكال بما مر أن الحكم
الشرعي الأولي الثابت في الأول خاص وهو كون المال لزيد و
الاحكام العامة
متفرعة عليه وفي الثاني عام والاحكام الخاصة متفرعة عليه ولعل
هذا مراد الشهيد وإن قصر كلامه عن بيانه لكن يرد حينئذ على حد
الرواية الاخبار المتعلقة بموضوعات خاصة كالخواص وكتوثيقه عليه
السلام لمثل زرارة وجرحه لمثل أحمد بن هلال وتحديده للحائر
وبيانه خروج الحجر عن البيت وأمثال ذلك وعلى حد الشهادة
الاخبار بأن هذه العين وقف عام ولا يجدي ما اعتذر به بعض
المعاصرين من أن المصلحة العامة مصلحة خاصة ورد عليه الوقف
بالخصوص فهو في الحقيقة متعين من حيث المورد وإن لزمه الشيوع
والاستمرار بالتبع في أفراد الموقوف عليه وأشخاصه هذا لفظه و
ذلك لان الوقف عبارة عن حبس الأصل وتسبيل المنفعة على
الموقوف عليهم وخصوصية المورد إنما يتحقق بالنسبة إلى مورد
التحبيس دون مورد التسبيل والموقوف عليهم سواء اعتبرت القضية
فيهما حقيقية أو خارجية نعم يمكن أن يقال الوقف عبارة عن أمر
جعلي وهو فعل خاص وإن كان متعلقه أو أثره عاما لكن ربما يرد
مثله في الرواية ومع ذلك يبقى الاشكال بما إذا كانت الشهادة على
الأثر الحاصل إلا أن يمنع صحة الاشهاد حينئذ ولا وجه له وأما
الشهادة على النسب فلا إشكال فيها على هذا التوجيه لان موردها
خاص وإن ترتب عليها أحكام عامة ثم ما ذكره الشهيد من إمكان
الفرق بين طهرته ونجسته واضح السقوط لان الأصل فيما علم
نجاسته النجاسة كما أن الأصل فيما علم طهارته الطهارة فنسبة الأصل
إليهما سواء نعم لو كان الشئ معلوم الطهارة فأخبر بأنه نجسه أو
تنجس فطهره بني على طهارته لا من جهة إخباره بل من جهة الأصل و
عدم الاعتداد بشئ من الخبرين ثم جعله الحاكم من باب الناقل عن
الله تعالى غير سديد بل الحكم إنشاء كما يظهر من الألفاظ المقررة
له وقد صرح هو به أيضا في غير المقام ولو ذكر هذا التعليل للفتوى
كان أنسب وما ذكره من أن قول الواحد في الهدية والاذن في
دخول الدار إنما يقبل لاعتضاده بقرائن علمية إنما يتم إذا لم يكن
المخبر كاملا أو لم يكن له يد على الهدية وعلى الدار وإلا فلا إشكال
في القبول وقوله وليس إخبارا غير واضح ولعله يريد و
أنه ليس إخبارا بالمعنى المصطلح في الأصول أو يريد بالخبر الذي
قسمه إلى القسمين الخبر الذي لا يعتضد بدلالة قطعية أو أمارة
شرعية كاليد في المثال الذي ذكره وكذا الكلام في قبول قول الأمين و
الوكيل لان كون المخبر أمينا أو وكيلا أمارة شرعية ولا يخفى
ما فيه من التعسف هذا وقوله هذا ملكي لا تعلق له بمسألة الوكيل
فالوجه أن يكون عطفا على الوكيل والمراد قول ذي اليد ذلك و
التحقيق أن عد الاخبار بتلك الأمور رواية أو شهادة متفرع على ثبوت
الاكتفاء بالواحد فيها وعدمه لا أن الاكتفاء بالواحد فيها وعدمه
متفرع على كونها رواية أو شهادة كما يظهر من كلام الشهيد إذ لا نص
على أن كل رواية يكتفي فيها بالواحد وكل شهادة يعتبر فيها
التعدد بل الامر في ذلك مبني على مجرد الاصطلاح كما عرفت و
المتبع في موارد الحكم هو الدليل فما دل على قبول خبر الواحد فيه
يلحق بالأول وما دل على اعتبار التعدد فيه يلحق بالثاني وأما الفرق
بين الوجهين الأخيرين فواضح فإن المدار في الأول منهما على نقل
الثقة أفاد الظن أو لم يفده وفي الثاني على حصول الظن حصل من
قول الثقة العدل أو من غيره وحيث إن قول الثقة من حيث نفسه يفيد
الظن ما لم يعارضه أمارة خارجة صح إطلاق القول بقبول تزكية العدل
الواحد إذ المراد قبولها عند تجردها عن المعارض إذا عرفت هذا
فالمختار عندي جواز التعويل في تعديل الراوي أو إثبات تحرزه عن
الكذب على قول العدل الواحد بل على مطلق الظن سواء استند إلى
تزكية العدل أو إلى سائر الامارات الاجتهادية لنا أنه قد ثبت مما حققنا
سابقا أن التعويل في أخبار الآحاد على الاخبار الموثوق بصدقها
وصحة صدورها ولا ريب أن الظن بعدالة الراوي وتحرزه عن الكذب
مما يفيد الوثوق بصدق الرواية فيجب التعويل عليه وأيضا
298

لا خفاء في أن التميز بين الرجال مع اشتراكهم بين الثقة وغيره كثيرا ما
يتعذر وإلا بإعمال الظنون والامارات كملاحظة الطبقة والبلد
وكثرة المصاحبة والرواية وما أشبه ذلك وقد جرت طريقتهم في
ذلك على مراعاة هذه الظنون ولم نقف على من يصرح باعتبار
خصوص شهادة العدلين أو العدل الواحد في ذلك وصاحب المنتقى
مع مصيره إلى أن تزكية الراوي من باب الشهادة وأنه يعتبر فيها
التعدد قد عول في تمييز المشتركات على أمارات ضعيفة كما لا يخفى
لمن تتبع موارد ذلك في كلامه وذلك ينافي جعل التزكية من أحد
البابين فإن اللازم على تقديرهما تعيين الشخص ولو بأحد الطريقين إذ
الاعتماد في تعيين الرجل على مطلق الظن وفي تزكيته على
شهادة العدلين أو العدل الواحد تكلف صرف وتعسف محض ينفيه ما
أصلناه من حجية الظن في الطريق وتأكد الحجة على القول بكونها
شهادة بأن علماءنا المعروفين في علم الرجال الذين على أقوالهم
التعويل في الجرح والتعديل كالكشي والنجاشي والشيخ لم يعاصروا
أكثر الرجال الذين وثقوهم فتعويلهم في تعديلهم وجرحهم غالبا ليس
إلا على قول غيرهم فهم إما شهود فرع أو شهود فرع فرع و
الشهادة في الثاني مردودة مطلقا وقبولها في الأول مقصور على
مواضع ليس المقام منها ودعوى علمهم بعدالتهم بالاخبار المتواترة
أو المحفوف بالقرائن العامية أخذا بظاهر كلامهم بما لا يساعد عليه
وجدان أولي الأنظار المستقيمة نعم يتجه أن يقال تعويلهم على
تعديل غيرهم لا ينافي كونهم شهود أصل على التزكية فإن طريق
شاهد الأصل قد يكون ظنا معتبرا عنده كما في الشاهد على الملكية
بظاهر اليد والاستصحاب وإنما يلزم كونهم شهود فرع إذا شهدوا
بشهادة غيرهم وأما ما ذكره بعض المعاصرين من أن موافقة اثنين
من علماء الرجال في التزكية إنما ينفع على القول باشتراط التعدد إذا
علم من مذهبهم اعتبار التعدد وهو غير معلوم بل قد علم خلافه
من بعضهم كالعلامة حيث اكتفي بتزكية الواحد فالظاهر أنه غير وارد إذ
لا يعتبر في قبول الشهادة العلم بصحة ما عول عليه الشاهد من
الطريق بل يكفي
عدم العلم بالفساد ثم المعروف بينهم في الاحتجاج على جواز
التعويل على تعديل العدل الواحد أمور الأول أن التعديل شرط في
قبول
الرواية وقول الواحد مقبول فيها فيجب قبوله فيه وإلا لزم زيادة الشرط
على مشروطه وأجاب عنه في المعالم بالمنع من عدم زيادة
الشرط على المشروط إذ لا دليل عليه سلمنا لكن الشرط في القبول هو
العدالة لا التعديل نعم هو أحد الطرق إلى معرفة الشرط سلمنا
لكن زيادة الشرط بهذا المعنى على شروطه بهذه الزيادة المخصوصة
أظهر في الأحكام الشرعية عند من يعمل بخبر الواحد من أن يبين
يعني أن العامل بخبر الواحد يعول عليه في أصل الاحكام ولا يعول
في مواردها غالبا على خبر الواحد فإنه يكتفي في الحكم بصحة عقد
أو إيقاع مثلا بخبر الواحد ولا يكتفي في وقوع ذلك العقد أو الايقاع
بشهادة الواحد واعترض بعض أفاضل المتأخرين عنه على الوجه
الأول بأن الظاهر من الاكتفاء في المشروط بخبر الواحد الاكتفاء به في
شرطه أيضا وإلا لوجب البيان ويشكل بأن الظهور المدعى إن
كان بالنسبة إلى الخطاب الذي دل على حجية خبر الواحد في
الاحكام فممنوع وإن كان بالنسبة إلى نفس الحكم فاستحسان وقياس
لا
نقول به وعلى الثاني بأن العدالة والتعديل سيان في جريان ما ذكروه
في كل منهما والأظهر أن يقال إن قبل قول الواحد في ثبوت
العدالة بطل اشتراط التعدد وإلا لزم بطلان ما سلمه من زيادة الشرط
على المشروط وعلى الثالث بأن ثبوت أحكام تلك الماهيات
المكتفي فيها بخبر الفاسق ليس مشروطا بثبوت وقوع أفرادها
المتوقف على شهادة العدلين حتى يصح التمسك به في المقام على
جواز
زيادة الشرط على المشروط نعم يتجه ذلك في هلال شهر رمضان
على قول من اعتبر قول العدل الواحد لكن لا يتم به البيان أقول بل
يتجه ذلك أيضا في إخبار العدل عن فتوى المفتي إذ الظاهر عدم
التأمل في كفاية الواحد فيه وعدم قبول تعديل الواحد له وكذا إخبار
العدل عن نفسه ببلوغه درجة الفتوى عند من يكتفي بإخباره فإن شرط
قبوله عدالته ولا يكتفي فيها بشهادة الواحد وكذلك إخبار
الأجير بقيامه بالعبادة المستأجر
عليها فإنه يكتفي بخبره مع عدالته ولا يثبت عدالته بشهادة الواحد و
مثله الكلام في الوكيل على تفريق الصدقات فإنه يكتفي فيه بخبره
مع عدالته ولا يقبل في عدالته شهادة الواحد وقريب من ذلك
الشهادات المالية فإنه لا يقبل فيها أحد الامرين من شهادة العدلين و
شهادة الواحد مع اليمين ولا يقبل في تعديل الشاهد إلا الشاهدان
فالشرط يزيد على مشروطه من حيث إن في التعيين مزيد كلفة
بالنسبة إلى التخيير وقس على ذلك الحال في نظائرها فيمكن أن ينزل
كلام المعالم على هذا الوجه فيندفع عنه الاشكال المذكور لكن
لا يلائم ذلك قوله عند من يعمل بخبر الواحد فإنه أوفق بما ذكره
المعترض ويمكن دفع الاشكال على تقديره أيضا بأن مقصوده أن
عدم
زيادة حكم الشرط على المشروط إنما هو من حيث كون الشرط فرعا و
المشروط أصلا والفرع لا يزيد على أصله وأن هذا فاسد من
حيث إن الضوابط الشرعية مع كونها أصلا بالنسبة إلى مواردها الجزئية
تثبت عند العامل بخبر الواحد بخبر الواحد ولا يثبت مواردها
الجزئية إلا بشهادة العدلين لكن يشكل بأن الذي يتوقف على شهادة
العدلين إثبات نفس الموضوع والذي يكتفي فيه بخبر الواحد
إثبات حكمه عموما أو خصوصا وليس الموضوع فرعا للحكم اللاحق
له بل الامر بالعكس الثاني ما تمسك به المعترض المذكور من أنه لا
دليل على اعتبار العدالة هنا إلا الاجماع إذ لا نص في المقام وهو لا
يساعد على اعتبارها بعد تزكية الواحد وبعبارة أخرى لا يساعد
الاجماع على اعتبارها على وجه لا يثبت بتزكية الواحد وفيه نظر لان
الاجماع إن تم فإنما يدل على اشتراط العدالة الواقعية وأما جواز
التعويل فيها على تزكية الواحد على القول به فإنما هو من حيث كونها
طريقا إلى الشرط أعني العدالة كشهادة العدلين لا
299

من حيث إنها هي الشرط فلا بد من إقامة الدليل على جواز التعويل
عليها وكونها طريقا بعد ثبوت أصل الاشتراط وهذا واضح مع أن
حصر الدليل في الاجماع غير واضح لان الأصل وآية النبأ يدلان على
ذلك أيضا الثالث قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فإنه تدل
بمفهومه على قبول خبر العادل مطلقا فيتناول لتزكيته أيضا واعترض
عليه في المعالم بأن مبنى اشتراط العدالة في الراوي على أن
المراد من الفاسق في الآية من له هذه الصفة في الواقع فيتوقف قبول
الخبر على العلم بانتفائها وإنما صرنا إلى قبول الشاهدين
لقيامهما مقام العلم شرعا وفرض العموم في الآية على وجه يتناول
الاخبار بالعدالة يؤدي إلى حصول التناقض في مدلولها وذلك لان
الاكتفاء في معرفة العدالة بخبر الواحد يقتضي عدم توقف قبول الخبر
على العلم بانتفاء صفة الفسق ضرورة أن خبر العدل بمجرده لا
يوجب العلم فلا بد من حملها على إرادة الاخبار بما سوى العدالة هذا
كلامه ثم أورد على نفسه النقض بشهادة العدلين حيث إنها لا يفيد
العلم أيضا وأجاب بأن ما دل على قبول شهادة العدلين دليل خارجي
فيجوز تخصيص الآية به ولا محذور فيه ولا يخفى ما فيه إذ ليس
في الآية دلالة على توقف قبول خبر الواحد على العلم بانتفاء صفة
الفسق عنه وإنما يدل على توقفه على انتفاء صفة الفسق عنه في
الواقع
سواء علم به أو لم يعلم نعم حيث لا سبيل إلى الوقوف على الواقع إلا
بطريق موصل إليه فالعقل إنما يستقل بكون العلم طريقا وأما غيره
فإن قام دليل على كونه طريقا جاز التعويل عليه وإلا لم يجز لا لدلالة
الخطاب عليه بل لحكم العقل بأصالة عدم كون ما لم يثبت كونه
طريقا طريقا فإذا سلم أن الآية تدل بمفهومها على جواز التعويل على
قول غير الفاسق مطلقا كانت ناهضة بإثبات كونه طريقا فيرتفع
فيه حكم الأصل ولا تناقض وكذا الحال في شهادة العدلين فإن ما دل
على قبولها لا يخصص الآية كما زعمه المعترض بل يرفع الحكم
العقلي الثابت في الظاهر وأما ما أجاب به بعض المعاصرين من أن
العادل والفاسق الواقعيين ليسا في مقابل مظنون العدالة والفسق بل
في مقابل مجهول الحال والمراد بهما من يطلق عليه عليه اسم العادل
والفاسق
وهما يطلقان على من ظن عدالته وفسقه وكذا الكلام في إضرار
الصوم للمريض وإنبات اللحم واشتداد العظم في الرضاع فإن المراد
بهما ما يطلق عليه اللفظان وهما يطلقان على ما يظن كونه مشتملا
على الاضرار أو الانبات والاشتداد بإخبار الطبيب وأهل الخبرة فلا
يخفى ما فيه فإن العادل والفاسق الواقعيين ليسا في مقابل مجهول
الحال بدليل أن مجهول الحال إما عادل واقعي أو فاسق واقعي
فكيف يمكن اعتبار المقابلة بينهما ودعوى صحة الاطلاق على
المظنون اتصافه بأحد الوصفين ممنوعة على الاطلاق بل الاطلاق
المعتبر
هناك مشروط بدلالة دليل على اعتبار ذلك الظن وأما جواز الافطار
عند الاخبار بإضرار الصوم فليس لصدق الضرر بل لتحقق خوف
الضرر ولهذا يجوز الافطار وإن لم يستند الظن إلى إخبار أحد وأما
إنبات اللحم واشتداد العظم في الرضاع فلا يعتبر فيهما مجرد
الظن بل لا بد من القطع أو ما ثبت قيامه مقامه كشهادة العدلين
القاطعين بهما ولو بحسب العادة ثم قال مع أن اشتراط العلم بالعدالة
مستفاد من المنطوق فلا مانع من تخصيصه بمفهومها ولا يخفى ما فيه
مما مر فإن اشتراط العلم مستفاد من القاعدة العقلية لا من الخطاب
مع أنه على تقدير استفادته منه فهو مستفاد من المفهوم دون المنطوق
كما لا يخفى ومما حققنا يظهر جواز الاعتماد على تعديل غير
الامامي للراوي ممن يحصل الظن بتوثيقه كحسن بن علي بن الفضال و
كذا الكلام في الجرح والتفصيل بقبول الأول منه دون الثاني كما
نقل عن البهائي لا وجه له إلا أن يمنع حصول الظن بجرحه وهو على
إطلاقه ممنوع وحكي عن العلامة أنه لم يقبل رواية أبان بن عثمان
لكونه ناووسيا ولعله نظر إلى ما رواه الكشي عن علي بن حسن بن
فضال من أن أبان كان ناووسيا ويشكل بأن الجارح على هذا
التقدير غير مقبول فكيف يعتمد بجرحه إلا أن يكون مبنيا على
الاعتماد على مطلق الظن في الرجال خاصة أو يكون عاثرا على
مستند
آخر حجة القول باشتراط التعدد قيام الاجماع على ثبوت العدالة
بتعديل العدلين وانتفاء الدليل فيما عداه فيقتصر
بها عليه ويرجع في غيره إلى الأصل وجوابه ظاهر مما مر
فصل اختلفوا في قبول الجرح والتعديل المجردين عن ذكر السبب
فذهب قوم إلى القبول مطلقا وآخرون إلى عدم القبول مطلقا وفصل
ثالث فقبله في الجرح دون التعديل ورابع فعكس وذكر الفاضل
المعاصر أن هذه الأقوال الأربعة للعامة وهو كما ترى وخامس فقبله
فيهما إن كان المزكي والجارح عارفين بالأسباب وإلا فلا وهو
مختار العلامة تبعا للرازي وسادس فقبله فيهما إن علم عدم المخالفة
وإلا فلا وهو مختار صاحب المعالم وحكاه عن والده الشهيد
الثاني وهو راجع إلى القول الثاني كما لا يخفى والأقرب عندي هو
القول الأول لنا أن العدالة عبارة عن حالة لها مقتضيات منها قبول
قول صاحبها في الشهادة والجرح عبارة عن حالة لها مقتضيات منها رد
قول صاحبها في الشهادة فإذا قامت الحجة الشرعية من البينة
المعتبرة على وجود تلك الحالة وكشفت عن تحققها وجب القبول و
لا يقدح وقوع الاختلاف في تعيين معنى العدالة وأسبابها وابتناء
الشهادة على رأي الشاهد المجهول اعتباره إذ لا تعويل عندنا على
تعديل غير أصحابنا والمعروف بينهم عدم الاكتفاء بما دون حسن
الظاهر وقد عرفت أنا وإن استظهرنا القول بأنها الملكة لكن نكتفي
بحسن الظاهر طريقا إليها وهو كالملكة حالة لها مقتضياتها ولو
بواسطة الكشف عنها والاختلاف في الأسباب لا يقدح في قبول
الشهادة بالمؤدى وإلا لم تقبل الشهادة بالملك والنكاح والحرية و
الرقية وما أشبه ذلك مما وقع الاختلاف في أسبابها إلا بعد بيان
السبب وبطلانه واضح وعموم الأدلة وإطلاقها حجة عليه مضافا إلى
تنزيل كلام المسلم العدل على المعنى الصحيح مع صلوحه له وأما
عدم قبول الشهادة على الرضاع المحرم إلا بعد ذكر
300

فيمكن استثناؤه من القاعدة نظرا إلى انعقاد الاجماع عليه إن تم أو
الشهرة القادحة في إطلاق أدلة الشهادة أو عمومها فيرجع فيه إلى
حكم الأصل من عدم القبول مع عدم ذكر السبب ويمكن تنزيل ذلك
على الضوابط من حيث إن الشهادة على الرضاع المحرم شهادة على
وقوع فعل مقتض للتحريم فيقبل الشهادة على الفعل دون الاقتضاء
لأنه من الاحكام الاجتهادية التي لا تعتبر البينة فيها بخلاف الشهادة
على المذكورات فإنها ليست شهادة على أحكام اجتهادية بل على
أمور أسبابها وطرفها اجتهادية فيقبل الشهادة فيها دون أسبابها و
طرقها وأما الشهادة على الاخوة الرضاعية أو البنوة الرضاعية أو نحو
ذلك فيمكن توجيه المنع من قبول الاطلاق فيها لو تم بأنه لم يثبت
اعتبار الشارع لهذه الأحوال إلا تبعا لنشر الحرمة فلا يثبت على
الاستقلال ويمكن أن يقال لا يعقل من الاخوة الرضاعية إلا المشاركة
في
الرضاع المحرم وعلى قياسها البواقي فيرجع إلى الوجه الأول هذا مع
أن محل البحث إنما هو تعديل الراوي والامر فيه سهل لان حجيته
على ما عرفت ليس تعبدية بل دائرة مدار الظن ولا ريب في حصوله
مع الاطلاق لا سيما مع الاكتفاء بالتحرز عن الكذب ولك أن تقول
الاختلاف في تفسير العدالة راجع عند التحقيق إلى الاختلاف في
طرق معرفتها لا في نفسها لأنها عند الكل عبارة عن صفة خاصة هي
ملكة الاستقامة في أمر الدين والملازمة عليه ومن فسرها بالاسلام مع
عدم ظهور الفسق أو بحسن الظاهر يريد أن ذلك طريق إلى
معرفتها والحكم بها وكذلك الجرح بالفسق ليس له إلا معنى واحد و
هو عدم الاستقامة المذكورة فلا يتأتى الاشكال فيه أيضا باعتبار
تعيين معناه نعم هو كالتعديل في وقوع الخلاف في أسبابه فيتأتى
الاشكال السابق فيه ويندفع عما مر من الجواب واحتج موافقونا بأن
شهادة العدل من غير بصيرة يقدح في عدالته والفرض خلافه وأجيب
بأن الخلاف في الأسباب واقع فلعله يقول بسبب لا يراه الاخر و
رد بأن العادل متى أطلق التعديل في محل الخلاف وجب أن يريد
المعنى المتفق عليه وإلا لكان مدلسا وهو
يقدح في عدالته وفيه أنه إذا أخبر بما يراه عدالة أو فسقا فلا تدليس
لظهور أن كل مخبر إنما يخبر على حسب معتقده وبالجملة
فالتدليس في الاخبار عبارة عن أدائه الواقع على خلاف ما هو عليه
عند المخبر فإذا اعتقد المزكي أن الواقع هو العدالة وشهد به لم يكن
مدلسا وإن علم أن معتقد الحاكم خلافه بل لو شهد حينئذ على
حسب معتقد الحاكم ولم يصرح به كان مدلسا لإراءته ما هو الواقع
عنده
على خلافه وقد يوجه الدعوى في المقام بأن علماء الرجال إنما
صنفوا الكتب وتعرضوا فيها لأحوال الرجال جرحا وتعديلا ليرجع
إليها
عامة المجتهدين ويعولوا على مقالتهم وقد علموا باختلاف
المذاهب في ذلك فحيث يطلقون فالظاهر أنهم إنما يريدون المعنى
المتفق
عليه لئلا ينتفى الغرض الداعي إلى تأليف تلك الكتب وفيه تعسف
نعم يتجه أن يقال ليس مراد علماء الرجال بالعدالة إلا الملكة أو حسن
الظاهر دون مجرد الاسلام مع عدم ظهور الفسق وإلا لم يبق لصاحب
هذا المذهب مجهول في الرجال وهو خلاف ما يظهر من كتبهم
فمن يكتفي بحسن الظاهر على أنه العدالة أو الطريق إليها يلزمه قبول
تعديلهم من هذه الجهة احتج النافي مطلقا بأنه لو ثبت مع الاطلاق
لثبت مع الشك إذ لا يزيد ذلك عليه لمكان الاختلاف وأجيب بمنع
الملازمة لان قول العدل يفيد الظن إذ لو لم يعرف لم يقل ويمكن
دفعه بأنه إن أريد إفادته للظن بالمعنى المعتبر عنده فلا يجدي في
القبول أو عندنا فممنوع لوقوع الخلاف وجوابه يعرف مما حققناه
في حجة القول المختار واعلم أنا لو تنزلنا والتزمنا بالدليل المذكور
فالمتجه على تقديره تفصيل لا تعرض لبيانه في كلامهم وتوضيحه
أن الاطلاق في المقام يتضمن الابهام من وجهين الأول ما يختص
بالتعديل غالبا وهو عدم تعيين المعنى المراد منه من الملكة أو حسن
الظاهر أو ظهور الاسلام مع عدم ظهور الفسق وإنما قيدنا بالغالب
احترازا عما لو كان الجرح ينفي العدالة فإنه يشارك التعديل في
الابهام المذكور في الجملة والثاني ما يعم الجرح أيضا وهو عدم
تعيين الكبائر والصغائر مع تكثر الاختلاف وتشتت الأقوال فيهما
فربما يرى
المزكي ما نراه كبيرة صغيرة فلا يقدح في العدالة بفعلها ولو من غير
إصرار أما الأول فقبول الاطلاق فيه مما لا إشكال فيه عند من يرى
القول الأخير لكنه قول غير معروف بين أصحابنا أو يرى القول بأنها
حسن الظاهر أو أنها الملكة وحسن الظاهر طريق إليها كما هو
المختار لما عرفت نعم من يرى القول بأنها الملكة ولا يعتد بحسن
الظاهر طريقا إليها ويمنع اتحاد معنى العدالة يلزمه عدم الاعتداد
بالاطلاق لكنه بمعزل عن مقام التحقيق ولو كان الجرح بنفي العدالة
فلا ريب في كونه مقبولا عندنا بأي معنى فسرها نعم من يرى
العدالة مجرد حسن الظاهر أو ما هو أعم منه يلزمه بمقتضى الدليل
المذكور عدم الاعتداد بالاطلاق أما الثاني فالتحقيق فيه أن العبرة في
كون المعصية كبيرة أو صغيرة بمذهب الفاعل كما أن العبرة في كون
الفعل معصية وعدمه بمذهبه فكما أنه إذا اعتقد الحرام جائزا عن
طريق شرعي لم يكن حراما في حقه كذلك إذا اعتقد الكبيرة صغيرة
عن طريق شرعي كانت صغيرة في حقه لان مرجع ذلك إلى ضعف
مرتبة المعصية وقوتها فكما أن أصل ثبوتها يتبع معتقده كذلك وصفها
بالقوة والضعف يتبع معتقده لان المناط في ذلك الهتك و
التجري وهو إنما يتبع معتقده الفاعل بأصله ووصفه دون الواقع نعم
إذا لم يعتقد شيئا منهما بطريق معتبر مع علمه بكونه معصية اتبع
الواقع على الظاهر فلو كانت كبيرة حسبت عليه كبيرة لانتفاء العذر و
المانع ويمكن أن ينزل على هذا قوله تعالى ويحسبونه هينا و
هو عند الله عظيم على بعض الوجوه وكذا إذا جهل بحال الفاعل في
وجه لا سيما إذا كان الجهل في أصل الاعتقاد لا في تعيينه وكذا
الحال فيما لو اعتقد تحريم ما ليس بحرام أو وجوب ما ليس بواجب
سواء كان ذلك لخطائه في الموضوع أو في الحكم فإنه يتبع معتقده
في كون
301

العصيان به صغيرة أو كبيرة فإن أعتقده كبيرة قدح فعله مطلقا وإن
أعتقده صغيرة قدح الاصرار عليه ولو لم يعتقد شيئا منهما عول
كل من المزكي والجارح فيما لو كان الخطأ في جانب الموضوع دون
الحكم على مذهبه فيه وكذا لو جهل حاله في وجه لا سيما إذا كان
الجهل في أصل الاعتقاد لا في التعيين كما مر وأما إذا كان في جانب
الحكم فيحتمل الحكم بكونها كبيرة لأنها الأصل في المعاصي و
الحكم بكونها صغيرة لأصالة عدم حصول زيادة التجري وعدم ثبوت
حكم الكبيرة في حقه وقد يعتضد هذا باستصحاب العدالة وذلك
حيث يتقدم ثبوتها كما أن الأول قد يعتضد باستصحاب عدمها وذلك
حيث يتقدم عدمها فيحتمل التفصيل بالأخذ بمقتضى
الاستصحابين أيضا وهذه الاحتمالات جارية على تقدير الجهل
بالاعتقاد أيضا ثم إن كان ما قررناه موضع وفاق أو علم بموافقة مذهب
الجارح والمزكي فلا إشكال في قبول الاطلاق إن علم بعدم خلو
الفاعل عن الاعتقاد وبعلمهما به أو علم بموافقة مذهبهما في الخالي
و
المجهول وإلا توجه المنع على ما مر احتج من اكتفي بالاطلاق في
التعديل دون الجرح بأنه لو اكتفي به في الجرح كان تقليدا للجارح في
الجرح لوقوع الخلاف في أسبابه وجوابه أما أولا فبالنقض بالتعديل إذ
الخلاف واقع في أسبابه أيضا فالفرق تحكم وأما ثانيا فبالحل
وقد عرفت بيانه مما أوردناه في حجة المذهب المختار واحتج من
عكس الامر بأن اللبس كثيرا ما يقع في العدالة لكثرة التصنع فيها
بخلاف الجرح والجواب أن ذكر الأسباب لا يوجب رفع اللبس و
احتمال التصنع كما لا يخفى مع أن اللبس قد يقع في الجرح أيضا
فيجب
عدم قبول الاطلاق فيه أيضا والمخلص عن الكل واحد وهو أصالة
عدم حصول الالتباس ومجرد احتماله لا يكفي احتج العلامة على ما
صار إليه بأنه إن كان من ذوي البصائر بهذا الشأن لم يكن معنى
للاستفسار وإن لم يكن منهم لم يصلح للتزكية واحتج عليه الرازي
أيضا بأنا لو أثبتنا أحدهما بقول غير العالم بالأسباب لأثبتنا مع الشك
بخلاف العالم والجواب أن فرض العدالة مغن عن اعتبار البصيرة
إذ مع عدمها لا يقدم على الشهادة وإلا لم يبق على وصف العدالة
اللهم إلا أن يراد بالبصيرة الموافقة في المذهب فيرجع إلى القول الثاني
وقد ذكر في مقابله أو يراد اشتراط العلم بذلك بعد العلم
بالعدالة فلا ينهض الحجة بإثباته ويمكن أن يقال قد يخطئ العدل
العامي في معنى العدالة والفسق على وجه يعذر فيه فيزعم فيهما ما لا
يقول به أحد فالمراد أن يكون المزكي والجارح ممن يظن في حقه
الوقوف على معناهما بطريق بعد صاحبه من ذوي البصائر وأهل
الخبرة فيهما عرفا ثم يرد على الحجتين أن مجرد كون المزكي و
الجارح من ذوي البصائر لا يغني عن وجوب الاستفسار لجواز أن
يستندا فيهما بما لا يصلح للاستناد إليه عندنا أو يفسرا لفظهما بما لا
نراه تفسيرا لهما لمكان الخلاف ولا مخلص عنه إلا بما ذكرناه في
تحرير حجتنا على ما ذهبنا إليه
فصل إذا تعارض الجرح والتعديل
قيل يقدم الجرح مطلقا وقيل يقدم التعديل مطلقا وفصل بعضهم و
فرجح الجرح إن كان التعارض من حيث الاطلاق وأوجب الرجوع
إلى المرجحات كالأكثرية والأورعية إن كان التعارض من حيث
الخصوص وذلك كما لو قال الجارح وجدته يشرب الخمر في وقت
كذا فقال المزكي إني وجدته في ذلك الوقت نائما أو مصليا أو أنه توفي
قبل ذلك الوقت أو ما أشبه ذلك وهذا هو الأظهر لنا أن مرجع
الجرح إلى دعوى الاطلاع على الفسق ومرجع التعديل غالبا مع
الاطلاق إلى دعوى الاطلاع على حسن الظاهر وعدم الاطلاع على
الفسق
ولا ريب أن قول من يدعي الاطلاع مقدم على قول من يدعي عدم
الاطلاع نعم قد يشكل ذلك فيما لو ادعى المزكي القطع بوجود الملكة
العاصمة لكنه موهون ببعد الاطلاع على السرائر فيرجح قول الجارح
لأنه أبعد من الخطأ ولا خفاء في أن ما ذكرناه لا يجري فيما إذا
كان التعارض من حيث الخصوص وإلا فيتعين الرجوع فيه إلى
المرجحات ثم هذا التفصيل إنما يتجه في تزكية غير الراوي وأما تزكية
الراوي فقد عرفت مما حققناها من باب الظنون الاجتهادية فهذا
التفصيل إنما يتجه فيها لبيان مظان الظن وإلا فقد ترجح قول المزكي
الواحد على الجارح وإن كانا مطلقين بل وإن تعدد الجارح وذلك
حيث يكون المزكي أثبت بحيث يكون الظن معه أقوى كترجيحنا
تزكية النجاشي على جرح الشيخ وتزكيتهما على جرح ابن الغضائري
وابن داود أو كان هناك ما يحتمل أن يكون هو الذي عده الجارح
سببا للجرح مع أنه لا يصلح له أو صرح بنوع السبب ولم يكن لنا
تعويل على نظره فيه كتضعيف جماعة لجابر الجعفي ورميه بالغلو مع
توثيق المفيد له فإن الظاهر أن منشأ التضعيف والرمي بالغلو إنما هو
تصديه لنقل الاخبار التي لم يساعد عليها أفهام الأكثرين لا سيما
أوائل المتقدمين على ما يظهر بالتتبع في أحوالهم فإنهم كانوا كثيرا ما
يرمون الرجل بالغلو ويتهمونه به بأدنى مقاله كانت تصدر عنه
في حق النبي والأئمة حتى على بعضهم في ذلك فعد منه نفي السهو
والنسيان
عنهم عليهم السلام مع أنه قد كاد أن يكون من ضروريات المذهب و
ربما كان الجارح ممن عداهم معولا في جرحه على مجرد اشتهاره
بينهم
فصل يعرف توثيق المزكي للراوي
بمعنى قوله فيه بكونه إماميا عدلا ضابطا بالتصريح بالأوصاف أو بقوله
ثقة أو من الثقات فإن الظاهر من هذه الكلمات عند الاطلاق
ذلك كما نص عليه جماعة وهو الظاهر من طريقة الآخرين حتى إنا لم
نعثر فيه على مخالف والوجه في استفادتهم من إطلاق التوثيق
كون الموثق إماميا أما وقوفهم على مصطلحهم ولو بطريق الاستنباط
من فحاوي كلماتهم ومطاوي عباراتهم فإن دأبهم عدم التعرض
غالبا لبيان مذهب الموافق أو كونه الظاهر من إطلاق الثقة حملا للكلي
على الفرد الكامل أو التعويل على الظاهر في حق المسلم لا سيما
إذا ثبت وثاقته وكذا الكلام في الممدوح المسكوت عن بيان مذهبه
إلا أن الدلالة هنا تختلف قوة وضعفا باختلاف طرق المدح ولو
كان التوثيق أو المدح في كلام غير الامامي فقضية الوجهين الأولين
ظهوره
302

في موافقته له في المذهب وقضية الوجه الأخير كونه إماميا وفيه
ضعف ولا يقدح في ذلك أنهم كثيرا ما يوثقون الرجل ثم ينسبونه إلى
بعض المذاهب الفاسدة كما فعلوا ذلك في جماعة من الفطحية و
الواقفية وغيرهم لان ذلك بمنزلة القرينة على إرادة خلاف الظاهر منه
ومن هنا قد يقع التعارض بين توثيق بعض وتصريح آخر بأنه من غير
الامامية كما في داود بن حصين فإن النجاشي أطلق توثيقه و
الشيخ صرح بأنه من الواقفية ولا بد حينئذ من ملاحظة المرجح و
الأصل يقتضي تقديم النص إلا أن يترجح الظاهر بالأثبتية فلا يبعد
ترجيح ظاهر مقالة النجاشي هناك على تصريح الشيخ هذا كله إذا
أطلق التوثيق وأما إذا قيده كقولهم ثقة في الحديث فيمكن أن يكون
التقييد قرينة على إرادة مجرد الاعتماد عليه في الحديث وبيان تحرزه
فيه عن الكذب فلا يدل على التعديل بل ولا على كونه إماميا و
نقل عن الأكثر القول بأنه يفيد التعديل وهو غير واضح وفي حكم
توثيق الرجل عد الحديث المشتمل عليه صحيحا حيث لا يكون عن
مشايخ الإجازة ولا يتقدمه أحد من أصحاب الاجماع إن كان ممن
يصطلحه فيما يكون جميع رواته موثقين كما هو المتداول في كتب
العلامة ومن تأخر عنه دون ما يصح التعويل عليه كما هو المعروف
بين المتقدمين ولهذا لا يعد تصحيح الكليني والصدوق لما روياه في
كتابي الكافي والفقيه توثيقا لرواتها ولو علم من مذهبه أنه لا يكتفي
في تصحيح الرواية بصحتها إلى أصحاب الاجماع كما هو
المعروف دل على التوثيق وقريب من ذلك ما لو عمل بالرواية من لا
يقول بحجية غير الصحيح وأقوى منه ما لو عارضه صحيح فطرحه
وعمل به إذا أول الصحيح طلبا للجمع بينهما وقس على ذلك الحال
فيما لو صرح بكون الخبر موثقا أو حسنا ثم إن علماء الرجال قد
أطلقوا في حق بعض الرجال ألفاظا منها ما يدل على التعديل نصا أو
ظهورا ومنها ما لا يدل عليه بل على مجرد المدح فلنعترض لبيانها
منها قولهم ورع أو تقي أو دين والأولان نص في التعديل والأخير
ظاهر فيه بل لا يبعد اختصاصه عرفا به وقريب منه قولهم صالح أو
خير ومنها قولهم عين أو وجه أو وجه من وجوه أصحابنا فقد
عده بعض الأفاضل تعديلا وهو غير بعيد ويمكن أن يقال لا دلالة
لهذا القول على تعديل الناقل وإنما يدل على تعديل الذين أضيف
إليهم كلا أو جلا إذ من البعيد أن يصير من لا يعتقدون بعدالته و
جهالتهم والأظهر أنه يفيد مدحا يصح الاعتماد معه على روايته لا
سيما
الأخير وأما قولهم أوجه من فلان حيث يكون المفضل عليه ثقة فأقوى
في المدح ويحتمل قويا عده توثيقا ومنها قولهم أصدق لهجة من
فلان حيث يكون المفضل عليه ثقة والظاهر أنه يفيد مدحا يعتد به في
العمل بروايته وكذا لو كان المفضل عليه هنا وفيما مر ممدوحا
بما يصح الاعتماد على روايته ومنها قولهم أجمعت العصابة على
تصحيح ما يصح عنه وهذا عند الأكثر على ما قيل يدل على توثيق من
قيل ذلك في حقه ولعل هذه الدلالة مستفادة منه بالالتزام نظرا إلى
استبعاد إجماعهم على الاعتماد على روايات غير الثقة وإلا فهذه
العبارة منقولة عن المتقدمين وقد عرفت أن تصحيحهم لا يقتضي
التوثيق وربما قيل بأنها تدل على وثاقة الرجال الذين بعده أيضا و
هو بعيد لان اعتمادهم على رواية رجل في خصوص مقام لا يدل على
توثيقه بشئ من الدلالات أ لا ترى أن علي بن حمزة قد ذكر الشيخ
في حقه أنه واقفي وذكر النجاشي أنه أحد عمد الواقفة وقال علي بن
الحسن بن فضال إنه كذاب متهم ملعون وقال ابن الغضائري هو
أصل الوقف وأشد الناس عداوة للولي من بعد أبي إبراهيم عليه
السلام وروى الكشي في ذمه روايات ولم يحك عن أحد توثيقه ومع
ذلك فقد ذكر الشيخ في الفهرست أن له أصلا نقل عنه ابن أبي عمير و
صفوان إلى غير ذلك من النظائر مما يطلع عليه المتتبع الماهر و
أما ما يقال من أن أصحابنا الامامية كانوا يتبرون من الفرق المخالفين
لهم لا سيما الواقفية وكانوا يسمونهم الكلاب الممطورة فكيف
يعقل ركونهم [سكونهم] إليهم وروايتهم عنهم بل كلما يوجد من
رواياتهم عنهم فلا بد أن يكون في حال استقامتهم فمما لا وجه له إذ
الذي يظهر أن أصحابنا كانوا يعتمدون على الاخبار المحفوفة بأمارة
الوثوق وإن كان الراوي غير إمامي وكفاك في
ذلك روايتهم عن النوفلي والسكوني مع أنهما عاميان ولم يكن لهما
حال استقامة ومنها قولهم لا بأس به فعده بعضهم توثيقا لظهور
النكرة المنفية في العموم ومنهم من منع كونه مدحا وهما في طرفي
إفراط وتفريط والأكثر على أنه مدح ويظهر من بعضهم أنه يفيد
مدحا يعتد به وهو الظاهر ومنها قولهم أسند عنه وبعضهم جعله
كالتوثيق وأولى من قولهم لا بأس به لان معناه رواية الشيوخ عنه
الحديث على سبيل الاستناد والاعتماد ولم نقف على مأخذ هذا
التعبير لظهور قصور اللفظ عن إفادة كون الراوي شيخا فضلا عن كونه
شيخا للشيوخ وكونهم معتمدين على روايته مع أن ذلك بمجرده لا
يكفي ما لم يثبت وثاقة بعضهم وقد يوجه ذلك بأنه لو أريد به مطلق
الاسناد لم يبق وجه لتخصيص البعض به ويمكن دفعه بعد منع
الملازمة بأن ذلك إنما يقتضي إرادة خصوص نوع من الاسناد فيبقى
تعيين النوع المذكور بلا شاهد ومنها قولهم من أولياء أحد الأئمة أو
صاحبه وجعله بعضهم دليلا على العدالة وهو مشكل ومنها شيخ
الطائفة وعده بعضهم من أسباب التعديل ولا ريب في دلالته على
مدح معتد به ومنها قولهم فقيه أو فاضل ولا دلالة له على التعديل
ظاهرا لا سيما الثاني نعم فيه نوع مدح وأما نحو شاعر أو فصيح أو
أديب فهو مدح بما لا يرجع إلى سند الرواية ومنها قولهم سليم
الجنبة وفسر بسليم الأحاديث والطريقة فيفيد مدحا يعتد به ومنها
قولهم مضطلع الرواية قيل أي قوي الرواية أو عال الرواية فيفيد
المدح ومنها قولهم خاصي فقد عده بعضهم مدحا وهو إنما يتم إذا
أريد به كونه من خواص الشيعة لا مطلق الشيعة كما يطلق في مقابلة
العامي وهو غير ثابت ومنها قولهم قريب الامر وعده بعضهم مدحا و
له وجه ومنها قولهم بعد ذكره والحق أنه إنما يدل على كونه
إماميا وأما كونه ثقة فلا نعم يشعر بنوع مدح له كما يشهد به
تخصيصهم
303

الترحم بالبعض وقد يعد من أسباب التعديل أمور أخر منها كون
الراوي وكيلا لاحد الأئمة لأنهم لا يوكلون الفاسق ووجهه غير ظاهر
نعم لو كان التوكيل فيما يشترط فيه العدالة دل عليها لكنه نادر ومثله
نصبه قيما على الصغير أو أمره بالافتاء ونحو ذلك ومنها كونه
كثير الرواية وهو غير بعيد فيما إذا أكثر الثقة الجليل منه كما في إبراهيم
بن هاشم أو أكثر القميون منه الرواية لا سيما أحمد بن محمد
بن عيسى منهم فإن طريقتهم معروفة ومنها كونه من مشايخ الإجازة
لعدم أهلية الفاسق لهذا المنصب وربما يشكل بجواز أن يكون
الغرض اتصال السند في كتاب معروف أو يكون رواياته في مقام
معتضدة بأمارات يوجب الوثوق بها أو يكون الغرض مجرد جمع
الاخبار والعمل عند الاعتضاد والاحتمال الأخير لا يخلو من بعد و
من هنا يتقوى ما قيل من أن مشايخ الإجازة إما ثقات أو لا حاجة في
السند إليهم ومنها أن يروي عنه من قيل في حقه لا يروي إلا عن ثقة و
يضعفه عدم اعتداد الأكثرين به في أمر التوثيق مع احتمال أن يراد
به أنه لا يروي إلا عن من يوثق به ولو في خصوص الرواية التي
يرويهما لدلالة أمارة عليه نعم يدل بظاهره على نوع اعتماد عليه ولهم
في الجرح أيضا ألفاظ منها قولهم كذاب يضع الحديث أو من الكذابين
المشهورين أو ملعون أو ما أشبه ذلك ومنها قولهم غال أو من
الطيارة وهو بظاهره يوجب القدح ما لم يقم من الخارج اعتبارات
تقتضي عدم الاعتداد برميهم كما نبهنا عليه سابقا ومنها قولهم
ضعيف أو ضعيف في الحديث وهو غير صريح في التفسيق لجواز أن
يكون التضعيف من حيث الاعتماد على المراسيل كما هو الظاهر
من الأخير ولو صرح بذلك لم يقدح قطعا وإن عده بعضهم قادحا كما
عن كثير من القميين ومنها قولهم غمز عليه والكلام فيه كسابقه
ومنها قولهم يعرف حديثه تارة وينكر أخرى فإن أريد أن حديثه يقبل
عند إسناده إلى ثقة وينكر عند إسناده إلى غير ثقة دل على
مدحه بل وثاقته وكان الطعن فيمن يروى عنه وإن أريد أن حديثه
يعرف عند اعتضاده بأمارات الوثوق وينكر عند تجرده عنها دل
على الطعن فيه والثاني أقرب
بدليل تخصيصه بالبعض ومنها قولهم مضطرب الحديث ومختلط
الحديث وليس بنفي الحديث وفيه دلالة على الطعن فيه أو في
رواياته
وربما أمكن أن يجامع ذلك مع التوثيق وأما قولهم ليس حديثه بذلك
النفي فدلالته على المدح أقرب من دلالته على القدح ومنها قولهم
ليس بذاك وعده بعضهم ذما وبعضهم مدحا والأول مبني على أن
المراد ليس بثقة والثاني يبتني على أن المراد ليس بحيث يوثق به
وثوقا تاما والكل محتمل ولعل الثاني أقرب ومنها رميه ببعض
المذاهب الفاسدة وقد عرفت منا جواز التعويل على روايته مع ثبوت
وثاقته وتحرزه عن الكذب
فصل إذا قال العدل أو العدلان بناء على اعتبار التعدد حدثنا عدل
ففي الاكتفاء به بناء على اشتراط العدالة في الراوي وعدمه قولان
فذهب المحقق إلى الأول والشهيد الثاني إلى الثاني وهو مختار
صاحب المعالم والأقرب القبول مع تعذر الاطلاع على ما يعارضه أو
تعسره لنا أن المقتضي للقبول حينئذ وهو تزكية العدل موجود وما
يتخيل مانعا من عدم تعيين الراوي لا يصلح مانعا لما سنبينه من بطلان
ما تمسك به المانع مع عدم ما يصلح له سواه وأما عدم القبول مع
إمكان الاطلاع على المعارض فلان وظيفة المجتهد استفراغ الوسع في
تحصيل الحكم ولا يتحقق ذلك بالتعويل على تعديل العدل بدون
الفحص عن المعارض مع إمكانه ولا فرق في ذلك بين من ذكر مبهما
أو معينا احتج صاحب المعالم بأن تعديل العدل إنما يقبل مع انتفاء
معارضة الجرح وإنما يعلم ذلك مع تعيين المعدل لينظر هل له جارح
أو لا ومع الابهام لا يؤمن وجوده والتمسك في نفيه بالأصل غير
متوجه بعد العلم بوقوع الاختلاف في شأن كثير من الرواة قال و
بالجملة لا بد للمجتهد من البحث عن كل ما يحتمل أن يكون له
معارض
حتى يغلب على ظنه انتفاؤه كما سبق التنبيه عليه في العمل بالعام قبل
البحث عن المخصص انتهى والجواب أن الحجة الشرعية لا نطرح
بمجرد احتمال وجود معارض لها إذا لم يعثر عليه بعد الفحص أو
تعذر الفحص بل لا بد من ثبوته وعلمنا بأن بعض أفراد التعديل
مقدوح بالجرح إنما يقتضي عدم جواز التعويل على ذلك البعض
بالخصوص ولا يتسرى إلى ما لا علم بوجود المعارض له بعد الفحص
أو تعذره كيف ولو أثر ذلك لادى إلى عدم قبول التعديل غالبا وإن
عين الشخص إذ لا مسد لاحتمال وجود المعارض وإن لم نعثر
عليه فإن الشك في معارضة المعارض الموجود هنا بمنزلة الشك في
أصل المعارض كما لا يخفى هذا إن قرر وجه المنع باعتبار التعديل
وإن قرر باعتبار الشخص المعدل من حيث احتماله لان يكون ممن
ثبت الجرح في حقه فيلزم أن لا يقبل التعديل في حقه من جهة
الاشتباه ففيه أن تحقق
الجرح في حق البعض لا يوجب عدم القبول في حق من لا علم بكونه
منهم كيف وليس علمنا من جهة جرح الجارح بانتفاء صفة العدالة عن
البعض المعين المحتمل لكونه ذلك المعدل المبهم بأولى من علمنا
إجمالا من جهة العادة بانتفائها عن البعض المحتمل لكونه المعدل
المعين فالاشكال المذكور لو تطرق إلى الأول لتطرق إلى الثاني أيضا
فيلزم أن لا يصح التعويل على تعديل أصلا ولو اكتفي بالتعديل
في الثاني طريقا إلى استعلام خروج المعدل تعيينا عمن علم إجمالا
بعدم عدالتهم فليكتف به في الأول أيضا طريقا إلى استعلام خروج
المعدل إجمالا عمن علم عدم عدالتهم تفصيلا وقوله ومع الابهام لا
يؤمن إلخ مردود بأنه إن أراد عدم حصول القطع به فهو غير حاصل
مع التعيين غالبا فيجب عدم القبول فيه أيضا وإن أراد عدم حصول
الظن بصحة التعديل مع الابهام فضعفه ظاهر لان الغالب سلامة
التعديل عن الجرح والمكافئ وهو يوجب الظن بصحة التعديل ما لم
يعثر على معارضه مع أن هذا البيان لا يستقيم منه من حيث إن
الاعتماد على تعديل العدل عنده من باب الشهادة ولهذا اعتبر التعدد
فيه وحجيته تعبدية لا مدخل للظن فيها وقوله وبالجملة إلخ فيه
أن
304

المجتهد إنما يجب عليه الفحص مع إمكانه وتجويزه الاطلاع على
المعارض لا مطلقا ثم بعد الفحص إن لم نعثر بشئ يخالف الامارة
التي وجدها لا يعدل عنها بمجرد احتمال وجوده وإلا لما جاز له
العمل بالعام بعد الفحص عن المخصص وعدم الوقوف عليه أيضا و
كذا
الحال في سائر الأدلة الظنية وقد ذكرنا أن الاعتماد على التعديل هنا
إنما يصح مع الفحص وعدم العثور على المعارض أو مع تعذره إذا
عرفت هذا فاعلم أن عد بعض الأصحاب لبعض الاخبار صحيحا أو
موثقا أو حسنا من هذا الباب فلا يصح التعويل عليه مع إمكان الرجوع
والاستعلام ويجوز مع ضيق المجال أو عدم كتاب يستعلم به الحال و
قس على ما ذكرنا قول الراوي حدثني صالح أو واقفي ثقة أو من
لا يعتد بروايته أو غير عدل أو حكم الفقيه بضعف الرواية فإن الكلام
في ذلك كله كالكلام فيما مر فتبصر واعلم أيضا أنه لا يكفي في
قبول الرواية قول العدل أو العدلين حدثنا بعض أصحابنا لان مجرد
كونه من الأصحاب لا يوجب الاعتماد على روايته وكذا لو قال عن
بعض أصحابه والعجب من المحقق أنه مع اشتراطه العدالة في الراوي
وقوله بأن التزكية من باب الشهادة فرق بين العبارتين واكتفي
بالعبارة الأولى في تعديل الراوي إذا أراد بها كونه إماميا لان إخباره
بمذهبه شهادة بأنه من أهل الأمانة ولم يعلم منه الفسوق المانع
من القبول ومنع منه في الثانية لامكان أن يريد بها مجرد كونه من الرواة
أو من أهل العلم ووجه سقوطه غير خفي على المتأمل
فصل قد تداول بين أصحابنا التسامح في أدلة السنن والمكروهات
بإثباتهما بالروايات الضعيفة الغير المنجبرة وحمل الاخبار المقيدة
للوجوب أو التحريم على الاستحباب أو الكراهة عند ضعف السند و
عدم الجابر وخالف في ذلك بعض متأخري المتأخرين فمنع من
إثبات الاستحباب والكراهة إلا بما يمكن إثبات الوجوب والتحريم به
من الأخبار المعتبرة وربما يظهر من الصدوق وشيخه ابن الوليد ذلك
قال الصدوق في كتاب الصوم من الفقيه وأما خبر صلاة غدير
خم والثواب المذكور لمن صامه فإن شيخنا محمد بن الحسن بن
الوليد لا يصححه ويقول إنه من طريق محمد بن موسى الهمداني و
كان
غير ثقة وكلما لم يصححه ذلك الشيخ ولم يحكم بصحته من الاخبار
فهو عندنا متروك غير صحيح انتهى والمذهب المشهور هو
المنصور ويدل عليه أمران الأول الاحتياط الثابت رجحانه بالعقل و
النقل أما الأول فلان الاتيان بالفعل المحتمل للمطلوبية دون
المبغوضية لاحتمال المطلوبية وترك الفعل المحتمل للمبغوضية
دون المطلوبية لاحتمال المبغوضية راجح عند العقل رجحانا ظاهريا
بالضرورة ولا ينافيه احتمال التشريع المحرم لأنه إن قيس الفعل
بالنسبة إلى جهة الواقعية فلا إدخال إذ نسبة التشريع إلى الحكم و
الفعل سواء فكما أن احتمالنا لدخول شئ في الدين عند الشك في
دخوله فيه ليس تشريعا كذلك إتياننا به لذلك الاحتمال ليس تشريعا
وإنما التشريع هو الحكم بالدخول أو الاتيان به على أنه داخل وإن كان
بالقياس إلى الظاهر فقد عرفت أن العقل قاطع برجحانه
الظاهري حينئذ فالادخال بهذا الاعتبار متحقق لكن بعد ثبوت كونه
من الدين بدلالة العقل فلا يكون تشريعا أيضا وأما الثاني فلما
سيأتي في محله من قوله عليه السلام احتط لدينك وغيره وكما
يصدق الاحتياط على المحافظة على فعل الواجب وترك المحرم
كذلك
يصدق على المحافظة على فعل المندوب وترك المكروه ولو سلم
عدم الشمول أمكن تمام القول بعدم الفارق مضافا إلى شمول سائر
الأدلة له الثاني وهو المعروف الاخبار منها الصحيح المروي في
المحاسن وثواب الأعمال عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله أنه قال
من بلغه
شئ من الثواب على شئ من الخير فعمله كان له أجر ذلك وإن كان
رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقله ورواه في الثاني بسند
معتبر عن صفوان أيضا ومنها الصحيح المروي في الكافي عن هشام
أيضا عنه أنه قال من سمع شيئا من الثواب على شئ فصنعه كان له
أجره وإن لم يكن على ما بلغه وفيه أيضا عن محمد بن مروان قال
سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول من بلغه ثواب على عمل فعمل
ذلك
العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه و
وجه الاستدلال أن هذه الأخبار بعمومها تشمل ما إذا كان الخبر ضعيفا
وحيث إنها لم تتضمن إلا ترتب الثواب على العمل لم يلزم منها ثبوت
وجوب أو تحريم وقد أورد على هذا بوجوه الأول أن الظاهر من
هذه الأخبار أن الاعتماد على مطلق الخبر إنما هو في ترتب قدر من
الثواب على عمل ثابت الرجحان لا في إثبات أصل الرجحان بدليل
قوله في الرواية الأولى على شئ من الخير إذ لا بد من ثبوت خيرية
العمل ليحكم باندراج الخبر الضعيف المشتمل على بيان ثوابه في
عموم الرواية الدالة على القبول والجواب أن الظهور المذكور إنما يتم
في الرواية الأولى حيث اشتملت على لفظ خير مع إمكان أن يقال
المراد به ما هو خير بمقتضى التبليغ فيعم وأما الروايتان الأخيرتان
فالمذكور فيهما لفظة شئ وعمل وهما تتناولان ما كان ثابت
الرجحان وغيره ولا سبيل إلى تقييد الاطلاق فيهما بما في الرواية
الأولى إذ لا موجب له فإن ارتكاب التقييد إنما يتجه في مقام الامر
دون الاخبار وإن استلزم الامر كما في المقام فإن قلت الرواية الأخيرة
ضعيفة وقضية اتحاد الراوي في الرواية الأولى والثانية مع
اتحاد المورد أن يتحد متن الرواية فيكون الاختلاف ناشئا من جهة
النقل فيتعين الاقتصار على القدر المتيقن وهو الاخذ بمقتضى
الرواية الأولى وهي كما مر لا دلالة لها على المقصود قلت ضعف
الرواية الأخيرة منجبر بالشهرة واتحاد الراوي والمورد لا يقتضي
باتحاد المتن مع اختلاف المتن لجواز التعدد وسماعه عن المعصوم
مرتين على الوجهين ولو سلم اتحاد المتن فلا بد أن يكون الاختلاف
من جهة نقله بالمعنى فيتعين حينئذ أن يكون الرواية الثانية إما حكاية
لقوله صلى الله عليه وآله أو مطابقا لمعناه وإلا كان النقل خطأ
لامتناع
نقل الخاص بطريق العموم بخلاف العكس حيث يكون العام نصا في
شمول الخاص ولا ريب أن نقل الثقة إنما يحمل على الصحيح مع
الامكان دون الخطأ الثاني أنها على تقدير تسليم دلالتها على ترتب
الثواب على العمل الذي أخبر ترتبه عليه ولو بطريق ضعيف لا تدل
على
305

الاذن في الاتيان بذلك العمل بل غاية ما يستفاد منها الاخبار بسعة
فضله وكرمه تعالى وأنه يتطول على عباده بما يرجون منه من
المثوبة وهذا لا يقتضي أن يكون ما تضمنه الخبر من الطلب صحيحا
حتى يثبت به الدعوى بل لا يفيد إباحة الفعل فضلا عن استحبابه إذ
الحكم الشرعي يتوقف على صدور الخطاب ولا يكفي فيه مجرد
ترتب الثواب والجواب أما أولا فلان مساق تلك الأخبار ينادي
بالترغيب إلى ذلك العمل كما لا يخفى على من كان له أدنى خبر
بالمحاورات ولهذا يفهم استحباب كثير من الافعال بالاخبار الدالة
على ما يترتب عليه من الأجر والثواب وأما إنكار دلالة ذلك على
الاذن فأوضح فسادا إذ لا يعقل ترتب الثواب على عمل لم يؤذن فيه و
تجويزه يؤدي إلى تجويز ترتب الثواب على ارتكاب المعاصي وتناول
المحرمات وهو مناف للقواعد العدلية فإن قلت قد ورد في حق
حجام حجم النبي صلى الله عليه وآله فابتلع ما مصه من الدم أنه
صلى الله عليه وآله نهاه عن ذلك وأخبره بأنه قد حرم بذلك جسده
على
النار فكيف جاز ترتب هذه الفائدة الجليلة وهي من أعظم المثوبات
على ابتلاع دمه صلى الله عليه وآله وهو محرم بدليل نهيه عن ذلك
قلت بعد تسليم الرواية إن تلك الفائدة إنما ترتب على ابتلاعه قبل
وقوع النهي والظاهر أنه قصد التبرك بذلك ولم ينتبه لتحريمه فلم
يكن فعله محرما في الظاهر بل ربما كان مندوبا لظنه ذلك ولو سلم
تحريمه في حقه فيمكن أن يكون المثوبة مترتبة على ما يترتب
على الابتلاع من انتشار الدم في البدن وصيرورته منه لا على نفس
الابتلاع فلا ينافي تحريمه لامكان نيل السعادة بشئ مع العصيان
بفعل مقدمته والعقوبة لا تنحصر في التعذيب بالنار هذا وإن أراد
المورد أن الحكم الشرعي بأنواعه يتوقف على ورود خطاب لفظي به
فحيث لا يتحقق الخطاب اللفظي لا يتحقق حكم أصلا لم يلزمه تجويز
ترتب الثواب على المحرمات لكن يتوجه عليه منع التوقف كما
سيأتي بيانه في محله وأما ثانيا فلانه إذا ثبت بهذه الاخبار ترتب
الثواب على العمل تناوله عموم الخطابات الدالة على الامر بالاستباق
إلى الخيرات والمسارعة إلى المغفرة والجنة إذ لا ريب في أن ما
يترتب عليه الثواب
مندرج في الخيرات والثواب الذي بتضمن الخبر ترتبه على العمل قد
يكون مغفرته تعالى أو دخول الجنة وأما ما يستلزم دخولها من
نيل ما فيها حور أو قصور فيتناوله الامر بالمسارعة مع أن عموم قوله
تعالى أن الحسنات يذهبن السيئات يقتضي تحقق المغفرة ولو
في الجملة في جميع الطاعات الثالث أنها على تقدير تسليم دلالتها
على الاستحباب إنما يدل عليه في الخبر المشتمل على ذكر ثواب
على
عمل فلا يتناول الاخبار الخالية عن ذكر الثواب ولا ما لا يكون عملا
بل تركا كما في المكروه والجواب أن بلوغ الثواب أعم من الصريح
وغيره والخبر المفيد للرجحان مفيد لترتب الثواب فيشمله الرواية و
العمل والشي أعم من الفعل والترك ولهذا كان قوله تعالى لا
يضيع عمل عامل منكم شاملا للأعمال الوجودية والعدمية وبهذا
الاعتبار صح عد الصوم من الأعمال والسر فيه أن الترك ما لم يقرن
بقصد القربة لا يترتب عليه الثواب كالفعل وإذا اقترن به عد في العرف
عملا ولو سلم فالمناط منقح والاجماع المركب ثابت فالمناقش
بمنع العموم مباهت الرابع أن عموم هذه الأخبار يعارض عموم
منطوق آية النبأ معارضة العامين من وجه فإن رجحنا عموم الآية
لكونها
أقوى في الحجية وإلا فلا أقل من التساوي فيتساقطان فلا يبقى دليل
على الحجية والجواب أن تناول أخبار الباب لخبر الفاسق أقوى
من تناول آية النبأ الثواب لان المطلقات التي تقع في سياق العموم
كالرجل في قولك من أكرم رجلا فله كذا تفيد العموم تبعا لألفاظ
العموم للتلازم فإن قضية شمول العام المقيد بمطلق أفراده هناك
شمول المطلق لافراده لا محالة مضافا إلى اعتضاد عموم الاخبار
بالشهرة وبظاهر العقل كما عرفت وينبغي التنبيه هنا على أمور الأول
يظهر من بعض الأصحاب أنه إنما يتسامح في أدلة السنن إذا
كان مشروعية أصل العمل معلوما كالصلاة فإن رجحانها في نفسها
معلوم فيتسامح في إثبات رجحانها في خصوص مورد دل الخبر
الضعيف على استحبابها فيه قال في المعتبر بعد أن أورد رواية عمار
الدالة على أن المنفرد إذا أذن وأقام ثم أراد الجماعة أعادهما أن
مضمونها تكرار الأذان والإقامة وهو ذكر الله وذكر الله حسن على كل
حال
انتهى وفيه إيماء إلى اختياره ما ذكرناه ولا يخفى ما فيه فإن الحكم
برجحان خصوصية من غير دليل تشريع كالحكم برجحان أصل
العمل بدونه فإن اعتمد في ذلك على هذه الأخبار فنسبتها إلى
المقامين سواء الثاني سرى بعض الأصحاب أمر التسامح إلى الاكتفاء
بفتوى الفقيه المعتبر قال في المعتبر بعد أن نقل عن أبي الصلاح كراهة
الصلاة إلى إنسان مواجه أو باب مفتوح ما لفظه هو أحد الأعيان
فلا بأس باتباع فتواه انتهى ويمكن إدراج عموم الروايات المتقدمة و
أما الفقيه الغير المعتبر كالفقيه العامي فينبغي القطع بعدم
الاعتداد بفتواه وفي سراية حكم التسامح إلى العمل بما رواه
المخالفون في كتبهم عن النبي صلى الله عليه وآله أو أحد
المعصومين مع
عدم انجباره بعمل الأصحاب وجهان الثالث لا يثبت السنن عندنا
بالقياس والاستحسان لعموم الأدلة المانعة عن العمل بهما وبما يظهر
من عبارة المدارك الميل إلى ثبوتهما بذلك فإنه بعد أن أورد الرواية
الدالة على كراهة الصلاة إذا كان بين يدي المصلي مصحف مفتوح
قال وألحق الشيخ به كل مكتوب ومنقوش وهو جيد للمسامحة في
أدلة السنن وإن كان للمناقشة في هذه المعاني المستنبطة مجال
انتهى ولا يخفى ضعفه فإن الاستحباب حكم شرعي فلا يجوز الافتاء
به من غير مستند معلوم الاعتبار والأدلة الناهية عن القول على الله
بما لا يعلم شاملة لذلك وقد عرفت أن الدليل إنما قام على التسامح
من حيث السند فلا يتعدى إلى غيره وعند التحقيق إطلاق التسامح
هنا مبني على التسامح إذ لا مسامحة حقيقة بعد وجود الدليل القطعي
ولو في الظاهر على قبول مطلق الخبر ولو تمسك هناك على
الكراهة بفتوى الشيخ كان متجها كما عرفت الرابع الكراهة التي تثبت
في صورة التسامح هو مجرد ترتب الثواب على الترك لا ترتب
306

دينية على الفعل لعدم مساعدة دليله على ذلك الخامس يعتبر في
جواز التسامح أمور منها أن لا يعارضه دليل التحريم أو الوجوب وإن
كان عموما أو إطلاقا فلو ورد دليل معتبر على تحريم شئ كالغناء مثلا
على الاطلاق وورد رواية ضعيفة دالة على استحباب ذلك في
خصوص مقام كالغناء في قراءة القرآن ومرثية الحسين عليه السلام لم
يعمل بها إما لعدم انصراف إطلاق روايات الباب إلى مثل ذلك مع
عدم مساعدة الشهرة وقاعدة الاحتياط عليه أو لان رواية النهي
تتضمن الثواب على الترك وهي أقوى مستندا فتتعين للترجيح ومن
هذا الباب منع البعض من صلاة الأعرابي نظرا إلى معارضة روايتها
لعموم ما دل على أن النافلة كل ركعتين منها بتشهد وتسليم عدا
الوتر ومن صلاة الغفيلة وشهبها لمعارضة روايتها لما دل عليه الأخبار المعتبرة
من أنه لا تطوع في وقت فريضة ومنها أن لا يكون
شاذا غير معمول به بين الأصحاب أو مخالفا لما هو المشهور بينهم
لقوله عليه السلام ودع الشاذ النادر فإنه وإن ورد في الخبرين
المتعارضين إلا أنه يعطي علية الشذوذ لترك العمل وهي مشتركة وفي
حكم التصريح بالخلاف ما لو ظهر عنهم الاعراض كتركهم
التعرض لبيان الحكم في مقام يقتضي البيان مع كون الرواية بحيث
يبعد خفاؤها عليهم ومن هذا الباب ما ورد في بعض الاخبار من
زيادة بعض الفصول والاذان وإعراض عن أصحابنا عنها
فصل إذا قال العدل حدثني فلان
أو قال فلان أو فلان عن فلان وأمكن روايته عنه بدون واسطة فالظاهر
عدم الواسطة وإن كان قد يروي عنه بواسطة وإن أرسله أو
ذكر واسطة مبهمة كقوله عن رجل أو عن بعض أصحابنا ففي قبوله و
عدمه أقوال ثالثها القبول إن عرف أن الراوي لا يرسل إلا عن ثقة
كابن أبي عمير على ما نص بعض علماء الرجال عليه وهذا مختار
العلامة في أحد قوليه وجماعة وهو المختار وعن الشيخ القبول
مطلقا
إن عرف أنه لا يروي إلا عن ثقة وإلا فيشترط أن لا يكون له معارض من
المسانيد الصحيحة وعن المحقق أنه حكى ذلك ساكتا عليه
مؤذنا بالتوقف لنا على عدم القبول إذا لم يعرف إرساله عن ثقة أنا نرى
بالعيان أن العدل كما يروي عن الثقة كذلك يروي عن غيره
فليس في روايته عن رجل ما يوجب تعيين أحدهما ولهذا لا يعد
رواية العدل عند التصريح بالاسم من طرق التعديل فإذا ثبت جهالة
الواسطة لم يجز التعويل عليه ما لم ينجبر بجابر للشك في تحقق شرط
جواز العمل به كما مر في المجهول ولنا على القبول إذا عرف
إرساله عن الثقة حصول الظن والوثوق بروايته كالمسند إلى من عرف
وثاقته فيجب التعويل عليه والعجب من الفاضل المعاصر حيث
وافقنا على قبول المرسل في هذه الصورة مع مصيره إلى عدم التعويل
على تعديل الراوي في المبحث المتقدم واحتج على مختاره هنا
مشيرا إلى وجه الفرق بقوله لا لان ذلك تعديل للواسطة حتى يقال إنه
على فرض تسليمه شهادة على عدالة مجهول العين ولا يصح
الاعتماد عليه لاحتمال ثبوت الجارح بل لأنه يفيد نوع تثبت إجمالي
إذ غايته أن العدل يعتمد على صدق الواسطة ويعتقد الوثوق بخبره
وإن لم يكن من جهة العدالة عنده أيضا ولا ريب أن ذلك يفيد ظنا
بصدق خبره وهو لا يقصر عن الظن الحاصل بصدق خبر الفاسق بعد
التثبت انتهى وهو كما ترى لأنه إذا قيل في حق رجل لا يروي إلا عن
ثقة فالظاهر منه أن المراد أنه لا يروي إلا عن ثقة عنده فإذا أرسل
حينئذ فالظاهر أن إرساله عن ثقة عنده فكذا إذا قيل لا يرسل إلا عن
ثقة فإذا جاز الاعتماد على هذا الظهور فمع
التصريح أولى ثم قبول مثل هذا الراوي لكل ما يرويه غير مفهوم من
الكلام المذكور لان مجرد الرواية عن الثقة لا يوجب الاعتماد على
الرواية حتى على ظاهرها ولو سلم ذلك أو ثبت في مقام فإن كان من
جهة عدالته عنده فالكلام فيه ما مر وإن كان من جهة أخرى فهي
غير متعينة فيمكن أن يكون قبوله حينئذ راجعا إلى وجوه اجتهادية فلا
تصير الرواية في حقنا حجة وإلا لوجب علينا العمل بكل رواية
عمل بها أحد ثقات المحدثين مع خلوها عن المعارض وإن كانت
ضعيفة السند وهو لا يقول به نعم لو أجمع أهل الجرح والتعديل على
أن
الراوي لا يروي أو لا يرسل إلا عن ثقة عندهم أو جعلنا الاطلاق مغنيا
عن القيد الأخير كان ذلك ظاهرا في تعديل الواسطة وسلامته عن
الجرح فيتجه القبول هنا وإن اخترنا المنع في المبحث المتقدم لكنه
مع كونه مجرد فرض لم يثبت وقوعه مما يمكن تطرق القدح إليه
باعتبار جواز تعديلهم للواسطة حينئذ من جهة إخباره بأنه لا يروي إلا
عن ثقة تعويلا على تعديل الراوي كما هو مختار جماعة احتج من
قال بالقبول مطلقا بوجوه الأول الاجماع الذي حكاه الشيخ حيث
ادعى أن الطائفة عملت بالمراسيل مطلقا كما عملت بالمسانيد إذا لم
يعارضها من المسانيد الصحيحة والجواب منع الاجماع على إطلاقه
لاشتهار المخالف وإن أراد الاجماع على العمل به في الجملة ولو
عند وجود جابر فلا كلام الثاني أن قضية سكوت العدل عن الأصل
الذي يروي عنه تعديله لأنه لو لم يكن عدلا لبين حاله وإلا لكان
تدليسا والجواب المنع من قضاء سكوته بالتعديل بل هو أعم منه كما
يظهر من النظر في طريقة الرواة الثالث أن إسناد العدل الحديث
إلى المعصوم عليه السلام يقتضي صدوره عنه وإلا لكان كذبا فيتعين
القبول والجواب من وجهين الأول أن ذلك لا يجري حيث يصرح
بالواسطة لان الاسناد إلى المعصوم عليه السلام حينئذ من الرجل
المجهول لا من العدل الثاني أن إسناده إلى المعصوم عليه السلام
حيث
يسند إليه لا يقتضي علمه بصدوره عنه بل رجحان صدوره ولو بطريق
الظن المعتبر عنده كما هو الغالب المتداول وأماراته لا تنحصر
في وثاقة الراوي
بل هي من جملتها فالتعويل على مجرد تعويله تعديل له في ذلك
على أنه يمكن منع جواز التعويل عليه على تقدير ظهور دعواه العلم به
لجواز أن يستند علمه إلى غير الحس من حدس وشبهه فيجري فيه ما
يجري في الاجماع المنقول وقوى بعض المعاصرين جواز التعويل
على هذا النوع تمسكا بأن العدل لا ينسب إلى المعصوم عليه السلام
إلا ما حصل له الظن بصدقه إما من جهة العدالة أو التثبت وكلاهما
يفيدان الظن
307

وضعفه ظاهر لان حصول الظن للغير بصدق الرواية لامارة يعتمد
عليها لا يوجب حصوله لنا مع علمنا باختلاف الآراء في الامارات ولو
صح ذلك لجاز العمل بكل رواية ضعيفة عمل بها فقيه نظرا إلى ظن
العامل بصدقها وفساده ليس بموضع تأمل احتج من منع من القبول
مطلقا على الصورة الأولى بما مر وعلى الصورة الثانية بأن تزكية الراوي
شهادة فلا تقبل مع جهالة العين والجواب المنع من كونها من
باب الشهادة بل مبناها على الظن كما مر مرارا
فصل يجوز للراوي نقل الحديث بالمعنى
ولا يسقط به عن الحجية ولا نعرف في ذلك خلافا بين أصحابنا و
عليه أكثر مخالفينا وذهب بعضهم إلى المنع منه مطلقا وبعضهم إلى
المنع في غير المرادف وموضع النزاع في الجواز ما إذا نقل مدلول
الحديث بغير لفظه وأسنده بلفظ قال أو مرادفه وأما نحو أمر بكذا
ونهى عن كذا أو صرح بنقل المعنى فلا كلام نعم ينبغي أن يستثنى من
ذلك نقل الخطب والأدعية ونحوهما مما يستظهر منه عند إطلاق
الاسناد نقل اللفظ نظرا إلى تعلق القصد به غالبا فلا يجوز نقله بالمعنى
من غير قرينة تدل عليه وفي الحجية ما إذا لم يتعذر الوصول إلى
الأصل مع احتمال التعميم أخذا بإطلاق المنع لنا أولا جريان طريقة
السلف على ذلك كما يظهر بالتتبع والفحص ولم يسبق من أحد
إنكار على الناقل ولا على العامل مع ما نرى من إكثارهم الانكار و
القدح بما كانوا يعدونه من أسبابه كالرواية من الضعفاء والتعويل
على المراسيل وما أشبه ذلك وذلك إجماع منهم على جوازه و
حجيته وهو المطلوب وثانيا اتفاقهم على جواز تأثيره بالعجمية و
الاعتداد به وبالقرينة أولى لأنها أقرب ويشكل بأن موضع الاتفاق
على المطلوب جواز ذلك مع القرينة والاعتداد به مع تعذر الوصول
إلى الأصل لا مطلقا وهو خارج عن محل البحث وثالثا أن الغرض من
الخطاب إفادة المعاني فلا عبرة بخصوص الألفاظ ورابعا أنه
تعالى قص القصص بلغة العرب وحكاها بلفظ القول وهي بين ما لم
تقع بلغتهم وبين ما وقع بلغتهم لكن بلفظ وأسلوب آخر لاشتمال
القرآن على فصاحة لا توجد في غيره ولا يساعد عليها وسع البشر و
أيضا قد قص القصة الواحدة بعبارات مختلفة مع أن الواقع غير
متعدد فالمنقول ليس إلا المعنى ويمكن دفعه بأن ما دل دليل أو أمارة
على كونه نقلا بالمعنى ومنها الوجوه المذكورة فلا إشكال فيه
لأنه نقل بالمعنى مع القرينة والكلام فيما تجرد عنها وأما فيما عدا
ذلك فنمنع كونه نقلا بالمعنى تعويلا على الظاهر وخامسا شهادة
بعض الاخبار بذلك كصحيحة محمد بن مسلم قال قلت لأبي عبد الله
عليه السلام أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص قال إن كنت تريد
معانيه فلا بأس لا يقال لعل المراد الزيادة والنقصان في مقام التفسير أو
الفتوى والتفريع أو النقل المقرون بالقرينة لأنا نقول إطلاق
الرواية يقتضي عدم الاختصاص بذلك والتقييد يستدعي دليلا وإذ
ليس فليس ويمكن الاحتجاج على حجية المنقول بالمعنى أيضا
بالدليل العقلي إذ الوجوه المذكورة إذ لم تفد القطع بحجيته فلا أقل من
إفادتها الظن بها وقد قررنا حجية الظن في الطريق حجة المنع
وجوه منها أن قول الراوي قال ظاهر في صدور اللفظ فإذا أراد به نقل
المعنى فقط كان كذبا وتدليسا والجواب المنع من ظهوره في
ذلك لجريان العادة في الحكايات على خلافه فإن السامع إنما يحفظ
المعاني غالبا دون الألفاظ لتعسر ضبطها مع عرائه عن فائدة يعتد
بها فلفظ القول إما حقيقة في القدر المشترك أو مجاز شائع فيه بحيث
لا ينصرف عند الاطلاق إلى نقل اللفظ ومنها أن فهم المعاني من
الألفاظ بالاجتهاد وتعويل الفقيه فيه على نظر الراوي تقليد له و
الجواب المنع من كونه تقليدا له بل التعويل عليه من حيث إفادته
للظن
بالمراد كالتعويل على نقل اللغوي بل كالتعويل عليه في نقل اللفظ ولو
سلم أن مثل ذلك تقليد فبطلانه ممنوع والسند ظاهر مما مر مع
أن الخطاب الشفاهي كثيرا ما يفهم منه معانيه بطريق الضرورة فإطلاق
القول بأن المعنى يفهم بالاجتهاد ممنوع ومنها أنه لو جاز النقل
بالمعنى وتكرر لادى إلى نقيض المطلوب إذ النقل لا ينفك عن
تفاوت واختلاف ولو يسيرا والجواب أنا لا نجوز النقل مطلقا بل عند
خلوصه عن التفاوت والاختلاف كما سيأتي ومنع إمكانه عادة واضح
الفساد ومنها قوله صلى الله عليه وآله نصر الله من سمع مقالتي
فوعاها وأداها كما سمعها وفي رواية رحم الله وقوله صلى الله عليه و
آله فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وفي رواية إلى من لا فقه
له والجواب أن الرواية الأولى دعاء ولا دلالة فيها على الوجوب
سلمنا لكن يصدق إذا أدى المعنى من غير تفاوت أنه أداه كما سمعه
سلمنا لكن معارضة بما هو أقوى منها سندا ودلالة وقضية الجمع
تنزيلها على تأدية المعنى كما سمع أو على
الاستحباب والرواية الأخيرة لا تنافي النقل بالمعنى إذ مدار الفقاهة و
التفريع على الاستنباط من المعاني غالبا مع أنها إنما تدل على
وقوع النقل باللفظ لا على اختصاص جوازه به ولا يذهب عليك أن
هذه الوجوه لو تمت لدل بعضها على منع الجواز وبعضها على منع
الحجية ولا خفاء فيه على الناظر الفطن
فصل اشترط القائلون بجواز نقل الحديث بالمعنى
في جوازه أمورا منها أن يكون الناقل عالما بمواقع الألفاظ وهذا
الشرط كما يعتبر بالنسبة إلى الكلام المنقول منه كذلك يعتبر بالنسبة
إلى الكلام المنقول إليه والمراد من العلم بمواقع الألفاظ العلم
بمداليلها وبما يلزمها باعتبار الهيئات والأحوال سواء علم ذلك
بمساعدة
الطبع أو بإعمال القواعد المقررة والظاهر منه اعتبار العلم التفصيلي
فيتوجه عليه الاشكال بإمكان التعويل في ذلك على قول الثقة
العارف بوحدة المفاد فيصح الاسناد حينئذ مع انتفاء الشرط ويمكن
التفصي عنه بأن يراد بالعلم ما يعم التفصيلي والاجمالي الذي في
الفرض المذكور فإن علم الناقل فيه بوحدة المفادين علم بمواقع تلك
الألفاظ إجمالا أو يعتبر الاشتراط بالنسبة إلى الناقل من قبل نفسه
كما هو الغالب ومنها أن لا يقصر النقل عن إفادة المراد ولعل المراد أن
لا يكون النقل بحيث يظهر منه خلاف المراد
308

كنقل المقيد بمطلق مجرد عن القيد والحقيقة بمجاز مجرد عن القرينة
وأما مجرد القصور عن الإفادة ولو كنقل المبين بلفظ مجمل فلا
دليل على منعه في غير مقام الحاجة ومنها أن يكون مساويا للأصل
في الوضوح والخفاء لان الخطاب الشرعي يكون تارة بالمحكم و
أخرى بالمتشابه لحكم وأسرار لا يصل إليها عقول الناس فلو نقل
أحدهما بلفظ الاخر أدى إلى فوات تلك المصلحة كذا علله بعضهم و
يشكل بأن تلك المصلحة لعلها كانت مقصورة على زمن ورود
الحديث فتكون منتفية بالنسبة إلى النقل ولو سلم فلعلها مصلحة
يسوغ
للناقل إهمالها كالنكات البيانية التي لا تعلق لها بإفادة المراد مع أنا نمنع
كون أصل الدعوى قطعية بل هي احتمالية ولو أثر مثل هذا
الاحتمال لادى إلى منع النقل بالمعنى مطلقا لجواز أن يكون قد روعي
في لفظ الحديث مصلحة لا يوجد في غيره ويمكن توجيه المنع من
تبديل الظاهر بالنص بأدائه إلى اختلاف طريق الجمع عند التعارض
مع أن الغالب وقوعه وأما مع العلم بوجود المعارض وحصول
الاختلاف فأوضح وهذا لا يجري في عكسه إذ غاية الامر أن لا يترتب
على النقل فائدة ما لم يكن هناك مقام حاجة فيجب المساواة لما مر
فصل ينقسم الخبر عند المتقدمين إلى صحيح وغير صحيح
فالصحيح عندهم ما كان معتضدا بأمارات توجب الوثوق والاعتماد
عليه كوثاقة رواية أو وجوده في كثير من الأصول أو في البعض
بطرق متعددة أو في أصل أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصحيح
ما يصح عنهم كصفوان وابن أبي عمير أو تصديقهم كزرارة ومحمد
بن مسلم أو على العمل بروايتهم كعمار أو اعتضاده بعمل الطائفة أو
اعتماد الشيخ الجليل عليه كما يظهر من اعتماد الصدوق على شيخه
محمد بن الحسن ابن الوليد حتى أنه صرح في صوم الفقيه بأن ما
صححه شيخه هو الصحيح وما لم يصححه فليس بمعتمد إلى غير
ذلك
من الامارات التي كانت توجب وثوقهم به وأما المتأخرون فلما طال
تباعدهم عن زمن الأئمة والروات واندرس في البين كثير من
الشواهد والامارات حتى انحصر معظم أسباب الوثوق عندهم في
وثاقة الراوي وتحرزه عن الكذب ولم يعتمدوا على اعتماد جليل
على
رواية لأنه يشبه التقليد والتبعية وهم بمعزل عنه بالكلية ولتكثر
الاجلاء واختلافهم في الآراء ولم يجدوا للشيخوخة ما يميز الشيخ
عن
سائر العلماء قسموا الرواية بهذا الاعتبار إلى أقسام أربعة الأول
الصحيح وهو ما كان جميع سلسلة سنده إماميين موثقين مع الاتصال
بالمعصوم عليه السلام صريحا أو مفهوما بالفحوى والامارات
كمضمرات سماعة فإن الذي يظهر أن عود الضمير فيها إلى المعصوم
عليه
السلام كان أمرا معلوما في الأصل لسبق ذكره مع مساعدة السياق عليه
وإنما نشأ الخفاء في الظاهر من جهة تفكيك الروايات وتفريقها
على الأبواب ولو علم وثاقة البعض بالقرائن والامارات فكك ولهذا
حكم بعض متأخري المتأخرين بصحة جملة من الاخبار التي في
طريقها إبراهيم بن هاشم مع أنه لا نص بتوثيقه نعم يستفاد وثاقته من
تعويل ابنه علي الثقة الجليل عليه وإكثاره الرواية منه مضافا إلى
أمارات أخر مقررة في محلها واشترط بعض العامة أن لا يكون معللا
أي لا يكون متنه أو سنده مشتملا على علة خفية لا يطلع عليها إلا
الماهر كالارسال فيما ظاهره الاتصال
أو مخالفته لدلالة العقل والشرط الثاني غير معتبر عندنا إذ طرح الرواية
لا ينافي صحة الاصطلاحية والأول مستغن عنه بما قررناه و
قد يطلق الصحيح مضافا إلى راو معين ويراد به اشتمال السند إليه
على شرائط الصحة وإن اعتراه بعد ذلك ضعف أو إرسال فيقال و
لصحيحة ابن عمير عن فلان أو عن رجل وقد يطلق أيضا على جملة
محذوفة من السند للاختصار مع السكوت عن حال المذكور فيقال
روى الشيخ في الصحيح عن محمد بن سنان والمراد به اشتمال
المذكورين قبل محمد بن سنان على شرائط الصحة وهذان الاطلاقان
إنما يرتكبان حيث يكون حال المذكور أو ما بعده غير معلوم حال
الاطلاق أو يكون نزاع في وثاقتهما أو نوع قوة في روايتهما أو ما
أشبه ذلك فيصرح بالاسم ليراجع عند التمكن أو ليبني كل ذي مذهب
على مذهبه أو ليعرف مقدار قوة السند وقد يكون بعض أصحاب
الاجماع في السند ويطروه بعدهم ضعف أو إرسال فيصرح بالصحة
إليهم ويأتي ببقية السند على وجهه ليتبين حال الرواية بحسب
الآراء الثاني الحسن وهو ما كان جميع سنده إماميين ممدوحين بما
يعتد به مع عدم توثيق الكل الثالث الموثق وهو ما كان جميع سنده
موثقين مع عدم كون الكل إماميا وقد يسمى هذا القسم بالقوي أيضا و
لو تركب السند من القسم الأول وأحد القسمين الأخيرين ألحق
بما اشتمل عليه من أحد القسمين الأخيرين ولقد كان في تحديدهما
ما يدل على ذلك ولو تركب من القسمين الأخيرين ولو بمشاركة
القسم الأول ففي إلحاقه بالحسن أو الموثق قولان مبنيان على الخلاف
في تعيين المرجوح منهما لان حال السند تتبع لحال أخس رجاله و
التحقيق أن مراتب المدح والتوثيق متفاوتة فقد يتكافئان وقد يترجح
أحدهما على الاخر فليس هناك قاعدة كلية يرجع إليها وإن كان
الغالب ترجيح الموثق وأما ما ذكره الفاضل المعاصر من أن ماهية
الموثق أرجح من ماهية الحسن فيلحق هذا النوع بالحسن وإن كان
الحسن قد يترجح على الموثق لخصوص مدح في خصوص رجل
فكأنه ليس على ما ينبغي واعلم أن الحسن والموثق قد يطلقان
مضافين
إلى راو معين أو على جملة محذوفة من السند كما مر في إطلاق
الصحيح ووجهه ما عرفته هناك وقد عرفت مما حققنا حجية هذه
الأقسام الثلاثة الرابع الضعيف وهو ما لا يتصف بعض رجال سنده
بأحد الأوصاف المتقدمة وهذا ينقسم إلى قسمين الأول أن يكون
جميع رجال السند غير إماميين وممدوحين بغير التوثيق بما يوجب
الوثوق بتحرزهم عن الكذب أو يكون بعضهم كذلك ويكون
الباقون من أحد الأقسام الثلاثة السابقة وليس هذا القسم قويا الثاني أن
لا يكون كذلك أما القسم الأول فقضية ما
309

سابقا حجيته وأما القسم الأخير فليس في نفسه حجة نعم قد ينجبر
بمعاضد خارجي كالشهرة فيكون حجة واعلم أن التقسيم الذي
أوردناه في المقام ليس باعتبار الواقع بل باعتبار الاعتقاد فالمراد
بالأقسام الثلاثة الأول ما يعتقد في حق رجاله الاتصاف بالأوصاف
المذكورة وبالقسم الأخير ما لا يعتقد في حقهم كلا أو بعضا ذلك
فيدخل ما كان في طريقه المجهول فيه
فصل لا بد للراوي من طريق يستند إليه في الرواية
فإن كانت الرواية عن المعصوم عليه السلام فله وجوه منها السماع منه
مع توجه الخطاب إليه وحده أو مع غيره وهذا أعلاها لسلامته من
احتمال الاشتباه والقصور المتطرق إلى ما عداه وفي حكمه ما لو ذكر
الرواية للمعصوم فأقره عليها أو عرض مكتوبها عليه فنظر فيه و
اعترف بصحته ومنها السماع منه مع كون المخاطب بها غيره وهذا
دون الأول لجواز أن يكون بين المتكلم والمخاطب قرائن توجب
صرف اللفظ عن ظاهره أو تدل على بعض مراده لم يقف عليها السامع
فاقتصر على نقل ما سمعه فأوهم خلاف المراد وإن جاز التعويل
على أصالة عدمها ثم هذا يكون على وجهين الأول أن يعلم المعصوم
بكونه سامعا الثاني أن لا يعلم به والأول أقوى من الثاني لان علم
المعصوم عليه السلام بسماعه ربما يوجب أن ينبهه على المراد إذا لم
يساعد اللفظ عليه صونا له عن الاشتباه بخلاف ما لم يعلم به ويجوز
للراوي في هذه الوجوه الثلاثة أن يقول قال كذا وفي الأول قال لي كذا
أو حدثني وفي الأخيرين سمعته يقول كذا أو ما أفاد ذلك و
ربما كان لفظ حدثني أو سمعته يقول أو قال لي أصرح من قوله قال كذا
في الدلالة على السماع وأما نحو أمر بكذا أو نهى عن كذا فليس
بصريح في السماع ولا ظاهر فيه وإنما هو ظاهر في العلم بالامر و
النهي وسيأتي الكلام في حجيته ولو قال أمرني أو نهاني فظاهره
السماع ويقول فيما لو أقره على الرواية التي ذكرها له أو اعترف بصحة
المكتوب منها ما يدل عليه وكذا الحال في رواية الفعل و
التقرير ومنها مكاتبته عليه السلام إليه أو إلى غيره ولا بد من علمه
بكون الخطاب خطه عليه السلام ولو بمساعدة القرائن والامارات
وليس له حينئذ أن يقول قال أو سمعته يقول بل يقول كتب أو كتب
بخطه إلي أو إليه أو ما أشبه ذلك وهذا دون السماع بالوجه الأول
قطعا لان الكتاب ربما يتطرق إليه التزوير بخلاف السماع والظاهر أنه
دون السماع بالوجه الثاني أيضا وفي رجحان الثالث عليه
وجهان ولعل أظهرهما ذلك ومنها العلم بكونه قول الإمام بالنظر إلى
قرائن الأحوال وليس له حينئذ أن يقول قال لأنه ظاهر في
السماع إلا أن يكون معه قرينة تدل على خلافه كتأخر زمانه عن زمان
من يستند إليه القول لكن ليس حينئذ في مجرد قوله قال دلالة
على علمه بالقول لجواز كونه رواية متروكة الاسناد اختصارا كما نرى
مثله عن الصدوق وغيره ثم على تقدير ثبوت دعواه العلم بالقول
ففي جواز الاعتماد على مثل هذا النقل وجهان مبنيان على ما مر في
حجيته نقل الاجماع والمختار القبول إلا أنه دون الوجوه السابقة
لتطرق الخطأ كثيرا في الحدسيات دون الحسيات ولو ظن قول
المعصوم إما من جهة السماع الغير المفيد للعلم بعين اللفظ أو لطريان
النسيان فيما سمعه أو لوقوفه عليه في كتاب لا يؤمن عليه من التدوير
أو لقرائن غير بالغة حد العلم فلا ريب في عدم جواز التعويل عليه
نعم يجوز أن يخرج مؤيدا وكانت الرواية عن غير المعصوم فلتحملها
عنه أيضا وجوه منها أن السماع من الشيخ ولا فرق بين روايته له
من كتاب أو حفظ وإن كان الأول أقرب إلى الضبط فإن قصده بالسماع
ولو مع غيره قال حدثني أو أخبرني أو ما أشبه ذلك وإن قصد
غيره خاصة قال سمعته يحدث بكذا ونحوه والسماع على ما صرح به
غير واحد منهم على وجوه التحمل لان الراوي أعرف بوجوه ضبط
الحديث وبكيفية تأديته من الفصل والوصل والبناء والاعراب وغير
ذلك مما يختلف باختلافه المعنى فربما ينبه السامع على الوجه
المأثور بكيفية تأديته وهذا الوجه إنما يتضح جريانه فيما إذا كان
الراوي متحملا بالسماع وشبهه لا بالإجازة والمناولة ونحوهما و
لأنه خليفة المعصوم عليه السلام وسفيره إلى الرعية فينبغي الاخذ
منه كالاخذ منه وهذا الوجه لا يقتضي كون السماع أعلى من حيث
الحجية بل من حيث كونه أنسب بالتأدب ولأن توجه السامع للحديث
إليه أقوى من توجه القاري إليه ولهذا نرى أنه يحفظ السامع ما لا
يحفظه القاري ولا يعارضه قرأته من جانب الراوي لان سبق خبرة
بالرواية بل تكرر مراجعته إليها أغنى عن اعتبار مزيد توجهه حال
الرواية إليها بخلاف المتعلم لها ولصحيحة عبد الله بن سنان قال قلت
لأبي عبد الله عليه السلام يجيئني القوم فيستمعون مني حديثكم
فأضجر ولا أقوى قال فاقرأ عليهم من أوله حديثا ومن وسطه حديثا و
من آخره حديثا فاقتصاره على قراءة الأحاديث الثلاثة عند العجز يدل
على رجحان قراءة الجميع عند عدمه ومنها عرض الحديث على
الشيخ وقرأته عليه مع إقراره به وفي حكم الاقرار سكوته الدال عليه
بقرائن الأحوال فيقول قرأته عليه فأقر به أو حدثني أو أخبرني
قراءة عليه ومنع السيد من الأخيرين لان معنى قوله حدثني وأخبرني
السماع فيناقضه قوله قرأته عليه وضعفه ظاهر إذ لا مناقضة له مع
المعنى المجازي ومناقضته مع المعنى الحقيقي غير ضائر وإلا لا نسد
باب المجاز وأجاز بعضهم حدثني وأخبرني بدون قوله قرأته
عليه ويشكل بأن ظاهره حينئذ سماع الحديث فيلزم الكذب إلا أن
ينصب قرائن على خلافه فيكون في حكم التقييد ومنها الإجازة وهي
الرخصة في رواية الحديث عنه عمن يرويه عنه بقوله أجزت لك أن
تروي عني أو ارو عني هذا أو ما أفاد ذلك ثم الإجازة كما قد يكون
في كتاب معين مشخص كأن يقول أجزت لك أن تروي عني هذا
الكتاب ولا بد حينئذ أن يكون الكتاب مأمونا عليه من الغلط أو
التصحيف أو يجيز له الرواية بعد التصحيح أو في كتاب معين غير
مشخص كأن يقول أجزت لك أن تروي عني ما صح عندك من كتابي
المعهود أو من
310

كتاب التهذيب مثلا أو كتاب غير معين مع ضبطه بعنوان معين كقوله
أجزت لك أن تروي ما صح عندك روايتي له من الكتب كذلك قد
يكون لشخص معين كما مر وقد يكون لغير معين كما لو قال أجزت
لمن استجمع هذه الشروط بأن يروي عني فاتضح أن أنواع
الإجازة أربعة إجازة معين أو غير معين لمعين أو غير معين وكما يصح
إجازة الموجود الكامل كذلك يجوز إجازة غيره كالصغير و
المعدوم منفردا ومنضما ويعتبر في إجازة غير المشافه بلوغها إليه
بطريق العلم أو بخبر من يعتبر خبره ولا بد له حينئذ من التنبيه
على ذلك وليس له أن يقول أخبرني إجازة لدلالته على المشافهة و
فائدة الإجازة إنما يظهر في الاعتماد على الأصل حيث لا يثبت
بطريق التواتر وإلا فلا فائدة لها سوى مجرد المحافظة على اتصال
السند للتيمن ومن هذا الباب إجازات أصحابنا المتأخرين عن
المشايخ الثلاثة لكتبهم المعروفة كالكافي والفقيه والتهذيبين ومنها
المناولة وهي أن يتناول الكتاب ويقول هذا سماعي أو روايتي
عن فلان أو عمن ذكرت أسماءهم في الكتاب فإن انضم إليها الإجازة
فلا كلام في القبول وإلا ففي القبول قولان والمحكي عن الأكثر
المنع والقول بالقبول أوجه إذ العبرة بالنقل لا بالرخصة ومنها المكاتبة
وهي أن يكتب مسموعه ويرسل به إلى غيره ولا بد من علمه
بأنه خطه أو خبر من يقوم مقامه فإن انضم إليه الإجازة فلا إشكال في
القبول وإلا ففيه قولان وحكي عن الأكثر هنا القبول وهو ينافي
ما حكي عنهم في الصورة السابقة من عدم القبول إذ لا فرق بينهما إلا
في السماع والكتابة ولا ريب أن السماع أقوى وعبارته أن يقول
أخبرنا أو حدثنا مكاتبة ومنها الوجادة وهي وجدان أحاديث بخط من
يرويها معاصرا كان أو لا والظاهر جواز الاعتماد عليها مع
انضمام القرائن الحالية الدالة على إرادة الرواية
فصل كما لا يكفي عندنا في حجية الرواية مجرد وجودها في الكتب
الأربعة
ما لم تشتمل على شرائط القبول وسيأتي تحقيق ذلك في مبحث
الاجتهاد كذلك لا يقدح في حجيتها عند اشتمالها على شرائط القبول
خلو تلك الكتب عنها إذا وجدت في كتاب معلوم النسبة إلى مؤلفه
كالعيون والخصال فإن الأدلة التي تمسكنا بها على حجية خبر الواحد
لا تقتضي حجية خصوص ما يوجد منه في الكتب الأربعة وطريقة
الأصحاب جارية على العمل بها وبغيرها كما يظهر بتصفح كتبهم وإن
كان العمل بها بغيرها قليلا لقلة ما يشتمل عليه من الاخبار المتعلقة
بأحكام الفروع والسبب في اشتهار الكتب الأربعة بين الأصحاب بعد
ما اتضح واستبان من جلالة مصنفيها وعظم قدرهم بيننا إحاطة كتبهم
بمعظم الاخبار المتعلقة بالفروع بل الأصول أيضا مع حسن
ترتيبها وجمعها للاخبار المتعلقة بكل كتاب أو باب فيه غالبا بحيث
يسهل على الطالب المراجعة إليها في محل الحاجة ولهذا تركوا
مراجعة الأصول والرسائل المشتملة على الاخبار حتى اضمحلت و
اندرست بل تركوا غالبا مراجعة غيرها من الكتب المعروفة لصعوبة
الوقوف فيها على الاخبار المتعلقة بمحل الحاجة ليعرفها في أبواب
تلك الكتب من حيث وضعها لبيان مقاصد أخر مع ندرة ما فيها من
الأخبار المعتبرة المتعلقة بالفروع الخارجة مما أحاط به تلك الكتب و
ليس في تلك الأخبار في الكتب الأربعة دلالة على شهادتهم بعدم
التعويل عليها إذ لم يظهر من أربابها قصد الإحاطة لجميع ما يعتمد
عليه من الاخبار فيها لتعذرها عادة وللزوم تعارض شهاداتهم فيما
لا يجمعون على نقله مع أن ذلك على تقدير ثبوته مبني على
اجتهادهم وليس وظيفة غيرهم تقليدهم فيه بل الظاهر أنهم إنما
جمعوا ما
تيسر لهم عند التأليف جمعه أو تعلق به غرضهم ولم يقصدوا بذلك
نفي الاعتداد بما عداها وأما الكتب المهجورة التي لم تشتهر
انتسابها إلى الإمام عليه السلام ولا إلى مؤلف معول عليه فلا يجوز
التعويل عليها ما لم يعاضدها معاضد بحيث يوجب الوثوق بها فمن
جملة
هذه الكتب كتاب الفقه المنسوب إلى الرضا عليه السلام وقد اعتمد
عليه جماعة من متأخري المتأخرين وهو كتاب ظهر في زمن المولى
التقي المجلسي رحمه الله وأول من اطلع عليه واستحسنه القاضي
أمير حسين بن حيدر وهو ابن بنت المحقق الكركي قال جاء في بعض
سني مجاورتي لبيت الله الحرام جماعة من أهل قم حاجين ومعهم
كتاب قديم كتب في زمن أبي الحسن الرضا عليه السلام وكان في
موضع منه خطه عليه السلام وكان على ذلك إجازة جماعة كثيرة من
الفضلاء بحيث حصل لي العلم العادي بأنه تأليفه عليه السلام
فاستنسخته وقابلته ثم إنه جاء بالنسخة إلى أصبهان وعرضها على
المجلسي وأخبره بالحال وفي بعض عبارات الكتاب ما يدل على
أنه تأليفه عليه السلام ففي أوله يقول عبد الله علي بن موسى الرضا
عليه السلام أما بعد فإن أول ما افترض الله على عباده وأوجب على
خلقه معرفة الوحدانية إلخ وفي باب الأغسال ليلة تسعة عشرة من
شهر رمضان الليلة التي ضرب فيها جدنا أمير المؤمنين عليه السلام و
في باب غسل الميت روى أبي عن أبي عبد الله عليه السلام وفي
كتاب الزكاة أني أروي عن أبي العالم وفي باب الربا بعد ذكر حديث
اللؤلؤ وقد أمرني أبي ففعلت وفي موضع آخر ومما نداوم به نحن
معاشر أهل البيت وذكر في باب الغنائم والخمس بعد ذكر قوله
تعالى واعلموا أنما غنمتم الآية فتطول علينا بذلك امتنانا منه ورحمة
ويدل على ذلك أيضا أن كثيرا من فتاوى الصدوقين مطابقة له في
اللفظ وموافقة له في العبارة لا سيما عبارة الشرائع وأن جملة من
روايات الفقيه التي ترك فيها الاسناد موجودة في الكتاب ومثله
مقنعة المفيد فيظن بذلك أن الكتاب المذكور كان عندهم وأنهم كانوا
يعولون عليه ويستندون إليه مع ما استبان من طريقة الصدوقين
من الاقتصار على متون الاخبار ويراد لفظها في مقام بيان الفتوى و
لهذا عد الصدوق رسالة والده إليه من الكتب التي عليها المعول
311

وإليها المرجع وكان جماعة من الأصحاب يعملون بشرائع الصدوق
عند إعواز النص فإن الوجه في ذلك ما ذكرناه وأيضا مأخذ جملة
من فتاوى القدماء التي لا دليل عليها ظاهرا موجود فيه فيظهر أنه كان
مرجعهم في تلك الفتاوى ومستندهم فيها فيسقط عنهم ما أورده
المتأخرون عليهم من عدم الدليل عليها وأيضا نقل بعض الأعاظم أنه
وجد نسخة من هذا الكتاب بين الكتب الموقوفة على الخزانة
الرضوية قد كتب عليها أن الإمام علي بن موسى الرضا صنف هذا
الكتاب لمحمد بن مسكين وأن أصل النسخة وجدت في مكة
المشرفة
بخط الإمام عليه السلام وكان بالخط الكوفي فنقله المولى المحدث
محمد إلى الخط المعروف ونقل عن بعض أجلا أصحابنا أنه قال في
رجاله الموضوع لذكر العلماء المتأخرين عن الشيخ الطوسي رحمه
الله ما لفظه السيد الجليل محمد بن أحمد بن محمد الحسيني
صاحب
كتاب الرضا عليه السلام ثقة قال والظاهر أن المراد بكتاب الرضا عليه
السلام هو هذا الكتاب وبكونه صاحبه انتهاء إجازة الكتاب إليه
وإلا فهو من أصحابنا المتأخرين الذين لم يدركوا أعصار الأئمة عليهم
السلام هذا ومما يبعد كونه تأليفه عليه السلام عدم إشارة أحد من
علمائنا السلف إليه في شئ من المصنفات التي بلغت إلينا مع ما يرى
من خوضهم في جمع الاخبار وتوغلهم في ضبط الآثار المروية عن
الأئمة الأطهار عليهم السلام بل العادة قاضية بأنه لو ثبت عندهم مثل
هذا الكتاب لاشتهر بينهم غاية الاشتهار ولرجحوا العمل بها على
العمل بسائر الأصول والاخبار لما يتطرق إليها من احتمال سهو الراوي
أو نسيانه أو قصوره في فهم المراد أو في تأدية المفهوم أو
تقصيره أو تعمد الكذب لا سيما مع تعدد الوسائط وسلامة الكتاب
المذكور عن ذلك ولبعد ما فيه عن التقية بخلاف غيره مع أن
الصدوق قد جمع في كتاب العيون جميع ما وقف عليه من الاخبار و
الآثار المروية عن الرضا عليه السلام فلو كان قد عثر على الكتاب
المذكور لنقله ولو منعه عنه طول الكتاب لنبه على وجوده واكتفي
بذكر بعض صفاته مضافا إلى شواهد أخر في نفس الكتاب يؤكدا
الظن بما ذكرناه منها أن أكثر عبارات الكتاب المذكور مما لا يشتبه
بعبارة الامام كما لا يخفى لمن تأملها ومنها إكثاره من قول روي
وأروي عن العالم ورويت من العالم وهذا مما لم يعهد في كلامه عليه
السلام في غير الكتاب
المذكور ولا في كلام غيره من سائر الأئمة عليهم السلام ومنها
اشتماله على نقل أخبار متعارضة في موارد عديدة من غير إشارة إلى
طريق الجمع بينها ولا إلى ما هو الحق منها والصواب ولا إلى أنه مما
يجوز الاخذ بكل منهما من باب التسليم فيستفاد منه قاعدة كلية
أفيد من بيان ما هو المعتبر في خصوص الواقعة وذلك كقوله فاغسل
ثوبك منه يعني من الحيض ومن البول والمني قل أم كثر وأعد
منه صلاتك علمت به أو لم تعلم وقد روي في المني إذا لم تعلم به
من قبل أن تصلي فلا إعادة عليك وكقوله وروي في دم الدماميل
يصيب الثوب والبدن أنه قال يجوز الصلاة فيه وروي أنه لا يجوز و
كقوله في الأضحية وتجزي البقرة عن خمسة وروي عن سبعة و
روي أنها لا تجزي إلا عن واحد إلى غير ذلك ومنها أنه قال في باب
القدر سألت العالم عليه السلام أجبر الله العباد على المعاصي فقال
الله أعز من ذلك فقلت له ففوض إليهم فقال هو أعز من ذلك فقلت له
فصف لنا المنزلة بين المنزلتين إلخ ولا خفاء في أن مثل هذا السؤال
مما يبعد صدوره عن الإمام عليه السلام وأما الوجوه التي يتمسك بها
على أنه تأليفه عليه السلام فمع ضعف بعضها في نفسه غير صالحة
لمعارضة ما قدمناه إذ قطع واجد النسخة بالخطوط التي شاهدها عليها
بأنه من تأليفه عليه السلام موهون بتباعد العصر وعدم معهودية
خط أرباب تلك الخطوط وقرب أمر التدليس إليه ولو سلم فوجود
خطه عليه السلام في موضع من الكتاب لا يوجب كون الكتاب بتمامه
تأليفه لا سيما مع احتمال الالحاق وإجازة الرواية لا يوجب الاعتماد
على الكتاب كما يعرف من طريقتهم في الإجازة وقوله في أول
الكتاب يقول علي بن موسى الرضا أما بعد إلى آخر الحديث غير
صريح فيما ظن لجواز أن يكون مؤلف الكتاب قد سمع الحديث
المذكور منه عليه السلام أو وجده بخطه فنقله عنه محافظا على كلمة
أما بعد الموجودة في كلامه عليه السلام لمناسبتها لأول الكتاب ولا
يلزم التدليس لذكره بعد ذلك ما يصلح قرينة على عدوله بعد ذلك
الحديث إلى نقل أحاديث أخر بقوله ويروى عن بعض العلماء وقوله
بعد ذلك وأروي ونحو ذلك مما يدل على أن الاسناد المذكور
مقصور على الحديث الأول وقوله ضرب جدنا يحتمل أن يكون من
تتمة
قول أبي عبد الله عليه السلام المتقدم ذكره ولو سلم كونه من كلام
المؤلف فاللازم منه كونه علويا
لا إماما وقوله روي عن أبي عبد الله عليه السلام لا دلالة على كونه
موسى بن جعفر إذ لا يختص الرواية عنه به وقوله أروي عن أبي
العالم يحتمل أن يكون بزيادة الياء من أبي أو بحذف عن عن العالم و
مثل هذا التصحيف غير بعيد فيما يتحد فيه النسخة ويحتمل أيضا
حمل الأب أو العالم على خلاف ظاهره وحديث اللؤلؤة غير واضح
فيما ذكر لان قال بعد ذكره وروي في خبر آخر بمثله لا بأس وقد
أمرني أبي ففعلت مثل هذا ولا يبعد أن يكون قوله وقد أمرني أبي من
تتمة الرواية مع أنه لا بعد في تعويل راو على قول أبيه كما يشهد
به تعويل الصدوق على رسالة أبيه إليه ومما مر يظهر ضعف
الاستشهاد بقوله ومما نداوم به نحن معاشر أهل البيت وقوله فتطول
يمكن أن يكون من تتمة الرواية السابقة عليه وليس في سوق العبارة ما
ينافيه وأن يكون من كلام صاحب الكتاب فلا يدل إلا على كونه
هاشميا لتحقق التطول أو الامتنان في حقه أيضا بالنسبة إلى ما يستحقه
من الخمس مع احتمال أن يكون التطول والامتنان باعتبار الامر
بالاعطاء أيضا فلا يدل على ذلك أيضا وأما مطابقة جملة من عبارات
المفيد والصدوقين لما فيه فمما لا دلالة فيها على أخذها من الكتاب
المذكور لجواز العكس أو كونهما مأخوذين من ثالث ومثله الفتاوى
التي صدرت عن قدماء أصحابنا بلا مستند معلوم مع أن بعض
فتاويهم مما لا يوجد مأخذه فيه أيضا وأما ما وجد مكتوبا على
النسخة الموقوفة فليس بمعتمد إذ لم يثبت وثاقة الكاتب مع احتمال
أن
يكون وهما
312

في النقل الذي أسلفناه فإن الظاهر من الذي نسب إليه النقل هو
صاحب الرجال المعروف ولو كان هو العاثر عليه لنبه عليه في بعض
كتبه أو نبه عليه بعض علماء الذين عاصروه أو تأخروا عنه وأما ما ذكره
البعض في محمد بن أحمد من أنه صاحب كتاب الرضا عليه
السلام فلا دلالة فيه على أن إجازة هذا الكتاب منتهية إليه لجواز أن
يكون المراد به بعض رسائله عليه السلام مما رواها الصدوق في
العيون ولو سلم أن المراد به الكتاب المذكور فلا دلالة في كونه صاحبه
على أنه كان يرويه بطريق معتبر لجواز أن يكون واجدا له أو
راويا بطريق غير معتبر ولا يبعد أن يكون الكتاب المذكور من تصانيف
بعض أصحاب الرضا عليه السلام قد أكثر فيه من نقل الاخبار
التي سمعها منه عليه السلام بواسطة وبدونها كما يستفاد من قوله
روي عن العالم وأروي عن العالم بناء على أن يكون المراد بالعالم
هو الرضا عليه السلام ويصح نسبة الكتاب إليه عليه السلام نظرا إلى
أن الغالب حكاية كلامه إذ لا يلزم في النسبة أن يكون أصل النسخة
بخطه عليه السلام وربما نسب إلى الصدوق وهو بعيد مع احتمال أن
يكون موضوعا ولا يقدح فيه موافقة أكثر أحكامه للمذهب إذ قد
يتعلق قصد الواضع بدس القليل بل هذا أقرب إلى حصول مطلوبه
لكونه أقرب إلى القبول وبالجملة فالتحقيق أنه لا تعويل على الفتاوى
المذكورة فيه نعم ما فيه من الروايات فهي حينئذ بحكم الروايات
المرسلة لا يجوز التعويل على شئ مما اشتمل عليه إلا بعد الانجبار
بما
يصلح جابرا لها ولو استظهرنا اعتماد مثل المفيد والصدوقين عليه في
جملة من مواضعه فذلك لا يفيد حجيته في حقنا لأنه مبني على
نظرهم واجتهادهم وليس وظيفتنا في مثل ذلك اتباعهم وإلا لكانت
الاخبار الضعيفة التي عولوا عليها حجة في حقنا فإن ظننا بتعويلهم
على جملة من روايات كتاب إذا أفاد حجيته مجموع الكتاب في حقنا
لكان علمنا بتعويلهم على رواية معينة مفيدا لحجيتها في حقنا
بطريق أولى
القول في الفعل والتقرير
فصل اختلفوا في التأسي بفعل النبي صلى الله عليه وآله
فذهبوا فيه إلى مذاهب فقيل بالوجوب وقيل بالاستحباب وقيل
بالإباحة وقيل بالوقف وموضع النزاع ما لو فعل في غير مقام البيان و
لم يعلم وجهه ولم يكن في نفسه من الافعال العادية كالأكل والشرب
والنوم أو كان ولكن أوقعه على وجه غير عادي كمداومة الافطار
بالحلو والقيلولة والمختار عندي هو القول بالاستحباب لنا قوله تعالى
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و
اليوم الآخر فإن المستفاد منه حسن التأسي والاقتداء بأفعاله صلى الله
عليه وآله وهو يفيد الرجحان المشترك بين الوجوب و
الاستحباب ولا سبيل إلى حمله على الوجوب وإن قلنا بأنه الظاهر
من إطلاق الطلب لان أكثر أفعاله صلى الله عليه وآله مندوبة في حق
الكل وبعض ما وجب عليه مندوب في حقنا فلا يتصور وجوب
الاقتداء فيها وتخصيصه بما ثبت عدم وجوبه موجب للتخصيص
بالأكثر
وهو أبعد من حمل الامر على الاستحباب وحمله على خصوص
الأفعال الواجبة في حقه مع التخصيص بالبعض أو في حقنا بعيد عن
مساق
الآية فتنزيل الطلب المستفاد منه على مطلق الرجحان أولى ويمكن
الاستدلال أيضا بالاحتياط وبأن شأنه صلى الله عليه وآله يتعالى عن
ارتكاب غير الراجح بل قد يحكى عن بعض الصلحاء تورعه بعد
الاستكمال عن ارتكاب غير الواجب والمندوب والنبي صلى الله
عليه و
آله أولى بذلك منه في جملة عمره ويشكل هذا بأن كون فعله الخاص
راجحا لا يوجب أن يكون راجحا لنفسه أو لغيره اللازم ترتبه عليه
ليترجح التأسي به مطلقا لجواز أن يكون راجحا لغيره المترتب عليه
في خصوص مقام الفعل وإن لم نطلع عليه مع أن خلاف الأولى بل
المكروه مما يجوز صدوره عن الأنبياء على وجه الندرة كما يدل عليه
قصة آدم وموسى ويونس وداود فصدور المباح أولى فيتسرى
الاحتمال إلى نبينا صلى الله عليه وآله مع مساعدة ظاهر آيتي العفو
عنه في الاذن والمغفرة لما تقدم من ذنبه وما تأخر عليه ويمكن
دفع الثاني بعد تسليمه بما مر من مراعاة الغالب إلا أنه لا دليل على
حجيته في مثل المقام احتج القائلون بالوجوب بوجوه منها الآية
السابقة وقد عرفت عدم دلالتها على
الوجوب بالبيان الذي سلف وقد أجاب عنها العلامة بأن الأسوة عبارة
عن الاتيان بفعل الغير لأنه فعله على الوجه الذي فعله فإن كان
واجبا تعبدنا بإيقاعه واجبا وإن كان مندوبا تعبدنا بإيقاعه مندوبا وإن
كان مباحا تعبدنا باعتقاد إباحته وفيه أنه إذا أتى به على
وجه الإباحة لم يكف في صدق الأسوة فيه اعتقاد إباحته مع تركه كما
يرشد إليه تفسيره لها فإن ذلك أسوة في الاعتقاد لا في الفعل و
من هنا يظهر أن ظاهر الآية نفي وقوع ما عدا الواجب والمندوب منه
صلى الله عليه وآله إذ مفاد الامر رجحان المتابعة ولا يعقل
رجحان المباح والمكروه إلا أن يدعى أن جهة المتابعة مفيدة لرجحانه
في حقنا وإن تجرد عنه حين صدوره منه صلى الله عليه وآله و
هو بعيد أو يقال فعل المباح بنية كونه مباحا راجح لما فيه من إظهار
الانقياد والتمسك بشعائر العبودية ويدل عليه ظاهر قوله عليه
السلام إن الله أحب أن يؤخذ برخصه كما أحب أن يؤخذ بعزائمه
بتنزيله على الاخذ برخصه لكونها رخصة لئلا ينافي ثبوت المباح أو
رجحان ما أحبه تعالى فلا ينافي الآية فعله صلى الله عليه وآله للمباح
بهذا الاعتبار لكونه حينئذ راجحا لكنه لا ينافي الحصر المدعى و
التحقيق أن الأسوة عبارة عن مجرد المتابعة فإذا فعل صلى الله عليه و
آله فعلا ولم يعلم وجهه وتابعناه فيه بقصد القربة المطلقة كان
ذلك تأسيا به لأنه إن كان فعله بقصد القربة المطلقة أيضا فلا كلام وإن
كان فعله بنية الوجوب أو الندب لم يقدح في صدق التأسي
قصدنا فيه القربة المطلقة لما بيناه في محله من أن نية الوجه غير
معتبرة وإن كان على وجه الإباحة مثلا بناء على جواز صدور المباح
منه صلى الله عليه وآله فإن قلنا برجحان التأسي فيه أيضا كما هو
قضية الوجه الأول من الوجهين المتقدمين أيضا فلا إشكال ولا عبرة
بكون الرجحان حينئذ من حيث كونه تأسيا خاصة لا من حيث نفس
الفعل أيضا كما في الأولين إذ تعيين هذه الجهات غير لازم في صحة
العمل بل القدر اللازم المتابعة بقصد القربة وإلا كان عموم رجحان
التأسي مخصوصا به
313

ولا يصار إليه إلا بعد ثبوته فيخرج عن محل الفرض ولو فرض أنه
صلى الله عليه وآله أتى بالفعل بنية الوجوب ولم نعلم به وفعلناه
بنية الندب تعويلا على الأصل صح العمل أيضا إذ مجرد نية الندب
في الواجب لا يوجب الفساد لا سيما إذا كان لدليل شرعي وحينئذ
فيحصل التأسي فيه من حيث إتياننا بالفعل بقصد القربة وإن لم
يحصل التأسي في نية الوجوب ومنها قوله تعالى فاتبعوه فإن الاتباع
يعم اتباعه في الفعل والقول فيجب اتباعه في الفعل وهو المقصود و
قوله تعالى إن كنتم تحبون الله فاتبعوني فإن مفاده أن من أحب الله
اتبع الرسول فينعكس بعكس النقيض إلى قولنا من لم يتبع الرسول لم
يحبب الله لكن حبه تعالى واجب كما يدل عليه قوله عن ذكره و
الذين آمنوا أشد حبا لله وقوله تعالى قل إن كان آباؤكم إلى قوله أحب
إليكم من الله الآية وفي هذا البيان نظر والأولى أن يقال إذا
ثبت وجوب الاتباع على تقدير المحبة ثبت على تقدير عدمها إذ لا
قائل بالفصل والجواب أن الظاهر من الاتباع اتباع أوامره ونواهيه
سلمنا لكن لا بد من حمل الامر على مطلق الطلب لئلا يلزم التخصيص
بالأكثر المرجوح على تقدير جوازه بالنسبة إلى حمل الامر على
مطلق الطلب لا سيما إذا قلنا بأنه حقيقة فيه كما هو المختار وإن كان
التخصيص في نفسه راجحا على أغلب وجوه التصرف وقد يقال
الاتباع في الفعل إنما يتحقق بإيقاعه على الوجه الذي أوقع عليه كما
مر في التأسي فيتوقف على العلم به فلا يتم مع عدمه كما هو محل
البحث وفيه ما مر ومنها أن إطاعته صلى الله عليه وآله واجبة فيجب
التأسي به أما الأول فلقوله تعالى أطيعوا الله والرسول وقوله
تعالى من أطاع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم
حفيظا فإن المقابلة دليل على وجوب الإطاعة وأما الثاني فلان
الإطاعة بمعنى المتابعة فيعم المتابعة في الافعال والأقوال والجواب
أن المفهوم من الإطاعة هي المتابعة في الأقوال كما في إطاعته
تعالى دون الافعال بدلالة العرف مع أصالة عدم النقل ولو سلم
التعميم كان اللازم حمل الامر على الطلب المطلق بقرينة ما مر ومنها
قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره فإن
الامر حقيقة في الفعل والتحذير عن مخالفته دليل الوجوب والجواب
أن الامر كما يطلق لغة على الفعل كذلك يطلق على الطلب الإلزامي
كما بيناه سابقا والظاهر منه في الآية هو الثاني ومع التنزل فلا أقل من
الاحتمال المستلزم للاجمال فلا يتم الاستدلال وذلك لما حققناه
سابقا من بطلان ما ذهب إليه البعض من ظهور المشترك في جميع
معانيه عند عدم القرينة ومنها الاحتياط لاحتمال الوجوب والجواب
أن الاحتياط إنما يفيد الاستحباب دون الوجوب وقد يجاب بأن
الاحتياط في الفعل إنما يثبت مع أمن الضرر وهنا ليس كذلك لجواز
كون جوازه من الخصائص ويضعف بندرة الخصائص فيقوى [فيتقوى
] احتمال الوجوب على احتمال التحريم فيتقوى الاحتياط في
احتمال الوجوب تنبيهات الأول إذا أوقع صلى الله عليه وآله فعلا في
مقام البيان سواء كان المبين عبادة كالصلاة والحج أو معاملة وما
بحكمها كالبيع والتطهير فما علم من حاله اعتباره في المبين شطرا أو
شرطا ثبت اعتباره فيه كذلك وما علم عدم اعتباره فيه وكونه
من المقارنات ثبت عدم اعتباره فيه وما يستظهر من حاله اعتباره فيه
على أحد الوجهين ثبت أيضا اعتباره فيه كذلك كما أن ما
يستظهر من حاله عدم اعتباره فيه يثبت عدم اعتباره فيه والدليل على
حجيته الظهور هنا هو الدليل على حجيته في الألفاظ فإن العادة
جارية على الاعتماد عليه في المقامين فيجب على الحكيم المبين
بفعله نصب الامارة على ما هو الظاهر من فعله المسوق في مقام البيان
عند مخالفته لما عنده كما يجب عليه نصبها على خلاف ما هو الظاهر
من كلامه عند عدم إرادته له حذرا من الاغراء بالجهل وأما موارد
الشك مما يحتمل اعتباره في المبين وعدمه عند الخبير بحال البيان
فالوجه عدم اعتباره فيه كما في مواضع الشك من دلالة اللفظ عند
المخاطب الخبير بمداليل الألفاظ وأما بالنسبة إلى غيره فالكلام في
جريان أصل البراءة وأصل العدم فيه أو لزوم الاحتياط ما مر غير
مرة الثاني إذا علم بأنه صلى الله عليه وآله أتى بالفعل بنية الوجوب و
لم يظهر منه أنه من الخواص فالظاهر وجوبه في حق الأمة أيضا
خلافا لبعضهم
لظاهر آية التأسي وإخباره فإن المستفاد منها رجحان الاتيان بما فعله
صلى الله عليه وآله على الوجه الذي فعله فيجب إذا فعله على وجه
الوجوب إذ لا معنى لاستحباب الاتيان بالفعل على وجه الوجوب ولا
يقدح احتمال كونه من الخصائص كالتهجد لندرتها مع أن مجرد
الاحتمال لا يوجب المصير عن ظاهر الاطلاق وكذا الكلام فيما لو
علم بإيقاعه صلى الله عليه وآله له بنية الندب فيثبت الندب في حق
الأمة
أيضا والقول بعدم الثبوت التأسي هنا لجواز كونه من الخصائص
ضعيف أيضا ومثله القول في المعاملات فإذا أوقع صلى الله عليه و
آله
معاملة دل على صحتها في حق الأمة ما لم يقم دليل على كونها من
الخصائص كما في العقد على ما فوق الأربع وقبوله صلى الله عليه و
آله
هبة المرأة نفسها له على الزوجية والأصل في ذلك بعد دلالة الظاهر
على الشركة في الحكم عموم أدلة التأسي فإنها تدل على صحة
المعاملة في حقنا على تقدير قصد التقرب بها فيثبت الصحة على
تقدير عدم قصده بضميمة ما دل على عدم اشتراطها به ولو احتمل
كونها من المعاملات المشوبة بالعبادة كالعتق اقتصر في الحكم بالصحة
على تقدير قصد القربة ومما قررنا يظهر ضعف تفصيل البعض
بين العبادات والمعاملات حيث منع التأسي في الثاني لجواز كونه من
الخصائص الثالث إذا أتى صلى الله عليه وآله بعمل على كيفية
مخصوصة ثبت التأسي فيه بالنسبة إلى أصل العمل مع ما يعلم أو
يستظهر اعتباره فيه شطرا أو شرطا من الافعال والأحوال من الزمان و
المكان والكيفية والكلام فيما يحتمل اعتباره فيه ما مر ولو أتى بالفعل
مرة واحدة ثبت التأسي بالنسبة إلى المرة ما لم يعلم أو
يستظهر من قرائن الأحوال عدم مدخلية المرة في رجحانه ولو أتى به
مرات عديدة فكذلك وكذا لو داوم عليه مدة العمر ولو ترك فعلا
دل على عدم وجوبه في حقه قطعا وفي حق غيره بناء على
314

أصالة الشركة ولا دلالة له على عدم رجحان الفعل ما لم ينضم إليه
شاهد آخر لجواز تركه إلى مندوب آخر الرابع لا ريب في أن فعل
الامام بل المعصوم مطلقا حجة على جواز الفعل في حقنا كما أن تركه
حجة على عدم وجوبه إن لم يكن من خواص منصبه والظاهر دلالة
فعله على رجحانه كما مر في فعل النبي صلى الله عليه وآله ولا دلالة
لتركه على عدم الرجحان ما لم ينضم إليه شاهد وبقية الكلام هنا
يعرف بالمقايسة إلى ما سبق إلا أن القول بعدم وجوب التأسي هنا
أظهر في غير مقام البيان ويدل على رجحان التأسي بالامام عموم
قوله في الزيارة المعروفة وجعلني ممن يقتص آثاركم ويسلك
سبيلكم
فصل إذا عمل مكلف بمحضر المعصوم عملا
فعلم به ولم ينكره عليه مع تحقق شرائط وجوبه بأن انتفي موانع
الانكار كالتقية وطال زمن الفعل من حين علمه به بحيث تمكن
المعصوم من زجره عنه على تقدير حرمته أو ظهر منه العزم على
المعاودة فإنه يستفاد من ترك الانكار عدم التحريم في حق الفاعل من
جهة وجوب النهي عن المنكر على تقدير علم الفاعل بتحريمه و
تعليمه حكم التحريم على تقدير جهله به وفي حق غيره من جهة أن
حكم
الواحد حكم الجماعة وأما إذا لم يعلم به أو كان هناك مانع من الانكار
كالتقية وكذا لو كان الانكار غير نافع ولم يكن المعصوم
مبسوط اليد على الفاعل أو قصر زمن الفعل بحيث لم يسع الانكار ولم
يظهر من فاعله العزم على المعاودة لم يكن في ترك الانكار
دلالة على الجواز أما فيما عدا الأخير فواضح وأما في الأخير فلجواز
كونه من الصغائر فيقع من فاعله مكفرا نعم يدل على عدم كونها من
الكبائر قطعا ولو عمل بمحضره عملا من عبادة أو معاملة قاصدا به
شرعيته بحيث علم المعصوم به وبنيته ولم يكن هناك مانع من
الانكار دل على كون العمل مشروعا صحيحا وإلا لأنكر عليه لحرمة
التشريع وكذا الكلام في كيفية العمل إذا ظهر من حال فاعلها
التعمد بها وإلا جاز ترك الانكار للحمل على السهو والاشتباه فلو
صلى مصل بمحضره وترك السورة أو التشهد ولم يظهر من حاله
التعمد لم يكن في ترك الانكار والاعلام بالترك دلالة على عدم
وجوبهما نعم لو قصد عرض صلاته عليه اتجه ذلك وفي حكم الفعل
حكاية الفعل فنستفيد من عدم إنكاره عليه السلام لتعويل السائل على
ظنه حيث قال ظننت أن الامام ركع فركعت أن التعويل على الظن
بسبق الامام جائز إلى غير ذلك
فصل من فعل المعصوم وحكمه ما يرجع إلى رياسته العامة
كالجهاد ونصب القضاة والتصرف في بيت المال والقضاء في الحقوق
والدعاوي ويشاركه الفقيه الجامع للشرائط في الأخير ومنه ما
يقع على وجه التعليم وبيان الحال وهو الغالب في العبادات و
المعاملات وما يلحقها وقد يقع الاشتباه بين القسمين كقوله لزوجة
أبي
سفيان خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف حيث قالت إن أبا
سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني فيحتمل أن يكون
من قبيل القضاء فلا يجوز التقاص بدون إذن الحاكم وأن يكون بيانا
لحكم الواقعة فيجوز بدونه ومثله قوله من أحيا أرضا فهي له فإنه
يحتمل الأول فلا يملك الأرض بالاحياء بدون إذنه عليه ويحتمل
الثاني فيجوز بدونه والثاني أظهر حيث لا دليل على خلافه لأنه الغالب
فيكون الحمل عليه أولى
فصل إذا ورد في الكتاب أو السنة المعتبرة سواء كانت متواترة أو لا
حكاية حكم مخالف للأصل
ثبت في حق الأمم السابقة ولم يثبت بقاؤها في حقنا ولا نسخها فهل
ثبت في حقنا أو لا قولان والأظهر التفصيل بين الاحكام التي يثبت
في شرائعهم بألفاظ يدل على ثبوت الحكم في جميع الأزمان ما لم
ينسخ أو يخصص وبين ما ثبت بألفاظ لا يدل على ثبوته في حقنا
فنختار بقاءه في الأول بدليل أصالة عدم النسخ والتخصيص وفي
الثاني عدم ثبوته في حقنا للأصل السالم عن المعارض بل قد لا يثبت
في حق غير المخاطبين أيضا إلا بدليل [بسند] منفصل كما لو كان
البيان بخطاب شفاهي نعم قد يستفاد من فحوى الحكاية ثبوته في
حقنا فيثبت به لكن يخرج عن محل البحث ويمكن قصر النزاع على
القسم الثاني فيتجه القول بالنفي مطلقا احتج الخصم بالاستصحاب و
بأن حسن الافعال وقبحها ذاتيان فإذا ثبتا في وقت وجب استمرارهما
لامتناع تخلف الذاتي والجواب أما عن الأول فبأن الحكم الثابت
في حق جماعة لا يمكن استصحابه في حق آخرين لتغاير الموضوع
فإن ما ثبت في حقهم مثله لا نفسه ولهذا نتمسك في تسرية الاحكام
الثابتة في حق الحاضرين أو الموجودين إلى الغائبين أو المعدومين
بالاجماع والأخبار الدالة على الشركة لا بالاستصحاب ولبعض
المعاصرين في دفع الاستصحاب جواب يأتي بيانه بما فيه في ذيل
مبحث الاستصحاب ويمكن أن يجاب أيضا بأن الظاهر من نسخ هذه
الشريعة للشريعة السابقة عليها نسخها بالكلية إلا ما قام الدليل على
عدم نسخه كوجوب المعارف مع احتمال تعميم النسخ إلى الجميع
بناء
على أن وجوب المعارف وشبهه الثابت في شرعنا حادث مغاير
للوجوب الثابت في الشرع السابق وإن ماثله فنحن مكلفون بالمعارف
وشبهها من حيث ثبوتها في شرعنا لا من حيث ثبوتها في الشرائع
السابقة ولا يخفى بعده لمخالفته للآيات الامرة باتباع ملة إبراهيم و
الاقتداء بهدى الأنبياء ونحو ذلك وأما عن
الثاني فبما سيأتي تحقيقه من منع كونهما ذاتيين غالبا وحيث يثبت
الذاتية فلا نتحاشى عن الحكم بالبقاء إلا أن الحكم في مثله إنما يثبت
بالعقل لا لثبوته في الشريعة السابقة وقد ذكر بعضهم للمسألة فروعا
منها أرجحية العبادة على التزويج لمدحه تعالى عيسى بن مريم و
يحيى بكونه حصورا ومنها حصول الوفاء بالنذر فيما لو نذر أن يضرب
عبده مائة خشبة فضربه بالضغث لقوله تعالى لأيوب وخذ
بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث مع أن النذر ينصرف إلى غيره ومنها
وجوب الاخلاص فيما
315

الامر به لقوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين الآية و
لو فسر القيمة بالثابتة التي لا تنسخ كما ذكره بعضهم فلا إشكال
في ثبوت الحكم المذكور في شرعنا
المقالة الثالثة في الأدلة العقلية
والمراد بالدليل العقلي كل حكم عقلي يمكن التوصل بصحيح النظر
فيه إلى حكم شرعي وينقسم إلى ما يرجع إلى قاعدة التحسين و
التقبيح العقليين ومؤدى هذا القسم قد يكون حكما واقعيا كحكم
العقل بوجوب شكر المنعم وحرمة كفرانه وقد يكون حكما ظاهريا
كحكمه بإباحة تناول الأشياء الخالية عن أمارات المفسدة وإليه يرجع
مسألة أصل البراءة ومثله مسألة الاستصحاب في وجه وإلى ما لا
يرجع إليها كحكمه باستلزام تعليق شئ على شئ انتفاؤه عند انتفائه
في الجملة وأن الامر بالشئ لا يجامع النهي عنه مع وحدة الجهة
لكونه تكليفا محالا كما تخيله بعضهم وكحكمه بامتناع التكليف
بالمحال الذاتي على ما زعمه الحاجبي من كونه تكليفا محالا و
كحكمه
بمطلوبية المقدمة عند مطلوبية ذيها بناء على عدم الانفكاك في
المطلوبية أما القسم الأول فقد أنكره الأشاعرة أولا من حيث أصله
لمنعهم
من تحسين العقل وتقبيحه وبعد التنزل أنكره كثير منهم من حيث
وصفه فمنعوا كونه دليلا على الحكم الشرعي ووافقهم على ذلك
جماعة من أصحابنا حيث أنكروا الملازمة بين حكم العقل والشرع و
أما القسم الثاني فالظاهر إطباق السلف على حجيته نعم ربما يظهر
من بعض المتأخرين إنكاره أيضا حيث أطلقوا القول بعدم حجية
الدليل العقلي وسيرد عليك تفاصيل ذلك إن شاء الله تعالى
فصل اختلفوا في الحسن والقبح العقليين
فأثبتهما العدلية من الامامية والمعتزلة وأنكرهما الأشاعرة ثم اختلف
المثبتون فقيل إنهما يلحقان الافعال لذواتها وقيل لصفات لازمة
لذواتها وقيل يتصف الفعل بالقبح لصفة توجبه فيه ويكفي في الحسن
عدم موجب القبح والجبائية على أنهما بالوجوه والاعتبار فهنا
نزاعان الأول في ثبوت الحسن والقبح ولا بد أولا من تحرير محل
النزاع في ذلك فنقول كل من الحسن والقبح على ما ذكروه يطلق
على عدة معان منها موافقة الغرض والمصلحة والمخالفة لهما ولا
نزاع في ثبوتهما بهذا المعنى وأنه مما يختلف بالاعتبار فإن قتل زيد
مثلا مصلحة لأعدائه وموافق لغرضهم ومفسدة لأحبائه ومخالف
لغرضهم ومنها ملائمة الطبع ومنافرته ولا كلام في ثبوتهما بهذا
المعنى أيضا كأكل الطعام اللذيذ وشرب الدواء المر ومنها الاتصاف
بصفة الكمال والنقص كما يقال العلم حسن أي صفة كمال والجهل
قبيح أي صفة نقص ولا نزاع في ثبوتهما بهذا المعنى أيضا ومنها كون
الفعل بحيث يستحق فاعله المدح أو الذم عرفا كحسن خروج
الجندي بلباسه وقبح خروج العالم بلباس الجندي ولا نزاع في
ثبوتهما بهذا المعنى واختلافهما باختلاف العرف ومنها كون الفعل
بحيث أثنى الشارع على فاعله من حيث إنه فاعله وأمرنا بالثناء عليه
كذلك كما في الواجبات أو ذم فاعله من حيث أنه فاعله وأمرنا
بذمه كذلك كما في المحرمات والوجه في اعتبار الحيثية واضح وقد
يترك تعويلا على الظهور وقريب من ذلك إطلاقهما على كون
الفعل بحيث لا حرج في فعله شرعا أو كونه بحيث فيه حرج شرعا و
الفرق أن المعنى الأول يشتمل على الواسطة كالمباح وفعل غير
المكلف بخلاف الثاني وكيف كان فهذا هو المعبر عنه بالحسن والقبح
الشرعيين ولا نزاع في ثبوتهما بعد الشرع ومنها كون الفعل
بحيث يستحق فاعله عند العقل المدح والثواب أو الذم والعقاب من
حيث كونه فاعلا له وهذا محل النزاع والأولى تحرير النزاع في
كون الفعل بحيث يستحق فاعله المدح أو الذم
عقلا وترك قيد الثواب والعقاب لا لان العقل لا يستقل بإثبات الآخرة
لاستقلاله بإثباتها في الجملة كما تقرر في محله غاية ما في الباب
أنه لا يستقل بإثبات معاد الأجسام والمقصود لا يتوقف عليه مع أن
المعتبر استحقاق الثواب والعقاب في الجملة وهو لا يستلزم الترتب
ولا يختص بالآخرة بل لأنا نصف الفعل بالنسبة إليه تعالى بالحسن و
القبح بالمعنى المتنازع فيه وهو لا يصدق مع القيد المذكور و
زعم العضدي تبعا للحاجبي أن النزاع في حكم العقل بأن الفعل حسن
أو قبيح في حكمه تعالى وهذا الكلام يحتمل وجوها الأول أن
النزاع في إدراك العقل حسن حكمه تعالى بشئ أو قبحه الثاني أن
النزاع في إدراك العقل حسن الفعل وقبحه المؤثرين في وقوع
حكمه تعالى به على حسبه من إيجاب أو تحريم أو غير ذلك الثالث أن
النزاع في إدراك العقل حسن الفعل وقبحه بالنسبة إليه تعالى و
ظاهر العبارة أحد الوجهين الأولين ويظهر من كلامهما في الدليل
الثاني إرادة الوجه الأخير ويمكن تنزيلها على ما يتناول الوجوه
الثلاثة أو وجهين منها وكيف كان فهذا التخصيص منهما خبط في
تحرير محل النزاع وغفلة عما تنادي به حجتهم والعجب أنهما وافقا
أصحابهما في تحرير ما اختاره من أدلتهم والجواب عن أدلة مخالفيهم
بما اقتضاه نفي التحسين والتقبيح بالمعنى المتنازع فيه مطلقا و
مع ذلك فقد خصصا محل النزاع عند تحريره بما عرفت ومنهم من
حرر النزاع في المعنى الخامس من معاني الحسن والقبح موجها له
بأن المراد أن يدرك العقل مع قطع النظر عن الأدلة الشرعية أن الفعل
مما يستحق فاعله الثناء أو الذم في نظر الشارع وهو سهو لأنه
تحرير للنزاع الآتي في مسألة الملازمة لا النزاع المعروف في المقام و
توضيح ذلك أن العدلية والأشاعرة بعد أن أطبقوا على كون
الشارع حاكما في الافعال محسنا لبعضها ومقبحا لبعضها اختلفوا في
كون العقل حاكما فيها محسنا لبعضها ومقبحا لبعضها بمعنى أن
منها ما يستحق فاعله المدح في حكم العقل ومنها ما يستحق فاعله
الذم في حكمه فذهبت العدلية إلى إثباته فقسموا الافعال باعتباره إلى
الأحكام الخمسة وذهبت الأشاعرة إلى نفيه فقالوا بأن الافعال بأسرها
في حكم العقل شرع سواء بمعنى أنه ليس فيها ما يستحق فاعله
عند العقل مدحا أو ذما بل المدح والذم إنما يثبتان في حكم الشرع لا
بمعنى أنهما يثبتان عند العقل بملاحظة حكم الشارع
316

فيستحق فاعل الامر الذي حسنه الشارع أو قبحه المدح أو الذم في
حكم العقل فإن هذا في الحقيقة قول بالتحسين والتقبيح العقليين ولو
باعتبار جهة خاصة هي جهة تحسين الشارع وتقبيحه بل بمعنى أنه لا
حكم للعقل بهما في الافعال أصلا لا مع ملاحظة حكم الشارع بهما و
لا بدونه وإنما الثابت مجرد حكم الشارع بهما وقول بعضهم بأن
العدلية أو المعتزلة ينكرون كون الشارع حاكما ويجعلون أوامر
الشرع ونواهيه كاشفة عن الاحكام العقلية فالظاهر أنه وهم في معرفة
مقصودهم أو مبني على توهم من لا يعتد به منهم لان إيجابه
تعالى لبعض الافعال وتحريمه لبعضها وكذلك تشريعه لبقية الاحكام
من واضحات الشريعة بل ضرورياتها الجلية المصرح بها في
الكتاب والسنة في مواضع عديدة فكيف يتأتى من أحد إنكارها مع أن
أوامره تعالى ونواهيه على الوهم المذكور تكون إرشادية محضة
مجردة عن معنى الطلب وهو خلاف ما أجمعوا عليه من استعمال
الامر في الكتاب والسنة في الوجوب تارة وفي الندب أخرى و
استعمال النهي في التحريم تارة وفي التنزيه أخرى ومصيرهم كلا أو
جلا إلى تعيين حملهما على معناهما الأول عند فقد القرائن حملا
للفظ على معناه الحقيقي وكأن منشأ هذا الوهم أن العدلية لما التزموا
بالملازمة جعلوا أوامر الشرع ونواهيه كاشفة عن جهات محسنة و
مقبحة عقلا فتوهم أنهم يجعلون تلك الأوامر والنواهي لمجرد
الكشف عن تلك الجهات كأوامر الطبيب ونواهيه مع أن مقصودهم
إنما
هو الكشف بطريق الالتزام للحكم الشرعي كما يظهر من الوجوه التي
قررنا وكذا ما سبق إلى بعض الأوهام من أن حكم الشرع تابع
لحكم العقل فإن فساد هذا الكلام غني عن البيان بل معلوم بالضرورة
من جميع المذاهب والأديان لاتفاق الكل على علمه تعالى بجميع
الأشياء أزلا وأبدا وحكمته الموجبين لغنائه من مراعاة الجهات
الداعية إلى تشريع الاحكام عن متابعة العقل وغيره من المخلوقات
كيف والعقل إنما وصل إلى تلك الجهات وحكم بمقتضاها بإفاضته
تعالى عليه
الصور العلمية بعد خلقه إياه حكيما مراعيا للجهات فكيف يكون تابعا
له فإن قلت قد ورد في جملة من الاخبار أن الله تعالى أدب نبيه و
فوض إليه الاحكام وأن النبي صلى الله عليه وآله أوجب شيئا أو
حرمه وأنه تعالى أقره عليه ورضي به وقضية ذلك أن يكون حكمه
تعالى في تلك الموارد تابعا لحكم نبيه فإذا جاز ذلك منه تعالى
بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله في بعض الأحكام فلم لا يجوز
بالنسبة إلى العقل في الجميع لبطلان علة المنع بذلك قلت بعد تسليم
ظاهر تلك الأخبار ليس تقريره تعالى ورضاه في ذلك متابعة منه
تعالى للنبي في التشريع بل بيان لإصابته فيه الحق فإن تأديبه عبارة عن
إكمال عقله وإقداره على معرفة جهات الافعال والالتزام بها و
التفويض عبارة عن إذنه تعالى إياه في مراجعة عقله في معرفة الاحكام
فحاله عند التحقيق كحال المجتهد إذا راجع الأدلة وحكم بحكم
ثم عرض على المعصوم عليه السلام فأقره عليه فإن ذلك ليس متابعة
من المعصوم عليه السلام له بل بيان لإصابته في الحكم ولا ينافي
ذلك قوله تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى لجواز أن
يعين الحكم في نفسه ولا ينطق به إلا بعد نزول وحي يدل على
تقريره عليه هذا ثم النزاع بين الفريقين دائر بين الايجاب الجزئي و
السلب الكلي لظهور أن العدلية لا يقولون بعدم خلو فعل من الافعال
عن أحد الوصفين لتحقق المباح العقلي عندهم وليس فيه استحقاق
مدح ولا ذم ولو حرر النزاع في الحسن العقلي بمعنى ما لا يستحق
فاعله الذم عند العقل قياسا له على الحسن الشرعي حيث فسروه بما
لا جرح في فعله لم يستقم إذ الأشاعرة لا ينكرون الحسن بهذا
المعنى ولو فسر الحسن العقلي بما يحكم العقل فيه بعدم استحقاق
فاعله الذم في حكم الشارع رجع إلى مسألة الملازمة وهو نزاع آخر
كما سنحرره ولو فسر بما يستحق فاعله أن لا يذم في حكم العقل لم
يستقم تحرير النزاع فيه أيضا على الظاهر إذ لم يثبت أن الأشاعرة
ينكرون ذلك إذ بعد نفي استحقاق الذم عقلا على الافعال بالكلية
يمكن أن يقال يستحق كل فاعل عند العقل أن لا يذم في حكم العقل
إذ
لا ذم في حكمه أصلا بل التحقيق
أن لا نزاع بين الفريقين في تحقق المباح العقلي بالمعنى المعروف
لاتفاقهما على أن من الافعال ما لا يستحق فاعله عند العقل مدحا ولا
ذما وإن كان فرق ما بينهما من جهة الطريق عموما وخصوصا إذا
عرفت هذا فالحق ما ذهب إليه الأولون لنا وجوه منها قضاء الضرورة
بذلك فإنا نجد في صريح الوجدان وجلي العيان أن من الافعال ما هو
حسن عند العقل بمعنى أن فاعله يستحق المدح والثناء عنده من
حيث كونه فاعلا له كالعدل والاحسان والصدق النافع ومنها ما هو
قبيح بمعنى أن فاعله يستحق الذم عنده كذلك كالظلم والعدوان و
الكذب الضار فإنكار الخصم له مكابرة والمشهور في تقرير الحجة أن
العقلا لا يرتابون في حسن تلك الأمور وقبح هذه وليس ذلك
بالشرع إذ يقول به من لا يديره به ولا بالعرف لاختلافهم بالأمم ولا
اختلاف فيه فيتعين أن يكون من قبل العقل وهو المطلوب و
اعترض عليه بأنه إن أريد بالحسن والقبح هناك ما لا يرجع إلى المعنى
المتنازع فيه فثبوته لا يجدي في محل النزاع وإلا فممنوع سلمنا
لكن يجوز أن يكون هناك عرف عام مبدأ لذلك الحسن والقبح فلا
يلزم اختلاف الأمم فيه والجواب عنه ظاهر مما قررنا فإن ترتب
المدح والذم على تلك الأفعال في حكم العقل ضروري فلا يصغى
إلى المنع المذكور لكن لا حاجة مع هذا البيان إلى التطويل المذكور
الثاني أن العاقل المختار إذا خير بين الصدق والكذب وتساويا إليه أثر
الصدق قطعا وكذا إذا رأى شخصا لا يعاديه قد أشرف على
الهلكة وقدر على إنقاذه بسهولة فإنه ينقذه وإن لم يرج ثوابا ولا
شكورا وليس ذلك إلا لاتصاف الفعل بالحسن وتركه بالقبح
بالمعنى المتنازع فيه واعترض على الأول بأنا لا نسلم أنه يؤثر الصدق
ولو سلم فلا نسلم أنه لاتصافه
317

بالحسن بالمعنى المتنازع فيه بل بأحد المعاني الاخر وأيضا نمنع
تحقق الاستواء لان فرضه لا يوجبه وعلى الثاني بأن الباعث على
الانقاذ ليس حسنه بل رقة الجنسية التي جبلت عليها طبيعة الانسان و
الجواب أما عن الأول فبأن المنع المذكور فيه في الموضعين الأولين
بل المواضع الثلاثة مكابرة لقضاء الضرورة بخلافه وأما عن الثاني فبأنه
يؤثر الانقاذ وإن قطع النظر عن رقة الجنسية وإنكاره أيضا
مكابرة والغرض من ذكر هذه الأمثلة إنما هو التنبيه على المقصود وإلا
فالحكم في نفسه ضروري كما مر قال العضدي تبعا للحاجبي
بعد أن أورد الاعتراض المذكور على المثال الأول ما لفظه ولو سلمنا
ذلك في حق الشاهد يعني العباد فلا نسلمه في حق الغائب يعني في
حقه تعالى لتعذر القياس فإنا نقطع بأنه لا يقبح منه تعالى تمكين العبد
من المعصية مع أنه قبيح في حق العباد أقول وهذا المنع ناظر إلى
ما مر حكايته عنهما في تحرير محل النزاع ثم أقول ليس حكم العقل
بحسن إيثار الصدق على الكذب في الفرض المذكور من جهة كون
المؤثر عقلا أو ممكنا أو مخلوقا بل من حيث كونه فاعلا عالما مختارا
فيجري في حقه تعالى أيضا وأما السند الذي تمسك به فساقط جدا
إذ لا يلزم من قبح شئ في حق العباد وعدم قبحه في حقه تعالى أن لا
يحكم العقل على بعض الأفعال بوقوعه منه تعالى لحسنه وعلى
بعض بامتناع وقوعه منه تعالى لقبحه منه والسر في عدم قبح تمكينه
تعالى للعبد من المنكر لعدم أنه تعالى لو لم يمكن العباد من
المعاصي لانتفى فائدة التكليف وهي من أعظم المصالح الداعية إلى
خلق المكلفين لإحاطته تعالى لجميع عباده في جميع أفعالهم نعم قد
يحسن منه تعالى أن لا يمكن بعض العباد من بعض المعاصي فلا
يمكنهم منها إما لطفا منه عليهم نظرا إلى أهليتهم لهذا النوع من اللطف
أو لحكمة أخرى وأما بالنسبة إلينا فلا ريب أنا لا نحيط بجميع العباد و
لا بجميع أفعال البعض فعدم التمكن منا لا يؤدي إلى تفويت
حكمة التكليف ومثله الكلام في إنقاذ النفوس المحترمة المشرفة على
الهلاك من جوع أو عطش أو مرض أو غرق أو حرق أو ما أشبه
ذلك
فإنه يقبح منا ترك الانقاذ مع القدرة عليه مطلقا وليس بالنسبة إليه
تعالى كذلك وإلا لا نسد باب الابتلاء والاختبار فيؤدي إلى تفويت
ثمراتها مع أن قبح التمكين منا سمعي لا عقلي فيجوز أن يكون هناك
جهة تخص العباد فلا يتم التقريب الثالث أنه لو كانا بالشرع فقط
لزم إفحام الأنبياء والتالي باطل بالضرورة بيان الملازمة أن النبي إذا قال
انظروا في معجزتي لتعلموا صدقي كان لهم أن يقولوا لا
ننظر حتى يجب علينا النظر ولا يجب حتى ننظر وهذه معارضة لا
مدفع للنبي عنها وهو معنى الافحام واعترض عليه أولا بأنه مشترك
الورود لأنكم وإن قلتم بوجوب النظر عقلا لكنه ليس معلوما بالضرورة
لتوقفه على إثبات مقدمات عديدة من كون النظر مفيدا للعلم
مطلقا وفي خصوص الإلهيات وأن معرفته تعالى واجبة وأنها لا تتم إلا
بالنظر وأن مقدمة الواجب واجبة وهذه كلها نظرية لوقوع
الخلاف فيها حيث خالفت السمينة بضم السين وفتح الميم فرقة
لعبدة الأصنام وتقول بالتناسخ وتنكر حصول العلم بالاخبار قيل
نسبته
إلى سومان بلدة من الهند على غير قياس قاله في الصحاح ومجمع
البحرين في الامر الأول والمهندسون في الثاني والحشوية في
الثالث والصوفية في الرابع وجماعة من علماء الأصول في الخامس و
على تقدير نظريتها كلا أو بعضا يلزم الافحام أيضا إذ للمكلف أن
يقول حينئذ لا أنظر حتى يجب ولا يجب حتى أنظر لا يقال لا توقف
للنظر على وجوبه فيفسد قوله لا أنظر حتى يجب لأنا نقول المراد
أنه لا يمكن إلزامه النظر على التقدير المذكور وهو كاف في لزوم
الافحام والجواب من وجوه الأول أن المقدمات المذكورة ما عدا
وجوب المعرفة وإن وقع فيها النزاع إلا أنها ضرورية عند من لم يسبق
إلى ذهنه الشبهات الموردة فيها وأصل الدعوى وإن توقفت
على ملاحظة هذه المقدمات إلا أنها بالنسبة إليها بمثابة القضايا التي
قياساتها معها حيث يكفي ملاحظتها في الانتقال إليها فهي أيضا في
حكم البديهي وأما المعرفة فلا يتوقف وجوب النظر على ثبوت
وجوبها بل على احتمال وجوبها على وجه يحصل معه خوف الضرر
بتركها ولو بإخبار من يحصل الخوف بخبره فيجب دفعه بالنظر
بالضرورة فإن قيل لا
ضرر مع عدم ثبوت التكليف فلا خوف قلنا لا نسلم ذلك لقضاء
صريح العقل في مثل ذلك بوجوب الفحص فإن أصل البراءة إنما يعتبر
عند العقل بعد البحث المعتبر وعدم الوقوف على المعارض الثاني أن
رفع الافحام على طريقة العدلية لا يتوقف على إثبات المقدمات
المذكورة بل على احتمال ثبوتها على وجه يتحقق معه خوف الضرر
كما مر في المعرفة فيجب النظر دفعا لخوف الضرر ووجوب رفع
خوف الضرر لا سيما إذا كان ضررا يعتد به ضروري حتى إن ذلك
مودع في طباع الحيوانات ولهذا تراها تتحرز عن موارد خوفها
الثالث أن مخالفة السمينة في كون النظر مفيدا للعلم مباهتة في
الضروريات إذ لا ينفك الانسان البالغ رتبة التكليف عن تحصيل بعض
العلوم بالنظر فيعلم بملاحظة ذلك إمكانه علما ضروريا مع أنه يكفي
في إلزام العقل بالنظر احتمال كونه مفيدا للعلم ولا يلزم العلم
بذلك ولهذا لا يقبل اعتذار العبد التارك للمأمور به باحتمال عدم كونه
متمكنا منه وبهذا يظهر الجواب عن مخالفة المهندسين أيضا و
قد عرفت أن وجوب النظر لا يتوقف على ثبوت وجوب النظر بل على
احتماله ومخالفة من يعتد بمقالته من الصوفية ليست في أصل
توقف العلم على النظر بل في انحصار الطريق فيه لأنهم يدعون إمكان
العلم بطريق الكشف أيضا فلو صح ذلك فغاية ما يترتب عليه أن
يلزمهم الرسول في تحصيل العلم بصدقه بأحد الطريقين منه ومن
النظر ولا يلزم على تقديره الافحام مع أن طريق الكشف على تقدير
إمكانه ليس بسريع الحصول لتوقفه على مزاولة رياضات شديدة في
أزمنة متطاولة ووجوب المعرفة المعلوم أو المحتمل فوري فيتعين
الطريق الأقرب وكون وجوب المقدمة نظريا على تقدير تسليمه لا
318

الافحام إذ يكفي في دفعه كون النظر مما لا بد منه عقلا في الوصول
إلى الواجب لاتفاق القائلين بوجوب المقدمة والمنكرين له في أن
ترك المقدمة لا يصلح عذرا في ترك الواجب المتوقف عليها و
الضرورة أيضا قاضية بذلك وحينئذ فلا يتوقف فحينئذ الافحام على
ثبوت وجوب المقدمة إذ يكفي في إلزامهم بالنظر أنه مما لا بد منه في
الاتيان بالواجب واعترض ثانيا بمنع توقف الوجوب على النظر
نظرا إلى ثبوته عندهم بالشرع نظر أو لم ينظر فلا يتم قوله ولا يجب
حتى أنظر قالوا ولا يلزم منه تكليف الغافل لأنه يفهم التكليف و
إن لم يصدق به وأنت خبير بأن هذا الكلام على تقدير صحته إنما
يجري إذا أرادوا بقولهم لا يجب حتى ننظر أنه لا يجب علينا النظر
واقعا حتى ننظر وأما إذا أرادوا أنه لا يجب النظر عندنا أي لا يثبت
وجوبه عندنا حتى ننظر توجه منهم الافحام وانقطع على الرسول
سبيل الالزام لالزامهم إياه بما لا سبيل له معه إلى الارشاد والهداية
فيعجز عن القيام بوظائف الرسالة لقطعهم عليه طريق المحاجة من
غير أن يكونوا سالكين مسلك الاعتساف أو عادلين عن طريقة
الانصاف ولا يجدي في ذلك أنه يجب عليهم النظر واقعا مع أن القول
بوجوب النظر حينئذ مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة من أنه لا
تكليف إلا بعد قيام البينة إذ بعد تمسكهم بهذه المقالة لا يتبين عليهم
وجوب النظر فكيف يثبت عليهم وأما على طريقة أصحابنا حيث
يقولون بوجوب النظر عقلا دفعا لخوف الضرر فالبينة العقلية قائمة في
حقهم وهي كافية في لزوم الحجة عليهم وتعلق التكليف بمثل هذا
الجاهل المجوز لثبوت التكليف في حقه جائز عندنا عقلا ولهذا نقول
باستحقاقه العقاب عقلا إذا قصر في النظر كيف لا ومنشأ خوف العقل
بترك النظر إنما هو حكمه باستحقاق العقوبة على تقدير التقصير
وصدق الدعوى نعم لو جزم ببراءته والحال هذه لشبهة كان معذورا
إلا أن الفرض بعيد عادة وبالجملة فمن جوز ثبوت شريعة وجوز
ثبوت تكاليف فيها ولم يجزم ببراءة ذمته عند صاحب الشريعة بترك
الفحص فتحرى
على ترك الفحص استحق العقوبة على تركها وترك التكاليف الثابتة
فيها وإن لم يعلم بشئ منها وكان بمثابة العالم التارك لها فإن
ترتب آثار التكليف على مثل هذا الجاهل مما لا يمنعه العقل وإنما
يمنع من ترتبها على الجاهل الغافل أو المعتقد عدم ثبوت التكليف
في
حقه حال الجهل سواء كان عن شبهة كما في الفرض المذكور إن اتفق
أو عن دليل كما في حقنا بالنسبة إلى بعض الموضوعات والاحكام
الرابع أنهما لو لم يكونا بالعقل لزم جواز ظهور المعجزة على يد
الكاذب والتالي باطل أما الملازمة فلان حكم العقل بعدم جواز ذلك
ليس إلا لكونها فعله تعالى تصديقا للمدعى وأن تصديق الكاذب قبيح
فيمتنع صدوره منه تعالى لعلمه وحكمته وغنائه فإذا بطل قبحه
ثبت جوازه إذ لا دليل عليه غيره لا يقال يكفي في الامتناع قبحه في
الشرع لأنا نقول بعد المنع من كفاية ذلك إنه يبتني على ثبوت
الشرع فإثبات الشرع به دور وأما بطلان التالي فلانه يفضي إلى سد
باب إثبات النبوات لابتناء معرفة صدق مدعيها بالمعجزة على
امتناع ظهورها على يد الكاذب كما قررنا وأما ما يقال من أنه لا يلزم من
جوازه عقلا وقوعه لأنا نقطع بخلافه من حيث قضاء العادة به
فمتضح الفساد بل مباهتة وعناد إذ دعوى جريان العادة في المقام
بحيث يوجب القطع مما لا يصدر عمن له أدنى درية ومسكة لأنه إن
أريد العادة في المعجزة فالاشكال المذكور متجه على جميع مواردها
فلا يسلم معجزة يثبت جريانها على يد صادق أصلا فضلا من
ثبوتها متكررة بحيث يحصل بها العادة المفيدة للعلم وإن أريد العادة
في غيرها فتأثيرها فيها على وجه لا يبتني على قاعدة التحسين و
التقبيح غير معقول الخامس أنهما لو لم يكونا بالعقل لزم ارتفاع الوثوق
بالمعاد بل وبسائر مواعيده تعالى والتالي باطل أما الملازمة
فلان الاعتماد في ذلك إنما هو على إخباره تعالى وإخبار رسله فإذا
بطل قاعدة التحسين والتقبيح تطرق احتمال الكذب إلى تلك الأخبار
إذ لا مانع منه عند العقل سوى ما فيه من القبح الموجب
لتنزه العالم الغني من ارتكابه فإذا ثبت عدم المانع جاز وقوعه عند
العقل وهو المراد بالتالي وأما بطلانه فواضح للاجماع على كفر
المرتاب في ذلك وأما الاستناد في إحالة ذلك إلى القبح الشرعي أو
المنع العادي فقد عرفت فساده آنفا ويمكن تقرير هذا الدليل بوجه
آخر وهو أنهما لو لم يكونا بالعقل لزم أن يكون التكليف بالايمان
بصدقه تعالى وصدق النبي تكليفا بالمحال والتالي باطل أما
الملازمة فلانه لا سبيل لنا إلى الاذعان بذلك بعد الاغماض عن قاعدة
التحسين والتقبيح فنكون مكلفين بالعلم بما لا سبيل لنا إلى العلم
به وهو المراد بالتالي وأما بطلانه فمعلوم بنص الكتاب والسنة بل و
بإجماع الأمة إذ لا قائل بأن التكليف بالايمان بذلك في نفسه
تكليف بغير المقدور لا يقال هذا الاشكال مشترك الورود بين القول
بنفي التحسين والتقبيح وبين القول بثبوتهما بالوجوه والاعتبار
إذ على هذا القول يجوز عند العقل أن يتحقق في الكذب مصلحة
مرجحة لوقوعه رافعة لقبحه فإذا تطرق هذا الاحتمال إلى تلك الأخبار
عاد الاشكال وربما أمكن تأييده بما ثبت عند أصحابنا الامامية من
جواز التقية على الامام فإنها لا يختص عندهم بالافعال بل يجري في
الأقوال أيضا فإذا جاز أن يقول الامام عبارة كاشفة عن الواقع على
خلاف ما هو عليه مراعاة لمصلحة التقية جاز مثله في حق النبي بل و
في حقه تعالى أيضا فكيف يحصل الوثوق بتلك الأخبار ومن هنا
ذهب بعض الزنادقة من المنتسبين إلى الاسلام إلى أن الأخبار الواردة
في الشريعة مما يتعلق بتعذيب الكفار والفساق بأسرها أخبار صورية
غير مطابقة للواقع قصد بها مجرد التخويف لحفظ النظام و
تكميل الأنام لأنا نقول كما أن ضرورة العقل قاضية بقبح الكذب في
نفسه كذلك قاضية بعدم زوال هذه الصفة عنه ما
319

لم يضطر الكاذب إليه حتى إنه لو ترتب على الكذب جلب المنافع لم
يخرج بذلك عن قبحه العقلي ولهذا نرى أن الذي يرتكب الأقاويل
الكاذبة لمجرد استجلاب المنافع لنفسه أو لغيره ساقط المحل عند
العقلا مذموما لديهم بلا امتراء ولا يعذره عندهم توقف استجلابه
لتلك المنافع عليه ومثله الحال في ارتكاب سائر القبائح العقلية فإذا
ثبت أن الجهة الرافعة لقبح الكذب منحصرة بالضرورة في
الاضطرار إليه امتنع وقوعه منه تعالى لامتناع تحقق الاضطرار بالنسبة
إليه لأنه على كل شئ قدير ولا يعجزه شئ في الأرض ولا في
السماء ومن هنا يظهر امتناع الكذب على الأنبياء ولو من باب التقية و
إن جاز تحقق الاضطرار الرافع لقبح الكذب في حقهم وذلك
لدلالة المعجزة على تصديقه تعالى إياهم فيما يدعونه ويخبرون به و
لا ريب في قبح تصديق الكاذب إلا مع الاضطرار إليه لأنه في معنى
الكذب وقد عرفت امتناع الاضطرار عليه تعالى على أنه لو جاز التقية
على الأنبياء لزال فائدة بعثتهم وهو مناف للحكمة الباعثة عليه و
أما الامام فليس الحال فيه كذلك والفرق أن النبي منصوب بقاعدة
اللطف لاظهار الحق وإمحاق الباطل وإتمام الحجة وقطع المعاذير
على من آمن برسالته ومن كفر بها سواء أمن من شره أو لم يأمن وأما
الامام فهو وإن كان قائما مقام الرسول صلى الله عليه وآله في
كونه الرئيس العام الواجب اتباعه على سائر الأنام إلا أن منصبه منصب
العلماء الحاملين للأحكام الشرعية وأسرارها الامرين
بالمعروف والناهين عن المنكر عند التمكن وأمن الضرر فإذا اضطروا
إلى التقية في الكلام جاز لهم ذلك بطريق التورية والسر في
ذلك أن الحجة قد تمت ولزمت على الأنام ببيان الرسول عليه وآله
السلام حتى بالنسبة إلى وجوب معرفة الامام واتباعه فشأنه بعد
الرسول إنما هو إزاحة الجهل ببيان ما يحتاج إليه من تفاصيل المعارف
والاحكام مع أمن الضرر ولا ريب أن هذا لطف آخر لا يغني عنه
اللطف السابق وعند التحقيق هذا كمال لذلك اللطف وإتمام لتلك
النعمة
كما قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي فإن
هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله يوم غدير خم بعد
عقده
الخلافة والولاية لعلي صلوات الله عليه كما اتفقت عليه روايات
الخاصة ونطق به بعض روايات العامة السادس الآيات والأخبار الدالة
بالصراحة أو بالفحوى على ثبوت التحسين والتقبيح العقليين فالآيات
كقوله تعالى أ فنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين
في الأرض وكقوله تعالى هل جزأ الاحسان إلا الاحسان وأمثال ذلك
كقوله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وكقوله
تعالى قل إن الله لا يأمر بالفحشاء وكقوله تعالى إن الله يأمر بالعدل و
الاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر و
البغي وكقوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش الآية إلى غير ذلك و
حمل المعروف والمنكر والفحشاء على ما هو كذلك شرعا أو ما
يشتمل على المصلحة أو المفسدة أو على صفة كمال أو نقص تكلف
واضح وأما الأخبار الدالة على ذلك فهي أكثر من أن تحصى حجة
الخصم وجوه الأول أنهما لو كانا بالعقل لزم قيام المعنى بالمعنى و
التالي باطل أما الملازمة فلان حسن الفعل صفة وجودية أما أنه صفة
فلانه زائد على مفهومه ضرورة أنه لا يلزم من تعقل الفعل بالكنه تعقله
وأما أنه وجودي فلان نقيضها وهو لا حسن سلب بدليل أنه لا
يقتضي محلا موجودا وإلا لم يصدق على المعدوم فيكون الحسن
وجوديا وإلا لارتفع النقيضان فإذا ثبت كونه صفة وجودية ثبت كونه
معنى لأنه معناه ويتصف به الفعل حيث يقال إنه حسن ولا يصح
وصف الشئ بمعنى يقوم بغيره فإذا ثبت قيامه بالفعل وهو أيضا
معنى
لزم قيام المعنى بالمعنى وهو المذكور بالتالي وأما بطلانه فلانه يلزم
أن يكون الوصف لمحل الفعل لتبعيته له في التحيز وهو معنى
القيام فلا يكون قيامه بالفعل والجواب أما أولا فبالنقض بالحسن و
القبح الشرعيين فإنه لا نزاع في اتصاف الفعل بهما كما مر مع
جريان الاشكال المذكور فيه
وكذا اتصافه بغيرهما من الصفات التي لا مجال لانكار اتصافه بها ذاتية
كانت كالامكان أو لا كالمطلوبية والمبغوضية وموافقة
المصلحة ومخالفتها والكمال والنقص وغير ذلك وأما ثانيا فبالحل و
هو أن الصفة قد تكون وجودية متحققة في موصوفها وقد
يكون اعتبارية منتزعة عنه وقد تقرر في محله أن نقيض كل شئ رفعه
فنقائض الصفات الوجودية عبارة عن رفع وجودها عن
الموصوف ونقائض الصفات الاعتبارية عبارة عن رفع كون موصوفها
منشأ لانتزاعها وحينئذ فنقول نقيض الحسن ليس سلب وجود
الحسن بل سلب كون الفعل منشأ لانتزاعه فلا يلزم من كونه عدميا كون
الحسن صفة وجودية حتى يلزم من قيامه بالفعل قيام المعنى
بالمعنى ومثله الكلام في القبح وتوضيح ذلك أن من الصفات ما له
وجود في الموضوع في ظرف الاتصاف من الذهن أو الخارج
كالحركة والحرارة والبياض ويعبر عنها بالصفات الوجودية ومنها ما
لا وجود له فيه في ظرف الاتصاف وإنما في الخارج أو في
الذهن ما يصح انتزاعه عنه كالامكان والوحدة والكثرة ويعبر عنها
بالصفات الاعتبارية وقد يعبر عنها بالصفات الثبوتية وربما
يسمى ذلك أيضا ضربا من الوجود توسعا فالصفات التي تكون من
النوع الأول يعتبر في اتصاف الموضوع بها وجودها له في ظرف
الاتصال فنقائضها عبارة عن رفع وجودها له فيه والصفات التي تكون
من القسم الثاني لا يعتبر في اتصاف الموضوع بها وجودها له
في ظرف الاتصاف بل يعتبر كونه فيه بحيث ينتزع منه تلك الصفات
فنقائضها عبارة عن رفع كون الموضوع منشأ لانتزاعها ولا ريب
أن الحسن والقبح من هذا النوع دون النوع
320

السابق مع أنه يكفينا في المقام احتمال ذلك فإنه لا يلزم من كون لا
حسن عدميا أن يكون نقيضه وهو الحسن وجوديا ما لم يثبت كونه
سلبا لوجود الحسن وهو يتوقف على إثبات كون الحسن وجوديا
فإثبات كونه وجوديا بأن نقيضه سلب وجود دور وأما اتصاف
المعدوم بلا حسن فاتصاف ذهني لا خارجي لامتناع تحقق صفة بكلا
نوعيها بدون تحقق الموصوف في ظرف الاتصاف وقد يجعل
الاتصاف في ذلك ونظائره خارجيا باعتبار كون الخارج بحيث ينتزع
منه عدم الفعل المنتزع عنه إلى عدم الفعل المنتزع منه صفة لا
حسن وله وجه ثم أقول إن أرادوا بتفسير القيام بالتبعية في التحيز أن
القيام قد يطلق على هذا المعنى فمسلم لكن نمنع كون القيام في
محل البحث بهذا المعنى بل بمعنى آخر كالاختصاص الناعت وإن
أرادوا حصر معنى القيام فيه فإن ادعوا ذلك بالنسبة إلى الصفات
الوجودية خاصة فبعد الاغماض عما يرد عليه من النقض بالصفات
الوجودية اللاحقة للمجردات لا تنافي المقصود إذ قد بينا أن الحسن و
القبح العقليين ليسا من الصفات الوجودية بل الاعتبارية فلا يكون
قيامهما من قبيل القيام بمعنى التبعية في التخير بل بمعنى آخر وإن
ادعوا ذلك بالنسبة إلى مطلق الصفات فتوجه المنع عليه جلي لان
الصفة إذا كانت اعتبارية كان قيامها بموصوفها عبارة عن كونه بحيث
يصح انتزاعها منه لا غير وهذا مما يستوي فيه الجوهر والعرض على
أنه يلزم على هذا التقدير استدراك بعض مقدمات الدليل إذ لا
حاجة حينئذ إلى إثبات كون الحسن والقبح وجوديين بل على تقدير
كونهما اعتباريين يلزم أن يكون الوصف لمحل الفعل ولا يصح
وصف الشئ بمعنى لا يقوم به مطلقا كما مر تحقيقه في مسألة
المشتق ثم لو سلم أنهما وجوديان وأن القيام عبارة عن التبعية في
التحيز
خاصة فبطلان التالي ممنوع لان التابع في التحيز إما أن يكون نابعا فيه
لمتحيز أصلي أو تبعي والتحيزان متغايران ولو بحسب
الاعتبار فيصح قيام
المعنى بالمعنى ولا يلزم منه قيامه بمحل المعنى لان العبرة في القيام
المصحح لصدق الوصف بالتبعية الابتدائية وهي لاحقة للمعنى
بالنسبة إلى المعنى لا محله واعلم أن بعضهم زعم أن هذه الحجة على
تقدير صحتها لا تنهض على الجبائية فخصها بغيرهم لان الحسن
مثلا إذا لم يكن من الصفات الذاتية جاز أن لا يكون وجوديا بل اعتباريا
فلا يكون معنى وفيه نظر لان الدليل المذكور يثبت كونه
وجوديا على تقدير اتصاف الفعل به فيثبت به كونه معنى على ما
عرفت بل قد عرفت أنه يجري على تقدير اعتباريته أيضا لكن على
تقدير تخصيصها بالقول بالذاتية لا يتم النقض إلا بالصفات الذاتية
كالامكان الثاني لو حسن الفعل أو قبح لغير الشرع لزم أن لا يكون
الباري تعالى مختارا في تشريع الاحكام والتالي باطل اتفاقا أما
الملازمة فلان الحكم بالمرجوح قبيح فيمتنع صدوره منه تعالى فلا
يكون مختارا فيه وهو المذكور في التالي وأما بطلانه فموضع وفاق و
الجواب منع الملازمة فإن امتناع صدور الفعل لتحقق الصارف لا
يقدح في ثبوت الاختيار فيه فإن الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار
كالواجب وسيأتي لهذا مزيد بيان الثالث لو حسن الفعل أو قبح لغير
الطلب لم يكن تعلق الطلب به لذاته أي لذات الطلب والتالي باطل و
أما الملازمة فلتوقف تعلقه حينئذ على حصول غيره وما يتوقف ثبوته
للشئ على حصول غيره لا يكون له لذاته وأما بطلان التالي فلان
تعلق الطلب بالمطلوب تعلق عقلي لأنه صفة ذات إضافة لا يعقل إلا
مضافا إلى مطلوب فمتى حصل الطلب تعلق بالمطلوب بنفسه ولا
يتوقف على غيره هذا أظهر الوجوه التي ذكروها في تقرير هذه الحجة
والجواب أما أولا فبالنقض بالطلب الصادر منافاته لو صح ما ذكر لزم
أن لا يتوقف على ملاحظة غير المطلوب من المصالح التي تراعى
في العين لعين ما مر من أنه صفة ذات إضافة لا يستدعي أمرا غير
المطلوب والتالي باطل بالضرورة وأما ثانيا فبالحل وهو أن استغناء
الامر الإضافي
في التعلق بعد الوجود عن العلة لا يستلزم استغناءه في الوجود عنها و
اللازم على القول بالتحسين والتقبيح توقف وجود الطلب في
الخارج على تحقق الجهة المرجحة لا أنه يوجد ويتوقف تعلقه
بالمطلوب على تحققها وهو واضح مع أن هذا الاشكال مما لا مدفع
له على
ما ذهب إليه الأشاعرة من قدم الطلب وحدوث تعلقه بالمكلفين فإن
إضافة الطلب إلى المكلف على حد إضافته إلى الفعل المطلوب
فيلزمهم الفساد المذكور الرابع أن فعل العبد غير صادر عنه باختياره
فلا يتصف بالحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه اتفاقا أما عند
المنكرين لهما فواضح وأما عند القائلين بثبوتهما فلأنهما عندهم من
صفات الأفعال الاختيارية لا غير والدليل على أنه غير صادر عنه
باختياره أمران الأول أن الفعل الصادر من المكلف لا يخلو إما أن يكون
لازم الصدور عنه أو لا فإن كان الأول لزم أن لا يكون مختارا
فيه لان لزوم الصدور ينافي الاختيار وإن كان الثاني كان جائزا صدوره
وعدمه وحينئذ فإن قلنا بأنه يفتقر إلى مرجح سواء كان من
الفاعل أو غيره فمع المرجح يعود التقسيم إلى أنه إما أن يكون لازم
الصدور عنه فلا يكون مختارا فيه أو يكون جائزا وجوده وعدمه
فيفتقر إلى مرجح آخر وحينئذ فإما أن ينتهي إلى مرجح يكون معه
لازم الصدور فلا يكون اختياريا أو يتسلسل وإن قلنا بأنه لا يفتقر
إلى مرجح بل يصدر عن الفاعل تارة ولا يصدر عنه أخرى مع تساوي
الحالين من غير مدخلية لأمر زائد كان اتفاقيا فلا يكون مختارا
فيه أيضا لأنه يصدر من الفاعل من غير قصد ولا تعلق إرادة وقدرة لا
يقال هنا قسم آخر وهو أن يصدر الفعل من الفاعل على وجه لا
يكون
321

لازم الصدور بل راجح الصدور أو يفتقر إلى مرجح يكون معه كذلك
لأنا نقول هذا الاستدلال مبني على بطلان الأولوية وبيانه موكول
إلى محله لكن كان الأولى حينئذ أن لا يتعرض لذكر الاتفاقي أيضا بل
يبنى الاستدلال على بطلانه ويحال بيانه إلى محله وكأنهم
تعرضوا له نظرا إلى أن الدليل يتم على تقدير صحته أيضا كما يظهر من
بيانهم وفيه بحث لأنهم إن أرادوا بكون الفعل على التقدير
المذكور اتفاقيا أنه يحصل من دون استناد إلى الفاعل صح ما فرعوا
عليه من لزوم كون الفاعل غير مختار فيه لكن نمنع أنه على
التقدير المذكور يلزم الاتفاقي بهذا المعنى وإن أرادوا أن الفعل على
تقدير حصوله يستند إلى الفاعل لكن استناده إليه ليس بحيث
يمتنع فيه الانفكاك بل قد يتحقق من الفاعل العلل المقتضية من
الدواعي والإرادة وغير ذلك ويصدر منه الفعل وأخرى يتحقق منه
تلك
العلل ولا يصدر منه الفعل من غير أن يتحقق في إحدى الحالتين أمر
زائد فحينئذ لا نسلم أن الفعل يكون صادرا عنه من غير قصد و
قدرة بل اللازم حينئذ أن يكون صادرا عنه على تقدير صدوره بواسطة
القصد والقدرة غاية الامر أن لا يكون تأثيرهما بالوجوب أو
بالأولوية بل بالاتفاق فظهر أن الدليل لا يتم إلا بالبناء على بطلان
الاتفاق أيضا ووجهه واضح وهو استلزامه للترجح بلا مرجح و
امتناعه ضروري ثم على تقدير البناء على بطلان الأولوية والاتفاق
يمكن تقرير الدليل بوجه أخصر وهو أن الفعل إن وجب صدوره عن
الفاعل فلا اختيار له فيه وإلا كان ممتنعا وإلى هذا يرجع ما تقرر في
محله من أن الشئ ما لم يجب لم يوجد الثاني أنه تعالى علم بأفعال
العباد قبل وقوعها فيمتنع وقوع خلاف ما علم منهم وإلا لانقلب علمه
تعالى جهلا وهو محال وحرره الفخر الرازي في أربعينه ببيان
آخر يرجع محصله إلى أنه كما أن بين وقوع كل من الفعل والترك من
الفاعل في وقت واحد ووقوع الاخر منه منافاة ذاتية لامتناع
الجمع بينهما كذلك بين العلم بأحدهما ووقوع الاخر منافاة ذاتية إذ
المطابقة للواقع معتبرة في ذات العلم فإذا فرض علمه تعالى
بأحدهما تحقق المنافي الذاتي لوقوع الاخر فيمتنع القدرة عليه إذ لا
يتم القدرة على الشئ مع تحقق المنافي الذي لا سبيل إلى رفعه أقول
ويمكن تحريره ببيان ثالث وهو أن قدرة العبد على خلاف ما علمه
تعالى في معنى القدرة على جعل علمه تعالى جهلا لأنه لازم للقدرة
على خلاف ما علمه تعالى والقدرة على الملزوم قدرة على لوازمه
كالقدرة على إيجاد الأربعة فإنها قدرة على إيجاد الزوجية ومن
الواضح أن لا قدرة للعباد على اللازم لأنه محال فلا قدرة لهم على
الملزوم أيضا فإذا انتفي قدرة العبد على غير علمه تعالى كان قدرته
على ما علمه تعالى اضطرارا لا قدرة واعلم أن للناس في الأفعال الاختيارية
الصادرة عن العباد أعني ما هي اختيارية عندنا مذاهب
خمسة الأول ما حكي عن جهم بن صفوان وأتباعه وهو أنها صادرة
عن الله تعالى من غير استناد إلى قدرة العباد أصلا ولا مجامعة لها
وأنهم لا يستحقون عليها مدحا ولا ذما وأنه لا فرق بين حركة الصاعد
على السلم والساقط عنه ولا بين حركة المختار وحركة
المرتعش وهذا غلو في الجبر الثاني ما ذهب إليه الأشاعرة وهو أنها
صادرة عنه تعالى من غير استناد إلى قدرة العباد إلا أنها مجامعة
لقدرة فيهم غير مؤثرة فيها بالفعل لكنها كانت تؤثر لو لم تؤثر قدرة الله
التي هي أقوى منها وبهذا الاعتبار جعلوها مكسوبات للعباد
وسموا هذه القدرة قدرة كاسبة وزعموا أنهم لا يستحقون عليها مدحا
ولا ذما وعلى هذا فتنحل دعواهم في المقام إلى أمرين الأول
نفي استحقاق العباد المدح والذم على أفعالهم عند العقل الثاني نفي
تأثير قدرتهم فيها ولا تلازم بين المقامين لامكان القول
باستحقاقهم المدح والذم عليها عند العقل ونفي تأثير قدرتهم فيها
كاستحقاق اللؤلؤ المدح عقلا على صفائها وبهائها والعذرة الذم
على خباثتها وقذارتها أو القول بتأثير قدرتهم فيها ونفي استحقاقهم
المدح والذم عليها عند العقل وقد التزمت الأشاعرة ذلك
بالنسبة إلى أفعاله تعالى والنزاع الذي عقدت هذه المسألة لبيانه
إنما هو المقام الأول وأدلتهم المتقدمة لو تمت لدلت على إثبات
مقالتهم فيه والمقدمات المذكورة في هذا الدليل لو تمت لدلت على
إثبات دعواهم في المقام الثاني ومنه يظهر سقوط تمسكهم بهذا
الدليل على المقام الأول لبطلان ما ادعوه من الاتفاق على عدم
استحقاق
المدح والذم عقلا على الافعال الاضطرارية فإن القائل باستحقاق
المدح والذم عقلا يقول به بالنسبة إلى صفات الكمال والنقص وإن
كانت اضطرارية وحينئذ فما المانع من التزامه ذلك بالنسبة إلى
الافعال الاضطرارية التي تكون كذلك كما التزم به أبو الحسين و
أتباعه كما سيأتي الثالث ما نقل عن أبي الحسين البصري من المعتزلة و
أتباعه وهو أن أفعال العباد الاختيارية صادرة عنهم وواجبة
بالنسبة إلى المبادي التي هي فعله تعالى فيهم من القدرة والداعي
الذي هو عين الإرادة عندهم فهي واجبة الصدور منهم بالوجوب
السابق وأنهم يستحقون عليها المدح والذم عقلا وهذا في الحقيقة
يرجع إلى القول بالجبر إن فسر الإرادة بالعزم كما يأتي لان العبد
متى كان مجبورا على الإرادة كان مجبورا على الفعل ضرورة أنه يعتبر
في القادر أن يكون له إرادة الفعل والترك الرابع ما نسب إلى
أصحابنا الامامية وهو أن أفعال العباد الاختيارية صادرة عنهم بقدرتهم
واختيارهم من غير أن تكون واجبة الصدور عنهم بالوجوب
السابق أعني الوجوب بالنسبة إلى المبادي التي هي فعله تعالى في
العبد وكأنهم يريدون أنها ليست واجبة الصدور عنهم بدون توسط
اختيارهم فلا ينافي وجوبها بواسطة اختيارهم كما يأتي تحقيقه وأن
قدرتهم على أفعالهم ليست بالاستقلال وأنهم يستحقون عليها
المدح والذم الخامس ما نقل عن أكثر المعتزلة وهو أن
322

أفعال العباد الاختيارية صادرة عنهم بقدرتهم واختيارهم بدون
وجوب سابق وأنهم يستحقون عليها المدح والذم وأنهم مستقلون
بالقدرة عليها بمعنى أنهم إن شأوا فعلوا سواء شاء الله تعالى ذلك أو
شاء عدم وقوعه ولو مشية جازمة وهذا القول بالتفويض وحيث
إن بسط المقال في هذه الأقوال خارج عما يقتضيه الحال فلنعطف
عنان القلم إلى الجواب عن الشبهتين المذكورتين على وجه يتضح به
قول المختار وبطلان ما عداه فنقول أما الجواب عن الوجه الأول فمن
وجوه الأول أن هذه شبهة في مقابلة الضرورة فإنا نجد الفرق
بالضرورة بين حركة المختار وحركة المرتعش ولا يلتفت إلى الشبهة
إذا صادمت الضرورة وهذا البيان ليس على ما ينبغي لان العلم
الضروري بالفرق لا يقتضي أن يكون حركة المختار مستندة إلى
اختياره فإن مقارنة القدرة والعلم والإرادة للأول دون الثاني كاف
في الفرق نعم يتم ذلك ردا على المذهب الأول من مذاهب الخبرية
فالأولى أن يقال تشهد ضرورة الوجدان بأن من الافعال ما نتمكن من
الاتيان بها وبتركها ويستند كل منهما إلى قدرتنا وإرادتنا ولا نعني
بالاختيار إلا ذلك فلا يصغى إلى الشبهة المذكورة وإن قدر
العجز عن حلها فإن قيل كل شبهة يعجز عن حلها فإما أن ترجع
مقدماتها إلى الضرورة أو لا فإن كان الثاني فلا عجز عن الحل لتطرق
المنع إلى المقدمة التي لا يئول إلى الضرورة وإن كان الأول فلا وجه
لترك الالتفات إليها بمجرد وقوعها في مقابلة الضرورة إذ يكون
التصادم حينئذ بين الضرورتين أجيب بأن المعتبر في توجه الشبهة أن
يرجع مقدماتها إلى الضرورة إذا ما لوحظت في نفسها إلا بالنظر
إلى المعارض الضروري ولا خفاء في أن مراتب الضرورة مختلفة في
الوضوح شدة وضعفا فمجرد معارضة ضروري لاخر لا يوجب
تطرق القدح إلى كل منهما إذ قد يكون أحدهما في الوضوح والبداهة
بمكان يقدح في بداهة الاخر ولا يقدح الاخر في بداهته كما في
المقام لكن لا يكون
الدفع بمثل ذلك حلا للشبهة حتى ينافي فرض العجز عنه إذ لا يمكن
توجيه المنع إلى شئ من مقدماتها بالخصوص الثاني أن الافعال لو
كانت اضطرارية لبطل التكليف والحث والردع والوعيد والانكار و
الانذار والتوبيخ ونحو ذلك مما اشتمل عليه الكتاب والسنة
لقضاء ضرورة العقل والعادة بقبح هذه الأمور بالنسبة إلى المضطر و
باستحالة وقوعه من العالم الحكيم وليت شعري هل يجوز من له
أدنى شائبة من العقل أن يقول المولى لعبده لا تقع في الماء ثم إنه
يلقيه فيه ويقول له لم وقعت فيه ويعاتبه ويعاقبه على ذلك فكيف
جوز هؤلاء الملاحدة أن يخلق الله الكفر في عباده ثم يقول لهم كيف
تكفرون بالله ويقول لهم أ فتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون
ببعض ويقول وعد الله الكفار نار جهنم وأن يجبرهم على عدم
الايمان ثم يقول فما لهم لا يؤمنون أو يجبرهم على الاعراض ثم يقول
فما لهم عن التذكرة معرضين وكيف يجوز على العدل اللطيف الخبير
أن يكلف العباد بالايمان وبسائر التكاليف المقررة في الشريعة
ويواعدهم أن يعاقبهم على مخالفتها بأنواع العقوبات الشديدة ومع
ذلك يجر هم على الكفر والمخالفة ولا يمكنهم من الايمان و
الطاعة بل ليت شعري كيف نسبوا أفعال العباد بأسرها إلى الحكيم
العليم وادعوا أنها صادرة منه وأنه الفاعل لها دون غيره مع أن فيها
من القبائح الشنيعة ما لا يرضى أحدهم لان تنسب إليه فضلا عن
غيرهم من أرباب العقول تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا و
لعمري أنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ولقد جاءوا في مقالتهم
هذه شيئا إذا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر
الجبال هدا واعتذار بعضهم في دفع شناعة التكليف بأن وجود
الاختيار كاف في جواز التكليف وما يترتب عليه وإن لم يؤثر فمردود
عليه بأن الاختيار الغير المؤثر مما لا يصلح أن يكون منشأ للذم و
العقاب بالضرورة والمثال الذي ذكرناه من إيقاع العبد في الماء
مجامع للاختيار الغير المؤثر ومع ذلك فالضرورة قاضية بقبح ذمه و
عقابه الثالث النقض بأفعاله تعالى فإنه مختار في فعله بالاتفاق مع
أن الشبهة المذكورة جارية فيه لأنه إما أن يكون فعله تعالى لازم
الصدور عنه أو لا إلى آخر ما مر وأما ما يقال من أن فعله تعالى
لمرجح إرادته وهي وإن كانت ممكنة إلا أنها قديمة فلا تحتاج إلى
مرجح آخر لأن علة الحاجة هي الحدوث فمدفوع أما أولا فبأن علة
الحاجة على ما هو الحق المحقق في محله هي الامكان ضرورة أن
الشئ إذا كان في حد ذاته متساوي الوجود والعدم احتاج في اتصافه
بكل منهما إلى علة ومنه يظهر أن وجود الممكن وعدمه حادثان
ذاتيان كما أن وجوب الواجب وعدم الممتنع قديمان ذاتيان وأما ثانيا
فبأن الإرادة على تقدير قدمها إن كانت بحيث لا يتوقف في التأثير على
تعلق حادث لزم قدم المراد وإلا عاد الاشكال وقد يتفصى عن
هذا بأن الإرادة تعلقت في الأزل بوجود زيد مثلا في زمن معين فيكون
وجوده في ذلك الزمان بنفس ذلك التعلق القديم من غير توقف
على أمر آخر ورد بأنه إن كان هذا التعلق علة تامة لزم أن يكون الحادث
في هذا الزمان موجودا في الأزل وإن توقف على حضور هذا
الزمان فلا يكون نفس التعلق كافيا في وجود الحادث وهو خلف وهذا
الرد محل نظر وأما ثالثا فبأن الفعل بعد تعلق الإرادة القديمة به
إن كان لازم الصدور عن الذات لزم الاضطرار وإلا لاحتاج إلى مرجح
آخر فيتسلسل أو يلزم الاضطرار واعلم أن تقدمه تعالى على
جميع مصنوعاته تقدم بالعلية وليس تقدما بالزمان لامتناع إحاطة
الزمان به تعالى فنسبة خلق الأول إليه كنسبة خلق الاخر إليه كما أن
323

نسبة خلق الكثير إليه كنسبة خلق الواحد إليه قال تعالى ما خلقكم ولا
بعثكم إلا كنفس واحدة فالترتيب الزماني إنما هو بين الموجودات
الزمانية مقيسا بعضها إلى بعض ولقد عسر فهم هذا المعنى على
الافهام القاصرة المقصورة على إدراك الأمور الزمانية فصدرت منهم
مقالات فاسدة ناشئة عن قصور النظر عن إدراك المجرد عن الزمان
كتمسك بعض الحكماء على قدم العالم بأن علة وجوده إن كانت
تامة في الأزل لزم القدم وإن كانت ناقصة متوقفة على حدوث أمر فيما
لا يزال فهو أيضا من العالم وننقل الكلام إليه فيلزم القدم أو
يتسلسل وكجواب بعض المتكلمين عنه بأنه يجوز أن يكون الحكمة
قاضية بإيجاد العالم في وقت معين ومرجعها إلى العلم بالأصلح و
كتمسك بعض على نفي علمه تعالى بالجزئيات بأنها تتغير ويمتنع
التغير في علمه تعالى إلى غير ذلك ووجه فساد الأولين أنه لم يكن
قبل خلقه تعالى للزمان زمان ولا وقت فلا معنى للسؤال عن سبب
تأخير إيجاد العالم من وقت إلى وقت ولا الجواب بإمكان قضاء
المصلحة بالتأخير كما أنه لا معنى للسؤال عن علة خلق الأفلاك بما
فيها في هذا المكان المخصوص دون غيره ولا الجواب بقضاء
الحكمة
بذلك إذ لا مكان قبل خلق المكان نعم يتجه السؤال عن علة عدم
خلق زمان قبل الزمان الأول بناء على عدم قدمه كما يتجه السؤال عن
علة عدم خلق فلك آخر فوق الأفلاك الموجودة أو خلق مكان فوق
المكان الموجود ويتجه الجواب حينئذ بمراعاة الحكمة ووجه فساد
الأخير أن نسبة تغيرات المتغير إليه تعالى نسبة واحدة لا تقدم ولا
تأخر لها بالنسبة إليه وإنما التقدم والتأخر متحقق بين تلك
التغيرات فهو تعالى عالم بكل شئ في مرتبته لا تغيير في علمه فعلمه
بذات زيد مثلا في مرتبة ذاته وبوجوده في مرتبة وجوده وبعدمه
في مرتبة عدمه وبقيامه في مرتبة قيامه وبجلوسه في مرتبة جلوسه و
هكذا وإن شئت مزيد توضيح لذلك فانظر إلى علمك بالتغيرات
اللاحقة للحوادث الماضية فإنك ترى أن علمك بها من حيث كونه
علما بها غير متغير وإنما ترى
التغير في المعلوم بحسب مراتبه اللاحقة له وأما علمك في هذا اليوم
بأن زيدا مثلا يوجد غدا ثم زوال علمك هذا في غد وحدوث علم
لك
بأنه موجود الان ثم زوال علمك هذا أيضا بعد ذلك وحدوث علم
لك بأنه كان قبل هذا موجودا فناشئ عن مقايسة زمان وجود زيد إلى
أزمنة وجودك فترى وجود زيد تارة متأخرا عن زمان وجودك الذي
أنت فيه ومرة مقارنا له وأخرى متقدما عليه فيلحقك بحسب كل
زمن من أزمنة وجودك الثلاثة علم مغاير لعلم الاخر وحيث إنه تعالى
لا يحيط به الزمان لا يتصور بالنسبة إليه ماض ولا حال ولا
مستقبل فيمتنع ذلك في حقه بل هو تعالى عالم بتأخر وجود زيد عن
بعض أزمنة وجودك وبمقارنته لبعض منها وبتأخره عن بعض
آخر علما أزليا أبديا لا يتغير والسر في ذلك كله أن وجوده تعالى ليس
وجودا امتداديا ولا بقاؤه بامتداد وجوده كما يتصور في
الموجودات الزمانية بل إذا قلنا هو أزلي فعلى معنى أن وجوده غير
مسبوق بالقدم وإذا قلنا أبدي فعلى معنى أن وجوده لا يلحقه عدم و
قد يتوهم أن علمه تعالى بالأشياء ليس إلا نحو وجودها فلا يعلم بها إلا
حال وجودها وهو فاسد لاستلزام بطلان قدرته تعالى وحكمته
لان الفاعل للشئ من غير علم لا يكون قادرا عليه ولا يعد حكيما و
لاستلزامه إسناد الجهل إليه تعالى في مرتبة ذاته لتقدمها على فعله
الذي يزعم هذا المتوهم أنه علمه وأن يكون علمه تعالى بالأشياء
زائدا على ذاته لحدوثه وقدمها فيلزم أن يكون محلا للحوادث بل
الحق
أنه تعالى عالم بذاته بالحوادث في مراتبها حيث لا حادث ولا مرتبة و
بعبارة أخرى عالم بذاته بها قبل حدوثها وقبل مراتبها وقد
أشار إليه عليه السلام بقوله عليه السلام عالم إذ لا معلوم وسميع إذ لا
مسموع وبصير إذ لا مبصر وعلمه تعالى بها بعينها ونفسها لا
بوجهها وصورتها وإلا لزم جهله بعينها أو حدوث علمه بها وكلاهما
محال وأما ما دل من الآيات على حدوث علمه تعالى ببعض
الحوادث كقوله تعالى لنعلم أي الحزبين أحصى وكقوله تعالى ولما
يعلم
الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين فمؤول إذا عرفت هذا تبين
عندك أن إرادته تعالى ليست زمانية لان الزمان موجود بها فهو
متأخر بحسب المرتبة عنها فلا تكون محاطة به فظهر من ذلك بطلان
الدفع الثاني بما ذكر فيه واعلم أن الذي يقتضيه البراهين العقلية و
يستفاد من أخبار أهل العصمة أن إرادته تعالى مخلوقة له لا تفارق
المراد لأنه عبارة عن إيجاده وإحداثه تعالى فإنه لا يروى ولا يهم و
لا يتفكر ومثلها المشية إلا أنها متقدمة بحسب المرتبة على الإرادة كما
يستفاد من بعض الاخبار فيكون الفرق بينهما بالكلية والجزئية
وقد يطلق أحدهما على ما يعم الاخر كما هو معناهما لغة فيترادفان و
زعم بعض متأخري أصحابنا أن المشية قديمة وأنها عين الذات
كسائر الصفات الذاتية وحمل ما دل من الاخبار على أنه مخلوقة كقوله
عليه السلام خلق الله الأشياء بالمشية وخلق المشية بنفسها على
مشية العباد وهو تكلف واضح وفي بعض الاخبار تصريح بأنها محدثة
وليست بقديمة وحملها على مشية العباد غير سديد إذ لا يذهب
وهم إلى قدمها وفي بعض الاخبار أنها غير العلم معللا بأنك تقول
افعل كذا إن شاء الله ولا تقول إن علم الله فلو كانت نفس الذات
لكانت نفس العلم فلا يبقى فرق بينهما إلا بمجرد المفهوم وهو لا
يصلح فرقا لصحة القول الأول وبطلان الثاني نعم كونه تعالى بحيث
يشاء ويريد الأصلح عين الذات لأنه بذاته كذلك إلا أن إطلاق المشية
والإرادة على ذلك مجاز الرابع جواب الحل وبيانه من وجهين
الأول أنا نختار كون الفعل غير لازم الصدور من الفاعل ونمنع احتياجه
إلى المرجح لجواز الترجيح من غير مرجح بدليل أن الهارب من
السبع إذا صادف طريقين متساويين في نظره
324

التخلص يختار أحدهما ولا يتوقف حتى يحصل عنده مرجح
لأحدهما وكذا الجائع إذا وجد رغيفين متساويين فإنه يتناول أحدهما
ولا
يكف نفسه عنهما حتى يجد المرجح وكذا الظمآن إذا وجد قدحين
من ماء متساويين إلى غير ذلك وهذا الوجه غير سديد إذ التحقيق
امتناع الترجيح من غير مرجح كما يشهد به الفطرة المستقيمة ووجهه
أن وقوع الترجيح تارة وعدمه أخرى مع تساوي الحالين واقعا
كما هو المفروض يوجب الترجيح بلا مرجح وهو ضروري البطلان و
أما التمسك بالأمثلة المذكورة ونظائرها فمدفوع بأن فرض
التساوي من كل وجه لا يوجب وقوعه في الخارج وإن كان الحكم
على تقديره حقا أ لا ترى أنا نقطع بأنه لو وضع عمود على حد سيف
بحيث يتساوى ثقله من الجانبين وقف عليه ولم يمل إلى جانب مع أنا
نرى بالتجربة أن الفرض لا يقع في الخارج وبالجملة ففرض
التساوي في الأمثلة المذكورة لا يوجب وقوعه فإن هناك مرجحات
خفية مؤثرة في الترجيح حاصلة في نظر المرجح وإن لم يتنبه لها و
أقلها كون التفاته حال الترجيح إلى أحدهما أو إلى ما يترتب عليه من
الغاية المقصودة أكثر ولا يلزم من كون شئ مرجحا تفطن
الفاعل لكونه مرجحا ومن هنا ذكر بعض المحققين في باب النية أن
الداعي إلى العمل قد يكون في الواقع محض الرياء ويعتقد العامل
حال العمل أنه محض القربة ثم ينكشف له بعد تلطيف النظر وإعمال
التأمل حقيقة الحال وقد يجاب بأن الترجيح في أمثال ذلك يستند
إلى تأثير حركة الأفلاك فإن أريد أن حركتها تقتضي ترجيح أحدهما من
غير أن يتحقق مرجح في نظر الفاعل فهذا التزام بمقالة الخصم
وإن أريد أنه يرجح أحدهما لأنه في نظره موافق لما يقتضيه حركتها
ففساده ضروري في حق من لا يطلع على ما يقتضيه في ذلك
حركتها ولعله يريد أن حركتها توجب حصول ميل قلبي ولو خفي إلى
أحدهما فيرجح لأجله وعلى هذا فيمكن أن يجاب أيضا بجواز أن
يكون هناك مناسبة خفية لا تصل إليها عقولنا موجبة لحصول ميل
قلبي إلى أحدهما فيرجح لأجله ولا حاجة إلى استناده إلى حركة
الأفلاك واعلم أن من قال بجواز الترجيح بلا مرجح إن قال بجوازه مع
عدم المرجح في النظر وواقعا صلح مقالته جوابا عن الشبهة المذكورة
لكن يرد عليه ما مر من لزوم وقوع الترجح بلا مرجح في هذا
الترجيح ويجوز أن يكون هناك ما يقتضي وقوع هذا الترجيح كحركة
الأفلاك فإن فرض المساواة فيما لا يتعلق بالنظر ممنوع الوقوع
إذ لا سبيل إلى إثباته وإن قال بجوازه مع عدم المرجح في النظر خاصة
وإن كان هناك ما يقتضي وقوع هذا الترجيح سلم عن
الاشكالين لكن مقالته لا تصلح حينئذ جوابا عن الشبهة إذ لا تنافي أن
يكون الفعل لازم الصدور مع وجود ذلك المرجح فلا أثر للتجويز
المذكور في الحل ويرد عليه على التقدير الأول أيضا أن مورد الشبهة
ليس صورة تساوي الفعل والترك في نظر الفاعل بل أعم من
ذلك إذ لا يقول أحد بثبوت الاختيار في الصورة الأولى خاصة والبيان
المذكور ولو تم فإنما يجري في دفع الشبهة عنها خاصة وهي
على تقدير تسليمها نادرة الوقوع الثاني وهو المعتمد أنا نختار أنه
يحتاج إلى مرجح لكن نمنع كونه معه لازم الصدور من الفاعل إن
أريد باللزوم أنه لا يتمكن مع المرجح إلا من الفعل وإن أريد أنه لا يأتي
مع المرجح إلا بالفعل منعنا كون لزوم الصدور بهذا المعنى
منافيا للاستناد إلى الاختيار كيف وهو وجوب بواسطة الاختيار فهو
محقق للاختيار لا مناف له بيان ذلك أن الفاعل المختار هو من
يفعل الفعل بقدرته عند وجود المرجح في نظره والقدرة فينا عبارة
عن صفة زائدة بها نتمكن من الاتيان بالفعل والترك والمرجح
عبارة عما هو الداعي إلى الفعل وحيث إن نسبة القدرة إلى كل من
الفعل والترك على حد سواء فلا بد في تعلقها بالفعل من وجود داع
معتبر في نظر الفاعل مستمر إلى زمن الفعل كما أنه يعتبر في استناد
تركه إليها عدم الداعي إليه كذلك فحيث يتحقق الداعي المعتبر و
يستمر يجب صدور الفعل منه بالاختيار لا بمعنى أنه لا يتمكن حينئذ
إلا
من الفعل بل بمعنى أنه لا يأتي إلا بالفعل البتة كما أنه حيث لا يتحقق
الداعي يمتنع صدوره منه بالاختيار بمعنى أنه لا يأتي به البتة لا أنه لا
يتمكن منه والدواعي تعتبر في صدور غير الإرادة من المختار
بواسطتها وفي صدورها منه لا بواسطة ونعني بالإرادة العزم كما هو
معناه لغة وعرفا وفسرت به في بعض الاخبار أيضا فأفعالنا الاختيارية
مما عدا الإرادة مستندة إلى قدرتنا عند إرادتنا لها وهي
مستندة إلى قدرتنا عند وجود الدواعي المعتبرة في نظرنا فالدواعي
شرط في صدور الإرادة منا وهي شرط في صدور سائر الأفعال
منا وليست الدواعي علة مقتضية أي فاعلة لوجود الإرادة فينا ولا
الإرادة علة مقتضية لوجود سائر أفعالنا لظهور أن أفعالنا الاختيارية
بأسرها صادرة منا لا من إرادتنا ولا من الدواعي الموجودة فينا ومن
الواضح أن الشرط ليس بالمقتضي ولا بجزئه وإن اعتبر في
اقتضائه أ لا ترى أن النار مقتضية للاحراق بشرط المماسة لا أنها و
المماسة والمماسة وحدها مقتضية لذلك وإنما أسندنا الإرادة إلى
القدرة لأنها عندنا من الأفعال الاختيارية وقد صعب فهم اختياريتها
على كثير من الافهام نظرا منهم إلى أن الفعل الاختياري هو
المسبوق بالإرادة فلو كانت الإرادة اختيارية لكانت مسبوقة بإرادة
أخرى وينقل الكلام إليها فيتسلسل ومن هنا ذهب جماعة إلى أن
الإرادة اضطرارية كالقدرة ولم يتنبهوا أن ضرورة الوجدان قاضية
باختياريتها وفي الكتاب والسنة ما يدل على ذلك كالتوبيخ و
التهديد عليها في قوله تعالى أ تريدون أن تهدوا من أضل الله وقوله
تعالى أم تريدون أن تسألوا رسولكم وقوله تعالى يريدون
ليطفئوا نور الله بأفواههم
325

وقوله تعالى ويريد الذين يتبعون الشهوات إلى غير ذلك ومن السنة
قوله نية المؤمن خير من عمله وما دل على خلود أهل الجنة فيها و
أهل النار فيها بنياتهم وما دل على أن نية السوء لا تكتب على هذه
الأمة إلى غير ذلك فإن المراد بالنية نفس العزم وربما زعم بعض
أنها مرادة بنفسها ولم يتفطن أن ذلك يوجب توقف الشئ على نفسه
بل التحقيق أن تعريفهم للفعل الاختياري بما كان مسبوقا
بالإرادة إن كان تعريفا لما عدا الإرادة لم يتوجه الاشكال بعدم انطباقه
على الإرادة وإن كان تعريفا لمطلق الفعل الاختياري فممنوع
بل الوجه أن يعرف بأنه الفعل الصادر عن الفاعل بشعوره وتمكنه
فيعتبر في حقيقة الاختيار أمران الأول أن يكون الفاعل عالما بفعله
شاعرا له على وجه يكون لعلمه وشعوره مدخل في صدوره عنه
الثاني أن يكون متمكنا من الفعل والترك بمعنى أن يكون بحيث له أن
يفعل وله أن لا يفعل وأما كونه بحيث إن أراد فعل وإن أراد لم يفعل
فإنما يعتبر في صدور الأفعال الاختيارية التي تتوقف على سبق
الإرادة لا مطلقا وقد يتوقف صدورها على أمور أخر أيضا كوجود
الآلات وما يتعلق بها وذلك لا يقتضي توقف كل فعل اختياري عليها
فاتضح أن الإرادة من الأفعال الاختيارية ولا يتوقف صدورها عن
الفاعل بالاختيار على إرادة هذا ما يقتضيه النظر الصحيح في المقام و
أما الدواعي فناشئة من إدراك الفاعل بحال الفعل بضميمة ما فيه من
الملكات والأحوال المستندتين من حيث الوجود إلى صانعه ومن
حيث القابلية إلى ذات الفاعل إما ابتدأ أو بواسطة أفعال أخر نرجع
سلسلة استنادها إلى الذات وهي بعد وجودها قد يتمكن من دفعها
بسهولة إما لضعفها في نفسها أو لمعارضتها بدواع آخر قريبة منها في
القوة وقد يتوقف على استعمال رياضات ومزاولة مجاهدات
لتمكنها في النفس ورسوخها فيها وعلى التقديرين فوقوع الإرادة و
الفعل على حسبها اختياري أما على الأول فواضح وأما على الثاني
فلتمكنه من ترك الانقياد لها وعدم الاعتداد بها وإن
كان لا يفعل على التقديرين البتة عند عدم وجود دواعيه وإذا ثبت
مما مر أن المقتضي للفعل الاختياري والموجد له هو الفاعل القادر
المختار وأن الداعي المعتبر أو الإرادة شرط في اقتضائه تبين أن علية
الفاعل لصدور الإرادة منه بقدرته واختياره تتم عند وجود
الداعي المعتبر وعليته لصدور الفعل منه كذلك تتم عند وجود الإرادة
وأما عدم الموانع المجامعة للاختيار فداخل في اعتبار الداعي إذ
الداعي المعتبر لا يجامع المانع الاختياري فإن المراد به ما سلم منه
فاتضح مما قررنا أن الأفعال الاختيارية واجبة الصدور عن الفاعل
المختار عند وجود الدواعي المعتبرة في نظره وأن وجوبها حينئذ
بقدرته واختياره فلا ينافي قدرته واختياره بل يستلزمهما ضرورة
أن وجود المعلول يستلزم وجود العلة لا أنه ينافيه وقد أشير إلى الامر
الأول من جريان الافعال على حسب الدواعي في قوله تعالى قل
كل يعمل على شاكلته وقوله تعالى إن في صدورهم إلا كبر ما هم
ببالغيه وإلى الامر الثاني من بقاء القدرة والاختيار معها بقوله تعالى
وما كان له عليهم من سلطان وقوله تعالى حكاية عن الشيطان وما كان
لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم وهذا أمر
واضح بعد الرجوع إلى الوجدان فإنا نجد أنفسنا عند وجود الدواعي
المعتبرة متمكنين من الفعل والترك وإن علمنا باستحالة أحدهما
من جهة الاختيار وإذا عرفت ذلك اتضح عندك معنى قوله عليه
السلام لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الامرين فإن كون الدواعي التي
تجري الأفعال الاختيارية على حسبها موجودة في العبد بإيجاده
تعالى على حسب ما فيه من الاستعداد الذاتي أو الكسبي يوجب نفي
تفويض أمر الفعل إليه بالكلية وصدور أفعاله عنه على حسب تلك
الدواعي بقدرته واختياره يوجب نفى إجباره عليها وأيضا كون
أفعال العبد مستندة إلى إقداره تعالى له عليها حال صدورها منه
يوجب نفي التفويض بمعنى استقلال العبد بها وصدورها عنه بذلك
الاقدار يوجب نفي الجبر لاستنادها إلى قدرته المخلوقة فيه ومما
ذكرنا يرتفع الاشكال عن
قوله تعالى من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن
يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء فإن شرحه
تعالى لصدور من أراد هدايته بإكرامه بالألطاف الموجب لحصول
دواعي قبول الهداية فيه لأهليته واستعداده لذلك لا يوجب قبوله
للهداية بالاضطرار بل بالاختيار وكذلك تضييقه لصدر من أراد إضلاله
من تلك الألطاف الموجب لحصول دواعي الضلالة فيه لا يوجب
قبوله للضلالة بالاضطرار بل بالاختيار وبهذا الاعتبار نسب الهداية و
الاضلال إليه تعالى في هذه الآية وغيرها وكذلك نسب الاغراء
إليه في قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام ولا ينفعكم نصحي إن
أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم كما أنه نسب
الاضلال إلى الشيطان في قوله تعالى ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا
بعيدا باعتبار أنه يدعوهم إلى الضلالة ويعدهم ويمنيهم
بالأماني الفاسدة وإلى أنفسهم في قوله وما يضلون إلا أنفسهم وقوله
وضلوا عن سواء السبيل باعتبار اختيارهم للضلالة واغترارهم
بالأماني الواهية وكذا يرتفع الاشكال عن قوله وما تشاءون إلا أن يشأ
الله وقد ورد عنهم عليهم السلام ما شاء الله كان وما لم يشأ لم
يكن فإن مشيته تعالى وإرادته وتقديره وقضاءه وإمضاءه المستند كل
لاحق منها إلى سابقه كما ورد في بعض النصوص إنما تجري
على حسب استعداد القابل لها إيتاء لكل ذي حق حقه لان ذلك قضية
قدرته الشاملة وعلمه النافذ وحكمته البالغة وبهذا البيان ينكشف
أيضا معنى قوله تعالى ولو شاء ربك لامن من في الأرض كلهم جميعا
وقوله ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وأمثال ذلك إذ ليس ظاهر
المعنى أنهم كانوا يؤمنون عند مشيته إيمانهم جبرا وقهرا كما ذكره
بعضهم فإن ذلك
326

غير متعين بل مناف لظاهر الفعل بل ظاهر المعنى والله أعلم أنه تعالى
لو شاء إيمانهم باختيارهم وذلك بأن أوجد فيهم دواعي الايمان
ويسلب عنهم الملكات والأحوال الداعية لهم إلى الكفر والطغيان
لامنوا وإنما لم يشأ ذلك في حقهم لعدم استعداداتهم وانتفاء أهليتهم
فتركهم على الملكات والأحوال اللاحقة بحالهم فآثروا الكفر و
الشقاء واستحبوا العمى على الهدى ومن هذا الباب ما ورد من أنه
تعالى
أمر إبليس بالسجود وشاء أن لا يسجد ولو شاء أن يسجد لسجد ونهى
آدم عليه السلام عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل ولو شاء أن لا
يأكل لما أكل وأما الاعتذار الذي حكاه تعالى عن الكفار في قوله
سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من
دونه من شئ وفي قوله قال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من
دونه من شئ الآية فقد اتضح مما حققناه أنه مقالة فاسدة ومعذرة
داحضة كما أشير إليه في ذيل الآية لأنهم إن زعموا أنهم مجبورون على
الشرك والعصيان عند مشيته تعالى ذلك في حقهم أو على ترك
الطاعة والايمان عند عدم مشيته تعالى ذلك منهم فجوابه واضح مما
مر فإن المشية إنما قضت بصدور ذلك منهم بطريق الاختيار فكيف
يصدر منهم بطريق الاضطرار لمخالفته لمقتضاها بل أثر المشية في
الأفعال الاختيارية إنما هو إمضاء ما تقتضيه الذوات بإحداث أسبابه
ومقدماته اللائقة به الغير المنافية للاختيار كما أشير إليه في قوله تعالى
وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم
ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإن زعموا أن المشية لما قضت بصدور
الشرك وشبهه منهم ولو بالاختيار فلا اعتراض عليهم في ذلك أو
لا يكون تركه مطلوبا منهم ففيه أن الضرورة قاضية بأن من يصدر عنه
القبائح بالاختيار يستحق بذلك الذم والعقاب ولا ينافيه وجوب
الصدور عنه بحسب ما فيه من الدواعي بعد تمكنه واختياره واستناد
الوجوب إليه ولا منافاة بين مشيته تعالى لصدور الشرك منهم و
بين نهيه تعالى إياهم عنه فإن مرجع الأول
إلى إحداث المقدمات المفضية إلى صدور الشرك منهم بالاختيار
على حسب ما لهم من الاستعداد كما هو قضية حكمته في الصنع و
الثاني
إلى بيان حكم الشرك عنده من المكروهية وعدم الرضا به كما هو
قضية حكمته في الحكم وأما الجواب عن الوجه الثاني فبما مر من
الأجوبة الثلاثة المتقدمة من أنه شبهة في مقابلة الضرورة فلا يلتفت
إليه وأنه ينافي وقوع التكليف وما يتبعه المعلوم بالاتفاق وأنه
منقوض بأفعاله تعالى لعلمه بها كعلمه بأفعالنا فيلزم أن لا يكون مختارا
فيها وهو باطل بالاتفاق مضافا إلى جواب رابع به تنحل الشبهة
وتقريره أن قضية العلم انكشاف الواقع للعالم لا التأثير في وقوعه و
مما يوضح ذلك أنا لو فرضنا وجود فاعل يصدر عنه أفعاله
باختياره وفرضنا أن لا علم لاحد بشئ من أفعاله أصلا كانت أفعاله
صادرة عنه على وجه الاختيار لا محالة لانتفاء ما يدعى منافاته
للاختيار فلو فرضنا حينئذ علم عالم بها قبل وقوعها منه لم يتغير حال
ذلك الفاعل المختار في الواقع من جهة علم العالم بها بالضرورة
وإن فرض استحالة عدم مطابقة علم ذلك العالم للواقع لان مرجعها
إلى استحالة انكشاف غير ما يقع من الفاعل باختياره له لا إلى تأثير
علمه في وقوع ما يقع منه ليلزم منه اضطراره في الفعل من جهة علمه
به وزوال اختياره عنه وإلا لزم مثله في العلم المتأخر مع استحالة
تأثير اللاحق في التعليق بل نرى بالضرورة أن حال هذا الفاعل حال
تعلق ذلك العلم بأفعاله كحاله حال عدم تعلقه بها في استناد أفعاله
إلى اختياره وإن شئت زيادة توضيح لذلك فانظر إلى علمك بترطيب
الماء وإحراق النار وإضاءة الشمس فهل تجوز أن لا يكون علمك
هذا مطابقا للواقع مع أنك تعلم علما ضروريا بأن علمك بذلك مما لا
أثر له في ترتب تلك الآثار عليها فإذا ثبت عدم مدخلية العلم في
وقوع ما يتعلق به من الافعال الاضطرارية ثبت عدم مدخليته في وقوع
ما يتعلق به من الأفعال الاختيارية لان الجهة جهة واحدة لا يعقل
اختلافها باختلاف
ما تعلقت به وبهذا البيان يتضح الجواب عما ادعي في البيان الثاني
من المنافاة الذاتي بين تعلق العلم بوقوع كل من الفعل والترك وبين
وقوع الاخر لأنه إن أريد بالمنافاة الذاتي ما هو الظاهر منه من كونه مانعا
من وقوع الاخر ومقتضيا لعدمه فقد عرفت فساده مما مر
حيث بينا أن العلم ليس كذلك وأنه لا مدخل له في وقوع المعلوم ولا
في عدم نقيضه وإنما مقتضاه بل حقيقته الكشف عن الواقع وإن
أريد به مجرد استحالة وقوع نقيض المعلوم ولو لأمر آخر غير العلم
كاختيار الفاعل فمتجه إلا أنه لا يدل على نفى الاختيار وبالجملة
فالمستحيل هناك أمران الأول وقوع غير ما يقع من الفاعل المختار و
من هذه الاستحالة إلى وجوب الصدور منه من جهة تحقق علته
التامة التي من جملتها الاختيار والقدرة وهذا هو الوجوب بالاختيار و
قد حققنا في دفع الشبهة الأولى أنه لا ينافي الاختيار بل يحققه
الثاني تخلف علم العالم عما علمه ومرجع هذه الاستحالة إلى
استحالة علمه بغير الواقع لا إلى سببيته للواقع واستدعائه له وكذا
يتضح
الجواب عما ذكر في الوجه الأخير من أن القدرة على خلاف ما علمه
تعالى قدرة على قلب علمه تعالى جهلا وهو محال وذلك لأنا نلتزم
بأن لا قدرة على قلب علمه تعالى جهلا لكن نمنع منافاة ذلك للقدرة
على خلاف المعلوم وتوضيحه أنه تعالى لما كان عالما بالأشياء على
ما هي عليه في الواقع فلا بد أن يكون علمه بالفعل الاختياري على
وجهه من وقوعه عن الفاعل على وجه الاختيار وحينئذ فيرجع
الحاصل
إلى أنه تعالى عالم بأن الفاعل المختار يفعل كذا حال قدرته على
خلاف ما يفعله فإن ذلك معنى اختيارية الفعل له فقدرة الفاعل على
خلاف ما علمه تعالى منه ليس قدرة على قلب علمه تعالى جهلا كيف
وقد علم بوقوعه منه في هذه
327

فقدرته عليه محققة لعلمه تعالى بفعله على وجهه لا ينافيه له وإنما
يلزم القلب إذا فعل خلاف ما علمه تعالى لكنه محال فاتضح أن
استحالة
قلب علمه تعالى جهلا راجعة إلى استحالة علمه تعالى بخلاف ما يقع
منك بقدرتك لا إلى استحالة قدرتك على خلاف ما علمه فأنت قادر
في نفسك على خلاف ما علمه لكنه محال في حقه أن يعلم خلاف ما
تعلمه وبالجملة فصدور الفعل من العبد بالاختيار أثر من آثار وجوده
الذي هو فعل من أفعاله تعالى وكما أن علمه تعالى محيط بأفعاله
محيط بما يترتب عليها من الآثار اختيارية كانت أو اضطرارية لا يقال
هناك معلومان وقوع الفعل من الفاعل وقدرته على تركه وبإزاء هذين
المعلومين علمان والمنافاة المذكور إنما يتحقق بين المعلوم
الثاني والعلم بالأول ولا يجدي فيه العلم بالمعلوم الثاني لأنه إذا كان
في نفسه منافيا للعلم الأول كما مر امتنع تحققه فيمتنع العلم به لأنا
نقول المعلوم الثاني مأخوذ في المعلوم الأول لان وقوع الفعل إذا كان
مستندا إلى القدرة كان أثرا من آثار القدرة وجهة من جهاتها فلا
يستقل عنها فمرجع العلمين عند التحقيق إلى العلم بالقدرة وبأثرها
المترتب عليها واعلم أن ما ذكرناه من منع استناد وقوع المعلوم
فيما مر إلى العلم إنما يتم في علم غيره تعالى وأما في علمه تعالى
فإنما يتم على مذهب الأشاعرة القائلين بزيادته على ذاته تعالى و
ورود البيان المذكور على هذا القول في غاية الظهور ومن العجب
العجاب أن الفخر الرازي مع موافقته لأصحابه في القول بزيادة العلم
على الذات قال بعد أن أورد الشبهة بالبيان الثاني لو أن جملة العقلا
اجتمعوا وأرادوا أن يوردوا على هذا الكلام حرفا واحدا لما قدروا
عليه إلا أن يلتزموا مذهب هشام بن الحكم وهو أن الله تعالى لا يعلم
الأشياء قبل وقوعها لا بالوجود ولا بالعدم إلا أن أكثر المعتزلة
يكفرون من يقول وهذا القول انتهى أقول أما ما زعمه في حق العقلا
من العجز عن رد شبهته فناشئ عن فرط قصوره وضعف شعوره
حيث أحسن بنفسه العجز عن الجواب فقاس بها غيره من ذوي
الألباب
وأما المذهب الذي نسبه إلى هشام بن الحكم فمن مفترياتهم
الموضوعة عليه لان الرجل من أجلا أصحابنا في الكلام ومن خواص
الإمام الكاظم
عليه السلام فكيف يعقل صدور هذا القول منه هذا وأما على
القول بعينية علمه تعالى لذاته كما هو الحق المحقق في محله فلا يتم
منع استناد الافعال إليه لاستلزامه منع استنادها إلى الذات بل الوجه
حينئذ أن يقال استناد الافعال إلى العلم كاستناده إلى الذات فكما أن
استنادها إلى الذات ليس على وجه ينافي صدورها عن العبد على
وجه الاختيار كما مر بيانه في دفع الشبهة الأولى فكذلك استنادها إلى
العلم فإن الاستنادين من جهة واحدة إذ لا تعدد بينهما في الحقيقة و
اعلم أن قضية القول بعينية العلم للذات أن لا يكون مضافا إلى المعلوم
ولا متفرعا عليه وأن لا يكون العلم باللوازم مستفادا من العلم بالملزوم
ولا العلم بالمركب متوقفا على العلم بأجزائه ضرورة أن
الوجوب الذاتي لا يجامع التوقف والاحتياج وقد أشير إلى ذلك في
قوله عليه السلام عالم إذ لا معلوم وسميع إذ لا مسموع وبصير إذ لا
مبصر بل قضية بساطة الذات أن يكون علمه بشئ عين علمه بآخر
وإلا لزم تركب الذات وكما أن قدرته تعالى عين ذاته بلا توقف على
تقرر المقدور في مرتبة ذاته ولا على إمكانه بل قدر وكان المقدور
ممكنا كذلك علم وكان المعلوم على الوجه الذي علمه وكما أن
تكثر المقدورات لا ينافي وحدة القدرة فكذلك تكثر المعلومات لا
ينافي وحدة العلم وبالجملة فلا يقاس العلم الواجب بعلومنا الممكنة
التي تتفرع على المعلوم وعلى العلم بالملزوم بالنسبة إلى لوازمها
بواسطة وبدونها ويتعدد بتعدد معلوماتنا ومما قررنا من عدم
منافاة وحدة العلم لتعدد المعلوم ربما يتنبه العارف أن لا منافاة بين
وحدة الصنع وتكثر المصنوعات كما يقتضيه برهانهم على توحيد
الافعال لا كما فهمه بعض القاصرين من أن فردا من الممكنات كالعقل
الأول صادر منه تعالى والبواقي صادرة من ذلك الممكن بواسطة
وبدونها وأنه يستحيل خلاف ذلك لبطلانه بالعقل والنقل قال الله
تعالى هل من خالق غير الله وقال تعالى الله خالق كل شئ إلى غير
ذلك ولا يجدي ما يقال من أن صنع المصنوع صنع الصانع نظرا إلى
إقداره على ذلك لأنه لا يوجب استعانته تعالى ببعض مخلوقاته على
خلق بعض آخر وهو باطل كسابقه بل بمعنى أنه تعالى صانع كل شئ
بصنع واحد وإن تعدد بالإضافة على حسب اختلاف مراتب
المصنوعات كما أنه قادر على الأشياء بقدرة واحدة وعالم بها بعلم
واحد وإن اختلفت المقدورات والمعلومات في حد ذواتها وينبغي
التنبيه على أمور الأول اختلاف العباد في الطاعة والعصيان مع
تساويهم في القدر المعتبر في صحة التكليف من العلم والعقل و
القدرة
ناشئ من اختلاف إراداتهم واختلافها ناشئ من اختلاف دواعيهم و
اختلافها ناشئ من اختلاف إدراكاتهم وملكاتهم واختلافها ناشئ
من اختلاف استعداداتهم ومنشأ هذا الاختلاف أمران الأول اختلاف
ذواتهم وطبائعهم كما يدل عليه أخبار الطينة وقد أشير إلى ذلك
فيما روي من أن السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه
وليست الطينة جابرة على الفعل الجميل أو القبيح وإنما هي
مستلزمة لصدوره عنهم بالاختيار عند عدم المانع فالمخلوق من طينة
العليين يأتي عند استجماعه للشرائط المعتبرة بالافعال الجميلة
باختياره على حسب ما فيه من الدواعي الناشئة من تلك الطينة الطيبة
بواسطة الملكات الجميلة المفاضة عليها لأهليتها لذلك والمخلوق
من طينة السجين يأتي بالافعال القبيحة باختياره على حسب ما فيه من
الدواعي الناشئة من تلك الطينة الخبيثة بواسطة الملكات
328

الرذيلة المفاضة عليها لأهليتها لذلك والمخلوق من الطينتين يأتي بما
يناسبهما من الافعال كما مر باختياره وعلى هذا البيان ينزل ما
ورد في ولد الزنا من أنه يدخل النار وأنه لا يكون إلا مبغضا لأهل
البيت عليهم السلام ومثله ما ورد في ولد الحيض فإن المراد أنه
يدخل النار بأعماله التي تصدر عنه باختياره وأما وجود البغض
المذكور فيه فهو وإن كان في أول الامر اضطراريا إلا أنه لما مكن من
رفعه وقلبه بالمحبة الواجبة بالمجاهدات الشرعية فهو معاقب على
تقصيره في ذلك وكذا الكلام في سائر الأخلاق الرذيلة التي توجد
في سائر المكلفين كالبخل والحسد والكبر وغيرها فإنها قد تكون
بحسب مبدأ حصولها فيهم بطريق الاضطرار إلا أنهم قد مكنوا من
رفعها بالمجاهدة ولهذا قد يجاهد صاحب الأخلاق الرذيلة في رفعها
فيجرد نفسه عنها وكما أن الأخلاق الرذيلة مما يمكن سلبها
بالمجاهدة كذلك الأخلاق الجميلة يمكن سلبها بالمجاهدة وكما أن
صاحب الأخلاق الرذيلة مأمور بسلبها عن نفسه وقد يستحق العقوبة
على التقصير في ذلك كذلك صاحب الأخلاق الجميلة مأمور
بالمحافظة عليها فيؤجر عليها ولو مات صاحب الملكة الرذيلة قبل
تمكنه من
إزالتها كان معذورا في ترك إزالتها إلا أنه غير معذور في العمل
بمقتضاها لعدم اضطراره إليه ثم المراد باستعداد الذوات لما يفاض
عليها من الملكات أن لها من جهة كونها تلك الذوات أهلية تلك
الإفاضة بمقتضى قانون الحكمة لا أنه لا يمكن إفاضة غيرها عليها
فاستناد
هذا الاستعداد إلى الذات كاستناد الفردية إلى الثلاثة والزوجية إلى
الأربعة فلا يعلل بأمر غير الذات ولما كانت الذوات معلومة له تعالى
بما لها من الاستعدادات وكانت الحكمة قاضية بإيجادها أوجدها و
أعطاها ما كانت طالبة بلسان الاستعداد فإن كل شئ عنده بمقدار
روايتكم من كل ما سألتموه ولا فرق في هذا البيان بين أن نقول بأن
المجعول بالأصالة هو الوجود أو الماهية إذ
على الأول يكون الوجود الخاص المحدود بالحدود الخاصة مستعد
الإفاضة ملكاته عليه وعلى الثاني يكون الماهية الخاصة كذلك وهذا
النوع من الاستعداد ينبغي أن يسمى بالاستعداد الذاتي والاستعداد
الأولي الثاني اختلاف الادراكات والملكات والأحوال المكتسبة
بواسطة الأعمال ويرجع سلسلة استنادها إلى استعداد الذاتي و
يعرف بعض الكلام في هذا مما مر في سابقه وينبغي أن يسمى هذا
النوع من الاستعداد بالاستعداد الكسبي والثانوي ومن هذا الباب
زيادة الهدى في حق المؤمن وربط قلبه وتثبيته ونحوها المشار
إليها في قوله تعالى إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على
قلوبهم وقوله تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم
وقوله تعالى ومن يؤمن بالله يهد قلبه وقوله تعالى يثبت الله الذين
آمنوا بالقول الثابت وأما قوله تعالى وهو الذي حبب إليكم الايمان
وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان فيمكن أن
يكون منشأه هذا النوع من الاستعداد والاستعداد الذاتي وكذلك
من هذا الباب الطبع في حق الكافر وأشباهه المشار إليها في قوله
تعالى ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم وقوله تعالى و
قالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم وقوله تعالى وأشربوا في
قلوبهم العجل بكفرهم وقوله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم و
قوله تعالى جعلنا قلوبهم قاسية وقوله جعلنا بينك وبين الذين لا
يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و
في آذانهم وقرا وقوله جعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا
فأغشيناهم فهم لا يبصرون وقوله إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا
لهم أعمالهم إلى غير ذلك وأما ما أشير إليه في قوله تعالى ولقد ذرأنا
لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم
أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم
أضل أولئك هم الغافلون فالظاهر أن منشأه الاستعداد الذاتي و
اعلم أن الدواعي و
ما يستند إليه من الادراكات والملكات والأحوال بكل نوعيها
المتقدمين وإن كانت شرائط لصدور الافعال من النفس إلا أن لها عند
التحقيق نوع إعداد لها في صدور الافعال التي تناسبها منها على وجه
الاختيار فما كان منها معدا لصدور الخير يسمى إنعام العبد به
بدون إعطائه ما يعارضه توفيقا وهو تفضله تعالى على العبد زائدا
على القدر المعتبر في صحة تكليفه بما يصدر منه معه الطاعة وعمل
الخير وقد يسمى تأييدا أو هداية قال الله تعالى وأيدهم بروح منه و
قال لعيسى بن مريم إذ أيدتك بروح القدس وقال لنبيه صلى الله
عليه وآله إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء و
تخصيص البعض به لاختصاص الأهلية بهم كما يدل عليه برهان
الحكمة و
امتناع الترجيح من غير مرجح قال الله تعالى وألزمهم كلمة التقوى و
كانوا أحق بها وأهلها ويختلف مراتبه باختلاف مراتب الأهلية كما
قال تعالى في حق أنبيائه ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وقال
في حق ملائكته وما منا إلا له مقام معلوم وما كان منها معدا
لصدور الشر يسمى إعطاؤه بدون الانعام عليه بما يعارضه خذلانا و
استدراجا قال تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وقال إنما
نملي لهم ليزدادوا إثما وتوضيح ذلك أن النفس منبع الشرور و
الشهوات كما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام إن النفس
لامارة
بالسوء إلا ما رحم ربي فإن تركت بحالها لم يصدر منها باختيارها إلا
القبائح والمعاصي وإن أنعم عليها بما يعارض به دواعيها و
شهواتها سلمت من مفاسدها قال تعالى لنبيه ولولا أن ثبتناك لقد
كدت تركن إليهم شيئا قليلا وقال ولولا فضل الله عليكم ما زكا
منكم من أحد أبدا وقال الصادق لعمرو بن حريث حين عرض عليه
دينه فأقره
329

عليه لا تقل إني هديت نفسي بل الله هداك ويساعد على ذلك ظاهر
قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن
نفسك وإن كان الكل منه تعالى باعتبار وقوعه بمشيته وقضائه كما
قال جل شأنه قبل ذلك قل كل من عند الله ولا ينافي تعميم الآية
لمحل البحث كون الحسنة والسيئة في صدور الآية بمعنى الرخاء و
الشدة أو الرخص والجدب ونحو ذلك لا بمعنى الطاعة والمعصية
لأنهم ما كانوا يسندون طاعتهم إلى الله ومعاصيهم إلى النبي صلى الله
عليه وآله ذلك لما تقرر سابقا من أن العبرة بعموم اللفظ لا
بخصوص المورد مضافا إلى مساعدة بعض الاخبار على ذلك إذا
عرفت ذلك تبين عندك أنه تعالى أولى بحسنات العبد منه وأن العبد
أولى بسيئاته منه تعالى كما ورد في الحديث ويمكن أن يعبر عن ذلك
بوجه آخر وهو أن الوجود على ما تقرر في محله منبع الكمالات
والخيرات كما أن الماهية منبع النقائص والشرور فإذا قوي جانب
الوجود وغلب على الماهية غلب آثاره على آثارها على حسب ما فيه
من القوة وبالعكس وحيث إن الوجود منه تعالى لأنه فعله فهو أولى به
وبآثاره كما أن الماهية حيث كانت من العبد لان حقيقته وذاته
فهو أولى بها وبآثارها الثاني يطلق الاستطاعة في حقنا تارة على
الاستطاعة المقارنة لمتعلقها من الفعل أو الترك وهذه استطاعة تامة
فعلية مقارنة لأثرها زمانا متقدمة عليه رتبة كتقدم حركة اليد على حركة
المفتاح وأخرى على الاستطاعة المتقدمة على الفعل أو الترك
وهذه استطاعة ناقصة لتوقفها على حصول أمور غير حاصلة وهي غير
مستطاعة للعبد وإن كان التقدير حصولها كبقائه وبقاء ما
كان حاصلا من القدرة وشرائطها الحاصلة وحدوث ما كان منها غير
حاصل كزمان الفعل وغيره والعبد في هذه الاستطاعة يتساوى
إليه نسبة الفعل والترك بخلافه في الاستطاعة السابقة فإنه لا يتمكن
بها إلا على ما أوقعه بها من فعل أو ترك لامتناع رفع الواقع وقد
يطلق الاستطاعة على ما يعم القسمين وحيث إن الاستطاعة الأولى
هي الاستطاعة الحقيقية ورد في بعض الاخبار نفي استطاعة العبد
قبل الفعل و
نفيها عن غير ما فعله كما قال الصادق عليه السلام لرجل من أهل
البصرة إن الله خلق خلقا فجعل فيهم آلة الاستطاعة ثم لم يفوض إليهم
فهم مستطيعون للفعل وقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل فإذا
لم يفعلوه لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلا لم يفعلوه لان الله أعز
من أن يضاده في ملكه أحد الحديث وقوله لان إلخ تعليل لقوله لم
يفوض كما هو واضح الثالث قضية البراهين العقلية التي تقدمت
الإشارة إليها أن ما صدر منه تعالى من خلقه لشئ أو ترك خلقه لشئ
لا يكون إلا لحكمة مرجحة وجهة محسنة فإنه لا يصدر منه تعالى
إلا الجميل ولا يلزم وضوح حكمته عندنا بلى نذعن بثبوتها إجمالا و
إن خفيت تفاصيله وعلى مدركات عقولنا ومنه يظهر صحة ما
ذكره بعض الحكماء الفلاسفة من أنه ليس في الامكان أبدع مما كان و
لا فرق في ذلك بين خلق المكلفين وغيرهم ولا في خلق المكلفين
بين خلق الكافر منهم وغيره إلا أن لبعضهم في خلق الكافر شبهة
معروفة وهي أن ذات الكافر إذا كانت مستعدة لصدور الكفر و
الطغيان منها بحيث يستحيل انفكاكها عن ذلك في الخارج ولو
بواسطة القدرة والاختيار وكان ذلك موجبا لخلوده في النار و
مستلزما لبقائه في العذاب المستدام فأي فائدة في خلقه وإيجاده و
الحال هذه بل الراجح حينئذ ترك إيجاده فإن العقلا يؤثرون عدم
مثل هذه الذات على وجودها ويرجحونه عليه وأما المؤمن الفاسق
فالخطب بالنسبة إليه هين لأنه وإن ابتلي برهة من الدهر بفضائح
أعماله إلا أن فوزه بعد ذلك بالنعمة الأبدية المترتبة على إيمانه مما
يرجح حكمة خلقه والجواب أن إيجاده تعالى للكافر إحسان منه
بالنسبة إليه حيث أوجده قادرا ومتمكنا من الايمان والفوز بثمراته من
النعيم الأبدي وعرفه ذلك وهداه إليه وكون ذاته مقتضية
لاختياره الكفر بعد إتمام الحجة عليه والوقوع في العذاب الأبدي لا
يصير إحسان الوجود قبيحا في حقه بل الانكار إنما يتوجه عليه في
صدور
مقتضيات العذاب منه لاستناده إلى اختياره وقدرته وترجيح العقلا
عدمه على وجوده ليس بالنسبة إلى موجده بمعنى أن موجده لو
ترك إيجاده لكان أولى بل بالنسبة إلى ذات الكافر بمعنى أنها لو كانت
معدومة كان أولى لها من كونها موجودة وكذلك الحال في كل
تكليف لا يلتزم المكلف بامتثاله فإن التكليف بالنسبة إلى المكلف
راجح بمعنى أن صدوره عنه أولى من عدمه للحكم الداعية إليه و
بالنسبة إلى المكلف مرجوح بمعنى أنه لو لم يكلف لكان أولى له و
أيضا قد يشتمل خلق الكافر على منافع عظيمة عائدة إلى المؤمن من
حيث تحمله أذاه ومعاداته إياه فلو ترك إيجاده لادى إلى تفويت حق
المؤمن وإضاعة ما يستعد له من الفوز بأجر الصبر على المشاقة و
تحمل بلوى المجاهدة وربما يعد مثله ظلما في حقه وقد يجاب عن
ذلك بأجوبة أخر بظاهرها ظاهرة الوهن لا جدوى في التعرض لها
هذا واعلم أنه قد يتوهم أن الحجة المذكورة على تقدير صحتها لا ترد
على الجبائية لان اللاوم والاتفاقي قد يكون لهما جهات و
اعتبارات وضعفه ظاهر لان اللازم والاتفاقي إذا لم يكن صدورها
بالاختيار امتنع اتصافهما بالحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه لما
مر من أن الفعل الغير الاختياري لا يوصف بهما بالاتفاق ثم اعلم أن
الدليل المذكور لو تم لكان أخص من المدعى لان مفاده نفي التحسين
والتقبيح في أفعال العباد فقط والمقصود نفيهما مطلقا الثاني في كيفية
ثبوت التحسين والتقبيح وقد عرفت أنهم اختلفوا في أن
لحوقها للأفعال هل هو لذواتها أو لصفات لازمة لها أو لصفة في القبيح
دون الحسن أو بالوجوه والاعتبار والتحقيق أن من الافعال ما
يتصف بالحسن بالذات كحسن الايمان ومن هذا
330

حسن التخلق بالأخلاق الجميلة كالجود والشجاعة ومنها ما يتصف
بالقبح بالذات كقبح الكفر ومن هذا الباب التخلق بالأخلاق الردية
كالبخل والجبن ومنها ما يتصف بهما بالوجوه والاعتبار وهو الغالب
كضرب اليتيم ظلما وتأديبا وقتل النفس ظلما وحدا وتناول
المحرمات تشهيا وتداويا إلى غير ذلك مما لا حصر له وهذا بعد
التنبيه عليه مما لا خفاء فيه ثم الذي يظهر من كلمات القوم في المقام
و
غيره أن القائلين بالذاتية يريدون به أن الحسن والقبح مستندان إلى
ماهية الفعل أعني تمام حقيقته وأن القائلين بأنهما لصفات لازمة
يريدون أنهما مستندان إلى صفات غير مفارقة لتمام حقيقة الفعل ولو
بحسب الخارج ولهذا أوردوا عليهم بما سيأتي إيراده ويؤكد
ذلك ما نقلوه عنهم في مبحث النهي من منعهم اجتماعه مع الامر في
الجنس الواحد واعتذار بعضهم عن اجتماعهما في السجود باعتبار
وقوعه له تعالى وللضم بأن مورد النهي تعظيم الصنم وهو خارج عن
حقيقة السجود وأما الذاتي بالمعنى الذي يقابل به العرضي كما هو
المتداول في ألسنة أهل الميزان فليس بمراد هنا قطعا إذ لا يذهب وهم
إلى أن الحسن أو القبح جز من ماهية الفعل أو تمام حقيقته وقد
يوجه كلامهم بأنهم يريدون أن الحسن والقبح من اللواحق الذاتية
للأفعال المقيدة بالجهات الخاصة أعني الأصناف فيجعلون الحسن
ذاتيا
للطم اليتيم المقيد بكونه على وجه التأديب والقبح ذاتيا للطمه المقيد
بكونه على وجه التعذيب وهكذا ومنه يظهر توجيه القول بأنهما
الصفات لازمة للفعل أيضا ويفرق بينهم وبين قول الجبائية بأن
الجبائية يجعلون التأديب والتعذيب جهتين تعليليتين لحسن اللطم و
قبحه فيحكمون بحسن اللطم تارة لكونه تأديبا وقبحه أخرى لكونه
تعذيبا وهذا التوجيه وإن كان في نفسه قريبا مخرجا لمقالة
القائلين بالذاتية وبالوصف اللازم عن وضوح الفساد واتضاح البطلان
إلا أنه مخالف لما هو المتداول نقله عنهم في المقام وغيره كما
عرفت وحيث إنا لم نقف على كتب أصحاب هذا المذهب فالتعويل
إذن في معرفة مقالتهم على ما حكاه الأكثرون لكن قد يشكل
عليهم حينئذ بأن فعل الجوارح منحصر في الحركة والسكون وهما
تمام حقيقة ما تحتهما من الافراد وإن اختلفت بالعوارض الضعيفة و
الشخصية وهذا في السكون واضح وأما الحركة فإن قلنا بأن القوي
منها يخالف الضعيف في أمر عرضي فحكمها حكم السكون وإن قلنا
بأنهما يختلفان في الذاتي كانت الحركة حينئذ جنسا لما تحتها من
الأنواع المختلفة بالشدة والضعف إلا أن الشدة والضعف مما لا
مدخل
لهما ولو غالبا في التحسين والتقبيح مع أن حقيقة الشدة على هذا
القول راجعة إلى حقيقة الحركة فيلزمها ما يلزمها فيكون منشأ
التحسين والتقبيح هو نفس الحركة وهي تمام حقيقة هذه الحركة و
حينئذ فإن قلنا بأنهما ذاتيان لزم أن يكون الحركات بأسرها إما
متصفة بالحسن أو القبح وكذلك الحال في السكون وفيما يتركب منه
ومن الحركة فلا يمكن أن يتحقق بالنسبة إلى كل نوع إلا حكم
واحد وأما كل صنف من الحركة والسكون إذا جعل مركبا مع صنف
آخر من نوعه فلا يصح أن يخالف حكمه لحكم النوع لاتحادهما في
تمام الحقيقة التي هي منشأ الحكم واختلافهما في العوارض الصنفية
لا تؤثر فيه بناء على القول بالذاتية وجوابه منع انحصار الفعل في
الحركة والسكون فإن ما يلحقهما من العوارض الصنفية والشخصية و
ما يتسببان لحصوله كالتأديب والتعذيب في الضرب أيضا من
فعل المكلف ضرورة استناد الجميع إلى جعله وتأثيره وإن كان في
البعض بواسطة ولها في حد أنفسها حقائق متكثرة فقضية عدم خلو
الافعال عن الحسن والقبح الذاتيين اتصاف تلك العوارض من حيث
ذواتها بأحد الوصفين أيضا غاية ما في الباب أن يكون للحركة مثلا
في حد ذاتها حكم وللخصوصية الصنفية اللاحقة لها ككونها حركة
صلاتية أو غصبية حكم ولما تتسبب له الحركة مثلا حكم وهكذا و
الظاهر أن أصحاب هذا القول لا يتحاشون عن ذلك كما سيأتي فيندفع
الاشكال ثم إنهم أوردوا على القائلين بالذاتية وبالصفة اللازمة
أمرين الأول أنهما لو كانا ذاتيين أو لصفة لازمة لها لزم أن لا يكون الفعل
الواحد
حسنا تارة وقبيحا أخرى والتالي باطل أما الملازمة فلاستحالة تخلف
ذاتي الشئ عنه على ما تحقق في محله وأما بطلان التالي فواضح
ضرورة أن الكذب قبيح وقد يحسن إذا كان فيه عصمة نبي من ظالم أو
إنقاذ بري من باغ إذا انحصر طريق التخلص فيه إلى غير ذلك
مما لا حصر له وعليه يبتني مسألة جواز النسخ المتفق عليه بين أهل
الاسلام وأما الاعتذار بأن الكذب في الفرض المذكور ارتكاب لأقل
القبيحين فإن أريد أنه باق فيه على صفة القبح بمعنى كون فاعله
مستحقا للذم كما هو المعنى المبحوث عنه فمخالف لحكم الضرورة
إذ لا
مندوحة عن الفعل والترك فكيف يترتب الذم على كل منهما مع أن
ذلك يؤدي إلى التكليف بالمحال بناء على استتباع الحسن والقبح
للتكليف على حسبهما كما هو المعروف بين العدلية وإن أريد زوال
وصف القبح بالكلية لمصادمة جهة أخرى أقوى من جهة فقد بطل
دعوى الاستناد إلى الذات أو لازمها لان ما بالذات لا يتخلف إلا أن
يراد كون الذات علة له لو لم يمنع منه مانع لا مطلقا وحينئذ فيجوز له
التخلف ويسقط الايرادان إلا أنه خلاف ما فهمه القوم من كلامهم
الثاني أنهما لو كانا ذاتيين أو لصفة لازمة لاجتمع النقيضان في قول من
قال لأكذبن غدا والتالي باطل بيان الملازمة أن القول المذكور لا يخلو
إما أن يكون صادقا أو كاذبا وعلى التقديرين يجتمع فيه صفتا
الحسن والقبح أما على تقدير صدقه فلحسنه حينئذ من حيث كونه
صدقا وقبحه من حيث استلزامه وقوع متعلقه من الكذب وهو قبيح
فيقبح ما يستلزمه لان مستلزم القبيح قبيح وأما على تقدير كذبه فلانه
قبيح حينئذ من حيث كونه كذبا وحسن من حيث استلزامه لعدم
331

وقوع متعلقه من الكذب وترك القبيح حسن فيحسن ما يستلزمه و
بالجملة فكل من الصدق والكذب في الفرض المذكور حسن وقبيح
باعتبار نفسه وباعتبار لازمه فيجتمع الوصفان في كل منهما وفي
القول المتصف بأحدهما وهما متناقضان إما لان القبح عدم الحسن
أو لأنه يستلزمه فيلزم من اجتماعهما في القول المذكور اجتماع
المتناقضين فيه وهو المقصود بالتالي وأما بطلانه فواضح وقد يقرر
اجتماع المتناقضين في كلام الغد لأنه على تقدير كونه صادقا يكون
حسنا من حيث الصدق وقبيحا من حيث استلزامه لكذب كلامه
السابق وعلى تقدير كونه كاذبا يكون قبيحا من حيث الكذب وحسنا
من حيث استلزامه لصدق الكلام السابق ولو منعت قبح مستلزم
القبيح ما لم يكن علة اندفع الاشكال بالتقادير الثلاثة الأول وبقي
الاشكال على التقدير الأخير وهو كاف في الابطال وقد يتخيل أن
الايراد المذكور إما مشترك الورود على غيرهم أو مشترك الاندفاع
عنهم وعن القول بأنهما لصفة لازمة وذلك لان القائلين بالوجوه
والاعتبار إن جعلوا الحسن والقبح لاحقين لنفس الفعل لزم الاشكال
المذكور لامتناع أن يتصف فعل واحد بالحسن والقبح وإن كان
اتصافه بهما بالوجوه والاعتبار ضرورة تنافيهما وإن جعلوهما لاحقين
للفعل مأخوذا مع كل من الجهتين على الانفراد فيجري مثله على
القول بالصفة اللازمة فإن الفعل المأخوذ مع إحدى الصفتين غيره
مأخوذا مع الأخرى فلا يتم الايراد على هذا القول أيضا وضعفه ظاهر
إذ للقائل بالوجوه والاعتبار أن يجعل كلا من الكلامين حسنا بمعنى
كونه خلوا عن القبح لمكان التدافع بين الجهتين إن كان لا يرى
رجحانا لإحداهما وإلا تعين عنده ترجيح الأقوى ونفى الأضعف و
كيف كان فلا يلزم من مذهبه الاجتماع إذ ليسا عنده من الصفات
اللازمة بل حسن الصدق وقبح الكذب عنده بالوجوه والاعتبار ولهذا
قد يقبح الأول عنده ويحسن الثاني وأما الاعتذار بأخذ الجهة
تقييدية لا تعليلية فغير مجد
نفعا وذلك لان الجهة إذا أخذت تقييدية للفعل فالحسن والقبح إما
يلحقان المقيد بشرط القيد أو المجموع المركب وكلاهما محال أما
الأول فواضح للزوم الاشكال المذكور عليه من اجتماع المتناقضين و
لا أثر لاختلاف المقيد مع اجتماع القيدين واتحاد المقيد قطعا وأما
الثاني فلان تعلق الحسن بالمركب يقتضي تعلقه بأجزائه في ضمن
المركب وهو ينافي تعلق القبح به في ضمن مركب آخر مع اجتماع
التركيبين للزوم اجتماع المتناقضين في الجز كما مر إذ لا فرق في
ذلك بين التعلق الاستقلالي وغيره مع أن إحدى الجهتين هنا غير
لازمة للفعل فلا يستقيم استناد القبح إليها على ظاهر مذهب القائلين
بأنهما لصفات لازمة فصل ومما يتفرع على المسألة السابقة مسألة
التكليف بالمحال وقد اختلفوا فيه إلى أقوال ثالثها التفصيل بين
الممتنع الذاتي وغيره فمنع منه في الأول دون الثاني واختاره
الحاجبي
ورابعها التفصيل بين ما إذا استند الامتناع إلى اختيار المكلف وغيره
فجوز في الأول دون الثاني واختاره جماعة من أصحابنا و
المختار عندي هو المنع مطلقا وموضع النزاع ما إذا لم يستند الامتناع
إلى إرادة المكلف بالنسبة إلى الزمن الذي لم يرتفع فيه تمكنه منه
وأما إذا استند الامتناع إلى إرادته فمع بقاء التمكن على الفعل مما لا
نزاع لاحد في جواز التكليف به فإن الممتنع بالاختيار لا ينافي
الاختيار كالواجب به لنا أن التكليف بالمحال قبيح بأقسامه فيمتنع
صدوره منه تعالى أما الأول فلقضاء الضرورة به بعد ثبوت الأصل
المتقدم من الحسن والقبح العقليين فإن العقلا يعدون طلب المحال
واقتضاءه لغوا ويرمون فاعله إلى السفه وأما الثاني فلان علمه
تعالى وحكمته وغناه يحيل صدور القبيح منه وذلك واضح حجة
القائلين بجواز التكليف بالمحال مطلقا أنه تعالى كلف الكافر بالايمان
مع أنه ممتنع في حقه لأنه لم يرده منه ولأنه تعالى علم بكفره ويمتنع
الجهل في علمه تعالى وأنه تعالى كلف أبا لهب بالايمان بجميع ما
جاء به النبي صلى الله عليه وآله مع أن من جملة ما جاء به النبي صلى
الله عليه وآله أنه لا يؤمن فيجب عليه
الايمان بأنه لا يؤمن وهو محال وأن التكليف بالمال مقدور في نفسه و
لا مانع منه إلا قبحه العقلي وقد مر نفيه والجواب أما عن الأول
فبأن عدم إرادته تعالى إيمان الكافر إن كان بمعنى عدم رضاه به
فممنوع كيف وقد قال جل شأنه ولا يرضى لعباده الكفر وإن كان
بمعنى عدم مشيته وتقديره فلا ينافي كونه باختيار الكافر وإرادته و
قدرته كما مر فلا يكون تكليفا بالمحال وأما عن الثاني فبأن
علمه تعالى وإن استحال انفكاكه عن المعلوم لكنه لا ينافي قدرة
الكافر وتمكنه كما مر بيانه فلا يكون تكليفه بخلاف المعلوم تكليفا
بغير المقدور وأما عن الثالث فبأن أبا لهب لم يكلف بالايمان بأنه لا
يؤمن بل إما أن يكون قد أخفي عنه هذا الاخبار وكلف بالايمان
بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله إجمالا أو كلف بالايمان
بما عدا ذلك أو كلف بالايمان في زمن سابق بأنه لا يؤمن في زمن
لاحق على أن هذه الوجوه الثلاثة لو تمت لدلت على وقوع التكليف
بالمحال وهم لا يقولون بوقوعه على ما حكاه بعضهم ومع ذلك
فبطلانه معلوم من قوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لا يكلف
الله نفسا إلا ما آتاها إلى غير ذلك وأما عن الرابع فبما مر بيانه
احتج الحاجبي على جوازه في غير الممتنع الذاتي ببعض ما مر وعلى
امتناعه في الممتنع الذاتي بأنه مما يمتنع تصور وقوعه فيمتنع
التكليف به فإن التكليف بالشئ عبارة عن استدعاء حصوله فيتوقف
على تصوره وتصور حصوله تصور للشئ على خلاف ماهيته و
هو محال ثم أورده على ذلك إيرادين تعرض لدفعهما الأول أن
المستحيل كالجمع بين الضدين لو لم يمكن تصوره لم يمكن وصفه
بالاستحالة لان العلم بصفة الشئ فرع تصوره وأجاب عنه بأن الجمع
المتصور هو الجمع بين المختلفات وهو الذي
332

حكم بنفيه وبأن الممتنع هو تصوره مثبتا لا مطلقا والذي يلزم من
ذلك إمكان تصوره منفيا لا مطلقا فلا منافاة وتوضيح ذلك على ما
حققه بعضهم هو أن المستحيل مما يمتنع أن يحصل له صورة في
العقل كأن يتصور شئ هو اجتماع النقيضين أو اجتماع الضدين
فتصوره إما على سبيل التشبيه بأن يلاحظ بين المختلفين كالسواد و
الحلاوة وصف الاجتماع ثم يقال مثل هذا الوصف لا يمكن حصوله
وبينهما أو على سبيل النفي بأن يعقل أنه لا يمكن أن يوجد مفهوم هو
اجتماع السواد والبياض هذا ولا يخفى ما فيه لأنه إن أريد
باستحالة تصور المستحيل الذاتي استحالة حصول صورته في الخيال
فمسلم لكن نمنع توقف الطلب على إمكان حصول صورة المطلوب
في الخيال وإنما يتوقف على إمكان تصوره في الجملة وإن أريد
استحالة حصول صورته في العقل كما صرح به في التوضيح فممنوع
كيف وهذا المفهوم حاصل في العقل وحصوله فيه عبادة عن تصوره
وذلك لان دائرة العقل أوسع من دائرة الخيال والخارج من وجه
ولهذا يوجد الكليات بوصف الكلية في العقل ويمتنع تحققها في
الخيال والخارج وأما الوجه الثاني فضعفه ظاهر لان الحكم بالنفي
فرع تصور الطرفين كالحكم بالاثبات وأما ما يقال من أن السالبة لا
تستدعي وجود الموضوع مطلقا بخلاف الموجبة فإنها تستدعيه
فمعناه أن السالبة من حيث الصدق لا تستدعي وجود الموضوع
بحسب الظرف الذي اعتبر السلب بالنسبة إليه مطلقا بخلاف الموجبة
فإن
صدقها يستدعي وجود الموضوع بحسب الظرف الذي اعتبر الايجاب
بالنسبة إليه محققا أو مقدرا ومرجع ذلك إلى أن انتفاء شئ عن
شئ لا يستدعي وجود ما انتفي عنه بحسب الظرف الذي اعتبر
الانتفاء بالقياس إليه لا محققا ولا مقدرا سواء كان الظرف ذهنا أو
خارجا بخلاف ثبوت شئ لشئ فإنه يستدعي ثبوت ما ثبت له
بحسب الظرف الذي اعتبر الثبوت فيه بأحد الاعتبارين وليس المراد
أن
السالبة من حيث كونها حكما بالسلب لا يستدعي وجود الموضوع
مطلقا
كيف ومورد السلب إنما هو النسبة الحكمية كالايجاب وهي مما
يمتنع تعقلها بدون معقل طرفيها الثاني أنه لو امتنع تصوره لامتنع
الحكم الثبوتي عليه بأنه ممتنع أو معدوم فإن ثبوت شئ لشئ فرع
ثبوته ويكفي ذلك في صحة طلبه وأجاب عنه أولا بأن المستحيل
حينئذ هو الامر الخارجي دون الذهني المتصور فلا يكون المستحيل
هو المتصور وفيه أن الامر الذهني المتصور عنوان للامر الخارجي
المستحيل ومرآة لملاحظته فكيف يكون المتصور أي الملحوظ
بذلك العنوان غير المستحيل وإلا لاستحال الحكم عليه بالاستحالة و
ثانيا بأنه لو كان متصورا لكان ممكنا فيكون الحكم بالاستحالة على ما
ليس بمستحيل وفيه أن كون الشئ ممكن الوجود في الذهن لا
ينافي كونه ممتنع الوجود في الخارج فالحكم على الموجود الذهني
بالامتناع ليس من حيث كونه موجودا في الذهن لامكانه بهذا
الاعتبار بل باعتبار ما جعل مرآتا لملاحظته أعني وجوده في الخارج
فلا منافاة وكذا الحال في الحكم على الممتنع الذهني كحكمنا على
الوجود الخارجي بأنه ممتنع التحقق في الذهن فإنه حكم على العنوان
الموجود في الذهن باعتبار كونه آلة ومرآتا لملاحظة ما يمتنع
تحققه فيه فإن امتناع وجود أمر في الذهن لا ينافي إمكان وجود وجهه
فيه الحاكي عنه المعرف لأحكامه ولوازمه ومثله الكلام في
الحكم على ما ليس بموجود ذهنا وخارجا كقولنا المعدوم المطلق لا
يحكم عليه بشئ ولا يشكل بأن هذا أيضا حكم عليه لان المراد أنه لا
يحكم عليه باعتبار نفسه لا باعتبار وجهه وكذا الحال في الممتنع
وجوده ذهنا وخارجا كوجود الممتنع الخارجي وثالثا بأن الحكم
على الخارج بالامتناع يستدعي تصوره في الخارج وهو محال لأنه
تصور للشئ على خلاف حقيقته وفيه أن تصور المستحيل في
الخارج لا يوجب كونه تصورا له على خلاف حقيقته أي مفهومه كيف
والتقدير أنه تصور لمفهومه وإنما يوجب كونه تصورا له على
خلاف حقيقته بمعنى ما يمكن تحققه به والفرق واضح حجة
المفصلين في المحال بين ما يستند استحالته إلى اختيار المكلف
وغيره أما على منعه فيما لا يستند إلى اختيار المكلف فما مر من حجة
المنع وأما على جوازه فيما يستند استحالته إلى اختياره فهو أنه
لولاه لخرج كثير من أفراد الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا و
التالي باطل أما الملازمة فلان الواجب إذا توقف على مقدمات
مقدورة وتركها المكلف فلا يخلو إما أن يبقى التكليف في حقه وهو
التكليف بالمحال أو لا فيلزم أن لا يكون وجوب الواجب مطلقا بل
مشروطا بحصول تلك المقدمات وهو المراد بالتالي وأما بطلانه
فواضح وأن المستند على امتناع التكليف بالمحال هو قبحه العقلي و
هو لا يجري فيما إذا استند إلى اختيار العبد إذ لا يقطع العقل بقبحه
حينئذ والجواب عن الأول أنا نختار عدم بقاء التكليف بعد ارتفاع
القدرة ونمنع لزوم خروج الواجب المطلق حينئذ عن كونه واجبا
مطلقا إن اعتبر الخروج بالنسبة إلى زمن القدرة لعدم ما يوجبه حينئذ
وإن اعتبر بالنسبة إلى ما بعده فهو لا يوجب أن يكون الوجوب
مشروطا بل بقاؤه مشروطا ولا إشكال عليه إذ يكفي في عصيانه و
استحقاقه العقاب تفويته فعل الواجب بعد وجوبه بتقصيره واختاره و
لا يعتبر في ذلك اتصال التكليف بزمن ترك الواجب وببيان
أوضح الافعال التي تتولد من الفعل الاختياري بطريق الاضطرار
بأسرها مستندة إلى اختيار الفاعل الذي يستند إليه الفعل الاختياري
فهي اختيارية له بالنسبة إلى زمن اختياره السابق بمعنى أنه في زمن
وجود الاختيار له في الفعل الذي تولدت منه كان له أن يتسبب
لحصولها بفعله أو لعدمها بتركه وإن كانت اضطرارية بالنسبة إلى ما بعد
زمن حصول ذلك الفعل الاختياري حيث إنه لا يتمكن حينئذ
من التسبب لعدمها والتكليف الفعلي عندنا إنما يجوز أن يتعلق بها
فعلا أو تركا حال
333

الاختيار وأما بعد ارتفاعه فيمتنع بقاء التكليف بها ولا يلزم منه
وقوعها بلا حكم بالنسبة إلى زمن الاختيار كيف وهي مورد التكليف
الذي تحقق في ذلك الزمان وإنما اللازم وقوعها بلا حكم بالنسبة إلى
ما بعد زمن الاختيار إذ لا تكليف بها فيه فهي واجبة مثلا أو
محرمة بالايجاب السابق أو التحريم السابق كما أنها اختيارية بالاختيار
السابق وليست واجبة أو محرمة بإيجاب مقارن أو تحريم
مقارن كما أنها ليست اختيارية باختيار مقارن وقد مر التنبيه على ذلك
في بحث المقدمة وعن الثاني أن حكم العقل بقبح التكليف
بالمحال وطلبه يعم كلا من الصورتين كما يعمهما ما دل على عدم
وقوعه من الآيات والاخبار ولا فرق في ذلك بين التكليف الابتلائي
وغيره وربما فرق وهو ناشئ عن قلة التدبر نعم لا يقبح إيراد صورة
الامر حينئذ من باب التهكم والإهانة أو حمل المخاطب على
التحسر والتحزن كما في قوله قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا وقوله
تعالى ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون وأما ما ورد في
بعض الاخبار من أن من كذب في رؤياه متعمدا يكلفه الله يوم القيامة
أن يعقد شعيرة وما هو بعاقد فالظاهر أن التكليف هنا بمعنى
بيان طريق التخلص من عقوبة تلك المعصية أو للتنبيه على العجز عن
التخلص كالعجز عن عقد الشعيرة وربما يحتمل أن يكون عند
التكليف متمكنا من عقدها لكنه لا يفعله لصعوبته عليه حتى إنه
يستهل العقوبة بالنسبة إليه ولعله من ذلك وأمثاله نشأ الوهم
تتميم
نفي التكليف بالمحال يعم سائر المذاهب والأديان وأما التكليف بما
فيه عسر وحرج فنفي في شريعتنا ويدل عليه بعد الاجماع قوله
تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج وقال تعالى يريد الله بكم
اليسر ولا يريد بكم العسر وقال صلى الله عليه وآله بعثت بالحنيفية
السهلة السمحة إلى غير ذلك من الآيات والاخبار وبالجملة
فالمستفاد منها قاعدة كلية هي أنه تعالى لم يكلف هذه الأمة بالتكاليف
الشاقة وإنما كلفهم بما دون الطاقة فكل حكم يؤدي إلى العسر و
الحرج بالنسبة إلى أكثر موارده وأغلب أفراده مرتفع عنا من أصله
حتى بالنسبة إلى الموارد التي لا يترتب عليه فيها عسر وحرج إذ إناطة
الحكم حينئذ بصورة تحقق العسر والحرج مؤدية أيضا إلى
العسر والحرج أ لا ترى أنه لو أجيز لنا الاكل أو الشرب أو النظر أو النوم
أو الكلام أو المشي أو ما أشبه ذلك بقدر ما يندفع به العسر و
الحرج لادى إلى العسر والحرج وأما الاحكام التي لا تؤدي إلى ذلك
إلا نادرا فنفيها مقصور على الموارد التي يتحقق فيها العسر و
الحرج ومقدر بما يندفع به الضرورة كأكل الميتة في المخمصة و
شرب المتنجس عند العطش الشديد وما أشبه ذلك فلا يتعدى إلى
غيرها ولا فيها إلى ما يزيد على القدر الضرورة إذ إناطة دفع المنع هنا
بما يندفع به الحرج مما لا حرج فيه لندرة مورده قال جل شأنه
وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وقال تعالى ذكره
فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم ثم
إنه لما كان المستفاد من الآيات والاخبار المتعلقة بالمقام أن القاعدة
المذكورة مطردة في جميع جزئياتها غير مخصصة في شئ من
مواردها ليتم المنة على هذه الأمة من بين الأمم برفع الإصر عنهم كما
سيأتي التنبيه عليه فربما توجه الاشكال عليها باعتبار أن جملة من
الأعمال الشاقة قد ثبت التكليف بها في هذه الشريعة فلا بد من التنبيه
عليها وعلى دفعها فمنها الجهاد وهو من
أشق الأعمال لما فيه من تحمل الجروح وإتلاف النفوس والأموال و
وجوبه عند تحقق شرائطه معلوم من الدين والجواب أن المعتبر في
المقام ما يكون فيه حرج وضيق على أغلب الأنام فلا عبرة بالنادر
منهم نفيا وإثباتا ولا ريب أن الاقتحام في الحروب مما يستسهله و
يتعاطاه أكثر الناس لدفع العاد عن نفسه وحماية ماله أو من ينتسب إليه
من أهله وعشيرته أو لتشييد أركان من يصله ببعض العطايا و
ينعم عليه ببعض الهدايا بإذلال مخالفيه وإهلاك من يعاديه ولا ريب
أن هذه الدواعي متحققة في نفس المؤمن بالنسبة إلى جهاد الكفار
مع ما له فيه من رجأ الفوز بعظيم الاجر وجسيم الذخر فينبغي أن
يكون في حقه أسهل وكذا الحال في وجوب المدافعة عن النبي صلى
الله عليه وآله والإمام عليه السلام وتحمل ما يتوجه إليهما من
الأعداء من الطعن والنبل وغير ذلك وإن علم بأدائه إلى التلف كما
فعله
أصحاب الحسين عليه السلام أعلى الله درجتهم وشكر سعيهم يوم
الطف هذا ويمكن أن يقال يختلف صدق العمر والحرج باختلاف
المصالح المقتضية للتكليف بالفعل فرب فعل عسر يعد سهلا بالنسبة
إلى ما يترتب عليه من المصالح الجليلة وربما يعد ما دونه عسرا
بالنسبة إلى قلة ما يترتب عليه من المصالح أ لا ترى أن العبد مع كونه
معدا للقيام بمصالح سيده وحوائجه لو أمره بمسير أيام لتحصيل
مال يسير له كعشر درهم بحيث لا يكون مقصوده إلا تحصيل ذلك عد
ذلك حرجا وتضييقا على العبد ولو أمره بمسير شهر لتحصيل
أموال كثيرة له لم يعد حرجا وتضييقا عليه فكذلك العباد مخلوقون
للقيام بمحاسن الأعمال والتحرز عن قبائحها فإذا قل حسن الفعل
أو الترك وصعب على المكلف ولم يكن هناك ما يحسن تكليفه من
جهة الاختيار كان التكليف به حرجا وإذا كمل حسنه وتناهى فيه لم
يكن الامر به حرجا وإن صعب على المكلف ويشكل بأن مصالح
الامتثال لأوامره تعالى ونواهيه بأسرها جليلة لما فيه من الفوز
بالمثوبات الباقية والوصول إلى الدرجات العالية بل أقل
تلك المثوبات أعظم من تحصيل جل فوائد الدنيا بل كلها فينبغي أن
يستسهل فيه جميع الصعاب فلا يبقى أثر للقاعدة المسطورة وهو
مخالف للآيات المذكورة ويمكن دفعه بأن تلك المثوبات وإن كانت
في نفسها جليلة إلا أن أكثر العباد لحجبهم عنها وضعف يقينهم
بها مع غلبة حب الواجدة عليهم وتطبعهم على مراعاة المصالح
الظاهرية لو كلفوا بتحصيلها بمزاولة
334

أعمال شاقة عرية عن المصالح الظاهرية عد ذلك في العرف والعادة
حرجا وضيقا بخلاف ما لو كلفوا بتحصيلها بمزاولة أعمال شاقة
مشتملة على مصالح ظاهرة كالجهاد المشتمل على إطفاء نائرة القوة
الغضبية المنبعثة من المعادات الدينية مع ما فيه من تحصيل المنافع
الدنيوية فإن الامر بمثل ذلك لا يعد حرجا بل ربما يعد المنع منه في
حق كثير من الناس حرجا ومما يؤيد ما ذكرنا أن الشارع قد أباح
ارتكاب بعض المحرمات عند خوف الضرر اليسير كتناول الماء
المتنجس عند خوف حمى يوم مثلا بتركه ولم يبح بمثل ذلك الزنا لا
سيما بالمحارم كالأم والأخت ومنها مجاهدة النفس في اختيار دين
الحق ووجوبها معلوم بالضرورة وإن شق على النفس مشقة
مفرطة بل قد يكون أشق من إتلاف النفس ولهذا كان بعض الكفار
تمكن نفسه للقتل بعد الأسر ولا يختار الاسلام ليسلم منه ولولا
صعوبة الاسلام عليه من جهة حمية الجاهلية عليه بحيث يستسهل
دونه الموت مع ظهور ما فيه من المشقة الشديدة على النفس لما أصر
على
الكفر وقد حكى الله سبحانه عن بعض الكفار بقوله وإذ قالوا اللهم إن
كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو
ائتنا بعذاب أليم وقال بعض أهل النفاق النار ولا العار وكذا الحال في
وجوب دفع النفقات والصدقات الواجبة على من تناهى في البخل
وشح النفس فإنه قد يشق عليه دفعها مشقة لا يتحمل مثلها عادة ومع
ذلك يثبت الوجوب في حقه والجواب أن المشقة الناشئة من جهة
خبث الأخلاق ورذالتها غير معتبرة في المقام وإنما العبرة بالمشقة
الناشئة من جهة ضعف البدن أو صعوبة العمل في نفسه لان هذا هو
المتبادر من أدلة نفي العسر والحرج وحكمة الفرق بين الامرين ظاهرة
فإن المشقة في الأول ناشئة من قبل المكلف لا من قبل التكليف
ومن هنا يتجه أن يقال إن التكليف في الفرض المذكور لا يعد عرفا
تكليفا بما فيه ضيق وحرج أ لا ترى أن السلطان لو ألزم من تناهى
في البخل بدفع
الخراج لم يعد عرفا مضيقا عليه وإن شق على المعطي لبخله مشقة لا
يتحمل مثلها عادة ومن هذا البيان يظهر وجه نقض آخر عن تكليف
من يشق عليه الجهاد فإن منشأه غلبة صفة الجبن عليه وهي صفة
رذيلة لا عبرة بالمشقة الحاصلة من جهتها في المقام ومنها تمكين
النفس من القصاص والحد في موارد وجوب التمكين منهما مع ما
فيها من المشقة الشديدة بل هذه المشقة أشق من المشقة الشديدة
الواردة على النفس من الاغتسال في البرد الشديد مع أنه يحكم
بسقوط وجوبه حينئذ إذا كانت مشقة لا يتحمل مثلها عادة عملا
بالقاعدة
المذكورة ولهذا لو خير المكلف بينه وبين التمكين من القصاص مثلا
آثره عليه والجواب أن المتبادر مما دل على نفي العسر والحرج
نفيهما عن المكلفين ابتدأ دون ما يكون مستندا إليهم بسوء اختيارهم
ومن هنا يتجه أن يقال بوجوب الغسل في الفرض المذكور إذا
استند إلى تعمد المكلف سببه بعد دخول وقت التكليف نعم لو خاف
الضرر على نفسه حينئذ بمرض أو موت سقط الوجوب عنه بل حرم
عليه لا للقاعدة المذكورة بل لما دل على نفي الضرر وتحريم إلقاء
النفس في التهلكة في غير ما استثني ثم الظاهر أن نفي الحرج لم
يكن مطردا في جميع الأمم السابقة بل بعضهم كلفوا بالتكاليف الشاقة
كما يدل عليه قوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي
كانت عليهم وقوله جل شأنه ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على
الذين من قبلنا وظاهر ما ورد من أن بني إسرائيل إذا أصابهم البول
قرضوا أبدانهم بالمقاريض ولا ينافي ذلك أنهم كانوا أبسط منا جسما و
أتم قوة فيخرج تلك التكاليف في حقهم عن كونها شاقة مع ما
ورد في حديث المعراج من قول موسى عليه السلام لنبينا في عدد
الصلوات إن أمتك لا تطيق ذلك فيشترك نفي الحرج بيننا وبينهم لان
المستفاد من الآيات والاخبار أن تلك التكاليف كانت بالنسبة إليهم
شاقة وليس في الرواية على تقدير تسليمها ما يدل على طاقة غير
أمته صلى الله عليه وآله ذلك ولو سلم فلعل الوجه في عدم طاقتهم
ذلك
كونهم مكلفين بالمعاشرة وترك الرهبانية وتحصيل المعاش وذلك
مناف غالبا للقيام بوظائف الصلوات الكثيرة بخلاف بعض الأمم
السابقة فإن الرهبانية والعزلة كانت مشروعة في حقهم وربما كانت
أرزاقهم تنزل عليهم من السماء وكانت أبدانهم أصبر على الشدائد
والبلا وذلك لا ينافي المقصود ومن هنا يظهر أن العسر والحرج
منفيان عن شريعتنا بالكلية كما قررناه أولا لا أنهما منفيان بالنسبة
إلى أكثر الاحكام المقررة فيها وإلا لم يتحقق الفرق لثبوت مثله بالنسبة
إلى تلك الشرائع أيضا إلا أن يفرق بشيوع الابتلاء بمواردهما
في تلك الشرائع وعمومه للمكلفين بها وندرة مواردها بالنسبة إلى
شريعتنا واختصاصه بنادر من المكلفين وهذا مما لا محيص عنه
على تقدير المنع من بعض الأجوبة المتقدمة ولا ينافي نفي الحرج
قاعدة التحسين والتقبيح أما على ما نختاره في ذلك فواضح وأما
على
ما هو المعروف فلجواز أن يتجرد ما يشتمل عليه عنهما واعلم أن
الظاهر من أدلة نفي العسر والحرج انتفاؤهما في التكاليف الأصلية و
العارضية بأسباب سائغة فلا يتعلق النذر وشبهه بما يشتمل عليهما
حتى إنه لو خص مورده به لم ينعقد على الظاهر وكذا الحال في أمر
من يجب طاعته شرعا كالمولى فليس له إجبار مملوكه بما فيه عسر و
حرج إن كان مسلما أو بحكمه وأما الكافر والحيوان المملوك
فالمتجه فيهما الجواز إن لم يكن هناك دليل آخر على المنع ثم اعلم أن
نفي الحرج والضيق مختص بالايجاب والتحريم دون الندب و
الكراهة لان الحرج إنما هو في الالزام لا الترغيب في الفعل لنيل
الثواب إذا رخص في المخالفة ولهذا لا يحرم صوم الدهر غير العيدين
و
قيام تمام الليل والسير إلى الحج متسكعا وإيثار الغير
335

بالمال الذي لا يضطر إليه على النفس إلى غير ذلك مما لا حصر له بل
هذه درجة المتقين ومرتبة الزاهدين لا يسع القيام به إلا الأوحدي
من الناس بل الظاهر عدم جريانه في الواجب المخير أيضا إذا تجرد
بعض آحاده عن الجرح للبيان الذي سبق ثم إذا اشتمل الواجب
التعييني على مشقة شديدة لا يتحمل مثلها عادة فلا إشكال في سقوط
وجوبه التعييني وفي بقاء وجوبه على وجه التخيير لو كان له بدل
اضطراري حال عن المشقة كالغسل في البرد الشديد مع أمن الضرر أو
إبقاء رجحانه على وجه الاستحباب مع عدم البدل عند عدم قيام
دليل عليه وجهان من أن زوال الفصل يوجب زوال الجنس فيحتاج
إثباته في ضمن فصل آخر إلى دليل كما مر ومن الجمع بين الحكمة
القاضية بوجوب الفعل والحكمة القاضية بنفي الحرج وهو الأقوى و
يدل عليه ثبوت الرجحان قبل دخول وقت الواجب لعدم المانع فلا
يعقل تحريمه بعده
فصل ينقسم الحكم باعتبار الحاكم إلى شرعي وعقلي
فالحكم الشرعي ما جعله الشارع في الشريعة مما ليس بعمل فخرج
بقيد الشارع ما جعله غيره وبقولنا في الشريعة ما جعله في غيره
كالأوضاع الشرعية بناء على ثبوتها فإنها جعل في غير الشريعة وإن
كان الموضوع له مجعولا فيها وبالقيد الأخير مثل الصلاة و
الصوم مما جعله الشارع في الشريعة وليس بحكم وعرف في
المشهور بأنه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين من حيث
الاقتضاء أو
التخيير أو الوضع فالخطاب جنس وخرج بتقييده بالشرع خطاب غيره
وبقيد المتعلق بأفعال المكلفين الخطاب المتعلق بغير الافعال
كالذوات أو بأفعال غير المكلفين كفعله تعالى وينبغي أن يراد بالفعل
ما يتناول الترك وأفعال القلب ليدخل الأحكام الشرعية المتعلقة
بهما ومن منع تعلق التكليف بالترك فلا حاجة له إلى التعميم الأول و
بقيد الحيثية خطابه المتعلق بأفعال المكلفين لا بالحيثية المذكورة
كقوله تعالى ثم وليتم مدبرين والله خلقكم وما تعملون ولا فرق في
ذلك بين أن يجعل ما مصدرية أو يجعل موصولة وبعضهم خص
الاحتراز بالتقدير الأول ولا وجه له لتعلق الخطاب على التقديرين
بفعل المكلف ومن ترك قيد الحيثية كالغزالي فقد انتقض طرد حده
بدخول ذلك فيه وانتصر له العضدي باعتبار الحيثية في المكلفين ورد
به النقض بالآية الثانية من حيث إن الخطاب فيها ليس متعلقا
بأفعال المكلفين من حيث كونهم مكلفين وهذا لا يجدي في دفع
فساد حده لتوجه النقض عليه بالآية الأخرى وبمثل أنهم كانوا قوما
فاسقين وبخروج الأحكام الوضعية عنه والمراد بالاقتضاء وما يعم
اقتضاء الفعل والترك مع المنع من النقيض وبدونه فيتناول
الأحكام الأربعة التكليفية ويبقى الإباحة وهي المرادة بالتخيير و
يندرج الأحكام الوضعية في قولنا أو الوضع ومن ترك القيد الأخير
زاعما أن الأحكام الوضعية ليست بأحكام حقيقة وإنما تسمى أحكاما
باعتبار ما يلزمها من الأحكام التكليفية فقد خرج عن مسلك السداد
وارتكب ما هو معلوم الفساد لوضوح مساعدة عرف المتشرعة على
تسمية الجميع أحكاما حقيقة وعلى الحد المذكور إشكالات منها أنه
لا يتناول الأحكام المتعلقة بفعل النبي صلى الله عليه وآله خاصة و
هي المعبر عنها بخواصه صلى الله عليه وآله لعدم عمومها المكلفين
بل
لا يتناول الاحكام المختصة ببعضهم عليهم السلام كوجوب ستر
العورة على المرأة في الصلاة لعدم عمومها غيرها بل لا يتناول شيئا
من
الاحكام لعدم عمومه لجميع الافعال فإن الجمع المضاف كالجمع
المعرف باللام ظاهر في العموم والجواب أن المراد بالافعال و
المكلفين الجنس فإن الجمع المعرف قد يأتي لذلك كما مر وحينئذ
فيتناول الجميع لصدق الجنس على الجميع ويشكل بأنه مجاز ولا
قرينة عليه وورود الاشكال لا يصلح لها إلا أن يدعى مساعدة المقام
عليه ومنها أن خطاب الشرع قد يتعلق بفعل غير المكلف كصحة
عمل الصبي أو فساده وندبية الراجح وكراهة المرجوح وإباحة المباح
في حقه والجواب أن الصبي إن كان أهلا لتوجه شئ من
الخطابات التكليفية إليه فهو مندرج تحت عنوان المكلف إذ لا نعني به
إلا من توجه إليه خطاب بالحكم غاية ما في الباب عدم توجه
تكليف الخاص أعني الوجوب والتحريم إليه وهو لا ينفي صدق
عنوان المكلف عليه بالمعنى الأعم وإن لم يكن أهلا له إما عقلا كغير
المميز أو شرعا كالمميز عند من لا يعتد بعلمه فلا ريب أنه لا حكم في
حقه أصلا فلا يرد النقض إلا بالحكم الوضعي فإن ثبوته في حقه لا
يتوقف على توجه الخطاب إليه وسيأتي الجواب عنه ومنها أنه لا
يتناول الأحكام الوضعية المتعلقة بأفعال غير المكلفين ببينة إتلاف
المجنون لضمانه أو بغير الافعال كطهورية الماء ونجاسة الأعيان
المعهودة إلى غير ذلك والجواب أن المراد تعلقه بفعل المكلف في
الجملة سواء كان ابتدائيا أو ثانويا وتلك الخطابات وإن تعلقت بغير
المكلف ابتدأ إلا أن لها تعلقا بفعل المكلف بطريق الأول واللزوم ولو
شأنا فلا إشكال وفيه تعسف ثم هذا التعريف كما ترى إنما يتم
على مذهب الأشاعرة حيث أثبت الكلام النفسي وجعلوا منه الحكم
الشرعي وأما على ما يراه أصحابنا والمعتزلة من بطلان الكلام
النفسي فالصواب أن يعرف بما ذكرناه أو بمؤدى الخطاب المذكور ثم
الحكم التكليفي ينقسم إلى الأقسام الخمسة وقد مر وأما الحكم
الوضعي فقد قسم أيضا إلى أقسام خمسة السببية والشرطية والمانعية
والصحة والفساد وليس بمعتمد الخروج كثير من أحكام الوضع
منها كالطهارة والنجاسة والملكية والحرية والرقية والزوجية و
البينونة إلى غير ذلك وينقسم الحكم العقلي أيضا إلى تكليفي و
وضعي وينقسم الأول إلى أقسام خمسة لان العقل إذا أدرك الجهات
فإما أن يحكم بالحسن أو بعدمه و
336

هو الإباحة العقلية وعلى الأول إما أن يكون حكمه للفعل أو الترك و
على التقديرين إما أن يكون مع تقبيح النقيض أو بدونه وهذه
أحكام أربعة عقلية أعني الوجوب العقلي وحرمته وندبه وكراهته و
أما حكمه الوضعي فكحكمه بشرطية الفهم والقدرة للتكليف و
بسببية عدمهما لسقوطه وبصحة العمل الموقع على الوجه الذي أمر
به بكلا معنييها وغير ذلك ثم إنه قد اتضح مما قررنا في التقسيم
حدود الأحكام التكليفية الشرعية والعقلية وأن الواجب الشرعي ما
ألزم الشارع بفعله بمعنى أنه طلب فعله ولم يرض بتركه والواجب
العقلي ما حسن فعله عند العقل وقبح تركه والحرام الشرعي ما ألزم
الشارع بتركه بمعنى أنه طلب تركه ولم يرض بفعله والحرام
العقلي ما حسن تركه عند العقل وقبح فعله والمندوب الشرعي ما
طلب الشارع فعله مع الاذن في تركه والمندوب العقلي ما حسن فعله
عند العقل ولم يقبح تركه والمكروه الشرعي ما طلب الشارع تركه مع
الاذن في فعله والمكروه العقلي ما حسن تركه عند العقل ولم
يقبح فعله والمباح الشرعي ما رخص الشارع في فعله وتركه وخير
بينهما والمباح العقلي المقدور الذي لا حسن في فعله وتركه
فصل اختلف القائلون بالحسن والقبح العقليين في الملازمة بين حكم
العقل والشرع
فذهب الأكثرون إلى إثباتها مطلقا وصار آخرون إلى نفيها مطلقا و
فصل بعض فخص النفي بالأحكام المتعلقة بالفروع وأثبتها في
الأصول وذهب بعض الأفاضل إلى النفي في النظريات خاصة و
توقف شيخ الأشاعرة بعد التنزل عن أصله ولا بد أولا من تحرير محل
النزاع فنقول نزاعهم في المقام يرجع إلى مقامين الأول وهو المعروف
بينهم أن العقل إذا أدرك جهات الفعل من حسن أو قبح فحكم
بوجوبه أو حرمته أو غير ذلك فهل يكشف ذلك عن حكمه الشرعي و
يستلزم أن يكون قد حكم الشارع أيضا على حسبه ومقتضاه من
وجوب أو حرمة أو غير ذلك أو لا يستلزم ثم عدم الاستلزام يتصور
بوجهين الأول أن يجوز حكم الشارع بخلافه بأن يحكم العقل بإباحة
شئ وبعدم استحقاق فاعله الذم ويحكم الشارع بحرمته مثلا و
استحقاق فاعله الذم وعلى هذا فلا يستلزم حكم العقل حكم الشرع و
لا
حكم الشرع حكم العقل الثاني أن يجوز أن لا يكون للشارع فيما حكم
العقل فيه بوجوب أو حرمة مثلا حكم أصلا لا موافقا ولا مخالفا و
ذلك بأن تخلو الواقعة عن الحكم رأسا وعلى هذا فيجوز أن يكون
حكم الشارع عند هذا القائل مستلزما لحكم العقل بخلاف العكس
المقام الثاني أن عقولنا إذا أدركت الحكم الشرعي وجزمت به فهل
يجوز لنا اتباعها ويثبت بذلك الحكم في حقنا أو لا وهذا النزاع إنما
يتصور إذا لم يقطع العقل بالحكم الفعلي بل قطع بالحكم في الجملة
بأن احتمل عند اشتراط فعليته باستفادته من طريق النقل وأما لو
قطع بالتكليف الفعلي بأن أدركه مطلقا غير متوقف على دلالة سمعي
عليه فالشك في ثبوته غير معقول وهذا الوجه أيضا إنما يقتضي
منع استلزام الحكم العقلي للشرعي دون العكس ولا يذهب عليك أن
النزاع على التحرير الأخير يعم جميع ما يستقل بإدراكه العقل مما
يبتني على قاعدة التحسين والتقبيح وما لا يبتني عليها وعلى التحرير
الأول يختص بالقسم الأول وربما يقرر النزاع في أن العقل إذا
أدرك أن الفعل أو الترك مطلوب له تعالى بطريق الالزام أو بدونه
فهل يحكم بأنه موافق لما صدر عنه تعالى من الاحكام التي أنزلها على
نبيه صلى الله عليه وآله وأودعها النبي صلى الله عليه وآله عند
أوصيائه المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين أو لا أقول إن أريد
بالطلب والالزام ما يتناول الثاني أعني ما يحتمل عند العقل أن يكون
مشروطا بدلالة النقل عليه رجع إلى ما حررناه في المقام الثاني وإن
أريد الطلب والالزام الفعليين كما هو الظاهر من البيان المذكور
فظاهر والسقوط وذلك لان التحرير المذكور يتصور حينئذ على
وجهين الأول أن يكون النزاع في أن العقل إذا أدرك أنه تعالى أراد
فعل كذا في نفس الامر والواقع فهل يحكم أيضا بأنه أمر به فيما قرره
من الشريعة أو لا الثاني أن يكون النزاع في أن العقل إذا أدرك
مطلوبه ومراده فهل يدرك أن الواقع أيضا على حسب ما أدركه أو لا بل
يجوز أن يكون الامر على خلاف ما أدركه وكلا الوجهين متضح
الفساد أما الأول فلانه إنما يتصور المنع فيه على ما ذهب إليه الأشاعرة
من أن مدلول الامر يغاير الإرادة ولا يستلزمها وأما على ما
ذهب إليه الإمامية وغيرهم من أنه عينها أو يستلزمها فلا يعقل
الانفكاك فلا يتصور النزاع وأما الثاني فلان إدراك العقل للمطلوب إن
كان ظنيا فلا معنى لعدم تجويز المخالفة للواقع وإن كان قطعيا فلا
معنى لتجويز مخالفته له هذا إن اعتبر التجويز بالنظر إلى عقل
المدرك كما هو الظاهر وإلا فلا ريب في أن ظن أحد بالحكم أو قطعه
به لا يوجب من حيث إنه كذلك ظن غيره أو قطعه به إذا تقرر هذا
فالحق عندي في المقام الأول أن لا ملازمة عقلا بين حسن الفعل و
قبحه وبين وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه وإنما الملازمة بين
حسن التكليف بالفعل أو الترك وبين وقوعه نعم جهات الفعل من
جملة جهات التكليف فقد يقتضي حسن الفعل أو قبحه حسن
التكليف
به أو تبركه وقد لا يقتضي المعارضة جهة أخرى في نفس التكليف هذا
إذا أريد بالملازمة الواقعية منها ولو أريد بها الملازمة ولو
بحسب الظاهر فالظاهر ثبوتها لكن المستفاد من كلمات القوم إرادة
المعنى الأول
وسنشير إلى المعنى الثاني في أثناء المبحث وربما يظهر من بعض
المحققين موافقته لنا في الذهب وأما في المقام الثاني فالحق ثبوت
الملازمة في الظاهر وعدم ما يدل على عدمها في الواقع قلنا في
المقام الأول دعويان لنا على أولهما أمور الأول حسن التكليف
الابتلائي
فإن الضرورة قاضية بحسن أمر المولى عبده بما لا يستحق فاعله من
حيث إنه فاعله المدح في نظره استخبارا
337

لأمر العبد أو إظهار الحالة عنده غيره ولو كان حسن التكليف مقصورا
على حسن الفعل لما حسن ذلك واعترض عليه بعض المعاصرين
أولا بأن نفس الابتلاء أيضا مصلحة وإن لم يكن في نفس الفعل
مصلحة وثانيا بأن المراد بالامر قد يكون محض الامتحان كحكاية
إبراهيم عليه السلام فالمصلحة حينئذ إنما هو في الامتحان لا في
الفعل وثالثا بأن تخصيص فعل بالامتحان دون غيره يستدعي جهة
مقتضية ومصلحة معينة وإن لم يدركه عقولنا دفعا للترجيح بلا مرجح
ثم قال وبالجملة العقل تابع لما أفاده الشارع فإذا اطلع على طلبه
للفعل من حيث هو هذا الفعل حكم بحسن طلبه كذلك وإذا اطلع
على طلبه من حيث الامتحان حكم بحسن طلبه من حيث الامتحان
أقول أما
الاعتراضات التي أوردها على الدليل المذكور فواضحة السقوط أما
الأول فلان الابتلاء ليس من مصالح الفعل بل من مصالح الامر و
التكليف فإن تحمل المشاق من حيث كونه تحمل المشاق مما لا
حسن له وإنما الحسن في التكليف والالزام به في مقام يحسن فيه
الاختبار لا يقال موافقة التكليف أيضا جهة من جهات الفعل ومصلحة
من مصالحه بل راجحة على بقية جهاته ومصالحه لما فيه من
استجلاب منفعة الثواب ودفع مضرة العقاب الراجح على سائر
الجهات والآثار المترتبة عليه فبطل قولكم لا مصلحة في نفس الفعل
أو
الترك أو لا جهة مقتضية لأحدهما لأنا نقول ليس الكلام في الجهات
المتفرعة على التكليف بل في الجهات التي يتفرع عليها التكليف و
ليس منها الجهات المذكورة وإلا لدار فإن قلت المراد بجهات الفعل ما
يتناول جهات التكليف أيضا ككونه مما يحسن التكليف به فيسقط
الدليل ولا يلزم المحذور لان تلك الجهات مغايرة للتكليف وسابقة
عليه قلت حسن التكليف حينئذ لا يقتضي حسن الفعل بالعقل إلا
بواسطة صدور التكليف فيلزم على مقالة الخصم توقف صدور
التكليف على حسن الفعل المتوقف على صدور التكليف وهو الدور
وإن
أريد الحسن الثاني خرج عن محل البحث ولا كلام لنا فيه كما مر فإن
قيل التكليف الاختياري المقصود به استعلام حال العبد بالعصيان
والطاعة إذا تعلق بفعل فلا بد أن يتعلق به بقصد الامتثال لئلا يفوت
الحكمة الباعثة على التكليف
أعني الاختبار فإن موافقة الأمر والنهي لا بقصد الموافقة لا يتحقق
الاختبار فالمقصود بتلك التكاليف حقيقة إنما هو امتثالها ولا دور
لان وجود المأمور به مثلا موقوف على وجود الامر ووجوده موقوف
على تعقل المأمور به أعني الفعل المقصود به موافقة الامر لا على
وجوده وإلا لزم طلب حصول الحاصل وأما بحسب التعقل فهما
متلازمان لأنهما متضايفان وهو واضح وحينئذ فقضية القول بالملازمة
أن يكون للامتثال جهة محسنة له عقلا مع قطع النظر عن الشرع وهو
كذلك ضرورة أن امتثال أوامره تعالى ونواهيه حسن عند العقل
وإن قطع النظر عن حسنه الشرعي فلا يتم النقض قلنا حقيقة الامتثال
هو الاتيان بالفعل أو الترك لموافقة التكليف المتعلق به فعلا
فيتوقف إمكانه في حق المكلف على تحقق التكليف فيتوقف اتصافه
بالحسن أيضا عليه لامتناع تحقق الصفة بدون الموصوف فحسنه
متفرع على وقوع التكليف فلا يكون التكليف متفرعا على حسنه على
أنه لو تم الوجه المذكور لثبت به المدعى أيضا إذ حسن الامتثال لا
يختص بالافعال الحسنة وهو يوجب بطلان الملازمة وأما الثاني فلان
المراد بالمراد بالامر إن كان هو الغرض الداعي إلى الامر فهو
التزام بمقالتنا وليس فيه ما ينافيه وإن كان المراد به المطلوب بالامر
أعني المأمور به كما يقتضيه التفريع فواضح الفساد لان إبراهيم
عليه السلام لم يأمر بالامتحان كيف والامتحان من لوازم صدور
التكليف الابتلائي سواء فعل المأمور أو لم يفعل إذ على التقديرين
ينكشف حاله بالإطاعة والمعصية فيحصل الاختبار والامتحان وإن
أراد أن المطلوب منه مجرد امتحان ولده إسماعيل عليه السلام و
أنه راجح فمع عدم مساعدة سياق الآية عليه مما لم يذهب إليه ذاهب
ومع ذلك فلا تعلق له بالمقام كما لا يخفى وأما الثالث فلان
تخصيص فعل بالامتحان دون فعل لا يستدعي وجود مصلحة فيه
بمعنى كونه مما يستحق فاعله المدح من حيث كونه فاعله بل
يستدعي
كونه مما يتأتى به الامتحان
على القدر المقصود وهو يتبع مقدار مشقة الفعل وكلفته المراعى
باستعداد المكلف وأهليته فيجوز أن يكون تخصيص بعض الأفعال
لحصول القدر المقصود من الامتحان به دون غيره ولو قدر هناك أفعال
متساوية في ذلك جاز تعيين البعض بناء على جواز الترجيح
بلا مرجح ونلتزم على تقدير المنع بلزوم التكليف بالجميع على وجه
التخيير أو نقول لا بد من سبق البعض بالذكر فيستغنى به عن ذكر
الباقي وأما ما ذكره أخيرا من قوله وبالجملة فهو مخالف لما قرره أولا
من أن حسن التكليف تابع لحسن الفعل إذ محصل كلامه هذا أن
التكليف منه تعالى لا يقع إلا إذا كان حسنا وهذا حق لا ينافي ما قررناه
الثاني التكاليف التي ترد مورد التقية إذا لم يكن في نفس العمل
تقية فإن إمكانها بل وقوعها في الاخبار المأثورة عن الأئمة الأطهار
عليهم السلام مما لا يكاد يعتريه شوب الانكار وإن منعنا وقوعه
في حقه تعالى بل وفي حق النبي صلى الله عليه وآله أيضا فإن تلك
التكاليف متصفة بالحسن والرجحان لما فيها من صون المكلف أو
المكلف عن مكائد الأعادي وشرورهم وإن تجرد ما كلف به عن
الحسن الابتدائي وطريانه بعد التكليف من حيث كونه امتثالا وطاعة
لا يقدح في ذلك لان الكلام في الجهة المتفرع عليها التكليف لا الجهة
المتفرع على التكليف وليس التكليف هناك بالمصلحة كما توهم
مثله في الاختبار لأنها من لوازم التكليف كالاختبار دون العمل وليس
التكليف حينئذ صوريا محضا مجرد ألفاظه عن إرادة المعنى
لبعده عن مظان الاستعمال مع أن التكليف في الحقيقة
338

على حسب مؤدى تلك الألفاظ عند جهل السامع بخلافها فلا باعث
على صرفها عن ظاهرها وتجريدها عن معانيها مع صحة إرادتها نعم
يمكن إخراج ذلك عن موضع النزاع بتخصيصه بتكاليفه تعالى أو مع
تكاليف النبي صلى الله عليه وآله ولا يتطرق التقية هناك الثالث أن
كثيرا من الاحكام المقررة في الشريعة معللة في الحقيقة ولو بحسب
الظن أو الاحتمال بحكم غير مطردة في جميع مواردها ومع ذلك
فقد حافظ الشارع على عمومها وكليتها حذرا من الأداء إلى الاخلال
بموارد الحكم كتشريع العدة لحفظ الأنساب من الاختلاط حيث
أثبتها الشارع بشرائطها المقررة على سبيل الكلية حتى مع القطع بعدم
النسب أو بعدم الاختلاط كما في المطلقة المدخول بها دبرا أو
مجردا عن الانزال والغائب عنها زوجها أو المتروك وطئها مدة الحمل
وغير ذلك فإنه لو جعل المدار في ذلك على العلم أو الظن بعدم
النسب أو عدم الاختلاط لادى إلى تفويت الحكمة وحصول
الاختلاط في كثير من الموارد بالتلبيس أو الالتباس وكذا الحال في
تشريع
غسل الجمعة لرفع رياح الإباط مع ثبوت استحبابه مع عدمها وكراهة
الصلاة في الحمام لكونه مظنة للرشاش وفي الأودية لكونها مظنة
لمفاجأة السيل مع ثبوتها عند القطع بعدمهما إلى غير ذلك فهذه
الأمور فعلا أو تركا وإن كان حسنها الابتدائي مقصورا على الموارد
التي تشتمل على الحكم وقضية ذلك حسن التكليف بتلك الموارد
خاصة لكن لما كان في تعميم التكليف حكمة كمال المحافظة على
موارد الحكم حسن تعميم التكليف فحسن الفعل في الموارد التي
يتجرد عن الحكمة من جهة التكليف وليس حسن التكليف من جهته
وإلا
لدار ثم ما ذكرناه من أن الأحكام المذكورة معللة بتلك الحكم فقط إن
لم يكن مظنونا فلا أقل من كونه محتملا وهو كاف في إثبات ما
أردناه من نفي الملازمة إذ تجويز العقل ذلك ينافي حكمه بالملازمة
فإن قلت يمكن تقرير هذا الدليل أيضا بالنسبة إلى أكثر القواعد
المقررة والضوابط الممهدة في الشريعة المقدسة فإنها مما قد تتخلف
عن
مؤداها وتفارق مقتضاها ومع ذلك فقد قررها الشارع على سبيل
العموم والكلية كوجوب العمل بخبر الواحد والاستصحاب وشهادة
العدلين والاخذ بظاهر اليد وإقرار الكامل المختار وغير ذلك مما
يقطع بتخلفه عن إصابة الواقع ولا ريب أن العمل بتلك الضوابط إنما
يحسن ابتدأ مع إصابة الواقع فإن الحكم بمقتضى شهادة الزور وإبقاء
المرتفع وملكية اليد العادية وإقرار الكاذب قبيح لكن بعد
ملاحظة تعذر الوصول إلى الواقع غالبا وكون تلك الضوابط من
الامارات الموصلة إليه في الغالب يحسن عند العقل تأسيس تلك
الضوابط
ويحسن التكليف بالعمل بها حتى في مواضع التخلف مع عدم العلم
به لا لحسن العمل بها فيها بل لتحصيل فوائدها في صورة الإصابة كما
هو الغالب فحسن العمل بها في مواضع التخلف إنما هو بعد تعلق
التكليف بها من جهته قلت ليس شئ من ذلك مما نحن فيه لاتصاف
العمل بالجميع فيها بالحسن الابتدائي مع قطع النظر عن التكليف غاية
ما في الباب أن الحسن في غير الحسن منها لنفسه غيري نظرا إلى
اشتباه الراجح منها بغيره مع غلبته جهة الرجحان وليس فيه منافاة لما
ذكروه الرابع الأخبار الدالة على عدم تعلق بعض التكاليف بهذه
الأمة رفعا للكلفة والمشقة عنهم كقوله صلى الله عليه وآله لولا أن
أشق على أمتي لامرتهم بالسواك فإن وجود المشقة في الفعل قد
يقدح
في حسن الالزام به وإن لم يقدح في حسن الفعل وذلك حيث لا
يكون هناك ما يحسن الابتلاء ولا يكون في الفعل مزيد حسن بحيث
يرجح الالزام به مع المشقة كما في الجهاد فالفعل الشاق قد يكون
حسنا بل واجبا عقليا لكن لا يحسن الالزام به لما فيه من التضييق على
المكلف مع قضاء الحكمة بعدمه الخامس الصبي المراهق إذا كان
كامل العقل لطيف القريحة ثبت الاحكام العقلية في حقه كغيره من
الكاملين ومع ذلك لم يكلفه الشارع بوجوب ولا تحريم لمصالح
داعية إلى ترك تكليفه بهما من التوسعة عليه
وحفظ القوانين الشرعية عن التشويش وعدم الانضباط السادس أن
جملة من الأوامر الشرعية متعلقة بجملة من الافعال مشروطة بقصد
القربة والامتثال حتى إنها لو تجردت عنه لتجردت عن وصف
الوجوب كالصوم والصلاة والحج والزكاة فإن وقوعها موصوفة
بالوجوب الشرعي أو رجحانه مشروط بنية القربة حتى إنها لو وقعت
بدونها لم تتصف به مع أن تلك الأفعال بحسب الواقع لا تخلو إما
أن تكون واجبات عقلية مطلقا أو بشرط الامر بها ووقوعها بقصد
الامتثال وعلى التقديرين يثبت المقصود أما على الأول فلحكم العقل
بوجوبها عند عدم قصد الامتثال وحكم الشارع بعدم وجوبه وأما
على الثاني فلانتفاء الحسن قبل التكليف وحصوله بعده فلم يتفرع
حسن التكليف على حسن الفعل ولنا على الثانية أنه إذا حسن
التكليف ورجح وجب صدوره عنه تعالى لان علمه وحكمته وغناه و
قدرته تنافي وقوع خلاف ذلك منه سواء كان رجحانه رجحانا وجوبيا
أو ندبيا وربما توهم بعض الناس أن وجوب الصدور ينافي
ندبية الفعل لان الوجوب والندب وصفان متضادان يمتنع تواردهما
على محل واحد ومنشأ هذا الوهم عدم الفرق بين الوجوب بمعنى ما
يستحق تاركه الذم وبينه بمعنى ما يمتنع عدمه فالندبية إنما تنافي
الوجوب بالمعنى الأول والمعتبر في المقام إنما هو المعنى الأخير
فقد اتضح مما حققنا أنه لا بد في إدراك العقل موافقة حكم الشارع
واقعا لما أدركه من جهات الفعل من أن يدرك جهة التكليف وأن ليس
فيها ما يصلح لمعارضة جهات الفعل وأنه لا يكفي مجرد إدراك
جهات الفعل نعم قد يدرك العقل إجمالا أن ليس
339

التكليف ما يصلح لمعارضة جهات الفعل فيدرك موافقة حكم الشارع
لما أدركه من الجهات ولنا على المقام الثاني أن احتمال كون
التكليف أو حسنه مشروطا ببلوغه بطريق سمعي مع إمكان دعوى
كونه مقطوع العدم في بعض الموارد مما لا يعتد به العقل في إهمال
ما أدركه من الجهات القطعية لظهور أن الاحتمال لا يعارض اليقين لا
سيما إذا كان بعيدا وليس في السمع ما يدل على هذا الاشتراط لما
سنبينه من بطلان ما تمسك به الخصم وعدم قيام دليل صالح له سواه
ويدل عليه ظاهر قوله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن
المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث وغير ذلك مما
يأتي ومن هنا يتضح أنه لو جهل العقل جهات التكليف وأدرك جهات
الفعل حكم في الظاهر بثبوت التكليف عملا بعموم الآيات وما في
معناها من الاخبار ولأن قضية جهات الفعل وقوع التكليف على
حسبها إن لم يعارضها مانع ولا يكفي احتماله إذ المحتمل لا يصلح
في نظر العقل لمعارضة المقطوع به وقريب منه ما لو أدرك العقل
بعض جهات الفعل المقتضية لحسنه أو قبحه وشك في وجود جهة
فيه تعارض تلك الجهة فإنه يحكم بثبوت التكليف على حسبها ولا
يعتد باحتمال الجهة المعارضة إما لأصالة عدمها أو لحكم العقل بقبح
الفعل أو الترك والحال هذه حكما واقعيا وإن كان مبناه على
الظاهر ولهذا يستحق الذم عليه في حكمه وإن انكشف بعده وجود
الجهة المعارضة فيه فإن ارتكاب القبيح الظاهري قبل انكشاف
الخلاف قبيح واقعي كالحرام الظاهري أ لا ترى أن من علم بوجود
السم في أحد الإناءين فتجري على تناول أحد من غير ضرورة مبيحة
أنه يستحق الذم بذلك عقلا وأن يبين بعد ذلك أن الذي تناوله لا سم
فيه وحينئذ فيرجع هذا القسم إلى القسم السابق ويتناوله أدلته و
من هذا الباب حكم العقل بحرمة قتل الكافر والزاني بذات المحرم و
ما أشبه ذلك قبل ورود الشرع وإذا ثبت عندك مما حققناه انتفاء
الملازمة الكلية بحسب الواقع بين
حكم العقل والشرع فاعلم أن ذلك يتصور إما بالامر بالحرام الفعلي و
لو ندبا والنهي عن الواجب الفعلي ولو تنزيها أو ندب واجبه أو
كراهة محرمه أو بالعكس أو التكليف بأحد الأحكام الأربعة في مباحه
أو إباحة ما لا يبيحه العقل أو إخلاء الواقعة التي حكم العقل فيها
بحكم عن جميع الأحكام أما القسمان الأولان فلا ريب في امتناعهما
بالقياس إلى الحكم الواقعي ومما يدل عليه قوله تعالى قل إن الله لا
يأمر بالفحشاء وقريب من ذلك النهي عن المندوب العقلي والامر
بالمرجوح العقلي بكلا نوعيهما وأما البواقي فمحتملة وإن كان قضية
ما قررنا وقوع بعضها حجة القول بالملازمة أمور الأول الضرورة قال
بعض المعاصرين معنى كون ما يستقل به العقل دليل حكم الشرع
هو أنه كما أنه من الواضح أن العقل يستقل بالحكم على بعض الأفعال
بأنه حسن بمعنى أن فاعله يستحق المدح من حيث كونه فاعله ومنها
ما هو قبيح بمعنى أن فاعله يستحق الذم من حيث إن فاعله كذلك من
الواضح أن العقل يستقل بالحكم على بعض الأفعال بأنه مما ألزم الله
عباده بفعله ولا يرضى بتركه كرد الوديعة وعلى بعضها بأنه مما ألزم
الله بتركه ولا يرضى بفعله كالظلم فظهر أن استقلال العقل بكل
من الامرين أمر واضح هذا محصل كلامه وليس بيانه على ما ينبغي
لقصوره عن إفادة الملازمة ووضوحها كما هو المدعى وإنما مفاده
وضوح الحكم بكل من الامرين على ما يقتضيه العنوان بل الوجه أن
يقال كما أنه من الواضح أن العقل يستقل بالحكم على بعض الأفعال
بأنه حسن أو قبيح عقلا كذلك من الواضح أنه يستقل بالحكم على ما
هو حسن عنده أنه حسن عند الشارع ومطلوب له وما هو قبيح عنده
أنه قبيح عند الشارع ومبغوض له وهذا كما ترى إنما يقتضي وضوح
الملازمة عند العقل وهو واف بإثبات المطلوب إن تم والجواب
عنه واضح مما مر لأنا لا نسلم أن العقل يدرك موافقة حكم الشارع و
تكليفه لما أدركه من جهات الفعل مطلقا بل من حيث يدرك انتفاء ما
يمنع منه في نفس التكليف ولو إجمالا
كما سبق وادعاء الضرورة على خلاف ذلك غير مسموع نعم ينهض
ذلك دليلا في مقابلة من أنكر دلالة العقل رأسا الثاني إجماع علمائنا
الامامية بل وغيرهم أيضا من أكثر فرق الاسلام وسائر أرباب
المذاهب والأديان على أن من جملة أدلة الاحكام العقل ولهذا تراهم
يقسمون الاحكام إلى ما يستقل بإثباته العقل وما لا يستقل ويمثلون
للقسم الأول بوجوب قضاء الدين ورد الوديعة وحرمة الظلم و
غير ذلك ويدل عليه أيضا قولهم في الكتب الكلامية بوجوب اللطف
على الله تعالى حيث فسروا اللطف بما يقرب من الطاعة ويبعد عن
المعصية وجعلوا منها إرسال الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الاحكام
فلو لا قولهم بثبوت بعض الأحكام مع قطع النظر عن الشرع لم
يستقم جعل تلك الأمور من باب اللطف بالمعنى الذي ذكروه إذ لا
طاعة ولا معصية حينئذ حتى يصدق عليها أنها مقربة إليها أو مبعدة
عنها وعلى تقدير ثبوته بدونه لا يكون إلا بطريق العقل وهو المقصود
والجواب أن هذا البيان لا يقتضي قيام الاجماع على ثبوت
الملازمة وإنما يقتضي قيامه على إدراك العقل لبعض الاحكام وهذا
مما لا نزاع لنا فيه كما تبين من بياننا المتقدم نعم ينهض ذلك حجة
على من أنكر دلالة العقل رأسا الثالث لا ريب في أن العقل بفطرية
مجبول على استحباب ما أدرك حسنه والالزام بفعله واستكراه ما
أدرك قبحه والالزام بتركه وليس ذلك لخصوصية في ذات العقل بل
ذلك شأن كل من انكشف له الواقع حق الانكشاف وأدرك الأشياء
على ما هي عليه في نفس الامر وتنزه عن الاغراض والدواعي
الفاسدة واستقام ذاته وفطرته وعلى هذا فمتى أدرك العقل حسن
شئ
أدرك علم الشارع به و
340

واستحبابه له وإذا أدرك قبحه أدرك علم الشارع به واستكراهه له ولا
نعني بالحكم الشرعي الاستحباب الشارع للشئ المنقسم إلى
استحباب إيجابي وندبي واستكراهه المنقسم إلى استكراه تحريمي
وتنزيهي فاستقلاله بإدراك أحد الامرين يوجب استقلاله بإدراك
الاخر وذلك لما ثبت عندنا من أن الامر عبادة عن إرادة الفعل من
المكلف والنهي عبارة عن إرادة الترك منه والجواب ظاهر مما مر
فإنا لا نسلم أن حسن الشئ أو قبحه يستلزم وقوع الالزام بفعله أو تركه
من كل مكلف حكيم وإنما يسلم ذلك في حق من ليس له
سلطان المالكية ولا تملك المجازات بالانعام والانتقام كالعقل فإن
حكومته في الافعال حكومة إرشاد وهداية لا حكومة سياسة و
سلطنة ولهذا لا يستحق الذم من يخالف العقل من جهة مخالفته لأمر
العقل أو نهيه بل من جهة علمه بقبح الفعل وارتكابه له وأما من كان
له رتبة السياسة والسلطنة فلا بد أن يراعي في أحكامه الحكم التي
يناسب نظام السياسة ويحسن مراعاتها في القيام بوظائف السلطنة
فقد يتوقف انتظام أمر السياسة على رفع التكليف إلى أمد معلوم كزمان
البلوغ وإن حصل عقل التكليف قبله أو على اعتبار طريق في
تعيين مورد الحسن والقبح غير العلم لكونه أولى عنده من إناطة
الحكم به أو ما أشبه ذلك وقد يقتضي مقام السياسة اختبار العبد
بالالزام ببعض الأعمال التي يحسن اختباره بها وإن تجردت في نفسها
عن صفة الحسن وقد يقتضي منعه عن تناول بعض ألم آكل
اللذيذة المباحة عقلا مجازاة له على بعض الأعمال القبيحة كقوله
تعالى في تحريم الشحوم على اليهود ذلك جزيناهم ببغيهم إلى غير
ذلك فإن شيئا من هذه الجهات مما لا سبيل للعقل إلى اعتباره بالنسبة
إلى أحكامه الرابع الامر بالقبيح قبيح عند العقل كالنهي عن الحسن
فيمتنع صدوره عنه تعالى لعلمه وحكمته وتعاليه عن شوب الحاجة
والنقصان لا يقال لا يلزم من ذلك وقوع الامر بالحسن والنهي عن
القبيح ليتم الملازمة لجواز خلو الواقعة عن الحكم رأسا فإن الحكم أمر
جعلي ويجوز أن لا يكون للشارع في خصوص واقعة جعل أصلا
لأنا نقول هذا الاحتجاج مبني على ما ثبت عندنا بالاخبار والآثار من
أن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا بينه لنبيه صلى الله عليه وآله
وبينه النبي لأوصيائه عليه السلام فالاحكام كلها مقررة عندهم
مخزونة لديهم وليس في الواقع واقعة خالية عن الحكم ويمكن
التمسك
في دفع ذلك أيضا بما مر في الدليل السابق إلا أنه يخل بتعددهما و
الجواب عنه أيضا ظاهر مما مر فإنا نلتزم بقبح الامر بالقبيح والنهي
عن الحسن في حقه تعالى كما مر لكن لا يثبت بمجرد ذلك الملازمة
الكلية بين العقل والشرع كما عرفت الخامس الآيات الدالة على ذلك
كقوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى
عن الفحشاء والمنكر وجه الدلالة إن عدل كل شئ وسطه و
مستقيمة فعدل الافعال مستقيمها ومستحسنها عقلا وقضية تعلق
الامر به وعدم انفكاك حسن الفعل عن أمر الشارع به والفحشاء
كالمنكر عبارة عن ما هو قبيح عقلا وقضية النهي عنه عدم انفكاك قبح
الشئ عن النهي الشرعي ولو عممنا الألفاظ الثلاثة إلى الترك
لدل كل من الفقرتين على كل من الحكمين وقوله تعالى قل إنما حرم
ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن فإنه يدل على أن كل قبيح
عقلي محرم شرعا ولو عمم الفواحش إلى التروك دل على أن كل
واجب عقلي واجب شرعا وفي هذه الآية دلالة على حصر
المحرمات
الشرعية في القبائح العقلية وقوله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم
عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ووجه
الدلالة أن المعروف هو الحسن العقلي والمنكر هو القبيح العقلي و
قضية الامر بالأول والنهي عن الثاني عدم الانفكاك في المقامين و
جعل بعض أفاضل المتأخرين موضع الاستدلال بهذه الآية قوله تعالى
ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ووجه الاستدلال به أن
الطيب ظاهر فيما حسن فعله والخبيث فيما قبح فعله
فيستفاد حلية كل حسن وحرمة كل قبيح وقوله تعالى ولتكن منكم
أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقوله تعالى وأمر
بالعرف وأمثال ذلك ووجه الاستدلال بها ما مر والجواب من وجهين
الأول أن هذه الآيات لا تساعد على إثبات الملازمة الكلية أما الآية
الأولى فللمنع من كون المراد بالعدل ما يقابل القبيح بل ما يقابل الظلم
تنزيلا للفظ على معناه المتبادر الظاهر سلمنا لكن لا أقل من
تكافؤ الاحتمالين فلا يتم الدلالة سلمنا لكن لا عموم في العدل فإنه
مفرد معرف وهو ظاهر في الجنس ولا دلالة لها أيضا على الحصر
فيجوز الانفكاك من الجانبين مع أن الامر ظاهر في الايجاب والعدل
بالمعنى المذكور يتناول المندوب فإن حملا على ظاهرهما دل
على خلاف المقصود وإن حمل الامر على مطلق الطلب أو العدل
على الحسن الواجب فمع كونه احتمالا لا شاهد عليه غير مفيد لعدم
إفادته
المساواة على الأول وعدم شموله للمندوب على الثاني وبهذا يظهر
الكلام في بقية الآيات فإن المراد بالفحشاء والمنكر إن كان ما
يختص بالقبيح المحرم كما هو الظاهر لم يتناول الآية حكم المكروه
فلا يتم المقصود وإن كان ما يتناول المكروه فإن حمل النهي على
ظاهره من التحريم دل على خلاف المقصود وإن حمل على الأعم
منه ومن الكراهة فمع عدم قرينة عليه لا يفيد المساواة بين حكم
العقل
والشرع كما هو المدعى مع أنها لا تفيد الحصر فيجوز تعلق النهي بغير
القبيح للاختيار والامتحان وغير ذلك ومن هذا البيان يظهر
الكلام في دلالة الآية الثانية والثالثة وأما الاستدلال بقوله تعالى يحل
لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فضعيف لأنه ظاهر في تحليل
الطيب من المأكول والخبيث منه لا تحليل الفعل الحسن و
341

وتحريم الفعل القبيح ولو سلم فلا دلالة له على مساواة الحكم
الشرعي للجهة العقلية مع أن هذه الآية وردت بيانا لأوصاف نبينا صلى
الله
عليه وآله كما يدل عليه ما قبلها فلا يدل على تعميم الحكم إلى سائر
الشرائع وأما الآية الرابعة فمع ورود بعض المناقشات المتقدمة
فيها يمكن حمل المعروف فيها على الواجبات الشرعية والمنكر على
المحرمات الشرعية فلا يدل على المقصود وهذا الاحتمال وبما
يتأتى في الآية الثالثة أيضا ومما مر يظهر وجه المناقشة في الآية
الأخيرة الثاني أن هذه الآيات لو سلم دلالتها على المقصود كما هو
الظاهر من سياقها بعد ضم بعضها إلى بعض وملاحظتها بجملتها فلا
ريب في أنها إنما ثبت بها ما ادعيناه من الملازمة الظاهرية دون
الواقعية فإن العام اللفظي مما يقبل التخصيص عند قيام دليله السادس
الأخبار الواردة في باب العقل والجهل فإنها تدل على أن العقل
مما يثاب ويعاقب به وعلى أن العقل مما يكتسب به الجنان وذلك
كله دليل على حجية مدركاته والجواب أن المفهوم من تلك الأخبار
أن الثواب والعقاب لا يتحققان بدون العقل وهو مما لا كلام فيه وإما
أن العقل يستقل بإدراك الأحكام الشرعية أو أن الملازمة بين حكم
العقل وحكم الشرع متحققة فما لا شعار لتلك الأخبار بذلك كما لا
يخفى احتج المنكرون للملازمة أيضا بوجوه الأول قوله تعالى وما
كنا معذبين حتى نبعث رسولا فإنه يدل على نفي التعذيب قبل البعثة
فلا وجوب بدونها شرعا ولا حرمة والجواب أما أولا فبأن نفي
التعذيب لا يقتضي نفي الاستحقاق والمعتبر في تحقق الوجوب و
الحرمة إنما هو استحقاق العقاب لا وقوعه واعترض عليه بوجهين
الأول أن الحرام الشرعي هو ما يجوز المكلف العقاب على تركه ولا
تجويز مع إخباره تعالى بالعدم وفيه أنه خروج عن محل النزاع لما
عرفت من أن الكلام هنا في الواجب والحرام الشرعيين بمعنى ما
يستحق فيهما العقاب تركا أو فعلا كما هو معناهما المعروف لا غير بل
المعترض المذكور أيضا قد فسرهما قبل الاستدلال بذلك إلا أنه التجأ
إلى اختراع هذا المعنى هنا
تفصيا عن الاتكال المذكور وتخلصا منه على أن الحد الذي ذكره
منقوض بالصغائر حيث ورد الوعد بالعفو عنها فلا تجويز معه للعقاب
مع أنه داخل في نوع الحرام قطعا الثاني أن الواجب الشرعي ما يوجب
فعله الثواب من حيث إنه طاعة وتركه العقاب من حيث إنه معصية
وعلى قياسه الحرام الشرعي وإخباره تعالى بنفي التعذيب يوجب
إباحته للفعل فلا يتحقق هناك طاعة ولا معصية فلا يتحقق وجود ولا
حرمة والجواب عنه ظاهر مما مر لأنه إن أريد أن الواجب الشرعي أو
حرامه ما يوجب ترتب العقاب على الترك أو على الفعل أو تجويز
ترتبه عليه فممنوع كما مر وإن أريد أنه ما يوجب استحقاقه فمسلم
لكن لا نسلم أن نفي التعذيب يدل على نفيه أو يوجب الإباحة كما
عرفت في الصغائر فاستحقاق العقاب من حيث المخالفة والمعصية
لا تنافي عدم وقوعه بإخباره تعالى تفضلا منه على عباده وأما ثانيا
فبأن غاية ما يقتضيه الآية عدم التعذيب قبل البعثة وهو لا ينافي
وقوعه بعدها إذ لا ريب أن المقصود بهذا البحث إنما هو بيان الحال
بالنسبة إلى هذه الأمة حيث لا غرض لنا بالبحث عن أحوال غيرهم و
ظاهر أن البعثة متحققة في حقهم مع وصول كثير من الاحكام إليهم
تفصيلا ووصول الباقي إجمالا مستفادا مما دل على أنه ما من واقعة إلا
ولها حكم مخزون عند أهله فلا يقتضي نفي التعذيب بالنسبة
إليهم غاية ما في الباب أن يدل على نفي التعذيب في حق من لم
يتحقق في حقه البعثة كأهل الصدر الأول على مذهب العامة ومع
ذلك لا
تدل على نفي حجية العقل بالنسبة إليهم لجواز أن يكون عقولهم
قاصرة عن الاستقلال بشئ من الاحكام وأما على ما ذهب إليه
الخاصة
من عدم خلو زمان عن البعثة فيجوز أن يكون المراد أن التعذيب إنما
كان بعد البعثة وإتمام الحجة وإكمالها فيكون مسوقة لبيان
مزيد استحقاقهم وتناهيهم في العتو لا أنه لو لم تقع البعثة لم يقع
التعذيب ونظيره شائع في الاستعمال إلا أن فيه خروجا عن الظاهر و
أما ما يقال من أن المراد ببعث الرسول بعثه بالبيان التفصيلي وتبليغه
إياه إلى المكلفين لا البيان الاجمالي وإن قام العقل ببيان التفصيلي
فمجرد احتمال لا يتم به الاستدلال لجواز أن يكون المراد بغتة
بالبيان في الجملة بل ربما كان هذا أوفق بظاهر الاطلاق فإن استبعد
ذلك من حيث إن لا مدخل في جواز التكليف بالأحكام التي يستقل
العقل بها لتبليغ غيرها من الاحكام لدفعناه بأنه لا ريب في إدراك
العقل فيما يستقل به مما يتكامل ويتقوى بعد البعثة والتبليغ ولو في
غيره لاستئناسه حينئذ بالشرع في الجملة وعلمه بأنه تعالى لم يهمله
في أفعاله فلا غرو في أن يكون لمثل ذلك مدخل في التعذيب على
أنا نقول حال العقل الكاشف عن الحكم المعلوم إجمالا حال الاجماع
والضرورة والسيرة الكاشفة عنه فهما بمنزلة الواحدة في الكشف
فإن قلت هذه كاشفة عن صدور البيان عن المعصوم بطريق القول أو
الفعل أو التقرير إذ لا بدلها من مستند يرجع إلى أحد هذه الأمور
قلنا فالعقل أيضا كاشف عن بيانه صلى الله عليه وآله في الجملة ولو
لأوصيائه للأخبار الدالة على أن جميع الأحكام مخزونة عند أهله
إلى الأئمة عليهم السلام بإملائه وتعليمه فالعقل الكاشف عن الحكم
كاشف عن هذا البيان أيضا غاية ما هناك من الفرق أن الاجماع و
أخويه تكشف أولا عن البيان ثم عن الحكم فالعقل يكشف أولا عن
الحكم ثم عن البيان بملاحظة تلك الأخبار وهذا لا يصلح فارقا في
اندراج تلك المدارك في الآية دون العقل وأما ثالثا فبأن الآية على
بيانهم إنما يقتضي نفي الوجوب والحرمة إذ لا تعذيب في البواقي فلا
يقتضي نفيه نفيها ولعل الخصم يخص الدعوى بها أو يتمسك في
التعميم بعدم القول بالفصل وهو كما ترى وأجاب بعض المعاصرين
عن أصل الحجة بأن الآية على تقدير تسليم دلالتها
342

ما ذكروه ظنية وهي لا تصلح لمعارضة ما ذكرناه من الدليل القطعي فلا
بد من تأويلها وصرفها عن ظاهرها وأما التخصيص أو تنزيلها
منزلة الغالب أو يجعل بعثة الرسول مجازا عن مطلق إتمام الحجة أو
يجعل الرسول أعم من الرسول الظاهري والباطني كما يرشد إليه
ما ورد من أن لله حجتين حجة في الباطن وهو العقل وحجة في
الظاهر وهو الرسول وهذا الجواب عندي غير مستقيم على إطلاقه و
ذلك لان استلزام الحكم العقلي للحكم الشرعي واقعيا كان أو ظاهريا
مشروط في نظر العقل بعدم ثبوت منع شرعي عنده من جواز
تعويله عليه ولهذا يصح عقلا أن يقول المولى الحكيم لعبده لا تعول
في معرفة أوامري وتكاليفي على ما تقطع به من قبل عقلك أو يؤدي
إليه حدسك بل اقتصر في ذلك على ما يصل مني إليك بطريق
المشافهة أو المراسلة أو نحو ذلك ومن هذا الباب ما أفتى به بعض
المحققين من أن القطاع الذي يكثر قطعه بالامارات التي لا يوجب
القطع عادة يرجع إلى المتعارف ولا يعول على قطعه الخارج منه فإن
هذا إنما يصح إذا علم القطاع أو احتمل أن يكون حجية قطعه مشروطا
بعدم كونه قطاعا فيرجع إلى ما ذكرناه من اشتراط حجية القطع
بعدم المنع لكن العقل قد يستقل في بعض الموارد بعدم ورود منع
شرعي لمنافاته لحكمة فعلية قطعية وقد لا يستقل بذلك لكن حينئذ
يستقل بحجية القطع في الظاهر ما لم يثبت المنع والاحتجاج بالآية
على تقدير دلالتها إنما يقتضي منع حجية القسم الثاني والجواب
المذكور إنما يقتضي منع دلالتها على القسم الأول الثاني الأخبار الدالة
على أن لا تكليف إلا بعد بعث الرسل ليهلك من هلك عن بينة و
يحيى من حي عن بينة وما دل على أنه على الله بيان ما يصلح الناس و
ما يفسدهم وأنه لا يخلو زمان عن إمام معصوم ليعرف الناس ما
يصلحهم وما يفسدهم وما دل على أن أهل الفترة وأشباههم
معذورون وما رواه الكليني في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه
السلام قال بني الاسلام على خمسة أشياء إلى أن قال أما إن رجلا لو
قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم
يعرف ولاية ولي الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان
له على الله حق في ثوابه ولا كان من أهل الايمان وقوله عليه السلام
كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي فإن المستفاد منه دخول ما لا نص
فيه في المباح مطلقا والجواب أما عن الأول فبأن نفي التكليف قبل
البعثة كما يصدق بثبوت زمان لا تكليف فيه على المكلفين
الموجودين فيه كذلك يصدق بعدم خلو زمان من البعثة بل الثاني هو
المتعين لما تحقق عندنا بالأخبار المستفيضة بل المتواترة من أنه
لم يخل زمان عن وجود نبي أو وصي والبينة لا تختص ببيان الرسل بل
يتناول بيان العقل أيضا لا سيما بعد تقرير الرسل على حجيته و
مع الاغماض عن ذلك فغاية ما يلزم عدم ترتب الهلاك والحياة على
مدركات العقل قبل كمال وضوح الحجة بتأكيد السمع وهما أخص
من ترتب العقاب والثواب المستلزم لتحقق الحرمة والوجوب وأما
عن الثاني والثالث فبأن وجوب البيان والتعريف لا ينافي ثبوت
التكليف بدونهما حيث يستقل بإدراكه العقل ويمتنع من وقوع البيان
والتعريف أو وصولها مانع فيكون البيان والتعريف فيما يستقل
به العقل تأكيدا لا تأسيا مع أن بيانه تعالى كما يصدق ببيان أنبيائه و
حججه كذلك يصدق ببيان العقل إذ يكفي في إضافة بيان العقل إليه
تعالى كونه مقدرا إياه من الوصول والادراك كما يكفي مثله في إضافة
بيان أنبيائه وحججه إليه وأما عن الرابع فبأن معذورية أهل
الفترة لا تدل على عدم حجية مدركات العقل لجواز قصور عقول أهلها
عن الاستقلال بإدراك شئ من الاحكام إما لقصورها في حد
ذاتها أو لعدم إلفها بالشريعة ومجرد احتمال إدراكهم لبعض الاحكام لا
يكفي في صحة الاستدلال وأما عن الخامس فبأن المتبادر من
أعماله الأعمال المذكورة سابقا من الصوم والصلاة والصدقة والحج
لظهور الإضافة في العهد وظاهر أن ليس للعقل
مدخل في ذلك مع أن المدار ليس على مشاهدة الدلالة والحضور
عند وقوعها بل على الاطلاع عليها ولو بما يكشف عنها كالخبر و
الاجماع ولا ريب أن العقل أيضا كذلك فإنه إذا كشف عن الواقع كشف
عن وقوع دلالة الولي إليه فإذا عمل به من حيث كونه دالا إليه
كان عملا بدلالته على أن نفي الثواب لا يستلزم نفي العقاب ويكفي
ثبوته في إثبات حقيقة الوجوب والتحريم وأما عن الرواية الأخيرة
فبأن الظاهر منها إباحة كل شئ جهل حكمه بدليل قوله حتى يرد فيه
نهي فإن التقييد بغاية ورود النهي لا يلائم ما علم ورود النهي فيه
ابتدأ مع أن ورود النهي أعم من وصوله بطريق السمع فيتناول ما إذا
ورد النهي واستكشفنا عنه بالعقل كما أنه يتناول ما إذا ورد و
استكشفنا الإباحة عنه بالاجماع والضرورة على أن الشئ ظاهر في
الفعل والنهي ظاهر في طلب تركه فتدل الرواية على بقاء الشئ
على وصف الاطلاق وإن ورد أمر به وهذا غير مستقيم فلا بد من
تقييد الشئ بما لا يحتمل الوجوب فلا يتم الدلالة على تمام المدعى
و
يمكن تعميم النهي إلى النهي عن الترك فيتناول القسمين ولكنه بعيد
نعم هذا الاشكال لا يتجه على رواية الشيخ فإن فيها أمرا أو نهيا و
قد يجاب بأن ورود النهي أعم من وروده بالعقل أو الشرع هو بعيد نعم
لا يبعد أن يقال المفهوم عنه عرفا الأشياء التي لا يستقل العقل
بإدراك حرمتها أو هو قريب إلى ما ذكرناه ثم من المتأخرين من بالغ في
توجيه الاستدلال والرواية فنزلها تارة على الاخبار على أن
المعنى كل ما لم يرد من الشارع منع فيه ولم يصل إلينا فلا يحكم عليه
بالمنع الشرعي وإن منع منه العقل لعدم إدراك العقل للعلة
المقتضية لحكم الشرع فيبني على
343

أصالة البراءة حتى يصل النهي فدلت على أنه لا يصح الحكم بوجوب
شئ أو حرمته شرعا لحكم العقل بحسنه أو قبحه وأخرى على
الانشاء على معنى أن حكم كل ما لم يرد فيه نهي وإن أدرك العقل
قبحه واعترض عليه بعض المعاصرين بأن المعنى الأول أيضا إنشاء
لحكم ما لم يرد فيه نهي بالمنع من الحكم بالمنع الشرعي إذ ليس
وظيفة الإمام عليه السلام بيان الموضوعات من عدم جواز إطلاق
الحرام الشرعي عليه في الاصطلاح بل وظيفته بيان الحكم فيرجع
المعنى إلى أن ذلك ليس بحرام شرعي ويلزمه أن يكون مباحا فيرجع
إلى المعنى الثاني ويتحد الوجهان ولا سبيل إلى الفرق بأن المراد
على الأول إفادة الإباحة الظاهرية نظرا إلى أصل البراءة وعلى
الثاني إفادة الإباحة الواقعية لان جعل الحكم مغيا بغاية كما يدل عليه
كلمة حتى تنافي الحمل على الإباحة الواقعية هذا محصل كلامه وفيه
نظر لان الظاهر أن مراد المستدل بقوله لا يحكم عليه بالمعنى الشرعي
لا يقع عليه الحكم بالمنع وهذا إخبار قطعا لاحتماله في نفسه
المطابقة وعدمها لا يقال فيلزم الكذب لوقوع الحكم بالمنع من
المخالفين في المسألة لأنا نقول المراد عدم وقوع الحكم الصحيح كما
يدل عليه قوله ثانيا لا يصح الحكم ووقوع حكم الصحيح منهم ممنوع
كيف لا والكلام في نفي صحته فلا يلزم الكذب والأظهر أن ينزل
كلامه على أن قوله عليه السلام كل شئ مطلق يحتمل أن يكون إخبارا
عن الحكم الثابت للأشياء في الشرع قبل ورود النهي من الاطلاق
ولو ظاهرا أو أن يكون إنشاء منه عليه السلام لذلك وهذان الوجهان
يجريان أيضا في مثل قولهم يجب كذا أو كتب عليكم كذا أو هذا
واجب أو فريضة ثم ما ادعاه من أن التحديد بالغاية ينافي كون الحكم
واقعيا بظاهره ظاهر الفساد لان كثيرا من الاحكام الواقعية مغياة
بغايات بل الوجه في دفعه أن يقال لا يعقل من الحكم الواقعي إلا ما
استند عدم تعلقه بالمكلف إلى عدم علمه به ولا من الحكم الظاهري
إلا ما استند تعلقه به إلى علمه به أو بعدم علمه بالحكم الواقعي فإذا
كانت الإباحة منوطة بعدم العلم بخلافها كما هو نص الرواية كانت
حكما ظاهريا وكان خلافها حكما واقعيا
لا محالة ولا يرد النقض بالصلاة في الثوب المستصحب الطهارة لان
المراد عدم العلم من حيث الحكم لا من حيث الموضوع وسيأتي لهذا
مزيد تحقيق في محله الثالث أن الثواب والعقاب لا يترتبان إلا على
الطاعة والمعصية وهما إنما يتحققان بموافقة الأوامر والنواهي
اللفظية أو مخالفتهما فحيث لا أمر ولا نهي لفظا لا إطاعة ولا معصية
فلا ثواب ولا عقاب فلا وجوب ولا حرمة لا يقال لا نسلم انحصار
صدق الإطاعة والمعصية في موافقة الخطاب اللفظي ومخالفته بل
يعم اللفظي وغيره لأنا نقول القدر الثابت من الأدلة وجوب اتباع
القطع أو الظن الحاصلين من قول المعصوم أو فعله أو تقريره دون
غيرها والكلام في التعويل على هذه الطريقة كالكلام في التعويل
على الرؤيا فكما لا دليل على جواز التعويل على الثاني فكذلك على
الأول والجواب المنع من انحصار صدق الطاعة والعصيان في موافقة
الخطاب اللفظي ومخالفته والعرف والعادة شاهدان بذلك ولو سلم
فترتب الثواب والعقاب لا يناط بالخطاب اللفظي أ لا ترى أن
المولى إذا لم يأمر عبده بالمحافظة على أمواله أو لم ينهه عن إتلافها
فأمكن اللص منها أو أتلفها أنه يعد مستحقا للعقاب لفعله ما يسخط
المولى كما أنه إذا حافظ عليها أو تمانع من إتلافها طلبا لرضى مولاه
كان مستحقا للمدح والثواب لفعله ما يرضى به المولى وإنكار
ذلك مكابرة ظاهرة واستحقاقهما كاف في تحقق الواجب والحرام
الشرعيين على ما علم من تعريفهما ولو سلم اختصاص صدق الطاعة
والمعصية بموافقة الخطاب اللفظي ومخالفته وأنهما لا يتحققان في
الفرضين المذكورين لكن لا ريب في استحقاقه الثواب في الأول
لفعله ما يرضى المولى والعقوبة في الثاني لفعله ما يسخطه وإنكاره
مكابرة بينه وحصوله في المقام كاف في تحقق الوجوب والتحريم
الشرعيين إذ المعتبر فيهما على ما علم من تعريفهما إنما هو استحقاق
العقوبة على الترك والفعل ثم حجية القطع ضرورية تشهد به
الفطرة السليمة فلا معنى لمطالبة الدليل عليها
ولو كان حجيته مستفادة بالنظر لدار أو تسلسل إذ لا يزيد دليلها على
كونه مقطوعا بصحته وباستلزامه إياها فيكون حجية كل من
القطعين على هذا التقدير نظرية تتوقف على الدليل فإن عاد إلى الأول
لزم الدور وإلا تسلسل وأما تنظير ذلك بالرؤيا فإن كان
بالرؤيا المقطوع بصحتها وصدقها فعدم حجيتها لعدم دليل عليها
فاسدة كما عرفت وإن كان بالرؤيا المحتملة للصدق أو المظنونة
الصدق كما هو الغالب فالتنظير باطل وإن أريد التقريب فلنا تنظير
العقل الذي فينا بالالهام الذي يوجد في الأنبياء والأئمة فكما أن
مدركاتهم بالالهام حجة في حقهم بالضرورة من غير حاجة إلى قيام
دليل عليه كذلك مدركات العقل حجة في حقنا ولا حاجة إلى قيام
دليل عليه الرابع أن أصحابنا والمعتزلة قالوا بأن التكليف فيما يستقل
به العقل بمعنى الخطاب به في ظاهر الشريعة لطف وأن العقاب
بدون اللطف قبيح ومقتضى ذلك عدم ترتب العقاب على ما لم يرد به
خطاب في ظاهر الشريعة وإن استقل به العقل لعدم تحقق اللطف
فيه والجواب المنع من قبح العقاب بدون اللطف مطلقا وإنما المسلم
قبحه بدون اللطف اللازم في التكليف كالبيان فيما لا يستقل به
العقل سلمنا لكن يكفي في حصول اللطف اعتضاد العقل بالعمومات
الدالة على حجيته كالآيات المتقدمة بالنسبة إلى الموارد التي ساعدنا
على دلالتها على حجيته فيها وإن أريد اعتضاده بحسب خصوصيات
موارده فتوجه المنع عليه جلي لان عموم النقل يعتبر في تأسيس ما
لا يستقل به العقل فاعتباره في تأكيد ما استقل به العقل أولى ولا
يذهب عليك أن أهل الكلام تمسكوا بالمقدمة الأولى على وجوب
بعث
الأنبياء بضميمة القاعدة
344

التي تسالموا عليها من وجوب كل لطف عليه تعالى فلو تم ما ذكروه
لدل على وجوب تطابق العقل والنقل لا عدم حجيته إلا أن يستكشف
بعدمه عن فساد حكم العقل لكنه خلاف ما يراه المستدل لأنه يلتزم
بصحته ولا يقول بحجيته أو يشترط الحكم في الكبرى بأن لا يمنع
مانع لكن هذا ربما يقدح فيما قصدوه من وجوب الارسال وأجاب
الفاضل المعاصر عن الحجة المذكورة بعد تسليم وجوب اللطف في
الجملة بالمنع من وجوب كل لطف وأنت خبير بأن هذا المنع مما لا
مساس له بكلام المستدل إذ لم يتمسك بوجوب اللطف مطلقا بل
مبني
حجيته على عدم وجوبه كذلك كما نبهنا عليه نعم يرد المنع المذكور
وعلى كبرى حجية المتكلمين ويشبه أن يكون المجيب قد خلط بين
الحجتين فأورد على إحداهما ما يرد على الأخرى لتقاربهما ويمكن
التكلف بحمل الوجوب في كلامه على الوجوب الشرطي فيرجع
الجواب إلى المنع من اشتراط حسن العقاب بحصول كل لطف ولا
يخفى عدم مساعدة تعليله الآتي عليه ثم قال في سند المنع ما لفظه إذ
كثير من الألطاف مندوبة فإن التكليفات المندوبة أيضا لطف في
المندوبات العقلية أو مؤكدة للواجبات العقلية يعني أن التكليف
الندبي
بالمندوبات العقلية لطف مندوب وهذا متجه على القول بأن جهات
التكليف تابعة لجهات ما تكلف به إذ لا يعقل حينئذ زيادة الفرع على
الأصل وقوله أو مؤكدة مرفوع عطفا على قوله لطف يعني أن التكليف
الندبي بالمندوبات العقلية مؤكد للواجبات العقلية وهذا قريب
من ما ذكره المحقق الثاني في جامع المقاصد في بيان نية وجه
الوجوب والندب في الوضوء حيث قال المراد بوجه الوجوب و
الندب
السبب الباعث على إيجاب الواجب وندب المندوب فهو على ما هو
قرره جمهور العدليين من الامامية والمعتزلة أن السمعيات ألطاف في
العقليات ومعناه أن الواجب السمعي مقرب من الواجب العقلي أي
امتثاله باعث على امتثاله فإن من امتثل الواجبات السمعية كان أقرب
إلى
امتثال الواجبات العقلية
من غيره ولا معنى للطف إلا ما يكون المكلف معه أقرب إلى الطاعة و
كذا الندب السمعي مقرب من الندب العقلي أو مؤكدا لامتثال
الواجب العقلي فهو زيادة في اللطف والزيادة في الواجب لا يمتنع أن
يكون ندبا ولا نعني أن اللطف في العقليات منحصر في السمعيات
فإن النبوة والإمامة ووجود العلماء والوعد والوعيد بل جميع الآلام
تصلح للالطاف فيها وإنما هي نوع من الألطاف انتهى ثم قال
المعاصر المذكور وقد يكتفي في اللطف بالتكليف بسمعي لم يستقل
به العقل لا بنفس التكليف العقلي كما يشير إليه قوله تعالى إن
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر يعني قد يكلف بسمعي يؤدي إلى
ترك القبائح العقلية فيستغنى بالتكليف به عن التكليف بها
كالتكليف بالصلاة المؤدية إلى ترك القبائح فلا حاجة إلى التكليف بها
أو يريد أنه قد يكلف بسمعي على وجه ينبه على وجوب ترك
القبائح العقلية كالأمر بالصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر فإنه يدل
بالالتزام على مطلوبية تركها بل وجوب تركها فلا حاجة إلى
التصريح بذلك ولا يخفى ما في كلامه من التعقيد احتج من خص
الانكار بغير المعارف على النفي بما مر وعلى الاثبات بما دل عليه
جملة من الاخبار من تعذيب عبدة الأوثان فإنها بإطلاقها تشمل زمن
الفترة أيضا فتدل على حجية مدركات العقل بالنسبة إلى العقائد و
جوابه أن النسبة بين هذه الأخبار والأخبار السابقة التي زعم المستدل
أنها تدل على عدم حجية العقل عموم من وجه فتخصيص عموم
تلك الأخبار بإطلاق هذه ليس بأولى من تقيد إطلاق هذه بعموم تلك الأخبار
مع أن كثيرا من الاخبار أيضا تدل على تعذيب الآتي ببعض
المناكير وهي بإطلاقها يتناول زمن الفترة أيضا فلا وجه للتخصيص
بالمعارف وأما ما أجاب به بعض المعاصرين من أن التعذيب على
عبادة الأوثان يرجع إلى التعذيب على الأعمال النظرية الاختيارية
المفيدة لتلك الاعتقادات لان نفس الاعتقاد غير مقدور فلا يترتب
عذابه عليه فضعفه ظاهر إذ يكفي في صحة
التكليف بشئ وترتب عقاب عليه مقدوريته ولو بواسطة مقدماته و
أسبابه كما نبهنا عليه في بحث المقدمة ولئن سلم فلعل القائل
المذكور يريد بترتب العقاب على تلك الاعتقادات ترتبها على
مقدماتها من الأعمال النظرية ويمنع حجية العقل فيما عداها وليس
في
الجواب المذكور ما يقتضي دفعه حجة من فصل بين الضروريات و
النظريات وجهان الأول ما دل من الاخبار على أن دين الله لا يصاب
بالعقول وما دل على أن الناس مكلفون بالرجوع إلى الكتاب والسنة
فإن ظاهرهما حصر الحجة فيهما والجواب أما أولا فبالنقض
بالضروريات إذ لو تم الدليل المذكور لدل على عدم جواز التعويل
عليها أيضا وأما ثانيا فبأن تلك الأخبار كلا أو بعضا واردة في مقام
المنع عن العمل بالقياس كما يظهر من سياقها ولو سلم فهي واردة
مورد الغالب من عدم وصول أغلب العقول وندرة ما يصل إليها
الواصل الثاني أن المطالب النظرية كثيرا ما يقع فيها الاشتباه والخطأ و
إن بالغ الناظر في المحافظة على مقدماتها كما يشهد به
الوجدان فلا يحصل للناظر القطع بها لأنه كل ما رتب البراهين
بمقدماتها المستلزمة للمطلوب منع نفسه من الانقياد لها والتسليم
بمقتضاها علمه الاجمالي بكثرة وقوع الخطأ في النظر وإن الناظر
كثيرا ما يقطع بالحكم بمشاهدة مقدمات معلومة عنده بالضرورة
ثم ينكشف خلافه فيجوز أن يكون علمه بالحكم المستفاد من النظر
من ذلك القبيل إذ لا يتمكن من التميز بحيث لا ينتقض بذلك اليقين
الاجمالي وإذا تحقق عنده ذلك امتنع جزمه بالحكم والجواب أما
أولا فبالنقض بالضروريات لوقوع الخطأ فيها أيضا كيف لا ومرجع
النظريات إلى
345

حيث يعتبر فيها أن يكون مقدماتها ضرورية أو آئلة إليها بالضرورة وأن
يكون استلزامها للمطلوب أيضا ضروريا أو آئلا إليه
بالضرورة فوقوع الخطأ فيها مستلزم لوقوع الخطأ في الضروريات
فيلزم أن لا يكون حجة أيضا وأما ثانيا فبالحل وهو أن الناظر
إذا علم بمقدمات مطلوبة وباستلزامها له على ما هو المعتبر في النظر
حصل له العلم بالمطلوب من غير تجويز لان يكون نظره ذلك
خطأ فإن العقل مفطور على الانقياد والاذعان بمقتضى ما انكشف له
بالضرورة أو بالنظر وإن علم بأن العلم قد يكون جهلا والنظر
قد يكون خطأ لأنه حال علمه بالشئ لا يجوز ذلك في علمه ونظره و
إن أجازه في غيره فإن حجية العلم والانكشاف ضرورية فطرية و
ليست نظرية حتى يتطرق القدح إلى كلية كبراه بما ذكر نعم ربما تغلب
الشبهة المذكورة على الناظر لتمكينه إياها من نفسه فيتوهم
كونها قادحة في حصول العلم فيمنعه عن الجزم في النظريات كما أن
الشبهة السوفسطائية إذا زاولها من آل كثيرا أدت إلى التشكيك في
الضروريات وهذا كله لا يكون إلا بعد إزاحة العقل عن فطرته الأصلية
وردها عن خلقتها الأولية وأما ثالثا فبأن إبطال حجية النظر
يؤدي إلى إبطال الشرائع والأديان لابتنائها على النظر بإثبات الصانع و
قدرته وحكمته وعدله وامتناع إظهار المعجزة على يد
الكاذب إلى غير ذلك فلو بطل حكم النظر نظرا إلى وقوع الخطأ فيه
أحيانا لم يثبت شئ من ذلك وقد يقال أن المعجزة تفيد العلم
الضروري بصدق صاحبها بدليل أن العلم منها كثيرا ما يحصل للعوام و
نحوهم ممن ليس لهم قوة النظر والاكتساب فلا يتوقف على
النظر في إثبات الصانع وصفاته بل يصح إثبات الصانع وصفاته بقول
صاحبها المعلوم صدقه بالضرورة وهذا غير مستقيم إذ لا دلالة
للمعجزة في حد ذاتها على صدق صاحبها عقلا نعم يمكن القول
بدلالتها بطريق الضرورة على صدق صاحبها بعد العلم بوجود الصانع
العالم القادر
الحكيم كما هو المتفق عليه في جميع الأديان أو إثباته يتوقف على
النظر إلا أنه نظري جلي لوضوح مقدماته بحيث لا يكاد يخفى على
عاقل بعد التنبيه [تنبيهه] عليها وقد أشير إليه في قوله تعالى أ في الله
شك فاطر السماوات والأرض إلا أنه لا يجدي بالنسبة إلى من
سبق ذهنه إلى الشبهة فيتعين عليه تحصيل العلم بالنظر وهو كاف في
الاشكال
فصل ينقسم الفعل عند القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين
إلى ما يستقل العقل بإدراك حسنه أو قبحه وإلى ما لا يستقل به و
ينقسم الأول إلى الأقسام الخمسة أعني الواجب والحرام وأخواتهما
و
ليس المراد واستقلال كل عقل بذلك ليتضح فساده بشهادة الوجدان
على خلافه بل المراد استقلال العقل بذلك ولو بحسب بعض أفراده
كعقول الأنبياء والأوصياء فاللام في العقل للجنس والمراد بأنفسهم
الثاني ما لا يستقل العقل بإدراك حكمه ولو بحسب بعض أفراده
لكن يشكل حينئذ بانتفاء التقابل بين القسمين فإن من الافعال ما
يستقل بإدراك حكمه بعض العقول دون بعض ولا مدفع له إلا باعتبار
الحيثية فيرجع حاصل التقسيم إلى أن الفعل إما أن يؤخذ من حيث
إدراك العقل لحكمه ولو ببعض أفراده أو يؤخذ من حيث عدم إدراك
العقل لحكمه ولو ببعض أفراده ولا يقدح عدم انحصار المقسم فيهما
لان المقصود تقسيمه بحسب ما يتعلق الغرض ببيان حكمه وهو
منحصر فيهما ولك أن تجعل انقسام القسم الأول إلى الأقسام الخمسة
بمعنى عدم خلوه من أحدها توسعا فلا يلزم أن يشتمل عليها
بحسب الوقوع وإن جاز فحينئذ فيصح أن يكون التقسيم باعتبار كل
واحد من آحاد العقل وكيف كان فلا يقدح عدم تحقق نوع من
الفعل يستقل عقولنا بإباحته أو استحبابه أو كراهته ومن هنا يظهر
ضعف ما زعمه الفاضل المعاصر من أن ما اتفقت عليه كلمة القائلين
بالتحسين والتقبيح إنما هو وجود الأحكام الأربعة دون الإباحة لأنهم
إذا اختلفوا في مثل أكل الفاكهة وشم الطيب كما سيأتي فأي شئ
يبقى بعد ذلك لان يتفقوا على إباحته ثم نسب الشارح الجواد إلى
الغفلة حيث سلك مسلكنا فقسم الفعل إلى ما يستقل العقل بإدراك
حسنه
أو قبحه وقسمه إلى الأقسام الخمسة وإلى ما لا يستقل به وجعله
موردا للنزاع الآتي وأنت خبير بأن ذلك مما لم ينفرد به الشارح
الجواد بل هو متداول بين القوم فإسناد الغفلة إليه في ذلك إسنادها
إلى الكل والتحقيق أن الغفلة إنما نشأت منه فإن كلامهم في التقسيم
ناظر إلى ما ذكرناه من الوجهين ونزاعهم الآتي مقصور على القسم
الثاني فإن اختلافهم في إدراك العقل في حق الجاهل بحكم تلك
الأشياء إباحتها من حيث جهله به لا يدل على منعهم إدراك بعض
العقول
إباحتها أو إباحة غيرها باعتبار آخر مع أن ما زعمه في الإباحة منقوض
عليه بالكراهة حيث التزم باتفاقهم عليها مع أن قضية ما ذكره
في الإباحة نفيها أيضا فإنهم إذا نازعوا في حرمة مثل أكل الفاكهة وشم
الطيب فأي شئ يبقى بعد ذلك حتى يتفقوا على كراهته بل
التحقيق أن التقسيم إن كان بالنظر إلى عقولنا فهي لا تستقل بإدراك
المندوب أيضا فالوجه حصر ما يستقل بإدراكه العقل في قسمين لا
الأقسام الأربعة وأما ما لا يستقل العقل بإدراك حسنه ولا قبحه فقد
اختلف القائلون بالتحسين والتقبيح والمنكرون لهما بعد التنزل
في حكمه قبل ورود الشرع فذهب الأكثرون إلى الإباحة وآخرون إلى
الحظر وذهب الحاجبي إلى أنه لا حكم فيه أصلا وتوقف شيخ
الأشاعرة وفسر تارة بعدم العلم بالحكم وأخرى بعدم الحكم ولا بد
أولا من تحرير محل النزاع فنقول كما ينقسم الحكم التكليفي
باعتبار نفسه إلى اقتضائي وتخييري وينقسم بهذا
346

الاعتبار إلى الأحكام الخمسة كذلك ينقسم باعتبار آخر إلى حكم
واقعي وحكم ظاهري وينقسم بكل من الاعتبارين إلى الأحكام الخمسة
والظاهر أن النزاع هنا في مطلق الحظر والإباحة سواء كانا
واقعيين أو ظاهريين ليعم القول بالتصويب أيضا وخصهما بعضهم
بالظاهريين معللا بأنه لا يمكن نفي الاحتمال العقلي رأسا بمعنى أن
ليس في الفعل واقعا جهة حسن أو جهة قبح لا سيما بعد ملاحظة ما
ورد في الشرع من تحريم بعض المنافع الخالية عن المضرة كالغناء و
شرب الفقاع الغير المسكر وهذا التعليل كما ترى إنما يتجه على
قول المخطئة والأولى ما ذكرناه وزعم بعض المعاصرين أن النزاع هنا
في الإباحة والحظر الواقعيين مع تحريره لمحله في الأشياء
الغير الضرورية المشتملة على المنفعة ورد التعليل المذكور بأنه
إشكال سار في جميع المطالب المستدل عليها يعني أن ظهور خلاف
الحكم الذي دل عليه العقل أحيانا لا ينافي قطع العقل بالواقع قبل
ظهور الخلاف كما في كل جهل مركب ينكشف خلافه وفيه أن غرض
المعلل منع حصول القطع بالواقع إذ لا مسد لباب الاحتمال ووضوح
تطرق تجويز المخالفة للواقع إليه كيف لا وموضع النزاع في كلامهم
ما لا يدرك العقل حسنه وقبحه وأما الاستشهاد بظهور الخلاف في
الغناء والفقاع فتأييد للمدعي كما يشهد به مساق كلامه وليس
الغرض منه الاستدلال به ليدفع بأن ظهور الخلاف أحيانا لا ينافي
حصول القطع بالواقع كما في سائر المطالب القطعية ثم أقول على ما
نزل عليه مقالة المبيح والحاظر من إرادة الحكم الواقعي قد تبين الغير
المصوب منها بعد ملاحظة الشرع فساد كل من المقالتين فكان
اللازم لهم ترك النزاع وإلا لعاد محصله إلى أن أي الجهلين المركبين
يلحق الفعل قبل ملاحظة الشرع وهو لا يشبه بنزاع أهل العلم ثم
قال نعم قد يتضح هذا الاشكال إذا استدل بمثل كل شئ مطلق حتى
يرد فيه نهي قال ويمكن أن يقال فيه أيضا أنه مباح واقعا لمن لم
يطلع على النهي وحرام
واقعا على من اطلع عليه لا أنه لغير المطلع مباح ظاهرا وحرام واقعا و
أحال الامر في ذلك إلى ما تبين في مسألة الواجب المشروط
بالنسبة إلى الواجد للشرط والفاقد له أقول وضعف هذا التأويل في
الرواية مما لا يكاد يخفى على ما قررناه سابقا وقد اعترف هو
أيضا بفساده عند رد من احتج بها على نفي الملازمة بين العقل و
الشرع مستشهدا عليه بأن جعل الحكم مغيا بغاية كما تقتضيه كلمة
حتى
ينافي كون الحكم واقعيا فلا وجه للتشبث به في المقام ثم قد تقرر في
مبحث الواجب المشروط أن وجوبه مقيد في حق الفاقد للشرط و
مطلق في حق الواجد له فيمكن التعلق به في المقام بعد تقريبه بنوع
من التوجيه كأن يقال لا ريب في أن التكاليف بأسرها ظاهرية كانت
أو واقعية مشروطة بعلم المكلف لئلا يلزم التكليف بما لا يطاق فحيث
لا علم لا تكليف حقيقة لا ظاهرا ولا واقعا فبطل دعوى أنه لغير
المطلع على النهي مباح ظاهر أو حرام واقعا لان الحرمة تكليف
ظاهرية كانت أو واقعية فثبوتها بدون العلم يؤدي إلى ثبوت المشروط
بدون شرطه وهو محال وهذا غاية توجيه الحوالة إلى المبحث
المذكور وأنت خبير بأن منشأ هذه الكلمات عدم تحقق معنى الحكم
الواقعي والحكم الظاهري وقد نبهنا عليه سابقا وسننبه عليه فيما
سيأتي ونقول هنا تأكيدا وتوضيحا أنا لا نريد بالحكم الواقعي لا
الحكم الذي يشترط في تعلقه بالمكلف علمه به فلا يكون عند عدم
الشرط إلا حكما شأنيا وقد اصطلحوا على تسميته حكما واقعيا ولا
ريب أنه غير مشروط بالعلم وإنما المشروط به فعليته ويعبر عنه
بالحكم الظاهري وبهذا يظهر الفرق بين القول بالتصويب والقول
بالتخطئة فإنهم بعد أن اطبقوا على ثبوت الحكم الفعلي تشاجروا في
ثبوت الحكم الشأني بالمعنى الذي ذكرناه ثم لو تم ما ذكره في
الرواية لثبت القول بالتصويب ولو في المباح وهو خطأ كما سنحققه
في محله وأما ما يقال من أن حمل الإباحة والحرمة على
الظاهريين يؤدي إلى تسبيع الاحكام فإن أراد تسبيع الاحكام الواقعية
أو الظاهرية فظاهر عدم لزومه و
إن أراد تسبيع مطلق الاحكام فلا إشكال في التزامه بل التحقيق
تعشيرها كما نبهنا عليه ثم الفرق بين هذه المسألة ومسألة أصل
الإباحة
الآتية هو أن البحث هنا مقصور على دلالة العقل والبحث هناك مبني
على ملاحظة الشرع أيضا ومن هنا يظهر ضعف ما ذكره المعاصر
المذكور من التمسك في المقام برواية كل شئ مطلق حتى يرد فيه
نهي فإن فيه خروجا عن محل البحث إذا تقرر هذا فالحق عندي هو
القول بالإباحة الظاهرية سواء اشتمل الفعل على منفعة أو لا وخصه
جماعة من موافقينا بالنوع الأول وتبعهم في ذلك الفاضل المعاصر
مع حمله الإباحة على الإباحة الواقعية لنا أن ضرورة العقل قاضية
بالإباحة في الظاهر عند عدم ما يدل على خلافها من غير فرق بين ما
يشتمل على منفعة وما لا يشتمل عليها لظهور أن التكليف بأقسامه
الأربعة مشروط بالعلم والبيان عقلا وعادة وإذ ليس فليس ولا
يغني بالإباحة إلا ذلك واحتج موافقونا بأن الحكمة في خلق العبد و
ما ينتفع به إباحته له ليترتب عليه ما هو المقصود من خلقه وإلا لكان
خلقه عبثا وهو محال وأورد عليه تارة بالمعارضة بأنه تصرف في مال
الغير فيحرم وهذه المعارضة مردودة بما سيأتي وأخرى
بالحل وهو أنه لا يلزم من عدم الإباحة وقوع العبث لجواز أن يكون
المقصود من خلقه على تقديره اصطباره عنه عند تشهيه لثياب عليه
مع أن ثمرة خلقه لا ينحصر في ارتفاعه به بطريق الاكل ولا يستلزم
عموم الانتفاع كما أن الامر في كثير من المحرمات كذلك واحتج
الفاضل المعاصر على ما اختاره من الإباحة الواقعية بأنها منفعة خالية
عن أمارات المفسدة والاذن منه تعالى في التصرف معلوم عقلا لان
ما يتصور مانعا هو التضرر وهو منتف قطعا فيكون حسنا واحتمال
حصول المفسدة في الواقع
347

كما يشاهد في بعضها بعد كشف الشرع كالغناء وشرب الفقاع لا
يوجب تزلزل العقل في قطعه لأنه لا منشأ له قبل ورود الشرع فلا
يعتد به العقل أ لا ترى أن من احترز عن الجلوس تحت الحائط
المحكم البنيان لاحتمال أن ينهدم يلحق تجويزه ذلك بظنون أصحاب
الجنون والسوداء مع أن هذا الاحتمال معارض باحتمال المفسدة في
ترك الفعل أيضا وهو يستلزم التكليف بالمحال والمانع لم
يتمسك على المنع إلا بكونه تصرفا في ملك الغير بغير إذنه فكأنه نفي
احتمال مفسدة أخرى وهذه المفسدة أيضا منفية أقول لا تنهض
الحجة المذكورة إلا بإثبات الإباحة الظاهرية لان خلو الفعل عن
أمارات المفسدة لا يوجب القطع بانتفائها وأما حكم العقل بقبح
التحرز
عن الجلوس تحت الحائط المحكم البنيان فهو حكم منه ظاهري
لظهور أن العقل لا يقطع بعدم ترتب مفسدة الانهدام عليه لكن يحكم
بقبح
البناء في الظاهر على خلاف ذلك وبالجملة نفرق بين تجويز الانهدام
على الحائط المذكور وبين العمل بمقتضى هذا التجويز من
التحرز عن الجلوس تحته لأجل ذلك فالذي يحكم العقل بقبحه وسفه
فاعله هو الثاني دون الأول فظهر من ذلك فساد ما ادعاه من أن
الاذن منه تعالى يعني الاذن الواقعي معلوم عقلا لما بينا من احتمال
الخلاف مع أن اعتبار الاذن في الدليل غير سديد لأنه هنا بمعنى
الإباحة فيكون الاستدلال مصادرة ومعارضة احتمال المفسدة في
الفعل باحتمال المفسدة في الترك لا يوجب القطع بالإباحة الواقعية و
بطلان ما تمسك به المانع لا يوجب بطلان دعواه لجواز أن يقام عليها
حجة أخرى فضلا عن ثبوت ما يدعيه لاحتمال الواسطة احتج
القائلون بالحظر بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيحرم ورد تارة
بمنع حكم العقل بحرمة التصرف في ملك الغير وإنما يثبت
ذلك بالشرع ولو سلم فإنما يسلم فيمن يلحقه بالتصرف ضرر وهو هنا
منتف لتنزهه تعالى عنه ولو سلم فمعارض بما نحققه في المنع
من الضرر الناجز على النفس وليس تحمله لدفع ضرر الخوف أولى
من العكس وأشدية الضرر المخوف معارضة بتنجز الضرر الاخر و
أخرى بالتنظير وهو أن من ملك بحرا لا ينزف واتصف
بغاية الجود وأحب مملوكه قطرة من ذلك فكيف يدرك بالعقل
تحريمها والتقريب ظاهر وقد يجاب أيضا بلزوم التكليف بالمحال إذا
فرض ضدان لا ثالث لهما كالحركة والسكون وأورد عليه بأنه خارج
عن محل النزاع إذ لا نسلم أن لا حكم للعقل فيه بل يحكم بإباحة
أحدهما قطعا ويمكن أن يجاب أيضا بأن الخصم لعله لا يساعد على
كون السكون فعلا بل هو عدم فعل الحركة فلا يلزمه القول
بالتكليف بالمحال بل يلزمه القول بحرمة الحركة على التعيين إلا أن
يقال بنقل الكلام إلى الكف الذي هو سبب السكون وهو أمر
وجودي ويمكن دفعه بأن الظاهر أن نزاعهم في أفعال الجوارح فقط
بدليل أن دليلهم من حرمة التصرف في ملك الغير لا يساعد على
تحريم التصرف في نفسه إلا أن يقال بأنه أيضا ملك للغير فيحرم عليه
التصرف في نفسه ولو بإحداث الكف فيها ولا يخلو من بعد نعم
يمكن أن يقال هذه مناقشة في المثال فيبقى الاشكال المدعى بحاله و
لا محيص عنه إلا بالتزام القول بالإباحة حينئذ وتخصيص الحظر
بغيره حجة النافي للحكم أن المبيح والحاظر إن أرادا خطاب الشرع
بذلك فالتقدير أن لا شرع وإن أرادا حكم العقل بذلك لزم
التناقض إذ المفروض أنه مما لا حكم للعقل فيه بحسن ولا قبح في
حكم الشارع يعني أن فرض العنوان ما لا يدرك العقل حكمه أو حسنه
وقبحه ينافي دعوى حكم العقل فيه بالإباحة أو الحظر والجواب أنا
نختار الشق الأخير ولا تناقض لان المراد أن ما لا يدرك العقل
حكمه بغير هذا العنوان أو هذه الجهة أعني كونه مما لا يدرك العقل
حسنه وقبحه هل يحكم عليه بعد ملاحظته بهذا العنوان وهذه الجهة
بالإباحة أو الحظر أو لا فلا ينافي حكم العقل عليه بأحدهما ما اعتبر
فيه من عدم حكم العقل فيه بأحدهما لتغاير الجهتين وإلى هذا يرجع
ما قيل من أنه لا منافاة بين عدم الحكم على شئ مع قطع النظر عن
كونه مجهولا وبين الحكم عليه باعتبار كونه مجهولا وتنظر فيه
بعض المعاصرين بأن حكم المبيح بالإباحة أو الحاظر بالحظر حينئذ
ليس من جهة كونه مجهول الحكم عند العقل بل لأنه منفعة مأذون
فيها أو تصرف في
ملك الغير بغير إذنه فكيف يجعل محل النزاع مجهول الحكم مع أن
مقتضى دليل الباحثين علمهم بالحكم ثم قال فإن قيل ذلك مقتضى
دليلهم بالنظر إلى ظاهر الحال وقد يتبدل الحكم بظهور خلافه فيعلم
أن الحكم السابق إنما كان حكم مجهول الحكم قلنا هذا كلام سار
في سائر المطالب المعلومة فكثيرا ما يعلم حكم الشئ بالضرورة أو
النظر ثم يظهر خلافه ولا يلزم منه أن يكون ذلك حكم الشئ من
حيث إنه مجهول الحكم بل وظيفة الناظر في كل وقت إنما هي التخلية
التامة والبناء على ما أدى إليه نظره سواء صادف الواقع أو لا ثم
قال نعم هذا يجري فيما لا نص فيه من الاحكام التي لا مسرح للعقل
فيها أصلا كوجوب غسل الجمعة فإن حكمه قبل ثبوت الشرع من
حيث
هو مجهول عدم الوجوب لا مع قطع النظر عنه وأين هو من الحكم
بالإباحة هذا ملخص كلامه أقول وفيه ما لا يخفى لان حكم المبيح و
الحاظر بالإباحة والحظر من جهة كونه منفعة مأذونا فيها أو تصرفا بغير
الاذن لا ينافي كونه باعتبار جهالة الحكم أيضا كيف وتلك
الجهتان إنما يثبتان لمواردهما عندهم باعتبار هذه الجهة فإن المبيح
إنما يقول في شم الورد مثلا بأنه منفعة مأذون فيها بعد أخذه
بعنوان مجهول الحكم كما يدل عليه اعتباره لخلوها عن أمارات
المفسدة وكذلك الحاظر إنما يقول بأنه تصرف بغير الاذن بعد أخذه
بهذا العنوان إذ مراده بغير الاذن ظاهر إلا واقعا إذ لا طريق له إليه فيدل
على اعتباره الجهالة بالحكم في الحكم وبالجملة فكون الشئ
مجهول الحكم دليل أصولي على حكمه بمعنى أنه يمكن التوصل
بصحيح النظر فيه إليه لا دليل منطقي وأما ما أورده من السؤال فمورده
ما ذكره أخيرا من أن مقتضى أدلتهم العلم بالحكم فكيف يجعل
الموضوع مجهول
348

ومحصله أن الجهل أعم من البسيط والمركب فإذا حكم الحاكم
بالإباحة لدليلها أو بالحظر لدليله ثم انكشف الخلاف تبين أن ذلك كان
حكمه من حيث خطائه وجهالته بالحكم و ح فلا منافاة بين العلم
بالحكم وبين كون الموضوع مجهول الحكم وأما ما أجاب به عنه
فليس
على ما ينبغي بل التحقيق في الجواب أن القاطع بثبوت حكم في حقه
إنما يقطع حال قطعه بثبوته في حقه من حيث إنه مصيب بقطعه
الواقع لا من حيث إنه مخطئ به في إصابته وإن حكمه حال خطائه
ذلك نعم إذا انكشف له الخلاف تبين عنده أن ذلك كان حكمه من
حيث
خطائه في إصابة الواقع لا من حيث إصابته له وظاهر أن الكلام في
المقام إنما هو بالنسبة إلى حال القطع لا بالنسبة إلى حال انكشاف
الخلاف فيبقى إشكال التدافع بين فرض العنوان مجهول الحكم مع
قضاء الدليل بالعلم بالحكم بحاله وأما ما ذكره أخيرا من أن العقل
يحكم فيما يجهل حكمه بعدم الوجوب دون الإباحة فغير سديد لان
العقل كما يحكم فيه بعدم الوجوب كذلك يحكم بعدم الاستحباب و
الحرمة والكراهة فيتعين أن يحكم بالرخصة في الفعل والترك ما لم
يقم دليل على خلافه لان انحصار الاحكام في الخمسة يعد من
الضروريات وقضية القول بالملازمة بين حكم العقل والشرع كما يقول
هو وغيره به حكم الشرع أيضا بالرخصة فيهما ما لم يقم دليل
على خلافه وهو معنى الإباحة الظاهرية هذا وأجاب التفتازاني عن
الاشكال المذكور بأن النزاع في الفعل الذي لا يدرك العقل فيه
بخصوصه جهة محسنة أو مقبحة كأكل الفواكه مثلا ولا يحكم فيه
بحكم خاص تفصيلي في فعل فعل فهل يحكم فيها على الاجمال
بحرمته
أو يحكم بإباحته أو لا وأورد عليه المحشي الشيرازي بأنه إذا علم
العقل الحكم على الاجمال في أكل الفاكهة مطلقا علم الحكم
المخصوص
بكل فعل كأكل فاكهة الرمان بضم الصغرى الواضحة الثبوت إلى ذلك
الحكم الكلي الاجمالي الحاصل من دليلهم ثم قال اللهم إلا أن يقال
المراد الحكم الضروري وفيه تعسف يعني أن حمل الحكم المنفي
إدراكه على الحكم الضروري يدفع
الاشكال لان اعتبار ضم الصغرى يخرجه عن كونه ضروريا وكأنه أراد
بوجه التعسف ما سيأتي ونقل بعض المعاصرين عن الشارح
الجواد أنه أورد الاشكال المذكور على ما اختاره من القول بالإباحة ثم
أجاب عنه بوجهين الأول أن المراد أن ما لا يدرك العقل حسنه أو
قبحه بالنظر إلى خصوصياتها هل يحكم حكما عاما بالحسن بالنسبة
إلى الجميع أو لا الثاني أن المراد أن ما لا يدرك العقل حسنه أو
قبحه ابتدأ أو مجردا عن ملاحظة شئ آخر فهل يحكم عليه بالحسن
حكما عاما بالنظر إلى الدليل أو لا وعلى التقديرين لا يكون الحكم
المذكور مخالفا لما اعتبر في العنوان قال بعد نقل الوجهين عنه و
الغفلة التي حصلت له أولا هو الذي أورد عليه هذا الاشكال يريد أنه
لما
قسم الفعل إلى ما يستقل العقل بإدراك حكمه وإلى ما لا يستقل به و
حرر النزاع في القسم الثاني وقع في الاشكال المذكور ولو أنه
حرر النزاع في الأشياء الغير الضرورية في التعيش المشتملة على
المنفعة كشم الورد وأكل الفاكهة من غير اعتبار لكونها مما لا يستقل
العقل بإدراك حكمه كما فعله هو أعني المعاصر المذكور سلم عن
الاشكال فإن من يحكم فيها بالإباحة أو الحظر يجعلها من القسم الأول
ومن يقول بأنه لا حكم فيها يجعلها من القسم الثاني وفيه ما لا يخفى
لان تحرير الشارح الجواد لمحل البحث فيما لا يستقل العقل
بإدراك حكمه موافق للتحرير المعروف في كتب القوم كما لا يخفى
على من راجعها وحينئذ فلا بد إما من بيان يندفع به الاشكال و
التزام بمقالة الحاجبي ولا يجدي تغيير العنوان وتحرير النزاع في
الأشياء الغير الضرورية المشتملة على المنفعة لأنه لا ينطبق عليها
أقوالهم فيها إلا بعد أخذها مجهولة الحكم ومعه يعود الاشكال مع أن
الأشياء الغير الضرورية المشتملة على المنفعة قد يحكم العقل
عندهم فيها بالوجوب كالعدل وقد يحكم بالتحريم كالظلم فلا يستقيم
جعلها عنوانا لمحل النزاع على إطلاقها كما فعله ثم إنه تصدى
لدفع الجوابين اللذين ذكرهما الشارح الجواد فأورد على الوجه الأول
بإمكان أن
يقال في شم الورد منفعة مأذون فيها وكل ما هو كذلك فهو حسن فقد
علم حسنه بالخصوص وعلى الثاني بعدم انحصار مدركات العقل
في الضروريات هذا محصل كلامه أقول وأنت خبير بأن مرجع
الجواب الأول إلى ما أجاب به التفتازاني ومرجع الجواب الثاني و
الاعتراضين إلى ما ذكر المدقق الشيرازي إلا أنه أشار إلى الاعتراض
الثاني بقوله وفيه تعسف ونبه بعض الناظرين في كلامه بما ذكره
المعاصر المذكور تم أقول وما أورد على الجواب الأول إنما يستقيم إذا
أراد المجيب أن المراد أن ما لا يدرك العقل حكمه تفصيلا لا
بدليل خاص ولا بدليل عام هل يدرك حكمه بدليل عام أو لا وهذا
متضح الفساد لأنه حينئذ إن التزم بما أورده المورد عليه من انحلال
ذلك إلى معرفة حكم الخاص باعتبار دليل عام عاد عليه الاشكال لان
ما لا يدرك العقل حكمه ولو باعتبار دليل عام كيف يدرك حكمه
باعتبار دليل عام وإن لم يلتزم بالانحلال فهو مع كونه غير معقول في
نفسه خارج عن محل البحث لان كلامهم هنا في معرفة الحكم
الذي ينحل إلى التفصيل إذ المقصود الحكم بحلية أكل الفواكه مثلا أو
حرمته وهذا لا يعقل بدون الانحلال لا يقال اللازم من الحكم على
العام إنما هو الحكم على الحصة الموجودة منه في الخاص على أن
تكون تلك الحصة موردا للحكم دون الحكم على الخاص على أن
يكون
الخاص موردا له بسبب وجود العام في ضمنه فيمكن رفع المنافاة
حينئذ على التقدير الأول بأن المعنى كل شئ لا يدرك العقل حكمه
و
لو باعتبار أمر كلي على أن يكون ذلك الشئ موردا للعلم هل يدرك
حكمه باعتبار أمر كلي على أن يكون ذلك الكلي موردا للحكم أو لا
فيندفع إيراد المورد عن الجواب لأنا نقول هذا التنزيل مع قصور كلام
المجيب عن إفادته
349

غير مستقيم عندنا لان الاحكام على ما نراه لا تتعلق بالطبائع إلا باعتبار
وجوداتها الخارجية فلا يعقل مغايرة حكمها لحكم أفرادها
لاتحادهما في الخارج نعم يتجه ذلك على قول من يجعل وجودها
مغايرا لوجود أفرادها أو يجعل الاحكام متعلقة بالطبائع باعتبار
أنفسها ويجوز مغايرة حكم الافراد لحكمها كما يراه الفاضل المعاصر
وجماعة من المتأخرين فيمكن إلزامهم بصحة الجواب واندفاع
الايراد بناء على هذا التنزيل لكن لا خفاء في أن النزاع المذكور لا
يختص بأحد هذين القولين فيبقى الاشكال بحاله على مذهب
الآخرين
هذا والذي هو أوفق بمساق كلام التفتازاني بل هو الظاهر من كلام
الشارح الجواد أن المراد أن ما لا يدرك العقل حكمه بدليل يختص به
هل يدرك حكمه بدليل يعمه وغيره أو لا فيندفع عنه الايراد المذكور
لان الحكم بحسن شم الورد لكونه منفعة خالية عن أمارات
المفسدة إنما هو حكم عليه باعتبار أمر كلي عام جار فيه وفي غيره
كشم الرياحين وأكل الفواكه وغيرها وليس باعتبار كونه
خصوص شم ورد وهذا معنى قوله يحكم عليه بالحسن حكما عاما
يعني يحكم عليه بالحسن باعتبار أمر عام وهذا واضح نعم يرد على
المجيب أن بعض الأفعال التي يستقل العقل بإدراك حكمها الابتدائي
من حسن أو قبح مما يتصف به باعتبار أمر عام كحكم العقل بقبح
ضرب غير المستحق وإن اشتمل على منفعة لكونه إيذاء فإن إدراكه
لحكمه ليس باعتبار الخصوصية بل باعتبار أمر عام يجري في
غيره من الجرح والقتل ونحوهما أيضا مع أن النزاع المحرر في المقام
لا يتوجه إليه قطعا وأما ما أورد على الجواب الثاني فإنما يرد
على ظاهر كلامه بناء على أن تكون الأدلة العقلية حجة في النظريات
أيضا كما هو الحق المحقق ويمكن توجيهه بأن المراد أن ما لا يدرك
العقل حسنه أو قبحه الابتدائي أي الثابت للشئ مع قطع النظر عن
ملاحظة العنوان المذكور فيرجع إلى ما ذكرناه ويمكن أن يحمل أيضا
على أن ما لا يدرك العقل حكمه الابتدائي الواقعي هل يحكم عليه في
الظاهر بالإباحة أو الحظر أو لا لكن يقدح فيه أن من الأشياء التي لا
يدرك العقل حكمه الواقعي لا يحكم عليها في الظاهر إلا بالحظر
كالإناءين المقطوع بوجود السم في أحدهما لا على التعيين ثم إن كلام
جماعة كالحاجبي والعضدي في تحرير العنوان خال عن اعتبار كون
الفعل الذي لا يدرك العقل حكمه مشتملا على منفعة وإنما وقع
التقييد به في كلام جماعة وتبعهم في ذلك الفاضل المعاصر حتى
ادعى أن ما لا منفعة فيه كتحريك اليد بلا داع ومضغ الخشب الغير
اللذيذ لا حكم للعقل فيها عند الكل أقول وكأنهم أخذوا القيد المذكور
من الحجة المعروفة للقائلين بالإباحة حيث اعتبروا في الفعل
اشتماله على المنفعة والأقرب عندي أن يحمل المنفعة المأخوذة في
الدليل على منفعة ما أعني موافقة القصد والداعي سواء سميت عرفا
منفعة أو لا ومرجعها إلى ما يمتنع بدونها صدور الفعل الاختياري و
بهذا يحصل التوفيق بين الدليل والعنوان وحمل كلام المعتبرين
لهذا القيد في العنوان على ذلك تعسف واضح وربما يؤيد ما ذكرناه
أنه لولا عموم العنوان لكان من المناسب أو اللازم أن يبحثوا عن
القسم الاخر أيضا مع أنهم لم يتعرضوا له وأما الاتفاق الذي حكاه
المعاصر المذكور على أنه لا حكم فيما لا يشتمل على المنفعة فكأنه
وقع
سهوا من قلمه لان من قال بالحظر في المشتمل على المنفعة كيف
يقول بأن لا حكم فيما لا يشتمل عليها بل يلزمه القول بالحظر في ذلك
بطريق الأولوية وقد عرفت أن مستندنا على الإباحة يعم النوعين ثم
إن أراد الحاجبي بقوله أن لا حكم أنه لا حكم عند العقل كما هو
الظاهر من دليله توجه عليه ما مر وإن أراد أن لا حكم في الواقع توجه
عليه أن عدم حكم العقل بمعنى عدم إدراكه الحكم أعم من عدم
الحكم في الواقع والعام لا دلالة له على الخاص وأما المتوقف فإن
أراد توقف العقل عن الحكم رجع مقالته إلى مقالة الحاجبي فيرد عليه
ما يرد عليه وإن أراد توقفه عن تعيين أحد القولين أو الأقوال لعدم
عثوره فيها على دليل يعتمد عليه توجه عليه ما عرفت من بياننا
المتقدم على إثبات القول بالإباحة ثم قولهم في العنوان قبل الشرع هل
المراد به قبل بعث الرسل مطلقا أو قبل وصول أحكام الشريعة
مطلقا أو قبل وصول جملة يعتد بها منها أو قبل وصول
الحكم في خصوصيات الموارد المبحوث عنها بهذا العنوان أو قبل
وصول حكم هذا العنوان وكان الأول أظهر في كلام العامة لكن حمل
كلام أصحابنا عليه غير سديد لابتناء البحث معه على مجرد الفرض و
تقدير غير واقع ولا جدوى فيه إلا أن يقال فائدته انسحاب الحكم
منه إلى الواقع وهو كما ترى مع عدم وقوع هذا الدعوى في كلامهم و
الثاني بل الثالث أيضا يستفاد من كلام الفاضل المعاصر يرشد
إليه تمثيله بأهل زمن الفترة والمحبوسين الذين لا يتيسر لهم البحث و
هو أيضا لا وجه له لأنه تخصيص من غير اختصاص والذي أوقعه
في هذا الوهم ما توهمه سابقا من أن النزاع في الإباحة الواقعية إذ بعد
وصول كثير من أحكام الشريعة إلى المكلف وعلمه بحكم الشارع
بالحظر في كثير مما لا يدرك العقل حكمه الكاشف عن وجود جهة
مقبحة واقعية خفية فيه يمتنع أن يقطع بإباحة ما يجهل حكمه وقد
عرفت فساده والوجه في المقام أحد الوجهين الأخيرين أو ما يعمهما
والوجه الأخير هو الأظهر فيرجع محصل البحث إلى أن الأشياء التي
لا يدرك العقل حسنها ولا قبحها مع قطع النظر عما ورد فيها من الشرع
خصوصا أو عموما هل يحكم فيها بالإباحة أو الحظر أو لا يحكم
بشئ هذا وما ذكره بعض المعاصرين من أن حكم العقل به بإباحة
تلك الأشياء وإن كان قطعيا قبل ملاحظة الشرع لكنه بعد ملاحظة
الشرع والاطلاع على تحريم الشارع لكثير من المنافع الخالية عن
المضرة يكون ظنا ولا دليل قطعيا على حجيته والدليل الظني غير
مفيد فكيف يدعى أنه مما يستقل العقل به إلا أن يقال إذا حصل الظن
بمقتضى هذا الأصل كان في مخالفته مظنة ضرر فيجب دفعه عقلا أو
يقال يبتني حجية
350

هذا الطريق على ثبوت حجية ظنون المجتهد بعد انسداد باب العلم
فيندرج فيها لكن يشكل الثاني بأن حجية ظن المجتهد لا مدخل لها
في
الأدلة الشرعية التي هي موضوع هذا الفن بل هو يشبه المسائل
الكلامية ففيه نظر من وجوه أما أولا فلانه إن أراد بالإباحة الظاهرية منها
كما هو المختار فقد عرفت أن العقل يستقل بالقطع بها قبل ملاحظة
الأحكام الشرعية وبعدها لاستقلاله بقبح التكليف بدون البيان
مطلقا وهو يستلزمها وإن أراد الإباحة الواقعية كما صرح به سابقا فلا
خفاء في أنه لا قطع بها لا قبل الملاحظة المذكورة ولا بعدها بل
قد لا يكون له ظن بها أيضا لا سيما بعد الملاحظة المذكورة وقد نبهنا
على ذلك سابقا وأما ثانيا فلان الاستناد إلى العمل بأصل الإباحة
إلى دفع الضرر المظنون بظاهره ظاهر الفساد لان الإباحة المظنونة لا
يشتمل على ظن ضرر لا في الفعل ولا في الترك حتى يلتزم في
دفعه بالبناء عليها وإنما يستقيم ذلك في ظن الوجوب أو التحريم نعم
يمكن دعوى ظن الضرر في ترك الحكم بالإباحة المظنونة بناء
على دلالة دليل ظني على وجوب الحكم بها لكن مساق عبارته لا
يساعد على ذلك كما لا يخفى على المتأمل فيها وأما ثالثا فلان ما
ذكره
من أن حجية ظن المجتهد مما لا مدخل له في الأدلة الشرعية غير
صحيح كيف وكثير من الأدلة إنما يبتني حجيتها عنده على إثبات
ذلك
كحجية خبر الواحد والكتاب والاجماع المنقول والشهرة وغير ذلك
فإنه إنما يقول بحجيتها من حيث قيام الحجة على حجية ظن
المجتهد فإذا صح ذلك عنده في الأدلة النقلية فما المانع من صحته
في الأدلة العقلية وأما ما استند إليه في ذلك من أن مسألة حجية ظن
المجتهد ليست من مسائل الفن فإن موضوعه أدلة الفقه وموضوعها
ظن المجتهد ففيه أن موضوع الفن ليس أدلة الفقه خاصة بل هي مع
الاجتهاد بل التعادل والتراجيح أيضا كما مر والبحث عن حجية ظن
المجتهد راجع إلى البحث عن الاجتهاد ولو سلم أن موضوع الفن
أدلة الفقه خاصة فلا بد من إرجاع مباحث الاجتهاد إلى البحث عن
الأدلة كما مر التنبيه
عليه في بيان الموضوع فلا يخرج عن مباحث الفن ولو سلم فابتناء
بعض مسائله عليه مما لا إشكال فيه إذ لم يذهب وهم إلى اشتراط
دخول مبادي كل علم فيه فلا يستقيم دعواه نفي المدخلية إلا أن يريد
نفي الدخول في مسائل علم الأصول لا نفي الابتناء ثم فرقه بين
الجوابين حيث أورد الاشكال على الثاني دون الأول مما لم أقف فيه
على محصل
فصل ومما دل عليه العقل والنقل أصل البراءة
والمراد بها الخلو والفراغ من مطلق التكليف المشكوك فيه فيتمسك
فيه على نفي الوجوب والتحريم وأخويهما حيث يشك في الجميع
أو البعض فيثبت به الإباحة في غير العبادة وانتفاء الأقوى حيث يشك
بينه وبين الضعيف وخصه الفاضل المعاصر بنفي الأولين معللا
بأن المراد البراءة من التكليف ولا يطلق التكليف إلا عليهما ولعله
ناظر إلى ما قيل من أن التكليف مأخوذ من الكلفة ومعناه الالقاء في
المشقة ولا يصدق على غيرهما وضعفه ظاهر لان ذلك معنى
التكليف لغة وأما في الاصطلاح فهو الأعم من ذلك قطعا لأنه يتناول
الوجوب والحرمة بأنواعهما قولا واحدا ومن الواضح أنه لا يكون كلفة
فيهما وكان المتداول في كلامهم استعمال أصل البراءة في نفي
الوجوب وأصل الإباحة في نفي التحريم والكراهة والتعميم أولى
بالمقام لصلوح اللفظ له بالمعنى الذي ذكرناه مع اشتراك الجميع في
الأدلة فهذه الأحكام الأربعة كلها مخالفة للأصل وإن كان مخالفة
الوجوب والحرمة له باعتبارين ومخالفة الندب والكراهة له باعتبار
واحد ولهذا يرجح الندب على الوجوب والكراهة على التحريم عند
دوران الامر بينهما وسننبه على ذلك إن شاء الله ولنحرر أولا محل
البحث فنقول الأصل يطلق في عرفهم غالبا على معان أربعة القاعدة و
الدليل والاستصحاب والراجح والمراد به هنا هو المعنى الأول
أعني القاعدة فالمعنى القاعدة المحررة في البراءة أو للبراءة دون
الدليل لعدم ملائمته للمقام فإن البحث هنا عن مدلوله لا عن نفسه و
دون الاستصحاب وإن كان من جملة أدلته لاختلاف مدارك المسألتين
وأقوالهم فيهما ودون الراجح لان المراد به المظنون إذ
المقطوع به لا يسمى أصلا في عرفهم ولا خفاء في أن البراءة إن
قيست إلى الواقع فقد لا يكون ظن بها وإن قيست إلى الظاهر فهي
مقطوع بها ولئن سلم أن معناه الأعم فإنما يصح على الظاهر اعتباره
في التركيب الحملي كما ذكره الشهيد الثاني دون الإضافي كما
زعمه الفاضل المعاصر في محل البحث ثم الفرق بين هذا الأصل و
أصل الإباحة أن أصل
الإباحة أخص منه بحسب المورد لجريان أصل البراءة فيما يحتمل
الإباحة وفيما لا يحتمله سواء كان عدم احتماله لها في نفسه كما في
العبادة أو لقيام دليل على نفيها بالخصوص كما في الدخول على سوم
المؤمن بخلاف أصل الإباحة فإنه لا يجري إلا حيث يحتمل الإباحة
والفرق بينه وبين الأصل الاخر المعروف بينهم من أن عدم الدليل
دليل العدم هو أن الثاني أعم باعتبار جريانه في الحكم الوضعي دون
الأول كما أن الأول أعم باعتبار جريانه في الموضوعات دون الثاني
فالنسبة بينهما عموم من وجه وإن خصصنا أصل البراءة بنفي
الوجوب والتحريم أو بنفي الأول فالفرق أظهر وجعل الشهيد في
الذكرى مرجع الثاني إلى الأول وهو غير واضح واستظهر بعض
المتأخرين في الفرق بينهما أن المقصود بالأول نفي الحكم الظاهري و
بالثاني نفي الحكم الواقعي وضعفه ظاهر فإن مقتضى الأصلين
في نفسهما ليس إلا النفي في الظاهر وذكر الفاضل المعاصر في الفرق
بينهما أن الأصل الثاني لنفي الحكم عن الموضوعات العامة و
الأول لنفيه عن الموضوعات الخاصة يعني لنفي تعلقه بخصوص ذمة
آحاد المكلفين وفيه نظر يعرف مما قررنا إذا تحقق عندك هذا
فاعلم أن أصل البراءة قد يستعمل في مقام الاشتباه في الحكم فتارة
حيث لا يعلم
351

أصلا ولا يكون أورده تعلق بأمر علم الاشتغال به وأخرى حيث يعلم
الاشتغال في الجملة أو يتعلق مورده بما علم الاشتغال به وقد
يستعمل في مقام الاشتباه في الموضوع أما حجيته في المقام الأول
فهو قول الأكثر بل ربما يظهر من عد الصدوق له في الاعتقادات أنه
موضع وفاق وذهب المحقق في كتاب الأصول إلى القول بحجيته
مطلقا ونقل فيه أيضا قولا بوجوب الاحتياط مطلقا وقضية ذلك عدم
العمل بأصل البراءة مطلقا ويحكى عنه في المعتبر القول بأنه حجة
فيما يعم به البلوى خاصة وعبارته في مقدمة الكتاب المذكور غير
مساعدة على الحكاية لأنه قسم في الفصل الثالث منها الاستصحاب
إلى أقسام ثلاثة استصحاب حال العقل وفسره بالبراءة الأصلية و
استصحاب حال الشرع وأن يقال عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه
وذكر هذا بين القسمين الأولين وقال بعد ذكره وهذا يصح فيما
يعلم أنه لو كان هناك دليل لظفر به أما لا مع ذلك فيجب التوقف ولا
يكون ذلك الاستدلال حجة أقول تثليثه لاقسام الاستصحاب يبتني
على أحد أمرين الأول أن يريد بقوله عدم الدليل على كذا فيجب
انتفاؤه استصحاب عدم غير التكليف من أحكام الوضع بقرينة المقابلة
فيستفاد من كلامه اشتراط العلم بعدم الدليل في حجية الاستصحاب
المعمول في نفي الحكم الوضعي دون التكليفي فإن أراد بالعلم معناه
الحقيقي كما هو الظاهر فالفرق واضح وإن أراد به ما يتناول الظن
المستند إلى الفحص في الأدلة كان الفرق باعتبار اشتراط حصوله
في نفي الأول دون الثاني فإن الفحص قد لا يفيد الظن بالعدم فيكفي
في نفي التكليف دون حكم الوضع الثاني أن يريد أن الاستصحاب
قد يستعمل في نفي الحكم ظاهرا وهذا لا يعتبر فيه إلا عدم العثور
على ما يدل على الخلاف وينقسم باعتبار المورد إلى القسمين
المذكورين وقد يستعمل في نفي الحكم واقعا وهذا يعتبر فيه العلم
بعدم الدليل على الخلاف ولا يخفى ما فيه بل الصواب حينئذ أن يقال
يعتبر فيه العلم بأن الحكم لو كان خلاف ذلك لعثر على دليله إذ مجرد
العلم بعدم الدليل
لا يفيد العلم بعدم الحكم غاية الامر أن يفيد الظن به ولا دليل على
اعتباره هنا ولا يذهب عليك أن الوجه الثاني أقرب إلى مساق بيانه و
كيف كان فليس في كلامه التفصيل في حجية أصل البراءة بل في
حجية أصل العدم وقد عرفت الفرق بينهما بقرينة المقابلة ومع
الاغماض عن ذلك فالذي اعتبره في الحجية هو العلم بعدم دليل على
الخلاف وقضية ما نسب إليه من اشتراط عموم البلوى هو العلم بعدم
الخلاف والفرق بينهما بين ولعله أشار إلى هذا التفصيل في مقام آخر
ثم قضية حجية أصل البراءة في ما يعم به البلوى هو العلم بأن الذي
بينه المعصوم عليه السلام بالقول أو التقرير هو البراءة فإن لم يكن
هناك احتمال التقية علم أنها الحكم الواقعي وإلا كانت محتملة له و
قول بعض المعاصرين بإفادة الظن بالبراءة بعيد عن الاعتبار السديد ثم
الاحتياط عبارة عن فعل ما لا يعلم وجوبه واقعا ولو في الجملة
مع احتماله إذا سلم من احتمال التحريم أو ترك ما لا يعلم تحريمه
كذلك إذا سلم من احتمال الوجوب فإن علم أحدهما الدليل دل عليه
غير
دليل الاحتياط كالخبر المعتبر أو الاستصحاب أو ما أشبه ذلك لم يعد
العمل به احتياطا وكذا إذا احتمل الوجوب والتحريم وإنما
اعتبرنا قولنا في الجملة احترازا عن مثل الأقل إذا دار الامر بين وجوبه
ووجوب الأكثر فإنه وإن كان وجوبه النفسي محتملا إلا أن
وجوبه في الجملة معلوم وإن أردت تفسير الاحتياط في المندوب و
المكروه أبدلت الوجوب والتحريم بالندب والكراهة وفسره بعض
المعاصرين بما هو أوفي للنفس من الهلاك في صورة الاحتمال و
يشكل بأنه لا ينطبق على القول بوجوب الاحتياط إذ لا وقاية بدونه و
لا
على القول بالاستحباب للقطع بعدم الهلاك والعقاب هذا وذهبت
الأخبارية على ما نقل عنهم إلى أنه حجة في غير ما يحتمل التحريم و
اختلفوا في ما يحتمل التحريم إلى أقوال أربعة التحريم واقعا والتحريم
ظاهرا والاحتياط والتوقف واستشكل بعض المعاصرين في
الفرق بين القولين الأخيرين منها بناء على ما نسب إليهم من
إطباقهم على القول بالتحريم وأنت خبير بأن ما زعمه من الاشكال
متجه في الفرق بين الثلاثة المتأخرة ولا اختصاص له بالأخيرين كما
ذكره ولو نزل مقالة التوقف على التوقف عن تعيين أحد هذه الأقوال أو
بعضها على حد التوقف في سائر المسائل اتضح الفرق بينه و
بين بقية الأقوال إلا أن حجية الآتية لا يساعد على ذلك بل على
التوقف في الحكم الفرعي وعلى تقديره يبقى الاشكال بحاله ويمكن
الفرق بأن الأدلة التي تمسكوا بها على التحريم منها ما يدل بظاهر عليه
من جهة وجوب التوقف كما في الفتوى قبل مراجعة الأدلة ومنها
ما يدل عليه من جهة وجوب الاحتياط كما في ركعات الشك ومنها ما
يدل عليه من جهة أنه في نفسه حرام ظاهري كما في مستصحب
التحريم فصاحب كل مذهب يتمسك على دعواه بما يختار العمل به
منها ولهذا يعبر عن مذهبه بما يساعد عليه دليله هذا ويمكن حمل
كلام المتوقف على التوقف في تعيين الحكم الواقعي والظاهري و
ارتكاب الفعل والترك مجردا عن التقييد بجهة شرعية لكنه ينافي ما
نسب إليهم من الاتفاق على التحريم هذا ولنا على المذهب المختار
وجوه الأول قطع العقل بالبراءة عند عدم أمارة على الاشتغال وقبح
التكليف بدون الاعلام والافهام وقد سبق بيانه آنفا فلا نطيل الكلام
بإعادته الثاني استصحاب البراءة الثابتة في حال المضطر وشبهه
فإن قضية عموم أدلته كما سيأتي عدم اختصاص مورده بغير البراءة و
لا يخفى أن هذا الدليل أخص من المدعى إذ بين مورد
الاستصحاب وبين مورد أصل البراءة عموم من وجه لجريان
الاستصحاب في غير البراءة وجريان أصل البراءة حيث لا يتقدم براءة
كمن علم
352

بوقوع جنابة وغسل عما في الذمة منه وشك في المتأخر فإن قضية
أصل البراءة هنا عدم تحريم جواز المسجدين واللبث في المساجد و
قراءة العزائم عليه مع أنه لا مسرح للاستصحاب فيها الثالث ما دل
على نفي التكليف عند عدم ما يدل عليه من الكتاب والسنة فمن
الأول
قوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها فإن الاتيان لا يصدق فيما لا
ينصب أمارة عليه وفيه تأمل وقوله تعالى ليهلك من هلك عن بينة
ويحيى من حي عن بينة فإن قضية تخصيص الهلاك والحياة بصورة
وجود البينة نفيهما عند انتفائها وقضية ذلك نفي الوجوب و
الحرمة وأخويهما حينئذ على إشكال في دلالته على نفي الكراهة و
قريب منه قوله تعالى ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها
غافلون وقد يستدل أيضا بقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث
رسولا فإن المتبادر من بعث الرسول في المقام هو التبليغ ويشكل
بعد التسليم بأن نفي التعذيب لا يدل على نفي الوجوب والتحريم
لجواز الاستحقاق والعفو كما مر في دفع حجة المنكرين للملازمة بين
العقل والشرع ومن جمع بين التمسك بالآية في المقام بالبيان
المذكور وبين دفع حجة المنكرين للملازمة بما ذكرناه كما يحكى عن
بعض الأفاضل فكأنه أراد نفي الوجوب والتحريم بالمعنى الذي أثبته
الخصم فإنه لا يلتزم بكونه ذنبا موعودا عليه بالعفو وعدم
المؤاخذة ولو مع الاصرار بل يجعله كغيره من الذنوب فلا يكون تناف
بين كلاميه كما أورده بعض المعاصرين عليه ومن الثاني ما روي
في الصحيح عن الصادق عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله
عليه وآله رفع عن أمتي تسعة وعد منها ما لا يعلمون وفي الموثق ما
حجب الله تعالى علمه عن العباد فهو موضوع عنهم وفي رواية عبد
الاعلى قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عمن لم يعرف شيئا هل
عليه
شئ قال لا فإن الرفع والوضع وعدم شئ عليه في معنى البراءة نعم
إنما يتم الاحتجاج بالرواية الأخيرة إذا حملت على السلب الجزئي
واستدل بعضهم أيضا بالصحيح كل شئ يكون فيه حرام وحلال فهو
حلال لك أبدا
حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه فنزل تارة قوله عليه السلام كل
شئ فيه حرام وحلال على معنى كل فعل من الافعال وكل عين من
الأعيان المتصفة بالحل والحرمة إذا لم يعلم الحكم الخاص به منهما
فخرج ما لا يتصف بهما معا من الافعال الاضطرارية والأعيان التي لا
يتعلق بها فعل المكلف وما تعين حله أو حرمته قال وليس الغرض من
ذكر هذا الوصف مجرد الاحتراز بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه ثم
قال فصار الحاصل أن ما اشتبه حكمه وكان محتملا لان يكون حلالا و
لان يكون حراما فهو حلال ونزله أخرى على معنى كل شئ
تقسمه إلى هذين القسمين وتحكم عليه بأحدهما لا على التعيين و
حكم برجوعه إلى المعنى الأول أقول ولا خفاء في أنه تعسف فاسد و
تكلف بارد لما فيه من تقدير ما لا يساعد عليه اللفظ ولا عليه أمارة
خارجية بل التحقيق أن المتبادر من الرواية هو كل شئ أي عين أو
نوع يشتمل على النوعين لا على احتمالهما فيعتبر العلم بهما فيه كما
هو الأصل في تشخيص سائر الموضوعات فيختص بالشبهة في
الموضوع دون الحكم نعم ربما أمكن أن يقال بأنا إذا ضممنا عنوانا
مشتبه الحكم إلى عنوان معلوم الحرمة وعنوان معلوم الحلية صدق
على المجموع بأنه شئ فيه حلال وحرام فيثبت الحلية في مشتبه
الحكم لعدم العلم بحرمته وكذا لو جمعنا بين مصاديق الثلاثة
فينسحب
الحكم حينئذ من المصداق إلى العنوان وفي كلا الوجهين تعسف فإن
المتبادر من الرواية حلية المشتبه ومن معلوم أحد النوعين بالآخر
في الشئ المشتمل عليهما كما لا يخفى ثم إن الفاضل المعاصر تنظر
في التنزيل المذكور بوجوه أربعة الأول أنه يوجب استعمال قوله
كل شئ فيه حرام وحلال في معنيين من حيث يراد به حينئذ أمران
أحدهما كلما أمكن اتصافه بأحدهما ليخرج الأعيان التي لا يتعلق بها
فعل المكلف كالسماء فإنه مما لا يمكن اتصافه بحكم شرعي والثاني
كلما كان منقسما إليهما بأن وجد فيه النوعان عندنا أو في نفس
الامر ليخرج الافعال الضرورية لبقاء الحياة وما
تعين حليته أو حرمته وقد تقرر في محله عدم جواز الاستعمال
المذكور الثاني أنه لا معنى لاخراج المذكورات بالقيد المذكور من
حيث
إنه معنى قوله عليه السلام فهو لك حلال أن مجهوله حلال ولا جهالة
فيها الثالث أنه لا معنى حينئذ لاعتبار المفهوم المخالف اللازم
للقضية إلا بأخذ السالبة منفية الموضوع وهي غير مفيدة يعني أن
مفهوم الرواية حينئذ أي ما ليس فيه حرام وحلال فمجهوله ليس
بحلال
وليس فيما ليس فيه حرام وحلال بالتفسير المذكور مجهول فيتعين
أخذ السالبة منفية الموضوع ولا فائدة فيها وزعم أن ذلك لا يلزم
على تقدير تخصيصه بشبهة الموضوع إذ ليس التقييد حينئذ للاحتراز
بل للتنبيه على أن احتمال التحريم في نظر المكلف في صورة
الاشتباه لا يوجب التحريم كما ينصرف إليه الأوهام وهذا الوهم غير
حاصل على تقدير أن يكون الاشتباه في نفس الحكم فلا يكون
للتقييد حينئذ فائدة الرابع أنه يستلزم استعمال المعرفة في قوله عليه
السلام حتى تعرف الحرام في معنيين المعرفة من الدليل الشرعي
فيما إذا كانت الشبهة في الحكم أو من بينة وشبهها فيما إذا كانت
الشبهة في الموضوع وهو غير جائز كما سبق هذا ملخص ما أطال
الكلام في بيانه والحق أن الوجوه التي أوردها غير واردة أما الأول فلان
توجيه الرواية على ما قرر في الاحتجاج لا يبتني على استعمال
اللفظ المذكور في معنيين بل في معنى واحد متناول للمعنيين لما
عرفت من أن المستدل ينزله على معنى كل ما يحتمل أن يكون حراما
و
حلالا وهذا عنوان عام يشمل كلا من المعنيين وأما الثاني فلان
الضمير في قوله فهو راجع إلى الشئ المحتمل للحرمة والحلية من
غير
إضمار فلا إشكال وقوله معنى قوله فهو لك حلال أن مجهوله حلال إن
أراد
353

أن الضمير راجع إلى المجهول المضاف إلى الشئ المقيد بالقيد
المذكور ففاسد لعدم سبق ذكره وإن أراد إضمار المجهول المضاف
إلى ضمير الشئ المذكور فحذف المضاف وأبدل الضمير المجرور
بالمرفوع ليقوم مقامه ففاسد أيضا لأنه إضمار بتكلف بعيد بل غير
سديد من غير قرينة ولا ضرورة محوجة وبهذا يظهر الجواب عن
الثالث إذ لزوم أخذ المفهوم سالبة منتفية الموضوع إنما يتم إذا كان
المعنى فمجهوله حلال وقد عرفت بطلانه مع أنا لا نسلم أن للكلام
المذكور مفهوما لأنه إن كان باعتبار التقييد بالوصف فقد حققنا
سابقا عدم دلالته عليه وإن كان باعتبار تضمين الجملة معنى الشرط
فممنوع ولو سلم فالمفهوم قد يلغى عند عرائه عن الفائدة أو قيام
دليل على خلافه نعم قول المستدل ليس الغرض من ذكر هذا الوصف
مجرد الاحتراز بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه يدل على اعتباره
للمفهوم بالنسبة إلى غير معلوم الحلية فإن محصله أن تقييد الشئ
بكونه محتملا للحرمة والحلية احترازي بالنسبة إلى الأعيان و
الافعال التي لا يمكن اتصافها بأحدهما وما ثبت أنه حرام لا حلال فيه
فإن إخراج هذه الثلاثة بالقيد المذكور عن العنوان للاحتراز عن
لحوق الحكم المذكور لها وبياني بالنسبة إلى ما علم أنه حلال لا حرام
فيه فإن إخراجه ليس للاحتراز عن لحوق الحكم له بل البيان كون
المقصود بالبيان وهو مشتبه الحرمة والحلية فيبتني اعتباره للمفهوم
بالنسبة إلى الثلاثة الأول على أحد الوجهين المتقدمين لكن لا
يلزمه كون المفهوم سالبة منفية الموضوع كما عرفت ثم النكتة التي
ذكرها في الشبهة من حيث الموضوع جارية في الشبهة من حيث
الحكم والتفرقة المذكورة مجازفة واضحة ولئن سلم اختصاصها
بالأول فجريانها فيه كاف في حسن التقييد إذ لا يلزم أن يكون للقيد
فائدة بالنسبة إلى جميع أفراده مقيدة فإن قولنا بدلالة الرواية على
الحل في مشتبه الحكم لا يوجب تخصيصها به بل يمكن تعميمها إليه
و
إلى مشتبه الموضوع وعلى تقدير تخصيصها بالأخير فلا مندوحة
عن إشكال الضمير بناء على ما ذكره فيه إلا بالمنع من كون القيد لإفادة
الاشتباه فيعم العنوان المشتبه وغيره والمنع عن ثبوت المفهوم
كما مر وهذا كما ترى يأتي على تقدير تنزيلها على مشتبه الحكم أيضا
إلا أن المستدل لم يجر بيانه على هذا وأما الرابع فلان المراد
بالمعرفة المعرفة المعتبرة سواء كانت واقعية أو ظاهرية وبعبارة أخرى
سواء كان علما أو مؤدى أمارة شرعية غاية ما في الباب أن
يختص كل نوع من العنوان بنوع من المعرفة وهذا لا يوجب استعمال
اللفظ في معنيين بل في معنى ثالث متناول لهما احتج القائلون
بالتحريم بما رواه في الكافي عن عمر بن حنظلة عن الصادق عليه
السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله حلال بين وحرام بين
وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ
بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم وجه الدلالة أن
كل مجهول الحكم شبهة فيحرم بنص الرواية والجواب أن الرواية
المذكورة على تقدير سلامة سندها محمولة على ارتكاب المشتبه قبل
الرجوع إلى المدارك الشرعية عند إمكان الرجوع إليها جمعا بينها و
بين ما مر من الاخبار المعتضدة بمرجحات عديدة ويمكن حملها
على رجحان التجنب عن ارتكاب الشبهة ولو بعد الرجوع إلى
المدارك أو على الشبهة في الموضوع مع الانحصار على ما سيأتي أو
على
الأعم منه ومن القسم الأول وفيه بعد وربما يشكل حملها على
رجحان التجنب بطريق الاستحباب أو على الشبهة في الموضوع
ورودها
في مقبولة عمر بن حنظلة في مساق لا يساعد على شئ من ذلك فإنه
عليه السلام بعد أن ذكر فيها جملة من وجوه ترجيح أحد الخبرين
المتعارضين على الاخر وذكر فيها الاخذ بالمشتهر وترك الشاذ النادر
معللا بأن المجمع عليه لا ريب فيه قال وإنما الأمور ثلاثة أمر
بين رشده فيتبع وأمر بين غيه فيجتنب وأمر مشكل يرد علمه إلى الله
ورسوله صلى الله عليه وآله قال رسول الله صلى الله عليه وآله
حلال بين الحديث فإن سياق الرواية يأبى من حمل ترك الشبهات
على الاستحباب لوجوب الاخذ بمقتضى
التراجيح ومن حملها على الشبهات من حيث الموضوع إذ لا تعلق له
بمحل السؤال وأما ما ذكره بعض المعاصرين من أن مراده من ذكر
هذا الحديث بيان وجه المنع فإنه إذا كان احتمال الوقوع في الحرام
موجبا لكراهة الارتكاب في المشتبه فمخالفة معلوم الحق المجمع
عليه مما لا بد أن يكون حراما فإن تم نهض بدفع الاشكال عن
المقامين لكنه بمكان من البعد وأبعد منه حمل الشبهات على مثل
الشاذ
النادر لان المجمع عليه أعني المشتهر إذا كان من باب من الرشد كان
الشاذ النادر بحكم المقابلة من باب بين الغي لا من باب المشكلات
والشبهات والتحقيق أن مراده عليه السلام أن الحكم المستفاد من
الرواية التي يشهد بجواز العمل بها المرجح المعتبر كالمرجحات
المذكورة في الرواية من باب بين الرشد ولو بحسب الظاهر وأن العمل
بها كذلك وأن الحكم المستفاد من الرواية الفاقدة له مع
معارضتها لما اشتمل عليه من باب بين الغي ولو بحسب الظاهر وأن
العمل بها كذلك وأن المستفاد من رواية لا علم للعامل بها بأنها من
أي النوعين لجهله بحكم المرجح من المشكلات التي يجب الرد فيها
إلى الشارع وأن العمل بها كذلك وعلى هذا فالظاهر من الحلال
البين والحرام البين ما تبين جواز العمل به وعدم جوازه وبالشبهات ما
لم يتبين فيه شئ منهما وحينئذ فلا كلام في وجوب التجنب
عن الشبهات بهذا المعنى ويمكن حمل الرواية على الشبهة في
الموضوع ويكون الاستشهاد بها باعتبار المناسب والتقريب هذا و
أجاب
عنها بعض المعاصرين تارة بأنها إنما تدل على حرمة استيعاب جميع
الشبهات وهو غير محل النزاع وأخرى بأن مجهول الحكم وإن
كان شبهة من حيث الخصوصية لكنه معلوم الحكم من حيث العموم
لأدلة البراءة وكلا الوجهين ضعيف أما الأول فلان المفهوم من لفظ
الشبهات في الرواية جنس الشبهة
354

في المحرمات على حد قولهم فلان يركب الخيل إذ لو حمل الجمع
المعرف في المقامين على ظاهره من العموم الحقيقي لكان المعنى من
ارتكب جميع الشبهات وقع في جميع المحرمات وهو غير صحيح
لان ارتكاب جميع الشبهات متعسر أو متعذر عادة فلا فائدة في
التعرض لحكمه مع أن ارتكابها لا يوجب الوقوع في جميع المحرمات
كما لا يخفى وأما الثاني فلان الواقعة متى كانت شبهة ولو من
حيث الخصوصية اندرجت تحت عموم الرواية وحرم ارتكابها فلا
يعقل إباحتها من حيث العموم للزوم التناقض إلا أن يلتزم باعتبار
الحيثية جهة في القصد لا لثبوت الحكم وهو كما ترى لكن المجيب لم
يلتزم بحملها على التحريم بل حملها على الكراهة والتزم في كل
مشتبه بجهتين فقال يستحب الاجتناب عنه من جهة الخصوصية و
يجوز ارتكابه من جهة عموم الأدلة فيما لا يعلم وينبغي أن يكون
مراده
بالجواز معناه الأعم ليجامع الاستحباب ويشكل بأن المعقول من
الجهة الأولى ليس إلا جهة جهالة الحكم الواقعي وهذه هي الجهة
العامة و
الموجبة للجواز فلا يختلف الجهة حتى يكون إحداهما منشأ للجواز و
الأخرى لاستحباب الترك واعلم أنا لو حملنا الرواية على ظاهرها
لدلت على أن ارتكاب جنس الشبهة أو الشبهات التي يتمكن منها
المكلف أو الوقوع فيها مظنة لارتكاب الحرام أو موجب للوقوع فيه
بحكم العادة وأن اشتباه حكم المحرم لا يوجب زوال حرمة الفعلية بل
الحرام الواقعي ثابت على صفة حرمته وإن جهلت وليس لها دلالة
على حرمة المشتبه على تقدير عدم حرمته في الواقع بل ظاهرها عدم
تحريمه حينئذ كما يستفاد من قوله عليه السلام وهلك من حيث لا
يعلم إذ لو كان حراما لكان الهلاك من حيث يعلم وإنما لا يعلم الهلاك
على التقدير الأول من حيث عدم العلم بالمحرم فإن الظاهر من
الهلاك هنا إنما هو استحقاق العقوبة وهذا خلاف ما اتفقت عليه كلمة
الفريقين فيجب ارتكاب التأويل فيها والخروج عن ظاهرها و
ليس تنزيلها على معنى يدل على ما ذكروه بأولى من تنزيلها على
معنى لا ينافي ما ذكرنا وقد نبهنا على
بعض وجوه تنزيلها ويمكن تنزيلها أيضا على معنى أن من لم يبال
بارتكاب الشبهات لم يبال بارتكاب المحرمات أما لخاصية في فعل
الشبهة مطلقا أو إذا صادفت الحرام وهي كونها مورثة لقساوة القلب و
التسامح في فعل المحرم أو لقربها إلى المحرمات فإذا تجري
المكلف عليها تجري على فعل المحرمات أيضا فيكون الهلاك باعتبار
فعل المحرم دون الشبهة إلا أن وقوعه فيه باعتبار ارتكابه لها
فقوله وهلك من حيث لا يعلم معناه ووقع في فعل الحرام المهلك له
من حيث لا يعلم لجهله بالشبهة التي أورثت فيه القساوة المذكورة أو
لجهله بأن ارتكاب الشبهات تؤدي إلى ذلك فلا يدل على تحريمها ثم
اعلم أن هذا الدليل لو تم لدل على تحريم المجهول في الظاهر سواء
صادف الحرام الواقعي أو لا وأما القول بتحريمه في الواقع مطلقا
فناشئ عن عدم تحقيق الفرق بين الحكم الواقعي والظاهري وقد بينا
سابقا أن كل حكم يتعلق بالمكلف لجهله بالواقع حكم ظاهري لا
واقعي فالحكم بحرمة غير المحرم للجهل بعدم حرمته حرمة ظاهرية
لا
غير احتج القائلون بوجوب الاحتياط مطلقا بالعقل والنقل أما الأول
فللقطع بثبوت الاشتغال بالأحكام الشرعية فيجب أن لا يحكم
بالبراءة إلا بعد اليقين بها ولا يقين إلا مع الاحتياط وأما الثاني فلقوله
عليه السلام دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن العمل بالاحتياط
مما لا ريب في حصول البراءة به بخلاف غيره فيجب تركه إليه ويدل
عليه أيضا قوله عليه السلام أرى لك أن تأخذ بالحائطة لدينك و
الجواب أما عن الأول فبأن اليقين بالبراءة إنما يجب تحصيله على
القدر الثابت المعلوم من الاشتغال وأما الاشتغال المحتمل فلا يجب
تحصيل اليقين بالبراءة عنه وأما عن الثاني فبالحمل على استحباب
العمل بالاحتياط دون الفتوى فإن الفتوى بمقتضى الأصل متعينة
جمعا بينها وبين ما دل على عدم وجوب الاحتياط كقوله عليه السلام
فأنت في سعة حتى تلقى صاحبك مضافا إلى الروايات السابقة
المعتضدة بالعقل والشهرة العظيمة مع ما فيها من الملامة للطريقة
السمحة السهلة وأجاب عنه المحقق بأنه خبر واحد ولا يعمل بمثله
في الأصول سلمنا لكن إلزام المكلف بالأثقل مظنة الريبة لأنه إلزام منه
لم يدل الشرع عليها فيجب إطراحها بموجب الخبر وكلا الوجهين
ضعيف أما الأول فلان خبر الواحد إذا اشتمل على شرائط القبول صح
التعويل عليه في الأحكام الشرعية مطلقا فروعا كانت أو أصولا نعم
يتجه المنع هنا من اشتماله عليها كما لا يخفى وأما الثاني فلان الخبر
المذكور لم يدل على ترك العمل بما هو محل الريب مطلقا بل إلى ما
ليس بمحل الريب فلا بد من إثبات عدم الريب في ترك العمل
بالاحتياط حتى يتعين العدول إليه بموجب الخبر احتج القائلون
بوجوب التوقف بقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقوله وأن
تقولوا على الله ما لا تعلمون فإن القول بالبراءة عند الجهل بالحكم
اتباع لما علم به وقول على الله بما لا يعلم فيكون حراما بنص الآيتين
وقريب منها الآيات الدالة على تحريم الحكم بغير ما أنزل الله حيث
إن الحكم بالإباحة فيما يحتمل غيرها يحتمل أن يكون حكما بغير ما
أنزل الله فيجب الكف عنه دفعا لخوف ضرر الوقوع في الحرام ولقوله
تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وبظاهر جملة من الاخبار
منها قول الصادق عليه السلام في موثقة حمزة بن طيار ولا يسعكم
فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة
الهدى الحديث وقول الكاظم عليه السلام في موثقة سماعة ما لكم و
القياس إنما هلك من هلك من قبلكم بالقياس ثم قال إذا جاءكم ما
تعلمون فقولوا به وإن جاءكم ما لا تعلمون فها وأهوى بيده إلى فيه و
حسنة هشام بن سالم قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما حق الله
على خلقه فقال أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عما لا يعلمون وجه
الدلالة أن هذه الأخبار قد
355

تضمنت وجوب الكف عن الحكم فيما لا يعلم حكمه ومنه الحكم
بالإباحة والبرأة وأيضا لو كان حكم ما لا يعلمون حكمه الإباحة و
البراءة لكان الأنسب بل اللازم حكمهم عليهم السلام حينئذ بالعمل
بالبراءة والإباحة والحكم بهما لا يوجب الكف والجواب أن مقتضى
الأدلة المذكورة حرمة الحكم والفتوى من غير علم ونحن نقول أيضا
بمقتضاها حيث نمنع من الحكم بما لا علم لنا به لكن ندعي علمنا
بإباحة ما لا علم لنا بحكمه والبرأة عنه للأدلة التي سبق ذكرها و
بالجملة نعلم إباحة مجهول الحكم في الظاهر باعتبار كونه مجهولا
لما مر من الأدلة فلا يحرم علينا الحكم بها كذلك ويجهل حكمه
باعتبار الواقع أو مع قطع النظر عن كونه مجهولا فلا يجوز لنا الحكم
عليه بذلك الاعتبار للوجوه المذكورة ولا يقدح عدم تعرض الأخبار المذكورة
لجواز الحكم بالبراءة بالاعتبار الأول إذ الاحكام
المتعددة لا يلزم استفادتها من نص واحد وربما يؤيد ذلك أن بعض
الأخبار المذكورة أو كلها واردة في مقام المنع عن العمل بالقياس
ومقتضاه إثبات الحكم الواقعي مع جريانه غالبا في إثبات غير الإباحة
من الاحكام كما لا يخفى وأما ما أجاب به بعض المعاصرين من
أن الوظيفة على تقدير تكافؤ أخبار الطرفين وتساويهما التخيير فيرجع
إلى أصل البراءة فإن أراد أنا نختار العمل بأخبار أصل البراءة
حينئذ فيرجع الحكم إليه فصحيح لكن لا يتم به إلزام الخصم لجواز
اختياره العمل بأخبار المنع وإن أراد أن مجرد التكافؤ يوجب ذلك
فواضح الفساد ويمكن أيضا تنزيل هذه الأخبار ولو للجمع بينها وبين
ما مر على الحكم قبل استفراغ الوسع في البحث عن المعارض و
منه الرجوع إلى الامام مع إمكان الرجوع إليه كما هو الغالب في حق
المخاطبين بالتوقف والرد في تلك الأخبار أو الرجوع إلى نقلة
الاخبار وحفظته كما هو المتعين على تقدير تعذر الرد إلى الإمام عليه السلام
كما تدل عليه رواية الرد فلا تدل على المنع من الحكم بعد
الفحص وتعذر الرد كما هو محل البحث وأما المقام الثاني فالكلام فيه
في موضعين الأول أن يشتبه حكم الواقعة مع العلم الاجمالي
بالاشتغال بها ولو مع الرخصة
في المخالفة وهذا إنما يتصور في صورة دوران الحكم بين الأحكام الأربعة
الاقتضائية كلا أو بعضا مع الجهل بالتعيين والاشتباه قد
ينشأ من حيث قصور الدليل عن التعيين كالاجماع المركب من القول
بالوجوب والاستحباب أو من القول بالتحريم والكراهة أو من
حيث قصور دلالته كما في صيغتي الأمر والنهي على القول
باشتراكهما بين الطلب مع المنع من النقيض وبينه مع الاذن فيه وكذا
على
القول باختصاصهما بالأول وضعا وبالثاني اشتهارا وتكافئهما ظهورا و
على هذا القياس بقية المشتركات وما في معناها أو من حيث
التعارض في أدلة الحكم كما في مسألة الجمعة عند من لا يعتد ببعض
المرجحات أو أدلة دليله كما في لفظ الصماء حيث اختلفوا في تعيين
معناه ومثله لفظ الصعيد أو من حيث الموضوع كما لو اشتبه الطاهر
بالنجس والمطلق بالمضاف والمباح بغيره ولا كلام لنا في
تعارض الأدلة مطلقا لما سيأتي تحقيقه في أواخر الكتاب إن شاء الله
تعالى ولا في صورة اشتباه الموضوع لما سيأتي بيانه في أواخر
الفصل وإنما الكلام في صورة قصور الدليل أو الدلالة عن إثبات
التعيين فنقول لهاتين الصورتين صور عديدة منها أن يدور الامر بين
الوجوب والتحريم فمع وجود المرجح في أحدهما يتعين الاخذ به و
مع عدمه تخير في البناء على أحدهما لان الاخذ بما يحتمل الواقع
أولى من الاخذ بما لا يحتمله والظاهر عدم الفرق في ذلك بين أن
يكون أحدهما عبادة أو لا وربما أمكن ترجيح جانب النهي من حيث
إن رفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ولقضاء الاستقراء به وقد مر
بما فيه في مبحث النهي ومنها أن يدور الامر بين الندب والكراهة
ويعرف الحال فيها بالقياس إلى ما مر ومنها أن يدور الامر بين
الوجوب والندب فيرجح جانب الندب للقطع بالرجحان وقضاء
الأصل
بعدم المنع من النقيض وفي المقام إشكال نبهنا على دفعه في بعض
المباحث السابقة ومنها أن يدور الامر بين الحرمة والكراهة و
يعرف الحال فيها بالمقايسة إلى الصورة السابقة منها أن يدور الامر
بين الوجوب والكراهة والوجه ما مر في الوجوب والتحريم ولا
سبيل إلى نفي المنع من النقيض الذي هو فصل الوجوب بالأصل
فيثبت
الرجحان للترك لأنه أصل مثبت لا يعول عليه وربما أمكن أن يجعل
الاحتياط مرجحا للوجوب وكذا لو دار الاحتمال بين التحريم و
الاستحباب ومنها أن يدور الامر بين الأحكام الأربعة الاقتضائية أو
ثلاثة منها وحكمه كالسابق الثاني أن يكون لمورده تعلق بأمر علم
الاشتغال به وهذا قد يكون مع عدم العلم بالاشتغال به أصلا وقد
يكون مع العلم بالاشتغال به في الجملة ويتحقق فيه الأقسام السابقة
فما حكم فيه بعدم جريان الأصل هناك فلا إشكال في الحكم به هنا و
إنما الاشكال فيما عداه ومحصل الكلام فيه أنه إذا علم اشتغال
الذمة بمرتبة ثم شك في اشتغالها بشئ فيها أولها فهل يصح التمسك
بأصل البراءة في نفي الاشتغال به في الاشتغال بها أو لا وعلى
قياسه الكلام في استعمال أصل العدم فيه وفي نفي ما شك في
جزئيته أو شرطيته من بقية الماهيات الموظفة فذهب جماعة إلى
صحة
جريان الأصل المذكور في ذلك وخالف آخرون فمنعوا من حجية
الأصل هناك وأوجبوا العمل بالاحتياط وهذا النزاع كما يجري في
العبادات على القول بأن ألفاظها أسام للصحيحة كذلك يجري على
القول بأنها أسام للأعم وتوهم الفرق في ذلك مما لا وجه له كما مر
التنبيه عليه سابقا ويظهر ثمرة جريان الأصل المذكور على الثاني في
معاضدته لاطلاق الامر مع ثبوته بالنسبة إلى محل الشك و
سلامته وعند الشك في مدخلية المشكوك فيه في صدق الاسم أو
معارضة إطلاق الامر بما يكافئه ولا ينهض معه بإثبات الجزئية و
الشرطية سواء كان
356

المعارض في نفسه حجة كإطلاق آخر أو لا كالشهرة بناء على أنها
قادحة في الحجة وليست بحجة وكذا الحال فيما لو شك في طهارة
الاناء في الولوغ بما دون السبع وطهارة الثوب المتنجس بغير بول
الرضيع بدون العصر وطهارة موضع النجو بذي الجهات إلى غير
ذلك سواء قلنا بأن الطهارة اسم شرعي ولم نحققه في الموارد
المذكورة أو قلنا بأنها موضوعة لمعنى عرفي وحصل الشك لمعارض
كما مر وعلى قياسه الكلام في المعاملات والايقاعات وما يلحق بها
وقد سبق التنبيه على هذه المسألة عند بحث الحقيقة الشرعية و
نقول هنا توضيحا وتنقيحا إن أصل البراءة وإن كان باعتبار عموم أدلته
ناهضا بنفي الوجوب الغيري عند الشك كالنفسي فيصح نفي
وجوب الاجزاء والشرائط المشكوكة للتوصل بها إلى فعل الكل و
المشروط إلا أن المستفاد من أدلته إنما هو مجرد نفي الحكم لا إثبات
لوازمه العادية ككون الماهية المجعولة معراة عن اعتبار ذلك الجز و
ذلك الشرط فلا يصلح دليلا على نفي الجزئية والشرطية ليتعين
به الماهية المخترعة كما هو الثمرة في الاستدلال بالأصل بل حينئذ
قضية ثبوت الاشتغال بها وجوب الاتيان بهما تحصيلا لليقين
بالبراءة والفرق بين هذا الوجوب والوجوب الذي نفيناه أولا هو الفرق
بين وجوب مقدمة الواجب ووجوب مقدمة العلم به فاتضح بما
قررنا أن لا ثمرة يترتب على نفي الوجوب بالاعتبار الأول وحيث إن
مرجع النزاع في جريان أصل البراءة في المقام وعدمه إلى
جريانه فيه على وجه يترتب عليه الثمرة وعدمه فالمتجه هو القول
بعدم جريانه مطلقا وأما وجوب الجز في ضمن الكل فلا سبيل إلى
نفيه بالأصل لأنه في معنى نفي وجوب أحد المركبين مع أن نسبة
الوجوب إلى كل واحد منهما سواء والفرق بين المقام وبين بقية موارد
أصل البراءة حيث يجري فيها ولا يجري فيه أن البراءة من القدر
المتيقن من الاشتغال هنا لا يحصل بإتيان القدر المتيقن بخلاف بقية
الموارد فإن البراءة بفعل ما ثبت الاشتغال به لا تناط بحصول غيره في
غير المقام على
تقدير الاشتغال به في الواقع بخلاف المقام فإن البراءة بفعل البعض
منوطة بفعل الباقي على تقدير الاشتغال به فيتوقف العلم بها عليه
إذ لا علم بمطلوبية القدر المعلوم مستقلا وإنما المعلوم مطلوبيته في
الجملة إما مستقلا أو منضما ولا سبيل إلى تعيين الأول بأصالة عدم
تعلق الوجوب التبعي بالجز أو الشرط المشكوك فيه لان ذلك أصل
مثبت ولا تعويل عليه عندنا ودعوى أن التكليف لا يتعلق إلا بالقدر
المبين وإلا لزم التكليف بالمجمل وهو محال ممنوعة لان المجمل
الذي لا يجوز تعلق التكليف به هو المجمل الذي لا سبيل إلى امتثاله و
ظاهر أن المقام ليس منه وإلحاق الغائبين عن مجلس الخطاب
بالحاضرين فيه في وجوب الاقتصار على ما ثبت لهم وبلغهم من
البيان
إنما يتم إذا وصل إليهم خطاب دال بظاهره على حصر أجزأ الماهية و
شرائطها في أمور معينة كما هو الغالب في حق الحاضرين كقوله
صلى الله عليه وآله صلوا كما رأيتموني أصلي والكلام هنا مبني على
تقدير عدمه إذ المقصود إثبات حجية أصل البراءة وأصل العدم في
المقام دون ظاهر النص وأما إذا لم يدل الخطاب على الحصر كما لو
ورد نص بأن الركوع جز من الصلاة ثم ورد نص آخر بأن
السجود جز وهكذا كان تمسك الحاضرين بأصل البراءة وأصل
العدم في نفي غير المذكور منه تمسك الغائبين بهما في كونه في محل
المنع قد نبهنا عليه سابقا وكذا الكلام في أصل العدم نعم لا يبعد
دعوى مساعدة جملة من أخبار الباب على أصالة عدم الزيادة
المشكوك
فيها في المقام لا باعتبار حجب العلم أو عدم العلم بالتكليف
بالمشكوك فيه ليتوجه عليه دعوى عدم الحجب فيه بالنظر إلى الظاهر
تحصيلا ليقين البراءة كما في سائر الأحكام التكليفية الظاهرية بل
باعتبار دلالتها على نفي الجزئية والشرطية مما شك في جزئيته أو
شرطيته من حيث حجب العلم عنها ظاهرا أو واقعا إذ ليس في وجوبها
من باب المقدمة تحصيلا ليقين البراءة دلالة على إثبات الجزئية أو
الشرطية للواجب مطلقا فإذا ثبت بعموم
الروايات المذكورة سقوط اعتبار جزئيته أو شرطيته في الظاهر حصل
العلم بالبراءة بدونه في الظاهر فيسقط اعتبار كونه مقدمة و
هل هذا إلا كسقوط اعتبار جزئية ما عدا الأركان في حق الناسي و
شرطية بعض الشرائط كطهارة البدن واللباس بالنسبة إلى الجاهل و
سيأتي لهذا مزيد توضيح إن شاء الله وأما المقام الثالث أعني الشبهة
في الموضوع فأصل البراءة يجري في بعض موارده دون بعض و
تفصيل الكلام فيه يجري في مقامات الأول أن يشتبه الواجب بغير
الحرام بحيث يعلم دخول الواجب في جملة محصورة عرفا وعادة
سواء كان جميع الافراد محصورة أيضا أو لا ففي مثل هذا لا يجري
أصل البراءة بل يجري أصل الاشتغال فيجب الاتيان بجملة يعلم
بإتيان
الواجب فيها ما لم يشتركا في الصورة حيث لا يعتبر تعيين العمل
فيؤتى بها عما في الذمة ويعتبر في وجوب الاتيان بالجملة تعذر تعيين
الواجب أو تعسره حيث يعتبر نية القربة في الواجب ويكون الاشتباه
بينه وبين غير الراجح وإنما وجب الاتيان بها تحصيلا لليقين بفعل
الواجب والبرأة عنه ودفعا لخوف الضرر المترتب على تركه
المحتمل على تقدير الاقتصار على فعل البعض فإن قضية إطلاق الامر
عدم سقوطه بالاشتباه مع بقاء التمكن من الامتثال فيترتب على تركه
على تقدير عدم مصادفته له آثاره المترتبة عليه من تفويت الثواب
واستحقاق الذم والعقاب ولا ريب في وجوب التحرز عن موارد
خوف الضرر عقلا ونقلا أ لا ترى أن من علم بتوقف بقائه وحياته على
استعمال أحد الدوأين مثلا وعلم بعدم ترتب ضرر على استعمال
الاخر واشتبه النافع بغيره وجب عليه عند العقلا أن يستعملهما حتى
إنه لو ترك
357

أو اقتصر على استعمال أحدهما لبادروا إلى ذمه وتسفيهه قطعا و
المحافظة على ما يتعلق بالحياة الأخروية أولى لا يقال إنما يتم ذلك
في محل البحث إذا ثبت التكليف بالفعل على التعيين حال الاشتباه و
هو ممنوع حيث لا قطع به لأنا نقول قد نبهنا على ما يدل على بقائه
حينئذ وهو إطلاق الامر مضافا إلى الاستصحاب حيث تطرق الاشتباه
بعد الوجوب فلا سبيل إلى منعه هذا وخالف في ذلك بعض
المعاصرين فأنكر بقاء المعين على وجوبه مع الاشتباه زعما منه أن
ذلك يؤدي إلى التكليف بالمجمل مع تأخير البيان عن وقت الحاجة و
قد اتفقت كلمة العدلية على استحالته ثم قال نعم لو قام دليل على
وجوب شئ معين في الواقع مردد عندنا بين أمور من دون اشتراط
بالعلم به ثم القول بوجوب الاتيان بالجميع واستلزام ذلك سقوط
قصد التعيين في الطاعة لكن ذلك مجرد فرض غير واقع ولا يخفى ما
فيه فإن المجمل الذي اتفقت مقالة العدلية على قبح التكليف به من
دون بيان هو ما لا سبيل للمكلف إلى امتثاله كما نبهنا عليه في محله
بدليل أن جل المحققين أو كلهم وهم أساطين العدلية يلتزمون ببقاء
التكليف في نظائر المقام مما يشتبه فيه الواجب أو الحرام بغير
الاخر ويوجبون على المكلف الاتيان بالافراد المشتبه أو تركها
تحصيلا للعلم بالبراءة بل حكمهم بالتخيير فيما تعارض فيه الأدلة ناظر
إلى بقاء التكليف وأن التخيير طريق كما هو الظاهر من الأخبار الدالة
عليه غاية الامر أنه إذا لم يصادف مختاره الواقع سقط عنه
لمعذوريته وذهب كثير من القائلين بأن ألفاظ العبادات أسام
للصحيحة إلى أن مسمياتها أمور مجملة ولذلك أوجبوا الاتيان بما
يشك
فيه من أجزائها وشرائطها تحصيلا لليقين بالبراءة إلى غير ذلك وأما ما
استدركه بقوله نعم فلا يخفى منافاته لكلامه السابق فإن
حكمهم بالاستحالة إنما هو من جهة لزوم التكليف بالمحال كما
صرحوا به في محله وامتناعه ضروري لا يمكن قيام دليل على وقوعه
و
ليس لاشتراط قصد التعيين في الطاعة كما يظهر من بيانه الاشتراط لان
هذا مما لا يقول به إلا البعض
كما حكاه الفاضل المذكور عن الشهيد وهم مطبقون على إحالة
التكليف بالمجمل بدون البيان فكيف يبتني مسألة وفاقية على مسألة
خلافية مع أن اشتراط قصد التعيين من المسائل الظنية كما اعترف به
في ظاهر كلامه وهم في تلك المسألة قاطعون بالاستحالة فكيف
يبتني حكم قطعي على حكم ظني على أن التكليف لا يستلزم اشتراط
وقوع ما كلف به بقصد التعيين لأنه أعم من الواجب المشروط بالنية
والذي لا يشترط بها ومن الحرام فكيف يتم القول بالاستحالة مطلقا
مع أن إطلاق الامر كما قررناه دليل في جميع موارد المقام على ما
ذكره في الاستدلال فكيف جعل قيامه عليه مجرد فرض غير واقع وإن
أراد قيام دليل عليه بالخصوص فاشتراط ثبوت المدعى به
ممنوع ثم أقول إن أراد بقصد التعيين في الطاعة أن يعين في قصده أن
ما يأتي به طاعة كما هو الظاهر فهذا حاصل في الجميع للعلم
بمطلوبية الكل ولو من باب المقدمة نعم لو منع من مطلوبية المقدمة
اتجه ما ذكره من انتفاء قصد التعيين وربما يتسرى ذلك إلى
الصورة التي سلم فيها وجوب الجميع أيضا لابتنائه على وجوب
المقدمة لكنه تصحيح أمر على تقدير فاسد ومع ذلك لا يتم في غير ما
لا
يعتبر فيه النية بل وفيه أيضا بناء على ما ذكره في مبحث المقدمة من
استحبابها من باب التسامح في أدلة السنن وإن أريد تعيين كونه
طاعة نفسية أو غيرية فاشتراط صحة العبادة به مع التمكن ممنوع فضلا
عن صورة التعذر كما في محل البحث ثم إن الفاضل المذكور قد
التزم في الموارد التي ورد فيها الامر بإتيان جملة يشتبه فيها الواجب
بغيره بأن الجميع هناك واجب مستقل لا أن ما وجب منها قبل
الاشتباه باق على وجوبه السابق وأن ما عداه واجب لتحصيله ولا
يخفى ما فيه من التعسف الواضح هذا ومن فروع المسألة ما لو
اشتبهت جهة القبلة بغيرها أو اشتبه الثوب الطاهر بالمتنجس الغير
المعفو عنه فيجب على ما حققنا تكرير الصلاة في الجهات والأثواب
حتى يحصل العلم بأصالة جهة القبلة والثوب الطاهر وكذا لو اشتبه
الماء المطلق بالمضاف
فيجب تكرير الطهارة بكل منهما وكذا إذا علم بوقوع حدث منه و
شك في كونه موجبا للوضوء أو الغسل وجب عليه أن يأتي بهما إلى
غير ذلك ولو تمكن من تعيين الواجب وجب التعيين من حيث يعتبر
نية القربة في الواجب ويكون الاشتباه بينه وبين غير الراجح كما
في الأمثلة المذكورة وقد نبهنا على الوجه فيه عند بحث المقدمة وإلا
لم يجب بل تخيير بين التعيين وبين الاتيان بالجميع كما لو اشتبه
المطلق بالمضاف في الطهارة الخبيثة وكذا لو اشتبه الديان بغيره أو
اشتبهت عين النجاسة التي في المسجد بما يجوز إخراجه منه إلى
غير ذلك ولو تشارك الواجب وغيره في الصورة أتي بفعل واحد عما
في الذمة إن لم يعتبر تعيين نوع الواجب في الامتثال به كما لو
فاتته صلاة واشتبهت بين الخمس بأن فاتته في الحضر صلى ثنائية و
ثلاثية ورباعية عما في الذمة مرددة بين الأربع وذلك لما يستفاد
من بعض النصوص صريحا أو فحوى من سقوط نية التعيين والجهر و
الاخفات في ذلك وإن كان الأحوط في الثاني تعيين الجهر ولو
اعتبر نية التعيين وجب التكرير كما لو صلى بعد الفجر بركعتين ثم
شك في أنه هل صلاهما فريضة أو نافلة منذورة فيجب تكريرهما
في وجه قوي ويحتمل الاكتفاء بركعتين عما في الذمة ومما قررنا
يتضح أنه لو كان في ذمة المكلف واجب ومندوب وأتي بأحدهما ثم
شك في أن المأتي به هل هو الواجب أو المندوب وجب عليه الاتيان
بالواجب واستحب له الاتيان بالمندوب تحصيلا للعلم بفعلهما نعم لو
اشتركا في الصورة ولم يعتبر تعيين العمل جاز الاتيان بهما عما في
الذمة ولو حصل هذا الاشتباه بين الواجب وبين غير المندوب أو
بينهما وبين المندوب وجب
358

الاتيان بالواجب ولحق بما عداه حكمه ثم إن الفاضل المعاصر قد
أورد على القائلين بوجوب الاحتياط بالثلاث فيمن اشتبهت عليه
الفائتة
بالخمس أمرين الأول أن الفائدة في الاتيان بالكل إن كان تحصيل
اليقين بالواجب الواقعي فهو لا يحصل بذلك لفوات قصد التعيين في
الامتثال وهو من المسائل الاجتهادية ومعه لا يحصل اليقين بإتيان
الواجب الواقعي ومجرد المطابقة في عدد الركعات غير مفيد مع
انتفاء قصد التعيين والجهر والاخفات وإن رجح ذلك بأن الموافقة
في العدد أقرب في البدلية من المخالفة فغاية ما يثبت به أن يكون
الموافقة أقرب البدلين وهو خارج عن محل الفرض لان الكلام في
وجوب قضاء الفائتة لا في وجوب بدل قضائها فإن ما يتمسك به هنا
هو أدلة وجوب القضاء لا بدل القضاء والمغايرة الحاصلة في هذه
البدلية غير المغايرة الحاصلة لأصل الفائتة مع قضائها لأنه مما لا
مناص
عنه مع أنه لو كان الحجة وجوب الاحتياط لوجب الخمس لا سيما مع
ملاحظة وجوب الجهر والاخفات ومن هذا البيان يظهر ضعف القول
بوجوب الجمع بين الظهر والجمعة والقصر والاتمام في أربع فراسخ
بالنسبة إلى من تعارضت عنده الأدلة فإن قضية التعارض التخيير
ووجوب أحدهما والأصل عدم وجوب التعيين على من لم يثبت
عنده الخصوصية الثاني أنه لا وجه للاحتياط هنا لان ما عدا الواجب
محرم تشريعي فالتخلص بالاحتياط عن ترك الواجب يؤدي إلى
الوقوع في المحرم ثم اعتذر عن ورود مثل ذلك على ما صار إليه من
استحباب الاتيان بالباقي رجأ لتحصيل الواجب الواقعي بأن التشريع
المحرم إنما هو إدخال ما لم يعلم أنه من الدين فيه بقصد أنه منه لا
الاتيان بما يحتمل أنه منه رجأ أنه منه فإذا ثبت خلوه عن التحريم ولو
بمعونة الأصل أمكن إثبات الرجحان المعتبر في العبادة بأن في
الواجب الواقعي مصلحة خاصة ففي فعل الباقي رجأ لتحصيل تلك
المصلحة ورفع الاحتمال فوتها فربما يتناوله قوله تعالى
إن الحسنات يذهبن السيئات ويشمله قوله صلى الله عليه وآله دع ما
يريبك إلى ما لا يريبك فإنه محمول على مطلق الرجحان ثم جعل
من هذا الباب إعادة الصلحاء عباداتهم بعد ازدياد معرفتهم بمسائل
العبادات وحكى مقالة الشهيد في الذكرى في مسألة إعادة العبادة
بما أورد فيها من الأدلة على الجواز والمنع وقال بعد الحكاية وللنظر
في أكثر أدلة الفريقين مجال واسع إلا أن ما ذكره الشهيد مع ما
ثبت من التسامح في أدلة السنن يكفي في استحباب الاحتياط مضافا
إلى قوله عليه السلام أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت هذا
محصل كلامه والجواب أما عن الأول فبأن الاتيان بالثلاث ليس
لتحصيل اليقين بالاتيان بالصلاة الواقعية بل لتحصيل اليقين بالاتيان
بما
ثبت من الأدلة الشرعية أنها الصلاة الواقعية فلا يضر فوات ما ثبت بها
أنه لا يعتبر فيها كالجهر والاخفات في الرباعية المشتبهة وإن لم
يقطع به كما لا يضر فوات مثل ذلك في صورة عدم الاشتباه وقد
عرفت الحال في قصد التعيين وأما ما أورده على ترجيح الموافقة
للعدد من أن الكلام في قضاء الفائتة لا في بدل القضاء فمدفوع بأن
ترجيح الموافقة من جهة الأقربية لا يلزم أن يكون بالنظر إلى
بدليتها عن القضاء بل بالنظر إلى بدليتها عن الفائتة فلا تخرج عن محل
الفرض ويشمله أدلة القضاء وكما أن مغايرة القضاء في صورة
عدم الاشتباه مع الفائتة في مثل الوقت مما لا محيص عنه كذلك
مغايراتها لها في صورة الاشتباه في قصد التعيين مما لا محيص عنه
فإذا
جاز بدلية القضاء مع تحقق المغايرة الأولى جاز بدليتها مع تحقق
المغايرة الثانية أيضا وأما ما ذكره من أنه لو كان الحجة وجوب
الاحتياط لوجب الخمس ففيه أن قاعدة الاحتياط إنما يقتضي التكرير
على وجه يتحقق معه العلم بإتيان الفائتة وهو يتم هنا بفعل ثلاث
صلوات لدلالة النص في المقام على سقوط حكم الجهر والاخفات
في الرباعيات وتعيين نوعها على تقدير اشتراطنا له في صورة عدم
الاشتباه نعم لولا النص على ذلك
لتوجه القول بوجوب الأربع بل الخمس لو اشترطنا تعيين النوع ولم
يقم دليل على سقوطه هنا مع إمكان أن يقال لا يشترط تعيين نوع
العمل في النية مع تعينه في الواقع لا سيما في حال الاشتباه فيكفي نية
ما في الذمة وأنه يسقط وجوب الجهر والاخفات مع الجهل به وإن
كان الجهل موضوعيا فيكون الاكتفاء بالثلاث على القاعدة وأما تفريعه
ضعف القول بوجوب الجمع بين الظهر والجمعة والقصر و
الاتمام على بيانه السابق فضعفه ظاهر مما مر فإن الفرق بين المقامين
بين وتوضيح المقام وتحقيقه أنه قد يجهل الحكم الشرعي وما
في حكمه من الموضوعات الشرعية كالعبادات المجعولة فتارة من
جهة تعارض الأخبار المعتبرة بعد تكافئها في المرجحات المقررة و
لا إشكال حينئذ في التخيير وأخرى من جهة تعارض غيرها من الأدلة
الاجتهادية ولو معها مع التكافؤ فيرجح العمل بما يعاضده الأصول
الظاهرية من الأصل ثم الاحتياط ومع انتفاء المعاضد يتعين التخيير
دفعا للترجيح من غير مرجح ومثله الجهل بالحكم من جهة فقد
الدليل فيعمل تارة بأصل البراءة أو الإباحة كما إذا دار الامر بين
الوجوب أو التحريم النفسيين وبين الإباحة ومرة بالاحتياط كما إذا
دار الامر بين شرطية شئ لواجب وعدمها مع العلم بعدم المانعية و
يصار أخرى إلى التخيير كما إذا دار الامر بين شرطيته ومانعيته له
فيتخير في الاخذ بأحدهما حيث يتعذر الاحتياط بالتكرير أو يعلم
عدم وجوبه حينئذ ولو بقاعدة العسر والحرج وقد يجهل موضوع
الحكم وهذا قد يكون من جهة الجهل بالوضع إما لخلو كلام اللغويين
عن بيانه أو لتعارض أقوالهم فيه مع التكافؤ وحكمه حكم تعارض
عن الاخبار من الأدلة وقد يكون من جهة الجهل بالمصداق
359

فإن كان الجهل في تحققه عول فيه على ما يقتضيه الأصل في غير ما
استثني كالبلل الخارج قبل الاستبراء وإن كان في تعيينه ثبت
التكليف في المحصور فيجب الاجتناب عن الجميع في الحرام
المشتبه بغير الواجب والآتيان بالجميع في الواجب المشتبه بغير
الحرام و
سقط في غير المحصور ولو اشتبه مصداق الواجب بالمحرم وتعذر
التمييز رجح جانب الاسم ولو تعارضت الامارات الشرعية في تعيين
المصداق كتصادم الأيدي والبينات فلتفصيل الكلام فيه محل آخر إذا
عرفت ذلك تبين أن حكم الشك في وجوب الظهر والجمعة و
القصر والاتمام الراجح إلى جهل الحكم مخالف لحكم الشك في
تعيين الفائتة الراجع إلى جهل المصداق كما هو محل البحث قوله و
الأصل
عدم وجوب التعيين إلخ إن أراد به نفي وجوب قصد التعيين فهو مناف
بظاهره لما أورده على القائلين بوجوب الاحتياط من اشتراطه
في الامتثال مطلقا وإن أراد به نفي تعيين أحدهما عليه بالخصوص
قبل الاختيار فهو مخالف للأصل كما عرفت وإنما دليل ثبوته أخبار
التخيير وإن أراد ذلك بعد الاختيار ففيه أن التخيير إنما هو في الاختيار
لا في الفعل فإذا اختار العمل بأحد الدليلين لزمه مقتضاه ولا
تخيير بين المدلولين وأما عن الثاني فبأن إشكال التشريع يرتفع بحكم
العقل بالمطلوبية من جهة توقف تحصيل العلم الواجب بفعل
الفائتة على فعل غيرها لما حققناه في محله من وجوب مقدمة
الواجب إذ لا ريب في كون تحصيل العلم بفعل الواجب واجبا وإن
كان
غيريا إذ الواجب النفسي بحسب التكليف الظاهري ما يعلم أنه
الواجب النفسي ولو إجمالا فيتوقف وجوده على تحقق العلم ضرورة
أن
وجود المقيد يتوقف على وجود قيده ويلزم من ذلك وجوب ما
يتوقف عليه العلم لان مقدمة المقدمة مقدمة فتجب بوجوبها وليس
العلم
مقدمة للاتيان بما هو واجب واقعا لأحكامه بدونه ولا واجبا نفسيا و
إلا لكان تارك كل واجب تاركا لواجبين وأما الاعتذار الذي ذكره
عما صار إليه من استحباب الاحتياط فلا يجري في المقام لتوقف
رجأ
تحصيل المصلحة بفعل الباقي على قصد القربة فيتوجه إليه إشكال
التشريع فلا يتم قوله فإذا ثبت خلوه عن التحريم إلخ وبالجملة هناك
أمران أحدهما أن الاتيان بالفعل رجأ لتحصيل المصلحة الواقعية جائز
خال عن وصمة التشريع والثاني أنه كلما كان الفعل كذلك فهو
مستحب للوجوه التي ذكرها ونحن نمنع صحة الصغرى بالنسبة إلى
العبادات الموظفة التي لم يثبت رجحانها ثم الاعتذار المذكور لا
يختص بالقول بالاستحباب بل يجري على القول بالوجوب أيضا إذ
القائل بوجوب الجميع لا يقول بوجوب الاتيان بكل واحد على أنه من
الدين واقعا بمعنى أنه الواجب النفسي واقعا بل لاحتمال كونه هو وأما
ما احتج به على إثبات الاستحباب فغير واضح إذ على اعتبار قصد
التعيين في الطاعة واعتبارها في العبادة يمتنع تحقق المصلحة
الواقعية المترتبة على العبادة عند عدم قصد التعيين اللازم في صورة
الاشتباه فكيف يثبت الاستحباب باعتبار تحصيلها حينئذ مع أنه لو
حصلت بدونه لكان قضية الأصل وجوب الاتيان بالجميع لتحصيلها
فلا وجه للاستحباب إلا أن يكون مبنى ذلك على احتمال عدم اعتبار
قصد التعيين مع استظهار خلافه لكن يشكل بأنه إن أريد بالاتيان
بالباقي تحصيل تلك المصلحة فظاهر أنه لا يستلزمها لجواز حصولها
بالأول وإن أريد به تحصيل العلم أو الظن بحصولها فهو لا يتم مع
استظهار اعتبار قصد التعيين وأما الاحتجاج بالآية فضعفه واضح لان
معنى الحسنة ما كانت حسنة بالفعل لا ما كان من شأنه أن يكون
حسنة وإن اعتراه ما صيره سيئة بالفعل فلا يتناول الاتيان بالواجب
الواقعي بعد صيرورته بحسب الظاهر حراما تشريعيا بسبب النية و
طرد الاشتباه وبالجملة شمول الآية لفعل الواجب الواقعي يتوقف
على ثبوت رجحانه في الظاهر فإذا توقف ثبوت رجحانه في الظاهر
على شمول الآية له كما هو قضية الاستدلال بها كان دورا مع أن تحقق
الواجب الواقعي في فعل الباقي مبني على مجرد الاحتمال والحكم
اللاحق
في الآية لعنوان الحسنة إنما يثبت في الظاهر لحوقه لما علم اندراجه
فيها لا لما احتمل فيه الاندراج ومثله الاحتجاج بالرواية فإن كون
الاتيان بالباقي مما لا يراب فيه في محل المنع بناء على اعتبار قصد
التعيين وأما ما ذكره من مسألة إعادة ما حكم شرعا بصحته فتحقيق
الكلام فيه أن الاحتياط كما قد يجب وله موارد عديدة كذلك قد
يستحب وله أيضا موارد عديدة منها أن يشتبه المندوب بالمباح
فيستحب الاتيان بهما عند تعذر التعيين أو تعسره تحصيلا للعلم
المندوب بإتيان المندوب كما مر في الواجب ولو تيسر التعيين فإن لم
يكن الفعل من العبادات المجعولة لم يبعد جواز الاتيان بهما قصدا إلى
حصول الامتثال بفعل ما هو مندوب منهما إذ لا دليل على اشتراط
تعيين المطلوب في الامتثال هنا فيقع كل منهما على وجهه وإلا اتجه
المنع ثم العبرة في صورة الحكم بالاستحباب باشتباه فرد نوع من
المندوب بالمباح مع تعذر تحصيل فرد آخر منه سالم عن الاشتباه به
أو بثبوت الاستحباب التعيني في الجميع وإلا اتجه المنع ومثله
الكلام في الواجب ولو اشتبه أحد فردي المطلوب التخييري بغير
المطلوب ولم يشتبه الاخر تعين إن كان عبادة ومنها الاتيان بما
يحتمل وجوبه عند عدم احتمال التحريم مع دلالة دليل معتبر ولو
ظاهرا على عدم الوجوب سواء احتمل وجوبه استقلالا كغسل
الجمعة
أو في ضمن واجب كقراءة السورة وجلسة الاستراحة عند من ترجح
عدم وجوبها فيستحب الاتيان بهما من جهة الاحتياط تحصيلا ليقين
البراءة من جهتهما ومنها ترك ما يحتمل تحريمه عند عدم احتمال
الوجوب مع قيام دليل معتبر ولو ظاهرا على عدم التحريم كالدخول
في سوم المؤمن و
360

ومنها الجمع في موارد التخيير لتعارض الأدلة حيث يمكن كالجمع
بين الظهر والجمعة والقصر والاتمام ومنها إعادة ما يحتمل عدم
حصول البراءة بفعله مع قيام دليل معتبر على حصولها به كإعادة من
تعمد ترك السورة أو جلسة الاستراحة في صلاته لها مع قراءة
السورة أو فعل الجلسة بناء على عدم وجوبهما ولا يعتبر في
استحباب الإعادة اشتمال المعاد على جميع ما يحتمل اعتباره في
الصحة بل
يكفي الصحة الظاهرية مع اشتماله على ما قصد تداركه فلو ترك
السورة وجلسة الاستراحة معا في صلاته استحب له إعادتها معهما و
مع
إحداهما وإن كان الأول أفضل ولو أعادها تارة مع إحداهما وثانيا مع
الأخرى وثالثا معهما كان أيضا سائغا إلا أن يستشكل ذلك بما
ورد من أنه لا إعادة في إعادة بناء على نفي المشروعية وهو غير
واضح لامكان الحمل على نفي الوجوب وبالجملة فالمعتبر في
استحباب الاحتياط بالإعادة خلو الفعل المعاد عن نوع الخلل
الاحتمالي الذي اشتمل عليه أولا فلو تساويا لم يعقل الاحتياط كما لو
انعكس الامر وعلى هذا فقد يتطرق الاشكال إلى الاحتياط عن الميت
بإعادة صلاته مع الوصية وبدونها مع عدم العلم بجهة الاحتياط
ليحافظ عليها في الإعادة وإلزام النائب بمراعاة جميع جوانب
الاحتياط فيها مع ما فيه من الضيق مما لا يساعد عليه العمل المعروف
و
يمكن التفصي بأن الموصي إنما يوصي بالقضاء الصحيح الواقعي
فيصح وصيته لما عنده فيما أوتي به من احتمال عدم مصادفة الواقع و
النائب يأتي بما يعتقد أنه الصحيح الواقعي فيصح عمله عنه هذا و
يمكن القول باستحباب الاتيان بالصلاة اليومية عن الميت بدون نية
القضاء عما في ذمته أيضا كما يظهر من حكاية صفوان وعلى تقديره لا
إشكال في الوصية بها مطلقا وفي جواز إعادة الصلاة أيضا
لفوات بعض مكملاتها كالاقبال إشكال وربما يستأنس الجواز من
فحوى ما دل عليه في بعض الموارد كإعادة المنفرد جماعة والمتيمم
عند إصابة الماء الثاني أن يشتبه الحرام بغير الواجب بحيث يعلم
دخوله في جملة محصورة بالبيان الذي سبق والحق عدم جريان أصل
البراءة هنا أيضا بل يجب التجنب عن الجميع دفعا لخوف الضرر
المترتب على فعل البعض المحتمل لكونه هو المحرم فإن قضية عموم
النهي ثبوت التحريم حال الاشتباه أيضا فيترتب عليه آثاره على
تقدير مصادفته ولبعض المتأخرين في هذا المقام قول بجواز تناول ما
لا يزيد على قدر الحرام فلو اشتبه ثوب مملوك ثبوت مغصوب
جاز استعمال أحدهما مع التجنب عن الاخر ولو تعددت الثياب وكان
أحدها مغصوبا جاز استعمال الجميع ما عدا واحد منها ولو تعدد
الثوب المغصوب وجب ترك ما يساويها واستعمال الباقي وربما
تعدى بعضهم فأجاز استعمال الجميع لا على وجه الجمع واحتجوا
على
الجواز بالنقص بصورة عدم الحصر إذ لا يلزم الخصم فيه بالمنع و
بعموم قوله كل شئ فيه حرام وحلال فهو لك حلال حتى تعرف
الحرام منه بعينه فتدعه فإنه بعمومه يتناول المقام وبأن القدر الثابت
حرمة تناول ما علم حرمته دون ما لم يعلم فقضية الأصل فيه
الإباحة واحتج الأولون على وجوب إبقاء ما يساوي الحرام بأن
ارتكابه يوجب العلم بارتكاب الحرام وهو حرام فيحرم مقدمته لان
مقدمة الحرام حرام وبأن الحكم بحلية الجميع يوجب الحكم بحلية ما
هو حرام قطعا وهو باطل فيتعين الاقتصار على الحكم بحلية ما لا
يقطع معه بدخول الحرام والجواب عن حجة الجواز أما عن الوجه
الأول فبيان الفرق بين المقامين بلزوم العسر والحرج في التجنب عن
غير المحصور فيكون منفيا بما دل على نفيهما عن الشريعة السمحة
بخلاف المحصور فيبقى على حكم الأصل وأما ما أورده بعض
المعاصرين بأن العسر والحرج قد لا يتحققان في غير المحصور كما إذا
لم يكن هناك ما يوجب استعمال البعض وقد يتحققان في
المحصور أيضا كما إذا اضطر إلى استعمال البعض منه مع أنهما إنما
يقتضيان رفع الاثم دون غيره كالنجاسة ولهذا لو اضطر إلى أكل
الميتة لم يرتفع عنه حكم النجاسة فمدفوع بأن العسر والجرح إنما
يقتضيان رفع الحكم الذي
يترتبان عليه على قدر ترتبهما عليه ففي غير المحصور لما كان ترتبهما
على وجوب الاجتناب عنه وما في حكمه كوجوب الاجتناب عن
ملاقيه ثابتا على الاطلاق حتى بالنسبة إلى ما يزيد منه على قدر
الضرورة لوضوح ترتبهما على تقدير تحديد رفع المنع باندفاعها أيضا
لعموم مورده وابتلا عامة الناس به في عامة الأحوال أو أغلبها لزم
ارتفاعه على الاطلاق بخلاف المحصور لندرة الاضطرار إليه وعلى
تقدير حصوله فدوران رفع المنع فيه مدار رفع العسر والحرج لا
يوجب عسرا ولا حرجا ولهذا جاز ثبوت حكمه ويؤيده فحوى بعض
الاخبار التي تضمنت الاستشهاد بذلك ولا فرق فيما ذكرناه بين أن
يكون الحكم حرمة أو نجاسة أو غيرها وإلى هذا ينظر احتجاج
بعض الأصحاب بذلك على طهارة الحديد في مقابلة الأخبار الدالة
على نجاستها واعتذار المعاصر المذكور عنه بأنه تأسيس للحكم و
دفع لا رفع لحكم ثابت وبينهما فرق واضح غير واضح لان ما يصلح
للتأسيس والدفع في مثل المقام يصلح للرفع أيضا سلمنا لكن المقام
من باب الدفع لا الرفع حيث يدفع بلزوم العسر والحرج عموم الأدلة
الدالة على التحريم لصورة الاشتباه بغير المحصور فلا يجب
التجنب لما عرفت من أن مبنى وجوبه على فعلية التحريم المستتبع
لخوف الضرر على تقدير ارتكاب البعض فإذا دفعنا عموم التحريم
ارتفع الخوف وسقط اعتبار الوجوب وأما عن الثاني فبحمل الرواية
على صورة الاشتباه بغير المحصور أو على صورة قيام أمارة
شرعية على الحلية كيد المسلم وفعله وربما يؤيد الثاني قوله عليه
السلام في رواية أخرى كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام
بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك يكون مثل الثوب عليك قد
اشتريته وهو سرقة أو المملوك عندك ولعله حر قد باع
361

نفسه أو خدع فبيع أو قهر أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك و
الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة
فإن التشبيه في نفسه وإن لم يقتض التخصيص بالمذكور إلا أنه في
المقام بقرينة الحمل يقتضي اختصاص الحكم المذكور عليه قبله
بنظائره التي يتضح فيها وجه المشابهة فيخرج عنها محل البحث و
مثل هذا التخصيص وإن لم يستلزم تخصيص العام الوارد في مقام
آخر لكنه يوجب الريب في عمومه كما لا يخفى مع اعتضاده بالشهرة
العظيمة إن لم يكن إجماعا وبالاحتياط المستفاد من العقل والنقل
بل أقول قضية ما ذكروه عدم الفرق بين صورة إمكان تعيين الحرام و
غيرها ولا بين أنواع الحرام وبطلان هذا في الجملة مما يعرف
من ضرورة دين الاسلام بل وضرورة سائر الأديان إذ فتح هذا الباب
يؤدي إلى رفع العصمة عن الأموال والفروج والدماء أما على
القول الأول ففيما لو تعدد الفاعل أو كرر صور الاشتباه إلى أن صادف
المحرم فيجوز لجماعة اجتمعوا على أرغفة مغصوبة إذا وضعوا
بينها رغيفا مباحا على وجه حصل الاشتباه بينه وبينها ولو لعارض
كالظلمة أن يتناول كل واحد منهم ورغيفا أو دراهم مغصوبة
وضعوا فيها درهما مباحا أن يتصرفوا كل واحد منهم في درهم وفيما
لو صادفوا امرأة واشتبه على كل واحد منهم كونها زوجته أو
أجنبية أن يحل لهم وطؤها على التعاقب مع تخلل العدة إن كانت ذات
عدة وإلا فبدونها ولو بطريق الاجتماع بقدر الامكان وإن حرم
عليها تمكين نفسها لغير واحد منهم مع تمكنها وعلى هذا فلو عقد
اثنان على امرأتين واشتبهت إحداهما بالأخرى جاز لهما أن يختارا
واحدة ويستمتعا بها حتى بالوطي مع تخلل العدة حيث يجب وليس
لأحدهما منع الاخر وفيما لو صادفوا جماعة من المسلمين فيهم
رجل
مباح الذم واشتبه بينهم ولو لعارض أن يجوز لكل واحد منهم أن
يباشر قتل واحد وكذا لو أراد وطي أجنبية جاز له أن يحدث الاشتباه
بينها وبين زوجته ثم يأتي إحداهما فإن صادفها وإلا كرر ذلك إلى أن
يصادفها ومثله الكلام في المال والنفس وأما على القول الثاني فيلزم
ذلك مطلقا فيجوز لمن كان له زوجة في دار أو بلد أن يطأ كل
امرأة يصادفها فيها ما لم يعلم أنها غيرها ولمن فقد مالا أن يأخذ كل ما
يجده مما يحتمل أن يكون ما له ما لم يقم أمارة شرعية على
خلافه وأن يحل لواحد قتل جماعة بمجرد وجود شخص مباح الدم
بينهم وأما الفرق في ذلك بين الأموال والفروج والدماء كما وقع من
البعض فناشئ عن قصور النظر وقلة التدبر فإن الشارع كما يريد حفظ
دماء المسلمين كذلك يريد حفظ أعراضهم وأموالهم وإن كان
الحكم في البعض آكد فإن ذلك لا يصلح فارقا لتحقيق مثله في الأموال
أيضا وبالجملة ففساد ذلك أجلى من أن يحتاج إلى بيان إلا أن
فساد بعض فروعه ربما يشتمل على نوع خفاء في بادي النظر ومنه
سرى الوهم وأما عن الثالث فبما سبق تحقيقه من الحجة على القول
المختار ولا نطيل بإعادته وأما حجتهم على وجوب إبقاء ما يساوي
الحرام ففسادها في غاية الوضوح لان ما ذكروه أولا من أن تحصيل
العلم بالحرام حرام مما لا يساعد عليه عقل ولا نقل ولو تم ذلك
لحرم على من نسي معاصيه أن يراجع ما يفيده تذكرها وتخصيص
ذلك
بالعلم الابتدائي مجازفة بينة على أنه إن أريد بالحرام الحرام الواقعي
فتحصيل العلم به بعد وقوعه على وجه لا ينافي حليته في الظاهر
حال الوقوع مما لا غبار عليه كما لو اشترى أحد مالا وتصرف فيه ثم
بعد ذلك تفحص فعلم بكونه مغصوبا فإنه لا يكون غاصبا بذلك و
إن علم أو ظن حال الفحص بأدائه إلى العلم بالغصبية وإن أريد به
الحرام الظاهري فممنوع إذ الفرض توقف العلم بحرمته في الظاهر
على العلم بالتعيين وهو منفي حال الاشتباه وأما منع المقدمة الثانية
أعني حرمة مقدمة الحرام فغير سديد لان المقدمة إذا كانت سببا
كما في المقام حرمت بحرمة سببها على ما مر تحقيقه سابقا وما ذكروه
ثانيا من أن الحكم بحلية الجميع يوجب الحكم بحلية الحرام
مدفوع بأن الحاكم بحليته لا يحكم بحليته مجتمعا بل على التدريج و
هذا وإن استلزم
الحكم بحلية الحرام إلا أن القول الاخر مشارك له في هذه المفسدة فإن
قولهم بحلية كل واحد على البدلية حكم بحلية الحرام أيضا لان من
جملة تلك الآحاد ما هو حرام قطعا فإن اعتذر بأن الجهالة تفيد حليته
في الظاهر توجه الاعتذار به على القول الاخر أيضا والفرق تحكم
بين فإن قلت جواز فعل الجميع يستلزم جواز العزم عليه لأنه عزم على
جائز فيكون جائزا لا محالة لكن العزم على فعل الجميع غير جائز
لأنه عزم على فعل المحرم ولو في ضمن الجميع مع مصادفة فعله
فيكون حراما قلت العزم على الجميع على الوجه المذكور عزم على
الحال إذ الحرمة الواقعية في البعض شأنية لا أثر لها في الظاهر بناء على
ما مر على أن ارتكاب الجميع لا يتوقف على العزم على الجميع
ابتدأ لجواز حدوث العزم على البعض الباقي بعد ارتكاب البعض
المساوي للحرام واعلم أنه حكي عن بعض الأصحاب أنه تخلص في
الشبهة المحصورة بالقرعة لما ورد من أنها لكل أمر مشكل ولورود
الامر بها في بعض الموارد كالشاة المنزو عليها المشتبه بغيرها في
قطيع من الغنم والجواب أن عمومات القرعة موهونة بإعراض
الأصحاب عنها بالنسبة إلى أكثر مواردها فهي بذلك أشبه شئ
بالمجملات لا يجوز التعويل عليها إلا حيث يساعدها أمارة يرفع
الوهن المذكور عنها فلا سبيل إلى جعلها أصلا وقاعدة واعتبارها في
بعض الموارد لا يوجب التعدي لبطلان القياس عندنا الثالث أن يشتبه
الواجب أو الحرام بغيرهما حيث يتعذر التمييز ولا يعلم دخوله في
محصور عرفا ولا عادة ولا ريب في سقوطه لأدائه إلى العسر والحرج
مع عدم مساعدة إطلاق الخطاب أو عمومه على شموله لمثل تلك
الصورة وقد مر التنبيه على ذلك الرابع أن يشتبه الواجب بالحرام مع
الانحصار والمراد به الحرام لا من جهة التشريع ولا ريب
362

أنه مع إمكان التمييز ولو بالرجوع إلى الامارات الشرعية يتعين التمييز
ومع تعذره يتعين تغليب جانب الاسم كما لو اشتبهت أجنبية
بزوجته التي يستحق الوطي أو المضاجعة فيجب التجنب عنهما ولو
تساويا تخير وكذا لو شك في المساواة لامتناع الترجيح من غير
مرجح
تذنيب
ومما يتعلق ببعض المقامات المذكورة مسألة الخنثى المشكل بالنسبة
إلى الاحكام المختصة بالرجال والنساء فيمكن القول بوجوب
الاحتياط عليه في الجميع لعلمه بأنه مكلف إما بأحكام الرجال أو
النساء فيرجع إلى الشبهة المحصورة إذ كل حكم من الأحكام التكليفية
المختصة بالرجال إذا أخذ مع حكم تكليفي مختص بالنساء علم بأنه
مكلف بأحدهما فيجب عليه تحصيل اليقين بالبراءة بالاحتياط وأما
أحكامه الراجعة إلى غيره فيجوز التمسك في حقه بالأصل فيجوز
للأجانب النظر إليه ولمسه بغير شهوة ولا يجوز قتله في الحدود
مضافا إلى ما دل على درئها بالشبهة ويحكم ببقاء ملكه لمن ينعتق
عليه على تقدير كونه ذكرا وببقائه على ملك من ينعتق عليه على
تقدير كونه أنثى وإن لزمه بالنسبة إلى الاحكام الراجعة إليه الاحتياط
فلا يجوز له استخدام المملوك في الفرض الأول وإن لزمه
الانفاق عليه ونحو ذلك ولا يحكم بنشر الحرمة بالرضاع بلبنه ولبن
منكوحته لشبهة وفي إلحاق ولده به سواء ولده أو أولده إشكال
وقضية الأصل العدم وينبغي أن يستثنى من الحكم الأول كل حكم
يعذر فيه الجاهل به كالجهر والاخفات في مواضعهما فلا يجب عليه
الاحتياط في ذلك بل يتخير عند عدم سماع الأجانب بينهما لجهله
بالحكم فيقطع بالبراءة بدون الاحتياط وهذا هو السر في إلزام
الشهيد له في الذكرى بوجوب الاحتياط في مسألة الستر ولبس الحرير
ومصيره إلى التخيير في مسألة الجهر والاخفات فلا تدافع بين
الحكمين أصلا كما زعمه الفاضل المعاصر في كلامه ولو قصرنا
وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة على ما إذا اتحد نوع الشبهة
كما
سنشير إليه في مبحث الاستصحاب اتجه في المقام التفصيل في ذلك
فيجري أصل البراءة في حقه بالنسبة إلى جملة من الموارد دون
أخرى فمن القسم الأول عدم وجوب الجهاد عليه وعدم لحوق حكم
الدماء الثلاثة للدم الخارج منه وإن كان بالصفات المعتبرة إن لم
يجعل ذلك علامة لالحاقه بالأنثى وجواز اسماع صوته
الأجانب ولو في الصلاة بناء على منعه في المرأة لان فسادها به
مقصور على صورة العلم وبهذا لو أجهرت المرأة حيث ترى عدم
الأجنبي فانكشف الخلاف لم يبطل صلاتها نعم لو أجهر الخنثى
حينئذ فيما يجب على الرجل الاخفات به اتجه البطلان لعلمه
بالاخلال
بأحد الشرطين وهذا من القسم الآتي ويجوز له لبس الحرير والذهب
في غير الصلاة للشك في ذكوريته التي هي سبب المنع ومن
القسم الثاني وجوب تستره في الصلاة كالمرأة تحصيلا ليقين البراءة و
كذا تركه لبس الحرير والذهب فيها وجمعه بين إحرامي الرجل
والمرأة وتحريم الرجال والنساء عليه نكاحا عملا بأصالة التحريم
الثابت قبل الموجب ويحرم عليه النظر إلى الرجال والنساء في غير
ما استثني عملا بقاعدة الشبهة المحصورة وكذا يجب عليه أن تستر
عورتيه وتحريم النظر إليها على الناظر عملا بالقاعدة المذكورة و
لا يبعد أن لا يحكم بجنابة الرجل بوطيه ولا المرأة بوطئه إياها ولا
بجنابته إلا بحصول الامرين لها أو الانزال مع احتمال الحكم بهما
لصدق الاسم ولا يثبت للبلل الخارج منه بعد البول أو الانزال ما يثبت
للرجل وفي نجاسة ماء استنجائه عن البول بالنسبة إلى كل واحد
من المخرجين إشكال وقضية الأصل عدم الحكم بها وإن لم نحكم
بالطهارة أيضا مع تحقق مثله بالنسبة إلى المخرج الاخر كما في
المشتبهين
فصل ومن الأدلة العقلية أصل العدم عند عدم الدليل
وقد عرفت أن مورده أعم من مورد أصل البراءة من وجه لجريانه في
نفي الأحكام التكليفية التي يجري فيها أصل البراءة والأحكام الوضعية
التي لا يجري فيها وإن جرى فيما يترتب عليها من الأحكام التكليفية
وعدم جريانه في الموارد الجزئية التي يجري فيها أصل
البراءة وهذا الأصل معروف بينهم متداول ذكره في الكتب الفقهية و
قد عرفت أن ظاهر المحقق في المعتبر تخصيصه بصورة العلم بأنه
لو كان هناك دليل لظفر به ويمكن أن يكون مراده بالعلم ما يتناول الظن
المستند إلى الفحص والتتبع أعني العلم الشرعي فلا ينافي
المذهب المختار إذ لا نقول بحجيته بدون ذلك كنظائره من سائر
الأدلة ويحتمل في كلامه غير ذلك كما نبهنا عليه سابقا ثم أقسام هذا
الأصل كأقسام أصالة البراءة وموارد حجيته كموارد حجيتها ويدل
على حجيته في موارد حجيته أما بالنسبة إلى نفي الحكم التكليفي
فما دل على حجية أصل البراءة من العقل والنقل وأما بالنسبة إلى نفى
الحكم الوضعي فأمران الأول الاستصحاب وإليه ينظر ذكر
المحقق له في أقسام الاستصحاب كما مر نقله لان الحكم المحتمل
ثبوته من الأمور الحادثة فيستصحب عدمه السابق واعلم أن أصل
العدم
المستفاد من هذا الدليل وإن جرى في نفي ما يحتمل اعتباره شطرا أو
شرطا في الموارد التي ثبت لها أحكام تكليفية أو وضعية
كالعبادات والمعاملات إلا أنه لا يصلح لتعيين الماهية وإثبات كونها
هي المجردة عن ذلك الجز أو ذلك الشرط كما مر في أصل البراءة
فإن استصحاب عدم اعتبار الشارع إياه بأحد الوجهين لا يقتضي كون
المعتبر في ثبوت الحكم عنده هو المجرد عنه إلا بواسطة مقدمة
عادية هي العلم باعتبار الشارع في تلك الواقعة حكما معينا فيكون من
الاستصحاب المثبت الذي لا نقول بحجيته والوجه فيه أن
المستفاد من أخبار الاستصحاب
وهي العمدة في إثبات حجيته في نظائر المقام هو إبقاء ما من شأنه
البقاء لولا المانع المشكوك فيه وإثبات أحكامه
363

المترتبة عليه خاصة وكون الواجب مثلا هو الجملة المعلومة ليس من
الأحكام الشرعية المترتبة على عدم اعتبار الشارع للامر المشكوك
فيه بل من لوازمه العقلية بعد ثبوت وجوب الواجب والسر في تنزيل
تلك الأخبار على ذلك أن نسبة اليقين إلى اليقين بثبوت مورد
الاستصحاب كنسبته إلى اليقين بعدم حدوث ما يترتب عليه من
لوازمه الشرعية وغيرها فيتناول اللفظ لأحدهما كتناوله للاخر وقضية
ذلك جريان الاستصحاب في كل منهما من غير تحكيم لأحدهما على
الاخر لكن يستفاد من مورد تلك الأخبار ومساقها كما سيأتي
تحكيم الاستصحاب المترتب عليه حكم شرعي أولا على استصحاب
عدم ذلك الحكم فيقتصر عليه ويبقى التحكيم في غير ذلك بلا دليل
وسيأتي لهذا مزيد بيان في ذيل مبحث الاستصحاب الثاني عموم ما
دل على أنه رفع عن هذه الأمة ما لا يعلمون وأن ما حجب الله علمه
عن العباد فهو موضوع عنهم إلى غير ذلك من الاخبار التي مر ذكرها و
تخصيصها بالحكم التكليفي خروج عما يقتضيه وضع اللفظ من
غير دليل وقيام الدليل في بعض الأحكام الوضعية على عدم اشتراطه
بالعلم لا ينافي تعميمه إلى الموارد التي لا دليل فيها على ذلك ثم
دائرة أصل العدم بحسب هذا الدليل أعني الاخبار أوسع من دائرته
بحسب الدليل السابق لجريانه بمقتضى هذا الدليل في مطلق أحكام
الوضع حتى الجزئية منها والشرطية والمانعية لان المفهوم من أخبار
الباب رفع الحكم المجهول وإثبات ما يترتب عليه من الأحكام الشرعية
وغيرها مما يترتب عليه أحكام شرعية عملا بظاهر الاطلاق
السالم عما يقتضي صرفه هنا عنه إذ الوجه الذي قررناه في منع
إطلاق أخبار الاستصحاب غير متطرق إلى إطلاق هذه الأخبار ولولا
ذلك لالتزمنا بالاطلاق هناك أيضا فاتضح مما قررنا أن الأصل
المثبت بالمعنى المذكور إن كان استصحابا لم يعتبر وإن كان أصل
العدم بالاعتبار الذي ذكرنا كان معتبرا هذا التحقيق ما أدى إليه
نظري سابقا والذي أدى إليه نظري لاحقا فساد هذا الوجه فإن الظاهر
من
أخبار الوضع والرفع وما في معناهما إنما هو وضع المؤاخذة و
العقوبة ورفعهما فيدل على رفع الوجوب والتحريم الفعليين في حق
الجاهل خاصة دون غيرهما وحملهما على رفع نفس الحكم و
تعميمه إلى حكم الوضع مع بعده عن سياق الرواية مناف لما تقرر عند
الأصحاب من أن أحكام الوضع لا تدور مدار العلم بل ولا العقل و
البلوغ ولهذا تراهم يحكمون في مباحث الفقه بترتب أحكامها
الوضعية
كالحدث بأنواعه والطهارة والنجاسة والملكية المتعلقة بالعين و
المنفعة بأقسامها المقررة والضمان والخيارات والصحة والبطلان
إلى غير ذلك مما لا يحصى على الصغير والمجنون والجاهل و
الغافل إلا فيما شذ وندر وبالجملة فالذي يظهر ومن اتفاقهم على أن
الأصل في أحكام الوضع عمومها للعالم وغيره وأن الخروج عن هذا
الأصل في بعض الموارد النادرة إنما هو لدلالة دليل عليه
بالخصوص ثم نؤكد الكلام في منع دلالة هذه الأخبار على أصالة عدم
الجزئية والشرطية وما في معناها بالنسبة إلى ما شك في اتصافه
بذلك بأن مرجع عدم وضع الجزئية والشرطية في الجز والشرط
المشكوك فيهما إلى عدم وضع المركب من ذلك الجز والمشروط
بذلك الشرط فإن عدم جزئية الجز بمعنى عدم كلية الكلي وعلى
قياسه الشرط والمشروط ولا ريب في عدم جريان أصل العدم
بالنسبة إلى المركب والمشروط لان أصالة عدم وضع الأكثر في مرتبة
أصالة عدم وضع الأقل وأصالة عدم وضع المقيد في مرتبة
أصالة عدم وضع المطلق يعارضهما العلم الاجمالي بوضع أحدهما
فيسقطان عن درجة الاعتبار فكذا ما يرجع إلى ذلك مما لا يغايره إلا
بمجرد المفهوم سلمنا مغايرتهما بغير المفهوم لكن لا خفاء في أن
الجزئية والشرطية لا يستدعيان وضعا مغايرا لوضع الكل و
المشروط بل هما اعتباران عقليان متفرعان على وضع الكل و
المشروط وعدهما من الحكم الشرعي مبني على مراعاة هذا الاعتبار
و
إلا فليسا عند التحقيق منه فلا ينصرف الوضع والرفع في الاخبار
إليهما سلمنا لكن لا ريب في أن الجزئية
والشرطية كما ينتزعان من اعتبار الجز في الكل والشرط مع
المشروط كذلك ينتزع عدمهما من عدم اعتبارهما فيكون عدمهما
أيضا حكما وضعيا ثبوتهما ونسبة عدم العلم إلى كل منهما
بالخصوص سواء فلا وجه لترجيح إعمال الأصل بالنسبة إلى أحدهما
بالخصوص مع العلم بانتقاض الأصل بالنسبة إلى أحدهما لا على
التعيين فسقط الاستدلال بأخبار الوضع والرفع وما في معناهما بقي
الاحتجاج برواية من عمل بما علم كفي ما لم يعلم فالوجه في الجواب
القدح في دلالته بأن الظاهر مما علم ما علمه من المطلوبات النفسية
دون الغيرية والآتيان بما علم من أجزأ العبادة وشرائطها ليس إتيانا
بما علم أنه مطلوب نفسي فلا يندرج في عموم الرواية سلمنا لكن
معنى ما علم ما علم مطلوبيته لا ما علم جزئيته أو شرطيته ولا ريب
في العلم بمطلوبية الجز والشرط المشكوك فيهما من باب المقدمة
فلا يندرجان في عموم ما لم يعلم فاتضح مما حققنا أن المستند على
حجية أصل العدم في أحكام الوضع منحصر في الاستصحاب وقد
بينا
عدم مساعدته على جريانه بالنسبة إلى وضع الجزئية والشرطية
فالتحقيق أن هو القول بوجوب الاحتياط فيهما حيث لا يقوم دليل
على
نفيهما وأما أصالة عدم الزيادة حيث يدور الامر بين الأقل والأكثر
فيرجع إلى مسألة أصل العدم ويرجع في موارد التكليف إلى أصل
البراءة أيضا وأما أصالة عدم تقدم الحادث فيرجع إلى استصحاب
العدم السابق في الزمن الذي يشك في حدوثه فيه وإلى هذا يرجع
أصالة تأخر الحادث ثم هذه الأصول إنما يعتبر في الأحكام الشرعية
بالنسبة إلى
364

المجتهد الذي لم يعثر بما يدل على الخلاف بعد الفحص المعتبر ولا
يعتبر فيها غير ذلك وأما بالنسبة إلى الموضوعات العادية فهي
معتبرة فيها في حق الجميع مطلقا وإن توقف اعتبار المقلد لها على
الرجوع إلى فتوى المجتهد واشترط بعضهم في حجيتها أمورا أخر
الأول أن لا يكون إعمال الأصل مثبتا لحكم شرعي من جهة أخرى و
ينبغي أن يريد به الحكم المخالف للأصل وذلك كأن يقال الأصل
عدم وجوب الاجتناب عن أحد المشتبهين أو عدم بلوغ الماء الملاقي
للنجاسة كرا أو عدم تقدم الكرية حيثما يعلم بحدوثها على ملاقاة
النجاسة فإن إعمال الأصول الثلاثة في هذه الموارد يوجب إثبات
حكم شرعي من وجوب الاجتناب عن الاخر أو الملاقى أو النجاسة
الثاني أن لا يتضرر بإعمالها مسلم كما لو فتح إنسان قفس طائر فطار أو
حبس شاة فمات ولدها أو أمسك رجلا فهربت دابته فإن
إعمال أصل البراءة فيها يوجب تضرر المالك فيحتمل اندراجه في
قاعدة الاتلاف وفي عموم قوله عليه السلام لا ضرر ولا ضرار فإن
المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع وإلا فالضرر غير منفي
فلا علم حينئذ ولا ظن بأن الواقعة غير منصوصة فلا يتحقق
شرط التمسك بالأصل من فقدان النص بل يحصل القطع بتعلق حكم
شرعي بالضار ولكن لا يعلم أن مجرد التعزير أو الضمان أو هما
معا فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح وللمفتي الكف عن
تعيين الحكم إذ جواز التمسك بأصل البراءة في مثل هذه الصورة
غير معلوم فيشملها عموم قوله عليه السلام إذا جاءكم ما لا تعلمون فها
ووضع يده على فيه إلى آخر الحديث ثم أورد على نفسه بأن
الرواية كما تدل على المنع من الحكم في صورة الضرر كذلك تدل
عليه في غيرها وأجاب بأنه في صورة عدم الضرر يلزم تكليف
الغافل وهو قبيح ويدل عليه مثل قوله عليه السلام ما حجب الله
تعالى علمه عن العباد فهو موضوع عنهم بخلاف صورة الضرر إذ كون
التكليف حينئذ تكليف الغافل غير معلوم لعلم الضار بصيرورته سببا
لاتلاف مال محترم واشتغال ذمته حينئذ في الجملة مما هو مركوز
في الطباع الثالث أن لا يكون
جز عبادة مركبة بل كل نص بين فيه أجزأ ذلك المركب كان دالا على
عدم جزئية ما عداها فيكون عدم جزئية المختلف فيه حينئذ
منصوصا لا معلوما بالأصل أقول أما الشرط الأول فهو على إطلاقه غير
مستقيم بل الوجه فيه أن يفصل بين ما إذا كان أحدهما واردا على
الاخر وبين غيره فيسلم ما ذكره في القسم الثاني دون القسم الأول إذ
يتعين فيه تحكيم الوارد وضابطه أن يكون من حكم أحدهما
شرعا رفع الاخر من غير توسط أمر عقلي أو عادي دون العكس كما لو
وجد بعد دخول الوقت ماء مستصحب الطهارة فإن قضية عدم
وجوب الاجتناب عنه وجوب الطهارة به بل ووجوب الصلاة أيضا إذا
فرض تعذر طهور وغيره ولا إشكال فيه وكذا لو ملك مالا كثيرا
وشك في كونه مديونا بدين يستغرقه فإن أصالة برأته من الدين يثبت
عليه الأحكام التكليفية المتعلقة بالمال من وجوب الحج و
الانفاق على من يجب عليه نفقته وقد مر التنبيه على وجه ذلك مضافا
إلى ما سيأتي وما ذكره من مثال المشتبهين فمن القسم الثاني إذ
ليس قضية أحد الأصلين فيه إثبات وجوب الاجتناب عن الاخر إلا
بواسطة أمر غير شرعي وهو تعيين ملاقاة النجاسة إياه فلا سبيل إلى
إثباته بالأصل ليتفرع عليه حكمه الشرعي بل ولا سبيل إلى التمسك
بشئ منهما بعد العلم بارتفاع أحدهما كما يأتي ومما ذكرنا يتضح
الحال في المثالين الأخيرين أيضا فإن الماء المشكوك في كريته قد
يكون معلوم الكرية بحسب الزمن المتقدم على الشك ويكون الشك
في نقصان شئ منه أو نقصان ما يزيد على القدر المعلوم زيادته على
الكر وإن علم بنقصان ذلك المقدار وحينئذ فلا إشكال في
اعتبار أصالة بقاء الكرية وتحكيمه على سائر الأصول وقد يكون
معلوما عدم كريته بحسب زمن المتقدم على الشك ويكون الشك من
جهة احتمال الزيادة ولا إشكال هنا أيضا في تحكيم أصالة عدم الكرية
على أصالة عدم النجاسة وعدم وجوب الاجتناب عنه كما عرفت
فيحكم بنجاسته
بالملاقاة وأما إذا علم بحصول الكرية ووقوع النجاسة وشك في
المتقدم فهنا قد يكون تاريخ أحدهما معلوما دون الاخر فيحكم
بأصالة تأخر المجهول بمعنى عدم ثبوته في زمان يشك في ثبوته فيه
إذ لا علقة بين الحادثين فيشمل زمن العلم بحصول الاخر فيلحقه
حكمه من الطهارة والنجاسة ولا إشكال في تحكيم هذا الأصل على
أصالة عدم النجاسة وقد يجهل التاريخان بالكلية وقضية الأصل في
ذلك التقارن ومرجعه إلى نفي وقوع كل منهما في زمن يحتمل عدم
وقوعه فيه وهو يقتضي ورود النجاسة على ما هو كر حال الملاقاة
فلا ينجس به وكذا لو علم عدم الكرية وشك في تقدم النجاسة و
مقارنتها لها وأوضح من ذلك ما لو علم بعدم تقدم النجاسة وشك في
مقارنتها وتأخرها أو علم بعدم المقارنة وشك في المتأخر منهما
لسلامة أصل الطهارة عن المعارض ولا يتوهم أن قضية اعتبار التأخر
في مجهول التاريخ هنا يوجب تطرق مثله في مسألة من علم بوقوع
حدث وطهارة منه وشك في المتأخر منهما فينبغي أن يحكم فيها
بالطهارة مع العلم بتاريخ الحدث دون الطهارة مع أنه مخالف لظاهر
الأصحاب لوضوح الفرق بين المقامين فإن الحكم الشرعي
المترتب على أصالة التأخر هنا لا يتوقف على توسط أمر عقلي أو
عادي بل يتفرع عليه ابتدأ فيصح إثباته بالأصل بخلاف مسألة
الطهارة والحدث فإن قضية أصالة تأخر الطهارة فيها عدم وقوعها في
الزمن الذي يشك في وقوعها فيه وهو لا يقتضي إثبات وقوعها
في الزمن المتأخر إلا بواسطة أمر عادي وهو العلم بوقوع الطهارة منه
فيكون من الأصول المثبتة الغير المعتبرة كما نبهنا عليه وأما
الشرط الثاني ففيه أن احتمال الاندراج في عموم ما يقتضي التكليف لا
365

لا يقتضي بإثبات التكليف وإهمال الأصل بل لا بد من قيام دليل على
الاشتغال كما مر وليس من شرط التمسك بالأصل العلم أو الظن
بعدم النص مطلقا بل يكفي الظن بانتفاء نص يدل عند العامل به على
خلاف حكم الأصل بالصراحة أو الظهور فلا يقدح وجود نص لا يدل
عليه بإحدى الدلالتين ثم لا ريب في ثبوت التعزير في الموارد
المذكورة من جهة الاثم حيث يتحقق والترديد بينه وبين الضمان لا
وجه
له وسقوط حكم الأصل بالنسبة إلى التعزير لقيام دليله لا ينافي اعتباره
في نفي الضمان حيث لا دليل عليه إذ ليس أحدهما منوطا
بالآخر وقد عرفت أن أدلة أصل البراءة من العقل والنقل معلومة
التناول لكل مقام لا دليل فيه على الاشتغال فلا وجه لمنع شمولها
لمثل
هذه الواقعة وقد مر أن أخبار التوقف لا تنافي أدلة أصل البراءة المفيدة
للبراءة الظاهرية لأنها محمولة على التوقف عن الحكم الواقعي
أو قبل الفحص والفرق في إعمال الأصل بين صورة تضرر الغير به و
عدمه مع تسليم عدم ما يدل على الاشتغال مما لا وجه له لعموم
أدلته للمقامين ودعوى أن اشتغال ذمة الضار مما هو مركوز في الطباع
فاسدة لأنه إن أراد بها طباع العقلا أو أهل الشرع فواضح
خلافه ومع تسليمه فلا وجه للتوقف وإن أراد طباع أهل العرف فهو
مما لا عبرة به فلا يصلح وجها لمنع إعمال الدليل المعتبر ثم لا
يذهب عليك أن تقييده التضرر بالمسلم مما لا وجه له لعموم أدلة
الضمان له ولغيره ولعله تمثيل وأما الشرط الثالث فمتجه كما عرفت
لكن لا وجه لتخصيصه الاشتراط بالجز بل يجري في الشرط والمانع
أيضا كما مر وأما ما استدل به على نفي جزئية ما شك في جزئيته
من دلالة النص المبين للاجزاء عليه فغير مفيد بالنسبة إلى غير الجز و
لا بالنسبة إليه عند انتفاء الدلالة ولو من جهة المعارض كما
أشرنا إليه سابقا
فصل الاستصحاب
هو عبارة عن إبقاء ما علم ثبوته في الزمن السابق فيما يحتمل البقاء فيه
من الزمن اللاحق فالمراد بالموصولة ما يتناول الامر الثابت
بالحس كالرطوبة أو بالعقل كالبراءة حال الصغر أو بالشرع كالوجوب و
التحريم والصحة والبطلان وأخواتهما وما يقال من أن
الاستصحاب لا يجري في الاحكام الطلبية فكان المقصود عدم
حجيته فيها وهو تخصيص في الحكم لا في العنوان إلا أن يكون مراده
الاستصحاب المعتبر عنده والمراد بمعلومية ثبوته ما يعم معلوميته
بحسب الظاهر والواقع فإن الاحكام الثابتة بحسب الظاهر قد
تستصحب كالأحكام الثابتة بحسب الواقع فيدخل فيه ما قطع بثبوته
في زمان ثم شك في ثبوته في ذلك الزمان وإن كان المختار عدم
حجية الاستصحاب هنا وذلك لان العمل بالمقطوع به أمر معلوم حال
الشك من جهة القطع به وإن لم يكن في نفسه معلوما فدخوله في
الحد بالاعتبار الأول دون الأخير وباحتمال البقاء احتماله واقعا و
ظاهرا مع قطع النظر عن وجوه حجية الاستصحاب فلا يرد أنه إن
اعتبر البقاء بالقياس إلى الواقع انتقض طرد الحد بما علم عدم بقائه
ظاهر الامارة معتبرة فإن الاستصحاب لا يطلق عليه عرفا وإن
اعتبر بالقياس إلى الظاهر فهو معلوم لأدلة الاستصحاب ويدخل فيه
مشكوك البقاء ومظنونه وموهومه ويخرج مقطوع البقاء وعدمه
لخروجه عن مورد الاستصحاب أما في جانب العدم فواضح وأما في
جانب البقاء فلثبوته حينئذ باليقين لا بالاستصحاب لاختصاص
مورده عقلا ونقلا بصورة عدم العلم بالبقاء لكن يشكل بأن هذا إنما
يتم فيما علم بقاؤه واقعا فإن ما علم بقاؤه في الظاهر بغير دليل
الاستصحاب قد يستند فيه إلى الاستصحاب وأيضا هو متداول بين
الفقهاء ودفع هذه الوصمة عن الحد لا يخلو من ارتكاب تعسف أو
تمحل هذا وبعضهم أبدل الاحتمال بالظن لزعمه أن حجيته من حيث
إفادته للظن
وسننبه على ما فيه ثم تفسير الاستصحاب بالابقاء مما لا ينافي
البحث عن صحته ولا لعده من الأدلة أما الأول فلان الابقاء عبارة عن
الحكم بالبقاء فيرجع البحث عن صحته إلى صحة الحكم المذكور و
هو مما لا غبار عليه وأما الثاني فلانه مما يمكن التوصل بصحيح
النظر فيه بملاحظة ما يدل على صحته إلى معرفة الحكم الفرعي بعد
إثبات كونه مندرجا تحت عنوانه ومن هنا يتبين أن الاستصحاب
الذي يتعلق غرض الأصولي بالبحث عن حجيته إنما هو الاستصحاب
الموصل إلى معرفة الحكم الشرعي وتعميم البحث إلى غيره
استطرادي مراعاة لعموم الأدلة واعلم أنه ينقسم الاستصحاب باعتبار
مورده إلى استصحاب حال العقل والمراد به كل حكم ثبت بالعقل
سواء كان تكليفيا كالبراءة حال الصغر وإباحة الأشياء الخالية عن أمارة
المفسدة قبل الشرع وكتحريم التصرف في مال الغير و
وجوب رد الوديعة إذا عرض هناك ما يحتمل زواله كالاضطرار و
الخوف أو كان وضعيا سواء تعلق الاستصحاب بإثباته كشرطية العلم
لثبوت التكليف إذا عرض ما يوجب الشك في بقائها مطلقا أو في
خصوص مورد وبنفيه كعدم الزوجية وعدم الملكية الثابتين قبل
تحقق
موضوعهما وتخصيص جمع من الأصوليين لهذا القسم أعني
استصحاب حال العقل بالمثال الأول أعني البراءة الأصلية مما لا وجه
له وإلى
استصحاب حال الشرع والمراد به كل حكم تكليفي أو وضعي ثبت
بمستند سمعي سواء كان إجماعا ويقال له استصحاب حال الاجماع
أو غيره كالضرورة والكتاب والسنة وذلك كاستصحاب وجوب
المضي في الصلاة التي تلبس بها المتيمم فأصاب الماء في أثنائها و
إلى استصحاب حال اللغة والمراد بها ما يعم العرف بأنواعه كما إذا
ثبت للفظ حقيقة في اللغة وشك في زوالها بالنقل وإلى استصحاب
حال الأمور العادية كحياة الغائب ورطوبة الثوب فهذه أقسام أربعة و
أما استصحاب حكم الدليل فراجع إلى استصحاب حال العقل من
عدم حدوث النسخ فيما يحتمل النسخ وعدم
366

المخصص في العام والمقيد في المطلق وعدم ثبوت القرينة الصارفة
فيما يحتمل المجاز ويمكن رد ذلك إلى استصحاب حال الشرع
أيضا وينقسم باعتبار حال مورده إلى استصحاب ما يكون من شأنه
البقاء لولا طرو المانع وإلى ما ليس كذلك فهذان قسمان إن
ضربتهما في الأقسام المتقدمة بلغت ثمانية وإذا ضربت فيها أقسام
الأربعة اللاحقة له باعتبار انقسام موجب الشك في البقاء إليها كما
سيأتي التنبيه عليه في أثناء المبحث ارتقت إلى اثنين وثلاثين قسما
إذا عرفت ذلك فاعلم أنهم قد اختلفوا في حجية الاستصحاب على ما
نقل عنهم على أقوال ثالثها التفصيل بين ما إذا كان الشك في عروض
القادح فيعتبر وفي قدح العارض فلا يعتبر حكي عن بعض
المتأخرين ورابعها التفصيل بين ما إذا شك في طرو ما علم رافعيته
للحكم الشرعي الذي ثبت استمراره إليه مع عدم العلم بطرو ما
يحتمل كونه ذلك الرافع فيعتبر وبين غيره فلا يعتبر ذهب إليه الفاضل
السبزواري في الذخيرة في بيان حكم الكر المسلوب إطلاقه
بممازجة المضاف النجس وخامسها التفصيل بين ما ثبت استمراره
إلى غاية معينة وشك في حصولها أو في صدقها على أمر حاصل مع
العلم بصدقها على غيره فيعتبر وبين غيره فلا يعتبر ذهب إليه الفاضل
الخوانساري في شرح الدروس في مبحث الاستنجاء بالأحجار و
سادسها التفصيل بين النفي والاثبات فأثبتت حجيته في النفي ونفيت
في الاثبات ذهب إليه أكثر الحنفية على ما احتمله التفتازاني في
بيان ما حكاه العضدي عنهم وسابعها التفصيل بين الحكم الطلبي فلا
يجري فيه والوضعي فيجري فيه نقل ذلك عن بعض وثامنها
التفصيل بين الحكم الوضعي فيجري فيه وبين غيره فلا يجري فيه و
هذا قريب من سابقه إذ لا فرق بينهما إلا في الإباحة وغير الحكم
حيث لا تعرض لهما في الأول وظاهر الثاني عدم جريانه فيهما و
لعلهما متحدان والمغايرة من التسامح في النقل وتاسعها عكس ذلك
وعاشرها التفصيل بين الحكم الشرعي فيجري فيه وبين الأمور
الخارجية فلا يجري فيها
وهذا القول حكاه بعض المعاصرين وحادي عشرها التفصيل بين ما
ثبت بغير الاجماع فيجري فيه وبين ما ثبت به فلا يجري فيه و
التحقيق عندي قول آخر به تمام العدد الميمون وهو التفصيل بين ما
إذا كان قضية الشئ المعلوم ثبوته بقاؤه في الوقت المشكوك
بقاؤه فيه لولا عروض المانع أو منع العارض وبين غيره فيعتبر
الاستصحاب في الأول دون الثاني وقضاء الشئ الثابت بالبقاء قد
يكون بالعادة كحياة الغائب وقد يكون بالشرع فتارة بالنص كالطهارة
الحدثية وما في معناها والطهارة الخبثية والنجاسة وملك
العين والزوجية الدائمة ونظائرها فإن المستفاد من أدلتها أن الشارع قد
جعل هذه الأمور على وجه يدوم ويبقى لو لم يمنع من بقائها
مانع فيصح التمسك باستصحاب الطهارة بعد خروج المذي و
باستصحاب بقاء الاستباحة بالتيمم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة و
باستصحاب الطهارة في ماء البئر الملاقي للنجاسة وباستصحاب
النجاسة في القليل المنفعل إذا أكمل كرا وفي الكثير المتغير إذا زال
تغيره بنفسه وباستصحاب الملكية السابقة في البيع بدون العقد أو
عربيته والزوجية في الطلاق بلفظ خلية وبرية وطلقت وكذلك
الحال في ملك المنفعة بالإجارة أو الوصية المؤجلة والزوجية في
المتعة والتحليل المؤجل إذا اعتبر الاستمرار في الجميع بالنسبة إلى
غير الاجل فإن المستفاد من الأدلة أن مقتضى هذه الأمور بقاؤها إلى
آجالها ما لم يمنع منه مانع فيستصحب عند الشك في وجود المانع
وكذلك الحال بالنسبة إلى الاجل المعين كدخول الليل وإهلال الشهر
إذا كان الشك في حصوله لكن مورد الاستصحاب إنما هو وجود
الوقت السابق دون الحكم المتعلق به وإن استتبعه ولا نعني
باستصحاب وجود الوقت استصحاب وجود الزمان لأنه على ما تقرر
في
محله من الأمور المتصرمة الغير القارة كالحركة فلا يمكن بقاء ما يوجد
منه ليمكن استصحابه بل نعني به استصحاب وجود الكيفية
المقارنة للزمان
المحدودة لجملة منه بعنوان مخصوص كالليل الذي هو عبارة عن
الزمن الذي يكون فيه الشمس تحت الأرض والنهار الذي هو عبارة
عن
الزمن الذي يكون فيه فوق الأرض ولا ريب أن هذين الكونين متى
تحقق أحدهما في موضع كان من مقتضاه البقاء ما لم يمنع منه مانع و
هو هنا ميل السماء لها عند بلوغها الأفق إلى أحد الجانبين وكذا الكلام
في استصحاب الليل المتقدم على الفجر وبهذا يتضح الحال في
استصحاب الشهر حيث يشك في الهلال وأما إذا كان الشك في تعيين
الاجل فلا يجري فيه الاستصحاب إذ لم يجعل الشارع مقتضى هذه
الأمور الاستمرار مطلقا أو إلى الزمن إلا بعد بل قضية الأصل عدم
الاستحقاق المشكوك فيه فيقتصر على القدر المتيقن وكذا إذا كان
الشك في انقضاء الأجل المعين إذا كان ناشئا من جهة الشك في تعيين
مبدأ العقد كما إذا استأجر دارا سنة ثم شك في انقضائها للشك في
مبدأ الإجارة فإنه وإن أمكن التمسك بأصالة تأخر الحادث حينئذ في
تعيين تأخر زمان العقد في وجه غير مرضي كما سننبه عليه لكنه
ليس من استصحاب وقت الإجارة في شئ فاتضح مما قررنا أن
الاحكام المغياة بغاية زمانية لا يستصحب إلى الغاية المتأخرة عند
الشك
في التعيين بخلاف ما لو كانت مغياة بغاية غير زمانية فإنها تستصحب
إلى الغاية المتأخرة عند الشك في السابقة وفي حكمها الغاية
الزمانية المضافة إلى غير الزمان كيوم مجئ زيد ووقت قدوم عمرو و
الفرق بين الغاية الزمانية وغيرها أن الغاية الزمانية لا تعد من
الموانع بخلاف الغاية الغير الزمانية وذلك لأنا نريد بالمانع هنا ما لولاه
لدام الحكم أو الامر الثابت وهذا المعنى
367

مما لا يتحقق في الغاية الزمانية وإن شئت توضيح ذلك فلاحظ قول
القائل أكرم زيدا إلى يوم الخميس وقوله أكرم زيدا إلى أن يفسق
فإنك تجد أن المفهوم من الثاني كون الفسق مانعا من وجوب الاكرام و
أنه لولاه لدام واستمر بخلاف الأول فإنه لا يفهم منه أن حضور
يوم الخميس مانع من استمرار الحكم وأنه لولاه لاستمر ولعل السر
في ذلك أنه لا يعقل الاستمرار في الزمان بدونه بخلاف الغاية الغير
الزمانية فإنه مما يمكن أن يعتبر في المغيا بها الاستمرار لولا تحققها و
كذا الكلام في تعيين وقت الموقت كغسل الجمعة حيث اختلفوا في
امتداده إلى الزوال أو إلى الغروب وكنوافل الظهرين حيث اختلفوا في
امتدادها إلى الاقدام أو إلى آخر وقت الفضيلة أو إلى الأجزاء فلا
يصح التمسك لما عدا القول الأول بالاستصحاب وإن أمكن التمسك
في ذلك بإطلاق الأوامر المجردة عن التقييد بغاية لكنه ليس من
باب الاستصحاب وكذا لو كان العمل وشبهه مغيا بغاية زمانية وشك
في تعيين مفهومها كالغروب إذا شك في كونه سقوط القرص أو
ذهاب الحمرة نعم لو شك في تعيين مصداقها كما لو شك في حصول
أحد الامرين صح التمسك بالاستصحاب ويتبعه الحكم كما مر و
بأخرى بالاجماع وذلك حيث ينعقد على استمرار شئ وبقائه على
تقدير وجوده إلى أن يرفعه رافع كوجوب التقليد على العامي فإنهم
أجمعوا على أن وظيفته الرجوع إلى المجتهد وأن ذلك مستدام في
حقه ما لم يتمكن من الاستنباط المعتبر شرعا ثم اختلفوا في تعيينه
فقيل هو الاجتهاد المطلق وقيل بل مطلق الاجتهاد فيصح أن يتمسك
للأول بالاستصحاب وأيضا الاجتهاد المعتبر أمر وجودي
فيستصحب عدمه السابق لثبوت مقتضاه مع الشك في تحقق الرافع له
وهو مقتضى الوجود وكذلك الحال في الفتوى فإنهم أجمعوا على
حجيتها وجواز التعويل عليها إذا استجمعت الشرائط وأنها مستدامة
على ذلك ما لم يمنع منه مانع ثم اختلفوا في أن زوال تذكر المفتي
للدليل أو موته هل يمنع من ذلك
أو لا فيصح التمسك للثاني بالاستصحاب وأما إذا قام الاجماع على
ثبوت حكم في الجملة ولم يقم دليل على بقائه إلى أن يرفعه رافع ثم
شك في استمراره وعدمه لم يتجه فيه التمسك بالاستصحاب كحق
الشفعة حيث اجتمعوا على ثبوته في الجملة واختلفوا في فوريته و
عدم فوريته فلا يتجه التمسك للثاني بالاستصحاب وإن استدل به
بعضهم ومثله خيار عوز المبيع في السلم ونحوه وقس على ذلك
الحال في نظائرها هذا واعلم أن المحقق قال في أصوله إذا ثبت حكم
في وقت ثم جاء وقت آخر ولم يقم دليل على انتفاء ذلك الحكم هل
يحكم ببقائه على ما كان أم يفتقر الحكم في الوقت الثاني إلى دلالة
حكي عن المفيد أنه يحكم ببقائه ما لم يقم دلالة على نفيه وهو
المختار وقال المرتضى لا يحكم بأحد الامرين إلا لدلالة مثال ذلك
التيمم إذا دخل في الصلاة فقد أجمعوا على المضي فيها فإذا رأى
الماء
في أثناء الصلاة فهل يستمر فعلها استصحابا للحال الأول أو يستأنف
الصلاة بوضوء فمن قال بالاستصحاب قال بالأول ومن أطرحه
قال بالثاني ثم احتج على ما اختاره بوجوه وذكر حجة المانعين و
أجاب عنها ثم قال والذي نختاره أن ننظر في الدليل المقتضي لذلك
الحكم فإن كان يقتضيه مطلقا وجب القضاء باستمرار الحكم كعقد
النكاح فإنه يوجب حمل الوطي مطلقا فإذا وقع الخلاف في الألفاظ
التي يقع بها الطلاق كقوله أنت خلية وبرية فإن المستدل على أن
الطلاق لا يقع بهما لو قال حل الوطي ثابت قبل النطق بهذه فيجب أن
يكون ثابتا بعده لكان استدلالا صحيحا لان المقتضي للتحليل وهو
العقد اقتضاه مطلقا ولا يعلم أن الألفاظ المذكورة رافعة لذلك
الاقتضاء فيكون الحكم ثابتا عملا بالمقتضي ثم قال لا يقال المقتضي
هو العقد ولم يثبت أنه باق فلم يثبت الحكم لأنا نقول وقوع العقد
اقتضى حل الوطي لا مقيدا بوقت فلزم دوام الحل نظرا إلى وقوع
المقتضي لا إلى دوامه فيجب أن يثبت الحل حتى يثبت الرافع ثم قال
فإن كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه فليس ذلك عملا
بغير دليل وإن كان يعني أمرا وراء ذلك فنحن مضربون عنه انتهى
أقول يستفاد من كلامه أخيرا الفرق بين الحكم الشرعي المترتب على
أمر جعله الشارع مقتضيا لذلك الحكم على وجه الاستمرار ما لم
يمنع منه مانع وبين غيره وأن الاستصحاب يعتبر في الأول دون الثاني
فيمكن تنزيل ما اختاره أولا من الحكم بالبقاء على ذلك فيكون
كلامه أخيرا بيانا لما أجمله أولا لا عدولا عنه فقوله في بيان القسم
الأول وإن كان يقتضيه مطلقا معناه إن كان يقتضيه غير مقيد بوقت
بقرينة قوله أخيرا وقوع العقد اقتضى حل الوطي لا مقيدا ومنه يظهر
ضعف ما زعمه بعض الأفاضل في كلامه من أن مراده بالاطلاق أن
لا يكون الحكم مختصا بالحال الأول مع أن هذا المعنى فاسد في نفسه
كما سنشير إليه وكذا يظهر منه ضعف ما زعمه صاحب المعالم في
قوله والذي نختاره إلى آخره من أنه رجوع عما اختاره أولا ومصير إلى
القول الاخر يعني قول المرتضى رحمه الله وذلك لان
المرتضى رحمه الله صرح في طي احتجاجه بما حاصله أنه لا بد من
اعتبار الدليل الدال على ثبوت الحكم في الحالة الأولى فإن دل على
ثبوته في الحالتين حكم به وإلا فلا فاعتبر في إبقاء الحكم في الحالة
الثانية دلالة الدليل على ثبوته فيها ويلزمه على هذا أن لا يحكم
ببقاء النكاح بعد قول القائل أنت خلية وبرية إلا إذا دل الدليل على
ثبوته بعد ذلك وقد عرفت أن المحقق لا يعتبر دلالة الدليل على
ثبوت الحكم بعد ذلك بل يكتفي بدلالة الدليل على كون العقد
مقتضيا لدوام الزوجية ما لم يمنع منه مانع مع عدم العلم بمانعية تلك
الألفاظ فالفرق بين القولين
368

بين نعم لو حمل الاطلاق في كلام المحقق على إطلاقه رجع إلى مقالة
المرتضى لكن قد عرفت مما بينا أنه خلاف لظاهر من بيانه ثم
المستفاد من بيان المحقق أن المقتضي للحكم بمنزلة الدليل عليه في
وجوب الاخذ به عند عدم ثبوت معارضة مانع له وهذا في محل
المنع
لان اقتضاء المقتضي شأنا غير مفيد وفعلا مشروط بعدم المانع وهو
غير معلوم إذ الكلام فيما إذا حصل الشك في حصوله وأما إلحاق
المقتضي بالدليل في وجوب العمل به ما لم يثبت المعارض بجامع
الاقتضاء فمع إمكان الفرق بأن مقتضى الدليل غالبا نفي وجود
المعارض فيجوز أن يكون الاعتماد على عدم المعارض هناك لذلك
بخلاف المقتضي في المقام فمدفوع بأن علية الجامع ليست منصوصة
ولا منقحة وهي في الفرع أولى فيكون مستنبطة محضة وهي غير
معتبرة وكيف كان فلو حمل الدليل في كلام المرتضى على ما
يتناول المقتضي للحكم وافق كلام المحقق فيتحد القولان إلا أنه بعيد
عن مساق كلامه واعلم أن ما اختاره المحقق في الاستصحاب وإن
كان قريبا إلى مقالتنا إلا أنه يفارقها من وجوه الأول أنه لم يتعرض لحكم
الاستصحاب في غير الحكم الشرعي وإنما ذكر التفصيل
المذكور في الحكم الشرعي جريا للكلام على مقتضى المقام الثاني أنه
يعتبر في سبب الحكم أن يكون مقتضيا لبقائه ما لم يمنع منه مانع
يصح أن يكون دليلا على البقاء عند الشك ونحن إنما اعتبرنا ذلك
ليكون مورد الاستصحاب مشمولا لاخبار الباب الثالث أن أدلة
الاستصحاب عنده مختلفة على حسب اختلاف أسباب الحكم و
قضية ذلك أن لا يكون الاستصحاب حجة في موارده وأما على ما
اخترناه
فقاعدة الاستصحاب مستندة إلى دليل عام وهي حجة على الحكم
بالبقاء في مواردها الخاصة الرابع أنه اعتبر في الاستصحاب أن لا
يكون الدليل الذي يقتضيه موقتا وهذا إنما يعتبر عندنا فيما إذا كان
الشك في تعيين الوقت مفهوما أو مصداقا دون غيره ويمكن
تنزيل كلامه على وجه يرجع إلى ما ذكرناه إذا عرفت هذا قلنا على
حجية الاستصحاب في المقام
الأول ظواهر الاخبار المعتضدة في بعض مواردها بالاعتبار على ما
سيأتي في حجة المثبتين وعلى عدم حجيته في المقام الثاني الأصل
المجرد عن المعارض وقصور الأدلة الدالة على حجيته عن إفادتها فيه
وسننبه على ذلك عند ذكرها حجة القائلين بالاثبات مطلقا وجوه
الأول قضاء صريح العقل بصحة التعويل عليه والركون إليه ولولا
ذلك لما استقام النظام ولاختل طرق معايش الأنام فإن أرباب
الصنائع والأعمال إنما يتعاطون ما طلبا للوصول إلى فوائدها والبلوغ
إلى ثمراتها ولا ريب في ابتناء ذلك على استصحاب بقائهم و
بقاء ما يتوقف تحصيل الفوائد عليه بل إذا تأملت وجدت وجدت
ذلك أمرا مركوزا في جميع النفوس حتى النفوس الصامتة أ لا ترى أن
البهائم عند الحاجة تطلب المواضع التي عهدت فيها وماءها ومرعاها
والطيور تعود من الأماكن البعيدة إلى أوكارها ومأواها فإنها لا
تفعل ذلك إلا لما هو مركوز في ذاتها من البناء على بقاء ما شاهدته و
التعويل على استمرار ما فارقته ويرد على هذا الوجه إشكالان
الأول أن تعويلهم على الاستصحاب في تلك الموارد ونظائرها ليس
على نفس الاستصحاب ولا على الظن الناشئ منه من حيث كونه
ناشئا منه بل على الظن الناشئ منه من حيث كونه ظنا مطلقا بدليل
دورانه معه وجودا وعدما فلا يثبت به حجية الاستصحاب وجوابه أن
تعويلهم في تلك الموارد على الظن من حيث كونه ظنا مطلقا لا ينافي
تعويلهم على الاستصحاب بل يستلزمه من حيث توقفه فيها عليه و
قد قررنا أن الموصل إلى الحجة حجة كنفس الحجة نعم يلزم من ذلك
أن لا يكون مطلق الاستصحاب هناك حجة بل المفيد منه للظن وهو
مما لا مدفع له عمن لا يعتبر الظن في حجية الاستصحاب فيلزم عليه
أخصية الدليل من المدعى الثاني أن اعتبار الاستصحاب في الأمور
العادية التي لا يستقيم فيها النظام بدونه لا يستلزم اعتباره في الأحكام الشرعية
التي ينتظم فيها الأساس بدونه
كمطلق الظن فإنه يعتبر في الأمور العادية بل عليه مبناها غالبا ولا يلزم
منه اعتباره في الأحكام الشرعية نعم اعتباره في بعض
موضوعات الاحكام مما يستقل به العقل كحياة الغائب فيحكم بمضي
تصرفات وكيله ووجوب الانفاق على عياله من ماله ما لم ينكشف
الخلاف إلى غير ذلك الأداء إهماله فيما أشبه ذلك إلى فساد النظام
كما أنه يستقل بحجيته في بعض الأحكام نفيا وإثباتا كاستصحاب
البراءة حيث يشك في التكليف واستصحاب الشغل المعلوم وحيث
يشك في البراءة تعويلا على قبح التكليف من دون بيان في الأول و
على وجوب دفع الضرر المخوف في الثاني وأما حجيته في سائر
الموارد فلا يتم عند التحقيق إلا بدلالة الاخبار وعلى هذا فيمكن أن
يكون عد الاستصحاب من الأدلة العقلية نظرا إلى أن حجيته ولو
بحسب بعض موارده مستفادة من العقل الثاني أن المقتضي للحكم
الأول ثابت إذ الكلام على تقديره والمعارض لا يصلح للرفع لان
مرجعه إلى احتمال تجدد ما يوجب زوال الحكم وهو معارض
باحتمال
عدمه فيتدافعان ويبقى الحكم سليما عن الرافع وفيه نظر لأنه إن أريد
بثبوت المقتضي مع احتمال تجدد ما يوجب زوال الحكم تحققه
معه بصفة الاقتضاء فغير سديد لان زوال الحكم يستلزم زوال الاقتضاء
فلا يجامع احتمال زوال الحكم لتحقق الاقتضاء ضرورة أن الامر
النسبي لا يتم بدون المنتسبين فلا يمكن العلم بثبوته مع عدم العلم
بثبوتهما وإن أريد تحققه بذاته فغير مفيد لان ذات المقتضي لا
يستلزم ثبوت الحكم ما لم يثبت عدم المانع والتقدير كونه احتماليا مع
أن قوله وهو معارض باحتمال عدمه غير مستقيم لأنه إن اعتبر
التعارض
369

الاحتمالين من حيث الوجود فلا منافاة بينهما بهذا الاعتبار أصلا
ضرورة صحة اجتماعهما فيه والتعارض فرع التنافي وكذا إن اعتبر
بينهما من حيث الاقتضاء الثابت لكل منهما مع قطع النظر عن الاخر
كما هو المتداول في موارد إطلاقه إذ لا نسلم أن مقتضى أحد
الاحتمالين يغاير مقتضى الاخر فضلا عن أن ينافيه بل يشتركان في
اقتضاء عدم ثبوت الحكم معهما وإن اعتبر بين متعلقيهما فلا ريب
في أنهما لا يتحققان فكيف يتصور بينهما التعارض الذي هو مشروط
بتحقق المتعارضين ثم لا يذهب عليك أن هذا الدليل لو تم لكان
أخص من المدعى لأنه إنما يقتضي حجية الاستصحاب حيث يتحقق
المقتضي للبقاء ويشك في طرو الرافع لا مطلقا الثالث أن الثابت في
الزمن السابق ممكن الثبوت في الزمن اللاحق وإلا لزم خروجه عن
الامكان الذاتي إلى الامتناع وهو محال فإذا ثبت إمكانه ثبت بقاؤه ما
لم يقتض مؤثر لعدمه لاستحالة خروج الممكن من أحد طرفيه إلى
الاخر من غير مؤثر وحيث إن التقدير تقدير عدم العلم بالمؤثر كان
بقاؤه راجحا على عدمه في نظر المجتهد والاخذ بالراجح واجب و
فيه أيضا نظر أما أولا فلان التعليل المذكور في المقدمة الأولى إن
حمل على ظاهره من أن ما يمكن وجوده في وقت فلا بد أن يكون
وجوده ممكنا في سائر الأوقات فهو في محل المنع أ لا ترى أن أجزأ
الزمان من الممكنات مع أنها مما لا يمكن وجودها سابقا على نفسها و
لا لاحقا عنها لامتناع تقدم الشئ على نفسه أو تأخره عنها فقد
خرجت عن الامتناع إلى الامكان ومنه إلى الامتناع وكذا الحال في
الزمانيات إذا أخذت من حيث تقيدها بأزمنتها الخاصة فإن الطهارة
الحاصلة في الأمس من حيث كونها حاصلة فيه ومقيدة به مما يمتنع
حصوله في اليوم وإن أريد أن ما يحكم عليه بالامكان في مرتبة ذاته
فهو ممكن في مرتبة ذاته دائما وإن امتنع بالقياس إلى بعض العوارض
لأنه امتناع غيري فلا ينافي الامكان الذاتي أو أن ما يمكن في
وقت مخصوص
أو على كيفية مخصوصة فهو ممكن في ذلك الوقت أو على تلك
الكيفية دائما بمعنى أنه لا يحكم عليه مأخوذا بتلك الخصوصية إلا
بالامكان
فهو متجه إلا أن التعليل حينئذ لا ينهض بإثبات الدعوى كما لا يخفى
فالوجه أن يتمسك عليها بلزوم خلاف الفرض على تقدير بطلانها إذ
الكلام في استصحاب ما يمكن بقاؤه في الوقت الثاني لا ما يمتنع فيه و
لعل الذي حمل المستدل على التمسك بالتعليل المذكور ما رآه من
توقف دليله على بيان إمكان بقاء وجود الممكن المستصحب عقلا
ردا على من أحاله مطلقا أو في خصوص الاعراض وقال بتجدد
الامتثال نظرا إلى أنه لا يجديه صدق البقاء عرفا لان الدليل عقلي فلا
يمكن بناؤه على أمر عرفي وإن كان يجدي ذلك من تمسك على
حجية الاستصحاب بالسمع وعلى هذا فلا بد له من التمسك بمستند
آخر ينهض بإثبات مقصوده لقصور الدليل المذكور عن إفادته كما
عرفت وأما ثانيا فلانه لا يلزم من كون الثابت في الزمن السابق ممكنا
في الزمن اللاحق توقف عدمه فيه على اقتضاء مؤثر فيه بل يكفي
عدم اقتضاء المؤثر في بقائه على ما هو التحقيق من عدم استغناء
الباقي في بقائه عن المؤثر وأما ثالثا فلان أرجحية البقاء غير مطردة
في موارد المقام إذ كثيرا ما تقوم أمارة غير معتبرة على الخلاف
فيحصل الشك فيه أو الظن بالخلاف مع أن المقصود إثبات حجيته
حيث
لا دليل على الخلاف مطلقا إلا أن يقصر الحجية على صورة الظن
بالبقاء أو يقصد هذا الدليل إثبات بعض المقصود ولا بأس به مع تعدد
الأدلة ومساعدة الباقي على الباقي وأما رابعا فلانا لا نسلم وجوب
الاخذ بالراجح مطلقا والاستناد فيه إلى انسداد باب العلم وانفتاح
باب الظن معه مردود بما حققنا من أن قضية انسداد باب العلم انفتاح
باب الظن في أدلة الاحكام لا في نفس الاحكام فلا بد حينئذ من
إقامة دليل على رجحان الاخذ بهذا الراجح ولا يكفي الاستناد فيه إلى
مجرد كونه راجحا الرابع الأخبار الدالة على وجوب الاخذ باليقين
السابق
عند عدم اليقين بالخلاف وهي كثيرة منها صحيحة زرارة عن الباقر
عليه السلام قال قلت له الرجل ينام على وضوء إلى أن قال قلت فإن
حرك إلى جنبه شئ وهو لا يعلم به قال لا حتى يستيقن أنه قد نام
حتى يجي من ذلك أمر بين وإلا فإنه على يقين من وضوئه ولا
ينقض اليقين أبدا بالشك ولكنه ينقضه بيقين آخر ومنها الصحيح عن
أحدهما عليهما السلام قال وإذا لم يدر في ثلاث هو أو أربع وقد
أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شئ عليه ولا ينقض اليقين
بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ولا
ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه ولا يعتد بالشك
في حال من الحالات ومنها صحيحة زرارة قال قلت فإن ظننت أنه أي
القذر قد أصابه أي الثوب ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم
صليت فرأيته فيه قال تغسله ولا تعيد الصلاة قلت لم ذلك قال لأنك
كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس لك أن تنقض اليقين
بالشك أبدا إلى أن قال قلت إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة قال
تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته وإن لم تشك
ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا
تدري لعله شئ أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك و
منها موثقة عمار إذا شككت فابن علي اليقين قلت له هذا أصل قال
نعم
ومنها رواية محمد القاساني قال كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم
الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا فكتب عليه السلام اليقين لا
يدخل فيه الشك صم للرؤية وأفطر للرؤية ومنها ما رواه في الخصال
عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال أمير
المؤمنين عليه السلام من كان على يقين فشك فليمض على يقينه
370

فإن الشك لا ينقض اليقين ومنها ما روي أيضا عنه عليه السلام من كان
على يقين فأصابه الشك فليمض على يقينه فإن اليقين لا يندفع
بالشك ووجه الاستدلال أن هذه الأخبار دلت على عدم جواز نقض
اليقين بالشك والمراد الحكم المتيقن به لامتناع توارد اليقين و
الشك على مورد واحد في زمان واحد وذلك معنى الاستصحاب لا
يقال هذه الروايات غير ناهضة بإثبات المقصود لأنها بين قاصرة
السند بل الدلالة أيضا كالثلاثة الأخيرة وبين قاصرة الدلالة كالأربعة
الأول فإن موضع الاحتجاج من الرواية الأولى قوله عليه السلام لا
ينقض اليقين أبدا بالشك ولا ريب أن الضمير المستتر في الفعل راجع
إلى الذي ذكره السائل ممن شك في وقوع حدث النوم منه بعد
فعل الطهارة ولفظ اليقين ظاهر في العهدية لسبق ذكره في قوله عليه
السلام فإنه على يقين من وضوئه فيختص الحكم به ولا يتعدى إلى
غيره وقريب منه الرواية الثالثة فإن لفظ اليقين فيها صالح للعود إلى
اليقين السابق ومحل الاستدلال من الرواية الثانية قوله عليه السلام
ولا ينقض اليقين بالشك وقوله عليه السلام لا يعتد بالشك في حال
من الحالات ولا دلالة لذلك على حجية الاستصحاب فإن المفهوم
منها
أن الركعات الثلاث التي علم بفعلها لا يبطلها بما اعتراه من الشك في
فعل الرابعة بل يبني على اليقين أعني الركعات الثلاث التي تيقن
الاتيان بها ويأتي بالركعة المشكوك فيها على الوجه الذي استفيد من
سائر الأخبار لتكمل أربعا ولا يعتد بالشك بجعله ناقضا للعمل
الصحيح في حال من الحالات وقوله عليه السلام في الرواية الرابعة
ابن علي اليقين كما يحتمل إرادة البناء على استمرار حكم اليقين
كذلك يحتمل إرادة الاقتصار على محله فيدل على نقيض المدعى لأنا
نقول أما ضعف الاسناد في البعض فمجبور بالشهرة بين الأصحاب
فتوى ورواية وأما ما ذكر في دلالة الرواية الأولى فمدفوع بأن الظاهر
من سياقها إعطاء القانون وتأصيل الضابطة كما يدل عليه لفظ
أبدا وينبه عليه أولوية التأسيس على
التأكيد إذ على تقدير تخصيص الحكم بمورد السؤال يكون مفاد الكلام
المذكور أنه لا ينقض يقين الطهارة باحتمال الحدث وهذا مفاد
الكلام السابق بعينه وبمثل ذلك يجاب عن الرواية الثالثة بل دلالتهما
على المقصود مما لا تعسف فيه أصلا كما لا يخفى وأما ما ذكره في
الرواية الثانية فيمكن دفعه بأن قوله عليه السلام ولا ينقض اليقين
بالشك مسوق لبيان أنه لا ينقض يقينه بعدم فعل الرابعة سابقا بالشك
في فعلها لاحقا بأن لا يعول على شكه فيبني على وقوعها ويؤيده قوله
عليه السلام ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر
بناء على أنه مسوق لبيان أنه لا يدخل الركعة المشكوك فيها في اليقين
أعني الصلاة المعلوم اشتغال الذمة بها أولا يضمها إلى الركعات
الثلاث اليقينية فيكون الظرفية على التوسع ولا تخلط الشك أعني
تلك الركعة المشكوك في وقوعها باليقين أعني الصلاة أو الركعات
الثلاث اليقينية بأن يبني على وقوع الأربع بل ينقض الشك في لحوق
فعل الرابعة بيقين عدمها السابق فينفي فعلها بالأصل فيبني عليه و
يأتي بها على الوجه المقرر تحصيلا للبراءة اليقينية ويتم عليه ولا يعتد
بالشك في حال من الحالات بل يبني على بقاء ما تيقن ثبوته و
بالجملة فمفاد قوله لا ينقض اليقين بالشك إلخ إعطاء قانون كلي
ليستعلم منه حكم الواقعة المسؤول عنها ولا يقدح رجوع الضمير إلى
من لم يدر في ثلاث هو أو أربع لان ثبوت الحكم في حق واحد يوجب
ثبوته في حق الباقين وأما ما ذكر في الرواية الأخيرة فيمكن دفعه
بأن الظاهر من البناء على اليقين إبقاؤه واستمراره ولو سلم عدم
وضوح الدلالة فيمكن جبرها بما مر من الشهرة المعتضدة بالوجوه
السابقة فتدبر واعلم أن المستفاد من ما يعتمد عليه من هذه الأخبار
كالرواية الأولى والثالثة وهي الأصل في المقام حجية الاستصحاب
في الأشياء التي مقتضاها البقاء والاستمرار لولا عروض المانع بقرينة
لفظ النقض فإن المفهوم منه اقتضاء الشئ المتيقن للبقاء على
تقدير
عدم طرو الناقض المشكوك فيه إذ عدم البناء على بقاء ما علم ثبوته
في وقت لا يعد نقضا له إذا لم يكن في نفسه مقتضيا للبقاء فالحكم
بعدم بقاء الموقت بعد وقته لا يعد نقضا لما ثبت منه في وقته ولقد
أجاد المحقق الخوانساري في فهم الرواية حيث قال المراد من عدم
نقض اليقين بالشك هو عدم النقض عند التعارض ومعنى التعارض أن
يكون الشئ مقتضيا لليقين لولا الشك فإنك بعد التأمل فيه تجد
محصوله راجعا إلى ما حققناه من أن النقض لا يصدق إلا في حق
الأشياء التي مقتضاه البقاء لولا طرو المانع لكنه ما أجاد في تخصيصها
بالأحكام التي ثبت استمرارها إلى غاية معينة وشك في حصولها إلى
آخر ما مر بل يجري في كل ما ثبت بقاؤه ما لم يمنع منه مانع
حكما كان أو غيره ويجري فيما لو كان الشك في مانعية الشئ المعين
كما يجري فيما لو شك في حصول المانع المعين كما لو علم أن
الطهارة إذا حصلت استمرت إلى أن يرفعها رافع ثم علم أن الاحداث
الثلاثة مثلا رافعة لها وشك في رافعية المذي استصحب بقاءها وأما
ما قيل عليه من أن الحال في كل حكم لم يثبت اختصاصه بوقت أو آن
كذلك لأنه لو فرض عدم عروض الشك عند عروضه لكان اليقين
بالحكم بحاله لان عدم العروض إنما يكون عند القطع بأن جزا من
أجزأ علة الوجود لم يرتفع ومع القطع بعدم ارتفاعه يحصل اليقين
بوجود المعلول لان بقاءه إنما هو ببقاء علته التامة وزواله بزوالها
فضعفه ظاهر لوضوح الفرق بين عدم الشئ لطريان المانع وبين
عدمه لعدم المقتضي وما يصدق في حقه النقض بالمعنى الذي ذكر
إنما هو الأول دون الثاني فإن معنى قول المحقق المذكور في بيان
معنى التعارض
371

أن يكون الشئ مقتضيا لليقين لولا الشك أن يكون الشئ مقتضيا
لليقين ببقائه لولا الشك في طرو الرافع له وقول المعترض لو فرض
عدم الشك إلى آخر ما ذكره يدل على أنه نزل العبارة المذكورة على
معنى أن يكون الشئ معلوم البقاء لولا الشك في بقائه وحينئذ
فكان الأولى في تحرير الاعتراض عليه أن يقول على تقدير عدم
الشك في البقاء يتعين اليقين بالبقاء إذ المراد بالشك ما يتناول الظن و
الوهم والكلام في المكلف المتفطن وحيث لا يقين بخلاف الحكم
السابق فكيف يتصور منع حصول اليقين بالبقاء في مورد على تقدير
عدم الشك ولا حاجة إلى ما ذكره من استلزام ذلك القطع ببقاء العلة و
استلزام القطع بالقطع بالمعلول لظهور أن مجرد عدم الشك بعد
إحراز القيود المذكورة يستلزم العلم بالبقاء وكيف كان فلا خفاء في
ضعف التنزيل المذكور فإن عدم الشك لا يستلزم أن يكون الشئ
مقتضيا لليقين وإنما هو مستلزم لحصول اليقين وبينهما فرق بين و
الاعتراض إنما يرد على البيان الثاني وعبارة المحقق المذكور
مصرحة بإرادة الأول حيث اعتبر عدم الشك أي عدم المانع
المشكوك فيه في اقتضاء الشئ لليقين أي لليقين بالبقاء لا في مجرد
حصول
اليقين بالبقاء ولا ريب أن هذا لا يجري فيما ثبت في وقت في الجملة
فإنه لا شك بعد انقضاء الوقت في عروض الرافع وإنما الشك في
تحقق المقتضي وإلى هذا يرجع ما قيل في دفع الاعتراض المذكور
من أن انتفاء الشك إنما يستلزم اليقين لو ثبت أن علة الوجود في الان
الأول هي علة الوجود في الان الثاني يعني أن البناء على عدم طريان
المانع من البقاء كما هو المستفاد من الرواية إنما يثبت البقاء إذا
ثبت أن علة الوجود أي ما يقتضي الوجود لولا المانع هي علة البقاء
كما قررنا آنفا ودفع بعض المعاصرين له بأن مرجع الاعتراض إلى
الدليل الآني حيث أثبت بانتفاء الشك في البقاء أن علة الوجود هي
علة البقاء واضح السقوط لان العلم بعدم المانع في الفرض المذكور لا
يوجب العلم
بالبقاء ليلزم منه أن يكون علة الوجود علة البقاء ولعله نزل عبارة
المحقق المذكور على ما نزلها عليه المعترض وقد عرفت وضوح
فساده وأنه خلاف المراد ثم اعلم أن الحكم الشرعي الذي لا دليل
على بقائه في خصوص مورد أما أن يثبت واقعية شئ له ويشك في
حصوله كالشك في النوم بعد فعل الطهارة أو يثبت رافعية عنوان له و
يشك في فردية الطاري له إما لاشتمال العنوان على ضرب من
الاجمال كالتيمم بالحجر عند من يشك في شمول الصعيد له و
كالتطهير في ماء يشتمل على مقدار معلوم عند من يشك في كون
ذلك
المقدار كرا أو لتوقفه على اعتبار غير حاصل كما لو شك المتطهر في
كون الخارج منه بولا أو دما مع إمكان التميز بالمشاهدة وعدمه
وكالتيمم بما يشك في كونه أرضا أو معدنا كذلك أو يثبت عروض
شئ ويشك في رافعيته ابتدأ أي لا من جهة تحقق رافعية عنوان
يشك في اندراجه فيه كالشك في ناقضية المذي للطهارة مع العلم
بخروجه وقد عرفت مما حققنا دلالة الاخبار على حجية
الاستصحاب
في الجمع إذا ثبت أن مقتضاه البقاء لولا عروض ما يرفعه وزعم
الفاضل السبزواري أن النص إنما يدل على اعتبار الاستصحاب في
القسم الأول دون غيره إذ نقض الحكم المعلوم بوجود الامر المعلوم
الذي شك في كونه رافعا ليس نقضا بالشك بل باليقين بوجود ما
شك في كونه رافعا أو شك في استمرار الحكم معه لا بالشك فإن
الشك في تلك الصور كان حاصلا من قبل ولم يكن بسببه نقض وإنما
حصل النقض حين اليقين بوجود ما شك في كونه رافعا لان الشئ
إنما يستند إلى علته التامة أو الجز الأخير منها فلا يكون في تلك
الأقسام نقض اليقين بالشك أقول قد اعتبر الفاضل المذكور في القسم
الثالث توقف العلم على اعتبار متعذر وينبغي أن يكون مراده
الاعتبار الغير الحاصل كما ذكرنا إذ لا يعقل لتعذر الاعتبار مدخل في
عدم حجية الاستصحاب ويلزمه بملاحظة تقابل الأقسام أن يكون
قد
اعتبر في القسم الأول أن يثبت رافعية شئ من غير أن يوجد هناك ما
يحتمل أن يكون فردا لذلك الرافع وإن أهمل التصريح به و
يستفاد من قوله إن الشئ إنما يستند إلى علته التامة أو الجز الأخير
منها أنه يريد أن النقض فيما عدا القسم الأول إن أسند إلى مجموع
العلة التامة فهو نقض بالمركب من اليقين والشك فلا يكون نقضا
بالشك كما هو مورد الرواية وإن أسند إلى الجز الأخير فهو نقض
باليقين خاصة لتأخره دون الشك لتقدمه فلا يصدق عليه أنه نقض
بالشك ثم أقول في الجواب إن اليقين في أخبار الباب ظاهر في اليقين
الفعلي لا التقديري وكذلك الظاهر من عدم نقضه بالشك عدم نقضه
بالشك المتعلق به تعلقا فعليا لا تقديريا ولا ريب أن الشك المتعلق
بالفعل باليقين الفعلي متأخر عن اليقين وإن كان الشك التقديري
متقدما عليه مثلا الشك المتعلق بالفعل ببقاء الطهارة التي علم بتحققها
من جهة خروج المذي أو ما يحتمل كونه بولا متأخر عن العلم بالطهارة
وإن كان الشك المتعلق بالطهارة على تقدير خروج ما ذكر
متقدما على تلك الطهارة على أن دعوى تقدم الشك في القسم الثالث
غير سديد لتأخره عن حصول ما يحتمل كونه رافعا ومع ذلك فقول
أبي جعفر عليه السلام لا حتى يستيقن أنه قد نام إلى آخره بعد قول
زرارة في الصحيحة المتقدمة فإن حرك في جنبه شئ وهو لا يعلم
به صريح في حجية الاستصحاب في الصورة المذكورة فكيف منع
دلالة الاخبار على حجية الاستصحاب في غير القسم الأول وأما ما
يقال في الجواب من أن الشك المتقدم هو الشك في رافعية النوع وأما
الشك في رافعية الشخص فهو متأخر عن اليقين بالشخص ففيه أن
تقدم الشك
372

رافعية النوع يستلزم تقدم الشك في رافعية الأشخاص خصوصا بعد
تحققها بل الشك في رافعيته راجع إلى الشك في رافعيتها فلا يتم
الجواب ثم ما ذكر من أن النقض إن أسند إلى تمام علته في الصور
الثلاث كان نقضا لليقين باليقين والشك في أنه لو صح ذلك لجرى في
القسم الأول أيضا إذ خروج البول وإن كان مشكوكا فيه إلا أن ناقضيته
أمر معلوم وهو من جملة العلة التامة فيلزم منه عدم حجية
الاستصحاب فيه أيضا وإن فرض تأخر العلم بالنقض عن فعل الناقض
جرى فيه ما ذكره على تقدير الاسناد إلى الجز الأخير أيضا
الخامس قد دل جملة من الاخبار على حجية الاستصحاب في موارد
خاصة كقوله عليه السلام كل ماء طاهر حتى تعلم أنه قذر وفي آخر
كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر وكتعليله في صحيحة عبد الله بن
سنان طهارة الثوب المعار للذمي بأنه أعاره طاهرا ولم يستيقن
نجاسته إلى غير ذلك وبعد التأمل في سياقها يظهر أن التعويل على
الاستصحاب فيها ليس لخصوص تلك الموارد بل لكون
الاستصحاب في نفسه طريقا معتبرا فيلزم منه حجيته في سائر الموارد
ويشكل بأن الظهور المدعى إن كان ظهور إرادة فهو غير
واضح وإن كان ظهور ثبوت فهو غير معتبر لان الشأن في جميع أنواع
القياس الفاسد أو أكثرها كذلك ثم اعلم أن الروايتين الأوليين
تدلان على أصلين الأول أن الحكم الأولي للمياه أو الأشياء هو الطهارة
ولو بحسب الظاهر عند عدم العلم بالنجاسة وهذا لا تعلق له
بمسألة الاستصحاب وإن تعلق به جملة من أحكامها الثاني أن هذا
الحكم مستمر إلى زمن العلم بالنجاسة وهذا من موارد الاستصحاب و
جزئياته ثم قضية عمومهما عدم الفرق بين الشك في عروض
المنجس أو بتنجيس العارض أو العلم بالعروض واشتباه مورده بين
أفراد
غير محصورة لان الظاهر من العلم هو العلم التفصيلي أو الاجمالي
الذي يكون قريبا إليه كما في الشبهة المحصورة ولو بمساعدة
الشهرة وما دل على إراقة الإناءين المشتبه طاهرهما بغيره ونحو ذلك
فالروايتان تدلان على حجية
الاستصحاب في الموارد الثلاثة واستظهر الفاضل المعاصر اختصاص
مورد الروايتين بصورة اشتباه موضوع الطاهر بالنجس ولم
يخصه بغير المحصور واستدل على ذلك بأنه على تقدير تخصيصه
بالشك في عروض المنجس يكون مفادهما مؤكدا لعموم الأخبار الدالة
على عدم جواز نقض اليقين بالشك وعلى تقدير تخصيصه
بالشك في الطهارة الأصلية أو تنجيس العارض يكون مؤكدا لعموم
قوله عليه السلام كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي والمعنى الأول
تأسيس فيكون أولى منهما ولا يشكل بأن المعنى الأول أيضا مؤكد
لقوله عليه السلام كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى
تعرف الحرام بعينه فتدعه لان الطهارة غير الحل وتعميم إلى الموارد
الثلاثة يوجب استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو غير جائز
مع أن الحكم بالطهارة في الصورة الثالثة مشروط بالفحص و
ظاهر الرواية نفيه مضافا إلى أن ما اعتبر فيهما غاية للطهارة هو العلم
بالقذارة وهو غير لازم في الصورة الثالثة لكفاية الظنون
الاجتهادية فيها وفيه أن هاتين الروايتين لم يثبت ورودهما في مساق
تلك الأخبار حتى يتمسك بأولوية التأسيس من التأكيد ثم إنا لا
نلتزم بأنها مستعملة في كل واحد من المعاني المذكورة على
الاستقلال حتى يلزم ما ذكره بل في القدر المشترك بينها كما بينا وهو
مفادها الأصلي واشتراط الفحص في الصورة الثالثة غير قادح في
تعميمها إليها لان التخصيص بإخراج بعض أفراد نوع العام لا ينافي
شموله لبقية أفراد ذلك النوع والمراد بالعلم بالقذارة ما يعم العلم
بالقذارة الظاهرية بقرينة الاعتماد على البينة وأخبار ذي اليد في
القسمين الأولين مع أنه لا يفيد العلم بالقذارة الواقعية غالبا فيعم موارد
الظنون المعتبرة في الاحكام لأولها إلى العلم بالظاهر ثم لا
يذهب عليك أنه لو تمت الوجوه التي قررها على منع عموم الروايتين
للصور الثلاث لتوجهت بالنسبة إلى عموم الأخبار الدالة على عدم
جواز نقض اليقين بالشك للشك في قدح
العارض مع أنه قد أبطل قول المفصل بتعميم تلك الأخبار إليه وهل
هذا إلا تهافت السادس أنه ثبت بالاجماع حجيته في جملة من الموارد
كالشاك في بقاء الطهارة أو الحدث مع العلم بثبوته في الزمن السابق
فيستصحب إلى أن يعلم طرو الاخر وفي بقاء الزوج أو الوارث
الغائب فيحكم ببقاء الزوجية ويعزل نصيب الوارث من المال إلى غير
ذلك فيثبت في بقية الموارد إما لان المناط في الحكم عدم حصول
اليقين بخلاف اليقين السابق وهو جار في الجميع وإما لعدم قائل
بالفصل ويشكل الأول بجواز أن يكون العلة في الحكم ذلك مع
خصوصية كونه موضوعا لا مسرح للأدلة فيه أوامر أخر دون التعليل
المذكور وقول بعض المعاصرين في دفعه بأن ذلك يوجب الظن
القوي بأن الوجه المذكور هو المناط مدفوع بأن الظن المذكور مما لا
دليل ظاهرا عندنا على حجيته نعم ربما يتم ذلك على ما بني عليه
من أصالة حجية الظن والثاني بأنه إن لم يكن هناك قائل بالفصل كان
حجية الاستصحاب بحسب جميع موارده إجماعية فلا وجه لاثبات
حجيته في البعض بالاجماع وفي الباقي بعدم القول بالفصل السابع أن
الاستصحاب مفيد للظن فلو لم يجب العمل به لزم ترجيح
المرجوح على المرجح وهو بديهي الفساد وهذه الحجة منقولة عن
العلامة في النهاية وفسادها واضح لأنه إن أراد بالراجح والمرجوح
ما يساوق الحسن والقبيح فمصادرة أو في حكمها وإن أراد بهما ما هو
معتبر في مفهوم الظن والوهم من الرجحان في النظر و
المرجوحية فيه فإن ادعى فساد ترجيح الأول على الثاني وقبحه واقعا
فهو بديهي الفساد ضرورة عدم جواز العمل بالظن في بعض
الموارد فيلزم فيه على التقدير المذكور
373

أحد المحذورين أما انتفاء القبح في تلك الموارد خاصة فيلزم
تخصيص العمومات العقلية وانفكاك الأسباب التامة من مسبباتها و
فساده
واضح أو تعلق الأوامر الشرعية بارتكاب القبائح العقلية وهو مخالف
لقواعد العدلية مع أن الدليل مبني عليها وإن ادعى قبحه ظاهرا
فيكون منوطا بصورة عدم انكشاف الخلاف ففيه أن العقل لا يعتد
بالظن على الاطلاق فكيف يمكن دعوى البداهة على فساد ترك
العمل
به مع أن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم قد كشفت عن حرمة
العمل بالظن مطلقا فلا يتم الاستدلال إلا بعد إثبات عدم شمولها لهذا
النوع من الظن على أن الاستصحاب قد لا يفيد الظن فالدليل لا يطابق
المدعى هذا ولو جعل الدليل مبنيا على قاعدة انسداد باب العلم و
بقاء التكليف ففيه أن قضية ذلك حجية الظن في معرفة دليل الحكم لا
نفس الحكم مع أن الاستصحاب يجري في الاحكام والموضوعات و
قاعدة الانسداد إنما تجري في القسم الأول إلا أن الامر في هذا سهل
لامكان تخصيص العنوان به الثامن ما تمسك به الفاضل المعاصر و
هو قريب إلى الوجه المتقدم ومحصله أن بقاء ما ثبت وجوده أو عدمه
في حال أو زمان ولم يحصل الظن بطرو ما يرفعه مظنون وكل
مظنون فهو مما يجب الاخذ به أما الصغرى فلقضاء ضرورة الوجدان
به والظاهر أن منشأه النظر إلى ملاحظة حال الموجودات و
المعدومات فإنها تستمر غالبا فتارة باستمرار عللها وأخرى بتجدد ما
يستند إليه بقاؤها فيظن الاستمرار في موارد الشك إلحاقا لها
بالأعم الأغلب ولك أن تنظر في استصحاب الأحكام الشرعية إلى
حال الاحكام فإن الغالب فيها استمرارها بدليلها الأول أو بدليل آخر
وإنها ليست آية مختصة بزمن الصدور فيلحق بها موارد الشك إلحاقا
بالأغلب وأما الكبرى فلما دل على حجية ظن المجتهد مطلقا إلا ما
أخرجه الدليل والجواب منع المقدمتين أما الصغرى فلان
الاستصحاب المعتبر قد لا يفيد الظن بمقتضاه إن أريد به الظن الفعلي
كما هو
الظاهر من إطلاق الظن
وتساعد عليه كلية الكبرى بناء على تخصيصها بالظن الفعلي كما هو
المعروف وقد اضطرب كلام الفاضل المذكور في إفادة
الاستصحاب المعتبر للظن ففي المقام قد ادعى قضاء ضرورة
الوجدان بذلك كما عرفت وقد ادعى ذلك في دفع حجج المنكرين
أيضا و
قال في مسألة أصل البراءة الاتيان بالفعل المشكوك فيه من أفعال
الصلاة ما لم يتجاوز محله بالصلاة والمشكوك في فعلها ما دام وقتها
باقيا وكذلك الشك في عدد الركعات من الثنائية والثلاثية ما دام في
الصلاة وأمثال ذلك حكمه وجوب الاتيان للأصل والاستصحاب
فالمظنون العدم وأما مع خروج الوقت في الشك في الصلاة و
الدخول في الفعل اللاحق في الشك في أجزائها فالظاهر من حال
المسلم
الاتيان بها وهو مظنون فلا يجب الاتيان لذلك أو لتساوي الطرفين و
أصالة البراءة وكلامه هنا يوافق كلامه المتقدم إلا أنه عرى دعوى
الضرورة ولا يذهب عليك أن ما تمسك به على الاتيان بالفعل في
الصورتين الأخيرتين من أن الظاهر من حال المسلم الاتيان به وأنه
يفيد الظن به فيعمل به أو يعارض الظن الناشئ من استصحاب العدم
فيكافؤه فيرجع إلى أصل البراءة غير سديد لأنا نمنع حصول الظن
بالاتيان للعامل من حال نفسه على الاطلاق كما يحكم به كذلك ثم
نمنع حجية مثل هذا الظن بل المتبع هو النص ونمنع أيضا جواز
الرجوع إلى أصل البراءة على تقدير التكافؤ بل يتعين الرجوع حينئذ
إلى قاعدة الاحتياط والاشتغال وقال في أول مبحث الاستصحاب
استصحاب الحال هو كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الان
السابق مشكوك البقاء في الان اللاحق والمراد من المشكوك أعم من
متساوي الطرفين ليشمل المظنون البقاء وغيره وإن كان مراد القوم من
الشك هنا هو الاحتمال المرجوح في الواقع لان بناءهم في
الحجية على حصول الظن ونحن إنما عممنا الشك لأنا لا ننقض
اليقين إلا بيقين بسبب الاخبار فلا يضرنا تساوي الطرفين بل كون البقاء
مرجوحا أيضا فالاستصحاب
عندنا قد يستند في حجيته إلى الظن الحاصل من جهة اليقين السابق و
قد يستند في حجيته إلى الاخبار وهو لا يستلزم حصول الظن إلا
أن يدعى أن الاخبار أيضا مبنية على الاعتماد بالظن الحاصل من
الوجود السابق وهو مشكل هذا كلامه قوله وهو الاحتمال المرجوح
في
الواقع هكذا وجدنا النسخ والظاهر أنه سهو من القلم والصواب
الاحتمال الراجح في الواقع أو الاحتمال المرجوح في الرافع والأول
أوضح والوجه واضح وكيف كان فصدر كلامه يدل على أن
الاستصحاب عنده قد يفيد الظن وقد لا يفيده وأنه حجة على
التقديرين و
هو مناف لما مر لكنه استشكل فيه أخيرا وإشكاله إما في الاستصحاب
الذي لا يفيد الظن أو في كون كل استصحاب مفيدا للظن و
الظاهر من بيانه هو الثاني وهو بعيد جدا لان حصول الظن
بالاستصحاب من الأمور الوجدانية فإذا فرض انتفاؤه فلا معنى لاثباته
بالغض ثم لا يذهب عليك أن الحد الذي ذكره للاستصحاب غير
ملائم لمعناه الأصلي وخلاف المتبادر من معناه العرفي والتحقيق فيه
ما
ذكرنا ثم لنا فيما ذكر في الصغرى من حصول الظن بالبقاء عند عدم
الظن بطرو الرافع إشكال آخر وهو أنه إن أريد بالظن في
الموردين الظن الفعلي ففساده ظاهر واضح لاستلزامه انتفاء الشك في
الحوادث الوجودية والعدمية بالكلية وهو مما لا يلتزم به ذو
مسكة ولو صح ذلك لبطل مباحث الشكوك المقررة في مبحث
الصلاة إذ قضية ما قرر أن يظن المصلي عدم الزيادة ما لم يقم عنده
أمارة
تفيد الظن بها فلا يبقى مورد للشك وإن أريد بالظن بالمانع ما يعم الظن
الشأني فمع كونه خلاف الظاهر من إطلاق الظن فيه أن مجرد
معارضة ما من شأنه إفادة الظن لا يقدح في حصول
374

الظن بالاستصحاب إذا التزم بكونه من أسبابه ما لم يتساويا في القوة أو
يقوى الظن الاخر فلا وجه لتخصيص حصول الظن به بصورة
عدمه وإن أريد بالظن بالبقاء ما يعم الظن الشأني فلا وجه لتقييده
بصورة عدم الظن بطرو الرافع سواء أريد به الظن الفعلي أو الشأني
إذ لا يقدح في الظن الشأني كون الظن الفعلي بخلافه فضلا عن الظن
الشأني وأما الكبرى فلان مورد الاستصحاب إن كان حكما شرعيا
فلا نسلم حجية الظن فيه مطلقا وإنما المسلم فيه حجية أدلة مظنونة و
المستفاد من أخبار الاستصحاب حجيته على سبيل التعبد لا لكونه
مفيدا للظن ولو قدر حصول الظن منه في مقام فلا أثر له في الحجية و
إنما هو من الأمور المقارنة للحجة كالشك والوهم حيث يقارنانه
وإن كان أمرا وضعيا فلا إشكال في حجية الاستصحاب فيه مع إفادته
للظن لما دل على حجية الظن في الأوضاع وإن كان موضوعيا
فلا كلام في عدم حجية الظن فيه إلا حيث قام الدليل فيه على حجية
الخصوص إذ ما يستند إليه في حجية الظن هو انسداد باب العلم مع
بقاء التكليف وهو لا يجري في الموضوعات لعدم تحقق انسداد باب
العلم إلى كثير من أفرادها وعدم ثبوت بقاء التكليف بالنسبة إلى
غيرها احتج النافون لحجية الاستصحاب بمنع حصول الظن به كما
توهمه القائلون بحجيته حيث جعلوا مبنى حجيته عليه ولو سلم
فالأصل حرمة العمل بالظن إلا ما قام الدليل على خلافه ولا دليل على
خروج هذا الظن فإن ما دل على حجيته من أخبار الآحاد إنما يفيد
الظن وهو غير معتبر في المباحث الأصولية والجواب أما عن الأول
فبأن المنع من حصول الظن به مطلقا على تقدير تسليمه لا يقدح فيما
ذكرناه حيث اخترنا القول بحجيته من باب التعبد وأما عن الثاني فبأن
أخبار الآحاد إذا اشتملت على شرائط القبول كانت حجة في
الفروع وأصولها والتفصيل غير سديد نعم هي غير معتبرة في أصول
الدين وغيرها مما مبناه على اليقين ومجرد الاشتراك
في الاسم لا يقتضي التسوية في الحكم واعلم أن هذا القول أعني
القول بعدم حجية الاستصحاب مطلقا مما لم نعثر بقائله وإنما وجدناه
منقولا في كلام البعض ويمكن أن يكون مذهبا لأكثر الحنفية على
ظاهر ما نسب العضدي إليهم حيث قال بعد تفسير استصحاب الحال
باستصحاب الحكم فأكثر المحققين كالمزني والصيرفي والغزالي على
صحته وأكثر الحنفية على بطلانه فلا يثبت به حكم شرعي هذا
كلامه لكن استفاد التفتازاني من قوله فلا يثبت به حكم شرعي أن
الحنفية إنما ينكرون صحته في إثبات الحكم الشرعي دون نفيه وهو
غير واضح لان نفي الوجوب والتحريم الشرعيين مثلا أيضا حكم
شرعي ولهذا لا يجوز بغير دليل معتبر نعم يتم [يتجه] ذلك إذا أريد
بالحكم خصوص الخمسة التكليفية والوضعية دون مطلق الحكم و
لعله أوفق بإطلاق الحكم ومع ذلك فليس في عبارة العضدي ما يدل
على نفيهم بحجيته في غير الاحكام مع أن البحث في ذلك إنما
يناسب علم الفقه دون الأصول لأنه خارج عن البحث في الأدلة و
تعميمنا
للبحث إليه في المقام استطرادي وتبع لتعميم بعض القوم احتج من
فصل بين الشك في عروض القادح والشك في قدح العارض بأن
المستند في حجية الاستصحاب إنما هو الاخبار وإنما هي تدل على
حجيته في المقام الأول بدليل ورودها في جزئيات مواردها فيبقى
الحكم بحجيته في المقام الثاني تحكما لخلوه عن الدليل والجواب
المنع من اختصاص دلالة الروايات بالمقام الأول بعد تسليم
اختصاص
المستند فيها بل المفهوم من إطلاقها عدم الاعتداد بالشك في طرو
الرافع مطلقا وإن كان إطلاق الحكم في المقام الثاني مقيدا بما
سنذكره ويمكن تأييد القول المذكور بأن الظاهر من مساق أخبار الباب
أنهم عليهم السلام في صدد بيان الطريق إلى معرفة الأمور
الخارجية التي هي موضوعات الاحكام دون نفس الاحكام فمساقها
مساق ما دل على قبول قول ذي اليد على ما في يده وقبول قول
النساء على أرحامهن وقبول قول المدعي مع بينته والمنكر مع
يمينه إلى غير ذلك إذ لا يتوهم في شئ من ذلك التعميم إلى قبول
قولهم في معرفة الحكم الشرعي بل المفهوم منها القبول في الأمور
الخارجية وأيضا التمسك بحجية الاستصحاب في الاحكام الشرعي
إنما يوجد في كلمات المتأخرين فيظهر ممن تقدمهم عدم فهمهم
ذلك
منها وذلك موهن لدلالتها عليه والجواب عن الأول أن عموم اللفظ
حجة في موارده لا يصار عنه إلا لدليل وانتفاء العموم في النظائر
لعدم مساعدة مساقها عليه أو لدلالة دليل عليه لا يقدح في عموم ما لا
يساعد مساقها على عدم العموم لورودها في مقام إفادة الضابطة
الكلية ولا دليل عليه من خارج وعن الثاني بأن عدم تنبههم لدلالة
تلك الروايات على المقصود بعد تسليمه لا يقدح في دلالتها بعد
وضوحها واشتهار الحكم فإن العلم يتكامل بتلاحق الأفكار وتوارد
الأنظار حجة الفاضل السبزواري قد تبينت بجوابها مما ذكرناه في
ذيل الاخبار فلا نطيل بالإعادة حجة المحقق الخوانساري أن ما يدل
على حجية الاستصحاب أمران الاخبار وقضاء شغل الذمة بوجوب
تحصيل العلم بالبراءة وهما إنما ينهضان بحجيته في الاحكام التي
ثبت استمرارها إلى غاية معينة في الواقع غير مشروطة بالعلم بها و
شك في حصولها سواء كانت تكليفية أو وضعية وشمول الدليل الأول
لهما ظاهر وكذا شمول الثاني للأربعة التكليفية وأما شموله
للإباحة والوضعية فباعتبار استلزامها لها لوجوب الاعتقاد بثبوتها إلى
غاياتها وجوابه المنع من اختصاص دلالة الدليل الأول أعني
الاخبار بما ذكره كما سبق التنبيه عليه وهو كاف في إثبات ما اخترناه و
إن سلم قصور ما عداه عنه هذا وأورد على ما قرره في الدليل
الثاني تارة
375

في استصحاب القوم أعني ما لم يتعين له غاية أيضا من حيث إن دليل
الحكم يحتمل أن يراد به وجود الحكم في الزمن المشكوك فيه و
يحتمل عدمه ولا يحصل اليقين بالامتثال به إلا بإبقائه فيه وتارة بأن
تحصيل العلم أو الظن بالبراءة إنما يلزم حيث يعلم الاشتغال أو
يظن وهما منفيان في زمن الشك وأجاب بعض المعاصرين عن الأول
بأن الاتيان إلى الغاية فيما فرضه المستدل جز للمأمور به لما
ثبت الاشتغال به فإن للمكلف به جزين نفس الحكم وإبقاؤه إلى غاية
بخلاف فرض القوم إذ لم يثبت فيه شغل الذمة إلا في الجملة وعن
الثاني بأن تعلق التكليف بالمركب وعدم حصول الامتثال به إلا بإتيان
جميع أجزائه دليل على ثبوت التكليف في الزمن المشكوك فيه و
لا حاجة إلى دليل آخر وفي كلا الجوابين نظر أما في الأول فلان ما
ذكره من أن الاتيان إلى الغاية جز للمأمور به إن أراد أنه جز مقوم
لحصول الامتثال بغيره من الأجزاء فلا خفاء في أنه إنما يتم فيما يعتبر
فيه الهيئة التركيبية كالصوم دون غيره كوجوب الاعتقاد بثبوت
الحكم إلى غايته ولا ريب في أن عدم الاعتقاد به في الزمن المشكوك
فيه لا يقدح في امتثاله بالنسبة إلى الزمن المعلوم وإن أراد مطلق
الجزئية فلا ريب في أن الحال في جميع موارد الاستصحاب كذلك إذ
على تقدير انسحاب الحكم إلى الزمن المشكوك فيه يكون بثبوت
الحكم فيه جزا من ثبوته فيه وفي غيره فلا يستقيم الجواب وأما في
الثاني فلما عرفت من أن تعلق التكليف بالمركب إنما يتحقق
بالنسبة إلى قليل من موارد المقام كما مر فلا يتم الكلام على إطلاقه ثم
أقول إن اعتبر الغاية في الإباحة وشبهها بالنسبة إلى نفس
الحكم لم يعقل فيه الاشتغال حتى يجب تحصيل العلم بالبراءة منه
بإبقائه في الوقت المشكوك فيه كما مر وإن اعتبر الغاية بالنسبة إلى
وجوب الاعتقاد بالإباحة ففاسد إذ وجوب الاعتقاد بإباحة المباح
المغيا بالغاية الشرعية الواقعية ثابت مع ثبوت الإباحة إليها قبل
حضور زمانه وحال حضوره وبعده لأنه راجع إلى
وجوب الاعتقاد بصحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله ولا غاية
لهذا الحكم إلا ما ثبت أنه غاية لوجوب الايمان كالموت والجنون و
إن قرر الدليل في حكم العقل في الزمن المشكوك فيه ففيه أن الواجب
إنما هو الاعتقاد بصحة ما ثبت في الشريعة من الاحكام إجمالا و
حكم بصحة كل عنوان علم تفصيلا أنه مما ثبت في الشريعة وبثبوت
ذلك الحكم المعلوم تفصيلا في كل مورد علم اندراجه في ذلك
العنوان وأما الموارد التي لا علم باندراجها فيه فلا يجب تعيين المورد
ليعلم حكمه ولهذا لو اشتبه الجسم الطاهر بالنجس لم يجب علينا
تحصيل العلم بحكم كل منهما حيث نتمكن من رفع الاشتباه بالتمييز
بل يكفي الاعتقاد بطهارة ما هو طاهر منهما شرعا ونجاسة ما هو
نجس منهما شرعا فالقدر الثابت بالنسبة إلى موارد الإباحة إنما هو
وجوب الحكم بإباحة ما علم ولو بدليل شرعي أنه من أفراد المباح
نعم قد يجب تحصيل العلم بأفراد المباح لتوقف فعل واجب عليه
فيحكم بإباحة ما علم بالدليل أنه من أفراد المباح ولا مدخل لهذا
الوجوب
في تعيينها ومعرفتها واعتبار التركيب على هذا التقدير أوضح فسادا و
أما حجة القول السادس أما على النفي في الاثبات فلعلها حجة
القول بالنفي مطلقا وأما على الاثبات في النفي فلم أقف عليها وربما
كان مستنده أن استمرار ثبوت الحادث في معنى توالي حوادث
عديدة فلا يجري فيه الاستصحاب بخلاف العدم وهو كما ترى و
حجة القول السابع أن بقاء الحكم التكليفي يدور مدار دليله من
التوقيت
وعدمه ومن إفادة لفظه للتكرار وعدمها فليس الحكم بالبقاء حيث
يحكم به هناك من الاستصحاب في شئ فالمؤقت يدل على بقاء
الحكم في الوقت بالخطاب المفيد للتوقيت وغير الموقت إن أفاد
التكرار كالنهي المطلق على المشهور دل على بقائه أيضا بالنص وإن
لم يدل عليه كالأمر المطلق على ما هو المعروف كان قضيته أن يكون
ذمة المكلف مشغولة به حتى يأتي به في أي زمان كان إذ نسبة
الأزمان إليه متساوية ولا تعلق له
بالاستصحاب وأما الأحكام الوضعية فالاستصحاب فيها حجة عملا
بالاخبار الدالة على عدم جواز نقض اليقين بغيره والجواب أن الشئ
المشكوك في بقائه إن كان من شأنه البقاء في زمان الشك لولا طرو
المانع جرى فيه الاستصحاب سواء كان حكما وضعيا أو تكليفيا أو
غيرهما وإلا لم يجر وكما أن الحكم الوضعي قد يكون من شأنه البقاء
كذلك الحكم التكليفي قد يكون من شأنه البقاء سواء في ذلك
المطلق والموقت وما دل منه على التكرار وغيره مثلا لو دل الدليل
على وجوب إتمام الصوم إلى الليل ما لم يمنع منه مانع شرعي
كالحيض والمرض الذي يضر به الصوم والسفر الشرعي بعد الوصول
إلى حد الترخص ثم حصل الشك في أن الصفرة التي تراها المرأة
في غير عادتها حيض أم لا وأن الضرر اليسير في المرض أو المشكوك
فيه مبيح للافطار أم لا وأن السفر إلى أربعة فراسخ من السفر
الشرعي أم لا وأن خفاء الاذان بمجرده حد للترخص أم لا فيصح أن
يستصحب في هذه الموارد ونظائرها بقاء وجوب الصوم الثابت
قبل وقوع [هذه] المذكورات وكما يصح هنا أن يستصحب في ذلك
عدم المانع كذلك يصح أن يستصحب بقاء الوجوب والتزام صحة
الاستصحاب في الأول دون الثاني تحكم واضح ومثل ذلك ما لو
شك في جواز تناول محرم للتداوي وترك واجب لاستلزام فعله ضررا
ماليا ونحو ذلك وكل حكم لا يكون من شأنه البقاء لولا المانع لا
يستصحب عند الشك في بقائه وإن كان وضعيا كخيار العيب وحق
الشفعة فظهر بطلان ما ذكره من الاطلاق في المقامين حجة من فصل
بين حكم الاجماع وغيره أن دليل ثبوت الحكم في الان الأول هو
الاجماع والتقدير عدمه
376

في الان المتأخر فلا يثبت فيه لعدم دليل عليه وأجيب تارة بالنقض
باستصحاب حكم غير الاجماع لان ما دل على ثبوت الحكم في الان
السابق إن دل عليه في الان اللاحق فهو الدليل عليه دون الاستصحاب
وإلا فلا يثبت الحكم لعدم دليل عليه وأخرى بالحل وهو أن عدم
قيام الدليل الدال على ثبوت الحكم في الزمن السابق على ثبوته في
الزمن اللاحق لا ينافي ثبوته فيه بدليل آخر وهو أدلة الاستصحاب
القاضية بالبقاء والاستمرار وبقية الأقوال مع شذوذها غير واضحة
المستند
ثم هاهنا فوائد
الأولى
الشك في عروض القادح وقدح العارض كما يتحقق في الاستصحاب
كذلك يتحقق بالنسبة إلى أصل البراءة وأصل الإباحة والكل حجة
في المقامين لكن حجيتها في المقام الأول ثابتة في حق المجتهد و
المقلد مع العجز عن استكشاف الحال وبدونه ما لم يرجع إلى الأدلة
كالشك في ورود الناسخ ووقوع التخصيص أو التقييد فيرجع إلى
القسم الآتي وأما حجيتها في المقام الثاني فمقصورة على المجتهد و
من في حكمه ممن تعذر عليه الرجوع إلى المجتهد ومشروطة
بالفحص عن المعارض وعدم مصادفته وبالجملة فحكمها كحكم
سائر
الأدلة التفصيلية فكما لا يجوز لغير المجتهد العمل برواية أو آية
يصادفها مطلقا ولا له مع عدم الفحص عن المعارض كذلك لا يجوز
لغير المجتهد العمل بالأصول المذكورة في مقام الشك في قدح
العارض مطلقا ولا له مع عدم الفحص عن المعارض ولو جعلنا
حجيتها
بالنسبة إلى ذلك أيضا مطلقا لما وجب على العوام الرجوع إلى العلماء
ولا على العلماء الرجوع إلى الأدلة وذلك يؤدي إلى انهدام أساس
الشريعة واضمحلال الاحكام بالكلية والمعتبر من الفحص هنا ما
يعتبر منه في سائر الأدلة ومنه تعيين ماهية القادح مع إمكانه حيث
يتحقق القادح فلو علم أن الغناء حرام وشك في تعيين ماهيتها مع
التمكن منه لم يكن له التمسك في حلية كل صوت يحتمل عنده أن
يكون
منها بأصل الإباحة وكذا لو علم بنجاسة حيوان يسمى كلبا وشك في
كونه الأرنب أو الثعلب أو غيرهما مثلا لم يكن له التمسك بأصالة
طهارتهما أو طهارة ما لاقاهما أو لاقى أحدهما برطوبة ما لم يتعذر عليه
طريق التعيين نعم لو لاقاه أحدهما وشك في تعيين الملاقي
منهما بأصالة الطهارة سواء تمكن من تعيينه أو لا إذ ليس لتعيين
المسمى حينئذ مدخل في حكم الملاقى إلى غير ذلك فإن قلت لا
منافاة
بين حجية هذه الأصول على تقدير ترك الفحص وبين الاثم بتركه
لتغاير الموضوعين فيثبت فيما مر الحل والطهارة ما دام جاهلا
بالمعارض وإن أثم
بترك الفحص عنه قلت ليس الوجه فيما ذكرناه لزوم المنافاة بل عدم
مساعدة الأدلة على حجيتها حينئذ فإن الظاهر من قولهم بوجوب
الفحص عدم ثبوت حكم الواقعة قبله وهذا إن لم يوجب تقييد إطلاق
الاخبار أو تخصيص عمومها فلا أقل من إيجابه للشك في شمول
المورد المبحوث عنه فيبقى الحكم بالبقاء فيه عريا عن الدليل وأيضا
قد حققنا في محله عدم حجية الأدلة السمعية الظنية إلا بعد الفحص
عن المعارض والاستصحاب ليس بأقوى منها
الثانية
كما يثبت بالاستصحاب بقاء مورده كذلك يثبت به لوازمه الشرعية
التي يترتب عليه من غير توسط أمور عادية وإن كان ترتبها
مخالفا للاستصحاب والمراد بالترتب ما يتناول ترتب المشروط على
الشرط كترتب صحة الصوم على استصحاب عدم الجنابة وترتب
المسبب على السبب كترتب وجوب الانفاق على استصحاب الزوجية
واحترزنا بذلك عن الاحكام الغير المترتبة على الامر المستصحب
فإنها لا تثبت باستصحابه وإن كانت من لوازمه الشرعية كطهارة
الملاقي لاحد المشتبهين فإنها وإن استلزمت شرعا طهارة ما لاقاه
منهما لكنها ليست من أحكامها المترتبة عليها فلا يثبت باستصحابها و
كاستصحاب جواز الجواز في المسجدين والمكث في المساجد و
قراءة العزائم لمن علم بوقوع حدث منه وشك في كونه الأصغر أو
الأكبر فإن الأحكام المذكورة وإن استلزمت عدم الجنابة شرعا إلا
أنه ليس من أحكامها المترتبة عليها فلا يثبت باستصحابها ولهذا
يحكم عليه بوجوب الجمع بين الطهارتين وكذا الكلام في ثبوت تلك الأحكام
بأصل البراءة في حق من علم بسبب الجنابة والغسل وشك
في المتأخر منهما فإنه لا يثبت به عدم الجنابة ولهذا نحكم بوجوب
الغسل عليه وبالجملة فالذي يثبت بالاستصحاب على ما يستفاد من
أخبار الباب بقاء مورده وحدوث ما يترتب عليه أولا من أحكامه
الشرعية فيثبت باستصحاب الطهارة بقاؤها فيترتب عليه صحة الصلاة
المأتي بها معها وحصول البراءة بها وباستصحاب الكرية
بقاؤها ويترتب عليه طهارة ما يرد عليه من المتنجس وكذا يترتب
على استصحاب نجاسة متنجس نجاسة ملاقيه برطوبة وعلى
استصحاب ملكية ما أعطاه براءة ذمته وصحة ما عقد عليه إلى غير
ذلك فإن هذه الأمور وإن كانت حادثة ومقتضى الاستصحاب عدمها
وقضية ذلك تعارض الاستصحابين إلا أن المستفاد من الأخبار الواردة
في المقام ثبوت تلك الأمور بالاستصحاب أ لا ترى أن قوله عليه
السلام في صحيحة زرارة السابقة ولا تنقض اليقين بالشك بعد قوله
فإنه على يقين من وضوئه يعطي البناء على يقينه السابق وإثبات ما
يترتب عليه من أحكامه الشرعية كصحة الصلاة إذا أتى بها وبراءة
ذمته منها في مسألة الشك في بقاء الطهارة كما هو مورد الرواية وإن
كانت مخالفة للاستصحاب وكذا الكلام في بواقي الاخبار وهذا
واضح جدا وبه يتضح الوجه فيما يظهر من بعض المحققين من
تحكيم الاستصحاب الوارد على الاستصحاب المورد عليه وربما
تردد
بعض أفاضل العصر في بعض فروع المسألة كتنجيس مستصحب
النجاسة لملاقيه بل حكم فيه بعدم
377

التحكم وإبقاء الملاقي على طهارته كالمتنجس على نجاسته وهو
ناشئ من عدم إحكام الأصل هذا وأما بالنسبة إلى ترتب أحكامه
العادية وما يترتب عليها من الأحكام الشرعية فالحق عدم الحجية وما
ذكره بعض المحققين من أن الأصول المثبتة ليست بحجة فالوجه
تنزيله على ما ذكرناه فيكون المراد أن الأصول المثبتة لحدوث أمور
عادية ليست حجة على إثباتها وذلك لتعارض الأصل في جانب
الثابت والمثبت فكما أن الأصل بقاء الأول كذلك الأصل عدم الثاني و
ليس في أخبار الباب ما يدل على حجيته بالنسبة إلى ذلك لأنها
كما ترى مسوقة لتفريع الأحكام الشرعية دون العادية وإن استتبعت
أحكاما شرعية وعلى هذا فلا يحكم بطهارة متنجس وقع في
موضع يستصحب فيه بقاء الماء لان التطهير إنما يكون بالملاقاة وهو
أمر عادي لا يثبت حدوثه باستصحاب بقاء الماء نعم لو علم
بوجود الماء وحصول الملاقاة وشك في بقائه على صفة الكرية
استصحب بقاؤها كما مر ويترتب عليه التطهير لأنه حكم شرعي و
كذلك الحال في إكفاء الآنية على المتنجس إذا استصحب بقاء الماء
فيها ومثله استصحاب بقاء الشمس على الأرض الرطبة المتنجسة
فيكون جفافها بها فتطهر واستصحاب رطوبة الثوب الرطب الملاقي
للنجاسة فيكون قد أصابها برطوبة فتنجس واستصحاب بقاء
الوكيل وصاحبه على العزم على العقد وعدم طرو الموانع المقتضية
لنقضه فيكونان قد عقدا فيحل التصرف إلى غير ذلك ولا يرد مثل
ذلك في استصحاب الطهارة المترتب عليها صحة الصلاة من حيث
توقف ذلك على مقارنة الصلاة لها وهو أمر عادي إذ ليس من حكم
بقاء الطهارة في زمان شرعا مقارنتها للصلاة الواقعة فيه وإنما ذلك من
لوازمه العقلية كما أنه ليس من حكم بقاء الرطوبة في الثوب
الملاقي لنجاسة شرعا ملاقاته لها برطوبة بل ذلك من أحكامه العادية
وذلك لان قضية الحكم ببقاء الطهارة في زمان شرعا صحة
الصلاة فيه ما لم يمنع مانع ولا حاجة إلى إثبات المقارنة
في الحكم بالصحة بل يتفرع على ذلك صحة الصلاة المقارنة للطهارة
الاستصحابية وكذا الكلام في تنجيس النجاسة الاستصحابية و
نظائرها هكذا ينبغي تحقيق المقام ولم أقف في المسألة على من
يصرح بالخلاف فلعله موضع وفاق وأما التعويل على أصالة عدم
حدوث الحائل على البشرة في الحكم بوصول الماء إليها في الوضوء
والغسل وعلى أصالة عدم خروج رطوبة لزجة كالودي بعد البول
في إزالة عينه بالصب مع كون الأصل في المقامين مثبتا لأمر عادي
فليس لأدلة الاستصحاب بل لقضاء السيرة والجرح به مضافا في
الأخير إلى إطلاق الأخبار الدالة على كفاية الصب مطلقا ولا يبعد
تخصيص الحكم بصورة الظن بالعدم لأنه الغالب فلا يعول عليه عند
الشك أو الظن بالخلاف
الثالثة
إذا علم بورود الرافع للاستصحاب والمراد به الامر المستصحب فقد
يعلم به على التعيين واردا وموردا وهذا مما لا إشكال فيه وقد
يعلم على الاجمال وحينئذ فقد يكون العلم الاجمالي مسبوقا بالعلم
التفصيلي اتجه بطلان الجميع مع الانحصار كما لو علم بنجاسة أحد
الثوبين أو الإناءين على التعيين ثم اشتبه بالظاهر أو علم بطلاق إحدى
زوجيته ثم اشتبهت بغيرها لبطلان أحدهما بالرافع والاخر
بالاشتباه وقد مر تحقيق ذلك في بحث المشتبه مع احتمال أن يجري
في هذا القسم التفصيل الذي نذكره في القسم الآتي إذ قبل الاشتباه
لا مسرح للاستصحاب فيه باعتبار ذلك الطاري وبعده يتساوى الحال
بينه وبين ما إذا لم يسبق العلم بالتفصيل وأما أن لا يكون
مسبوقا بالتفصيل وحينئذ فقد يكون عدم التعيين في الرافع وقد
يكون في الاستصحاب وقد يكون فيهما وعلى التقديرين الأخيرين
إما أن يتحد نوع المورد أو يتعدد مع المشاركة في جميع الأحكام أو
المخالفة في الجميع أو المشاركة في البعض والمخالفة في بعض
آخر فالتقادير تسعة ثم إما أن لا ينحصر مورد الاشتباه بالنسبة إلى غير
الرافع فيعمل بالاستصحاب في الجميع دفعا للعسر والحرج و
أما عدم الانحصار في الرافع خاصة فغير قادح كما لو علم بولوغ أحد
الكلاب الغير المحصورة في آنيته ولا فرق بين عدم الانحصار
الابتدائي والطاري حتى أنه لو طرأ الاشتباه بغير المحصور على بعض
الافراد المحصور سقط الحكم عنه كما لو طرأ على معلوم الحكم
دون ما لم يطرأ عليه للأصل فإن رفع الحكم المشتبه المحصور عن
بعض الافراد لا يوجب رفعه عن غيره وإما أن ينحصر المورد فهاهنا
صور عديدة منها أن لا يتعين نوع الرافع ويتعين الاستصحاب ويلزمه
أن يتحد المورد ولا إشكال حينئذ في انتقاض الاستصحاب
لتحقق اليقين بالرفع وإن جهل الرافع كما لو علم بفسخ الوكيل نكاح
زوجته المعينة أو طلاقها أو علم بوقوع أحد
سببي التحريم من المصاهرة أو الرضاع ومنها أن لا يتعين الاستصحاب
ويتعين الرافع ويتحد المورد نوعا وذلك بأن يعلم بطريان
رافع معين بحسب النوع وإن لم يتعين بحسب الشخص على أحد
الاستصحابين فما زاد مع اتحاد نوع المورد كما لو علم بوقوع نجاسة
في أحد الإناءين أو على أحد الثوبين وشك في التعيين أو في طلاق
الوكيل لإحدى زوجتيه أو بيعه لإحدى أمتيه وشك في التعيين
انتقض الاستصحاب في الجميع على الأقوى لابتناء حجيته في مثل
المقام على دلالة الاخبار ومفادها في ذلك متدافع لان قضيتها عدم
جواز نقض اليقين إلا باليقين وهذا إن قيس إلى كل مورد بالخصوص
أفاد بقاء حكمه لعدم اليقين بخلافه وإن قيس إلى ما علم بورود
الرافع عليه منهما كالملاقي منهما للنجاسة في المثالين الأولين أفاد
عدم بقائه لحصول اليقين بارتفاعه وهو ينافي الحكم بطهارة كل
أحد بالخصوص فإذا ثبت التدافع في البعض مع أن الفرض عدم
378

سقط اعتباره في الجميع لكونه حينئذ بمنزلة العام المخصص
بالمجمل ومنها أن لا يتعين الاستصحاب ويتعين الرافع مع تعدد نوع
المورد أو لا يتعين الرافع أيضا ويتحد المورد أو يتعدد كما لو علم
بوقوع نجاسة إما في ماء دون الكر أو في ماء بئر بناء على عدم
انفعاله به ووجوب النزح أو علم بحصول أحد الامرين من وقوع
نجاسة في ماء قليل أو باغتسال الجنب في ماء بئر بناء على عدم
انفعاله
به وكما لو علم ببيع أمته أو طلاق زوجته من الوكيل انتقض
الاستصحاب بالنسبة إلى الاحكام المشتركة كحلية الاستمتاع في
المثال
الأخير دون غيرها على إشكال أما الأول فلما مر وأما الثاني فلسلامة
الاستصحاب فيه من التدافع لتغاير الحكمين فيعمل بكل من
الاستصحابين في المثالين الأولين من طهارة القليل وعدم وجوب نزح
البئر لعدم التدافع بينهما فإن قلت يمكن اعتبار التدافع بالنسبة
إلى العلم بارتفاع مجموع الحكمين وهو في معنى ارتفاع أحدهما لا
بعينه قلت الظاهر من اليقين في أخبار الاستصحاب اليقين بالحكم
الواحد دون المتعدد فيبقى الاستصحاب في كل من الموردين سالما
عن ثبوت المعارض ولا يرد مثله في استصحاب الحكم الواحد
بحسب موردين فما زاد لان وحدة الحكم تقرب شمول اليقين له لا
سيما بعد ورود النص به في بعض الموارد كما في الإناءين والثوبين
المشتبهين ثم هذا كله إذا تساوى الاستصحابان فما زاد في الحجية
عند طريان الرافع واتحد نسبتهما إلى المكلف وأما إذا اختلفا في
الحجة بأن كان أحدهما حجة دون الاخر لم يحكم بانتقاض ما هو
الحجة على الأقوى فلو لاقى أحد المشتبهين بالأصل أو بالمعارض
طاهر حكم ببقاء طهارته وإن علم بارتفاع طهارة المجموع إذ العلم
الاجمالي لا يقتضي رفع الطهارة إذا لم يقدح في دليلها وهو هنا لم
يقدح في دليل طهارة الملاقي لخلوه عن المعادل حتى يتساوى نسبة
النقض إليها لسبق انتقاضه فهو بمنزلة ما لو كان أحد الإناءين
متنجسا على التعيين وعلم بوقوع النجاسة في أحدهما لا بعينه فإنه
يستصحب طهارة الطاهر منهما مطلقا نعم لو لاقى المشتبه الاخر
طاهر آخر انتقض الاستصحاب
في الملاقيين كالأصل وكذا لو كان ملاقاة الطاهر لأحدهما حال وقوع
النجاسة إذ التقدم الرتبي غير مجد مع الاتحاد بحسب الزمان مع
احتمال عدمه ولو اختص كل من الاستصحابين بمكلف كما في
واجدي المني في الثوب المشترك مع العلم بخروجه من أحدهما في
زمن
لم يغتسلا فيه للجنابة فإنه يستصحب كل منهما طهارته بالنسبة إلى ما
يخصه من الاحكام لان كلا منهما محكوم عليه باستصحاب طهارة
نفسه حيث لا يقين له بارتفاعها دون طهارة الاخر ودون المجموع
عملا بما هو الظاهر من أخبار الاستصحاب وهي الحجة في مثل
المقام وكذا لو علما ببينونة زوجة أحدهما عنه أو بخروج مملوك
أحدهما عن ملكه إلى غير ذلك وأما الاحكام المشتركة فالاستصحاب
منقوض في حقهما بالنسبة إليها لمكان اليقين بالانتقاض فلا ينعقد
الإمامة بينهما في الفرض الأول للقطع ببطلان صلاة المأموم على كل
تقدير نعم لو اغتسل الامام قبل الصلاة صح صلاتهما ولو اغتسل
المأموم فوجهان من عدم القطع حينئذ ببطلان صلاته ومن أن غسله
مؤكدا لما ثبت في حقه بالاستصحاب فلا يؤثر في المنع والأول أظهر
وكذا لا يصح تبديل أحد المملوكين بالآخر ببيع أو صلح أو
نحوهما للقطع ببطلانه ولو أبدله بغيره أو وهبه إياه ففي بطلانه أو
صحته ووجوب الاجتناب منهما إلا مع سبق خروج الاخر عن ملكه
وجهان ولا يحل لكل منهما التصرف فيهما معا وإن أذن له الاخر وفي
جوازه على التعاقب وجهان ولو علم بنجاسة عضو من أعضائه
أو عضو شخص آخر كما لو لاقى كل منهما لاحد المشتبهين اتجه عدم
انتقاض الاستصحاب في حقهما كما في صورة الجنابة وربما كان
إطلاق حكمهم في الجنابة مشعرا بذلك [نظرا إلى العلم بنجاسة أحد
الملاقيين وعدم حكمهم بوجوب غسلهما] ولو لاقى كل منهما
طاهرا
فالكلام فيه ما مر ولو علم بنجاسة ثوبه أو ثوب شخص آخر أمكن
إلحاقه بالعضو ما لم يكن الثوب الاخر مستعارا من أحدهما فيتجه
المنع وقريب من ذلك ما لو علم بنجاسة آنيته أو آنية شخص آخر مع
اختصاص كل منهما في التصرف بملكه
الرابعة
ذكر بعض المعاصرين أن الاستصحاب يتبع الموضوع في مقدار
صلوحه للامتداد فإن كان الموضوع جزئيا معينا ثبت بالاستصحاب
بقاؤه إلى أقصى مدة يمكن بقاؤه فيها وإن كان كليا كما لو علمنا بوجود
حيوان في موضع وترددنا بين كونه من نوع ما يعيش قليلا
كالذباب والنمل أو كثيرا كالانسان والفرس فلا يثبت بالاستصحاب إلا
بقاؤه في أقصى مدة ما هو أقل الأنواع المحتمل بقاء هذا
محصل كلامه أقول لا كلام في عدم جريان الاستصحاب عند العلم
بعدم البقاء فإن الاستصحاب لا يعارض اليقين وأما مع الشك في
البقاء
فإن كان من جهة الشك في وجود المقتضي للبقاء لم يجر
الاستصحاب إن لم يمكن إثبات وجوده ولو بالاستصحاب وإن كان
من جهة
الشك في المانع جرى فيه وقد مر تحقيق ذلك ثم إن ميز المورد و
علم أنه من أي الأقسام فلا كلام وإن جهل إما لعدم تعيين المورد أو
لعدم العلم بحاله فإن تردد بين القسمين الأولين فلا إشكال في عدم
الجريان كما لو علم بثبوت خيار له وشك في كونه من نوع ما
يصلح للاستمرار كخيار الرؤية على القول بعدم فوريته أو لا كخيار
التدليس وكذا لو تردد بين القسم الأخير وأحد القسمين الأولين أو
بين الأقسام ووجه الجميع واضح وهو عدم صدق النقض والدفع
المنهي عنهما في الاخبار التي هي مستند الباب ولو علمنا بأن المورد
من الموارد التي من شأنها البقاء ما لم يرفعه رافع وترددنا في تعيينه مع
علمنا باختلافها في الرافع فالوجه جريان الاستصحاب فيه
فيحكم بالبقاء إلى أن يعلم تحقق الرافع والمثال الذي ذكره الفاضل
المذكور من هذا القبيل فإن قضية وجود كل حيوان بحسب العادة
بقاء حياته ما لم يؤثر في فساد مزاجه مؤثر ويختلف
379

أنواع الحيوان في ذلك باختلاف أمزجتها وتفاوت جثتها فإن منها ما
يتسارع إليه الفساد بمصادمة بعض العوارض ومنها ما ليس
كذلك ومثله بقاء الرطوبة فإن قضية وجودها البقاء عادة ما لم يؤثر في
زوالها رافع كالهواء والحرارة وإلى ما ذكرنا ينظر حكم
الأصحاب بحياة المفقود في أطول زمان يمكن عيش الانسان فيه عادة
ولو كان الامر كما زعمه لزم أن يعتبر أطول زمان يمكن أن
يعيش أضعف الناس فيه عادة لاختلاف أمزجة الناس بالقوة والضعف
المؤثر في اختلافهم في أهلية البقاء كثرة وقلة كاختلاف أمزجة
الحيوانات المؤثر في اختلافها في أهلية البقاء ويتفرع على هذا الأصل
فروع كثيرة منها ما لو علم بإصابة بول أو مني للثوب أو البدن
ثم غسله غسلة يعلم بزواله بها لو كان بولا ويحتمل لو كان منيا فعلى ما
ذكرنا يستصحب النجاسة وعلى ما ذكره لا يستصحب ومنها ما
لو خرج من فرج الخنثى المشكل دم بحيث لو كان امرأة لحكم بكونه
حيضا فعلى ما ذكرنا يستصحب طهارته وعلى ما ذكره لا
يستصحب ومثله الكلام فيما لو حصل الايلاج بحسب أحد فرجيه أو
خرج منه مني وكذا لو علم بالطهارة الحدثية ثم وجد الماء وشك في
كونها مائية أو ترابية وكذا لو تزوج امرأة ثم شك في كونها متعة أو دواما
ثم وهبها المدة ففي المدة تستصحب الزوجية وبعدها يرجع
إلى القسم السابق إلى غير ذلك ثم مستندنا على جريان الاستصحاب
في هذه الموارد ونظائرها عموم أخبار الباب السالم عن المعارض
ولعل المانع المذكور ينظر إلى أن حجية الاستصحاب مبنية على
إفادته الظن ولا ظن بالبقاء هناك وقد عرفت مما حققناه فساد هذا
الدليل وعدم التعويل عليه مع أن كلية المقدمة الثانية أيضا ممنوعة ثم
حكى المعاصر المذكور ما حكى له بعض سادات الأفاضل من
مخاصمة جرت بينه وبين بعض علماء اليهود حيث تمسك العالم
اليهودي على إثبات دينه باستصحاب نبوة موسى عليه السلام
لاعتراف
المسلمين على أصل ثبوتها وحقيتها قال فعلى المسلمين إقامة الدليل
على ارتفاعها وانقطاعها وهذه الشبهة قد أشار إليها
الجاثليق على إثبات نبوة عيسى عليه السلام في مجلس المأمون
فأجابه الرضا عليه السلام بأني مقر بنبوة عيسى وكتابه وما بشر به أمته
وما أقرت به الحواريون وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد
صلى الله عليه وآله وكتابه ولم يبشر به أمته فأجابه الفاضل
المذكور على حسب ذلك بأنا نقول بنبوة موسى الذي أقر بنبوة محمد
صلى الله عليه وآله ولا نقول بنبوة كل موسى لم يقر بنبوة محمد
صلى الله عليه وآله فاعترضه اليهودي بأن موسى بن عمران الذي
حاله معهود وشخصه معروف قد ادعى النبوة وجاء بدين وشريعة و
أنتم تعترفون بصحتها وحقيقتها ولا يتفاوت ثبوت ذلك بين أن يقول
بنبوة محمد صلى الله عليه وآله أو لا يقول بها فنحن نقول بأن
نبوة الشخص المعهود قد ثبت فيكون باقية بحكم الاستصحاب
فعليكم بإبطاله ثم قال المعاصر المذكور فتأملت هوينا فقلت في إبطال
الاستصحاب بعد فرض تسليم جواز التمسك به في أصول الدين أن
موضوع الاستصحاب لا بد أن يكون متعينا حتى يجري على منواله و
لم يتعين هنا إلا النبوة في الجملة وهي كلي من حيث إنها قابلة لان
تكون نبوة إلى آخر الأبد أو إلى زمن محمد صلى الله عليه وآله أو
تكون مطلقة مجردة عن القيدين فعلى الخصم أن يثبت إما التصريح
بالامتداد إلى آخر الأبد أو الاطلاق ولا سبيل إلى الأول مع أنه خارج
عن محل الفرض ولا إلى الثاني لان الاطلاق في معنى القيد فلا بد من
إثباته ومن الواضح أن مطلق النبوة غير النبوة المطلقة والذي
يمكن استصحابه هو الثاني دون الأول إذ الكلي لا يمكن استصحابه إلا
بما يمكن من بقاء أقل أفراده بقاء فإن قيل البناء على ذلك يوجب
عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية إلا إذا وردت بطريق
الدوام والاستمرار وهو في محل المنع قلنا الاستقراء قاض بأن
أكثر الأحكام الشرعية التي ليست بمحدودة وردت مطلقة وأن المراد
من تلك المطلقات الدوام والاستمرار إلى أن يثبت الرافع ولا
يرد مثل ذلك في حكاية النبوة لان الغالب في أمر النبوة التحديد ولا
يشكل ذلك باستمرار نبوة نبينا صلى الله عليه وآله لأنا لا نقول به
من جهة الاستصحاب
بل للأدلة الخاصة من الكتاب والسنة فإن قيل قولكم بالنسخ يعين
الاطلاق في النبوة قلنا إبطالنا لقول اليهود ببطلان النسخ من باب
المماشاة معهم في عدم تسليم التحديد وإلا فالتحقيق أن موسى و
عيسى أخبرا بنبوة نبينا صلى الله عليه وآله وكتابهما ناطق به لا أن
نبوتهما كانت مطلقة ونحن نبطلها بالنسخ لا يقال أحكام شريعتهم
ثابتة بمطلقات والنسخ يتعلق بالأحكام دون النبوة لأنا نقول
إطلاق الاحكام لا يجدي بعد تصريحهما برسالة من بعدهما إذ قضية
ذلك قبول رسالته وبعد قبولها لا معنى لاستصحاب الاحكام هذا
ملخص كلامه ووجوه فساده غير خفي أما أولا فلان منعه من حجية
الاستصحاب في إبقاء شريعة التي لم يعلم نسخها وارتفاعها كما
يرشد إليه قوله بعد فرض تسليم إلخ غير سديد لان شرائع الأنبياء
السلف وإن لم تثبت على سبيل الاستمرار لكنها لم تكن في الظاهر
محدودة بزمن معين بل بمجئ النبي اللاحق ولا ريب أنها حينئذ
تستصحب ما لم تثبت نبوة اللاحق ولولا ذلك لاختل على الأمم
السابقة
[السالفة] نظام شرائعهم من حيث تجويزهم في كل عهد وأو آن ظهور
نبي ولو في الأماكن البعيدة ونسخه لشريعتهم فلا يستقر لهم
البناء على شئ من أحكامها ودعوى أن شرائعهم كانت محدودة في
الظاهر بغاية زمانية معلومة بحيث يمتنع توجه النسخ إليها في تلك
المدة وكان الكل عالمين بذلك مجازفة بينة ومكابرة واضحة وأما
ثانيا فلان ما ذكره من أن الاطلاق أيضا قيد ولا بد من إثباته ليس
بشئ لان مرجع الاطلاق إلى عدم ذكر القيد وهو على مقتضى
الأصل لا يحتاج إلى إثبات وإنما يحتاج خلافه إلى إثبات فإن قلت
التقييد بعدم القيد أمر حادث والأصل عدمه قلت
380

التقييد أمر نسبي انتزاعي ولا ريب في صحة انتزاعه بعد ثبوت
الطرفين وأما ثالثا فلان ما ذكره من أن نبوة الأنبياء السلف كانت
محدودة فإن أراد التحديد بأمر غير معين كمجئ نبي آخر فهذا لا
يقدح في صحة الاستصحاب حيث يشك في مجيئه وإن أراد
التحديد
بزمن معين فإن أراد ذلك بحسب الواقع فلا يجديه بعد تسليم إبرازها
ببيان لا يشتمل عليه وإن أراد ذلك بحسب الظاهر فهذه الدعوى
على إطلاقها مما لا يمكن الالتزام بها إذ لم نقف إلى الان ما يدل عليها
بل قد عرفت ما يدل على خلافها وأما رابعا فلان ما ادعاه من أن
شريعة نبينا ليست ناسخة حقيقة لشريعة من قبله واضح السقوط
لمخالفته لاجماع المسلمين بل وضرورة الدين المبين وإخبارهم
بمجيئه صلى الله عليه وآله إجمالا [مما] لا يقدح في كون شريعته
ناسخة كما حققناه في مبحث النسخ ومن اشترط في النسخ عدم
اقترانه
بالبيان التفصيلي والاجمالي فقد غفل عن ذلك لا أنه ينكر كون شريعة
نبينا صلى الله عليه وآله ناسخة لشريعة من قبله وأما خامسا
فلان ما ذكره من أن إطلاق الاحكام لا يجدي مع الاخبار بمجئ نبينا
صلى الله عليه وآله مردود بأن الأخبار المذكورة إذا لم يفد تعيين
زمن مجيئه فمع عدم العلم به يستصحب تلك الأحكام وهل ذلك إلا
كحكم يذكره النبي صلى الله عليه وآله ويقول إنه ينسخ فإنه ما لم
يعلم بورود الناسخ يستصحب بقاؤه فتأمل فيه
الخامسة
يشترط في جريان الاستصحاب بقاء موضوعه بالاعتبار الذي هو
بحسبه موضوع فإن كان موضوعا باعتبار الحقيقة اعتبر بقاؤها ولا
يقدح فيه زوال الاسم وإن كان باعتبار المسمى اعتبر بقاء التسمية ولا
يجدي مع زوالها بقاء الحقيقة ولا يلزم العلم بالبقاء واقعا بل
يكفي ثبوته في الظاهر ولو بالاستصحاب وموضوع هذا الاستصحاب
ليس نفس الموضوع ليلزم الدور بل مادة الموضوع في
استصحاب حقيقته الصورية ومعروضه استصحاب عوارضه المعتبرة
في التسمية وبقاؤهما معلوم ولو فرض الشك في بقاء المعروض
في القسم الثاني استصحب أيضا كما في القسم الأول وبالجملة
فمحصل هذا الشرط أن يتحد الموضوع بالاعتبار الذي هو بحسبه
موضوع فلو تعدد الموضوع بتعدد الحقيقة فيما موضوعه الحقيقة أو
المسمى فيما موضوعه المسمى لم يجر وإن اتحدت المادة في الأول
والحقيقة في الثاني فالأول كالحطب المتنجس إذا استحال رمادا أو
دخانا والماء المتنجس إذا استحال فاكهة وبخار أو الغذاء
المتنجس إذا استحال خرا لحيوان طاهر إلى غير ذلك والثاني
كانقلاب الخمر خلا وانتقال الدم من ذي النفس إلى غيره على وجه لا
يضاف حقيقة إلا إليه كما في القمل والبعوضة وإلا جرى فيه
الاستصحاب كالدم المنتقل إلى جوف الطائر والشاة ونحوهما
فيستصحب
حكمه السابق من طهارة ونجاسة والفرق بين المقامين أن عروض
النجاسة العرضية على الأعيان المتنجسة إنما هو باعتبار كونها
أعيانا لاقت نجاسة برطوبة ولا مدخل للاسم في ذلك بخلاف لحوق
النجاسة والتحريم للخمر والدم من ذوي النفس فإن لحوقهما لهما
إنما هو باعتبار كونهما خمرا ودما لذي النفس لان ذلك هو العنوان
الذي اعتبره الشارع في إثبات الحكم فصح أن موضوعية الأول
باعتبار الحقيقة والثاني باعتبار المسمى ثم الأصل في هذا الاشتراط
هو أن الأصل في حجية الاستصحاب في أمثال هذه الموارد الاخبار
وهي إنما تساعد على حجيته مع
بقاء موضوع الحكم على الوجه الذي هو موضوع الحكم لا مع انتفائه
لدلالتها على ما عرفت على حجية الاستصحاب فيما يكون من شأنه
البقاء لولا طرو المانع وليس من مقتضى الحكم المتعلق بعنوان
مخصوص أو عين مخصوصة تعديه إلى عنوان آخر أو عين أخرى و
يؤيده ملاحظة موارده التي وردت تلك الأخبار في بيانها ويؤكده
ملاحظة السيرة المستمرة الجارية في الأمثلة المذكورة ونظائرها
فاتضح مما حققنا أن الحكم بطهارة الخمر وحليتها من حيث الانقلاب
وبطهارة الدم من حيث الانتقال علي ما مر على حسب الأصل وإن
كان الحكم بطهارة محل الخمر المتنجس بملاقاتها تبعا لها على خلاف
الأصل ولهذا يقتصر فيه على مورد النص وهو انقلابها خلا ولو
فرض الانقلاب في الهواء أو بين الماء الكثير أو حال الجمود لم يكن
في حكمها المذكور ما يوجب الخروج عن مقتضى الأصل أصلا سواء
كان الانقلاب إلى الخل أو الدبس أو غيرهما فما ذكره بعض الاجلاء
من أن قضية الاستصحاب نجاسة نقيع الزبيب بالغليان لثبوتها له
حال العنبية فيستصحب مما لا وجه له على ما ذكرناه وكذا ما تخيله
بعضهم من أن عموم أخبار الباب ما يتناول ما إذا حصل اليقين بشئ
ثم عاد شكا لأنه إن أريد تناولها له باعتبار كونه يقينا بالشئ ففيه أن
الظاهر من نقض اليقين بالشك نقض ما هو يقين حال النقض لا
ما كان يقينا قبله وقد مر توضيحه في مسألة المشتق وإن أريد
استصحاب حكم ذلك اليقين فهو وإن كان يقينا فعليا إلا أن اليقين
السابق لم يقتضه مطلقا بل ما دام ثابتا فلا سبيل إلى استصحابه بعد
زوال اليقين لزوال المقتضي وأما الأعمال الواقعة على حسب ذلك
اليقين حال حصوله فلا يحكم بفسادها بمجرد زواله كما لو تيقن ملك
شئ فباعه أو أوقفه ثم شك بمضي السبع أو الوقف ويؤيده قوله
عليه السلام لأنه حين فعله كان أذكر وقس على ذلك زوال الظن حيث
يعتبر كما في عدد الركعات ثم الوحدة المعتبرة في المقام هي
الوحدة العرفية لمساعدة ظاهر الاخبار التي هي الأصل في المقام
عليها فحيث يكون موضوعية الموضوع باعتبار الحقيقة لم يقدح
تعددها بحسب العقل ما دامت باقية على وحدتها العرفية كما في
الحبوب المتنجسة إذا صارت دقيقا والعجين المتنجس إذا صار خبزا
و
كما في صيرورة متنجس الدبس خلا والحطب فحما والطين خزفا و
آجرا والماء ثلجا ونحو ذلك فإن الحقيقة وإن
381

في المذكورات عقلا نظرا إلى تعدد فصولها المتقومة بها الموجبة
لتعدد الحقيقة إلا أنها بحسب العرف تعدد الحقيقة واحدة ويعد
الاختلاف الطاري عليها من باب الاختلاف في الصفات وإن اختلفت
الأسامي عندهم بحسب اختلافها فإن الاسم قد يزول ولا يزول
حقيقة المسمى وذلك حيث يكون التسمية بإزاء الحقيقة مع صفة من
صفاتها شطرا أو شرطا فتزول التسمية بزوال الصفة بخلاف الحقيقة
القول في القياس
مقدمة القياس في اللغة التقدير
يقال قست الأرض بالذراع أي قدرتها به وقد يطلق على الاخذ بطريق
المساواة كقولهم لا يقاس فلان بفلان أي لا يؤخذ على وجه
المساواة معه وهو راجع إلى المعنى الأول وقد يطلق في الاصطلاح
على معنيين الأول القضايا المستلزمة لذاتها قضية أخرى وهذا المعنى
متداول عند أهل الميزان الثاني إلحاق فرع بأصل في حكم لقيام علته
به عند المجتهد وهذا هو المقصود به هنا والمراد بالأصل معلوم
الحكم وبالفرع مجهوله فلا يتوجه الاشكال بلزوم الدور من حيث إن
الأصلية والفرعية إنما تعرفان بالقياس فلو توقف معرفة القياس
على معرفتهما كان دورا إذ بعد حملهما على المعنى المذكور لا
يتوقف معرفتهما على معرفة القياس مع إمكان أن يقال هذا تعريف
لفظي لمن عرف معناهما وجهل بمعنى القياس ثم المراد بهما ما يعم
الموجود والمعدوم ولا يلزم وجود الصفة بدون الموصوف لان
الأصلية والفرعية وصفان اعتباريان ينتزعان من موصوفهما بحسب
ظرف الذهن والمعدوم الخارجي موجود فيه والمراد بالحكم
المعنى القائم بغيره فيتناول ما إذا كان حكما شرعيا كقياس تحريم بيع
الكلب على تحريم بيع الخنزير بجامع نجاسة المبيع أو صفة
كقياس زيادة علم الغائب على ذاته بزيادته في حق الشاهد بجامع
وجود العلم لهما وإنما قيدنا بكونه عند المجتهد ليدخل القياس
الفاسد فإنه يسمى قياسا في الاصطلاح على ما صرح به البعض ثم
القياس بهذا المعنى يخرج منه قياس العكس كما نبه بعضهم على
خروجه وهو إثبات نقيض حكم معلوم في غيره لافتراقهما في علة
الحكم كقولك لو لم يكن الصوم شرطا للاعتكاف في نفسه لم يكن
شرطا له عند نذره صائما قياسا له على الصلاة فإنها حيث لم تكن
شرطا له في نفسه لم تكن شرطا له حال نذره مصليا فالثابت في
الأصل أعني الصلاة عدم الشرطية للاعتكاف والمثبت في الفرع أعني
الصوم شرطيته له هذا فإن قيل القياس بالمعنى المذكور مشتمل
على شرائط المادة والهيئة فلا يكون دليلا في مصطلح الأصوليين
فكيف يعد من الأدلة مع أن إلحاق الفرع بالأصل معناه الحكم بثبوت
حكم الأصل في الفرع وهذا يشبه المسائل الفقهية فكيف يجعل من
أدلتها قلنا حجية القياس ليست ضرورية بل نظرية لتوقفها على
مراعاة الأدلة المقررة فهو من حيث كونه حجة غير مشتمل على
مجموع
شرائط المادة والهيئة وإن اشتمل عليها من حيث إفادة الظن لكن
يشكل ذلك في القياس المفيد للعلم كالقياس بالطريق الأولى فالأولى
أن يقال لا يكفي القياس بنفسه في إفادة الحكم الشرعي بل لا بد من
انضمام صغرى شخصية إليه كقولنا حكم كذا من مقتضى القياس و
كل ما كان من مقتضاه فهو ثابت أو أن إلحاق كذا بكذا في حكم كذا
بجامع كذا من قياس كذا وكل ما كان من قياس كذا فهو حجة
بالضرورة أو بالنظر فتأمل نعم يتجه الاشكال بالقياس الفاسد فإنه
خارج عن موضوع الفن بحسب الظاهر إذ لا يمكن التوصل منه
بصحيح النظر فيه مع وقوع البحث عنه وقد سبق الاعتذار عن ذلك
عند تحقيق موضوع الفن وإلحاق الفرع بالأصل إن كان بعنوان كلي
كقولنا كل فرع فله حكم الأصل كان من الأدلة وإن كان بعنوان جزئي
كقولنا حكم النبيذ حكم الخمر كان من مباحث الفقه ولا خفاء في
أن المبحوث عنه هنا إنما هو الأول دون الثاني ثم أقول والأشبه أن
القياس يطلق على معنيين الأول ما مر من الالحاق وهو بهذا التفسير
معنى حدثي يشتق منه تصاريفه كقاس ويقيس وغير ذلك والثاني
مشاركة الفرع لأصل في علة الحكم وهو بهذا المعنى لا يشتق منه
فعل وعد القياس بهذا المعنى دليلا أقرب من عده بالمعنى الأول
دليلا كما لا يخفى لكن لا يساعد عليه حدودهم ثم إنهم ذكروا أن
للقياس أركانا أربعة الأصل والفرع والعلة وحكم الأصل وأما حكم
الفرع فهو ثمرة القياس فلا يكون من الأركان والظاهر من أخذهم
هذه الأمور أركانا للقياس كونها أجزأ له وقد صرح به العضدي و
يشكل بعدم مساعدة ظاهر حدودهم على جزئية تلك الأمور بل
مقتضاهما
أن يكون القياس عبارة عن تعدية خاصة أو إلحاق خاص فيكون مقيدا
لا مركبا ثم اختلفوا في تعيين الأصل والفرع هو الحكم في المقيس
وقال بعضهم الأصل دليل الحكم في المقيس عليه واختار في الفرع
أحد الأقوال المتقدمة وإنما لم يقل أنه دليل الحكم في المقيس لأنه
نفس القياس فيلزم اتحاد الشئ مع جزئه أو قيده المباينين له و
التحقيق أن لكل وجها لا حرج في عقد الاصطلاح عليه إلا أن
المعروف
هو الأول وربما يستشكل على بقية الأقوال بأنهم إن اعتبروا محل
الحكمين لزم تخميس الأركان على القول الثاني والأخير وإلا لزم
تثليثها على القول الثاني ويمكن التفصي بالتزام التفصيل في ذلك
عليه ولا سترة عليه
فصل علية الحكم العلة إما تامة أو ناقصة
فإن كانت ناقصة فلا عبرة بها ما لم ينضم إليها ما يوجب تماميتها
فيرجع إلى التامة وهي المتبادر من إطلاقها وأما إن كانت تامة فهي
إما أن تكون معلومة ولو بطريق ظني آئل إلى العلم أولا وعلى
التقديرين إما أن يكون وجودها في الفرع معلوما كما مر أولا فإن علم
بعلية العلية وبوجودها في الفرع على الوجه المذكور ثبت الحكم في
الفرع لامتناع تخلف المعلول عن علته ومن هذا الباب قياس
الأولوية وتنقيح المناط ومنصوص العلة وإن ظن علية العلة بحدس و
شبهه فهو
382

مستنبط العلة وقد أطبق أصحابنا على عدم حجيته إلا ابن الجنيد فإنه
قال بحجيته على ما حكي عنه في أوائل الامر ثم رجع عنه وبطلانه
في مثل زماننا يعد من ضروريات المذهب عند المحصلين وما يرى
من تمسك العلامة في بعض المسائل بالقياس فإما أن يريد بذلك
الرد على من خالفه من أهل الخلاف بطريق الالزام أو تبينهم عليه أو
يدعي تنقيح المناط عنده أو يقصد به مجرد التقريب ودفع استبعاده
الاحتجاج به حقيقة ومن تشنع عليه بذلك فقد جهل قدره أو تجاهل
به ومثله الكلام فيما وقع في كتب الشهيدين من الاحتجاج به في
بعض المسائل والاخبار في حرمة العمل به مستفيضة بل قيل متواترة
فمما روي من طرق العامة قوله صلى الله عليه وآله تعمل هذه الأمة
برهة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا
وقوله صلى الله عليه وآله ستفرق أمتي على بضع وسبعين
فرقة أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال و
يحللون الحرام وأما الاخبار المروية من طرقنا فكثيرة وقد يتمسك
بالآيات الدالة على تحريم العمل بالظن خرج ما خرج بالدليل فيبقى
القياس مندرجا في العموم لعدم دليل على خروجه وهذا الاحتجاج
بالنسبة إلى مثل زماننا إنما يصح إذا قلنا بأن انسداد باب العلم إنما
يوجب التعويل على الظن في الأدلة ولا ظن بحجية القياس وأما إذا
قلنا بأنه يوجب التعويل على الظن في الاحكام كما يراه بعض متأخري
المتأخرين انقلب الأصل واحتيج في إخراج القياس إلى دليل وقد
أشرنا إلى ما يوجب الخروج عنه على تقدير تسليمه من جهة قيام
القاطع عليه وقد يستشكل في إخراج القياس عن الأصل المذكور بعد
تسليمه بأنه يؤدي إلى ورود التخصيص على الدليل العقلي والأدلة
العقلية لا تقبل التخصيص ودفعه واضح لان انسداد باب العلم إنما
يوجب جواز التعويل على الظنون التي لا دليل على عدم جواز
التعويل عليها عند انسداد باب العلم لا مطلقا فالدليل
الدال على عدم حجية القياس محقق للموضوع وكاشف عن عدم
ثبوت الحكم له لا أنه مخصص للعموم العقلي وهذا بمكان من
الوضوح و
الظهور والعجب من الفاضل المعاصر حيث استصعب دفع الشبهة
المذكورة فتفصى تارة بمنع إفادة القياس للظن ثم رده بأنه مكابرة و
أخرى بأنا نثبت عدم حجية القياس بالأدلة القطعية أولا ثم نفتح باب
الظن بالحجج القاضية به وقضية كلامه أن الاشكال يندفع بتقديم
إثبات عدم حجية القياس على إثبات حجية الظن وهو مما لا يكاد
يعقل له وجه أما أولا فلانه لا ترتب بين المسألتين بحيث يتعين معه
تقديم إحداهما على الأخرى في الاثبات وأما ثانيا فلان ما تمسكوا به
على حجية الظن عند انسداد باب العلم إن دل على حجيته مطلقا و
لو كان مما دل الدليل على عدم جواز التعويل عليه حال الانسداد لزم
القول بحجية القياس أو تخصيص الدليل العقلي ولم ينفع تقديم
إثبات عدم حجية القياس وإن اقتضى جواز التعويل على ما لا دليل
على عدم حجيته منه أمكن إثبات عدم حجية القياس بعد إثباته ولا
حاجة إلى التقديم وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في مبحث الاخبار
احتج المخالفون بقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الابصار فإن
الاعتبار مأخوذ من العبور وهو التجاوز والقياس تجاوز من حكم
الأصل إلى فرعه وبخبر معاد حين أرسله النبي صلى الله عليه وآله
قاضيا إلى اليمن فقال له بم تحكم قال بما في كتاب الله قال صلى الله
عليه وآله فإن لم تجد قال فبما في السنة قال صلى الله عليه وآله
فإن لم تجد قال أجتهد برأيي فقال صلى الله عليه وآله الحمد لله الذي
وفق رسول رسوله بما يحبه الله ورسوله فإن الاجتهاد بالرأي إما
هو الاخذ بالقياس أو يعمه وقوله صلى الله عليه وآله حين سئل عن
قبلة الصائم أ رأيت حين تمضمضت ماء ثم مججته أ كنت شاربه فقاس
قبلة الصائم بمضمضة الماء والجامع كون كل منهما مقدمة للمطلوب
المفطر من المباشرة والشرب وقوله صلى الله عليه وآله حين
سألته جارية خثعمية أن أباها أدركته فريضة الحج شيخا وهذا لا
يستطيع أن يحج إن حججت عنه أ ينفعه أ رأيت لو كان على أبيك دين
فقضيته أ كان يجزي فقالت نعم فقال صلى الله عليه وآله فدين الله
أحق بالقضاء فقاس صلى الله عليه وآله الحج بالدين بجامع كونه حقا
للغير والجواب
أما عن الآية فبأن الاعتبار بمعنى الاتعاظ لأنه المتبادر منه عرفا
فكذلك لغة وشرعا لأصالة عدم النقل ولو أنه حقيقة في التجاوز
فالمراد به هنا إنما هو الاتعاظ بقرينة السياق والتفريع إذ لا معنى لقولنا
يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا النبيذ
بالخمر والذرة بالبر وقد أجيب عن هذا بأن المراد بالاعتبار مطلق
المجاوزة عن حال شئ إلى حال مثله وهو متناول للاتعاظ الذي
هو مجاوزة عن حال الغير إلى حال النفس ولغيره مما هو محل البحث
ولا يخص بالثاني ليلزم المنافرة وفساد التفريع وفيه أن الامر
بطبيعة الاعتبار إنما يقتضي إيجادها في الجملة ولو في ضمن فرد
واحد فإذا تحقق إرادة إيجادها في ضمن الاتعاظ تحقيقا للمناسبة
بقي دلالته على وجوبه في غيره محتملا منفيا بأصل العدم وأما ما
يقال من أن الامر بالاعتبار للعموم بدليل صحة الاستثناء منه كأن يقال
فاعتبروا إلا في الامر الفلاني فضعفه ظاهر لان مجرد صحة الاستثناء لا
تنهض قرينة على العموم نعم وقوعه في الكلام ينهض قرينة
عليه لكن انتفاؤه في المقام معلوم وأما عن الرواية الأولى فبأنها مروية
بطريق آخر أيضا وهو أنه لما قال معاذ أجتهد برأيي قال صلى
الله عليه وآله لا بل ابعث إلي أبعث إليك فيدل على نقيض المدعى
على أن الاجتهاد عبارة عن استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم
الشرعي بدليل شرعي فلا يتناول القياس إلا على تقدير ثبوت كونه
دليلا شرعيا فلو ثبت كونه دليلا شرعيا بذلك كان دورا فتأمل و
أما عن الروايتين الأخيرتين فبأن الغرض من القياس المذكور فيهما
تقريب الحكم إلى
383

فهم المخاطب ليكون أوقع في نفسه لا الاستدلال به لأنه صلى الله
عليه وآله لا يحكم إلا عن الوحي كما يدل عليه قوله تعالى وما ينطق
عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وتنزيله على إرادة تعليم المخاطب
طريق الاستنباط أو تقريره عليه ليس بأولى من تنزيله على ما
ذكرناه من إرادة التقريب أو النص على العلة المقتضية لعدم الافطار و
حصول القضاء ليقاس عليه نظائره مما يشارك في العلة
المنصوصة مع أن قوله صلى الله عليه وآله في الرواية الثانية فدين الله
أحق بالقضاء يفيد الأولوية ولا نزاع في حجيته لكن يشكل بأن
هذه الأولوية ظنية غير مستندة إلى اللفظ الذي نقول بحجيته هي
الأولوية القطعية أو المستندة إلى اللفظ إلا أن يقال إنه صلى الله عليه و
آله استدل بالأولوية الواقعية لا الأولوية عند السائل فلا إشكال وعلى
أحد هذه الوجوه ينزل قول أمير المؤمنين عليه السلام أ توجبون
عليه الرجم والجلد ولا توجبون عليه صاعا من ماء وأمثال ذلك مع
أن تلك الأخبار مروية بطريق غير معتبر والمسألة إن لم يطالب
فيها بالقطع لكونها أصولية فلا أقل من أن يطالب فيها بظن معتبر وهي
غير مفيدة له مع معارضتها بأخبار أخر أوضح منها سندا و
دلالة كما عرفت
فصل اختلف أصحابنا في حجية القياس المنصوص العلة
فالمعروف بينهم أنه حجة فيتعدى الحكم إلى موارد العلة وذهب
بعضهم كالسيد المرتضى إلى المنع وقد وقع النزاع هنا في مقامين
الأول أن التعليل بالعلة المضافة إلى الأصل كقولنا حرمت الخمر
إسكارها هل يقتضي عدم مدخلية الإضافة في العلة كإضافة الاسكار
إلى
الخمر فيكون العلة هو الامر المطلق المتحقق في بقية موارده أو لا
فيكون الثابت هو علية المقيد المقصور على الأصل كالاسكار
المخصوص بالخمر والنزاع على هذا لفظي لغوي والثاني أنه إذا ثبت
علية أمر لحكم في مورد من غير أن يكون لخصوص المورد مدخل
فيه فهل يثبت علية له في سائر موارد ثبوته فيتعدى الحكم إليها أو لا
بل يقتصر به على مورد الثبوت والنزاع على هذا عقلي معنوي و
يظهر من العلامة اختصاص النزاع بالمقام الأول مشعرا بنفيه عن المقام
الثاني لكن حكى في المعالم عن السيد مخالفته في المقام الثاني
أيضا والعبارة التي حكاها عنه واستشهد بها غير ظاهرة في ذلك كما
سننبه عليه وكيف كان فالمختار في المقام الأول ظهور اللفظ
في علية المطلق وفي المقام الثاني لزوم تحقق الحكم في موارد تحقق
العلة لنا على الأول قضاء العرف والاستعمال به فإن المفهوم من
نحو حرمت الخمر لاسكارها أن العلة في التحريم هي الاسكار المطلق
المتحقق فيها من غير أن يكون للخصوصية مدخل في ذلك وكذا
الحال في نظائره أ لا ترى أن قول الطبيب لا تأكل هذا الشئ لأنه حار
أو يابس يدل عرفا على المنع من أكل كل حار أو يابس دون
خصوص الشئ المذكور وقول النحوي زيد في ضرب زيد مرفوع لأنه
فاعل يدل على رفع كل فاعل دون خصوص لفظ زيد إلى غير
ذلك حجة الخصم أن إضافة الاسكار إلى ضمير الخمر تفيد التقييد بها
وعلية المقيد لا تستلزم علية المطلق وأيضا الاسكار اسم معنى و
إضافته تفيد الاختصاص على ما سبق التنبيه عليه في أوائل الكتاب
فيكون مفاد التعليل علية
الاسكار المختص بالخمر فلا يتعدى إلى إسكار غيرها والجواب أنه لا
كلام في أن علة تحريم الخمر الاسكار المقيد بها أو المختص بها
بمعنى عدم مشاركة إسكار غير الخمر في حصوله فيها وإنما الكلام
في أن عليته هل هي من حيث كونه إسكارا مطلقا أو إسكارا مقيدا
أو مختصا وقد عرفت أن المتبادر منه عرفا هو الأول فيجب التعويل
عليه وإن كان قضية الجمود على ظاهر التركيب هو الثاني أو
التوقف بينه وبين الأول ولنا على المقام الثاني أنه إذا ثبت علية أمر
لحكم علية تامة وجب ثبوته في جميع موارده إذ لو انفك عنه لكان
إما من جهة اشتراطه بأمر غير حاصل كعدم حصوله في ذلك المورد أو
عدم حصول أمر آخر فيه فيلزم عدم تمامية العلة وقد فرضناها
تامة أولا فيلزم تخلف المعلول عن علته التامة وكلاهما متضح
الاستحالة احتج السيد رحمه الله بأن علل الشرع إنما تنبئ عن
الدواعي إلى
الفعل أو عن وجه المصلحة فيه وقد يشترك الشيئان في صفة واحدة و
يكون في أحدهما داعية إلى فعله دون الاخر مع ثبوتها فيه وقد
تكون مثل المصلحة مفسدة وقد يدعوا الشئ إلى غيره في حال دون
حال وعلى وجه دون وجه وقدر منه دون قدر قال وهذا باب في
الدواعي معروف ولهذا جاز أن يعطى لوجه الاحسان فقير دون فقير و
درهم دون درهم وفي حال دون أخرى وإن كان فيما لم نفعله
الوجه الذي لأجله فعلنا بعينه ثم قال إذا صحت هذه الجملة لم يكن
في النص على العلة ما يوجب التخطي والقياس وجري النص على
العلة
مجرى النص على الحكم في قصره على موضعه وليس لاحد أن يقول
إذا لم يوجب بالنص على العلة التخطي كان عبثا وذلك أنه يفيدنا
ما لم تكن نعلمه لولاه وهو ما له كان هذا الفعل المعين مصلحة هذا
كلامه على ما حكاه في المعالم ودلالته على المخالفة في المقام الثاني
غير واضحة إذ محصل كلامه أن تأثير الشئ مما يختلف باختلاف
المحال والمواد فقد يؤثر الشئ في محل دون آخر في مادة دون
أخرى وهذا صالح
للتنزيل على المنع في المقام الأول بحمله على المنع من استلزام علية
العلة للحكم في موارد عليتها له في سائر الموارد سواء حمل العلة في
كلامه على العلة التامة كما هو الظاهر من إطلاقها بل في بيانه ما ينبه
عليه أو العلة الناقصة أو الأعم منها ومن التامة فتعتبر العلية على
الأول بالنسبة إلى الامر المقيد بالمورد الخاص ولا ريب أن عليتها مع
انضمام الخصوصية تامة وتعتبر على الأخيرين بالنسبة إلى الامر
المطلق وعلى المنع في المقام الثاني بحمله على المنع من استلزام
علية العلة للحكم في مورد عليتها له في
384

مع تسليم كونها علة تامة للحكم المطلق لكن وضوح فساد الثاني يمنع
من تنزيل كلام مثله عليه بعد ما علم من سعة باعه في علم المعقول
فيتعين الحمل على الأول وربما كان في كلامه تلويحات إليه
فائدتان
الأولى
علية العلة قد تعرف بالتنصيص عليها بلفظ دال عليها وضعا كالباء و
اللام وما يرادفهما من الأسماء كالسبب والعلة وقد تعرف من
تعليق الحكم على الوصف لاشعاره بالحيثية التعليلية في بعض
الموارد وقد تعرف من اقتران الخطاب بما لولا كونه علة لاستبعد
اقترانه
به وذلك كما لو سيق الخطاب طلبا للجواز واقترن به ما يصلح له نحو
قوله صلى الله عليه وآله كفر بعد قول السائل واقعت أهلي في
نهار شهر رمضان بخلاف نحو قول المولى لعبده اسقني ماء بعد قوله
جاء زيد أو طلع الفجر فإنه مما لا يقتضي الجواب غالبا أو لا يصلح
المذكور وقد تعرف من الفعل كما لو سجد عند قراءته لآية السجدة أو
سماعه أو من التقرير كما لو فعل ذلك غيره عنده فأقره عليه و
قد تعرف بالقرائن الحالية والشواهد الاستنباطية البالغة درجة اليقين و
يسمى القياس حينئذ بالقياس المنقح المناط وكيف كان فمتى
علم بالعلة التامة للحكم ولو بظاهر معتبر كما في المنصوص وجب
تعدي الحكم إلى سائر موارد العلة لامتناع تخلف المعلول عن علته
التامة وهنا إشكال لا بأس بالتعرض له ولدفعه وهو أن أصحابنا
الفقهاء قد صرحوا في غير موضع بأن علل الشرع معرفات وليست
بعلل حقيقية فأجازوا لذلك من توارد عدة منها على معلول واحد كما
نبهوا عليه في مسألة تعاقب الاحداث الموجبة للطهارة وهذا ينافي
القول بحجية هذه الأنواع من القياس لابتناء حجيتها على اعتبار العلة
علة حقيقية تامة ضرورة أن العلل الغير الحقيقية أو الناقصة يجوز
انفكاكها عن معلولها ووجه الدفع أن علل الشرع على ضربين الأول
العلل المجعولة في الشرع عللا وأسبابا بالأحكام مخصوصة كعلية
الاحداث لوجوب الطهارات والافطار والظهار والايلاء والحنث و
الصيد لوجوب الكفارات والتصرف والاتلاف لثبوت الضمان و
العقود والايقاعات لوجوه
النقل والانتقال والفك والبينونة إلى غير ذلك وهذه العلل إذا قيست
إلى الاحكام التي يترتب عليها شرعا كانت معرفات لها ومبينات
لتحققها بعللها الواقعية لا عللا حقيقية لانحصارها في الأربع وعدم
كونها من المادية والصورية واضح وكذا كونها من العلة الفاعلية
لاستناد جعل الأحكام الشرعية إليه تعالى لا إلى تلك الأسباب وكذا
عدم كونها من الغائية لظهور أن ليس المقصود بوضع تلك الأحكام
ترتب تلك الأسباب عليها الثاني العلل التي هي منشأ الحكم وجهات
حسن تشريعه وما يستند إليه مطلوبية الفعل أو مبغوضيته كإسكار
الخمر الموجب لمبغوضية شربها وهذه العلل علل حقيقية وليست
بعلل وضعية إذ مرجعها إلى العلة الغائية فإن المقصود من تحريم
الخمر
حفظ المكلف عن السكر وفساد العقل وما ذكره الفقهاء من أن علل
الشرع معرفات فإنما عنوا به القسم الأول بقرينة ذكرهم ذلك في
سياق تلك العلل وقد عرفت أنها لا تصلح للعلية الحقيقية بالنسبة إلى
الاحكام التي تعد عللا لها وإن كانت بالنسبة إلى الآثار التي قصد
بوضع تلك الأحكام رفعها أسبابا عقلية كما أن رفع تلك الآثار إن
قيست إلى تلك الأحكام كانت عللا غائية لها فظهر أن الفرق بين
القسمين إضافي ومن هنا نقول لو علم في القسم الأول أن وجوب
الطهارة عن الاحداث الثلاثة إنما هو لإزالة حالة حدثية حادثة من
خروج الاحداث وعلم بحدوثها بأمر آخر حكمنا بوجوب الطهارة له و
رجع إلى القسم الأخير ثم يبقى الكلام هنا في جواز توارد العلل
الغائية على معلول واحد وتحقيق الكلام فيه أن الحكم المعلل بها إن
كان قابلا للشدة والضعف كالوجوب والتحريم وأخويهما وصلح
توارد الأسباب عليه لإفادة تأكده كان معلول إحداهما حال الانفراد
غير معلول المجموع حال الاجتماع فيكون علية المنفرد للضعيف
مشروطة بعدم الانضمام إذ حال
الانضمام يكون المعلول أمرا آخر وهو القوي المباين للضعيف ولو لم
يكن الحكم قابلا للشدة والضعف كالإباحة والصحة والفساد أو
كان ولكن علم عدم تأكده بطريان مثل العلة كالاحداث المتعاقبة جاز
أن تكون علية الثاني مشروطة بعدم سبق المتقدم فيكون الثاني
معرفا وكاشفا محضا ويصح اعتباره في النية فينوي في مسألة تعاقب
الاحداث رفع الحالة المنكشف عنها بالاحداث المتعاقبة وأن لا
تكون مشروطة به فيشترط استدامة التأثير به فيكون العلة بعد تحققه
هو والسابق كما في صورة التوارد في زمان واحد والأسبقية لا
يصلح للترجيح حينئذ لان العلية إذا كانت مستدامة كانت بالنسبة إلى
كل زمان كالعلية الابتدائية
الثانية
القياس بالطريق الأولى هو القياس الذي يكون علة الحكم فيه في الفرع
أقوى وآكد منها في الأصل ولا بد في الحجية من العلم بها و
بكونها كافية في ثبوت الحكم وبتحققها في الفرع وقد يطلق عليه
القياس الجلي وهو أعم منه من وجه لان المراد به ما كان الفارق فيه
بين الأصل والفرع معلوم الانتفاع ولا يعتبر العلم بالحكمة المحققة
لعلية العلية بل يكفي مجرد العلم بالعلية كما في المنصوص العلة ولا
يكفي مجرد الظن بأصل العلية أو بتماميتها أو بتحققها في الفرع ما لم
يكن بأحد الظنون المعتبرة وقول العلامة بعد ذكر منصوص العلة
وقياس الضرب على التأفيف ليس من هذا الباب لان الحكم في الفرع
أقوى مما لا ظهور له في الاكتفاء بمجرد كون العلة في الفرع أقوى
وإن لم يثبت العلية بدليل معتبر كما توهمه الفاضل
385

المعاصر إذ كلامه مسوق لبيان الفرق لا لبيان ما يكتفي به في معرفة
العلة ثم لا خلاف في تعدية حكم الأصل هنا إلى الفرع في الجملة و
إن اختلفوا في وجه التعدية وقد حرروا النزاع في آية التأفيف فذهب
فيها قوم إلى أن تعدية حكم التحريم إلى أنواع الأذى الزائدة عنه
بالقياس وذهب آخرون إلى أنها لدلالتها عليه بالمفهوم الموافق و
حكي عن المحقق أنها منقولة عن موضوعها اللغوي إلى المنع من
أنواع
الأذى احتج الأولون بأنه لو قطع النظر عن المعنى المناسب المشترك
ومن كونه آكد في الفرع لما حكم بتعدي الحكم إليه وهو معنى
القياس واعترض عليه أولا بأن معنى المناسب لم يعتبر لاثبات الحكم
حتى يكون قياسا بل لكونه شرطا في دلالة المفهوم وثانيا بأن
من لا يقول بحجية القياس يقول بحجيته ولو كان قياسا لما قال النافي
به ورد الأخير بأنه لا خلاف في حجية هذا النوع من القياس و
إنما الخلاف في حجية بقية أنواعه فليس في الاتفاق على حجيته
دلالة على عدم كونه قياسا وفي هذا الرد مع أصل الاعتراض نظر أما
في
الرد فلان من يجعل الدلالة باعتبار المفهوم أو النقل ينكر حجيته
باعتبار كونه قياسا فلا يتم الاجماع على حجية هذا النوع من القياس و
أما في الاعتراض فلان كل من أنكر حجية القياس لا يقول بحجية هذا
النوع منه بل بعضهم كما عرفت وهو في الحقيقة مفصل بين أنواع
القياس وليس فيه دلالة على عدم كونه قياسا احتج النافون بالقطع
بإفادة اللفظ للحكم المذكور من غير توقف على استحضار صورة
القياس فلا يكون التعدية باعتباره ورد بأن هذا النوع من القياس لا
يتوقف على استحضار صورة القياس بل يعرفه كل من يعرف اللغة
من غير حاجة إلى نظر واجتهاد ولعل حجة المحقق تبادر حرمة مطلق
الأذى منه عند الاطلاق وأنه آية الحقيقة وضعفه ظاهر لان
تبادرها ليس عن نفس اللفظ بل عنه بواسطة المعنى ومثله لا يكون
علامة للحقيقة وإلا لكان كل لفظ حقيقة في لوازم معناه لتبادرها
منه معه فانحصر الاحتمال في القولين الأولين ولكل وجه ولا ثمرة
للنزاع
تتمة
قد ورد في بعض الاخبار ما يدل بظاهره على عدم حجية القياس
بالطريق الأولى فيدل على عدم حجية غيره بالطريق الأولى كصحيحة
أبان ابن تغلب عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت له ما تقول في
رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها قال عشر من الإبل قلت
قطع اثنين قال عشرون قلت قطع ثلاثا قال ثلاثون قلت قطع أربعا قال
عشرون قلت سبحان الله يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون و
يقطع أربعا فيكون عليه عشرون إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ
ممن قاله ونقول الذي جاء به شيطان فقال مهلا يا أبان هذا
حكم رسول الله إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية فإذا بلغت
الثلث رجعت إلى النصف يا أبان إنك أخذتني بالقياس والسنة إذا
قيست
محق الدين ووجه الدلالة أن ثبوت الثلاثين عند قطع الثلاث يوجب
ثبوته عند قطع الأربع بطريق الأولوية وقد شنع الامام على السائل
حيث استدل به بقول إنك أخذتني بالقياس إلى آخر ما مر وفي الخبر
عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لولا أني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وآله يمسح ظاهر قدميه لظننت أن باطنهما أولى
بالمسح من ظاهرهما ووجه الدلالة أن المستفاد من كلامه التعريض و
التنبيه على أن الدين ليس بالقياس وأن ظن الأولوية كما هو مورد
الفرض هذا مضافا إلى الأخبار الدالة على تحريم العمل بالقياس فإن
قضية إطلاقها أو عمومها عدم الفرق فيه بين الأقسام المذكورة إذ لا
اختصاص لها بالمستنبط فيكون التفصيل تحكما والجواب أما عن
الأول فبأن القياس المقصود هناك قياس ظني لا سيما بعد ورود
الرواية المخالفة كما اعترف به السائل إذ لا قطع بأن قطع الثلاث علة
لثبوت الثلاثين مطلقا لجواز اشتراطه بعدم انضمامه إلى ما يوجب
البلوغ إلى ثلث دية الرجل كما ذكره عليه السلام غاية ما في الباب أن
نظن عدم الاشتراط وهو غير معتبر فإن قلت منشأ إطلاق الظن ما دل
على سببية قطع الثلاث للثلاثين فيكون ظنا معتبرا قلت إنما
يعتبر الاطلاق حيث لا يعارضه ورود المقيد وقد
اعترف السائل بوروده فلا يبقى له إلا مجرد استبعاد مستند إلى قياس
ظني كما يشهد به مساق كلامه وأما عن الثاني فبأنه إنما يدل
على عدم حجية القياس بالطريق الأولى عند الظن الاستحساني
بالطريق والأولوية كما يستفاد من قوله عليه السلام لظننت ولا كلام
فيه وأما عن الأخير فمن وجهين الأول التصرف في الأخبار المذكورة
بحملها على القياس المستنبط بدليل تسميته عملا بالرأي كما وقع
في بعض الاخبار فإن العمل بالبواقي عمل بالنص أو بما لا ريب في
حجيته مع أن تسمية ما عدا المستنبطة به غير ثابت في الاخبار وإنما
الثابت تسميته به في مصطلح القوم وهو لا يجدي والثاني بالتصرف
في الأقيسة التي نقول بحجيتها بإرجاعها إلى قياس اقتراني
مشتمل على صغرى وجدانية وهي أن النبيذ مسكر والشتم أشد
إيلاما من قول أف وكبرى مستفاد من التصريح بالعلة أو الفحوى وهي
تحريم كل مسكر أو كل أذى يكون أشد من قول أف وبالجملة يستفاد
من النص أو ما في حكمه كبرى كلية وبعد ضم صغرى وجدانية
إليها يتم المقصود ولا حاجة إلى اعتبار المشاركة مع الأصل في علة
الحكم واستفادة الحكم من هذه الحيثية وإن كانت حاصلة ليلزم
العمل بالقياس ولا يذهب عليك ضعف هذا الوجه فالمعتمد هو
الأول ثم اعلم أن للقائلين بحجية القياس المستنبط طرقا لاستنباط
العلة
كالدوران وهو دوران الحكم مع العلة وجودا وعدما كدوران تحريم
الخمر مع الاسكار وكالسبر والتقسيم وهو حصر الأوصاف
الموجودة في الأصل الصالحة للعلية في عدد ثم إبطال علية ما عدا
الذي يدعى عليته وكالمناسبة والإحالة وهو تعيين العلة في الأصل
بمجرد المناسبة وغير ذلك مما تحرر في كتب الجمهور وحيث أبطلنا
386

حجية أصل هذا القياس فلا حاجة لنا إلى التعرض لهذه التطويل التي لا
طائل تحتها وكذا لا حجة لنا إلى التعرض للاستحسان والمصالح
المرسلة بعد ما أطبق أصحابنا على عدم حجية ذلك ومن أراد الاطلاع
فليطلب مظانه من كتب العامة
القول في الاجتهاد والتقليد
مقدمة الاجتهاد لغة تحمل الجهد والمشقة في تحصيل أمر
وعرف عرفا بتعاريف أعرفها ما ذكره الحاجبي وتبعه فيه جماعة من
أنه استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل الظن بحكم شرعي
فالاستفراغ جنس ويخرج بتقييده بالقيود المذكورة استفراغ غير الفقيه
واستفراغه لغير الوسع واستفراغه في غير تحصيل الظن و
في تحصيل الظن بغير الحكم الشرعي والاشكال على هذا الحد من
وجوه منها ما ذكره العلامة التفتازاني من أن قيد الفقيه مستدرك إذ
لا وجه للاحتراز عن غير الفقيه فإنه لا فقه إلا بعد الاجتهاد هذا ملخص
كلامه ومحصله أن التعريف غير منعكس لان الفقه هو العلم
بالأحكام المعهودة عن أدلتها والعلم بها عنها إنما يتحقق بعد
الاستفراغ والاجتهاد فعنوان المجتهد يصدق قبل صدق عنوان الفقيه
فلا
يتناول الحد لجميع مصاديق المحدود ولو قال لا فقه غالبا إلا بعد
الاجتهاد كان أولى لان الفقيه قد يصرف وسعه في تحصيل العلم من
أول الامر ويحصل العلم فيحصل الفقه بدون الاجتهاد ثم هذا إنما يرد
إذا فسر الفقه بالعلم الفعلي وأما إذا فسر بالملكة والتهيؤ كما هو
الظاهر وقد اخترناه في تعريفه سابقا فلا ريب في تقدمه على الاجتهاد
فلا يتوجه الاشكال إذ على هذا التقدير يكون مرتبة الفقه
متقدمة على مرتبة الاجتهاد فلا يختل عكس الحد بأخذه فيه وقد
أشار إليه التفتازاني بقوله إلا أن يراد بالفقه التهيؤ لمعرفة الاحكام و
زعم الفاضل المعاصر أن أخذ الفقيه في الحد يوجب الدور وقرره بأن
معرفة الفقه تتوقف على معرفة الاجتهاد لأنه على ما سبق هو العلم
بالأحكام المقررة عن أدلتها وهو لا يتحقق إلا بكونه مجتهدا فلا فقه إلا
مع الاجتهاد أقول وكأن هذا توهم في كلام التفتازاني وقد
نبهنا على مراده وكيف كان فوجه لزوم الدور هنا على بيانه غير واضح
لان عدم تحقق الفقه بدون الاجتهاد لا يوجب توقف معرفته
عليه إذ لا يلزم من توقف شئ على شئ في
الخارج توقفه عليه في التصور نعم يتوجه ذلك إذا فسر الفقيه
بالمجتهد كما ذكره بعضهم لكنه تفسير غير معروف والفاضل المذكور
لم يقرر الدور عليه بل على التفسير المعروف ثم ذكر في دفع الدور
وجهين الأول أن المراد بالفقيه من مارس الفقه احترازا عن مثل
المنطقي وهذا التفسير قد ذكره الشيخ البهائي نقلا عن بعض شراح
المنهاج قال وليس المراد به المجتهد كما قد يظن ثم أورد المعاصر
المذكور عليه أولا بأنه مجاز ولا قرينة عليه وثانيا بأن الممارس قد
يستفرغ وسعه ويعجز عن الاستنباط مع أنه حينئذ لا يسمى
مجتهدا فإن قيل لا يصدق في حقه استفراغ الوسع قلنا فكذا في
المنطقي وأشباهه فلا فائدة في التقييد ولا يخفى ما فيه بل الوجه منع
عدم الصدق الثاني أن المراد بالاجتهاد فعلية الاستفراغ كما هو ظاهر
اللفظ وبالفقه ملكة العلم بالأحكام وأنت خبير بأنه راجع إلى ما
ذكره التفتازاني وهو ينهض بدفع الدور الذي توهمه إذ الفقه الشأني لا
يتوقف على الاجتهاد الفعلي لكن قد عرفت أن الدور في نفسه
غير متوجه وأن المتوجه إنما هو إشكال عدم الانعكاس كما بينا ثم
قال والتحقيق أنه إن أريد تحديد الاجتهاد بالمعنى الأعم وجعل
الفقه أيضا كذلك فنقول الفقه هو العلم بالأحكام الناشئة عن الأدلة و
الاجتهاد هو استنباط الاحكام منها ولا التفات في التعريفين حينئذ
إلى ما يتقوم به الأمران ولذلك تراهم بعد ذكر تعريف الاجتهاد
يجعلون المعرفة بما يتوقف عليه ومنه القوة القدسية من شرائطه لا
من
مقوماته وإن أريد تعريف صحيحهما فالاجتهاد هو الاستفراغ في
تحصيل الحكم الشرعي الفرعي من أدلتها لمن عرف الأدلة وأحوالها
وكان له القوة القدسية التي يتمكن بها عن مطلق رد الفرع إلى الأصل و
الفقه هو العلم الحاصل بالأحكام الشرعية والفرعية عن أدلتها
لمن كان كذلك فلا يدخل شئ منها في تعريف الاخر ولا يلزم دور
انتهى ملخصا والتحقيق أن الفقه والاجتهاد ولا يطلقان على وجه
الحقيقة عرفا
إلا على المعنى المعتبر الصحيح وإطلاقه على غيره مجاز والحدود
التي تورد في المقام إنما تساق لبيان المعنى الحقيقي دون المجازي
ثم الفقه والاجتهاد باعتبار ما يتوقفان عليه من العلوم والقوة القدسية
ليسا من المركبات بل من البسائط المعتبرة معها قيود عديدة
فهي شرائط لهما لا أجزأ ومقومات لماهيتهما ومن هذا البيان يظهر
أن قوله ومنه القوة القدسية لا يستقيم إلا بارتكاب تخصيص و
استخدام والوجه في البيان ما ذكرناه إذ الذي يذكرونه من الشرائط
نفس القوة لا معرفتها وليس في تعرضهم لشرائط الاجتهاد بعد
تعريفه ما يدل على إرادتهم منه المعنى الأعم بل ذلك قرينة واضحة
على إرادة المعنى الأخص بدليل أن المعنى الأعم لا يعتبر فيه تلك
الشرائط وإنما المشروط بها المعنى الأخص ويظهر من بيانه أنه إنما
اعتبر الشرائط في تعريف صحيح الاجتهاد والفقه قصدا إلى
إدخالها في المقومات ومن الواضح أن ما ذكره تعريف رسمي لا حد
حقيقي فكيف يوجب دخول القيود المذكورة فيه في المقومات مع
أن دخولها فيها غير معقول في نفسه على ما مر كما لا يخفى الثاني ما
ذكره المعاصر المذكور أيضا وحاصله أن قيد الظن مستدرك بل
مفسد لعكس الحد لان المقصود به الاحتراز عن الضروريات أو
القطعيات والأول خارج عن الاستفراغ والثاني لا يحسن إخراجه لان
الاجتهاد قد ينتهي إلى القطع وفيه أن مصطلح القوم منعقد على
387

الاجتهاد بالظنيات كما صرح به غير واحد منهم فإن أراد تجديد
اصطلاح فلا مشاحة لكنه لا يخلو من نوع حزازة لأنه عدول عن
الطريقة
المتداولة المعروفة بلا ثمرة ونكتة مع أن النكتة في تخصيص القوم له
بالظنيات ظاهرة وهي اختصاص جملة من مباحثهم به كبحثهم
عن حجيته وتشاجرهم على قبوله للتجزية بقول مطلق فإن القطعي لا
يبحث عن حجيته ولا كلام في حجية قطع المستجزي في حقه ثم
أقول الفقيه إما أن يستفرغ وسعه في تحصيل القطع أو الظن أو أحدهما
وعلى التقادير إما أن يحصل القطع أو الظن أو لا يحصل شئ
منهما فإن أريد من خروج القطعيات خروجها بنفسها فالظنيات أيضا
كذلك لان الاجتهاد من جنس الاستفراغ وهو لا يصدق على شئ
منهما وإن أريد خروج الاستفراغ الموصل إليها فهو إنما يتم على
التقدير الأول خاصة لا مطلقا كما ادعى نعم لو أريد باستفراغ الوسع
في تحصيل الظن بطريق الاستفراغ خرجت القطعيات مطلقا لكنه
خلاف ظاهر الحد الثالث أن طرد الحد غير مستقيم أما أولا فلصدقه
على استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظن بالحكم الشرعي الأصولي
مع أن ذلك لا يسمى اجتهادا بهذا الاصطلاح حقيقة بل يختص
الاجتهاد في مصطلحهم هذا بالمباحث الفرعية فلا بد من زيادة قيد
الفرعي ليخرج ذلك وأما ما ذكره الفاضل المعاصر من أن المتبادر
من الشرعي الفرعي فلا حاجة إلى التقييد فما لا وجه له فإن قلت
المسائل الأصولية يطالب فيها بالقطع فلا يستفرغ الوسع في تحصيل
الظن بها بخلاف المباحث الفروعية قلت هذا ممنوع إذ الظنون التي
قام قاطع على اعتبارها مطلقا كظاهر الكتاب والسنة يصح التعويل
عليها في الأصول والفروع كما أن الظنون التي لا قاطع على اعتبارها لا
اعتداد بها في شئ منهما فالتفصيل غير سديد مع أن عدم
الاعتداد بالظن لا ينافي استفراغ الوسع في تحصيله وهو كاف في
فساد الطرد إلا أن يراد به الاستفراغ المعتد به لكن لا دلالة للحد
عليه وأما ثانيا فلصدقه على استفراغ الفقيه وسعه
في تحصيل الظن بفتوى غيره بإعمال القوانين اللفظية في استنباط
مرامه من كلامه والجمع أو الترجيح بالوجوه المقررة عند وقوع
التعارض في نقله إذ يصدق على فتوى المفتي أنه حكم شرعي ولو
في الجملة ولو سلم أن المراد ما هو حكم شرعي في حق المستفرغ أو
مقلديه أو ما هو حكم شرعي في الواقع ويكون استفراغه باعتبار كونه
حكما شرعيا في حقه على استفراغه الوسع في معرفة فتوى
غيره عند عدم تمكنه من الاجتهاد وفيما يحتاج إليه إما لضيق وقت أو
فقد كتب يعتبر مراجعتها أو لقصور نظره بناء على جواز التجزي
ولا ريب أن الاستفراغ المذكور ولا يعد في الاصطلاح اجتهادا و
يمكن الجواب عن هذا وعن سابقه باعتبار قيد الحيثية في الفقيه فإن
الاستفراغ في المواضع المذكورة ليس من حيث كونه فقيها بل أصوليا
أو مقلدا لكن لا يتم هذا على ما تحققه في معنى الفقه مع ما في
التعويل على قيد الحيثية من الخفاء فالأولى أن يراد بعد قيد الفرعي
قولنا عن الأدلة التفصيلية فتندفع الاشكالان وأما ثالثا فلصدقه
على استفراغه الذي لا يترتب عليه تحصيل الظن إذ صرف الوسع في
طلب شئ لا يستلزم الوصول إليه مع أنه لا يسمى اجتهادا فإن الذي
يستفاد من عرفهم أن الاجتهاد عبادة عن تحصيل الظن بالحكم على
الوجه المعتبر ويمكن دفعه بأن المراد باستفراغ الوسع في تحصيل
الظن تحصيل الظن بطريق الاستفراغ ولا يخفى بعده وربما أمكن
الالتزام بأن مجرد الاستفراغ اجتهاد وإن لم يترتب عليه حصول
الظن الرابع أن الظاهر من استفراغ الوسع بذل تمامه وهو غير لازم وإلا
لادى إلى صرف تمام الوقت في تحصيل مسألة واحدة و
الجواب أن المراد باستفراغ الوسع ما هو المعتبر في عرف المجتهدين
لا الاستفراغ العقلي والقدر المعتبر أمر معروف وهو ما يحصل
به الظن بعدم الظفر بالمعارض ظنا يعتد به فلا يلزم جهالة الحد ولا
ينافي ذلك تفسير العضدي له ببذل تمام الطاقة بحيث يحس من
نفسه العجز عن المريد عليه إذ المراد بإحساس العجز
ظنه لئلا يلزم الاشكال المذكور ثم قد يطلق الاجتهاد على الملكة التي
يقتدر بها الفقيه على الاستنباط المذكور إذ كثيرا ما يقال فلان
مجتهد ويراد أن له الملكة المذكورة وعرفه البهائي بهذا الاعتبار بأنه
ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل
فعلا أو قوة قرينة فالملكة جنس يشمل سائر الملكات قال الشارح
الجواد يخرج بقيد الملكة المستنبط لبعض الاحكام عن أدلتها بالفعل
من غير أن يصير ذلك ملكة بل كان حالا ولا يخفى أن إطلاق القيد
على الملكة ونسبة الاخراج إليه وجعل المخرج المستنبط
المخصوص
تعسف وخرج بقوله يقتدر إلى الحكم الملكة التي يقتدر بها على
استنباط غير الحكم ثم إن قلنا بجواز التجزي في الاجتهاد فالوجه أن
يجعل اللام للجنس وإلا فللاستغراق والعجب من الشارح المذكور أنه
عين اللام للجنس ليدخل المتجزي مع أنه صرح أولا باعتبار الملكة
في الاجتهاد وعدم العبرة بالحال مع مناسبة الحال لمرتبة المتجزي و
الفرق بين الملكة والحال أن الملكة قوة راسخة يعسر زوالها و
الحال قوة يسهل زوالها وخرج بقيد الشرعي الحكم العقلي وشبهه و
بالفرعي الأصلي وبقوله من الأصل الحكم الضروري قال الشارح
المذكور وبالقوة القرينة يدخل من له تلك الملكة من غير أن يستنبط
بالفعل بل يحتاج إلى زمان إما لتعارض الأدلة أو لعدم استحضار
الدليل أو للاحتياج إلى التفات انتهى أقول لم يكن ذلك خارجا حتى
يحتاج إلى القيد المذكور ولادخاله بل التحقيق أن التقييد بقوله فعلا
مستدرك لان ذلك مأخوذ في معنى الاستنباط وبقوله أو قوة قريبة
مفسد للحد لان الاستنباط بالقوة القريبة معناه القوة القريبة
388

القرينة للاستنباط وهي معنى الملكة فيرجع الحد إلى أن الاجتهاد
ملكة الملكة وفساده واضح ويمكن توجيهه بجعل قوله أو قوة قريبة
عطفا على الملكة على أن يكون المعنى أن الاجتهاد إما ملكة
الاستنباط الفعلي أي الحاصل أو قوة قريبة من الاستنباط الفعلي و
حينئذ
فيتم قول الشارح وبالقوة القريبة يدخل إلى آخر ما ذكره لكن يرد عليه
مع عدم ملائمة الترديد للتعريف لان القوة القريبة من
الاستنباط ربما يتناول القوة القريبة من الاجتهاد فلا يتم طرد التعريف و
اعلم أن الفرق بين الفقه والاجتهاد من وجوه الأول أن الفقه
هو العلم أو ملكته والاجتهاد هو استفراغ الوسع أو ملكته وأحدهما
غير الاخر الثاني أن المقصود في مقام الاجتهاد تحصيل الظن
بالحكم الشرعي وفي مقام الفقاهة تحصيل العلم به والظن إنما
يستفاد من الأدلة التفصيلية والعلم إنما يحصل غالبا من الدليل
الاجمالي
وإسناده إلى الأدلة التفصيلية كما وقع في حده مبني بظاهره على نوع
توسع الثالث أن النظر غالبا في مقام الاجتهاد إلى الواقع وفي
مقام الفقاهة إلى الظاهر وقد يتخلف وموارده غير خفي على العارف
فصل وحيث علمت أن الملحوظ في مقام الاجتهاد تحصيل الظن
بالحكم الشرعي
فاعلم أن المراد به الظن المعتبر في معرفة الحكم وهو يختلف
باختلاف آراء المجتهدين فمن يرى أن المعتبر منه ظنونا خاصة
فالاجتهاد في حقه تحصيل تلك الظنون ومن يرى أن المعتبر منه
مطلق الظن فالاجتهاد في حقه تحصيل مطلق الظن وقد عرفت فما
حققناه في مبحث خبر الواحد صحة القول الأول وأن المعتبر في حقنا
ليس إلا ظنونا خاصة وبينا هناك بطلان القول بحجية مطلق الظن
ولا بأس في المقام بإيراد بعض الكلام عليه فنقول قد استدل على
بطلان هذا القول بعموم الآيات الناهية عن العمل بالظن والمشتملة
على ذم العامل به كقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقوله
تعالى إن يتبعون إلا الظن ونحو ذلك وأورد عليه بأن عمومها لمحل
البحث بالظهور فلا يفيد إلا الظن به فإن ثبت مدلولها من عدم جواز
العمل بالظن لزم عدم جواز العمل بها أيضا وما يلزم من وجوده
عدمه فهو محال وأجيب بوجهين الأول أن حجية ظواهر الكتاب
إجماعية فيصح إثبات عدم حجية سائر الظنون بهذا الظن لقيام القاطع
على حجيته واعترض عليه بعض المعاصرين بما يرجع محصله إلى
وجوه الأول منع قيام الاجماع على ذلك مطلقا وأن القدر المسلم منه
حجية متفاهم المخاطبين لان الكتاب ورد بلسانهم والفهم يختلف
باختلاف الزمان فإثبات حجية متفاهم المتأخرين عن زمن الخطاب
إما باعتبار انسداد باب العلم في حقهم الموجب لفتح باب الظن وهذا
يقتضي حجية ظاهر الكتاب من حيث كونه ظاهرا أي ظنا مطلقا لا
من حيث كونه ظنا كتابيا ونحن نقول بذلك وإما من جهة أن القرآن من
قبيل كتب المصنفين الذين يقصدون بها بقاءها مر الدهور
ليستفيد الناظرون إليها المقاصد على حسب أفهامهم ويعملون
بمقتضى متفاهمهم وهذا ممنوع
لا سيما في الاحكام الفرعية ولا ينافي ذلك تعلق الغرض ببقاء القرن
لحصول الاعجاز بملاحظة أسلوبه وأما حديث الثقلين والأخبار الدالة
على عرض الاخبار المتعارضة على الكتاب فلا دلالة لها على
التمسك بما يفهم من القرآن مطلقا والعرض عليه لامكان إرادة
التمسك بما علم إرادته من القرآن والعرض عليه غاية الامر أن
يستظهر منها المعنى الأول فننقل الكلام إلى التمسك بهذا الظهور
فيثبت
المطلوب على التقدير الأول ويبتني حجيتها على التقدير الثاني على
ثبوته بأن يكون تلك الأخبار من قبيل كتب المصنفين وهذه
الدعوى بعيدة في الاخبار جدا الثاني أنه إن أريد بحجية ظاهر القرآن
حجية الظن المستفاد منه من جهة كونه مستفادا منه فهذا باطل
قطعا للاجماع على عدم جواز العمل به إلا بعد النظر في المعارض و
ارتكاب العلاج وإن أريد حجيته بعد ذلك فلا ريب في أن الظن
الحاصل بعد ذلك ليس ظنا حاصلا من الكتاب بل من ملاحظة
مجموع الأدلة فيخرج عن مورد الاجماع الثالث أن عموم هذه الآيات
مخصص ببعض الظنون كالبينة والاقرار وقد وقع النزاع في حجية
العام المخصص فكيف يمكن دعوى الاجماع على حجية هذه الآيات
لا يقال هذا النزاع راجع إلى النزاع في أن العام المخصص هل هو ظاهر
في الباقي أو لا فالقائل بالحجية يدعي ظهوره فيه كما أن المنكر
لها يمنع ظهوره فيه ولا قائل بعدم الحجية مع تسليم الظهور فإذا ثبت
عندنا ظهوره فيه ثبت حجيته فيه للاجماع على حجيته على تقدير
ظهوره لأنا نقول إنما انعقد الاجماع على حجية ما هو ظاهر واقعا لا ما
هو ظاهر في اعتقاد مدعيه إذا لم يكن ظاهرا واقعا والمانع هنا
يمنع من ظهور العام المخصص في الباقي واقعا ويرى أن ظهوره في
اعتقاد مدعيه خاصة فكيف يساعد على حجيته الرابع أن الاجماع
المدعى على حجية ظواهر القرآن إن كان على حجيتها في الجملة فلا
يجدي في الاستدلال بظاهر هذه الآيات وإن كان على حجيتها
بطريق العموم فهذا يستلزم حجية ظاهر هذه
الآيات في شمول المنع للعمل بظاهرها فيعود الاشكال لا يقال
عمومها مخصص بالاجماع المتقدم لأنا نقول هذا مردود أما أولا فلان
التخصيص يستلزم أن يكون المخصص مغايرا للمخصص لان قضية
كل منهما ما ينافي الاخر فلا يصح فرض كونهما أمرا واحدا وهو
الاجماع المدعى في المقام ولا سبيل إلى دعوى إجماعين أحدهما
على المخصص والاخر على المخصص لان مرجع الثاني إلى الأول
فلا
يتعدد وأما ثانيا فلان تخصيص ذلك يوجب تخصيص الاجماع فيلزم
أن يكون الاجماع ظنيا إذ لا تخصيص إلا في العام الظني فإن قيل
قام الاجماع على حجية كل ما
389

هو ظاهر الكتاب فنجعل بعض مدلولات القاعدة كحجية كل ظاهر من
الكتاب غير هذا العموم قرينة على التجوز في بعض آخر وهو
تخصيص العموم المذكور بغير تلك الظواهر قلنا ليس هذا أولى من
العكس لوقوع الكل في مرتبة واحدة فيحتاج إلى دعوى إجماع آخر
على هذا التخصيص فيعود الاشكال المتقدم والجواب أما عن الأول
فبأن الاجماع منعقد على حجية ظواهر الألفاظ السالمة عن المعارض
والاعتماد عليها في الكشف بها عن مراد المتكلم من غير فرق في
ذلك بين المخاطب وغيره بدليل أن السامع يشهد على ظاهر الاقرار
والوصية والعقد والايقاع وغير ذلك وإن لم يكن مخاطبا بها ولهذا
ترى أن الرواة يعتمدون على ما سمعوه من المعصوم مخاطبا به
غيرهم كاعتمادهم على ما سمعوه منه في مخاطباته إياهم فمنع
الاجماع على حجية ظواهر الألفاظ في حق غير المخاطبين ناشئ عن
قلة
التدبر ولو شئت لادعيت الضرورة على ذلك إذ لا تجد أحدا من
الموافق والمخالف يخالف في ذلك بل الظاهر أنه مما تسالم عليه
جميع
أرباب المذاهب والأديان ولولا ذلك لما استقام لهم النظام ومخالفة
الأخبارية في حجية ظواهر القرآن غير قادحة لان مثل هذا
الخلاف النادر لا يقدح في تحقق الاجماع مع أن الذين يعتد بمقالتهم
من الأخبارية لا يخالفون في صحة القاعدة التي قررناها من حجية
ظواهر الألفاظ عند سلامتها من المعارض ولهذا تراهم يتمسكون
بظواهر الاخبار إذا سلمت عن المعارض وإنما يمنعون من حجية
ظواهر القرآن لدلالة بعض الاخبار عليه فهم في الحقيقة إنما يمنعون
من حجية تلك الظواهر لعدم سلامتها عن المعارض فإذا دفعنا
دلالتها على ذلك بقيت ظواهر الكتاب مندرجة تحت العنوان الذي
اتفق الفريقان على حجيته فاتضح مما قررنا بطلان الفرق بين الكتاب
والسنة وكتب المصنفين وغيرهما في حجية ما يستظهر من ألفاظها
على المراد نعم هناك فرق من جهة أخرى وهي كون الكتب
المصنفة خطابا إلى الذين لهم أهلية فهم تلك الخطابات وإن تأخر
وجودهم عن
زمن الخطاب بخلاف السنة فإن خطاباتها مختصة بالمشافهين وفي
الكتاب وجهان وقد مر تحقيق القول فيه في محله وأما عن الثاني
فبأنا لا نقول بحجية ظاهر الكتاب مطلقا بل بعد الفحص عن المعارض
من الناسخ والمخصص ونحو ذلك مع عدم العثور عليه بطريق
معتبر ولا يلزم من ذلك خروج الظاهر حينئذ عن مورد الاجماع لان
الظن إنما يستند إلى المقتضي له لا إليه وإلى عدم المانع وإلا لم
يتحقق ظن لفظي أصلا لاستناده دائما إليه وإلى عدم قرينة توجب
الخلاف وهو واضح الفساد فالظن المستفاد من الكتاب إنما يستند
إليه بشرط عدم المعارض لا إليه وإلى عدم المعارض واعلم أن قضية
ما قررناه حجية ما علم كونه ظاهرا حين ورود الخطاب على
تقدير انتفاء القرائن الخارجية ويثبت الكلام فيما يظن كونه ظاهرا حين
الخطاب بمعونة أصالة عدم النقل ونقل اللغويين بضميمة عدم
القول بالفصل وأما عن الثالث فبأن النزاع في حجية العام المخصص
راجع إلى النزاع في الظهور كما أشار إليه والاجماع وإن انعقد
على حجية ما هو ظاهر واقعا لكن لا سبيل إلى تعيين الأمور الواقعية إلا
بالعلم أو بما علم قيامه مقامه فإذا علمنا بأن العام المخصص
ظاهر في الباقي علمنا باندراجه في محل الاجماع أ لا ترى أنا لو علمنا
بنجاسة الكفار بالاجماع ثم علمنا بدليل أن المجسمة كفار علمنا
بدخولهم في مورد الاجماع وإن فرض وقوع النزاع في كفرهم وكذا لو
ظننا ذلك ظنا قام قاطع عندنا على حجيته فإنا نعلم حينئذ
بالدخول ظاهرا في مورد الاجماع نعم لو ظننا ذلك غير معتبر لم نعلم
بشئ من الامرين لكن ليس المقام من هذا القبيل وهذا واضح و
أما عن الرابع فبأن الاجماع إنما انعقد على حجية كل ظاهر لا يعارضه
ما هو أقوى منه وإن كان الأقوى ذلك الاجماع وبعبارة أخرى
قام الاجماع على حجية كل ظاهر لا ينافي ذلك الاجماع ولا غيره من
سائر الأدلة التي هي أقوى من ذلك الظاهر لامتناع قيامه على
حجية ظاهر يخالفه ويخالف ما هو أقوى منه فظهر من ذلك سقوط ما
زعمه من أن ذلك يوجب
تخصيص الاجماع وأما إشكاله بلزوم اتحاد المخصص والمخصص
فواضح الاندفاع إذ يكفي فيه المغايرة الاعتبارية مع أنه لا تخصيص
في المقام أصلا إذ الحكم الثابت بالاجماع في نفسه خاص بمورد
معين كما عرفت ثم إنه تنبه لورود الاشكال المذكور على مذهبه من
حجية مطلق الظن لانسداد باب العلم وبقاء التكليف فإن تخصيص
هذه الآيات بغير الظن الحاصل بعد انسداد باب العلم ليس بأولى من
تخصيص الدليل العقلي بعموم هذه الآيات فتفصى عنه بأن عموم
الآيات عموم ظني فيجب تخصيصها بعموم القاعدة فإنه عموم قطعي
و
أجاب عن لزوم تخصيصها بالقياس والاستحسان بوجوه مر نقلها مع
بيان فسادها في مبحث خبر الواحد وهو كما ترى إذ تخصيص
الدليل الظني هنا يستلزم تخصيص الدليل القطعي بغير ذلك الظن
قطعا فيبقى الاشكال بامتناع تخصيص القواعد العقلية بحاله فلا
مخلص له إلا بالوجوه التي ذكرها في أمر القياس والاستحسان مع أن
ورود هذا الاشكال عليه مبني على أن يكون قضية القاعدة العقلية
فتح باب الظنون الشأنية كما التزم به في بعض تلك الوجوه وهو أيضا
فاسد كما أشرنا إليه عند نقله ثم أورد في تقريب منع الاجماع
على حجية ظواهر الكتاب من حيث كونها ظواهر الكتاب بأن هذا
الاجماع إن كان مستفادا من عمل الصحابة والتابعين وأصحاب الأئمة
عليهم السلام حيث كانوا يستدلون بظواهر الكتاب ففيه أنه لم يعلم
أنهم كانوا يستدلون بها من جهة كونها ظواهر الكتاب لجواز حصول
القطع لهم بها بسبب القرائن والامارات واحتجاجهم بها باعتبار
حصول القطع بها وإن كان مستفادا من كلمات أصحابنا المصرحين
بحجية
390

واحتجاجهم بظواهره ففيه أنه لم يتبين أنهم يقولون بحجية ظواهره من
حيث إنها ظواهره لجواز أن يكون تعويلهم عليها من حيث إنها
مفيدة للظن المطلق ولا يخفى ما فيه من التكلف والاعتساف و
الخروج عن جادة الانصاف إذ ما ذكره في حق الأوائل من جمودهم
في
التمسك بالكتاب على ما كان مفيدا للقطع أمر مقطوع بفساده كما يظهر
بالتتبع فيما حكي عنهم من مواضع الاحتجاج لأنها لكثرتها مما
يحيل العادة وقوفهم فيها في محل الخلاف على القرائن المقتضية
لاستفادة القطع مع أنا نراهم يقتصرون في مقام الاحتجاج على دلالة
الآية ولا ينبهون الخصم على وجود القرائن ودعوى أن القرائن كانت
معلومة عند الخصم في جميع موارد الاحتجاج مكابرة جلية ولم
نقف فيهم على من يرد على خصمه بأن الآية ظاهرة وهي ليست
بحجة ودعوى القرائن غير واضحة وأما ما ذكره في حق الأواخر
فأوضح فسادا فإن حجية الكتاب عندهم من جهة الاجماع بل
الضرورة والأخبار المتواترة ولهذا تراهم إذا نبهوا على دليل الحجية
ذكروا ذلك ولو كان الامر كما زعمه لاحتجوا عليه بأن الكتاب مفيد
للظن وكل ما يفيد الظن فهو حجة الثاني أن المستفاد من هذه
الآيات إنما هو حرمة العمل بالظن الذي لا قاطع على حجيته والظن
الحاصل من الكتاب قد قام الاجماع على حجيته فهو خارج عن مورد
الآيات ولا حاجة إلى ارتكاب التخصيص في عمومها واعترض عليه
المعاصر المذكور بأن الاجماع على تقدير تسليمه إنما قام على
وجوب العمل بما هو المظنون من الكتاب وهو لا يصير الظن علما و
الضمير المجرور في قوله تعالى ما ليس لك به علم راجع إلى
الموصول نفسه وإرجاعه إلى وجوب العمل به بأن يكون المعنى ما
ليس لك به علم ولا بوجوب العمل به يوجب الخروج عن الظاهر من
غير قرينة وحمل الآيات الناهية عن العمل بالظن على الظن الذي لا
قاطع على حجيته تخصيص صريح فكيف يقال لا حاجة إليه وفيه ما
لا
يخفى فإن الاحكام التي يظن ثبوتها بظنون
قام قاطع على حجيتها أحكام فعلية قطعا وإن كان كونها أحكاما أولية
أي ثابتة لا بسبب عجز المكلف عن إصابة الواقع ظنيا فالمقتضي
لتلك الأحكام لا يقتضيها من جهة ظنه بأنها أحكام أولية بل من جهة
علمه بأنها أحكام فعلية سواء كانت واقعية أولية أو لا وتوقف علمه
بالاعتبار الثاني على ظنه بالاعتبار الأول لا يصيره مقتضيا للظن بل
مدار العمل على العلم خاصة والظن إنما يشخص موضوعه ويحقق
مورده فظهر أن الظن بالحكم لا يصير علما به ولكن المظنون باعتبار
يصير معلوما باعتبار آخر فالضمير المجرور في الآية يرجع
إلى الموصول باعتبار نفس معناه ولا حاجة إلى ارتكاب تجوز أو
تخصيص وكذا الكلام في آية الذم مع أن أثر الاشكال فيها أهون لأنها
إنما تضمنت الذم على اتباع محض الظن كما هو قضية الحصر والاتباع
هنا على تقدير الاغماض عما قلناه للمجموع المركب من العلم و
الظن وإلى ما حققناه هنا يرجع ما ذكرناه في توجيه تعريف الفقه بأنه
العلم بالأحكام من أن المراد بالعلم معناه الحقيقي وبالأحكام
الاحكام الظاهرية فإن محصله أن الفقه هو العلم بالأحكام الفعلية وإن
كانت أدلتها الدالة على كونها أولية ظنية وإلى هذا البيان يرجع
إلى ما قيل من أن ظنية الطريق الموصل إلى الاحكام من حيث كونها
أولية لا تنافي العلم بتلك الاحكام من حيث كونها أحكاما فعلية وأما
ما زعمه المعاصر المذكور في الحد من أن المراد العلم بظن الاحكام
ففيه ما فيه لان العلم بالظن كالعلم بالعلم ليس من الفقه في شئ و
إنما الفقه هو العلم بالأحكام الفعلية التي تقترن غالبا بالظن بأنها أحكام
أولية وإطلاق الحكم على هذا الحكم الفعلي حقيقة قطعا وإن
كان ظاهريا كمجازية إطلاقه على الحكم الواقعي مع انتفاء فعليته و
دعوى أن الحكم الظاهري هو مجرد وجوب العمل بمقتضى الدليل
توهم واضح لان وجوب العمل بالدليل متفرع على ثبوت مقتضاه في
نفسه ولو مجردا عن
اعتبار الأولية أو مستلزم لثبوت مقتضاه كذلك فكيف يكون نفسه مع
أن الحكم الظاهري ينقسم في نفسه إلى الأقسام الخمسة التكليفية
والوضعية فلو كان مجرد هذا الوجوب لانحصر في قسم واحد فاتضح
مما قررنا أن الوجوه التي أوردها على الجوابين غير واردة
عليهما بل التحقيق في المقام أن يقال هذه الآيات إنما تدل على حرمة
العمل بالظن الذي لا قاطع على حجيته فإن العمل بالظن الذي قام
قاطع على حجيته إما أن يكون باب العمل بالقطع دون الظن كما مر أو
يخصص عموم الآية لجواز تخصيص الكتاب بالقاطع إجماعا و
حينئذ فيبقى الكلام في إثبات حجية الظن بالأحكام فإذا قام قاطع
عقلي أو نقلي على حجية مطلقه أو بعض أنواعه مطلقا أو في أمثال
زماننا وجب العمل به والآيات المذكورة لا تدفعه فالذي يليق بمن
يرى نفسه في عداد العلماء أن يدفع الاحتجاج بالآيات على حرمة
العمل بالظن بقيام الدليل القاطع على حجية مطلق الظن في زماننا أو
ظنون مخصوصة ويقص البحث على بيان الدليل ثم اعلم أن الظاهر
الفعلي يساوق المظنون الفعلي كما أن الظاهر الشأني يساوق الظنون
الشأني والظاهر بالمعنى الأعم يساوق المظنون بالمعنى الأعم ولا
ريب في أن الشارع قد اعتبر جملة من أنواع الظاهر طرقا إلى معرفة
موضوعات الاحكام كاليد والشهادة بأقسامها بالنسبة إلى
مواردها المفصلة وقول المنكر مع يمينه وقول المدعي مع يمينه
المردودة أو نكول المنكر على الخلاف وحكمه بالبناء على وقوع ما
شك فيه بعد تجاوز المحل وعلى ظاهر إقرار الكامل ووصاياه و
عقوده وإيقاعاته وأعماله وبإسلام من يوجد في دار الاسلام وكون
ما يوجد
391

في أيدي المسلمين من اللحوم والجلود مذكى ونجاسة غسالة
الحمام وطين الطريق بعد ثلاثة أيام على القول بهما للنص وبقول
المرأة
في استحقاقها تمام المهر بعد أن خلا بها زوجها فادعت وقوع
الموجب وأنكره الزوج على قول جماعة وبقول من يدعي من
الزوجين
مهر المثل إذا تنازعا في مقداره على ما احتمله العلامة في القواعد و
بقول البائع في تمام المبيع المقبوض إذا ادعى المشتري نقصانه مع
حضوره لوقت الاعتبار إلى غير ذلك من النظائر فالشارع قد اعتد
بالظاهر أعني ما من شأنه إفادة الظن وإن لم يفده عند الكل و
البعض في هذه الموارد ولو مع التمكن من تحصيل العلم ثم لما كان
مقتضى الظاهر غالبا مخالفا للأصل وقد ثبت اعتباره في جملة من
الموارد وتقديمه على الأصل صح أن يقال إذا تعارض الأصل و
الظاهر قدم الأصل إلا في مواضع قام الدليل فيها على تقديم الظاهر
فإن
المراد بالتعارض أن يقتضي كل منهما ما يخالف مقتضى الاخر وهذا
لا يقتضي أن يكون الظاهر حجة في نفسه ما لم يعارضه معارض
كما زعمه المعاصر المذكور فاستشهد بكلام الشهيد الثاني في تمهيد
القواعد حيث قال في خاتمة باب التعارض والتراجيح الأصل و
الظاهر قد يتعارضان إلى آخر ما ذكره على حجية الظاهر في نفسه نظرا
إلى أن الأصل من الأدلة الشرعية ولا يعقل معارضة الظاهر له
إلا مع كونه دليلا وذلك لما عرفت من أن المراد بالتعارض مجرد
تنافيهما في المقتضى وهذا لا يقتضي حجية الظاهر في نفسه ولو
سلم ظهور اعتبار التعارض في ذلك فلا بد من الخروج عن الظاهر
لوجود القرائن الدالة عليه إذ قد صرح في الكتاب المذكور بأن
الغالب تقديم الأصل على الظاهر حيث لا دليل على حجية الظاهر و
قال في الروضة في دفع الاحتمال الذي حكيناه عن العلامة في مسألة
المهر أن الأصل مقدم على الظاهر إلا فيما ندر ويستفاد من هذا الكلام
ونظائره أن الظاهر ليس بمعتبر في نفسه وأن حجيته في بعض
الموارد لدلالة الدليل إذ لو كان الظاهر دليلا في نفسه لوجب الخروج به
عن مقتضى
الأصل ولم يعقل تقديم الأصل عليه إلا في صورة نادرة إذ الأصل
على ما صرحوا به ويساعد عليه دليل حجيته إنما يكون دليلا حيث لا
دليل على الخلاف مع أن الدليل على حجية الأصل ثابت معلوم كما
حققناه في محله وأما الدليل على حجية الظاهر في نفسه فمما لم
نقف
عليه ولا أشار إليه أحد فإن زعم أن تقديم الظاهر على الأصل في
الموارد التي ثبت تقديمه عليه مما يرشد إلى أن المناط هو الظهور
فيتسرى اعتباره إلى سائر الموارد ففساده واضح لان المستفاد من
الأدلة الدالة على تقديم الظاهر في بعض الموارد حجية ظواهر
خاصة في موارد خاصة بدليل ما اعتبر فيها من الشرائط الزائدة على
اعتبار الظهور ألا ترى أن من أقسام الظاهر الشهادة وهي لا تقبل
على النفي ولا ممن لم يثبت عدالته ولا من النساء في غير ما استثني
ولا مما دون العدد المعتبر وهو يختلف باختلاف الموارد ولا من
الصبيان ولا من أهل الكتاب في غير ما استثني إلى غير ذلك وإن
حصل الظن بها ويقبل الشهادة المعتبرة وإن لم يحصل الظن بها و
كذلك الحكم بمقتضى اليد واليمين في مواردهما فظهر أن الشارع قد
نصب هذه الامارات بشرائطها التي قد اعتبرها بالنسبة إلى
موارد خاصة وألزمنا بالعمل بها فيها على وجه التعبد فإذا لم يكن
العبرة بالظن في موارد ثبوتها على ما يستفاد من أدلتها فكيف
يستفاد منها اعتبار الظن في سائر الموارد ثم تمشية حجية الظن في
الموضوعات إلى حجيته في الاحكام تعويلا على المناط المذكور
غلط في غلط ودعوى أن من الموضوع ما هو سبب والسبب من
جملة الأحكام الوضعية وهم واضح لوضوح الفرق بين السببية و
السبب
كالوجوب والواجب والذي يعد من باب الحكم هو الأول دون الثاني
فإن الثاني موضوع للأول وليس من باب الحكم فإن قلت إذا لم
يكن الظاهر حجة في نفسه فأي فائدة لعقد باب في تعارض الأصل و
الظاهر إذ العبرة على ما قررت بوجود الدليل
لا بنفس الظهور ولا ريب أن الدليل يقدم على الأصل قلت فائدة عقد
هذا الباب التنبيه على المواضع التي وجد فيها الدليل على العمل
بالظاهر وبيان أن الظهور بمجرده لا يصلح دليلا على الاثبات كما
يستفاد ذلك من سياق عبارة الشهيد الثاني في تمهيد القواعد
القواعد مع أن العاقد لهذا الباب نادر من العلماء فلا يعتد بمقالته على
تقدير عدم مساعدة كلامه على هذا التنزيل وقد تراهم يبحثون
عن الظاهر في بيان معنى المدعي فيقولون هل المدعي من يدعي
خلاف الأصل أو من يدعي خلاف الظاهر والتحقيق أن المدعي من
يدعي خلاف الأصل إلا فيما قام الدليل على خلافه ومن يعتبر الظاهر
هنا لا يريد به مطلق الظاهر بل ما يكون ظهوره ناشئا عن ملاحظة
الغالب والعادة ويدعي أن هذا المعنى هو المفهوم من المدعي
فيلزمه بالبينة عملا بعموم الرواية وليس في هذه المقالة ما يوجب
حجية
مطلق الظن في مطلق الموضوعات فضلا عن الاحكام ثم بعد ثبوت
حجية جملة من الظنون فلا حاجة إلى التصرف في اليقين في قوله
عليه
السلام لا تنقض اليقين إلا بيقين مثله بحمل اليقين على ما يعم اليقين و
الظن المعلوم اعتباره كما زعمه الفاضل المذكور إذ الظن المعلوم
اعتباره يرجع إلى اليقين بناقضية الناقض فيكون النقض أيضا باليقين لا
بالظن وإن وقع في طريقه وقد مر تحقيقه آنفا ثم استشهد
على حجية مطلق الظن باحتجاج الشهيد على العمل بظن تقدم بعض
الفوائت بأنه راجح فلا يعمل بالمرجوح وعلى حجية الشهرة بقوة
الظن في جانب الشهرة وباحتجاج العلامة على حجية الاستصحاب
بأنه لو لم يجب العمل بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو
بديهي
392

الفساد فإن قضية التعليل المذكور في هذه الموارد حجية مطلق الظن و
باحتجاج العلامة بالشهرة في بعض مسائل الدفن وتردده في
إلحاق غير صوم شهر رمضان من الصوم الواجب به في بطلانه بتعمد
الجنابة من جهة الأصل وإطلاق كلمات الأصحاب فلو لا أن الظهور
المستند إلى كلمات الأصحاب حجة عنده لما كان للتردد وجه إذ
التردد إنما يكون عند تعارض الأدلة وانتفاء المرجح أقول أما احتجاج
الشهيد رحمه الله على العمل بالظن في المقام الأول برجحانه فيمكن
أن يكون ناظرا إلى توقف تحصيل اليقين بالبراءة عليه لا سيما إذا
قلنا بعدم وجوب مراعاة الترتيب عند الشك مطلقا أو كان ذلك مع
كثرة الفوائت بحيث يتعذر أو يتعسر تحصيل اليقين بمراعاة الترتيب
بينها بالتكرير إذ مع الظن بالتقدم يحتمل وجوب العمل بمقتضاه
فينبغي العمل بمقتضاه لتحصيل العلم بالبراءة خصوصا على القول
بعدم جريان أصل العدم في ماهية العبادات وأما احتجاجه بقوة الظن
على حجية الشهرة فهو لا يقتضي القول بحجية مطلق الظن كما زعم
بل خصوص الظن القوي بدليل استناده إلى قوة الظن لا إلى مجرد
الظن ومع ذلك فيمكن أن يكون اعتماده في حجية الشهرة على عموم
قوله عليه السلام خذ بما اشتهر بين أصحابك بناء على شموله للفتوى
ويكون التعليل بقوة الظن للتقريب والتأييد وكثيرا ما يوجد في
كلامهم الاحتجاج بالمؤيدات والمقربات مع ترك ذكر الدليل تعويلا
في ذلك على الوضوح ونحوه ويمكن أن يريد بقوة الظن كون
الظن الناشئ من الشهرة ظنا متاخما للعلم بحيث يطمئن به النفس
فيكون من أقسام العلم العرفي المعتبر في جميع الموارد كما ادعاه
بعضهم في إخبار الثقة ويكون الفرق بينه وبين الاجماع باعتبار أن
الحاصل في الاجماع العام وفي الشهرة الظن القريب إليه وأما
احتجاج العلامة في مسألة الاستصحاب بالظن فقد تقدم الكلام فيه و
يمكن تنزيله على التقريب أو للرد على العامة ومع الاغماض عن
ذلك فنسبة الغفلة إلى العلامة في هذا الاحتجاج أقرب من الاحتجاج
بكلامه وقد يوجد
في كلام مثل العلامة والشهيد الاحتجاج في بعض المسائل بما ظاهره
قياس مستنبط محض حتى شنع عليهم صاحب الفوائد المدنية بذلك
ولكن العارف بمذاقهم يعلم أنهم قصدوا بذلك التقريب أو الرد على
العامة بما يتم على مذهبهم أو أنهم يدعون في ذلك تنقيح المناط و
إن خفي علينا لا أنهم يرونه قياسا مستنبطا ومع ذلك يعملون به وعلى
هذا ينزل كلامهم في المقام وبالجملة فمعرفة مقاصد العلماء
يستدعي نظرا آخر ولا يسع الوقوف على ما لهم من المطالب إلا
العارف الفطن المتدرب وليس من كل واحد من الأنام الاقدام في
ساحة
هذا المقام وأما احتجاج العلامة بالشهرة في مسألة الدفن فالكلام فيه
كالكلام في مقالة الشهيد في الشهرة وأما تردده لظاهر كلام
الأصحاب فالظاهر أنه من جهة ظهور كونه إجماعا وتردده في حجية
مثل هذا الاجماع ولو كان هذا الظهور عنده معلوم الحجية لما
كان للتردد بينه وبين الأصل وجه أصلا لما عرفت من أن الأصل لا
يعارض الدليل
فصل ينقسم المجتهد إلى مطلق ومتجز
فالمجتهد المطلق من كان له ملكة تحصيل الظن بجملة يعتد بها من
الاحكام عن أدلتها التفصيلية على وجه يعتبر عرفا ولا يقدح قصور
نظره عن تحصيل الظن بالبعض إن كان قصور عارف كما هو المتصور
عادة في حق من له الملكة المذكورة وإنما لم نعتبر ملكة
تحصيل الظن بالكل مما عدا قطعياته لتعذره عادة فإن الأدلة قد
تتعارض ولتردد كثير من المجتهدين في جملة من الاحكام كالمحقق و
العلامة والشهيدين وأضرابهم مع أن أحدا لم يقدح بذلك في
اجتهادهم فإن ترددهم إنما هو في مقام الاجتهاد وإلا فلا تردد في مقام
الحكم والمتجزي من ظن بعض الأحكام عن أدلتها من غير ملكة يعتد
بها أو كان له ملكة تحصيل الظن بجملة لا يعتد بها والمعروف
بينهم أن المجتهد المطلق من له ملكة تحصيل الظن في جميع الأحكام
والمتجزي من له ملكة البعض خاصة ويشكل بما مر فإن
المجتهد
المطلق له ملكة تحصيل القطع في بعض الأحكام وليس له ملكة
تحصيل الظن في البعض أيضا نعم لو فسر الاجتهاد بملكة معرفة
الاحكام
النظرية عن أدلتها التفصيلية صح تقسيمه باعتبار معرفة الكل والبعض
خاصة إلى مطلق ومتجز لكنه خلاف المعروف كما عرفت و
يظهر من العضدي في دفع بعض حجج القول بالتجزي أن المعتبر في
الاجتهاد المطلق إنما هو العلم بجميع ألم آخذ وإن لم يعلم بالبعض
لتعارض الأدلة وهو غريب والتحقيق ما ذكرناه أما المجتهد المطلق فلا
ريب في أن ظنونه التي أدى نظره إلى حجيتها حجة في حقه و
حق مقلديه مع تحقق الشرائط وهو إجماعي بل ضروري ويدل عليه
مضافا إلى ذلك العقل والنقل أما الأول فلان انسداد باب العلم
المعلوم بالوجدان وبقاء التكليف بالأحكام المعلوم بالضرورة من
الدين يوجبان عقلا جواز تعويل العالم بالأحكام ولو بطريق ظني
على ظنه بالبيان الذي سلف وتعويل غيره ممن يقصر عن درجة
الاجتهاد عليه دفعا للتكليف بما لا يطاق وأما النقل فلقوله تعالى
فاسئلوا أهل
الذكر إن كنتم لا تعلمون وتفسيره في جملة من الاخبار بالأئمة عليهم
السلام لا ينافي عمومه لجواز أن يكون ذلك من باب بيان الفرد
الأكمل والأظهر دون التخصيص وقوله جل اسمه إن الذين يكتمون ما
أنزلنا من البينات والهدى الآية فإن ترك الكتمان يتحقق بإبراز
الحكم بطريق الفتوى والرواية ووجوبه يدل على وجوب القبول وإلا
لكان هذوا وعبثا وقوله تعالى فلو لا نفر من كل فرقة إلى قوله
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون فإن الانذار كما يكون
بطريق الرواية كذلك يكون بطريق الفتوى وإطلاقه يدل على
مقبوليته بالوجهين ولا يقدح عدم حجية الأول في حق العامي و
الثاني في حق المجتهد لخروجه بالاجماع و
393

فيبقى الاطلاق سليما في الباقي وقد تقدم الكلام في هذه الآيات و
كالاخبار الدالة على ذلك منها قول أبي جعفر عليه السلام لأبان ابن
تغلب اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس فإني أحب أن يرى في
شيعتي مثلك وعن الصادق عليه السلام من علم خيرا فله أجر مثل من
عمل به قلت فإن علمه غيره يجري ذلك قال إن علم الناس كلهم جرى
له قلت فإن مات قال وإن مات فإنه بعمومه يتناول الفتوى و
الرواية وعن الرضا عليه السلام يقال للفقيه يعني يوم القيامة يا أيها
الكافل لأيتام آل محمد صلوات الله عليهم الهادي ضعفاء محبيهم و
مواليهم قف حتى تشفع لكل من أخذ منك أو تعلم منك فيقف
فيدخل الجنة ومعه فئام وفئام وفئام حتى قال عشرا وهم الذين
أخذوا عنه
علومهم وأخذوا عمن أخذ عنه إلى يوم القيامة فإنه كسابقه يعم الاخذ
بطريق الفتوى والرواية لكن يشكل بأن تعميمها إلى الفتوى
يستلزم جواز تقليد الأموات كما يدل عليه قوله عليه السلام عمن أخذ
عنه إلى يوم القيامة وهذا غير مرضي عند الأكثر ويمكن دفعه بأن
المراد من أخذهم عمن أخذ ما يعم الفتوى والرواية وتعليم كيفية
الاستنباط فيخص الاخذ بالفتوى بحال الحياة جمعا بينه وبين الوجوه
الآتية في محلها وفي مقبولة عمر بن حنظلة انظروا إلى من كان منكم
قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا
فلترضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم
يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد والراد علينا راد على
الله وهو على حد الشرك بالله بناء على تعميم الحكم إلى ما يتناول
الفتوى ولا ينافي ذلك ورودها في مقام المنازعة لان المتداعيين قد
يتفقان في الموضوع ويختلفان في الحكم من غير بصيرة فيكتفيان
بالفتوى من غير حكومة وقريب منها رواية أبي خديجة قال بعثني
أبو عبد الله عليه السلام إلى أصحابنا فقال قل لهم إياكم إذا وقعت
بينكم خصومة أو تدارى بينكم في شئ من الاخذ والعطاء أن
تحاكموا
إلى أحد من هؤلاء الفساق اجعلوا بينكم رجلا ممن عرف حلالنا و
حرامنا فإني قد جعلته قاضيا الحديث إلى غير ذلك و
إنكار بعض من لا تحقيق له من الفرقة الموسومة بالأخبارية حقيقة أمر
الاجتهاد بالكلية لزعمهم أن الاخبار قطعية المتن والدلالة فلا
سبيل إلى الاخذ بالظنون الاجتهادية مكابرة بينة ومباهلة جلية وهل
هو إلا قول زور أو كلام صدر من غير شعور ولقد أغنى في
فساده العيان عن إقامة الحجة عليه والبرهان وتشبثهم في ذلك بما
ورد في الكتاب العزيز من الذم على اتباع الظن وما ورد في
الاخبار من النهي عن القول برأي مدفوع بأن الذم على اتباع الظن في
أصول الدين أو الظن الذي لا دليل على جواز اتباعه فإن اتباع
الظن الذي قام دليل قاطع على وجوب اتباعه اتباع لذلك الدليل
القاطع عند التحقيق دون الظن وقد سبق الكلام في ذلك والرأي عبارة
عن القول بالهوى والتشهي أو القياس والاستحسان فإن الاخذ
بالكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما لا يسمى قولا بالرأي ومثل ذلك
منع
البعض من جواز التقليد وسيأتي الكلام فيه
فصل وأما القسم الثاني وهو المتجزي في الاجتهاد
فقد وقع البحث فيه في مواضع الأول في إمكانه فقد أطبق المحققون
على الظاهر على إمكان بلوغ الناظر في الأحكام الشرعية درجة من
العلم بحيث يتمكن من معرفة بعض الأحكام أو قليل منها عن أدلتها
المقررة مع قصور نظره عن معرفة البواقي وهذا هو الحق بدليل
وقوعه المعلوم بالوجدان والمشاهدة والاعتبار فإن مسائل الفقه
ليست على حد سواء بل متفاوتة وضوحا وغموضا ولا يلزم من
الاقتدار على تحصيل الواضح منها الاقتدار على تحصيل الغامض و
كذلك أطبقوا على أن صاحب الملكة يتمكن من الاجتهاد في بعض الأحكام
دون بعض فإن الاجتهاد في الاحكام تدريجي الحصول ولا
يتوقف الاجتهاد في مسألة على الاجتهاد في بقية المسائل وخالف
بعضهم فزعم أن من لا إحاطة له بالجميع يجوز تجويزا مساويا في كل
مسألة يقف على مداركها ودلائلها الظنية أن يكون في جملة ما لا
يحيط به من الدلائل ما يعارض من تلك الدلائل التي وقف عليها على
وجه يساويها أو يترجح عليها فلا يحصل له ظن منها وهذا مع كونه
قريبا من المكابرة مردود أما أولا فبالنقض بالمجتهد المطلق إذ المعتبر
فيه إنما هو الملكة لا الإحاطة الفعلية فيتأتى في حقه الاحتمال
الآتي في حق المتجزي لتساويهما في منشئه فإن وجود الملكة لا
يوجب الاطلاع على المعارض ولعل المانع يطرد المنع إلى العام
الثاني
أيضا كما ينبئ عنه حجة وأما ثانيا فبالحل وهو أن الظن بعدم
المعارض كثيرا ما يعرف بالفحص في مظانه أو بتصريح المتفحصين به
فلا يتوقف على إحاطة الجميع مع أن إحاطة الجميع لا تنافي مرتبة
المتجزي لامكان إحاطته بها على وجه يعلم بعدم تعلقها بمقصوده و
إن عجز عن تحصيل مقتضياتها وما يترتب عليها الثاني في حجية ظنه
في حقه وهو موضع خلاف بين القائلين بإمكانه فذهب قوم إلى
القول بالحجية وذهب آخرون إلى إنكارها وربما نسب القول
الأول إلى الأكثر والظاهر أنه وهم وإن شئت توضيح المقام فاعلم أن
التجزي يطلق على معان أحدها أن يتمكن المجتهد من تحصيل
الظن المعتبر عنده في جملة من الاحكام ويعجز عن تحصيل الظن في
جملة منها إما لعدم وقوفه فيها على الدليل بعد الفحص المعتبر أو
لتعارض الأدلة عنده بحيث يعقلها ويعرف محصلها على وجه يعتد به
في عرف أهل الصناعة ولا يرى لبعضها رجحانا فيتوقف ولا
ريب أن المتجزي بهذا المعنى مجتهد مطلق إن لم يكن كثير التوقف
بحيث يخرج عن طريقة أهل العلم فيجب عليه العمل في موارد الظن
بمقتضى ظنه وفيما لا دليل عليه على ما بنى عليه في حكمه من
العمل بالأصل والاحتياط ويبني في موارد التعارض
394

والتكافؤ على التخيير أو الرجوع إلى الأصول وليس له أن يقلد في
المقامين الأخيرين وربما قيل يقلد إذا توقف وهو ضعيف وكلام
بعض القائلين بالتجزي يدل على إرادة هذا المعنى بل حكي في
الايضاح عن القائلين بالتجزي أنهم احتجوا بأن كثيرا من الفقهاء
يتوقفون في كثير من المسائل ولا يعلمون بها فلو لم يتجز لامتنع
الاجتهاد وعطلت الاحكام فربما يستفاد منه أن هذا المعنى هو مراد
الكل الثاني أن يستفرغ المجتهد وسعه في بعض الأحكام دون بعض
مع تمكنه من الاجتهاد فيه وهذا هو المتجزي في مقام الفعلية وقد
أطلق عليه المتجزي بعضهم وببالي أن منهم الشيخ في العدة ولا ريب
أن المتجزي بهذا المعنى مجتهد مطلق ونظره في المسائل التي
استفرغ وسعه فيها حجة في حقه وحق مقلديه وربما يظهر من العلامة
والشهيد وقوع الخلاف في ذلك وسنشير إليه الثالث أن يتمكن
المجتهد من معرفة بعض الأحكام على وجه يعتد به مع عجزه عن
معرفة الباقي عجزا ناشئا عن قصور نظره وعدم تمكنه من الوصول
إلى معرفة دلائله كما لو علم المتجزي أن الامر حقيقة في الوجوب و
أن الخبر الصحيح السالم عن المعارض حجة وقصر نظره عن معرفة
بقية مسائل الأصول ثم وجد في الفروع رواية صحيحة مشتملة على
الامر بشئ وتفحص عن المعارض فحصا معتبرا فلم يظفر به و
ربما يكمل قوته في الأصول فيحيط بجميع مباحثها ويتجزى في
الفروع فيتمكن عن استنباط بعض مسائلها منها دون بعض لعدم أنسه
بمباحثها وعدم تحقق قوة التفريع والرد إلى الأصول عنده وهذا هو
المتجزي في مقام الملكة وهو محل النزاع ولم يثبت القول بحجية
نظر المتجزي بهذا المعنى إلا من بعض المتأخرين ولم يتعرض الشيخ
والسيد لهذه المبحث في العدة والذريعة ولا المحقق في أصوله
فما ظنك بغيرهم من المتقدمين عليهم ونقل بعض الأفاضل عن ظاهر
الشيخ في بعض مصنفاته القول بالمنع والقول بالجواز منقول عن
العلامة
والشهيدين قال العلامة في القواعد في كتاب القضاء في بيان شرائط
الاجتهاد المبيحة للقضاء والافتاء ويشترط أن يكون ذا قوة
يتمكن بها من استخراج الفروع من الأصول ولا يكفيه حفظ ذلك كله
من دون قوة الاستخراج ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها
الفقهاء وفي تجزي الاجتهاد إشكال الأقرب جوازه انتهى ووجه النقل
المذكور عنه أن مراده بالتجزي التجزي في القوة وهو غير
متعين لامكان إرادته التجزي في الفعلية ويؤيده قوله قبله ولا يشترط
معرفة المسائل التي فرعها الفقهاء فإنه يوهم اشتراط معرفة
روس المسائل فيرجع اعتبار التجزي بالنسبة إليها لأنه أقرب إليه لفظا
وقال في التهذيب في مبحث الاجتهاد والأقرب قبوله التجزئة
لان المقتضي لوجوب العمل مع الاجتهاد في الاحكام موجود مع
الاجتهاد في بعضها وتجويز تعلق المجهول بالمعلوم يدفعه الفرض
انتهى وظاهره التجزي في الفعلية بدليل أنه عرف الاجتهاد باعتبار
الفعلية أعني الاستفراغ دون ملكته فيرجع التجزي بالنسبة إليه لأنه
قال في مبحث شرائط المجتهد والضابط فيه تمكن المكلف من إقامة
الأدلة على المسائل الشرعية الفرعية وظاهره اعتبار القوة الكلية
في مطلق المجتهد ثم تعرض لبيان الشرائط تفصيلا وعد منها قوة
استنباط الأحكام الشرعية من المسائل الأصولية وظاهره أيضا
كسابقه ويظهر من السيد العميد أن المتجزي من اجتهد في بعض
المسائل وعجز عن الاجتهاد في غيرها وهو كما يحتمل المعنى
الثالث
كذلك يحتمل المعنى الأول كما هو ظاهر كلام الايضاح كما عرفت و
عبارته في ذكر الشرائط لا يخلو من إجمال وقال الشهيد رحمه الله
في الدروس في كتاب القضاء ويتجزى الاجتهاد على الأصح ثم قال و
ليس معرفة التفريع الذي ذكره الفقهاء شرطا لعدم تقييده به نعم
ينبغي الوقوف على مأخذها لأنه أعرف له على التفريع انتهى وكلامه
صالح للمعنى الذي نزلنا عليه كلام العلامة وكلام الشهيد الثاني في
الروضة نص في اعتبار القوة الكلية لكن نقل عنه في المعالم القول
بالجواز وبالجملة فكلمة المتعرضين من أصحابنا لهذه المسألة ليست
جارية على مورد واحد فدعوى قيام الشهرة على حجية نظر المتجزي
بالمعنى الأخير غير مسموعة وكلمة مخالفينا في هذه المسألة أيضا
مختلفة المورد فإنهم احتجوا على القول بالتجزي بأن مالكا سئل عن
أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين منها لا أدري قالوا فلو شرط
في الاجتهاد والافتاء الإحاطة لجميع المسائل لما كان مالك مجتهدا و
لا جاز له أن يفتي ولا ريب في ظهور هذه الحجة في إرادة جواز
التجزي في فعلية الاجتهاد دون ملكته ثم أجيب عنها تارة بجواز
تعارض الأدلة عنده في تلك المسائل وأخرى بأنه عجز في تلك
الحالة
عن المبالغة في النظر ولا يخفى ما في الجوابين لأنهما إنما ينهضان
جوابا على تقدير أن يكون المقصود جواز التجزي بالمعنى الأخير و
الدليل إنما يساعد على إرادة غيره وكيف كان فلنرجع إلى محل
البحث فنقول قد احتج الأولون بوجوه الأول أن المتجزي إذا استقصى
أدلة مسألة بالفحص والتتبع فقد ساوى المجتهد المطلق في تلك
المسألة وقصوره عن الإحاطة بأدلة بقية المسائل لا مدخل له في
معرفة
تلك المسألة وحينئذ فكما جاز للمجتهد المطلق أن يعول على نظره و
اجتهاده فيها فكذلك المتجزي ورد بأن هذا قياس مستنبط حيث
ألحق المتجزي بالمجتهد المطلق لمساواته إياه في العلة وهي
الإحاطة بأدلة تلك المسألة وهذه العلة مما لا نص على اعتبارها ولا
هي في
المتجزي أولى فيبقى اعتبارها مبنيا على مجرد الاستنباط ولا سبيل
إلى دعوى القطع بكونه المناط في جواز التعويل على ظن المجتهد
المطلق لجواز أن يكون لعموم القدرة مدخل في
395

جواز التعويل عليه لكونها أبعد عن احتمال الخطأ من الناقصة وربما
أمكن عد ذلك فارقا بناء على حجية المستنبط فيفسد من أصله
الثاني قضية انسداد باب العلم في الاحكام وبقاء التكليف بها يتعين
التعويل فيها على الظن للدلائل التي سبق ذكرها ولا ريب أن
المتجزي إذا وقف على دلائل مسألة وظن فيها على خلاف ما ظنه
المجتهد المطلق كان قوله عنده وهما ضرورة أن رجحان أحد
النقيضين يستلزم مرجوحية الاخر فيتعين عليه الاخذ بمقتضى نظره
المظنون وترك قول مجتهده الموهوم وهو المقصود وهذا ضعيف
لما حققناه سابقا من أن انسداد باب العلم إنما يوجب جواز التعويل
على الطرق الظنية لا على مطلق الظن في الاحكام إذ لا قطع بتحقق
التكليف الفعلي بالأحكام الواقعية وإنما المعلوم تحقق التكليف
الفعلي بمؤدى طرق معينة وحيث لا سبيل إلى معرفتها بطريق القطع
وجب التعويل فيها على الظن الثالث أن ما دل من الكتاب والسنة على
حجية الأدلة المقررة في حق المجتهد المطلق يدل بعمومه على
حجيتها في حق المتجزي أيضا كقوله تعالى فلو لا نفر من كل فرقة الآية
فإن الانذار يعم الانذار بطريق الفتوى والرواية ورجحان
الحذر أو وجوبه في حق القوم المنذرين يوجب جواز عملهم بفتواهم
وروايتهم خرج منهم المجتهد المطلق بالنسبة إلى العمل بالفتوى و
العامي الصرف بالنظر إلى العمل بالرواية ولو في الجملة للاجماع
فيبقى المتجزي مندرجا في العموم فيجوز له العمل برواية المنذرين
وهو إنما يكون بالاجتهاد وكقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا
فإنه يدل بمفهومه على عدم وجوب التبيين عند مجئ العادل به و
مقتضاه وجوب قبول نبئه والخطاب فيه غير مختص بالمجتهد
المطلق فيتناول المتجزي أيضا غاية ما في الباب أن يخرج العامي
الصرف لقيام الاجماع على تعيين التقليد في حقه فيبقى الباقي ومن
السنة قول الصادق عليه السلام إن العلماء ورثة الأنبياء إلى أن قال
إنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشئ
منها فقد أخذ حظا وافرا وقوله عليه السلام أحاديثنا يعطف بعضكم
على بعض فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم وإن تركتموها ضللتم و
هلكتم فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم وقوله عليه السلام الراوية
لحديثنا يشب به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد وقوله عليه السلام
اعرفوا منازل الرجال على قدر روايتهم عنا وقريب من ذلك ما دل
على الحث على حفظ أربعين حديثا مما ينتفع به الناس وبهذه
الاخبار تمسك بعض أفاضل المتأخرين ووجه الاحتجاج بها أنها تدل
بالصراحة أو الفحوى على الحث الأكيد على الاخذ بأخبارهم و
العمل بها وهي مطلقة ليس فيها اشتراط ذلك بأن يكون للاخذ ملكة
فضلا عن كونها كلية والجواب أن الآية الأولى كما تدل على جواز
العمل المتجزي بروايتهم كذلك تدل على جواز العمل بفتواهم ولو
في محل الاجتهاد والاجماع منعقد على تعيين أحد الامرين عليه إذ
الظاهر عدم قائل بالتخيير فترجيح الأول تحكم مع أن الحكم فيها
بحسب الظاهر منصرف إلى الموجودين حال الخطاب فتعميمه إلى
غيرهم يستدعي دليلا وهو منتف إذ لا إجماع في محل النزاع وأخبار
الاشتراك في التكليف لا يفيده هنا لوجود الفارق كما سننبه عليه
وبهذا يظهر الجواب عن الآية الثانية على تقدير تسليم دلالتها على
المقصود ومثله الكلام في قوله جل شأنه إن الذين يكتمون ما أنزلنا
من البينات والهدى الآية وقد تقدم الكلام في هذه الآيات والجواب
عن الاخبار أما عن الرواية الأولى فبأن المراد بأحاديثهم عليهم
السلام كما يدل عليه المساق أقوالهم التي ساقوها في مقام التعليم و
البيان والاخذ بشئ منها لا يصدق في الظاهر إلا على الاخذ بما علم
أنه منها أو بما ظن ظنا قام على قيامه مقام العلم مطلقا أو عند تعذره
قاطع والثاني في حق المتجزي ممنوع والأول مع ندرته إنما
يصدق معه في الظاهر الاخذ بها إذا علم بالمراد أو ظن ظنا قام على
قيامه مقام العلم قاطع والثاني في حق المتجزي ممنوع والأول
خارج عن محل البحث إذ الكلام في
حجية ظن المتجزي لا علمه وبهذا البيان يتضح الجواب عن الرواية
الثانية وأما عن الثالثة فبأن إطلاقها معارض بإطلاق آية النبأ في غير
ما علم فيه بعدالة رجال السند أو ظن ظنا قام على قيامه مقام العلم
قاطع والثاني في حق المتجزي ممنوع والأول نادر جدا ومع ذلك
يجري الكلام المتقدم في الدلالة ومما ذكرنا يظهر الجواب عن البواقي
مع أن التمسك بها لا يتم إلا إذا جعلت دلالتها على حجية أخبار
الآحاد مطلقا من باب المتواتر بالمعنى وهو ممنوع الرابع أن
المعاصرين لزمن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام
كانت
طريقتهم العمل بالاخبار التي ترويها العدول والجمع بين ما تعارض
منها بالطرق المقررة كحمل العام على الخاص والمطلق على
المقيد ومع التعذر كانوا يأخذون بالأقوى والأرجح على الوجه المقرر
في الاخبار وهذه الطريقة لم يختص بمن كان منهم مجتهدا
مطلقا متمكنا من معرفة جميع الأحكام أو جملة يعتد بها منها بالنظر و
الاجتهاد بل كانت مشتركة بين الجميع من البالغين هذه الدرجة و
القاصرين عنها فكان حالهم بالنسبة إلى الاخبار التي تروى لهم عن
النبي والأئمة عليهم السلام كحال المقلدين في هذا الزمان بالنسبة
إلى الفتاوى التي تروى لهم عن المجتهدين فإنها أيضا قد تشتمل على
عام وخاص ومطلق ومقيد ونحو ذلك فيجمع بينها بالوجه
المقرر وقد يتعارض بحيث يتعذر الجمع فيؤخذ بقول الأعدل و
الأوثق ويطرح الاخر ثم منهم من يتمكن من استعمال ذلك في جميع الأحكام
فيستعمله في الجميع ومنهم من يتمكن منه في بعض دون
بعض فيقتصر على ما يتمكن منه وبالجملة فأولئك الذين كانوا في
زمن الأئمة عليهم السلام كانوا إذا اجتهدوا في أخبارهم ورواياتهم كان
مؤدى اجتهادهم حجة في حقهم وإن عجزوا عن
396

في الكل أو في جملة يعتد بها كما أن المقلدين في زماننا هذا إذا
اجتهدوا في معرفة فتاوى المجتهد كان مؤدى اجتهادهم حجة في
حقهم
وإن عجزوا عن الاجتهاد في الكل أو في جملة يعتد بها نعم فرق
بينهما من حيث إن عنوان المجتهد بالمعنى المصطلح عليه لا يصدق
على
المجتهد في معرفة فتاوى المجتهد بخلاف المجتهد في معرفة أخبار
النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام وهذا لا مدخل له في
إثبات ما نحن بصدده من إثبات الحجية وإذا ثبت جواز التجزي في
زمنهم عليهم السلام بتقريرهم لأهل زمانهم عليه وإرشادهم إليه
ثبت جوازه في حق من عداهم لان حكم الله في الأولين حكم الله في
الآخرين إلى غير ذلك مما دل على الشركة في التكليف والجواب أن
المجتهد في أمثال زماننا يحتاج في استنباط الاحكام عن مداركها إلى
إعمال ظنون لم يثبت إعمال المعاصرين لزمن النبي والأئمة
عليهم السلام لها بل ثبت عدمه كالتعويل في التعديل وتميز
المشتركات على قول الواحد أو قول من عقول فيه على قول غيره أو
على
الشواهد الاستنباطية والامارات الاستحسانية والحدسية وفي المتن
على نقل لغوي غير معدل أو من يعتمد في نقله عليه ومع التعارض
على ترجيحات ظنية وعند احتمال طرو النقل أو وجود الامارات
الموجبة لرد المقبول أو قبول المردود على أصالة العدم ولا ريب أن
الموجودين في الصدر الأول كانوا متمكنين من استعلام عدالة الراوي
وتعيينه بالطرق المعتبرة في الشهادة وكانت الأوضاع معلومة
لديهم غالبا بطريق القطع لكونهم من أهل الاستعمال وكانوا كثيرا ما
يعثرون على القرائن والامارات الموجبة لكمال الوثوق برواية
الضعيف أو عدمه برواية الثقة وحيث كانوا لا يعثرون بالامارات كان
لهم وثوق بعدمها لحضورهم وقرب عهدهم وبالجملة فاختلاف
المدارك والامارات بيننا وبينهم قلة وكثرة قوة وضعفا أوضح من أن
يحتاج إلى بيان وأجلى من أن يطالب عليها برهان وحينئذ
فجواز تعويل المتجزي في ذلك الزمان على الامارات المتداولة بينهم
لا يوجب جواز تعويله في زماننا
على الامارات المتداولة بيننا لان تقريرهم عليهم السلام إنما ثبت في
حق ظنون خاصة فلا يتسرى إلى غيرها وأيضا فالذي يظهر أن
المتجزي في ذلك الزمان ما كان يتعين عليه العمل بالاجتهاد بل كان
مخيرا بينه وبين التقليد فكان يعمل بما يصادفه من الرواية و
الفتوى كما يدل عليه إطلاق آية الانذار والظاهر من أصحابنا في المقام
تعيين أحد الامرين عليه إذ لا قول ظاهرا بالتخيير فيكون
ترجيح الاجتهاد تحكما محضا وكان الفارق أن العمل بالرواية ما كان
متيسرا في ذلك الزمان للعامي لعلمه بنقل الفتوى في زماننا هذا
بخلاف عمله بالرواية في زماننا هذا فإنه يتوقف على استحضار
مقدمات يعجز عنها العامي الخامس أن قضية الأصل وعموم ما ورد
من
ذم الكفار على تقليد آبائهم كقوله تعالى ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم
وقوله تعالى حكاية عنهم إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على
آثارهم مقتدون حرمة العمل بالتقليد مطلقا خرج الغير المتمكن من
الاجتهاد بالاجماع فيبقى المتجزي بالنسبة إلى ما يتمكن فيه من
الاجتهاد تحت الأصل والعموم فيتعين عليه العمل بالاجتهاد فيه إذ لا
قائل حينئذ بغيره والجواب أن التقليد كما يحرم عليه بقضاء الأصل
وعموم آية الذم على التقليد بناء على عدم اختصاصها بالعقائد و
الأصول كذلك يحرم عليه العمل بالظن بالأصل وعموم آيات الذم
على
العمل بالظن والعمل بالاجتهاد عمل بالظن كما عرفت من تعريفه و
حينئذ فكما يمكن التمسك بتحريم الأول على جواز الثاني إذ لا قائل
معه بغيره كذلك يمكن التمسك بتحريم الثاني على جواز الأول إذ لا
قائل أيضا معه بغيره فيسقط الاحتجاج إذ لا ترجيح لا يقال آية الذم
على العمل بالظن يتناول التقليد أيضا إذ المقلد لا يستفاد له من التقليد
إلا الظن فلا بد من تخصيصها على التقديرين فيبقى آية الذم على
التقليد بلا معارض لأنا نقول جواز التقليد ليس منوطا بالظن بل من
حيث كونه تقليدا ولو قدر حصول ظن به فمن المقارنات الاتفاقية
التي لا مدخل لها في جواز التقليد فلا يلزم تخصيص آية الذم على
العمل بالظن على تقدير العمل بالتقليد السادس رواية أبي خديجة
عن الصادق عليه السلام انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا
فاجعلوه بينكم قاضيا فإني قد جعلته عليكم قاضيا فتحاكموا إليه و
وجه الدلالة أن قوله عليه السلام شيئا نكرة في الاثبات فلا يعم و
الجواب أن الرواية ضعيفة بأبي خديجة فلا يصلح الاستناد إليها و
انجبارها بالشهرة ممنوع كما عرفت مع إمكان القدح في دلالتها
باحتمال أن يكون من بيانية وإن بعد أو أن المراد بالعلم هنا العلم
الفعلي كما هو الظاهر فلا ينافي اعتبار ملكة الجميع كما يستفاد من
مقبولة عمر بن حنظلة من حيث تعليق الحكم فيها على الوصف إما
لاعتباره في نفسه كما يراه جماعة أو لمساعدة المقام عليه حيث إن
المقصود تعريف الرجل الذي يصح الرجوع إليه فاشتبهت القيود
المذكورة قيود الحد في إفادة الاحتراز والدلالة على الانتفاء عند
الانتفاء فإن قلت يمكن حمل المعرفة في مقبولة عمر بن حنظلة أيضا
على المعرفة الفعلية كما هو الظاهر فيراد بالأحكام بعضها لتعذر
الإحاطة بالجميع فيطابق رواية أبي خديجة وينهض حجة على جواز
التجزي وذلك لدوران الامر بين التجوز في المعرفة أو التخصيص في
الاحكام وقد تقدم في تعارض الأحوال رجحان التخصيص على
غيره من أنواع المجاز قلت حمل المعرفة على ملكتها القرينة منها
حمل شائع وحمل الاحكام على الجنس أو البعض المتناول لمثل
الحكم
الواجد ليوافق القول بالتجزي حمل بعيد وما يقال من أنه إذا دار الامر
بين التخصيص والمجاز رجح التخصيص فليس على إطلاقه بل
يختص بالتخصيص المتداول على أن الخطاب المذكور متوجه إلى
الموجودين حال الخطاب وثبوت حجية ظن المتجزي منهم لا يقضي
بحجية ظن المتجزي من غيرهم كما نبهنا عليه مع أن العلم ظاهر في
اليقين ولا يقين للمتجزي في المسائل الظنية ما لم يثبت
397

حجية ظنه فيها فإثبات حجيته بالرواية دور وأجاب الفاضل المعاصر
عن هذا الاشكال بأن أصحابنا قد استدلوا بمقبولة عمر بن حنظلة
على جواز عمل المجتهد المطلق بظنه والتحاكم إليه وظاهرها اعتبار
العلم بالحكم كظاهر هذه الرواية والخطاب الشفاهي وإن كان
مخصوصا بالحاضرين لكن الغائبين مشاركون معهم في أصل التكليف
فإذا تعذر في حق الغائبين الرجوع إلى العالم بالأحكام تعين
عليهم الرجوع إلى الظان بها فكما أن الظان بجميع الاحكام يقوم مقام
العارف بالجميع المعتبر في رواية عمر بن حنظلة كذلك الظان
للبعض يقوم مقام العالم بالبعض المعتبر في رواية أبي خديجة لا يقال
الأصل حرمة العمل بالظن خرج ظن المجتهد المطلق بالاجماع
فيقوم مقام العلم ويبقى ظن المتجزي مندرجا تحت الأصل لأنا نقول
إن الاجماع وإن انعقد على حجية ظن المجتهد المطلق إلا أنه لا
إجماع على تعيينه لوقوع الكلام في أنه هل هو الأصولي أو الاخباري
أو من له الطريقة الوسطى فذهب إلى كل فريق وكل من هؤلاء
يخطئ طريقة صاحبه فغاية ما في الباب تعيين أحد هذه الطرق بالظن
فيكون حجية ظنه ظنية على أن هذا خروج عن الاستدلال بالرواية
وتمسك بالأصل والكلام إنما هو على تقدير التمسك بها هذا مع أن
أصحاب الأئمة عليهم السلام لم يكونوا عالمين بجميع الاحكام بل
كثيرا ما كانوا يعولون فيها على الظن كما يظهر من تعويلهم على خبر
الواحد وعند تعارض الاخبار على التراجيح الظنية فيتعين حمل
العلم والمعرفة في الروايتين على ما يشتمل الظن ليتناول الرجوع
إليهم في ظنياتهم انتهى محصلا أقول المعروف بين الأصحاب
الاحتجاج بهذه الرواية على كون الفقيه المستجمع لشرائط الفتوى
منصوبا عاما وأما أن ظنه يقوم مقام العلم عند تعذره فيجوز له العمل
به حينئذ فلم أقف على من يستدل عليه بهذه الرواية نعم احتجاجهم
بها على الامر الأول مع ملاحظة كون أكثر الاحكام في حقه ظنية ربما
يدل على التزامهم بالامر الثاني فلعل الفاضل
المذكور نسب ذلك إلى أصحابنا مراعيا لهذا الاعتبار وأنت خبير بما
فيه أما أولا فلان الدليل على قيام رجوع المقلد إلى الظان مقام
رجوعه إلى العالم عند تعذره إما عقلي مبني على ملاحظة انسداد
سائر الطرق عليه وبقاء التكليف أو غير ذلك ولا تعلق لهذه الرواية به
وإن أريد الاحتجاج بها على إثبات أصل وجوب الترافع إلى العالم
بالحكم ليترتب عليه وجوب الترافع إلى الظان به في أمثال زماننا
بقاعدة انسداد باب العلم وبقاء التكليف ففيه أنه لا حاجة في إثبات
أصل الحكم إلى التمسك بهذه الرواية الضعيفة والاعتذار عن ضعفها
بالانجبار بالقبول بل الكتاب والاخبار المعتبرة والاجماع بل الضرورة
دالة على ذلك فكان الاحتجاج بها أسد وأولى بل التحقيق أن
الظاهر من هذه الرواية والظاهر أنه هو الذي فهمه الأصحاب منها أنه
عليه السلام نصب من كان عالما بالأحكام بالكيفية المقررة حاكما
وأمر بالترافع إليه في الحكومات والظاهر أن العلة في عموم نصبه
عليه السلام تعذر الترافع إليه غالبا أو تعذر نصبه حكاما على
الخصوص لمكان التقية وكثرة الشيعة وتفرقهم في البلاد وحينئذ
فتسرية حكم النصب إلى أمثال زماننا إما من جهة مساعدة مساق
الرواية على ذلك واستفادة العموم منها وإن قلنا باختصاص الخطاب
بالمشافهين كما في نظائر المقام أو لتحقق العلة الباعثة على
عموم النصب بل هي في حقنا أولى وأما أن ظنون المجتهد معتبرة
عند انسداد باب العلم كلا أو بعضا فهو أمر آخر لا تعلق له بالقدر
المنقول من الرواية نعم لها ذيل يستفاد منه اعتبار مطلق الظن بصحة
الصدور وظنون خاصة في ترجيح الاخبار المتعارضة وهذا ليس
له تعلق بمحل البحث أما ثانيا فلان الحكم الثابت بالظن الذي قام على
حجيته قاطع كظن المجتهد المطلق قطعي ولا يقدح كونه ظاهريا
لان إطلاق الحكم على الحكم الظاهري حقيقة كالواقعي ضرورة أنهما
مما حكم بهما الشارع في الواقع غاية ما في الباب أن حكمه بأحد
الحكمين مسبب عن
خطأ المجتهد والاخر مشروط بإصابته له والاحكام المسببة عن
أسباب خارجية كثيرة كالنذور والكفارات وليس في شمول الحكم
لها توسع أصلا فلا فرق بيننا وبين المشافهين للمعصوم في العلم بما
يطلق عليه الحكم الشرعي حقيقة فلا باعث على صرف العلم و
المعرفة في الروايتين عن ظاهرهما وبهذا يتضح بقاء الاعتراض و
سقوط الجواب وأما التشكيك الذي أورده على تعيين المجتهد
المطلق
فضعفه ظاهر لان الاجماع منعقد على أن من كان له ملكة معرفة
الاحكام واستنباطها عن الأدلة المقررة على وجه يعتد به في عرف
الصناعة واستجمع لبقية الشرائط مجتهد مطلق يجب عليه العمل
بمقتضى نظره أصوليا كان أو أخباريا أو متوسط الطريقة إذ عند
التحقيق لا فرق بين هذه الفرق الثلاث إلا من جهة الاختلاف في جملة
من الطرق كمصير الأخبارية إلى عدم حجية الكتاب والعقل وحجية
جميع أخبار الكتب الأربعة وعدم الاعتداد بكثير من الدلالات الخفية
ونحو ذلك ومصير الأصوليين إلى خلاف ذلك ولا ريب أن مثل
هذا الاختلاف موجود بين كل فرقة من هذه الفرق الثلاث كاختلاف
الأصوليين في حجية خبر الواحد وأنواعه والاستصحاب والاجماع
المنقول والشهرة والمفاهيم ونحو ذلك فالاختلاف الذي بينهم ليس
بأقل من الاختلاف الذي بينهم وبين الأخباريين إلا أنهم لم
يصطلحوا في هذا الاختلاف على تسمية صاحب كل قول باسم
مخصوص كما اصطلحوا هناك وهذا لا مدخل له في مرحلة الحجية
فما
ذكره من أن كل فرقة من الفرق الثلاث تخطئ لطريقة غيرها إن أراد أنها
تخطؤه ولكن تقول بحجية نظره في حقه وحق مقلديه فهذا لا
ينافي
398

كون الموضوع إجماعيا وإن أراد أنها تمنع من حجية نظره في حقه و
حق مقلديه فتمنع من الرجوع إليه فبطلانه غير خفي على العارف
بالطريقة نعم يقدح في بلوغ بعض الأخبارية مرتبة الاجتهاد و
الاستنباط لعدم الاعتداد بنظره واستنباطه فيمنع من الرجوع إليه و
مثله
قد يتفق بين الأصوليين أيضا وهو أمر آخر لا تعلق له بالمقام حجة
القول بالمنع وجوه منها الحجة التي حكيناها عن المانعين من إمكانه
وهي الحجة المعروفة عنهم في المقام ولو تمت لدلت على نفي
إمكان التجزي والتزام المانعين به بعيد وكيف كان فقد تقدم الجواب
عنها فلا نطيل الكلام بإعادته ومنها استصحاب بقاء ما كان وظيفته
قبل التجزي من التقليد وإن لم يقلد وباستصحاب الاحكام الثابتة
في حقه بالتقليد للقطع بثبوتها قبله فتستصحب حال التجزي إذ لا قطع
بارتفاعها به وهذه الحجة مبنية على القول بحجية الاستصحاب و
لو عند الشك في قدح العارض ولا يقدح فيه ما حققناه في مبحث
الاستصحاب من أن الاستصحاب إنما يعتبر فيما إذا كان قضية الشئ
المستصحب عادة أو شرعا بقاءه لولا طرو المانع أو منع الطاري إذ
يمكن القول بأن المقام منه فإن قضية ثبوت التقليد أو الاحكام
الثابتة به شرعا بقاؤه إلى أن يتحقق الرافع له من البلوغ إلى المرتبة
المعتبرة من الاجتهاد فيستصحب البقاء عند الشك في حصول
الرافع لا يقال إنما انعقد الاجماع على جواز تقليد غير المطلق و
المتجزي فإذا زال الوصف زال موضوع الحكم الثابت بالاجماع وليس
من مقتضى هذا الحكم بقاؤه بعد زوال الموضوع حتى يتجه فيه
التمسك بالاستصحاب لأنا نقول الذي يظهر من مقالة القائلين بجواز
التجزي أنهم إنما يقولون به من جهة قيام الدليل عليه وإنه لولاه
لالتزموا ببقاء حكم التقليد في حقه فلا يكون لبقاء الوصف مدخل في
كون حكم التقليد عندهم مما من شأنه البقاء لولا الرافع ولا يقدح كون
مستندهم في الحكم بالبقاء على تقدير عدم الدليل
على الخلاف هو الاستصحاب إن ثبت لان مستندنا هو الاجماع لا
دليل الاجماع ولو منع من تحقق الاجماع على الوجه الذي قررنا فلا
ريب في تحقق الشهرة القوية القريبة منه عليه وهي مفيدة للظن
فيكفي في إثبات المنع كما سنشير إليه هذا ويمكن النقض على الأول
بالمتجزي المتسافل عن درجة الاجتهاد المطلق بل قضية
الاستصحاب هنا حجية نظره للشك في ارتفاعها بالتسافل وعلى
الثاني
بالمتجزي الذي وافق نظره لنظر المجتهد إذا رجع المجتهد ولم يرجع
ويمكن دفع الأخير بأن ثبوت الحكم من حيث التقليد غير ثبوته
من حيث الاجتهاد ولا ريب في انتفاء الأول بالرجوع فيحتاج إثبات
الثاني إلى دليل ولا أثر للاستصحاب فيه ويتوجه على عكس الدليل
عدم شموله لمن بلغ متجزيا إذ لم يجب عليه قبل البلوغ شئ منهما
ليستصحب ولا ينافيه القول باستحباب التقليد في حق الصبي للقطع
بارتفاعه بالبلوغ لوضوح تضاد الاحكام اللهم إلا بالنسبة إلى الاحكام
التي يستحب التقليد فيها للمكلف فيمكن التمسك فيها
بالاستصحاب مع احتمال عدمه بناء على أن الاستحباب الثابت قبل
البلوغ مغاير لما ثبت منه بعده وأن الخطاب المفيد لأحدهما مغاير
للخطاب المفيد للاخر ولا سبيل في المقامين إلى التمسك بالاجماع
المركب في طرد المنع لانقلابه بإمكان التمسك به في طرد الجواز
مع أن حجيته في الاحكام التي مبناها على الظاهر غير ظاهرة كما نبهنا
عليه في محله ومنها أن المتجزي غير عالم بالحكم الشرعي إذ لا
قطع له بحجية مؤدى ظنه فظنه كالشك والوهم في عدم الاعتداد به
عقلا فشأنه الرجوع إلى المجتهد المطلق العالم بالأحكام لان ذلك
وظيفة الجاهل ويشكل بمنع كلية الكبرى إذ لا إجماع على رجوع مثل
هذا الجاهل فإن احتج بعموم قوله تعالى فاسئلوا أهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون لتوجه عليه أولا أن المستفاد من سياق الآية على ما
ذكره البعض سؤال العلماء أو علماء اليهود عن كون الرسل الموحى
إليهم رجالا
وعدم كونهم ملائكة كما كان يتوهمه بعض الكفار وثانيا أن أهل الذكر
مفسر في أخبار أهل الذكر بالأئمة عليهم السلام على وجه
يظهر منها الحصر حتى استدل عليه في بعضها بأن الله تعالى قد سمى
نبيه صلى الله عليه وآله ذكرا في قوله تعالى ذكرا رسولا فأهله
أهل الذكر فيجب تنزيل الآية على ذلك لو قدر ظهورها في المعنى
الأول ودعوى أن المستفاد منها على هذا التقدير أو التقدير الأول
وجوب رجوع كل جاهل إلى العالم في محل المنع وثالثا أن السائل
كما يجاب بذكر الفتوى على تقدير كونه عاميا كذلك يجاب بنقل
الرواية على تقدير كونه مجتهدا وليس في الآية ما يعين الأول في حق
المتجزي مضافا إلى ما مر من أنه خطاب إلى المشافهين وقد
عرفت الحال بالنسبة إليهم ووجود الفارق بيننا وبينهم ومنها أن صحة
اجتهاد المتجزي في المسائل مبنية على صحة اجتهاده في جواز
التجزي وصحة اجتهاده في جواز التجزي مبنية على صحة اجتهاده
في المسائل لأن جواز التجزي من جملتها وببيان آخر يبتني حجية
ظنه في جواز التجزي على حجية ظنه مطلقا وهي تتوقف على حجية
ظنه في جواز التجزي ورجوعه في جواز التجزي إلى فتوى المجتهد
المطلق يوجب خلاف الفرض إذ المقصود إلحاقه بالمجتهد أولا و
بالذات لا ثانيا وبالعرض والجواب أن المقصود صحة اجتهاده في
مسائل الفقه وهي مبنية على صحة اجتهاده في مسائل الأصول غاية
ما في الباب أن يعتبر كونه مجتهدا مطلقا في مسائل الأصول ليعتبر
اجتهاده في مسألة جواز التجزي ولا يلزم من كونه مجتهدا مطلقا في
الأصول أن يكون مجتهدا مطلقا في الفقه لتغاير العلمين نعم لو كان
متجزيا في الأصول توجه إشكال الدور إلى
399

في جواز التجزي هذا ولقائل أن يقول لا نسلم حجية ظن من كان
مجتهدا مطلقا في الأصول بالنسبة إلى المسائل الظنية منها ما لم يكن
مجتهدا مطلقا في الفقه اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع ثبت
فيه الوفاق ولأن العمل بالظن حيث لا دليل عليه بالخصوص مبني
على
انسداد باب العلم وبقاء التكليف ولا دليل على أن من لا يكون
مجتهدا مطلقا في الفقه مكلف بالبناء على حجية الأدلة الظنية أو جواز
الاخذ بمقتضاها نعم لو ثبت جواز التجزي في الفقه لزم منه جواز
تعويله على الظن فيما يفتقر إليها فيه لكن يبقى معه إشكال الدور
بحاله ولا يخفى ما فيه فإن ظنيات علم الأصول كظنيات العلوم العربية
فكما يصح تعويل العارف الخبير بتلك العلوم على الظنون
المقررة فيها وإن لم يكن له خبرة بعلم الفقه فكذلك الحال في الأصول
ثم لا نسلم أن رجوعه في ذلك إلى فتوى المجتهد يوجب الخروج
عن محل الفرض إذ المقصود إثبات جواز التجزي بأي وجه كان كما
يساعد عليه إطلاق العنوان هذا وتحقيق المقام أن المتجزي أن قطع
بحجية ظنه تعين عليه البناء عليه كما أنه لو قطع بعدم حجيته تعين
عليه التقليد لكن يبعد فرض القطع له في ذلك لانتفاء ما يوجبه و
لتصادم الأدلة من الجانبين فغاية ما يمكن فرضه في المقام حصول ظن
له بأحد الامرين أو قيام ما يظن حجيته عنده عليه والتحقيق
حجية هذا الظن في حقه لانسداد باب العلم عليه مع قطعه ببقاء
التكليف فإن ذلك يوجب فتح باب الظن عليه فيعول على ظنه بأحد
الامرين
أو بدليله إن عثر به والمعتمد هو الثاني وقد مر تحريره في مبحث
حجية خبر الواحد وقد عرفت مما حققناه رجحان أمارة التقليد في
حق المتجزي بعد التقليد ورجحان أمارة جواز التجزي في حق
المجتهد المطلق المتسافل إلى درجة التجزي قضاء لحكم
الاستصحاب في
حق كل منهما وأما من بلغ متجزيا فقد عرفت تعارض الأدلة في حقه
مطلقا أو بالنسبة إلى الحكم التكليفي وقضية ذلك التخيير في مورد
التعارض ثم إن أصاب المتجزي في فكره
وساعد نظره على ما ذكرناه بنى عليه وإلا فاللازم عليه الاخذ
بمقتضى نظره ولو عجز عن الاجتهاد في مسألة التجزي تعين عليه
الرجوع فيها إلى المجتهد المطلق لان ذلك وظيفة الجاهل العاجز ولا
يجوز له العمل بالاجتهاد أو التقليد حينئذ فيما يمكنه الاجتهاد فيه
قبل المراجعة كما لا يجوز له ذلك قبل الترجيح فإن قلد من أفتى له
بالتقليد قلد ولا إشكال وإن قلد من أفتى له بجواز التجزي فالظاهر
جواز تعويله على نظره فيتركب مأخذ الحكم عنده من الاجتهاد و
التقليد ويظهر من صاحب المعالم استبعاد ذلك من حيث إنه غير
معروف وعلى تقديره فليس لمن قال بجواز التجزي أن يفتي لمقلده
به بل يتعين عليه أن يعين التقليد فيرجع قوله بجواز التجزي إلى
أن المتجزي إن ساعد نظره وأصاب فكره رجح جواز التجزي أو أنه
يجوز له التجزي على تقدير إصابته لذلك من غير طريق التقليد و
لو علم المتجزي بذلك ولو بظن معتبر عنده سقط عنه التقليد في
ذلك وتعين عليه التقليد في الفقه ابتدأ الثالث في حجية نظره في
حق
غيره والحق عدم حجية له بناء على حجيته في حق نفسه مع التمكن
من الرجوع إلى المجتهد المطلق للأصل ويظهر من رواية أبي خديجة
المتقدمة بناء على ما فهموا منها جواز المرافعة إليه في الحكومات و
هو يستلزم جواز المراجعة إليه في الفتوى أيضا فيما يظهر من
الأصحاب لكن قد عرفت ضعف الرواية سندا ودلالة وعدم نهوضها
دليلا وحجة نعم لو تسافل المجتهد المطلق إلى التجزي وقلده حال
الاطلاق اتجه القول ببقائه على تقليده ما لم يرجع عنه للأصل السالم
عن المعارض وفي بقائه عليه مع رجوعه عنه حال التجزي وجهان و
لو دار الامر بين تقليد المتجزي أو الميت قدم المتجزي لأنه أقرب
الامارتين لمصير جماعة إلى القول بحجية قوله بخلاف الميت وكذا
الكلام في المتجزي إذا دار الامر بين عمله باجتهاده أو تقليد ميت و
على هذا فقد يجب عليه التقليد فيما يعتبر فتواه فيه بالنسبة إلى غيره
كما إذا سبق منه تقليد حي أو قلد من ثبت عنده اجتهاده أو عدالته
ولم يتحقق ذلك بالنسبة إلى غيره
فصل يعتبر في المجتهد المطلق أن يكون متمكنا من استنباط الأحكام الشرعية
الفرعية من مآخذها وذلك يتم بأمور منها معرفة اللغة والنحو
والتصريف لان من جملة الأدلة الكتاب والسنة وهما عربيان لا
يمكن معرفة معانيها إلا بالعلوم المذكورة فلا بد من الاطلاع عليها قدر
ما يتوقف معرفة مواضع الحاجة منها عليه ولا يلزم استحضار
مباحثها المحتاج إليها بل يكفي تمكنه من الاستعلام ولو بمراجعة
كتاب معتمد عليه ويدخل في معرفة اللغة معرفة المعاني العرفية
الثابتة في زمن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام ثم هذا
الشرط إنما يعتبر غالبا بالنسبة إلى أمثال زماننا حيث اندرس فيه
اللغة العربية وانحصر سبيل معرفتها في المراجعة إلى الكتب المدونة
وأما بالنسبة إلى العرب الموجودين في زمن النبي والأئمة عليهم
السلام فلا حاجة لهم إلى معرفة هذه العلوم المحررة وكذا الحال في
جملة من الشرائط الآتية ولو أريد بهذه العلوم غاياتها اشترك وجه
الحاجة بين الجميع وزاد بعضهم فيها معرفة علم المعاني والبيان
لتوقف معرفة جملة من النكات التي لها مدخل في معرفة المعنى و
تميز
الأفصح عن الفصيح والفصيح عن غير الفصيح في مقام التعارض على
العلم المذكور وهو حسن لكن كثيرا ما يستغني بوجدانه الذكي
المتدرب في طرق المحاورات عن الرجوع إلى العلم المذكور ومنها
معرفة ما يبتني عليه صورة الاستدلال من المباحث المنطقية تمييزا
بين صحيح الدليل وفاسده ومنتجه وعقيمه وربما يقل الحاجة إليها
لان الغالب في مقام الاستدلال صوغ الدليل على هيئة الشكل الأول
أو القياس الاستثنائي وكلاهما متضحا الانتاج فيندر موارد الاحتياج و
منها معرفة ما يتوقف عليه
400

حجية الأدلة من علم الكلام كوجوده تعالى وعلمه وحكمته وتعاليه
عن فعل القبيح والخطاب بما لا يفهم منه المراد مع عدم البيان و
رسالة الرسول وخلافة أوصيائه وعصمتهم وحجية أقوالهم وذلك
إنما يبين في علم الكلام ولا يقدح في توقف الاجتهاد عليها توقف
الاسلام أو الايمان على جملة منها لعدم المنافاة بين كونها أصول
الاسلام أو الايمان وكونها مقدمة للاجتهاد غاية ما في الباب أن يكون
واجبة نفسية وغيرية عند وجوب الاجتهاد وهو مما لا غبار عليه كما
نبهنا عليه في محله ولو علم هذه المباحث أو ما يحتاج إليه من
مباحث المنطق من غير مراجعة إلى كتبهما أو إلى الطرق المقررة فيها
جاز إذ المقصود مجرد تحصيل تلك التصديقات بأي وجه كان و
قد يتوقف العلم ببعض الاحكام على معرفة بعض مباحث الأمور
العامة أو الجواهر والاعراض كرد القول ببقاء الجواز بعد نسخ
الوجوب
باستحالة بقاء الجنس بعد زوال الفصل وكرد شبهة الكعبي ببقاء
الأكوان مثلا إلى غير ذلك إلا أن طريق التخلص منها لا ينحصر في
ذلك ومنها العلم بالمباحث المحتاج إليها من علم الأصول وهي أكثر
مسائله لان مقاصد الفقه نظرية مستنبطة من أدلة مخصوصة فلا بد
من تعيين تلك الأدلة ومعرفة طرق الاستنباط منها وكلاهما نظريان قد
وقع النزاع في كثير من مباحثهما فيتوقف معرفتهما على
معرفة مداركهما والعلم المتكفل لذلك علم الأصول وزعم جماعة
من قاصري الدراية من الفرقة الموسومة بالأخبارية أن العلم المذكور
مما لا حاجة إليه ولا طائل يترتب عليه وتمسكوا عليه بشبه ضعيفة
أقواها أمران الأول أن الضرورة قاضية بوجوب العمل بما ورد في
الشريعة من أوامرها ونواهيها ولا ريب أن من علم العلوم العربية فهم
المراد بتلك الأوامر والنواهي فيجب عليه العمل بها إذ الجهل
بمسائل الأصول لا يصلح مانعا وعذرا لعدم دليل عليه أ لا ترى أن
العبد المأمور بأمر إذا ترك الامتثال واعتذر بجهله بمسائل الأصول لم
يكن عذره مقبولا عند مولاه ولا غيره من العقلا
والجواب منع قضاء الضرورة بوجوب عمل كل عالم بالعلوم العربية
حتى بالنسبة إلى أمثال زماننا بما ورد في الكتاب أو السنة
المأثورة بطريق الاجتهاد فيها والاستبداد وهل هذا إلا مكابرة في
مصادرة كيف والأصوليون مطبقون على اعتبار شرط آخر بل
شروط أخر فمن أين تحققت الضرورة مع مخالفته هذه الفرقة العظيمة
مع أن جملة من مباحث اللغة لا تحرر إلا في علم الأصول فما
الباعث على عدم الاعتداد بها مع أنها من جنس بقية مباحثها التي
اعترفوا بتوقف الاجتهاد عليها وأما التمثيل بالعبد فقياس مع الفارق
إذ عرف المولى في حقه غير مستقر وطريق البلوغ إلى مقصوده غير
متكثر فلا مدخل لعلم الأصول في الوصول إلى مراده وتعيين
لفظه ومفاده وليس الحال بالنسبة إلينا كذلك فإن تباعد الزمان و
تعدي أهل البغي والعدوان وتعارض ما وصل إلينا من الاخبار و
اندراس جملة من الشواهد والآثار مع ما ترى من اختلاف الأقوال و
التباس الحال في كثير من الرجال أوجب في حقنا خفاء الأدلة و
مالها من الشرائط المعتبرة وإن علمنا بها على سبيل الاجمال فإن ذلك
لا يجدي في مقام الاستدلال فوجب علينا البحث عن تعيينها و
الاجتهاد في تحصيلها وتبيينها ولو فرض في المثال المذكور كون
العبد المأمور نائبا عن مولاه وأنه كان آمرا إياه بالأخذ بما يصل
منه إليه من الاخبار والنصوص والترجيح بين ما تعارض منها بطريق
مخصوص فهذا العبد قد علم بجملة مما يحتاج إليه من المسائل
الأصولية بطريق خطاب المشافهة ولو كان مثله متحققا في حقنا
لاكتفينا به ولم يحتج إلى البحث وأما ما دل على حجية أخبار الآحاد
و
طريق العلاج عند تعارضها في المفاد فمجملة الدلالة غير متضحة
الإفادة لا سيما بعد ملاحظة الاختلاف الواقع في تعيين الأدلة وفي
شرائطها المقررة المعتبرة كما لا يخفى على ذي بصيرة أو واقف على
الطريقة وبه ينكشف الفرق بيننا وبين الحاضرين لمجلس
الخطاب ومن في حكمهم فإن حكمهم حكم العبد
المذكور في المثال فإن قلت لعل الخصم لا يريد عدم الحاجة إلى
المطالب المذكورة في الكتب الأصولية بل عدم الحاجة إلى النظر في
كتبها ومعرفة الخيالات المودعة فيها ولا ريب أن معرفة تلك المطالب
لا يتوقف على الرجوع إلى تلك الكتب بل يمكن تحصيلها من
ممارسة العرف واللغة والاخبار المأثورة كما تداول عليه طريقة
السلف قبل تدوين تلك الكتب إذ لو كان الاطلاع عليها شرطا في
الاجتهاد لزم عدم تحقق مجتهد فيهم وهو واضح الفساد من وجوه
شتى مع أن الخيالات المتعلقة بتلك المقاصد مما تتزايد بتطاول
الزمان فلو كان العبرة بالاطلاع على الجميع لزم عدم تحقق مجتهد في
أصحاب تلك الكتب أيضا لحدوث خيالات لم يتنبهوا لها قلت لما
كان العبرة في الاجتهاد على ما يظهر من طريقة الأصحاب ويعاضده
أصالة حرمة العمل بالظن السالم عن المعارض غالبا باستفراغ
الوسع على وجه يعتد به عرفا وعادة فلا ريب أن ذلك مما يختلف
باختلاف الأزمان ففي أمثال زماننا لا يتحقق الاستفراغ إلا بعد
استقصاء النظر في علم الأصول والاطلاع على خيالات القوم على
قدر يحصل معه الوثوق والاعتداد به عادة فإن الذي يستنبط من
العرف أو الاخبار حكما أصوليا من غير مراجعة إلى كتبه لا يؤمن من أن
يكون ذلك مبنية الفساد في تلك الكتب بوجوه لو تنبه لها
لأذعن بفسادها فلا يحصل له الوثوق به إلا بعد المراجعة والاستفراغ
ولا يلزم الإحاطة بجميع الخيالات بل بما يحصل معه الوثوق و
الاعتداد والركون والاعتماد عادة فظهر سقوط الوهم المذكور الثاني
أن هذا العلم لم يكن بين أصحاب الأئمة وإنما أحدثه علماء العامة
ثم تسرى منهم إلى أصحابنا
401

الامامية في زمن الغيبة وخفاء الحجة فهو إما من البدع المستحدثة و
الطرق المخترعة التي يجب التجنب عنها في أمر الشريعة أو أنه مما
لا حاجة إليه في معرفة الاحكام وإلا لما أهمل بيانه أهل العصمة
عليهم السلام والجواب أن جملة من مباحث الأصول كانت واضحة
في
ذلك الزمان غنية عن البيان كجملة من مباحث الأمر والنهي والعام و
الخاص والمطلق والمقيد لكونهم من أهل العرف والاستعمال
عارفين بطرق المقال مستغنين عن البحث والجدال في ذلك المجال
ومنها ما يختص الحاجة إليه بالمتأخرين عن زمن الظهور كالبحث
عن حجية ظن المجتهد عند تعذر طريق العلم والطرق العلمية عليه و
منها ما يقل الاحتياج إليه ويندر التعويل عليه كمسألة الحقيقة
الشرعية وتعارض العرف واللغة وربما كان في البيان الواصل إليهم ما
فيه غنية عنه وكفاية ومنها ما هو مشترك الحاجة بين جميع
الفرقة مبين في كلام أهل العصمة كحجية الكتاب والسنة وجملة من
المدارك الفقهية ووجوه الترجيح عند تعارض النقلة وحكم النسخ
الوارد في السنة أو القرآن وتحريم العمل بالقياس والاستحسان إلى
غير ذلك مما يصادفه المتتبع العارف والأقدمون وإن اقتصروا
على تدوين أخبار هذه المباحث كما هو طريقتهم في علم الفقه وعلم
الأخلاق إلا أن المتأخرين عنهم لما خفي عليهم جملة من الآثار و
تزاحمت عندهم الأفكار وكثر إليهم وصول الخلاف والاختلاف و
احتاجوا إلى تدوين تلك المباحث في فن مستقل والبحث عن
صحيح
تلك الأخبار وفاسدها وذكر بقية الشواهد التي عثروا عليها و
الاعتبارات التي تنبهوا لها وأضافوا إلى تلك المباحث مباحث أخر
مست
حاجتهم إلى البحث عنها فلم يزل يزداد تحريرا وتدقيقا ويتزايد
تنقيحا وتحقيقا ويكثر من جهة ذلك إشكالا ويصعب تحصيلا
لتعميق
الأعاظم فيه النظر وصرف الأفاضل فيه الفكر حتى انتهت النوبة إلى
جماعة قصر باعهم عن الوصول إلى مبادي تلك الخيالات وانتهى
نظرهم دون البلوغ إلى نهاية تلك
التحقيقات وعظم عليهم الاعتراف بأن فيهم قصورا فرموا به البري
ظلما وزورا وليت شعري كيف يجوز من له أدنى درية ومسكة أن
يكون المباحث الدائرة بين النفي والاثبات بكلا شقيها فاسدة وباطلة
وبالجملة فمن زعم أن علم الأصول شطط من القول أو فضول
فقد قصر نظره عن الوصول إلى حقيقته ولم يساعد وسعه على
العروج إلى ذروة معرفته فعجزه دعاه إلى الاعراض عما أهمله فهو كما
قيل المر عدو لما جهله وربما كان الباعث في حق بعضهم حب
الانفراد وإظهار الخروج عن تبعية التقليد بالوصول إلى مقام الاستبداد
ليكون مرحبا للعباد ومحلا للاعتماد ولقد أطال الكلام بعض علمائنا
الاعلام في إبرام النقض عليهم ونقض الابرام ولعمري إن وضوح
المقام وظهور المرام يغني عن كلفة البحث لذوي البصائر والأفهام
منها معرفة أحوال الرجال ولو بالرجوع إلى النقلة في الكتب
المعتمدة لان أخبارنا المدونة في الكتب الأربعة وغيرها ليست
بأجمعها معتبرة فيتوقف معرفة ما هو معتبر في نفسه وما ليس بمعتبر
كذلك عليه وكذلك يتوقف عليه معرفة ما هو أرجح من حيث السند
مما ليس كذلك في صورة التعارض ومن زعم من الفرقة المذكورة
آنفا أن أخبار الكتب الأربعة قطعية الصدور عن الأئمة عليهم السلام و
أن السبب في تعارضها ليس إلا التقية فلا حاجة إلى العلم المذكور
فقد جاء بما يخالف العيان ويكذبه كل مستقيم الذوق والوجدان إذ
مرجع كلامه إلى دعوى القطع بعصمة النقلة في نقلهم عن الكذب و
السهو والنسيان مع ما يرى من كثرتهم واشتهار كثير منهم بقلة الضبط
أو بالفسق والعدوان أو تعدد الوسائط والطبقات في البين و
تطاول العهود والأزمان وهل هذا إلا بهت وعناد وتعلم عن مسلك
الحق ومنهج السداد ولا بأس بالتنبيه على ما تمسكوا به على ذلك و
هي شبه عديدة واهية منها تعاضد بعض أخبارنا ببعض وفيه أن
التعاضد الموجب للقطع مع قطع النظر عن
ملاحظة السند مما يندر حصوله في الاخبار جدا ونحن لا ندعي
الحاجة إلى علم الرجال بالنسبة إليه بل إلى غيره ومنها نقل الثقة العالم
الورع له في كتابه المؤلف للارشاد وفيه إن أراد بالناقل الثقة المشافه
للإمام عليه السلام فبعد تسليم حصول العلم باتصافهم كلا
بالأوصاف المذكورة وحصول العلم بروايتهم أن كتبهم لم تصل
بأعيانها إلى أرباب الكتب الأربعة بل بواسطة النقلة وفيهم الفطحي و
الواقفي والكذاب ووضاع الحديث وغير ذلك مضافا إلى اختلاف
النقلة في نقل جملة من كتب الرواة فذكر النجاشي في ابن أبي عمير
أن نوادره كثيرة مختلف باختلاف الرواة وذكر في محمد بن عذافر أن
له كتابا تختلف الرواة فيه وذكر أيضا مثله في محمد بن
الحسن بن الجهم وحسن بن صالح الأحول وحسين بن علوان وإن
أراد به مثل الكليني والصدوق والشيخ ففيه أن بينهم وبين الامام
وسائط عديدة ولا علم لنا بعدم تعويل الثقة منهم على الرواية التي لا
يعلم بصحة صدورها إن لم يعلم بخلافه مع أن علمه بذلك لا يستلزم
علمنا به وكون التأليف للارشاد لا ينافي ظنيتها إذ لا محيص عن
العمل بتلك الأخبار ظنية كانت أو قطعية ولهذا نقلها المتأخرون في
كتبهم الاستدلالية الموضوعة للارشاد ومع اعتراضهم بظنيتها على أن
هذا الوجه لا يوجب الاستغناء عن علم الرجال أو الاطلاع على
وثاقة الراوي لا يتحقق غالبا إلا به ومنها توثيق الإمام عليه السلام
للرجل والامر بالرجوع إليه وفيه أن توثيقه عليه السلام منقول بخبر
الواحد بوسائط متعددة ولا علم لنا به سلمنا لكن يجوز أن يكون
توثيقه عليه السلام مبنيا على الظاهر كما هو الظاهر
402

لكن التوثيق لا يستلزم العصمة عن الاشتباه والسهو مع أن ذلك لا
يتحقق إلا في حق نادر من الرجال ولا يتحقق معرفته إلا بعلم الرجال
فكيف يستغنى به عنه ومنها كون الراوي ممن نقل الاجماع على
تصحيح ما يصح عنه وفيه أن الاجماع المذكور منقول في كتب
الرجال
فيتوقف معرفته على الرجوع إليها ومع ذلك فهو منقول بخبر الواحد و
لا علم به وقد وقع الاختلاف في تعيين جماعة من أهل الاجماع
كما نبهوا عليه في كتب الرجال على أن الظاهر من الاجماع هناك
مجرد الاتفاق لا الاتفاق الكاشف عن قول المعصوم عليه السلام فلا
يستلزم العلم بصحة مورده مضافا إلى أن تصحيحهم لا يستلزم علمهم
بصحة الصدور بل معناه مجرد الوثوق والاعتماد على الراوي أو
على الرواية التي ثبت روايته لها ولو سلم فلا يلزم من علمهم بصحة
روايات رجل علمنا بذلك أيضا ومنها شهادة أرباب الكتب الأربعة
بصحة الاخبار التي أوردوها فيها وأنهم أخذوها من الكتب المعتمدة و
الأصول المعول عليها وفيه أن ما ذكروه لا يدل على قطعهم
بصدور تلك الأخبار عن الأئمة عليهم السلام بل إنما يدل على صحتها
عندهم وهي أعم من ذلك وقد صرح الشيخ بأن الرواية إذا كانت
محفوفة بأمارات الوثوق جاز التعويل عليها وإن لم يبلغ درجة القطع
بل يظهر من الصدوق في كتاب الصوم من الفقيه أنه كان يعتمد
على قول شيخه الحسن بن الوليد في تصحيح الروايات وتضعيفها
حيث نقل فيه عنه استضعافه لرواية محمد بن موسى الهمداني ثم قال
وكلما لم يصحح ذلك الشيخ ولم يحكم بصحته من الاخبار فهو عندنا
متروك انتهى فمن هذا شأنه في التصحيح والتضعيف فأين هو من
دعوى العلم بصحة الصدور ولو سلم فالدلالة المذكورة ليست قطعية
ولو سلم فلا يلزم من قطعهم بذلك قطعنا به ثم من الأخبارية من
وجه مقالة أصحابه فحمل العلم في كلامهم على العلم العادي وفسره
بما يطمئن به النفس قال وهو يحصل بإخبار الضابط المتحرز عن
الكذب وإن
كان فاسقا وزعم أن الأصولية لا ينكرون هذا المعنى لكنهم يسمونه
ظنا فجعل النزاع بينهم لفظيا وفيه ما فيه وتوضيح المقام أن
الاعتقاد قد لا يحتمل النقيض عقلا إما بالضرورة كقولنا الواحد نصف
الاثنين أو بالنظر كقولنا العالم حادث وقد لا يحتمله عادة كعلمنا
بعدم انقلاب بعض الجبال التي شاهدناها ذهبا وعدم انقلاب
أشجارها إنسانا فنحن وإن جوزنا وقوع تلك الأشياء بالنظر إلى ذواتها
من حيث إمكانها كيف ونحن عالمون بصدور أمثالها من الأنبياء و
الأولياء في الأزمنة السابقة إلا أنا إذا لاحظنا الخارج قطعنا بعدم
وقوع ذلك في هذا الزمان الحاضر وأمثاله قطعا لا يحتمل النقيض
عندنا وليس ذلك لغفلتنا عن ملاحظة إمكانه في ذاته وإمكان وجود
أسبابه كما زعمه بعض حيث ادعى زوال العلم بعد التنبيه لذلك بل لم
نجد أنفسنا غير محتملة للنقيض بعد التنبه لذلك أيضا فإن الامكان
الذاتي لا ينافي الامتناع الغيري كما لا ينافي وجوبه وبالجملة فنحن
قاطعون بعدم الانقلاب فيما مر للقطع بعدم حصول أسبابها قطعا
مستندا إلى الحدس الناشئ من ملاحظة الأحوال المعلومة والقرائن
المكشوفة ومن هذا الباب علمنا بأنا في الان الحاضر لسنا بغير الذي
كان في الان السابق وإن أمكن خلافه بالنظر إلى الامكان الذاتي ومن
جوز ذلك بالنظر إلى الواقع ولو بعد ملاحظة إمكانه الذاتي و
وقوع نظائره فقد تأسى في ذلك بابن هبنقة إلا أنه لا يكفيه وجود
القلادة وقد لا يحتمل النقيض ما دام المعتقد غير متفطن للنقيض أو
لما يوجبه من الأسباب المحتملة ومن هذا الباب علمنا ببقاء من
فارقناه في الزمان الحاضر حيا صحيحا فإذا لاحظنا إمكان موته فجأة أو
سقوط شئ عليه أو نحو ذلك لم نقطع ببقائه لكن كثيرا ما نذهل عن
ملاحظة ذلك فنقطع ببقائه وقد لا يحتمل النقيض احتمالا يعتد به
عرفا وإن
احتمله عقلا وعادة كالمرتمس في الماء عند عدم وجود حائل على
بشرته لا سيما بعد بل جسده فإن أهل العرف يحكمون بوصول الماء
إلى تمامها ولا يعتدون باحتمال احتباس قليل من الهواء على بعض
بشرته مانع من وصول الماء إليها وإن أمكن وقوعه عقلا وعادة و
لهذا يعد الاعتداد بهذا التجويز من باب الوسواس ولك أن تسمي مثل
ذلك علما عرفيا وقد لا يحتمل النقيض احتمالا يعتد به شرعا وإن
احتمله عقلا وعادة وعرفا وذلك كالشهادة فإنه وإن احتمل في حق
الشاهد الكذب بالاعتبارات الثلاثة إلا أنه لا يحتمله شرعا بمعنى
أن الشارع لم يعتد بهذا الاحتمال في ترتب الاحكام عليها وكذا الكلام
في سائر الطرق الشرعية فإن أراد الموجه المذكور أن أخبارنا
علمية بالاعتبار الأخير فهو مما لا نزاع لنا فيه كيف وهو قضية قولنا
بحجيتها إلا أن كلمات الأخبارية غير صالحة للتنزيل عليه وإن
أراد أنها علمية بالمعنى الثالث فهو على تقدير تسليمه غير مستقيم في
حقنا قطعا حيث تنبهنا للنقيض وجوزنا وقوع أسبابه مع أن
الأخبارية لا يريدون أنها علمية بهذا الاعتبار فالتوفيق بهذا الوجه بين
القولين حكومة من غير تراضي الخصمين وإن أراد أنها علمية
بأحد الاعتبارات الاخر فمكابرة جلية وفي أخبار العلاج واعتبار
العدد في الشهود وعدم الاكتفاء بدعوى المدعي الثقة ما ينبه على
فساده والنزاع على هذا التقدير معنوي وزعم بعض متأخريهم أن
أخبار الكتب المذكورة مأخوذة من كتب أصول معتمدة معول عليها
بين قدماء الأصحاب محفوفة بأمارات الوثوق والصحة كما يقتضيه
شهادة مصنفيها
403

بذلك في أوائلها فلا حاجة إلى ملاحظة رجال السند في غير مواضع
التعارض نعم يحتاج فيها إلى العلم المذكور للاخذ بقول الأوثق و
الأعدل كما جاء في أخبار العلاج وضعفه ظاهر لان قولهم في حق
الكتب التي أخذوا منها الاخبار بأنها كتب مشهورة عليها المعول و
إليها المرجع أو نحو ذلك فإنما يدل على توثيق أربابها ومصنفيها و
الاعتماد عليهم دون جميع من يتقدمهم من الرجال أ لا ترى أنا نقول
أيضا بأن الكتب الأربعة كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع مع
أنا لا نقول بجواز الاعتماد على جميع رواتها ورواياتها وأما
حكم بعضهم بصحة رواياته كالصدوق فلا خفاء في أنه لا يقصد به
توثيق رواتها كيف وهو لا يجامع ما ذكروه في كتب الرجال من
تضعيف كثير منهم بل مجرد كونها معولا عليها معمولا بها عنده كما هو
مصطلح المتقدمين ولا ريب أن تعويلهم كثيرا ما يبتني على
أمور اجتهادية ومرجحات استنباطية بدليل اختلاف فتوى الواحد
منهم في الكتاب الواحد فضلا عن المتعدد وظيفتنا تقليدهم في ذلك
بل يتعين علينا الفحص والاجتهاد والبناء على ما نراه أوفق بالسداد و
أقرب إلى الرشاد فإن الدلائل موجودة والامارات غير مفقودة و
وقوفهم على جملة منها لم تصل إلينا معارض بوصولنا إلى جملة
أخرى لم يقفوا عليها ولو جاز لنا التعويل على ما عول عليه أرباب
تلك
الكتب من الاخبار لجاز لنا التعويل عليهم فيما أفتوا به من الاحكام بل
وعلى غيرهم لا سيما المتقدمين إذ ليس لأرباب هذه الكتب
خصوصية يمتازون بها عن جميع من عداهم ولا للاخبار خصوصية
تنفرد بها عن سائر الأدلة أو الاحكام وهذا راجع إلى القول بجواز
تقليد المجتهد لغيره من الأموات وهو باطل إجماعا ومنها معرفة
الدلائل الشرعية من الكتاب والسنة والاجماع والعقل فعلا أو قوة
قريبة منه فيكفي التمكن من تحصيلها ولو بالمراجعة إلى الكتب
المعهودة والمصنفات المعروفة واللازم من معرفة الكتاب معرفة ما
يتعلق منها بالأحكام وهي خمسمائة آية تقريبا ولا يجب العلم بما
عداها بل ولا بما هو منسوخ
منها ما لم يتوقف معرفتها عليه فيجب العلم به على قدر الحاجة وقد
صنف بعض أصحابنا في تحقيق تلك الآيات ما يغني عن المراجعة
إلى غيره وكذا اللازم من معرفة الاخبار معرفة ما يتعلق منها بالأحكام
دون غيرها ما لم يتوقف معرفتها عليه وكذا لا بد من العلم
بمواقع الاجماع محققا ومنقولا ومواضع عدم الخلاف والشهرة إن
قلنا بحجية الثلاثة الأخيرة أو حيث ينهض جابرا وقادحا وعلى هذا
القياس الأدلة العقلية إلا أن موضع بيانها علم الأصول ومنها أن يكون
له قوة يتمكن بها من رد الفروع إلى الأصول على وجه يعتد به عند
أهل الصناعة من الفقهاء الماهرين وهي المعبر عنها بالقوة القدسية و
تحصيلها أصعب من تحصيل بقية الشرائط بل يتعذر في حق كثير
من الناس بخلاف بقية الشرائط فإنها قد تيسر لهم ولمعاشرة أربابها و
المجادلة معهم ومدخل عظيم في حصولها كما نبه عليه الشهيد
الثاني وكثيرا ما يتوهم فاقدها أنه واجدها لتسارع النفوس إلى حسن
الظن بأنفسها فينبغي المراجعة إلى أهل الخبرة حذرا من الاشتباه
والالتباس ولقد ترى في أبناء زماننا من ليس له أهلية تحصيل هذه
القوة فضلا عن حصولها له وهو يزعم بنفسه أنه قد وجدها و
ظفرها بل ربما يزعم بنفسه أنه بلغ منها الدرجة القصوى وهو عنها
بمراحل لا تحصى وإنما اعتبرنا في بيان هذه القوة أن يكون الرد
على وجه يعتد به عند أهل الصناعة احترازا عن القوة التي يتمكن بها
من الرد على وجه لا يعتد به عندهم فإنه لا يكفي في صدق عنوان
الاجتهاد واقعا وإن اكتفي بها صاحبها مع اشتباه الحال عليه واعلم أنه
إن عرف الاجتهاد بفعلية الاستفراغ فلا إشكال وإن عرف
بملكته فقد يستشكل في المقام بلزوم اتحاد الشرط والمشروط فإن
المراد بالملكة القوة والقوة التي يتمكن بها من رد الفروع إلى
الأصول هي قوة الاستفراغ المذكور في حد الاجتهاد وأجاب عنه
الفاضل المعاصر بأن المراد بالملكة المعتبرة في حد الاجتهاد الملكة
الخاصة المترتبة على مجموع شرائط
الفقه التي من جملتها الملكة العامة أعني تمكن رد مطلق الجزئيات
إلى الكليات والفروع إلى الأصول لا رد جزئيات الفقه إلى كلياته هذا
كلامه والظاهر أنه يريد بالملكة العامة الطبيعة المستقيمة وقد فسر
القوة المذكورة عند بيانها بها ولا يخفى بعده فإن استقام الطبيعة
منشأ لتحصيل هذه القوة لا نفسها مع أن استقامتها أمر فطري لا مدخل
للكسب فيها كما صرح به بخلاف هذه القوة فإنها من الأمور
الكسبية كما مر من حصولها بالمجادلة مع أربابها بل التحقيق في دفع
الاشكال أن المذكور في الشرط قوة رد الفروع إلى الأصول و
مرجعه إلى التمكن من معرفة اندراج كل فرع تحت أصله والظاهر أن
هذا المقدار من القوة لا يستلزم التمكن من معرفة حكم الفرع كما
هو معنى الاجتهاد بالقوة فضلا عن اتحادها معه فإن من لم يحقق
مباحث الأصول ربما يحصل له بمزاولة الفقه ملكة يتمكن بها من
معرفة
اندراج كل فرع تحت أصله ولكن لا يتمكن من معرفة حكم الفروع
لعدم تمكنه من تحقيق حكم الأصل وهذا واضح جدا ومنها أن يكون
عالما بجملة يعتد بها من الاحكام علما فعليا بحيث يسمى في العرف
فقها كما في النحوي والصرفي فإنهما لا يصدقان عرفا بمجرد
حصول الملكة الكلية بل لا بد معها من الفعلية المعتد بها عند أهل
الصناعة وهذا الشرط قد ذكره بعض أفاضل متأخري المتأخرين و
التحقيق أن الملكة المعتبرة في الاجتهاد المطلق أعني الملكة الكلية لا
يحصل غالبا إلا بالممارسة المستلزمة للفعلية المذكورة وكذلك
العلم بحصولها لا يحصل غالبا بدونها فهي طريق إلى حصول الملكة و
معرفتها غالبا لا شرط في الاعتداد بها نعم لا يبعد اعتبارها في
صدق اسم الفقيه عرفا وقد نبهنا عليه في حد الفقه ولا ملازمة بين
الاعتداد بالملكة وبين صدق الفقيه
404

على صاحبها عرفا كما في المتجزي بالنسبة إلى نادر من المسائل عند
من يعتد به وقد نبهنا عليه في حد الفقه أيضا فإن أراد الفاضل
المذكور بهذا الاشتراط ما يرجع إلى حد هذه الوجوه فلا كلام وإلا
فتوجه المنع عليه جلي ويظهر الثمرة فيمن حصل له الملكة المعتبرة
وعلم بها بالممارسة الناقصة أو التامة مع طريان النسيان بحيث لا
يكون المعلوم له بالفعل إلا قليلا من المسائل الفقهية والظاهر أن
أصحابنا مجمعون على حجية نظر صاحب الملكة المعتبرة وإن
تجردت عن الفعلية المعتد بها ثم إن لم يقطع باتفاقهم على ذلك أو لم
نستفد منه القطع بحجيته فلا أقل من ثبوت الشهرة العظيمة المفيدة
للظن القوي بحجيته مضافا إلى مساعدة الاعتبار المستند إلى قضاء
المناط به وهو كاف في إثبات حجية نظره لقطعه بأنه مكلف بالأحكام
إما بطريق الاجتهاد أو التقليد تعيينا أو تخييرا ولا علم ولا
طريق علميا له ابتدأ بأحدها فيتعين عليه التعويل في التعيين على
الظن أو الطريق الظني ولا ريب أنه حاصل في جانب الحجية ولا
يتوهم أن هذا الظن معارض بظن التقليد المستفاد من الاستصحاب أو
بظن وجوب العمل بدليله لان الاستصحاب لا يستلزم الظن لا سيما
إذا قام على خلافه أمارة وخصوصا إذا كانت قوية كما في المقام على
أنه لا يجري في حق المجتهد الذي اعتراه زوال الفعلية بل قضية
الاستصحاب فيه بقاء الحجية وأما دليل الاستصحاب فهو وإن كان في
حقه مظنون الحجية في نفسه معلومها بالنظر إلى دليل الانسداد
إلا أن مقتضاه الظن أو العلم بحجية الاستصحاب عند عدم دلالة أمارة
أو دليل على خلافه وقد بينا في المقام قيام الامارة التي علم
وجوب الاعتماد عليها بدليل الانسداد على الخلاف فلا يبقى ظن
بجواز العمل بدليل الاستصحاب فيه فلا يحصل العلم به هذا ولكن
الاحتياط في حق المجتهد تحصيل الفعلية المذكورة بل مع تحصيل
فعلية الاجتهاد في روس المسائل المتداولة كلا دفعا للشبهة اللائحة
من كلمات بعض الأصحاب كما عرفت هنا وفي مبحث التجزي و
ليندرج
في عموم قوله عليه السلام في المقبولة المتقدمة وعرف أحكامنا
لجميع محتملاته فإنه كما يحتمل أن يكون المراد بالمعرفة فيها ملكتها
فيصح حمل الاحكام على عمومه كذلك يحتمل أن يكون بها المعرفة
الفعلية فيكون المراد بالأحكام ما مر هذا بل أنسب بأهل زمن صدور
الرواية فإن فقهاءهم إنما كانوا فقهاء بالعلم الفعلي لا بمجرد الملكة إذ
لم يكن الفقه مثالك مبينا على مزاولة شئ من العلوم بل على
السماع من المعصوم عليه السلام أو تتبع الاخبار والاطلاع على ما فيها
من الاحكام مع مظانه يتمكن بها من رد الفروع إلى الأصول
المقررة ويؤكد ذلك قوله عليه السلام ونظر في حلالنا وحرامنا إذ
ليس المراد به قوة النظر وإلا لم يختص بأهل العلم بل النظر الفعلي
فيكون المراد بالجمعين المضافين أحد هذين المعنيين لاستحالة
الحمل على العموم الحقيقي وبعد الحمل على الجنس الصادق على
الفرد
الواحد لبعده عن العموم وإنما اكتفينا في الاجتهاد بالملكة مع دلالة
الرواية على ما قررنا على اعتبار الفعلية لعدم انحصار دليل الحجية
فيها ثم على تقدير أن يعتبر فعلية معرفة روس المسائل ينبغي القطع
بعدم قدح طريان نسيان البعض لتعذر دوام التذكر للكل غالبا و
أما على تقدير اعتبار فعلية جملة يعتد بها فالظاهر اعتبار بقاء الفعلية و
على هذا فجمع المجتهد بين الاعتبارين كمال الاحتياط واعلم
أن الحكم والفتوى مقصوران على مقام الفقاهة وهو مقام العلم
بالحكم واقعيا كان الحكم المعلوم أو ظاهريا فمرجعهما في الأول إلى
بيان الواقع وفي الثاني إلى بيان الظاهر فلا يجوز للمجتهد الحكم و
الفتوى إلا بعد العلم بكونه مجتهدا وإن كل مجتهد مكلف بالقول
بمؤدى نظره فالعلم بالامرين شرط في حجية نظره ظاهر إلا في صدق
عنوان المجتهد عليه وكما يتوقف جواز حكمه على علمه
بالامرين كذلك يتوقف جواز تقليده واعتبار حكمه على ذلك فإن
التقليد أخذ بمعلومات المجتهد وإن استندت إلى ظنياته ومثله لزوم
حكمه في المرافعات وعلى هذا فلو قطع المقلد
باجتهاد من يشك في اجتهاد نفسه لم يجز له الاخذ بظنياته وكذا لا
يجوز تقليده في ظنياته التي لا يقطع بحجيتها وإن قطع المقلد
بحجيتها اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع اليقين وهو تقليد
العالم ومن هنا يظهر أن المتجزي لو أدى نظره إلى عدم حجية ظنه لم
يجز لمن يرى حجية ظنه أن يقلده في ظنياته واعلم أيضا أنه كما يجوز
للمجتهد أن يفتي بما أدى إليه نظره كذلك يجوز للمقلد أن يفتي
بما علم به بطريق التقليد إذ لا يزيد مفاد الفتوى على الاخبار العلمي
بالحكم الشرعي لكن في جواز قبول غيره عنه إشكال وأما القضاء
والحكم بين الناس في مرافعاتهم فذلك مصب الفقيه المستجمع
للشرائط فلا يجوز للعامي أن يتصدى ذلك وإن علم بحكم الواقعة
بطريق التقليد وهذا موضع وفاق بين الأصحاب على الظاهر وقد
حكى عليه الاجماع غير واحد منهم حتى أن الشهيد الثاني في كتاب
القضاء من الروضة نقل الاجماع على ذلك في مواضع ثلاثة ويدل
عليه بعد الاتفاق ونقل الاجماعات الأصل السالم عن المعارض
مضافا
إلى رواية عمر بن حنظلة وأبي خديجة وأمثالها الدال صريحا على
جواز التحاكم إلى الفقيه المستجمع للشرائط وبالفحوى على المنع
من التحاكم إلى غيره ويؤكد ذلك رواية التثليث المعروفة ومن العجب
العجاب ما نقله إلى بعض أفاضل الأصحاب عن الفاضل المعاصر
من مصيره إلى جواز تصدي المقلد للقضاء مستدلا بأن النبي صلى الله
عليه وآله أرسل معاذا قاضيا إلى اليمن ولم يكن مجتهدا أقول إن
الوهم المذكور بمحل من القصور إذ من الواضح أن معاذا وأمثاله لم
يكونوا يأخذون الاحكام من غيرهم على سبيل التقليد ويقضون بها
بل كانوا يقضون بما استفادوه من الكتاب والسنة مع كونهم متمكنين
من
405

فروعها إلى أصولها ولا نعني بالمجتهد والفقيه إلا هذا المعنى ثم لو
سلم عدم ثبوت الانحصار فلا سبيل إلى إثبات التعميم غاية الامر
احتمال الامرين وقضية الأصل وما مر من الوجوه الاقتصار على مورد
اليقين
فصل لا خلاف في عدم تصويب المختلفين في العقليات
مطلقا بمعنى عدم مطابقة آرائهم جميعا للواقع لأدائه إلى وقوع
المتناقضين أو المتنافيين في الواقع ولا فرق في ذلك بين ما تعلق منها
بالشريعة وبين ما لا يتعلق بها وإن اختلفوا في تأثيم المخطئ منهم في
الأول كالمخطئ في أصول الاسلام فالأكثر على أن المخطئ فيه
مأثوم وخالف فيه الجاحظ وأبو عبد الله العنبري فذهبا إلى نفي الاثم
واحتج الأولون بأنه مكلف بالعلم بدليل قوله تعالى فاعلم أنه لا
إله إلا الله فلا بد أن يكون قد نصب عليه دليل قاطع وإلا لكان تكليفا
بالمحال فغير الواقف عليه منهم مقصر فلا يخرج عن عهدة
التكليف واعترض بأن الخطاب في الآية إلى الرسول وهو بوفور عقله
وقوة حدسه متمكن من تحصيل العلم ولا دليل على تعميمه إلى
غيره وأجيب بأن آية التأسي دليل على تعميم الحكم إلى غيره صلى
الله عليه وآله ويشكل بأن حكم التأسي إنما يثبت في حق القادر كما
في غيره من الاحكام والمقصود إثبات حصول القدرة بالآية وليس لها
دلالة عليه ولو احتجوا بإطلاق قوله تعالى آمنوا بالله ورسوله و
نحوه مما يدل على وجوب الايمان مطلقا كان أولى وأولى من ذلك
قوله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا حيث يدل على
تقصير غير المهتدي في المجاهدة والأظهر أن يحتج على ذلك بأنا
نرى أدلة المعارف الخمس بالوجدان والعيان واضحة جلية بحيث لا
يكاد يشتبه الحال فيها على منصف سلمت فطرته عن الفساد و
العصبية وهو قضية الحكمة الإلهية الداعية إلى خلق هذا النوع و
تكليفهم
بالوظائف الشرعية والنواميس الدينية فإن ذلك لا يتم مع خفاء
البرهان الموصل إلى الايمان والاذعان مع ما نرى من قصور أكثر
الناس عن إدراك المدارك الخفية وتحصيل المطالب الدقيقة وعلى
هذا فالمخطئ مقصر لا محالة لكنه لا يكون آثما إلا إذا تفطن
التقصير ولو بطريق التجويز والاحتمال كما هو الغالب وأما المختلفون
في الأحكام الشرعية الفرعية من التكليفية والوضعية فإن كان
عليها دليل
قاطع فلا خلاف في تخطئة المخالف فيها وإن لم يكن عليها دليل
قاطع بل كانت المسألة اجتهادية فقد أطبق أصحابنا إلى عدم إصابة
الكل فيها أيضا وخالف فيه جماعة من مخالفينا فقالوا بإصابة الجميع
ومرجع النزاع إلى أنه هل لله تعالى في كل واقعة لا قاطع عليها
حكم مخصوص يجب على المجتهد أن يطلبه ويبذل وسعه في
تحصيله فإن أصابه فقد أصاب وإلا فقد أخطأ أو لا بل أحكامه تعالى
في
تلك الوقائع تابعة لآراء المجتهدين فما أدى إليه أنظارهم وانتهى إليه
أفكارهم فهو في حكمه تعالى في حقهم واقعا ليس إلا فلا يتصور
فيهم مخطئ أصلا وتصوير هذا على تقدير عدم قيام قاطع على
الواقعة أصلا واضح وأما على تقدير قيامه عليها في الجملة كالاجماع
المركب بناء على حجيته كان المستفاد منه أن حكم الواقعة عند
الشارع مغاير لما يخالفه من غير تعيين لما لا يخالفه في حال الامر في
التعيين إلى نظر المجتهد ويكون مصيبا فيه ولو أدى نظره إلى ما
يخالفه كان مخطئا ثم اختلف القائلون بالتصويب فذهب كثير منهم
على ما قيل إلى أنه وإن لم يكن في الواقعة حكم إلا أن فيها ما لو كان
حكم الشارع فيها لحكم بمقتضاه يعني مع قطع النظر عن نظر
المجتهد وهذا قريب إلى القول الأول بالتخطئة بل ربما كان راجعا إليه
ومنهم من أنكر ذلك أيضا ثم من المخطئة من ذهب إلى أن لله
تعالى في كل واقعة حكما معينا قد نصب عليه دليلا قاطعا واختلف
أصحاب هذا المذهب في المخطئ فيه فذهب كثير منهم إلى أن
المخطئ فيه بعد بذل وسعه وإعمال نظره معذور ونقل عن بشر
المرسي أنه آثم مستحق للعقاب والمعروف بين المخطئة أنه ما من
واقعة إلا وفيها حكم معين وأنه ما من حكم إلا وقد نصب عليه دليل
إما حجة قاطعة أو أمارة ظنية وأن المجتهد لم يكلف بالإصابة في
الظني لخفاء الطريق وغموضه وقال قوم هو مأمور بطلبه فإن أخطأ أو
غلب على ظنه غيره انقلب التكليف وصار مأمورا بالعمل
بمقتضى ظنه واتفق الفريقان
على معذورية المخطئ فيه بل صرح كثير منهم بأن للمصيب أجرين و
للمخطئ أجرا واحدا لما تحمله من الكد والمشقة والتحقيق أن الله
تعالى في كل واقعة حكما معينا مخزونا عند أهله وهم أهل العصمة
عليهم السلام فالمجتهد إن أدركه فقد أصاب وإلا فقد أخطأ وأنه غير
آثم في خطائه بعد بذل وسعه وإن كان عليه دليل قاطع إذا لم يصادفه
أو لم يكن عنده قاطعا ولو لشبهة سبقت إليه وأنه لا يلزم أن
يكون عليه دليل ظني في الظاهر فضلا عن القطعي لنا على أصل
التخطئة وجوه منها إجماع أصحابنا الامامية على ذلك وقد تقرر في
محله أنه حجة قطعية لكشفه في مثل المقام عن قول الحجة وأيضا قد
أجمع الصحابة والتابعون على تخطئة المخالف وقد نقل عنهم ذلك
بطريق متواتر أو قريب منه واحتمال أن يكون تخطئتهم من حيث عدم
استجماعهم للشرائط من عدم أهلية الاجتهاد أو التقصير في
النظر أو مخالفة القاطع مردود بأن ذلك محكي عن أكابر مخالفينا في
موارد لا قاطع فيها غالبا وهم لا يلتزمون في حقهم بعدم الأهلية
والتقصير فتدبر ومنها تواتر الاخبار المروية عن الأئمة الأطهار عليهم
السلام الدالة على أن لله في كل واقعة حكما معينا بينه لنبيه و
بينه نبيه لوصيه إلى أن ينتهي البيان إلى آخر الأوصياء فجميع الاحكام
محفوظة عنده مخزونة لديه حتى مثل أرش الخدش فما دونه و
هذه الأخبار وإن كانت واردة بعبارات
406

مختلفة وألفاظ متفاوتة إلا أنها مشتركة الدلالة على ما ذكرناه فهي
متواترة بالمعنى وقد يستدل بما روي عنه صلى الله عليه وآله إذا
اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد فإن هذه
الرواية قد تلقتها الأمة بالقبول ويشكل بأنها إنما تدل على أن
المجتهد قد يخطئ ولا نزاع فيه على ما علم من تحرير محل النزاع إلا
إذا قيل بأن المخطئ فيما عليه قاطع غير معذور وهو غير مرضي
ومنها أنه قد تقرر عند العدلية أن أحكامه تعالى تابعة لمصالح واقعية
في مواردها لاحقة لذواتها أو لوجوه واعتبارات طارئة عليها و
إن كان لحوق تلك الأحكام لها مشروطة بعلم المكلف أو ما في حكمه
وحينئذ فما من واقعة إلا ولها حكم معين يتوقف تعلقه بالمكلف
على زوال جهله ولا نعني بالحكم الواقعي إلا ذلك ومنها أنه لو أصاب
كل مجتهد لزم الجمع بين المتنافيين وهو قطعه بالحكم ما دام
ظانا والقطع والظن متنافيان لا يتواردان على محل واحد ولا يلزم
ذلك على المخطئة لتغاير المحل عندهم إذ مورد الظن نفس الحكم
ومورد القطع وجوب البناء عليه أو مورد الظن الحكم الواقعي ومورد
القطع الحكم الظاهري وهما متغايران فإن قيل مورد الظن على
التصويب كون الدليل دليلا وموضع القطع الحكم المستفاد منه
فيتعدد المحل أيضا قلنا فيتوجه الاشكال إلى الدليل فيلزم كونه قاطعا
به
ما دام ظانا فإن كون الدليل دليلا من الأحكام الشرعية الوضعية وإن
كانت أصولية إلا أن يقال إنما يقول الخصم بالتصويب في المسائل
الفرعية فقط فيندفع عنه الاشكال بالبيان المذكور ويمكن دفعه على
الأول أيضا بعد المنع من عموم وروده لاختصاصه بالقاطع
بالتصويب المتذكر له حال الاجتهاد بأن المعتبر في الاجتهاد على هذا
التقدير ليس فعلية الظن بل ما كان ظنا مع الاغماض عن أدلة
التصويب فلا إشكال ومنها ما ذكره العلامة من أن الاختلاف في
الحكم يتبع الاختلاف في اعتقاد رجحان إحدى الامارتين على
الأخرى و
لا يخلو إما أن يكون لإحداهما رجحان على الأخرى أو لا فإن كان
الأول كان القول برجحان المرجوح
خطأ وإن كان الثاني كان كل من الاعتقادين خطأ وكيف كان فلا يكون
كل واحد مصيبا ويشكل بأن الترجيح إنما يتحقق إذا لاحظ كل
منها أمارة صاحبه ولاحظ النسبة التي بينهما لامتناع حصول الاعتقاد
برجحان إحداهما بدون ذلك وذلك غير لازم لامكان الغفلة عن
أمارة صاحبه أو عن نسبة أمارته إليها سلمنا لكن الخطأ في اعتقاد
الرجحان لا يوجب الخطأ في اعتقاد الحكم مع أن النزاع إنما هو في
الثاني إن خصصنا موضع النزاع به وإلا كان الدليل مصادرة إذ القائل
بالتصويب لا يسلم حينئذ رجحان إحدى الامارتين في نفس الامر
وإنما يسلم رجحانها في نظر المرجح وهو لا يوجب كون الأخرى
خطأ في حق من يترجح في نظره كيف وهو ينافي البناء على
التصويب ومنها ما ذكره العلامة أيضا وهو أن المجتهد إما أن يكون
مكلفا بالحكم عن الدليل أو لا والثاني باطل لأنه إن كان مكلفا
بحكم معين في الواقع كان تكليفا بالمحال وإن كان مكلفا بحكم لا
على التعيين كان قولا في الدين بمجرد التشهي وهو فاسد فتعين
الأول وحينئذ فالدليل إن كان خاليا عن المعارض كان تاركه مخطئا و
إن كان له معارض فإن ترجح أحدهما على الاخر كان الاخذ
بالمرجوح مخطئا وإن تساويا كان الاخذ بكل منهما مخطئا لتعيينه ما
ليس بمعين وعلى التقديرين لا يكون الجميع مصيبا ويشكل بأن
القائل بالتصويب إن عمم الدعوى إلى المباحث الأصولية كان الدليل
المذكور مصادرة إذ يكون كل مجتهد حينئذ مكلفا بالعمل بما هو
دليل عنده وليس في نفس الامر أمر سواه فيكون الاعتبار بخلوه عن
المعارض عنده أو رجحانه عنده ومع التساوي يتخير ويكون
ذلك ما في نفس الامر فلا يلزم التخطئة وإن خص الدعوى بالمباحث
الفقهية فلا يلزم من خطائه في الترجيح خطاؤه في الحكم حجة
المصوبة وجوه منها أنه لو كان لله تعالى في الواقعة المبحوث عنها
حكم معين لكان ما أنزل الله فيها هو ذلك الحكم فيكون الحاكم بغيره
عند الخطأ في الاجتهاد فاسقا وكافرا لقوله تعالى
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وقوله جل شأنه و
من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والتالي باطل
للاجماع على عدم كفره وفسقه فيبطل المقدم أيضا وأما إذا تجردت
الواقعة عن الحكم لم يصدق عليه أنه لم يحكم بما أنزل الله إذ لم
ينزل في الواقعة ما يغاير فتواه بالنسبة إليه ليصدق أنه لم يحكم به و
الجواب أما أولا فبالنقض بما لو أخطأ المجتهد بعد بذل وسعه في
الاحكام التي عليها قاطع فإنه لا نزاع في تخطئته حينئذ مع أنه لا يكون
بذلك كافرا ولا فاسقا وأما ثانيا فبالحل وهو أنه تعالى حيث
أنزل مدارك المجتهد كان حكمه بحسب تلك المدارك حكما بما أنزل
الله تعالى إذ لا يعتبر نزول الحكم من حيث الخصوصية بل يكفي
نزوله ولو بعنوان علم ولا يقدح وقوع الخطأ فيها باعتبار الايصال إلى
الحكم الواقعي كما لا يقدح وقوع الخطأ في الشهادة ونحوها
كذلك مع أنه تعالى قد أنزل وجوب الحكم بمقتضاها وبالجملة فقد
أنزل الله تعالى أحكاما واقعية وظاهرية فالحاكم بأحدهما حاكم بما
أنزل الله تعالى سلمنا لكن عموم الآية معارض بما دل على حجية
مدارك المجتهد كالآيات الدالة على حجية خبر الواحد فيجب
تخصيصها
بما عداها ومنها أنه لو أخطأ المجتهد لزمه العمل بمقتضى ظنه و
حينئذ فأما أن يلزمه ذلك مع بقاء الحكم الواقعي في حقه فيلزم
التكليف
بالمحال أو اجتماع الضدين وكلاهما محال أو بدونه فيلزم أن يكون
العمل بالحكم الخطأ واجبا وبالصواب حراما وهو محال و
الجواب أما أولا فبالنقض بما لو أخطأ في الاحكام التي قام عليها قاطع
ولم يقف عليه بعد الفحص والتتبع فإنه يجب
407

عليه مخالفته للواقع مع أنه خطأ وأما ثانيا فبالحل وهو أن حسن متابعة
الصواب أو قبح مخالفته وقبح متابعة الخطأ أو حسن مخالفته
ليس من لواحقهما الذاتية بل يختلف بالوجوه والاعتبار كالعلم و
الجهل فقد يقبح الحسن في حق من اعتقد قبحه ويحسن القبيح في
حق
من اعتقد حسنه فيصح في المقام أن يحسن العمل بالخطأ عند
الجهل بكونه خطأ ويقبح العمل بالصواب عند الجهل بكونه صوابا
فيصح
حكم الشارع في الأول بوجوب العمل وفي الثاني بحرمته ومنها قوله
صلى الله عليه وآله أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فإنه
لو كان بعضهم مخطئا لما حصل الهدى في متابعته إذ العمل بغير
حكمه تعالى ضلال والجواب بعد تسليم صحة الرواية وإرادة
المجتهدين منها أن الاهتداء عبارة عن الاخذ بالوظائف الشرعية سواء
كانت ظاهرية أو واقعية ولا ريب أن من جملة تلك الوظائف
المدارك المقررة كالظنون الاجتهادية فالأخذ بمقتضاها اهتداء لا
ضلال ويمكن أن يحتج على التصويب بوجوه أخر نقلية وعقلية وإن
لم أقف على من يتنبه عليها فالنقلية كقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا
ما آتاها فإن نفي ماهية التكليف عند عدم الايتاء يتناول نفيه
بنوعيه من الظاهري والواقعي وكقوله صلى الله عليه وآله رفع عن
أمتي تسعة إلى قوله وما لا يعلمون فإن الظاهر من رفع ما لا يعلمون
رفعه بالكلية ظاهرا أو واقعا وكقوله عليه السلام لا تكليف إلا بعد
البيان فإن المستفاد منه نفي التكليف عند عدم البيان مطلقا وكقوله
عليه السلام كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي، فإن الظاهر منه أنه
مطلق أي مباح ظاهرا أو واقعا حتى يبلغ النهي وأما العقلية فلان
التكليف أمر جعلي وفعل اختياري يتوقف صدوره عن المكلف
الحكيم على فائدة وحيث يعلم أن المكلف لا يعلم به لا فائدة في
وضعه و
إحداثه في حقه لظهور أن ثمرة التكليف إنما هي الاختبار والحث
على فعل الجميل وترك القبيح ولا يتصور ترتب شئ من ذلك على
تقدير عدم العلم ولأن التكليف عند العدلية مشروط بالقدرة على
الامتثال وحيث لا علم
لا قدرة على الامتثال فينتفي التكليف لان المشروط عدم عند عدم
شرطه ولأن الامر بالشئ المشروط مع علم الامر والمأمور بانتفاء
شرطه ممتنع عند معظم الأصوليين والمقام منه إذ التقدير علم الامر
بعدم علم المأمور به وعلم المأمور بعدم علمه مما خالف مؤدى
نظره على تقدير ثبوته واقعا والجواب أما عن الوجوه النقلية فبأن
التكليف الواقعي ليس تكليفا فعليا بل تكليف شأني فتسميته تكليفا
مجاز في الحقيقة كتسمية الواجب المشروط عند عدم شرطه واجبا
فنفي التكليف في الآية إنما يتوجه إلى التكليف الفعلي دون الشأني إذ
عموم النكرة المنفية عند عدم القرينة مقصور على أفراد مدلولها
الحقيقي والظاهر من رفع ما لا يعلمون عن الأمة رفع الاحكام الفعلية
عنهم فلا يقتضي رفع الحكم المشروط فعليته بعلمهم وكذلك نفي
التكليف عند عدم البيان إنما يقتضي نفي التكليف الفعلي فلا يدل
على
نفي التكليف المشروط بوصول البيان كيف وقضية الاستثناء ثبوته
عنده وكذلك إباحة الأشياء عند عدم بلوغ النهي لا يفيد إباحتها
عند بلوغه بل مفهومها انتفاؤها عنده وبالجملة فالتكليف الواقعي
عندنا هو التكليف الذي يتعلق بالمكلف تعلقا فعليا على الجزم بشرط
علمه به وليس في هذه الوجوه ما يدل على نفي ذلك وأما عن
الوجوه العقلية فأما عن الأول فبأن التكليف الواقعي ليس تكليفا مطلقا
بل
مشروط بعلم المكلف به فحيث لا علم لا تكليف لكن شأنية التكليف
متحققة في حقه إذ ليست شأنيته مشروطا بفعلية العلم بل بشأنيته و
هذا التكليف الشأني لازم لما دل على فعلية التكليف في حق العالم
فإنه إذا ثبت حكم في حق المكلف الواجد للشرط لزم منه ثبوته في
حق
الفاقد للشرط مشروطا بكونه واجدا له ولا حاجة إلى وروده في حق
غير العالم بخطاب مستقل حتى يلزم منه اللغو والعبث وبهذا
يظهر الجواب عن الوجه الثاني أيضا إذ التكليف المشروط بفعلية العلم
إنما هو التكليف الحقيقي أعني التكليف
الفعلي دون مطلق التكليف وأما عن الثالث فبأن البحث هناك عن
الأوامر الاستقلالية دون اللازمة على وجه التبعية لخطابات أخر و
توضيح ذلك أن الشارع إذا أراد من العالم بالأحكام العمل بحسب
مقتضياتها فقد أراد ذلك من الجاهل بها أيضا بشرط علمه بها بمعنى
أن الجاهل لو صار عالما كان العمل بتلك المقتضيات مرادة منه أيضا
فإن قلت العلم شرط من شرائط التكليف كالقدرة فإذا كان
التكليف المشروط بالعلم عند عدمه تكليفا واقعيا وعدمه ظاهريا
لكان التكليف المشروط بالقدرة عند عدمها تكليفا واقعيا وعدمه
ظاهريا فيلزم أن يكون الحج مثلا واجبا واقعيا في حق العاجز أو غير
المستطيع وغير واجب عليهما في الظاهر مع أن فساده ظاهر قلت
ليس التكليف المشروط بأي شرط كان عند عدمه تكليفا واقعيا وإنما
هو التكليف المشروط بالعلم عند عدمه فقط فإن لشرط العلم
خصوصية يمتاز بها من بين الشرائط ببعض الاحكام كصدق فوات
الفعل في حق فاقد بخلاف فاقد بقية الشرائط فيثبت القضاء إن كان
لفواته قضاء كما في الصلاة ولا يلزم مما حققنا في تفسير التكليف
الواقعي أن لا يتعين في الواقعة حكم واقعي نظرا إلى أن كل حكم من
الاحكام لو فرض علم المكلف أي قطعه به ولو بطريق معتبر عنده
لكان ثابتا في حقه مثلا يصدق أن صلاة الجمعة واجبة في حق
المجتهد
بشرط علمه بوجوبها ومحرمة بشرط علمه بتحريمها وهكذا وذلك
لأنا نعتبر العلم شرطا في ثبوت التكليف الواقعي لا سببا له وهو
في غيره سبب لا شرط وتحقيق ذلك أن أحكام الشرع تابعة لحسن
تشريعها وهو قد يستند إلى جهة علم المكلف به وقد يستند إلى
جهة
408

مشروطا بعلمه به فإن من معظم جهات حسن التشريع حسن الفعل و
قبحه وهما كما يلحقان الفعل لجهات لاحقة به مقتضية إياهما
بشرط العلم كذلك قد يلحقان الفعل بمجرد العلم فإن القبيح قد
يحسن لعلم الفاعل بحسنه ويقبح الحسن لعلم الفاعل بقبحه
فالاحكام
الواقعية هي الاحكام اللاحقة لمواردها لجهات مقتضية لها بشرط
العلم والاحكام الظاهرية هي الاحكام اللاحقة لمواردها لجهة العلم و
لا
ريب أن الحكم الواقعي بهذا المعنى متعين في كل واقعة لا يختلف
بحصول العلم به وعدمه وإن توقف فعليته على حصوله ويعرف
الكلام في مانعية الجهل وسببيته بالقياس إلى شرطية العلم وسببيته
ثم اعلم أن المراد بالحكم الظاهري ما وجب الاخذ بمقتضاه البناء
عليه سواء طابق الواقع أو لا وبالحكم الواقعي ما كان تعلقه مشروطا
بالعلم سواء حصل الشرط وتعلق أو لا فالنسبة بينهما عموم من
وجه وقد يطلق الحكم الظاهري على ما يقابل الواقعي فيكون بينهما
التباين ثم الحكم الظاهري إن طابق الواقع بأن كان هو الحكم
الثابت للواقعة بشرط العلم فواقعي أولي وإلا فواقعي ثانوي فالاحكام
الظاهرية عند التحقيق بأسرها أحكام واقعية إذ لا يثبت في حق
المخطئ الغير المقصر ثبوتا فعليا سواها واعلم أيضا من الاحكام
الواردة على وجه التقية ظاهرية إن كانت التقية في بيانها فقط وإلا
فواقعية إذ عدم التمكن الشرعي كعدم التمكن العقلي
فصل إذا رجع المجتهد عن الفتوى
انتقضت في حقه بالنسبة إلى مواردها المتأخرة عن زمن الرجوع قطعا
وهو موضع وفاق ولا فرق في ذلك بين أن يكون رجوعه عن
القطعي إلى الظني أو من الظني إلى القطعي أو من أحدهما إلى مثله و
لا بين رجوعه عن الحكم الواقعي إلى الظاهري أو من الظاهري إلى
الواقعي أو من أحدهما إلى مثله ولا بين تذكره لمدارك قطعه أو ظنه
السابق وبين عدمه وإن احتمل أن يقال فيما لو لم يتذكر لمدارك
قطعه السابق أنه يبني على مقتضى قطعه ما لم يعارضه مستند أقوى
لأنه لا يقصر عن نقل الاجماع بناء على حجيته إن لم يكن أولى لكنه
لو عول على هذا الاحتمال خرج عن محل البحث لان الكلام على
تقدير الرجوع وأما بالنسبة إلى مواردها الخاصة التي بني فيها قبل
رجوعه عليها فإن قطع ببطلانها واقعا فالظاهر وجوب التعويل على
مقتضى قطعه فيها بعد الرجوع عملا بإطلاق ما دل على ثبوت
الحكم المقطوع به فإن الاحكام لاحقة لمواردها الواقعية لا الاعتقادية
فيترتب عليه آثاره الوضعية ما لم تكن مشروطة بالعلم ولا فرق في
ذلك بين الحكم وغيره وكذا لو قطع ببطلان دليله واقعا وإن لم يقطع
ببطلان نفس الحكم كما لو زعم حجية القياس فأفتى بمقتضاه ثم
قطع ببطلانه لقطعه بأن حكمه الواقعي حال الافتاء لم يكن ذلك ولأن
ثبوت الحكم الشرعي يتوقف على قيام دليل ثابت الحجية عليه فإذا
انكشف عدم الدليل انكشف عدم الحكم مع احتمال أن يقال يكفي
في ثبوت الحكم كون الدليل ثابت الحجية حال التعويل عليه لا مطلقا
و
لا يخفى ما فيه وفي إلحاق القطع بقول المعصوم المحتمل للتقية به
في المقامين كما قد يستكشف عنه في بعض أقسام الاجماع وجهان و
إن لم يقطع ببطلانها أو لا ببطلانه فإن كانت الواقعية مما يتعين في
وقوعها شرعا أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر بقاؤها على
مقتضاها السابق فيترتب عليها لوازمها بعد الرجوع
إذ الواقعة الواحدة لا يحتمل اجتهادين ولو بحسب زمانين لعدم دليل
عليه ولئلا يؤدي إلى العسر والحرج المنفيين عن الشريعة السمحة
لعدم وقوف للمجتهد غالبا على رأي واحد فيؤدي إلى الاختلال فيما
يبني فيه عليها من الأعمال ولئلا يرتفع الوثوق في العمل من حيث
إن الرجوع في حقه محتمل وهو مناف للحكمة الداعية إلى تشريع
حكم الاجتهاد ولا يعارض ذلك بصورة القطع لندرته وشذوذه و
لأصالة بقاء آثار الواقعة إذ لا ريب في ثبوتها قبل الرجوع بالاجتهاد ولا
قطع بارتفاعها بعده إذ لا دليل على تأثير الاجتهاد المتأخر
فيها فإن القدر الثابت من أدلته جواز الاعتماد عليه بالنسبة إلى غير
ذلك فيستصحب وأما عدم جريان الأصل بالنسبة إلى نفس الحكم
حيث لا يستصحب إلى الموارد المتأخرة عن زمن الرجوع فلمصادمة
الاجماع مع اختصاص مورد الاستصحاب على ما حققناه بما يكون
قضيته البقاء على تقدير عدم طرو المانع وليس بقاؤه بعد الرجوع منه
لأن الشك فيه في تحقق المقتضي لا في طرو المانع فإن العلة في
ثبوته هي ظنه به وكونه مؤدى نظره وقد زالت بعد الرجوع فلو بقي
الحكم بعد زوالها لاحتاج إلى علة أخرى وهي حادثة فيتعارض
الأصلان أعني أصالة بقاء الحكم وأصالة عدم حدوث العلة وكون
العلة هنا إعدادية واستغناء بعض الحوادث في بقائها عن علتها
الاعدادية غير مجد لان الأصل بقاء الحاجة لثبوتها عند الحدوث
فتستصحب ولا يتوجه مثله في استصحاب بقاء الآثار بعد الرجوع فإن
المقتضي لبقائها حينئذ متحقق وهو وقوع الواقعة على الوجه الذي
ثبت كونه مقتضيا لاستتباع آثارها وإنما الشك في مانعية الرجوع
فيتوجه التمسك في بقائها بالاستصحاب وبالجملة فحكم رجوع
المجتهد في الفتوى فيما مر حكم النسخ في ارتفاع الحكم المنسوخ
عن
موارده المتأخرة عنه وبقاء آثار موارده المتقدمة إن كان لها آثار وعلى
ما قررنا فلو بنى على عدم جزئية شئ للعبادة أو عدم
شرطية فأتى بها على الوجه الذي بنى عليه ثم رجع بنى على صحة ما
أتى به حتى
إنها لو كانت صلاة وبنى فيها على عدم وجوب السورة ثم رجع بعد
تجاوز المحل بنى على صحتها من جهة ذلك أو بنى على صحتها في
شعر الآداب والثعالب ثم رجع ولو في الأثناء إذا نزعها قبل الرجوع و
كذا لو بنى على طهارة شئ ثم صلى في ملاقيها ورجع ولو في
الأثناء وكذا لو تطهر بما يراه طاهر أو طهورا ثم رجع ولو في الأثناء فلا
يلزمه الاستئناف وكذلك القول في بقية مباحث
409

العبادات وسائر مسائل العقود والايقاعات فلو عقد أو أوقع بصيغة
يرى صحتها ثم رجع بنى على صحتها واستصحب أحكامها من بقاء
الملكية والزوجية والبينونة والحرية وغير ذلك ومن هذا الباب حكم
الحاكم والظاهر أن عدم انتقاضه بالرجوع موضع وفاق ولا
فرق بين بقاء حكم فتواه التي فرع عليه الحكم وعدمه فمن الأول ما لو
ترافع إليه المتعاقدان بالفارسية في النكاح فحكم بالزوجية أو
في البيع فحكم بالنقل والملكية فإن حكم فتواه التي يتفرع عليها
الحكم وهي صحة ذلك العقد يبقى بعد الرجوع ومن الثاني ما لو
اشترى أحد المتعاقدين لحم حيوان بقول الحاكم بحليته فترافعا إليه
فحكم بصحة العقد وانتقال الثمن إلى المشتري ثم رجع إلى القول
بالتحريم فإن الحكم بصحة العقد وانتقال الثمن إلى البائع يبقى بحاله
ولا يبقى الحكم بحليته في حق المشتري بحاله وهكذا وقد
يتخيل أن الحاكم إذا حكم بطهارة ماء قليل لاقاه بنجاسة أو ما أشبه
ذلك ثم رجع لم ينتقض حكمه بالطهارة بالنسبة إلى ذلك الماء
للاجماع على أن الحكم لا ينتقض بالرجوع وهو غير جيد لان المراد
بالحكم هناك ما يتعلق بالدعاوي والمرافعات ولهذا لا يلزم
متابعته في الحكم بالطهارة ولو كانت الواقعة مما لا يتعين أخذها
بمقتضى الفتوى فالظاهر تغير الحكم بتغير الاجتهاد كما لو بنى على
حلية حيوان فذكاه ثم رجع بنى على تحريم المذكى منه وغيره أو
على طهارة شئ كعرق الجنب من الحرام فلاقاه ثم رجع بنى على
نجاسته ونجاسة ملاقيه قبل الرجوع وبعده أو على عدم تحريم
الرضعات العشر فتزوج من أرضعته ذلك ثم رجع بنى على تحريمها
لان ذلك كله رجوع عن حكم الموضوع وهو لا يثبت بالاجتهاد على
الاطلاق بل ما دام باقيا على اجتهاده فإذا رجع ارتفع كما يظهر من
تنظير ذلك بالنسخ وأما الافعال المتعلقة بالموضوع المتفرعة على
الاجتهاد السابق فهي في الحقيقة إما من مشخصات عنوان الموضوع
كالملاقاة أو من المتفرعات على حكم الموضوع كالتذكية والعقد فلا
أثر لها
في بقاء حكم الموضوع وربما أمكن التمسك في بقاء الحكم في هذه
الصور بلزوم الحرج وارتفاع الوثوق في العمل إلا أن ذلك مع
انتقاضه بصورة الجهل والنسيان والتعويل على الظواهر التي ينتقض
حكمها عند ظهور الخلاف لا يصلح بمجرده دليلا أما الأول فلان
الحرج المقتضي لسقوط التكليف قد يكون شخصيا فيدور سقوط
التكليف به مدار ثبوته وقد يكون نوعيا وهذا وإن لم يكن سقوط
التكليف به دائرا مدار ثبوته لكن يعتبر تحققه في النوع غالبا وإلا فما
من تكليف إلا ويتحقق الحرج على بعض تقاديره وانتفاء الغلبة
في المقام معلوم وأما الثاني فوجه استحساني لا ينهض دليلا وإنما
تمسكنا بذلك في المقام السابق على وجه التأييد لا الاستدلال ومما
قررنا يتضح الحال فيما لو بنى في الفروض السابقة على التحريم أو
النجاسة ثم رجع فإنه يبني على مقتضى رجوعه لكن لا يبعد القول
ببقاء حكم عمله السابق حينئذ إذا كان مما يعتبر في وقوعه الاخذ
بالاجتهاد كما لو بنى على تحريم حيوان فذكاه ثم رجع أمكن القول
بتحريمه لا من جهة بقاء حكم الموضوع بل من جهة أن التذكية
صدرت منه حال عدم الاعتداد بها في فتواه في التحليل فلا يعتد بها
بعد
الرجوع للأصل وكذا لو عقد على من يحرم عليه في مذهبه ثم رجع
فلا يستحلها بذلك العقد وأما لو بنى على الفتوى ولكن لم يبن عليها
في خصوص الواقعة إما لعدم علمه بها أو لعدم تذكره فيها للفتوى كما
لو تزوج بمن أرضعته عشر رضعات وهو يقول فيها بنشر
الحرمة أو بعدمه ولم يعلم بالواقعة أو لم يتذكر لفتواه فيها إلا بعد
الرجوع ففي البناء على مقتضى الفتوى السابقة وعدمه وجهان
مبنيان على أن الاحكام المستندة إلى الاجتهاد هل يثبت في حق
صاحبه مطلقا أو مع بنائه في مواردها عليها فيعتبر علمه بها مع تذكره
لفتواه فيها والثاني أقرب اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع
اليقين ومما يؤيده أو يدل عليه أن الاحكام الثابتة بالاجتهاد أحكام
ظاهرية وهي لا تثبت إلا مع
الجهل والغفلة ومما قررنا يظهر حكم التقليد بالمقايسة فإن المقلد إذا
رجع مجتهده عن الفتوى أو عدل إلى من يخالفه حيث يسوغ له
العدول أو بلغ درجة الاجتهاد وأدى نظره إلى الخلاف فإنه يتصور في
حقه الصور المذكورة ويجري فيه الكلام المذكور
تتمة إذا أفتى المفتي لمقلديه بحكم ثم رجع
ففي وجوب إعلامه إياهم بذلك وجهان بل قولان يدل على الوجوب
ظاهر قوله تعالى ولينذروا قومهم وقوله تعالى إن الذين يكتمون
ما أنزلنا من البينات والهدى وأن في ترك إعلامهم إغراء لهم بالجهل و
ترك لهم فيما هو باطل عنده ويدل على نفيه الأصل واستناد
المقلد في عمله إلى طريق شرعي وهو استصحاب عدم الرجوع فلا
يجب ردعه كما لو قلد مجتهدا آخر يخالفه في المذهب وجريان
طريقة السلف على الظاهر على خلاف ذلك وتعذره غالبا لانتشار
المقلدين ولو قيل بالفرق بين ما لو قطع بالبطلان فيجب الاعلام
بقدر الامكان وبين ما إذا لم يقطع به فلا يجب كان قريبا ثم ما يقع من
المقلد بين رجوع المفتي وبين علمه برجوعه مما يأتي به على
وجه التقليد السابق هل يلحق بما لو وقع منه قبل الرجوع أو لا وجهان
وقضية الأدلة التي قررناها في المبحث السابق تعيين الأول ولو
سها المجتهد في تعيين مؤدى نظره فعمل بغيره لم يعتد به مطلقا قضاء
لحكم الأصل من بقاء الحكم الثابت في حقه بالاجتهاد ولعدم
كون السهو من الطرق المعتبرة وكذا لو سها المقلد في الحكم الثابت
في حقه بالتقليد ومثله ما لو سها في أصل الاجتهاد أو التقليد ولا
يتعين على المقلد حينئذ أن يأخذ بقول من يوافق زعمه السابق للأصل
القول في التقليد
مقدمة التقليد في اللغة
410

تعليق القلادة في العنق وعرفوه عرفا بالأخذ بقول الغير من غير حجة
وينبغي أن يراد بقوله فتواه في الحكم الشرعي ولو أبدل به لكان
أولى فإن هذا هو المعنى المتداول في العرف والمبحوث عنه في
المقام وقد يطلق التقليد على الاخذ بقول الغير في الموضوع الشرعي
كقول الفقهاء الأعمى يقلد في معرفة الوقت والقبلة ولعله مجاز في
المعنى المتقدم وعليه فيخرج الاخذ بقول الراوي والشاهد وحكم
الحاكم أيضا فإن شيئا من ذلك لا يسمى تقليدا قال العضدي بعد ذكر
التعريف المذكور وعلى هذا فلا يكون الرجوع إلى الرسول و
الاجماع ولا رجوع العامي إلى المفتي والقاضي إلى الشاهد تقليدا
لقيام الحجة على ذلك كله ولو سمي ذلك أو بعض ذلك تقليدا فلا
مشاحة انتهى ملخصا أقول قولهم في الحد من غير حجة معناه من غير
حجة على القول كما هو الظاهر لا على الاخذ كما زعمه العضدي
على ما يظهر من تفريعه وعلى هذا فلا إشكال في دخول أخذ العامي
بفتوى المجتهد لأنه أخذ بقوله من غير حجة على قوله وإن كان له
حجة على الاخذ به ويخرج الاخذ بقوله صلى الله عليه وآله لان
برهان العصمة حجة على صحة قوله كما أنه حجة على وجوب الاخذ
به
أيضا ومثله الكلام في الاخذ بقول الامام بل كل من ثبت عصمته و
بقول المجمعين على طريقة أهل الخلاف لا يقال يجري مثل هذا
البيان
في أخذ العامي بقول المفتي فيلزم خروجه أيضا فإن ما دل على
وجوب أخذه بقوله دل على ثبوت فتواه عليه بمعنى أنه حكم الله في
حقه
ولو ظاهرا فيكون له حجة على القول أيضا لأنا نقول إنما يثبت قول
المفتي على العامي ويصير في حقه حكما شرعيا بعد أخذه به فهو
يأخذ ما لا دليل عليه حال الاخذ وإن قام عنده الدليل عليه بعده
بخلاف الاخذ بقول المعصوم عليه السلام والاجماع فإن برهان
العصمة
حجة على صحة قوله سواء أخذ به أم لا وكذلك الاخذ بحكم الحاكم
وقول الشاهد وإخبار ذي اليد وما أشبه ذلك فإن ما دل على
حجيتها دل
على ثبوت مقتضاها في الظاهر أخذ به أو لم يؤخذ ويمكن إخراجه
عن الحد أيضا بتفسير القول بما ذكرناه هذا واستشكل الفاضل
المعاصر بعد البناء على ما ذكره العضدي في قولهم يجوز التقليد في
الفروع ولا يجوز في الأصول بأنه إن أريد به الاخذ بقول الغير من
غير حجة لم يجز فيهما وإن أريد الاخذ به مع الحجة جاز فيهما ثم
تفصى عنه بحمل التقليد هناك على معنى آخر وهو الاخذ بقول الغير
مجردا عن اعتبار القيدين وقد اتضح لك ضعفه مما قررنا واعلم أنه لا
يعتبر في ثبوت التقليد وقوع العمل بمقتضاه لان العمل مسبوق
بالعلم فلا يكون سابقا عليه ولئلا يلزم الدور في العبادات من حيث إن
وقوعها يتوقف على قصد القربة وهو يتوقف على العلم بكونها
عبادة فلو توقف العلم بكونها عبادة على وقوعها كان دورا نعم يعتبر
العمل في لزوم حكم التقليد إن قلنا بجواز العدول وإلا لزمه
حكمه مطلقا هذا وقول العلامة في النهاية بأن التقليد هو العمل بقول
الغير من غير حجة معلومة بيان لمعناه اللغوي كما يظهر من ذيل
كلامه وإطلاقه على هذا شائع في العرف العام
فصل لا ريب في جواز التقليد لغير المجتهد في الفروع
مع عدم حضور المعصوم في مجلس التقليد للقطع ببقاء التكليف
بالأحكام وانسداد طريق تحصيلها في حق غيره بغير طريق التقليد
غالبا ولجريان طريقة السلف عليه من غير نكير ولأن في أمر الكل
بالاجتهاد حرجا على الأنام وإلزاما بما فيه إخلال بالنظام ولعموم
قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بناء على أن المراد
بأهل الذكر أهل القرآن من العلماء كما نص عليه جماعة وقد مر
الكلام فيه ولقوله تعالى في آية النفر ولينذروا قومهم المتناول للانذار
بطريق الفتوى أيضا وللاخبار المستفيضة الدالة عليه صريحا و
فحوى فمنها قول أبي جعفر عليه السلام لأبان بن تغلب اجلس في
مسجد المدينة وأفت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك و
منها
أنهاك عن خصلتين إلى أن قال وأن تفتي الناس بما لا تعلم ومنها إياك
أن تفتي الناس برأيك ومنها من أفتى الناس بغير علم ولا هدى
من الله لعنه ملائكة الرحمة الحديث ومنها من أفتى الناس وهو لا
يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك إلى غير
ذلك
مما يدل على جواز الفتوى وقبولها من أهلها وربما خالف في ذلك
شرذمة شاذة فحرموه وأوجبوا على العامي الرجوع إلى عارف
عدل يذكر له مدرك الحكم من الكتاب والسنة فإن ساعد لغته على
معرفة مدلولهما وإلا ترجم له معانيهما بالمرادف من لغته وإذا
كانت الأدلة متعارضة ذكر له المتعارضين ونبهه على طريق الجمع
بحمل المنسوخ على الناسخ والعام على الخاص والمطلق على
المقيد
ومع تعذر الجمع يذكر له أخبار العلاج على حذو ما مر ولو احتاج إلى
معرفة حال الراوي ذكر له حاله وبشاعة هذا القول وفساده
بالنسبة إلى أمثال زماننا مما يستغني لوضوحه عن البيان لظهور عدم
مساعدة أفهام كثير من العوام على فهم قليل من الاحكام بهذا
الوجه مع عدم مساعدة أكثر أوقات
العالم على تعليم قليل مما يحتاج إليه بعض العوام ومع ذلك فلا دليل
على حجية ظن العامي من الأدلة المنقولة إليه والآيات الدالة على
حرمة التقليد معارضة بالآيات الدالة على حرمة العمل بالظن مع أنها
واردة في التقليد الذي لا دليل على جوازه وهو تقليد غير أهل العلم
كما يدل عليه قوله تعالى قل أ ولو كانوا لا يعلمون شيئا ولا يهتدون و
أما رواية الثقلين فلا تنافي جواز التقليد لان الاخذ بقول من
يتمسك في قوله بهما تمسك بهما حقيقة كالتمسك بالرواية ويؤيد
ذلك
411

وثوق العامي بنظر المجتهد واستنباطه أقوى من وثوقه بنظره غالبا
فعدوله عنه إليه عدول عن أقوى الامارتين إلى ضعفهما وأما
المجتهد فلا يجوز له تقليد غيره في المسائل الشرعية التي اجتهد فيها
إجماعا على ما حكاه بعضهم ويشكل بما ذهب إليه كثير من حجية
الاجماع المنقول من حيث نقل المنكشف وما ذهب إليه قوم من
حجية الشهرة وما ذهب إليه بعض من الاكتفاء في إثبات السنن
بالفتوى
وإن اتحد المفتي من حيث النص لا من حيث الاحتياط فإن ذلك كله
بحسب الظاهر تقليد إذ لا نعني به إلا الاخذ بفتوى الغير من غير حجية
قطعية كانت الفتوى أو ظنية اتحد المفتي أو تعدد وإن كان الاخذ
لحجة وهي الأدلة الدالة على جواز التمسك بالمذكورات وأما الاخذ
بالاجماع المحصل على الطريق المعتبر عندنا فليس منه لأنه أخذ
بالمنكشف لا بالكاشف وبالجملة فحال المجتهد في أخذه بقول غيره
في هذه الموارد كحال العامي في أخذه بفتوى مجتهده في كونه أخذا
للحكم من غير دليل عليه وإن كان له دليل على الاخذ ولعل
القائلين بحجية المذكورات غفلوا عن كونها مندرجة تحت عنوان
التقليد فيمكن إبطال قولهم بها بالاجماع إن تم مع احتمال أن يكون
الغفلة من ناقل الاجماع في المقام حيث أطلق الدعوى ولا سبيل إلى
الفرق بأن تعويل المجتهد في المذكورات على الظن الحاصل منها و
لهذا يبحث عن المعارض ويلاحظ في العمل بها عدمه بخلاف أخذ
العامي بقول المفتي فإنه من حيث إنه قوله بدليل جعله من باب التعبد
لان بعض القائلين بحجيتها ربما يعول عليها من حيث التعبد للنص كما
يرشد إليه بعض أدلتهم وبعضهم يجعل حجية التقليد من حيث
الظن لا التعبد نعم يمكن التفصي عن ذلك في نقل الاجماع بأن
التعويل عليه باعتبار حكاية الناقل لقول المعصوم لا باعتبار إفتائه به
كما في الرواية فإن الاخذ بها أخذ بنقله لا بقوله ومذهبه ويمكن
الجواب بأن ما دل على حجية تلك الأوامر دل على أن مؤداها هو
الحكم
الظاهري
في حق المجتهد وهو يأخذ بما قامت الحجة عليه مع قطع النظر عن
الاخذ ولهذا يلزمه مقتضاه وإن لم يعمل به بخلاف فتوى المفتي
فإنها إنما تثبت في حق المقلد بعد أخذه به لا مطلقا ولهذا لو عصى و
لم يأخذ به ثم وجد مفت آخر جاز له الرجوع إليه بل قد يتعين وأما
المسائل التي لم يجتهد فيها وتمكن من الاجتهاد فيها فالحق عدم
جواز التقليد فيها أيضا وإن كان قد قلد فيها قبل الاجتهاد ولا أظن
أحدا من أصحابنا يخالف في ذلك نعم نقل الخلاف فيه عن بعض أهل
الخلاف وربما كان مستندهم أصالة بقاء جواز العمل بالتقليد و
إطلاق الأدلة السمعية الدالة عليه والكل ضعيف في مقابلة الشهرة
العظيمة إن لم يثبت إجماع مع انصراف الأخير إلى غير المتمكن
فيبقى
أصالة بقاء الاشتغال بالعمل بالأحكام مستدعيا للفراغ اليقيني وهو
إنما يحصل بالاجتهاد على أن العدول عن الاجتهاد إلى التقليد
عدول عن أقوى الامارتين إلى أضعفهما وهو بعيد عن الاعتبار ولو
عجز المجتهد عن الاجتهاد في مسألة لضيق وقت أو عدم كتاب أو
عدم تمكن من مراجعته تعين عليه التقليد في موضع الحاجة ويستمر
ذلك باستمرارها إلى أن يتمكن من الاجتهاد ويمضي على مقتضى
التقليد فيما أوقعه على وجهه وإن أدى نظره بعد ذلك إلى خلافه ما لم
يقطع به كما في العامي ولو قلد ثم تمكن من الاجتهاد سقط عنه
التقليد لانتفاء موجبه فلو اعتراه المانع بعد ذلك واضطر إلى التقليد
جاز له تقليد غير من قلده سابقا وإن منعنا من العدول لأنه تقليد
ابتدائي ولو اضطر إلى التقليد في مسألتين ثم تمكن من الاجتهاد في
إحداهما على البدلية ففي سقوط حكم التقليد فيهما فيجوز له
العدول بعد التعذر وعدمه وجهان وأما المسائل التي يتردد فيها فإن
كان تردده لعدم إمعان النظر في أدلتها فحكمه كما مر من عدم
جواز التقليد مع التمكن مع إمعان النظر وجوازه مع عدم إمكانه وإن
كان بعد إمعان النظر وتكافؤ الأدلة في نظره
فحكمه التخيير في العمل بأيهما شاء أو طرحها والرجوع إلى الأصول
الظاهرية على خلاف يأتي في بحث التعادل ولا سبيل له حينئذ
إلى التقليد ويجوز له التقليد في المسائل التي لا سبيل له إلى الاجتهاد
فيها كمباحث اللغة لكن جواز التقليد فيها من حيث الظن لا التعبد
هذا كله في المجتهد المطلق وأما المتجزي بناء على جوازه فلا يبعد
إلحاقه بالمجتهد المطلق بالنسبة إلى المسائل التي يتمكن من
الاجتهاد فيها لا سيما مع عدم سبق التقليد فيها مع احتمال التخيير بين
ذلك وبين التقليد وكيف كان فالحكم يدور مدار نظره أو نظر
من يرجع إليه في ذلك وأما أصول الدين فقد اختلفوا في التقليد فيها
فقيل بتحريمه ووجوب النظر وقيل بجوازه وقيل بوجوبه و
تحريم النظر والمراد بالتقليد هنا معناه المعروف أعني الاخذ بقول
الغير من غير حجة أي من غير حجة على القول كما نبهنا عليه في
بيان الحد ومعنى الاخذ بقوله هنا الالتزام به إذا كان مفيدا للاعتقاد
فيرجع النزاع إلى أن طريق تحصيل الاعتقاد المعتبر في الأصول
هل هو منحصر في النظر فلا يجوز الاعتماد على الاعتقاد الحاصل عن
التقليد أو منحصر في التقليد فيجب الاعتماد على الاعتقاد الحاصل
منه ولا يجوز النظر أو لا ينحصر في أحدهما بل يتخير بينهما وإنما
اعتبرنا حصول الاعتقاد بالتقليد في محل النزاع للاجماع على أن
الايمان لا يتحقق بدون الاذعان ولم تعتبر خصوص القطع ليتم على
القول بكفاية الظن ولا ريب أن كلا من النظر والتقليد طريق في
نفسه إلى تحصيل الاعتقاد وإن اعتبر بلوغه مرتبة القطع ولهذا تراهم
يعتبرون الثبات في تعريف العلم بعد اعتبار الجزم احترازا عن
الجزم
412

المستند إلى التقليد نعم قد يتعذر تحصيل الجزم بطريق التقليد في
حق الأذكياء المتفطنين لعدم تعويلهم على غير الدليل كما قد يتعذر
تحصيله بطريق النظر في حق القاصرين عن مرتبة النظر بالكلية كبعض
ضعفاء العقول إن قلنا بأنهم مكلفون بتحصيل المعارف لكن
ذلك خارج عن محل البحث فإن الكلام في صورة الامكان وكون
الاعتقاد في حد ذاته غير مقدور لا ينافي كونه مقدورا بواسطة القدرة
على أسبابه من نظر أو تقليد وترك النظر فيما يؤدي إلى التشكيك و
زوال الاعتقاد فاتضح مما قررنا أنه لا سبيل إلى ما يقال من أن
حصول الاعتقاد بقول الغير أمر غير اختياري فلا يصح جعله موردا
للتكليف لما عرفت من أنه اختياري بواسطة كون أسبابه اختيارية و
لا إلى ما يقال من أن مرجع هذا النزاع إلى اشتراط القطع في الأصول
فإن اعتبرناه تعين القول بعدم جواز التقليد لما عرفت من أن
التقليد قد يفيد القطع إذا عرفت هذا فقد استدل على القول الأول
بوجوه منها أنه تعالى قد ذم الكفار في تقليدهم آباءهم في مواضع
عديدة كقوله تعالى ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم وقوله جل شأنه
حكاية عنهم في غير موضع إنا وجدنا آباءنا على أمة الآية إلى غير
ذلك فلو كان التعويل عليه سديدا مرضيا لما توجه إليهم ذم ولكان
لهم المعارضة بجوازه في شرع الاسلام فيتحقق الافحام ولا سبيل
إلى دفعه بالفرق بأن هذا تقليد لأهل الحق فيجوز بخلاف تقليدهم
لآبائهم لان كلا من المقلدين يعتقد بالتقليد أنه مقلد لأهل الحق فلا
يتحقق فارق بالنسبة إلى معتقدهما وتحققه بحسب الواقع لا يجدي
في رد الافحام ويشكل بأن هذه الآيات إنما تدل على ذمهم باتباعهم
طريقة آبائهم في الفكر وعبادة الأوثان وهذا لا يوجب تحريم
الاعتماد على الاعتقاد الحاصل عن التقليد كما هو في محل البحث
لجواز
أن يكونوا غير معتقدين بحقية طريقة آبائهم وإنما التزموا
بها تعصبا وعنادا كما يدل عليه قوله تعالى كفارا حسدا من عند
أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق وقوله تعالى وجحدوا بها واستيقنها
أنفسهم ظلما وعلوا وقوله يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وغير ذلك و
أيضا من البعيد عادة أن يكون الكفار المذمومون في هذه
الآيات على التقليد معتقدين لحقية طريقة آبائهم ولو بالتقليد لوضوح
فسادها خصوصا بعد تنبيه الأنبياء لهم على ذلك بالدلائل و
المعاجز ولو التزمنا بلزوم القطع بالمعارف كما هو الحق فالاشكال
أوضح وقد اعترض على الاحتجاج بهذه الآيات بأنها من باب العام
المخصص وحجيته محل كلام ولو سلم فغايته إفادة الظن والمسألة
كلامية لا بد من تحصيل القطع فيها مع أن الاستدلال بها إنما يتم
على مذهب الأشاعرة دون العدلية إذ إثبات وجوب معرفته تعالى
بالنظر بقوله دور ويمكن الجواب عن الأول بجعل الدلالة قطعية
بمعونة سوق الكلام أو جعل حجية ظاهرها قطعية لندرة المخالف مع
أنا لا نسلم عدم حجية الظن في المقام لأنا إن جعلنا النظر معتبرا
في صحة الايمان فلا ريب أن قاعدة دفع الضرر المظنون قاضية
بوجوب النظر وللشك في حصول البراءة بالاعتقاد التقليدي فيجب
النظر تحصيلا لليقين بالبراءة وأما ما يقال من أن القدر المعلوم وجوب
أحد الامرين فالأصل براءة الذمة عن التعيين فواضح الضعف لان
القدر المعلوم وجوب أحدهما بالخصوص وهو الاعتقاد عن الدليل
فيجب الاقتصار عليه وإن لم يعلم بوجوبه على التعيين للشك في
وجوب الاخر وقيامه مقام الأول نظرا إلى احتمال عدم الاعتداد
بالاعتقاد التقليدي مع أن العمل بالأصل لا يجوز عقلا وشرعا إلا بعد
الفحص عن المعارض وعدم العثور عليه وإن جعلناه واجبا مستقلا
فالمنع من حجية الظن فيه غير سديد أما عند القائلين بانسداد باب
العلم فلوضوح جريان الدليل المذكور في مطلق التكاليف سواء
تعلقت بالجنان أو بالجوارح ولا اختصاص للقاعدة المذكورة بالثاني
كما زعم وأما عند غيرهم فلقطعهم بحجية ظواهر الكتاب ولا
خلاف فيه بين من يعتد بمقالته منهم وعن الأخير بأن المراد إثبات
وجوب النظر بقوله تعالى على من كان مؤمنا بطريق التقليد أو مطلقا
تحقيقا للمسألة وبيانا أن الذي حصل الايمان بطريق النظر قد أدى ما
وجب عليه مع إمكان الاستدلال بها على غير المؤمن إذا جوز أن
يكون ذلك كلامه تعالى إذ يجب عليه النظر حينئذ في طلب الحق
دفعا للضرر المظنون ومنها الآيات الدالة على وجوب العلم كقوله
تعالى
فاعلم أنه لا إله إلا هو ويتم الاحتجاج به بضميمة آية التأسي وكقوله
تعالى اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها وغير ذلك فإن العلم
على ما صرح به جماعة هو الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع
فاحترزوا بالثابت عن الاعتقاد الجازم المطابق الناشئ عن التقليد فإنه
غير ثابت فلا يدخل في العلم ويشكل بأن هذا إن كان تفسيرا للعلم
باعتبار الاصطلاح فتنزيل الآية عليه غير سديد وإن كان تفسيرا له
باعتبار اللغة والعرف فمساعدة كلمات اللغويين على ذلك غير
واضحة كما يظهر بالرجوع إليها والظاهر من المحاورات العرفية أن
معنى مطلق الجزم أو الجزم المطابق خاصة هذا واعترض على الآية
الأولى بأن المراد التثبت على العلم لأنه صلى الله عليه وآله كان
عالما قبل نزول هذه الآية إذ لم يقل أحد أنها أول ما نزلت عليه وبأنه
ليس طلبا لتحصيل العلم بل إثبات للعلم وإيجاد له من قبيل قول
المعلم اعلم وكذا وهذا يتجه على الآية الثانية أيضا ويمكن الجواب
عن الأول بأن وجوب التثبت على العلم يستلزم وجوب
413

تحصيل العلم فيثبت المقصود وبأن قول العلم يجوز أن يكون أمرا
بتحصيل العلم وذلك بصرف التوجه فيما يقوله والاصغاء إليه وإن
جاز أن يكون بمعنى أعلمك بأن الامر كذا فيكون معناه إيجاد العلم و
حينئذ فإخراج الآية عن ظاهرها بمجرد الاحتمال غير سديد ومنها
الآيات الدالة على وجوب النظر كقوله تعالى انظروا ما ذا خلقوا في
السماوات والأرض وقوله جل شأنه أو لم يتفكروا في أنفسهم و
قوله تبارك اسمه أ فلا يتفكرون إلى غير ذلك ولقائل أن يقول بأن
الظاهر من هذه الآيات توجه الامر فيها إلى الكفار وكأنهم خصوا
بالامر بالنظر والتفكر ليطلعوا على عظم قدرة الله تعالى وإحاطته
بالأمور بملاحظة عجائب صنعه ودقائق حكمته المودعة فيما شاهد
من خلقه ليتبين لهم أنه تعالى قادر على إعادتهم بعد الموت أو
ليرتدعوا عن مخالفته وتكذيب رسله بعد ما اتضح لهم الحق و
انكشف
لهم الواقع وحينئذ فلا دلالة له على المقصود ومنها أنه يجب تحصيل
العلم بالمعارف بالاجماع والتقليد لا يفيده لجواز كذب المقلد فلا
يكون مطابقا فلا يكون علما ولأن قول الغير لو أفاده لزم اجتماع
النقيضين في المسائل الخلافية كحدوث العالم وقدمه ولأنه لو أفاد
العلم لكان العلم بكونه صادقا أما بالضرورة وهو باطل قطعا وأما
بالنظر فيستدعي الحاجة إلى الدليل والتقدير عدمه وإلا لم يكن
تقليدا ويمكن الجواب بأنه إن أريد بالعلم الجزم المطابق الناشئ عن
الدليل فدعوى الاجماع على وجوب تحصيله ممنوعة مع أنها لو
سلمت فبقية المقدمات مستدركة وإن أريد به مطلق الجزم أو الجزم
المطابق فدعوى أن التقليد لا يفيده ممنوعة والوجوه المستدل بها
فاسدة أما الأول فلان تجويز كذب المقلد إن كان بالنظر إلى الجازم فغير
معقول لان كل جازم حال جزمه لا يجوز أن يكون جزمه
مخالفا للواقع وإلا لم يكن جازما وإن كان بالنظر إلى غيره فغير مفيد و
إلا لكان الدليل أيضا غير مفيد للعلم لجواز كذب مدلوله عند
غير المستدل كالمسبوق بالشبهة ونحوه وأما عن الثاني فبأنا لا ندعي
أن قول كل
أحد يفيد العلم للمقلد حتى يلزم منه اعتقاد المتناقضين في زمان
واحد عند الاختلاف بل ندعي أن قول الغير قد يفيده وحينئذ فتمنع
استفادة العلم من أقوال المختلفين في زمان واحد بل إما أن لا يعلم
بشئ منها أو يعلم بأحدها وأما عن الثالث فبأن علم المقلد بصدق
من
يقلده حدسي ناشئ عن اعتقاد أكمليته والاستئناس بطريقته مع الغفلة
أو التغافل عن عدم مدخلية ذلك في إصابة الحق وقد لا يرتدع
المقلد بمجرد التنبيه لاستحكام المنشأ في نفسه ولهذا يحتاج إلى
مزيد إيضاح بإقامة معجزة أو إيراد حجة جلية ولو فرض أن علمه
بصدقه ناشئ عن الدليل كعلمنا بصدق المعصوم المستند إلى برهان
العصمة فليس من التقليد في شئ كما أشرنا إليه سابقا ومنها أن
الاعتقاد الحاصل بالتقليد في عرضة الزوال فصاحبه غير مأمون على
زواله فيجب تثبيته بالنظر دفعا للضرر المظنون ويشكل بأنه إن
أريد أن الاعتقاد المذكور عند غير صاحبه في عرضة الزوال فغير مفيد
في ثبوت التكليف عليه إذ لا يجب على المكلف دفع الضرر الذي
يظنه الغير في حقه إذا لم يوجب ظنه به وإن أريد أنه عند صاحبه في
عرضة الزوال فهو على إطلاقه ممنوع بل التحقيق أن ثبات العقائد
الحقة ورسوخها في النفس كثيرا ما يستند إلى ملكات القلب وكيفياتها
الأصلية والاكتسابية وليس للاستدلال والتقليد كثير مدخل في
ذلك ولهذا يتزايد قوة اليقين والايمان بزيادة الورع والتقوى حتى إنه
قد يبلغ الورع بصاحبه إلى درجة من الايمان بحيث يمتنع عليه
الزوال كما يستفاد من النصوص وقد أشير إليه في قوله تعالى وتثبيتا
من أنفسهم وقد يكون المولع في المعاصي والشهوات على
خطر في بقاء إيمانه وإن كان حكيما مبرهنا ويقع مثل ذلك في جانب
الباطل أيضا وهذا من الأمور الواضحة عند أرباب القلوب و
المكاشفة ولا ينافي ذلك ما ذكروه من أن الاعتقاد المستند إلى الدليل
ثابت وإلى التقليد غير ثابت
لان المراد أن الاستدلال والتقليد ما من شأنهما ذلك وإن جاز التخلف
من جهة العوارض الخارجية ومنها ما دل من الاخبار على أن
الايمان هو ما استقر في القلب من التصديق بالشهادتين ووجه الدلالة
أن الاستقرار لا يتحقق إلا بالدليل والايمان مفسر به إذ لا ثبات
للاعتقاد الناشئ من التقليد وما دل على أن المؤمن إذا جعل في قبره و
سئل عن ربه ودينه ونبيه وإمامه أجاب بالصواب فيقال له كيف
علمت ذلك فيقول أمر هداني الله إليه وثبتني عليه فيقال له نم نومة لا
حلم فيها نومة العروس ويفتح له باب من الجنة فيدخل إليه من
روحها وريحانها وأن الكافر إذا جعل في قبره وسئل أجاب كما يجيب
به المؤمن فيقال له من أين علمت ذلك فيقول سمعت الناس
يقولون ذلك فيضرب بمرزبة لو اجتمع عليها الثقلان لا يطيقونها
فيذوب كما يذوب الرصاص فلو كان التقليد مجزيا لاكتفي منه بذلك
أيضا ويمكن الجواب أما عن الأول فبأن الظاهر من الاستقرار مجرد
التحقق أو التحقق على وجه الدوام إلا أن يكون بحيث لا يزول
بالتشكيك مع أن الاعتقاد التقليدي قد يكون بحيث لا يزول
بالتشكيك والاعتقاد عن الدليل قد يكون في معرض الزوال كما
عرفت من
بياننا المتقدم فالاستقرار والثبات لا ينافي التقليد ولا يستلزمه
الاستدلال وأما عن الثاني فبأن قول المؤمن أمر هداني الله إليه لا
يختص بالهداية بطريق الاستدلال وقول الاخر سمعت الناس يقولون
ذلك يدل على عدم كونه معتقدا لما يقول به كما يدل عليه تسميته
كافرا ولا ينافيه قوله كيف علمت ذلك حيث يدل على كونه معتقدا
ذلك لأنه أقرب المجازات إلى العلم لان هذه
414

كثيرا ما يقال تعويلا على ما هو الظاهر من الاخبار احتج المنكرون
لوجوب النظر أولا بأنه لو وجب النظر لدار فإن وجوب النظر إنما
يثبت بالشرع وثبوت الشرع يتوقف على وجوب النظر فيكون دورا و
هذه الحجة كما ترى مبنية على مذهب الأشاعرة والجواب المنع
من توقف ثبوت الشرع على وجوب النظر الثابت به بل على مجرد
حصوله أو ثبوته بالعقل فلا دور وثانيا بأن النبي صلى الله عليه وآله
كان يحكم بإسلام من أقر بالشهادتين وكان يكتفي بذلك منهم ولم
يكلفهم بالاستدلال والنظر وذلك آية عدم وجوبه وإلا لكلفهم به
والجواب أنه لا يراد بالاستدلال تحصيل الأدلة التفصيلية على الوجه
المقرر في علم الكلام أو كتب الحكمة بل تحصيل ما يطمئن به النفس
من الدليل وإن كان إجماليا وهذا مما لا يكاد يذهل عنه مصنف
متفطن وقد يقال تدل المعجزة على صدق صاحبها دلالة ضرورية فإن
تم فلعل عدم أمرهم بالاستدلال استغناء عنه بدلالة المعجزة وأما ما
يقال من أن اكتفاءه صلى الله عليه وآله بمجرد الاقرار بالشهادتين
إنما كان من باب المسامحة والمماشاة ليتقوى شوكة الاسلام
بالاجتماع لاكتفائه بذلك من المنافقين أيضا مع عدم كفايته في
إيمانهم
واقعا فضعفه ظاهر لأنه لو كان الايمان المعتبر هو الايمان عن الدليل
لوجب عليه صلى الله عليه وآله أن يبين لهم ذلك وأن لا يكتفي
بإقرار من أقر بالشهادتين إلا أن يدعى أنه إقراره عن الدليل لان الاقرار
بالشئ لا يدل إلا على الجزم به وهو لا يستلزم الاستناد إلى
الدليل ولا ينافي ذلك قبوله لاقرار المنافق لأنه صلى الله عليه وآله
إنما كان مكلفا بالظاهر لا بما هو مكنون في السرائر وبالجملة
ففرض وجوب الايمان عن الدليل مع تسليم عدم بيانه صلى الله عليه
وآله يوجب إسناد التقصير في التبليغ إليه صلى الله عليه وآله و
عدم إتمامه الحجة على العباد وهو ظاهر السقوط متضح الفساد وثالثا
بأن مسائل الأصول أغمض من مسائل الفروع فإذا جاز التقليد
في الثاني جاز في الأول بطريق الأولوية والجواب المنع من أغمضية
مسائل الأصول من الفروع بل الامر على العكس كما يشهد به الوجدان
مع أن التقليد في الأصول قد يفضي إلى الدور بخلاف التقليد في
الفروع فلا يتم الأولوية أقول ويمكن الاحتجاج عليه رابعا بقوله تعالى
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون فإنه بعمومه يتناول
الأصول أيضا ويمكن الجواب عنه بأنه عام فيحمل على غير الأصول
جمعا بينه وبين الآيات السابقة وخامسا أن المعتقد بالتقليد مصدق
عرفا ولغة فيدخل تحت العموم في قوله تعالى وعد الله المؤمنين و
المؤمنات جنات الآية فإن الايمان هو التصديق كما صرحوا به و
يمكن الجواب عنه بأنا لا ننكر إيمان المعتقد بالتقليد وإنما ندعي
عصيانه بترك النظر على تقدير تفطنه لوجوبه وهو لا ينافي دخوله
في العموم المذكور لعدم اختصاص الوعد بعدول المؤمنين وسادسا
بقوله تعالى آمنوا بالله وبرسوله وغيره من الآيات الامرة
بالايمان فإنه يصدق مع التقليد أيضا ويمكن الجواب عنه بأن الايمان
عندنا في نفسه واجب والنظر واجب آخر وليس شرطا في صحته
والآية إنما تدل على وجوب الأول ولا دلالة لها على نفي الثاني ثم
الوجوه المذكورة مشتركة بين القولين الأخيرين ولعل القائل منهما
بالجواز يتمسك بالأصل وبأن طريقة السلف جارية على عدم الانكار
على الناظر في المعارف فهو إجماع منهم على عدم تحريمه و
بالآيات السابقة إذ لا أقل من دلالتها على الجواز وأما القائل بالمنع فقد
احتج عليه بوجوه منها قوله صلى الله عليه وآله عليكم بدين
العجائز فإن العجائز إنما يدلان بالتقليد والامر به يدل على إيجابه و
الجواب بعد تسليم الرواية المنع من تدين العجائز بالتقليد بل
بالدليل مجردا عن ملاحظة الشكوك والشبهات كما يدل عليه حكاية
كف يدها عن تحريك دولابها واحتجاجها بأن الدولاب إذا كان لا
يتحرك من غير محرك فكيف يتحرك السماوات من غير قادر يحركها
فكان المقصود المنع من الالتفات إلى ما
يوجب الارتياب والوسوسة كما يدل عليه قوله عليه السلام لا ترتابوا
فتشكوا وقد يجاب بأن هذا الكلام قول سفيان حين أثبت منزلة
بين الايمان والكفر فقال عجوز في رد ذلك قال الله تعالى هو الذي
خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن فقال سفيان عليكم بدين العجائز
ولا يذهب عليك أن صدور هذا الكلام في ذلك المقام عن سفيان لا
ينافي صدوره عنه صلى الله عليه وآله في المقام المروي عنه من
حكاية الدولاب ومنها أنه بدعة في الدين إذ لم يعهد عن الصحابة وإلا
لنقل إلينا لتوفر الدواعي على نقله كما في الفروع والجواب أن
الذي لم يعهد من الصحابة إنما هو الخوض في الأدلة على الوجه
المقرر في علم الكلام لا الاستدلال مطلقا ولو سلم فغاية ما يلزم من
ذلك
عدم وجوبه وهو لا يستلزم إيقاعه على وجه المشروعية هو الرجحان
ليلزم كونه بدعة ومنها أن النظر في الأصول مظنة للوقوع في
الشبهة والخروج من الدين لكثرة الشبهات التي يتطرق إليها فيجب
ترك النظر دفعا لما يترتب عليه من خوف الضرر والجواب المنع
من كون مطلق النظر مظنة للوقوع في الشبهة نعم ربما يؤدي إلى ذلك
التوغل في المسائل الحكمية لا سيما بالنسبة إلى أصحاب
التشكيك من ذوي الأنظار الغير المستقيمة خصوصا إذا كانوا غير
مستأنسين بالشريعة والتزام التحريم فيه مما لا ينافي المقصود و
منها أنه صلى الله عليه وآله خرج على أصحابه فرآهم يتكلمون في
القدر فغضب حتى احمرت وجنتاه وقال إنما هلك من كان قبلكم
لخوضهم في هذا عزمت عليكم أن لا تخوضوا فيه وقال عليه السلام
إذا ذكر القدر فأمسكوا والجواب بعد تسليم الرواية أنها خارجة عن
محل البحث لان الكلام في المعارف الأصولية
415

وليس في مسألة القدر منها مع أنه صلى الله عليه وآله نهى عن
الخوض فيه وهو لا يدل على جواز التقليد فيه بالمعنى المتقدم
لامكان
إرادة الاعراض عن القول فيه بالكلية أو الرجوع فيه إلى ما دل عليه
الكتاب والسنة هذا إذا حصل له الجزم به ثم على القول بحرمة التقليد
في الأصول هل يكتفي به في إسلام صاحبه إذا حصل له الجزم به أو لا
قولان أظهرهما الأول وقد مر في بعض الوجوه السابقة ما يدل
عليه ولم نقف للقول الاخر على دليل إذا عرفت هذا فاعلم أن القول
بجواز التقليد في الأصول إنما يناسب طريقة العوام فإن ساحة
العلماء بعيدة عن ذلك وحينئذ فالبحث يتعلق بالتقليد تارة باعتبار ما
يلزم المقلد العامي عند نفسه ولو بعد تنبيهه عليه وأخرى
باعتبار ما يلزم العالم عند رجوعه إليه أو تمكنه من ردعه أما بالنسبة
إلى المقام الأول فالظاهر أن العامي إن علم بوجوب النظر عليه و
لو من جهة الخوف على عقائده وجب عليه النظر وإلا كان وظيفته في
ذلك الرجوع إلى العلماء لان المسألة نظرية يقصر عن معرفتها
نظر العامي غالبا ولو تمكن العامي من معرفتها ففي وجوبها عليه نظر و
أما بالنسبة إلى المقام الثاني فالتحقيق أن العالم إن وجد
المقلد مخطئا في العقائد وتمكن من ردعه وجب عليه ردعه عنها و
لو بالتنبيه على عدم الاعتداد في المعارف بالتقليد وإن كثيرا من
ذوي الملل الفاسدة يعتمدون على التقليد في إثبات ملتهم فلو كان
التقليد مفضيا إلى الصواب لزم أن يكونوا جميعا مصيبين مع أنه محال
وإن وجده مصيبا في تقليده للعقائد الحقة ولم نخف على عقائده من
طريان التشكيك عليها فالظاهر عدم وجوب إلزامه بالنظر لان
المقصود من النظر إنما هو تحصيل العقائد الحقة وقد حصلها بطريق
التقليد ووجوب المقدمة تسقط عند الوصول إلى ذيها والأدلة التي
تمسكوا بها على وجوب النظر في نفسه مخدوشة بما مر ولو خاف
على عقائده بترك النظر فالظاهر وجوب إلزامه بالنظر لأنه مكلف
به واقعا وإن
جهله واعلم أن المراد بالتقليد هنا الاخذ بقول غير المعصوم أو بقوله
مجردا عن دليل يدل على صدقه وإلا فالأخذ بقوله في المعارف
بعد إثبات كونه صادقا مما لا نزاع في جوازه ومن هذا الباب قول كثير
من أهل الاسلام بالتوحيد والمعاد فإنهم إنما يستندون في
إثباتهما إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وهذا مما لا غبار عليه و
التحقيق خروج ذلك عن التقليد المصطلح كما نبهنا عليه في الحد
فصل محل التقليد في الاحكام الفرعية ما لا علم للمقلد بها من غير
جهة التقليد
إذا كانت مما يحتاج إليها المقلد في العمل سواء كانت من المباحث
المحررة في الأصول كمسائل التقليد أو لا كمسائل الفقه ومثلها
مسائل علم الأخلاق وإنما اعتبرنا عدم علمه بها من غير جهة التقليد
احترازا عن الاحكام المعلومة عنده بضرورة أو إجماع أو دليل
قاطع ولو بالمال كما في المتجزي العالم بحجية ظنه ونظره فإنه لا
سبيل إلى التقليد فيها وكذا لو علم ببطلان ما أفتى به مفت
بالخصوص ولم يتعين عنده أحد الأقوال المخالفة له فيقلد غيره في
غيره وإن كان مفضولا أو ميتا مع الانحصار وإنما يتعين التقليد في
حق المقلد حيث لا يتمكن من العمل بالاحتياط وإلا تخير بينه وبين
التقليد فإن التحقيق أن الاخذ بالاحتياط مسلك آخر يغني عن
الاجتهاد
والتقليد في كثير من مواردهما والحصر فيهما كما وقع عن البعض لا
مأخذ له والأدلة الدالة على وجوبهما لا تدل على تعيينهما بالنسبة
إلى الاخذ بهذه الطريقة وحصول البراءة في العمل بها في مواضعها
قطعي بل نقول قضية الأصل الابتدائي هو لزوم السلوك بطريق
الاحتياط بقدر الامكان تحصيلا للبراءة اليقينية عن الشغل الثابت
بالضرورة الدينية لكن وسعة الشريعة السمحة قضت بعدم تعيينه
لأدائه
إلى الضيق والعسر وقصور كثير من الناس عن أداء قليله وأما سقوطه
بالكلية فلا شاهد عليه بل وفي بعض الاخبار دلالة على عدمه نعم
لا بد للعامل بهذا الطريق من علمه بحصول التخلص به ولو بالتقليد إن
كان من أهله لئلا يؤدي إلى التشريع وليحصل به اليقين بالبراءة
من الشغل المقطوع به ثم من الموارد ما لا يحتمل الاحتياط ومنها ما
يحتمله فمن الصورة الأولى ما إذا احتملت الواقعة التي علم بأنها
ليست بعبادة للوجوب والتحريم لا من جهة التشريع أو من جهته قبل
مراجعة الأدلة والفتاوى والعلم بأن
المقام مقام الاحتياط فلا يجوز الاحتياط بالفعل في الأول مطلقا وفي
الثاني مع قصد القربة به من جهة نفس الفعل أو من جهة حصول
الاحتياط به على إشكال في الأخير ومنها ما إذا دار الامر بين أن يكون
الفعل عبادة واجبة وبين أن يكون مباحا أو مكروها فإنه لا
يصح الاحتياط هنا بالفعل إلا بالقيود المتقدمة مع علمه بعدم العبرة
بنية الوجه ومنها ما إذا دار الامر في العبادة بين وجوبها وندبها
كغسل الجمعة وكان العامل ممن يعتبر نية الوجه اجتهادا أو تقليدا أو
لم يثبت في حقه عدمه فليس له الاحتياط بالفعل متقربا به أو معينا
لاحد الوجهين للزوم التشريع المحرم فإنه عبارة عن إدخال ما لم يعلم
دخوله في الدين فيه على ما هو التحقيق ويدل عليه قوله تعالى أ
تقولون على الله ما لا تعلمون وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون إلى
غير ذلك وتخصيص بعض الناس له بإدخال ما علم خروجه من الدين
فيه ليس بمعتمد ومن الصورة الثانية ما إذا دار الامر بين الوجوب لا
بوجه العبادة وبين ما عدا التحريم من الأحكام الثلاثة فله أن يأتي
بالفعل لا بقصد الوجوب من جهة نفس الفعل تخلصا عن الاجتهاد و
التقليد ولو قصد به الوجوب التخييري من حيث تأدي الاحتياط به
416

الواجب به فمتجه إن قلنا بوجوب الاحتياط على وجه التخيير بينه و
بين الاجتهاد أو التقليد ولو جعلنا مسقطا لوجوبهما لم يتجه ذلك و
منها ما إذا دار الامر بين التحريم لا بوجه العبادة وبين ما عدا الوجوب
من الاحكام فله أن يترك الفعل لا بقصد التحريم كما مر ومنها ما
إذا دار الامر بين الإباحة والندب أو بينها وبين الكراهة أو بينها وبين
الندب فله أن يأتي بالفعل أو يترك لا بقصد الرجحان ومنها أن
يدور الامر بين كون الفعل واجبا أو مندوبا ولو على وجه التعبد مع
العلم بانتفاء بقية الاحكام كما في غسل الجمعة والاحرام بناء على
عدم وجوب نية الوجه فيتمكن من الاحتياط بالاتيان بالفعل متقربا و
منها أن يدور الامر بين الوجوب على وجه العبادة والتحريم من
حيث التشريع فيصح أن يحتاط بالفعل على وجه التعبد مع العلم بعدم
دليل واضح على نفي الوجوب ثم اعلم أنه يجب التقليد على المقلد
في
المسائل المحتملة للوجوب أو التحريم ولو على وجه التخيير حيث
يتيسر الاحتياط وجوبا موسعا لا يتضيق إلا بخوف فوات الامتثال على
تقدير الوجوب أو التحريم ولا يجب فيما عداها وإن جاز نعم لا يجوز
له الاتيان بالفعل بنية الوجه إلا بعد التقليد وكذا الكلام في
الاجتهاد إلا أنه قد يجب أيضا لحاجة المقلد إليه
فصل يعتبر في انعقاد التقليد شرائط يرجع بعضها إلى المستفتي و
بعضها إلى المفتي وبعضها إلى الحكم المفتى به
أما الشرائط المعتبرة في المستفتي فأمور منها أن يكون عاقلا حال
التقليد فلا عبرة بتقليد المجنون حال جنونه وإن تصور التقليد و
عقد قلبه عليه لعدم الاعتداد بفعله نعم لو قلد حال العقل ثم جن
استقر التقليد في حقه وتظهر الثمرة في حق وليه وفي حقه بعد الإفاقة
و
كذا لا عبرة بتقليد الصبي وإن كان مميزا إن جعلنا أعماله تمرينية ولو
جعلنا أعماله شرعية لزم ثبوته في حقه لأنه منها ولتوقف
شرعية غيره غالبا عليه ويظهر الثمرة فيما لو بلغ عشرا وقلد من يقول
بصحة عتقه فأعتق مملوكه فإن جعلنا تقليده شرعيا انعتق عليه
المملوك ولو جعلنا للتمرين لم يلزم الانعتاق عليه وفي عدوله عند
من يمنع منه فيجوز على القول بكونه تمرينيا ولا يجوز على القول
بكونه شرعيا وكذا الكلام في استصحاب تقليده إلى ما بعد البلوغ إذا
مات مفتيه قبله عند من يقول به ويعتبر في تقليده شرعيا أو
تمرينيا وقوعه بعد البلوغ المقطوع به فلو قلد قبله أشكل اعتباره بكونه
دوريا ولا فرق في ذلك بين تقليده في الوجوب والتحريم و
غيرهما إذ لا يعتبر في صحة التقليد فعلية الحكم وإلا لم يثبت بالنسبة
إلى فاقد الشرط ومنها أن لا يكون مجتهدا متمكنا من تحصيل ما
قلد فيه بالاجتهاد على الوجه المعتبر وقد مر بيان ذلك بتفاصيله و
منها أن يكون عالما بجواز تقليد من يرجع إليه في الفتوى وسيأتي
بيان طريق عليه بذلك فلو قلد من لا يعتقد التقليد مطلقا أو قلد من لا
يعتقد جواز تقليده بالخصوص لم يعتبر لعدم تحقق الاخذ في حقه
حقيقة وتظهر الثمرة فيما لو انكشف الخلاف ومنها أن يكون المقلد
مؤمنا حال التقليد إذا كان المفتي مؤمنا فلا عبرة بتقليد الكافر و
المخالف له لعدم كونه أخذا بقوله حقيقة لكونه على خلاف معتقده
نعم لو فرض أنه اعتقد جواز تقليد المؤمن كما في الكافر بالجحود أو
بهتك الشعائر أو المرتد الذي لم يقبل منه
الاسلام لم يبعد ترتب أحكامه عليه ويظهر الثمرة في جريان أحكام
التقليد عليه من صحة عقوده وإيقاعاته وملكه لما أخذه عملا بقوله
وفي ارتفاع الاثم عنه إذا قلده في إباحة ما اختلف في إباحته إذا كان
في الواقع محرما وفي جواز عدوله بناء على عدم جوازه وفي
استصحابه على تقدير موت المفتي لا سيما إذا استبصر بعده ونحو
ذلك ولو قلد الكافر في أحكام وضعية من ملكية أو صحة أو فساد
لأهل مذهبه ممن يصح تقليده في مذهبه لزمه تلك الأحكام بالنسبة
إلى الوقائع التي قلد فيها حال كفره فيحكم بصحة عقوده وإيقاعاته
ويستمر تلك الأحكام إلى حال إسلامه لو أسلم ما لم يمتنع استمراره
فيه كالبقاء على نكاح المحارم أو على ما فوق النصاب ومن هذا
الباب بقاؤه على نكاح زوجة لاط بأخيها قبل النكاح ولا يقدح في
ذلك كونه عندنا معاقبا على الفروع إذ لا منافاة بين صحة عقد و
تحريمه ولا بينها وبين تحريم الاستمتاع كما قد يتفق مثله للمسلم ولو
في صورة النذر وشبهه وأثر الصحة هناك لحوق الولد به و
استحقاق الزوجية عليه ما لا يحرم عليه من الحقوق المقررة نعم لا
يبعد اختصاص ذلك بالكافر المعتقد لحقية دينه وأما الكافر المعتقد
لحقية دين الاسلام فجريان ذلك في حقه غير واضح وكذلك
المخالف إذا قلد لأهل مذهبه ويزيد على الكافر بالحكم بصحة
عباداته إذا
استبصر بعد فعلها عدا ما استثني وأما الشرائط المعتبرة في المفتي
فمنها الاسلام والايمان إذا كان المستفتي مؤمنا فلا يعتبر فتوى
الكافر والمخالف وإن أحاط بالأدلة المعتبرة عندنا وتمكن من
الاستنباط منها وإن علم بالقرائن أن ما أفتى به هو مؤدى نظره في
الأدلة بعد الفحص المعتبر للأصل وعدم ما يدل على حجية نظره
لاختصاص بعض الأدلة بالمؤمن وانصراف إطلاق البواقي إليه نعم
يجوز التعويل على فتوى المخالف في المباحث اللغوية التي لا سبيل
لنا إلى معرفتها بغير التقليد مع حصول الظن بصحتها كما يجوز
التعويل على نقله في ذلك كذلك وكذا لا عبرة في حق المؤمن بفتوى
غير المؤمن من
فرق الشيعة وإن اجتمعت فيه بقية الشرائط حتى العدالة في مذهبه
اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع اليقين ولعدم الوثوق بفتواه
غالبا لأنه إما أن يكون قائلا بحجية قول من لا يقول المؤمن بحجية قوله
فربما يستند في فتواه إلى قوله مع القطع بفسادها وينكر
حجية من يقول المؤمن بحجية قوله فربما يعدل عنه إلى غيره مع
القطع بعدم جواز العدول
417

ولأن الناس مأمورون بالتمسك بالعترة والتمسك بمن يتمسك بهم
بخلاف من يتمسك بهم وبغيرهم أو يقتصر على التمسك ببعضهم
فإنه ليس تمسكا بهم وأما ما قيل في مثل أبان مع كونه ناووسيا من
اجتماع العصابة على تصحيح ما يصح عنه والاقرار له بالفقه فغير
مناف لما قررناه لان المراد تصحيح ما يصح عنه من الروايات دون
الفتاوى ولا يلزم من جواز تعويل المفتي على رواياته جواز تعويل
المقلد على فتاويه لان تعويل المفتي على الرواية مشروط بالفحص و
عدم الظفر بالمعارض وما يوجب القدح في العمل بها فيتدارك
ضعفها من حيث فساد مذهب الراوي بذلك بخلاف تعويل المقلد
على الفتوى فإنه تعبدي محض فيبقى التعويل في حقه بلا تدارك و
ليس
في إقرارهم له بالفقه ما يدل على حجية فتواه عندهم لعدم الملازمة
بين الامرين فإن قبول الفتوى مشروط بالعدالة وليست الفقاهة
مشروطة بها ومنها أن يكون بالغا فلا عبرة بفتوى الصبي وإن وجدت
فيه بقية الشرائط لعدم شمول الأدلة له ولأنه لا يقبل روايته فلا
يقبل فتواه بطريق أولى ويعتبر قطعياته في حق نفسه وفي ظنياته
وجهان ومنها العدالة فلا يعتبر فتوى الفاسق وإن وجدت فيه بقية
الشرائط لجواز قوله بخلاف معتقده أو تقصيره في الاجتهاد ولاية النبأ
بناء على شموله للفتوى ولو علم بتحرزه عن التقصير والاجتهاد
والقول بخلاف المعتقد مطلقا أو في خصوص فتوى فوجهان من
الشك في حجيتها لعدم قيام قاطع عليها فيقتصر على حجية ما قطع
بحجيته وهي فتوى العادل من أن العدالة إنما تعتبر للوثوق بعدم
التقصير والقول بخلاف المعتقد وكلاهما منفيان في محل الفرض
فيندرج في عموم الأدلة لا يقال لعل لوصف العدالة مدخلا في حد
ذاتها أو لجهة أخرى لم نعثر عليها كما في الشهادة فإن قبولها مشروط
بعدالة الشاهد فلا تقبل بدونها وإن علم بتحرزه عن تعمد الكذب و
الشهادة بدون العلم نعم لو علم بمطابقة شهادته للواقع
قبلت عنه كما تقبل في المقام ولو علم بمطابقة الفتوى للواقع لأنا
نقول قد قام الدليل في الشهادة على اعتبار العدالة فيها مطلقا ولا
دليل هنا على اعتبارها مطلقا فيبقى عموم آيتي أهل الذكر والانذار و
فحاوي الأخبار الدالة على حجية فتوى من أفتى بعلم بلا معارض
في محل البحث والفرق بينه وبين غير المؤمن بعد وجود الايمان
المصحح للتعويل عليه في الجملة شمول العمومات المذكورة له
بخلاف
غير المؤمن ويشكل بوجود المعارض وهو إطلاق آية النبأ بناء على
شموله للفتوى كما هو الظاهر ويدل عليه قوله تعالى نبئوني بعلم
إن كنتم صادقين بعد قوله قل الذكرين حرم الآية فإن مرجع الفتوى
إلى الاخبار عن حكمه تعالى بل لا حقيقة لها سواه وإن كان
تسميته فتوى باعتبار زائد على كونه خبرا وهو كونه مؤدى الدليل عند
المخبر فالمنع من قبول قوله مطلقا أولى ويمكن أن يستدل
عليه أيضا بأن الفاسق ظالم لقوله تعالى والفاسقون هم الظالمون و
التعويل عليه في الفتوى ركون إليه وهو محرم لقوله تعالى ولا
تركنوا إلى الذين ظلموا فتأمل فيه ثم على تقدير عدم جواز التعويل
على فتواه فهل يجوز له إفتاء من يرى عدالته ويعول على فتواه
وجوه ثالثها التفصيل بين قطعياته وظنياته فيجوز له الافتاء بما قطع به
من الاحكام لثبوتها عنده في حق المستفتي واقعا ولا يعقل
لوصف العدالة مدخل في ذلك دون ظنياته فإنها إنما تعتبر في حق
المستفتي على تقدير عدالته واقعا على ما هو المفروض فإفتاؤه له
في قوة بيان ثبوت الحكم في حقه والفرض عدمه لعدم شرطه فيكون
إغراء له بالجهل وصدا له عن طلب ما يجب عليه من تحصيل
الفتوى المعتبرة في حقه نعم لو كان فسقه بما لا يوجب الفسق في
مذهب المستفتي جاز له الافتاء مطلقا لثبوته في حق المستفتي ولو
شك المفتي في عدالة نفسه فإن كان لعدم علمه بمعناها وجب عليه
معرفتها وإن كان لشكه في ثبوتها فإن ثبت عنده قبل الشك
استصحبها وإلا اتجه إلحاقه
بالفاسق في الحكم المذكور مع سبق فسقه لأن الشك في وجود
الشرط المخالف للأصل لحكم العلم بعدمه لدلالة الأصل عليه هذا و
التحقيق أن العدالة شرط في الاستفتاء لا في الافتاء لان آية النبأ إنما
تدل على منع قبول نبأ الفاسق بناء على شموله الفتوى كما هو
الظاهر لا على منع الانباء وأما المفتي الغير العادل إذا لم يتصف بعد
بالفسق فالوجه إلحاقه بالعادل في جواز التعويل على فتواه ولا
حاجة هنا إلى اشتراط الوثوق بعدم التقصير والقول بخلاف المعتقد إذ
الفرض عدم اتصافه بالفسق واقعا لكن الفرض مع بعده مما يبعد
اطلاع غيره عليه عادة فالحكم المذكور إنما يثمر في حق نفسه في
جواز إفتائه بناء على منعه في حق الفاسق وأما مجهول الحال فالوجه
إلحاقه بالفاسق كما في الرواية ولو تعذر الوصول إلى فتوى العادل
مطلقا حيا وميتا جاز التعويل على فتوى الفاسق مع الضرورة و
حصول الظن بعدم تقصيره وموافقة قوله لمعتقده ولو دار الامر بينه و
بين عمل المتجزي بظنه وحج عليه بظنه ومنها أن يكون ضابطا
فلا عبرة بفتوى من يكثر عليه السهو إلا مع الامن منه فيما يرجع إليه و
وجهه واضح مما مر في خبر الواحد ومنها أن يكون مجتهدا
مطلقا بأن يكون عنده ملكة يتمكن بها من رد الفروع إلى الأصول على
الوجه المعتد به في عرف الفقهاء فلا يجوز تقليد غيره وإن كان
عالما بالحكم عن طريق معتبر كالمقلد والمتجزي المعتقد لحجية ظنه
أو القاطع بالحكم اقتصارا فيما ثبت الاشتغال به وهو التقليد على
ما يقطع معه بحصول البراءة وهو تقليد المجتهد المطلق ويشكل بأن
قضية عموم آية الانذار جواز التعويل على فتوى كل عالم
418

بالحكم بطريق معتبر شرعا فيتناول المقام ويمكن دفعه بأن عمومه
معارض بظاهر آية أهل الذكر بناء على عدم تخصيصها بالأئمة
عليهم السلام فإن المستفاد منها تعيين الرجوع إليهم عند عدم العلم و
شمولها للمقلد إذا كان عالما وللمتجزي إذا كان عالما بنادر من
المسائل بعيد جدا وحيث لا قائل بالتفصيل ولا مرجح لتحكيم
أحدهما على الاخر يتعين التوقف والرجوع إلى فتوى المطلق
تحصيلا
للبراءة اليقينية ومنها أن يكون حيا فلا يجوز تقليد الميت مع إمكان
الرجوع إلى الحي على ما هو المعروف بين أصحابنا خلافا لشأن
فأجاز الرجوع إليه مطلقا ولا يتوهم مما مر حكايته في مسألة الشهرة
عن بعض الأصحاب من أن الذين نشئوا بعد الشيخ كانوا يقلدونه
في الفتوى لحسن ظنهم به أنهم كانوا يقولون بجواز تقليد الميت
فيكون المشهور هو الجواز لما بيناه سابقا من أن متابعتهم للشيخ لم
يكن عن تقليد بل عن اجتهاد ومع التنزل فلا بد من فرض عدم كونهم
مجتهدين عند أنفسهم للاجماع على عدم جواز التقليد في حق
المجتهد بعد الاجتهاد مطلقا وحينئذ فلعلهم كانوا لا يقولون باجتهاد
أحد في زمانهم ولا ريب في جواز تقليد الأموات حينئذ مع أن
الكلام في مخالفة من يعتد بمخالفته وهؤلاء على تقدير عدم كونهم
مجتهدين لا يعتد بمخالفتهم وكيف كان فالأقوى هو الأول لنا
وجوه الأول الأصل السالم عن المعارضة لعدم شمول الأدلة الدالة
على حجية فتوى المفتي للمفتي الميت فإن منها الاجماع وانتفاؤه في
محل النزاع واضح ومنها الضرورة وهي يندفع بجواز الرجوع إلى
الحي مع ثبوت المرجح في حقه وهو اليقين بالبراءة معه دون غيره
ومنها آية أهل الذكر وهي ظاهرة في الاحياء منهم بقرينة الامر
بالسؤال ومنها آية الانذار والمفهوم منها وجوب حذر الفرقة عند
إنذارهم وهو لا تكون إلا حال حياتهم ومنها حديث أبان وهو إنما
يدل على حجية فتواه لمن استفتاه فيختص بظاهره بمن قلده حال
حياته ومنها الأخبار الدالة بفحواها على حجية فتوى من أفتى
الناس بعلم وهي إنما تدل على حجيتها في حق مستفتيهم فيختص
بظاهرها بمن استفتاهم في حياتهم ولو سلم أن عموم بعض هذه
الأدلة يتناول المجتهد الميت فلا ريب أن انعقاد الشهرة العظيمة التي
كادت أن يكون إجماعا على خلافه مما يوهن شموله ويقدح في
حجيته فيجب الرجوع إلى المجتهد الحي تحصيلا للبراءة اليقينية
الثاني الاجماع المنقول على المنع حكاه غير واحد من أصحابنا وهو
حجة في مثل المقام على ما مر تحقيقه لسلامته عما يوجب الوهن فيه
فإن الغالب تطرق الوهن إليه من جهة وضوح الخلاف وقد مر أن
الخلاف في المسألة شاذ جدا فيحصل الوثوق بالنقل المذكور ويمكن
التمسك أيضا بالشهرة بناء على حجيتها كما ذهب إليه جماعة فإن
هذه الشهرة من أظهر أفرادها وأجلاها لقربها من الاجماع لكن قد مر أن
المختار عدم حجيتها ولهذا لم نذكرها في عداد الأدلة و
العجب من الفاضل المعاصر أنه مع مصيره إلى حجية الشهرة و
الاجماع المنقول ذهب في المقام إلى الجواز وأجاب عن الاحتجاج
بهما
بوجوه منها أن غاية ما يستفاد من الشهرة والاجماع المنقول الظن
بعدم الجواز وقاعدة انسداد باب العلم برهان قطعي على الجواز فلا
يجوز تخصيصه بالظن ولو سلم أن القاعدة المذكورة ظنية فالظن
المستفاد منها أقوى من الظن الحاصل من الشهرة والاجماع المنقول
فيجب تقديمه عليه أقول أما الأول فسيأتي بيان ما فيه عند بيان
الاحتجاج بالقاعدة المذكورة وأما الثاني ففيه أن القاعدة المذكورة إن
كانت ظنية فإثبات حجية الظن بها واضح البطلان ومنها أن دعوى
الاجماع في المسائل الأصولية سيما مثل هذه المسألة في غاية البعد
لعدم تداولها بين أصحاب الأئمة وإنما هي من المباحث الحادثة أقول
كثير من المسائل الأصولية مشتركة الحاجة بيننا وبين الموجودين
في زمن الأئمة كحجية الكتاب وخبر الواحد والاستصحاب وأصل
البراءة وغير ذلك فاستبعاده انعقاد
الاجماع على المسائل الأصولية بقول مطلق مقطوع الفساد لان
الحاجة إلى العمل بالأحكام تمس إلى البحث عن الطرق المقررة إليها
لتعذر معرفتها بطريق القطع غالبا وهذا أمر مشترك بيننا وبين أكثر أهل
تلك الاعصار لا سيما عند اشتداد أمر التقية وتعذر الوصول
إلى الامام كما كان يتفق في حقهم غالبا ولا خفاء في أن أخذ الاحكام
من العالم بها بطريق التقليد ليس من الأمور الحادثة في الاعصار
المتأخرة بل كان متداولا في زمن الأئمة كما اعترف به الفاضل المذكور
وغيره ويدل عليه الأخبار الواردة في باب التقليد كما عرفت
ولا ريب أن هذه المسألة من الجزئيات الظاهرة لتلك المسألة بل لا
يبعد دعوى عموم البلوى بمعرفتها لكثرة المقلدين في تلك الأزمان
ووقوفهم كثيرا على فتوى الأموات فإن زماننا وزمانهم متقاربان في
ذلك وحينئذ فأي بعد في اتفاق أهل تلك الاعصار على المنع من
تقليد الأموات بحيث يستكشف به عن قول رئيسهم حتى يتجه تطرق
المنع إلى الوثوق بنقل ناقله ومنها المنع من حصول الظن بالاجماع
المنقول مع حصول الظن من تقليد الميت وهذا الوجه كما ترى يجري
في جانب الشهرة أيضا وكأنه ترك التصريح به للوضوح وفيه أنه
إن كان وجه المنع أن دليل حجية ظن العامي وإن كان من قول الميت و
هو قاعدة انسداد باب العلم أقوى من الشهرة والاجماع المنقول
على عدم الحجية فلا يحصل الظن بهما فسيأتي الكلام فيه عند بيان
الاحتجاج بالقاعدة المذكورة وإن كان الوجه تنافي الظنين في
نفسهما فضعفه ظاهر لتغاير موضوعهما فإن الظن بإصابة الطريق
419

لا ينافي في القطع بعدم جواز التعويل عليه فضلا عن الظن به الثالث
أن التقليد على ما مر عبارة عن الاخذ بما هو قول المفتي ورأيه و
هو إنما يصدق حقيقة مع ثبوت الرأي حال الاخذ ضرورة أن المقيد
يزول بزوال قيده أ لا ترى أنه لا يصدق أخذ مال زيد إلا على أخذ ما
هو ماله حال الاخذ لا ما كان ماله قبل ذلك ونحو ذلك ولهذا لا يجوز
الاخذ بما رجع عنه المفتي فإن الوجه فيه عدم صدق الاخذ بفتواه
حينئذ حقيقة وثبوت رأيه الثابت حال الحياة بعد زوالها ممنوع من
وجهين الأول أن طريق إثباته منحصر في الاستصحاب وهو لا
يجري في المقام لتغير الموضوع فإنه كان في حياته لاحقا له وهو نوع
مخصوص أعني كونه إنسانا وبعد الموت يزول عنه هذه الحقيقة
ويصير حقيقة أخرى لزوال الحيوانية التي كانت من مقومات حقيقة
الانسانية عنه فلا يقصر هذا التغير عن التغير الحاصل في سائر
أنواع الاستحالة فإذا ثبت تغير الموضوع فلا سبيل إلى استصحاب
وصفه الثابت قبل التغير الثاني أن أكثر معتقدات المجتهد ظنية وبعد
الموت لا يبقى له الظن لان الظن من خواص هذه النشأة بل إما أن يصير
جاهلا بالحكم بالكلية أو ينكشف له الواقع ويعلم بحقيقة الحال
إما مطابقا لما ظنه أو مخالفا له وكيف كان فلا يبقى له الظن الذي علم
بثبوته في حال الحياة والعلم الطاري كما يحتمل الموافقة لظنه
السابق كذلك يحتمل المخالفة له ولا سبيل للمقلد إلى تعيينه فلا
يمكنه تقليده لعدم طريق له إلى معرفة رأيه الفعلي ويشكل بأن دعوى
زوال ظنون المجتهد بمجرد الموت وانكشاف واقع الاحكام له به مما
لا قاطع عليه من عقل ولا نقل فيتوجه عليه المنع نعم ينكشف ذلك
له في القيامة لكن البحث في تقليده قبل قيامها سلمنا لكن الاعتقاد
الراجح المتحقق في ضمن الظن مما يمكن بقاؤه بموافقة العلم الطاري
له فيستصحب بقاؤه لعدم القطع بزواله إذ التقدير تجويز موافقة
علمه لظنه وزوال تجويز النقيض ولا يقدح في حجيته لان حجية
الظن باعتبار ما فيه من الاعتقاد الراجح دون تجويز النقيض لا يقال
الاعتقاد الراجح جنس للعلم والظن يتقوم في الوجود بما فيهما من
فصل المنع من النقيض وتجويزه فإذا ثبت زوال الفصل ثبت زوال
الجنس لامتناع بقاء الشئ عند انتفاء ما يتقوم به فثبوته في ضمن
العلم الموافق للظن المتقدم عليه ثبوت حدوث لا استمراري فلا
يمكن
إثباته حينئذ بالاستصحاب بل قضية الاستصحاب حينئذ نفيه لأنا
نقول العبرة في البقاء والحدوث في الاستصحاب إلى الظواهر العرفية
دون التدقيقات الحكمية ولا خفاء في أن الاعتقاد المانع من النقيض
عرفا هو الاعتقاد الغير المانع السابق عليه مع زيادة قوة أثرت فيه
المنع فحكمه حكم اللون الضعيف إذا تكامل واعتراه الشدة فإن
العقل وإن قضى فيه بزوال الضعيف بالكلية وحدوث الشديد مكانه
لكن
أهل العرف لا يساعد أفهامهم على ذلك بل يرون الشديد هو الضعيف
السابق مع لحوق تكامل وشدة به ويزعمون بقاء ذات الضعيف
في ضمن الشديد ولا ريب أن حجية الاستصحاب بجميع أنواعه
سمعية وإن عاضده العقل في البعض فيجري حيثما يحكم بوحدة
الشئ
في الحالين عرفا وإن تعدد عقلا ولقائل أن يقول إنما يجدي هذا البيان
في استصحاب الاعتقاد إذا ثبت كون الطاري بعد زوال تجويز
النقيض هو المنع من النقيض لامتناع تحقق الاعتقاد بدونهما عقلا و
عرفا وأما مع عدم ثبوته فلا إذ كما أن الأصل حينئذ بقاء الاعتقاد
كذلك الأصل عدم حدوث ما لا يبقى بدونه أعني المنع من النقيض
فيتعارض الأصلان ويتساقطان ولا يقدح العلم بتحقق منع من النقيض
لان الكلام في ثبوت منع خاص مقوم للاعتقاد السابق وهو غير معلوم
قطعا فإن الاستصحاب لا ينتقض باليقين الاجمالي في غير ما قام
دليل على انتقاضه به سلمنا لكن المفتي قاطع بالأحكام من
حيث الظاهر وإن كان ظنا بأكثرها من حيث الواقع ومبنى الفتوى على
القطع ومرجع التقليد إليه وهو مما يمكن بقاؤه بعد الموت
فيصح أن يستصحب للشك في زواله إذ التقدير عدم العلم بمخالفته
للواقع والقطع بزوال طريق خاص أعني الظن بالواقع لا يقدح في
بقاء العلم بالمؤدى لجواز قيام طريق آخر مقامه فإن العلم بالشئ لا
يختلف باختلاف الطرق الموصلة إليه والسر في ذلك أن الطريق
سبب إعدادي للعلم والأسباب الاعدادية يجوز أن يتعدد ويقوم
بعضها مقام بعض ويمكن دفعه بمثل ما مر فإن بقاء العلم السابق
مشروط بموافقة الطريق الحادث له فكما أن الأصل بقاء الأول كذلك
الأصل عدم حدوث الثاني سلمنا لكن لا نسلم أن التقليد عبارة عن
الاخذ بما هو فتوى الفقيه حال الاخذ بل عبارة عن الاخذ بما هو فتواه
ولو قبل الاخذ مجازا أو اصطلاحا لان النزاع معنوي لا لفظي و
زوال القيد إنما يوجب زوال وصف التقييد لا زوال ذات المقيد وعدم
جواز التقليد بما رجع عنه المفتي للاجماع فيقتصر على مورده
سلمنا لكن المفتي قد يكون قاطعا بالحكم الواقعي في حياته والدليل
المذكور إنما يمنع من التقليد في ظنياته ولا سبيل هنا إلى التمسك
بعدم القول بالفصل لانعكاسه من الجانبين ومما حققنا في المقام
يظهر الحال فيما لو علم المقلد بأن مفتية في مسألة معينة بحكم
مخصوص ثم علم بأنه قد قطع بعد ذلك فيها ولم يعلم بما ذا قطع و
كذا لو علم بأنه ظن ظنا أقوى من ظنه السابق أو قطع قطعا أقوى من
قطعه السابق بناء على أن الضعيف والقوي متغايران بالنوع ولم يتعين
عنده المورد الرابع أن المجتهد الحي أقرب في الظاهر إلى
420

الاحكام الواقعية من المجتهد الميت فيتعين الرجوع إليه أخذا بأقرب
الامارتين والدليل على كونه أقرب إلى الإصابة أمران الأول أن
الحي يقف غالبا على ما وقف عليه الميت مع زيادة لم يبلغ إليها نظر
الميت فإن العلم يتكامل بتمادي الاعصار وبتلاحق الأفكار فيكون
أقرب إلى الإصابة الثاني أن المجتهد الميت إذا كان مخطئا لم يكن في
حقه الرجوع والاعلام به بخلاف الحي فإنه إذا أخطأ أمكن في حقه
الرجوع إلى الحق والاعلام به فكان أقرب إلى الحق من الميت ويمكن
دفع الأول بمنع الكلية فإن المجتهد الميت قد يكون أفضل من
المجتهد الحي وأحوط منه بالمدارك وأعرف منه بوجوه الاستدلال
فيصل إلى ما لا يصل إليه الحي والثاني بالنقض بصورة الإصابة فإن
الميت حينئذ أبعد من الخطأ لعدم إمكان الرجوع في حقه بخلاف
الحي فإنه قد يعدل عنه لشبهة يصادفها هذا مع أن حجية التقليد
تعبدية
وليست دائرة مدار الظن فلا يجب تجري الأقرب إلى الواقع الخامس
أن المفتي إذا مات سقط اعتبار قوله بدليل أن الاجماع ينعقد على
خلافه ويضعفه أن عدم اعتبار قوله في انعقاد الاجماع لا يوجب
سقوطه بالكلية حتى بالنسبة إلى جواز التقليد إذ لا ملازمة بين الامرين
مع أن هذا لا يستقيم على طريقة أصحابنا في الاجماع من أنه الاتفاق
المشتمل على قول المعصوم عليه السلام أو الكاشف عنه إذ لا يعتد
على الأول بقول معلوم النسب مع حياته أيضا ولهذا لا يقدح مخالفته
فيه وعلى الثاني لا يعتد بقول من يحصل الكشف بقول غيره مطلقا
ولو قرر الدليل بأن الاجماع قد ينعقد على خلاف قول الميت فيكون
قوله معلوم البطلان من الدين والعامي لا خبرة له بمواقع الاجماع
فقد يؤدي تقليده للأموات إلى التقليد في أمر معلوم البطلان فيجب
عليه التحرز عن ذلك لكان أولى ومع ذلك فهو كما ترى وقد يستدل
على المنع بوجوه أخر ضعيفة لا جدوى في التعرض لها حجة القول
بجواز
تقليد الميت أمور منها الأصل ومرجعه إلى استصحاب جواز تقليده
الثابت حال الحياة وهذا قد يعتبر وصفا للمفتي نظرا إلى كونه ممن
ثبت جواز تقليده حال الحياة فيستصحب وقد يعتبر وصفا لقوله نظرا
إلى كونه مما ثبت جواز التقليد فيه حال الحياة فيستصحب وحيث
إن الوصف الأول من عوارض النفس والثاني من عوارض القول القائم
بها لم يلزم من انعدام الحياة انعدام موضوع الحكم لينافي جريان
الاستصحاب والجواب أن القدر الثابت في حياته هو جواز تقليد
معاصريه له لامتناع تحقق الجواز في حق المعدومين فيمتنع
الاستصحاب لتعدد الموضوع ولو قرر الاستصحاب في الحجية أعني
كونه بحيث يجوز العمل به عند تحقق الشرائط جاز ثبوته في حق
المعدومين إلا أن مجرد الجواز لا يكفي في الحكم بالثبوت فإن الأدلة
إنما تساعد على الاثبات في حق المعاصرين فقط ولو اقتصر في
التمسك بالأصل على إثبات الجواز في حق من عاصر المجتهد ثم أراد
تقليده بعد موته لدفعناه بأن الاحكام اللاحقة لموضوعات خاصة
باعتبار كونها موضوعات خاصة لا تستصحب بعد زوالها كما مر
تحقيقه في محله ولا خفاء في أن الآيات والأخبار الدالة على المقام
إنما تدل على جواز تقليد الحي فتختص موردها بحالة الحياة فلا
تستصحب إلى حال الموت والاجماع الثابت هنا إما كاشف عن صحة
تلك الظواهر أو مستندة إليها فلا يزيد مفاده على مفادها ومثله الكلام
في الضرورة والضرورة إلى التقليد إنما ينهض حجة إذا قطعنا
النظر عن تلك الأدلة لابتنائها على انسداد باب العلم وأما مع انفتاحه
بقيام تلك الأدلة فلا سلمنا لكن الشهرة العظيمة المؤيدة بالاجماع
المنقول المعتضدة بأصالة الاشتغال قد قدحت في التعويل على
الأصل هنا فلا سبيل إلى التمسك به مضافا إلى ما مر ذكره آنفا في
الدليل
الثالث وبهذا يظهر الجواب أيضا عن ظاهر بعض الروايات
الدالة على جواز الاخذ بقول الميت قد مر التنبيه عليه عند بيان حجية
فتوى المجتهد ومنها ما ذكره بعض المعاصرين من أن قول الميت
مفيد للظن في حق العامي وكل ما يفيد الظن في حقه فهو حجة أما
الصغرى فمعلومة بالوجدان وأما الكبرى فلأنها قضية انسداد باب
العلم في حقه مع علمه ببقاء التكليف بالأحكام أقول جواز تقليد
العامي في الجملة أمر معلوم بالضرورة من المذهب بل من الدين
كسائر
الاحكام الضرورية لتحقق موجبها من جريان طريقة السلف والخلف
من العالم والجاهل والشريف والوضيع عليه لمسيس حاجتهم إليه
وتوفر دواعيهم عليه وإنكار بعض من لا يعتد به له لا يقدح في كونه
ضروريا لان إنكارهم مستند إلى شبه واهية وقد اتفق مثله
لجماعة من المنتسبين إلى الاسلام حيث أنكروا ثبوت التكاليف
الشرعية في حق الواصلين إلى درجة اليقين لشبه فاسدة خالجت
أوهامهم
فكما أن إنكارهم ذلك لا يقدح في ثبوت التكاليف في حق الكل
بالضرورة فكذلك إنكار البعض لجواز التقليد لا يقدح في ثبوته
بالضرورة ثم وظيفة المقلد أولا إنما هو الرجوع إلى من يعلم بجواز
الرجوع إليه ولو بطريق الضرورة كالمجتهد المطلق الأفضل
الأورع الحي المتذكر لمستند فتواه المعلوم اجتهاده وعدالته و
أفضليته بالتواتر أو بالخبر المحفوف بقرائن الصدق أو بالمعاشرة
الكاشفة عن ذلك فإن جواز التعويل على مثله في الاحكام معلوم أيضا
بالضرورة والمراد بالمجتهد كل متمكن من معرفة الاحكام عن
الطرق المقررة بوجه يعتد به في عرف العلماء سواء سمي أصوليا
421

أو أخباريا والغالب وجوده وتمكن العامي من معرفته والعلم به بل
حصول العلم بذلك للعوام في غاية السهولة جدا فإنا نراهم يسكنون
في مثل ذلك إلى إخبار جماعة يثقون بهم من أهل الخبرة لا سيما مع
مساعدة بعض الامارات الخارجة عليه ولا يجوز له الرجوع إلى من
لم يجتمع فيه الصفات المذكورة حيث لا نقطع بجواز الرجوع إليه إلا
بتقليد من اجتمعت فيه الصفات حتى إنه لا يجوز له الرجوع إلى
الأفضل الأعدل الغير المتذكر لمستند الفتوى إلا بعد الرجوع إليه في
جواز الاخذ منه مع عدم التذكر للمستند لم يقطع المقلد بعدم
اعتبار هذا القيد فيعتبر أن يكون متذكر المستند هذه الفتوى
بالخصوص في جواز الرجوع إليه نعم قد يسبق إلى ذهن المقلد شبهة
يقدح في وضوح بعض المقدمات المذكورة عنده أو يقع الاختلاف
في تعيين المجتهد أو الأعلم أو الأورع فيتعين عليه تحصيل العلم به
مع
الامكان تحصيلا للبراءة اليقينية ومع تعذره يعول على الظن بذلك
على الوجه الآتي فسقط مما حققناه ما زعمه بعض المعاصرين من
انسداد طريق العلم على المقلد بالكلية لعدم علمه بجواز التقليد ولا
بمن يجوز تقليده من الأصولي والأخباري والمطلق والمتجزي و
الحي والميت ومن جدد النظر في الواقعة أو اكتفي باستصحاب
الاجتهاد السابق فيتعين عليه التعويل على الظن كالمجتهد وذلك لما
عرفت من قضاء الضرورة بجواز تقليد المجتهد المطلق الأفضل الأورع
المتذكر لمستند الفتوى وأن المراد بالمجتهد هو المتمكن من
معرفة الاحكام عن مداركها على وجه يعتد به في عرف العلماء أصوليا
كان أو أخباريا وعرفت أن الغالب وجوده في كل عصر ويمكن
المقلد من العلم به والرجوع إليه فلا يتم فرض انسداد باب العلم في
حق المقلد غالبا حتى يدعى انفتاح باب الظن عليه سلمنا لكن قضية
انسداد باب العلم على المقلد جواز تعويله على قول من يظن جواز
التعويل على قوله لعلمه بأنه مكلف بالأحكام
بطريق مخصوص وبعبارة أخرى يعلم بأنه مكلف بمؤدى طريق
مخصوص فوظيفته التعويل على الظن في معرفة ذلك الطريق دون
تقليد من يفسد قوله الظن بالحكم كما زعمه الفاضل المذكور وقد مر
تحقيق ذلك في بحث خبر الواحد مع أن قضية كلامه عدم جواز
تقليد الميت مع عدم حصول الظن بقوله وهذا التفصيل مما لم يذهب
إليه ذاهب على الظاهر نعم لو فرض حينئذ ظن المقلد بجواز تقليد
من يفيد قوله الظن بالحكم جاز التعويل عليه من حيث ظنه بالطريق
لكن يكون حينئذ مخطئا في هذا الظن إذ الطريقة المعروفة بين أهل
العلم هو جواز التقليد من حيث التعبد لا من حيث حصول الظن به
فالحكم المذكور إن لم يكن قطعيا لكونه إجماعيا فلا أقل من أن يكون
مظنونا لكونه مشهورا فكيف يحصل الظن بخلافه ومنها أن التقليد إنما
شرع للاستكشاف به عن الحكم الشرعي من حيث إنه تعويل
على قول من يتتبع الأدلة وعرف مفادها حال كونه ممن له أهلية ذلك
وهذا مما لا يعقل لبقاء حياة المتتبع وعدمه مدخل فيه فينتقح
المناط ويثبت الجواز في الحالتين وأيضا إذا ثبت أن ما أدى إليه نظر
المفتي هو الحكم الشرعي وإن كان بالنظر إلى الظاهر لزم
ثبوته مطلقا فإن حكم الله في الأولين والآخرين سواء ولأنه لو ارتفع
عند موت المفتي لاحتياج إلى رافع شرعي فيكون ناسخا له وهو
باطل إذ لا نسخ بعد النبي صلى الله عليه وآله اتفاقا والجواب أما عن
الأول فبمنع وضوح المناط لا سيما بعد وجود الفارق الذي ذكرناه
عن إحاطة المتأخر غالبا بما لا إحاطة للمتقدم به وأما عن الثاني فبأن
الأولين والآخرين إنما يتساوون في الاحكام الواقعية دون
الظاهرية كما يشهد به اختلاف الاحكام الثابتة في حق المختلفين في
الاجتهاد ومقلديهم وأما عن الثالث فبأن جواز تقليد المفتي
مشروط ببقائه فزواله بزواله لا يكون نسخا كما في انتفاء كل حكم
مشروط بزوال شرطه واعلم أن ما
قررناه من المنع من تقليد الميت إنما هو في تقليده الابتدائي كما هو
الظاهر وإليه ينصرف إطلاق كلام المانعين وأما استدامة تقليده
المنعقد حال حياته إلى حال موته فالحق ثبوتها وفاقا لجماعة للأصل
لثبوت الحكم المقلد فيه قبل موته فيستصحب إلى ما بعده ولظاهر
الآيات والأخبار الدالة على جواز التقليد فإن المستفاد منها ثبوت
الحكم المقلد فيه في حق المقلد مطلقا إذ لم يشترط في وجوب الحذر
بقاء المنذر والمستفاد من الامر بمسألة أهل الذكر التعويل على قولهم
وقضية إطلاقه عدم الفرق بين بقائهم بعد التعويل على قولهم و
عدمه وكذلك الكلام في البواقي ولما في الالزام باستيناف التقليد من
الجرح أو الضيق على المقلدين لكثرة ما يحتاجون إليه من
المسائل لا سيما مع تقارب موت المفتين وذهب بعض أفاضل
معاصرينا إلى بطلان التقليد بموت المفتي واحتج عليه بأن التقليد لا
يفيد
معرفة الحكم الشرعي في حق المقلد وإنما يفيده جواز العمل به
بالنسبة إلى الوقائع الخاصة التي يلتزم فيها به فيكون التقليد بالنسبة
إلى كل واقعة تقليدا ابتدائيا ويمكن أن يستدل عليه أيضا بإطلاق
كلامهم في المنع من تقليد الميت وفي نقل الاجماع عليه فإنه يتناول
التقليد الابتدائي والاستدامي والجواب أما عن الأول فبأن المستفاد
من آيات المقام وأخباره جواز التقليد في معرفة الأحكام الشرعية
بقول مطلق فيستلزم ثبوتها في حق المقلد بقول مطلق وهذا أيضا هو
الظاهر من الاجماع والضرورة القائمين على جواز التقليد وأما
قضية انسداد باب العلم
422

فهي وإن أمكن نهوضها بضميمة أصل العدم على ما ذكره القائل
المذكور لكن قد عرفت عدم ثبوته لقيام غيره من الأدلة على جواز
التقليد وأما عن الثاني فبما عرفت من أن إطلاق المنع من تقليد الميت
ينصرف إلى التقليد الابتدائي دون الاستدامي وهو ظاهر ولو
تسافل المجتهد عن الاجتهاد أو صار مجنونا مطبقا ففي إلحاقه بالميت
في الحكم السابق وجهان أظهرهما ذلك لعموم بعض الأدلة
السابقة وأما الجنون الأدواري والسكر والاغماء فلا يقدح في جواز
التقليد مطلقا على إشكال في الأول ثم اعلم أن بعض المتأخرين قد
توهم في المقام تفصيلا ركيكا فذهب إلى أن الفقيه الجامع للشرائط
المعتبرة إن اقتصر في الفتوى على محكمات الكتاب والسنة جاز
تقليده بعد موته كما يجوز في حياته وإلا لم يجز الرجوع إليه بعد موته
واستدل على الأول بأن فتواه على الفرض المذكور تكون من
قبيل نقل الرواية بالمعنى وحجيته غير منوطة ببقاء الراوي لاطلاق
الامر بقبول رواية رواتهم والرجوع إليهم وبأن عدم قبولها منه رد
عليه وقد ورد أن الراد عليه كالراد عليهم وبأن أصحابنا الذين تأخروا
عن علي بن بابويه كانوا يرجعون إلى فتاويه عند إعواز
النصوص وذلك لما ظهر لهم من حاله من عدم تخطئة في الفتوى
عن محكمات الاخبار فكانوا ينزلون فتاويه منزلة الرواية ويعملون
بها هذا محصل ما نقل عنه وفساد هذا القول بمكان من الظهور وما
تمسك عليه من الوجوه بمحل من القصور أما الأول فلان ظواهر
الآيات والأخبار الدالة على حجية خبر الواحد على الاطلاق معارضة
بمنطوق آية النبأ المفيدة بعد ضميمة الأصل لعدم قبول خبر من لم
يعلم عدالته ولو بطريق علم اعتبارها شرعا والجمود عليه في مبحث
الاخبار يوجب ترك العمل بكلها أو جلها وتنزيلها على وجه
يجامع حجية أكثر الاخبار ليندفع بها الضرورة مما لم يقم عليه آية ولا
رواية
محكمة الدلالة فإن تمسك في ذلك بالاجماع فانتفاؤه في المقام
واضح فإن لفقهائنا العاملين بأخبار الآحاد في تعيين ما هو الحجة منها
آراء مختلفة ومذاهب متشعبة فقد ذهب بعضهم إلى حجية ما كان
منها محفوفا بأمارات الوثوق مطلقا وبعضهم إلى حجية الخبر الصحيح
الذي قد زكي رواته عدلان وآخر إلى حجية مطلق الصحيح وتسرى
بعضهم إلى القول بحجية الحسن وآخر إلى الموثق وآخر إلى
المنجبر بالشهرة وآخر إلى مطلق الاخبار الموجودة في الكتب الأربعة
إلى غير ذلك من الأقوال ثم لهم في معرفة الرجال وفي وجوه
التعادل والتراجيح أيضا مذاهب عديدة وبالجملة فوجود أسباب
الاختلال في هذا المجال وانتفاء دليل قاطع الاحتمال على أحد هذه
الأقوال مما لا يعتريه أثر الانكار والاشكال فاتضح أن محكمات السنة
ليست بمعلومة الحجية على الاطلاق فلا يصح له ولا لمقلده
الاعتماد على ما ينقله الفقيه الميت منها بالمعنى بل التحقيق أن
المقلد لما كان عالما باشتغال ذمته بالأحكام الشرعية وبأخذها بطريق
التقليد لقيام الاجماع عليه والضرورة لزم العمل بما يوجب البراءة
اليقينية وليس إلا الرجوع إلى قول الحي لاتفاق الكل ببراءته حينئذ و
أما الثاني فلان مورد الرواية رد الحكم دون الفتوى والفرق بينهما ظاهر
ولو سلم التعميم فالمقصود تعين العمل بقول الحي وهو لا
يستلزم الرد على غيره ولو فسر الرد بمجرد عدم الاخذ به لزم
المحذور على تقدير جواز الاخذ بقول الميت أيضا لاستلزامه عدم
الاخذ
بقول الحي فلا بد من تخصيص عمومه بأحدهما ولا مرجح في اللفظ
فيسقط الاحتجاج وإن رجع إلى المرجحات الخارجية فهي إنما
تساعد على الوجه المختار وأما الثالث فلان أخذهم بفتاوي علي بن
بابويه مما يمكن أن يكون فيما ثبت التسامح فيها من المندوبات و
المكروهات فلا يدل على المدعى ولو سلم التعدي إلى غيرها
فالمنقول قول جماعة ولا حجية فيه فإن الذي يظهر من طريقة
الأكثرين
كالفاضلين
والشهيدين وأضرابهم عدم الالتفات إلى ذلك مع أن المنقول منهم
الاعتماد على فتواه عند إعواز النصوص خاصة فلا يدل على جوازه
مع
عدم الاعواز كما هو الغالب في محل البحث ومنها أن لا يكون مجتهد
آخر أفضل منه في الفقه والورع فلا يجوز تقليد المفضول في ذلك
مع إمكان الرجوع إلى الأفضل وقد نسبه بعضهم إلى الأصحاب مدعيا
عليه الاجماع ويدل عليه بعد الأصل ظاهر مقبولة عمر بن حنظلة
الآتية في اختلاف الحاكمين فإن فيها الحكم ما حكم به أعدلهما و
أفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما حكم به
الاخر فإن ظاهرها عدم الاعتداد بحكم الاخر مطلقا فيدل على عدم
جواز التعويل على فتواه إما لأنها داخلة في إطلاق الحكم أو لعدم
ثبوت قائل بالفرق بين الحكم والفتوى فيتم المنع فيها بالاجماع
المركب وإن العدول عن الأفضل إلى المفضول عدول عن أقوى
الامارتين إلى أضعفهما وهو غير جائز وإن من أدلة جواز التقليد
الاجماع والضرورة وهما لا ينهضان إلا على جواز تقليد الأفضل و
يشكل بمنع الاجماع لا سيما بعد تصريح جماعة بالجواز والأصل
مدفوع بعموم آيات المقام ورواياته فإن المستفاد منها عدم تعيين
الأفضل فيتخير بين تقليده وتقليد المفضول والرواية المذكورة بعد
تسليم سندها واردة في صورة التعارض في الحكم فلا تدل على
عدم الاعتداد بفتواه مطلقا فإن الحكم المذكور في الرواية غير الفتوى
كما يشهد به سياقها والاجماع المدعى على عدم الفرق ممنوع و
حجية التقليد تعبدية وليست منوطة بالظن فلا يقدح قوة الظن في
فتوى الأفضل مع أنها على إطلاقها ممنوعة فإن
423

قد يقف على مدارك الفريقين فيترجح في نظره فتوى المفضول و
الحجة على جواز التقليد لا ينحصر في الاجماع والضرورة فلا يثبت
المنع بمجرد عدم قيامهما على جواز تقليد المفضول مع قيام غيرهما
عليه كما عرفت على أن الظاهر من المانعين على عدم جواز
الرجوع إلى المفضول مع إمكان الرجوع إلى الأفضل ولو بالرجوع إلى
من يروي عنه الفتوى وهذا يؤدي إلى عدم جواز التعويل على
فتوى أحد في زمن المعصوم وما قاربه مع إمكان الرجوع إلى الرواية
عنه بطريق الأولوية فيجب على المفتي حينئذ العدول عن ذكر
الفتوى إلى نقل الرواية عند حاجة المستفتي ولا قائل به ظاهرا ورواية
أبان بن تغلب السابقة كالصريح في نفي ذلك والسيرة
المستمرة شاهدة على بطلانه مع ما في تعيين الأفضل من الضيق
القريب من الجرح وبهذه الوجوه يمكن القدح في كون الشهرة المدعاة
في المقام قادحة في عموم الأدلة فالقول بالجواز إذن أوضح وإن كان
المنع أحوط وقد يخص المنع ببلد الأفضل ووجهه غير ظاهر
لامكان الاطلاع على فتاوي غير الحاضر بالرجوع إلى النقلة عنه وإلى
كتبه التي حررها لبيان فتاويه نعم يتجه ذلك في الحكومات
لتعذر وصول غير أهل بلده إليه غالبا مع ما في تأخير الحكومة إليه من
الضرر المنفي وكذلك الولايات حيث لا يوجد منه منصوبة على
إشكال في ترجيح منصوبة على تقدير وجوده لا سيما إذا لم يكن أورع
من المفضول ثم على تقدير المنع فهل يمنع من الرجوع إلى
المفضول مطلقا فيلزم المقلد بالتفتيش والاستعلام أو تخصه بما لو
علم بأفضلية البعض وجهان ظاهر الأدلة يقتضي الأول ثم على تقدير
العلم بأفضلية البعض فهل يمنعه من الرجوع إلى المفضول مطلقا أو
نخصه بما لو علم بمخالفة الأفضل له في الفتوى وجهان أيضا وظاهر
بعض الأدلة المذكورة يقتضي الأول ولو كان أحد المفتيين أفقه من
الاخر والاخر أورع منه فالظاهر التخيير مع احتمال تقديم الأفقه
لان مدخلية الفقه في معرفة الحكم أكثر من مدخلية
الورع فيها وهل العبرة في الأفقه بأن يكون أفقه في أغلب المسائل أو
يكفي كونه أفقه ولو في المسألة التي يرجع فيها وجهان أظهرهما
في كلامهم هو الأول وقضية بعض الوجوه السابقة هو الثاني وعلى
تقديره فالظاهر تعيين الأفقه في البعض بالنسبة إلى البعض الذي
هو أفقه فيه حتى إنه لو كان أحدهما أفقه في مباحث الطهارة والاخر
في مباحث التجارة تعيين تقليد كل منهما فيما هو أفقه فيه وتخير
في الباقي في الرجوع إليهما وإلى من يساويهما فيه ولو كان أحدهما
أفضل في بعض العلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد كالعلوم
العربية وعلم الأصول والرجال فلا يبعد إلحاقه بالأفقه من هذه الجهة
لما فيه من مزيد بصيرة في الفقه ولو كان الاخر أفضل منه في
علم آخر من تلك العلوم لم يبعد الترجيح بزيادة الأفضلية ويكون ما
فيه الأفضلية أدخل في الفقه كالأصول بالنسبة إلى النحو والصرف
وأما العلوم التي لا مدخل لها في الاستنباط كعلم الهندسة والحساب
فلا مدخل لها من حيث نفسها في الترجيح وقد يتحقق الأفضلية في
الفقه باعتبار قوة الحفظ أو الذكاء أو كثرة التأمل أو كثرة الاطلاع أو سعة
الباع في الفكر والتصرف أو اعتدال السليقة أو زيادة
التحقيق أو التدقيق أو أقدمية الاشتغال ومزيد الاستئناس وقد يتحقق
التعارض بين هذه الوجوه والتحقيق أن المرجع في ذلك كله إلى
ما يعد صاحبه أفقه عرفا وضبطه على وجه يستغني معه من الرجوع
إليه متعذر على الظاهر وكذلك الحال في الأورعية فإنها قد يطرد
في جميع الأحوال والأعمال وقد يختلف باختلاف الأحوال و
الأعمال والمرجع إلى ما ذكرناه ولو قلد المفضول ثم وجد الأفضل
ففي
جواز العدول إليه بناء على المنع منه وجهان وكذا لو قلد الأفضل ثم
تسافل فصار مفضولا واعلم أن الشهيد الثاني عد في أول كتاب
القضاء من الروضة في شرائط الافتاء الذكورية وطهارة المولد والنطق
والكتابة والحرية وادعى
الاجماع على الأولين والشهرة على الأخيرين فيمكن أن يريد بالافتاء
القضاء وأن يريد به مطلق الفتوى كما هو الظاهر ثم على التقدير
الثاني فهل يعتبر هذه الشرائط في اعتبار فتواه مطلقا أو بالنسبة إلى
غيره خاصة وجهان أظهرهما الثاني ووجهه ظاهر وأما الشرائط
المعتبرة في الحكم المستفتى عنه فمنها أن لا يكون معلوما للمقلد
بطريق آخر غير التقليد فيه سواء كان معلوما عنده ابتدأ كالاحكام
الضرورية والاجماعية عنده أو لقيام دليل عليه علم بحجيته لا من
جهة التقليد كما في المتجزي الظان بحجية ظنه عند انسداد باب العلم
في ذلك عليه مع علمه حينئذ بوجوب التعويل على الظن أو الشاك
في حجية ظنه مع علمه حينئذ بالتخيير واختياره التعويل على ظنه أو
علم بحجيته من جهة التقليد كما لو قلد في مسألة التجزي من يقول
بجوازه حيث يكون وظيفته التقليد فيه وقد سبق التنبيه على ذلك و
منها أن لا يكون المقلد قاطعا بفساده وقد مر ولا عبرة بظن الفساد و
يلزم القائل بحجية التقليد من حيث إفادته الظن بالحكم اشتراط
عدم الظن بالفساد أيضا بل يلزمه اشتراط الظن به وعليه فلو لم يحصل
له الظن بشئ من فتاوي المفتين لم يجز له العمل بها وهو كما
ترى ومنها كونه من المسائل التي يحتاج إليها في العمل سواء كان من
المسائل المحررة في هذا الفن كمسألة التجزي ومباحث التقليد
أو في غيره كمسائل الفقه ومباحث الأخلاق دون مسائل أصول الدين
ونحوها اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع اليقين نعم لو
استفاد بالتقليد اليقين جاز التعويل عليه في أصول الدين عند البعض و
قد مر الكلام فيه
424

ومنها أن لا يكون مسبوقا فيه بتقليد مفت آخر أما بالنسبة إلى الوقائع
الخاصة التي التزم فيها بتقليده فموضع وفاق على الظاهر ويدل
عليه الأصل وقد سبق تحقيقه في صورة رجوع المفتي وأن جواز
العدول فيها يؤدي إلى اختلال نظام الشريعة إذ يمكن أن يستحل
المقلد بهذه الحيلة ما فوق الأربع والجمع بين الأختين وأن يستحل
جماعة لامرأة واحدة ويستحل امرأة لعدة رجال وذلك بأن يكون
صحة عقد البعض مبنية على تقليد مفت فيرجع عنه في استحلال
الاخر وأما بالنسبة إلى غير تلك الوقائع فمحل خلاف فذهب جماعة
إلى
المنع فيه وربما كان مستندهم أصالة بقاء الحكم المقلد فيه في حقه
لثبوته بالتقليد فيستصحب ولاستلزامه البناء على حكمين في
واقعتين يقطع بفساد أحدهما في إحداهما ولأن آية أهل الذكر دلت
على جواز التقليد عند عدم العلم بالحكم والمقلد عالم به بتقليده
الأول فلا يتناوله عمومها وذهب جماعة على ما قيل إلى جوازه و
تبعهم فيه بعض أفاضل العصر واحتج عليه بأن التقليد لا يفيد المقلد
العلم بالحكم الشرعي وإنما يفيده جواز العمل بالنسبة إلى ما التزم به
فيه من الوقائع الخاصة فيكون التقليد في كل واقعة تقليدا ابتدائيا
فيتخير في الواقعة التي لم يقلد فيها في الرجوع إلى أي مفت شاء لعدم
ثبوت حكم معين في حقه بالنسبة إليها ظاهرا وهذا عندي غير
سديد بل التحقيق أن التقليد لا يكون إلا في الحكم الشرعي بقول
مطلق كما هو الظاهر من أدلته ومما ينبه على ذلك أن التقليد إنما
يتحقق بالأخذ بقول المفتي إذا أخذ على الوجه الذي أفتى به ومن
الواضح أن قضية فتوى كل مفت ثبوت ما يفتي به في كل مورد من
موارد موضوعه لا من حيث خصوصية ذلك المورد بل من حيث
تحقق عنوانه الكلي فيه فإذا أخذ بقوله في مورد بهذا الاعتبار فقد أخذ
به
في سائر موارده حتى إنه لو أخذ بالفتوى في خصوص واقعة ثبت في
حقه
بالنسبة إلى بقية الوقائع التي يماثلها من غير حاجة إلى استئناف تقليد
فيها وألغي اعتباره للخصوصية إن لم يعتبرها شرطا للاخذ وإلا
بطل تقليده لانتفاء ما علقه عليه ولو قلد مفتيين في واقعتين متماثلين
دفعة واحدة بطل تقليده فيهما مع الاختلاف قطعا وربما يلزم على
ما زعمه الفاضل المذكور جواز ذلك لتغاير الموردين وهو كما ترى و
يمكن أن يستدل على القول الثاني بأصالة بقاء التخيير لثبوته
قبل التقليد فيستصحب بعده فيترتب عليه أثره الشرعي من جواز
الاخذ بقول الاخر وبهذا يظهر الجواب عن الحجة الأولى للمنع فإن
أصالة بقاء الحكم المقلد فيه معارضة بأصالة بقاء التخيير وهي
محكمة عليها ويمكن الجواب عن حجته الثانية بأن مبنى التقليد على
الظاهر فلا يقدح العلم الاجمالي بعدم ثبوت أحد الحكمين في إحدى
الواقعتين كما في صورة رجوع المفتي وعن حجته الثالثة بأن أدلة
التقليد لا ينحصر في الآية المذكورة فلا يقدح عدم شمولها للمقصود
على تقدير شمول غيرها له مع أن لنا في دلالة الآية على المقام كلام
سبق التنبيه عليه نعم يشكل التمسك بأصالة بقاء التخيير فيما إذا كان
القول الاخر حادثا بعد التقليد إذ لا يتخير حينئذ قبل التقليد
ليستصحب وأما كونه بحيث لو كان قبل التقليد لخير بينه وبين القول
الاخر فغير كاف في إثبات التخيير بعده لجواز أن يكون لتحققه
قبل التقليد مدخل في ثبوت التخيير إلا أن يدعى القطع بعدم مدخليته
في ذلك وبالجملة فالمسألة قوية الاشكال جدا والاحتياط فيها مما
لا ينبغي أن يترك ومنها أن يعلم كون المفتي مفتيا به بالفعل ولو
بمعونة الاستصحاب فلا يجوز تقليده فيما علم برجوعه عنه والظاهر
أنه موضع وفاق ولا فيما لا يعلم بإعماله النظر فيه وإن علم بأنه إن نظر
فيه كان مؤدى نظره كذا لعلمه بطريقه في الاستنباط إذ لا
عبرة بشأنية الفتوى اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع اليقين وأما
اشتراط العلم بكونه متذكرا لدليل الحكم ولو بالاستصحاب فمبني
على اشتراط الفتوى بتذكر الدليل وقد مر أن المختار عدمه
فصل يعرف اجتهاد المجتهد بالاختبار المفيد للعلم
ويعتبر في المختبر علمه بما يعتبر في الاجتهاد ولو بتقليد من علم
باجتهاده وبشهادة العدلين من أهل الخبرة به أو مطلقا في وجه و
بالاستفاضة المفيدة للعلم أو بدونه بناء على حجيتها كالبينة وبحكم
معلوم الاجتهاد به بناء على تعميم مورد الحكم إلى مثل ذلك كما هو
الظاهر لاطلاق قوله عليه السلام فإني قد جعلته عليكم حاكما وهذه
الطرق كلها في مرتبة واحدة متى تمكن المكلف من تحصيل بعضها
وجب عليه الاخذ به وإذا تعذرت جاز له التعويل على الظن على
التفصيل الآتي لان ذلك قضية انسداد باب العلم عند القطع ببقاء
التكليف
وذهب العلامة في التهذيب إلى جواز الاخذ بقول من يغلب على
الظن اجتهاده مطلقا ووافقه الفاضل المعاصر متمسكا فيه بالأصل إذ
لم
يثبت اشتغال الذمة إلا بالأخذ عمن هو مظنون الاجتهاد لقيام الاجماع
على ثبوت الاشتغال بهذا القدر ومن يدعي الزيادة على ذلك
فعليه بالاثبات لأنه محل النزاع وبلزوم العسر والجرح في اعتبار ما زاد
عليه وكلا الوجهين ضعيف أما الأول فلان النزاع في إثبات
الطريق المعتبر إلى معرفة المجتهد وإلا فالاجماع منعقد على جواز
الرجوع إلى من اتصف بالاجتهاد الواقعي واقعا وعدم جواز
الرجوع إلى من لم يتصف به كذلك وحينئذ فلا سبيل إلى التمسك
بأصالة عدم اشتغال الذمة بتحصيل ما زاد على الظن بالاجتهاد
لانتقاضه بأصالة عدم البراءة مما علم اشتغال الذمة به واقعا من
الاحكام أو الرجوع إلى المجتهد
425

الواقعي وأما الثاني فلان لزوم العسر والجرح منفي في المقام بأن
الغالب إمكان معرفة المجتهد بأحد الطرق القطعية وفرض تعذر
تلك الطرق بالكلية بالنسبة إلى جميع مجتهدي العصر بعيد وعلى
تقدير ثبوته لا نتحاشى عن التزام جواز العمل بالظن حينئذ مع تعذر
الرجوع إلى فتوى الميت المعلوم اجتهاده وأما مع إمكانه فوجهان و
لعل أظهرهما العدم وحيث يعول على الظن فلا بد من تقديم الأقوى
ظنا فالأقوى مع تعدد المفتين ويتخير مع التساوي وذهب بعض
أصحابنا إلى الاكتفاء بدعوى المدعي للاجتهاد مع عدالته والذي
يصلح
مستندا له أمور منها أن الاجتهاد من الملكات النفسانية الخفية التي
صاحبها أدرى بها من غيره فينبغي التعويل في ثبوتها على دعواه كما
يعول عليه في نظائره كاحتلام الصبي وحيض المرأة وطهرها وأمثال
ذلك وجوابه بالمنع من كونه من الأمور الخفية أما بالنسبة إلى
العارف فظاهر لتمكنه من الاستكشاف بالمعاشرة وأما بالنسبة إلى
غيره فلتمكنه من الرجوع إلى العارفين ولو سلم فكلية الكبرى
ممنوعة إذ ثبوت حكمها في الأمثلة المذكورة لا يفيد الاطراد ومنها
آية الانذار فإنها تتناول الانذار بطريق الرواية والفتوى ولم
يشترط في القبول العلم ببلوغهم درجة الاجتهاد إذ المراد بالتفقه إنما
هو تعلم المسائل الشرعية لا تحصيل ملكة استنباط الفروع من
الأصول كما هو معناه المصطلح عليه بين القوم لأنه متأخر قطعا نعم لو
علم بعدم بلوغهم درجة الاجتهاد أو لم يظن به في وجه لم يقبل
لقيام الاجماع عليه وجوابه أن التفقه عبارة عن تحصيل الفقه وهو إما
بطريق التقليد أو الاجتهاد والأول خارج عن محل البحث إذ ليس
الكلام في فتاوي المقلد والثاني يتوقف على ثبوته وجواز التعويل فيه
على مجرد دعواه في ذلك مما لا يستفاد من الآية وأما تعلم
الاخبار وضبطها فلا يعد تفقها إلا في حق من يجوز له العمل بها وهو
المجتهد إذ ليس لغيره العمل بغير القطعي منها والقطعي
نزر قليل ومنها آية أهل الذكر ووجه دلالتها أنه تعالى أمر بمسألة أهل
الذكر ولم يشترط فيه بشئ خرج ما خرج منه بدليل وبقي في
ما بقي صورة ما لو ادعى الاجتهاد ولم يقطع بفساد دعواه مع العدالة
أو لم يظن به في وجه إذ لا دليل على خروجه وجوابه بعد تسليم
شمول الآية لمحل البحث أنها إنما يفيد جواز الرجوع إلى أهل الذكر
فلا بد من ثبوت كون المسؤول منهم في جواز الرجوع إليه والمفتي
إنما يثبت كونه من أهل الذكر إذا ثبت كونه مجتهدا فإذا توقف ثبوت
كونه مجتهدا على ثبوت كونه من أهل الذكر لزم الدور ومنها آية
النبأ فإنها تدل بإطلاقها على قبول بناء العدل فيما لو أخبر عن اجتهاد
نفسه وقد تقدم المنع من دلالة هذه الآية على قبول خبر العدل في
مبحث خبر الواحد فلا نطيل بإعادته
فصل إذا قلد المقلد من ثبت عنده جواز تقليده في جواز الرجوع إلى
مفت جاز له الرجوع إليه
وإن كان من مذهبه عدم جواز الرجوع إليه فمن قلد الأفضل في جواز
الرجوع إلى المفضول مع التمكن من مراجعة الأفضل جاز له
الرجوع إلى المفضول في بقية المسائل مع التمكن وإن كان من مذهبه
عدم جواز الرجوع إلى المفضول حينئذ ومن قلد حيا في جواز
تقليد الميت مع التمكن من تقليد الحي جاز له تقليد الميت في بقية
المسائل وإن كان من مذهبه عدم جواز تقليد الميت حينئذ وذلك
لمغايرة كل من مسألتي جواز تقليد المفضول والميت لبقية المسائل
فيجوز الاخذ فيهما أو في إحداهما بقول الأفضل أو الحي وفي
غيرهما بفتاوي المفضول أو الميت لا يقال إذا كان من مذهب
المفضول أو الميت عدم جواز تقليده مع التمكن من مراجعة الأفضل
أو الحي
كان اللازم من ذلك عدم ثبوت فتاويه بحسب مؤدى نظره في حق من
أراد تقليده لقصره لها في الحقيقة على غيره فإن التقليد عبارة عن
أخذ المقلد بما يثبته المفتي في حقه ويبين له أنه حكمه وبالجملة
فكما أنه إذا أدى نظر المجتهد إلى ثبوت حكم في حق من اتصف
بعنوان مخصوص كالمسافر أو الحاضر أو المختار أو المضطر فلا
يتعدى إلى غير المتصف به ولهذا ليس لغير المتصف به العمل به
حال عدم اتصافه به بتقليده فكذلك إذا أدى نظره إلى ثبوت الاحكام
التي يستفيدها بالاجتهاد في حق العاجز عن مراجعة الأفضل أو
الحي فلا تتعدى إلى غير العاجز عنها وليس له الاخذ بها حال عدم
اتصافه بالعنوان المذكور لأنا نقول إن أريد أن المقلد ليس له تقليد
المفضول أو الميت المانعين من تقليدهما بعد تقليد الأفضل أو الحي
في جواز مراجعتهما حينئذ فهذا فاسد قطعا إذ وظيفة المقلد الاخذ
بقول من ثبت حجية قوله عنده والعمل بما يفتيه له كائنا ما كان ما لم
يقطع بفساده وانتفاء القطع به في المقام واضح وإن أريد منع
الأفضل أو الحي من تجويز
المراجعة إليهما حينئذ فمع كونه خارجا عن محل الفرض إذ الكلام
على تقدير التجويز مدفوع بأن تعيين المفضول أو الميت لحكم
الواقعة ليس بالنظر إلى العاجز عن مراجعة الأفضل أو الحي بل بالنسبة
إلى كل من جاز في حقه مراجعته بقول مطلق لان ذلك مقتضى
نظره في معرفة الحكم الشرعي ومنعه من جواز مراجعة المتمكن
حكم آخر والمقلد لم يتبعه في ذلك بل اتبع فيه من أجاز له المراجعة
إليه وبهذا يتضح الفرق بين حكمه على عنوان كلي باجتهاد وتعيينه له
باجتهاد آخر وبين حكمه على عنوان خاص باجتهاد واحد وهذا
واضح جدا وكذا الحال فيما لو قلد مجتهدا في حياته في جملة من
الاحكام فإنه يجوز له استصحاب تقليده بعد موته إذا قلد فيه حيا أجاز
له ذلك على التعيين أو التخيير ولا فرق في ذلك بين أن يكون من
مذهب الميت
426

تقليده بعد الموت وعدمه ولا في الثاني بين أن يكون قد قلده في
حياته في المنع وعدمه لبطلان تقليده في تلك الواقعة قطعا أما في
القسم الأول فلانه استصحب تقليده فيها بفتواه بالبقاء لزم توقف
الشئ على نفسه أو بالاستصحاب فالعمل به في الاحكام وظيفة
المجتهد دون المقلد كما حققناه في محله وأما في الثاني فلاستلزام
صحته بطلانه فيتعين عليه تقليد الحي فيه فإن أجاز له البقاء على
تقليده كما هو محل الفرض جاز له ذلك في غير تلك الواقعة من
الوقائع المحتملة في الظاهر للبقاء وإن منع منه بطل في الجميع لا
يقال
حكم الحي بالبقاء على جميع فتاوى الميت حكم واحد لا يصلح
للتفصيل وقضية مستنده أيضا ذلك فتقليده فيه يستلزم البقاء على ما
قلده
فيه من المنع من البقاء أيضا فإن التقليد على ما مر في الاحكام العامة
لا في خصوص كل مورد من مواردها لأنا نقول إنما يصح حكم الحي
بالبقاء بالنسبة إلى الاحكام التي يمكن في حقها البقاء إذ تعميمه
الحكم إلى المورد الذي يمتنع فيه البقاء غير معقول فإن قلت
تخصيص
فتوى الحي بالبقاء في غير ما قلد الميت فيه من المنع من البقاء نظرا
إلى لزوم التدافع فيه مع أن قضية كل من قوله ومستنده العموم ليس
بأولى من تخصيص ما قلد فيه الميت من المنع من البقاء بغير ما قلده
فيه من مسألة المنع وإن كان قضيته كل من قوله ومستنده العموم و
حينئذ فيبقى تقليده له في هذه المسألة خاصة بتقليد الحي ببقائه و
يبطل تقليد الميت فيها في عدم بقائه في ذلك للتدافع ويبطل في
غيرها أيضا ببقاء تقليد الميت فيها في المنع قلت حكم الميت بالمنع
من البقاء حكم واحد لا يختص ثبوته في نظره بغير مورد المنع من
البقاء لعموم دليله وانتفاء المعارض في حقه بخلاف حكم الحي
بالبقاء فإن دليله عليه بعد ملاحظة المعارض إنما يقتضي البقاء بالنسبة
إلى المسائل التي يمكن في حقها البقاء ظاهرا وحيث قررنا أن مورد
التقليد إنما هو الحكم الشرعي بقول مطلق دون خصوصية كل
مورد بانفرادها فليس للحي
القول ببقاء تقليده في المنع بالنسبة إلى غير المنع لاستلزامه تجويز
الجميع بين تقليد مجتهدين مختلفين في حكم موضوع واحد بالنسبة
إلى فردين من أفراده في زمان واحد وفساده واضح كما مر وأما
استصحاب حكم ما وقع بالتقليد السابق على رجوع المفتي وشبهه
فليس بتقليد لاحق ليلزم منه الجمع في التقليد بين حكمين متنافيين
بل بتقليد سابق ولا يتوقف استصحاب حكم التقليد على بقائه و
بالجملة فالوجه الثاني من السؤال تخصيص من المقلد ولو بفتوى
المجتهد للعمل بقول المجتهد بالمنع مطلقا في مورد دون مورد و
الأول تخصيص من المجتهد للأدلة الدالة على البقاء لا تخصيص من
المقلد لفتواه الثانية بقول مطلق ببعض موارده فتثبت في المقام فإنه
من مزال الاقدام وكذلك الحال في مسألة البقاء على تقليد المفتي
الذي اعتراه زوال غير الحياة من الشرائط كالايمان والاجتهاد و
العدالة والعقل والأفضلية بناء على تقديمه فإن وظيفة المقلد في
ذلك تقليد الجامع للشرائط في البقاء وعدمه وإن قلد الفاقد قبل فقده
في المنع ولو كان قد قلده في البقاء لم يكفه ذلك في الحكم بالبقاء
لكونه دوريا بل يتعين عليه تقليد الجامع للشرائط فيه فلو أفتى له
بالبقاء وقلده فيه فهل يبقى على تقليد الفاقد في مسألة البقاء أيضا أو
يبطل تقليده فيها ويبقى على تقليده في غيرها من المسائل وجهان
من عدم التنافي بين تقليد الجامع في البقاء على تقليد الفاقد في مسألة
البقاء وبين تقليد الفاقد في البقاء على تقليده في غيرها ومن عدم
جواز تقليد مفتيين في مسألة واحدة في زمن واحد ولو بحسب
موردين وإن لم يتناف الحكمان وقد عرفت مما مر أن الثاني أقوى
فصل المعروف من مذهب الأصحاب أن جاهل الحكم غير معذور إلا
في المقامين في الجهر والاخفات وفي الاتمام في محل القصر
وكلامهم هذا يحتمل وجوها الأول أن الجاهل وإن لم يكن مقصرا غير
معذور بالنسبة إلى الحكم المجهول له تكليفيا كان أو وضعيا
بمعنى أن جهله لا ينافي فعلية الحكم في حقه في غير المقامين وهذا
على إطلاقه لا يتم على طريقة العدلية قطعا لظهور قبحه تكليف
الغافل وشبهه عقلا مضافا إلى ما دل عليه من الكتاب والسنة فلا يصح
تنزيل كلامهم عليه الثاني أن الجاهل بقسميه غير معذور بالنسبة
إلى الحكم الوضعي بمعنى أن جهله لا يرفع الحكم الوضعي الثابت
في حقه إلا في المقامين وهذا الوجه وإن أمكن صحته في نفسه إلا أن
كلماتهم لا تساعد على إرادة التخصيص بالوضعي الثالث أن الجاهل
المقصر غير معذور فيما يلزمه من الاحكام تكليفية كانت أو وضعية
في غير المقامين وهذا أمتن من سابقه والوجه في إطلاقهم القول
بعدم المعذورية وضوح أمر القيد مع مراعاة ما هو الغالب في
المكلفين من التقصير في تعلم الاحكام فإنا نرى بالعيان أن أكثر الناس
يعلمون بثبوت أحكام كثيرة في الشرع ويتسامحون في تعلمها
ويعترفون بتقصيرهم في ذلك وربما يلتجئون في مقام الاعتذار بعدم
مساعدة التوفيق إياهم أو بأنهم متشاغلون بإصلاح معيشتهم و
نحو ذلك مع علمهم ببطلان معذريتهم إلى غير ذلك ولا ريب أن
العلم الاجمالي بالتكليف مع التمكن من استعلام التفصيل كاف في
ثبوته على المكلف عقلا ونقلا ولهذا صح قول أصحابنا بأن الكفار
معاقبون على الفروع كما أنهم معاقبون على الأصول مع جهدهم
بكثير من فروع الاحكام فإن علمهم الاجمالي بثبوت أحكام كثيرة في
هذه الشريعة كاف في توجه التكاليف الثابتة فيها إليهم وإن
جهلوا تفاصيلها مع تمكنهم من معرفتها هذا كله بحسب الأصل وأما
عند قيام دليل على اشتراط ثبوت التكليف بالعلم التفصيلي فلا
إشكال في دورانه
427

مدار حصوله كما في سائر الشرائط التي تعتبر في التكليف ومن هذا
البيان يظهر وجه المعذورية في مسألتي الجهر والاخفات و
الاتمام في محل القصر لان وجوبهما لما كان مشروطا بعلم المكلف به
تفصيلا لم يحكم بعصيان الجاهل المقصر فيهما ولا ببطلان
صلاته إلا أن يكون تقصيره بحيث يفوت في حقه قصد القربة فيكون
البطلان من جهة فواتها خاصة ولو فرض كون الجاهل غافلا عن
إجمال التكليف أو أنه حصل من الاحكام قدرا اطمأنت نفسه بأن فيه
الكفاية أو علم الحكم على خلاف الواقع أو ما أشبه ذلك فلا ريب في
معذوريته بالنسبة إلى مرحلة التكليف ولا يخالف في ذلك أحد من
العدلية لكن لما كان الفرض نادرا أو ردوا الكلام على ما هو الغالب
يرشدك إلى ذلك تعليلهم عدم المعذورية بتقصير الجاهل في أمر
التعليم واعلم أيضا أن جماعة من أصحابنا صرحوا بأن الناس في
أمثال
زماننا صنفان مجتهد ومقلد له وأن عبادة الخارج من الفريقين باطلة و
ظاهرهم البطلان وإن كان غافلا عن وجوب تقليد المجتهد و
شك بعد العمل في المطابقة بل وإن علم بها وزعم بعض المعاصرين
أن حكمهم بالبطلان هنا يرجع إلى ما ذكره الأصحاب من عدم
معذورية الجاهل إلا في المقامين وهذا غير واضح لان الظاهر من كلام
الأصحاب عدم معذورية الجاهل في صورة المخالفة لا الموافقة
فإن هذا هو المفهوم من المعذورية وقضية إطلاق كلام هؤلاء البطلان
وإن وافق الواقع فكيف يستقيم دعوى رجوع أحد العنوانين إلى
الاخر نعم لو ثبت اشتراطهم في صحة عبادة العامي أخذه من المجتهد
مطلقا وإن كان غافلا عن وجوب الاخذ منه اتجه اندراج محل
البحث في عموم عنوانهم نظرا إلى فوات شرط التقليد فيكون أحد
جزئياته وهذا على تسليمه لا يوجب توافق العنوانين وذهب المحقق
الأردبيلي إلى الصحة مع موافقة الواقع وذهب المعاصر المذكور إلى
الصحة وإن علم بمخالفة الواقع ما لم يكن متفطنا لوجوب التقليد
مقصرا في الرجوع إلى المجتهد فحكم حينئذ ببطلان عبادته وتحقيق
المقام وتوضيح المرام أن العامل إذا أتى بعبادة على كيفية
مخصوصة فهناك صورة عديدة منها أن يأتي بها عالما بشرعيتها كذلك
بطريق معتبر كالاجتهاد والتقليد ولا إشكال في صحة علمه
حينئذ سواء بقي على علمه وإن اختلف المدرك أو زال عنه ما لم
يعلم بالخلاف ومنه ما لو قطع ببطلان الطريق كما لو عول المقلد على
نقل ثقة ثم انكشف له خطاؤه في النقل أو على ظاهر كلام المفتي أو
الناقل ثم انكشف له عدم إرادته فإنه يحكم حينئذ بفساد العمل إذا
كان المخالفة فيما لا يعذر فيه الجاهل وكذا الحال فيما لو علم
المجتهد ببطلان دليله الاجتهادي واقعا وقد سبق بيانه في بحث
الاجتهاد
ولو شك العامل في أهليته للاجتهاد وعدمها استصحب الحالة
السابقة منهما والأحوط الرجوع إلى أهل الخبرة ولو جمع حينئذ بين
الاجتهاد والتقليد حيث يتوافقان بأن أتى بالعمل معولا فيه عليهما معا
ففي جوازه إشكال منشؤه عدم كونه حينئذ أخذا بشئ منهما بل
بالمجموع وهو أمر خارج ولا يقين بالبراءة معه ولو أتى بالعمل حينئذ
معولا فيه على الاعتبار الثابت في حقه واقعا من الاجتهاد و
التقليد فالوجه جوازه لاخذه بما يجب عليه الاخذ به واقعا وإن جهل
تعيينه أو لم يعتبره إذ لا دليل على اشتراطه ومنها أن يأتي بالعمل
بطريق لا يعلم باعتباره شرعا سواء كان معتبرا في نفسه أو لا ولا ريب
في بطلان العبادة حينئذ لفوات قصد القربة ومنها أن يأتي
بالعمل عالما بشرعيته بطريق غير معتبر كما لو عول على فتوى من
زعم كونه أهلا للرجوع إليه مع عدم الأهلية كتعويل كثير من العوام
على ما يرشدهم إليه آباؤهم وكبراؤهم الغير المجتهدين مع غفلتهم
عن وجوب الرجوع إلى المجتهد أو الناقل المعتبر وكتعويلهم على
نقل الفاسد المجهول أو الظان للفتوى من غير طريق معتبر عند التمكن
من مراجعة المفتي أو الناقل العدل العالم مع عدم حصول
العلم لهم بنقله أو أتى بالفعل معولا فيه على ظنه أو حدسه معتقدا
جواز التعويل عليه ثم إن استمر على ذلك إلى أن مات فلا حاجة لنا
بالبحث عن حاله وإنما حسابه على ربه نعم ربما يحتاج إلى معرفة
حكمه بالنسبة إلى ما يتعلق بماله أو بوصيته كما لو أوصى بأن يقضى
ما فات عنه من العبادات فيستعلم حكمه من القسم الآتي وإن تنبه و
استبصر وجب عليه أن يتطلب حكم الواقعة بطريق معتبر من اجتهاد
أو تقليد وحينئذ فلا يخلو إما أن يعلم بموافقة عمله السابق لمعتقده
اللاحق أو بمخالفته له أو لا يعلم شيئا منهما فعلى الأول يحكم بصحة
عمله على الظاهر إذ التقدير اشتماله على جميع ما يعتبر اشتماله عليه
عنده حتى نية القربة وليس هناك ما يصلح أن يكون مانعا من
صحته بحكم الفرض إلا عدم استفادة العلم به من طريق معتبر وهو
غير قادح مع تحقق المطابقة ويمكن استفادة ذلك بعد موافقته
للشريعة السمحة من الاخبار الحاكمة بصحة عمل السائل أو غيره و
نفي البأس عنه عند مطابقته للواقع وهي كثيرة متفرقة في أبواب
كتب الحديث وسيأتي التنبيه على بعضها فإن العمل المطابق لو كان
فاسدا من حيث عدم تحصيل العامل له من طريق معتبر لكان
المناسب بل اللازم بيان التفصيل في ذلك مع خلوها عن الإشارة إليه
بالكلية وعلى الثاني لا إشكال في بطلان عمله فيما لم يثبت اغتفار
الجهل فيه كالجهر والاخفات وسيأتي بيان ذلك وعلى الثالث لا يبعد
الحكم بالصحة لا سيما مع خروج الوقت عملا بالاخبار الدالة على
عدم العبرة بالشك بعد الفراغ وبعد خروج الوقت إذ المقام مندرج في
عمومه ولنتعرض
428

لأدلة القوم فنقول احتج القائلون بمعذورية الجاهل بوجوه منها الأصل
فإن أريد به أصالة عدم اشتراط صحة العبادة بالأخذ من المجتهد
فهو راجع إلى ما سيأتي في الوجه الثالث وإن أريد به أصالة براءة الذمة
عن تعيين الرجوع إلى المجتهد فإن أريد ذلك مطلقا كما يرشد
إليه بعض أدلتهم فضعفه واضح وسيأتي التنبيه عليه في أدلة المانعين
وإن أريد ذلك بالنسبة إلى غير المتفطن ما دام غير متفطن
فمسلم كما نبهنا عليه وإن أريد عدم وجوب الرجوع إليه بعد التفطن
بالنسبة إلى ما وقع من الأعمال قبل التفطن وإن بقي محل
التدارك فممنوع إذ بعد انكشاف بطلان الطريق وعدم اعتباره لا بد من
استعلام حال العمل إن كان واجبا بطريق معتبر ليتدارك على
تقدير الفساد والسر فيه أن الوظيفة الواقعية للعامي في أمثال زماننا و
هو زمن انسداد باب معرفة الحكم الغير القطعي عليه بطريق
معتبر غير التقليد إنما هي الرجوع إلى المجتهدين فالواجب عليه واقعا
حينئذ إنما هو الاتيان بمؤدى فتاوى المجتهدين فغفلته عن ذلك
وإتيانه بمؤدى فتاوى غيرهم لا يسقط عنه ما كلف به واقعا من الاتيان
بمؤدى فتاوى المجتهدين إذا كانا مختلفين وأما الأخبار الدالة
على عدم العبرة بالشك بعد الفراغ أو بعد خروج الوقت فهي واردة في
الشك في وقوع الفعل لا في حكمه لأنها مسوقة لبيان معرفة
الموضوعات لا الاحكام وتحقيق المقام وتوضيحه أن التكاليف أمور
واقعية متعلقة بمواردها الواقعية وهي مستفادة غالبا من الألفاظ و
هي موضوعة بإزاء معانيها الواقعية ولا مدخل للعلم والجهل فيها و
الامتثال للتكليف الواقعي لا يتحقق إلا بالاتيان بمورده الواقعي و
حيث إنه لا بد في الكشف عن الواقع من طريق يعتمد عليه فالطرق
المعتبرة إما أن يكون اعتبارها واقعيا أو ظاهريا مستندا إلى اعتقاد
المكلف كونها طرقا معتبرة فمن القسم الأول العلم وما ثبت قيامه
مقامه مطلقا أو عند تعذره وهذا النوع من الطريق قد يستمر بقاؤه وقد
يزول مع انكشاف الخلاف وعدمه فإن استمر فالحكم واضح و
إن زال وانكشف الخلاف فلا ريب حينئذ في عدم حصول الامتثال
للامر الواقعي فيجب التدارك إن كان واجبا وبقي المحل وحيث يقوم
دليل حينئذ على عدم وجوب التدارك فذلك مستلزم لاحد أمرين
الأول التوسع في الامر بجعله مشروطا بما إذا لم يتفق صدور ذلك من
المكلف فيكون المأتي به مسقطا للامر الواقعي أو مانعا من تعلقه لا
امتثالا له ومن هذا الباب صلاة المخالف إذا استبصر بعدها في وجه
والثاني التوسع في الماهية المأمور بها بحيث يتناول المأتي به و
يندرج في أفرادها الواقعية ومن هذا الباب صلاة من تلبس بها قبل
الوقت وأتمها فيه حيث يحكم بالصحة وصلاة جاهل وجود النجاسة
ومن سها عن غير ركن إلى أن تجاوز المحل ومن أتم في موضع
القصر جاهلا إلى غير ذلك فإن ما دل على صحة الصلاة في هذه
الموارد يدل على عدم شرطية الامر المتروك أو عدم جزئيته للماهية
الواقعية عند طريان السهو والجهل فالماهية الواقعية قد تختلف
باختلاف أحوال المكلف من سهو أو جهل أو عدمهما كما أنها قد
تختلف
بحسب اختلاف أحوال أخر كالقدرة والعجز والحضر والسفر وغير
ذلك وإن زال الطريق ولم ينكشف الخلاف كما لو أدى نظر
المجتهد إلى حجية الشهرة أو الاجماع المنقول أو الخبر الموثق أو
المنجبر ثم شك أو ظن العدم أو استظهر حكما من آية أو رواية ثم
شك أو ظن عدم الظهور أو قلد العامي لمن كان له أهلية الفتوى ثم
خرج عنها بكفر أو جنون أو موت وقلنا بعدم بقائه على تقليده أو قلد
المفتي في حكم ثم رجع عنه أو قلد من علم باستجماعه للشرائط ثم
زال علمه ونحو ذلك فالمتجه في ذلك البناء على مقتضاه بالنسبة إلى
الأعمال السابقة على الزوال عملا بأصالة بقاء أثر الطريق السابق فيما
وقع من الأعمال
على حسبه إذ لا دليل على زواله عنها بزوال الطريق وقد مر التنبيه
على ذلك في مسألة رجوع المفتي عن فتواه ولا فرق في زوال العلم
بين أن يعلم ببطلان مدركه وعدمه لان حجية العلم من حيث نفسه لا
باعتبار مدركه ومثله الظن بناء على حجيته في نفسه ومن القسم
الثاني ما لو اعتقد المجتهد حجية دليل غير معتبر واقعا كالقياس وكذا
إذا استظهر من آية أو رواية ما لا ظهور لهما فيه واقعا في وجه
أو اعتقد العامي بأن قول غير المجتهد حجة في حقه أو اعتقد أهلية
رجل للفتوى مع انتفائها عنه إلى غير ذلك فإن لم ينكشف له بطلان
الطريق إلى أن تعذر التدارك كصلاة العيد فلا ثمرة يعتد بها في البحث
عنه وإن انكشف قبله وجب عليه تطلب طريق معتبر من العلم و
ما في حكمه ثم ما ثبت قيامه مقامه عند تعذره ليكشف عنه [به] عن
حكم الواقعة فيبني على مقتضاه فإن وافق الطريق السابق اتجه الحكم
بالصحة لانكشاف وقوع الفعل على وجهه وكونه أخذا له حين الوقوع
من طريق معتبر واقعا غير معتبر في ماهية العمل وإنما المعتبر
كونه معتبرا في نظره ليتمكن من قصد القربة فيما يتوقف صحته عليه و
إن خالف مقتضاه لزمه التدارك فيما لم يثبت معذورية الجاهل
فيه لانكشاف وظيفته الواقعية من العمل بمؤدى الدليل المعتبر ولا
ينافي ذلك كون وجوب العمل بالامارة حين علمه بها واقعيا أيضا
لان للواقع مراتب باعتبار نفس الفعل وباعتبار الأحوال الطارية على
المكلف ثانية كل مرتبة بالنسبة إلى سابقتها ظاهرية فالواجب
من الصلاة مثلا على المكلف أولا هو الصلاة الواقعية وإن كان فعليته
مشروطة بمساعدة طريق معتبر
429

عليها ثم ما أدى طريقه الواقعي إلى كونها صلاة مطلوبة سواء كان
الطريق معتبرا مطلقا كالقطع فإن ما قطع بأنها صلاة واقعية صلاة
ظاهرية واجبة بالوجوب الظاهري فإن طابقت الواقع فهي صلاة واقعية
واجبة بالوجوب الواقعي أيضا فوجوب ما هي صلاة واقعية في
المرتبة الأولى من الواقع ووجوب ما قطع بأنها صلاة واقعية في
المرتبة الثانية من الواقع إن غايرت الأولى ويتداخل الامتثالان على
تقدير المطابقة ويتفارقان على تقدير عدمها فيجب التدارك إذا
انكشف الخلاف وبقي المحل لارتفاع العذر المانع من فعلية التكليف
الواقعي وأصالة عدم سقوطه بفعل غيره ومثل القطع ما ثبت قيامه
مقام القطع من ظاهر الكتاب وظاهر قول المعصوم المعلوم أو
المنقول بواسطة عدل أو عدول أو كان معتبرا بعد تعذر العلم كالظنون
الاجتهادية المتداولة في أمثال زماننا كفتاوي أصحاب هذه
الظنون بالنسبة إلى المقلدين وحكمه حكم سابقه ثم ما أدى طريقه
الظاهري إلى كونها صلاة كما لو اعتقد حجية القياس أو تقليد غير
المجتهد فأوقعها على وجهه فإن طابقت الواقع تداخل الامتثالان وإلا
تفارقا ومتى انكشف مخالفته للمرتبة السابقة وجب تداركها مع
بقاء المحل كما في المرتبة السابقة إذا انكشف مخالفتها لسابقتها إلا أن
واقع تلك المرتبة واحد وواقع هذه اثنان أحدهما واقع الفعل و
الاخر واقع الطريق فكما يجب التدارك إذا انكشف المخالفة لواقع
الفعل كذلك يجب التدارك إذا انكشف المخالفة لواقع الطريق مع
عدم
ظهور واقع الفعل ومنها تعسر العلم بالمجتهد واستجماعه للشرائط
المعتبرة في حق كثير من العوام فتعيينه للرجوع إليه ينافي
الشريعة السمحة وقضية هذا البيان جواز الرجوع إلى غير المجتهد
للغافل والمتفطن وفساده واضح إذ لا عسر في معرفة المجتهد
العادل غالبا لامكان الاطلاع عليه بالعلم المستند إلى الاختبار أو
القرائن
أو الاشتهار أو شهادة عدلين من أهل الخبرة ولو تعذر ذلك كله فالظن
طريق إلى معرفته وقد جاء في بعض الاخبار المنع من الرجوع
إلى العالم المقبل على دنياه فما ظنك بالفاسق وغير العالم وفي حكم
الرجوع إلى المجتهد الرجوع إلى الوسائط الناقلين عنه نعم لا
يتعين على الغافل الرجوع إليه ظاهرا لعذر الغفلة ومنها أن المأمور به
متى أوقع في الخارج على وجهه لزم حصول الامتثال والخروج
عن عهدة التكليف والأصل عدم مدخلية كونه مأخوذا عن المجتهد
فيه وهذا الدليل يتجه في حق الجاهل إذا لم يكن مقصرا بحيث ينتفي
في حقه قصد القربة لامتناع صحة العبادة بدونه وأما في حق غيره فلا
يتم إلا إذا قلنا بعدم تعيين الرجوع إلى المجتهد عليه وقد عرفت
ما فيه ثم التمسك بالأصل هنا إنما يتجه على القول بجريانه في شرط
العبادة والأولى التمسك بمساعدة إطلاق ما مر الإشارة إليه من
الاخبار عليه ومنها الأخبار الدالة على نفي التكليف فيما لا علم به
عموما وخصوصا فمن الأول قوله صلى الله عليه وآله وضع عن أمتي
تسعة وعد منها ما لا يعلمون وقوله عليه السلام ما حجب الله علمه
عن العباد فهو موضوع عنهم وقوله عليه السلام من عمل بما علم كفي
ما لم يعلم ونحو ذلك وإنما يمكن الاحتجاج بهذه الاخبار على نفي
وجوب تقليد المجتهد ونفي اشتراطه في صحة العمل بالنسبة إلى
الغافل عن وجوب تقليد المجتهد بالكلية ومرجعه حينئذ إلى
الاحتجاج بالأصل وقد تقدم وأما بالنسبة إلى غيره فالاحتجاج بها
غير
سديد لعدم اندراجه في عمومها لان الجاهل المقصر غير معذور عقلا
ونقلا ولولا ذلك لأمكن سد باب التكليف بترك النظر في
الشريعة وعدم تطلب أحكامها وإن أريد التمسك بهذه الاخبار على
جواز أخذ العامي بقول غير المجتهد ففساده واضح لان دلالتها على
ذلك إنما تتم إذا لم يكن هناك دليل على تعيين الاخذ بقول المجتهد و
قد نبهنا على وجوده ومن الثاني صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج
عن أبي إبراهيم عليه السلام قال سألته عن الرجل يتزوج المرأة في
عدتها بجهالة هي ممن لا تحل له أبدا فقال لا أما إذا كان بجهالة
فليتزوجها بعد ما
تنقضي عدتها وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك
فقلت أي الجهالتين أعذر بجهالته أن ذلك محرم عليه أم بجهالته أنها
في العدة فقال إحدى الجهالتين أهون من الأخرى الجهالة بأن الله حرم
عليه ذلك وذلك لأنه لا يقدر على الاحتياط معها فقلت هو في
الأخرى معذور فقال نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها
الحديث ومورد هذه الرواية في الجاهل بالحكم الجاهل الصرف
بقرينة قوله عليه السلام لأنه لا يقدر على الاحتياط فإن الجاهل
المتفطن تتمكن من الاحتياط وغاية ما يستفاد منها معذورية هذا
الجاهل
في المورد المسؤول عنه بالنسبة إلى حكمه التكليفي والوضعي و
الأول مما لا إشكال فيه كما مر وكذا الثاني لقيام الدليل وهو النص
المذكور ولولاه لكان قضية الأصل عدم معذوريته فيه وربما كان ذلك
منافيا لما اشتهر بين الأصحاب من عدم معذورية الجاهل إلا في
مقامين ليس المقام بأحدهما كما تقدمت الإشارة إليه ويمكن دفع
المنافاة بتخصيص كلامهم هناك بالصلاة أو بالعبادات أو بالجاهل
المقصر ولو قيل الأصل عدم معذورية الجاهل في الأحكام الوضعية
إلا فيما قام الدليل على معذوريته فيه ويعد المقامان من الموارد
الخارجة عن الأصل بالدليل كان أسد وأولى وكيف كان فإن أريد بهذه
الرواية إثبات جواز رجوع العامي إلى غير المجتهد أو عدم
كون الاخذ منه في نفسه من جملة شرائط عباداته فظاهر أنه لا تعلق لها
بذلك وإن أريد إثبات صحة عباداته الفاقدة لهذا الشرط حال
430

الجهل بناء على شرطيته فالرواية لا عموم لها بالنسبة إلى ذلك احتج
الآخرون أيضا بوجوه منها أن التكاليف معلومة الثبوت بالضرورة
والأصل حرمة العمل فيها بغير العلم خرج العمل بقول المجتهد
بالاجماع فيبقى غيره تحت عموم المنع والجواب أنه إن أريد بالعمل
بقول المجتهد وقوع العمل موافقا لقول مجتهد يرجع إليه العامل ولو
بعد العمل فهذا لا ينافي صحة العمل مع الموافقة للتقليد اللاحق وإن
أريد موافقته لتقليد مقارن فتحريم غيره فعلا في حق الغافل كما هو
محل النزاع غير معقول وتحريم الواقعي الشأني في حقه يستلزم
اشتراط مطلوبية العمل بالتقليد وقضية ما مر نفيه كما عرفت ومنها أن
القول بمعذورية الجاهل يستلزم أحد المحذورين أما سقوط جل
التكاليف أو تأثير الامر الغير الاختياري في ترتب العقاب وعدمه و
التالي بقسميه فاسد أما الملازمة فلانا إذا فرضنا جاهلين بشرط
واجب أصابه أحدهما عند الاتيان بالواجب دون الاخر كما إذا كانا
جاهلين باشتراط الفريضة بالوقت أو بوجوب مراعاته فصلى أحدهما
فيه والاخر في خارجه فإما أن يستحقا العقاب أو لا يستحقاه أو
يستحقه أحدهما دون الاخر وعلى الأول يثبت المطلوب وهو عدم
كفاية إصابة الواقع من غير طريق معتبر وعلى الثاني يلزم المحذور
الأول لان سقوط العقاب يستلزم سقوط الوجوب فيلزم سقوط جل
التكاليف لامكان تطرق الجهل إلى كل فعل من أفعال الصلاة و
شرائطها وكذا غيرها من العبادات وعلى الثالث يلزم المحذور الثاني
لاستواء الجاهلين في الحركات الاختيارية وإنما حصل مصادفة الواقع
كالوقت في المثال وعدمها بضرب من الاتفاق الخارج عن
المقدور وأما بطلان الشق الأول من اللازم فلان الالتزام بسقوط جل
التكاليف في حق الجاهل مفسدة واضحة لا يشرع لاحد الاجتراء
عليها وأما بطلان الشق الثاني فلان تجويز مدخلية الاتفاق في
استحقاق الثواب والعقاب
مما اتفقت كلمة العدلية على فساده وبراهينهم قاضية ببطلانه و
الجواب أن الجاهل بالشرطية إن كان متفطنا لاحتمال الشرطية و
لوجوب المراعاة حينئذ ولتحريم الاقدام على العمل قبله فلا ريب في
بطلان عبادته من جهة انتفاء قصد القربة في حقه فيبطل فرض
مطابقة الواقع في حقه من هذه الجهة وكذا لو علم الاشتراط بالوقت و
تفطن لوجوب المراعاة ولو بطريق الاحتمال المنافي لقصد القربة
فنختار القسم الأول وقد مر التنبيه عليه وإن كان غافلا عن الشرطية أو
تفطن لها لكن اعتقد عدم تحريم الاقدام على العمل قبل
المراعاة اخترنا القسم الثاني وهو عدم ترتب العقاب عليهما ويسري
ذلك إلى سائر موارد الجهل مع الغفلة ولا مفسدة فيه أصلا بل
دعوى ترتب العقاب على الجاهل الغافل مما دل ضرورة العقل و
النقل على قبحه وامتناعه والتحقيق صحة صلاة من صادف الوقت
حينئذ
مع استجماعها لبقية الشرائط فيترتب عليها ثواب الصلاة الصحيحة و
أما من صلى قبل الوقت فلا ريب في بطلانها وعدم استحقاق فاعلها
عليها ثواب الصلاة الصحيحة وإن ترتب عليها ثواب الذكر والقرأة و
الخضوع وحينئذ فربما تطرق الاشكال في الفرض المذكور في
جانب الثواب نظرا إلى أن التقدير تساويهما في الأفعال الاختيارية و
مصادفة أحدهما للوقت دون الاخر خارج عن القدرة حيث إن
التقدير غفلتهما عنه بالكلية فترتب ثواب الصلاة على فعل أحدهما
بمصادفة الوقت دون الاخر لعدم مصادفته يوجب تأثير الأمور الغير
الاختيارية في ترتب الثواب وهو خارج عن قانون العدل على ما ذكره
والجواب أن الفعل إذا استند إلى الاختيار كان لوازمه و
خصوصياته بأسرها مستندة إليه فيكون الجمع اختياريا صادرا عنه
باختيار الفعل وإرادته ولا يلزم في كون أمر اختياريا ملاحظته
حين الاتيان به تفصيلا أو أصالة بل يكفي ملاحظته ولو إجمالا أو تبعا
وتساوي
العاملين في الاختيار لا يوجب تساويهما في العمل المختار الذي هو
منشأ لترتب الآثار بل آثار كل عمل من استحقاق المدح والثواب أو
الذم والعقاب ترتب عليه عند صدوره عن المختار العالم بالحال وأما
الآثار التي يعتقد ترتبها على العمل مع خلوه عنها في نفسها فالذي
يتقوى في النظر أن هناك تفصيلا وهو أن الاعتقاد إن كان بطريق ثبت
اعتباره شرعا كالاجتهاد والتقليد المعتبرين فلا إشكال في
ترتب ثواب العمل بالطريق عليه بل الظاهر ترتب ثواب العمل
الصحيح عليه لان العامل أتى به برجائه فيؤتى ثوابه كما يستفاد من
أخبار
التسامح في أدلة السنن وإن كان بطريق غير معتبر فترتب الاجر عليه
في غير المحرمات غير معلوم وإن كان بالنظر إلى فضله تعالى
غير بعيد وأما بالنسبة إلى المحرمات فينبغي القطع بعدم استحقاق
الاجر لا سيما إذا كان من الكبائر كما لو اعتقد الوثني وجوب عبادة
الأوثان أو المخالف وجوب إطاعة مشايخه فإنه لا يستحق الثواب
بعمله قطعا هذا إذا اعتقد الوجوب أو الندب وأما إذا اعتقد التحريم
فلا
يبعد استحقاقه العقوبة بفعله وإن كان بطريق غير معتبر نظرا إلى
حصول التجري بفعله إلا أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد
القربة فإنه لا يبعد عدم ترتب العقاب على فعله مطلقا أو في بعض
الموارد نظرا إلى معارضة الجهة الواقعية للجهة الظاهرية فإن قبح
التجري ليس عندنا ذاتيا بل يختلف بالوجوه والاعتبار فمن اشتبه
عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل فحسب أنه ذلك الكافر
فتجري ولم يقدم على قتله فإنه لا يستحق الذم على هذا التجري عقلا
عند من انكشف له الواقع و
431

وإن كان معذورا لو فعل وأظهر من ذلك ما لو جزم بوجوب قتل نبي أو
وصي فتجري ولم يفعل أ لا ترى أن المولى الحكيم إذا أمر
عبده بقتل عدو له فصادف العبد ابنه وقطع بأنه ذلك العدو فتجري و
لم يقتله أن المولى إذا اطلع على حاله لا يذمه بهذا التجري بل
يرضى به وإن كان معذورا لو فعل وكذا لو نصب له طريقا غير القطع
إلى معرفة عدوه فأدى الطريق إلى تعيين ابنه فتجري ولم يفعل
وهذا الاحتمال حيث يتحقق عند المتجري لا يجديه إن لم يصادف
الواقع ولهذا يلزمه العقل بالعمل بمقتضى الطريق المنصوب لما فيه
من
القطع بالسلامة من العقاب بخلاف ما لو ترك العمل به فإن المظنون
فيه عدمها ومن هنا يظهر أن التجري على الحرام في المكروهات
الواقعية أشد منه في مباحاتها وهو فيها أشد منه في مندوباتها و
يختلف باختلافها ضعفا وشدة كالمكروهات ويمكن أن يراعى في
الواجبات الواقعية ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجري ثم لو سلم
أن مصادفة الوقت غير اختيارية لعدم التفطن لها قلنا إن نمنع عدم
تأثير الأمور الغير الاختيارية في ترتب الثواب لأنه إن أريد بالتأثير كون
الامر الغير الاختياري موردا لترتب الثواب فلزومه في المقام
ممنوع لان استحقاق الثواب ليس على مصادفة الوقت بل على العمل
المصادف له وهو اختياري وإن لم يكن الوصف اختياريا وإن أريد
التأثير باعتبار كونه شرطا في ترتب الثواب بأن لا يثاب على الامر
الاختياري لمصادفة أمر غير اختياري فبطلانه ممنوع فإن العاملين
المختلفين في العقل قوة وضعفا وفي الخلق كمالا ونقصا تتفاوت آثار
أعمالهم ثوابا وقبولا وإن تساووا في الاختيار والاجتهاد
مرتبة وقدرا مع أن قوة العقل وضعفه وكمال الخلق ونقصه خارجان
عن حد الاختيار وهذا هو السر غالبا في تفاوت مراتب الأنبياء و
الأولياء ولهذا كان نبينا صلى الله عليه وآله أشرف مرتبة وأرفع منزلة
من الأنبياء الذين هم أكثر منه
أعمارا وأزيد أعمالا فاتضح مما قررنا صحة صلاة من صادف الوقت و
ترتب ثواب صحيحها عليه إذا كانت مستجمعة لبقية الشرائط و
بطلان صلاة من لم يصادف الوقت فإن قضية فوات الشرط فوات
المشروط إذ لا مدخل للعلم والجهل في ذلك فلا يستحق عليها ثواب
الصلاة لان استحقاق نوع من الاجر على نوع من الطاعة يتبع وعده
تعالى وهو في الواقع متفرع على أهلية الفعل فإذا كان الوعد على
الصحيح فلا استحقاق بالفاسد أ لا ترى أن المولى إذا أمر عبده
باصطياد ظبي ووعده على ذلك ببذل جاريته له فاصطاد العبد أرنبا
معتقدا أنه ظبي امتثالا لما أمره به مولاه وطمعا فيما وعده به فإنه لا
يستحق عند العقلا ذلك الاجر وإن لم يكن في تحصيل مطلوبة
مقصرا أصلا ويرشدك إلى ذلك إجماع الأصحاب على عدم
استحقاق العامل الجعل على غير العمل الذي بذله الجاعل عليه وإن
اعتقد في
فعله أنه ذلك العمل من غير تقصير هذا وأجاب بعضهم عن الحجة
المذكورة باختيار الشق الثاني من الترديد فيما لو كان المصليان
غافلين عن وجوب مراعاة الوقت لكن فصل حينئذ بين الذي لم
يصادف الوقت فجعله غير مستحق للمدح أيضا وبين الذي صادفه
فجعله
مستحقا للمدح على فعل الصلاة لا على مصادفة الوقت قال ولا
ملازمة بين كون شئ غير مستحق للذم والعقاب عليه وبين كونه
مستحقا للمدح كما في تارك الزنا بغير قصد الامتثال فالجاهل بمراعاة
الوقت المصلي فيه أقل ثوابا من العالم الذي راعى الوقت وصلى
فيه لأنه تقرب بفعلين وتقرب الأول بفعل واحد واختار الشق الأول
فيما لو كانا عالمين بذلك لكن فصل حينئذ بين من صلى في غير
الوقت فجعله مستحقا للعقاب على ترك السعي في معرفة الوقت و
على ترك الصلاة وبين من صلى في الوقت فجعله مستحقا للعقاب
على
ترك السعي لا على ترك الصلاة لاتيانه بها إذ ليست معرفة الوقت من
شرائطها بل
هو واجب آخر وتفصى عن إشكال كون الامر الاتفاقي موردا للمدح
بأن المدح إنما هو على فعل الصلاة لا على فعلها في الوقت انتهى
ملخصا ومواضع النظر منه غير خفية إذ القول بأن الغافل الذي لم
يصادف الوقت غير مستحق للمدح على إطلاقه بعيد كما عرفت و
يمكن
تنزيله على المدح المترتب على الصلاة الصحيحة فيستقيم كما مر ثم
دعوى صحة صلاة المقصر العالم بوجوب مراعاة الوقت على تقدير
المصادفة له على إطلاقها واضحة الفساد لمنافاة ذلك لقصد القربة
المعتبرة في العبادة نعم ربما أمكن فرض عدم التنافي حيث يعتقد
العامل مشروعية العمل على تقدير عدم المراعاة لكنه فرض بعيد و
إطلاق القول فيه غير سديد ودعوى ترتب عقابين على ترك السعي
في معرفة الوقت وترك الصلاة مما ينافي ما حققناه في بحث المقدمة
من أن تاركها لا يستحق العقاب عليها بل على ترك ما يجب له نعم
يتجه في هذا الفرض دعوى ترتب عقابين باعتبار آخر وهو إتيانه
بالعمل التشريعي المحرم وتركه للواجب هذا واعترض بعض
المعاصرين على الجواب المذكور أولا بمنع كون الصلاة صحيحة
حينئذ ومنع عدم الاشتراط بالمعرفة مستندا إلى فهم العرف أقول أما
إطلاقه المنع من الصحة ففيه ما عرفت وأما استناده في ذلك إلى فهم
العرف فغير جيد إذ لا تعلق للاشتراط المذكور بدلالة الامر بالفعل
فيه حتى يستند فيه إلى العرف بل الاشتراط المذكور بعد الاغماض
عن أدلة حرمة التشريع عقلي راجع إلى استدعاء الشغل اليقيني
للفراغ اليقيني وثانيا بأن هذا هو الخروج عن قواعد العدل فإن مصادفة
المصادف للوقت اتفاقية و
432

بقية الافعال متساويان فلا يصح إثبات العذاب أو المدح لأحدهما
دون الاخر وفيه نظر يظهر مما مر وثالثا بأن خلو الطاعة عن
الرجحان واستحقاق المدح غير معهود وقياسه بترك الزنا قياس مع
الفارق فإن ترك الزنا من التوصليات بخلاف فعل الصلاة في
الوقت وفيه أن المجيب إنما منع من ترتب المدح على فعل من لم
يصادف الوقت وعلى مصادفة الغافل أو المقصر للوقت والاشكال
إنما
يتجه عليه بالنسبة إلى الامر الأول دون الآخرين إذ لا طاعة في مصادفة
فيهما وأما مناقشته في التمثيل بترك الزنا فمع خروجها على
ما قيل من دأب المحصلين لامكان التمثيل بغيره كالمباحات فغير
مستقيمة فإن ترك الزنا مطلوب لذاته لا للتوصل به إلى شئ آخر
فالفرق غير مسموع فاتضح مما قررنا فساد الوجوه التي تمسكوا بها
على فساد عمل الجاهل المطابق للواقع ويؤكده جريان سيرة
أغلب الناس خصوصا في مبدأ التكليف بأخذ مسائلهم [مسائل
عباداتهم] من الطرق الغير المعتبرة وهذا أمر لا يختص بأهل زماننا بل
يقطع به في حق أهل الاعصار السابقة حتى المعاصرين للأئمة ولم يرد
منهم أمر بإعادة عباداتهم من هذه الجهة ولا يرد ذلك على تقدير
عدم المطابقة لان أمرهم بالإعادة مع عدم المطابقة أكثر من أن يحصى
ولنشر إلى جملة من الاخبار التي وعدنا ذكرها منها ما روي أن
عمارا أصابته جنابة فتمعك في التراب فقال له رسول الله كذلك
يتمرغ الحمار أ فلا صنعت كذا فعلمه التيمم وجه الدلالة أن قوله صلى
الله
عليه وآله أ فلا صنعت كذا تنديم على عدم الاتيان بالتيمم بتلك
الكيفية وفيه دلالة واضحة على أنه لو كان تيمم بتلك الكيفية ولو من
غير
سؤال لكان مجزيا ولم يتوجه إليه التنديم ومثله قوله عليه السلام في
مجدور أجنب فغسلوه فمات ألا سألوا ألا يمموه ومنها ما ورد في
براء بن معروف حيث استنجى بالماء فنزل في حقه إن الله يحب
التوابين ويحب المتطهرين وجه الدلالة أنه تطهر بالماء من غير استناد
إلى طريق معتبر كما يظهر من خوفه حين أرسل إليه النبي صلى الله
عليه وآله ودعاه ولما
كان عمله حسنا بحسب الواقع ترتب عليه المدح ونزل فيه ما نزل و
منها ما رواه عبد الله بن عطار قال قلت لأبي جعفر عليه السلام
رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما تبرا من أمير المؤمنين عليه
السلام فتبرأ واحد منهما وأبى الاخر فخلي سبيل الذي تبرأ وقتل
الاخر فقال عليه السلام أما الذي تبرأ فرجل فقيه في دينه وأما الذي لم
يتبرأ فرجل تعجل إلى الجنة وجه الدلالة أن الذي لم يتبرأ كان
جاهلا بجواز التقية في مثل ذلك بقرينة وصف صاحبه بالفقاهة دونه
فإنه ينبئ عن صدور عمله من غير فقاهة ومع ذلك ترتب عليه
الاجر ومنها موثقة ابن بكير قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
رجل أجنب ثم تيمم فأمنا ونحن على طهور فقال لا بأس به وعنه
عليه
السلام في الموثق إذا وقع في البئر الطير والدجاجة والفأرة فانزح منها
سبع دلا قلت فما تقول في صلاتنا ووضوئنا وما أصاب ثيابنا
فقال لا بأس به ووجه الاستدلال بها واضح مما مر إلى غير ذلك من
الاخبار واحتج الفاضل المعاصر على صحة عمل الجاهل الغير
المقصر بمعنى سقوط الإعادة والقضاء عنه وإن خالف الواقع بأن
الامر يقتضي الاجزاء وبأن التكاليف إنما تثبت على حسب أفهام
المكلفين ولذلك لا يشترط في صحة صلاة المجتهد موافقتها للواقع و
بأن تكليف الغافل بالاتيان بما يوافق الواقع تكليف بالمحال وبأنه
لا معنى محصل لموافقة الواقع فهل المراد به حكم الله الواقعي الذي
لا يطلع عليه إلا الله تعالى أو ما وافق رأي المجتهد الذي في ذلك البلد
أو أحد المجتهدين وما الدليل على تعيين شئ من ذلك وحكم
المجتهد بعد اطلاعه بالموافقة وعدم الموافقة أي فائدة فيه لما فعله
قبل
ذلك إلا بالنسبة إلى الحكم بالقضاء فيما دل دليل على ثبوته مع
الفوات كالصلاة والتحقيق أن صدق الفوات في حق الجاهل الغافل
ممنوع
إذ لا تكليف له بغير معتقده حتى يصدق في حقه الفوات وثبوت
القضاء في حق النائم والناسي إنما ثبت بالنص وبعموم الأخبار الدالة
على أصل البراءة وأصل العدم فيما لا يعلمه المكلف وقد تقدم جملة
منها والتقريب ظاهر والجواب أما
عن الأول فبأن الامر إنما يقتضي الاجزاء إذا جي بالمأمور به على
وجهه واقعا لان متعلقه الامر الواقعي والأصل عدم اشتراط ثبوته ولا
بقاؤه واقعا بعدم فعل غيره وإن اعتقد أنه المأمور به فالمكلف بالصلاة
الواقعية لا يجزيه بالنسبة إلى هذا التكليف إلا الاتيان بالصلاة
الواقعية وإتيانه بما يعتقد أنها صلاة واقعية إنما يقتضي الاجزاء عنه
ظاهر إذا لم ينكشف له الخلاف وقد مر تحقيق ذلك وأما عن
الثاني فبأن ثبوت التكاليف الواقعية لا تتبع أفهام المكلفين وإلا لزم
القول بالتصويب وقد أجمع أصحابنا على بطلانه وإنما يتبعها
ثبوت الاحكام الظاهرية وأما ثبوت الإعادة والقضاء حيث يثبت مع
انكشاف الخلاف فلعدم الخروج عن عهدة الامر الواقعي ولا فرق
في ذلك بين المجتهد وغيره نعم لو أدى نظر المجتهد إلى صحة عبادة
على كيفية خاصة وأوقعها على تلك الكيفية ثم ظن الخلاف أو
ظن بطلان الطريق لم يجب عليه التدارك كما مر وكذا الكلام في
التقليد وليس هذا من جهة عدم كونه مكلفا بالواقع بل لعدم انكشاف
الواقع له بالنسبة إلى ما مضى من أعماله وأما عن الثالث فبأن تكليف
الغافل إنما يوجب التكليف بالمحال إذا كان مطلقا وأما إذا كان
مشروطا بزوال غفلته كما هو الشأن في سائر التكاليف الواقعية فلا
يوجب ذلك وقد نبهنا على ذلك في مسألة إبطال التصويب وأما
عن الرابع فبأن المراد بما ثبت في الواقع ما ثبت عند الشارع مع قطع
النظر عن إصابة
433

المكلف له وعدمها وقد قرر له طرقا إلى إصابته كالعلم والاجتهاد و
التقليد المعتبرين فإذا أتى به المكلف من غير أن يعول على شئ
من الطرق المعتبرة لجهله بها وجب عليه الرجوع إليها بعد التفطن
ليتمسك في إثبات برأته وخروجه عن عهدة التكليف بطريق معتبر
لانكشاف بطلان ذلك الطريق عنده فيجب عليه الرجوع إلى طريق
العلم وما في مرتبته مع الامكان ومع تعذره يرجع إلى طريق
الاجتهاد إن كان من أهله وإلا فإلى طريق التقليد ونسبة الجميع إلى
الأعمال المتقدمة والمتأخرة نسبة واحدة وما يدل على حجيتها
يدل عليها في المقامين نعم يعتبر في اعتبار الاجتهاد والتقليد
المتأخرين عدم مصادفة العمل حين وقوعه لاجتهاد أو تقليد مقارن
فإنهما حينئذ لا يعتبران بالنسبة إليهما ما لم ينتهيا إلى حد القطع كما مر
ثم منعه صدق الفوات في حق الغافل والنائم والناسي غير جيد
ولتفصيل الكلام فيه مقام آخر وأما عن الخامس فبأن مفاد تلك الأخبار
عدم تعلق التكليف والحكم بالمكلف تعلقا فعليا ما دام جاهلا
أو
محجوبا عنه العلم لا مطلقا وإلا لكان مفادها سقوط التكاليف عن
الجاهل بها ولو في آن من أوان التكليف وهذا مع فساده في نفسه
مما لا يفهمه من العبارة من كان له أدنى مسكة ودراية فلا يستفاد منها
سقوط التكليف بعد انكشاف الخلاف حتى يترتب عليه سقوط
التدارك ثم إن الفاضل المذكور نقل في المقام الفرق بين مطابقة عمل
الجاهل للواقع وعدمها بأن لخصوصية الأعمال الموظفة مدخلا في
التكميل وإفادة القرب دفعا للترجيح من غير مرجح فمع المخالفة لا
يحصل ذلك كما لا يحصل خواص المعاجين والأدوية المركبة عند
الأطباء عند انتقاص جز منها فيجب على الجاهل التدارك عند
انكشاف الخلاف تحصيلا لفوائد العمل ثم أورد عليه أولا بأن هذا
الوجه
كما يقتضي المحافظة على أجزأ العبادة كذلك يقتضي المحافظة
على شرائطها التي من جملتها نية القربة وهي منتفية في حق الجاهل
المقصر فلا يتجه الحكم بالصحة في صورة الموافقة
مطلقا وثانيا بأن ماهية العبادة التي هي منشأ لآثارها المقصودة إن
كانت متحدة في الواقع اتجه الاشكال المذكور على المجتهدين
المختلفين فيها أيضا وإن كانت مختلفة بحسب اختلاف الآراء فلم لا
يكون مختلفة بحسب مختلف الجاهل أيضا وهل المستند في جواز
عمل المجتهد بظنه إلا لزوم التكليف بالمحال لولاه وهذا بعينه يجري
في حق الجاهل الغافل أيضا فينبغي أن يختلف بالنسبة إليه أيضا
هذا محصل كلامه أقول أما الايراد الأول فالظاهر عدم وروده على
الفرق المذكور لان قضية فرض مطابقة عمل الجاهل للواقع يغني عن
اشتراط كونه بحيث يتحقق منه قصد القربة وأما الثاني فلا خفاء في
سقوطه لأنا نختار القسم الأول ونمنع مطابقة عمل الجميع في
صورة الاختلاف للواقع بل هذا قضية قول كل من أبطل التصويب و
غاية ما يمكن توهم وروده على ذلك لزومهم كونهم آثمين حينئذ
لعدم الاتيان بالماهية الواقعية أو عدم استحقاقهم للثواب على
عبادتهم الغير المطابقة أو وجوب التدارك عند انكشاف الخلاف ولا
ريب
أن عذر الجهل يرفع الاثم وعدم استحقاق ثواب العمل الصحيح لا
ينافي استحقاق ثواب العمل بالطريق مضافا إلى ما عرفت من أن
الظاهر من بعض الاخبار ترتب ثواب العمل الصحيح عليه ووجوب
تدارك المجتهد مع انكشاف الخلاف بطريق القطع مما لا مفسدة فيه
وبدونه لا يجب التدارك كما سبق تحقيقه ثم اعلم أن قضية إطلاق
كلام الفاضل المذكور وإطلاق دليله عدم الفرق بين ما إذا قطع
الجاهل الغافل بعد العمل ببطلان عمله السابق واقعا كما إذا صلى من
غير ركوع معتقدا أن الصلاة الشرعية لا ركوع لها أولا كما إذا ترك
السورة معتقدا عدم وجوبها وفساد دعواه في القسم الأول معلوم
بالضرورة والظاهر عدم مصير أحد من المنتسبين إلى الاسلام إليه
إذ يلزم عليه أن من اعتقد قيام بعض الأعمال المنكرة كالزنا أو اللواط
مقام الصلاة المفروضة فأتى به بنية
البدلية ثم انكشف له بطلان هذا الاعتقاد أجزأه ذلك عن صلاته وإن
كان الوقت باقيا وفساد هذا مما لا يكاد يشتبه على جاهل فضلا عن
عالم واعلم أنه قد يستدل على الاشتراط بصحيحة زرارة المتقدمة في
الأدلة العقلية حيث تضمنت أن من لم يوال ولي الله ولم يكن جميع
أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله حق في ثوابه ولم يكن من أهل
الايمان ووجه الاستدلال أن العامل الذي أخذ أحكامه بغير الطرق
الشرعية ليس عمله بدلالة ولي الله إليه لأنه إنما يدل إلى الاخذ
بالطرق المعتبرة فلا يستحق الثواب على ما أفاده الرواية وهو يستلزم
الفساد والجواب أن هذه الرواية غير واضحة الدلالة على المراد لأنه
عليه السلام إنما نفي استحقاق الثواب في حق من لم يوال ولي الله و
لم يكن عمله بدلالته إليه وهو لا يقتضي نفى الثواب في الموالي الذي
لا يكون عمله بدلالته إليه إذ الظاهر من اللفظ اعتبار الامرين معا
في الشرطية لا يقال يكفي في ترتب الحكم المذكور عدم الموالاة فلو
لا استقلال العمل بغير دلالته عليه بذلك لكان اعتباره في الشرطية
لغوا لأنا نقول ينافي اعتبار الاستقلال حكمه عليه السلام بعدم الايمان
فإن الاجماع قائم على إيمان الموالي الذي عمل بغير دلالته عليه
السلام لا سيما مع الغفلة ولا سبيل إلى حمل الايمان فيها على
الايمان الكامل لان غير الموالي لا إيمان له أصلا فيمكن أن يكون
حينئذ
اعتباره عليه السلام لعمله من غير دلالة ولي الله إليه تأكيده لما ذكره
أولا من عدم موالاته له لكونه من خواصه ولوازمه فلا ينافي مما
ذكرناه ويمكن أيضا جعل الحكم الأول مترتبا على كل من الامرين
على الاستقلال والثاني مترتبا على الأول خاصة فيدل على
434

نقيض المدعى لكنه بعيد عن ظاهر اللفظ جدا لما فيه من تشويش
النظم ولو سلم مساواته للاحتمال الأول فلا يكفي في إثبات الحكم ما
لم يثبت ظهوره وهو ممنوع سلمنا لكن نقول ليس في نفي استحقاق
الثواب دلالة على نفي صحة العمل بمعنى إسقاطه للقضاء كما هو
محل البحث ولا عدم ترتبه تفضلا سلمنا لكن لا بد من تنزيل الرواية
على وجه لا ينافي صحة عمل الموالي بغير دلالة مع المطابقة جمعا
بينها وبين ما مر من الوجوه التي أشرنا إليها ويمكن أن يجاب أيضا بأن
الطرق الغير المعتبرة معتبرة في حق الغافل المعتقد بكونها
طرقا معتبرة لامتناع كونه حينئذ مكلفا بغير ذلك فعمل الموالي بما
يعتقده من الطرق المعتبرة عند ولي الله مع كونها غير معتبرة عنده
عمل بدلالة الولي كعمل غير الغافل بالطرق التي اعتبرها في حقه
خاتمة في تعارض الأدلة
فصل تعارض الدليلين عبارة عن تنافي مقتضاهما
إما بالعقل كالوجوب والتحريم أو بالسمع كصحة العتق وبطلان
الملكية ولا يقع التعارض بين الدليلين القطعيين أعني المفيدين للقطع
بمؤداهما بالفعل سواء كانا عقليين أو سمعيين أو كان أحدهما عقليا و
الاخر سمعيا لأدائه إلى الجمع بين المتنافيين بحسب المعتقد إلا
أن يكون المعتقد جاهلا بالتنافي فيخرج الكلام بالنسبة إليه عن محل
البحث إذ لا تعارض عنده حقيقة ولو فسر الدليل القطعي بالفعلي
نظرا إلى أنه لا حكم للقطعي الشأني والدليل الظني بما يعم الفعلي و
الشأني لوقوع التعويل على كل منهما في الجملة صح في تحرير
المقام أن يقال الدليلان إن كانا قطعيين امتنع وقوع التعارض بينهما وإن
كان أحدهما قطعيا والاخر ظنيا رجح القطعي وإن كانا
ظنيين ففيه التفصيل الآتي والفاضل المعاصر بعد أن حكم باستحالة
التعارض بين الدليلين القطعيين قال وكذلك لا يكون في قطعي و
ظني لانتفاء الظن عند حصول القطع فالتعارض إنما يكون بين دليلين
ظنيين ويشكل عليه بأن الظن كما لا يجامع القطع بالخلاف
كذلك لا يجامع الظن به إلا أن يريد بالظن في الأول الفعلي وفي الثاني
ما يعم الشأني لكن يتشوش معه نظم التحرير وكيف كان
فمورد التعارض في الظنيين الظنيان الشأنيان والظني الفعلي والشأني
ويعتبر في المتعارضين تنافي مقتضاهما بحسب ظرف الحكم
فلو انتفي التنافي فيه لم يتعارضا كما لو كان مؤداهما حكمين ظاهريين
غير متنافيين في الظاهر كتحريم إحدى الأختين على من ادعى
زوجية الأخرى مع إنكارها وجواز تزويجها بغيره إذ لا منافاة بينهما
بحسب الظاهر بعد حكم الشارع بالجمع بينهما فيه وإن تنافيا
بحسب الواقع فيخرج عن محل البحث أيضا وأما تعارض الناسخ و
المنسوخ القطعيين فليس من هذا الباب لان دلالة المنسوخ على
الدوام
ظنية وإن كانت بالنسبة إلى ثبوت الحكم في الجملة أو على تقدير
عدم ورود الناسخ قطعية وأما الحكم المقطوع بدوامه فيمتنع طريان
النسخ عليه إلا إذا كان القطع جهلا فيكشف بورود
الناسخ خلافه فيخرج عن محل الفرض وأما القطعيان بالقوة أعني ما
من شأنهما إفادة القطع ولو مع قطع النظر عن معارضة الاخر
فيمكن وقوع التعارض بينهما كما نبهنا عليه في دفع شبهة الجبرية و
حكم هذا التعارض أن يلاحظ أحدهما مع الاخر فإن سقطا عن
إفادة القطع سقط اعتبارهما في الموارد التي يطلب فيها القطع وإن
سقط أحدهما عن إفادته فقط تعين التعويل على الاخر ومما قررنا
يظهر الكلام في تعارض الدليل القطعي مع الظني وأما الدليلان
الظنيان ويعبر عنهما بالامارتين فإن اعتبرا ظنيين بالفعل أو بالنسبة
إلى الاخر امتنع اعتبار المعارضة بينهما كما مر في القطعيين وإن اعتبرا
ظنيين شأنيين أو أحدهما أمكن وقوع المعارضة بينهما و
مورد تعارضهما حينئذ إما موضوع الحكم الشرعي أو نفس الحكم
الشرعي إذ لا عرض لنا بالبحث عما لا تعلق له بالشرع أما الأول فلا
نزاع في وقوعه على ما حكاه بعضهم وتعارضهما فيه قد يكون من
حيث تعيين المفهوم والامارتان المتعارضتان فيه قد يكونان رواية
عن المعصوم وسيأتي الكلام فيها وقد تكونان نقلا عن اللغة كقول
بعض اللغويين بأن الصعيد وجه الأرض وقول آخرين بأنه التراب و
حينئذ فإن كان لأحدهما مرجح تعين الاخذ به وقد سبق وجوه
الترجيح في محله وإلا فإن كان بينهما عموم مطلق كما في المثال تعين
الاخذ بالأخص إن لم يكن الامتثال به منوطا بفعل الباقي أو أعملنا
أصل العدم في ذلك وإلا تعين الاخذ بالأعم تحصيلا للبراءة وإن كان
بينهما عموم من وجه فالأحوط الاخذ بالقدر المشترك مع الامكان و
مع عدمه فالتخيير وإن كان الامتثال به منوطا بفعل الباقي فالوجه
التخيير أيضا وإن كان بينهما التباين فالظاهر التخيير أيضا ويحتمل فيه
وفي سابقه وجوب الاتيان بالجميع مع عدم مانعية الزيادة
تحصيلا للبراءة اليقينية وقد يكون من حيث تعيين المصداق كإخبار
عدلين عن القبلة بجهتين متخالفين
وحينئذ فإن كان لأحدهما مرجح معتبر فلا كلام وإلا فقضية الأصل
وجوب الاتيان بما يعلم معه بالبراءة فيصلي إلى الجهتين ما لم
يتضيق الوقت فيتخير لان الاتيان بما يحتمل البراءة أولى من الاتيان
بما يقطع معه بعدمها نعم لو كانت الامارتان رواية عنهم عليهم
السلام اتجه الحكم بالتخيير مع التكافؤ مطلقا كما سيأتي وقد يقع
التعارض في البينات وبيانه موكول إلى كتب الفقه وأما الثاني أعني
تعارضهما في نفس الحكم الشرعي فقد اختلفوا في وقوعه شرعا بعد
أن أطبقوا على إمكانه عقلا فأثبته جماعة ومنعه آخرون والظاهر
أن النزاع في تعارضهما من حيث كونهما أمارتين واقعتين فيرجع كلام
المانع إلى منع كونهما أو إحداهما أمارة واقعية وأما تعارض ما
هو أمارة عند المجتهد فلا نزاع في وقوعه كما صرح به بعضهم وقد
يظن
435

الامارتين إذا كانتا واقعيين امتنع وقوع التعارض بينهما عقلا وشرعا و
إلا لزم تحقق مؤداهما فيلزم الجمع بين المتنافيين وضعفه
ظاهر إذ لا ملازمة بين كون الامارة واقعية وبين ثبوت مقتضاها واقعا إذ
معنى كونها أمارة واقعية أنها مما اعتبرها الشارع أمارة و
نصبها حجة ودليلا ولا ريب أن مثل ذلك مما يجوز تخلفه عن مقتضاه
واقعا كخبر الواحد والاستصحاب وشهادة العدلين وأخبار ذي
اليد ونحو ذلك فإن نصب الشارع لهذه الأمور أدلة وأمارة أمر مقطوع
به مع أنها قد تتخلف عن مؤداها واقعا والفرق بين الامارة
الواقعية والامارة عند المجتهد أن ما هو أمارة عند المجتهد لا يلزم أن
يكون أمارة بحسب الواقع لجواز أن يتوهم المجتهد حجية ما لم
ينصبه الشارع حجة في الواقع ومن المتأخرين من اختار القول بالمنع
وفسره بأنه لا يجوز تبليغ الشريعة إلى العبادة تبليغا يؤدي إلى
وصول أمارتين متعارضتين في حكم واحد وظاهره نفي تعارض
الامارات المنصوبة على سبيل التعادل لا نفي كونهما أو إحداهما
أمارة عند التعارض وهذا في الحقيقة إنكار للعيان وفساده مما لا
يحتاج إلى البيان وليس في ذلك قدح في التبليغ إذ لا يجب على الله
تعالى أن يعصم الرواة عن السهو وتعمد الخطأ ولا تغيير الواقع على
وجه يقتضيه الأدلة فالوجه أن ينزل قول من أنكر وقوع التعادل
بين الامارتين المتعارضتين على إنكار وقوعه بينهما من حيث الوصف
لا من حيث الذات كما يدل عليه ظاهر حجتهم ألا أن يثبت منهم
تصريح بالخلاف فيرجع النزاع حينئذ إلى أن الامارات المتعارضة
مشتملة على مرجحات معتبرة يمتنع خلوها عنها بحسب الواقع وإن
قدر عدم وصول المجتهد إليها لعدم وصول مداركها إليه إذا تقرر هذا
فالحق عندي ما ذهب إليه القائلون بالجواز لنا بطلان ما تمسك
به المانع على المنع وعدم قيام دليل عليه سواه وقضية عموم ما دل
على حجية الامارات الشرعية حجيتها ولو عند التعارض أيضا وهو
أيضا مقتضى ما دل على التخيير في العمل
بهما لان وجوب العمل بكل منهما على التخيير يستلزم حجية كل
منهما لا على التعيين ومعنى حجية كل واحدة منهما لا على التعيين
جواز
ترك العمل بها إلى الأخرى فقولنا لا على التعيين قيد للحجية إذ معناها
وجوب العمل بمقتضى موردها لا للحجة لان الحجية وصف معين
يمتنع قيامه بغير معين وإن أريد تعلق الحجة بكل واحدة من غير
اعتبار تعيينها كان في معنى حجية كل منهما على التعيين فيلزم
التكليف بالمحال وتوضيح ما قررناه يطلب مما حققناه في الواجب
المخير احتج المانع بأنه لو جاز ذلك شرعا فإن عمل بهما لزم
التكليف بالمحال لأدائه إلى اجتماع حكمين متضادين في موضوع
واحد وإن ترك العمل بهما لزم العبث في وضعهما إذ وضع أمارة لا
يمكن العمل بها عبث وإن عمل بإحداهما دون الأخرى لزم الترجيح
من غير مرجح وهو باطل ولا يذهب عليك أن قولهم في الصورة
الثانية إن ترك العمل بهما يلزم العبث في وضعهما إنما يساعد على
نفي وضعهما وحجيتهما معا في صورة التعارض لا مطلقا وقد نزلنا
كلامهم عليه ولا ينافيه عدم التعرض بلزومه في الصورة الأخيرة
بالنسبة إلى الامارة التي لا يعمل بها لكفاية ما ذكر فيه من لزوم
الترجيح بلا مرجح إذ لا يلزم استقصاء الأدلة لا سيما مع سبق التنبيه
عليه والجواب أنا نختار وجوب العمل بهما على التخيير فلا يلزم
الجمع بين المتنافيين لعدم التعيين ولا خلو وضع إحداهما عن الفائدة
إذ إمكان الخروج عن العهدة بالعمل بها فائدة وهي مشتركة
بينهما ولهذا امتنع التعيين ولزم التخيير وليس ترجيح المجتهد للعمل
بإحداهما من حيث كونهما دليلا لمساواته بينهما بل لمرجحات
خارجية كما في ترجيح العمل ببعض آحاد الواجب التخييري مع
انتفاء المرجح من حيث الوجوب والامتثال بقي في المقام شئ وهو
أن
قضية ما تمسكوا به على منع الجواز شرعا منعه عقلا أيضا لظهور أن
الدليل المذكور عقلي لا شرعي مع أنهم نقلوا الاتفاق على جوازه
عقلا وحرروا
النزاع في جوازه شرعا ويمكن دفعه بأن المراد بالجواز العقلي مجرد
إمكان وقوعه في نفسه وإن كان على خلاف الحكمة أو عدم
القطع بامتناعه كما هو المعتبر في العقليات ويمنعه شرعا عدم إمكانه
بالنظر إلى الحكمة أو الظن بعدمه كما عليه المدار في الشرعيات
القول في التعاديل
ولنبدأ قبل الخوض في المرام بذكر الأخبار الواردة في المقام فنقول
روى المشايخ الثلاثة بأسانيدهم عن عمر بن حنظلة قال سألت أبا
عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة إلى أن قال
فإن كان كل رجل يختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا
الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم
قال الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث و
أورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الاخر قال قلت فإنهما عدلان
مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الاخر قال فقال ينظر
إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من
أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور
عند
أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه إلى أن قال قلت فإن كان
الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم قال ينظر بما وافق
حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ ويترك ما خالف
حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة قلت جعلت فداك أ رأيت
إن
كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة فوجدنا أحد الخبرين
موافقا للعامة والاخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ قال ما خالف
العامة ففيه الرشاد فقلت جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا قال
ينظر إلى
436

ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر قلت فإن
وافق حكامهم الخبرين جميعا قال إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى
إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات و
وجه الدلالة أن هذه الرواية قد تضمنت وجوب الاخذ بالحكم الذي
اعتضدت الرواية الدالة عليه بأحد الوجوه المذكورة عند اختلاف
الحكمين فيستفاد منها وجوب الاخذ بها وإن تجردتا أو إحداهما عن
الحكم فإن ترجيح الحكم لترجيح دليله لكن يشكل ظاهر الرواية من
وجوه منها أن وظيفة المتحاكمين الرجوع إلى الحاكم الشرعي و
ليس وظيفتهما النظر في حجته على الحكم كما دلت عليه الرواية و
إنما النظر فيها شأن الحاكم بل المدعي إذا راجع الحاكم المنصوب
ألزم المنبر بالحضور معه ومضى حكمه عليه وإن لم يرض به ولا
يقدح فيه ضعف مستند الحاكم في زعمهما ما لم يقطع بفساده و
يمكن التفصي عن ذلك بتنزيلها على أحد الامرين الأول أن المراد
بالتحاكم الرجوع إلى المفتي في معرفة حكم الواقعة كما لو اشترك
جماعة في عقار فباع أحدهم نصيبه منها فراجع المشتري من ينفي في
ذلك حق الشفعة فأثبت يده عليه بتقليده وراجع الشريك من
يثبتها فيه فأراد رفع يد المشتري بتقليده ففي هذه الصورة يلاحظ
المرجحات المذكورة في اختيار أحد الحكمين ويشكل بأن هذا
التنزيل لو تم لوجب مراعاة الوجوه المذكورة في تقليد المجتهد في
سائر الأحكام مطلقا أو مع الاختلاف ولا قائل به ظاهرا وربما
أمكن تخصيصه بما يؤدي إلى التخاصم والتنازع كما هو مورد الرواية
لكنه بعيد جدا نعم يمكن أن يقال لما كان الاخذ بفتوى الرواة
المجتهدين في الصدر الأول جائزا كالاخذ بروايتهم أمر عليه السلام
أولا بالأخذ بقول الأعدل والأفقه منهما فإن تساويا ترك فتواهما و
أخذ بروايتهما بترجيح المشتمل على أحد المرجحات المذكورة ومع
عدم المرجح فالتخيير الثاني حمل الحاكم فيها على حاكم التحكيم
فيختص بزمن الحضور دون المنصوب خصوصا
أو عموما وحينئذ فلا يلزم للمتحاكمين حكمه مع عدم تراضيهما معا
به قبل الحكم قطعا وبعده بناء على اشتراط ذلك في إمضاء حكمه و
منها أن الحاكم العامل بالرواية الخالية عن بعض الوجوه المرجحة إن
لم يكن مجتهدا فلا عبرة بحكمه وإن كان مجتهدا فكيف لم يعثر
على الرواية المعارضة المشتملة على الوجه المرجح لوجوب
الاستفراغ عليه والتتبع الموجبين للعثور عليها عادة لا سيما إذا كانت
مشهورة معروفة كما ذكر في بعض وجوه الترجيح مع أنه لا بد حينئذ
من تنبيهه عليها ليتردد أو يوافق ولا إشارة في الرواية إليه و
يمكن دفعه بعد اختيار كونه مجتهدا أنه لا يعتبر في المجتهد الوقوف
على جميع مدارك المسألة وأخبارها ولا على جميع الوجوه
المعتبرة في الترجيح واقعا لجواز عدم بلوغ البعض إليه أو غفلته عنه
كما اتفق ذلك في حق جماعة من أصحابنا كما يظهر بالتتبع و
وجوب التنبيه على ذلك ممنوع مع أن اطلاع الحاكم على الرواية
المعارضة لما يعمل به عند غيره لا يوجب كونها معارضة له عنده
لجواز
قصورها في نظره عن المعارضة بتنزيله إياها على ما لا ينافي لما عمل
به لاختلاف الافهام في فهم مداليل الكلام أو لوجود مرجحات
ظفر بها بالتتبع موجبة لرجحان ما عمل به عنده لم يعثر عليها
المتحاكمان ومن هنا نرى أن بعض الأصحاب يدعي الشهرة في مسألة
على حكم ويدعيها الاخر فيها إلى خلافه وبعضهم يعدل بعض رجال
الرواية والاخر يقدح فيه إلى غير ذلك ومنها أن إلزام المتحاكمين
بالرجوع إلى المرجحات عند اختلاف الحكمين غير مستقيم غالبا
لأنهما كثيرا ما يكونان عاميين فيتعدد في حقهما اعتبار المرجحات
المذكورة ويمكن دفعه بتخصيصه بالمتمكن كما هو الظاهر من مساق
الرواية مع احتمال رجوع العامي في ذلك إلى نقل العارف الثقة و
تدبر وعن الشيخ الطبرسي في الاحتجاج عن سماعة ابن مهران قال
سألت أبا عبد الله عليه السلام قال قلت يرد علينا حديثان واحد
يأمر بالعمل به
والاخر ينهانا عن العمل به قال لا تعمل بواحد منهما حتى تأتي
صاحبك فتسأله عنه قال قلت لا بد أن تعمل بأحدهما قال اعمل بما
فيه
خلاف العامة وعنه فيه عن الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام
قال قلت يجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة قال ما جاءك عنا فقسه على
كتاب الله تعالى وأحاديثنا فإن كان يشبههما فهو منا وإن لم يكن
يشبههما فليس منا فقلت يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين
مختلفين فلا نعلم أيهما الحق فقال إذا لم تعلم فوسع عليك بأيهما
أخذت وعن ابن جمهور في كتاب عوالي اللئالي عن العلامة مرفوعا
عن
زرارة بن أعين قال سألت الباقر عليه السلام فقلت جعلت فداك يأتي
عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما أخذ فقال يا زرارة
خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر فقلت يا سيدي إنهما
معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم فقال خذ بما يقول أعدلهما
عندك وأوثقهما في نفسك فقلت إنهما معا عدلان مرضيان موثقان
فقال انظر ما وافق منهما العامة فاتركه وخذ ما خالفه فإن الحق فيما
خالفهم فقلت ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع فقال إذن
فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الاخر فقلت إنهما معا
موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع فقال إذن فتخير أحدهما
فتأخذ به وتدع الاخر ثم قال في الكتاب المذكور وفي رواية
أنه عليه السلام قال إذن فأرجه حتى تلقى إمامك فتسأله وفي الكافي
في الموثق عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن رجل اختلف
عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمره
437

بأخذه والاخر ينهاه كيف يصنع قال يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو
في سعة حتى يلقاه ثم قال فيه وفي رواية بأيهما أخذت من باب
التسليم وسعك وروى في عيون الاخبار عن الرضا عليه السلام أنه
قال في حديث طويل فما ورد عليكم من حديثين مختلفين
فأعرضوهما على كتاب الله فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو
حراما فاتبعوا ما وافق الكتاب وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على
سنن رسول الله صلى الله عليه وآله فما كان في السنة موجودا منهيا
عنه نهي حرام أو مأمورا به عن رسول الله أمر إلزام فاتبعوا ما وافق
نهي النبي صلى الله عليه وآله وأمره وما كان في السنة نهي إعافة أو
كراهة ثم كان الخبر الاخر خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول
الله صلى الله عليه وآله وكرهه ولم يحرمه فذلك الذي يسع الاخذ
بهما جميعا أو بأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع
والرد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وما لم تجدوه في شئ من
هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيه
بآرائكم وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون
حتى يأتيكم البيان من عندنا وفي الكافي عن ابن أبي يعفور قال
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من يوثق به
ومنهم من لا يوثق به قال إذا ورد عليكم فوجدتم له شاهدا من
كتاب الله ومن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وإلا فالذي جاءكم
أولى به وعن القطب الراوندي في رسالته في الصحيح عن عبد
الرحمن بن أبي عبد الله عليه السلام قال قال الصادق عليه السلام إذا
ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب الله فما وافق
كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه فإن لم تجدوهما في
كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة فما وافق أخبارهم فذروه و
ما خالف أخبارهم فخذوه وعنه فيها عن أبي عبد الله عليه السلام قال
إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا ما خالف القوم وعن
الاحتجاج في مكاتبة الحميري إلى صاحب
الزمان بعد ذكر السؤال الجواب في ذلك حديثان أما أحدهما فإنه إذا
انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير وأما الحديث الاخر فإنه
روي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس فليس عليه في
القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى
و بأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا وفيه أيضا عن الصادق
عليه السلام قال إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع
عليك حتى ترى القائم فترد إليه وفي الكافي عن أبي عبد الله عليه
السلام قال أ رأيت لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل
فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ قال قلت كنت آخذ بالأخير فقال
رحمك الله وفيه عن المعلى بن خنيس قال قلت لأبي عبد الله عليه
السلام إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ
قال خذوا به حتى يبلغكم عن الحي فخذوا بقوله ثم قال عليه السلام
أنا
والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم ثم قال فيه وفي حديث آخر خذوا
بالأحدث وعن البحار عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول
الله إذا حدثتم عني الحديث فانحلوا في أهناءه وأسهله وأرشده وإن
وافق كتاب الله فأنا قلته وإن لم يوافق كتاب الله فلم أقله واختلفوا
في تفسير هذا الحديث فقيل معناه إذا ورد عليكم أخبار مختلفة
فخذوا بما هو أهنأ وأسهل وأقرب إلى الرشاد والصواب مما علمتم
منا
فالنحلة كناية عن القبول ويحتمل أيضا أن يكون تلك الصفات قائمة
مقام المصدر أي انحلوا في هنا نحل وأسهله وأرشده والحاصل أن
كل ما يرد مني عليكم فاقبلوه أحسن القبول فيكون ما ذكره بعده في
قوة الاستثناء واستظهر بعض الأفاضل أن يكون المراد أسندوا
إلي من الأحاديث المنسوبة إلي ما كان أسهل وأوفق بما يقتضيه العقل
من الحس حتى يكون أهنأ على العامل وأرشد من غيره أي يكون
مقتضاه الهداية إلى الخيرات هذا مع مراعاة موافقته للكتاب أقول بل
إن الأظهر الأهنا والأسهل والأرشد عبارة عن الكتاب بقرينة قوله
صلى الله عليه وآله فإن وافق كتاب الله فالمعنى انسبوه إلى ما كان في
الكتاب الذي هو أهنأ وأسهل وأرشد من الحديث فإن وافقه فأنا
قلته وإن لم يوافقه فلم أقله ومما يؤكد الترجيح
بموافقة الكتاب الاخبار التي تدل على أن كل خبر مخالف كتاب الله
فهو زخرف وأنه يضرب به عرض الحائط وأنه لا يؤخذ به وأنه
يرد فإنه وإن لم تكن موردها مخصوصا بصورة تعارض الاخبار إلا أنها
تتناولها من جهة العموم والفحوى والأظهر أنها إما أن يخص
بصورة التعارض أو يكون المراد مخالفته لصريح الكتاب لما بيناه سابقا
من جواز تخصيص الكتاب وتقييده بالخبر الواحد وكذا يؤكد
ما مر من الترجيح بمخالفة العامة رواية علي بن أسباط قال قلت للرضا
عليه السلام يحدث الامر لا أجد بدا من معرفته وليس في البلد
الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك فقال عليه السلام ائت فقيه البلد
فاستفته في أمرك فإذا أفتاك بالشئ فخذ بخلافه فإن الحق فيه هذا
هذه جملة ما وقفنا عليه من الاخبار المتعلقة بالمقام ويستفاد منها بعد
ضم بعضها إلى بعض أن الخبرين المتعارضين إذا اعتضد أحدهما
بأعدلية الراوي أو أوثقيته أو الأشهرية أو التأخر ورودا أو الموافقة
للكتاب أو السنة النبوية أو الاخبار المروية عن الأئمة أو الاحتياط أو
المخالفة لاخبار العامة أو فتواهم أو ميلهم رجح على المجرد منها و
المشتمل منهما على متعدد منها يرجح على المشتمل منهما على ما
دونه والأشهرية تتناول الأشهرية في الرواية والفتوى والظاهر أن
المراد بالسنة النبوية الغير العامية جمعا بين ما دل على الترجيح
بموافقتها وما دل على الترجيح بمخالفة أخبار العامة ويمكن تعميم
السنة بتخصيص الترجيح بكل من صورتي الموافقة والمخالفة
بصورة الظن أو
438

أخبار العامة على ما لم يكن نبوية وفيه بعد واختلافها في ترتيب
الوجوه ذكرا يدل على عدم ترتبها حكما وإن كان قضية الترتيب
خلافه وخلو بعض عن بعض الوجوه غير قادح في اعتباره لان المثبت
مقدم على غيره وهل التعويل على هذه الوجوه تعبدي ولو
لإفادتها ظنا مخصوصا أو دائر مدار حصول الظن المطلق بها حتى إنه
لو تجردت عن إفادته لم يعول عليها ولو وجد هناك مرجح آخر
أقوى منها عول عليه دونها وجهان من الاقتصار على ظاهر الاخبار و
من دلالة فحواها على إناطة الترجيح بالظن ولا يقدح ضعف
أسانيد كثير منها لانجبارها بالعمل المفيد للظن بمقتضاها فإن انسداد
باب العلم في تعيين ما هو الحجة من الاخبار يوجب التعويل على
الظن فيه على ما سبق تحقيقه نعم لا عبرة بالتأخر ورودا في حقنا غالبا
كما سننبه عليه وليس في الاخبار تعرض لتعارض الوجوه
فيرجع فيه إلى ما قررناه من قاعدة انسداد باب العلم ويمكن استفادة
كون الشهرة أقوى من غيرها من تعليله عليه السلام بأن المجمع
عليه لا ريب فيه فإن المراد المجمع عليه المشهور بقرينة سابقه ولو
انتفت تلك الوجوه أو تكافأت فالأحوط الرجوع إلى بقية المرجحات
كما سننبه عليه ثم إن لبعضهم على الأخبار الواردة في المقام شبها لا
بأس بذكرها والتنبيه على رفعها منها أن الأفقهية والأصدقية و
الأورعية قد اعتبر في بعضها اجتماعها في الترجيح فلا يكفي أحدها و
فيه أن تلك الرواية لا دلالة لها على عدم الاكتفاء بأحدها بل غاية
الامر أنها لا يدل على الاكتفاء به فيكون كسائر المرجحات التي لم تذكر
فيها وقد ثبت اعتبارها بدليل آخر ومنها أن الورع والصدق
لا يستلزمان أقربية الحديث إلى الواقع بل إلى الصدور والمقصود في
الترجيح هو الأول وفيه أن الأقربية إلى الصدور ويستلزم
الأقربية إلى الواقع بحسب الظاهر لان التقية على خلاف الظاهر ولهذا
لا يصار إليها من غير شاهد بين ومنها أن موافقة الرواية للكتاب
إن كانت لقطعياته فهذا مما لا يحتاج فيه إلى العرض عليها لوضوح
الحكم حينئذ وإن كانت لظواهره المختلف فيها فهذا لا يناسب ما
اشتملت عليه من التأكيد والتشديد وأن المخالف زخرف وباطل لا
سيما بعد القول بجواز تفسير الكتاب بخبر الواحد وتخصيصه به و
خصوصا عند من منع حجية ظواهر الكتاب ما لم يرد تفسيرها في
الخبر مع أن الاحكام المستنبطة من الكتاب التي لها تعلق بالمقام
ليست إلا أقل قليل فلا وجه لتقديم العرض عليه وإن كان ذلك بالنسبة
إلى الآيات الدالة على أصالة البراءة والإباحة فهي وإن تكثر
فروعها في الاحكام إلا أن مخالفتها مما لا يوجب التأكيد المذكور بل
تجوز مخالفتها بخبر الواحد وغيره سيما عند من منع من حجيتها
وذهب إلى التوقف والاحتياط وفيه أن المستفاد من أخبار العرض
تطلب الحكم من الكتاب بالتفحص في آياته والتدبر فيما يحتمل
تعلقه منها بالحكم المبحوث عنه فإذا وجد فيها ما يوافق أحدهما
بالنص أو الظهور أخذ به وترك الاخر ولا يرد على ذلك شئ من
المناقشات المذكورة إذ مجرد كون الحكم مذكورا في نص الكتاب لا
يوجب اطلاع الفقيه عليه لا سيما بالنسبة إلى أهل الصدر الأول و
من قاربهم حيث إن المباحث الفقهية لم تكن عندهم مدونة ولا
مداركها محررة ومبينة وكون الدلالة ظاهرة لا يوجب الاختلاف في
ظهورها مع أن الكلام بالنسبة إلى من عرف الظهور ولا ينافيه ما
اشتملت عليه من التشديد والتأكيد لوجوب العمل بظاهر الكتاب
كصريحه واحتمال المخالفة للواقع لا ينافي ذلك لتطرقه إلى صريح
الكتاب أيضا نظرا إلى جواز كونه منسوخا وقد جاء مثل هذا
التأكيد والتشديد في الرد على الحاكم مع قيام الاحتمال المذكور في
حقه أيضا وفي نقض اليقين بالشك مع احتمال المخالفة هناك
أظهر ولا فرق في ذلك بين القول بحجية الكتاب مطلقا وبين القول
بحجية ما فسر منه خاصة أما على الأول فظاهر وأما على الثاني
فلان موافقة
أحد الخبرين له كاف في حجيته بناء على أن المراد بالتفسير ما يتناول
ذلك مع احتمال أن يلزم بحجية الخبر الموافق لما يقتضيه ظاهر
الكتاب بحسب القوانين اللغوية وإن منع من حجيته كالخبر الموافق
للشهرة وكذا لا فرق بين القول بجواز تفسير الكتاب بخبر الواحد و
تخصيصه به وبين القول بعدمه لان ذلك في صورة عدم المعارض و
الكلام هنا في صورة وجوده ودعوى أن الكتاب مشتمل على أحكام
قليلة جدا ممنوعة لاشتماله على عمومات كثيرة سارية في كثير من
مباحث الفقه كطهورية الماء وحلية البيع وحرمة الربا ولزوم
العقود وحلية المطعومات ما عدا المستثنيات إلى غير ذلك فإذا
تعارض الخبران وكان أحدهما يقتضي طهورية ماء أو حلية بيع أو
حرمة نوع من الربا أو لزوم عقد أو حلية شئ مما عدا المستثنيات و
دل الاخر على خلافه رجح الأول لموافقته لظاهر الكتاب وأما
الآيات الدالة على أصالة البراءة كقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا ما
آتاها فالعرض عليها إنما يجدي في الاخبار المتعارضة في تقرير
هذا الأصل في وجه وأما إذا تعارض الخبران في إثبات براءة واقعية أو
نفيها في خصوص مقام فعرضهما على تلك الآيات غير مجد
لتغاير المفادين نعم لو عمم العرض على الكتاب إلى العرض على
الدليل المستفاد منه أمكن الشمول لكنه بعيد ومن منع حجية أصل
البراءة واختار التوقف لا يلزمه الالتزام بذلك مع ورود الرواية فإن نفي
الحجية لا يستلزم نفي المعاضدة ولو سلم قلة ما اشتمل عليه
الكتاب من الاحكام فليس في ذلك ما يوجب عدم الاعتداد به عند
ذكر وجوه الترجيح إذ وظيفتهم عليهم السلام بيان الأحكام الشرعية
كثرت مواردها أو قلت وكذا
439

لا إشكال في تقديمه إذا كان أقوى من غيره مع أن التقديم في الذكر لا
يوجب التقديم في الرتبة كما نبهنا عليه في دفع التنافي المتوهم
بين أخبار العرض ومنها الامر بالتخيير في بعضها من أول الامر وهو
ينافي اعتبار المرجحات في غيره وفيه أن تلك الرواية محمولة
على تقدير عدم وجود المرجحات جمعا بينها وبين ما دل على
اعتبارها ومنها أن هذه المباحث من مباحث الأصول فلا يثبت بأخبار
الآحاد لأنها لا يفيد العلم وفيه أن الظنون التي ينتهي إلى الدلائل
العلمية معتبرة في الفقه والأصول كما أن الظنون التي لا ينتهي إليها لا
تعتبر في شئ منهما ولا ريب أن المرجحات المقررة مما يظن
اعتبارها للأخبار المذكورة وغيرها وقد قررنا أن الظن معتبر في
الأدلة لقضاء انسداد باب العلم مع بقاء التكليف به
فصل كما يقع التعارض بين غير الاخبار وبين الاخبار وغيرها كذلك
يقع التعارض بين الاخبار
فإذا تعارض الخبران المعتبران فإن أمكن الجمع بينهما بحمل أحدهما
على الاخر على وجه يساعد عليه العرف والاعتبار عند
ملاحظتهما وهو الجمع على الوجه المقبول رجح على بقية مراتب
الترجيح سواء كانا مقطوعي السند أو مظنونيه أو كان أحدهما قطعيا و
الاخر ظنيا والمراد بالجمع على الوجه المقبول هو أن يكون الجمع
بحيث يستظهر مفاده من الخبرين بحسب متعارف الاستعمال بعد
ضم أحدهما إلى الاخر ولو بعد النظر إلى احتمال ورود أحدهما مورد
التقية حيث يتأتى فيه هذا الاحتمال وأن لا يكون بعده عن الظاهر
بحيث يقدح في الوثوق بصحة صدور أحدهما حيث لا يكونان
قطعيين وهذا مما يختلف باختلاف مراتب البعد وقوة السند و
أمارات
التقية وحيث ينتفي الامر الأول إما لتعدد الوجوه وتساويها أو
لاحتمال التقية في أحدهما على وجه لا يكون الحمل عليها أبعد من
ارتكاب الجميع أو ينتفي الامر الثاني بحيث لا يكون عدم صحة
صدوره أبعد من وجه الجمع كان الجمع مردودا غير مقبول والحجة
على
وجوب الجمع على الوجه الأول جريان طريقة الأصحاب عليه وهو
إن لم يكن إجماعا مفيدا للقطع فلا أقل من كونه شهرة قوية مفيدة
للظن القوي وقد حققنا وجوب التعويل في مثل المقام عليه ويؤكده
مساعدة الاعتبار فإن الجمع مع الامكان أولى من الطرح بمعنى أنه
أقرب في النظر من الطرح فيجب الاخذ به لما مر قال في غوالي اللئالي
على ما نقل عنه كل حديثين ظاهرهما التعارض يجب عليك أولا
البحث عن معناهما وكيفية دلالات ألفاظهما فإن أمكنك التوفيق
بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات فاحرص عليه واجتهد
في
تحصيله فإن العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما و
تعطيله بإجماع العلماء فإذا لم
يتمكن من ذلك ولم يظهر لك وجهه فارجع إلى العمل بهذا الحديث
وأشار به إلى مقبولة عمر بن حنظلة وهذا كما ترى تصريح بقيام
الاجماع على وجوب الجمع على الوجه الذي قررناه وقد يستدل
على أولوية الجمع بأن دلالة اللفظ على تمام معناه أصلية وعلى جزئه
تبعية فعلى تقدير الجمع يلزم إهمال دلالة تبعية وهو أولى مما يلزم
على تقدير عدمه من إهمال دلالة أصلية وأورد عليه بأن العمل
بأحدهما عمل بدلالة أصلية وتبعية تابعة لها وهو أولى من العمل
بكل منهما من وجه لأنه عمل بدلالتين تبعيتين ورد بأن أولوية العمل
بأصلية وتبعية من العمل بتبعيتين إنما يسلم إذا استفيدتا من دليلين لا
من دليل واحد لاستلزامه الطرح المرجوح بالنسبة إلى الجمع هذا
ملخص ما نقل في الموارد الثلاثة وفي الكل نظر أما في الرد فلانه
بظاهره مصادرة لان الكلام في أولوية الجمع على الطرح فلا سبيل
إلى التمسك به في توجيه الدليل وأما في الايراد فأما أولا فلانه لا
يتجه في العام والخاص المطلقين وما في معناهما كما هو مورد
الاستدلال فإن في الجمع حينئذ أيضا عملا بدلالة أصلية هي دلالة
الخاص مثلا وبدلالة تبعية هي دلالة العام بالنسبة إلى غيره نعم يتجه
الايراد حينئذ بأن ذلك حاصل على تقدير ترك الجمع فلا وجه
للترجيح وجوابه يعرف مما يأتي وأما ثانيا فلان العمل بالدلالة التبعية
التي هي في ضمن الدلالة الأصلية راجع إلى العمل بالدلالة الأصلية إذ
لا مغايرة بينهما إلا بمجرد الاعتبار بخلاف العمل بالدلالة التبعية
الأخرى فيرجع الحاصل إلى ترجيح دلالتين متغايرتين إحداهما أصلية
والأخرى تبعية على العمل بدلالة واحدة أصلية وأما في أصل
الدليل فلان حجية الأولوية المذكورة غير بينة ولا مبينة كالأولوية
المذكورة في أصل الدعوى فيتوجه المنع عليها وقد يستدل أيضا بأن
الأصل في كل من الامارتين الأعمال فيجمع بينهما بما أمكن
لاستحالة الترجيح من غير مرجح نقله الفاضل المعاصر عن تمهيد
القواعد أقول مراده بالامكان الامكان بحسب متفاهم العرف ومرجعه
إلى ما ذكرناه وقوله لاستحالة الترجيح من غير مرجح يريد به أنا إن
عملنا بأحد المتعارضين وطرحنا الاخر مع إمكان الجمع لزم
الترجيح من غير مرجح إذ ليس طرح أحدهما والعمل بالآخر أولى من
العكس لا يقال قد يتحقق لأحدهما مرجح من حيث المتن أو
القرائن الخارجية فكيف يصح نفيهما قلنا لا تصلح تلك المرجحات
للترجيح مع إمكان الجمع بحمل الظاهر على التصريح مثلا إذا تعارض
العام والخاص وكان الأول أقوى سندا فقوة سنده لا تصلح مرجحا
لتقديمه على الخاص لضعف دلالة الأول وقوة الثاني فتقديمه عليه
ترجيح من غير مرجح ولا يذهب عليك أن هذا تعليل قاصر عن
440

إفادة المقصود لأنه إنما تقتضي بطلان تعيين أحدهما للحجية وهو
غير متعين على تقدير ترك الجمع لامكان طرحهما معا أو البناء على
التخيير قال الفاضل المعاصر بعد نقل العبارة المتقدمة ولم أتحقق
معنى قوله لاستحالة الترجيح من غير مرجح إذ المفروض عدم
ملاحظة المرجح وإلا فقد يوجد المرجح لأحدهما ثم وجه كلامه بما
حاصلة أن المراد أنه بعد الجمع والتأويل يكون موضوع كل منهما
مغايرا لموضوع الاخر فالعمل حينئذ بأحدهما دون الاخر ترجيح بلا
مرجح أقول قد عرفت مما قررنا سقوط الايراد وأما ما وجه به
كلامه فضعفه أوضح من أن يحتاج إلى بيان لظهور أن مقصوده إنما هو
لزوم الترجيح بلا مرجح في ترك الجمع لا في ترك العمل
بأحدهما بعد الجمع إذ لا إشكال حينئذ في وجوب العمل بها بعد
ثبوت حجيتها لعدم المنافاة حتى يستند فيه إلى لزوم الترجيح من غير
مرجح بل لا يستقيم التعليل لجواز وجود مرجح في أحدهما بل كان
اللازم حينئذ أن يعلل بأن مراعاة المرجحات يتوقف على وجود
منافاة بين الدليلين فإذا لم يكن بينهما منافاة وجب العمل بكل
منهما ومن هذا الباب حمل كل من العام والمطلق على الخاص و
المقيد
عند معارضة خبرها لخبرهما وحمل خبر الأمر والنهي على
الاستحباب أو الكراهة عند دلالة المعارض على الرخصة في الترك أو
الفعل
لان أهل العرف إذا عرض عليهم الخبران المتعارضان بأحد هذه
الوجوه يفهمون منهما ذلك وقد جرى على هذا طريقة أصحابنا قديما
و
حديثا فيما وقفنا عليه من كلماتهم وقد أنكر بعض متأخري المتأخرين
حمل الأمر والنهي على الاستحباب والكراهة عند معارضة
خبرها لخبر الرخصة لأنه طريق جمع لا إشارة إليه في أخبار الباب بل
ظاهرها يتعين الرجوع إلى المرجحات المقررة من الأعدلية و
الأشهرية وغير ذلك والاخذ بما يشتمل عليها وطرح المخالف و
ضعفه واضح أما أولا فلورود النقض عليه بالتخصيص والتقييد إذ لا
تعرض في أخبار الباب لهما أيضا وأما
ثانيا فلان بعض تلك الأخبار مشتمل على بيان تعارض الأمر والنهي و
الظاهر أن الظاهر منهما غير صورة العلم بورودهما أو ورود
أحدهما في مقام توهم الحظر أو الوجوب وحينئذ فلا مساس له
بمحل البحث وفي بعضها حديثان متعارضان أو متخالفان والمتبادر
منهما غير صورة يمكن الجمع بينهما على الوجه الذي سبق حملا
للمطلق على الفرد الظاهر ولو بمساعدة فهم الأصحاب أو لانتفاء
الجابر
لها في غيره فيقتصر في العمل على مورده أو لقدح العمل في إطلاقه
فلا يعمل به في محله وفي رواية العيون دلالة على ذلك مع أن اللازم
من انسداد باب العلم في تعيين ما هو المعتبر من خبر الواحد على ما
مر بيانه وجوب التعويل فيه على الظن والخبران المتعارضان
اللذان يجمع بينهما على الوجه المذكور من هذا القبيل وأما إذا كان
الجمع بوجه لا يساعد عليه فهم العرف عند عرض الخبرين عليهم فلا
يصار إليه وإن أمكن في نفسه واحتمل بحسب اللفظ كالأمر والنهي
المتعارضين إذا لم يعلم سبق توهم الخطر أو الوجوب عليهما فإنه و
إن أمكن الجمع بينهما حينئذ بحملهما على الإباحة أو حمل الامر
على الاذن أعني الجواز المطلق والنهي على الكراهة أو حمل الامر
على
الاستحباب والنهي على الاذن في الترك إلا أن شيئا منها لا يساعد
عليه فهم أهل العرف ولا يتبادر إلى أفهامهم عند وقوفهم على
الخبرين فمثل هذا الجمع غير معتبر عندنا وأما ما يرى من أن الشيخ
في كتابي الحديث قد ارتكب في الجمع بين الاخبار وجوها
مستبعدة ومحامل مستبشعة في الظاهر فالظاهر أنه إنما أراد نفي
قطعية التنافي بين الاخبار كما توهمه بعض ذي الفطرة المستقيمة
فعدل به عن الطريق المستقيمة كما نبه عليه في أول كتاب التهذيب لا
أن تلك الوجوه مما يصح الاستناد إليها والاستدلال بها كما
يتوهمه من لا خبرة له بحقيقة الحال واعلم أن ما ذكرناه من تقديم
الخاص على العام فإنما هو بالنسبة إلى العام المطلق المجرد عن
القرائن
المؤكدة لعمومه ولو بالنسبة إلى مورد الخاص وأما معها فلا بد من
اعتبار مزيد قوة في الخاص بحيث يصلح به هي لمقاومته وإلى هذا
ينظر تقديم الأكثرين لعموم قوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن الدال
على اشتراط إذن مالك الأمة في نكاحها على وجه العموم على
صحيحة سيف بن عميرة أو موثقته الدالة على جواز التمتع بأمة المرأة
بدون إذنها نظرا إلى اعتضاد العموم هناك بدلالة العقل والنقل
على قبح التصرف في الأموال المحترمة بدون إذن أربابها مع وروده
في الكتاب وورود المخصص في خبر الواحد ومثله منع جماعة
من أصحابنا من تناول الثمرة بدون الاذن في مسألة المادة مع ورود
الرخصة به في جملة من الاخبار وإن عاضده ظاهر بعض الاخبار
أيضا وقس على ذلك الحال في نظائره واعلم أيضا أن المعتبر في مقام
التعارض تمام مدلول اللفظ ولهذا جعل العام والخاص
المتعارضان وشبههما من باب ما يجب فيه الجمع ولو اعتبر بعض
المدلول كما لو اعتبر دلالة العام في مورد الخاص فقط كان من باب
ما يجب فيه طرح الأضعف والاخذ بالأقوى إلا أنه خارج عن مصطلح
القوم وأما العامان من وجه فلا ريب في أن تخصيص أحدهما
بالآخر يستدعي مرجحا يعين المراد لان تخصيص أحدهما بالآخر
ليس بأولى من تخصيص الاخر به فلو اعتضد أحدهما بشهرة الفتوى
أو بدليل لفظي مؤكد لعموم أحدهما اتصل بالعام أو انفصل عنه أو كان
عموم أحدهما وضعيا والاخر حكميا جاز تخصيص الاخر
المجرد عن ذلك به ولو انتفت سائر المرجحات وكان عموم أحدهما
موافقا للأصل
441

الاحتياط حيث يعتبر فالتحقيق عدم صلوح ذلك مرجحا للإرادة
فيتعين التوقف في مقام التخصيص نعم يتجه في مقام العمل الاخذ
بما
يوافق أحدهما أخذ بأقوى الدليلين إلا أنه لا يكون حينئذ دليلا
اجتهاديا كما في صورة الاخذ بأحدهما من باب التخيير لفقد المرجح
بالكلية وكذا لو اعتضد أحدهما بقوة السند ولو من جهة شهرة النقل أو
مخالفة العامة في وجه قوي فإن ذلك بمجرده لا يصلح قرينة على
إرادة العموم والتخصيص وإن وجب الاخذ بما يوافق أحدهما كما مر
واعلم أيضا أن العبرة في المرجحات المعتبرة في ترجيح أحد
الخبرين المتعارضين على الاخر إنما هو بما يقوى معه الظن بصحة
صدور الخبر وهذا المعنى قريب إلى مساق الأخبار الواردة في هذا
الباب بل هو المظنون منها كما يرشد إليه اختلافها في ذكر المرجحات
وتنزيلها على وجوب الاخذ بها تعبدا لعله بعيد ولا يكاد يظهر
ثمرة للوجهين إذ المرجحات المذكورة فيها نصا أو ظهورا من أعدلية
الراوي وأوثقيته وأفقهيته ومن موافقة الخبر الكتاب أو السنة
خصوصا أو عموما أو مشابهة لأحدهما ومعاضدته للشهرة فتوى أو
رواية أو للاحتياط ومخالفته لمذهب العامة أو لما هم إليه أميل أقوى
من سائر المرجحات التي تذكر في الباب وأما إذا تعارض بعض هذه
المرجحات مع بعض فلا إشكال في ترجيح الأقوى منها في النظر
لخلو أخبار الباب عن بيان حكمه فيرجع فيه إلى الظن لما مر ثم على
ما قررنا لا يكاد يوجد أحد المرجحات الظنية على أحد الخبرين مع
كون الظن بالحكم المستفاد من الاخر أقوى ولو قدر وقوعه فاليرجح
للخبر المعتضد بمرجح ظني إذ لا عبرة بالظن بالحكم ما لم يؤد
إلى الظن بالدليل وقد يتوهم التنافي بين الظنيين ويدفعه تعدد
الموضوع ولهذا قد يقطع ببطلان الدليل ويظن بصحة مقتضاه
كالقياس والاستحسان وذهب الفاضل المعاصر إلى ترجيح الظن
بالحكم على الظن بالدليل عند التعارض لان الأول خاص لاقتضائه
ترجيح الخبر الخاص بالمسألة الخاصة والثاني عام
لدلالته بالعموم على ترجيح المعتضد بالامارة الخاصة على غيره و
لان الخبر الوارد في العلاج لا يفيد الظن حينئذ أصلا لان المراد
اختبار ما هو أقرب إلى الواقع لا ما هو أقرب إلى الصدور فإنه بمجرده
لا يجدي لجواز الاستناد إلى التقية ونحوها ولأن ما دل على
ترجيح الدليل المعتضد بالامارة الخاصة دليل ظني وهو الخبر الوارد
في العلاج فلا يقاوم ما دل على حجية ظن المجتهد بالحكم من
الدليل العقلي أعني دليل انسداد باب العلم وبقاء التكليف الموجب
عند العقل لفتح باب الظن فإن العمومات العقلية لا تصلح للتخصيص
بالقطعي فضلا عن الظني ورد القول بثبوت حجية خبر الواحد
بالاجماع والآيتين بأنهما بعد تسليم مساعدتهما على إثبات حجيته
إنما
يثبت بهما حجيته في الجملة ولو سلم فلا بد من إثبات حجية أخبار
العلاج بهما وهي متعارضة ولا سبيل إلى إثبات حجيتها مطلقا
لامتناع العمل بها مع تعارضها فإن رجح بعضها بتلك الأخبار فمع
تطرق المنع إلى عمومها لذلك ربما يوجب الدور وإن رجح لأمر
خارج فليس إلا العمل بالظن لا الخبر من حيث هو خروج عن محل
الفرض هذا ملخص كلامه أقول ما ذهب إليه من ترجيح الظن بالحكم
على الظن بالدليل مطلقا منحرف عن مسلك السداد وما تمسك إليه
من الوجوه متضحة الفساد أما الأول فلان الفرض حصول الظن
بحجية الدليل الخاص وهو كالظن بثبوت الحكم الفرعي الخاص في
أن كلا منهما ظن خاص متعلق بحكم شرعي ومجرد كون دليل
الأول عاما غير قادح في مقاومته للثاني بعد فرض حصول الظن به في
مورده الخاص ولئن منع حصول الظن به خرج عن محل الفرض
إذ البحث على تقدير حصوله ولئن رجح الثاني بأنه ظن أقوى من
الأول فمع خلو كلامه عنه مدفوع بأنه غير مطرد بل قد يتساويان أو
يترجح الأول فيبطل دعوى إطلاق الترجيح وأما الثاني فلان المعتبر
في باب التراجيح ما هو أقرب إلى الواقع عند الشارع لا عند
المجتهد فلا ينافي اعتباره لامارة خاصة مخالفة لظن المجتهد
فظنون المجتهد وإن كان أقرب عنده إلى الواقع إلا أن العمل بالامارة
المخالفة لها مما يجوز أن يكون أقرب عند الشارع يدلك على
ذلك عدم اعتداده بالقياس والاستحسان وإن أفاد الظن بمؤداهما و
بشهادة العدل الواحد والفاسقين وإن أفادا ظنا أقوى من شهادة
العدلين واعتباره للأصول الظاهرية وإن كان مؤداها موهوما في نظر
العامل بها إلى غير ذلك نعم يجوز أن يكون الترجيح بما هو
أقرب عند المجتهد أقرب عند الشارع لكن مجرد الجواز لا يجدي و
لئن ادعي ثبوته في المقام وجعل من تتمة الدليل كان مصادرة لان
الكلام في إثباته مع أنا نمنع انحصار الوجه في التراجيح فيما هو أقرب
إلى الواقع عند الشارع أيضا لجواز أن يكون هناك وجه آخر
يقتضي الترجيح أيضا كما يرشد إليه تشريع الأصول الظاهرية في أظهر
الوجهين وأما الثالث فلان انسداد باب العلم في الاحكام
الفرعية إنما تقتضي حجية ظنون خاصة فيها وهي الظنون التي لا دليل
على عدم حجيتها وإن كان ظنيا إذا كان الظن الحاصل منه أقوى
من الظن الحاصل من دليل الحكم لان هذا هو القدر المتيقن من دليل
الحكم وليس هذا من باب التخصيص بل الاختصاص فإن الحكم
العقلي لم يكن في نفسه عاما حتى يخص بل مختص بعنوان خاص و
هو ما ذكرناه ولا يخفى ما فيه لان الاعتداد بالظن مبني على بقاء
التكليف وانسداد باب العلم فإذا فرض تحققهما بالنسبة إلى الاحكام
الفرعية خاصة لزم حجية الظن فيها خاصة لان في حجية الظن بها و
عدمها بل التحقيق أن يقال مستند حجية الظن من انسداد باب العلم و
بقاء التكليف أمر مشترك بين الاحكام الأصولية و
442

والفروعية وقضية ذلك جواز التعويل على الظن في الاحكام
الأصولية خاصة إذ مرجع الكلام في ذلك إلى العلم بأن الشارع قد
كلفنا
بأحكام خاصة عن أدلة خاصة ومحصله العلم بأنه قد كلفنا بالعمل
بمؤدى أدلة خاصة وحيث لا سبيل لنا إلى معرفة تلك الأدلة بطريق
العلم وجب الاخذ فيه بالظن فلا يثبت بذلك الظن في الاحكام كما
زعمه وقد مر تحقيق ذلك ثم ما ذكره من أن أخبار العلاج متعارضة
يعني على وجه يتعذر الجمع ليتم ما ذكره غير سديد بل المستفاد منها
أن الوجوه المذكورة من المرجحات وإن ذكر بعضها من بعض و
ترك في آخر أو قدم ذكره في بعض وآخر في آخر وكذا لا منافاة بين
الامر بالارجاء في البعض وبين الحكم بالتخيير في آخر
لامكان حمل حديث الارجاء على زمن ظهور الحجة كما يشير إليه
لفظ الارجاء إلى لقاء الامام وحمل حديث التخيير على زمن الغيبة و
سيأتي توضيح ذلك وكذا لا منافاة بين ما دل منها على الارجاء من
أول الامر وما دل منها عليه بعد تعارض بعض المرجحات لامكان
الجمع بتقديم المثبت فيقيد الاخر بصورة عدم المرجح مع إمكان
حملها على اختلاف الأشخاص بحسب التمكن من ملاحظة
المرجحات و
عدمه أو اختلاف الأزمان بحسب تيسر الوصول إلى الامام وتعسره أو
اختلاف الاحكام بحسب قلة الاحتياج إليها وشدته وبالجملة إذا
نزلنا تلك الأخبار على زمن الظهور فلا حاجة لنا إلى بيان وجه الجمع
بينهما
فصل إذا تعارض الخبران المعتبران بحيث لا يمكن الجمع بينهما
بوجه يساعد عليه أهل العرف عند عرضهما عليهم فإن كان لأحدهما
رجحان على الاخر بأحد الوجوه المذكورة في الاخبار أو غيرها
تعين الاخذ به وترك المرجوح ووجوه الترجيح خمسة الأول ما
يتعلق بالاسناد فمقطوع السند يرجح على مظنونه ومظنونه بظن أقوى
يرجح على مظنونه بظن غير أقوى فخبر العدل والأوثق يرجح على
خبر العدل والثقة وخبر معلوم العدالة والوثاقة يرجح على خبر
مظنونهما وخبر مظنونهما بظن أقوى يرجح على خبر مظنونهما بظن
غير أقوى فخبر من عدله أو وثقه اثنان فصاعدا يرجح على خبر
من عدله أو وثقه دون ذلك ويقدم خبر من لا خلاف في وثاقته على
خبر من اختلف في وثاقته وخبر من أجمع على تصحيح ما يصح عنه
على خبر من لم يجمع عليه وخبر من أجمعوا على كونه من أصحاب
الاجماع على خبر من اختلف فيه وخبر من عدله أو وثقه الأعرف أو
الأوثق أو الأضبط أو من يضايق في أمر العدالة على خبر من عدله أو
وثقه غير الأعرف أو الأوثق أو الأضبط أو من يتوسع في العدالة و
مثله الكلام في الأضبط والضابط وكذا لو كان تزكية أحدهما مبنية
على الاختبار والاخر على النقل أو استندت في أحدهما إلى نقل
أقوى وفي الاخر إلى نقل أضعف أو استندت في أحدهما إلى طريق
أقوى كالعلم وفي الاخر إلى طريق أضعف كالظن أو تعرض في
أحدهما لذكر سبب معتد به ولم يتعرض له في الاخر ويرجح خبر
الموثق خصوصا على الموثق عموما والموثق بلفظ صريح على
الموثق
بلفظ غير صريح والموثق في كتاب معتمد على الموثق في كتاب غير
معتمد وكذا الحال بالنسبة إلى الأصرح والصريح وما هو أكثر
اعتمادا وما هو أقل اعتماد أو يرجح خبر الممدوح بمدح أقوى على
الممدوح بمدح أضعف ومن أكد توثيقه
على من لم يؤكد والثقة الامامي على الثقة غير الامامي ومن صرح
بكونه إماميا على من لم يصرح به والأقرب إلى طريقة الامامية
كالفطحي على الأبعد كالزيدي والعالم على غير العالم والفقيه على
غير الفقيه والأعلم والأفقه على العالم والفقيه ومن كان أكثر
مصاحبة مع الامام أو الرواة على قليلها ومن كان أكثر رواياته مقبولة أو
خالية عن التخليط على من لا يكون كذلك وتقدم رواية الأكثر
على رواية الأقل وقليل الواسطة وهو المعبر عنه بعلو الاسناد على
كثيرها ما لم يبلغ حد الشذوذ الرافع للوثوق باتصال السند أو
يستبعد باعتبار الطبقة ويرجح رواية صحيح البصر على مكفوفه أو
مئوفه وصحيح العقل في جميع الأحوال على مختلفة في بعضها و
صحيح البدن على سقيمه وذكي السماع على ثقيله وسريع الانتقال
على بطيئه وقوي الحفظ على ضعيفه وكاتب الرواية عند سماعها
على حافظها والمركب منهما على المتفرد بأحدهما ومن يتعين أن
يكون هو الثقة بمن يحتمل أن يكون غيره ومثله بقية المرجحات و
قد يرجح الزاهد على غيره ويمكن إرجاعه إلى الأعدلية الثاني
الترجيح بكيفية الرواية فرجح الرواية بطريق المشافهة على الرواية
بطريق المكاتبة ومن استند إلى طريق أقوى كالتحمل نهارا على من
استند إلى طريق أضعف كالتحمل ليلا حيث يتطرق إليه احتمال
الاشتباه ومثله ما لو تحملها أحدهما في مثل صحيح حج أو جمعة و
الاخر في غيره أو قال أحدهما سمعت من قريب وقال الاخر من بعيد
أو روى أحدهما في زمان أو مكان يشتد فيه التقية والاخر في غيره و
إن كانتا مخالفتين للعامة أو موافقتين لهم لاحتمال الاتقاء في
الأول وهو مجرد إلقاء الخلاف بين الشيعة ليسلموا من فتن العامة أو
كان تحمل إحداهما بطريق أقوى كقراءة الشيخ عليه والأخرى
بطريق أضعف كإجازته له ومثله ما لو كان أحدهما سائلا والاخر
سامعا لان الكلام مسوق لتفهم السائل ومن
تحملها قريبا كقوله سمعته منذ ستة أشهر على من تحملها بعيدا كقوله
سمعته منذ عشرين سنة ولا يلزم سبق الأول ليندرج في القسم
الآتي لجواز المساواة والعكس وذلك لاختلاف زمن الرواية ويرجح
المرفوع على المقطوع إن قلنا
443

بحجيته والمقطوع بعدم القطع على مظنونه ومظنونه الأقوى على
مظنونه الأضعف والمصرح على المضمر ومن ذكر الإمام عليه السلام
بعنوان صريح على من ذكره بعنوان ظاهر فيه كالعالم والفقيه وإن
أردفه بقوله عليه السلام لجواز أن يكون ذلك من صاحب الكتاب
تعويلا على الظاهر ويرجح المسند على المرسل حيث نقول بحجيته
كمراسيل من لا يرسل إلا عن ثقة والقول بمساواة مراسيل العدل
لما بيناه كما نقل عن عبد الجبار محتجا بأن العدل لا يرسل إلا عن ثقة
متضح الفساد الثالث الترجيح باعتبار تأخر الورود فإذا علم أن
إحدى الروايتين متقدمة في الورود وتعينت عمل بالمتأخرة لأنهما إن
كانتا نبويتين أو كانت المتقدمة نبوية كانت الثانية ناسخة أو
كاشفة عن ورود الناسخ فيتعين العمل بها وإن كانتا مرويتين عن الأئمة الأطهار
عليهم السلام كان إحداهما للتقية أو الاتقاء إذ لا نسخ
فإن كانت الأولى تعين العمل بالأخيرة وإن كانت الأخيرة تعين العمل
بها أيضا من باب التقية أو الاتقاء ولا يذهب عليك أن هذا إنما يتم
إذا كان التقية أو الاتقاء في العمل بها لا في ورودها لكن يكفي في
الترجيح مجرد الاحتمال مضافا إلى ما ورد في بعض أخبار التعارض
من الاخذ بالأحدث وقد مر لكن يشكل هذا الترجيح بالنسبة إلى مثل
زماننا حيث لا تقية في العمل غالبا ولا ثمرة للاتقاء فالوجه عدم
الاعتماد على هذا الوجه بالنسبة إلى أخبار الأئمة عليهم السلام ولهذا
ترى أن معظم أصحابنا لا يلتفتون إليه في مقام التعارض الرابع
الترجيح باعتبار المتن وهو أمور منها ترجيح ما خالف قول العامة على
ما وافقه وما خالف القول الثابت لهم زمن الصدور أو المشهور
بينهم أو خالف قول أعرفهم أو من كان في بلده عليه السلام على ما
خالف القول الحادث بعد صدور الرواية أو القول الغير المشهور
بينهم أو قول غير الأعرف أو قول من لم يكن في بلده عليه السلام وما
خالف قول من كان في بلده عليه السلام غالبا على قول من كان
فيه أقل وما خالف قول من عاصره عليه السلام في أوقات حكمه عليه
السلام غالبا على قول من قل معاصرته له فيها ثمرة المعلوم من
هذه الوجوه أقوى من
مظنونها والمظنون بالظن القوي أقوى من المظنون بالظن الضعيف و
هو أقوى من المشكوك فيه وقد يتوهم اعتبار وجود القول
الموافق في زمن الامام الذي نسب إليه الرواية وليس بمعتمد
لمخالفته لاطلاق الأخبار الدالة على الاخذ بما خالف العامة من غير
إشارة
إلى التقييد مع أن ما ورد في بعضها من التعليل بأن الرشد في خلافهم
يدل على أن للاخذ بخلافهم وجها آخر غير ورود الموافق على
سبيل التقية وهو أن المخالفين للحق لذواتهم المنكوسة وقلوبهم
المعكوسة لا يرتضون غالبا إلا الباطل فالرواية التي يخالف قولهم
أقرب إلى الصحة والصواب وهذا نظير ما روي عن النبي صلى الله
عليه وآله من الامر بمشاورة النساء ومخالفتهن ويظهر من هذا
البيان أن الخبر المخالف لقول من هو أشدهم عنادا لأهل الحق أرجح
من المخالف لأقلهم عنادا لهم ومنها ترجيح الفصيح على الركيك
لان الفصيح أشبه بكلام المعصوم عليه السلام بخلاف الركيك حتى أن
بعضهم رده في غير صورة التعارض محتجا بأن المعصوم عليه
السلام لا يتكلم به ورد بجواز نقل الحديث بالمعنى وعلى هذا
فمرجع هذا الوجه إلى ترجيح ما يحتمل أن يكون نقلا باللفظ على ما
لم
يعلم على أنه نقل بالمعنى مع أن التعبير الركيك يدل على قصور
المعبر في التعبير ولو بالنسبة إلى خصوص ذلك المقام فربما يعجز
عن تأدية المعنى على وجهه فيضعف الوثوق بنقله بخلاف الفصيح و
منها ترجيح الأفصح على الفصيح ذكره بعضهم في الحديث النبوي
معللا بأنه صلى الله عليه وآله كان مخصوصا من الفصاحة بما لا
يشاركه فيه غيره فيغلب على الظن اختصاصه صلى الله عليه وآله
بالأفصح ورد بأنه صلى الله عليه وآله كان يتكلم بالفصيح والأفصح و
دعوى اختصاص الأفصح به ممنوعة لان الكلام في الأفصح الذي
يمكن صدوره من غيره صلى الله عليه وآله ومنها أن يكون أحدهما
مشتملا على أسلوب كلام المعصوم عليه السلام الذي نسب إليه دون
الاخر وطريق معرفة ذلك في الاخبار المروية عن أمير المؤمنين عليه
السلام والأدعية المأثورة عن الأئمة عليهم السلام والزيارات
الواردة عنهم عليهم السلام جلي غالبا وبالنسبة إلى غير ذلك لا يخلو
من نوع خفاء
غالبا ومنها أن يكون أحدهما دالا على المعنى بطريق الحقيقة والاخر
بطريق المجاز أو دل أحدهما على المقصود بالوضع الشرعي أو
العرفي والاخر بالوضع اللغوي فيرجح الحقيقة على المجاز لأنها أظهر
ولا يفتقر في الدلالة إلى القرينة بخلاف المجاز والحقيقة
الشرعية أو العرفية على اللغوية لان التكلم على حسب العرف دون
اللغة والتحقيق أن الدال بطريق المجاز وإن كان محفوفا بقرينة
معينة لمعناه المجازي لا رجحان للحقيقة عليه وكذلك لا رجحان
للدال بالوضع الشرعي أو العرفي على الدال بالوضع اللغوي لشيوع
المجاز حتى قيل أكثر اللغات مجازات وتداول الاستعمال بحسب
الأوضاع اللغوية نعم لو اتحد اللفظ وكان المعنى اللغوي مهجورا أمكن
ترجيح العرفي لبعد الاستعمال في المهجور وإن كان مع القرينة وقد
يرجح العام الغير المخصص قد يكون حقيقة على ما سبق التحقيق
فيه وربما أمكن العكس لان لان دلالة العام المخصص أقوى للعلم
بالقدر المخصص منه ووضوح دلالته على الباقي بخلاف العام الغير
المخصص إذ شيوع التخصيص يأبى عن وضوح دلالته على العموم
الخامس الترجيح باعتبار
444

خارجي فيرجح ما يوافقه دليل معتبر من كتاب أو سنة أو إجماع أو
عقل على ما لا يوافقه لا يقال فالحجة إذن في الدليل المعتبر لا في
الخبر المعتضد به لأنا نقول تعدد الدليل مما لا غبار عليه والاعتضاد
موجب للوثوق بصحة أحد المتعارضين فيضعف معارضته عن
مقاومته فيسقط عن درجة معارضته مع أن الدليل المعتبر قد لا يصلح
لمعارضة المعارض كما لو كان الدليل مطلقا أو عاما أو الخبر مقيدا
أو خاصا لكن يصلح المعارض لمعارضته لمساواته معه في الدلالة
فيرجح عليه بعد الاعتضاد وأما الخبر الموافق لأصل البراءة أو أصل
العدم ويقال له المقرر إذا عارض المخالف له ويقال له الناقل ففي
الترجيح قولان فقيل يرجح المقرر ويبنى على تقديم صدور الناقل
عليه ليكون كل منهما تأسيسا لما لا يثبت إلا به ولو رجح الناقل كان
المقرر تأكيدا لما دل عليه العقل والتأسيس أولى منه ورد
بمعارضة غلبة المقرر في الأحكام الشرعية والظن يلحق الشئ
بالأعم الأغلب وفيه منع غلبة المقرر في الاحكام بحيث يفيد الظن
بلحوق
ما يجهل حاله به وقيل بترجيح الناقل لأنه يفيد ما لا يستفاد إلا منه
بخلاف المقرر فحمل كلام الشارع عليه أولى لرجحان التأسيس على
التأكيد ولأنه يقتضي تقليل النسخ لإزالته لحكم العقل بخلاف ترجيح
المقرر فإنه يقتضي نسخ حكم الناقل بعد نسخه لحكم العقل ورد
الأول بأنه إنما يتم إذا قدر تقدم المقرر وأما إذا قدر تأخره فلا أقول و
يرد عليه أيضا لزوم أحد المحذورين من إلغاء المقرر بالكلية أو
ارتكاب التأكيد والأول مع كونه أبعد من ارتكاب التأكيد مناف لما ذكره
في الوجه الثاني والثاني كر على ما فر منه ورد الثاني بأنه
مع استلزامه لنسخ الأقوى وهو دلالة العقل والنقل بالأضعف وهو
دلالة النقل فقط إنما يتم إذا قلنا بأن رفع حكم العقل اللازم على القول
الأول نسخ وليس كذلك ثم هذه الوجوه الراجعة إلى
اعتبار النسخ إنما يجري حيث يتطرق إليه احتمال النسخ كما في
الاخبار النبوية فينبغي التفصيل حينئذ باعتبار صور العلم بالتاريخ و
عدمه فيؤخذ بالمتأخر مع العلم به فتجعل ناسخا للمتقدم وأما حيث
لا يتطرق إليه هذا الاحتمال كما في الاخبار المأثورة عن الأئمة فلا
يجري فيه فالوجه فيها العمل بالمقرر لاعتضاده بالعقل وأما ترجيح
الناقل لكونه أولى من حيث كونه تأسيسا فما لا يعتد به الاعتبار
الصحيح في مثل المقام ولا يذهب عليك أن الخبر المعتضد بها
لمرجح أعني الأصل يخرج عن كونه دليلا اجتهاديا على الحكم و
يصير من
أدلة الظاهرية التي يعبر عنها بالأدلة الفقاهة كالأصل ومثله الخبر
المعتضد بالاحتياط لو قلنا بتقديمه على غيره وهذا بخلاف ما لو
اعتضد أحد الخبرين بسائر المرجحات كالشهرة وموافقة الكتاب و
مخالفة العامة ونحو ذلك وذلك لان هذه المرجحات تفيد في
أنفسها الظن بصحة الصدور أو المراد أو المطابقة للواقع بخلاف
المعتضد بالأصل والاحتياط فوزان هذين المرجحين وزان اختيار
العمل بأحد المتكافئين فإن الاختيار لا يفيد الظن بصحة الصدور أو
المراد أو المطابقة بل مجرد وجوب العمل بالمقتضى ويمكن أن
يقال حينئذ فإنا نطرح الخبرين ونعمل بالأصل الموافق لأحدهما وفيه
بعد وقد يرجح الدال على التحريم على الدال على الإباحة دفعا
للضرر ولقوله عليه السلام ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام
الحلال وكلاهما ضعيف إذ لا ضرر مع عدم البيان والظاهر من
اجتماع الحرام والحلال اجتماع أعيانهما لا احتمالهما ويرجح
المعتضد بالشهرة على غير المعتضد بها لقوة الظن في جانب المشهور
و
مثله ما لو كان أحد الخبرين موجودا في كتاب معتمد عليه كأحد
الكتب الأربعة والاخر في غيرها كالمحاسن وكذلك الموجود فيما هو
أكثر اعتمادا على الموجود فيما هو أقل اعتمادا وفي ترجيح ما اعتضد
بالاحتياط على ما لم يعتضد به وجه قوي كما دل عليه بعض
الأخبار السابقة لكن ينبغي تخصيصه بما إذا كان التعارض في جزئية
شئ أو شرطيته لعبادة أو معاملة أو إيقاع أو ما أشبه ذلك وأما فيما
عدا ذلك فالوجه عدم وجوب الاحتياط ويمكن حمل الامر
بالاحتياط على الاستحباب لضعف مستنده وعدم الجابر وهذا أولى
ويظهر من رواية الحسن بن الجهم المتقدمة ترجيح المعتضد
بالقياس على الحكم الثابت بالكتاب أو الحديث المأثور عنهم عليهم
السلام على غيره وله وجه ولا ينافيه الأخبار الدالة على عدم حجية
القياس لان الحجية غير المعاضدة وقد يرجح المعلل على غيره و
المقرون بتأكيد لفظي أو معنوي على المجرد منه لكونه أقرب إلى
البيان والايضاح وأبعد عن الخطأ واعلم أن هذه الوجوه منها ما هو
منصوص ومنها ما ليس بمنصوص وفي تقديم المنصوص على غيره
وجه مر التنبيه عليه وأما إذا تعارض المنصوص أو غير المنصوص مع
مثله رجح الأقوى كما سلف هذا وقد يلحق صورة وجود المرجح
بصورة التكافؤ فيلتزم بالتخيير أو الوقف قياسا له على الشهادات
المتعارضة حيث لا يعتبر فيها المرجح وضعفه واضح لبطلان القياس
أولا وللمنع من عدم اعتبار المرجح في المقيس عليه مطلقا ثانيا و
لقيام الفارق ثالثا وهو أن حجية الشهادة تعبدية محضة بخلاف خبر
الواحد فإن للظن مدخلا في حجيته ولو سلم فقد نصب الشارع له
مرجحات ونص على اعتبارها فالقياس في مقابلته باطل
فصل وإذا تعارض الخبران وتكافئا
إما لفقد المرجح أصلا أو لوجود مثله في الاخر فالمعروف بين
أصحابنا التخيير في العمل بهما بل قال في المعالم لا نعرف في ذلك
مخالفا من أصحابنا وهذا هو المختار للأخبار المتقدمة الدالة على
التخيير وضعف أسانيدها منجبر بالعمل ولا ينافيه أخبار التوقف و
الارجاء لأنها إما أن تنزل على
445

التوقف في الحكم الواقعي ويعتبر الارجاء بالنسبة إليه وظاهر أن
التخيير بالنسبة إلى الحكم الظاهري فقط أو ينزل على صورة
التمكن من الرجوع إلى الامام ويخص أخبار التخيير بصورة عدم
التمكن من الرجوع إليه عليه السلام كما هو الظاهر من قوله عليه
السلام في روايتين فأرجه حتى تلقى إمامك وقوله عليه السلام في
رواية أخرى فردوا إلينا علمه وبكل من الوجهين صرح بعض
الأصحاب ومن حمل أخبار الارجاء على النهي عن الترجيح والعمل
بالرأي وأخبار التخيير على الاخذ من باب التسليم فلعله أراد به
المعنى الأول ثم لو سلم تكافؤهما من حيث الدلالة فلا ريب أن أخبار
التخيير معتضدة بالشهرة فيتعين بالترجيح كما نطقت به الأخبار المذكورة
مضافا إلى قضاء قاعدة انسداد باب العلم بذلك ويحتمل
حمل أخبار التوقف على ما يمكن الاحتياط فيه وأخبار التخيير على
ما يتعذر فيه ذلك كما إذا دل أحدهما على وجوب شئ والأخير
على تحريمه أو دل أحدهما على شرطيته لواجب والاخر على
مانعيته
إلا أنه جمع لا شاهد عليه وعن الفاضل المجلسي رحمه الله أنه حمل
أخبار التخيير على الجواز وأخبار التوقف على الاستحباب وضعفه
ظاهر لأنه وجه جمع مخالف لظاهر الأصحاب ولا شاهد عليه من
الاخبار وذهب صاحب الفوائد المدنية إلى التفصيل بين العبادات
المحضة كالصلاة والصوم وبين غيرها من حقوق الآدميين كالزكاة و
النكاح والدين والميراث فحمل أخبار التخيير على الأول و
أخبار التوقف على الثاني فقال يجب التوقف في الثاني عن الافعال
الوجودية المبنية على تعيين أحد الطرفين والظاهر أن الباعث له
على ذلك اختصاص مورد رواية عمر بن حنظلة الدالة على التوقف
عند فقد المرجحات بحقوق الآدميين فقيد بها بقية مطلقات أخبار
التوقف ونزل أخبار التخيير على صورة التعارض في غير حقوق
الآدميين جمعا وهذا الجمع أيضا كسابقه مخالف لظاهر الأصحاب و
لا
شاهد عليه في الاخبار مع
أن شمول رواية عمر بن حنظلة لجميع الحقوق غير واضح وعن ابن
جمهور في غوالي اللئالي أنه حمل أخبار التوقف على ما لا يضطر إلى
العمل بأحدهما وظاهره حمل أخبار التخيير على ما يضطر إلى العمل
بأحدهما وهذا الجمع أيضا فاسد كسابقيه ومثله ما حكي عن بعض
الأفاضل من حمل أخبار الارجاء على غير المتناقضين وأخبار التخيير
على المتناقضين هذا غاية ما أردنا بيانه وقصدنا في سلك
التحرير تبيانه والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا والصلاة على
محمد وآله أجمعين كتبه العبد العاصي المحتاج إلى ربه الغني
محمود بن حاجي غلامرضا قمي مستعجلا في سلخ شهر شعبان
المعظم في سنة مرقومة 1266 ودر كار خانه عاليحضرت مخدوم
معظم
ومفخم ملا فضل الله انطباع يافت صانه الله من
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
446