الكتاب: عدة الأصول (ط.ج)
المؤلف: الشيخ الطوسي
الجزء: ٢
الوفاة: ٤٦٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ذي الحجة ١٤١٧ - ١٣٧٦ ش
المطبعة: ستارة - قم
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

العدة
في أصول الفقه
تأليف
شيخ الطائفة الإمام
أبي جعفر محمد بن الحسن بن الطوسي (رحمه الله)
385 - 460 ه‍
الجزء الثاني
تحقيق
محمد رضا الأنصاري القمي
413

طبع هذا الكتاب
على نفقة المحسن الكريم الحاج محمد تقي علاقبنديان،
وفقه الله تعالى لكل خير
العدة
في أصول الفقه
لشيخ الطائفة الإمام محمد بن الحسن الطوسي
تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمي
الطبعة الأولى: ذو الحجة 1417 ه‍ ق،
1376 ه‍ ش، 3000 نسخة
تنضيد الحروف: قسم الكمبيوتر لمؤسسة البعثة
الفلم والألواح الحساسة: تيز هوش - قم
المطبعة: ستاره - قم. حقوق الطبع محفوظة للمحقق
414

العدة في أصول الفقه
415

بسم الله الرحمن الرحيم
فصل [3]
" في ذكر الوجوه التي تحتاج الأشياء فيها
إلى بيان، وما به يقع البيان "
إذا كان البيان عبارة عن الدلالة - على ما قدمنا القول فيه - فكل وجه لا يعلم
كون الشئ عليه ضرورة، فإنه يحتاج إلى بيان، كما أن ذلك يحتاج إلى دلالة، وسواء
كان عقليا أو شرعيا.
فأما ما علم كون الشئ عليه ضرورة، فإنه يستغنى بحصول العلم فيه عن بيان
ذلك، وكذلك ما يعلم بالدلالة إذا حصل العلم بالمعلوم، فإنه يستغنى بحصول العلم
به عن بيان ثان
417

فإذا ثبت هذه الجملة، فالعقليات كلما لا يعلم منها ضرورة، و (1) ما يجرى
مجرى الضرورة، فلابد فيه من بيان، كما لابد فيه من دلالة.
والشرعيات بأجمعها تحتاج إلى بيان، كما تحتاج بأجمعها إلى دلالة.
هذا إذا أردنا بالبيان الدلالة، ومتى أردنا ما يرجع إلى الخطاب، والفرق
بين ما يحتاج إلى بيان وما لا يحتاج، فقد قدمنا القول في ذلك، وقلنا: إن ما يحتاج من
ذلك إلى بيان على وجوه: منها ما يحتاج في تخصيصه إذا كان عاما وعلم في الجملة أنه مخصوص، فإنه
يحتاج في تعيين ما خص به إلى بيان.
ومنها: ما يحتاج إلى بيان النسخ إذا كان مما ينسخ، لأنه إذا قيل: " افعلوا كذا
إلى وقت ما ينسخ عنكم " فإن وقت النسخ يحتاج إلى بيان.
ومنها ما يحتاج إلى بيان أوصافه وشروطه إذا كانت له أوصاف وشروط، كما
قلناه في الأسماء الشرعية من الصلاة والزكاة وغيرها.
وقد يحتاج الفعل أيضا إلى بيان، كما يحتاج
القول إليه إذا لم ينبئ بنفسه عن
المراد، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
فأما ما به يتبين الشئ فأشياء:
منها الكتابة، وذلك نحو ما كتب النبي عليه وآله السلام (2) إلى عماله بالأحكام
التي بينها لهم ولمن بعدهم، من كتب الصدقات، والديات، وغيرها من الأحكام.
ومنها: القول والكلام، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشريعة أكثرها
بذلك.
ومنها: الأفعال، وذلك نحو ما روي عن النبي عليه وآله السلام (3) أنه صلى

(1) أو.
(2) صلى الله عليه وآله.
418

وحج، وتوضأ، قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " (1)، وقال: " خذوا عنى مناسك
دينكم (2)، وقال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " (3)
فأحال جميع ذلك على أفعاله عليه السلام.
ومنها: الإشارة، وذلك نحو ما بين النبي عليه وآله السلام (4) الشهر بأصابعه
فقال: " الشهر هكذا وهكذا وهكذا بأصابعه العشرة كلها " (5) وأراد بها أن الشهر يكون
ثلاثين يوما، ثم قال: " الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقبض إبهامه في الثالثة " (6) (5) فبين
أنه قد يكون تسعة وعشرين يوما.
وألحق بذلك من خالفنا في القياس والاجتهاد أنه قد بين أحكاما كثيرة بالتنبيه
على طريقة القياس على ما يذهبون إليه، وذلك عندنا باطل.
وأما بيان الله تعالى فقد يكون بالكتابة وبالقول، لأنه تعالى كتب في اللوح
المحفوظ، وبين ذلك للملائكة، وبين بخطابه، وما أنزل على النبي عليه وآله السلام (4)
من القرآن لنا المراد، وبين أيضا بأن دلنا على التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم
بفعله.
فأما الإشارة، فلا يجوز عليه تعالى، لأنها لا تكون إلا بالآلات، والله تعالى
ليس بذي آلة، إلا أنه من أوجب علينا الاقتداء بالنبي عليه وآله السلام، وقد

(1) المعتبر 2: 227، بحار الأنوار 85: 279، صحيح البخاري، ب 18 كتاب الأذان ح 27، مسند أحمد بن
حنبل 5: 53 السنن الكبرى 2: 345.
(2) السنن الكبرى 5: 125 " خذوا عني مناسككم "، وأيضا رواه مسلم عن جابر، والنسائي بلفظ الأمر " يا أيها
الناس خذوا عني مناسككم ".
(3) من لا يحضره الفقيه 1: 38 ح 76، ونحوه في كنز العمال 9: رقم 26957 و 26938.
(4) صلى الله عليه وآله وسلم.
(5) التهذيب 4: 160 ح 21 و 162 ح 30 و 164 ح 38 و 167 ح 48.
(6) الثالث.
(7) وأما.
419

بين عليه وآله السلام بالإشارة، لجاز (1) أن يضاف ذلك إلى الله تعالى.
كما أن أفعال الجوارح لا تجوز أيضا عليه، وقد أضفنا إليه تعالى (2) ما بينه
النبي عليه السلام (3) بأفعاله من حيث أوجب علينا الاقتداء به فكذلك القول في
الإشارة.
وهذه جملة كافية في هذا الباب.

(1) جاز.
(2) زيادة من النسخة الثانية.
(3) صلى الله عليه وآله.
420

فصل [4]
" في ذكر جملة ما يحتاج إلى بيان وما لا يحتاج من الأفعال " الفعل على ضربين:
ضرب منه: يقع على وجه، من وجوب، أو ندب، أو إباحة، ويعلم وقوعه على
ذلك الوجه، فما يكون كذلك لا يحتاج إلى بيان ليعلم به الوجه الذي وقع عليه، لأن
ذلك قد حصل العلم به.
والضرب الآخر: أن يعلم مجرد الفعل ولا يعلم الوجه الذي وقع عليه، ويجوز
فيه وقوعه واجبا، وندبا، ومباحا على حد واحد، فما يكون كذلك يحتاج إلى بيان
يعلم به الوجه الذي وقع عليه.
وجرى الفعل في هذا الباب مجرى القول، لأن القول لما انقسم إلى قسمين:
قسم أنبأ عن المراد بظاهره وصريحه استغنى بذلك عن بيان المراد، والقسم الآخر لم
ينبئ عن المراد على التعيين، احتاج في العلم بتعيينه إلى بيان، فساوى القول
الفعل من هذا الوجه على ما بيناه.
ونحن وإن ذهبنا إلى أن الأفعال كلها لابد من أن يعرف المراد بها، ويعرف على
أي وجه وقعت عليه بدليل، فذلك لا يمنع من أن يكون حالها ما وصفناه، كما أن
الأقوال كلها قد علم أنها تحتاج في معرفة ما وضعت له، وأن الحكيم مريد بها ذلك
421

إلى الدليل، ومع ذلك انقسمت إلى القسمين اللذين ذكرناهما، فكذلك الفعل (1) على
ما بيناه.
وإذا ثبت ذلك، وكان في أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ينبئ
بظاهره عن الوجه الذي وقع عليه، فينبغي أن يستغني ذلك عن البيان، وما كان فيه
من أفعاله لا ينبئ بظاهره عن الوجه الذي وقع عليه، احتاج إلى بيان.
ونظير القسم الأول أنه إذا روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة
بأذان وإقامة جماعة، علم بذلك أنها واجبة، لأن ذلك من شعار كون الصلاة واجبة
دون كونها نفلا، فما يجري هذا المجرى مما وضع في الشرع لشئ مخصوص فلا
يقع على غير ذلك الوجه، فإنه يحتاج إلى بيان.
ومثل ذلك أيضا: إذا شوهد النبي عليه وآله السلام (2) فعل فعلا في الصلاة على
طريق العمد، علم بذلك أن ذلك الفعل من الصلاة، ولذلك قلنا: إنه لما شوهد ركع
ركوعين وأكثر من ذلك في ركعة واحدة في صلاة الكسوف علم أن ذلك من حكم
هذه الصلاة، ونظائر ذلك كثيرة.
وأما ما يقع من أفعاله عليه السلام على وجه الإجمال، ولا يعلم الوجه الذي
وقع عليه، فنحو أن يرى عليه السلام (2) يصلي منفردا بنفسه (3)، فإنه يجوز أن تكون
تلك الصلاة واجبة، ويجوز أن تكون ندبا، فيقف العلم بوجهها على البيان.
وكذلك إذا قيل: أنه توضأ ومسح على رأسه (4)، احتمل أنه فعل ذلك ببقية
النداوة، واحتمل أن يكون بماء جديد، فإذا قيل أنه فعل ذلك ببقية النداوة - على ما

(1) في الأصل: القول.
(2) صلى الله عليه وآله وسلم.
(3) بنفسه.
(4) المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية 1: 21 ح 61 و 62، صحيح البخاري: باب 34 أبواب
الوضوء، ح 49.
422

نذهب إليه (1) -، أو بماء جديد - على ما يذهب إليه المخالف - كان ذلك بيانا له،
فينبغي أن يجري ما يرد من الأفعال على القسمين اللذين ذكرناهما، فليس يخرج
عنهما شئ من الأفعال.

(1) التهذيب 1: 58.
423

فصل [5]
" في أن تخصيص العموم لا يمنع من التعلق بظاهره " (1)
اختلف العلماء في العموم إذا خص: فذهب عيسى بن أبان البصري إلى أنه متى دخله التخصيص (2) صار مجملا
فاحتاج إلى بيان، ولا يصح التعلق بظاهره (3).

(1) إن الخلاف بين الأصوليين في هذه المسألة إنما هو تفريع على القول بأن للعموم صيغة مستغرقة، وأما إذا
استعملت الصيغة المستغرقة في الخصوص فإنه لا ترديد في مجازيته عند القوم، وبناء على الأول فمتى
أطلقت الصيغة المستغرقة وخص واحد من الجملة لا يبقى عاما حقيقة. والقائلون بهذا من العامة اختلفوا
على خمسة أقوال: 1 - العام مجاز مطلقا وبأي دليل خص.
2 - نفي كونه مجازا مطلقا.
3 - العام مجاز، إلا أن يخص بدليل لفظي متصل أو منفصل عنه.
4 - العام مجاز إلا أن يخص بقول منفصل.
5 - العام مجاز إلا أن يخص بشرط أو استثناء.
وأما الإمامية: فقد ذهب الشيخ المفيد - وتبعه على ذلك الشريف المرتضى والشيخ الطوسي - إلى صحة
التعلق بألفاظ العموم وإن كان مخصوصا. انظر: " الذريعة 1: 239، التذكرة: 35 ".
(2) سواء كان دليل الخصوص متصلا أو منفصلا عنه، سمعيا كان أو عقليا، أو دلالة حالية.
(3) انظر: " التبصرة: 122، ميزان الأصول 1: 422، المعتمد 1: 265، شرح اللمع 1: 344، الذريعة 1: 239.
[حيث أشار الشريف المرتضى إلى دليله دون الإشارة إلى قائله] الإبهاج 2: 80، المستصفى 2: 54،
الاحكام 3: 390 ".
ومذهب عيسى بن أبان، وأبي ثور، وهو مختار أصحاب الحديث، وبه قالت المعتزلة، وهو رأي
جمهور الأشاعرة، وآخرون كالآمدي، وابن الحاجب، والبيضاوي.
424

وذهب الشافعي وأصحابه، وبعض أصحاب أبي حنيفة إلى أنه يصح التعلق به
- وإن خص - على كل حال (1).
وذهب أبو الحسن الكرخي إلى أنه إذا خص بالاستثناء، أو بكلام متصل صح
التعلق به وإذا خص بدليل (2) لم يصح (3).
وحكى عبد الجبار بن أحمد (4) عن أبي عبد الله البصري أنه قال: " يحتاج أن
ينظر في ذلك، فإن كان الحكم الذي تناوله العموم يحتاج إلى شروط أو أوصاف لا
ينبئ اللفظ عنها جرى في الحاجة إلى بيان مجرى قول الله تعالى: (أقيموا
الصلاة) (5) لأنه يساويه في أن المراد بها لا يصح أن يعرف بالظاهر.
قال: ولا فصل بين ألا يعلم ما لا يتم قطع السارق إلا به من الأوصاف بالظاهر،
وبين ألا يعلم الصلاة بالظاهر، لأن الجهل بما يتم الحكم إلا به كالجهل بنفس الحكم،
فالحاجة إلى العلم بأحدهما كالحاجة إلى العلم بالآخر.

(1) وهذا المذهب مختار جمهور فقهاء العامة كالشافعي، وأكثر أتباعه كالشيرازي، وابن السمعاني،
والإسفراييني، وابن السبكي والحنابلة، وعامة أصحاب أبي حنيفة، وعامة أهل الحديث.
انظر: " التبصرة: 122، وميزان الأصول 1: 422 - 421، أصول السرخسي 1: 144، روضة الناظر: 209،
المعتمد 1: 265، شرح اللمع 1: 344، الاحكام 3: 390 ".
(2) المقصود من الدليل هو المخصص المنفصل، سواء كان عقليا أو لفظيا.
(3) وهذا الرأي مختار فخر الدين الشيرازي، والباقلاني - كما نسب إليه.
انظر: " التبصرة: 123 - 122، الأبهاج 2: 81، والمعتمد 1: 267 - 265، ميزان الأصول 1: 422، روضة
الناظر: 210 شرح اللمع 1: 344، أصول السرخسي 1: 145 ".
(4) أي القاضي عبد الجبار المعتزلي.
(5) البقرة: 43.
425

ويقول: كل عام خص وأمكن تنفيذ الحكم من غير شرط ووصف فيما عدا ما
خص منه، جرى في صحة التعلق به مجرى العموم إذا اتصل به الاستثناء.
قال: والظاهر من كتب أبي علي وأبي هاشم جميعا صحة التعليق بعموم قوله:
(والسارق والسارقة) (1) وما شاكله، وقد صرحا بأن التخصيص وإن أحوج إلى
شروط لا ينبئ الظاهر عنها، أنه لا يمتنع من التعلق بالظاهر، وعلى ذلك بينا الكلام
في الوعيد لأنهما استدلا به، وإن كان العاصي الذي تعلق الوعيد به يحتاج إلى
شروط عندهما " (2).
هذه الألفاظ بعينها حكيناها عنه على ما ذكره في كتابه " العمد " (3)
والذي أذهب إليه: أن العموم إذا خص صح التعلق بظاهره، سواء خص
بالاستثناء أو بكلام متصل، أو منفصل، أو دليل وعلى كل حال، إلا أنه يحتاج أن ينظر
في ألفاظ العموم الذي يتعلق الحكم بها، فإن كانت متى استعملناها على ظاهرها
وعمومها نفذنا الحكم فيما أريد منا وفيما لم يرد، يحتاج إلى أن يبين لنا ما لم يرد منا
لنخصه من جملة ما تناوله اللفظ، فأما ما أريد منا فقد علمنا بالظاهر وذلك نحو قوله:
(والسارق والسارقة) (4)، و (اقتلوا المشركين) (5) وما يجرى مجرى ذلك لأنا لو
خلينا وظاهر ذلك لقطعنا من يستحق القطع ومن لا يستحق القطع إذا كان سارقا، لكن
لما كان في جملة السراق من لا يجب قطعه وهو من لا يكون عاقلا ويسرق من غير
حرز، أو سرق ما دون النصاب، أو كانت هناك شبهة وغير ذلك من الصفات والشروط
المراعاة في ذلك، احتاج أن يبين لنا من لا يجب قطعه، فإذا بين ذلك بقى الباقي
على عمومه وشموله، وعلمنا حينئذ انه يستحق القطع. وكذلك قوله: (واقتلوا

(1) المائدة: 38.
(2) انظر: " المعتمد 1: 266 - 265 ".
(3) انظر التعليقة رقم 501.
(4) المائدة: 38.
(5) التوبة: 5.
426

المشركين) (1) وما جرى مجراه.
وإن كانت ألفاظ العموم متى خلينا وظاهرها لم يمكننا أن نستعملها فيما أريد
منا على وجه، كان ذلك مجملا واحتاج إلى بيان ما أريد منا، وذلك نحو قوله:
(أقيموا الصلاة) (2)، لأنا لو خلينا وظاهر الآية لم يمكننا أن نستعملها فيما أريد منا
على وجه، فوقف ذلك على البيان.
والذي يدل على صحة ما اخترناه: أن الخطاب إذا ورد وكان الحكم متعلقا
باسم معقول في اللغة، وجب حمله عليه ولا ينتظر به أمر آخر، إلا أن يدل دليل على
أنه لم يرد ما وضع له في اللغة، ولولا ذلك لما صح التعلق بشئ من الخطاب، لأنه
يجوز أن يراد بكل خطاب غير ما وضع له، ولا مخص من ذلك إلا بأن يقال لو أريد به
غير ما وضع له ليبين، وذلك بعينه موجود في ألفاظ العموم، ولا يلزمنا مثل ذلك في
قوله (أقيموا الصلاة) (3) لأنا قد علمنا أنه لم يرد بذلك ما وضع له في اللغة، فلذلك
وقف على البيان.
والذي يبين أيضا ما ذكرناه: أن ما خص بالاستثناء إنما يصح التعلق به لما
قدمناه من أن ما عدا الاستثناء يمكن أن يعلم به، وإن كان الاستثناء قد صيره مجازا
على ما دللنا عليه فيما مضى، فيجب مثل ذلك في كل عموم خص بدليل وإن كان
منفصلا.
ويدل على ذلك أيضا: أنه لو كان من شرط صحته التعلق بألفاظ العموم أن لا
يكون قد خصت، أو أن لا يحتاج إلى معرفة أوصاف لا ينبئ الظاهر عنها، أدى إلى
ألا يصح التعلق بشئ من ألفاظ العموم، لأنه ليس هاهنا شئ من ألفاظ العموم إلا
وهو إما مخصوص، وإما أن يحتاج إلى أوصاف لا ينبئ الظاهر عنها، وذلك يؤدي

(1) التوبة: 5.
(2) البقرة: 43.
(3) البقرة: 43.
427

إلى بطلان ما تعلقت الصحابة ومن بعدهم به، ألا ترى أن أمير المؤمنين عليه السلام
تعلق بقوله: (وأن تجمعوا بين الأختين) (1) في تحريم الجمع بين المملوكتين،
وكذلك تعلق بقوله: (أو ما ملكت أيمانكم) (2)، ومن ثم قال: " أحلتهما آية
وحرمتهما أخرى " (3)، وكذلك حكي عن عثمان (4).
وتعلق ابن عباس بقوله: (وأمهاتكم اللاتي أرضعتكم وأخواتكم من
الرضاعة) (5) حتى رد خبر ابن الزبير (6) لأجله وقال: " إن قضاء الله أولى من قضاء ابن
الزبير " (7) وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.
وإن كان جميع ذلك يحتاج إلى بيان أوصاف لا ينبئ الظاهر عنها، وقد جعل
مجازا بدخول التخصيص فيه، فعلم بذلك أن صحة التعلق بألفاظ العموم صحيح و
إن كان مخصوصا.

(1) النساء: 23.
(2) النساء: 3.
(3) انظر: " المعتمد 1: 268 - 167، الجامع لأحكام القرآن 5: 117، التهذيب 7: 289 ح 1251، وعلق الشيخ
الطوسي عليه بقوله: " أحلتهما آية يعني آية الملك دون الوطء، وقوله عليه السلام وحرمتهما آية أخرى
يعني في الوطء دون الملك، ولا تنافي بين الآيتين ولا بين القولين ".
(4) انظر: " المعتمد 1: 268، الجامع لأحكام القرآن 5: 117، المحلى 9: 522 ".
(5) النساء: 23.
(6) روى الترمذي في سننه بسنده عن عبد الله بن الزبير: [(عن عائشة) أو (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم) أو
(عن الزبير)] أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لا تحرم المصة ولا المصتان ". سنن الترمذي باب 3 كتاب
الرضاع، ح 1150، وأخرجه أيضا مسلم في باب 17 كتاب الرضاع، ح 117، وأبو داود في سننه: باب 10،
كتاب النكاح، ح 2.
قال القرطبي في تفسيره (5: 111): " وذكر الطحاوي أن حديث الإملاجة والاملاجتين لا يثبت لأنه
مرة يرويه ابن الزبير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومرة يرويه عن عائشة ومرة يرويه عن أبيه، ومثل
هذا الاضطراب يسقطه ".
(7) المعتمد 1: 269.
428

وأما من نصر خلاف ما ذهبنا إليه، فقد حكى عبد الجبار (1) عن أبي عبد الله
البصري: " أنه ربما جمع بين قوله: (والسارق والسارقة) (2)، وبين قوله: (واقتلوا
المشركين) (3)، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " الجار أحق بصقبه " (4) " وفيما
سقت السماء العشر " (5) في امتناع التعلق بظاهرها مرة، وربما فرق بينهما أخرى،
ويقول عند الفصل
بينهما:
" إن العشر متعلق بما سقته السماء، والذي يحتاج إلى بيانه صفة الأرض لا
صفته، فهو كالحاجة إلى بيان صفة المخاطب في أنه لا يمنع من التعلق بالظاهر.
وأما (السارق والسارقة) (2)، فالحاجة إنما هي إلى بيان صفته، فهو كالحاجة
التي يتعلق القطع بها من اعتبار القدر وغير ذلك، فلذلك امتنع التعلق بالظاهر.
ويقول: الصفة المتعلق بها في الشرك هي في إسقاط قتله لا في إثبات قتله،
والصفة المتعلق بها في
السارق هي في إثبات قتله، فلذلك افترقا.
وربما يقول في الجميع: إن التعلق بظاهره لا يمكن، وإن الواجب ألا يعترض
على الأصول بالفروع، بل يجب بناؤها عليه ". (6)
وهذه ألفاظه بعينها ذكرناها.
وقد قلنا في هذه الأمثلة ما عندنا وقلنا " في أن قوله: (والسارق والسارقة) (2)،

(1) أي القاضي عبد الجبار المعتزلي.
(2) المائدة: 38.
(3) التوبة: 5.
(4) كنز العمال 7: ص 7 رقم 17700. الصقب: القرب والملاصقة، ويرى بالسين والمراد به الشفعة. (النهاية
30 / 41 غريب الحديث 1: 337).
(5) كنز العمال 7: 328 رقم 15880.
(6) لخص أبو الحسين البصري (المعتمد: 1 / 266 - 265) مذهب أبي عبد الله البصري الملقب بالجعل بقوله:
" قال الشيخ أبو عبد الله: إن كان المخصص والشرط قد منعا من تعلق الحكم بالاسم العام وأوجبنا تعلقه بشرط
لا ينبئ عنه الظاهر، لم يجز التعلق به عنه. وإن لم يمنعا من تعلقه بالاسم العام فإنه يصح التعلق به... ".
429

وقوله: (اقتلوا المشركين) (1)، أن القطع يتعلق بنفس السرقة، وإنما يحتاج إلى بيان
مراعاة الصفات والشروط فيمن لا يجب ذلك، وجرى ذلك مجرى قوله: (اقتلوا
المشركين) وأن القتل يتعلق بالشرك، وإنما يحتاج أن يبين صفة من لا يجب قتل من
أهل الكتاب وغيرهم من النساء والصبيان.
فأما قوله " الجار أحق بصقبه "
فالأولى فيه أيضا أن يحمل على عمومه في
كل شئ إلا ما يخرجه الدليل، وذلك يجري مجرى ألفاظ العموم، وكذلك قوله:
" وفيما سقت السماء العشر " (3) عام في جميع ذلك، فإن دل الدليل على وجوب
اعتبار صفات في الأرض، قلنا به وخصصناه منه وبقينا الباقي على عمومه.
وكلما يرد من هذه الأمثلة يجري هذا المجرى، والطريقة واحدة في الكلام عليه

(1) التوبة: 5.
(2) انظر تخريج الحديث في هامش رقم (4) صفحة 429
(3) انظر تخريج الحديث في هامش رقم (5) صفحة 429
430

فصل [6]
" في ذكر وقوع البيان بالأفعال " (1)
ذهب الفقهاء بأسرهم، والمتكلمون إلى أن البيان يقع بالفعل كما يقع بالقول (1).
وقال بعض المتأخرين: إن البيان لا يقع بالفعل (1).
والذي يدل على صحة مذهب الأول أشياء:
منها: أنه إذا كان الفعل مما يقع به التبيين كما يقع بالقول، فينبغي أن يجوز
وقوعه، ألا ترى أنه لا فرق بين أن يقول: " صلوا صلاة أوجبها الله عليكم "، ثم يبين
صفتها وكيفيتها بالقول، وبين أن يقوم فيصلى، في أنه يقع في الحالين التبيين على
حد واحد.
ولو قيل: أن التبيين يقع بالفعل آكد مما يقع بالقول، لكان ذلك سائغا (2)،

(1) وهو أن يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض ما دخل تحريمه في العموم، ويدل ذلك الفعل على
تخصيص العموم، ولا خلاف في حكم هذا الفعل البياني، وأن البيان يقع بالفعل كما يقع بالقول، وعليه
إجماع الجمهور الأكبر من الأصوليين والفقهاء - من العامة والخاصة - ولم يخالفهم إلا طائفة شاذة حيث نسب
لأبي إسحاق الإسفراييني وأبي الحسن الكرخي.
انظر: " التبصرة: 247، الذريعة 1: 339، الأحكام للآمدي 3: 25، المعتمد 1: 313 - 312، روضة
الناضر: 163، شرح اللمع 1: 379، أصول السرخسي 2: 27، المنخول: 66 ".
(2) في الأصل: شائعا.
431

ولأجل ذلك رجعت الصحابة في بيان صفة الوضوء إلى كيفية فعل النبي (1) صلى الله
عليه وآله، فمن دفع وقوع البيان بالأفعال كان مبعدا، فلا فرق بين قوله في
ذلك، وبين من دفع ثبوت الأحكام بالأفعال، وفي ذلك خروج عن الإجماع.
فإن قال: أليس من حق بيان الكلام أن يكون متصلا به أو في حكم المتصل به، ولا يصح في الفعل مع الوقف، فكيف يصح أن يكون بيانا له؟
قيل له: لا نسلم أن من حق البيان أن يكون متصلا بالكلام على كل، حال بل
يجوز عندنا ان يتأخر البيان عن حال الخطاب إذا لم يكن الوقت وقت الحاجة على
ما نبينه (2)، فعلى هذا يصح ان يتأخر البيان ويقع بالفعل، ومتى فرضنا أن الوقت
وقت الحاجة، فذلك أيضا لا يمنع من وقوع البيان بالفعل، ألا ترى أنه لا فرق بين أن
يقول: " صلوا إذا زالت الشمس صلاة أوجبها الله عليكم " فإذا زالت الشمس بينها
وبين كيفيتها وصفاتها، وبين أن يقوم عند الزوال فيصلي صلاة، فإنا نعلم به بيان تلك
الصلاة بفعله كما نعلم بقوله لو بينها به.
وليس يلزم من حيث كان الفعل لا يقع إلا في زمان ممتد أن يمنع ذلك من
وقوع البيان به كما يمنع ذلك في القول، لأن البيان بالقول أيضا يمتد الزمان فيه كما
يقع بالقول الذي لا يمتد الزمان فيه من وجيز الكلام، فليس امتداد أحدهما إلا
كامتداد الآخر، وإن كان أحدهما أكثر والآخر أقل.
فإن قيل: كيف يعلم تعلق الفعل بالمبين حتى يعلم أنه بيان له؟، مع تجويز أن
يكون ذلك الفعل وقع ابتداء لا بيانا لما تقدم، [و] في هذا ارتفاع التبيين به.
قيل له: إذا خاطب بالمجمل، ولم يكن الوقت وقت الحاجة، جاز أن يقول
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أبين صفة ما أو أجبت عليكم بالفعل "، فإذا جاء

(1) وهو المشهور بالوضوءات البيانية، انظر: " الكافي 3: 24 أو 3 6 25 ح 4 و 5، التهذيب 1: 55 ح 157
و 1: 56 ح 158، الإستبصار 1: 57 ح 168، شرح معاني الآثار 1: 35، المصنف لعبد الرزاق 1: 21 ح 61،
وغيرها من الأحاديث البيانية الواردة في أبواب الوضوء من المجاميع الروائية ".
(2) انظر كلام المصنف في صفحة 450.
432

وقت الحاجة فعل فعلا يمكن أن يكون بيانا له، فإنا نعلم بذلك بيان ما خاطبنا به أولا.
وإن كان الوقت وقت الحاجة، ففعل عقيب الخطاب فعلا يمكن أن يكون بيانا
له، فإنا نعلم به المراد، ونعلم أنه متعلق به، لأنه لو لم يكن متعلقا به لكان قد أخلى
خطابه من بيان مع الحاجة إليه، وذلك لا يصح، ولهذا قلنا إنه لا فرق بين أن يقول:
" صلوا صلاة الساعة " ثم يتبعها بالقول، وبين أن يقوم فيصلى عقيب هذا القول صلاة،
فإنا نعلم تلك الصلاة بيانا لما قدم القول فيه، ولا فرق بين الموضعين.
فإن قيل: إذا قلتم: إنه لا يمتنع أن يقول لنا: " إذا خاطبتكم بالمجمل وفعلت
بعده فعلا فاعلموا أنه بيان له "، فقد عدتم إلى أن البيان حصل بالقول ودون الفعل.
قيل له: ليس الأمر على ذلك، بل البيان لا يقع إلا بالفعل في الموضع الذي
ذكروه، وإنما يعلم بقوله تعلق فعله بالقول المجمل، وأما بيان صفته فإنه يحصل
بالفعل دون القول على ما بيناه.
ويدل على ذلك أيضا: رجوع المسلمين بأجمعهم في عهد الصحابة ومن
بعدهم في بيان صفة الصلاة، والحج، والطهارة، إلى أفعال النبي (1) عليه السلام
وتبينوا بذلك قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) (2) و (لله على الناس حج البيت) (3)، فلولا أنهم علموا أن ذلك يقع به البيان، وإلا لم يجز الرجوع إليه.
ويدل أيضا على ذلك: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال
لأصحابه: " صلوا كما رأيتموني أصلي " (4) و " خذوا عنى مناسككم " (5) فأحالهم في بيان
(1) صلى الله عليه وآله وسلم.
(2) البقرة: 43.
(3) آل عمران: 97.
(4) المعتبر 2: 227، بحار الأنوار 85: 279، صحيح البخاري: ب 18 كتاب الأذان ح 27، مستند أحمد 5: 53،
السنن الكبرى 2: 345.
(5) السنن الكبرى 5: 125، ورواه أيضا مسلم عن جابر، والنسائي بلفظ " يا أيها الناس خذوا عني
مناسككم ".
433

ذلك على أفعاله، فلولا أن البيان واقع بها وإلا لم يجز أن يحيلهم عليها.
وقد يبين الفعل بالفعل، كما يبين به القول، نحو أن يقنت النبي عليه السلام
في الفجر وغيره من الصلوات (1)، ثم نراه يتركه في تلك الصلاة، فيعلم بذلك أنه لم
يكن واجبا، لأنه لو كان واجبا لما تركه على حال، ونحو جلسته إلى الركعة الثانية تارة
وتركها لها أخرى (2)، فإن ذلك يدل على أنها لم تكن واجبة.
وقد يدل تركه للشئ على حالة له أخرى، نحو أن يترك الصلاة في وقت
مخصوص، فإن ذلك يدل على أنها ليست بواجبة، فإن كان قد تقدم دليل يدل على
وجوبها في ذلك الوقت، فإن تركه لها في ذلك الوقت يدل على أنها قد نسخت أو
خصت.
ومتى حدثت حادثة ولم يبين الحكم فيها، فإن ذلك يدل على أنها باقية على
حكم العقل، لأنه لو كان لها حكم شرعي لبينه أو نبه عليه، فإذا (3) ترك النكير على من
أقدم بحضرته على فعل ولم يتقدم منه بيان لقبحه، دل على أنه ليس بقبيح.
فعلى هذه الوجوه تعتبر أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم، لا بأعيان المسائل.
ومتى حصل قول وفعل يمكن أن يكون كل واحدا منهما بيانا للمجمل وجب
العمل بالقول، لأنه إنما نلتجئ إلى الفعل ونجعله بيانا للمجمل عند الضرورة، فأما
مع وجود البيان بالقول فلا حاجة بنا إلى ذلك.
والبيان من حقه أن يكون في حكم المبين، فإن كان المبين واجبا كان بيانه
واجبا، وإن كان ندبا كان بيانه ندبا، وإن كان مباحا كان بيانه مباحا، ولأجل ذلك نقول:
إن أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كانت بيانا لجملة واجبة كانت واجبة، وإذا
كانت بيانا لجملة مندوب إليها كانت كذلك.

(1) سنن الترمذي: باب 294 و 295 من أبواب الصلاة.
(2) سنن الترمذي: باب 213 و 214 من أبواب الصلاة.
(3) وإذا.
434

والمجمل على ضروب:
منها: ما يكون لازما لجميع المكلفين، فما هذا حكمه يجب أن يكون بيانه في
حكمه في الظهور، وذلك مثل الصلاة والطهارة وما أشبههما.
ومنها: ما يختص بفرضه الأئمة عليهم السلام فينبغي أن يكون للأئمة طريق
إلى العلم بها، ولا يجب ذلك في غيرهم.
ومنها: ما يختص بالعلماء،
فينبغي أن يكون لهم طريق إلى معرفته.
وقد أجاز من خالفنا، وقوع البيان بخبر الواحد والقياس، كما أجازوا العمل
بهما (1).
وعندنا أن ذلك غير جائز على ما بينا القول فيه (2).
فأما على المذهب الذي اخترناه (2) من العمل بالأخبار التي تنقلها الطائفة
المحقة، فإنه لا يمتنع العمل بها في بيان المجمل، ولذلك رجعت الطائفة في كثير من
أحكام الصلاة، والوضوء، وأحكام الزكاة، والصوم، والحج إلى الأخبار التي رووها
ودونوها في كتبهم وأصولهم.
ومن قال من أصحابنا: أنه لا يجوز العمل بها إلا إذا كانت معلومة، ينبغي أن
يقول: لا يقع بها البيان أصلا، وهذا خلاف ما عليه عمل الطائفة على ما بيناه (2).
وهذه جملة كافية في هذا الباب

(1) راجع تفصيل الأقوال في صفحة 97 فصل (4).
(2) انظر استدلال المصنف في صفحة 100.
435

فصل [7]
" في ما الحق بالمجمل وليس منه، وما اخرج منه وهو داخل فيه "
ذهب أبو عبد الله البصري وحكاه أبو الحسن الكرخي إلى أن قوله: (حرمت
عليكم أمهاتكم) (1) الآية، وقوله: (حرمت عليكم الميتة) (2) وما أشبههما من
الآيات التي علق التحريم فيها بالأعيان مجمل (3).
وذهب أبو علي وأبو هاشم إلى أن ذلك مفهوم من ظاهره وليس بمجمل (4)،
وإن كان أبو هاشم ربما ذكر أن ذلك مجاز.
والصحيح هو القول الأخير.
وشبهة من ذهب إلى القول الأول هي أن قال: إن ما يعلق التحريم من الأفعال
في الأعيان إذا لم يكن مذكورا في الظاهر لم يجز التعلق بظاهره، فإن ذلك يكون

(1) النساء: 23.
(2) المائدة: 3.
(3) انظر " المعتمد 1: 307، الأحكام للآمدي 3: 12، التبصرة: 201، شرح اللمع 1: 458 "، وهو أيضا مذهب
بعض الشافعية.
(4) المعتمد 1: 307، التبصرة: 201، شرح اللمع 1: 458، الأحكام للآمدي 3: 112 " وهذا المذهب مختار
القاضي عبد الجبار، وأبي الحسين البصري، وأبي إسحاق الشيرازي، والآمدي، وابن الحاجب، والغزالي،
والرازي، والبيضاوي، وجماعة من الأحناف.
436

مجازا، وجرى مجرى قوله: (واسئل القرية) (1) وأراد أهلها.
وهذا الذي ذكروه غير صحيح ولا شبهة فيه، وذلك أن التحليل والتحريم وإن
استحال تعلقهما بالأعيان من حيث كانت موجودة كافية لا يصح وقوعها، ولا هي في
مقدورنا فيصح أن نتعبد بها، وإنما ينصرف إلى الفعل الذي يصح ان يقع منا، فقد صار
بعرف الشرع يستعمل في الأعيان ويراد به الأفعال فيها، وقد بينا فيما مضى (2) أن
الاسم إذا انتقل عن أصل الوضع إلى عرف الشرع وجب حمله على ما يقتضيه عرف
الشرع، لأن ذلك صار حقيقة فيه، ألا ترى إنه إذا قال: (حرمت
عليكم أمهاتكم) (1)
لا يسبق إلى فهم أحد تحريم الذوات، وإنما يفهم من ذلك تحريم الوطء والعقد لا
غير، ولا فرق بين من دفع ذلك وبين من دفع أن تكون لفظة " الغائط " منتقلا عما وضع
له في اللغة، ويتوصل بذلك إلى أن قول القائل: " أتيت الغائط " لا ينبئ عن الحدث
المخصوص، والمعلوم خلاف ذلك.
وإذا ثبت ذلك صار لفظ " التحريم " إذا علق بالعين فهم منه تحريم الفعل فيها، فصار كفحوى الخطاب الذي يدل على الشئ وإن لم يتناوله لفظا.
ولا فرق بين من دفع الاستدلال بظاهر قوله: (حرمت عليكم الميتة) (4) على
تحريم الفعل فيها، وبين من دفع الاستدلال بقوله: (ولا تقل لهما أف ولا
تنهرهما) (5) على تحريم ضربهما وشتمهما.
وليس لهم أن يقولوا: لو كان أمره على ما ذهبتم إليه لما اختلفت فائدة مفهوم
ذلك، ألا ترى أن قوله: (حرمت عليكم أمهاتكم) (3)، التحريم يتناول هاهنا العقد

(1) يوسف: 82.
(2) انظر بيان المصنف في صفحة 54 و 55.
(3) النساء: 23.
(4) المائدة: 3.
(5) الإسراء: 23.
437

والوطء، وليس كذلك في قوله: (حرمت عليكم الميتة) (1)، بل المراد هاهنا غير
المراد هناك، وذلك أنه لا يمتنع أن يتعارف استعمال التحريم المعلق بالعين في
أعيان مختلفة بحسب ما جرت العادة بفعلها في الأعيان، ويتعارف عن تحريم
الأمهات الاستمتاع، ومن تحريم الميتة الأكل، لأن اللفظة الواحدة لا يمتنع ان
يختلف المعقول بها بحسب اختلاف ما تعلق به، ألا ترى أن النظر بالعين لا يعقل منه
ما يعقل من النظر بالقلب، فلما جاز أن يختلف المعقول من النظر بحسب اختلاف ما
تعلق به من العين والقلب، فكذلك القول في التحريم.
وليس لأحد أن يقول: إذا كان المحرم من الأمهات غير المحرم من الميتة،
علم أن اللفظ لا يفيد، إذ لو أفاده لأتفق ما يفيده في الموضعين، أو يكون ذلك مجازا
على ما مر في كلام أبي هاشم، وذلك أن الذي يقال في ذلك أنه مجاز في اللغة وإن
كان حقيقة في العرف، كما تقول في " الغائط " و " الدابة " وما أشبههما.
وذهب قوم ممن تكلم في أصول الفقه إلى أن قوله تعالى: (والذين هم
لفروجهم حافظون) (2) الآية، وقوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) (3) الآية،
وغير ذلك من الآيات التي ذكر فيها المدح أو (4) الذم مجمل، وقالوا: إن القصد بها
تعليق الذم بالفعل المذكور فيها أو المدح لا بيان الحكم بها وتفصيله، فالتعلق بها في
الحكم وفي شروطه لا يصح (5).

(1) المائدة: 3.
(2) المؤمنون: 5.
(3) التوبة: 34.
(4) و.
(5) أقول: نسب أبو إسحاق الشيرازي في (التبصرة: 193)، (وأيضا الشريف المرتضى (في الذريعة 1: 345)
هذا القول إلى بعض أصحابه من الشافعية دون أن يسميهم، إلا أن الآمدي (الأحكام 2: 485 م 25) نسبه إلى
الشافعي حيث قال " اللفظ العام إذا قصد به المخاطب الذم أو المدح كقوله تعالى: (والذين يكنزون
الذهب والفضة) الآية، نقل عن الشافعي أنه منع من عمومه حتى أنه منع من التمسك به في وجوب زكاة
الحلي، مصيرا منه إلى أن العموم لم يقع مقصودا في الكلام وإنما سيق لقصد الذم والمدح مبالغة في الحث
على العمل أو الزجر عنه. وخالفه الأكثرون، وهو الحق ".
وقال: شارح: " التبصرة في أصول الفقه " ص 193 هامش (4): " قال ابن السبكي في رفع الحاجب (1:
434 - أ) معقبا عليه: " وهو وجه ضعيف في المذهب نقله الجلائي عن القفال. والثابت عن الشافعي
والصحيح من مذهبه، العموم ".
438

وذهب أكثر من تكلم في أصول الفقه إلى خلاف ذلك، وقالوا: إن ذلك
عموم (1)، وهو الصحيح.
والذي يدل على ذلك: أن القصد إلى الوعيد والذم لا يمنع من القصد إلى
الحكم وبيانه، فكيف يصح أن يتعلق في بطلان التعلق به ما ذكروه من أن القصد به
الوعيد، ولا فرق بين من قال ذلك، وبين من قال: إن الآية إذا قصد بها الزجر لا يصح
أن يبين الحكم بها، فيتوصل بذلك إلى إبطال التعلق بآية السرقة والزنا وغير ذلك.
وهذا بعيد من الصواب.
وأيضا: فإن ذكر الذم على الحكم المذكور يؤكد وجوبه ويقوي ثبوت ما ذكر
من أوصافه، فكيف يقال إنه يخرج الآية من صحة التعلق بها؟
وذهب قوم: إلى أن قوله: (وامسحوا برؤسكم) (2) مجمل، وجعلوا بيانه
فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم (3).
وامتنع آخرون من ذلك وقالوا: إن الباء تفيد إلصاق المسح بالرأس من غير أن

(1) إن القول بالعموم هو مختار أعيان الأصوليين بل أكثرهم وجمهورهم كالشريف المرتضى،، وأبي إسحاق
الشيرازي، والآمدي، وأبن الحاجب، وأبن السبكي، والغزالي، وابن السمعاني وغيرهم.
أنظر: " التبصرة: 193، الذريعة 1: 345، الأحكام 2: 485 ".
(2) المائدة: 6.
(3) قال: أبو الحسين البصري (المعتمد 1: 308): " ومن ذلك قول العراقيين [ويقصد بهم أحناف العراق] إن
قول الله سبحانه (فامسحوا برؤوسكم) مجمل لأنه يحتمل مسح جميع الرأس، ويحتمل مسح بعضه،
فإذا احتمل كل واحد منهما بدلا من الآخر، افتقر إلى بيان، فإذا روي أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم: (مسح بناصيته) كان ذلك بيانا للآية ووجب مسح ذلك المقدار من الرأس ".
انظر أيضا: " الأحكام للآمدي 3: 14، الذريعة 1: 349 - 348، أصول السرخسي 1: 228
439

يقتضي مقدارا من المسح، فمن مسح بشئ من رأسه فقد أدى ما يوجبه الظاهر، ولا
حاجة به إلى البيان (1).
والذي نقوله في هذه الآية: إن الباء تفيد عندنا التبعيض - على ما بيناه فيما
مضى - من أنها إنما تدخل للإلصاق إذا كان الفعل لا يتعدى إلى المفعول به بنفسه،
فيحتاج إلى إدخال الباء ليلصق الفعل به، فأما إذا كان الفعل مما يتعدى بنفسه فلا
يجوز أن يكون دخولها لذلك، فإذا ثبت ذلك فقوله: (وامسحوا برؤوسكم) (2)
يتعدى بنفسه، لأنه يحسن أن يقول: (امسحوا رؤوسكم) فيجب أن يكون دخولها
لفائدة أخرى وهي التبعيض، إلا أن ذلك البعض لما لم يكن معينا، كان مخيرا بين أي
بعض شاء، فإن علم بدليل أنه أريد منه موضع معين لا يجوز غيره، وقف ذلك على
البيان، وصارت الآية مجملة من هذا الوجه.
ومن الناس من قال: إن قوله: (فاقطعوا أيديهما) (3) يقتضى قطع اليد إلى
المنكب لأن ذلك يسمى يدا (4).
وقال آخرون: إنه مجمل لاحتماله له ولغيره (5).
وقال آخرون: إنه ليس بمجمل، لأن " اليد " في الحقيقة تتناول جملة العضو
فيجب حمله عليها، ولو كانت تقع على العضو إلى المنكب والزند جميعا لوجب
حمله على أقل ما يتناوله، إلا أن يدل الدلالة على خلافه، فادعاء الإجمال فيه لا

(1) وهو مذهب الشافعي، والحسن البصري، وأبي علي الجبائي، والقاضي عبد الجبار، وابن جني، والآمدي،
وأبي الحسين البصري، والسرخسي وآخرون.
انظر: " المعتمد 1: 308، الأحكام للآمدي 3: 14، الذريعة 1: 349، أصول السرخسي 1: 229 ".
(2) المائدة: 6. (3) المائدة: 38. (4) نسب أبو الحسين البصري في (المعتمد 1: 310) هذا القول إلى بعض الأحناف العراقيين.
انظر أيضا: " الذريعة 1: 350، الأحكام للآمدي 3: 19 ".
(5) وهذا المذهب مختار الشريف المرتضى في (الذريعة 1: 350) حيث ذهب إلى إجمال الآية، لأن اليد تقع
على العضو بكامله وتقع على أبعاضه.
440

يصح (1).
والوجه الآخر أقرب إلى الصواب.
وذهب قوم: إلى أن قول القائل: (أعط فلانا دراهم) مجمل، لأنه يمكن أن يراد
به أكثر من ثلاثة.
وقال آخرون: إن هذا غلط، لأن تجويز ذلك لا يمنع من أن يكون ظاهره
يقتضى ما قلناه، فسبيل هذا القائل كسبيل من قال: إن لفظ الخاص مجمل، لجواز أن
يراد به العام. وهذا الوجه أقرب إلى الصواب.
وذهب قوم: إلى أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " في الرقة ربع العشر " (2) إنما
يدل على وجوب ربع العشر في هذا الجنس، ويحتاج إلى بيان القدر الذي يؤخذ منه
ذلك (3). وقال آخرون: إن ذلك ليس بمجمل، لأن ظاهره يقتضي ربع العشر في الجنس
كله، فلا معنى للتوقف في ذلك، فلولا قوله عليه السلام (4): " ليس فيما دون خمسة
أواق صدقة " (5) مخصصا به ذلك العموم، لكان يجب حمله على ظاهره (6)، وهذا هو
الصحيح دون الأول.
وذهب قوم: إلى أن ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: " لا صلاة إلا

(1) وهذا مذهب أبي الحسين البصري في (المعتمد 1: 310)، انظر أيضا: " الأحكام للآمدي 3: 19 ".
(2) جامع الأصول 4: 594، الرقة: هي الدراهم المضروبة. (3) الذريعة (1: 347) حيث نسب هذا القول إلى (قوم) دون أن يسميهم.
(4) صلى الله عليه وآله وسلم.
(5) كنز العمال 6: 15870، جامع الأصول 4: 587، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 5: 117 - 119.
(6) الذريعة 1: 348 - 347.
441

بفاتحة الكتاب " (1) " ولا صلاة إلا بطهور " (2)، " ولا نكاح إلا بولي " (3)، مجمل، وقالوا:
إن حرف النفي لا يصح أن يكون داخلا على الفعل مع صحة وقوعه عاريا من هذه
الشروط، فيجب أن يكون داخلا على الحكم، والحكم قد يكون الأجزاء، وقد يكون
للتمام والفضل، لأنه قد يقال: (لا صلاة كاملة الا بفاتحة الكتاب)، كما يقال: (لا صلاة
لجار المسجد إلا في مسجده) (4) وأراد بذلك ما قلنا من نفي الفضل، ولم يرد نفي
الأجزاء بالإتفاق، ويمكن أن يريد: (لا صلاة مجزية إلا بفاتحة الكتاب) وإذا لم يكن
في اللفظ تصريح بأحديهما وجب أن تكون الآية مجملة.
قالوا: ولا يصح حمله على المعنيين معا، لأن نفى التمام والفضل يقتضي
حصول الإجزاء، ونفى الإجزاء يقتضي أنه لم يحصل ذلك، وذلك ينافي أن يراد بعبارة واحدة (5).
وذهب عبد الجبار بن أحمد (6) إلى أن ذلك ليس بمجمل وقال: " لأن حرف
النفي يدخل في الفعل الشرعي، وما يقع منه مع عدم الشرط المذكور لا يكون شرعيا
فكأنه قال: " لا صلاة شرعية إلا بطهور "، فإذا وقعت من غير طهور لم تكن شرعية،
فحرف النفي قد استعمل في الحقيقة فيما دخل فيه.
لكن ما ذكرناه إنما يصح إذا دخل حرف النفي في الفعل الشرعي، فإما إذا
حصل فيما عداه فيجب أن ينظر فيه، فإن دخل على الحكم في الحقيقة قضى بنفيه

(1) الحديث رواه أصحاب المسانيد والسنن، انظر: " البخاري، كتاب الصلاة 94، مسلم 4: 100، الترمذي
247، أبو داود 822، النسائي 2: 106، ابن ماجة 837،. "
(2) السنن الكبرى 2: 255.
(3) الحديث رواه أحمد بن حنبل، والدارقطني، والبيهقي في العلل، ونسبه السيوطي لأبي داود، والترمذي،
والنسائي وابن ماجة.
(4) كنز العمال: 7 / 20737، المستدرك على الصحيحين: 1 / 246
(5) وهذا المذهب مختار أبي عبد الله البصري، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وبعض الشافعية كما نسبه إليهم أبو
إسحاق الشيرازي. انظر: " التبصرة: 203، المستصفى 1: 345، الأحكام للآمدي 3: 17 ".
(6) هو القاضي عبد الجبار المعتزلي.
442

إذا لم يحصل الشرط المذكور وإن
دخل على الفعل، والمعلوم من حاله أنه يقع فعلا
صحيحا مع عدم الشرط، فيجب أن يكون مجملا على ما ذكروه.
وكذلك لا يصح التعلق بظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما الأعمال
بالنيات " (1) لأنه إذا دخل حرف الشرط على الفعل الذي يصح وقوعه وإن خلا منه،
فيجب أن يسند إلى غيره إذا احتج به ".
هذه ألفاظه بعينها ذكرها في كتابه " العمد " (2) وهي قريبة إلى الصواب.
فأما ما الحق بالعموم وهو من المجمل: فنحو ما يتعلق به أصحاب الشافعي
بقوله تعالى (أقيموا الصلاة) (3) في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه
وآله وسلم في التشهد الأخير، وتقول إن ذلك دعاء، وإن هذه اللفظة حقيقة
فيه (4).
وهذا بعيد من الصواب، لأن لفظة " الصلاة " وإن كانت موضوعة للدعاء في

(1) وسائل الشيعة: باب 5 أبواب مقمة العبارات، كنز العمال 3: 793 رقم 8779
(2) انظر هامش رقم (2) صفحة 502
(3) البقرة: 43
(4) يعتقد أصحاب الشافعي أن ألفاظ الوضوء، والصلاة،. الزكاة، والصوم، والحج، أسماء منقولة من اللغة إلى
معن وأحكام شرعية مستحدثة مخترعة، بناء على ذلك إذا وردت هذه الألفاظ مطلقة وبدون تعيين لمعانيها
تصير مجملة فلا يعرف المراد منها ولا تحمل على معانيها المستحدثة إلا بالبيان من جهة الشرع.
وهذا المذهب مختار جمهور أهل السنة من الأصوليين والفقهاء كالجويني، والشيرازي، والغزالي،
والآمدي، والرازي، وابن الحاجب، وإليه ذهبت المعتزلة والخوارج.
وذهب آخرون إلى إنكار نقل الأسماء إلى معاني مخترعة شرعية، وقالوا لم ينقل شئ من ذلك وإنما
ورد الشرع بشرائط وأحكام مضافة إلى ما وضع له اللفظ في اللغة، وهذا مذهب الأشاعرة المرجئة، وبه قال
القاضي أبو بكر الباقلاني وتابعه على ذلك أبو نصر القشيري.
انظر: " التبصرة: 191 و 195، الابهاج 1: 181، الذريعة 1: 357 - 355، روضة الناظر: 154 - 153
المعتمد 1: 18، المنخول: 73 - 70، المستصفى 1: 146، الاحكام لابن حزم 1: 37 - 32، ميزان الأصول
1: 539 - 538، شرح اللمع 1: 464، الاحكام للآمدي 3: 22 - 21 ".
443

أصل اللغة، فقد صارت بعرف الشرع موضوعة لأفعال مخصوصة، فالتعلق بذلك
فيما وضعت في أصل اللغة لا يصح لما قدمناه.
ومن ذلك أيضا: حملهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من رعف في صلاته
فليتوضأ " (1) على غسل اليد.
وهذا أيضا يصح، لأن الوضوء صار بعرف الشرع عبارة عن غسل أعضاء
مخصوصة ومسحها، وإنما يمكن حمل اللفظ على غسل العضو إذا علم بدليل أن
الرعاف لا ينقض الوضوء، فحينئذ يصرف عن ظاهره ويحمل على موجب اللغة، كما
تصرف ألفاظ كثيرة عن حقيقتها إلى ضرب من المجاز لقيام دليل على ذلك
ومن ذلك تعلقهم بقوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) (2) في أن
الرقبة الكافرة لا تجزي في الظهار، وينبغي أن تكون مؤمنة، لأن الكافرة خبيثة (3).
وهذا أيضا لا يصح، لأن المعني بقوله: (ولا تيمموا الخبيث) أي لا تقصدوا
إلى الإنفاق من الخبيث، فالقصد متعلق بالإنفاق، والعتق ليس من الإنفاق في شئ،
يبين ذلك أن قوله بعد ذلك: (منه تنفقون) كون المنفق منه (4) من بعض ما وصفه
بأنه خبيث، وذلك لا يتأتى في العتق، وكذلك قوله: (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا
فيه) (5) إشارة إلى ما تقدم ذكره.
وكل ذلك لا يصح في العتق، فالتعلق به لا يصح.
ومن ذلك تعلقهم بقوله: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) (6) في
أن المؤمن لا يقتل بكافر، لأن نفى الاستواء إذا أطلق فيما قد ثبت بالدليل أنه متماثل

(1) كنز العمال 7: 492 رقم 19933.
(2) البقرة 267.
(3) انظر: " الذريعة 1: 358 - 357 ".
(4) في النسخة الثانية: يدل على كون النهي عن الإنفاق من بعض ما...
(5) البقرة: 267.
(6) الحشر: 20.
444

في الذات إنما يعني به في بعض أوصافه، فهو إذا مجمل (1).
ومتى عقب الكلام بشئ فرق بينهما فيه، وجب حمل أوله عليه، وقد ذكر
في آخر الآية قوله: (أصحاب الجنة هم الفائزون) (2) فينبغي أن يكون المراد نفي
الاستواء في الفوز بالجنة.
ومن ذلك اعتراض من اعترض على قوله عليه السلام: " لا يقتل مؤمن
بكافر " (3) وحمل ذلك على الكافر الحربي لما عطف عليه من قوله: " ولا ذو عهد في
عهده " فجعل هذا المعطوف عليه مؤثرا في التعلق بما تقدم.
وهذا لا يصح، لأن الجملة الأولى لا يمتنع حملها على ظاهرها وإن خص
بعضها بالذكر في الثاني، وأكثر ما في ذلك أن يكون عليه السلام قال: " ولا ذو عهد في
عهده يقتل بكافر "، ولو قال ذلك لم (4) يمتنع دخول جميع الكفار تحت قوله: " لا
يقتل مؤمن بكافر ".
ولو قال قائل: " لا يقتل عربي بعجمي، ولا البالغ من العجم بالأطفال " لم
يوجب تخصيص الكلام الأول.
فأما التعلق بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " (5)،

(1) نسب الشريف المرتضى في (الذريعة 1: 358) هذا القول لأصحاب الشافعي.
(2) الحشر: 20. (3) نحوه في وسائل الشيعة: ص 435 رقم 47 أبواب قصاص النفس، كنر العمال 4: ص 435 رقم 11289.
(4) لا.
(5) كنز العمال 4: ص 435 رقم 11289، رواه الطبراني، والنووي، وابن ماجة، وابن حبان، والدارقطني في
المستدرك. الكافي: كتاب الإيمان والكفر، باب ما رفع عن الأمة ح 2، من لا يحضره الفقيه 1: 36 ب 14 ح 4.
445

فلا يصح، لأن المرفوع غير مذكور، ولا جرت العادة باستعمال هذه اللفظة في حكم
خطأ مخصوص، وإنما يمكن التعلق به بأن يقال: لا يصح أن يكون نفس الخطأ
والنسيان مرفوعا، وذلك محال مع وقوعه، أو يكون المرفوع العقاب والثواب، وذلك
معلوم عقلا (1).
فالواجب: حمل الكلام على رفع أحكام الدين لأن قول النبي صلى الله عليه
وآله إذا أمكن حمله على ما يستفاد من جهته، كان أولى من حمله على ما قد علم
بالعقل. وهذه الجملة تنبه على ما عداها، فينبغي أن يتأمل ليقاس عليها غيرها.
وجملة القول في ذلك: أن ما يتعلق به من الخطاب إنما يصح التعلق به إن كان
اللفظ في أصل الوضع يفيد ما يتعلق به فيه، أو فحواه، أو دليله أو يعلم (2) من حال
المخاطب أنه لا يخاطب بمثله إلا ويريد ذلك به، وإلا خرج
خطابه من أن يكون
مفيدا، أو يفيد بالعرف ما استعمل فيه، أو بالشرع، فمتى خرج من هذه الوجوه لم
يصح التعلق به، وإنما يختلف حال الخطاب ومواقعه، فربما لطف (3) الوجه الذي
لأجله لا يصح التعلق به، وربما ظهر، فالواجب للسامع أن يجتهد في البحث عنه،
فإنه لن يعدم الوقوف على ذلك إذا كان قد ضبط الأصول في هذا الباب.

(1) قال أبو عبد الله البصري وأبو الحسين والقاضي أبو بكر الباقلاني - كما نسبه الغزالي في المستصفى -
وبعض الشافعية: إن هذا الحديث مجمل إذ لا يعقل أن يكون المقصود من رفع الخطأ والنسيان حقيقتهما
لوقوعهما من الأمة بالضرورة، ولا الإثم إذ لا مزية لهذه الأمة على سائر الأمم، فإذا يكون الموضوع هو
أحكام الخطأ، ومثل هذا المعنى المضمر بحاجة إلى البيان لعدم دلالة لفظ الحديث عليه فيصير مجملا.
انظر: " المعتمد 1: 310، الأحكام للآمدي 3: 15، أصول السرخسي 1: 251، المستصفى 1: 345،
التبصرة: 203، شرح اللمع 1: 463، روضة الناظر: 162 ".
(2) ويعلم.
(3) اللطيف من الكلام: ما غمض معناه وخفي [لسان العرب: 12: 283].
446

فصل [8]
" في ذكر جواز تأخير التبليغ (1)، والمنع
من جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة " (2)
ذهب كثير من الناس إلى أن تأخير التبليغ لا يجوز، ثم افترقوا:
فمنهم: من حمله على تأخير البيان (2).
ومنهم: من تعلق في ذلك بقوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من
ربك) (3)، وقالوا أمره على الفور (2).
وذهب أكثر المحصلين إلى أن ذلك يجوز (2)، وهو الصحيح.
والذي يدل على ذلك: أنه إنما يجب أن يؤدى بحسب ما يتعبد به من تقديم
أو تأخير، فإن تعبد بالتبليغ عاجلا وجب عليه ذلك، وإن تعبد آجلا كان مثل ذلك.

(1) تعرض العدلية المعتزلة (كأبي الحسين البصري والشريف المرتضى والشيخ الطوسي) وغيرهم لمسألة
جواز تأخير التبليغ من النبي صلى اله عليه وآله وسلم وذهبوا إلى أن التبليغ موقوف على المصلحة التي
يراها عليه السلام فإن اقتضت تقديمه تقدم، وإن اقتضت تأخيره تأخر. وذهب بعضهم إلى وجوب التبليغ
وإنه لا يجوز تأخيره واستندوا بالأدلة العقلية (اللطف) والسمعية (آية التبليغ).
انظر: " الذريعة 1: 360، المعتمد 1: 315 - 314 " الأحكام 3: 44 ".
(2) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 449 والمصادر الواردة فيها.
(3) المائدة: 67.
447

فأما تعلقهم في المنع من ذلك بحمله على قبح تأخير البيان، فعندنا أن تأخير
البيان يجوز عن وقت الخطاب، وإنما لا يجوز عن وقت الحاجة، وكذلك نقول في
التبليغ، فسقط بذلك ما قالوه.
ومن منع من ذلك في تأخير البيان فرق بينهما بأن قال: إنما قبح تأخير البيان
لشئ يرجع إلى حال الخطاب، وإلى أن لا يستفاد به شئ، وذلك وجه قبح (1).
فأما تأخير التبليغ فليس كذلك، لأنه إذا لم يبلغ لا يخاطب أصلا، فكيف يكون
ذلك قبيحا؟.
وأيضا: فإذا جاز أن يؤخر الله تعالى خطاب المكلف إلى الوقت الذي يعلم
مصلحته فيه، فكذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
فأما تعلقهم بقوله: (بلغ ما انزل إليك) (2)، فإنما يقتضي وجوب التبليغ على
الوجه الذي أمر به، وليس في ذلك منع من جواز التأخير (3).
وأما تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلا خلاف أنه لا يجوز والوجه في
ذلك، أن تأخيره عن وقت الحاجة يجرى مجرى تكليف ما لا يطاق، لأنه يتعذر عليه
فعل ما كلف، وذلك يمنع من صحة الأداء، لأن الأداء لا يصح إلا بعد أن يعرف
المكلف ما كلف، أو يتمكن من معرفته، أو معرفة ما يجب عليه من سببه، ويصح
أداؤه معه.
وأما تأخير التبين عن وقت الحاجة: فجائز، لأن المكلف يجوز أن يخطأ فلا
يتبين ولا يوجب ذلك قبح الخطاب، لأنه لم يؤت في ذلك من قبل المكلف، وإنما
أتى من قبل نفسه، وذلك لا يقبح التكليف.

(1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 449.
(2) المائدة: 67.
(3) انظر المصادر الواردة في التعليقة رقم (1) صفحة 449.
448

فصل [9] " في ذكر جواز تأخير البيان عن وقت
" الخطاب، وذكر الخلاف فيه " (1)
ذهب أبو علي، وأبو هاشم، ومن تبعهما من المتكلمين، وأهل الظاهر إلى أن

(1) إن تأخير البيان تارة يكون عن وقت الحاجة إليه، وأخرى عن وقت الخطاب:
أما تأخيره عن وقت الحاجة: فقد اتفق الكل على امتناعه، سوى من يقول بجواز التكليف بما لا يطاق
كالأشعرية.
وأما تأخيره عن وقت الحاجة إليه: ففيه مذاهب عديدة عند العامة:
1 - الجواز: وهو مذهب الشافعي وعموم أصحابه، وجماعة من أصحاب أبي حنيفة، والمزني، وأبن
سريج، وأبي سعيد الأصطخري، وأبي بكر القفال، والغزالي، وأبن السبكي، والرازي وأتباعه، والآمدي،
وأبي إسحاق الشيرازي، وغيرهم.
2 - عدم الجواز: وهو مذهب بعض الشافعية، وبعض الأحناف، والحنابلة، والظاهرية، والمعتزلة،
ومختار أبي إسحاق المروزي، وأبي بكر الصيرفي، وأبي الحسين البصري، والجبائيين أبي علي وأبي هاشم،
والقاضي عبد الجبار، والقاضي أبي حامد، وأبي بكر عبد العزيز، وأبي الحسن التميمي، وأبي حاتم الرازي.
3 - جواز تأخير بيان المجمل دون بيان العموم: وهو مذهب الكرخي، وبعض الشافعية، وحكي عن أبي
عبد الله البصري وجماعة من الفقهاء.
4 - جواز تأخير بيان الأمر والنهي دون الخبر.
5 - جواز تأخير بيان العموم دون المجمل.
6 - جواز تأخير بيان النسخ دون غيره: وإليه ذهب الجبائيان، والقاضي عبد الجبار.
7 - جواز تأخير ما ليس له ظاهر كالمجمل دون ماله ظاهر وقد استعمل في غير ظاهره كالعام.
والمطلق والمنسوخ: وهذا مختار أبي الحسين البصري.
انظر: " المعتمد 1: 315، التبصرة: 207، الأحكام للآمدي 3: 30، الإبهاج 2: 139، أصول السرخسي:
2 / 31 - 27، ميزان الأصول: 1 / 520 - 519، روضة الناظر: 96، المستصفى: 1 / 373، الإحكام لابن
حزم 1: 83 - 81، شرح اللمع 1: 473، المنخول: 68، تقريب الوصول: 77 ".
أما الإمامية: فقد ذهب الشيخ الفيد إلى " جواز تأخير بيان المجمل إذا كان في ذلك لطف للعباد، وأما
العموم فلا يجوز تأخير بيانه لأن العموم موجب بمجرده الاستيعاب فمتى أطلقه الحكيم ومراده التخصيص
ولم يبين ذلك فقد أتى بألغاز " وتابعه على ذلك الشريف المرتضى، والشيخ الطوسي.
انظر: " التذكرة: 40 - 39، الذريعة 1: 363 ".
449

تأخير البيان عن حال الخطاب لا يجوز، لا في العموم ولا في المجمل (1).
وقال كثير من أصحاب الشافعي: إن تأخير بيان المجمل يجوز، وامتنع من
تأخير البيان في العموم وسائر ما ينبئ ظاهره عن المراد به، وهو قول أبي الحسن،
وكان أبو عبد الله حكى عنه جواز تأخير البيان في المجمل، وخرج على قوله الامتناع
من تأخير بيان العموم (1).
والذي أذهب إليه: أنه لا يجوز تأخير بيان العموم، ويجوز تأخير بيان المجمل،
وهو الذي اختاره سيدنا المرتضى، وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله رحمهما الله (2).
والذي يدل على ذلك: أن العقلاء يستحسنون خطاب بعضهم لبعض
بالمجمل، وإن لم يبنوا المراد به في الحال، ألا ترى أن القائل يقول لغلامه: " إذا كان
يوم الجمعة ادخل السوق، واشتر الثياب، والفاكهة، وغير ذلك من الحوائج ما أثبته
لك في رقعة " وإن لم يكتب الرقعة في الحال، وكذلك يقول بعض الرؤساء لوكيل له:
" اخرج إلى القرية الفلانية أو البلد الفلاني وتول العمل بها، واعمل في جباية الأموال،
واستخرج الحقوق ما أكتب لك به تذكرة، وأثبتها لك " ويكون ذلك حسنا، وإن لم
يكتب التذكرة في الحال، ويكون الغرض بجميع ذلك أن يعزم المخاطب وينطوي
على امتثال جميع ما يأمره به ويبينه فيما بعد، وإذا كان ذلك حسنا في الشاهد وجب

(1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 449.
(2) رحمه الله.
450

أن يكون حسنا في كل خطاب.
فإن قيل: لو جاز أن يخاطب بالمجمل ولا يبين المراد في الحال، لجاز من
العربي أن يخاطب غيره بالزنجية وإن لم يفهم منه شيئا أصلا (1).
فإن قلتم: المخاطب بالزنجية لا يفهم منه شيئا أصلا، والمجمل يستفاد منه أمر
ما وهو أنه مأمور، ألا ترى أنه إذا قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) (2)، (وأقيموا
الصلاة) (3)، وغير ذلك، فالمخاطب يستفيد أنه مأمور بأخذ صدقة من ماله وإن
جهل مبلغه ووقف ذلك على البيان، وهو مكلف بالعزيمة على ذلك والانطواء عليه
حتى يبين له، وكذلك في الصلاة يعلم أنه مكلف بفعل هو صلاة وعبادة، إلا أنه لا
يعرف كيفية هذه العبادة، فهو منتظر بيانها، والخطاب بالزنجية بخلاف هذا كله.
قيل لكم: يمكن أنه جميع ما أخرجتموه في المجمل أن يكون في الزنجية، لأن
الحكيم إذا خاطب بالزنجية للعربي فلا بد أن يقطع المخاطب على أنه عليه أن يعزم على
فعل ما يبين له أنه أمره، به والكف عما لعله يبين له أنه نهاه عنه، ويوطن نفسه على
ذلك وتتعلق مصلحته به، فأي فرق بين الأمرين؟
فإن فرقتم بين الأمرين بأن الفائدة بالزنجية أقل أو أشد إجمالا، جاز أن يقال لا
اعتبار في حسن الخطاب بكثرة الفائدة، لأنه يحسن من الخطاب ما يخرجه من كونه
عبثا، وقليل الفائدة ككثيرها.
والجواب عن ذلك: أن من المعلوم قبح خطاب العربي بالزنجية كما ذكرتم،
كما أن من المعلوم الذي لا يختلف العقلاء فيه حسن الخطاب بالمجمل في الموضع
الذي ذكرناه، وإذا ثبت ما ذكرناه وقبح ما ذكروه، احتجنا أن ننظر في ذلك ونعلل

(1) التبصرة: 211، المعتمد 1: 316.
(2) التوبة: 103.
(3) البقرة: 43.
451

لم حسن ما ذكرناه، ولم قبح ما قالوه؟ فلا نعلل قبح ما قالوه بعلة توجد في حسن ما
ذكرناه، لأن ذلك يؤدى إلى اجتماع وجه والقبح في شئ واحد، وذلك لا
يجوز، ولا نعلل أيضا حسن ما ذكرناه بعلة توجد فيما استقبحوه لمثل ذلك.
وإنما قلنا ذلك: لأنا متى عللنا قبح الخطاب بالزنجية، بأنا لا نفهم بها مراد
المخاطب، وجدنا ذلك فيما علمنا حسنه ضرورة من خطاب الملك الخليفة،
والواحد منا لغلامه، لأن خليفة الملك ووكيل أحدنا لا يعرف من خطابه المجمل
الذي حكيناه مراده الذي أحاله في تفصيله على البيان، وإن عللنا قبحه بأنه مما لا
فائدة فيه، فقد بينا أنه يمكن أن يدعى فيه فائدة وأنه لا يعدو أحد أقسام الكلام
المعهود، ولابد أن يكون مريدا إذا كان حكيما لبعضها، وإن عللنا حسن الأمثلة التي
علمنا حسنها بأنه يفيد فائدة ما أو مما يتعلق بالمخاطب به مصلحة، بأن يعتقد ويعزم
على الامتثال عند البيان، ويوطن نفسه على ذلك، فهذا كله قائم في الخطاب
بالزنجية، فلابد من التعليل بما لا يقتضي قبح ما علمنا حسنه، ولا حسن ما علمنا
قبحه.
ويمكن تعليل قبح الخطاب بالزنجية بأنه غير مفهوم منه نوع الخطاب، ولا أي
ضرب هو من ضروبه، ألا ترى أنه لا يفصل المخاطب بين كونه أمرا، أو نهيا أو خبرا،
أو استخبارا، أو عرضا، أو يمينا، وفي المجمل يفصل بين هذه الأنواع والضروب،
وإنما يلتبس عليه تفصيل ما تعلق الأمر به مما هو واقف به عن البيان، فهذه علة
صحيحة في قبح الخطاب بالزنجية لا نجدها فيما علمنا حسنه من الأمثلة، ولا في
المجمل الذي يجرى في الحسن مجراه.
وإن شئت ان تقول: العلة في قبح الخطاب بالزنجية أن المخاطب لا يستفيد
منه فائدة معينة مفصلة، ولابد في كل خطاب من أن يستفاد منه فائدة مفصلة، وإن
جاز أن يقترن بذلك فائدة أخرى مجملة، والخطاب المجمل مستفاد منه فائدة معينة
452

مفصله وإن استفاد أخرى مجملة، لأنه إذا قال: (أقيموا الصلاة) (1) و (خذ من
أموالهم صدقة) (2) فقد استفاد المخاطب أنه مأمور وقطع على ذلك، وأنه مأمور
بعبادة هي صلاة أو صدقة، وإن شك في كيفيتها.
ثم يقال لهم: كيف توجبون أن يعلم المخاطب فائدة جميع ما يخاطب به قبل
زمان الحاجة، ومراد المخاطب على جهة التفصيل، وإنكم تجوزون تأخير بيان مدة
الفعل المأمور به عن وقت الخطاب، ولا توجبون ذلك وهو من فوائد الخطاب ومراد
المخاطب، لأنه إذا قال: " صلوا " فظاهر هذا القول عندكم يتناول كل صلاة وكل زمان بلا حصر، فإذا أراد بذلك مدة معينة وإلى غاية منقطعة، وأخر بيانه في حال
الخطاب، فقد أراد في حال الخطاب ما لم يبينه ويفصله، وهذا من هذا الوجه نظير
المجمل ومثل الخطاب بالزنجية.
فإن قلتم: ليس يجب أن يبين في حالة الخطاب كل مراد له بالخطاب.
قلنا: أصبتم، فاقبلوا في الخطاب بالمجمل مثل ذلك، لأن الخطاب بالمجمل
يستفاد منه فائدة معينة مفصلة، وإن لم يستفد على سبيل التفصيل جميع فوائده.
وإن قالوا: لا حاجة به إلى بيان مدة النسخ وغاية العبادة التي تخرج بالبلوغ إليها
من أن تكون مصلحة، لأن ذلك بيان لما لا يجب أن يفعله، وهو غير محتاج إلى بيان ما
لا يجب عليه أن يفعله، وإنما يحتاج في هذه الحال إلى بيان صفة ما يفعله، وكلف الإتيان به.
قلنا: هذا خروج منكم عن السنن (3) الذي كنا فيه، لأنكم أوجبتم البيان للمراد
كله في حال الخطاب لأمر يتعلق بحسن الخطاب، فأوجبتم قبحه متى لم يعلم
المخاطب فوائده كلها على التفصيل، فلما ألزمناكم بيان مدة النسخ عدلتم إلى شئ

(1) البقرة: 43.
(2) التوبة: 103.
(3) السنن: هو الطريق. [لسان العرب: مادة " سنن " 13: 226].
453

آخر وهو - وإن كان غير صحيح - نقض لعلتكم، وهدم لاعتمادكم، لأنكم توجبون
بيان فوائد الخطاب ومراد المخاطب، لأنه يتعلق بحسن الخطاب. وإذا أجزتم تأخير
بيان بعض فوائده، نقصتم اعتلالكم على كل حال وعدنا إلى أنكم قد أجزتم حسن ما
هو نظير للمجمل الذي أخبرنا حسنه، لأنا لم نجز إلا تأخير بيان بعض فوائد الخطاب،
ونراكم أبدا تذكرون في كتبكم أن قبح تأخير البيان لم يكن لشئ يتعلق بإزاحة علة
المكلف في الفعل وإنما هو راجع إلى وقوع الخطاب على وجه يقتضي القبح، وهذا
ينقض قولكم الآن أنه لا يحتاج في فعل ما كلف إلى معرفة غاية المصلحة، ويحتاج
في الفعل إلى العلم بصفته، لأن هذه منكم مراعاة لما به يتمكن من إيقاع الفعل.
ويجب أن يعلم أن فقد القدرة أو الآلة التي لا يقع الفعل إلا بها أقوى وأشد
تأثيرا في تعذر الفعل من فقد العلم بصفته، وأنتم تجيزون خطاب من لا يقدر على
الفعل ولا يتمكن منه في حال الخطاب إذا كان من يقدر في حال الحاجة، فأجيزوا تأخير بيان صفة الفعل في حال الخطاب، ولا حاجة به في هذه الحال إلى العلم
بصفته، كما لا حاجة به إلى القدرة عليه والتمكن بآلات وغيرها منه ثم.
ثم إنكم ليس تخلون من أن توجبوا بيان صفة الفعل المأمور به في حال الخطاب
لأمر يتعلق بإزاحة العلة في الفعل، أو لأمر يرجع إلى حسن الخطاب، وأن فوائده
ومراد المخاطب به إذا لم يعلم تفصيلا في وقت الخطاب قبح:
فإن كان الأول، لزم عليه أن يكون في حال الخطاب قادرا متمكنا، وليس
توجبون ذلك.
وإن كان الثاني، فغاية الفعل من مراد المخاطب ومقصوده من الخطاب، ومع
ذلك فلم يبينها في حال الخطاب، وإذا جاز أن لا يبين بعض المقصود ولا يكون
الخطاب قبيحا، جاز في المجمل مثل ذلك بعينه.
ومما يمكن أن يستدل به على جواز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب
ويورد على المخالف على سبيل المعارضة والإلزام: أنه لا خلاف بيننا وبينهم في أنه
قد يجوز أن يخاطب في المخاطب بالمجمل وإن لم يقرنه بالبيان، بل يحيله في معرفة البيان على
454

الرسول عليه السلام، والرجوع في تفصيل ذلك إليه، وإذا جاز أن يخاطب (1) بما لا
يفهمه تعويلا على أنا نعرف المراد من جهة غيره، وإلا جاز أن يخاطبنا بذلك ويعول بنا
على الرجوع إليه في معرفة البيان.
فإن فرقوا بين الأمرين بأن يقولوا: إذا كان البيان عند الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم وخاطبنا بالمجمل، فنحن متمكنون من العلم بالمراد.
قلنا: وإذا خاطبنا بالمجمل، وعول بنا على مسألتنا (2) عن بيانه والرجوع إليه
في تفصيله، فنحن أيضا متمكنون من العلم بالمراد، ولا فرق بين الأمرين وقد استويا
في أن البيان لم يقترن بالخطاب، وإنما التعويل فيه على الرجوع إلى مترجم ومبين،
فأي فرق بين أن يكون هذا المبين هو الله تعالى أو رسوله؟
فإن قال: ما ذكرتموه يقتضي أن يكون ذلك عبثا، لأنه طول زمان المعرفة بغير
فائدة، وقد كان قادرا بدلا من أن يخاطبه بالمجمل ثم يلزمه سؤاله عن معناه فيبين
له، أن يبتدي ببيان ذلك له.
قلنا: فالآن كان ما ذكرتموه وأجزتموه أيضا عبثا، لأنه كان قادرا على أن يخاطبه
مقترنا بالبيان ولا يكلفه الرجوع إلى الرسول عليه السلام ومعرفة المراد، لأنه تطويل
للبيان وطريق المعرفة.
فإن قلتم: هذا التطويل يمكن أن يتعلق به مصلحة.
قيل لكم: فيما أنكرتم مثل ذلك؟
ومما يضيق عليهم الكلام، أنهم يجيرون أن يخاطب بالمجمل ويكون بيانه في
الأصول، ويكلف المخاطب الرجوع إلى الأصول فيعرف المراد.
فإذا قيل لهم: ما الذي يجب أن يعتقد هذا المخاطب إلى أن يرجع إلى الأصول
فيعرف المراد؟

(1) يخاطبه.
(2) في الأصل: مسألته.
455

قالوا: يجب أن يتوقف عن اعتقاد التفصيل، ويعتقد على الجملة أنه يمتثل ما
يبين له، وهذا تطرق عليهم ما قاله: يجوز تأخير بيان المجمل، من وجوب اعتقاد
الجملة دون التفصيل وانتظار البيان.
وأي فرق بين أن يكلف زمانا قصيرا من غير فهم المراد - على سبيل التفصيل -
الإعتقاد الذي ذكروه ويحسن ذلك، وبين أن يكلف زمانا طويلا مثل ذلك؟ فإذا قال: إذا كان البيان في الأصول فهو يتمكن من معرفة.
قلنا: أو ليس هذا المخاطب إلى أن يتأمل الأصول، ويقف على البيان مكلف
الإعتقاد المجمل الذي ذكرتموه على وجه حسن؟ ولابد من زمان مقصود لا يمكنه
معرفة المراد فيه، لأن تأمل الأصول والرجوع إليها حتى يعلم حصول البيان فيها أو
خلوها منه، لابد فيه من زمان قصر أو طال، وإذا جاز أن يخاطب بما لا يتمكن من
معرفة المراد به في قصير الزمان جاز في طويله.
على أنا قد ألزمناهم إذا قالوا إنه متمكن من المراد به بالرجوع إلى الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم أو بتأمل الأصول، أن يجوز وأن يكون متمكنا من ذلك
بالرجوع إليه تعالى، ولا فرق بين الأمرين.
وبعد ذلك، فإذا كان الخطاب يحسن بالمجمل وفي الأصول بيانه متى تأمل،
وكذلك إذا عول به على بيان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يحسن أيضا، فأي فرق
بين ذلك وبين خطاب العربي بالزنجية؟ أو ليس الموضعان متساويين في أن المراد
في حال الخطاب غير مفهوم؟
فإن قلتم: الفرق بينهما أن الخطاب بالزنجية لا طريق إلى العلم بالمراد به،
وهاهنا إلى العلم بالمراد طريق، أما بالنظر في الأصول ومعرفة البيان منها، أو بالرجوع إلى بيان الرسول.
قلنا لكم: فأجيزوا أن يخاطبه بالزنجية ويعول به على سؤال من يعرف الزنجية
في تفسير ذلك وبيان الغرض فيه، أو يعول به على أن يتعلم لغة الزنج، فذلك ممكن له
وسهل عليه، كما يخاطبه من المجمل بما لا يفهم المراد به وعول به على تصفح
456

الأصول والنظر فيها حتى يعثر على البيان، فإن كان ما قلتموه تمكينا من العلم، فالذي
ألزمناكم أيضا تمكين، ولا شبهة على عاقل في قبح الخطاب بالزنجية لما ذكرنا حاله،
وهو نظير ما ذهبوا إلى جوازه.
ومما يدل أيضا: على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة،
قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن
أكون من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا
فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها
قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا
ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول
تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها
وما كادوا يفعلون) (1).
ووجه الدلالة من الآية (2): " إنه تعالى أمرهم بذبح بقرة هذه الصفات كلها
لها (3)، ولم يبين ذلك في أول الخطاب حتى سئلوا عنه، وراجعوا فيه، واستفهموه،
فبين لهم المراد شيئا بعد شئ، وهذا يدل على جواز تأخير البيان (4).
فإن قالوا (5): لم زعمتم أن الصفات المذكورة كلها في البقرة الأولى التي أمروا
في الخطاب الأول بذبحها؟ وما أنكرتم أن يكونوا أمروا ان الخطاب الأول بذبح بقرة
من عوض البقر من غير اشتراط هذه الصفات؟ فلو (6) ذبحوا بقرة من غير أن تكون

(1) البقرة: 67 - 71.
(2) بداية لفقرة طويلة ينقلها المصنف من كتاب " الذريعة إلى أصول الشريعة " للشريف المرتضى - رحمه الله -
مع تصرف بسيط منه فيها ونحن نشير في الهامش إلى اختلاف النصين.
(3) في المصدر: أمرهم بذبح بقرة لها هذه الصفات المذكورة كلها ولم يبين في أول وقت الخطاب ذلك.
(4) في المصدر: وهذا صريح في جواز تأخير البيان.
(5) في المصدر: فإن قيل.
(6) في المصدر: فلو امتثلوا وذبحوا أي بقرة اتفقت.
457

بهذه الصفات المذكورة فيما بعد، لكانوا قد فعلوا الواجب، فلما راجعوا (1) تغيرت
المصلحة، فأمروا بذبح بقرة غير فارض ولا بكر من غير مراعاة الصفات الباقية، فلما
توقفوا أيضا تغيرت المصلحة في تكليفهم، فأمروا بذبح بقرة صفراء فاقع لونها، فلما
توقفوا تغيرت المصلحة، فأمروا بذبح بقرة لها الصفات الأخيرة المذكورة (2)، وإنما
يكون ذلك حجة في تأخير البيان لو صح لكم أن الصفات الواردات كلها للبقرة
الأولى، وما أنكرتم أن يكون الأمر بخلاف ذلك.؟
قلنا: هذا تأويل (3) من لا يعرف حكم اللغة العربية وما جرت به عادة أهلها في
خطابهم وكناياتهم، لأن الكناية في قوله تعالى: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) لا
يجوز عند محصل (4) أن يكون كناية إلا عن البقرة التي تقدم ذكرها وأمروا (5) بذبحها،
ولم يجز في الكلام ما يجوز أن تكون هذه الكناية كناية عنه إلا البقرة، و (6) يجري ذلك
مجرى قول أحدنا لغلامه: " أعطني تفاحة " فيقول غلامه: " ما هي بينها لي؟ "، ولا
يصرف أحد من العقلاء هذه الكناية إلا إلى التفاحة المأمور بإعطائها إياه.
ثم قال تعالى بعد ذلك: (إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين
ذلك)، وقد علمنا أن الهاء في قوله: (إنه يقول) هي كناية عنه تعالى، لأنه لم يتقدم
ما يجوز رد هذه الكناية إليه إلا اسمه تعالى، فكذلك يجب أن يكون قوله: (إنها)
كناية عن البقرة المقدم ذكرها، وإلا فما الفرق بين الأمرين؟

(1) في المصدر: فلما توقفوا وراجعوا.
(2) في المصدر: فأمروا بذبح ما له كل الصفات.
(3) في المصدر: هذا سؤال من لا يعرف عادة أهل اللغة في كناياتهم.
(4) في المصدر: عند تأمل.
(5) في المصدر: لأنه لا يجر ذكر لغيرها، فيكنى عنه.
(6) في المصدر: ولا يجوز على ما ذهب إليه القوم أن تكون كناية عن البقرة التي يريد - تعالى - أن يأمرهم
بذبحها ثانيا، لأنهم لا يعرفون ذلك، ولا يخطر لهم ببال، فكيف يسألون عن صفة بقرة لا يعلمون إنهم يؤمرون
بذبحها؟
458

وكذلك الكلام في الكناية بقوله: (ما لونها)، وبقوله: (إنها بقرة صفراء فاقع
لونها)، والكناية في قوله: (ما هي إن البقرة تشابه علينا)، ثم الكناية في قوله: (إنه
يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض).
ولا يجوز أن تكون الكناية في قوله تعالى (إنها) في المواضع كلها عن القصة
والحال، لأن الكناية في (إنها) لابد من أن يتعلق بما تعلقت به الكناية في قوله
(هي)، ولا شبهة في أن المراد بلفظ (هي) البقرة التي أمروا بذبحها فيجب أن
يكون كناية الجواب يعود إلى ما كني عنه بالهاء في السؤال، ولو جاز تعلق (إنها)
بالقصة والشأن جاز تعليق (ما هي) بذلك، وجاز أيضا أن تكون الكناية في قوله:
(إنه يقول) عن غير الله تعالى ويكون عن الحال (1) والقصة كما قالوا في " أنه زيد
منطلق " وكنوا عن الشأن والقصة.
وكيف قوله (إنها) كذا وكذا كناية عن غير ما كني عنه بما هي، وبما
لونها أو ليس ذلك يوجب أن يكون جوابا عن غير ما سئل عنه (2)؟، لأنهم سئلوا عن
صفات البقرة التي تقدم ذكرها، وأمرهم بذبحها، فأجيبوا عن غير ذلك. وسواء جعلوا
الهاء (في إنها) عن الشأن والقصة، أو عن البقرة التي أمروا ثانيا وثالثا بذبحها،
فكيف يجوز أن يسألوا عن صفة ما تقدم أمره لهم بذبحه، فيترك ذلك جانبا ويذكر
صفة ما لم يتقدم الأمر بذبحه؟ وإنما أمروا أمر مستأنفا به.
ولو كان الأمر على ما قالوه: من أنه تكليف بعد تكليف لكان، الواجب لما قالوا
له: (ما هي) وإنما عنوا البقرة التي أمروا ابتداء بذبحها، أن يقولوا لهم أي بقرة شئتم؟
وعلى أي صفة كانت؟ وما أمرتكم بذبح بقرة لها صفة معينة، والآن تغيرت مصلحتكم
فاذبحوا الآن بقرة من (3) صفتها كذا وكذا، فإذا قالوا: (ما لونها)؟ يقول: أي لون

(1) في المصدر: عن الأمر.
(2) في المصدر: جوابا عن غير المسؤول عنه؟
(3) في المصدر: ما.
459

شئتم وما أردت لونا بعينه، والآن تغيرت المصلحة، والذي تؤمرون به الآن بقرة
صفراء، ولما قالوا في الثالث: (ما هي إن البقرة تشابه علينا)؟ أن يقول لهم: المأمور
به بقرة صفراء على صفة كانت وبعد ذلك، وقد تغيرت المصلحة، فاذبحوا بقرة لا
ذلول تثير الأرض، إلى آخر الصفات، فلما عدل عن ذلك إلى نعت بعد آخر دل على
أنه كلها نعوت للبقرة (1) الأولى.
على أنه لو جاز صرف الهاء في قوله: (إنها) إلى الشأن والقصة، - وإن كان
المفسرين كلهم قد أجمعوا على خلاف ذلك - فإنهم كلهم قالوا: هي كناية عن البقرة
(المتقدم ذكرها) (2)، وقالت المعتزلة بالأسر (3) إنه كناية عن البقرة التي تعلق التكليف
المستقبل بذبحها، ولم يقل أحد إنها للقصة والحال، لكان ذلك يفسد من وجه آخر،
وهو أنه إذا تقدم ما يجوز أن يكون هذه الكناية راجعة إليه متعلقة به، ولم يجز للقصة
والحال ذكر، فالأولى أن تكون متعلقة بما ذكر، وتقدم الأخبار عنه دون ما لا ذكر لها
في الكلام.
وإنما استحسنوا (4) الكناية عن الحال والقصة في بعض المواضع، بحيث
تدعو الضرورة إليه، ولا يقع اشتباه، ولا يحصل التباس.
وبعد، فإنما يجوز إضمار القصة والشأن بحيث يكون الكلام مع (5) تعلق الكناية
بما تعلقت به مفيدا مفهوما، لأن القائل إذا قال: " إنه زيد منطلق "، و " إنها قائمة هند "
فتعلقت الكناية بالحال والقصة، أفاد ما ورد من (6) الكلام، وصار كأنه قال: " زيد

(1) في الأصل: البقرة.
(2) زيادة من المصدر.
(3) انظر: " المعتمد 1: 326، الأحكام للآمدي 3: 34، أمالي المرتضى 2: 39 - 36، تفسير الرازي 3: 123 ".
(4) استحسن.
(5) زيادة من المصدر.
(6) في.
460

منطلق " و " قايمة هند "، والآيات بخلاف هذا الموضع، لأنا متى جعلنا الكناية في قوله:
(إنها بقرة لا فارض) و (إنها بقرة صفراء)، و (إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض)
متعلقة بالحال والقصة، بقي معنا في الكلام ما لا فائدة فيه ولا يستقل بنفسه، لأنه لا
فائدة في قوله: (بقرة صفراء) و (بقرة لا فارض ولا بكر)، ولابد من ضم كلام إليه
حتى يستقل ويفيد، فإن ضممنا إلى (بقرة لا فارض) أو (بقرة صفراء)، (التي
أمرتم بذبحها) أفاد لعمري، فتبطل صرف الكناية إلى غير البقرة، ووجب أن تصرف
الكناية إلى البقرة حتى لا يحتاج أن يحذف خبر المبتدأ، والاكتفاء بما في الكلام
أولى من تأويل يقتضي العدول إلى غيره، وحذف شئ ليس موجودا في الكلام.
ومما يدل على صحة ما اخترناه (1): أن جميع المفسرين للقرآن أطبقوا على أن
الصفات المذكورات كلها للبقرة (2)، أعوز اجتماعها للقوم حتى توصلوا إلى ابتياع
بقرة لها هذه الصفات كلها بملء ء جلدها ذهبا، ولو كان الأمر على ما قال (3) المخالفون
لوجب أن لا يعتبروا (4) فيما يبتاعونه (5) إلا الصفات الأخيرة دون ما تقدمها، ويلغى
ذكر الصفراء، والتي ليست بفارض ولا بكر، وأجمعوا على أن الصفات كلها معتبرة
وعلم (6) أن البيان تأخر، وأن الصفات كلها للأولى (7) المأمور بذبحها.
فإن قيل: فلم عنفوا على تأخيرهم امتثال الأمر الأول؟، وعندكم أن بيان (8)

(1) في المصدر: نصرناه. (2) تفسير الطبري 1: 123، الكشاف 1: 152 - 148.
(3) في المصدر: قاله.
(4) في المصدر: يعتبر (5) في المصدر: يبتاعونه ويذبحونه.
(6) في المصدر: فعلم.
(7) في المصدر: للبقرة الأولى.
(8) في المصدر: البيان بالمراد.
461

المراد بالأمر الأول تأخر، فلم قال: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) (1)؟.
قلنا: ما عنفوا بتأخير امتثال الأمر الأول، وليس في القرآن ما يشهد بذلك أو
يدل عليه، بل كان البيان يأتي شيئا بعد شئ كلما طلبوه واستخرجوه، من غير
تعنيف ولا قول يدل على أنهم بذلك عصاة.
فأما قوله في آخر القصة: (وما كادوا يفعلون) فإنما يدل على أنهم كادوا
يفرطون في آخر القصة وعند تكامل البيان، ولا يدل على أنهم فرطوا في أول القصة،
ويجوز أن يكون ذبحوا بعد تثاقل، ثم فعلوا ما أمروا به، وهذا كله واضح ".
هذان دليلان ذكرهما سيدنا المرتضى (2) رحمه الله أوردتهما بألفاظه، لأنه لا
مزيد عليهما، وفيهما كفاية إن شاء الله.
وقد استدل قوم على صحة هذا المذهب بأن قالوا: أليس في العقل ما يمنع
من صحة ذلك ولا في الشرع؟ فينبغي أن يكون ذلك جائزا، فمتى توزعوا في ذلك
وأشاروا إلى شئ فيما يدعونه أنه وجه قبح كلموهم بما مضى في تضاعيف الكلام
مما يمكن أن يكون جوابا عنه.
واستدلوا أيضا: بما روى أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وآله عن مواقيت الصلاة
فأخر بيانها.
واعترض المخالف على ذلك بأن قال: إنما أحاله على بيان متقدم.
فمتى قيل لهم: لم ينقل ذلك.
قالوا: يكفي أن يكون ذلك جائزا.
وهذا الدليل لا يمكن الاعتماد عليه، لأن الخبر خبر واحد، وهذه مسألة
طريقها العلم، فكيف يمكن الاستدلال على صحتها بخبر واحد.؟

(1) البقرة: 71.
(2) الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 373 - 365.
462

واستدلوا أيضا: بما رووا من أن أهل اليمن سألوا معاذا عن وقص البقر فلم يعرفه (1). وقال المخالف: إن ذلك مما قد بين، لأنه بقي على ما كان عليه من قبل في
إسقاط الزكاة عنه (2).
وهذا أيضا نظير الأول في أنه خبر واحد لا يمكن الاعتماد عليه.
ونظائر ذلك لا يمكن الاعتماد على شئ (3) منها، فالمعتمد في هذا الباب
الدليلان الأولان.
فأما (4) الذي يدل على أن تأخير بيان العموم لا يجوز عن حال الخطاب فهو:
إنا قد دللنا على أن العموم له صيغة تختص به (5) وله ظاهر، فمتى خاطب
الحكيم به ينبغي أن يحمل على ظاهره، لأنه لو أراد غير ظاهره، أو أراد بعضه لبينه،
وإلا كان قد دل على الشئ بخلاف ما هو به، وذلك لا يجوز، كما لا يجوز تصديق
الكذاب وإظهار المعجز على يده، ولو جاز ذلك لجاز أن يخاطب بألفاظ خاصة ولا

(1) قال الآمدي في (الأحكام 3: 37): " إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنفذ معاذ إلى اليمن ليعلمهم الزكاة
وغيرها، فسألوه عن الوقص، فقال: ما سمعت فيه شيئا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أرجع
إليه فأسأله "، انظر أيضا: " المعتمد 1: 328 ". والوقص، بفتحتين وقد تسكن القاف: ما بين الفريضتين من
نصب الزكاة مما لا شئ فيه.
(2) قال الآمدي في (الأحكام 3: 37): " ويمكن أن يقال: الأصل عدم وجوب الزكاة في الأوقاص وغيرها، غير
أن الشارع أوجب فيما أوجب وبقى الباقي على حكم العقل ".
(3) مثل استدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المزابنة ثم أرخص في العرايا، وأن عمر
استفسر عن " الكلالة " فأحاله على آية الصيف، فأخر عليه السلام البيان، وكذلك الروايات المفسرة
للآيات القرآنية حيث وردت مستفيضة في بيان الآيات لكن بعد فترة وتأخير، مثل لزوم أخذ الجزية من
المجوس والتي تخصص العموم.
انظر: " المصادر الواردة في نهاية التعليقة رقم (1) صفحة 449 ".
(4) وأما.
(5) راجع كلام المصنف في صفحة 278 فصل [2].
463

يريد حقيقتها ولا ظاهرها، ويريد بها ضربا من المجاز ولا يبين، وذلك يؤدي إلى أن لا
نستفيد بالخطاب شيئا أصلا.
فأما من قال: إن لفظ العموم مشترك، فهو يجوز تأخير بيان المراد به، لأنه يكون
مجملا عنده، وقد بينا نحن خلاف ذلك (1).
وهذه جملة كافية في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

(1) راجع استدلال المصنف في فصل [2] صفحة 278
464

فصل [10]
" في أن المخاطب بالعام هل يجوز أن يسمعه
وإن لم يسمع الخاص، أو لا يجوز؟ (1) " إعلم أنه يجوز أن يسمع المخاطب العام دون الخاص، ويلزمه طلب الخاص
والبحث عنه في الأصول، فإن وجده حمل العام عليه، وإلا اعتقد ظاهره، وهو
مذهب النظام، وأحد قولي أبي هاشم، وهو الذي يدل عليه قول الشافعي وغيره من
الفقهاء (2).

(1) إن بين الأصوليين في جواز إسماع الله للمكلف العام دون إسماعه للدليل المخصص له، فإن من
يذهب إلى عدم جواز الإسماع يقول لا يجوز أن يسمع العام إلا مع الخاص، بل يصرفه الله تعالى عن سماع
ذلك إلى حين سماع الخاص، ويفهم من عبارة المصنف ان الخلاف عنده محصور في اعتقاد العموم وعدمه
دون العمل، وقد نسبه إلى جماعة من المتكلمين والفقهاء ومنهم الشافعي، وتبعه الآمدي في (الأحكام 3:
43) وابن الحاجب، إلا أن المستفاد من تصريحات أصحاب الشافعي (انظر: التبصرة: 119، شرح اللمع 1:
326) تعميم الحكم في الاعتقاد والعمل، بأنه إذا ورد العموم وفحص المكلف عن المخصص في الأصول
ولم يجده فإن عليه أن يعتقد بعمومه والعمل بمقتضاه. وممن عمم النقل عنه أيضا ابن سريج، وأبو إسحاق
الإسفراييني (أو المروزي) وأبو الحسن الخلاني، وأبو سعيد الإصطخري وتابعهم الرازي وأتباعه.
(2) انظر: " المعتمد 1: 331، الذريعة 1: 391، الأحكام للآمدي 3: 45، المستصفى 2: 35، التبصرة: 119،
الإبهاج 2: 76، شرح اللمع 1: 326 ".
465

وكان أبو على يقول (1): إن تخصيص الخطاب إذا لم يكن بدليل، ولا كان
المخاطب به قد عرفه، فإنه لا يجوز أن يسمع العام ولا يسمع الخاص، بل يصرفه (2)
عن سماع العام بضرب من الصرف، وإذا أسمعه، أسمع معه الخاص، وكان يعتل
لذلك بأن يقول: " إن خطابه إياه بالعام يبيح له اعتقاد ما لا يقتضيه ظاهره وذلك جهل، ولا
يجوز من الحكيم أن يبيح الجهل، فيجب أن لا يحسن دون أن لا يسمعه الخاص،
وكان يقول إن ذلك بمنزلة خطاب العربي بالزنجية، لأن المراد به لا يصح أن يعلم في
الحال ". وقد قال بهذا أبو هاشم أيضا، وكان يقول في اسماع الناسخ دون المنسوخ
مثل ما ذكرناه أيضا (3). والذي يدل على صحة المذهب الأول: إنا قد اتفقنا على أنه يجوز أن يخاطب
بالعام وإن كان مخصوصا بدليل العقل، وإن لم يستدل المخاطب على خصوصه، بل
يلزمه البحث عنه، وإنما حسن ذلك لأنه متمكن من معرفة ذلك، فيجب أن يحسن
أيضا أن يخاطب به، وإذا كان له تخصيص في الأصول لم يسمع، لما كان متمكنا من
معرفته بالنظر في الأصول.
وما ذكرناه قد أسقط سائر ما قدمناه (4) لأنه إذا جاز عند من خالف أن يخاطب
بالعموم، وإن لم يستدل على خصوصه بالعقل، ولم يوجب ذلك إباحة الجهل،
والإجراء مجرى خطاب العربي بالزنجية، فكذلك لا يلزمنا وإن جوزنا ما قدمناه.

(1) انظر: " المعتمد 1: 332، الذريعة 1: 391 ".
(2) يصرف.
(3) انظر: " المعتمد 1: 332 ".
(4) قال المصنف في صفحة 304: " إلا أنه - أي القديم تعالى - متى تكلم بلفظ العام وأراد به الخاص، فلابد
من أن يدل عليه، ويقرن به ما يدل على، تخصصه، وإلا كان موجبا لاعتقاد الجهل ".
466

فصل [11]
" في القول في دليل الخطاب، واختلاف الناس فيه "
اختلف أهل العالم في أن الحكم إذا علق بصفة الشئ هل يدل على أن حاله
مع انتفاء ذلك الوصف بخلاف حاله مع وجوده، أم لا يدل، بل يحتاج إلى بيان
ودليل سواه؟
فذهب الشافعي وأكثر أصحابه إلى أن الحكم إذا علق في الموصوف بصفة
دل على انتفاء ذلك الحكم إذا زالت تلك الصفة (1)، قاله في مسائل كثيرة (2).
وتجاوز بعضهم إلى أن قال: إن الحكم إذا علق بعين دل على أن غيره

(1) وهذا مذهب مالك، وأحمد بن حنبل، والأشعري وأكثر أتباعه، وجماعة من المتكلمين، والفقهاء،
واللغويين كأبي عبيدة بن معمر بن المثنى.
انظر: " المعتمد 1: 149، التبصرة: 218، الأحكام للآمدي 3: 70، شرح اللمع 1: 428، الإبهاج 1: 235،
المنخول: 213، تقريب الوصول: 79 ".
هذا وذهب بعض أصحاب الشافعي كاجويني والغزالي (في المنخول دون المستصفى) إلى الفرقة بين
الصفة المناسبة مع الحكم كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " في سائمة الغنم زكاة " فقالوا فيه بالمفهوم، وبين
الصفة التي لا توجد فيها مناسبة الحكم كقول القائل " الأبيض يشبع إذا أكل " فقالوا فيه بعدم المفهوم.
(2) انظر فتوى الشافعي في الام 2: 4 و 20 حيث ذهب إلى أنه إذا علق الحكم في الشئ على صفة من صفاته دل
على أن ما عداها يخالفه.
467

بخلافه (1).
ومنهم من قال: إنه لا يدل على أن ما عداه بخلافه، وهو الذي نصره أبو عبد الله
البصري (2)، وحكاه عن أبي الحسن، وهو قول أبي العباس ابن سريج (3)، ومن تبعه من
أصحاب الشافعي، كأبي بكر الفارسي (4) وأبي بكر القفال (5) وغيرهما (6).
وذكر أبو العباس: أن الحكم إذا علق بصفة إنما يدل على ما يتناوله لفظه إذا
تجرد، وقد تحصل فيه قرائن أو أسباب يدل معها على أن ما عداه بخلافه، نحو قوله

(1) وهو مذهب أبي بكر الدقاق من أصحاب الشافعي.
(2) إن أبا عبد الله البصري لم يحكم بعدم المفهوم في الحكم المعلق على الصفة مطلقا بل له تفصيل في المقام،
يقول: " الخطاب المتعلق بالصفة دال على النفي عما عداها في أحد أحوال ثلاث، وهي: أن يكون الخطاب
قد ورد للبيان كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " في الغنم السائمة زكاة "، أو التعليم كما في خبر
" التالف عند التخالف والسلعة قائمة "، أو يكون ما عدا الصفة داخلا تحتها كالحكم بالشاهدين، فإنه يدل
على نفيه عن الشاهد الواحد لدخوله في الشاهدين، ولا يدل على النفي فيما سوى ذلك ".
انظر: " المعتمد 1: 150، الأحكام 3: 70 ".
(3) في النسختين: ابن شريح، تصحيف صوابه ما أثبتناه وهو: أحمد بن عمر بن سريج، أبو العباس، من كبار
فقهاء الشافعية ومتكلميهم، توفي سنة 306.
انظر " طبقات الشافعية 3: 256، تاريخ بغداد 4: 287، وفيات الأعيان 1: 49. "
(4) هو أحمد بن الحسين بن سهل، أبو بكر الفارسي الشافعي، عد في الطبقة الخامسة من فقهاء الشافعية، وقد
تفقه على ابن سريج، له مصنفات منها: عيون المسائل في نصوص الشافعي، الأصول، كتاب الانتقاد على
المزني، قيل إنه توفي سنة 305 أو 361 ه‍.
(5) هو عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي، أبو بكر القفال الصغير، وصف ب‍ " الإمام، الفقيه، الورع، شيخ
طريقة خراسان " كان في شبابه يعمل الأقفال وبرع في صناعتها، لكنه اتجه إلى الفقه واشتغل على أبي زيد،
فصار فقيه خراسان على المذهب الشافعي، وسمع الحديث، وحدث، وأملى بخراسان. له مصنفات: شرح
التلخيص، شرح الفروع، كتاب الفتاوى. توفي سنة 417 ه‍ بمرو.
(6) أمثال أبي حامد المروزي القاضي، وأبي بكر الباقلاني، والغزالي (في المستصفى دون المنخول)،
وأصحاب أبي حنيفة، والآمدي، والرازي، والقاضي عبد الجبار، وأبي الحسين البصري.
انظر: " التبصرة: 218، المستصفى 2: 204، المعتمد 1: 150، الأحكام 3: 70، الإبهاج 1: 235،
المنخول، 209 - 208، شرح اللمع 1: 428، الذريعة 1: 392 ".
468

تعالى: (إن جائكم فاسق بنبأ فتبينوا) (1) وقوله تعالى: (واشهدوا ذوي عدل
منكم) (2)، وقوله تعالى: (وإن كن أولات
حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) (4)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
" في سائمة الغنم زكاة " (5).
قال: وقد يقتضي ذلك أن حكم ما عداه مثل حكمه، نحو قوله تعالى: (ومن
قتله منكم متعمدا) (6)، وقوله: تعالى (ولا تقل لهما أف) (7) وقوله تعالى: (فلا
تظلموا فيهن أنفسكم) (8)، وهذا تصريح منه بأن القول إذا تجرد لم يقتض نفيا ولا
إثباتا فيما عدا المذكور، وأن بالقرائن يعلم تارة النفي، ويعلم تارة الإيجاب (9).
وقد أضاف ابن شريج (10) هذا القول إلى الشافعي وتأول كلامه المقتضي
بخلافه وبناه عليه، وأكثر أصحاب الشافعي وجلهم وجمهورهم على المذهب
الأول (11).
وهذا المذهب - أعني الأخير - هو الذي اختاره سيدنا المرتضى (12)، رحمه الله،

(1) الحجرات: 6.
(2) الطلاق: 2.
(3) النساء: 43.
(4) الطلاق: 6.
(5) وسائل الشيعة: باب 7 أبواب زكاة الأنعام، ح 1 و 2، الام 1: 23.
(6) المائدة: 95.
(7) الإسراء: 23.
(8) التوبة: 36.
(9) انظر: " الأحكام 3: 84، الذريعة 1: 392 " وتابعه على هذا المذهب الهراسي - من أصحاب الشافعي -
والكرخي، وأبو الحسين البصري.
(10) في النسختين: ابن شريح، تصحيف وصوابه ما أثبتناه، انظر هامش رقم (3) ص 468
(11) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 467.
(12) الذريعة 1: 394.
469

وإليه ذهب أبو علي، وأبو هاشم، وأكثر المتكلمين (1)، وكان شيخنا (2) رحمه الله
يذهب إلى المذهب الأول.
وأقوى ما نصر به مذهب من منع من ذلك، ما ذكره سيدنا المرتضى رحمه الله
في مسألة له أنا أحكيها على ما وجهها، قال (3):
" قد ثبت أن تعليق الحكم بالاسم اللقب لا يدل على أن ما عداه بخلافه، وقد
ثبت أن الصفة كالاسم في الإبانة والتميز، وإذا ثبت هذان الأمران صح ما نذهب إليه.
والذي يدل على الأمر الأول. أن تعليق الحكم بالاسم لو دل على أن ما عداه
بخلافه، لوجب أن يكون قول القائل: " زيد قائم " و " عمرو طويل "، و " السكر حلو "
مجازا معدولا به عن الحقيقة، لأنه قد يشارك زيدا وعمروا في القيام والطول
غيرهما، ويشارك السكر في الحلاوة غيره، ويجب أيضا أن لا يمكن أن يتكلم بهذه
الألفاظ على سبيل الحقيقة، ومعلوم ضرورة (4) من مذهب أهل اللغة أن (5) هذه
الألفاظ حقيقة وأنها مما لا يجب أن يكون مجازا، ويلزم على هذا المذهب أن يكون
أكثر الكلام مجازا، لأن الإنسان إذا أضاف إلى نفسه فعلا من قيام، أو قعود، أو أكل، أو
تصرف (6)، وما جرى مجراه ليس يضيف إليها إلا ما له فيه مشارك، والإضافة إليه
تقتضي بظاهرها - على مذهب من قال بدليل الخطاب - نفى ذلك الأمر عمن عداه
فلا تكون هذه الأوصاف (7) في موضع من المواضع إلا مجازا، وهذا يقتضي أن الكلام

(1) المعتمد 1: 149، الأحكام للآمدي 3 6 70، الذريعة 1: 392.
(2) وهو الشيخ المفيد - رضي الله عنه - حيث يقول (التذكرة: 39): " إن الحكم إذا علق ببعض صفات المسمى
في الذكر، دل ذلك على أن ما خالفه في الصفة مما هو داخل تحت الاسم بخلاف ذلك الحكم "
(3) أي الشريف المرتضى، حيث يبدأ المصنف بنقل فقرة طويلة من كلام المرتضى - رحمه الله - من كتابه
الذريعة 2: 413 - 392.
(4) في المصدر: ضرورة خلاف ذلك
(5) في المصدر: وأن
(6) أو ضرب.
(7) في المصدر والنسخة الثانية: فلا يكون هذا إلا ما قال هذا قط.
470

كله مجاز.
ويدل أيضا على ذلك: أن من المعلوم أنه لا يحسن أن يخبر بأنه " زيدا
طويلا " إلا وهو عالم بطوله، (لأن كلامه يقتضي تعليق الطول عليه، فلابد من أن يكون
عالما به، وإلا لم يؤمن أن يكون كاذبا) (1)، فلو كان قوله: " زيد طويل " كما يقتضي
الإخبار عن طول زيد، يقتضي نفي الطول عن كل من عداه، لوجب أن لا يحسن منه
أن يخبر بأن زيدا طويل (على الحقيقة) (1) إلا بعد أن يكون عالما بأن غيره لا يشاركه
في الطول، ويجب أن يكون علمه بحال الغير شرطا في حسن الخبر، كما أن علمه
بحال المذكور شرط في حسن الخبر، ومعلوم خلاف ذلك عند كل عاقل.
وأيضا: فإن ألفاظ النفي مفارقة لألفاظ الإثبات في لغة العرب، ولا يجوز أن
يفهم من لفظ الإثبات النفي، كما لا يفهم من لفظ النفي الإثبات، وقولنا: " زيد طويل "
لفظة إثبات، وكيف يعقل منه نفي الحكم عن غير المذكور وليس هاهنا لفظ نفي؟
ويمكن أن يستدل بهذه الطريقة خاصة على أن تعليق الحكم بصفة لا يدل
على نفيه عما ليست له، من غير حمل الصفة على الاسم.
ومما (2) يقوي أيضا ما ذكرناه: أن أحدا من العلماء لم يقل في ذكر الأجناس
الستة في خبر الربا أن تعليق الحكم بها يدل على نفي الربا عن غيرها، لأن العلماء بين
رجلين: أحدهما يقول يبقى غير هذه الأجناس على الإباحة، والآخر يقيس غيرها
عليها.
فإن تعلق من سوى بين الاسم والصفة، بأن جماعة من أهل العلم استدلوا
على أن غير الماء لا يطهر (3) بقوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) (4) فنفوا
الحكم عن غير الماء، وهو معلق بالاسم لا بالصفة.

(1) زيادة غير موجودة في نسخة المصدر المطبوعة
(2) في المصدر: وربما قوى.
(3) في المصدر: لا يطهر كالماء.
(4) الفرقان: 48.
471

والجواب: أن من فعل ذلك فقد أخطأ في اللغة، وقد حكينا أن في الناس من
سوى - مخطئا - بين الاسم والصفة في تعليق الحكم بكل واحد منهما.
ويمكن من استدل بهذه الآية أن يكون إنما عول على أن الاسم فيها يجري
مجرى الصفة، لأن مطلق الماء يخالف مضافه، فأجراه مجرى كون الغنم سائمة
ومعلوفة (1).
وأما الدلالة على أن الصفة كالاسم في الحكم الذي ذكرناه: فهي أن الغرض في
وضع الأسماء في أصل اللغة هو التمييز والتعريف، وليمكنهم أن يخبروا عمن غاب
عنهم بالعبارة، كما أخبروا عن الحاضر بالإشارة، فوضعوا الأسماء لهذا الغرض، ولما
وقع الاشتراك بالإتفاق في الأسماء، بطل الغرض الذي هو التمييز والتعريف، فاحتاجوا إلى إدخال الصفة (2) وإلحاقها بالاسم (3) ليكون الاسم مع الصفة بمنزلة
الاسم ولم يقع اشتراك فيه، ولولا الاشتراك الواقع في الأسماء لما احتيج إلى
الصفات، ألا ترى أنه لو لم يكن مسمى بزيد (4) إلا شخصا واحدا، لكفى في الإخبار
عنه أن يقال: " قام زيد "، ولم يحتج إلى إدخال الصفة، فبان بهذه الجملة أن الصفة
كالاسم في الغرض وأن الصفات كبعض الأسماء، إذا ثبت ما ذكرناه في الاسم ثبت
فيما يجري مجراه ويقوم مقامه.
ومما يبين أن الاسم كالصفة أن المخبر قد يحتاج إلى أن يخبر عن شخص
بعينه، فيذكره بلقبه، وقد يجوز أن يحتاج أن يخبر عنه في حال دون أخرى، فيذكره
بصفته، فصارت الصفة مميزه للأحوال، كما أن الأسماء مميزة للأعيان فحلا محلا
واحدا في الحكم الذي ذكرناه.
ومما يدل ابتداء على بطلان دليل الخطاب: أن اللفظ إنما يدل على ما يتناوله،

(1) في المصدر: فأجراه كون الإبل سائمة ومعلوفة.
(2) في المصدر: الصفات.
(3) في المصدر: بالأسماء.
(4) في المصدر: لو لم يكن في العالم من اسمه زيد.
472

أو على ما يكون بأن يتناوله أولى، فأما أن يدل على ما لم يتناوله ولا هو بالتناول أولى
فمحال، وإذا كان الحكم المعلق بصفة لم يتناول غير المذكور، ولا هو بأن يتناوله
أولى لم يدل إلا على ما اقتضاه لفظه.
(فإن قيل: اشرحوا هذه الجملة) (1).
قلنا: قوله عليه السلام: " في سائمة الغنم الزكاة " (2) معلوم حسا وإدراكا أنه لم
يتناول المعلوفة، ولا يمكن الخلاف فيما لا يدخل تحت الجنس (3)، ولا هو بتناولها
أولى، بدلالة أنه لو قال: " في سائمة الغنم الزكاة وفي معلوفتها " لما كان مناقضا (4)،
ومن شأن اللفظ إذا دل على ما [لم] (5) يتناوله بلفظه لكنه بأن يتناوله أولى، أن يمنع
من التصريح بخلافه، ألا ترى أن قوله تعالى: (ولا تقل لهما أف) (6) لما تناول النهي
عن التأفف بلفظ، وكان بأن يتناول ساير المكروه أولى لم يجز أن يتبعه ويلحقه بأن
يقول: " لا تقل لهما أف واضربهما واشتمهما " لأنه نقض، فبان أن قوله عليه السلام:
" في سائمة الغنم الزكاة " (2) ليس يتناول المعلوفة أولى.
والذي يدل على أن اللفظ لا يدل على ما لا يتناوله ولا يكون بالتناول أولى، أنه
لو دل على ذلك لم ينحصر مدلوله، لأن ما لا يتناوله اللفظ لا يتناهى، وليس
[بعضه] (7) بأن يدل عليه اللفظ مع عدم التناول بأولى من بعض.
ومما يدل أيضا على ما ذكرناه: حسن استفهام القائل: " ضربت طوال غلماني،

(1) زيادة غير موجودة في نسخة المصدر المطبوعة
(2) وسائل الشيعة باب 7 زكاة الأنعام ح 1 و 2، الام 1: 23، وقد أخرجه البخاري، وأحمد، وأبو داود، والنسائي
والدارقطني، والبيهقي، والحاكم النيسابوري كلهم في كتاب الزكاة.
(3) في المصدر: ولا يمكن الخلاف فيما يدخل تحت الحس.
(4) في المصدر: متناقضا.
(5) زيادة تقتضيها العبارة.
(6) الإسراء: 23.
(7) أثبتناه من المصدر.
473

ولقيت أشراف (1) جيراني "، فيقال له: " أضربت القصار من غلمانك أم لم تضربهم؟،
ولقيت العامة من جيرانك أم لم تلقهم؟ "، فلو كان تعليق الحكم بالصفة يقتضي وصف
الحكم عما ليس له تلك الصفة كاقتضائه ثبوته لما له تلك الصفة، لكان هذا الاستفهام
قبيحا، كما يقبح أن يستفهمه عن حكم ما تعلق لفظه (2) به، فلو كان الأمران مفهومين
من اللفظ لاشتركا في حسن الاستفهام وقبحه.
فإن قيل: إنما يحسن الاستفهام عن ذلك لمن لم يقل بدليل الخطاب، فأما من
تكلم بما ذكرتموه من الذاهبين إلى دليل الخطاب، فإنه (3) لا يستفهم عن مراده إلا
على وجه واحد، وهو أن يكون أراد على سبيل المجاز والاستعارة خلاف ما يقتضيه
دليل الخطاب، فيحسن استفهامه لذلك.
قلنا: حسن استفهام كل قائل أطلق مثل هذا الخطاب معلوم ضرورة، علمنا (4)
مذهبه في دليل الخطاب أم لم نعلمه.
فأما تجويزنا أن يكون المخاطب عدل الحقيقة إلى المجاز في الكلام
الذي حكيناه، وأن هذا هو علة حسن الاستفهام، فباطل، لأنه يقتضي حسن دخول
الاستفهام في كل كلام، لأنه لا كلام نسمعه ونحن نجوز من طريق التقدير (5) أن
يكون المخاطب به أراد المجاز ولم يرد الحقيقة، وفي علمنا بقبح الاستفهام في كثير
من المواضع دلالة على فساد هذه العلة، على أن المخاطب لنا إذا كان حكيما وأراد
المجاز بخطابه، قرن كلامه بما يدل على أنه متجوز به ولم يحسن منه إطلاقه (6).

(1) في الأصل: شراف.
(2) في المصدر: يتعلق اللفظ به.
(3) في المصدر: فهو.
(4) في المصدر: سواء علمنا مذهبه في دليل الخطاب أو شككنا فيه، وأهل اللغة يستفهم بعضهم بعضا في مثل
هذا الخطاب، وليس لهم مذهب مخصوص في دليل الخطاب.
(5) في الأصل والنسخة الثانية (التقرير) والصحيح ما أثبتناه من المصدر.
(6) في المصدر: قرن به ما يدل على أنه متجوز، ولا يحسن منه الإطلاق.
474

وحكى (1) في هذه المسألة ما استدل به من خالفه، فقال:
واستدل المخالف بأشياء (2): منها: إن تعليق الحكم بالسوم (3) لو لم يدل على انتفائه إذا انتفت الصفة، لم
يكن لتعليقه بالسوم معنى، وكان عبثا.
ومنها: إن تعليق الحكم بالسوم (4) يجري مجرى الاستثناء من الغنم، ويقوم
مقام قوله: (ليس في الغنم إلا السائمة الزكاة)، فكما أنه لو قال ذلك لوجب أن تكون
الجملة المستثنى منها بخلاف حكم الاستثناء، فكذلك تعليق الحكم بالصفة.
ومنها: إن تعليق الحكم بالشرط إذا دل على انتفائه بانتفاء الشرط، فكذلك
الصفة، والجامع بينهما أن كل واحد منهما كالآخر في التمييز والتخصيص، لأنه لا فرق
بين أن يقول: (في سائمة الغنم الزكاة)، وبين أن يقول فيها: (إذا كانت سائمة الزكاة).
ومنها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول قوله تعالى:
(استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) (4)، أنه
صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لأزيدن عن السبعين " (5)، فلو لم يعلم من جهة
دليل الخطاب أن ما فوق السبعين بخلافها لم يقل ذلك.
ومنها: تعلقهم بما روي عن عمر بن الخطاب أن يعلى بن أمية (6) سأله فقال: ما
بالنا نقصر وقد أمنا؟
فقال له عمر: عجبت مما عجبت منه، فسئلت رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) أي: وحكى الشريف المرتضى استدلالات من خالفه في هذه المسألة.
(2) في المصدر: وقد استدل المخالف لنا في هذه المسألة بأشياء.
(3) أي تعليق الحكم في قوله عليه السلام " في سائمة الغنم زكاة ".
(4) التوبة: 80.
(5) انظر: تفسير الطبري: المجلد السادس، ج 10: 138 - 137.
(6) هو يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام التميمي، صحابي شهد صفين مع أمير المؤمنين عليه السلام وقيل
أنه قتل بها، وقيل مات سنة 47 ه‍ له روايات عديدة في صحاح أهل السنة.
475

وسلم عن ذلك (1) فقال: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ".
وتعجبهما من ذلك يدل على أنهما فهما من تعلق القصر بالخوف أن حال
الأمن بخلافه.
ومنها: ما روي عن الصحابة كلهم أنهم قالوا: " الماء من الماء منسوخ " (2) ولا
يكون ذلك منسوخا إلا من جهة دليل الخطاب، وأن لفظة الخبر يقتضي نفي وجوب
الاغتسال من غير إنزال الماء.
ومنها: أن الأمة إنما رجعت في أن التيمم لا يجب إلا عند عدم الماء إلى ظاهر
قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) (3)، وكذلك الصيام في الكفارة وأنه لا يجزي
إلا عند عدم الرقبة، إنما رجع فيه إلى الظاهر.
قال (4) والجواب عن الأول: أن في تعليق الحكم بالسوم فائدة، لأنا [به] (5)
نعلم وجوب الزكاة في السائمة، وما كنا نعلم ذلك قبله، ويجوز أن يكون حكم
المعلوفة في
الزكاة حكم السائمة، وإن علمنا بدليل آخر، وليس يمتنع في الحكمين
المتماثلين أن يعلمنا بدليلين مختلفين بحسب المصلحة، ألا ترى أن حكم ما يقع
النص عليه من الأجناس في الربا حكم المنصوص عليه، ومع ذلك دلنا على ثبوت
الربا في الأجناس المذكورة بالنص، ووكلنا في إثباته في غيرها إلى القياس أو غير
ذلك من الأدلة (6).
والجواب عن الثاني: أن الاستثناء من العموم لم يدل بلفظه ونفسه على أن ما

(1) في المصدر: فسألت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(2) كنز العمال 9: 380 رقم 26565، وص 540 رقم 27325. الحديث رواه أبو داود، وأحمد، وابن ماجة،
الترمذي ونصه: " إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ثم نهي عنها ".
(3) النساء: 43.
(4) أي قال الشريف المرتضى رحمه الله.
(5) زيادة في المصدر.
(6) في المصدر: ووكلنا في غيرها إلى دلالة أخرى من قياس أو غيره.
476

لم يتناوله بخلاف حكمه، وإنما دل العموم غلى دخول الكل فيه، فلما أخرج
الاستثناء بعض ما يتناوله العموم علمنا حكم المستثنى بلفظ الاستثناء وتناوله لما
يتناوله، وعلمنا أن حكم ما لم يتناوله بخلافه بلفظ العموم، مثال ذلك: أن القائل إذا
قال: " ضربت القوم إلا زيدا " فإنما يعلم بالاستثناء أن زيدا ليس بمضروب، ويعلم أن
عداه من القوم مضروب بظاهر العموم، لا من أجل دليل الخطاب في الاستثناء،
وليس هذا موجودا في قوله عليه السلام: " في سائمة الغنم الزكاة " (1)، لأنه عليه
السلام ما استثنى من جملة مذكورة، ولو كان لسائمة الغنم اسم يختص بها من غير
إضافة إلى الغنم تعلق (2) الزكاة به، وليس كل شئ معناه معنى الاستثناء له حكم
الاستثناء، لأن للاستثناء ألفاظا موضوعة له، فلما (3) لم يدخل فيه لم يكن مستثنى منه،
ولا يكون واردا (4) إلا على جملة مستقلة بنفسها، وكل هذا إذا أوجبت مراعاته لم يجز
أن يجرى قوله عليه السلام: " في سائمة الغنم الزكاة " (2) مجرى الجمل المستثنى منها.
والجواب عن (5) الثالث: أن الشرط عندنا كالصفة في أنه لا يدل على أن ما عداه
بخلافه، وبمجرد الشرط لا يعلم ذلك، وإنما نعلمه في بعض المواضع بدليل (6)، لأن
تأثير الشرط أن يتعلق الحكم به، وليس يمتنع أن يخالفه وينوب عنه شرط آخر يجري
مجراه، ولا يخرج من أن يكون شرطا، ألا ترى أن قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين
من رجالكم) (7) إنما يمنع من قبول الشاهد الواحد حتى ينظم إليه الآخر، فانضمام

(1) الام 1: 23، وقد أخرجه البخاري، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم النيسابوري
كلهم في كتاب الزكاة.
(2) في المصدر: لتعلق.
(3) في المصدر: فلما.
(4) في المصدر: ولا يكون الاستثناء واردا.
(5) في المصدر: (على).
(6) في المصدر: بدليل منفصل.
(7) البقرة: 282.
477

الثاني إلى الأول شرط في القبول، ثم يعلم أن ضم امرأتين إلى الشاهد الأول يقوم
مقامه (1)، ثم يعلم بدليل أن ضم اليمين إلى الشاهد الواحد يقوم مقام الثاني، فنيابة
بعض الشروط عن بعض أكثر من أن يحصى.
والصحيح أن الحكم إذا علق بغاية أو عدد فإنه لا يدل بنفسه على أن ما عداه
بخلافه، لأنا إنما نعلم أن ما زاد على الثمانين في حد القاذف لا يجوز، لأن ما زاد على
ذلك محظور بالعقل، فإذا وردت العبادة بعدد مخصوص خرجنا عن الحظر بدلالة
وبقينا فيما زاد على ذلك العدد على حكم الأصل، وهو الحظر. وكذلك إذا قال
الرجل لغلامه: " أعط زيدا مائة درهم " فإنه يعلم (2) حظر الزائد على المذكور بالأصل.
ولو قال: " أعطيت فلانا مائة (3) " لم يدل لفظا ولا عقلا على أنه لم يعط أكثر من ذلك.
فأما تعليق الحكم بغاية، فإنما يدل على ثبوته إلى تلك الغاية، وما بعدها يعلم
انتفائه أو إثباته بدليل، وإنما علمنا في قوله: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط
الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) (4) وقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى
الليل) (5)، وقوله تعالى: (حتى يطهرن) (6) أن ما بعد الغاية بخلافها بدليل، وما
يعلم بدليل غير ما يدل اللفظ عليه، كما يعلم أن ما عدا السائمة بخلافها في الزكاة
بدليل.
ومن فرق بين تعليق الحكم بصفة وبين تعليقه بغاية ليس معه إلا الدعوى، وهو
كالمناقض لفرقه بين أمرين لا فرق بينهما.

(1) في المصدر: مقام الثاني.
(2) في المصدر: فإنا نعلم.
(3) في المصدر: مائة درهم.
(4) البقرة: 187.
(5) البقرة: 187.
(6) البقرة: 222.
478

فإذا قال: فأي معنى لقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) (1) إذا كان ما
بعد الليل يجوز أن يكون فيه صوم (2)؟
وأي (3) معنى لقوله عليه السلام: " في سائمة الغنم الزكاة "، والمعلوفة مثلها؟
فإذا قيل (4): لا يمتنع أن تكون المصلحة في أن يعلم ثبوت الزكاة في السائمة
بهذا النص، ويعلم ثبوتها في المعلوفة بدليل آخر.
قلنا: كذلك لا يمتنع فيما علق بغاية حرفا بحرف.
والصحيح أن تعليق الحكم بالصفة لا يدل على أن ما عداه بخلافه على كل
حال، بخلاف قول من يقول إنه يدل على ذلك إذا كان بيانا، وإنما قلنا ذلك لأن ما
وضع له القول لا يختلف أن يكون مبتدءا، أو بيانا، وإذا لم يدل تعليق الحكم بصفة (5)
على نفي ما عداه، فإنما لم يدل على ذلك لشئ يرجع إلى اللفظ، فهو في كل موضع
كذلك.
والجواب عن الرابع: أن ما طريقه العلم لا يرجع فيه إلى أخبار الآحاد، لا سيما
إذا كانت ضعيفة، وهذا الخبر يتضمن أنه عليه السلام استغفر للكفار، وذلك لا يجوز،
وأكثر ما فيه أنه عليه السلام عقل (6) أن ما فوق السبعين بخلاف السبعين، فمن أين
أنه فهم ذلك من ظاهر الآية من غير دليل (7) يدله؟
ولقائل أن يقول: إن الاستغفار لهم كان مباحا (8)، فلما ورد النص بحظر

(1) البقرة: 187.
(2) في المصدر: الصوم.
(3) زيادة من النسخة الثانية.
(4) في المصدر: فإن قيل.
(5) في المصدر: بالصفة.
(6) في الأصل: أعقل.
(7) في المصدر: دليل سواه.
(8) في المصدر: في الأصل مباحا.
479

السبعين، بقي ما زاد عليه على الأصل وقد روي في هذا الخبر أنه صلى الله عليه
وآله وسلم قال: " لو علمت أنى إن زدت على السبعين يغفر الله لهم لفعلت " (1) وعلى
هذه الرواية لا شبهة في الخبر (2).
والجواب عن الخامس: فهو (3) أيضا خبر واحد لا يحتج به في هذا الموضع،
ومع ذلك لا يدل على موضع الخلاف، لأنا لا نعلم أن تعجبهما من القصر مع زوال
الخوف هو لأجل تعليق القصر بالخوف، ويجوز أن يكون تعجبهما لأنهما عقلا من
الآيات الواردات في إيجاب الصلاة وجوب الإتمام في كل حال، واعتقدوا أن
المستثنى من ذلك هو حال الخوف، فتعجبا لهذا الوجه.
والجواب عن السادس: أنه إذا صح قولهم: " إن الماء من الماء منسوخ " (4)،
من أين لهم أنهم عقلوا من ظاهره نفي وجوب الغسل من غير الماء؟، ولعلهم علموه
بدليل سوى اللفظ، لأنهم إذا حكموا بإنه منسوخ فلابد من أن يكونوا قد فهموا أن ما
عداه بخلافه، فمن أين لهم أنهم فهموا ذلك اللفظ دون دليل آخر؟
وقد روى هذا الخبر بلفظ آخر، وهو أنه عليه السلام قال: " إنما الماء من
الماء " (5) وبدخول لفظ " إنما " يعلم أن ما عداه بخلافه، لأن القائل إذا قال: " إنما لك
عندي درهم " يفهم من قوله ": (وليس لك سواه) وعلى الوجه تعلق ابن عباس

(1) تفسير غرائب القرآن (المطبوع بهامش تفسير الطبري ط بولاق): المجلد السادس / الجزء العاشر: 138
ولفظه: " ولو أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت ".
(2) في المصدر: والنبي - عليه السلام - أفصح وأفطن لأغراض العرب، من أين يجوز عليه مثل ذلك؟ لأن معنى
الآية النهي عن الاستغفار للكفار، فإنك لو أكثرت في الاستغفار ما غفر الله لهم، فعبر عن الإكثار بالسبعين،
ولا فرق بينهما وبين ما زاد عليها، كما تقول العرب: " لو جئتني كثيرا أو قليلا ما جئتك " ولا فرق بين الأعداد
المختلفة في الغرض، فكأنه يقول: " لو جئتني كثيرا أو قليلا ما جئتك " وأي عدد تضمنه لفظه فهو كغيره.
(3) أنه.
(4) كنز العمال 9: 380 رقم 26565 وص 540 رقم 27325. والحديث رواه أبو داود، أحمد، وابن ماجة،
والترمذي ونصه: " إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنهما ".
(5) جامع الأصول 7: 272 و 273 رقم 5305 و 5308 نقله عن مسلم والترمذي.
480

في نفي الربا عن غير النسية بقوله صلى الله عليه وآله وسلم " إنما الربا في النسية " (1)
وقد روى أيضا هذا الخبر بلفظ آخر، وهو أنه عليه السلام قال: " لا ماء إلا من الماء " وعلى هذا اللفظ لا شبهة في الخبر، على أن الصحابة لم تبين جهة قولها في
هذا الخبر أنه منسوخ، وهذا النسخ يتناوله، أو دليله أو ما علم منه بقرينة؟ وقد علمنا
أن المذكور من الحكم في اللفظ وهو وجوب الغسل بالماء من إنزال الماء ليس
بمنسوخ، فمن أين النسخ تناول دليل هذا اللفظ دون ما علم منه بقرينة؟ (2)
والجواب عن السابع: أن آية التيمم وآية الكفارات بين فيها حكم الأصل
وحكم البدل، لأنه تعالى أوجب الطهارة عن وجوب الماء، وأوجب التيمم عند عدمه،
وكذلك في الكفارة، لأنه أوجب الرقبة في الأصل وعند عدمها أوجب الصيام، فعلمنا
حكم البدل والمبدل جميعا (3)، وليس لدليل الخطاب في هذا مدخل.
هذه المسألة أوردناها على وجهها لأنها مستوفاة، وفيها بيان نصرة كل واحد
من المذهبين، وما يمكن الاعتماد عليه لكل فريق.
وفي هذه المسألة نظر.

(1) كنز العمال 4: 9814.
(2) في المصدر: وليس لهم أن يقولوا: المراد بذلك الاقتصار من الماء على الماء، لأنهم ليسوا بأولى منا أن
نقول: المراد به أن التوضؤ من الماء منسوخ بوجوب الاغتسال منه، فقد روي أنهم كانوا يتوضأون من التقاء
الختانين، فأوجب عليه السلام الغسل في ذلك.
(3) في المصدر: جميعا بالنص.
481

الباب السابع
الكلام
في
الناسخ والمنسوخ
483

فصل [1]
" في ذكر حقيقة النسخ، وبيان شرائطه، والفصل بينه وبين البداء "
النسخ في اللغة يستعمل على وجهين:
أحدهما: بمعنى الإزالة، كما يقال: " نسخت الشمس الظل " و " نسخت الريح
آثارهم ".
والآخر: بمعنى النقل، كما يقال: " نسخت الكتاب ".
وذهب أبو هاشم (1) إلى أنه حقيقة في الإزالة، مجاز في النقل، قال: لأن من
نسخ الكتاب لم ينقل ما فيه، وإنما أثبت مثله، فلما كان كذلك فيجب أن يكون مجازا.
والأولى أن يقال إنه حقيقة فيهما، لأنا وجدنا أهل اللغة يستعملون ذلك،
لأنهم يعتقدون أن ذلك نقل على الحقيقة وإن كان اعتقادهم فاسدا، ويجري ذلك

(1)
اختلف الأصوليون في اللغوي لاسم النسخ على مذاهب:
1 - إنه حقيقة في الإزالة ومجاز في النقل، وهذا مذهب الأكثرين، وهو مختار أبي هاشم الجبائي، وأبي
الحسين البصري، وابن الهمام، والفخر الرازي.
2 - إنه حقيقة في النقل والتحويل، وهذا مذهب القفال الشاشي - من أصحاب الشافعي.
3 - إنه مشترك بين معنى الإزالة والنقل، وهذا مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني، والقاضي عبد الوهاب
والغزالي وآخرون.
انظر: " الأحكام للآمدي 3: 96، المعتمد 12: 364، تقريب الأصول: 122، أصول السرخسي 2: 53 ".
485

مجرى تسميتهم الأصنام بأنها آلهة، لما اعتقدوا أنه يستحق العبادة، فتسميتهم لها
آلهة كان صحيحا وإن كان اعتقادهم فيها أنها تستحق العبادة فاسدا، فلو لزم هذا للزم
أبا هاشم أن لا يكون أيضا حقيقة في الإزالة لأن الريح في الحقيقة لا تزيل شيئا وإنما
الله تعالى يزيل بها، وكذلك القول في الشمس.
فان اعتذر من ذلك بأن قال: لما اعتقدوا أن الريح هي التي تزيل في الحقيقة
أضافوه إليها.
قيل له مثل ذلك في النقل سواء.
فأما استعمال هذه اللفظة في الشريعة، فعلى خلاف موضوع اللغة وإن كان
بينهما تشبيه، ووجه التشبيه: أن النص إذا دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص
المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا صار بمنزل المزيل لذلك الحكم، لأنه لولاه
لكان ثابتا، فأجرى استعمال لفظ النسخ فيه مجرى الريح المزيلة للآثار. هذا قول أبي
هاشم.
وقال أبو عبد الله البصري: إن هذه التسمية مستعملة على غير طريقة (1) اللغة
في الشريعة، فهي لفظة شرعية منقولة عما وضعت له، لأن استعمالها في ذلك غير
معقول في اللغة، فهي كسائر الأسماء الشرعية.
فأما حد الدليل الموصوف بأنه ناسخ فهو: " ما دل على أن مثل الحكم الثابت
بالمنسوخ، الذي هو النص المتقدم، غير ثابت في المستقبل، على وجه لولاه لكان
ثابتا بالنص الأول مع تراخيه عنه ".
والموصوف بأنه منسوخ هو النص الأول.
وقد تستعمل هذه اللفظة في أشياء، فيقال في الله تعالى أنه ينسخ الحكم، فهو
ناسخ إذا نصب الدلالة على ذلك.
ويقال إن النص الثاني ناسخ للأول، إذا دل من حاله على ما ذكرناه.

(1) طريقة.
486

وقد يقال: إن الحكم الثاني ينسخ الحكم الأول، وهو ناسخ له، من حيث علم
سقوط الأول به، كقولهم: " نسخ التوجه إلى الكعبة الاستقبال إلى بيت المقدس ". ومثل ما روى أن الزكاة نسخت كل واجب في المال، ونسخ شهر رمضان صوم عاشور.
وقد يتسع أيضا فيقال: " إن فلانا ينسخ كذا كذا "، إذا اعتقد ذلك وذهب إليه، كما يقال الشافعي لا ينسخ القرآن بالسنة (1)، والحنفي ينسخ ذلك (2).
وأما لفظ المنسوخ: فإنه يستعمل في الدليل والحكم دون ما عداهما،
والأغلب في استعمال هذه اللفظة " الدلالة " و " الحكم " دون ما عداهما، وإن كان لا يستعمل في الحكم إلا إذا كان ثبوته يقتضي نفي الحكم الأول، أو علم بالدليل ذلك
من حاله.
فهذه الوجوه هي جملة ما يستعمل هذه العبارة فيها، وحقيقتها ما ذكرناه.
فأما شرائط النسخ فأشياء: منها: أن الدليل الموصوف بأنه " ناسخ " وبأنه " منسوخ " جميعا يكونان
شرعيين.
وإنما قلنا ذلك: لأنه إذا كانت الإباحة معلومة بالعقل، ثم ورد الشرع بحظره لا
يسمى ذلك نسخا، ألا ترى أنه لا يقال: " حظر الخمر نسخ إباحته " لما كانت إباحته
معلومة عقلا، فكذلك لا يقال: " إن الجنون، والموت والعجز نسخ واحد منها ما كان
واجبا عليه " لما كان زوال ذلك عن المكلف معلوم عقلا.
وهذا الذي ذكرناه إنما يمنع من إطلاق عبارة النسخ عليه، فأما معنى النسخ

(1) وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، انظر: " الأحكام للآمدي 3: 138، المنخول: 292:
شرح اللمع 1: 501، التبصرة: 264 ".
(2) نسخ الكتاب بالسنة المتواترة جائز عند جمهور المتكلمين من الأشاعرة، والمعتزلة، والظاهرية، وهو
مختار مالك، وأصحاب أبي حنيفة، وابن سريج وآخرون. انظر: " الأحكام للآمدي 3: 138، المنخول: 292،
شرح اللمع 1: 501، الأحكام لابن حزم 4: 505، التبصرة: 264 ".
487

فحاصل فيه على كل حال، ألا ترى أنه لا فرق في سقوط التكليف بين زوال العقل أو
حصول الموت والعجز، وبين ورود النهي عنه، في أن في الحالين جميعا يسقط
التكليف؟ وإنما يمنع ذلك من إجراء العبارة عليه على ما قلناه.
ومن شرط الناسخ: أن يكون المراد به غير المراد بالمنسوخ، لأنه لو كان مرادا
به لدل على البداء، ولاقتضى ذلك كون الأمر أو النهي قبيحا، فعلى هذا يجب أن
يكون الناسخ دالا على أن ما تناوله لم يرد قط بالمنسوخ.
وبذلك يبطل قول من حد النسخ بأنه: " زوال الحكم بعد استقراره "، لأن الحكم
إذا استقر وثبت أنه مراد، لم يصح أن يرفع، لما يؤدي إليه من الفساد الذي قلناه.
وبمثل ما قلناه يبطل قول من حد ذلك بأنه: " رفع المأمور به بالنهي عنه " لأنه لو كان كذلك لوجب كونه مرادا بالأمر، ومكروها بالنهي، وذلك يؤدي إلى ما قدمناه
من الفساد.
ومن شرط الناسخ أيضا: أن يكون منفصلا عن المنسوخ، لأنه إذا كان متصلا
به لم يوصف بأنه ناسخ، ألا ترى أنه لا يقال: إن قوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فآتوهن من حيث أمركم الله) (1)
نسخ للحظر المتقدم، لما كان متصلا به.
ومن شرط المنسوخ: أن لا يكون موقتا بوقت يقتضي ارتفاع ذلك الحكم، لأن
ما يكون كذلك لا يوصف بأنه ناسخ، ولذلك لا يقال الإفطار بالليل ناسخ الصوم
بالنهار، ولكن الواجب أن ينظر في الغاية، فإن كانت غاية معلومة كالليل، لم يوصف
الحكم المتعلق بها بأنه ناسخ، وإن كانت مما لا يعلم إلا بنص بأن يرد فتبين حاله،
ولولاه لوجب إدامة حكم النص الأول، فإنه يوصف بأنه ناسخ، لأنه جار مجرى قوله
تعالى: (إفعلوا كذا وكذا أبدا إلى أن أنسخه عنكم)، وقد علم أن ما يرد من الدلالة بعد
ذلك يوصف بأنه ناسخ، وإن كان قد قيد به الكلام الأول، وكذلك ما جرى مجراه من

(1) البقرة 222.
488

الغايات، ولذلك لم يصح ما قاله بعض أصحاب الشافعي من أن قوله تعالى:
(فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) (1) لا يجوز
أن يكون منسوخا بقوله: " وقد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة " (2) الحديث،
لأن الآية وإن كانت مشروطة بالسبيل، فهي غاية غير معلومة إلا بدليل لولاه لكان
الحكم ثابتا فيه.
ويفارق ذلك تعليق الحكم بغاية يجب انقطاعه عندها، كتعليقه بالموت لأن
ذلك إنما يزول بحصول ذلك لا بدليل آخر شرعي وهذا ظاهر.
ومن حد الناسخ أن يكون في حكم المنسوخ في وقوع العلم به، أو العمل،
على ما سنذكره من أن خبر الواحد لا ينسخ به الكتاب.
ومن شرطه أيضا: أن لا يكون قياسا، ولا ما يجري مجراه من الأدلة المستنبطة
عند المخالف، ونحن ندل على ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وليس من شرط الناسخ، أن يكون لفظ المنسوخ متناولا له، لأنه لا يمتنع أن
تدل الدلالة على أن المراد بالأمر المطلق تكرار الفعل، فيكون سبيله سبيل الأمر
المقيد بما يقتضي التكرار في أن النسخ يصح فيه، وعلى هذا النسخ في الشريعة، لأنه
ليس شئ من ألفاظ المنسوخ ظاهره يقتضي التكرار، وإنما علم ذلك من حاله بدليل،
وهذا بين لأنه كما لا يمتنع نسخ الفعل وما شاكله من الشرعيات، وإن لم يكن ذلك
كلاما، لا يمتنع أن يعلم بدليل أن المراد بالأمر التكرار، فيعترضه النسخ.
ويفارق التخصيص الذي قد بينا إنه لا يصح دخوله إلا فيما يتناوله اللفظ العام
من هذا الوجه.
وليس من شرط الناسخ أن لا يتأخر عن المنسوخ، كما قلنا في تخصيص العام،

(1) النساء: 15.
(2) أخرج الحديث مسلم، والترمذي، وابن ماجة، وأبو داود، وابن حنبل، كلهم في كتاب الحدود،
انظر أيضا: تفسير التبيان 3: 143
489

وبيان المجمل عن وقت الحاجة، بل هو بالعكس من ذلك في وجوب تأخره عن
المنسوخ على ما بيناه.
وليس من شرطه أن يكون متناولا لجملة، بل لا لم يمتنع أن يكون متناولا لما
يصح نسخ الدليل الشرعي فيه، وإن كان متناولا لحكم في عين واحدة، ويفارق
التخصيص في ذلك.
وفي الناس من شرط في ذلك (1) أن لا يكون لفظه مقيدا مقتضيا للتأبيد، فقال:
لو قال الله تعالى: " افعلوا الصلاة أبدا " لما ساغ نسخه، وإنما يجوز إذا أطلق ذلك (2).
وهذا بعيد، لأن لفظ التأبيد عندنا في الأمر لا يقتضي الدوام على ما تعورف
استعماله، لأن قول القائل لغيره: " لازم غريمك أبدا "، أو لابنه: " تعلم العلم أبدا " لا
يقتضي عندهم الدوام. ويفارق ذلك حال الخبر الذي يتناول ما يصح الإدامة فيه،
على أن الصحيح في الخبر أيضا أنه لا يفيد الإدامة، ولأجل ذلك يمنع أصحاب
الوعيد (3) من التعلق بآيات الوعيد المتضمنة للفظ التأبيد، وإذا لم يقتض ذلك، فكيف

(1) أي في المنسوخ.
(2) رأي جمهور الفقهاء والمتكلمين والأصوليين على جواز النسخ وإن اقترن بالمنسوخ ذكر التأييد، إلا أن
بعض المتكلمين قالوا: لا يجوز النسخ إلا في خطاب مطلق، فأما إذا قيد بالتأبيد فلا يجوز نسخه، وذهب إلى
هذا الرأي أعيان الحنفية كالقاضي أبي زيد الدبوسي، وأبي منصور الماتريدي، والبزودي، والسرخسي، وأبي
بكر الجصاص وغيرهم.
النظر: " التبصرة: 255، الأحكام للآمدي 3: 123، شرح اللمع 1: 491، الذريعة 1: 491، المعتمد 2:
373 - 370 و 383 - 382. أصول السرخسي 2: 60 ".
(3) الوعيد: التهديد، وفي اصطلاح المتكلمين التهديد بالخلود بالنار، وقيل لا فرق بين الوعد والوعيد سوى
أن الوعد صادر عن كرم والوعيد صادر عن غضب في الشاهد، وقد اختلف المتكلمون فيمن يتوجه إليه
آيات الوعيد، هل هم الكفار خاصة أم يشمل مرتكبي الذنوب من المسلمين؟ قال الشيخ المفيد في (أوائل
المقالات: 46): " اتفقت الامامية على أن الوعيد في النار متوجه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي
الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة، ووافقهم على هذا القول كافة
المرجئة سوى محمد بن شبيب وأصحاب الحديث قاطبة. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعموا أن
الوعيد بالخلود في النار عام في الكفار وجميع فساق أهل الصلاة ".
490

المنع من نسخه في ذلك؟ ولو إنه تناول ما قال لم يمنع ذلك من نسخه، لأنه كان
يدل على أنه لم يرد باللفظ ما وضع له، فيجري النسخ في ذلك مجرى التخصيص.
ومن شرط النسخ: ألا يقع إلا في الأحكام الشرعية دون أجناس الأفعال
وضروبها، لأنه إنما ينسخ عن الفعل الذي وجب، بأن يبين أن أمثاله ليست بواجبة،
والفعل المحظور يبين أن أمثاله غير محظورة.
وليس من شرطه أن يكون للحكم المنسوخ بدل في الأحكام الشرعية، على ما
زعم بعضهم (1) وذلك أن ما دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص الأول ساقط في
المستقبل يكون ناسخا له وإن سقط لا إلى حكم آخر، بل عاد حاله إلى ما كانت عليه
في العقل، وعلى هذا الوجه نسخ الله تعالى الصدقة بين يدي مناجاة الرسول عليه السلام
بقوله: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجويكم صدقات) (2) فأسقط لا إلى بدل،
فكذلك أسقط ما زاد على الاعتداد على أربعة أشهر وعشرا عن المتوفى عنها
زوجها (3) لا إلى بدل.
ولأن زوال الحكم إلى بدل لم يكن نسخا لأجل البدل، وإنما كان منسوخا
لزواله، فلا فصل بين زواله إلى بدل وإلى غير بدل، وكذلك وصف صوم عاشوراء بأنه
منسوخ، وإن كان صوم رمضان لا يجوز أن يكون بدلا منه، لجواز وجوبه مع وجوبه
وارتفاع التنافي بينهما.
فأما نسخ الحكم ببدل فقد يقع على وجوه:
منها: أن يسقط وجوبه إلى الندب، نحو نسخه ثبات الواحد للعشرة (4)، إلى

(1) هذا الزعم لبعض الشواذ من الأصوليين المغمورين حيث لم يتطرق المصنفون لذكر أسمائهم، ومذهب
الجميع جواز نسخ حكم الخطاب لا إلى بدل.
انظر: " المعتمد 1: 384، الأحكام للآمدي 3: 124، الذريعة 1: 417 ".
(2) المجادلة: 13.
(3) راجع سورة البقرة: آية 234.
(4) أي نسخ وجوب ثبات الرجل الواحد للعشرة.
491

ثباته للاثنين، لأن ثباته للعشرة مندوب إليه، وكذلك نسخ وجوب قيام الليل فجعله
ندبا.
وقد يسقط وجوبه إلى وجوب غيره، وذلك على ضربين: أحدهما: أن يسقط الواجب المخير فيه إلى واجب مضيق، وذلك نحو نسخ
التخيير بين الصوم والفدية (1) بحتم الصوم بقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر
فليصمه) (2).
وقد يسقط الواجب إلى الإباحة، نحو سقوط ما أوجب الله تعالى من ترك
الأكل والمباشرة في ليال الصوم إلى إباحة ذلك (3).
وقد يسقط المحظور إلى المباح، نحو ما روي عنه عليه السلام أنه قال: " نهيتكم
عن زيارة القبور ألا فزوروها وادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروها " (4)، فعلى هذا يجب أن يجري الباب.
وليس من شرط نسخ الحكم ألا يقع إلا بما هو أخف منه أو مثله، على ما
يذهب إليه بعض أهل الظاهر (5).

(1) إن الله تعالى أوجب في ابتداء الإسلام صيام رمضان مخيرا بينه وبين الفداء بالمال، ونسخه بحتم الصوم.
النظر: " الأحكام للآمدي 3: 125 ".
(2) البقرة: 185.
(3) الآية الناسخة لحكم وجوب ترك الأكل والمباشرة في ليالي رمضان هي قوله تعالى (البقرة: 187)
(أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم). الآية.
(4) جامع الأصول 11: 152، السنن الكبرى 4: 77، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 7: 382 - 385.
(5) لا خلاف بين جمهور الأصوليين على جواز نسخ الشئ إلى مثله، وإلى أخف منه، وأما نسخ الشئ إلى ما
هو أغلظ وأثقل منه فإن الجمهور أيضا على جوازه ووقوعه، إلا أن بعض الشافعية - لا نعرف أسماءهم
بالتحديد وقد نسب ذلك للشافعي نفسه إلا أن بعض أعلام الشافعية نفوها عنه - وبعض الظاهرية ذهبوا إلى
عدم الجواز. وقال ابن السبكي (الإبهاج 2: 154): إن ابن داود الظاهري هو القائل بعدم الجواز.
وقال ابن حزم الأندلسي: (الإحكام 4: 493): " قال قوم من أصحابنا ومن غيرهم: لا يجوز نسخ الأخف
بالأثقل، والشئ بمثله، ويفعل الله ما يشاء ولا يسأل عما يفعل ".
ومن الظاهرية من أجاز عقلا، ومنع منه سمعا.
انظر: " التبصرة: 258، المعتمد 1: 385، الأحكام للآمدي 3: 125، الذريعة 1: 420، شرح اللمع 1:
493، روضة الناظر: 43، ميزان الأصول 2: 1000، أصول السرخسي 2: 62 ".
492

وذلك أن الله تعالى إنما ينسخ الحكم بغيره إذا علم أن صلاح المكلف في
الثاني، وقد يجوز أن يكون صلاحه فيما هو أشق من الأول كما يجوز أن يكون
صلاحه فيما هو أخف، فإذا صح ذلك، ولم يكن الأمر في التكليف موقوفا على
اختيار المكلف، لكنه بحسب المعلوم، فكيف يمنع من جواز نسخ الشئ مما هو
أشق منه؟ وهل يذهب ذلك إلا على من لا يعرف أصل هذا الباب؟
ولا فرق بين من قال هذا، وبين من قال: " لا يجوز أن يكلف الله ابتدا ما يشق "
على ما يذهب إليه قوم من التناسخية (1) والقرامطة (2)، وقد ورد النسخ بذلك، ألا ترى

(1) التناسخ: عبارة عن تعلق الروح بالبدن بعد المفارقة من بدن لآخر من غير تخلل زمان بين التعليقين،
وذلك لوجود الارتباط الوثيق بين الروح والجسد، بحيث يستحيل وجود وبقاء أحدهما دون الآخر. ويقال:
إن أول من ابتدع هذه الفكرة هو عبد الله بن الحارث المدائني استنادا إلى بعض الآيات والروايات. وتدور
هذه الفكرة حول انتقال الروح في أجسام عديدة بحسب قربها وبعدها عن الخير، فالكفار تنتقل أرواحهم
إلى أجساد الحيوانات المشوهة المذمومة، والمؤمنين تنتقل أرواحهم إلى أجساد طاهرة، فهذه حالهم إلى
أبد الآبدين. وبناء على هذه المقولة فإن استقرار الروح في إحدى الجسدين يعد عاقبة الصالحين والطالحين،
فلا جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة. وقد اعتقدت أكثر فرق الغلاة والمشبهة والمجسمة بالتناسخ وقالت به.
(2) من فرق الإسماعيلية الباطنية، وهذه النسبة جاءت من رجل يدعى حمدان بن الأشعث الملقب بقرمط من
أهالي الأهواز، الذي كان على مذهب عبد الله بن ميمون القداح، وقد تمكن القرمطي من تبوء الرياسة بين
أتباع ابن ميمون وبعث بدعاته إلى بلاد هجر وجنوب العراق، وفي أواخر القرن الثالث للهجرة استطاع
أتباعه من احتلال البحرين وإقامة دولتهم فيها ومن هناك بدءوا بنشر دعوتهم في الأهواز والعراق والشام
واليمن وكانوا يدعون للثورة ضد الخلافة العباسية وحاربوها مرارا وهزموا جيوشها في البصرة عام 288 ه‍
وفي الشام ومواقع أخرى. وكانوا يكفرون جميع المسلمين ويستنكرون حجهم إلى بيت الله الحرام، وقد
هاجموا قوافل الحجيج مرات عديدة وقتلوا منهم عشرات الألوف، وأخيرا أغار أبو طاهر القرمطي يوم 8
ذي الحجة عام 317 ه‍ على مكة المكرمة وقتل وإسر آلاف الحجيج وأخذ معه حجر الأسود إلى الإحساء
فبقى فيها مدة عشرين سنة إلى أن أعيد إلى مكانه بمساعي الخليفة الفاطمي. وبقيت القرامطة إلى القرن
الخامس الهجري لكنها تبدلت إلى لصوص وقطاع طرق تهجم على القوافل إلى أن اضمحلت وبادت.
493

إلى قوله: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) (1) اقتضى كون المكلف
مخيرا في الصوم (2)، ثم حتم ذلك وألزمه (3)، مع ما فيه من زيادة المشقة على
التخيير، ونسخ عن الزاني المحصن الحد المذكور في القرآن (4) بالرجم (5) مع ما فيه
من زيادة الألم عند من لم يقل بالجمع بينهما.
على أن ما قالوه يقتضي ضد قولهم في الحقيقة، لأنه متى نسخ الحكم بما هو
أشق منه كان مؤديا إلى ثواب زائد على ما يؤدي إليه الأخف، صار في الحقيقة أخف
عليه وأنفع له لعظم النفع الذي فيه، ومن منع من ذلك فكأنه منع من أن يعرض الله
تعالى المكلف لتكليف زائد يؤديه إلى زيادة ثواب، وهذا جهل.
فأما تعلقهم بقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) (6)
وأنه نبه على أن من حق النسخ أن يكون تخفيفا، وبأن النسخ مأخوذ من " الإزالة " فكلما

(1) البقرة: 184.
(2) وذلك في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية مسكين ومن تطوع خيرا فهو خير له وإن
تصوموا خير لكم) [البقرة: 185].
(3) وذلك بقوله تعالى: (والآتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا
فأمسكوهن في البيوت حتى يتوهاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) [النساء: 15].
(5) روى الشريف المرتضى في " رسالة المحكم والمتشابه " بإسناده عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله،
عن آبائه، عن أمير المؤمنين - عليه السلام - في حديث الناسخ والمنسوخ: قال: " كان من شريعتهم في
الجاهلية أن المرأة إذا زنت حبست في بيت وأقيم بأودها حتى يأتيها الموت، وإذا زنى الرجل نفوه عن
مجالسهم، وآذوه وعيروه، ولا يكونوا يعرفوا غير هذا، قال الله تعالى في أول الإسلام (والآتي
يأتين الفاحشة من نسائكم....) الآية، فلما كثر المسلمون وقوى الإسلام واستوحشوا أمور الجاهلية أنزل
الله تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهم مائة جلدة) الآية، فنسخت هذه آية الحبس
والأذى ".
انظر: " وسائل الشيعة: البا ب الأول من حد الزنا من كتاب الحدود، ح 19 ".
(6) الأنفال: 66.
494

ما كان ذهب في الإزالة كان من شرطه، فيجب أن لا ينسخ بما هو أشق منه (1).
فما بيناه من أن النسخ تابع للمصلحة يسقط جميع ذلك، ويعارض قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) (2) لأن هذه الآية تدل على أن ما
يأتي به أشق من الأول، أو في حكم الأشق حتى يصح أن يكون خيرا منها، ولم يمنع
ذلك من جواز نسخ الشئ بأخف منه، فكذلك القول فيما تعلقوا به من الآية.
وأما البداء فحقيقته في اللغة هو " الظهور " (3) ولذلك يقال: " بدا لنا سور
المدينة " و " بدا لنا وجه الرأي " وقال الله تعالى: (وبدا لهم سيئات ما عملوا) (4)
و (بدا لهم سيئات ما كسبوا) (5) ويراد بذلك كله: " ظهر ".
وقد يستعمل ذلك في العلم بالشئ بعد أن لم يكن حاصلا، وكذلك في الظن.
فأما إذا أضيفت هذه اللفظة إلى الله تعالى فمنه ما يجوز إطلاقه عليه، ومنه ما لا
يجوز:
فأما ما يجوز من ذلك، فهو ما أفاد النسخ بعينه، ويكون إطلاق ذلك عليه على
ضرب من التوسع، وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين عليهما
السلام (6) من الأخبار المتضمنة لإضافة البداء إلى الله تعالى، دون ما لا يجوز عليه،
من حصول العلم بعد أن لم يكن، ويكون وجه إطلاق ذلك فيه تعالى والتشبيه هو أنه
إذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهرا لهم، ويحصل لهم
العلم به بعد أن لم يكن حاصلا لهم، أطلق على ذلك لفظ البداء.

(1) انظر: المصادر الواردة في هامش رقم (5) صفحة 492.
(2) البقرة 109.
(3) قال ابن فارس: بدو، الباء والدال والواو أصل واحد وهو ظهور الشئ، يقال بدأ الشئ يبدو، إذا ظهر.
انظر: " معجم مقاييس اللغة 1: 212، لسان العرب 1: 347، المصباح المنير 1: 40 ".
(4) الجاثية: 33.
(5) الزمر: 48.
(6) انظر الأحاديث الواردة في كتاب الكافي 1: 146 باب البداء.
495

وذكر سيدنا الأجل المرتضى رحمه الله (1) وجها آخر في ذلك وهو أن قال:
" يمكن حمل ذلك على حقيقته، بأن يقال: " بدا له تعالى " بمعنى أنه ظهر له من الأمر
ما لم يكن ظاهرا له، وبدا من النهي ما لم يكن ظاهرا له، لأن قبل وجود الأمر والنهي لا يكونان ظاهرين مدركين، وإنما يعلم أنه يأمر أو ينهي في المستقبل.
فأما كونه آمرا أو ناهيا، فلا يصح أن يعلمه إلا إذا وجد الأمر والنهي، وجرى
ذلك مجرى أحد الوجهين المذكورين في قوله تعالى (ولنبلونكم حتى نعلم
المجاهدين منكم) (2) بأن نحمله على أن المراد به حتى نعلم جهادكم موجودا، لأن قبل وجود الجهاد لا يعلم الجهاد موجودا، وإنما يعلم كذلك بعد حصوله، فكذلك
القول في البداء " (3). وهذا وجه حسن جدا. وأما ما لا يجوز إطلاقه عليه تعالى، هو أن يأمر تعالى المكلف بنفس ما نهاه
عنه، على الوجه الذي نهاه عنه، في الوقت الذي نهاه عنه. وإنما شرطنا هذه الوجوه كلها، لأن المنهي عنه لو كان غير المأمور به لم يمتنع
أن تقتضي المصلحة الأمر به والنهي عن مثله، وكان لا مدخل له في البداء: ولأن النهي
لو تعلق به على غير الوجه الذي تناوله الأمر كان حسنا، نحو أن يأمر الله بالصلاة على
وجه العبادة له تعالى، وينهى عنها على وجه العبادة للشيطان. وإنما شرطنا الوقت الواحد، لأن المأمور به في وقت لو نفى عنه في وقت آخر
وصح وقوعه لكان ذلك حسنا في الحكمة، كما يصح أن يحسن من الله تعالى فعل
الجسم في بعض الأوقات، وإن كان لو فعله بعينه في وقت آخر وقد أفناه لم يمتنع أن
يكون قبيحا.

(1) قدس الله روحه.
(2) محمد: 31.
(3) لم نعثر على مصدر هذا القول في مصنفات الشريف المرتضى (ره) ولعل المصنف نقله عن مجالس
الشريف المرضى مشافهة.
496

وإنما يقبح ذلك لا لأنه يدل على البداء، لكن لأنه تكليف ما لا يطاق، ولأن ما
يصح أن نفعله في وقت، لا يصح أن نفعله في وقت آخر، لاختصاص مقدور القدر
بالأوقات على ما دل عليه الدليل.
وإنما جعلنا المأمور هو المنهي، لأنه لو صح كون المقدور الواحد لقادرين لم
يمتنع أمر أحدهما به ونهى الآخر عنه على بعد ذلك.
وإنما قلنا إن ما اجتمعت فيه هذه الشرائط لا يجوز على القديم تعالى، لأنا قد
بينا أن الله تعالى إنما يأمر العبد بالشئ لتعلق المصلحة به، وينهاه لتعلق المفسدة به،
ومحال في الشئ الواحد، في الوقت الواحد، أن يكون مصلحة ومفسدة.
وأما نسخ الشريعة فمخالف لما قدمناه، لأنا قد بينا في حده أنه إسقاط الحكم
الذي تناوله النص المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه، وذلك يقتضي
أن المأمور به غير المنهي، عنه وأن وقت المنهي غير وقت المأمور به.
وقد بينا أيضا الفرق بين النسخ والتخصيص (1)، وذكرنا أن تخصيص العموم
هو: " ما دل على أنه لم يرد به إلا بعض ما تناوله اللفظ "، وأنه لا يصح دخوله مما لم
يتناوله لفظ العموم، والنسخ بخلافه، وبينا أيضا أن شروطهما وأحكامهما تختلف،
لأن النسخ يصح فيما لا يصح التخصيص فيه، ويصح التخصيص فيما لا يصح النسخ
فيه، وذلك واضح.
والذي يعتمد في هذا الباب أن النسخ والتخصيص جميعا يتناولان الأفعال
دون الأعيان والأوقات والأحوال، على خلاف ما يدعيه بعض من يتكلم في هذا
الباب، لأن التخصيص يدل على أنه لم يرد بالعموم ما لولاه لكان يدل على أنه مراد،
وكذلك النسخ. والذي يريده المخاطب الحكيم هو الأفعال دون الأعيان والأوقات، لأن الأعيان لا يصح أن تراد، والأوقات لا يحتاج إلى إرادتها، لأنها ليست متعلقة
بالتكليف، وكذلك الأحوال، فإذا صح هذا صح ما قلناه.

(1) راجع كلام المصنف في ص 336 فصل [11].
497

وإنما يقال: إن التخصيص يخص الأعيان، ويراد به أنه أريد بالعموم الفعل من
بعض الأعيان دون بعض، أو في بعض الأوقات فيرجع التخصيص في التحقيق إلى
الأفعال، لكنها لما كانت تقع من الأعيان في الأوقات وجب أن تذكر، فإن لم تكن هي
المراد بالكلام، وهذا هو الذي يجب الاعتماد عليه دون غيره، لأن الكلام على
المعاني دون العبارات.
498

فصل [2]
" في ذكر ما يصح معنى النسخ فيه من أفعال المكلف،
وما لا يصح، وبيان شرائطه " أفعال المتكلف على ضربين:
أحدهما: لا يصح معنى النسخ فيه.
والآخر: يصح ذلك فيه.
فالذي لا يصح معنى النسخ فيه على ضربين: أحدهما: لا يصح ذلك فيه لأن الصفة التي يقع عليها الفعل لا يجوز خروجه
عنها، ولا حصول ضدها فيه، وذلك مثل وجوب الإنصاف، وشكر المنعم، وقبح
الكذب والجهل، وغير ذلك من الواجبات العقلية (1) التي لا يجوز خروجها عن كونها
على تلك الصفة، فما يكون كذلك لا يصح معنى النسخ فيه، لأن من المحال أن يكون
الإنصاف مع كونه إنصافا، وشكر النعمة مع كونه (2) شكرا للنعمة يخرجان من كونهما
واجبين، وكذلك لا يصح أن يخرج الجهل والكذب عن القبح إلى الحسن، فعلم بذلك أن معنى النسخ (لا يصح في جميع ذلك.

(1) في الأصل: العقليات.
(2) في الأصل: كونها.
499

وذهب المعتزلة إلى أن معنى النسخ (1) يصح في شكر النعمة، لأنه يجوز أن
يفعل المنعم من الإسائة ما يوفي على النعمة، فيبطل الشكر عليها، وذلك يصح على
مذهبهم في الإحباط (2) لا على ما نذهب إليه من فساد القول بالإحباط (2) لأن

(1) زيادة من النسخة الثانية.
(2) مما يعد من الضروريات عند المسلمين كون الكفر يزيل استحقاق ثواب الطاعات السابقة، وأن الإيمان
يزيل استحقاق عقاب المعاصي السابقة، كما أنه لا خلاف في استحقاق المكلف للثواب والعقاب
الأخرويين إذا تفرد بالطاعة أو تفرد بالمعصية، وأما إذا جمع بين المعاصي والطاعات ففي هذا الحال إما أن
تتساوى الطاعات والمعاصي أو تزيد إحداهما على الأخرى، ففي صورة التساوي فإن المعتزلة متفقون على
عدم إمكان وقوعها لاستحالة استواء الثواب والعقاب عندهم، ولأنه يلزم دخول العاصي للجنة والمطيع إلى
النار (انظر استدلال القاضي عبد الجبار في كتاب " شرح الأصول الخمسة " ص 623). وأما في صورة زيادة
الطاعات على المعصي أو العكس، فقد اختلف المتكلمون في أنه هل يجوز اجتماع واستحقاق والعقاب
والثواب من غير أن يزيل ويحبط أحدهما الآخر أم لا؟، فالمعتزلة ترى أن الثواب يسقط بوجهين: أحدهما:
ندم الفاعل على ما أتى به من الطاعات، والثاني: إتيانه بمعصية هي أعظم منه، أي أن الأكثر يزيل الأقل
ويسقطه، وهذا هو معنى الإحباط والتكفير عندهم، أي إن الأكثر يحبط الأقل ويكفره. والبدع لهذا النظرية
هو أبو علي الجبائي، فقد نسب إليه قوله: " إن من الذنوب كبائر وصغائر، وإن الصغائر يستحق غفرانها
باجتناب الكبائر، وإن الكبائر تحبط الثواب على الإيمان، واجتناب الصغائر يحبط عقاب الكبائر... " [انظر
مذاهب الإسلاميين للأشعري ط ريتر ص 270 وط مصر 1: 305] وبعبارة أوضح حينما يكون العبد
مطيعا وعاصيا في الدنيا فإنه يستحق العقاب والمدح الأخرويين، لكن في بعض الحالات يكون عظم
المعصية بحيث يترجح جانب المعصية على الطاعة ويزيلها فلا يستحق العبد إلا العقاب والذم.
وأما الرأي السائد عند الإمامية: فهو عدم التحابط، وأن المكلف يعاقب على طاعته ويعاقب على
عصيانه، يقول الشيخ المفيد: [أوائل المقالات: 82 رقم 61]: " أقول: إنه لا تحابط بين المعاصي والطاعات
ولا الثواب ولا العقاب، وهذا مذهب جماعة من الإمامية والمرجئة، وبنو نوبخت يذهبون إلى التحابط فيما
ذكرناه ويوافقون في ذلك أهل الاعتزال ". وقال المصنف في " الإقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد: ص 193 ":
" ولا تحابط عندنا بين الطاعة والمعصية ولا بيت المستحق عليهما من ثواب وعقاب، ومتى ثبت استحقاق
الثواب فإنه لا يزيله شئ من الأشياء، والعقاب إذا ثبت استحقاقه فلا يزيله شئ من الأشياء عندنا إلا
التفضل "
انظر: " الأحاديث الواردة في أصول الكافي 1: باب الذنوب ص 268 و 1: باب الكبائر: ص 276،
كشف المراد: المسألة السابعة في الإحباط والتكفير، مناهج اليقين في أصول الدين: 352، مذاهب
الإسلاميين 1: 298، شرح المواقف 8: 308 ".
500

بالإسائة عندنا لا يبطل شكر النعمة، وإنما يستحق بها الذم والعقاب فيمن يصح ذلك
فيه لا غير.
والقسم الآخر: لا يصح معنى النسخ فيه لأنه لا يصح خروجه عن كونه لطفا
، وذلك نحو وجوب المعرفة بالله تعالى وصفاته، ونحو وجوب الرياسة التي نوجبها
عقلا، فإنه لا يصح خروج ذلك أجمع عن كونها لطفا، فإذا لا يصح معنى النسخ فيها
أصلا.
فأما ما يصح معنى النسخ فيه: فهو كل فعل يجوز أن يتغير من حسن إلى قبح،
فيقع على وجه فيكون حسنا وعلى آخر فيكون قبيحا، ويقع في وقت فيكون حسنا،
وفي آخر فيكون قبيحا، ويقع من شخص فيكون حسنا، ومن آخر فيكون قبيحا،
وذلك نحو المنافع والمضار، ولا اعتبار في ذلك بجنس الفعل، بل الاعتبار في ذلك
بالوجوه التي يقع عليها الفعل، وعلى ذلك جميع الشرعيات لأنها قد تكون واجبة
في وقت دون آخر، وعلى شخص دون غيره، وعلى وجه دون آخر ألا ترى أن
القعود في موضع مباح قد يكون حسنا ثم يعرض فيه وجه قبح بأن يخاف سبعا أو
لصا أو وقوع حائط عليه وما شاكله، فيصير القعود نفسه قبيحا.
ولما ذكرناه اختلفت الشرايع ودخل النسخ فيها، واختص بعض المكلفين بما
لم يشركه فيه غيره، وذلك أن الإمساك في السبت كان واجبا في شرع موسى عليه
السلام، ثم صار قبيحا في شرع نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وغير ذلك من
الشرائع. ويجب على
الحائض ترك الصلاة والصوم ولا يجب ذلك على غيرها، بل
يكون ذلك قبيحا منه، فعلى هذا ينبغي أن يجري هذا الباب.
فأما النسخ في الأخبار: (1) فقد اختلف العلماء في ذلك:

(1) النسخ في الأخبار إما أن يكون لنسخ أصل الخبر أو لنسخ ودلوله وفائدته:
أما الأول: أما أن يختص النسخ بتلاوته أو يتعلق بتكليفنا بذلك الخبر، بأن نكون قد كلفنا أن نخبر بشئ
فينسخ عنا التكليف ووكل واحد من الأمرين جائز بين الأصوليين القائلين بجواز النسخ، لأن
نسخ التلاوة مطلقا أو نسخ تكليف الأخبار يعدان من الأحكام الشرعية، فجاز أن يكون مصلحة في وقت
فيثبته الشارع ومفسدة في آخر فينسخه، وهذا مما لا خلاف فيه وقد اتفق الجميع على إمكان ثبوته
ونسخه، إنما الخلاف في أنه هل يجوز أن ينسخ تكلفنا بالأخبار عما لا يتغير بتكليفنا بالأخبار بنقيضه أم لا؟
قالت المعتزلة: انه لا يجوز ذلك لأنه كذب، والتكليف بالكذب قبيح على الشارع بناء على أصل التحسين
والتقبيح العقليين: وإنه يلزم على الله تعالى رعاية المصلحة في أوامره ونواهيه.
أما الثاني: إن مدلول الخبر وثمرته اما أن يكون مما لا يتغير ويعد من الثوابت الضرورية، كمدول
الخبر بوجود الإله وحدوث العالم وبعثة الأنبياء، أو مما يتغير وليس له ثبوت بالضرورة. أما الأول منسخه
محال بالإجماع، وأما الثاني فقد اختلف الأصوليون والمتكلمون في حكمه على أقوال:
1 - المنع من النسخ: قالوا: إن الأخبار عما يتغير مدلوله وثمرته سواء كان ماضيا كالإخبار عن إيمان
زيد وكفره، أو مستقبلا، وسواء كان وعدا أو وعيدا أو حكما شرعيا فإنه يمتنع دفعه، وهو مذهب القاضي
أبي بكر الباقلاني، والجبائيان وأبي إسحاق الشيرازي، وابن حزم الأندلسي.
2 - الجواز: وهو مذهب القاضي عبد الجبار، وأبي عبد الله البصري، وأبي الحسين البصري، والبيضاوي.
3 - التفصيل بيت الخبر الماضي والمستقبل: فمنع في الماضي وجوز في المستقبل، وهو مذهب أبي بكر
الدقاق، ومحمود بن عبد الرحمن الإصفهاني.
انظر: " الذريعة 1: 427 - 426، الأحكام للآمدي 3: 130، اللمع: 57، شرح اللمع 1: 489، شرح
المهاج 1: 475، المعتمد 1: 387، الأحكام لابن حزم 4: 474، ميزان الأصول 2: 993 أصول السرخسي
2: 59 ".
501

فذهب أكثر من تكلم في أصول الفقه من المعتزلة وغيرهم - وهو مذهب أبي
علي وأبي هاشم - إلى أن النسخ في الأخبار لا يجوز، وعللوا ذلك بأن قالوا: تجويز ذلك
في أخبار الله تعالى يوجب أن يكون أحد الخبرين كذبا، وفصلوا بينه وبين الأمر والنهي (1).
وذهب أبو عبد الله البصري، وصاحب " العمد " (2) وهو الذي اختاره سيدنا

(1) النظر التعليقة رقم (1) صفحة 501.
(2) هو القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني الأسد آبادي المعتزلي، وكتابه (العمد) أحد الكتب الأربعة التي
قام عليها علم أصول الفقه عند أهل السنة، قال ابن خلدون (ص 455): " وكان من أحسن ما ألف في علم
أصول الفقه كتاب (البرهان) لإمام الحرمين الجويني، و (المستصفى) للغزالي، وهما من الأشعرية، وكتاب
(العمد) لعبد الجبار، وشرحه (المعتمد) لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة، وكانت هذه الكتب
الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه) " وقد أخطأ ابن خلدون حين جعل المعتمد شرحا للعمد!، ولم يصلنا كتاب
(العمد) ويعتبر في عداد المفقود والضائع من تراث المعتزلة ويرى فؤاد سزكين (تاريخ التراث العربي
مج 1: 4: ص 82). أنه من المحتمل أن يكون (العمد) هو الكتاب الموجود بمكتبة الفاتيكان برقم 1100
باسم (الاختلاف في أصول الفقه) إلا أنه يمكن الوصول إلى آراء عبد الجبار ومنهاجه عبر مصدرين
رئيسين هما: (المعتمد) لأبي الحسين البصري الذي كان تلميذه وصفيه ورفيقه على درب الاعتزال
والأصول معا وقد اهتم بكتاب العمد دارسا له ومستوعبا إباه واستشهد به في كثير من مواضع كتابه.
والآخر كتاب (المغني) للقاضي نفسه فإنه برغم أن تأليف الكتاب كان لأجل بيان آرائه في علم الكلام
وأصول الاعتقاد، نجده يجعل الجزء السابع خاصا بالأدلة الشرعية.
502

المرتضى رحمه الله إلى أن ذلك يجوز، ولا فرق بين الخبر والأمر والنهي في هذا الباب (1).
واعلم (2) أن الأخبار على ضربين:
أحدهما: يتضمن معنى الأمر والنهي.
والآخر: لا يتضمن ذلك بل يكون خبرا محضا عن صفة الشئ في نفسه.
فما يكون معناه معنى الأمر والنهي، فإنه يجوز دخول النسخ فيه، لأنه لا فرق
بين أن يقول: (صلوا الجمعة يوم الجمعة)، وبين أن يقول، (صلاة الجمعة يوم الجمعة
واجبة)، في أنه يجب في الحالين الصلاة، ومع ذلك يجوز معنى النسخ فيه بأن تخرج
الصلاة من كونها واجبة، وقد ورد القران بمثل ذلك، قال الله تعالى: (والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) (3)، وقال: (الطلاق مرتان) (4) وقال: (من دخله
كان آمنا) (5)، وقال: (ولله على الناس حج البيت) (6)، وكل ذلك خبر، إلا أنه لما
كان معناه معنى الأمر جاز دخول النسخ فيه لجواز تغيره من حسن إلى قبح.
أما ما لا يكون معناه معنى الأمر أو النهي، وهو الذي يتضمن خبرا محضا عن
صفة الشئ في نفسه، فهو على ضربين.

(1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 500
(2) والذي ينبغي أن يحصل في هذا البا ب.
(3) البقرة: 228.
(4) البقرة: 229.
(5) آل عمران: 97.
(6) آل عمران.
503

أحدهما: أن لا يجوز تغير تلك الصفة، عما هو عليه (1)، فما يكون كذلك يجوز
معنى النسخ في الأخبار عنه، فأما الانتقال إلى ضده فلا يجوز لأن ذلك جهل وذلك
نحو الإخبار عن صفات الله تعالى، ووحدانيته، فإنه يجوز أن نتعبد بالإخبار عن
ذلك، وتارة ينسخ عنا الإخبار عنها، ولا يجوز أن نتعبد بالإخبار عن ضدها، لأن ذلك
جهل على ما قدمناه.
والضرب الآخر: هو ما يجوز انتقاله عن تلك الصفة، فإنه لا يمتنع أن نتعبد
بالإخبار عن تلك الصفة ما دام الموصوف عليها، فإذا انتقل إلى غيرها نتعبد بالنهي
عن أن يخبر عما كنا (2) نخبر به، لتغير المخبر في نفسه.
وهذه جملة كافية في هذا الباب وشرحها يطول، وفيما ذكرناه مقنع إن شاء الله.
فأما شرائط أن يأمر المكلف بنفس ما نهي عنه فهي: إن يأمره به على غير
الوجه الذي نهاه عنه، وذلك نحو نهيه تعالى، المكلف أن يصلي الصلاة عبادة
للشيطان، وأمره إياه بأن يفعلها عباده له تعالى، ونحو أمره تعالى، بالإخبار عن نبوة نبينا محمد عليه السلام (3) ونهيه عن نبوة غيره.
وإنما قلنا: إن الأمر بالشئ والنهي عنه على هذا الوجه يكون قبيحا، لأن ذلك
يدل على البداء على ما قدمنا القول فيه، ويؤدي إلى أن يكون الأمر به قبيحا إن كان
المأمور به قبيحا، وإلى أن يكون النهي عنه قبيحا إن كان الفعل حسنا. وكذلك: لا يجوز أيضا أن يأمر بالشئ وينهاه عنه بعينه في وقتين، لأن ذلك
تكليف ما يطاق، لأن مقدور المكلف في أحد الوقتين لا يصح أن يفعله في الوقت
الآخر، فمتى نهاه عن الوقت الآخر، فقد نهاه عما لا يقدر عليه، وذلك قبيح.
وكذلك: لا يجوز أن يأمر زيدا بالشئ الذي نهى عنه عمرا، لأن كونه مقدورا
لأحدهما يمنع من كونه مقدورا للآخر.

(1) في الأصل: تلك الموصوف.
(2) لنا أن.
(3) صلى الله عليه وآله وسلم.
504

وكذلك: لا يحسن أن يأمر بالشئ على وجه يحسن عليه، وينهى عنه على
وجه آخر يحسن أيضا عليه، لأن ذلك يقتضي قبح النهي، لأن النهي عن الحسن قبيح.
فأما النهي عن غير المأمور به فلقد يحسن على وجوه:
منها: أن يأمر زيدا بمثل ما نهى عنه عمرو تعالى، لأن ما يقع حسنا من زيد لا يمنع
أن يقع من عمرو قبيحا، وذلك أمر الله تعالى الطاهر بالصلاة، ونهيه الحائض
عنها، وهذا على ضربين:
أحدهما: أن يقع منهما على وجه واحد.
والآخر: أن يقع منهما على وجهين، والحال فيهما سواء.
ومنها: أن يأمر عز وجل زيدا (1) الثاني بمثل ما نهاه عنه في الأول فيحسن، لأن
كونه قبيحا في الأول لا يمنع من وقوعه حسنا في الثاني، ونسخ الشريعة على هذا
الوجه، ولا فصل في ذلك بين أن يقع في الوقت الثاني على الوجه الذي وقع عليه في
الأول، وبين أن يقع على غير ذلك الوجه.
فأما نهي زيد عن مثل ما أمر به في وقت واحد، فإنما لا يحسن لأنه يبعد أن
يكون الفعلان المثلان الواقعان منه على وجه واحد يختلف معهما في الصلاح فيكون أحدهما مصلحة والآخر مفسدة.
وقد يصح الأمر بالشئ والنهي عن غيره على وجوه اخر، وكذلك الأمر بغير ما
وقع الأمر به والنهي عن مثل ما وقع النهي عنه، ولم يذكر ذلك لأن الغرض بيان ما
يحسن من ذلك ليبين بذلك أن نسخ الشريعة منها.
وهذه جملة في هذا الباب.

(1) في الحجرية زيادة في الوقت.
505

فصل [3]
" في ذكر جواز نسخ الشرعيات " الخلاف المعروف في هذه المسألة مع اليهود، وقد حكي حكاية عمن لا يعتد
بقوله من أهل الصلاة الامتناع من نسخ الشرائع، وقوله مطروح لا يلتفت إليه (1).

(1) أظن أن الشيخ يشير بذلك إلى قول الإصفهاني حيث نسب إليه الأصوليون أنه - يقول بعدم جواز
نسخ الشرائع، وقد اختلف في اسمه فقال الشيرازي: هو أبو مسلم عمرو بن يحيى الإصفهاني (التبصرة:
251) وقال آخرون: أن أبا مسلم الذي يخالف في النسخ هو أبو مسلم بن محمد بن بحر الإصفهاني لا عمرو بن
يحيى، وقيل: أنه محمد بن عمر، وفي كل الأحوال فقد وصف الإصفهاني بأنه رجل معروف بالعلم، وكان
نحويا، كاتبا، معتزليا، عالما بالتفسير، له تفسير (جامع التأويل لمحكم التنزيل) في
أربعة عشر مجلدا على مذهب المعتزلة، ولد سنة 254 وتوفي سنة 322 ه‍، وقد روى الشريف المرتضى في
أماليه في سبعة مواضع عن تفسيره، ولقد كثرت النقول عن الإصفهاني في مسألة جواز النسخ وعدمه، فقيل:
يمنعه بين الشرائع، وقيل: في الشريعة الواحدة، وقيل: في القرآن خاصة، وقيل: يمنعه شرعا ويجوزه شرعا،
إلا أن الشريف المرتضى - وتبعه ابن السبكي في (رفع الحاجب 2 ق - 132 / ب) [انظر: التبصرة ص 251
هامش رقم 2] رد الخلاف فيها إلى خلاف لفظي، والشريف أدرى الناس بكلام الإصفهاني إذا وقف على
تفسيره واطلع على آرائه ونقل عنه في أماليه [انظر: غرر الفوائد 1: 13، 367، 454، و 2: 99، 234، 304،
305] حيث يقول في: (الذريعة 1: 425): " ومن شذ من جملة المسلمين فخالف في هذه المسألة، فإنما
خلاف يرجع إلى عبارة، ولا مضايقة في العبارات مع سلامة المعاني ".
506

واليهود على ثلاث فرق (1):
أحدهما: يمنع من نسخ الشرائع عقلا.
والفرقة الثانية: تجوز النسخ عقلا، وتمنع منه سمعا.
والفرقة الثالثة: تجوز النسخ عقلا وسمعا، وإنما تنكر نبوة نبينا عليه السلام (3)
وإذا بين الدلالة على نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات الظاهرة
على يده من القرآن وغيره من الآيات التي ظهرت على يده، ودل على وجه الإعجاز
منها، ثبتت نبوته عليه السلام (4)، وإذا ثبتت نبوته بطل قول من أنكر نبوته عليه السلام، وإن جاز ذلك عقلا وسمعا.
وكذلك يبطل بصحة نبوته صلى الله عليه وآله وسلم قول من منع من النسخ
عقلا، غير إنا نبين أن ما يدعون من الشبهة العقلية باطل، ليعلم بذلك أن الذي تعلقوا
بع غير صحيح، وأنه لو لم تثبت نبوة نبينا ولا نبوة أحد من الأنبياء عليهم السلام لكان
ما ذكرناه جائزا سائغا.

(1) قال الشريف المرتضى في معرض تعليقه على نقل آراء اليهود (الذريعة 1: 452): " ولا معنى للكلام على
اليهود في أبواب أصول الفقه "، وهو كذلك لأن حكاية خلاف اليهود في كتب أصول الفقه مما لا يليق، لأن
الكلام في أصول الفقه فيما هو مقر في الإسلام وفي اختلاف الفرق والمذاهب الإسلامية، وأما حكاية
خلاف الكفار في هذه المسألة وغيرها فالمناسب ذكرها في كتب الكلام وأصول الدين. ولكن برغم ذلك
فإن أغلب الأصوليين قد تعرضوا لأقوال اليهود والإجابة عنها، راجع: " التبصرة: 252، المستصفى 1: 111،
المنخول: 288، اللمع: 55، الأحكام للآمدي 3: 106، شرح اللمع 1: 482، شرح المنهاج 1: 464
المعتمد 1: 370، الأحكام لابن حزم 4: 470، ميزان الأصول 2: 983 ".
(2) صلى الله عليه وآله وسلم.
(3) قيل إن هذه الفرقة من اليهود والتي تسمى ب‍ (العيسوية) تقول بجواز نبوة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم لكن يقولون إن نبوته إلى العرب خاصة لا إلى الأمم
كافة. [انظر: الأحكام للآمدي 3: 106].
(4) صلى الله عليه وآله وسلم.
507

وليس هذا موضع الكلام في النبوة، فكنا ندل عليه وهو مذكور في كتب
الأصول مستقصاة.
والذي يدل على جواز النسخ من جهة العقل هو: أنه ثبت أن العبادات
الشرعيات تابعة للمصالح، ولكونها ألطافا في الواجبات العقلية، ولولا ذلك لما
وجبت (1) على حال.
وإنما قلنا ذلك: لأن الشئ لا يجب بإيجاب موجب، وإنما يجب لصفة هو
عليها يقتضي وجوب الشئ
وانما يدل ايجاب الحكيم له على أن له صفة
الوجوب بان (2) يصبر واجبا بايجابه لان ايجاب ما ليس له صفة الوجوب يجرى في
القبح مجرى ايجاب الظلم والقبيح أو اباحتهما، وقد علم قبح ذلك.
وإذا ثبت هذه الجملة فلا يخلو وجه وجوب هذه العبادات ان يكون عقليا أو
ما ندعيه من كونها مصالح وألطافا فلو كان وجه وجوبها عقليا لوجب ان يعلم بالعقل
وجوب هذه العبادات، وكما علم وجوب جميع الواجبات العقلية من وجوب هذه
الأشياء بيانا في العقل وقد علمنا انا لا نعلم بالعقل وجوب الصلاة ولا الزكاة، ولا
الصوم، ولا غير ذلك من العبادات التي جاءت الشرايع بها، بل لا يحسن فعلها بالعقل
وإذا ثبت ذلك فلا يمتنع ان تتغير المصالح، فيصير ما كان داعيا إلى فعل
الواجب صارفا عن فعله أو يصير داعيا إلى فعل القبيح وما يكون مصلحة لزيد لا
يكون مصلحة لعمرو وما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة في وقت آخر، وذلك
يوجب النسخ والا قبح التكليف.
فان قيل: لم لا يجوز ان يكون وجه وجوب هذه العبادات هو ان لنا فيها ثوابا

(1) وجب.
(2) لا ان.
508

دون كونها ألطافا؟
قيل: (1) الشئ لا يجب (2) من حيث كان فيه ثواب لأنه لو كان كذلك، لكانت
النوافل كلها واجبة، ولم يكن فرق بينهما وبين الواجبات، فلا بد من القول بما قلناه من
أنها انما وجبت لكونها ألطافا وانما قلنا بذلك لان ما يقع عنده الواجب لولاه لم يقع
يجب كوجوبه لا محالة وقد ورد القرآن أيضا منبها على ما قلناه قال الله تعالى: (ان
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (3) فبين انها انما وجبت من حيث كانت صارفة
عن فعل القبيح وقال في تحريم الخمر (انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة
والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) (4) فبين ان وجه
قبحها كونها صادة عن ذكر الله وموقعة للعداوة والبغضاء وذلك أمرا مطلقا فإذا تغير
وجه الحسن فيه إلى وجه القبح نهى عنه. وذلك هو النسخ الذي قلناه.
وقد تعلق من خالف في ذلك بأشياء (5).
منها: ان قالوا: ان ذلك يؤدي الس البداء.
ومنها: انه يؤدي إلى كون الحسن قبيحا.
ومنها: انه يقتضى استحقاق الثواب على ما يستحق به العقاب والوعيد على
ما يستحق به الوعد.
ومنها: انه يقتضى استحقاق الثواب على ما يستحق بع العقاب والوعيد على
ما يستحق به الوعد.
ومنها: انه إذا أطلق الامر على حسن المأمور به ابدا فلو نهى عنه
لانتقضت دلالته على ذلك.
ومنها انه إذا أطلق الامر اقتضى حسن المأمور به ابدا لأنه لو كان حسنا إلى

(1) قيل له.
(2) يوجب.
(3) العنكبوت: 45.
(4) المائدة: 91.
(5) لاحظ أقوال المخالفين في المصادر الواردة في ذيل هامش رقم (1) صفحة 507.
509

وقت لبين ذلك الوقت كما يجب ان يبين خصوص العام وتفسير المجمل والا كان
الخطاب قبيحا، فإذا لم يبين دل على أن الفعل حسن ابدا، وإذا كان حسنا ابدا
فالنهي عنه قبيح.
ومنها: انه إذا أطلق الامر بفعل وجب اعتقاد لزوم المأمور له ابدا والعزم على
فعله دائما والنهي عنه يقتضي كون العزم والاعتقاد قبيحين.
ومنها: انه إذا أطلق الامر وغرضه في الخطاب إفادة المخاطب، فلولا ان
المأمور به يلزم ابدا لبين له ولما أبهم له ما امره به، لان ذلك تلبس.
ومنها: انه إذا امر إذا بالشئ مطلقا دائما، فلو جوزنا النهي عنه لادى إلى الا
يوصف بالقدرة على أن لا يخاطبنا بخطاب يقتضى الدوام ويقطع عليه.
فهذه الوجوه أقوى ما يتعلقون به ونحن نجيب عن واحد واحد منها على
وجه يزول معه الشك انشاء الله تعالى.
والجواب عن الشبهة الأولى والثانية والثالثة بشئ واحد: وهو انا قد بينا
فيما مضى ان النسخ الذي نجيزه هو أن يكون النهى متناولا لمثل ما تناوله الامر لا
لعين ما تناوله، وذلك يبطل قولهم: انه يؤدى إلى البداء ويبطل قولهم: انه يؤدى إلى
كون الحسن قبيحا، لان الحسن غير القبيح على ما قررناه، ويبطل أيضا قولهم: انه
يستحق العقاب بما يستحق به الثواب، لان على التقرير الذي قررناه ما يستحق به
الثواب غير الذي يستحق به العقاب.
والجواب عن الشبهة الرابعة: وهي قولهم: " ان الامر باطلاقه يدل على حسن
المأمور به ابدا فلو نهى عنه لانتقضت دلالته على ذلك " فهو ان الامر عندنا لا يقتضى
التكرار بمجرده وانما يقتضى
الفعل مرة واحدة (1)، فعلى هذا سقطت الشبهة. فإن
اقترن باللفظ قول الامر " إفعل أبدا " فلفظ التأبيد
لا يفيد الدوام على كل حال، لان هذه
اللفظة تستعمل فيما لا يراد الدوام، الا ترى ان القائل يقول " الزم فلانا أبدا " أو " امض

(1) انظر استدلال المصنف في ص 199 فصل [7]
510

في طلب العلم أبدا " أو " أتجر أبدا " وغير ذلك، ونحن نعلم أنه لا يراد بجميع ذلك
الدوام، لأنه لا بد من انقطاع المأمور به.
وان اقرن باللفظ دليل يدل على أن المراد بالامر التكرار، فذلك أيضا لا يدل
على الدوام، لأنه انما يقتضى تكرار الفعل ما دام مصلحة، فأما إذا تغيرت فلا يقتضيه،
لان دلالة السمع تترتب على دلالة العقل ومعلوم بالعقل ان الله تعالى إنما يأمرنا
بالفعل ما دام مصلحة لنا، فإذا صار مثله مفسدة وجب أن ينهى عنه ويجري ذلك
مجرى ما علم بالعقل انه يأمرنا بالفعل ما دمنا قادرين، فإذا عجزنا عنه سقط التكليف
عنا، فإذا ثبت ذلك كان أمره تعالى مرتبا على دليل العقل، ويصير ذلك في حكم
المنطوق به.
وإذا ثبت ما قلناه فقولهم: " ان النهي ينقض دلالة الامر " كقول القائل إن العجز
المزيل للزوم المأمور به ينقض دلالة الامر، وذلك بين الفساد
والجواب عن الشبهة الخامسة، وهي انه إذا أطلق الامر، فلو كان المراد به إلى
وقت لبينه كما يجب بين الخصوص والمجمل، فهو: ان الامر انما يجب أن يبين ما
قصد بالامر إليه وما لا يصح مع عدم بيانه، إذ المأمور به من المكلف، فاما ما عداه فلا
يجب بيانه في، الحال وقد علمنا أن المكلف متى بين له صفة ما امر وأمكنه أداه على
الوجه الذي كلفه، وان لم يبين له الوقت الذي يزول وجوب ذلك فيه، ولا يصح منه
أداء المأمور به بالخطاب المجمل إلا بعد البيان، وكذلك القول في تخصيص العموم
فلذلك ساغ تأخير بيان النسخ عن حال الخطاب، وامتنع ذلك في تخصيص العام
وبيان المجمل، والشاهد يشهد بصحة ما قلناه ولأن السيد لو أمر غلامه يأخذ وظيفة
له في كل يوم وفي نيته إلى غاية، لم يجب ان يبينها له وان كان لابد من أن يبين له
صفة الوظيفة التي امره باخذها، وهذا بين.
والجواب عن الشبهة السادسة وهي قولهم: إنه إذا أطلق الامر فقد أوجب
اعتقاد لزوم المأمور به أبدا، أو العزم على فعله أبدا، والنهى يقتضى كونهما قبيحين
فهو: ان الامر إذا ورد فإنما يجب أن يعتقد المأمور فعله ما دام مصلحة، والعزم على
511

فعله على هذا الشرط وورود النهى عن أمثاله لا يؤثر في، ذلك هذا إذا كان الخطاب
في حال يجوز فيها النسخ، فاما بعد انقطاع الوحي، فيجب أن يعتقد بمثل ذلك ويعزم
عليه ما دام على صفة يلزمه ففي الحالين لابد من دخول الشرط في العزم والاعتقاد،
وإن كان في أحد الحالين مشترطا لشيئين وفي الحال الأخرى بوجه واحد.
والجواب عن الشبهة السابعة، وهي قولهم: إذا أطلق الامر وغرضه إفادة
المخاطب، فلو لم يلزم المأمور به أبدا لبين، لأنه لا يجوز أن يقصد التلبيس، فإذا لم
يبين علم دوامه، فهو أن يقال لهم: أليس الامر لم يبين الوقت الذي يزول فيه
التكليف؟ فلابد من نعم.
فيقال له: أفتنسبه إلى أنه ليس؟
فإن قال: نعم، التزم ما أراد إلزامنا.
وان قال: لا، لأنه قد دل من جهة العقل عليه في الجملة.
قيل له: وكذلك قد دل على جواز النسخ من جهة العقل في الجملة.
على أنه انما يقال: ليس إذا يبين ما يجب بيانه ويحتاج المكلف إليه فيما
كلف، وأما إذا لم يبين ما ليس هذه حاله، والمعلوم انه سيبينه في حال الحاجة،
فالتلبيس زائل.
والجواب عن الشبهة الثامنة، وهي قولهم: إن أمره بالشئ مطلقا لو لم يمنع
من النسخ، لما كان موصوفا بالقدرة على أن يدلنا على تأبيد العبادة إلى وقت زوال
التكليف، فهو: أنه يصح ان يعرف ذلك بأن يضطر إلى قصد الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم فيه، كما اضطررنا إلى قصده في أن شرعه دائم، وفي أنه لا نبي بعده.
ويجوز أن يعرف ذلك بانقطاع الوحي أيضا، ويعرف الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم بأن يعرف أن صلاح أمته في هذا الشرع ما داموا مكلفين.
على أنه لو لم يصح ان يعرف ذلك على التفصيل، - وقد عرفنا على الجملة -
لعلمنا انه ما دام صلاحا لنا، فلابد من أن يلزمنا لما أثر في ما نقوله، على انا نعلم أن
512

المأمور به لا يجوز دوام لزومه، لان ما (1) يحسن من الله تعالى إلزامه إنما يقتضي
انقطاعه، وهو استحقاق الثواب عليه، ولذلك يعلم أنه إنما يلزم ما دام صلاحا ولا
حاجة بنا إلى علم آخر لا يفتقر التكليف إليه وهذا واضح.
وقد استدل الخلق على جواز النسخ بما يفعله القديم تعالى من الأمراض بعد
الصحة، والفقر بعد الغنى، وأنه إذا جاز أن يختلف ذلك بحسب مصالح العباد،
فكذلك ما يكلفونه.
وهذا قريب، وان كان الأول هو الأصل.
فاما من أبى النسخ من أهل الملة، فما قدمناه يبطل
قوله، ويبطله أيضا وقوع
النسخ في شريعتنا بلا ارتياب، لأنه لا خلاف بين الأمة أن القبلة كانت إلى بيت
المقدس وأنه نسخ ذلك بالتوجه إلى الكعبة، وكذلك نسخ الحول في عدة المتوفى
عنها زوجها بأربعة أشهر وعشرا، ونسخ أيضا تقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك نسخ وجوب ثبات الواحد للعشرة بثبات الواحد
للاثنين، ونظائر ذلك كثيرة فلا معنى للاكثار فيه.
فهذه جملة كافية في هذا الباب.

(1) في الأصل: لان ماله.
513

فصل [4]
" في ذكر جواز نسخ الحكم دون التلاوة،
ونسخ التلاوة دون الحكم (1) "
جميع ما ذكرناه جائز دخول النسخ فيه، لان التلاوة إذا كانت عبادة، والحكم
عبادة أخرى جاز وقوع النسخ في إحداهما مع بقاء الاخر كما يصح ذلك في كل
عبادتين، وإذا ثبت ذلك جاز نسخ التلاوة دون الحكم، والحكم دون التلاوة.
فان قيل (2): كيف يجوز نسخ الحكم مع بقاء التلاوة؟ وهل ذلك إلا نقض؟
لكون التلاوة دلالة على الحكم، لأنها إذا كانت دلالة على الحكم فينبغي أن تكون
دلالة ما دامت ثابتة، وإلا كان نقضا على ما بيناه.
قيل له: ليس ذلك نقضا، لكونها دلالة، لأنها إنما تدل على الحكم ما دام الحكم

(1) أتفق أكثر الأصوليين على جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس ونسخهما معا، واستدلوا على ذلك بدليل
العقل والنقل، وخالفهم شواذ من المعتزلة حيث نسب إليهم القول بأنه لا يجوز نسخ الحكم وبقاء التلاوة لأنه
يبقى الدليل ولا مدلول معه، وأيضا لا يجوز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم تابع لها فلا يجوز ارتفاع
الأصل وبقاء التابع.
انظر " الاحكام للآمدي 3: 128، اللمع 58، شرح اللمع 1: 496 - 495، المعتمد 1: 386، الذريعة 1:
429 - 428، شرح المنهاج 1: 474 - 473، ميزان الأصول 2: 110 - 1008، المنخول: 297 ".
(2) انظر تفاصيل هذه الاعتراضات والنقوض في المصادر الواردة في ذيل التعليقة السابقة.
514

مصلحة، وأما إذا تغير حال الحكم وخرج من كونه مصلحة إلى غيره لم تكن التلاوة
دلالة عليه.
وليس لهم أن يقولوا: لا فائدة في بقاء التلاوة إذا ارتفع الحكم، وذلك أنه لا
يمتنع أن تتعلق المصلحة بنفس التلاوة وإن لم يقتض الحكم، وإذا لم يمتنع ذلك
جاز بقاؤها مع ارتفاع الحكم.
وليس لهم أن يقولوا: إن هذا المذهب يؤدى إلى أنه يجوز أن يفعل جنس
الكلام بمجرد المصلحة دون الإفادة، وذلك مما تأبونه.
لأنا إنما نمنع في الموضع الذي أشاروا إليه إذا خلا الكلام من فائدة أصلا،
وليس كذلك بقاء التلاوة مع ارتفاع الحكم، لأنها أفادت في الابتداء تعلق الحكم بها
وقصد بها ذلك، وانما تغيرت المصلحة في المستقبل في الحكم فنسخ وبقيت (1)
التلاوة لما فيها من المصلحة، وذلك يخالف ما سأل السائل عنه.
وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم (2)، فلا شبهة فيه لما قلناه من جواز تعلق
المصلحة بالحكم دون التلاوة.
وليس لهم أن يقولوا: أن الحكم قد ثبت بها، فلا يجوز مع زوال التلاوة بقاؤه.
وذلك أن التلاوة دلالة على الحكم، وليس في عدم الدلالة عدم المدلول
عليه، الا ترى أن انشقاق القمر ومجئ الشجرة دال على نبوة نبينا صلى الله عليه
وآله وسلم، ولا يوجب عدمهما خروجه صلى الله عليه وآله وسلم من كونه نبيا
وكذلك القول في التلاوة والحكم، ويفارق ذلك الحكم العلم الذي يوجب عدمه
خروج العالم من كونه عالما، لان العلم موجب لا أنه دال.
واما جواز النسخ فيهما، فلا شبهة أيضا فيه لجواز تغير المصلحة فيهما.

(1) في النسختين: بقي.
(2) لاحظ التعليقة رقم (1) صفحة 514.
515

وقد ورد النسخ بجميع ما قلناه، لان الله تعالى نسخ اعتداد الحول بتربص
أربعة أشهر وعشرا، ونسخ التصدق قبل المناجاة، ونسخ ثبات الواحد للعشرة وإن
كانت التلاوة باقية في جميع ذلك.
وقد نسخ أيضا التلاوة وبقي الحكم على ما روي من آية الرجم من قول:
" الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله " (1) وإن كان ذلك مما أنزله الله
والحكم باق بلا خلاف.
وكذلك روي تتابع صيام كفارة اليمين في قراءة عبد الله بن مسعود (2) لأنه

(1) إن حديث آية الرجم ونسخ تلاوتها وبقاء حكمها قد أخرجه الشيعة والسنة في كتبهم الحديثية في أبواب
الحدود فقد أخرجه الكليني في " الكافي " والصدوق في " من لا يحضره الفقيه " والشيخ الطوسي في
" التهذيب " و " عدة الأصول " وأيضا ورد في " صحيح البخاري " و " صحيح مسلم " و " مسند أحمد " و " موطأ
مالك " وغيرها من مسانيد أهل السنة (أنظر: جامع الأصول 4: 116، كنز العمال 5: 418 باختلاف يسير)
والأصل في هذه القضية هو تفرد عمر بنقله للآية المنسوخة تلاوتها دون حكمها ولا يبعد أنه لو كان قد عثر
على من يشفعه بالشهادة على دعواه لأضافها إلى القرآن، قال السمرقندي (ميزان الأصول 2: 1010):
" وفي رواية عن عمر - إنه قال: " لولا أن الناس يقولون أن عمر زاد في كتاب الله تعالى لكتبت على حاشية
المصحف (الشيخ والشيخة... الآية) إلا أن الله تعالى صرف قلوب الناس عن حفظها سوى عمر ولا يكون
إلا لحكمة بالغة لا نقف عليها!! " وقد روى الشوكاني في نيل الأوطار (7: 102 ط مصر): " أخرج أحمد
والطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء أن مما انزل الله من القرآن: (الشيخ
والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة) وأخرجه ابن حبان في صحيحة من حديث أبي بن
كعب بلفظ (كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة) وكان فيها آية الشيخ والشيخة "!!
والتدقيق في هذه الآية المزعومة ومقارنتها مع سياق بقية الآيات القرآنية ونفسها وأسلوبها يؤدي إلى
انكار كونها قرانا، هذا فضلا عن أن عليا - عليه السلام - قد أنكر - بالملازمة وليس بالصراحة - كونها آية
قرآنية، فإنه - عليه السلام - لما جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة قال: " حددتها
بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " (انظر جواهر الكلام 41: 30، عوالي اللآلئ
2: 152 و 3: 553، ورواه أحمد والبخاري والنسائي والحاكم وغيرهم) فلو كان عليه السلام يرى أن حكم
الرجم ثابت بآية قرآنية قد نسخت تلاوتها كما رأى عمر لم يقل ذلك.
(2) قال ابن قدامة في كفارة حنث اليمين (المغني 11: 274 رقم 8050): " إن لم يجد طعاما ولا كسوة وعتقا
انتقل إلى صيام ثلاثة أيام لقوله تعالى (فكفارته إطعام عشرة مساكين... فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام)
وهذا لا خلاف فيه إلا في اشتراط التتابع في الصوم... ولنا أن في قراءة أبي وعبد الله بن مسعود: (فصيام ثلاثة
أيام متتابعات) كذلك ذكره الإمام أحمد في التفسير عن جماعة "، وانظر أيضا: أصول السرخسي 2: 81.
516

قد نسخ التلاوة والحكم باق عند من يقول بذلك.
واما نسخهما معا، فمثل ما روي عن عائشة أنها قالت: " كانت فيما أنزله تعالى
عشرة رضعات يحرمن، ثم نسخت بخمس " (1) فجرت بنسخة تلاوة وحكما.
وانما ذكرنا هذه المواضع على جهة المثال ولو لم يقع شئ منها لما أخل
بجواز ما ذكرناه وصحته، لان الذي أجاز ذلك ما قدمناه من الدليل، وذلك كاف في
هذا الباب.

(1) أخرجه أبو داود ومالك، والدرامي، والنسائي ومسلم 2: 1075، والترمذي 3: 456، انظر أيضا: " ميزان
الأصول 2: 1009، الأحكام 3: 128، شرح اللمع 1: 497، أصول السرخسي 2: 79 ".
517

فصل [5]
" في نسخ الشئ قبل وقت فعله، ما حكمه؟ " (1)
اختلف العلماء في ذلك، فذهب طائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم إلى

(1) إن نسخ الشئ قبل فعله له صورتان: 1 - نسخ الشئ قبل فعله وبعد مضي وقت يسعه.
2 - نسخ الشئ قبل دخول وقت فعله.
أما الأولى: فإن الجميع على جواز النسخ، فعل المكلف المأمور به أم لم يفعله، لأنه يحسن من الله تعالى
أن يأمر بالفعل من يطيعه، كما يحسن أن يأمر من يعصيه، وقد خالف أبو الحسن الكرخي الجمهور حيث
قال: لا يجوز النسخ قبل الفعل سواء مضى من الوقت مقدار ما يسعه أو لم يمض
أما الثانية: فقد اختلف الأصوليون والمتكلمون في حكمها:
1 - عدم الجواز: وهو مذهب أكثر المتكلمين، والمعتزلة، وأصحاب أبي حنيفة، وبعض الشافعية، وبعض
الحنابلة، كالكرخي، والجصاص، والماتريدي، والدبوسي. وهو مختار الشريف المرتضى منن الامامية -
وتبعه المصنف -.
انظر: " الذريعة 1: 430، التبصرة: 260، المستصفى 1: 112، الاحكام للآمدي 3: 115، الابهاج 2:
257 - 256، اللمع: 56، شرح اللمع 1: 485، شرح المنهاج 1: 469 المعتمد 1: 376 - 375، الاحكام لابن
حزم 4: 499، المنخول: 297 - 298 روضة الناظر: 70 ".
518

جواز نسخ الشئ قبل وقت فعله (1) وإلى ذلك كان يذهب شيخنا أبو عبد الله.
وذهب المتكلمون من المعتزلة، وأكثر أصحاب أبي حنيفة، وبعض أصحاب
الشافعي إلى أن ذلك لا يجوز (1)، وهو الذي يختاره سيدنا المرتضى (2) رحمه الله (3)،
وهو الذي يقوى في نفسي.
والذي يدل على ذلك أن القول بجواز ذلك يؤدي إلى أن ينهى الله تعالى عن
نفس ما أمر به، لأنه إذا أمر بشئ بعينه في وقت بعينه ثم نهاه عنه قبل مجئ الوقت
عن ذلك الفعل بعينه، فقد نهاه عن نفس ما أمر به، وذلك قبيح من وجهين:
أحدهما: أن ذلك الفعل لا يخلو من أن يكون قبيحا أو حسنا، فإن كان قبيحا
فالامر به قبيح وان كان حسنا فالنهي عنه قبيح، وهذا يوجب كونه فاعلا للقبح،
تعالى الله عن ذلك.
والوجه الاخر: انه يؤدى إلى البداء، لأنه لو كان حال ما أمر به على ما كان عليه
قبل الاخر لما نهى عنه، فدل نهيه على أنه قد ظهر له من حاله ما لم يكن ظاهرا، أو
استتر عنه ما كان عالما به، وكل ذلك لا يجوز عليه تعالى لان البداء إذا لم يجز عليه
لم يجز أن يفعل ما يدل على البداء.
فان قيل: إنا إنما نجيز أن ينهى قبل الوقت عن مثل ما أمر به لا عنه بعينه، فلا
يلزم ما ذكرتموه
قيل له إن الامر الأول اقتضى فعلا واحدا في هذا الوقت، فإذا نهى عن مثله لم
يوصف ذلك بأنه نسخ أصلا.
فان قال (4): لو اقتضى الفعلين جميعا فكيف كان جوابكم؟
قيل له ان كان أرادهما جميعا بالامر، فإذا نهى عن أحدهما فقد نهى عما أمر

(1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 519
(2) الذريعة 1: 430.
(3) قدس الله روحه.
(4) قالوا.
519

به وهذا هو (1) الذي أفسدناه آنفا.
وان كان أراد أحدهما
فهو المأمور به دون الاخر، والنهي أنبأ عن أنه لم يرد غير
هذا الفعل فقط، وهذا جائز عندنا.
هذا إذا صح الجمع بين الفعلين فأما إن تعذر ذلك فالامر بهما مستحيل إلا
على وجه التخيير، ومتى أمر بهما على وجه التخيير فقد أريدا جميعا، والنهي عن
أحدهما كالنهي عنهما جميعا في أنه نهي عما أمر به.
فإن قال: أفيجوز عندكم أن يأمر بالشئ في وقت وينهى عنه قبل وقته عن
مثله، وإن لم يكن ذلك نسخا؟
قيل له: إذا كانا مثلين وواقعين على وجه واحد فبعيد أن يكون أحدهما
مصلحة والاخر مفسدة، فكذلك لم يحسن النهي عن مثل ما امر به في وقته.
فإن قالوا: إنا نجوز النسخ قبل وقت الفعل، بأن يأمر الله تعالى بالفعل ويريد منا
اعتقاده أو العزم عليه، ثم ينهى عن الفعل بعينه فيكون المنهي عنه غير المأمور به.
قيل لهم: إن الاعتقاد يتبع المعتقد، لأنه إنما يتناول الشئ على ما هو به حتى
يحسن أن يؤمر به لأنه لو كان على خلاف ما هو به لكان جهلا وذلك قبيح لا يحسن
الامر به، فإذا لا بد من أن يكون اعتقادا للشئ على ما هو به وليس يخلو أن يكون
متناولا لكون المعتقد واجبا، أو لكونه مرادا، أو مأمورا، أو يكون اعتقادا لان يفعله.
وانما قلنا ذلك، لأنه لابد من أن يكون لهذا الاعتقاد معتقد على صفة، فان كان
اعتقادا لوجوبه فلابد أن يكون المعتقد واجبا، والا كان الاعتقاد جهلا، وإذا وجب
أن يكون واجبا فالنهي عنه قبيح، وكذلك إن كان اعتقادا لكونه مرادا أو مأمورا به،
وإن كان اعتقادا لان يفعله، فيجب أن يقطع على أنه يفعله لا محالة، وذلك لا يصح
من المكلف، لأنه يجوز الاخترام دونه.
فإن قال: إنه أمرا بأن يعتقد كونه واجبا بشرط أن لا ينهى عنه، أو أن يعتقد أنه

(1) في الأصل: تلو.
520

يفعل ذلك على هذا الشرط.
قيل له: إن تعلقت بذلك فقل مثل ذلك في نفس الفعل، بأن تقول أمر به في
الحقيقة بشرط أن لا ينهى عنه، فإذا صح أن يتعلق بمثل ذلك في نفس المأمور به،
فأي حاجة بك إلى ذكر الاعتقاد؟
وهذا قول يدل على أن قائله لا يعرف ماله يتأول الامر على أن المراد به
الاعتقاد، وقد بينا من قبل أن الاعتقاد والعزم يتبعان المعتقد في الوجوب، فلا يصح
وجوبهما دونه، وفي ذلك إسقاط سؤاله.
فان قيل: إنما نجوز ذلك إذا أمرنا بالشئ وأراد الاختبار، ثم نهى عنه في
الحقيقة.
قيل له: القديم تعالى عالم بالعواقب فلا يجوز منه تعالى الاختبار، لان ذلك إنما يجوز على من لم يعرف حال الشئ فيختبر هل يطيع المأمور أم لا؟ والقديم
تعالى إنما يأمر العباد بمصالحهم فكيف يأمرهم بها ولا يريدها منهم؟ ولو جاز ذلك
لجاز في النهي مثله، فمن أين لهذا القائل ان النهي هو نهي عن الفعل، مع قوله في
الامر أنه اختبار؟
فإن قال: أجوز النسخ قبل الفعل إذا أمر تعالى بالفعل في وقت بشرط تبقية
الامر، أو بشرط انتفاء النهي، فإذا نهى عنه فقد زال الشرط، فإذا قد نهى عن الفعل
على غير الوجه الذي قد امر به، وهذا كقولهم أنه أمر بالصلاة عبادة لله ونهى عنها
عبادة للشيطان في الجواز.
قيل له: إن تبقية الامر لا يجوز أن تكون وجها لحسن المأمور به، ولا انتفاء
النهي، فلا يدلان أيضا على كون الفعل على وجه يحسن عليه حتى يقضى بأن في
زوالهما خروج الفعل من أن يكون واقعا على ذلك الوجه، فإذا صح ذلك بطل ما
سأل عنه وفارق حاله حال الصلاة التي مثل بها.
ومن حق الامر أن يدل على كون المأمور به على وجه يحسن أمره به، فبقاء
الامر وانتفاء النهي أو وجوده لا يخلو كونه على هذه الصفة فإذا صح ذلك فالنهي
521

عنه لا يحسن.
فإن قالوا: كما يحسن أن يأمر بالفعل بشرط ألا يمنع منه ولا يخترم دونه، فكذلك يحسن أن يأمر بشرط ألا ينهى عنه.
قيل له: إن الذي جعله أصلا في الفساد مثل ما يثبت عليه، لان الامر بما يمنع
منه قبيح، كما يقبح الامر بما لا يطاق، لان مراد الامر عز وجل أن يفعل المأمور ما أمره
به من الصلاح، فلو لم يكن هذا مراده لقبح، ولا يصح أن يكون ذلك مقصده ومع ذلك
يأمره بما يعلم أنه يمنعه منه.
وقد تعلق من خالف في ذلك بأشياء (1).
منها: قوله تعالى (يمحو الله ما يشاء ويثبت) (2) فأخبر أنه يمحو ما يشاء،
فيجب أن يكون أمره بالشئ ثم ازالته عنه بنهي أو غيره جائزا.
ومنها: أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثم نسخ عنه قبل
الذبح لأنه قال: (يا بني إني أرى في المنام اني أذبحك فانظر ماذا ترى) (3) ثم
قال بعد ذلك: (وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) (4) فمنعه من الذبح،
وفداه بذبح عظيم، وهذا هو نسخ الشئ قبل وقت الفعل.
ومنها: ما روي أن الله تعالى أوجب على نبينا عليه السلام ليلة المعراج
خمسين صلاة ثم أزالها إلى خمس قبل وقت الفعل.
قالوا: وقد صالح النبي عليه السلام قريشا على رد النساء، ثم نسخه قبل وقت
الفعل.
والجواب عن الأول: أنه ليس في الآية أنه يثبت ما محا، ويمحو ما أثبت، ولا
يمتنع عندنا أن يمحو غير ما أثبت ويثبت غير ما محا فأي تعلق لهم بالظاهر؟

(1) انظر تفصيل استدلال المخالفين في المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 518.
(2) الرعد: 39.
(3) الصافات: 102.
(4) الصافات: 104.
522

وليس المراد بذلك النسخ لان ظاهره لا يقتضي ذلك.
وقد قيل: أنه يمحو ما يشاء مما يثبته الملك الموكل بالعبد في الصحيفة من
المباحات، ويثبت ما يشاء مما يستحق عليه ثواب أو عقاب.
وقد قيل في تأويله غير ذلك مما قد بين في التفاسير (1).
والجواب عما تعلقوا به ثانيا من أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه:
أنه إنما أمر بمقدمات الذبح من الاضجاع، وأخذ الحديد، وشد اليد والرجل، وغير
ذلك، وقد يسمى مقدمة الشئ باسمه كما يسمى المريض المدنف بأنه ميت، فجاز
أن يقول: (انى أرى في المنام اني أذبحك) (4) ومراده ما قلناه.
ويدل على صحة ذلك: ما قدمناه من دليل العقل في أنه لا يجوز أن يأمر
بالشئ ثم ينسخه قبل وقت الفعل (2).
ويدل عليه أيضا: قوله (صدقت الرؤيا) (3) فلو كان المراد به الذبح على
الحقيقة لكان لا يكون مصدقا، ولما ذبح، فدل على أن المأمور به ما قدمناه.
وليس لاحد أن يقول: إذا كان الذبح غير مأمور به، فكيف نقول للذبيح:
(فانظر ماذا ترى) (4) وهذا كلام جزع؟، وكيف قال: (ان هذا لهو البلاء المبين) (5)
ومقدمة الذبح ليس فيها كل ذلك، وكيف فدى بذبح عظيم وليس المأمور به الذبح؟
وذلك أن إبراهيم عليه السلام لما امر بمقدمات الذبح، وكان في العادة أن مثل
ذلك يراد بالذبح، ظن أنه سيؤمر بالذبح، فلذلك قال ما قال، فأما الفداء فلا يمتنع أن
يكون ذبحا ويكون فداء عن الذي ظن أنه يؤمر به من الذبح أو عن مقدمة الذبح، لان
الفداء لا يجب أن يكون من جنس ما فدى به، ألا ترى أن الهدي يفدى به حلق الرأس

(1) انظر: " تفسير التبيان 6: 263، تفسير الطبري 13: 111، تفسير فخر الرازي 19: 64 ".
(2) انظر استدلال المصنف في ص 519.
(3) الصافات: 105.
(4) الصافات: 102.
(5) الصافات: 106.
523

وان لم يكن من جنسه.
وقال قوم: إنه أمر بالذبح على الحقيقة وإنه كان يذبح، ثم كان يلتحم ما ذبح
إذا تجاوز موضع الذبح، فإذا قد فعل ما امر به، ولم يسقط عنه.
وهذا قريب، والأول أقوى (1) فأما من قال: أنه جعل صفحة عنقه نحاسا فامتنع الذبح عليه! فلا يصح، لأنه
يقتضى الامر بما يمنع منه، وذلك قبيح لا يجوز على الله تعالى على ما قدمنا القول
فيه.
والجواب عما تعلقوا به ثالثا من الخبر: فأول ما فيه أنه خبر واحد ولا يجوز أن
يتعلق بمثله فيما طريقه العلم به، على أنه فاسد من وجوه:
منها: أنه يوجب نسخ الشئ قبل أن يعلم المكلف أنه مأمور به، لأنه في
الحديث أنه نسخ عنهم ذلك تلك الليلة.
ومنها: أنه يوجب نسخ شئ عنهم من حيث أشار به موسى عليه السلام،
وسأل محمدا صلى الله عليه وآله أن يخفف عن أمته، والتكليف لا يتعلق باختيار
الأنبياء، ولا يؤثر فيه مسألتهم التخفيف فيه.
ومنها: أن في الخبر من التشبيه ما يقتضى أنه موضوع لا أصل له، وان كان فيه ما
لا يمتنع أن يكون صدقا.
والجواب عما تعلقوا به رابعا من أنه نسخ وجوب رد النساء على المشركين
قبل فعله، فهو أنه عليه السلام لم يكن شرط لهم أن يرد عليهم النساء أبدا ولا إلى
وقت بعينه فنسخ قبل ذلك، بل أطلق ذلك اطلاقا، ولا يمتنع أن يكون المصلحة
اقتضت امضاء ذلك إلى الوقت الذي نسخه، ولو كان قبل ذلك لم ينسخ ولو
هاجرت امرأة قبل ذلك لكان يردها عليهم، وهذا لا ينافي ما قدمناه.

(1) انظر: تفسير التبيان 8: 518.
524

فأما من تعلق في هذا الباب بنسخ تقديم الصدقة قبل المناجاة (1) فغلط، لأنه
إنما نسخ عز وجل قبل الفعل لا قبل وقته، لأنهم عصوا إلا عليا عليه السلام، فلم
يفعلوا ما أمر الله تعالى به في وقته فنسخ عنهم، وهذا جائز عندنا.
وقد يتعلق في هذا الباب بأخبار آحاد لا يصح التعويل عليها في مثل هذه
المسائل، أو بشئ ليس بنسخ قبل وقت الفعل، وإنما هو نسخ قبل الفعل فينبغي أن
يعرف هذا الباب ويتأمل في ما يرد منه إن شاء الله فإنه لا يختل على من ضبط أصل
هذا الباب.
فأما الذي يدل على أن النسخ قبل الفعل يجوز (2) على ما قدمنا القول فيه، فهو:

(1) إن اختصاص آية التصدق قبل المناجاة بعلي بن أبي طالب عليه السلام من المشهورات التي نقلها السنة
والشيعة، قال ابن البطريق الحلي في كتابه " خصائص الوحي المبين: 144 " في معرض تفسيره لقوله تعالى
(يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) (المجادلة: 58): " قال أبو
نعيم: حدثنا أحمد بن فرج، قال: حدثنا أبو عمر الداوري، قال حدثنا محمد بن مروان، عن محمد بن
السايب، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم
الرسول فقدموا) الآية، قال إن الله عز وجل حرم كلا أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن
يتصدقوا قبل التكلم معه، وبخلوا أن يتصدقوا قبل كلامه، قال: وتصدق علي ولم يفعل ذلك أحد من
المسلمين غيره.
ومن تفسير الثعلبي في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول) الآية بالاسناد المتقدم،
قال: قال مجاهد نهى الله المسلمين عن مناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا
علي بن أبي طالب عليه السلام قدم دينارا فتصدق به ثم نزلت الرخصة.
وقال علي صلوات الله عليه: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي (يا
أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجويكم صدقة).
وقال علي صلوات الله عليه: بي خفف الله عز وجل عن هذه الأمة أمر هذه الآية فلم تنزل في أحد قبلي
ولم تنزل في أحد بعدي.
قال: وقال ابن عمر: كان لعلي بن أبي طالب عليه السلام ثلاثة لو كان لي واحدة منهن كان أحب إلي من
حمر النعم: تزويجه فاطمة صلى الله عليها، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى ".
(2) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 518.
525

أنه متى امر بالفعل في وقت وتقضى وقته، فغير ممتنع أن ينهى عن أمثاله، كما كان لا
يمتنع أن ينهى عن ذلك لو فعل، لان ما ينهى عنه انما ينهى عنه لأنه مفسدة له في
التكليف، فتقدم فعله لما امره به، أو تركه له لا يؤثر في ذلك، ولذلك نسخ تقديم
الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عمن أوجب عليه وإن لم
يفعلوه وعصوا فيه، وما روي من أن أمير المؤمنين عليه السلام فعله (1) لا يخرج غيره
من أن يكون حاله ما وصفناه، فالتعلق بذلك غير صحيح.
وإنما ذكرنا هذا الفصل عقيب المسألة الأولى لان في المتفقهة (2) من يقول: إن
النسخ قبل الفعل لا يجوز، ويظن أن ذلك يجرى مجرى النسخ قبل وقت الفعل!،
وبينهما من الفرق ما قدمناه.

(1) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 525.
(2) انظر آراء وأقوال وأدلة هؤلاء المتفقهة القائلين بعدم جواز النسخ قبل الفعل في المصادر الواردة في
التعليقة رقم (1) صفحة 518.
526

فصل [6]
" في أن الزيادة في النص هل يكون نسخا أو لا؟ "
ذهب أبو علي وأبو هاشم إلى أن الزيادة في النص ليست بنسخ على كل حال،

(1) ليس المقصود من الزيادة في كلام المصنف زيادة عبادة مستقلة ومتغايرة جنسا عن العبادة الأولى كزيادة
وجوب الصلاة على وجوب الزكاة، وليس زيادة عبادة غير مستقلة ولا متغايرة كزيادة صلاة على الفرائض
الخمس، بل المقصود زيادة ما ليس له استقلال في حد نفسه بل يعد جزءا كزيادة ركعة أو ركوع، أو زيادة
صفة كشرط الايمان في الرقبة. وهذا موضع الخلاف حيث اختلف الأصوليون والمتكلمون في ناسخية
هذه الزيادة على الحكم الثابت بالنص وعدمها وإليك مذاهب أعيانهم وهي:
1 - أنها لا تنسخ مطلقا: وهذا هو رأي جمهور أهل السنة، فهو مذهب الشوافع، والحنابلة، وبعض
المعتزلة كالجبائيتين.
2 - التفصيل بين إذا ما كانت الزيادة توجب تغيير الحكم المزيد عليه في المستقبل فتكون ناسخة وإلا
فلا تنسخ: وهذا مذهب أصحاب أبي حنيفة وبعض الشافعية.
3 - التفصيل بين أن تكون الزيادة شرطا في صحة المأمور به وإجزائه معها لا دونها فتكون ناسخة، وإلا
فلا تكون ناسخة: وهذا مذهب الشيخ المفيد، وتبعه الشريف المرتضى، والمصنف، وهو مختار القاضي
عبد الجبار المعتزلي في (العمد).
4 - إن كانت الزيادة مغيرة حكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخا كزيادة التقريب في المستقبل
على الحد المفروض، وإلا لو كانت الزيادة مقارنة صرفة فلا تنسخ: وهذا مذهب أبي عبد الله البصري
المعروف بالجعل، وأبي الحسن الكرخي.
5 - إن تضمنت الزيادة رفعا فهو نسخ وإلا فلا: وهذا مذهب الباقلاني، والجويني، وأبي الحسين
البصري والآمدي، وابن الحاجب، والرازي، والبيضاوي، والاسترابادي.
6 - إن كانت الزيادة متصلة بالمزيد عليه اتصال اتحاد دافع للتعدد والانفصال، كما لو زيد في الصبح
ركعتان فهذا نسخ، وإن لم توجب الاتحاد بل كانت ملحقة كزيادة عشرين جلدة على ثمانين جلدة فلا
تنسخ وهذا مختار الغزالي.
انظر " التبصرة: 276، الأبهاج 2: 284 - 283 المستصفى 1: 75، المنخول: 167 و 299، الاحكام
للآمدي 3: 154، الذريعة 1: 344، ميزان الأصول 2: 1011، اللمع: 62، شرح اللمع 1: 519، شرح
المنهاج 1: 489، المعتمد 1: 405، أصول السرخسي 2: 82، روضة الناظر: 73، إرشاد الفحول: 290 ".
527

وهو مذهب كثير من أصحاب الشافعي (1). ومنهم من قال إنه نسخ إذا كان المزيد عليه قد دل على أن ما عداه بخلافه،
مثل أن يكون النص الثمانين في حد القاذف يدل عنده على أن ما فوقه ليس
بحد، فإذا زيد عليه كان نسخا من هذا الوجه (1).
وذهب أبو عبد الله البصري إلى أن الزيادة على النص إذا اقتضت بغير حكم
المزيد عليه في المستقبل كان (2) نسخا، وإن لم تقض ذلك لم يكن نسخا (2)، وحكي
ذلك عن أبي الحسن.
والذي اختاره سيدنا المرتضى، واليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله رحمهما
الله من قبل، وهو الذي ذكره عبد الجبار بن أحمد في " العمد " (3) أن الزيادة على
ضربين:
أحدهما: يغير حكم المزيد عليه حتى لو فعل بعد الزيادة على الحد الذي كان
يفعل قبل الزيادة لما كان مجزيا، ووجب إعادته فذلك يوجب نسخ المزيد (1).
والاخر: هو الذي لا يغير حكم المزيد عليه، ولو فعل بعد الزيادة على الحد
الذي كان يفعل قبلها لكان مجزيا، وانما يجب أن يضاف إليه الزيادة، فما هذا سبيله

(1) انظر التعليقة رقم (1) صفحة 527 والمصادر الواردة فيها.
(2) في الأصل والنسخة الثانية: (قبيحا) تصحيف صحيحه ما أثبتناه.
(3) راجع التعليقة رقم (2) صفحة 502.
528

لا يوجب نسخ المزيد عليه (1) وهذا هو الصحيح.
فمثال القسم الأول: أن يوجب الله الصلاة ركعتين (2) ثم يضيف إليهما ركعتين
اخريين حتى يصير الفرض أربعا، فإن ذلك يوجب نسخ الركعتين، لان بعد هذه
الزيادة معلوم من حال الركعتين أنهما لا يجزيان، فمتى لم يضف إليهما الركعتين،
وجب إعادة الصلاة من أولها، فكذلك روي عن عائشة أنها قالت " كانت الصلاة
ركعتين فزيد في صلاة الحضر " (3).
وانما قلنا: إن هذا نسخ لان الفعل الأول إذا وقع على الحد الذي كان واجبا
قبل الزيادة صار كأنه لم يكن، ومتى فعل مع الزيادة صح، فصار هو مع الزيادة بمنزلة
حكم فساد الأول في أنه يجب أن يكون ناسخا له.
واما مثال القسم الثاني: فهو زيادة النفي على حد الزاني للبكر، وزيادة الرجم
على حد المحصن، وإنما قلنا إن هذا ليس بنسخ لان الحد المفعول في الحالين لا
يختلف وإنما يجب ضم الزيادة ولم يجب استئنافه، لان هذه الزيادة الواردة في
حكم زيادة (4) ثانية في أنها لم تؤثر في حال المزيد عليه، الا ترى أنه لو فعل الأول
بعد الزيادة على الحد الذي كان يفعله قبلها لكان ذلك مجزيا، وإنما يجب أن يضم إليه الزيادة فحسب، ففارق حكم هذا القسم الأول.
وكذلك لو زيد في حد القاذف عشرون لما أوجب ذلك نسخا لان الثمانين
إذا فعلت بعد ما زيد عليه من غير أن يضم الزيادة إليها أجزأ، كما كان يجزى لو فعلت
ولما زيد عليها شئ، وانما يجب ضم الزيادة عليها فقط.
فإن قيل: فهذا أوجب ذلك كونه نسخا لان حد الثمانين كان يتعلق به رد

(1) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 527
(2) صلاة ركعتين.
(3) روى البخاري في [كتاب الصلاة: باب 1: ح 16] عن عائشة أنها قالت: " فرض الله الصلاة حين فرضها
ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر ".
(4) عبادة.
529

الشهادة، فإذا زيد عليه العشرون لم يتعلق به ذلك، فقد تغير حكمه الشرعي فوجب
أن يكون نسخا.
قيل له: إن رد الشهادة لا يتعلق عندنا بإقامة الحد وإنما يتعلق بالقذف الذي
يوجب التفسيق دون إقامة الحد كما أن رد الشهادة يتعلق بسائر أفعال الفسق دون
إقامة الحد الجواب فيه مثل شرب الخمر، واللواط، والسرقة، وغير ذلك، فسقط
السؤال.
ولو سلم ان رد الشهادة يتعلق بإقامة الحد ما أوجب ذلك نسخا لان رد
الشهادة عبادة أخرى منفصلة عن إقامة الحد فيه، ألا ترى أن الحد فيه يصح وإن لم
يرد الشهادة.
فإذا صح ذلك لم يوجب نسخ المزيد عليه، وصار ذلك بمنزلة إباحة تزويج
المعتدة إذا انقضت عدتها في أن عدتها وإن زيد فيها أو نقص منها لا يوجب نسخا
لذلك، لأنه حكم اخر يتعلق بانقضاء العدة، طالت العدة أم قصرت، فتغير العبادة لم
يوجب نسخه وكذلك لو تغير حكم ستر العورة، والوضوء، والقبلة في الصلاة ما
أوجب ذلك نسخ الصلاة، فكذلك القول في رد الشهادة
فإن قيل: أليس حد القذف إذا كان ثمانين، فمتى فعل ذلك يكون قد استوفى
الحد، فإذا زيد عليه عشرون لم يكن بفعل الثمانين استوفى الحد، فوجب لذلك أن
يكون نسخا؟
قيل له: هذا كلام في عبارة (1) لان تحصيله (2) أنه يجب على الامام أن يضم
إلى الثمانين عشرين حتى يكون قد استوفى الحد الواجب، وقد بينا أن ذلك لا
يوجب نسخا.
فإن قيل: فيجب على هذا أن تقولوا إن النقصان من العبادة إذا اقتضى ألا تصح

(1) أي أن الاختلاف لفظي وليس بمعنوي.
(2) أي حاصله.
530

العبادة إذا أتى بها على حد ما كان يؤتى بها من قبل أن يكون نسخا؟
قيل له: كذلك نقول، وسنبينه بعد هذا الفصل انشاء الله تعالى.
فأما زيادة الشرط في بعض العبادات، فإنه لا يوجب النسخ إذا كان منفصلا من
العبادة، وتصح من دونه، لأنه إذا كان كذلك صار في حكم عبادة أخرى ويفارق ذلك
ما قلناه من الصلاة من أن زيادة ركعة فيها تقتضي النسخ، لان الصلاة بعد الزيادة تصير
مع المزيد في حكم الشئ الواحد، فلم يكن ذلك موجبا للنسخ.
وإذا (1) ثبت (2) ما قدمناه، فكل زيادة تصح دون المزيد عليه، أو يصح المزيد
عليه دونها، فأحدهما لا يوجب نسخ الاخر، كما أن زيادة صلاة على ما أوجب الله
تعالى من الصلوات لا يقتضى نسخا لها
فأما الكفارات الثلاث المخير فيها، فمتى فرضنا ان الله تعالى زاد فيها رابعا،
فان ذلك يوجب نسخ تحريم ترك الثلاثة، لأنه كان من قبل يحرم تركها أجمع، والآن
لا يحرم، ولكن لا يقتضى ذلك نسخ الكفارات الثلاث، لما قدمناه من أنها لو فعلت على
الحد الذي فعلت قبل العبادة بالرابعة لكانت واقعة موقعها فلم توجب ذلك نسخا.
فإن قيل: فما قولكم في الذي تذهبون إليه من وجوب الحكم بالشاهد واليمين،
يقتضى ذلك نسخ ما أوجب الله تعالى من الحكم بالشاهدين أو بشاهد وامرأتين؟
فان قلتم: ذلك قلتم بجواز نسخ القرآن بخبر الواحد، وذلك خلاف مذهبكم،
بل هو خلاف الاجماع!
وان قلتم: أن ذلك ليس بنسخ، بينوا القول فيه؟
قيل له: إن ذلك ليس بنسخ لان القرآن إذا دل على أن الحكم بالشاهد الواحد
لا يتم إلا بأن يضاف إليه الثاني، أو تضاف امرأتان لا يمنع من قيام الدلالة على كون
غيره شرطا فيه، وقد أجمعت الطائفة المحقة على جواز ذلك، فكان ذلك موجبا

(1) فإذا.
(2) زيادة من النسخة الثانية.
531

للعلم، وخرج من باب خبر الواحد الذي ذكره السائل. وأما تقييد الرقبة الواجبة في
الظهار بالايمان فقد تقدم القول فيه (1).
وأما من قال: إن زيادة العشرين في حد القاذف نسخ له، وان تقييد الرقبة
بالايمان نسخ، فهو موافق لمن أنكر أن يكون ذلك نسخا في المعنى، لأنهما معا
يقولان: ان الدليل الأول يقتضى جواز الكافرة واقتضى كون الحد ثمانين وإن الدليل
الثاني دل على أن الحد مائة وأن الرقبة الكافرة لا تجزى وإنما يختلفان في العبارة،
وأحدهما يعبر عن ذلك بأنه نسخ، والاخر يعبر عنه بأنه تخصيص، فلا طائل في ذلك.
فإن قيل: من جعله نسخا لا يقبل فيه خبر الواحد، ومن جعله تخصيصا يقبل
خبر الواحد فيه والقياس؟
قيل له: أما على مذهبنا فلا يقبل في الموضعين خبر الواحد ولا القياس على ما
مضى القول فيه (2).
ومن أجاز خبر الواحد في التخصيص وأبى قبوله في النسخ، فلخصمه أن يقول
له: إذا قلت لا أقبل خبر الواحد فيه لأنه نسخ، ولم يرجع في أن ذلك نسخ إلا إلى ما
وافقتك عليه في المعنى الذي ليس بنسخ عندي، فعليك أن تدل على ذلك، وأنه لا
يجوز قبول خبر الواحد فيه!
فإن عنيت بقولك إنه نسخ من حيث إنه لا يقبل فيه خبر الواحد والقياس،
كنت بانيا (3) للشئ على نفسه، وذلك غير صحيح.
فأما من يقول إن الزيادة نسخ على كل حال (4)، فيقول فيما ثبت من الزيادة
التي علم أنه ليست نسخا أن ذلك اقترن بحال الخطاب فلم يوجب ذلك نسخا، وذلك
نحو وجوب النية في الصلاة ونحو كون الرقبة سليمة من العيوب التي تمنع من

(1) راجع كلام المصنف في صفحة 329.
(2) راجع رأي المصنف ومختاره في صفحة 345 و 354.
(3) ثابتا.
(4) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 527.
532

إجزائها، وغير ذلك من المسائل.
ويقول: ان الزيادة إنما توجب النسخ إذا دل عليها ما يصح النسخ به.
ويقول: إذا دل خبر الواحد أو القياس على نسخ شئ من القرآن، وجب رده
لان نسخ القرآن بذلك لا يجوز.
وعلى هذا يبنى المسائل في الفروع كل واحد (1) على ما يذهب إليه (2).
وهذه جملة كافية في هذا الباب.

(1) أحد.
(2) انظر تفاصيل هذه الاستدلالات والردود والنقوض الواردة عليها في المصادر الواردة في التعليقة رقم (1)
صفحة 527.
533

فصل [7] " في أن النقصان من النص هل هو نسخ أم لا؟ والخلاف فيه " (1)
حكى أبو عبد الله البصري عن أبي الحسن الكرخي أنه كان يقول: إن العبادة إذا
نسخ بعضها لا يكون ذلك نسخا لجميعها ويجرى ذلك مجرى العموم إذا خص أو

(1) لا خلاف أن النقصان من العبادة يقتضي نسخ المنقوص، وإنما الكلام في أنه هل يقتضي النقصان نسخ
المنقوص منه أم لا؟ ويمكن حصر المذاهب والأقوال في هذه المسألة كالآتي:
1 - إذا نسخ بعض العبادة لم يكن ذلك نسخا للباقي: وهذا مذهب الكرخي، وأبي عبد الله البصري، وهو
منسوب لجمهور أصحاب الشافعي ولغيرهم كالآمدي، والرازي، وأبي إسحاق الشيرازي، وأبي الحسين
البصري، وهو مختار الحنابلة.
2 - إذا نسخ بعض العبادة نسخ جميعها: وهذا مذهب أبي حامد الغزالي، والحنيفية.
3 - التفصيل بين كون النسخ نسخا لبعض الجملة كالقبلة والركوع، أو نسخ الشئ منفصل عن العبادة
كالطهارة، وبعبارة أخرى التفصيل بين كون المنقوص ركنا أو شرطا، فنسخ في الأول دون الثاني: وهذا
مذهب القاضي عبد الجبار، والقرطبي، ونسبه الشوكاني للغزالي.
4 - التفصيل بين ما إذا كانت للعبادة المنقوصة فيها حكم شرعي بعد النقصان فلا نسخ، وأما إذا كان ما
بقي بعده العبادة متى فعل لم يكن له حكم في الشريعة ولم يجر مجرى فعله قبل النقصان، عد هذا النقصان
نسخا له: وهذا مذهب الشريف المرتضى وتبعه المصنف.
انظر: " الرسالة للشافعي 121: 359 و 220: 601، التبصرة: 281، المستصفى 1: 75، الذريعة 1: 452،
ميزان الأصول 2: 1016، الاحكام للآمدي 3: 160، اللمع: 62، شرح اللمع 1: 524، المعتمد 1: 414،
روضة الناظر: 75، إرشاد الفحول: 292 ".
534

استثني منه فإن ذلك لا يكون تخصيصا للكل، فكان يعتل لذلك بأن القبلة نسخت
بالقبلة، ولم يوجب ذلك نسخا للصلاة وكان يلحق بذلك صيام عاشوراء ونسخه بشهر رمضان ويقول: إن النسخ تناول الوقت لا العبادة، وأن الواجب من الصوم في
شهر رمضان هو الذي كان واجبا في عاشوراء وكان يجعل ذلك أصلا في أن الشرط
الحاصل للعبادة الأولة يجب أن يكون حاصلا للثانية أيضا ويقول: إذا كان المتقرر
في صوم عاشوراء أنه يجوز بنية غير مبنية فكذلك يجب في رمضان لأن صوم
رمضان هو صوم عاشوراء وإنما نسخ وقته.
وذهب بعضهم: إلى أن النقصان من العبادة يقتضى النسخ وفي كلام الشافعي
ما يدل على ذلك.
ولا خلاف ان النقصان يقتضى نسخ ما أسقط، لأنه كان واجبا في جملة
العبادة ثم أزيل وجوبه، وانما الخلاف في أنه يقتضى نسخ ما بقى من العبادة أم لا؟
والذي ينبغي أن يعتمد في هذا الباب أن يقال
العبادات الشرعية قد تكون
جملة ذات شروط كالصلاة، وتكون فعلا واحدا وله شروط، وقد يكون فعلا مجردا
عن الشرط.
فإذا كانت العبادة فعلا واحدا، فالنسخ انما يصح فيها بأن يسقط وجوبها، ولا
يصح ان ينسخ بعضها لأنه لا بعض لها.
فاما نسخ شروطها، فإنه لا يوجب نسخها، وكذلك نسخ شروط الجملة التي
هي ذات شرط لا يوجب نسخها، لان من حق الشروط أن يكون في حكم التابع
للمشروط، لأنه يجب لأجله، وليس في نسخه تغيير حال المشروط، وهذا مثل أن
ينسخ الطهارة فان ذلك لا يوجب نسخ الصلاة، بل يجب بقاء حكم الصلاة على ما
كان عليه من قبل.
فاما إذا نسخ بعض تلك الجملة كنسخ القبلة، أو كنسخ ركوع، أو سجود فان
ذلك يوجب نسخ الجملة لان تلك الجملة في المستقبل لو أوقعت على الحد الذي
كانت واجبة أو لا لم تجز ووجب اعادتها، فصار نقصان القبلة بمنزلة اخراج الصلاة من
535

كونها واجبة وجائزة، فلذلك وجب أن يكون نسخا، وهو بمنزلة الزيادة أيضا في هذا
الوجه، فيجب أن يكون مثلها في أنه نسخ
فان قيل: ان القبلة إذا نسخت فما بقي من الصلاة هي عبادة مبتدأة لم يكن
مثلها (1) من قبل واجبا، فكيف يصح أن يقولوا: انه نسخ؟
قيل له: وان لم يجب الصلاة من قبل على هذا الوجه، فما كان واجبا من قبل من
الصلاة لو فعل الان لم يجز، فوجب أن يكون اسقاط القبلة نسخا له من هذا الوجه.
فاما صوم عاشوراء، فإنما يقال انه نسخ برمضان، بمعنى انه عند سقوط وجوبه
امر بصيام رمضان مما نسخ له، لان الحكم انما ينسخ حكما اخر إذا
لم يصح ان يجتمعا على وجه، فاما إذا صح وجوب الثاني مع الأول، ويمكن فعلهما
جميعا فأحدهما لا يكون ناسخا للاخر ولذلك قلنا: ان قول الله تعالى: (ولأبويه
لكل واحد منهما السدس) (2) لا يعلم وجوب نسخ الوصية للوالدين والأقربين،
لان اجتماع الوصية والميراث لهما غير منكر، بل هو الصحيح الذي نذهب إليه، ومن
خالفنا في ذلك يرجع إلى ما يروى (3) من قول النبي عليه السلام: " لا وصية لوارث " (4)
ويدعى ان ذلك مجمع عليه، وعندنا ان هذا خبر واحد لا ينسخ به ظاهر القران.
ولو سلم ان صوم عاشوراء نسخ - في الحقيقة - برمضان (5)، لما صح ان يصرف
النسخ إلى الوقت، لان من حق النسخ ان يتناول الافعال الواقعة في الأوقات لا
الأوقات نفسها، لأنها ليست من فعل المكلف

(1) في النسختين: مثله.
(2) النساء: 11.
(3) روي.
(4) كنز العمال 16: 615: رقم 46062، جامع الأصول 9: 622 و 633 - 632 و 11: 75.
(5) نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (نسخ صوم رمضان كل صوم قبله) (انظر: ميزان
الأصول 2: 1005) وأيضا روي الترمذي انه (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم عاشوراء فلما
قدم المدينة صامه وامر بصيامه، فلما افترض رمضان كان رمضان هو الفريضة وترك عاشوراء فمن شاء
صامه ومن شاء تركه) (ميزان الأصول 2: 1055 هامش رقم (2) تفلا عن الشمائل المحمدية: 224).
536

فصل [8] " في نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة
ونسخ الاجماع والقياس وتجويز القول في النسخ بهما "
لا خلاف بين أهل العلم ان نسخ الكتاب بالكتاب يجوز (3)، والعلة في ذلك
بينة، وذلك لأنهما في وجوب العلم والعمل سواء، فكما يجوز تخصيص أحدهما
بصاحبه، فكذلك يجوز نسخ أحدهما بالآخر.
ولا يلزم على ذلك دليل العقل الذي لا ينسخ الكتاب به، لأنا قد بينا ان من
شرط النسخ أن يكون واقعا بدليل شرعي.
فاما معنى النسخ: فقد يقع بدليل العقل، وقد وقع ما قلنا انه، جائز لان الله
تعالى نسخ الاعتداد حولا بالاعتداد أربعة أشهر وعشرا، ونسخ الصدقة قبل
المناجاة، ونسخ ثبات الواحد للعشرة، كل ذلك بالكتاب، وان كان المنسوخ به ثابتا.

(1) زاد في الحجرية: في النسخ.
(2) في الأصل: فيهما.
(3) انظر " ميزان الأصول 2: 1005، الذريعة 1: 455، التذكرة بأصول الفقه: 43، الاحكام للآمدي 3: 132
اللمع: 59 شرح اللمع 1: 498، شرح المنهاج 1: 477، المعتمد 1: الاحكام لابن حزم: 505، أصول
السرخسي 2: 67، روضة الناضر: 77، المنخول: 292، ارشاد الفحول: 4 28 ".
537

اما السنة: فإنما تنسخ بالسنة أيضا إذا تساويا في الدلالة فان كانت الأولى من اخبار الآحاد، فعلى مذهبنا ذلك ساقط، لأنا لا نعمل بها،
وعلى مذهب الفقهاء يجوز نسخها بمثلها، لأنهما إذا كان طريقهما العلم فحكمهما
حكم الكتاب.
وان كانا مما طريقهما العمل فحالهما أيضا متساوية فيجب صحة نسخ
أحدهما بالأخرى، وقد وقع ذلك أيضا على ما روى أن النبي عليه السلام: " نهى عن
ادخار لحوم الأضاحي وزيارة القبور " (1) نسخ ذلك فأباح الزيارة والادخار للحوم
الأضاحي (2)، ولا فصل بين نسخ قوله بفعله، أو قوله بقوله، وقد وقع ذلك عند الفقهاء
لأنه كان امر عليه السلام - على ما روى - بقتل شارب الخمر في المرة الرابعة، ثم اخذه
وقد شرب رابعة فحده ونسخ به قوله (3).
وعندنا ان هذا الحكم غير منسوخ، بل هو ثابت.
واما نسخ الكتاب بالسنة، ونسخ السنة بالكتاب فسنبين القول فيه إن شاء الله (4).
واما الاجماع: فعندنا لا يجوز نسخه، لأنه دليل لا يتغير، بل هو ثابت في
جميع الأوقات، لان العقل عندنا يدل على صحة الاجماع، وما هذا حكمه لا يجوز
تغيره فيطرق عليه النسخ.

(1) ولفظ الحديث الناسخ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور الا فزوروها " وقد
روي هذا الحديث عن الإمام علي، وأبي سعيد الخدري، وابن مسعود، وجابر، وبريدة وغيرهم، وأخرجه
مسلم في كتب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه في زيارة قبر أمه، وأيضا أخرجه
النسائي وأبو داود في كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، وابن قدامة في (المغني): 2: 425.
(2) ولفي الحديث الناسخ للنهي عن ادخار اللحوم قوله: صلى الله عليه وآله وسلم -: " كنت نهيتكم عن ادخار
لحوم الأضاحي فادخروها " وروى الحديث جماعة من الصحابة، فقد أخرجه مسلم، وابن ماجة والحاكم
النيسابوري في مستدركه كلهم في كتاب الأضاحي.
(3) الاحكام لابن حزم الأندلسي 4: 517.
(4) انظر تفصيل الكلام في هاتين المسألتين في صفحة 543 فصل (9).
538

وكذلك لا يصح النسخ به، لان من شأن الناسخ أن يكون دليلا شرعيا متأخرا
عن المنسوخ، وذلك لا يتأتى في الاجماع على مذهبنا، فجرى ذلك مجرى أدلة
العقل التي لا يجوز النسخ بها على ما مضى القول فيه.
واما على مذهب الفقهاء فلا يجوز أيضا نسخه، لأنه دليل قد استقر بعد ارتفاع
الوحي، ومعلوم ان بعده لا يصح النسخ، فيجب امتناع النسخ فيه (1).
وكذلك لا يصح النسخ به لمثل ما قلناه نحن،
من أن من شأن الناسخ أن يكون
متأخرا عن المنسوخ، والحكم إذا كان ثابتا فلا يجوز أن يجمع الأمة بعد ذلك على
خلافه، لان ذلك يؤدى إلى بطلان الاجماع (1) فاما إذا اجمعوا على شئ ثم ورد الخبر
بخلافه، نحو اجماعهم على أن " لا
غسل على من غسل ميتا " (2) على مذهبهم. " ولا وضوء على حامله " (2) وقد وردت
السنة به (3)، فإنما يستدل بالاجماع على أن الخبر غير صحيح ولا يجب قبوله.
واما أن يكون منسوخا به فلا (1)، وانما قالوا ذلك: لأنه لو كان صحيحا لما
أجمعت الأمة على خلافه، لأنهم يتبعون الأدلة ولا يخالفونها، أو يستدل بالاجماع
على أنه نسخ بغيره لا به نفسه.
فان قيل: فهل يجوز أن ينسخ اجماعهم على قولين
باجماعهم على أحدهما؟

(1) انظر: " الذريعة 1: 356، الاحكام للآمدي 3: 144، اللمع: 60، شرح اللمع 1: 490، شرح المنهاج 1: 484،
المعتمد 1: 400، روضة الناظر 80، الاحكام لابن حزم 4: 517، ارشاد الفحول: 287 ".
(2) قال ابن قدامة في (المغني 1: 243، فصل 297): " ولا يجب الغسل من غسل الميت، وبه قال ابن
عباس، وابن عمر، وعائشة، والحسن، والنخعي، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر، وأصحاب الرأي ".
(3) قال ابن قدامة (المغني 1: 243 رقم 297) " وعن علي وأبي هريرة انهما قالا: " من غسل ميتا فليغتسل "،
وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين، والزهري، واختاره أبو إسحاق الجوزجاني لما روي عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: " من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمل ميتا فليتوضأ "، قال
الترمذي: هذا حديث حسن ".
539

لان هذ الاجماع قد دل على أن القول الاخر الذي سوغوه من قبل القول به قد حرم
القول به، وهذا نسخ للاجماع.
قيل له: هذا يسقط على مذهبنا، لأنهم إذا اجمعوا على أن كل واحد من القولين
جائز لا يجوز أن يجمعوا بعد ذلك على أحد القولين، لان ذلك ينقض الاجماع الأول.
وانما يصح ذلك على مذهب من قال بالاجتهاد (1) بأن يقول: قالوا بقولين
من طريق الاجتهاد ثم أداهم الاجتهاد إلى قول واحد، وعلى هذا أيضا لا يكون ذلك
نسخا، لأنهم انما سوغوا القول بالأول بشرط أن لا يكون هناك ما يمنع من الاجتهاد،
كما أن من غاب عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإنما يجتهد في المسألة بشرط
أن لا يكون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص، فإذا وجد الاجماع على أحدهما
عدم الشرط الذي له جوزوا القول بالآخر
فخرم القول به لهذه العلة لا لأنه منسوخ.
واما القياس: فعندنا انه غير معمول به في الشرع على ما ندل عليه في
المستقبل، فلا يصح نسخه ولا النسخ به.
واما على مذهب من قال بالعمل به، فلا يصح أيضا نسخه (2)، لأنه يتبع
الأصول فما دامت الأصول ثابتة فنسخه (3) لا يصح (4).
والنسخ به لا يصح أيضا، لان من شرط صحته أن لا يكون في الأصول ما يمنع

(1) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 8 حول مفهوم اجتهاد عند متقدمين الامامية.
(2) ان عدم جواز النسخ بالقياس هو رأى الجماهير من الفقهاء المتكلمين، وقد فضل آخرون بين القياس
الجلي والخفي فأجازوه في الأول دون الثاني.
انظر: " التبصرة: 274، المستصفى 1: 126، الأبهاج 2: 278، الذريعة 1: 459، الاحكام للآملي 3:
147، اللمع: 60، شرح اللمع 1: 512، المعتمد 1: 402، روضة الناظر: 80، ارشاد الفحول: 288 ".
(3) النسختين: نسخه.
(4) ان القائلين بجواز العمل بالقياس يمنعون صيرورة القياس ناسخا ومنسوخا، ما عدم ناسخية لان شرط
صحة القياس ان لا يكون في لأصول ما يمنع منه ومع وجوده فلا مجال لناسخية، وما عدم كونه منسوخا
لان القياس تابع لاصله وباق ببقاء أصله، فلا يتصور نسخ حكمه مع بقاء أصله.
540

منه فلو جوزوا نسخ الأصول به، لجوزوا نسخ الأصول بقياس لم يوجد على الشرط
الذي يصح عليه (1).
فاما الاجتهاديات (2) على مذهب الفقهاء: فلا يصح النسخ فيها، لأنه يجوز أن
يرجع من اجتهاد إلى اجتهاد ويجوز أن لا يرجع.
وليس يجوز أن يقال: ان أحد القولين ينسخ الاخر، ولذلك قال معاذ: " اجتهد
رأيي إذا لم أجد في الكتاب ولا في السنة (3) وكذلك غيره من الصحابة كانوا يتركون
اجتهادهم للنصوص.
واما فحوى القول: فلا يمتنع نسخه لان اللفظ يدل عليه كما يدل على ما
يتناوله صريحة.
فان قيل: هل يجوز أن ينسخ ما يقتضيه فحوى الخطاب مع ثبوت صريحه؟،
كان ينسخ ضرب الوالدين ويبقى تحريم قوله لهما أف.
قيل له لا يمتنع، ويفارق القياس لان نسخه مع ثبات أصله لا يصح، لان بصحة الأصل يصح الفرع، فما دام ثابتا فيجب صحته.
وكذلك لا يجوز بقاء القياس مع نسخ أصله لما ذكرناه من العلة (1).
ومن الناس من منع من ذلك وقال: لا يجوز ان يثبت صريحه ويرتفع فحواه،
لان ذلك مناقضة ويستحيل في العرف، لأنه لا يجوز أن يقال: " فلان لا يظلم مثقال
ذرة " وهو يظلم القناطير، أو " فلان لا يأكل رغيفا " ثم يقول: " هو يأكل مائة رطل "، فإذا

(1) راجع هامش رقم (1) صفحة 540.
(2) في الأصل: الاجتهاد، ولمعرفة مفهوم اصطلاح " الاجتهاد " عند مدرسة الامامية وأهل السنة راجع
التعليقة رقم (1) ص 8.
(3) عن معاذ بن جبل: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأله إذ بعثه إلى اليمين: بماذا تقضي؟ قال:
أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد في
سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو " سنن الدارمي 1: 70، عون المعبود 3: 330.
541

كان كذلك فدخول النسخ في ذلك لا يصح.
واما النسخ باقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الفعل فسنبين في باب
الافعال إن شاء الله.
542

فصل (9)
" في ذكر نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن "
ذهب المتكلمون بأجمعهم من المعتزلة وغيرهم، وجميع أصحاب أبي
حنيفة، ومالك، إلى أن نسخ القرآن بالسنة المقطوع بها جائز (1)، واليه ذهب سيدنا
المرتضى (2) (رحمه الله).
وذهب الشافعي (3) وطائفة من الفقهاء (4) إلى أن ذلك لا يجوز، وهو الذي

(1) انظر: " المعتمد 1: 391، اللمع: 60، شرح اللمع 1: 501، شرح المنهاج 1: 477، الاحكام للآمدي 3: 138
- 135، روضة الناظر: 79، المستصفى: 1 / 124، المنخول: 292، التبصرة: 264، ارشاد الفحول: 285 ".
قال الشوكاني في ارشاد الفحول: (ص 285): " يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة عند الجمهور كما
حكى ذلك عنهم أبو الطيب الطبري، وابن برهان، وابن الحاجب، قال ابن فورك في شرح مقالات الأشعري:
واليه ذهب شيخنا أبو الحسن الأشعري...، وقال ابن السمعاني: وهو مذهب أبي حنيفة وعامة المتكلمين،
وقال سليم الرازي: وهو قول أهل العراق، قال: وهو مذهب الأشعري والمعتزلة وسائر المتكلمين قال،
الدبوسي: هو قول علمائنا يعني الحنيفة. قال الباجي: قال به عامة شيوخنا، وحكاه ابن الفرج عن مالك ".
(2) الذريعة 1: 462.
(3) قال الشافعي في (الرسالة: ص 106): " ان السنة لا ناسخة للكتاب، وانما هي تبع للكتاب ".
(4) كأبي إسحاق الشيرازي، والحارث بن أسد المحاسبي، وعبد الله بن سعيد القلانسي، وأبي حامد الأسفراييني،
وعبد القاهر البغدادي، وسهل بن أبي سهل الصعلوكي، والصيرفي، والخفاف، وأحمد بن حنبل في إحدى
الروايتين عنه، وقد ذهب أبو العباس ابن سريج إلى جواز نسخ القرآن بالسنة عقلا ولكنه ممتنع شرعا.
راجع المصادر الواردة في هامش رقم (1)
543

اختاره شيخنا أبو عبد الله (1) (رحمه الله).
ولا خلاف بين أهل العلم ان القرآن لا ينسخ باخبار الآحاد، الا أن من أجاز
نسخ القرآن بالسنة المقطوع بها، يقول: كان يجوز نسخه أيضا باخبار الآحاد ولكن
الشروع منع منه، وهو الاجماع على أن خبر الواحد لا ينسخ به القران، والا كان ذلك
جائزا، كما ثبت عندهم تخصيص عموم القران وبيان مجمله باخبار الآحاد.
ولي في هذه المسألة نظر، الا اني أذكر ما تعلق به كل واحد من الفريقين على
ضرب من الايجاز:
فاستدل (2) من قال بجواز ذلك: انه إذا أوجبت السنة المقطوع بها العلم
والعمل ساوت الكتاب في ذلك، فيجب جواز حصول نسخها كما يجوز أن يبين بها،
ويخص بها، وانما لا يجوز نسخه بخبر الواحد للاجماع الذي ذكرناه والا كان ذلك
جائزا.
وقالوا أيضا: النسخ إذا كان واقعا في الاحكام التي هي تابعة للمصالح، وكانت
السنة في الدلالة على الاحكام كالقرآن لا يختلفان، فيجب جواز نسخه بها.
قالوا: ومزية القرآن في باب الاعجاز على السنة لا يخرجها من التساوي فيما
ذكرناه، يبين ذلك أن نسخ الشريعة انما يصح من حيث كان دلالة على أن الحكم
المراد بالأول أريد (3) به إلى غاية وقد علم أن قوله تعالى كذا وإذا كان وحيا ولم يكن قرانا
في باب الدلالة على ذلك كالقرآن، فكذلك حال السنة في ذلك يجب أن يكون حال
القرآن في جواز نسخ القرآن به،
لان الذي يختص القرآن به من الاعجاز لا تأثير له

(1) قال الشيخ المفيد في (التذكرة بأصول الفقه: 43): " العقول تجوز نسخ... الكتاب بالسنة والسنة بالكتاب،
غير أن السمع ورد بان الله تعالى لا ينسخ كلامه بقوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) الآية،
فعلمنا انه لا ينسخ الكتاب بالسنة ".
(2) في الأصل: وستدل.
(3) في الأصل: ان يريد.
544

فيما به يصح النسخ من الدلالة على الحكم، لان نفى كونه معجزا مع كونه قولا له
تعالى لا يخرجه من أن يدل على الحكم كهو إذا لم تكن معجزا، الا ترى ان قوله عليه
السلام دلالة على الحكم وان لم يكن معجزا، فإذا صح ذلك لم يكن بكون القرآن
معجزا اعتبار، فوجب صحة نسخه بالسنة على ما قدمناه.
واستدل من امتنع من جواز نسخه بالسنة بأشياء (1):
منها قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (2)، قالوا:
فجعله الله تعالى مبينا للقرآن، فلو نسخه لكان قد ازاله، والإزالة ضد البيان.
واعترض من خالف في ذلك بأن قال: انه إذا نسخه بالسنة فقد بين الوقت
الذي تزول فيه العبادة، وهذا في أنه بيان جار مجرى التخصيص، ولو لم يكن ذلك
بيانا لم يكن في وصف الله تعالى له بأنه مبين دليل على أنه لا يفعل ما ليس ببيان،
كما لا يدل على أنه لا يبتدى بأحكام شرعها.
وقال أبو هاشم: ان معنى قوله: (لتبين للناس ما نزل إليهم)، أي لتبلغ
وتؤدي لان " الأداء " بيان، ومتى حملنا الآية على هذا وفينا حقها في العموم لأنه مؤد
لكل ما انزل الله.
ومتى حملت على البيان الذي هو التفسير حملت على التخصيص، وإذا أمكن
حمل الآية على العموم كان أولى من حملها على الخصوص (3).
واستدلوا أيضا بقوله: (وإذا بدلنا آية مكان آية) (4) قالوا: فتبين انه تبدل الآية
بالآية، وذلك يمنع من أن ينسخ بالسنة.

(1) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 543.
(2) النحل 44.
(3) نسب أبو الحسين البصري (المعتمد 1 / 394) للجبائي ان: " الشيخ أبا هاشم - رحمه الله - يحمل قوله
تعالى (لتبين للناس): لتظهر لهم ذلك، وتؤديه، وإذا حمها على ذلك، لاستوعب جميع ما انزل إلينا، وإذا
حمل على بيان المجمل لم يستوعبه، فكان هذا التأويل أولى لمطابقته العموم ".
(4) النحل: 101.
545

واعترض على ذلك من خالف بان قال: ليس فيه بأنه لا يجوز أن يبدل الآية الا
بالآية، فالتعلق به لا يصح ولأنه لا يدل على موضع الخلاف من نسخ حكم الآية
بالسنة، لأنه انما ذكر ان الآية تبدل بالآية ولم يذكر الحكم.
واستدلوا: بقوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقائنا ائت بقران غير هذا أو
بدله قل ما يكون لي ان أبدله من تلقاء نفسي) (1) فبين ان تبديله لا يقع الا بالكتاب.
وقال من خالف في ذلك: ان قوله تعالى: (قل ما يكون لي ان أبدله من تلقاء
نفسي) يدل على أنه لا تنسخ الآية الا بوحي من الله تعالى قرآنا كان أو غير قرآن،
وكذلك نقول لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ينسخ القرآن من قبل نفسه على
حال.
وأقوى ما استدلوا به في هذا الباب قوله تعالى: (ما ننسخ من اية أو ننسها
نأت بخير منها أو مثلها) (2)، فاستدلوا بهذه الآية من وجوه:
منها: ما ذكره أبو العباس بن سريج (3) انه قال: لما قال الله تعالى: (نأت بخير منها
أو مثلها) احتمل أن يراد به الكتاب، واحتمل غيره، فلما قال بعده: (ألم تعلم أن الله
على كل شئ قدير) (4) علم أنه أراد بما تقدم ما يختص هو بالقدرة عليه، وهو القرآن
المعجز، فكأنه قال: (نأت بخير منها أو مثلها) مما نختص بالقدرة عليه.
ومنها: انه تعالى قال: (نأت بخير منها أو مثلها) فأضاف ما نسخ به الآية إلى
نفسه والسنة لا تضاف إليه تعالى في الحقيقة.
ومنها: ان الظاهر في الاستعمال انه إذا قيل لاحد: " لا آخذ منك ثوبا الا أعطيك
خيرا منه " انه يراد به من جنس الأول، وكذلك قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) لما
ذكر في الأول آية فيجب أن يكون هي المراد بقوله: (نأت بخير منها أو مثلها) فكأنه

(1) يونس: 15.
(2) البقرة: 106.
(3) في الأصل والنسخة الثانية: أبو العباس بن شريح وهو تصحيف، راجع هامش رقم (3) صفحة 468.
(4) البقرة: 106.
546

قال: نأت بآية خير منها أو مثلها
ومنها: ان الآية انما تكون خيرا من الآية بأن تكون أنفع منها، والمنفعة بالآية
تقع بتلاوتها وبامتثال حكمها، فيجب أن يكون ما يأت به يزيد في النفع على ما
ينسخه، ولا يكون زائدا عليه الا ويحصل به النفع من كلا الوجهين، والسنة لا يصح
ذلك فيها.
وذكر من خالف هذا المذهب في تأويل هذه الآية وجها قويا وهو المحكي عن
أبي هاشم وهو انه قال (1): " ليس في قوله: (نأت بخير منها) دلالة على أن ما يأتي
بها هو الناسخ، لأنه لم يقل نأت بخير منها ناسخا، فيجوز أن ينسخ الآية بشئ اخر
ثم يأت بخير منها
وأجاب من نصر المذهب الأول
عن هذا بان قال: إذا ثبت انه لابد أن يأتي بآية
أخرى، وكل من قال بذلك قال لأنها تكون ناسخه، وليس في الأمة من قال لابد من أن
يأتي بآية أخرى وإن لم يكن ناسخه، لان من جوز نسخ القرآن بالسنة قال: يجوز ان
ينسخه بالسنة وان لم يأت بآية أخرى، وكل قول خالف الاجماع وجب اطراحه.
واعترضوا (2) على الاستدلال بالآية أيضا بان قالوا: قوله: (ما ننسخ من اية أو
ننسها نأت بخير منها) يقتضى ثبوت النسخ قبل الاتيان بخير منها، فلو كان النسخ
بما يأتي به يقع، لما صح حصول نسخ الآية قبل أن يأتي بخير منها.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: لا يمتنع أن يقول: نأت بخير منها ناسخا
وأن تقدم قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها)، كما أن القائل إذا قال: " انا لا أبطل
الحركة الا وافعل السكون "، " ولا يعدم السواد عن المحل الا ويطرؤ عليه البياض "،
وان كان المبطل للسواد هو البياض الطارئ وكذلك المبطل للحركة السكون الذي
يطرأ عليه، فكذلك القول في الآية.

(1) المعتمد 1: 397.
(2) واعترض.
547

واعترض أيضا على الاستدلال بالآية بأن قالوا: ليس في ظاهر الآية نسخ
حكم الآية، وهو موضع الخلاف، وهذا أيضا يسقط بالاجماع، لان أحدا لا يفصل
بين نسخ الآية وبين نسخ حكمها، فمن فصل بينهما كان مخالفا للاجماع.
وقالوا أيضا: ان نسخ الآية انساؤها إذا حمل على أن المراد به انه ينسيه عن
صدور الرجال، فالله تعالى هو الفاعل لذلك فلا يصح وقوع ذلك بالسنة.
ومتى حمل على أن المراد به أن يبين ان تلاوتها ليس بطاعة، فذلك يصح
بالسنة والقرآن جميعا.
ولمن نصر الأول أن يقول: انا احمل الآية على الامرين جميعا، على أنه لا
ينسها عن صدور الرجال الا الله، ولا يبين ان تلاوتها ليس بطاعة الا بقرآن آخر خير
منه أو مثله، وان ذلك لا يقع بالسنة أصلا، لهذا الظاهر.
واعترضوا أيضا الاستدلال بها بان قالوا: قولنا: " كذا خير من كذا "،
يستعمل بمعنى انه أنفع لنا منه، وانه وقد زاد في باب النفع على غيره وإذا ثبت ذلك
جاز أن يقال انه نأت بخير منها، أي بأنفع لكم منها، والمنفعة في هذا الموضع هي (1)
ما يستحق بالفعل من الثواب، وليس يمتنع أن يكون الثواب بما يدل السنة عليه من
الفعل أكثر مما يستحقه على الفعل الذي دلت الآية عليه وعلى تلاوتها، فيجب من
هذا الوجه صحة نسخ الآية بالسنة وان يستدل بنفس الآية على ما نقوله.
وأجاب من نصر المذهب الأول عن ذلك بان قال: فكان يجب على هذا
التقدير ان يقال بالاطلاق: ان السنة خير من القرآن، ويراد بذلك انه أكثر ثوابا، وفي
اطلاق ذلك خروج من الاجماع.
واعترضوا على الوجه الأول من الاستدلال بالآية بان قالوا: قوله: (نأت بخير
منها) مضيفا ذلك إلى نفسه لا يدل على ما قالوه، لان عندنا النسخ انما يقع بالوحي
الذي إلى الله تعالى، به وان كان بالسنة فنستدل عليه ونعمله، وقد أعطينا الإضافة

(1) في الأصل: متى.
548

حقها.
وقالوا أيضا في الوجه الثاني: انه لا يمتنع أن يقول القائل: " آخذ منك كذا
وأعطيك ما هو أنفع منه " وان لم يكن من جنسه، لأنه قد يقول الرجل لصاحبه
مصرحا: لا آخذ منك كذا ثوبا الا وأعطيك ما هو خير منه من الدنانير "، " ولا آخذ
منك دارا الا وأعطيك ما هو أنفع لك منه من البستان " وغير ذلك.
وقالوا في الوجه الثالث من قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله على كل شئ
قدير) (1): انما يريد به انه قادر على أن ينسخ الآية بما يعلم أنه أصلح للعباد من
المنسوخ، والذي
يختص بذلك هو الله تعالى.
واستدل بعض أصحاب الشافعي على صحة ما ذهبوا إليه بان قالوا (2):
لا يجوز ذلك من جهة العقل لان في ذلك ارتيابا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم،
واستدل على ذلك بقوله: (وإذ بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا انما
أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) (3) ثم بين انه ليس يرفع هذا بقوله، وان المبدل هو
الله تعالى بما أنزله.
وهذا غلط، لان الله تعالى ذكر انهم نسبوه إلى الافتراء عند تبديله الآية بالآية،
ان كان ما يلحقهم من الارتياب قد يمنع من نسخ الآية بالسنة، فيجب أن يمنع من
نسخ الآية بالآية أيضا، وكيف يمنع العقل من ذلك؟ ومن علم كون القرآن معجزا
يعلم صدقه، وعلمه بصدقه ينفى الارتياب بقوله إذا نسخ الآية بالسنة، وليس نسخه
بالسنة نسخا من تلقاء نفسه، بل هو نسخ له بالوحي النازل عليه، فهو في الحكم كأنه
نسخ آية بآية.
وفي الناس من قال: ان العقل يجيز ذلك لكن لم يرد ذلك في السنة ولم

(1) البقرة: 106.
(2) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (1) ص 543.
(3) النحل: 101.
549

يثبت (1).
فهذا وجه، الا انه ليس بكلام في هذه المسألة لان صاحبها مقر بجواز ذلك،
وانما أنكر وجوده، فالواجب أن يبين له الوجود.
ومن يذهب إلى ذلك فله أشياء يذكرها، فيتعلق بها، ربما ذكرناها ان عرض ما
يحتاج إليه، ولا يجوز له إذ يبين ذلك أن يتأوله، لأنه ليس بمستند إلى دليل يصح له
التأويل.
واما من قال: انى لا أقول ان نسخ القرآن بالسنة جائز في العقل أو لا يجوز، لان
الجواز شك، وقد علمت بالشرع المنع منه،
فذهاب عن معنى هذه اللفظة، لان المراد بها ان نسخ القرآن بالسنة من القبيل
الذي شك في حاله هل يتعبد الله تعالى به أم لا؟ وانه من حيز ما لا يجوز ذلك فيه؟
وهذا لا يصح الامتناع منه كما لا يصح الامتناع من أن يقول: كان يجوز أن يتعبد الله
تعالى بصلاة سادسة أو لا وان علمنا بالسمع انه لم يتعبد بها!
وهذا جملة كافية في هذا الباب.
واما نسخ السنة بالكتاب: فالظاهر من مذهب الشافعي (2) المنع منه، وهو
الذي صرح به في رسالتيه جميعا، وفي أصحابه من يضيف إليه جواز ذلك (3).
والأول أظهر من قوله، لكنه لما رأى هذه المسألة تضعف على النظر جعل

(1) نسب هذا القول لأبي العباس بن سريج، فقد رجح القول بجواز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة عقلا، ولكنه
يخالف في الوقوع فيرى انه لم يقع، فالخلاف منه في الوقوع لا في الجواز (انظر المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 543).
(2) قال الشافعي في (رسالته: ص 108 فقرة 324): " وهكذا سنة رسول الله لا ينسخها الأسنة لرسول الله. ولو
أحدث الله لرسوله في امر سن فيه غير ما سن رسول الله لسن فيما أحدث الله إليه، حتى يبين للناس ان له سنة
ناسخة للتي قبلها مما يخالفها ". وقد ذهب إلى المنع كل من أبي الطيب الصعلوكي، وأبي إسحاق
الأسفراييني، وأبي منصور البغدادي.
(3) التبصرة: 272، اللمع 60 - 59، شرح اللمع 1: 499.
550

قولا اخر على حسب ما يفعله كثير منهم!! (1)
واما الباقون من الفقهاء والمتكلمين فعلى جواز ذلك (2). وتعلق من منع من ذلك بان قال: إذا لم يجز نسخ القرآن الا بقرآن لمساواته له
في الرتبة، فكذلك لا تنسخ السنة بالكتاب لمثل ذلك، ولأنه جعل مبينا فلا يجوز أن
تنسخ سنة القرآن، لان في ذلك اخراجا له من أن يكون مبينا بل، يجب كون سنته
مبينة بالقرآن.
والذي يعتمد في ذلك جواز نسخ السنة بالقرآن، والذي يدل على ذلك أنه قد

(1) ان بعض الآراء تعين القارئ على معرفته بمبلغ علم صاحب الرأي ومقدار فهمه وتضلعه، القائل: بعدم
قدرة الكتاب على نسخ السنة النبوية لا يرفع برأيه هذا شأن السنة وإنما يدل على جهله بحقيقة القرآن وبعده
عن فهم محتوى هذا الكتاب الذي نزل تبيانا للناس ولا يأتيه الباطل من بين يديه وللأمن خلفه. وقد كبر هذا
الرأي على أصحاب الشافعي والمدافعين عن آرائه فحاولوا نفيه عنه أو تأويله كما هو شأنهم وديدنهم في كثير
من الظواهر الصريحة من الكتاب والسنة. قال ابن السبكي: (الإبهاج 2: 270): " أما نسخ السنة بالكتاب
فالجمهور على جوازه ووقوعه... وذهب قوم إلى امتناعه، ونقل عن الشافعي - رضي الله عنه - وقد استنكر
جماعة من العلماء ذلك من الشافعي حتى قال الكيا الهراسي: هفوات الكبار على أقدارهم، ومن عن خطؤه
عظم قدره، وقد كان عبد الجبار بن أحمد كثيرا ما ينصر مذهب الشافعي في الأصول والفروع فلما وصل
إلى هذا الموضع قال: هذا الرجل كبير لكن الحق أكبر منه، قال: والمغالون في حب الشافعي لما رأوا هذا
القول لا يليق بعلو قدره، كيف وهو الذي مهد هذا الفن ورتبه وأول من أخرجه، قالوا: لا بد وأن يكون لهذا
القول من هذا العظيم محمل فتعمقوا في محامل ذكروها، وأورد الكيان بعضها.
واعلم أنهم صعبوا أمرا سهلا وبالغوا في غير عظيم، وهذا إن صح عن الشافعي فهو غير منكر وإن جبن
جماعة من الأصحاب عن نصرة هذا المذهب فذلك لا يوجب ضعفه!!
(2) القول بجواز نسخ السنة بالقرآن عقلا ووقوعه شرعا هو مذهب الجمهور الأشاعرة، والمعتزلة، والأحناف،
والحنابلة، معظم الفقهاء كأبي إسحاق الشيرازي، والآمدي، وابن الحاجب، والرازي، والبيضاوي، وابن
السبكي، والغزالي والسرخسي والشوكاني وغيرهم.
انظر: " التبصرة: 272، اللمع: 60، شرح اللمع 1: 499، المستصفى 1: 124، المنخول: 295، الأحكام
للآمدي 3: 135، الذريعة 1: 470 أصول السرخسي 2: 67، الإبهاج 2 270 - 271، ميزان الأصول 2:
1006، المعتمد 1: 91، روضة الناظر: 78، شرح المنهاج 1 477، الأحكام لابن حزم 4: 508 - 505،
إرشاد الفحول: 286 ".
551

ثبت ان القرآن أقوى في باب الدلالة من السنة على الاحكام، فإذا كان أقوى منها جاز
نسخها (به كما جاز نسخها بالسنة) (1) التي هي دونها في القول.
ومن ذهب إلى المنع من جواز نسخ القران بالسنة، وأجاز نسخ السنة بالقران
يقول: لم امنع من ذلك من حيث التساوي في باب الدلالة، بل امتنعت من ذلك
للآيات التي دلت على المنع من ذلك، والا كان ذلك جائزا، وان كان بعضه أدون من
بعض كما إذا كانا متساويين في باب الدلالة.
ومن ذهب إلى الجواز في الموضعين كانت هذه الشبهة عنه ساقطة.
فان قالوا: ان الله تعالى لو نسخ سنة نبيه عليه السلام باية ينزلها، لأمر نبيه بأن
يبين سنة ثانية ينسخ بها سنة الأولى لئلا يلتبس النسخ بالبيان.
قيل له: ان الآية لا تخلو من أن تدل بظاهرها على نسخ السنة أو لا تدل
بظاهرها على ذلك:
فان دل على ذلك، فالنسخ بها يقع والسنة تكون مؤكدة.
وان لم يدل الا ببيان السنة جاز القول بالسنة، فان السنة (2) تنسخ من حيث
كانت بها يعلم نسخ السنة الأولى.
وإذا صح ذلك فما الذي يحوج إلى بيان سنة ثانية، والآية دالة بظاهرها على
نسخ السنة الأولى، وكيف يلتبس ذلك بالبيان؟ ومن حق البيان أن يكون بيانا لما لا
يعرف المراد به بظاهره، والنسخ بالضد منه، ومن حق الدليل أن لا يتأخر عن المبين،
والنسخ مخالف له.
واما قوله: (لتبين للناس ما نزل إليهم) (3) لا يمنع من أن ينسخ سنته بالقران،
ولأنه ليس في نسخها به اخراج لها من أن يكون قد بين ما أريد بها، وانما يبنى النسخ

(1) زيادة من النسخة الثانية.
(2) في الأصل: بأن السنة.
(3) النحل: 44.
552

على أن نظائر ما أريد بها زال حكمه في المستقبل.
ومما يبين جواز نسخ السنة بالقران وقوع ذلك، وهو ان تأخير الصلاة عن
أوقاتها في الخوف كان هو الواجب أولا ثم نسخ ذلك المنع من تأخيرها بقوله تعالى:
(فإذا خفتم فرجالا أو ركابنا) (1).
فاما نسخ الكتاب بالكتاب: فقد وقع أيضا، وقد قدمنا الأمثلة في ذلك، ومن
ذلك أنه كان حد الزانية الامساك في البيوت حتى تموت بقوله تعالى: (واللاتي
يأتين الفاحشة من نسائكم) (2) الآية، وحد الرجال الأذى، ثم نسخ ذلك بقوله:
(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (3).
وذهب من خالفنا في ذلك إلى أن ذلك نسخ عن المحصن بالرجم.
فاما على ما يذهب إليه أصحابنا فإنه تجتمع له الجلد والرجم جميعا، ولا
يسلمون أن أحدهما منسوخ.
وهذه جملة كافية في هذا الباب.

(1) البقرة: 239.
(2) النساء: 15.
(3) النور: 2.
553

فصل (10)
" في ذكر الطريق الذي يعرف به الناسخ
والمنسوخ، ومعرفة تاريخهما "
يعلم الناسخ ناسخا والمنسوخ منسوخا بشيئين:
أحدهما: أن يكون الثاني منبئا عن نسخ الأول لفظا، أو يقتضى ذلك من جهة
المعنى.
ولهذين الوجهين تفصيل، واما يقتضيه ذلك لفظا فعلى وجوه: أحدهما: أن يرد الخطاب بأن الثاني قد نسخ الأول، نحو ما روى أن رمضان نسخ
عاشورا (1)، وان الزكاة نسخت الحقوق الواجبة في الأموال (2).
وثانيها: أن يرد بلفظ التخفيف، نحو قوله تعالى: (الان خفف الله عنكم) (3)
في نسخ ثبات الواحد للعشرة بالواحد للاثنين، ونحو قوله تعالى: (أأشفقتم ان
تقدموا بين يدي نجواكم صدقة فان لم تفعلوا وتاب الله عليكم) (4) فنبه بذلك على

(1) راجع هامش رقم (4) صفحة 536.
(2) تفسير القرطبي 7: 100.
(3) الأنفال: 66.
(4) المجادلة: 13.
554

وجوب اسقاط ذلك.
وثالثها: نحو ما روى عنه عليه السلام منن قوله: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور الا
فزوروها، وعن ادخار لحوم الأضاحي فادخروها " (1).
وكل ذلك أدلة تقتضي زوال الحكم الثابت بنص متقدم عن نظائر ذلك، على
وجه لولاه لكان ثابتا بالأول، فيجب أن يكون ناسخا له والأول منسوخا به، وان
اختلف عبارته.
واما ما يعلم ذلك من جهة المعنى: نحو أن يوجب الشئ ثم يوجب ما يضاده
على وجه لا يمكن الجمع بينهما بأي وجه علم ذلك من الألفاظ، فيعلم بذلك انه
ناسخ للأول، فعلى هذا يجرى هذا الباب.
وقد يعلم أيضا الناسخ ناسخا ببيان إذا كان اللفظ والمعنى لا ينبئان عن ذلك،
وذلك نحو ما يقوله الفقهاء من نسخ الوصية للوالدين والأقربين باية المواريث، لان
بظاهر الآية لا يعلم نسخ ذلك، وانما يعلم ذلك على تسليم بقوله عليه السلام: " ان الله
تعالى قد اعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " (2).
وهذا وان كان عندنا غير صحيح، لان عندنا تصح الوصية للوارث، فإنما ذكرناه
لان ذلك وجه كان يمكن أن يقع به النسخ.
واما طاووس (3) فذهب إلى أن الوالدين ثبت لهم الوصية إذا كانا كافرين، فلم
ينسخ الآية وانما خصصها بالخبر (4).

(1) كنز العمال 15: 42555، 42998، 42554 - السنن الكبرى 4: 77. وأيضا انظر هامش رقم 1 و 2
صفحة 538
(2) كنز العمال 5: 12916، 14574 - ج: 16: 46065، والحديث أخرجه الترمذي، والنسائي، واحمد، وابن ماجة.
(3) هو طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني، أبو عبد الرحمن، من أكابر التابعين فقها ورواية للحديث وزهدا
وتقشفا. أصله من بلاد فارس، ولد باليمن سنة 33 ه‍ ونشأ بها وتوفى بمكة حاجا عام 106 ه‍.
(4) قال ابن قدامة: (المغني 6: 444 رقم 4591): " ولا تجب الوصية الا على من عليه دين أو عنده وديعة أو
عليه واجب يوصي بالخروج منه... فأما الوصية بجزء من ماله فليست بواجبة على أحد في قول الجمهور...
وقال أبو بكر عبد العزيز: هي واجبة للأقربين الذين لا يرثون، وهو قول داود، وحكي ذلك عن مسروق،
وطاوس، واياس، وقتادة، وابن جرير، واحتجوا بالآية وخبر ابن عمر، وقالوا: نسخت الوصية للوالدين
والأقربين الوارثين، وبقيت فيمن لا يرث من الأقربين ".
555

واما تاريخ الناسخ والمنسوخ فيعرف من وجوه: أحدها: أن يكون في لفظ الناسخ ما يدل على أنه بعده مثل ما قدمنا ذكره (1).
ومنها: أن يكون الناسخ مضافا إلى وقت أو غزاة يعلم أنه بعد وقت المنسوخ.
ومنها: أن يكون المعلوم من حال الراوي لأحدهما انه صحب الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم بعد ما صحبه الاخر، أو عند صحبته انقطعت صحبة الأول أو
المعلوم من حال الحكم الأول انه
كان في وقت قبل وقت صحبته الثاني، وذلك نحو
ما روى قيس بن طلق انه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو
يؤسس المسجد، فسأله عن مس (2) الذكر، ومعلوم من حال أبي هريرة انه صحب

(1) قول المصنف إشارة إلى الوجوه الخمسة التي مرت في الصفحة (554 و 555) وهي ان يكون الثاني منبئا
عن نسخ الأول لفظا أو معنى.
(2) في حكم مس الذكر ثلاث روايات: الأولى: ان لا ينقض بحال، وهي رواية قيس بن طلق عن أبيه، وقد
رواها أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وهي: " قال أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا ملازم بن عمرو
الحنفي، ثنا عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه: قال: قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم
فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا نبي الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ؟ فقال: هل هو الا مضغة
منه، أو قال: بضعة منه " سنن أبو داود 1: 28 باب الرخصة في مس الذكر.
الثانية: لا ينقض الا ان يقصد مسه، اي يقبض ذكره بيديه.
الثالثة: ينقض الوضوء بكل حال، قال ابن قدامة في شرحه الكبير على المغني (1: 216): " ينقض
الوضوء بكل حال وهي ظاهر المذهب، وهو مذهب ابن عمر، وسعيد ابن المسيب، وعطاء، وعروة،
وسليمان بن يسار، والزهري، والأوزاعي، والشافعي، وهو المشهور عن مالك لما روت بسرة بنت صفوان ان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من مس ذكره فليتوضأ ". وعن جابر م ل ذلك رواهما ابن ماجة.
قال الترمذي: حديث بسرة حسن صحيح. وقال البخاري: أصح شئ في هذا الباب حديث بسرة، وصححه
الإمام أحمد. فأما حديث قيس فقال أبو زرعة وأبو حاتم: قيس ممن لا تقوم بروايته حجة ووهنا ولم يثبتاه.
ثم إن حديثنا متأخر لان أبا هريرة قد رواه وهو متأخر الاسلام، وأنما صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أربع سنين، وكان قدوم طلق على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم يؤسسون المسجد فيكون حديثنا
ناسخا له. وقياس الذكر على سائر البدن لا يصح لأنه يتعلق به احكام ينفرد بها، من وجوب الغسل بايلاجه
والحد والمهر وغير ذلك "!!
556

النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعده
وقد يعلم التاريخ بقول الصحابي بأن يقول أو يحكم ان أحد الحديثين كان بعد
الاخر.
وليس يجب، من حيث لم يجز أن ينسخ بقول الصحابي الكتاب الا يعرف
بقوله التاريخ، لان التاريخ شرط في صحة النسخ، فطرق العلم به الحكاية، فصح
الرجوع إلى قوله لأنه لا يقع فيه لبس، كما صح اثبات الاحصان بالشاهدين وان لم
يصح بهما الحكم بحد الزنا
وليس يجب إذا علمنا التاريخ بقول الصحابي ان نقلده إذا أخبرنا ان: " كذا نسخ
كذا "، بل يجب أن ننظر فيما أوصفه بأنه منسوخ، فان علمنا أنه كما قال أخذنا به، والا
وقفنا فيه، لان ذلك يجوز دخول الشبهة فيه، ولذلك لم يقبل كثير من الفقهاء قول من
قال من الصحابة ان المسح على الخفين نسخ الكتاب (1)، لما علمنا أنه ليس طريقه
النسخ، وكذلك لم يقبل قول من قال: " ان الماء من الماء منسوخ " (2).
وأما إذا قال الصحابي " ان كذا وكذا كان حكما ثابتا من قبل وانه قد نسخ " ولم
يذكر ما به نسخ، فان أبا عبد الله البصري حكى عن أبي الحسن (3) انه كان يرجع إلى
قوله، وذلك نحو قول ابن مسعود (4) حين ذكر له التشهد التحيات الزكيات فقال:

(1) انظر: تفسير التبيان 3: 457.
(2) انظر تخريج الحديث في هامش رقم (2) صفحة 467.
(3) في الأصل: أبى الحسين، والصحيح ما أثبتناه وهو أبو الحسن الكرخي من اعلام الحنفية.
(4) هو عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، أبو عبد الرحمن وابن أم عبد. من أكابر الصحابة علما وفقها ومعرفة
بالقرآن والسنة ومن السابقين إلى الاسلام، وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة، عذب في بداية الدعوة
وأبلى بلاء حسنا في الاسلام، كان من المقربين الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخادمه وصاحب سره،
كان من الموالين لأهل البيت عليهم السلام ومن الناقمين على عثمان والحزب الأموي، ابتعد بعد وفاة
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن المدينة فولى بيت مال الكوفة، وكان يعلم الناس قراءة القرآن في
المسجد الجامع، فاختلف مع الوليد - حاكم كوفة الأموي وهو أخو عثمان بالرضاعة - في تقسيم بيت المال،
فكان الحاكم يرى أن ارض السواد بستان لبني أمية، فشكا الحاكم امره إلى عثمان فعزله عن منصبه، وعاد
إلى المدينة ولكنه لم يدع النكير على تصرفات عثمان وعماله برغم ان عثمان كان يردعه، وأخيرا ضاق
صبر الخليفة فأخذه غلمانه وضربه عثمان وداس على بطنه في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
فأغمي عليه وحمل إلى غرفة أم سلمة أم المؤمنين، وتوفي بالمدينة سنة 32 ه‍.
557

" كان أمره (1) مرة ثم نسخ بتشهده " (2).
ونحو ما روى عن ابن عمر، وابن عباس في الرضاع انهما قالا: " كان الواجب
التوقيت واما الان فلا " (3).
وذهب غيره (4) إلى أنه لا يرجع إلى قول الصحابي في ذلك، لأنه إذا جاز فيما
صرح بأنه ناسخ الا يكون ناسخا في الحقيقة، فان اعتقد هو فيه ذلك فغير ممتنع ان
يطلق ذلك اطلاقا ولا يذكر ما لأجله قال إنه منسوخ، ولو ذكره كان مما لا يقع النسخ
به (5).
ولو علم من حاله انه انما ذكر أنه منسوخ لأمر لا يلتبس، لوجوب الرجوع إلى
قوله.
وقد يعلم التاريخ، بأن يكون أحد الخبرين يقتضى حكما معلوما بغير شرع،
والاخر يقتضى حكما شرعيا، فيكون ذلك هو الطاري على الأول نحو ما ذكر من

(1) هذا.
(2) قال أبو الحسين البصري في (المعتمد 1: 418): " حكى الشيخ أبو عبد الله عن الشيخ أبى الحسن ان
الراوي إذا عين الناسخ فقال: (هذا نسخ هذا) جاز ان يكون قاله اجتهادا فلا يجب الرجوع إليه، وان لم يعين
الناس بل قال: (هذا منسوخ) قبل ذلك، نحو قول عبد الله في التشهد: (كان ذلك مرة ثم نسخ) ".
(3) لم نجد هذا الحديث في المصادر المتوفرة لدينا.
(4) وهذا مختار القاضي عبد الجبار المعتزلي، انظر: " الحكام للآمدي 3: 163، المعتمد 1418 ".
(5) لأنه يستلزم نسخ المتواتر بقول الواحد.
558

حديث مس الذكر (1) لان وجوب الوضوء من مسه هو الطارئ فيصح أن ينسخ به
حديث قيس.
وقد يعلم ذلك بأن يكون أحد الحديثين يقتضى حكما شرعيا معلوم من حاله
انه المبتدأ به في الشرع، والاخر يقتضى حكما ثابتا فيعلم انه بعده.
فالتاريخ لا يعلم الا بهذه الوجوه التي حصرناها أو ما قارنها (2).
فاما إذا عدم التاريخ، فقد بينا القول في ذلك في باب (في) (3) باب الاخبار
المتعارضة.
وهذه الجملة كافية في هذا الباب

(1) راجع هامش رقم (2) صفحة 556
(2) في الأصل: ما كان بها.
(3) زيادة تقتضيها العبارة.
559

الباب الثامن
الكلام
في الافعال
561

فصل (1)
" في ذكر جملة من احكام الافعال،
وما يضاف إليه، واختلاف أحوالهم " إذا أردنا أن نبين احكام الافعال فلابد من أن نبين أولا معنى الفعل وحده ليعلم
ذلك، ثم يبين حكمه.
فحد الفعل: ما حدث وقد كان مقدورا قبله، وهو على ضربين:
منه: ما لا صفة له زائدة على حدوثه، نحو كلام الساهي، والنائم، وحركاته التي
لا تتعداه.
والضرب الاخر: له صفة زائدة على حدوثه (1)، وهو على ضربين:

(1) ذهبت الأشاعرة والمجبرة ومن تابعهم من الذاهب السنية إلى أن الافعال لا توصف بالحسن والقبح
لذواتها، وان العقل لا يحسن ولا يقبح، وانما يطلق الحسن والقبح باعتبار إرادة الشارع واختياره فما وافق
غرض الشارع أو ما امر الشارع بالثناء على فاعله من الواجبات والمندوبات فهو حسن، وما خالف غرضه أو
ذم على فعله من المحرمات يعد قبيحا.
واما العدلية من الامامية والمعتزلة قالوا: بأن الافعال منقسمة إلى حسنة وقبيحة لذواتها، لكن منها ما
يدرك حسنه وقبحه بضرورة العقل كحسن الايمان وقبح الكفر، وحسن الصدق وقبح الكذب الضار، أو
بالسمع كحسن العبادات وقبح المحرمات. وهذه المسألة مشهورة عندهم بالتحسين والتقبيح العقليين.
انظر: " المعتمد 1: 335، الحكام للآمدي 1: 37، الذريعة 2: 92 - 86، الذخيرة: 300 - 286، الاقتصاد
فيما يتعلق بالاعتقاد: 86، أصول الدين للجرجاني: 251، الاعتقاد للبيهقي: 114 و 124، الانصاف
للباقلاني: 62، شرح الأصول الخمسة: 332، مذاهب الاسلاميين: 449 و 555 و 743 ".
563

أحدهما قبيح والاخر حسن.
فحد القبيح: هو كل فعل وقع من عالم بقبحه أو متمكن من العلم بذلك على
وجه كان يمكنه ان لا يفعله، فيستحق به الذم من العقلاء، ولا ينقسم ذلك في كونه
قبيحا (1)، وربما انقسمت أسماؤه إلى كفر، وفسق، وكبيرة، وصغيرة عند من قال
بذلك (2).
واما الحسن فينقسم ستة اقسام:
أحدها: ما ليس له صفة زائدة على حسنه، وحده ما يتساوى فعله وتركه، فلا
يستحق بفعله مدحا ولا بتركه ذما، وهو المسمى " مباحا " و " طلقا " وغير ذلك، الا انه
لا يسمى بذلك الا إذا اعلم فاعله ذلك أو دل عليه، ولذلك لا يوصف الفعل القديم
تعالى العقاب بالعصاة بأنه مباح وان كان بصفته، لما ذكرناه من أنه لم يعلم ولم يدل
عليه، بل هو من عالم به لنفسه.
والثاني: ما له صفة زائدة على حسنه، وحده ما يستحق بفعله المدح، وهو
على ضربين:
أحدهما: لا يستحق بتركه الذم.
والاخر: يستحق بتركه الذم.
فما لا يستحق بتركه الذم هو المسمى ندبا، ومستحبا، ومرغبا فيه، الا أنه لا
يسمى بذلك الا إذا أعلم فاعله ذلك بمثل ما قلناه في المباح، وينقسم هذا القسم
قسمين:
أحدهما: أن يكون نفعا واصلا إلى غير فاعله، فيسمى بأنه تفضل واحسان،

(1) لان مفهوم القبح عند المصنف امر بسيط لا ينقسم إلى الصغير والكبير كما ذهب إليه المعتزلة (المعتمد 1:
335).
(2) المعتمد 1: 335.
564

ويتساوى فيه فعل القديم والمحدث في التسمية بذلك
والقسم الاخر: لا يتعدى إلى الغير، وهو المسمى بأنه ندب ومستحب على ما
قدمناه.
واما الذي يستحق بتركه الذم فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: انه متى لم يفعله الفاعل ولا ما يقوم مقامه استحق الذم، وهو المسمى
بأنه واجب مخير فيه، وذلك نحو الكفارات الثلاث وما أشبه ذلك، وقضاء الدين،
وغير ذلك
والثاني ما إذا لم يفعله بعينه استحق الذم، وهو الموصوف بأنه واجب
مضيق، وذلك نحو رد الوديعة، ووجوب رد ما تناوله الغصب بعينه، وغير ذلك.
والثالث: انه إذا لم يفعله من وجب عليه ولا من يقوم فعله استحق
الذم، وذلك المسمى من فروض الكفايات نحو الصلاة
على الأموات، وتغسيلهم،
ودفنهم، ونحو الجهاد، وغير ذلك واما قولنا في الفعل: " انه مفروض وواجب " فعبارتان
عن معنى واحد، الا انه
لا يسمى فرضا الا إذا اعلم فاعله وجوبه، أو دل عليه كما قلناه في المباح والندب.
وقد يعبر بالفرض عما وقع في الشرع مقدرا، وذلك نحو ما قيل: ان ذلك من
فرائض الصدقة والمراد به مقاديرها، ونحو ما روى عنه عليه السلام انه فرض صدقة
الفطر صاعا من تمر (1) والمعنى بذلك انه قدرها، ويحتمل أن يكون المراد به انه
أوجبها.
واما قولنا في الشئ: " انه سنته " فهو ان النبي عليه السلام قد امر بإدامته إذا
كان يديم فعله ليقتدى به، وهو مأخوذ من: سننت الماء، إذا واليت بين صبه (2)، ولا

(1) الكافي 1: 211، التهذيب 4: 80 الاستبصار 2: 46، من لا يحضره الفقيه 2: 115.
(2) قال أحمد بن فارس: سن: السين والنون أصل واحد مطرد، وهو جريان الشئ واطراده في سهولة، والأصل
قولهم سننت الماء على وجهي أسنه سنا إذا أرسلته إرسالا. ومما اشتق منه السنة، وهي السيرة وأنما سميت
بذلك لأنها تجري جريا.
565

فصل بين أن يكون واجبا أو ندبا، أو مباحا، وربما استعمل (1) الفقهاء هذه اللفظة
فيما يكون مندوبا إليه من الشرعيات ليفصلوا بينه وبين الواجب فيقولون " ركعتا
الفجر سنة " وصلاة الليل سنة، وصلاة الغداة (2) فريضة " والأصل ما قدمناه
فاما الفعل الحسن: فعلى جميع مراتبه يقع من كل فاعل، قديما كان أو
محدثا، الا أنه يمنع من التسمية في بعض الأقسام في أفعال القديم القديم لما قدمناه
من الشرط المفقود منه
واما القبيح: فإنه يختلف أحوال الفاعلين فيه: فالقديم تعالى لا يجوز أن يقع منه شئ من القبيح لعلمه بقبحه، وبأنه غنى
عنه (3).
واما الأنبياء عليهم السلام فكذلك لا يقع منهم شئ من القبيح أصلا (وكذا
الرسل) (4) سواء كانوا من البشر أو من الملائكة، وكذلك حكم الأئمة الحافظين

(1) استعملت.
(2) في الأصل: العراة.
(3) قال المصنف في (الإقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد: 88): " فالذي يدل على أنه لا يفعله (أي القبيح) علمه
بقبح القبائح، وعلمه بأنه غني عنه، والعالم بقبح القبيح، وبأنه غني عنه لا يجوز أن يختاره. ألا ترى أن من خير
بين الصدق والكذب في باب الوصول إلى غرضه، وهو عالم بقبح الكذب وحسن الصدق لا يجوز أن يختار
الكذب على الصدق مع تساويهما في باب الغرض، ولا علة لذلك إلا كونه عالما بقبح الكدب، وبأنه غني
عنه بالصدق، فيجب أن يكون تعالى لا يفعل القبيح لثبوت الأمرين، على أنه لو جازت عليه الحاجة لما جاز
أن يفعل القبيح لأنه من جنسه من الحسن على ما لا يتناهى ".
(4) زيادة من النسخة الثانية، وفي الأصل: سواء كان من البشر.
(5) قد اختلفت آراء المتكلمين حول مسألة عصمة الأنبياء عليهم السلام وارتكابهم القبائح، فمذهب الإمامية
هو: " أن أنبياء الله صلوات الله عليهم معصومون من كل الكبائر قبل النبوة وبعدها، ومما يستخف فاعله من
الصغائر كلها. وأما ما كان من صغر لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوة وعلى غير تعمد وممتنع
منهم بعدها على كل حال. وأما نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ممن لم يعص الله عز وجل منذ خلقه الله
عز وجل إلى إن قبضة ولا تعهد خلافا ولا أذنب ذنبا على التعمد ولا النسيان " وجمهور أهل السنة والمعتزلة
والزيدية تخالف الإمامية، ولهم تفصيل في هذا الكتاب، وإليك خلاصة مذاهبهم كما أوردها عبد القاهر
الجرجاني في كتابه (أصول الدين: 169 - 167): " أجمع أصحابنا على وجوب كون الأنبياء معصومين يعد
النبوة عن الذنوب كلها، وأما السهو والخطاء فليسا من الذنوب فلذلك ساغا عليهم. وقد سها نبينا صلى الله
عليه وآله وسلم في صلوته حتى سلم عن الركعتين تم بنى عليها وسجد سجدتي السهو، وأجازوا عليهم الذنوب
قبل النبوة وتأولوا على ذك كل ما حكى في القرآن من ذنوبهم، وأجاز ابن كرام في كتابه الذنوب من الأنبياء
من غير تفصيل منه، ولأصحابه اليوم في ذلك تفصى يقولون: يجوز عليهم الذنوب ما لا يوجب حدا ولا
تفسيقا، وفيهم من يجيز الخطاء في التبليغ، وأختلف القدرية فمنهم من قال: أن ذنوب الأنبياء خطأ من جهة
التأويل والاجتهاد ولم يجوز عليهم ان يفعلوا ما علموا أنه جنسها فأخطاء في التأويل، وهذا تأويل الجبائي،
وقال ابنه أبو هاشم: إن ذلك كان ذنبا منه، ثم قال أبو هاشم: يجوز عليهم الصغائر التي لا تنفر، وقال النظام
وجعفر بن مبشر: إن ذنوبهم على السهو والخطأ، وهم مأخوذون بما وقع منهم على هذا الجهة وإن كان ذلك
موضوعا عن أممهم. وقال أصحابنا: لا معنى لدعوى القدرية عصمة الأنبياء ولا يصح هم على أصولهم أن
يقولوا: أن الله عصمهم عن شئ من الذنوب لإنه قد فعل بهم ما فعله بسائر المكلفين من النكير والعذر كلهما
عندهم يصلح للطاعة والمعصية وإنما هم عصموا أنفسهم عن المعاصي وليس لله في عصمتهم تأثير ".
أنظر: " أوائل المقالات: 62، الإقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد: 260، تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى،
الذخيرة في علم الكلام: 338، شرح الأصول الخمسة: 575، المواقف: 358، مقالات الإسلاميين 1: 16 1
و 213 و 272، مذاهب الإسلاميين: 478، الأحكام للآمدي 1: 145 ".
566

لشرع (1) فاما من ليس بنبي أو رسول
أو امام، فإنه يجوز أن يقع منه الفعل القبيح، إلا

(1) تعد قضية عصمة الأئمة عليهم السلام من أمهات المسائل الخلافية والمثيرة للجدل والأخذ والرد بين
الشيعة ومذاهب أهل السنة الكلامية، فقد أجمعوا على نفيها وأصرت الإمامية على إثباتها ولزومها بالأدلة
العقلية والنقلية، وللإمامية تأليفات مطولة في هذا المجال، ومن أهمها كتاب " الشافي في الإمامة " للشريف
المرتضى وهو رد على فصل الإمامة من كتاب " المغني " للقاضي عبد الجبار الهمداني، ولخصه الشيخ
الطوسي وسماه " تلخيص الشافي " وقد طبع مرارا، واليك مختار الإمامة كما صرح به الشيخ المفيد في
(أوائل المقالات: 65): " إن الأئمة القائمين مقام الأنبياء صلوات الله عليهم في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود
وحفظ الشرائع وتأديب الأنام معصومون كعصمة الأنبياء وإنهم لا يجوز منهم صغيرة إلا ما قدمت ذكر
جوازه على الأنبياء، وإنه لا يجوز منهم سهو في شئ من الدين ولا ينسون شيئا من الأحكام، وعلى هذا
مذهب سائر الإمامية. والمعتزلة بأسرها تخالف في ذلك وتجوز من الأئمة وقوع الكبائر والردة عن
الإسلام " راجع المصادر والواردة في ذيل التعليقة السابقة.
567

من أخبر الله عنه أنه لا يختار القبيح فيعلم ذلك من حاله وسواء كانوا من البشر أو من
الملائكة لا يختلف حالهم في ذلك
وقد لا يقع من الأنبياء والمرسلين والأئمة عليهم السلام ما ينفر عن قبول
أقوالهم وان لم يكن ذلك قبيحا وأمثلته كثيرة لا يحتاج إلى ذكرها هاهنا.
وقد يجوز أن تختص
الأنبياء بأفعال شرعية دون غيرهم وكذلك يجوز في آحاد الأئمة أن يختص واحد منهم بشئ من
الشرع دون غيره.
فهذه جملة كافية في هذا الباب انشاء الله تعالى.
568

فصل [2] " في ذكر معنى التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله،
وهل يجب اتباعه عقلا أو سمعا؟ و (1) القول فيه " التأسي لا يكون الا باعتبار شيئين
أحدهما: صورة الفعل.
الثاني: الوجه الذي وقع عليه الفعل.
والذي يدل على ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم لو صلى لم يكن لنا اتباعه
والتأسي به بأن نصوم أو نحج أو نعتكف، وانما كان ذلك لمخالفة أفعالنا لفعله صلى
الله عليه وآله وسلم، وكذلك لو صلى عليه السلام على جهة الندب لم يكن من صلى
على جهة الوجوب متبعا له، وكذلك إذا صلى على جهة الوجوب لم يكن من صلى
على جهة الندب متبعا له ولا متأسيا به، وانما كان كذلك لمخالفة فعلنا لفعله في
الوجه الذي وقع عليه الفعل، وكذلك لو أخذ من انسان دراهم على جهة الزكاة لم يكن
من اخذ الدراهم منه مثلا غصبا، أو عن ثمن مبيع متبعا له، لمخالفة الوجهين على ما
قدمناه. بل متى كان فعلنا مخالفا في الوجه، كان ذلك مخالفة له كما لو خالف فعلنا
لفعله في الصورة - على ما بيناه - وقد كان يصح من جهة العقل ان يلزمنا جميع أفعاله

(1) وكيف القول فيه.
569

التي يفعلها، وان لم نراع وجوه ما يفعله، سواء فعله على جهة الوجوب أو الندب،
ويكون واجبا علينا ذلك على كل حال، لكن ذلك يحتاج إلى دليل شرعي، ولم يدل
دليل على ذلك أصلا، ولو دل الدليل عليه لما كان ذلك اتباعا له ولا تأسيا به، بل
يكون واجبا علينا القيام الدلالة على ذلك لأنه إذا فعل الفعل على جهة الوجوب أو
الندب أو الإباحة، وفعلناه على غير ذلك الوجه لا نكون متبعين له لما قلناه
فإذا ثبت ان معنى التأسي ما قلناه، وجب أن يراعى فيه حصول العلم بصورة
الفعل وبالوجه الذي حصل عليه الفعل ليصح لنا التأسي به.
والوجه الذي يقع عليه الفعل على ضربين: أحدهما: يقارن الفعل، نحو نية الوجوب أو الندب أو الإباحة، وهذا هو الذي
ينبئ عن هذا اللفظ على الحقيقة
والثاني: المعنى الذي له ان يفعله وان لم يصح أن يكون مقارنا، وذلك نحو أن
يزيل النجاسة عن ثوبه لأجل الصلاة، وانما يكون الواحد منا متبعا له بان يزيله لما له
ازاله، فأما من ازاله تنظيفا فلا يكون متبعا له، وكذلك ان توضأ لإزالة الحدث أو
الصلاة، فاتباعه له انما يكون بأن يفعل على هذا الوجه.
فاما موافقته له عليه السلام في الفعل فيطلق على وجهين.
أحدهما: أن يراد به مساواته في صورة الفعل.
والثاني: مساواته في صورته، وفي الوجه الذي وقع عليه الفعل، وهذا أظهر
في الاستعمال.
واما مخالفته: فقد يكون في القول والفعل معا: فمخالفته في الفعل: هو أن يعلم بالدليل وجوب التأسي به، فإذا لم يتأسا به
كان مخالفا له.
فاما، ذا لم يدل الدليل على ذلك فان هذه اللفظة لا تستعمل الا على ضرب من
المجاز، ولذلك لا يقال ان الحائض خالفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ترك
الصلاة.
570

فأما مخالفته في القول: هو أن يأمرنا بفعل فلا نفعله، أو نفعل خلافه فنكون
مخالفين له.
واما اتباع المأموم للامام في الصلاة، فعند أكثر الفقهاء (1) جاز على الوجه
الذي قدمناه.
ومنهم: أجاز ان يكون الامام مؤديا فرضا، والمأموم أن يكون متنفلا،
ولمن قال ذلك أن يقول:
انما قلت ذلك لدليل دل عليه، والا فالظاهر من اتباعه يقتضى خلاف ذلك.
وأيضا أن يقول: إن اتباعه لم يصح بأن يفعل (3) الفعل متقربا به أو بأن نوافق
في نية الصلاة فقط دون وجوبها أو ندبها، فليس ذلك نقضا لما قدمناه وقد.
وقد وصف من أنكر جواز التأسي به صلى الله عليه وسلم في أفعاله بأنه
مخالف، لكن هذا الخلاف يرجع إلى القول لا إلى الفعل.
واما الذي يدل على أنه لا يجب من جهة العقل التأسي به واتباعه في أفعاله
فهو ان مصالح العباد يجوز أن تختلف في الشرعيات كما ثبت في كثير من ذلك، الا
ترى ان الحائض يفارق حكمها حكم الطاهر، وحكم الغنى يفارق (4) حكم الفقير في
وجوب الحج والزكاة عليه، وكذلك يخالف حكم الصحيح حكم العليل في كيفية
أداء الصلاة، وكذلك يخالف حكم المسافر حكم الحاضر، وأمثلة ذلك أكثر من أن
تحصى.
وإذا ثبت ذلك فلا يمتنع أيضا ان تكون مصالح النبي صلى الله عليه وآله
وسلم تخصه، ويكون حالنا بخلاف حاله، بل ربما كانت مفسده لنا حتى متى فعلناها

(1) المغني لابن قدامة 2: 52 رقم 1187.
(2) المغني لابن قدامة 2: 53 رقم 1188.
(3) في النسختين: نفعل.
(4) يخالف.
571

كنا مقبحين، فإذا ثبت ذلك وجب الرجوع في مشاركتنا له في ذلك إلى السمع، فان
دل الدليل عليه حكم به، والا بقى على الأصل على ما بيناه.
ويفارق أفعاله عليه السلام في هذا الباب أقواله، لأنه بعث ليعرفنا مصالحنا،
وتعريفه لنا ذلك يكون بالقول، فلو لم نرجع إلى قوله لادى إلى خروجه من أن يكون
رسولا، وليس كذلك فعله.
ولأنه إذا أمرنا بشئ فقد اراده منا فيجب أن نفعله ان كان واجبا، وان نرغب
فيه ان كان ندبا، ولا يجب ان نفعل فعلا رأيناه يفعله لان ذلك لا يدل على أنه اراده منا.
ويدل على ذلك أيضا: ان أفعاله تخصه ولا تتعدى إلى غيره الا بدليل وأقواله
تتناول غيره، وانما يعلم أنه داخل فيها بدليل، فعلم بذلك الفرق بين القول والفعل.
فان قيل: ان هذا المذهب يوجب عليكم القول بأن تجوزوا مخالفته في أفعاله
الشرعية (1)، وتجويز ذلك يقتضى التنفير عن قبول قوله، فيجب الحكم بفساده.
قيل لهم: لا خلاف ان النبي عليه السلام لو نص لنا على أن لنا مخالفته في
أفعاله الشرعية لجاز ولم يوجب ذلك التنفير عن قبول قوله فكذلك إذا دل العقل
على ما ذكرناه يجب القول بجوازه ولم يوجب ذلك التنفير عن قبول قوله، وكذلك لو
خص بجميع أفعاله لم يوجب التنفير عن قبول قوله.
وصحة ما قلناه يبين فساد قول من قال أن أفعاله على الوجوب عقلا (2).
واما الذي يدل على وجوب التأسي به في جميع أفعاله الا ما خص به من
جهة السمع: فمما لا خلاف فيه بين الأمة في الرجوع إلى أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم
في تعرف الاحكام في الحوادث، كما أنه يرجع إلى أقواله عليه السلام في مثل ذلك،
فإذا صح ذلك فكما ان أقواله حجة يجب أن تكون أفعاله أيضا حجة، ولا خلاف في

(1) جميع أفعاله الشرعية.
(2) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 575
572

أنه إذا فعل الفعل على وجه الإباحة، وعلم من ذلك من حاله لا يجوز أن نفعله على وجه
الوجوب، ولا ان نحكم بوجوبه علينا.
وانما اختلفوا في أفعاله التي لا يعلم على أي وجه وقعت منه، هل نحكم
بوجوب مثلها علينا أم لا (1)؟، ولم يختلفوا في أن أفعاله التي هي عبادة نحو الصلاة،
والصيام، يجب التأسي به فيها واختلفوا في ما عدا ذلك:
فمنهم من يقول: لا يجب التأسي به الا بدليل يخص ذلك.
ومنهم من يقول: ان ما دل على وجوب التأسي به في بعضه يدل على التأسي
به في سائره فجميع أفعاله سواء في أنه يتأسى به، الا ما استثنى منها.
وما قدمناه يدل على صحة ذلك.
وقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (2) وقوله تعالى:
(فاتبعوه) (3) يدلان على أن التأسي به واتباعه فيما يصح اتباعه فيه من قول أو
فعل.
وما ظهر من حال الصحابة من رجوعهم إلى أفعاله صلى الله عليه وآله، نحو ما روى
عن عمر انه قبل الحجر وقال " اعلم انك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قبلك ما قبلتك (4).
ورجوعهم إلى أزواجه عليه السلام في ثبوت ما كان يفعله ليفعلوه (5) يدل، -

(1) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 575
(2) الأحزاب: 21.
(3) الانعام: 153.
(4) الحديث مما تواتر نقله عن عمر، فقد رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والدرامي،
ومالك، وأحمد بن حنبل وغيرهم من أصحاب المجاميع الحديثية كلهم في باب فضل تقبيل الحجر الأسود
من كتاب الحج والمناسك واليك نصه بلفظ البخاري: " عن عباس ابن ربيعة، عن عمر، انه جاء إلى الحجر
الأسود فقبله فقال: اني اعلم انك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
يقبلك ما قبلتك ".
(5) فيفعلوه.
573

على ذلك أيضا - ونحو ما روى عن أم سلمة انها سئلت عن القبلة للصائم فأجابت:
" ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل ذلك " (1)، فرجع السائل إليه وقال:
ان الله غفر لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر وليس سبيله
سبيل غيره، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فأنكر ذلك وقال:
" اني لأرجو أن أكون أخشاكم لله " (2)، يدل على ذلك أيضا.
واعلم أن التأسي به انما يكون فيما يعلم حكمه بفعله، فاما إذا كان قوله بيانا،
أو كان تنفيذا، أو امتثالا لقول متقدم فإنه يفعله ذلك، لان القول قد دل على وجوبه،
لا لأنه عليه السلام فعله.
ولا معنى لقول من قال: لنا ان نتأسى به في ذلك، كما انا لا نقول: انا نتأسى به
في العقليات، لان ماله يفعل ذلك وبالطريق الذي عرف به عليه السلام وجوب
الفعل، به نعرف وجوبه، فحاله كحالنا في ذلك.

(1) صحيح البخاري: كتاب الصوم - باب 23 حديث رقم 37.
(2) صحيح مسلم 2: كتاب الصيام، باب 12، ح رقم 74 ولفظه: " اما والله اني لأتقاكم لله، وأخشاكم له ".
574

فصل (3)
" في الدلالة على أن أفعاله عليه وآله السلام
كلها ليست على الوجوب " (1) ذهب مالك وأصحابه وطائفة من أصحاب الشافعي إلى أن أفعال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم كلها على الوجوب.

(1) اختلفت كلمات الأصوليين فيما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعلم على اي وجه فعله ولم
يقترن به ما يدل على أنه للبيان الشرعي نفيا أو اثباتا:
1 - وجوب التوقف في التأسي به حتى يقوم الدليل عليه: وهذا قول عامة الأشعرية، وأكثر أصحاب
الشافعي كالصيرفي، وابن السبكي، والقاضي أبي الطيب الباقلاني، والغزالي والرازي واتباعه، وأبي القاسم
بن كج وآخرون، وهو مختار أبي الدقاق.
2 - يقتضي الندب: وهذا القول منسوب للشافعي وبعض اتباعه، وهو مذهب أكثر الحنفية، وبعض
المعتزلة، والظاهرية، والقفال وإمام الحرمين الجويني، وحكي ذلك عن أبي بكر الصيرفي، والقفال الكبير،
والقاضي أبي حامد المروزي.
3 - يقتضي الوجوب: وهو مذهب مالك، ومشايخ الأحناف في العراق وسمر قند، وحكي ذلك عن ابن
سريج، وأبي سعيد الأصطرخي، والحسين بن صالح بن خيزران، وأبي علي بن أبي هريرة، وجماعة من
المعتزلة.
4 - الإباحة: وهو مذهب بعض مشايخ أحناف العراق كالكرخي، والبزدوي، والدبوسي، ونسبه الآمدي
لمذهب مالك.
5 - التفصيل: وهو ظهر قصد القربة فمندوب والا فمباح، وهو مذهب الغزالي.
6 - الحظر.
انظر " التبصرة: 242، المستصفى 2: 49، نهاية السؤال 2: 172، الاحكام للآمدي 1: 149، المنخول
225، المعتمد 1: 347، الذريعة 2: 578، اللمع: 67، ارشاد الفحول: 58، شرح المنهاج 2: 501، الاحكام
لابن حزم 4: 447، تقريب الوصول: 113، ميزان الأصول 2: 673، شرح اللمع 1: 546 ".
575

وذهب الباقون إلى انها ليست على الوجوب، واختلفوا:
فقال بعضهم انها على الإباحة.
وقال بعضهم: انها على الندب.
وقال بعضهم: انها موقوفة على الدليل.
وذهب المتكلمون، وأبو الحسن الكرخي إلى أن أفعاله عليه السلام على
اقسام.
فمنها: ما يكون لمجمل، فذلك في حكم المبين، ان كان واجبا فعلى
الوجوب، وان كان ندبا فعلى الندب، وان كان مباحا فعلى الإباحة.
ومنها: ما يكون امتثالا للخطاب، وذلك لا مدخل له في هذا الباب، لان
الخطاب إذا كان يتناوله ويتناولنا على العموم فعلينا امتثاله كما عليه ذلك.
ومنها: ما يكون فاعلا له على ما يقتضيه العقل، أو يفعله لمصالح الدنيا، وذلك
أيضا لا مدخل له في هذا الباب.
ومنها: ما يفعله من الشرعيات، فهذا يجب أن يعلم الوجه الذي عليه وقع
فعله عليه السلام فيتبع فيه بأن يفعل ذلك على الوجه، ولا يصح أن يقال في جملتها
انها على الوجوب، أو على الندب، أو على الإباحة (1).
والذي يدل على ذلك: انا قد بينا ان ذلك لا يجب من جهة العقل في الفصل
الأول (2)، وأدلة السمع خالية من ذلك، فينبغي أن ينتفى كونها على الوجوب.

(1) راجع المصادر الواردة في ذيل التعليقة السابقة.
(2) انظر بيان المصنف في صفحة 569.
576

ويدل على ذلك أيضا: ان فعله عليه السلام إذا كان يقع على وجوه كثيرة
فليس يخلوا من أن يكون على الوجوب من غير اعتبار ذلك الوجه، فالواجب أن
يحكم بوجوب الفعل علينا، وان علمنا أنه فعله على طريق الندب أو الإباحة، وهذا
باطل بالاجماع.
وان كانت على الوجوب، بأن يعتبر الوجوه التي عليها يقع، فهذا تناقض لان
اعتبار وجوهه ينفي وجوب جميعه.
ويدل على ذلك أيضا: ان بظاهر فعله لا يعلم وجوبه عليه، فبان لا يعلم وجوبه
علينا أولى، ويخالف القول في ذلك لان القول منه عليه السلام يعلم به وجوب ما
تناوله علينا دونه من حيث كان أمرا لنا ويختص بنا دونه، وليس كذلك فعله، لأنا تبع
له فيه، فإذا لم يدل على وجوبه عليه، فبأن يدل على وجوبه علينا أولى.
ويدل على ذلك أيضا: ان فعله عليه السلام لا يدوم في جميع الأحوال، بل قد
يتركه أحيانا كما يفعله أحيانا، وإذا صح ذلك فليس بأن يحكم بوجوبه لأنه فعله
بأولى من أن يحكم بوجوب تركه لأنه تركه، إذ القول فعل منه فهو بمنزلة الفعل في
ذلك، ويفارق ذلك الامر الذي ليس تركه بمنزلته فيما يختص به.
وهذا معتمد ما نستدل به في هذا الباب دون ما أكثر الناس فيه.
واما من خالف في هذا الباب (1) فليس يخلو خلافه من أن يقول إن ذلك
يجب من جهة العقل من حيث كان نبيا، أو من حيث كان في مخالفته تنفير:
فان قال بذلك: فقد بينا في الفصل انه لا يمتنع ان يخالف حالنا لحاله في
المصالح، وذلك يبطل ما قالوه.
أو يقول إن ذلك واجب لدليل سمعي دل على ذلك، فالواجب علينا أن نبين
ان ما ادعوه دليلا أو تعلقوا به ليس فيه دلالة على حال، لأنا لا ننكر أن يقوم على
وجوب ذلك دليل، لكن لم يثبت ذلك.

(1) راجع أقوالهم في المصادر الواردة في التعليقة رقم (1) صفحة 575.
577

وقد استدل القوم على ذلك بأشياء (1).
منها: قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن امره) (2).
قالوا: فحذرنا عن مخالفته، والامر يتناول الفعل كما يتناول القول، لان الله
تعالى قال: (يدبر الامر من السماء إلى الأرض) (3)، وقال: (واليه يرجع الامر
كله) (4)، وقال: (وما امر فرعون برشيد) (5)، وإذا ثبت ان الامر يتناول الفعل كما
يتناول القول، وجب أن تكون أفعاله عليه السلام على الوجوب، والا لم يجب التحذر
من مخالفتها.
والجواب عن ذلك: ان الآية لا تدل على ما قالوه من وجوه:
أحدها: ان لفظ الامر موضوع في الحقيقة للقول بدلالة ما قدمناه في أول
الكتاب في باب الأوامر (6)، وإذا صح ذلك لم تتناول الآية الفعل، وذلك يبطل التعلق
بها، وما تقدم من قوله: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) (7)
يدل على أن المراد بالآية القول دون الفعل، وانه أراد ما ندبهم إليه وأمرهم به.
ومنها: انه قيل إن الهاء في قوله (عن امره) (8) يرجع إلى أقرب المذكورين
وهو الله تعالى، وإذا ثبت ذلك فحملها على الرسول عليه السلام ورجوعها إليه حتى
يمكن الاستدلال بها لا يصح.
ولا يمكن ان يقال: انها (9) ترجع إليهما، لان الكناية عن واحد، فكيف يحمل

(1) راجع استدلال القوم على مذاهبهم في المصادر الواردة في التعليقة رقم (1) صفحة 575.
(2) النور: 63.
(3) السجدة: 5.
(4) هود: 123.
(5) هود: 97.
(6) راجع الفصل الأول من باب الأوامر صفحة 159.
(7) النور: 63.
(8) النور: 63.
(9) إنما.
578

على الاثنين؟
ومنها: ان قوله: (فليحذر الذين يخالفون عن امره) لا يمكن حمله على
العموم، ولابد من كون القول مرادا به، وإذا وجب ذلك فلا يجوز أن يراد به الفعل.
وهذا انما يعتمده من ذهب إلى أن العبارة الواحدة لا يراد بها المعنيان
المختلفان، وقد بينا ان الصحيح خلاف ذلك، فالمعتمد إذا ما قدمناه.
ويجرى مجرى ذلك أيضا ان يقال: ان التحذير من مخالفة يقتضى وجوب
الموافقة، والموافقة له عليه السلام في الفعل تقتضي ان يفعل الفعل على الوجه
الذي فعل - على ما قدمناه القول فيه - وذلك يبطل كون أفعاله كلها على والوجوب.
واستدلوا أيضا: بقوله تعالى: [فاتبعوه] (1)، فأنه أمرنا باتباعه، وأمره تعالى
على الوجوب فيجب كون اتباعه في أفعاله واجبا.
فهذا يبطل ما قدمناه من تفسير الاتباع، لأنه قد بينا ان المتبع له انما يكون متبعا
إذا فعله على الوجه الذي فعله، ومتى فعله على غير ذلك الوجه لا يكون متبعا بل
يكون مخالفا، ويجرى ذلك مجرى ان يفعل فعلا اخر، لان اختلاف الوجهين في
الفعل الواحد يجرى مجرى الفعلين (2).
وقد قال قوم في الجواب عن ذلك: ان المتبع فيه محذوف ذكره، لأنه لا يصح
اتباعه في أشياء مختلفة.
وهذا ليس بصحيح، لان لقائل أن يقول: ان الظاهر يقتضى وجوب اتباعه في
كلما يصح ان يتبع فيه.
واستدلوا أيضا بقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (3)،
وانه إذا جعله أسوة لزمنا التأسي به، سيما وقد قال في سياق الآية: (لمن كان يرجو

(1) سبأ: 20.
(2) فعلين.
(3) الأحزاب: 21.
579

الله واليوم الآخر) (1) وهذا تهديد لمن ترك التأسي به.
وهذا أيضا يسقط بما قدمناه من معنى التأسي.
وقوله: (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) (2) ليس بتهديد ولا وعيد، لان
الرجاء انما يكون في المنافع، فكأنه قال تعالى: لمن كان يرجو أثواب الله، والثواب قد يستحق بالندب كما يستحق بالواجب.
وقد قيل في الجواب عن ذلك: ان الله سبحانه لما قال: (لقد كان لكم في
رسول الله أسوة حسنة (3) ولم يقل عليكم، دل على أنه يرغبنا في ذلك، وذلك لا
يقتضى الوجوب
والأول أقوى.
واستدلوا أيضا: بقوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) والاستدلال بذلك لا يصح، لان طاعته لا تكون الا بفعل ما امر به، وليس
للفعل في ذلك مدخل، الا أن يقترن به قول يقتضى التأسي به.
واستدلوا أيضا: بقوله تعالى (وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا) (5).
والتعلق بذلك أيضا لا يصح، لان معنى قوله: (وما اتيكم) ما أعطاكم
وادى إليكم، وذلك لا يصح الا في القول الذي نسمعه منه ونمتثله لان سمعنا له
وحفظنا إياه وامتثالنا له يجرى مجرى ما تناولنا منه.
واستدلوا باخبار رووها في هذا الباب كلها اخبار آحاد لا يصح الاعتماد عليها
في هذا الباب، وما قلناه في تأويل الآيات قد نبه على طريق القول فيها، نحو ما روى

(1) الأحزاب: 21.
(2) الأحزاب: 21.
(3) الأحزاب: 21.
(4) النساء: 59.
(5) الحشر: 7.
580

عنه عليه السلام انه خلع نعله في الصلاة فخلعوا نعالهم (1) وما شاكله (2)، لان ذلك
انما يدل على أن ما فعلوه حسن يجوز فعله، ولا يدل على أنه واجب لا يجوز خلافه.
واستدل بعضهم على ذلك بأن قال: ان الفعل اكد من القول، لأنه كان عليه
السلام إذا أراد تحقيق امر فعل ذلك ليقتدى به، كذلك فعل في غير شئ من
المناسك، والوضوء والصلاة، وغيرها، فبان يكون الفعل على الوجوب أولى
وهذا يبطل بما قدمناه لان القول يقتضى انه قد أراد منا ما يقتضيه والفعل
بخلافه، وانما يكون فعلا تحقيقا للامر إذا وقع عقيبه فيقع موقع التأكيد، وأما إذا كان
مبتداء فلا يصح ذلك فيه
واستدل بعضهم بان قال: ان الوجوب أعلى مراتب الفعل، فإذا عدمنا الدليل،
على أي حال فعله وعلى أي وجه أوقعه لزمنا التأسي به فيه فيجب أن نتبعه على
الوجه الذي هو أعلا مراتبه.
وهذا كلام ليس تحته فائدة، لان كون الوجوب على ما قاله لا يقتضى ان
حالنا كحاله، ولا ان ما فعله واجب علينا، فما في ذلك مما يتعلق به.
واما من قال: ان فعله على الندب أو الإباحة، فقوله يبطل بمثل ما أبطلنا به
قول من قال إنه على الوجوب سواء، فلا فائدة ليزداد القول فيه.
وهذه جملة كافية في هذا الباب، والله الموفق للصواب.

(1) الحديث أخرجه أحمد بن حنبل، وأبو داود، والحاكم النيسابوري، وابن حبان، والبيهقي (في سننه 2: 432)
في باب " المصلى إذا خلع نعليه " من كتاب الصلاة، ولفظ الحديث عندهم: " روى أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم خلع نعله في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، ثم قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا ".
(2) أنظر استشهادهم بأخبار الآحاد في هذا الباب في المصادر الواردة في ذيل التعليقة رقم (1) صفحة 575.
581

فصل (4) "
في ذكر الوجوه التي تقع عليها أفعاله
عليه السلام، وبيان الطريق إلى معرفة ذلك "
أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ثلاثة اقسام: فعل، وترك (1)، واقرار
للفاعل على فعله، وهي أجمع على ثلاثة اقسام: واجب، وندب، ومباح.
فما هو له فعل له عليه السلام ينقسم ثلاثة اقسام:
إلى بيان لما هو بيان له، والى امتثال الخطاب والى ابتداء.
فما هو بيان لمبين على ضروب.
منها بيان المجمل.
ومنها تخصيص العموم.
ومنها النسخ.
وينقسم قسمة أخرى.
منها: ما هو قضاء على الغير.
ومنها: ما هو متعلق بالغير.
ومنها: ما لا تعلق له بأحد.

(1) وقول.
582

وليس يخرج عن هذه الأقسام شئ من أفعاله الشرعية.
فاما ما لا تعلق له بالشرع فلا طائل في ذكره.
ونحن نبين الطريق إلى معرفة كل واحد من هذه الأقسام، لان معرفة طرقها
تختلف.
اما الذي به يعلم أن فعله بيان: فهو ان يعلم أن فعله تقدمه ما يحتاج إلى بيان،
ويعدم هناك قول يمكن أن يكون بيانا له، فيعلم حينئذ ان الذي يمكن أن يبين ذلك
به بيان، والا أدى إلى عدم البيان مع الحاجة إليه.
ومنها: أن يعلم ثبوت ما يحتاج إلى بيان، ونبه على أن ما فعله بيان له بقول أو
غيره.
وقد يعلم أن فعله تخصيص العموم، بأن يقتضى رفع ما يقتضيه العام، وقد
تقدم القول في ذلك.
وكذلك قد مضى القول فيما يكون من فعله نسخا في موضعه، ويعلم ان فعله
بيان على جهة الإباحة أو الندب أو الوجوب بحسب ما يحصل لنا من العلم بالمبين
لأنا بينا ان بيان الشئ في حكمه، وقد مضى القول فيه.
واما (1) ما به يعلم أن فعله امتثال: فهو أن يتقدم علمنا بخطاب يقتضى
وجوب ذلك الفعل عليه على (2) الحد الذي فعله، فيعلم به انه امتثال للآية، وكذلك
القول إذا اقتضى الندب أو الإباحة.
وأما ما يعلم به ان فعله ابتداء شرع: فهو أن يعلم عدم هذين الوجهين، وانه ليس هناك قول يقتضى ما اقتضاه ذلك الفعل.
واما ما يعلم به فعله من تركه، والفضل بينهما، وبين اقراره غيره على الفعل،
فالذي يجب أن يعلم في ذلك حكم تركه واقراره لان ما عداه لا اشكال فيه.

(1) فأما.
(2) وعلى الحد.
583

اما تركه لما يتركه، فقد يكون تركا لأمر يخصه، وليس لذلك مدخل في هذا
الباب. وقد يكون تركا لفعل يقتضى بعض الخطاب وجوبه، فذلك تخصيص له.
وإذا ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع يد سارق أقل من ربع دينار مع أنه
لا وجه يقتضى لاسقاط قطعه، علم بذلك أن القدر الذي سرق لا يستحق به القطع.
فاما إذا جوزنا أن يكون ماله ترك قطعه امر آخر، فلا يدل على ذلك.
ولو ترك عليه السلام الفعل في وقت اقتضى القرآن وجوبه فيه، لعد ذلك
نسخا أو تخصيصا.
وإذا ترك عليه السلام عند قيامه إلى الثانية الرجوع إلى القعود، دل على أنه
ليس من أركان الصلاة.
واما تركه
الصلاة في وقت لعذر، فليس يدل على سقوطه، بل يجوز أن يؤخر
إلى وقت اخر.
واما اقراره الغير على فعل: فإنه ان كان لم يتقدم منه بيان قبحه، فان اقراره يدل على حسنه، لأنه لو لم يكن
حسنا لبينه قبل فعله فضلا عن ذلك في حال فعله.
وان كان قد تقدم بيان قبحه نظر فيه:
فان كان قد علم من حاله انه يظن أنه إذا أنكر ترك المنكر عليه فعله فلم ينكره،
دل على حسنه.
وان لم يعلم ذلك من حاله نظر، فان كان قبح ذلك مستفادا بالشرع لا بالعقل،
فإذا لم ينكره ولم يحصل ما يجرى مجرى الانكار دل على حسنه، لأنه إذا كان قبيحا
ويعلم قبحه من جهته فاقر عليه، أوهم انه منسوخ، فادى تركه النكير لذلك إلى التنقير
عن القبول منه، فعلى هذا يجب أن يجرى اقراره.
واما الطريق الذي يعلم به ان فعله مباح، فوجوه:
: منها انه لو كان قبيحا لما فعله، فيعلم بذلك انه حسن، فإذا عدمنا الدليل على
وجوبه أو كونه ندبا علمنا أنه مباح.
584

ومنها: أن يعلم قبوله انه مباح بأن ينص عليه.
ومنها: أن يكون فعله بيان لجملة تقتضي فعلا مباحا.
واما الطريق الذي به يعرف (1) كون فعله ندبا فبان يعلم أن ما فعله قربة شرعية،
ويعلم ذلك بوجوه: منها: أن يكون بيانا للندب.
ومنها: أن يكون ما يفعله عليه السلام تارة في وقت مخصوص، ويتركه أخرى
بلا عذر.
ومنها: أن يعلم أنه قصد إلى فعله في الصلاة مرة ولم يفعله أخرى مع جواز
الصلاة. ومنها: أن يعلم أنه قد مدح عليه ولم يذم على تركه ولم ينكر ذلك.
فاما به يعلم أن فعله وقع على جهة الوجوب فأشياء:
منها: أن يكون بيانا لواجب.
ومنها: أن يكون مما لو لم يكن واجبا لما جاز أن يفعله، نحو أن يركع في الصلاة ركوعين على سبيل القصد
ومنها: ان يفعله على وجه قد صار امارة للوجوب، نحو أن يؤذن للصلاة،
ويأخذ من مال غيره بعد العد والاحصاء.
فبهذه الوجوه وما شاكلها يعلم حال فعله عليه السلام.
واما ما هو قضاء على الغير، فالحال في أنه قضاء على الغير ظاهر ويكون على
وجوه، لكن جميعها سواء في أن قضاه يلزم المقتضى عليه، هذا إذا كان حكما.
وأما إذا كان جوابا لسؤال، فقد سوغ ويجب أن يحكم فيه بوجوب أو غيره
بحسب الدلالة.
واما ما يتعلق بالغير من فعله، فنحو مدحه، وذمه، وعقابه.

(1) يعلم.
585

أما المدح، فإنه يدل على أن الممدوح عليه ندب.
واما الذم: فإنه يدل على أن الفعل الذي ذمه عليه قبيح، فان ذمه لأنه لم يفعل
الفعل، أو تركه دل على وجوبه. واما عقابه الغير على بعض الأفعال: فإنه يدل على قبحه، ويدل مع ذلك على أنه
كبيرة عند من قال بالصغائر (1).
فينبغي أن يجرى مجرى أفعاله عليه السلام على هذه الوجوه، ويتبع فيها على
الوجه الذي عليه يقع، وبالله التوفيق

(1) انظر التعليقة رقم (4) صفحة 618.
586

فصل (5) " في ذكر أفعاله إذا اختلف، هل يصح فيها التعارض أم لا؟ "
لا يصح التعارض في أفعاله عليه السلام لان التعارض انما يقع في فعلين
ضدين، أو فعل الشئ وتركه، ونحن نعلم أنه لا يقع منه عليه السلام الفعلان الضدان،
ولا الفعل وتركه في حال واحدة، وانما يقع منه الفعل في حال وضده في حال أخرى،
وما يقع منه في حالين وان تضادا فإنه يمكن التأسي به فيهما، كما يمكن امتثال الأمر والنهي
إذا تضمنا فعلين في حالين، وما هذه حاله لا يصح التعارض فيه، فصار فعله
في هذا الباب مخالفا لقوله، ولهذا لا يصح نسخ فعله في الحقيقة، وذلك أن فعله
الأول لا ينتظم الأوقات حتى يكون فعله الثاني رافعا ما لولا رفعه له لتناوله الأول على
ما بيناه من نسخ القول، لكن الامر وان كان كذلك فان الفعل الأول إذا علم أنه قد أريد
به إدامته في المستقبل صح كون ما بعده ناسخا له، وذلك أن الفعل إذا وقع بهذا
الموقع جرى مجرى قول يتناول ايجاب الفعل في الأوقات المستقبلة، فكما يصح
النسخ بقول هذا حاله فكذلك يصح نسخ الفعل إذا كانت هذه صفته، وقد بينا ان
النسخ قد يدخل في غير القول من أدلة الشرع، كما يدخل في القول، فإنه يخالف
التخصيص الذي من حقه ان يتناول الفعل إلى غاية فقط.
وليس لاحد أن يعترض ما قدمناه من نسخ الفعل بالفعل بان يقول: كيف يصح
نسخ الافعال وليست بأفعال؟
587

لان ما بيناه قد أسقط ذلك. فاما تخصيص الفعل بالفعل: فلا يصح لان الفعل لا يتناول أشياء يخص منها
بعضها.
فاما من جهة المعنى: فان التخصيص في الفعل انما يكون بان يعلم أن المراد
بالفعل الأول جميع المكلفين وذلك الفعل واجب، فإذا رأيناه قد أقر بعضهم على
تركه أو مدحه عليه، علم أنه مخصوص من جملتهم، وسواء كان المدح والاقرار منه
عقيب الفعل الأول أو بعده بزمان متراخ على ما جوزناه من تأخير البيان عن وقت
الخطاب.
فاما من أبي ذلك، فإنه لا يجوز ذلك الا إذا كان عقيب الفعل الأول على بعد
ذلك عنده.
واما تخصيصه عليه السلام نفسه: فإنه لا يصح لان التخصيص يدل على أن
المخصوص من الجملة لم يرد، وفعله عليه السلام قد أنبأ على أنه مراد، فيستحيل
تخصيصه نفسه في الحال من هذا الوجه، فاما في المستقبل فإنه لا يمتنع ذلك فيه. واما القول في فعله وأمره إذا تضادا وتعارضا، فإنه يجب أن ينظر فيهما:
فان كان القول متقدما، وقد مضى الوقت الذي يجب فعله فيه، ثم فعل عليه
السلام ما يعارض ذلك فهو نسخ، وذلك نحو تركه قتل شارب الخمر في المرة الرابعة
بعد قوله: " فان شربها الرابعة فاقتلوه " (1) على ما يرويه مخالفونا، وانما ذكرناه مثلا لو
ثبت.
فان فعل ذلك قبل مجيئ الوقت الذي تعبدنا بالفعل فيه، فلا يصح أن يكون
نسخا، بل يجب حمله على أنه مخصوص، لان النسخ قبل الوقت لا يجوز.
فاما إذا تقدم الفعل ثم وجد القول يقتضى رفع ما اقتضاه الفعل، فذلك نسخ لا محالة، لأنه متأخر عن حال استقرار الفرض.

(1) كنز العمال: 495 رقم 13723.
588

فإذا لم نعلم المتقدم من المتأخر، وكان قوله يقتضى وجوب الفعل أو حظره،
وكان فعله يقتضى خلاف ذلك، فالأخذ بالقول أولى، لأن فعله لا يتعداه الا بدليل،
ومن حق قوله ان يتعداه، ولا يصح أن يكون مقصورا عليه، فإذا صح ذلك واجتمعا
فالواجب أن يتمسك بقوله ويحمل فعله على أنه مخصوص به، لان قوله لا يصح
قصره عليه، ويصح قصر فعله عليه، فإذا اجتمعا فبان يتمسك بالقول الذي من حقه
ان يتناولنا أولى من الفعل، سيما وقد أثبت ان أقواله على الوجوب، وان أفعاله
موقوفة على الدلالة، وكل ذلك يوجب ترجيح قوله عليه السلام على فعله.
589

فصل [6]
" في أنه عليه السلام هل كان متعبدا بشريعة
من كان قبله من الأنبياء أم لا؟ "
عندنا ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدا بشريعة من تقدمه من
الأنبياء، لا قبل النبوة ولا بعدها، وان جميع ما تعبد به كان شرعا له.
ويقول أصحابنا: انه عليه السلام قبل البعثة كان يوحى إليه بأشياء تخصه، وكان يعمل بالوحي لا اتباعا لشريعة قبله.
واما لفقهاء فقد اختلفوا في ذلك والمتكلمون (1):
فالذي ذهب إليه أكثر المتكلمين من أهل العدل، وهو مذهب أبي علي وأبي
هاشم انه لم يكن متعبدا بشريعة من تقدمه، وان جميع ما تعبد به كان شرعا له دون
من تقدمه، وحكى أبو عبد الله عن أبي الحسن (2) انه ربما نص هذا وربما نص خلافه.
وفي العلماء من قال: انه كان متعبدا بشريعة من تقدمه، واختلفوا:

(1) لاحظ أقوالهم ومذاهبهم واستدلالهم في المصادر التالية: " المعتمد " 2: 336، الذريعة 2: 599،
المستصفى 1: 246، ميزان الأصول 2: 686، المنخول: 231، الأحكام للآمدي 4: 376، شرح المنهاج 2:
516 الأحكام لابن حزم 5: 149، أصول الدين للجرجاني: 266 ".
(2) أي أبو عبد الله البصري عن أبي الحسن الكرخي.
590

فمنهم من قال: تعبد بشريعة إبراهيم عليه السلام.
ومنهم من قال: تعبد بشريعة موسى عليه السلام.
واختلف المتكلون في أنه عليه السلام قبل البعثة هل كان متعبدا بشئ من
الشرايع أم لا (1)؟
فمنهم: من [قطع على أنه كان متعبدا بشريعة بعض من تقدمه من الأنبياء. ومنهم: من] (2) قطع على خلافه.
ومنهم: من توقف في ذلك وجوز كلا الامرين.
والذي يدل على ما ذهبنا إليه: اجماع الفرقة المحقة، لأنه لا اختلاف بينهم في
ذلك، واجماعها حجة على ما سندل (3) عليه إن شاء الله.
ويدل على ذلك أيضا: ما ثبت بالاجماع من أنه عليه السلام أفضل من سائر
الأنبياء، ولا يجوز أن يؤمر الفاضل باتباع المفضول على ما دللنا عليه في غير موضع.
فان قيل: فمن أين يعلم أنه كان قبل النبوة أفضل من ساير الأنبياء؟
قيل: لم يخص أحد تفضيله على ساير الأنبياء بوقت دون وقت، فيجب أن
يكون أفضل في جميع الأوقات،
ويدل على ذلك أيضا: انه لو كان متعبدا بشريعة من تقدمه فإنما يكون شرعا لذلك
المتقدم، ويكون في حكم المؤدى عنه، فكان (4) يجب أن لا يضاف جميع الشرع إليه،
كما لا يضاف الشرع إلى من يؤدى عنه عليه السلام لما كان مؤديا عنه عليه السلام،
وفي علمنا بإضافة جميع الشرع إليه دليل على أنه لم يكن متعبدا بشرع من تقدمه.
ويدل على ذلك أيضا: انه لو كان متعبدا بشرع من تقدم لم يخل من أن يكون

(1) انظر المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 590.
(2) زيادة من النسخة الثانية.
(3) نستدل.
(4) في الأصل: وكان.
591

متعبدا بشريعة موسى أو عيسى عليه السلام، لان شريعة من قبلهما مندرسة،
وهي مع ذلك منسوخة بشريعتها.
فان قالوا: كان (1) متعبدا بشريعة موسى عليه السلام.
فان ذلك فاسد من حيث كانت شريعته منسوخة بشريعة عيسى عليه السلام.
وان قالوا: كان متعبدا بشريعة عيسى عليه السلام كان فاسدا (2) من وجهين:
أحدهما: ان شريعته قد انقطعت واندرس نقلها ولم تتصل كاتصال نقل
المعجزة الذي تقتضي ما هي عليه
نقلها وإذا لم يتصل لم يصح ان تعلم، وفي ذلك
اخراج له من أين يكون متعبدا بها.
والثاني: ان القول بذلك يبطل ما يعتمدون عليه من رجوعه عليه السلام إلى
التوراة في رجم اليهوديين (3)، لأنه كان يجب أن يرجع إلى الإنجيل دونها.
ويدل على صحة ما قلناه: ان الذي يخالف في ذلك لا يخلو قوله من أنه تعبد
بشريعة موسى عليه السلام بأن دعاه موسى إلى شريعته ما لم ينسخ
والحجة قائمة عليه بذلك، أو يقول إنه تعبد بشريعة موسى عليه السلام بأن امر
بالتمسك بها أمرا مبتدأ، وان كان يحتاج أن يرجع إليهم في تعرف ما يتمسك به من
شريعته، أو يقول أنه تعبد بشريعته بان امر بأشياء قد كانت شريعة له وان علمها هو
من جهة الله تعالى.
فان ذهبوا إلى ما قلنا أولا، فليس يخلو من أن يقول: انه عليه السلام كان يمكنه
أن يعرف شريعتهم من غير جهة الله تعالى، بل بالرجوع إليهم في تعرف ذلك، أو يقول ما كان يصح له ذلك وانما كان يعرف ذلك من قبل الله تعالى.
فان قالوا بالأول: فهو خلاف في المعنى، والذي يبطل قوله أشياء:

(1) زيادة من النسخة الثانية.
(2) فسد ذلك.
(3) المعتمد 2: 341، الذريعة 2: 603، الاحكام للآمدي 4: 380.
592

منها: ما استدل به أبو علي وأبو هاشم من أنه عليه السلام لو كان متعبدا بشريعة
من قبله لكان لا يتوقف في قصة الظهار (1)، وقصة الميراث (2)، وقصة الإفك (3)، على
نزول الوحي عليه، لان هذه الحوادث معلوم ان لها أحكاما في التوراة ظاهرة فيما
بينهم، فلو كان متعبدا بذلك لرجع إلى التوراة وبحث - بزعمهم - عن الرجم، ولكان
توقفه على الوحي يجرى مجرى توقفه في شئ قد بين له على الوحي، وفي فساد
ذلك دليل على أنه لم يكن متعبدا الا بما ينزله الله تعالى عليه. وكان يجب أيضا أن
يرجع الصحابة في معرفة الاحكام إلى التوراة وأهلها كرجوعهم إلى القران، وفي
تركهم ذلك دليل على أنهم لم يتعبدوا بذلك ولا النبي عليه السلام.
ومنها: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صوب معاذا في قوله: " اجتهد
رائى " (4) عند عدم الكتاب والسنة، فلو كان متعبدا بشريعتهم لعده في جملة ذلك،
ولنبه معاذا على خطئه بترك ذلك.
وان أراد القسم الأخير: فليس في ذلك خلاف، ولا يوجب ذلك أن يكون
متعبدا بشرع من تقدم، لان الامر بمثل شريعتهم إذا ورد عن الله تعالى وبين المأمور
به فذلك تعبد من الله تعالى ابتداء، وليس يجب إذا امر بفعل تعبد به موسى عليه
السلام ان يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم متعبدا بشريعته، لأنه لا فضل بين أن
يتعبده بذلك الفعل بأن يذكره ويبين صفته، وبين أن يلزمه ويضيقه إلى موسى عليه
السلام، لان في الحالين جميعا هو تعالى المتعبد به.
واما من قال: انه عليه السلام كان متعبدا بشريعة موسى عليه السلام، وقال

(1) انظر: تفسير الطبري 28: 4.
(2) انظر: ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل: 7.
(3) انظر: تفسير الطبري 18: 71.
(4) سنن الدارمي 1: 70، عون المعبود 3: 330،
(5) راجع المصادر الواردة في ذيل هامش رقم (1) صفحة 575.
593

لأنه لا يصح أن يعرف الشريعة من جهته (1)، فقد ناقض، لان التعبد بشريعة يقتضى
صحة العلم بها من جهته
فاما (2) من قال: انه تعبد بأشياء من شريعته بأمر مبتدأ وامر ثان يرجع في
معرفة ذلك إليهم.
فالذي يدل على بطلان قوله: ما قدمناه من الأدلة، وان كان هذا الوجه لا
يقتضى كونه متعبدا بشريعتهم إذا امر بذلك أمرا مبتدأ، لو صح ما ادعوه، فكيف
وذلك لا يصح!
واعلم أنه لولا ما قدمناه من الدليل على كونه أفضل الأنبياء، ما كان يمتنع
عقلا أن يتعبد يتعبد بمثل شريعتهم، لان المصالح تختلف وتتفق وكلا الامرين يجوز فيها،
فلا يمتنع ان يعلم الله تعالى ان صلاح النبي الثاني وصلاح أمته بخلاف شريعة الأول
فيتعبده به، وعلى هذا جرت سنة الله تعالى في أكثر الأنبياء. ولا يمتنع أيضا ان يعلم
أن صلاح الثاني وأمته في مثل شريعة الأول فيتعبده بها.
وليس لاحد أن يقول: ذلك لا يجوز، لأنه لو كان كذلك لم يكن في بعثة
النبي الثاني واظهار المعجزة عليه فائدة، لان شريعته معلومة من جهة غيره.
وذلك إنا إنما نجوز بعثة النبي الثاني بشريعة النبي الأول إذا كانت تلك الشريعة
قد اندرست وصارت بحيث لا يعلم الا من جهة النبي الثاني، أو بأن يكون النبي
الأول مبعوثا إلى قوم بأعيانهم ويبعث الثاني إلى غيرهم، أو أن يراد في شريعة الثاني
زيادة لا تعلم الا من جهته. فبهذه الوجوه تخرج بعثته من أن تكون عبثا.
فان قيل: كيف يجري (3) هذا التقدير على ما تعتقدون أنتم من أن كل شرع لابد

(1) جهة.
(2) وأما.
(3) يجوز.
594

له من حافظ معصوم لا يجوز عليه الغلط؟ وإذا كان لابد من ذلك على مذهبكم فمتى
اندرست الشريعة أمكن الرجوع إليه فيها فلا يحتاج إلى نبي اخر.
قيل له: نحن انما نوجب حافظا للشرع معصوما إذا علمنا ارتفاع الوحي وانقطاع
النبوة، ونحن نعلم أن التواتر لا يمكن حفظ الشرع به، لأنه يجوز أن يصير آحادا، فإذا
لابد لها من حافظ معصوم، وليس كذلك في الشرائع المتقدمة لأنه لا يمتنع أن تكون
تلك الشرائع محفوظة بالتواتر، فمتى فرضنا انها صارت آحادا وبحيث لا ينقطع عذر
المكلفين بنقلها بعث الله تعالى نبيا اخر يبينها ويستدركها، هذا إذا فرضنا بقاء
التكليف بالشريعة الأولة على من يجيئ فيما بعد.
فاما إذا فرضنا انه يجوز أن يكون التكليف للشريعة الأولى إذا صارت آحادا
قد ارتفع ووجب التمسك بما في العقل، فان ذلك لا يجب أيضا معه أن يكون لها
حافظ ولا بعث (1) نبي اخر، وكان يجوز أيضا ان يتعبد باخبار الآحاد إذا صارت
الشريعة إلى حد لا ينقل الا من جهة الخبر الواحد، وكل ذلك مفقود في شريعتنا، لان
الوحي قد ارتفع، والرسالة قد انقطعت، والتكليف باق إلى يوم القيمة، والعمل بخبر
الواحد غير صحيح على ما بيناه فيما مضى، فلو لم يكن لها معصوم، والتواتر يجوز
أن يصير آحادا، كان ذلك يؤدى إلى أن الشرع غير محفوظ أصلا، وذلك لا يجوز.
واستدل من خالفنا على صحة قوله بأشياء (2).
منها: انه لو لم يكن متعبدا بشريعة من تقدم لم يذكى قبل بعثته، ولا يأكل
اللحم المذكى، ولا كان يحج ويعتمر، ولا كان يركب البهايم ويحمل عليها، لان جميع
ذلك يحسن سمعا، وفي علمنا بأنه كان يفعل ذلك دليل على صحة ما قلناه.
وهذا لا يلزمنا على ما قررنا من مذهبنا في هذا الباب (3)، لأنا قلنا: انه قبل بعثته

(1) بعثه.
(2) لاحظ استدلال المخالفين ودفاعهم عن أقواهم في المصادر التالية: " المعتمد 2: 337، الذريعة 2: 259،
المستصفى 1: 246، ميزان الأصول 2: 694، الاحكام للآمدي 4: 337، شرح المنهاج 2: 516 ".
(3) انظر كلام المصنف في بداية هذا الفصل في صفحة 591.
595

كان موحى (1) إليه بما يخصه، فلأجل ذلك كان يفعل ما يفعله من الأشياء التي
ذكروها ان صح منه فعلها
. واما من وافقنا في هذا المذهب وخالفنا في هذه الطريقة فإنه يقول: ان تذكية
البهائم، وفعله الحج والعمرة لو ثبت لدل، لكن ذلك لم يثبت، وما يروى من ذلك
فإنما طريقة اخبار الآحاد لا يعول عليها في هذا الباب.
واما اكله اللحم المذكى فحسن في العقل، وليس فيه دليل على ما قاله السائل،
لأنه بمنزلة اكل سائر المباحات، ولم يثبت عنه عليه السلام انه كان يأمر بالتذكية ليأكل
اللحم فيسوغ التعلق به.
واما ركوب البهيمة والحمل عليها: فذلك بحسن عند كثير منهم لما لها في
ذلك من المنافع التي يوصل إليها من العلف وغير ذلك، ويخالف الذبح لان الذبح
يقطعها عن المنافع.
وتعلقوا أيضا: برجوعه عليه وآله السلام إلى التوراة في رجم اليهوديين. (2)
وذلك لا يصح، لان ذلك من اخبار الآحاد التي لا تعتمد في هذا الباب، فلو كان
كذلك لرجع إلى التوراة في سائر الأحكام، ولما كان ينتظر الوحي ما بيناه، وفي
تركه الرجوع إليها دليل على أنه لم يرجع إليها في الرجم ان صح مما قالوه، فسقط
بذلك ما تعلقوا به.
وقد قيل في الجواب عن ذلك: انه انما رجع إليهم لأنه كان قد أخبر ان في
التوراة رجم الزاني، فأراد أن يتحقق صدقه ليدلهم على نبوته بالرجوع إليهم، لا انه
رجع إليهم ليعرف ثبوت الرجم من جهتهم.
قالوا: ولو كان رجوعه إليهم لما قالوه لرجع في غيره أيضا! ولوجب أن يتعرف
هل الرجم في التوراة على كل زان أو هو على محصن فقط؟ ولوجب أن لا يقبل قول

(1) يوحى.
(22) انظر " المعتمد 2: 341، الذريعة: 603، الاحكام للآمدي 4: 380 ".
596

اليهود الذين رجع إليهم لان يقول مثلهم، [و] لا يقع العلم ولا هم على صفة يقبل
قولهم في الديانات، ولما مدحهم في أن ذلك في التوراة، لأنه قد ظهر تحريفهم لكثير
منها، فدل جميع ذلك على بطلان تعلقهم به.
وتعلقوا أيضا: بقوله تعالى [واتبع ملة إبراهيم حنيفا] (1) وبقوله: [فبهداهم اقتده] (2) وبقوله: [انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها
النبيون] (3) وهو عليه السلام من جملتهم، وذلك يقتضى صحة ما قالوه.
قيل له: اما الملة التي أمرنا باتباعها فهو دين إبراهيم عليه السلام، لأن الملة هي
" الدين " لان المراد بذلك التوحيد والعدل، بين ذلك قوله: [ومن يرغب عن ملة
إبراهيم الا من سفه نفسه] (4) وقد علمنا أن الملة التي يستحق الراغب عنها هذا
الوصف هي العقليات.
واما قوله تعالى: [فبهديهم اقتده] (5) فإنه أراد بذلك أدلتهم التي تدل على
العقليات، لان ذلك هو الذي يضاف إليهم. فاما الشريعة فقوله هو الدليل فيها،
فالإضافة لا تصح فيها.
واما قوله تعالى: [فيها هدى ونور يحكم بها النبيون] (6): فالمراد به ما
قدمناه، يدل على ذلك قوله تعالى: [يحكم بها النبيون] فظاهر ذلك يقتضى ان كل
من كان قبل موسى عليه السلام قد حكم بذلك، ولا يصح مع ذلك حمله على
الشرعيات. فهذه جملة كافية في هذا الباب.

(1) النساء: 125.
(2) الانعام: 90.
(3) المائدة: 44.
(4) البقرة: 130.
(5) الانعام: 90.
(6) المائدة: 44.
597

الباب التاسع
الكلام
في الاجماع
599

الباب التاسع الكلام
في الاجماع
فصل [1]
" في ذكر اختلاف الناس في الاجماع هل هو دليل أم لا؟ " ذهب المتكلمون بأجمعهم، والفقهاء بأسرهم على اختلاف مذاهبهم " (1) إلى أن
الاجماع حجة.
وحكى عن النظام، وجعفر بن حرب (2)، وجعفر بن مبشر (3) انهم قالوا:

(1) أنظر: " الرسالة للشافعي: 476 - 471، الذريعة 2: 604، التذكرة: 45، أوائل المقالات: 121، التبصرة:
348، الابهاج 2، 391، منتهى السؤول 1: 50، المستصفى 1: 173، المنخول: 303، أصول السرخسي 1:
295، المعتمد 2: 3 و 4، اللمع: 85، شرح اللمع 2: 665، إرشاد الفحول: 134، ميزان الأصول 2: 717، شرح
المنهاج 2: 581 الاحكام لابن حزم 4: 525، روضة الناظر: 116، تقريب الأصول: 127، الاحكام
للآمدي 1: 170 ".
(2) هو أبو الفضل جعفر بن حرب الهمداني، من كبار المتكلمين وأئمة الاعتزال، عد في الطبقة السابعة من
أعلامهم، أخذ الكلام عن أبي الهذيل العلاف بالبصرة، كان جدليا ومناظرا قديرا، له مصنفات عديدة منها
" الايضاح " و " نصيحة العامة " و " المسترشد " والمتعلم أصول الخمس " ولد سنة 177 ه‍ وتوفى سنة
236 ه‍.
(3) هو أبو محمد جعفر بن مبشر بن أحمد الثقفي، متكلم ومن كبار مدرسة الاعتزال، وعد في الطبقة السابعة
من اعلامهم، كان إلى جانب علمه وفضله، ورعا، زاهدا مجانبا لأبواب السلاطين والامراء. توفى ببغداد
سنة 234 ه‍.
601

الإجماع ليس بحجة (1).
واختلف من قال حجة: فمنهم من قال: انه حجة من جهة العقل وهم الشذاذ (1).
وذهب الجمهور الأعظم والسواد الأكثر إلى أن طريق كونه حجة السمع دون
العقل (1) ثم، اختلفوا:
فذهب داود (2)، وكثير من أصحاب الظاهر إلى أن اجماع الصحابة هو الحجة
دون غيرهم من أهل الاعصار (1).
وذهب مالك ومن تابعه (1) إلى أن الاجماع المراعى هو اجماع أهل المدينة
دون غيرهم، غير أنه حجة في كل عصر.
وذهب الباقون (1) إلى أن الاجماع حجة في كل عصر، ولا يختص ذلك بعصر
الصحابة ولا باجماع أهل المدينة.
والذي نذهب إليه: ان الأمة لا يجوز أن تجتمع على خطأ، وان ما يجمع عليه لا
يكون الا حجة، لان عندنا انه لا يخلو عصر من الاعصار من امام معصوم حافظ
للشرع، يكون قوله حجة يجب الرجوع إليه، كما يجب الرجوع إلى قول الرسول
عليه السلام، وقد دللنا على ذلك في كتابنا " تلخيص الشافي " (3) واستوفينا كلما يسأل
عن ذلك من الأسئلة، وإذا ثبت ذلك، فمتى أجمعت الأمة على قول فلابد من كونها
حجة لدخول الامام المعصوم في جملتها.
ومتى قيل: جوزوا أن يكون الامام منفردا عن اجماعهم
.

(1) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 601
(2) هو داود بن علي بن خلف الأصفهاني الظاهري، ينسب إليه المذهب الظاهري وسمي بذلك لجموده على
ظواهر الكتاب والسنة، وقد عظم أمره وأمر مذهبه فيما بعد حيث تبعه جماعة كبيرة من المتفقهة القشريين
وانتشرت آراؤه في بعض الحواضر الإسلامية وخاصة في الأندلس. ولد بالكوفة سنة 201 ه‍ وتوفي ببغداد
سنة 270 ه‍ له تصانيف كثيرة.
(3) تلخيص الشافي 1: 102 - 59.
602

قلنا: متى فرضنا انفراد الامام عن الاجماع فان ذلك لا يكون اجماعا، بل لو
انفرد واحد من العلماء عند من خالفنا من الاجماع أخل ذلك باجماعهم. فان قيل: إذا كان المراعى في باب الحجة قول الإمام المعصوم فلا فائدة
معلومة وهي انه قد لا يتعين لنا قول الإمام في كثير من الأوقات فيحتاج حينئذ إلى
اعتبار الاجماع ليعلم باجماعهم ان قول المعصوم عليه السلام داخل فيهم، ولو تعين
لنا قول المعصوم الذي هو الحجة لقطعنا على أن قوله هو الحجة، ولم نعتبر سواه
على حال من الأحوال. ومتى فرضنا ان الزمان يخلو من معصوم حافظ للشرع لم يكن
الاجماع حجة على وجه من الوجوه.
والذي يدل على ذلك: انه لا دليل على كونهم حجة لا من جهة العقل ولا من
جهة الشرع، وإذا لم يكن دليل وجب القطع على نفى كونه حجة، لفقد ما يدل عليه.
ونحن نتبع ما يعتمده الخصوم في هذا الباب من جهة العقل والشرع معا، ونبين
انه لا دلالة في شئ من ذلك اعتمد من قال إنهم حجة من جهة العقل، على أنهم مع
كثرتهم وانتشارهم في البلاد واختلاف آرائهم وبعد همهم لا يجوز أن يجمعوا على
خطأ ولو جاز ذلك لجاز أن يتفقوا على اكل طعام واحد، ولبس لباس واحد، وفعل
واحد، ويأتي الشعراء الكثيرون بقصيدة واحدة في معنى واحد وغرض واحد،
وكل ذلك يعلم بطلانه ضرورة، وفي صحة ذلك دليل على أنهم لا يجمعون على
خطأ.
وهذا ليس بشئ، لان جميع ما ذكروه لا يشبه مسألة الاجماع لان جميعه
تابع للدعاوى والآراء واختلاف الهمم، والعادة مانعة من اتفاقهم في الدعاوي والآراء
603

في الأمثلة التي ذكروها، وليس (1) مسألة الاجماع من هذا الباب، لأنه يجوز أن تدخل
عليهم الشبهة فيعتقدوا فيما ليس بدليل انه دليل فيجمعوا عليه، وقد دخلت الشبهة
في مثل أمتنا - وأكثر منهم - فيما يتعلق بباب الديانات، الا ترى ان اليهود والنصارى
ومن خالف الاسلام قد اتفقوا على ابطال الاسلام، وتكذيب نبينا عليه السلام وهم
أكثر من المسلمين اضعافا مضاعفة، وليس اجماعهم على ذلك دليلا على بطلان
الاسلام، لأنهم انما اجمعوا لدخول الشبهة عليهم، وانهم لم يمعنوا النظر في الطرق
الموجبة (2) للقول بصحة الاسلام.
فكذلك القول في اجماع الأمة، على أن ذلك إذا دل الدليل على كونه حجة
وثبت ذلك، فأما قبل ثبوته فنحن في سبر (3) ذلك، فالمنع منه غير صحيح.
فان قالوا: لو جاز عليهم الخطا فيما يجمعون عليه، لجاز على المتواترين
الخطاء فيما يخبرون به، لان الأمة بأجمعها أكثر من قوم متواترين ينقطع بنقلهم
الحجة، ولو جاز ذلك على (4) المتواترين أدى ذلك إلى الا نثق بشئ من الاخبار،
ولا نعلم شيئا نقلوه، وذلك يؤدى إلى ما يعلم ضرورة خلافه.
قيل التواتر لم يكن حجة من حيث إنه لا يجوز فيهم الخطاء، وانما كان حجة
لأنهم نقلوا نقلا يوجب العلم الضروري عند من قال بذلك، أو علما لا يتخالج فيه
الشكوك عند من قال بالاكتساب، فالحجة في نقلهم بحصول العلم بما نقلوه لا
بمجرد النقل، وكان يجوز أن لا ينقلوا ما نقلوه اما خطأ أو عمدا، فيخرج خبرهم من
أن يكون موجبا للعلم، فيلحق حينئذ بباب الاجماع الذي نحن في اعتبار كونه حجة
أم لا، وهذا بين لا اشكال فيه، ولم يعتمد هذه الطريقة الا شذاذ من القائلين
بالاجماع، والمحصلون منهم عولوا على أدلة السمع في هذا الباب

(1) ليست.
(2) الطرق الموجب.
(3) السبر استخراج كنه شئ.
(4) في.
604

ونحن نذكر ما اعتمدوه (1) ونتكلم عليه إن شاء الله تعالى
أحد ما اعتمدوا عليه: قوله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له
الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) (2).
قالوا: فتوعد الله تعالى على اتباع غير سبيل المؤمنين، كما توعد على مشاققة
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلولا انهم حجة يجب اتباعهم فيما اجمعوا عليه
والا لم يجز ذلك.
والكلام على هذه الآية من وجوه:
أولها: ان في أصحابنا من ذهب إلى أن الألف واللام لا يقتضيان الاستغراق
والشمول، بل هما مشتركان لهما ولغيرهما (3)، فإذا كان كذلك كانت الآية كالمجملة
تحتاج إلى بيان، ويحتمل أن يكون أريد بها جميع المؤمنين، ويحتمل أن يكون أراد
بعضهم، ولا يمكن حملها على الجميع لفقد دلالة الخصوص لان القائل ان يقول: احملها على الأقل لفقد الدليل على أن المراد بها الكل، وإذا جاز ان يكون المراد بها
بعضهم فليسوا بان يحمل على بعض المؤمنين بأولى منا إذا حملناها على الأئمة
من آل محمد عليهم السلام ويسقط بذلك غرضهم، ونحن نكون أحق من حيث قام
الدليل على عصمتهم وطهارتهم، وامنا وقوع الخطأ من جهتهم.
وثانيها: ان لفظة " سبيل " أيضا محتملة، بل هي تقتضي الوحدة ولا يجب
حملها على كل سبيل، فكيف يمكن الاستدلال بها على أن كل سبيل المؤمنين
صواب فيجب اتباعه؟
وليس لهم ان يقولوا: إذا فقدنا دليل الاختصاص حملناها على العموم.
لان القائل أن يقول: إذا فقدنا دلالة العموم حملناها على الخصوص، كما قلناه

(1) انظر إلى الأدلة التي أقاموها واعتمدوها في المقام في المصادر الواردة في هامش رقم (1) صفحة 601.
(2) النساء: 115.
(3) راجع تفسير التبيان 3: 329.
605

في الوجه الأول.
وثالثها (1). انه تعالى توعد على اتباع غير سبيلهم، وليس في ذلك دلالة على
وجوب اتباع سبيلهم، فيجب أن يكون اتباع سبيلهم موقوفا على الدلالة.
وليس لهم أن يقولوا: ان الوعيد لما علقه تعالى باتباع غير سبيلهم حل محل
ان يعلقه بالعدول على سبيل المؤمنين وترك اتباعهم، في أنه لا يقتضى لا محالة ان
اتباع سبيل المؤمنين صواب، وان الوعيد واجب لتركه ومفارقته.
وذلك أن هذا دعوى محضة (2)، لأنه لا يمتنع أن يكون اتباع غير سبيلهم
محرما، واتباع سبيلهم مباحا أو محرما.
أيضا: يبين ذلك أنه لو صرح بما تأولناه حتى يقول: اتباع غير سبيل المؤمنين
محظور عليكم، واتباع سبيلهم يجوز أن يكون قبيحا وغير قبيح فاعملوا فيه بحسب
الدلالة، أو يقول: اتباع سبيلهم مباح لكم، لساغ هذا الكلام ولم يتناقض، وإذا كان
سائغا بطل قول من قال: ان النهى عن اتباع غير سبيلهم موجب لاتباع سبيلهم، وانه
يجرى مجرى التحريم، لمفارقة سبيلهم والعدول عنها.
وليس لهم ان يقولوا: ان من لم يتبع غير سبيل المؤمنين فلابد من أن يكون
متبعا لسبيلهم، فمن هاهنا حكمنا بان النهي عن أحد الامرين ايجاب للاخر، وذلك أن
بين الامرين واسطة، وقد يجوز أن يخرج المكلف من اتباع غير سبيلهم واتباع سبيلهم
معا بأن لا يكون متبعا سبيل أحد.
وليس لهم أن يقولوا: ان " غير " هاهنا بمعنى الا، فكأنه قال تعالى: (لا يتبع الا
سبيل المؤمنين).
لان أحدنا لو قال لغيره: من (اكل غير طعامي فله العقوبة)، فالمتعارف من ذلك

(1) الوجه الثالث منقول عن استدلال الشريف المرتضى في كتاب (الشافعي في الإمامة 1: 217) ردا على
دليل القاضي عبد الجبار في (المغني).
(2) في الأصل: محض.
606

ان اكل طعامه مخالف لذلك، وان العقوبة انما تتعلق بخروجه عن أن يكون اكلا
لطعامه لان " غير " هاهنا ليس بواجب أن يكون بمعنى " الا " الموضوعة للاستثناء،
بل جائز أن يكون بمعنى خلاف، فكأنه قال: (لا يتبع خلاف سبيل المؤمنين وما هو
غير سبيلهم) ولم يرد لا يتبع الا سبيلهم.
وقول القائل: (من اكل غير طعامي عاقبته) لا يفهم من ظاهر لفظه ومجرده
ايجاب اكل طعامه، بل المفهوم حظر اكل كلما هو غير لطعامه، وحال طعامه في
الحظر والإباحة موقوفة على الدليل.
وأقل أحوال هذا اللفظ عند من ذهب إلى أن لفظة " غير " مشتركة بين الاستثناء
وغيره، وان ظاهرها لا يفيد أحد الامرين، أن يكون محتملا لما ذكرناه من حظر أكل
غير طعامه، ومحتملا لايجاب أكل طعامه، ووضع لفظة " غير " مكان لفظة " إلا " وانما
يكون في بعض المواضع يفهم عن مستعمل هذه اللفظة ايجاب اكل طعامه لا بمجرد
اللفظ، بل بان يعرف قصده إلى الايجاب أو بغير ذلك من دلائل الحال، ولولا ذلك
لما حسن أن يقول: القائل: (من اكل غير طعامي عاقبته، ومن اكل طعامي أيضا
عاقبته)، وكان يجب أن يكون نقضا، أو جاريا مجرى قوله: (من اكل الا طعامي
عاقبته، ومن اكل طعامي عاقبته)، فلما حسن ذلك مع استعمال لفظة " غير " ولم
يحسن مع استعمال لفظة " إلا " دل على صحة ما قلناه.
فان قيل: لو لم يكن اتباع سبيل المؤمنين حجة وصوابا لكان حاله في أنه قد
يكون صوابا أو خطأ، بحسب قيام الدلالة على ذلك حال اتباع غير سبيلهم في أنه قد
يكون صوابا أو خطأ، ولو كان كذلك لم يصح ان يعلق الوعيد باتباع غير سبيلهم دون
اتباع سبيلهم، فكان يبطل معنى الكلام.
قيل له: غير منكر ان يعلق الوعيد باتباع غير سبيلهم، من حيث علم أن ذلك لا
يكون الا خطأ، ويكون اتباع سبيلهم مما يجوز أن يكون خطأ وصوابا، ولو لم يكن
كذلك وكان الأمران متساويين لجاز أن يعلق الوعيد بأحدهما دون الاخر، ويكون الصلاح للمكلفين ان يعلموا خطر اتباع غير سبيلهم بهذا اللفظ، ويعلموا مساواة اتباع
607

سبيلهم له في الحظر بدليل اخر، كما يقوله أكثر خصومنا: ان قوله عليه السلام " في
سائمة الغنم الزكاة " (1) لا يجب أن يفهم منه دفع الزكاة عما ليس بسائم، ومفارقة حاله
لحال السائمة، بل يجوز أن يكون الحكم واحدا، ويعلم بالسائمة بهذا القول، وفي
غيرها بدليل اخر.
فان قيل: ان ذلك يجرى مجرى قول أحدنا لغيره: (لا تتبع غير سبيل الصالحين)
في أنه بعث على اتباع سبيل الصالحين، والا يخرج عن ذلك.
قيل: القول في هذا المثال كالقول فيما تقدم، وظاهر اللفظ واطلاقه لا يدل على
وجوب اتباع طريقة الصالحين و يحث عليها، وما يعلم لا من حيث ظاهر اللفظ خارج
عما نحن فيه.
ولو أن أحدنا قال بدلا من ذكر الصالحين: (لا يتبع غير طريقة زيد) لم يجب أن
يفهم من اطلاقه ايجاب اتباع طريقته.
ولولا أن الامر فيما تقدم على ما قلناه دون ما ادعاه السائل، لوجب فيما قال
لغيره: (لا تضرب غير زيد) ثم قال: (ولا زيدا) أن يكون مناقضا في كلامه، من حيث
كان قوله: (لا تضرب غير زيد) ايجابا لضربه وقوله: (ولا زيدا) حظر لذلك.
وفي العلم بصحة هذا القول من مستعمله، وانه غير جار مجرى قوله: (اضرب
زيدا ولا تضربه) دلالة على استقامة تأويلنا للآية.
ورابعها (2): انه تعالى حذر من مخالفة سبيل المؤمنين وعلق الكلام بصفة من
كان مؤمنا، فمن أين لخصومنا انهم لا يخرجون عن كونهم مؤمنين إذا خرجوا عن
الايمان خرجوا عن الصفة التي تعلق الوعيد بخلاف من كان عليها؟
وليس له أن يقول (3): لا يصح أن يتوعد الله تعالى وعيدا (4) مطلقا على العدول

(1) وسائل الشيعة باب 7 أبواب زكاة الأنعام حديث 1 و 2
(2) الوجه الرابع منقول عن استدلال الشريف المرتضى في كتابه (الشافي في الإمامة 1: 217)
(3) القائل هو القاضي عبد الجبار في كتابه (المغني 177: 168)، انظر أيضا: الشافي في الإمامة (1: 224).
(4) في المصدر: توعدا.
608

عن اتباع سبيل المؤمنين، الا وذلك ممكن في كل حال ولا يصح دخوله في أن
يكون ممكنا الا بأن يثبت في كل عصر جماعة من المؤمنين.
يبين ذلك: انه كما توعد على العدول عن اتباع سبيلهم، فكذلك توعد على
مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا وجب في كل حال صحة المشاقة
ليصح الوعيد المذكور، فكذلك يجب أن يصح في كل حال اتباع سبيلهم والعدول
عنها، لأنه ليس يجب من حيث توعد تعالى توعدا مطلقا على العدول عن اتباع
غير سبيل المؤمنين، ثبوت مؤمنين في كل عصر، انما (1) تقتضي الآية التحذير من العدول
عن اتباعهم إذا وجدوا وتمكن من اتباعهم وتركه.
ولسنا نعلم من أي وجه ظن أن التوعد على الفعل يقتضى امكانه في كل حال.
وليس هذا مما يدخل فيه عندنا شبهة على متكلم، ونحن نعلم أن البشارة
بنبينا عليه السلام قد تقدم على لسان من سلفت نبوته كموسى عليه السلام
وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام، وقد امر الله تعالى أممهم باتباعه
وتصديقه وأشار لهم إلى صفاته (2) وعلاماته، وتوعدهم على مخالفته وتكذيبه، ولم
يكن ما توعد (3) عليه من مخالفته وأوجبه من تصديقه واتباعه ممكنا في كل وقت،
ولا مانعا (4) من اطلاق الوعيد.
وقد قال شيخهم أبو هاشم، وتبعه على هذه المقالة جميع أصحابه (5): ان قوله
تعالى: [السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله] (6)،

(1) في المصدر: وإنما.
(2) في المصدر: وأشار لهم إليه بصفاته.
(3) في المصدر: ولم يلزم ان يكون ما توعد
(4) في الأصل والحجرية: (مانع) وهو تصحيف وصحيحه ما أثبتناه.
(5) الشافي في الإمامة 1: 225، وقد جاء فيه: " قال شيخ أصحابه (اي القاضي عبد الجبار) أبو هاشم، وتبعه على
هذه المقالة جميع أصحابه ".
(6) المائدة: 38.
609

ولا يقتضى ثبوت من يستحق القطع على سبيل النكال، ولو لم يقع التمكن ابدا (1)،
والوقوف على من هذه حاله لما أخل بفائدة الآية، وعول في قطع من يقطع من
السراق المشهود عليهم أو المقرين على الاجماع.
وإذا (2) صح هذا، فكيف يجب من حيث أطلق الوعيد على العدول عن اتباع
سبيل المؤمنين، وجود مؤمنين في كل عصر؟ وما المانع من أن يكون الوعيد يتعلق
بحال مقدرة كأنه تعالى قال: [ولا تتبعوا غير سبيل المؤمنين] إذا حصلوا ووجدوا؟
فعلم بذلك بطلان ما تعلق به السائل.
وخامسها: انه تعالى توعد على اتباع غير سبيلهم على تسليم عموم المؤمنين
والسبيل، فان الآية لا تدل على وجوب اتباعهم في عصر، بل هو كالمجمل
المفتقر إلى بيان، فلا يصح التعلق بظاهره.
وليس لاحد أن يقول: انى أحمله على كل عصر من حيث لم يكن اللفظ
مختصا بعصر دون عصر.
لان هذه الدعوى نظيره الدعوى المتقدمة التي بينا فسادها.
وليس لاحد أن يقول: انى اعلم وجوب اتباعهم في الاعصار كلها بما علمت
به وجوب اتباع النبي عليه السلام في كل عصر، فما قدح في عموم أحد الامرين
قدح في عموم الاخر، لأنا لا نعلم عموم وجوب اتباع الرسول عليه السلام في كل
عصر بظاهر الخطاب: بل بدلالة لا يمكن دفعها، فمن ادعى في عموم وجوب اتباع
المؤمنين دلالة فليحضرها!
وليس له أن يقول: إذا لم يكن فيها تخصيص وقت وجب حملها
على جميع الأعصار.

(1) في المصدر: ولا يفتقر إليه وإنما يوجب أن من واقع السرقة المخصوصة على الوجه المخصوص يستحق
القطع على سبل التنكيل، ولو لم يقع التمكن أبدا الدهر.
(2) فإذا.
610

لأن المخالفة أن يقول: وإذا لم يكن فيها دليل على عموم الاعصار، وجب
حملها على أهل عصر واحد، وهو حال زمن الصحابة به على ما ذهب إليه داود (1)، والا
فما الفصل؟ وسادسها (2): ان قوله تعالى [المؤمنين] لا يخلو ان يريد به المصدقين
بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو المستحقين للثواب على الله تعالى (3)، فان كان
الأول بطل، لان الآية تقتضي التعظيم والمدح لمن تعلقت به من حيث أوجب اتباعه،
ولا يجوز أن يتوجه إلى من لا يستحق التعظيم والمدح، وفي الأمة من يقطع على
كفره (4) وانه لا يستحق شئ منها، ولأنه كان يجب لو كان المراد [بالمؤمنين]
المصدقين دون المستحقين للثواب أن يعتبر في الاجماع دخول كل مصدق في شرق
وغرب، فهذا يعلم تعذره، وعموم القول يقتضيه، وليس يذهب أكثر المخالفين إليه (5).
وان أراد [بالمؤمنين] مستحقي الثواب والمدح والتعظيم، فمن أين ثبوت
مؤمنين (6) بهذه الصفة في كل عصر يجب اتباعهم؟ ويجب أيضا: الا يثبت الاجماع الا بعد القطع على أن كل مستحق للثواب في
بر وبحر وسهل وجبل قد دخل فيه، لان عموم القول يقتضيه، وهذا يؤدى إلى أن لا

(1) راجع قول داود الظاهري في بعض المصادر المذكورة في هامش رقم (1) صفحة 601.
(2) الوجه السادس منقول عن استدلال الشريف المرتضى في كتابه (الشافي في الإمامة 1: 218).
(3) في المصدر: أو المستحقين للثواب على الحقيقة.
(4) إن الامامية تعتقد بكفر وضلال جماعة ممن امنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصدقوه في
دعوته وهم المنافقين، والناكثون والقاسطون من أهل البصرة والشام أجمعين، والخوارج على أمير
المؤمنين، وكل من أنكر أمامة أحد الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى من فرض الطاعة، وجميع أصحاب
البدع، فهؤلاء كفار ضلال، ملعونون، وفي النار بظلمهم مخلدون.
أنظر: " أوائل المقالات: ص 41 و 42 و 43 و 44 و 49 ".
(5) في المصدر: " وليس يذهب صاحب الكتاب وأهل نحلته إلى هذا الوجه " ويقصد به القاضي عبد الجبار
الهمداني وجماعة من المعتزلة.
(6) في المصدر: مؤمن.
611

يثبت الاجماع ابدا.
وان حمل على بعض المؤمنين، وعلى من عرفناه دون من لم نعرفه، جاز
حمله (1) على طائفته من المؤمنين وهم أئمتنا عليهم السلام. وسابعها (2) انا لو تجاوزنا عن جميع ما ذكرناه، لم يكن في الآية دلالة تتناول
الخلاف في الحقيقة، لأنه جاز (3) ان يكون تعالى انما امر (4) باتباع المؤمنين من حيث
ثبت بالعقول ان في جملة المؤمنين في كل عصر إماما معصوما لا يجوز عليه الخطاء،
وإذا جاز ما ذكرناه سقط غرضهم في الاستدلال على صحة الاجماع، لأنهم انما
اجروا (5) بذلك إلى أن يصح الاجماع، وتنحفظ، الشريعة به ويستغنى به عن الامام، وإذا
كان ما استدلوا به على صحة الاجماع يحتمل ما ذكرناه، بطل التعلق به.
وثامنها ان الله تعالى توعد على مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
واتباع غير سبيل المؤمنين على وجه الجمع بينهما، فمن أين انه لو انفرد اتباع غير
سبيلهم عن المشاقة استحق به الوعيد. وليس لهم ان يقولوا: ان مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مما كان
بانفرادها يستحق بها الوعيد، فكذلك اتباع غير سبيل المؤمنين، ولو جاز أن لا يستحق
عليه العقاب ويذكر مع مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتعلق الوعيد به، لجاز أن يضاف إلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شئ من المباحات مثل
الأكل والشرب وغير ذلك، وتعلق الوعيد به، فلما لم يجز ذلك علم أن اتباع غير
سبيلهم يجب أن يستحق الوعيد به على الانفراد، وذلك انا لا نعلم بظاهر الآية ان

(1) في المصدر: وإن حمل على بعض المؤمنين دون بعض، وعلى من عرفناه دون من لم نعرفه، خرجنا عن
موجب العموم وجاز حمله.
(2) الوجه السابع منقول عن استدلال الشريف المرتضى في كتابه (الشافي في الإمامة 1: 219).
(3) في المصدر: جائز.
(4) في المصدر: أمرنا.
(5) في الحجرية: (أخذوا) وفي الأصل وفي كتاب (الشافي): أجروا.
612

مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يستحق بها الوعيد إذا انفردت عن اتباع غير
سبيل المؤمنين.
ولو خلينا وظاهر الآية لما علقنا الوعيد الا على من جمع بينها، لكن علمنا
بالدليل ان مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بها على الانفراد الوعيد،
فلأجل ذلك قلنا به.
فاما ضم المباحات إلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإنما لم يجز
لأنا قد علمنا أن حكم المباحات عند الانضمام حكمها عند الانفراد في أنه لا يستحق
بها الوعيد، وقد كان يجوز أن يستحق بها الوعيد إذا انضم إلى المشاقة، ولم يكن ذلك بأبعد من شيئين مباحين على الانفراد، فإذا جمع بينها صار محظورين، الا ترى انه
يجوز للحر المسلم العقد على ثلاث من النسوة على الانفراد، وعلى امرأتين أيضا
على الانفراد، ولا يجوز له بجمع في عقد واحد ثلاثا وثنتين لان ذلك محظور
ولذلك نظائر كثيرة في الشرع، لكن هذا وان كان جائزا علمنا أنه لم يثبت، لأنا علمنا أن
فعل شئ من المباحات من الأكل والشرب وان انضم إلى مشاقة الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم فإنه لا يستحق به الوعيد، فلأجل ذلك لم يجز ضم ذلك إلى المشاقة.
وتعلقوا أيضا بقوله تعالى: [وكذلك جعلناكم أمة وسطا] (1).
قالوا: " والوسط " العدل، ولا يكون هذه حالهم الا وهم خيار، لان الوسط من كل
شئ هو المعتدل منه، وقوله تعالى: [قال أوسطهم ألم أقل لكم] (2) المراد به
خيرهم، وعلى هذا الوجه يقال: انه عليه السلام من أوسط العرب، يعنى بذلك من
خيرهم.
وأيضا: فإنه جعلهم كذلك ليكونوا: [شهداء على الناس] (3) كما أنه عليه

(1) البقرة: 143.
(2) القلم: 28.
(3) البقرة: 143.
613

السلام شهيد عليهم، فكما انه لا يكون شهيدا الا وقوله حق [وحجة] (1) فكذلك
القول فيهم.
وهذه الآية لا تدل أيضا على ما يدعونه، لا يصح ان يكون المراد بها
جميع الأمة المصدقة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو بعضها، وقد علمنا أنه لا
يجوز أن يريد به جميعها، لان كثيرا منها ليس بخيار، ولا يجوز من
الحكيم تعالى أن يصف جماعة بأنهم خيار عدول وفيهم من ليس بعدل، ولا خير (3)،
وهذا مما يوافقنا عليه أكثر من خالفنا (4).
وان كان أراد بعضها، لم يخل ذلك البعض أن يكون جميع المؤمنين
المستحقين للثواب، ويكون بعضا منهم غير معين:
فان كان الأول: فلا دلالة توجب عمومها في الكل دون حملها على بعض غير
معين، لأنه لا لفظ هاهنا من الألفاظ التي تدعى للعموم كما هو في الآية المتقدمة (5).
وان كان المراد بعضا معينا، خرجت الآية من أن تكون فيها دلالة لخصومنا
على الخلاف بيننا وبينهم.
ولم يكن بعض المؤمنين بأن يقتضى تناولها [له] (6) أولى من بعض، فساغ (7) لنا
ان نقصرها على الأئمة من آل محمد عليهم السلام، ويكون قولنا أثبت في الآية من
كل قول لقيام الدلالة على عصمة من عدلنا بها إليه (8) وطهارته، وتمييزه من كل الأمة.

(1) زيادة من المصدر.
(2) زيادة من المصدر.
(3) بخير.
(4) في المصدر: (وهذا مما يوافقنا عليه صاحب الكتاب). ويقصد به القاضي عبد الجبار في كتابه (المغني).
(5) في المصدر: في الآيتين المتقدمتين.
(6) زيادة في المصدر.
(7) وساغ.
(8) أي عدلنا بالآية إلى الإمام المعصوم.
614

فان قيل: اطلاق القول يقتضى دخول كل الأمة فيه، لولا الدلالة التي دلت من
حيث الوصف المخصوص على تخصيص من يستحق (1) المدح منهم والثواب، فإذا
خرج من لا يستحقها بدليل وجب عمومها في كل المستحقين للثواب والمدح،
لأنه ليس هي بأن تتناول بعضها (2) أولى من بعض.
قيل له: ان اطلاق القول لا يقتضى كل الأمة على أصلنا حتى يلزم إذا أخرجنا
من لا يستحق الثواب منه أن لا يخرج غيره، ولو اقتضى ذلك
ووجب تعليق الآية بكل
من عدا الخارجين من استحقاق الثواب، لوجب القضاء بعمومها في جميع من كان
بهذا الصفة في سائر الأعصار، لان ظاهر العموم يقتضيه على مذهب من قال به،
فكان لا يسوغ حمل القول على إجماع كل عصر (3) وهذا يبطل الغرض في
الاحتجاج بالآية.
وليس لاحد أن يقول: كيف يكون اجتماع جميع أهل الاعصار على الشهادة
حجة (4)، ولا يكون اجماع أهل كل عصر حجة وصوابا (5)؟
فإنه يقال: لهم: كما تقولون: إن إجماع أهل كل عصر حجة، وليس اجماع كل
فرقة من فرقها حجة (6).
فان قيل: بأي شئ يشهد جميعهم، وهم لا يصح ان يشاهدوا كلهم شيئا
واحدا فيشهدوا به؟

(1) في المصدر: استحق.
(2) في المصدر: بعضا.
(3) في المصدر: لأنه تخصيص لا يجد مقترحه فرقا بينه وبين من اقترح تخصيص فرقة من كل عصر.
(4) في المصدر: حجة وصوابا.
(5) في المصدر: على ما ألزمتموه ولا يكون اجماع جميع أهل كل عصر كذلك؟
(6) في المصدر: لان هذا مما لم ينكر، كما لم يكن منكرا عند خصومنا ان يكون اجماع أهل العصر حجة
وصوابا، وان لم يكن اجماع كل فرقة من فرقهم كذلك.
615

قيل لهم: قد تصح الشهادة بما لا يشاهد من المعلومات، كشهادتنا بتوحيد الله
تعالى، وعدله ونبوة أنبيائه، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده.
ولو قيل أيضا: فعلى من تكون الشهادة إذا كان جميع أهل الاعصار هم الشهداء (1)؟
قلنا: تكون شهادتهم على من لا يستحق ثوابا، ولا يدخل تحت القول من الأمة؟،
ويصح أيضا أن يشهدوا على باقي الأمم الخارجين عن الملة، وكل هذا غير مستبعد.
ويمكن أيضا ان يقال في أصل تأويل الآية: ان قوله تعالى: [جعلناكم أمة
وسطا] (2) إذا سلم ان المراد به جعلناكم عدولا خيارا، لا يدل أيضا على ما يريد
الخصم، لأنه لم يبين هل جعلهم عدولا في كل أقوالهم وافعالهم، أو في بعضها؟
فالقول محتمل وممكن أن يكون تعالى أراد انهم عدول فيما يشهدون به في الآخرة،
أو في بعض الأحوال.
فان رجع راجع إلى أن يقول: اطلاق القول يقتضى العموم وليس هو بأن يحمل
على بعض الأحوال أو الأمور (3) أولى من بعض، فقد مضى الكلام على ما يشبه هذا
مستقصى
(4).
فاما حملهم " الأمة " على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في باب الشهادة
وكونه حجة من فيها، فلم يكن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة من حيث كان
شهيدا، بل من حيث كان نبيا ومعصوما، فتشبيه أحد الامرين بالآخر من البعيد.
ومما يسقط التعلق (5) بالآية أيضا: ان قوله تعالى (لتكونوا شهداء على
الناس)، يقتضى حصول واحد منهم بهذه الصفة، لان ما جرى هذا المجرى من

(1) في المصدر: لو قيل أيضا: فعلى من تكون الشهادة إذا كان المؤمنون جميعا في الاعصار هم الشهداء؟
(2) البقرة: 143.
(3) من المصدر: الأقوال.
(4) راجع فصل [2] ص 278.
(5) في المصدر: التعليق.
616

الأوصاف لابد أن يكون حال الواحد فيه كحال الجماعة، الا ترى انه لا يسوغ ان يقال
في جماعة انهم مؤمنون الا وكل واحد منهم مؤمن، وكذلك لا يسوغ أن يقال في
جماعة انهم شهداء الا وكل واحد منهم شهيد، لان " شهداء " جمع شهيد، كما أن
" مؤمنين " جمع مؤمن، وهذا يوجب أن يكون كل واحد من الأمة حجة مقطوعا على
صواب فعله وقوله.
وإذا لم يكون هذا مذهبا لاحد وكان استدلال الخصم بالآية يوجبه، فسد قولهم
ووجب صرف الآية إلى جماعة يكون كل واحد منهم شهيدا وحجة، وهم الأئمة
عليهم السلام الذين قد ثبت عصمتهم وطهارتهم.
على أن الآية لو تجاوزنا عن جميع ما ذكرناه فيها، لا يقتضى كون جميع أقوال
الأمة وأفعالها حجة، لأنها غير مانعة من وقوع الصغائر التي لا تسقط العدالة (1) منهم،
فان أمكن تمييز الصغائر من غيرها كانوا حجة فيما قطع عليه، وان لم يكن وعلم في
الجملة أن الخطاء الذي يكون كبيرا ويؤثر في العدالة مأمون منهم وغير واقع من
جهتهم، وان ما عداه مجوز (2) عليهم، فسقط بما ذكرناه تعلق المخالف بالآية في نصرة
الاجماع.
وليس لاحد أن يقول (3): ان كونهم عدولا كالعلة والسبب في كونهم شهداء،
وانه قد صح في العقل (4) انه لا يجوز أن ينصب للشهادة الا من يعلم عدالته، أو تعرف
الامارات (5) التي تقتضي غالب الظن، وصح أن من ينصبه الغالب الظن (6) إذا تولى الله
تعالى نصبه يجب أن يعلم من حاله ما يظنه

(1) انظر التعليقة رقم (4) صفحة 618.
(2) يجوز.
(3) القائل هو القاضي عبد الجبار في كتابه المغني 20: القسم الأول: ص 80.
(4) في المصدر: التعبد.
(5) في النسختين: بالامارات.
(6) في النسختين: بغالب الظن.
617

وإذا ثبت ذلك، لم يخل من أن يكونوا حجة فيما يشهدون أولا يكونوا، فان لم
يكونوا حجة (1) بطلت شهادتهم لان من حق الشاهد إذا أخبر عما يشهد به أن يكون
خبره حقا، وان لم يجرى مجرى الشهادة، فلابد من أن يكون قولهم صحيحا، ولا يكون
كذلك الا وهم حجة، وليس بعض أقوالهم وافعالهم بذلك أولى من بعض، وذلك أنه
لو سلم لهم جميع ما ذكروه (2) ولم يلزم أن يكونوا حجة في جميع أقوالهم وافعالهم،
لان أكثر ما تدل عليه الآية فيهم أن يكونوا عدولا رشحوا (3) للشهادة، فالواجب أن
ينفى عنهم ما جرح شهادتهم واثر في عدالتهم دون ما لم يكن بهذه المنزلة.
وإذا كانت الصغائر على مذهبهم غير مخرجة عن العدالة (4)، لم يجب
بمقتضى الآية نفيها عنهم، وبطل قوله: " انه ليس بعض أقوالهم وافعالهم بذلك أولى
من بعض " لأنا قد بينا فرق ما بين الافعال المسقطة للعدالة والافعال التي لا تسقطها.
ثم يقال لهم: أليس لرسول صلى الله عليه وآله السلام مع كونه شهيدا لا يمنع من وقوع
الصغائر منه، فهلا جاز ذلك في الأمة؟

(1) في النسختين: يكن.
(2) في المصدر: فلو سلم له جميع ما ذكره.
(3) في النسختين: (روشحوا) وهو تصحيف صحيحه ما أثبتناه نقلا عن المصدر.
(4) أجمعت المعتزلة على أنه لا يجوز ان يبعث الله نبيا يكفر ويرتكب الكبيرة أو يفسق، بل إن معاصي
الأنبياء لا تكون إلا صغائر، وقال أبو هاشم الجبائي: انه يجوز عليهم الصغائر التي لا تنفر.
اما الأشاعرة فقد اجمعوا على عصمة الأنبياء بعدة النبوة عن الذنوب كلها، واما السهو والخطأ فليسا
من الذنوب عندهم ولذلك يجوز صدورهما منهم.
واما الامامية فتعتقد بأن جميع أنبياء الله معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها، ومما يستخف فاعله
من الصغائر كلها، واما ما كان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوة وعلى غير تعمد،
وممتنع منهم بعدها على كل حال.
انظر " مقالات الاسلاميين 1: 272 و 306، أصول الدين للجرجاني: 168، أوائل المقالات: 62 ".
618

وليس لهم أن يقولوا (1): ان حالهم مخالفة لحال الرسول (2)، لأنه ما نجوزه عليه
من الصغائر لا يخرج ما يؤديه عن الله تعالى مما هو الحجة فيه من أن يكون متميزا،
فيصح كونه حجة وليس كذلك لو جوزنا على الأمة الخطاء في بعض ما تقوله وتفعله
لان ذلك يوجب خروج كل ما يجمع عليه (3) من أن يكون حجة، لان الطريقة في
الجمع (4) واحدة، فيسقط بما ذكرناه، لأنه إذا كان تجويز الصغائر على الرسول (5) لا
يخرجه فيما يؤديه من أن يكون حجة ويتميز ذلك للمكلف، فكذلك إذا كانت الآية
مما تقتضي كون الأمة عدولا فيجب نفى ما اثر في عدالتهم، والقطع على انتفاء (6)
الكبير من المعاصي (7) عنهم، وتجويز ما عدا هذا عليهم، ولا يخرج (8) هذا التجويز
من أن يكونوا حجة، فيما لو كان خطأ لكان كبيرا.
وقد يصح تمييز ذلك على وجه فان في المعاصي ما يقطع على كونها كبائر
ولو لم يكن إلى تمييزه سبيل لصح الكلام أيضا من حيث كان الواجب علينا اعتقاد
نفي الكبائر عنهم وتجويز الصغائر، وان شهادتهم بما لو لم يكن حقا لكانت الشهادة
به كبيرة لا تقع منهم، وان جاز وقوع ما لم يبلغ هذه المنزلة، ويكون هذا الاعتقاد مما
يجب علينا على سبيل الجملة، وان تعذر علينا تفصيل أفعالهم (9) التي يكونون فيها

(1) القائل هو عبد الجبار في المغني 17: 178.
(2) في المصدر: ويخالف حالهم حال الرسول عليه السلام.
(3) في المصدر: تجتمع عليه.
(4) في المصدر الجميع.
(5) هذا الجواز بناء على مذهب المعتزلة، انظر هامش رقم (4) صفحة 618.
(6) في المصدر: بانتفاء.
(7) راجع هامش رقم (4) صفحة 618.
(8) في المصدر: يخرجهم.
(9) في المصدر: أعمالهم وأحوالهم.
619

حجة من خالفها (1) لا سيما وشهادتهم ليست عندنا،
فيجب علينا تمييز خطأهم من
صوابهم، وانما هي عند الله تعالى، وإذا كانت عنده جاز أن يكون الواجب علينا هذا
الاعتقاد الذي ذكرناه. فان قيل (2): ليس المراد بالآية الشهادة في الآخرة، وانما هو القول بالحق
والاخبار بالصدق كقوله تعالى: [شهد الله انه لا اله الا هو والملائكة وأولوا
العلم] وكل من قال حقا وهو شاذ به، وليس هذا من باب الشهادة التي تؤدى أو
تتحمل بسبيل، وان كانوا مع شهادتهم بالحق يشهدون في الآخرة باعمال العباد،
فيجب في كل ما اجمعوا عليه قولا أن يكون حقا، وفعلهم يقوم مقام قولهم، فيجب
أن يكون هذا حاله، لأنهم إذا جمعوا على الشئ وأظهروه اظهار ما يعتقد انه
حق حل محل الخبر، وهذا يوجب انه لا فرق بين الصغير والكبير في هذا الباب.
قيل له: هذا غير مؤثر فيما قدحنا به في الاستدلال بالآية، لان التعلق في
(4) الآية انما هو بكونهم عدولا لا بلفظ الشهادة، لان التعليق لو كان بالشهادة لم يكن في
الكلام شبهة من حيث كانت الشهادة لا تدل بنفسها على كونها حجة كما تدل العدالة.
ولو تعلق متعلق بكونهم شهودا ويذكر شهادتهم، لم نجد بدا من اعتبار العدالة
والرجوع إليها، وإذا كانت الصغائر لا تؤثر في العدالة ولا يمتنع وقوعها على مذهب
المعتزلة (5) من العدل المقبول الشهادة، فما الموجب من الآية نفيها عن الأمة؟، ولا
فرق فيما ذكرناه بين أن يكونوا شهداء في الدنيا والآخرة معا، وبين أن يكونوا شهداء

(1) في المصدر: خالفهم.
(2) القائل هو القاضي عبد الجبار في " المغني: 17 / 179 " (3) آل عمران: 18.
(4) في المصدر: من.
(5) في المصدر: على مذهب صاحب الكتاب وأهل مقالته. راجع أيضا التعليقة رقم (4) صفحة 618.
620

في الآخرة دون الدنيا (1).
واستدلوا أيضا: بقوله تعالى: [كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون
بالمعروف وتنهون عن المنكر] (2).
قالوا: وصف الله تعالى " بأنها " خير الأمة "، وانها " تأمر بالمعروف "
" وتنهى عن المنكر "، فلا يجوز أن يقع منها خطأ، لان ذلك يخرجها من كونها خيارا،
ويخرجهما أيضا من كونها امرة بالمعروف وناهية عن المنكر، الا أن تكون آمرة بالمنكر
وناهية عن المعروف، ولا ملجاء من ذلك الا بالامتناع من وقوع شئ من القبائح من
جهتهم.
والكلام على هذا الدليل مثل الكلام على الآية التي ذكرناها قبل هذه الآية
على حد واحد من المنازعة في أن تكون لفظة " الأمة " تستحق الجمع والشمول.
ومع التسليم انها تشتمل جميع أهل الاعصار دون أهل كل عصر، وفي انها لا
يجوز ان يوصفوا بأنهم خيار إلا وكل واحد منهم بهذه الصفة، وفي ان أكثر ما تقتضيه
الآية ان لا يقع منهم ما يخرجهم من كونهم خيارا من الكبائر، ولا يجب من ذلك الا
يقع منهم الصغير الذي يتحبط (3) عقابه، ولا يخرجهم من كونهم بهذه الصفة فالكلام
في الآيتين على حد واحد.
ويمكن أن يقال في هذه الآية وفي التي تقدمت: ان المراد بها قوم معينون لما
يتضمنان من حرف الإشارة في المخاطبين، وليس فيهما ما يقتضى لفظ العموم، لان
ألفاظ العموم معلومة، وليس فيهما شئ منها.
فان رجعوا إلى أن يقولوا: لو كان المراد به ما دون الاستغراق لبين
قيل لهم: ولو كان المراد بها الاستغراق لبين، وإذا تقابل القولان سقط

(1) الشافي في الإمامة 1: 236) للشريف المرتضى. وفيه: فما نراه في الكلام الذي عدل إليه شيئا ينتفع به.
(2) آل عمران 110.
(3) في المصدر: زيادة في (لقوله).
621

الاحتجاج بالآية.
وكل ما يسأل على هذه الطعون فقد مضى الجواب عنه في الآية المتقدمة فلا
وجه لتكراره
واستدلوا أيضا بقوله تعالى: [فاتبع سبيل من أناب إلي] (1)
قالوا: فأوجب الله تعالى اتباع سبيل من أناب إليه وهم المؤمنون، لأنهم
المختصون بهذه الطريقة.
والكلام في هذه الآية كالكلام في الآية (2) المتقدمة، وأكثر ما اعترضنا به عليها
فهو اعتراض على هذه الآية أيضا (3).
ومما يختص بهذه (4) الآية ان " الإنابة " حقيقتها في اللغة هي الرجوع (5) وانما
يستعمل في التائب من حيث رجع عن المعصية إلى الطاعة، وليس يصح اجزاؤها
على المتمسك بطريقة واحدة لم يرجع إليها من غيرها على سبيل الحقيقة، ولو
استعمل فيمن ذكرناه لكان مستعملها متجوزا عند جميع أهل اللغة.
وإذا كانت حقيقة " الإنابة " في اللغة هي الرجوع لم يصح اجراء قوله تعالى:
[اتبع سبيل من أناب] (6) على جميع المؤمنين حتى يعم بها من كان متمسكا
بالايمان وغير خارج عن غيره إليه، ومن رجع إلى اعتقاده وأناب إليه بعد أن كان على
غيره، لأنا لو فعلنا ذلك لكنا عادلين باللفظة عن حقيقتها من غير ضرورة، فالواجب أن
يكون ظاهرها متناولا للتائبين من المؤمنين الذين أنابوا إلى الايمان وفارقوا غيره، وإذا

(1) لقمان: 15.
(2) الآيات.
(3) نص منقول عن كتاب (الشافي في الإمامة 1: 228) للشريف المرتضى (4) في جميع النسخ: (بهذه) وفي المصدر: هذه.
(5) لسان العرب 319، المصباح المنير 2: 629 مادة " نوب ".
(6) لقمان: 15.
622

تناولت هذا (1) لم تكن دلالة على مكان الخلاف بيننا وبين خصومنا في الاجماع (2).
واستدلوا أيضا بقوله تعالى: [فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله
والرسول] (3).
قالوا: فأوجب علينا الرد إلى الكتاب والسنة عند التنازع، فيجب إذا ارتفع
التنازع الا يجب الرد، ولا يسقط وجوب الرد إليهما الا لكونه حجة.
والكلام على هذه الآية من وجوه: أحدها: ان هذا خطاب لجماعة مواجهين بالخطاب، وليس فيها لفظ يقتضى
الاستغراق لجميع الأمة، وإذا لم يكن فيها ذلك لم يكن لاحد أن يحملها على
الاستغراق.
وليس لهم ان يقولوا: نحملها على الجمع لفقد الدلالة على أن المراد به الاستغراق.
وثانيها: ان أكثر ما في الآية ان تفيد ان عند وجود التنازع يجب الرد إلى الكتاب
والسنة، وليس فيها ذكر ما يرتفع التنازع فيه الا من حيث دليل الخطاب الذي أكثر من
خالفنا يبطله، وفرق من فرق بين تعليق الحكم بالصفة وبينه إذا علق بشرط فاسد لما
بيناه فيما تقدم من هذا الكتاب.
وثالثها: ان ما يرتفع التنازع فيه لابد من أن يكون مردود إلى الكتاب والسنة،
لأنهم لا يجمعون الا عن دليل، ولا يخلو ذلك الدليل من الكتاب والسنة، فكأنهم في
حال وجود التنازع يجب عليهم الرد وعند ارتفاعه يكون قد ردوا، فلا فرق بين وجود
التنازع وبين ارتفاعه.

(1) في المصدر: هؤلاء.
(2) نهاية النص النقول عن الشافي.
(3) النساء: 59.
623

ورابعها: ان المراد بالآية انه يجب الرد إلى الكتاب والسنة فيما طريقه العلم،
لأنه لو كان فيما طريقة العمل وكان المنازعون مجتهدين فيما تنازعوا فيه لم يجب
عليهم الرد، وانما يجب عليهم الرد على كل حال إذا كان ما اختلفوا فيه لا يسوغ
الخلاف فيه.
وهذه جملة كافية في ابطال التعلق بهذه الآية.
واستدل بعضهم على صحة الاجماع بقوله: [وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون] (1).
قالوا: فأخبر الله تعالى ان فيمن خلق أمة تهدى بالحق، وهذا يؤمننا من اجتماعهم على ضلال وكفر.
والكلام على هذه الآية أيضا من وجوه:
أحدها: انه أخبر عمن خلق فيما مضى لان قوله: (خلقنا) يفيد المضي في
الأزمان، فمن أين لهم ان ذلك حكمهم في المستقبل من الزمان؟
وليس لهم ان يقولوا: ان قوله: (يهدون بالحق) يفيد الاستقبال.
ذلك أن هذه اللفظة تصلح للحال والاستقبال، وإذا صلحت لذلك فلا يمتنع
أن يكون أريد بها الحال، فكأنه قال: (ممن خلقنا أمة هادية بالحق عادلة به).
وثانيها: ان قوله: (أمة) يقع على الواحد وعلى جماعة، ويقع على جميع
الأمة على وجه الاستغراق، الا ترى ان الله تعالى وصف إبراهيم عليه السلام بأنه كان
أمة وهو واحد، وقال: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس) (2) أريد به
جماعة، وإذا كان الامر على ذلك فمن أين للخصم ان المراد به جميع الأمة؟
وثالثها: انه لا يمتنع أن يكون أراد تعالى بقوله أمة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، أو من يجرى قوله مجرى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كونه حجة

(1) الأعراف: 181.
(2) القصص: 23.
624

وموجبا للعلم، وإذا احتمل ذلك لم يكن للخصم الاحتجاج بالآية.
واستدلوا أيضا على صحة الاجماع: بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم انه قال: " لا تجتمع أمتي على خطأ "، وبلفظ آخر " لم يكن الله ليجمع أمتي
على خطأ " وبقوله: " كونوا مع الجماعة "، و " يد الله على الجماعة " وما أشبه ذلك
من الألفاظ. (1)
وهذه الأخبار لا يصح التعلق بها، لأنها كلها اخبار آحاد لا توجب علما، وهذه
مسألة طريقها العلم.
وليس لهم أن يقولوا: ان الأمة قد تلقتها بالقبول وعلمت بها
لأنا أولا نسلم ان الأمة كلها تلقتها بالقبول.
ولو سلمنا ذلك لم يكن أيضا فيها حجة، لان كلامنا في صحة الاجماع الذي لا
يثبت الا بعد ثبوت الخبر، والخبر لا يصح حتى يثبت انهم لا يجمعون على خطأ.

(1) الحديث رواه الترمذي، وابن ماجة، وأبو داود، وأحمد ابن حنبل، والدارقطني، والحاكم النيسابوري
آخرون. ولفظ الحديث عند أبي داود: (لن تجتمعوا على ضلالة)، وعند الدارقطني، والترمذي، وابن عمر
والحاكم النيسابوري، وابن ماجة: (ان الله لا يجمع أمتي، أو قال: أمة محمد على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار).
قال ابن السبكي: واما الحديث فلا شك انه اليوم غير متواتر، بل ولا يصح. وقال الغزالي في
المستصفى 1: 111: تظاهرات الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بألفاظ مختلفة مع اتفاق
المعنى في عصمة هذه الأمة من الخطأ. وقال في المنخول (306 - 305): ومما تمسك به الأصوليون قوله
عليه السلام: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) وروي (على خطأ) ولا طريق إلى رده بكونه من اخبار الآحاد،
فأن القواعد القطعية يجوز اثباتها بها وان كانت مظنونة!!
فأن قيل: فما المختار عندكم في اثبات الاجماع؟
قلنا: لا مطمع في مسلك عقلي إذ ليس فيه ما يدل عليه ولم يشهد له من جهة السمع خبر متواتر ولا نص
كتاب، وإثبات الاجماع بالاجماع تهافت، والقياس المظنون لا مجال له في القطعيات.
ورواه ابن ماجة أيضا في كتاب الفتن باب السواد الأعظم ولفظ الحديث عنده: " إن أمتي لا تجتمع على
ضلالة " وعلق عليه محقق الكتاب بقوله: " في الزوائد: في اسناده أبو خلف الأعمى واسمه حازم بن عطاء
وهو ضعيف، وقد جاز الحديث بطرق في كلها نظر، قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي ".
625

وليس لهم أن يقولوا: انه قد عملوا بهذه الاخبار وعولوا في صحة الاجماع
عليها في كل زمان.
فقد جرت عادتهم ألا يقبلوا ما جرى هذا المجرى ولا يعملوا به الا إذا كان
قاطعا لعذرهم لأنا أولا:
لا نسلم انهم استدلوا على صحة الاجماع بهذه الاخبار، ولا يمتنع ان يكون
اعتمدوا في صحة الاجماع على الآيات التي ذكرناها وان كانوا مخطئين في صحة
الاستدلال بها، فمن أين انهم استدلوا بها على صحة الاجماع؟
ولو سلم انهم استدلوا، جاز أن يكونوا مخطئين في الاستدلال بها، ويكونوا
اعتقدوا انها قاطعة للعذر، وان لم يكن كذلك لضرب من الشبهة دخلت عليهم.
وقولهم: انه ما جرت عادتهم فيما يجرى هذا المجرى ان يقبلوا الا الصحيح.
فلو سلمنا غاية ما يقترحونه لم يكن فيه أكثر من أن لا يستدلوا الا بما يعتقدون
صحته وانه طريقه العلم، فمن أين ان ما اعتقدوه صحيح؟ وذلك لا يثبت الا بعد
صحة الخبر أو غيره من الأدلة.
ولو سلم من جميع ذلك، لجاز أن يحمل الخبر على طائفة من الأمة وهم
الأئمة من آل محمد عليهم السلام لان لفظة " الأمة " لا يفيد الاستغراق على ما مضى
القول فيه، وذلك أولى من حيث دلت الدلالة على عصمتهم من القبايح.
وان قالوا: يجب حمله على جميع الأمة لفقد الدلالة على أن المراد بعض
الأمة.
كان لغيرهم أن يقول: انا احمل الخبر على جميع الأمة من لدن النبي إلى أن
تقوم الساعة من حيث إن لفظ " الأمة " يشملهم ويتناولهم، فمن أين ان اجماع كل
عصر حجة؟
على أنه قد قيل إن الخبر الأول لا يمتنع أن يكون رواية سمع من النبي صلى
الله عليه وآله وسلم مجزوما، ويكون المراد النهى لهم عن أن يجمعوا على خطأ،
وليس من عادة أصحاب الحديث ضبط الاعراب فيما يجرى هذا المجرى، وإذا كان
626

ذلك محتملا سقط الاحتجاج به.
واما الخبر الثاني: من قوله: " لم يكن الله ليجمع أمتي على خطأ " (1) فصحيح
ولا يجئ من ذلك أنه لا يجمعون على خطأ.
وليس لهم أن يقولوا: ان هذا لا اختصاص فيه لامتنا بذلك دون سائر الأمم،
لان الله تعالى لا يجمع سائر الأمم على خطأ.
وذلك أنه وان كان الامر على ما قالوه، فلا يمتنع أن يخص هؤلاء بالذكر، ومن
عداهم يعلم أن حالهم كحالهم بدليل آخر، ولذلك نظائر كثيرة في القرآن والاخبار.
على أن هذا هو القول بدليل الخطاب الذي لا يعتمده أكثر من خالفنا (2).
فهذه جملة كافية في الكلام على الآيات والاخبار التي اعتمدوها في نصرة
الاجماع على ما يذهبون إليه.

(1) راجع تخريج الحديث في هامش رقم (1) صفحة 625.
(2) راجع أقوالهم في فصل [11] صفحة 467.
627

فصل [2]
" في كيفية العلم بالاجماع، ومن يعتبر قوله فيه "
إذا كان المعتبر في باب كونهم حجة، قول الإمام المعصوم عليه السلام،
فالطريق إلى معرفة قوله شيئان:
أحدهما: السماع منه، والمشاهدة لقوله.
والثاني: النقل عنه بما يوجب العلم، فيعلم بذلك أيضا قوله.
هذا إذا تعين لنا قول الإمام عليه السلام، فإذا لم يتعين لنا قول الإمام ولا ينقل
عنه نقلا يوجب العلم، ويكون قوله في جملة أقوال الأمة متميز منها، فإنه يحتاج
أن ينظر في أحوال المختلفين:
فكل من خالف ممن يعرف نسبه، ويعلم منشأه، وعرف انه ليس بالامام الذي
دل الدليل على عصمته وكونه حجة، وجب إطراح قوله والا يعتد به.
وتعتبر أقوال الذي لا يعرف نسبهم، لجواز أن يكون كل واحد منهم الامام
الذي هو الحجة، وتعتبر أقوالهم في باب كونهم حجة.
فان قيل: فعلى هذا التقدير هل تراعون قول من خالفكم في الأصول، أم
تراعون قول من وافقكم فيها؟
قلنا: لا نراعي قول من خالفنا في شئ من الأصول من التوحيد، والعدل،
628

والإمامة، والارجاع (1) وغير ذلك لان جميع ذلك معلوم بالأدلة الصحيحة التي لا
يجوز خلافها، ولابد أن يكون الامام قائلا بها، وإذا كان لابد أن يكون قائلا بها فمن
خالف الامامية في شئ من هذه الأصول فينبغي أن يكون قوله مطروحا، ويكون ذلك
أبلغ من إطراح قول من علمنا نسبه، لان التعيين بخلاف الحق مثل التعيين بالنسب،
بل ذلك آكد لأنه معلوم من طريق لا يحتمل خلافه.
فان قيل: ولم لا يجوز أن يكون الامام المعصوم عليه السلام مظهرا لبعض هذه
المذاهب المخالفة لمذاهب الامامية لضرب من التقية على ما تجوزون عليه؟ وان
كان قوله حقا فيما يرجع إلى الفروع، فلا يجب أن يقطعوا على أن المعتبر قول الإمامية.
قيل: انما يجب إطراح قول من خالف في الأصول إذا علم أنه قائل به تدينا
ومعتقدا، فاما إذا جوزنا انه قائل به لضرب من التقية فيجب أن لا يطرح قوله، ويعتبر
قوله وقول من جوزنا ذلك فيه مع أقوال المظهرين للحق ليصح لنا العلم بدخول قول الإمام
عليه السلام في جملة أقوالهم.
فان قيل: فما قولكم إذا اختلفت الامامية في مسألة، كيف يعلمون ان قول الإمام
عليه السلام داخل في جملة أقوال بعضها دون بعض؟
قلنا: إذا اختلفت الامامية في مسألة نظرنا في تلك المسألة:
فان كان عليها دلالة توجب العلم من كتاب أو سنة مقطوع بها تدل على صحة
بعض أقوال المختلفين، قطعنا على أن قول المعصوم موافق لذلك القول ومطابق له.
وان لم يكن على أحد الأقوال دليل يوجب العلم نظرنا في أحوال المختلفين:
فأن كان ممن عرفناه بعينه ونسبه قائلا بقول والباقون قائلون بالقول الاخر، لم

(1) الارجاع، والمقصود منه الرجعة، وهي من المصطلحات الكلامية عند الإمامية، وقد فسرها الشيخ المفيد
(ره) حيث قال (أوائل المقالات: 46): " واتفقت الامامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا
قبل يوم القيامة، وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف ".
629

نعتبر قول من عرفناه، لأنا نعلم أنه ليس فيهم الامام المعصوم الذي قوله حجة.
فان كان في الفريقين أقوام لا نعرف أعيانهم، ولا أنسابهم وهم مع ذلك
مختلفون، كانت المسألة من باب ما نكون فيها مخيرين بأي القولين شئنا أخذنا،
ويجرى ذلك مجرى الخبرين المتعارضين الذي لا ترجيح لأحدهما على الاخر على
ما مضى القول فيما تقدم.
وانما قلنا ذلك، لأنه لو كان الحق في أحدهما لوجب أن يكون مما يمكن
الوصول إليه، فلما لم يكن دل على أنه من باب التخيير.
ومتى فرضنا أن يكون الحق في واحد من الأقوال، ولم يكن هناك ما يميز ذلك
القول من غيره، فلا يجوز للامام المعصوم الاستتار ووجب عليه ان يظهر ويبين
الحق في تلك المسألة، أو يعلم بعض ثقاته الذين يسكن إليهم الحق من تلك الأقوال
حتى يؤدى ذلك إلى الأمة، ويقترن بقوله علم معجز يدل على صدقه، لأنه متى لم
يكن كذلك لم يحسن التكليف.
وفي علمنا ببقاء التكليف وعدم ظهوره، أو ظهور من يجرى مجراه دليل على أن
ذلك لم يتفق.
فان قيل: بجواز ان يختلف الامامية على قولين يكون أحد القولين قول الإمام
والباقون قولهم على خلافه، ومتى أجزتم ذلك كان في ذلك تعيين الامام وتمييزه
وذلك لا تقولونه! وان امتنعتم من ذلك قيل لكم: وما المانع من ذلك؟
قيل: الذي نقول في ذلك أنه لا يمتنع ما فرض في السؤال على وجه، ويمتنع
على وجه، فالجائز من ذلك هو أن يجمع كل من عدا الامام على قول إذا لم نعرفهم
كلهم بأسمائهم، ونجوز أن يكون الامام فيهم ومن جملتهم، ونجوز أيضا مع ذلك أن
يكون المنفرد الذي قال بالقول الأخير - وهذا لا يؤدى إلى العلم - بعين الامام
وتمييزه.
والذي لا يجوز، أن تكون الجماعة الذين خالفوا الواحد معروفين بأسمائهم
وأنسابهم، لأنه متى كان كذلك علم به ان الامام هو الاخر، وذلك ينافي غيبته عليه
630

السلام.
فان قيل: فإذا اتفق ما أجزتموه من القسمين كيف يكون قولكم فيه؟
قيل: متى اتفق ذلك وكان على القول الذي انفرد به الإمام عليه السلام دليل
من كتاب أو سنة مقطوع بها لم يجب عليه الظهور ولا الدلالة على ذلك، لان ما هو
موجود من دليل الكتاب والسنة كاف في باب إزاحة التكليف، ومتى لم يكن على
القول على الذي انفرد به دليل على ما قلناه وجب عليه الظهور أو اظهار من يبين الحق في
تلك المسألة على ما قد مضى القول فيه، والا لم يحسن التكليف.
ولا ينقض هذا ما قدمناه من اختلاف الطائفة على قولين، ولا يكون لاحد
القولين ترجيح على الاخر، ولا دليل على أن المعصوم مع أحدهما، بان قلنا نكون
مخيرين في العمل بأي القولين شئنا، لان هذه المسألة مفروضة إذا كان الحق فيما
عند الامام دون غيره من الأقوال، ويكون من الأمور المضيقة، وانما يجوز ما قدمناه
أولا إذا كان من باب ما يجوز التخيير فيه، ولا تنافى بين المسألتين.
وذكر المرتضى علي بن الحسين الموسوي قدس الله روحه أخيرا: " انه يجوز
أن يكون الحق فيما عند الامام، والأقوال الاخر يكون كلها باطلة، ولا يجب عليه
الظهور، لأنه إذا كنا نحن السبب في استتاره، فكلما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرفه
وبما معه من الاحكام نكون قد اتينا من قبل نفوسنا فيه، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر
وانتفعنا به، وادى إلينا الحق الذي عنده " (1).
وهذا عندي غير صحيح، لأنه يؤدي إلى الا يصح الاحتجاج باجماع
الطائفة أصلا، لأنا لا نعلم دخول الامام فيها الا بالاعتبار الذي بيناه، فمتى جوزنا
انفراده عليه السلام بالقول ولا يجب ظهوره، منع ذلك من الاحتجاج بالاجماع.

(1) لم نعثر على هذا النص في كتب الشريف المرتضى المطبوعة " كالذريعة " و " الأمالي " و " مجموعة
رسائله "، ولعل المصنف سمعه منه مشافهة، وجاء في (الذريعة 2: 606 - 605) ما مضمونه يقارب هذا
631

فان قيل: كيف تعلمون اجماع الامامية على مسألة وهم منتشرون في أطراف
الأرض، وفي البلاد التي يكاد ينقطع خبر أهلها عن البلاد الاخر، وهل هذا الا
متعذر مستحيل؟
قيل له: السائل عن هذا السؤال لا يخلو من أن يريد به الطعن في الاجماع على
كل حال، فان ذلك مما لا يصح العلم به على حال أو يريد اختصاص الامامية
بهذا السؤال دون غيرهم:
فان أراد الأول: فقوله يسقط، لان من هو في أطراف الأرض وفي البلاد البعيدة، اخبارهم متصلة وخاصة العلماء منهم، لان الدين تراعى أقوالهم هم العلماء دون
العامة الذين لا يعتبرون في هذا الباب، ولهذا لا يشك (1) أحد من العلماء في الأرض
من يعتقد الفرض في غسل أعضاء الطهارة مرتين مرتين (2)، بل نعلم (3) اجماع العلماء
في جميع المواضع على أن الفرض واحد من الغسلات، وكذلك نعلم أنه ليس في
الأمة من يورث المال إذا اجتمع جد وأخ للأخ دون الجد، لان المتقرر بين العلماء
والذين اجمعوا عليه القول بان المال اما للجد كله أو بينهما، ولا يقول أحد ان المال
للأخ دون الجد، ونظاير ذلك كثيرة جدا من المسائل التي يعلم اجماع العلماء عليها،
فمن أراد بهذا السؤال إحالة ذلك فقد أبطل.
وان أراد اختصاص الامامية بالسؤال: فذلك لا يخصهم لان على كل من اعتبر
الاجماع مثل هذا السؤال، بل إن كان ذلك محالا في الامامية لانتشارهم في البلدان،
كان ذلك في المسلمين كلهم أشد استحالة، لأنهم أكثر وأشد انتشارا، فعلم بذلك ان
السؤال ساقط على الوجهين معا
فان قيل: من الذي يجب أن يعتبر قوله إذا لم يتميز قول الإمام المعصوم، أم أقول

(1) تشك في أن لا.
(2) دفعتين.
(3) يعلم.
632

جميع الامامية، أم قول العلماء منهم؟
قيل: إذا لم يتميز قول المعصوم يجب ان يراعى قول العلماء الذين يعرفون
الأصول والفروع دون العامة والمقلدين، وانما قلنا ذلك لان الذي قوله حجة إذا كان
هو الامام المعصوم، وكان هو عالما بجميع أحكام الشريعة، ولابد أن يكون عالما
بالأصول، ويجب أن يكون المراعى من يشتبه حاله بحاله عليه السلام، ومن لا يعرف
الأصول ولا الفروع يعلم منه انه ليس بامام، وإذا علم أنه ليس بامام معصوم وجب
اطراح قوله ولا يلتفت إليه.
وليس لاحد أن يقول: ان هذا يؤدى إلى أن أصحاب الحديث والفقهاء الذين
لا يعرفون الأصول أن لا يعتد بأقوالهم، وفي ذلك اسقاط قول أكثرهم.
قلنا: لا يلزم ذلك، لان الفقهاء وأصحاب الحديث على ضربين: ضرب منهم: يعلم أنه لا يعرف الأصول، ولا كثيرا من الفروع (1) فان ذلك لا
محالة يجب إطراح قوله، لأنه قد علم أنه ليس بامام.
والضرب الاخر منهم: لا يعلم ذلك من حالهم، بل يجوز أن يكونوا مع كونهم
متظاهرين بالحديث والفقه قيمين بالأصول وعارفين بها، فإذا شككنا في حالهم
وجب اعتبار أقوالهم لجواز أن يكون الامام في جملتهم.
والذي يجب أن يراعى أقوالهم فيه هو: كل شئ لا يصح أن يعلم الا من جهة
السمع، لان ما لا يعلم وجود قبل حصول العلم به لا يصح أن يعلم بقول
الأمة التي قول المعصوم داخل فيها وذلك مثل التوحيد، والعدل، وجميع صفات
القديم، لان العلم بان هاهنا معصوما يفتقر إلى تقدم هذه العلوم، ومتى لا يقدم لا
يمكننا ان نعلم أن هاهنا معصوما، لان ذلك فرع على حكمة الله تعالى وعدله، وانه
لابد ان يزيح علة المكلفين بنصب رئيس لهم معصوم، وذلك لا يمكن أن يعلم
بالاجماع على حال.

(1) في الأصل: الفروض.
633

واما (1) النبوة فقد كان يصح أن يعلم باجماع الأمة الذين قول المعصوم داخل
في جملتها، لان ذلك [لا] يفتقر (2) إلى العلم بالنبوة، لأنا إذا علمنا أن الله تعالى
حكيم وعدل لابد أن نعلم أنه يزيح علة المكلفين في التكليف بنصب رئيس معصوم
لهم ليكونوا متمكنين مزاحي العلة فيما كلفوه، فإذا علمنا ذلك، وأجمعوا على نبوة
شخص، يعلم باجماعهم نبوته.
فان قيل: كيف يصح هذا القول والامام عينه الا بنص الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم، لان الله تعالى يعلمه ذلك بالوحي والامام لا يوحى إليه، فيعلم
انه امام، فكيف يدعى انه امام، وكيف يعلم صحة دعواه؟
قيل له: اما العلم بكونه إماما، فقد يحصل لنا العلم المعجز الذي يظهره الله
تعالى على يده، يتضمن تصديقه فيما يدعيه ويدعى هو انه الامام المعصوم الذي لا
يخلو الزمان منه، واظهار المعجزات يجوز عندنا على الأئمة والصالحين أيضا، وقد
دللنا على ذلك في كتاب " تلخيص الشافعي " (3).
فأما الامام نفسه فإنما يعلم كونه إماما - إذا كان ممن لا يوحى إليه على ما (4) في
السؤال - بقول نبي يتقدمه، ثم ينص هو على من بعده، وكذلك في مستقبل الأوقات،
فإذا اجمعوا على قول كان معصوم العصر فيه على نبوة نبي آخر علم صحة نبوته، ولا
يحتاج إلى علم معجز، بل كان ذلك كافيا في العلم بصدقة.
وقد يجوز أن يكون الامام الأول نبيا، لأنه لا تنافى بين المنزلتين، بل يصح
اجتماعهما، وإذا جاز ذلك فإذا فرضنا ان أول الأئمة نبي جاز أن يعلم امامة من بعده،
وكذلك نبوة من يأتي في المستقبل بنص عليه أو باعتبار الاجماع الذي يدخل فيهم.
فان قيل: هذا القول يؤدى إلى أن العقل لا ينفك من السمع، لأنه إذا كان لابد

(1) فأما.
(2) في الأصل: يفتقر والصحيح ما أثبتناه.
(3) تلخيص الشافعي 1: 136 - 132.
(4) في الحجرية زيادة قرر.
634

للمكلفين من امام معصوم في كل حال وفي أول حال التكليف، ولابد لهم من امام ولا
يعلم كونه إماما الا بنبوته أو بنبوة من تقدمه فينص عليه، فقد صار التكليف لا ينفك
من السمع، وذلك يأباه كثير منكم!
قيل: من أصحابنا من قال بذلك، فعلى مذهبه سقط السؤال:
ومن قال: انه لم يجوز أن يخلو العقل من السمع (1)، فإنما يريد بذلك السمع
الشرع الذي يتضمن العبادات والاحكام، فاما سمعا يتضمن الدلالة على عين الامام
المعصوم فإنه لا يجيز أحد من الطائفة خلو التكليف منه، وعلى هذا المذهب أيضا
قد سقط السؤال.
فاما كيفية اجماعهم فيكون على ضروب:
منها: ان يجمعوا على مسألة قولا، فيعلم بذلك صحة المسألة.
ومنها: أن يجمعوا عليها فعلا، فيعلم بذلك أيضا صحتها.
ومنها: ان يجمعوا عليها قولا وفعلا، بأن يقول بعضهم ويفعل بعضهم، فيعلم
بذلك أيضا صحتها.
ولابد (2) في هذه الوجوه كلها أن يعلم أنهم لم يجمعوا على ذلك بضروب من
التقية، لان ما يوجب التقية يحمل على اظهار القول بغير الحق، وكذلك يحمل على
كل فعل وان كان الحق في خلافه، فلذلك شرطنا فيه ارتفاع التقية.
ومنها: أن يعلم رضاهم بالمسألة واعتقادهم بصحتها، فان ذلك أيضا يدل
على صحتها.
وهذا الوجه لا يحتاج أن يعلم منه زوال التقية، لان الرضا من أفعال القلوب،
والتقية لا تحمل على ذلك، وانما تحمل على أفعال الجوارح.

(1) قال الشيخ المفيد في " أوائل المقالات: 44 ": (اتفقت الامامية على أن العقل محتاج في علمه ونتائجه
إلى السمع وانه غير منفك عن سمع ينبه العاقل على كيفية الاستدلال، وانه لابد في أول التكليف وابتدائه في
العلم من رسول).
(2) في الحجرية زيادة: حينئذ.
635

ولا يجوز ان يجمعوا على الذهاب عما يجب ان يعلموه، لان الامام يجب
عندنا ان يكون عالما بجميع ما نصب فيه وجعل حاكما فيه، فلا يجوز أن يكون امر
يجب أن يعلم فلا يعلمونه كلهم، لان ذلك يؤدى إلى نقض كون الامام عالما بجميع
الاحكام، ويؤدى أيضا إلى نقض كون المعصوم في جملتهم، لان المعصوم لا يجوز
أن يخل بما تجب معرفته.
فاما ما لا يجب العلم به، فلا يمتنع ان يذهب عن جميعهم، لأنه ليس هاهنا
وجه يوجب علمهم بذلك.
وإذا قلنا: ان المراعى في اجماع الطائفة باجماع العلماء بالأصول والفروع، فلا
ينبغي أن يعتبر قول من ليس هو من جملة العلماء.
فان كان هناك من لا يعلم حاله، وهل هو عالم بذلك أم لا؟ ويكون قوله مخالفا
لقول الباقين، فينبغي أن يكون خلافه خلافا، لأنا لا نأمن أن يكون ممن يعلم جميع
ذلك،
وإذا جوزنا أن يكون عالما بجميع ذلك، جوزنا أن يكون إماما، وإذا جوزناه إماما
لم يمكن اسقاط خلافه.
واعلم أن الطائفة إذا اختلف على قولين، وجوزنا كون المعصوم داخلا في
كل واحد من الفريقين، فان ذلك لا يكون اجماعا.
ولأصحابنا في ذلك مذهبان:
منهم من يقول: إذا تكافأ الفريقان، ولم يكن مع أحدهما دليل يوجب العلم، أو
يدل على أن المعصوم داخل معهم فيه، سقطا جميعا، ووجب التمسك بمقتضى
العقل من حظر أو إباحة على اختلاف مذاهبهم.
وهذا المذهب ليس بقوي عندي، لأنهم إذا اختلفوا على قولين علم أن قول الإمام
موافق لأحدهما لا محالة، لأنه لا يجوز أن يكون قوله خارجا عن القولين، لان
ذلك ينقض كونهم مجمعين على قولين، وإذا علمنا دخول قول الإمام في جملة
القولين، كيف يجوز اطراحها والعمل بمقتضى العقل؟ ولو جاز ذلك لجاز أن يتعين
أيضا قول الإمام، ومع ذلك يجوز لنا تركه والعمل بما في العقل، وذلك باطل بالاتفاق.
636

ومنهم من يقول: نحن مخيرون في الاخذ بأي القولين شئنا، ويجرى ذلك
مجرى خبرين تعارضا، ولا يكون لأحدهما مزية على الاخر، فانا نكون مخيرين في
العمل بهما، وهذا الذي يقوى في نفسي.
ومتى قيل بالمذهب الأول، فمتى فرض اجماعهم بعد ذلك على أحد القولين
كان جائزا، ويعلم باجماعهم صحة ذلك القول، وان الاخر لم يكن صحيحا، ووجب
المصير إلى ما اجمعوا عليه.
ومتى قلنا بالمذهب الأخير، لم يجز أن يجمعوا على أحد القولين، لأنهم لو
اجمعوا على أحدهما لدل ذلك على أن القول الاخر باطل، وقد قلنا انهم مخيرون
في العمل بأيهما شاءوا، واجماعهم على أحدهما ينقض ذلك.
ولسنا ممن يقول: انهم يقولون بالقولين اجتهادا ثم يؤدى اجتهادهم إلى أحد
القولين فيجمعوا عليه، لان ذلك انما يصح على مذهب من يقول بالاجماع، ولم يراع
قول المعصوم الذي نراعيه (1).
فاما إذا اجمعوا على قول، فلا يجوز أن يراعى الخلاف الذي يحدث بعده، لان
بالاجماع الأول علم قول المعصوم في تلك المسألة، وإذا علم علم أنه هو الحجة،
فكل قول يخالفه يجب أن يحكم بفساده.
وكذلك إذا اجمعوا على قولين، فاحداث القول الثالث والرابع ينبغي أن يكون
فاسدا، لان قول المعصوم موافق للقولين، والقول الثالث والرابع بخلافه، فينبغي أن
يحكم بفساده.
ولا يجوز أن تجمع الأمة على مسألتين مخطئة فيهما، لا على مذهبنا ولا على
مذهب من خالفنا:
فاما على مذهبنا: فلانه لابد أن يكون قول الإمام مع أحدهما، ولا يجوز مع
ذلك أن يكون خطأ.

(1) في الأصل: يراعيه
637

واما على مذهب مخالفينا: فلا يجوز ذلك، قالوا: لان النبي عليه السلام نفى
عنهم الخطأ خطأ عاما، ولم يخص واحدا دون ما زاد عليه، فوجب نفيهما معا. ولأن
في ضمن ذلك الاجماع على نفيهما القول بما هو الحق.
مثال ذلك: ان تفترق الأمة فرقتين، فرقة تقول المال للأخ دون الجد، فذلك
خطأ لا محالة، والأخرى تقول ان النصف للجد لا محالة على جميع الأحوال، لان في
القول بهذين المذهبين خروجا عن الاجماع الذي هو ان المال اما للجد كله أو هو
كواحد منهم (1)، وذلك [فاسد] (2) بالاتفاق.

(1) أو هو لواحد منهم.
(2) زيادة من النسخة الثانية.
638

فصل [3]
" فيما يتفرع على الاجماع، من حيث كان اجماعا
عند من قال بذلك، كيف القول على ما نذهب إليه؟ "
فمن ذلك: انهم إذا اجمعوا على الاستدلال بدليل أو دليلين هل يجوز أن
يستدل بغير ما استدلوا به أم لا.؟
فالذي نذهب إليه: انه لا يستبعد (1) أن يستدل بدليل آخر إذا كان مما يوجب
العلم، اما من جهة عقل (2)، أو قران، أو سنة مقطوع بها، وانما قلنا ذلك لان اجماعهم
على الاستدلال بدليل انما يدل على صحة ذلك الدليل وكونه موجبا للعلم، وذلك لا
يمتنع من أن يكون هناك دليل اخر لم يجمعوا عليه.
اللهم الا أن نفرض المسألة فيقال: فإذا اجمعوا على أنه لا دليل سواه، هل
يجوز الاستدلال بدليل آخر؟ فنقول حينئذ: ان ذلك لا يجوز، لان اجماعهم على أنه لا دليل غير ما استدلوا
به يوجب العلم، بان ما عدا ذلك الدليل شبهة، فلا يصح الاستدلال بها.
فان قيل: لو كان هناك دليل اخر لما وسع المعصوم الا يبينه ويترك الاستدلال

(1) لا يمتنع.
(2) حجة عقل.
639

به حتى يستدركه انسان آخر!
قيل له: انما يجب أن يبين المعصوم ما يقف إزاحة العلة عليه، وقد بين ما هو
دليل موجب للعلم وهوما اجمعوا عليه، فاما غيره من الأدلة فقد سبق بيانه من الله
تعالى ومن الرسول، وجاز أن لا يجدد المعصوم بيانه، وانما يجب عليه بيان ما لا
يكون هناك ما يقوم مقامه.
فان قيل: فعلى هذا كان يجوز أن لا يبين أيضا ما قد بينه (1) وأجمعوا عليه، لان
هناك ما يقوم مقامه في إزاحة العلة، وهو الذي استدل به من بعد (2).
قيل: كذلك نقول، ولو لم نبين أصلا شيئا إذا هناك طريق للمكلف إلى علم
ما كلفه لكان ذلك جائزا سائغا، وانما يجب عليه بيان ما هو موقوف عليه، ولا يكون
هناك ما يقوم مقامه.
ومن ذلك: انهم إذا اجمعوا على العمل بخبر هل يقطع على صحة ذلك
الخبر أم لا؟ وهل يعلم أنهم قالوا ما قالوه لأجل الخبر أم لا؟
فالذي نقوله في ذلك انهم إذا اجمعوا على العمل بمخبر خبر، وكان الخبر من
اخبار الآحاد - لأنه إذا كان من باب المتواتر فهو يوجب العلم فلا يحتاج إلى الاجماع
فيكون قرينه في صحته - فإنه يحتاج أن ينظر في ذلك:
فان اجمعوا على أنهم قالوا ما قالوه لأجل ذلك الخبر، قطعنا بذلك على أن
الخبر صحيح صدق.
وان لم يظهر لنا من أين قالوه، ولا ينصوا لنا على ذلك، فانا نعلم باجماعهم ان
ما تضمنه الخبر صحيح، ولا يعلم بذلك صحة الخبر، لأنه لا يمتنع أن يكونوا قالوا بما
وافق مخبر الخبر بدليل اخر، أو خبر اخر أقوى منه في باب العلم، أو سمعوه من
الامام المعصوم عليه السلام فاجمعوا عليه ولم ينقلوا ما لأجله اجمعوا اتكالا على

(1) بيناه.
(2) من بعد.
640

الاجماع، وكل ذلك جائز فيجب بذلك التوقف في هذا الخبر ولا يقطع على صحته،
ويجوز كونه صدقا وكذبا، وان قطعنا على أن مخبره صحيح يجب العمل به.
ومتى فرضنا على أنهم اجمعوا على أنه ليس هناك ما لأجله اجمعوا على ما
اجمعوا عليه غير هذا الخبر، فان هذا يوجب القطع على صحة ذلك الخبر، لان ذلك
يجرى مجرى ان يقولوا اجمعنا لأجل هذا الخبر، لأنه لا فرق بين ان يسندوا
اجماعهم إلى الخبر بعينه فيعلم به صحته، ومن (1) أن ينفوا إسنادهم (2) إلى سواه فان
به يعلم أيضا صحته.
فان قيل: كيف يجوز أن يجمعوا على مخبر خبر ثم لا ينقلوه أصلا، وهو أصل
لصحة اجماعهم.
قلنا: يجوز ذلك لان اجماعهم أقوى من ذلك، لأنه مقطوع به ولا يحتمل
التأويل، ولو نقلوا ذلك الخبر لكان يجوز أن يصير خبرا واحدا فيخرج بذلك من باب
كونه دلالة إلى أن يوجب غلبة الظن، فيعلم بذلك أن الاجماع أقوى.
ومن ذلك (3): القول إذا ظهر بين الطائفة ولم يعرف له مخالف، هل يدل ذلك
على أنه اجماع منهم على صحة أم لا؟
فالذي نقول: ان القول إذا ظهر بين الطائفة، ولم يعرف له مخالف، احتاج ان
ينظر فيه:
فان جوزنا أن يكون قول من نجوزه معصوما بخلافه، لا ينبغي أن نقطع على
صحته.
وان لم نجوز أن يكون قول المعصوم بخلافه، قطعنا على صحة ذلك القول.
فان قيل: وأي طريق لنا إلى أن نعلم أن قول المعصوم يوافقه أو يخالفه؟

(1) وبين.
(2) إسناده.
(3) أي ومما يتفرع على الاجماع من حيث كان إجماعا، وهذا هو الفرع الثاني وقد سبق للمصنف أن ذكر الفرع
الأول في صفحة 639.
641

قلنا: قد نعلم ذلك بأن يكون هناك دليل يوجب العلم يدل على صحة ذلك،
فيعلم به ان القول موافق لقول المعصوم لمطابقته للدليل الموجب للعلم، وإذا كان
هناك دليل يدل على خلاف ذلك القول علمنا أن المعصوم قوله يخالفه، وإذا خالفه
وجب القطع على بطلان ذلك القول.
[فان عدمنا الطريقين معا، ولم نجد ما يدل على صحة ذلك القول] (1) ولا
على فساده، وجب القطع على صحة ذلك القول، وانه موافق لقول المعصوم، لأنه لو
كان قول المعصوم مخالفا له، لوجب أن يظهره والا كان يقبح التكليف الذي ذلك
القول لطف فيه (2)، وقد علمنا خلاف ذلك.

(1) زيادة من النسخة الثانية.
(2) اختلف المتكلمون في أصل اللطف، فالأشاعرة أنكروه وأثبته العدلية من الامامية والمعتزلة والزيدية،
ويجب التنبيه إلى أن منشأ الخلاف بينهما يعود إلى أن العدلية ترى أن اللطف يرتبط بأصل العدل ومبدأ خلق
العباد لأفعالهم، وأن اللطف واجب على الله تعالى، بينما ينكره الأشاعرة. والمقصود من اللطف عند العدلية
هو الفعل الذي يقرب العبد من الطاعة ويبعده عن المعصية بحيث لم يكن له حظ في التمكين ولا يبلغ حد
الالجاء. وبعبارة أخرى: اللطف هو ان يمكن الله سبحانه العبد من الطاعة وذلك بتوفير القدرة والصحة له و
إزالة الموانع التي تحول بينه وبين الطاعة، وكل هذا مترتب على التكليف، لان التكليف ليس الا تعريض
العبد للثواب وإبعاده عن المعاصي والعقاب. فإذا عرضه الله للثواب فإنه لابد ان يمكنه من الحصول على هذا
الثواب اقتضاء لعدله ورحمة بعباده، وجميع تعريفات العدلية من الامامية والمعتزلة تدور حول هذا المعنى،
وهو الفعل الذي لولاه لما كان الانسان قريبا إلى الطاعة بعيدا عن المعصية. وقسم القاضي عبد الجبار
اللطف إلى قسمين: فإنه قد يسمى توفيقا وذلك حينما يوافق فعل الطاعة فيكون صاحبه موفقا، وقد يسمى
عصمة حينما يمنع معه وقوع فعل المعصية على وجه الحتم، وهذا النوع من اللطف خاص بالأنبياء، لكن
الشيخ الطوسي قسم اللطف إلى التوفيق واللطف المجرد عن أي وصف سوى انه لطف لا غيره.
ويترتب على تبعية اللطف للتكليف بناء على مذهب العدلية حرية الانسان في تصرفاته واختياره بأن
لا يكون ممنوعا منه ولا ملجأ ومضطر إلى فعله، إذ لو كان اللطف يلجئ الانسان ويضطره إلى فعل الطاعة
فإنه لا يسمى لطفا إذ لا يستحق المكلف حينئذ الثواب بالاختيار، وأيضا لو عجز عن احضار الفعل لوجود
المانع فإنه لا يستحسن عقابه. ولم يشذ عن المعتزلة في القول باللطف إلا ضرار بن عمرو، وبشر بن
المعتمر، وجعفر بن حرب.
أما الأشاعرة المجبرة فإنهم لا يقولون بوجوب اللطف على الله تعالى ويقولون: حتى وان علم سبحانه أن
المكلف يختار الايمان عند فعل اللطف فله أن يفعله وان لا يفعله بل هو متفضل به إن شاء فعله فيكون
إنعاما على العبد وإن شاء لم يفعل.
وفي المقام فإن المصنف حينما يقول: " لأنه لو كان قول المعصوم مخالفا... " يقصد به هذا المفهوم
الذي شرحناه على مذهب أهل العدل [راجع: الشافعي في الإمامة 1: 167 - 161]، فبناء على وجوب
اللطف على الله تعالى، فإنه يجب بعثة الأنبياء والأوصياء والأئمة، ويجب على هؤلاء بيان التكاليف التي هي
ألطاف للعباد ومقربهم إلى الثواب ومبعدهم عن العقاب.
انظر: " المغني للقاضي عبد الجبار 1: 291 و 13: 4 و 5 و 12، أوائل المقالات: 59، الانتصار للخياط:
64، أصول الدين للجرجاني: 144 - 130، الاقتصاد: 130، الذخيرة: 186 المواقف: 328، شرح الأصول
الخمسة: 64 و 519 و 780، المنقذ من التقليد 1: 297).
642

ومن قال من أصحابنا (1) على ما حكيناه عنهم فيما تقدم: " انه لا يجب على
المعصوم اظهار ما عليه من حيث إن من سبب غيبته هو المسبب لفوت ما يتعلق
بمصلحته فيكون قد اتى من قبل نفسه، كما أن ما يفوته من الانتفاع بتصرف الامام
وأمره ونهيه قد اتى فيه من قبل نفسه "
ينبغي أن يقول: يجب أن يتوقف في ذلك القول، ويجوز كونه موافقا لقول
الامام ومخالفا له، ويرجع في العمل إلى ما يقتضيه العقل حتى يقوم دليل يدل على
وجوب انتقاله عنه.
وقد قلت: ان هذه الطريقة غير مرضية عندي، لأنها تؤدى إلى أن لا يستدل
باجماع الطائفة أصلا، لجواز أن يكون قول الإمام مخالفا لها، ومع ذلك لا يجب عليه
اظهار ما عنده، وقد علمنا خلاف ذلك.

(1) القائل هو الشريف المرتضى (ره) حيث نقل المصنف رأيه بقوله: " وذكر المرتضى علي بن الحسين
الموسوي قدس الله روحه أخيرا... " في صفحة 631.
643

الباب العاشر
الكلام
في القياس
645

فصل [1]
" في ذكر حقيقة القياس، واختلاف الناس في ورود العبادة به "
حد القياس: " هو اثبات مثل حكم المقيس عليه في المقيس ".
ولا فرق في ذلك بين أن يكون القياس عقليا أو شرعيا، وانما يختلفان من
وجوه آخر سنذكرها، لا تؤثر في أن الحقيقة ما قلناه.
والذي يدل على صحة ما قلناه من الحد: ان الانسان متى أثبت للفرع مثل
حكم الأصل كان قايسا ومتى لم يثبت له مثل حكمه وان علم جميع صفاته لا يكون
قايسا، فعلم بذلك ان الحقيقة ما قلناه.
" والاثبات " الذي ذكرناه لأمر يرجع إلى عرف الشرع، عبارة عن العلم وما
جرى مجراه من الاعتقاد، ثم الخبر تابع لذلك، وهو في أصل اللغة (1) عبارة عن
" الايجاب " كما يقال: " أثبت السهم في القرطاس " أي أوجبته، ثم يعبر عن
الاعتقاد، والظن، والخبر (3)، لكن بعرف الشرع يجب أن يقصر على ما قلناه.

(1) في أغلب مصادر اللغة التي بين أيدينا أن " الاثبات " بمعنى الدوام، والاستقرار، والإقامة، والتحقق، والتأكد،
ولم يرد بمعنى " الايجاب من مرادفات المعاني التي ورد ذكرها في المصادر.
(2) في جميع النسخ " الايجاد " وهو تصحيف والصحيح ما أثبتناه.
(3) قال المصنف في صفحة 13: " ويعبر أيضا في الخبر عن وجوب الشئ كما يقال في المجبرة أنهم
مثبتة ".
647

وفي الناس من قال: حد القياس هو: " اثبات مثل حكم الأصل في الفرع بعلة
جامعة بينهما " (1).
وهذا أيضا نظير لما قلناه، غير أن ما قلناه من العبارة أخصر (2) لان، قولنا:
" المقيس والمقيس عليه " يغنى عن ذكر علة جامعة بينهما، لان لفظة المقيس تتضمن
انه جمع بينهما بعلة فلا يحتاج ان يذكر في اللفظ، لأنه متى لم يكن جمع بينهما بعلة
لا يكون ذلك قياسا.
وقد أكثر الفقهاء والأصوليون في حد القياس (3)، وأحسن الألفاظ ما قلناه.

(1) هذا التعريف لأبي الحسين البصري في " المعتمد 2: 443 ".
(2) في الأصل: أخص.
(3) وإليك تعاريف جماعة من أعيان الأصولين والمتكلمين:
1 - القاضي أبو بكر الباقلاني: " القياس حمل معلوم على معلوم في اثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر
جامع بينهما من اثبات حكم أو صفة أو نفيهما " وقد اختار هذا التعريف الجويني، والغزالي، والرازي، وقال
الآمدي: هو مختار أكثر أصحابنا.
2 - القاضي عبد الجبار: " القياس حمل الشئ في بعض أحكامه بضرب من الشبهة ".
3 - أبو هاشم الجبائي: " القياس حمل الشئ على غيره وإجراء حكمه عليه ".
4 - الشريف المرتضى: " القياس إثبات حكم المقيس عليه للمقيس "، وإليه ذهب الشيخ الطوسي.
5 - أبو الحسين البصري: " القياس هو اثبات حكم الأصل في الفرع لاجتماعهما في علة الحكم ".
6 - أبو منصور الماتريدي: " القياس إبانة مثل حكم أحد المذكورين بمثل علة في الاخر بالرأي ".
7 - أبو إسحاق الشيرازي: " القياس حمل فرع على أصل في بعض أحكامه بمعنى يجمع بينهما ".
8 - ابن الحاجب: " القياس مساواة فرع لأصل في علة حكمه ".
9 - سيف الدين الآمدي: " القياس عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلة المستنبطة من حكم
الأصل ".
10 - ابن السبكي: " هو حمل معلوم على معلوم لمساواته في علة حكمه عند الحامل ".
انظر: " الرسالة: 476، الذريعة 2: 669، المعتمد 2: 195 و 443، اللمع: 93، شرح اللمع 2: 755،
الاحكام للآمدي 3: 171 - 166، المنخول: 324 - 323، المستصفى 2: 54، الاحكام لابن حزم 7: 368
ميزان الأصول 2: 793، أصول السرخسي 2: 118، ارشاد الفحول: 295، الأبهاج 3: 5 شرح المنهاج 2:
634، روضة الناظر: 247، تقريب الوصول: 131، مباحث العلة في القياس: 39 - 25 ".
648

وللقياس شروط وهي:
انه لابد أن يكون الأصل الذي هو المقيس عليه وحكمه معلومين.
ويعلم أيضا الفرع الذي هو المقيس، والشبه الذي الحق أحدهما بالآخر.
وان كان القياس عقليا فلابد من كون العلة في الأصل معلومة كونها علة، وان
كان شرعيا اجازه الفقهاء.
ومن أثبت القياس أن تكون مظنونة، ويخالف القياس العقلي السمعي فيما
يرجع إلى احكام العلة، لان العلة العقلية موجبة ومؤثرة تأثير الايجاب، والسمعية -
عند من قال بها - ليست كذلك، بل هي تابعة للدواعي والمصالح المتعلقة بالاختيار،
ولا دخول للايجاب فيما يجري هذا المجرى، وهي في القياس العقلي لا تكون الا
معلومة، وفي السمع لا يجب أن تكون معلومة، بل يجوز أن تكون مظنونة، ومتى
علمت في العقلي علق الحكم بها، ولم يحتج في تعليق الحكم عليها إلى دليل
مستأنف، وليس كذلك علة السمع فإنها عند أكثرهم لا يكفي في تعليق الحكم بها في
كل موضع ان تعلم، بل يحتاج فيها إلى التعبد بالقياس.
وعلة السمع قد تكون أيضا مجموع أشياء، وقد يحتاج إلى شروط في كونها
علة، وقد يكون علة في وقت دون وقت، وفي عين دون أخرى، والوقت واحد، عند
من أجاز تخصيص العلة، وقد تكون العلة الواحدة علة للأحكام كثيرة.
وكل هذا
وأشباهه تفارق فيه علة العقل لعلة الشرع.
[واختلف (1) الناس في القياس في الشريعة، فمنهم من نفاه، ومنهم من
أثبته] (2).

(1) يبدأ المصنف من هنا إلى نهاية بحث القياس في صفحة 719 بنقل نص كلام الشريف المرتضى في
(الذريعة 2: 791 - 673) مع بعض التصرفات البسيطة التي لا تؤثر في تغيير معاني الاستدلالات التي
أوردها المرتضى رحمه الله.
(2) الزيادة من النسخة الثانية. وقد اختلف الأصوليون في حجية القياس وكونه أصلا ومصدرا للتشريع الفقهي
وعدم ذلك، وقد كثر الحديث بين الفقهاء حول القياس وحجيته كثرة غير متعارفة وكتبت عنه المجلدات،
وأهم المذاهب في ذلك مذهبان:
المذهب الأول: إن القياس أصل من أصول التشريع ومصدر لاستنباط الأحكام الشرعية، وتعد حجة
شرعية، بمعنى ان القياس أصل ودليل نصه الشارع ليستنبط منه من هو أهل الاستنباط الحكم الشرعي، وشأنه
في ذلك شأن الكتاب والسنة والاجماع. وهذا هو رأي جمهور أهل السنة من السلف والخلف، ولكنهم
اختلفوا في ذلك، فمنهم من يرى جوازه عقلا وشرعا، ومنهم من يرى وجوبه عقلا ويأتي الشرع مؤكدا له،
وآخرون يرون وجوبه عقلا فقط وغيرهم يرى وجوبه عقلا وشرعا.
المذهب الثاني: ان التعبد بالقياس مستحيل وممنوع عقلا وشرعا. وهذا رأي الامامية والظاهرية.
وأما المذاهب المتفرعة عن هذين المذهبين فهي:
1 - القول بالمنع شرعا (لا عقلا) عن العمل بالقياس في الاستنباطات الشرعية، وهذا هو رأي الامامية
استنادا إلى تواتر اخبار أهل البيت - عليهم السلام - في الردع عن العمل به.
2 - القول باستحالة التعبد بالقياس عقلا، وهو رأي بعض المعتزلة كالنظام، والظاهرية.
3 - القول بوجوب التعبد بالقياس عقلا.
4 - القول بأنه لا حكم للعقل في القياس بإحالة ولا إيجاب ولكنه في مظنة الجواز.
5 - القول بوجوب التعبد به شرعا وإن لم يوجبوه من وجهة عقلية، وهذا قول بعض الشافعية.
6 - القول بالجواز العقلي ووقوع التعبد الشرعي، وهو قول جمهور أهل السنة.
انظر " المعتمد 2: 200 التبصرة: 419، المستصفى 2: 56 الاحكام للآمدي 4: 272، للمع: 930،
شرح اللمع 2: 760، الذريعة 2: 675، التذكرة بأصول الفقه: 38، روضة الناظر: 251، المنخول: 330، ميزان
الأصول 2: 798 أصول السرخسي 2: 118، ارشاد الفحول: 296، الأبهاج 3: 11، شرح المنهاج 3: 638،
الأصول العامة للفقه المقارن: 358 - 303، مباحث العلة في القياس: 55 - 40 والمصادر الواردة فيه،
ملخص ابطال القياس والرأي لابن حزم، الاحكام لابن حزم 7: 483 - 368 و 8: 519 - 487 ".
649

واختلف من نفاه.
فمنهم: من أحال ورود العبادة به جملة، وأنكر أن يكون طريقا لمعرفة شئ
من الاحكام، وربما أحال من حيث تعلق بالظن (1) الذي يخطئ ويصيب، أو من
حيث يؤدى إلى تضاد الاحكام وتناقضها.
ومنهم: من أبطله من حيث لا سبيل إلى العلم بماله يثبت الحكم في الأصل،
ولا إلى غلبة الظن في ذلك لفقد دلالة وامارة تقتضيه، وهذه الطريقة التي كان ينصرها

(1) في الأصل: بطن.
650

الشيخ المفيد رحمه الله (1).
ومن الناس: من أجاز التعبد به، ونفاه (2) من حيث وقعت الشريعة على وجه لا
يسوغ معه القياس، وهذه الطريقة محكية عن النظام (3).
وذهب بعض أصحاب الظاهر من داود وغيرهم: إلى أنه لا يجوز أن يقتصر الله
تعالى بالمكلف على أدون البيانين رتبة مع قدرته على أعلاهما (4)
ومنهم: من نفاه مع اجازته ورود العبادة به من حيث لم يثبت التعبد به، أو من
حيث ورود السمع بخلافه (5).
فاما من أثبته فاختلفوا:
فمنهم: من أثبته عقلا، وهم شذاذ غير محصلين (6).
ومنهم: من أثبته سمعا وزعم أن العقل لا يدل على ثبوته، وهم المحصلون من
مثبتي القياس، وفيهم الكثرة من الفقهاء والمتكلمين (7)، وكلامهم أقوى شبهة.

(1) شيخنا أبو عبد الله
(2) في الأصل: أنفاه.
(3) روي عن النظام قوله: " ان الله عز وجل قد دل بوضع الشريعة على أنه منعنا من القياس لأنه فرق بين
المتفقين وجمع بين المفرقين، فأباح النظر إلى شعر الأمة الحسناء وحظر النظر إلى شعر الحرة وإن كانت
شوهاء... " وتابعه على هذا الرأي قوم من المعتزلة البغداديين فمنهم يحيى الإسكافي، وجعفر بن مبشر،
وجعفر بن حرب.
انظر " المعتمد 2: 230، التبصرة: 419، الاحكام 4: 272 ".
(4) قال الزرشكي في " البحر المحيط " نقلا عن أبي منصور ان داود قال " لا حادثة إلا وفيها حكم منصوص
عليه في القرآن أو السنة، أو مدلول عليه بفحوى النص ودليله، وذلك مغن عن القياس "
انظر " المعتمد 2: 208 التبصرة: 424 هامش رقم (2)
(5) انظر المصادر الواردة في ذيل التعليقة رقم (3) صفحة 648.
(6) ذهب أبو الحسين البصري، والقفال إلى أن العقل يدل على ورود التعبد بالقياس، ونسبه الشيرازي في اللمع
لأبي بكر الدقاق. انظر: " اللمع: 93، شرح اللمع 2: 760، الاحكام 4: 272، المعتمد 2: 200 ".
(7) انظر " التبصرة: 425 - 424، الذريعة 2: 675، اللمع: 93، شرح اللمع 2: 761، الاحكام للآمدي 4: 272،
المعتمد 2: 215، روضة الناظر: 251، المنخول: 330، ميزان الأصول 2: 798، أصول السرخسي 2: 118،
إرشاد الفحول: 296، الأبهاج 3: 11، شرح المنهاج 2: 638 ".
651

والذي نذهب إليه، وهو الذي اختاره المرتضى رحمه الله (1) في كتابه (2) في
ابطال القياس: " ان القياس محظور استعماله في الشريعة، لان العبادة لم تأت به، وهو
مما لو كان جائزا في العقل مفتقرا في صحة استعماله في الشرع إلى السمع القاطع
للعذر (2).
ويلحق بهذا في القوة الطريقة التي كان ينصرها شيخنا (3) رحمه الله من منع
حصول الظن وفقد الامارات التي يحصل عندها الظن.
وذكر المرتضى رحمه الله ان لهذه الطريقة بعض القوة (4).
ونحن نتكلم على هذه المذاهب كلها على وجه الاختصار، ثم نبين نصرة ما
اخترناه من بعد انشاء الله.

(1) سيدنا المرتضى رحمه الله.
(2) قال الشريف المرتضى في كتاب " الذريعة إلى أصول الشريعة " 2: 675. (والذي نذهب إليه ان القياس
محظور في الشريعة استعماله، الان العبادة لم ترد به، وإن كان العقل مجوزا ورود العبادة باستعماله).
(3) هو أبو عبد الله محمد بن النعمان، الشيخ المفيد - رحمه الله - حيث قال في التذكرة بأصول الفقه: 38 ":
" فأما القياس والرأي فإنهما عندنا في الشريعة ساقطان لا يثمران علما، ولا يخصان عاما، ولا يعمان خاصا،
ولا يدلان على حقيقة "، وقد شرح الشريف المرتضى في (الذريعة 2: 683 - 681) استدلال الشيخ المفيد
على ابطال القياس شرحا وافيا.
(4) الذريعة 2: 683.
652

فصل [2]
" في الكلام على من أحال القياس عقلا على اختلاف عللهم "
اما من عقلا (1) من حيث لا يمكن بأن يكون طريقا لمعرفة الاحكام،
فنحن إذا بينا ان ذلك ممكن جرى مجرى سائر الأدلة من النصوص وغيرها من
الكتاب والسنة
والذي يدل على صحة معرفة الاحكام به: انه لا فرق في صحة معرفتنا بتحريم
النبيذ المسكر بين أن ينص الله على تحريم المسكر من الأنبذة، وبين أن ينص على
تحريم الخمر وينص على أن العلة في تحريمها شدتها، أو يدلنا بدليل غير النص
على أنه حرم الخمر لهذه العلة، أو ينصب لنا امارة تغلب عند نظرنا فيها ظننا ان
تحريمها لهذه العلة، مع ايجاب القياس علينا في الوجوه كلها، لان بكل طريق من
هذه الطرق نصل إلى المعرفة بتحريم النبيذ، فمن دفع جواز العبادة بأحدها كمن دفع
جواز ورودها بسائرها.
ولما ذكرناه أمثال في العقليات، لأنه لا فرق في العلم بوجوب تجنب سلوك
بعض الطرق بين أن نعلم فيه سبعا مشاهدة، وبين أن نعلمه بخبر يوجب العلم، أو

(1) وهم جمهور فقهاء العامة، إلا الظاهرية ونفر قليل لا يعتد العامة بآرائهم. انظر أقوالهم واستدلالاتهم في
المصادر الواردة في هامش رقم (7) صفحة 651.
653

خبر يقتضى الظن، والأفضل (من) (1) جميع ذلك في الحكم، الذي ذكرناه، ما (2) بين
أن ينص لنا على صفة الطريق الذي فيه السبع، أو ينصب لنا امارة على تلك الصفة.
فاما من أحاله من حيث تعلق بالظن الذي يخطئ ويصيب، فينقض قوله
بكثير من الاحكام في العقل والشرع يتعلق بالظن، الا ترى انا نعلم في العقل (3) حسن
التجارة عند ظن الربح، ونعلم قبحها عند الظن للخسران (4)، ونعلم قبح سلوك الطريق
عند غلبة الظن بان فيه سبعا أو لصا أو ما يجرى مجراهما، ونعلم وجوب النظر (5) في
طريق معرفة الله تعالى عند دعا الداعي، أو الخاطر (6) الذي يحصل عنده الظن
والخوف، ووجوب معرفة الرسل والنظر في معجزاتهم على هذه الوجه.
فاما تعلق الأحكام الشرعية بالظن فأكثر من أن تحصى، نحو وجوب التوجه
إلى القبلة عند الظن بأنها في جهة مخصوصة، وتقدير النفقات، وأرش الجنايات،
وقيم المتلفات، والعمل بقول الشاهدين.
ويجب أن يعلم أن الظن وان كان طريقا إلى العلم بوجوب احكام على نحو ما
ذكرنا، وساوى هذا الوجه العلم، لأنه لا فصل بين أن نظن جهة القبلة، وبين أن نعلمها
في وجوب التوجه إليها، وكذلك لا فصل بين أن نظن الخسران في التجارة أو نعلمه
في قبحها، فإنه لا يساوى العلم من وجوه اخر ولا يقوم فيها مقامه، لان الفعل الذي
يلزم المكلف فعله لابد أن يكون معلوما له، أو في حكم المعلوم بأن يكون متمكنا
من العلم به، أو يكون سببه معلوما إذا تعذر العلم بعينه.
ولابد أيضا ان يعلم وجوبه ووجه وجوبه اما على جملة أو تفصيل.

(1) بين.
(2) و.
(3) بالعقل.
(4) بالخسران.
(5) في الأصل: الظن.
(6) في المصدر: أو خطور الخاطر.
654

والظن في كل هذه الوجوه لا يقوم مقام العلم، لأنه متى لم يكن عالما بما ذكرناه
أولا، أو متمكنا من العلم به، لم يكن علته مزاحة فيما يعتد به وجرى مجرى الا
يكون قادرا، لأنه متى لم يعلم الفعل ويميزه لم يتمكن من القصد إليه بعينه، وبالظن
لا يتميز الأشياء، وانما تتميز بالعلم، ومتى لم يكن عالما بوجوب الفعل كان مجوزا
كونه غير واجب، فيكون متى أقدم عليه مقدما على ما لا يأمن
كونه قبيحا، والاقدام
على ذلك في القبح يجرى مجرى الاقدام على ما يعلم قبحه.
ومتى علم كونه واجبا، فلابد من أن يعلم وجه وجوبه على جملة أو تفصيل،
لأنه لو كان ظانا لوجه وجوبه كان مجوزا انتفاء وجه الوجوب عنه، ودعا الامر إلى تجويز كونه غير واجب.
وهذه الجملة إذا تؤملت بطل بها قول من أنكر تعلق الاحكام بالظنون.
ومن توهم على من سلك هذه الطريقة انه قد أثبت الاحكام بالظنون فقد أبعد
نهاية البعد، لان الاحكام لا تكون الا معلومة ولا تثبت الا من طريق العلم، إلا أن
الطريق إليها قد يكون تارة العلم وأخرى الظن، لأنا (1) إذا ظننا في طريق سبعا وجب
علينا تجنب سلوكه، فالحكم الذي هو قبيح سلوكه ووجوب تجنبه معلوم لا مظنون.
وان كان الطريق إليه هو الظن، ومتعلق الظن غير متعلق العلم، لان الظن يتعلق
بكون السبع في الطريق، والعلم يتعلق بقبح سلوك الطريق، والقول في العلم بوجوب
التوجه إلى جهة القبلة عند الظن بأنها في بعض الجهات يجرى على ما ذكرناه، ويكون
الحكم فيه معلوما وان كان الطريق إليه مظنونا.
فاما من منع من القياس من حيث يؤدى إلى تضاد الاحكام، فاعتماده على أن
يقول: إذا كان للفرع شبه بأصل محرم واصل محلل، فلابد على مذهب القايسين (2)
من رده إليهما جميعا، وهذا يؤدى في العين الواحدة إلى أن يكون محرمة محللة.

(1) لأننا.
(2) القائلين بالقياس.
655

ومن أثبت القياس يقول في جواب ذلك أن كان الفرع مشتبها لأصل محرم
واصل محلل عند اثنين، لزم كل واحد منهما ما أداه اجتهاده إليه، فيلزم التحريم من
أشبه عنده الأصل المحرم، والتحليل من أشبه عنده الأصل المحلل، ولا تضاد في
ذلك وان (1) أشبه الأصلين المختلفين عند واحد، فهو عند كثير منهم يكون مخيرا
بين الامرين، فأيهما اختار لزمه، كما يقال في الكفارات الثلاث، ولا تضاد في ذلك.
وعند قوم منهم: انه لابد في هذا الموضع من ترجيح يقتضى حمل الفرع على
أحدهما دون صاحبه.
فاما من أبطل القياس من حيث لا طريق إلى غلبة الظن في الشريعة - وهي
الطريقة التي حكيناها عن شيخنا رحمه الله - فوجه اعتماده عليها ان نقول: من قد
علمنا أن القياس لابد فيه من حمل فرع على أصل بعلة أو شبه والعلة التي يتعلق
الحكم بها في الأصل لا يصح من أن يكون طريق اثبات كونها علة العلم أو الظن،
والعلم لا مدخل له في هذا الباب.
وجميع من أثبت القياس في الشرع - الا الشذاذ منهم - يجعلون العلة
المستخرجة المستدل عليها تابعة للظن، وانما يجعلها معلومة من طريق الاستخراج
من حيث اعتقد ان العلل الشرعية أدلة توصل إلى العلم كالعقليات، وقول هؤلاء
واضح البطلان لا معنى للتشاغل به.
ولأنا إذا بينا ان الظن لا يصح حصوله في علل الشرع، فالأولى ان لا يحصل
العلم، وان كان العلة تثبت علة بالظن، فنحن نعلم أن الظن لابد له من امارة وطريق،
وإلا كان مبتدأ لا حكم له.
وليس في الشرع امارة على أن التحريم في الأصل المحرم انما كان لبعض
صفاته، فكيف يصح ان يظن ذلك؟ وليس هذا ما لا يزالون يمثلون به من ظن الربح،
والخسران، أو التجارة، أو الهلاك، وان القبلة في جهة مخصوصة، وغلبة الظن في قيم

(1) في الأصل: ما إن.
656

المتلفات، وأرش الجنايات التي يستند الظن فيها إلى عادات، وتجارب، وامارات
معلومة متقررة، ولهذا نجد من لم يتجر قط ولم يخبره مخبر عن أحوال التجارة لا
يصح ان نظر فيها ربحا ولا خسرانا، وكذلك من لم يسافر ولم يخبر عن الطريق لا
يظن نجاة ولا عطبا، ومن لم يعرف امارة في القيم يمارسها لا يظن أيضا فيها شيئا.
وجميع ما يغلب فيه الظنون متى تأملته وجدته مستندا إلى ما ذكرناه مما لا
يصح دخوله في الشرعيات على وجه ولا سبب.
ولقوة ما أوردناه، ما قال قوم من أهل القياس: ان العلل الشرعية لا تكون الا
منصوصا عليها اما صريحا أو تنبيها (1)، ونزل الباقون رتبه فقالوا: لا تثبت الا بأدلة
شرعية.
والذي يمكن أن يقرض به على هذه الطريقة ان يقال: من اعتمد هذه
الطريقة على هذا التلخيص لابد من أن يكون مجوزا للعبادة به ومعرفة الاحكام من
جهته لو حصل الظن الذي منع من حصوله، ولابد من أن يقول: ان الله تعالى لو نص
على العلة، أو امر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالنص عليها، وتعبد بالقياس
لوجب حمل الفروع على الأصول.
بل الذاهب إلى هذه الطريقة ربما (2) يقول: لو نص الله تعالى على العلة في
تحريمه مثلا للخمر وذكر انها الشدة، لوجب حملها فيه هذه العلة عليها وان لم يتعبد
بالقياس، لأنه يجرى مجرى ان ينص على تحريم كل شديد.
وان كان هذا غير صحيح، لان العلل الشرعية انما تنبئ عن الدواعي إلى

(1) هذا الشرط ذكره بعض الشافعية وبعض الحنفية، وهو مذهب المالكية، وعللوا لهذا الشرط بأن المقصود
من الوصف المعلل به إثبات الحكم في الفرع، ومتى كان خفيا في الأصل فإنه لا يمكن إثبات الحكم به في
الفرع.
انظر المصادر التي ورد ذكرها في كتاب (مباحث العلة: 203) وهي: " البحر المحيط 3: 180، تيسير
التحرير 3: 302، مفتاح الوصول: 171، جامع الجوامع 2: 234 نشر البنود 2: 132 ".
(2) في الأصل: وإنما
657

الفعل، أو عن وجه المصلحة.
وقد يشترك الشيئان في صفة، فيكون في أحدهما داعية إلى فعله دون الاخر
مع ثبوتها فيه، وقد يكون مثل المصلحة مفسدة، وقد يدعو الشئ إلى غيره في
حال دون حال، وعلى وجه وقدر دون [وجه] (1) وقدر (2) وهذا معروف في
الدواعي، ولهذا جاز أن نعطى لوجه الاحسان فقيرا دون فقير، ودرهما دون درهم،
وفي حال دون حال، وان كان فيما لم نفعله الوجه الذي لأجله فعلنا بعينه.
فإذا صحت هذه الجملة، لم يكن في النص على العلة ما يوجب التخطي،
وجرى النص على العلة مجرى النص على الحكم في قصره على موضعه، إذ قد بينا
ان ماله كان صلاحا وداعيا إلى الفعل لا يمكن ان يشترك فيه المختلفان في هذا
الحكم.
وليس لاحد ان يقول: إذا لم يوجب النص على العلة التخطي كان عبثا.
وذلك أنه يفيدنا ما لم نكن نعلمه لولاه، وهو ماله كان الفعل المعين مصلحة.
وفي الناس من فضل بين داعي الفعل وداعي الترك فقال: إذا كان النص على
علة الفعل لم يجب القياس الا بدليل مستأنف - وان كان واردا بعلة الترك - وجب
التخطي من غير دليل مستأنف، وفصل بين الامرين بان ماله يترك أحدنا الفعل له،
يترك غيره إذا شاركه فيه، لأنه لا يجوز أن يترك اكل السكر لحلاوته ويأكل شيئا حلوا،
ولا يجب هذا في الفعل لأنه قد يفعل الفعل لأمر يثبت في غيره وان لم يكن فاعلا له.
وهذا صحيح لا شبهة فيه، ومتى كان النص الوارد بالعلة كاشفا عن الداعي
ووجه المصلحة، أو عن الداعي فقط، فاما ان كان مختصا بوجه المصلحة لم يجب
ذلك لان الدواعي [قد يتفق تارة وتختلف وجوه المصالح وتختلف الدواعي] (2) مع

(1) وعلى وجه دون وجه، وقدرا دون قدر.
(2) زياد من النسخة الثانية.
658

اتفاق وجوه المصالح.
وأقوى ما يدخل على هذه الطريقة ان يقال: قد بينتم استناد الظنون إلى
العادات والتجارب، وان الشرع لا يتم ذلك فيه، وهذا صحيح، فلم أنكرتم ان تحصل
فيه طريقة يحصل عندها الظن وان لم تكن عادة ولا تجربة؟
بل يجرى في حصول الظن عندها مجرى ما ذكرتم، وهذا مثل ان نجد العين
المسمات خمرا يحصل على صفاته كثيرة، فتكون مباحة غير محرمة، فمتى وجدت
فيها الشدة المخصوصة حرمت، ومتى خرجت عن الشدة بأن تصير خلا حلت،
فيظن عند ذلك أن العلة هي الشدة، لان الذي ذكرناه من حالها امارة قوية على كونها
علة، فمتى انضم إلى هذا الظن التعبد بالقياس وان يحمل ما حصل فيه علة التحريم
من الفروع على الأصول، ساغ القياس وصح ولم يمنع منه مانع.
وهكذا إذا رأينا بعض صفات الأصل هي المؤثرة في الحكم المعلل دون غيره،
كانت بان تجعل علة أولى من غيرها، وقوي الظن في أنها العلة.
مثال ذلك: انا إذا أردنا ان نعلل ولاية المرأة على نفسها وملكها لأمرها،
ووجدنا بلوغها هو المؤثر في هذا الحكم مع سلامة أحوالها في الحرية والعقل دون
كونها مزوجه، لان التزويج متى اعتبر لم يوجد له تأثير في باب الولاية وما يرجع
إليها، وللبلوغ التأثير القوى فيها جعلناه العلة دون التزويج.
ويكفي ان يقال لمعتمدي هذه الطريقة: لم زعمتم ان الظن إذا استند في
بعض المواضع إلى عادة فإنه لا يقع في كل موضع الا على هذا الوجه، وان العادة لا
يقوم مقامها غيرها؟ فإنهم لا يجدون معتصما!
ويمكن أيضا ان يقال لهم: خبرونا عمن ابتداه الله تعالى كاملا في بعض
الدور، معه صاحب له، جالس عنده، وهو لا يعرف العادات، ولا سمع الاخبار عنها،
الا انه وجد الصاحب (1) الجالس معه حتى دخل إليه (2) بعض الناس، انصرف وخرج

(1) صاحب.
(2) عليه.
659

عن الدار، وهو مع دخول غيره من الناس لا يفارق مكانه، أليس هذا مع عقله وكماله
يصح ان يقوى في ظنه ان علة خروج صاحبه انما هي دخول ذلك الرجل؟
فان قالوا: لا يصح ان يغلب ما ذكرتم في ظنه، طولبوا بما يمنع منه، ولن
يجدوه.
وان أجازوه (1)، بطلت عليهم ذكر العادات والتجارب في باب الظنون، وقيل
لهم: فما تنكرون من أن تكون هذه حالة الظنون في الشرع؟
ويمكن أن يقول من نصر الطريقة التي قدمناها: ان ما فرضتموه من جلوس
بعض الناس عند من لم يعرف العادات وانصرافه إذا دخل عليه انسانا اخر وتكرر
منه ذلك، وانما يغلب على ظنه كون دخول صاحبه علة الخروج الاخر، لان ذلك
يصير عادة، وليس يلزم فيمن عرف عادة في شئ بعينه ان يعرف العادات كلها، ألا ترى ان العادات تختص البلاد والأزمان ولا تكاد تتفق على حد واحد فكذلك القول
فيما فرضتموه في السؤال
فاما طعن مثبتي القياس على الطريقة المتقدمة تصحيحهم غلبة الظنون في
الشريعة بقولهم: " انا وجدنا أهل القياس والاجتهاد مع كثرتهم وتدينهم يخبرون عن
أنفسهم بالظنون ويعلمون عليها، ومثل هؤلاء أو طائفة منهم لا يجوز أن يكذبوا على
أنفسهم، فكيف تدفع الظنون وهذه حالها "؟.
فليس بشئ، لان لمن [نفى] (2) الظن أن يقول: ألست اكذب هؤلاء
المجتهدين في أنهم يجدون أنفسهم على اعتقاد ما، وانما أكذبهم في قولهم انه ظن
وواقع عن امارة، والعلم بالفرق بين الاعتقاد المبتدأ والعلم والظن ليس بضرورة (3)،
فكان القوم سبقوا إلى اعتقادات ليست ظنونا، ودخلت عليهم الشبهة، فاعتقدوا ان

(1) جازوه.
(2) زيادة من النسخة الثانية.
(3) بضروري.
660

لها احكام الظنون، وليست كذلك!
على أن هذا يرجع عليهم فيمن يدعى من أهل القياس ان على الاحكام أدلة
توجب العلم.
فيقال لهم: كيف يصح على هؤلاء مع كثرتهم أن يدعوا انهم عالمون ويخبرون
عن نفوسهم بما يجدونها عليه من السكون، وهم مع ذلك كذبه؟
وهكذا السؤال عليهم في المخالفين لهم في أصول الديانات، إذا ادعوا العلم
بمذاهبهم وسكونهم إلى اعتقاداتهم؟
فلابد لهم في الجواب مما ذكرناه، من أن القوم لم يكذبوا في أنهم معتقدون، وانما غلطوا في أن تلك الاعتقادات علوم.
فاما طريقة النظام ومن تابعه في ابطال القياس (1): فاعتمادهم على أن
الشرعيات واقعة (2) على وجوه لا يمكن معها دخول القياس، فالذي يعولون عليه أن
يقولوا: " وجدنا الشرع واردا باختلاف المتفقين واتفاق المختلفين، كايجاب القضاء
على الحائض في الصوم، واسقاطه عنها في الصلاة وهي أوكد من الصوم، وايجابه
على المسافر القضاء فيما قصر في الصوم واسقاطه عنه فيما قصر من الصلاة،
وكايجاب الغسل بخروج الولد والمني، وهما أنظف من البول والغائط اللذين
يوجبان الطهارة، وإباحة النظر إلى الأمة الحسناء والى محاسنها، وخطر ذلك من
الحرة وان كانت شوهاء.
قالوا: فكيف (3) يسوغ القياس فيما هذه حاله؟ ومن حقه ان (4) يدخل فيما
يتفق فيه احكام المتفقات وتختلف احكام المختلفات ".
وهذا لا يصح اعتماده في نفى القياس، وذلك أن لمثبته ان يقول:

(1) راجع هامش رقم (3) ص 651 والمصادر الواردة فيه
(2) وقعت.
(3) كيف.
(4) في الأصل: ومن حقه إن عقد أن لا.
661

اما اطلاق القول بان المتفقين لا يختلفان في الحكم، والمختلفين لا يتفقان في
الحكم فغلط، والصحيح أن يقال:
ان المتفقين يتفقان (1) في الحكم يقتضيه اتفاقهما، وكذلك المختلفان لا
يتفقان في الحكم الذي يقتضيه اختلافهما، لان المراعى في هذا الباب هو الأسباب
والعلل، والاحكام التي يجب اتفاق المتفقات واختلاف المختلفات هي الراجعة
إلى صفات الذات، وانما وجب ذلك فيها لان المتفقين قد اشتركا في سبب الحكم
وعلته، والمختلفين قد افترقا في ذلك فلابد مما ذكرناه.
فاما إذا لم يكن الحكم راجعا إلى الذوات، فهو موقوف على الدلالة، فان اتفق
المختلفان في علته وسببه اتفقا فيه، وان اختلف المتفقان فيما (2) اختلفا فيه، وعلى
هذا لا ينكر أن يكون الحيض وان كان سببا لسقوط الصوم والصلاة معا، واتفقا في
ذلك أن يختلفا في حكم اخر يوجب في أحدهما الإعادة ولا يوجبها في الاخر،
فيكون الاختلاف من وجه الاتفاق من اخر وقد زال التناقض، لان القضاء إذا اختص
بعلة غير علة السقوط لم يكن باتفاقهما في علة السقوط معتبر.
وفي العقل مثال ذلك: لأنا نعلم أن النفع المحض إذا حصل في الفعل اقتضى
حسنه، وقد يحصل في الكذب النفع فلا يكون الا قبيحا، لان وجه قبحه هو كونه
كذبا، فصار اتفاق الكذب مع غيره من الافعال في النفع لا يمنع من اختلافهما في
القبح، لان ما اختلفا فيه غير ما اتفقا من اجله.
فان كان ما أورده النظام مانعا من القياس الشرعي، فيجب أن يمنع من القياس
العقلي أيضا، على أنه قد اعترف بورود النص باتفاق المختلفين واختلاف المتفقين،
ولم يلزمه أن يكون متناقضا، وأن يسوغ القياس (3)، واعتذر له بما يعتذر به

(1) لا يختلفان.
(2) فيهما.
(3) في الأصل: في القياس.
662

للنصوص.
فان قال: انى لم أوجب التناقض في هذه الأحكام فتلزموني ذلك في ورود
النص بها، وانما منعت وحالها هذه من التطرق بالقياس إليها.
قيل: ليس يمتنع ما ظننت امتناعه إذا نصب الله تعالى لقضاء الصوم امارة
توجبه، وأخلي قضاء الصلاة من مثلها.
على أن للقوم (1) أن يقولوا: انا لا نثبت القياس في كل حكم وعلى كل أصل،
وانما نثبته بحيث يسوغ ويصح، وأكثر ما يقتضيه ما أوردته مما هو بخلاف القياس
(أولا) (2)، فلا يسوغ دخوله فيه أن يمتنع فيه من القياس وفيما جرى مجراه، فلم إذا
امتنع القياس في هذه الأمور امتنع في غيرها؟
فاما من نفى القياس واعتمد في نفيه على أن الحكيم لا يجوز أن يقتصر على
أدون البيانين رتبة مع قدرته على أعلاهما، وان النصوص أبلغ في البيان من (3)
القياس، فيجب أن تكون العبادة في معرفة الاحكام مقصورة عليها (4)
والكلام (5) عليه أن يقال له: أول ما في كلامك انه اعتراف بأن القياس يوصل به إلى الاحكام، لأنه لا يجوز
أن تقول انه اخفض رتبة في باب البيان من غيره ما التبيين (6) ويقع به، وإذا ثبت كونه
بيانا فما الذي يمنع من العبادة به - وان كان أدون رتبة - لما يعلمه الله تعالى من صلاح
المكلف فيه، وانه إذا توصل إلى الحكم به ولحقته المشقة في طريق كان أقرب إلى
فعله، واستحق عليه من الثواب ما لا يستحقه لو وصل إلى معرفته بالنص؟

(1) في الأصل: القوم.
(2) زيادة من الأصل.
(3) في الأصل: و.
(4) القائل بهذه المقولة أصحاب الظاهر كداود الظاهري وغيره، راجع هامش رقم (4) صفحة 651.
(5) فالكلام.
(6) إلا والتبيين.
663

على أنه يلزم على هذه العلة أن يكون في جميع التكليف ضروريا، لأنه
أقوى في البيان من العلم المكتسب.
ومن يعتمد على هذه الطريقة لابد له من المناقضة، لأنه تعلق كثيرا من الاحكام
في الشريعة بالظنون نحو الاجتهاد في جهة القبلة، وتقدير النفقات، وجزاء الصيد،
وما أشبه ذلك، فإذا جازت العبادة بالظنون في هذه الأحكام - مع امكان ورود البيان
فيها بالنص الموجب للعلم ولم يكن خارجا عن الحكمة - جاز مثله في سائر الأحكام.
فاما من نفى القياس (1) من حيث لم يأت العبادة به، ولم يقطع السمع العذر في
صحته، فهو الصحيح الذي نختاره ونذهب إليه، لان القياس متى جاز في العقل ورود
العبادة إذا تعلقت به مصلحة في التكليف، فلابد في جواز استعماله في الشرع من
دليل سمعي، لأنه يجرى مجرى سائر الأفعال الشرعية التي إذا جاز في العقل ان
تدخل في العبادة لبعض المصالح، فلابد في استعمالها من دليل سمعي.
والذي يلزمنا ان نورد ما يعتمده مثبتوه من الطرق التي ظنوا انها أدلة عليه
سمعية، ونبين انها شبة وليست بأدلة ولا موجبة للتعبد به.
فاما من يذهب إلى أن العبادة وردت بما يمنع منه فهو أيضا مذهبنا، ونحن
نبين في الفصل الذي يلي هذا الفصل ما عندنا فيه انشاء الله تعالى

(1) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 650.
664

فصل [3]
" في أن القياس في الشرع لا يجوز استعماله " لنا في المنع من استعمال القياس في الشريعة طريقتان:
أحدهما: انه إذا ثبت جواز العبادة به من جهة العقل، فثبوت العبادة به تحتاج
إلى دليل شرعي، وقد علمنا أنه ليس في الشرع دليل على أن القياس دين الله تعالى
يجوز استعماله، ولا من جهة الكتاب، ولا من جهة السنة المتواتر بها، ولا من الاجماع.
وانما قلنا ذلك: لأنا قد استقرينا جميع ذلك فعلمنا انه ليس فيه ما يدل على
وجوب العمل بالقياس، ونحن نذكر المواضع التي يستدل بها من ظاهر القرآن على
وجوب العمل بالقياس، ونبين انه لا دلالة في شئ منها.
والسنة على ضربين متواتر وآحاد.
والتواتر (1): يوجب العلم الضروري على مذهب الخصم (2) وعلى مذهبنا

(1) فالتواتر.
(2) قال أبو إسحاق الشيرازي: " يقع العلم بالاخبار المتواترة " ونقل الآمدي اتفاقهم عليه، ونسبوا للبراهمة
والسمنية انهما قالا: لا يقع العلم بالاخبار المتواترة، وقال البزدوي في أصوله: " وقال قوم: إن المتواتر
يوجب علم الطمأنينة لا اليقين، ومعنى الطمأنينة عندهم ما يحتمل أن يتخالجه شك أو يعتريه وهم، أي إن
جانب الصدق يترجح فيه بحيث يطمئن له القلب ولكن لا ينتفي عندهم توهم الكذب والغلط ". وأما
المعتزلة فإن الجبائيان ذهبا إلى أن العلم الواقع عند التواتر ضروري غير مكتسب، وأما أبو القاسم البلخي
فقال: انه ضروري مكتسب.
انظر: " التبصرة: 291، المستصفى 2: 132، المنخول: 235، المعتمد 2: 81، اللمع 69، شرح اللمع 2:
569، أصول السرخسي 1: 281، الاحكام للآمدي 2: 259، شرح المنهاج 2: 524 روضة الناظر: 86 ".
665

يوجب العلم الذي لا يتخالج (1) فيه الشك، وكان مما يستدل على صحته إذا كان
شرط التواتر فيه.
والضرب الاخر: اخبار آحاد.
فالقسم الأول: مفقود في الاخبار التي يستدل بها على صحة العمل بالقياس،
لأنها ليست معلومة جملة، لا ضرورة، ولا استدلالا.
والقسم الاخر: لا يجوز استعماله في هذه المسألة، لأنها من باب العلم دون
العمل، وخبر الواحد يوجب غلبة الظن، فلا يجوز استعماله فيما طريقه العلم بلا
خلاف.
واما الاجماع: فليس فيه أيضا، لان هذه مسألة خلاف، ونحن نبين ما يدعونه
من اجماع الصحابة ونتكلم عليه انشاء الله.
والطريقة الثانية: ان نقول: قد ورد الشرع بما يمنع من العمل بالقياس (2)،
وأقوى ما اعتمد في ذلك اجماع الطائفة المحقة، وقد ثبت ان اجماعهم حجة، لأنه
يشتمل على قول معصوم لا يجوز عليه الخطأ على ما بيناه فيما تقدم، وقد علمنا أنهم
مجمعون على ابطال القياس والمنع من استعماله.
وليس لاحد ان يعارض هذا الاجماع لمن يذهب إلى مذهب الزيدية

(1) يتخالجنا.
(2) راجع تفصيل أقوال القائلين بحجية القياس والنافين لها في: " التبصرة: 435 - 424، الذريعة 2: 791 -
705، المعتمد 2: 234 - 215، الأبهاج 3: 23 - 11، الاحكام للآمدي 4: 312 - 272، أصول السرخسي 2:
143 - 118، المستصفى 2: 54، المنخول: 324 - 323، اللمع: 94 - 93، ارشاد الفحول 304 - 296، ميزان
الأصول 2: 814 - 800، شرح المنهاج 2: 657 - 638، الرسالة للشافعي: 476، شرح اللمع 2: 782 - 760،
مباحث العلة في القياس 55 - 40، الاحكام لابن حزم 7: 438 - 368، ملخص ابطال القياس والرأي لابن
حزم، الأصول العامة للفقه المقارن 358 - 303 ".
666

والمعتزلة، من أهل البيت عليهم السلام وقال مع ذلك بالقياس، لان هؤلاء لا اعتبار
بمثلهم، لان من خالف في الأصول الخلاف الذي يوجب التكفير أو التفسيق لا
يدخل قوله في جملة من يعتبر اجماعهم ويجعله حجة.
لأنا قد بينا ان كل من علمنا أنه ليس بامام، فانا لا نعتد بخلافه ونرجع إلى الفرقة
الأخرى التي نعلم كون الامام في جملتهم.
على انا كما نعلم من مذهب أبي حنيفة، والشافعي القياس، كذلك نعلم أن من
مذهب أبي جعفر الباقر، وأبي عبد الله الصادق عليهما السلام نفى القياس، وتظاهر
الاخبار عنهما بالمنع (1) منه، والمناظرة للمخالفين فيه، كتظاهرها عمن ذهب إليه في
خلاف ذلك.
وليس يدفع عنهما هذا الا من استحسن المكابرة، وقد علما ان قولهما حجة
وقول كل واحد منهما، لأنهما الامامان المعصومان، ولا يجوز عليهما الخطاء في
الفعل والاعتقاد.
وقد اعتمد من نصر هذه الطريقة التي ذكرناها على آيات ليس فيها ما يدل
على ذلك مما يمكن الاعتماد عليه، وعلى جميعها اعتراض.
فمن ذلك تعلقهم بقوله تعالى: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) (2) وأن
القياس تقدم بين يدي الله ورسوله.
وهذا غير معتمد، لان للمخالف أن يقول: إذا دلنا الله تعالى على صحة القياس،
لم يكن استعماله تقدما بين يدي الله ولا بين يدي رسوله، وصار ذلك بمنزلة ما نص
عليه، وانما يكون تقدما بين أيديهما لو قيل به من غير دلالة ولا استناد إلى علم.
وتعلقوا أيضا بقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) (3)، وبقوله: (وان

(1) انظر: " الكافي 1: 56، 57 و 4: 234 و 7: 26، 321، 322، 323، التهذيب 5: 360 و 8: 233 و 9: 217،
الاستبصار 2: 206 و 4: 8، من لا يحضره الفقيه 2: 260 و 4: 276 "
(2) الحجرات: 1.
(3) الاسراء: 36.
667

تقولوا على الله مالا تعلمون) (1).
وللمخالف ان يقول: ما قلنا بالقياس الا بالعلم وعن العلم، فلم نخالف ظاهر
الكتاب، وانما ظننتم علينا ان نعلق الاحكام بالظنون وليس نفعل ذلك بل الحكم
عندنا معلوم وان كان الطريق إليه الظن على الوجه الذي مثلنا به من العقليات.
وتعقلوا: بقوله: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (2)، وقوله: (تبيانا لكل
شئ) (3)، وقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) (4).
وللمخالف أن يقول: ان القياس إذا دل الله عليه وأوجب العمل به، فقد دخل
في جملة ما بين في الكتاب ولم يقع فيه تفريط، لان الكتاب قد دل على صحة
اجماع الأمة، ووجوب اتباع السنة، فإذا علمنا بالاجماع والسنة صحة القياس، جاز
إضافة هذا العلم والبيان إلى الكتاب، وان كان على سبيل الجملة دون التفصيل، لأنه
ليس يمكن أن يدعى ورود الكتاب بكل شئ مفصلا، فصار العامل بالقياس عاملا
بما امر الله تعالى به في كتابه وبينه وأكمله (5).
وهذه الجملة تنبه على طريقة الطعن فيما جرى هذا المجرى من
الاستدلالات، فإنهم يتعلقون بشئ من هذا الجنس لا فائدة في ذكر جميعه

(1) البقرة: 169.
(2) الانعام: 38.
(3) النحل: 89.
(4) المائدة: 3.
(5) في الأصل: يحمله.
668

فصل [4]
" في أن العبادة لم ترد بوجوب العمل بالقياس "
الذاهبون إلى القول بالقياس في الشرع فريقان:
أحدهما: يوجب العمل به عقلا، وهم الشذاذ على ما ذكرناه (1).
والآخرون: يوجبون العمل به سمعا وان لم يثبتوه عقلا (1).
ونحن نفسد كلا القولين ليتم لنا ما قصدناه.
فاما من أثبته عقلا فالأصل في الكلام عليه ان يقال: ان الفعل الواجب لابد
له (2) من أن يكون له وجه وجوب لولاه لم يجب، لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن
بالوجوب أولى من غيره، وماله يجب الفعل ينقسم قسمين: أحدهما: صفة تختصه ولا تتعداه إلى غيره، وذلك جميع الواجبات العقلية،
نحو رد الوديعة، والانصاف، وشكر المنعم.
والاخر: أن يكون وجوبه لتعلقه بغيره على سبيل اللطف، نحو أن يختار
المكلف عنده واجبا اخر، أو يمتنع عن قبيح، وليس يكون كذلك الا بعد أن يختص
في نفسه بصفة تدعو إلى اختيار ما يختار عنده، وهذا القسم على ضربين:

(1) راجع التعليقة رقم (1) صفحة 650.
(2) زيادة من النسخة الأصلية.
669

أحدهما: يعلم (1) بالعقل، كوجوب معرفة الله تعالى، لان جهة وجوبها متقررة
في العقل، وهو انا يكون عندها أقرب إلى الفعل الواجب والامتناع من القبيح،
وكعلمنا أيضا بان الرسول عليه السلام لا يجوز أن يكون على أحوال تنفر عن القبول
منه، نحو الفسق، والأحوال الدنية المستخفة، ومثل ما يلحقه (2) بالمعرفة من وجوب
الرئاسة لكونها لطفا، لأنه مستقر في العقل (3) وان الناس في الجملة لا يجوز أن يكونوا
مع فقد الرؤساء في باب الصلاح والفساد على ما يكونون عليه مع وجودهم.
والضرب الثاني: لا يعلم الا بالسمع لفقد الطرق إليه من جهة العقل وهو
جميع الشرعيات.
والسمع الذي به يعلم وجوب ذلك قد يرد تارة بوجه الوجوب، فيعلم عنده
الوجوب، وتارة يرد بالوجوب فيعلم عنده وجه الوجوب بأحد (4) الامرين يقوم مقام
الاخر في العلم بالوجوب، [الا أنه إذا ورد بوجوبه لم يعلم وجه الوجوب الا على
جهة الجملة، وان ورد بوجه وجوبه مفصلا أو مجملا علمنا وجوبه مفصلا، لان العلم
بوجوبه لابد فيه من التفصيل لتنزاح علة المكلف في الاقدام على الفعل.
والعلم بوجه الوجوب قد يكون] (5) مجملا ومفصلا. ويقوم أحد الامرين مقام
الاخر، فلو قال تعالى: (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (6) ولم يوجبها
لعلمنا وجوبها، ولو نص على وجوبها بلفظ الايجاب لعلمنا في الجملة انها تنهى عن
قبيح أو تدعوا إلى واجب.
فاما ماله قلنا: " إذا علمنا وجوب الفعل، علمنا وجه وجوبه، وإذا علمنا وجه

(1) يعرف.
(2) يلحق.
(3) عقل العقلاء.
(4) واحد.
(5) زيادة من النسخة الثانية.
(6) العنكبوت: 45.
670

الوجوب، علمناه واجبا "، فهو ان من علم بالعقل رد الوديعة مع المطالبة علم وجوبه،
ومتى لم يعلم ذلك لم يعلم وجوبه، وكذلك من علم الفعل ظلما على قبحه، فان شك
في كونه ظلما لم يعلم القبح، وكما وجب هذا، فهكذا أيضا متى علم كون الفعل الذي
هو رد الوديعة واجبا علمه رد للوديعة، فتعلق كل واحد من الامرين بصاحبه (1) كتعلق
صاحبه به.
فان قيل: من أين قلتم: ان الواجبات في الشرع لا تجب الا لكونها ألطافا؟ ثم
من أين قلتم: ان ذلك لا يعلم من حالها الا بالسمع ليتم ما ذكرتموه؟
قلنا: لان وجوبها إذا ثبت وكان لابد له من وجه لم يخل من القسمين اللذين
قدمناهما، وهما اما صفة يختص الفعل ولا يتعداه، أو لتعلقه بغيره على وجه اللطف،
وليس يجوز في الشرعيات الوجه الأول، لأنه لو وجبت لصفة تخصها تجري مجرى
رد الوديعة في أنه وجه الوجوب، لوجوب أن يعلم (على) (2) تلك الصفة، ويعلم وجوبها
متى علمناها، لأنه لا يصح ان يجب لصفة تختص بها ولا تختص بها، ولا يصح أيضا
أن يعلم علتها ولا يعلم وجوبها، وقد علمنا أن الصلاة وسائر الشرعيات يعلم بالعقل
صفاتها، وان لم يعلم وجوبها، فدل ذلك على بطلان القسم الأول ولم يبق الا الثاني.
وإذا ثبت انها تجب للألطاف، ولم يكن في العقل (3) دليل على أن وقوع بعض الأفعال
منا، نختار عنده فعلا آخر، لان العقل لا يدل على ما يختاره الانسان أو لا
يختاره، ولأن دلالة العقل أيضا طريقتها واحدة ولم يصح ان يدل على الشئ ونفيه،
والحكم وضده - كما تراه في الشرائع - من اختلاف المكلفين، والناسخ والمنسوخ،
فلم يبق الا ان الطريق إليها السمع، ولولا ما ذكرناه لما احتيج في معرفة المصالح
الشرعية إلى بعثة الأنبياء عليهم السلام.

(1) في الأصل: كصاحبه.
(2) زيادة من الأصل.
(3) في العقل.
671

فان قالوا: العقل يقتضى في كل مشتبهين (1) ان حكمهما واحد من حيث
اشتبها، فوجب أن يحكم الأرز بحكم البر عقلا وان لم يأت السمع.
قيل لهم: الاشتباه الذي يقتضى المشاركة في الحكم هو فيما يعلم أن الحكم
فيه يجب عن ذلك الشبه، أو يكون في حكم الموجب عنه، نحو علمنا بان ما شارك
العالم في وجود العلم في قلبه يجب كونه عالما، أو ما شارك رد الوديعة في هذه
الصفة كان واجبا، فاما العلل التي هي أمارات فلا يجب بالمشاركة فيها المشاركة في
الحكم، لان العقل لا يعلم به كونه علة، ولو علم كونها علة لم يجب فيما شاركه فيها
مثل حكمها، لان المصالح الشرعية مختلفة من حيث تعلقت بالاختيار، فلا مدخل
للايجاب فيها، ولهذا جاز أن يكون الشئ في الشرع مصلحة وما هو مثله مفسدة،
وجاز اختلاف الأعيان والأوقات في ذلك.
فان قيل (2): إذا حرم الله تعالى الخمرة (3) ورأيت التحريم تابعا للشدة يثبت
بثبوتها ويزول بزوالها، علمت أن علة التحريم الشدة، ولا احتياج إلى السمع كما لا
يحتاج إليه في العقليات (4).
قيل له: ليس يكون ما ذكرته من الاعتبار (5) بأقوى (6) من أن ينص الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم في الخمر ان علة تحريمها هي الشدة، وقد بينا ان ذلك لا يوجب
التخطي، ولا يقتضى اثبات التحريم في كل شديد الا بعد التعبد بالقياس، لأنه غير
ممتنع ان يخالف (7) في المصلحة وان وافقه في الشدة، وبينا ان النص على العلة

(1) شبيهتين.
(2) قال.
(3) الخمر.
(4) كما لا احتياج في العقليات إليه.
(5) في الأصل: الاختيار.
(6) أقوى.
(7) يخالفا.
672

الشرعية يجرى مجرى النص على الحكم في امتناع التخطي الا بدليل مستأنف.
فأما من زعم أن السمع قد ورد بالتعبد بالقياس (1)، فنحن نذكر قوى ما اعتمده
ونتكلم على شئ منه.
أحد ما اعتمدوه قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) (2).
قالوا: والاعتبار هو المقايسة، لان الميزان يسمى معيارا من حيث قيس به
مساواة الشئ بغيره.
ولما روى عن ابن عباس من قوله في الأسنان: " اعتبروا حالها بالأصابع التي
ديتها متساوية " (3).
وربما استدلوا بالآية على وجه اخر فقالوا: قد دل الله تعالى بهذه الآية على أن
المشاركة في العلة تقتضي المشاركة في الحكم، وذلك أنه قال: (هو الذي اخرج
الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا
انهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم من حيث لا يحتسبون وقذف في قلوبهم
الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار) (4)،
فذكر ما حل بهم، ونبه على علته وسببه ثم امر بالاعتبار، وذلك تحذير من
مشاركتهم في السبب، فلو لم تكن المشاركة في السبب تقتضي المشاركة في الحكم
ما كان لهذا القول معنى!
والكلام على ذلك أن يقال (5) لهم:
ما تنكرون أن يكون لفظ " الاعتبار " لا يستفاد منه الحكم بالقياس، وانما يستفاد به

(1) لاحظ تفصيل أقوالهم واستدلالاتهم في المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(2) الحشر: 2.
(3) حديث التسوية بين الأصابع والأسنان عن ابن عباس رواه أبو داود، وأحمد، وابن ماجة وغيرهم في باب
ديات الأعضاء مع اختلاف الألفاظ واتحاد المعنى.
(4) الحشر: 2.
(5) في الأصل: نقل.
673

الاتعاظ والتدبر والتفكر، وذلك هو المفهوم من ظاهره واطلاقه، لأنه لا يقال لمن
يستعمل بالقياس العقلي انه معتبر، [كما يقال فيمن يتفكر في معاده، ويتدبر أمر
منقلبه ويتعظ بذلك انه معتبر] (1) وكثير الاعتبار، وقد يتقدم بعض الناس في العلوم
واثبات الاحكام من طريق القياس، ويقل فكره في معاده وتدبره فيقال انه غير معتبر،
أو قليل الاعتبار.
وقد يستوى في المعرفة بحال الشئ واثبات حكمه اثنان، فيوصف أحدهما
بالاعتبار دون الاخر على المعنى الذي ذكرناه، ولهذا يقولون عند الامر العظيم: ان
في هذا لعبرة، وقال الله تعالى: (وان لكم في الانعام لعبرة).
وما روى عن ابن عباس خبر واحد لا تثبت بمثله اللغة، ولو صح لكان محمولا
على المجاز بشهادة الاستعمال الذي ذكرناه.
على انا لو سلمنا جواز استعمال الاعتبار في المقايسة، لم يكن في الآية دلالة
الا على ما ذكر منها من امر الكفار، وظنهم ان حصونهم ما نعتهم من الله تعالى، ووقوع
ما وقع بهم، فكأنه قال الله تعالى: فاعتبروا بذلك يا أولي الأبصار، وليس يليق هذا
الموضع بالقياس في الاحكام (2) الشرعية، لأنه تعالى لو صرح بعقب ما ذكر من حال
الكفار بأن يقول: فقيسوا في الأحكام الشرعية واجتهدوا، لكان الكلام لغوا لا فائدة
فيه، فلا يليق بعضه ببعض. فثبت انه أراد الاتعاظ والتفكر.
على أنه يمكن ان يقال لهم: على تسليم تناول اللفظة للقياس باطلاقها، ما
تنكرون انا نستعمل موجب الآية، بان نقيس الفروع على الأصول، في انا نثبت لها
الاحكام الا بالنصوص، لان هذا أيضا قياس فقد ساويناكم في التعلق بالآية، فمن أين
لكم ان القياس الذي تناولته الآية هو ما تذكرونه دون ما ذكرناه، وكلاهما قياس على

(1) زيادة من النسخة الثانية.
(2) وفي الاحكام.
674

الحقيقة؟
وليس لهم أن يقولوا: نحن نجمع بين الامرين لأنهما يتنافيان، والجمع بينهما لا
يصح.
ولا لهم أيضا ان يقولوا: قولنا أرجح خ من حيث كان فيه اثبات للأحكام، وقولكم
فيه نفى لها.
وذلك لان الترجيح بما ذكروه انما يصح متى ثبت كلا وجهي القياس، فيصح
الترجيح والتفرقة، فاما الخلاف فيهما هل يثبتان أو يثبت [أحدهما فلا] (1) ترجيح
يمكن في ذلك.
ويقال لهم: في تعلقهم بالآية ثانيا: إذا كان الله تعالى قد نبه على ما زعمتم بالآية
على أن المشاركة في السبب والعلة تقتضي المشاركة في الحكم، فيجب أن يكون
كل من فعل مثل فعل الذين أخبر الله تعالى عنهم في الآية، يحل بهم مثل ما حل بهم.
فان قالوا: هو كذلك. أريناهم بطلان قولهم ضرورة لو جوزنا من يشارك
المذكورين في المخالفة والمعصية وان لم يصبه ما أصابهم، وهذا من ضعيف ما
يتمسك به.
وتعلقوا أيضا بقوله تعالى: (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل
منكم) (2)، وقوله تعالى: (وعلى الموسع قدره وعلى المقتر قدره) (3). قالوا:
والمثلية والمقدار طريقه غالب الظن.
وبقوله: (فان خفتم الا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) (4) قالوا وذلك طريقه غالب الظن.
وهذه الآيات لا تخلو أن يكون المستدل بها يعتمدها في جواز التعبد بالظنون،

(1) زيادة من النسخة الثانية.
(2) المائدة 95.
(3) البقرة: 236.
(4) النساء: 3.
675

أو في وجوب التعبد بها:
فان كان الأول، كان ذلك صحيحا، وذلك مما قدمنا جوازه.
وان أراد الثاني، كان ذلك باطلا، لأنه ليس إذا ثبت التعبد في شئ بغالب الظن
ينبغي أن يحمل غيره عليه، لان ذلك يصير قياسا، وكلامنا في مسألة القياس، فكيف
يستدل بالشئ على نفسه!
على [ان] (1) من أصحابنا من قال إن المثلية والقدر منصوص عليه، فعلى
هذا المذهب سقط السؤال.
وتعلقوا أيضا: بأن قالوا: قد ظهر (2) عن الصحابة القول بالقياس، واتفق جميعهم
عليه، نحو اختلافهم في مسألة الحرام (3)، والجد (4)، والمشركة (5)، والايلاء، وغير
ذلك ورجوع كل منهم في قوله إلى طريقة القياس، لأنهم اختلفوا في الحرام فقالوا
بأربعة أقاويل:
أحدها: انه في حكم التطليقات الثلاث، وذلك مروى عن أمير المؤمنين عليه
السلام وزيد، وابن عمر (6).

(1) زيادة من النسخة الثانية.
(2) ظهرت.
(3) في الأصل: الحرم. والحرام هو فيما إذا قال الرجل لزوجته: أنت علي حرام.
(4) فقد نقلوا الخلاف في مسألة ميراث الجد، ونسبوا إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام قوله: " من سره أن
يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد والاخوة " ورووا عن ابن مسعود قوله: " سلونا عن عضلكم واتركونا
من الجد، لا الله ولا بياه ". [راجع: التبصرة: 428، والمصادر الواردة في ذيل التعليقة رقم (1) صفحة
650].
(5) ويقال لها المشتركة، والحمارية، والحجرية، واليمية، والمنبرية، وفيها آراء مختلفة. وتعد المسألة المشتركة
فيما إذا اجتمع زوج وأم وجدة، واثنان فصاعدا من ولد الام، وعصبة من ولد الأبوين. وسبب هذه التسمية
أن بعض أهل العلم شرك فيها بين ولد الأبوين وولد الام في فرض ولد الام فقسمه بينهم بالسوية. [راجع
الأقوال في " المغني للابن قدامة ": 7: 22].
(6) الاحكام 4: 320 [راجع أيضا المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666].
676

والقول الاخر: قول من جعله يمينا يلزم فيهما الكفارة، وهو المحكى عن
أبي بكر، وعمر وابن مسعود وعايشة (1)
والثالث: قول من جعله ظهارا، وهو المروى عن ابن عباس وغيره (1).
والرابع: قول من جعله تطليقة واحدة، وهو المروى عن ابن مسعود، وابن عمر
وغيرهما (2).
ثم اختلفوا: فمنهم من لغاه، ومنهم من جعلها واحدة رجعية، وبعضهم جعلها
بائنة، وكل ذلك تفريع للقول الرابع (2).
وحكى في المسألة قول خامس عن مسروق (3) وهو انه ليس بشئ، لأنه
تحريم لما أحله الله تعالى ووجوده كعدمه. (2)
واختلافهم أيضا في الجد أيضا ظاهر، وكذلك ما عددناه من المسائل، وانما شرحنا
مسألة الحرام لان الخلاف فيها أكثر منه في غيرها
قالوا: وقد علمنا أنه لاوجه لأقاويلهم الا طريقة القياس والاجتهاد، لان من
جعل الحرام طلاقا ثلثا معلوم انه لم يرد انه طلاق ثلاث على الحقيقة، بل أراد انه
كالطلاق الثلاث وجار مجراه وكذلك من جعله يمينا وظهارا محال ان يريد الا الشبه
دون أن يكون عنده يمينا أو ظهارا في الحقيقة.
ولأنه قد نقل عنهم النص الصريح في أنهم قالوا بذلك قياسا، لان من ذهب إلى أن
الجد بمنزلة الأب نص على أنه مع فقد الأب بمنزلة ابن الابن مع فقد الابن (4)،
حتى صرح ابن عباس بأن قال: " الا لا يتقى الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا، ولا

(1) الاحكام 4: 320 [راجع أيضا المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666].
(2) المغني لابن قدامة 8: 304 و 561.
(3) هو مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية بن عبد الله الهمداني، أبو عائشة، تابعي، قدم المدينة من اليمن بعد
وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وروى عن جماعة من الصحابة، ثم سكن الكوفة وكان يلي الخيل
لعبيد الله بن زياد، ثم خرج إلى قزوين فمات بها.
(4) المغني لابن قدامة 7: 64.
677

يجعل أب الأب أبا؟ " (1) وقد علمنا أنه لم يرجع في ذلك إلى نص، لان الحد لا نص
عليه في الكتاب، فلم يبق الا سلوكهم فيه طرق التمثيل والمقايسة.
وثبت أيضا: عمن قال بالمقايسة (2) بين الأخ والجد انه شبههما بغصني شجرة
وبجدولي نهر، ولهذا يبطل قول من يدعى انهم قالوا ذلك على طريق الصلح
والبور (3)، أو لأنه أقل ما قيل فيه، أو حكموا بحكم العقل، أو لنص خفى.
ويبطل ذلك زائدا على ما تقدم، انهم اختلفوا فيما لا يسوغ فيه الصلح لتعلقه
بتحريم الفروج وتحليلها كمسألة الحرام والايلاء.
ولأن ما يقال من طريق الصلح لا يفرع عليه ويبنى بحسبه المذاهب.
ولأنهم اختلفوا في مواضع لا يصح أن يقال فيها بأقل ما قيل، ولأنهم قد
اختلفوا فيما زاد على أقل ما قيل.
وقالوا أيضا: بأقاويل كلها خارجة عما في أصل العقل، ولو قالوا أيضا لنص
لوجب أن يظهر، لان الدواعي إلى اظهاره قوية.
وإذا ثبت ذلك من حالهم فهم بين قائل بالقياس، ومصوب لقائله غير منكر
عليه، فصاروا مجمعين على القول به، واجماعهم حجة، ولا يجوز أن ينعقد على
خطأ.
فيقال لهم لنا في الكلام عليكم وجهان:
أحدهما: أن نبين بطلان ما حكمتم به وقطعتم عليه من أن القول في المسائل
التي ذكرتموها لم يكن الا بالقياس، ونبين انه يحتمل أن يكون النص اما بظاهره أو
دليله، والاحتمال في هذا الموضع يكفي ويأتي على استدلالهم.
والوجه الاخر: ان ننازع فيما ادعيتموه من ارتفاع النكير للقياس، ونبين انه ورد

(1) التبصرة: 427، راجع أيضا المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(2) التبصرة: 428.
(3) أي الاختبار، فيقال: برت كذا: اختبرته.
678

عنهم من ذلك ما في بعضه كفاية، وابطال لقول من يدعى خلافه.
ولنا أيضا: إذا سلمنا انهم قالوا في تلك المسائل بالقياس، وتجاوزنا عن
الخلاف في ارتفاع النكير، وفرضنا انه لم يكن ان نقول ارتفاع النكير لا يدل في كل
موضع على الرضا والتسليم، وانما يدل على ذلك إذا علمنا أنه لا وجه لارتفاعه الا
الرضا، فاما مع تجويز كونه للرضا ولغيره فلا دلالة فيه.
غير أن هذه الطريقة توحش من خالفنا في هذه المسألة لأنها تطرق عليهم
فساد أصول هي أهم إليهم من الكلام فيها، وينبغي أن يتجاوز عن هذا الكلام في هذا
المعنى ويقتصر على الوجهين الذين قدمناهما، لان الكلام في هذا الوجه له موضوع
غير هذا هو أليق به وقد ذكرناه في كتاب " الإمامة " (1) مستوفى.
فيقال لهم: لم زعمتم ان القول في المسائل التي عددتموها انما كان بالقياس؟
فلم نجدكم اقتصرتم الا على الدعوى المجردة من برهان، ولم إذا اختلفوا وتباينت
أقوالهم وجب أن تستند تلك المذاهب إلى القياس، وأنتم تعلمون ان الاختلاف في
المذاهب المستندة إلى النصوص ممكن كإمكانه في المستندة إلى القياس؟
ولم أنكرتم أن يكون كل واحد منهم انما ذهب إلى ما حكى عنه لتمسكه
بدليل نص اعتقد انه دال على ما ذهب إليه؟
فان قالوا: لو كانوا قالوا بذلك للنصوص، لوجب أن تنتقل تلك النصوص
وتشتهر لان الدواعي تقوى إلى نقلها والاحتجاج بها!
قلنا: أول ما نقوله انا لا نلزمكم أن يكونوا اعتمدوا في هذه المسائل نصوصا
صريحة استدلوا بها على المذاهب التي اعتقدوها، بل ألزمناكم ان يكونوا اعتمدوا

(1) ويقصد به المصنف كتاب (المفصح في الإمامة) وهي رسالة مختصرة وموجزة، ألفها قبل تأليف كتاب
(تلخيص الشافعي) وأشار إليه في فهرسته وتلخيصه، وقد طبعت بتصحيح المحقق الشيخ رضا الاستادي
مدرجة في مجموعة (الرسائل العشر) من ص: 138 - 115 للشيخ الطوسي، لكن النسخة المعتمدة ناقصة
فلم نعثر على كلام المصنف فيها، ولمعرفة تفصيل استدلال المصنف راجع كتابه (تلخيص الشافعي): ص
17 - 103.
679

فيها أدلة النصوص التي تحتاج فيها إلى ضرب من الاستدلال والتأول، سواء كانت
تلك النصوص على هذه نصوصا ظاهرة للكل معلومة للجميع، أو كانت مختصة، فلا
يجب ان تفرضوا كلامنا في غير ما فرضناه فيه.
على انا نقول لهم: ولو كانوا اعتمدوا في ذلك على علة قياسية لوجب نقلها
وظهورها، لان الدواعي إلى نقل مذاهبهم تدعو إلى نقل طرقها، وما به احتجوا،
وعليه عولوا، وما نجد في ذلك رواية، فان كان فقد ما اعتمدوه من دليل النص وارتفاع
روايته دليلا على أنهم قالوا بالقياس، فكذلك يجب أن يكون فقدنا لرواية عنهم
تتضمن انهم قالوا بذلك قياسا دليلا على القول به من طريق النصوص!
فان قالوا الفرق بين الامرين ان القياس لا يجب اتباع العالم فيه، والنصوص
يجب اتباعه، فوجب نقل النص ولا يجب مثله في القياس.
قلنا: اطلاقكم ان القياس لا يجب فيه الاتباع لا يصح على مذاهبكم، بل يجب
فيه الاتباع إذا ظهر وجه القول به وامارات غلبة الظن فيه، وانما لا يجب القول به
بارتفاع هذا الشرط، وعلى العالم أن يظهر وجه القول لمن خالفه ليظهر له منه ما
يكون فرضه معه الانتقال عما كان عليه.
ولولا هذا ما حسنت مناظرة أصحاب القياس والاجتهاد بعضهم لبعض، ولم
ينقل عن الصحابة وجه قولهم في مسألة الحرام (1) التي وقع النص من مخالفينا عليها
لقوتها عندهم، ولم يرو عن أحد منهم العلة التي من اجلها جعله طلاقا ثلاثا، أو
ظهارا، أو يمينا!
على أنه انما يجب على المعتقد للمذهب أن يظهر وجه قوله عند المناظرة
والحاجة الداعية إليه، فاما أن يكون ظهور وجه القول كظهور القول والمذهب فغير
واجب فكيف (2)، يقال ذلك ونحن نعلم أن كثيرا من الصحابة والتابعين ومن كان

(1) راجع كلام المصنف حول مسألة الحرام في صفحة 676.
(2) وكيف.
680

بعدهم قد ظهرت عنهم مذاهب كثيرة فيما طريقه العلم والدليل القاطع من غير أن
يظهر عنه أو ينقل ما كان دليله بعينه لأي طريق قال بذلك المذاهب وأعتقده؟
فان قالوا: فقد تناظروا ورد بعضهم على بعضهم ولم يذكر عنهم احتجاج بنص.
قلنا: ليس يمكن أن يحكى عنهم في مسألة الحرام وغيرها من المسائل انهم
اجتمعوا فيها لمناظرة ومنازعة، وحاج بعضهم بعضا، ورد بعضهم على بعض، ولم
يذكروا أدلة النص، ولا وردت بشئ من ذلك رواية! وأكثر ما روى إضافة هذه
المذاهب إلى القائلين بها.
على أنهم ان كانوا تناظروا وتنازعوا فلابد من أن يظهر كل واحد منهم وجه
قوله، سواء كان نصا أو قياسا، وفي مثل هذه الحال لا يسوغ الاعراض عن ذكر وجه
القول وان جاز في غيرها، ولهذا لا نجد أحدا من الفقهاء ينازع خصومه ويرد مذاهبهم
عليهم على سبيل المناظرة، ولا يظهر وجه قياسه والعلة التي من اجلها ذهب إلى ما
ذهب إليه، بل لابد له من تحرير علله وتهذيبها والاحتراز فيه من النقض، وإذا كنا لم
نجد رواية منهم بوجه قياسه وبالعلة التي من اجلها جمع بين الامرين اللذين شبه
أحدهما بالآخر، فيجب أن ينفى عنهم القول
بالقياس ان كان ما فرضتموه صحيحا.
فان قالوا: من شأن العلماء أن يذكروا النصوص الشاهدة لأقوالهم ومذاهبهم
لترتفع عنهم التهمة في الخطاء أو القول بغير دليل.
قلنا: ومن شأنهم أن يذكروا الوجه القياسي المصحح لمذاهبهم، لترتفع عنهم
التهمة.
وبعد: فلعل القوم كانوا آمنين من أن يتهموا بالتخيت (1) والاعتقادات المبتدأة
فلم يحتاجوا إلى ذلك.
فان قالوا: ليس نجد في نصوص الكتاب والسنة ظاهرا ولا دليلا يدل على هذه
المذاهب التي حكينا اختلافهم فيها، الا ان يدعوا نصوصا غير ظاهرة، بان اختص كل

(1) اي النقيصة.
681

واحد منهم بها، فيظهر بطلان قولكم لكل أحد ويلزم حينئذ أن تكون تلك النصوص
قد أشيعت وظهرت لتعلم وتعرف، والا طرق ذلك ابطال الشريعة وأكثرها.
قلنا: اما ما ضمنا لكم أن يكون كل واحد من القوم ذهب إلى مذهبه للدليل
عليه من جهة النص، وانما ألزمناكم تجويز سبب كل قابل منهم بوجه اعتقده دليلا قد
يجوز أن يكون فيه مخطئا ومصيبا، ولو أخطأت الجماعة في استدلالها على أقوالها الا
واحدا فيها لم يضرنا فيما قصدناه، لان الذي امن من اجماعهم على الخطأ لا يؤمن
من اجماع أكثرهم، ففقدكم نصوص الكتاب والسنة أدلة لتلك المذاهب لا يدخل
على ما قلناه.
اللهم الا أن يريدوا انا فقدنا ما (1) يمكن التعلق به، أو الاعتقاد فيه انه دليل. فهذا إذا ادعيتموه علمتم ما فيه، وقيل لكم: من أين قلتم ذلك؟ وكيف يحاط
علما بمثله ويقطع عليه؟ وهل هذا الا الحجر في الشبه طريف! وليس يجب في
الشبه ما يجب في الأدلة، فان تلك تنحصر والشبه لا تنحصر.
على انا نقول: وما نجد لقول كل واحد من الجماعة علة تقتضي القول
بمذهبه، فيجب أن ينفى اعتمادهم في هذه المذاهب على العلل القياسية.
فان قالوا: انكم لم تجدوا علة يجب عندها الحكم بكل ما حكى من
المذاهب، والا فأنتم تجدون ما يمكن ان يجعل علة ويعتقد عنده (2).
قلنا: وكذلك نقول لكم فيما تقدم.
على انا نقول لهم: لم أنكرتم ان يكون من ذهب في الحرام إلى الطلاق
الثلاث، انما قال بذلك من حيث جعله ككنايات الطلاق التي هي طلاق على الحقيقة
ولها احكام الطلاق عند كثير منهم من غير اختيار الشبه، ورجع في ذلك إلى النص
في الطلاق، وادخله في جملة ما يتناوله الاسم؟ ومن قال إنه يمين يرجع أيضا إلى

(1) في الأصل: لا.
(2) يعتقد عنده المذهب.
682

نص الكتاب الذي يرجع إليه القائلون في زماننا بان الحرام يمين، وهو قوله تعالى:
[يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك] (1)، ثم قوله بعد:
(قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) (2)، وان النبي صلى الله عليه وآله حرم (3) على نفسه
مارية القبطية (4)، أو شرب العسل (5) على اختلاف الرواية في ذلك، فأنزل الله تعالى
ما تلوناه وسماه يمينا بقوله: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) فدخل فيما يتناوله
اللفظ.
ومن عجيب الامر انهم يجدون كثيرا من الفقهاء في زماننا يعتمدون ذلك في
هذه المسألة، ويعولون على هذا الظاهر ويتعجبون أن يكون بعض الصحابة رجع في
شئ من المذاهب التي حكوها إلى النص، ويقطعون على أنه لا مخرج لها في
النصوص، وهذا يدل على قلة التأمل.
ويمكن أيضا مثل ذلك: فيمن ذهب إلى أنه ظهار (6)، وأن يكون اجراه مجرى
الظهار في تناول الاسم له، وان كان لفظه مخالفا للفظ الظهار، كما كانت كنايات
الطلاق مخالفة للفظ الطلاق وأجريت مجراه، وكذلك لفظ الحرام مخالف لليمين
واجري في تناول الاسم مجراه.

(1) التحريم: 1.
(2) التحريم: 2.
(3) تفسير الطبري 28: 100، تفسير التبيان 10: 44.
(4) أم ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي جارية بعث بها المقوقس ملك الأقباط وصاحب الإسكندرية
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلمت وأنزلها النبي في العالية في المال الذي اشتهر بمشربة أم إبراهيم،
ووطئها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بملك اليمين ووضعت مولودها في ذي الحجة سنة ثمان. كانت مارية
بيضاء، جميلة، جعدة - كما وصفها الرواة والمؤرخون - وماتت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخمس
سنين ودفنت في البقيع.
(5) تفسير الطبري 28: 102، تفسير التبيان 10: 44
(6) أي الحرام، وهو منقول عن ابن عباس وغيره. راجع صفحة 676.
683

ومن ذهب إلى أنه تطليقة واحدة (1)، كأنه ذهب إلى الطلاق والى أقل ما يقع به.
والذاهب إلى الثلاث ذهب إلى الأكثر والأعم.
وكل هذا ممكن أن يتعلق فيه بالظواهر والنصوص، ويكفي الإشارة إلى ما
يمكن أن يكون متعلقا وليس يلزم أن يكون حجة قاطعة ودليلا صحيحا.
فاما قول مسروق (2)، فواضح انه لم يقل (3) قياسا، وانه لما لم يجعل لهذا القول
تأثيرا تمسك بالأصل في الحكم أو ببعض الظواهر التي تحظر تحريم المحلل.
قال: قالوا: لو كانوا رجعوا في هذه الأقوال إلى ظواهر النصوص و (4) أدلتها على
ما ذكرتم، لوجب أن يخطئ بعضهم بعضا، لان الحق لا يكون الا في أحد الأقوال.
قلنا: لا شئ أبلغ في التخطئة من المجاهرة بالخلاف، والفتوى بخلاف
المذهب، وهذا قد كان منهم، وزاد بعضهم عليه حتى انتهى إلى ذكر المباهلة
والتخويف من الله.
فاما السباب واللعن والشتم والرجوع عن الولاية، فليس يجب عندنا بكل
خطأ، وسنبين القول في ذلك إذا تكلمنا على الطريقة التي نذكرها عنهم من
الاستدلال فيما بعد انشاء الله تعالى
فاما قولهم في الاستدلال: " انهم جعلوه طلاقا تمثيلا وتشبيها "، فقد بينا انه
غير ممتنع أن يكونوا الحقوه بما يتناوله الاسم بناء على أنهم لا يقدرون أن يحكوا
عنهم انهم قالوا: قلنا بكذا تشبيها بكذا، وانما روى أنهم جعلوا الحرام طلاقا وحكموا
فيه بحكم الطلاق، فاما من أي وجه فعلوا ذلك؟ وهل الحقوه تمثيلا وتشبيها؟ أو
في تناول الاسم له فليس بمنقول
على أنه لا يمتنع أن يشبه الشئ بالشئ ويذكر له نظير لا على سبيل المقايسة

(1) وهو منقول عن ابن مسعود، وابن عمر وغيرهما راجع صفحة 676.
(2) راجع هامش (2) صفحة 677.
(3) يقله.
(4) أو.
684

بل على سبيل التقريب (1) والافهام، فيقول من ينفى القياس مثلا: المصاحفة والمعانقة
يجريان مجرى المجامعة في نقض الطهر، وان لم يكن حاملا لهما عليها بالقياس، بل
يذهب إلى تناول ظاهر اللفظ للكل، فلو نقل عنهم التصريح بالتمثيل والتشبيه لم يكن
فيه دلالة على أن (2) القياس ليس هو ان يقول القائل: الحكم في هذا الشئ التحريم
كما كان في غيره مما تناول النص تحريمه، بل القياس هو أن يثبت للمسكوت عن
حكمه مثل حكم المنطوق بحكمه لعلة جمعت بينهما، وتكون العلة معلومة متميزة
مستدلا على كونها علة من دون سائر صفات الأصل بالدليل، وهذا مما لا يروى عن
أحد من الصحابة انه استعمله على وجه من الوجوه، فكيف يدعى مع ذلك التصريح
منهم بالقياس؟
فاما ادعائهم انهم صرحوا بالقياس وتعلقوا في ذلك بما روى عن ابن عباس
من قوله: " الا يتقى الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا " (3)، وما روى
من التشبيه بغصني شجرة وبجدولي نهر، فلان تعلق بمثله: لان أول ما فيه انه لا يجب
أن يعتمد في ايجاب العلم بالقياس على وجه واحد غير مقطوع به، لان هذه المسألة
من المسائل المعلومة التي لا يعتمد فيها الا الأدلة الموجبة للعلم، وما رووه عن ابن
عباس وغيره من اخبار الآحاد التي لا يقطع بها، فكيف يستدل بها لو كان فيها دلالة
وهي غير معلومة؟
وليس لاحد أن يدعى الاجماع على صحة الاخبار من حيث تلقوا هذه الأخبار
بالقبول، أو يدعوا تواترها وانتشارها.
وذلك انها وان ظهرت بين الفقهاء، وذكرت في كتب الفرائض، فلا شبهة في أنها
اخبار آحاد.

(1) التعريف.
(2) بناء على أن.
(3) راجع هامش رقم (1) صفحة 678.
685

ولا فرق بين من يدعى تواترها، وبين من يدعى تواتر جميع اخبار الآحاد التي
ظهرت بين الفقهاء، وكثر احتجاجهم بها في كتبهم ومناظراتهم وان كانت أصولها
آحادا.
فاما الاجماع والتلقي بالقبول، فإنه غير مسلم، لأنه لم يكن منهم في هذه الأخبار
الا ما كان منهم في [خبر الوضوء من] (1) مس الذكر (2)، وقوله " انما الأعمال
بالنيات " (3) وما شاكل ذلك من اخبار الآحاد، وقد علمنا أن هذه الأخبار التي ذكرناها
وما جرى مجراها ليس مما يوجب الحجة، ولا تثبت بمثله الأصول التي طريقها
العلم.
فان قالوا: خبر " مس الذكر " و " الأعمال بالنيات " ما قبلوه من حيث قطعوا على
صحته، وانما عملوا به كما يعلمون على اخبار الآحاد.
قلنا: وهكذا خبر غصني الشجرة وما يجرى مجراه، فليس يمكن بين الامرين
فرق.
وبعد: فلو سلمنا قيام الحجة بما رووه، وان لم يكن كذلك لم يكن فيه دليل
على قولهم، لان أكثر ما في الرواية عن ابن عباس انه أنكر على زيد انه لم يحكم للجد
بحكم الأب الأدنى كما حكم في ابن الابن، وليس في الرواية انه أنكر ذلك عليه
وجمع بين الامرين بعلة قياسية أوجبت الجمع بينهما! وظاهر نكيره يحتمل أن
يكون، لان ظاهرا من القول أوجب عنده اجراء الأب مجرى الجد كما أن ظاهر اخر
أوجب اجراء ابن الابن مجرى الابن للصلب، الا ترى انه يحسن من نافى القياس،
العامل في مذهبه كله على النصوص أن يقول لمن خالفه في حكم الملامسة: اما
تتقى الله توجب انتقاض الطهر بالتقاء الختانين، ولا توجب انتقاضه بالقبلة؟! وهو

(1) زيادة من النسخة الثانية.
(2) راجع هامش رقم (2) صفحة 556.
(3) الحديث رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجة وغيرهم.
686

يذهب الا ان الذي يقتضى الجمع بينهما ظاهر قوله تعالى: (أو لامستم النساء) (1)
فلا يمنع أن يكون ابن عباس انما دعا زيدا إلى القول بالظاهر، وقال له إذا أجريت ابن
الابن مجرى ابن الصلب لوقع اسم الولد عليه وتناول قوله (يوصيكم الله في
أولادكم) لهما، فاجر أيضا الحد مجرى الأب لوقوع اسم الأب عليهما، وقد روى
عن ابن عباس في ذلك التعلق بالقرآن تصريحا (3)، على أن ظاهر قول ابن عباس
يشهد لمذهبنا، لأنه نسب زيدا إلى مفارقة التقوى وخوفه بالله تعالى، فلولا ان زيدا
عنده كان في حكم العادل عن النص لم يصح منه اطلاق ذلك القول، لان من يعدل
عن موجب القياس إلى اختلاف مذاهب مثبتيه لا ينسب إلى مفارقة التقوى، لان
أكثرهم يقول إنه مصيب، ومن خطاه يقول إنه معذور، ولا يبلغ به إلى هذه الحال.
فاما ذكرهم غصني الشجرة وجدولي النهر، فلا يوجب القول بالقياس، وانما
سلكوا ذلك تقريبا للقول من الفهم وتنبيها عليه من غير أن يجعلوا ذلك علة موجبة
للحكم، كما يفعل المعلم مع المتعلم من ضرب الأمثال، وتقريب البعيد، وإزالة
اللبس عن المشتبه.
وكيف يصح أن يدعى في ذلك أنه على طريق المقايسة، وقد علمنا أن القدر
الذي اعتمدوه من ذكر الغصن والجدول لا يصح أن يكون عند أحد أصول (4) في
الشريعة يقاس عليها وتثبت الاحكام لها؟
على أن الوجه في ذكرهم لما حكى ظاهر، وذلك انهم توصلوا بما ذكر عنهم
إلى معرفة أقرب الرجلين من المتوفى وألصقهما به نسبا، ثم رجعوا في توريثه إلى
الدليل الموجب للأقرب الميراث، وهذا كما يتنازع رجلان في ميراث ميت ويدعى
كل واحد منهما انه أقرب، إليه من الاخر، فيصح لمن أراد اعتبار أمرهما ان يعد الاباء

(1) النساء: 43.
(2) النساء: 11.
(3) صريحا.
(4) أصولا.
687

بين الميت وبين كل واحد منهما ويحصيهم، ليعلم ان الأقرب هو من قل عدد الآباء
بينه وبين الميت، دون من كثر عددهم بينه وبينه
وله أيضا ان يوضح ذلك لمن التبس عليه بذكر الامتثال والنظائر، وان كان كل
ذلك مما لا يثبت به التوريث، وانما يعرف به الأقرب، والميراث يثبت بالنصوص.
فاما الوجه الثاني من الكلام على استدلالهم هذا ان نقول لهم: لم زعمتم ان
النكير مرتفع، وقد روى عن كل واحد من الصحابة - الذين أضفتم إليهم القول
بالقياس - ذمة، وتوبيخ فاعله، والأزراء عليه:
فروى عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال: " لو كان الدين يؤخذ بالقياس (1)
لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره " (2) وهذا تصريح منه عليه السلام بأنه لا
قياس في ذلك (3).
وروى عنه عليه السلام انه قال: " من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في
الجد برأيه " (4) وهذا اللفظ يروى عن عمر (5) (6).
وما روى عنه عليه السلام في ذم القياس والذم لفاعله أكثر من أن يحصى (7).
وروي عن أبي بكر انه قال: " أي سماء تظلني وأي ارض تقلني إذا قلت في

(1) قياسا.
(2) رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب كيفية المسح: " عن علي رضي الله عنه قال: لو كان الدين بالرأي
لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه. الحديث ". [انظر أيضا المصادر الواردة في هامش رقم (7)
صفحة 651].
(3) في الدين.
(4) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(5) زاد في الحجرية (أيضا).
(6) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 61.
(7) راجع: " ملخص ابطال القياس والرأي لابن حزم الأندلسي: 46 - 3، الاحكام: 7 / 483 - 386 و 8 / 542 -
487 ".
688

كتاب الله برأيي " (1).
وعن عمر انه قال: " إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم
الأحاديث ان يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا " (2).
وروي عنه انه قال: " إياكم والمكايلة، قيل: وما هي؟ قال: المقايسة " (2).
وروى عن شريح انه قال: " كتب إلى عمر بن الخطاب - وهو يومئذ من قبله -
اقض بما في كتاب الله، فان جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، فان جاءك ما ليس في سنة رسول الله فاقض بما أجمع
عليه أهل العلم، فان لم تجد فلا عليك الا تقضى " (2).
وروي عن عمر أيضا قال: " أجرأكم على الجد أجرأكم على النار " (3).
وعن عبد الله بن مسعود انه قال: " يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ الناس
رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم " (2).
وعنه انه قال: " إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله وحرمتم
كثيرا مما أحلل الله " (2).
وروى عن عبد الله بن عباس انه قال: " ان الله تعالى قال لنبيه: احكم بينهم بما
أراك الله (4) ولم يقل بما رأيت (2).
وروي عنه أيضا انه (2) قال: " لو جعل لاحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول تعالى: (وان احكم بينهم بما انزل الله) (5).
وروي عنه أيضا انه قال: " إياكم والمقاييس فإنما عبدت الشمس والقمر

(1) تفسير القرطبي: 19 / 221، تفسير ابن كثير 4 / 472، والمصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(2) انظر المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(3) انظر المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666، وراجع أيضا هامش رقم (3) صفحة 701.
(4) قال تعالى شأنه: (إنا أنزلنا الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله). [النساء: 105]
(5) المائدة: 49.
689

بالمقاييس (1).
وروى عن عبد الله بن عمر انه قال: " السنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه "
وآله وسلم، ولا تجعلوا الرأي سنة للمسلمين " (1).
وقال مسروق: " لا أقيس شيئا بشئ أخاف أن تزل قدمي بعد ثبوتها " (1).
وكان ابن سيرين يذم القياس ويقول: " أول من قاس إبليس " (1).
وروي عنه انه كان لا يكاد يقول شيئا برأيه (1).
وقال الشعبي (2) لرجل " لعلك من القايسين " (1).
وقال: " ان أخذتم بالقياس أحللتم الحرام وحرمتم الحلال (1).
وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن (3) لا يفتى برأيه.
وإذا كان القوم قد صرحوا بذم القياس وانكاره هذا التصريح، فكيف يدعى
ارتفاع نكيرهم؟، وأي نكير يتجاوز ما ذكرناه ورويناه عنهم؟
وليس لهم ان يتأولوا الألفاظ التي رويناها ويستكره‍ [وا] التأويل فيها
ويتعسفوه، مثل ان يحملوها على انكار بعض القياس دون بعض، أو على وجه دون
وجه، ليسلم لهم ما حكوه من قولهم بالرأي والقياس!
لان ذلك انما يسوغ لو كان ما استدلوا به على قولهم بالقياس غير محتمل
للتأويل، وكان صريحا في دلالته على ذلك، فانا قد بينا ان جميع ما تعلقوا به من
اختلافهم في مسألة الحرام وغيرها من المسائل لا يدل على القياس، ولا له أيضا

(1) انظر المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(2) هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار، الشعبي، الحميري، من التابعين ولد ومات بالكوفة سنة
103 ه‍ كان من المنحرفين عن أهل البيت عليهم السلام والموالين لبني أمية، اتصل بعبد الملك بن مروان
فكان نديمه وسميره، واستقضاه عمر بن عبد العزيز، يعده أهل السنة من الفقهاء والمحدثين الثقات!!
(3) في اسمه اختلاف، قيل: ليس له اسم، وقيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه وكنيته واحد وهو
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، قيل: إنه أحد الفقهاء السبعة في المدينة، يعد من الفقهاء والمحدثين الثقات عند أهل السنة، وفي سنة 94 أو 104.
690

ظاهر في الدلالة عليه، وسنبين بمشية الله مثل ذلك في تعلقهم بالرأي وإضافة
الاحكام إليه، وانه لا ظاهر له في الدلالة على القياس، فضلا عن أن يحتمل التأويل،
فلا وجه لتأويلهم ما رويناه من الاخبار، لا سيما وجميعها له ظاهر في نفى القياس لا
بدلهم من العدول عنه، إذا صح تأويلهم، فكيف يعدل عما له ظاهر في الدلالة على
امر لأجل ما لا ظاهر له؟
ولو تساوى الأمران في الظاهر أيضا، لم يكن لهم ان يحملوا اخبارنا على
التأويلات التي ذكروها لتسلم دلالة ما تعلقوا به على القياس، ولو كانوا بذلك أولى منا
إذا تأولنا ما رووه وحملنا على أن القول فيه انما كان بالنصوص وأدلتها ليسلم دلالة
ما رويناه على نفي القياس.
وما لا يزالون يتعلقون به في ذلك من قولهم: ان المنكرين لذلك هم
المستعملون له، فلابد من حمل النكير على ما يوافق ما ظهر عنهم من استعمال
القياس.
فتعلل (1) بالباطل، وذلك أن لا نعلم أنهم استعملوا القياس ضرورة، أو من وجه
لا يسوغ فيه التأويل ولا يدخله الاحتمال، وانما ادعى ذلك عليهم وتعلق مدعيه بما
لا ظاهر له ولا شهادة فيه بالقول بالقياس، وأحسن أحواله أن يكون محتملا،
فكيف يصح ما ذكروه؟
وهذه الجملة [التي] ذكرناها تسقط قولهم ان الرأي الذي أبوه هو الذي يصدر
عن الهوى، والذي يستعمل في غير موضعه، وان أمير المؤمنين عليه السلام إنما نفى
أن يكون جميع الدين يؤخذ قياسا (2)، وكذلك أبو بكر انما استكبر استعماله الرأي في
كتاب الله على وجه لا يسوغ فيه (2)، إلى غير ذلك مما يقولونه ويفزعون إليه، لان كل
ذلك منهم عدول عن الظاهر، وتخصيص لاطلاقه، وتأول لا يجب المصير إليه الا بعد

(1) فتعللوا.
(2) انظر المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
691

القطع على صحة القياس، وقول القوم به بما لا يحتمل التأويل.
فاما قول بعضهم (1): انهم فعلوا ذلك تشددا واحتياطا للدين حتى لا يقول
الفقهاء على القياس، ويعدلوا عن تتبع الكتاب والسنة.
فظاهر السقوط، وذلك أن التشدد لا يجوز أن يبلغ إلى انكار ما أوجبه الله تعالى، أو
فسخ فيه، ولا يقتضى أن يخرجوا انكارهم المخرج الموهم لانكار الحق، ولو كان
ذلك غرضهم لوجب أن يصرحوا بذم العدول عن الكتاب والسنة، والاعراض عن
تأملهما والتشاغل بغيرهما من غير أن يطلقوا انكار القياس والرأي الذين هما عندكم
أصلان من أصول الدين تاليان للكتاب والسنة والاجماع!
على أنه يمكن أن يقال لهم: مع تسليم ارتفاع النكير، لم أنكرتم ان يكون
بعض الصحابة الذين حكيتم عنهم الاختلاف في مسألة الحرام وغيرها قد رجع في
مذهبه إلى القياس، وهو من كان قوله منهم أبعد من أن يتناوله شئ من ظواهر
الكتاب والسنة؟ وأن يكون الباقون رجعوا في مذاهبهم إلى النصوص وأدلتها؟ غير أن
من ذهب إلى القياس منهم لم يظهر وجه قوله، ولا علمت الجماعة انه قاله قياسا،
ولو علموا بذلك لأنكروه، غير أنهم لا يعلمونه وأحسنوا الظن بالقائل وظنوا انه لم
يقل الا عن نص أو طريق يخالف القياس.
وليس يجب أن يكون وجه قول كل واحد منهم على التفصيل معلوما
للجماعة، ومتى أوجبوا ذلك وادعوه طالبنا هم بالدليل على صحته ولن يجدوه،
وهذا أيضا مما لا انفكاك لهم منه.
واستدلوا أيضا بأن (1) قالوا: قد ظهر عن الصحابة القول بالرأي وإضافة
المذاهب إليه، ولفظة " الرأي " إذا أطلقت لم تفد القول بالحكم من طريق النص، لان
ما طريقه العلم لا يضاف إلى الرأي جليا كان الدليل أو خفيا، ولا يستفاد من ذلك الا
القول من طريق القياس والاجتهاد، والأخبار الواردة في ذلك كثيرة:

(1) راجع المصادر الواردة في الهامش رقم (2) صفحة 666.
692

نحو ما روى عن أبي بكر في الكلالة: " أقول فيها برأيي " (1) وقول عمر: " اقض برأيي " (1)، وقوله: " هذا ما رأى عمر " (1)، ونحو قول
أمير المؤمنين عليه السلام في أمهات الأولاد: " كان رأيي ورأى عمر ان لا يبعن ثم
رأيت بيعهن " (1)، وهذه الجملة لا تدل على القياس والاجتهاد من الوجه الذي ذكرناه
في اطلاق لفظة " الرأي " وإضافة المذهب إليه.
ولأنه أيضا: لو كان رجوعهم فيما ذكرناه من اختلافهم إلى طرق العلم، لما صح
منهم الرجوع من رأى إلى رأى، ولا التوقف فيه، وتجويز كونه صوابا وخطاء، ولا ان
يمسكوا عن تخطئة المخالف والنكير عليه.
ولأن الأدلة لا تتناقض ولا تختلف، فكيف يجوز أن يرجع كل واحد إلى دليل
مع اختلاف أقوالهم.؟
فيقال لهم: قد ادعيتم في معنى " الرأي " ما لا يصح، لان " الرأي " إذا أطلق
تناول كل ما كان متوصلا إليه بضرب من الاستدلال الذي يصح فيه اعتراض
الشبهات، واختلاف أهل الاسلام لا يختص ما قيل قياسا دون ما قيل من جهة اعتبار
الظواهر والاستدلال بها
الا ترى انهم يقولون: " فلان يرى العدل و " فلان يرى القدر " و " فلان يرى
الارجاء " وفلان يرى القطع على عقاب الفساق " وان كان ذلك متوصلا إليه بالأدلة
الموجبة للعلم.
وكذلك يقولون: " ان أبا حنيفة يرى الوضوء بنبيذ التمر (2) وان ذلك رأيه " كما
يقال: " ان ذلك مذهبه " وان كان لا يرجع في ذلك إلى قياس واجتهاد.
ويقال أيضا: " ان القضاء بالشاهد واليمين " رأى الشافعي (3) ومالك (3) وان كان

(1) راجع المصادر الواردة في الهامش رقم (2) صفحة 666.
(2) الفتاوي الهندية 1 / 22 - 21.
(3) المغني لابن قدامة: 12 / 13.
693

مرجعهما فيه إلى الخبر، وان الأقراء التي تعتبر في العدة على رأي أبي حنيفة
الحيض (1) وعلى رأى الشافعي وغيره الأطهار (2) وان كان رجوع كل واحد منهما في
ذلك إلى ضرب من الاستدلال يخالف القياس.
وإذا كان معنى " الرأي " والمستفاد به المذهب والاعتقاد على ما ذكرناه، لم
يكن في إضافة الصحابة أقوالها إلى الرأي لأدلة على ما توهمه خصومنا من القياس،
لأنهم لم ينصوا على أن الرأي الذي رواه هو الصادر عن القياس دون غيره، وإذا لم
ينصوا والقول محتمل لما يقولونه لم يكن للخصم فيه دلالة.
فان قالوا: ان كان القول في " الرأي " على ما ذكرتم فلم لا يقال: ان المسلمين
يرون أن التمسك بالصلاة والصوم وما أشبه ذلك من الأمور المعلومة؟ قلنا: انما لا يقال ذلك لما قدمناه من أن لفظ " الرأي " يفيد الأمور المعلومة من
الطرق التي يصح أن تعترضها الشبهات ويختلف فيها أهل القبلة، ولهذا لا يضيفون
الأمور المعلومة ضرورة من واجبات العقول إلى الرأي، كقبح الظلم، ووجوب
الانصاف، ورد الوديعة. ولا يضيفون أيضا إليه العلم بدعاء الرسول عليه السلام لامته
إلى صلوات الخمس، وصوم شهر بعينه، لأنه معلوم ضرورة، أو باستدلال لا
يدخل فيه شبهة.
وكذلك أيضا: لا يضيفون إليه سائر الأمور المعلومة بالأدلة التي لا يختلف
المسلمون فيها، كوجوب التمسك بالصلاة، والصوم، والعلم بنبوة الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم، وصدق دعوته، وقد بينا انهم يطلقون " الرأي " في القول بالعدل،
والقدر وغير ذلك.
فان قالوا: انما صح ان يقول العدلي: " فلان يرى القدر "، ويقول: القدري: " فلان
يرى العدل " لان كل واحد منهما ينسب صاحبه إلى القول بغير علم، وان اجتهد، فشبه

(1) الفتاوي الهندية: 1 / 526، المغني لابن قدامة: 8 / 246.
(2) المغني لابن قدامة: 8 / 246.
694

بالقول بالرأي الذي هو القياس.
قيل لهم: هذا الاطلاق الذي حكيناه ليس يختص بواحد دون اخر، بل العدلي
يقول في نفسه وفيمن يقول بقوله انه يرى العدل، وكذلك القدر والارجاء وسائر ما
حكيناه من المذاهب، على أن العدلي لا يرى أن القدري قايل بالقدر الا عن تقليد أو
شبهة، وليس يرى أنه قائل من اجتهاد يقتضى غلبة الظن حتى يطلق عليه لفظ
" الرأي " المختص عندهم بالمذاهب الحاصلة من طريق القياس.
فان قالوا: كيف يصح ان ينازعوا في اختصاص " الرأي " بما ذكرناه؟ ومعلوم
ان القائل إذا قال: " هذا مذهب أهل الرأي "، و " قال أهل الرأي كذا " لم يفهم عنه الا
القياس دون غيره.
قيل: هذا تعارف حادث في أهل القياس، لأنه حدث الاختلاف بين الأمة في
القياس، فنفاه قوم وأثبته آخرون، وغلب على مثبتيه الإضافة إلى الرأي، ومعلوم ان
هذا التعارف لم يكن في زمن الصحابة، فكيف يحمل خطابهم عليه؟
على أنه ليس معينا عن أحد من الصحابة انه قال: " انا من أهل الرأي " وأكثر ما
رووه قولهم " رأينا كذا " و " كان رائى ورأى فلان كذا "!
وليس يمتنع أن يكون في بعض تصرف اللفظة من التعارف ما ليس هو في
جميع تصرفها، ويكون الإضافة إلى " الرأي " قد غلب فيها ما ذكروه، وان لم يغلب في
قولهم: " رأيت كذا " و " كان كذا من رأي ".
هذا مما لا يمكن دفعه، فإنه لا شبهة على أحد في أن قولهم: " فلان من أهل
الرأي " لا يجري في الاختصاص بالإضافة إلى الاجتهاد والقياس مجرى قولهم " رأى
فلان كذا " و " كان رأى فلان أن يقول بكذا "، وان الثاني لا تعارف فيه يخصصه وان
كان في الأول.
وإذا صح ما ذكرناه، لم يمتنع أن يقول أمير المؤمنين عليه السلام: " كان رائي
695

ورأى عمر الا يبعن " (1) اي مذهبي وما أفتي به وكذلك قول أبي بكر: " أقول فيها
برأيي " (1) اي ما اعتقده وأداني الاستدلال إليه، وكذلك قول عمر: " أقضي فيها برأيي " (1).
فان قالوا لو كان الامر على ما ذكرتم فلم قالوا ان كان صوابا فمن الله وان كان
خطأ فمني ومن الشيطان " (1) والأدلة والنصوص لا يكون فيها خطأ؟
قيل: قد يخطئ المحتج بالكتاب والسنة والمستدل بأدلتهما، بان يضع
الاستدلال في غير موضعه، مثلا يقدم مؤخرا أو يؤخر مقدما، أو يخص عاما أو يعم
خاصا، أو يتمسك بمنسوخ، أو يعمل على ما هناك أولى منه، فيكون الخطاء منه أو من
الشيطان، فالكتاب والسنة وان لم يكن فيهما خطأ، فالمستدل بهما قد يخطئ من
حيث قلنا.
على انا إذا تأملنا المسائل التي قالوا فيها بما قالوه وأضافوه إلى رأيهم، وجدنا
جميعها لها مخرجا من أدلة النصوص، فالذاهب (2) إليها متعلق بغير القياس.
اما بيع أم الولد فيمكن أن يعول من منع منه على ما روى عنه عليه السلام في
مارية القبطية لما ولدت إبراهيم: " أعتقها ولدها " (4).
ومن ذهب إلى جواز بيعها أمكنه التعلق بأشياء:
منها: ان أصل الملك جواز التصرف، والولادة غير مزيلة للملك بدلالة ان
لسيدها وطؤها بعد الولادة من غير ملك ثان ولا عقد نكاح، وذلك يقتضى بقاء
السبب المبيح للوطئ وهو الملك.
ومنها: انه لا خلاف في أن عتقها بعد الولادة جائز، ولو كان الملك زائلا ما جاز
العتق.

(1) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(2) في الأصل: والذاهب.
(3) كنز العمال: 10: 328 حديث 29654.
(4) كنز العمال: 11: 470 حديث 32209 و 11: 471 حديث 32213.
696

ومنها: قوله تعالى: (أحل الله البيع) (1) ويتعلق بعمومه في كل موضع إلا ما
أخرجه (2) الدليل، فلعل من أجاز البيع في الصدر الأول تعلق ببعض ما أشرنا إليه
واعتمده.
ومن تأمل احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام في بيع أمهات الأولاد (3) وجده
مخالفا لطريقة القياس، لان المروى عنه عليه السلام انه قال: " سبق كتاب الله بجواز
بيعها " (4)، فأضاف جواز البيع إلى الكتاب دون غيره.
فاما قول أبى بكر وقد سئل عن الكلالة " أقول فيها برأيي، فان كان حقا فمن الله،
وان كان خطأ فمني: هو ما عدا الوالد والولد " (4) فليس يجوز أن يكون الرأي الذي
ذكره (5) هو القياس، لان السؤال وقع عن معنى اسم، والأسماء لا مدخل للقياس
فيها، وانما المرجع فيها إلى المواضعة وتوقيف أهل اللسان، وكتاب الله تعالى يدل
على معنى الكلالة، لأنه تعالى قال: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) (6)، وما
تولى الله تفسيره والفتوى به لم يدخله الرأي والذي هو الاجتهاد والقياس.
ويبين ذلك أيضا: قول النبي صلى الله عليه وآله لعمر وقد كرر عليه السؤال عن
الكلالة " يكفيك اية الصيف " (7) وهذا يدل على أن الآية نفسها تفيد الحكم.
وكذلك ان تعلقوا بما روي عن ابن مسعود وانه " سئل عن امرأة مات عنها
زوجها ولم يسم لها صداقا ولم يدخل بها؟ فرد السائل شهرا ثم قال: " أقول فيها
برأيي، فان كان حقا فمن الله، وان كان خطأ فمني أو من الشيطان، والله ورسوله منه بريان:

(1) البقرة: 275.
(2) في الأصل: أحوجه.
(3) الولد.
(4) راجع المصادر الواردة في ها امش رقم (2) صفحة 666.
(5) ذكروه.
(6) النساء: 176.
(7) راجع تخريج القول في هامش رقم (3) صفحة 370.
697

عليها العدة، ولها الميراث، ولها مهر نسائها، لا وكس ولا شطط " (1) فقال معقل بن
يسار: " اشهد ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في بروع بنت واشق بما
قضيت " (1) فسر عبد الله.
وذلك أن لقول عبد الله ظاهرا في كتاب الله يمكن أن يرجع إليه، وهو عموم
قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر)
وعشرا) (2)، لان عموم الآية تقتضي العدة على كل زوجة توفى عنها زوجها، ولم
يخص بالجملة من لم يسم لها صداقا.
ويمكن أن يكون أوجب الميراث لكل زوجة كقوله (3) تعالى: (ولهن الربع مما
تركتم) (4) [ولم يخص] (5) من لم يطأها زوجها ولم يسم لها صداقا، وأوجب المهر
بقوله تعالى: (فانكحوهن باذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف) (6) وذلك
موجب لمهر المثل، لان المسمى لا يتجاوز ولا يعتبر فيه العرف.
وإذا كان لكل أفتى به وجه في الظاهر، فما السبب في القطع على قوله بالقياس؟
فان قيل: لم رددهم شهرا؟ ولم قال: " وان كان خطأ فمني " (1)؟ فكيف يكون
الحكم المأخوذ من ظاهر الكتاب خطأ؟
قلنا: يجوز أن يكون توقفه وترداده للسائل لطلبه ما عساه يقتضى تخصيص
الآيات التي ذكرناها والتماسا لما لعله أن يعثر عليه مما يجب له ترك الظاهر.
ويمكن أن يكون أيضا: انه لم يتعين عليه فرض الفتيا لوجود غيره من علماء
الصحابة، فاثر طلب السلامة بالاعراض عن الجواب والفتيا، ثم ألحوا عليه وسألوه أجاب.

(1) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(2) البقرة: 224.
(3) بقوله.
(4) النساء: 12.
(5) زيادة من النسخة الثانية.
(6) النساء: 25.
698

فاما قوله: " ان كان خطأ فمني " (1) فيمكن لما أن يكون لأنه جوز أن يكون هناك ما
هو أولى من الظاهر من دليل يخص، أو رواية تقتضيه من الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم في مثل ما سئل منه يخالف قضيته، أو غير ذلك مما يكون العدول إليه أولى.
على أنهم يقولون: " كل مجتهد مصيب "، فيلزمهم السؤال عن قوله: " أن كان
خطأ فمني "، وكيف نسب نفسه إلى الخطأ وهو مجتهد؟
فلا بد لهم من الرجوع إلى تجويزه على نفسه التقصير في طلب خبر لو
استقصى لظفر به، وما جرى مجرى ذلك.
ومتى تأملت جميع المسائل التي حكي عنهم إضافة القول فيها إلى رأيهم
وجدت لها مخرجا في الظواهر وطرقا تخالف القياس!
فاما قولهم: " ولو كان رجوعهم في ذلك إلى طرق العلم لما صح منهم الرجوع
من رأى إلى اخر، ولا التوقف فيه، وتجويز كونه خطأ وصوابا ". فمن بعيد ما يقال،
وذلك أن الرجوع عن المذاهب وأدلتها لا يدل على القول فيها بالقياس والظن، لان
ذلك قد يصح فيما طريقه العلم والأدلة، الا ترى ان القائل بالجبر قد يعدل عنه إلى
العدل، وكذلك قد يعدل عن القطع على عقاب الفساق من أهل القبلة إلى القول
بالارجاء (2)، وسائر مسائل الأصول ذلك ممن فيها، فليس التنقل من رأى إلى اخر

(1) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(2) الارجاء اما ان يكون مشتقا من الرجاء بمعنى الامل، أو من الارجاء بمعنى التأخير، والمرجئة فرقة قالت:
لا يضر مع الايمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة، وان الايمان قول بلا عمل، فكأنهم قدموا الايمان
وأرجئوا العمل، وخلاصة القول: انهم يذهبون إلى أن أصحاب الكبائر إذا ماتوا غير تائبين فإن حساب
أعمالهم مرجو ومؤخر ليوم القيامة، وانهم لا يحكمون عليهم بالنعوت والصفات في الدنيا، فلا يحكمون
عليهم بالفسق، أو الكفر، وانهم مؤمنون أو فاسقون، أو فاسق، أو من أهل النار، والجنة، بل يرجئونه إلى
الآخرة. والمرجئة على أصناف وفرق عديدة. وقد اختلف أرباب الملل والنحل في مبدع هذه الفكرة،
والرأي السائد عند المحققين أنها من الفرق التي أبدعتها السياسة الأموية لتبرئة جرائمها ولابعاد الناس عن
توصيفهم بالفسق والكفر بعد ما شاهدوا منهم الجرائم والموبقات، ولآراء المرجئة تأثيرات كبيرة بعيدة
المدى في أصول الدين عند المذاهب السنية لا زالت باقية.
699

دلالة على ما ظنوا (1).
وأما التوقف: فقد يجوز أن يكون طلبا للاستدلال والتأمل، كما يتوقف
الناظرون في كثير من مسائل الأصول التي يتوصل إليها بالأدلة المفضية إلى العلم
ويتثبتون تحرزا من الغلط، واحتياطا في إصابة الحق.
فاما: " تجويز كونه خطأ وصوابا "، فالوجه فيه ما ذكرناه في خبر ابن مسعود، أو
أن ذلك يحسن أن يقال بحيث يكون التجويز لورود ما هو أولى من الظاهر ثانيا، لان
الناظر ربما كان متهما نفسه بالتقصير ويجوز أن يكون في المسألة مخصص أو معنى
يقتضى العدول إليه لم يمعن النظر في طلبه والفحص عنه.
واما قولهم: " ولا ان يمسكوا عن تخطئة المخالف والنكير عليه، ولأن الأدلة لا
تتناقض ولا تختلف، فكيف يجوز أن يرجع كل واحد منهم في قوله إلى دليل "؟
فقد بينا انا لا نقول ان مع كل واحد دليلا على الحقيقة، وانما قلنا: يجوز أن
يكون كل واحد تعلق بطريقة من الظاهر وأدلة النصوص، اعتقدها دليلا لا شبهة في أن
الأدلة لا تتناقض، الا أن ما يعتقد بالشبهة دليلا لا يجب ذلك فيه.
فاما الامساك عن النكير (2) والتخطئة، فلم يمسكوا عنهما، والعلم بان بعضهم
خطأ بعضا يجرى مجرى العلم بأنهم اختلفوا، فدافع أحد الامرين كدافع الاخر.
ويدل على ما ذكرناه ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام وقد استفتاه عمر
في امرأة وجه إليها، فألقت ما في بطنها، وقد أفتاه كافة من حضره من الصحابة بأن لا
شئ عليه، فإنه مؤدب فقال عليه السلام: " ان كان هذا جهد رأيهم فقد أخطأوا، وان
كانوا قاربوك فقد غشوك " (3) وهذا تصريح بالتخطئة.

(1) ظنوه.
(2) التنكير.
(3) راجع (نقلا عن الغدير في الكتاب والسنة: 6: 119): " ابن الجوزي في سيرة عمر ص 117، وأبو عمر في
العلم: 146، والسيوطي في جمع الجوامع: 7: 300 نقلا عن عبد الرزاق، والبيهقي، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد: 1: 58 ".
700

والخبر الذي رويناه متقدما عنه عليه السلام يشهد بذلك، وهو قوله عليه
السلام: " من أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه " (1).
وروى عن ابن عباس انه قال: " من شاء باهلته ان الذي أحصى رمل عالج ما
جعل للمال نصفين وثلثا " (2).
وروي عنه انه قال: " من شاء باهلته ان الجد أب " (3).
وقد رويت المباهلة عن ابن مسعود أيضا في قصة أخرى، وروي عن ابن عباس
الخبر الذي تقدم من قوله: " الا يتقى الله زيد بن ثابت " (1).، وهذا أيضا تصريح بالتخطئة
وتخويف بالله تعالى في المقام على المذهب.
والخبر الذي رويناه أيضا عن عمر انه قال: " أجرأكم على الجد أجرأكم على
النار " (4) واضح في هذا الباب.
وروي عن عائشة انها بعثت إلى زيد بن أرقم، وقد اشترى ما باعه بأقل مما
باعه به قبل أن يقبض الثمن: " انك ان لم تثبت فقد بطل جهادك مع النبي صلى الله
عليه وآله وسلم " (5).
وقيل لابن المسيب: ان شريحا قضى في مكاتب عليه دين: ان الدين والكتابة
بالحصص فقال: " أخطأ شريح ".

(1) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(2) الاحكام للآمدي 4: 417.
(3) اختلف الصحابة في الجد فألحقه بعضهم بالأب في اسقاط الاخوة كابن عباس، وألحقه بعضهم بالاخوة
كزيد بن ثابت. انظر أقوالهم في هذه المسألة في: " الاحكام للآمدي " 3: 302.
(4) نسب ابن أبي الحديد المعتزلي في " شرح نهج البلاغة 1: 611 " هذا القول لعمر حيث يقول: " كان عمر
يفتي كثيرا بالحكم ثم ينقضه ويفتي ضده وخلافه، قضى في الجد مع الاخوة قضايا كثيرة مختلفة، ثم خاف
من الحكم في هذه المسألة فقال: من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه ". راجع أيضا
المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(5) وفي " الاحكام للآمدي 3: 304 ": قالت عائشة: " أخبروا زيد بن أرقم أنه أحبط جهاده مع رسول الله بفتواه
بالرأي في مسألة العينة ".
701

وفي هذا من الاخبار ما لا يحصى كثرة، وفيما أوردناه كفاية لما أردناه.
فاما ما لا يزالون يستكرهونه ويتعسفونه من تأويل هذه الأخبار التي ذكرناها،
مثل قولهم في قصة المجهضة ولدها " ان الخطأ والغش انما أراد به ترك ما هو الأولى
في النصح والمذهب " (1)، وان ابن عباس دعا إلى المباهلة لأنه خطئ في اجتهاده،
فدعا من خطأه في ذلك - لا في نفس المذهب - إلى المباهلة، وان ذكر جهنم والنار
على سبيل التشدد والتحرز، وان ذلك تخويف لمن أقدم عليه من غير فكر ولا
تحفظ.
وفي حديث احباط الجهاد، ان ذلك مشروط بأن يكون ذاكر للخبر المقتضي
لخلاف قوله، إلى غير ذلك مما يتناولون به الأخبار الواردة في هذا المعنى، فكله
عدول عن ظواهر الاخبار وحملها على ما لم تحتمله، وذلك انما يسوغ إن ساغ، متى
ثبت لنا تصويب القوم بعضهم لبعض في مذاهبهم من وجه لا يحتمله التأويل.
فاما ولا شئ نذكر في ذلك الا وهو محتمل للتصويب وغيره على ما ذكرناه
وسنذكره، فلا وجه للالتفات إلى تأويلاتهم البعيدة.
فإن قالوا: نحن وان صوبنا المجتهدين، فليس نمنع أن يكون في جملة
المسائل ما الحق فيه في واحد، فلا يسوغ في مثله الاجتهاد، وأكثر ما تقتضيه الاخبار
التي رويتموها أن يكون الاجتهاد غير سائغ في هذه المسائل بعينها، وهذا لا يدل
على أن سائر المسائل كذلك.
قلنا: لا فرق بين هذه المسائل التي روينا فيها الاخبار وبين غيرها، وليس لها
صفة تباين بها ما عداها مسائل الاجتهاد، الا يرون انه لا نص في شئ منها يقطع
العذر، كما أن ذلك ليس في غيرها من مسائل الاجتهاد، وإذا لم يتميز من غيرها
بصفة لم يسغ ما ادعيتموه واشترك الكل في جواز الاجتهاد فيه أو المنع منه.
واستدلوا أيضا بان قالوا ليس تخلو أقوالهم في هذه المسائل التي أضافوها

(1) انظر تخريجه في هامش رقم (3) صفحة 700.
702

إلى آرائهم وأمثالها من أن يكونوا ذهبوا إليها من طرق الأدلة الموجبة للعلم، أو من
جهة الاجتهاد والقياس.
ولو كان الأول: لوجب أن يكون الحق في واحد من الأقوال دون جميعها،
ولوجب أن يكون ما عدا المذهب الواحد الذي هو الحق منها باطلا خطأ، ولو كان
كذلك لوجب أن يقطعوا ولاية قائله، ويبرءوا منه، ويلعنوه، ولا يعظموه، الا ترى انهم
في أمور كثيرة خرجوا إلى المقاتلة، ورجعوا عن التعظيم والولاية،
لما لم يكن من
باب الاجتهاديات، ولو كان الكل واحدا لفعلوا في جميعه فعلا واحدا.
ولو كان الامر على خلاف قولنا، لم يحسن ان يولى بعضهم بعضا مع
علمه بخلافه عليه في مذهبه، كما ولى أمير المؤمنين عليه السلام شريحا مع علمه
بخلافه له في كثير من الاحكام، وكما ولى أبو بكر زيدا وهو يخالف في الجد، فلولا
اعتقاد المولي أن المولى محق، وان الذي يذهب إليه - وان كان مخالفا لمذهبه -
صواب لم يجز ذلك، ولا جاز أيضا ان يسوغ له الفتيا ويحيل عليه بها، وقد كانوا
يفعلون ذلك.
وكذلك كان يجب أن ينقض بعضهم على بعض الأحكام التي يخالفه فيها لما
تمكن من ذلك، وان ينقض الواحد على نفسه ما حكم به لهم في حال ثم رجع إلى ما
يخالفه في أخرى، لان كثيرا منهم قد قضى بقضايا مختلفة ولم ينقض على نفسه ما
تقدم، فلولا ان الكل عندهم صواب لم يسغ ذلك!
وأيضا: فقد اختلفوا فيما لو كان خطأ لكان كبيرا، نحو اختلافهم في الفروج،
والدماء، والأموال، وقضى بعضهم بإراقة الدم، وإباحة المال والفرج، فلو كان منهم
من أخطأ، لم يجر ان يكون خطأه كبيرا، ويكون سبيله سبيل من ابتداء إراقة دم محرم
بغير حق، وأخذ مالا عظيما بغير حق، واعطاء من لا يستحقه، وفي ذلك تفسيقه
ووجوب البراءة منه.
وفي علمنا بفقد كل ذلك دليل على أنهم قالوا بالاجتهاد وان الجماعة
703

مصيبون.
وهذه الطريقة هي عمدتهم في أن كل مجتهد مصيب في أحكام الشريعة.
قيل لهم: ما تنكرون أن يكون الخطأ الواقع ينقسم:
إلى ما يوجب البراءة، وحمل السلاح، واللعن، وقطع الولاية.
والى ما لا يوجب شيئا من ذلك وأن يكون اشتراك الفعلين في كونهما خطأ لا
يقتضى اشتراكهما فيما يستحق عليهما ويعامل به فاعلهما، إلا يرى أن (1) الصغيرة
تشارك الكبيرة في القبح والخطأ، فلا (2) يدل ذلك على تساويهما فيما يعامل به
فاعلهما. والزنا (3) والكفر يشتركان في القبح والمعصية، ولا يجب تساويهما في سائر الأحكام.
وإذا أجاز اشتراك الشيئين في القبح مع اختلافهما فيما يستحق عليهما، لم
يمتنع أن يكون الحق في أحد ما قاله القوم، وما عداه خطأ، ولا يجب مساواة ذلك
الخطأ لما يوجب من الخطاء والتبري، واللعن، وحمل السلاح، والحرب.
ثم يقال لهم: أليس الصحابة قد اختلفت قبل العقد لأبي بكر حتى قالت
الأنصار: " منا أمير ومنكم أمير؟ " (4)
فإذا اعترفوا به ولابد منه، قيل لهم: أو ليس الذي دعوا إلى ذلك مخطئين
لمخالفتهم الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: " الأئمة من
قريش " (5) فلا بد من الاقرار بخطئهم؟

(1) يرون.
(2) ولا.
(3) الربا.
(4) انظر: " تاريخ الطبري ": حوادث سنة 11 ه‍.
(5) من الأحاديث المشهورة والمتواترة، فقد نقله العامة والخاصة في المجاميع الروائية، ورواه أحمد بن
حنبل في مسندة والبخاري وغيرهم.
704

فيقال لهم: أفتقولون انهم كانوا فساقا، ضلالا، يستحقون اللعن والبراءة
والحرب؟
فان قالوا: نعم، لزمهم تفسيق الأنصار، ولعنهم، والبراءة منهم.
وهذا أقبح مما يعيبونه على من يرمونه بالرفض!
فان قالوا: انهم لم يصروا على ذلك، بل راجعوا الحق، فلم يستحقوا تفسيقا ولا
براءة.
قيل لهم: كلامنا عليهم قبل التسليم وسماع الخبر، وعلى ما قضيتم به يجب أن
يكونوا في تلك الحال فساقا يستحقون البراءة واللعن والعدول عن الولاية والتعظيم،
وهذا مما لم يقله أحد منهم.
على أن فيهم من لم يرجع بعد سماع الخبر وأقام على امره، فيجب أن
يحكموا فيه بكل الذي ذكرناه.
فان قالوا: ان الأنصار لم تفسق بما دعت إليه، وان كان الحق في خلاف قولها،
ولا استحقت اللعن والبراءة.
قيل لهم: فما تنكرون أن يكون الحق في أحد ما قالته الصحابة من المسائل
التي ذكرتموها دون ما عداه، وأن يكون من خالفه لا يستحق شيئا مما ذكرتم؟
ويسئلون أيضا: على هذا الوجه في جميع ما اختلفت فيه الصحابة مما الحق
فيه في واحد، كاختلافهم في مانعي الزكاة هل يستحقون القتال؟، وغير ذلك من
المسائل.
ويقال: يجب إذا كان من فارق الحق في مثل هذه المسائل من الصحابة قد
أخطأ، أن يكون في تلك الحال فاسقا، منقطع الولاية، ملعونا، مستحقا للمحاربة.
ويسألون أيضا: عن قضاء عمر في الحامل المعترفة بالزنا بالرجم، حتى قال
(له) (1) أمير المؤمنين عليه السلام: " ان كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في

(1) زيادة من الأصل.
705

بطنها " (1).
فيقال لهم: أتقولون ان قضاءه بذلك حق؟
فان قالوا: نعم، غلطوا وفارقوا ما عليه الأمة، لان الكل يقولون لا يجوز رجمها
وهي حامل، وفي رجوع عمر إلى قول أمير المؤمنين عليه السلام، وقوله: " لولا علي
لهلك عمر " (1)، دلالة على تنبيه الخطاء في قضيته.
فيقال لهم: أتقولون إذا كان قد أخطاء انه مستحق للعن والبراءة والتفسيق، فلا
بد لهم من أن ينفوا ذلك، ويجعلوا الخطأ الواقع منه مما لا يقتضى تفسيقا ولا براءة،
فيقال لهم في المجتهدين مثله.
فان قالوا: ان الخطاء الذي لم تقم الدلالة على أنه فسق، يجوز أن يكون فسقا،
وأن يكون صاحبة صاحبه مستحقا لقطع الولاية واللعن والبراءة، فيقولون في الصحابة مثل
ذلك.
قلنا: هكذا يجب أن يقال، وانما منعنا من ايجابكم تفسيقهم والرجوع عن
ولايتهم باختلافهم في مسائل الاجتهاد، وأعلمناكم ان ذلك لا يجب في كل خطأ
ومعصية، وليس هذا مما يوحش، فان تجويز كون خطئهم في حوادث الشرع كبيرا
من حيث لا يعلم، كتجويز كل أحد عليهم أن يكون مستسرا بكبيرة يجب لها قطع
الولاية، ويستحق بها البراءة واللعن، غير أن يجوز ذلك عليهم في حوادث الشرع لا
يوجب الاقدام على قطع ولايتهم وإسقاط تعظيمهم، كما أن تجويز الكبائر عليهم لا
يوجب ذلك، وانما يوجبه تيقن وقوع الكبائر منهم.
وفيمن يوافقنا في كون الحق في هذه المسائل في واحد، من يقول: انى آمن
من كون خطائهم في حوادث الشرع كبيرا من حيث الاجماع، والأول امر على النظر.

(1) راجع (نقلا عن الغدير في الكتاب والسنة 6: 110): " الرياض النضرة 2: 196، ذخائر العقبى: 80،
مطالب السئول: 13، المناقب للخوارزمي: 48، الأربعين للفخر الرازي: 466 ".
706

على أن مذهبنا فيمن جمع بين الايمان والمعصية (1) معروف، وعندنا ان
معاصي المؤمنين من أهل الصلاة لا تسقط ولايته وتعظيمه، والمعاصي عندنا وان
كان جميعها كبيرا، وانها تسمى صغائر بالإضافة، فليس يجوز أن نلعن فاعلها، أو
نحاربه، أو نحده، أو نستعمل معه الاحكام التي تستعمل مع العصاة، الا بتوقف على
ذلك.
وانما تستعمل هذه الأحكام مع بعض عصاة أهل الصلاة بالتوقيف، وما لم يرد
فيه سمع من معاصيهم لا تقدم على المساواة بينه وبين غيره فيما ذكرناه، بل يقتصر
على الذم المشروط أيضا ببقاء استحقاق العقاب، لأنا نجوز من اسقاط الله تعالى
لعقابهم تفضلا ما يمنع من استحقاقهم الذم، كما منع من استحقاق العقاب.
فالقول فيما ذكرناه واضح، وما ألزموناه باطل على كل مذهب.
فاما تعلقهم بولاية بعضهم بعضا مع المخالفة في المذهب، وان ذلك يدل
على التصويب، فليس على ما ظنوا، وذلك انهم لم يول أحد منهم واليا، لا شريحا ولا
زيدا ولا غيرهما، الا على أن يحكم بكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله
وسلم، وما أجمع عليه المسلمون، ولا يتجافوا (2) الحق في الحوادث، ولا يتعداه،
وإذا قلده بهذا الشرط لم يمكن ان يقال انه يسوغ (3) له الحكم بخلاف مذهبه، لأنهم
لا يتمكنون من أن يقولوا انه نص له على شئ مما يخافه فيه، وإباحة الحكم فيه
بخلاف رأيه.
وجملة ما نقوله: انه ليس لأحد أن يقلد حاكما على أن يحكم بمذهب كذا، أو
يقضى برأي فلان بل يقلده على أن يحكم بالكتاب والسنة والاجماع، ولم يول القوم
أحدا الا على هذا.

(1) هذا بناء على إنكار مبدأ التحابط بين المعاصي والطاعات عند الإمامية - خلافا للمعتزلة -. انظر: " أوائل
المقالات: 82، الذخيرة: 321 - 302.
(2) يتجاوزوا.
(3) سوغ.
707

فاما تعلقهم بتسويغ الفتيا، وإحالة بعضهم على بعض بها.
فغير صحيح، وذلك انهم يدعون في تسويغ الفتيا ما لا نعلمه، وكيف يسوغون
الفتيا على جهة التصويب لها؟ ونحن نعلم أن بعضهم قد رد على بعض وخطأه،
وخوفه بالله تعالى من المقام على الهوى، وهذا غاية النكير.
وان أرادوا انهم سوغوها (1) من حيث لم ينقضوها ويبطلوا الاحكام المخالفة
لهم. فذلك ليس بتسويغ، وسنتكلم عليه.
وما نعرف أيضا أحدا منهم أرشد في الفتيا إلى من يخالفه فيما يخالفه فيه، ولا
يقدرون على أن يعينوا واحدا فعل ذلك، وانما كانوا يحيلون بالفتيا في الجملة على
أهل العلم، والعالمين بالحق، والتفصيل غير معلوم من الجملة.
فاما الزامهم لنا: أن ينقض بعضهم على بعض حكمه، والواحد على نفسه
فيما حكم به ورجع (2) عنه.
فغير واجب لان اقرار الحكم وورود العبادة بالامساك عن نقضه لا يوجب
كونه صوابا، الا ترى انا قد نقر أهل الذمة على ابتياعاتهم الفاسدة، ومناكحتهم الباطلة
إذا أدوا الجزية، ونقتصر على انكاره على اظهار الخلاف، مع انا لا نرى شيئا من ذلك
صوابا، فليس مجيئ العبادة باقرار حكم من الاحكام مع النهى عنه مما يفسد أو
يستحيل، وسبيل ذلك سبيل ابتداء العبادة به فكما يجوز ورودها بهذا الحكم ابتداء
جاز ورودها باقراره بعد وقوعه وان كان خطأ.
على أنه قد ورد ان شريحا قضى في ابن عم أحدهما أخ لامه بمذهب ابن
مسعود فنقض أمير المؤمنين عليه السلام حكمه فقال: " في اي كتاب وجدت ذلك،
أو في اي سنة "، وهذا يبطل دعوى من ادعى ان أحدا منهم لم ينقض حكم من خالفه

(1) في الأصل: سوغنا.
(2) فرجع.
708

على العموم، والقول في نقض الواحد منهم على نفسه يجرى على الوجه الذي
ذكرناه.
فاما تعلقهم بان الخطاء في الدماء والفروج، والأموال، لا يكون الا كبيرا فظاهر
البطلان.
لأنا نقول لهم: لم زعمتم ان الحكم بإراقة الدم، وإباحة الفروج، والأموال، لا
يكون إلا كبيرا؟
ولم إذا كان كبيرا في بعض المواضع، ومن بعض الفاعلين، وجب أن يكون
كذلك في كل حال ومن كل فاعل؟
أو لا ترون انه قد يشترك (1) فاعلان في إراقة دم غير مستحق ويكون فعل
أحدهما كفرا والاخر غير كفر!، وإذا جاز ذلك لم يمتنع ان يشترك فاعلان أيضا في
إراقة دم ويكون من أحدهما فسقا وكبيرا، ولا يكون من الاخر كذلك.
ثم يسئلون عما اختلفت فيه الصحابة وكان الحق فيه في أحد الأقوال
كاختلافهم في مانعي الزكاة وهل يستحقون القتال؟ واختلافهم في الإمامة يوم
السقيفة؟
ويقال لهم: يجب أن يكون خطأهم كبيرا، لأنهم مخالفون للنصوص وما الحق، فيه في واحد، ويجب أن يكونوا بمنزلة من ابتداء خلاف النصوص في غير ذلك، فكل
شئ يعتذرون به ويفصلون قوبلوا بمثله.
على أنهم يقولون: ان قتلا وقع من موسى عليه السلام صغيرة، ولا يلزمهم ان
يكون كل قتل صغيرة، ولا إذا حكموا بكبر القتل منا ان يحكموا بكبره من موسى
عليه السلام، فكيف سوغ مع ذلك أن يلزموا مخالفهم في نفى القياس ما اعتمدوه؟
وتعلقوا أيضا: بما روى من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما انفذ معاذ
إلى اليمن قال له: " بماذا تقضى؟ قال: بكتاب الله، قال: فان لم تجد في كتاب الله؟ قال:

(1) قد اشترك.
709

بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فان لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي (1)،
فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " (2).
وبما قد روى عن ابن مسعود مثل ذلك، وهو انه قال له: " اقض بالكتاب
والسنة إذا وجدتهما، فإذا لم تجد الحكم فيهما فاجتهد رأيك " (3).
وبما روى عن عمر في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الأشعري انه قال:
" قس الأمور برأيك " (3).
والكلام على ما ذكروه من وجوه.
أولها: ان هذه اخبار آحاد لا تقبل في مثل هذه المسألة التي طريق اثباتها العلم
المقطوع على صحته!
على أن الأصول لو ثبتت باخبار الآحاد لم يجز ثبوتها بمثل خبر معاذ، لان
رواته مجهولون (4)، وقيل: رواه جماعة من أصحاب معاذ، ولم يذكروا.

(1) برأيي.
(2) سنن الدارمي 1: 70، عون المعبود 3: 330 باختلاف يسير، جامع الأصول 10: 177، سنن أبي داود: رقم
3592 في الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء، سنن الترمذي: رقم 1327 أو 1328 باب ما جاء في
القاضي كيف يقضي. انظر أيضا المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(3) انظر المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(4) قال صاحب (عون المعبود في شرح سنن أبي داود) 3: 330: " وهذا الحديث أورده الجوزقاني في
الموضوعات وقال: هذا باطل رواه جماعة عن شعبة، وقد تصفحت هذا الحديث في أسانيد الكبار والصغار
وسألت من لقيته من أهل العلم بالنقل عنه فلم أجد له طريقا غير هذا. والحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة
بن شعبة مجهول، وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفون.
فإن قيل: إن الفقهاء قاطبة أوردوه واعتمدوا عليه في أصل الشريعة.
قيل: هذا طريقه، والخلف قلد فيه السلف، فإن أظهروا طريقا غير هذا مما يثبت عند أهل النقل رجعنا
إلى قولهم، وهذا مما لا يمكنهم البتة! ".
وكذلك ناقش ابن حزم الأندلسي (الاحكام في أصول الاحكام 6: 97) سند هذا الحديث وخلص إلى
سقوطه وبطلان العمل به، يقول: " هذا حديث ساقط لم يروه أحد من غير هذا الطريق، وأول سقوطه أنه عن
قوم مجهولين لم يسموا فلا حجة فيمن لا يعرف من هو، وفيه الحارث بن عمرو وهو مجهول لا يعرف من
وهو، لم يأت هذا الحديث قط من غير طريقة " ثم نقل عن البخاري أنه قال: (ولا يعرف الحارث الا بهذا، ولا
يصح ".
وقال ابن حجر العسقلاني في (تهذيب التهذيب) 2: 132: " الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن
شعبة، روى عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ عن معاذ في الاجتهاد. وعنه أبو عون محمد بن
عبيد الله الثقفي ولا يعرف إلا بهذا، قال البخاري: لا يصح ولا يعرف. وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا
الوجه وليس إسناده عندي بمتصل.
قلت: لفظ البخاري روى عنه أبو عون ولا يصح ولا يعرف إلا بهذا مرسل، هكذا قال في التاريخ الكبير،
وقال في الأوسط في فصل من مات بين المائة إلى عشر ومائة: لا يعرف إلا بهذا ولا يصح.
وذكره العقيلي، وابن الجارود، وأبو العرب في الضعفاء، قال ابن عدي: هو معروف بهذا الحديث،
وذكره ابن حبان في الثقات، وذكر إمام الحرمين أبو المعالي الجويني أن هذا الحديث مخرج في الصحيح،
ووهم في ذلك ".
وأيضا راجع جامع الأصول في أحاديث الرسول: 10 / هامش ص 178 لمعرفة العلل الموجودة في
إسناد هذا الحديث.
710

على أن روايته قد وردت مختلفة فجاء في بعضها انه لما قال " اجتهدوا رأيي "
قال عليه السلام له: " لا اكتب إلى اكتب إليك " (1)، وهذا يوجب أن يكون الامر فيما لا
يجده في الكتاب والسنة موقوفا على ما يكتب إليه لا على اجتهاده.
فان قالوا: الدليل على صحة روايته تلقى الأمة له عصرا بعد عصر بالقبول،
ولأن الصحابة إذا ثبت انهم عملوا بالقياس والاجتهاد فلا بد فيه من نص، لان أصل
القياس في الشرع لا يستدرك قياسا، ولا نص يدل ظاهره على ذلك الا خبر معاذ أوما
خبر معاذ أقوى منه، فيجب من ذلك صحة الخبر.
قلنا: اما تلقى الأمة له بالقبول فغير معلوم (1)، وقد بينا ان قبول الأمة لأمثال هذه الأخبار
كقبولهم لخبر مس الذكر (2) وما جرى مجراه مما لا يقطع به ولا يعلم صحته.

(1) انظر المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(2) انظر تخريج الحديث في هامش رقم (2) صفحة 556.
711

فاما ادعاؤهم بثبوت عملهم بالقياس، وانه يجب أن يكون لهذا الخبر لأنه لا
نص غيره، فبناء على ما لم يثبت ولا يثبت، وقد بينا بطلان ما ظنوه دليلا على
اجماعهم على ذلك.
ولو سلم لهم على ما فيه، لجاز أن يكونوا اجمعوا لبعض ما في الكتاب أو لخبر
اخر، على أنهم قد اعتمدوا في تصحيح الخبر على ما إذا صح لم يحتج إلى الخبر،
ولم يكن دليلا على المسألة، لأنا إذا علمنا اجماعهم على القياس والاجتهاد، فأي فقر
بنا إلى تأمل خبر معاذ؟ وكيف يستدل به على ما قد علمناه لغيره؟
فان قالوا: نعلم باجماعهم صحة الخبر ويصير الخبر دليلا، كما أن اجماعهم
دليل، ويكون المستدل مخيرا في الاستدلال بأيهما شاء.
قلنا: لسنا نعلم باجماعهم صحة الخبر الا بعد أن نعلم أنهم اجمعوا على
القياس والاجتهاد، وعلمنا بذلك يخرج (1) الخبر من أن يكون دلالة وانما كان يمكن
ما ذكروه لو جاز أن يعلم اجماعهم على صحة الخبر من غير أن يعلم اجماعهم على
القول بالقياس، وذلك لا يصح.
على انا إذا تجاوزنا ذلك ولم نعرض للكلام في أصل الخبر ووروده، لم يكن
فيه دلالة، لأنه قال: " اجتهد رأيي " ولم يقل في ماذا؟ ولا ينكر ان يكون معناه اجتهد
رأيي حتى أجد حكم الله تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة إذا كان في احكام الله
فيهما ما لا يتوصل إليه الا بالاجتهاد ولا يوجد في ظواهر النصوص، فادعاؤهم ان
الحاق الفرع بالأصل في الحكم لعلة يستخرجها القياس هو الاجتهاد زيادة في الخبر
بما لا دليل عليه ولا سبيل إلى تصحيحه.
فان قالوا: ما يوجد في دليل النص من كتاب أو سنة فهو موجود فيهما، وقوله: " فان لم يجد " يجب أن يحمل على عمومه، وعلى انه لم يجد على كل حال، وإذا
حمل على ذلك، فليس وراءه الا الرجوع إلى القياس الذي تقوله.

(1) في الأصل: خروج.
712

قلنا: ليس يجب حمل الكلام على عمومه عند أكثر أصحابنا، فعلى هذا
المذهب سقط هذا الكلام.
على أنهم لا يقولون بذلك، لان القياس
والاجتهاد عندهم من المفهوم بالكتاب
والسنة وهما لا يدلان عليه، فكيف يصح حمل قوله: " فان تجد " على العموم؟ وهذا
يقتضى انهم قائلون في النفي أيضا بالخصوص، فكيف عابوه علينا؟
وبعد، فان جاز اثبات القياس بمثل خبر معاذ، فان من نفاه يروي ما هو أقوى
منه وأوضح لفظا، نحو ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: " ستفترق
أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم
فيحرمون الحلال ويحللون الحرام " (1).
والروايات في هذا كثيرة ومن تتبعها وجدها.
فاما خبر ابن مسعود الذي ذكروه، فالكلام كالكلام على خبر معاذ بعينه.
فاما كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري وقوله: " اعرف الأشباه والنظائر وقس
الأمور برأيك " فأضعف في باب الرواية من خبر معاذ، وابعد من أن يتعلق به في
مثل هذا الباب!
على أنه إذا سلم لم يكن فيه دلالة، وذلك أن القياس الذي دعاه إليه هو الحاق
الشئ بشبهة، ولهذا قال: " اعرف الأشباه والنظائر "، والمشابهة الموجبة للقياس
وحمل الشئ على نظيره انما هي المشاركة في امر مخصوص به تعلق الحكم، فمن
عرف ذلك وحصله وجب عليه الجمع به بين الأصل والفرع، وهذا المقدار لا
ينازعون فيه ولكن لا سبيل إلى معرفته. ولو أمكن فيه ما يدعونه من الظن لم يكن في
الخبر أيضا دلالة لهم، لأنه ليس فيه الامر بقياس النوع على الأصل إذا شاركه في

(1) المستدرك على الصحيحين 3: 547، كنز العمال 1: 1056، 1057، 1058، انظر أيضا المصادر الواردة في
هامش رقم (2) صفحة 666.
(2) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
713

معنى يغلب على الظن انه علة الحكم.
وللمخالف أن يقول لهم: ان الأرز ليس بمشابه للبر، ولا النبيذ التمري يشابه
الخمر، ولا بينهما شبه يوجب التساوي في الحكم، والخبر انما تناول المساواة بين
المشتبهين ولا اشتباه هاهنا.
فان قالوا: هاهنا اشتباه مظنون.
قلنا: ليس في الخبر عمل على ما تظنه مشتبها قال: " اعرف الأشباه والنظائر "
وذلك يقتضى حصول العلم بالاشتباه.
على الامر الذي يقع به التشابه في الحكم غير مذكور في الخبر، فان جاز لهم
ان يدعوا انه عنى المشابهة في المعاني التي يدعيها القايسون كالكيل في البر والشدة
في الخمر، جاز لخصومهم أن يدعوا انه أراد المشابهة في اطلاق الاسم واشتمال
اللفظ، فيكون ذلك دعامته إلى القول بحمل اللفظ على كل ما تحته من المسميات
لتساويها في تناول اللفظ، فكأنه تعالى إذا قال: (والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما) (1) وعلم أن كل سارق يقع عليه هذا الاسم وشارك سائر السراق في تناول
اللفظ، وجب التسوية بين الجميع في الحكم، الا أن تقوم دلالة.
واستدلوا أيضا: بأن قالوا: إذا ثبت في أنه لابد في الفروع الشرعية من حكم،
ولا نص ولا دليل على حكم ما يجب أن كون متعبدين فيها بالقياس.
وربما استدلوا بهذه الطريقة من وجه فقالوا: قد ثبت عن الصحابة انهم
رجعوا في طلب احكام الحوادث إلى الشرع، فإذا علم ذلك من حالهم في جميع
الحوادث على كثرتها واختلافها، وصح انه لا نص يدل على هذه الأحكام بظاهره ولا
دليله، فليس بعد ذلك الا القياس والاجتهاد، لان التبخيت والقول بما اتفق يمنع منه
العقل.
وهذا الاستدلال يخالف الطريقة الأولى، لأنهم لم يرجعوا في هذا إلى

(1) المائدة: 38.
714

اجماعهم على نفس القول بالقياس والاجتهاد، بل رجعوا إلى اجماعهم في طلب
الاحكام من جهة الشرع.
وفي الطريقة الأولى اعتبروا اجماعهم على نفس القول بالقياس.
فيقال لهم: في الحوادث حكم لكنه ما كان في العقل، أو فيها حكم ولم يكلف
معرفته، أو لا حكم فيها جمله، فكل ذلك جائز لا مانع منه.
واما تعلقهم بهذه الطريقة على الوجه الثاني، فمبني على أنه لا نص يدل
بظاهره ولا دليله على احكام الحوادث، فيجب لذلك الرجوع إلى القياس فيها، ودون
ما ظنوه خرط القتاد، لأنا قد بينا ان جميع ما اختلف فيه الصحابة من الاحكام له
وجوه في النصوص، وأنما لا يقف على وجه بعينه يمكن ان يكون له وجه، وان
القطع على انتفاء مثل ذلك لا يمكن بما يستغني عن اعادته.
على أن أكثر ما في هذا أن يكون جميع الحوادث التي علمنا طلبهم فيها
للأحكام من جهة الشرع لا يدخل حكم العقل فيها، فإنه لابد فيها من حكم شرعي،
ثم نقول: انهم ما رجعوا فيما طلبوه من جهة الشرع الا إلى النصوص، وعلى من ادعى
خلاف ذلك الحجة.
من أين لهم ان جميع ما يحدث إلى يوم القيمة هذا حكمه؟ وانه لابد من أن
يكون المرجع فيه إلى الشرع؟ ولا يجوز أن يحكم فيه بحكم العقل؟ ولم إذا كانت
الحوادث التي بليت به الصحابة لها مخرج في الشريعة وجب ذلك في كل حادثة؟
وهل هذا الا تمن وتحكم.؟
على أنه قد روى عن بعضهم ما يقتضى انه رجع إلى حكم العقل في مسألة
الحرام، وهو مسروق (1) لأنه جعل مسألة الحرام بمنزلة تحريم قصعة من تريد مما
يعلم بالعقل اباحته.
واستدل الشافعي وجماعة معه على ذلك بالقبلة، قالوا: لما وجب طلبها بما

(1) راجع كلام المصنف في صفحة 676 و 677 واختلاف الفقهاء في مسألة الحرام.
715

يمكن طلب به عند عدم العين (1). فكذلك يجب طلب الحكم في الفروع عند عدم
النص بما يمكن طلبه به.
يقال لهم: ان ما ذكرتموه ان دل فإنما يدل على جواز التعبد بالاجتهاد في
الشرعيات، فاما أن يعتمد في اثبات العبادة به في الشرع فباطل لان معتمد ذلك
لابد له من أن يقيس سائر حوادث الفروع في جواز استعمال الاجتهاد فيها على
القبلة وذلك منه قياس، والكلام انما هو في اثبات القياس، وهل وردت به العبادة أم
لا؟ فكيف يستسلف صحته؟
ولمن ينفى القياس ان يقول: ان الذي يجب أن أثبت الحكم في القبلة
بالاجتهاد لورود النص، واقف عند ذلك ولا أتجاوزه، وهذا بمنزلة أن ترد العبادة
بايجاب صلاة فيقيس قايس عليها وجوب أخرى، فكما انه ممنوع من ذلك الا أن
يتعبد بالقياس، فكذلك من قاس على القبلة غيرها ممنوع من قياسه، ولما أثبت ورود
العبادة بالقياس.
على أن الحكم عند الغيبة ثابت بالنص في الجملة، لان المكلف قد الزم أن
يصلى إلى جهتها (2)، فإذا (3) كان الحكم الشرعي ثابتا في الجملة [ولم يكتف المكلف
في امكان الفعل في الجملة] (4) وجب أن يجتهد ليمكنه الفعل الواجب عليه في
الجملة، فالاجتهاد منه ليس يتوصل به إلى اثبات الحكم الشرعي، وانما يصل به
إلى تمييز الحكم المجمل الذي ورد النص به، وتفصيله وعروض ذلك أن يرد النص
في الأرز ان فيه ضربا من ضروب الربا، ويكون هناك طريق الاجتهاد في اثباته،
فيتصل المكلف إلى تمييز ذلك الربا وتفصيله لأجل النص المجمل، وهذا مما يثبت
لهم.

(1) الرسالة: 481 - 480، الام 1: 94.
(2) في الأصل: جمعة.
(3) وإذا.
(4) زيادة من النسخة الثانية.
716

على أنه يقال للمتعلق بهذه الطريقة: أليس انما اجتهدت عند الغيبة في القبلة
لما ثبت بالنص حكم لا سبيل لك إلى معرفته الا بالاجتهاد؟
فإذا اعترف بذلك قيل له: فثبت في الفرع انه لابد فيه من حكم لا يمكن
معرفته الا بالاجتهاد حتى يتساوى الأمران؟ ولا سبيل لك إلى ذلك.
وقد علمت أن في نفاة القياس من يقول إن حكم الفرع معلوم عقلا، وفيهم
من يقول إنه معلوم بالنصوص اما بظواهرها أو بادلتها، وبعد فليس مثبت القياس بأن
يتعلق بالقبلة في اثبات الحكم للفرع قياسا على الأصل بأولى من نافى الناس إذا تعلق
بها في حمل الفرع على الأصل، في أنه لا يثبت له حكم الا بالنص.
ومتى قيل له: فاجمع بين الامرين؟ امتنع لتنافيهما.
ومتى قيل له: الاثبات أرجح وادخل في الفائدة.
قال: هذا انما يصح فيما ثبت وصح، لا فيما الكلام واقع فيه.
واستدلوا: بما روى عنه عليه السلام من قوله للخثعمية: " أرأيت لو كان على
أبيك دين أكنت تقضينه؟ قالت: نعم، قال فدين الله أحق وأولى أن يقضى " (1)،
وبقوله لعمر حين سأله عن القبلة للصائم: " أرأيت لو تمضمضت بماء أكنت
شاربه " (2)؟
وقوله في حديث أبي هريرة حين سأله السائل عن رجل ولد له غلام اسود
فقال له: " ألك إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: فيها أورق (3)؟ قال:

(1) رواها البخاري، ومسلم، وأبو داود، ومالك في الموطأ، والترمذي، والنسائي عن ابن عباس عن أخيه الفضل
بن عباس عن امرأة أو رج من خثعم استفتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، راجع: جامع الأصول 3:
418 وكنز العمال 5: 123 رقم 12331، 12851، 12856 ولفظ الحديث فيه: (أكنت قاضية، قاضيا عنه).
انظر أيضا: المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 666.
(2) كنز العمال 8: 615 رقم 24401 ولفظ الحديث فيه (أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟...)
(3) الأورق: الذي لونه بين السواد والغبرة، وقال الأصمعي: الأورق الذي في لونه بياض إلى سواد. غريب
الحديث للهروي 1: 261 و 2: 207.
717

نعم، قال: وانى ذلك؟ قال لعل عرقا نزعه، قال: وهذا لعل عرقا نزعه " (1).
وغير ذلك من الأحاديث لم نذكرها لضعفها وبيان وهنها.
يقال لهم: أول ما في هذا الاخبار انها اخبار آحاد لا توجب علما، وما هذا
حكمه لا يثبت به أصل معلوم، وثبوت العبادة بالقياس أصل معلوم عندهم مقطوع
على صحته، فلا يجوز اثباته بما يوجب غلبة الظن.
على أن تنبيهه عليه على علة الحكم ليس بأكثر من أن ينص صريحا عليها،
ولو نص على العلة لم يجب القياس بهذا العذر (2) دون أن يدل على العبادة به بغيره
على أنه - عليه السلام - بتنبيهه قد اغنى عن (3) القياس، فكيف يجعل
ذلك دليلا على القياس؟
ولأنه أيضا: مع التنبيه على العلة قد أثبت الحكم في الفرع والأصل معا، وما
هذا حاله لا يدخل القياس في.
على أنه عليه السلام أخبر ان الحج يجرى مجرى الدين في وجوب القضاء،
وكذلك ما نبه عليه في باب القبلة، والمولود الأسود، ولم يذكر لأي سبب جرى
مجراه؟ وما العلة؟ وهل ظاهر نص أوجب ذلك؟ أو طريقه من القياس؟
وإذا كان الامر متحملا لم يجز القطع على أحد الوجهين بغير دليل.
على أن اسم الدين يقع على الحج كوقوعه على المال، وإذا كان كذلك دخل
في قوله تعالى: (من بعد وصية توصون بها أو دين) (4)] (5).
وهذا القدر كاف من الكلام في هذه الأخبار، وبطلان التعلق بها، فان الاكثار في

(1) رواه احمد في المسند: 2: 279.
(2) القدر.
(3) من.
(4) النساء: 11.
(5) نهاية الفقرة الطويلة التي ابتدأت في صفحة 649 والتي نقلها المصنف عن كتاب " الذريعة إلى أصول
الشريعة 2: 791 - 673 " للشريف المرتضى رحمه الله.
718

تأويلاتها لا فائدة فيه.
وقد أثبت في هذه المسألة أكثر ألفاظ المسألة التي ذكرها سيدنا المرتضى
رحمه الله في ابطال القياس (1)، لأنها سديدة في هذا الباب، وأضفت إلى ذلك
مواضع لم يذكرها، وحذفت أشياء يستغنى عن ايرادها، وفي القدر الذي أوردناه
كفاية وتنبيه على كل ما يتعلق به في الباب

(1) الذريعة 2: 791 - 673.
719

فصل [1]
الكلام في الاجتهاد
اعلم أن كل امر (1) لا يجوز تغيره عما هو عليه من وجوب إلى حظر، و (2) من
حسن إلى قبح، فلا خلاف بين أهل العلم المحصلين ان الاجتهاد في ذلك لا يختلف،
وان الحق في واحد، وان من خالفه ضال فاسق، وربما كان كافرا، وذلك نحو القول
بأن العالم قديم أو محدث؟ وإذا كان محدثا هل له صانع أم لا؟ والكلام في صفات
الصانع، وتوحيده، وعدله، والكلام في النبوة والإمامة وغير ذلك، وكذلك، الكلام في أن
الظلم، والعبث، والكذب قبيح على كل حال، وان شكر المنعم، ورد الوديعة،
والانصاف حسن على كل حال، وما يجرى مجرى ذلك.
وانما قالوا ذلك: لان هذه الأشياء لا يصح تغيرها في نفسها، ولا خروجها عن
صفتها التي هي عليها، الا ترى ان العالم إذا ثبت انه محدث، فاعتقاد من اعتقد انه
قديم لا يكون الا جهلا، والجهل لا يكون الا قبيحا.
وكذلك إذا ثبت ان له صانعا، فاعتقاد من اعتقد انه ليس له صانع لا يكون الا
جهلا.

(1) في الأصل: من.
(2) أو.
723

وكذلك القول في صفاته، وتوحيده، وعدله.
وكذلك إذا ثبت ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صادق، فاعتقاد من اعتقد
كذبه لا يكون الا جهلا. وكذلك المسائل الباقية.
وحكي عن قوم شذاذ لا يعتد بأقوالهم انهم قالوا: ان كل مجتهد فيها
مصيب (1).
وقولهم باطل بما قلناه.
واما ما يصح تغييره في نفسه، وخروجه من الحسن إلى القبح، ومن الحظر إلى
الإباحة، فلا خلاف بين أهل العلم انه كان يجوز أن تختلف المصلحة في ذلك فيما
تكون حسنا من زيد يكون قبيحا من عمرو، وما يقبح من زيد في حال بعينها يحسن
منه في حالة أخرى، ويختلف ذلك بحسب اختلاف أحوالهم وبحسب اجتهادهم.
وانما قالوا ذلك: لان هذه الأشياء تابعة للمصالح والالطاف، وما حكمه هذا فلا
يمتنع ان يتغير الحال فيه، ولهذه العلة جاز النسخ، ونقل المكلفين عما كانوا عليه إلى
خلافه بحسب ما تقتضيه مصالحهم.
الا أن مع تجويز ذلك في العقل هل ثبت ذلك في الشرع أم لا؟
فقد اختلف العلماء في ذلك (2):
فذهب أكثر المتكلمين والفقهاء إلى أن كل مجتهد مصيب في اجتهاده وفي

(1) حكي هذا القول الشاذ عن الجاحظ وعن عبد الله بن الحسن العنبري المعتزلي، وقيل إن العنبري كان يعمم
قوله في العقليات حتى يشمل جميع أصول الديانات، وأن اليهود والنصارى والمجوس على صواب!!.
انظر: " التبصرة: 496، المستصفى 2: 359، المنخول: 451، الاحكام للآمدي 4: 409، اللمع: 122،
ميزان الأصول 2: 1053، شرح اللمع 2: 1042 ".
(2) انظر اختلاف أقولهم وآرائهم في: " الذريعة 3: 792، لمعتمد 2: 370، التبصرة: 496، المستصفى 2:
359، المنخول: 451، الاحكام للآمدي 4: 409، الاحكام لابن حزم 8: 587، اللمع: 122، شرح اللمع 2:
105 - 1043، ميزان الأصول 2: 1053 - 1050، ارشاد الفحول: 383، شرح المنهاج 2: 837، روضة
الناظر: 324، الرسالة للشافعي: 503 - 494، تقريب الوصول: 157 - 156 ".
724

الحكم، وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم (1)، وأبي الحسن (2)، وأكثر المتكلمين،
واليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه فيما حكاه أبو الحسن (2) عنهم، وقد حكى غيره من
العلماء عن أبي حنيفة خلافه (3).
وذهب الأصم، وبشر المريسي إلى أن الحق في واحد من ذلك وهو ما يقولون
به، وان ما عداه خطأ، حتى قال الأصم: ان حكم الحاكم ينقض به، ويقولون: ان
المخطئ غير معذور في ذلك، الا أن يكون خطؤه صغيرا، وان سبيل ذلك سبيل
الخطاء في أصول الديانات (3).
وذهب أهل الظاهر فيما عدا القياس من الاستدلال وغيره إلى أن الحق من
ذلك في واحد (3).
واما الشافعي فان كلامه مختلف في كتبه:
فربما قال: ان الحق في واحد، وعليه دليل قائم، وان ما عداه خطأ.
وربما مر في كلامه ان كل مجتهد قد أدى ما كلف.
وربما يقول: انه قد أخطأ خطأ موضوعا عنه (3).
وقد اختلف أصحابه في حكاية مذهبه (3).
فمنهم من يقول: ان الحق في واحد من ذلك، وان عليه دليلا وان لم يقطع
على الوصول إليه، وان ما عداه خطأ، لكن الدليل على الصواب من القولين لما
غمض ولم يظهر، كان المخطئ معذورا.
ومنهم من يحكي: ان كل مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم، وان كان
أحدهما يقال فيه قد أخطأ، الأشبه عند الله (3).
والذي اذهب إليه وهو مذهب جميع شيوخنا المتكلمين، المتقدمين

(1) الجبائيان.
(2) هو أبو الحسن الكرخي.
(3) راجع المصادر الواردة في هامش رقم (2) صفحة 724.
725

والمتأخرين، وهو الذي اختاره سيدنا المرتضى (1) قدس الله روحه، واليه كان يذهب
شيخنا أبو عبد الله رحمه الله: " ان الحق في واحد (2) وان عليه دليلا، من خالفه كان مخطئا
فاسقا ".
واعلم الأصل في هذه المسألة القول بالقياس والعمل باخبار الآحاد، لان ما
طريقه التواتر وظواهر القرآن، فلا خلاف بين أهل العلم ان الحق فيما هو معلوم من
ذلك، وانما اختلفت القائلون بهذين الأصلين فيما ذكرناه، وقد دللنا على بطلان العمل
بالقياس (3)، وخبر الواحد الذي يختص المخالف بروايته (4).
وإذا ثبت ذلك، دل على أن الحق في الجهة التي فيها الطائفة المحقة.
واما على ما اخترته من القول في الاخبار المختلفة المروية من جهة الخاصة،
فلا ينقض ذلك لان غرضنا في هذا المكان ان نبين ان الحق في الجهة التي فيها
الطائفة المحقة دون الجهة التي خالفها، وان كان حكم ما تختص به الطائفة
والاختلاف التي بينها الحكم الذي مضى الكلام عليه في باب الكلام في الاخبار، فلا
تنافى بين القولين.
وهذه الجملة كافية في هذا الباب، وانما لم نتتبع كلام المخالف وطرقهم التي
يستدلون بها على صحة ذلك، لان فيما مضى من الكلام في ابطال القياس كلاما
عليه، وأكثر شبههم داخلة فيها، فلا معنى للإعادة في هذا الباب.

(1) المرتضى رحمه الله.
(2) في واحد.
(3) انظر استدلال المصنف في مبحث القياس في هذا الكتاب.
(4) انظر: استدلال المصنف في مبحث (خبر الواحد وأحكامه) صفحة 97.
726

فصل [2]
" في ذكر صفات المفتى والمستفتي، وبيان أحكامهما "
لا يجوز لاحد أن يفتى بشئ من الاحكام الا بعد أن يكون عالما به، لان
المفتى يخبر عن حال ما يستفتى فيه، فمتى لم يكن عالما به فلا يأمن أن يخبر
بالشئ على غير ما هو به وذلك لا يجوز، فإذا لابد من أن (1) يكون عالما به، ولا يكون
عالما الا بعد أمور:
منها: أن يعلم جميع ما لا يصح العلم (2) بتلك الحادثة الا بعد تقدمه، وذلك
نحو العلم بالله تعالى، وصفاته، وتوحيده، وعدله.
وانما قلنا ذلك: لأنه متى لم يكن عالما بالله لم يمكنه أن يعرف النبوة، لأنه لا
يأمن أن يكون الذي ادعى النبوة كاذبا، ومتى عرفه ولم يعرف صفاته، وما يجوز عليه
وما لا يجوز، لم يأمن أن يكون قد صدق الكاذب، فلا يصح أن يعلم
ما جاء به الرسول.
فإذا لابد من أن يكون عالما بجميع ذلك، ولابد أن يكون عالما بالنبي الذي
جاء بتلك الشريعة، لأنه متى لم يعرفه لم يصح ان يعرف ما جاء به من الشرع.
ولابد من أن يعرف أيضا: صفات النبي، وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه، لأنه

(1) من أن.
(2) في الحجرية زيادة: به.
727

متى لم يعرف جميع ذلك لم يؤمن أن يكون غير صادق فيما يؤديه، أو يكون ما
أدى جميع ما بعث به، أو يكون أداه على وجه لا يصح له معرفته.
فإذا لابد من أن يعرف جميع ذلك، وإذا عرف جميع ذلك فلابد أيضا أن
يعرف الكتاب لأنه (2) يتضمن كثيرا من الاحكام التي هي المطلوبة.
ولابد من أن يعرف ما لا يتم العلم بالكتاب الا به، وذلك يوجب أن يعرف
جملة من الخطاب العربي، وجملة من الاعراب والمعاني، ويعرف الناسخ
والمنسوخ، لأنه متى عرف المنسوخ ولم يعرف الناسخ اعتقد الشئ على خلاف ما
هو به من وجوب ما لا يجب عليه.
وقد كان يجوز أن يعرف الناسخ وان لم يعرف المنسوخ لان المنسوخ لا يتعلق
به فرضه، وان كان له في تلاوته مصلحة، إلى أن ذلك على الكفاية، غير أنه لو كان كذلك، لم
يمكنه ان يعرفه ناسخا الا بعد أن يعرف المنسوخ، اما على الجملة أو التفصيل.
ولابد أن يعرف العموم والخصوص، والمطلق والمقيد، لأنه متى لم يعلم
ذلك لا يأمن أن يكون المراد بالعموم الخصوص، وبالمطلق المقيد.
ولابد أن يكون عالما بأنه ليس هناك دليل يصرفه عن الحقيقة إلى المجاز، لأنه
متى جوز (3) ذلك لم يكن عالما به.
ولابد أيضا أن يكون عالما بالسنة، وناسخها ومنسوخها، وعامها وخاصها،
ومطلقها ومقيدها، وحقيقتها ومجازها، وانه ليس هناك ما يمنع من الاستدلال بشئ
من ظواهرها كما قلناه في الكتاب، لأنه متى جوز ذلك لم يكن عالما بها.
ولابد أن يكون عارفا بالاجماع واحكامه، وما يصح الاحتجاج به وما لا يصح.
ولابد أن يكون عارفا بأفعال النبي عليه السلام ومواقعها من الوجوب،

(1) ما نافيه.
(2) فإنه.
(3) يجوز.
728

والندب، والإباحة، حتى يصح أن يكون عالما بما يفتى به.
فان أخل بذلك أو بشئ منه، لم يأمن أن يكون ما أفتى به بخلاف ما أفتى به،
وذلك قبيح.
وقد عد من خالفنا في هذه الأقسام انه لابد أن يكون عالما بالقياس،
والاجتهاد، واخبار الآحاد، ووجوه العلل والمقاييس، واثبات الامارات المقتضية
لغلبة الظن، واثبات الاحكام (1).
وقد بينا نحن فساد ذلك وانها ليست من أدلة الشرع.
واما المستفتى فعلى ضربين:
أحدهما: أن يكون متمكنا من الاستدلال والوصول إلى العلم بالحادثة مثل
المفتي، فمن هذه صورته لا يجوز له أن يقلد المفتى ويرجع إلى فتياه، وانما قلنا ذلك، لان قول المفتى غاية ما يوجبه غلبة الظن، وإذا كان له طريق إلى حصول العلم فلا
يجوز له أن يعمل على غلبة الظن على حال.
وأما إذا لم يمكنه الاستدلال ويعجز عن البحث عن ذلك، فقد اختلفت قول
العلماء في ذلك.
فحكي عن قوم من البغداديين (2) انهم قالوا: لا يجوز له أن يقلد المفتى، وانما
ينبغي أن يرجع إليه لينبهه على طريقة العلم بالحادثة، وان تقليده محرم على كل
حال، وسووا في ذلك بين احكام الفروع والأصول.
وذهب البصريون (3)، والفقهاء بأسرهم (4) إلى أن العامي لا يجب عليه

(1) انظر: " المعتمد 2: 359 - 357، الاحكام للآمدي 4: 398 - 397، ارشاد الفحول: 374 - 371، اللمع:
120، شرح اللمع 2: 1035 - 1033، الرسالة للشافعي: 509، شرح المنهاج 2: 832، روضة الناظر: 320 -
319، المنخول: 464 - 463 ".
(2) الاحكام للآمدي 4: 451، المعتمد 2: 360، وقد وصفهم بقوله: " قوم من شيوخنا البغداديين ".
(3) أي معتزلة البصرة.
(4) انظر: " المعتمد 2: 361، الذريعة 2: 796، التبصرة: 414، الاحكام للآمدي 4: 450، ارشاد الفحول: 399
- اللمع: 119، شرح المنهاج 2: 846، روضة الناظر: 344، المنخول: 473، شرح اللمع 2: 1010 ".
729

الاستدلال والاجتهاد، وانه يجوز له أن يقبل قول المفتى.
فاما في أصوله وفي العقليات فحكمه حكم العالم في وجوب معرفة ذلك
عليه، ولا خلاف بين الناس انه يلزم العامي معرفة الصلاة اعدادها، وإذا صح ذلك
وكان علمه بذلك لا يتم الا بعد معرفة الله تعالى، ومعرفة عدله، ومعرفة النبوة، وجب
أن لا يصح له أن يقلد في ذلك، ويجب أن يحكم بخلاف قول من قال يجوز تقليده
في التوحيد مع ايجابه منه العلم بالصلوات.
والذي نذهب إليه: انه يجوز للعامي الذي لا يقدر على البحث والتفتيش تقليد
العالم.
يدل على ذلك: انى وجدت عامة الطائفة من عهد أمير المؤمنين عليه السلام
والى زماننا هذا يرجعون إلى علمائها، ويستفتونهم في الاحكام والعبادات، ويفتونهم
العلماء فيها، ويسوغون لهم العمل بما يفتونهم به وما سمعنا أحدا منهم قال
لمستفت لا يجوز لك الاستفتاء ولا العمل به، بل ينبغي أن تنظر كما نظرت وتعلم كما
علمت، ولا أنكر عليه العمل بما يفتونهم، وقد كان منهم الخلق العظيم عاصروا
الأئمة عليهم السلام، ولم يحك عن واحد من الأئمة النكير على أحد من هؤلاء ولا
ايجاب القول بخلافه، بل كانوا يصوبونهم في ذلك، فمن خالفه في ذلك كان مخالفا
لما هو المعلوم خلافه.
فان قيل: كما وجدناهم يرجعون إلى العلماء فيما طريقة الأحكام الشرعية،
وجدناهم أيضا كانوا يرجعون إليهم في أصول الديانات، ولم نعرف أحدا من الأئمة
عليهم السلام والعلماء أنكر عليهم، ولم يدل ذلك على أنه يسوغ تقليد العالم في
الأصول.
قيل له: لو سلمنا انه لم ينكر أحد منهم ذلك لم يطعن ذلك في هذا الاستدلال،
لان على بطلان التقليد في الأصول أدلة عقلية وشرعية من كتاب وسنة وغير ذلك،
730

وذلك كاف في النكير.
وأيضا: فان المقلد في الأصول يقدم على ما لا يأمن أن يكون جهلا، لان طريق
ذلك الاعتقاد، والمعتقد لا يتغير في نفسه عن صفة إلى غيرها، وليس كذلك
الشرعيات لأنها تابعة للمصالح، ولا يمتنع أن يكون من مصلحتهم تقليد العلم (1) في
جميع تلك الأحكام، وذلك لا يتأتى في أصول الديانات.
[على أن الذي يقوى في نفسي: ان المقلد للمحق في أصول الديانات] (2) وان
كان مخطئا في تقليده، غير مؤاخذ (3) به، وانه معفو عنه، وانما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة
التي قدمناها لأني لم أجد أحدا من الطائفة ولا من الأئمة عليهم السلام قطع موالاة
من سمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم، وان لم يسند ذلك إلى حجة عقل أو شرع.
وليس لاحد أن يقول: ان ذلك لا يجوز لأنه يؤدى إلى الاغراء بما لا يؤمن أن
يكون جهلا.
وذلك أنه لا تؤدى إلى شئ من ذلك، لان هذا المقلد لا يمكنه أن يعلم ابتداء
ان ذلك سائغ له، فهو خائف من الاقدام على ذلك، ولا يمكنه أيضا ان يعلم سقوط
العقاب عنه ويستديم (4) الاعتقاد، لأنه انما يمكنه أن يعلم ذلك إذا عرف الأصول
وقد فرضنا انه مقلد في ذلك كله، فكيف يعلم اسقاط العقاب؟ فيكون مغرى باعتقاد
ما لا يأمن كونه جهلا أو باستدامته.
وانما يعلم ذلك غيره من العلماء الذين حصل لهم العلم بالأصول وسبروا
أحوالهم، وان العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا أنكروا عليهم، ولم يسغ ذلك لهم الا
بعد العلم بسقوط العقاب عنهم، وذلك يخرجه عن باب الاغراء.
وهذا القدر كاف في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

(1) العلماء.
(2) زيادة من النسخة الثانية.
(3) في الأصل: واجد.
(4) فيستديم.
731

وأقوى مما ذكرنا، أن لا يجوز التقليد في الأصول، إذا كان للمكلف طريق إلى
العلم إما جملة أو تفصيلا، ومن ليس له قدرة على ذلك أصلا فليس بمكلف، وهو
بمنزلة البهائم التي ليست مكلفة بحال (1).

(1) ليس في الحجرية.
732

فصل [3]
" في أن النبي عليه السلام هل كان مجتهدا في شئ من الاحكام؟
وهل كان يسوغ ذلك له عقلا أم لا؟ وان (1) من غاب عن الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم في حال حياته هل كان يسوغ له
الاجتهاد أو لا؟ وكيف حال من بحضرته في جواز ذلك؟ " اعلم أن هذه المسألة تسقط عن (2) أصولنا، لأنا قد بينا ان القياس والاجتهاد (3)
لا يجوز استعمالها في الشرع، وإذا ثبت ذلك فلا يجوز للنبي صلى الله عليه وآله
وسلم ذلك ولا لاحد من رعيته حاضرا كان أو غايبا، لا حال حياته ولا بعد وفاته
استعمال ذلك على حال.
واما على مذهب المخالفين لنا في ذلك فقد اختلفوا (4):

(1) في الأصل: وأن كان.
(2) على.
(3) لاحظ التعليقة رقم (1) الواردة في صفحة (9) حول مفهوم الاجتهاد والتطورات التاريخية المتعاقبة على
هذا المفهوم عند الإمامية.
(4) وإليك تفصيل أقوالهم وآراءهم المتباينة.
1 - الجواز: وهو مذهب الشافعي وجل أصحابه، وأحمد ابن حنبل، والقاضي أبي يوسف، والقاضي
عبد الجبار، وأبي الحسين البصري، والشيرازي، والآمدي، وابن الحاجب، وابن السبكي.
2 - عدم الجواز: وهو مذهب بعض الشافعية، وأبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم، وابن حزم.
3 - التوقف: وهو مذهب بعض الأصوليين كالباقلاني، والغزالي، وقد نسب للشافعي أيضا.
4 - التفصيل: حيث جوزوه في أمور الحرب دون الأحكام الشرعية، وفصل آخرون وقالوا بالجواز فيما
لا نص فيه.
انظر: " الرسالة: 487، التبصرة: 521، المعتمد 2: 242، المستصفى 2: 355، الاحكام للآمدي 4:
398، إرشاد الفحول: 379 - 378، اللمع: 126، أصول السرخسي 2: 91، ميزان الأصول 2: 678، شرح
المنهاج 2: 823، روضة الناظر: 322، المنخول: 468 ".
733

فذهب أبو على، وأبو هاشم إلى أنه لم يتعبد في الشرعيات بذلك، ولا وقع منه
الاجتهاد فيها، وأوجب (1) كونه متعبدا بالاجتهاد في الحروب (2).
وحكي عن أبي يوسف القول بأن النبي عليه السلام قد اجتهد في الاحكام (3).
وذكر الشافعي في كتاب " الرسالة " ما يدل على أنه يجوز أن يكون في أحكامه
ما قاله من جهة الاجتهاد (4).
وادعى أبو علي الاجماع على أنه لم يجتهد النبي عليه السلام في شئ من
الاحكام (5):
واستدل أيضا على ذلك بأن قال: لو اجتهد في بعض الأحكام لم يجب ان
يجعل أصلا ولا يكفر من رده، بل كان يجوز مخالفته كما يجوز مثل ذلك في أقاويل
المجتهدين، فلما ثبت كفر من رد بعض أحكامه وخالفه، وساغ جعل جميعها أصولا
دل على أنه حكم به من جهة الوحي (6).
وهذا الدليل ليس بصحيح، لأنه لا يمتنع أن يقال: ان في أحكامه ما حكم به
من جهة الاجتهاد، ومع ذلك لا يسوغ مخالفته من حيث أوجب الله تعالى اتباعه

(1) أوجبنا.
(2) المعتمد 2: 240.
(3) المعتمد 2: 240.
(4) الرسالة: 503 - 487.
(5) المعتمد 2: 241.
(6) المعتمد 2: 242 انظر أيضا المصادر الواردة في التعليقة رقم (4) صفحة 733.
734

وسوى في اتباعه ذلك بين ما قاله بوحي، وبين ما قاله من جهة الاجتهاد، كما يقول
من قال إن الأمة يجوز أن تجمع على حكم من طريق الاجتهاد وان كان لا يجوز
خلافه، وإذا ثبت ذلك لم يمكن التعلق بما حكينا.
ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى ان هو الا
وحى يوحى) (1) فحكم بان جميع ما يقوله وحى يوحى، فينبغي أن لا يثبت بعض
ذلك من جهة الاجتهاد.
والمعتمد ما قلناه أولا من عدم الدليل على ورود العبادة بالقياس والاجتهاد
في جميع المكلفين، وعلى جميع الأحوال.
واما من حضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فذهب أبو علي إلى أنه لا يجوز
أن يجتهد، ويجوز ذلك لمن غاب (2).
ومن الناس من يقول: ان لمن حضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا ان
يجتهد (2)، ويستدل على ذلك بخبر يروى ان النبي عليه السلام امر عمرو بن العاص
وعقبة بن عامر (3) ان يقضيا بحضرته بين خصمين، وقال لهما: " ان أصبتما فلكما
عشر حسنات، وان أخطأتما فلكما حسنة " (4).
وهذا خبر ضعيف من اخبار الآحاد التي لا تعتمد في مثل هذه المسألة، لان
طريقها العلم.
والمعتمد في هذه المسألة أيضا ما قدمناه من عدم الدليل على ورود العبادة
بالقياس والاجتهاد، وذلك عام في جميع الأحوال.

(1) النجم 3 و 4.
(2) المعتمد 2: 242 أنظر أيضا المصادر الواردة في التعليقة رقم (4) صفحة 733.
(3) هو عقبة بن عامر الجهني - صحابي انظر ترجمته في: " الإصابة 4: 250، تهذيب التهذيب 7: 216، التاريخ
الصغير 1: 150 ".
(4) كنز العمال 6: 99 - 100 حديث رقم 1508، 15019، 15020، 15022، المغني 11: 375.
735

الكلام في الحظر والإباحة
737

فصل [1]
" في ذكر حقيقة الحظر والإباحة، والمراد بذلك "
اعلم أن معنى قولنا في الشئ انه محظور: " انه قبيح لا يجوز له فعله " الا انه
لا يسمى بذلك الا بعد أن يكون فاعله اعلم حظره، أو دل عليه، ولأجل هذا لا يقال
في أفعال الله تعالى انها محظورة، لما لم يكن اعلم قبحها ولا دل عليه، وان كان في
أفعاله ما لو كان (1) فعله لكان (2) قبيحا.
وكذلك (3) لا يقال في أفعال البهائم والمجانين انها محظورة، لما لم يكن هذه
الأشياء اعلم قبحها ولا دل عليه.
ومعنى قولنا: " انه مباح " أنه حسن وليس له صفة زائدة على حسنه، ولا
يوصف بذلك الا بالشرطين الذين ذكرناهما من اعلام حسن فاعله ذلك أو دلالته عليه، وكذلك لا يقال ان فعل الله تعالى العقاب باهل النار مباح، لما لم يكن اعلمه ولا دل
عليه، وان لم يكن لفعله العقاب صفة زائدة على حسنه وهي كونه مستحقا.
وكذلك لا يقال في أفعال البهائم انها مباحة، لعدم هذين الشرطين

(1) في الحجرية: ما لو.
(2) في الأصل: فكان.
(3) فكذلك.
739

ولأجل ذلك نقول: أن المباح يقتضي مبيحا، والمحظور يقتضى حاضرا.
وقد قيل في حد المباح: هو ان لفاعله أن ينتفع به ولا يخاف ضررا في ذلك، لا
عاجلا ولا اجلا.
وفي حد الحظر: انه ليس له الانتفاع به، وان عليه في ذلك ضررا اما عاجلا أو
اجلا، وهذا يرجع إلى المعنى الذي قلناه.
740

فصل [2]
" في ذكر بيان الأشياء التي يقال انها على الحظر والإباحة،
والفصل بينها وبين غيرها، والدليل على الصحيح من ذلك "
أفعال المكلف لا تخلو من أن تكون حسنة، أو قبيحة.
والحسنة لا تخلو من أن تكون واجبة، أو ندبا، أو مباحا.
وكل فعل يعلم جهة قبحه بالعقل على التفصيل، فلا خلاف بين أهل العلم
المحصلين في أنه على الحظر، وذلك نحو الظلم، والكذب، والعبث، والجهل، وما
شاكل ذلك.
وما يعلم جهة وجوبه على التفصيل، فلا خلاف أيضا انه على الوجوب، وذلك
نحو وجوب رد الوديعة، وشكر المنعم، والانصاف، وما شاكل ذلك.
وما يعلم جهة كونه ندبا، فلا خلاف أيضا انه على الندب، وذلك نحو
الاحسان والتفضل.
وانما كان الامر في هذه الأشياء على ما ذكرناه، لأنها لا يصح ان تتغير من
حسن إلى قبح ومن قبح إلى حسن.
واختلفوا في الأشياء التي ينتفع بها هل هي على الحظر، أو الإباحة، أو على
الوقف؟
741

وذهب كثير من البغداديين، وطائفة من أصحابنا الامامية إلى انها على الحظر،
ووافقهم على ذلك جماعة من الفقهاء (1).
وذهب أكثر المتكلمين من البصريين، وهي المحكي عن أبي الحسن وكثير من
الفقهاء إلى انها على الإباحة (1)، وهو الذي يختاره (2) سيدنا المرتضى (3) رحمه الله.
وذهب كثير من الناس إلى انها على الوقف (1)، ويجوز كل واحد من الامرين
فيه، وينتظر ورود السمع بواحد منهما، وهذا المذهب كان ينصره شيخنا أبو عبد الله
رحمه الله (4) وهو الذي يقوى في نفسي.
والذي يدل على ذلك: انه قد ثبت في العقول ان الاقدام على مالا يؤمن
المكلف كونه قبيحا، مثل اقدامه على ما لم قبحه، الا ترى ان من أقدم على الاخبار
بما لا يعلم صحة مخبره، جرى في القبح مجرى من أخبر مع علمه بأن مخبره على
خلاف ما أخبر به على حد واحد، وإذا ثبت ذلك وفقدنا الأدلة على حسن هذه
الأشياء قطعا ينبغي أن يجوز كونها قبيحة، وإذا جوزنا ذلك فيها قبح الاقدام عليها.
فان قيل: نحن نأمن قبحها، لأنها لو كانت قبيحة لم تكن الا لكونها مفسدة،
لأنه ليس لها جهة قبح يلزمها مثل الجهل، والظلم، والكذب، والعبث وغير ذلك، ولو
كانت لمفسدة لوجب على القديم أن يعلمنا ذلك والا قبح التكليف، فلما لم
يعلمنا ذلك علمنا حسنها عند ذلك، وذلك يفيدنا الإباحة.
قيل: لا تمتنع ان تتعلق المفسدة باعلامنا جهة الفعل على التفصيل فيقبح

(1) المعتمد 2: 315، التبصرة: 532، الذريعة 2: 808، اللمع: 116، شرح اللمع 2: 977.
(2) اختاره.
(3) الذريعة 2: 809 - 808.
(4) قال الشيخ المفيد - رحمه الله - [التذكرة بأصول الفقه: 43]: " إن العقول لا مجال لها في العلم بإباحة ما
يجوز ورود السمع فيها بإباحته، ولا يحظر ما يجوز وروده فيها بحظره، ولكن العقل لم ينفك قط من السمع
بإباحة وحظر، ولو أجبر الله تعالى العقلاء حالا واحدة من سمع لكان قد اضطرهم إلى مواقعه ما يقبح في
عقولهم من استباحة ما لا سبيل لهم إلى العلم بإباحته من حظره وألجأهم إلى الحيرة التي لا تليق بحكمته ".
742

الاعلام، وتكون المصلحة لنا في التوقف في ذلك والشك وتجويز كل واحد من
الامرين، وإذا لم يمتنع ان تتعلق المصلحة بشكنا والمفسدة باعلامنا جهة الفعل، لم
يلزم اعلامنا على كل حال، وصار ذلك موقوفا على تعلق المصلحة بالأعلام أو
المفسدة بالشك، فحينئذ يجب الاعلام، وذلك موقوف على السمع.
وليس لاحد أن يقول: ان هذا الذي فرضتموه يكاد يعلم ضرورة تعذره، لان
الفعل لا يخلو من أن يكون قبيحا أو لا يكون كذلك:
فان كان قبيحا، فلا يكون كذلك الا للمفسدة. وان لم يكن قبيحا، فذلك الحسن.
وهذه قسمة مترددة بين النفي والاثبات، فكيف اخترتم أنتم قسما ثالثا لا يكاد
يعقل؟، وذلك أن الفعل كما قالوا لا يخلو من أن يكون قبيحا أو لا يكون كذلك، ولكن
لا يمتنع أن يكون للمكلف حالة أخرى تتعلق بها المفسدة والمصلحة، وهي الحالة
التي يقطع فيها على جهة الفعل على التفصيل، وإذا كان ذلك جائزا لم ينفعنا تردد
الفعل في نفسه بين القبح والحسن، واحتجنا ان نراعي حال المكلف، فمتى وجدنا
المصلحة تعلقت باعلامه جهة الفعل وجب ذلك فيه، ومتى تعلقت المفسدة بذلك
وجب أن لا يعلم ذلك، وكان فرضه الوقف والشك، وهو الذي لحضناه، ينبغي أن
يتأمل جيدا فإنه يسقط معتمد القوم في أدلتهم.
وربما لم يتصور كثيرا من الذين يتكلمون في هذا الباب ما بيناه، ومتى تأمله من
يضبط الأصول وقف على وجه الصواب في ذلك.
فان قيل: كيف يمكنكم ان تدفعوا حسن هذه الأشياء ونحن نعلم ضرورة
حسن التنفس في الهواء، وتناول ما تقوم به الحياة طول مدة النظر في حدوث العالم
واثبات الصانع، وبيان صفاته؟، وعلى ما قلتموه ينبغي أن يمتنع في هذه الأوقات من
الغذاء وغير ذلك، يؤدى إلى تلفه وعطبه (1) ومن ارتكب ذلك علم بطلان
قوله ضرورة.

(1) في الأصل: خطئه.
743

قيل له: اما التنفس في الهواء، فالانسان ملجاء إليه مضطر، وما يكون ذلك حكمه
فهو خارج عن حد التكليف، فان فرضتموه فيما زاد على قدر الحاجة فلا نسلم ذلك،
بل ربما كان قبيحا على جهة القطع، لأنه عبث لا فائدة فيه ولا نفع في ذلك يعقل.
واما أحوال النظر فمستثناة أيضا، لأنه في تلك الأحوال ليس بمكلف أن يعلم
حسن هذه الأشياء ولا قبحها، لأنه لا طريق له إلى ذلك، وانما يمكنه ذلك إذا عرف
الله تعالى بجميع صفاته، وانه ينبغي أن يعلمنا مصالحنا ومفاسدنا، وإذا علم جميع
ذلك حينئذ تعلق فرضه بأن يعلم هذه الأشياء هل على الحظر أو على الإباحة؟
وفي الأحوال لا يجوز له أن يقدم الا على قدر ما يمسك رمقه ويقوم به حياته.
ومن (1) أصحابنا من قال: ان في هذه الأحوال لابد من أن يعلم الله تعالى ذلك بسمع
ببعثه إليه فيعلمه ان ذلك مفسدة يتجنبه، أو مصلحة يجب عليه فعله، أو مباح يجوز
له تناوله.
وعلى ما قررته من الدليل لا يجب ذلك، لأنه إذا فرضنا تعلق المصلحة
والمفسدة بحال المكلف لم يمتنع أن يدوم ذلك زمانا كثيرا، ويكون فرضه فيه كله
الوقف والشك والاقتصار على قدر ما يمسك رمقه وحياته.
وهذا الدليل الذي ذكرناه هو المعتمد في هذا الباب.
والذي يلي ذلك في القوة أن يقال: إذا فقدنا الدلالة على حظر هذه الأشياء
وعلى اباحتها، وجب التوقف فيها وتجويز كل واحد من الامرين، وليس يلزمنا أكثر
من أن نبين ان ما تعلق به كل واحد من الفريقين ليس بدليل في هذا الباب.
فما استدل به من قال إن الأشياء على الحظر قطعا ان قالوا: قد علمنا أن هذه
الأشياء لها مالك، ولا يجوز لنا ان نتصرف في ملك الغير الا باذنه، كما علمنا قبح
التصرف فيما لا نملكه في الشاهد.
واعترض القائلون بالإباحة هذه الطريقة بان قالوا: انما قبح في الشاهد التصرف

(1) وفي.
744

في ملك الغير لأنه يؤدى إلى ضرر مالكه بدلالة ان ما لا ضرر عليه في ذلك جاز لنا ان
نتصرف فيه مثل الاستظلال بفئ داره والاستصباح بضوء ناره، والاقتباس منها
واخذ ما يتساقط من حبه عند الحصاد، وغير ذلك من حيث لا ضرر عليه في ذلك،
فعلمنا ان الذي قبح من ذلك انما قبح لضرر مالكه لا لكونه مالكا، والقديم تعالى لا
يجوز عليه الضرر على حال، فينبغي أن يسوغ لنا التصرف في ملكه.
ولمن نصر هذا الدليل أن يقول: انما حسن الانتفاع في المواضع التي ذكرتموها
لا لارتفاع الضرر بل لان هذه الأشياء لا يصح تملكها، لان فيئ الحائط ليس بشئ
يملك إذا كان في طريق غير مملوك، ومتى كان الفئ في ملك صاحبه قبح الدخول
إليه، وكذلك القول في المصباح.
فاما اخذ ما يتناثر من حبة فلا نسلم انه يحسن، وكيف نسلم وله أن يمنعه من
ذلك وان يجمعه لنفسه، ولو كان مباحا لم يجز له منعه منه، على أنه على العلة
التي ذكروها من اعتبار دخول الضرر على مالكه كان ينبغي أن لا يسوغ له اخذ ما
يتناثر من حبة، لأنا نعلم أن ذلك يدخل عليه فيه ضرر وان كان يسيرا.
وعلى المذهبين جميعا، كان ينبغي أن يقبح ذلك، على أن ذلك لو قبح لضرر -
لا لفقد الاذن من مالكه - لكان ينبغي ان لو اذن فيه يحسن ذلك لان الضرر حاصل.
وليس لهم أن يقولوا: انه يحصل له عوض أكثر منه من الثواب أو السرور عاجلا.
وذلك انا نفرض في من لا يعتقد العوض على ذلك من الملاحدة (1) وليس هو
أيضا مما يسر به بل ربما شق عليه واغتم به، ومع ذلك حسن التصرف منه إذا اذن فيه.
وليس لاحد أن يقول: ان دليل العقل الدال على إباحة هذه الأشياء يجري
مجرى اذن سمعي، فجاز لنا التصرف فيها.
وذلك أن لمن نصر هذا الدليل أن يقول: لم يثبت ذلك، ولو ثبت لكان الامر
على ما قالوه.
ونحن نتبع ما يستدل به أصحاب الإباحة ونتكلم عليه انشاء الله.

(1) في الأصل والحجرية: الملحدة.
745

واستدل كثير من الفقهاء على أن الأشياء ليست على الحظر (1) أو الوقف بقوله تعالى:
(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (2) وبقوله: (لئلا يكون للناس على الله حجة
بعد الرسل) (3).
فقالوا: بين الله تعالى انه لا يستحق أحد العقاب، ولا يكون لله عليهم حجة الا
بعد انفاذ الرسل، وذلك يفيد ان من جهتهم يعلم حسن هذه الأشياء أو قبحها.
وهذا لا يصح الاستدلال به من وجوه:
أحدها: ان هاهنا أمورا كثيرة معلومة من جهة العقل وجوبها وقبحها، مثل رد
الوديعة، وشكر المنعم والانصاف، وقضاء الدين، وقبح الظلم، والعبث، والكذب،
والجهل، وحسن الاحسان الخالص، وغير ذلك، فعلمنا انه ليس المراد بالآية ما
ذكروه.
ومتى ارتكبوا دفع كون هذه الأشياء معلومة الا بالسمع، علم بطلان قولهم،
وكانت المسألة خارجة عن هذا الباب.
ومنها: ان لله حججا كثيرة غير الرسل من أدلة العقل الدالة على توحيده،
وعدله، وجميع صفاته التي من لا يعرفها لا يصح أن يعرف صحة السمع، فكيف يقال:
لا تقوم الحجة الا بعد انفاذ الرسل؟ والمعني في الآيتين ان يحملا على أنه إذا كان
المعلوم ان لهم ألطافا ومصالح لا يعلمونها الا بالسمع، وجب على القديم تعالى
اعلامهم إياها، ولم يحسن ان يعاقبهم على تركها الا بعد تعريفهم إياها، فلم تقم
الحجة عليهم الا بعد انفاذ الرسل، ومتى كان الامر على ذلك وجبت بعثة الرسل، لأنه
لا يمكن معرفة هذه الأشياء الا من جهتهم.
واستدل من قال: ان هذه الأشياء على الإباحة بأن قالوا: نحن نعلم ضرورة ان

(1) انظر المعتمد 2: 315، التبصرة: 532، الذريعة 2: 809 - 808، اللمع: 116، شرح اللمع 2: 977.
(2) الاسراء: 15.
(3) النساء: 165.
746

كل ما يصح الانتفاع به ولا ضرر على أحد فيه عاجلا ولا اجلا فإنه حسن كما يعلم أن
كل ألم لا نفع فيه عاجلا ولا اجلا قبيح، فدافع أحد الامرين كدافع الاخر، وإذا
ثبت ذلك وكانت هذه الأشياء لا ضرر فيها عاجلا ولا اجلا فيجب أن تكون حسنة.
قالوا: ولا يجوز أن يكون فيها ضرر أصلا، لأنه لو كان كذلك لم يكن الا لكونها
مفسدة في الدين، ولو كان كذلك لوجب على القديم تعالى اعلامنا ذلك، فلما لم
يعلمنا ذلك علمنا أنه حسنة.
وقد مضى في دليلنا ما يمكن أن يكون كلاما على هذه الشبهة، وذلك انا قلنا:
ان هذه الأشياء لا نأمن أن تكون فيها ضرر اجل، وإذا لم نأمن ذلك قبح الاقدام عليها،
كما لو قطعنا ان فيها ضررا.
واجبنا عن قولهم: " لو كان فيها ضررا لكان ذلك لأجل المفسدة، وذلك يجب
على القديم اعلامنا إياه " بأن قلنا: لا يمتنع ان تتعلق المفسدة باعلامنا جهة الفعل
على وجه التفصيل، ويكون مصلحتنا في الوقف والشك، وتجويز كل واحد من
الوجهين في الفعل، وإذ كان ذلك جائزا لم يجب عليه تعالى اعلامنا ذلك، وجاز ان
يقتصر بالمكلف على هذه المنزلة.
واستدلوا أيضا بأن قالوا: إذا صح أن يخلق تعالى الأجسام خالية من الألوان
والطعوم، فخلقته تعالى للطعم واللون لابد أن يكون فيه وجه حسن، فلا يخلو ذلك
من أن يكون لنفع نفسه، أو لنفع الغير، أو خلقها ليضر بها؟
ولا يجوز أن يخلقها لنفع نفسه، لأنه يتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
ولا يحسن أن يخلقها ليضر بها، لان ذلك قبيح الابتداء به، فلم يبق الا أنه
خلقها لنفع الغير، وذلك يقتضى كونها مباحة.
والجواب عن ذلك من وجوه:
أحدها: انه انما خلق هذه الأشياء إذا كانت فيها ومصالح، وان لم يجز
لنا ان ننتفع بها بالاكل، بل نفعنا بالامتناع منها، فيحصل لنا بها الثواب، كما أنه خلق
أشياء كثيرة يصح الانتفاع بها، ومع ذلك فقد حظرها بالسمع مثل شرب الخمر،
747

والميتة، والزنا وغير ذلك.
وليس لهم أن يقولوا: ان هذه الأشياء انما حظرها لما كانت مفسدة في الدين
واعلمنا ذلك، وليس كذلك ما يصح الانتفاع به ولا يعلم ذلك فيه:
وذلك انا قد بينا انه لا فرق في أن تتعلق المصلحة
باعلامنا جهة الفعل من قبح
أو حسن فيجب عليه أن يعلمنا ذلك، وبين أن تتعلق المصلحة بحال لنا جوز معها كل
واحد من الامرين فيجب أن يقتصر بنا على تلك الحال، لان المراعى حصول
المصلحة، وإذا ثبت ذلك لحق ثبوت ما علمنا قبحه على طريق القطع والثبات في أنه
لا يحسن منا الاقدام عليه.
ومنها: ان على مذهب كثير من أهل العدل انما خلق الطعوم والأراييح في
والأجسام لأنها لا تصح أن تخلو منها، فجرت في هذا الباب مجرى الأكوان التي لا
يصح خلو الجسم منها، وخلق الجسم إذا ثبت انه مصلحة وجب أن يخلق معه
جميع ما يحتاج إليه في وجوده.
ومنها: ان الانتفاع بهذه الأشياء قد يكون بالاستدلال بها على الله تعالى وعلى
صفاته، فليس الانتفاع مقصورا على التناول فحسب.
وليس لهم أن يقولوا: انه كان يمكن الاستدلال بالأجسام على وحدانية الله
تعالى وعلى صفاته، فلا معنى لخلق الطعوم.
وذلك أنه لا يمتنع ان يخلقها لما ذكرناه، وان كان الجسم يصح الاستدلال به
ويكون ذلك زيادة في الأدلة (1).
ولسنا ممن يقول: لا يجوز أن ينصب على معرفته أدلة كثيرة، لأنا ان قلنا ذلك
أدى إلى فساد أكثر الأدلة التي يستدل بها على وحدانيته تعالى، فإذا ينبغي أن يجوز
أن يخلقها للاستدلال بها وذلك يخرجها عن حكم العبث ويدخلها في باب ما
خلقت للانتفاع بها.

(1) الاستدلال.
748

وليس لهم أن يقولوا: إذا صح الانتفاع بها من الوجهين بالاستدلال والتناول
فينبغي ان يقصد به الوجهين.
وذلك أن هذا محض الدعوى لا برهان عليها بل الذي يحتاج إليه ان يعلم أنه
لم يخلقها الا بوجه، فاما أن يقصد بها جميع الوجوه التي يصح الانتفاع بها لا يجب
ذلك.
على انا قد بينا انه لا يمتنع ان يفرض في أحد الوجهين مفسدة في الدين
فيحسن أن يخلقها للوجه الاخر، ويعلمنا ان فيها فساد الدين (1) ومتى تناولناها،
فيجب علينا أن نمتنع منها.
فان قيل: إذا أمكن خلقها للوجهين، ولم يقصدهما كان عبثا من الوجه الذي لم
يقصد الانتفاع به، وجرى ذلك مجرى فعلين يقصد بهما الانتفاع ولا يقصد بالآخر
ذلك، فيكون ذلك عبثا.
قيل له: ليس الامر على ذلك، لان الفعل الواحد إذا كان فيه وجه من وجوه
الحكمة خرج من باب العبث، وان كان له وجوه اخر كان يجوز ان يقصد، وليس
كذلك الفعلان لأنه إذا قصد وجه الحكمة في أحدهما بقى الاخر خاليا من ذلك وكان
عبثا، وليس كذلك الفعل الواحد على ما بيناه.
فان قيل: الانتفاع بالاعتبار بالطعوم لا يمكن الا بعد تناولها، لان الطعم ليس
مما يدرك بالعين فينتفع به من هذه الجهة، فإذا لابد من تناوله حتى يصح الاعتبار به.
قيل: الاعتبار يمكن بتناول القليل منه وهو قدر ما يمسك الرمق وتبقى معه
الحياة، وقد بينا ان ذلك القدر في حكم المباح، وليس الاعتبار موقوفا على تناول
شئ كثير من ذلك.
ويمكن أن يقال أيضا: انه يصح أن يعتبر بها إذا تناولها غير المكلف من سائر
أجناس الحيوان، فإنه إذا شاهد أجناس الحيوان تتناول تلك الأشياء ويصلح عليها

(1) للذين.
749

أجسامها أو ينفسد بحسب اختلافها واختلاف طبائعها، جاز معه أن يعتبر بذلك وان
لم يتناولها المكلف أصلا.
وبمثل هذا أجاب المخالف من قال بالفرق بين السموم والأغذية، بان قال:
يرجع إلى حال الحيوانات التي ليست مكلفة إذا شاهدها يتناول أشياء ينتفع بها
جعلها ذلك طريقا إلى تجربته، وان ذلك ممن ينصلح عليه أيضا جسمه، وذلك مثل
ما أجبنا به عن السؤال الذي أوردوه في هذا الباب.
واستدلوا أيضا: بقوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات
من الرزق) (1)، وبقوله (وأحل لكم الطيبات) (2)، وما شاكل ذلك من الآيات، وهذه
الطريقة مبنية على السمع.
ونحن لا نمتنع ان يدل دليل السمع على أن الأشياء على الإباحة بعد أن كانت
على الوقف، بل عندنا الامر على ذلك واليه نذهب، وعلى هذا سقط المعارضة
بالآيات.
واستدل كثير من الناس على أن هذه الأشياء على الحظر أو الوقف، بأن قالوا:
قد علمنا أن التحرز من المضار واجب في العقول، وإذا كان ذلك واجبا لم يحسن منا
ان نقدم على تناول ما لا نأمن أن يكون سما قاتلا فيؤدى ذلك إلى العطب، لأنا لا
نفرق بين ما هو سم وما هو غذا، وانما ننتظر ذلك اعلام الله تعالى لنا ما هو غذاؤنا،
والفرق بينه وبين السموم القاتلة
واعترض من خالف في ذلك هذا الاستدلال بأن قال: يمكننا ان نعلم ذلك
بالتجربة، فانا إذا شاهدنا الحيوان الذي ليس بمكلف يتناول بعض الأشياء فيصلح
عليه جسمه، علمنا أنه غذاء، وإذا تناول شيئا يفسد عليه علمنا أنه مضار، فحينئذ
اعتبرنا بأحوالهما.

(1) الأعراف: 32.
(2) المائدة: 4.
750

وقال من نصر هذا الدليل: ان الحيوان يختلف طباعه، فليس ما يصلح الحيوان
المستبهم يعلم أنه يصلح الحيوان الناطق، لان هاهنا أشياء كثيرة تغذي كثيرا من
الحيوان وتصلح عليها أجسامها، وان كان متى تناولها ابن ادم هلك، منها ان الظبايا
يأكل شحم الحنظل ويتغذى به، ولو اكل ذلك ابن ادم لهلك في الحال، وكذلك
النعامة تأكل النار وتحصل في معدتها، ولو اكل ذلك ابن ادم لهلك في الحال، وكذلك
يقال ان الفارة تأكل البيش (1) فتعيش به، ورايحة ذلك تقتل ابن ادم.
فليس طبايع الحيوان على حد واحد، وإذا لم يكن على حد واحد لم يجز أن
يعتبر بأحوال غيرنا أحوال نفوسنا.
ولمن خالفهم في ذلك أن يقول: احسب انه لا يمكن أن يعتبر بأحوال الحيوان
المستبهم أحوال الحيوان من البشر، أليس لو أقدم واحد منهم على طريق الخطاء أو
الجهل على ما يذهبون إليه على تناول هذه الأشياء يعرف بذلك الخطاء ما هو غذا،
وفرق بينه وبين السم، فينبغي أن يجوز لغيره أن يعتبر به، ويجوز له بعد ذلك التناول
منها، وان لم يرد سمع، لأنه قد امن العطب والهلاك.
فالمعتمد في هذا الباب ما ذكرناه أولا في صدر هذا الباب، فهذه جملة كافية
في هذا الباب إن شاء الله.

(1) بكسر الباء نبت ببلاد الهند وهو سم. (لسان العرب 6: 269).
751

فصل [3]
" في ذكر النافي، هل عليه دليل أم لا؟ (1)،
والكلام في استصحاب الحال "
ذهب قوم (1) إلى أن النافي ليس عليه دليل، كما أن من قال لست عالما بالشئ
لا دليل عليه، وكما أن المنكر للدعوى ليس عليه بينة، وكما لا دليل على من نفى نبوة
المدعى للنبوة.
ومنهم من قال: ان على النافي للأحكام العقلية دليلا، وليس على النافي

(1) اختلف الأصوليون في حكم من ينفي وجود وحدوث حكم من الاحكام، سواء في الأمور العقلية أو
الشرعية، واليك مذاهبهم:
1 - ليس على النافي إبراز الدليل.
2 - النافي للحكم عليه الدليل مطلقا سواء من نفى حكما عقليا أو سمعيا: وهذا مذهب جمهور
المتكلمين والأصوليين والفقهاء.
3 - التفصيل بين النافي الذي يدعي عدم علمه بما ينفيه فليس عليه ابراز الدليل لأنه مدع للجهل ولا دلالة
على الجاهل، وكذلك من ينفي مع إدعائه العلم الضروري بنفيه وبين من ينفي ولكن عن نظر ودليل فلا بد من
إظهار علمه.
4 - التفصيل بين العقليات والشرعيات، فقالوا عليه إبراز الدليل في نفي العقليات دون الشرعيات.
انظر: " التبصرة: 530، الذريعة 2: 827، اللمع: 117، المعتمد 2: 323، الاحكام للآمدي 4: 442،
ميزان الأصول 2: 940، شرح المنهاج 2: 766، روضة الناظر: 139، شرح اللمع 2: 995 ".
752

للأحكام الشرعية ذلك (1).
وذهب المحصلون من المتكلمين والفقهاء إلى أن كل من نفى حكما من
الاحكام، عقليا كان أو سمعيا، كان عليه الدليل (1)، واليه اذهب لأنه الصحيح.
والذي يدل على ذلك: ان النافي للحكم مدع (2) للعلم بان ما نفاه منفى، لأنه
ان ادعى الشك في ذلك فلا يلزمه الدلالة، لان قوله لا يعد مذهبا ولا يناظر عليه، وإذا
كان مدعيا للعلم وقد ثبت ان العلوم المكتسبة لابد لها من أوله وطرق موصلة إلى
العلم، فإذا ثبت ذلك فمتى طولب النافي بالدلالة، فإنما يطالب بما أداه النظر إليه إلى
نفى ما نفاه، فعليه بيان دلالته، كما يجب على المثبت ذلك، لكن طريق الاستدلال
يختلف في ذلك، لان النافي للحكم يستدل بأن يقول: الحكم الشرعي إذا تعبد الله
تعالى به فلابد من أن يدل عليه، فإذا عدمت الدلالة على ذلك من الكتاب والسنة
والاجماع وجميع طرق الأدلة علمت أن الحكم منتف، فليستدل بانتفاء التعبد به
على نفى لزومه.
وكذلك قد يستدل بانتفاء ظهور العلم المعجز على يد المدعى للنبوة على
نفى نبوته بأن يقال: لو كان نبيا لوجب ظهور المعجز على يده، فإذا لم يظهر علمت
بانتفائه انتفى كونه نبيا.
وكذلك يستدل بانتفاء احكام الصفات عن الموصوف على نفي الصفات، كما
يستدل على نفي المائية (3) على القديم تعالى بانتفاء حكم لها.
ونقول: لو كان له مائية لوجب أن يكون لها حكم، فلما لم نجد لها حكما علمنا
انتفاءها.
وكذلك نستدل على انتفاء الصفات الزائدة على الصفات المعقولة في الجواهر

(1) انظر: المصادر الواردة في ذيل التعليقة رقم (1) صفحة 752.
(2) مدعي.
(3) أي الماهية.
753

والاعراض بان نقول: لو كانت لها صفات أكثر من ذلك لكانت لها احكام معلومة اما
ضرورة أو استدلالا، فلما لم نجدها معلومة من هذين الطريقين علمنا انتفائها
وكل هذه أدلة على الحقيقة، لأنا عولنا في نفى ما نفيناه على القول بانا لا
نحتاج إلى دليل، فطرق الأدلة تختلف.
وقد طول من تكلم في هذا الباب الكلام فيه، وهذا القدر الذي لخصناه كاف
فإنه يأتي على المعتمد من ذلك.
فاما قول من قال (1): " ليس عليه دليل، كما لا بينة على المنكر ". فبعيد، لان
طريق ذلك الشرع وليس هو مما عليه دليل عقلي أو سمعي، وما هذا حكمه يحكم
فيه بحسب ما ورد الشرع به ويفارق ذلك المذاهب على ما ذكرناه.
على أن المنكر لو كان لا دليل عليه لما وجب عليه اليمين، كما لا يحتاج النافي
إلى دليل ولا غيره.
على أنه قد قيل: ان كون الشئ في يده حكم الدلالة، ولذلك لو لم يكن في
يده لكان حاله حال المدعى الاخر، فقد ثبت سقوط التعلق بذلك.
فاما من نفى نبوة المتنبي، فقد بينا ان عليه دليلا، وهو ان يقول: لو كان نبيا: لوجب ظهور العلم على يده، فلما لم يظهر علمت أنه ليس بنبي، وانه كاذب في
دعواه.
وهذه الجملة التي ذكرناها تبين لنا ان النافي عليه دليل، فان ذلك لا يخص
حكما عقليا من حكم شرعي، فيجب القضاء بتساويهما في ذلك.

(1) راجع المصادر الواردة في هامش التعليقة رقم (1) صفحة 752.
754

[الكلام في استصحاب الحال] (1)
فاما استصحاب الحال فصورته ما يقوله أصحاب الشافعي: " من أن المتيمم إذا
دخل في الصلاة ثم رأى الماء، فإنه قد ثبت انه قبل رؤيته للماء يجب عليه المضي

(1) اختلف الأصوليون في تعريف الاستصحاب، وقيل: إن أخصر تعاريفه انه (إبقاء ما كان على ما كان) أي
الحكم بثبوت حكم في الزمان الثاني بناء على ثبوته في الزمان الأول، وقد اختلفوا في ثبوته وحجيته:
1 - ان الاستصحاب ليس بدليل: وهو مذهب أكثر المتكلمين، وكثير من فقهاء العامة، وخاصة
أصحاب أبي حنيفة، وهو مختار الشريف المرتضى من الامامية.
2 - إن الاستصحاب دليل شرعي لا يمكن الاعتماد عليه وإثبات الحكم به في الموارد المشكوكة:
وهذا مذهب الشافعي وأصحابه، والمزني، وأبي ثور، وداود، والصيرفي، وابن سريح، وابن خيران،
والآمدي، والغزالي، وابن الحاجب - وهو مختار الشيخ المفيد من الامامية.
قسم أصحاب الشافعي الاستصحاب إلى قسمين:
1 - استصحاب حال العقل: وهو الرجوع إلى براءة الذمة في الأصل.
2 - استصحاب حال الاجماع: وهو كما يصفه الشيرازي في " اللمع: 117 " بقوله: " وذلك مثل أن يقول
الشافعي في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته إنه يمضي فيها، لأنهم أجمعوا قبل رؤية الماء على انعقاد
صلاته فيجب أن تستصحب هذه الحال بعد رؤية الماء حتى يقوم دليل ينقله عنه ".
ولم يعلق المصنف على القسم الأول، واكتفى بالإشارة إلى الخلاف الموجود في القسم الثاني، وأنكر
مقولة الشافعية القائلين بحجية الاستصحاب، بل قال إن مرجعه إلى الفصل السابق أي نفي الحكم وكان
مذهبه أن على النافي إقامة الدليل على إنكاره.
انظر: " الذريعة 2: 830، التبصرة: 526، اللمع: 117، التذكرة: 45، المعتمد 2: 325، المستصفى 1:
217، الاحكام للآمدي 4: 367، ميزان الأصول 2: 936، إرشاد الفحول: 352، شرح المنهاج 2: 755،
روضة الناظر: 139، شرح اللمع 2: 978).
755

في الصلاة بالاتفاق، فإذا حدث رؤية الماء فيجب أن يكون على ما كان عليه من
حكم الحال الأولى " وغير ذلك من المسائل.
وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب أكثر المتكلمين، وكثير من الفقهاء من
أصحاب أبي حنيفة وغيرهم إلى أن ذلك ليس بدليل (1)، وهو الذي ينصره
المرتضى (2) رحمه الله (3).
وذهب أكثر أصحاب الشافعي وغيرهم - وهو الذي كان ينصره شيخنا أبو
عبد الله (4) - إلى أن ذلك دليل (1).
وفي ذلك نظر غير أنه يمكن أن يقال في المثال الذي ذكروه أن يقال: قد ثبت
وجوب المضي في الصلاة قبل رؤية الماء، ولم يدل دليل على أن رؤية الماء حدث،
ولو كان حدثا لكان عليه دليل شرعي، فلما لم يكن عليه دليل دل على أنه ليس
بحدث، ووجب حينئذ المضي في الصلاة، غير أن هذا يخرج عن باب استصحاب
الحال ويرجع إلى الطريقة الأولى من الاستدلال بطريقة النفي.
واعترض من نفى استصحاب الحال طريقة من قال به بأن قال (5): الحالة الثانية
غير الأولى، بل الحالة الثانية مختلف فيها، والحالة الأولى متفق عليها، فكيف يحكم

(1) انظر المصادر الواردة في ذيل التعليقة رقم (1) صفحة 755.
(2) يقول الشريف المرتضى - رحمه الله - (الذريعة 2: 819): " اما استصحاب الحال، فعند التحقيق لا يرجع
المتعلق بها إلا أنه أثبت حكما بغير دليل ".
(3) قدس الله روحه.
(4) يقول الشيخ المفيد - رحمه الله - (التذكرة: 45): " والحكم باستصحاب الحال واجب، لان حكم الحال
ثابت باليقين فلا تصح الحجة بإجماعها لهذا الوجه ".
(5) والمعترض هو أبو إسحاق الشيرازي، راجع تفصيل استدلاله في نفي دليلية الاستصحاب في: " التبصرة:
527 - 526 ".
756

في أحدهما بحكم الأخرى بلا دليل؟
ولأنه لا فرق بين من عول في ذلك على ما قالوه، وبين من عول في حمل
مسألة على أخرى، على أن قال إنها مثلها من غير أن يبين فيها علة توجب الجمع
بينهما، وذلك ظاهر البطلان.
قالوا: والذي يكشف عن ذلك أن الذي لأجله قلنا في الحالة الأولى ما (1) قلناه،
انما كان للاتفاق (2) أو لدليل (3) دل على ذلك، وذلك مفقود في الحالة الثانية، [فيجب
أن لا يكون حكمها حكم الأولى، بل كان يجب أن لا يقول في الحالة الثانية] (4) الا بما يقوم
عليه دليل كما قلناه في الأولى، وذلك يبطل استصحاب الحال.
وقولهم: " انا على ما كنا عليه " ليس بدليل على أن الحالة الثانية حال اجتهاد عند
من قال بذلك، والحالة الأولى متفق عليها لا يجوز فيها الاجتهاد.
فان قالوا: ان حدوث الحوادث لا يغير الاحكام الثابتة، ولم يحصل في الحال
الثانية الا حدوث حادث، فيجب أن لا يزيل الحكم الأول الا بدليل.
قيل: ان حدوث الحوادث انما لا يؤثر في ثبوت الحكم إذا كان الدليل قد
اقتضى دوامه، فاما إذا اقتضى اثباته في في وقت مخصوص فطرو الوقت الثاني يقتضي
زوال حكمه لا محاله.
على أن كل الحوادث وان كانت لا تؤثر في الحكم الثابت، فان الحوادث التي
اختلفت الناس عند حدوثها في بقاء الحكم الأول عندها مؤثر في ذلك، لان الاتفاق
قد زال عند حدوثه، فعلى من استصحب الحكم الأول دليل مبتدأ، كما أن على
المتنقل عنه دليل مبتدأ.
واستدل من نصر استصحاب الحال بما روى عن النبي (ص) انه قال: " ان

(1) بما.
(2) في الأصل: الاتفاق.
(3) دليل.
(4) ليس في الحجرية.
757

الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين أليتيه فيقول أحدثت أحدثت فلا ينصرفن حتى
يسمع صوتا أو يجد ريحا " (1)، فبقاه على الحالة الأولى.
وأيضا: فقد اتفقوا على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث، ان عليه أن
يستصحب الحال الأولى، فينبغي أن يجعل ذلك عبرة في نظائره.
واعترض ذلك من نفى القول به بأن قال (2): انما قلنا في هذين الموضعين
لقيام دليل وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسويته بين الحالين، وكذلك الاتفاق
على أن حال الشك في الحدث مثل حال يقين الطهارة فلا شك معها، فنظير ذلك أن
يقوم في كل موضع دليل على أن الحالة الثانية مثل الحالة الأولى حتى يصير إليه.
والذي يمكن أن ينصر به طريقة استصحاب الحال ما أومأنا إليه من أن يقال: لو كانت الحالة الثانية مغيرة للحكم الأول لكان على ذلك دليل، وإذا تتبعنا جميع
الأدلة فلم نجد ما فيها ما يدل على أن الحالة الثانية مخالفة للحالة الأولى، دل على أن
حكم الحالة الأولى باق على ما كان.
فان قيل: هذا رجوع إلى الاستدلال بطريقة النفي، وذلك خارج عن استصحاب
الحال؟
قيل: الذي نريد باستصحاب الحال هذا الذي ذكرناه، فاما غير ذلك فليس
يكاد يحصل غرض القائل به.
وهذه الجملة كافية في هذا الباب

(1) نحوه في الجامع الصغير 1: رقم 2027 عن مسند أحمد وأبي يعلى، وفي كنز العمال 1: - 251
252 حديث رقم 1269، 1270، 1271. انظر أيضا المصادر الواردة في ذيل التعليقة رقم (1) صفحة
755.
(2) راجع المصادر الواردة في ذيل التعليقة رقم (1) صفحة 755.
758

فصل [4]
" في ذكر ما يعلم بالعقل والسمع "
المعلومات على ضربين: ضرورية، ومكتسبة.
والمكتسبة على ضربين: عقلي وسمعي.
فالعقلي على ضربين:
ضرب منه: لا يصح ان يعلم الا بالعقل.
والضرب الاخر: يصح أن يعقل بالعقل والسمع معا.
فالضروريات نحو العلم بأن الواحد لا يطابق اثنين، وان الجسم الواحد لا يكون
في مكانين في حال واحدة، والعلم بوجوب رد الوديعة، وشكر المنعم، والانصاف
وقبح الظلم، والكذب، والعبث، وما يجرى مجراه مما هو لازم لكمال العقل.
واما المكتسب الذي لا يصح أن يعلم الا بالعقل، فهو كل علم لو لم يحصل
للمكلف لم يمكنه معرفة السمع، وما لا يتم هذا العلم الا به، وذلك نحو العلم بان
هاهنا حوادث لا يقدر عليها أحد من المحدثين، وان لها محدثا، قادرا، عالما، حيا،
قديما، لا يشبه الأجسام ولا تشبهه ولا الاعراض، وانه غنى لا يجوز عليه الحاجة،
وانه يستحق هذه الصفات لذاته لا لمعان قديمة أو محدثة سواه، وانه لا يفعل الا
الحسن، ولا يجوز عليه شئ من القبائح، ولا الاخلال بالواجب.
فمتى علم هذه الجملة صح ان يعلم صحة السمع، متى لم يعلمها أو لم يعلم
759

شيئا منها لا يصح أن يعلم صحة السمع.
وإنما قلنا ذلك: لأنه متى لم يعلم ما قلناه، لم نأمن ان يكون الذي فعل المعجز
غير الحكيم، وأنه ممن يجوز عليه تصديق الكذاب، فلا نثق بصحة السمع.
وأما ما يصح أن يعلم بالسمع والعقل معا: فنوا ان الله تعالى لا يجوز عليه
الرؤية على الحد الذي يجوزها الأشعري وأصحابه (1) عليه، لان نفي ذلك يصح ان

(1) إن مسألة جواز رؤية الله تعالى وعدمه تعد من موارد النزاع والخلاف وتضارب الآراء بين الأشاعرة
والعدلية، أما الأشعري وأصحابه فقد أجمعوا على جواز رؤية الله تعالى، وأن المؤمنين يرون ربهم في الجنة
بلا كيف ولا تشبيه ولا تحديد!! وعدوا رؤية المؤمنين له تعالى من أعلى العطايا وأسنى الكرامات التي
يمنحها الله تعالى لهم، وقالوا انه هي الزيادة المذكورة في قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)
[يونس: 26]، ولم يكتفوا بهذا المقدار بل قالوا: ان للانسان لمسه وذوقه وشمه!! وأقاموا على دعواهم
الحجج العقلية والسمعية، وأنكروا تأويل العدلية للآيات الدالة على جواز الرؤية، واليك خلاصة رأي
الأشاعرة وحججهم كما أوردها عبد القاهر الجرجاني في كتابه " أصول الدين: 98 - 97 " وهي نص كلام
الأشعري في كتابيه " الإبانة " و " اللمع " دون ان يضيف إليهما شيئا جديدا، يقول: " قال أصحابنا: أجمع
أهل الحق على أن الله راء برؤية أزلية، يرى بها جميع المرئيات، ولم يزل رائيا لنفسه، واختلف أصحابنا فيما
يجوز كونه مرئيا، وقال أبو الحسن الأشعري: يجوز رؤية كل موجود وإحالة رؤية المعدوم. وقال عبد الله بن
سعيد والقلانسي بجواز رؤية ما هو قائم بنفسه وأحالا رؤيته، ومنع من رؤية الاعراض، وزعم البغداديون من
المعتزلة ان الله لا يرى شيئا، وتأولوا ما في القرآن من ذكر رؤيته وبصره على معنى انه عامل بالأشياء، وزعم
البصريون منهم ان الله يرى غيره ولا يرى نفسه ويستحيل ان يكون مرئيا ".
اما الامامية فقد أنكروا القول بالرؤيا وجوازها يقول الشيخ المفيد: " لا يصح رؤية الباري سبحانه
بالابصار وبذلك شهد العقل ونطق القرآن وتواتر الخبر عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله
وسلم وعليه جمهور أهل الإمامة وعامة متكلميها الا من شذ منهم لشبهة عرضة له في تأويل الاخبار،
والمعتزلة بأسرها توافق أهل الإمامة في ذلك، وجمهور المرجئة وكثير من الخوارج والزيدية وطوائف من
أصحاب الحديث، يخالف في المشبهة وإخوانهم من أصحاب الصفات ".
انظر: " أصول الدين للجرجاني: 98 - 97، الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد: 74، أوائل المقالات: 57،
الاعتقاد للبيهقي: 58، الانصاف للباقلاني: 200، المعتمد في أصول الدين للخوارزمي: 407، مذاهب
الاسلاميين 1: 554 - 548 وأيضا لاحظ آراء المذاهب الاسلامية حول هذا الموضوع في كتاب (مقالات
الاسلاميين) لأبي الحسن الأشعري ".
760

يعلم بالسمع كما يصح أن يعلم بالعقل، وغير ذلك مما يقدح فيما قدمناه.
فاما ما لا يعلم الا بالسمع فعلى اضرب:
منها ما تتعلق به الاحكام من سبب أو علة من قال باثبات العلل.
ومنها: ما هي أدلة على الاحكام.
ومنها ما يتعلق بذلك من شروطه وفروعه وأوصافه.
وكل ذلك لا يصح ان يعلم الا بالسمع.
فاما الاحكام: فنحو الإباحة الشرعية، نحو ذبح البهائم وغير ذلك عند من قال إن
الأشياء على الإباحة.
فاما على ما نذهب إليه من الوقف، وعلى ما مذهب من قال إنها على الحظر،
فجميع المباحات - لان الطريق إلى العلم بها السمع لا غير - وكذلك القبائح الشرعية
نحو شرب الخمر، ونحو الاكل في أيام الصوم، ونحو الربا وما شاكلها، فان جميع
ذلك لولا السمع لما علم قبحها على طريق القطع.
فاما القتل والظلم: فمعلوم بالعقل قبحه.
واما ما يستفاد بالسمع: نحو ما يحسن من الآلام والقتل، وهو ما كان قودا أو
غيره، ونحو جهاد الكفار وغير ذلك.
واما ما يقبح من البياعات وغيرها: فما يقف التمليك فيها على شروط لا
تعرف الا بالشرع فشرعي، وما لم يكن كذلك فهو مما يعلم بالعقل وبالعادة.
وأما ما رغب فيه الشرع (1): فهو كل فعل لولا الشرع لكان قبيحا كالصوم
والصلاة وما شاكلهما.
فاما الاحسان: فإنه يعلم بالعقل انه ندب، الا ما ورد الشرع به على أوصاف
يرجع إليه أو إلى المعطى.
واما الواجب الشرعي: فهو كل ما لولا دليل السمع لم يعلم وجوبه على الوجه
الذي وجب عليه وكان قبيحا، وذلك نحو الصوم، والصلاة، والزكاة.

(1) في الأصل: بالشرع
761

وشروط جميع ذلك وأوصافه، وما يفسد منه، وما يصح، وما يفسده أو
يصححه، وما يجزى منه ما لا يجزى ويجب فيه القضاء، وما يفسخ من العقود وما لا
يفسخ، ولا يقع به التمليك الا بشروط، أو على أوصاف، وما يجب من نوع الأملاك
وغير ذلك، فجميع ذلك يعلم شرعا.
وهذه الجملة تنبه على ما يعلم بالشرع من الاحكام، اختلف الأحوال
المحكوم لهم أو عليهم أو اتفق، مختارا كان أو مكرها، مكلفا أو غير مكلف.
واما سبب الاحكام: فكالشهادات وسائر الامارات التي يتعلق الاحكام بها، أو
يسوغ للحاكم الحكم لأجلها، وكذلك سائر أسباب المواريث، وكثير من التمليكات
من موت، أو غنيمة، وما شاكله، وكثير من الولايات التي هي سبب لتصرف الوالي
فيما يتصرف فيه من امارة وقضاء، وولاية على عجوز وغير ذلك، فجميع ذلك
وجميع أوصافه وشروطه يعلم بالشرع، ولولاه لم يعلم.
واما علل الاحكام فعباد من قال بالقياس لا يعلم الا بالشرع.
واما الأدلة التي تعلم بالشرع فنحو القياس، والاجتهاد (1) عند من أثبتهما
وجوز العمل بهما، وما يتعلق بهما من العلل والامارات والاحكام.
واما على مذهبنا، فنحو الافعال الصادرة من النبي صلى الله عليه وآله، لان
بالشرع يعلم كونها أدلة على ما تقدم القول فيها.
فاما الأدلة الموجبة للعلم: فبالعقل يعلم كونها أدلة، ولا مدخل للشرع في
ذلك، فان كان يتعلق الشرع في بعض الوجوه لأنا نقول الرسول عليه السلام يعلم أن
القرآن كلام الله، وان كان علمنا بما يدل عليه، أو بأنه دلالة يرجع فيه إلى العقل.
واما المباحات: فقد بينا ان طريق العلم بها كلها الشرع على ما مضى القول فيها
على مذهبنا في الوقف.

(1) لمعرفة معنى " الاجتهاد " في مصطلح الامامية راجع التعليقة رقم (1) صفحة (8).
762

قد ذكرنا في هذا الكتاب جملة موجزة في كل باب بأخصر ما حضرنا، ولو
شرعنا في شرح ذلك لطال الكتاب، وفيما لخصناه كفاية لمن ضبط هذا الفن، وتنبيه
بذلك على ما عداه، ونسأل الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه، وينفعنا بذلك ومن
نظر فيه، انه ولي ذلك، والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على رسوله
محمد وآله الطاهرين.
* * * تم الكتاب وربنا محمود * وله المكارم والعلى والجود
على النبي محمد صلواته * ما ناح قمري وأورق عود
وقع الفراغ من كتبه عبد الصمد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد في ذي الحجة
سنة ثمان عشر وخمس مائة هجرية. حامدا لله ومصليا على نبيه محمد وآله
الطاهرين (1).

(1) جاء في نهاية النسخة الثانية: " قد تم هذا الكتاب المستطاب بعون الملك الوهاب على يد العبد الآثم
الجاني محمد صادق بن محمد رضا التويسركاني في شهر ربيع الثاني سنة 1314 ".
763