الكتاب: منتهى الأصول
المؤلف: حسن بن على أصغر الموسوي البجنوردي
الجزء: ١
الوفاة: ١٣٧٩
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

منتهى الأصول
الجز الأول
1

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام
على أشرف خلقه وخاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد وأهل بيته
الطاهرين المعصومين.
وبعد فيقول العبد الفاني (حسن بن علي أصغر الموسوي البجنوردي)
عفا الله عنهما وأوتيا كتابهما بيمينهما وحوسبا حسابا يسيرا:
أصر علي جمع من الأحبة أن أكتب كتابا في علم الأصول مشتملا على
ما تلقيته من الفحول، ووصل إليه فكري الفاتر ونظري القاصر،
فأجبتهم. ومن الله التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل.
وسميته ب (منتهى الأصول) ورتبته على مقدمة ومقاصد وخاتمة.
تمهيد
لا بد لنا من ذكر جملة من الأشياء التي جرت عادة المصنفين على
ذكرها قبل الشروع في المقصود في كل فن:
1 - مرتبة هذا العلم:
فنقول: أما مرتبته من حيث الشرف فهو متأخر عن علمي الكلام و
الفقه، كما أن علم الكلام متقدم على علم الفقه أيضا من هذه الجهة،
لان
شرافة العلم بشرافة موضوعه وغايته. وموضوع علم الكلام - وهو
المبدأ والمعاد - أشرف الموضوعات، وغايته - وهي معرفة أصول
الدين - أجل الغايات، ولذا سمي بالفقه الأكبر. وأما مرتبته من حيث
التعليم والتعلم فتقدمه - على علم الفقه - واضح، لأنه من مقدماته. و
أما بالنسبة
2

إلى سائر العلوم فهو متأخر عن جملة من العلوم العربية وعلم المنطق،
بل ربما عن مقدار واف من الأمور العامة من الكلام، كما أنه أجنبي
عن جملة من العلوم في هذا المقام.
ولا ربط بينه وبينها أصلا.
2 - تعريفه:
وقد عرفه بعض الأصوليين بأنه العلم بالقواعد الممهدة التي تقع في
طريق استنباط الأحكام الشرعية، واستشكل عليه - في الكفاية -
بعدم شمولها للأصول العملية، لأنها وظائف عملية مجعولة للعاجز
عن الاستنباط لفقد الدليل عليه واليأس عن الظفر به بعد الفحص عنه.
فلا معنى لان تكون واقعة في طريق الاستنباط. ولذلك زاد عليه جملة
أخرى، وهي (أو التي ينتهى إليها في مقام العمل) وأنت خبير بأن
هذا الاشكال مبني على أن يكون المراد من وقوع تلك القواعد في
طريق الاستنباط كونها إمارة وحجة على إثبات الاحكام الواقعية. أما
لو كان المراد من ذلك وقوعها كبريات في قياسات يستنتج منها الحكم
الكلي الإلهي، سوأ أ كان حكما واقعيا أم ظاهريا، شرعيا أم
عقليا، فلا يبقى مجال لهذا الاشكال. ولا حاجة إلى زيادة هذه الجملة.
ولا وجه لكون المراد هو المعنى الأول، لان الغرض من تدوين علم
الأصول - كما سيجئ - ليس إلا القدرة على استنتاج الأحكام الشرعية
والمسائل الفقهية، سوأ أ كانت أحكاما تكليفية أم وضعية،
ظاهرية أم واقعية، شرعية أم عقلية. نعم القاعدة الأصولية التي يستنتج
منها الحكم الشرعي الفرعي قد تنتج حكما أصوليا كما إذا دل خبر
واحد - ثبتت حجيته في علم الأصول - على حجية الاستصحاب.
ثم إن أستاذنا المحقق (قده)] 1 [أفاد أن المراد بوقوع تلك القواعد في
طريق استنباط الأحكام الشرعية هو أن تكون ناظرة إلى إثبات
الحكم بنفسه أو بكيفية تعلقه بموضوعه. وقال: (إن مباحث العام و
الخاص والمطلق والمقيد والمفهوم والمنطوق
] 1 [مرادنا به - في هذا الكتاب - نادرة دهره ووحيد عصره الشيخ
ضيأ الدين العراقي، كما أن مرادنا بشيخنا الأستاذ أستاذ الكل
الميرزا محمد حسين النائيني قدس سرهما -
3

ناظرة إلى كيفية تعلق الحكم بالموضوع، فهي داخلة في علم الأصول،
بخلاف مبحث المشتق ونظائره - مما هو راجع إلى تشخيص
الموضوع - فهي خارجة، لأنها ليست ناظرة إلى إثبات الحكم بنفسه و
لا إلى كيفية تعلق الحكم بالموضوع) وأنت خبير بأن كيفية تعلق
الحكم بالموضوع راجع إلى تشخيص الموضوع من حيث السعة و
الضيق في بعض مباحث العام والخاص. وأما مسألة المفهوم و
المنطوق
فراجعة إلى تشخيص الظهورات. وباب تشخيص الظهورات و
الموضوعات من صغريات قياس الاستنتاج، بحيث لو انضم إليها
كبرى
أصالة الظهور يستنتج منها الحكم الكلي الشرعي.
واما الاشكال على منع هذا التعريف بقاعدة الطهارة في الشبهات
الحكمية، فلا وجه له أصلا، لأنها من المسائل الأصولية. وعدم
تعرضهم
لها في الأصول لعدم احتياجها إلى البحث، لكونها اتفاقية. واعتذار
صاحب الكفاية (قده) - بأنها مختصة بباب الطهارة، والمسائل
الأصولية غير مختصة بباب دون باب، بعد الغض عن أن هذا دعوى
بلا بينة وبرهان - إنما يتم لو كان هذا القيد مأخوذا في تعريفه لعلم
الأصول، وإلا فيرد النقض على تعريفه على كل حال لو كانت خارجة
حقيقة. أعني سوأ كان عدم اختصاص المسألة بباب دون باب قيدا
للمسائل الأصولية أو لم يكن إذ لو كان قيدا يجب أن يقيد التعريف به و
لو لم يكن قيدا ولكن كانت المسألة خارجة عن علم الأصول
لجهة أخرى كما هو المفروض أيضا يرد النقض على التعريف لشمولها
وهي خارجة ولكن لا وجه لخروجها إلا ما توهم من عدم ذكرهم
لها في الأصول العملية. وقد بينا السر في ذلك.
فتلخص مما ذكرناه أن علم الأصول عبارة عن جملة من القضايا التي
تصلح لان تقع كل واحدة منها كبرى في قياس تكون نتيجته الحكم
الكلي الشرعي الفرعي أو البناء العملي العقلي، كالبراءة والتخيير
العقليين، وإن كانت النتيجة - في بعض الأحيان - حكما أصوليا، و
لكن وقوعه كبرى لاستنتاج الحكم الفرعي مما لا بد منه. وأما خروج
بعض مباحث الألفاظ الراجعة إلى تشخيص الظهورات وتحقق ما
هو الصغرى لقياس الاستنباط، فضروري ولا ضير فيه، لأنها خارجة
عن مسائل علم الأصول. وذلك لعدم ترتب الغاية عليها.
ولبيان ذلك نقول: إن لمعرفة أن المسألة الفلانية هل هي من العلم
الفلاني أو لا؟ طرقا ثلاثة:
4

(الأول) - أن يكون محمول المسألة من العوارض الذاتية لموضوع
ذلك العلم، وبما أنه ليس لعلمنا هذا موضوع كلي واحد ينطبق على
موضوعات مسائله - كما هو المعروف في أحد التعريفين لموضوع
كل علم، وهو التحقيق عندنا وسيجئ بيانه إن شاء الله، أو أنه لو
كان له موضوع فهو كلي مجهول العنوان، كما ذهب إليه صاحب
الكفاية (قده) - فهذا الطريق مفقود في المقام.
(الثاني) - انطباق تعريف العلم عليها، فكل مسألة شملها التعريف،
فهي من مسائل ذلك العلم، وإلا فلا. وهذا هو المراد من الجامع و
المانع والمطرد والمنعكس في باب التعاريف، ولكن هذا الطريق
منوط بكون التعريف تاما حقيقيا لا نقص فيه أصلا.
والتعريف الحقيقي - لأمثال علمنا هذا - لا يمكن إلا بأخذ الغاية
فيها، لأنها هي الجامعة لشتات مسائلها، كما سيجئ بيان ذلك في
تعريف الموضوع، فهذا الطريق - بالآخرة - يرجع إلى الطريق الآتي.
(الثالث) - ترتب الغاية على هذه المسألة منضمة إلى سائر مسائل
العلم فيما إذا كانت الغاية بسيطة، أو ترتب جهة من جهاتها وحصة من
حصصها إذا كانت ذات جهات، كما هو الحال في أغلب العلوم، فان
حفظ اللسان عن الخطأ في المقال - من حيث الاعراب والبناء - ليس
أمرا بسيطا، بل كل مسألة من مسائل علم النحو تضمن جهة من جهات
الاعراب، فإذا عرف مسائل المرفوعات تمكن من حفظ لسانه عن
الغلط فيها.
وكذلك الحال في سائر الأبواب وفي سائر العلوم.
فمما ذكرناه ظهر أن المرجع الوحيد في تمييز المسألة الأصولية عن
غيرها هو ترتب الغاية بأحد النحوين عليها، وحيث إن الغاية و
الغرض من تدوين علم الأصول هو تحصيل المبادئ التصديقية
للمسائل الفقهية، فكل مسألة كانت مبدأ تصديقيا لمسألة فقهية فهي
من
المسائل الأصولية، وإلا فلا. وإلى هذا يرجع ما أفاده شيخنا الأستاذ
(قده) في ضابطة المسألة الأصولية من أنها ما تقع كبرى في قياس
يستنتج من ذلك القياس الحكم الشرعي الفرعي، لان المبدأ
التصديقي - لكل نتيجة من كل قياس - هو كبرى
5

ذلك القياس، فالمسائل الأصولية عبارة عن المبادئ التصديقية
للمسائل الفقهية. ويمكن أن يكون هذا تعريفا آخر بعبارة أخرى لعلم
الأصول. وعلى كل، فقد ظهرت لك - في ضمن ما ذكرناه في تعريف
علم الأصول - غايته، والضابط للمسألة الأصولية وتمييزها عن
غيرها.
3 - موضوعه:
وقد عرفوا موضوع كل علم بأنه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية. و
أيضا قالوا: (موضوع كل علم هو ما ينطبق على موضوعات مسائله
انطباق الكلي الطبيعي على مصاديقه وأفراده). ويظهر من هذين
التعريفين أنه من المسلمات عندهم أن كل علم لا بد له من موضوع
كلي
جامع لجميع موضوعات مسائله ولو كان مجهول العنوان، وعينوا
ذلك الكلي في أغلب العلوم، فقالوا: موضوع علم الفقه - مثلا - فعل
المكلف، وموضوع علم الطلب بدن الانسان. وهكذا في سائر العلوم.
وربما احتاجوا إلى تعيين شيئين أو أزيد، كما أنهم قالوا: موضوع
علم النحو هو الكلمة والكلام، وموضوع علم الأصول هي الأدلة
الأربعة. وذلك لما رأوا أن شيئا واحدا لا يجمع موضوعات المسائل
بوحدته، فلذا اضطروا إلى ضم شئ أو أشياء إليه، وهكذا اضطروا
إلى تقييدها بالحيثيات، حتى قالوا: إن تمايز العلوم بتمايز
الموضوعات، وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات، لما رأوا من أن ما
عينوه موضوعا لعلم ربما يكون موضوعا لعلوم متعددة كالكلمة
مثلا، فقالوا: إنها موضوع لعلم النحو من حيث الاعراب والبناء و
موضوع لعلم الصرف من حيث الصحة والاعتلال. وهكذا الحال في
أغلب
العلوم.
هذا. والتحقيق أن العلوم على قسمين: (قسم) دون لأجل معرفة
حالات حقيقة من الحقائق وما هو مفاد هليتها المركبة، وليس الغرض
من
التدوين إلا معرفة محمولاتها العرضية التي تحمل عليها بالحمل
الشائع حملا حقيقيا لا يصح سلب ذلك المحمول عن تلك الحقيقة. و
بعبارة أخرى المتصدون. لمعرفة الحقائق لما التفتوا إلى أن معرفة
حالات جميع الحقائق بالنسبة إلى شخص واحد صعب، بل غير
ميسور
غالبا، فلذلك وضعوا
6

الحقائق أنواعا وأجناسا، وبحثوا عن حالات كل واحد منها على
حده، فصار البحث عن حالات كل واحد منها عاما غير سائر العلوم، و
كان من الممكن أن يجعلوا جميع العلوم التي هي من هذا السنخ عاما
واحدا. وذلك بأخذ مفهوم عام جامع لجميع موضوعات العلوم و
البحث عن حالاته التي هي عبارة عن جميع حالات جميع تلك
الموضوعات، كما أنهم عرفوا الحكمة بأنها العلم بأحوال أعيان
الموجودات
على قدر الطاقة البشرية، وجعلوا موضوعها مفهوما عاما يشمل جميع
الحقائق، وهو مفهوم الموجود. وبهذا الاعتبار يقسمون الحكمة
إلى النظرية والعملية، والنظرية إلى الإلهية والطبيعية والرياضية.
فهي - بهذا الاعتبار - علم واحد له موضوع واحد مندرج فيه جميع
العلوم الحقيقية التي ليس الغرض منها إلا معرفة حقائق الأشياء، و
لكنهم - مع ذلك - أفردوا البحث عن بعض الحقائق وجعلوه عاما
على حده، وسموه باسم مخصوص، كما أنهم بحثوا عن أحوال
الجسم و
سموه بعلم الطبيعة، وعن أحوال الكم وسموه بالرياضيات - وهكذا
- لتلك النكتة التي بيناها، ففي هذا القسم من العلوم لا يمكن ان لا
يكون لها موضوع، بل القول بعدمه خلف، لأن المفروض - كما بيناه -
انهم عينوا حقيقة من الحقائق ووضعوها للبحث عن حالاتها و
مفاد هليتها المركبة. ولا معنى للموضوع إلا هذا.
وتمايز هذا القسم من العلوم بعضها عن بعض لا يمكن ان يكون إلا
بالموضوعات. ولا يبقى مجال للنزاع في أنه هل هو بها أو
بالأغراض. و (قسم آخر) عبارة عن مجموع قضايا مختلفة
الموضوعات والمحمولات، جمعت ودونت لأجل غرض خاص و
ترتب غاية
مخصوصة عليها، بحيث لولا ذلك الغرض وتلك الغاية لم تدون تلك
المسائل ولم تجمع.
ولا فائدة في معرفتها وتسميتها باسم مخصوص. ففي هذا القسم
ليس الجامع لهذه المسائل المختلفة إلا تلك الغاية وترتب ذلك
الغرض
عليها بأحد الوجهين المتقدمين في الامر الثاني. ولا أدري أي ملزم
ألزمهم بالقول بوجود موضوع واحد جامع لجميع موضوعات
المسائل
في هذا القسم؟ حتى أن صاحب الكفاية (قده) - بعد ما يئس من
تعيين موضوع كلي متحد مع موضوعات مسائل علم الأصول - قال
بوجود
جامع
7

مجهول العنوان، كأنه نزل وحي سماوي أو دل دليل عقلي ضروري
على وجود موضوع كلي جامع لجميع موضوعات المسائل في كل
علم. واما التمسك لاثباته بقاعدة عدم إمكان صدور الواحد عن
المتعدد بما هو متعدد - ببيان ان هذه المسائل المتعددة بلا جامع
بينها
كيف يمكن ان يترتب عليها غرض واحد - فلا وجه له أصلا (أولا) -
لما ذكر في الامر الثاني من أن الغرض في هذا القسم من العلوم ذو
جهات، فكل مسألة تحفظ جهة من جهات الغرض غير الجهة التي
تحفظها المسألة الأخرى و (ثانيا) - لان تصوير الجامع بين
الموضوعات
لا يغني ولا يرتفع به هذا الاشكال، بل يحتاج إلى وجود جامع بين
المحمولات أيضا. واما لزوم تصوير الجامع بين الموضوعات و
المحمولات في دفع هذا التمسك - كما ذكره بعضهم وذكره أستاذنا
المحقق أيضا - فمما لا وجه له، لان مناط وحدة القضية والعلم
التصديقي وحدة الحكم لا وحدة الموضوع والمحمول.
والقضية الواحدة يمكن ان تترتب عليها غاية واحدة بسيطة مع
اختلاف موضوعها مع محمولها.
واما ما ذكره أستاذنا المحقق - في الجواب عن هذا التمسك بأن دخل
المسائل في الغرض والغاية ليس من قبيل دخل المؤثر في المتأثر،
لان حفظ اللسان في النحو - مثلا - منوط بتطبيق النحوي قواعد النحو
في مقام التكلم وأداء الكلمات - فمبني على أن يكون الغرض و
الغاية هو الحفظ الفعلي عن الوقوع في الغلط في النحو مثلا، و
الاستنباط الفعلي في الأصول، وهكذا في سائر العلوم. وأنت خبير
بأن
مثل هذا لا يمكن أن يكون غاية، لان الغاية - كما عرفوها - علة
للشئ بماهيتها أي بوجودها الذهني ومعلول له بإنيتها أي بوجودها
الخارجي. ومعلوم أن المعلول لا يمكن أن ينفك عن علته، فالغاية في
هذه العلوم ليست إلا التمكن والقدرة على هذه الأمور.
ومما يؤيد ما ذكرناه بل يدل عليه تعريفهم للمنطق (بأنه آلة قانونية
تعصم مراعاتها الفكر عن الوقوع في الخطأ). فلم تجعل العصمة عن
الوقوع في الخطأ غاية لمعرفة المسائل، بل جعلت مترتبة على مراعاة
المسائل - أي تطبيقها - في مقام الاستنتاج وتشكيل القياس.
8

(إن قلت): نحن قبال الامر الواقع، لأنه لا شك في وجود الجامع بين
موضوعات المسائل بل بين كل شيئين أو الأشياء.
(قلت): إن كان المراد وجود جامع ذاتي ماهوي يكون بالنسبة إلى
موضوعات المسائل كالكلي الطبيعي بالنسبة إلى افراده ومصاديقه،
فهذا شئ لا دليل عليه، بل الدليل على عدمه. ألا ترى أن موضوعات
المسائل الفقهية بعضها من مقولة الجوهر، وذلك مثل (الدم نجس)
مثلا، وبعضها الاخر عرض ومن أفعال المكلفين، ولا جامع ذاتي بين
الجوهر والعرض كما هو واضح. وإن كان المراد وجود جامع
عرضي ومن قبيل المفاهيم العامة - كمفهوم (شئ) وما يشابهه و
يساوقه - فهذا وإن كان صحيحا الا أنه يرد عليه (أولا) - أن مثل هذا
الجامع بين المحمولات أيضا موجود، فلما ذا خصصوا التكلم
بالموضوع وسكتوا عن المحمول. و (ثانيا) - أنه يلزم من كون الجامع
ذلك
المفهوم العام أن يكون لجميع العلوم موضوع واحد، وهو أحد تلك
المفاهيم العامة.
وذلك هدم لما أسسوا. و (ثالثا) - لا يجتمع هذا مع ما اتفقوا عليه من أن
موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، لأنه من
الواضح أن محمولات المسائل ليست من العوارض الذاتية لذلك
المفهوم العام العرضي الخارج المحمول.
فتلخص من مجموع ما ذكرناه أن أمثال علمنا هذا - من العلوم التي
جمعت مسائل متشتتة مختلفة الموضوعات والمحمولات لأجل
غرض
- لا موضوع لها الا موضوعات مسائلها، بخلاف القسم الأول، فان
مدار علمية العلم فيه ليس الا تعيين الموضوع، والتكلم والبحث عن
حالاته. وقد عرضت هذا التحقيق والتفصيل بين القسمين على
أستاذي المحقق (قده) فارتضاه وضبطه في مقالاته.
ثم إنه بناء على أن يكون لكل علم موضوع أو بالنسبة إلى العلوم التي
لها موضوع قلنا: إنهم عرفوه بأنه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية،
وقسموا العرض - عند بيان المراد من العرض الذاتي - إلى أقسام
سبعة: ما يعرض الشئ لذاته وبلا واسطة أصلا، واتفقوا على أن هذا
القسم عرض ذاتي، وما يكون بواسطة جزئه المساوي
9

وقالوا أيضا بأنه عرض ذاتي، وما يكون بواسطة جزئه الأعم، فاختلفوا
فيه، وما بواسطة أمر خارج مساو له، فاختلفوا أيضا في أنه
عرض ذاتي أولا، وما بواسطة أمر خارج مباين أو أعم أو أخص،
فاتفقوا في أن هذه الثلاثة أعراض غريبة. وقال جمع آخر - كصاحب
الفصول وصاحب الكفاية وشيخنا الأستاذ وأستاذنا المحقق (قدس
سرهم): إن المناط في العرض الذاتي عدم الواسطة في العروض، و
لذلك استشكل أستاذنا المحقق - (قده) - على التقسيم السابق بأنه إن
كان المراد من أقسام الوسائط المذكورة هي الواسطة في
العروض، فجميع الأقسام - ما عدا القسم الأول - أعراض غريبة، وإن
كان المراد هي الواسطة في الثبوت، فجميع الأقسام أعراض ذاتية
حتى فيما إذا كانت الواسطة أمرا مباينا. وذلك، لان أكثر مسائل أغلب
العلوم من هذا القبيل، مثلا في علمنا هذا إذا قلنا: إن خبر الواحد
حجة، فالواسطة في ثبوت الحجية له الجعل التشريعي، وهو مباين
للخبر، ولكن يمكن ان يقال:
ان المراد هي الواسطة في العروض. واما سر اتفاقهم - فيما إذا كانت
الواسطة جزا مساويا على أنه عرض ذاتي - فهو ان الجز
المساوي للشئ ليس الا الفصل والصورة النوعية، وشيئية الشئ
بصورته حتى لو أمكن وجود الصورة النوعية مجردة عن المادة لكان
هو هو. ولذلك لو كان موضوع علم هو الانسان فالبحث عن حالات
النفس وملكاتها - كما في علم الأخلاق - بحث حقيقي عن حالات
الانسان، وليست ملكات النفس - رذائلها وفضائلها - من الاعراض
الغريبة للانسان. وأما سر اختلافهم - فيما إذا كانت الواسطة جز
أعم أو أمرا خارجا مساويا - فهو أن من يقول بأن اتحاد الواسطة في
العروض في الوجود مع ذي الواسطة يكفي في كون العرض ذاتيا
يقول بأنهما أيضا ذاتيان، ومن يقول بعدم كفاية ذلك بل لا بد في
العرض الذاتي لشئ ان يعرضه أولا وبالذات من دون واسطة في
العروض يقول بأنهما غريبان. وأما سر اتفاقهم - فيما إذا كانت أمرا
خارجا مباينا أو أعم أو أخص في أنها أعراض غريبة - فواضح.
10

والذي ينبغي أن يقال في هذا المقام - كما أشرنا إليه سابقا - هو انه
في العلوم التي لها موضوعات لا بد وأن يكون البحث عن حالات
نفس الموضوعات وما هو مفاد الهلية المركبة وحينئذ لا بد وأن تكون
محمولات العلم من العوارض اللاحقة لذاتها، بحيث يكون وصفا
لها بحال نفسها لا بحال متعلقاتها بالدقة العقلية لا بالمسامحة العرفية.
وبناء على هذا يختص العرض الذاتي بالقسمين الأولين، فان
أعراض الحيوان - بالدقة العقلية - ليست أعراضا للانسان بما هو
إنسان، وهكذا أعراض الامر الخارج المساوي ليست بالدقة العقلية
أعراضا للشئ، بل تنسب إليه مجازا.
ثم إن هاهنا إشكالا مشهورا، وهو أنه في أغلب المسائل محمول
المسألة عارض على موضوع العلم بواسطة أمر أخص، وهو موضوع
المسألة. وقد أجاب عن هذا الاشكال أستاذنا المحقق (قده) بأن
الخصوصيات التي في موضوعات المسائل بالنسبة إلى محمولاتها من
الجهات التعليلية لا التقييدية، بمعنى أن الفاعلية والمفعولية - مثلا -
علتان لعروض الرفع والنصب على ذات الكلمة، وهكذا الامر في
موضوعات مسائل سائر العلوم. وأنت خبير بأنه لا يمكن أن يقال بان
الصلاة بخصوصية الصلاتية ليست معروضة للوجوب، بل معروض
الوجوب هو فعل المكلف، والصلاتية علة لعروض الوجوب عليه. و
أجاب شيخنا الأستاذ (قده) أيضا بهذا الجواب، ولكن بضم مقدمة، و
هي أن موضوعات العلوم مقيدة بالحيثيات، مثلا موضوع علم النحو
ليس هو الكلمة لا بشرط ومن حيث هي، بل من حيث قابليتها للحوق
الاعراب، فبواسطة تقيدها بهذه الحيثية تتحد مع موضوعات مسائله،
فالكلمة من حيث قابليتها للحوق الاعراب عين الفاعل. وهكذا في
علم الفقه، فان فعل المكلف من حيث قابليته للحوق الأحكام الشرعية
عين الصلاة فالكلمة - مثلا - ليست لا بشرط حتى تكون
مغايرة
لموضوعات المسائل التي هي بشرط شئ، بل بواسطة تقييدها بهذا
القيد تصير هي أيضا بشرط شئ، فيتحد الاعتباران، فيتحد
موضوع العلم مع موضوعات مسائله، ويرتفع الاشكال.
11

ولا يخفى على الناقد البصير وجود الخلل في هذا الكلام من وجوه
شتى:
والعمدة أن هذه الحيثية - التي أخذت قيدا للموضوع - إن كانت عين
الخصوصيات التي تخصصت بها موضوعات المسائل، فحديث
العينية وإن كان صحيحا لكنه خارج عن فرض الموضوع كليا جامعا،
لان كل واحدة من هذه الخصوصيات مباينة للأخرى، وان كانت
غير هذه الخصوصيات، فيبقى الكلام في أن هذه الخصوصيات هل
هي جهة تقييدية وواسطة في عروض محمول المسألة على موضوع
العلم، أو جهة تعليلية وواسطة في الثبوت؟ وقد بينا عدم إمكان القول
بان الصلاة - بخصوصية الصلاتية - ليست معروضة للوجوب، بل
معروض الوجوب فعل المكلف من حيث قابليته للحوق الأحكام الشرعية
. وذلك، لان الشارع أوجب الصلاة (أي فعل المكلف
المتخصص
بهذه الخصوصية) لا الجامع بينه وبين سائر أفعال المكلفين التي
بعضها حرام وبعضها الاخر مكروه أو مستحب. نعم لو كان تقييد
الموضوعات بالحيثيات - في حد نفسه صحيحا - لكان مفيدا في
باب تمايز العلوم بتمايز الموضوعات. ولا ربط له بمسألتنا.
فالصواب في الجواب أن يقال: إن الكلي الطبيعي - حيث أنه لا بشرط
وغير مقيد بقيد من القيود المصنفة والمشخصة له - يحمل على
جميع أصنافه وأشخاصه حملا حقيقيا شائعا صناعيا، فإذا كان
العرض العارض على الصنف أو الشخص عارضا على الطبيعة
المتخصصة
بخصوصيات الصنفية أو الشخصية، فهذا العرض كما أنه عارض على
الصنف والشخص حقيقة كذلك عارض على الطبيعة اللابشرط
حقيقة وبالدقة العقلية من دون حاجة إلى التقييد بحيثية من الحيثيات
المذكورة. والسر في ذلك أن الصنف والشخص ليسا الا تلك
الطبيعة. ولا فرق بينها وبينهما الا بحسب التضييق الوارد عليها من
ناحية تلك الخصوصيات. وأعراضهما حقيقة عارضة عليها. ولا يصح
سلبها عنها لا في مقام الحمل فقط بل حتى في مقام العروض، نعم إذا
كان عارضا على نفس الخصوصية المصنفة أو المشخصة لا على
الطبيعة المتخصصة بهما، فأعراضهما - حينئذ - عرض غريب لها.
ولعمري هذا واضح، وان استصعب هذا الاشكال جماعة من
المحققين.
12

ثم انه بعد ما تبين لك ما ذكرناه تعلم أن البحث - في أن تمايز العلوم
هل هو بتمايز الموضوعات أو بتمايز الأغراض - لا وجه له أصلا.
اما في القسم الأول فقد قلنا إنه لا محالة يكون بتمايز الموضوعات ولا
غرض في البين الا معرفة حالات الموضوع حتى يكون التمايز به،
كما أنه في القسم الثاني لا موضوع في البين حتى يكون التمايز به. ولا
محالة يكون التمايز بتمايز الأغراض، فقد تحقق أن موضوع علم
الأصول ليس الا موضوعات مسائله لا خصوص الأدلة الأربعة لا
بذواتها ولا بوصف دليليتها، فلا وجه للنقض والابرام في هذا المقام،
و
الاشكال بان المسألة الفلانية داخلة أو خارجة.
تتميم
قسموا المبادئ إلى تصورية وتصديقية، والتصورية منها عبارة عن
حدود موضوعات المسائل واجزائها وجزئياتها وحدود
المحمولات ومعرفتها.
والتصديقية منها عبارة عن القضايا التي يستدل بها على ثبوت
المحمولات للموضوعات، وهي إما بديهية - وتسمى بالعلوم
المتعارفة
- وإما نظرية، فان أذعن المتعلم بها بحسن الظن بالمعلم تسمى
بالأصول الموضوعة، وإن لم يذعن بها وأخذها مع الاستنكار تسمى
بالمصادرات. وهذه كلها اصطلاحات ذكرها القوم. وزادوا في علم
الأصول قسما آخر من المبادئ وسموها بالمبادئ الأحكامية. و
المراد منها معرفة حالات الأحكام الشرعية من تقسيمها إلى الوضعية
والتكليفية، وأن الأحكام التكليفية متضادة بأسرها، وأن الأحكام الوضعية
هل هي منتزعة عن التكليفية أو مستقلة في الجعل، وغير
ذلك من حالاتها وعوارضها. وقد ذكروا ذلك في علم الأصول
بالمناسبات، فقد تبين مما ذكرناه أربعة من الأمور المعروفة بالرؤوس
الثمانية، وهي مرتبة العلم، وتعريفه، وغايته، وموضوعه.
13

المقدمة
وهي تشتمل على أمور:
(الامر الأول) - في الوضع، وفيه جهات من البحث:
(الجهة الأولى) -
في أن دلالة الألفاظ على معانيها هل هي بالذات والطبع أو بتوسط
الوضع؟ لا ينبغي أن يشك في عدم كونها بالطبع، لان الدلالة الطبعية
والذاتية لا تختلف باختلاف الاعصار والأمم. نعم الذي يمكن أن
يقال هو أن اختيار الواضع اللفظ الخاص للمعنى المخصوص لا بد و
أن
يكون لمرجح، لعدم إمكان الترجيح بلا مرجح. وهذا غير كون الدلالة
بالذات وبالطبع.
(الجهة الثانية) -
في أن الواضع هل هو الله جل جلاله، أو العباد أنفسهم؟ الظاهر أن
وضع الألفاظ مستند إلى العباد أنفسهم. أما بالنسبة إلى الاعلام
الشخصية فواضح. وأما أسماء الأجناس فبالنسبة إلى المخترعات في
هذه الاعصار فحالها في الوضوح حال الاعلام، لما هو مشاهد
بالعيان. وأما بالنسبة إلى غيرها من أسماء الأجناس والمشتقات،
فالظاهر أن وضعها تدريجي ومن اشخاص متعددة حسب
احتياجاتهم في مقام التعبير عن مقاصدهم. ولذلك يختلف عدد
الكلمات واللغات بحسب اختلاف الأمم والأزمنة والأمكنة حسب
قلة
الاحتياج وكثرته، كما أنهم يرفعون سائر احتياجاتهم حسب الفطرة
التي فطرهم الله عليها.
(الجهة الثالثة) -
في حقيقة الوضع. وقد عرفه صاحب الكفاية (قده) بأنه نحو
اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما ناش من تخصيصه به
(تارة)
ومن كثرة استعماله فيه (أخرى) وقال صاحب تشريح الأصول: (إنه
عبارة عن تعهد الواضع والتزامه بإرادة المعنى من اللفظ في
استعمالاته للفظ بلا قرينة) وقال جمع آخر:
14

(هو عبارة عن جعل اللفظ علامة على إرادة المعنى الفلاني).
والتحقيق في المقام أن الوضع عبارة عن الهوهوية والاتحاد بين اللفظ
والمعنى في عالم الاعتبار. ومثل هذه الهوهوية والاتحاد
الاعتباري يمكن أن يوجد في عالم الاعتبار بالجعل والانشاء (تارة) و
بكثرة الاستعمال (أخرى) وبهذا الاعتبار صح تقسيمه إلى
التعييني والتعيني.
(إن قلت): إن الاتحاد والهوهوية إذا لم يكن بين شيئين بحسب الواقع،
بل كان كل واحد منهما أجنبيا عن الاخر - كما هو الحال بين اللفظ
والمعنى قبل الوضع - فكيف يمكن إيجاده بمحض الجعل والانشاء،
أو بصرف كثرة الاستعمال بلا قرينة؟ (قلت): الاتحاد والهوهوية
على قسمين: تكوينية واعتبارية، أما الاتحاد التكويني والهوهوية
الواقعية فلا يمكن أن توجد بصرف الانشاء والتشريع. وأما
الاعتبارية فلا مانع من إيجادها في عالم الاعتبار بصرف الانشاء و
الجعل التشريعي. وإلى هذا ترجع توسعة الموضوع في الحكومة
الواقعية - كقوله عليه السلام: (الطواف بالبيت صلاة) - وقد قال شيخ
مشايخ أساتيذنا في فرائده بمثل ذلك في كيفية حجية الامارات
بأن المجعول فيها هو الهوهوية، بمعنى ان المجعول فيها هو أن
المؤدى هو الواقع. وأيضا قال شيخنا الأستاذ بمثل ذلك في أصالة
الحل.
والحاصل أن حال الهوهوية الاعتبارية حال سائر الاعتباريات في أن
إيجادها بإنشائها بمكان من الامكان. وأما الدليل على أن الوضع
بهذا المعنى لا بالمعاني الذي ذكروها، (فأولا) - أنه لا شك في أن
إلقاء اللفظ إلقاء المعنى عند إلقاء المراد إلى الطرف. ومعلوم أن إلقاء
شئ ليس إلقاء شئ آخر الا فيما إذا كانت بينهما هوهوية واتحاد، و
إلا فبصرف تعهد الواضع - ان لا يستعمل إلا هذا اللفظ عند إرادة
المعنى الفلاني أو جعله علامة له، أو بصرف جعل علاقة وارتباط
بينهما - لا يكون إلقاء أحدهما إلقاء للآخر. و (ثانيا) - قد تقرر عندهم
ان لكل شئ أربعة أنحاء من الوجودات، وعدوا من جملتها الوجود
اللفظي، فلو لم يكن ذلك الاتحاد كيف يمكن أن يكون وجود شئ
أجنبي عن شئ آخر وجودا له،
15

مع أن اللفظ من مقولة الكيف المسموع وان كان مقداره من مقولة
الكم، والمعنى من مقولة أخرى؟ ولهذه الجهة أيضا يسري قبح
المعنى
وحسنه إلى اللفظ.
(الجهة الرابعة) -
في بيان أقسام الوضع بحسب لحاظه مع ما وضع له.
لا شك في أن الوضع لمعنى يحتاج إلى تصور ذلك المعنى الموضوع
له اللفظ بأي معنى من معاني الوضع. وذلك المعنى المنصور عام
(تارة) وخاص (أخرى). أما في الصورة الأولى فتارة يوضع اللفظ بإزاء
ذلك المعنى العام ويسمى بالوضع العام والموضوع له العام و
أخرى يوضع بإزاء مصاديق ذلك المعنى العام فيصير من قبيل ما هو
متحد اللفظ ومتكثر المعنى، ويكون - في الحقيقة - من قبيل
المشترك اللفظي، لان المشترك اللفظي - حقيقة - عبارة عن كون لفظ
واحد موضوعا لمعاني متعددة، سوأ أ كان بأوضاع متعددة
منفصلة بعضها عن بعض، أو بجمعها في لحاظ واحد. وبعبارة أخرى
مناط كون المشترك مشتركا لفظيا تعدد الموضوع له بالنسبة إلى
لفظ واحد، لا تعدد الوضع ولحاظ الموضوع له. وهذا القسم يسمى
بالوضع العام والموضوع له الخاص. ولا ريب في إمكانه، لان الوضع
- كما قلنا - يحتاج إلى لحاظ الموضوع له، ومعرفة حال الوضع، و
معرفة الشئ - كما أنها - قد تكون بصورة مفصلة منطبقة على ذي
الصورة تمام الانطباق بحيث لا تشذ الصورة عن ذي الصورة شيئا،
كتصور الجزئيات الحقيقية والافراد الخارجية - كذلك قد تكون
بعنوان عام متحد معه. ولا نلتزم أن ذلك العنوان العام عين هذا الفرد
الخارجي، كيف؟ وهذا الفرد الخارجي غير سائر الافراد ولا
يحمل عليها ولا يتحد معها. وذلك المعنى العام لا يأبى الحمل على
أي فرد من أفراد ذلك العام، فالمراد - بالاتحاد معه والانطباق عليه -
أن ذلك المعنى العام حيث أنه غير مقيد بقيد وليس متخصصا
بخصوصية، فأي قيد أو خصوصية وردت عليه لا يمنعه عن الاتحاد
مع ذلك
المقيد، بل عند التحقيق الدقيق حال وضع الاعلام الشخصية أيضا
كذلك، لان تصورها أيضا لا يمكن أن يكون بصورة ذهنية منطبقة عليها
تمام الانطباق، لان تشخص تلك الصورة وعدم صدقها على كثيرين
إن كان
16

باعتبار وجودها الذهني وتقيدها به، فذلك المعنى العام أيضا كذلك.
وان كان مع قطع النظر عن وجودها الذهني فمهما ضيقتها و
قيدتها بالقيود لا يوجب الشخص وامتناع الصدق على الكثير. ولكن
هذا طور آخر من الكلام لا يسعه المقام.
والمقصود من هذا التفصيل أن إمكان هذا القسم لا ينبغي أن يشك
فيه.
واما في الصورة الثانية - أي فيما إذا كان المعنى المتصور خاصا - فلا
يمكن إلا وضع اللفظ بإزائه. وذلك كالاعلام الشخصية، ويسمى
بالوضع الخاص والموضوع له الخاص. ولا يمكن وضعه - في هذه
الصورة - بإزاء المعنى العام أي الجامع بين هذا الخاص المتصور و
سائر الافراد المماثلة له، أو بإزاء هذا المتصور الخاص وما هو شريك
له في الأثر، كما قال به صاحب البدائع. وذلك، لان الواضع - حال
الوضع - ان تصور هذين العنوانين فقد صار الوضع أيضا كالموضوع له
عاما، وإن لم يتصور الا ذلك المعنى الخاص، فكيف يعقل أن
يضع اللفظ بإزاء شئ لم يتصوره أصلا لا بالصورة التفصيلية ولا
بالاجمالية؟ وأما ما قاله بعض الأعاظم - من أن تصور العام كان
تصورا للخاص لمكان الاتحاد بينهما فيكون تصور الخاص أيضا تصورا
للعام لعين تلك الجهة - فقد عرفت جوابه مما ذكرناه في معنى
الاتحاد. وحاصله أن الطبيعة اللابشرط - لسعتها من جهة عدم
مرهونيتها بقيد - تجتمع مع كل قيد. وأما المقيد المضيق فلا يمكن أن
ينطبق على تلك الطبيعة الوسيعة المطلقة المجردة عن كل قيد حتى
قيد الاطلاق. ولذلك هي تحمل على افرادها، ويقال: زيد إنسان و
الافراد لا تحمل عليها، فلا يصح أن يقال: الانسان زيد.
وإذا عرفت ان الأقسام الممكنة من هذه الاحتمالات الأربع ثلاثة،
فاعلم أن قسمين منها واقعان وهما الوضع العام والموضوع له العام،
كأسماء الأجناس، والوضع الخاص والموضوع له الخاص، كالاعلام
الشخصية. واما القسم الثالث، فقد اختلف فيه، فقيل بأن وضع
الحروف وما يشابهها من المبهمات من هذا القبيل. وتحقيق المقام
يحتاج إلى بسط الكلام في المعنى الحرفي.
ولا يخفى أن الاحتمالات بل الأقوال في المعنى الحرفي ستة بل
سبعة:
17

(الأول) -
ان الحرف لا معنى له أصلا، بل جعل علامة على خصوصية المعنى
في مدخوله، مثلا الدار لها اعتباران: (أحدهما) - اعتبارها في حد
نفسها
وأنها من الموجودات العينية المادية من مقولة الجوهر. وحينئذ يكون
مدلولها ذلك البناء الخارجي. وبهذا الاعتبار - في نفسها - تدل
على معناها من دون حاجة إلى أمر آخر.
(ثانيهما) - اعتبار خصوصية طارئة على هذا المعنى كظرفيتها لزيد
مثلا. وفي هذا الاعتبار يحتاج إلى جعل علامة تدل على استفادة
هذه الخصوصية منها. وذلك كالرفع في جعله علامة على استفادة
الفاعلية من لفظ زيد، فكما ان الرفع ليس له معنى بل صرف علامة
لفاعلية المرفوع، كذلك الحروف ليس لها معان سوى كونها علامات
لخصوصيات مدخولها، وهذا القول منسوب إلى نجم الأئمة الشيخ
الرضي. وفيه أنه لا شك في أن الألفاظ موضوعة لذوات المعاني، و
تلك الخصوصيات - التي أشير إليها - خارجة عما وضعت الألفاظ
لها.
وحينئذ إن كانت قرينة على إرادة تلك الخصوصيات من نفس الألفاظ
لزمت المجازية في مثل تلك الاستعمالات. ولا أظن أحدا يلتزم به
حتى القائل بهذا القول. وإن كانت الخصوصية مدلولة لنفس هذه
الحروف، فهذا اعتراف بأن لها معاني، ورجوع عما قال. وأما الفاعلية
التي هي عبارة عن النسبة الصدورية فهي مستفادة من هيئة الكلام و
الجملة، فالقياس في غير محله.
(الثاني) -
أنه لا فرق بين المعنى الاسمي والحرفي كل لمرادفه في أصل المعنى
وجوهره لا في ناحية الموضوع له ولا في ناحية المستعمل فيه، بل
كلمة من ولفظ الابتداء كلاهما موضوعان لمعنى واحد ومفهوم فارد،
وهي الماهية المهملة التي - في حد نفسها - لا مستقلة ولا غير
مستقلة، بمعنى أنه لم يجعل لحاظ كون المعنى آلة وحالة للغير جز
للموضوع له ولا للمستعمل فيه في الحروف، كما أنه لم يجعل لحاظ
الاستقلالية جز لأحدهما في الأسماء. وقد استدل - لعدم كون هذا
اللحاظ جز لأحدهما في الحروف - بوجوه ثلاثة:
1 - أنه لو كان هذا اللحاظ جز لأحدهما في الحروف لزم أن يكون
الموضوع له
18

أو المستعمل فيه - بناء على الاحتمالين - من قبيل الكلي العقلي، و
حينئذ لا ينطبق على الخارجيات، لان المقيد بأمر ذهني لا وجود له الا
في الذهن ولا يمكن أن يوجد في الخارج، كما هو الحال في الكلي
العقلي، فإنه بواسطة تقيد معروض الكلية - وهو الكلي الطبيعي -
بأمر
ذهني وهو مفهوم الكلية لا يمكن ان يوجد في الخارج، فلا يمكن
على هذا امتثال مثل سر من البصرة إلى الكوفة، بما لكلمة من - مثلا -
من المعنى المقيد بأمر ذهني الا بالتجريد والمجازية، وهو كما ترى.
2 - أنه لو كان هذا اللحاظ جز لأحدهما لزم أن يتعلق بهذا اللحاظ
لحاظ آخر مقوم للاستعمال، لأنه لا معنى للاستعمال الا لحاظ ما يراد
من اللفظ وإلقاء اللفظ بإزائه.
3 - أنه أي فرق بين المعنى الاسمي والحرفي في هذا المقام؟ فكما
أن أحدا لم يتوهم أن يكون لحاظ كون المعنى مستقلا جز لأحدهما
في الأسماء، فليكن كذلك في الحروف.
ثم إنه قال بأن عدم جواز استعمال كل من الحروف والأسماء في
مكان الاخر - مع ترادف كلمة من ولفظة الابتداء مثلا - إنما هو لأجل
أن الواضع وضع الحروف لتكون آلة لملاحظة حال مدخولها. وهذا هو
السر في عدم جواز استعمال كل في مكان الاخر مع ترادفهما. و
استشكل عليه شيخنا الأستاذ (قده) أولا - بأن المعنى والموضوع له
- في حد ذاته - إما مستقل وإما غير مستقل، وإلا يلزم ارتفاع
النقيضين، ولا جامع بين النقيضين حتى يكون هو الموضوع له. وأنت
خبير بما في هذا الاشكال، لان عدم إمكان خلو شئ عن قيد و
نقيضه في الواقع لا ينافي عدم تقيد ذلك الشئ بذلك القيد ولا
بنقيضه، مثلا الرقبة - في حاق الواقع - لا يمكن أن تخلو من قيد
الايمان و
نقيضه، ولكن مع ذلك ما وضع له لفظ الرقبة لا مقيد بالايمان ولا
بعدمه. ولذا قلنا في أول تقرير كلام صاحب الكفاية (قده) الذي هو
صاحب هذا القول أن الموضوع له هي الماهية المهملة التي في حد
نفسها لا مستقلة
19

ولا غير مستقلة.
وأما ما أفاده - في وجه عدم الجامع بأن المفاهيم والمعاني بسيطة
في الأذهان لا تركب لها أصلا، وشبهها بالاعراض الخارجية أي كما
أن الاعراض بسيطة في الخارج لا تركب لها من المواد والصور،
فكذلك المعاني والصور الذهنية بسائط عقلية ليست مركبة من
الأجناس والفصول، حتى نقول بأن الجامع بينهما هو المعنى
الجنسي، وما به الامتياز هو الفصل أي الاستقلال وعدم الاستقلال -
ففيه
أنه غير تام في حد نفسه، لأنه لا شك في أن امتياز المفاهيم الذهنية
بعضها عن بعض قد يكون بتمام الذات كالأجناس العالية، وقد
يكون ببعض الذات كالأنواع المتداخلة تحت جنس واحد، كمفهوم
الانسان والبقر مثلا، وقد يكون بالعوارض الزائدة على أصل الذات و
ذلك كالأصناف والأشخاص المتداخلة تحت نوع واحد. ولولا
خوف الإطالة والخروج عن الفن لأعطينا المقام حقه.
هذا، مع أنه أجنبي عن المقام، لأنه على فرض كون المعنى في حد
ذاته بسيطا يمكن أن يكون غير مقيد بأمر خارج عن ذاته ولا بنقيضه
الخارج أيضا، كما بينا ذلك في مثال الرقبة وقيد الايمان ونقيضه، والا
لزم إنكار باب المطلق بالمرة.
و (ثانيا) بأن دعواه - أن عدم جواز استعمال كل واحد من الحروف في
مكان ما يرادفه من الأسماء مستند، إلى جعل الواضع لحاظ
المعنى آلة لملاحظة حال الغير شرطا في الحروف في مقام الاستعمال
- أوضح فسادا من الأول، لأنه (أولا) - أنه متوقف على أن يكون
الواضع شخصا خاصا حتى يتأتى منه هذا الشرط. وقد بينا عدم إمكان
ذلك.
و (ثانيا) - على فرض أن يكون الواضع شخصا خاصا ليس من
وظيفته، هذا الاشتراط، إذ وظيفة الواضع جعل العلاقة بين الألفاظ و
معانيها لا تعيين طريقة الاستعمال وإلزامهم بتكليف في مقامه. و
(ثالثا) - على فرض أنه كان له ذلك، وقلنا أنه يجب على المستعملين
الوفاء بهذا الشرط ما الذي يلزم من المخالفة؟ لان مثل هذه المخالفة لا
يوجب كون الاستعمال غلطا أو مستهجنا، إذ لا يقصر عن المجاز،
لان
20

المجاز استعمال اللفظ في خلاف ما وضع له، وهذا استعمال في ما
وضع له، غايته على غير جهة ما وضع له. هذا ما أفاده في هذا المقام
رفع مقامه.
ويرد على الوجه الأول أن الواضع - عنده - هو الله تعالى، وقد بلغ
إلى الناس وحيا أو إلهاما أو فطرهم على فطرة بحيث يقدرون على
تأدية مراداتهم بإبداع ألفاظ مخصوصة، فلما ذا لا يمكن ان يكون هو
تبارك وتعالى اشترط مثل هذا الشرط وبلغه إلى الناس وحيا أو
إلهاما؟ فلا غرابة في هذا الاشتراط، بل ليس بأبعد من كون الواضع هو
الله سبحانه على ما ادعي، وإن أنكرنا ذلك في محله، فراجع. واما
الوجهين الأخيرين فإنما يردان عليه فيما إذا كان هذا شرطا خارجيا
بدويا، أما إذا كان غرضا وعلة غائية للوضع - كما هو الظاهر من
عبارته - فلا محالة يتحقق تضييق في دائرة ذلك الامر الاعتباري
المجعول، لان المعلول لا يمكن أن يكون أوسع من علته، لكن لازم
هذا
الكلام أن يكون الموضوع له في كل واحد منهما حصة غير الحصة
الأخرى. وعلى كل حال فالتحقيق في الجواب أن المتبادر من
الحروف
- كما سيجئ - هو معنى مخالف بالهوية والذات للمعنى الاسمي،
فلا يبقى مجال لأصل دعوى صاحب الكفاية (قده) حتى يستشكل
عليه
بمثل هذه الاشكالات.
(الثالث) -
ان المعنى الحرفي ما ذكره بعض الأعاظم (قده)، وهو أن الموجود
الممكني كما أنه في الخارج - على قسمين: (الأول) - وهو الجوهر
أعني الموجود المستقل الذي لا يحتاج في وجوده إلى موضوع. و
(الثاني) - وهو العرض أعني الموجود غير المستقل الذي يحتاج في
وجوده إلى موضوع، بل وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه،
كذلك المفاهيم الذهنية في الذهن على قسمين: قسم من قبيل
الجواهر
الخارجية أي يوجد في الذهن مستقلا من دون حاجة إلى مفهوم آخر،
وذلك كلفظة الابتداء والانتهاء والاستعلاء وغيرها من مفاهيم
الأسماء، فإنها في عالم اللحاظ تلاحظ مستقلة، سوأ لوحظت معها
شئ آخر أم لا، وقسم آخر حالها حال الاعراض الخارجية، كما أن
الاعراض لا يمكن ان توجد في الخارج مستقلة وفي غير موضوع،
21

وانما هي نعوت وصفات لغيرها ووجوداتها في أنفسها عين
وجوداتها لموضوعاتها، كذلك هناك مفاهيم لا يمكن ان توجد في
الذهن
مستقلة وفي غير موضوع، وانما هي حالات لمفاهيم أخرى وذلك
كمفاهيم الحروف حيث أنها لا يمكن ان توجد في الذهن إلا حالة
لمدخولاتها، فمفهوم (من) مثلا ليس هو في الذهن طبيعة الابتداء -
التي يمكن أن يخبر عنها، وتلاحظ مستقلة - بل الابتداء الذي هو
حالة
للبصرة أو غيرها من مدخولات هذه الكلمة. ولذلك لا يمكن أن يخبر
عنه ولا به عن شئ. هذا هو المراد من قولهم: ان الحرف ما دل
على معنى في غيره. وبعبارة أخرى المعنى الحرفي من قبيل الوجود
الرابطي لا الوجود النفسي ولا الرابط كما اصطلح عليه بعض
المحققين.
والحاصل أن الاعراض الخارجية - التي وجودها في الخارج تبع
لوجود الغير ولا استقلال لها، وإنما هي نعوت وأوصاف لغيرها -
يمكن ان تلاحظ في الأذهان مستقلة من دون نظر إلى موضوعاتها، و
يمكن أن تلاحظ في الذهن على نحو وجودها في الخارج نعتا و
حالة لمفهوم آخر. والمعنى الحرفي من قبيل الثاني. والجواب عن
هذا الوجه هو ما أجبنا به عن الوجه الثاني وهو أن معاني الحروف من
سنخ وجود الرابط والنسب لا الوجود الرابطي والاعراض. وبعبارة
أخرى لو كان من سنخ الاعراض لما كان محتاجا الا إلى طرف
واحد لا إلى الطرفين. والوجدان يحكم باحتياجهما إلى الطرفين، كما
سنبينه في القول الآتي.
(الرابع) -
أن المعنى الحرفي من سنخ النسب والارتباطات القائمة بالطرفين،
فيكون معنى (من) مثلا نسبة الابتدائية بين السير والبصرة (بيان
ذلك) أن مفهوم السير لا يحكي إلا عن ذلك الحدث المعين الصادر
عن السائر، ومفهوم البصرة لا يحكي إلا عن ذلك البلد المعين، و
هكذا مفهوم الكوفة. ولكن قولك سرت من البصرة إلى الكوفة يدل
على شيئين آخرين.] 1 [غير تلك الحكايات الثلاث: وهي النسبة
] 1 [بل هذه الجملة تدل على أربع حكايات والرابع حكاية التاء في
سرت عن فاعل هذا الحدث، كما أن هيئة سرت تدل على النسبة
الصدورية بين الفاعل أعني التاء في سرت والسير (منه).
22

الابتدائية بين السير والبصرة، والانتهائية بينه وبين الكوفة، فهاتان
النسبتان هما معنى (من، وإلى) وهكذا الحال في سائر الحروف.
وبعبارة أخرى كل جملة - سوأ أ كانت كلاما تاما يصح السكوت عليه
أم ناقصا لا يصح السكوت عليه - لا بد وأن تكون مشتملة على
نسبة بين أجزائها ورابط يربط بعضها ببعض، لان كل مركب تقييدي -
سوأ أ كان ذلك التقييد بنحو الاخبار أم التوصيف أم الحالية أم
التمييزية أم الظرفية أم الفاعلية أم المفعولية أم غيرها - يرجع إلى
انتساب شئ إلى شئ آخر، سوأ أ كانت تلك النسبة تامة أم ناقصة لا
يصح السكوت عليها، مثلا قولك -: قضى زيد صلاته الفائتة يوم
الجمعة في المسجد من طلوع الشمس إلى الزوال يشتمل على نسبة
بين
القضاء وزيد، وهي النسبة الصدورية، ونسبة بينه وبين الصلاة وهي
النسبة الوقوعية، ونسبة بين الصلاة والفائتة، وهي النسبة
التوصيفية، ونسبة أيضا بين القضاء ويوم الجمعة، وهي النسبة
الظرفية الزمانية، ونسبة بينها وبين المسجد وهي النسبة الظرفية
المكانية، ونسبة بينها وبين الطلوع، وهي النسبة الابتدائية، ونسبة
بينها وبين الزوال، وهي النسبة الانتهائية، وبعض هذه النسب -
كما رأيت - مفاد الهيئة، وبعضها الاخر مفاد الحروف.
ومما ذكرنا ظهر أن حال الهيئات حال الحروف بعينها في أنها أيضا لا
تدل إلا على أنحاء النسب والارتباطات بين أجزأ موادها على
اختلاف أنحاء تلك النسب من الصدورية والوقوعية والقيامية و
الحالية والايجادية والطلبية وغيرها - سوأ كانت الجملة - التي لها
تلك الهيئة - شرطية أم حملية، خبرية أم إنشائية، فعلية أم اسمية.
والسر في ذلك كله أن كل ما أسند إلى شئ أو قيد ذلك به - على
اختلاف أنحاء التقييدات - إذا كان للقيد وجود غير وجود ذات المقيد
ولو كان ذلك القيد من الموجودات في عالم الاعتبار، كجميع الأحكام الشرعية
- وضعية أم تكليفية - بالنسبة إلى موضوعاتها، فإنه
يحتاج إلى وجود رابط بين ذلك القيد وما قيد به، فان كان ذلك القيد
من الأمور العينية أي من المحمولات بالضمائم - سوأ أ كان
جوهرا
23

أم عرضا - فلا بد وأن يكون رابط بينهما في عالم العين والواقع، وإن
كان من الأمور الاعتبارية - كالطهارة والنجاسة والملكية و
الزوجية وسائر الأحكام الشرعية - وضعية أم تكليفية - فلا بد وأن
يكون بينهما رابط في عالم الاعتبار.
وبعبارة أخرى القيد في أي وعاء من أوعية الواقع كان موجودا لا بد
من وجود الرابط أيضا في ذلك الوعاء. وإلى هذا يرجع تقسيمهم
للقضية في المنطق إلى ثنائية وثلاثية، بأن سموا ما لا يحتاج إلى الرابط
بالثنائية، وما يحتاج إليه بالثلاثية، فقالوا: ان القضية التي
محمولها الوجود المطلق وما هو مفاد الهلية البسيطة ثنائية، والتي
محمولها الوجود المقيد ومفاد الهلية المركبة ثلاثية. وأما إذا لم يكن
للقيد وجود آخر غير وجود ما أسند إليه وما قيد به - ولو كان وجوده
في نفسه عين وجوده لموضوعه، بل ولو كان وجودا اعتباريا -
فلا يحتاج إلى وجود رابط بينهما الا في الذهن، وفي مرحلة تشكيل
القضية. أما عدم الاحتياج في غير تلك المرحلة، فلأنه ليس هناك
وجودان حتى نقول بلزوم رابط بينهما في الوعاء الذي وجد القيد في
ذلك الوعاء. واما الاحتياج في تلك المرحلة. فلان تشكيل القضية لا
يمكن إلا بأن يكون فرق بين الموضوع والمحمول ولو كان ذلك الفرق
اعتباريا، فباعتبار ذلك الفرق والتغاير لا بد من وجود رابط
في عالم الذهن واللحاظ، حتى يربط أحدهما بالآخر في تلك
المرحلة، ولذلك إن كل قضية لا بد فيها من تصور الموضوع و
المحمول و
النسبة الحكمية، فمرادهم من كون القضية ثنائية - في هذا القسم - أنه
لا رابط بين الموضوع والمحمول في خارج الذهن وغير مرحلة
تشكيل القضية لا عدم الرابط في تلك المرحلة. والغرض من هذا
التفصيل والتطويل هو أن جميع الجمل - ناقصة كانت أو تامة، اسمية
أو
فعليه، خبرية أو إنشائية، والانشائية طلبية أو إيقاعية بجميع أقسامها -
مشتملة على نسبة بين أجزائها، وهكذا بين متعلقاتها على
اختلاف أنحاء النسب والارتباطات، فكما أن ألفاظ المواد أي أسماءها
وأفعالها تدل على معانيها الاستقلالية، فكذلك الحروف التي فيها
وهيئاتها تدل على تلك النسب والارتباطات، ففي مثل (يا زيد) لفظة
(يا) تدل
24

على النسبة الندائية الانشائية التي بين المنادي والمنادى.
(الخامس) -
ما ذهب إليه شيخنا الأستاذ (قده) وبنى مسلكه في المعاني الحرفية
على أربعة أركان:
(الأول) - أن المعاني الحرفية إيجادية لا إخطارية بمعنى أن كلمة (من)
لا تحكي عن نسبة ابتدائية متقررة في الذهن كالمعاني الاسمية،
بل هي موضوعة لايجاد تلك النسبة وذلك الربط في موطن
الاستعمال، فتكون الحروف والهيئات آلات لايجاد الارتباطات و
النسب
المخصوصة، مثلا لفظة (من) وضعت لايجاد الربط الابتدائي بين
السير والبصرة، وكلمة (على) لايجاد النسبة الاستعلائية بين زيد و
السطح، في مثل زيد على السطح، وهيئة (زيد قائم) لايجاد النسبة
القيامية بين زيد وقائم.
وهكذا الحال في سائر الحروف والهيئات.
(الثاني) - ان معانيها قائمة بغيرها، ولا استقلال لها في هوية ذاتها، و
هذا هو الذي شرحناه في القول الرابع، وقلنا: إن الحروف و
الهيئات دالات على أنحاء النسب وحاكيات عن أصناف الارتباطات.
ولا شك في أن ما هو نسبة وارتباط بالحمل الشائع لا استقلال له
في هوية ذاته، بل يكون في اللب والحقيقة معنى قائما بالطرفين. وقد
عرفت أنه المراد من قولهم: (الحرف ما دل على معنى في غيره) لا
أنه علامة على كون المعنى في غيره من دون معنى لنفسه، كما في
القول الأول، ولا جعله آلة لملاحظة حال الغير حال الاستعمال، كما
في
القول الثاني، ولا كونه محتاجا إلى مفهوم آخر في الذهن حال تصوره
حتى يكون في الذهن من حالاته، كما في القول الثالث، فهذا الامر
مشترك بين القول الرابع وهذا القول. وانما يمتازان بأن الحروف - بناء
على القول الرابع - حاكية عن النسب المتقررة اما في عالم
العين والخارج، واما في عالم الاعتبار واما في الذهن. وفي مرحلة
تشكيل القضية على ما بينا ذلك مفصلا.
واما بناء على هذا القول فهي موجدة لمعانيها في موطن الاستعمال.
(الثالث) - أن تلك المعاني الايجادية لا موطن لها الا موطن
الاستعمال،
25

ولا تقرر لها في وعاء من أوعية الواقع أو الاعتبار الا في ذلك الموطن.
ولازم ذلك أن حدوثها يدور مدار حدوث الاستعمال، وبقاءها
مدار بقائه.
(الرابع) - أن معانيها مغفول عنها حال إيجادها، فكما أن الألفاظ
مغفول عنها حال الاستعمال لفنائها في معانيها، لان نظر المستعمل
حال الاستعمال ليس إلا إلى المعاني، وليس النظر إلى الألفاظ إلا بنحو
المرآتية وأما المرئي فهي المعاني كذلك المعاني التي توجد
بالهيئات أو الحروف، حيث أنه لا موطن لها على الفرض الا موطن
الاستعمال، ولا تقرر لها في أي وعاء من أوعية الواقع لا ذهنا ولا
خارجا ولا في عالم الاعتبار، فلا يمكن أن تكون ملتفتا إليها أصلا في
الرتبة السابقة على الاستعمال، لان الالتفات إليها قبل الاستعمال
لا يمكن إلا بوجودها في الذهن وتصورها. ومعنى هذا تقررها في
الذهن وتحققها في غير موطن الاستعمال. وهذا خلاف المفروض
في الركن الثالث. ولازم ذلك عدم تطرق الاطلاق والتقييد اللحاظيين
فيها.
هذا حاصل ما استفدناه من بيانه. واستدل على هذا المطلب بوجهين:
(الأول) - أن حرف النداء في مثل (يا زيد) لا يمكن أن يكون حاكيا عن
النسبة الندائية المتقررة في غير موطن الاستعمال، لأنه قبل
الاستعمال لا نداء ولا منادي ولا منادى. وإنما تتحقق هذه العناوين
بنفس الاستعمال. (وبعبارة أخرى) طرف هذه النسبة المتقومة بهما
ليس ذات الرجل الذي ينادي، ولو لم يناد، بل بوصف كونه مناديا، و
هكذا الامر في الطرف الآخر. ومعلوم أن هذا الوصف يحصل بنفس
الاستعمال ولا وجود له قبله في جميع أوعية الواقع من الخارج و
الذهن وعالم الاعتبار، فلا بد من القول بوجود هذه النسبة والربط
بتوسط أحد حروف النداء في موطن الاستعمال، ففي الحقيقة يوجد
مصداق لمفهوم النداء الذي يحمل عليه هذا المفهوم بالحمل الشائع
بتوسط كلمة (يا) مثلا في موطن الاستعمال، مفهوم النداء الذي يحمل
عليه مفهوم اسمي. وذلك الربط وتلك النسبة الندائية - الموجدة
بواسطة حرف النداء في موطن الاستعمال التي هي مصداق ذلك
المفهوم - معنى حرفي.
26

وأنت خبير بما في هذا الكلام (أولا) أن المعنى الحرفي لا يمكن أن
يكون مصداقا للمعنى الاسمي أو ما ينطبق هو عليه، لان معنى
المصداقية والمنطبقية لشئ هو ان يجعل ذلك الشئ محمولا، و
المصداق والمنطبق عليه موضوعا. ومعلوم أن المعنى الحرفي لا
يمكن
ان يجعل موضوعا والا لخرج عن كونه حرفا، فنسبتها إلى تلك
المفاهيم الاسمية ليس من قبيل المفهوم والمصداق، بل له معنى آخر
سنبينه في مقام بيان كيفية وضع الحروف إن شاء الله.
(وثانيا) - أنه لا فرق بين (يا زيد) مثلا وبين سائر الجمل الانشائية
الايقاعية وذلك، لان هذا الكلام له مقدر، إذ لا يمكن أن يتألف
الكلام من حرف واسم.
(وبعبارة أخرى) المسند فيه مقدر، لان (زيدا) فيه مسند، إليه كما هو
واضح فلنفرض المقدر - كما قال النحويون - كلمة أدعو، فحينئذ
نقول للدعوة نسبة صدورية إلى المتكلم بهذا الكلام تكون مدلولة
لهيئة أدعو، ونسبة المدعوية إلى طرفه أعني (زيدا) في المثال. و
الدال على هذه النسبة هي كلمة (يا) ولا شك في أن المتكلم إذا أراد
أن يلقي كلاما إلى الطرف، فلا بد له من أن يتصور أجزاء الكلام بما
لها من النسب والارتباطات، حتى تكون الجملة الملفوظة مطابقة
للجملة المعقولة. غاية الامر قد يكون بصدد الاخبار عن ثبوت هذه
النسب في موطنها من الذهن أو عالم الاعتبار أو الخارج، فتسمى
جملة خبرية، وقد يكون بصدد إنشاء مضمون تلك الجملة، فتسمى
جملة
إنشائية. ومعلوم أن ما نحن فيه من القسم الثاني.
(الثاني) - أنه لا شك في أن مفاهيم أجزاء الجمل - تامة كانت أو
ناقصة - اسمية أو فعلية، خبرية أو إنشائية ما عدا الحروف التي فيها و
هيئاتها - مفاهيم بسيطة مستقلة في الأذهان غير مرتبطة بعضها
ببعض، فلو لم توجد - بينها بواسطة الحروف والهيئات - تلك
النسب
والارتباطات، كانت أمورا متباينة دائما كل واحدة أجنبية عن الأخرى،
فكيف يتحقق ويتشكل منها كلام، لان الكلام لا بد أن تكون
أجزاؤه مرتبطا بعضها ببعض. وفيه أن المفاهيم المذكورة - كما بيناه
في الجواب
27

عن الوجه الأول - لا تتصور غير مرتبطة بعضها ببعض، بل المتكلم
حين ما يريد إلقاء جملة على الطرف لا بد وأن يتصور مفاد تلك
الجملة أولا، ثم ينشئ الألفاظ على طبق تلك الجملة الذهنية. ولا
شك في أن الجملة الذهنية لا تتحقق الا بوجود رابط بين اجزائها
الذهنية،
نعم كما أن الربط الخارجي بين الاعراض الخارجية وموضوعاتها قائم
بالطرفين ولا استقلال لها في الخارج، كذلك الربط الذهني قائم
بالطرفين ولا استقلال له في الذهن. وحينئذ فألفاظ الجملة - ما عدا
الحروف - تدل على تلك المفاهيم الذهنية المستقلة، والحروف و
الهيئات تدل على تلك النسب والارتباطات غير المستقلة القائمة
بأطرافها، والا فلو تصورنا مفاهيم متعددة غير مرتبطة، كأن تصورنا
مفهوم زيد وحده، وتصورنا مفهوم قائم وحده، فكيف يمكن أن نوجد
بينهما ارتباطا بواسطة الهيئات أو الحروف، لان الواقع لا ينقلب
عما هو عليه، مثلا لو فرضنا أن زيدا في الخارج وجد بلا قيام، والقيام
وجد بلا ارتباط بينه وبين زيد، فهل يعقل جعل ارتباط في
الخارج بين شيئين موجودين لا ارتباط بينهما؟ وكذلك في وعاء
الذهن إذا وجد مفهومان غير مرتبطين لا يمكن جعل الارتباط بينهما
بلا آلة ولا مع الآلة.
وبعبارة أخرى قد جعل الله تبارك وتعالى للانسان قدرة تكوينية على
إيجاد المعاني والمفاهيم في الذهن منفردة ومتعددة، و
المتعددة غير مرتبطة بعضها ببعض.
ومرتبطة بلا احتياج إلى آلة في إيجادها على تلك الكيفية، فالوضع
لهذا الغرض لغو. نعم الاحتياج إلى الوضع من ناحية إبراز هذه
المعاني المتصورة وإلقائها إلى المخاطب في مقام التفهيم والتفهم. و
حيث أن إلقاء تلك المعاني والمفاهيم الموجودة في الأذهان
بأعيانها غير معقول، لأنها متقومة بالذهن، بل من شؤونها وأطوارها،
فلا بد من إلقاء شئ آخر يمكن إلقاؤه إلى المخاطب، بحيث يكون
إلقاء ذلك الشئ الاخر إلقاء له. وذلك لا يمكن الا بأن تكون بينهما
هوهوية ولو جعلية اعتبارية.
ولذلك قلنا: إن حقيقة الوضع هي الهوهوية الاعتبارية، فإذا أوجدت
النفس
28

- بتلك القدرة الموهوبة لها من قبله جل جلاله - مفهوما واحدا غير
مركب ولا مقيد بشئ، فهذا علم تصوري واحد يدل عليه لفظ واحد،
و
إذا أوجدت مفاهيم متعددة غير مرتبطة، فهذه علوم تصورية متعددة
تدل عليها ألفاظ متعددة بلا ارتباط لا بين هذه الألفاظ ولا بين
تلك المعاني، وإذا أوجدت مفاهيم متعددة مرتبطة مقيدة بعضها
ببعض على اختلاف أنحاء النسب والارتباطات والتقييدات فكما ان
إلقاء تلك المفاهيم والمعاني المستقلة تكون بإلقاء ألفاظ الأسماء و
الافعال باعتبار موادها لا هيئاتها، كذلك إبراز تلك النسب التي بين
تلك المفاهيم تكون بتوسط الحروف والهيئات.
وقد ظهر مما ذكرناه حال القول الآتي.
(السادس) -
ما ذهب إليه صاحب الحاشية من التفصيل بين الحروف بأن معاني
بعضها إيجادية كحروف النداء والتمني والترجي: وبعضها الاخر
إخطارية ولا حاجة إلى تطويل الكلام وإعادة النقض والابرام. وبعد
ان عرفت المختار والصحيح من الأقوال في المعنى الحرفي
فلنشرع في ما هو المقصود في المقام من كيفية وضع الحروف وانه من
أي قسم من الأقسام الثلاثة الممكنة المتقدمة، فنقول:
أما الوضع الخاص والموضوع له الخاص فغير معقول كما هو واضح،
لان اشخاص المعاني الحرفية غير قابلة للتصور بلا توسيط معنى
اسمي، والا تخرج عن كونها معاني حرفية، مضافا إلى عدم تناهيها. و
استحضار ما لا نهاية له بالصور التفصيلية - كما هو شأن الوضع
الخاص - غير معقول، فيبقى القسمان الآخران من الأقسام الثلاثة،
أعني الوضع العام والموضوع له الخاص والوضع العام والموضوع له
العام. وبعض من قال بهذا الأخير قال بأن المستعمل فيه خاص،
فتصير الأقوال في وضع الحروف - بهذا الاعتبار - ثلاثة، لكن هذا
القول
الأخير - أعني كون المستعمل فيه فيها خاصا مع كون الوضع و
الموضوع له عاما أيضا - واضح
29

الفساد، لأنه لا معنى لجعل اللفظ. موضوعا لمعنى لا يستعمل فيه
أصلا، كما هو المفروض في هذا القول. فالعمدة في المسألة هما
القولان
الأولان أعني كون الموضوع له خاصا أو عاما مع الاتفاق في أن الوضع
عام.
وقد ذهب إلى كل واحد من هذين القولين جماعة من المحققين،
فالذي يقول بأن الموضوع له فيها خاص عمدة نظره إلى عدم إمكان
كون المعنى والموضوع له فيها عاما من جهة عدم إمكان وجود جامع
ذاتي بين هذه النسب الخاصة والارتباطات المخصوصة، بحيث
يكون ذلك المفهوم الذاتي الجامع من قبيل الكلي الطبيعي بالنسبة إلى
هذه النسب والارتباطات، وتكون هي مصاديقها، كما هو شأن
كل كلي طبيعي مع أفراده.
وبعبارة أخرى المعاني الحرفية - حيث أنها أمور غير مستقلة في
جوهر ذواتها، وقائمة بأطرافها بحيث لا يمكن تعقلها مستقلا ولو في
الذهن من دون أطرافها، كما هو شأن الوجود الرابط، وليست من قبيل
الاعراض الخارجية حتى يكون الاحتياج إلى الموضوع من لوازم
وجودها وتكون مستقلة في مقام ذاتها، بل ليس حقيقتها الا صرف
الربط ومحض النسبة والارتباط بين أطرافها، بحيث لو انسلخت عن
هذه الجهة تخرج عن كونها معاني حرفية، كما بيناه مفصلا في شرح
ماهيتها - لا يمكن أن تتحقق بين افرادها جهة مشتركة تكون
نسبتها إلى أشخاص النسب نسبة سائر الكليات الطبيعية إلى مصاديقها
وأفرادها، والا لخرج المعنى الحرفي عن كونه معنى حرفيا،
لأنه إذا فرضنا وجود مفهوم جامع بالنحو المذكور فهو قابل للتعقل
مستقلا شأن جميع الكليات الطبيعية.
وبعبارة أخرى لا ماهية لها بالمعنى الكلي الطبيعي المقول في جواب
ما هو لا بمعنى ما يكون به الشئ شيئا، فكما أن وجود الواجب لا
مهية له لشدة الوجود وكماله وعدم محدوديته، كذلك الوجود الرابط
لضعفه ونقصه وعدم قابليته للاستقلال ولو ذهنا.
30

ان قلت: فكيف تصورت الوضع العام فيها مع أنه يحتاج أيضا إلى
تصور مفهوم عام حين الوضع حتى يكون مرآة لتلك الخصوصيات و
اشخاص النسب على زعمك؟ قلت: إنه من الممكن، بل الواقع تصور
مفهوم عام اسمي كمفهوم الربط الابتدائي مثلا وجعله مرآة لتلك
النسب الخاصة التي تكون الموضوع لها كلمة (من) مثلا ولا يمكن أن
يكون ذلك المعنى الاسمي العام الذي جعل مرآة لتلك النسب هو
الموضوع له، لأنه خلف، كما هو واضح، وإذ ليس في البين مفهوم
جامع كلي غير ذلك المعنى الاسمي فلا بد وأن يكون الموضوع له
فيها
اشخاص النسب والارتباطات. ولكنك تعلم أن الجامع المفهومي
الذاتي بين المعاني الحرفية بحيث يحمل على تلك المعاني وتكون
المعاني مصداقا له وإن كان لا يمكن لأنه - كما ذكره - مستلزم لخروج
المعنى الحرفي عن كونه معنى حرفيا، الا أنه لا شك في أن بين
أفراد كل صنف من أصنافها جهة اشتراك وسنخية ليست تلك الجهة و
ذلك الاشتراك بين أفراد هذا الصنف وأفراد الصنف الاخر أو
بينها وبين سائر الأشياء، مثلا ليس نسبة الربط الابتدائي المستعمل فيه
كلمة (من) في قولك (سرت من الكوفة إلى البصرة) إلى الربط
الابتدائي المستعمل فيه تلك الكلمة في قولك (قرأت القرآن من أوله
إلى آخره) كنسبة ذلك الربط الاستعلائي المستعمل فيه كلمة (على)
في قولك (زيد على السطح) ولا كنسبته إلى زيد وعمرو من المعاني
الاسمية بطريق أولى، فمن هذا نعلم أن بين معاني كل واحد من
الحروف والهيئات جهة اشتراك، ولكن تلك الجهة - كأصل الافراد -
ليست قابلة للتعقل استقلالا، للمحذور المتقدم. ولكن كما يمكن أن
يجعل ذلك المعنى الاسمي مرآة للخصوصيات والافراد، كذلك
يمكن أن يجعل مرآة لتلك الجهة المشتركة، فان اصطلح أحد تسمية
هذا
القسم أيضا بالموضوع له الخاص فلا مشاحة في الاصطلاح، إذ ليس
مقصودنا بالموضوع له العام في باب الحروف أن يكون مفهوما كليا
ينطبق على أفراده ويتحد مع مصاديقه، كباب الأسماء. بل المراد أن
الخصوصيات - الناشئة من خصوصيات الطرفين والمستعمل و
الزمان والمكان وأمثالها - هل هي داخلة
31

الموضوع له أو المستعمل فيه أو لا؟ وبعد ما تبين ما ذكرنا ظهر لك
حال الوضع في باب الحروف، فلا حاجة إلى إطالة الكلام، إذ لا مانع
من كون الموضوع له فيها عاما الا عدم إمكانه. وقد أثبتنا إمكانه. وأما
إثباته فبشهادة الوجدان.
(الامر الثاني) -
أن صحة استعمال الألفاظ في المعاني المجازية هل هو بالوضع أو
بالطبع بمعنى أنه يحتاج إلى وضع نوعي بالنسبة إلى أنواع العلائق
المعروفة، أو ترخيص الواضع استعمال اللفظ في أي معنى تحقق بينه
وبين ما وضع له أحد أنواع العلائق المعروفة، أو لا يحتاج إلى ذلك
الوضع أو الترخيص، بل كلما وجد الطبع السليم مناسبة كافية مقتضية
للاستعمال بين معنى لفظ ومعنى آخر صح استعمال ذلك اللفظ في
ذلك المعنى الاخر؟ وأنت خبير بأن حديث الترخيص لا محصل له
أصلا، لان وظيفة الواضع وضع اللفظ للمعنى بأي معنى كان الوضع من
المعاني الأربعة المتقدمة.
واما الاستعمال في خلاف ما وضع له، فليس له المنع ولا الترخيص،
لان فعل الواضع لم يوجب الا الارتباط بين اللفظ وما وضع له. واما
غير الموضوع له من المعاني الاخر، فباق على أجنبيته عن اللفظ كما
كان قبل الوضع فبأي حق يمنع أو يرخص؟ واما حديث الوضع
النوعي، فالمعنى المعقول منه هو أن يقال بان الواضع كما أنه وضع
اللفظ لمعنى، كذلك وضعه لكل معنى يكون بينه وبين ذلك المعنى
الموضوع له أولا أحد أنواع العلاقات حتى تكون نوعية الوضع باعتبار
عدم تعين معنى خاص بل يشمل أي معنى وجد بينه وبين
الموضوع له إحدى هذه العلاقات كما أن الوضع النوعي في الهيئات
باعتبار عدم تعين مادة من المواد، فيشمل جميع المواد المتهيئة بتلك
الهيئة، فالوضع النوعي - هاهنا - باعتبار عدم تعين المعنى، وفي
الهيئات باعتبار عدم تعين مواد الألفاظ.
إذا عرفت هذا فنقول: بناء على هذا يخرج المجاز عن كونه مجازا، لان
اللفظ وضع أيضا له، غاية الامر بالوضع النوعي لا الشخصي. و
الالتزام بهذا بعيد
32

عن الذوق السليم، ومخالف لما ذكره علماء العربية في تعريف المجاز
بأنه الكلمة المستعملة في غير ما وضع له، ففي الحقيقة هذا القول
يرجع إلى إنكار المجاز. مضافا إلى أنا نرى بالوجدان والعيان عدم
اختصاص استعمال اللفظ فيما يناسبه بلغة دون لغة، فنرى كل أمة
تستعمل اللفظ الموضوع - في لغتهم - للحيوان المفترس في الرجل
الشجاع.
ومن المستبعد جدا اتفاق الواضعين من أي أمة في هذا الوضع
النوعي.
والتحقيق في هذا المقام - بناء على ما اخترناه في حقيقة الوضع من
أنه عبارة عن الهوهوية والاتحاد الاعتباري بين اللفظ والمعنى، وإلا
لم يكن إلقاؤه إلقاء المعنى ولا وجوده وجودا لفظيا للمعنى، ولم يكن
حمله على المعنى بدون عناية وتقدير ممكنا مع أنه بمكان من
الامكان كما في قولك - مشيرا إلى الجسم السيال - هذا ماء، أو مشيرا
إلى الهيكل الخارجي: هذا زيد. وتقدير لفظ المسمى في جانب
المحمول خلاف الوجدان والمرتكز في الأذهان. - هو ما أن يقال بأن
المعاني المجازية كلها - سواء أكانت من قبيل الاستعارة أم من
قبيل المجاز المرسل بادعاء من طرف المستعمل - من أفراد ما وضع
له كما يقول السكاكي في خصوص الاستعارة، فحينئذ ما استعمل
اللفظ إلا في ما وضع له، غاية الامر أن المستعمل أراد غير ما وضع له
من اللفظ بادعاء أنه من مصاديق ما وضع له، فالاستعمال الحقيقي -
بناء على هذا - يرجع إلى ادعاء أن اللفظ عين المعنى الموضوع له و
الاستعمال المجازي يرجع إلى ادعاء أن هذا المعنى المجازي عين
المعنى الموضوع له. والادعاء في الأول من طرف الواضع ويتبعه في
ذلك المستعمل، وفي الثاني من طرف المستعمل ابتداء.
واما أن يقال: إن المستعمل - لشدة المناسبة بين المعنى الموضوع له
وهذا المعنى المجازي - يستعير اللفظ الموضوع لذلك المعنى
الحقيقي لهذا المعنى المجازي.
وتسميتهم خصوص ما كانت العلاقة فيه المشابهة بالاستعارة مجرد
اصطلاح، والا فكلها استعارة. وعلى كل حال فالواضع أجنبي في
هذا المقام، فلا يبقى مجال لا لترخيصه ولا لوضعه النوعي. و
استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه من هذا القبيل، لان مثل
33

هذا الاستعمال يصح في المهملات. كقولك (ديز لفظ) ولا وضع في
باب المهملات حتى يقال: ان الواضع - حين وضعها - رخص
استعمالها في ما ذكر، أو وضع وضعا آخر بالوضع النوعي في استعمال
كل واحد منها في نوعه أو صنفه أو مثله. واحتمال وضعها لتلك
الجهة - وإن لم تكن موضوعة بالنسبة إلى المعاني - مما يأباه الطبع
السليم، بل الظاهر أن استعمالها في ما ذكر لأجل تلك النسبة التي
ذكرناها في باب المجازات، بل هاهنا أولى، لأنه هناك بواسطة
المناسبة يدعى أن هذا المعنى من مصاديق ذاك المعنى. وهاهنا ليس
ادعاء في البين، بل بين اللفظ ونوعه أو صنفه ومثله نحو اتحاد
تكويني، كما هو واضح.
(الامر الثالث) -
أنه لا شبهة في صحة استعمال اللفظ وإرادة جنسه أو نوعه أو صنفه أو
مثله، (فالأول) كقولك: (ضرب لفظ) إذا لم تقصد به الموجود في
شخص هذا القول، حيث أنه - حينئذ - يشمل كلا نوعيه من الاسمية
والفعلية.
و (الثاني) - كقولك: ضرب فعل ماض حيث إنه لا يشمل الا أحد
نوعيه أي الفعلية.
و (الثالث) - كقولك: زيد - في ضرب زيد - فاعل إذا لم تقصد به
شخص هذا القول و (الرابع) - كنفس المثال إذا أردت به شخصه. و
إنما الاشكال في صحة استعمال اللفظ وإرادة شخصه، كقولك: (زيد
لفظ) إذا أردت به شخص زيد الموجود في شخص هذا القول،
فنقول: لا شك في أن الاستعمال عبارة عن إلقاء المعنى بإلقاء اللفظ. و
هذا هو المراد من قولهم: إرادة المعنى من اللفظ بحيث يكون
المستعمل ناظرا إلى المعنى وغافلا عن اللفظ. وهذا هو المراد من
قولهم: إفناء اللفظ في المعنى، فإذا كان هذا هو معنى الاستعمال،
فكيف يمكن استعمال الشئ في نفسه، وهل هذا الا التناقض، وكون
الشئ مغفولا عنه وملتفتا إليه في آن واحد؟ ولا يفيد التوجيه ولا
التأويل بالتغاير الاعتباري، كما أفيد.
واما تشقيق صاحب الفصول (قده) في هذا المقام فخلاف المفروض،
لأن المفروض استعمال اللفظ وإرادة شخصه، فالقول - بأنه ان لم
يرد المعنى يلزم تركب القضية من الجزئين - خلف، لأنه حينئذ لا
استعمال في البين، مضافا إلى فساد هذا
34

الكلام في حد نفسه، لان النسبة لا يمكن أن تتحقق بدون المنتسبين،
فلا يبقى الا جز واحد وهو المحمول فقط في المثال المفروض، كما
أن ما أجاب به عنه صاحب الكفاية (قده) أيضا ليس كما ينبغي، إذ كون
اللفظ بنفسه هو الموضوع لا الحاكي عنه خلاف المفروض في هذا
المقام كما بيناه، مع أنه لا يمكن تشكيل القضية من موضوع خارجي و
مفهوم ذهني، كما هو مفروضة، لأنه - بناء على ما ذكره - نفس
شخص اللفظ الخارجي الذي صدر عن المتكلم في ذلك الكلام الذي
هو من مقولة الكيف المسموع صار موضوعا، وما هو معنى المحمول
- والمراد منه أي الصورة الذهنية التي يحكي عنها - يكون محمولا. و
هذا ما قلنا من لزوم تركب القضية من موضوع خارجي ومفهوم
ذهني. وأما عدم إمكان هذا المعنى فلان ظرف الحكم وتشكيل
القضية ليس إلا الذهن، ولذلك قالوا: إن القضية لا بد لها من تصورات
ثلاث، غاية الامر اختلفوا في أنها شروط أو شطور، فتلخص من
مجموع ما ذكرنا ان استعمال اللفظ وإرادة شخصه من المحالات.
(الامر الرابع) -
أنه لا ينبغي الشك في أن الألفاظ موضوعة لذوات المعاني من حيث
هي هي لا من حيث أنها مرادة للافظها، لأنه لو كانت الإرادة - التي
هي جز أو قيد للموضوع له على الفرض - عين الإرادة المقومة
للاستعمال للزم الدور، وإن كانت غيرها يلزم وجود إرادتين في كل
استعمال. وهذا - كما ترى - كذب واضح. وأما الالتزام في جميع
الاستعمالات بالمجازية - بأن يقال استعمل اللفظ الموضوع لمجموع
المعنى والإرادة في خصوص المعنى، وجرد عن جزئه الاخر أعني
الإرادة فرارا عن هذا الاشكال - فهو من قبيل الاكل من القفا.
وقد ذكر صاحب الكفاية (قده) هاهنا وجهين آخرين:
(أحدهما) - أنه بناء على الجزئية أي جزئية الإرادة للموضوع له يلزم
أن يكون الوضع في قاطبة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا حتى
في الاعلام الشخصية، لأنه لا بد وأن تكون الإرادة - التي جعلت
بزعم هذا القائل جز للموضوع له - مصداق
35

الإرادة لا مفهومها العام، فإنه لا ينبغي أن يصدر من عاقل. فإذا كان
كذلك ففي كل استعمال في الاعلام الشخصية أو أسماء الأجناس
تكون الإرادة غيرها في الاستعمال الاخر، فيلزم ما ذكرنا.
و (ثانيهما) - صحة الحمل بدون التصرف في ألفاظ الأطراف بأن
يستعمل كل واحد منهما أي الموضوع والمحمول في بعض ما وضع
له
بتجريدهما عن بعض المعنى الاخر، أي الإرادة. وصحة الحمل بدون
مثل هذه التصرفات وجدانية لا تحتاج إلى إقامة برهان.
والحاصل أنه لا ينبغي أن يقع نزاع في هذه المرحلة، بل الكلام في
مرحلة أخرى، وهي أن الدلالة هل هي تابعة للإرادة أو لا؟ والتحقيق
في هذا المقام أما بالنسبة إلى الدلالة التصورية فلا يحتاج إلى الإرادة
أصلا، بل كل من علم بالوضع وسمع اللفظ ينتقل منه إلى المعنى و
يخطر بباله، سواء أراد اللافظ أو لا. واما بالنسبة إلى الدلالة التصديقية
والحكم بأن هذا المعنى مراد له، فتارة نتكلم في مقام الاثبات، و
أخرى في مقام الثبوت.
اما الأول - أي التكلم في مقام الاثبات - فلا شك في تبعية الدلالة
للظهورات، ولا بد أن يؤخذ بظواهر الكلمات والجمل، ويحكم بأنها
مرادة له ما لم يكن علم بالخلاف، كما هو طريقة أهل العرف و
المحاورة ودأبهم وديدنهم في مقام الافادة والاستفادة، وبيان
مراداتهم، سواء أ كانت - في حاق الواقع للمتكلم - إرادة أم لا.
و (بعبارة أخرى) المدار في الدلالة - في مقام الاثبات - على تحقق
الظهور للفظ، فيجب عند أهل المحاورة العمل على طبقه والمشي
على
وفقه، سواء أراد أو لم يرد في حاق الواقع. نعم هذه الدلالة متوقفة على
عدم العلم بإرادة خلاف الظاهر، والا فمع العلم بعدم إرادة الظاهر
لا يبقى مجال للاخذ بالظهور.
وأما الثاني - أي التكلم باعتبار مقام الثبوت، وان الدلالة في هذا
المقام هل
36

تتبع إرادة اللافظ لذلك المعنى المدلول أو لا - فهذا شئ معلوم، ولا
شك في تبعيتها لها، بل هو من قبيل الضرورة بشرط المحمول،
لأنه في مقام الثبوت كيف يمكن أن يكون مراد بدون إرادة. ولعل ما
نسب إلى العلمين الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا والمحقق
الطوسي (قده) من أن الدلالة عندهما تتبع الإرادة التبعية في هذا
المقام أي مقام الثبوت لا في مقام الاثبات. و (بعبارة أخرى) الدلالة
التصديقية في مقام الثبوت لا يمكن أن تتحقق الا مع إرادة المتكلم. و
أما أن الدلالة التصورية تابعة للإرادة فلا يمكن أن يسند إلى عاقل
فضلا عمن هو ملقب برئيس العقلا وأستاذ البشر، فان الأول لقب ابن
سينا، والثاني للمحقق الطوسي. وحاصل الكلام في هذا المقام أن
الدلالة على ثلاثة أقسام:
(الأول) - الدلالة التصورية وهي لا يمكن أن تكون محط نظر العلمين
ومدلول كلامهما.
(الثاني) - الدلالة التصديقية في مقام الاثبات، وهي أيضا لا يمكن ان
تكون مورد كلامهما، لما ذكرنا من أنها تابعة للظهورات مع عدم
العلم بالخلاف.
(الثالث) - الدلالة التصديقية في مقام الثبوت وهي مورد كلامهما.
(الامر الخامس) -
أنه قد يتوهم أن المركبات وضعت بمجموع موادها وهيئاتها وضعا
آخر، مضافا إلى وضع موادها أي مفرداتها التي تركبت منها التي
أيضا لها مواد وهيئات، مضافا إلى وضع هيئاتها.
و (بعبارة أخرى) لا شك في أن مواد المركبات والجمل أعني
المفردات التي تشكل منها القضايا والجمل ان كانت من قبيل الجوامد
كأسماء الأجناس والاعلام الشخصية فهي موضوعة بهيئاتها وموادها
وضعا شخصيا بوضع واحد في كل واحد منها. وان كانت من
المشتقات سواء أكانت من قبيل الافعال أم الأسماء المشتقة - كاسم
الفاعل والمفعول وصيغ المبالغة والنسبة وصفات المشبهة وسائر
الأسماء المشتقة - فهي موضوعة بموادها وضعا نوعيا وبهيئاتها أيضا
كذلك. ولا وجه لتوهم أن وضعها بموادها
37

شخصي وبهيئاتها نوعي. وذلك، لان نوعية الهيئات باعتبار عدم
اختصاصها بمادة دون مادة، مثلا هيئة (فعال) للمبالغة في ضمن أي
مادة كانت، فكذلك نقول إن المادة الكذائية موضوعة للمعنى
الكذائي متهيئة بأية هيئة كانت، مثلا مادة ض، ر، ب - بهذا الترتيب
أي
بتقديم الضاد على الراء والراء على الباء - موضوعة للحدث الكذائي
في ضمن أي هيئة وجدت، سواء كانت في ضمن هيئة فعل أو يفعل أو
افعل أو فاعل أو فعال أو غير ذلك. والقول بأن نسبة الهيئة إلى المادة
كنسبة العرض إلى معروضه، فكأن المادة لها تجوهر واستقلال
في الوجود، فيمكن أن تلاحظ مستقلة فتوضع لمعنى بدون نظر إلى
وقوعها في ضمن الهيئات، بخلاف الهيئة، فإنه ليس لها استقلال فلا
بد وان تلاحظ في ضمن مادة من المواد.
و (بعبارة أخرى) وضع الهيئة مستقلا لا يمكن فلا بد وأن تلاحظ
باعتبار تلك المواد المختلفة. وهذا معنى كون وضعها نوعيا، كما أن
المراد من كون المادة وضعها شخصيا هو أن هذه المادة المعينة - من
دون أي عموم أو إبهام - موضوعة للمعنى الكذائي - خال عن
التحصيل، لأنه كما أن الهيئة لا يمكن أن تلاحظ بدون كونها في ضمن
مادة، كذلك لا يمكن ملاحظة المادة بدون كونها في ضمن هيئة، و
كما يمكن أن تلاحظ نفس المادة المتهيئة بهيئة من دون نظر إلى تلك
الهيئة، كذلك يمكن أن تلاحظ الهيئة في ضمن مادة من دون نظر
إلى تلك المادة أصلا، كما أنهم يقولون بأن هيئة (فعال) مثلا للمبالغة لا
نظر لهم إلى تلك المادة أصلا.
والحاصل أن الوضع في كليهما نوعي ولا اختصاص لهذا المعنى
بالهيئة أصلا.
وقد ظهر مما ذكرنا أن هاهنا - أي في باب الجمل الجملة والمركبات
- ثلاثة أوضعات لا ينبغي ان يشك فيها: وضع المفردات - أي
أجزاء الجملة بمادتها - وضعا نوعيا إن كانت من المشتقات، ووضع
هيئاتها أيضا كذلك نوعيا، ووضع هيئات نفس المركب والجملة
أيضا علاوة على وضع المفردات وضعا نوعيا. وهذا الأوضاع الثلاثة
مما لا بد منه في المركبات وإن صدر قول بالتفصيل في المقام بين
الجملة الفعلية والاسمية بأن
38

الوضع الثالث - أي وضع هيئة مجموع الكلام والجملة وضعا نوعيا -
غير محتاج إليه في الجمل الفعلية، بعد وضع الفعل بمادته للحدث
الكذائي وبهيئته لنسبة ذلك الحدث إلى الفاعل بأحد أنحاء النسب
من الوقوعي أو الايقاعي أو غيرهما.
وفيه (أولا) - ان هيئة الفعل لا تدل على أزيد من انتساب الفعل إلى
فاعل ما.
واما تعيين الفاعل لهذا الفعل فليس الا مفاد هيئة نفس الجملة لا هيئة
الفعل.
(إن قلت): التعيين بواسطة ذكر (زيد) مثلا بعد ضرب (قلت): إن لفظ
زيد من الجوامد وليس له الا وضع واحد شخصي للهيكل الفلاني، لا
انه فاعل لضرب أو لغيره من الافعال. والرفع على تقدير دلالته لا يدل
إلا على أنه فاعل مع أنه لازم أعم، ولا يدل على أنه فاعل لهذا
الفعل الخاص، فانتساب الفعل إلى هذا الفاعل الخاص ليس الا مفاد
هيئة نفس الجملة.
و (ثانيا) - أنه ما الفرق بين هيئة ضرب وهيئة ضارب؟ وكما أن هيئة
(ضرب) موضوعة لاستناد الفعل إلى فاعل ما غاية الامر بالنسبة
الصدورية الوقوعية في الزمان الماضي، فكذلك الهيئة في نحو
(ضارب) موضوعة لاستناد الحدث إلى ذات ما بالنسبة القيامية، فإذا
كانت
هيئة (ضرب) من جهة وضعها مغنية عن وضع هيئة الجملة، فلتكن
كذلك هيئة (ضارب) وأمثالها من الأسماء الجارية مجرى الافعال.
و (ثالثا) - أنه لهيئة الجملة ربما يكون بعض الإفادات التي لا ربط لها
بهيئة الفعل أصلا. وذلك كما أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر
مع أن هيئة الفعل لا تتغير بالتقديم والتأخير أصلا.
وحاصل كل ما ذكرنا ان الأوضاع الثلاثة - أعني وضع المفردات
المشتقات بمادتها وضعا نوعيا وكذلك بهيئاتها ووضع هيئة
المجموع المركب أيضا وضعا نوعيا - معلومة لا ينبغي الشك فيها. و
إنما الكلام في وضع رابع وهو وضع المجموع المركب بمادته و
هيئته. وربما يتوهم ذلك. ولكنه توهم فاسد، لان الغرض من الوضع
سهولة التفهيم والتفهم، فإذا حصل هذا المعنى بدون وضع كان
الوضع لغوا. واما حديث دلالة
39

الجملة على المعنى المقصود منها مرتين بواسطة تعدد الوضع فلا
محذور عقلي فيه أصلا.
نعم إنه خلاف الوجدان، لان الجمل والقضايا ليس لها الا دلالة واحدة
على معانيها بالوجدان.
(الامر السادس) في علائم الحقيقة والمجاز:
(فمنها) - التبادر وهو انسباق المعنى إلى الذهن من حاق اللفظ أي لا
بإطلاق ولا بقرينة، فتبادر الوجوب النفسي العيني التعييني من
إطلاق صيغة الامر ليس علامة الحقيقة، فإنه ليس مفاد نفس اللفظ، بل
الوجوب المقيد بهذه القيود مفاد مقدمات الحكمة، كما سنذكرها
في محله إن شاء الله. وهكذا التبادر بواسطة القرينة. والسر في ذلك
أن انسباق المعنى إلى الذهن إذا كان من حاق اللفظ من دون
توسط شئ آخر فيدل على وجود علاقة وارتباط بين ذات اللفظ و
نفسه، وبين ذلك المعنى المتبادر، والا فلما ذا تبادر هذا المعنى
دون غيره، فإذا عرفنا أن الألفاظ ليس لها دلالة ذاتية على المعاني، فلا
بد وأن تكون من ناحية الوضع. وأما إذا كان بواسطة إطلاق أو
قرينة فلا يمكن استكشاف ذلك.
(ان قلت): إن استكشاف الوضع بهذه العلامة دوري، لعدم حصول
الانسباق بغير معرفة الوضع.
قلت: إن حصول الانسباق متوقف على معرفة الوضع بالعلم الاجمالي
الارتكازي، بمعنى أن صورة الارتباط بين هذه اللفظة وهذا المعنى
في ذهنه موجودة، ولكن لا علم له بوجود هذه الصورة، فإذا راجع
وجدانه ورأى انسباق هذا المعنى إلى نفسه وذهنه من ذات اللفظ و
نفسه من دون توسط أي شئ آخر فيعلم بوجود تلك الصورة في
ذهنه، فالأول علم بسيط والثاني علم مركب، فالذي يكون التبادر
موقوفا عليه تلك الصورة البسيطة، والذي يحصل من ناحية التبادر و
معلول له هو ذلك العلم المركب، فالموقوف على التبادر - أي ذلك
العلم المركب الذي هو عبارة عن معرفة الوضع تفصيلا - غير الذي
يكون التبادر موقوفا عليه أي ذلك العلم الارتكازي البسيط، وهو
وجود
40

صورة الارتباط بين اللفظ والمعنى في نفسه، هذا إذا كان المراد من
التبادر التبادر عنده. وأما إذا كان المراد التبادر عند أهل
المحاورة فلا إشكال حتى يحتاج إلى الجواب. و (بعبارة أخرى) معرفة
وضع اللفظ لمعنى معرفة تفصيلية عبارة عن الالتفات إلى وجود
صورة الارتباط بينهما في ذهنه، وأما نفس وجود صورة الارتباط في
ذهنه مع الغفلة عن وجود هذه الصورة فهو علم ارتكازي بالوضع.
وإن شئت سمه بالعلم الاجمالي بمعنى أنه ليس له علم بذلك العلم.
و (منها) - صحة السلب وعدمها، فالأول علامة المجاز والثاني علامة
الحقيقة (بيان ذلك) أنه بعد ما تقدم منا ان حقيقة الوضع عبارة عن
جعل الهوهوية بين اللفظ والمعنى أي جعل اللفظ وجودا ادعائيا
للمعنى فصحة سلب اللفظ عن معنى مع قبول ذلك الادعاء علامة
على أنه
ليس هناك ادعاء وتنزيل في البين. وأما عدم صحة السلب - أي
صحة الحمل والجري إذا كان بالحمل الأولي الذاتي الذي هو عبارة
عن
اتحاد الموضوع والمحمول مفهوما وإن كان بينهما فرق بالاجمال و
التفصيل - فيمكن أن يقال بأنه علامة كون اللفظ حقيقة في ذلك
المعنى وان كان لا يخلو عن نظر أيضا، لان اللفظ لم يجعل وجودا
تنزيليا لذلك المعنى التفصيلي، بل العلاقة والارتباط جعل بينه وبين
الصورة البسيطة من ذلك المعنى لا الصورة التحليلية العقلية المسماة
بالحد التام مثلا وأما إذا كان بالحمل الشائع الصناعي الذي هو
عبارة عن اتحاد الموضوع والمحمول وجودا وان كانا متخالفين
بحسب المفهوم، فلا يدل على أزيد من اتحاد وجودي بينهما. و
(بعبارة أخرى) لا يدل الا على أن اللفظ الحاكي عما هو الموضوع مع
اللفظ الحاكي عن المحمول - بما لهما من المفهوم - متحدان وجودا
سواء كانا كليين أو مختلفين. نعم فيما إذا كان الموضوع فردا ومصداقا
ذاتيا للمحمول كقولنا زيد إنسان يدل على أن المحمول تمام
حقيقة الموضوع وماهيته وهذا أيضا شئ يعلم من الخارج لا من
ناحية صرف الحمل، فظهر مما ذكرنا أن الحمل الشائع لا أمارية له لا
على الحقيقة ولا على المجاز.
41

و (منها) - الاطراد وعدمه. وقد عدوا الأول علامة الحقيقة والثاني
علامة المجاز. والمراد من الاطراد أن يكون اللفظ المستعمل في فرد
- باعتبار كونه مصداقا لكلي - جائز الاستعمال في كل ما هو فرد
لذلك الكلي، مثلا لفظ الانسان يستعمل في زيد باعتبار كونه مصداقا
للحيوان الناطق، وهذا المعنى مطرد بهذا الاعتبار في جميع الموارد،
أي يجوز استعمال لفظ الانسان في كل ما هو مصداق للحيوان
الناطق باعتبار أنه فرد له، فيستكشف من هذا الاطراد وعدم التخلف -
ولو في مورد واحد - أن بين اللفظ وذلك المعنى الكلي علاقة و
ارتباط تكون تلك العلاقة والارتباط علة لعدم التخلف ولا تحصل
تلك العلاقة إلا بالوضع. وهذا بخلاف المجاز، فان استعمال لفظة
(أسد) في زيد الشجاع مثلا باعتبار المشابهة في الشجاعة مع المعنى
الحقيقي. وليس استعمال هذه اللفظة في كل ماله مشابهة مع المعنى
الحقيقي بمطرد، لأننا نرى أن من يشبه الحيوان المفترس في البخر لا
يجوز إطلاق لفظة (أسد) عليه، فمن هذا نستكشف ان لفظة (أسد)
مثلا لم توضع لكل ما يشبه الحيوان المفترس، والا كان الاستعمال
مطردا في جميع ما يشبهه، لئلا يلزم تخلف المعلول عن علته، لان
الوضع علة جواز الاستعمال ووجود العلاقة والارتباط بين كل ما يشبه
الأسد أي الحيوان المفترس مع لفظ الأسد. ولكن صحة هذا
الكلام، وكون (الاطراد وعدمه) علامة للحقيقة والمجاز مبتن على أن
يكون المراد من عدم الاطراد في المجازات باعتبار نوع العلائق
المذكورة في هذا الباب، إذ من الواضح الجلي أن نوع علاقة الكل و
الجز ليس مصححة لاستعمال اللفظ الموضوع للجز في الكل. ولا
شك في ركاكة إطلاق لفظ المعدة والمعاء على الانسان بخلاف القلب
والكبد والرقبة. وأما لو كان باعتبار الخصوصيات التي يصح
معها الاستعمال، فالمجاز أيضا مطرد، فالاطراد في الكل، ويخرج عن
كونه علامة وزيادة قيد على نحو الحقيقة أو بدون ادعاء أو ما
يشابههما ولو كان يخصصه بالحقيقة، لكنه دور واضح. والجواب
بالاجمال والتفصيل بالمعنى الذي ذكرنا لا يتأتى هاهنا، كما هو
واضح.
42

ثم إنه ربما يتوهم أنه على فرض تمامية هذه العلامات لا ثمرة لها الا
بناء على حجية أصالة الحقيقة تعبدا (بيان ذلك) أنه لو استكشفنا أن
لفظا - بواسطة إحدى هذه العلامات - حقيقة في المعنى الفلاني، و
لكن ليس له ظهور فيه بواسطة احتفافه بما يصلح للقرينية على خلاف
ذلك المعنى، فلا فائدة في هذا الاستكشاف الا بناء على لزوم الاخذ
بالمعنى الحقيقي عند الشك تعبدا ولو لم يكن ظاهرا فيه. وأما بناء
على ما هو التحقيق من أن الاخذ دائر مدار وجود الظهور، وهو
موضوع الحجية، سواء كان مستندا إلى حاق اللفظ أو إلى القرينة،
فكونه
حقيقة فيه لا فائدة فيه.
و (بعبارة أخرى) المدار على ظهور اللفظ في المعنى سواء كان المعنى
الظاهر حقيقيا أو مجازيا، فإذا أحرزنا الظهور أخذنا به، ولا
ننظر إلى أنه معنى حقيقي أو مجازي، كما أنه لو لم نحرز الظهور لم
نأخذ به ولو كان معنى حقيقيا.
وأنت خبير بأن نفس كون اللفظ حقيقة في معنى موجب لحصول
الظهور في ذلك المعنى عند الشك في المراد وعدم نصب قرينة على
خلاف المعنى الحقيقي. و (بعبارة أخرى) أصالة الحقيقة عبارة عن أن
العقلا لو شكوا في أن مراد المتكلم هو المعنى الحقيقي أو المعنى
المجازي حكموا بإرادة المعنى الحقيقي ما لم تنصب قرينة على
الخلاف، فيرون أن اللفظ ظاهر فيه. وهذا الظهور لا يسلب عنه الا
بمجئ
القرينة على الخلاف، ومنشأ هذا الظهور بهذه الكيفية هو بناء العقلا و
أهل العرف على ذلك في محاوراتهم.
واما ما ذكروه من أن إحدى العلامات للحقيقة والمجاز هو تنصيص
الواضع، فان كان فيما إذا حصل من قوله العلم بالوضع فهو، والا
ليس لنا دليل على حجية قوله، مضافا إلى أن هذا صرف فرض في
زماننا بالنسبة إلى الألفاظ التي هي محل ابتلائنا في استنباط الاحكام.
وأما تنصيص أهل اللغة فسنتكلم عن حجية إخبارهم في مبحث
حجية الامارات. واما صحة استعمال اللفظ في معنى بلا عناية و
تكلف
مراعاة العلاقة ونصب القرينة فقد قيل بأنها أيضا من أمارات الحقيقة. و
الاشكال عليه بلزوم الدور قد عرفت جوابه في التبادر. و
حاصله أن المعرفة الارتكازية لما وضع له كافية في
43

صحة الاستعمال، كذلك، ويحصل منها العلم التفصيلي بأنه الموضوع
له.
(الامر السابع) - في تعارض الأحوال،
وهو عبارة عن دوران الامر بين التجوز والاضمار والاشتراك والنقل و
التخصيص والتقييد والاستخدام وعدم هذه الأمور. ولا
شك في أن كل واحد من هذه الأمور خلاف الأصل، وليس بناء
العقلا في محاوراتهم على ذلك الا بنصب قرينة على إرادة أحدها،
فمقتضى أصالة الحقيقة عدم التجوز عند احتماله. ومقتضى أصالة
عدم وضع آخر في عرض الوضع الأول عدم الاشتراك، ومقتضى
أصالة عدم الاضمار هو عدمه، وهكذا في الاستخدام، ومقتضى
أصالة عدم التقييد والتخصيص عدمهما، ومقتضى أصالة عدم وضع
جديد وأصالة عدم هجر المعنى الأول عدم النقل. وكل هذا واضح لا
شك فيه. نعم قد يقع التعارض بين أحد هذه الأمور مع البعض الاخر
أو الآخرين.
وحينئذ ان قامت حجة على ترجيح بعضها على بعض فهو، والا يصير
اللفظ مجملا، مثلا في دوران الامر بين التقييد والتخصيص نذكر
وجه تقديم الأول على الثاني مفصلا في مبحث التعادل والترجيح إن
شاء الله. وإذا دار الامر بين التجوز والاشتراك بأن علمنا أنه لم
يرد المعنى الحقيقي المعلوم وأريد معنى آخر معلوم أيضا، فبأصالة
عدم وضع آخر في عرض الوضع الأول - وان كان يثبت التجوز
بناء على حجية مثبتات هذه الأصول العقلائية - ولكن لا أثر له بعد
معرفة المراد وإن كان المعنى الاخر غير معلوم. و (بعبارة أخرى)
المراد غير معلوم مع العلم بأن المعنى الحقيقي غير مراد، فان كانت
المجازات متعددة وليست قرينة على تعيين أحدها، فاللفظ يصير
مجملا، والا يتعين ذلك المعنى المجازي.
والحاصل أنه على الفقيه أن يفحص عن وجود حجة على تعيين أحد
هذه الأحوال عند تعارض بعضها مع بعض، فان لم يجد فيكون اللفظ
مجملا. واما الأمور الاستحسانية - التي ذكرها الأصوليون لترجيح
بعضها على بعض ما لم يقم دليل على اعتبار تلك الأمور في مقام
الترجيح ولم تكن موجبة لافادة الظهور - فلا اعتداد بها أصلا.
44

(الامر الثامن) - في الحقيقة الشرعية،
وهي عبارة عن كون اللفظ موضوعا للمعنى الشرعي، سواء كان بنقل
في هذا الشرع أو في الشرائع السابقة، وقد أمضى الشارع في هذا
الشرع نقلهم. ومقابل هذا القول هو عدم الوضع للمعنى الشرعي أصلا
لا في هذا الشرع ولا في غيره، أو عدم إمضاء الشارع لما هو واقع
من الوضع في الشرائع السابقة. و (بعبارة أخرى) المقصود من هذا
البحث هو أن هذه الألفاظ هل هي موضوعة لهذه المعاني الموجودة
في
شرعنا بناء على أن هذه المعاني غير المعاني اللغوية. ولا فرق بين
كونها مخترعة في شرعنا أو في الشرائع السابقة، حتى أنه عند الشك
في المراد نحمل اللفظ على هذه المعاني الشرعية بحكم أصالة
الحقيقة، أو نحمله على المعاني اللغوية أيضا لعين تلك الجهة، فلو كان
النقل
في الشرائع السابقة والامضاء من هذا الشرع ترتبت هذه الثمرة أيضا
نعم هذه الثمرة لا تترتب ويكون هذا البحث لغوا لو قلنا بأن
المراد في الاستعمالات الشرعية معلوم دائما، ولكن عهدة هذه
الدعوى على مدعيها.
إذا عرفت هذا، فنقول: ادعاء الوضع التعييني في المقام مشكل جدا،
لأنه لو كان مثل هذا الامر من قبل الشارع لظهر لنا، لتوفر الدواعي
على نقله. وليس من قبيل الأمور الراجعة إلى الخلافة والرئاسة حتى
تكون فيه دواعي الاخفاء.
و (بعبارة أخرى) هذا من قبيل لو كان لبان، لا من قبيل عدم الوجدان لا
يدل على عدم الوجود.
واما ما أفيد من أن الوضع التعييني كما يمكن أن يتحقق بالاعلان إلى
عامة المسلمين بأني وضعت اللفظ الكذائي للمعنى الفلاني وهذا مما
يقطع بعدمه، إذ لو كان لبان، كذلك يمكن أن يتحقق بنفس استعمال
اللفظ في ذلك المعنى بقصد تحقق العلاقة والارتباط بين ذلك اللفظ
وذلك المعنى، غاية الامر أن مثل هذا الاستعمال ليس بحقيقة ولا
مجاز، لأنه علة لصيرورة اللفظ حقيقة في ذلك المعنى، فكيف يمكن
أن
يكون حقيقة. و (بعبارة أخرى) الحقيقة متأخرة عن الوضع، والوضع
45

متأخر عن هذا الاستعمال، لأنه سببه، فلا يمكن أن يكون هذا
الاستعمال على نحو الحقيقة في ذلك المعنى. وأما أنه ليس على نحو
المجاز،
لأنه لم تراع علاقة ومناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المستعمل
فيه أصلا. ثم إنه أفاد بأنه لا ضير فيه بعد ما عرفنا أن المدار في
صحة الاستعمال في معنى هو حسنه عند الطبع السليم وعدم
استنكاره له.
ففيه (أولا) - أنه على تقدير صحة مثل هذا القسم من الوضع التعييني
يكون هذا الاستعمال حقيقة لا أنه لا حقيقة ولا مجاز، وتأخر الوضع
عن الاستعمال رتبي، وإلا فهما في زمان واحد كما هو الشأن في باب
العلة والمعلول، فالاستعمال يقع في زمان وجود الارتباط و
العلاقة بين اللفظ والمعنى، وبمثل هذا البيان صححنا إحدى
المقدمات المهمة في باب الترتب، وقلنا إن فعلية الامر بالأهم و
امتثاله و
عصيانه مع فعلية الامر بالمهم وامتثاله وعصيانه كل هذه الستة في
زمان واحد، مع أن المفروض أن عصيان الامر بالأهم من مقدمات
فعلية الامر بالمهم وموضوع له وداخل في سلسلة علله، وبهذا البيان
صححنا الفسخ الفعلي من ذي الخيار بالنسبة إلى الافعال المتوقفة
على الملك كوطء الجارية أو عتقها أو وقفها وأمثال ذلك. نعم لو قلنا
بأن الاستعمال الحقيقي لا يكون الا إذا كان للفظ معنى حقيقي قبل
الاستعمال حتى يتصور ذلك المعنى بما انه معنى حقيقي قبله ثم
يستعمل فيستقيم هذا الكلام. ولكن هذه دعوى بلا برهان ومخالفة
للوجدان.
و (ثانيا) - أنه لو كان هذا مصداقا لمفهوم الاستعمال والوضع معا -
كما هو المفروض والمدعى في مثل المقام - للزم منه اجتماع
اللحاظ الآلي والاستقلالي بالنسبة إلى ملحوظ واحد في استعمال
واحد، وهو محال. (بيان ذلك) أنه في باب الاستعمال لا بد وأن
يلاحظ
المعنى بالمعنى الاسمي ومستقلا وملتفتا إليه، واللفظ يكون ملحوظا
بالمعنى الحرفي وآلة ومغفولا عنه. و (بعبارة أخرى) اللفظ مما به
ينظر لا مما فيه ينظر، فاللفظ في باب الاستعمال دائما غير ملتفت إليه،
وتمام النظر إلى المعنى.
46

وأما اللفظ في باب الوضع لا بد وأن يكون ملحوظا بالنظر الاستقلالي
وملتفتا إليه، لان الواضع يجعل الارتباط والعلاقة بين اللفظ و
المعنى بأي معنى كان الارتباط الوضعي، ولا يقدر على جعل هذا
الارتباط الا بعد تصور كلا الطرفين الذين أحدهما اللفظ مستقلا. وهذا
واضح جدا، فيلزم في الاستعمال المفروض لحاظ اللفظ آليا من ناحية
الاستعمال، واستقلاليا من ناحية الوضع، وهو محال.
وأجيب عنه بوجوه: (الأول) - ما أفاده أستاذنا المحقق (قده) من أن
الملحوظ باللحاظ الاستقلالي هو طبيعة اللفظ وهو الملتفت إليه، وما
هو ملحوظ بالنظر الآلي وغير ملتفت إليه هو شخص اللفظ. فلم
يجتمع اللحاظان في موضوع واحد.
وفيه أنه لا شك في إمكان كون شخص اللفظ حاكيا عن نوعه، كما في
قولك:
ضرب فعل ماض، حيث جعل شخص (ضرب) في هذا المثال حاكيا
عن نوعه.
ومعلوم أيضا أنه لا يلزم من ذلك اجتماع اللحاظين الاستقلالي و
الآلي، لكن هذا الكلام أجنبي عن محل بحثنا، لان كلامنا الان في
استعمال اللفظ في معنى وإلقائه وإرادة ذلك المعنى، كقوله: أعطني
ولدي محمدا مثلا فيما إذا أراد التسمية بهذا الاسم بنفس هذا
الاستعمال. ومعلوم أن في هذا الاستعمال لا نظر له استقلاليا إلى
اللفظ أصلا لا إلى شخصه ولا إلى نوعه ولا إلى طبيعته، كما هو
المفروض. نعم لو استعمل اللفظ في ذلك المعنى وتصور طبيعة اللفظ
وذلك المعنى أيضا، وجعل علاقة بينهما، فهذا أمر ممكن معقول،
لكنه خلاف الفرض، وهو تحقق الوضع بنفس الاستعمال. ففي
الحقيقة فرض الأستاذ يرجع إلى أن هاهنا استعمالا ووضعا، وكل
واحد
منهما غير مربوط بالآخر وهذا، ممكن لكنه خروج عن الفرض هذا
مضافا إلى أن إنشاء تلك العلاقة وذلك الارتباط بين طبيعة اللفظ و
المعنى حيث أنها من الأمور الاعتبارية لا بد أن تكون ب آلة كسائر
العناوين الاعتبارية في أبواب المعاملات، كالنكاح والبيع وأمثالهما،
ولا بد أن تكون تلك الآلة سببا عند العرف وقد أمضاها الشارع أو
أحدث سببا بنفسه وإن لم يكن عندهم بسبب. وفي ما
47

نحن فيه سببية الاستعمال غير معلومة. واما في باب المعاطاة والفسخ
الفعلي فنفس الفعل مصداق لمفهوم البيع والفسخ ويحملان عليه
بالحمل الشائع، وفي ما نحن فيه لا يمكن ذلك، لان كون الاستعمال
مصداقا لمفهوم الوضع وحمله عليه بالحمل الشائع يلزم منه اجتماع
اللحاظين كما ذكرنا. و (بعبارة أخرى) إن كان المدعي يدعي أن هذا
الكلام استعمال ووضع معا يلزم المحذور المذكور، وإن كان
يدعي أن الوضع شئ آخر مقدم عليه أو مؤخر عنه أو مقارن له،
فذلك خروج عن الفرض، مضافا إلى أن إنشاء مثل هذا الامر - في
عالم
الاعتبار - يحتاج إلى سبب عرفي أو شرعي إمضاء أو إحداثا. و
المفروض ان في المقام ليس شئ غير هذا الاستعمال.
(الثاني) - أن الوضع يحصل قبل الاستعمال بالبناء القلبي، ويكون
الاستعمال مظهرا وكاشفا عنه. وقد قال بمثل هذا شيخنا الأعظم
الأنصاري (قده) في الفسخ الفعلي بالافعال المتوقفة على الملك بأن
الفسخ يحصل بالبناء ويكون الفعل كاشفا عنه.
وفيه (أولا) - انه أيضا خروج عن الفرض، لان الكلام في تحقق الوضع
بنفس الاستعمال لا بشئ آخر قبله.
و (ثانيا) - ما بينا أخيرا من أن الوضع بالمعنى الاسم المصدري أي
تلك العلاقة وذلك الارتباط من الأمور الاعتبارية، فلا بد وأن يكون
له سبب عرفي أو شرعي، وسببية البناء عندهم لذلك غير معلوم، و
الا لو كان البناء القلبي عندهم سببا لذلك - ولو باعتبار تعقبه
بذلك الاستعمال مبينا على ذلك البناء - لكان هذا الوجه لتصوير
الوضع التعييني حسنا في نفسه، وإن كان غير مربوط بما قيل من
تحقق الوضع بنفس مثل ذلك الاستعمال.
(الثالث) - أن حقيقة الوضع ترجع إلى جعل اللفظ حاكيا عن المعنى
بنفسه من دون قرينة على إرادته منه، وهو بهذا الاستعمال يوجد
مصداقا لمفهوم كون اللفظ حاكيا عن المعنى بنفسه، لأن المفروض أنه
لم ينصب قرينة على حكاية اللفظ عن هذا المعنى المستعمل فيه، بل
جعل اللفظ حاكيا عن المستعمل فيه بنفسه، فيكون هذا
48

الاستعمال - بهذه الكيفية أي كونه حاكيا عن المعنى المستعمل فيه
بنفسه - من لوازم تلك العلاقة التي نسميها بالوضع، وإنشاء الملزوم
بإيجاد اللازم أمر معقول.
وفيه (أولا) - أن هذا أيضا خروج عن الفرض كما بينا. و (ثانيا) - أن
الوضع عبارة عن العلاقة المذكورة ولا يمكن حصول تلك العلاقة
جعلا الا بتصور طرفيها مستقلا وبالمعنى الاسمي، ففي هذا المقام إن
لم يكن له تصور وإنشاء في البين غير هذا الاستعمال يلزم
المحذور المذكور أعني اجتماع اللحاظين، وان كان تصور وإنشاء و
جعل في البين غير هذا الاستعمال فيحتاج إلى سبب عرفي أو
شرعي للانشاء كما في سائر الانشاءات. والمفروض أنه غير هذا
الاستعمال ليس شئ في البين. وان أراد المدعي أن تلك العلاقة
توجد
بنفس هذا الاستعمال من دون إنشاء آخر وجعل ذلك الملزوم، فهذا
واضح البطلان، لأنه لو فرضنا أنه جعل اللفظ حاكيا عن المعنى في
نفسه بدون قرينة في هذا الاستعمال، فصرف هذا لا يوجب وجود
علاقة وارتباط بين اللفظ والمعنى في عالم الاعتبار من دون أن
يتعلق جعل بنفس تلك العلاقة والارتباط، وهذا واضح جدا.
والانصاف أنه لو ساعد البناء العرفي وعلمنا أنهم في مقام تسمية
أولادهم مثلا يبنون على وجود مثل هذه العلاقة بمثل هذه
الاستعمالات، فلا بد وأن نحمل على أن البناء القلبي عندهم سبب
لحصول تلك العلاقة إذا كان متعقبا بمثل ذلك الاستعمال.
هذا كله في الوضع التعييني. وأما الوضع التعيني أي حصول تلك
العلاقة بواسطة كثرة الاستعمال، فإنه متوقف على وجود الجامع بين
افراد كل واحد من هذه العناوين، والا فمع فقده لا يبقى مجال لهذا
الكلام أصلا، لأنه لو لم يكن جامع في البين، فلفظ الصلاة مثلا، لم
يستعمل دائما في معنى واحد حتى تحصل من كثرة الاستعمال علاقة
وارتباط بينهما. وعلى تقدير وجود الجامع - كما سنحققه في
المبحث الآتي إن شاء الله - فالانصاف أنه - على تقدير عدم وضع
تعييني في البين - لا يمكن إنكار الوضع التعيني رأسا. نعم حصوله في
زمان الشارع المقدس صلى الله عليه وآله
49

لا يخلو عن إشكال، كما أن تعيين مبدئه أيضا مشكل. وحينئذ فبناء
على أن ثمرة هذا البحث هو الرجوع إلى المعنى الشرعي عند الشك
في المراد وعدم نصب قرينة عليه بناء على الثبوت، وإلى المعنى
اللغوي بناء على عدم الثبوت يقع إشكال فيما إذا شككنا في تأخر
الاستعمال عن النقل وعدمه. وأصالة تأخر الاستعمال إلى زمان
حدوث النقل معارض بأصالة عدم حدوث النقل إلى زمان حدوث
الاستعمال، مضافا إلى أنه مثبت لو أريد به الاستصحاب ولم يثبت بناء
من قبل العقلا على تأخر الاستعمال عن النقل أو تأخر النقل عن
الاستعمال عند الشك في تأخر أحدهما عن الاخر أو تقدمه عليه بعد
القطع بوجودهما. نعم في مورد الشك في أصل تحقق النقل يبني
العقلا على عدم النقل، فأصالة عدم النقل في هذا المقام أصل
عقلائي، والأصل العقلائي مثبته حجة، ولا ربط له بالاستصحاب. و
أما في
محل بحثنا لم يثبت منهم بناء، فلا يبقى في البين الا الاستصحاب، و
سيجئ تحقيقه إن شاء الله في بعض تنبيهات الاستصحاب بكلتا
صورتيه من مجهولي التاريخ ومن أن يكون أحدهما معلوم التاريخ.
هذا كله لو قلنا بوجود الشك في المراد في الاستعمالات الشرعية. أما
لو قلنا بأنه ليس في الاستعمالات الشرعية ما يشك فيه في مراد
الشارع، فلا يبقى مجال لهذه الكلمات ولا ثمرة لهذا البحث أصلا.
وأما إنكار الحقيقة الشرعية بواسطة وجود هذه العبادات في الشرائع
السابقة - كما قيل - فإنه لا وجه له.
أما (أولا) - فلان وجود هذه العبادات في الشرائع السابقة لا يدل على
أنها كانت في تلك الشرائع بهذه الأسماء، بل الظاهر خلافه،
لاختلاف ألسنتهم مع لسان شرعنا. ألا ترى الان اختلاف الأسماء عند
المتشرعة في هذا الشرع بواسطة اختلاف الألسنة، فالأمة الفارسية
مثلا تسمي الصلاة والصوم بلفظ آخر. وأما حكايته تعالى بهذه الألفاظ
في القرآن العظيم، فباعتبار أن القرآن نزل باللغة العربية، فلذا
عبر بالتعبير العربي.
50

وأما (ثانيا) - فلأنه يمكن أن يتحقق النقل عن المعاني اللغوية بواسطة
إمضاء الشارع لتلك الاستعمالات، وبنائه على استعمال هذه
الألفاظ في تلك المعاني الموجودة في الشرائع السابقة. نعم لو كانت
معاني هذه الألفاظ في اللغة وفي العرف العام نفس هذه المعاني
الشرعية، كما ربما يكون كذلك بالنسبة إلى الألفاظ المستعملة في باب
المعاملات، وذلك كعناوين العقود والايقاعات كالبيع والصلح
والإجارة وأمثال ذلك، فلا تبقى ثمرة وفائدة لهذا البحث، ولا يبقى
معنى للحقيقة الشرعية أصلا.
(الامر التاسع) في الصحيح والأعم
ولتحقيق الحال نقدم أمورا:
(الأول) -
ان هذا النزاع يجري حتى بناء على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية
وذلك لان ثمرة هذا البحث - كما سيجئ - هو التمسك
بالاطلاقات بناء على الأعم، وعدمه بناء على الصحيح. ولا شبهة في أن
هذه الثمرة ليست مختصة بما إذا كان اللفظ موضوعا للصحيح أو
الأعم، بل لو علمنا - من القرينة العامة التي ينصبها الشارع لإرادة هذا
المعنى الشرعي المجازي وصرف اللفظ عن ظهوره في المعنى
الحقيقي اللغوي - أنه راعى العلاقة بين الصحيح منها مع المعاني
اللغوية الحقيقية وان استعمالها في الفاسد يكون إما بادعاء انه من
أفراد
الصحيح أو بمراعاة العلاقة بينه وبين الصحيح حتى يكون من قبيل
سبك المجاز بالمجاز بناء على صحته - لكان مثل العلم بأنه موضوع
للصحيح في ترتب هذه الثمرة أي عدم جواز التمسك بالاطلاق ولزوم
الحمل على الصحيح عند الشك، كما أنه لو علمنا أنه راعى العلاقة
بين المعاني اللغوية وبين الأعم فيحمل على الأعم ويجوز التمسك
بالاطلاق.
وأما بناء على ما ذهب إليه الباقلاني من أنها مستعملة دائما في
المعاني الحقيقية اللغوية، غاية الامر اعتبر الشارع في تحقق ذلك
المعنى
الحقيقي اللغوي عنده أشياء اخر زائدة على أصل الطبيعة لدخلها في
حصول غرضه، فجريان هذا البحث مشكل جدا، لان غاية ما يمكن أن
يقال - بناء على مذهبه كما قيل - أن ما نصب الشارع بيانا لافادة تلك
الخصوصيات بطور العموم، كقوله (صلى الله عليه وآله:) (صلوا
كما رأيتموني أصلي)
51

هل هو إفادة جميع الخصوصيات التي لها دخل في الملاك والغرض
أو في الجملة، ولكن أنت تدري بأن عمدة ثمرة هذا البحث هو
التمسك بالاطلاق وعدمه بناء على القولين، وهذه الثمرة لا تترتب
في هذا المقام على كل واحد من القولين، لان اللفظ حسب الفرض
استعمل في المعنى اللغوي، والخصوصيات تستفاد من دال آخر،
فإطلاق اللفظ قطعا ليس بمراد. واما ذلك البيان العام فان كان بيانا
لجميع ما له دخل في غرضه فلأي شئ بالاطلاق نتمسك وان كان
بيانا في الجملة فبأي إطلاق نتمسك.
(الثاني) -
ان الصحة والفساد متقابلان تقابل العدم والملكة. والمراد من الصحة
هو تمامية الشئ بمقتضى أصل خلقته التكوينية أو جعله التشريعي،
مقابل الفساد الذي هو عبارة عن عدم هذا المعنى، وقد يعبر عنه
بالناقص والمعيب أيضا. ثم انه بعد ما تبين ان المراد من الصحة و
الفساد التمامية وعدمها، فهل المراد من التمامية في المقام هو باعتبار
خصوص الاجزاء أو باعتبار جميع ما له دخل في تماميته وترتب
الأثر عليه، سواء كان من الاجزاء أو الشرائط أو عدم الموانع، وسواء
كانت هذه الأمور في الرتبة المتقدمة على الامر أو المتأخرة عنه.
و (التحقيق) أن يقال إن كل ما له دخل في الملاك وترتب الغرض -
سواء كان بنحو الجزئية أو الشرطية أو بنحو عدم المانع - فله دخل
في الصحة إن كان في الرتبة المتقدمة على الامر، وأما الأمور المتأخرة
عن الامر كقصد القربة وعدم المزاحم أو النهي المتعلق بالعبادة
فلا مدخلية لها في الصحة في محل الكلام، وان كان لها دخل في
الملاك والغرض. و (بعبارة أخرى) الذي يقول بأن اللفظ موضوع
للصحيح يريد أن لفظ الصلاة مثلا موضوع للعبادة المخصوصة
الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط وفاقدة لجميع الموانع، لان هذا هو
معنى الصحيح بقول مطلق. نعم الأمور المتأخرة عن الامر لو كانت
دخيلة في الصحة بهذا المعنى يعني لو كانت داخلة في ما وضع له لزم
أن يكون استعمال هذه الألفاظ في متعلقات التكاليف مجازا ومن باب
استعمال اللفظ الموضوع للكل في الجز، وهذا بعيد إلى الغاية.
52

(ان قلت): إن معنى شرطية شئ لشئ هو ان يكون ذلك الشئ
المشروط له شيئا في قبال ذلك الشئ الذي هو شرط، غاية الامر أن
تأثير المشروط له في اثره وترتبه عليه منوط بوجود الشرط، فإذا كانت
الصلاة مثلا مشروطة بالطهارة أو الاستقبال فلا محالة يكون
هذا خارجين عن حقيقة الصلاة. نعم تأثير الصلاة في الآثار المترتبة
عليها منوط بوجودهما. ومعلوم أن الألفاظ موضوعة لنفس حقائق
الأشياء لا لها ولما هي من شرائط تأثيرها.
(قلت): ليس مرادنا من مدخلية الشرائط في الصحة وفي وجود
المسمى - بناء على قول الصحيحي - أنها داخلة في مفهوم الصلاة،
بل
المقصود ان المسمى هو ليس ذوات هذه الاجزاء بنحو مطلق وكيف
ما اتفق، بل هذه الاجزاء مقيدة بوجود شئ أو عدم شئ معه أو قبله
أو بعده بنحو يكون القيد خارجا والتقيد داخلا.
(الثالث) -
أنه بعد الفراغ عن أن ألفاظ العبادات ليس وضعها من قبيل المشترك
اللفظي بأن يكون موضوعا بأوضاع متعددة للمعاني المتعددة. و
بعد الفراغ عن وضعها لهذه المعاني الشرعية ولو كان في الشرائع
السابقة وكان الامضاء من شرعنا - كما هو ظاهر العنوان - حيث أن
النزاع في تعيين الموضوع له بعد الفراغ عن أصل الوضع بأنه هل هو
الصحيح أو الأعم لا بد من وجود قدر جامع في البين حتى يكون هو
الموضوع له، فلو كان تصوير الجامع بناء على أحد القولين ممكنا دون
الاخر، فنفس هذا دليل على بطلان ذلك القول الاخر ولا يحتاج
إلى برهان آخر. نعم بناء على ما ذهب إليه شيخنا الأستاذ من أن
الصلاة موضوعة للصلاة الجامعة لجميع الاجزاء والشرائط التامة
للمختار واستعمالها في سائر أقسام الصحيح بل الفاسد من باب
الادعاء والتنزيل من قبيل ما ذهب إليه السكاكي في باب الاستعارة،
بأن يكون في المقام أيضا للصلاة مثلا صنفان من الافراد: صنف
حقيقي تحقيقي وهو التام الواجد للاجزاء والشرائط في حق المختار،
و
صنف حقيقي ادعائي وهو ما عداه مما يطلق عليه لفظ الصلاة في
سائر افراد الصحيحة والفاسدة، غاية الامر في سائر الأصناف
الصحيحة
53

الادعاء والتنزيل من قبل الشارع، وربما لا يساعد العرف في بعضها لو
لم يكن تنزيل من قبل الشارع كصلاة الغرقى، وفي الفاسدة
التنزيل من العرف بواسطة المشابهة والمشاكلة، فلا يحتاج إلى تصوير
جامع بين الافراد والأصناف الصحيحة فضلا عن الفاسدة.
لكن ما ذهب إليه شيخنا الأستاذ - ونسب الميل إليه أيضا إلى الشيخ
الأعظم الأنصاري رضوان الله تعالى عليهما - لا يخلو عن إشكال،
لان لازم هذا الكلام ان يكون إطلاق الصلاة مثلا على سائر افراد
الصلاة الصحيحة بالعناية والتنزيل، ويكون سلب الصلاتية عنها
صحيحا مع أنها صلوات صحيحة. وهذا مما يقطع بخلافه.
وأما وجوه تصوير الجامع بين خصوص افراد الصحيحة، (فالأول) ما
ذهب إليه صاحب الكفاية من طريق وحدة الأثر، فان الشارع رتب
أثرا واحدا على طبيعة الصلاة بوجودها الساري في جميع الافراد: مثل
(النهي عن الفحشاء) أو (قربان كل تقي) أو (معراج المؤمن) و
أمثال ذلك في الصلاة وسائر العبادات، ووحدة الأثر تكشف عن
وحدة المؤثر. وأما الفاسدة منها حيث إنه لا أثر مشترك بالنسبة إلى
افرادها، فليس هناك ما يمكن ان يستكشف به الجامع بينها.
وفيه (أولا) - ان وحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثر إذا كان واحدا
شخصيا. وأما إذا كان واحدا بالنوع كما فيما نحن فيه، حيث أن
للنهي عن الفحشاء أو سائر الآثار المترتبة على الصلاة أو على سائر
العبادات مراتب متفاوتة بالشدة و الضعف، وليست واحدا شخصيا
قطعا، فلا يلزم أن يكون بين عللها جامع. ألا ترى أن الحرارة مع أنها
واحدة بالنوع عللها مختلفة بالماهية كالنار والشمس و الحركة و
تعفن الأخلاط وأمثال ذلك؟ ولذلك قالوا ان برهان أن الواحد لا
يصدر منه الا الواحد لا ينعكس في الوحدة النوعية.
و (ثانيا) - أنه لو سلمنا أن وحدة الأثر كاشفة عن وحدة المؤثر حتى
فيما إذا كان الأثر واحدا بالنوع، فذلك فيما إذا كان المؤثر من
قبيل العلة التامة لا من
54

قبيل المعدات. وفيما نحن فيه هذه العبادات معدات لهذه الآثار،
فحال الصلاة مثلا بالنسبة إلى كمال النفس وصيرورتها بمثابة تنهى
عن الفحشاء أو عروجها إلى مقام الترقي أو قربها إلى الحضرة الربوبية
ليس أعظم من العلم بالمقدمتين بالنسبة إلى العلم بالنتيجة،
فكما أن العلم بالمقدمتين والحركة الفكرية معدة لإفاضة الصورة
العلمية من الباري تعالى، وذلك هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء،
كذلك هذه العبادات معدات ومهيئة للنفس إلى وصولها إلى مدارج
الكمال بفضل الله وإفاضته. ومعلوم أنه يمكن أن يكون لشئ واحد
معدات متعددة، فتأمل.
و (ثالثا) - أنه لو كان الجامع هو عنوان الناهي عن الفحشاء وأمثال
ذلك من الجوامع العنوانية التي تنتزع من الشئ باعتبار ترتب أثر
كذا عليه، فلا يمكن أن يرجع عند الشك في الجزئية أو الشرطية أو
المانعية إلى البراءة، لان المأمور به - بناء على هذا - هي العبادة
المعنونة بهذا العنوان المعلوم، فمتعلق التكليف معلوم، ويكون الشك
في حصول هذا العنوان بإتيان الأقل، فيرجع الشك إلى الشك في
السقوط لا الثبوت، والضابط في باب البراءة والاشتغال هو أنه متى
كان الشك في أصل ثبوت التكليف بالنسبة إلى شئ، فيكون مجرى
البراءة، ومتى كان مرجع الشك إلى الشك في السقوط بعد الفراغ عن
ثبوته، فيكون مجرى قاعدة الاشتغال.
ولكن يمكن أن يجاب عن هذا الأخير بعد الغض عن الاشكالين
المتقدمين بأن الجامع ليس هو نفس هذه العناوين الانتزاعية، بل هو
المحكي عنه بهذه العناوين المتحدة مع جميع الافراد اتحاد الكلي
الطبيعي مع مصاديقه، وذلك الكلي الجامع حيث أنه متحد مع هذه
الافراد المركبة في الخارج، فيرجع الشك في جزئية شئ أو شرطيته
أو مانعيته لذلك المركب إلى الشك في نفس ذلك الكلي باعتبار
سعته أو ضيقه، وأنه ينطبق على الواجد لهذا المشكوك أو هو خارج
عن دائرة انطباقه، و (بعبارة أخرى) يرجع الشك في أحد هذه
الأمور إلى الشك في الثبوت الذي هو مجرى البراءة لا الشك في
السقوط الذي هو مجرى الاشتغال.
55

(الثاني) - ما ذهب إليه بعض المحققين في حاشيته على الكفاية: من
أن الماهية إذا كانت مؤتلفة من عدة أمور، بحيث تزيد وتنقض كما و
كيفا، فمقتضى الوضع لها بحيث يعمها مع تفرقها وتشتتها أن تلاحظ
على نحو مبهم في غاية الابهام بمعرفية بعض العناوين غير المنفكة
عنها، ثم ينظر ذلك بالخمر، فإنها مبهمة من حيث اتخاذها من العنب و
التمر وغيرهما، ومن حيث اللون والطعم والرائحة، ومن حيث
مرتبة الاسكار من ناحية الشدة والضعف. وخلاصة ما يستفاد من هذا
الكلام أن الموضوع له في مثل الصلاة مثلا ماهية مبهمة من حيث
قلة الاجزاء وكثرتها ودخول بعضها في حالة وخروجها في حالة
أخرى.
وأنت تدري بأن مراده ان كان إبهام الماهية من حيث ذاتياتها، فهذا
معنى غير معقول، لان الذاتي لا يختلف ولا يتخلف، لان اختلافه
أيضا يرجع إلى تخلفه وتخلفه خلف. ولذلك قالوا أن إبهام الجنس
بحسب الوجود لا بحسب الماهية مع أن الجنس ماهية ناقصة، فما
ظنك بالماهية التامة النوعية؟ مع أن هذا القائل يعترف في بعض
كلماته بأن الصلاة مركبة من مقولتين وما هذا شأنه لا يمكن أن تكون
له ماهية مقولية، والا يلزم عدم كون الأجناس العالية أجناسا عالية،
حتى لو كان هناك ما بظاهره يدل على هذا، كقوله عليه السلام:
الصلاة معراج المؤمن، على تقدير صحة ما ذكره صاحب الكفاية من
أن وحدة الأثر تكشف عن وجود جامع ماهوي ذاتي بين المؤثرات
في هذا الأثر الواحد فلا بد وان يؤول عن هذا الظهور، لعدم إمكان
مثل هذا في مثل هذا المورد، لما ذكرنا من عدم إمكانه.
والانصاف أن كون مراده من الماهية الماهية الذاتية المقولية بعيد لا
يلائم كلامه.
وأما ان كان مراده من الماهية المبهمة المفهوم الانتزاعي من أحد هذه
المركبات التي صارت متعلقة للأوامر الشرعية، - وذلك كأغلب
العبادات - فالابهام لا بد وأن يكون في منشأ الانتزاع، والا فلا معنى
الابهام في المفهوم الانتزاعي مع معلومية منشأ الانتزاع. ومعلوم
أن منشأ الانتزاع أمور خارجية. والابهام فيها بمعنى قلة
56

الاجزاء وكثرتها وخروج بعض الأشياء في حالة أو حين من الأحيان
عنها، ودخول ذلك البعض في حالة أخرى أو حين آخر فيها لا
يجتمع مع كونه جامعا، لان معنى الجامع هو أن هذا الواحد يجمع
المختلفات، وجمعه للمختلفات معناه وجوده مع الجميع. و
المفروض أنه
- بناء على ما ذكرنا - أن منشأ الانتزاع لذلك المفهوم الانتزاعي ليس
الا أمور مختلفة من حيث القلة والكثرة، ودخول شئ في حالة و
خروجه بعينه في حالة أخرى، فليس هناك شئ واحد في البين حتى
نسميه بالجامع. واما المثل الذي ذكره من أن الخمر مبهم من حيث
اتخاذها من العنب أو التمر أو غير ذلك، فهذا ليس إبهاما في الماهية،
بل من جهة أنه لم تؤخذ في التسمية مادة خاصة، بل أي مادة من
المواد المائعة لو تلبست بالصورة النوعية الخمرية تكون خمرا. و
(بعبارة أخرى) الملاك في التسمية هو وجود الصورة الخمرية مقرونة
بأي مادة من المواد كانت، كما أن الباب أو السرير أو السيف أيضا هكذا
كل واحد منها موضوع للصورة الكذائية في ضمن أي مادة كانت
سواء كانت ذهبا أو فضة أو حديدا، والحال انه لا إبهام في ماهية هذه
الأشياء ولا في مفهومها.
فتلخص من جميع ما ذكرنا أن كون الجامع بين افراد الصلاة - مثلا
ماهية مبهمة من حيث قلة الاجزاء وكثرتها ودخول بعض الأشياء و
خروج ذلك البعض في حين آخر - غير معقول.
(الثالث) - ما ذهب إليه أستاذنا المحقق (قدس سره) من أن الجامع
بين الافراد هو مرتبة من الوجود سارية في جميع وجودات الافراد. و
لعل هذا هو المراد من قولهم ان للطبيعة وجود سعي محفوظ في
ضمن جميع الافراد. و (بعبارة أخرى) وان كانت الصلاة مثلا مركبة من
مقولات متباينة بتمام الذوات، إلا ان جميعها مشتركة في مرتبة من
الوجود، وتلك المرتبة المشتركة بين جميع هذه المقولات المتباينة
أخذت موضوعا لها لفظ الصلاة مثلا غير محدودة بحد خاص، بل
مشككة من حيث القلة والكثرة والضعف والقوة. وأيضا ليس المراد
من تلك المرتبة هو حقيقة الوجود
57

الواسعة المشتركة بين جميع الوجودات الواجبة والممكنة، حتى
تقول يلزم أن يكون لفظ الوجود مرادفا لجميع ألفاظ العبادات، بل كل
واحد منها مرادفا للآخر بأن يكون لفظ الصلاة مثلا مرادفا للصوم و
هكذا، بل المراد أن في كل واحد من هذه العبادات تكون مرتبة من
الوجود سارية في جميع وجودات افرادها ومشتركة بينها فقط، بحيث
ليست أوسع من تلك الافراد ولا أضيق منها، وينطبق على جميع
الافراد ولا يشذ عن حيطته فرد من الافراد، كما أنه لا ينطبق على افراد
العبادات الاخر، وذلك لعدم كونها جامعا بينها. و (بعبارة
أوضح) لكل واحد من هذه العبادات وجود سعي بمقدار سعة افرادها
فقهرا لا يخرج فرد من تلك العبادة من دائرة انطباقه، ولا يدخل
فرد آخر من عبادة أخرى في تلك الدائرة، فكما أن اللفظ - في باب
الماهية المقولية - موضوع للماهية المهملة المتحدة مع جميع
الافراد،
كذلك هاهنا كل واحد من ألفاظ العبادات موضوع للوجود السعي
المتحد مع وجودات افراد تلك العبادة. هذا غاية ما يمكن ان يشرح
كلامه زيد في علو مقامه.
وأنت خبير بأن الوجود مساوق مع التشخص وفي كل مورد وضع
الوجود قدمه يحصل التشخص، لان التشخص بنفس الوجود،
فالوجود السعي - بمعنى عموم الانطباق والصدق على الكثير - غير
معقول، فإذا فرضنا مرتبة من الوجود فرضنا شخصا منه، فلا يمكن
ان يكون ساريا في جميع وجودات الطبيعة بحيث يكون له عموم
انطباق وسعة صدق حتى يكون جامعا بين الافراد الكثيرة ومنطبقا
عليها.
و (بعبارة أوضح) كون الشئ وجودا ومرتبة منه ينافي كونه جامعا، و
ذلك واضح جدا.
(الرابع) - ما خطر بالبال وهو أنه لا شك في أن بين أفراد كل نوع من
الأنواع والماهيات المتأصلة الموجودة في الخارج سنخية
وجودية. وهذه السنخية غير السنخية التي بين جميع الوجودات و
تكون زائدة عليها، فكأنه هناك سنخيتان:
سنخية عامة بين جميع مراتب الوجود، وهذا هو معنى أن حقيقة
جميع الوجودات
58

حقيقة واحدة مقولة بالتشكيك، وسنخية خاصة مختصة بأفراد كل
نوع، بمعنى أنه بين كل فرد من افراد نوع وسائر افراد ذلك النوع
سنخية، بحيث ليس مثل هذه السنخية بينه وبين افراد سائر الأنواع. و
هذا أمر بديهي وجداني لا يمكن ان ينكر، فان السنخية الموجودة
في الخارج بين زيد وعمرو بحسب الوجود ليس مثل تلك السنخية
بينه وبين الفرس أو الحمار مثلا موجودا. وهذه الوحدة السنخية لا
تتنافى مع الكثرة العددية. ولعل المراد من الوجود السعي لكل طبيعة
هو هذا المعنى الذي لا يأبى عن الكثرة وإلا قلنا ان الوجود الحقيقي
الخارجي مع الكثرة العددية لا يتلائمان، لأنه هو مناط التشخص و
الوحدة، فمحال أن تصدق مرتبة من الوجود الخارجي على كثيرين.
إذا عرفت ما ذكرنا، فنقول: من الممكن أن يكون اللفظ موضوعا لذلك
السنخ الواحد. و (بعبارة أخرى) السنخية معنى مشترك بين جميع
أفراد ذلك النوع فليكن ذلك هو الجامع المطلوب في هذا المقام، و
يكون هو الموضوع له لألفاظ العبادات كل واحد منها للسنخية التي
بين افراد نوعه، مثلا لفظ الصلاة موضوع للسنخية التي بين افراد
الصلاة، وهكذا لفظ الصوم والحج وغير ذلك. ولا شك في أن
السنخية
التي تكون بين أفراد الصلاة هي غير السنخية التي بين أفراد الصوم، و
هكذا في غيرهما من سائر العبادات.
والشاهد - على وقوع هذا المعنى بعد فرض إمكانه - هو فهم
المتشرعة بل العرف من لفظ كل واحد من العبادات ذلك السنخ
الخاص
الجامع بين جميع أفراد ذلك النوع.
ثم إن الجامع الذي ذكره صاحب الكفاية الذي استكشفه من وحدة
الأثر لو تم يكون مخصوصا بالافراد الصحيحة، لان الأثر مخصوص
بها، وما ذكره المحقق المحشي وأستاذنا المحقق لو تم لا يختص
بالافراد الصحيحة، بل يمكن تصوير كل واحد منهما بنحو يكون شاملا
ومنطبقا على الافراد الصحيحة والفاسدة، فان الماهية المجملة
59

أو مرتبة من الوجود الساري في جميع الافراد كما يمكن أن تكون
شاملة للافراد الصحيحة، كذلك يمكن ان تكون شاملة للافراد
الفاسدة. و (بعبارة أخرى) شمول تلك الماهية المجملة من حيث
الاجزاء والشرائط والموانع أو تلك المرتبة من الوجود الساري في
وجودات الافراد يمكن أن تكون سعتهما بحيث ينطبق على الافراد
الصحيحة والفاسدة. واما بناء على ما ذكرنا، فلا يمكن تصوير
الجامع إلا بين الافراد الصحيحة، لان السنخية ليست الا بين تلك
الافراد. واما الافراد الفاسدة فليس بينها وبين الافراد الصحيحة
سنخية
أصلا. نعم ربما يشبهها صورة وشكلا لا حقيقة وروحا، فصلاة
الشخص المرائي - والعياذ بالله - ليست مسانخة للصلاة الصحيحة،
لان
الصلاة الصحيحة من أفضل العبادات وأحسن القربات، وتكون معراج
المؤمن، وتلك الصلاة الفاسدة تضرب على رأسه وتكون وبالا
عليه.
(إن قلت): إن ما ذكرته صحيح في افراد الماهيات المتأصلة، فان بينها
سنخية ربما يكون حدها تلك الماهية النوعية، واما مثل الصلاة
المركبة من المقولات المتعددة فليس بين افرادها تلك السنخية، ولا
يمكن أن تكون، لان المقولات المختلفة متباينة بتمام ذواتها (قلت):
نعم ليست تلك السنخية بين أفراد مقولة وأفراد مقولة أخرى، ولكن
هاهنا ليس الامر كذلك، بل كلامنا في وجود السنخية بين افراد
المركب من مقولتين، لان مجموع المقولتين موجود في كل فرد من
افراد هذا المركب. و (بعبارة أخرى) كما أن السنخية بين افراد
السكر وبين أفراد الخل موجودة، كذلك موجودة بين أفراد المركب
منهما أي السكنجبين، وهكذا الحال في باب الصلاة مثلا.
(إن قلت) بأن تلك السنخية ليست أمرا مستقلا لا في الوجود
الخارجي ولا في عالم التصور، فكيف يمكن أن يكون هو الموضوع
له؟ و
(بعبارة أخرى) هي تكون مثل الشباهة التي تكون بين شيئين أو
الأشياء، ولا يمكن أن يكون اللفظ موضوعا لتلك الشباهة ومنطبقا
على
كلا الشبهين أو جميع الأشباه نحو انطباق
60

الكلي على افراده. وذلك، لان الصلاة مثلا تنطبق على جميع افرادها
نحو انطباق سائر الكليات على مصاديقها. والحاصل ان السنخية
بين افراد الصلاة - على فرض تسليمها - معنى عرضي لتلك الافراد لا
ينطبق عليها نحو انطباق الطبيعي على افراده (قلت): ان معنى
السنخية بين شيئين أو أشياء بحسب الوجود هو أن جهة وحدة تتحقق
بينها تكون هي منشأ أن يقال: إنها سنخ واحد. نعم إن هذه الوحدة
لا تتنافى مع الكثرة العددية، لان هذه سنخ آخر من الوحدة، وتلك
الجهة ذاتية للمتكثرات، وتحمل على جميعها (مثلا) مفهوم الوجود -
بناء على أنه ليس مشتركا لفظيا، بل هو مشترك معنوي - لا بد وأن
يكون موضوعا لتلك الجهة أي جهة السنخية الموجودة بين
الوجودات، والا فنفس الوجودات لا شك في أنها متكثرات، وليس
بينها جامع ماهوي بمعنى الكلي الطبيعي المقول في جواب ما هو
على
الفرض، لان نفس الوجودات التي هي محكي هذا المفهوم بسائط
ليس لها ماهية أصلا، وأيضا ليس بينها جامع خارجي بمعنى أن تكون
مرتبة من الوجود سارية في جميع الوجودات، لما ذكرنا من أن الوجود
مساوق للتشخص ومناف للسريان والعموم، فلا يبقى إلا تلك
الوحدة السنخية التي هي جامعة للشتات وشاملة للمتكثرات ولا
تأبى عن التعدد والتكثر، بل تحمل على جميعها كما يحمل الطبيعي
على
افراده ولو أنه ليس من ذلك القبيل.
ثم إنهم ذكروا في تصوير الجامع بين الأعم من الصحيح والفاسد
وجوها اخر لا بأس بذكر بعضها وبيان ما فيها: (فمنها) - ما حكى عن
المحقق القمي (قده) من أنه عبارة عن الأركان وأن ما عداها من
الاجزاء والشرائط اعتبر في المأمور به لا في المسمى.
وفيه (أولا) - أنه لا تدور التسمية بناء على الأعم مدار الأركان وجودا
وعدما، فلو وجد الأركان بدون سائر الاجزاء والشرائط لا يقال
بأنها صلاة، كما أنه قطعا يطلق عليه الصلاة مع فقد بعض الأركان عند
وجود سائرها مع سائر الاجزاء والشرائط. وهذا واضح جلي بناء
على الأعم الذي هو المدعى في المقام.
و (ثانيا) - أنه لو كان المسمى هو الأركان فقط كما هو المدعى و
المفروض
61

أن يكون استعمال الصلاة في الجامع لجميع الاجزاء والشرائط مجازا
ومن باب استعمال اللفظ الموضوع للجز في الكل. وهذا عجيب.
و (منها) - ما نسب إلى المشهور من أن الموضوع له هو معظم الاجزاء،
أي ما يصدق عليه هذا المفهوم لا نفسه، إذ المفاهيم - بما هي في
صقع الأذهان - لا تترتب عليها الآثار التي رتبها الشارع على كل واحد
من هذه العبادات من كونه جنة عن النار أو معراج المؤمن أو غير
ذلك، فلا يمكن أن يكون الموضوع له هو مفهوم معظم الاجزاء، فلا
ينبغي أن يسند إلى المشهور مثل هذا المعنى الواضح البطلان، ومع
ذلك أيضا لا يمكن المساعدة معهم، لان مصداق معظم الأجزاء
يختلف ويتبدل بحسب حالات المكلفين قطعا. والذاتي لا يختلف و
لا
يتخلف. واما ما أفاده شيخنا الأستاذ - في تصوير هذا الوجه و
تصحيحه بأن الموضوع له هو مصداق هذا المفهوم بنحو الكلي في
المعين،
مثلا الصلاة مركبة من عشرة أجزاء، فالستة أو السبعة أو الثمانية من هذه
الاجزاء العشرة بنحو الكلي في المعين بمعنى أنه ينطبق على أي
ستة مثلا من هذه العشرة، مثل أن يبيع صاعا من هذه الصيعان، وله
اختيار التطبيق على أي صاع أراد من هذه الصيعان الموجودة في
الخارج - فمن أعجب ما صدر منه رضوان الله تعالى عليه. وذلك،
لان في باب الكلي في المعين الحكم على نفس الطبيعة المقيدة
بكونها
من هذا الموجود الخارجي، بمعنى تضييق دائرة انطباقها بواسطة ذلك
التقييد. وأما فيما نحن فيه فليس الارتباط أو الهوهوية والعلاقة
المجعولة - بين اللفظ وطبيعة كلية - تضييقا في انطباقها بواسطة
تقييدها بكونها من هذا الخارج الموجود، بل لا بد وأن يكون
الموضوع له مصداق مفهوم ستة من العشرة مثلا المرددة بين أن تكون
هذه الستة أو تلك الستة أو غيرهما من مصاديق الستة، فالأولى
أن يقاس ما نحن فيه بالفرد المردد لا بالكلي في المعين.
و (بعبارة أخرى) في باب الكلي في المعين لا بد وأن تكون نفس
الطبيعة مع قطع النظر عن خصوصيات افرادها الخارجية قابلة لان
تصير متعلق الحكم، فلو لم
62

يكن تقييد في البين لكانت سعة في دائرة انطباقها، وبواسطة التقييد
حصل ضيق في تلك الدائرة. وفيما نحن فيه لا يمكن ان يدعي
المدعي وجود العلاقة سواء كانت تلك العلاقة هي الهوهوية أو غيرها
بين اللفظ وطبيعة كلية، لما ذكرنا من أن مفهوم معظم الاجزاء أو
ستة من هذه العشرة ليس معنى الصلاة قطعا، فلو كان لا بد وأن يكون
مصداقهما، وليس مصداقهما الا تلك المختلفات، فلا بد وأن
يكون طرف العلاقة تلك المختلفات، فيعود المحذور، فما فرضه
جامعا ليس بجامع. هذا، مضافا إلى أنه يرد عليه أيضا الاشكال
المتقدم،
وهو ان يكون استعمال لفظ الصلاة في تام الاجزاء والشرائط مجازا و
من باب استعمال اللفظ الموضوع للجز في الكل، وبعيد أن
يدعي المدعي شمول معظم الاجزاء لجميعها.
واما الجواب - عن هذا - بأن المعظم أخذ موضوعا له بنحو
اللابشرطية عن الزيادة، فلا يأبى عن الاتحاد مع ما فيه الزيادة، فلا
يصير
مجازا لو استعمل في التام - فغير تام، لأنه من الواضح الجلي أن أسماء
الأجناس موضوعة للماهيات اللابشرط، ومع ذلك استعمالها في
الفرد بخصوصه مجاز، فاستعمال الانسان وإرادة زيد بخصوصه مجاز
(الامر الرابع) - في ثمرة هذا البحث
وذكروا له ثمرتين:
(الأولى) -
صحة التمسك بالاطلاقات لرفع جزئية مشكوك الجزئية، وشرطية
مشكوك الشرطية، ومانعية مشكوك المانعية بناء على الأعم، وعدم
الصحة بناء على الصحيح. (بيان ذلك) أن معنى التمسك بالاطلاق هو
الاخذ بنفس الطبيعة التي ورد الحكم عليها، وإلغاء كل خصوصية و
قيد يحتمل أن تكون مقيدة ومتخصصة بها في مقام تعلق الحكم.
و (بعبارة أخرى) الاطلاق الذي نقول به في متعلقات الاحكام
بمقدمات الحكمة هو تساوي أقدام متعلق الحكم بالنسبة إلى جميع
الخصوصيات الواردة والحالات الطارئة عليه، ولكن كل ذلك مع
انحفاظ نفس المتعلق وتعلق الشك بما هو خارج عن قوام ذات
المتعلق.
واما الشك في شئ بأن له مدخلية في قوام ذاته
63

أم لا؟ فلا يمكن رفعه بالاطلاق، لما بينا من أن معنى الاطلاق هو
انحفاظ الذات وإرساله من حيث الخصوصيات. وأما مع الشك في
مدخلية شئ في أصل الذات فلا يمكن أن تكون الذات منحفظة،
فبناء على هذا لو قلنا بالصحيح فالشك في الجزئية والشرطية و
المانعية
يرجع إلى أصل انحفاظ الذات، فلا يمكن التمسك بالاطلاق. واما لو
قلنا بالأعم فيكون الشك في المذكورات راجعا إلى الخصوصيات بعد
انحفاظ الذات فيما لم يكن للمشكوك فيه مدخلية في المسمى. ولا
شك في أن صحة التمسك بالاطلاق من ثمرات المسائل الأصولية،
لان
منها يستنتج الحكم الكلي الإلهي وهو عدم كون الشئ الفلاني جز
أو شرطا أو مانعا للصلاة مثلا.
وقد يشكل على هذه الثمرة بأن الخطابات الواردة - في الكتاب و
السنة - لم ترد في مقام بيان أجزاء العبادة وشرائطها، بل في مقام
أصل التشريع، كقوله تعالى:
(أقيموا الصلاة) وقوله تعالى: (انما الصدقات للفقراء) وأمثالها من
الآيات والروايات والذي ورد في مقام ما يعتبر في المركب العبادي
- كصحيحة حماد الواردة في بيان أجزاء الصلاة وشرائطها وموانعها -
يصح التمسك بإطلاقها المقامي بناء على كلا القولين، فلا تبقى
ثمرة في البين. و (بعبارة أخرى) ماهية العبادات مجهولة عند أهل
العرف والمحاورة، إذ انها من المخترعات الشرعية ولا سبيل للعرف
إلى فهم اجزائها وشرائطها، فقبل بيان الشارع لأجزائها وشرائطها و
موانعها لا معنى للتمسك بإطلاقها، لا جمالها من حيث المعنى.
هذا، مضافا إلى أن الأدلة العامة كلها وردت في مقام أصل التشريع، و
بعد بيان الشارع لها يصح التمسك بالاطلاق المقامي بناء على كل
واحد من القولين:
أي الصحيحي والأعمي. و (الحاصل) أنه قبل بيان الشارع لأجزاء هذه
الماهيات، المخترعة وشرائطها وموانعها لا معنى للتمسك بإطلاق
الألفاظ الموضوعة لهذه الماهيات، لعدم فهم شئ منها وإجمالها، و
بعد صدور البيان يمكن التمسك بالاطلاق المقامي لتلك الأدلة
المبينة للاجزاء والشرائط، ولا يحتاج إلى إطلاق تلك الألفاظ أصلا ان
فرض لها إطلاق.
64

والجواب أن قضية عدم ورود الاطلاقات كلها في جميع ألفاظ
العبادات في مقام البيان دعوى بلا بينة وبرهان. واما إجمالها وعدم
فهم شئ منها قبل صدور البيان من قبل الشارع وان كان صحيحا، و
لكن بعد ما صدر بيان من قبله بالنسبة إلى عدة من الاجزاء و
الشرائط والموانع بحيث يصدق عليه لفظ الصلاة، مثلا بناء على
الأعم ولم نحرز كون دليل المبين في مقام بيان تمام ماله مدخلية في
الصلاة مثلا حتى يمكن التمسك بإطلاقه المقامي، ففي مثل هذا
المورد يمكن التمسك بإطلاق الأدلة العامة أي الألفاظ الموضوعة
للماهيات
المخترعة.
(الثانية) -
أنه بناء على الأعم يمكن الرجوع إلى البراءة في مورد الشك في الأقل
والأكثر الارتباطيين إذا كان الشك في جزئية شئ أو شرطيته
للمأمور به. واما بناء على كون الألفاظ موضوعة للصحيح، فلا يمكن
الرجوع إليها، بل لا بد من الرجوع إلى الاشتغال. وذلك، لان مورد
البراءة دائما فيما إذا كان الشك في ثبوت التكليف ومورد الاشتغال
هو الشك في السقوط بعد الفراغ عن الثبوت، ولا شك في أنه بناء
على الأعم يرجع الشك إلى الثبوت فيما ليس له دخل في المسمى، و
يحتمل دخله في المأمور به. وبناء على الصحيح يكون الشك في
السقوط بعد الفراغ عن ثبوت التكليف، وأن المأمور به هو الصحيح.
وأورد على هذه الثمرة بأن الرجوع إلى البراءة من آثار الانحلال، سوأ
قلنا بالصحيح أو الأعم، فلو قلنا بالانحلال تجري البراءة، وان
كانت الألفاظ موضوعة للصحيح، كما أن أغلب القائلين بالبراءة هم
القائلون بالصحيح. والسر في ذلك أنه بناء على الصحيح لا بد أن
يكون الجامع بين الافراد الصحيحة منطبقا - على الاجزاء والشرائط
الموجودة في الخارج أعني المركب الخارجي - انطباق الكلي على
افراده، فالمركب الخارجي - من حيث اتحاده مع الكلي وانطباق
الكلي الجامع عليه - يكون متعلقا للإرادة حقيقة، فإذا انحل إلى متيقن
المرادية ومشكوك المرادية، فالبراءة تجري في المشكوك فيه، لأنه
بالنسبة إليه شك في الثبوت، وشيخنا الأستاذ (قده) يقول
65

بصحة هذه الثمرة، حيث إنه يقول بامتناع جامع ذاتي بين الافراد
الصحيحة، فالصحيحي عنده (قدس سره) لا بد أن يقول بوضع هذه
الألفاظ للجامع البسيط المنتزع عن هذه المركبات بعنوان انها ذات أثر
كذا، ولا شك في أن مثل هذا الجامع الانتزاعي الذي ينتزع منها
- باعتبار كونها ذات أثر كذا - لا ينطبق على نفس المركبات انطباق
الكلي الطبيعي على أفراده، ويكون أمرا خارجا عن حقيقة هذه
المركبات، فالشك في جزئية شئ أو شرطيته لأحد هذه المركبات
يرجع إلى الشك في حصول ذلك العنوان الانتزاعي الذي هو المأمور
به، بناء على هذا القول وفي سقوط الامر، فيكون مجرى الاشتغال، و
لكن تقدم إمكان تصوير الجامع الذاتي الانطباقي بين الافراد
الصحيحة من كل واحد من هذه المركبات، وتثبته أدلة الاثبات كما
تقدم، فلا تمكن موافقته فيما أفاده رضوان الله تعالى عليه. ثم إنه بعد
ما تقدم - من إمكان تصوير الجامع السنخي بين الافراد الصحيحة و
وجودها بالوجدان - لا يحتاج إلى ذكر الوجوه التي ذكروها لاثبات
الجامع بينها:
من التبادر وعدم صحة السلب وغير ذلك، وكذلك بعد ما تقدم من
عدم إمكان وجود الجامع بين أفراد الأعم من الصحيح والفاسد في
مقام الثبوت، فلا يبقى مجال للتمسك بالتبادر وعدم صحة السلب و
غير ذلك، كصحة تقسيم تلك الألفاظ إلى الصحيح والفاسد، مع أنها
- أي تلك الأدلة - غير خالية عن المناقشة. هذا كله في العبادات.
واما (المعاملات)
فقد وقع الكلام أيضا في أنها موضوعة للصحيح أو الأعم. وتنقيح
الكلام في هذا المقام يتم برسم أمور:
(الأول) -
في أن جريان هذا النزاع مبني على كون هذه الألفاظ - أي ألفاظ
المعاملات - موضوعة للأسباب، واما لو قلنا بوضعها للمسببات -
كما
هو كذلك - فلم يبق مجال للنزاع أصلا، وذلك من جهة ما بينا أن
الصحة والفساد متقابلان تقابل العدم والملكة، والفساد عبارة عن
عدم التمامية في موضوع قابل للتمامية، والمسببات عناوين و
اعتبارات بسيطة أمرها دائر بين الوجود والعدم، لا أنه هناك شئ
66

موجود تارة يكون غير تام، فيقال بأنه بيع فاسد أو صلح فاسد مثلا و
أخرى تام فيقال أنه صحيح، و (بعبارة أخرى) المتصف بالصحة و
الفساد لا بد أن يكون مركبا حتى يقال - عند وجود جميع اجزائه و
شرائطه وفقد جميع موانعه بحيث يكون مؤثرا في وجود اثره - انه
صحيح وتام، وعند فقد جز أو شرط أو وجود مانع أنه فاسد غير تام،
وأما الشئ البسيط الذي لا جز له ولا شرط ولا مانع له، بل
انما تكون هذه الأشياء من أسبابه وليس هو الا أثرا لما هو السبب التام،
فإذا تحقق السبب التام يوجد بلا تصوير نقص وعدم التمامية
فيه، وإذا لم يتحقق لا يوجد شئ أصلا. لا أنه يوجد ناقصا وغير تام.
هذا كله فيما إذا قلنا بأنها موضوعة للمسببات. وأما إذا قلنا بوضعها
للأسباب، فيمكن أن يقال بوضعها لخصوص السبب التام الذي
اجتمعت فيه جهات التأثير.
وهذا معنى وضعها للصحيح، ويمكن أن يقال بوضعها للأعم من
ذلك.
(الثاني) -
أنه من المعلوم أنها موضوعة للمسببات لا للأسباب، وذلك لان
الشارع لم يستعمل هذه الألفاظ الا فيما يستعملها العرف فيها. و
(بعبارة
أخرى) لفظ البيع أو الإجارة أو الرهن أو القرض أو الصلح أو الطلاق أو
النكاح أو غير ذلك من العناوين التي نسميها بالمعاملات كلها
عناوين موجودة عند العرف والعقلاء، إذ عليها تدور معايش العباد، و
الشارع أمضى هذه العناوين بما لها من المعنى العرفي.
نعم ربما ينهى عن بعض أصنافها تخطئة أو تخصيصا. ولا شك في أن
معاني هذه الألفاظ عند العرف عبارة عن نفس المسببات، فلا
يريد العرف من قوله: بعت داري بكذا أو باع فلان داره بكذا الا وقوع
المبادلة بين داره وكذا من المال، وهكذا لا يفهم العرف من قوله:
صالحت الشئ الفلاني بكذا الا وقوع المسالمة على مبادلة الشئ
الفلاني بكذا، وهكذا الحال في سائر العناوين، فبناء على هذا لا يبقى
مجال للنزاع في باب المعاملات أصلا، فالذين بحثوا وتكلموا - في أن
ألفاظ المعاملات هل هي موضوعة لخصوص الصحيح أو للأعم منه
ومن الفاسد - لا بد لهم من القول
67

بوضع هذه الألفاظ للأسباب. وقد عرفت ما في هذه الدعوى.
(الثالث) -
أنه بناء على ما ذكرنا من وضعها للمسببات وأنها أمور بسيطة، فلا يبقى
مجال للتمسك بإطلاقها لرفع جزئية ما احتملت جزئيته للسبب
أو شرطية ما احتملت شرطيته له أو مانعية ما احتملت مانعيته له، مع أن
المشهور قائلون بصحة التمسك بها في هذه المقامات.
ولكن يمكن ان يقال: إن الاطلاقات والعمومات الواردة في الكتاب و
السنة مثل قوله تعالى: (أحل الله البيع) منزلة على المعنى العرفي،
فيكون العموم واردا على البيع بما له من المعنى عرفا، بمعنى أن
الشارع حكم بصحة كل ما هو بيع عرفا من أي سبب حصل عنده
فالحكم
بنفوذ كل فرد من افراد البيع العرفي ملازم لامضاء سببية كل ما هو
سبب عند العرف، والا يلزم التخصيص في عموم أحل الله البيع
بخروج ذلك الفرد المسبب عن السبب الكذائي، نعم لو كان الشك في
مدخلية شئ عند العرف في السبب لا يمكن التمسك بهذا العموم أو
الاطلاق لرفع المدخلية عندهم، لان الحكم لا يثبت موضوعه، لان
موضوع حكم الشارع بالصحة والنفوذ هو ما كان بيعا مسلما عند
العرف. ومع الشك يكون من قبيل التمسك بالعموم في الشبهة
المصداقية لنفس العام الذي لا يمكن ان يقول به أحد. ومما تقدم
تعرف ما
فيما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) في هذا المقام من أن إمضاء
المسبب لا يلازم إمضاء السبب لأنه على فرض السببية والمسببية
فللبيع مثلا وجود ولسببه وجود آخر فيكون لكل واحد منهما وجود
غير ما هو للآخر وإمضاء أحد الوجودين ليس ملازما لإمضاء
الاخر.
ثم هو - قدس سره - أجاب عن هذا الاشكال بما حاصله ان العقود و
الايقاعات ليست من قبيل الأسباب بالنسبة إلى هذه العناوين حتى
يكون لهما وجودان، وإمضاء أحدهما لا يكون ملازما لإمضاء الاخر،
بل هي آلات لايجاد هذه العناوين عند العرف فإمضاؤه لهذه
العناوين الموجودة بتلك الآلات بطور العموم إمضاء لآلية تلك الآلات
عند الشرع أيضا، وان شئت قلت إن إمضاء الشارع الا قدس بطور
العموم لهذه
68

العناوين التي توجد بهذه الآلات التي هي آلات عند العرف كاف لنا
لرفع الشك عن صحة بيع عند احتمال مدخلية شئ آخر في آلية تلك
الآلة عند الشرع.
وفيه انه لا فرق بين الآلة والسبب لأنه كما أن وجود السبب مغاير
لوجود المسبب كذلك وجود الآلة مغاير لذي الآلة، فلو كان إمضاء
المسبب غير ملازم لامضاء سببية السبب، فكذلك يمكن ان يقال ان
إمضاء ذي الآلة غير ملازم لامضاء آلية الآلة، والجواب في كلا
الموضعين واحد، وهو ان عموم الحكم لجميع افراد المسبب أو ذي
الآلة ملازم لامضائهما.
واما (القول) بأن الفرق بين الآلة والسبب التوليدي هو ان ذي الآلة
بنفسه فعل اختياري قطعا، وذلك كجميع الأفعال الاختيارية التي
تصدر من أهل الصنائع بتوسط الآلات، بخلاف المسبب التوليدي فإنه
ليس فعلا اختياريا بنفسه بل بتبع سببه كالاحراق بالنسبة إلى
الالقاء في النار، ونتيجة هذا ان أدلة نفوذ هذه العناوين تشملها إذا
كانت العقود والايقاعات من قبيل الآلات بالنسبة إليها، لأنها حينئذ
أفعال اختيارية، واما لو كانت من قبيل الأسباب والمسببات التوليدية
فلا تشملها لأنها غير اختيارية بنفسها.
(فمخدوش) من وجوه اما (أولا) - فلان باب السبب والمسبب
بمعنى العلة والمعلول غير باب الأسباب والمسببات التوليدية، لأنه
في
الأول لكل واحد منهما وجود وفي الثاني لهما وجود واحد، وما نحن
فيه - أي باب العقود والايقاعات مع هذه العناوين - لا يمكن ان
يكون من قبيل الأول لان هذه العناوين لها وجود في عالم الاعتبار غير
وجودات أسبابها أي العقود والايقاعات لأنها موجودات
تكوينية أي أفعال خارجية تصدر عن الاشخاص. و (ثانيا) - على
فرض كونها غير اختيارية بنفسها لكن حيث إنها اختيارية بتوسط
أسبابها فيقع محلا للوضع والتكليف - و (ثالثا) - عموم الحكم في
البيع مثلا بالنفوذ ملازم مع إمضاء سببية أسبابه بأي معنى كان.
(الرابع) -
انه بناء على أن تكون ألفاظ المعاملات موضوعة للأسباب
69

لا للمسببات فعلى مذهب الصحيحي يمكن التمسك بالاطلاق أم لا؟
والتحقيق في هذا المقام هو انه لو قلنا بالوضع لما هو الصحيح عند
الشارع فيصير اللفظ مجملا عند الشك في مدخلية شئ في سببيته
عند الشارع لعدم إحراز موضوع المطلق بناء على هذا.
نعم لو كان بصدد البيان من جميع الجهات لا بأس بالتمسك بالاطلاق
المقامي لا الكلامي، واما لو قلنا بالوضع لما هو الصحيح عند
العرف - كما هو الصحيح لأنه من المقطوع ان الشارع لم يضع هذه
الألفاظ بوضع جديد في مقابل الوضع العرفي - فلا مانع من التمسك
بالاطلاق أصلا الا فيما احتمل دخله فيها عرفا أيضا.
(الامر العاشر)
لا ريب في وقوع الاشتراك في أغلب اللغات وكذلك الترادف فضلا
عن إمكانهما الوقوعي، وذلك لان نفي الامكان الذاتي لا ينبغي ان
يحتمله أحد، وما ذكروه من الأدلة على الوجوب أو الامتناع معلوم
الفساد فلا يليق بأن يذكر أو يسطر، واما منشأ وجود الاشتراك و
كذلك الترادف فلا يبعد ان يكون غالبا هو اختلاف الطوائف والبلدان
من أمة واحدة كما أنه في الاعلام الشخصية يمكن ان يكون من
هذه الجهة، ويمكن أن يكون من جهة استحسان اللفظ فيختار الثاني
كما اختاره الأول. وعلى كل تقدير بعد وضوح وجوده فضلا عن
إمكانه لا تبقى ثمرة للبحث عن منشأه.
(الامر الحادي عشر)
في أنه هل يجوز استعمال اللفظ وإرادة معنيين منه في استعمال واحد
أو لا؟ فنقول ان محل البحث هو إرادة كل واحد المعنيين بطور
الاستقلال كما كان يراد كل واحد منهما من اللفظ منفردا، لا استعمال
اللفظ في مجموع المعنيين سواء كان المجموع معنى حقيقيا للفظ أو
معنى مجازيا له.
والتحقيق عدم جوازه مطلقا لا على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز
لا في المفرد ولا في التثنية ولا في الجمع.
بيان ذلك أن حقيقة الاستعمال كما بينا سابقا هو إلقاء المعنى إلى
الطرف بإلقاء اللفظ. وهذا لا يمكن الا بأن يكون اتحاد بين اللفظ و
المعنى، وحيث إن هذا الاتحاد
70

ليس حقيقيا لان اللفظ من مقولة والمعنى غالبا من مقولة أخرى، فلا
بد أن يكون اعتباريا وان شئت فسمه بالهوهوية الاعتبارية أو بأن
اللفظ وجود تنزيلي للمعنى، ولهذا قالوا ان للشئ أربعة أنحاء من
الوجودات وعدوا منها الوجود اللفظي، فإذا كان حقيقة الاستعمال
كذلك، فكيف يمكن ان يكون وجود واحد لطبيعي اللفظ وجودا لهذه
الماهية ووجودا آخر لماهية أخرى؟ (لا يقال): إن الذي لا يمكن هو
ان يكون وجود واحد شخصي وجودا لماهيتين بالذات لا وجودا
تنزيليا لهما. والفرق واضح، لان الماهية - بناء على أصالة الوجود -
عبارة عن حد الوجود فهو تابع في الوحدة والتعدد للوجود، وبناء
على أصالة الماهية ينعكس الامر أي الوجود تابع له في الوحدة و
التعدد. وعلى كل تقدير لا يمكن ان يكون وجود واحد وجودا
لماهيتين بالذات، واما الوجود التنزيلي فليس وجودا للشئ حقيقة،
وانما
هو صرف اعتبار فيمكن ان يعتبر وجود واحد وجودا لشيئين أو أكثر.
(لأنا نقول): نعم لا مانع من أن يكون الوجود الواحد وجودا اعتباريا
لعدة أشياء مجتمعة واما على سبيل الاستقلال والانفراد فلا يمكن،
لان معنى اعتبار الاتحاد بين اللفظ وهذا المعنى هو ان يكون الاثنان
واحدا وحيث إن وجود اللفظ وجود شخصي فليس هناك وجود
آخر حتى يتحد مع ذلك المعنى الاخر، ولا يقاس بمقام الجعل لأنه
هناك يعتبر الواضع الاتحاد بين طبيعي اللفظ والمعاني المختلفة
بالنوع أو بالشخص، ففي الحقيقة مرجع ذلك الجعل والاعتبار إلى أن
كل وجود من وجودات هذه اللفظة متحد مع معنى من هذه المعاني.
وهذا غير مقام الاستعمال حيث إنه يوجد وجودا واحدا من طبيعي
اللفظ ويجعله وجودا تنزيليا لهذا المعنى ويفنيه فيه ويلقي المعنى
بإلقائه وليس وجود آخر في البين حتى يلقى المعنى الاخر بإلقائه.
هذا مضافا إلى أن نظره إلى اللفظ آلي وإلى المعنى استقلالي، بحيث
يكون غافلا عن اللفظ بالمرة، فباللفظ ينظر إلى المعنى فتمام نظره إلى
هذا المعنى، وفي تلك الحالة - أي في حالة
71

الآلي إلى اللفظ والاستقلالي إلى ذلك المعنى - لا يمكن ان يكون له
لحاظ آخر آلي إلى اللفظ ولحاظ آخر استقلالي إلى المعنى الاخر. و
هذا غير قدرة النفس على لحاظ المعاني المختلفة في آن واحد كما
توهم لأنه لا مانع من ملاحظة النفس في آن واحد للمعاني المختلفة
بالوجدان، لأنها من عالم السعة والاحاطة. والمحذور في المقام ليس
ذلك لأنا نقول بصحة إرادة مجموع المعنيين أو المعاني من اللفظ
في استعمال واحد، بل المحذور في أنه - مع لحاظه اللفظ فانيا في
هذا المعنى في حين هذا اللحاظ الآلي - كيف يمكن ان يراه فانيا في
المعنى الاخر.
فإذا عرفت هذا تعرف انه لا فرق بين ان يكون المعنيان حقيقيين أو
مجازيين أو مختلفين، لاتحاد المناط في الجميع وهو عدم إمكان ان
يكون وجود واحد شخصي وجودا تنزيليا لمعنيين، أو عدم إمكان
لحاظ اللفظ في استعمال واحد بلحاظين آليين.
وأما التثنية والجمع فقد ظهر حالهما مما ذكرنا لوحدة الملاك و
المناط في الجميع. ولكن ربما يتوهم أنهما في قوة تكرار اللفظ فكأنه
هناك لفظان في التثنية وألفاظ في الجميع. ولكن ربما يتوهم أنهما في
قوة تكرار اللفظ فكأنه هناك لفظان في التثنية وألفاظ في
الجمع وهو توهم فاسد (أما أولا) - فلان هيئة التثنية موضوعة لفردين
من طبيعة واحدة من معنى المفرد وأما فرد من أحد معنييه وفرد
آخر من المعنى الاخر فلا، لأنه خلاف المتفاهم العرفي فان العرف لا
يفهم من العينين فردا من الباكية وفردا آخر من الجارية، بل اما
فردين من الجارية أو من طبيعة أخرى وهذا معنى واحد للفظ واحد و
لا تكرار في اللفظ أصلا. وكذلك الحال في الجمع عينا حرفا
بحرف، و (أما ثانيا) - فلأنه لو سلمنا انهما في قوة تكرار اللفظ فهناك
لفظان ومعنيان لا لفظ واحد ومعنيان. نعم إذا أريد من فردان
من الجارية وفردان من الباكية مثلا فيكون من قبيل ما نحن فيه أي
يكون من استعمال لفظ واحد في معنيين ويكون محالا. ولكنه لا
ربط له بمفهوم التثنية والجمع ويكون حالهما - من هذه الجهة - حال
سائر الألفاظ فالحق عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى
واحد مطلقا في جميع الشقوق.
(الامر الثاني عشر في المشتق)
قد وقع النزاع في أن المشتق بماله من المعنى
72

الذي سنبينه هل هو حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ بعد ما كان متلبسا
سابقا أم لا بعد اتفاقهم على أنه حقيقة في المتلبس في الحال ومجاز
فيما لم يتلبس بعد.
وقد يقال بأن السر في اختلافهم فيما انقضى عنه المبدأ واتفاقهم على
مجازية ما لم يتلبس بعد هو ان المشتق عبارة عن الذات الذي
حصل له التلبس بالمبدأ في الجملة أي من دون تقييد ذلك التلبس
بزمان دون زمان، فبالنسبة إلى ما انقضى عنه المبدأ يمكن ان يقال
حصل ذلك التلبس وصار فعليا ولو في الزمان الماضي، فيكون إطلاق
المشتق عليه بماله من المعنى حقيقيا، وذلك بخلاف ما لم يتلبس
به بعد فان معنى المشتق أي من حصل له التلبس بالمبدأ لم يصر
بالنسبة إليه فعليا فلا يصح إطلاقه عليه الا بنحو من العناية أي على
سبيل
الأول والمشارفة كقوله صلى الله عليه وآله (من قتل قتيلا فله سلبه).
وأنت خبير بأنه لو كان معنى المشتق من حصل له التلبس بالمبدأ من
دون تقييد ذلك التلبس بزمان فلم يبق مجال للنزاع بالنسبة إلى ما
انقضى عنه المبدأ أيضا بل يجب ان يقال بأن إطلاقه عليه أيضا حقيقي
كالمتلبس في الحال، بل لو كان معنى المشتق الذات المتلبس
بالمبدأ من دون تقييده بزمان دون زمان (وربما يؤيد هذا قولهم ان
اسم الفاعل مشترك بحسب المفهوم بين الأزمنة الثلاثة ولذلك
يصح ان يقال زيد ضارب الان أو غدا أو أمس) يجب ان يكون إطلاقه و
استعماله حتى فيما لم يتلبس حقيقيا، فالسر في هذا الاختلاف و
الاتفاق ليس الا من جهة ما يفهمه العرف وأهل المحاورة من ضيق
المفهوم وسعته بالنسبة إلى بعض المفاهيم والشك بالنسبة إلى بعض
الموارد الاخر، فكل مفهوم إذا لاحظناه يكون له سعة نعلم بانطباقه
على بعض الموارد وله ضيق من ناحية أخرى نعلم بعدم انطباقه على
بعض الموارد الاخر، وربما نشك بالنسبة إلى بعض الموارد من جهة
الشك في سعته وضيقه بالنسبة إليه، وذلك كمفهوم الخشب مثلا
نعلم بانطباقه على الأخشاب المتعارفة ونعلم بعدم انطباقه على
الأوراق والأوراد اليابسة ونشك في انطباقه على القصب مثلا،
فكذلك
فيما نحن فيه يفهم العرف من لفظ المشتق معنى معلوم الانطباق على
المتلبس فعلا وكذا معلوم عدم انطباقه
73

على ما لم يتلبس بعد ومشكوك الانطباق على ما انقضى عنه المبدأ
بعد ما كان متلبسا في الزمان الماضي فهذا هو سر الاختلاف فيما
انقضى والاتفاق في المتلبس في الحال وفيما لم يتلبس بعد.
وقد يتوهم بأن منشأ الاختلاف، هو اختلاف نظرهم في الحمل فمن
يقول بعدم صحة الاطلاق على ما انقضى من دون عناية يقول بأن
حمل المشتق على الذات من قبيل حمل المواطاة وهو عبارة عن كون
المحمول عين الموضوع وجودا وان كان غيره مفهوما، ومعلوم
عدم اتحاد الذات الذي انقضى عنه القيام مثلا وجودا مع مثل القائم، و
من يقول بصحة الاطلاق الحقيقي يقول بأن حمل المشتق على الذات
حمل اشتقاقي الذي مناطه صرف انتساب الحدث إلى الذات، و
معلوم ان الذات الذي تلبس بالمبدأ ولو في الزمان الماضي حصل له
هذا
الانتساب، فيكون الاطلاق حقيقيا والاستعمال من دون عناية، هذا
كله بالنسبة إلى ما انقضى عنه المبدأ، واما بالنسبة إلى ما لم يتلبس
بعد فلا فرق بين ان يكون من قبيل حمل المواطاة أو الاشتقاق فلا
يكون الاستعمال حقيقيا على كل حال اما بناء على الأول فواضح لما
ذكرنا فيما انقضى وأما بناء على أن يكون الحمل حمل اشتقاق فلان
الانتساب لم يحصل لعدم حصول التلبس بعد.
وأنت خبير (أولا) بأن حمل المشتق على الذات من قبيل حمل
المواطاة لا حمل الاشتقاق وحمل الاشتقاق هو حمل المبدأ على
الذات وهو
الذي لا يصح حمله على الذات الا بتقدير ذو أو باشتقاق مشتق من
تلك المادة وحمله على الذات، ولذلك سمي بحمل ذو هو، مقابل
حمل
المواطاة المسمى بحمل هو هو فلو كان المبنى ما ذكره لم يبق وجه
للنزاع فيما انقضى بل يجب الاتفاق على المجازية فيه، و (ثانيا) لو
كان صرف الانتساب كافيا في صحة الاستعمال على نحو الحقيقة فلا
فرق في ذلك بين الانتساب إلى المبدأ الماضي المنقضي أو الآتي
الذي لم يتحقق بعد وطرف النسبة معدوم في كليهما حال الانتساب
غاية الامر في أحدهما كان وانعدم وفي الاخر منعدم وسيكون. و
على كل حال توضيح هذا البحث وتحقيقه يتم برسم أمور:
74

(الأول)
ان المراد من المشتق في هذا المقام عبارة عن كل مفهوم يحمل على
الذات بملاحظة اتصافه بأمر خارج عن ذاته بأن لا يكون ذلك
الوصف العارض على الذات من قبيل الذاتي الإيساغوجي للذات أي
لا يكون جنسا ولا فصلا ولا حدا تاما له لأنه لو كان أحد هذه الأمور
فبانعدامه ينعدم الذات ولا يبقى موضوع في البين حتى نقول بأن
استعمال المشتق حقيقة فيه أو مجاز وذلك لان الذاتي لا يختلف ولا
يتخلف والا يلزم الخلف، ولذلك قلنا في بعض المباحث العلمية ان
أحسن علامة للتميز بين الذاتي والعرضي هو أن يسلب شئ عن
الموضوع فان انتفى الموضوع بانتفاء ذلك الشئ فهذا علامة قطعية
بأن ذلك الشئ ذاتي لذلك الموضوع والا فلا وأيضا لا يكون ذلك
المحمول من قبيل الذاتي في كتاب البرهان والذاتي في ذلك الباب
عبارة عما ينتزع عن نفس الذات بلا ضم أي ضميمة ولو كانت تلك
الضميمة من الأمور الاعتبارية كالزوجية بالنسبة إلى الزوج والملكية
بالنسبة إلى الملك بل جميع مبادئ الأحكام الشرعية وضعية كانت
أم تكليفية بالنسبة إلى مشتقاتها التي تحمل على موضوعات المسائل
الفقهية من الطهارات إلى الديات، مثلا يحمل الوجوب على الصلاة
فيقال انها واجبة أو الجزئية مثلا على السورة فيقال انها جز وكذلك
في سائر الأحكام التكليفية والوضعية بواسطة ضم اعتبار شرعي
إلى موضوعاتها فالذاتي في كتاب البرهان حيث إنه ينتزع من نفس
الذات من دون ضم أي ضميمة إليه خارج عن هذا البحث لان
الانقضاء لا يتصور في مثل هذا المحمول أيضا بل يكون من لوازم
الذات ولا ينفك عنه.
فتلخص مما ذكرناه أن محل البحث هو كل ما يحمل ويجري على
الذات ويكون عنوانا للذات بملاحظة اتصاف الذات بمبدأ اشتقاقه أو
بواسطة ضم ضميمة إلى الذات ولو كانت الضميمة من الأمور
الاعتبارية بشرط أن لا يكون المحمول ذاتيا إيساغوجيا ولا في كتاب
البرهان.
فالنسبة بين المشتق في محل البحث مع المشتق عند علماء العربية
عموم وخصوص
75

من وجه لان المشتق عند علماء العربية عبارة عن الألفاظ التي يكون
لهيئتها وضع نوعي بمعنى ان أهل اللسان وضعوا هذه الهيئة في
ضمن أي مادة كانت للمعنى الفلاني بل يكون لمادتها أيضا وضع
نوعي بالمعنى الذي تقدم، أي وضعوا هذه المادة في ضمن أي هيئة
حصلت للمعنى الفلاني وذلك كالأفعال الثلاثة أي الماضي و
المضارع والامر من المزيد أو المجرد ومن الصحيح أو غير الصحيح و
المجرد من الثلاثي أو الرباعي والمصادر مطلقا وأسماء المصادر و
أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة إلى غير ذلك من
المشتقات، وأما الجوامد عندهم عبارة عن الألفاظ الموضوعة وضعا
شخصيا بمادتها وهيئاتها لمعنى من المعاني وذلك كأسماء
الأجناس والاعلام الشخصية وغيرهما فمادة الاجتماع كالصفات
المشتقة الجارية على الذوات إذا لم تكن ذاتيا إيساغوجيا ولا ذاتيا في
كتاب البرهان وذلك ككثير من أسماء الفاعلين والمفعولين وغيرهما
ومادة الافتراق من جانب المشتق عند علماء العربية كل ما كان
من المشتقات الموضوعة بالوضع النوعي من الذاتيان بكلا قسميه و
الافتراق من المشتق في محل البحث كالجوامد التي تجري على
الذات
وليست بذاتية بكلا معنييه للذات وذلك كالزوج، فإنه وما يشبهه من
الجوامد الجارية على الذوات داخل في محل النزاع لعموم الملاك و
هو جريه وحمله على الذات مع بقاء تلك الذات بعد انقضاء مبدئه
عنه في بعض الأحيان.
ومما يشهد بذلك ما ذكره فخر المحققين (قده) في الايضاح فيما إذا
كان له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة فقال: (تحرم
المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين وأما
المرضعة الثانية ففي تحريمها إشكال واختار والدي العلامة قدس سره
تحريمها لأنه يصدق عليها أنها أم زوجته لأنه لا يشترط في صدق
المشتق بقاء مبدأ الاشتقاق) وهذا الكلام ومثله ما عن المسالك يدل
على دخول مثل الزوجة مما يجري على الذات وليس بذاتي بكلا
معنييه ويكون مما يبقى الذات بعد انقضاء ذلك الامر الاعتباري عنه
في
محل النزاع مع أنه من الجوامد وليس من المشتقات بالمعنى الذي
ذكرنا لها.
76

ولا بأس في التكلم في هذه المسألة من ناحيتها الفقهية وان كان
خارجا عن الفن، فنقول: لا شك في أن ما تحرم بالنسب تحرم بالرضاع
ومن جملة المحرمات بالنسب الام النسبي للزوجة فتحرم أيضا الام
الرضاعي لها لقوله عليه السلام: (الرضاع لحمة كلحمة النسب) وأيضا
تحرم بنت الزوجة نسبا مؤبدا بشرط الدخول بأمها وجمعا مع الام ولو
لم يدخل بها فكذلك بنت الرضاعي للزوجة تحرم أبدا مع
الدخول بأمها وجمعا ولو لم يدخل بها.
إذا عرفت هذا فنقول في مفروض المسألة لا بد وأن يفرض اللبن لغير
زوج الصغيرة أي يكون لبن كل واحدة من الكبيرتين لفحل آخر
غير زوج الصغيرة والا يكون حرمة الصغيرة من جهة البنتية لزوجها لا
من جهة كونها ربيبة فلا يحتاج إلى فرض الدخول بإحدى
الكبيرتين، بل لو حملتا منه بغير دخول كما ربما يتفق بالملامسة و
انجذاب الماء تحرم الصغيرة بعد حصول الرضاع الشرعي لأنها
تصير بنته. وبعد بيان ذلك نقول اما حرمة المرضعة الأولى فمن جهة
صيرورتها أم زوجته، وأما حرمة الصغيرة فلصيرورتها ربيبة
بالرضاع فمع الدخول بإحدى الكبيرتين تحرم مؤبدا والا جمعا، واما
المرضعة الثانية فان قلنا بأن المشتق حقيقة فيما انقضى فتحرم
كالأولى بواسطة صيرورتها أم زوجته والا لا تحرم أصلا، ولكن يمكن
أن يقال ان حصول الزوجية ولو كان في زمان متقدم كاف
لحرمة أمها ولو في زمان متأخر عن زمان الزوجية مثلا لو عقد على
امرأة ثم طلقها تحرم أمها أبدا ولو بعد طلاق بنتها فليكن الامر في
الأمومة الحاصلة من الرضاع أيضا كذلك. وبعبارة أخرى في باب
النسب تحرم أم من كانت زوجته فكذلك في باب الرضاع. وبناء على
هذا لا تكون حرمة المرضعة الثانية أيضا مبنية على مسألة المشتق، نعم
هاهنا إشكال آخر وهو أنه لا شك في أن الأمومة مع البنتية
متضايفان والمتضايفان متكافئان قوة وفعلا وهما في مرتبة واحدة
فبناء على هذا ظرف حصول الأمومة ظرف انتفاء الزوجية
فعنوان أم الزوجة الذي هو موضوع الحرمة لا يتحقق في عالم الوجود
لأنها حين ما تكون زوجة
77

ليست بأم وحين ما تكون اما ليست بزوجة.
وأجيب عن هذا بأن الرضاع الشرعي سواء كان تحققه بخمس عشرة
رضعة متوالية أو بشد العظم وإنبات اللحم علة لحصول أمومة
المرضعة وبنتيه المرتضعة فالأمومة والبنتية معلولان لعلة واحدة و
في رتبة واحدة وما هو سبب ارتفاع الزوجية هو بنتية المرتضعة
لزوجته أي صيرورتها ربيبة له فيكون ارتفاع الزوجية متأخرا رتبة عن
حصول البنتية التي هي في رتبة حصول الأمومة فالزوجية ثابتة
في مرتبة حصول الأمومة للمرضعة والبنتية للمرتضعة والا يلزم ارتفاع
النقيضين في تلك المرتبة فيتحقق موضوع الحرمة أي عنوان أم
الزوجة في رتبة حصول الأمومة للمرضعة وحصول البنتية للمرتضعة.
ولكن أنت تدري بأن التقدم والتأخر الرتبي لا يفيد في مثل هذه
الموارد مع وحدة زمان حصول أمومة المرضعة وحصول بنتية
المرتضعة مع ارتفاع وعدم الزوجية بحكم وحدة زمان العلة مع زمان
المعلول ففي زمان حصول الأمومة لا زوجية في البين والا يلزم
اجتماع النقيضين مع أنه يجب في التحريم اجتماع الأمومة مع الزوجية
في عالم الوجود زمانا لكي يتحقق موضوع الحكم.
ويمكن ان يجاب بأن موضوع الحكم هو أمومة من كانت زوجته كما
تقدم آنفا فلا يرد هنا إشكال أصلا، لكن فيه أنه بناء على هذا لا
تكون المسألة مربوطة بمحل بحثنا حتى بالنسبة إلى المرضعة الثانية
فتحرم المرضعة الثانية أيضا سواء قلنا بأن المشتق حقيقة في الأعم
أم لا؟
(الامر الثاني)
أنه بعد ما عرفت في الامر الأول ان محل النزاع هو ما كان جاريا على
الذات وحاكيا عنه وعنوانا له ولا يكون ذاتيا له بكلا معنييه حتى
يمكن بقاء الذات بعد انقضاء المبدأ عنه، ربما يتوهم عدم جريان هذا
النزاع في أسماء الزمان وذلك لان الذات الموصوف بالمبدأ فيها
نفس تلك القطعة من الزمان الذي هو ظرف حدوث هذا الحدث الذي
نسميه بالمبدأ، ولا شك في أن نفس تلك القطعة من الزمان
78

أيضا ينقضي بانقضاء الحدث الواقع فيه لأنه من الأمور غير القارة التي
لا تجتمع أجزاؤها في الوجود أي ما لم ينعدم الجز السابق لا
يوجد الجز اللاحق شأن جميع الأمور التدريجية غير القارة، فلا يبقى
موضوع في البين بعد انقضاء المبدأ حتى نقول بأن استعمال
المشتق أعني اسم الزمان حقيقة فيه أو مجاز.
وأجاب صاحب الكفاية (قده) عن هذا الاشكال بأن انحصار مفهوم
عام في فرد لا يوجب وضع اللفظ لذلك الفرد الخاص، الا ترى ان
مفهوم واجب الوجود مع أنه منحصر في الفرد وذلك لامتناع تعدد
الواجب بأدلة التوحيد لم يوضع لفظ واجب الوجود لذلك الفرد
الخاص بل موضوع للمعنى العام الكلي ففي المقام أيضا زمان حدوث
كل حادث سواء كان ذلك الحادث من الأمور التدريجية غير القارة
مثل نفس الزمان أو من الأمور القارة التي لوجودها بقاء في دار الوجود
أو كان دفعي الحصول ثم ينعدم دفعة عبارة عن تلك القطعة
التي تكون ظرفا لحدوث ذلك الحادث ويكون منحصرا به، ولا يمكن
ان يكون لهذا الحادث زمان آخر غير تلك القطعة فزمان وجود
كل حادث مطلقا بأقسامها الثلاثة منحصر في الفرد وله مصداق واحد،
ولكن مفهوم زمان ذلك الحادث عام فلو فرضنا محالا أن لذلك
الحادث الف زمان لكان مفهوم زمان ذلك الحادث ينطبق على الكل
فبانقضاء ذلك الفرد من الزمان أي تلك القطعة التي هي زمان ذلك
الحادث لا ينقضي المفهوم العام، وما هو الموصوف للمشتق أي اسم
الزمان ليس تلك القطعة الخارجية من الزمان بل ذلك المفهوم العام
وهو لا ينقضي بانقضاء الحدث هذا ما أفاده بتقريب منا.
وأنت خبير (أولا) أنه بناء على هذا يكون هذا البحث لغوا لا ثمرة فيه
أصلا لان ذلك المفهوم العام ولو كان لا ينقضي بانقضاء الحدث و
لكن حيث أنه لم يكن له مصداق آخر فلم يبق ثمرة وفائدة لاطلاق
المشتق عليه حتى يقع النزاع في أن الاستعمال حقيقي أو مجازي. و
(ثانيا) ان حمل المشتق على الذات يكون على مفهوم الذات باعتبار
حكايته ومرآتيته عن مصاديقه والا فنفس المفهوم بما هو هو
79

لا يحكم عليه بهذه الأحكام فإذا يقال مثلا واجب الوجود بالذات
واجب الوجود من جميع الجهات ليس هذا الحكم على مفهوم واجب
الوجود بما هو مفهوم موجود في الذهن بل بما هو حاك عن مصداقه
الأزلي القديم.
إذا عرفت هذا فنقول حيث أنه لا مصداق آخر لهذا المفهوم غير ما
انقضى وانعدم بانقضاء الحدث فلا يمكن أن يصير موضوعا للمشتق
أصلا حتى ولو التزمنا باللغوية وقلنا بعدم مضرية عدم الثمرة.
وأجيب أيضا بأن الموضوع في مثل مقتل الحسين عليه السلام أو
ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وأمثالهما ليس تلك القطعة من الزمان
الذي حصل فيه قتله عليه السلام أو ميلاده صلى الله عليه وآله بل هو
مفهوم يوم العاشر من المحرم من دون تقييده بتلك السنة التي وقع
فيها هذه المصيبة العظمى بل بما هو مرأة وحاك عن مصاديق هذا
المفهوم من أي سنة من السنين التي بعد وقوع ذلك الحادث العظيم و
نفس تلك السنة، ومعلوم أن هذا المعنى باق بمر الدهور إلى قيام يوم
القيامة، وهكذا الحال في لفظة الميلاد وغيره مما يشبهه ولكن
أنت خبير بأنه لو كان الموضوع للفظ مقتل الحسين عليه السلام هو
ماهية يوم العاشر من دون ملاحظة وجودها الخارجي لكان لهذا
الكلام وجه لان الماهية الكلية لا تتبدل بتبدل الافراد فيكون الموضوع
محفوظا بعد انقضاء المبدأ وأما لو كان الموضوع هو اليوم
العاشر من المحرم مثلا بوجوده الخارجي بمعنى أن المفهوم موضوع و
لكن بما هو حاك عن وجوده الخارجي ومرأة له فذلك الوجود
الذي كان متلبسا بالمبدأ انقضى قطعا لان وجود الطبيعة في ضمن كل
فرد غير وجوده في ضمن فرد آخر فيعود الاشكال.
والتحقيق في الجواب ان اليوم والشهر والسنة والقرن وأمثالها ولو
كان بالنظر الدقيق ما لم ينعدم جز منها لا يوجد الجز اللاحق
لذلك الجز ولكنه عند العرف توجد هذه الأمور تماما وكما لا في آن
أول وجودها وفيما بعد ذلك الان ويرى العرف بقاء وجودها لا
حدوث الاجزاء الاخر وسيجئ بيان هذا المطلب في باب
استصحاب
80

الزمان والأمور التدريجية غير القارة مفصلا إن شاء الله، فبناء على هذا
يكون اليوم العاشر من المحرم الذي قتل فيه الحسين عليه
السلام مثل (زيد) مثلا له حدوث وبقاء فإذا كان في ساعة منه متلبسا
بالمبدأ وفي ساعة أخرى غير متلبس به بل كان منقضيا عنه
يصدق في الساعة الثانية ان هذه الذات كانت متلبسة بهذا الحدث و
الان انقضى عنها مع بقاء الذات. نعم إطلاق المقتل - على غير تلك
السنة التي قتل فيها الحسين عليه السلام - يكون مجازا على كل حال،
سواء قلنا بأن المشتق حقيقة في الأعم أم لا ويكون إطلاقه من باب
المماثلة، وهكذا الحال في سائر الألفاظ التي تكون من هذا القبيل.
(الامر الثالث) -
أن المراد من الحال في قولهم -: المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدأ
في الحال اتفاقا - هو حال التلبس بالمبدأ لا حال النطق المقابل
الزمان الماضي والاستقبال، وحال الجري والانتساب أي حال النسبة
الايقاعية وظرفها، والفرق بين هذه الثلاثة واضح، لان المراد من
حال التلبس بالمبدأ هو فعلية اتصاف الذات بالمبدأ وقيام المبدأ بها. و
(بعبارة أخرى) عنوان المشتق عنوان ينتزع عن الذات بملاحظة
قيام عرض من الاعراض التسعة أو قيام أمر اعتباري بالذات، وأما
المشتقات - التي تكون مقومة لأصل الذات التي نسميها بالذاتي
الإيساغوجي أو ما ينتزع عن نفس الذات من دون انضمام أمر خارج
إليه التي نسميها بالذاتي في كتاب البرهان - فقد تقدم انها خارجة
عن محل بحثنا وليس المراد من حال التلبس الا هذا المعنى أي حال
انضمام ذلك المبدأ إلى الذات ولا تتوهم مما ذكرنا أن زمان
الانضمام جز لمفهوم المشتق، بل المراد فعلية الانضمام، وحيث أن
فعلية الانضمام والتلبس من الحوادث الزمانية فلا بد من وقوعها في
زمان، والا فليس الزمان جز لمفهوم الافعال فضلا عن الأسماء. و
الحاصل أن المراد من حال التلبس هو فعلية انضمام المبدأ إلى الذات
والمراد من حال الجري هو حال النسبة التي توقعها بين الذات و
المشتق. وأما حال النطق فواضح أن المراد منه حال التكلم بهذا
الكلام،
فإذا فرضنا أن زيدا كان راكبا في اليوم الذي كان قبل يوم أمس وأنت
قلت أن زيدا راكب أمس، فحال التلبس - في هذا المثال - هو
اليوم الذي قبل
81

أمس، وحال الجري والانتساب هو أمس، وحال النطق هو حال
التكلم بهذا الكلام.
إذا عرفت هذا فنقول لا شك في أن في حال التلبس أي في حال قيام
المبدأ بالذات وانضمامه إليها يكون المشتق متحدا مع الذات نحو
اتحاد على اختلاف أنحاء المبادئ وهذا هو مناط حمله عليه بالحمل
الشائع والمواطاة، فلا معنى لان لا يكون الجري في هذا الحال حقيقة
ويكون حقيقة في غير هذا الحال، والحال أن مناط انتزاع العرف
المشتق عن الذات هو هذا الحال، واما حال التكلم والنطق فيمكن أن
يكون في حال عدم قيام المبدأ بالذات بل في حال انقضائه عنها أو
عدم فعليته وتلبسها به بعد نعم يمكن أن يكون في تلك الحال أيضا
فإذا اتفق كونه فيها فلا شك في أن استعماله فيه حقيقة وأما إذا اختلفا
فبالنسبة إلى ما لم يتلبس به بعد حصل الاتفاق على المجازية و
بالنسبة إلى ما انقضى عنه التلبس والفعلية وقع الخلاف.
وقد ظهر مما ذكرنا عدم منافاة قولهم: إن المشتق حقيقة في المتلبس
بالمبدأ في الحال مع عدم أخذ الزمان في مفهوم الأسماء. وذلك
لان منشأ هذا التوهم ليس الا تقييد كونه حقيقة اتفاقا بالحال فيقال لو
لم يكن الحال داخلا في مفهوم المشتق ومأخوذا فيما هو الموضوع
له لم يكن لهذا التقييد وجه. ولكنك عرفت أن المراد من الحال ليس
زمان الحال بل المراد منه فعلية التلبس.
وأيضا اندفع توهم آخر وهو أنه حيث أنهم قالوا بأن عمل اسم الفاعل
عمل فعله مشروط بأن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال، فربما
يتوهم أنه لو لم يكن الزمان جز مدلول اسم الفاعل فكيف يشترط
عمله بدلالته على الحال أو الاستقبال؟ ويندفع بما ذكرنا من أن
المراد من الحال هو فعلية التلبس ومن الاستقبال عدم فعلية التلبس
إلى زمان الجري بل هو يصير فعليا فيما بعد، نعم فيما لو كان
التلبس وانقضى لا يعمل عمل فعله.
وأما قولهم: إن الجملة الاسمية ظاهرة في ثبوت المحمول للموضوع
في زمان النطق فيما إذا كان المحمول مشتقا من المشتقات بالمعنى
الذي ذكرنا للمشتق فالمراد به الظهور
82

الاطلاقي بمعنى أنه لو كان ثبوت المحمول للموضوع وتلبسه به في
غير زمان النطق كان عليه البيان، وإذ ليس، فلا بد وأن يكون
مراده التلبس في تلك الحال لا من جهة دلالتها وضعا. وعلى كل حال
هذا الظهور ليس من ناحية مفهوم المشتق الذي هو محل الكلام، بل
هذا راجع إلى ظهور الجملة ظهورا إطلاقيا لا وضعيا. ولو كان وضعيا
كان أيضا خارجا عن محل الكلام وما نحن فيه، فلا وجه لتوهم
المنافاة بين ما ذكرنا في معنى المشتق وما ذكروه في ظاهر الجملة
الاسمية من باب الظهور الاطلاقي وعدم ذكر الرابط الزماني. واما
اختلاف الشيخين - أي الفارابي وابن سينا - في عقد وضع القضية و
انه موجهة بالامكان أو بالفعلية فأجنبي عن هذا المقام بالمرة.
(الامر الرابع) -
أن اختلاف المبادئ بحسب الفعلية والقوة والحرفة والملكة وغيرها
من الأنحاء لا يوجب اختلافا فيما نحن فيه من أن المشتق هل هو
حقيقة في خصوص المتلبس في الحال أو الأعم منه ومما انقضى نعم
يختلف التلبس والانقضاء مصداقا لا مفهوما بواسطة اختلاف
المبادئ.
(بيان ذلك) أن المبدأ في المجتهد لو كان هو ملكة الاجتهاد فمصداق
التلبس وجود تلك الملكة وفعلية اتصاف الذات بالملكة لا فعلية
اتصاف الذات بالاستنباط الفعلي، وهكذا في طرف الانقضاء لا
يتحقق الانقضاء الا بزوال تلك الملكة لا بزوال الاستنباط الفعلي ففي
حال
النوم أو غيره من الأحوال التي لم يكن متلبسا فيها بالاستنباط الفعلي لا
يصدق عليه الانقضاء، واما لو كان المبدأ هو الاستنباط الفعلي
فيصدق الانقضاء في أمثال هذه الأحوال قطعا. وهكذا الحال في سائر
المبادئ والمشتقات. و (بعبارة أخرى) كلامنا في وضع الهيئة و
انها هل وضعت لخصوص المتلبس في الحال أي في حال الجري أو
للأعم منه ومما انقضى وهذا لا ربط له باختلاف المواد والمبادئ من
حيث الوضع والمعنى، فاستدلال بعضهم - على الأعم بصدق
المجتهد - مثلا على الذي ليس مشغولا بالاستنباط فعلا - صدقا
حقيقيا -
ليس في محله.
وقد ذكر أستاذنا المحقق في هذا المقام ما يظهر منه إنكار اختلاف
المبادئ
83

من حيث القوة والفعلية وغيرهما. وحاصل ما ذكره أن الافعال
المشتقة من تلك المبادئ سواء كان فعل ماض أو مضارع أو أمر لا
تستعمل الا في المعنى الحدثي بالوجدان، مثلا لا يستعمل اجتهد أو
يجتهد أو اجتهد الا في الاستنباط الفعلي الذي هو معنى حدثي أو في
الجد والجهد ومطلق السعي وهو أيضا كذلك معنى حدثي، وهكذا
الحال في سائر الأفعال المشتقة من سائر المواد، ولم نشاهد
بالوجدان استعمال فعل من الافعال في المعنى غير الحدثي فلا يقال
أتجر بمعنى أنه أخذ التجارة حرفة له أو صاغ أي أخذ الصياغة صنعة
له أو اجتهد أي صار ذا ملكة الاجتهاد وهكذا، وبعيد كل البعد أن
يكون المبدأ في الافعال والأسماء مختلفا، وبناء على هذا فالمبدأ في
الأسماء أيضا ذلك المعنى الحدثي لا الملكة أو الحرفة أو الصنعة و
أمثالها. وحينئذ السر - في إطلاق المشتق إذا كان من الأسماء على
الذات المنقضي عنها التلبس إطلاقا حقيقيا - هو ان العرف يرى أن من
يزاول هذه الأعمال ويجعلها شغلا وحرفة لنفسه متلبسا بها دائما
ويرون فترات الانقضاء بحكم العدم ولا يرونها موجبة لانقطاع هذه
الأعمال لينفى التلبس بها حتى يكون داخلا في محل الخلاف.
هذا حاصل ما أفاده طاب ثراه. ولكن أنت خبير بأن في مثل العدالة
المنتسبة إلى الذات عند قولك زيد عادل لا يمكن أن يكون المبدأ
فيها معنى حدثيا، لأنه ليس بمعنى حدثي في البين، بل المراد من
العادل هو الذات المتلبسة بالملكة وهكذا في المجتهد بمعنى كونه ذا
ملكة الاجتهاد.
و (بعبارة أخرى) هذا المعنى أي اختلاف المبادئ وكونها على أنحاء
مما لا يمكن أن ينكر، هذا مضافا إلى صحة إطلاق المجتهد إطلاقا
حقيقيا مع عدم استنباطه الفعلي أصلا وعدم مزاولته له ولو في
مسائل قليلة حتى نقول بأن العرف يرى الفترات بحكم العدم. وأما
السر
- في عدم كون المبادئ في الافعال من قبيل الملكة والحرفة و
أمثالهما لو سلمنا ذلك فهو أن هيئة الافعال موضوعة لانتساب الحدث
و
الفعل بالمعنى الحدثي إلى الذات انتسابا صدوريا أو وقوعيا أو غير
ذلك، فلا معنى لان يكون المبدأ
84

فيها الملكة أو الحرفة أو ما يشبههما من الصفات والنعوت التي ليست
من الاحداث والأفعال، ولعمري ان هذا واضح. وما صدر عن
أستاذنا المحقق في هذا المقام عجيب. وأعجب منه ما أفاده بعض
المحققين في حاشيته على الكفاية في هذا المقام في مثل (النار
محرقة)
و (الشمس مشرقة) و (السم قاتل) و (السنا مسهل). إلى غير ذلك مما
يكون مسوقا لبيان المقتضيات لمبادئ هذه المشتقات وهو انه كما
يمكن أن يكون التلبس في هذه المذكورات بالتصرف في مبادئها و
جعلها عبارة عن اقتضاء الاحراق لا فعلية الاحراق وهكذا الحال في
سائر المذكورات وما يشابهها كذلك يمكن أن يكون الجري باعتبار
اتحاد هذه المشتقات في عالم الوجود مع موضوعاتها من دون
نظر وملاحظة إلى اتحادهما أي المشتقات مع الموضوعات في حال
من الأحوال أو زمان من الأزمنة حتى يقال بأن جريها على الذوات
يكون في حال الانقضاء وعدم التلبس بها.
وأنت خبير بأنه يصح في هذه المذكورات أن يقال مثلا، السنا دائما
مسهل، والسيف دائما قاطع، والنار دائما محرقة وهكذا في أمثالها
مع أنه من الواضح البديهي ان هذه الموضوعات ليست دائما متلبسة
بهذه المبادئ لو أخذنا هذه المبادئ فيها بطور الفعلية بل ربما لا
يحصل تلبس في بعضها أصلا مدة وجوده، فلا مناص الا أن نقول
بالتصرف في مبادئها بأن المراد اقتضاء هذه الأمور لا فعليتها (مثلا)
المبدأ في مثل السم قاتل اقتضاء القتل لا فعليته (ان قلت): من الممكن
أن يكون التصرف في ناحية التلبس لا في ناحية المبدأ. وذلك بأن
يكون تلبس الذات بالمبدأ الفعلي اقتضائيا يعنى أن السم مثلا متلبس
بالقتل الفعلي بطور الاقتضاء. وهكذا في نظائرها وفي اسم الآلة
مثل المفتاح والمخيط تكون الذات (أي هذه الآلة) متلبسة بالفتح
الفعلي أو الخياطة الفعلية بطور الاستعداد والقابلية وهكذا في سائر
الموارد (قلنا) أولا ان هذا مطلب آخر غير ما ذكره ذلك المحقق
رضوان الله تعالى عليه. وثانيا - من الواضح البديهي أن الشئ لا
يوجد
بصرف وجود المقتضي ما لم يتم تمام أجزاء علة وجوده: من وجود
الشرائط وفقد الموانع علاوة على وجود المقتضي، فالمعلول - في
ظرف عدم تمامية أجزاء العلة -
85

معدوم واقعا. ومع انعدامه في حاق الواقع والأعيان كيف يمكن ان
يكون التلبس به - بأي قسم ونحو كان التلبس وفرضته - فعليا. نعم
الذي يمكن هو ان الذات في المقتضيات متلبسة فعلا باقتضائه للمبدأ
وهذا عين التصرف في المبدأ بحمله على الاقتضائي لا الفعلي و
هكذا الحال في أسماء الآلات وصيغ النسبة كالتامر واللابن والبقال و
العطار.
(الامر الخامس) -
ان هذا النزاع في مرحلة الوضع والاستعمال لا في مرحلة الانطباق و
التطبيق وتوهم صاحب المحجة ان هذا النزاع في مرحلة الصدق و
الانطباق بعد الفراغ عما هو الموضوع له والمفهوم، وأنكر على
الأصوليين بحثهم في ناحية المفهوم لان المفهوم لا خفاء فيه بحسب
المتفاهم العرفي، لأنه عنوان منتزع عن الذات بملاحظة اتصافها بمبدأ
الاشتقاق، وهذا المعنى لا خلاف فيه لا في أصله ولا في سعته و
ضيقه، بل انما الكلام في مقام صدقه وحمله على الذات وانه هل
يحمل على الذات المتلبسة بالمبدأ في حال الجري فقط أو أعم من
ذلك و
مما انقضى عنه المبدأ؟ و (بعبارة أخرى) يدعي أن نزاعهم يرجع إلى
أن حمل المشتق على الذات هل هو من قبيل حمل المواطاة وحمل
هو
هو حتى يكون إطلاقه على الذات المنقضي عنها المبدأ حملا مجازيا
بالعناية، لأنه لا هوهوية للشخص القاعد مع مفهوم قائم ولو كان
قبل زمان الجري قائما، وهكذا الحال في سائر موارد الانقضاء بعد
التلبس أو من قبيل حمل ذو هو حتى يكون صرف انتساب المبدأ
إلى الذات كافيا ولا يحتاج إلى اتحاد في الوجود فيكون إطلاقه على
الذات المنقضي عنها المبدأ إطلاقا حقيقيا لا مجازيا، لأنه بصرف
تلبس الذات بالمبدأ - ولو كان في زمان سابق على زمان الجري -
حصل الانتساب وما هو مناط هذا الحمل.
ففي الحقيقة هذا النزاع يرجع - عند هذا المتوهم - إلى أن حمل
المشتق على الذات هل من قبيل حمل المواطاة أو من قبيل حمل
الاشتقاق
ولكنك خبير بأن صحة الاطلاق والانطباق على نحو الحقيقة وبلا
عناية دائر مدار سعة المفهوم وضيقه،
86

لأنه لا معنى للصدق والانطباق إلا كون الشئ فردا لمفهوم من
المفاهيم، فإذا كان فردا له فقهرا ينطبق عليه ذلك المفهوم وإلا فلا، (و
بعبارة أخرى) الانطباق أمر تكويني منوط بوجود فرديته للمفهوم فمع
فرديته لا يمكن أن لا ينطبق ومع عدم فرديته لا يمكن أن
ينطبق. ولا تحصل الفردية إلا بسعة المفهوم فإذا كان المفهوم موضوعا
للأعم من المتلبس والمنقضي فلا محالة تكون الذات فردا
للمشتق حتى في حال الانقضاء، فقهرا ينطبق عليها وإلا فلا.
هذا، مضافا إلى ما ذكرنا سابقا من أن حمل المشتق على الذات من
باب حمل المواطاة لا حمل الاشتقاق فلا مقتضي للنزاع في البين
أصلا
بناء على ذلك.
وأما احتمال أن يكون وجه النزاع ادعاء كون الذات المنقضي عنها
المبدأ من مصاديق مفهوم المشتق - مع عدم كونها من مصاديقه حقيقة
كما ذهب إليه السكاكي في باب الاستعارة فيرجع النزاع بناء على هذا
إلى أنه هل مثل هذا الادعاء موجود عند أبناء المحاورة في
استعمالاتهم أو لا - فبعيد جدا (أما أولا) - فلان ما ادعاه السكاكي إن
رجع إلى التصرف في جانب المفهوم بأن يراد من الأسد - مثلا -
مطلق الشجاع لا خصوص الحيوان المفترس، فحينئذ وإن كان انطباقه
على زيد الشجاع انطباقا حقيقيا لأنه على الفرض حقيقة من
أفراد الشجاع ومصاديقه، إلا أن هذا المعنى يرجع إلى مقالة المشهور و
هو استعمال اللفظ في خلاف ما وضع له لعلاقة بين ما وضع له و
هذا المعنى المستعمل فيه. وهذا خروج عما ادعاه ولا يقول به
السكاكي. وإن كان صرف ادعاء بلا تصرف في جانب المفهوم فيكون
ادعاء كاذبا. ولا يمكن أن يكون النزاع في هذه المسألة بين المحققين
في وجود هذا الادعاء الكاذب وعدمه كما هو واضح.
و (أما ثانيا) - فالمقصود من هذا البحث هو ترتيب ثمرته وهو أنه إذا
رتب الشارع حكما على عنوان عام من المشتقات كحرمة أم
الزوجة أو كراهة البول تحت الشجرة المثمرة فبناء على وضعه للأعم
تكون أم من كانت زوجته - فطلقت أو حصل رضاع محرم أو ماتت
- محرمة عليه، والشجرة التي كانت مثمرة ولو أنها لا نكون مثمرة الان
87

يكره البول تحتها. وأما كونها أم زوجة أو كونها مثمرة - ادعاء - فلا أثر
له أصلا ولا فائدة يترتب عليها، الا أن يكون الادعاء من طرف
الشارع حتى يكون تنزيلا بحسب الآثار: مثل الطواف بالبيت صلاة و
إلا لا فائدة في ادعاء أهل العرف والمحاورة ما لم يتحقق ظهور
بلا قرينة. فلا ينبغي الشك في أن هذا النزاع في تعيين مفهوم المشتق و
ما هو الموضوع له سعة وضيقا لا في مقام صدقه وانطباقه.
(الامر السادس) -
بيان أن الأصل في المشتقات هل هو اسم المصدر أو المصدر أو الفعل
أو ليس شئ منها أصلا؟ بل كل واحد من هذه المذكورات صيغة لها
مادة وهيئة في قبال سائر الصيغ وفي عرضها، والصحيح هو الأخير
إن كان المراد بالأصل هي المادة السارية بلفظها ومعناها في
سائر الصيغ.
(بيان ذلك) هو أنه لا بد في المادة السارية أن تكون لا بشرط من حيث
اللفظ عن جميع الهيئات الواردة عليها ومن حيث المعنى أيضا
كذلك أي يكون لا بشرط عن جميع الخصوصيات الواردة عليها كما
هو شأن المواد بالنسبة إلى الصور المختلفة التي تتلبسها، مثلا
الحديد أو الخشب - بالنسبة إلى الأشياء التي تصنع منهما كالسيف و
السكين بالنسبة إلى الأول منهما والباب والسرير بالنسبة إلى
الثاني منهما - لا بد وأن يكونا لا بشرط عن هذه الخصوصيات أي
خصوصية السيفية والسكينية بالنسبة إلى الحديد، - والبابية و
السريرية بالنسبة إلى الخشب، وهذه المذكورات كلها ليست لا بشرط
لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى.
أما من حيث اللفظ فظاهر لان لكل واحد منها هيئة تخصه وتكون
مضادة لسائر الهيئات.
وأما من حيث المعنى فلان جميع الأفعال والاحداث لكل واحد منها
أنحاء من اللحاظ: (أحدها) - لحاظها من حيث وجودها في أنفسها و
إن كانت وجوداتها في أنفسها عين وجوداتها لموضوعاتها ولكن
تلاحظ بالاعتبار الأول ولا يلاحظ اعتبار كونها نعتا للغير ومرتبطا
به وأنها وجودات رابطية، بل لها وجود في قبال سائر
88

الأشياء والذوات والأفعال والاحداث وبهذا الاعتبار تكون مفاد اسم
المصدر، فمفاد اسم المصدر يكون ذات ما يصدر من الفاعل من
دون ملاحظة جهة إصداره وانتسابه إلى فاعل ما، ولذلك قلنا إن البيع
إذا تعلق النهي به بالمعنى الاسم المصدري يكون دالا على فساد
المعاملة، لأنه بذلك المعنى عبارة عن نفس النقل والانتقال الصادر
عن البائع من دون ملاحظة جهة إصداره. ومعلوم ان ذات النقل و
الانتقال إذا كان مبغوضا ومنفورا من قبل الشارع فلا يتعلق به الامضاء،
لتنافي النهي مع الامضاء.
(ثانيها) - لحاظها من حيث صدورها وانتسابها إلى فاعل ما، وبهذا
الاعتبار تكون مفاد المصدر، فمفاد المصادر تكون تلك الأفعال و
الاحداث باعتبار صدورها عن فاعل ما. ولذلك قلنا إن النهي المتعلق
بالبيع بالمعنى المصدري لا يدل على الفساد، لان مبغوضية جهة
إصدار الشئ غير مبغوضية ذات الصادر. ولا ملازمة بينهما فلا تنافي
بين النهي عن جهة الاصدار وإمضاء ذات الصادر، ولعل إلى هذا
الفرق بين اسم المصدر والمصدر يشير قول من يقول بأن اسم المصدر
ما هو الحاصل عن المصدر ونتيجته كالغسل والاغتسال.
(ثالثها) - ملاحظتها منتسبة إلى الذات بالنسبة التحققية الانقضائية و
بهذا الاعتبار تكون مفاد هيئة الفعل الماضي.
(رابعها) - ملاحظتها منتسبة إلى الذات بالنسبة التحققية التلبسية، أي
بتحقق الارتباط بين الذات والحدث. وبهذا الاعتبار تكون مفاد
هيئة الفعل المضارع، والفرق - بين مفاد هيئة الفعل الماضي و
المضارع بعد اشتراكهما في أن المادة المنتسبة إلى الذات في كليهما
لوحظت أمرا ممتازا عن الذات غير ناعتي له وفانيا فيه - هو أن النسبة
في الماضي نسبة تحققية بمعنى انها تحققت وانقضت ولذلك
توهموا دلالة الفعل الماضي على الزمان الماضي وانه جز لمدلوله
مع أنه من لوازم تلك النسبة التي تحققت وانقضت، فلا بأس بأن
نسمي
مفاد هيئة الفعل الماضي بالنسبة التحققية الانقضائية ومفاد هيئة
الفعل المضارع بالنسبة التحققية التلبسية بين الحدث المتصور مستقلا
مع الذات، وكأن التلبس الذي قلنا في الفعل المضارع أعم من التلبس
الفعلي وغيره
89

مما لم يتحقق بعد، ولذلك توهموا دلالته على الحال والاستقبال و
اشتراكه بين الزمانين مع أن الزمانين من لوازم مدلول هيئة الفعل
المضارع.
(خامسها) - ملاحظتها منتسبة إلى الذات بالنسبة الطلبية أي طلب
إصدار المادة وإيجادها عن الذات وبهذا الاعتبار تكون مفاد هيئة
الامر.
(سادسها) - ملاحظتها منتسبة إلى الذات بالنسبة التلبسية الاتحادية
الناعتية وبهذا الاعتبار تكون مفاد هيئات الأسماء المشتقة غاية
الامر على اختلاف أنحاء التلبسات الاتحادية من الصدورية والوقوعية
والحلولية والظرفية الزمانية والمكانية وسائر أنحاء التلبسات
(لا يقال) إن النسبة التلبسية قلتم أنها مفاد الفعل المضارع، فلا يبقى
فرق بين مفاد هيئة الأسماء المشتقة كاسم الفاعل والمفعول و
الصفة المشبهة واسم الآلة وصيغ النسبة والمبالغة واسم الزمان و
المكان وبين مفاد هيئة الفعل المضارع (قلنا): الفرق هو أن تلك
النسبة الكذائية في الفعل المضارع تلاحظ بين المتمايزين وفي
الأسماء بين المتحدين ولذلك لا يحمل الفعل المضارع على الذوات
بخلاف الأسماء المشتقة.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول جميع هذه المعاني والاعتبارات ليست قابلة
لان تكون مادة سارية في المشتقات لمقابلة كل واحد منها مع
الاخر حتى معنى اسم المصدر، مع أنه أبسط من الكل، لأنه موضوع
لنفس الحدث من دون لحاظ أية خصوصية معه، لأنه لما لم يعتبر على
نحو لا بشرط لا يمكن أن يكون مادة للكل. وقد بينا أن المادة السارية
لا بد أن تكون لا بشرط حتى لا تتأبى عن الاجتماع مع
الخصوصيات ومفاد اسم المصدر نفس الحدث مهملا لا لا بشرط،
فيكون من قبيل ما وضع له في أسماء الأجناس التي تكون عبارة عن
نفس الماهيات المهملة، ولذلك نحتاج في إثبات الاطلاق وثبوته إلى
مقدمات الحكمة، فلا يمكن أن تكون هذه الصيغ - لا المصدر ولا
اسم المصدر ولا البقية - مادة بالمعنى الذي ذكرنا لها لسائر المشتقات
لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى، بل مادة المشتقات ليست
إلا الحروف التي تكون محفوظة في جميع المشتقات من دون
ملاحظة هيئة معها وهي موضوعة بالوضع النوعي أي في ضمن أي
هيئة
كانت للحدث اللابشرط. والهيئات أيضا موضوعة وضعا نوعيا للنسب
التي بيناها مفصلا.
90

(الامر السابع) - في بساطة مفهوم المشتق أو تركبه.
اختلف أهل البحث والنظر في معنى البساطة والتركب. فقيل: إن
المراد من البساطة هو أن يكون معنى المشتق ومفهومه والمنسبق إلى
الذهن منه صورة وحدانية وإن كان العقل يحللها إلى أمرين وهذا
التحليل العقلي لا ينافي البساطة. وذلك كما أن مفهوم النوع
كالانسان مثلا بسيط قطعا مع أن العقل يحلله إلى جنس وفصل. سوأ
كان المنطبق عليه الجنس في الخارج غير ما ينطبق عليه الفصل
كما في الانسان وجميع الأنواع المركبة في الخارج من مادة وصورة
خارجيتين أو لم يكن في الخارج شيئان بحيث يكون أحدهما مما
ينطبق عليه الجنس والاخر الفصل. وذلك كما في البسائط الخارجية
كالأعراض، حيث أنها ليست مركبة من مواد وصور خارجية، و
التركب قبال هذا المعنى هو أن تكون الصورة التي تأتي من الشئ إلى
الذهن صورة مركبة من صورتين لا صورة وحدانية كما أنه ربما
يكون الامر في السكنجبين كذلك، فلعل الصورة التي تأتي منه إلى
الذهن مركبة من صورة الخل والسكر، وأما مثل غلام زيد أو سائر
الجمل فكلها جملة والكلام في المفاهيم الأفرادية.
وقيل: إن المراد من البساطة هي الحقيقية لا صرف أن يكون الآتي في
الذهن منه صورة وحدانية فقط، بل لا بد وأن يكون بحسب الواقع
كذلك يعني لا يكون المفهوم في حاق الواقع مركبا من جزين أو أكثر
حتى عند التحليل العقلي، والتركب قبال هذا المعنى هو أن تكون
الصورة الذهنية من الشئ مركبة ولو عند التحليل، وإلى هذا القول
ذهب شيخنا الأستاذ رضوان الله تعالى عليه وقال: إن التركيب ولو
تحليلا ينافي البساطة (لا يقال): كيف يقول بالبساطة بهذا المعنى مع
أن نفس المبدأ ليس بسيطا هكذا، لان العقل يحلله إلى جنس وفصل
فكيف يكون المشتق بسيطا بهذا المعنى؟ والحال أن البسيط - بهذا
المعنى - منحصر بواجب الوجود جل جلاله أي بالنسبة إلى الكلمة
الموضوعة للذات المقدسة. ومفهوم الوجود وسائر ما ينتزع عن نفس
الوجود كمفهوم الوحدة والتشخص وأمثال ذلك، وإلا فكل
ممكن
91

تركيبي له ماهية ووجود، وكل ماهية يحللها العقل إلى جنس وفصل
(لأنا نقول): إن مقصود شيخنا الأستاذ - قده - من البساطة في
باب المشتق بهذا المعنى ليس أنه لا يحللها العقل حتى إلى جنس و
فصل، لان المبدأ - كما تقدم - يحلله العقل إلى جنس وفصل، فكيف
لا
يكون المشتق كذلك، بل المراد أنه ليس مركبا من الذات والمبدأ حتى
بالتحليل العقلي، ولب هذا الكلام يرجع إلى أن الذات خارجة عن
مفهوم المشتق رأسا، ولذا نقول بأنها ليست مأخوذة في مفهوم المشتق
حتى عند التحليل.
وعلى كل تقدير الصحيح عندنا من معنى البساطة هو الأول، أي عدم
تنافي التحليل العقلي مع البساطة، وإلا لزم أن لا تكون مفاهيم
الأنواع بسيطة لانحلالها عند العقل إلى أجناس وفصول (إن قلت) فما
المركب في مقابل هذا المعنى؟ لأنه إذا كان التحليل العقلي غير
مضر بالبساطة فلا بد أن يكون المفهوم المركب مركبا من الصورتين في
الذهن بدون تحليل من طرف العقل، وليس في باب المفاهيم
الأفرادية ما يكون كذلك، بل جميع المفاهيم الأفرادية تأتي بصورة
وحدانية إلى الذهن غاية الامر العقل يحلل بعضها إلى أجزاء عقلية
دون بعض آخر. (قلت): إن المفاهيم من هذه الجهة على أربعة أقسام:
(الأول) - أن يكون في الذهن مركبا من صورتين متمايزتين من دون أن
تكون وحدانية في البين. وهذا كمفاهيم الجمل سواء كانت
جملة غير تامة لا يصح السكوت عليها كغلام زيد، أو كانت تامة يصح
السكوت عليها كزيد قائم. وهذا القسم من التركيب خارج عن محل
بحثنا لان كلامنا في المفاهيم الأفرادية أي ما يفهم من الألفاظ المفردة.
وهذا من الجمل و الألفاظ المركبة.
(الثاني) - أن تأتي إلى الذهن صورة وحدانية ولكن حيث أن ما ينطبق
عليه ذلك المفهوم الواحد مركب خارجي له أجزاء خارجية و
الصورة الذهنية طبق ما في الخارج.
والمفروض أن المحكي بهذه الصورة الذهنية هو هذا المركب الذي
لكل جز من أجزائه في الخارج وجود مستقل فهذه الصورة أيضا
مثل ما تحكي عنه، لها أجزاء في الذهن من دون احتياج إلى تحليل
عقلي.
و (بعبارة أخرى) التحليل العقلي فيما إذا كان للاجزاء الذهنية وجود
خارجي
92

واحد، وأما إذا كانت الاجزاء في الوجود الخارجي متعددة متمايزة فلا
يحتاج تعددها في الذهن إلى تحليل عقلي، مثلا الصورة الذهنية
من الصلاة صورة وحدانية ولكنها مشتملة على صورة الركوع و
السجود والقيام وغير ذلك بدون احتياج إلى تحليل عقلي أصلا، و
هذا
القسم هو محل النزاع في مسألة المشتق بناء على ما هو المشهور عند
المحققين، فمن يقول بالتركيب يقول بأن الصورة الذهنية من
المشتق صورة وحدانية، ولكن لها في الذهن أجزاء من دون احتياج
إلى تحليل عقلي. وقد بينا الضابط في الاجزاء التحليلية وما لا يحتاج
إلى التحليل بأنه إن كانت الاجزاء موجودة في الخارج بوجود واحد
فلا بد وأن يكون التعدد في الذهن بالتحليل وإلا فان كانت في
الخارج موجودة بوجودات متعددة ففي الذهن لا تحتاج إلى التحليل
مع أنها صورة وحدانية.
(الثالث) - أن تأتي إلى الذهن صورة وحدانية بسيطة بحيث لا يمكن
تعدد الاجزاء الا بالتحليل العقلي، وذلك كماهيات الأنواع في الذهن
حيث أنها مفاهيم بسيطة لا تعدد فيها الا باعتبار التحليل العقلي، فلو
كان المشتق من هذا القسم لكان بسيطا عند جماعة من المحققين
خلافا لشيخنا الأستاذ حيث يراه مركبا لو كان كذلك.
(الرابع) - هو أن تأتي إلى الذهن صوره بسيطة لا يمكن تجزئتها حتى
بالتحليل العقلي. وذلك كمفهوم اسم الجلالة ومفهوم الوجود و
شيخنا الأستاذ - قده - يقول:
إن مفهوم المشتق بناء على البساطة من هذا القبيل غاية الامر بالنسبة
إلى جزئية الذات لا مطلقا.
إذا عرفت ذلك فنقول:
ان الاحتمالات في مفهوم المشتق أربعة:
(أحدها) -
أن يكون مركبا من الذات ومبدأ الاشتقاق والنسبة بينهما، ولكن هذه
الأمور تأتي إلى الذهن بصورة وحدانية لأنها بصورتها التفصيلية
مفاد الجملة.
و (بعبارة أخرى) فرق بين جملة زيد ضارب وكلمة ضارب فتلك
الجملة مفادها صورة تفصيلية للذات والحدث والنسبة التلبسية التي
بينهما، وأما كلمة ضارب فهي عين ذلك المعنى. غاية الامر بصورة
إجمالية وحدانية مشتملة على الذات والمبدأ والنسبة
93

بينهما واشتمالها على هذه الأمور ليس بتحليل من العقل. وهذا هو
القول بالتركيب عند غالب من يقول به.
(ثانيها) -
هو أن مفاد المشتق هو المبدأ المنتسب إلى الذات فنفس الذات
خارجة عن مفهوم المشتق ولكنه من لوازم معناه، لان المبدأ المنتسب
إلى
الذات ملازم مع الذات. وبناء على هذا يكون معنى المشتق بسيطا
بمعنى أنه ليس مركبا من الذات ومبدأ الاشتقاق.
(ثالثها) -
أن مفاده ومعناه هو نفس المبدأ وليست الذات والنسبة داخلتين في
مفهومه أصلا، نعم الفرق بينهما هو أن المبدأ لوحظ بشرط لا، و
المشتق لوحظ لا بشرط، والمراد بالمبدأ في هذه العبارة اللفظ
الموضوع للمبدأ أي المصدر، ولكن يظهر من بعض عبارات القوم أن
الفرق بين المبدأ الحقيقي والمشتق هو بهذا الاعتبار لا بين ما هو مفاد
المصدر وبينه، وذلك من جهة أن مفاد المصدر - بناء على ما
ذكرنا - عبارة عن المادة المنتسبة إلى الذات بالانتساب الصدوري و
لكن بالنسبة التقييدية الناقصة. وهذا معنى قولهم: إن المصدر
يدل على الحدث الصادر عن فاعل ما وهم يريدون أن يقولوا بأن
المشتق معناه صرف المبدأ اللابشرط ولم تؤخذ النسبة في مفهومه
أصلا، ومع ذلك لا فرق بينه وبين المبدأ الا بصرف اعتبار اللابشرط و
البشرط لا، فلا بد أن يكون مرادهم من المبدأ المبدأ الحقيقي
أعني ذات العرض مقابل العرضي أي ذات السواد والبياض والعلم
مقابل الأسود والأبيض والعالم، و (بعبارة أخرى) مرادهم بالمبدأ
ملاحظة العرض في حد نفسه بوجوده المحمولي من دون نظر إلى
وجوده النعتي سواء كان ذلك العرض معنى حدثيا وفعلا من الافعال
أو كان ذاتا من الذوات العرضية أي كان من إحدى المقولات التسع
المعروفة.
وحاصل كلامهم أن العرض تارة يلاحظ بما أن له وجود وهو موجود
بذلك الوجود قبال سائر الموجودات فهو - بهذا الاعتبار - لا
يحمل على شئ ولا يتحد مع آخر أصلا، وتارة يلاحظ باعتبار أنه
معنى ناعتي وأن وجوده في نفسه عين وجوده
94

لموضوعه وانه شأن من شؤون موضوعه وطور من أطواره، فهو بهذا
المعنى يتحد مع موضوعه، فمعنى أخذه بشرط لا هو أخذه
بالاعتبار الأول ومعنى أخذه لا بشرط هو أخذه بالاعتبار الثاني، فإذا
أخذناه بالاعتبار الثاني تكون الذات التي هي موضوعه مصداقا
عرضيا له ونفس العرض الحال في ذلك الموضوع مصداقا ذاتيا، نعم
إذا فرضنا وجود المبدأ مستقلا من دون كونه شأنا من شؤون
غيره وطورا من أطواره فيكون ذلك المبدأ مصداقا ذاتيا لذلك المشتق
حتى عند أهل العرف والمحاورة، ولذلك يكون إطلاق الصفات
المقدسة - على الذات الواجبي - إطلاقا حقيقيا لا إطلاقا مشهوريا، و
تكون ذاته مصداقا حقيقيا ذاتيا للصفات الحسني، وهذا مراد من
يقول لو كانت الحرارة قائمة بذاتها لكانت حرارة وحارة. وقد تلخص
من جميع ما ذكرنا أن المشتق - بناء على هذا القول - عبارة عن
صرف المبدأ اللابشرط غير ملحوظ فيه لا ذات ولا نسبة أصلا، ولا
فرق فيما ذكرنا بين أن يكون المبدأ من الاعراض المحمولة
بالضميمة أو من الأمور الاعتبارية كالزوجية، غاية الامر المبدأ
الخارجي شأن خارجي لموضوعه والمبدأ الاعتباري شأن له في عالم
الاعتبار، وأيضا لا يرد على ما ذكرنا انه لا يمكن اتحاد الموجودين
المتغايرين بصرف الاعتبار لان هذا نحو من الاتحاد وإلا قلنا أن
الاتحاد الحقيقي بين نفس المبدأ والذات، والفرد المتلبس بالمبدأ فرد
عرضي للمشتق.
(رابعها) -
هو ان يكون مفاده ومعناه هو الذات المتلبس بمبدأ الاشتقاق.
وذلك تارة بنحو يكون التلبس واسطة في الثبوت لانتزاع هذا العنوان
من نفس الذات وحكايته عنها. وأخرى بنحو يكون التلبس من
قبيل الواسطة في العروض أي يكون المشتق حاكيا عن الذات
المتلبسة وعنوانا لها، فان كان من قبيل الثاني أي كان محكي المشتق
هو
الذات المتلبسة بقيد انها متلبسة، فربما يرجع هذا إلى الوجه الأول
فالوجه الرابع حينئذ يكون عبارة عن كون المشتق عبارة عن عنوان
نفس الذات وإن كان منشأ انتزاع هذا العنوان هو تلبسها بالمبدأ. إذا
تبينت هذه الوجوه الأربعة، فنقول: الحق في معنى المشتق هو الوجه
95

الثالث (بيان ذلك) ان الوجه الأول غير تام لما سنذكر من الأدلة على
بساطة مفهوم المشتق وعدم تركبه من الذات والمبدأ، ولأنه لو
كان كذلك لزم ان يكون حمل الموجود على الوجود الحقيقي مجازا أو
غير صحيح وكلاهما كما ترى.
(ان قلت): إننا نرى بالوجدان ان المتبادر والمنساق إلى الذهن من
لفظة العالم - مثلا - هو الذات المتصفة بالعلم. و (بعبارة أخرى) لا
نفهم من هذه الكلمة الا من انكشف لديه الشئ وليس المراد من
الموصول الا الذات.
(قلت): حيث أن المشتق - كما بينا - موضوع للعرض باعتبار وجوده
الناعتي وأنه شأن من شؤون موضوعه وطور من أطواره وفان
في موضوعه فلذلك ينتقل الذهن إلى الذات، وكأن الذات - التي هي
غير العرض وتكون موضوعه - مدلول التزامي غالبي للمشتق لأنه -
في الأغلب الأكثر - يكون المبدأ في الخارج مندكا وفانيا في الذات
التي هي غيره بل لا يوجد مصداق بغير هذا الشكل الا في المشتقات
التي تحمل على حقيقة الوجود الخالص عن شوب التركيب والمجرد
عن الماهيات الامكانية. ولذلك استأنس ذهن أهل المحاورة و
العرف بفهم الذات المتلبسة منه ولذلك نجد من المستهجن جدا ان
يدعي أحد ان الوجود ليس بموجود لأنه ليس بذات ثبت له الوجود،
بل
- كما بينا آنفا - ان الموجود الحقيقي هو الوجود. والمصداق الذاتي
له هو نفس الوجود والماهيات الامكانية الموجودة بسبب الوجود
الحقيقي مصاديق عرضية لمفهوم الموجود.
واما الوجه الثاني الذي اختاره أستاذنا المحقق - قده - فغير تام لان
مفهوم المشتق لو كان هو المبدأ المنتسب إلى الذات ومعلوم ان
المشتق بما له من المفهوم ينسب إلى الذات في مقام تشكيل القضية،
فمعناه ان المبدأ المنتسب إلى الذات ينسب إلى الذات.
وهذا غريب.
وأيضا المبدأ ليس قابلا لان يحمل على الذات لأنه أخذ بشرط لا. و
هذا المعنى الذي أخذ بشرط لا لا يصير قابلا للحمل بمجرد ملاحظته
منتسبا إلى الذات. نعم يصير قابلا للحمل بانقلابه عن البشرط لائية إلى
اللابشرطية. وهذا هو الذي ذكرنا من أن الفرق
96

بين المشتق ومبدئه هو البشرط لائية واللابشرطية. و (بعبارة أخرى)
ليس المصدر هو المادة السارية في المشتقات، بل المادة السارية
في جميع المشتقات هي ذوات الحروف التي تتركب منه المصدر
المجرد من حروف الزيادة من دون عروض هيئة عليه، كما ذكرنا
مفصلا، وهو الموضوع لذات الحدث العاري عن جميع الخصوصيات
الواردة عليه. وهيئة المصدر تدل على ذلك الحدث بنحو لا يحمل
على الذات، وهيئة المشتق تدل عليه بنحو يحمل. وقد بينا جهة
صحة الحمل وعدم صحته من ملاحظته بما أنه موجود من
الموجودات، أو
بما أنه طور وشأن من أطوار وشئون غيره ومندك فيه. و (بعبارة
أخرى) كونه ظهور الغير بهذا المظهر.
ومما ذكرنا يظهر لك عدم ورود ما ذكره أستاذنا المحقق في هذا المقام
على القول بخروج النسبة عن مدلول المشتق، بأنه قد تحقق أن
المادة وضعت لنفس الحدث، وهيئة المشتق لانتساب تلك المادة
إلى الذات بالنسبة التلبسية، فلو قلنا بخروج النسبة عن مدلوله لزم أن
تكون الهيئة لغوا غير موضوعة لمعنى، وبمثل هذا البيان رد على من
يقول بدخول الذات في مفهومه، بأن المادة موضوعة للحدث و
الهيئة للانتساب الكذائي، فمن أين جاءت الذات؟ وقد عرفت أن
وضع الهيئة لما ذكره مما ننكره أشد الانكار.
و (أما الوجه الرابع) أعني كون معنى المشتق هو الذات المتلبسة بمبدأ
الاشتقاق، ولكن بصورة وحدانية، بمعنى أنه يتبادر إلى الذهن من
لفظ المشتق عنوان بسيط وصورة وحدانية، ومعنى جمعي لفي فرقه
ونشره هو الذات المتلبسة بمبدأ الاشتقاق، فتكون الصورة
المنطبعة في الذهن من المشتق صورة مبهمة متلبسة بالمبدأ فنقول:
كما سبق منا أن هذه الصورة المبهمة الحاكية عن الذات التي هي من
عناوين الذات بواسطة تلبسها بالمبدأ (تارة) يدعى أن التلبس واسطة
في الثبوت بالنسبة إلى عنوانية ذلك العنوان للذات، و (أخرى)
يقال بأنه من قبيل الواسطة في العروض، بمعنى أن تلك الصورة
المبهمة تحكي عن الذات المتلبسة بما هي متلبسة،
97

فان كان من قبيل الأول، فلازمه أن يكون مطابق مفهوم المشتق في
الخارج هو نفس الذات، ولا يكون لاتصافها بالمبدأ دخل في
موضوعيته، لأنه - على الفرض - واسطة في الثبوت، فكما أن النار
واسطة في ثبوت الحرارة للماء، ولكن تمام موضوع الحرارة هو
نفس الماء من دون مدخلية النار في موضوعيته، بمعنى أنها ليست
جزا للموضوع ولا قيدا، ولذلك لو انعدمت النار ربما يبقى الماء
حارا، فهل ترضى نفسك بأن تقول ان موضوع النائم وما هو متحد مع
هذا المفهوم هو ذات هذا الشخص، سواء كان متلبسا بالنوم أو لا؟
(فان قلت): نعم وهذا هو محل النزاع في باب المشتق (فنسأل) منك
أنه إلى أين ذهب معنى المادة الموجودة في المشتق؟ وذلك لان
المشتق مشتمل على مادة وهيئة، ولكل منهما وضع.
(فان قلت): ننكر وضع الهيئة والمادة كل واحدة منهما مستقلا، بل
نقول إن المجموع وضع لهذا المعنى الذي ذكرنا (قلت): فما تقول في
حمل موجود على الوجود أو مضي على الضؤ أو مضاف على
الإضافة. وكل ما كان من هذا القبيل أي من الموارد التي يكون المشتق
محمولا على نفس المبدأ؟ فإنه ليس هناك ذات غير المبدأ حتى تكون
معنون هذا العنوان. والقول - بأن حمل موجود على الوجود غلط أو
مجاز - كما ترى.
وان كان من قبيل الثاني فيرجع إلى أول الاحتمالات وقد أثبتنا بطلانه.
وأما ما أفاده بعض المحققين في هذا المقام من إقامة البرهان على
اعتبار أمر مبهم مقوم لعنوانية العنوان في المشتق، وادعى على ذلك
الوجدان أيضا. وحاصل برهانه أن المبدأ مغاير للذات وذي المبدأ،
فلا يصح الحكم باتحاده معه في الوجود، وإن اعتبر فيه الف اعتبار،
إذ المغايرة بينهما حقيقية وليست بالاعتبار حتى تنفي بالاعتبار، فلا
بد أن يعتبر في ناحية مفهوم المشتق ذاتا مبهمة متلبسة بالمبدأ
حتى يكون ذلك الامر المبهم المتلبس متحدا مع الذات.
ففيه ما عرفت من دعوى الوجدان والسر فيه. وأما برهانه فقد بينا
أيضا
98

معنى الاعتبار واللابشرطية، وانه ليس صرف لحاظ اللابشرطية في
الامر المباين للذات، بل في العرض جهتان واقعيتان بإحداهما
يكون مباينا للذات وهي أن له وجودا كسائر الموجودات، وهو في
هذا اللحاظ موجود في قبال سائر الموجودات، فهو في هذا اللحاظ
هو وليس غيره. وهذا معنى اعتباره بشرط لا فلا يتحد ولا يحمل
على ذات من الذوات بهذا الاعتبار. وبثانيتهما يكون متحدا مع الذات
نحو اتحاد على اختلاف أنحاء التلبسات، وهي كونه معنى ناعتيا و
شأنا من شؤون موضوعه وطورا من أطواره، وظهوره بهذا المظهر.
و (بعبارة أخرى) وجوده لموضوعه فانيا ومندكا فيه. وبهذا الاعتبار و
اللحاظ لا مغايرة بينهما، بل يكون بينهما نحو اتحاد وان كان
عند التحقيق الدقيق يصح سلب المشتق عن الذات المباين لمبدأ
اشتقاقه، بل الموضوع الحقيقي له نفس مبدئه.
ولذلك قلنا سابقا ان الموجود الحقيقي هو نفس الوجود. وأما
الماهيات الامكانية فليست مصاديق ذاتية لذلك المفهوم. ولكن هذا
طور
آخر من الكلام لا يصل إليه أغلب الافهام. فتلخص أن ما أفاده ذلك
المحقق - قدس سره العزيز - معتمدا على الوجدان والبرهان كما
ترى، إذ ليس في البين لا وجدان ولا برهان.
وقد ذكروا البساطة المشتق وجوها اخر:
(الأول) - أن المشتق لوحظ لا بشرط، ولذلك يحمل على الذات
بخلاف المبدأ، فإنه لوحظ بشرط لا ولذلك لا يحمل عليها، فلو كانت
الذات مأخوذة في مفهومه لخرج عن كونه لا بشرط وصار بشرط
شئ، وهو خلاف ما اتفقوا عليه و (فيه) أن أخذ الذات في مفهومه لا
ينافي لا بشرطيته، لان هذا الاعتبار فيه ليس بلحاظ أخذ الذات و
بالنسبة إليها حتى يرجع أخذه فيها إلى اعتباره بشرط شئ، بل المراد
منه أن العرض باعتبار وجوده الناعتي وأن وجوده في نفسه عين
وجوده لموضوعه الذي هو الذات، وأنه شأن من شؤونه وطور من
أطواره مفاد المشتق. وهذا معنى كونه لا بشرط. وهو بخلاف المبدأ،
فان مفاده العرض باعتبار وجوده المحمولي وأنه موجود في
نفسه كسائر الموجودات.
99

(الثاني) - أنه يلزم من أخذ الذات في مفهوم المشتق تكرار
الموصوف، وهو خلاف الوجدان، لأنه لا ينسبق إلى الذهن من مثل
(زيد
كاتب) أو (شئ بارد) مفهوم زيد أو الشئ الامرة واحدة. هذا مضافا
إلى لزوم كون الوضع عاما والموضوع له خاصا في جميع
المشتقات باعتبار أحد جزأي معانيها، وهي الذات المأخوذة فيها لو
كان المأخوذ مصداق الذات، لان مصاديق الذات - في كل مشتق -
كثيرة غير محصورة. و (فيه) أنه لو كان المأخوذ فيه هو مفهوم الذات لا
مصداقها لارتفع كلا الاشكالين (أما الاشكال الثاني) فواضح،
لان مبناه على أخذ المصداق لا المفهوم.
و (أما الأول) فلان الموضوع في القضايا غالبا هو مصداق الذات، و
المأخوذ في جانب المحمول - أي المشتق - هو المفهوم على
الفرض،
فلا تكرار ولا ركاكة في حمل مفهوم الذات متصفة بصفة على
مصداقها. واما ما يتفق في بعض الأحيان من كون نفس الذات
موضوعة
في القضية كقولك (ذات باردة) فلا بد وأن يكون المراد منها المصداق
أيضا كما هو يكون كذلك.
(الثالث) - ما أفاده المحقق الشريف من أن المأخوذ لو كان مفهوم
الذات، للزم دخول العرض العام في الفصل، ولو كان مصداقه لزم أن
لا تكون قضية ممكنة أصلا، لان ثبوت الشئ لنفسه ضروري لأنه إن
كان نفس الموضوع مأخوذا في المحمول يلزم انقلاب جميع القضايا
الممكنة إلى الضرورية، كما أنه إذا أخذ المحمول في الموضوع يلزم
ذلك، ولذلك قصر بعض المنطقيين القضية في الضرورية بهذا
الاعتبار أي باعتبار أخذ المحمول في الموضوع.
وأورد صاحب الفصول على (الشق الأول) من المنفصلة بأن الفصول
المنطقية ليست هي المشتقات بتمام معانيها، بل جعلها المنطقيون
فصلا بعد تجريدها عن أحد جزأي معانيها وهي الذات. و (بعبارة
أخرى) الفصول عند المنطقيين هي المشتقات باعتبار نفس المبادئ
التي هي بعض معانيها، فلا يلزم المحذور المذكور. واعترض عليه
صاحب الكفاية بأنه من المعلوم أن المنطقيين جعلوا المشتقات فصولا
بما لها من
100

المعاني من دون تصرف وتجريد. ثم انه أورد على المحقق الشريف
بأن هذه المشتقات ليست فصولا حقيقية، بل المنطقيون - حيث أنهم
لم يصلوا إلى الفصول الحقيقية - جعلوا الخواص والآثار لتلك
الفصول مكانها، فلا يلزم الا دخول العرض العام في الخاصة.
وهذا ليس فيه إشكال.
وأنت خبير بأن هذا الكلام يرجع إلى إنكار وجود الحد، والقول بعدم
إمكان تحصيله في باب الحدود والتعاريف وانحصار التعاريف
في الرسوم من التام والناقص، وهذا مما لا يمكن ان يلتزم به، نعم
غالب الفصول التي ذكرها المنطقيون ليست الا خواصا وآثارا
للفصول الحقيقية. واما النفي بطور السالبة الكلية وأنها كلها من قبيل
الخواص فمما لا سبيل إليه.
وأما ما ذكره بعض المحققين - من أن حقيقة الفصل والفصل الحقيقي
عبارة عن نحو وجود الشئ، فأنحاء الوجودات الخاصة هي
الفصول الحقيقية والصور النوعية - فأجنبي عن هذا المقام، لان كلامنا
الان في ذاتيات الماهيات، وعلل القوام والذاتيات في هذه
المرحلة غير الصور النوعية والفصول الحقيقية بذلك المعنى.
وأورد على (الشق الثاني) من هذه المنفصلة بأن المحمول ليس هو
مصداق الذات فقط حتى يلزم الانقلاب، بل مقيدا بكونها متصفة
بالمبدأ فإذا لم يكن ثبوت ذلك القيد لها ضروريا فثبوت المجموع أيضا
ليس ضروريا والا يلزم الخلف، ثم تنظر فيما أورده بقوله لان
الذات المأخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا ان كانت مقيدة به واقعا
صدق الايجاب بالضرورة والا صدق السلب بالضرورة، ولكن أنت
تدري بعدم صحة هذا النظر وعدم إيجابه للانقلاب، لان كل قضية إذا
قيدت الموضوع بثبوت المحمول أو بعدمه له تصير ضرورية. و
هذا يسمى عندهم بالضرورية بشرط المحمول، ولا فرق في هذا الامر
بين أن يكون المشتق بسيطا أو مركبا، والانقلاب انما يحصل إذا
كانت نسبة المحمول إلى الموضوع مع قطع النظر عن ثبوته له أو عدم
ثبوته له ضرورية، أي إذا لاحظنا النسبة بين هذا الموضوع وهذا
المحمول في حد
101

نرى أنها مكيفة بالضرورة، فثبوته له في حاق الواقع وعدمه كذلك لا
ربط له بالانقلاب.
وأجيب عن هذا الايراد بانحلال قضية (زيد كاتب) مثلا بناء على أخذ
مصداق الذات في المشتق إلى قضيتين إحداهما زيد زيد وهذه
ضرورية، والأخرى زيد ثبتت له الكتابة، وهذه ممكنة. مع أن القضايا
الممكنة ممكنة لا غير لا أنها مركبة من قضيتين إحداهما ممكنة و
الأخرى ضرورية، وأنت خبير بعدم تمامية هذا الكلام، لان المركب
من أمرين (تارة) يكون كل جز منه خبرا مستقلا للمبتدأ المتقدم
عليهما، مثل زيد شاعر كاتب. و (أخرى) يكون المجموع خبرا واحدا
من دون تقييد أحدهما بالآخر، كقولك هذا الرمان حلو حامض. و
(ثالثة) يكون المجموع أيضا ولكن مع تقييد أحدهما بالآخر كقولك
هذه رقبة مؤمنة، أو زيد رجل طويل القامة. وهذا الكلام لا يستقم الا
في الشق الأول من هذه الشقوق الثلاثة، لأنه فيه تتحقق قضيتان في
إحداهما الجز الأول خبر وفي الأخرى خبر آخر، وأما في الشقين
الآخرين فلا تحصل الا قضية واحدة، لأن المفروض أن المجموع خبر
واحد، ولا شك في أن ما نحن فيه من قبيل الشق الثالث، لان
المحمول فيه مصداق الذات مقيدا بكونه كذا فلا ينحل إلى قضيتين
كما توهم.
نعم يبقى كلام في أن هذا المحمول الذي هو عبارة عن مصداق الذات
مقيدا بكونه كذا هل هو ضروري الثبوت للموضوع حتى يلزم منه
الانقلاب، أو ليس ضروريا لمكان عدم ضرورية القيد فلا يلزم منه
الانقلاب؟ والتحقيق ان ثبوت الايمان مثلا في مثل هذه رقبة مؤمنة
لمصداق الذات المأخوذة في المشتق بالامكان، وأما ثبوت هذا
المصداق الذي هو متصف بالايمان بالامكان للموضوع أي لنفسه
بالضرورة.
وذلك من جهة أن القيد ثبوته لذات المقيد بالامكان. واما ذات المقيد
الذي ثبت له هذا القيد بالامكان، فثبوته لنفس الذات بالضرورة،
لان الذات ذات بالضرورة وإمكانية القيد أيضا ثابتة له بالضرورة فكلا
الجزئين ضروريان. (إذا عرفت هذه الأمور) فنقول: ان في
المسألة أقوالا كثيرة: قول بوضعها
102

لخصوص المتلبس بالمبدأ في حال الجري والانتساب، وقول بالأعم
منه ومما انقضى عنه التلبس، وأقوال اخر فيها تفصيلات: فمنها -
التفصيل بين اسم الفاعل واسم والمفعول، ومنها - التفصيل بين
غيرهما من سائر المشتقات، ومنها - التفصيل بين ما إذا كان المبدأ
من الملكات والصناعات والحرف وبين غيرها، ومنها - التفصيل
بين المتعدي وبين غيره. ومنها - التفصيل بين ما إذا طرأ ضد
وجودي وبين غيره، ولكن لا يهمنا التعرض لجميع هذه الأقوال و
النقض والابرام فيها. والعمدة في المسألة القولان الأولان المشهوران
بين القدماء، فان التفاصيل حدثت بين المتأخرين.
والمختار هو الوضع لخصوص المتلبس بالمبدأ في حال الجري و
الانتساب مطلقا، سواء كان المشتق من قبيل اسم الفاعل أو اسم
المفعول. أو من غيرهما، وسواء كان المبدأ من قبيل الحرف و
الصناعات والملكات أو من غيرها، وسواء كان من قبيل المتعدي أو
من
قبيل غيره، وسواء طرأ ضد وجودي على الذات بعد انقضاء المبدأ
عنها أو لا، فالحق - في جميع هذه الصور - أنه موضوع لخصوص
المتلبس دون المنقضي.
والدليل على ذلك هو تبادر خصوص المتلبس وصحة سلب المشتق
عن المنقضي عنه مبدأ الاشتقاق بلا شك وارتياب، فإنه يصح أن
يقال للرجل الذي كان عادلا والآن هو فاسق أنه الان ليس بعادل
بحيث يكون (الان) قيدا للموضوع أو للسلب لا للمسلوب، مع أنه
يمكن
أن يقال: إن الرجل الذي انقضت عنه العدالة وتلبس بالفسق وارتكاب
الجرائم مقيدا بهذا القيد دائما فاسق. وبناء على ما ذكرنا لا يرد
على هذا الدليل أنه ان أراد المستدل صحة السلب مطلقا فغير سديد،
وان أراد صحته مقيدا فغير مفيد، لأننا أخذنا التقييد في ناحية
الموضوع أو السلب ومثل هذا التقييد لا يضر بالاستدلال.
ومما استدلوا به على الوضع لخصوص المتلبس لزوم اجتماع الضدين
بالنسبة إلى بعض المشتقات لو قلنا بوضعها للأعم، لأنه حينئذ
يصدق على من كان عادلا والآن فاسق أنه عادل وفاسق، وعلى الماء
الذي كان حارا والآن بارد أنه حار وبارد. وأما
103

(ما قيل) في الجواب عن هذا الدليل بأن التضاد يكون بين المبادئ. و
أما بين المشتقات من تلك المبادئ فمنوط بأن تكون موضوعة
لخصوص المتلبس، والا لو قلنا بوضعها للأعم فلا تضاد بينها (فمما)
يشهد الوجدان بخلافه، فان الوجدان لا يرى فرقا في ثبوت التضاد
بين المبادئ وبين المشتقات من تلك المبادئ.
هذا كله لو قلنا بتركب المشتق من الذات ومبدأ الاشتقاق. واما لو قلنا
ببساطته وان الفرق بينها وبين مبادئ تلك المشتقات ليس الا
باعتبار اللابشرطية والبشرط لائية، فلا ينبغي توهم الوضع للأعم
أصلا، لأنه - بناء على هذا - تكون المشتقات موضوعة لنفس المعاني
التي تكون المبادئ موضوعة لها، غاية الامر يكون الفرق بينهما فرقا
اعتباريا، ومعلوم ان المبادئ موضوعة لنفس الاحداث والملكات
والحرف والصناعات مثلا، والمشتقات بناء - على ما ذكرنا -
موضوعة أيضا لنفس تلك المعاني ولكن باعتبار كون تلك المعاني من
نعوت الغير وتجليات الذوات، فالذات المجردة عن هذه النعوت و
الفارغة عن هذه التجليات تكون أجنبية عن معاني المشتقات، وتكون
نسبتها إليها كنسبة المباين إلى المباين، فلا يمكن أن تكون تلك
المعاني مصداقا حقيقيا لها. نعم في حال التلبس تطلق على الذوات
باعتبار نعوتها، وبالنظر الدقيق البرهاني - حتى في حال التلبس -
يكون إطلاق المشتقات على الذوات إطلاقا عنائيا، فما ظنك في
إطلاقها على الذات المجردة المنقضي عنها المبدأ؟ ثم إن شيخنا
الأستاذ رضوان الله عليه أفاد في وجه عدم الوضع للأعم عدم إمكانه
لا
لعدم الدليل على إثباته أو للدليل على ضده أعني الوضع للخصوص،
(بيان ذلك) انه لا إشكال في أن القائل لوضعها للأعم لا يقول بالوضع
لخصوص المنقضي، لأنه خلف. وأيضا لا يقول بوضعها للأعم بطور
الاشتراك اللفظي، بمعنى انه (تارة) وضع لخصوص المتلبس، و
(أخرى) لخصوص المنقضي، بل يقول بوضعها بنحو الاشتراك
المعنوي، لان غيره مقطوع العدم، ولا بد في الاشتراك المعنوي من
تصوير جامع بين الامرين أي المتلبس والمنقضي. ولا يمكن تصويره
بينهما الا
104

باعتبار ثبوت التلبس وتحققه في زمان من الأزمنة مشترك بين الماضي
والحال، سواء بقي إلى حال الجري الذي هو معنى التلبس أو لم
يبق الذي هو معنى الانقضاء.
ولا شك في أن هذا المعنى لو كان هو الجامع بين الامرين لكان لازمه
دخول الزمان في معنى الاسم ومفهومه ومدلوله، مع أننا ذكرنا
عدم دلالة الفعل على الزمان فضلا عن الاسم، فإذا لم يكن الزمان
جزا لمدلول الاسم، فلا يمكن ثبوت جامع بينهما، فلا يمكن الوضع
للأعم.
وأنت خبير بأن الجامع هو حصول التلبس بمبدأ للذات، سواء كان
باقيا إلى زمان الجري والانتساب أو كان منقضيا عنها. وهذا المعنى
ملازم للزمان من جهة ان حصول التلبس أمر يقع في الزمان كسائر
الحوادث الزمانية، فلا يلزم من الالتزام بمثل هذا الجامع دخول
الزمان في مفهوم الاسم ومدلوله، كي يلزم منه ذلك المحذور،
فالصحيح - في وجه عدم كونها موضوعة للأعم - ما ذكرنا من الأدلة
من
التبادر وصحة السلب عن المنقضي ولزوم التضاد. واما ادعاء التبادر
وعدم صحة السلب بالنسبة إلى الأعم فمما يشهد الوجدان
بخلافهما.
واما الاستدلال عليه بقوله تعالى: (ولا ينال عهدي الظالمين) حيث
استدل الإمام عليه السلام به على عدم لياقتهم لمنصب الإمامة،
لكونهم
مشركين قبل إسلامهم. ولا يستقيم هذا الاستدلال الا بكون المشتق
حقيقة في الأعم، حتى يكون إطلاق الظالم - بمعنى المشرك - عليهم
حين تصديهم لذلك المنصب على نحو الحقيقة، والا فلقائل ان يقول إنهم
لم يكونوا مشركين حين تصديهم للخلافة، (ففيه) أن الموضوع
لهذا الحكم - أي عدم لياقتهم لذلك المنصب الجليل بمناسبة الحكم
والموضوع - هو تلبسهم بالشرك في زمان من الأزمنة، بمعنى ان
المتلبس بالشرك - ولو كان تلبسه في آن من الآنات - ليس لائقا إلى
الأبد، فإطلاق الظالم - بمعنى المشرك - عليهم يكون بلحاظ حال
تلبسهم بالشرك، ولا شك في أن مثل هذا الاطلاق حقيقي ويتم به
الاستدلال، وكذلك الحال في استدلالهم بقوله تعالى: (السارق
105

والسارقة فاقطعوا أيديهما) إشكالا وجوابا، فان الموضوع للجلد و
القطع هو حدوث الزنا والسرقة في زمان من الأزمنة لا بقاؤهما
إلى زمانهما أي الجلد والقطع، وكذلك الامر في سائر أبواب الحدود،
و (بعبارة أخرى) استعمال المشتق في جميع هذه الموارد بلحاظ
حال التلبس. ومعلوم أن مثل هذا الاستعمال حقيقة حتى على القول
بالوضع لخصوص المتلبس.
ومما ذكرنا ظهر حال التفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به
مستندا في ذلك إلى الآيتين وأمثالهما، مضافا إلى أن اختلاف الوضع
-
بواسطة اختلاف وقوع الشئ محكوما عليه ومحكوما به - غريب
جدا.
ثم إنهم استدلوا أيضا للأعم بكثرة الاستعمال في حال الانقضاء، و
معلوم أن كثرة الاستعمال في خلاف ما وضع له تنافي حكمة الوضع. و
(جوابه) أن كثرة الاستعمال - في حال الانقضاء على فرض تسليمه -
تخالف حكمة الوضع، بناء على وضعه لخصوص المتلبس لو كان
بلحاظ حال الانقضاء أما لو كان بلحاظ حال التلبس - كما هو كذلك -
فلا يلزم منه محذور.
ثم إن صاحب الكفاية (قده) - بعد تمامية بحث المشتق وذكره
المقدمات واستنتاج النتيجة - ذكر أمورا ستة بمناسبة المقام. وقد
ذكرنا اثنين منها بعنوان مقدمات البحث، وهما الفرق بين المشتق و
مبدئه، وأنه بصرف اللابشرطية والبشرط لائية، وبساطة المشتق
مفهوما وعدم أخذ الذات مفهوما ومصداقا فيه، على ما حققه
المحقق الشريف.
وأما الأربعة الباقية (فأحدها) - أن ملاك الحمل هو الهوهوية و
الاتحاد.
ولا ريب في أنه لا بد أن يكون بين المحمول والموضوع نحو اتحاد، و
لو كان من قبيل الوصف بحال متعلق الموصوف وان كان أيضا لا
بد من مغايرة بينهما ولو اعتبارا، لئلا يكون الحمل لغوا وبلا فائدة، و
الاتحاد قد يكون بحسب المفهوم. وهذا هو الحمل الأولي الذاتي.
وأخرى بحسب الوجود وان كانا متغايرين مفهوما. وهذا هو
106

الحمل الشائع الصناعي (لا يقال) في القضايا السالبة - مثل لا شئ
من الانسان بحجر - ليس بين المحمول والموضوع اتحاد لا بحسب
المفهوم ولا بحسب الوجود (لأنا نقول) ان إطلاق الحمل في القضايا
السالبة صرف اصطلاح، والا ففي الحقيقة فيها سلب الحمل والربط.
وعلى كل تقدير، ما ذكره صاحب الفصول (قده) - من لزوم ملاحظة
مجموع الموضوع والمحمول مركبا واحدا متحد الاجزاء - لا يرجع
إلى محصل، بل الناظر في شيئين إذا رأى اتحادا بينهما - سواء كان
بحسب المفهوم أو بحسب الوجود - يحمل أحدهما على الاخر ولو
كان الاتحاد اعتباريا، كما ذكرنا في الحمل الذي يكون المحمول
بالنسبة إلى الموضوع من قبيل الوصف بحال متعلق الموصوف.
و (ثانيها) - كفاية مغايرة المبدأ مع الذات التي يجري عليها المشتق
مفهوما وان اتحدا عينا وخارجا، ومقصوده من هذا الكلام نفي
توهم عدم إمكان الحمل في صفات الواجب الجلالية والجمالية لعدم
المغايرة المعتبرة في الحمل، فيجيب بكفاية المغايرة المفهومية بين
المبدأ والذات، ولكن كان حق العبارة ان يقول كفاية مغايرة المشتق
مع الذات مفهوما لا المبدأ، لان المحمول هو المشتق لا المبدأ، و
لكن إشكال صاحب الفصول ليس ظاهرا من هذه الجهة، لأنه يدري
بأن الحق من المذاهب الثلاثة في باب اتحاد صفات الواجب مع
الذات
هو انها متحدة معها مصداقا ومختلفة مفهوما، ويدري أيضا أن
الاختلاف المفهومي كاف في صحة الحمل، كيف وجميع أفراد
الحمل
الشائع من هذا القبيل، بل اشكاله من جهة اعتبار الذات في المشتق
بحيث يكون المبدأ من عوارضها وقائما بها، وفي الواجب تعالى لا
يمكن ذلك، للزوم التركيب. تعالى الله عن ذلك، ولذلك قال بلزوم
التجريد في الصفات الجارية على الذات المقدسة عن المعنى العرفي.
وحينئذ ليس جوابه الا ما ذكرنا من بساطة مفهوم المشتق لا ما ذكره
صاحب الكفاية في هذا المقام.
(ثالثها) - أنه هل يعتبر في صدق المشتق حقيقة قيام مبدأ الاشتقاق به
أو لا؟
107

ربما يتوهم عدم لزوم ذلك لصدق الضارب والمؤلم على الذي صدر
منه الضرب والايلام مع عدم قيام الضرب والا لم بهما، بل
بالمضروب والمؤلم، ولكن أنت تدري بأن الضرب والا لم كما أن لهما
نحو قيام بالمضروب والمؤلم كذلك لهما نحو قيام بالضارب و
المؤلم. غاية الامر أنحاء التلبسات مختلفة، كما أن أنحاء المبادئ أيضا
مختلفة، واختلاف أنحائهما لا ربط له بما ذكرنا من لزوم تلبس
الذات بالمبدأ بأي معنى كان المبدأ وبأي نحو كان التلبس.
نعم هاهنا (إشكال) آخر، وهو أنه لو كان صدق المشتق على ذات
حقيقة منوطا بتلبس تلك الذات بمبدأ اشتقاق ذلك المشتق، فكيف
يطلق المشتق على الذات المقدسة مع أنها عين المبادئ لا أنها متلبسة
بها. و (الجواب) ان المشتق - كما بينا - بسيط. والفرق بينه وبين
المبدأ باعتبار اللابشرطية والبشرط لائية. ولا شك في أن اللابشرط
من كل طبيعة وشي متحد مع البشرط لا أو البشرط شئ من
نفس ذلك الشئ لا مع شئ منضم إلى هذه الطبيعة، فبناء على هذا
يكون إطلاق المشتق على نفس المبدأ إطلاقا حقيقيا إذا كان المبدأ له
استقلال الوجود كما تقدم هذا الكلام، وإطلاقه على الذات المتلبسة
بالمبدأ يحتاج إلى عناية عند البرهان الدقيق، و (بعبارة أخرى)
المبدأ واسطة في العروض بالنسبة إلى اتصاف الذات بالمشتق بخلاف
حمله على نفس المبدأ لو كان له استقلال، فإنه لا يحتاج إلى
واسطة، لا في العروض ولا في الثبوت، ولذلك الموجود الحقيقي هو
نفس الوجود، والمضي الحقيقي هو نفس الضؤ، وهكذا في سائر
المشتقات والمبادئ.
(رابعها) - أن إطلاق المشتق على ذات إطلاقا حقيقيا هل يحتاج إلى
تلبسها بالمبدأ حقيقة وبدون واسطة في العروض أو لا، بل يكون
الاطلاق حقيقيا ولو كانت هناك واسطة في العروض، كالميزاب
الجاري؟ لا ينبغي أن يشك في أن الاطلاق - على غير ما هو له وفيما
إذا
كان له الواسطة في العروض - إطلاق عنائي واستعمال مجازي، غاية
الامر من المحتمل أن يكون المجاز في الاسناد لا في الكلمة،
بدعوى
108

ان الميزاب مثلا من أفراد الماء على ما ذهب إليه السكاكي في باب
الاستعارة، وهذا الاحتمال لا يخلو من بعد في مثل المقام، وان سلمنا
صحة ذلك الكلام في ذلك المقام، وذلك للقطع بعدم ادعاء العرف
ان الميزاب من أفراد الماء مثلا أو من أفراد المتلبس بالجريان، بل
صفة الماء - وهو الجريان مثلا - استند إلى غير ما هو له مجازا بعلاقة
الحال والمحل.
هذا تمام الكلام في مباحث المشتق. والحمد لله الذي وفقنا للاتمام،
ونشكره على هذه النعمة وهو خير ختام. وبعد هذا نشرع في
مقاصد هذا الفن:
(المقصد الأول في الأوامر)
وفيه مباحث:
(المبحث الأول فيما يتعلق بمادة الامر)
وفيه جهات من الكلام:
(الجهة الأولى) -
في أنهم ذكروا معاني عديدة لهذه الكلمة: كالشئ والشأن والشغل و
الغرض والحادثة والفعل العجيب والفعل والطلب، فهل هو
مشترك لفظي بين هذه المعاني، أو مشترك معنوي بين الكل، أو
مشترك معنوي بين عدة منها ولفظي بين جامع تلك العدة وبين ما
عداها؟ وجوه بل أقوال.
ثم إنه من المعلوم أن ذكر بعض هذه المعاني له - أي للفظ الامر - من
باب اشتباه المفهوم بالمصداق كالفعل العجيب والحادثة، وبعضها
يفهم من شئ آخر غير لفظ الامر، كقولك: جئتك لأمر كذا، فإنه يفهم
منه الحاجة مثلا أو الغرض من اللام، وعلى كل حال احتمال كونه
من قبيل المشترك اللفظي بالنسبة إلى جميع المعاني المذكورة في
غاية البعد، وحينئذ يدور الامر بين أن يكون مشتركا معنويا
بالنسبة إلى الكل، كما احتمله شيخنا الأستاذ (قده) أو مشتركا لفظيا
بين الطلب وبين جامع سائر المذكورات، بمعنى أنه بالنسبة إلى ما
عدا الطلب مشترك معنوي واما بالنسبة إليه وما عداه فمشترك لفظي،
كما احتمله جمع من المحققين، وان اختلفوا
109

في تعيين الجامع بين ما عدا الطلب، فقال بعضهم: هو الشئ، وقال
بعض آخر: هو الفعل، واحتمل بعض أن يكون هو الشغل أو الشأن، و
قد أفاد شيخنا الأستاذ (قده) في وجه ما ذهب إليه بأن الاشتراك
اللفظي بعيد لا يمكن المصير إليه، فلا بد وأن نقول بالاشتراك
المعنوي. والعجز عن تعيين جامع قريب ينطبق على جميع هذه
المعاني لا يدل على عدم وجوده، بل من الممكن أن يكون ولا ندري
به، و
فيه ان صرف إمكان وجود جامع في البين لا يثبت وجوده، بل يبقى
في حيز الامكان، نعم لو أثبتنا بطلان الاشتراك اللفظي بين الكل و
لم يكن احتمال آخر هاهنا غير الاشتراك المعنوي بين الكل ثبت
الاشتراك المعنوي لا محالة، كما هو شأن القياس الاستثنائي، ولكن
هاهنا ليس الامر كذلك، بل من الممكن أن يكون مشتركا معنويا بين
عدة منها، ومشتركا لفظيا بين جامع تلك العدة وبين الطلب، كما
أنه ذهب إلى هذا القول جمع من المحققين.
وغاية ما يمكن أن يقال - في تصوير الجامع بين الكل - هو أن الفعل
باعتبار معناه المصدري يشمل جميع ما تعلقت به إرادة الله جل
جلاله، حتى أنه بهذا الاعتبار تكون الأحكام الشرعية أيضا فعلا، لأنها
أيضا تعلقت بها الإرادة التشريعية، أي انها أيضا فعل ومجعول في
عالم الاعتبار والتشريع، فالطلب - الذي ينتزع عن إبراز الإرادة
التكوينية أو التشريعية بالقول أو الفعل أو الكتابة الذي هو أحد معاني
الامر - أيضا داخل تحت هذا المعنى، لأنه أيضا فعل ومن مصاديقه
بهذا المعنى.
نعم لا يطلق على الذوات والأعيان باعتبار وجوداتها في أنفسها، كما
أن الامر في الامر أيضا كذلك. و (بعبارة أخرى) جميع الأشياء
باعتبار صدورها من فاعلها فعل بذلك المعنى وامر، وباعتبار
وجودها في أنفسها لا فعل بذلك المعنى ولا أمر، بل شئ وشخص
و
واحد وموجود وما يشبه ذلك، ولا شك في أن الطلب بالقول أو
بالإشارة أو بالكتابة إذا لاحظنا جهة صدوره عن فاعله فعل، فيرتفع
إشكال من يشكل ويقول بعدم الاشتراك المعنوي بين جميع المعاني
المذكورة لأجل
110

عدم تصوير الجامع بين الطلب وبين سائر المعاني ما عداه، لان سائر
المعاني من قبيل الجوامد، ولا يشتق من الامر بتلك المعاني
مشتق، ولا يجمع على (أوامر) بل يجمع على (أمور) بخلاف الطلب
فإنه معنى حدثي تشتق منه المشتقات ويجمع على (أوامر).
نعم يبقى الاشكال من ناحية الجمع، حيث أن الامر بمعنى ما عدا
الطلب يجمع على (أمور) وبمعناه يجمع على (أوامر)، وان كان
يمكن أن
يقال: إنه لا مانع من أن يكون المفهوم الواحد إذا أريد منه بعض
المصاديق يجمع على كذا وإذا أريد منه البعض الاخر يكون له جمع
آخر،
ولكن مع ذلك كله يبقى إشكال الاشتقاقات، فإنه ان أريد من الامر
ذلك المعنى الحدثي في جميع الموارد فلما ذا تكون الاشتقاقات
مخصوصة بهذا المعنى، وان كان يمكن أيضا ان يقال: ان الاشتقاقات
من جهة اختلاف نسب المعنى الحدثي، فإذا كانت اختلافات النسب
في معنى حدثي قليلة من جهة قلة الاحتياج إليها، فقهرا تكون
الاشتقاقات قليلة، وإذا كانت كثيرة فتكون كثيرة، وذلك حسب
الاحتياج،
فالامر بمعنى ما عدا الطلب من سائر المعاني يحتاج إلى اختلافات
النسب، بخلاف ما إذا كان بمعنى الطلب فان الاحتياج إليها كثير.
هذا ولكن مع ذلك كله لا يخلو هذا الكلام عن مناقشات، ولعله لذلك
ذهب جمع من المحققين إلى اشتراكه اللفظي بين الطلب وبين جامع
ما عداه.
ثم على تقدير صحة ما ذهبوا إليه فالجامع بين ما عدا الطلب ليس هو
مفهوم الشئ، لاطلاق الشئ على الأعيان والذوات جواهرا كانت أم
أعراضا، بخلاف الامر فإنه لا يطلق على الذوات والأعيان الا باعتبار
صدورها عن فاعلها وخالقها، فالأحسن ان يقال: إن الجامع بين ما
عدا الطلب من تلك المعاني هو الفعل بالمعنى الذي ذكرنا.
(الجهة الثانية) -
في أنه هل يعتبر العلو في مفهوم الامر أولا؟ وكذا الكلام في الاستعلاء.
والاحتمالات ثلاثة: اعتبار كلا الامرين، أو أحدهما، أو
111

العلو، والصحيح هو الأخير، لشهادة العرف والوجدان بأن الطلب
الصادر من العالي أمر سوأ كان مستعليا أو مستخفضا بجناحه، وعدم
صحة إطلاق الامر على طلب السافل المستعلي إلا على سبيل العناية،
وتقبيحه على ادعائه ان طلبه أمر.
(الجهة الثالثة) -
في أنه موضوع لخصوص الوجوب أو لخصوص الاستحباب أو للجامع
بينهما أو لغير ذلك؟ الظاهر أن الامر بمعنى الطلب موضوع لمطلق
الطلب وخصوصية الوجوب وكذا الاستحباب خارجتان عما وضع
له، نعم لا يبعد أن يكون له ظهور إطلاقي في الوجوب عند عدم
القرينة على الاستحباب، وذلك من جهة أن كل ما يحتاج بيانه إلى
مئونة زائدة على إلغاء أصل الطبيعة أو اللفظ ولم يؤت بتلك المئونة
الزائدة، فالاطلاق يرفعه، سواء كانت نتيجته التوسعة في المراد أو
التضييق فيه، وذلك كما أنهم يقولون ان إطلاق الامر يقتضي أن
يكون الوجوب نفسيا عينيا تعيينيا، لان مقابل كل واحد من هذه الثلاثة
يحتاج بيانه إلى مئونة زائدة، مثلا الغيري بيانه يحتاج مضافا إلى
الامر بالشئ إلى ذكر أنه لأجل التوسل به إلى واجب آخر، والكفائي
إلى ذكر أو غيرك من المكلفين، والتخييري إلى ذكر أو الشئ
الفلاني، فإذا أمر وأطلق ولم يبين أحد هذه الأمور، حمل الوجوب -
بحكم الاطلاق - على ما ذكرنا، مع أن نتيجة هذا الاطلاق هو التضييق
لا التوسعة، وفيما نحن فيه إذا كان الاستحباب عبارة عن طلب الشئ
مع الاذن في الترك، والوجوب عبارة عن نفس طلب الشئ بدون
أن يحتاج إلى المنع عن الترك، كما توهمه بعض، لان نفس الطلب
الصادر ممن تلزم وتجب طاعته يقتضي بحسب طبعه لزوم طاعته و
إتيانه وإن لم يمنع من الترك، نعم إذا رخص في الترك نفهم حينئذ
عدم اللزوم، وأن إتيانه راجح لا واجب، فبناء على هذا الاستحباب
يحتاج بيانه إلى مئونة زائدة، فبالاطلاق يحكم بعدمه، وأن مفاد الامر
هو الوجوب. و (بعبارة أخرى) الطلب في الوجوب والاستحباب
بمعنى واحد وهو البعث وتحريك المأمور نحو إتيان الشئ، فإذا لم
يجئ ترخيص بالترك من طرف الامر ينتزع منه الوجوب،
112

وإذا جاء الترخيص بالترك ينتزع منه الاستحباب، فمنشأ انتزاع
الوجوب صرف الطلب بدون أي مئونة، ومنشأ انتزاع الاستحباب
ليس
صرف الطلب، بل هو مع الترخيص في الترك.
واما احتمال أن يكون كل منهما مركبا - فالوجوب مركب من طلب
الفعل والمنع من الترك، والاستحباب مركب من الطلب والاذن في
الترك - فبعيد، لما ذكرنا من أن اقتضاء نفس الطلب هو لزوم الاتيان
بالمطلوب لو لم يرد ترخيص من طرف الامر، ولا يحتاج إلى
ورود منع من الترك من قبل الامر، وكذلك احتمال أن يكون الفرق
بينهما بشدة الطلب وضعفه، لأنه لا فرق في كيفية الطلب بين
الوجوب والاستحباب وجدانا، وانما ينتزع الاستحباب من الطلب
المتعقب بالترخيص في الترك، و (بعبارة أخرى) كما أن الإرادة من
الفاعل المباشر إذا تعلقت بإيجاد شئ لا فرق في شدة الإرادة و
ضعفها بين أن يكون ممنوع الترك عنده لكونه ذا مصلحة ملزمة أو
جائز الترك لكون مصلحته غير ملزمة، لان جهة اللزوم والجواز
راجعتان إلى كيفية الملاك والمصلحة، ولا ربط لهما بكيفية الإرادة
أصلا، كذلك الامر في الإرادة التشريعية، وطلب الشئ من غيره لا
ربط للوجوب والاستحباب بكيفية الإرادة، بل الإرادة فيهما على نهج
واحد.
وبما ذكرنا يرتفع الاشكال المعروف في مثل قوله اغتسل للجمعة و
الجنابة، من أنه يلزم استعمال الامر في أكثر من معنى إذا أراد في
استعمال واحد الوجوب والاستحباب، فإنه لو كان الفرق بينهما
بالشدة والضعف لزم ذلك، وأما بناء على ما ذكرنا فالطلب فيهما
واحد وبمعنى واحد، وطبع الطلب يقتضي الوجوب إلا إذا جاء
ترخيص في الترك فيحمل على الوجوب، الا في ما ثبت جواز تركه،
فيحمل
على الاستحباب، فيرتفع الاشكال.
وأما ما احتمله أستاذنا المحقق (ره) من أن الوجوب عبارة عن الطلب
التام غير المحدود والاستحباب هو الطلب الناقص المحدود،
فالاستحباب يحتاج إلى مئونة زائدة بواسطة تركبه من الطلب والحد،
بخلاف الوجوب فإنه بسيط لا تركيب فيه، من جهة أنه
113

عبارة عن نفس الطلب غير المحدود، فكأنه قاس المقام بحقيقة
الوجود، حيث أنهم يقولون بأن مرتبة منه غير محدودة وبسيط صرف،
وهو وجود الواجب جل جلاله، وهو في غاية التمام ولا نقص فيه و
لا حد له أصلا، والمراتب الاخر كلها ناقصة محدودة مركبة من ذات
الوجود وحده الذي هو عبارة عن الماهية، فما عدا الوجود الواجبي
ممكنات محدودة، ولذلك قالوا: كل ممكن زوج تركيبي له ماهية و
وجود.
وأنت خبير بأن هذا القياس في غير محله، لأنه من المعلوم أنه ليس
هذا التشقيق باعتبار مفهوم الطلب، لأنه لا يتصف بالنقص والتمام
قطعا، فلا بد وأن يكون باعتبار محكي هذا العنوان أي الإرادة التي هي
قائمة بالنفس، ففي الوجوب تام غير محدود وفي الاستحباب
ناقص محدود، وقد عرفت أنه لا فرق بين الاستحباب والوجوب في
كيفية الإرادة من حيث الشدة والضعف والتمام والنقصان، مضافا
إلى أن كون الإرادة تامة غير محدودة لا محصل له، لان جميع
الموجودات - ما عدا الواجب - محدودة، وحدودها ماهياتها و
الإرادة
كيفية نفسانية، فهي من مقولة الكيف، فكيف يمكن أن تكون غير
محدودة.
واستدلوا لكون معنى مادة الامر الوجوب ب آيات وبعض الروايات،
كقوله تعالى:
(فليحذر الذين يخالفون عن امره) لأنه لا يجب الحذر الا في مخالفة
الامر الوجوبي، وقوله تعالى: (ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك) حيث
أن التوبيخ لا معنى له إلا على مخالفة الامر الواجب، وكقوله صلى الله
عليه وآله: (لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك) ولا شك في
أن المنفي هو الامر الوجوبي، والا فالامر الاستحبابي صادر عنه صلى
الله عليه وآله قطعا، وقوله صلى الله عليه وآله بعد قول بريرة أ
تأمرني يا رسول الله؟: (لا بل إنما أنا شافع) ومعلوم أن المنفي هو الامر
الوجوبي والجواب في الجميع - بعد تسليم الدلالة - أن
الاستعمال أعم من الحقيقة، وقد أجاب أستاذنا المحقق (ره) عن
الجميع بأن هذا من قبيل نفي مشكوك الفردية عن العام بعد القطع
بخروجه عنه حكما بأصالة العموم.
114

(الجهة الرابعة) -
في أن المشهور بين الامامية - وفاقا للمعتزلة وخلافا للأشاعرة - هو
اتحاد الطلب والإرادة. وهذا البحث قد يقع في ناحية المفهوم، و
قد يكون في ناحية المصداق، أما البحث في (ناحية المفهوم) فبحث
لغوي يرجع فيه إلى متفاهم العرف من هذين اللفظين. ولا ريب في
أنه يفهم من لفظ الإرادة تلك الكيفية النفسانية المعبر عنها بالشوق
المؤكد، والظاهر أن الطلب - حسب المتفاهم العرفي - ليس عبارة
عن نفس هذا المعنى، بل الطلب عند العرف عبارة عن السعي في
تحصيل الشئ، فالظاهر أنهما متغايران مفهوما.
وأما البحث في (ناحية المصداق) فبحث كلامي، وقد ذهب الأشاعرة
إلى تغايرهما مصداقا أيضا، وعمدة ما دعاهم إلى هذا القول هو
زعمهم وجود الكلام النفسي، وأنه من صفات النفس، وهو غير
الإرادة، والعلم وسائر الصفات المشهورة وهو المدلول للكلام
اللفظي،
فإذا كان الكلام اللفظي من الانشاءات فمدلوله - الذي هو من صفات
النفس، وهو غير الإرادة وسائر الصفات المشهورة - يسمى
بالطلب، فالطلب عندهم عبارة عما هو مدلول للكلام اللفظي
الانشائي، وهو من الصفات القائمة بالنفس غير الإرادة وغير الصفات
المشهورة، ومقابلهم الامامية يقولون بعدم وجود صفة أخرى في
النفس غير الإرادة وغير الصفات المشهورة - من العلم والقدرة و
التمني والترجي وغيرها صفة أخرى تكون قائمة بالنفس ومدلولا
للكلام اللفظي - تسمى بالطلب، بل الطلب هو عين الإرادة.
واستدل الأشاعرة على ما ذهبوا إليه بأدلة: (الأول) - أنه في الأوامر
الامتحانية لم تتعلق إرادة بالفعل، وإلا يلزم أن تكون أوامر جدية لا
امتحانية واختبارية، مع أن الطلب قطعا موجود ولا يمكن إنكاره، والا
فنفي الاثنين يساوق إنكار أصل الامر في البين (الثاني) - أن أمر
الكفار بالاسلام والايمان والأوامر المتوجهة إلى الكل بالنسبة إلى
الفروع والأحكام الشرعية من الكفار والعصاة لم تتعلق بمتعلقاتها
إرادة من قبل المولى، والا يلزم تخلف الإرادة عن المراد،
115

ولكن الطلب موجود، لان نفي الامرين مساوق لانكار الامر وهو
خلف.
و (بعبارة أخرى) يقولون في علم الكلام في صفات الواجب: إن من
جملة صفاته تبارك وتعالى أنه متكلم، ولا شك في أن صفاته تعالى
قديمة، والكلام المركب من الحروف والأصوات المتدرجة في
الوجود حادث قطعا، فلا يمكن أن تكون صفة من صفاته تعالى، فلا بد
و
أن يكون هناك أمر معنوي قائم بذاته تعالى يسمى بالكلام حتى لا
ينافي القدم، لان هذا الكلام اللفظي ينعدم بعد النطق به، بل ما لم
ينعدم جز منه لا يوجد جز آخر منه، كما هو شأن المتصرمات، وما
ثبت قدمه امتنع عدمه، فلا يمكن أن يكون هذا الكلام اللفظي قديما
ومن صفاته تعالى، مع أنه بضرورة الأديان هو تبارك وتعالى متكلم، و
لذلك قالوا بالكلام النفسي، أي كما أن في الانسان الصفات
قائمة بالنفس، كذلك بالنسبة إليه تعالى الصفات قائمة بذاته المقدسة،
وقالوا بأن هذه الصفة غير العلم، وأيضا غير الإرادة، وسموها
في الانشاءات بالطلب الجامع بين الأمر والنهي والاستفهام والنداء،
وفي غيرها بالاخبار، فلذا اشتهر انهم - أي الأشاعرة - يقولون
بأن الطلب غير الإرادة، وأما أصحابنا الامامية (رضوان الله عليهم
أجمعين) فيقولون - وفاقا للمعتزلة - بأن الكلام النفسي بالمعنى
المذكور لا وجود له أصلا، بل الموجود في النفس في الاخبار ليس الا
الصور العلمية التصورية أو التصديقية، وتلك الصور العلمية
التصديقية نسميها بالقضايا المعقولة التي هي مدلولات للقضايا
الملفوظة، وأما ما عدا ذلك فليس شئ يسمى بالكلام النفسي، و
يكون
مدلولا للكلام اللفظي، وأما الطلب في الانشاءات فهو عين الإرادة، و
ليس شئ ورأها حتى يكون هو الكلام النفسي.
وأما ما يقال من أن انكشاف ثبوت القيام لزيد مثلا للنفس علم، وأما
إقرار النفس وإذعانها وحكمها بذلك فهو غير العلم، فهو الكلام
النفسي، وصفة من صفات النفس بالنسبة إلى النفوس الانسانية، و
صفة من صفات الذات المقدسة بالنسبة إليه تعالى.
116

ففيه أن الأول علم تصوري، لان انكشاف ثبوت القيام لزيد عند النفس
معنى تصوري، حيث أنه إدراك بلا حكم وحكمها وإذعانها
بثبوت هذه النسبة تصديق، وليس شئ غير العلم التصديقي حتى
نسميه بالكلام النفسي، وأما ما أفاده المحقق الدواني في هذا المقام
من
أن ترتيب الكلمات وجعلها جملا مرتبة في الذهن هو الكلام النفسي،
لأنه معنى قائم بالنفس غير العلم، فجوابه أن هذا عين العلم
التصوري، غاية الامر هاهنا يكون المتصور الكلمات التي هي من
مقولة الكيف المسموع، كما أنه يمكن أن يكون من سائر المقولات.
هذا في الاخبارات. وأما في باب الانشاءات فما هو المسمى بالطلب
- الذي قد يتحقق في ضمن الامر، وقد ينطبق على النهي، وقد يقال
له الاستفهام، وتارة يقال له النداء - ليس الا الإرادة، فإرادة صدور
شئ عن شخص أمر، وإرادة تركه نهي، كما أن إرادة تفهيم الغير
إياه استفهام، وإرادة توجيه الغير إليه نداء.
وأما ما استدلوا به في صورتي الاختبار والاعتذار على مغايرة الطلب
والإرادة فجوابه (أما في الصورة الأولى) فبأنه كما لا إرادة هناك
بالنسبة إلى المتعلق لان المولى في مقام الاختبار والامتحان لا البعث
والتحريك نحو إيجاده، كذلك لا طلب هناك حقيقة، بل ليس الا
أمرا صوريا يكون المقصود منه الامتحان والاختبار، فهناك طلب
صوري، ونحن نقول باتحاد الطلب الحقيقي مع الإرادة لا الطلب
الصوري. هذا إذا لم نقل بأن مفاد الامر هو الطلب الانشائي وإلا فهو
موجود حقيقة، ولكن نحن لا نقول باتحاد الطلب الانشائي مع
الإرادة الحقيقية.
وذهب صاحب الكفاية إلى أنه كما أن هناك طلب إنشائي كذلك أيضا
تكون إرادة إنشائية، وهما متحدان كما أن الطلب الحقيقي متحد
مع الإرادة الحقيقية، و (بعبارة أخرى) هو قائل باتحاد الطلب والإرادة
في المقامات الثلاثة (أي مفهوما وإنشاء وخارجا) والمقصود من
الطلب الانشائي عنده هو إيجاد وجود مفهوم الطلب في عالم الاعتبار
بمادة الامر أو بصيغة افعل، فليس هناك صفة قائمة بالنفس تكون
117

مسماة بالإرادة أو الطلب، نعم قد يكون الداعي إلى إنشاء هذا المفهوم
وإيجاده في عالم الاعتبار تلك الصفة والكيفية النفسانية. وعلى
كل حال لو قلنا بهذه المقالة، فلا يبقى إشكال في البين أصلا، لأنه
حينئذ نقول في الأوامر الامتحانية بوجود الطلب الانشائي والإرادة
الانشائية معا وهما متحدان، ولا يلزم منه محذور، لان المحذور يلزم
من وجود الإرادة الحقيقية لا الإرادة الانشائية، لأنه لا مانع من أن
ينشئ الشارع مفهوم الطلب والإرادة في عالم الاعتبار بمادة الامر أو
بصيغة افعل بداعي الامتحان، نعم يبقى الكلام في صحة هذا
المسلك، وسيجئ في مفاد صيغة افعل إن شاء الله.
وأما في (الصورة الثانية) أي في صورة الاعتذار والأوامر المتوجهة إلى
الكفار والعصاة، فبالفرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية، و
ان الذي لا يمكن تخلف المراد عنها هي الإرادة التكوينية لا التشريعية
لان الإرادة التشريعية عبارة عن الإرادة المتعلقة بفعل الغير،
الصادر عنه بالاختيار لا بالقهر والاجبار، فصدور الفعل عنه بالقهر و
الاجبار خلف وتخلف للإرادة عن المراد. نعم قد تتعلق الإرادة
بصدور الفعل عن غير المريد مطلقا سواء اختار أو لم يختر، وسواء
كان الفاعل من ذوي الشعور أو لا. لمصلحة في ذلك الفعل مطلقا من
دون تقييده بكونه صادرا بالاختيار، فحينئذ إن كان مثل تلك الإرادة
صادرة عن القادر المطلق الذي إذا أراد شيئا فقال له كن فيكون.
فلا محالة يقع ذلك الفعل كقوله تعالى للسماء والأرض:
ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ومثل هذه الإرادة لا تسمى
بالإرادة التشريعية بل هي تكوينية، والإرادة التشريعية - كما -
ذكرنا - عبارة عن الإرادة المتعلقة بفعل الغير الذي يصدر عنه
بالاختيار. ومعلوم أن مثل هذه الإرادة ليست ملازمة لاتيان متعلقها، و
لو كان المريد قادرا مطلقا لا يشذ عن حيطة قدرته شئ. وقد ظهر مما
ذكرنا أنه لا فرق بين الإرادتين بحسب حقيقتهما، وانما الفرق
بينهما بحسب متعلقهما حيث أن متعلق الإرادة التكوينية فيما إذا
تعلقت بالافعال هو فعل نفس
118

المريد أو فعل الغير مطلقا طوعا أو كرها، واما متعلق الإرادة التشريعية
فهو فعل الغير الصادر عنه بالاختيار (وبعبارة أخرى) المراد
منه في هذه الإرادة هو القادر المختار ففرض عدم اختياره وكونه
مجبورا في فعله خلف.
واما ما ذكره بعض المحققين (ره) في حاشيته على الكفاية في بيان
الإرادة التشريعية بأنها لا تتعلق بفعل الغير الا إذا كان ذلك الفعل
الذي يصدر من الغير ذا فائدة عائدة إلى المريد وحيث أن فعل العبد
ليس فيه فائدة عائدة إلى الله تعالى عن ذلك فلا يمكن تعلق إرادته
بفعل العبد بل يتعلق بإيصال النفع إلى العبد بتحريكه وبعثه نحو
الفعل وإيصال النفع إلى العباد بالبعث وتحريكهم نحو الافعال
الحسنة والزجر عن السيئات فعله تبارك وتعالى لا فعل العبد.
فعجيب (أولا) من جهة أن إيصال النفع أيضا ليس فيه فائدة عائدة إليه
تعالى لأنه لا نقص فيه حتى يستكمل بمثل هذه الفائدة فلو كانت
إرادته تعالى لفعل من أفعال نفسه أو غيره منوطا بوجود فائدة عائدة
إليه في ذلك الفعل لم تتعلق إرادته بفعل من الافعال لما ذكرنا من
عدم النقص فيه تعالى وعدم احتياجه إلى فائدة تصل إليه تعالى الله
عن ذلك علوا كبيرا، ولو كان تعلق الإرادة بأي معنى كان من جهة
صلاح ووجود مصلحة في متعلقها - كما هو الصحيح والحق الصريح
الذي يجب المصير إليه - فلا فرق بين فعل الغير وبين إيصال النفع
إلى الغير في اشتمال كليهما على المصلحة في بعض الأحيان، و
(بعبارة أخرى) الإرادة مطلقا من الله أو من الخلق تابعة لما يرى المريد
في متعلقها من المصلحة إذا كان المريد عاقلا حكيما غير تابع
للشهوات مجتنبا عن السفهيات ولا فرق بين أن تكون تلك المصلحة
راجعة إلى النوع - أي تكون مصلحة للنوع والنظام والمجتمع - وبين
أن تكون راجعة إلى شخص المريد أو إلى شخص المراد منه
بواسطة لطف المريد بالنسبة إليه، ولا يمكن أن تكون دائرة متعلق
الإرادة أوسع مما له المصلحة أو تكون أضيق منه، بل كل ما له دخل
في المصلحة لا بد أن يكون تحت الإرادة، وكل ما ليس له دخل فيها لا
بد أن يكون خارجا عن تحتها لما ذكرنا من التبعية.
119

فإذا عرفت ذلك فنقول: إذا علم الله تبارك وتعالى بعلمه الأزلي أن
الفعل الفلاني الصادر عن الشخص الفلاني أو عن أي شخص يكون
متصفا بالصفات الكذائية له مصلحة راجعة إلى ذلك الشخص أو إلى
النوع إذا كان صدوره بإرادته واختياره لا أن يكون صادرا عنه
بالقهر والاجبار، فلا محالة تتعلق إرادته تعالى بذلك الفعل بعين ذلك
النحو من دون أدنى فرق وتغيير بين متعلق الإرادة وبين ما
قامت به المصلحة، ولا شك في أن مثل هذه الإرادة يمكن تخلفها عن
فعل الغير الذي تعلقت به هذه الإرادة لاختياره الترك والمعصية و
الا لو كان مجبورا على الفعل لزم الخلف.
(لا يقال): إن في صورة تعلق الإرادة الأزلية من القادر المطلق بصدور
فعل من شخص ولو كان صدوره مقيدا بكونه من الفاعل المختار
لا بالاجبار كما هو المفروض في المقام يجب صدور ذلك الفعل غاية
الامر بالاختيار (لأنا نقول): ان كان مراد هذا القائل أنه يصير
الفعل بواسطة تعلق الإرادة الأزلية به ضروري الوجود بحيث يخرج
عن تحت اختياره ويصير الفاعل مضطرا إلى إيجاده فهذا خلف.
لأننا فرضنا أن المصلحة قائمة بالفعل الاختياري لا الاضطراري و
الإرادة تابعة للمصلحة سعة وضيقا وان أراد أنه مع بقاء الاختيار في
الفاعل وعدم كونه مقهورا مجبورا في إرادته مع ذلك يكون الفعل
ضروري الوجود من ناحية تلك الإرادة الأزلية فهذا كلام عجيب.
نعم هاهنا إشكال آخر وهو ان إرادة العبد المستتبع لتحريك العضلات
حادثة ولا بد من انتهاء الحوادث إلى علة تامة لا تكون معلولة
لغيرها لبطلان التسلسل. ومعلوم أن وجود الشئ عند وجود علته
التامة ضروري كما أن عدمه ضروري عند عدمها فعند وجود العلة
التامة للإرادة لا يمكن أن لا توجد ويكون وجودها ضروريا وعند
عدمها لا يمكن ان توجد ويكون عدمها ضروريا وترتب الفعل على
الإرادة أيضا ضروري فأين الاختيار؟.
وأجاب الحكماء عن هذا الاشكال بأن وجوب الفعل وكونه ضروريا
من ناحية
120

إرادته لا ينافي الاختيار وذلك لان الفاعل المختار القادر الحكيم إذا
علم بوجود المصلحة الملزمة في فعل لا محالة تتعلق إرادته بذلك
الفعل ويصير الفعل واجبا بالقياس إلى علته التي عبارة عن الإرادة،
لان الشئ ما لم يجب لم يوجد والوجوب بالغير لا ينافي الامكان
الذاتي، وكذلك الوجوب بالقياس إلى الغير لا ينافيه، ولذلك قالوا إن
كل ممكن محفوف بالضرورتين ومع ذلك لا يخرج الفعل عن
كونه فعلا اختياريا لان مناط اختيارية الفعل هو أنه إن شاء فعل وإن لم
يشأ لم يفعل، وأما وجوب الفعل بالغير وعدم كونه كذلك
فخارجان وأجنبيان عن الاختيار والا لو كان وجوب الفعل موجبا
لخروج الفعل عن الاختيار يلزم أن لا يكون الواجب تعالى - والعياذ
بالله - فاعلا مختارا لان الصادر الأول منه تعالى لا بد ان تكون ذاته
تعالى علة تامة لوجوده لأن المفروض أنه ليس هناك شئ - غير
ذاته تعالى - موجودا بأدلة التوحيد، فصدور الصادر الأول يكون واجبا
ضروريا والا يلزم تخلف المعلول عن علته التامة وفرض عدم
تمامية العلة في تلك المرحلة خلف لأن المفروض أن المعلول هو
الصادر الأول وليس هناك شئ آخر غير الواجب حتى يكون لذلك
الشئ دخل في وجود الصادر الأول إذ كل ما فرضته غير ذات
الواجب في تلك المرحلة لا بد وأن يكون ممكنا صادرا وكلامنا في
الصادر الأول، فكل ما يجيب به الأشعري عن هذا الاشكال بالنسبة
إلى الواجب نجيب به في هذا المقام.
وأما (جوابه) بالفرق بين المقامين بأن إرادة العبد مقهورة لإرادة الله، و
ليست إرادته تعالى مقهورة لإرادة غيره (فغير تام) لان مناط
الاشكال في المقامين واحد وهو وجوب الفعل وعدم إمكان عدمه و
لزوم المحال أي انفكاك المعلول عن علته في صورة تركه وان
الفعل بعد وجود علته التامة ضروري الوجود.
(ان قلت): الفرق هو أن إرادة العبد - حيث أنها كسائر الحوادث -
معلولة للغير فعند وجود علتها التامة لا يمكن أن لا توجد كما أنها عند
عدم علتها التامة لا يمكن أن توجد بخلاف إرادة الواجب فإنها ليست
معلولة للغير (قلنا): أيضا لا فرق بينهما في ضرورية الوجود بل
الضرورة في إرادة العبد بالغير، لأنها آتية من قبل
121

والضرورة التي في إرادة الواجب ذاتية لأنها عين ذات الواجب.
وحل هذه الاشكالات جميعا ان ضرورية الفعل ووجوبه وعدم
إمكان تركه لا ينافي الاختيار بل الفعل الاختياري هو الفعل الذي إن
شاء
فعل وان لم يشأ لم يفعل ولا يلزم في صدق القضية الشرطية أن يكون
طرفاها ممكنتين بل يمكن أن يكونا واجبين ويمكن أن يكونا
ممتنعين فضرورية الفعل لمصلحة فيه أو ضرورية الترك لمفسدة فيه لا
ينافي الاختيار وكذلك لا ينافي استحقاق العقاب والثواب، لان
العقل لا يرى قبحا في تعذيب من خالف أمر المولى وأوجب وجود
المعصية بإرادته لشهواته النفسانية، بل يراه مستحقا لذلك بعد إرشاد
المولى له بأن المطيع له النعيم والعاصي له الجحيم وأرسل الرسل و
أنزل الكتب لكي لا تكون للناس على الله الحجة بل تكون له الحجة
البالغة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
ثم إن شيخنا الأستاذ - قده - أجاب عن هذا الاشكال تبعا لصاحب
الحاشية بأن الطلب الذي هو عبارة عن حملة النفس وتصديها
لتحصيل مطلوبه، وهو غير الإرادة، لان الإرادة كيفية نفسانية، والطلب
- أعني حملة النفس - فعل صادر عن النفس، والفعل والكيف
مقولتان مختلفتان بالماهية، ولا يمكن أن يكون أحدهما عين الاخر، و
مما يؤيد ذلك أن تحرك العضلات انفعال والانفعال لا يمكن أن
يتحقق بدون الفعل، لان التأثر التدريجي لا يمكن أن يحصل بلا تأثير
تدريجي، وذلك الفعل أي حملة النفس فعل اختياري لنفس النفس
من دون مدخلية شئ آخر فيه أصلا، والنفس هي السلطان المطلق
في مملكة البدن تفعل ما تشاء لا منازع لها في سلطانها، فلا جبر في
البين لأنه بعد تحقق الإرادة ليست النفس مجبورة على ذلك التصدي
وتلك الحملة النفسانية، بل لها الاختيار المطلق وهذا الاختيار ذاتي
لها ليس معللا لان الذاتي لا يعلل.
وأنت خبير بأن تلك الحملة حادثة وليست قديمة كما هو واضح
فيرجع السؤال بأن تلك الحملة الحادثة عند وجود علتها التامة
ضرورية
الوجود كما أنها عند
122

عدمها ضرورية العدم، ولا بد من انتهاء علتها أيضا إلى علة تامة قديمة
لبطلان التسلسل كما تقدم، فلا فرق من ناحية هذا الاشكال بين
أن تكون حملة النفس هو الجز الأخير من العلة التامة للفعل أو تكون
هي الإرادة.
والجواب عن هذا الاشكال بأن الاختيار ذاتي للنفس لا يسمن ولا
يغني من جوع لأنه إن كان مراد هذا القائل من الاختيار فعلية هذه
الحملة وأنها ذاتية فهذا كذب واضح، لان هذه الحملات أمور تتجدد
على النفس وتنعدم، فكيف يمكن أن تكون ذاتية لها، وإن كان
المراد أن قوة هذه الحملات واقتدار النفس عليها ذاتية لها فهذا شئ
معلوم، ولكن يبقى السؤال ان فعلية هذه الحملة تحتاج إلى علة تامة
بحيث يجب وجودها بوجود تلك العلة وهكذا إلى أن ينتهي إلى علة
قديمة لما ذكرنا من بطلان التسلسل فلا فرق فيما ذكرنا بين أن
تكون النفس علة لوجود الإرادة أو تكون علة لهذه الحملة.
ومما ذكرنا ظهر أيضا عدم تمامية ما أفاده أستاذنا المحقق (ره) في هذا
المقام، وهو أن الاختيار من لوازم وجود الانسان وليس
مجعولا بجعل مستقل بل هو مجعول بنفس مجعولية الانسان، ثم
يلتفت إلى ما ذكرنا من أن فعلية الاختيار لا يمكن أن تكون من لوازم
وجود الانسان وهذا كذب واضح، فيقول ان الاختيار قبل صدور
الفعل قوة في الانسان فإذا صدر الفعل يصير ما بالقوة بالفعل، فنقول
كل شئ يكون بالقوة فصيرورته فعليا يحتاج إلى علة تامة إلى أن
ينتهي إلى علة تامة قديمة لما ذكرنا من بطلان التسلسل وعدم
إمكان وجود الشئ بدون وجود علته التامة وكون النفس علة لتلك
الفعلية لا يرفع هذه الشبهة.
فإذا في رفع هذه الشبهة لا بد وأن يقال اما بأنها شبهة في مقابلة
الوجدان كما قال جمع كثير من الأعاظم من أصحابنا الامامية لأننا
بالوجدان نرى الفرق بين حركة اليد المرتعشة وحركتها الإرادية وان
الأولى جبرية والثانية اختيارية وليس برهان أصدق من
الوجدان، واما أن نقول بما قاله الحكماء من أن وجوب الفعل
123

بإيجاب نفس الفاعل لا يخرج الفعل عن كونه اختياريا إذا كان مسبوقا
بالإرادة ومباديها وقد ذكرنا كلامهم بالتفصيل، وإما ان نقول
بأن لزوم وجود الشئ عند وجود علته التامة وانه بدونه لا يوجد إنما
يكون في الفاعل الطبيعي لا الإرادي.
و (بعبارة أخرى) هذه القواعد التي ذكرتم والتزم الحكماء بها لا تجري
في الفاعل المختار، مثلا الفاعل المختار الحقيقي وهو الله جل
جلاله مع أن ذاته تعالى علة تامة لوجود المعلول الأول من دون
مدخلية أي شئ لأنه في ذلك المقام وذلك الفرض ليس شئ آخر
غير
ذاته المقدسة لان الكلام في المعلول الأول مع الواجب حتى يكون له
المدخلية، ومع ذلك ليس صدور الفعل - أعني المعلول الأول -
ضروريا بل هو تعالى بذاته مختار يمكن عدم صدور المعلول الأول
منه تعالى ويمكن صدوره بعد حين بلا وجود أي شئ وحدوث أي
أمر آخر وقد ذهب إلى هذا المسلك جمع من المتكلمين.
(المبحث الثاني في ما يتعلق بصيغة الامر)
وفيه أيضا جهات من الكلام:
(الجهة الأولى) -
أنه ذكروا لصيغة الامر معاني كثيرة من التهديد والانذار والاستهزاء و
الطلب الحقيقي وغير ذلك مما ذكروه في الكتب المفصلة
الأصولية، والأقوال والاحتمالات هاهنا كثيرة من الاشتراك اللفظي
في الكل والمعنوي كذلك أو اللفظي في البعض والمعنوي في
البعض الاخر والحقيقة في البعض والمجاز في البعض بالآخر، إلى
غير ذلك من الاحتمالات.
والتحقيق أنها مركبة من مادة وهيئة، اما المادة فهي موضوعة بالوضع
الشخصي للحدث الكذائي سواء كانت متهيئة بهيئة الامر أو
الماضي أو المضارع، وأما الهيئة حيث أنها من قبيل المعاني الحرفية و
قد تقدم في وضع الحروف أنها موضوعات للنسب والارتباطات
لتحكي عنها في عالم البيان وإظهار المراد عند المحاورة فلا بد أن
تكون هيئة الامر أيضا كذلك موضوعة لسنخ من أنواع الارتباطات
والنسب، فإذا راجعنا وجداننا نرى أن في مادة صيغة الامر نسبتين:
نسبة إلى الامر ونسبة إلى المأمور ونسبتها إلى الامر نسبة
الباعثية والطالبية، وإلى المأمور نسبة
124

المبعوثية، والهيئة إما موضوعة لكلتا النسبتين أو لخصوص نسبة
المبعوثية أي نسبة مبعوثية المأمور إلى إيجاد المادة، وجميع ما ذكر
من المعاني لصيغة الامر يكون من قبيل الدواعي لايجاد هذه النسبة
فلم تستعمل الصيغة في واحد منها فضلا عن أن يكون هو الموضوع
له.
(الجهة الثانية) -
في إفادتها الوجوب، وقد تقدم مفصلا - في دلالة مادة الامر على
الوجوب - أن طبع الطلب يقتضي لزوم إيجاد المادة، وأن المأمور لو
لم يوجدها لعد عاصيا، إلا أن يأذن المولى في الترك، فبناء على هذا
الاستحباب يحتاج إلى المئونة الزائدة في مقام البيان، وقد تقدم أن
كل ما يحتاج بيانه إلى مئونة زائدة، ولم يكن بيان لتلك الخصوصية
الزائدة، فالاطلاق يرفعه ويوجب ظهور اللفظ فيما لا يحتاج بيانه
إلى مئونة زائدة، ففي المقام حيث أن الذي يحتاج بيانه إلى مئونة
زائدة هو الاستحباب، لأنه يحتاج إلى الاذن في الترك، بخلاف
الوجوب، فإنه لا يحتاج إلى أمر زائد على أصل الطلب، فالاطلاق
يوجب ظهور الصيغة في الوجوب. نعم هذا الظهور إطلاقي وليس
بوضعي. ولا فرق في حجية الظهور بين أن يكون وضعيا أو إطلاقيا.
نعم من يقول بأن الوجوب والاستحباب كلاهما مركبان ومشتركان في
طلب الفعل، ومتميزان بالمنع من الترك والاذن فيه، فكل
واحد منهما يحتاج إلى مئونة زائدة، فلا يمكنه أن يتمسك بالاطلاق
للظهور في الوجوب، وكذلك من يقول بأن الفرق بينهما بشدة
الطلب في الوجوب وضعفه في الاستحباب أيضا لا يمكنه التمسك
بالاطلاق لاستفادة الوجوب.
وأما ما يقال - من أن شدة الطلب ليس الا عين الطلب، لان ما به
الامتياز من سنخ ما به الاشتراك، كما هو الشأن في التشكيك الخاصي
فلا
تنافي البساطة: وذلك كالوجود الواجبي بناء على أن الوجود حقيقة
واحدة متفاوتة بالكمال والنقص، فإنه مع كمال شدته بسيط غاية
البساطة وليس له حد محدود، بخلاف الاستحباب، فإنه
125

عبارة عن الطلب الضعيف، والضعف أمر عدمي، فما به الامتياز ليس
من سنخ ما به الاشتراك، فيكون مركبا، فيحتاج بيانه إلى مئونة
زائدة، أما الوجوب فإنه بسيط فمقتضى الاطلاق هو الوجوب - فليس
كما ينبغي، لان الطلب سواء كان شديدا أو ضعيفا، وسواء كان من
مقولة الكيف النفساني - أي كان عين الإرادة - أو كان فعل النفس. و
على كل حال وتقدير يكون محدودا، فيكون مثل العدد القليل و
الكثير كلاهما محدودان، وقياسه على الوجود الواجبي في غير محله،
لأنه تعالى صرف الوجود، وصرف الوجود لا مهية له ولا تكرر
فيه ولا ثاني له ولا حد له وبسيط غاية البساطة، فلا أجزاء خارجية له
ولا أجزاء عقلية ولا مقدارية، وهذا الامر من خواص صرف
الوجود ولا يشترك معه غيره أصلا، بل جميع ما عداه محدود و
مركب من ماهية ووجود، كما مثلنا بالعدد القليل والكثير، فالإثنين و
الألف كلاهما محدودان، وهكذا الحرارة الشديدة والضعيفة كلاهما
مركبان محدودان، ولذلك قيل كل ممكن زوج تركيبي له مهية و
وجود، فالطلب الشديد والضعيف ولو سلمنا صحة هذا الكلام
كلاهما مركبان.
وقد ظهر مما ذكرنا أنه بناء على هذين المسلكين ليس ظهور إطلاقي
للصيغة في الوجوب أصلا، ولكن عرفت - فيما تقدم - عدم تمامية
هذين المسلكين، وأن الوجوب يعتبر وينتزع من نفس الطلب من دون
ملاحظة أي قيد زائد معه، والذي يحتاج إلى القيد الزائد هو
الاستحباب، أعني يحتاج إلى الاذن في الترك، وان الطلب لا يتصف
بالشدة والضعف سواء كان من الكيفيات النفسانية أو كان من
أفعال النفس.
(الجهة الثالثة) -
في أن إطلاق الصيغة هل يقتضي التوصلية أو لا؟ وبيان هذا المطلب
يتم برسم أمور:
(الأول) -
في بيان المراد من التعبدي والتوصلي، وقد عرفا بتعريفات متعددة:
(الأول) - أن التعبدي هو الواجب الذي لا يكون الغرض من الامر به
معلوما للمأمور والتوصلي بخلاف ذلك أي ما يكون غرض الامر من
أمره معلوما، فكأن وجه تسمية
126

هذا بالتعبدي والتوصلي، من جهة أن المأمور إذا لم يعرف غرض
الامر فيفعله امتثالا لامره لا لأجل تحصيل غرضه. وأما إذا عرف
الغرض فيفعله ويأتي به لأجل ذلك الغرض. وهذا التعريف منسوب
إلى القدماء، ولكن أنت تدري بأن هذا المعنى لهما ليس كما ينبغي،
لان غرض الامر من الامر - في كثير من التوصليات - ليس معلوما، لان
المراد من الغرض في هذا الكلام - على ما هو الظاهر - الملاك و
المصلحة التي في المأمور به التي صارت سببا للامر بناء على ما هو
الحق من تبعية الأوامر للمصالح، ولا شك في أن أغلب الملاكات غير
معلومة حتى في التوصليات، نعم وردت أخبار في علل بعض
الشرائع، ولكن غالبا يكون مفادها حكم الاحكام لا عللها، وعلى
فرض أن
يكون مفادها العلل والأغراض فإنها كما وردت في التوصليات كذلك
وردت في التعبديات، ولو كان هذا المعنى اصطلاحا منهم فلا
مشاحة فيه، ولكنه أجنبي عن محل كلامنا، لان محل كلامنا في أنه إذا
شككنا في اعتبار قصد القربة - بما له من المعنى المذكور في الفقه،
وسيأتي شرحه - هل يمكن التمسك بإطلاق المادة الوارد عليها
الحكم لرفع هذا الاحتمال وإثبات التوصلية أو لا؟ (الثاني) - أن
الغرض
من الامر إن كان لا يحصل بصرف إتيان المأمور به بدون قصد القربة
فهو تعبدي، والا - أي ان كان يحصل سواء قصد القربة أو لا -
فتوصلي، وهذا التعريف وإن كان أحسن من الأول، لكن يرد عليه أن
وظيفة العبد هو إتيان المأمور به. وأما تحصيل الغرض فليس من
وظيفته، ولا طريق إلى تحصيله الا إتيان المأمور به والكيفية التي
يعتبرها العقل في مقام الإطاعة، لأنه هو الحاكم في باب الإطاعة و
العصيان.
(الثالث) - هو أن التعبدي وظيفة شرعت لأجل التعبد بها، والتوصلي
بخلاف هذا، وأنت خبير بأن قصد القربة على تقدير إمكان أخذه
في متعلق الامر بأمر واحد أو بأمرين وجعلين فيكون التعبد - أي قصد
القربة - داخلا في نفس الوظيفة وجزءا منها لا علة غائية لها.
127

(الرابع) - أن التعبدي عبارة عن الواجب الذي تعتبر فيه المباشرة و
الإرادة والاختيار، وأن يكون امتثاله بالمباح لا بفعل المحرم،
بخلاف التوصلي فإنه لا يعتبر فيه جميع هذه الأمور وذلك كإزالة
النجاسة عن الثوب للصلاة مثلا أو نذر أن يزيل النجاسة عن ثوبه، فلو
أزالها غيره أو هو بلا إرادة واختيار بمطهر شرعي كما لو ألقاه بلا قصد
تحت المطر، أو غسله في مكان مغصوب أو بماء مغصوب
يحصل الواجب في جميع هذه الموارد. ولكن هذا المعنى للتعبدي و
التوصلي اصطلاح آخر سنتكلم عنه في آخر هذا المبحث، وأن إطلاق
الصيغة هل يقتضي عدم اعتبار المباشرة والإرادة والاختيار وإباحة
الفعل حتى يكون توصليا بذلك المعنى أو لا حتى يكون تعبديا
بالمعنى المقابل له؟ (الخامس) - هو أن التعبدي ما لا يمكن تفريغ
الذمة عنه في حكم العقل الا بإتيانه بقصد القربة، والتوصلي مقابل
هذا
المعنى أي ما يمكن تفريغ الذمة عنه في حكم العقل بإتيانه بدون
قصد القربة. وأنت خبير بأن في مورد الشك في إتيان المأمور به إذا
كان تعبديا وفي الواقع كنت قد أتيت به فالمأتي به احتياطا ينطبق عليه
هذا العنوان من جهة حكم العقل بلزوم الاحتياط، مع أنه ليس
بواجب فضلا عن أن يكون تعبديا، لسقوط الوجوب - الذي هو مفاد
الامر - بالاتيان.
(السادس) - هو أن التعبدي عبارة عن الواجب الذي لا يسقط أمره ولا
يحصل الامتثال في حاق الواقع الا بإتيانه بقصد القربة، بخلاف
التوصلي، فان أمره يسقط بنفس إتيان متعلقة من دون احتياج إلى قصد
القربة، وإن شئت قلت:
إن التعبدي هو الواجب الذي يكون قصد القربة جز أو شرطا شرعيا
مأخوذا في المأمور به بأمر واحد أو بأمرين وجعلين عند من يقول
بإمكان ذلك أو يكون قيدا عقليا لتحقق الامتثال عند من يقول بعدم
إمكان أخذه في المتعلق، والتوصلي مقابل هذا المعنى، وأما ما يكون
عبادة ذاتا وإن لم يكن لها أمر بل كان منهيا عنها فأجنبي عن محل
كلامنا وما نحن بصدده من التمسك بالاطلاق لاثبات التوصلية في
مورد الشك.
128

(الامر الثاني) -
في المراد من قصد القربة، وأنه هل هو عبارة عن قصد الامر فقط - كما
ذهب إليه جمع منهم صاحب الجواهر (قده) وعلى هذا الأساس
أنكر الشيخ البهائي الثمرة في بحث الضد، لان العبادة تتوقف على
قصد الامر، ولا أمر لضد الأهم ولو لم نقل باقتضاء الامر بالشئ
النهي عن ضده الخاص، وجوابه بطلان هذا الأساس وان تحقق
العبادة ليس متوقفا على قصد الامر فقط - أو هو عبارة عن قصد الامر
أو قصد المصلحة التي صارت سببا للامر، كما ذهب إليه شيخنا
الأعظم الأنصاري (قده)، أو هو عبارة عن كل ما يكون موجبا لمرضاة
الله من الوجوه التي ذكروها في الفقه وأنها في الروضة إلى العشرة؟
الظاهر هو الأخير، لان الاخبار لا تدل على أكثر من أن العبادة
يلزم أن يكون إتيانها ابتغاء مرضاة الله، مضافا إلى أن الملاك و
المصلحة التي هي علة للامر قصدها - بما هي علة للامر - يرجع
بالآخرة
إلى قصد الامر، وهكذا قصد كل ما هو واقع في سلسلة معاليل الامر -
بما هي معاليل له - يرجع إلى قصده، فقصد كل واحد من هذه
الوجوه المذكورة في الفقه يكفي في تحقق العبادة وصدق الامتثال.
(الامر الثالث) -
أن كل ما هو متأخر عن الامر لا يمكن أن يكون متعلقا للامر وذلك من
جهة أن نسبة المتعلق إلى الامر نسبة المعروض إلى عرضه. و
هكذا نسبة الموضوع إلى الحكم - أي المكلف مع شرائط التكليف -
نسبة المعروض إلى عرضه، و (بعبارة أخرى) متعلق التكليف - أي
فعل المكلف - ومتعلق المتعلق - أي الموضوعات التي يتعلق بها
فعل المكلف، وموضوع التكليف - أي المكلف مع شرائط التكليف:
ككونه عاقلا بالغا وغيرهما من الشرائط التي أخذها الشارع في بعض
موضوعات التكاليف:
ككون المكلف حرا مستطيعا في موضوع الحج، كل واحد من هذه
الثلاثة في الرتبة المتقدمة على الحكم، ونسبة الحكم إليها نسبة
العرض
إلى معروضه، فلا يمكن أن يكون الحكم متقدما على أحد هذه الأمور،
فكل ما هو متأخر عن الحكم لا يمكن أن يؤخذ في متعلق الحكم أو
في متعلق المتعلق أو في موضوعه لا جز ولا قيدا.
129

(إذا عرفت هذا) فنقول: إن متعلق الحكم له انقسامات قبل عروض
الحكم أي ينقسم إلى تلك الانقسامات بواسطة طروء حالات و
خصوصيات عليه من غير ناحية ورود الحكم عليه، وذلك ككون
(الاكرام) في قوله أكرم السادات بالاطعام أو بالتواضع أو بالاستقبال
إذا قدم من السفر إلى غير ذلك من الانقسامات الواردة على الاكرام من
غير ناحية ورود الحكم عليه. ولا فرق في ذلك بين متعلق
التكليف ومتعلق المتعلق وموضوع التكليف، فهذه الانقسامات في
كل واحد من هذه الثلاثة اصطلحوا عليها (الانقسامات الأولية) و
مقابل
ذلك كل انقسام ورد على كل واحد من هذه الثلاثة بملاحظة ورود
الحكم عليها فسميت من هذه الناحية (بالانقسامات الثانوية)، لان هذا
التقسيم - أولا وبالذات - لا يرد على هذه الأمور، بل ثانيا وبالعرض
يرد عليها من ناحية الحكم، بخلاف القسم الأول، فإنها ترد عليها
أولا وبالذات لا من ناحية الحكم.
والمراد من هذا التقسيم والبيان هو إعطاء ضابط كلي بأن شمول
الحكم للانقسامات الأولية لا مانع منه في مقام الثبوت لو كان الملاك
والمصلحة مطلقة، وأما الانقسامات الثانوية التي ترد على المتعلق -
كقصد القربة في مسألتنا أو التي ترد على الموضوع ككون المكلف
عالما بالحكم أو جاهلا به، وهكذا في طرف متعلق المتعلق إن فرضنا
وجود انقسام ثانوي فيه - فلا يمكن شمول الحكم لها بإرادة
واحدة وجعل واحد.
بيان ذلك أن متعلق المتعلق للتكليف - كالموضوع للتكليف على
الاصطلاح الذي بينا فيهما - لا بد وأن يفرض وجودهما على نحو
القضايا الحقيقية في مقام جعل الأحكام الشرعية وإنشائها، فإذا قال
الشارع - في مقام جعل الحكم -: يجب على كل إنسان عاقل بالغ حر
مستطيع الوقوف في عرفات أو المشعر زمان كذا، أو الطواف حول
الكعبة المعظمة، أو سائر إعمال الحج مما لها المساس بموضوع
خارجي، فهاهنا لا بد وأن يفرض وجود الموضوع والمكلف بجميع
شرائطه: كالعقل والبلوغ والاستطاعة والحرية فرضا
130

واقعيا، ويكون مفروضة وجودا خارجيا في الرتبة السابقة على
الحكم، فيوجه الحكم - في مقام الجعل والانشاء - إلى مثل ذلك
الموضوع المفروض الوجود في الرتبة السابقة على الحكم، وهكذا
الامر بالنسبة إلى متعلق المتعلق حرفا بحرف، أي لا بد في المثال من
أن يفرض وجود عرفات في الخارج وهكذا الكعبة المعظمة في الرتبة
السابقة على حكمه بالوقوف فيها والطواف حولها، وهكذا في
سائر المقامات بالنسبة إلى سائر الموضوعات ومتعلقات المتعلقات،
وذلك لان كل حاكم لا بد أن ينظر ويلاحظ موضوع حكمه بكلا
المعنيين أي بمعنى المكلف ومتعلق المتعلق في الرتبة السابقة
فيحكم، وذلك في القضايا الشخصية أوضح بحسب الفهم العرفي،
مثلا إذا
قال يا زيد ادخل داري، فلا بد وأن يلاحظ وجود المأمور بالدخول، و
يلاحظ وجود الدار كلاهما في الرتبة السابقة على أمره بالدخول
فيأمر به.
(إذا عرفت هذا) فطبقه على ما نحن فيه، وهو أنه إذا كان قصد الامر
نفسه مأمورا به فيكون القصد متعلقا للتكليف والامر متعلق المتعلق.
و (بعبارة أخرى) يكون حال الامر - في ما نحن فيه - حال عرفات في
المثال، فلا بد ان يفرض وجود الامر في الخارج في الرتبة
السابقة على الامر المتعلق بقصد الامر حتى يأمر به، والمفروض أن
ذلك الامر الذي يكون متعلق المتعلق ليس إلا هذا الامر الذي هو
الحكم المتعلق بقصد الامر جز أو شرطا، فيلزم أن يفرض وجود الامر
قبل وجوده فرضا حقيقيا واقعيا وهذا محال.
ولا يرد على ما ذكرنا إمكان تصور الشئ قبل وجوده، فيتصور الامر
قبل وجوده، فيأمر بقصد ذلك الامر المتصور، لأنك قد عرفت
أنه ليس المتوقف عليه صرف تصور الامر قبل وجوده، حتى تقول إنه
بمكان من الامكان، بل فرض وجوده قبل وجوده فرضا واقعيا لا
فرضا خياليا من قبيل أنياب الأغوال. ومعلوم أن مثل ذلك الفرض
ليس فرضا واقعيا، بل يكون من قبيل فرض المحال، لأن المفروض -
وهو وجود الشئ قبل وجوده - محال، فهذا أسوأ من فرض
131

للأغوال، لأنه فرض أمر ممكن غير واقع. وهذا فرض أمر محال.
هذا كله في مقام الجعل والانشاء، وهكذا الامر في مقام فعلية الحكم،
فان فعلية الحكم منوطة بفعلية موضوعه ومتعلق متعلقه، فلا يصير
وجوب إكرام العالم فعليا، إلا إذا كان في الرتبة السابقة وجود العالم
الذي هو متعلق متعلق التكليف فعليا، ففيما نحن فيه لا يمكن أن
يصير الامر المتعلق بقصد الامر فعليا، إلا أن يكون وجود الامر الذي
هو متعلق المتعلق فعليا في الرتبة السابقة، ولازم هذا أن تكون
فعلية الامر منوطة بفعليته أي وجوده منوطا بوجوده في الرتبة السابقة
وهذا محال، وهكذا في مقام الامتثال، لان معنى الامتثال هو أن
يأتي بتمام المأمور به بقصد امتثال أمره المتعلق بمجموع المأمور به، و
حيث أن المفروض في المقام هو أن قصد الامتثال - أي قصد
الامر جز المأمور به، فيلزم أن يأتي بقصد الامر بقصد الامر أي يكون
الداعي والمدعو إليه شيئا واحدا وهذا محال. ومنشأ هذه
المحالات هو أخذ قصد الامر في متعلق الامر، فهو محال، لان ما
يترتب عليه المحال محال. وحاصل ما ذكرنا من أول الامر إلى هاهنا
أنه
من أخذ قصد الامر في متعلق الامر يلزم عليه تقدم الشئ على نفسه
في المقامات الثلاثة أي في مرحلة الجعل والانشاء وفي مرحلة
الفعلية وفي مرحلة الامتثال.
وقد ظهر لك مما تقدم عدم ورود ما اعترضه أستاذنا المحقق (قده).
(أولا) على هذا البيان، بأن توقف الحكم على تحقق الموضوع في
مقام الانشاء والجعل إنما يكون في عالم التصور والذهن، وذلك بأنه
يلزم أن يتصور شيئا أولا، ويحكم عليه في الرتبة المتأخرة عن تصور
الموضوع ثانيا، وليس متوقفا على وجود الموضوع خارجا، و
إمكان تقدم تصور الشئ على وجوده الخارجي من أوضح
الواضحات، كيف لا يكون كذلك وان كل فعل إرادي اختياري مسبوق
بالتصور.
وذلك، لما ذكرنا من أن المحذور ليس هو تصور الشئ قبل وجوده
الخارجي، بل المحذور هو فرض وجود الشئ قبل وجوده فرضا
واقعيا، مع أن المفروض في هذا
132

الفرض محال. وأعجب من هذا ما ذكره بعض المحققين (ره) في
حاشيته على الكفاية من أن ظرف وجود الموضوع خارجا ظرف
سقوط
الحكم لا ظرف ثبوته، فتخيل ان الكلام في موضوع الحكم بمعنى
متعلق الحكم، مع أن كلامنا في الموضوع بمعنى متعلق المتعلق، مثل
(العالم) في قوله: أكرم العلماء، وبديهي أن وجوب الاكرام لا يسقط
بوجود العالم، بل يثبت. نعم وجوب الاكرام يسقط بوجود الاكرام
الذي هو المتعلق لا (العالم) الذي هو متعلق المتعلق.
و (ثانيا) - بأن فعلية الحكم ليست متوقفة على فعلية وجود الموضوع
خارجا، بل على فعلية فرض وجوده وتقديره في الذهن. وأنت
خبير بأن المراد من فعلية الحكم ليس الا مقام محركيته وباعثيته فعلا.
وفي هذا المقام لا بد من وجود الموضوع بمعنى متعلق المتعلق
خارجا، فما لم يكن زيد موجودا في الخارج كيف يمكن أن يكون الامر
بنحو (يا زيد ادخل داري) محركا فعليا. ولا فرق في ذلك بين
القضية الشخصية والكلية.
و (ثالثا) - بأن ما ذكر - من المحذور من توقف قصد الامتثال على
قصد الامتثال - لا يرجع إلى محصل. وأنت خبير بأن قصد امتثال
الامر علة لوجود المأمور به في الخارج، فإذا سئل المصلي (مثلا) لما
ذا صليت؟ يجيب من جهة امتثال أمر المولى، فقصد امتثال ذلك الامر
الشخصي إذا كان مأخوذا في المأمور به، فمن حيث أنه معلول متأخر
عن نفسه من حيث أنه علة. نعم هذا المحذور لا يلزم إلا فيما إذا
فرضنا أن للمأمور قصد امتثال واحد، بحيث يكون هو العلة وهو
المعلول.
وأما لو فرضناه متعددا - بحيث قصد الامتثال (تارة) بما هو جز
للمأمور به و (أخرى) بما هو علة لايجاد المأمور به - فلا دور.
ومما قيل في وجه امتناع أخذ قصد الامر في متعلقه هو أنه بناء على
هذا يكون قصد الامر داعيا ومحركا لمحركية نفسه وداعويته، و
هذا مساوق لعلية الشئ لعلية نفسه. وهذا أسوأ حالا من كون الشئ
علة لنفسه، لان وصف العلية ينتزع من
133

الشئ لخصوصية في ذاته، فليست مجعولة بالذات وبالجعل البسيط
مطلقا، فضلا عن أن تكون معلولة لنفسها، وبيان هذا اللازم المحال
والملازمة بأن قصد الامر داع ومحرك إلى إيجاد متعلقه كما ذكرنا، فلو
كان جز من المتعلق هو محركية الامر نحو المتعلق، فحيث أن
محركيته نحو إيجاد المتعلق علة لايجاده، لكانت محركيته نحو إيجاد
هذا الجز أي محركية الامر نحو المتعلق علة لايجاده، فمحركية
الامر بما هو جز للمتعلق صار معلولا لمحركية الامر بما هو علة
لايجاد المتعلق. ومعلوم أنه لا معنى لمحركية الامر الا عليته، فصارت
عليته سببا لعليته. وأجاب أستاذنا المحقق (قده) عن هذا الاشكال
بانحلال الامر المتعلق بالصلاة (مثلا) إلى أمر بذات الصلاة وأمر
بقصد الامر، فالامر الذي هو علة هي القطعة المتعلقة بقصد الامر، و
الامر الذي هو معلول هي القطعة المتعلقة بذات الصلاة، فما هو علة
غير ما هو معلول.
و (بعبارة أوضح) لا يلزم من أخذ قصد الامر في متعلقه الا علية الامر
المتعلق بقصد الامر، ومحركيته لعلية الامر المتعلق بالصلاة و
محركيته نحو إيجاد الصلاة، كما لو كان أمران مستقلان أحدهما متعلق
بذات الصلاة، والاخر موضوعه ومتعلقه الامر الأول.
وأنت خبير بأن هذا صرف فرض، والا ففي مفروضنا ليس الا أمر
واحد شخصي لا يمكن أن يكون بعض قطعاته علة وبعض قطعاته
معلولا. وقياس هذا القسم من الانحلال - بالانحلال في باب القضايا
الحقيقية إلى قضايا متعددة يمكن أن يكون بعضها متقدما على
البعض الاخر ورافعا لموضوع الاخر تعبدا كما في قضية لا تنقض
بالنسبة إلى الشك السببي والمسببي - في غير محله، وقياس مع
الفارق.
وقيل وجه ثالث لامتناع أخذ قصد القربة في متعلق الامر. و (حاصله)
أن الامر لو تعلق بمجموع الصلاة المأتي بها بقصد الامر (مثلا)
فليس للصلاة وحدها أمر، بل الامر متعلق بمجموع القيد والمقيد، و
لهما وجود واحد، وليس لذات الصلاة وجود، ولقيدها أي إتيانها
بداعي أمرها وجود آخر، حتى نقول بالانحلال
134

كما قالوا في الوجه السابق، ولذا لا تجي مسألة تبعض الصفقة فيما إذا
كانت للذات مالية والقيد ليس له منفعة محللة ومالية شرعية،
كالجارية المغنية، بل تكون المعاملة فاسدة رأسا بتمامها. ولكن هذا
الاشكال لا يتوجه الا بناء على كون قصد الامر قيدا أما لو كان جزا
فينبسط الامر على كل واحد من الجزئين أو الاجزاء، فكل جز له أمر
نفسي ضمني، فيمكن إتيان الصلاة بقصد ذلك الامر النفسي الضمني.
اللهم إلا أن يقال حيث إن الامر ارتباطي لا يمكن أن يأتي بذلك الجز
الا في ضمن إتيانه بالكل، وهاهنا لا يمكن إتيان المجموع بقصد
الامر المتعلق بالمجموع، لما ذكرنا من عدم إمكان إتيان قصد ذلك
الامر الشخصي بقصد ذلك الامر الشخصي، وأما تصوير إمكانه
بالتحصص، فقد أجبنا عنه في بيان جواب الوجه المتقدم، فراجع.
ومما أفاده أستاذنا المحقق (قده) في مقام تصوير أخذ قصد الامر في
متعلقه هو أنه من الممكن أن ينشأ وجوبان طوليان بإنشاء واحد،
بحيث يكون أحدهما أي المتقدم منهما موضوعا ومتعلقا للآخر أي
للمتأخر منهما، كما أنه في مسألة صدق العادل، على ما سيجئ إن
شاء
الله في بحث حجية خبر العادل، نقول: إنه بإنشاء واحد أنشأ وجوب
تصديق كل خبر عادل حتى الخبر التعبدي الذي تتحقق خبريته من
ناحية نفس وجوب التصديق الذي هو مفاد هيئة (صدق) المذكور. و
أجابوا هناك عن إشكال تحقق الموضوع بالحكم بالانحلال، وهو أن
تعلق الحكم بموضوع وجداني يصير سببا لوجود موضوع تعبدي،
فيتعلق به فرد آخر من طبيعة ذلك الوجوب المنشأ بطور الكلي
الطبيعي أي طبيعة الوجوب بواسطة انحلال ذلك الكلي إلى الافراد
المتعددة بمقدار تعدد موضوعات تلك الافراد، أي الاخبار الوجدانية
و
التعبدية، فالموضوع أي متعلق المتعلق - في قضية صدق العادل -
الذي هو خبر كلي انحلالي حسب تعدد افراده الوجدانية والتعبدية، و
الحكم أيضا كلي - وهو طبيعة وجوب التصديق - ينحل إلى أفراد
متعددة أي وجوبات متعددة حسب تعدد موضوعاتها، فلا يلزم لا
اتحاد الحكم والموضوع ولا علية الشئ لنفسه، وكذلك
135

الامر في المقام أي ينشئ المولى وجوبين طوليين بإنشاء وجوب
واحد كلي ينحل إلى وجوبين أحدهما يتعلق بذات المأمور به لكن لا
مطلقا، بل بتلك الحصة من الذات التوأمة مع قصد الامر، بحيث يكون
القيد والتقييد كلاهما خارجين، والاخر يتعلق بإتيان تلك الحصة
بقصد امتثال الامر المتعلق بتلك الحصة، فلا يلزم شئ من
المحذورات السابقة.
وفيه (أولا) - أن التحصص يجي من قبل القيد، والا فنفس الطبيعة -
من دون تقييدها بقيد، ولو كان بعنوان ذو المصلحة أو التوأم مع
قصد القربة، أو أي قيد كان غير ذلك - لا تحصص فيها وإذا قيدتها
بالتوأمة مع الامر تعود جميع المحاذير، واما القول بأن القيد معرف
ومشير إلى تلك الحصة - مثل عليك بصاحب القباء الأصفر - فغير
تام، لان المعرف فيما إذا كان هناك ميز واقعي ففي مقام الاثبات
يجعل هذا العنوان مشيرا ومعرفا وفيما نحن فيه ليس ميز واقعي في
البين من غير ناحية هذا القيد.
و (ثانيا) - هذا خروج عن الفرض لان كلامنا في أخذ قصد القربة في
متعلق الامر بأمر واحد.
و (ثالثا) - قياس المقام على مسألة صدق العادل في غير محله، و
ذلك لان نسبة الحكم إلى موضوعه ومتعلق متعلقه نسبة العرض إلى
معروضه فكما ان تعدد العرض بتعدد معروضه وتشخصه بتشخصه
كذلك تعدد الحكم ووحدته بتعدد موضوعه ووحدته، فإذا كان
وجوب التصديق متعلقا بالطبيعة السارية من الخبر العادل على نحو
القضية الحقيقية فحيث ان الموضوع ينحل ويتعدد فالحكم أيضا
بتبعه يتعدد، واما في المقام إذا تعلق الامر بذات المأمور به من دون
تقييده بقصد الامر، فلا انحلال في البين وإذا تعلق بالمجموع
المركب فتعود المحاذير وإذا كان هناك أمران أحدهما تعلق بالذات و
الاخر بقصد الامر فهذا خلاف الفرض.
فقد تبين من كل ما أوردنا وجميع ما ذكرنا أنه لا يمكن للامر أن يبعث و
يحرك
136

المكلف نحو إتيان الشئ مقيدا بأن يكون إتيانه بداعي ذلك الامر
الشخصي الذي كان محركا وباعثا نحو إتيان هذا الشئ.
(الامر الرابع) -
أن التقابل بين الاطلاق والتقييد اللحاظين تقابل العدم والملكة بمعنى
أن الاطلاق اللحاظي - مقابل التقييد اللحاظي - هو أن لا يقيد
متعلق أمره بقيد وخصوصية مع إمكان ذلك التقييد، فيستكشف أن
نظره إلى الطبيعة المرسلة من دون مدخلية أية خصوصية أو حالة في
مقصده ومرامه، و (بعبارة أخرى) ان من له نظر إلى وجود شئ أو إلى
عدمه بواسطة المصلحة التي في وجوده أو المفسدة التي فيه إن
تعلق نظره إلى إيجاد ذلك الشئ مقيدا بقيد ومخصصا بخصوصية لها
دخل في غرضه فلا يخلو اما أن يكون التقييد في مقام البعث ممكنا
فإنه لا بد أن يقيده بتلك الخصوصية واما أن لا يكون التقييد بذلك
ممكنا، فلا بد أن يتوسل إلى تحصيل غرضه بجعل آخر يكون متمما
للجعل الأول، وليس هذا تقييدا لحاظيا ولكنه ينتج نتيجة التقييد، و
إن تعلق نظره إلى إيجاد هذا الشئ في ضمن أي خصوصية كانت
طبقا لما يرى فيه من المصلحة ويتعلق به غرضه، و (بعبارة أخرى)
يرى متعلق حكمه في تحصيل غرضه متساوي الاقدام بالنسبة إلى
جميع الخصوصيات فإنه لا محالة لا يقيده بقيد ولا يخصصه
بخصوصية، فيستكشف من عدم التقييد أن مراده والذي بعث إليه
هذه
الطبيعة مرسلة. وعلى هذا يتضح أن هذا الاستكشاف فيما إذا أمكن
التقييد، وأما إذا لم يمكن فلا يمكن استكشاف الاطلاق من عدم
التقييد، لأنه يمكن أن يكون عدمه لعدم إمكانه لا لإرادة الاطلاق، بل
إرادة الاطلاق محال أيضا بعين محالية إرادة التقييد، لان في
الاطلاق اللحاظي لحاظ كلا طرفي وجود هذا القيد وعدمه، و
المفروض أن لحاظ وجوده في المتعلق محال، فجميع المحاذير التي
ذكرناها في التقييد تأتي في الاطلاق أيضا.
والحاصل أن الشئ - في عالم كونه ذا ملاك ومصلحة ومما يتعلق به
الغرض - لا يمكن أن يكون مهملا بل اما مطلق أو مقيد، وأما في
عالم البعث والتحريك،
137

فيمكن أن يكون مهملا ولا يكون مطلقا ولا مقيدا. أما عدم كونه مقيدا
فلعدم إمكانه وأما عدم كونه مطلقا فلما ذكرنا من امتناعه
بامتناع التقييد، فإذا كان الملاك مطلقا ولا يمكن الاطلاق اللحاظي فلا
بد وأن يتوسل إلى تحصيله بجعل آخر متمم لجعله الأول حتى
ينتج نتيجة الاطلاق. (إذا عرفت ما ذكرنا) فنقول: لا يمكن التمسك
بإطلاق الصيغة لاثبات التوصلية وعدم اعتبار قصد الامر في مقام
امتثال المأمور به وذلك لما بينا من عدم إطلاق لحاظي في البين
بالنسبة إلى قصد القربة لامتناع التقييد بالنسبة إليه، نعم إذا لم تكن
نتيجة تقييد في البين، أي لم يكن متمم جعل يدل على التقييد من
إجماع على التعبدية، وكان في مقام بيان تمام مراده فلا بأس
بالتمسك
بالاطلاق المقامي للتوصلية لا الاطلاق الخطابي.
وأما كيفية إرادة الاطلاق بنتيجة الاطلاق وكيفية معرفته وهكذا كيفية
إرادة التقييد بنتيجة التقييد وكيفية معرفته فنقول إذا كانت
الملاكات مطلقة حتى بالنسبة إلى الانقسامات الثانوية لما بينا من عدم
تطرق الاهمال في الملاك بالنسبة إلى جميع الانقسامات، كما أنه
كذلك في باب الاحكام بالنسبة إلى العالم والجاهل بها. والاطلاق
اللحاظي لا يمكن لعدم إمكان التقييد اللحاظي، فلا بد أن يحتال الامر
إلى الوصول إلى غرضه بجعل آخر متمم لذلك الجعل، وطريق
معرفته في مقام الاثبات أن يجي بيان على ذلك الجعل الاخر، كما
وردت
في ذلك الباب أخبار كثيرة على الاشتراك وأما إذا كانت الملاكات
مقيدة بقيد ولا يمكن تقييد المتعلق بذلك القيد فيلزم عليه أيضا أن
يتوسل إلى غرضه بجعل آخر كما في المقام. وطريق معرفته في مقام
الاثبات أن يأتي دليل من إجماع على أنه تعبدي أو أمر آخر على
إتيان متعلق الامر الأول بقصد ذلك الامر.
و (ما أفاده) صاحب الكفاية (قده) - من عدم إمكان التوسل إلى أخذ
قصد الامر في متعلق الامر حتى بالامر الثاني لان الامر الأول بعد
إتيان متعلقه إن كان يسقط
138

فلا يبقى مجال لامتثال الامر الثاني لأنه لا يبقى له موضوع، وإن كان لا
يسقط مع الاتيان بمتعلقه فالعقل يحكم بلزوم الاحتياط وإتيان
ما يحتمل أن يكون دخيلا في الغرض، فلا يبقى مجال للامر الشرعي
لأنه لا معنى لعدم سقوطه الا من جهة عدم وفائه بالغرض والا يلزم
تحصيل الحاصل، فلا يمكن التوسل إلى أخذ قصد القربة بهذه الحيلة
أيضا في متعلق الامر - (فإنه) ناشئ من تخيله أن ملاك كل واحد من
الامرين مستقل، وليس الامر هكذا بل الملاك واحد واستيفاء ذلك
الملاك الواحد حيث لا يمكن بجعل واحد توسل إليه بجعلين، ففي
الحقيقة المجعول واحد والجعل متعدد، فكل واحد من هذين
الامرين يشبه الامر الضمني المتعلق بأجزاء الصلاة فسقوط الامر لأول
مراعى بامتثال الامر الثاني و (بعبارة أخرى) كما أن سقوط الامر
الضمني النفسي المتعلق بالجز الواجب الارتباطي انما يكون بامتثال
مجموع الواجب ومراعى بإتمامه فكذلك في المقام سقوط الامر
الأول بإتيان مجموع ذلك الواجب المجعول بجعلين.
وأفاد بعض المحققين (قده) في حاشيته على الكفاية اختيار القول
بسقوط الامر الأول لاستيفاء مصلحته بإتيان متعلقه ولكن يمكن أن
تكون مصلحة ملزمة أخرى قائمة بإتيان المأمور به بقصد أمره المتعلق
بذات المأمور به فيتعلق الامر به بهذا الشكل طبقا لما فيه المصلحة
أو تكون مرتبة أو في مما كان في ذات المأمور به وحده فيه مع إتيانه
بقصد الامر فتجب إعادة المأتي به لأجل استيفاء تلك المصلحة
الأخرى أو الأوفى.
وأنت خبير أن الامر الأول بعد سقوطه وانعدامه - كما هو المفروض
- لا يمكن أن يكون محركا نحو إتيان المأمور به فليس شئ في
البين حتى يؤتى بالمأمور به بذلك القصد، ولو كان المراد من قصد
الامر المأخوذ في المتعلق هو الامر الثاني فيعود جميع المحاذير،
مضافا إلى أن المصلحة الأخرى أو الأوفى ان لم تكن واجبة التحصيل
فخلاف الفرض وإن كانت فالمصلحة الأولى أيضا اما واجبة
التحصيل أو راجحة، فيلزم أن تكون ذات الصلاة بدون قصد الامر
واجبة أو مستحبة ومع قصده واجبا آخر،
139

وهذا الكلام من أعجب العجائب، وإن قلت أن بين المصلحتين تضادا
في عالم الوجود نقول فكيف مع تحصيل المصلحة الأولى تحكم
بلزوم تحصيل الثانية؟ ولا يمكن الالتزام بلزوم إتيان متعلق الامر الأول
مجردا عن قصد القربة بل إتيانه كذلك تشريع محرم.
هذا كله إذا كان المأخوذ في متعلق الامر هو قصد الامر، وأما سائر
الدواعي فصاحب الكفاية (قده) أفاد أن أخذها بمكان من الامكان
لكنها غير مأخوذة قطعا لصحة العبادة بدونها يقينا، ولكن التحقيق في
هذا المقام أن يقال اما قصد المصلحة والملاك الموجودة في هذا
الواجب التعبدي حيث أن تحقق الملاك في الخارج منوط بقصد الامر
فلا بد في تعلق الحكم به من فرض وجود المصلحة قبل الامر وفي
الرتبة السابقة على الامر، لأنها - أي المصلحة المتأخرة عن الامر على
الفرض - صارت من قبيل متعلق المتعلق للامر، فجميع المحاذير
المذكورة في مرحلة الانشاء ومرحلة الجعل وفي مرحلة الفعلية وفي
مرحلة الامتثال من أخذ قصد الامر في متعلق التكليف تتوجه في
هذا الفرض أيضا، أي في فرض أخذ قصد المصلحة والملاك في
متعلق الامر وذلك لان ملاك الاشكال في كليهما أي قصد المصلحة و
قصد الامر واحد وهو تأخرهما عن الامر مع أخذهما في متعلق الامر.
والحاصل أنه يلزم من أخذ قصد المصلحة في متعلق الامر ما كان
يلزم من أخذ قصد الامر وهو فرض وجود الشئ فرضا حقيقيا واقعيا
قبل وجوده في مقام الانشاء ووجوده حقيقة في الرتبة السابقة
على وجوده في مرحلة الفعلية والامتثال.
وأورد أستاذنا المحقق - قده - على هذا بأن نفس الفعل وذات العمل
فيها استعداد حصول هذه المصلحة به وبانضمامه إلى هذا القصد
يصير فعليا وذلك كما في باب التعظيم بالقيام مثلا، حيث إن ذات
القيام فيها هذا الاستعداد وبانضمامه إلى القصد يصير فعليا فالمراد
من قصد التعظيم بهذا الفعل ليس أن هذا الفعل فيه فعلية التعظيم في
الرتبة السابقة على هذا القصد وإلا يلزم الدور لأن المفروض و
الواقع هو أن فعلية التعظيم لا يحصل إلا بهذا القصد، ورفع هذا الدور
لا يمكن إلا بما ذكرنا من أن معنى قصد التعظيم بهذا
140

الفعل هو أن يقصد التعظيم بفعل فيه استعداد أن يصير تعظيما
بضميمة هذا القصد فكذا فيما نحن فيه معنى أخذ قصد المصلحة في
متعلق
الامر هو قصد أن ذات هذا العمل فيه استعداد كونه ذا مصلحة ولو
انضم إليه هذا القصد يصير فعليا.
وأنت خبير بأن المراد من قصد المصلحة الذي يكفي في حصول
العبادية والتعبد به هو قصد الملاك والمصلحة التامة بحيث تكون
علة
للامر ولا تنفك عنها. ومثل هذا المعنى لا يترتب على ذات العمل في
وقت من الأوقات بل العمل جز لما يترتب عليه هذا فقصد المصلحة
والملاك التام إذا صار متعلقا للامر فلا بد وأن يفرض وجود مصلحة
تامة في الرتبة السابقة على الامر وهذا يرجع إلى فرض وجود
الشئ قبل وجوده.
وقياس المقام على العناوين القصدية باطل لأنها عبارة عن أن الافعال
التي ذات وجوه متعددة بقصد أحد الوجوه يتعين مصداقيتها
لأحد تلك الوجوه مثلا إعطاء شئ لشخص يمكن أن يكون على وجه
الإباحة ويمكن أن يكون هبة ويمكن أن يكون صدقة ويمكن أن
يكون تمليكا بعوض مال أي كونه بيعا، فما لم يقصد بهذا الفعل أحد
هذه العناوين لا يقع شئ منها، وكذا القيام يمكن أن يكون لجهات
متعددة ولا يتعنون بأحد تلك العناوين الا بقصد ذلك العنوان، و
هكذا صلاة أربع ركعات إخفاتا لا تتعنون بالظهرية والعصرية الا
بقصد عنوانهما، وأين هذا مما نحن فيه؟ (وبعبارة أخرى) معنى
العناوين القصدية أن الفعل الذي يصلح أن يكون مصداقا لذلك
العنوان
لا يصير مصداقا له إلا مع قصد ذلك العنوان نعم لو كان مراده من قصد
التعظيم بالقيام - مثلا - هو أن يقصد أن القيام بنفسه تعظيم و
في الرتبة السابقة على القصد مع أن هذا القصد له دخل في صيرورته
تعظيما فيكون نظير ما نحن فيه، ولكنه على هذا التقدير يكون
باطلا ومحالا مثل ما نحن فيه، ففي الحقيقة معنى قصد العنوان في
العناوين القصدية هو أن يصير الفعل بهذا القصد من مصاديق العنوان
لا أنه يقصد بهذا العنوان ما هو مصداق مع قطع النظر عن هذا القصد.
واما فيما نحن فيه فلا بد وأن يفرض وجود المصلحة بما هو متعلق
المتعلق في
141

السابقة على الامر فيرجع إلى ما قلنا من فرض وجود الشئ قبل
وجوده، ويجري - ما قلنا في المصلحة - في كل داع قربي واقع في
سلسلة معلولات الامر ولا اختصاص لها بخصوص المصلحة لاتحاد
المناط.
وأما لو فرضنا وجود داع قربي ليس وجوده منوطا بوجود الامر فهناك
وجه آخر في امتناع أخذه في متعلق الامر مشترك بين الكل و
هو أن الداعي إلى إيجاد شئ تكوينا أو إلى طلب إيجاد شئ من غيره
تشريعا علة لإرادة الفعل أو لإرادته من غيره، ففي كلا المقامين
يكون ذلك الداعي علة لوجود الإرادة فوجود الإرادة منوط بوجوده و
لا شك في أن الإرادة بكلا قسميها تكوينية أو تشريعية مؤثرة في
المراد وما تعلقت به الإرادة، فيلزم أن يكون ما هو علة الشئ معلولا
له هذا بالنسبة إلى إرادة الامر، وكذلك الحال في الصورتين في
إرادة المأمور المنبعثة عن إرادة الامر فلو كان شئ داعيا إلى إرادته فلا
يمكن أن يكون ذلك الشئ تحت إرادته لما ذكرنا.
وقد أورد أستاذنا المحقق (قده) على هذا بأنه على فرض القول بصحة
هذا الكلام لا يمكن أن يؤخذ قصد الامر في متعلقه ولو كان
بأمرين مع أنه ممكن عند القائل بهذا الكلام، وذلك لان ما هو محال
في مرحلة الثبوت لا يمكن جعله في مرحلة الانشاء ولو كان بجعلين
لان تعدد الجعل لا يجعل المحال ممكنا ولا يصحح الباطل.
ولكن يمكن أن يقال بأن جهة المحالية هي أن الداعي للإرادة لا يمكن
أن يكون تحت الإرادة لما ذكرنا من المحذور أعني صيرورة ما
هو علة لشئ معلولا لذلك الشئ، وهذه الجهة في مورد جعل واحد
محقق معلوم لان الداعي للإرادة أيا كان من الدواعي العشرة
المذكورة لو أخذ في متعلق الإرادة يلزم المحذور المذكور، وأما لو كان
الداعي المأخوذ في المتعلق غير ما هو علة للإرادة فلا بأس فيه
أصلا، فإذا كان هناك أمران كما هو المفروض فالامر الأول داع لإرادة
ذات العمل وذلك الامر بعينه لا يمكن أن يؤخذ في متعلق تلك
الإرادة بعينها. وأما أخذه في متعلق إرادة أخرى وهي الإرادة
142

المتعلقة بإتيان العمل بقصد الامر المتعلق بذات العمل الناشئة عن أمر
آخر متعلق بهذا المجموع - بمكان من الامكان، ففي الحقيقة هناك
إرادتان إحداهما متعلقة بذات العمل والداعي لها الامر الأول والثانية
متعلقة بإتيان ذلك العمل بداعي الامر المتعلق بنفس ذات ذلك
العمل، والداعي لهذه الإرادة الثانية هو الامر الثاني فلم يقع تحت
الإرادة الثانية الا ما كان داعيا للإرادة الأولى وهذا لا بأس به أصلا.
إذا عرفت هذا وعرفت أن مناط التعبدية هو وجوده جعلين أحدهما
متعلق بوجوب ذات العمل في الواجب التعبدي والثاني بإتيان تلك
الذات بقصد الامر المتعلق بها فاعلم أنهم ذكروا للفرق بين التوصلي و
التعبدي وجوها اخر:
(منها) - ما نسب إلى أستاذ أساتيذنا الميرزا الشيرازي الكبير (قدس
سره) وهو أن تلك الدواعي أو خصوص قصد الامر، وإن كان لا
يمكن أن يؤخذ في متعلق الامر لما ذكرنا من المحاذير المتقدمة، و
لكن يمكن أن يؤخذ في متعلق الامر عنوان ملازم لقصد القربة بحيث
لا ينفك عنه وجودا وعدما، فيمكن ان يتوسل الامر بهذه الوسيلة إلى
غرضه وذلك المعنى أيضا قالوا به في توجيه الخطاب إلى الناسي
وذلك بعد ما لا يمكن توجيه الخطاب إليه بهذا العنوان لعدم معقوليته
كما سيجئ في محله إن شاء الله أرادوا التصحيح بالتوجيه إلى
عنوان ملازم للناسي.
وقد أورد عليه شيخنا الأستاذ (ره) بأنه لو فرضنا محالا انفكاك قصد
القربة مطلقا أو الامر بالخصوص عن ذلك العنوان الملازم يلزم
عدم صحة العمل ولو أتى بقصد الامر عند فقدان ذلك العنوان وهذا
مما لا يمكن الالتزام به.
ولكن الصحيح أن يقال في الجواب عن هذا التوجيه والخدشة فيه
(أولا) ان أخذ شئ في متعلق الامر بدون ان يكون له دخل في
المصلحة
والملاك لا يمكن لان البعث إلى شئ لا مصلحة فيه جزاف (ان
قلت) بأن أخذه في المتعلق من باب أنه عنوان مشير إلى ما هو المراد
الحقيقي (فتعود) المحاذير لان معنى هذا الكلام هو أن الإرادة -
حقيقة - تعلقت بإتيان الذات بقصد الامر. وقد ذكرنا عدم إمكان ذلك
الا
143

بأمرين، ولا يرد على هذا البيان ان فرض الانفكاك لا معنى له مع
فرض التلازم بين العنوانين وانه فرض محال لا أثر له في مقام
تحصيل الغرض و (ثانيا) بأن هذا الفرض أي العنوان الملازم وجودا و
عدما صرف فرض لا واقع له والأثر للوجود الواقعي المفروض لا
لصرف الفرض. والحاصل أنه لا يوجد عنوان ملازم لخصوص قصد
الامر.
أو مطلق قصد القربة، وأما عنوان التعبد لو كان مأخوذا في متعلق الامر
كما احتملوه فلا يفيد في رفع هذا الاشكال أصلا لأنه أيضا
متوقف على الامر كما هو واضح فتعود جميع المحاذير.
و (منها) - أن هذا الاختلاف ناش من قبل نفس الامر وان الامر
التعبدي بحقيقته وذاته يقتضي إتيان متعلقه بداعويته ومحركيته،
بخلاف الامر التوصلي فإنه لا يقتضي الا إيجاد متعلقه من دون أن
يكون الاتيان والايجاد بقصده. نعم يمكن أن يأتي بهذا القصد ولكن
ذلك ليس من مقتضيات نفس الامر، و (بعبارة أخرى) بعد ما كان الامر
التعبدي والتوصلي مشتركين في أصل البعث والتحريك نحو
المتعلق فإنهما متميزان بوجود خصوصية في الامر التعبدي تقتضي
تلك الخصوصية كون الامر داعيا إلى الاتيان بخلاف التوصلي فإنه
ليس فيه تلك الخصوصية.
و (فيه) أن هذه دعوى بلا بينة ولا برهان بل الوجدان الذي هو من
أقوى البراهين على خلافه، وما ذكره شيخنا الأستاذ (ره) من أن قصد
داعوية الامر ومحركيته في الرتبة المتأخرة عن الامر فلا يمكن ان
يوجد في عرض الامر - بظاهره - لا يخلو عن مناقشة واضحة، اللهم
إلا أن يريد بهذا أن طبع الامر لا يقتضي الا البعث والتحريك نحو إتيان
متعلقه وأما كون هذا الاتيان يلزم أن يكون بقصد دعوة ذلك
الامر فليس من شؤون نفس الامر بل هو متأخر عن الامر وعن تعلقه
بمتعلق، فيمكن أن يقال حينئذ بعد ذلك أن إتيان هذا المتعلق يكون
بقصد دعوة الامر، ومثل هذا الامر الذي يكون متأخرا عن نفس الامر
وعن تعلقه بمتعلق كيف يمكن ان يكون من شؤون نفس الامر
الوارد على المتعلق وموجودا بوجوده؟
144

و (منها) - أن الفرق بين التوصلي والتعبدي بأن الغرض من الامر
التوصلي يحصل بصرف إتيان متعلقه سواء قصد الامتثال أو لم يقصد
بخلاف الامر التعبدي فان الغرض منه لا يحصل الا بإتيان متعلقه
بقصد امتثال أمره، وإلى هذا ذهب صاحب الكفاية (قده).
واعترض عليه شيخنا الأستاذ (قده) (أولا) بتوقف هذا الفرق على
مذهب صاحب الجواهر (ره) بأن يكون قصد القربة منحصرا في قصد
الامر وقد عرفت خلافه، والا ليس حصول الغرض متوقفا على
خصوص قصد امتثال الامر، بل ربما يحصل بإتيان المتعلق بجهات
اخر
كما تقدم القول فيه، وأنت خبير بضعف هذا الكلام لان هذا القائل
ليس نظره إلى خصوص قصد الامر بل مراده أن الغرض لا يحصل الا
بقصد القربة سواء كان حصول قصد القربة بقصد الامر أو بشئ آخر
من تلك الوجوه العشرة المتقدمة.
والجواب الصحيح عن هذا الفرق هو أن الغرض في كلام هذا القائل
اما أن يراد منه شئ آخر غير المناط والمصلحة التي في المأمور به
أو هو نفس ذلك، فان كان من قبيل الأول فلا بد وأن يكون مترتبا على
نفس الامر لأنه لا نفهم من الغرض الا ما هو المسمى بالعلة
الغائية التي هي علة بوجودها الذهني ومعلولة بوجودها الخارجي فلا
بد أن يكون وجودها الخارجي مترتبا اما على الامر أو على
المأمور به وحيث أن المترتب على وجود المأمور به ليس الا المناط و
المصلحة التي فيه فلا بد أن يكون الشئ الاخر - إذا كان هناك -
مترتبا على نفس الامر، ولعل هذا هو مراد من يقول بأن المصلحة قد
تكون في نفس الامر، فإذا كان الغرض بهذا المعنى مترتبا على
نفس الامر فقد حصل بنفسه سواء أتى بالمأمور به أو لم يأت به فضلا
عن لزوم إتيانه بقصد الامر، وإن كان من قبيل الثاني أي توقف
حصول المناط والمصلحة التي في المأمور به على قصد امتثال الامر
أو سائر ما تقدم فلا بد وأن يكون ذلك من جهة دخله في الملاك و
من أجزاء أو شرائط ما هو ذو المصلحة، وإذا كان كذلك فلا بد أن
يبعث المولى
145

نحو كل ما له دخل في المصلحة، لان الإرادة والامر يتبعان ما هو ذو
المصلحة تبعية المعلول لعلته فان أمكن البعث نحوه بجعل واحد
يكون هناك جعل واحد وإذا لم يمكن الا بجعلين يكون هناك
جعلان، نعم لو لم لا يمكن البعث إلى شئ نعلم بمدخليته في الملاك
أصلا لا
بجعل واحد ولا بمتعدد فحينئذ يكون نفس الملاك محركا نحو إتيان
ذي الملاك، هذا إذا علمنا بمدخلية شئ في الملاك وأما إذا شككنا
فلا يمكن أن يكون الملاك موجبا لاتيان ذلك الشئ لان الملاك على
فرض باعثيته نحو إيجاد ذي الملاك وإن لم يكن بعث مولوي في
البين يكون هذا فيما إذا علم بدخله في الملاك لا بصرف احتمال
دخله فيه.
نعم (ما ذكره) شيخنا الأستاذ (قده) من أن الملاك ليس واجب
التحصيل لان المأمور به بالنسبة إليه من قبيل المعد لا العلة التامة فلو
علمنا
بأن قصد القربة مثلا له دخل في حصول الغرض أي الملاك ولم يتعلق
به أمر لا يجب ذلك القصد لعدم تكليفنا بتحصيل الملاك، بل ما
بعث إليه المولى هو الذي يجب على العبد ان يأتي به (غير خال) عن
المناقشة لان العقل مستقل بلزوم تحصيل الملاكات وإن لم يتعلق بها
أو بما له مدخلية في الملاك أمر إذا كان عدم الامر لعدم إمكانه لا
للامتنان أو لجهة أخرى.
و (الحاصل) ان ما ذكر - من أن التوصلي هو ما يسقط أمره بصرف
إتيان متعلقه بخلاف التعبدي فان أمره لا يسقط بصرف هذا بل
يحتاج إلى قصد القربة يعني سقوط أمره لا يكون الا بإتيان المأمور به
بذلك القصد - كلام صحيح ولكن منشأ هذا الامر هو أخذ قصد
القربة في متعلق الامر في التعبدي ولو بأمرين وبجعل آخر وعدم
أخذه في التوصلي.
فظهر من جميع ما ذكرنا إلى الان أنه لو شككنا في واجب أنه توصلي
أو تعبدي لا يمكن إثبات التوصلية بالاطلاق لعدم إمكان التقييد
كما تقدم، نعم لو كان بصدد البيان ومع ذلك لم يأخذ قصد القربة في
متعلق الامر بجعل آخر أمكن التمسك بهذا الاطلاق المقامي لاثبات
التوصلية كما تقدم أيضا.
146

وأما لو لم يكن حتى هذا القسم من الاطلاق في البين ووصلت النوبة
إلى الرجوع إلى الأصول العملية فهل المرجع هو البراءة أو
الاشتغال؟ فمحل الكلام بين الاعلام.
و (تحقيق المقام) هو أنه إن قلنا بإمكان أخذ قصد القربة في متعلق
الامر سواء كان بأمر واحد كما قاله بعض أو بأمرين كما قلنا و
اخترنا فحال المقام هو حال الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين لأنه
من مصاديقه وصغرياته، ولا فرق بين أن يكون الجز المشكوك
فيه من قبيل قصد القربة أو يكون شئ آخر غيره وسيجئ إن شاء الله
في ذلك الباب أنه إن تعلق الشك بنفس ما تعلق به التكليف
بمعنى أنه شك في جزئية شئ للمأمور به أو شرطيته له فلا محالة
يكون مجرى للبراءة، وأما إذا شك في ما هو محصل للمأمور به أي
شك في جزئية شئ أو شرطيته لما هو المحصل والسبب للواجب
الشرعي فهو مجرى الاشتغال، ولا فرق في ذلك بين أن تكون السببية
تشريعية أو تكوينية، وكذلك إذا كان الواجب من المسببات التوليدية
أي ما هو عنوان ثانوي لأسبابها وموجود بوجودها وما كان من
قبيل العلة والمعلول التكويني حتى يكون للسبب وجود وللمسبب
وجود آخر، بل كلاهما موجودان بوجود واحد ووجوب أحدهما عين
وجوب الاخر كالغسل مع التطهير مثلا، بمعنى أنه إذا شك في مدخلية
شئ في السبب فيكون مجرى للاشتغال، ولا فرق أيضا في هذا
المقام بين أن تكون السببية تشريعية كالغسل بالنسبة إلى التطهير أو
تكوينية كقطع الرقبة بالنسبة إلى القتل، فلو شك في مدخلية شئ
في السبب لا تجري البراءة ويكون مجرى للاشتغال، كل ذلك من
جهة أن مجرى البراءة هو الشك في الثبوت ومجرى الاشتغال هو
الشك في السقوط والتفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
وأما لو قلنا بعدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الامر مطلقا لا بأمر
واحد ولا بأمرين فيكون لزوم قصد القربة في معلوم التعبدية
من جهة العلم بأن الغرض أي المصلحة والملاك الذي صار سببا للامر
بناء على ما هو الحق من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح و
المفاسد التي في متعلقاتها لا يحصل إلا به، ولازم هذا أن يكون في
مورد الشك
147

في التوصلية والتعبدية حصول الغرض بذلك المعنى مشكوكا فيه
بدون قصد القربة، وحيث أن تحصيل الغرض لازم بحكم العقل فلا بد
أن يقصد القربة، والا يشك في الخروج عن عهدة ما اشتغلت ذمته به،
(وبعبارة أخرى) يكون الشك في سقوط ما وجب عليه وقد قلنا
أنه مجرى للاشتغال.
وأجاب شيخنا للأستاذ (قده) عن هذا البيان بأنه لو كانت نسبة
المصالح والملاكات إلى متعلقات التكاليف من قبيل المسببات
التوليدية
إلى أسبابها لكان لهذا الكلام مجال، لأنه حينئذ الواجب في الحقيقة
ليس ذات المتعلق مطلقا، بل بما هو معنون بعنوان المسبب فالغسلة
الواحدة أو الغسلتين مع العصر أو بدونه ليس متعلقا للتكليف الا
بعنوان انه مطهر فإذا شككنا في مدخلية شئ آخر غير المقدار
المعلوم
في سببية السبب يكون مجرى للاشتغال، مثلا لو شككنا في مدخلية
العصر أو تعدد الغسلات يكون مجرى للاشتغال لا للبراءة، لأنه شك
في السقوط لما قلنا من أن الغسل متعلق للتكليف بما هو تطهير كما هو
الشأن في باب الأسباب والمسببات التوليدية، وأما لو كان من
قبيل المعد بالنسبة إلى المعد له كالحرث وإلقاء البذر والسقي بالنسبة
إلى صيرورة الزرع سنبلا كما هو كذلك عنده (قدس سره)،
لأنه - أعلى الله مقامه - يرى أن العبادات بالنسبة إلى الآثار التي رتبها
الشارع عليها من قبيل المعد بالنسبة إلى المعد له، فتحصيل
الغرض ليس بلازم على العبد لأنه ليس من أفعاله الاختيارية وما هو
اللازم عليه هو إتيان متعلق التكاليف الموجهة إليه فقط، واما الآثار
والخواص المترتبة عليها فلا يجب عليه تحصيلها، فإذا احتمل دخل
شئ في الغرض بذلك المعنى لا يجب عليه إتيانه ان لم يكن مأخوذا
في
متعلق التكليف فيكون مجرى للبراءة.
هذا حاصل كلامه (قدس سره) في هذا المقام. ونحن وان كنا لا نوافقه
في أن حال متعلقات التكاليف بالنسبة إلى ملاكاتها من قبيل
المعد والمعد له، وليس أيضا من قبيل الأسباب والمسببات
التوليدية، بل هاهنا شق ثالث، وهو ان يكون من قبيل العلة والمعلول
التكويني، بحيث يكون لهذه العبادات وجود ولآثارها وجود
148

آخر، ولا تنفك عنها، ولكن مع ذلك لا يكون مجرى للاشتغال، لأنه
إذا كان متعلق الوجوب نفس العلة لا بما هو معنون بعنوان انه علة
لكذا، فإذا شك في مدخلية شئ في تمامية عليته ولم يكن مأخوذا
في متعلق التكليف، ولو من جهة عدم إمكان أخذه، فلا دليل على
لزوم
إتيانه، ويكون شكا في ثبوت التكليف فيكون مجرى للبراءة أي حكم
العقل بقبح العقاب بلا بيان، لان البراءة الشرعية - أيضا - لا
تجري، لأن المفروض ان وضعه ليس بيد الشارع حتى يكون رفعه
بيده. واما الغرض بمعنى آخر لو كان من قبيل الغاية المترتبة على
نفس الامر كما تقدم أنه أحد الاحتمالين منه، فهو حاصل بنفس الامر.
ولا يبقى مجال لجريان البراءة أو الاشتغال فيه، ولو كان المراد
منه شئ آخر كما قيل إن الغرض من الامر التعبد به، فمضافا إلى أن
مثل هذا الشئ لا يمكن ان يكون غرضا بالمعنى المعقول من
الغرض أعني غاية الشئ لأنه لا يترتب لا على نفس الامر ولا على
المأمور به، لا دليل على لزوم تحصيل مثل هذا الغرض.
وخلاصة الكلام في المقام أن الشئ المعلوم الثابت للمكلف هو لزوم
إتيان المأمور به، سواء كان الامر توصليا أو تعبديا. نعم على تقدير
ان يكون تعبديا يحتاج إلى شئ آخر، وهو إتيان ذلك المأمور به
بقصد القربة. وحيث إن هذا التقدير غير معلوم على الفرض، فلا دليل
ولا بيان على هذا الشئ الاخر. والعقل لا يحكم بلزوم تحصيل
غرض المولى الا بالمقدار الذي قام عليه البيان. واما بصرف احتمال
ان
يكون له غرض آخر، فلا يحكم بلزوم تحصيله أصلا. واما ما يقال من أن
قصد القربة من كيفيات الإطاعة، والحاكم في باب الإطاعة و
العصيان هو العقل، فلا يفيد شيئا في المقام، لان العقل لا يحكم الا
بلزوم إطاعة المولى بملاك الا من أو الشكر. والاطاعة عبارة عن
الجري على طبق ما أمر به الشارع أو نهى عنه. واما الشئ الذي لم
يأمر الشارع بإتيانه، فإتيانه يكون خارجا عن موضوع الإطاعة.
والحاصل ان تحصيل غرض المولى لازم فيما إذا قام هناك بيان و
حجة على وجود مثل ذلك
149

الغرض. واما في صورة عدم قيام بيان عليه فلا.
ثم إن بعضهم استدلوا على لزوم قصد القربة في كلية الواجبات الا ما
خرج بالدليل بالأدلة السمعية من الآيات والروايات. اما الآيات
فمنها - قوله تعالى:
(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وقوله تعالى: (وما أمروا الا ليعبدوا الله
مخلصين له الذين) واما الروايات، فمنها - قوله صلى الله عليه و
آله: (إنما الأعمال بالنيات)، وقوله عليه السلام: (وانما لكل امرئ ما
نوى) وقوله عليه السلام: (لا عمل الا بالنية).
ويرد على الجميع انه لو كان مفادها ما توهم لزم تخصيص الأكثر
المستهجن، مع أن سياق هذه الأدلة يأبى عن التخصيص، مضافا إلى أن
الامر في الآية الأولى إرشادي إلى حكم العقل بلزوم إتيان ما أمر
المولى بإتيانه، فان كان قصد القربة مما تعلق به الامر يجب إطاعته و
إتيانه كسائر الاجزاء والشرائط، والا فلا أمر حتى تجب إطاعته لأننا لا
نفهم من الإطاعة الا الانبعاث عن بعث المولى. وأما ان هذا
الانبعاث يجب أن يكون مقرونا ومنضما إلى قصد محركية ذلك الامر
وباعثيته، فلا ولا يحتمل المولوية فيه أصلا، لأنه لو لم يكن أمر
المولى بنفس الشئ وتحريكه نحوه مؤثرا فأمره بلزوم الإطاعة أيضا
كذلك، وان كان فلا يحتاج إلى الامر بالإطاعة، فعلى كل تقدير
يكون الامر بالإطاعة لغوا وبلا فائدة وبلا ملاك. وأما احتمال ان يكون
مفهوم الإطاعة عبارة عن إتيان المأمور به بقصد الامر خرج ما
خرج وبقي الباقي تحت العموم، فمخالف للمتفاهم العرفي قطعا.
واما الآية الثانية فأجنبية عن هذا المقام، لأنها بصدد ان تكون العبادة
خالصة لله، ولا يجعل غير الله شريكا فيها، أو يكون المراد منها
هو الاعتراف بالعبودية لله بدون أن يشرك به، كما ورد في عدة من
التفاسير.
واما الاخبار فالظاهر منها، ان العمل بحسب الاجر الأخروي لا يفيد الا
مع النية، أو لا يوجب كمال النفس الا مع النية، وهذا المعنى أجنبي
عما هو محل الكلام.
150

(تذييل)
قد تقدم في الامر الأول - من الأمور التي رتبناها لتنقيح هذا البحث -
ان أحد معاني التعبدي والتوصلي. هو أن الواجب التعبدي عبارة
عن الواجب الذي تعتبر فيه المباشرة والإرادة، وأن يكون امتثاله بفعل
المباح لا المحرم، والتوصلي بخلاف ذلك في كل ذلك، فإذا
علمنا بأن الوجوب من أي واحد من القسمين فهو، وإن شككنا في أنه
من أي واحد منهما، فهل مقتضى الاطلاق اللفظي هو أي واحد منهما.
وعلى تقدير عدم الاطلاق، فما ذا يكون مقتضى الأصول العملية؟
يحتاج تنقيح المقام إلى التكلم في مقامات ثلاثة:
(الأول) -
في أنه هل مقتضى الاطلاق هو لزوم المباشرة أو عدمه؟ وعلى تقدير
عدم الاطلاق، فما ذا يكون مقتضى الأصول العملية؟ فنقول: لا شك
في أن مقتضى ظهور هيئة الخطاب والامر هو صدور المادة عن نفس
المخاطب. وأما كفاية صدورها عن الغير بالاستنابة أو بالتبرع،
فيحتاج إلى مجئ دليل على سقوطه أي الفعل عنه بفعل النائب أو
المتبرع. واما أن كل ما تتطرق فيه النيابة يتطرق فيه التبرع أو ليس
كذلك كبعض فروع الجهاد، حيث يمكن فيه النيابة، ولا يمكن فيه
التبرع، فللبحث عنه محل آخر. وأما إذا لم يكن دليل في البين على
جواز الاستنابة أو التبرع، فمقتضى الاطلاق هو عدم جواز الاثنين، لان
الاطلاق يدفع ثبوت كل ما يحتاج ثبوته في مقام البيان إلى مئونة
زائدة. وقد يكون الاطلاق موجبا لضيق دائرة الانطباق، وإن كان في
الأغلب يوجب سعة دائرة انطباق المطلق.
ولذلك قالوا: إن إطلاق الوجوب يقتضي ان يكون نفسيا عينيا تعيينيا،
إذ بيان مقابل كل واحد من هذه الثلاثة - في مقام الاثبات -
يحتاج إلى مئونة زائدة، فالاطلاق يدفعه وان كان موجبا لضيق انطباق
دائرة المطلق. ولا شك في أن الاستنابة ترجع إلى تخيير
المكلف بالتخيير الشرعي بين ان يأتي بالمتعلق مباشرة أو يستنيب و
ليس التخيير عقليا لعدم جامع خطابي في البين حتى يكون ذلك
الجامع موردا
151

والجامع الملاكي يمكن تحققه في التخيير الشرعي أيضا إذ مناط كون
التخيير عقليا هو الجامع الخطابي لا الملاكي كما سيجئ تحقيقه
في محله إن شاء الله تعالى ولا شك في أن مقتضى الاطلاق - في
دوران الامر بين التعيين والتخيير الشرعي - هو التعيين لما ذكرنا، و
إن كان هذا الكلام أيضا لا يخلو من إشكال من جهة أن مرجع الاستنابة
في الحقيقة إلى أن الواجب يسقط عنه بفعل النائب بجعل بدنه بدنا
تنزيليا للمنوب عنه حتى يصير فعله من قبله لا إلى التخيير بين
المباشرة والاستنابة لأنه من المعلوم أنه لا يسقط عنه بصرف الاستنابة
ففي الحقيقة حال الاستنابة والتبرع واحد ومرجعهما إلى أن الوجوب
يسقط عن المخاطب والمكلف بفعل النائب والمتبرع أم لا، فان
علمنا بجواز الاستنابة والتبرع نعلم بالسقوط وأما في صورة الشك
فالاطلاق يقتضي عدم سقوط الواجب عن المكلف بفعل الغير مطلقا
سواء كان نائبا أو متبرعا.
هذا كله لو كان إطلاق في البين وأما لو وصلت النوبة إلى الأصول
العملية لعدم الاطلاق فقيل بجريان البراءة لأنه بعد إتيان النائب أو
المتبرع نشك في ثبوت التكليف في تلك الحالة فيكون مجرى
للبراءة، وفيه أن قبل إتيان النائب أو المتبرع لا شك في توجه التكليف
إلى المكلف فبعد إتيانهما يكون شكا في السقوط لا في الثبوت فيكون
مجرى للاشتغال، لما ذكرنا مرارا من أن الضابط في باب
الاشتغال هو الشك في السقوط، كما أن الضابط في باب البراءة هو
الشك في الثبوت، وأنت خبير بأنه من أول الامر لا ندري بأن
الوجوب مطلق أي يكون حتى في ظرف وجود فعل النائب أو المتبرع
أو مشروط بعدم وجود فعل النائب أو المتبرع أو ليس الوجوب
في ظرف وجود فعل أحدهما بناء على أنه يلزم من الاشتراط محذور
الدور كما سيجئ تحقيقه في بيان حقيقة الواجب التخييري إن شاء
الله تعالى ففي ظرف وجود فعل أحدهما الوجوب مشكوك الثبوت
من أول الامر لا مشكوك السقوط فيكون مجرى للبراءة.
ثم أنه هل يجري الاستصحاب في المقام بأن يقال قبل وجود فعل
النائب أو المتبرع كان وجوب متوجه إلى المكلف قطعا وبعد وجود
فعلهما أو أحدهما نشك في
152

سقوط ذلك الوجوب فيستصحب وجوده وبقاؤه، أو لا يجري بأن
يقال (أولا) ان الوجوب المطلق أو المشروط كل واحد منهما
بالخصوص لا يمكن استصحابه لعدم كون كل واحد منهما بالخصوص
محرزا واستصحاب الجامع بينهما لا يثبت أحدهما بالخصوص و
التعبد ببقاء الجامع بين ما هو لا يسقط بفعل الغير وبين ما هو يسقط به
مع وجود ذلك الفعل لا أثر له وذلك لان الجامع بين ما ينعدم
بفعل الغير وما لا ينعدم في ظرف وجود فعل الغير لا يمكن أن يكون
له أثر والا ليس بجامع إذ لا ينطبق على ما ينعدم حينئذ. و (ثانيا)
أن الواجب المشروط في حال عدم حصول شرطه ليس بواجب
حقيقة بل يطلق عليه الواجب مجازا وفي ظرف وجود فعل النائب أو
المتبرع الذي هو نقيض شرط الوجوب على المخاطب ليس وجود
للواجب المشروط قطعا فكيف يتصور الجامع بين ما هو الواجب
حقيقة
كالواجب المطلق وبين ما هو الواجب مجازا كالواجب المشروط عند
عدم شرطه، اللهم الا أن يقال إن هذا فيما إذا كان نقيض الشرط
حاصلا من أول الامر أي من زمان وجود الخطاب وتوجيهه إلى
المكلف وأما إذا مضى زمان ولم يكن فعل النائب والمتبرع حاصلا
فلو
كان الوجوب مطلقا أو مشروطا فقد حصل الجامع بين الوجوبين على
كل تقدير وبعد حصول فعل أحدهما يبقى الشك في بقائه
فيستصحب، و (ثالثا) بأن البراءة حاكمة على هذا الاستصحاب لان
موضوع هذا الاستصحاب هو الشك في بقاء الجامع بين الوجوبين و
هو مسبب عن الشك في تقييد الواجب بكونه في ظرف عدم إتيان
الغير أي النائب أو المتبرع لأنه لو علم بالتقييد يعلم بعدم البقاء ولو
علم بعدم التقييد يعلم بالبقاء فالشك في البقاء الذي هو موضوع هذا
الاستصحاب مسبب عن الشك في التقييد فإذا ارتفع التقييد بالبراءة
تعبدا يرتفع موضوع هذا الاستصحاب تعبدا وهذا معنى الحكومة، و
هذا الكلام سار في جميع موارد الأقل والأكثر بمعنى أنه بعد
الاتيان بالأقل يشك في سقوط الوجوب لأنه لو كان في حاق الواقع
متعلقا بالأقل سقط بالامتثال وأما لو كان في حاق الواقع متعلقا
بالأكثر فالوجوب باق، ومع ذلك لا يجري الاستصحاب لما ذكرنا
153

من أن هذا الشك مسبب عن الشك في تعلق الوجوب بالأكثر أو
بالأقل، فإذا ارتفع هذا الشك بالبراءة عن وجوب الأكثر تعبدا فيرتفع
موضوع الاستصحاب تعبدا وهذا عين الحكومة، فتلخص أن في
جميع موارد الأقل والأكثر التي تجري فيها البراءة عن الأكثر تكون
البراءة حاكمة على استصحاب بقاء الوجوب بعد إتيان الأقل.
(المقام الثاني) -
في أن الاطلاق أو الأصل العملي عند فقده هل يقتضي كون الواجب
إراديا اختياريا أو لا؟ بمعنى أن الوجوب هل تعلق بالفعل المقيد بكونه
مرادا أو الحصة التوأمة منه مع الإرادة أو جاء التضييق من قبل نفس
الامر بمعنى أن الامر حيث أنه لغرض احداث الداعي في المكلف و
تحريكه لان يريد فيفعل فلا يعقل شموله للفعل غير المراد، فقهرا
يتضيق متعلق الامر ويختص ما نسميه الواجب بالفعل الذي يكون
متعلقا للإرادة ولا يمكن أن يكون مطلقا.
وتحقيق المقام هو أنه لا ينبغي أن يشك في أن الافعال بموادها و
هيئاتها غير مأخوذة فيها الإرادة والاختيار لا الاختيار الذي هو بمعنى
الإرادة ولا الذي هو مقابل للكراهة ولا الذي هو مقابل للاضطرار، و
ذلك لوضوح صدق الأكل والشرب مثلا على الأكل والشرب اللذين
صدرا بغير إرادة وعن إكراه وعن اضطرار، وهكذا بالنسبة إلى هيئة
أكل وشرب ويأكل ويشرب ولا فرق في الهيئات بين هيئة
الامر وبين هيئة الفعل الماضي والمضارع، وأما احتمال مجئ
التضييق من قبل نفس الامر في المتعلق لأنه لغرض تحريك المكلف
إلى
أن يريد فيفعل، لان الامر عبارة عما هو يحدث الداعي إلى الفعل في
المكلف ولا يمكن إحداث الداعي إلى الفعل مع الغفلة وبدون
الإرادة، فلا بد أن يكون ما يصدق عليه أنه مأمور به وما يكون مصداقا
للواجب بالحمل الشائع الصناعي هو الفعل لا مطلقا أي سواء أراد
أم لا بل الفعل التوأم مع الإرادة، فمضافا إلى أن هذا الاحتمال في حد
نفسه لا يخلو عن إشكال لا يفيد تضييق الواجب بحيث لا ينطبق على
الفعل غير المراد لأنه على فرض عدم شمول الامر للحصة غير المرادة
لا فرق بين الحصتين في شمولهما للمصلحة أصلا. أما (أولا) فمن
154

جهة القطع بأن إرادة المكلف لا دخل لها في المصلحة لأنه لو كان لها
دخل لكانت تؤخذ في متعلق الامر و (ثانيا) أن التضييق الذي يتحقق
ويوجد من قبل نفس الامر في المتعلق ككونه مقدورا مثلا بناء على أن
الامر هو عبارة عن البعث إلى أحد طرفي المقدور لا أن القدرة
شرطها حسن الخطاب، و (بعبارة أخرى) بناء على أن يكون أخذ
القدرة في متعلق الامر من ناحية نفس الامر - لان الامر بغير المقدور
لا يمكن، لا أنه قبيح وشرطا لحسن الخطاب أن يكون المأمور به
مقدورا - لا يمكن أن يكون دخيلا في المصلحة لان وجود الامر
معلول
للمصلحة فلا يمكن أن يكون معلوله علة للمصلحة.
فتلخص من جميع ما ذكرنا أنه على فرض تسليم قصور الامر عن
شموله للحصة غير المرادة لا قصور في المصلحة أصلا فلا يبقى فرق
بين الحصتين في إتيان الواجب بهما أصلا لأنه لا شك في كفاية
المصلحة في إتيان الواجب ولا يحتاج إلى وجود الامر كما يجي في
باب
التزاحم بين الأهم والمهم إن شاء الله تعالى من أنه مع سقوط أمر
المهم بواسطة التزاحم تكفي المصلحة في امتثال الواجب فلا يبقى
شك
في أنه هل يسقط الواجب بالحصة غير المرادة حتى يرجع إلى
الاطلاق أو إلى الاستصحاب مع فقده وإن كنا بينا ما في الاستصحاب
على
فرض الوصول إلى ذلك المقام.
(المقام الثالث) -
في أن مقتضى الاطلاق أو الأصل العملي عند فقده هل هو سقوط
الواجب بإتيان الفرد المحرم أم لا بل لا يسقط إلا بإتيان الفرد المباح
من
الطبيعة التي تعلق بها الامر؟ وتحقيق المقام أن الواجب اما تعبدي و
إما توصلي فان كان من قبيل الأول فدليل الحرمة بالنسبة إلى دليل
الوجوب إما من قبيل العموم والخصوص المطلق وإما من قبيل
العموم والخصوص من وجه فان كان من قبيل الأول بمعنى أن يكون
دليل الحرمة أخص من دليل الوجوب كما لو نذر أن يصوم يوما من أيام
السنة مع ورود النهي عن صوم يوم العيدين فمرجع هذا إلى
تقييد مورد الوجوب بغير مورد الحرمة، فلا يسقط الوجوب بإتيان
الفرد المحرم حتى مع الغفلة عن حرمته ويكون من قبيل النهي
155

عن العبادة فلا مصلحة ولا ملاك في الفرد المنهي عنه لان الكاشف
عن الملاك هو الامر والمفروض أنه قيد متعلقه بغير الفرد المحرم،
بل الكاشف عن المفسدة وهو النهي موجود، ومن ذلك تعلم بعدم
مسقطية الفرد المحرم، ولو كان الواجب توصليا لعدم الملاك في هذه
الصورة حتى في حال الجهل، إلا أن يجي دليل خارجي على وجود
الملاك في هذه الصورة أيضا.
وأما إن كان من قبيل الثاني - أي كانت النسبة بين الدليلين العموم و
الخصوص من وجه - فان قلنا بأن التركيب في مورد الاجتماع
اتحادي من جهة القول به مطلقا أو من جهة أن متعلق المتعلق عنوان
انتزاعي كقوله (أكرم العلماء) وقوله (لا تكرم الفساق) فيرجع أيضا
إلى تقييد دليل الوجوب بغير مورد الاجتماع ولا يكون مسقطا
للواجب حتى مع الجهل بالحرمة لعين ما ذكرنا في الصورة الأولى، و
أما
إن قلنا بأن التركيب انضمامي ولا يسري الامر إلى متعلق النهي ولا
النهي إلى متعلق الامر فمع الالتفات إلى الحرمة لا يكون مسقطا
للواجب لعدم تمشي قصد القربة وعدم إمكان تحققه، وأما مع الجهل
فلا مانع في البين أصلا لوجود الملاك بل الامر وإمكان إتيانه
بقصد القربة.
هذا كله إن كان الواجب من قبيل الأول أي كان تعبديا، وأما إن كان
توصليا أي لا يحتاج سقوط الامر إلى قصد القربة، فان كان
الدليلان من قبيل الأول أي كان بينهما عموم وخصوص مطلق فقد
تقدم أن مرجعه إلى تقييد دليل الوجوب ولا يسقط بالفرد المحرم
لعدم الملاك ولا فرق في ذلك بين أن يكون الواجب توصليا أو
تعبديا، وأما إن كان الدليلان من قبيل الثاني أي كان بينهما عموم و
خصوص من وجه فان قلنا بأن التركيب اتحادي فالامر أيضا كذلك و
أما إن قلنا بأن التركيب انضمامي فيصح مطلقا ويكون إتيانا
للواجب.
فقد ظهر من مجموع ما ذكرنا في هذا الباب أن مقتضى الاطلاق في
المقام هو لزوم المباشرة وعدم السقوط بفعل الغير ومع فقده فعند
وجود فعل النائب
156

أو المتبرع وجوب مباشرته مشكوك فيه فيكون مجرى للبراءة، وفي
(المقام الثاني) مقتضى الاطلاق أو بواسطة وجود الملاك عدم
الفرق في إتيان الواجب وحصول الغرض بين أن يصدر عن إرادة أو
عن غيرها، وفي (المقام الثالث) ما ذكرنا من التفصيل، حاصله عدم
سقوط الوجوب بفعل المحرم مطلقا إذا كان بين الدليلين عموم و
خصوص مطلق وأيضا على القول بالامتناع مطلقا لو كان بينهما عموم
من وجه وأما على القول بالجواز فالسقوط مطلقا إن كان الواجب
توصليا وفي خصوص صورة الجهل بالحرمة إن كان تعبديا.
(المبحث الثالث في أقسام الوجوب)
اعلم أن للوجوب أو للواجب تقسيمات:
(منها) - تقسيمه إلى المطلق والمشروط
وبيان حقيقتهما يحتاج إلى رسم أمور:
(الأول) -
أن جعل الاحكام وإنشاءها هل هو على نحو القضايا الحقيقية أو على
نحو القضايا الخارجية وقبل تعيين ان الجعل على أي النحوين لا بد
أن نبين أولا معنى القضية الحقيقية والقضية الخارجية والفرق بينهما و
ما به تمتاز إحداهما عن الأخرى فنقول القضية الحقيقية عبارة
عن ورود الحكم على الموضوع المفروض الوجود بمعنى أن الحاكم
يفرض تحقق عنوان ويحكم على ذلك العنوان على تقدير وجوده
في الخارج حتى أنه في القضية الشخصية لو قال يا صديقي ادخل
داري يكون من هذا القبيل لان الحاكم والامر بالدخول فرض عنوان
أن
هذا الشخص صديقه وأورد الحكم على هذا العنوان على فرض
تحققه في الخارج ولذلك لو لم يكن هو صديقه وكان الامر مخطئا في
اعتقاده ليس له أن يدخل لان الامر بالدخول واذنه له فيه مترتب على
وجود ذلك العنوان خارجا لا اعتقادا ولو لم يكن. نعم لو قال يا
زيد ادخل داري وكان أمره بالدخول لاعتقاد أنه صديقه فهنا يجوز له
الدخول وإن لم يكن صديقه لان الامر في هذه الصورة لم يرتب
الحكم والاذن بالدخول على عنوان مفروض الوجود في الخارج بل
اذن لهذا الشخص الخارجي بالدخول، غاية الامر باعتقاد أنه صديقه
وأخطأ في هذا الاعتقاد
157

وخطؤه في اعتقاده لا يوجب رفع اذنه بل يكون من قبيل تخلف
الداعي في باب المعاملات حيث أنه لا يوجب بطلان المعاملة لان
الانشاء
هناك وقع على نقل هذا الثمن مثلا بعوض انتقال هذا الدواء إليه
بداعي أن يبرئه من مرضه فعدم حصول البر وتخلف هذا الداعي لا
يوجب عدم إنشاء ذلك النقل والانتقال فلا يبقى وجه لبطلان
المعاملة.
وحاصل الكلام أن القضية الحقيقية عبارة عن ورود الحكم على
عنوان يكون موضوعا له على تقدير وجوده في الخارج سواء كانت
الجملة خبرية أو إنشائية حملية أو شرطية كلية أو شخصية كما ذكرنا،
نعم في هذا الأخير إطلاق القضية الحقيقية عليه خلاف اصطلاح
المنطقيين إذ أنهم لا يطلقونها إلا على القضية الكلية، ولكن المناط في
الجميع عندنا في هذا المقام واحد إذ المناط عندنا في هذا المقام
هو أن يكون موضوع الحكم عنوان فرض وجوده خارجا سواء كان كليا
أو كان ذلك العنوان المفروض للوجود صفة مفروضة في
شخص خارجي كما ذكرنا في (يا صديقي ادخل داري).
وأما القضية الخارجية فهي عبارة عن ترتب الحكم على موضوع
موجود في الخارج سواء كان الموضوع شخصا واحدا أو أشخاص
متعددة فلو حكم على جامع انتزاعي عن الاشخاص الخارجية بحيث
يكون المحكوم عليه نفس تلك الاشخاص الخارجية والتعبير
بالجامع إما لسهولة البيان أو لعدم معرفة الاشخاص بعناوينهم الخاصة
كقولك كل من في العسكر قتل أو كل دار في البلد انهدمت تكون
القضية في جميع هذه الصور والفروض قضية خارجية، لان المناط في
كون القضية خارجية أن يكون الحكم واردا على هذا الشخص أو
الاشخاص الموجودة في الخارج لا أنه يفرض وجودها في الخارج و
يحكم عليها والجامع لو كان في البين يكون بصرف الصورة و
ظاهر اللفظ وإلا فمتعلق الحكم نفس الموضوعات الخارجية.
ولذلك الجواب الصحيح عن الاشكال المعروف وهو أن الاستنتاج
من الشكل الأول دوري هو أن هذا الاشكال وارد وصحيح لو كانت
الكبرى من قبيل القضية
158

الخارجية لأنه حينئذ يكون العلم بالنتيجة موقوفا على العلم بكلية
الكبرى والعلم بكلية الكبرى موقوف على العلم بالنتيجة، وأما لو
كانت
الكبرى من قبيل القضية الحقيقية فلا يبقى محل لهذا الاشكال أصلا
لعدم توقف العلم بالكبرى على العلم بالنتيجة، وذلك لما بينا من أن
الحكم في القضية الحقيقية يكون على الموضوع المفروض الوجود و
لو لم يكن له فرد ومصداق أصلا، فإذا كان موضوع القضية الحقيقية
كليا كما هو الاصطلاح عند المنطقيين فالحكم على العنوان العام
المفروض الوجود بمناط واحد في الجميع، أي جميع وجودات ذلك
العنوان العام فحين ما يلقي الحاكم الكبرى أو يتصورها عند نفسه لا
نظر له إلى الافراد والخصوصيات أصلا بل يرى الملاك في ذلك
العنوان العام ويحكم بحكم إنشائي أو إخباري، مثلا إذ يقول كل متغير
حادث يرى أن التغير لا يلائم القدم فيحكم بحدوث كل ما
يتصف بهذا العنوان من دون توجه والتفات إلى مصاديق هذا العنوان
فالحكم في الكبرى لا يتوقف على معرفة الصغرى.
ومما ذكرنا ظهر لك أن إحدى الجهات التي تمتاز بها القضية الحقيقية
عن الخارجية هو أن الحكم في الأولى يكون بمناط واحد في جميع
وجودات عنوان الموضوع بخلاف القضية الخارجية فإنه يمكن أن
يكون المناط في كل شخص غير ما هو المناط في الاخر بل لو كان
المناط في الجميع واحدا لكان صرف اتفاق وليس من مقتضيات
نفس القضية الخارجية.
وأيضا ظهر مما ذكرنا أن الانشاء في القضية الخارجية لا ينفك عن
الحكم المنشأ بحسب الفعلية ولا تقدم ولا تأخر بينهما إلا بحسب
الرتبة ففي حال إنشاء الحكم فيها يتحقق الحكم المنشأ ويصير فعليا و
تكون نسبة فعلية الحكم إلى الانشاء نسبة المعلول إلى العلة، وأما
في القضية الحقيقية ففعلية الحكم تابعة لوجود موضوعه في الخارج
لما ذكرنا من أن الموضوع في القضية الحقيقية - واقعا - هو الوجود
الخارجي لذلك العنوان الذي جعل موضوعا في القضية ومعلوم أنه لا
يمكن تحقق الحكم بدون تحقق موضوعه فصيرورة الحكم فعليا قبل
تحقق موضوعه محال.
159

وأما ما أفاده أستاذنا المحقق (قده) من أن فعلية الحكم ليست تابعة
لوجود الموضوع خارجا والذي هو تابع لوجوده الخارجي نفس
باعثية الحكم ومحركيته وفاعليته بمعنى أن تحريكه للمأمور و
المكلف نحو إتيان المأمور به منوط بوجود الاستطاعة مثلا في الخارج
وهكذا بالنسبة إلى سائر شرائط الموضوع ونفسه أيضا، بل وكذا
بالنسبة إلى الموضوع بمعنى متعلق المتعلق فإنه قد يطلق عليه
الموضوع أيضا، فلو جاء أمر وتوجه إلى المؤمنين بإكرام العلماء و
السادات مثلا فلا يصير هذا الحكم محركا إلا بعد وجود المكلف مع
شرائطه وهكذا لا يكون محركا إلا بعد وجود العلماء والسادات، وأما
بالنسبة إلى أصل وجود الحكم وتحققه وفعليته بهذا المعنى فلا
يحتاج إلى الوجود الخارجي للموضوع بكلا المعنيين أصلا، وذلك
من جهة أن ظرف الجعل والانشاء هو الذهن فالحاكم يتصور
الموضوع ويحكم عليه بحكم. نعم ليس الموضوع موضوعا بوجوده
الذهني ومن حيث أنه موجود في الذهن بل بما هو مرآة للخارج،
فكأن الحاكم يراه في الخارج بهذه الملاحظة الذهنية فيحكم عليه
فموضوع الحكم ما هو الموجود في الذهن لا في الخارج غاية الامر
بما
هو مرآة للخارج لا بما هو موجود في الذهن فبمحض تصور الموضوع
ووجوده في الذهن وإنشاء الحكم عليه يوجد ويتحقق
الموضوع، وإلا يلزم تفكيك الانشاء عن المنشأ وهو محال، وأيضا
يلزم تحقق الايجاد بدون الوجود والايجاب بدون الوجوب مع أن
الفرق بينهما اعتباري ولا يمكن تفكيك أحدهما عن الاخر.
(ففيه) أن ظرف الحكم وإن كان هو الذهن ولكن حيث أنه يكون مرآة
للخارج ففي الحقيقة الموضوع يكون نفس الخارج و (بعبارة
أخرى) أن الموضوع في القضية الذهنية وإن كان هي الصورة الذهنية
بلا كلام ولكن هذه الصورة حيث أخذت موضوعا للحكم بما أنها
حاكية عن الخارج، فالاعتبار الشرعي أي ذلك الحكم المجعول من
قبله متعلق بنفس الموضوع الخارجي، والسر في ذلك أن الحكم
الشرعي يتعلق بما هو ذو الملاك وذو الملاك والمصلحة ليس الا
الموضوع الخارجي
160

لا الصورة الذهنية فإذا حكم الشارع بنجاسة الدم مثلا فالموضوع هو
الدم الخارجي لا الصورة الذهنية من الدم لان اعتبار النجاسة فيها
لغو (إن قلت) إن الصورة الذهنية موضوعة بما هي حاكية عن الخارج و
مرآة له لا بما هي موجودة في الذهن (قلنا) هذا عين ما ذكرنا من
أن الموضوع في الحقيقة هو هذا الشئ بوجوده الخارجي ولكن في
مقام الجعل والانشاء حيث أنه لا يمكن إنشاء الحكم على نفس
الموضوع الخارجي بلا توسيط الصورة الذهنية فتؤخذ تلك الصورة
بما هي مرآة للخارج فيحكم على الخارج بتوسيط الصورة الذهنية.
وبعد ما تحقق أن الموضوع بكلا معنييه أي بمعنى المكلف وشرائطه
ككونه حرا بالغا عاقلا مستطيعا مثلا وبمعنى متعلق المتعلق
كالعلماء والسادات في قوله:
(أكرم العلماء والسادات) مثلا لا بد وأن يكون موجودا في الخارج
حتى يتحقق الحكم ويصير فعليا تعرف أن حقيقة الواجب المشروط
بالمعنى المعروف عند المشهور هو أن يكون الوجوب منوطا بوجود
قيد في جانب الموضوع سواء كان بصورة الجملة الشرطية أو كان
بصورة الجملة الوصفية إذ ما لم يوجد الموضوع بجميع قيوده لا يوجد
الحكم، لما بينا أن الحكم تابع لوجود الموضوع بحسب الفعلية و
التحقق، ولذلك قالوا إن إطلاق الواجب على الواجب المشروط قبل
حصول شرطه مجاز ولا فرق في ذلك بين أن يقول: المستطيع يجب
عليه الحج أو إن استطعت فحج.
وقد عرفت مما ذكرنا أيضا أن قياس الانشاء في التشريعيات على
الايجاد في التكوينيات باطل لان الايجاد في التكوينيات يلازم
الوجود بل هو عينه والفرق اعتباري ففرض أنه أوجد شيئا ولكن ما
وجد ذلك الشئ خلف فتأخر الوجود عن الايجاد محال في الجعل
التكويني، وأما الجعل التشريعي فليس إلا اعتبار شئ في مورد و
على موضوع والاعتبار ليس إيجاد شئ واقعي له ما بحذاء في
الخارج حتى يكون لازم التحقق حال الاعتبار بل كما يمكن اعتبار
شئ يكون متحققا حال الاعتبار كذلك يمكن اعتبار شئ متأخر عن
زمان الاعتبار، والحاصل أن تحقق الامر
161

تابع لكيفية اعتباره ووجود موضوعه في الخارج بناء على أن يكون
موضوعه الموجود الخارجي، فالنقض على ما ذكرنا من التفكيك
بين الانشاء وفعلية الحكم في القضايا الحقيقية بعدم جواز التفكيك
في التكوينيات ليس كما ينبغي.
وأيضا قد عرفت أنه بناء على أن يكون جعل الاحكام على نهج
القضايا الحقيقية ليس في البين شئ إلا إنشاء الحكم وفعليته بعد
وجود
موضوعه وليس حكم إنشائي في البين أصلا، وإنشاء الحكم غير
الحكم الانشائي ولو اصطلح أحد على تسمية ذلك بذلك فلا مشاحة
في
الاصطلاح، ولكن الظاهر من كلام القائل بالحكم الانشائي أنه من
مراتب الحكم واقعا وإطلاق الحكم عليه حقيقة وبالالتزام به يرفع
التصويب المجمع على بطلانه.
ومما تمتاز به القضية الحقيقية أيضا عن القضية الخارجية أن الموضوع
في القضية الحقيقية بكلا معنييه مع جميع قيوده وشرائطه هو هذه
الأشياء بوجودها الخارجي فالانسان العاقل البالغ الحر المستطيع
بوجوده الخارجي موضوع لوجوب الحج لا بوجوده العلمي وكذلك
بالنسبة إلى متعلق المتعلق مثل العلماء والسادات بوجودهم
الخارجي موضوع لا بوجودهما العلمي، وأما في القضية الخارجية
فجميع
القيود المأخوذة في جانب الموضوع لا بد وأن تكون مدخليتها في
الحكم بوجودها العلمي وإلا تخرج القضية عن كونها قضية خارجية و
قد قلنا سابقا أنه إن قال مثلا (يا زيد) ادخل داري باعتقاد أنه صديقه
فالقضية خارجية ويجوز له الدخول ولو كان الامر أخطأ في
اعتقاده وكان زيد عدوه لا صديقه وأما لو قال يا صديقي ادخل أو كل
من كان صديقي فليدخل فالقضية ليست بخارجية وكل من رأي
نفسه غير صديقه بل كل من لم ير نفسه صديقه ليس له أن يدخل، و
(بعبارة أخرى) في القضية الخارجية الحاكم بعد ما علم بوجود كل ما
يراه شرطا أو قيدا يحكم حكما فعليا على موضوع خارجي وليس
حكمه معلقا على وجود شئ آخر بخلاف القضية الحقيقية فان
الحاكم
يجمع جميع ما يراه من القيود والشروط ويفرض وجودها في الخارج
ويحكم على ذلك التقدير عليها ولا أثر لوجودها
162

العلمي أصلا بل الحكم لا يتحقق إلا في ظرف وجود جميع ما فرض
وجودها وحكم على ذلك التقدير.
ويترتب على هذه الجهة من الفرق بين القضيتين أمور كثيرة (منها) -
عدم معقولية الشرط المتأخر بناء على أن يكون جعل الاحكام على
نحو القضايا الحقيقية، وذلك لان مبنى إمكان الشرط المتأخر عند من
يقول به كما سيجئ في محله عما قريب إن شاء الله تعالى هو أن
الشئ بوجوده العلمي شرط لا بوجوده الخارجي وقد عرفت أن
جميع القيود والشروط في القضايا الحقيقية تؤخذ مفروض الوجود و
ما لم تتحقق في الخارج ولا يوجد الجميع فيه لا يتحقق الحكم ولا
يوجد ففرض كون الشرط متأخرا مع كون جعل الحكم على نهج
القضايا الحقيقية خلف.
و (منها) - عدم جريان النزاع المعروف من أن الخطاب هل هو
مخصوص بالحاضرين أعني المشافهين أو يشمل الغائبين بل
المعدومين
بناء على كون جعل الاحكام على نهج القضايا الحقيقية، لان الحكم
بناء على هذا ليس متوجها إلى الاشخاص أصلا حتى يقال بأنه خاص
بالمشافهين أو يشمل كذا وكذا بل وارد على عنوان كلي أخذ مفروض
الوجود مع جميع قيوده وشرائطه فلا محالة يشمل جميع من
يكون هذا العنوان منطبقا عليه.
و (منها) - أيضا عدم جريان نزاع أنه هل يجوز أمر الامر مع العلم
بانتفاء شرطه بناء على كون جعل الاحكام من قبيل القضايا الحقيقية و
على ذلك النهج لأنه لا دخل لعلم الامر بوجود الشرط فيها أصلا لما
بينا من أن جميع القيود والشرائط يؤخذ فيها مفروض الوجود في
الخارج فالوجود العلمي أجنبي عنها.
ومما تمتازان به أيضا هو أن النزاع المعروف أعني النزاع في أن
المجعول هل هو سببية الأسباب الشرعية لتلك المسببات أو نفس
المسببات عند حصول أسبابها يجري بناء على أن يكون جعل
الاحكام على نهج القضايا الحقيقية، وأما إذا كان على نهج القضايا
الخارجية فليس فيها إلا الاحكام الشخصية على أشخاص خاصة، نعم
صدور
163

هذا الحكم الشخصي على كل واحد من هذه الاشخاص بعد علمه
بوجود شرائط الحكم فيه فليس هاهنا سببية ومسببية في البين حتى
يقع
النزاع في أن المجعول هل هو السبب أو المسبب، هذا وإن كان الامر
بناء على كون الجعل على نهج القضايا الحقيقية أيضا عند التحقيق
كذلك، أي ليس سببية ومسببية في البين بل حكم وموضوع و
المجعول هو الحكم على الموضوع الكذائي.
هذا كله في بيان معنى القضية الحقيقية والخارجية وآثارهما وما به
يمتاز كل عن الاخر وأما ان جعل الاحكام على أي النحوين
فالظاهر بل المتعين أنه على نهج القضايا الحقيقية، لان الجعل
التشريعي مثل الجعل التكويني تابع للمصالح والمفاسد فإذا كان في
علم
الله تعالى صدور الحج مثلا عن الانسان العاقل البالغ المستطيع من أمة
محمد صلى الله عليه وآله ذا مصلحة ملزمة تتعلق إرادته التشريعية
بلزوم صدوره عن كل من ينطبق عليه مثل هذا العنوان وإلا يلزم
تخلف الإرادة عن ملاكها وهو من قبيل انفكاك المعلول عن علته، و
(بعبارة أخرى) المصالح الموجودة في الافعال الصادرة عن الاشخاص
المقيدة بقيود خاصة من العناوين والعوارض الطارئة على
الانسان التي لها دخل في مصالح تلك الأفعال الصادرة من تلك
الاشخاص معلومة في الأزل لأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، فإذا
كانت
الإرادة تابعة للعلم بالمصلحة كما ذكرنا وقلنا أن نسبتها إلى المصلحة
التامة الملزمة مثلا في الواجبات نسبة المعلول إلى العلة، فلا محالة
يقع ذلك العنوان الكلي المتعلق بموضوع خارجي كلي تحت الإرادة و
ذلك كقوله (أكرم العلماء) مثلا، فالإرادة الأزلية تعلقت بطبيعة
الاكرام المتعلقة بطبيعة العلماء مثلا لان المصلحة في مثل هذا الشئ
ولا يمكن أن لا تتعلق الإرادة الأزلية به وإلا يلزم تخلف المعلول عن
علته، وهكذا الامر بعينه في جانب الموضوع بمعنى المكلف فصدور
الحج مثلا إذا كان ذا مصلحة وذلك فيما إذا كان الفاعل عاقلا بالغا
حرا مستطيعا وهذا المعنى معلوم في الأزل فقهرا يتوجه الخطاب إلى
العنوان المستجمع لهذه القيود في الأزل أي يفرض وجود هذا
العنوان الجامع لهذه القيود وعلى تقدير وجوده يريد الحج منه.
164

والحاصل أن الامر الحكيم إذا رأى المصلحة الملزمة في فعل متعلق
بموضوع سواء كان ذلك الموضوع مقيدا بقيود أو كان مطلقا بشرط
ان يكون صادرا عن عنوان مقيد بقيود أو كان مطلقا فلا محالة تتعلق
إرادته بذلك الفعل على تقدير وجود ذلك العنوان المقيد أو المطلق
الذي هو المكلف، وهكذا على تقدير وجود ذلك العنوان الذي يكون
متعلق المتعلق مطلقا كان أو مقيدا، فموضوع التكليف بمعنى المكلف
مع جميع قيوده وشرائطه التي لها مدخلية في مصلحة الفعل الصادر
عنه وهكذا الموضوع بمعنى المتعلق لفعل المكلف مع جميع قيوده
و
شرائطه التي لها دخل في المصلحة مع نفس الفعل الذي هو متعلق
التكليف بجميع أجزائه وشرائطه وإعدام موانعه معلوم في الأزل،
فتتعلق الإرادة الأزلية بذلك الفعل على فرض وجود الموضوع بكلا
معنييه مع جميع قيودهما وشرائطهما، فالمصلحة في ذلك الفعل
حيث يكون على ذلك التقدير فالإرادة أيضا تكون كذلك لما ذكرنا من
التبعية.
(الامر الثاني) -
في أنه هل الشرط في القضية الشرطية الذي هو قيد للجزاء قيد لهيئة
الجزاء أو لمادته أو للمجموع المركب منهما، والمقصود من
المجموع المركب هو مفاد جملة الجزاء ولا فرق في النتيجة بين
الاحتمالات الثلاث، ولكن المقصود في المقام أنه بحسب القواعد
العربية
وما هو متفاهم العرف في مقام المحاورة أي واحد من هذه
الاحتمالات هو ظاهر الكلام.
فنقول اما عدم الفرق بين الاحتمالات الثلاث فمن جهة أنه لو كان
الشرط قيدا لما هو مفاد الهيئة وهو الوجوب مثلا فتكون النتيجة إناطة
الوجوب بالشرط ففي مثل إن استطعت فحج يكون مفاد هيئة الجزاء
الذي هو وجوب الحج منوطا بوجود الاستطاعة فما لم تتحقق
الاستطاعة لا وجوب في البين وهذا هو الواجب المشروط عند
المشهور، ولذلك قالوا ان إطلاق الواجب على الواجب المشروط قبل
حصول شرطه مجاز وإن شئت قلت أن الشرط بناء على هذا فوق
دائرة الطلب والوجوب لا تحتها.
ولو كان الشرط قيدا للمادة يعني للحج فكأن الطلب متعلق بالحج
الصادر عن
165

المستطيع بحيث يكون الطلب مطلقا غير مشروط بشئ ولا تقييد فيه
وانما القيد لوحظ في جانب المادة فالحج الصادر عن المستطيع
مطلوب بدون تقييد في جانب الطلب، فنقول اما أن يكون هذا القيد
تحت الطلب ومشمولا له فيجب تحصيله كسائر أجزأ المأمور به و
قيوده وشرائطه مثل صل مستقبلا أو متطهرا، ولكن هذا خلاف
الفرض قطعا وذلك لعدم لزوم تحصيل ذلك القيد الذي جعل شرطا
في
القضية جزما، سواء كان الواجب بالنسبة إليه مشروطا كما هو الصحيح
أو كان معلقا كما ربما يتوهم، بل نسب إلى شيخنا الأعظم
الأنصاري (قدس سره) وإن كانت النسبة غير صحيحة كما ينقل شيخنا
الأستاذ (قده) عن شيخه الاجل واما أن لا يكون تحت الطلب فلا
بد وأن يفرض وجوده وفي ظرف وجوده يتعلق الوجوب بالمادة
فيكون وجوب المادة منوطا بوجود ذلك القيد وهذا هو عين مفاد
تقييد الهيئة الذي قلنا أنه هو الواجب المشروط عند المشهور.
ولو كان الشرط قيدا لمفاد جملة الجزاء أي المجموع المركب من
المادة والهيئة فالنتيجة هو إناطة وجوب الاكرام الذي هو مفاد جملة
الجزاء بالشرط في قضية إن جاءك زيد فأكرمه مثلا، وهذا أيضا هو
عين مفاد تقييد الهيئة الذي تقدم أنه عبارة عن الواجب المشروط
عند المشهور.
وقد ظهر مما ذكرنا اتحاد النتيجة على الاحتمالات الثلاث، ولكن في
مقام الاستظهار لا يمكن إرجاع القيد إلى الهيئة لان مفاد الهيئة
معنى حرفي ليس قابلا للاطلاق والتقييد لا من جهة جزئية المعنى
الحرفي وأن الجزئي ليس قابلا للاطلاق والتقييد حتى تقول بإنكار
الصغرى والكبرى جميعا بل من جهة ان المعنى الحرفي ليس ملحوظا
استقلاليا بل مغفول عنه وغير ملتفت إليه ولذلك لا يقع مسندا ولا
مسندا إليه فلا يمكن أن يقيد لان التقييد أيضا مثل المسند والمسند
إليه يحتاج إلى لحاظ ذات المقيد أولا باللحاظ الاستقلالي ثم تقييده
بقيد، هذا مضافا إلى أن ظاهر هيئة الجملة الشرطية وأدوات الشرط
هو الربط بين الجملتين بمعنى أن مفادهما هو ارتباط الجملة
بالجملة لا ارتباط
166

المعنى الافرادي بالمعنى الافرادي ولذلك ترى أن كل واحدة من
جملتي الشرط والجزاء قبل أن تصير جزا من الجملة الشرطية يكون
كلاما مفيدا يصح السكوت عليه وبعد ما صارت جزا منها تخرج عن
استقلالها وصحة السكوت عليها، وليس هذا إلا من جهة صيرورة
جملة الجزاء مربوطة بجملة الشرط، بمعنى أن ثبوت الحكم في
الجملة الجزائية منوط بثبوته في الجملة الشرطية وعلى تقديره، وهذا
عين
أن مفاد الجملة الجزائية أي مفاد المجموع المركب من الهيئة والمادة
مقيد ومربوط بالشرط لا خصوص الهيئة فقط.
ومن هذا البيان ظهر أن الشرط كما لا يمكن أن يكون قيدا للهيئة كذلك
لا يمكن أن يكون قيدا للمادة، بل الشرط قيد لمفاد الجملة
الجزائية أي المجموع المركب من المادة والهيئة وإن شئت عبر عنه
بالمحمول المنتسب كما اصطلح عليه شيخنا الأستاذ (قدس سره) و
إن كان م آل الجميع واحدا وسواء كان القيد قيدا للهيئة أو للمادة أو
للمجموع المركب منهما أي مفاد الجملة نتيجة الجميع هو تقييد
الحكم
وإناطته بالشرط وهذا عين الواجب المشروط عند المشهور.
(الامر الثالث) -
في أن ملابسات متعلق الحكم الشرعي ومتعلق متعلقه الذي قد
يسمى موضوعا أيضا وموضوعه بمعنى المكلف قد يكون من الأمور
الاختيارية وقد يكون من الأمور غير الاختيارية، والمراد من
الملابسات العوارض والحالات الطارئة على الشئ والصفات
الجارية
عليه اما بالنسبة إلى المكلف ككونه مستطيعا وحرا وعالما وجاهلا و
أمثالها وأما بالنسبة إلى الموضوع بمعنى متعلق المتعلق ككونه
فاسقا وعادلا وأمثالهما، وأما بالنسبة إلى نفس المتعلق ككون الصلاة
في مكان كذا أو زمان كذا مثلا وأمثالهما.
فإذا كان من الأمور غير الاختيارية فلا يمكن أن يقع تحت البعث و
التكليف سواء كان دخيلا في صيرورة الواجب ذا مصلحة أو في ترتب
المصلحة على الواجب الذي هو ذو مصلحة، (وبعبارة أخرى) كان من
أجزاء ذي المصلحة أو من
167

شرائطه أو من إعدام موانعه، أما لو كان من قبيل الأول فواضح لأن المفروض
ان صيرورة الواجب ذا مصلحة لا يتحقق إلا بعد وجوده و
الإرادة تتبع المصلحة ولا يمكن أن تكون دائرة متعلق الإرادة أوسع من
دائرة ذي المصلحة ولا أضيق، وإلا يلزم أحد الامرين الباطلين،
أي اما ان تتعلق الإرادة بشئ لا مصلحة فيه أو لا تتعلق بشئ تكون
فيه المصلحة وكلاهما باطلان، وذلك لان نسبة الإرادة والطلب إلى
المصلحة نسبة المعلول إلى العلة فيكون الوجوب منوطا بوجوده، ولو
كان من قبيل الثاني - أي كان دخيلا في ترتب المصلحة وجودا
على الواجب يعني تكون مدخليته في المصلحة كمدخلية أجزأ
الواجب وشرائطه وإعدام موانعه، فلا يمكن أيضا أن يقع تحت
التكليف
لان الامر غير المقدور لا يمكن أن يتعلق به التكليف إما لقبح التكليف
بالنسبة إلى غير المقدور أو لامتناعه من جهة أن حقيقة الامر هو
البعث والتحريك نحو أحد طرفي المقدور فالقدرة - بناء على هذا -
مأخوذة في نفس حقيقة الامر، بحيث لو لم نقل بقبح تكليف العاجز
وأنكرنا الحسن والقبح العقليين فمع ذلك أيضا لا يجوز التكليف بغير
المقدور لامتناعه، فظهر أن الأمور غير الاختيارية لا تقع متعلقا
للتكليف مطلقا وعلى كل حال. وأما القيود الاختيارية فان كانت مما
لها دخل في صيرورة الواجب ذا مصلحة فلا محالة يكون الواجب
بالنسبة إليها مشروطا، لما ذكرنا في القيود غير الاختيارية، وإن كان لها
دخل في وجود المصلحة الملزمة وترتبها على وجود ذلك
الواجب، فلا محالة تتعلق بها الإرادة وإلا يلزم أن تكون دائرة متعلق
الإرادة أضيق من دائرة ذي المصلحة بمعنى أنه هناك شئ له
مدخلية في وجود المصلحة، وصدورها عن الواجب وترتبها عليه. و
مع ذلك لا يكون متعلقا للإرادة وهذا خلاف ما تحقق عند الإمامية
رضوان الله تعالى عليهم من تبعية الأوامر للمصالح.
وقد ظهر مما بينا أن في ثلاثة أقسام من الأقسام الأربعة المذكورة - أي
في القيود غير الاختيارية بكلا قسميه وفي الاختيارية منها إذا
كان دخيلا في صيرورة
168

الواجب ذا مصلحة - يكون الواجب بالنسبة إليها واجبا مشروطا، و
ذلك لما ذكرنا من إناطة الوجوب في هذه الأقسام الثلاثة بوجود
ذلك القيد، لأنه لا بد وأن يؤخذ.
مفروض الوجود فيحكم عليه وفي قسم واحد منها يكون الواجب
مطلقا منجزا. وقد عرفت من جميع ما ذكرنا حقيقة الواجب
المشروط،
وأنه قبل حصول الشرط الذي أنيط به الوجوب لا وجوب في البين بل
كما ذكرنا يكون إطلاق الواجب عليه مجازا. وقد عرفت أيضا ان
المقدمات الوجودية للواجب المشروط لا تتصف بالوجوب الا بعد
وجود مقدمة الوجوب والا يلزم أن يتحقق وجود المعلول قبل وجود
علته وهذا هو المراد من قولهم: إن المقدمات الوجودية للواجب
المشروط تتبع في الاطلاق والاشتراط ذيها.
نعم هنا وجه آخر لتصوير الواجب المشروط وهو أن الوجوب يكون
مشروطا بوجود شئ في الزمان المتأخر بنحو الشرط المتأخر
فيكون الوجوب موجودا قبل حصول شرطه فتكون مقدماته أيضا
واجبة قبل حصول مقدمة الوجوب، ولكن سيأتي أن الشرط المتأخر
محال فهذا القسم من الواجب المشروط باطل لا حقيقة له أصلا.
و (منها) - تقسيمه إلى المعلق والمنجز
وهذا التقسيم نسب إلى صاحب الفصول وتبعه على ذلك صاحب
الكفاية وجمع آخر من المحققين (قدس سرهم) وتلقوه بالقبول و
المراد من المعلق هو أن يكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا
متأخرا. وبناء على هذا التعريف يكون القسم الأخير من الواجب
المشروط - على فرض صحته - داخلا في هذا التعريف، لان الواجب
المشروط بنحو الشرط المتأخر وجوبه حالي والواجب استقبالي.
ولكن قد عرفت بطلان هذا الوجه سواء سميته بالواجب المشروط
بالشرط المتأخر أو بالواجب المعلق، ولكن المشهور - في معنى
الواجب المعلق - هو أن يكون الواجب ظرفه في الزمان المتأخر و
يكون وجوبه فعليا بمعنى أن الوجوب الفعلي والإرادة الحالية تعلقت
بجميع أجزاء الواجب الذي يكون ظرف وجوده زمانا متأخرا
169

وليس هناك قيد للواجب لا يكون مشمولا للبعث والتحريك ما عدا
الزمان. واحتمل صاحب الفصول (قده) وجود قسم آخر للواجب
المعلق، وهو أن يكون الوجوب فعليا حاليا ومع ذلك لا يشمل بعض
القيود الاختيارية التي لها دخل في وجود مصلحة الواجب وترتبها
عليه، بمعنى أنه لا يعاقب على ترك الواجب من ناحية ترك تلك
القيود فلو اتفق وجود تلك القيود من باب الاتفاق يلزم عليه إتيان سائر
الاجزاء والشرائط و (بعبارة أخرى) مع أن تلك القيود تحت قدرة
المكلف واختياره ولها دخل في ترتب المصلحة على الواجب ما
وقعت
تحت الإرادة ولم يشملها البعث والتحريك المولويين.
وقد عرفت فساد هذا القسم الأخير، وأنه لا يمكن أن يكون شئ
دخيلا في ترتب المصلحة الملزمة على الواجب وفي وجودها و
يكون
تحت القدرة والاختيار ومع ذلك لا يكون مشمولا للوجوب ومتعلقا
للإرادة، وإلا يلزم عدم تبعية الإرادة للمصلحة (ان قلت): من الممكن
أن تكون المصلحة في شئ بهذا الشكل أي يكون الشئ له المصلحة
بشرط أن يتفق وجود الجز الفلاني أو الشرط الكذائي.
(قلت): معنى هذا أنه ليس دخيلا في وجود المصلحة الملزمة وهذا
خلاف الفرض. و (بعبارة أخرى) معنى هذا الكلام أن صيرورة هذا
الواجب ذا مصلحة منوط بوجود هذا الشئ فرجع إلى الواجب
المشروط وخرج عن فرض كونه معلقا. وعلى كل حال الواجب
المعلق
بمعناه المعروف أي كون الوجوب حاليا وزمان الواجب متأخرا
استقباليا صار إمكانه ووقوعه محل الخلاف بين الاعلام، فبعضهم
أنكره وقال بعدم إمكانه من جهة عدم إمكان تعلق الإرادة بأمر متأخر،
لان الإرادة عبارة عن الكيفية النفسانية المحركة للعضلات نحو
المراد. وليس عبارة عن صرف الشوق حتى يكون تعلقه بأمر متأخر
ممكنا، فإذا كانت الإرادة التكوينية عبارة عن تلك الكيفية فلا يمكن
أن تتعلق بأمر متأخر بحسب الزمان إلا بأن يمكن أن يوجد الشئ
المقيد بالزمان المتأخر الان. ومعنى هذا جر الزمان المتأخر إلى
الحال
170

وإيجاده الان وهو واضح البطلان، فان لم يمكن تعلق الإرادة التكوينية
بالامر المتأخر، فالإرادة التشريعية أيضا كذلك لان الفرق
بينهما ليس إلا بان الأولى تتعلق بفعل نفسه والثانية تتعلق بصدور
الفعل عن غيره فالإرادة التشريعية أيضا لا بد وأن تكون بحيث لو
كانت متعلقة بفعل نفسه وبالمباشرة لكانت محركة للعضلات.
و (بعبارة أخرى) لا يكون فيها نقص من هذه الجهة. ومعلوم أن هذا
المعنى بالنسبة إلى الامر المتأخر بحسب الزمان غير ممكن في
الإرادة التكوينية، فالإرادة التشريعية أيضا كذلك لما ذكرناه.
وأجيب عن هذا (تارة) بأنه خلاف الوجدان، لأننا نرى من أنفسنا
بالضرورة إمكان إرادة الامر المتأخر بحسب الزمان كالأمر الحالي و
(أخرى) بأن جميع الإرادات - المتعلقة بالأمور التدريجية وبالأمور
التي لها مقدمات وجودية غير حاصلة - من هذا القبيل أي تكون
متعلقة بالامر المتأخر. ولكن يمكن أن يقال أما بالنسبة إلى الأمور
التدريجية فالإرادة المحركة للعضلات نحو أول جز منها ليست
محركة نحو الجز باعتبار أنه جز المراد، بل باعتبار أنه أول وجود
المراد والشروع في إيجاد المراد. وأما بالنسبة إلى الأمور التي
لها مقدمات وجودية غير حاصلة فتحريك الإرادة للعضلات نحو تلك
المقدمات يكون تحريكا نحو نفس ذلك الشئ، لان الشئ الذي
تعلقت الإرادة بإيجاده إن لم تكن له مقدمات وجودية غير حاصلة
الإرادة تحرك العضلات نحو نفسه وإن كان له ذلك فقهرا يكون
تحريك العضلات نحو ذلك الشئ بإيجاد مقدماته حتى تصل النوبة
إلى نفسه، نعم بناء على مسلك شيخنا الأستاذ (قده) من أن المحرك
للعضلات ليس هو الإرادة بل هناك شئ متوسط بين حركة العضلات
والإرادة وسماه باختيار النفس وأفاد بأنه فعل النفس وتحرك
العضلات ناشئ من ذلك الفعل النفساني فإمكان تعلق الإرادة بالامر
المتأخر في غاية الوضوح ونحن بينا ما في هذا المسلك في مبحث
الطلب والإرادة.
والحاصل أنه إن قلنا بإمكان تعلق الإرادة الفعلية بالامر المتأخر
بالوجدان
171

وإلا هذه الأدلة لا تخلو من مناقشة.
وبناء على مسلك أستاذنا المحقق (قده) من أن فاعلية الإرادة و
محركيتها يمكن أن تتأخر عن وجودها وفعليتها كما تقدم كلامه، أن
الإرادة في مرحلة الانشاء فعلية لأنها تتعلق بالصورة الذهنية وليس
وجودها منوطا بوجود موضوعها بكلا معنييه في الخارج، كما أنها
وجودا ليست منوطة بوجود متعلقها البتة وإلا يلزم طلب الحاصل،
فإمكان الواجب المعلق وإن كان لا مانع منه من هذه الجهة أي من جهة
عدم إمكان تعلق الإرادة بأمر متأخر بحسب الزمان، إلا أن الكلام في
أصل المبنى وقد تقدم ما فيه عند بيان القضية الحقيقية.
مضافا إلى أن إمكان تعلق الإرادة بالامر المتأخر لا يصحح الواجب
المعلق، لان الكلام في أن الزمان مثل سائر القيود إن كان له دخل في
صيرورة الواجب ذا مصلحة فلا بد وأن يكون الواجب بالنسبة إليه
مشروطا، وإن كان له دخل في ترتب المصلحة على الواجب كسائر
الاجزاء والشرائط وإعدام الموانع للمركب المأمور به فحيث أنه لا
يمكن تعلق البعث والإرادة به لعدم إمكانه لا بد أن يؤخذ مفروض
الوجود فقهرا يكون الواجب بالنسبة إليه مشروطا، ولا فرق في ذلك
بين كون جعل الاحكام على نهج القضايا الحقيقية أو الخارجية،
غاية الامر أنه لو كان من قبيل الأول يكون الامر أوضح لما ذكرنا من أن
الحكم في القضية الحقيقية منوط بوجود موضوعه مع جميع
القيود المأخوذة في جانبه خارجا، وقد بينا عدم الفرق في ذلك بين
الموضوع بمعنى المكلف والموضوع بمعنى متعلق المتعلق، ومعلوم
أنه لا فرق في ملابسات الفعل بين الزمان والمكان فكما أنه بالصلاة
مثلا في المكان الكذائي يكون المكان من قبيل متعلق المتعلق ولا
بد أن يفرض وجوده ويحكم عليه وتكون فعلية الحكم منوطة بوجود
ذلك المكان في الخارج، فكذلك الحال في الزمان طابق النعل
بالنعل حتى لو كان الجعل على نهج القضايا الخارجية فلا بد أن يكون
قيد الزمان أيضا مأخوذا مفروض الوجود.
أما لو كان دخيلا في صيرورة الواجب ذا مصلحة فواضح لان الواجب
بالنسبة
172

إليه لا محالة يصير مشروطا كما تقدم مفصلا، وأما لو كان دخيلا في
ترتب المصلحة على الواجب بعد ما كان الواجب ذا مصلحة قبل
وجوده فمن حيث أنه لا يمكن البعث إليه فلا بد أن يفرض وجوده ولو
كانت القضية خارجية، فلو قال يا زيد أعطني هذا الكتاب عند
غروب الشمس وهو في ضحوة النهار مثلا فلا بد أن يفرض وجود
غروب الشمس وتحققه، وفي ظرف وجود ذلك الزمان وتحققه
يحكم عليه بلزوم إعطائه الكتاب ولو كان لذلك الزمان دخل في
ترتب المصلحة على الاعطاء، إذ بما أنه أمر غير مقدور لا يمكن تعلق
الإرادة والبعث به على حد سائر الاجزاء والقيود، وإما أن لا يعتنى به
أصلا فهذا (أولا) خلاف الفرض لان لازمه الامر بالمتعلق بإيجاده
الان و (ثانيا) أن وجود المصلحة في الخارج حيث أنه متوقف على
ذلك الزمان فلا يمكن عدم الاعتناء به، بل لا بد من التقييد به، وحيث
أن الواجب أي ما هو متعلق الإرادة بما هو متعلق للإرادة لا يمكن
تقييده به لما ذكرنا من كونه غير مقدور فلا بد أن يكون الوجوب مقيدا
به وإلا يلزم أن يكون أجنبيا من الواجب والوجوب كليهما وهو
خلاف الفرض.
فقد ظهر من جميع ما ذكرنا عدم تمامية هذا التقسيم أي تقسيم
الواجب إلى المنجز والمعلق.
ثم إن المقدمات الوجودية للواجب المشروط لا يمكن أن تتصف
بالوجوب الغيري قبل وجود ذلك الشرط الذي يكون الواجب
مشروطا
بالنسبة إليه وإلا يلزم تحقق المعلول قبل تحقق العلة، ولذلك وقع
الاشكال في موارد عديدة من الفروع الفقهية التي تكون من هذا
القبيل وحكم الأصحاب بوجوبها قبل وجود ذلك الشرط الذي يكون
الوجوب منوطا بوجوده، والاشكال هو أنه كيف يمكن أن يوجد
الوجوب الغيري الترشحي قبل وجود المترشح منه، وهل هذا إلا
وجود المعلول قبل وجود علته؟ ونحن نذكر بعض هذه الفروع بعد
بيان أصل المطلب ورفع هذا الاشكال ولهم في رفع هذا الاشكال
طرق عديدة:
173

(الطريق الأول) - ما أفاده أستاذنا المحقق (قده) بناء على ما سلكه في
الواجب المشروط من أن الإرادة فعلية، قبل وجود الشرط خارجا
لأنها تتعلق بالصورة الذهنية من المراد. والمشروط بوجود الشرط
خارجا إنما هو فاعلية الإرادة ومحركيتها لا أصل وجودها، فبناء
على هذا لا يبقى إشكال في البين أصلا، لان وجوب ذي المقدمة
موجود وحاصل قبل وجود الشرط خارجا وقبل مجئ زمان
الواجب،
فوجوب المقدمة الوجودية لمثل ذلك الواجب قبل وجود شرط
وجوبه خارجا ليس من قبيل تقدم المعلول على العلة.
نعم نتيجة هذا الكلام هو وجوب جميع المقدمات الوجودية قبل
وجود ذلك الشرط خارجا لا خصوص المقدمات المفوتة والمراد من
المقدمات المفوتة هي المقدمات الوجودية التي لو تركها قبل حصول
زمان الواجب أو قبل وجود سائر شرائط الوجوب يكون تركها
مفوتا لاتيان الواجب في وقته أو بعد حصول شرطه، و (بعبارة أخرى)
يكون تركها قبل زمان الواجب أو قبل حصول شرط الوجوب
موجبا لسلب القدرة والعجز عن الاتيان بالوجوب بعد حصول شرائط
وجوبه من الزمان وغيره ولذلك صار ترك التعلم محل الكلام و
هل أنه من هذا القبيل أي يوجب تركه العجز عن إتيان الواجبات و
امتثال الاحكام بعد حضور وقتها وحصول شرط وجوبها أو ليس من
هذا القبيل، وليس مناط وجوب التعلم مناط وجوب المقدمات
المفوتة؟ ويظهر من شيخنا الأستاذ (قده) عدم كونه من هذا القبيل و
ان
الجهل ليس موجبا للعجز، وإلا لما كانت التكاليف مشتركة بين العالم و
الجاهل، غاية الامر بنتيجة الاطلاق لا بالاطلاق اللحاظي لعدم
إمكانه، وذلك لان تكليف العاجز قبيح بل لا يمكن لان حقيقة الامر
هو البعث إلى أحد طرفي المقدور فمن توجيه الامر إلى الجاهل
نستكشف عدم عجزه عن الاتيان بالمأمور به، فبناء على ذلك لا بد أن
يكون مناط وجوب التعلم غير مناط وجوب المقدمات المفوتة.
وقيل بأن ترك التعلم يوجب العجز عن امتثال الاحكام لان امتثالها فرع
174

معرفتها مثلا كيف يمكن لمن لا يعرف أجزاء الصلاة وشرائطها و
موانعها وكذلك في الحج بل في جميع العبادات والمعاملات أن
يمتثل
هذه الأحكام بدون العلم بها وبدون معرفتها، حتى أن الصبي لو لم
يتعلم الاحكام قبل البلوغ يكون عاجزا عن أداء التكاليف حال أول
البلوغ، ولذلك يحكم العقل بلزوم التعلم حتى على الصبي قبل البلوغ
لئلا يفوته بعض التكاليف بواسطة العجز.
ولكن التحقيق هو أن المكلف الجاهل لو كان قادرا على الاحتياط و
قلنا بصحة الاحتياط مع إمكان الامتثال التفصيلي فلا يوجب الجهل
عجزه وإلا يكون سببا للعجز ويكون حال ترك التعلم حال سائر
المقدمات المفوتة ويكون ملاك وجوبه عين ذلك الملاك.
(الطريق الثاني) - هو القول بأن الوجوب مشروط بالزمان المتأخر بنحو
الشرط المتأخر فيكون الوجوب فعليا بواسطة وجود شرطه
في الزمان المتأخر وهو الزمان المتأخر، وعليه أيضا يرتفع الاشكال
من أصله لان مناط الاشكال هو وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها
فإذا كان وجوب ذي المقدمة حاصلا من الأول فلا إشكال.
(الطريق الثالث) - هو القول بالواجب المعلق فالوجوب فعلي و
الواجب استقبالي فلا يبقى إشكال وقد عرفت فساد الطرق الثلاثة.
(الطريق الرابع) - ما ذهب إليه الأردبيلي وتلميذاه صاحب المعالم و
المدارك (قدس سرهم) من أن المقدمات المفوتة واجبة بالوجوب
النفسي التهيئي بمعنى أن مصلحة وجوبها التهيؤ لامتثال الواجبات و
الاحكام والظاهر أن ما أفادوه هو في خصوص التعلم قبل مجئ
وقت امتثال الواجبات.
و (فيه) أن ملاك التهيؤ في كل مقدمة موجود فيجب ان يكون جميع
المقدمات واجبا نفسيا تهيئيا مع أنه لا معنى للواجب النفسي الا ما
يكون واجبا لنفسه لا ما يكون واجبا للوصول إلى واجب آخر، و
(بعبارة أخرى) يكون مطلوبا لنفسه لما يترتب عليه من الملاك و
المصلحة لا أن مطلوبيته تكون لأجل مطلوبية شئ آخر
175

بحيث لو لم يكن الشئ الاخر مطلوبا لما كان هذا مطلوبا.
(الطريق الخامس) - هو حكم العقل بلزوم إتيان المقدمات الوجودية
التي لو لم يأت بها قبل زمان الواجب أو قبل حصول سائر شرائط
الوجوب لم يكن قادرا على إتيان الواجب بعد حصول شرط الوجوب
وفي زمان الوجوب.
بيان ذلك أن القدرة المعتبرة في صحة التكليف إما عقلية وإما شرعية
سواء كان اعتبار القدرة من جهة حسن التكليف وقبح تكليف
العاجز أو كان من جهة أن حقيقة الامر هو البعث إلى أحد طرفي
المقدور بحيث يكون التكليف إلى العاجز ممتنعا لا من جهة قبحه
حتى
لو جوزنا على الامر ارتكاب القبيح لا يجوز مع ذلك توجيه التكليف
إلى العاجز، والفرق بين القدرتين هو أن القدرة العقلية ليست دخيلة
في الملاك ثبوتا ولم تؤخذ في متعلق التكليف إثباتا بخلاف القدرة
الشرعية فإنها تؤخذ في متعلق التكليف إثباتا وتكون دخيلة في
الملاك ثبوتا.
فان كانت القدرة المعتبرة عقلية فالعقل لا يحكم بالعجز إلا في صورة
امتناع إيجاد المأمور به بقول مطلق، بمعنى أنه لا طريق له إلى
إتيانه بأي صورة لا بتحصيل القدرة حتى قبل وقت الواجب وقبل
حصول سائر شرائط الوجوب ولا بحفظ القدرة الموجودة وإبقائها
إلى زمان حصول وقت الواجب ووجود سائر شرائط الوجوب، وإلا لو
كان متمكنا من إتيان الواجب في زمان وجوبه ولو بتحصيل
القدرة قبل ذلك الزمان أو حفظها إذا كانت موجودة قبل ذلك وإبقائها
إلى زمان لزوم امتثال الواجب فلا يعذره العقل في ترك ذلك
الواجب معتذرا بعدم القدرة عليه لو لم يحصل مع إمكان تحصيلها أو
لم يحفظها مع إمكان حفظها وإبقائها إلى زمان امتثال الواجب ولا
يعده عاجزا، بل يحكم بدخوله تحت قاعدة (الامتناع بالاختيار لا
ينافي الاختيار عقابا لا خطابا) وان قال به أيضا بعض كأبي هاشم
المعتزلي. والمراد من هذه القاعدة العقلية في المقام - وان كان لها
معنى آخر خارج عن بحثنا بل عن هذا الفن - هو أن المكلف بعد ما
يمكنه إطاعة المولى ولو بتحصيل القدرة أو إبقائها على التفصيل
الذي ذكرناه لو عجز
176

نفسه عن الامتثال ولو كان تعجيز نفسه بعدم تحصيل القدرة أو عدم
حفظها مع إمكانهما جعل الامتثال ممتنعا باختياره والامتناع
بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وإن كان ينافيه خطابا لما ذكرنا من
امتناع توجيه الخطاب إلى العاجز مطلقا لقبحه أو عدم إمكانه و
إن كان الامتناع بسوء اختياره.
وأورد عليه أستاذنا المحقق (قده) بأن مورد هذه القاعدة بعد وجود
خطاب موجه إليه من قبل المولى، ففي ظرف لزوم امتثاله لو عجز
العبد نفسه بسوء اختياره أو لم يحصل القدرة أو لم يحفظ الموجودة
منها مع إمكانهما يكون مشمولا لهذه القاعدة، وأما عدم تحصيلها أو
عدم حفظها قبل وجود خطاب في البين فلا ربط له بهذه القاعدة أصلا.
وأنت خبير بأنه لا فرق في نظر العقل وحكمه بين أن يكون الخطاب
موجودا فعلا أو يعلم بأنه سيوجد بل يحكم في كلتا الصورتين
بلزوم تحصيل القدرة لو لم تكن وأمكن وبلزوم حفظها لو كانت و
أمكن الحفظ، فكما لو نزل عليه ضيف واجب الاكرام بنظر العقل
بملاك شكر المنعم أو الا من من العقوبة أو بأي ملاك آخر في نظره فان
العقل يحكم بدخول السوق مثلا وتهيئة أسباب إكرامه، فكذلك
في نظره بلا تفاوت أصلا لو كان يعلم بأنه غدا ينزل عليه الضيف ولكن
السوق غدا معطلة لا يمكنه فيه تهيئة شئ من أسباب الاكرام
فإنه يحكم بلزوم دخول السوق مثلا وتهيئة أسباب الاكرام، وإن كانت
عنده أسباب الاكرام موجودة ولا توجد في مكان وغدا لا يمكن
تحصيلها فيحكم بلزوم حفظ ما عنده من القدرة، وإلا يعد في نظر
العقل من الذين يجعلون الامتثال ممتنعا عليهم بسوء اختيارهم.
نعم كل هذا فيما إذا كان الواجب مشروطا بالقدرة العقلية والعقل
حينئذ لا يعذر المكلف الا مع عدم كونه قادرا مطلقا أي لا يكون قادرا
في زمان الامتثال ولا على تحصيلها في ذلك الزمان ولا على
تحصيلها قبل ذلك الزمان ولا على حفظها وإبقائها لو كانت موجودة
قبل
زمان الوجوب إلى زمانه فقهرا إذا كان قادرا ولم يحفظها
177

مع إمكانه أو لم يحصلها قبل ذلك الزمان مع إمكان تحصيله يكون
مشمولا لهذه القاعدة.
وأما إن كانت القدرة المعتبرة في المتعلق شرعية فهي اما أن يعتبرها
الشارع بتلك السعة التي كانت معتبرة في القدرة العقلية بمعنى
أنه اعتبر مطلق القدرة من دون تخصيصها بزمان دون زمان ولا بكونها
عند وجود قيد أو عدمه فيكون حكمها حكم القدرة العقلية
طابق النعل بالنعل، لأنه بناء على هذا معنى قول الشارع افعل كذا إن
قدرت أي سواء قدرت عليه بعد زمان الوجوب وفي ظرف الامتثال
أو قدرت على الامتثال قبل زمان الوجوب ولكن يمكنك حفظ تلك
القدرة إلى زمان الامتثال أو ان قدرت على تحصيلها قبل زمان
حصول الوجوب وكذلك قبل حصول سائر شرائط الوجوب مع إمكان
حفظها إلى زمان حصول الوجوب وإمكان الامتثال أو لزومه
فالقدرة المأخوذة شرعا في متعلق التكليف مطلقة بالنسبة إلى جميع
هذه الأمور ولا يعذره العقل لو ترك المكلف الامتثال في جميع هذه
الصور معتذرا بعدم القدرة على الامتثال، بل يكون مشمولا لقاعدة
الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
(ان قلت): إن ما ذكرت من أن القادر على تحصيلها أو حفظها قبل وقت
الوجوب وقبل حصوله لو لم يحصل أو لم يحفظ يكون مشمولا
لهذه القاعدة بالنسبة إلى القدرة العقلية صحيح. وأما بالنسبة إلى
القدرة الشرعية فمحل إشكال لأنها دخيلة في صيرورة الشئ ذا
مصلحة، ولذلك لا يجب تحصيلها وإن أمكن كالاستطاعة مثلا حيث
لا يجب تحصيلها وإن أمكن ذلك فكيف تقول بوجوب تحصيلها قبل
حصول الوجوب ومجئ زمان الواجب وهل هذا الا السعي في
صيرورة الشئ ذا مصلحة حتى يتعلق به الوجوب وتتعلق به الإرادة و
الالتزام بهذا غريب؟ (قلت): المفروض أن الذي هو دخيل في
المصلحة أي في صيرورة الشئ ذا مصلحة هو مطلق القدرة أي أعم
من
القدرة الفعلية أو القدرة على القدرة أو القدرة على حفظها فشرط كونه
ذا مصلحة
178

حاصل فليس فرق بينها وبين القدرة العقلية أصلا.
هذا كله ان اعتبرها الشارع في متعلق التكليف بتلك السعة التي في
القدرة العقلية وأما إن اعتبر قدرة خاصة فلا بد أن يرجع إلى دليل
اعتبارها وأنها بأية كيفية اعتبرت من السعة والضيق فتراعى تلك
الكيفية (فتارة) اعتبر القدرة الحاصلة في خصوص زمان امتثال
الواجب فلا يجب تحصيلها أو حفظها قبل ذلك و (تارة) القدرة التي
قبل زمان الواجب لكن بعد حصول أمر فلا يجب تحصيلها قبل
حصول ذلك الامر، وإن كان يجب قبل حصول زمان الواجب وبعد
حصول ذلك الامر.
وحاصل الكلام أن القدرة الشرعية لا بد أن تلاحظ أنها بأية كيفية
اعتبرت وأخذت في المتعلق وتراعى تلك الكيفية ويرتب آثارها فقد
عرفت الضابط الكلي في لزوم تحصيل المقدمات المفوتة قبل الوقت
أو عدم لزومه وأن الموارد مختلفة جدا في القدرة الشرعية، وهذا
كله حكم العقل المحض فيكون حكما عقليا إرشاديا.
(الطريق السادس) - ما ذهب إليه شيخنا الأستاذ (قدس سره) من
الوجوب الشرعي النفسي بمعنى آخر بطور متمم الجعل، وحاصل ما
أفاده في هذا المقام هو أنه بعد ما حكم العقل بالتفصيل الذي تقدم أي
بوجوب تحصيل القدرة قبل حصول شرط الوجوب وقبل مجئ
زمانه أو بوجوب حفظها كذلك في بعض الصور على التفصيل الذي
تقدم، نستكشف الوجوب الشرعي بقاعدة الملازمة، لكن هذا
الوجوب وجوب نفسي لأنه لا يمكن أن يكون غيريا ترشحيا لعدم
وجوب ذي المقدمة بعد على الفرض، لكنه ليس نفسيا بالمعنى
المعروف أي بأن يكون عن ملاك في نفسه بل يكون عن ملاك في
غيره أي في ذي المقدمة بمعنى أن ملاك ذي المقدمة حيث لا يمكن
تحصيله بجعل واحد صار سببا لجعلين أحدهما متعلق بنفس ذي
المقدمة والاخر بالمقدمات المفوتة، فهناك جعلان مسببان عن ملاك
واحد، ولذلك سميناه بمتمم الجعل غاية الامر متمم الجعل قد يكون
بعد الجعل الأصلي الأولي وذلك كما في باب التوصلي والتعبدي و
قد تقدم وقد يكون قبله كما في المقام.
179

وربما يتوهم أن هذا المقام ليس من موارد استكشاف حكم الشرع من
حكم العقل بقاعدة الملازمة لان مورد هذه القاعدة هو فيما إذا
كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة علل الأحكام الشرعية بحيث
نستكشف مناط الحكم الشرعي وعلته بواسطة الحكم العقلي
فنستكشف
الحكم الشرعي من وجود مناطه وعلته وهذا معنى الملازمة بين
الحكمين، ولذلك الذي ينكر القاعدة يقول بأن العقل عاجز عن إدراك
العلة والمناط للحكم الشرعي وأن الفعل الفلاني مثلا حسن وفيه
المصلحة الملزمة أو الفعل الفلاني قبيح وفيه المفسدة الملزمة.
والحاصل أن معنى القاعدة هو أن العقل لو وصل إلي ما هو مناط
الحكم الشرعي من المصلحة الملزمة التي هي مناط الوجوب أو غير
الملزمة التي هي مناط الاستحباب أو المفسدة الملزمة التي هي مناط
الحرمة، أو غير الملزمة التي هي مناط الكراهة أو أدرك أن الشئ لا
مصلحة فيه ولا مفسدة فيه أو هما متساويان حتى يكون مناط الإباحة
فيستكشف بواسطة حكم العقل - بوجود المناط - بناء على تبعية
الاحكام للمصالح والمفاسد الحكم الشرعي فإذا لم يكن الحكم
العقلي في سلسلة علل الأحكام الشرعية لا يبقى مجال لجريان هذه
القاعدة
أصلا، وما نحن فيه من هذا القبيل لان حكم العقل بلزوم تحصيل
القدرة أو حفظها ليس لمصلحة في التحصيل أو الحفظ بل من جهة
إمكان
الامتثال حتى لا يصير الامتثال ممتنعا بالاختيار فيدخل في موارد
قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا، فحكم العقل في
الحقيقة هاهنا بملاك الامن من العقوبة في مقام الامتثال، وهذا المقام
ليس مورد جريان قاعدة الملازمة لما عرفت فلا يمكن استكشاف
الحكم الشرعي من هذا الحكم العقلي لأنه واقع في سلسلة معاليل
الاحكام لا عللها.
وأنت خبير بأن حكم العقل في هذا المقام ناشئ عن نفس الملاك و
المصلحة التي في الواجب فكما أن المقصود من الامر النفسي هو
وجود المصلحة المترتبة على المأمور به وحفظ تلك المصلحة، و
حيث أنه في المقام لا يمكن تحصيل تلك المصلحة بصرف الامر و
البعث
نحو الواجب الذي هو ذو المصلحة لأنه في زمان طلبه غير مقدور على
الفرض، فلا بد للامر الحكيم من جعل آخر متعلق بالمقدمات
الوجودية المفوتة على التفصيل
180

الذي تقدم حتى يستوفي المصلحة في زمان إمكان تحصيلها، فهذا
الجعل الاخر أيضا ناشئ عن تلك المصلحة وذلك الملاك، فليس من
قبيل أطيعوا الله ورسوله لأنه إرشاد محض إلى الفرار عن العقاب و
ليس ناشئا عن المصالح والمفاسد الموجودة في متعلق الاحكام و
من جهة حفظها لأن المفروض ورود هذا الامر وما يشبهه بعد جعل
الشارع وتشريعه ما يوجب حفظ المصالح الواقعية وبعد سد جميع
أبواب عدم ماله المصلحة ووجود ماله المفسدة في عالم التشريع و
من قبله.
(ان قلت): كان له الايكال إلى حكم العقل فيكون جعله لغوا وبلا فائدة
(قلت): هذا الاشكال (أولا) متحد الورود في جميع موارد حكم
العقل بوجود المصلحة الملزمة أو المفسدة الملزمة مثلا و (ثانيا) تبعية
الإرادة لما لا يمكن تحصيل المناط بدونه قهرية، بمعنى أن الشئ
الذي فيه المصلحة الملزمة يصير متعلقا للإرادة قهرا وكل ما يتوقف
عليه وجود هذا الذي له المصلحة الملزمة تترشح عليه الإرادة من
تلك الإرادة النفسية، وأما إذا لم يمكن الترشح لتقدم زمان وجوده
على زمان وجود الإرادة النفسية فقهرا تتعلق به إرادة نفسية ناشئة
عن نفس ذلك الملاك القائم بالواجب النفسي الذي لم توجد شرائط
وجوبه بعد، فهذه الإرادة معنى متوسط بين الإرادة النفسية بالمعنى
المعروف وبين الإرادة الغيرية الترشحية، لان الإرادة النفسية بالمعنى
المعروف ما يكون عن ملاك في نفس المراد، وهذا ليس كذلك
بل يكون عن ملاك في غيره، والإرادة الترشحية الغيرية تكون
مترشحة من الغير، وهذا ليس كذلك لأنه ليس غير في البين قبل
حصول
شرائط وجوب الواجب النفسي.
إذا عرفت هذا الضابط والقاعدة تقدر على تطبيقها في جميع الموارد
التي ذكرها الفقهاء وحكموا بلزوم إيجاد المقدمة المفوتة أو
حفظها قبل زمان الواجب نذكر جملة منها:
(أحدها) - فتواهم بلزوم إبقاء الماء إذا كان وأمكن الابقاء أو تحصيله
إذا لم يكن وأمكن تحصيله، كل ذلك قبل حصول شرائط وجوب
الوضوء أو الغسل التي منها الزمان، فمن هذا الاتفاق نستكشف أن
القدرة التي أخذت في الوضوء في
181

الدليل مطلق القدرة، بناء على أن الوضوء مشروط بالقدرة الشرعية
بقرينة المقابلة مع التيمم، وأن التفصيل قاطع للشركة، حيث أن
التيمم مشروط بفقد الماء ولا فاصل بين الوضوء والتيمم بل تكليفه
إما الوضوء وإما التيمم، فالوضوء أيضا يكون مشروطا شرعا
بالقدرة على الماء وهي مطلق القدرة ولو كانت قبل حصول زمان
وجوب الوضوء تحصيلا أو حفظا، لا خصوص القدرة في زمان
وجوب الوضوء، وأما لو قلنا بأن القدرة المأخوذة فيه هي القدرة
العقلية وليست مأخوذة في لسان الدليل فالامر أوضح.
(الثاني) - فتواهم بوجوب الغسل قبل الفجر للصوم الواجب غدا، و
حيث أن الشارع اشترط في صحة الصوم دخول الصائم فيه متطهرا من
الحدث الأكبر لو أمكن والقدرة المأخوذة في إيجاد هذا الشرط قدرة
عقلية، فلو أمكن الغسل قبل الوقت يصدق عليه أنه قادر على
الدخول فيه متطهرا فلو ترك الغسل قبل الفجر وصبر إلى مجئ زمان
وجوب الصوم يفوت هذا الشرط، ولا يمكنه الدخول فيه متطهرا.
هذا مضافا إلى أن أمثال هذه التكاليف المشروطة بشرط شرعي أو
عقلي ويكون ذلك الشرط بحيث لو لم يوجد قبل حصول وجوب
الواجب لعدم مجئ زمانه أو لفقد سائر شرائط وجوبه لكان يفوت
ذلك الواجب دائما أو غالبا، كمثالنا هذا حيث لو لم يغتسل قبل الفجر
لا يمكنه الدخول في الصوم دائما، وهكذا في الحج لو لم يتحرك قبل
وصول زمان الحج من بلده ولم يهيئ سائر أسباب الوصول إلى
مكة المكرمة يفوته الحج غالبا، خصوصا بالنسبة إلى أهالي البلاد
البعيدة، فنفس ذلك الدليل الدال على وجوب ذلك الواجب يدل
على
لزوم إتيان ذلك الشرط قبل حصول زمان الوجوب أو سائر شرائط
الوجوب بدلالة الاقتضاء، وإلا يلزم أن يكون جعل الوجوب لغوا.
وعلى ما ذكرناه فقس سائر الموارد المذكورة في الكتب الفقهية.
هذا كله في غير التعلم وأما وجوب (التعلم) فقد فصلنا القول فيه
سابقا وأدخلنا بعض موارده في المقدمات المفوتة، وذلك إما من
جهة
عدم الالتفات إلى لزوم الاحتياط
182

بواسطة ترك التعلم كما هو الحال في الجهلة الغافلين، وإما من جهة
عدم إمكان الاحتياط بالنسبة إلى الجاهل المحض، خصوصا بالنسبة
إلى العبادات المخترعة، فمن لم يعرف شيئا من الصلاة مثلا لا من
أجزائها ولا من شرائطها ولا من موانعها كيف يمكن أن يحتاط
بالنسبة إليها، وإما من جهة القول بأن الامتثال الاجمالي لا يكفي مع
إمكان الامتثال التفصيلي. ففي جميع هذه الصور وعلى هذه
التقادير كلها يكون مناط وجوب التعلم هو بعينه مناط لزوم إتيان سائر
المقدمات المفوتة، وأما فيما عدا ذلك فحيث أن تركه لا يوجب
ترك الواجب في وقته بل يمكن أن يأتي به في ذلك الوقت، ولو كان
إتيانه بطور الامتثال الاجمالي والاحتياط، فليس من صغريات
المقدمات المفوتة ولا يكون مناط وجوبه ذلك المناط، بل مناط
وجوبه حينئذ هو حكم العقل بأن وظيفة العبد هو تعلم الاحكام و
الفحص
عن المخصصات بالنسبة إلى العمومات وعن المقيدات بالنسبة إلى
المطلقات.
و (بعبارة أخرى) للمولى وظيفة - وهي بيان أوامره ونواهيه وسائر
أحكامه فلو أخل بوظيفته ولم يبين أحكامه فليس له أن يعاقب
العبد أو يعاتبه لان العقاب بلا بيان قبيح - وللعبد وظيفة وهو الفحص
عن الاحكام الصادرة عن المولى في مظانها وتعلمها لكي يعمل
بها، ولا فرق في هذا الحكم العقلي بين المجتهد والعامي، غاية الامر
تعلم المجتهد بالرجوع إلى الأدلة التفصيلية وتعلم العامي بالرجوع
إلى الدليل الاجمالي، وهو فتاوى مقلده، فيجب على كل مكلف
وجوبا عقليا تعلم الاحكام حسب وظيفة العبودية إما اجتهادا أو
تقليدا.
ثم إن هذا الوجوب العقلي هل يكون مستتبعا لوجوب شرعي مولوي
غيريا كان أم نفسيا بكلا معنييه أي النفسي بمعنى كونه مطلوبا
بنفسه لملاك فيه أو لكونه طريقا إلى تحصيل ما هو ذو الملاك؟ الظاهر
أنه إرشادي محض.
أما عدم كونه غيريا فواضح لان وجوبه قبل حصول وقت وجوب ذي
المقدمة بل قبل البلوغ إذا كانت أعماله في أول البلوغ متوقفة على
التعلم قبله، وهذا أحد
183

الوجوه التي تدل على أن وجوبه ليس وجوبا شرعيا لرفع قلم التشريع
عنه، والقول بتخصيصه بما عدا التعلم بعيد غايته.
وأما عدم كونه نفسيا مستقلا بالمعنى الأول أي كونه مطلوبا بنفسه
لملاك فيه، فلعدم الملاك فيه أصلا إلا الوصول إلى ملاكات
الخطابات الواقعية، وأما ما ذهب إليه صاحب المدارك وأستاذه
الأردبيلي (قدس سرهما) من الوجوب النفسي التهيئي فقد تقدم ما
فيه.
وأما عدم كونه نفسيا بالمعنى الثاني أي لكونه طريقا إلى تحصيل
الواجبات الواقعية فلوجوه: (أحدها) ما تقدم من وجوبه على الصبي
غير البالغ مع ارتفاع القلم عنه فلا مناص الا أن يقال بأن وجوبه
إرشادي محض (ثانيها) ان حكم العقل بلزوم التعلم قبل وقت الواجب
واقع في سلسلة معاليل الامر بمعنى أن الاحكام والخطابات الواقعية
تكون من قبيل الموضوع لهذا الحكم بمعنى متعلق المتعلق فكل حكم
شرعي فرضته يكون في الرتبة السابقة على هذا الحكم لأنه موضوع
بالمعنى المذكور لهذا الحكم، فلا يمكن أن يكون نفس هذا الحكم
حكما شرعيا، وقد أثبتنا أن جريان قاعدة الملازمة بين الحكم العقلي
والشرعي واستكشاف الحكم الشرعي من الحكم العقلي يكون
فيما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة المصالح والمفاسد وما
هي من قبيل علل الاحكام لا ما هو واقع في سلسلة معاليلها كما فيما
نحن فيه، فما نحن فيه يكون من قبيل أطيعوا الله ورسوله وأولي الامر
منكم الذي هو أمر إرشادي محض ولا مجال لاستكشاف الحكم
الشرعي من هذا الحكم العقلي (ثالثها) ما ذكره أستاذنا المحقق (قده)
من أن الوجوب الطريقي هو الوجوب الذي يكون مؤدى الواجب
عين الواقع عند المصادفة، مثلا حين ما يقال ان قبول خبر الثقة واجب
فهو طريقي يعني أن مؤداه هو عين الواقع عند المصادفة، فمعنى
طريقيته جعل مؤداه هو الواقع، فالمجعول هو الهوهوية كما يقول به
شيخنا الأعظم الأنصاري (قده) في حجية الطرق والأمارات، ولا
يمكن من أن يكون فيما نحن فيه وجوب تعلم أجزاء الصلاة مثلا
184

عين أجزاء الصلاة، لان تعلم الشئ غير نفس الشئ، لان ظهور
الشئ وإثباته غير وجوده الواقعي وثبوته، و (بعبارة أخرى) موضوع
الامر بتعلم أجزاء الصلاة أي متعلقه هو التعلم ومتعلق الامر بالاجزاء
هو نفس الاجزاء، فاختلف الموضوعان واتحادهما شرط في كون
الحكم طريقيا، وامتثال هذا الحكم أي وجوب تعلم أحكام الصلاة غير
امتثال نفس أحكام الصلاة فالأول يحصل بصرف التعلم والثاني لا
يحصل الا بالعمل مع أن وحدة الامتثال شرط في الحكم الطريقي مع
ما هو المطروق إليه فتأمل.
(الرابع) وهو أيضا مما ذكره أستاذنا المحقق (قدس سره)، وهو أنه لو
كان وجوب التعلم حكما شرعيا كان كسائر الأحكام الشرعية و
في عرضها، فكان للعبد أن يقول حينما يقال له هلا تعلمت؟: رب ما
علمت، لان حال هذا الحكم أي حكم وجوب التعلم أيضا حال سائر الأحكام
فلا بد أن يكون حكما عقليا محضا لا يتطرق إليه الجهل بل
يكون من المستقلات العقلية بحيث لا يخفى على أحد.
فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أن وجوب التعلم حكم إرشادي محض من
قبيل أطيعوا الله ورسوله، فقهرا لا توجب مخالفته التي لا تؤدي
إلى مخالفة الواقع فسقا وانما ولا استحقاق العقوبة، إلا على مسلك
من يقول بحرمة التجري وأنه موجب لاستحقاق العقاب.
ثم إن الأقوال في مسألة استحقاق العقاب على ترك التعلم ثلاثة:
قول بالاستحقاق مطلقا على ترك التعلم سواء أدت مخالفته إلى ترك
الواقع أولا، وهذا القول منسوب إلى الأردبيلي وتلميذيه صاحب
المعالم والمدارك (قدس سرهم)، وقد عرفت أن منشأه هو القول
بالوجوب النفسي التهيئي وقد أبطلناه.
وقول بأن العقاب على ترك التعلم فيما إذا أدى إلى مخالفة الواقع، و
اختار هذا القول شيخنا الأستاذ (قده) ومدركه هو القول بالوجوب
النفسي الطريقي وقد عرفت حاله.
وقول بأن العقاب على ترك الواقع ومخالفته لتنجزه بحكم العقل
بلزوم التعلم،
185

وما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) - من أن العقاب على الواقع المجهول
قبيح - صحيح فيما إذا كان الجهل عن قصور أو من جهة عدم بيان
المولى، وأما لو كان عن تقصير بعد بيانه وإتمام الحجة فلا إشكال فيه
أصلا، فأحسن الأقوال بل الصحيح منها هو القول الأخير.
ثم إنه لا شك في وجوب التعلم مع العلم أو الاطمئنان بالابتلاء كما أنه
لا شك في عدم الوجوب مع العلم أو الاطمئنان بعدم الابتلاء، وانما
الكلام في مورد الاحتمال احتمالا عقلائيا مع عدم العلم أو الاطمئنان
بأحد الطرفين فهل يجب مطلقا أو لا يجب كذلك أو يفصل بين أن
يكون المحتمل من الأمور العامة البلوى فيجب أو لا فلا.
يمكن أن يقال بالتفصيل بين الأمور التي يكثر الابتلاء بها كمسائل
السهو والشك في الافعال أو عدد الركعات بالنسبة إلى الصلاة مثلا،
فان كل مكلف في معرض الابتلاء بهذه الأمور في كل يوم، والعقل
يستقل بلزوم التعلم في مثل المقام وإلا لم يؤد وظيفته العبودية
فتكون هذه الصورة في نظر العقل مثل صورة العلم والاطمئنان
بالابتلاء، وليس موضوع حكمه الابتلاء الواقعي حتى يرتفع
باستصحاب عدم الابتلاء، مع أن جريان استصحاب عدم الابتلاء في
هذا الفرض مشكل جدا لانتقاض الحالة السابقة في بعض الأحيان
جزما لان الأمور التي يكثر الابتلاء بها يطمئن الانسان بابتلائه بها في
بعض الأوقات فأي إنسان لا يطمئن بابتلائه مدة عمره بمسائل
السهو أو الشك في صلاته، نعم بناء على هذا يخرج عن الفرض و
يدخل في الفرض الأول أي العلم أو الاطمئنان بالابتلاء.
فالجواب الصحيح بناء على عدم حصول العلم والاطمئنان في هذه
الأمور التي يكثر الابتلاء بها في أغلب الأوقات هو ما بينا من أن
موضوع حكم العقل هو كونه معرضا للابتلاء كثيرا، وهذا المعنى لا
يرتفع باستصحاب عدم الابتلاء وإن قلنا بجريان استصحاب العدم
بالنسبة إلى الأمور المستقبلة إن كان لعدمها في المستقبل أثر في الحال
أو هو بنفسه كان أثرا شرعيا، نعم لا بأس بجريان هذا
الاستصحاب في
186

مورد احتمال الابتلاء إذا لم يكن المحتمل من الأمور التي يكثر الابتلاء
بها و (بعبارة أخرى) ليس المكلف في معرض الابتلاء بها وإن
كان يحتمل أن يبتلي بها، فان موضوع حكم العقل هو احتمال الابتلاء
وحكمه - حينئذ - يكون حكما إرشاديا إلى عدم الوقوع في
مخالفة الواقع عند الابتلاء فإذا حكم الشارع بعدم الابتلاء بواسطة
الاستصحاب لا يبقى مجال لذلك الحكم الارشادي أو الشرعي
الطريقي، فعلى كلا المسلكين أي سواء قلنا بأن وجوب التعلم شرعي
طريقي أو قلنا بأنه إرشادي عقلي حيث أنه في الفرض موضوعه
احتمال الابتلاء فإذا جرى استصحاب العدم يرتفع موضوعه.
ولا يقاس المقام بباب التشريع لان موضوع حكم العقل هناك بالقبح
هو الافتراء والقول بغير علم، ولا فرق في صدق ذلك بين العلم
بالعدم أو الشك فيه أو قيام الظن غير المعتبر عليه ويصدق التشريع
بمناط واحد على الاستناد بغير علم، سواء لم يكن واقعا من الدين
أو كان وهو لا يعلم، وسواء كان عالما بالعدم أو كان شاكا أو كان ظانا
بالعدم بظن معتبر أو غير معتبر أو كان ظانا بالوجود و
لكن بظن غير معتبر، ففي جميع هذه الموارد يصدق التشريع والعقل
يحكم بقبحه بذلك المناط الواحد وهو القول بغير علم وحجة،
فاستصحاب العدم لا أثر له في هذا المقام لأنه ليس موضوع حكم
العقل عدم كونه من الدين كما ربما يوهمه ظاهر عبارة من يعرفه بأنه
إدخال ما ليس من الدين في الدين أو اسناد ما ليس منه إليه، ولذا
يكون تعريفه الصحيح (أنه اسناد ما لم يثبت أنه من الدين بعلم أو
علمي
إلى الدين).
و (بعبارة أخرى) ليس للتشريع حكمان أحدهما حكم العقل على
موضوعه الواقعي وهو عدم كونه من الدين واقعا والثاني حكم طريقي
مجعول بلحاظ حفظ ذلك الحكم الواقعي وهو الاحتراز عن الاسناد
في مورد الشك والظن غير المعتبر حتى يكون الاستصحاب رافعا
لموضوع الحكم الطريقي، كما هو كذلك في باب أموال الناس، حيث
أن للعقل حكمين حكما واقعيا وهو عدم جواز أكل مال الغير بدون
طيب نفسه، وحكما طريقيا وهو الاجتناب عنه في صورة الاحتمال،
ففي هذا القسم استصحاب عدم كونه مال الغير يرفع موضوع الحكم
الطريقي، وما نحن فيه من قبيل الثاني
187

لا الأول بمعنى أن حكمه بلزوم التعلم في موضوع احتمال الابتلاء
ليس لوجود المناط في نفس الاحتمال كما كان في باب التشريع، بل
هو بمناط عدم الوقوع في المحذور عند الابتلاء، فإذا حكم الشارع
بعدم الابتلاء فموضوع حكم العقل الذي كان هو احتمال الابتلاء
يرتفع تعبدا، نعم لا بد أن يكون للابتلاء أثر شرعي حتى يجري هذا
الاستصحاب.
والحاصل أنه قد يكون للشئ حكم واقعي على واقعه وحكم طريقي
في مورد الشك أو الظن غير المعتبر الذي هو بمنزلة الشك، ففي
مثل هذا المورد إذا جرى استصحاب العدم بالنسبة إلى الواقع يرتفع
موضوع الحكم الطريقي وهذا مثل مال الغير، وقد يكون له في
صورة العلم والشك والظن غير المعتبر حكم واقعي واحد بمناط
واحد وذلك كمثال التشريع كما بينا، وفي هذا القسم لا يجري
الاستصحاب لارتفاع موضوع حكم العقل عند الشك، وقد يكون له
حكم واحد طريقي محض في مورد الشك ففي مثل هذا أيضا يجري
الاستصحاب لان مناط عدم جريان الاستصحاب هو كون حكم العقل
في ظرف الشك حكما واقعيا لا حكما طريقيا، وليس مناط حكمه
وحدة الحكم أو تعدده بأن يقال بجريانه في صورة تعدد الحكم وعدم
جريانه في صورة وحدته.
(تتميم)
إذا كان قيد ودار أمره بين أن يكون راجعا إلى الهيئة أو إلى المادة، ولم
يكن في اللفظ ما يكون موجبا لرجوعه إلى أحدهما المعين، و
ذلك كما إذا كان القيد شرطا في الجملة الشرطية حيث رجحنا رجوعه
إلى نتيجة الجملة أي المحمول المنتسب ونتيجته تقييد الهيئة، أو
كان القيد في الكلام من قبيل الملحقات للمادة بأن يكون مفعولا به أو
فيه مثلا، مثل صل في المسجد أو أعطه العباءة وأمثال ذلك مما
يرجع إلى المادة يقينا، بل كان بصورة الحال مثل صل متطهرا، حيث
أن القيد حسب قواعد العربية يلائم كل واحد من الهيئة والمادة،
فهل يكون هناك ما يرجح رجوع
188

القيد إلى أحدهما المعين أو لا؟ أفاد صاحب الحاشية (قده) وجها
لترجيح رجوع مثل هذا القيد إلى المادة، وهو أنه إذا رجع إلى المادة
يكون تقييدا واحدا لان تقييد المادة لا ينافي بقاء الهيئة على إطلاقها،
مثلا في المثال المتقدم أي صل متطهرا ان كان القيد راجعا إلى
المادة فيكون معناه يجب عليك الصلاة مع الطهارة فالصلاة مقيدة
بالطهارة والوجوب مطلق، أي يجب عليك سواء كنت متطهرا أو لم
تكن، وأما لو كان القيد راجعا إلى الهيئة فيكون معناه أن وجوب الصلاة
يوجد في فرض كونك متطهرا، فما لم توجد الطهارة لا يتحقق
وجوب الصلاة لأنه منوط بها قهرا، وتقيد المادة أيضا بتقييد الهيئة،
لان الصلاة التي هي معروض لهذا الوجوب بعد تقييد الوجوب
بالطهارة لا يمكن أن تكون مطلقة بالنسبة إلى هذا القيد، والا يلزم
تحقق المعروض بوصف معروضيته بدون عرضه وهو محال، فتقييد
الهيئة يلازم تقييد المادة، ففي تقييد الهيئة ورجوع القيد إليها يكون
تقييدان وفي تقييد المادة تقييد واحد، وإذا دار الامر بين تقييد
واحد وبين تقييدين لا شك في أن التقييد الواحد أولى لان التقييد
خلاف الأصل.
هذا ما ذكره صاحب الحاشية (قده)، وأجيب عنه بأن التقابل بين
الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، وفي كل مورد لا يكون قابلا
للتقييد لا يكون قابلا للاطلاق، لان الاطلاق عدم التقييد في المورد
القابل للتقييد، وهاهنا بعد تقييد الهيئة بقيد لا تكون المادة قابلة
للتقييد بذلك القيد لأنه من قبيل تحصيل الحاصل لأنه بتقييد الهيئة
حصل ما هو نتيجة التقييد في المادة، فتقييد الهيئة يبطل محل
الاطلاق
في المادة فلا ينعقد ظهور إطلاقي في المادة حتى يحتاج إلى التقييد.
ولذلك عدل شيخنا الأعظم الأنصاري (قده) عن هذا الوجه الذي
ذكره المحقق المذكور (قده) لترجيح تقييد المادة إلى بيان آخر، وهو
أنه وإن لم يكن الامر دائرا بين تقييد واحد أو تقييدين كما توهمه
المحقق المذكور، ولكن تقييد الهيئة يبطل محل الاطلاق في المادة، و
(بعبارة أخرى) تحصل فيها نتيجة التقييد، ولا فرق في
189

كونه خلاف الأصل بين نفس التقييد وبين ان يعمل عملا ينتج نتيجة
التقييد.
واعترض عليه صاحب الكفاية (قده) بأن كون التقييد خلاف الأصل
من جهة انه يوجب رفع اليد عن الاطلاق وفيما نحن فيه لا ينعقد
ظهور إطلاقي أصلا للمادة بعد تقييد الهيئة حتى تكون نتيجة تقييد
الهيئة رفع ذلك الظهور الاطلاقي فلا خلاف للأصل في البين أصلا، و
لكنه (قده) قد اعترف أخيرا بأن التقييد لو كان من قبيل التقييد
بالمنفصل بحيث انعقد ظهور إطلاقي للهيئة وظهور إطلاقي للمادة،
فتقييد الهيئة يرفع كلا الظهورين ويتحقق خلاف أصلين أصالة الاطلاق
في جانب الهيئة وأصالة الاطلاق في جانب المادة.
وأنت خبير بأن الكلام لا بد أن يكون في التقييد بالمنفصل، وإلا لو كان
التقييد بالمتصل فاصل التقييد ليس خلاف الأصل ولو كان الف
تقييد في البين فضلا عن الاثنين، لان معنى خلاف الأصل هاهنا هو
خلاف أصالة الاطلاق، وإذا لم يتحقق ظهور إطلاقي بواسطة التقييد
بالمتصل فلا يتحقق خلاف أصل أصلا بنفس التقييد بالمتصل فضلا
عن أن يتحقق بما هو نتيجة التقييد، فكلام صاحب الحاشية وكلام
شيخنا لا بد ان يكون في فرض دوران الامر بين تقييد المادة وبين
تقييد الهيئة في التقييد بالمنفصل لا المتصل.
فالتحقيق في المقام هو ان التقييد إن كان بالمتصل ودار امره بين
تقييده للمادة أو للهيئة فيصير الكلام مجملا ولا ينعقد كلا الظهورين
لوجود ما يصلح للقرينية بالنسبة إلى كل واحد منهما، وكون مقتضى
ظاهر اللفظ حسب القواعد رجوعه إلى أحدهما المعين خروج عن
المفروض فلا مناص حينئذ الا من الرجوع إلى الأصول العملية و
مقتضاها هي البراءة عن الوجوب عند عدم وجود ذلك القيد وعدم
لزوم تحصيله، واما إن كان بالمنفصل فلا شك في انعقاد الظهور
الاطلاقي لكليهما وحينئذ تقييد الهيئة موجب لرفع ظهورين كما ذكره
شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) واعترف به في هذه الصورة
صاحب الكفاية (قده) أيضا، واما تقييد المادة فلا يوجب الا رفع
190

ظهور واحد وهو الظهور الاطلاقي للمادة، واما إطلاق الهيئة فيبقى
بحاله، ولا شك في أنه إذا دار الامر بين خلاف ظاهرين وبين
خلاف ظاهر واحد فالاجتناب عن الأول وارتكاب الثاني متعين،
فيتعين تقييد المادة.
اللهم الا ان يقال ان ارتفاع الظهور الاطلاقي في جانب المادة مسلم و
متيقن على كل حال اما من جهة تقييد نفس المادة واما من جهة
تقييد الهيئة، فيبقى الظهور الاطلاقي في جانب الهيئة سليما عن
المعارض واحتمال ارتفاعه لاحتمال تقييد الهيئة مدفوع بالاطلاق و
لسنا
نقول بأن تقييد المادة متيقن اما بسبب تقييد نفسها أو من جهة تقييد
المادة المنتسبة بناء على أنه المراد من تقييد الهيئة، لان تقييد مفاد
نفس الهيئة غير معقول لأنه معنى حرفي غير ملتفت إليه وقد تقدم
ذلك مفصلا، حتى تقول بأن لحاظ تقييد المادة مع لحاظ تقييد المادة
المنتسبة متباينان وليس هذان التقييدان من قبيل الأقل والأكثر لان
أحدهما تقييد مفاد الجملة وهو المعبر عنه بتقييد المادة المنتسبة
والاخر تقييد المعنى الافرادي وهو تقييد نفس المادة وحدها، وإذا
كانا متباينين فلا قدر متيقن في البين، بل نقول بأن عدم إرادة
الاطلاق في طرف المادة أمر معلوم متيقن وجدانا فلا معنى لاستعمال
أصالة الاطلاق في المادة بعد القطع بعدم إرادته، وأما أصالة
الاطلاق في جانب الهيئة فباقية على حجيتها لعدم القطع بعدم إرادته.
نعم هذا الاشكال يرد على ظاهر تعبير شيخنا الأستاذ (قده)، وأيضا
هاهنا تعبيرات اخر لشيخنا الأستاذ (قده) إما بظاهرها خارجة عن
الفرض وذلك كقوله برجوع جميع القيود التي من ملابسات المادة
سواء كان بصورة الحال أو بصورة المفعول به أو فيه أو غير ذلك
إلى المادة في مقام الاثبات، وإما لا تخلو عن إشكال كقوله ان في
تقييد الهيئة يحتاج إلى عناية زائدة وهي فرض وجود القيد حال
تقييدها فترفع بأصالة الاطلاق في جانب نفس القيد، هذا كله في
الوجه الأول الذي أفاده شيخنا الأعظم الأنصاري (قده) لترجيح تقييد
المادة عند دوران التقييد بين تقييدها وبين تقييد الهيئة.
191

(الوجه الثاني) - من الوجهين الذين ذكرهما الشيخ الأعظم الأنصاري
(قده) لترجيح تقييد المادة على تقييد الهيئة - هو أن إطلاق الهيئة
شمولي لان معناه وجود الوجوب على كل واحد من تقديري وجود
القيد وعدمه، وأما إطلاق المادة فبدلي لان الطلب تعلق بصرف
الوجود من طبيعة المادة وهو ينطبق على أول وجود منها، ومعلوم أن
نسبة صرف الوجود إلى جميع الوجودات على حد سواء، ولذلك
يحكم العقل بالتخيير في عالم التطبيق فللمكلف التطبيق على أي
واحد من وجودات الطبيعة، فلا يشمل الطلب فردين من الطبيعة في
عرض واحد بل متعلق الطلب ليس الا صرف الوجود من الطبيعة و
للمكلف تطبيقه إذا شاء على أي وجود من هذه الوجودات على البدل
لا
عرضا، وهذا التخيير في التطبيق من جهة استواء نسبة صرف الوجود
إلى الجميع من جهة الاطلاق وعدم تقييد المادة بخصوصية من
الخصوصيات.
وهذا هو المراد من أن إطلاق المادة بدلي أي لا يشمل الوجودين منها
في عرض واحد بل لا بد له أن يوجد المادة في ضمن أحد هذه
الوجودات، بخلاف إطلاق الهيئة بالنسبة إلى قيد وخصوصية فإنه
يشمل كلتا صورتي وجود القيد وعدمه في عرض واحد، فإذا قال
صل
ثم قال لا صلاة الا بطهور وفرضنا الشك في رجوع القيد إلى الهيئة أو
إلى المادة، وحيث إننا فرضنا المقيد منفصلا فانعقد الظهور
الاطلاقي في كليهما لكن الظهور الاطلاقي في طرف الهيئة معناه أن
وجوب الصلاة موجود مطلقا سواء كان الطهور موجودا أو لا ففي
كلتا الصورتين الوجوب موجود، وهذا معنى الاطلاق الشمولي أي
يشمل الحكم كلا الفرضين والصورتين والظهور الاطلاقي في طرف
المادة معناه أن الصلاة مطلقا سواء كان الطهور موجودا أو لا مطلوبة
لكن كل واحدة منها مطلوبة على البدل، لا عرضا لما ذكرنا من أن
المطلوب في طرف المادة صرف الوجود وهو لا ينطبق على المتعدد
الا على البدل، وإذا كان كذلك أي كان إطلاق الهيئة شموليا و
إطلاق المادة بدليا ودار الامر بين تقييد أحد الاطلاقين فتقييد الاطلاق
البدلي مقدم على تقييد الاطلاق الشمولي.
192

وسيجئ تفصيله إن شاء الله تعالى في باب التعارض، وإجماله ان
حكم العقل بالتخيير في تطبيق صرف الوجود على أي وجود من
وجودات الطبيعة موقوف على أن لا يكون مانع عقلي أو شرعي في
البين وأن تكون نسبة صرف الوجود إلى الجميع على حد سواء، و
أما إذا كان هناك مانع في البين ولو كان ذلك المانع مشمولية المورد
للاطلاق الشمولي الذي ليس متوقفا على عدم شئ، لان الاطلاق
الشمولي يشمل جميع الوجودات في عرض واحد ولو كان بمقدمات
الحكمة، نعم لا بد أن لا يكون شئ يمنع عن جريان مقدمات الحكمة
كوجود القرينة أو ما يصلح للقرينية لعدم إرادة الاطلاق، ولذلك يكون
العام الأصولي مقدما على الاطلاق الشمولي لكونه بالوضع و
صلاحيته لكونه قرينة على عدم إرادة الاطلاق فإذا انعقد الاطلاق
الشمولي بواسطة عدم ما يمنع عن جريان مقدمات الحكمة فيه يكون
مخرجا لذلك الفرد الذي يكون موردا لكلا الاطلاقين عن حد
الاستواء، فيرتفع الشرط للتخيير العقلي لما ذكرنا من أنه مشروط بعدم
مانع عقلي أو شرعي.
واعترض عليه صاحب الكفاية (ره) بأنه لا وجه لتقديم الاطلاق
الشمولي على البدلي بعد كون الاطلاق في كليهما بمقدمات الحكمة
فتقديم أحدهما على الاخر يكون ترجيحا بلا مرجح.
وقد عرفت وجه تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي ولو
كان كلاهما بمقدمات الحكمة فلا نعيده.
نعم أورد شيخنا الأستاذ (قده) على هذا الوجه مع أنه ممن يرى تقديم
الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي بأن ذلك فيما إذا كان بين
الاطلاقين تناف بحسب مدلولهما بعد تمامية مقدمات الحكمة في
كليهما فحينئذ نقول بأن الاطلاق الشمولي بمدلوله يمنع عن حكم
العقل
بالتخيير في تطبيق صرف الوجود على هذا الفرد الذي يكون مشمولا
للاطلاق الشمولي المخالف في الحكم للاطلاق البدلي، وأما إذا لم
يكن بين الاطلاقين
193

تناف بل كان بينهما كمال الملائمة كما فيما نحن فيه فان بين الاطلاق
الشمولي في طرف الهيئة وبين الاطلاق البدلي في جانب المادة لا
تنافي أصلا، مثلا فيما إذا شككنا ان الطهارة قيد للوجوب الذي هو
مفاد الهيئة أو للواجب أعني المادة في مثل صل متطهرا فلا مانع من أن
يكون الوجوب والواجب كلاهما بالنسبة إلى هذا القيد مطلقين ولا
تنافي بينهما، فتكون الصلاة مطلقا سواء كانت مع طهارة المصلي أو
لا واجبة مطلقا سواء كانت الطهارة موجودة أو لا، والتنافي انما جاء
من قبل العلم الاجمالي بأن القيد راجع إما إلى المطلق الشمولي واما
إلى المطلق البدلي وحينئذ لا وجه لتقديم تقييد أحد الاطلاقين على
الاخر بل كلاهما يسقطان بواسطة التعارض بالعرض بمقتضى العلم
الاجمالي ويكون من قبيل تعارض الحجة واللاحجة في باب تعارض
الخبرين إذا علم بكذب أحدهما.
واعترض على هذا البيان أستاذنا المحقق (قده) بأنه لو قلنا بتقديم
الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي لم يكن فرق بين التعارض
بالذات والتعارض بالعرض بواسطة العلم الاجمالي.
وأنت خبير بأن الفرق بينهما في غاية الوضوح لأنه لو كانت جهة
التعارض تنافي مدلوليهما قلنا ان مدلول الاطلاق الشمولي يرفع
موضوع حكم العقل بالتخيير في تطبيق صرف الوجود على الفرد
الذي يكون مشمولا للاطلاق الشمولي المخالف في الحكم للاطلاق
البدلي، وأما لو كان وجه التعارض هو العلم الاجمالي بتقييد أحد
الاطلاقين فالموضوع وما هو مناط الاطلاق في كليهما موجود وعدم
إرادة الاطلاق في كل واحد منهما يدور مدار أن يكون القيد راجعا إليه،
وحيث أن تعيين رجوع القيد إلى أحدهما المعين ترجيح بلا
مرجح، فيسقط كلا الظهورين عن الاعتبار حتى أنه لو كان عام أصولي و
إطلاق بدلي وعلمنا إجمالا بورود قيد على أحدهما لا وجه
لترجيح أحدهما على الاخر.
وأنت عرفت بأن عدم إرادة الاطلاق في جانب المادة قطعي فالعلم
الاجمالي بعدم إرادة أحد الاطلاقين ينحل إلى علم تفصيلي بعدم
إرادته في جانب المادة وشك
194

بدوي في جانب الهيئة، فأصالة الاطلاق في جانب الهيئة تبقى بلا
معارض ونتيجة جريان أصالة الاطلاق في الهيئة هو الوجوب في
صورة
الشك في وجود مشكوك القيدية أو القطع بعدمه للوجوب بعكس
نتيجة الرجوع إلى الأصول العملية، وذلك من جهة أنه لو قلنا بسقوط
كلا الاطلاقين بواسطة العلم الاجمالي ورجعنا إلى الأصول العملية
يكون من قبيل الشك في الوجوب عند القطع بعدم وجود ما هو
مشكوك القيدية والأصل البراءة، فالنتيجة هو عدم الوجوب.
هذا تمام الكلام في دوران القيد بين رجوعه إلى المادة أو الهيئة وقد
عرفت أن النتيجة في المقيد المتصل هو الاجمال وفي المنفصل
المرجع هو أصالة الاطلاق في جانب الهيئة.
و (منها) - تقسيمه إلى النفسي والغيري
والواجب النفسي هو الواجب الذي لا تكون إرادته مترشحة عن إرادة
غيره سواء كان لمصلحة في نفسه أو لا، وهذا التعرف ينطبق على
وجوب المقدمات المفوتة بناء على أن يكون لها وجوب شرعي قبل
حصول وجوب ذي المقدمة لعدم حصول وقته، بناء على أن وجوبه
مشروط بدخول الوقت أو لعدم حصول سائر شرائط وجوبه، لأنه لا
يعقل أن تترشح عليها الإرادة من إرادة ذي المقدمة وهي بعد لم
توجد فيلزم أن يوجد المعلول قبل وجود علته وهو محال، وقد
التزمنا بذلك وقلنا بأن وجوبها شرعي نفسي ومن قبيل متمم الجعل،
و
لكن لا لمصلحة في نفسها بل ناشئ عن مصلحة نفس ذي المقدمة.
و (الغيري) مقابل هذا المعنى، أي ما يكون وجوبه وإرادته مترشحة
من إرادة أخرى ويكون معلولا لها، ويمكن أن يكون وجه تسميته
بالغيري لأجل أن إرادته مترشحة من إرادة غيره، وبالنفسي من جهة أن
الإرادة ليست مترشحة من الغير بل هو بنفسه أولا وبالذات
صار متعلقا للإرادة من دون أن تكون إرادته معلولة لإرادة أخرى.
وعرف النفسي أيضا بما أمر به لأجل ملاك في نفسه، ومقابله الغيري
وهو ما أمر
195

به لا لملاك في نفسه بل لملاك في غيره، ولكن يرد على هذا التعريف
خروج المقدمات المفوتة عنه بناء على وجوبها الشرعي وأنها
واجبات نفسية لان وجوبها ليس لملاك في نفسها بل وجوبها ناشئ
عن ملاك ذي المقدمة، اللهم الا أن يقال ليست تلك المقدمات عند
من
يعرف الواجب النفسي والغيري بهذا التعريف من الواجبات النفسية.
وعرف أيضا بما هو واجب لا لأجل التوصل إلى واجب آخر بخلاف
الغيري فان وجوبه لأجل التوصل إلى واجب آخر.
واعترض على هذا التعريف بأنه منقوض بأغلب الواجبات النفسية
فان جلها واجبات لأجل التوصل بها إلى غايات هي أيضا واجبات،
لان
غاية الواجب لا يمكن أن لا يكون واجبا لان الغايات مطلوبة بالذات
بناء على هذا والواجبات مطلوبة بالعرض، ومعلوم أن المطلوب
بالعرض لو كان واجبا فالمطلوب بالذات يكون واجبا بطريق أولى و
جوابه أن هذا الذي قلت صحيح لو كانت الغايات أفعالا اختيارية
فحينئذ لا يمكن أن يكون الشئ واجبا وغايته التي هي فعل اختياري
لا تكون واجبة، واما لو لم تكن الغاية فعلا اختياريا كما في المقام
فلا يمكن أن تكون واجبة لان التكليف لا يتعلق الا بفعل اختياري (ان
قلت) ان هذه الغايات تحت الاختيار بواسطة ترتبها على هذه
الواجبات التي تحت الاختيار والمقدور بالواسطة مقدور (قلنا) نعم
الامر كان كذلك لو كان ترتبها عليها كترتب العناوين التوليدية
على أسبابها كالاحراق والالقاء في النار أو كان من قبيل ترتب المعلول
على علته التامة أو ما هو الجز الأخير من العلة التامة، وأما لو
لم يكن كذلك بل كانت الواجبات بالنسبة إلى تلك الغايات من قبيل
العلل المعدة مثل حرث الأرض وإلقاء البذر والسقي بالنسبة إلى
صيرورة الزرع سنبلا، فليست تلك الغايات تحت الاختيار حتى يتعلق
بها التكليف لان كون معد الشئ تحت الاختيار لا يوجب كون
المعد له تحت الاختيار هذا ولكن قد تقدم منا أن في كون الواجبات
من قبيل المعدات بالنسبة إلى غاياتها تأملا واضحا.
196

وعلى كل تقدير لا خفاء فيما هو المراد من الواجب النفسي والغيري
فالامر في عدم اطراد هذه التعاريف أو عدم انعكاسها سهل وانما
الكلام فيما إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري فما هو مقتضى
الاطلاق لو كان في البين؟ ولو لم يكن فما هو مقتضى الأصول
العملية؟
فهاهنا مقامان الأول في تعيين أنه ما هو مقتضى الاطلاق والثاني في
بيان أنه ما هو مقتضى الأصول العملية.
(أما الأول) فمقتضى الاطلاق مطلقا - سواء كان إطلاق المادة في الغير
أو إطلاق الهيئة في مشكوك الغيرية أو إطلاق كليهما - كون
الواجب واجبا نفسيا، بيان ذلك أنه لا شك في أن وجود وجوب
الواجب الغيري منوط بوجود وجوب ذلك الغير إناطة وجود كل
معلول
بوجود علته، فهو نظير الواجب المشروط من هذه الجهة، فإذا شككنا
في أنه منوط أي غيري أو غير منوط أي نفسي، فالاطلاق يحكم
بعدم الاناطة فينتج كونه نفسيا، و (بعبارة أخرى) كما ذكرنا مرارا
الاطلاق يدفع كل ما يحتاج بيانه إلى مئونة زائدة بالنسبة إلى
احتمال المقابل. ولا شك في أن الواجب الغيري يحتاج بيانه إلى
مئونة زائدة بالنسبة إلى الواجب النفسي، وكذلك الكفائي بالنسبة إلى
العيني والتخييري بالنسبة إلى التعييني، ولذلك قالوا ان إطلاق
الواجب يقتضي أن يكون الواجب نفسيا عينيا تعينا هذا بالنسبة إلى
إطلاق الهيئة في مشكوك الغيرية والنفسية.
وأما إطلاق المادة في جانب الواجب الذي يحتمل أن يكون هذا
المشكوك الغيرية مقدمة له فيما إذا كان على تقدير كونه مقدمة شرطا
شرعيا حتى يكون موجبا لتقييد ذي المقدمة به لا من قبيل المقدمات
الوجودية العقلية حتى لا يكون موجبا لتقييده، فأيضا يدفع كونه
واجبا غيريا فالاطلاق مطلقا سواء كان في هيئة مشكوك الغيرية أو في
مادة ما هو محتمل أن يكون ذي المقدمة سواء كانا معا أو منفردا
تثبت النفسية، وإثبات النفسية بإطلاق المادة في جانب ذلك الغير
لهذا المشكوك الغيرية والنفسية ولو كان مثبتا لا بأس به لان
الاطلاق من الامارات.
197

ثم انه اعترض على التمسك بإطلاق الهيئة بوجهين:
(الأول) - أن مفاد الهيئة معنى حرفي ليس قابلا للتقييد لأنه جزئي و
الجزئي ليس قابلا للاطلاق والتقييد. وفيه أن هذا الكلام ممنوع
صغرى وكبرى.
(اما الأول) فلما تقدم في المعاني الحرفية من أن الموضوع له و
المستعمل فيه كلاهما عام فلا نعيد (وأما الثاني) فلان الجزئي يمكن
تقييده أحوالا بشهادة الوجدان وما هو دائر في المحاورات.
(الوجه الثاني) - ان المعنى الحرفي غير ملتفت إليه ومغفول عنه، و
لذلك لا يقع محكوما عليه ولا به ولا يتشكل الكلام منه ولا أحد
جزئيه وحال تقييد شئ بشئ هو بعينه حال المسند والمسند إليه،
فلا فرق من جهة الاحتياج إلى اللحاظ الاستقلالي بين باب التقييد و
بين باب الاخبار، فكما أن الجملة الخبرية أي المركب من المبتدأ و
الخبر تحتاج إلى تصور المبتدأ استقلالا والخبر كذلك، كذلك يكون
القيد والمقيد محتاجا إلى تصور ذات المقيد استقلالا والقيد كذلك،
فلا فرق في هذه الجهة بين الاخبار كقولك الرقبة مؤمنة بصورة
المبتدأ والخبر أو بصورة التوصيف بأن تقول الرقبة المؤمنة، ولذلك
قيل أن الاخبار بعد العلم بها أوصاف كما أن الأوصاف قبل العلم
بها اخبار، فظهر أن مفاد الهيئة ليس قابلا للتقييد.
وجوابه يظهر مما ذكرنا في الواجب المشروط أنه في الجملة الشرطية
المنوط بالشرط نتيجة الجملة الجزائية، و (بعبارة أخرى)
المحمول المنتسب أو إن شئت عبر عنه بالمادة المنتسبة مقيد بالشرط
ولا محذور فيه كما بينا، فهاهنا أيضا نقول وإن كان تقييد مفاد
الهيئة غير معقول لأنه غير ملتفت إليه ومغفول عنه، ولكن يمكن
تقييد المادة المنتسبة، فنتيجة المادة المتهيئة منوطة بكذا أو مطلقة،
فالاطلاق والتقييد لا يلاحظان في مفاد نفس الهيئة حتى تقول بأن
التقييد فيه لا يمكن فالاطلاق أيضا لا يمكن، لان التقابل بينهما تقابل
العدم والملكة والاطلاق عبارة عن عدم التقييد في مورد يكون قابلا
للتقييد، فالدليل على امتناع التقييد دليل على امتناع الاطلاق،
198

ففي الحقيقة معنى التمسك بإطلاق الهيئة هو التمسك بإطلاق المادة
المنتسبة أي نتيجة المركب من المادة والهيئة وهذا معنى قابل لان
يلاحظ مستقلا ويقيد فعند الشك في التقييد يتمسك بإطلاقه.
هذا كله لو كان إطلاق في البين وأما لو لم يكن ووصلت النوبة إلي
الأصول العملية، فنقول: إذا علمنا بوجوب شئ كالإقامة مثلا و
شككنا في أنها واجب نفسي أو غيري بمعنى أن تكون شرطا شرعيا
للصلاة بحيث لو تركها عمدا تكون صلاته باطلة، فذلك الغير الذي
يحتمل أن يكون مقيدا بهذا المشكوك الغيرية والنفسية بأن يكون هذا
المشكوك الغيرية شرطا شرعيا له، لا يخلو حاله عن أحد أقسام
ثلاثة:
فاما أن يكون واجبا فعليا متيقن الوجوب بمعنى أن وجوبه متيقن و
حاصل فعلا من دون توقفه على شرط غير موجود، واما أن يكون
متيقن الوجوب ولكن ليس وجوبه فعليا لتوقفه على شرط غير
موجود، واما أن لا يكون متيقن الوجوب بل يحتمل عدم وجوبه أصلا
و
لكن يعلم إجمالا بأن هذا المشكوك الغيرية اما واجب نفسي أو ذلك
الذي يحتمل أن يكون واجبا ويكون مقيدا بهذا المشكوك الغيرية،
فهاهنا صور ثلاث:
(الصورة الأولى) - فيما إذا كان ذلك الغير متيقن الوجوب وكان
وجوبه فعليا غير مشروط بشرط لم يوجد بعد، فبالنسبة إلى ذلك
الغير يكون من قبيل الشك في التقييد وأن ذلك المشكوك الغيرية
شرط له أو لا، فيكون من قبيل الأقل والأكثر والتحقيق أنه مجرى
البراءة، وأما بالنسبة إلى ذلك المشكوك الغيرية فوجوبه مسلم على
كل حال فلا مورد لجريان البراءة فيه من هذه الجهة، وأما من جهة
اشتراطه وإناطة وجوبه بوجوب ذات الغير وإن كان مشكوكا فيه
فيكون من هذه الجهة مجرى للبراءة، لكنه لا أثر شرعي في البين
حتى نقول بجريان هذا الأصل لأجل ذلك الأثر الشرعي، لان وجوبه
معلوم على كل حال فلا يبقى أثر للبراءة لمنافاة نفسية هذا
المشكوك الغيرية وترتب العقاب على تركه وهما ليسا أثرين شرعيين
لها (الصورة الثانية) - فيما إذا كان ذلك الغير متيقن الوجوب و
لكن لا يكون
199

وجوبه فعليا بمعنى أنه مشروط بشرط لم يوجد بعد، فكما أنه تجري
البراءة بالنسبة إلى شرطية هذا المشكوك الغيرية لذلك الغير
المتيقن الوجوب كذلك تجري البراءة عن وجوب هذا المشكوك
الغيرية عند عدم حصول ذلك الشرط الذي يكون وجوب ذلك الغير
مشروطا به، و (توهم المنافاة) بين البراءتين من جهة ان لازم جريان
البراءة بالنسبة إلى شرطية هذا المشكوك الغيرية لذلك الغير
المتيقن الوجوب المشروط بشرط لم يوجد بعد عدم تقيد وجوب هذا
المشكوك الغيرية وعدم اشتراط وجوبه بذلك الشرط الذي لم
يوجد بعد، ولازم جريان البراءة عن وجوبه قبل وجود ذلك الشرط
اشتراط وجوبه به وهما متناقضان (مدفوع) بأنه لا تنافي في نفس
مؤدى البراءتين، والتنافي والتناقض انما هو بين لازمهما، ولكن
الأصول لا تثبت لوازمها العقلية حتى يتحقق التناقض.
(الصورة الثالثة) - فيما إذا كان الغير الذي يحتمل أن يكون هذا
المشكوك الغيرية والنفسية شرطا شرعيا له محتمل الوجوب، و
مرجع
هذه الصورة إلى أنه يعلم إجمالا بأنه اما أن هذا المشكوك الغيرية و
النفسية واجب نفسي، واما أن ذلك الغير الذي هو محتمل الوجوب
واجب نفسي، بحيث أن كل واحد منهما معلوم أنه واجب نفسي في
ظرف عدم كون الاخر واجبا نفسيا، فحينئذ هذا المشكوك الغيرية و
النفسية على تقدير كونه واجبا نفسيا من المحتمل أن يكون ذلك الاخر
أيضا واجبا نفسيا ومن المحتمل أن لا يكون واجبا أصلا، وعلى
تقدير عدم كونه واجبا نفسيا فلا محالة يكون ذلك الغير واجبا نفسيا
بحيث لا يحتمل خلافه، وبناء على هذا اما بالنسبة إلى ذلك الغير
المحتمل الوجوب فالبراءة تجري عن وجوبه، واما بالنسبة إلى
المشكوك الغيرية والنفسية فلا مورد لجريان البراءة لان وجوبها
المردد بين النفسية والغيرية معلوم.
(ان قلت) - إن ذلك العلم الاجمالي أعني العلم بوجوب المشكوك
الغيرية المردد بين الوجوب الغيري والنفسي ينحل بواسطة جريان
البراءة في محتمل الوجوب النفسي لأنه على تقدير كون وجوبه غيريا
لا يجب الاتيان به بعد فرض أنه لا يجب الاتيان بما هو ذو المقدمة
له ظاهرا بواسطة إجراء البراءة فيه والا تخرج عن كونه
200

مطلوبا غيريا وهو خلاف الفرض، فلا يبقى الا شك بدوي في وجوبه
النفسي وهو مجرى البراءة (قلنا) ان ما قلت من عدم لزوم الاتيان
به على تقدير كونه غيريا لعدم وجوب ما هو ذو المقدمة له ظاهرا مبني
على عدم جواز التفكيك في التنجز بين أجزاء واجب واحد و
هكذا بين أجزائه ومقدماته، وأما لو قلنا بذلك كما أنه لا بد من القول
به عند من يجري البراءة في الأقل والأكثر، فلا يبقى محذور في
البين لأنه حينئذ من الممكن أن يكون الواجب الواقعي بالنسبة إلى
جميع أجزائه غير منجز وبالنسبة إلى مقدماته أو بعضها يكون منجزا،
وذلك لكون نفس الواجب مجرى للبراءة وعدم إمكان إجرائها
بالنسبة إلى المقدمة كما في المقام.
هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) وأنت خبير بأن هذا الكلام بالنسبة
إلى الجهل ببعض أجزاء المركب وإن كان صحيحا بل لا مناص منه
بناء على جريان البراءة في الأقل والأكثر، ولكن لا وجه له مع تعلق
الجهل بجميع المركب وتمامه، للعلم بأن مطلوبية المقدمة ليست
ذاتية، وانما يكون من جهة حصول ذي المقدمة بتلك الخصوصية
التي تحصل له بواسطة وجود ذلك الشرط الشرعي، وذلك كما أنه
للصلاة خصوصية تؤثر في حصول ملاكها بواسطة اقترانها بالوضوء
مثلا فإذا أجريت البراءة في ذي المقدمة فلا تترتب على إيجاد هذا
المشكوك الغيرية على تقدير كونه واجبا غيريا فائدة وثمرة أصلا،
فنعلم بعدم لزوم إتيان المشكوك الغيرية على تقدير كونه غيريا،
فينحل ذلك العلم الاجمالي ولا يبقى الا شك في لزوم إتيانه لاحتمال
كونه نفسيا.
وعمدة ما قلنا هو القطع بعدم تنجز إرادة الشرط مع عدم تنجز إرادة
المشروط والترخيص في تركه وقياس تنجز الشرط مع عدم
تنجز تمام المركب المشروط بتنجز معظم أجزاء المركب مع عدم تنجز
بعضها في غير محله (ان قلت): إن العلم الاجمالي بأنه إما هذا
المشكوك واجب نفسي أو ذاك الاخر كاف في تنجزهما فلا يجوز
جريان البراءة حتى في ذلك الاخر. (قلت) جريان حديث الرفع
بالنسبة إلى المشكوك الغيرية لا يمكن للعلم بأصل وجوبه فيبقى
الاخر شكا بدويا وتجري فيه بلا معارض.
201

ثم إن شيخنا الأستاذ (قده) أفاد إمكان وقوع مثل هذا الشك في
محتمل الجزئية بمعنى أن يشك في شئ أنه واجب نفسي أو جز من
واجب نفسي مع العلم بأصل وجوبه، وزعم أنه من قبيل ما نحن فيه و
أنت خبير بأن محل كلامنا في دوران وجوب شئ بين كونه نفسيا
أو غيريا وفي هذا الفرض يكون الوجوب على كلا التقديرين نفسيا
غاية الامر أنه على أحد التقديرين نفسي استقلالي وعلى الاخر
نفسي ضمني.
فتلخص وظهر مما ذكرنا أن جريان البراءة في هذه الصورة لا يخلو عن
وجه وجيه، والمراد من البراءة في هذا المقام ليس هو حديث
الرفع حتى يكون من باب كر على ما فر، بل المراد هو أن العقل يحكم
بعد لزوم الاتيان على تقدير كونه واجبا غيريا بعد إجراء البراءة
في النفسي المحتمل الوجوب فلا يبقى الا لزوم الاتيان على تقدير
كون وجوبه وجوبا نفسيا وحيث أن هذا التقدير مجهول فليس منجزا
لهذا الاحتمال (ان قلت) المنجز لهذا الاحتمال هو العلم بأصل
الوجوب المردد بين كونه وجوبا غيريا أو نفسيا (قلت) لا أثر لهذا العلم
الذي
نعلم بعدم تأثيره في التنجيز على أحد التقديرين أي كون وجوبه
وجوبا غيريا بعد إجراء البراءة في ذلك الاخر أعني النفسي المحتمل
الوجوب.
(تذنيبات)
(الأول) - في أنه هل الاتيان بالواجب الغيري يوجب استحقاق
الثواب ومخالفته وعدم إتيانه يوجب استحقاق العقاب، وهو في كلا
الموردين مثل الواجب النفسي أم لا؟ بل لا يكون امتثاله موجبا لترتب
الثواب ولا مخالفته موجبا لترتب العقاب، وقبل تحقيق ما هو الحق
في المقام نذكر.
(أولا) - أن أصل الثواب والعقاب حتى في الواجب النفسي هل هو
بالاستحقاق أو من باب التفضل وهذه مسألة اختلف فيها المتكلمون،
فمنهم من قال بالأول وهم أغلب المتكلمين ومنهم من قال بالثاني و
منهم المفيد (قده).
والتحقيق في المقام هو أن القائل بالاستحقاق إن كان يقول أن العبد
بواسطة
202

إطاعة أمر المولى ونهيه أو أوامره ونواهيه يكون له حق على الله
تعالى بأن يعطيه الثواب، مثل الأجير الذي يعمل لشخص عملا
فيستحق
بذلك العمل أجره، ويكون أجره في عهدته فمثل هذا المعنى في
حقه تعالى واضح البطلان، نعم استحقاق العقاب لا بأس بالقول به
بهذا
المعنى عند المخالفة وعدم إطاعة أو امره، لان العقل مستقل في
الحكم بأن كفران المنعم الحقيقي الذي ينتهي إليه جميع النعم حتى
نعمة
وجود هذا الكافر للنعم ظلم عليه فيستحق العقاب لهذا الظلم، وأما
إطاعة الأمر والنهي بالموافقة لهما فهي وظيفته وأداء الوظيفة لا
يوجب أجرا، نعم يوجب المدح والثناء عند العقلا بمعنى قابليته
لهذا المعنى وأهليته عندهم لهما لا بمعنى وجوبهما عليهم فإطاعة
العبد
لمولاه لا يوجب أجرا عليه في نظر العقل.
نعم بناء على القول بتجسم بعض الأعمال في عالم البرزخ أو الدار
الآخرة وقد دلت على ذلك أخبار كثيرة في طرفي الثواب والعقاب
التي يعبر عنها بالآثار الوضعية، يمكن القول بالاستحقاق بالنسبة إليها
بمعنى أن تلك المثوبات أو العقوبات نفس تلك الأعمال الحسنة
تتشكل هناك بهذا الشكل وتشير إلى هذا المعنى أخبار وآيات كثيرة.
وإن كان يقول بمعنى قابليته وأهليته لذلك بواسطة أعماله الحسنة
بمعنى أن فيضه تعالى عام ولا بخل في المبدأ الفياض فإذا لم تكن
نفسه الدنسة أو الدنيئة الخبيثة مانعة عن صيرورته موردا للألطاف
الإلهية بواسطة كفره أو بعض المعاصي المانعة من قابليته للفيض
الإلهي يفيض الله عليه من أنواع الخيرات ما هو أهل لذلك وبمقدار
قابليته، فهذا حق لا إشكال فيه، لكن هذا هو عين التفضل، ولا ينبغي
أن يقع مثل هذا المعنى محل نزاع بين المتكلمين ولا ينكره موحد
فضلا عن المسلم وجميع الإفاضات من المبدأ الفياض سواء كان في
دار الدنيا أم في النشأة الأخرى على هذا الشكل ومن هذا القبيل.
ثم إنه يمكن أن يكون مرادهم من الاستحقاق هو وجوب الاعطاء على
الباري جل جلاله من باب وعده حيث أنه تعالى وعد المتقين و
المطيعين بالجنة وأنه لا يخلف
203

الميعاد ووعده وعد غير مكذوب، و (بعبارة أخرى) كما أن أمره تعالى
ونهيه من مقدمات احداث الداعي للمكلف للفعل أو الترك كذلك
الوعد والوعيد أيضا من مقدماتهما نحوهما وخلف الوعد قبيح
فيجب عليه تعالى الوفاء بوعده.
وأنت خبير بأن هذا أيضا لا ينافي التفضل بل وعده الثواب على إتيان
المأمور به وترك المنهي عنه والكف عنه لتقوية الامر في إحداث
الداعي عين التفضل، واما لزوم وفائه بوعده لقبح خلف الوعد فلا
ربط له بالاستحقاق أصلا كما هو واضح وظاهر والحاصل ان
الاستحقاق بالمعنى الأول لا يمكن الالتزام به وبالمعنيين الآخرين لا
ينافي التفضل وخصوصا بالمعنى الأخير لأنه عين التفضل.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول أما الاستحقاق بالمعنى الأول فلا يمكن
الالتزام به في الواجب النفسي فضلا عن الواجب الغيري، وأما
بالمعنى
الثاني أي بمعنى قابليته وأهليته لان يثاب ويؤجر فان كان تحركه نحو
إتيان الواجب الغيري ناشئا عن قصده التوصل بذلك الفعل إلى
إتيان الواجب النفسي للمولى والمطلوب الذاتي له، فقطعا تحصل له
القابلية والأهلية للثواب لأنه بصدد الإطاعة والانقياد، فإذا أتى
بالمقدمة بهذا القصد فكأنه من ذلك الحين شرع في إطاعة أمر مولاه و
أظهر الانقياد له تعالى وهذا يوجب قربه منه وإذا قرب بتقربه
فيستحق الفيض بمعنى أنه يكون أهلا وقابلا لهذا المعنى.
واما إن كان تحركه نحو إتيانه عن دواع اخر عقلائية أو شهوانية فلا
وجه لصيرورته مقربا من المولى ولا يحصل له بذلك قرب أصلا،
لان المطلوب للمولى حقيقة وما هو غرضه وتترتب عليه المصلحة و
المفسدة ليس الا الواجب النفسي، وأما مطلوبية الواجب الغيري
فليس الا للوصول إلى ذاك بحيث لو فرضنا حصوله بدون إتيان هذا
الواجب الغيري لم يتعلق به طلب أصلا، فالغرض والمقصود الحقيقي
هو الواجب النفسي وهو المقرب، وأما بإتيان الواجب الغيري فلا
يحصل له قرب الا بالشكل الذي ذكرنا وقابليته وأهليته للفيوضات
من
لوازم قربه منه تعالى، حتى أنه لو أتى به
204

بقصد أمره الغيري الأصلي لا التبعي يمكن أن يقال إنه إن لم يرجع إلى
قصد التوصل به إلى إتيان ما هو ذو المقدمة وما هو المطلوب
بالذات أعني الواجب النفسي لا يكفي في كونه مقربا، فلو قال ادخل
السوق واشتر اللحم بحيث ندري بأنه لا غرض له في دخول السوق
أصلا بل هو مطلوب لأجل اشتراء اللحم فلو دخل السوق في الفرض
بقصد أمر المولى له بالدخول، ولكن ليس بناؤه على شراء اللحم مع
علمه بأن الدخول ليس مطلوبا ذاتيا نفسيا، وانما المطلوب الذاتي هو
شراء اللحم، فمثل هذا الشخص لا يعد مطيعا ومنقادا مع أنه أتى
بالمأمور به بالامر الغيري بقصد امره الغيري، والسر في ذلك ما ذكرنا
من أن المطلوب الغيري ليس مطلوبا ذاتيا بل انما هو مطلوب
بالعرض فإذا لم يكن إتيانه بقصد التوصل إلى المطلوب الذاتي لا يعد
مطيعا ومنقادا لأمر مولاه ولا يحصل له قرب بإتيان الواجب
الغيري ولو كان بقصد أمره الغيري، ولا فرق في ذلك بين أن يكون
الواجب الغيري من قبيل المقدمات العقلية أو يكون من قبيل
الشروط الشرعية كالاستقبال وطهارة البدن مثلا نعم لو كان قصده من
إتيان الشروط الشرعية التوصل بها إلى وجود تلك الخصوصية
التي توجد في الواجب النفسي بواسطتها فهذا يرجع إلى ما ذكرنا من
التوصل به إلى إيجاد الواجب النفسي فيصير أهلا لان يثاب و
يؤجر بذلك.
هذا كله بناء على أن يكون الاستحقاق بمعنى القابلية والأهلية واما
الاستحقاق بالمعنى الثالث أي بمعنى الوعد ولزوم الوفاء به من قبله
تعالى لئلا يلزم القبيح وهو خلف الوعد فلا بد من التتبع في الأدلة
الواردة في هذا الباب وانه هل فيها ما يشمل بخصوصها أو عمومها
ترتب الثواب على إتيان الواجب الغيري ولو لم يأت به بقصد التوصل
إلى الواجب النفسي أو لا؟ فنقول:
أما الأدلة العامة الواردة في هذا الباب فالوعد فيها غالبا يكون بعنوان
المطيع والمنقاد وأمثالهما وقد عرفت عدم شمول هذه العناوين
لمن يأتي بالواجب الغيري الا إذا كان بقصد التوصل به إلى ذي
المقدمة والواجب النفسي.
205

وأما الأدلة الخاصة فلو كان هناك دليل على ترتب الثواب على واجب
غيري من دون إتيانه بقصد التوصل به إلى الواجب النفسي فمثل
هذا الدليل يدل على استحباب ذلك الواجب الغيري نفسيا كما هو
الشائع في الاخبار من بيان الاستحباب بلسان ترتب الثواب ويكون
من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم كباب الكنايات، ولا ضير في كون
المستحب النفسي واجبا غيريا ومقدمة لواجب نفسي.
فقد ظهر مما ذكرنا أنه سواء قلنا بأن الثواب من باب الاستحقاق أو قلنا
بأنه من باب التفضل بأي معنى كان التفضل مما ذكرنا من
المعنيين الآخرين لا يترتب الثواب على الواجب الغيري الا إذا أتى به
بقصد التوصل إلى الاتيان بذي المقدمة.
وقد ظهر مما ذكرنا أيضا أنه لو أتى بالواجب الغيري بهذا القصد أي
بقصد التوصل إلى الواجب النفسي لا يكون له ثواب مستقل في
عرض الثواب على الواجب النفسي، بل إذا أتى به بهذا القصد يكون
شروعا في امتثال الواجب النفسي وإطاعة له، فثوابه عين ذلك
الثواب، وإلا فالمتصل التدريجي قابل للقسمة إلى ما لا يتناهى و
تصدق الإطاعة على جميع الآنات من حين الشروع إلى حين
الانقضاء،
فلو كان في كل آن يستحق ثوابا غير ثواب الان الاخر يلزم استحقاقه
لثوابات كثيرة لا تحصى وهو بعيد.
وأما ما ورد في زيارة مولانا سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه
من أن له بكل خطوة حجة مقبولة وعمرة مقبولة فقد بينا أنه مما
يدل على أن هذه الخطوات مستحب نفسي فيكون خارجا عن محل
الكلام.
والحاصل أن الثواب الموعود على الواجب النفسي هو الذي يستحقه
من أول شروعه في إتيان المقدمة بقصد التوصل إلى إتيان ذي
المقدمة وليس هناك ثواب آخر نعم ربما يزيد في ثواب ذي المقدمة
بواسطة كثرة المشقة الحاصلة في مقام امتثال الواجب النفسي
لكثرة مقدمات ذلك الواجب أو لصعوبة مقدمة من المقدمات بحيث
لا بد له من تحمل المشاق الكثيرة والجهد الطويل في تحصيل مثل
تلك
المقدمة، والحاصل أنه كلما كان تعب العبد أزيد وجهده أكثر في مقام
إطاعة أوامر مولاه ونواهيه يكون
206

أجره أكثر، وذلك بناء على ما ذكرنا من أن الاستحقاق بمعنى القابلية و
الأهلية واضح لأنه كلما كان تعبه أكثر تكون قابليته وقربه منه
تعالى أزيد ولعله إلى هذا يشير قوله عليه السلام (أفضل الأعمال
أحمزها).
(الثاني) - في ورود إشكالات على الطهارات الثلاث (منها) - أنه لا
ريب في استحقاق الثواب على فعلها كسائر العبادات مع أن أوامرها
مقدمية غيرية وقد تقدم أن الامر الغيري توصلي لا يوجب استحقاق
الثواب على إتيان متعلقه وأجيب عن هذا الاشكال بما تقدم من
استحقاق الثواب على إتيان الواجب الغيري بقصد التوصل إلى
الواجب النفسي الذي هو مقدمة له، وأنت خبير بعدم صحة هذا
الجواب لان
الاتيان بالطهارات الثلاث يوجب استحقاق الثواب إذا أتى بها بقصد
القربة سواء قصد التوصل أو لم يقصد بل لو لم يقصد الا صرف
الكون على الطهارة يكفي في صحته وترتب الثواب على فعله فتأمل،
و (منها) - أن أوامر الطهارات الثلاث غيرية والامر الغيري توصلي
لا يشترط في امتثالها وسقوطها إتيان متعلقها بقصد التعبد والقربة، مع
أن الامتثال في الطهارات الثلاث لا يتحقق الا بإتيانها بقصد
القربة، و (منها) - ان ما هو المقدمة بالحمل الشائع فيها ليس ذوات
هذه الطهارات بل هي بما انها عبادات لما ذكرنا في الاشكال الثاني
من أنه لا يتحقق امتثالها الا بقصد القربة، فيكون الامر الغيري متعلقها
بها بما انها عبادة فيتوقف الامر الغيري على عباديتها وعباديتها
تتوقف على هذا الامر الغيري، لأنه ليس هنا أمر آخر تتحقق به
عباديتها هذا مع أنه يصح إتيانها بقصد امتثال ذلك الغيري ولو لم
يقصد
أمرا آخر أصلا ولو كان مناط عباديتها ذلك الامر الاخر لما كان مناص و
بد الا من إتيانها بقصد ذلك الامر الاخر.
وهذا الاشكال الثالث مع الاشكال الثاني من قبيل المنفصلة المانعة
الخلو لا يجتمعان فان مناط الثاني هو كونها واجبات توصلية ومناط
الثالث كونها تعبدية فيرد الاشكال الثالث بعد الجواب عن الاشكال
الثاني بقبول انها أمور عبادية ولذلك لا يمكن امتثالها الا مع
إتيانها بقصد القربة.
207

وأجاب صاحب الكفاية (قده) عن هذه الاشكالات بالالتزام بأنها
مستحبات نفسية يترتب الثواب عليها لأنها مستحبات نفسية كسائر
المستحبات التي يستحق فاعلها الأجر والثواب واحتياج امتثالها إلى
قصد القربة أيضا من هذه الجهة، واما الجواب عن الاشكال الثالث
فواضح من جهة ان عباديتها ليست متوقفة على الامر الغيري بل لو لم
يتعلق بها أمر غيري أصلا ولم تكن هذه الأشياء مما يتوقف عليها
واجب نفسي لكانت نفسها راجحة مطلوبة غاية الامر بالطلب
الاستحبابي لا الوجوبي.
وأوردوا على هذا الجواب إشكالات (أحدها) ان الامر الاستحبابي
ينعدم حين مجئ الامر الغيري الوجوبي والا يلزم اجتماع الضدين
لان الأحكام الخمسة متضادة بأسرها ولو اعتبار منشأ انتزاعها ومنشأ
اعتبارها (ثانيها) - عدم التزامهم بالاستحباب النفسي للتيمم
(ثالثها) - أن قصد الامر الغيري كاف في إتيانها من دون توجه إلى
استحبابها النفسي، حتى قال بعض الفقهاء (قدس سره) انه لو أتى
بها بعد دخول الوقت بنية الندب لا يصح بل لا بد من إتيانه في ذلك
الحين بنية الوجوب، وقال بعضهم لو دخل الوقت في الأثناء يستأنف
النية.
والجواب اما عن (الأول) فبأن حقيقة الوجوب والاستحباب ان قلنا
بأنه عبارة عن نفس المرادية والمطلوبية والفرق بينهما بصرف
الشدة والضعف فمجئ الوجوب لا يوجب انعدام واقع الإرادة
الضعيفة بل يوجب انعدام حد الضعف كما هو الحال في جميع موارد
الاشتداد والحركة في الكيف، فالعنب أو التمر الذي يأخذ في اشتداد
الحلاوة بمجئ مرتبة أشد لا تنعدم ذات الحلاوة الضعيفة بل الذي
ينعدم هو حدها العدمي وضعفها يتبدل إلى القوة، وفي جميع
الاستكمالات يكون الحال على هذا المنوال فالنفس الانسانية أيضا
في
استكمالاتها ووصولها إلى مرتبة قوية كاملة من مرتبة ضعيفة ناقصة لا
ينقص منها شئ بل كمال فوق كمال ولبس فوق لبس، فبناء
على هذا بعد مجئ الوجوب الغيري لا ينقص من الإرادة الاستحبابية
شئ بل تلك باقية وتشتد وتزيد على تلك المرتبة مرتبة أخرى
فينعدم حد الضعف ولا ينعدم أصل الإرادة الاستحبابية.
208

وإن قلنا بأن الفرق بينهما ليس في أصل الإرادة ولا في مرتبتها من
الشدة والضعف، بل الفرق بوجود ترخيص في الترك في طرف
الاستحباب دون الوجوب كما تقدم، فالامر أوضح وانه بمجئ
الوجوب لا ينعدم الا ذلك الترخيص، وأما أصل الإرادة فباقية بلا
زيادة
ولا نقيصة، لأن المفروض أنها فيهما شئ واحد.
هذا مع أن الوجوب الغيري ليس في عرض الاستحباب النفسي حتى
يلزم انعدامه بمجئ الوجوب بل يكون الاستحباب النفسي بمنزلة
الموضوع للوجوب الغيري فلا انعدام ولا اندكاك، و (بعبارة أخرى)
الاندكاك يتوقف على أمرين مفقودين في المقام (الأول) أن يكون
متعلق الإرادة الاستحبابية والوجوبية واحدا و (الثاني) أن يكون الفرق
بينهما بالشدة والضعف فحينئذ يندك الضعيف في القوي وفيما
نحن فيه متعلق الإرادة الاستحبابية النفسية هو نفس الذات ومتعلق
الإرادة الوجوبية الغيرية هو الذات المقيدة بأن يؤتى بها بقصد
القربة، أي الذات المقيدة بكونها عبادة، فاختلف المتعلقان بحسب
الرتبة. وأيضا قد تقدم أن اختلاف الوجوب والاستحباب ليس بشدة
الإرادة وضعفها كما توهم، بل الإرادة في كليهما عبارة عن الشوق
المؤكد، وانما الفرق بينهما بالترخيص في الترك في الاستحباب
دون الوجوب، والا من حيث شدة الإرادة وضعفها لا فرق بينهما
أصلا فليس هناك ضعيف وقوي حتى يندك أحدهما في الاخر، ولا
يلزم اجتماع المثلين ولا الضدين لاختلاف رتبة المتعلقين فيمكن
القول بالاستحباب النفسي لها مع ثبوت الوجوب الغيري أيضا لها ولا
يلزم محذور انعدام الاستحباب النفسي بعد مجئ الوجوب الغيري.
واما الجواب عن (الثاني) فبأنه يمكن استفادة استحباب التيمم نفسيا
أيضا عن بعض أخبار الباب.
وأما عن (الثالث) فبأنه إذا رجع قصد الامر الغيري إلى قصد التوصل
بإتيانها إلى الواجبات النفسية التعبدية التي هي مقدمة لها، فهذا هو
عين العبادة ومقرب من حين الشروع في هذه المقدمات بهذا القصد،
وأما إن كان المراد منه غير هذا المعنى
209

فلا نسلم كفايته بل يحتاج إلى قصد عباديتها في نفسها.
وأما ما أفاد صاحب الكفاية (قده) في هذا المقام من أن قصد الامر
الغيري مع أنه توصلي يكفي من جهة دعوته إلى ما هو مقدمة في
الواقع
وبالحمل الشائع الصناعي لان الامر لا يدعوا لا إلى متعلقه و
المفروض أن متعلقه ليس ذات هذه الأفعال المسماة بالطهارات
الثلاث بل
هي مع قصد أمرها، فقصد أمرها النفسي منطو في قصد أمرها الغيري
(ففيه) أنه من الممكن الاتيان بها بقصد أمرها الغيري المتعلق في
نظره بنفس ذوات هذه الأفعال من دون التفاته إلى أن لهذه الأفعال أمرا
نفسيا استحبابيا عباديا، ومع الغفلة عن ذلك وعدم التفاته
إليه أصلا كيف يمكن أن يقال أن قصده منطو في قصده لان الامر لا
يدعو الا إلى متعلقه.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قدس سره) صحح عبادية الطهارات الثلاث
بوجه آخر، حاصله أن الامر المتعلق بذي المقدمة كما أنه له تعلق
باجزاء
المركب كذلك له تعلق بشرائطه غاية الامر الفرق بينهما أن الاجزاء
تحت الامر قيدا وتقييدا، والشرائط تكون تحت الامر تقييدا لا قيدا،
فللشرائط أيضا مثل الاجزاء حصة من الامر المتعلق بالمجموع
المركب فإذا كان الامر المتعلق بالمركب عباديا فالاجزاء تصير بذلك
الامر عبادية ولو كان ذلك بتوسيط جعل آخر وامر آخر غير الامر
الأول الذي اصطلح عليه شيخنا الأستاذ (قده) وسماه بمتمم الجعل،
وكذلك الشرائط تصير أيضا بنفس ذلك الامر الذي هو مناط عبادية
الاجزاء عبادية من دون احتياجها إلى أمر نفسي استحبابي مستقل،
بل لو كان لها في حد أنفسها مثل ذلك الامر لاندك ذلك الامر
الاستحبابي في ذلك الامر الوجوبي الذي هو مناط عبادية العبادة
على
مسلكه بناء على أن يكون الفرق بينهما بالشدة والضعف لا بما ذكرنا
من الترخيص في الترك وعدمه.
(إن قلت) إذا كان الامر كذلك فلا بد أن يكون جميع الشرائط عبادة مع
أن الامر ليس كذلك، ولا كلام في عدم عبادية سائر الشرائط ما
عدا الطهارات
210

الثلاث (قلت) حيث أن العبادة تكون بأمر وجعل ثانوي وذلك الامر
الثانوي أيضا مثل الامر الأولي تابع للملاك، فكل ما كان فيه ملاك
العبادة يتعلق الامر به وإلا فلا، وملاك العبادة موجود في الطهارات
الثلاث دون سائر الشرائط، بمعنى أن الغرض والمصلحة القائمة
بالواجب المركب المترتبة عليه لا تترتب عليه الا بإتيان الطهارات
الثلاث من بين الشرائط بقصد القربة، وهذا الملاك ليس في سائر
الشرائط.
وهذا المعنى الذي ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) يمكن تصويره
في نفس الاجزاء أيضا بأن يكون الامر والجعل الثاني متعلقا ببعض
الاجزاء دون بعض آخر بالبيان الذي ذكرنا في الشرائط، ولكن هذا
صرف فرض لأنه ليس في الواجبات الشرعية ما يكون بعض أجزائه
عباديا يلزم إتيانه بقصد القربة وبعضها الاخر يكون توصليا لا يلزم
إتيانه بقصد القربة.
وأنت خبير بأن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) لا يتم الا بناء على بسط
الإرادة النفسية المتعلقة بالمجموع المركب على الشرائط كما أنها
تنبسط على الاجزاء، وهذا مما لا يمكن الالتزام به ولا هو التزم به،
لأنه لو كان الامر كذلك فيكون حال الشرائط حال الاجزاء في أنها
واجبات نفسية فلا يبقى مجال لوجوبها الغيري، لا لأنه يلزم اجتماع
المثلين كما توهم لان الوجوبين في رتبتين وليسا في مرتبة واحدة
حتى يلزم اجتماع المثلين، بل للزوم اللغوية كما سيجئ في بحث
مقدمة الواجب إن شاء الله تعالى.
وأما ما ذكر في محله من أن التقيد بالنسبة إلى الشرائط الشرعية تحت
الامر فليس معناه أن القيد تحت الامر، وإلا لا يبقى فرق بين
الجز والشرط، مع أنه (قدس سره) صرح في موارد عديدة بأن ذات
الشرط خارجة عن تحت الإرادة قيدا وانما هو داخل تقيدا، فالمراد
منه أن متعلق الإرادة النفسية ليس هو ذات المأمور به مطلقا بل هي
مقيدة بكونها مقارنة أو مسبوقة أو ملحوقة بكذا، فمعنى كون التقيد
داخلا تحت الامر أن طبيعة المأمور به مقيدة ومضيقة تحت الامر لا
مطلقة، فالتقيد الذي تحت الامر من خصوصيات المشروط لا الشرط
و
إلا فنفس التقيد
211

حرفي ليس قابلا لان يقع تحت الامر مستقلا ومعلوم أنه ليس من
خصوصيات الشرط.
فالانصاف أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) مما لا يمكن المساعدة
عليه.
وأما ما أفاده أستاذنا المحقق (قدس سره) في مقام الجواب عن هذا
الاشكال من أن الإرادة الغيرية تنبسط على ذوات هذه الأفعال وعلى
قيد الدعوة كما هو شأن كل إرادة متعلقة بمركب، سواء كانت أجزأ
المركب كلها خارجية أو كان بعضها ذهنية كما في ما نحن فيه،
حيث أن الجز الذي هو قصد القربة أمر ذهني، ونفس هذه الأفعال أي
الغسلات والضربات على الأرض بالكيفية المخصوصة أمور
خارجية، فإذا انبسط على مجموع الاجزاء فيأخذ كل جز نصيبه و
يصير واجبا ضمنيا، ومعنى هذا الكلام أن إرادة مثل هذا المركب - في
الحقيقة - تنحل إلى إرادتين إحداهما متعلقة بذوات هذه الأفعال و
الأخرى بإتيانها بقصد أمرها، وهاتان الإرادتان اللتان انحلت الإرادة
المتعلقة بالمجموع إليهما طوليتان، لطولية متعلقيهما حيث أن الجز
الذهني من ذلك المركب ليس في عرض الاجزاء الخارجية بل نسبته
إليها نسبة العرض إلى معروضه، و (بعبارة أخرى) قصد أمر الشئ
ليس في عرض نفس الشئ، فان تحقق ووجدت هناك إرادتان
طوليتان إحداهما تكون متعلقة بذوات هذه الأفعال والأخرى بإتيانها
بقصد أمرها فالإرادة الأولى ليست متوقفة على أن يكون متعلقها
متعلقا للامر لأنها تعلقت بنفس الذات، والإرادة الثانية ولو أنها متوقفة
على ثبوت أمر في الرتبة السابقة عليها ولكنها موجودة كذلك
وهي الإرادة المتعلقة بذوات هذه الأفعال في الرتبة السابقة على
الإرادة الثانية فلا دور.
وأنت خبير بأن الإرادة الشخصية الواحدة لا يمكن أن تنحل إلى
إرادتين طوليتين، وقياسها بباب انحلال العام الأصولي في غير محله،
لان الإرادة هناك متعلقة بالطبيعة السارية وللطبيعة وجودات فكأنها
تعلقت بجميع تلك الوجودات ففي الحقيقة هناك إرادات متعددة
بصورة إرادة واحدة بخلاف ما نحن فيه، فليس هاهنا الا إرادة واحدة
في البين متعلقة بالمجموع المركب.
212

هذا مضافا إلى أن تعلق الإرادة بالمجموع المركب لا يمكن إلا بعد
فرض وجود أمر متعلق بذوات هذه الأفعال في الرتبة السابقة على
هذه الإرادة، والمفروض أنه ليس غير هذه الإرادة إرادة أخرى في
البين فلا مناص إلا من الالتزام باستحباب هذه الأفعال الثلاثة في حد
أنفسها مع قطع النظر عن تعلق الامر الغيري بها.
(إن قلت) بأن تصور الصلاة المأتي بها بقصد الامر المتعلق بها بحيث
يكون هو المحرك لاتيانها أمر ممكن معقول إذ النفس من عالم
السعة والحيطة ولها أن تتصور حتى عدمها، وأيضا من الواضح
المعلوم أن الإرادة التي ظرف وجودها الذهن لا يمكن أن تتعلق
بموجود خارجي بدون توسيط صورة ذهنية وذلك من جهة لزوم
وجود العرض في وعاء وجود معروضه وعدم إمكان أن يكون
العرض في وعاء كالذهن مثلا والمعروض في وعاء آخر كالخارج وإلا
لم يتحدا، وبناء على هذا لا بد أن تتعلق الإرادة بالصورة
الذهنية، ففيما نحن فيه أيضا كذلك يمكن تصور الوضوء المأتي به
بقصد الامر المتعلق به وتعلق الإرادة به أيضا لا شك في إمكانه و
حيث
أن تلك الصورة الذهنية مركبة من أمرين طوليين فلا يمكن أن لا
تتحصص الإرادة المتعلقة بها، فتكون قطعة من تلك الإرادة متعلقة
بالذات وقطعة أخرى بكون الامر المتعلق بها محركا لاتيانها، هذا في
مقام الجعل، وأما في مقام الامتثال فلو أتى بالذات بقصد تلك
القطعة المتعلقة بنفس الذات فقد امتثل مجموع القطعتين لان مفاد
القطعة الثانية ليس إلا إتيان الذات بقصد الامر المتعلق بها وقد حصل
ذلك على الفرض.
(قلت) قد تقدم في مبحث التوصلي والتعبدي عدم إمكان هذا
المطلب وإن كان تصوير ذلك المعنى المركب من الذات وقصد الامر
أمرا
ممكنا لا ريب فيه وهكذا لزوم تعلق الإرادة بالصورة الذهنية وعدم
إمكان تعلقها بموجود خارجي بدون توسيط الصورة الذهنية أمر
مسلم معلوم لما ذكر.
أما (أولا) فلان باب القيد والمقيد غير باب الاجزاء وفي باب الاجزاء
هذا المطلب صحيح بمعنى أن الإرادة تنبسط على الاجزاء ويأخذ كل
واحد منها بحصة منها
213

ولذلك تجري البراءة في الجز المشكوك الجزئية لان وجوب سائر
الاجزاء معلوم ووجوبه مشكوك فيه وأما في باب القيد والمقيد
فلا تنبسط الإرادة وليس هناك للذات وجوب وللقيد وجوب بل لهما
وجوب واحد وتعلقت بالمجموع إرادة واحدة غير متحصصة
بحصص متعددة ولذلك لا تجري البراءة بالنسبة إلى القيد إذا علم
إجمالا بوجوب شئ بدون القيد الفلاني أو بوجوبه مقيدا بذلك
الشئ
بل يكون من قبيل العلم الاجمالي بين المتباينين ولذلك أيضا لا
يجري حكم باب تبعض الصفقة في باب القيد والمقيد ولا تتبعض
الصفقة بالنسبة إلى الجارية المغنية بأن يكون البيع صحيحا بالنسبة إلى
ذات الجارية وفاسدا بالنسبة إلى وصف الغناء ويتبعض الثمن
بالنسبة إليهما.
والسر في ذلك كله أن القيد والمقيد موجودان بوجود واحد عرفا و
إن كان بالدقة العقلية لكل واحد منهما وجود لان وجود العرض
غير وجود الجوهر ومعلوم أن ما نحن فيه من قبيل القيد والمقيد لأن المفروض
في كلام هذا القائل هو أن متعلق الإرادة هو ذوات هذه
الطهارات الثلاث مقيدة بأن يكون إتيانها بمحركية أمرها المتعلق بها
فليس قصد أمرها أي كونه محركا لاتيانها الا قيدا لمتعلق الإرادة
وليس من أجزاء المتعلق نعم هو جز تحليلي عقلي مثل الرقبة
المؤمنة.
وأما (ثانيا) فلما تقدم في مبحث التوصلي والتعبدي من أن الموضوع
للتكليف بكلا معنييه أي بمعنى المكلف وشرائطه من كونه عاقلا
بالغا حرا مستطيعا مثلا كما في توجه تكليف الحج وبمعنى متعلق
المتعلق كالسادات والعلماء في قوله أكرم العلماء والسادات لا بد وأن
يؤخذ مفروض الوجود في الرتبة السابقة على الحكم حتى يحكم عليه
ففي المثالين لا بد وأن يفرض وجود الحر البالغ العاقل المستطيع
حتى يحكم عليه بوجوب الحج وأيضا لا بد وأن يفرض وجود
العلماء والسادات حتى يحكم بوجوب إكرامهما فلا يمكن أن يتحقق
الشئ
الذي لا بد وأن يكون في الرتبة السابقة على الإرادة بنفس الإرادة.
و (منها) - تقسيمه إلى تعييني وتخييري،
فالواجب التعييني ما لا بدل له
214

في مقام الامتثال، بل يتعين عليه هو بنفسه. والتخييري هو ما يكون
المكلف مخيرا بين أن يأتي به أو بما جعل بدلا منه
وفي بيان حقيقة هذين القسمين من الواجب احتمالات، بل أقوال:
(الأول) -
ما ذهب إليه شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن متعلق الإرادة في
الواجب التخييري - هو الامر المردد بين أمرين أو أكثر، وقال بالفرق
بين الإرادة التشريعية والتكوينية، وان الأخيرة لا يمكن أن تتعلق
بالامر المبهم، ولكن الأولى لا مانع من تعلقها به. و (السر في ذلك) أن
الإرادة التكوينية محركة لعضلات المريد نحو الفعل، وتحرك
العضلات نحو المردد غير معقول. وأما الإرادة التشريعية التي تكون
لاحداث الداعي للمكلف نحو الفعل كما أنه يمكن أن تتعلق بشئ
معين لتوجيه المكلف نحو إتيانه، كذلك يمكن أن تتعلق بأمر مردد بين
أمرين أو أكثر، بمعنى أن المطلوب ليس خصوص هذا ولا خصوص
ذاك، بل المطلوب أمر مبهم قابل للانطباق على كل واحد منهما أو
منها.
و (بعبارة أخرى) الإرادة التشريعية كما أنها يمكن أن تتعلق بالكلي
بحذف جميع الخصوصيات، بل غالبا تكون كذلك لان متعلق الأوامر
غالبا الطبائع المجردة عن الخصوصيات والعوارض المشخصة،
بخلاف الإرادة التكوينية، حيث أنها لا يمكن أن تتعلق الا بالفرد
لامتناع
وجود الكلي في الخارج بدون الخصوصيات، فليكن الامر هاهنا أيضا
كذلك أي يكون متعلق الإرادة التشريعية أمرا مبهما، ولو كان هذا
الامر بالنسبة إلى الإرادة التكوينية غير ممكن لما ذكرنا. والحاصل أن
الوجدان أقوى شاهد في الفرق بينهما، ألا ترى أن الإرادة
التشريعية تنقسم إلى تعبدية وتوصلية؟ ولكن هذا التقسيم لا يجري
في التكوينية. وهذه الأمور تدل على أن قياس إحدى الإرادتين
بالأخرى من جميع الجهات والحيثيات ليس في محله بل قد تكون
لكل واحدة منهما جهة خاصة مخصوصة بها دون الأخرى كما في هذا
المقام، حيث أن التشريعية يمكن أن تتعلق بأمر مبهم مردد بين عدة
أشياء
215

ولا يمكن ذلك في التكوينية ولذلك ترى أن أمر المولى عبده بأحد
الشيئين أو الأشياء ممكن وواقع في الأوامر العرفية من دون احتياج
إلى انتزاع مفهوم كلي مثل مفهوم أحدهما حتى يكون ذلك المفهوم
الكلي للإرادة متعلقا، فان العرف لا يلتفتون إلى أمثال هذه العناوين
أصلا.
و (الحاصل) أن متعلق الإرادة التشريعية عند شيخنا الأستاذ (قده)
واقع أحدهما أي هذا الخاص أو ذاك الخاص، وهكذا لو كانت أطراف
التخيير أكثر من اثنين وأنت خبير بأن المردد لا وجود له في الخارج، و
هكذا واقع أحدهما بوصف أنه مردد نعم يمكن أن يكون مفهوم
أحدهما - بما هو حاك عن كل واحد منهما ومنطبق على الاثنين على
البدل - متعلقا للإرادة، ولكن هذا غير أحدهما المردد بل هو جامع
انتزاعي، وكل واحد منهما مصداقه فيكون حاله من هذه الجهة كسائر
الجوامع فيما إذا تعلقت الإرادة بصرف الوجود من الطبائع المأمور
بها، حيث تنطبق على كل فرد من أفراد تلك الطبيعة وذلك الجامع. و
هذا مطلب آخر غير ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره).
و (أما ما أفاده) - من الفرق بين الإرادتين من عدم إمكان تعلق
التكوينية بالمردد وإمكان تعلق الأخرى - فليس كما ينبغي، وذلك
لان
الإرادة التشريعية أيضا لا يمكن أن تتعلق بالمردد، لما تقدم من أن إرادة
المأمور في مقام الامتثال لا بد وأن تتعلق بعين ما تعلقت به
إرادة الامر، لأنه لا معنى للامتثال إلا إتيان مراد المولى. وإتيان مراده
بالاختيار لا يمكن إلا بتعلق إرادته بما تعلقت به إرادة المولى و
(بعبارة أخرى) تعلق إرادة المولى بشئ انما يكون ويتحقق لأجل ان
يكون محركا للعبد نحو إرادة نفس ذلك الشئ، لا إلى شئ آخر
فلا بد وأن يكون ذلك الشئ الذي أراده المولى قابلا لان تتعلق به
إرادة العبد، ففي كل إرادة تشريعية لا بد وأن تكون هذه القابلية،
فتنتج هذه المقدمات ان كل ما لا يمكن ان تتعلق به إرادة تكوينية لا
يمكن ان تتعلق به إرادة تشريعية.
216

و (اما ما أفاده) - من الفرق بينهما بإمكان تعلق التشريعية بالكلي دون
التكوينية - (ففيه) ان الإرادة التكوينية أيضا قد تتعلق بالكلي و
التشخص يكون مرادا بالعرض، بمعنى ان الكلي حيث لا يمكن ان
يوجد بدون الخصوصيات والعوارض المشخصة في الخارج، فتقع
متعلقة للإرادة بواسطة ملازمة وجودها لوجود الكلي وبالتبع، والا
فالإرادة من العاقل الحكيم لا تتعلق بشئ جزافا، فإذا كانت المصلحة
الموجبة لتعلق الإرادة في نفس الطبيعة ولم يكن للخصوصيات و
العوارض المشخصة دخل فيها أصلا فلا محالة المراد بالذات يكون
نفس الطبيعة، والملازمات تكون مرادة بالعرض وبالتبع لعدم انفكاكها
عن تلك الطبيعة وذلك الكلي.
و (اما ما أفاده) - من الفرق بأن التشريعية تنقسم إلى التعبدية و
التوصلية دون التكوينية - (ففيه) ان التعبدية بناء على ما هو التحقيق و
هو الذي اختاره أيضا ليست لونا للإرادة حتى تكون موجبة لتقسيم
الإرادة بقسمين، حتى تقول بوجود هذا التقسيم في التشريعية دون
التكوينية، بل التعبدية تحصل بوجود إرادتين (إحداهما) متعلقة
بذات العمل. و (الأخرى) بإتيانه بقصد مراديته بتلك الإرادة المتعلقة
بذات العمل. و (الحاصل) ان هذه الفروق المذكورة ليست فروقا
بينهما، ولو سلم صحة هذه الفروق، فمع ذلك ليس فرق بينهما من
ناحية
إمكان تعلق إحداهما بالامر المبهم دون الأخرى، بل كلتاهما لا يمكن
ان تتعلقا بالامر المبهم، ولا اختصاص لذلك بالإرادة التكوينية.
(الثاني) -
ما ذهب إليه أستاذنا المحقق (قده) من تعلق الإرادة بكل واحد من
الطرفين أو الأطراف، غاية الامر كل واحدة من الإرادتين ليست إرادة
تامة، بل كلتاهما تكونان ناقصتين، بمعنى أن كل واحدة منهما لا
توجب سد جميع أبواب عدم متعلقه، بل تسد أبواب عدمه إلا باب
عدمه
في ظرف وجود الطرف الآخر.
و (بعبارة أخرى) تحريكها للمكلف نحو الفعل ليس تحريكا تاما بحيث
يحركه نحوه في جميع الظروف والحالات، بل لا تحريك لها في
حال وجود الطرف الآخر، فالقول
217

بأنها ناقصة باعتبار نقص في تحريكها وداعويتها في بعض الظروف و
الحالات، ونتيجة هذا القسم من الإرادة انه يجوز ترك الاخر أو
الآخرين عند وجود بعض الأطراف، ويلزم فعله عند ترك الاخر أو
الآخرين، ولو ترك الجميع يأثم بعصيانه وعدم امتثاله للإرادة
الفعلية نعم لازم هذا الكلام ورود إشكال وهو تعدد العقاب عند عدم
الاتيان بالجميع.
ويمكن ان يجاب عن هذا الاشكال (أولا) بأنه لا مانع من الالتزام
بتعدد العقاب لأجل مخالفته وعدم امتثاله للارادات المتعددة و
(ثانيا)
بأن العقاب تابع لفوت المصلحة الملزمة أي المصلحة التي يجب و
يلزم تحصيلها، ففيما نحن فيه (ان قلنا) بأن مصلحة جميع الأطراف
واحدة، فلم تفت الا مصلحة واحدة فلا يكون الا عقاب واحد. و (ان
قلنا) بتعددها ولكن لا يجتمع الكل في عالم الوجود، بل بينها تضاد
في
الوجود فلم تفت أيضا الا مصلحة واحدة، وان كان هذا الاحتمال -
فيما نحن فيه - غير صحيح لأنه في الواجبات التخييرية الواردة في
الشرع يمكن الجمع بينها، بل يكون الجمع في بعض الموارد كخصال
الكفارات أفضل وأولى و (ان قلنا) بتعددها وإمكان اجتماعها.
فعلى هذا الفرض وان فاتت مصالح متعددة لكن حيث إن كلها غير
لازمة التحصيل، بل إيجاد إحداهما كان كافيا عند المولى، بحيث ما
كان يطالب بالبقية لو كان يأتي بإحداها فلا يستتبع الا عقابا واحدا و
ذلك لان فوت المصلحة التي يجب تحصيلها يكون مستتبعا للعقاب
لا فوت كل مصلحة.
نعم الاشكال الذي في هذا الوجه هو انه لا نفهم من النقصان والتمامية
في الإرادة الا ضعف الشوق وتأكده، كما فرق جماعة بين الوجوب
والاستحباب بهذا المعنى ونحن وان أنكرنا هذا المطلب وقلنا بأن
الإرادة هي الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات ولو لم يصل
إلى هذه المرتبة، فليس بإرادة كما أن الزائد على هذه المرتبة لو قلنا
بإمكانه يكون خارجا عن حقيقة الإرادة واما النقصان - بمعنى عدم
داعويتها وتحريكها مع وجودها بالنسبة إلى متعلقها - فغير معقول و
لا يمكن الا بتقييدها
218

بغير حال وجود الطرف، فيرجع هذا إلى وجه آخر في معنى التخييري
سنبينه إن شاء الله تعالى. و (بعبارة أخرى) لا يعقل أن تكون
الإرادة المتعلقة بشئ موجودة ولا تكون مقيدة بقيد، بل كانت مطلقة
ومع ذلك لا تكون لتلك الإرادة محركية وداعوية وهل هذا إلا
خلف ومناقضة واضحة؟ فتصحيح الواجب التخييري بنقص الإرادة
المتعلقة بكل واحد من الأطراف مما لا يمكن المساعدة عليه.
(الثالث) -
أن كل واحد من الأطراف واجب ومتعلق للإرادة التامة، غاية الامر أن
متعلق كل واحدة من الإرادتين ليس مطلقا واجبا بل وجوب كل
واحد منهما مشروط بعدم وجود الاخر، فلا إطلاق في وجوب كل
واحد منهما يشمل حتى حال وجود الاخر ونتيجة هذا القسم من
الوجوب أنه لو ترك الجميع عصى الجميع وأما لو أتى بواحد من
الأطراف فلم يعص أصلا، لان شرط وجوب الباقي ما حصل وهو عدم
الاتيان بما عداه واعترض على هذا الوجه بوجوه:
(أحدها) - انه مستلزم لاجتماع النقيضين، لان وجوب كل واحد
منهما متأخر عن عدم الاخر، لأن المفروض أنه مشروط به والمشروط
متأخر عن شرطه وعدم كل واحد منهما في رتبة وجود نفسه لان
النقيضين في مرتبة واحدة فينتج أن وجوب كل واحد منهما متأخر عن
وجود الاخر، فيكون موقوفا على وجود الاخر والحال أنه موقوف
على عدمه فيلزم اجتماع النقيضين و (أنت تعلم) بأن هذه مغالطة
واضحة، لان ما في رتبة علة الشئ وأجزاء علة الشئ ليس علة ولا
جز علة للشئ فما في رتبة الشرط ليس بشرط ولا مما يتوقف عليه
الشئ من حيث أنه في رتبته، بل لو كان، لا بد وأن يكون لجهة و
خصوصية في نفسه. وظهر مما ذكرنا عدم ورود إشكال الدور أيضا
بأن يقال إذا كان وجوب كل واحد منهما متوقفا على عصيان الاخر و
متأخرا عنه، فيكون متوقفا على وجوب الاخر لان العصيان لا
يتحقق إلا بعد وجود الامر والوجوب فيكون وجوب كل واحد منهما
متوقفا على وجوب
219

الاخر وهذا دور، وذلك لان وجوب كل واحد منهما ليس متوقفا على
عصيان الاخر بل على عدم الاتيان بالآخر. ومثل هذه المغالطات
الواضحة ينبغي أن يعرض عنها ولا يذكر.
(ثانيها) - أنه مستلزم لتعدد العقاب عند ترك الجميع لحصول شرط
وجوب الكل، وهو عدم وجود سائر الأطراف وما عداه وفيه ما
ذكرنا في جواب هذا الاشكال على الوجه الثاني من وجوه تصوير
التخييري الذي ذهب إليه أستاذنا المحقق (قدس سره) فلا نعيد.
(ثالثها) - أن هذا الوجه لا يكون صحيحا إلا فيما إذا كانت هناك
ملاكات متعددة لا يمكن جمعها لتضادها في عالم الوجود، بمعنى أن
وجود أحدها مانع عن استيفاء الاخر أو الاخر. و (بعبارة أخرى) لكل
واحد من الأطراف ملاك يختص به، ولكن استيفاء كل واحد منها
مانع عن إمكان استيفاء الاخر فقهرا الإرادة التي تتبع مثل هذه
الملاكات لا يمكن أن تكون مطلقة لان الإرادة تتبع الملاكات تبعية
المعلول للعلة وتتحقق لأجل تحصيل الملاك فان لم يمكن تحصيله
إلا في ظرف عدم وجود الآخرين - كما هو المفروض في المقام -
فقهرا تعلق الإرادة بكل واحد من الأطراف لا بد وأن يكون في ظرف
عدم الأطراف الاخر، وإلا يلزم أن يكون المعلول أوسع وجودا من
علته وهو محال، فإذا كان هذا هو مبنى الواجب التخييري - أي كان
وجوبه مشروطا بعدم وجود الطرف الآخر - فترد عليه إشكالات:
(أولا) - أنه لا يتوقف الواجب التخييري على أن يكون لكل واحد من
الأطراف ملاك يخصه بل من الممكن أن يكون هناك ملاك واحد
قائم بجميع الأطراف ولو كان باعتبار وجود جامع بينها حتى لا يلزم
صدور الواحد عن الكثير، وإذا كان الامر كذلك وأمكن أن
يكون فلا معنى لان يقال أن الواجب التخييري هو ما يكون وجوبه
مشروطا بعدم الطرف الآخر، بل لا بد وأن يوجه بوجه آخر ينطبق
على هذا المعنى بأن يقال - مثلا - أن الواجب التخييري هو ما تكون
الإرادة تعلقت
220

بأمر مبهم بين أمرين أو أكثر من الأمور التي يكون ذلك الملاك الواحد
قائما بها.
وأنت خبير بأن وحدة الملاك وتعدده ليس مناط اشتراط الوجوب
بعدم وجود الطرف الآخر، بل المناط كل المناط فيه هو أن يكون
وجود الملاك القائم بأحد الأطراف كافيا في الوفاء بغرض المولى
بحيث لا يكون تحصيل الملاكات الاخر أو الوجودات والافراد الاخر
من ذلك النوع من الملاك لازما وواجبا، وإن كان ربما لا يخلو من
رجحان غير واصل إلى درجة اللزوم وهذا يكون منشأ لاستحباب
الجمع فلا فرق في إمكان اشتراط الوجوب في أحد الأطراف بعدم
الأطراف الاخر بين أن تكون هناك ملاكات من أسناخ متعددة لا
يمكن اجتماعها أو يمكن ولا يجب، وبين أن يكون ملاك واحد
بحسب السنخ والنوع لا يمكن اجتماع أفراده أو لا يجب، فهذا
الاشكال لا
يرد على هذا الوجه وصرف إمكان أن يكون ملاك الواجب التخييري
بذلك الشكل الذي ذكره المستشكل لا يوجب بطلان هذا الوجه في
بيان حقيقة الواجب التخييري.
(ثانيا) - أنه على فرض تعدد الملاكات في الأطراف - مع تزاحمها في
عالم.
الوجود - لا يمكن أن يكون كل واحد منها ملاكا تاما مستتبعا للحكم
الشرعي، لابتلاء كل واحد منها بالمزاحم و (بعبارة أخرى) جميع
هذه الملاكات لا يمكن تحصيلها، فالمستتبع للحكم الشرعي - في
الحقيقة - هو أحد هذه الملاكات القائم بأحد هذه الأطراف فلا يمكن
إلا
جعل حكم واحد متعلق بأحد هذه الأطراف لا حكمين بنحو
الاشتراط كما هو المفروض في هذا الوجه. ولا يقاس بباب تزاحم
الحكمين و
الواجبين المتساويين في الملاك، حيث نقول هناك بتقييد كل واحد
من الخطابين بعدم وجود متعلق الاخر، لان ملاك كل واحد من
الحكمين هناك تام والتقييد انما جاء من ناحية العجز وعدم القدرة إذ
فعلية الخطاب منوطة بأمرين: كون المأمور به ذا ملاك تام و
كونه مقدورا للمكلف، وبانعدام كل واحد من هذين ينعدم الخطاب
كما أنه لو كان ذو الملاك التام مقدورا في بعض الأحيان و
الظروف دون بعض آخر فلا محالة يتقيد الخطاب ويصير مشروطا
بتلك الحال وذلك الظرف، كما هو الحال في باب
221

الحكمين ولا معنى لسقوط الخطابين بعد وجود الملاك التام في كل
واحد من المتعلقين بل لا بد من تقيد الخطاب بمقدار العجز إذ
الضرورات تتقدر بقدرها وهذا بخلاف ما نحن فيه وذلك لعدم وجود
ملاك تام في كل واحد من الطرفين أو الأطراف، لابتلاء كل
واحد منها بالمزاحم وإلا كان كل واحد منها واجبا تعيينا لا تخييرا
لوجود القدرة وإمكان الجمع مع وجود الملاك التام وقد ذكرنا أن
فعلية الخطاب منوطة بهذين الامرين و (فيه) ما ذكرنا من أن اشتراط
الخطاب هاهنا ليس من جهة عدم القدرة ولا من جهة قصور في
الملاك، بل التقييد والاشتراط من جهة وفاء كل واحد من الملاكات
بالغرض وعدم لزوم الجمع بينها مع إمكانه بل مع رجحانه في بعض
الأحيان ولذلك يستحب الجمع في بعض الموارد وأما احتمال كون
كل واحد من الملاكات وافيا بالغرض مضرا بكونه ملاكا تاما، فمما
لا يصغى إليه أصلا.
ثم إن لازم هذا الوجه هو أنه لو جمع بين الأطراف في الوجود دفعة لما
أتى بما هو مصداق الواجب، إذ الواجب هو كل واحد منها في ظرف
عدم الاخر، وهاهنا ليس كذلك. وأما لو أوجدهما تدريجا ومترتبا
فالأول مصداق للواجب دون ما هو بعده لوجود الشرط في الأول
دون الباقي وهذا أمر ليس فيه كثير إشكال، غاية الامر أنه - في الفرض
الأول - وإن أتى بما ليس مصداقا للواجب لكن أتى بما هو
محصل للغرض، ومع حصوله يسقط الامر والوجوب لا محالة وذلك
لزوال المعلول بزوال العلة.
(الرابع) -
إرجاع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي بأن يقال: إن غرض الامر من
وجوب الطرفين أو الأطراف شئ واحد وذلك الغرض الواحد
يحصل بفعل كل واحد من هذه الأطراف، فلا بد وأن يكون بين هذه
الأطراف جامع يكون بذلك الجامع مؤثرا في هذا الغرض الواحد، و
إلا يلزم صدور الواحد عن المتعدد وهو في الاستحالة كصدور
المتعدد عن الواحد وإذا كان جامع في البين ففي الحقيقة متعلق
التكليف
والإرادة ذلك الجامع والعقل يخير المكلف بين إيجاد ذلك الجامع
في ضمن أي خصوصية
222

أراد، فالخصوصية ليست داخلة في ما هو متعلق الامر الشرعي كما هو
الحال في جميع التخييرات العقلية حيث أن الامر والإرادة تعلقت
بالجامع والطبيعة والخصوصيات الفردية خارجة عن المطلوب و
ليست مقومة له، بل إنما هي ملازمة له في الوجود الخارجي وهذا هو
مناط الفرق بين التخييرين ففي التخيير العقلي كما ذكرنا الخصوصيات
خارجة عن المطلوب وفي التخيير الشرعي خصوصيات
الأطراف داخلة فيه.
وفيه (أولا) - أن وجود الجامع بين الأطراف ليس مما لا بد منه، و
برهان عدم إمكان صدور الواحد عن المتعدد في الوحدة النوعية غير
تام.
و (ثانيا) - ليس كل جامع مما يمكن أن يكون متعلقا للإرادة وموردا
للتكليف بل لا بد وأن يكون جامعا قريبا عرفيا يكون حاله
بالنسبة إلى الأطراف حال سائر الطبائع بالنسبة إلى أصنافها وأفرادها و
(بعبارة أخرى) يكون فعلا اختياريا ينطبق على أطراف
التخيير انطباق الكلي الطبيعي على افراده والبرهان المذكور - على
فرض تماميته - لا يفيد ثبوت مثل هذا الجامع.
و (ثالثا) - أن هذا خلاف ظاهر أدلة الواجب التخييري، إذ ظاهر كلمة
(أو) في قوله افعل هذا أو ذاك أن خصوصية كل واحد من الأطراف
مرادة، لا أن الإرادة تعلقت بالجامع بينهما وعقله يخبره بين إيجاد
ذلك الجامع في ضمن هذه الخصوصية أو تلك.
(الخامس) -
أن متعلق الإرادة هو الكلي الانتزاعي لا الجامع الملاكي، وهو مفهوم
أحدهما أو أحدها مثلا. و (فيه) أن الإرادة تتبع ما فيه المصلحة، ولا
شك في أنه لا مصلحة في ذلك المفهوم الانتزاعي فلا بد وأن تكون
الإرادة في مقام اللب متعلقة بمحكي هذا العنوان، فيرجع إلى أحد
الوجوه الاخر وذلك لان محكي هذا المفهوم الانتزاعي ليس إلا هذه
الأطراف وانما الكلام في كيفية تعلق الإرادة وأنها بأي نحو تعلقت
بها هذا مضافا إلى عدم مساعدة ظواهر أدلة التخيير الشرعي لهذا
المعنى، وأن متعلق الإرادة في قوله افعل كذا أو كذا هو مفهوم
أحدهما
223

بل ظاهره إرادة كل واحد في ظرف عدم الاخر.
(السادس) -
أن يكون كل واحد من الأطراف واجبا على التعيين وانما يسقط
وجوب باقي الأطراف بعد الاتيان بأحدها و (فيه) أنه لو كان كل واحد
من الأطراف وافيا بغرضه فلا وجه لوجوب كل واحد منهما تعيينا
مطلقا، لأن المفروض أن الامر لا يريد سائر الأطراف في ظرف وجود
أحدها فلا محالة تتقيد الإرادة في كل واحد منها بعدم وجود الأطراف
الاخر وهذا هو الوجه الثالث الذي تقدم واخترناه وإن لم يكن
وافيا بغرضه بل كان في كل واحد ملاك تام مستقل، فلا وجه لسقوط
وجوب الأطراف الاخر بصرف إيجاد أحدها.
(السابع) -
ان الواجب هو المعين عند الله وفي علمه تبارك وتعالى وانما
الترديد حصل عندنا و (فيه) أن إرادته تعالى - بالنسبة إلى أفعال
المكلفين - كأفعاله التكوينية لا بد عن ملاك ومصلحة فان كان الملاك
والمصلحة في أحدهما المعين فلا بد وأن يكون هو متعلق الإرادة
تعيينا، ولا يبقى - حينئذ - معنى ومجال للترديد.
والامر من طرفه تعالى بصورة التخيير والترديد، بل يجب أن يكون
بصورة البت والتعيين وإن لم تكن المصلحة في أحدهما المعين
بل كان كل واحد من الأطراف مشتملا على مصلحة وافية بالغرض من
الامر به، كما هو كذلك والا يلزم تفويت المصلحة في إبراز الامر
وإظهاره بصورة التخيير والترديد فلا وجه لسقوط وجوب الاخر بإتيان
أحد الأطراف لو كان الملاك في كل واحد منها تاما مستقلا
سواء وجد الملاك الاخر أو لم يوجد وأما لو كان كل واحد من
الملاكات وافيا بالغرض بحيث يستغني الغرض عن الأطراف الاخر،
فلا
وجه لكون أحدها المعين واجبا في علم الله تعالى، بل لا بد من
وجوب كل واحد منها في ظرف عدم وجود الأطراف الاخر، كما تقدم
في
الوجه الثالث الذي اخترناه. وهذا الكلام له وجه في مورد العلم
الاجمالي بوجوب أحد الشيئين في الشبهة الحكمية، حيث إن الترديد
في
مقام الاثبات والتعيين في مقام الثبوت لا في الخطابات الصادرة بنحو
التخيير من قبل نفس الشارع.
224

ثم انه هل يمكن في الواجب التخييري أن يكون التخيير بين الأقل و
الأكثر أم لا؟ والمقصود من التخيير هو التخيير الشرعي والا فإمكان
التخيير العقلي - خصوصا فيما يوجد دفعة لا تدريجا - في غاية
الوضوح والتخيير الشرعي أيضا إذا كان بين الأقل بشرط لا وبين
الأكثر كالتخيير بين القصر والاتمام في أماكن التخيير لا مانع منه، لكنه
في الحقيقة يكون من قبيل التخيير بين المتباينين لان الشئ
بشرط لا مباين معه بشرط شئ لتباين القيدين والاعتبارين وأما
التخيير بين الأقل لا بشرط عن الزيادة وبين الأكثر تخييرا شرعيا
فلا يخلو عن إشكال، من جهة أنه في التدريجيات يحصل الغرض و
الواجب دائما خصوصا في التدريجيات التي أجزاؤها وأبعاضها
منفصلة بعضها عن بعض قبل الأكثر فيسقط الامر بإتيان الواجب فلا
يبقى وجه لوجوب الباقي فلا يجتمع وجوب الأقل لا بشرط مع
وجوب الأكثر.
وأما وجه عدم إمكانه في الدفعيات فلأنه يجوز ترك الزائد على الأقل
لا إلى بدل، وكل واجب سواء كان واجبا نفسيا مستقلا أو كان
جزا واجبا للواجب أي كان واجبا ضمنيا اما لا يجوز تركه أصلا - كما
هو الحال في الواجب التعييني مستقلا كان أو جزا - أو يجوز و
لكن إلى بدل كالواجب التخييري مستقلا كان أو جزا كالسورة في
الصلاة مثلا.
هذا، ولكن يمكن ان يقال في الدفعيات انه لو كانت هناك مصلحة
قائمة بالأقل ومصلحة أخرى قائمة بالأكثر، وكل واحدة من
المصلحتين وافية بغرض الامر، فلا محالة تتعلق الإرادة بهما تخييرا
بأي معنى فسرنا التخيير من المعاني السبعة المتقدمة.
والاشكال الأول مخصوص بالتدريجيات فلا يرد في المفروض واما
الاشكال الثاني - وهو عدم جواز ترك الواجب لا إلى بدل فلا
يجري بالنسبة إلى الاجزاء في دوران الامر في الواجب بين الأقل و
الأكثر، لأنه من قبيل المصادرة ولم يدل دليل عقلي أو نقلي على أن
من خواص أجزاء كل واجب انه لا يجوز ترك أي جز منها الا إلى بدل
لذلك الجز نعم من خواص الواجب التخييري انه لا يجوز ترك
مجموع الواجب الا إلى بدل.
225

وما نحن فيه أيضا كذلك فلا يجوز ترك الأقل الا إلى الأكثر وبالعكس،
بل الترك بالنسبة إلى الأقل لا يتصور فيما إذا امتثل أحدهما
لأنه اما هو الأقل بنفسه أو هو في ضمن الأكثر لأن المفروض أخذه لا
بشرط واما الأكثر فيجوز تركه إلى بدل وهو الأقل.
والتحقيق في هذا المقام هو أنه - بناء على صحة التشكيك الخاصي و
هو أن يكون ما به التفاوت عين ما فيه التفاوت فالأقل والأكثر من
تلك الحقيقة كل واحد منهما بتمامه من قرنه إلى قدمه مصداق لتلك
الحقيقة، فإذا كان ذو المصلحة نفس تلك الحقيقة بجميع مراتبها و
كانت من الدفعيات فالعقل يخير المكلف في إيجاد أي مرتبة أراد من
تلك الحقيقة سواء كان هو الأقل أو الأكثر وأي واحد منهما أوجده
يكون بتمامه وكماله مصداقا للواجب وليس في البين ما يكون
مشتملا على الواجب وزيادة بحيث يكون مركبا من المطلوب وما هو
ملازم للمطلوب بل بتمامه مطلوب هذا في التخيير العقلي وأما
التخيير الشرعي فيمكن أيضا إذا كان لكل مرتبة من الأقل والأكثر
مصلحة وافية بغرض الامر ولا محذور فيه أصلا نعم هذا صرف فرض
ولكن ليس في الشرعيات على الظاهر ما يكون من هذا القبيل، بل
التخيير الواقع في الشرعيات بين الأقل والأكثر إما يرجع إلى المتباينين
لاخذ الأقل بشرط لا كالتخيير بين القصر والاتمام في الأماكن
الأربعة أو يرجع إلى وجوب الأقل واستحباب الزائد.
و (منها) - تقسيمه إلى العيني والكفائي
والواجب العيني هو ما يكون الخطاب والتكليف متوجها إلى آحاد
المكلفين بحيث لا يكون الاتيان من بعضهم موجبا لسقوطه عن
آخرين كالصلاة والصوم وغيرهما من أغلب الواجبات العبادية وغير
العبادية وأما الكفائي فهو الواجب الذي يسقط بفعل بعض عن
الآخرين، ولو تركوا جميعا يستحقون كلهم العقاب والظاهر أن حال
الواجب الكفائي في الترديد والدوران هو بعينه حال الواجب
التخييري غاية الامر الترديد والتخيير في التخييري كان في المكلف به
وهاهنا في المكلف فبناء على ما اخترنا هناك يكون الواجب
الكفائي هاهنا عبارة عن توجه الخطاب إلى آحاد المكلفين بالخطابات
الانحلالية كالواجب العيني غاية الامر تلك
226

الخطابات في الواجبات العينية مطلقة بالنسبة إلى إتيان الآخرين أو
اشتغالهم بالاتيان وفي الواجبات الكفائية مشروطة بعدم إتيان
الآخرين حدوثا وبقاء بمعنى أن الوجوب يحصل بصرف وجود عدم
اشتغال الآخرين وعدم إتيانهم له وبقاء هذا الوجوب ببقاء هذا
العدم ففي أي وقت اشتغل مكلف آخر وأتى به يسقط الوجوب عن
الآخرين ونتيجة هذا التصوير في الواجب الكفائي هو أنه لو ترك
الكل يستحقون العقاب كلهم، ولو أتى البعض يسقط عن الآخرين نعم
لازم هذا الوجه هو أنه لو امتثل الكل دفعة بدون تقديم وتأخير لا
يكون امتثالا للواجب في الجميع لعدم حصول الشرط أعني عدم
اشتغال الآخرين.
ويحتمل أن يكون الوجوب الكفائي عبارة عن تعلق الخطاب بصرف
الوجود من طبيعة المكلفين أي كما أن التكليف - باعتبار المتعلق
أو باعتبار متعلق المتعلق - قد يكون بنحو السريان إلى جميع ما يمكن
أن ينطبق عليه أي بنحو العام الاستغراقي.
وقد يكون بنحو صرف الوجود كذلك باعتبار المكلف أيضا ينقسم
إلى قسمين فإذا كان بهذا الاعتبار بنحو العام الأصولي و
الاستغراقي فتكون الخطابات الانحلالية من قبيل الواجب العيني، و
إذا كان بنحو صرف الوجود فيكون من قبيل الواجب الكفائي و
نتيجة مثل هذا الخطاب هو أن أي مكلف أتى به يصدق امتثال صرف
الوجود فيحصل الغرض ويسقط الامر ولو تركوا جميعا فكلهم
يستحقون العقاب لان كل واحد منهم مصداق صرف الوجود وهذا
الوجه في مقام الثبوت ممكن ومنوط بأن يكون الملاك في صرف
الوجود من طبيعة المكلف، ولا يكون الخصوصية الاشخاص دخل
فيه إلا أن ظاهر الأدلة في مقام الاثبات أن الخطاب موجه إلى عامة
المكلفين بنحو الانحلال، وحيث لا يمكن أن تكون تلك الخطابات
الانحلالية بنحو الاطلاق فلا بد وأن يكون مشروطا بعدم إتيان
الآخرين وذلك لان الإرادة تابعة للملاك تبعية المعلول لعلته بناء على
ما هو الحق من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد الكامنة
في متعلقاتها بمعنى أنه لو كانت في شئ مثلا مصلحة ملزمة فقهرا
تتعلق به الإرادة إلا أن يكون المكلف عاجزا عن إتيانه فتعلق الإرادة
بشئ منوط بأمرين: (أحدهما) المقتضي لها وهو عبارة
227

عن المصلحة الكامنة في متعلقها و (ثانيهما) - هو الشرط أي القدرة
على الاتيان، فإذا كان الملاك الموجود في الشئ مطلقا فلا بد وأن
تكون الإرادة مطلقة وإن كان مشروطا فلا بد وأن تكون الإرادة
مشروطة ولا يمكن أن يكون الملاك في الخطابات الانحلالية مطلقا،
وإلا يلزم إتيانها حتى بعد إتيان الآخرين فلا محالة الإرادة أيضا ليست
مطلقة فلا مناص إلا من اختيار الوجه الأول كما تقدم في الواجب
التخييري أيضا ومما ذكرنا تبين فساد ما احتمل أيضا من كون كل واحد
منهما واجبا عينيا غاية الامر أنه يسقط بفعل الاخر لأنه لو لم
يكن الملاك مطلقا فلا وجه لوجوبها بالوجوب العيني، لان الوجوب
العيني عبارة عن إطلاق الوجوب بمعنى وجود الوجوب وتحققه
مطلقا سواء فعل الآخرون أم لا وبناء على تبعية الإرادة للملاك لو لم
يكن الملاك مطلقا لا يمكن أن يكون الوجوب مطلقا وأما لو كان
الملاك مطلقا فلا معنى لسقوط الوجوب مع بقاء ملاكه وإن كان
الملاكان متضادين، فلا بد من القول بالوجوب التخييري من أول الامر
وذلك كما إذا كان هناك ماء مباح لا يكفي الا لوضوء شخص واحد، و
كان هناك شخصان كل واحد منهما قادر على التوضي بذلك الماء
لو لم يزاحمه الاخر ولا شك في أن ملاك الوضوء لكل واحد منهما
تام لكن لا يمكن الجمع بين الملاكين في عالم الوجود لعدم كفاية الماء
إلا لوضوء أحدهما، فلا محالة وجوب الوضوء يكون مشروطا لكل
منهما بعدم توضؤ الاخر ومزاحمته وهذا الاشتراط من ناحية عدم
القدرة وليس من ناحية عدم تمامية الملاك.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قده) ذكر هاهنا فرعا بمناسبة الفرض المذكور و
هو أنه لو وجد جماعة من المتيممين ماء مباحا يكفي لوضوء
أحدهم فأفتى ببطلان تيممهم أجمع، لكون كل واحد منهم قادرا على
الحيازة والتمكن من استعمال ذلك الماء ومعلوم أن صحة التيمم
مشروطة حدوثا وبقاء بعدم وجدان الماء وعدم التمكن من استعماله.
وأنت خبير بأن قدرة كل واحد منهم على الاستعمال - على فرض
صحته وإغماض النظر عن الاشكال بأن الماء الذي لا يمكن استعمال
الجميع له لا مجتمعا ولا منفردا كيف
228

يمكن أن يكون استعماله مقدورا لكل واحد منهم - انما يكون في
فرض عدم مزاحمة الآخرين وأما مع المزاحمة فلا يبطل إلا تيمم
الغالب
منهم على الآخرين أو السابق إليه، والا ان لم يكن سبق أو غلبة فلا
يبطل تيمم كل واحد منهم.
و (منها) - تقسيمه إلى الموسع والمضيق.
وبيان ذلك أن الواجب إما أن يعين له وقت وإما أن لا يوقت بوقت
فالأول هو الموقت والثاني يقال له غير الموقت.
والموقت إن كان الوقت الذي عين له بمقدار امتثال الواجب كالصوم
فان الزمان الذي عين له وهو من أول تبين الخيط الأبيض من
الأسود إلى دخول الليل مطابق لامتثال الصوم بلا زيادة ولا نقيصة
يسمى بالمضيق وإن كان أوسع من مقدار الامتثال يسمى بالموسع
وأما العكس أي كون مقدار الامتثال أزيد من الزمان الذي عين له فغير
ممكن لعدم إمكان الامتثال حينئذ في ذلك الوقت.
و (قد أشكل) على الموسع بأنه مستلزم لترك الواجب في أول الوقت
لجواز تأخيره إلى آخر وقت إمكان أدائه في الوقت وهذا دليل عدم
وجوبه الا في ذلك الوقت الأخير، بحيث لو أخره من ذلك الوقت لم
يتمكن من الامتثال في الوقت الذي عين له و (جوابه) أن الواجب إذا
كانت له افراد وكان المطلوب الجامع بين تلك الافراد لا بنحو السريان
بل بنحو صرف الوجود فالعقل يخير المكلف بين الافراد، وله
إتيان أي فرد أراد ولا فرق في نظر العقل في هذا الحكم بين الافراد
العرضية في زمان واحد أو الافراد الطولية بحسب الأزمنة
المتعددة.
و (أشكل) أيضا على المضيق بأنه لا بد وأن يكون الزمان الذي عين
ظرفا له أزيد من مقدار امتثاله ولو بمقدار آن، لان البعث لا بد وأن
يتحقق قبل الانبعاث والامتثال ضرورة لزوم تقدم العلة بجميع أجزائها
على المعلول فزمان الوجوب لا بد وأن يكون أزيد من زمان
الامتثال ولو بمقدار آن و (جوابه) أن تقدم العلة على المعلول رتبي و
ليس بزماني، بل لا يمكن أن يكون زمانيا وإلا يلزم تخلف العلة
عن المعلول وعلى كل حال لا ينبغي أن يشك في وجود الموسع
كالصلوات اليومية والمضيق كالصوم فضلا عن إمكانه.
229

ثم إن هاهنا بحث في الموقت مطلقا موسعا كان أو مضيقا، وهو أن
الامر المتعلق به هل يدل على لزوم الاتيان بالواجب في خارج الوقت
ان لم يأت به فيه أم لا بل يحتاج ذلك إلى أمر آخر لسقوط الامر
بالموقت بفوات الوقت وهذا هو المراد من قولهم: إنه هل القضاء
بالامر
الأول أو بأمر جديد؟ الاحتمالات بل الأقوال في هذه المسألة أربعة:
(الأول) - عدم الدلالة مطلقا (الثاني) - أنه يدل مطلقا (الثالث) -
التفصيل بين التوقيت بالمتصل والمنفصل. (الرابع) - عين هذا
التفصيل ولكن بشرط أن يكون لدليل التوقيت المنفصل إهمال و
يكون
في دليل الواجب إطلاق حيث أنه يؤخذ بإطلاق دليل الواجب ويقال
بلزوم الاتيان في خارج الوقت أيضا واختار شيخنا الأستاذ (قده) من
هذه الأقوال القول الأول وذلك من جهة أن الظاهر من دليل التقييد -
بعد أن قيد الواجب بكونه في وقت كذا - هو وحدة المطلوب، وهو
مجموع القيد والمقيد. وأما مطلوبية وجود ذات المقيد - ولو في
حال عدم وجود القيد بل عدم إمكان وجوده كما في المقام - فيحتاج
إلى دليل آخر ولا يمكن استفادته من نفس دليل القيد أو المقيد وان
كان التقييد بدليل منفصل لان المنفصل إما أن يدل على التقييد
فيكون حاله كالمتصل واما أن لا يدل عليه فيكون خارجا عن الفرض.
ولكن يمكن أن يقال: إن التقييد إذا كان بدليل منفصل وكان ذلك
الدليل مهملا، وكان لدليل الواجب إطلاق أخذ بالقدر المتيقن من
دليل التقييد لاهماله، ويرجع - فيما عداه - إلى إطلاق دليل الواجب
إن كان له إطلاق كما هو المفروض في المقام. و (بعبارة أخرى)
ربما يكون دليل الواجب مع دليل التقييد كلاهما مطلقين، وربما يكون
كلاهما مهملين وربما يكونان مختلفين وهذه الصور الأربع
المفروضة كلها في مورد التقييد بالمنفصل فلو كان لدليل التقييد
إطلاق يؤخذ به ويقال بمدخليته في جميع مراتب المصلحة والملاك
سواء كان لدليل الواجب إطلاق أو لم يكن أما لو كان دليل الواجب
مهملا فمعلوم واما لو كان له إطلاق، فلان إطلاق دليل
230

التقييد حاكم على إطلاق دليل ذات المقيد شأن حكومة كل قرينة
على ذي القرينة، وذلك كحكومة ظهور يرمي على ظهور الأسد في
قولهم (رأيت أسدا يرمي) فإطلاق دليل التقييد - أي كون الذات مقيدة
بهذا القيد هو المراد مطلقا سواء تمكن المكلف من تحصيل هذا
القيد أو لم يتمكن كما إذا فات الوقت - ويكون حاكما على إطلاق
دليل الواجب وهو لزوم الاتيان به مطلقا سواء كان في الوقت أو لم
يكن وأما لو لم يكن لدليل القيد إطلاق يشمل صورة التمكن من إتيانه
في الوقت وعدم التمكن فيه فحينئذ ان كان دليل الواجب أيضا
مهملا فلا بد وأن يرجع إلى الأصول العملية ومقتضى الاستصحاب
هو بقاء الوجوب لو كان جاريا، ولم نقل باختلاف الموضوع حتى
عند العرف أو لا أقل من الشك في بقائه عندهم وأما مع عدم جريان
الاستصحاب فلا مناص الا من الرجوع إلى البراءة وأما ان كان دليل
الواجب مطلقا مع إهمال دليل التقييد، كما في قوله عليه السلام:
اغتسل للجمعة مع قيام الدليل على تقييده بما قبل الظهر فلو فرضنا أن
قوله عليه السلام: اغتسل للجمعة مطلق يشمل قبل الظهر وبعده و
دليل التقييد بما قبل الظهر مهمل من حيث التمكن من إيجاده في
ذلك
الوقت وعدمه فلا بد من الرجوع إلى إطلاق دليل الواجب في هذا
الفرض والقول بعدم سقوط الامر بفوات الوقت وهذا موافق للقول
الرابع الذي ذهب إليه صاحب الكفاية (قده) وهو الصحيح، لان دليل
التقييد إذا كان مهملا يجب أن يؤخذ به بمقدار المتيقن، لعدم حجيته
الا فيه فلا محالة في المقدار الزائد ان كان دليل لفظي يرجع إليه والا
فإلى الأصول العملية فما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من أن حال
التقييد بالوقت حال سائر التقييدات فيستظهر من التقييد بالوقت أيضا
مثل سائر التقييدات وحدة المطلوب - ليس كما ينبغي لأنا لا
ننكر أن حال هذا التقييد حال سائر التقييدات، ولكن نقول بمثل هذه
المقالة في جميع موارد التقييد بالمنفصل ففي أي مورد كان دليل
التقييد مهملا وكان دليل الواجب مطلقا بالنسبة إلى مورد وجود ذلك
القيد وعدمه نأخذ - في مورد الشك في التقييد - بإطلاق دليل
ذلك الواجب المقيد في الجملة ونحكم بوجود
231

في مورد عدم وجود القيد.
وأما قوله (قدس سره) أن المقيد المنفصل اما أن يدل على التقييد
فيكون حاله كالمتصل في الظهور في وحدة المطلوب الا أن يدل دليل
خارجي على تعدده، واما أن لا يدل عليه فيكون خارجا عن الفرض
(ففيه) أن دليل التقييد يدل عليه لكن إذا لم يكن فيه إطلاق بحسب
الحالات بحيث يشمل حال عدم التمكن من إيجاد القيد، وهو في
المفروض حال فوات الوقت والخروج منه فالمكلف - في المثال
المتقدم - بعد الظهر لا يتمكن من إيجاد غسل الجمعة قبل الظهر، ففي
هذه الحالة لا بد من الرجوع إلى إطلاق دليل الواجب لو كان في
البين والا فالرجوع إلى الأصول العملية كما بيناه.
فظهر مما تقدم أنه ربما يمكن أن يكون القضاء بالامر الأول، وذلك
فيما إذا كان دليل التقييد مهملا ودليل الواجب مطلقا، وان كان
صدق القضاء عليه حينئذ لا يخلو من إشكال لان ظاهر لفظ القضاء
عبارة عن تدارك ما فات في الوقت وليس في المفروض فوات أصلا
نعم موارد وجوب القضاء ليست من هذا القبيل غالبا بل في أغلب
الموارد يكون لدليل التقييد أيضا إطلاق بالنسبة إلى قيديته حتى في
حال عدم التمكن من إيجاد القيد كما سيجئ - في باب الاشتغال إن
شاء الله تعالى في مورد الشك في جزئية شئ أو شرطيته في حال
عدم التمكن منه - أن ظاهر أدلة الاجزاء والشرائط جزئيتها وشرطيتها
مطلقا لا في خصوص حال التمكن فقط، ولذلك قلنا بأن الأصل
في جميع الاجزاء والشرائط هي الركنية.
ثم انه بعد مجئ الدليل على وجوب القضاء في جميع الفرائض
الموقتة كما هو مفاد قوله عليه السلام: من فاتته فريضة فليقضها كما
فاتت، أو في خصوص الصوم والصلاة بناء على عدم ثبوت هذه
المشهورة في الأفواه فهل يكون واجبا آخر ثابتا بدليل آخر أو يكون هو
نفس الواجب الأول وان إيجاده في الوقت كان واجبا آخر غير أصل
وجوبه أو كان تقييده بكونه في وقت كذا مخصوصا بحال التمكن
232

من إيجاده مقيدا بذلك القيد فينحصر التقييد في الحقيقة بصورة بقاء
الوقت بمقدار أداء الواجب ولكن هذا الفرض الأخير باطل، لان
انحصار التقييد بصورة بقاء الوقت من قبيل الضرورة بشرط المحمول
لان مفاد هذا القسم من التقييد هو أنه ما دمت أيها المكلف في
الوقت يجب أن تأتي به في الوقت ومعلوم أن مثل هذا التقييد لغو،
فينحصر وجه كون مدلول هذا الدليل الدال على وجوب القضاء هو
بقاء
الواجب الأول بأن يكون تقييده بالوقت من قبيل واجب في واجب.
وأنت خبير بأنه لو كان الامر من هذا القبيل لكان إطلاق لفظ القضاء و
لفظ الفوت عليه غير صحيح لان ما فات - أي كون هذا الواجب في
الوقت - لا يمكن تداركه الا بجعل شئ آخر بدلا عنه وقائما
بمصلحته لا بإيجاد أصل الواجب الباقي وجوبه في خارج الوقت. و
أما ما
يمكن أن يؤتى به في خارج الوقت فهو أصل الواجب وهو لم يفت بل
باق بنفسه إلى خارج الوقت، فليس إتيانه في خارج الوقت قضاء
لأنه عبارة عن إتيان ما فات في الوقت في خارجه ولا تدارك لما فات
لأنه لم يفت حتى يتدارك، بل يكون كسائر الواجبات غير
الموقتة التي متى ما أتى بها تكون أداء ولا يتصور القضاء فيها أصلا
فينحصر الامر في أن يكون مدلول الدليل الدال على وجوب القضاء
بعنوان تدارك ما فات وجوبا آخر مغايرا لذلك الواجب الأول ثابتا
بدليل آخر، وهو دليل وجوب القضاء.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قده) ذكر مؤيدا لما ذكرنا - من أن مدلول أدلة
وجوب القضاء ليس هو بقاء الواجب الأول بل يكون وجوبا آخر
مغايرا لذلك - أنه إذا لم يبق من الوقت بمقدار إدراك ركعة، بل كان
أقل من ذلك ولم ينقض الوقت تماما ففي ذلك المقدار الباقي من
الوقت الذي هو أقل من مقدار إدراك الركعة لا يجب إتيان ذلك
الواجب لا أداء ولا قضاء أما عدم وجوبه أداء فلعدم بقاء الوقت
الكافي لا
الحقيقي منه ولا التنزيلي وأما عدم وجوب القضاء فلأنه لا بد وأن
يكون في خارج الوقت والوقت لم يخرج بعد وليس هناك وجوب
آخر في البين غير معنون بأحد ذينك
233

العنوانين، فلا بد وأن يكون الوجوب الأول قد انعدم، فلا يمكن أن
يكون باقيا إلى خارج الوقت.
و (أنت خبير) بأنه يمكن أن تشمله أدلة وجوب القضاء لان موضوعها
فوت الواجب والفريضة وعدم إمكان إدراكها في الوقت لا خروج
الوقت بتمامه، ولا مخصص لهذا العموم لا عقلا ولا شرعا.
ثم انه لو شككنا في فوت واجب، فهل يمكن إثبات الفوت
باستصحاب عدم الاتيان في الوقت أم لا؟ مبني على القول بأن الفوت
أمر
وجودي أم عبارة عن عدم الاتيان به في الوقت؟ فان قلنا بأنه أمر
وجودي فاستصحاب عدم الاتيان في الوقت بالنسبة إليه يكون من
قبيل الأصل المثبت، وإن قلنا بأنه أمر عدمي وعبارة عن عدم إتيان
الواجب في الوقت فلا مانع من إثباته بالاستصحاب، لأنه متيقن
بعدم إتيانه قبل دخول الوقت أو بعد دخوله في الموسعات في بعض
الأحيان فيستصحب ذلك العدم في تمام الوقت وإلى انقضائه ولكن
الصحيح وإن كان هو أن الفوت أمر عدمي بمعنى عدم الملكة كالزوال
والموت أي عبارة عن عدم وجود الشئ أو عدم بقائه فيما إذا
كان قابلا للوجود أو للبقاء الا أنه لا فائدة في هذا الاستصحاب في
مورد الشك في إتيان الصلاة في وقتها لحكومة قاعدة (الوقت حائل)
- التي مفادها عدم اعتبار الشك بعد مضي الوقت - على هذا
الاستصحاب نعم لا بأس بجريان هذا الاستصحاب في غير باب
الصلاة من
الموقتات التي يجب فيها القضاء على تقدير فوتها كالصوم في بعض
أقسامه (صوم شهر رمضان) أو المنذور بنذر معين مثلا.
و (منها) - تقسيمه إلى الأصلي والتبعي
وقال في الكفاية: الظاهر أن هذا التقسيم بحسب مقام الثبوت لا الدلالة
والاثبات فالمراد من الواجب الأصلي ما يكون مرادا بالإرادة
الاستقلالية بواسطة الالتفات إليه وما يترتب عليه من المصالح و
الأغراض أو توقف وجود ماله المصلحة عليه، سواء كان واجبا نفسيا
أو
غيريا فبناء على هذا لا فرق في الاتصاف بالأصلية بين النفسي و
الغيري وكل واحد منهما يتصف بها لامكان
234

تعلق الإرادة الاستقلالية بكل واحد منهما بعد الالتفات إليه. والمراد
من الواجب التبعي أن يكون مرادا بالتبع من دون التفات إليه
فتكون مراديته لأجل أن إرادته لازمة لإرادة شئ آخر وان لم يلتفت
إليه وهذا القسم ينحصر في الواجب الغيري لان الواجب النفسي
هو ما يكون مرادا لأجل المصلحة التي فيه لا من جهة كون إرادته لازمة
لإرادة أخرى، فالواجب الغيري - بناء على هذا - يمكن أن يكون
أصليا وهذا فيما إذا كان متعلقا للإرادة المستقلة بعد الالتفات إلى أن
هذا الشئ مما يتوقف عليه وجود ماله المصلحة الملزمة ويمكن أن
يكون تبعيا وهذا فيما إذا لم يكن مرادا بالإرادة الاستقلالية من جهة
عدم الالتفات إلى أنه مما يتوقف عليه وجود ماله المصلحة بل تكون
إرادته من جهة أنها لازمة لإرادة أخرى و أما الواجب النفسي فيكون
أصليا فقط ولا يمكن أن يكون تبعيا بهذا المعنى لما ذكرنا من أن
إرادته ليست من جهة كونها لازمة لإرادة أخرى، بل لما في متعلقها من
المصالح و (بعبارة أخرى) المريد إما أن يلتفت إلى المصلحة التي
فيه فيريده استقلالا واما أن لا يلتفت فلا يريده أصلا ولذلك لو غرق
ولده ولم يلتفت إليه فليس له إرادة إنقاذه أصلا نعم فيه ملاك
الإرادة أي المصلحة الملزمة.
ثم يقول: نعم لو كان هذا التقسيم بلحاظ مقام الدلالة والاثبات لا
نصف النفسي أيضا بهما وذلك لان المراد من الأصلية والتبعية - في
مقام الاثبات - هو أن يكون الوجوب مقصودا بالإفادة وأن لا يكون
كذلك ولا شك في أن الواجب النفسي كما يمكن أن يكون مقصودا
بالإفادة كذلك يمكن أن لا يكون كذلك، بل كان أفيد بالتبع لغيره الذي
هو مقصود بالإفادة.
هذا حاصل ما ذكره في الكفاية في هذا المقام تبعا للشيخ الأعظم
الأنصاري (قدس سره) وأنت خبير بأن ما ذكره (رحمه الله) إن كان
مجرد اصطلاح فلا مشاحة فيه وإلا فظاهر لفظ الأصلي والتبعي - إذا
أسند الواجب إليهما - يقتضي أن يكون المراد من الأصلي - مقابل
التبعي بقرينة المقابلة - هو الواجب الذي ليس
235

وجوبه وإرادته تابعة لإرادة غيره ووجوبه، ومثل هذا المعنى ينحصر
في الواجب النفسي وأن يكون المراد من التبعي هو الواجب الذي
يكون وجوبه تبعا لوجوب شئ آخر وإرادته ناشئة من إرادة أخرى و
مثل هذا المعنى ينحصر في الواجب الغيري وذلك لان الواجب
الغيري مع النفسي الذي يكون ذلك الغيري مقدمة له متعاكسان
وجودا ووجوبا، فوجود النفسي مترتب على وجود الغيري لأنه من
أجزاء علة وجوده كما أن وجوب الغيري مترتب على وجوب النفسي
وهذا هو الظاهر من التبعية، ففي الحقيقة - بناء على هذا - لا فرق
بين أن تقول الواجب الأصلي والتبعي وبين أن تقول الواجب النفسي
والغيري.
نعم لو كان المراد من الأصالة والتبعية هما في مقام الدلالة والاثبات
فيتصف بهما كل واحد من النفسي والغيري كما ذكرنا، وليس
ببعيد أن يكون كذلك لان ذكرهم للأصلي والتبعي - في قبال النفسي
والغيري - قرينة على أن مرادهم من هاتين الكلمتين الأصالة و
التبعية في مقام الاثبات لا الثبوت، وإلا كان ذكرهما لغوا بناء على ما
استظهرنا منهما والذي يسهل الخطب أنه لا ثمرة عملية لهذا
البحث أصلا، فاصل الكلام فيه زائد وما ذكرنا انما هو من جهة متابعة
القوم ومن هذا تعرف أن البحث - في أن الاستصحاب هل يجري
لاثبات أن الواجب تبعي أو لا؟ عند الشك والدوران بين الأصلية و
التبعية - لغو لا فائدة فيه، لعدم ترتب أثر شرعي على إثبات ان هذا
الواجب تبعي أم لا. وإن كان ما ذكره (رحمه الله) في وجه جريان
الاستصحاب - بناء على ما ذهب إليه من أن الأصلي هو ما يكون مرادا
بالإرادة الاستقلالية والتبعي ما كانت إرادته لازمة لإرادة أخرى من أن
الأصل عدم تعلق إرادة مستقلة بذلك الشئ فيثبت انه تبعي لو
كان التبعي أمرا عدميا أي كان عبارة عن الواجب الذي لم تتعلق به
إرادة مستقلة. نعم لو كان التبعي عبارة عن أمر وجودي أي كان
عبارة عن الواجب الذي تعلقت به إرادة تابعة لإرادة أخرى ولازمة لها
فيصير الأصل مثبتا - (لا يخلو) من
236

مناقشة وإشكال لان حقيقة الواجب التبعي - كما هو واضح - ليس
عبارة عما لم تتعلق به إرادة مستقلة، بل هي عبارة عن أن يكون مرادا
بإرادة تابعة لإرادة أخرى من دون التفات تفصيلي إلى جهة مرادية
ذلك الشئ. ومثل هذا المعنى لا يثبت باستصحاب عدم تعلق إرادة
مستقلة به الا على القول بالأصل المثبت هذا أولا.
و (ثانيا) - سلمنا ان حقيقة الواجب التبعي مركبة من أمرين أحدهما ان
يكون مرادا وثانيهما أن لا تكون تلك الإرادة مستقلة، وحيث إن
تلك الإرادة من أول وجودها مشكوكة الاستقلال فليس لعدمها النعتي
حالة سابقة متيقنة وعدمها المحمولي مثبت.
(المبحث الرابع) في دلالة الامر على المرة أو التكرار وهكذا الكلام
بالنسبة إلى الفور والتراخي.
(اما الأول) - أي دلالته على المرة أو التكرار - فالتحقيق انه لا يدل
على كل واحد منهما، وذلك لان مادة المشتقات التي منها الامر - كما
تقدم - موضوعة لنفس الحدث الذي يصدر عن الفاعل من دون
ملاحظة أي انتساب فيه ولذلك قلنا بأن المصدر أيضا كسائر الصيغ
مشتق من المشتقات لملاحظة النسبة إلى فاعل ما فيه أيضا، فلا يمكن
ان يكون مادة محفوظة في سائر المشتقات لعدم انحفاظ تلك
النسبة في جميعها فبناء على هذا لم يؤخذ في المادة لا مرة ولا تكرار
بل هي عبارة عن نفس الحدث والهيئة معنى حرفي ليس مفادها الا
النسبة الكذائية التي تقدم شرحها، ولا تدل على مرة ولا على تكرار و
قد تقدم أن المجموع المركب من المادة والهيئة ليس له وضع
آخر فمن أين جاءت دلالته على المرة أو التكرار؟ نعم حيث أن الهيئة
تدل على طلب إيجاد ذلك الحدث، فلو كان المطلوب صرف الوجود
منه لا الوجود الساري، فقهرا يحصل الامتثال بالمرة ويسقط الامر كما أنه
لو كان المطلوب هو الوجود الساري لا يحصل الامتثال بإيجاد
فرد واحد منه، بل على
237

المكلف ان يوجد جميع ما يصدق عليه المطلوب وحينئذ وان كانت
نتيجة هذا إيجاد الطبيعة مرارا لكن ليس هذا التعدد من ناحية دلالة
الامر على التكرار، بل من جهة انحلال القضية الكلية إلى قضايا متعددة
حسب تعدد افراد ذلك الكلي فهذا تعدد الحكم بواسطة تعدد
الموضوع، فكأنه حكم بأحكام متعددة على موضوعات متعددة وأين
هذا من دلالة الامر على التكرار؟ ولو كان الامر دالا على التكرار
لما كان فرق في ذلك بين القضايا الكلية والجزئية ففي مثل قوله أكرم
زيدا أيضا لا بد وان يدل على لزوم التكرار وإيجاد إكرامات
متعددة وعدم حصول الامتثال بإكرام واحد فلا ربط للقضايا الانحلالية
بدلالة الامر على التكرار أصلا.
ومما ذكرنا يظهر حال دلالته على الفور والتراخي، وانه لا دلالة له
على كل واحد منهما، وذلك لما ذكرنا من أن الامر بمادته لا يدل الا
على الحدث الكذائي، وبهيئة موضوع لصرف النسبة الطلبية فهاتان
الخصوصيتان - أي الفورية التي هي عبارة عن لزوم المبادرة و
عدم جواز التأخير في الامتثال عن أول أزمنة الامكان، والتراخي الذي
هو عبارة عن جواز تأخير الامتثال عن أول أزمنة الامكان -
خارجتان عن مدلول صيغة الامر فثبوت كل واحد منهما يحتاج إلى
دليل آخر.
وأما الأدلة التي ذكروها لأحد الامرين في الكتب المفصلة فكلها
واضحة البطلان.
فلا وجه للتعرض لها والرد عليها.
(المبحث الخامس في الاجزاء)
وهذه مسألة كثيرة الفائدة في الفروع الفقهية وقد عنونها جمع بأنه هل
الامر يقتضي الاجزاء عند إتيان المأمور به على وجهه أم لا؟
فأسندوا اقتضاء الاجزاء إلى الامر وعنون بعض آخر بأن الاتيان
بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الاجزاء أم لا؟ فأسندوا الاقتضاء
إلى
الاتيان لا إلى الامر وذكرها في مبحث الأوامر بالاعتبار الأول والا لو
كان عنوان المسألة هي العبارة الأخيرة فلا ربط له بمبحث
الألفاظ أصلا، بل يكون من الاحكام العقلية وان العقل هل يحكم بأن
إتيان المأمور به على
238

وجهه علة للاجزاء من جهة حصول الغرض وسقوط الامر فلا يحتاج
إلى الإعادة في الوقت ولا إلى القضاء في خارجه أم لا؟ فيكون حال
هذه المسألة بناء على هذا حال مسألة مقدمة الواجب وأن العقل هل
يحكم بوجود الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدماته أم لا؟ و
لكن
حيث إن الأصوليين لم يفردوا بابا للبحث عن الاحكام العقلية ذكروها
في أبواب متفرقة.
ومما يتفرع على اختلاف هذين العنوانين هو انه بناء على أن يكون
محل البحث هو العنوان الأول يكون الاقتضاء بمعنى الدلالة في مقام
الاثبات لأنه لا معنى لان تكون صيغة الامر علة للاجزاء في مقام
الثبوت لان الاجزاء في مقام الثبوت من لوازم حصول الغرض وسقوط
الامر ولا يمكن ان يكون الامر علة لحصول الغرض وسقوط الامر، و
الا يلزم ان يكون الشئ علة لسقوط نفسه.
وبناء على أن يكون هو العنوان الثاني يكون الاقتضاء بمعنى العلة في
مقام الثبوت، لان إتيان المأمور به علة لحصول الغرض وإذا حصل
الغرض فقهرا يسقط الامر، لأن علة وجود الامر - حدوثا وبقاء - هو
تحصيل الغرض، فإذا حصل فلا يبقى مجال لبقاء الامر وإلا يلزم ان
يكون بقاؤه بلا علة ومعلوم ان المعلول يحتاج إلى العلة حدوثا وبقاء.
بقي الكلام في أنه أي واحد من العنوانين أولى بأن يكون محل البحث
والنزاع؟ ربما يتوهم ان العنوان الأول أولى وهو الذي ينبغي ان
يكون محل البحث والنزاع وذلك من جهة ان الاتيان بالمأمور به
بالامر الواقعي الأولى لا ينبغي ان يكون محلا للنزاع في أنه هل يجزي
ولا يحتاج إلى الإعادة في الوقت والقضاء خارج الوقت، لان هذا
المعنى ضروري إلا ان يقول أحد بأن الامر يدل على التكرار ومع ذلك
أيضا لا يفيد لان المأمور به - بناء على هذا القول - لم يؤت به بعد، لا
انه أتي به وليس بمجز. وكذلك إتيان المأمور به بكل أمر بالنسبة
إلى ذلك الامر معلوم انه يوجب سقوط ذلك الامر والا يلزم طلب
الحاصل فالذي ينبغي ان يكون محل
239

النزاع - في هذه المسألة - هو أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي
الثانوي وكذلك الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري هل يكون
مجزيا عن الاتيان ثانيا بعد رفع الاضطرار في القسم الأول والجهل في
القسم الثاني بالمأمور به بالامر الواقعي الأولى أم لا؟ ولا شك
في أن هذا النزاع يرجع إلى مقام الاثبات وأنه هل تدل أدلة الاحكام
الواقعية الثانوية وأدلة الاحكام الظاهرية على كفاية الاتيان
بمؤداها عن الواقع الأولى أم لا؟ وأنت خبير بأنه وإن كان الامر كذلك
ولكن النزاع في أن الاتيان هل يكون علة للاجزاء وعدم لزوم
الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بعد رفع الاضطرار أو رفع الجهل و
كشف الخلاف أم لا؟ ولو كان منشأ الحكم بالاجزاء أو بعدمه هي
أدلة تلك الأحكام الواقعية الثانوية أو الظاهرية.
والحاصل ان اقتضاء الاجزاء من آثار الاتيان لا من آثار نفس الامر وان
كان إثبات هذا الاقتضاء بأدلة تلك الأحكام.
ثم إن الفرق - بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار وهكذا بين
هذه المسألة ومسألة تبعية القضاء للأداء - معلوم لا سترة فيه (اما
الأول) فلان النزاع في المرة والتكرار في تعيين مدلول الصيغة، وانه
هل هو إيجاد الطبيعة المأمور بها مرة واحدة أو مرارا وهاهنا في أن
الاتيان بما هو مدلولها بعد الفراغ عن كونه مدلوله هل يكون مجزيا
أم لا؟ بل الامر أوضح من هذا أيضا لان النزاع في الحقيقة هاهنا
- كما عرفت - في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الثانوي أو
الظاهري هل يكون مجزيا عن الاتيان بالمأمور به بأمر آخر وهو
المأمور به بالامر الواقعي الأولي، وأين هذا من دلالة الامر على المرة و
التكرار؟ و (اما الثاني) فلان النزاع في مسألة ان القضاء هل هو
بالامر الأول أو بأمر جديد مرجعه إلى وحدة المطلوب - بمعنى ان
الصلاة مثلا مقيدة بكونها في الوقت مطلوبة بالامر الأول، فلو كنا
نحن وذلك الامر ولم يكن في البين دليل آخر على وجوب القضاء
بعد فوات الوقت لما قلنا به - أو تعدد المطلوب بمعنى ان الامر الأول
- كما أنه يدل على إيجاد المأمور به في الوقت كذلك
240

يدل على لزوم إيجاده في خارج الوقت إن لم يوجده في الوقت. و
الحاصل ان النزاع في مسألة القضاء في أن الامر هل يدل على مطلوب
واحد - وهو لزوم إيجاد المأمور به في الوقت، وإذا فات الوقت فات
الموقت - أو يدل على أمرين وهو أنه أو لا يجب إيجاده في الوقت
وإذا لم يوجده اما عصيانا أو عذرا، فيجب إيجاده في خارج الوقت، و
أين هذا مما نحن فيه؟ خصوصا بناء على ما ذكرنا من أن أصل
النزاع في هذه المسألة في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي
الثانوي، وهكذا الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري هل يكون مجزيا
عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الأولى بعد رفع الاضطرار أو
كشف الخلاف ورفع الجهل أو لا؟ فلا ربط لإحدى المسألتين
بالأخرى فضلا عن أن تكونا متحدتين وأما قيد (على وجهه) في
العنوان (فاحتمل) أن يكون المراد منه قصد الوجه لكن يرد عليه
(أولا) -
عدم اعتبار قصد الوجه في شئ من الواجبات توصليا كان ذلك
الواجب أم تعبديا و (ثانيا) - لو فرضنا اعتباره لا وجه لاختصاصه
بالذكر من بين جميع القيود المعتبرة في الواجبات، و (احتمل) أن
يكون المراد منه قصد القربة. وفيه (أولا) - أن قصد القربة مخصوص
بالعبادات فيوجب تخصيص العنوان بها لان غير العبادات ليس لها
وجه بهذا المعنى، مع أن النزاع ليس مخصوصا بالعبادات و (ثانيا)
بناء على ما حققنا سابقا من إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الامر و
لو بمتمم الجعل يكون قصد القربة أيضا كسائر الاجزاء والشرائط
داخلا في المأمور به، فيكون ذكره بخصوصه لغوا مستدركا و (احتمل)
أن يكون المراد منه كل ما يعتبر في المأمور به عقلا أو شرعا
فالمراد حينئذ من إتيان المأمور به على وجهه أي على النهج الذي
يلزم أن يؤتى به على ذلك النهج عقلا أو شرعا وهذا هو الصحيح بناء
على عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الامر، وبناء على إمكانه
يكون ذكر هذا القيد مستدركا على كل حال الا أن يكون المراد
بالمأمور به في العنوان هو المأمور به بالامر الأول لا ما يكون داخلا فيه
ولو بمتمم الجعل.
(إذا عرفت ذلك) فنقول: إن الكلام في هذا المبحث في ثلاث
مقامات:
241

(المقام الأول)
- في أن الاتيان بالمأمور به - بكل أمر سواء كان ذلك الامر أمرا واقعيا
أوليا أو واقعيا ثانويا أو ظاهريا - هل يكون مجزيا بمعنى أن
يكون موجبا لحصول الغرض من ذلك الامر فيكون الامر ساقطا أم لا؟
وفي هذه المرحلة لا ينبغي أن يشك في الاجزاء، وذلك من جهة
أنه بعد وجود المأمور به، يسقط الامر قهرا، وإلا يلزم أن يكون من قبيل
طلب الحاصل ولذلك يكون الامتثال عقيب الامتثال غير معقول
لأنه بالامتثال الأول يسقط الامر كما بينا فلا يبقى مجال للامتثال الثاني.
واما مسألة تبديل الامتثال فقد توهم إمكانه بل وقوعه في مثل
إعادة المنفرد صلاته جماعة والامام إماما في المرة الأولى يعني مرة
واحدة.
ولكن التحقيق أنه أيضا لا يمكن ان كان المراد بالامتثال كما هو كذلك
انبعاث المكلف إلى إتيان المأمور به عن أمر المولى، لما ذكرنا
من سقوط الامر بمحض إتيان المأمور به بجميع أجزائه وشرائطه و
إعدام موانعه، فلا يبقى أمر حتى ينبعث عنه ثانيا. وأما مسألة إعادة
المنفرد صلاته جماعة أو الامام مرة واحدة أخرى إماما، فليس من
قبيل تبديل الامتثال بل من جهة ان الغرض الأقصى حيث لم يحصل
بعد
فللعبد ان يأتي بفرد آخر من طبيعة المأمور به لا بعنوان الامتثال الثاني
أو بعنوان تبديل الامتثال لان الامتثال حصل بالاتيان الأول و
سقط الامر بل برجاء ان يكون أحب إليه من الفرد الأول فيختاره
لغرضه الأقصى وهذا المعنى متوقف على أمرين:
(أحدهما) - عدم حصول الغرض الأصلي بمجرد وجود المأمور به أو
اختياره لغرضه الأصلي بمجرد وجوده و (ثانيهما) - احتمال ان
يكون ما يريد ان يأتي به ثانيا هو الذي يختاره المولى، وبعد وجود
هذا الاحتمال لا فرق بين ان يكون ما يريد أن يأتي به ثانيا في
نظره أفضل من الذي أتى به أولا أو مساويا له ولا يحتاج إلى وجود
دليل على هذا الامر بعد هذا الاحتمال أيضا إذا جاء به برجاء انه هو
المختار. نعم استحبابه يحتاج إلى الدليل كما أنهم أفتوا به في
الموردين المتقدمين لأجل ذلك وعلى كل حال لا يمكن أن يكون
إتيانه
بعنوان الوجوب لا وصفا ولا غاية،
242

كما أنه لا وجه للجزم بأنه هو المختار الا إذا دل دليل على ذلك أو
حصل له القطع من أمارة خارجية.
ثم إن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) في هذا المقام - من إمكان تبديل
الامتثال عقلا وثبوتا واحتياجه إلى الدليل إثباتا بناء على ما هو
مسلكه من أن هذه العبادات معدات بالنسبة إلى آثارها وليست من
قبيل العلة التامة التي لا يتخلف ولا يتأخر وجود المعلول عنها، بل
يمكن أن توجد ومع ذلك قبولها وترتب الأثر عليها يحتاج إلى أشياء
اخر لا ربط لها بفعل العبد كاحتياجه إلى تصفية الملائكة وغير
ذلك من الجهات فلو أتى بفرد آخر يمكن أن يصير هو الاخر مصفى و
موردا للقبول - فهو على فرض صحته وغض النظر عما تقدم من
الاشكال عليه ومن غرابة هذا الكلام وهو أن يكون القبول وترتب
الأثر عليها بتصفية من الملائكة لا يصحح مسألة تبديل الامتثال إذا
كان المراد من الامتثال هو الانبعاث عن بعث المولى كما تقدم، وذلك
لما ذكرنا من سقوط الامر بالاتيان الأول وبعده لا بعث حتى
يكون الانبعاث عنه.
وقد أفاد أستاذنا المحقق (قده) في هذا المقام ما حاصله أن فعل العبد
من صلاته وصيامه وسائر عباداته مقدمة لما يترتب عليه غرض
المولى مثلا يترتب غرض المولى الذي هو رفع عطشه على شرب
الماء بفعل نفسه، وإتيان الماء مقدمة لشربه الذي يترتب عليه غرضه
أي رفع عطشه فالامر المتعلق بإتيان الماء أمر مقدمي غيري فبناء على
القول بوجوب المقدمة الموصلة إذا كان إتيان الماء متعددا
فالكأس الذي شرب منه ورفع عطشه به هو الذي يقع على صفة
الوجوب، سواء كان هو الكأس الذي أتى به أولا أو الذي أتى به ثانيا. و
في مثل الصلاة مثلا أيضا يكون الامر كذلك فالصلاة التي يختارها الله
ويقبلها هي التي تقع على صفة الوجوب سواء كانت هي الأولى أو
الثانية المعادة فالامتثال يقع بما اختاره الله ويكون أحبهما إليه وهذا
هو المراد من الروايات الواردة في هذا الباب ثم اعترض على
نفسه بقوله: فان قلت بناء على هذا لا معنى لاستحباب المعادة لان ما
وقع عليه الاختيار هو الواجب والاخر الذي لا يقع
243

عليه الاختيار خارج عن دائرة الامر رأسا لا واجب ولا مستحب فمن
أين جاء استحباب الإعادة؟ (قلنا) إنه من الممكن أن يكون في نفس
توسعة المولى في عالم الاختيار مصلحة توجب محبوبية الإعادة و
استحبابها، إذ فرق واضح بين ان يكون المولى ملزما باختيار فرد
خاص من الطبيعة المأمور بها أو يكون مخيرا بين اختيار أحد الافراد
المأتي بها.
هذا حاصل كلامه وأنت خبير بأنه على فرض صحته وتماميته لا
يصحح مسألة تبديل الامتثال، بل الامتثال لا يحصل الا بالفرد المختار
مضافا إلى أن القول - بأن مثل الصلاة التي هي من أفضل الطاعات و
أكمل القربات لا يكون وجوبها نفسيا بل كان غيريا مقدميا - لا
يخلو من غرابة بل ينبغي أن يعد من الأعاجيب. واما احتمال أن تكون
الإعادة في باب إعادة المنفرد جماعة أو الامام إماما مرة واحدة
أخرى مستحبا مثل استحباب إعادة صلاة الآيات ما دامت الآية باقية،
بمعنى ان الصلاة الأولى واجبة وسائر الصلوات مستحبة يبعده ان
ظاهر قوله عليه السلام (ان الله يختار أحبهما إليه) ان الذي يقع على
صفة الوجوب هو الذي يختاره سواء كان هو الأول أو الثاني، لا ان
الأول واجب والثاني مستحب وهكذا ما في بعض الروايات من قوله
عليه السلام (يجعلها فريضة) يدل على أن الله يجعل الثاني فريضة لا
ان الأول فريضة والثاني مستحب بخلاف صلاة الآيات فان الأولى
واجبة والثانية والثالثة وهكذا ما دامت الآية باقية مستحبة. وما
وجهه به بعض المحققين في حاشيته على الكفاية من أن المراد بجعله
فريضة جعلها قضاء لما فات من الفريضة يرده قوله عليه السلام
يختار أحبهما إليه.
فتلخص مما ذكرنا أن الصحيح في توجيه هذه الروايات هو ما ذكرناه
من أن الاتيان برجاء ان يكون المأتي به ثانيا أحب إليه من الأول و
لعله هو الذي يختاره محبوب ومستحب.
(المقام الثاني)
في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يكون مجزيا عن
الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بعد رفع الاضطرار في الوقت
إعادة وفي
244

خارج الوقت قضاء أم لا؟ فهاهنا موضعان للبحث:
(الأول) - في الاجزاء عن القضاء بمعنى انه لو تعذر قيد جزا كان أو
شرطا أو من قبيل عدم المانع في تمام الوقت وأتى المكلف بما هو
فاقد القيد بواسطة تعلق الامر الاضطراري به هل يكون مجزيا ولا يلزم
الاتيان بواجد ذلك القيد بعد رفع الاضطرار في خارج الوقت أم
لا؟ بل يجب الاتيان به ثانيا في خارج الوقت.
وقد أفاد شيخنا الأستاذ (قده) في هذا المقام أن مقتضى وجود الامر و
تعلقه بفاقد القيد في تلك الحال عدم مدخلية ذلك القيد المتعذر
في تمام الوقت في الملاك، والا لكان الامر متعلقا بفاقد الملاك و
ذلك لا يمكن لما تحقق في محله من تبعية الأوامر للملاك التام و
معنى
لزوم القضاء في مورد هو فوت الملاك، بناء على أن يكون المراد من
فوت الفريضة هو فوت الملاك لا فوت الواجب الفعلي والا لا فوت
قطعا لوضوح عدم تعلق الامر والتكليف بالواجد في حال التعذر
فالحكم بلزوم القضاء مع تعلق التكليف الفعلي بفاقد القيد متناقضان،
فلا بد من بطلان أحدهما وحيث أن المفروض ان التكليف تعلق بفاقد
القيد فلا بد من إنكار وجوب القضاء.
وأنت خبير بأنه في مقام الثبوت من الممكن ان تكون هناك مصلحة
ملزمة للفاقد ولو كانت ملزميتها بواسطة انضمامها بمصلحة الوقت
وإيجاد الفاقد للقيد المتعذر فيه. ولكن هناك مصلحة أخرى أو مرتبة
أخرى من تلك المصلحة تكون لواجد ذلك القيد المتعذر ملزمة
أيضا. ويمكن استيفاؤها ولو كان في خارج الوقت، ففي هذا الفرض
فاتت المصلحة الملزمة التي تكون موضوعا للقضاء، بناء على أنه
تابع لفوت المصلحة الملزمة لا لفوت الواجب الفعلي كما هو الصحيح
لان في كثير من موارد القضاء لم يفت الواجب الفعلي كصوم شهر
رمضان بالنسبة إلى المسافر والمريض.
وهكذا في صوم الحائض نعم في مقام الاثبات يحتاج إلى دليل على
فوت هذا المقدار من الملاك وانه ممكن الاستيفاء.
و (أما ما ربما يتوهم) أو يقال بان المكلف ليس ملزما بتحصيل
المصلحة،
245

بل يجب عليه إطاعة المولى فان كان هناك أمر إلزامي يجب عليه
بحكم العقل امتثاله، والا فلا شئ عليه وفيما نحن فيه لا أمر بالنسبة
إلى واجد القيد المتعذر لا في الوقت لأنه متعذر ولا في خارجه
بعنوان القضاء لأنه فرع فوت الفريضة (فجوابه) انه لو فرضنا أن متعلق
الامر الاضطراري ليس وافيا بتمام مصلحة المأمور به بالامر الواقعي
الأولي وان كان وافيا بمرتبة من المصلحة التي تكون تلك المرتبة
أيضا ملزمة ولازم الاستيفاء ولو بانضمامها إلى مصلحة الوقت وكان
المقدار الفائت أيضا لازم الاستيفاء مع إمكان استيفائه فيشمله
دليل من فاتته فريضة بناء على أن المراد من فوت الفريضة هو فوت
المصلحة الملزمة لا فوت الواجب الفعلي كما تقدم.
و (أما) ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) أخيرا من أن الفاقد - على فرض
عدم وفائه بتمام مصلحة الواجد وفوت مقدار منها - لا يلزم
إعادته لأنه لا يمكن استيفاء ذلك المقدار، لان حصولها لا بد وأن
يكون في ضمن مصلحة أصل المأمور به ولا يمكن تحصيلها منفردا و
المفروض أن أصل مصلحة الواجب حصل ولا يمكن تحصيل
الحاصل ثانيا (ففيه) أنه من الواضح الجلي إمكان تكرار العمل مقدمة
لحصول
المقدار الفائت إلا أن يدل دليل على عدم جواز تكرار العمل ثانيا، و
هذا الفرض خارج عن محل الكلام (فالأحسن) أن يقال بأن الحال في
مقام الثبوت مختلف، فربما يكون الفعل الاضطراري وافيا بتمام
مصلحة الفعل الاختياري إذا طرء عليه الاضطرار ولا غرابة في ذلك
فان
مصالح الأشياء تختلف باختلاف الأحوال وهذا أيضا على قسمين
لأنه (تارة) يكون وفاؤه بتمام المصلحة في ظرف طروء الاضطرار
بغير اختياره وأما إذا جعل نفسه مضطرا باختياره فلا يكون وافيا حينئذ
بتمام المصلحة و (أخرى) يكون وافيا مطلقا وفي كلتا
الصورتين - بعد فرض وفائه بتمام المصلحة - لا وجه للقضاء، بل ولا
للإعادة إذا فرضنا كونه وافيا بتمام المصلحة حتى ولو حصل
الاختيار وارتفع الاضطرار في الوقت نعم فرق بين الصورتين بالنسبة
إلى جعل نفسه مضطرا، ففي الصورة الأولى لو جعل نفسه
مضطرا لا يكون مجزيا لو كان الفائت لازم الاستيفاء
246

وممكن الاستيفاء، وفي الصورة الثانية يكون مجزيا مطلقا. وهناك
فروق اخر لا تخفى على المتأمل وربما لا يكون وافيا بتمام
المصلحة، بل يفوت مقدار منها ولكن لا يمكن استيفاؤها لا في خارج
الوقت قضاء ولا في الوقت إعادة وفي هذا الفرض أيضا لا بد من
القول بالاجزاء لعدم إمكان تحصيل المصلحة الفائتة نعم يقع كلام في
جواز البدار وعدم جواز البدار وإتيانه في الوقت أو لزوم صبره
وإتيانه بالعمل التام في خارج الوقت ولكن يمكن أن تكون مصلحة
الوقت أو مصلحة أول الوقت ووقت الفضيلة أهم من المقدار الفائت
الذي لا يمكن استيفاؤه وحيث يدور الامر بين فوت إحداهما فيقدم
الأول على الثاني. وربما يكون المقدار الفائت ممكن الاستيفاء و
هذا أيضا على قسمين لأنه اما ان يكون لازم الاستيفاء أو لا بل
يستحب استيفاؤه ففي صورة لزوم استيفائه في الوقت إعادة أو في
خارجه قضاء لا وجه للقول بالاجزاء هذا كله في مقام الثبوت وأما في
مقام الاثبات فلا بد في كل باب، بل في كل مسألة من مراجعة أدلة
ذلك الباب وتلك المسألة.
فما كان منها بلسان جعل البدل، وأن الشئ الفلاني بمنزلة القيد
المفقود كما في قوله عليه السلام التراب أحد الطهورين يكفيك عشر
سنين ظاهره كفاية البدل في ظرف حصول الاضطرار وأنه واف بتمام
الغرض في تلك الحال كما أنه كذلك لو نزل العمل الفاقد منزلة
الواجد. و (بعبارة أخرى) قد ينزل شيئا منزلة القيد المفقود ففي
الحقيقة هذه توسعة في ذلك القيد ومسألة الطهارة الترابية من هذا
القبيل فكأنه جعل الطهارة المائية شرطا عند التمكن منها وعند عدمه
جعل الشرط الطهارة الترابية وظاهر هذا الجعل أن الثاني واف
بتمام غرضه في حال تحقق موضوعه مثل الأول وقد ينزل العمل
الفاقد منزلة العمل الواجد في حالة الاضطرار إلى ترك قيد. وهذا أيضا
مثل الأول في وفائه بالغرض بحسب ظاهر هذا الجعل.
وما كان منها بلسان رفع الاضطرار أو عدم جعل الاحكام الحرجية و
الضررية، فلا يستفاد منها إلا عدم وجوب ما هو مضطر إلى تركه
أو فيه ضرر أو حرج بناء على
247

حكومة هذه القواعد على أدلة الاحكام الواقعية الأولية حكومة واقعية
وأما انه هناك أمر بباقي الاجزاء ما عدا هذا الذي اضطر إلى تركه
بالنسبة إلى الاجزاء والشرائط أو إلى فعله بالنسبة إلى الموانع أو في
فعله حرج أو ضرر أو في تركه كذلك فلا تدل تلك الأدلة عليه
فضلا عن دلالتها على الاجزاء فلا بد في إثبات الاجزاء من التماس
دليل آخر نعم بالنسبة إلى القضاء يمكن أن يقال - بعد وفاء المأمور به
بالامر الاضطراري بمرتبة من الملاك والمصلحة - لا نعلم بفوت
المصلحة اللازمة الاستيفاء مع كونها مما يمكن استيفاؤه فما أحرز
موضوع القضاء الذي هو عبارة عما ذكر.
وما كان منها بلسان رفع النسيان، فلا يدل أيضا على أن الباقي مأمور به
فضلا عن الاجزاء نعم في خصوص باب الصلاة يدل حديث لا
تعاد على عدم لزوم الإعادة أو القضاء إذا كان الخلل الواقع فيها من
ناحية نسيان شرط أو جز.
وما كان منها بلسان الامر بما عدا المضطر إلى تركه أو كان بلسان الامر
بما هو مضطر إلى فعله من الموانع والقواطع وذلك ككثير
من موارد التقية وغيرها، فلا يدل إلا على اشتمال المأمور به على
المصلحة الملزمة. وأما أن هذه المصلحة هي تمام الملاك وتمام ما
هو
الغرض فلا يدل على ذلك أصلا إلا أن يدل دليل من الخارج على عدم
وجوب أمرين وعدم وجود تكليفين ولو كان أحدهما اضطراريا و
الاخر اختياريا لا في الوقت وحده ولا فيه وفي خارجه. نعم بالنسبة
إلى القضاء - بناء على أنه بأمر جديد وتابع لفوت المصلحة التي
يلزم استيفاؤها ويمكن استيفاؤها - يأتي ما ذكرنا آنفا من عدم إحراز
موضوعه.
هذا كله بالنسبة إلى القضاء. واما بالنسبة إلى الإعادة في الوقت فما
كان من قبيل جعل البدل، سواء كان جعل شئ بدلا عن الجز أو
الشرط المفقود أو كان من قبيل جعل العمل الفاقد للجز أو الشرط
المتعذرين أو الواجد للمانع المتعذر تركه بدلا ونازلا منزلة العمل
التام الواجد للاجزاء والشرائط الفاقد للموانع فيدل على عدم لزوم
الإعادة في الوقت كما كان يدل على عدم لزوم القضاء، وذلك لما
ذكرنا من أن ظاهر
248

تلك الأدلة أن البدل في تلك الحال واف بتمام الغرض من المبدل منه
ولم يفت شئ فلا يبقى موضوع للإعادة لحصول الغرض وسقوط
الامر الواقعي. نعم يبقى الكلام في مسألة جواز البدار مطلقا أو مع
اليأس عن طروء الاختيار في الوقت أو عدم جوازه مطلقا وهذا ليس له
ضابط كلي، بل لا بد من النظر والتعمق في الأدلة الخاصة في الموارد
المخصوصة وان جعل البدل بأي كيفية وأن بدليته بصرف طروء
الاضطرار أو مع اليأس عن حصول الاختيار أو بشرط الصبر والانتظار
إلى آخر وقت إمكان الأداء؟ وأما ما كان بسائر الألسنة فقلنا
انها لا تدل على الاجزاء بالنسبة إلى القضاء فضلا عن الإعادة فلا بد من
التماس دليل آخر من إجماع أو غيره على الاجزاء هذا كله بحسب
مفاد الأدلة.
وأما حكم الشك على فرض عدم دلالة الأدلة في مقام الاثبات على
شئ من الاجزاء وعدمه (فتارة) نتكلم فيه بما هو مقتضى الاطلاق. و
(أخرى) فيما هو مقتضى الأصول العملية.
(أما الأول) فمقتضى إطلاق دليل الاختياري - لو كان - هو عدم
الاجزاء لان مقتضى إطلاقه تعينه ولزوم الاتيان به، سواء أتى ببدله أو
لم
يأت به.
و (بعبارة أخرى) قوله عليه السلام: (لا صلاة لمن لم يقم صلبه) أو قوله
عليه السلام: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) وهكذا سائر أدلة الاجزاء
والشرائط هو لزوم الاتيان بهذه الأمور سواء أتى بالمأمور به بالامر
الاضطراري أو لم يأت به خصوصا في الوقت، إلا أنه عند التعذر و
عدم القدرة معذور. نعم لو دل دليل من الخارج على عدم وجوب
عملين ولو كان أحدهما اختياريا والاخر اضطراريا لا في الوقت فقط
ولا فيه وفي خارجه يكون مقيدا لهذا الاطلاق.
و (أما الثاني) فمقتضاها البراءة وذلك من جهة أنه حال الاضطرار لم
يكن مكلفا بالاختياري قطعا، لعدم قدرته واضطراره وبعد رفع
الاضطرار في الوقت وإتيان العمل الاضطراري يشك في حدوث
تكليف جديد بالاختياري فالأصل البراءة
249

وهكذا الامر في رفع الاضطرار بعد خروج الوقت بالنسبة إلى القضاء
بطريق أولى و (أما ما يقال) من حكومة الاستصحاب التعليقي على
هذه البراءة وهو أنه كان يجب عليه إتيان المأمور به بالامر الاختياري
على تقدير رفع الاضطرار قبل إتيان المأمور به بالامر
الاضطراري وبعد الاتيان يشك فيه فيستصحب (ففيه) أولا - عدم
صحة الاستصحاب التعليقي كما سيجئ في محله إن شاء الله تعالى.
و
(ثانيا) - أن من يقول به لا ينبغي أيضا أن يقول به في مثل المقام مما لم
يجعل المركب من الجز الموجود والجز المعلق عليه موضوعا
شرعا، بل يقول به في مثل العصير العنبي إذا غلا يحرم بعد ما جف و
صار زبيبا وشك في بقاء هذا الحكم المعلق حيث أن الشارع جعل
العصير معلقا على الغليان أي على تقدير الغليان وقبل ذهاب الثلثين
موضوعا للحرمة بخلاف ما نحن فيه فان الشارع لم يجعل المكلف -
على تقدير رفع الاضطرار أو عدم كونه مضطرا - موضوعا للحكم
الواقعي الأولي، بل العقل يحكم بأنه قبل الاتيان بالمأمور به بالامر
الاضطراري لو ارتفع اضطراره يلزم عليه إتيان المأمور به بالامر الواقعي
الأولي. نعم من يقول بحجية الاستصحاب التعليقي ولو كان
التعليق مستفادا من حكم العقل كما ذهب إليه أستاذنا المحقق (قده)
فلا يرد عليه هذا الاشكال نعم فيما إذا كان الاجزاء بمناط عدم إمكان
استيفاء المصلحة الفائتة ولو كانت لازمة التحصيل على تقدير إمكانه
لو شك في إمكانه بعد القطع بفوات المصلحة أو مرتبة منها لازمة
الاستيفاء لو كان الاستيفاء ممكنا يجب عليه الاقدام حتى يثبت
عجزه، لأنه في هذا الفرض يكون الشك من قبيل الشك في القدرة و
معلوم أنه في مورد تيقن التكليف أو تيقن وجود ملاكه مع الشك في
القدرة على امتثاله يجب الانبعاث عقلا حتى يظهر ويتبين عدم
قدرته.
وحاصل الكلام أنه ابتداء يجب الرجوع إلى دليل البدل، فان كان له
إطلاق بمعنى أن بدليته بلحاظ جميع الخواص والآثار ويكون وافيا
بتمام الغرض الذي كان يترتب على المبدل منه فيؤخذ به، ويقال
بالاجزاء وعدم لزوم الإعادة والقضاء، ولا
250

يعارضه إطلاق أدلة المبدل منه لحكومته عليها لان مفاد دليل البدل إما
توسعة في الجعل أو في عالم الامتثال. وعلى كل من التقديرين لا
يبقى محل لاطلاق دليل المبدل منه وأما إن لم يكن لدليل البدل
إطلاق فالمرجع إطلاق دليل المبدل منه وقد عرفت مقتضاه وهو
عدم
الاجزاء إلا أن يدل دليل خارجي على عدم وجوب عملين كلاهما في
الوقت أو أحدهما يكون في خارج الوقت وإن لم يكن لدليل المبدل
منه أيضا إطلاق ووصلت النوبة إلى الأصول العملية، فالأصل البراءة و
الاستصحاب التعليقي الحاكم على هذا الأصل لا يجري كما ذكرناه
مفصلا، وفي صورة القطع بفوات مصلحة ملزمة إذا شككنا في إمكان
تحصيلها يكون من قبيل الشك في القدرة ويجب الاقدام حتى
يظهر العجز.
(المقام الثالث)
- في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري هل يكون مجزيا عن
الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الأولي بعد كشف الخلاف ورفع
الجهل أم لا؟ وكشف الخلاف قد يكون قطعيا وقد يكون ظنيا بالظن
المعتبر أو بمطلق الحجة المعتبرة شرعا ولو كانت أصلا عمليا
تنزيليا أو غير تنزيلي، فيجري البحث فيه في موضعين:
(الأول) - في انكشاف الخلاف القطعي
وهو أيضا على صور:
(الأولى) - أن يكون المأمور به بالامر الظاهري مفاد الامارات وكان من
الاحكام الكلية وضعية أم تكليفية وذلك كما إذا قامت أمارة
على طهارة العصير العنبي أو حلية لحم الحيوان الفلاني، ثم انكشف
خلافهما انكشافا قطعيا أو قامت أمارة علي وجوب صلاة الجمعة في
عصر الغيبة، ثم انكشف خلافه انكشافا قطعيا فباختلاف المسالك
فيما هو المجعول في باب الامارات يختلف الحال (فمن يقول) بأن
قيام الامارة على حكم شرعي وضعي أو تكليفي بل وعلى موضوع
خارجي يوجب حدوث مصلحة أو مفسدة في مؤداه تغلب على
مصلحة
الواقع أو مفسدته عند المخالفة وعدم الإصابة وتستتبع تلك
المصلحة والمفسدة الحادثتان بواسطة قيام الامارة جعل الشارع
حكما
شرعيا تكليفيا أو وضعيا وجوبيا أو تحريميا إلزاميا أو غير إلزامي
حسب ما تقتضيه تلك المصلحة والمفسدة (فلا بد) له من القول
بالاجزاء، وإن مؤديات الامارات
251

واقعية، ولا وجه لتسميتها بالأحكام الظاهرية الا صرف الاصطلاح و
يدور أمر هذا القول بين أحد أمرين فإنه حينئذ إما أن ينكر الحكم
الواقعي رأسا أو فعليته فهذا هو التصويب المجمع على بطلانه وان لم
ينكر وقال ببقائه وفعليته يلزم اما اجتماع المثلين أو الضدين أو
النقيضين، ولذلك نسب إلى الشهيد أن القول بالاجزاء مساوق للقول
بالتصويب ومن آثار هذا المسلك قولهم أن ظنية الطريق لا تنافي
قطعية الحكم وذلك من جهة أن الطريق الظني بعد ما جعله الشارع
حجة يكون مؤداه - بناء على هذا المسلك - حكما شرعيا حقيقيا،
فلا
تنافي ظنية الطريق إلى الحكم الواقعي الأولى القطع بأن مؤداه حكم
شرعي حقيقي.
وأما من يقول بأن حجية الامارات ليست إلا من باب جعل الطريقية و
الكاشفية كما سيأتي تحقيقه في مبحث الظن في مسألة حجية الطرق
والأمارات إن شاء الله تعالى فلا معنى للقول بالاجزاء ولا وجه له
أصلا بيان ذلك بطور الاجمال، ويأتي تفصيله في محله إن شاء الله
تعالى ان لصفة القطع أي الاعتقاد الجازم الذي لا يحتمل الخلاف أربع
جهات: (الأولى) - كونه صفة خاصة ومن الكيفيات النفسانية و
موجودا من الموجودات وله ماهية ذاتية وبهذا الاعتبار داخل تحت
مقولة الكيف (الثانية) جهة إراءته وكشفه عن متعلقه وطريقيته إليه
(الثالثة) - ثبوت المتعلق به وانكشافه من قبله ومنكشفية المتعلق به و
إن كانت من صفات المتعلق، ولكن لها جهة إضافة إلى القطع
أيضا وبذلك الاعتبار تعد من جهات القطع (الرابعة) - الجري العملي
على طبقه فالقطع من الجهة الأولى مثل سائر الموجودات الامكانية
هو أيضا مقولة من المقولات. وأما حجيته فمن الجهة الثانية وحيث أن
هذه الجهة فيه ذاتية تكوينية، فتكون حجيته من دون جعل جاعل
في عالم التشريع والاعتبار نعم هو مجعول بجعل تكويني بالعرض.
إذا تبين هذا فنقول: معنى حجية الامارات هو إعطاؤها في عالم
الاعتبار التشريعي الجهة الثانية من القطع، وحيث أن هذه الجهة
ليست
في الأمارات الظنية
252

ذاتية فيحتاج إلى جعل من طرف من بيده الاعتبار سواء كان هم
العقلا وأمضاه الشارع أو كان ابتداء هو الشارع، فمعنى تتميم الكشف
الذي اصطلح عليه شيخنا الأستاذ (ره) هو أن الامارات فيها جهة
كشف ناقص تكوينا وذلك المقدار من الكشف الناقص التكويني ليس
موضوعا لحكم العقل بلزوم الجري على وفقه والعمل على طبقه، و
لكن الشارع بعد ما اعتبر ذلك المقدار الناقص كشفا تاما يصير
موضوعا لحكم العقل بالتنجز لمتعلقه وليس معناه أن الشارع يضع من
كيسه مقدارا آخر من الكشف الاعتباري على ذلك المقدار
الموجود فيها تكوينا، حتى تكون الكاشفية فيها مركبة من الكشف
التكويني والكشف الاعتباري ومعنى حجية الأصول التنزيلية
إعطاؤها في عالم التشريع الجهة الثالثة من القطع ومعنى حجية
الأصول غير التنزيلية أي غير المحرزة باصطلاح آخر هو إعطاؤها في
عالم التشريع الجهة الرابعة من القطع وأنت خبير بأن القطع الذي هذه
الجهات ذاتية له لو أخطأ ولم يصب الواقع لا يمكن القول بالاجزاء
فيه، لأنه بواسطة قيام القطع لم تحدث في المتعلق مصلحة من طرفه و
ليس جعل شرعي في البين فلا وجه للاجزاء أصلا فكيف ظنك
بالأمارات والأصول التي هذه الجهات فيها اعتبارية؟ (وبعبارة أخرى)
لا تحدث في المتعلق بسبب قيامها مصلحة ولم يتحقق من طرف
الشارع جعل بالنسبة إلى مؤداها بناء على هذا المسلك، بل ليس
المجعول فيها إلا ما ذكرنا من الجهات على التفصيل المتقدم فحال
الامارة القائمة على الحكم الشرعي وضعيا أو تكليفيا حال القطع فإذا
أخطأت وما أصابت لا وجه للقول بالاجزاء بناء على هذا المسلك و
بناء على المسلك الأول وإن كان الاجزاء له وجه وجيه لكن عرفت أنه
يلزم أحد الامرين إما التصويب الباطل واما اجتماع المثلين أو
الضدين أو النقيضين هذا كله فيما إذا كان مؤدى الامارة حكما شرعيا
كليا وضعيا أم تكليفيا.
(الصورة الثانية) - فيما إذا كان متعلق الامارة موضوعا خارجيا ذا حكم
شرعي، فبناء على هذا المسلك الأخير الذي هو الصحيح في باب
جعل الامارات لا يبقى مجال لاحتمال الاجزاء لعدم تغير الموضوع
الخارجي عما هو عليه بواسطة قيام الامارة
253

فإذا كان موضوع وجوب الوضوء - بمعنى متعلق المتعلق - هو الماء و
قامت بينة شرعية على أن المائع الفلاني ماء، فبواسطة قيام البينة
لا يصير ماء إذا خطأت البينة لأنه حينئذ ليس ماء حقيقيا ولا تنزيليا أما
الأول فمفروض وأما الثاني فلما بينا من أن المجعول في باب
الامارات ليس هو المؤدى، بل المجعول هي الطريقية على التفصيل
المتقدم والطريق إذا أخطأ لا يحدث شيئا في متعلقه نعم بناء على
مسلك جعل المؤدى يكون ماء تنزيليا والقول بالسببية والموضوعية
في الامارات القائمة على الموضوعات وإن كان ممكنا لان
التصويب المجمع على بطلانه في الاحكام لا في الموضوعات، ولكن
ظاهر أدلة حجية الامارات في الموضوعات أيضا الطريقية لا السببية
والموضوعية هذا مضافا إلى أن لسان أدلة حجية الامارات في
الاحكام والموضوعات واحد، فان لم يمكن القول بالسببية وجعل
المؤدى
- في الاحكام - لما ذكرنا من التوالي الفاسدة فلا يمكن في
الموضوعات أيضا لعدم التفكيك.
(الصورة الثالثة) - فيما إذا كان الحكم الظاهري مفاد الأصول العملية
سواء كان أصلا تنزيليا محرزا أو غير تنزيلي غير محرز والحق
فيها أيضا - بكلا قسميه - عدم الاجزاء بناء على المسلك المختار من
أن المجعول فيها هي الجهة الثالثة والرابعة من القطع أي الجهة
الثالثة في المحرزة والرابعة في غيرها إذ بناء عليه لا تحدث مصلحة
في المؤدى ولا جعل حكم في المؤدى من طرف الشارع بالنسبة
إلى المؤدى، فلا وجه للاجزاء (ان قلت) جعل الطهارة في قاعدة
الطهارة أو في استصحابها وهكذا جعل الحلية في قاعدة الحل وفي
استصحابه مما لا يمكن أن ينكر وجعل الطهارة والحلية فيها من
الواضحات (قلنا) إن الطهارة المجعولة فيهما طهارة إثباتية لا ثبوتية
بمعنى أن الشارع حكم بالجري العملي على طبق الطهارة في عالم
الاثبات في ظرف الشك والجهل ومثل هذا المعنى قيامه بعدم كشف
الخلاف فإذا انكشف الخلاف، فيظهر أنه كان سرابا لا أنه حكم واقعا و
(بعبارة أخرى) اجتماع الضدين لا يمكن وهكذا اجتماع المثلين
والنقيضين فلا بد إما من إنكار الحكم الواقعي بجميع مراتبه أصلا أو
فعليته والأول
254

يقول به الأشاعرة، والثاني المعتزلة وإما من إنكار الحكم الظاهري و
هو الصحيح، لان المجعول من طرف الشارع في مؤديات
الامارات والأصول ليس إلا ما ذكرنا من الكاشفية في الامارات و
منكشفية المفاد والمؤدى عملا في مقام الاثبات في الأصول المحرزة
وصرف البناء العملي إثباتا في الأصول غير المحرزة. ومعلوم أن هذه
الأمور ليست بحكم مجعول يماثل الحكم الواقعي أو يضاده.
وأما بناء على مسلك جعل المؤدى وأن مؤدى الأصول أحكام فعلية
ورفع التضاد أو اجتماع المثلين أو النقيضين بحمل الاحكام الواقعية
على مرتبة الانشاء أو الاقتضاء كما يظهر من صاحب الكفاية (قده)
فللإجزاء وجه وجيه لأنه بناء على هذا المسلك تكون أدلة الأصول
حاكمة على أدلة الاجزاء والشرائط بالحكومة الواقعية، فيكون موسعا
لها مثلا مفاد قاعدة الطهارة أو استصحابها - بناء على هذا
المسلك - طهارة ما هو مشكوك الطهارة طهارة حقيقية واقعية و
تسميتها بالطهارة الظاهرية - بناء على هذا - مجرد اصطلاح وإلا
ففي الحقيقة هي مجعولة عن ملاك وإلا يلزم أن يكون الجعل جزافا و
لعل وجه تسميتها بالظاهرية من جهة أن هذا الجعل في ظرف
الجهل بالواقع واستتاره، وإلا فهو مجعول حقيقة مثل الواقعي الأولي
ولذلك ينبغي أن يسمى بالواقعي الثانوي مثل الاحكام
الاضطرارية فدليل القاعدة أو الاستصحاب كأنه يوجد مصداقا آخر
للطهارة التي أخذت شرطا للصلاة في بدن المصلي مثلا أو لباسه أو
في الماء الذي توضأ به وليس انكشاف خلاف بالنسبة إلى هذا المعنى
بل لا يمكن أن يكون لان هذا أمر مجعول حقيقة فيكون حال قاعدة
الطهارة واستصحابها حال (الطواف بالبيت صلاة) حيث أن مفاده
جعل الطواف فردا تنزيليا ومصداقا تعبديا للصلاة فيكون حاكما
على أدلة الاجزاء والشرائط بالحكومة الواقعية ودليلا على اتساع
دائرة الشرط فيكون دالا على الاجزاء اللهم إلا أن يقال بانصراف أدلة
الاجزاء والشرائط إلى الطهارة الواقعية الأولية لا الطهارة المجعولة في
ظرف الشك وأنت خبير بما فيه أو يقال أن لفظ الطهارة
مشترك لفظي فالطهارة الواقعية بمعنى والظاهرية بمعنى آخر وهذا
القول أسوأ حالا من الأول.
255

هذا كله بناء على مسلك جعل المؤدى في الأصول وقد عرفت أن
هذا المسلك غير تام لما يترتب عليه من المفاسد ومن جملتها لزوم
القول بنجاسة ملاقي مستصحب النجاسة حتى بعد انكشاف الخلاف
لو فرض ملاقاته له قبل انكشاف الخلاف، وذلك من جهة أنه لاقى ما
هو نجس حقيقة لان نجاسته بناء على جعل المؤدى مجعولة حقيقة و
هكذا في سائر آثار النجاسة الواقعية، وأيضا سائر المؤديات للأصل
والأمارات كالطهارة والملكية والزوجية وغيرها يجب ترتيب آثار
الواقعيات منها عليها باعتبار زمان قبل انكشاف الخلاف حتى بعد
انكشاف الخلاف ولا شك في فساد هذه التوالي غير القابلة للقبول
فالصحيح أن حكومة أدلة الأصول مثل حكومة أدلة الامارات حكومة
ظاهرية لا واقعية، وسيجئ إن شاء الله تعالى تفصيل ذلك في محله
والمراد بها إجمالا أن التوسعة والتضييق الذين مفادها يكونان في
عالم الاثبات فقط وما لم ينكشف الخلاف بمعنى أنه يحكم بوجود
الطهارة في بدن المصلي أو لباسه مثلا ما دام الجهل موجودا فإذا
ارتفع الجهل وانكشف الواقع يتبين انها كانت سرابا فلا تبقى طهارة في
البين بل يستكشف أنها لم تكن من أول الامر لا أنها كانت و
انعدمت فما كان شئ في البين حتى تترتب عليه آثاره، ولا فرق في
ذلك بين الأصل التنزيلي وغيره أصلا، فتردد صاحب الكفاية (قده)
في الأصل التنزيلي لا وجه له، لأنه بناء على مسلك جعل المؤدى قد
عرفت أن الاجزاء في كليهما بمقتضى القاعدة وبناء على المختار
أيضا
لا فرق بينهما كما عرفت اللهم الا أن يقول بجعل المؤدى في غير
التنزيلي ولا يقول به فيه.
الموضع الثاني في الانكشاف الظني
أي ما قامت الحجة المعتبرة من أمارة أو أصل - بكلا قسميه - على
خلاف الحجة السابقة، سواء كانت أمارة أو أصلا. وهذا كما في موارد
تبدل الاجتهاد أو تبدل التقليد كما في موارد موت المقلد الذي يفتي
بطهارة العصير العنبي مثلا والمقلد الثاني يقول بنجاسته أو المقلد
الأول يقول بوجوب صلاة الجمعة تعيينا، والمقلد الثاني يفتي
بوجوب صلاة الظهر. ويظهر من شيخنا الأستاذ (قده) الفرق بين تبدل
الاجتهاد في الموضوعات وبين تبدله في الاحكام وأفاد بأن الأول
خارج
256

عن محل الكلام، إذ لا ينبغي أن يظن بأحد فيما إذا توضأ بمائع
باستصحاب مائيته ثم قامت أمارة على أنه كان مضافا الحكم بصحة
مثل
هذا الوضوء، فينحصر النزاع والكلام في تبدل الاجتهاد في الاحكام
الكلية سواء كانت وضعية أو تكليفية.
وأنت خبير بأنه لا فرق بينهما، لأنه بناء على مسلك جعل المؤدى
يمكن القول بالاجزاء في كلا الموردين أي في الموضوعات والاحكام
و
بناء على مسلك جعل الطريقية في الامارات - والجري العملي في
مقام الاثبات ما لم ينكشف الخلاف - لا يمكن القول بالاجزاء أيضا
في
كلا الموردين (بيان ذلك) بطور الاجمال أنه لو قلنا بأن الحكم الفعلي و
ما هو المجعول حقيقة هو ما أدت إليه الامارة أو الأصل بكلا
قسميه، فإذا أدت الامارة أو الأصل إلى موضوع كعدالة الشاهدين مثلا،
ثم قامت أمارة أقوى من الامارة الأولى أو الامارة مقابل الأصل
على عدم عدالتهما في ذلك الوقت فان قلنا بأن الدليل الثاني يبطل
دليلية الدليل الأول بحيث نستكشف عدم دليلية الدليل الأول من أول
الامر، بل لم يكن إلا تخيل الدليل فلا جعل من قبل الشارع للمؤدى
لان الشارع - بناء على مسلك جعل المؤدى - لا يجعل إلا ما هو
مؤدى
الدليل الواقعي لا مؤدى موهوم الدليلية ومتخيلها، فلا يكون محلا
للقول بالاجزاء لا في الاحكام ولا في الموضوعات، وإن قلنا بأن كل
واحد منهما دليل كما في تبدل التقليد بالموت حيث أن رأي المجتهد
الأول دليل كما أن رأي المجتهد الثاني أيضا دليل وكل واحد منهما
لا يبطل دليلية الاخر في ظرف دليليته، فكما أن في تبدل الاجتهاد في
الاحكام - بناء على مسلك جعل المؤدى - يمكن القول بأن الحكم
الأول مثل الحكم الثاني مجعول حقيقة كذلك يمكن أن يقال في تبدل
الاجتهاد في الموضوعات أن الموضوع الأول مجعول مثل الموضوع
الثاني، فيمكن القول بالاجزاء في هذه الصورة وهذا الفرض حتى في
الموضوعات.
وأما بناء على مسلك جعل الطريقية في الامارات والجري العملي في
عالم الاثبات في الأصول مع فرق بين قسمي الأصل أي المحرز و
غير المحرز بأن الجري العملي في الأول على أن الواقع منكشف وفي
الثاني ليس هذا القيد في البين فلا وجه للقول
257

بالاجزاء لأن المفروض أن مؤدى الامارات والأصول السابقة قبل
تبدل الاجتهاد مثلا لم يكن أحكاما شرعية مجعولة من قبل الشارع و
انما كان الأصل والامارة حجة - في مقام الاثبات - على ثبوت الواقع
أو الجري العملي على طبق المؤدى وبعد ما قام دليل آخر الذي هو
الدليل فعلا - أي يجب الجري على طبقه بنظره حسب القواعد و
الموازين ورأى خطأ مؤدى الدليل السابق - يرى أنه ما أتى بالواقع ولا
بشئ يكون بدلا عنه في الوفاء بغرضه وتحصيل المصلحة التي فيه.
وحاصل الكلام أن قيام الامارة والأصل على خلاف الحجة السابقة
قد يكون مبطلا لحجية الحجة السابقة حتى في الزمان السابق كما أنه
لو وجدت أمارة على خلاف الأصل السابق أو مخصصا على خلاف
أصالة العموم السابق أو مقيدا على خلاف الاطلاق السابق أو قرينة
صارفة أو معينة على خلاف ما استظهره سابقا أو مرجحا للرواية
المتروكة على الرواية التي أخذ بها سابقا وأمثال تلك المذكورات مما
يكشف عن عدم حجية ما عمل بها سابقا حتى في الزمان السابق، فلا
ينبغي احتمال الاجزاء حتى بناء على مسلك جعل المؤدى والقول
بالسببية التصويبية، لان من يقول بالسببية بذلك المعنى يقول فيما هو
مستوف لجهات الحجية لا فيما هو موهوم الحجية وينكشف فيما
بعد أنه ما كان حجة واقعا، بل كانت حجيته بصرف الوهم والخيال و
قد لا يكون كذلك بل يكون كل واحد من المتقدم والمتأخر حجة
في زمانه كاجتهادين من شخصين لمقلد واحد على الترتيب، بأنه قلد
أحدهما فمات فقلد الاخر أو لو قلنا بأن التخيير في الخبرين
المتكافئين استمراري لا بدوي فاختار في واقعة إحداهما وفي
الأخرى الأخرى ففي مثل هذا المورد يمكن القول بالاجزاء بناء على
السببية، وأما بناء على الطريقية فلا لأنه الان لا يرى ذلك طريقا بل يراه
مخطئا فالصلاة التي أتى بها مثلا بفتوى المجتهد الأول بلا
جلسة الاستراحة بعد رفع الرأس من السجدة الثانية أو بلا استعاذة
بواسطة اختياره الرواية التي تقول بعدم وجوبها على كلام في هذا
الأخير أي في مسألة التخيير يراها الان غير تامة بواسطة قيام هذا
الطريق الفعلي. ومقتضى هذا الطريق عدم
258

الاتيان بذلك المركب المأمور به واقعا ولم يأت بما هو بدل عنه في
الوفاء بغرضه، فلا وجه لان يكون مجزيا هذا بحسب القواعد الأولية.
وربما قيل بالاجزاء لوجوه: (الأول) - أنه لو لم نقل بالاجزاء يلزم
العسر والحرج من جهة انه ربما يتفق أن شخصا عمل عملا خمسين
سنة باجتهاده أو اجتهاد مقلده ثم تبدل اجتهاده أو اجتهاد مقلده فلو لم
نقل بالاجزاء يلزم أن يقضي عمل خمسين سنة، أو عامل معاملات
كثيرة من أنواع مختلفة من العقود والايقاعات باجتهاده أو اجتهاد
مقلده ثم تبدل اجتهاده أو اجتهاد مقلده فلو قلنا ببطلان تلك
المعاملات جميعا - كما هو مقتضى القول بعدم الاجزاء - لزم العسر
الشديد والحرج الأكيد.
والحاصل أنه لا شك في أنه لو لم نقل بالاجزاء بالنسبة إلى الأعمال
السابقة في أبواب العبادات والمعاملات والاحكام بل قلنا بأن عليه
الإعادة والقضاء وترتيب أثر البطلان على المعاملات السابقة الباطلة
بحسب الاجتهاد الثاني لزم العسر والحرج المنفيان في لسان
الشرع و (فيه) أن ظاهر أدلة نفي الحرج والضرر هو نفي الحكم
الضرري والحرجي و (بعبارة أخرى) يكون دليل نفي الضرر والحرج
حاكما على أدلة الاحكام الأولية حكومة واقعية في جانب المحمول
(بيان ذلك) بطور الاجمال أن العمومات والاطلاقات الأولية - لولا
دليل نفي الضرر والحرج - كانت تشمل حتى المورد الذي كان
المجعول الشرعي ضرريا أو حرجيا، ولكن هذين الدليلين ينفيان
وجود المجعول الضرري والحرجي في الدين والاسلام، فينتج هذان
الدليلان نتيجة التقييد بالنسبة إلى الاطلاقات والتخصيص بالنسبة
إلى العمومات، غاية الامر بلسان نفي المحمول لا قطع نسبة المحمول
عن الموضوع الذي هو التخصيص ولذلك نقول بأنهما حاكمان
على الأدلة الأولية، وحيث أن الرفع رفع حقيقي لا في مرحلة الجهل
نقول بأنه حكومة واقعية فبناء على هذا يكون مفاد دليل نفي الجرح و
موضوعه هو أن الحكم الحرجي مرفوع وعدم الاجزاء ليس حكما و
مجعولا شرعيا حرجيا حتى يكون مرفوعا بذلك الدليل.
نعم وجوب الإعادة والقضاء - لو كان حرجيا - يدل على رفعه بالنسبة
إلى نفس المورد الذي يكون فيه حرجيا لا بالنسبة إلى كل
شخص وفي كل مورد.
259

والحاصل أن دليل رفع الحرج ليس مفاده إلا رفع الحكم المجعول
شرعا الذي تعنون بعنوان الحرج. ومعلوم أن هذا يختلف بالنسبة إلى
الاحكام وإلى الاشخاص، فالقول بالاجزاء في جميع الموارد -
بواسطة كون عدم الاجزاء في بعض الموارد لبعض الاشخاص ضرريا
أو
حرجيا - لا وجه له. نعم قد يكون الحرج النوعي حكمة لتشريع حكم
كلي وضعي أو تكليفي كجعل حق الشفعة للشفيع أو الطهارة للحديد
ولكنه أجنبي عن مفاد دليل نفي الحرج.
(الثاني) - من الوجوه التي ذكروها للاجزاء - انه لا وجه لترجيح
الاجتهاد الثاني على الأول ويكون ترجيحه من قبيل الترجيح بلا
مرجح،
بل هناك حجتان كل واحدة منهما يجب العمل على طبقها في زمانه و
(فيه) ان المقام ليس من قبيل تعارض الأمارتين وترجيح إحداهما
على الأخرى حتى يكون ترجيحا بلا مرجح، بل قد يكون ترجيح
المرجوح على الراجح في بعض الصور كما إذا مات المقلد الأول، و
هو
أعلم من الحي الذي رجع إليه بناء على جواز الرجوع في مثل هذه
الصورة بل من جهة أن الطريق الفعلي في حقه ليس إلا الاجتهاد الثاني
و
مفاد الطريق الفعلي في حقه بطلان العمل السابق وليس له فعلا طريق
آخر على صحته حتى يتعارض الطريقان فيرى المكلف - باعتبار
هذا الطريق الفعلي - انه ما أتى بالواقع، فيكون عليه ان يعيد أو يقضي
وليس له دليل آخر يعتمد عليه في عدم وجوب الإعادة والقضاء
أو ترتيب آثار ما قامت عليه الامارة سابقا في الوضعيات مثلا لو قامت
الامارة على وقوع التذكية، ولو كان الذبح ب آلة من غير حديد
فوقع مثل هذا الشئ في الخارج فتبدل اجتهاده وأفتى بعدم وقوع
التذكية في مثل هذا المورد. والمفروض ان الحجة الفعلية في حقه و
حق مقلديه هو الاجتهاد الثاني فلا يمكن له أو لمقلديه ترتيب أثر
التذكية على لحم هذا الحيوان المذبوح بتلك الآلة التي هي من غير
الحديد لو كان اللحم موجودا أو على جلده.
(الثالث) - ان الواقعة الواحدة لا تتحمل اجتهادين كما ادعاه صاحب
الفصول (قده)
260

فإذا اجتهد في واقعة واستنباط حكمها لا يبقى مجال للاجتهاد الثاني.
وهذا كلام عجيب لأنه إن أراد اجتهادين من شخص واحد في
زمان واحد بالنسبة إلى واقعة واحدة فمحالية هذا من أوضح
الواضحات ولكنه أجنبي عن محل كلامنا، لان كلامنا في تبدل رأي
المجتهد
ولا محالة يكون الرأي الأول في زمان والاستنباط الثاني في زمان آخر.
وإن أراد عدم إمكان ذلك من شخص واحد في زمانين أو من شخصين
ولو كان الاجتهادان في زمان واحد، فبطلان هذا الكلام من
البديهيات. ولا فرق في إمكان ذلك بين ان يكون جعل الاحكام على
نحو القضايا الحقيقية الكلية أو يكون على نحو القضايا الخارجية
الشخصية.
(الرابع) - ان الاجتهاد الأول مع الثاني مثل الدليل الناسخ والمنسوخ،
فكما أن الدليل المنسوخ يجب العمل على طبقه إلى زمان النسخ و
من زمان وجود الناسخ يجب ترتيب الأثر على الناسخ من دون نفي أثر
المنسوخ إلى زمان وجود الناسخ، فكذلك في الاجتهاد يجب
ترتيب الأثر عليه إلى زمان الاجتهاد الثاني ومن زمان الاجتهاد الثاني
يجب ترتيب الأثر عليه من دون نفي آثار الاجتهاد الأول إلى
زمان الاجتهاد الثاني. و (فيه) ان هذا قياس عجيب وذلك من جهة أن
مفاد الدليل المنسوخ حكم واقعي إلى زمان وجود الناسخ. و
(بعبارة أخرى) أمد ذلك الحكم وانتهاؤه زمان وجود الناسخ، وليس
فيه انكشاف خلاف نعم ظاهر الدليل كان استمرار الحكم و
بواسطة وجود الناسخ زال ذلك الظهور بخلاف المقام بناء على
مسلك جعل الطريقية فان مؤداه ليس حكما مجعولا أصلا بل ليس في
البين إلا إحراز الواقع أو الجري العملي على طبقه فإذا تبدل الاجتهاد
فلا إحراز ولا حكم إثباتي في البين نعم بناء على مسلك جعل
المؤدى والتصويب وإن كان تصويبا معتزليا فلهذا الكلام وجه.
(الخامس) - الاجماع على الاجزاء وهو المعول في المقام لو ثبت، و
لكن تحصيل الاجماع المصطلح - في مثل هذه المسألة التي اعتمد
المجمعون على مثل هذه المدارك التي عرفت حالها - في غاية
الاشكال. (اللهم) إلا ان يقال: إن التمسك و
261

إلى هذه المدارك عند المتأخرين، واما الفقهاء القدماء فكانوا يقولون
بالاجزاء من دون اتكائهم على مثل هذه المدارك، وفي اتفاقهم
غنى وكفاية. وقد ذكر شيخنا الأستاذ - قده - ان في هذه المسألة
ثلاث مقامات:
(الأول) - في باب العبادات بالنسبة إلى الإعادة والقضاء، وجزم
بوجود الاجماع فيها على الاجزاء (الثاني) - في الأحكام الوضعية
فيما
إذا خرج الموضوع عن محل الابتلاء بتلف أو غيره، كما إذا عقد على
امرأة باللغة الفارسية ثم ماتت، وبعد موتها تبدل اجتهاده وادى إلى
بطلان عقد النكاح بالفارسية ففي هذا القسم تردد في تحقق الاجماع و
إن لم يستبعد انعقاده بالنسبة إلى تبعات ذلك الموضوع التالف
الخارج عن محل الابتلاء (الثالث) - في الأحكام الوضعية أيضا، اما
فيما إذا كان الموضوع باقيا ولم يكن تألفا وخارجا عن محل الابتلاء
وجزم في هذا القسم بعدم انعقاد الاجماع على الاجزاء، كما إذا
فرضنا المرأة المفروضة في القسم الثاني لم تمت إلى زمان تبدل
الاجتهاد.
ومما ذكرنا عرفت لحال بالنسبة إلى الامر العقلي بعد انكشاف
الخلاف، وانه لا وجه لتوهم الاجزاء فيه، وذلك لأنه - بعد انكشاف
الخلاف - يعلم بأنه ما أتى بالواقع ولا ببدله الذي يفي بغرضه، لأنه لا
جعل ولا إحداث مصلحة في البين قطعا ولا يقول أحد بالسببية و
التصويب فيه و (بعبارة أخرى) القول بالاجزاء صار محلا للبحث من
جهة ذهاب جماعة من الامامية إلى التصويب المعتزلي، وإنكارهم
وجود الاجماع على بطلان هذا القسم من التصويب ولكن قولهم هذا
في مؤدى الامارات والأصول الشرعية. وأما بالنسبة إلى القطع أو
الظن - بناء على تمامية دليل الانسداد على الحكومة أو الأصول
العقلية - فلا مجال لهذا التوهم إذ لا جعل من قبل الشارع حتى تتوهم
تلك
السببية والموضوعية.
ثم إنه بناء - على القول بعدم الاجزاء - من الواضح الجلي أنه ليس لأحد
المجتهدين المختلفين في الفتوى - القائل ببطلان ما أفتى به
الاخر ولا لمقلديه - ترتيب
262

آثار الصحة على تلك الفتوى، وذلك من جهة انه حسب الفرض يراه
باطلا وخلاف الواقع فكيف يرتب عليه آثار الصحة؟ مثلا إذا كان
يرى كون الذبح بالحديد من شرائط التذكية، والمجتهد الاخر لا يرى
ذلك فذبح بغير الحديد فكيف يجوز له أن يأكل من هذا اللحم أو
يرتب سائر آثار الصحة عليه مع أنه حسب الحجة التي عنده يراه غير
مذكى؟ وهكذا في سائر الموارد.
(فصل في نسخ الوجوب)
إذا نسخ الوجوب، فهل يدل الدليل الناسخ أو المنسوخ أو
الاستصحاب على بقاء الرجحان أو الجواز؟ فيه كلام و (تفصيله) انه إن
كان
المراد من الرجحان الاستحباب الشرعي المجعول في عالم الاعتبار
التشريعي والمراد من الجواز الإباحة الشرعية، فلا شك في أنهما
متباينان ومتضادان للوجوب، بمعنى أنه لا يمكن اجتماعهما مع
الوجوب في موضوع واحد وإلا فالضدان - بحسب الاصطلاح -
عبارة
عن العرضين الوجوديين المتعاقبين على موضوع واحد ويكون بينهما
غاية الخلاف والاحكام الخمسة التكليفية كلها مجعولات تشريعية
وليست من الاعراض الخارجية المحمولة بالضميمة حتى يكون بينها
تضاد، ولكن في عدم إمكان الاجتماع مثل الضدين فلو نسخ
الوجوب فوجود الاستحباب أو الإباحة - بالمعنى المذكور - يحتاج
إلى جعل آخر جديد في عالم الثبوت، ولا ربط لوجود الوجوب
المنسوخ سابقا بوجودهما بعد نسخه والاستصحاب أيضا لا وجه له
لعدم وجود الاستحباب والإباحة سابقا ثم الشك في بقائهما حتى
يكون مجرى للاستصحاب، بل يكون احتمالهما احتمال حدوث لا
احتمال بقاء.
وإن كان المراد منهما منشأ اعتبارهما أي الرضا بالفعل وطلبه، فحينئذ
(تارة) نقول بأن الفرق بين الاستحباب والوجوب بشدة الطلب
وضعفه. و (أخرى) نقول بأن مرتبة الطلب فيهما واحدة وإنما الفرق
بينهما بأنه في الاستحباب رخص في الترك دون الوجوب
فالوجوب عبارة عن نفس الطلب، ولا يحتاج بيانه إلى مئونة أخرى
263

بخلاف الاستحباب، فان بيانه يحتاج إلى مئونة أخرى زائدا على
الطلب وهو الترخيص في الترك ولذلك إطلاق صيغة الامر يقتضي
الوجوب فان شأن الاطلاق دائما هو إثبات ما لا يحتاج في مقام البيان
إلى مئونة زائدة، ونفي ما يحتاج إليها وأما الرضا بالفعل الذي
هو يمكن أن يكون منشأ الإباحة فليس فيه طلب أصلا بل الرضا بالفعل
وجوازه يجتمع مع إلزام الفعل وعدمه ورجحانه وعدمه.
فان قلنا بالأول فإنه من الممكن ثبوتا ارتفاع الطلب الشديد وبقاء مرتبة
ضعيفة منه لان الإرادة الشديدة مثل سائر الكيفيات المقولة
بالتشكيك يمكن أن تزول مرتبة منها مع بقاء مرتبة أخرى منها، وذلك
مثل الثوب الأسود الحالك الشديد السواد إذا غسل بالماء يمكن
أن تزول منه مرتبة من السواد وتبقى مرتبة ضعيفة منه. هذا بحسب
مقام الثبوت واما بحسب مقام الاثبات فظاهر إطلاق الدليل الناسخ
هو ارتفاع جميع مراتب الإرادة الشديدة التي هي منشأ اعتبار
الوجوب. وذلك لما ذكرنا آنفا من أن شأن الاطلاق دائما إثبات ما لا
يحتاج بيانه إلى مئونة زائدة ونفي ما يحتاج إلى ذلك. ومعلوم ان بيان
نفي جميع مراتب الطلب لا يحتاج إلى مئونة زائدة على نفي أصل
الوجوب ونسخه بخلاف نفي بعض مراتبه فإنه يحتاج إلى تقييد في
الكلام، وهكذا بالنسبة إلى بقاء الجواز والإباحة في ضمن الوجوب
فبناء على هذا إطلاق الدليل الناسخ ينفي بقاء الاستحباب والإباحة
بالمعنى الذي ذكرنا فلا يبقى مجال للرجوع إلى الاستصحاب. وعلى
تقدير أن لا يكون إطلاق في البين ووصول النوبة إلى الاستصحاب،
فلا مانع من جريانه لان هذه المرتبة الضعيفة من الطلب والإرادة
كانت موجودة في ضمن الإرادة الأكيدة القوية الشديدة حقيقة فكانت
متيقنة الوجود ويحتمل بقاؤه وعدم ارتفاع الطلب بجميع مراتبه،
فتتم أركان الاستصحاب ولكن يمكن ان يقال بعدم مساعدة العرف
في اتحاد القضية المتيقنة والمشكوك فيها فان القضية المتيقنة -
بنظره - هو وجود الطلب الأكيد لا الطلب الضعيف في ضمن الأكيد، و
ان كان بالدقة العقلية هكذا والقضية المشكوك فيها هو وجود
الطلب
264

الضعيف الان، فالموضوع فيهما بنظره مختلفان وهكذا الكلام في
استصحاب الجواز الموجود في ضمن الطلب الأكيد حرفا بحرف،
فافهم.
وإن قلنا بالثاني فمقتضى الدليل الناسخ هو ارتفاع ذلك الطلب وليس
شئ آخر في البين حتى نستصحبه نعم بناء على هذا الفرض
يكون حال الجواز الموجود في ضمن الوجوب حال الاستحباب في
الصورة السابقة من أن مقتضى إطلاق الدليل الناسخ هو ارتفاع
الوجوب بجميع المراتب المنطوية فيه، ومنها الاذن في الفعل الذي
كان في ضمنه فلا تصل النوبة إلي الاستصحاب وعلى فرض إهمال
الدليل الناسخ ووصول النوبة إليه يتوجه الاشكال المتقدم في
استصحاب الاستحباب، وهو عدم اتحاد القضية المشكوك فيها و
المتيقنة
بنظر العرف بطور أوضح وأولى.
ثم إنه لا يتوهم أنه من الممكن التمسك بإطلاق الدليل المنسوخ لبقاء
الاستحباب والجواز فيقع التعارض بينهما. وذلك لان أصالة
الظهور في جانب الدليل الناسخ حاكم على أصالة الظهور في جانب
الدليل المنسوخ وذلك لان النسخ - في الحقيقة - تقييد زماني. و
معلوم أن أصالة الظهور في جانب دليل المقيد بالكسر حاكم على
أصالة الظهور في جانب المقيد بالفتح وسيجئ تحقيق ذلك فيما
سيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل
هل أن الامر بالامر بشئ أمر بذلك الشئ أم لا؟ وذلك كما أنه صلى
الله عليه وآله قال:
مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين. وثمرة هذا البحث هو أنه لو قلنا
بأن الامر بالامر بشئ أمر بذلك الشئ، فيكون أمره صلى الله
عليه وآله وسلم الأولياء بأمر غير البالغين بالصلاة أمرا لهم بالصلاة
فتكون عباداتهم مشروعة والمراد حينئذ من رفع القلم عنهم رفع
قلم الالزام، لأنه لا معنى لان يكون الشارع أمرهم بالعبادات ومع ذلك
تكون عباداتهم غير مشروعة وأما احتمال أن يكون أمره
لصرف التمرين وصيرورتها عادة لهم من دون فائدة أخرى فيها، فبعيد
وخلاف ظاهر الامر الذي يصدر من الشارع وإثبات شرعية
عبادات الصبي - بعمومات أدلة التشريع لو أغمضنا
265

عن انصرافها عنها - لا ينافي الاثبات بذلك أيضا وعلى كل حال لا
شك في أنه في مقام الثبوت يمكن كلا الشقين، لان الامر بالامر بشئ
إن لم يكن نظره إلى الامر الثاني إلا من جهة طريقيته إلى إيجاد متعلقه و
ليس له - أي للامر الثاني - موضوعية بمعنى أن غرض الامر
بالامر لا يحصل بصرف تحقق الامر من المأمور بالامر بل غرضه
مترتب على وجود ذلك الشئ الذي أمر بالامر به فالامر بالامر بشئ
- بناء على هذا - أمر بذلك الشئ وأما لو لم يكن غرضه الا تحقق
الامر من الطرف وليس له غرض في وجود ذلك الشئ الذي أمر
بالامر به، فلا يكون الامر بالامر بشئ أمرا بذلك الشئ.
وأما في مقام الاثبات فلا يبعد أن يكون الامر بالامر بشئ أمرا بذلك
الشئ وذلك بشهادة الوجدان حيث أن الانسان إذا أراد شيئا من
شخص وكان هناك من لو أمره بذلك الشئ كان ادعى له إلى ذلك
الفعل من مباشرة نفس الامر بالامر في أمره بلا توسيط ذلك
الشخص كما أنه صلى الله عليه وآله وسلم لو كان يأمر الأطفال من
كان عمره سبع سنين ابتداء - بدون توسيط الأولياء - بالصلاة لما
كانوا يعتنون لضعف عقولهم وإدراكاتهم، وأما لو أمرهم الأولياء بذلك
يعتنون لانهم يخافون منهم ولذلك عدل صلى الله عليه وآله و
سلم عن أمرهم مباشرة إلى أمر أوليائهم بذلك فما ذكر في الكفاية -
من عدم دلالة مجرد الامر بالامر بشئ على كونه أمرا بذلك، بل
يحتاج في الدلالة عليه إلى قرينة عليه - ليس كما ينبغي وذلك من
جهة وجود القرينة النوعية.
فصل
هل يجوز للامر أن يأمر بشئ مع علمه بانتفاء شرطه؟ اختار صاحب
الكفاية (قدس سره) في هذا المقام عدم الجواز مستندا إلى أن
الشرط من أجزاء علة وجود الشئ، ولا يمكن أن يوجد الشئ إلا بعد
تمامية علة وجوده والظاهر من هذا الكلام أنه أرجع ضمير شرطه
إلى الامر لا إلى المأمور به، ولذلك يقول نعم لو كان المراد من لفظ
الامر الامر ببعض مراتبه ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه
الاخر
266

يعني كان النزاع في جوازه بمرتبة الانشاء مع العلم بعدم شرط مرتبة
الفعلية لكان جائرا. وما ذكره في غاية الوضوح ولكن الظاهر أن
هذا البحث والنزاع ليس في هذا المقام، لأنه لا ينبغي أن يسند إلى
عاقل النزاع في أنه هل يمكن أن يوجد المعلول مع انتفاء بعض أجزأ
علته أم لا؟ بل النزاع في أنه هل يجوز أمر الامر بشئ مع العلم بانتفاء
شرط ذلك الشئ، بمعنى أن المأمور به مشتمل على شرط لا يمكن
للمكلف تحصيله وإلا لو أمكن تحصيله يجب ذلك عليه فمرجع هذا
البحث - في الحقيقة - إلى أنه هل يمكن تكليف العاجز من إتيان
شئ
بذلك الشئ أم لا؟ وحيث أن الأشاعرة لا يرون بأسا في تكليف
العاجز من شئ بذلك الشئ قالوا في هذا المقام بإمكان أمر الامر مع
العلم بانتفاء شرطه وصحته وحيث نحن نقول بعدم صحة ذلك، بل
عدم إمكانه لان حقيقة الامر هو البعث بأحد طرفي المقدور، فنقول
بامتناعه وقد أفاد شيخنا الأستاذ (قده) في هذا المقام أن أصل هذا
البحث بناء على ما هو الموافق للتحقيق من جعل الاحكام بنحو
القضية
الحقيقية أي على الموضوع المقدر وجوده مع أخذ جميع الشرائط في
ناحية الموضوع - ومنها القدرة - لغو وباطل، وذلك من جهة أنه
بعد ما فرضنا أن جميع شرائط صحة التكليف مأخوذة في ناحية
الموضوع غاية الامر بعضها مأخوذ شرعا وبعضها مأخوذ عقلا كالقدرة
العقلية فلا يتوجه خطاب إلى عاجز حتى نتكلم في صحته وعدم
صحته نعم لو كان جعل الاحكام على نحو القضايا الخارجية لكان لهذا
النزاع وجه وهو أنه هل يجوز توجيه الخطاب بشئ إلى العاجز عن
إتيان ذلك الشئ أم لا وهذا الذي ذكره في غاية المتانة. نعم لا بد
في جعل الاحكام على هذا النحو من أن يوجد لموضوع كل حكم
مصداقا أو مصاديق ولو في بعض الأزمنة حتى لا تلزم لغوية الجعل.
فصل في أن الأوامر هل هي متعلقة بالطبائع أو الافراد،
والمراد من تعلق الأوامر بالطبائع هو أن لا تكون الخصوصيات الفردية
داخلة في قوام المطلوب بل تكون
267

خارجة عنه وملازمة للمطلوب على البدل في مقام الامتثال والمراد
من تعلقها بالافراد هو أن تكون الخصوصيات داخلة في قوام
المطلوب وقد تقدم أن مادة صيغة افعل موضوعة للحدث الكذائي، و
هيئتها موضوعة للنسبة الطلبية بين المادة والمخاطب ونتيجة
هذين الوضعين هو أن الامر يطلب وجود المادة من المخاطب لان
تعلق الطلب بماهية المادة لا يمكن ولا معنى له وذلك من جهة أن
الطبيعة - من حيث هي مع قطع النظر عن الوجود - ليست شيئا حتى
تكون قابلة لتعلق الطلب بها فلا محالة يكون متعلق الطلب هو وجود
المادة لا ماهيتها المجردة وأيضا الطلب الحقيقي لا يتعلق إلا بما فيه
المصلحة ومعلوم أن ما فيه المصلحة وجود المادة لا ماهيتها و
الحاصل أن مسألة تعلق الإرادة - بوجود الأشياء لا بماهياتها وطبائعها
المجردة عن الوجودات - ينبغي أن تعد من الضروريات و
البديهيات بناء على أصالة الوجود واعتبارية الماهيات فإذا كان الامر
كذلك فحقيقة هذا النزاع - بناء على هذا - ينبغي أن يكون المراد
منه أن الأوامر متعلقة بوجود الطبيعة أو بوجود الفرد والمراد بوجود
الطبيعة ذلك الوجود السعي الذي له وحدة سنخية الذي نعبر عنه
بالجامع الوجودي بين وجودات الافراد مقابل الجامع الماهوي بين
الماهيات الشخصية من أفراد نوع واحد و (بعبارة أخرى) بين أفراد
نوع واحد نحوان من الجامع: أحدهما - الجامع الماهوي، وهو الكلي
الطبيعي أي الماهية الكلية والثاني هو الجامع الوجودي المعبر عنه
بالوجود السعي الذي وحدته سنخية لا تنافي الكثرة العددية. وقد
تقدم في بحث الصحيح والأعم أن المختار عندنا أن ما وضع له ألفاظ
العبادات هو ذلك الوجود السعي المشكك بالقلة والكثرة، والمراد
بوجود الفرد هو ذلك الوجود الشخصي الذي لا ينطبق على وجود
سائر الافراد بخلاف المعنى الأول فإنه ينطبق على جميع وجودات
أفراد ذلك النوع.
(إن قلت): إن كان الامر متعلقا بمثل هذا الوجود الشخصي فلا يقع
الامتثال إلا به وهو باطل بالضرورة، لان المكلف مخير بين إيجاد
طبيعة المادة في ضمن أي واحد من الوجودات الشخصية (قلت):
الامر - بناء على هذا - تعلق بعنوان أحد
268

هذه الوجودات الشخصية فيكون التخيير أيضا تخييرا عقليا، لان
عنوان أحد هذه الوجودات عنوان كلي أمر تطبيقه بيد العقل ولا شك
في
أن العقل يحكم بالتخيير في مقام الامتثال وتطبيق هذا العنوان على
مصاديقه. و (حاصل الكلام) أنه بناء على أصالة الوجود وأن إرادة
الامر تتعلق بوجود الماهية مثل إرادة الجاعل فالمراد من القول بتعلق
الأوامر بالطبيعة أي بذلك الوجود السعي، والمراد من القول
بتعلقها بالافراد أي بأحد الوجودات الشخصية وبناء على هذا
المسلك تخرج الملازمات والمقارنات لوجود الطبيعة من سائر
الماهيات
عن دائرة المطلوب والمراد على كلا شقي النزاع لان تعلق الإرادة
بالوجود السعي أو بأحد الوجودات الشخصية لا ربط لها بالماهيات
الاخر التي توجد مقارنة لوجود هذه الماهية، أو يكون وجودها ملازما
لوجود هذه. ولذلك يعبر عنها - مسامحة - بالمشخصات وقد
يعبر عنها أيضا بأمارات التشخص وإلا فالتشخص بنفس الوجود وإلا
فبقول بعض المحققين من الحكماء ضم الف ماهية كلية إلى ماهية
من الماهيات لا يفيد الشخصية فما لم يضع الوجود الحقيقي قدمه في
البين لا يحصل التشخص بل التشخص عين الوجود فالثمرة التي
رتبوها على هذا النزاع في باب الاجتماع هي أنه بناء على تعلقها
بالطبائع لا يسري الامر إلى الملازمات والمقارنات الوجودية من
سائر الماهيات والمقولات وهكذا في طرف النهي فلا يلزم اجتماع
الضدين من اجتماع الأمر والنهي إذا كان متعلقهما من مقولتين، و
بناء على تعلقها بالافراد يلزم ذلك ليس على ما ينبغي بناء على هذا
المسلك لان هناك وجودان والتركيب بينهما انضمامي فتعلق الامر
بأحد الوجودين الشخصيين لا يلازم تعلقه بالوجود الاخر كما أن النهي
عن أحد الوجودين لا يلازم النهي عن الوجود الاخر ولو قلنا
بتعلق الأوامر بالافراد بالمعنى الذي ذكرناه الان وأما بناء على أصالة
الماهية، وأن المجعول هي الماهية وأن الإرادة تتعلق بالماهية
لان الوجود - بناء على هذا - أمر انتزاعي لا أثر له أصلا، والملاك و
المصلحة قائمة بالماهية والإرادة تتبع الملاك والمصلحة فالمراد
بتعلق الأوامر بالطبائع - أي الماهيات الكلية المجردة عن جميع
الخصوصيات وأمارات التشخص أي
269

الماهيات المقارنة أو الملازمة لها من سائر المقولات، وتكون تلك
الماهيات - بناء على هذا - خارجة عن المراد والمطلوب وتكون
مقارنة أو ملازمة له والمراد بتعلقها بالافراد - أي الماهيات
المتخصصة بتلك الخصوصيات المقارنة لها بحيث تكون تلك
المقارنات و
الخصوصيات داخلة في المراد والمطلوب والثمرة المذكورة في باب
الاجتماع تأتي وتترتب بناء على هذا المسلك كما هو واضح.
هذا كله في مقام الثبوت وأما في مقام الاثبات فلا شك في أن متعلق
الإرادة هو الوجود لا الماهية وقد تقدم في بعض المباحث السابقة
أن إرادة الامر تتعلق بما تتعلق به إرادة الفاعل المباشر الذي يأتي بفعل
ويوجده لأجل ترتب غرض عليه.
ولا شك في أن إرادة الفاعل تتعلق بوجود الفعل وإيجاده في الخارج
لا بماهيته.
و (الاشكال) على هذا - بأنه يلزم من ذلك طلب الحاصل وأيضا تعلق
الإرادة بأمر متأخر عنها، لأنها من مبادئ وجود الفعل في الخارج
مع أن نسبة الإرادة إلى متعلقها نسبة العرض إلى معروضها فلا بد أن
تكون متأخرة عنه فيلزم تقدم الشئ على ما هو متأخر عنه وهذا
محال - (ليس في محله) من جهة أن هذا الاشكال يرد لو قلنا بأن
الإرادة تتعلق ابتداء بنفس الوجود الخارجي وأما لو قلنا بأنها تتعلق بما
هو صورة ذهنية له ومرآته في الذهن، فلا يرد أصلا.
و (أما ما يقال) من أن صيغة افعل مثلا لها مادة ولها هيئة أما مادتها فلا
تدل إلا على الماهية نفسها وأما هيئتها فلا تدل إلا على النسبة
الطلبية فمن أين جاء الوجود حتى يكون هو متعلق الطلب؟ (فجوابه)
أن المادة وإن كانت موضوعة - كما يقول - لنفس الماهية ولكنه
لمكان اتحادهما - في الخارج وأنها ليست في الخارج إلا حدا
للوجود - يصح التعبير عن أحدهما بالآخر، فإذا قيل: أكرم زيدا أو جاء
زيد، فهل تحتمل أن يكون مراد القائل أكرم ماهية زيد أو الجائي هو
ذلك؟ (وأما ما ذكر) من أن متعلق الطلب هي الماهية التي في
الذهن، لكن لا بما هي في الذهن حتى يكون من قبيل الكلي العقلي
الذي لا ينطبق على
270

الخارجيات لان الماهية بهذا القيد لو وجدت في الخارج لزم أن ينقلب
الذهن خارجا أو بالعكس، ولا بما هي هي، لأنه ليست إلا هي لا
مصلحة ولا مفسدة فيها حتى تكون متعلقا للامر والنهي ولكن بما هي
خارجية وأنها عين الخارج فبهذا الاعتبار تقع متعلقة للإرادة و
الطلب (ففيه) أن هذه العبارات لا تغير الواقع عما هو عليه، فان أراد
أستاذنا المحقق (قده) من هذه العبارات أن الذي هو متعلق الطلب هو
وجود الماهية فهو وإلا فالماهية بأي وجه لوحظت ليس فيها مصلحة
ولا مفسدة، والماهية الخارجية أيضا مثل الذهنية اعتبارية والذي
له الأثر هو الوجود الخارجي وإلا فالماهية محفوظة في كلتا نشأتي
الذهن والخارج، ولا تتغير عما هي عليها فان الذات والذاتيات
محفوظة في أنحاء الوجودات واختلاف الآثار في الوجودين مع
انحفاظ الذات فيهما أحد الأدلة على أصالة الوجود فلا بد ولا مناص
إلا
من القول بأن متعلق الإرادة والطلب هو الوجود الخارجي لكن
بصورتها الذهنية حتى لا تلزم تلك المحاذير المذكورة، وإذا كان الامر
كذلك فأنت تدري بأن المصلحة لا تقوم بخصوصيات الوجودات بل
الأثر لذلك الوجود السعي أي هذا السنخ من الوجود والماهية النوعية
حد لذلك السنخ فالأثر الذي ينسب إلى ذلك النوع وتلك الماهية هو
في الحقيقة أثر ذلك السنخ من الوجود وإلا يلزم أن تكون الماهية
أصيلة ومعلوم أن نسبة الطلب والإرادة إلى المصلحة والملاك كنسبة
المعلول إلى علته، فكل شئ تكون المصلحة والملاك قائمة به
يكون هو متعلق الإرادة بدون أن تكون دائرة متعلق الإرادة أوسع مما
فيه المصلحة أو أضيق وإلا يلزم تخلف المعلول عن علته فلا بد و
أن نقول بتعلق الأوامر بالطبائع بمعنى ذلك الوجود السعي وأن
خصوصيات الوجودات الشخصية خارجة عن دائرة الطلب فيكون
التخيير بين الافراد تخييرا عقليا لان العقل يحكم بعدم الفرق في
تطبيق ذلك الوجود السعي على أي واحد من الوجودات الخاصة وأن
بكل واحد من تلك الوجودات يحصل الغرض. ومن المحتمل
القريب أن الأصوليين القدماء حيث أن أغلبهم بل جميعهم كان رأيهم
رأي
أغلب المتكلمين الذين يقولون بأصالة الماهية
271

هكذا بناء على مسلكهم وإلا فحق التعبير أن يقال: إن متعلق الامر هل
هو الوجود السعي أو الوجودات الخاصة؟
(المبحث السادس في وجوب المقدمة)
وتنقيح هذا المبحث يتم برسم أمور:
(الأول) - في أن هذه المسألة هل هي أصولية أو كلامية أو فقهية أو من
مبادئ الاحكام؟
وقد بينا سابقا أن المدار في كون المسألة أصولية صحة وقوعها كبرى
في قياس يستنتج من ذلك القياس الحكم الفرعي الكلي الشرعي
وأن لمعرفة المسألة أنها من أي علم طرقا ثلاثة: (أحدها) - أن يكون
محمولها من العوارض الذاتية لموضوع ذلك العلم، ولازم ذلك أن
يكون موضوعها إما عين موضوع ذلك العلم كمسألة أن الوجود خير و
منبع كل شرف وإما أن يكون من مصاديقه (ثانيها) - انطباق
تعريف ذلك العلم عليها نحو انطباق فتأمل. (ثالثها) - ترتب مرتبة من
الغرض الذي دون ذلك العلم لأجله عليها أو جهة من جهاته إن كان
الغرض ذو جهات، وحيث أنه تقدم أن علم الأصول ليس له موضوع
واحد تكون نسبته إلى موضوعات المسائل نسبة الطبيعي إلى
مصاديقه فالطريق الأول هاهنا مفقود والطريق الثاني - أيضا مع أنه في
حد نفسه لا يخلو عن إشكال - ليس طريقا مقابلا للثالث لان
الغرض أخذ في تعريفه فلا يكون طريقا مستقلا، فلا يبقى في البين إلا
الطريق الثالث وهو ترتب مرتبة من الغرض أو جهة من جهاته
عليها ولما كان الغرض - من جمع هذه المسائل وتسميتها باسم علم
الأصول - هو تحصيل الكبريات التي تقع في طريق استنتاج الحكم
الفرعي الكلي الشرعي فكل مسألة كانت هذه خاصيته تكون من
المسائل الأصولية و (بعبارة أخرى) ليس علم الأصول إلا عبارة عن
العلم
بأمثال هذه القواعد وتكون مسائله من المبادئ التصديقية لمسائل
علم الفقه. ولا شك في أن نتيجة البحث في هذه المسألة تقع كبرى في
مثل ذلك القياس المذكور وذلك لان مورد البحث هاهنا هو وجود
الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدماته وعدمها، فبعد ثبوت
الملازمة
272

وورود الدليل على وجوب شئ وضميمة حكم العقل بوجود تلك
الملازمة يستنتج وجوب مقدمات ذلك الشئ، فيعرف من هذا أن
هذه
مسألة أصولية ومع كونها كذلك لا وجه لعدها من المسائل الفقهية أو
الكلامية أو من مبادئ الاحكام وإن كانت فيها جهاتها كما هو
كذلك، فان فيها جميع تلك الجهات أما الجهة الفقهية فهو البحث عن
نفس وجوب المقدمة كما هو ظاهر عبارات المتقدمين.
وقد أفاد شيخنا الأستاذ (قدس سره) في هذا المقام أن المسألة الفقهية
ما يكون موضوعها من الموضوعات الخاصة، كالصلاة والصيام
والحج وأمثال ذلك ووجوب المقدمة ليس من هذا القبيل، لان
عنوان المقدمة عنوان عام ينطبق على عناوين كثيرة في موارد مختلفة.
(وأنت خبير) بأن هذا لا يضر بكون المسألة فقهية لان المناط في كون
المسألة فقهية هو أن تترتب عليها معرفة الحكم الفرعي الكلي
الشرعي لموضوع من الموضوعات عاما كان ذلك الموضوع أو خاصا
من أفعال المكلفين أو من الموضوعات الخارجية التي تتعلق بها
أفعال المكلفين، وذلك كطهارة الماء ونجاسة الدم هذا مضافا إلى أن
كثيرا من القواعد الفقهية يكون موضوعها عاما كذلك حتى أن
مناط الفرق بين القاعدة الفقهية ومسألتها ربما يكون بهذا المعنى.
و (لا يخفى) أن تسمية بعض المسائل الفقهية بالقواعد مجرد اصطلاح
والا فكلها مسائل فقهية، وليست خارجة عن ذلك العلم كما هو
واضح.
وأما ما أفاده أستاذنا المحقق (ره) في هذا المقام لاخراج هذه المسألة
ولو كان البحث فيها عن نفس وجوب المقدمة لا عن الملازمة من
المسائل الفقهية، بأن المناط فيها هو كون المحمول خاصا بمعنى أنه
يكون أحد الاحكام وضعية أو تكليفية بدون اختلاف المرتبة في
ذلك الحكم بالنسبة إلى آحاد الموضوعات المندرجة تحت ذلك
العنوان العام. وما نحن فيه (أولا) يمكن ان يكون المحمول أكثر من
حكم
من واحد، بل يكون البحث في أن مقدمة كل شئ يكون محكوما
بحكم سواء كان حكم ذلك الشئ هو الوجوب أو الاستحباب أو
الحرمة
أو الكراهة أو الإباحة تكون مقدمته مثله في
273

الحكم إن كان واجبا، كانت واجبة وان كان مستحبا كانت مستحبة و
هكذا و (ثانيا) أنه لو فرضنا ان البحث في خصوص وجوب مقدمة
الواجب، لكن وجوب المقدمات ليس على شكل واحد من حيث
المرتبة بل مختلف فيها شدة وضعفا (ففيه) أن الفرض الأول خلاف
الفرض، لان الكلام في وجوب مقدمة الواجب لا في أن المقدمة لكل
ما هو محكوم بحكم من الأحكام الخمسة هل هي محكومة بحكم
ذلك
الشئ أم لا؟ واما كلامه الثاني وهو ان المحمول في المسألة الفقهية لا
بد وأن يكون حكما وحدانيا بمرتبة واحدة ناشئا عن ملاك واحد،
ووجوب المقدمة ناشئ عن ملاكات متعددة لان ملاك وجوبها هي
ملاكات الواجبات النفسية وهي مختلفة ومراتبها أيضا متفاوتة فهذا
دعوى بلا بينة وبرهان بل البرهان على خلافه، وهو ما بينا من أن
المسألة الفقهية هي ما يبحث فيها عن الحكم الفرعي الشرعي الكلي
لموضوع وليس فيها مثل هذه القيود أصلا. واما الجهة الكلامية فبناء
على أن علم الكلام هو العلم الذي يبحث فيه عن أحوال المبدأ و
المعاد أو ما يرجع إليهما من الثواب والعقاب والتحسين والتقبيح
العقليين، فيمكن ان يقال إن الملازمة بين الوجوبين - بالآخرة -
تنتهي إلى ما ذكر ولكن يشكل ذلك بأن وجوب المقدمة لا يستتبع
عقابا واستتباعه للثواب وإن كان مسلما لو أتى بها بقصد إطاعة
أمر ذي المقدمة لكنه يترتب عليه مطلقا: قلنا بالملازمة أو لم نقل. واما
بناء على أن علم الكلام عبارة عن العلم بأحوال أعيان الموجودات
بقدر الطاقة البشرية فيمكن ان يقال بأن البحث عن الملازمة بحث عن
حالات وجوبات الأشياء. ولكن يشكل ذلك بأن المراد بأعيان
الموجودات هي الموجودات العينية الواقعية، لا الموجودات
الاعتبارية كالأحكام الشرعية التي هي مجعولات في عالم الاعتبار و
اما كونها
من مبادئ الاحكام فلما تقدم في أول الكتاب من أنها عبارة عن
الحالات العارضة على نفس الاحكام ككونها متضادة مثلا، ومن
جملتها
هي الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته.
ثم إنك بعد ما عرفت ان المسألة أصولية فلتعلم انها عقلية لا لفظية لان
الكلام
274

في أن العقل هل يحكم بوجود الملازمة بين تعلق الإرادة بوجود شئ
لوجود ملاك الوجوب والمصلحة فيه، وبين تعلق إرادة أخرى
ترشحية بالنسبة إلى مقدماته الوجودية أو لا؟ سواء كان وجوب ذلك
الشئ مدلول لفظ أو لا، فالكلام في حكومة العقل ولا ربط له بباب
الألفاظ أصلا نعم ان هذا الحكم ليس من المستقلات العقلية بل العقل
يحكم بهذا الحكم بعد ورود الدليل على وجوب شئ شرعا أو لا
يحكم والمراد من المستقلات العقلية هي الاحكام العقلية المحضة،
كحكمه بأن الكل أعظم من الجز وان الواحد نصف الاثنين وكحكمه
ببطلان الدور والتسلسل واجتماع النقيضين.
و (بعبارة أخرى) معنى كونه مستقلا انه كان يحكم بهذا الحكم سوأ
صدر من طرف الشارع حكم أو لم يصدر أصلا فمسألتنا هذه - و
مسألة ان الامر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده ومسألة جواز
اجتماع الأمر والنهي ومسألة المفاهيم وأمثالها - من المسائل العقلية
غير المستقلة، لاحتياج العقل في حكمه في تلك الموارد إلى صدور
الحكم أولا من طرف الشارع.
(الامر الثاني) - في أنه ما المراد من وجوب المقدمة في محل النزاع
والظاهر أن المراد منه هو انه إذا تعلقت الإرادة النفسية المستقلة
بشئ بواسطة الملاك والمصلحة الملزمة الموجودة فيه فهل تكون
هذه
الإرادة علة وملزوما لتعلق إرادة أخرى متولدة من هذه الإرادة بكل ما
يتوقف عليه وجود هذا الشئ؟ فالإرادة المتعلقة بالمقدمة أي ما
يتوقف عليه وجود المراد الأصلي في طول الإرادة المتعلقة بالمراد
الأصلي الذي نسميه بذي المقدمة ومترشحة منها، ولا يتوهم من
قولهم: إن إرادة المقدمة مترشحة من إرادة ذي المقدمة ان قطعة من
إرادة ذي المقدمة تنفصل وتتعلق بالمقدمة. وكيف يكون كذلك مع أن
وجوب المقدمة وجوب غيري ولو كان كما توهم لكان وجوبها
وجوبا نفسيا ضمنيا وكان حال المقدمات الخارجية حال الاجزاء بل
المراد ان منشأ تحقق إرادة المقدمة وعلتها هي إرادة ذي المقدمة
فالملازمة المدعاة في المقام ملازمة بين الملزوم ولازمه، لا بين أمرين
عرضيين كما ربما يظهر
275

مما نسب إلى المحقق القمي (قده) من أن النزاع في أنه هل المقدمة
واجبة مثل ذي المقدمة بوجوب عرضي استقلالي ناش عن كونه
مقدمة
للواجب النفسي والمراد الأصلي. وأنت خبير بفساد هذا الزعم، من
جهة ان الوجوب الاستقلالي العرضي يحتاج تحققه إلى أمرين:
(الأول)
- الالتفات إلى هذا العنوان وكثيرا ما يكون الانسان غافلا عن مقدمية
بعض المقدمات (الثاني) - كونه واجدا لمصلحة وملاك أوجب
تعلق الإرادة به. وهذا في المقام خلف لأن المفروض أنه ليس بواجب
نفسي ففرض كونه ذا مصلحة ملزمة خلاف الفرض (ان قلت): يمكن
تعلق الإرادة به بعنوان ما يتوقف عليه المراد الأصلي ولو لم يلتفت
إلى أنه مصداق هذا العنوان (قلنا) نعم يمكن ذلك، لكن لا بد في
اشتمال ذلك العنوان على مصلحة ملزمة حتى يصير متعلقا للإرادة و
الا يرجع إلى ما ذكرنا من كون إرادته من لوازم المراد الأصلي وأما
اشتمال ذلك العنوان على مصلحة ملزمة فخلاف الفرض كما ذكرنا. و
أما احتمال أن يكون المراد من الوجوب - في محل النزاع - هو
اللابدية العقلية فمعلوم العدم، من جهة أن هذا أمر ضروري على كل
حال سواء قلنا بالوجوب الشرعي للمقدمة أو لم نقل فلا يمكن أن
يكون مثل هذا الامر الضروري محلا للنزاع بين الاعلام وأردأ من هذا
الاحتمال هو أن يكون المراد منه انتساب الوجوب النفسي الثابت
لذي المقدمة إلى المقدمة بالعرض والمجاز لان مرجع صحة
الاطلاقات المجازية وعدمها إلى العرف وليس بحثا علميا حتى
يكون محلا
للنزاع بين الاعلام، مضافا إلى لغوية هذا البحث كما هو واضح.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قده) أنكر وجود ثمرة لهذا البحث في هذا
المقام، حتى بناء على القول بوجوب المقدمة وحيث أننا نتكلم -
فيما
سيأتي - في ثمرة هذا البحث، فندع الكلام إلى ذلك المقام. وقد أفاد
أستاذنا المحقق (ره) في هذا المقام أن مقدمية شئ للواجب النفسي
الذي وجوبه محل الكلام متوقفة على أمرين:
(الأول) - أن يكون من أجزاء علة وجود ذلك الواجب النفسي
(الثاني) -
276

أن يكون وجوده غير وجود ذلك الواجب النفسي فباب التلازم خارج
عن محل الكلام لعدم توقف وجود أحدهما على الاخر. وهكذا باب
الكلي ومصداقه لعدم تعدد الوجود. (وأنت خبير) بأنه لو كان الامر
كذلك لكانت الاجزاء والمقدمات الداخلية أيضا خارجة عن محل
الكلام، لان وجود الواجب - أي المركب الكل - عين وجود الاجزاء
بالأسر. والتفاوت بصرف الاعتبار مع أن لهم بحث طويل في الاجزاء
والمقدمات الداخلية كما سيأتي.
(الامر الثالث في تقسيمات المقدمة):
(فمنها) - تقسيمها إلى الداخلية والخارجية،
وكل واحدة منهما على قسمين بالمعنى الأخص والمعنى الأعم
فالداخلية بالمعنى الأخص هي ما تكون ذاتها داخلة في الواجب و
المركب
المأمور به، وتحت الطلب والإرادة النفسية وتقابلها الخارجية
بالمعنى الأعم وهي ما لا تكون ذاتها داخلة تحت الطلب والإرادة
النفسية
سواء كان التقيد بها داخلا في الواجب أولا إذ المراد من الخارجية -
هاهنا - عدم دخولها فيكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة. و
معلوم أن نقيض الأخص أعم وبالعكس أي نقيض الأعم أخص
فمقابل الداخلية بالمعنى الأخص الخارجية بالمعنى الأعم، كما أن
مقابل
الداخلية بالمعنى الأعم الخارجية بالمعنى الأخص والمراد بالداخلية
بالمعنى الأعم هو أن يكون التقيد به داخلا في الواجب ويكون تحت
الطلب والإرادة النفسية، سواء كانت ذاتها أيضا داخلة تحته أو لا. و
تقابلها الخارجية بالمعنى الأخص وهي أن لا يكون التقيد بها داخلا
في الواجب، فقهرا تكون ذاتها خارجة عنه بطريق أولى (وبعبارة
أخرى) الخارجية بهذا المعنى أجنبية عن الواجب ذاتا وتقييدا، غاية
الامر يكون وجود الواجب في الخارج موقوفا على وجودها.
(إذا عرفت هذا) فنقول: لا شك في دخول المقدمات الداخلية بمعنى
ما يكون التقيد به داخلا في الواجب وتكون ذاته خارجة عنه وهذا
ينحصر بالشرائط والموانع الشرعية في محل النزاع وذلك من جهة أن
لها وجود وللواجب وجود آخر،
277

فيقع النزاع في وجود الملازمة بين تعلق الإرادة بأحدهما مع تعلقها
بالآخر وعدمها.
وانما الكلام في دخول المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص في محل
الكلام والسر - في الاشكال في دخولها - هو أن المقدمات الداخلية
بالمعنى الأخص التي هي عبارة أخرى عن الاجزاء يكون وجودها
عين وجود الكل لا أن لها وجود وللكل وجود آخر حتى يكون أحد
الوجودين واجبا بالوجوب النفسي والاخر واجبا بالوجوب الغيري و
معلوم أن الوجود الواحد لا يتحمل الوجوبين، للزوم اجتماع
المثلين وأيضا لا علية بينهما، لان العلة لا بد وأن يكون لها وجود غير
وجود المعلول ومتقدما عليه ولكنه بالنسبة إلى الاشكال الأخير
يمكن أن يقال إنه مغالطة من جهة أن ما ذكر من لزوم تعدد وجود العلة
مع وجود المعلول وتقدمه عليه بنحو تخلل الفاء في علل الوجود
لا في علل القوام. ولا شك في أن أجزاء المركب من علل قوامه لا من
علل وجوده.
وأما الاشكال الأول فنسب الجواب عنه إلى شيخنا الأعظم الأنصاري
(قده) كما في التقريرات بأن للجز لحاظين لحاظه بشرط لا، وهو
بهذا اللحاظ غير الكل وأجنبي عنه ومباين معه، ولحاظه لا بشرط و
هو بهذا اللحاظ عين الكل ومتحد معه فهو باللحاظ الثاني كل و
واجب نفسي وباللحاظ الأول وجز وواجب غيري ومقدمة وقد
أشكل عليه عامة من تأخر عنه من الأساطين بأن الفرق بين الجز و
الكل ليس بما ذكره (قدس سره) من كون لحاظ الجزئية لحاظ الشئ
بشرط لا، ولحاظ الكلية لحاظ الشئ لا بشرط. وذلك من جهة أن
لحاظ الشئ بشرط لا أو لا بشرط - هاهنا - ليس من ناحية الاتحاد مع
شئ آخر أو عدم اتحاده معه لان الكلام في المركبات الاعتبارية
التي لا اتحاد بين أجزائها ولا هي متحدة مع الكل، ولا يتغير الواقع
عما هو عليه باختلاف اللحاظات والاعتبارات بل هذان اللحاظان
للجز باعتبار الانضمام مع شئ آخر وعدم انضمامه معه، وإذا كان
الامر كذلك فلحاظه بشرط لا مع كونه جزا متباينان لا يجتمعان
لان الشئ مقيدا بعدم انضمامه مع غيره محال أن يكون جزا
للمركب. وهكذا بصرف اعتباره ولحاظه لا بشرط عن الانضمام مع
278

غيره وعدم انضمامه معه لا يتحد مع الكل ولا يكون عينه بل
لصيرورته عين الكل لا بد من اعتباره بشرط الانضمام فالفرق بين الكل
و
الجز هو أن الاجزاء إذا لوحظت بشرط الاجتماع كانت كلا وإذا
لوحظت لا بشرط عن الاجتماع والانضمام كانت أجزاء.
(وإن شئت قلت) - إذا نظرت إلى المركب من عدة أشياء فبملاحظة
تلك الأشياء مجتمعة ومنضما بعضها إلى بعض فبهذا الاعتبار كل و
بملاحظتها في حد أنفسها من دون اشتراط الانضمام والاجتماع ولا
اشتراط عدمه تكون أجزاء، وعلى كل تقدير سواء كان ملاك
المقدمية والجزئية هو اعتباره بشرط لا كما نسب إلى شيخنا الأعظم
(رحمه الله) في التقريرات أو اللابشرط عن الانضمام وعدمه كما
هو الصحيح نقول بأنه من الواضح أنه ليس في الخارج للمركب وجود
وللاجزاء وجود آخر فبناء على أن البعث والتحريك يكون
بالنسبة إلى الوجود الخارجي أي إلى إيجاد الشئ بتوسيط الصورة
الذهنية، لان الفرق بين الوجود والايجاد اعتباري فتعود المحاذير،
لأنه لا تغير هذه الفروق الاعتبارية في ناحية ما هو المبعوث إليه
حقيقة.
وأما ما ربما يتوهم في توجيه كلام الشيخ من أن الأوامر تتعلق بالصور
الذهنية وإلا يلزم تحصيل الحاصل لو قلنا بتعلقها بالوجود
الخارجي مضافا إلى أن وجود المأمور به في الخارج ظرف سقوط
الامر لا ظرف ثبوته وتعلقه وإذا كان الامر كذلك فالواجب النفسي
تلك الصورة الوحدانية التي تكون الاجزاء مندكة فيه، فالاجزاء - أي
الأشياء المندكة في تلك الصورة الوحدانية - لا تكون واجبة
بالوجوب النفسي ومثل لذلك بالمطلق والمقيد، فإذا تعلق الوجوب
بالمقيد فذات المطلق - مع أنه موجود في ضمن المقيد، ولكن حيث
أنه مندك فيه - لا يكون واجبا ضمنيا نفسيا في ضمن وجوب المقيد و
لذلك ترى أنه لا يجري الانحلال الذي نقول به في باب الأقل و
الأكثر في الاجزاء والشرائط بالنسبة إلى المطلق والمقيد لان المطلق
مندك في المقيد وليس له وجود في قبال وجود المقيد.
ففيه (أولا) - أن قياس المقام بباب المطلق والمقيد في غير محله، لما
ذكر
279

من أن المطلق في ضمن المقيد ليس له وجود استقلالي بل هو مع
قيده موجودان بوجود واحد بخلاف الاجزاء، فان لكل جز وجود
استقلالي في مقابل الاجزاء الاخر. (وبعبارة أخرى) في باب المطلق و
المقيد لا ينبسط الوجوب على ذات المطلق وذات القيد، بحيث
يأخذ
كل واحد منهما حظه ونصيبه من الوجوب لأنهما موجودان بوجود
واحد فلهما وجوب واحد بخلاف أجزاء المركب، فان الوجوب
ينبسط
عليها وكل واحد منها يأخذ حظه ونصيبه منه. وهذا هو السر في عدم
جريان الانحلال وتبعض الصفقة في باب المطلق والمقيد و
جريانهما في باب المركب والاجزاء. والحاصل أن الوجوب ينبسط
على الاجزاء وتكون واجبات ضمنية نفسية.
و (ثانيا) - أن الوجوب وإن كان يتعلق بالصورة الذهنية وهذا أمر
مسلم معلوم لو كان المراد منه الإرادة، لان الإرادة صفة ذهنية ومن
الكيفيات النفسانية ولا يمكن أن يعرض العرض الذهني على
الموجود الخارجي الذي هو غير ذلك الذهن، ولكن من الواضح
المعلوم أن
تعلق الإرادة بتلك الصورة الذهنية باعتبار كونها مرآة وحاكية عن
الخارج وفانية فيه. وذلك كما أن الواضع - في وضع الاعلام
الشخصية - يتصور صورة زيد، ويجعل العلاقة والارتباط بين اللفظ و
محكي تلك الصورة أي الهيكل الخارجي لا تلك الصورة الذهنية.
نعم يعين الموضوع له بتوسيط تلك الصورة الذهنية، وهكذا في
المقام يريد الخارج بتوسيط الصورة فالخارج يكون مطلوبا وجوده
قبل وجوده في الخارج فلا يلزم تحصيل الحاصل ولا المحاذير الاخر
فإذا كان وجوب الكل عين وجوب الاجزاء فيرجع المحذور لأنه -
بناء على هذا - متعلق الوجوب والمبعوث إليه - في الحقيقة - هو
الوجود الخارجي: لأنه الذي يفي بالغرض وتكون فيه المصلحة و
تبعية
الإرادة للملاك والمصلحة من أوضح الواضحات، فإذا فرضنا أن
وجود الاجزاء في الخارج عين وجود الكل ومتعلق الأوامر هي
الوجودات
فلا محالة تكون الاجزاء واجبة بعين وجوب الكل فيلزم اجتماع
المثلين. وإن أجيب عنه بأنهما لا يجتمعان إن كانا في مرتبتين كما هو
كذلك، لأن المفروض في المقام أن
280

أحد الوجوبين علة والاخر معلول له، ويتأكدان إن كانا في مرتبة
واحدة ويصيران وجوبا واحدا. ولا يصغى إلى ما ربما يقال من أن
الوجوب من الأمور الاعتبارية ولا تماثل ولا تضاد في الأمور
الاعتبارية لان المراد من اجتماع المثلين - في المقام - هو اجتماع
الإرادتين بالنسبة إلى متعلق واحد في زمان واحد بحدهما ومحالية
مثل هذا أيضا معلوم، كما أنه لا يمكن إنكار تحققه في المقام بعد
بطلان التأكد لما ذكرنا من اختلاف الرتبة. مضافا إلى أن النزاع في
وجود الملازمة بين وجوب شئ وبين وجوب شئ آخر يتوقف
عليه وجود الشئ الأول لا بين وجوب شئ وبين وجوب نفسه ثانيا
وأيضا ظهر مما ذكرنا عدم الاحتياج إلى ما أتعب نفسه أستاذنا
المحقق (ره) في إثباته من أن متعلق الوجوب هو ذوات الاجزاء التي
تألف منها المركب لا الكل بوصف الكلية لان الكلية والجزئية مما
ينتزع من مجموع الاجزاء أو كل واحد واحد بعد ورود الامر على هذه
الأشياء ووقوعها تحت أمر واحد، وإلا لو فرضنا وجود أوامر
متعددة مستقلة بحسب عدد تلك الأشياء لما كانت هناك كلية أو
جزئية في البين، فإذا كان كذلك فلا يمكن أن يتعلق الامر بما هو كل،
لان ما يتأتى من قبل الامر لا يمكن أن يؤخذ في متعلق الامر فالمأمور
به بالامر النفسي هو ذوات هذه الأشياء وليس هناك شئ آخر
حتى يكون هو ذي المقدمة وتكون هذه الاجزاء مقدمة له، فلا يبقى
موضوع لهذا النزاع أصلا لأنه لا فرق في ما ذكرنا بين أن يكون
هناك كل متعلق للامر أو لا يكون لما ذكرنا من تعلق الأوامر بالوجودات
أي بإيجاد الطبائع.
وليس في باب المركبات إلا وجود واحد ينسب إلى الاجزاء باعتبار و
إلى الكل باعتبار آخر. والوجود الواحد لا يتحمل الوجوبين والا
أمكن فرض الكلية والجزئية في الرتبة السابقة على الامر وذلك
باعتبار وحدة الغرض والمصلحة بل لا بد من هذا الفرض لوضوح قيام
مصلحة واحدة بهذا المجموع فيمكن أن يقال بل لا بد منه إن الامر
النفسي تعلق بكل ما تقوم المصلحة به فيكون معروض الوجوب
النفسي
ذلك الكل.
وكل واحد من أجزاء ما تقوم به المصلحة مقدمة لذلك الكل فيكون
واجبا
281

الغيري، فلا مناص مما ذكرنا في مقام نفي الوجوب الغيري عن
الاجزاء بأنها واجبات نفسية ضمنية فلا يتحمل وجوبا آخر.
وأما المقدمات الخارجية بالمعنى الأعم أي ما لا تكون ذاته تحت
الطلب النفسي سواء كان التقيد به داخلا تحته كالشرائط الشرعية و
إعدام موانعها أم لا، بل كان نفس الذات والتقيد بها كلاهما خارجان
عن تحت الإرادة والطلب كالمقدمات العقلية والعادية التي لم
يؤخذ التقيد بها ولا ذاتها في الواجب فجميعها - بجميع أقسامها -
داخلة في محل الكلام سواء كانت من قبيل العلة التامة أو المعد أو
المقتضي أو الشرط أو من قبيل عدم المانع. وذلك من جهة أن وجود
جميع هذه المذكورات غير وجود ذي المقدمة والواجب فيمكن أن
يقال بوجود الملازمة بين وجوب ذي المقدمة وبين وجوب هذه
المذكورات، ولا يلزم شئ من المحذورات التي كانت تلزم من القول
بالملازمة بين وجوب الشئ وبين وجوب أجزائه نعم بالنسبة إلى
العلة التامة من المقدمات الخارجية ربما يتوهم عدم جريان هذا
النزاع بتوهم أن المعلول ليس تحت القدرة والاختيار بل ما هو تحت
القدرة هو نفس العلة فتكون واجبة بالوجوب النفسي، فلا يبقى
مجال لان تكون واجبة بالوجوب الغيري.
وأنت خبير بأن المقدور بالواسطة مقدور والقدرة على العلة التامة
لشئ أو على جزئها الأخير قدرة على ذلك الشئ، فإذا كانت
المصلحة قائمة بالمعلول والمعلول مقدور بتوسيط القدرة على علته
فلا محالة تتعلق الإرادة النفسية بالمعلول وذلك من جهة تبعية
الإرادة للملاك والمصلحة فإذا كانت المصلحة في تحريك الثوب مثلا
وكان تحريك الثوب مقدورا بواسطة علته التامة أو الجز الأخير
من علته التامة التي هي تحريك اليد مثلا فلا محالة تتعلق الإرادة
النفسية بتحريك الثوب ويكون تحريك اليد واجبا غيريا بناء على
وجود الملازمة.
و (أما ما قيل) من أن الامر بالاحراق مرجعه إلى الامر بالالقاء في النار،
لان ما هو المقدور للمكلف هو الالقاء لا الاحراق (ففيه) أولا - أن
الاحراق أيضا
282

مقدور لان المقدور بالواسطة مقدور كما تقدم. و (ثانيا) - أن هذا خلط
بين باب العلل والمعلولات التكوينية والأسباب والمسببات
التوليدية. والفرق بينهما أن العلل التكوينية مع معلولاتها موجودات
بوجودات متعددة، بخلاف باب الأسباب التوليدية مع مسبباتها فان
السبب التوليدي مع المسبب التوليدي - سواء كان المسبب التوليدي
من الأمور القصدية كالبيع بالنسبة إلى الاعطاء الخارجي في البيع
المعاطاتي، أو القيام بالنسبة إلى التعظيم أو لم يكن من الأمور القصدية
كالاحراق والقتل والرجوع بالنسبة إلى الالقاء في النار و
إطلاق الرصاص أو الضرب بالسيف، وتقبيل المرأة المطلقة رجعية
بناء على عدم لزوم القصد في تحقق الرجوع كما هو الصحيح - لهما
وجود واحد فهناك ليس إلا فعلا واحدا صادرا من الفاعل يسمى
بعنوانه الأولى سببا وبعنوانه الثانوي مسببا فتعلق الإرادة النفسية
بأحدهما مساوق لتعلقها بالآخر فلا يبقى مجال للوجوب الغيري
بخلاف باب العلل التكوينية مع معلولاتها فحيث أن هناك وجودان
أحدهما للمعلول والاخر للعلة، فلو كانت للمعلول مصلحة ويترتب
على وجوده غرض فلا محالة تتعلق به الإرادة النفسية لتبعيتها للملاك
والمصلحة. وأما العلة فان كانت أيضا لوجودها مصلحة ملزمة أخرى
فقهرا تتعلق به أيضا إرادة نفسية أخرى وإلا فلا وجه لكونه واجبا
نفسيا. نعم بناء على وجود الملازمة بين وجوب شئ ووجوب ما
يتوقف عليه ذلك الشئ تكون العلة واجبا غيريا.
(وبعبارة أخرى) المقدمات الداخلية أي أجزاء المركب المأمور به
حيث أنه لا وجود لها غير وجود ذيها أي المركب الكل فتكون
واجبات
نفسية ضمنية بعين وجوب الكل، فلا مجال لان تكون واجبة
بالوجوب الغيري وكذلك الأسباب في باب الأسباب والمسببات
التوليدية
حيث أنه ليس لها وجودات غير وجودات المسببات فتعلق الوجوب
النفسي بالمسببات عين تعلقه بالأسباب. ولا معنى لكون أحدهما
واجبا دون الاخر، فلا مجال أيضا لكونها واجبة بالوجوب الغيري وأما
العلل التامة للواجب النفسي أو الجز الأخير منها أو المقتضي له
بمعنى ما يكون الواجب رشحا
283

وأثرا له أو الشرط له بمعنى ما يكون متمما لفاعليته للأثر المترتب
عليه أو يكون موجبا لقابلية المحل للتأثر بذلك الأثر، أو عدم المانع
أيضا كذلك أي يكون موجبا لقابلية المحل للتأثر أو المعدات له،
بمعنى ما يقرب تأثير العلة في وجود الواجب فجميع ذلك داخل في
محل
النزاع، ويكون كل واحد منها واجبا بالوجوب الغيري بناء على ثبوت
الملازمة.
و (منها) - تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية
والمراد من العقلية توقف الواجب عليها عقلا، وذلك كما إذا كان
المعلول التكويني لعلة تكوينية واجبا فيكون توقف هذا المعلول
الواجب على علتها عقليا. والمراد من الشرعية ما يكون التوقف
شرعيا بمعنى أن الشارع أخذ الواجب بنحو يكون التقيد بذلك الشئ
دخيلا فيه، ولكن كون التوقف شرعيا بلحاظ نفس هذا الجعل وأخذه
كذلك وإلا فبعد الفراغ عن أخذه كذلك يكون التوقف عقليا و
ذلك من جهة أن حصول التقيد بدون حصول القيد محال عقلا و
المراد من العادية هو أن يكون التوقف بحسب العادة وإلا فلا مانع
عقلا
من وجود ذلك الشئ بدونها وذلك كصعود السلم أو نصبه بالنسبة
إلى الكون على السطح وهذا القسم لا وجه لوجوب خصوص تلك
المقدمة العادية مع إمكان الاتيان بالواجب بطريق عادي. (وبعبارة
أخرى) إن لم يكن طريق آخر لاتيان الواجب منه ولو كان غير
عادي فالتوقف عقلي وإن كان فلا وجه لوجوب خصوص الطريق
العادي بل لا بد من تعلق الوجوب بأحدهما على البدل.
و (منها) - تقسيمها إلى مقدمة الصحة ومقدمة الوجود
والمراد بمقدمة الصحة ما يكون حكم الشارع بصحته متوقفا عليها لا
أصل وجوده فإنه يمكن أن يوجد المركب بتمامه وكماله ولكن لا
يكون صحيحا، لأجل اشتراطه بوجود شئ سابق عليه أو مقارن معه
أو لاحق له مع فقده أو اشتراطه بعدم شئ كذلك مع وجوده بخلاف
مقدمة الوجود فإنها عبارة عما يكون وجود المركب متوقفا عليها لا
صحته فقط (وأنت خبير) بأن مرجع صحة الشئ أيضا إلى وجوده،
لان فقد
284

الشرط أو وجود المانع مانع عن وجود تلك الخصوصية المأخوذة فيه
التي عبرنا عنها بالتقيد بوجود ذلك الشئ أو بعدمه، فما يوجب
فقد الصحة يوجب فقد الوجود أيضا. ومحال أن يوجد الشئ بجميع
خصوصياته المأخوذة فيه ولا يكون صحيحا.
و (منها) - تقسيمها إلى مقدمة العلم ومقدمة الوجود
وبديهي أن مقدمة العلم لا ربط لها بمقامنا ومحل كلامنا أصلا وانما
هي عبارة عن حكم العقل بلزوم إتيان جميع المحتملات إرشادا إلى
حصول الإطاعة والامتثال.
و (منها) - تقسيمها إلى مقدمة الوجوب ومقدمة الوجود.
وأنت خبير بخروج مقدمة الوجوب عن محل كلامنا لان محل كلامنا
إنما هو بعد الفراغ عن ثبوت وجوب ذي المقدمة وتحققه في وجود
الملازمة بين وجوب الشئ وبين وجوب مقدماته الوجودية.
و (منها) - تقسيمها إلى المتقدمة والمتأخرة والمقارنة،
والمقدمة المتأخرة المسماة عند الأصوليين بالشرط المتأخر هي التي
وقع الكلام في إمكانها وامتناعها وأما المقدمة المقارنة و
المتقدمة فلا كلام فيهما، وإن أفاد صاحب الكفاية (قده) بمجئ
الاشكالات - التي أوردوها على الشرط المتأخر في المتقدمة أيضا من
تأثير المعدوم في الموجود والخلف وانفكاك العلة عن المعلول غاية
الامر الانفكاك قد يكون بواسطة تقدم المعلول على العلة وقد
يكون بواسطة تقدم العلة على المعلول زمانا خصوصا إذا كان مع
الانفصال. ولكن التحقيق عدم مجئ هذه الاشكالات في الشرط
المتقدم زمانا إلا إذا كانت المقدمة المتقدمة هي العلة التامة فإنها لا
يمكن أن تنفك عن معلولها وإلا فتقدم المعدات زمانا على المعلول
مما لا يقبل الانكار، فالكلام هو في خصوص الشرط المتأخر.
والتحقيق أن الشرط المتأخر - بمعنى أن يكون للمتأخر دخل في
وجود المتقدم أي يكون من أجزاء علة وجوده أو من أجزاء موضوعه
و
قيوده - محال وممتنع وامتناعه من البديهيات ولا يحتاج إلى تجشم
استدلال وبرهان بداهة امتناع تقدم المعلول على جميع أجزاء علته
ولو كان جزا أو شرطا يسيرا ضعيفا حقيرا للزوم
285

الخلف والمناقضة. وأيضا بداهة امتناع تقدم الحكم على موضوعه و
لو على جز أو قيد يسير منه. (وبعبارة أخرى) لا بد من تقدم العلة
والموضوع على المعلول والحكم بجميع أجزائهما والقيود المأخوذة
فيهما (فبناء) على ما تقدم تحقيقه من أن جعل الاحكام على نحو
القضايا الحقيقية، وأن شرائط الحكم مطلقا - سواء كان حكما تكليفيا
أو وضعيا - ترجع إلى قيود الموضوع بمعنى المكلف في الحكم
التكليفي، وإلا ففي الحكم الوضعي شرائط الحكم ترجع إلى قيود
نفس الموضوعات الخارجية، كالغليان، في العصير العنبي بالنسبة إلى
نجاسته أو بمعنى متعلق المتعلق فشرائط الاحكام - حيث أنها من
قيود الموضوعات بأحد المعنيين - لا يمكن أن تكون متأخرة عن
الحكم،
وإلا يلزم تأخر الموضوع عن الحكم ولو ببعض قيوده وأجزائه فيلزم
الخلف والمناقضة وإما أن يكون الشرط هي الصورة العلمية من
المتأخر حتى لا يكون ما هو الشرط - أي الصورة العلمية - متأخرا و ما
هو المتأخر - أي الوجود الخارجي لذلك الشئ - لا يكون شرطا،
فهذا الكلام خروج عما ذكرنا من الفرض وهو أن جعل الاحكام على
نحو القضايا الحقيقية دون الخارجية، وأن علل الجعل وشرائطه
غير علل المجعول وشرائطه وذلك من جهة أن شرائط الجعل وعلله
عبارة عن العلة الغائية لهذا الفعل، أي لذلك الجعل لان الجعل
التشريعي أيضا فعل من الافعال، وكل فعل يصدر عن الفاعل الحكيم
المختار لا بد أن تكون له غاية عقلائية حتى لا يكون جزافا منافيا
للحكمة، والعلة الغائية لكل فعل عبارة عن الصورة العلمية لما يترتب
في الخارج على الفعل الخارجي، فيحرك الفاعل نحو الفعل فتلك
الصورة بوجودها الذهني علة، وبوجودها الخارجي معلول لذلك
الفعل. وهذا هو المراد من قولهم أن العلة الغائية علة بماهيتها أي
بوجود الماهية في الذهن، ومعلول بإنيتها أي بوجودها الخارجي. و
أما الخارجي. و
أما شرائط المجعول فإنها من قيود الموضوعات بوجودها
الخارجي، وحال تلك القيود حال نفس الموضوعات، فكما أن نفس
الموضوعات ما لم توجد في الخارج لا يوجد حكم فعلي وإلا يلزم
الخلف والمناقضة فكذلك حال قيودها المأخوذة
286

فيها، فإنه لا يصير الحكم فعليا ما لم توجد تلك القيود في الخارج
فقياس المقام بباب العلل الغائية - وأن الشرط هي الصورة العلمية -
في غير محله وخلط بين علل التشريع والجعل وشرائط المجعول.
نعم لو كان جعل الاحكام على نحو القضايا الخارجية كان من الممكن
هذا الكلام، بمعنى أن الجاعل يتصور وجود صفة في المكلف فيأمره
بأمر باعتقاد وجود تلك الصفة فيه فعلا أو سابقا أو لاحقا (هذا كله)
بالنسبة إلى شرائط الاحكام بكلا قسميه من الوضعي و التكليفي.
وأما شرائط المأمور به - أي ما كان التقيد بها جزا للمأمور به وإن
كانت بأنفسها خارجة عنه كالأغسال الليلية بالنسبة إلى صوم
المستحاضة الكثيرة بناء على اشتراطه به - فخارجة عن محل الكلام.
ولا إشكال في إمكان اشتراط المأمور به بأمر متأخر أو متقدم مثل
إمكان اشتراطه بأمر مقارن وذلك من جهة أن معنى اشتراط المأمور به
بشئ كون ذلك الشئ تحت الامر المتعلق بالمأمور به تقييدا لا
قيدا، أي لا تكون ذاته تحت ذلك الامر. ومن المعلوم الواضح إمكان
تعلق الامر بشئ مقيدا بوجود شئ آخر معه أو قبله أو بعده. ولا
تلزم منه المحاذير التي تلزم من الشرط المتأخر للأحكام لان المحاذير
الواردة هناك هو الخلف والمناقضة وتأثير المعدوم في
الموجود إذا كان المتأخر من أجزاء علة وجود المتقدم لان شرائط
الاحكام إما أنها ترجع إلى موضوعاتها كما هو الصحيح، ومع ذلك
تكون متأخرة عنها فيلزم الخلف والمناقضة. ولا يصغى إلى ما يقال
من أن الموضوع بالنسبة إلى حكمه وإن كان لا بد وأن يفرض
وجوده ولكن من الممكن أن يفرض وجوده في الخارج بعد وجود
الحكم، وذلك من جهة لزوم فرض وجود الموضوع في الخارج قبل
الحكم لئلا يبقى الحكم بلا موضوع لتوقفه عليه عقلا وإلا فان وجد
الحكم وصار فعليا بدون أن يتحقق تمام موضوعه أو بعض أجزائه
فأي فائدة وأثر لوجوده بعد ذلك؟ وإن أراد أن الموضوع المفروض
وجوده متأخرا يجعل موضوعا للحكم المتقدم مع أن الحكم متقدم
وذلك متأخر فهذا عين الخلف والمناقضة. وإما أن ترجع إلى ما هو
287

مؤثر في وجود الحكم بمعنى كونه سببا أو شرطا اصطلاحيا كما ربما
يقال: إن الاستطاعة سبب لوجوب الحج، أو أن بلوغ النصاب
شرط لوجوب الزكاة أو أن الإجازة المتأخرة شرط أو سبب لحصول
الملكية المتقدمة فحينئذ يلزم تأثير المعدوم في الموجود وتأخر
بعض أجزاء العلة عن المعلول، مضافا إلى الخلف والمناقضة فعلى
كل من التقديرين - أي سواء قلنا برجوع شرائط الاحكام إلى
الموضوعات أو قلنا بأنها مؤثرات في وجود الاحكام - يمتنع الشرط
المتأخر وامتناعه بديهي وهذه المحاذير أجنبية عن الشرط
المتأخر بالنسبة إلى المأمور به، لان الشرط المتأخر للمأمور به ليس
موضوعا له - كما هو واضح - ولا من أجزاء علة وجوده. نعم يوجد
تضيق من ناحية الشرط المتأخر في المأمور به، ولا فرق في حصول
مثل هذا التضيق من ناحية الشرط بين كونه مقارنا أو متقدما أو
متأخرا. وحصول التضيق - بواسطة تقييد المطلوب بأمر متأخر زمانا
عن زمان المطلوب فيه - لا محذور فيه أصلا.
وحاصل الكلام أنه بعد ما عرفت ان جعل الاحكام على نحو القضايا
الحقيقية على ما تقدم في الواجب المشروط، وعرفت ان شرائط
الاحكام ترجع إلى قيود الموضوعات وعرفت ان الموضوع لا بد وأن
يفرض وجوده في الخارج في الرتبة السابقة على الحكم بمعنى ان
فعلية الحكم وتحققه - بمعنى المجعول لا الجعل - متوقف ومنوط
بوجود الموضوع وفعليته في الخارج، وعرفت ان شرائط الجعل غير
شرائط المجعول وان الأول لا بد وأن يكون بوجودها العلمي كما هو
الشأن في باب العلل الغائية وان الثاني بوجودها الخارجي - لأنها
- كما بينا - ترجع إلى قيود الموضوعات ونعوته فكما ان
الموضوعات موضوعات بوجودها الخارجي فكذلك قيودها و
أوصافها فلا
يبقى لك شك في امتناع الشرط المتأخر للأحكام وتعرف ان شرائط
المأمور به أجنبية عن محل الكلام، ثم إن جماعة من المحققين
تصدوا لاثبات إمكان الشرط المتأخر (منهم صاحب الكفاية - قده -)
فإنه جعل الشرط المتأخر بالنسبة إلى المأمور به أيضا داخلا في
محل الكلام، كالأغسال الليلية بالنسبة إلى صوم المستحاضة الكثيرة و
فرق في مقام
288

الجواب عن المحاذير الواردة في هذا المقام بين شرائط المأمور به و
شرائط الاحكام من التكليفية والوضعية.
(فأجاب عن القسم الأول) بأنه يحصل للمتقدم بواسطة تعقبه بالمتأخر
وإضافته إليه عنوان حسن يفي به للغرض، بحيث لولاه لما كان
كذلك ولا شك في أن الحسن والقبح والأغراض تختلف باختلاف
الوجوه والاعتبارات الناشئة من الإضافات و الإضافة كما تكون إلى
المقارن تكون إلى المتقدم والمتأخر بلا تفاوت أصلا.
وقد عرفت أنه لا يرد إشكال ولا محذور في كون المتأخر شرطا
للمأمور به بوجوده الخارجي أصلا، حتى يحتاج إلى مثل هذا الجواب
مع أن الكلام في ما هو شرط بوجوده الخارجي لا العنوان الانتزاعي
من الشئ بواسطة إضافته إلى أمر متأخر. ودعوى ان جميع
الشرائط المتأخرة للمأمور به من هذا القبيل - أي الشرط فيها في
الحقيقة عنوان انتزاعي ينتزع عن المتقدم بواسطة إضافته إلى أمر
متأخر بعيدة إلى الغاية لا تساعدها أدلة تلك الشروط. هذا مضافا إلى
أن الإضافة المقولية - بناء على ما هو التحقيق - موجود خارجي و
من المحمولات بالضمائم ولا يمكن أن يوجد أحد طرفيها فعلا قبل
وجود الطرف الآخر الذي يوجد فيما بعد فلا يمكن أن توجد الأبوة
فعلا قبل وجود الابن بصرف أن البنوة توجد في الزمان المتأخر، اللهم
إلا ان يقال ان المراد من الإضافة - هاهنا - ليست هي الإضافة
المقولية بل المراد منها هي المفاهيم الانتزاعية التي تنتزع عن الأشياء
باعتبار تعقبها بأمر آخر.
وعلى كل حال لا إشكال في إمكان أن يكون المأمور به مقيدا بوجود
شئ متأخر عن زمان وجوده ولا داعي إلى مثل هذه التكلفات.
و (أجاب عن القسم الثاني) بأن الشرط للتكليف والوضع هو لحاظ
الامر المتأخر، وذلك من جهة ان الامر أو الجاعل للحكم الوضعي لا
بد
وان يلاحظ الشئ بجميع أطرافه ليرغب في طلبه ويأمر به بالنسبة
إلى الحكم التكليفي أو يجعل الحكم ويخترعه بذلك اللحاظ بالنسبة
إلى الحكم الوضعي، فالذي نسميه بالشرط في كلا الموردين
289

أي في الحكم التكليفي والوضعي ليس إلا للحاظ وللوجود العلمي و
هو مقارن للامر والجعل فليس المتأخر بوجوده الخارجي المتأخر
شرطا حتى ترد تلك الاشكالات.
وقد عرفت ان باب العلل الغائية خارج عما نحن فيه، وذلك من
دواعي الجعل وعلله لا من شرائط المجعول. وكلامنا في الثاني لا في
الأول. وما هو مؤثر بوجوده العلمي في مقام جعل الحكم الوضعي أو
التكليفي هو الذي نسميه بعلة الجعل وداعيه، وهو الذي أيضا نسميه
بالعلة الغائية. وشرائط المجعول ترجع - في الأحكام الوضعية - إلى
قيود الموضوع الخارجي الذي جعله الشارع موضوعا لذلك الحكم
الوضعي، كما إذا قال: العصير إذا غلا ينجس ففي الحقيقة الغليان الذي
جعل في ظاهر الدليل شرطا لنجاسة العصير ليس إلا قيدا من قيود
موضوعه فالموضوع للنجاسة عبارة عن العصير المغلي وفي الأحكام التكليفية
أيضا ترجع إلى قيود الموضوع، لكن الموضوع في
الأحكام التكليفية قد يكون بمعنى المكلف وقد يكون بمعنى متعلق
المتعلق.
والموضوع - بأي واحد من هذه المعاني - لا بد وأن يكون مقدما
على الحكم بجميع أجزائه وإلا يلزم الخلف والمناقضة وما ذكرنا -
فيما إذا أرجعنا الشرائط إلى قيود الموضوع - واضح. وأما لو قلنا بأنها
من علل وجود الحكم بمعنى أن لها تأثيرا في ثبوت الحكم و
وجوده، فيلزم منه تأخر العلة - ولو ببعض أجزائها - عن المعلول و
أيضا يلزم تأثير المعدوم في الموجود.
فظهر لك مما ذكرنا أنه - بناء على أن يكون جعل الاحكام على نحو
القضايا الحقيقية لا على نحو القضايا الخارجية، وكان الشرط
شرطا للمجعول لا للجعل ولم يكن من المفاهيم الانتزاعية التي يمكن
انتزاعها عن المتقدم فعلا بواسطة وجود أمر متأخر فيما بعد - لا
يمكن تأخر الشرط عن المشروط أي الحكم المجعول سواء كان
وضعيا أم تكليفيا خصوصا بناء على ما هو التحقيق من أن شرائط
المجعول - كلها - ترجع إلى قيود الموضوع. نعم لو كان جعل الاحكام
على نحو القضايا الخارجية لأمكن أن يقال بأن الشرط هي
الصورة الذهنية لا الوجود الخارجي، كما أنه يقول يا زيد ادخل
290

داري باعتقاد أنه صديقه فأذن لزيد بدخول داره سواء كان مصيبا في
اعتقاده صداقته أم كان مخطئا، فيجوز لزيد أن يدخل داره ولو
لم ير نفسه صديقا له لان إذنه له بالدخول صدر عنه بنحو القضية
الخارجية والشرط هو اعتقاده بأنه صديقه لا صداقته الواقعية وقد
حصل ولو كان مخطئا في هذا الاعتقاد وأما لو أعطى الاذن بنحو
القضية الحقيقية بأن يقول كل من كان صديقي فليدخل داري أو يقول
أيها الصديق ادخل داري فلو لم ير نفسه صديقا ليس له أن يدخل، لان
الشرط - بناء على هذا - ليس هي الصورة الذهنية بل وصف
الصداقة بوجوده الخارجي شرط للاذن وإباحة الدخول (وبعبارة
أخرى) - بناء على ما هو التحقيق من رجوع شرائط الحكم المجعول
إلى قيود الموضوع - موضوع الاذن وإباحة الدخول هو الصديق لا
مثل الفرض الأول حيث أنه فيه يكون هذا الشخص الخارجي لاحراز
صداقته ومن الواضح الجلي أن موضوع وجوب الحج هو الانسان
المستطيع لا الاشخاص الخارجية لاحراز استطاعتهم حتى يكون هو
الصورة الذهنية.
وأما ما أفيد في باب المعاملة الفضولية من أن الشرط - بناء على القول
بالكشف وحصول الملكية قبل إجازة المالك - هو عنوان التعقب
بالإجازة، ولا بأس في انتزاع هذا العنوان في الزمان المتقدم باعتبار
حصول الإجازة في موطنها أي الزمان المتأخر إذ ليس انتزاع
المفهوم والعنوان الانتزاعي - في الزمان المتقدم - متوقفا على وجود
منشأ الانتزاع في ذلك الزمان بل يكفي فيه وجوده في الزمان
المتأخر، فإذا قلنا إن العقد المتعقب بإجازة المالك سبب للنقل و
الانتقال وحصل العلم مثلا بإجازته بعد وقوع العقد ولو كانت الإجازة
المعلومة بعد سنة، يصدق على ذلك العقد من حين وقوعه أنه العقد
المتعقب بالإجازة فيتحقق السبب ويترتب عليه أثره أي النقل و
الانتقال من ذلك الحين ولو كانت الإجازة لم تحصل بعد. وهذا هو
المراد من الكشف الحقيقي، لا أن الإجازة - بوجودها الخارجي
المتأخر - مؤثرة في النقل والانتقال المتقدم حتى يلزم منه تأخر العلة
عن المعلول أو الموضوع عن الحكم. وهذا الكلام وإن
291

لا تلزم منه تلك المحاذير العقلية لكنه خلاف ظاهر الأدلة لان ظاهر
الأدلة اعتبار الاذن و الإجازة الخارجية في تأثير العقد في النقل و
الانتقال لا وصف التعقب بالإجازة.
(وبعبارة أخرى) ما جعله الشارع موضوعا للنقل والانتقال هو العقد
الصادر من الفضولي مع صدور الإجازة من المالك، لا مع تعقب
ذلك العقد بإجازته وإلا لو كان كذلك يخرج عن باب الشرط المتأخر و
يدخل في باب الشرط المقارن لان وصف التعقب حاصل من
زمان العقد إذا وجدت الإجازة في الزمان المتأخر فتصحيح الشرط
المتأخر بهذا الوجه أيضا مما لا يمكن وإن كان أبعد من الاشكالات
المذكورة الواردة على الذي يلتزم بالشرط المتأخر. (إذا عرفت هذه
الأمور) فنقول في محل البحث: إن الحق هو وجود الملازمة بين
وجوب شئ نفسيا وبين وجوب مقدماته غيريا، بمعنى أن إرادة
الشئ ملازم لإرادة ما يتوقف عليه وجوده إذا التفت إلى أنه مما
يتوقف عليه ذلك الشئ، ويدل على ذلك ما ذكرناه مرارا من أن حال
الإرادة التشريعية حال الإرادة التكوينية ولا فرق بينهما إلا في
أن متعلق الإرادة التكوينية فعل نفس المريد وفي الإرادة التشريعية
فعل الغير. ولا شك في أنه في الإرادة التكوينية إذا تعلقت إرادته
بشئ والتفت إلى أن الشئ الفلاني مما يتوقف عليه مراده الأصلي
فاما أن يرفع اليد عن مراده الأصلي إذا رأى في إيجاد ذلك الشئ
مفسدة غالبة على مصلحة مراده الأصلي أو تتعلق إرادته بإيجاده أيضا
لتوقف وجود مراده الأصلي عليه فإذا كان هذا حال الإرادة
التكوينية فليكن كذلك حال الإرادة التشريعية كما هو كذلك
بالوجدان.
وبعد وضوح هذه المسألة برهانا ووجدانا لا نطيل الكلام بذكر ما
أوردوه في المقام من النقض والابرام في أدلة الطرفين: أي القائل
بوجود الملازمة والقائل بعدمها.
(تنبيهات)
(الأول)
- في أن وجوب المقدمة - حيث أنه معلول وجوب ذي المقدمة - لا
يمكن أن يكون أوسع أو أضيق منه، وإلا يلزم تخلف المعلول عن علته
فيتبعه في
292

الاطلاق والاشتراط وأيضا لا يمكن تقدمه عليه وإلا يلزم تقدم
المعلول على علته فلو تحقق في مورد وجوب المقدمة قبل وجوب
ذي
المقدمة لا بد وأن يكون بملاك آخر غير الملازمة وعلية وجوبه
لوجوبها، كملاك حفظ القدرة أو حكم العقل بلزوم الاتيان بأمور يكون
في تركها تفويت غرض المولى أو بملاك تهيؤ العبد لاطاعة أوامر مولاه
أو يكون وجوبا نفسيا ولو كان ملاكه نفس ملاك ذي المقدمة
بعنوان متمم الجعل.
(الثاني)
- في أنه - على القول بثبوت الملازمة ووجوب المقدمة - ما هو
مفروض هذا الوجوب؟ هل هو ذات المقدمة سواء أراد إيجاد ذي
المقدمة
أو لم يرد وسواء قصد التوصل بها إلى ذيها أو لم يتحقق هذا القصد، و
سواء أوصلت إلى وجود ذي المقدمة أو لم توصل أو المقدمة عند
إرادة ذيها أو هي بقصد التوصل، أو هي إذا كانت موصلة؟ أقوال:
(ذهب) صاحب المعالم (ره) إلى أن معروض الوجوب هي الذات
عند إرادة ذي المقدمة و (ذهب) شيخنا الأعظم الأنصاري (قده) إلى
أن
المعروض هي الذات بقصد التوصل و (ذهب) صاحب الفصول و
أستاذنا المحقق (قدس سرهما) إلى أنه ذات المقدمة بقيد الايصال و
(ذهب) صاحب الكفاية (قده) ووافقه شيخنا الأستاذ (قده) إلى أن
معروضه نفس الذات مطلقا مجردا عن كل قيد وشرط. نعم في
المقدمة
المحرمة ذاتا لا تسقط عنها الحرمة الا إذا وقعت في طريق الايصال،
كما سيجئ بيانه إن شاء الله تعالى. والحق من هذه الأقوال هو ما
ذهب إليه صاحب الكفاية وشيخنا الأستاذ (قده).
أما ما ذهب إليه صاحب المعالم (ره) من تقييد وجوبها بإرادة ذيها
فغريب إلى الغاية لما بينا في الامر الأول من أن وجوب المقدمة يتبع
في الاطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدمة، فلا بد وأن يكون
وجوب ذي المقدمة مقيدا بهذا القيد أي يكون وجوب ذي المقدمة
أيضا
مشروطا بإرادة إتيانها والا يلزم تخلف المعلول عن علته والحال ان
الغرض من إيجاب الشئ جعل الداعي لإرادة إتيانه فكيف يمكن
ان
293

يكون تحققه مشروطا بتلك الإرادة. هذا مضافا إلى لزوم محاذير اخر:
(منها) - ان الشئ في ظرف إرادة إيجاده يصير ضروري
الوجود من قبل علته فيكون طلبه من قبيل تحصيل الحاصل. و (منها)
- عدم إمكان تحقق العصيان في الواجبات أصلا لأنه عند إرادتها لا
معنى لتحقق العصيان، وعند عدم إرادتها لا وجوب في البين حتى
تكون مخالفته عصيانا وغير ذلك من المحاذير التي لا تخفى على
الأذكياء.
واما ما ذهب إليه شيخنا الأعظم الأنصاري - رضوان الله تعالى عليه -
من اعتبار قصد التوصل في معروض الوجوب ففيه ان علة عروض
الوجوب على المقدمة وترشح الإرادة الغيرية المتولدة من الإرادة
النفسية عليها هو توقف وجود الواجب النفسي على وجودها، ولا
شك
في أن الموقوف عليها هي ذات المقدمة لا هي مع قصد التوصل ولا
عنوان المقدمية، فعروض الوجوب على عنوان المقدمية أو على قصد
التوصل - ولو بأن يكونا من أجزاء ما عرض عليه الوجوب - يكون بلا
ملاك ولا مناط ويلزم ان يكون المعلول أوسع وجودا من علته أو
يكون عروض الوجوب عليهما بلا ملاك وجزافا وكلاهما محال،
فالحق أن ما هو معروض الوجوب هو ذات المقدمة لا عنوان المقدمية
و
لا ذاتها مع قصد التوصل ويكون عنوان المقدمية واسطة في الثبوت
بالنسبة إلى عروض الوجوب على ذات المقدمة لا واسطة في
العروض ويكون بالنسبة إلى معروض الوجوب من قبيل الحيثية
التعليلية لا التقييدية ولذلك حمل شيخنا الأستاذ (قده) كلام شيخنا
الأعظم الأنصاري (ره) على مورد المقدمة المحرمة ذاتا كالدخول في
الدار المغصوبة لانقاذ الغريق أو واجب آخر أهم بحسب المصلحة
من هذا الحرام الذي يتوقف وجوده عليه فكأنه أفاد ان ارتفاع حرمة
ذلك الحرام وجواز ارتكابه حيث إنه يكون من جهة تحصيل ذلك
الواجب النفسي الأهم، فلا يقع على صفة الوجوب الا إذا أتى به بقصد
التوصل إلى ذلك الواجب لا بقصد التفرج والتونس فإنه لو كان
مراده هذا فليس بتلك الغرابة ولا يبعد أن يكون نظر صاحب المعالم
(رحمه الله) - في قوله ان وجوب المقدمة مخصوص بصورة إرادة
إيجاد ذي المقدمة
294

أيضا - إلى هذا المعنى أي يشترط في وقوع المقدمة المحرمة ذاتا
بصفة الوجوب ان يكون مريدا لذي المقدمة لا انه يأتي بالمقدمة
بقصد
التفرج والتونس وهناك احتمالات اخر في كلام شيخنا الأعظم (ره)
لا حاجة إلى ذكرها بعد وضوح المطلب.
واما ما ذهب إليه صاحب الفصول (قده) من القول بوجوب المقدمة
الموصلة، ففيه ان الايصال إذا كان قيدا للوجوب يلزم طلب الحاصل و
إذا كان قيدا للواجب يلزم الدور (اما لزوم طلب الحاصل في الشق
الأول) فلان الوجوب لو كان مشروطا بوجود ذي المقدمة، فلا بد ان
يكون مشروطا بوجود نفس المقدمة أيضا لتوقف وجود ذي المقدمة
على وجودها على الفرض والا ليست بمقدمة. واشتراط وجوب
شئ بوجود ذلك الشئ عين طلب الحاصل. و (اما لزوم الدور في
الشق الثاني) فمن جهة ان الايصال لو كان قيدا للواجب لكان وجود
ذي المقدمة من المقدمات الوجودية بوجود المقدمة فكل واحد من
المقدمة وذي المقدمة يكون مقدمة للآخر فيتوقف وجود كل واحد
منهما على وجود الاخر وهذا عين الدور.
و (يرد عليه) أيضا انه لو كان معروض الوجوب مركبا من الذات وقيد
الايصال، فتكون الذات جزا لما هو معروض الوجوب. ولا شك
في توقف الكل على الجز فتكون الذات مقدمة للمقدمة فاما ان يعتبر
أيضا فيه قيد الايصال فيعود الكلام أيضا بمثل ما قلنا فان قال
بعدم اعتبار هذا القيد في بعض هذه الصور فليكن من أول الامر كذلك
وإلا فيتسلسل وهو محال وأيضا يرد عليه ان المكلف لو أتى
بذات المقدمة من دون حصول قيد الايصال وترتب ذي المقدمة
عليها فاما ان يسقط الامر الغيري بالمقدمة فذلك آية ان معروض
الوجوب هي ذات المقدمة لا هي مع قيد الايصال واما ان لا يسقط
فيلزم طلب الحاصل.
ثم إن أستاذنا المحقق (قده) صحح القول بالمقدمة الموصلة بطريق
آخر يسلم عن الاشكالات التي أورد عليها وهو ان معروض الوجوب
هي الذات ولكن لا مطلقا عن الايصال وعدم الايصال ولا مقيدة
بالايصال لعدم إمكان التقييد للزوم تلك المحاذير
295

وإذا امتنع التقييد امتنع الاطلاق أيضا، لما سيجئ في مبحث المطلق
والمقيد إن شاء الله تعالى من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل
العدم والملكة، فنفس الدليل على عدم إمكان التقييد دليل على عدم
إمكان الاطلاق فيكون معروض الوجوب عنده حصة من الذات لا
تنفك عن الايصال ويعبر عن هذا بالحصة التوأمة مع وجود ذي
المقدمة، وترتبه عليها بحيث لا يكون مقيدا ولا مطلقا بالنسبة إلى
وجود ذي المقدمة (وبعبارة أخرى) كما أن وجود زيد غير سائر افراد
الانسان كذلك الحصة التوأمة مع وجود ذي المقدمة من تلك
الذات غير سائر الحصص في حد نفسه من دون احتياج إلى تقييده
بشئ، فقولنا الحصة التوأمة مع وجود ذي المقدمة ليس تقييدا لتلك
الحصة حتى تلزم تلك المحاذير بل للإشارة إلى تلك الحصة التي هي
غير سائر الحصص من دون احتياج إلى التقييد، بل القيد والتقييد
كلاهما خارجان عنها وبهذا البيان صحح تعلق الامر بالحصة التي هي
توأمة مع قصد القربة من طبيعة الصلاة من دون تقييد الصلاة بها
حتى تلزم المحاذير المذكورة هناك. (وبعبارة أخرى) مطلوبية
المقدمات من شؤون مطلوبية ذي المقدمة، والغرض من مطلوبية كل
مقدمة سد باب عدم من إعدام ذي المقدمة، وليس كل سد باب عدم
من أعدامه مطلوبا مستقلا بل المطلوب - في الحقيقة - جميع هذه
السدود فكل واحد من هذه السدود مطلوب في ضمن المجموع لا
مستقلا فمطلوبية كل سد في حال سائر السدود لا مقيدا بها ولا مطلقا
عنها فينتج ان معروض الوجوب وما يقع بصفته في الخارج ليس هي
الذات المطلقة أو المقيدة بقيد الايصال، بل هي الذات التوأمة مع
الايصال. هذا ما فهمناه من كلامه وسمعناه منه (ره) مرارا.
و (فيه) ان تحصص الطبيعة بواسطة تقيدها بقيد فالحصة هي الطبيعة
المقيدة بقيد، بحيث يكون التقيد داخلا والقيد خارجا. واما لو
قطعت النظر عن القيد والتقييد جميعا - كما هو مدعاه في المقام -
فلا حصة في البين أصلا.
وأما ما أفاده المحقق صاحب الحاشية (ره) من أن الواجب هي ذات
المقدمة
296

من حيث الايصال لا المقدمة الموصلة، فلعل مراده ذلك المعنى
الذي حكيناه عن أستاذنا المحقق (ره) أي الواجب ليس ذات المقدمة
مطلقا،
بل من حيث وقوعها في سلسلة علل وجود ذي المقدمة وكونها في
ضمنها بحيث لو وجدت مستقلة منفردة ولم تكن في ضمن سائر
مقدمات وجود ذي المقدمة وأجزاء علته التامة لم تكن تتصف
بالوجوب. (وبعبارة أخرى) يكون حال المقدمة - من ناحية كونها
معروضة للوجوب - حال الاجزاء الواجب النفسي الارتباطي فكما أنه
هناك لو أوجد المكلف بعض الاجزاء دون البعض الاخر لما اتصف
البعض الذي أتى به بالوجوب لان وجوبه في ضمن وجوب الكل، و
مطلوبيته في ضمن مطلوبية الجميع كل ذلك من دون أن يكون
وجوبها أو ما هو الواجب مقيدا بالايصال ووجود ذي المقدمة حتى
تلزم تلك المحاذير.
(وأنت خبير) بأن القول - بكون معروض الوجوب مقيدا بالايصال -
عين القول بالمقدمة الموصلة الذي أنكره أشد الانكار وتلزم منه
المحاذير المذكورة. نعم لا يرد عليه ما توهم من أن التقييد إذا كان
ممتنعا فيتحقق مقابلة أي الاطلاق، فيلزم أن تكون الذات مطلقا - أي
سواء حصل الايصال أو لم يحصل - معروضة للوجوب، لان هذا
التوهم مبني على أن يكون التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل
الايجاب و
السلب لا العدم والملكة فامتناع التقييد - حينئذ - يكون دليلا على
الاطلاق، وتكون الذات المطلقة معروضة للوجوب.
وأما بناء على ما هو الحق عندنا من أن التقابل بينهما تقابل العدم و
الملكة - كما تقدم وسيجئ مفصلا في مبحث المطلق والمقيد إن
شاء الله تعالى - فليس امتناع التقييد دليل الاطلاق بل يكون دليلا
على امتناع الاطلاق أيضا فالمعروض للوجوب هي الذات المهملة لا
مطلقة ولا مقيدة وهذا هو الحق الذي يجب المصير إليه، ولو لم يكن
مقيدا بالايصال فهذا هو عين القول بأن معروض الوجوب هي الذات
المهملة. ثم إنه لو شككنا في وجوب المقدمة ولم يقم دليل لا على
الوجوب ولا على عدمه
297

ووصلت النوبة إلى الأصل العملي فليس أصل عملي في نفس
المسألة الأصولية أي الملازمة بين وجوب ذي المقدمة وبين وجوب
مقدماتها،
لان الملازمة لو كانت بينهما فلا يمكن انفكاكهما حتى يحصل الشك
في البقاء بل تكون باقية قطعا ولو لم تكن من أول الامر فلا تحدث
بعد ذلك يقينا. وهذا هو المراد بقولهم أن الملازمة بين شيئين أزلية
وجودا وعدما بل وأبدية كذلك وأما في المسألة الفقهية
فاستصحاب عدم وجوبها عند وجوب ذي المقدمة وإن كان يجري
من حيث تمامية أركانه لليقين السابق بعدم وجوبها والشك فعلا فيه
للشك في الملازمة، لكن جريانه موقوف على أن يكون له أثر عملي
يكون حكم الشارع بإبقائه وعدم نقضه بلحاظ ذلك الأثر. وليس
هاهنا أثر عملي في البين، لان إتيان المقدمة لازم بحكم العقل بعد
وجوب ذي المقدمة ولزوم إتيانه بحكم الشرع لتوقف وجوده عليها
فليس أثر عملي للبناء على عدم الوجوب بحكم الاستصحاب حتى
يبنى عليه.
(تتميم في ثمرة البحث عن هذه المسألة)
وقد ذكروا لها ثمرات، وهي: - 1 - أنه بناء على القول بوجوب
المقدمة تكون عبادة تاركي الضد الواجب الأهم باطلة كالصلاة لتاركي
الإزالة بناء على أن يكون ترك الضد مقدمة وجودية لاتيان الضد الاخر
فيكون ترك الصلاة واجبا لكونه مقدمة للإزالة الواجبة، فيكون
فعلها حراما لان الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده العام. والضد
العام للترك الواجب هو الفعل فتكون العبادة باطلة (وفيه) أن ترك
أحد الضدين ليس مقدمة لفعل الضد الاخر.
وسيجئ تحقيق ذلك في مبحث الضد إن شاء الله تعالى.
2 - تحقق الامتثال بإتيان المقدمة لو نذر أن يأتي بواجب بناء على
القول بوجوب المقدمة. (وفيه) أن مثل هذا الامر لا يمكن أن يقع ثمرة
ونتيجة للمسألة الأصولية لما ذكرنا مرارا من أن نتيجة المسألة الأصولية
هي التي تكون كبرى في قياس الاستنباط، وإلا فليست المسألة
أصولية أو هي ليست نتيجتها ومن أوضح الواضحات
298

أن بر النذر بإتيان المقدمة لو نذر أن يأتي بواجب - بناء على القول
بوجوب المقدمة - لا يستنبط منه حكم شرعي كلي البتة فلا يمكن
جعله كبرى في قياس الاستنباط.
3 - حصول الفسق عند ترك كل واجب، لان كل واجب أو أغلب
الواجبات لا بد من أن تكون له مقدمة واحدة - على الأقل - فيكون
ترك
ذلك الواجب مع ترك مقدمته ترك واجبين، فيتحقق عصيانان فيصير
إصرارا على المعصية ويحصل الفسق. (وفيه) أن ترك كل واجب
ليس فيه إلا معصية واحدة وذلك من جهة حصول ترك الواجب بترك
أول مقدمة من مقدماته وامتناع إتيانه بدونه فيتحقق العصيان من
ذلك الحين ففي كل واجب لا يتحقق إلا عصيان واحد ولو كان له الف
مقدمة. نعم في باب الامتثال تكون إطاعات وامتثالات متعددة لو
كانت له مقدمات متعددة (وبعبارة أخرى) فرق بين باب الامتثال و
باب الإطاعة وبين باب العصيان ففي باب الإطاعة و الامتثال حيث
أنه تكون أوامر متعددة حسب تعدد المقدمات وبإطاعة بعض تلك
الأوامر لا يسقط البعض الاخر فقهرا تحصل الامتثالات المتعددة
بإطاعة تلك الأوامر المتعددة وهذا بخلاف باب العصيان، فإنه
بعصيان أحد تلك الأوامر يمتنع عليه الواجب فيسقط جميع تلك
الأوامر فلا
يبقى مجال لتحقق عصيان آخر. وهذا معنى قولهم إن لكل واجب
عصيان واحد ولو كان له الف مقدمة.
4 - توسعة دائرة التقرب بالمقدمة بناء على القول بوجوبها، خصوصا
إذا كانت المقدمة عبادية وذلك من جهة أنه إذا أتى بقصد الامر
المتعلق بها تكون عبادة فتكون عبادية المقدمة من نتائج وجوبها
شرعا. (وفيه) أنه إن كان المراد أنها - بواسطة تعلق الامر الشرعي
بها - تصير عبادة بالمعنى الأخص، فهذا خلاف الواقع قطعا، لان
وجوب المقدمة - على فرض القول به - وجوب توصلي لا تعبدي.
(وإن
كان المراد) إمكان التقرب بها وتحصيل القرب والاجر والثواب
بإتيانها فهذا يمكن ولو لم نقل بوجوبها الشرعي، لأنه إذا أتي
بالمقدمة بقصد التوصل إلى ذي المقدمة وما هو محبوب للمولى
تحصل هذه الأمور ولو لم نقل بتعلق الامر الشرعي بها.
299

5 - أنه لو أمر الشخص بفعل له مقدمة وجودية فبناء على القول
بملازمة الامر بشئ مع الامر بمقدمات وجود ذلك الشئ فيكون
أمره
بذلك الشئ علة لامره بالمقدمات فكما يستحق المأمور الاجرة على
نفس ذلك الشئ من الامر - لأنه فعله بأمره - فكذلك يستحق الأجرة
على إيجاده المقدمات لعين تلك الجهة. (وفيه) أن استحقاقه
الاجرة على المقدمات ليس متوقفا على ملازمة الامر بالشئ مع الامر
بمقدماته بل يكون مستحقا للأجرة على المقدمات، لمكان تلك
اللابدية العقلية.
6 - عدم جواز أخذ الأجرة على المقدمة لو قلنا بوجوبها بناء على
عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات. (وفيه) أنه على فرض تمامية
هذا
الكلام كلية والتصديق بأن كل واجب - نفسيا كان أو غيريا - لا يجوز
أخذ الأجرة عليه لا يمكن أن يكون مثل هذه الثمرة ثمرة للمسألة
الأصولية ونتيجتها، لما ذكرنا في بعض الثمرات السابقة من عدم
وقوعها كبرى في قياس الاستنباط أي القياس الذي يستنبط منه حكم
كلي فرعي شرعي فثمرة البحث في هذه المسألة ليست إلا ثبوت
الملازمة أو عدمها. ولا شك في أنها تقع كبرى في قياس يستنبط منه
الحكم الكلي الإلهي، وهو وجوب المقدمة وجوبا شرعيا غيريا على
تقدير وعدم وجوبه على تقدير آخر.
المبحث السابع في الضد
(فصل) (في أن الامر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده أو لا)؟
وتوضيح هذا المطلب يتم برسم أمور:
(الأول)
- أن المراد من الامر ليس خصوص الامر اللفظي - حتى يتوهم أن
الاقتضاء يكون بنحو الدلالة اللفظية الوضعية مطابقة أو تضمنا أو
التزاما، بل المراد أن وجوب الشئ مطلقا - سواء كان ذلك الوجوب
مفاد اللفظ أو الاجماع أو الدليل العقلي - هل يقتضي النهي عن ضده
أو لا؟ ولذلك عدت هذه المسألة من المسائل الأصولية العقلية لا من
مباحث الألفاظ، ويكون حالها حال المسألة السابقة أي مسألة
300

مقدمة الواجب، كما تقدم وجهه وإنما ذكروها في مباحث الألفاظ،
لانهم لم يفردوا بابا للمسائل العقلية وحيث أنه غالبا تكون الواجبات
مفاد الأوامر اللفظية فلعله بهذه المناسبة ذكروها في مباحث الألفاظ، و
من الواضحات أنه لا خصوصية لخصوص اللفظ في المقام. وأما
كونها من المسائل الأصولية فلما ذكرنا مرارا من أن المناط في كون
المسألة أصولية هو وقوع نتيجة البحث عنها في طريق استنتاج
الحكم الفرعي الكلي (وبعبارة أخرى) تكون واسطة في الاثبات
للمحمولات الفقهية بالنسبة إلى موضوعاتها، ومعلوم أن مسألتنا
كذلك
لأنه - على تقدير الاقتضاء - تكون واسطة لاثبات الحرمة للضد
كالصلاة التي هي ضد للإزالة الواجبة مثلا، وعلى تقدير العدم يثبت
عدم
الحرمة. وقد ظهر مما تقدم أنه ليس المراد من الاقتضاء إحدى
الدلالات الثلاث في مقام الاثبات، بل المراد به الاقتضاء في مقام
الثبوت.
(الثاني)
- أن المراد بالضد ليس هو الضد الاصطلاحي الحكمي الذي هو عبارة
عن أمر وجودي يكون بينه وبين أمر وجودي آخر غاية الخلاف و
يتعاقبان على موضوع واحد، بل المراد مطلق المنافي والمعاند ولو
كان أمرا عدميا كنقيض الشئ أعني عدمه وبهذه الجهة يقولون ان
ترك الإزالة مثلا ضد عام لها، مع أنه نقيضها. وأما تسميته بالعام فمن
جهة ملائمته واجتماعه مع كل واحد من الأضداد الخاصة، فترك
الإزالة - مثلا - يلائم ويجتمع مع الصلاة والأكل والشرب والنوم و
السكوت وهكذا سائر الأفعال والحركات والسكنات.
(الثالث)
- أنه إذا تبين ما ذكرنا فالكلام يقع في مقامين:
(الأول) - في الاقتضاء وعدمه بالنسبة إلى ضده العام،
فنقول: - بعد ما تقدم - أن الاقتضاء ليس هاهنا باعتبار الدلالة اللفظية،
بل هو من باب حكم العقل، فاما أن يكون المراد من النهي الحرمة
التي هي اعتبار تشريعي، وإما أن يكون المراد منه منشأ هذا الاعتبار
أعني الكراهة التي هي من الكيفيات النفسانية والاعراض البسيطة
الخارجية (فان كان هو الأول) فلا وجه للقول بأن اعتبار وجوب شئ
ملازم عقلا لاعتبار حرمة ترك ذلك الشئ، بل يمكن تفكيك أحد
الاعتبارين عن
301

لأنهما معتبران يحتاج كل واحد منهما إلى اعتبار مستقل، وذلك كما
أنه لو كان هناك مجعولان تكوينيان بحيث يكون لكل واحد منهما
وجود مستقل يحتاجان إلى جعلين مستقلين تكوينيين، كذلك الحال
بالنسبة إلى الأمور الاعتبارية. ولا ملازمة بين الجعلين في المقام،
لان أحدهما ليس علة للآخر ولا كلاهما معلولان لعلة واحدة والتلازم
منحصر في هذين القسمين (وإن كان هو الثاني) فربما يكون
مريدا وطالبا لشئ وغافلا عن تركه غير ملتفت إليه أصلا، حتى يكون
كارها له، نعم لو كان المراد الكراهة التقديرية أي بحيث لو
التفت إليه لكان يكرهه فلا بأس به، ويكون مثل هذا المعنى من لوازم
طلب الشئ وإرادة وجوده لا الكراهة الفعلية مطلقا وعلى كل
حال.
(وبعبارة أخرى) كراهة ترك الشئ والمنع عنه من لوازم طلب وجوده
وإرادته لو التفت إليه ولم يكن مغفولا عنه، فحينئذ لو التفت
إليه فعلا وحصلت له الكراهة الفعلية بالنسبة إليه، فلا شك في أنه
يكون منشأ لاعتبار حرمته. وأما لو كان غافلا عنه غير ملتفت إليه فهل
تكون تلك الكراهة التقديرية موجبة لاعتبار حرمته حتى يكون
المجعول في كل واجب حكمين أحدهما وجوب الفعل والثاني
حرمة
تركه؟ فلا يخلو عن إشكال، لان وجود حكمين فعليين - كذلك -
يحتاج إلى مصلحة ومفسدة فعليتين. والالتزام بهما في كل واجب كما
ترى.
ومما ذكرنا ظهر لك بطلان القول بأن الامر بالشئ عين النهي عن
ضده العام وذلك من جهة وضوح عدم كون وجوب الشئ عين
حرمة تركه لما ذكرنا من أنهما اعتباران مختلفان من حيث أنفسهما و
من حيث منشأ اعتبارهما، ومن حيث موضوعهما لان موضوع
أحدهما فعل الشئ وموضوع الاخر تركه، فتشكل قضيتان مختلفتان
موضوعا ومحمولا وبحسب منشأ اعتبار المحمول وحديث
انطباق ترك الترك على الفعل كلام وهي إن كان مرادهم بذلك كون
الفعل مصداقا حقيقيا له، ولذلك عدل صدر المتألهين عن تعريف
المشهور للتناقض بأن نقيض كل شئ رفعه وزاد كلمة أخرى، وهي
قوله (أو مرفوع به) وذلك لان الوجود ليس رفعا للعدم بل يرتفع
به العدم
302

من باب أن النقيضين لا يجتمعان.
وأما القول بدلالته عليه بالتضمن بمعنى أن النهي عن الترك جز مفاد
الوجوب لان مفاد الوجوب مركب من طلب الفعل مع المنع عن
الترك فقد ظهر فساده مما تقدم سابقا من أن مفاد الوجوب و
الاستحباب من ناحية الطلب والإرادة شئ واحد لا فرق بينهما وإنما
الفرق بإتيان الترخيص في الترك في ناحية الاستحباب دون الوجوب
(وبعبارة أخرى) طبع الطلب والإرادة يقتضي الوجوب إلا إذا
جاء ترخيص في الترك، والاستحباب يحتاج إلى مئونة زائدة دون
الوجوب، ولذلك يقولون إن إطلاق الطلب يقتضي الوجوب.
(المقام الثاني) - في دلالة الامر بالشئ على النهي عن ضده الخاص
والقول - بالعينية أو التضمن في هذا القسم بمعنى كون النهي عن
الضد الخاص جزا لمدلول الامر بالشئ لا الدلالة اللفظية التضمنية
التي هي إحدى الدلالات الثلاث الوضعية اللفظية لما عرفت أن محل
البحث أعم من اللفظ - لا وجه له أصلا، ولا قائل بهما أيضا على ما هو
ظاهر الكلمات.
واستدل القائلون بالدلالة بطريقين: (أحدهما) - ملازمة فعل الضد
لترك الأضداد الخاصة، مثلا فعل الإزالة التي هي واجبة ملازم لترك
الصلاة وهكذا مع ترك سائر الأضداد والمتلازمان لا بد وأن يكونا
متفقين ومتوافقين في الحكم فيكون ترك الأضداد واجبا فيكون
فعلها حراما وهو المطلوب. (وفيه) أنه إن كان المراد من ملازمة فعل
الواجب لترك جميع الأضداد الخاصة حتى السكوت التلازم من
الطرفين كما هو ظاهر هذه اللفظة، فهذه الدعوى لا صغرى لها ولا
كبرى (أما) عدم الصغرى فمن جهة أن اللزوم يكون من طرف واحد
فقط وهو لزوم فعل كل واجب مع ترك كل واحد من أضداده الخاصة.
و (أما) ترك كل واحد منها ليس ملازما مع فعل الواجب إلا في
الضدين الذين لا ثالث لهما أو في العدم والملكة والثاني خارج عن
محل الفرض، ويدخل في القسم الأول إذا كان في الموضوع القابل
أي يدخل
303

في الضد العام لا الخاص. وأما إن كان في الموضوع غير القابل فليس
عدم أحدهما ملازما لوجود الاخر، إذ يمكن ارتفاعهما جميعا.
(أما ما ربما يقال) من أن ترك الجامع بين جميع الأضداد الخاصة ملازم
لفعل ذلك الضد لان ترك الجامع بترك الجميع حتى السكوت،
لأنه أيضا من الأضداد الخاصة وذلك من جهة أن انعدام الطبيعة
بانعدام جميع أفرادها فيصح ادعاء وجود التلازم بين فعل الواجب و
ترك الجامع بين الأضداد الخاصة حتى في الضدين الذين لهما ثالث،
ولا فرق في وجود التلازم من الطرفين بين ما ليس لهما ثالث وبين
مالهما ثالث إلا أن طرف الملازمة في الأول ترك الضد الخاص، وفي
الثاني الجامع بين الأضداد الخاصة.
وهذا الفرق ليس بفارق لان الجامع بين التروك - أي تروك الأضداد
الخاصة - إذا كان واجبا فيسري إلى نفس الأضداد الخاصة
لانطباقه عليها، فيحرم فعل الجميع، لوجوب ترك الجميع على
الفرض فيثبت المدعى.
ففيه (أولا) - أن تصوير الجامع - بين السكوت وعدم صدور فعل منه
الذي هو أحد الأضداد وبين سائر الأفعال الوجودية - لا يخلو عن
غموض وإشكال.
و (ثانيا) - أنه على فرض إمكان ذلك ببعض التمحلات لا يكون ذلك
المفهوم الانتزاعي المنطبق على الكل قابلا لان يجعل مرآة ليحكم
به على وجوب جميع الأضداد الخاصة من السكوت وسائر الأفعال
الوجودية وذلك من جهة أن القضية الحقيقية التي نقول فيها بسراية
الحكم إلى الافراد يكون ذلك من جهة أن ملاك الحكم في الطبيعة
بوجودها الساري والخطاب يتبع الملاك، فقهرا جميع وجودات
الطبيعة يكون محكوما بذلك الحكم. وأما فيما نحن فيه فعلى فرض
تصوير وجود الجامع ببعض التكلفات ليس إلا مفهوما انتزاعيا غير
موجود فيه مناط الحكم أصلا. (وبعبارة أخرى) ليست هناك طبيعة
متأصلة لها وجود سار بحيث تكون متحدة مع جميع الافراد. نعم
المفاهيم الانتزاعية إذا تعلق بها بنحو القضية الكلية، فلا بد وأن يكون
ذلك المفهوم كناية وإشارة إلى العناوين الخاصة فموضوع الحكم
وما فيه الملاك
304

- في الحقيقة - هو نفس تلك العناوين الخاصة فيعود المحذور وهو
عدم التلازم بين نفس تلك العناوين مع الضد المأمور به من
الطرفين، وعلى فرض غض النظر عن جميع ما ذكرنا والقول بوجود
التلازم في الضدين الذين لهما ثالث كما أنه موجود في الذين لا
ثالث لهما يقينا، فالكبرى - وهي لزوم كون المتلازمين في الوجود
متوافقين في الحكم - مما هو واضح البطلان. لان مناط الحكم ربما
يكون في أحدهما دون الاخر فيكون وجوده في فاقد الملاك جزافا. و
أما توهم أن لزوم الموافقة في الحكم مناطه أن يكون المحكوم
بالوجوب مثلا لا ينفك عن ذلك الشئ ولو كان هو الاخر ينفك عنه
(وبعبارة أخرى) ولو كانت الملازمة من طرف واحد ففي غاية
السقوط لوضوح أن لوازم الشئ لا يجب أن تكون محكومة بحكمه، و
لم يدع أحد ذلك. وانما التوهم في مورد التلازم فقط. وكون
الجعل في أحد المتلازمين ملازما للجعل في الاخر دعوى بلا بينة و
برهان وهكذا إرادة أحدهما مع إرادة الاخر.
ومما ذكرنا ظهر عدم تمامية ما احتمله شيخنا الأستاذ (قده) في
الضدين الذين ليس لهما ثالث: من أن وجوب أحدهما - ملازم عرفا
كالحركة مثلا لوجوب عدم الاخر كالسكون ولعل السر في هذا التوهم
هو أن غالب موارد الضدين الذين لا ثالث لهما من قبيل العدم و
الملكة. وقد اشتبهوا في تسميتهم إياها بالضدين، فحينئذ يكون داخلا
في القسم الأول أي النهي عن ضده العام كما تقدم.
(الطريق الثاني) - مقدمية ترك أحد الضدين للضد الاخر الواجب،
مثلا ترك الصلاة مقدمة للإزالة الواجبة فيكون واجبا فيكون فعلها -
الذي هو ضد للإزالة الواجبة - حراما وهو المطلوب. والأقوال في
هذه المسألة أي مسألة مقدمية الضد للضد وجودا وعدما مختلفة
متعددة:
(الأول) - هو توقف وجود كل واحد منهما على عدم الاخر توقف
وجود الشئ على عدم مانعه وتوقف عدم كل واحد منهما على
وجود
الاخر بعد وجود المقتضي له مع شراشر شرائطه توقف عدم الشئ
على وجود مانعه في ذلك الحين.
305

ونسب هذا القول إلى الحاجبي والعضدي.
(الثاني) - توقف وجود كل واحد منهما على عدم الاخر بدون توقف
عدم كل واحد منهما على وجود الاخر. وهذا القول هو قول القائلين
بمقدمية ترك الضد لفعل الضد الاخر كصاحب الحاشية وصاحب
القوانين (ره) ومستند هذا القول هو أن وجود الضد مانع عن وجود
الضد الاخر، ولا شبهة في أن عدم المانع من أجزاء علة وجود الشئ
فيكون وجود الضد متوقفا على عدم الضد الاخر. وأما عدم الضد
فليس متوقفا على وجود الضد الاخر لامكان ارتفاعهما وفي الضدين
الذين ليس لهما ثالث. ولو لم يمكن ارتفاعهما ولكن ذلك ليس
من جهة أن وجود أحدهما علة لعدم الاخر بل من جهة أنه إذا فرض أنه
لا ثالث لهما ولا يمكن خلو الموضوع عنهما فدائما علة وجود
أحدهما موجود لا أن وجود أحدهما علة لعدم الاخر، ولا يمكن
اجتماع العلتين في الوجود وإلا يلزم اجتماع الضدين ولا ارتفاعهما و
إلا
يلزم خلو الموضوع عنهما وقد أشرنا آنفا إلى أن الضدين الذين لا ثالث
لهما بحيث لا يجتمعان ولا يرتفعان لا ينطبق على غالب
الموارد التي توهموا أنها من هذا القبيل، بل تلك الموارد من قبيل
العدم والملكة. (وبعبارة أخرى) عدم كل واحد منهما مستند إلى عدم
وجود مقتضية لا إلى وجود المانع بعد وجود المقتضي وجميع
الشرائط. وذلك من جهة عدم إمكان وجود المقتضي لكلا الضدين. و
(توهم) إمكان ذلك إذا كان المقتضيان إرادتين من شخصين، فيريد
أحدهما هذا الضد والاخر يريد الاخر فيتحقق المقتضيان لكلا
الضدين (مدفوع) بأن الشخصين إما متكافئان في القوة والقدرة فلا
تبقى لكليهما إرادة، وإما أحدهما غالب فيوجد على طبق إرادته و
يدفع الاخر والاخر مغلوب لا يمكن له أن يوجد مراده فلا تبقى له
وحده إرادة فعدم وجود مراده مستند إلى عدم إرادته لا إلى وجود
الضد الاخر. والسر في ذلك أن العاقل إذا علم بعدم قدرته على إيجاد
شئ فلا يريده فإذا كان هذا العلم من أول الامر فلا تحدث تلك
الإرادة وأما إذا حصل هذا العلم بعد ما أراد ولكن وجد المزاحم
الغالب فلا يبقى بل تنعدم
306

إرادته. وعلى كل حال عدم وجود مراد الشخص المغلوب في قدرته
مستند إلى عدم بقاء إرادته لا إلى وجود الضد الاخر، فليس العدم -
في أي وقت من الأوقات - مستندا إلى وجود الضد الاخر. وهذا هو
منشأ هذا التفصيل بين الوجود والعدم.
(الثالث) - توقف عدم كل واحد منهما على وجود الاخر توقف عدم
الشئ على مانعه من دون العكس، ويمكن أن يكون مستند هذا
الوجه والاحتمال هو أنه بعد ما وجد المقتضي لأحد الضدين مع
جميع شرائط وجوده، فلا بد وأن يكون العدم بواسطة المانع أي الضد
الاخر. وأما وجود الضد فلا بد وأن يكون بعد وجود المقتضي له و
شرائطه. وفي هذا الظرف لا يمكن أن يكون الضد الاخر مانعا حتى
يكون عدمه من قبيل عدم المانع لهذا الضد وذلك لما ذكرنا من عدم
إمكان الجمع بين المقتضيين للضدين في عالم الوجود.
(الرابع) - التفصيل الذي صدر من المحقق الخوانساري (قده) في
القول الثاني وهو الفرق بين الضد الموجود، فيكون وجود الضد الاخر
متوقفا على عدمه دون المعدوم فان وجود الاخر - حينئذ - غير
متوقف على عدم هذا الضد المعدوم مثلا وجود الإزالة متوقف عنده
على عدم الصلاة لو كانت الصلاة موجودة أي كان المكلف في حال
الاشتغال بالصلاة، إذ لا فرق في وجود الضد بين أن يكون قارا
تجتمع أجزاؤه في الوجود كالجلوس في المكان الفلاني أو لا يكون
كذلك كالصلاة. وأما لو لم تكن الصلاة مثلا موجودة فلا يتوقف
وجود الإزالة على عدم الصلاة. وذلك من جهة أن الصلاة - مثلا - في
ظرف عدمها لا يمكن أن تكون مانعة حتى تتوقف الإزالة على
عدمها وذلك لما ذكرنا من أنه بعد وجود المقتضي وجميع الشرائط
للإزالة لا يمكن وجود المقتضي للصلاة التي هي ضد للإزالة حتى
تكون الصلاة مانعة عن الإزالة وأما مع وجود الصلاة فلا محالة تكون
مانعة عن الإزالة.
(الخامس) - عدم التوقف من الطرفين بأن لا يكون وجود أحد
الضدين متوقفا على عدم الاخر ولا عدم أحدهما على وجود الاخر،
وهذا
القول ذهب إليه
307

جميع من أساتيذنا (ره) وفاقا لجمع من المحققين، وهو الحق الموافق
للتحقيق وسائر الأقوال والوجوه المذكورة باطلة (أما الأول) فلأنه
دور واضح و (أما الثاني) فقد ذكر شيخنا الأستاذ (ره) في وجهه أن
مرتبة مانعية المانع متأخرة عن وجود المقتضي وعن وجود جميع
الشرائط، بمعنى أن الرطوبة - مثلا - لا يمكن أن يقال: إنها مانعة عن
احتراق الجسم إلا بعد وجود النار ومماستها مع الجسم القابل
للاحتراق.
نعم يمكن أن يكون وجود الرطوبة في الجسم القابل للاحتراق قبل
وجود النار وقبل مماستها لذلك الجسم ولكن اتصافها بصفة
المانعية وفعلية هذه الصفة فيها لا يمكن إلا بعد وجود المقتضي
للاحراق وجميع شرائطه. وعلى هذا الأساس ينكر إمكان كون شئ
شرطا لشئ وضده مانعا عنه، لان مانعية الضد لا تتحقق إلا بعد
وجود الشرط الذي هو عبارة عن الضد الاخر. وبعد وجود ذلك الضد
الذي هو شرط يمتنع وجود هذا الاخر الذي يدعى أنه مانع، وإلا يلزم
اجتماع الضدين. ومع امتناع وجوده كيف يمكن أن يكون مانعا؟
ولذلك اعترض على صاحب الجواهر (قده) استفادته من موثقة ابن
بكير شرطية كون لباس المصلي من المأكول إذا كان من الحيوان، و
مانعية كونه من غير المأكول.
إذا تقرر ذلك فنقول توقف وجود الإزالة على عدم الصلاة - مثلا - لا
بد وأن يكون من جهة عدم المانع أي حيث أن وجود الصلاة مانع
عن وجود الإزالة وعدم المانع من أجزاء علة الشئ والعلة لا بد وأن
توجد بجميع أجزائها وخصوصياتها حتى يوجد المعلول، ومن
جملتها عدم المانع. وقد تبين أن كون الصلاة مانعة عن وجود الإزالة لا
يمكن الا بعد وجود المقتضي للإزالة ووجود جميع شرائطها. و
قد عرفت مما تقدم أنه إذا وجد المقتضي للإزالة لا يمكن أن يوجد
المقتضي للصلاة أصلا، لما ذكرنا من عدم إمكان اجتماع المقتضيين
للضدين في عالم الوجود، ففي هذا الفرض - أي في فرض وجود
المقتضي للإزالة - لا بد وأن تكون الصلاة معدومة، لعدم وجود
المقتضي لها ومع انعدامها كيف تكون مانعة عن وجود الإزالة.
308

وحاصل الكلام أنه مع عدم وجود المقتضي للإزالة لا معنى لمانعية
الصلاة عنها لما ذكرنا من توقف فعلية المانعية على وجود المقتضي
للممنوع، ومع وجود المقتضي لها لا يبقى مجال لوجود المقتضي
للصلاة مثلا ولا يحدث أو لا يبقى بعد حدوثه فتكون الصلاة حينئذ و
في ذلك الحين معدومة، فكيف يمكن أن يكون مانعا فليس عدمها من
قبيل عدم المانع حتى تكون الإزالة متوقفة عليه، فظهر مما ذكرنا
أن وجود أحد الضدين لا يمكن أن يكون متوقفا على عدم الاخر
توقف الشئ على عدم مانعه لاستلزام ذلك وجود المقتضي للضدين
مع
وجود جميع شرائطهما وقد تبين عدم إمكان ذلك.
و (أما) ما ربما يتوهم من إمكان ذلك والا لا يتحقق المانع في مورد من
الموارد لان أثر المانع - دائما - ضد للممنوع الذي هو أثر
لمقتضيه الموجود، فالمقتضي لكلا الضدين - دائما - موجود في
ذلك الباب (ففيه) أولا - أن المانع لا يقتضي أثرا يكون ضدا للأثر
الممنوع مثلا الرطوبة لا تقتضي أثرا مضادا للاحراق، بل توجب عدم
قابلية الجسم المرطوب للاحتراق وتأثير النار فيه وهكذا الترس
مثلا حيث أنه جسم صلب لا يقبل التأثر بالسيف، لا أنه يقتضي وجود
شئ يكون ضدا للقطع الذي هو أثر السيف حتى تقول بأن المقتضي
لكلا الضدين موجود في المفروض (وبعبارة أخرى) عدم قابلية
الجسم المرطوب للاحتراق أو الجسم الصلب للانقطاع والتأثر
بالسيف
ليسا أثرين للرطوبة والترس حتى يكونان ضدين للاحتراق والقطع
الذين هما من آثار النار والسيف، لان عدم قابلية المحل أمر
عدمي لا معنى لان يقال انه ضد للاحراق أو القطع مثلا.
(فان قلت) إن نفس الرطوبة في الجسم ضد للاحتراق وهكذا الصلابة
ضد القطع. والمفروض أن المقتضي وجد لكليهما أما بالنسبة إلى
المانع - أي الرطوبة والصلابة مثلا - فالمفروض وجودهما فلا بد وأن
يكون المقتضي لهما موجودا أيضا، واما بالنسبة إلى الممنوع
فالمفروض أيضا وجود المقتضي له والا لا يصدق المانع على
309

المفروض مانعا، وهو خلف (قلنا) ان الرطوبة والصلابة مثلا ليسا
ضدين للاحتراق والقطع، بل الجسم المائي ليس قابلا للاحتراق فما
دام الماء موجودا في الجسم يمنع عن احتراق الجسم، لا أن الماء
الموجود في الجسم ضد للاحتراق وصلابة الجسم تمنع من قبول
الجسم
للانقطاع بسهولة لا أنها ضد للقطع. ولذا لو كان السيف حادا كثيرا، و
اليد الضاربة قوية جدا وجنس السيف من الصلب الجيد ربما
يقطع الترس ولو كان من الفولاذ.
(وثانيا) - أن كلامنا في الأفعال الاختيارية المضادة ولا شك في أن
المقتضي لها هو إرادة المكلفين، كما أنه لا شك أيضا في عدم إمكان
تحقق الإرادة بالنسبة إلى الفعلين المتضادين كالصلاة والإزالة مثلا من
الفاعل المختار الملتفت إلى وجود التضاد بينهما، وإذا تحقق في
أول الامر لعدم الالتفات فلا يمكن بقاؤهما بعد الالتفات ولولا ذلك
لما كان وجه لما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أنه على
فرض إمكان وجود المقتضي لكلا الضدين عرضا يكون عدم أحدهما
مستندا إلى وجود أقوى المقتضيين في مقام التأثير أو إلى ما هو
المساوي معه، وذلك لأنه بعد وجود المقتضي للشئ مع شرائطه
ليس موجبا لعدم وجوده الا ما هو المانع عن وجوده، وليس في البين
مانع عن وجوده الا وجود الضد الاخر ولو نسبت المانعية إلى مقتضي
الضد الاخر يكون من جهة اقتضائه ما هو ضده فمانعيته تكون
بالعرض والمجاز ومن باب الوصف بحال متعلق الموصوف والا
فالمقتضي لهذا الضد لا يقتضي عدم الضد الاخر بل أثره ينحصر في
وجود هذا الضد، فعدم ذلك الضد الاخر يكون مستندا إلى وجود هذا
الضد.
فتلخص مما ذكرنا أن عدم توقف وجود أحد الضدين على عدم الاخر
من جهة عدم إمكان مانعية أحدهما عن الاخر لان مانعية أحدهما
عن الاخر لا يمكن إلا في ظرف وجود المقتضي للاثنين. وقد تقدم
عدم إمكان ذلك (اللهم) الا أن يقال بأن استناد عدم الشئ إلى وجود
المانع لا يلزم أن يكون بعد وجود المقتضي مع
310

شرائطه، بل استناد عدم المعلول إلى عدم كل واحد من أجزاء العلة
مثل استناد وجوده إلى وجود كل واحد منها في عرض واحد، كما قال
به أستاذنا المحقق (قده) في هذا المقام وفي رسالته المعمولة في
اللباس المشكوك، ولكن هذا الكلام خلاف الوجدان كما تقدم
مفصلا.
ولو أغمضنا عن هذا الوجه وقلنا بأن عدم المعلول مستند إلى وجود
المانع حتى في فرض عدم وجود المقتضي وعدم وجود الشرائط
أو قلنا بإمكان وجود المقتضي مع جمع الشرائط لكلا الضدين، فلا
يمكن إنكار مانعية كل واحد من الضدين للآخر بواسطة لزوم الدور
كما قيل، وهو أن عدم كل واحد من الضدين في رتبة وجوده حفظا
لوحدة رتبة النقيضين، فلو كان عدم أحدهما مقدما على وجود الاخر
من جهة أن عدم المانع من أجزاء العلة والعلة بجميع أجزائها مقدمة
على المعلول لكان وجوده أيضا كذلك، لحفظ رتبة النقيضين (و
بعبارة أخرى) ما مع المقدم على الشئ مقدم أيضا على ذلك الشئ،
وهذا هو الدور، لان نتيجة ذلك هو أن يكون وجود كل واحد منهما
مقدما على وجود الاخر، لان المانعية من الطرفين، وذلك من جهة أن
ما مع المتقدم على شئ وفي رتبة ربما لا يكون متقدما على ذلك
الشئ، وذلك لوجود ملاك السبق والتقدم في أحدهما دون الاخر.
نعم في التقدم الزماني ما مع المتقدم زمانا لا محالة يكون متقدما
على ذلك الاخر بالزمان، وذلك من جهة أن ملاك التقدم في التقدم
الزماني هو الزمان، فإذا كان زمان شئ متقدما على زمان الاخر فلا
محالة ما معه في الزمان أيضا يكون متقدما على ذلك الاخر بالزمان
لوحدة الملاك والجهة. وأما التقدم الرتبي فملاكه وجهته العلية، و
هذه الجهة يمكن أن تكون في أحدهما دون الاخر كما هو كذلك في
المقام.
واما القول الثالث - وهو أن يكون عدم كل واحد منهما متوقفا على
وجود الاخر من جهة مانعية وجود الاخر لوجوده من دون العكس -
فبطلانه أوضح من أن يخفى، لأنه إذا كان وجوده مانعا وكان العدم
متوقفا عليه توقف عدم
311

على وجود مانعه فيكون وجوده متوقفا على عدمه (توقف الشئ
على عدم مانعه) بطريق أولى. وجه الأولوية هو أن العدم يمكن أن
يكون مستندا إلى عدم المقتضي من دون احتياج إلى المانع، ولكن
الوجود لا يمكن أن يكون مستندا إلى المقتضي فقط، بل لا بد من
وجود تمام أجزاء علته ومن جملتها عدم المانع، فالقول - بتوقف
العدم على الوجود دون العكس - في غاية الفساد.
واما القول الرابع - وهو التفصيل في التوقف بين الضد الموجود و
المعدوم، بأن يكون وجود أحد الضدين متوقفا على عدم الضد الاخر
إن كان ذلك الاخر موجودا وإلا فلا، ونسب هذا القول إلى المحقق
الخوانساري (ره) - فبطلانه أيضا واضح، من جهة أنه إن قلنا بمانعية
الضد لوجود الضد الاخر فلا فرق بين أن يكون موجودا أو معدوما، إذ
ليس مانعية المانع في ظرف وجوده فقط، والا لم يكن عدمه من
أجزاء العلة، لأنه في ظرف العدم، وفي ذلك الحين - بناء على هذا -
لا مانعية له، فليس عدمه من قبيل عدم المانع، بل عدم شئ أجنبي
عن
المعلول. والحاصل ان المراد من المانع هو أن يكون مانعا عن تأثير
المقتضي لو كان موجودا لا أن مانعيته في ظرف وجوده، وإلا ففي
حال العدم ليس بمانع.
و (ما قيل) - في توجيه هذا الوجه من أنه في ظرف عدم وجود الضد
ووجود المقتضي للضد الاخر، لا يمكن أن يوجد المقتضي لهذا الضد
المعدوم، لعدم إمكان الجمع بين المقتضيين للضدين، وإذا لم يكن
وجود المقتضي له ممكنا فكيف يمكن أن يكون مانعا، لان ما لا يمكن
ان يوجد غير قابل لان يكون مانعا، وأما لو كان موجودا فيكون مانعا
عن وجود الاخر، لعدم إمكان اجتماعهما - ففيه (أولا) - أن
مانعية المانع ليس متوقفا على وجوده، بل المانع - كما قلنا - هو ما
يكون مانعا عن تأثير المقتضي على تقدير وجوده، ومثل هذا المعنى
لا فرق فيه بين أن يكون الضد موجودا أو معدوما. و (ثانيا) - أن ما
أفاده من عدم إمكان الجمع بين المقتضيين للضدين هو الذي استندنا
إليه في عدم كون كل واحد من الضدين مانعا
312

عن الاخر، ونتيجته عدم توقف وجود كل واحد منهما على عدم
الاخر ولا عدم كل واحد منهما على وجود الاخر. ولا فرق في عدم
توقف وجود كل واحد منهما على عدم الاخر بين الضد الموجود و
المعدوم.
فالحق الصحيح الموافق للتحقيق الدقيق هو القول الخامس الذي بينا
وجهه مفصلا.
ومن جملة ما استدلوا به - على عدم مقدمية ترك أحد الضدين
لوجود الضد الاخر - هو الدور، وهو أنه لو كان الامر كذلك لا وجه له
إلا
من باب مانعية وجود كل واحد منهما عن وجود الاخر حتى يكون
عدمه دخيلا في وجود الاخر من باب أن عدم المانع أحد أجزاء العلة
التامة، فالوجود من كل واحد منهما متوقف على العدم من هذه الجهة
ولكن عدم كل واحد منهما أيضا معلول لوجود الاخر لان المانع
أيضا مثل عدم المقتضي وعدم الشرائط من علل العدم، فالتوقف من
الطرفين وهذا هو الدور.
وأجيب عن هذا الدور بأن استناد عدم الضد إلى وجود الضد الاخر -
باعتبار كونه مانعا - لا يمكن إلا في ظرف وجود المقتضي لذلك
الضد المعدوم مع جميع شرائطه، لما ذكرنا مفضلا من أن مانعية المانع
لا تتحقق إلا بعد وجود المقتضي والشرائط. وهذا الجواب وإن
كان صحيحا ويرتفع به الدور، ولكن يهدم أساس المانعية والتوقف
من الطرفين، والعجب من المحقق الخوانساري (ره) حيث أجاب
عن الدور بهذا الجواب ومع ذلك قال بتوقف وجود الضد على عدم
ضده الاخر الموجود لا الضد المعدوم من باب توقف الشئ على
عدم
مانعه، مع ما عرفت من أن هذا الجواب يهدم أساس المانعية. وأيضا
بينا سابقا أنه لو كان وجود أحد الضدين مانعا عن الضد الاخر، فلا
فرق بين الضد الموجود والمعدوم أصلا فتفصيله ليس كما ينبغي من
وجوه.
وأما احتمال أن يكون تفصيله بين الضد الموجود والمعدوم من جهة
أن الممكن ليس محتاجا إلى العلة في البقاء - كما يقول به المفوضة
خذلهم الله تعالى - فهذا الضد الموجود
313

باق مع انعدام علته بتمامها من مقتضية وجميع شرائطه، فيمكن
تصوير وجود المقتضي مع جميع الشرائط لذلك الضد المعدوم لأنه لا
يكون - بناء على هذا - من الجمع بين المقتضيين للضدين حتى تقول
بأنه محال فلا يبقى وجه لعدمه إلا وجود هذا الضد الموجود، لكونه
مانعا عنه فبعيد إلى الغاية لان مثل هذه الهفوة التي صدرت من
المفوضة لا ينبغي أن تستند إلى ذلك المحقق المدقق الذي بلغ من
التحقيق
والتدقيق مرتبة حتى لقب بالعقل الحادي عشر، فتحقق مما ذكرنا أن
هذا الدور لا يمكن أن يجاب عنه إلا بما ذكرنا وهو يهدم أساس
المدعى أي مقدمية أحد الضدين للآخر وجودا وعدما.
وأما ما قيل - من عدم جواز تقدم الشئ على ما يصلح أن يكون علة
له تأييدا وتثبيتا له - أي للدور - بمعنى أن المفروض أن الضد
الموجود أيضا متوقف على عدم الضد الاخر (توقف وجود الشئ
على عدم مانعه) على تقدير وجود المقتضي مع جميع الشرائط له و
ان
كان هذا التقدير محالا لما ذكرنا - فكلام فارغ، لأنه بعد كون هذا
التقدير محالا وممتنعا فلا يكون وجود الضد الموجود متوقفا على
عدم ذلك الضد الاخر (توقف وجود الشئ على عدم مانعه) لان
ثبوت المانعية للضد المعدوم محال (وبعبارة أخرى) ليس في البين
توقف من الطرفين لا وجود الضد الموجود متوقف على عدم الضد
المعدوم، إذ في فرض وجود الضد الموجود لا يمكن أن يوجد
المقتضي للضد المعدوم حتى يوجد ويكون مانعا، فليس عدمه من
قبيل عدم المانع حتى يكون وجود الضد الموجود متوقفا عليه (توقف
وجود الشئ على عدم مانعه) وفرض المانعية له في هذه الصورة
فرض محال لا يوجب توقفا أصلا ولا عدم الضد المعدوم يكون
متوقفا على وجود الضد الموجود (توقف العدم على وجود المانع) و
ذلك من جهة استناد العدم إلى أسبق علله وهو عدم المقتضي الذي
لا يمكن أن يوجد مع وجود المقتضي لهذا الضد الموجود. هذا إذا قلنا
بعدم إمكان وجود كلا المقتضيين لكلا الضدين معا، وأما إذا قلنا
بإمكان ذلك مع إمكان وجود جميع شرائطهما فلا محالة
314

يكون عدم كل واحد منهما مستندا إلى وجود الاخر (استناد عدم
الشئ إلى مانعه) كما أن وجود كل واحد منهما مستند إلى عدم الاخر
(استناد وجود الشئ إلى عدم مانعه) وهذا دور واضح. وبعضهم
أنكر الاستناد الأول باعتبار أن عدم كل واحد من الضدين - فيما إذا
كان كلاهما معدومين - وعدم خصوص الضد المعدوم - فيما إذا كان
أحدهما معدوما دون الاخر - مستند إلى مقتضي الاخر لا إلى
وجود الاخر فعدم الإزالة - مثلا - مستند إلى إرادة الصلاة لا إلى
نفسها، غاية الامر في الضدين المعدومين من جهة تزاحم المقتضيين و
عدم غلبة أحدهما على الاخر كل واحد منهما يمنع عن تأثير الاخر، و
فيما إذا كان أحدهما موجودا والاخر معدوما فمقتضى الضد
الموجود يمنع عن تأثير مقتضي الضد المعدوم ويغلب عليه فليس
عدم الضد مستندا إلى وجود الضد الاخر، بل إلى مقتضية. (وأنت
خبير)
بأنه لو تم هذا الجواب عن الدور يهدم أيضا أساس المانعية والتوقف
من الطرفين.
وقد ظهر مما ذكرنا الجواب عن شبهة الكعبي، وهي أن ترك الحرام
واجب وهو متوقف على أحد الافعال الوجودية التي هي أضداد
لذلك الحرام توقف عدم الضد على وجود أحد الأضداد الاخر من
باب توقف عدم الشئ على وجود مانعه وذلك، لما ذكرنا من عدم
مانعية الضد للضد الاخر لان المكلف إن لم يرد الحرام يكون ترك
الحرام مستندا إلى عدم المقتضي الذي هي الإرادة، ولا تصل النوبة
إلى الاستناد إلى المانع الذي هو الضد وإن أراد الحرام فلا يمكن أن
تتعلق إرادته بأحد الأضداد الوجودية أو بالسكوت، لما ذكرنا من
عدم إمكان الجمع بين المقتضيين للضدين فوجود أحد الأضداد في
ذلك الحين - أي في حين إرادة الحرام - محال فكيف يمكن أن يكون
مانعا؟ فلا يتوقف ترك الحرام الواجب على وجود أحد الأضداد
الوجودية حتى يقال بوجوب ما يشتغل به منها من باب وجوب مقدمة
الواجب، فتكون نتيجته إنكار المباح.
هذا مضافا إلى إمكان عدم صدور فعل من المكلف أصلا، إذ ليس
ارتفاع
315

الضدين أو الأضداد ممتنعا مثل ارتفاع النقيضين ألا ترى أن الألوان
المتضادة في الجسم يمكن ارتفاع جميعها وكونه بلا لون، وأما
الضدان اللذان لا ثالث لهما على فرض وجودهما وعدم رجوعهما
إلى العدم والملكة، كما احتملنا سابقا رجوع أغلب مواردها إلى ذلك
فليس عدم إمكان ارتفاعهما من ناحية تضادهما وتوقف وجود
أحدهما على عدم الاخر أو عدم أحدهما على وجود الاخر ولا
ملازمة
ارتباطية بين وجود أحدهما وعدم الاخر بل صرف اتفاق ان الموضوع
لا يخلو عنهما كالزوجية والفردية بالنسبة إلى العدد. وأما
القول بأن السكوت أيضا أحد الأضداد الوجودية والأفعال الصادرة
عن المكلف، فلا يخلو عن غرابة. ثم انهم ذكروا أن عمدة ثمرة هذه
المسألة هي بطلان العبادة لو كان ضدا للواجب الأهم أي الفعلي، و
ذلك من جهة أنه لو قلنا بالاقتضاء تكون حينئذ منهيا عنها فلا يمكن أن
يتقرب بها للنهي عنها. وأما إن لم نقل بذلك فتقع صحيحة لوجود
الملاك وعدم النهي عنها، ولكن الشيخ البهائي (ره) أنكر الثمرة من
جهة أن العبادة باطلة على كل حال سواء قلنا بالاقتضاء أم لا، إذ العبادة
تحتاج إلى قصد الامر وهو لا يمكن بدون الامر وهو ليس والا
يلزم طلب الضدين والتكليف بالمحال.
وأجيب عنه بوجوه:
(الأول) - أن العبادية ليست متوقفة على قصد الامر فقط، بل كما
يمكن أن تتحقق به، كذلك يمكن أن تتحقق بقصد الملاك والمصلحة
اللزومية الموجودة فيها بحيث لا يمكن أن تنفك عن الامر وتكون
نسبتها إلى الامر نسبة العلة إلى المعلول من ناحية الملاك، فان اتفق
عدم وجود أمر فليس ذلك من جهة نقص في ما هو ملاك الامر بل لا
بد وأن يكون من جهة أخرى كعدم قدرة المكلف مثلا، بل حققنا في
مبحث النية في العبادات ان قصد كل ما كان واقعا في سلسلة علل
الامر أو كان واقعا في سلسلة معاليله كاف وان كان من الأمور
الدنيوية التي جعلها الشارع من آثار تلك العبادة كالمال والجمال و
سائر الحوائج الدنيوية المترتبة شرعا على تلك العبادة. فما
316

التزم به صاحب الجواهر (قده) - من لزوم قصد خصوص الامر في
تحقق العبادية - ليس كما ينبغي.
(الثاني) - أن هذا الفرد المزاحم بالأهم وإن لم يكن له أمر في عرض
الامر بالأهم لأنه تكليف بالمحال، الا أن الحق - كما تقدم - هو أن
الأوامر متعلقة بالطبائع لا بالافراد - فمتعلق الامر هو صرف الوجود
من الطبيعة والقدرة على صرف الوجود منها تحصل بمحض
القدرة على بعض وجوداتها وان لم يكن قادرا على البعض الاخر، و
ليس التكليف مشروطا إلا بصرف القدرة على إيجاد الطبيعة لا
بالقدرة على إيجاد جميع أفرادها الطولية والعرضية والا فليس في
الغالب هناك طبيعة يكون جميع أفرادها - بكلا قسميه من الطولية و
العرضية - مقدورة، فعدم القدرة على فرد خاص من الطبيعة وهو
الفرد المزاحم بالأهم مثلا لا ينافي تعلق الامر بصرف الوجود من
الطبيعة باعتبار القدرة على سائر أفرادها، فيمكن إتيان هذا الفرد
المزاحم الذي ليس له بالخصوص أمر بداعي الامر المتعلق بالطبيعة،
لان انطباق الطبيعة التي لها أمر على هذا الفرد قهري لاتحاد اللابشرط
من كل شئ مع البشرط شئ منه والاجزاء عقلي بل في جميع
الموارد يكون إتيان الفرد بقصد الامر المتعلق بالطبيعة ولو لم تكن
مزاحمة في البين لما ذكرنا من أن الحق تعلق الأوامر بالطبائع لا
بالافراد.
(وفيه) أنه لا شك في اشتراط التكاليف بالقدرة إما من جهة أن تكليف
العاجز قبيح، وصدور القبيح عن الحكيم تعالى محال وإما من
جهة أن حقيقة الامر وماهيته عبارة عن البعث إلى أحد طرفي
المقدور، فالقدرة على إيجاد متعلق الامر مأخوذة في نفس حقيقة
الامر و
ماهيته بحيث لو قلنا - كالأشاعرة - بعدم قبح تكليف العاجز وأنكرنا
الحسن والقبح العقليين، فمع ذلك أيضا لا يجوز تعلق الامر بغير
المقدور، لان القدرة على المتعلق مأخوذة - على ما قلنا - في نفس
حقيقة الامر وماهيته ويكون من قبيل ذاتياته وهي لا تختلف ولا
تتخلف فيكون بناء على الأول من هذين الوجهين لاشتراط القدرة في
متعلق الامر، ولو كان هو صرف الوجود مقيدا بالقدرة بتقييد
317

عقلي وذلك كما في العام الوارد في لعن بني أمية قاطبة حيث أنه مقيد
عقلا بكونهم غير مؤمنين فلا يشمل المؤمنين منهم لعدم جواز لعن
المؤمن عقلا وعلى الثاني من الوجهين لا تقييد في البين لان الامر -
في حد نفسه - قاصر عن شموله لغير المقدور، فيكون بالنسبة إليه
من قبيل التخصص لا التقييد والتخصيص. وعلى كلا التقديرين لا
تنطبق الطبيعة المأمور بها - بما هي مأمور بها - على الفرد غير
المقدور وذلك من جهة أنه بناء على الأول من الوجهين في اشتراط
القدرة حيث أنها مقيدة بالقدرة بتقييد عقلي ومعلوم أن الطبيعة
المقيدة لا تنطبق على الفرد الفاقد لذلك القيد، وبناء على الثاني من
الوجهين لا تنطبق على هذا الفرد الذي له مزاحم أهم لضيق في
المتعلق آت من قبل نفس الامر (ان قلت): بناء على هذا فيكون جميع
الأوامر مشروطا بالقدرة الشرعية، لأنه لا نعني من القدرة الشرعية
الا ما كان متعلق الامر مقيدا بالقدرة (قلت) إن القدرة الشرعية في مقام
الثبوت هي ما كان لها دخل في ملاك الحكم وفي مقام الاثبات
هي ما كان مأخوذا في لسان الدليل، وفيما نحن فيه ليس كذلك لأنه لم
تؤخذ القدرة في لسان الدليل في المتعلق حتى نستكشف منه
دخلها في الملاك في مقام الثبوت بل هي معتبرة في المتعلق إما من
جهة قبح التكليف بما لا يطاق أو من جهة الضيق الآتي من قبل نفس
الامر وحقيقته.
ويمكن أن يجاب عن مقالة المحقق بأنه وإن كان الصحيح - كما ذكرنا
- هو تعلق الأوامر بالطبائع لا بالافراد، ولكن تعلق الامر
بالطبيعة وصرف الوجود منها أيضا مشروط بالقدرة عليها، والقدرة
عليها لا يمكن الا بأن يكون بعض وجوداتها ولو كان واحدا منها
ولا أقل من ذلك مقدورا للمكلف وأما إذا كان جميع أفرادها و
وجوداتها غير مقدور ولو كان ذلك في زمان دون سائر الأزمنة، فلا
يصح التكليف بنفس الطبيعة وصرف الوجود منها في ذلك الزمان
الذي غير مقدور جميع أفرادها الطولية والعرضية الا بناء على صحة
الواجب المعلق الذي أثبتنا بطلانه، وفيما نحن فيه الامر كذلك أي
الطبيعة وصرف وجودها غير مقدور للمكلف بجميع وجوداتها
318

الطولية والعرضية في زمان لزوم الاتيان بالواجب الأهم. أما الافراد
العرضية في ذلك الزمان فمن جهة امتناعها الشرعي إذ الشارع
صرف قدرة المكلف إلى الأهم والممتنع الشرعي كالممتنع العقلي. و
أما الافراد الطولية أي المتأخر زمانها عن ذلك الزمان، فلامتناعها
التكويني بناء على إنكار الواجب المعلق كما هو الصحيح فبناء على ما
ذكرنا صرف الوجود من الطبيعة أيضا مثل الفرد المزاحم بالأهم
ليس تحت القدرة، ولا يمكن أن يتعلق به الامر حتى يقال بأن انطباقها
على الفرد المزاحم بالأهم قهري والاجزاء عقلي، فالجواب عن
الاشكال الذي تقدم من البهائي على ترتب بطلان العبادة على هذا
البحث - بناء على الاقتضاء - وعدم البطلان - بناء على العدم - من
أن
بطلان العبادة على كل حال ثابت لعدم الامر، سواء قلنا بالاقتضاء أم لا
منحصر بما تقدم من عدم لزوم قصد خصوص الامر في تحقق
العبادية، بل قصد المصلحة التامة وما هو ملاك الامر أيضا يكفي.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قده) ذكر أن قصد الملاك يكفي حتى لو قلنا
بالاقتضاء لأنه على تقدير ان يكون الامر بالشئ يقتضي النهي عن
ضده الخاص ليس ذلك النهي نهيا نفسيا ناشئا عن مفسدة في متعلقه،
بحيث يكون مبغوضا للمولى بل نهي غيري مقدمة لحصول ذلك
الضد الاخر من دون أن ينقص من مصلحته ومحبوبيته، وليس من
قبيل النهي النفسي المتعلق بالعبادة في باب النهي عن العبادة أو
النهي المتعلق بطبيعة اتحدت مع الطبيعة المأمور بها بأمر عبادي بناء
على الامتناع، لان النهي النفسي المتعلق بالعبادة يكون كاشفا عن
مفسدة ومبغوضية فيها لا يمكن التقرب بها بواسطة تلك المفسدة و
المبغوضية، وهكذا الحال في باب الاجتماع بناء على الامتناع إذ
مبنى الامتناع اتحاد متعلقي الأمر والنهي وسراية كل واحد منهما إلى
متعلق الاخر ففي الحقيقة في باب الاجتماع أيضا بناء على الامتناع
النهي النفسي تعلق بنفس العبادة، ويكون كاشفا عن وجود مفسدة في
العبادة التي لاجلها صارت العبادة مبغوضة، فلا يمكن أن يتقرب
بها. وذلك بخلاف ما نحن فيه فان النهي - بناء على
319

الاقتضاء - نهي مقدمي غيري لا يتغير متعلقه عما كان عليه من
المصلحة والمحبوبية، فيمكن أن يقع عبادة ويتقرب به، وبناء على
هذا
يكون هذا البحث الطويل والعريض بلا ثمرة، لان عمدة ثمرة هذا
البحث كانت هي بطلان العبادة بناء على الاقتضاء.
وقد عرفت عدم بطلانها حتى بناء على هذا القول (اللهم) إلا أن يقال:
ان النهي المولوي ولو كان غيريا تكون مخالفته هتك حرمة
المولى وعصيانا له، فكيف يمكن أن يتقرب إليه بما هو هتك حرمته و
يكون عصيانا له، إذ لا يطاع الله من حيث يعصى.
وهناك إشكال تقدم شطر من الكلام فيه، وهو أنه بعد تقييد متعلق
الامر بالقدرة اما من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز أو من جهة
أن حقيقة الامر وماهيته عبارة عن البعث إلى أحد طرفي المقدور، فما
ليس بمقدور لا يمكن أن يكون متعلقا للامر فالامر يتعلق قهرا
بالحصة المقدورة من الطبيعة، فالحصة غير المقدورة خارجة عن
تحت الامر لأحد الامرين وعلى كل حال. والمفروض أنه لا طريق لنا
إلى استكشاف الملاك إلا تعلق الامر بها ففي الحصة التي منها وقعت
تحت الامر أي المقدورة منها نستكشف الملاك بواسطة وجود
الامر. وأما الحصة الخارجة عن تحت الامر فليس هناك شئ
نستكشف وجود الملاك به.
وأجاب شيخنا الأستاذ (قده) عن هذه الشبهة: بأن هذا التقييد بأي
شكل كان من الوجهين المتقدمين - أي سواء كان باقتضاء نفس الامر
أو بواسطة قبح تكليف العاجز - لا يمكن ان يكون في الرتبة السابقة
على الامر، لان هذا التقييد - على كل واحد من الوجهين - يأتي من
قبل الامر ومتأخر عن نفس الامر أما بناء على اقتضاء نفس الامر
مقدورية متعلقه فواضح، واما بناء على قبح تكليف العاجز عن
الامتثال
فلان هذا الحكم العقلي بواسطة وجود الامر وحينئذ فالتقييد الذي
يحكم به العقل لمتعلق الامر يكون في الرتبة المتأخرة عن وجود الامر
فالمتعلق - في الرتبة السابقة على الامر التي في تلك المرتبة له اقتضاء
الامر ويطلب الامر بواسطة وجود الملاك فيه - مطلق غير مقيد
بهذا القيد بل محال أن يكون كذلك لان كل ما يتأتى
320

من قبل الامر ويكون متأخرا عن الامر لا يمكن أن يتحقق في الرتبة
السابقة على الامر، والا يلزم تقدم الشئ على ما هو مقدم عليه. ومن
الاطلاق في تلك المرتبة - أي من إطلاق المادة قبل تعلق الامر بها و
عدم تقييدها بكونها مقدورة - نستكشف إطلاق الملاك في كلتا
الحالتين أي سواء كانت مقدورة أو لم تكن.
(إن قلت): من مقدمات الاطلاق هو لزوم نقض الغرض لو كان مراده
المقيد ولم يقيد، وفيما نحن فيه ليس كذلك لأنه لا يلزم من ترك
التقييد بالقدرة لو كان مراده المقيد بها نقض غرض أصلا إذا لا يمكن
للمكلف أن يأتي بالحصة غير المقدورة من الطبيعة المأمور بها
حتى يلزم نقض الغرض، وأيضا من مقدمات الاطلاق أن يكون في
مقام البيان وبصدد إفهام المكلف بأن الملاك قائم بأي شئ و
بالطبيعة المطلقة أو بحصة منها. ومن المعلوم أن إحراز ذلك وأنه
بصدد بيان أن الملاك قائم بأي مقدار من المادة لا طريق إليه،
فالتمسك بإطلاق المادة لاطلاق الملاك لا وجه له.
(قلنا) أما الأول أي لزوم نقض الغرض لو كان مراده المقيد ولم يقيد
(فأولا) - أنه يلزم ذلك فيما إذا كان الفرد المزاحم للواجب الفعلي
كالصلاة في سعة الوقت بالنسبة إلى الإزالة غير مقدور شرعا مع
مقدوريته تكوينا فيمكن أن يأتي المكلف بها ويأخذ بإطلاقها من جهة
عدم تقييدها بكونها مقدورة، فلو كان مراده الصلاة المقدورة ولم
يقيدها بذلك فقد نقض غرضه. و (ثانيا) - أنه ليس نقض الغرض من
مقدمات الاطلاق، بل الاطلاق يتم بعد كونه بصدد بيان تمام مراده مع
عدم التقييد فقط من دون احتياج إلى نقض الغرض إذ كونه بصدد
بيان تمام مراده مع كون مراده المقيد ومع ذلك لم يقيد خلف و
مناقضة، إذ معنى كونه بصدد بيان تمام مراده أنه في مقام ذكر جميع
ماله دخل في مقصوده فلو كان مراده المقيد ولم يذكر المقيد الذي له
دخل في مراده فقد ناقض ما كان بصدد بيانه. (وان شئت قلت)
يلزم من عدم ذكره أنه لم يكن بصدد بيان تمام مراده وهذا عين
الخلف لأنه خلاف المفروض، لأن المفروض هو انه كان بصدد بيان
تمام مراده.
321

و (أما الثاني) أي عدم إمكان إحراز أنه بصدد بيان تمام ماله دخل في
الملاك ففيه أن الاطلاق - تارة - يتمسك به لاستكشاف المراد
فيحتاج إلى هذه المقدمة أي كونه بصدد بيان تمام مراده، وإلا لو كان
في مقام الاهمال أو الاجمال فمن عدم التقييد لا يمكن استكشاف
ان المراد مطلق، وتارة يتمسك به لاستكشاف الملاك، فلا يحتاج إلى
هذه المقدمة بل من صرف عدم تقييد المتعلق في الرتبة السابقة
على الامر يستكشف إطلاق الملاك لان تبعية إطلاق الملاك لاطلاق
المتعلق في الرتبة السابقة على الامر وعدم تقييده تكوينية ومن
قبيل العلة والمعلول فلا يمكن أن يتخلف إطلاق المتعلق - في تلك
الرتبة - عن إطلاق الملاك، سواء كان بصدد بيان تمام ماله دخل في
الملاك أو لم يكن إذا كان بصدد بيان تمام مراده.
وحاصل الكلام في هذا المقام هو أن الطلب ورد على الطبيعة غير
المقيدة بالقدرة والطبيعة التي ورد عليها الطلب مطلقة، لما بينا من أن
ما في رتبة نفس الطلب أو ما يكون متأخرا عنه لا يمكن أن يؤخذ في
متعلق الطلب بما هو مورود الطلب والا يلزم ما قلنا من تقدم ما هو
متأخر عن الشئ أو في رتبته على الشئ وهو خلف فلا محالة يكون
مراد شيخنا الأستاذ (قده) من تقييد المتعلق والمطلوب بالقدرة
تقييده في الرتبة المتأخرة عن الطلب بواسطة اقتضاء نفس الطلب أو
بواسطة حكم العقل بقبح تكليف العاجز، والتقييد في تلك المرتبة لا
ينافي الاطلاق في المرتبة السابقة الذي سميناه بإطلاق المادة. ونتيجة
هذا التقييد هو عدم إلزام العقل بإتيان جميع الحصص سواء كانت
مقدورة أو لا، بل يكون إلزامه فقط بالحصة المقدورة. وأيضا نتيجته
عدم انطباق الطبيعة - بما هي مأمور بها ومطلوبة - على الحصة
غير المقدورة وليست نتيجته تقييد المتعلق بالقدرة بما هو معروض
الامر ومورود للطلب كيف يكون كذلك وهو خلف. فلا تنافي بين
الجواب عن المحقق الثاني بأن الطبيعة المأمور بها - بما أنها مأمور بها
ومطلوبة - لا تنطبق على الفرد المزاحم للواجب الفعلي لأنه غير
مقدور شرعا والممتنع شرعا كالممتنع عقلا وبين وجود الملاك فيه،
وذلك لاستكشافه فيه من
322

إطلاق المادة في الرتبة السابقة على ورود الامر على الطبيعة، فظهر
مما ذكرنا صحة العبادة إذا كانت ضدا للواجب الفعلي بواسطة
الملاك، وأيضا ظهر ان الواجب الفعلي مع ضده يكونان من باب
المتزاحمين لا المتعارضين،
وذلك من جهة أن الفرق بين المتزاحمين والمتعارضين يكون من
جهات ثلاث:
(الجهة الأولى)
- هي ان المتعارضين ما لا يمكن اجتماعهما في عالم الجعل و
التشريع كل واحد على موضوعه، كما أنه لا يمكن تشريع صحة بيع
العذرة
وتشريع فساده معا وجمعا لأنهما متناقضين. واما المتزاحمان - فبعد
الفراغ عن إمكان جعلهما وتشريعهما كل واحد منهما على
موضوعه ووجود الملاك في كل واحد منهما - عبارة عن الحكمين
الذين لا يمكن امتثالهما جمعا، بل لا مناص للمكلف من ترك
أحدهما،
وذلك من جهة عدم قدرته على الجمع بينهما لا من جهة فقدان
الملاك في أحدهما كما في المتعارضين، وأيضا تزاحم الحكمين غير
تزاحم المقتضيين، لان الأخير عبارة عن وجود الملاكين المتضادين
في عالم الوجود في شئ واحد بحيث يقتضي كل واحد من الملاكين
جعل الحكم على طبقه ويدفع الاخر وحينئذ فان كانا متساويين لا
ترجيح لأحدهما على الاخر فلا بد من إنشاء حكم تخييري على طبق
كليهما، بحيث يكون المكلف مخيرا بين العمل بأيهما شاء وان كان
أحدهما راجحا فبعد وقوع الكسر والانكسار لا بد من جعل الحكم
على طبق أقوى الملاكين والمقتضيين وعلى كل حال يكون أجنبيا
عن باب تزاحم الحكمين. ثم إن الحكمين للموضوعين الذين لكل
واحد
منهما ملاك الحكم لو كان التزاحم وعدم القدرة على الامتثال بينهما
دائميا، بحيث لا يمكن امتثال كليهما - ولو مرة واحدة - فيرجع إلى
باب التعارض ويكون جعل كليهما بهذه الصورة لغوا قبيحا وممتنعا
على الحكيم بل لا بد حينئذ من جعل واحد إما تعيينا إذا كان أحد
الملاكين أقوى أو تخييرا إذا كانا متساويين.
(الجهة الثانية)
- هي أن الحاكم بالتخيير - في باب التعارض - هو الشرع وإلا
فمقتضى القاعدة - بناء على الطريقية - هو التساقط، ولكن الشارع
تعبدا
323

حكم بالتخيير في خصوص الخبرين المتعارضين وأما الحاكم بالتخيير
في باب المتزاحمين فهو العقل لأنه يحكم بالتخيير عند تساوي
الملاكين وعدم وجود مرجح في البين من مرجحات باب التزاحم. و
أما مع المرجح فيحكم بتعيين ما فيه المرجح وسقوط الامر الاخر ان
قلنا بامتناع الترتب، أو تقييد إطلاقه إن قلنا بإمكانه كما سيجئ الكلام
فيه مفصلا إن شاء الله تعالى.
(الجهة الثالثة)
- هي أن المرجحات في باب التعارض غير المرجحات في باب
التزاحم فالمرجحات في باب التعارض أما في الروايتين المتعارضتين
فهي ما جعلها الشارع مرجحا من المرجحات المنصوصة من حيث
السند أو الجهة أو الدلالة أعني المتن وفي بعض الامارات الاخر
المتعارضة كتعارض البينات أيضا مرجحات خاصة، وذلك كتقديم
بينة الخارج على الداخل وبينة الاثبات على النفي وكتقديم البينة
على اليد بناء على كون اليد حجة مرجوحة عند قيام البينة على
خلافها لا أن تكون حجيته مشروطة بعدم قيام البينة على خلافها وفي
سائر الامارات بأقوائية إحداهما من الأخرى من حيث الكشف وربما
يكون تقديم إحداهما على الأخرى بجهات اخر مبينة مذكورة في
الكتب الفقهية كما في تعارض اليد مع السوق مثلا.
وأما المرجحات في باب التزاحم فهي خمسة:
(الأول)
- تقديم ما ليس له بدل على ماله بدل، سواء كانت بدلية البدل له
عرضيا أو طوليا. ووجه ذلك أما بالنسبة إلى ماله البدل العرضي كما
إذا كان ماله غير واف بأداء دينه وإطعام ستين مسكينا إذا كان عليه
دين وكفارة مخيرة بين الخصال الثلاث، فهاهنا أداء الدين مقدم
على إطعام ستين مسكينا لان التخيير يكون بين هذه الخصال الثلاث
مثلا إذا كان كلها مقدورا للمكلف وإلا فلو كان بعضها غير مقدور
تعين البعض الاخر ولا شك في أن إطعام الستين مسكينا يصير غير
مقدور بواسطة وجوب أداء الدين لان الممتنع الشرعي كالممتنع
العقلي فيتعين ما عداه من الخصال الثلاث، ولا يبقى موضوع للتخيير
بالنسبة إلى الاطعام. وفي هذا البيان الذي ذكرناه جار في التخيير
العقلي بطريق أولى لان المأمور به - في التخيير العقلي - هو
324

الجامع وانطباقه على جميع الافراد من جهة تساوي أقدام صرف
الوجود من الطبيعة بالنسبة إلى جميع الافراد. وهذا فيما إذا لم يكن
مانع شرعي أو عقلي من إتيان بعض الافراد، وأما لو كان في البين
فيخرج ذلك البعض عن حد التساوي ويصير متعذرا فيرتفع
موضوع التخيير بالنسبة إلى ذلك البعض. وأما بالنسبة إلى ماله البدل
الطولي فمن جهة أن الوضوء أو الغسل مثلا لو زاحم إزالة الخبث
عن ثوب المصلي أو بدنه لعدم كفاية الماء للجمع بينهما، فيدور الامر
بين استعمال الماء في الوضوء أو الغسل ورفع اليد عن إزالة الخبث
بالمرة ليفوت ملاكها وشرط من شروط الواجب الفعلي وبين
استعماله في إزالة الخبث والانتقال من الطهارة المائية إلى الترابية و
تحصيل الشرط بوجود البدل.
(وبعبارة أخرى) يدور الامر بين ترك واجب بالمرة وإدراك مصلحة
أحد الواجبين دون الاخر وإدراك كليهما، ولو بأن يكون درك
أحدهما ببدله لا بالمبدل منه.
والعقل يستقل في مثل هذا المقام بترجيح الثاني على الأول خصوصا
فيما إذا كان ملاك البدل ومصلحته في ظرف وصول النوبة إليه أي
في ظرف تعذر المبدل منه بمقدار مصلحة المبدل. (إن شئت قلت):
إن الشارع جعل البدل في ظرف تعذر المبدل منه شرعا أو عقلا. ولا
شك في أن استعمال الماء في المثل المفروض في الوضوء أو الغسل
متعذر شرعا بواسطة لزوم استعماله في رفع الخبث فيرتفع
موضوع وجوب الغسل والوضوء شرعا، ولا يمكن أن يقال بالعكس
لان استعمال الماء في الوضوء أو الغسل لا يوجب ارتفاع موضوع
وجوب إزالة الخبث عن ثوبه أو عن بدنه بل يكون موجبا لفوات
واجب فعلي بلا مسوغ.
ثم إن من فروع هذه المسألة فرع فقهي وهو أنه لو زاحم إدراك جميع
الوقت الذي هو واجب ومن شرائط الصلاة الطهارة المائية بحيث
لو توضأ أو اغتسل لم يدرك من الوقت إلا ركعة واحدة، ولو تيمم
أدرك جميع الصلاة في الوقت فحيث أن للطهارة المائية بدل فإدراك
جميع الوقت مقدم عليه لما ذكرنا من تقديم ما ليس له بدل
325

على ماله بدل (إن قلت) كما أن للطهارة المائية بدل كذلك الوقت فان
الشارع جعل إدراك ركعة في الوقت بدلا عن إدراك الجميع فيه
(قلت) وإن كان الامر كذلك إلا أن بدلية مقدار إدراك ركعة من الوقت
عن جميعه في ظرف تعذر إتيان جميع الصلاة في الوقت. و
المفروض أن إتيان جميع الصلاة في الوقت ليس بمتعذر، غاية الامر
مع الطهارة الترابية. نعم لو كان موضوع جعل البدلية هو تعذر
جميع الصلاة في الوقت مع الطهارة المائية لكان لهذا الكلام مجال، و
لكن الظاهر من قوله عليه السلام: (من أدرك ركعة من الوقت فقد
أدرك الصلاة أو الوقت) هو إدراك ركعة من الوقت عند تعذر إدراك
جميع الصلاة في الوقت مع مطلق الطهارة لا خصوص المائية ففي
ظرف إمكان إدراك جميع الصلاة في الوقت ولو كان بالطهارة الترابية
لم يجعل إدراك الركعة في الوقت بدلا عن إدراك الجميع،
فتأمل.
(المرجح الثاني)
- هو تقديم ما هو المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة
الشرعية (بيان ذلك) أن الواجبين المتزاحمين بعد أن لم يكن
لأحدهما البدل دون الاخر فاما أن يكون أحدهما مشروطا بالقدرة
الشرعية دون الاخر أو يكون كلاهما مشروطين بها أو لم يكن شئ
منهما كذلك.
(أما الأول) فما هو المشروط بالقدرة العقلية مقدم على ما هو
المشروط بالقدرة الشرعية، وذلك من جهة أن القدرة الشرعية - كما
تقدم
- دخيلة في الملاك، والخطاب تابع للملاك فعند عدم القدرة عقلا أو
شرعا لا ملاك فلا خطاب وما ليس بمشروط بالقدرة الشرعية
ملاكه مطلق ليس بمشروط بوجود القدرة ووجوبه تابع لملاكه، فيكون
رافعا شرعا للقدرة على الواجب المشروط بالقدرة الشرعية
فيذهب بموضوعه لان القدرة من قيود موضوعه فيبقى بلا ملاك. (لا
يقال) إن الاخر وان لم يكن ملاكه مشروطا بالقدرة إلا أن خطابه
أيضا مشروط بالقدرة عقلا كما تقدم اما من باب اقتضاء نفس الامر
ذلك أو من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز، ففعلية خطابه
متوقفة على قدرته على امتثاله وقدرته على امتثاله متوقفة على عدم
فعلية ما هو مشروط
326

بالقدرة الشرعية وعدم فعليته متوقف على فعلية ما ليس بمشروط
بالقدرة الشرعية ففعلية خطابه متوقفة على فعليته، وهذا دور
واضح (لأنا نقول) إطلاق ملاكه يكفي لصرف القدرة إليه وتعجيز
المكلف بالنسبة إلى المشروط بالقدرة الشرعية فيذهب موضوعه (و
بعبارة أخرى) فعلية خطابه ليست متوقفة على عدم فعلية المشروط
بالقدرة الشرعية، بل فعلية خطابه بواسطة فعلية ملاكه وعدم المانع
الذي هو عبارة عن العجز عن الامتثال لأنه قادر على الامتثال تكوينا و
عقلا.
و (أما الثاني) أي فيما إذا كان كلاهما مشروطين بالقدرة الشرعية
فمقتضى القاعدة هو التخيير الا أن يكون هناك مرجح آخر في البين
كما هو كذلك في الفرع المعروف أعني ما لو نذر أن يبيت كل ليلة عرفة
في كربلا ويزور الحسين عليه السلام واتفق أنه صار
مستطيعا في هذه الأثناء، فيزاحم كل واحد من الواجبين أي الحج و
الوفاء بالنذر الاخر وحيث أن كل واحد منهما مشروط بالقدرة
الشرعية كان مقتضى القاعدة هو التخيير أو تقديم ما هو أهم ملاكا كما
قيل ولكن حيث أن وجوب الوفاء بالنذر مضافا إلى أنه مشروط
بالقدرة الشرعية مشروط أيضا بأن لا يكون مفوتا لمصلحة دينية أو
دنيوية، ولا يكون سببا لفوت واجب أو فعل حرام كما هو مفاد
بعض الاخبار بل عقد في الوسائل بابا لهذا المعنى فلذلك يكون الحج
مقدما عليه، وذلك من جهة أن الوفاء بالنذر يكون مفوتا لمصلحة
الحج ووجوبه مشروط بأن لا يكون كذلك. (إن قلت): إن وجوب
الوفاء بالنذر ليس مشروطا بالقدرة الشرعية كما هو مفاد قوله تعالى:
(ويوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) (قلنا) ان النذر
حقيقته عبارة عن إلزام شئ على نفسه لله والالتزام به. ولا شك
في أن العاقل لا يلتزم بشئ غير مقدور له فلا بد وأن يلتزم بالشئ
المقدور فالمنذور مقيد بكونه مقدورا وذلك باقتضاء نفس النذر
كما قلنا بمثل هذا في البعث والامر، وأن المأمور مقيد بالقدرة من
جهة نفس الطلب والبعث وباقتضاء ذاتيهما، ولكن الفرق بينهما ان
التقييد في باب الطلب لا يمكن ان يكون من قبيل التقييد بالقدرة
327

الشرعية، لما ذكرناه من تأخر رتبة هذا التقييد عن الطلب، وفيما نحن
لا مانع منه بل لا بد من ذلك لان التقييد جاء من قبل النذر وفي
المنذور ووجوب الوفاء متأخر عن النذر وعن هذا التقييد ووارد
عليهما فوجوب الوفاء بالنذر مقيد بالقدرة على العمل بالنذر وهذا
هو معنى الاشتراط بالقدرة الشرعية.
و (اما الثالث)
أي فيما إذا كان كلاهما مشروطين بالقدرة العقلية ولم يكن لأحدهما
بدل دون الاخر، فيقدم المضيق على الموسع وهذا هو (المرجح
الثالث) في باب التزاحم. والسر في تقديم المضيق وترجيحه على
الموسع هو ما ذكرنا في تقديم ما ليس له بدل على ماله بدل بل هو
عينه ومن أقسامه لان الواجب الموسع هو ما كان له افراد طولية
بحسب الزمان، فالفرد المزاحم منه للواجب المضيق له بدل بل غالبا
تكون له أبدال متعددة غاية الامر أن تلك الابدال عقلية لا شرعية
كبدلية التيمم عن الغسل أو الوضوء وعرضية مع المبدل لا طولية
بمعنى
أن بدليتها ليست بعد تعذر المبدل منه كما في باب التيمم وإن كانت
طولية معه بمعنى آخر أي بحسب الزمان.
(المرجح الرابع)
- هو أهمية ملاك أحد الواجبين المتزاحمين فيقدم الأهم ملاكا على
الاخر ان كان الملاكان فعليين ولو كان خطاب الأهم ملاكا مشروطا
بأمر متأخر، واما لو كان ملاكه مشروطا بأمر متأخر أي لا يكون فعليا في
زمان فعلية المهم، فلا وجه لمزاحمته له (وبعبارة أخرى)
تقديم الأهم على المهم بواسطة حكم العقل بلزوم تحصيل ملاكه عند
الدوران، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح وهذا فيما إذا كان
هناك للأهم ملاك والا فكيف يزاحم ما ليس بموجود الملاك موجود
الملاك وان لم يكن بأهمية ما ليس بموجودة. نعم وجود الخطاب
ليس بلازم في المزاحمة غاية الامر هو أنه لو كان الخطاب مثل الملاك
موجودا لكان المزاحم للمهم هو الخطاب النفسي المتعلق بالأهم، و
ان كان مشروطا بأمر متأخر غير حاصل فالمزاحم هو الخطاب
المقدمي المتعلق بحفظ القدرة سواء قلنا بأن مثل هذا الخطاب
خطاب
عقلي ومن باب حكم العقل بلزوم حفظ المقدمات المفوتة أو
تحصيلها ان لم تكن موجودة أو خطاب شرعي
328

نفسي ناشئ عن الملاك الموجود، وهو من قبيل متمم الجعل قبل
الخطاب الأصلي المشروط بأمر متأخر.
(المرجح الخامس)
- في باب تزاحم الواجبين - هو التقدم في الوجود بحسب الزمان. و
السر فيه أنه بعد ما لم تكن أهمية في البين وكان كلاهما متساويين
من هذه الحيثية فلا يبقى وجه لعدم صرف القدرة في المتقدم وإبقائها
للمتأخر مع فعلية ملاك المتقدم وخطابه لأنه - بناء على إنكار
الواجب المعلق والقول بامتناعه - لا بعث ولا تحريك من قبل
المولى قبل وصول زمان المتأخر بالنسبة إليه، حتى يزاحم المتقدم و
اما
بالنسبة إلى المتقدم فجميع شرائط حكم العقل - بلزوم الامتثال من
وجود الملاك والخطاب والقدرة على الامتثال - موجودة فلا يبقى
للمكلف عذر في تركه. نعم بناء على إمكان الواجب المعلق وتحققه
بالنسبة إلى المتأخر يمكن أن يقال أن هاهنا واجبين فعليين وجد
ملاكهما وخطابهما، وليس لأحدهما ترجيح على الاخر من حيث
الملاك والمناط غاية الامر ظرف امتثال أحدهما متقدم وليس
للمكلف
الا القدرة على إيجاد أحدهما فالعقل الذي هو الحاكم في باب الإطاعة
لا يحكم بلزوم صرف القدرة في المتقدم دون المتأخر، بل يحكم
بالتخيير بينهما ولا فرق فيما ذكرنا - في تقديم المتقدم بالزمان أو
التخيير بينهما - بين أن يكونا واجبين مستقلين أو جزين أو
شرطين لواجب واحد، ولكنهما كانا طوليين بحسب الزمان وأيضا لا
فرق فيما ذكرنا من المرجحات الأخرى غير التقدم بالزمان بين
أن يكون المتزاحمان واجبين مستقلين أو من أجزاء أو من شرائط
واجب واحد وواجبات متعددة. ثم إنه قد أشرنا سابقا إلى أن منشأ
تزاحم الحكمين دائما عدم القدرة على امتثالهما جميعا، نعم قد
يختلف منشأ عدم القدرة على الجمع فربما يكون لتضاد متعلقي
الواجبين
وربما يكون لجهات أخرى، لا أن عدم القدرة على الامتثال أحد
أسباب التزاحم وهناك أسباب اخر كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ
(قده)
(فتأمل).
مسألة الترتب
(الثالث) - من وجوه الجواب عما أورد البهائي (ره) من الاشكال على
صحة
329

العبادة عند عدم الاقتضاء التي هي ثمرة هذا البحث - أنه على فرض
احتياج صحة العبادة إلى الامر الامر الترتبي موجود، لان المحال هو
تعلق الطلبين المطلقين بما لا يقدر المكلف على الجمع بينهما وهو
الذي نسميه بالطلبين العرضيين. وأما إذا كان أحدهما مطلقا وهو
الطلب المتعلق بالراجح كالازالة مثلا، لأنه واجب مضيق بالنسبة إلى
الصلاة في أول وقتها مثلا وقد ذكرنا أن أحد أسباب الترجيح هو
كون أحد المتزاحمين مضيقا والاخر - أي الطلب المتعلق بالمرجوح
كالصلاة في المثال المفروض - مشروطا بعصيان الطلب المتعلق
بالراجح وعدم إتيان متعلقه فليس بمحال. وهذا ما نسميه بالطلبين
الطوليين والامر المتعلق بالمرجوح المشروط فعليته بعصيان الامر
المتعلق بالراجح نسميه بالامر الترتبي لترتبه على عصيان ذلك الامر و
إمكان مثل هذا الامر وقع محلا للكلام فالمشهور أنكروه - و
منهم شيخنا الأعظم الأنصاري وصاحب الكفاية (قدس سرهما) - و
جماعة من أعاظم المحققين اعترفوا بإمكانه وأثبتوه مثل صاحب
جامع المقاصد والشيخ الكبير كاشف الغطاء وأستاذ أساتيذنا الميرزا
الكبير الشيرازي وشيخنا الأستاذ وأستاذنا المحقق - قدس
سرهم - ولهم طرق في إثباته وإمكانه:
(منها) - ما ذهب إليه شيخنا الأستاذ (قده) ورتب لذلك مقدمات:
(المقدمة الأولى)
- في أنه إذا كان أحد الطلبين المتعلق بشئ مطلقا، والاخر مشروطا
بعصيان ذلك الامر المطلق وعدم إتيان متعلقه فمثل هذين الامرين
ليس طلبا للجمع بين متعلقيهما في عالم الوجود بل لا يمكن أن يكون
لأن المفروض أن فعلية طلب المقيد والمشروط في ظرف عدم
امتثال المطلق وعصيانه، فهو يدعو إلى متعلقه ويطلبه في ظرف عدم
وجود متعلق الاخر ولذلك ترى أنه لو تعلق مثل هذين الطلبين -
أي الطلبين الذين أحدهما مطلق والاخر مشروط بعصيان ذلك الامر
المطلق - بأمرين يمكن أن يجتمعا ويمكن أن يوجدهما المكلف معا
كقوله: ادخل المسجد وان لم ندخل فاقرأ القرآن لما كان اجتماعهما
مطلوبا، بل لو أتى بالاثنين بقصد مطلوبية الاثنين لكان تشريعا
محرما فليس له أن يقرأ القرآن ويدخل المسجد بعنوان
330

مطلوبيتهما، إذ تحقق دخول المسجد ووجوده وامتثال أمره يذهب
بموضوع الامر بالقراءة لان موضوعه العاصي للامر بدخول المسجد
والتارك لامتثاله فلو امتثل ولم يعص لم يبقى موضوع للامر بقراءة
القرآن فظهر من جميع ما ذكرنا أن الامرين المتعلقين بما لا يقدر
المكلف على الجمع بينهما ان كانا مطلقين فلا محالة يكون طلبا
للجمع بينهما لان كل واحد منهما مطلوب حتى في ظرف وجود
الاخر و
امتثال أمره فيكون طلبا لغير المقدور والمحال وصدور مثل هذا
الطلب من الحكيم قبيح ومحال ولذلك لو تعلقا بما يمكن جمعهما
يجب على المكلف جمعهما، وأما ان كان أحدهما مطلقا والاخر
مشروطا بعصيان ذلك الامر المطلق ليس طلبا للجمع بل لو كان الجمع
بين متعلقيهما مقدورا للمكلف ليس له أن يجمع بينهما بعنوان
المطلوبية، بل لو فعل ذلك كان تشريعا محرما.
وظهر أيضا مما ذكرنا ان الموجب والمقتضي للجمع هو إطلاق مثل
ذينك الخطابين لا فعليتهما وصرف وجودهما. نعم لو كان
المقتضي للجمع فعلية الامرين لا إطلاقهما لكانت النتيجة سقوط
خطاب المهم رأسا وامتناع الامر الترتبي إذ مبنى الترتب على سقوط
إطلاق الامر بالمهم لا أصله. وهذا الكلام يجري بالنسبة إلى
المتزاحمين المتساويين فإنه لو قلنا أن منشأ التزاحم فعلية الخطابين
فلا بد
وأن نقول بسقوط كلا الخطابين وحدوث خطاب تخييري جديد، ولا
فرق حينئذ بين هذا الخطاب التخييري الجديد وسائر الخطابات
التخييرية، الا أنها ابتدائية وهذا حادث جديد بواسطة التزاحم.
(وأما) لو قلنا بأن منشأه إطلاق الخطابين لا أصلهما فلا وجه حينئذ
لسقوط أصل الخطابين بل لا بد من القول بسقوط إطلاقهما. وذلك
من جهة تمامية الملاك في الطرفين المتزاحمين وليس المانع من تعلق
أصل الطلب بالطرفين بل المانع وهو طلب غير المقدور في
إطلاق الطلبين، فلا يسقط الا إطلاق الطلبين لان الضرورات تتقدر
بقدرها. فالقول - بأن الذي يسقط في المتزاحمين المتساويين هو
إطلاق الطلب لا أصله - مساوق مع القول بصحة الترتب، لأنه لو كان
الامر في المتساويين
331

لكان في غيرهما من المتزاحمين أيضا كذلك وقد تقدم انه مبنى القول
بالترتب ولذلك تعجب شيخنا الأستاذ (قده) مما ذهب إليه
شيخنا الأعظم الأنصاري (ره) في مبحث الخبرين المتعارضين في
فرائده بناء على القول بالسببية من سقوط إطلاق الاخذ بكل واحد من
الخبرين وتقييد وجوب العمل بكل واحد منهما بعدم الاخذ بالآخر لا
سقوط أصل الاخذ بكل واحد منهما وحدوث خطاب تخييري جديد
وهو العمل بهذا أو بذاك ومع ذلك أنكر صحة الترتب وقال انا لا
نعقل الترتب فهو أنكر الترتب من طرف واحد واعترف به من
الطرفين (وبعبارة أخرى) أنكر تقييد الاطلاق من طرف واحد وقبله
من الطرفين.
ولكن الانصاف ان هذا التعجب لا وجه له، لان الخطابين المتعلقين
بالضدين أو بما لا يمكن ان يجمع المكلف بينهما اما مطلقين أو
كلاهما
مقيدين أو يكون أحدهما مطلقا والاخر مشروطا، فان كانا مطلقين فلا
شبهة في أنهما تكليف بالمحال وبما هو غير مقدور فلا بد من
أحد الامرين إما سقوط كلا الخطابين أو تقييدهما على ما تقدم من
المسلكين وان كانا مقيدين - أي كان كل واحد منهما مقيدا بعدم
العمل بالآخر - فليس طلبا للمحال، ولا وجه لان يتوهم ذلك وما
توهم أحد بمثل ذلك، والحاصل انه مع التقييد من الطرفين لا وجه
لاحتمال عدم الامكان. وإنما الكلام في الشق الثالث وهو ان يكون
أحد الخطابين - وهو الخطاب المتعلق بالأهم - مطلقا والاخر - أي
الخطاب المتعلق بالمهم مثلا - مشروطا وانه هل هو من قبيل القسم
الأول كي يكون محالا كما ذهب إليه جمع من المحققين بل هو
المشهور بينهم وذهب إليه شيخنا الأعظم الأنصاري وصاحب الكفاية
(قدهما) أو يكون من قبيل القسم الثاني حتى يكون ممكنا كما
ذهب إليه جمع آخر من الأساطين ومنهم شيخنا الأستاذ (ره) بل هو
الذي نقح هذا المبحث غاية التنقيح، فجزاه الله عن أهل العلم خير
الجزاء.
وعلى أي حال فقياس القسم الثالث بالقسم الثاني لا وجه له لان
إمكانه واضح لا يحتاج إلى ترتيب مقدمات، بخلاف القسم الثالث فإنه
-
على فرض صحته وإمكانه - إثباته
332

يحتاج إلى هذه المقدمات الطولية العريضة، فلو وجد خلل في كلها بل
في بعضها لم يمكن إثباته. نعم ما اختاره شيخنا الأعظم الأنصاري
(ره) - في ذلك القسم من تقييد كلا الاطلاقين لا سقوط أصل
الخطابين وحدوث خطاب تخييري جديد - مما يؤيد صحة الترتب،
بل
يكون من جملة مقدمات إثباته لا أن صرف هذا يكفي فإنه لا بد من
ضم سائر المقدمات إليه حتى ينتج المجموع هذه النتيجة.
(المقدمة الثانية)
- هي أن الواجب المشروط لا يصير مطلقا بعد حصول شرطه في
الخارج بناء على ما تقدم من أن جعل الاحكام على نحو القضايا
الحقيقية
لا الخارجية وان شرائط الاحكام وأسبابها مطلقا - سواء كانت وضعية
أم تكليفية - ترجع إلى قيود الموضوعات، فالاستطاعة التي
يقال أنها شرط لوجوب الحج - في الحقيقة - من قيود موضوع
وجوب الحج أي أنه يجب على الانسان العاقل البالغ المستطيع الحر و
هكذا قولهم إن ملاقاة جسم للنجس أو للمتنجس مع الرطوبة سبب
لنجاسته يرجع إلى أنه من قيود موضوع النجاسة، وهو ان الشارع
حكم بنجاسة الجسم الملاقي للنجس أو المتنجس مع الرطوبة.
(والحاصل) أنه بعد ما تقدم في الواجب المشروط أن شروط الاحكام
ترجع طرا إلى قيود الموضوعات وفرقنا بين علل الجعل وشرائط
المجعول وأيضا قلنا إن العلل الغائية ودواعي الجعل مؤثرات
بوجودها العلمي بخلاف شرائط المجعول فإنها شرائط بوجودها
الخارجي، وبعد ما أثبتنا أن جعل الاحكام على نحو القضايا الحقيقية
لا يبقى مجال لتوهم ان الواجب المشروط بعد حصول شرطه يصير
مطلقا ويخرج عن كونه مشروطا لان هذا الكلام في قوة أن يقال إن
الموضوع المقيد بعد وجود قيده في الخارج يخرج عن كونه مقيدا
ويصير مطلقا (وأنت خبير) بأن هذا خلف، وعلى ما ذكرنا بنينا امتناع
الشرط المتأخر وقلنا إن تأخر الشرط عن الحكم مرجعه إلى
تأخر بعض أجزاء الموضوع وقيوده عن الحكم وهو محال وفائدة
هذه المقدمة هي أن لا يتخيل أحد انه بعد تحقق عصيان الامر بالأهم
الذي هو شرط فعلية الامر بالمهم يصير الامر بالمهم
333

فعليا ومطلقا، لأنه بحصول شرطه وإن كان يصير فعليا ولكن لا يمكن
أن يصير مطلقا لما ذكرنا من لزوم خروج الموضوع المقيد عن
كونه مقيدا وهذا خلف فلا يمكن لمدعي امتناع الترتب أن يقول أن
المهم أيضا بعد حصول شرطه يصير مطلقا ولازمه وجود أمرين
مطلقين بالنسبة إلى ضدين، فيكون من قبيل طلب المحال.
(المقدمة الثالثة)
- في بيان أن زمان فعلية خطاب الأهم وزمان امتثاله وزمان عصيانه
واحد كما أن زمان عصيان الأهم وزمان فعلية خطاب المهم و
زمان امتثال أمره وزمان عصيانه واحد، فينتج أن جميع هذه الستة أي
فعلية خطاب الأهم مع امتثاله وعصيانه مع فعلية خطاب المهم و
امتثاله وعصيانه واحد بحسب الزمان وإن كان بين بعضها تقدم وتأخر
رتبي كتقدم فعلية الخطاب على امتثاله أو عصيانه رتبة و
كتقدم عصيان الأهم على فعلية المهم. أما اتحاد زمان فعلية الخطاب
مع الامتثال فمن جهة أنه بعد ما أثبتنا بطلان الواجب المعلق فلا يمكن
أن يتعلق البعث الفعلي بأمر متأخر، بل لا بد وأن يتعلق بأمر حالي ولا
يجوز تقدم البعث آنا واحدا إذ لو جوزنا ذلك لم يبق فرق بين
طول الزمان وقصره فيمكن أن يكون البعث الان إلى أمر متأخر بعد
مرور سنين. وبعد أن فرغنا من إثبات عدم إمكان كون البعث
فعليا والمبعوث إليه في زمان متأخر فلا بد وأن يكون البعث في زمان
يمكن انبعاث المكلف عنه بحيث لو انبعث عنه عد ممتثلا وإلا
عد عاصيا إذا كان مضيقا ففي كل زمان صار البعث فعليا وكان الواجب
مضيقا ليست له أفراد طولية، فلا بد وأن يتحقق أحد الامرين
إما أن ينبعث المكلف عن ذلك البعث فيكون ذلك امتثالا واما أن لا
ينبعث في ذلك الزمان فيكون عصيانا، واجتماع كلا الامرين و
كذلك ارتفاعهما لا يمكن لأنهما متقابلان متناقضان.
ومما ذكرنا ظهر أن زمان الامتثال وزمان العصيان أيضا واحد، لأنهما
في مرتبة واحدة وكل واحد منهما بدل عن الاخر. وأما في
زمان فعلية الامتثال فلا بد وأن يكون الخطاب موجودا وفعليا وإلا
يلزم أن يكون الانبعاث عن غير بعث
334

والتحرك عن غير تحريك مع أن نسبة الانبعاث إلى البعث نسبة
المعلول إلى علته (وبعبارة أخرى) الامتثال هو إتيان المأمور به و
الانبعاث نحوه عن بعث المولى، فإذا تحقق البعث من قبل المولى و
قلنا بعدم إمكان الواجب المعلق فلا يخلو في نفس زمان تحقق البعث
إما أن ينبعث المكلف نحو المأمور به أولا فالأول امتثال والثاني
عصيان إذا كان الواجب مضيقا وأما لو لم نقل ببطلان الواجب المعلق
فحينئذ وإن كان وجود الخطاب ممكنا مع عدم تحقق الامتثال ولا بد
له أعني العصيان، ولكن العكس أي وجود الامتثال لا يمكن أن
يتحقق بدون وجود الخطاب ففي ظرف وجود الامتثال لا بد وأن
يكون الخطاب موجودا وإلا يلزم أن يكون الانبعاث لا عن بعث، وأما
في الواجب الموسع فتقدم حدوث الخطاب على إمكان الامتثال زمانا
مبني على الواجب المعلق. وأما وجود الخطاب في زمان الامتثال و
أنه بدونه لا يمكن فضروري. وأما العصيان فلا يتحقق فيه إلا بترك آخر
فرد يقدر على إتيانه منه لان ترك سائر الافراد الطولية جائز
إلى بدلها وهو الفرد الأخير الممكن فيمكن في الواجب الموسع أن
يكون إتيان بعض الافراد امتثالا ولا يكون تركه وعدم إتيانه
عصيانا.
فظهر من جميع ما ذكرنا في هذه المقدمة إلى الان أنه لا يمكن أن
يتحقق الامتثال في زمان ولا يكون الخطاب في ذلك الزمان كما أنه لا
يمكن تحقق العصيان في زمان لا يمكن تحقق الامتثال فيه، فكما ان
الامتثال لا يتحقق بدون فعلية الامر فكذلك عصيان أمر أيضا لا
يتحقق بدون فعليته في ذلك الزمان.
(إذا عرفت هذا) فنقول: قد بينا في المقدمة السابقة أن جميع شرائط
الاحكام يرجع إلى قيود موضوعاتها وكذلك ما نسميها بأسبابها،
فبناء على هذا عصيان الأهم الذي يكون شرطا لفعلية المهم يرجع إلى
كونه قيدا لموضوع وجوب المهم ففي الحقيقة موضوع خطاب
المهم يكون معنونا بعنوان أيها العاصي للأهم افعل المهم ففي المثل
المعروف في هذا الباب يكون موضوع وجوب الصلاة أيها العاصي
لأمر الإزالة صل، ولا شك في اتحاد زمان الموضوع مع حكمه وإلا
يلزم الخلف والمناقضة
335

أي كون ما فرضته موضوعا ليس بموضوع والتقدم والتأخر بينهما
رتبي وتكون نسبة الموضوع إلى حكمه نسبة المعلول إلى علته
التامة فبناء على هذا يكون زمان عصيان الأهم الذي هو من قيود
موضوع وجوب المهم مع فعلية خطاب المهم واحدا، لما ذكرنا من
لزوم
اتحاد زمان الحكم مع زمان موضوعه بجميع أجزائه وقيوده. وقد
عرفت أنه في زمان عصيان كل أمر لا بد وأن يكون ذلك الامر فعليا،
فينتج أن زمان فعلية الامر بالأهم والامر بالمهم واحد وهو المطلوب
بل ينتج أن زمان فعلية أمر الأهم وزمان امتثاله وزمان عصيانه
وزمان فعلية أمر المهم وزمان امتثاله وزمان عصيانه كل هذه الأزمنة
الستة واحد.
فيما ذكرناه اتضح الجواب عما أوردوه في المقام من الاشكال على
الترتب، بأن العصيان إما شرط متقدم أو متأخر فان كان شرطا
متقدما فلا بد وأن يتحقق حتى يصير وجوب المهم فعليا ولكن في
ذلك الظرف والزمان يسقط أمر الأهم لان سقوط الامر كما أنه
يحصل بالامتثال كذلك يحصل بالعصيان، وهذا خلاف فرض الامر
الترتبي لان القائل بصحة الامر الترتبي يقول بوجود كلا الامرين أي
الأهم والمهم في زمان واحد ومع ذلك ليس بمحال لأنه ليس طلب
الجمع بين الضدين وان كان شرطا متأخرا فقبل وجوده وإن كان
المهم يصير فعليا مع عدم سقوط أمر الأهم لان العصيان بعد لم يتحقق
إلا أنه يكون حينئذ طلب الجمع بين الضدين، وهو من الحكيم
محال.
وذلك من جهة ان الامر الأهم - حيث لم يتحقق العصيان بعد - يدعو
إلى إيجاد متعلقه أي الإزالة مثلا في المثال المشهور والامر بالمهم
أيضا يدعو إلى إيجاد متعلقه قبل حال العصيان لأن المفروض انه
شرط متأخر فالامر بالأهم قبل تحقق عصيانه يدعو لزوما إلى إيجاد
الإزالة مثلا والامر بالمهم أيضا كذلك قبل عصيان الأهم يدعو لزوما
إلى إيجاد الصلاة مثلا، فهل هذا إلا طلب الضدين الذي هو طلب
المحال؟ فالاشكال وارد على كل حال سواء قلت بأن العصيان شرط
متقدم أو شرط متأخر.
(وقد عرفت) مما ذكرنا أن العصيان شرط مقارن لا متقدم ولا متأخر،
336

ولا يمكن أن يكون أحدهما، لما ذكرنا من رجوع الشروط إلى قيود
الموضوعات ولا يمكن أن يتخلف الحكم عن الموضوع ففي نفس
زمان عصيان الأهم يكون خطابه محفوظا لما تقدم مفصلا فليس
بساقط في زمان العصيان مع أنه شرط مقارن وخطاب المهم أيضا
فعلي في نفس ذلك الزمان أيضا لما تقدم. ومع ذلك ليس طلبا للجمع
بين الضدين نعم هو جمع بين طلبين لا أن الامر أراد الجمع بين
المطلوبين. ولو تنازلنا وقلنا بأنه شرط متأخر مع انا أثبتنا محاليته فلا
يلزم أيضا ذلك المحذور الذي ذكره المستشكل سواء قلنا بأن
واقع العصيان شرط متأخر أو قلنا بأن الشرط هو عنوان التعقب
بالعصيان (اما) لو قلنا بالأول فواضح عدم طلب الجمع، لان شرط
مطلوبية المهم عدم الاتيان بالأهم ولو كان تحقق هذا العدم في الزمان
المتأخر عن فعلية المهم، ولكنه - على كل حال وتقدير - لا بد و
أن يتحقق هذا العدم ومعه كيف يكون طلبا للجمع. و (اما) لو قلنا
بالثاني أي بأن الشرط هو التعقب فذلك العنوان الانتزاعي ولو كان
موجودا قبل تحقق العصيان في الخارج إلا ان انتزاعه في الزمان السابق
فرع وجود منشأ انتزاعه في الزمان اللاحق، فلو لم يعص المكلف
- في الزمان المتأخر - أمر الإزالة مثلا يكشف ذلك عن عدم تعقب
الصلاة مثلا بعصيان الإزالة بل كان توهم التعقب، ففعلية أمر الصلاة
مثلا في المثل المفروض وان كان مشروطا بتعقب الصلاة بترك الإزالة
وعصيان أمرها ولكن تحقق التعقب في الزمان المتقدم منوط
بتحقق العصيان في الزمان المتأخر فحصول شرط المهم - أي التعقب
بالعصيان - لا يجتمع مع عدم العصيان وإتيان الأهم فليس طلبا
للجمع كما توهم بناء على أن يكون نفس العصيان أو التعقب به شرطا
لفعلية المهم، فلو فرضنا ان ما هو موضوع الصحة وما يؤثر في
ملكية الثمن للبائع والمثمن للمشتري هو العقد الصادر عن الفضولي
المتعقب بإجازة المالك لا ان نفس الإجازة الخارجية شرط حتى لا
يمكن الكشف الحقيقي فحينئذ لو حصلت الإجازة في الزمان المتأخر
قلنا بأن العقد المؤثر الصحيح وجد من أول الامر وترتبت آثار
الصحة من ذلك الزمان على ذلك العقد، فيكون كشفا حقيقيا. واما لو
لم
337

تتحقق الإجازة فهل يمكن لأحد ان يقول بصحة ذلك العقد بمحض ان
عنوان التعقب شرط لا واقع الإجازة، فكما ان صحة العقد بدون
واقع الإجازة - ولو كانت في الزمان المتأخر - غير ممكنة فكذلك في
ما نحن فيه فعلية خطاب المهم بدون واقع العصيان غير ممكنة و
لو كان في الزمان المتأخر فلو لم تجتمع مطلوبية المهم مع عدم
العصيان وعدم ترك متعلق أمر الأهم، فكيف يقول المدعي انه على
هذا
الفرض يكون طلبا للجمع بين الضدين.
ثم إن ما ذكره بعض - من لزوم تقديم الخطاب - ولو آنا ما - على
الانبعاث في الواجب المضيق بمعنى أن الخطاب لا بد وأن يتحقق
قبل
حصول زمان الواجب في الواجب المضيق حتى يمكن الانبعاث من
أول آن من زمان الواجب المضيق وإلا يلزم عدم إمكان الانبعاث من
أول زمانه، لأنه لو وجد الخطاب في أول آن من آنات زمان المضيق
فبعد توجه المكلف إليه ينبعث منه إلى الواجب. ولا شك في أنه
يمضي آن حينئذ حتى يتحقق الانبعاث عن ذلك البعث، فلا يمكن
بعد خروج ذينك الأنين من زمان الواجب المضيق عن دائرة الامتثال
امتثال ذلك الواجب لان الواجب المضيق عبارة عن واجب يكون
وقته بمقدار زمان امتثاله وأدائه فإذا أخرجنا آنين عن ذلك الوقت لما
ذكرنا لا يمكن أداؤه في ذلك المقدار الباقي - مردود.
(أولا) - بأنه لو كان هذا الكلام صحيحا لجرى في الواجب الموسع
أيضا، إذ فيه أيضا يمكن ان يمتثل من أول آن من آنات ذلك الوقت
الموسع بمعنى انه يجوز بل يستحب مؤكدا - إجماعا بل ضرورة -
الشروع في الامتثال من أول آن من آنات ذلك الوقت الموسع
المضروب لذلك الوجوب كالصلوات الخمس اليومية حيث إنها كلها
واجبات موسعة، ويستحب مؤكدا ان يشرع فيها من أول وقتها فيلزم
عليه ان يقول فيها أيضا بتقدم الخطاب آنا ما على زمان الواجب ولا
يكون كلامه وإيراده مختصا بالمضيق مع أنه لا يقول به إلا في
المضيق.
و (ثانيا) - بأن أصل هذا الكلام غير تام، وهذه الدعوى باطلة لأنه لا
دليل
338

على لزوم ان يكون الانبعاث عن بعث سابق عليه زمانا بل ذلك لا
يمكن وقد أثبتنا محاليته وقلنا إن نسبة البعث إلى إمكان الانبعاث
نسبة العلة إلى المعلول. وعليه بنينا إنكار الواجب المعلق بل البعث
في الزمان السابق - كما توهمه المتوهم - اما ان لا يبقى إلى زمان
الانبعاث فيكون الانبعاث لا عن بعث وهو محال. وإما ان يكون باقيا
فيكون وجوده في الزمان السابق لغوا وبلا فائدة. نعم الذي لا بد
من سبقه في الواجب المضيق بل في الواجب الموسع إذا أراد الامتثال
فيه من أول الوقت هو العلم بالخطاب حتى يتهيأ للامتثال من أول
زمان وجود الخطاب، فلو علم المكلف بلزوم الامساك من أول الفجر
وأن هذا الخطاب يصير فعليا أول آن طلوع الفجر، فينبعث منه
إلى الامساك من ذلك الوقت، بل ربما يمسك قبل آن وجود الخطاب
مقدمة للعلم بحصول الامساك من آن أول طلوع الفجر. وثمرة هذه
المقدمة ان الامر بالأهم لا يسقط في ظرف عصيانه الذي هو في زمان
فعلية المهم ففي ظرف فعلية المهم الامر بالأهم أيضا موجود،
فيجتمع الطلبان في الوجود بحسب الزمان فإذا ضممنا هذه المقدمة
إلى المقدمتين السابقتين ينتج ان الطلبين موجودان في زمان واحد
بدون ان يكون الامر مريدا للجمع بين المطلوبين.
(المقدمة الرابعة)
- في أن انحفاظ الخطاب على ثلاثة أقسام: (الأول) - انحفاظه
بواسطة الاطلاق والتقييد اللحاظيين بمعنى أن الحكم الوارد على
طبيعة و
الخطاب المتعلق بها يتحقق بعد ملاحظتها إما مقيدة بقيد من جهة
تقيد الملاك بذلك القيد، واما مرسلة ومطلقة لاطلاق الملاك وعدم
تقيده بقيد (وبعبارة أخرى) الخطاب تابع للملاك فان كان الملاك
مطلقا غير مقيد وجوده في متعلق الخطاب بقيد وخصوصية فالامر
أو الناهي يلاحظ متعلق خطابه أو موضوعه مطلقا ومرسلا ان أمكن
لحاظه كذلك، واما ان كان وجود الملاك فيه مقيدا بقيد فلا محالة
يلاحظ المتعلق أو الموضوع مقيدا بذلك القيد ان أمكن لحاظه كذلك.
واما ان لم يمكن لحاظ موضوع الخطاب مقيدا فيما إذا كان الملاك
مقيدا أو لم يمكن لحاظه مطلقا فيما إذا كان الملاك مطلقا فلا بد
339

من حفظ الخطاب حينئذ بنتيجة الاطلاق أو نتيجة التقييد، وذلك في
الانقسامات الثانوية وهي عبارة عن الانقسامات الواردة على
الطبيعة بعد ورود الخطاب عليها وبملاحظته.
(الثاني) - انحفاظ الخطاب بواسطة نتيجة الاطلاق أو نتيجة التقييد
بمعنى ان الخطاب وارد على الطبيعة التي لا يمكن تقييدها إن كان
الملاك مقيدا ولا يمكن لحاظها مطلقة ان كان الملاك مطلقا، ولا
يمكن إهمال الملاك بل لا بد وأن يكون اما في الطبيعة المقيدة بقيد
لمدخلية ذلك القيد فيه وإما في المطلقة بالنسبة إلى ذلك القيد لعدم
دخله فيه، فكل قيد أو خصوصية يمكن ان يطرأ على موضوع
التكليف أو متعلقه أو متعلق متعلقه اما له دخل في الملاك أو ليس له
دخل فيه ولا يمكن ارتفاعهما لان كونه دخيلا وعدم كونه دخيلا
متناقضان، فينتج ان الملاك لا يمكن ان يكون مهملا بالنسبة إلى أية
حالة من الحالات الطارئة على الشئ والانقسامات الواردة عليه
فحينئذ لو كان من الانقسامات الأولية وكانت الطبيعة قابلة للاطلاق و
التقييد فيتبع لحاظ الاطلاق والتقييد فيها إطلاق الملاك أو
تقييده. والمراد بقولنا كانت قابلة للاطلاق والتقييد إخراج ما ليس
كذلك ولو كان من الانقسامات الأولية كالتقييد بالوجود والعدم
في المأمور به، فمع انهما من الانقسامات الأولية لان اتصاف فعل
المكلف بأنه موجود أو معدوم. وهذا الانقسام ليس متوقفا على تعلق
الامر به ووروده عليه لا يمكن تقييد المتعلق بهما ولا إطلاقه بالنسبة
إليهما كما سيجئ في القسم الثالث من انحفاظ الخطاب. واما لو
كان من الانقسامات الثانوية أي الانقسامات التي لا ترد على الشئ إلا
بعد تعلق التكليف به وورود الخطاب عليه، فلو كان الملاك مقيدا
بمثل ذلك القيد كما أن ملاك الصلاة مقيد بكون إتيانها بقصد القربة لما
أمكن لحاظ المتعلق مقيدا بهذا القيد، لان هذا القيد وهذا
الانقسام لا يتحقق إلا بعد ورود الامر فكيف يمكن أن يؤخذ في
متعلقه. وقد تقدم تفصيل ذلك في مسألة الشك في التوصلية و
التعبدية
كما أنه لو كان الملاك مطلقا بالنسبة إلى مثل هذا القيد الذي هو
340

من الانقسامات الثانوية لما أمكن لحاظه مطلقا، لان التقابل بين
الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فالاطلاق ممتنع إذا امتنع
التقييد،
لان الاطلاق وإن كان عبارة عن عدم التقييد ولكنه لا بد وأن يكون في
موضوع قابل للتقييد فإذا لم يكن قابلا للتقييد - كما في
الانقسامات الثانوية للمحذور الذي ذكرنا وتقدم تفصيله لم يكن قابلا
للاطلاق أيضا، لان حقيقة الاطلاق اللحاظي عبارة عن ملاحظة
الشئ مرسلا ومقرونا وواجدا لأية خصوصية كانت فلو لم يمكن
لحاظ المتعلق مقرونا بخصوصية لما يلزم من المحذور فلحاظه مرسلا
- بالمعنى الذي ذكرنا أيضا - لا يمكن لعين ذلك الدليل لان لب
الاطلاق اللحاظي هو لحاظ الشئ بحيث يكون موضوعا ومتعلقا
للحكم
مقرونا بتلك الخصوصية أو مقرونا بنقيضها، ولست أقول بأنه في
الاطلاق يجب أن يلاحظ جميع الخصوصيات التي يمكن أن
تتخصص
بها الطبيعة التي تعلق بها الامر وصارت موضوعا له تفصيلا وبعناوينها
الخاصة بل أقول لا مناص في باب الاطلاق اللحاظي ملاحظة
الشئ متساوي الاقدام بالنسبة إلى جميع الحالات والخصوصيات
التي يطلق الحكم بالنسبة إليها بحيث قد يظهر ويأتي به في قالب
التعبير بلفظ سواء كان كذا أو كان كذا (وأنت خبير) بأن الاطلاق بهذا
المعنى يجتمع فيه محذور التقييد بقيد ومحذور التقييد بمقابله
أيضا. (وبعبارة أخرى) الاطلاق اللحاظي بالنسبة إلى كل قيد يكون في
قوة التقييد به وبمقابله، فلو كان محذور في التقييد بشئ وفي
التقييد بمقابله يجتمع كلا المحذورين في الاطلاق بالنسبة إلى ذلك
الشئ وإلى مقابله، وإذا تبين عدم إمكان الاطلاق والتقييد
اللحاظيين في هذا القسم من الانقسامات وقد تبين أن الملاك لا يمكن
أن يكون مهملا، بل إما أن يكون مقيدا أو مطلقا فلا بد من استيفائه
بنتيجة الاطلاق أو نتيجة التقييد بجعل آخر متمم للجعل الأول. وقد
تقدم تفصيل ذلك مفصلا فانحفاظ الخطاب بنتيجة الاطلاق أو نتيجة
التقييد يكون في مورد يكون الملاك مطلقا أو مقيدا والملاك لا محالة
يكون كذلك، ولكن لا يمكن التقييد والاطلاق اللحاظيين لكون
الحالة من الانقسامات الثانوية.
341

(الثالث) - أن يكون انحفاظ الخطاب في حالة وتقدير لأجل اقتضاء
نفس الخطاب ذلك التقدير وتلك الحالة، فيكون ذلك التقدير و
تلك الحالة من مقتضيات نفس الخطاب وآثاره وذلك مثل فعل
متعلق الخطاب وتركه حيث لا يمكن أن يكون انحفاظ الخطاب
بالاطلاق أو التقييد اللحاظيين بالنسبة إلى مثل هذه الحالة ولا بنتيجة
الاطلاق أو بنتيجة التقييد لان كل ذلك بالنسبة إلى مثل هذه الحالة
غير ممكن، أما التقييد اللحاظي فمن جهة أنه بالنسبة إلى الفعل و
الوجود يصير من قبيل تحصيل الحاصل وبالنسبة إلى الترك يكون من
قبيل طلب النقيضين. هذا إذا كان الطلب أمرا وأما إن كان نهيا فبعكس
ما ذكرنا أي يكون تقييد المتعلق بالترك من قبيل طلب الحاصل
وبالتقييد بالفعل من قبيل طلب النقيضين وإطلاق المتعلق بالاطلاق
اللحاظي بالنسبة إلى هاتين الحالتين مستلزم لكلام المحذورين أي
يكون طلبا للحاصل وللنقيضين جميعا، وذلك لما ذكرنا من أن
الاطلاق بالنسبة إلى قيد ومقابله في قوة تقييدين ومستلزم للمحذور
الذي يترتب على كل واحد منهما فالاطلاق في المقام جامع لكلا
المحذورين.
وقد ظهر مما ذكرنا عدم إمكان التقييد أو الاطلاق بهاتين الحالتين ولو
بجعلين أي بنتيجة الاطلاق ونتيجة التقييد، وذلك من جهة أن
امتناع التقييد والاطلاق في هذا المقام ليس من جهة امتناع لحاظيهما
حتى يتوصل إليهما بجعل آخر ويسمى بنتيجة الاطلاق ونتيجة
التقييد بل من جهة أن التقييد تحصيل الحاصل أو طلب الجمع بين
النقيضين والاطلاق مستلزم للجمع بين المحالين. ومعلوم أن هذه
الأمور من المحالات والممتنعات في حد نفسها لا من ناحية عدم
إمكان الجعل بجعل واحد بل لا يمكن ولو كان بألف جعل فتحقق أن
انحفاظ الخطاب في المقام أي في القسم الثالث لا يمكن أن يكون لا
بالاطلاق والتقييد اللحاظيين، ولا بنتيجتهما بل هاتين الحالتين حيث
أنهما من آثار الخطاب ولا يمكن وجود الأثر بدون وجود المؤثر
حدوثا وبقاء إذ أن الممكن كما أنه محتاج إلى العلة حدوثا كذلك
محتاج إليها بقاء، فلا بد من وجود الخطاب حال وجودهما لان
الامتثال عبارة عن الانبعاث عن بعث المولى فكما أن فعلية الانبعاث
تدريجية
342

كذلك تكون فعلية البعث والعصيان عدم الانبعاث عن البعث، وإلا
فلا معنى للعصيان لان العصيان - الذي يحكم العقل بقبحه و
استحقاق
فاعله للعقاب - هو مخالفة الامر الموجود لا الامر المعدوم. و
الحاصل أنه لا شك في وجود الخطاب وانحفاظه في هاتين الحالتين،
و
أيضا لا شك في أن انحفاظه عند هاتين الحالتين يكون من قبيل
انحفاظ المؤثر حال وجود الأثر. والفرق بين الانحفاظ في هذا القسم و
بينه في القسمين الأولين من جهتين:
(الأولى) - أن نسبة الخطاب في الأولين إلى تقادير الاطلاق والتقييد
نسبة المعلول إلى العلة لان ذلك التقدير الملحوظ بالاطلاق أو
التقييد اللحاظيين أو بنتيجة الاطلاق والتقييد أخذ في موضوع
الخطاب. ومعلوم أن نسبة الموضوع بجميع أجزائه وخصوصياته إلى
الحكم والخطاب نسبة العلة إلى المعلول في تقدمه عليه وعدم
إمكان انفكاكه عنه. وأما نسبة الخطاب في هذا القسم إلى هذين
التقديرين أي فعل المتعلق وتركه نسبة العلة إلى معلولها، لما ذكرنا من
أن هذين التقديرين من آثار الخطاب ومقتضياته.
(الثانية) - أن الخطاب في القسمين الأولين لا تعرض له إلى ذلك
التقدير سواء كان من قيود الموضوع بمعنى المكلف أو كان من قيود
الموضوع بمعنى متعلق المتعلق.
والسر في ذلك أن الموضوع - بكلا المعنيين - لا بد وان يفرض
وجوده حتى تصل النوبة إلى وجود الحكم وتحققه، فوجود الخطاب
و
الحكم في الرتبة المتأخرة عن وجود الموضوع ولا يوجد إلا بعد
وجوده بجميع أجزائه وقيوده فكيف يمكن أن يكون متعرضا لوجوده
أو لعدمه وذلك بخلاف القسم الثالث فان الخطاب في هذا القسم
متعرض لهذين التقديرين فان الامر يتعرض لوجود فعل المتعلق و
ترك تركه، والنهي يتعرض لترك متعلقه ويطرد فعله.
والحاصل أن الخطاب - سواء كان وجوبيا أو تحريميا - يقتضي إيجاد
أحد التقديرين وهدم التقدير الاخر، غاية الامر ان الامر في
الأمر والنهي يكون في
343

كل واحد منهما بعكس الاخر فالتقدير الذي يهدمه في الامر أي ترك
المتعلق يقتضيه في النهي والتقدير الذي يقتضيه في الامر يهدمه في
النهي وهكذا الحال في طرف النهي.
(إذا عرفت ما ذكرنا) فنقول: إن خطاب الأهم في ظرف عصيانه يكون
انحفاظه من القسم الثالث أي يكون انحفاظه من قبيل انحفاظ
المؤثر في ظرف تأثيره، والعلة في ظرف وجود معلوله والمقتضي في
ظرف وجود ما يقتضيه فخطاب الأهم يقتضي إيجاد متعلقه و
امتثاله وإطاعته وأيضا يقتضي ترك عصيانه وهدم عدم إطاعته (و
بعبارة أخرى) خطاب الأهم بمدلوله يقتضي هدم عصيانه الذي هو
من أجزاء موضوع المهم فخطاب الأهم دائما يطرد ويهدم ما هو من
أجزاء موضوع المهم أي عصيان الأهم.
واما خطاب المهم فلا تعرض له لا لعصيان الأهم ولا لعدمه، لأنه
موضوع له والحكم لا يستدعي وجود موضوعه بل بعد ما وجد
الموضوع يوجد الحكم ولا يتخلف عنه.
وكيف يقتضي وجود موضوعه وهو معدوم حين عدم موضوعه و
مما ذكرنا ظهر لك ان هذه المقدمة هي عمدة مقدمات الترتب بل
ينبغي أن تسمى بروح الترتب لأنه بهذه يثبت أمران: (الأول) - طولية
الامرين لان أمر الأهم مقدم على عصيانه، لأنه - كما عرفت في
رتبة علته وعصيانه - مقدم على أمر المهم لأنه من أجزاء موضوعه
فأمر الأهم مقدم على أمر المهم برتبتين. (الثاني) - عدم مزاحمة
أحدهما للآخر إذا كانا بهذا الشكل. وذلك لما ذكرنا من أن أمر الأهم
يهدم موضوع الامر بالمهم ويطرده فلو عمل بمقتضاه لا يبقى
مجال لمجيئه ووجوده حتى يزاحم الأهم، والامر بالمهم يدعو إلى
إيجاد متعلقه بعد وجود موضوعه ولا تعرض له لوجود موضوعه ولا
لعدمه ومزاحمته له انما هي فيما إذا كان له تعرض إلى وجود شرط
موضوعه. وقد تقدم انه لا يمكن ذلك وأيضا ظهر مما ذكرنا ان
مقتضى مثل هذين الخطابين محال أن يكون هو الجمع بين متعلقيهما،
لان مقتضى أحدهما رفع موضوع الاخر وهدمه فتبين أن هذه
المقدمة هي الأصل وأساس الترتب كما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس
سره).
(المقدمة الخامسة)
- في تشخيص الموارد التي يلزم من تعلق الخطابين بأمرين طلب
344

الجمع بين متعلقيهما والموارد التي لا يلزم ذلك فنقول الشرائط التي
يكون الخطاب منوطا بوجودها إما أن لا تكون قابلة للتصرف
الشرعي رفعا ووضعا، واما أن تكون قابلة لذلك. (أما الأول) فلو كان
هناك خطاب آخر متعلق بأمر آخر فلا يمكن أن يكون رافعا
لموضوع الخطاب الأول، لأن المفروض أن شرائط ذلك الخطاب أمور
تكوينية غير قابلة للوضع والرفع التشريعي فلو قال الشارع إذا
انكسفت الشمس أو انخسف القمر صل كذا، وكان هناك خطاب آخر
بإكرام زيد مثلا في تلك الساعة فهذا الخطاب لا يمكن أن يكون
رافعا لموضوع الخطاب الأول لان الكسوف والخسوف غير قابلين
للوضع والرفع التشريعي، كما أنهما لا يمكن للمكلف رفعهما تكوينا
أيضا فمثل هذين الخطابين - الذين أحدهما مطلق والاخر مشروط
بشرط غير قابل للرفع التشريعي - إن لم يكن تضاد بين متعلقيهما
في عالم الوجود وأمكن المكلف الجمع بينهما وجب، والا قيد
إطلاق كل واحد منهما بعدم إيجاد الاخر كما هو الشأن في باب تزاحم
الحكمين ان لم يكن أهم في البين، وإلا تعين الأهم وسقط الخطاب
الاخر بالمرة كما يقول به منكر الترتب أو يقيد إطلاقه بعصيان
خطاب الأهم كما يقول به مثبت الترتب. وعلى كل حال يلزم طلب
الجمع من مثل هذين الخطابين فلا بد وان يعالج لو لم يمكن الجمع
بالتخيير ولم يكن أهم في البين أو بسقوط خطاب المهم رأسا، أو
بتقييده بعصيان الأهم ان كان.
و (اما الثاني) أي ما كان قابلا للرفع التشريعي فاما أن يكون هناك
خطاب آخر رافع لموضوع هذا الخطاب الذي موضوعه قابل للرفع
في عالم التشريع أو لا يكون فان لم يكن مثل هذا الخطاب فيكون حاله
حال القسم الأول بعينه، لان صرف إمكان الرفع لا أثر له ما لم
يكن رفع في البين فيكون أيضا مفاد الخطابين طلب الجمع فان كان
المكلف قادرا على الجمع وجب عليه والا فالتخيير إن كان أحدهما
أهم وإلا فسقوط أمر المهم أو تقييده بعصيان الأهم على القولين كما
تقدم. (وبعبارة أخرى) مجرد كون الموضوع قابلا للرفع
التشريعي لا أثر له في عدم طلب الجمع ما لم يكن الخطاب الاخر
متعرضا لذلك، وهو واضح.
345

ثم إنه لو كان في كلا القسمين رفع الموضوع بمعنى إعدام شرطه
تكوينا بيد المكلف ولكن لم يكن للخطاب الاخر تعرض لرفع
الموضوع كما هو المفروض، لأنه في القسم الأول حسب الفرض ليس
قابلا للتعرض، وفي القسم الثاني وان كان قابلا له لكن لا تعرض
حسب الفرض فلو كان متعلقهما مما لا يمكن للمكلف الجمع بينهما
فيكون تكليفا بالمحال ولا يصح صدوره عن الحكيم بمجرد قدرة
المكلف على إعدام موضوع أحدهما وذلك من جهة عدم جواز
التكليف بالمحال، ولو كان متعلقا على أمر يمكن رفعه وإعدامه فلو
قال
صل مطلقا سواء أزلت النجاسة عن المسجد أم لا، وإن دخلت
المسجد أزل. والمفروض ان الإزالة والصلاة مثلا ضدان لا يقدر
المكلف
على الجمع بينهما فبمحض تعليق الإزالة على أمر يمكن عدم إيجاده
- كدخول المسجد في المثال المفروض - لا يرتفع محذور طلب
الضدين وما هو المحال، أترى أنه يجوز أن يقول إذا دخلت الدار
فاجمع بين الضدين أو النقيضين مثلا؟ (والحاصل) أنه لا فرق في نظر
العقل وحكمه بقبح تكليف ما لا يطاق بين ما إذا كان التكليف مطلقا
أو كان معلقا على أمر يكون وجوده وعدمه تحت اختيار المكلف.
ومما ذكرنا ظهر ان ما نسب إلى أستاذ جملة من أساتيذنا الميرزا الكبير
الشيرازي (قدس سره) - من تصحيح الترتب بأن عصيان الأهم
الذي هو موضوع خطاب المهم تحت اختيار المكلف فيمكن أن لا
يعصي الأهم حتى يقع في محذور لزوم امتثال الضدين والاتيان
بالمحال - ليس كما ينبغي، بل كما أفاد شيخنا الأستاذ (قده) لا ينبغي
أن يظن بصدور مثل هذا الكلام من ذلك الأستاذ العظيم الشأن و
ذلك من جهة أنه لو اعترفنا بأن مفاد الامرين الذين أحدهما مترتب
على عصيان الاخر هو طلب الجمع بين متعلقيهما الذي لا يمكن ولا
يقدر المكلف عليه، فطلب هذا المحال - بصرف أنه معلق على
العصيان الذي هو تحت الاختيار وجودا وعدما - لا يخرج عن كونه
قبيحا
بحكم العقل، بل لا يمكن بناء على ما رجحنا من أن حقيقة الطلب و
الامر هو البعث نحو أحد طرفي الامر المقدور وان جوز أحد ارتكاب
القبيح على الحكيم أو
346

أنكر الحسن والقبح العقليين، بل لا يصح هذا ولو قلنا بمقالة أبي
هاشم بأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار حتى خطابا إذ أن هذا
الكلام وان كان فاسدا في نفسه لكنه مع ذلك غير ما نحن فيه وغير ما
نسب إلى ذلك الرجل العظيم من جهة أن متعلق ما نحن فيه - من
أول الامر وحدوثا - غير مقدور، وأبو هاشم يقول بأن العجز الطارئ
بسوء اختيار المكلف لا يضر ببقاء التكليف فأين أحدهما من
الاخر؟ والمظنون أن نظر السيد الكبير إلى أنه ما دام أمر العصيان بيد
المكلف واختياره وهو موضوع لطلب المهم، فلا يلزم من
اجتماع مثل هذين الطلبين طلب الجمع (وبعبارة أخرى) الجمع بين
الطلبين غير طلب الجمع بين المتعلقين.
و (أما) إن كان هناك خطاب ناظر إلى رفع موضوع هذا الخطاب الذي
يمكن رفعه في عالم التشريع فذلك الخطاب اما أن يكون رافعا
لموضوع الاخر بصرف وجوده وفعليته أو رافعا له بامتثاله لا بصرف
وجوده وفعليته (فالأول) - كما أن موضوع وجوب الحج الذي
هو الاستطاعة يرتفع بصرف وجود الامر بأداء الدين وفعليته ولو
عصى ولم يمتثل، وذلك فيما إذا لم يكن المال وافيا بأداء الدين و
الاستطاعة جميعا ففي هذا القسم لا يجتمع الطلبان والأمران ولا
يصيران فعليين في زمان واحد، فضلا عن أن يكون مفادهما الجمع بين
متعلقيهما وذلك من جهة أن المفروض أنه بوجود أحدهما يرتفع
الاخر. و (الثاني) - وهو مورد بحث الترتب وهو أن يكون أحد
الخطابين بامتثاله رافعا لموضوع الخطاب الاخر من دون أن يكون
الخطاب الاخر رافعا لموضوعه وإلا لو كان الخطاب الاخر أيضا
بامتثاله رافعا لموضوع هذا الخطاب ومعناه تقييد إطلاق كل واحد من
الخطابين بعدم امتثال الاخر حتى يكون الخطاب خطابا
تخييريا، فلا يستشكل فيه أحد. ومعلوم عدم طلب الجمع والمحالية
في مثل ذلك الخطاب بخلاف ما إذا كانت فعلية أحدهما مقيدة
بعصيان الاخر ولكن كان الاخر مطلقا ففيه خلاف عظيم وقد عرفت
أنه أيضا مثل التقييد من الطرفين لا يوجب طلب الجمع بين متعلقي
الأهم والمهم، حتى فيما إذا كان الاتيان بكليهما ممكنا وذلك من
جهة أن موضوع
347

أحدهما عصيان الاخر وفي مثل ذلك محال أن يكون طلبا للجمع. ثم
إن هاهنا فروعا فقهية لا بد ولا مناص للفقيه من الالتزام بها وهي
تنطبق تمام الانطباق على الترتب فلو كان الترتب محالا لما كان وجه
للالتزام بها:
(الأول) - أنه لو حرم قصد الإقامة عليه بجهة من الجهات ولكنه عصى
وقصد الإقامة وجب الصوم عليه، لان موضوعه الحاضر أو المسافر
الذي قصد الإقامة فالتكليف بالصوم يكون مترتبا على عصيان حرمة
قصد الإقامة ومقيدا بعدم امتثال تلك الحرمة والخطاب التحريمي
المتعلق بقصد الإقامة مطلق غير مشروط بعدم الاخر فهذا هو عين
الترتب. غاية الامر أنه إن قلنا إن قصد الإقامة قاطع لحكم السفر مع
بقاء موضوعه يكون خطاب وجوب الصوم مترتبا على نفس عصيان
النهي عن الإقامة وإن قلنا انه قاطع للموضوع فخطاب وجوب
الصوم مترتب على عنوان الحاضر الذي هو معلول لعصيان النهي عن
الإقامة. ولا فرق في كونه مترتبا على عصيان الخطاب الاخر بين
أن يكون مترتبا عليه بلا واسطة أو مع الواسطة. ومناط الامكان أو
الامتناع فيهما واحد.
(الثاني) - ترتب وجوب إتمام الصلاة أيضا على عصيان حرمة قصد
الإقامة والكلام فيه عينا مثل الكلام في الصوم من جميع الجهات.
(الثالث) - أنه لو كان قصد الإقامة واجبا عليه بجهة من الجهات فيكون
وجوب القصر عليه مترتبا على عصيان خطاب وجوب قصد
الإقامة وهذا عين الترتب.
والحاصل أنه في هذا القسم من الامرين الفعليين في زمان واحد الذين
يكون أحدهما مطلقا والاخر مشروطا بعصيان ذلك الامر المطلق
مع أن المكلف غير قادر على الجمع بينهما لتضادهما في عالم الوجود
ولو بالنسبة إلى هذا المكلف. يكون أيضا مثل ما إذا كان التقييد
من الطرفين لم يرد الجمع بين المتعلقين حتى يكون تكليفا بالمحال
لوجوه ثلاثة:
(الأول) - أن امتثال المهم متوقف على وجود أمره وفعليته وهو
متوقف
348

على تحقق موضوعه الذي هو عصيان الأهم وعدم إتيان متعلقه، و
الامر بالأهم في تلك الرتبة أي رتبة عصيان الأهم ولو كان موجودا و
لكن لا دعوة له الا إلى هدم موضوع المهم وليست دعوته إلى إيجاد
متعلقه مع حفظ هذا التقدير أي عصيانه وعدم إتيان متعلقه لأنا قلنا
ان انحفاظ الطلب في هذه الرتبة وعلى هذا التقدير ليس بالاطلاق
اللحاظي ولا بنتيجة الاطلاق، بل باقتضاء ذاته قلب هذا التقدير و
هدمه فحينئذ مثل هذين الامرين محال أن يكون طلبا للجمع ولذلك
قلنا ان المقدمة الرابعة هي الأساس المهم في إثبات الترتب بل هي
روح الترتب بل لا مقدمة للترتب الا تلك المقدمة لان باقي المقدمات
أمور واقعية ومبان علمية أي المقدمة الثانية والثالثة، سواء قلنا
بالترتب أو لم نقل. وأما المقدمة الأولى فهي أشبه بتحرير محل النزاع،
كما أن الخامسة أشبه بالنتيجة من كونها مقدمة فالمقدمة الرابعة
هي التي عليها يبتنى الترتب (وحاصلها) أن أمر المهم لا يدعو إلى
إيجاد متعلقه الا في ظرف عدم الاتيان بالمأمور به في جانب الأهم، و
عصيان أمره وأمر الأهم في ذلك الظرف لا يدعو إلا إلى هدم موضوع
المهم، فمحال أن يكون المطلوب فيهما الجمع بين المتعلقين.
(الثاني) - البرهان المنطقي على عدم إرادة الجمع وعدم طلبه وذلك
بتشكيل قضية منفصلة مانعة الجمع ومعلوم أن القضية المنفصلة
المانعة الجمع ما حكم فيها بتنافي النسبتين جمعا وفي عالم الوجود و
لا شك في تنافي نسبة مطلوبية متعلق المهم مع نسبة صدورية
متعلق الأهم إلى المأمور، وإن شئت عبر عنها بالنسبة التلبسية إلى
الفاعل أي المطلوب منه وهو عبارة أخرى عن الامتثال، فينتج أن
امتثال الأهم مع مطلوبية المهم متنافيان فيصح أن يقال ان المكلف -
بهذين الامرين المترتب أحدهما على عصيان الاخر بطور القضية
المنفصلة المانعة للجمع - اما ممتثل للأهم وإما المهم مطلوب منه.
(الثالث) - الفروع الثلاثة المتقدمة وما يشبهها في تضاعيف الفقه التي
لا مناص للفقيه من الالتزام بها، مع أنها تنطبق على الترتب غاية
الانطباق ومعلوم أن الجمع ليس مطلوبا في تلك الفروع كما هو
واضح.
349

(ان قلت) ان الامر في جانب المهم وإن كان مقيدا وليس في ظرف
امتثال الامر بالأهم إلا أن الامر بالأهم مطلق وموجود في ظرف
امتثال الامر بالمهم ويدعو إلى إيجاد متعلقه، فيكون طلبا للجمع بين
الضدين لأنه لا معنى لطلب الجمع بين الضدين الا كون أمرين في
زمان واحد كل منهما متعلق بأحد الضدين وليس منحصرا في أن
يكون الطلب متعلقا بعنوان الجمع بين الضدين، كان يقول - مثلا -
أجمع بين الإزالة والصلاة في زمان واحد بل إذا كان طلبان فعليان في
زمان واحد متعلقين بضدين فلازم مثل هذين الطلبين هو الجمع
بين متعلقيهما (قلنا) إن جواب هذا الاشكال ظهر مما تقدم مفصلا. و
حاصله أن أمر الأهم وان كان موجودا في ظرف فعلية أمر المهم و
هو ظرف عصيان الأهم: الا أنه لا يدعو إلى إيجاد متعلقه مع حفظ هذا
التقدير بل دعوته تكون إلى هدم هذا التقدير وإعدام موضوع
المهم فمثل هذا الطلب كيف يمكن أن يكون المطلوب منه هو الجمع
بين متعلقه ومتعلق الامر بالمهم.
(ان قلت) إن كل أمر مولوي نفسي - ناشئ عن مصلحة ملزمة و ملاك
في متعلقه - لا بد وأن تكون مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب
بحكم العقل والاحكام العقلية لا تخصص، فبناء عليه لو خالف
المكلف كلا الامرين ولم يأت لا بالأهم ولا بالمهم استحق عقابين مع أن
العقاب لا يصح إلا على ترك الامتثال الممكن لقبح عقاب العاجز و
هاهنا امتثال الامرين غير ممكن، لأن المفروض أنهما ضدين فكيف
يجوز العقاب على تركهما مع أن فعلهما ليس بمقدور له (قلنا) أولا -
نجيب بالنقض وهو ان في الواجب الكفائي وباب تعاقب الأيادي
على المال المغصوب لو خالف الكل بمعنى أنه لم يأت بالمكلف به
جميع المكلفين في الواجب الكفائي ولم يرد المغصوب أحد منهم
عوقبوا كلهم، مع أن جميعهم لا يمكن لهم الامتثال جمعا لعدم قابلية
المأمور به لتعدد الامتثال فليس تعدد العقاب منوطا بتعدد الامتثال و
إمكان الجمع بين امتثالات متعددة و (ثانيا) - بالحل وهو أنه تلاحظ
القدرة على الامتثال بالنسبة إلى كل تكليف مع قطع النظر عن
سائر التكاليف المتوجهة إليه، ولا شك في أن المكلف هاهنا قادر
على
350

امتثال كل واحد من التكليفين مع قطع النظر عن توجه التكليف الاخر
إليه. هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره).
ولكنه عجيب، لأنه بالنسبة إلى جميع الأوامر المتعلقة بالأضداد
عرضا أيضا يمكن امتثال كل واحد منها في حد نفسه ومع قطع النظر
عن سائر التكاليف، فهل يرضى أحد بأن يقول بجواز تعدد العقاب
على ترك الأوامر المتعلقة بالأضداد عرضا وعدم قبحه؟ فالأحسن
أن يقال: حيث أن المطلوب بهذين الامرين على هذا الشكل ليس هو
الجمع بين متعلقيهما، بل كما ذكرنا قضية منفصلة مانعة الجمع بأنه
إما أهدم موضوع المهم أو امتثله فلا يحتاج في استحقاق العقاب إلى
إمكان امتثال الجمع بين المتعلقين، لان الجمع ليس مطلوبا لا بعنوان
الجمع ولا من باب كونه لازم اجتماع الامرين المتعلقين بالضدين في
زمان واحد كما في الامرين العرضيين حيث أن لازمهما هو الجمع
بين المتعلقين في عالم الامتثال (وبعبارة أخرى) لو ألقي إلى المكلف
مثل هذه القضية المنفصلة المانعة الجمع لا مانع لديه من امتثال مثل
هذه القضية، لان الامر لم يطلب الجمع حتى يكون محالا وتكليفا بما
لا يطاق، فالعقاب على مخالفة مثل هذين التكليفين ولو كان متعلقا
بضدين لا مانع منه. (وأعجب من ذلك) أن شيخنا الأستاذ (قده) أفاد
بأنه على فرض تسليم أن العقاب على الجمع لا على عصيان كل واحد
منهما في حد نفسه لا بد أن يكون العقاب على الجمع في الترك لا
على الجمع في الفعل، لان الجمع في الفعل لا عقاب عليه فعدم
إمكان
الجمع في الفعل لا أثر له وماله الأثر هو الجمع في الترك وهو ممكن،
وذلك من جهة ان الاشكال في أن حقيقة العصيان عبارة عن عدم
امتثال أمر فيما إذا كان امتثاله ممكنا، والا يلزم كون العقاب على ترك
ما يكون عاجزا عن فعله وهو قبيح فالمدعي يقول حيث أن
امتثال كلا الامرين لا يمكن لأنهما ضدين فالعقاب على تركهما قبيح و
لا يمكن الجواب عنهما إلا بما ذكرنا.
ثم انه بناء على ما ذكرنا من إمكان الامر الترتبي بالشكل الذي تقدم
تفصيله، فصرف إمكانه يكفي في ثبوته ولا يحتاج إثباته إلى دليل
آخر عدا إمكانه وعدم
351

التكليف بما لا يطاق وذلك من جهة ما بينا من تمامية الملاك في كلا
المتزاحمين وانما يقيد إطلاق الامر بالمهم بعصيان الأهم بواسطة
عدم القدرة على الجمع بينهما، وإلا لو كان يقدر على الجمع مثلا بين
الإزالة والصلاة لكان عليه إتيانهما جميعا بدون تقييد كل واحد
منهما (وبعبارة أخرى) إطلاقات الأدلة كاشفة عن وجود الملاك في
متعلقات الأوامر مطلقا وبينا ان القدرة العقلية غير دخيلة في
الملاك أصلا، فلو كان قادرا على الجمع لوجب ولكن المفروض ان
المكلف عاجز عن الجمع والخطاب مشروط بالقدرة، فلا يمكن أن
يكون الخطاب فيهما مطلقا لان لازمه الجمع وهو غير ممكن فلا بد اما
من تقييد كليهما فينتج نتيجة التخيير، وذلك فيما إذا لم يكن
لأحدهما مرجح في البين أو تقييد خصوص المرجوح فيما إذا كان. و
هذا الأخير هو الترتب فنفس إطلاقات الأدلة الأولية بضميمة إمكان
الامر الترتبي وعدم لزوم محذور منه كاف في إثباته.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قده) ذكر تنبيهات للترتب نذكرها هاهنا:
(التنبيه الأول)
في عدم صحة الترتب فيما إذا كان أحد التكليفين مشروطا بالقدرة
العقلية والاخر بالقدرة الشرعية كما إذا كان عنده مقدار من الماء
يكفي اما للوضوء واما لرفع العطش عمن هو مشرف على الهلاك
بواسطة العطش، أو يدور الامر بين صرفه في الوضوء أو إعطائه
للعيال الواجب النفقة فبناء على أن الوضوء مشروط بالقدرة الشرعية
أي التمكن من الماء المستفاد هذا الاشتراط من اشتراط التيمم
بفقدان الماء وعدم التمكن منه بقرينة المقابلة، وأن التفصيل قاطع
للشركة فلا يجوز فيه الترتب وأن يكون الامر بالوضوء مقيدا
بعصيان أمر الراجح أي الامر بإعطاء الماء للعطشان المشرف على
الهلاك أو للعيال الواجب النفقة، لأنهما مشروطان بالقدرة العقلية و
الوضوء مشروط بالقدرة الشرعية على الفرض. وقد تقدم أن المشروط
بالقدرة العقلية مقدم على المشروط بالقدرة الشرعية. والسر
في عدم مجئ الترتب في هذا القسم هو أن الوضوء - مثلا - يكون
غير مقدور شرعا، لان الممتنع شرعا كالممتنع عقلا فلا
352

يبقى للوضوء ملاك ومصلحة بعد تزاحمه مع الواجب المطلق
المشروط بالقدرة العقلية، فإذا لم يكن له ملاك ومصلحة فعصيان
ذلك الامر
لا يفيد ولا يحدث فيه مصلحة وملاك وقد عرفت أن الامر الترتبي لا
يتعلق بشئ إلا بعد تمامية الملاك فيه (وبعبارة أخرى) الامر
المشروط بالقدرة العقلية كالأمر بإعطاء الماء للعيال الواجب النفقة لا
يبقي قدرة لما هو المشروط بالقدرة الشرعية وحيث أن القدرة
الشرعية دخيلة في الملاك فإذا ذهب بالقدرة يذهب بالملاك أيضا
بصرف فعلية الامر لا بامتثاله، ففي ظرف عصيان ذلك الامر
المشروط بالقدرة العقلية أيضا لا ملاك لما هو المشروط بالقدرة
الشرعية فلا يمكن تعلق أمر به لامتناع وجود الامر بدونه ولو كان
ترتبيا، فلو اعترف شخص بأن الوضوء مشروط بالقدرة الشرعية فليس
له أن يفتي بصحة الوضوء إذا عصى وجوب إعطاء الماء إلى من
هو مشرف على الهلاك من العطش أو عصى إعطاء الماء للعيال
الواجب النفقة وتوضأ لا بالامر الترتبي ولا بالملاك ولذا لم يفت
الشيخ
الأعظم الأنصاري (ره) وهكذا السيد الكبير الميرزا الشيرازي (قده)
بصحة الوضوء في الفرض وليس هذا إلا من جهة ما قلنا من عدم
مجئ الترتب في مثل المقام وعدم وجود الملاك فيه.
(التنبيه الثاني)
عدم صحة الترتب في مسألة الجهر والاخفات بأن يكون الجهر واجبا
مطلقا في الصلوات الجهرية، ويكون الاخفات واجبا على تقدير
عصيان خطاب الجهر وهكذا الاخفات واجبا مطلقا في الصلوات
الاخفاتية وعلى تقدير عصيان هذا الخطاب يكون الجهر أو الاخفات
واجبا، وذلك لوجوه:
(الأول) - لما تقدم من أنه لو كان التضاد بين المتعلقين دائميا بحيث لا
يمكن الاتيان بكلا المتعلقين معا دائما، فالدليلان الدالان على
وجوب كلا الامرين يكونان متعارضين ويجب أن يعامل معهما معاملة
تعارض الدليلين وذلك من جهة أن تشريع الحكمين الذين لا
يمكن اجتماعهما في عالم الوجود دائما لغو، بل لا بد من تشريع
التخيير بينهما
353

لو كان فيهما الملاك وكانا متساويين من هذه الجهة. وأما لو كان ملاك
أحدهما أهم، فلا بد وأن يجعل الحكم على طبق الملاك الأهم و
إلا لو جعل على طبق الملاك غير الأهم يلزم ترجيح المرجوح على
الراجح، ولو جعل التخيير تلزم التسوية بين الراجح والمرجوح ولو لم
يجعل حكم أصلا لزم تفويت كلا الملاكين. ومعلوم أن هذه الثلاثة كلها
قبيحة عقلا فيتعين الأول أي الجعل على طبق الملاك الأهم، فلو
كان مفاد كل واحد من ذينك الدليلين الذين بين متعلقيهما تضاد
بمعنى عدم إمكان اجتماعهما في عالم الوجود دائما وجوب
متعلقهما
مطلقا، فلا محالة يكون مثل هذين الدليلين متعارضين، لعدم إمكان
جعل مفادهما للزوم اللغوية فيكون مثل هذا الجعل - الذي لا يمكن
دائما الا امتثال أحدهما - قبيحا على الحكيم بل كما ذكرنا لو كان
الملاك في كليهما وكان فيهما متساويين، فلا بد وأن يجعل التخيير
وإلا لو كان أحدهما أهم فلا بد وأن يجعل على طبق ذاك الأهم.
(إذا عرفت ذلك) فنقول: إنه لا شك في أن التضاد بين الجهر و
الاخفات في القراءة دائمي، فإذا دل دليل على وجوب الجهر في
القراءة
مطلقا ودل دليل آخر على وجوب الاخفات فيها فيكونان متعارضين،
فلو أحرزنا فيهما الملاك وكان متساويا فيهما فلا بد من جعل
التخيير بينهما، وإن كان أحدهما أهم فلا بد من الجعل على طبق الأهم
فيكون من باب تزاحم الملاكين لا تزاحم الحكمين والترتب لا
يجري إلا في مورد تزاحم الحكمين (وبعبارة أخرى) في مورد تزاحم
الحكمين أي بعد الفراغ عن جعلهما وعدم لزوم محذور من قبل
جعلهما من اللغوية وغيرها فان كانا متساويين من ناحية الملاك فيقيد
إطلاق كل واحد منهما بعدم الاخر، فينتج نتيجة التخيير وإن
كان أحدهما أهم فيقيد إطلاق المهم بعدم الاتيان بالأهم. وأما فيما
نحن فيه فلا يمكن جعل حكمين للزوم اللغوية، فليس موردا للخطاب
الترتبي أصلا.
(إن قلت) أي مانع من أن يكون خطاب وجوب الجهر مثلا في
الصلوات الجهرية مطلقا، لكون مصلحة الجهر في نظر الشارع أهم و
هكذا
خطاب وجوب الاخفات في الصلوات الاخفاتية ويكون خطاب
وجوب الاخفات في الصلوات الجهرية
354

وخطاب وجوب الجهر في الصلوات الاخفاتية مقيدا بعصيان ذلك
الخطاب المطلق الأهم من جهة حدوث المصلحة في حال عصيان
خطاب
الأهم أو كونه ذا مصلحة من أول الامر ولكن لم يجعل وجوبه في
عرض الأهم لعدم قدرة المكلف على الجمع وإدراك كلا الملاكين و
عدم كون مصلحته بمقدار مصلحة الأهم، لا أنه هناك خطابان مطلقان
مفاد أحدهما لزوم الجهر في القراءة ومفاد الاخر وجوب الاخفات
فيها حتى يقال بأن هذين الخطابين متعارضان، لعدم إمكان جعلهما
للزوم اللغوية وهو على الحكيم قبيح ومحال.
(قلنا): بعد ما علمنا أن ما هو المجعول صلاة واحدة في كل يوم، و
تلك الصلاة اما جهرية واما إخفاتية وليس المجعول كليهما في صلاة
واحدة في يوم واحد فالدليلان على فرض وجودهما يكونان
متعارضين نعم لو علمنا بجعل ترتبي بأن يصرح بأنه أجهر في صلاتك
و
إن لم تجهر فأخفت مثلا يمكن مثل هذا الجعل في حد نفسه لولا
الموانع الاخر التي سنذكرها إن شاء الله تعالى.
(الثاني) - أن الجهر والاخفات في القراءة من الضدين الذين لا ثالث
لهما أو هما من قبيل العدم والملكة إذا قلنا بأن الاخفات عبارة عن
عدم ارتفاع الصوت بحيث يسمع وعلى كل حال عدم أحدهما إما
عين الاخر أو ملازم لوجود الاخر، وفي مثل هذا لا يمكن الترتب
بحيث
يكون عدم أحدهما شرطا وموضوعا للامر بالآخر، لان في ذلك
الظرف يكون الاخر حاصلا لما ذكرنا من الملازمة فيكون طلبه من
قبيل طلب الحاصل. وأما توهم أن إيجاد القراءة الجهرية مع القراءة
الاخفاتية ليس من الضدين الذين لا ثالث لهما بل لهما ثالث وهو عدم
إيجاد القراءة أصلا، فهو خلاف الفرض لان وجوب القراءة في الصلاة
معلوم وليس مشروطا بشرط، وانما الكلام في الجهر بها و
الاخفات كذلك (وبعبارة أخرى) القراءة المفروضة الوجود لقوله عليه
السلام: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) تعلق الامر بالجهر أو
الاخفات فيها، ومعلوم أن عدم أحد الضدين - الذين لا ثالث لهما في
القراءة - ملازم لوجود
355

الاخر أو عينه كما ذكرنا.
(الثالث) - أنه لا بد وأن يؤخذ الجهل في موضوع المهم لان العالم
بوجوب الجهر مثلا في الصلوات الجهرية لا يكفي في حقه الاخفات،
بل
تكون صلاته باطلة، والالتفات إلى الموضوع شرط في فعلية الحكم و
تنجزه. وأما لو لم يكن قابلا للالتفات - كما فيما نحن فيه لأنه
يلزم من وجوده عدمه - فلا يمكن فعلية مثل هذا الامر، وليس قابلا
للداعوية ويكون كأخذ النسيان في موضوع الحكم كما سيجئ
مفصلا ان شاء الله تعالى في باب الاشتغال. وقد ذكر شيخنا الأستاذ
(قده) تقريبا آخر في بيان عدم إمكان الالتفات إلى الموضوع، و
هو أنه لا شك في أن أمر المهم في باب الترتب مشروط بعصيان الأهم.
والعصيان لا يتحقق إلا بعد وصول التكليف إلى المكلف وهو
مناف للجهل لان المراد من الجهل عدم وصول التكليف إلى المكلف
ولو كان عن تقصير فبدون الوصول لا عصيان ومعه لا جهل، فمن
الالتفات إلى أحد الجزئين يلزم ارتفاع الاخر لان الموضوع مركب من
جزين متنافيين وهما عصيان أمر الأهم والجهل به.
(إن قلت): ان الجاهل المقصر في حكم العامد بمعنى أن التكليف
يتنجز عليه ولذلك يعاقب على فعل المحرمات وترك الواجبات ولو
كان جاهلا إذا كان جهله عن تقصير، وإذا كان التكليف منجزا عليه
حتى في حال جهله فيكون تركه عصيانا لأنه لا نعني من العصيان الا
مخالفة التكليف المنجز فلا تنافي بين العصيان والجهل حتى يلزم من
وجود أحدهما عدم الاخر (قلنا): إن التكليف المجهول لا يمكن أن
يكون منجزا مع كونه مجهولا وأما العقاب فهو على ترك التعلم عند
أدائه إلى مخالفة الواقع، وذلك من جهة أن التعلم - عند شيخنا
الأستاذ (قده) - واجب نفسي عن ملاك نفس الواقع ويكون من قبيل
متمم الجعل. وتفصيله في محله.
والحاصل أن تنجز التكليف عند شيخنا الأستاذ (قده) الذي يكون
تركه ومخالفته عصيانا يكون اما بالعلم التفصيلي أو بالأمارة
المعتبرة أو بالأصل المعتبر ولو كان
356

أصلا غير تنزيلي أو بالعلم الاجمالي، فبناء على هذا تكون أصالة
الاحتياط في الشبهة الموضوعية في باب الفروج والدماء أو في
الشبهة
التحريمية الحكمية - كما عند الأخباريين لو قلنا به - أيضا منجزة
للتكليف، وتكون مخالفة التكليف الواقعي مع قيام أصالة الاحتياط
على لزوم مراعاته عصيانا فهو (قدس سره) يقول إن مخالفة التكليف
الواقعي بمعنى ترك الواجب الواقعي وفعل الحرام الواقعي ليس
عصيانا في موردين: (أحدهما) في كل مورد تجري البراءة فيه، سوأ
كان من الشبهات الحكمية أو الموضوعية (ثانيهما) - الشبهات
البدوية قبل الفحص فإنه وان كان يعاقب في هذا الظرف على مخالفة
الواقع الا أن تلك المخالفة ليست بعصيان بل العقاب على ترك
التعلم كما ذكرنا.
وفيه أن احتمال التكليف منجز قبل الفحص بحكم العقل فتكون
مخالفته عصيانا، فظهر من مجموع ما ذكرنا أن تصحيح عمل من
أخفت
في الصلوات الجهرية أو جهر في الصلوات الاخفاتية - مع كونه معاقبا
على ترك الجهر في الجهرية والاخفات في الاخفاتية بالترتب كما
ذهب إليه كاشف الغطاء رضوان الله تعالى عليه - ليس كما ينبغي.
(التنبيه الثالث)
في أن الترتب كما أنه يجري في المضيقين بناء على إمكانه كما أثبتناه و
رفعنا عنه المحاذير المتوهمة كإنقاذ الغريقين الذين لو أنقذ
هذا يغرق ذاك وبالعكس، كذلك يجري في ما إذا كان المهم موسعا
فلو احتاجت صحة العبادة إلى الامر وكان في أول الوقت مثلا دخل
المسجد للصلاة فرأى نجاسة فيه، فوجوب إزالة النجاسة من حيث أنه
مضيق مقدم على وجوب الصلاة لأنه موسع كما تقدم في مرجحات
باب التزاحم فحينئذ لو قلنا بصحة الترتب وإمكانه تكون الصلاة أيضا
مأمورا بها في ظرف عصيان الإزالة فلو قلنا باحتياج صحة
العبادة إلى الامر وعدم كفاية الملاك، لكان لها الامر الترتبي أيضا. نعم
بناء على مقالة المحقق الثاني من أن الطبيعة في الواجب الموسع
مقدورة ولو ببعض وجوداتها وهي الافراد الطولية التي لا تزاحم
المضيق. وهذا المقدار من مقدوريتها كاف في تعلق الامر بها، وحينئذ
انطباق الطبيعة المأمور بها على ذلك الفرد
357

قهري والاجزاء عقلي فلا يحتاج إلى الامر الترتبي بل لو قلنا بمحالية
الامر الترتبي أيضا يكفي في صحتها الامر المتعلق بنفس الطبيعة.
وقد تقدم جواب ذلك مفصلا وأن متعلق الامر لا محالة يتقيد بالقدرة
إما من جهة حكم العقل أو من جهة اقتضاء نفس الخطاب وعلى كل
حال لا تنطبق الطبيعة المقيدة بالقدرة على الفرد غير المقدور، لان
واجد القيد لا ينطبق على فاقده وإلا لزم اجتماع النقيضين. هذا
مضافا إلى أنه - بناء على إنكار الواجب المعلق - الطبيعة غير مقدورة
بجميع أفرادها الطولية أيضا في ذلك الزمان أي زمان المزاحمة
مع الأهم.
(التنبيه الرابع)
في أنه ربما يستشكل في جريان الخطاب الترتبي فيما إذا كان متعلق
الامر المترتب والمترتب عليه تدريجي الوجود باستلزامه للشرط
المتأخر الذي أثبتنا محاليته وعدم إمكانه (بيان ذلك) ان الامرين
الطوليين إما أن يكون متعلق كليهما تدريجيا أو يكون متعلق كليهما
آنيا وليس له البقاء أو يكونان مختلفين، ويجري الترتب في ثلاثة
شقوق من هذه الشقوق الأربعة بناء على إمكانه وعدم كونه تكليفا
بما لا يطاق ولا يرد هذا الاشكال أي فيما إذا كان كلاهما آنيا أو كان
أحدهما كذلك وذلك من جهة انه لو كان كلاهما آنيين، فعصيان
الأهم منهما موضوع لفعلية المهم. وقد ذكرنا في بعض مقدمات
الترتب مقارنتهما واتحادهما بحسب الزمان فلا يلزم محذور الشرط
المتأخر ولو كان المهم آنيا فالشرط هو عصيان الأهم في الان الأول
المقارن لفعلية المهم كما تقدم، فلا يلزم أيضا ذلك المحذور ولو
كان الأهم آنيا دون المهم فعصيان الأهم في ذلك الان المقارن لفعلية
المهم فيه شرط لها. وبعد ذلك الان يسقط أمر الأهم ويصير
وجوب المهم بلا مزاحم وهذا فيما إذا لم يكن الأهم واجبا موسعا أي
له بقاء واستمرار وإلا لو كان كذلك فعصيانه في الان الأول
المتعقب بعصياناته في جميع أزمنة امتثال المهم شرط لفعلية وجوب
المهم، فيجري الاشكال الذي ذكرناه في القسم الرابع وهو ما إذا
كان كلاهما تدريجيين. وحاصل الاشكال ان عصيان الأهم في الان
الأول الذي يكون
358

أقل من زمان امتثال المهم لا يكفي في فعلية المهم لأنه في أي وقت له
ان يرجع إلى الأهم ويعدم موضوع المهم، وبقاء أمر المهم إلى آخر
زمان امتثاله منوط ببقاء موضوعه فلا بد وأن يكون موضوعه عصيان
الأهم في جميع أزمنة امتثال المهم ففعلية وجوب المهم في أول
أزمنة امتثاله منوط بعصيان الأهم حتى في آخر أزمنة امتثال المهم و
هذا هو الشرط المتأخر لو كان الشرط هو نفس العصيان المتأخر
كما هو مقتضى تقييد إطلاق الامر بالمهم وكون الواجب المهم
ارتباطيا.
(إن قلت) لم لا يكون الشرط هو العصيان في الان الأول المتعقب
بعصيانات الأهم في جميع أزمنة امتثال المهم حتى لا يلزم هذا
المحذور؟
(قلت): هذا الفرض وإن كان يرتفع به محذور الشرط المتأخر، ولكنه
يحتاج إلى دليل في مقام الاثبات ولا يكفي - في إثبات كون
التعقب شرطا - حكم العقل بارتفاع محذور الامر الترتبي بتقييد
إطلاقه بعصيان أمر الأهم. نعم لو كان دليل بالخصوص في المقام مثلا
بأنك إن لم تزل النجاسة عن المسجد فصل، لكان من الممكن أن يقال
- صونا لكلام الحكيم عن اللغوية بدلالة الاقتضاء - ان الشرط هو
العصيان المتعقب بعصيانات الإزالة مثلا في جميع أزمنة الصلاة و
لكنه ليس في المقام إلا إطلاقات الأدلة التي تشمل مورد تزاحم
المتعلقين.
(وأنت خبير) بأن هذا الاشكال لا يختص بالامر الترتبي بل يرد على
كل أمر يكون متعلقه تدريجي الوجود، وذلك من جهة أن فعلية
التكليف بالجز الأول من الواجب الارتباطي منوط بوجود القدرة على
المجموع حتى على الجز الأخير، فلو كانت القدرة المتأخرة
بوجودها الخارجي شرطا لفعلية التكليف في الزمان المتقدم يلزم منه
الشرط المتأخر وهو محال فلا مناص من كون عنوان التعقب
شرطا حتى تكون القدرة على الجز الأول المتعقب بالقدرة على
الاجزاء المتأخرة شرطا حاصلا بالفعل، كي يرتفع محذور الشرط
المتأخر فيجب الالتزام لدفع هذا المحذور بشرطية عنوان التعقب في
جميع الواجبات التدريجية سواء قلنا بالترتب أم لم نقل وذلك من
جهة اشتراط
359

كل تكليف بالقدرة اما من جهة اقتضاء ذات الامر ذلك وإما من جهة
حكم العقل بقبح تكليف العاجز، فاشتراط كل تكليف تدريجي
بعنوان التعقب من جهة تحصيل القدرة الفعلية في أول زمان الواجب
لان القدرة - على إتيان الجز الأول المتعقب بالقدرة على سائر
الاجزاء بالفعل - موجودة في أول زمان الامتثال للواجب التدريجي و
في الامر الترتبي اشتراط المهم بعصيان الأهم ليس إلا من جهة
القدرة لعجز المكلف عن إتيان المهم في غير هذا التقدير، فاشتراط
المهم بعصيان الأهم في أن أول امتثال المهم المتعقب بعصيانه في
جميع أزمنة امتثال المهم ليس شيئا غير ما هو الذي يكون في جميع
الواجبات التدريجية أي فعلية القدرة بواسطة الاشتراط بعنوان
التعقب وهذا لا بد منه في جميع الواجبات التدريجية. ثم إنه بعد
الشروع في المهم في ظرف عصيان الأهم في أول أزمنة امتثال المهم
ربما يوجد موضوع حكم آخر في طرف المهم يزاحم الأهم لمساواته
معه، أو لرجحانه عليه فلو كان مساويا له في الملاك أو من جهة
أخرى فيكون المكلف مخيرا بين الاشتغال بالمهم وبين رفع اليد عنه
والاشتغال بالأهم ولو كان راجحا يتعين عليه الاشتغال بما كان
مهما والآن صار أهم فينقلب موضوع الترتب في هذا الفرض، فيكون
وجوب الاشتغال بما كان أهم مترتبا على عصيان خطاب ما كان
مهما وذلك مثل الصلاة في الوقت الموسع مع الإزالة التي تكون واجبا
فوريا فتكون الإزالة مقدمة لأجل فوريتها وتضيقه عليها فيكون
وجوب الصلاة مشروطا بعصيان الإزالة، ولكنه بعد الشروع فيها
يتحقق موضوع حكم آخر وهو حرمة الابطال فيزاحم هذا الحكم
وجوب الإزالة لأنه كما يكون وجوب الإزالة مضيقا وفوريا، كذلك
تكون حرمة الابطال ووجوب الاستمرار في الصلاة أيضا مضيقا و
فوريا فلا رجحان لأحدهما على الاخر من هذه الجهة أي من جهة
التوسعة والتضييق فلا بد من الرجوع إلى ملاكهما وأن أيهما أهم فيقدم
أو هما متساويان من هذه الجهة أيضا فيكون الحكم التخيير. ولذلك
ربما ينعكس الامر من حيث الترتب حدوثا وبقاء فمن حيث
الحدوث مثلا تكون الصلاة مترتبة على عصيان الإزالة، ومن
360

حيث البقاء تكون الإزالة مترتبة على عصيان حرمة الابطال إذا كان أهم
ملاكا من الإزالة بعد أن كان كلاهما فوريين ومضيقين.
ثم إن هاهنا فرعا زعم صاحب الفصول (ره) جريان الترتب فيه، وهو
أنه لو كان هناك ماء مباح له التصرف فيه ولكنه في إناء يكون
استعماله حراما إما من جهة كون الاناء مغصوبا أو من جهة أنه من
ذهب أو فضة، فيكون وجوب الوضوء مشروطا بعصيان النهي عن
الاستعمال كما أن وجوب الصلاة - بناء على صحة الترتب وإمكانه -
مشروطا بعصيان أمر الإزالة فيكون الوضوء صحيحا حتى بناء على
احتياج العبادة إلى الامر. ولكن هذا الزعم ليس بصحيح لان المتوضئ
من مثل ذلك الاناء ان اغترف غرفة كافية لتمام الوضوء فوضوؤه
صحيح لا إشكال فيه لأنه بعد عصيانه بالاغتراف بمثل تلك الغرفة
صار واجدا للماء وحصل موضوع الوضوء.
وأما لو احتاج الوضوء إلى اغترافات متعددة فبعد الاغتراف الأول لا
يصير واجدا للماء، إذ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا لان الاغترافات
المتأخرة كلها أيضا محرمة فبناء على اشتراط الوضوء بالقدرة الشرعية
- كما تقدم وجهه عند الاغتراف الأول - لا ملاك له لان القدرة
الشرعية دخيلة في الملاك ولا قدرة فلا ملاك فلا أمر فلا ترتب، لان
الامر الترتبي لا يكون إلا بعد وجود الملاك في متعلقه ولا يقاس ما
نحن فيه بالصلاة والإزالة لان الصلاة ليس مشروطة بالقدرة الشرعية، و
الملاك فيها موجود وعدم الامر المطلق لعدم القدرة فإذا
تصورنا وجود القدرة بشرط عصيان الأهم فقهرا يكون الامر بهذا
الشرط - أي الامر الترتبي - موجودا. وأما فيما نحن فيه فحيث أنه لا
قدرة شرعا فلا ملاك حتى نقول بالامر الترتبي وأما لو كان استعمال
الكأس والاناء جائزا من جهة تخليص مائه فيما إذا كان الماء
ملكا له ولم يكن وجوده في الاناء بسوء اختياره بل كان قد غصبه
صاحب الاناء - مثلا - أو صبه فيه جهلا بالموضوع أو غفلة فخارج عن
الفرض، ويكون الوضوء صحيحا بلا ريب ولا يحتاج إلى أمر ترتبي
أصلا.
361

(التنبيه الخامس)
في أن الترتب لا يجري في المتزاحمين الطوليين بحسب الزمان، و
ذلك كوجوب القيام في الركعة الأولى وفي الثانية مثلا. والسر في
ذلك - بعد ما بينا سابقا - ان المتزاحمين الطوليين بحسب الزمان إن
لم يكن أحدهما أهم فلا يحكم العقل بالتخيير بل يعين صرف
القدرة في الأول لان الخطاب بالنسبة إلى الأول فعلي والقدرة
موجودة وليس مانع عقلي أو شرعي في البين فقهرا يكون امتثال
الخطاب الأول موجبا لعجز المكلف عن امتثال الخطاب الثاني كما هو
المفروض وأنه لا يقدر على الجمع بينهما بل ليس له إلا القدرة
على امتثال أحدهما لا بعينه، وان كان الثاني أهم فالعقل أو الشرع -
بناء على ما تقدم من باب متمم الجعل - يحكم بحفظ القدرة للواجب
الأهم المتأخر زمان امتثاله عن زمان امتثال الواجب المهم فالترتب
المزعوم اما بأن تكون فعلية أمر الواجب الأول الذي فرضنا المهم
مشروطة بعصيان خطاب الأهم المتأخر زمانا واما بأن تكون مشروطة
بعصيان خطاب احفظ قدرتك للأهم المقارن للمهم في الزمان
(فان كان الأول) يلزم منه - مضافا إلى لزوم الالتزام بالشرط المتأخر
الممتنع لان عصيانه متأخر عن فعلية المهم المفروض وعن
امتثاله أو الالتزام بأن الشرط هو عنوان التعقب بدون دليل في مقام
الاثبات يدل عليه، لان هذا ليس من قبيل اشتراط الخطاب بالقدرة
على جميع أجزائه كما تقدم في التنبيه السابق أيضا - طلب الجمع بين
الضدين لان الذي يزاحم خطاب المهم هو خطاب احفظ قدرتك
المتولد من أهمية ملاك الخطاب الثاني عقلا أو المتمم له شرعا غاية
الامر هاهنا المتمم بالكسر تقدم على المتمم بالفتح بعكس متمم
الجعل في باب قصد القربة وانحفاظ الاحكام الواقعية في ظرف
الجهل. والاشتراط - بعصيان الخطاب الثاني، سواء كان بنحو الشرط
المتأخر أو كان بعنوان التعقب - لا يرفع هذا الخطاب أي خطاب
احفظ قدرتك فالتزاحم وطلب الجمع بين الضدين لا يرتفع بهذا
الاشتراط، مع أن ارتفاع هذين بالاشتراط هو المصحح للترتب و
المخرج له من المحالية إلى الامكان (وإن كان الثاني) أي كانت فعلية
خطاب المهم مشروطة بعصيان خطاب احفظ قدرتك الذي
362

هو خطاب عقلي أو شرعي كما تقدم، فيلزم منه اما طلب الحاصل أو
طلب الممتنع أو كليهما لان عصيان حفظ القدرة لا يمكن الا بصرفها
في شئ وذلك الشئ ان كان إيجاد المهم فيلزم طلب الحاصل وإن
كان شئ آخر غير المهم فيلزم طلب الممتنع لأن المفروض أن
قدرته كانت بذلك المقدار الذي صرفها في ذلك الشئ فيرجع
الاشتراط في الفرض الأول إلى طلب الشئ بشرط وجوده، وفي
الفرض
الثاني إلى طلب الشئ بشرط العجز عن إتيانه وإن كان المراد من
عصيان حفظ القدرة صرفها في أي شئ كان سواء كان هو المهم
المفروض أو فعل وجودي آخر، فيلزم كلا المحذورين لان هذا المطلق
والجامع إما أن ينطبق على نفس المهم فيلزم الأول أي طلب
الحاصل وإما أن ينطبق على شئ آخر غير المهم فيلزم الثاني أي
طلب الممتنع. ومن المعلوم أن كل هذه الفروض محال.
(إن قلت) في جميع موارد الترتب يرد هذا الاشكال حتى في مثل
الإزالة والصلاة فان عدم الإزالة الذي هو شرط الصلاة مثلا اما أن
ينطبق على الصلاة فيلزم طلب الحاصل واما أن ينطبق على فعل آخر
فيلزم طلب الممتنع وإما أن يراد من الشرط الجامع بين الامرين،
فيلزم كلاهما كما ذكرنا في اشتراط عصيان حفظ القدرة طابق النعل
بالنعل (قلت) بين المقامين فرق واضح، لان في اشتراط وجوب
أحد الضدين بعصيان الامر المتعلق بالضد الاخر كوجوب الصلاة
بالنسبة إلى عصيان الإزالة ليس وجود هذا الضد أي الصلاة مثلا من
مصاديق عدم الإزالة ولا من لوازمه بل من مقارناته وهكذا الحال في
جميع الأضداد الوجودية للإزالة أما عدم كونها مصاديق له لان
وجود أضداد الشئ ليست مصاديق لعدم ذلك الشئ لان عدم ذلك
الشئ عدم والوجود لا يمكن أن يكون مصداقا للعدم، ولذلك غير
بعض المحققين تعريف النقيض إلى أنه رفع الشئ أو ما يكون مرفوعا
به. لان الوجود الذي يكون نقيض العدم ليس رفعه بل شئ
يرتفع به العدم. وأما عدم كونها من لوازمه إذ من الممكن أنه عند ترك
الإزالة مثلا لا يصدر منه فعل وجودي أصلا وهذا بخلاف المقام
لان حفظ القدرة عبارة عن عدم إعمالها في شئ، فعصيانه يكون
عبارة عن عدم عدم إعمالها،
363

فيكون الشرط في الحقيقة هو إعمال القدرة في شئ وذلك الشئ اما
أن يكون هو المهم المفروض فيكون طلب الحاصل، واما ان
يكون غيره فيكون طلب الممتنع وإما أن يكون الجامع فيلزم كلا
المحذورين.
(وبعبارة أخرى) كل مفهوم وعنوان وجودي انطبق على الشئ أو
على أحد أضداده الوجودية لا يمكن أن يكون طلب ذلك الشئ
مشروطا بتحقق ذلك العنوان لما ذكرنا من أن شرطيته لو كانت باعتبار
انطباقه على هذا الشئ المطلوب واتحاده معه لكان من قبيل
طلب الحاصل، وإن كان باعتبار انطباقه على أحد أضداده يكون من
قبيل طلب الممتنع وباعتبار الجامع بينهما يكون واجدا لكلا
المحذورين، ولذلك لا يجري الترتب في باب الاجتماع كما سيجئ
بناء على تقديم جانب الحرمة فيقال وجوب الصلاة مثلا مشروط
بعصيان النهي عن الغصب أي بفعل الغصب لان شرطية فعل الغصب
اما باعتبار انطباقه على الصلاة فيلزم طلب الحاصل وإما باعتبار
انطباقه على أحد الأضداد الوجودية لها فيلزم طلب الممتنع واما
باعتبار الجامع بين الامرين فيلزم كلا المحذورين (والسر في ذلك
كله) هو الفرق بين المفهوم العدمي أي العدم لأحد الأضداد حيث لا
ينطبق على واحد من الأضداد أصلا مع المفهوم الوجودي الذي
ينطبق لا
محالة على أحد الأضداد للشئ، ففي القسم الأول المهم المفروض
ليس بمصداق لعدم الأهم ولا بملازم له وفي القسم الثاني يكون
المهم
لا محالة من مصاديق ذلك المفهوم الوجودي أو ينطبق على أحد
أضداده، فتلزم المحاذير المذكورة. نعم في الضدين الذين لا ثالث لهما
يكون عدم أحدهما ملازما لوجود الاخر ولذلك لا يجري فيهما
الترتب لأنه من قبيل تحصيل الحاصل.
(التنبيه السادس)
في جريان الترتب في الحرام الذي وقع مقدمة لواجب يكون فعله أهم
من ترك ذلك الحرام وعدم لزوم محذور عقلي أو شرعي من ذلك
(بيان ذلك) أن مثل تلك المقدمة إما أن تكون سابقة على وجود ذلك
الواجب أو تكون مقارنة له (فالأول)
364

- أي المقدمة السابقة - إما ان يكون الواجب مساويا في الملاك مع
ملاك حرمتها أو يكون أهم واما لو كان ملاك الحرمة أهم فمعلوم أنه
يسقط ذلك الوجوب حينئذ، لان التزاحم يقع بين الحرمة النفسية
لتلك المقدمة مع الوجوب النفسي الذي يكون لذي المقدمة فإذا
كانت
الحرمة أهم يسقط الوجوب واما لو كانا متساويين في الملاك فقال
شيخنا الأستاذ (قده) أيضا بتقديم الحرمة وجعل ذلك من نتائج أن
التخيير في باب تزاحم الحكمين ليس بشرعي، بأن يسقط كلا
الخطابين المتزاحمين المطلقين ويحدث خطاب تخييري من جديد
كسائر
الخطابات التخييرية الشرعية بل العقل اما أن يحكم بسقوط أحد
الخطابين أو تقييد إطلاق أحدهما أو كليهما بناء على عدم إمكان
الترتب
أو إمكانه وأهمية الملاك في أحدهما وعدم أهميته، فالعقل لا يحكم
بجواز ارتكاب هذا الحرام إلا في صورة أهمية ملاك الواجب (و
بعبارة أخرى) لا وجه لسقوط الحرمة الذاتية لو كان الاخر المزاحم
مساويا له في الملاك بل تكون حرمة هذا معجزا مولويا عن إتيان
الواجب لان الممتنع شرعا كالممتنع عقلا: هذا.
و (أنت خبير) بأنه بعد ما كان الملاك في كلا الحكمين متساويا فالعقل
لا يحكم بتعيين أحدهما لأن المفروض ان كل واحد منهما حكم
إلزامي فعلي له ملاك ملزم لا يرضى الشارع بتفويته عند القدرة. ولا
يتوهم أن وجود المقدمة حيث إنه مقدم على وجود ذي المقدمة
فتنجز الحرمة في الرتبة السابقة وفي الزمان السابق لا يبقي مجالا
لتنجز الوجوب وفعليته، لعدم القدرة كما قلنا في المتزاحمين
الطوليين بحسب الزمان إذا لم يكن أهم في البين لأنه (أولا) - صرح
شيخنا الأستاذ (قده) بعدم الفرق في هذا الامر بين المقدمة السابقة و
المقارنة. و (ثانيا) - أن الكلام والفرض في فعلية وجوب ذي المقدمة
في ذلك الظرف والزمان بحيث يحرك المكلف نحو إيجاده ولو
كان بإيجاد مقدماته الوجودية، وعلى كل تقدير لو كان ملاك الواجب
أهم، فلا شك في تقديمه على النهي عن المقدمة وحينئذ فهل يسقط
النهي بالمرة وتصير المقدمة واجبة مطلقا أو يقيد إطلاقه بصورة عدم
الاتيان بذي المقدمة وعصيانه كما
365

هو الصحيح؟ مبني على جريان الترتب وعدم جريانه ولا شك في أن
القول بوجوب مثل تلك المقدمة مطلقا مستنكر لا يساعده العقل و
الاعتبار ولا يمكن القول بأن من يدخل دار الغير - بدون إذن صاحبه
ظلما وعدوانا بقصد التفرج والانس وليس في نيته إنقاذ الغريق
أو إطفاء الحريق أصلا - لم يفعل حراما أصلا بل أتى بالواجب ولعله
لأجل ذلك قال صاحب المعالم (ره) أن المقدمة لا تقع على صفة
الوجوب إلا فيما إذا أراد إتيان ذي المقدمة وقال شيخنا الأعظم
الأنصاري (قدس سره) معروض الوجوب المقدمة بقصد التوصل، و
قال
صاحب الفصول (ره) معروض الوجوب هي المقدمة الموصلة ونحن
صححنا المقام بالترتب بمعنى تقييد إطلاق النهي بصورة عصيان ذي
المقدمة، فيكون فيما إذا لم يأت بذي المقدمة لو أتى بالمقدمة فعل
حراما وينحصر الوجوب قهرا بصورة إتيان المقدمة ولكن بدون
التقييد به حتى ترد الاشكالات التي ترد على القول بالمقدمة الموصلة
بل يرتفع جميع تلك الاشكالات.
نعم يرد على هذا القول إشكالان: (الأول) - اجتماع الوجوب و
الحرمة في شئ واحد مع عدم إمكان اجتماعهما (الثاني) - لزوم
الالتزام
بالشرط المتأخر إن قلنا بأن الحرمة مشروطة بواقع عصيان ذي المقدمة
وقد تقدم امتناعه أو الالتزام بشرطية التعقب مع عدم دليل على
شرطيته، لأنه ليس في المقام إلا إطلاقات أدلة حرمة المقدمة وأدلة
وجوب ذي المقدمة ويتوقف الجواب عن هذين الاشكالين علي بيان
أمرين:
(الأول) - أنه بعد ما تبين أن الامر المقدمي مترشح ومعلول لأمر ذي
المقدمة وليست لمتعلقه مصلحة وانما تكون مطلوبيته لأجل
تحصيل الغرض من الواجب النفسي فيتبع في الاطلاق والاشتراط و
الاهمال وجوب ذي المقدمة بمعنى أن مطلوبيته في ظرف كون
المولى بصدد تحصيل الواجب النفسي، وإلا ففي ظرف اليأس عن
تحصيله وعدم كونه بصدده لا وجوب للمقدمة والا يلزم أن يكون
المعلول أوسع وجودا من علته فلو كان الخطاب النفسي في مرتبة
قاصر الشمول لتلك المرتبة من جهة أن شموله لتلك
366

المرتبة مستلزم للمحال والجمع بين النقيضين فلا يعقل تحريك
الخطاب المقدمي في تلك المرتبة إلى إتيان متعلقه، والا يلزم ما ذكرنا
من أوسعية دائرة وجود المعلول عن دائرة وجود علته. وهذا محال (و
بعبارة أخرى) إذا كان الخطاب النفسي لا يدعو إلى إيجاد متعلقه
في تقدير من التقادير بل يقتضي هدم ذلك التقدير فالخطاب المقدمي
أيضا في تلك المرتبة وعلى ذلك التقدير لا يقتضي إيجاد متعلقه
لما ذكرنا من التبعية، فإذا كان الخطاب النفسي بالنسبة إلى تقدير من
التقادير لا إطلاق له لا بالاطلاق اللحاظي ولا بنتيجة الاطلاق،
فكذلك الخطاب المقدمي ليس له إطلاق بالنسبة إلى ذلك التقدير لا
بالاطلاق اللحاظي ولا بنتيجة الاطلاق وحيث أنه لا ملاك له بل
مطلوبيته لأجل الوصول إلى شئ آخر ولعل هذا مراد صاحب
الحاشية (قده) من قوله بوجوب المقدمة من حيث الايصال أي ليس
لوجوبه
إطلاق بحيث يشمل صورة يأس المولى عن وجود ذي المقدمة و
عدم كونه بصدد تحصيله، فلا يمكن القول بوجوبها حتى في تلك
المرتبة
وتلك الحالة.
(الامر الثاني) - انه تقدم - في المقدمة الخامسة من مقدمات الترتب
- ان انحفاظ الخطاب في حالة عصيانه وعدم إتيان متعلقه لا يمكن
ان يكون بالاطلاق أو التقييد اللحاظيين، ولا بنتيجة الاطلاق والتقييد
بل انحفاظه يكون باقتضاء ذاته هدم ذلك التقدير (وبعبارة
أخرى) كل خطاب بالنسبة إلى أي خطاب آخر يمكن فرضه مطلقا
بالنسبة إلى حالتي عدم إتيان متعلقه وعصيانه، وإتيان متعلقه وعدم
عصيانه إن لم يكن ضدا له ويمكن فرضه مقيدا بإحدى الحالتين و
لكن بالنسبة إلى حالة الوجود لا يمكن إذا كان الخطاب الاخر ضدا له.
واما بالنسبة إلى متعلق نفسه فلا يمكن تقييده لا بحال وجوده، لأنه من
قبيل طلب الحاصل ولا بعدمه لأنه من قبيل الجمع بين النقيضين و
لا إطلاقه لا بالاطلاق اللحاظي ولا بنتيجة الاطلاق للزوم كلا
المحذورين.
(إذا عرفت ذلك) تعرف عدم ورود الاشكال الأول أي اجتماع
الوجوب والحرمة في موضوع واحد، لان ما هو معروض الحرمة هو
دخول دار الغير أو
367

أرضه مثلا بدون إذنه ورضاه المتعقب بعصيان ذلك الواجب الأهم. و
في ذلك الظرف والتقدير أمر الأهم لا يكون محركا نحو متعلقه،
لما ذكرنا من لزوم المحال أعني طلب الجمع بين النقيضين بل أمر
الأهم أي الامر المتعلق بإنقاذ الغريق مثلا في حال عصيانه وعدم
الانقاذ يقتضي بذاته طرد هذا التقدير وهدمه، لا أنه مع حفظ هذا
التقدير يدعو إلى إيجاد متعلقه والامر المقدمي - بالنسبة إلى حالتي
فعل ذي المقدمة وتركه - يكون من قبيل كل أمر بالنسبة إلى حالتي
فعل نفسه وتركه فلا يمكن انحفاظه على ذلك التقدير بمعنى أن
يكون داعيا إلى إيجاد متعلقه مع حفظ ذلك التقدير بل يكون هادما
لذلك التقدير بمعنى أنه يقول بدخول الدار أو أرض الغير وإنقاذ
الغريق وهدم عصيان الانقاذ. وأما مع حفظ عصيان الانقاذ فلا داعوية
لذلك الامر بالنسبة إلى إيجاد متعلقه على ذلك التقدير، وإلا
يلزم أن يكون المعلول أوسع وجودا من علته وذلك محال لان
المعلول شأن من شؤون علته ويكون كالفي من الشئ وهل يمكن
وجود الفي بدون ذي الفي، فالوجوب قهرا ينحصر معروضه في
دخول دار الغير مثلا المتعقب بالانقاذ لا بمعنى التقييد حتى ترد عليه
الاشكالات التي ترد على القول بوجوب المقدمة الموصلة، بل يكون
الوجوب قاصر الشمول بذاته لمورد عصيان خطاب الأهم فمعروض
الوجوب هو الدخول المتعقب بالانقاذ (وإن شئت قلت): إن معروض
الوجوب هو التصرف في مال الغير بدون إذنه ورضاه غير
المتعقب بعصيان الواجب الأهم ومعروض الحرمة هو نفس ذلك
الدخول، ولكنه المتعقب بذلك العصيان فموضوع الوجوب والحرمة
لم
يتحد فارتفع الاشكال الأول. وأما الاشكال الثاني أي لزوم الالتزام
بالشرط المتأخر أو أخذ عنوان التعقب شرطا بدون دليل يدل عليه
ففيه أن الشرط ليس هو واقع العصيان حتى يكون من قبيل الشرط
المتأخر المحال كما تقدم تفصيلا امتناعه، بل الشرط هو عنوان
التعقب والدليل هو حكم العقل وذلك بعد ما تقدم ان وجوب مثل
تلك المقدمة مطلقا أي سواء أتى بالواجب الأهم أو لم يأت به مما لا
يساعده العقل ولا الاعتبار، بل الدخول في دار الغير بقصد التفرج و
الانس
368

بدون أن يكون بصدد الانقاذ مثلا يعد ظلما في نظر العقل والعرف، و
يكون عندهما عدوانا على صاحب المال وبعد ما أثبتنا امتناع
الشرط المتأخر وعدم شمول الوجوب الغيري رتبة عصيان الواجب
الأهم وعدم الاتيان به فالعقل - لا محالة - يحكم بحرمة دخول ملك
الغير بدون إذنه ورضاه المتعقب بعصيان الواجب الأهم الذي هذا
الدخول مقدمة له، ويحكم بوجوب ذلك الدخول غير المتعقب
بذلك
العصيان.
هذا كله في المقدمة السابقة.
وأما المقدمة المقارنة فقد مثل شيخنا الأستاذ (قده) لها بمثال فرضي
وهو عدم أحد الضدين لوجود الضد الاخر، ولا شك في أن عدم
الضد بناء على مقدميته لوجود الضد الاخر - وإن أبطلناها - يكون من
المقدمات المقارنة (وبعبارة أخرى) عدم أحد الضدين كترك
الصلاة مثلا في زمان الإزالة مقدمة وجودية لها لا العدم المتقدم عليها
أو المتأخر عن زمان وجودها، لوضوح عدم كونه في ذينك
الزمانين مقدمة وجودية لها قطعا فبناء على مقدمية عدم أحد الضدين
لوجود الضد الاخر ففي المثل المعروف - بناء على كون الإزالة
أهم لكونها مضيقة ووجوب الإزالة مطلقا - يكون ترك الصلاة واجبا
بالوجوب المقدمي فيكون فعلها حراما فلو كانت الصلاة واجبة
بالوجوب الترتبي يلزم اجتماع الحرمة المقدمية الغيرية مع الوجوب
النفسي الترتبي في موضوع واحد وهي الصلاة. نعم إشكال الشرط
المتأخر لا يرد في هذا القسم لفرض المقارنة بين المقدمة وذي
المقدمة (وان شئت قلت) إن ترك الصلاة حرام نفسي لوجوبها
بالوجوب
الترتبي وواجب مقدمي للإزالة، فاجتمع فيه الوجوب المقدمي و
الحرمة النفسية. وأما إشكال الشرط المتأخر فقد قلنا أنه لا يرد في هذا
القسم أصلا.
والجواب عن إشكال اجتماع الوجوب والحرمة في ترك الصلاة مثلا
هو عين الجواب الذي تقدم في المقدمة السابقة من أن الوجوب
الغيري لترك الصلاة في رتبة عدم عصيان الإزالة والحرمة النفسية
تكون في رتبة العصيان فلا تصادم بينهما ولا يجتمعان. نعم هاهنا
في هذا القسم أي في الضدين بناء على مقدمية عدم كل واحد منهما
لوجود الاخر
369

يرد إشكال آخر على القول بالترتب. والمحقق الرشتي (ره) أنكر
الترتب لأجل هذا الاشكال وأورده على صاحب الحاشية وهو أنه كما
أن الأهم الواجب المطلق متوقف على ترك المهم أي الصلاة مثلا
كذلك المهم الواجب المشروط بناء على القول بالترتب مشروط و
متوقف على ترك الأهم كالازالة مثلا، فترك الإزالة يكون واجبا غيريا و
ذلك لان التوقف من الطرفين، فيكون فعلها حراما غيريا مع
أنه واجب نفسي مطلق فاجتمع فيها الحرمة الغيرية والوجوب النفسي
المطلق ولا يمكن الجواب هاهنا بما أجبنا به في طرف المهم لان
وجوب الإزالة مطلق غير منحصر بحال دون حال، لعدم تقيد موضوعه
بخلاف المهم فان وجوبه حيث كان مقيدا بعصيان الأهم لا يشمل
حال وجوده وامتثاله فالتنافي والتضاد في ظرف الأهم ثابت لا يمكن
رفعه. وأجاب شيخنا الأستاذ (قده) عن هذا الاشكال بأن ترك
الأهم كما أنه مقدمة وجودية بناء على هذا المسلك كذلك مقدمة
وجوبية للمهم وفي كل مورد كانت المقدمة الوجودية مقدمة وجوبية
أيضا لا يمكن ترشح الوجوب عليها من طرف وجوب ذي المقدمة و
ذلك لجهات ثلاث:
(الأولى) - أن رتبة المقدمة الوجوبية رتبة العلة بالنسبة إلى وجوب ذي
المقدمة سواء قلنا بجعل السببية أو الشرطية فيما يكون الحكم
مشروطا به أو قلنا بإرجاعها إلى قيود الموضوع وذلك - بناء على
الأول - واضح وبناء على الثاني أيضا رتبة الموضوع بجميع أجزائه
وقيوده مقدمة على رتبة الحكم وتكون نسبة الحكم إلى موضوعه
نسبة المعلول إلى علته، فالوجوب المتأخر عن وجود المقدمة كيف
يمكن أن يكون علة لوجوبها.
(الثانية) - ان ترك الإزالة مثلا أخذ مفروض الوجود بالنسبة إلى
وجوب المهم كالصلاة مثلا، لأنه من قيود موضوعه فلو عرض عليه
وجوب من ناحية حكمه يلزم تحصيل الحاصل بل أسوء منه لأنه يلزم
تحصيل ما هو حاصل تكوينا تشريعا.
(الثالثة) - أنه يلزم من وجوب مقدمة الوجوب بالوجوب الغيري
وجوب ذي المقدمة قبل زمان وجوبه وذلك من جهة أنه لو كان زمان
المقدمة الوجوبية قبل زمان الواجب
370

كالاستطاعة والحج مثلا، فلا بد أن يتقدم وجوب الحج على زمانه و
موطنه ويحصل قبله في زمان الاستطاعة حتى يترشح عليها منه
وجوب وإلا يلزم تأثير المعدوم في الموجود. ومعلوم أن وجود
الشئ قبل زمانه خلف والمحقق الرشتي (ره) حيث تخيل أن
المحذور
منحصر بالوجه الأخير أجاب عن ذلك بإمكان ذلك بناء على القول
بالتقدير بأن يقدر وجوب ذي المقدمة آنا ما قبل زمانه وموطنه. و
هذا الاشكال الأخير - على فرض صحة الجواب عنه بالتقدير أو
بالواجب المعلق - لا يفيد في أصل المطلب أي في عدم إمكان ترشح
الوجوب من الواجب إلى مقدمته الوجوبية للوجهين الأولين بل ينبغي
أن يعد هذا من البديهيات ولا يليق للباحث الخبير الاصغاء إلى هذه
الكلمات.
(أقول): لو فرضنا عدم استحالة تحصيل الحاصل وطلبه وأغمضنا عن
سائر المحاذير المذكورة فيمكن أن يجاب أيضا عن إشكال
اجتماع الوجوب والحرمة في طرف الأهم بما أجبنا به في طرف
المهم، بأن يقال: إن وجوب الأهم وإن كان مطلقا غير مختص بحال
دون حال، إلا أنه ليس له إطلاق يشمل حال عصيانه وترك إيجاد
متعلقه لا بالاطلاق اللحاظي ولا بنتيجة الاطلاق فالوجوب ليس في
هذه الحالة لأنه طلب الممتنع فهذا مكان فارغ للحرمة أي كون الإزالة
مثلا حراما حال عصيانها وعدم وجودها.
نعم يلزم منه طلب الحاصل، ولكن هو المحذور المتقدم الذي
أغمضنا النظر عنه.
(التنبيه السابع)
في أن الترتب لا يجري في المتزاحمين الذين بينهما تلازم اتفاقي إذ لو
كان بينهما أي بين المتلازمين في الوجود المختلفين في الحكم
تلازم دائمي فيرجع إلى باب التعارض إذ جعل الحكمين الذين لا
يمكن امتثالهما - دائما بل لا مناص في جميع الأوقات إلا من امتثال
أحدهما وعصيان الاخر - لغو وقبيح بل حينئذ ان كان الملاك في
أحدهما أقوى فلا بد من الجعل على طبقه وان كانا متساويين فيكون
المجعول حكما تخييريا.
وعلى كل حال يخرج عن باب التزاحم، لان التزاحم بين الحكمين
يتحقق بعد
371

عن جعلهما وثبوت الملاك لكل واحد منهما، ووجه عدم جريان
الترتب في المفروض هو لزوم طلب الحاصل وذلك من جهة أن
عصيان
كل واحد منهما ملازم لامتثال الاخر ففي ظرف عصيان أحدهما الامر
بالآخر يكون من قبيل طلب الحاصل مثلا لو كان استقبال القبلة
في العراق الأوسط واجبا في وقت مخصوص، واستدبار الجدي
حراما في عين ذلك الوقت فعصيان النهي بإيجاد الاستدبار و
الاستقبال
- في ذلك الظرف - حاصل فيكون طلبه طلب الحاصل. وهكذا الامر
في الطرف الآخر وكذلك الجهر والاخفات فيما إذا كان أحدهما
أهم فوجوب المهم منهما مشروطا بعصيان الأهم من قبيل طلب
الحاصل إذا كان المخاطب هو القارئ لفاتحة الكتاب لا الشخص حتى
تقول بإمكان تركهما جميعا فان القارئ لفاتحة الكتاب مثلا لا بد له من
أحدهما.
(التنبيه الثامن)
في أن الترتب لا يجري في باب الاجتماع بناء على أن التركيب بين
متعلقي الأمر والنهي انضمامي لا اتحادي، لأنه لو كان التركيب بينهما
اتحاديا لخرج من باب التزاحم بل يكون من باب التعارض. والدليلان
الشاملان لمورد الاجتماع بالعموم أو الاطلاق يكونان
متعارضين. والسر في عدم جريان الترتب في ذلك الباب هو أنه بناء
على تغليب جانب النهي لا يمكن أن يقال: إن عصيت النهي أي إن
غصبت مثلا فصل لأن الغصب الذي به يتحقق عصيان النهي عن
الغصب إن كان هو الغصب الذي يوجد في ضمن الصلاة وينطبق
عليها
ففي ذلك الظرف تكون الصلاة موجودة وحاصلة فيكون طلبه طلب
الحاصل، وان كان غصبا آخر غير منطبق على الصلاة فيكون طلبا
للممتنع وإن كان مطلقا يلزم كلا المحذورين.
فقد ظهر مما بينا إلى الان أن الترتب يجري في القسمين من الأقسام
الخمسة التي ذكرنا للتزاحم: (الأول) - فيما إذا كان التزاحم من جهة
التضاد بين متعلقي الحكمين كالازالة والصلاة مثلا (الثاني) - فيما إذا
كان التزاحم من جهة وقوع حرام نفسي مقدمة لواجب أهم
كالتصرف في أرض الغير بدون اذنه، بل مع منعه لانقاذ الغريق
372

وفي ثلاثة أقسام من تلك الأقسام الخمسة لا يجري الامر الترتبي
(الأول) - الطوليين بحسب الزمان (الثاني) - المتزاحمين المتلازمين
وجودا بحيث يكون عصيان أحد الحكمين ملازما لامتثال الاخر، كما
إذا كان الاستقبال واجبا والاستدبار للجدي في العراق حراما حيث
أن عصيان كل واحد من الحكمين ملازم لامتثال الاخر وكما إذا كان
الجهر أو الاخفات أحدهما واجبا أهم فيكون وجوب المهم منهما
مشروطا بعصيان الأهم منهما وهذا أيضا لا يمكن لأجل كونه من قبيل
طلب الحاصل. (الثالث) - باب الاجتماع كما ذكرناه آنفا. ثم إن
أستاذنا المحقق (قده) - بعد ما صدق صحة هذه المقدمات لاستنتاج
الترتب وقال إن ما أفيد في بيان المرام في غاية المتانة - أورد عليه
بأن هذه المقدمات وإن أنتجت صحة الامر بالأهم والمهم في زمان
واحد حتى يكون اجتماع الامرين بالضدين ثابتا في زمان واحد و
لكن هذا المقدار لا يقتضي طولية الامرين واشتراط أحدهما بعصيان
الاخر، بل يمكن استنتاج صحة الترتب مما ذكر مع كون الامرين
عرضيين وان كانت تسميته بالترتب حينئذ لا وجه لها وذلك من جهة
أن عمدة ما يدل على صحة الامر بالمهم في زمان وجود الامر
بالأهم في المقدمة الرابعة من هذه المقدمات وهي أن الامر بالأهم
ليس له إطلاق يشمل حال عصيانه لا بالاطلاق اللحاظي ولا بنتيجة
الاطلاق فلو تعلق أمر بالمهم في تلك الحالة لا يطارده الامر بالأهم ولا
يكون طلبا لما لا يطاق، ولا الجمع بين ضدين وذلك لما تقدم
مفصلا. وهذا المعنى لا يقتضي تقييد موضوع المهم واشتراطه
بعصيان الأهم والشاهد على ذلك أنه في المتزاحمين المتساويين من
حيث
الملاك من دون وجود مرجح لأحدهما في البين يحكم العقل بالتخيير
من دون أن يكون الامر في أحدهما مقيدا بعصيان الاخر بل ذلك
لا يمكن لأنه يلزم منه تأخر كل واحد من الامرين عن الاخر لان تقييد
موضوع كل واحد منهما بعصيان الاخر لازمه تأخر كل واحد من
الامرين عن عصيان الاخر. ومعلوم أن عصيان كل واحد منهما في رتبة
امتثاله لأنهما نقيضان وامتثال كل أمر متأخر عن ذلك الامر
رتبة لان الامر من علل الامتثال ويكون الامتثال عبارة عن الانبعاث عن
ذلك البعث فينتج
373

أن العصيان المتقدم على هذا الامر لأنه موضوعه متأخر عن ذلك الامر
الاخر لأنه في رتبة امتثاله وهكذا الامر بالنسبة إلى الطرف الآخر
ولا شك في أن العقل يأبى عن مثل ذلك بل الصحيح في وجه
التخيير هو أن الطلب والإرادة في كل واحد منهما ناقص متوجه إلى
سائر جهات وجود متعلقه وسد أبواب عدمه من غير ناحية عدمه من
وجود ضده، فإنه أي الطلب لا يتعرض لتلك الجهة فكل واحد من
الامرين لا تعرض له لسد باب عدم متعلقه من ناحية وجود ضده أي
متعلق الاخر ومثل هذين الامرين إذا تعلق كل واحد منهما بأحد
الضدين في زمان واحد لا مطاردة بينهما ولا يكون تكليفا بما لا يطاق
ففي باب الأهم والمهم أيضا لا داعي إلى التقييد واشتراط الامر
بالمهم بعصيان الأهم أو بعدم متعلقه بل يكفي في رفع المطاردة بين
الامرين وعدم كونهما طلبا للجمع بين الضدين أن تكون الإرادة
المتعلقة بالمهم ناقصة بالمعنى الذي ذكرنا لنقصانها وإن لم تكن
مشروطة بعصيان الأهم، فكما أن نقص الإرادة من الطرفين في باب
التخيير كان رافعا للمطاردة بين الطلبين فكذلك النقص من طرف
واحد.
(إن قلت) إن الإرادة المتعلقة بالمهم وإن كانت ناقصة لا تطارد الامر
بالأهم ولكن الإرادة التامة الكاملة المتعلقة بالأهم حيث أنها كاملة
ولا نقص فيها تطارد الامر بالمهم بمعنى أنه في ظرف فعلية أمر المهم
ودعوته إلى إيجاد متعلقه تلك الإرادة الكاملة موجودة ولها
الدعوة إلى إيجاد متعلقه وبالدلالة الالتزامية تدعو إلى عدم الاعتناء
بتلك الإرادة الناقصة. وهذا هو عين المطاردة (قلت) بعد ما تقدم
أن الطلب الناقص لا تعرض له إلى إيجاد متعلقه في ظرف وجود الأهم
فكيف يقتضي الطلب التام طرد مقتضى مثل هذا الطلب الناقص،
إذ لا يقتضي الطلب التام الا إيجاد متعلقه وفي ذلك الظرف لا اقتضاء
للطلب الناقص بالنسبة إلى متعلقه حتى يصادم مقتضى الطلب التام
ولو بالالتزام. والحاصل أن نتيجة كون الطلب تاما هو لزوم الاشتغال
بإتيان متعلقه وطرد انسداد باب عدم المهم من ناحية وجود
ضده أي المهم وقد قلنا إن معنى كون الطلب ناقصا عدم تعرضه لتلك
الجهة فأين المطاردة؟
374

(إذا عرفت ذلك) فنقول إن اللازم بحكم العقل رفع اليد عن ظهور
الطلب في التمامية إذ ذلك المقدار الناقص أي حفظ وجود متعلقه الا
من
ناحية وجود ضده هو القدر المتيقن من الطلب سواء قلنا باشتراطه
بعصيان الأهم لرفع المحال أي طلب الجمع بين الضدين أو قلنا
بنقصان الطلب، فهذا المقدار من النقص شئ لا بد منه (وبعبارة
أخرى) بعد ما كان الطلب المتعلق بالأهم تاما أو ان شئت فسمه مطلقا،
فلا مناص الا من القول بنقصان الطلب في طرف المهم إما من باب
كون الإرادة ناقصة أو من باب التقييد فلا بد من الخروج عن ظهور
الامر في التمامية فتبقى جهة ظهور الامر في عدم الاشتراط والإناطة
تحت الاطلاق ولازمه عدم طولية الطلبين المتعلقين بالضدين بل
كل واحد منهما مطلوب في عرض مطلوبية الاخر غاية الامر مع
تساوي المصلحتين كل واحد منهما ناقص ومع كون أحدهما أهم
فخصوص المهم ناقص نعم حينئذ لا مجال لاطلاق لفظ الترتب على
هذا البحث، لان الامرين - بناء على هذا - عرضيان لا تقدم لأحدهما
على الاخر رتبة.
هذا ما أفاده قدس سره.
وفيه (أولا) - أن اشتراط كل واحد من الامرين في المتزاحمين
المتساويين بعدم إتيان متعلق الاخر لا يلزم منه تقدم الشئ على نفسه
أو
تأخره عن نفسه بحسب المرتبة لأنه لا تأخر لعدم إتيان المتعلق عن
الامر بل يمكن إتيانه وعدم إتيانه سواء كان أمر أو لم يكن.
و (ثانيا) - على فرض أن يكون كل واحد من الامرين مشروطا بعصيان
الاخر لا يلزم ذلك المحذور أصلا لان العصيان وان كان في
مرتبة الامتثال لأنه نقيضه إذ الامتثال هو الانبعاث عن البعث و
العصيان عدمه والامتثال أيضا وان كان متأخرا رتبة عن الامر، لان
الامر من دواعيه وعلله إلا ان ما مع شئ في الرتبة لا يلزم أن يكون
متأخرا عن كل ما يكون ذلك الشئ متأخرا عنه إذ ربما يكون ملاك
التأخر أو التقدم في ذلك الشئ ولا يكون في ما هو معه ففيما نحن
فيه ملاك التأخر في الامتثال
375

موجود وهي معلوليته للامر ولكن ذلك الملاك ليس في العصيان
بمعنى عدم الاتيان بما هو متعلق الامر لا بمعنى مخالفة الامر إذ من
الواضح أن الامر ليس علة لعدم الانبعاث. نعم ما يكون له معية بالزمان
مع شئ يكون متأخرا عن شئ آخر بالزمان فلا بد وأن يكون
هو أيضا متأخرا عن ذلك الشئ بالزمان. وذلك لاتحاد الملاك فيهما
وهو التأخر بالزمان.
و (ثالثا) - لو فرض أن هذا الاشتراط لا يمكن من الطرفين لأجل ذلك
المحذور ولكن لا مانع من الاشتراط من طرف واحد كما هو
المدعى فيما نحن فيه.
و (رابعا) - لا يتصور النقص أو الكمال في الإرادة إلا من حيث الشدة و
الضعف في حقيقتهما، لان الإرادة من الكيفيات النفسانية و
كمالها ونقصها لا يكون إلا بما ذكرنا كما قيل بذلك في الفرق بين
الوجوب والاستحباب وإن أنكرنا كون الفرق بينهما بذلك في
محله. وأما سعة المتعلق وضيقه أو إطلاقه وتقييده فلا ربط له بكمال
الإرادة ونقصها فما يقوله بأن الإرادة تعلقت بالشئ الفلاني
بحيث يريد سد جميع أبواب عدمه إلا باب عدمه من ناحية وجود
ضده الفلاني ان رجع إلى التقييد فهو، وإلا فلا وجه لذلك أصلا لان
العاقل إذا توجه إلى شئ له المصلحة الملزمة فاما أن يريده مطلقا
سواء وجد التقدير الفلاني أو لم يوجد وإما ان لا يريده الا في ظرف
وجود الشئ الفلاني وتحقق ذلك الامر ولو كان هو عصيان أمر آخر
فالأول هو الاطلاق والثاني هو التقييد.
(المقصد الثاني في النواهي)
وفيه مباحث:
(المبحث الأول في مفاد مادة النهي وصيغته)
الظاهر أنه لا فرق بين مادة النهي وصيغته في ظهوره في التحريم، إذا
كان من العالي المستعلي كما ذكرنا هذين القيدين في الأوامر
أيضا وكثرة استعمال مادة النهي في لسان الشرع في المكروهات لا
يوجب صرف هذا الظهور إذا كانت تلك الاستعمالات مع القرينة ثم إن
هيئة النهي موضوعة للنسبة الطلبية العدمية مثل الامر
376

غاية الامر النسبة الطلبية في الامر وجودية وفي النهي عدمية. والقول
- بأن العدم ليس معلولا حتى في مرحلة البقاء، فليس قابلا لان
يكون مطلوبا - مردود بأن ذلك لا ينافي قابليته لوقوعه متعلقا للطلب
والإرادة باعتبار مرحلة البقاء لأنه بعد ما كان قادرا على هدم
هذا العدم بإرادة الفعل فيصح أن يطلب منه إبقاء هذا العدم وعدم
نقضه بإرادة الفعل، ولذلك يقولون في تعريف القدرة هو كونه بحيث
إن شاء فعل وان لم يشأ لم يفعل وإلا فليس عدم إرادة فعل من الافعال
علة لعدمه لعدم العلية والتأثير في الاعدام. وأما القول بأن متعلق
الطلب في النهي هو الكف عن الفعل لأجل أن الطلب لا يتعلق بالترك
والعدم، فقد اتضح جوابه مما ذكرنا من إمكان تعلق الطلب بالترك
بالاعتبار المتقدم.
هذا. وقد ظهر مما ذكرنا أن الفرق بين هيئة الامر وبين هيئة النهي أن
الامر مفاده النسبة الطلبية الوجودية والنهي عبارة عن نسبة
طلبية عدمية فهما مشتركان في بعض المفهوم واما ما ذكره أستاذنا
المحقق (قده) من أن المادة حاكية عن وجود تلك الماهية سوأ
كانت في الجمل الخبرية أو الانشائية والانشائية سواء كانت في
الأوامر أو النواهي فلا بد وأن يكون مفاد النهي معنى قابلا لان يتعلق
بالوجود، وليس هو إلا الزجر والردع كما أنه في الامر يسمى بالبعث
ففيه أن ألفاظ المواد موضوعات للماهيات المهملة غير مأخوذ
فيها لا الوجود ولا العدم فالوجود والعدم لا بد وأن يؤخذ في جانب
مفاد الهيئة. نعم لا شك في أن لازم طلب ترك الشئ هو الزجر و
الردع عنه كما أن لازم طلب وجود الشئ هو البعث والتحريك نحوه،
فلا الامر موضوع للبعث ولا النهي موضوع للزجر والردع لأنهما
معنيان إسميان ومفاد الهيئة معنى حرفي لما تقدم. نعم من الممكن أن
يقال أن هيئة النهي موضوعة للنسبة الزجرية كما أن هيئة الامر
موضوعة للنسبة البعثية وأما تعلق الكراهة والبغض - في باب
المنهيات - بوجود الفعل فمما لا شك فيه ولكن هذا لا يدل على أن
مفاد
النهي بالدلالة المطابقية هو الزجر والردع عن ذلك الوجود، بل كراهة
صدور هذا الفعل وكونه مبغوضا صار سببا لطلب تركه.
377

ثم إن النهي في مقام الثبوت يمكن أن يقع على أنحاء:
(الأول) - أن يتعلق الطلب بنفس عدم الطبيعة مقابل تعلق الامر
بصرف وجودها، غاية الامر الفرق بينهما أن صرف الوجود يتحقق
بوجود واحد، وأما إذا كان المطلوب صرف عدم الطبيعة من دون نظر
إلى خصوصيات الافراد فلا يقع الامتثال إلا بإعدام جميع أفراد
الطبيعة. والسر في ذلك أن وجود الطبيعة يحصل بوجود فرد واحد. و
إما انعدام الطبيعة فبانعدام جميع الافراد، ولذلك لو أتى بفرد
واحد فقد عصى النهي وسقط بالعصيان ولا يمكن بعد ذلك امتثال
مثل هذا النهي.
(وبعبارة أخرى) كما أن للطبيعة وجود سعي جامع بين جميع
الوجودات التي لها كذلك للطبيعة عدم جامع بين جميع أعدامها التي
هي
نقائض لوجوداتها فلو تعلق الطلب بمثل هذا العدم لم يكن امتثاله إلا
بترك جميع وجوداتها.
(إن قلت): في ظرف الوجود أيضا لا يمكن حصول ذلك الوجود
السعي بسعته بوجود فرد واحد، فالقول - بأن وجود الطبيعة بوجود
فرد وعدمها بانعدام جميع الافراد - قول مشهوري لا أساس له (قلنا):
الفرق بين الوجود والعدم أن في طرف الوجود في تلك الكثرات
وحدة سنخية تكون هي المقصود من الجامع.
ولا شك في حصول تلك الوحدة بحصول كل واحد من الافراد (و
بعبارة أخرى) تكون تلك الوحدة في باب الوجود مثل الطبيعة اللا
بشرط في باب المفاهيم، فكما أن اللا بشرط يصدق وينطبق على كل
فرد من أفراد الطبيعة ويكون كل فرد من أفرادها مصداقا حقيقيا
لذلك المعنى العام كذلك ذلك الوجود السعي والواحد السنخي
ينطبق على كل واحد من وجودات تلك الطبيعة. وأما في طرف العدم
فالعدم الجامع عبارة عن مجموع الاعدام بإضافة العدم إلى الطبيعة،
لان مجموعها يصدق عليه أنه عدم الطبيعة وليس هناك شئ واقعي
يكون جامعا بين تلك الاعدام ومنطبقا على كل واحد منها ومحكيا
لمفهوم عدم الطبيعة. نعم الصورة الذهنية - لتلك الاعدام المتكثرة
في الذهن - واحدة إذا أضيفت إلى نفس الطبيعة، فعدم الطبيعة لا
يحصل إلا بانعدام جميع الافراد
378

فظهرت صحة القول المشهور بأن وجود الطبيعة يحصل بوجود فرد
واحد وعدمها بانعدام جميع الافراد.
(الثاني) - أن يتعلق النهي باعتبار سرايته إلى جميع وجودات الطبيعة
بحيث يكون كل فرد من الافراد موضوعا مستقلا للنهي (وبعبارة
أخرى) ينحل النهي المتعلق بالطبيعة إلى نواهي متعددة حسب تعدد
الافراد التي يمكن أن تتحقق لمتعلق النهي أو لمتعلق متعلقه. ولا فرق
- حينئذ - بين الافراد العرضية والطولية، سواء كانت الطولية بحسب
الزمان أو كانت بحسب العلية والمعلولية. وهذا القسم هو المسمى
بالعام الاستغراقي الأصولي الذي يكون لكل فرد امتثال وعصيان
مستقل غير مربوط بالامتثال أو العصيان لسائر الافراد.
(الثالث) - أن يكون النهي وطلب الترك متعلقا بمجموع الافراد بحيث
لو ارتكب بعضها لم يخالف النهي ولم يأت بالمبغوض. نعم
ارتكاب الجميع يكون مبغوضا. وذلك مثل قولهم: لا تأكل كل رمانة
في هذا الاناء، فالمنهي عنه هو أكل الجميع. وأما أكل البعض فلا
محذور فيه أصلا.
(الرابع) - أن يكون النهي متعلقا - في الحقيقة - بعنوان بسيط وصفة
تحصل من ممارسة الفعل المنهي عنه وذلك كعنوان شارب الشاي
الحاصل من ممارسة شربه فيكون المقصود من قوله لا تشرب الشاي
أي لا تكن ممن تعود شربه فلو شرب مقدارا لم يوجب تعوده و
حدوث مثل هذه الصفة فيه ما خالف النهي، فهذه أقسام أربعة في مقام
الثبوت. وأما في مقام الاثبات فحيث أن النهي - بناء على ما هو
الحق عند الإمامية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد -
يكون لا محالة من جهة مفسدة في المتعلق. والظاهر من هذا أن
الطبيعة في ضمن أي فرد وجدت تكون مشتملة على المفسدة إذ لو
كانت المفسدة في فرد من أفرادها أو في صنف من أصنافها كان عليه
البيان، فمن عدم تقييده بفرد أو صنف نستكشف أن المفسدة و
المبغوضية في جميع الافراد ونتيجته أن يكون النهي انحلاليا ومن
قبيل
العام
379

الاستغراقي الأصولي. وأما سائر الأقسام فيحتاج إلى وجود قرينة في
البين. وقد ظهر مما ذكرنا من أن النهي يشمل جميع الافراد
الطولية والعرضية بعد حمله - بحكم الاطلاق - على السريان أن
نتيجة النهي هي الفورية لان النهي يدل على مبغوضية جميع الافراد
من
زمان وجوده لو كان مطلقا.
(المبحث الثاني في اجتماع الأمر والنهي)
والمقصود من هذا البحث هو أنه إذا اجتمع الأمر والنهي في واحد
إيجادا من جهة تعلق الأمر والنهي بعنوانين يكون بينهما عموم من
وجه، ولكنه اجتمع العنوانان في واحد بحسب الايجاد أي يوجد
العنوانان بإيجاد واحد فهل يكون من قبيل اجتماع الضدين حتى لا
يمكن
مثل هذا الجعل والتشريع، فيرجع في مادة الاجتماع إلى كونه من باب
التعارض أو لا يلزم ذلك حتى يكون من باب التزاحم
كالمتلازمين المختلفين في الحكم إذا كان التلازم بينهما اتفاقيا، إذ لو
كان التلازم بين العنوانين دائميا لكان من باب التعارض كما
تقدم (وبعبارة أخرى) النزاع صغروي وهو أنه هل أن المسألة من
صغريات باب التعارض باعتبار اجتماع الضدين في المجمع، لوضوح
التضاد بين الوجوب والحرمة بمعنى منشأ اعتبارهما لا بما هما أمران
اعتباريان. فإذا سرى الامر من متعلقه إلى متعلق النهي أو إلى جز
يسير منه أو سرى النهي من متعلقه ولو إلى جز يسير من متعلق الامر
فيصير من قبيل اجتماع الضدين ولو بالنسبة إلى ذلك الجز
اليسير فيدخل الدليلان في باب التعارض بالعموم من وجه. وأما إذا لم
يسر أحدهما إلى شئ من متعلق الاخر بعد ما كان ملاك كل
واحد من الحكمين في متعلقه تاما فقهرا تدخل المسألة في باب
التزاحم لاختلاف الحكمين ومفاد أحدهما البعث إلى المجمع ومفاد
الاخر
الزجر عنه بعد الفراغ عن جعلهما لوجود الملاك وعدم لزوم محال من
الجعل. ومعلوم أنه لا يمكن امتثال مثل ذينك الحكمين
المتضادين في مجمع واحد وهذا هو التزاحم. نعم يمكن أن يقع نزاع
بعد ذلك - أي بعد أن فرغنا عن المقام الأول وقلنا بعدم سراية كل
واحد من الأمر والنهي إلى متعلق الاخر وعدم
380

لزوم محال من جعل كلا الحكمين بحيث يشمل عمومهما أو إطلاقهما
المجمع - في أن وجود المندوحة هل يكفي لرفع غائلة التزاحم أم لا؟
فهاهنا مقامان:
(المقام الأول)
- في أن تعدد متعلق الأمر والنهي بحسب المفهوم والماهية كاف في
رفع غائلة اجتماع الضدين في المجمع، وان كان العنوانان واحدا
بحسب الايجاد أم لا، وفي هذه المرحلة مسالك القائلين بالجواز
مختلفة فبعضهم يقول به من جهة أن الصورة الذهنية من الطبيعة التي
تعلق بها الامر غير الصورة الذهنية التي تعلق بها النهي، فمعروض كل
واحد منهما غير ما هو معروض الاخر ولا يسري إلى الوجود
الخارجي وإلا يلزم طلب الحاصل في جانب الامر والممتنع في
جانب النهي، وبعضهم يقول به من باب أن الجهتين - المجتمعتين في
المجمع اللتين إحداهما متعلق الامر والأخرى متعلق النهي -
تقييديتان لا تعليليتان بمعنى أن معروض الامر نفس الجهة التي
اجتمعت مع
الجهة الأخرى التي هي متعلق النهي من دون سراية إلى وجود الجهة
الأخرى حتى على القول بسراية الأمر والنهي من الصورة الذهنية
إلى الخارج وكذا الامر في طرف النهي ولكن سيجئ أن هذا المعنى
لا يمكن الا بكون التركيب - بين الجهتين في الخارج - انضماميا و
الا فمع وحدة المجمع وجودا وسراية الحكم من الصورة الذهنية إلى
الخارج لا يعقل أن تكون الجهتان تقييديتين بالمعنى الذي ذكرنا
مضافا إلى أن صرف كون الجهتين تقييديتين مع اجتماع القيدين في
ذات واحدة ووحدة وجود الذات مع كلا القيدين لا ترفع غائلة
اجتماع الضدين في واحد بناء على السراية، فالقائل بالجواز لا بد له
من إثبات أحد الامرين على سبيل منع الخلو إما عدم سراية الحكم
من الصورة الذهنية إلى الخارج أو كون وجود كل واحدة من الجهتين
غير وجود الجهة الأخرى في الخارج، ويكون التركيب بينهما
انضماميا لا اتحاديا.
وأما إشكال أستاذنا المحقق (ره) عليه بأن هذا الفرض خارج عن محل
النزاع إذ لا ينبغي أن يحتمل أحد امتناع تعلق الامر بطبيعة تكون
وجوداتها في الخارج غير وجودات الطبيعة المنهي عنها، وهكذا في
طرف النهي بادعاء لزومه لاجتماع
381

بل يكون هذا الفرض من قبيل المتلازمين في الوجود المختلفين في
الحكم وهذا غير باب الاجتماع أي باب اجتماع الأمر والنهي
بعمومهما أو إطلاقهما في واحد إيجادا ووجودا (ففيه) أولا - أن هذا
الاشكال بعينه يجري في الطرف الآخر أي على المسلك الذي يقول
بأن المجمع له وجود واحد حقيقة، وليست الجهتان فيه منضمتين بل
بينهما تركيب اتحادي بأنه بعد ما قلنا بأن الحكم لا يقف على
الصورة الذهنية بل يكون مرآة للخارج وآلة لملاحظته وأن بين
الوجوب والحرمة تضاد بمعنى عدم إمكان اجتماعهما في متعلق
واحد،
فلا ينبغي النزاع حينئذ في الجواز والامتناع بل يكون الامتناع ضروريا
و (ثانيا) - أنه في باب المتلازمين المختلفين في الحكم ليس
تركيب بين المتلازمين وليسا موجودين بإيجاد ووجود واحد ولا
يكون كل واحد منهما مشخصا للآخر بل يكون كل واحد منهما
منفصلا عن الاخر ويكون موجودا مستقلا غاية الامر لا ينفك وجود
أحدهما عن الاخر وهذا بخلاف باب الاجتماع، فإنه من انضمام
متعلق الامر إلى متعلق النهي يحصل شئ مركب من جهتين تكون كل
واحدة من الجهتين مشخصة للجهة الأخرى، فكما أن الجوهر
يتشخص بالاعراض المنضمة إليه من الكيف الكذائي والكم الكذائي
والوضع الكذائي وهكذا بالنسبة إلى سائر الاعراض وإن كان الحق
أن التشخص بالوجود وهذه الاعراض الخاصة الخارجية أمارات
التشخص فكذلك يمكن أن يكون في مورد اجتماع عرضين و
تركيبهما
تركيبا انضماميا كل واحد منهما مشخصا للآخر بالمعنى الذي ذكرنا
في كون الاعراض مشخصة فيحصل شخص واحد من اجتماع
عرضين ولكن في عين الحال كل واحدة من الجهتين في الخارج غير
الجهة الأخرى، لان التركيب انضمامي لا اتحادي.
(المقام الثاني) - في أنه بعد الفراغ عن المقام الأول وعدم كون
المسألة من صغريات باب التعارض وأنه لا يلزم من اجتماع الامر و
النهي في متعلق واحد اجتماع الضدين ولا أي محال آخر هل يكفي
وجود المندوحة في رفع التزاحم في مقام الامتثال أو لا؟ بأن يقال إن
وجود المندوحة موجب لوجود الامر بالنسبة إلى الطبيعة،
382

لكفاية مقدورية بعض أفراد الطبيعة ووجوداتها لتعلق الامر بها و
حينئذ لو أتى بالمجمع يكون انطباق الطبيعة المأمور بها عليه قهريا
والاجزاء عقليا وهذا هو مقالة المحقق الثاني (قده) وقد تقدم الكلام
فيه في مبحث الترتب، وسيجئ أيضا في البحث في المقام الثاني.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قده) قال بالجواز في المقام الأول وان التركيب
بين متعلقي الأمر والنهي انضمامي لا اتحادي ولا يسري الامر
من متعلقه إلى متعلق النهي وهكذا الحال في طرف النهي ورتب
لاثبات مرامه مقدمات نحن نذكرها بتلخيص واختصار وحذف ما
ليس
بلازم ذكره.
فنقول: أولا - ان هذه المسألة هل هي أصولية أو فقهية أو كلامية أو من
مبادئ الاحكام. أو من المبادئ التصديقية للمسائل الأصولية؟ رجح
شيخنا الأستاذ (قد) كونها من الأخير باعتبار أن البحث في هذه
المسألة في المقام الأول في أنها هل تكون من صغريات باب التعارض
أولا، وفي المقام الثاني في أن التزاحم الذي بينهما في مقام الامتثال
هل يرتفع بوجود المندوحة أولا؟ وحيث أن هذين البابين من
المسائل الأصولية فيكون البحث عن كون شئ من مصاديق
موضوعهما بحثا عن المبادئ التصديقية لتحقق موضوعهما لا
المبادئ
التصديقية لأصل المسألة الأصولية لان المبدأ التصديقي لها عبارة عن
الدليل الذي يستند الأصولي إليه في إثبات محمولات المسألة
لموضوعها. ومعلوم ان هذه المسألة ليست مدركا لاثبات أحكام
التعارض والتزاحم ولكن الحق أن هذه مسألة أصولية، لأنه لو قلنا
بالامتناع وتغليب جانب النهي فيستنبط الفقيه منها فساد العبادة ولو
في حال الجهل بالنهي ولو قلنا بالجواز فيستنبط الصحة في حال
الجهل بالنهي قطعا. وأما في حال تنجز النهي فالحكم بالصحة مبني
على ما ذهب إليه المحقق الثاني، وسيجئ مفصلا إن شاء الله تعالى
وأما كونها كلامية أو فقهية أو من مبادئ الاحكام فقد عرفت مما تقدم
في المسائل السابقة أنه على فرض إمكان كونها من أحدها لا وجه
لعدها منه مع إمكان كونها من مسائل
383

الفن مضافا إلى ما فيها من المناقضة.
(المقدمة الأولى)
من المقدمات التي ذكرها شيخنا الأستاذ (ره) أن المفاهيم التي تعلقت
بها الاحكام سواء كانت من المفاهيم المتأصلة في عالم العين أي
تكون مما بإزائه شئ في الخارج، أو كانت من المتأصلة في عالم
الاعتبار أي التي يكون بإزائه شئ في عالم الاعتبار دون عالم العين
أو كانت من المفاهيم الانتزاعية أي التي ليس بإزائها شئ لا في عالم
العين ولا في عالم الاعتبار ليس تعلق الاحكام بها باعتبار
وجوداتها الذهنية بل بما هي حاكيات عن الخارج ونفس الامر، و
باعتبار وجوداتها في الذهن لا تنطبق على الخارج أصلا وتكون من
قبيل الكلي العقلي في عدم صدقها وانطباقها على الخارجيات ولا
تقع بينها النسب الأربع بذلك الاعتبار بل يكون دائما بينها التنافي و
التباين بذلك الاعتبار، بل المفهوم الواحد لو أوجده في الذهن مرتين
يكون باعتبار وجوده في الذهن ومقيدا به في المرة الثانية غير ما
هو في المرة الأولى.
(المقدمة الثانية)
أن المفهومين الذين بينهما عموم وخصوص من وجه كما هو
المفروض في محل البحث وباب الاجتماع لا يمكن ان تكون جهة
الصدق
في أحدهما عين جهة الصدق في الاخر، وذلك من جهة أن صدق كل
مفهوم على شئ لا بد وأن يكون بمناط اتحاد بينهما اما من ناحية
المفهوم وإما من ناحية الوجود فإذا كان من قبيل الأول فيسمى حملا
ذاتيا لجريانه في الذاتيات والمحمول في هذا القسم لا بد وأن
يكون إما حدا تاما أو جنسا أو فصلا للموضوع بعد لغوية حمل الشئ
على نفسه وفي هذا القسم من الحمل لا يمكن أن يكون بين
مفهومين عموم وخصوص من وجه لان المحمول الذاتي على الشئ
إن كان حدا تاما أو فصلا قريبا له فلا محالة يكون مساويا معه وإلا
فلا محالة يكون أعم منه سواء كان فصلا بعيدا أو جنسا له، وحيث أن
الذاتي لا يختلف ولا يتخلف فلا يمكن أن يكون هناك ذاتي آخر
لهذا الشئ يكون بين
384

هذين الذاتيين عموم من وجه. نعم يمكن أن تتحقق هذه النسبة بين
ذاتي له مع عرضي يحمل عليه بالحمل الشائع، كالحيوان والماشي
بالنسبة إلى الانسان ويمكن أن تتحقق بين عرضيين كالماشي و
الأبيض بالنسبة إليه.
أما في القسم الأول - أي فيما إذا كان أحد العامين من وجه ذاتيا
لمصاديقه والاخر عرضيا - فاختلاف جهة الصدق معلوم فيهما، لان
مناط الصدق في الذاتي هو عدم خروج المحمول عن حقيقة
الموضوع وفي العرضي هو انضمام شئ خارج عن حقيقة الموضوع
إليه،
سواء كان من الأمور الاعتبارية أو من الأمور التكوينية الخارجية.
وأما في القسم الثاني - أي فيما إذا كانا عرضيين لمصاديقهما - فلأنه
لو كان مناط الصدق وجهته في أحدهما عين ما هو في الاخر لكان
الافتراق بينهما محالا - إذ لو لم يكن ذلك المناط في مادة الافتراق
يلزم تحقق المعلول بلا علة، وإن كان ذلك المناط موجودا ومع ذلك
لا يصدق أحدهما كما هو المفروض، يلزم عدم تحقق المعلول مع
وجود علته وكلاهما محال.
وأما الاعتراض على ما ذكرنا بصفات الواجب بأنه مع كون النسبة بينها
عموما من وجه لا يمكن أن تكون جهة الصدق في أحدها غير
جهة الصدق في الأخرى للزوم التركيب في ذاته المقدسة، (ففيه) أن
هذا القياس في غير محله من جهة أن كلامنا هاهنا في المفاهيم التي
تحمل على موضوعاتها باعتبار قيام مباديها بتلك الموضوعات، لأنه
بعد ما فرغنا من أن هذه النسبة لا تتحقق بين المفاهيم الذاتية، فلا
بد وأن يكون إما بين عرضيين أو بين ذاتي وعرضي كالانسان أو
الحيوان والأبيض، حيث أن الانسان أو الحيوان ذاتي لمصاديقه و
الأبيض عرضي لها وفي كلا المقامين لا يمكن أن يكون محكي أحد
المفهومين عين ما يحكيه الاخر، لأنه في الأول كل واحد منها يحكي
عن قيام مبدء عرضي بالموضوع غير ذلك المبدأ الاخر، سواء كان من
قبيل الاعتباريات كالملكية والمالية بناء على أن يكون بينهما
عموم من وجه، أو من الاعراض التكوينية كالأبيض والحلو وفي
الثاني أحدهما يحكي عن تمام ماهية الشئ أو بعضها والاخر عن
قيام
عرض تكويني أو أمر اعتباري بموضوعه، وفي صفات الواجب
385

ليس إطلاق تلك الصفات عليه تبارك وتعالى باعتبار قيام مبادئها به،
بل باعتبار أنه عين مبادئها لا أنه ذات ثبتت لها المبادئ فإذا
كان الوجود ناقصا فيكون كل مبدأ غير المبدأ الاخر، وتكون تلك
المبادئ أعراضا لموضوعاتها، وليس لها استقلال في الوجود، بل
تكون من شؤون موضوعاتها، ووجودها في أنفسها عين وجوداتها
لموضوعاتها. وأما إذا كان تاما وبسيطا فهو في عين وحدته و
بساطته وأحديته جامعة لجميع الكمالات من دون تطرق كثرة أو
تركب فيه، ولتحقيق هذه المسألة مقام آخر
(المقدمة الثالثة)
أن مبادئ الاشتقاقات سواء كانت من الاعراض الخارجية المحمولة
بالضمائم على موضوعاتها، أو كانت من الأمور الاعتبارية كالطهارة
والنجاسة والولاية والقضاوة وأمثالها إذا كان بينها عموم من وجه،
ففي مادة الاجتماع - بعد ما عرفت أن جهة الصدق في كل منهما
غير جهة الصدق في الاخر في المقدمة السابقة - إما أن يحصل تركيب
بينهما أو لا يكون ارتباط بينهما إلا في صرف وجودهما في
موضوع واحد كالعلم والفسق مثلا، أو قيامهما بشخص واحد كالتكلم
وحركة اليد مثلا.
لا كلام على الثاني، لأنهما أمران ووجودان فلو تعلق بأحدهما الامر و
بالآخر النهي لا يكون من باب الاجتماع، ولا ينبغي أن يتوهم أحد
امتناع مثل ذلك، لان صرف اجتماع متعلق الأمر والنهي في موضوع
واحد مع أن لكل واحد منهما وجود مستقل لا ربط له بالآخر لا
يصير منشأ لتوهم اجتماع الضدين. وأما على الأول - أي بناء على
حصول تركيب بينهما بأن يكون كل واحد منهما مشخصا للآخر - فلا
بد وأن يكون التركيب بينهما تركيبا انضماميا، وذلك من جهة أن
المبادئ سواء كانت من الاعراض الخارجية أو من الاعتباريات أخذت
بشرط لا بالنسبة إلى موضوعاتها، وكذلك كل واحد بالنسبة إلى
الاخر، فلا يمكن اتحاد أحدهما مع الاخر، فإذا اجتمعا لا بد وأن
يكون
اجتماعهما وتركبهما بنحو الانضمام لا بنحو الاتحاد (وبعبارة أخرى)
المشتقات - حيث أنها أخذت لا بشرط - تكون متحدة مع الذات
المتصفة بمبادئها وفي مورد الاجتماع كل واحد منها متحد مع الاخر
أيضا، كما أنه متحد مع الذات
386

المتصفة به مثل العالم الفاسق، فإنه عالم وفاسق أيضا، وفي مورد
اجتماع هذين الوصفين كل واحد منهما أيضا متحد مع الاخر، فهذا
العالم فاسق وهذا الفاسق عالم، فإذا قال: أكرم العالم ولا تكرم الفاسق
تكون الحيثيتان تعليليتين بالنسبة إلى حكمهما، بمعنى أن
موضوع الحكمين ليس نفس الحيثيتين فقط بحيث يكون تمام
الموضوع لوجوب الاكرام حيثية العلم فقط، وتمام الموضوع لحرمته
حيثية الفسق فقط، بل تكون هناك ذات مشتركة بين الحكمين، فهذا
الشخص الخارجي بما أنه متصف بالعلم محكوم بوجوب الاكرام، و
بما أنه متصف بالفسق موضوع لحرمة الاكرام، فكانت علة وجوب
إكرامه علمه، وعلة حرمة إكرامه فسقه، ولذلك سميت الحيثية
تعليلية،
وإن كان ظاهر هذه اللفظة أي كون الحيثية تعليلية معناه أن يكون
موضوع الحكم نفس الذات ويكون الوصف واسطة في الثبوت لا
واسطة في العروض، ولكن هذا المعنى ليس بمراد هاهنا قطعا، كما أن
مرادهم من كون الحيثيتين تقييديتين ليس أن تكونا قيدين
للموضوع كما هو ظاهر هذه اللفظة، بل المراد أن تكونا تمام الموضوع
أي تكون إحداهما تمام الموضوع للوجوب، والأخرى كذلك
تمام الموضوع للحرمة وهذا بخلاف المبادئ فإنها حيث أخذت
بشرط لا فلا تتحد مع الذات المعروضة لها أو تكون تلك المبادئ
قائمة
بها، وأيضا لا يتحد كل واحد منها مع الاخر.
والحاصل أنه لو كان متعلق التكليف الوجوبي والتحريمي المشتقين
الذين بينهما عموم من وجه، فلا محالة في مورد الاجتماع تتحقق
أمور ثلاثة: (الأول) - أن كل واحد من المشتقين يحمل على الاخر
بالحمل الشائع للاتحاد الذي بينهما، لمكان أخذهما لا بشرط، وهكذا
يحملان على الذات المتصفة بهما لعين تلك الجهة (الثاني) - أن
الحيثيتين تكونان تعليليتين بالمعنى الذي تقدم (الثالث) - أن التركيب
بينهما يكون اتحاديا لا انضماميا، كل ذلك لأجل أخذها لا بشرط وأما
لو كان متعلق التكليفين هما المبادئ فلا يحمل أحدهما على الاخر
ولا هما على الذات المتصفة بهما، ولا يكون التركيب بينهما اتحاديا،
بل لا بد وأن يكون انضماميا. والحيثيتان تقييديتان لا تعليليتان
بالمعنى الذي تقدم، كل ذلك لأجل أخذها بشرط لا. وهناك فرق آخر
387

بين المبادئ والمشتقات، وهو أن المبادئ في مادة الافتراق هي عين
تلك المبادئ في مادة الاجتماع، مثلا الصلاة غير المجتمعة مع
الغصب هي عين الصلاة المجتمعة معه من حيث الكمية والكيفية، و
هكذا في طرف الغصب. وأما المشتقات فليست في مادة الافتراق
تمام
مدلولها عين تلك المشتقات في مادة الاجتماع، ففي مادة اجتماع
العالم والفاسق - مع فرض أن الذات المتلبسة بالمبدأين هي زيد مثلا
- ففي مادة افتراقهما لا بد وأن يكون العالم شخصا آخر غير زيد، و
هكذا الفاسق، ففي مادة الاجتماع العالم عبارة عن زيد المتلبس
بالعلم وفي مادة الافتراق عبارة عن شخص آخر متلبس بالعلم، و
هكذا الامر في طرف الفاسق هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) و
جعله مؤيدا لكون التركيب بين المشتقين في مورد الاجتماع اتحاديا و
بين المبدأين انضماميا في ذلك المورد أيضا.
(وأنت خبير) بأن هذا الكلام مبني على أن يكون مدلول المشتق عبارة
عن الذات المتلبسة بمبدأ الاشتقاق، وأما إذا قلنا بأنه عبارة عن
المبدأ اللا بشرط ويتحد مع الذات من جهة ملاحظته لا بشرط - كما
هو الصحيح، وتقدم تفصيله في مبحث المشتقات - فالمبدأ اللا
بشرط في مادة الافتراق هو عين ذلك المبدأ اللا بشرط في مادة
الاجتماع، غاية الامر اتحد في مادة الاجتماع مع موضوع وفي مادة
الافتراق مع موضوع آخر لكونه لا بشرط.
(المقدمة الرابعة)
في أن محل النزاع في هذه المسألة هو فيما إذا كان العنوانان اللذان
تعلق بأحدهما الامر وبالآخر النهي من الأفعال الاختيارية التي
تصدر من المكلف ابتداء وأولا وبالذات ويكونان من قبيل المبدأين
لا من قبيل المشتقين، ويكون بينهما عموم وخصوص من وجه لا
العموم والخصوص المطلق كما زعمه صاحب الفصول (قده).
(أما الأول) أي لزوم كونهما من الأفعال الاختيارية التي تصدر من
المكلف أولا وبالذات، فمن جهة انه لو كان العنوانان من المسببات
التوليدية، فيمكن أن
388

يكون تحقق العنوانين بسبب واحد كالحركة والقيام بقصد تعظيم
شخصين، فيحصل عنوانان أحدهما تعظيم زيد مثلا والاخر تعظيم
عمرو، وبين العنوانين عموم من وجه بالمعنى الذي سنذكره له، و
كلاهما من قبيل المبدأين لا المشتقين، ولكن حيث أنهما من
المسببات
التوليدية ويحصلان بسبب واحد أي حركة واحدة، فيكونان خارجين
عن باب الاجتماع. والسر في ذلك أن التكليف يتوجه إلى السبب،
لأنه فعل اختياري، فإذا كان تعظيم زيد مثلا مأمورا به، وتعظيم عمرو
مثلا منهيا عنه ففي الحقيقة الأمر والنهي يتعلقان بما هو سبب
تعظيمهما، لما ذكرنا من أنه هو الفعل الاختياري القابل لتعلق الطلب به
ابتداء وبدون واسطة، غاية الامر ليس تعلق الطلب به بعنوانه و
بما هو هو، بل بما هو معنون بعنوان المسبب. والمفروض ان الحركة
التي هي سبب لحصول التعظيمين في المثال واحدة فيكون اجتماع
الأمر والنهي فيها من قبيل اجتماع الضدين.
و (أما الثاني) أي لزوم كونهما من قبيل المبدأين لا المشتقين - فلأنه لو
كانا من قبيل المشتقين لكان التركيب بينهما اتحاديا لا
انضماميا، لكون المشتقات ملحوظة لا بشرط، كما تقدم بخلاف
المبدأين فإنهما لوحظا بشرط لا، ويكون التركيب بينهما انضماميا كما
تقدم.
و (أما الثالث) - أي لزوم كون النسبة بينهما هي العموم والخصوص
من وجه - فمن جهة انه لو كانت هي العموم والخصوص المطلق فاما
ان نقول بالتخصيص أو التقييد وإخراج الخاص أو المقيد عن تحت
العام أو المطلق أولا، وبناء على الأول لا اجتماع، لان حكم العام أو
المطلق لا يبقى لذلك الصنف أو الشخص بعد التقييد أو التخصيص و
إخراجه من حيث الحكم عن تحت العام، وبناء على الثاني يكون
النهي متعلقا بعين ما تعلق به الامر مثلا، لان الامر - إذا تعلق بعام أو
مطلق شمولي أو بدلي - يشمل مورد النهي بذلك العموم أو الاطلاق
الشمولي أو البدلي بناء على عدم التخصيص أو التقييد. والمفروض
ان النهي أيضا ورد على ذلك المورد، فيكون متعلق الامر
389

والنهي واحدا وجودا وعنوانا، وتصير المسألة من قبيل اجتماع
الضدين وباب التعارض.
ثم إن العموم والخصوص في هذا المورد ليس بمعناه المشهور
المصطلح من انطباق عنوانين على موضوع واحد وحملهما عليه و
حمل
كل واحد منهما على الاخر في مورد الاجتماع حتى يقال إذا كان
التركيب في مورد الاجتماع انضماميا فلا يحمل أحدهما على الاخر،
بل
يكون كل واحد منهما أجنبيا عن الاخر، بل المراد من العموم و
الخصوص من وجه هاهنا باعتبار الاجتماع والانضمام ووجودهما
بإيجاد واحد.
وعدم الاجتماع والانضمام، فالمراد من مادة الاجتماع هاهنا انضمام
الامرين وتركبهما، ومن مادة الافتراق تفرقهما وعدم
اجتماعهما.
(المقدمة الخامسة)
في رفع ما ربما يتوهم من أن الغصب والصلاة ولو كانا من قبيل
المبدأين وأخذا بشرط لا، ولذلك لا يحملان على الذات التي يكونان
قائمين بها، بخلاف المصلي والغاصب أي المشتقين منهما، فإنهما
يحملان على تلك الذات، وأيضا لا يحمل أحدهما على الاخر - أي
لا
الغصب على الصلاة ولا الصلاة على الغصب - ولكن كل واحد منهما
يحمل على تلك الحركة الواحدة الموجودة في الدار المغصوبة، فهما
-
بالنسبة إلى تلك الحركة الواحدة بالهوية التي لها وجود واحد -
يكونان من قبيل اللا بشرط وإن كان كل واحد منهما بالنسبة إلى
الاخر والاثنان بالنسبة إلى الذات التي صدرا منها من قبيل بشرط لا، و
لكن كونهما كذلك لا يدفع المحذور، بل اتحادهما مع تلك
الحركة الواحدة كاف في إثبات المحذور وفي صيرورتهما بهذا
الاعتبار موردا للحكمين المختلفين تكون موجبة لاجتماع الضدين (و
بعبارة أخرى) لا فرق بين ان يكون كل واحد منهما متحدا مع الاخر
ابتداء من جهة كونهما مأخوذين لا بشرط، وبين ان يكونا متحدين
مع ثالث في أن ورود حكمين إلزاميين مختلفين عليهما يكون موجبا
لاجتماع الضدين وصيرورة المسألة من باب التعارض.
بيان الدفع ان الصلاة والغصب حيث إنهما من مقولتين وأخذا بشرط
لا، فمحال
390

ان يتحد كل مع الاخر أو هما مع ثالث، فبهذه الحركة الواحدة يوجد
أمران كل واحد منهما من مقولة مباينة للآخر وليس أحدهما قائما
بالآخر وفانيا فيه حتى يكون من شؤونه ويكون وجوده في نفسه عين
وجوده لذلك الاخر حتى يكونان متحدين وذلك لعدم جواز
قيام العرض بالعرض، فلا الصلاة قائمة بالغصب ولا الغصب قائم بها،
على أن الحركة في الأين أين، لان الحركة في كل مقولة هي عين
تلك وهي عبارة عن تجدد المقولة وليست مقولة مستقلة، فكما ان
الأين المتحقق في الدار المغصوبة غصب وليس بصلاة فكذلك
الحركة
في ذلك الأين غصب وليست بصلاة، لان الصلاة من مقولة الوضع، و
الحركة التي توجد في الدار المغصوبة أجنبية عن الوضع ولا تتحد
معه ولا تنطبق عليه، فما توهمه المتوهم - من اتحاد الصلاة والغصب
مع تلك الحركة الواحدة الموجودة في الدار المغصوبة - باطل (نعم)
لو قلنا بأن الحركة في الأيون المغصوبة في الدار الغصبية كما انها
غصب كذلك تكون جزا للصلاة أيضا. فلا محالة يصير من قبيل
اجتماع الضدين بالنسبة إلى ذلك الجز وترجع المسألة - بهذا
الاعتبار - إلى باب التعارض، لكنه خلاف الواقع.
(إن قلت): إنه بناء على هذا يكون كل واحد من الصلاة والغصب
أجنبيا عن الاخر فكيف يحصل التركيب بينهما بحيث يقال إن هذا
الشئ
صلاة وغصب، بل ما هو غصب غير ما هو صلاة. فليس هناك شئ
واحد إيجادا ووجودا، وأيضا ليس في البين مجمع واجتماع. (قلنا):
كما أن الجوهر يتشخص بواسطة احتفافه بالعوارض المشخصة وإن
كان الصحيح ان التشخص بالوجود، وان هذه العوارض أمارات
التشخص، كذلك العرض يتشخص بواسطة انضمامه إلى عرض آخر
بمعنى أن يكون كل واحد من العرضين من مشخصات الاخر، ولا
شك في حصول وحدة ونحو تركب بين الشخص ومشخصاته. وما
نحن فيه بناء على هذا حيث إن كلا من الغصب والصلاة يكون من
مشخصات الاخر تحصل بينهما وحدة وتركيب يكون بذلك الاعتبار
مجمعا للعنوانين. ولا يخفى على الفطن الخبير مواقع النظر فيما
391

شيخنا الأستاذ (قده): (منها) - أن قيام العرض بالعرض جائز، وذلك
كالكيفيات المختصة بالكميات: مثل الاستقامة والانحناء
العارضين على الخط، والزوجية والفردية العارضتين على العدد. و
(منها) - انه لو كانت الصلاة والغصب عرضان قائمان بالمكلف و
ليس أحدهما قائما بالآخر فكيف يمكن أن يكون أحدهما مشخصا
للآخر مع عدم ارتباط أحدهما بالآخر إلا في أنهما عرضان قائمان
بموضوع واحد؟ ومن المعلوم ان قيام عرضين بموضوع واحد لا
يوجب أن يكون أحدهما مشخصا للآخر بل يكون تشخص العرض
بتشخص موضوعه ومحله و (منها) - أن الوحدة والتركب بين فردين
من مقولتين أو من مقولة واحدة لا يحصل إلا بأن يكون أحدهما
حالا في الاخر أو قائما به كالمادة والصورة والعرض ومعروضه.
(المقدمة السادسة)
في أن هذا البحث والنزاع في هذه المسألة هل يبتني على القول بتعلق
الأوامر بالطبائع أولا، بل لا فرق في وجود هذا النزاع بين القول
بتعلقها بالطبائع أو الافراد؟ ذهب بعضهم إلى الابتناء بتخيل أنه لو قلنا
بتعلقها بالافراد لا بد من القول بالامتناع، إذ حينئذ يكون هذا
الفرد الخارجي المسمى بالمجمع موردا للامر والنهي. ولا شك في
أنه إذا كان فردا خارجيا وجزئيا حقيقيا موردا لكلا الحكمين فيصير
من اجتماع الضدين، ولكن لو تعلق الامر بالطبيعة يبقى مجال للبحث
في أن الطبيعتين المتصادقتين على المجمع هل يكون التركيب
بينهما انضماميا أو اتحاديا، وان الحيثيتين تقييديتان حتى يقال
بالجواز أو تعليليتان حتى يقال بالامتناع؟ وأنكر الابتناء بعض آخر
باعتبار انه لو قلنا بتعلقها بالافراد أيضا يمكن أن يقال إن الفردين من
الطبيعتين المجتمعتين في مورد واحد كالصلاة والغصب مثلا
هل التركيب بينهما انضمامي أو اتحادي، وان هاتين الحيثيتين
تقييديتان أو تعليليتان.
ولكن الحق في المقام هو التفصيل بين ان يكون المراد من تعلقها
بالافراد سراية الامر إلى المشخصات بالتبع أو كان معنى آخر مما
ذكرنا. وتقدم تفصيله في
392

مبحث تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع والافراد، فان كان من قبيل
الأول فلا بد من القول بالامتناع حتى بناء على أن يكون التركيب
بين المتعلقين انضماميا لأنه - بناء على ما ذكرنا من أن كل واحد منهما
من مشخصات الاخر حتى على التركيب الانضمامي - يسري الامر
إلى ما هو متعلق النهي وهكذا في ظرف النهي فيصير اجتماع الضدين.
وأما لو كان المراد بتعلقها بالطبائع أو الافراد ذلك الوجود
السعي الجامع أو الوجودات فلا يبتني النزاع والبحث في هذا المقام
على ذلك النزاع والبحث أصلا، إذ يجري هذا النزاع على كلا
الاحتمالين، لأنه بناء على الأول يجتمع في المجمع وجودين سعيين
فيقع النزاع في أن التركيب بينهما انضمامي أو اتحادي وعلى الثاني
فردين من الوجود: (أحدهما) - من وجودات الطبيعة المأمور بها و
(ثانيهما) - من وجودات الطبيعة المنهي عنها فائضا يجري ما قلنا من
أن التركيب بينهما انضمامي والجهتان تقييديتان أو اتحادي والجهتان
تعليليتان. و (أيضا) لا فرق في جريان هذا النزاع بين القول
بأصالة الوجود أو الماهية إذ بناء على الأول يكون مورد البحث أن
الوجودين المجتمعين في المجمع هل التركيب بينهما انضمامي أو
اتحادي؟ وبناء على الثاني يقال بأن التركيب بين الماهيتين
المجتمعتين فيه انضمامي أو اتحادي. و (أيضا) لا فرق في جريان هذا
النزاع
بين القول بأن الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها أو إنكار
ذلك كما قال به الأشاعرة وذلك من جهة أن مبنى القول
بالامتناع من جهة لزوم اجتماع الضدين وبالجواز من جهة عدم لزومه،
فلا ربط لهذا البحث بثبوت المصلحة والمقتضي في الحكمين و
عدم ثبوتهما فما ذكره بعض الاعلام - من ابتناء المسألة على ثبوت
المقتضي والملاك في كلا الحكمين - لا أساس له.
(المقدمة السابعة)
في أنه لا فرق فيما ذكرنا - من أن مورد البحث هو أن يتعلق الامر
بمقولة والنهي بمقولة أخرى - بين أن يكون كل واحدة منهما مقولة
مستقلة أو تكون إحداهما متممة للمقولة فكما أنه لو كان كل واحدة
من المقولتين مستقلة لكان التركيب
393

بينهما انضماميا، كذلك يكون التركيب انضماميا لو كانت إحداهما
متممة للمقولة لان المناط في التركيب الانضمامي تعدد وجود
الجزئين ولا فرق في ذلك بين أن تكون كلتاهما مستقلين أو تكون
إحداهما متممة. والمراد من متمم المقولة - باصطلاح شيخنا الأستاذ
(قده) - هو الارتباطات التي بين أفعال المكلفين ومتعلقاتها من زمان
أو مكان كصلاته في المسجد مثلا أو خطبته في يوم الجمعة أو
ركوبه الفرس أو أكله أو شربه من آنية الذهب والفضة وأمثال ذلك
فمثلا لصلاة زيد وجود ولكونها في المسجد وجود آخر وهكذا
في سائر ما ذكرنا من الأمثلة وما يشبهها في سائر المقامات وتسميتها
بمتمم المقولة من جهة عدم إمكان صدورها من المكلف ابتداء و
بلا توسيط فعل من الافعال، بل يكون متمما للفعل ومن إضافاته و
متعلقاته. نعم قد يكون المتمم - بالكسر - من سنخ المتمم - بالفتح -
كالحركة السريعة الصادرة من الانسان أو صبغ الثوب بالحمرة الشديدة
مثلا فليس للمتمم وجود آخر لان ما به الاشتراك عين ما به
الامتياز فهذا القسم خارج عن باب الاجتماع، لأنه لو كان نفس المتمم
- بالفتح - في هذا القسم - واجبا والمتمم - بالكسر - حراما لصار
اجتماع الضدين قطعا، لما قلنا من أن ما به الاشتراك - في هذه الأمور
- عين ما به الامتياز فيكون وجودا شديدا واحدا بسيطا لا تركيب
فيه أصلا فضلا عن أن يكون انضماميا.
والحاصل أن مناط جواز الاجتماع وعدم لزوم اجتماع الضدين كون
المجمع مركبا انضماميا بحيث يكون لمتعلق الامر وجود ولمتعلق
النهي وجود آخر وإن حصلت بينهما وحدة من ناحية صيرورتهما
مركبا واحدا وكون كل واحد منهما مشخصا للآخر سواء كانا
مقولتين مستقلتين تصدران ابتداء من المكلف وبدون واسطة، أو كان
أحدهما لا يصدر الا بواسطة فعل من أفعال المكلفين فلو كان
الاكل أو الشرب مثلا واجبا واستعمال آنية الذهب والفضة حراما،
فوقوع الأكل والشرب فيهما يكون من باب اجتماع الأمر والنهي و
يكون التركيب بينهما انضماميا لان الأكل والشرب من
394

مقولة وكونهما في آنية الذهب أو الفضة من مقولة أخرى وان لم يكن
الثاني مقولة مستقلة بل كان متمما للمقولة بناء على الضابط الذي
ذكرنا للمتمم وهكذا الحال في جميع متعلقات الافعال.
ثم إنه قد تقدم أن السبب التوليدي مع مسببه متحدان وجودا ولذلك
قلنا بخروجه من باب الاجتماع، ولكن لو كان فعل من الافعال
بواسطة إضافته إلى شئ آخر سببا توليديا لعنوان من العناوين كالالقاء
فإنه بواسطة إضافته إلى النار يكون سببا للاحراق فلو كان
نفس الالقاء واجبا وكونه في النار حراما أو بالعكس لكان من باب
الاجتماع لان الالقاء من مقولة وكونه في النار متمم للمقولة وله
وجود آخر غير وجود الالقاء، وكذلك لو كان فعل واحد سببا توليديا
للمسببين توليديين ومعلوم أن ذلك لا يمكن الا بانضمام جهة
أخرى إلى ذلك الفعل لكونه سببا لكل واحد من المسببين فهناك فعل
واحد وجهتان منضمتان إليه، فلو كان الفعل واجبا مثلا وإحدى
الجهتين أو كلتاهما حراما أو بالعكس فيكون من باب الاجتماع لما
ذكرنا ولكن هذه الفروض لا تخالف ما ذكرنا من خروج العناوين
والمسببات التوليدية عن حريم النزاع لان ما ذكرنا سابقا كان في نفس
الأسباب التوليدية مع مسبباتها بحيث يكون أحدهما مأمورا به
والاخر منهيا عنه، وحيث أنهما متحدان وجودا فخارجان عن باب
الاجتماع. وأما في هذه الصور المفروضة فبواسطة انضمام جهات و
حيثيات إليهما أو إلى أحدهما يتعدد الوجود فيدخل في هذا الباب.
هذا تمام ما ذكره شيخنا الأستاذ أعلى الله مقامه الشريف في تصوير
جواز الاجتماع والاستدلال عليه. والانصاف أن ما ذكره أحسن ما
قيل في الاستدلال على الامكان والجواز، لأنه بعد تمامية هذه
المقدمات وضم بعضها إلى البعض ينتج أن المجمع فيه جهتان
إحداهما
متعلق للامر والأخرى للنهي والتركيب بينهما انضمامي لا ربط لمتعلق
الامر بمتعلق النهي ولا يسري أحد الحكمين إلى متعلق الاخر فلا
يكون من قبيل اجتماع
395

الضدين، ولا مانع من جعل الحكمين وتشريعهما بحيث يشمل
الدليلان بعمومهما أو إطلاقهما لمورد الاجتماع، ولكن مع ذلك كله لا
يخلو من مناقشة بل مناقشات.
(بيان ذلك أولا) - أن ما ذكره - من أن متعلق الأمر والنهي إذا كانا
مبدأين وكان بينهما عموم من وجه وكانا من الأفعال الاختيارية،
فلا بد وأن يكون التركيب بينهما في المجمع تركيبا انضماميا - يصح
فيما إذا كان كل مبدأ من مقولة غير المقولة الأخرى. أو ولو كانا
من مقولة واحدة يكون أحدهما من نوع أو صنف منها والاخر من نوع
أو صنف آخر منها حتى يكون لهما وجودان، ولكن لو كان
أحدهما أو كلاهما مفهوما انتزاعيا أمكن اتحادهما في الوجود مع
كونهما مبدأين، كما هو - رحمه الله - اعترف بذلك في التوضي
بالماء
المغصوب، مع أن الامر متعلق بالتوضؤ وهو مبدأ والنهي متعلق
بالغصب وهو أيضا مبدأ وكلاهما من الأفعال الاختيارية وبينهما
عموم
وخصوص من وجه. والسر في ذلك أن الغصب ليس من مقولة
مستقلة بحيث يكون من إحدى المقولات، بل هو عبارة عن التصرف
في
مال الغير بدون اذن صاحبه أو رضاه (إن قلت) إن الغصب هو
الاستيلاء بغير حق على مال الغير أو حقه أو غيرهما مما يتصور
الاستيلاء
بغير حق فيه (قلنا) المراد أن المنهي عنه الذي اجتمع مع المأمور به
في المجمع هو ذلك المعنى سواء سمي غصبا أو لم يسم، وذلك
المعنى
ليس مقولة مستقلة خارجية، بل ينتزع من مقولات متعددة، ولذلك
قد ينتزع من نفس ما هو مأمور به كما في المثال، فان إجراء الماء
المغصوب على الوجه واليدين وضوء ومصداق حقيقي للتصرف في
مال الغير الذي هو حرام، فاتحد متعلق الأمر والنهي مع أنهما من
الأفعال الاختيارية ومن قبيل المبدأين الذين بينهما عموم من وجه.
و (ثانيا) - أنه على فرض تسليم كونهما من مقولتين مختلفتين، فلا
يمكن أن يكون كل واحد منهما مشخصا للآخر أو من أمارات
تشخصه، لان تشخص الشئ بعوارضه المشخصة - عند من يقول
بذلك - انما يكون فيما إذا كانت العوارض من
396

شؤونه وخصوصياته المحتفة به والمتحدة معه، لا بصرف اقترانه معه
وانضمامه إليه.
(وبعبارة أخرى) كل عرض إذا عرض على شئ سواء كان ذلك
الشئ جوهرا كبياض القند وحلاوته، أو عرضا كالانحناء العارض
على
الخط مثلا فيكون من مشخصاته ولكن في هذا الفرض ليس التركيب
بين العرض ومعروضه تركيبا انضماميا، لان هذا الفرض فرض
اتحاد العرض مع معروضه وفنائه فيه، وكون وجوده في نفسه عين
وجوده لموضوعه فيكون خارجا عما فرضه شيخنا الأستاذ (قده) و
أما إذا لم يكن عارضا عليه، بل كان صرف مقارنة اتفاقية بينهما، بل و
إن كانت دائمية مثل حلاوة القند وبياضه، فلا يكون أحدهما
مشخصا للآخر ولا اتحاد ولا تركيب بينهما، بل يكونان موجودين
بوجودين مستقلين، غاية الامر يكونان مقترنين منضمين.
ومثل هذا لا يمكن أن يقع محل النزاع بين هؤلاء الاعلام في إمكانه و
امتناعه، لان إمكان أن يكون أحدهما مأمورا به والاخر منهيا عنه.
ضروري.
وهناك أدلة أخرى ذكروها على الجواز لا بأس بذكرها وإن كانت غير
تامة ولا تخلو عن مناقشة:
(الأول) - ما أفاده المحقق القمي (ره) من تعلق الامر بطبيعة والنهي
بطبيعة أخرى، والفرد الذي هو مجمع العنوانين مقدمة للطبيعي الذي
هو واجب نفسي، ومقدمة الواجب ليست بواجبة، فعلى تقدير سراية
النهي إلى هذا الفرد الذي هو مجمع لكونه من قبيل الاطلاق الشمولي
أو العام الأصولي، فلا يلزم اجتماع الضدين، لان ما هو منهي عنه ليس
بواجب، وما هو واجب - أي الطبيعة - ليس بحرام، ثم انه على
تقدير القول بوجوب المقدمة يكون وجوبها غيريا ولا منافاة بين
الوجوب الغيري والنهي النفسي. (وفيه) أن دعاويه الثلاثة ممنوعة،
لعدم كون الفرد مقدمة للطبيعة، بل متحد معها ويحمل عليها بالحمل
الشائع حتى ولو كان المراد من الطبيعة صرف الوجود منها لا
الوجود الساري ولوجوب المقدمة كما تقدم، ولمنافاة الوجوب و
الحرمة مطلقا سواء كانا نفسيين أو غيريين أو مختلفين.
397

(الثاني) - وهو الذي اعتمد عليه جمع من المحققين - أن متعلق
الأوامر والنواهي هي الصور الذهنية، لان وجودها الخارجي ظرف
سقوط التكليف لا ظرف ثبوته. ومعلوم أن في ظرف العروض وتعلق
الاحكام بتلك الصور الذهنية لا يكون تعارض وتناف ولا
اجتماع ضدين. نعم في مرحلة الامتثال والتطبيق يقع التزاحم إذا أراد
أن يطبق الاثنين على المجمع.
(وفيه) ما ذكرناه - في المقدمة الأولى من مقدمات جواز الاجتماع
على رأي شيخنا الأستاذ (قده) - من أن تعلق الأوامر والنواهي
بالصور الذهنية وإن كان صحيحا، إلا أن تعلقهما بها ليس باعتبار
وجوداتها الذهنية، بل بما هي حاكيات عن الخارج ومرآة لها وفانية
فيها، وذلك من جهة أن الإرادة والكراهة تابعتان للمصالح والمفاسد.
ومعلوم أن الصور الذهنية - بما هي موجودات ذهنية - ليس فيها
تلك المصالح والمفاسد، بل هي قائمة بوجوداتها الواقعية النفس
الأمرية التي هي وجودات لها بالذات لا أن الوجود للنفس بالذات و
يكون لها بالعرض وحيث أن الإرادة والكراهة من صفات النفس و
الحالات الطارئة على الذهن، ولا يمكن أن يتعلقا ابتداء وأولا و
بالذات بالموجود الخارجي، بل الموجود الخارجي كما ذكرنا يكون
ظرف سقوطهما اما بالإطاعة أو بالعصيان لا ظرف ثبوتهما،
فتجعل النفس تلك الصور الذهنية وسيلة لإرادة تلك الوجودات
الخارجية، بحيث يسري الطلب إليها قبل تحققها في الخارج بمرآتية
هذه
الصور وحكايتها عنها قبل تحققها في الخارج حتى لا يلزم ذلك
المحذور.
ولا يقال إن الوجود الخارجي ظرف السقوط لا الثبوت، فالخارج هو
المطلوب بالذات بمعنى أن ملاك المطلوبية أي المصلحة فيه و
الصورة الذهنية مطلوبة بالعرض، بمعنى أن تعلق الطلب بها لأجل
كونها حاكية عن الخارج وفانية فيه. وأما ما قرع سمعك - من أن
الصورة الذهنية هي التي مرادة ومطلوبة بالذات - فهو صحيح، ولكن
بمعنى آخر وهو أن عروض الإرادة والطلب أولا وبالذات على
تلك الصورة، وليست هناك واسطة في العروض بخلاف الخارج، فإنه
مراد بالعرض أي بواسطة تلك الصورة
398

الذهنية، فللخارج واسطة في العروض، فإطلاق المطلوبية بالذات و
بالعرض على الصورة الذهنية الحاكية عن الخارج مع إطلاقهما على
الخارج المحكي بها متعاكسان، ولكن بمعنيين، فبأحد المعنيين
الخارج مراد بالذات، والصورة الذهنية مرادة بالعرض، وبالمعنى
الاخر يكون بعكس ذلك فظهر مما ذكرنا أن اختلاف متعلقي الامر و
النهي في الذهن لا يرفع إشكال اجتماع الضدين.
(الثالث) - أن الاجتماع مأموري لا أمري بمعنى أن الامر في عالم
الجعل والتشريع لم يجمع بين الأمر والنهي في موضوع واحد، وأنه
أورد الامر على طبيعة والنهي على طبيعة أخرى لا ربط لإحداهما
بالأخرى، وإنما المأمور فيما إذا كان له المندوحة طبق الاثنين بسوء
اختياره على الواحد الذي هو مجمع العنوانين (وأنت خبير) بأن هذا
الوجه يرجع إلى الوجه الثاني والجواب عنه هو الجواب عن ذلك
الوجه بعينه لأنا إذا قلنا بأن الصورة الذهنية متعلق للامر والنهي بما
هي حاكية عن الخارج وفانية فيه، ويسري الأمر والنهي بواسطة
تلك الصورة الذهنية إلى الخارج، فيكون الاجتماع أمريا لا مأموريا
فقط.
(الرابع) - أنه ليس متعلق الاحكام المفاهيم باعتبار نتيجة الحمل، بل
تكون المفاهيم باعتبار رتبة نفس الحمل، إذ تلك الرتبة رتبة تغاير
الموضوع والمحمول، ورتبة نتيجة الحمل رتبة اتحادهما، ولا بد في
الحمل من هذين اللحاظين أي التغاير من وجه والاتحاد من وجه. و
حيث أن حقيقة حمل شئ على شئ ومفهوم آخر هو الهوهوية و
الاتحاد في الوجود، فلا بد من أن يكون بينهما اتحاد في الوجود. و
هذا
هو المراد من نتيجة الحمل. ومن ذلك الطرف كون الشئ موضوعا و
مسندا إليه غير كونه محمولا ومسندا، فبهذا الاعتبار يحتاج الحمل
إلى مغايرة وإثنينية وهذا هو المراد من رتبة نفس الحمل أي رتبة
تصحيح الحمل بالإثنينية والمغايرة. وحاصل هذا الكلام أن تعلق
الاحكام بالمفاهيم في رتبة تغايرها مع مصاديقها الخارجية القابلة
للحمل والانطباق عليها لا أنها متعلقات لها في رتبة اتحادها مع تلك
المصاديق وانطباقها عليها
399

حتى يلزم اجتماع الضدين في المجمع.
(وأنت خبير) بأن مراد هذا القائل إن كان هو أن المفاهيم والصور
الذهنية بما هي موجودات ذهنية وبما هي هي من دون حكايتها عن
الخارجيات وكونها مرآة لها وفانية فيها متعلقات للأحكام، فقد تقدم
جوابه وبينا أن تعلق الاحكام بها باعتبار حكايتها عن
الخارجيات وفنائها فيها، وإن اعترف بأن تعلقها بها بهذا الاعتبار فقهرا
إطلاق كلا الحكمين يشمل المجمع ويسري إليه، فيلزم اجتماع
الضدين والتعارض والحاصل أن هذه عبارات مختلفة والمعنى شئ
واحد يدور بين النفي والاثبات لا يمكن جمعهما ولا رفعهما، و
هو أن تلك الصور الذهنية التي تكون متعلقات للأحكام إما باعتبار
فنائها في المصاديق والخارجيات أولا، بل بما هي هي فان كان
الأول فقهرا يسري الأمر والنهي كلاهما إلى المجمع، فيكون اجتماع
الضدين وتصير المسألة من صغريات باب التعارض، وإن كان
الثاني فقد ظهر لك بطلانه وفساده وأنه لا مصلحة ولا مفسدة فيها، و
أنها بهذا الاعتبار لا تنطبق على الخارجيات وليست قابلة
للامتثال إذ ظرف وجودها الذهن، ولا يمكن إتيانها في الخارج وإلا
يلزم انقلاب الذهن خارجا.
(الخامس) - أن متعلق الاحكام هي الماهيات والمفاهيم بلحاظ عدم
تحصلها في الخارج، وهي في تلك المرتبة وذلك اللحاظ متباينة،
لان ما به الاتحاد هو التحصل والوجود وإلا فهي في حد أنفسها مثار
الكثرة والغيرية، ففي ظرف الخطاب وتعلق الاحكام لا يلزم
اجتماع، لان ذلك الظرف أي ظرف التعلق ظرف قبل التحصل، و
ظرف التحصل ظرف التطبيق والامتثال، وأما كون النسبة بين
الطبيعتين اللتين إحداهما تعلق بها الامر والأخرى تعلق بها النهي هي
العموم والخصوص من وجه فلا ينافي ذلك، لأنها أيضا باعتبار
التحصل في الخارج وتطبيقهما على مصاديقهما، وإلا فكما قلنا آنفا
الماهيات باعتبار أنفسها ورتبة قبل تحصلها متباينة دائما ولا
تتطرق إليها النسب الأربع أصلا. (وبعبارة أخرى) المناط في إمكان
الجعل والتشريع حتى يكون من باب التزاحم وعدم إمكانه حتى
يكون الاطلاق بالنسبة إلى المجمع من باب
400

التعارض هو ظرف تعلق الخطابات لا ظرف امتثالها وتطبيقها على
الخارجيات. وقد عرفت أن في ذلك الظرف بين المتعلقين كمال
المغايرة وليس هناك اجتماع بينهما أصلا (وفيه) أن الماهيات في
ظرف التعلق إما أن تعلق بها الخطابات بما هي موجودات ذهنية أو
بما هي هي، فقد تقدم بطلانه وإما أن تعلق بها باعتبار حكايتها عن
المصاديق الخارجية وفنائها فيها واتحادها معها فيعود الاشكال.
(والحاصل) أن الطلب وإن كان تعلق بالطبائع والمفاهيم قبل تحصلها
في الخارج، ولكن المطلوب هو تحصلها في الخارج في الأوامر
وترك تحصلها في النواهي.
هذه هي الوجوه التي استدلوا بها على جواز الاجتماع. وقد عرفت أن
كلها مخدوشة وغير مفيدة بالنسبة إلى المرام حتى أن ما ذكره
شيخنا الأستاذ أعلى الله مقامه الشريف غير خال عن الخلل. نعم لو
كانت هناك مقولتان إحداهما صارت متعلقة للامر والأخرى للنهي و
اجتمعتا أي اقترنتا لان الاجتماع بمعنى حمل إحداهما على الأخرى
واتحادهما يعطي خلاف ما ذهب إليه من أن التركيب بينهما
انضمامي، فلا يكون هذا من قبيل اجتماع الضدين البتة. ولكن مثل
هذا خارج عن فرض القوم ومورد نزاعهم وما ذكرنا سابقا في
ابتداء الباب من دخوله في محل النزاع وعدم خروجه عن الفرض كان
على مسلك شيخنا الأستاذ (قده) باعتبار كون إحداهما من
مشخصات الأخرى وحصول وحدة بينهما بمعنى صيرورتهما مركبا
واحدا وقد عرفت بطلان هذه المقالة (وبعبارة أخرى) فرض
اثنينية الوجودين مع عدم حصول اتحاد بينهما خلاف مفروض
المقام، مضافا إلى أن المثل المشهور عند الأصوليين وهي الصلاة في
الدار
المغصوبة ليس من هذا القبيل أي ليست الصلاة من مقولة الوضع و
الغصب من مقولة الأين مثلا بحيث لا يكون قدر مشترك بينهما ماهية
و
وجودا.
(بيان ذلك) أن الغصب ليس عنوانا منتزعا من مقولة واحدة دائما، بل
هو عبارة عن السيطرة على مال الغير أو حقه بدون رضاه أو
السيطرة على شئ لا يجوز له ذلك شرعا كما لو غصب مسجدا و
جعله دارا لنفسه مثلا وعلى كل حال سوأ
401

الغصب بهذا المعنى أو لم يكن الذي هو محرم هو التعدي على الغير،
فكل حركة تصدر منه في دار الغير أو أرضه مثلا بدون رضاه تكون
مصداقا حقيقيا لما هو المحرم.
ومعلوم أن الصلاة أيضا ليست إلا نفس هذه الحركات وعلى فرض
كونها عبارة عن الأوضاع الحاصلة عن هذه الحركات، فأيضا يجتمع
الوجوب والحرمة في نفس الحركات غاية الامر الوجوب المقدمي مع
الحرمة النفسية وبهذا يندفع ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره)
من أنه أي فرق بين كون زيد في الدار وبين كون الصلاة في الدار، فكما
أن كون زيد في الدار غير أصل وجوده فليكن كذلك أيضا
وجود الصلاة في الدار غير أصل وجودها وذلك من جهة أنه بعد ما
عرفت فيما تقدم أن المأمور به هو إيجاد الصلاة مثلا في الخارج
فيكون إيجادها في المكان الغصبي الذي هو بنفسه تصرف في مال
الغير ويكون حراما مصداقا حقيقيا للمأمور به ومعنونا واقعيا
للعنوان الواجب أي إيجاد الصلاة في مكان من الأمكنة.
فظهر من مجموع ما ذكرنا أنه إن كان متعلق الامر مع متعلق النهي
متعددا وجودا في الوجود الخارجي ولو كان الوجودان منضما
بعضهما ببعض أو كان أحدهما متلازما مع الاخر، فلا ينبغي أن يشك
في إمكان ان يكون أحد الوجودين متعلقا للامر والاخر متعلقا
للنهي. ولا يلزم اجتماع الضدين البتة ولكن هذا الفرض ليس محل
الكلام بين الأصحاب ظاهرا كما يظهر من أمثلتهم في مختلف
الموارد، وأيضا تسمية هذا بالحيثية التقييدية لا وجه له كما هو ظاهر و
إن كان واحدا وجودا ومتعددا مفهوما فبناء على ما هو الحق من
تعلق الطلب بالوجود الخارجي فلا محالة يصير اجتماع الضدين في
المجمع.
وأما ما يقال من إمكان أن تكون لوجود واحد شؤون وأطوار وحالات
ويكون أحد تلك الأطوار أو الحالات واجبا، والاخر حراما ولا
يلزم اجتماع الضدين لاختلاف مركز الأمر والنهي ويقال بأن هذا هو
المراد من كون الحيثيتين تقييديتين (ففيه) أن تلك الحالات و
الشؤون إن كانت متحدة وجودا مع الذات المتشئنة بها
402

وبعضها مع البعض فيعود المحذور، وإلا خارج عن الفرض كما بينا
هذا مع أن التركيب بين الشئ وشئونه لا يمكن أن لا يكون
اتحاديا وذلك لفناء الشأن في ذي الشأن واندكاكه فيه. هذا كله في
المقام الأول أي في مقام الجعل والتشريع
وأما المقام الثاني أي مرحلة الامتثال،
فهل يجوز الامتثال للطبيعة المأمور بها بإتيان المجمع أو لا؟ فنقول: أما
بناء على الامتناع في المقام الأول فلا بد وأن يعامل مع الدليلين
معاملة التعارض، فان قدمنا ورجحنا الاخذ بدليل الامر فلا نهي في
البين حتى نقول بعدم كفاية المجمع في مقام الامتثال ويكون حال
المجمع حال سائر الافراد التي لم تقع تحت النهي، وان قدمنا جانب
النهي فالمجمع يكون حراما لا مصلحة فيه وليس فيه ملاك الوجوب
أصلا فلا وجه للقول بتحقق الامتثال به وكفاية إتيانه في حصول إطاعة
الامر المتعلق بالطبيعة التي يكون المجمع أحد افرادها و
مصاديقها. وأما بناء على جواز الاجتماع في المقام الأول وعدم لزوم
اجتماع الضدين منه، فقد بنى شيخنا الأستاذ (قده) جواز الامتثال
به وكفايته في تحققه على أن اشتراط الامر بالقدرة على إتيان متعلقه
هل هو من جهة ان حقيقة الامر هي عبارة عن البعث إلى أحد
طرفي المقدور بحيث تكون القدرة مأخوذة في ماهية الامر وحقيقته
أم يكون اشتراطه بها من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز، فان
كان وجه الاشتراط هو الأول فيقول بعدم تحقق الإطاعة والامتثال
بالمجمع لان المأمور به - بناء على هذا الوجه - يصير مقيدا بكونه
مقدورا، فلا ينطبق على الفرد غير المقدور لان المقيد بقيد لا ينطبق
على فاقده وأما إن كان الوجه هو الثاني فليس في نفس الامر
قصور ولا يجي من قبله تضييق وتقييد في جانب المتعلق بكونه
مقدورا فالامر يتعلق بالطبيعة المجردة عن هذا القيد غاية الامر بحكم
العقل لا يشمل غير المقدور. وخروج الفرد غير المقدور عن تحت
الامر بحكم العقل لا يوجب تقييدا في المتعلق بكونه مقدورا حتى
تقول
بأن المقيد بقيد لا يمكن أن ينطبق على فاقده، فالمأمور به هو نفس
الطبيعة من دون أي قيد، فينطبق على المجمع كانطباقه على سائر
الافراد.
403

(وأنت خبير) بأنه لا فرق بين الامرين، إذ لو كان المراد تقييد المتعلق
لحاظا في الرتبة السابقة على الامر ثم ورود الامر على ذلك
الملحوظ المقيد، فليس في كلا الموردين تقييد كذلك وإن كان المراد
أن واقع المبعوث إليه مضيق لا يشمل الفرد غير المقدور فهذا
القسم من التضييق موجود في كلا المقامين وانما الاختلاف في منشأ
التضييق، ففي أحدهما قصور الامر ذاتا وعدم إمكان تحققه و
توجيهه إلى غير المقدور، وفي الاخر قبح ذلك مع إمكانه تكوينا. و
حاصل الكلام أن المكلف يكون عاجزا عن إتيان هذا الفرد من
الطبيعة المأمور بها المنضم إلى الخصوصية المبغوضة المحرمة شرعا،
فلا ينطبق المأمور به المضيق على هذا الفرد فلا يكون الانطباق
قهريا والاجزاء عقليا، كما نسب إلى المحقق الثاني (قده)، فلا تحصل
الإطاعة والامتثال، فعلى فرض القول بالجواز في المقام الأول أي
مقام الجعل والتشريع لا وجه للقول بالجواز في المقام الثاني أي مقام
الإطاعة والامتثال، مضافا إلى عدم تحقق قصد القربة بالنسبة إلى
هذا الفرد المبتلى بالمزاحم أي الخصوصية المبغوضة المحرمة. (و
بعبارة أخرى) صرف كون الطبيعة مقدورة ببعض وجوداتها و
أفرادها لا يصحح انطباقها بما هي مقدورة على الفرد غير المقدور
منها، سواء كان عدم القدرة بواسطة عجزه خارجا وتكوينا أو
بواسطة المنع الشرعي كما في المقام. وأما توهم أن المأمور به هو
ذات الشئ لا بوصف أنه مقدور فقد أجبنا عنه بأن تضييق المأمور به
قطعي وليس هو إلا الحصة التوأمة مع المقدورية، وإن كان منشأ هذا
التضييق يختلف عندهم، فعند بعض يكون لضيق في نفس الامر و
من مقتضيات ذاته ومن ناحية حكم العقل بقبح خطاب العاجز عند
آخرين.
ثم انه قد ذكر هاهنا وجهان آخران للجواز:
(الأول) - أن الإرادة والكراهة من صفات النفس وقائمتان بها (و
بعبارة أخرى) موضوعهما النفس وليس معروضهما وجودات
الطبائع الخارجية حتى يلزم اجتماع الضدين. وأما في النفس فلا يلزم
من جهة أن قيامهما بها يكون قياما صدوريا
404

لا حلوليا، وتكونان بالنسبة إليها كالمعلول بالنسبة إلى علته. وحيث
أن النفس تكون من عالم السعة والاحاطة فلا مانع من قيامهما بها
بمثل هذا القيام. نعم لو كان متعلقهما واحدا لما أمكن من جهة عدم
إمكان تحقق البعث والزجر نحو شئ واحد في زمان واحد من
شخص واحد. وأما لو كان هناك عنوانان تعلق بأحدهما الامر وبالآخر
النهي فلا يلزم اجتماع، ولو تصادق العنوانان على واحد
شخصي. نعم يقع التزاحم في مرحلة امتثال العبد لو لم تكن مندوحة
في البين (وأنت خبير) بأن الصفات النفسية وإن كانت قائمة
بالنفس، ولكن قد يقع التضاد بينها باعتبار متعلقاتها، فلو قلنا بسراية
الإرادة والكراهة إلى الخارج ولو كان بتوسيط الصورة الذهنية
كما تقدم شرحه مفصلا، فلا محالة يتحقق اجتماع الضدين بهذا
الاعتبار.
(الثاني) - وقوعه في الشرعيات وذلك كالعبادات المكروهة. ولا
فرق في تحقق التضاد بين أن يكون الضدان من قبيل الوجوب و
الحرمة وبين أن يكون من قبيل الاستحباب والكراهة. وذلك من جهة
أن الأحكام الخمسة متضادة بأسرها، فلو كان اجتماع الوجوب و
الحرمة في واحد بعنوانين موجبا لاجتماع الضدين، فلا بد وأن يكون
اجتماع الكراهة والاستحباب أيضا موجبا لاجتماع الضدين و
محالا، لكنه واقع في الشرعيات وأدل دليل على إمكان الشئ وعدم
محاليته وقوعه (وأنت خبير) بأن مركز الأمر والنهي في الموارد
المتوهمة ليس بواحد، بل إما أن يكون الامر متعلقا بالطبيعة والنهي
التنزيهي بالخصوصية، واما أن يكون النهي متعلقا بعنوان آخر
ينطبق على التعبد بالمأمور به كالتشبه بأعداء الدين أو عبدة الأصنام
مثلا، وإلا فكون التضاد بين الاستحباب والكراهة معلوم وواضح.
ومحالية اجتماع الضدين وامتناعه أوضح.
ثم إن الكلام في مقام الامتثال يكون تارة مع وجود المندوحة وأخرى
مع عدمها. وما تقدم من الاشكال في الامتثال بإتيان المجمع انما
كان مع وجود المندوحة.
وأما مع عدمها والاضطرار إلى الغصب مثلا، فتارة يكون الاضطرار لا
بسوء
405

الاختيار كالمحبوس في الأرض أو الدار المغصوبة، وأخرى يكون
بسوء اختياره كالمتوسط فيها اختيارا وعدوانا.
ففي القسم الأول يسقط النهي بواسطة الاضطرار، فلا يبقى مانع عن
امتثاله، إذ ليس مانعية النهي النفسي مثل مانعية النهي الغيري بحيث
يكون لعدم المنهي عنه دخل في ملاك الشئ، وذلك كلبس الذهب
والحرير للرجال، ولبس غير المأكول مطلقا، حيث أن ملاك الصلاة
لا يحصل مع وجود هذه الأمور، بل تكون مانعيته من جهة عدم إمكان
التقرب بالمبغوض أو عدم وجود الملاك بواسطة وجود النهي،
فإذا سقط النهي بواسطة الاضطرار فلا مبغوضية في البين، ويستكشف
الملاك من الاطلاقات التي كانت مقيدة بواسطة وجود النهي حتى
بناء على الامتناع، لأنه لا مقيد بعد سقوط النهي، فكأنه لم يكن من أول
الامر.
و (أما القسم الثاني) - أي فيما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار
كالاضطرار إلى الخروج للتخلص عن الغصب - فقد وقع الكلام و
اختلفت الآراء في مثل هذا التصرف والصلاة التي تقع في ضمنه، أما
حكمه التكليفي فقيل بأنه يقع عصيانا للنهي المتوجه إليه بترك
الغصب مطلقا، سواء كان التصرف هو التصرف الدخولي أو البقائي أو
الخروجي إذ كان يمكنه ترك جميع هذه التصرفات في أول الامر
بترك الدخول، وهو بسوء اختياره جعل ترك هذا التصرف ممتنعا
على نفسه والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. وبناء على هذا
يكون الخروج حراما يعاقب عليه، ونسب إلى أبي هاشم المعتزلي و
المحقق القمي (ره) وجوبه أيضا، لكونه مصداقا للتخلص الواجب و
ترك العدوان ورفع اليد عن مال الغير ورده إليه، ففي الحقيقة هاهنا
قولان: (أحدهما) - أنه حرام فعلا فقط. و (ثانيهما) - أنه مع ذلك
واجب أيضا. وكلا القولين في غاية السخافة، لان النهي الفعلي مع
عجز المكلف قبيح عقلا لا يمكن أن يصدر عن الحكيم، بل بناء على
ما
أشرنا إليه سابقا في الامر أنه عبارة عن البعث إلى أحد طرفي المقدور،
فالنهي أيضا - حقيقة - عبارة عن
406

الردع والزجر عن أحد طرفي المقدور، فغير المقدور لا يمكن أن يكون
متعلقا لا للامر ولا للنهي، لا أنه قبيح فقط. وأما قاعدة
(الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار) فلا ربط لها بالمقام، لان المراد
منها أن التكليف إذا توجه إلى المكلف وكان قادرا على امتثاله، ثم
بسوء اختياره جعل ذلك الامتثال ممتنعا على نفسه، فلا يكون معذورا
في ترك الامتثال، بل يؤاخذ ويستحق العقاب، لأنه - في الحقيقة -
ترك الامتثال عمدا وبسوء اختياره (وبعبارة أخرى) عجز نفسه
اختيارا، لا انه في حال العجز يكون التكليف متوجها إليه كما يدعيه
المدعي في المقام، فان هذا إما قبيح أو غير معقول كما أشرنا إليه. و
القول الاخر - أي كون التصرف الخروجي فعلا حراما فقط من
دون أن يكون واجبا - باطل أيضا لعين ما ذكرنا من قبح تكليف العاجز
عقلا أو امتناعه تكوينا. ولا فرق في ورود هذا الاشكال بين
القول بوجوبه أيضا كما نسب ذلك إلى أبي هاشم المعتزلي والمحقق
القمي (ره) وبين القول بعدم وجوبه، مضافا إلى حرمته الفعلية.
(القول الثالث) - ما ذهب إليه صاحب الفصول (ره) من أنه واجب
فعلا ولكن مع ذلك يعاقب عليه من جهة عصيانه السابق لترك
الخروج
بواسطة عصيانه لترك الدخول، فبمحض دخوله حيث عجز عن ترك
الخروج، إذ هذا المقدار من التصرف لا بد منه بحكم العقل بل
الشرع سقط النهي عن التصرف الخروجي ولكن سقوطه بالعصيان،
فيعاقب عليه، فإذا سقط النهي فلا مانع من تعلق الامر به و
صيرورته واجبا بعد ذلك (وأنت خبير) بأنه وإن أمكن حدوث النهي
قبل زمان المنهي عنه، ولكن صرف هذا لا يكفي بل لا بد من بقائه
إلى زمان المنهي عنه (وبعبارة أخرى) الجلوس يوم الجمعة إذا كان
مبغوضا ومنهيا عنه لا بد وأن يكون طلب الترك أيضا في ذلك
اليوم حتى بناء على إمكان الواجب المعلق (وبعبارة واضحة) الامتثال
لا بد وأن يكون ممكنا، ومعنى الامتثال هو الانبعاث عن البعث في
باب الأوامر، والانزجار بالزجر في باب النواهي، وفي هذا المقام لا
يمكن الانزجار بالزجر لا قبل
407

الدخول ولا بعده، اما قبله فمن جهة عدم وجود الموضوع، واما بعده
فلسقوط النهي بنظر هذا القائل، فلا زجر حتى ينزجر به.
(القول الرابع) - هو انه ليس فعلا مأمورا به ولا منهيا عنه، ولكن
يجري عليه حكم المعصية من جهة استحقاقه للعقاب، والعقل يلزمه
بالخروج فعلا من باب أقل المحذورين. ويرد عليه ما أوردناه على
صاحب الفصول (ره) وحاصله أن استحقاقه للعقاب لا بد وأن يكون
من جهة مخالفته لنهي المولى عن مثل هذا التصرف وقد أثبتنا أن
النهي عن مثل هذا التصرف لا يمكن لا بعد الدخول ولا قبله، اللهم إلا
ان يقال بكونه منهيا عنه بعد الدخول، ولا ينافي كونه منهيا عنه شرعا
مع إلزام العقل بمثل هذا التصرف من باب أقل المحذورين، و
لكن صاحب هذا القول وهو صاحب الكفاية (قده) لا يقول بوجود
النهي الفعلي.
(القول الخامس) - هو أن التصرف الخروجي مصداق للتخلص من
الغصب ورفع العدوان ورد مال الغير إليه، ومثل هذا المعنى حسن
عقلا ومرغوب فيه ومبعوث إليه شرعا لا قبح فيه أصلا، فلا منع عنه
لا عقلا ولا شرعا لا قبل الدخول ولا بعده، فيقع بصفة الوجوب
دائما، وهذا الوجه هو الذي اختاره شيخنا الأستاذ (قده) تبعا لشيخنا
الأعظم الأنصاري (ره).
ولكن القول - بأن التصرف الخروجي مطلقا يقع حسنا وواجبا - مما
لا يقبله الوجدان، فان الذي يدخل بستان الغير للتفرج والانس
فيدخل ويتفرج ثم يخرج لا بعنوان رد المال إلى صاحبه والتخلص
من الحرام، بل خروجه أيضا بقصد التفرج والانس أو لشغل له أو
لكونه مل من البستان فخرج يكون جميع تصرفاته الثلاثة من الدخول
والبقاء والخروج قبيحة عقلا وممنوعة شرعا، نعم لا بأس بأن
يقال التصرف الخروجي إذا وقع بعنوان التخلص من الحرام يكون
حسنا عقلا وواجبا شرعا، ومثل هذا العنوان لا يعرضه قبح في وقت
من الأوقات، سواء كان قبل الدخول أو بعده، إذ هو نقيض الظلم و
العدوان، فلا يمكن أن يكون ظلما وعدوانا.
408

وأما مسألة الصلاة في حال الخروج بناء على عدم استلزامه للتصرف
الزائد، وإلا فلا يجوز مع وجود المندوحة قطعا، ومع عدم
وجودها لا بد وأن نقول بسقوط النهي ومانعية الغصب، فيختلف
حكمها حسب اختلاف الأقوال في مسألة الخروج، فبناء على ما ذهب
إليه شيخنا الأستاذ وشيخنا الأعظم الأنصاري (قدهما) من وقوع
الخروج حسنا، ومأمورا به عقلا، فالصلاة تقع صحيحة قطعا، لأن المفروض
أن الصلاة لا تستلزم تصرفا زائدا على الخروج الذي هو
حسن عقلا وشرعا، فلا يبقى وجه للاشكال في صحتها، حتى أن ما
يفتون به من الايماء للركوع والسجود، فلعله من جهة استلزامهما
لمقدار من التوقف زائدا على مقدار الخروج، وإلا فلو فرضنا عدم
لزوم ذلك: كما لو كان راكبا سيارته أو سفينته ويسير في أرض الغير أو
نهره بدون إذنه، ففي حال خروج السيارة أو السفينة من
أرض الغير أو نهره حيث إن الركوع والسجود لا يستلزمان حينئذ لا
تصرفا زائدا ولا زمانا زائدا على زمان الخروج، فلا مانع من
إيجادهما. ولا وجه لان يومئ لهما (اللهم) إلا ان يقال إنهما يعدان عند
العرف تصرفا زائدا وإن لم يكن بالدقة العقلية كذلك، (ولكنك
خبير) بأنه لا شأن للعرف في هذا المقام أصلا، لان نظر العرف وفهمه
متبع في تعيين المفاهيم وتشخيصها وسعتها وضيقها، واما مقام
تطبيق تلك المفاهيم على مصاديقها فالمناط هو تطبيقها بالدقة، و
معلوم ان هاهنا مورد تطبيق المفهوم المعين لا تعيين المفهوم (و
بعبارة أخرى) معنى الغصب والعدوان والتصرف في مال الغير
معلوم، وانما الشك في تحقق الغصب الزائد على التصرف الخروجي
بهذا الركوع والسجود.
وهذا لا ربط له بالعرف، وانه يفهم أنه تصرف زائد. وأما بالنسبة إلى
سائر الأقوال في المسألة - حيث أن مثل هذا التصرف أيضا
كالتصرف الدخولي والبقائي يقع مبغوضا للشارع، سواء قلنا بأنه منهي
عنه بالنهي الفعلي أو بالنهي السابق الساقط بعد الدخول - فمع
وجود المندوحة - وإمكان إتيان الصلاة التامة الواجدة لجميع الاجزاء
والشرائط - لا ينبغي أن يشك في فسادها وعدم صحة مثل تلك
الصلاة ولو قلنا بجواز الاجتماع
409

في المقام الأول، لأن جواز الاجتماع في ذلك المقام لا يرفع القبح
الفاعلي وعدم إمكان التقرب بها، وأما مع عدم وجود المندوحة و
ضيق الوقت فلا بد من القول بسقوط النهي وعدم مانعية الغصب،
لقيام الضرورة والاجماع على عدم سقوط الصلاة بحال.
(المبحث الثالث) في أن النهي إذا تعلق بالعبادة أو المعاملة هل
يقتضي الفساد أو لا؟
والكلام يقع هاهنا في مقامين: (أحدهما) - فيما إذا تعلق النهي
بالعبادة و (ثانيهما) - فيما إذا كان متعلقا بالمعاملة. وقبل بيان ذلك
نقدم أمورا:
(الأول)
- أن الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة في كمال الوضوح، لان
هذه مختلفة مع تلك موضوعا ومحمولا، لان موضوع تلك المسألة
هو تعلق الأمر والنهي بعنوانين يكون بينهما افتراق في الجملة وقد
ينطبقان على واحد، وموضوع هذه المسألة هو ما إذا تعلق النهي
بعين ما تعلق به الامر في العبادات أو الامضاء في المعاملات أو
ببعضه، فموضوع تلك المسألة مغاير لموضوع هذه المسألة حتى بناء
على
قول من يقول بأنه إذا كان بين المتعلقين عموم وخصوص مطلق أيضا
داخل في باب الاجتماع، كصل ولا تغصب الغصب الصلاتي، لأنه
في هذه الصورة أيضا متعلق الأمر والنهي متعدد أولا وبالذات. و
الكلام في أن أحدهما أو كلاهما يسري إلى متعلق الاخر أو لا؟ وأما في
هذه المسألة فالاتحاد مفروغ عنه. نعم بناء على السراية في تلك
المسألة تكون موارد الاجتماع من صغريات هذه المسألة. وأما الفرق
بينهما محمولا ففي غاية الوضوح، إذ المحمول في تلك المسألة. هو
أنه هل يسري ويتحد المتعلقان أو لا؟ وفي هذه المسألة بعد الفراغ
عن السراية هل يقتضي الفساد أو لا؟
(الثاني)
- أنه لا شك في أن هذه المسألة مسألة أصولية لان نتيجتها تجعل
كبرى في قياس الاستنباط، فالفقيه يفتي ببطلان العبادة أو المعاملة
الفلانية إذا كانتا منهيا عنهما مستندا إلى دلالة النهي على الفساد أو
يفتي بالصحة مستندا إلى عدم الاقتضاء.
410

(الثالث)
- أن النهي في العنوان لا يشمل النهي التنزيهي، لان النهي التنزيهي
المتعلق بالمعاملة لا ينافي إمضاءها حتى لو تعلق بالمعنى الاسم
المصدري للمعاملة لان وجود حزازة في الشئ والنهي عنه لتلك
الجهة مع اشتمال مثل ذلك النهي على الترخيص أيضا لا يمنع عن
إمضائه لوجود مصلحة نوعية أو شخصية فيه. وهذا بخلاف النهي
التحريمي إذا تعلق بالمعنى الاسم المصدري، فان مبغوضية نتيجة
المعاملة وما هو من قبيل اسم المصدر للمعاملة والمنع عن إيقاعه
بغير ترخيص ينافي إمضاءه.
وأما النهي التنزيهي المتعلق بالعبادة حيث لا يمنع عن إيجادها بل هو
بنفسه متضمن للرخصة في الايجاد، فلا يقيد إطلاق الامر أو
عمومه، وأما النهي الغيري فقد قال شيخنا الأستاذ (قدس سره)
بخروجه عن حريم النزاع أيضا، مثل النهي عن الضد بناء على اقتضاء
الامر بالشئ للنهي عن ضده الخاص من باب مقدمية ترك الضد
لوجود الضد الاخر، وبناء على وجوب المقدمة. وأفاد في وجهه أن
مثل
هذا النهي لا يضر بوجود الملاك في المنهي عنه ولا يكشف عن
عدمه، فلا يدل على فساد العبادة بل تقع العبادة صحيحة بواسطة
الملاك،
ولكن قد تقدم منا الكلام في هذا المقام في مبحث الضد أن تصحيح
العبادة - مع وجود النهي الفعلي المولوي ولو كان غيريا مقدميا - لا
يخلو عن إشكال.
(الرابع)
- أن المراد بالعبادة في العنوان هي العبادة بالمعنى الأخص، وهي
التي لا يسقط أمرها ولا يحصل الغرض منها إلا بإتيانها بقصد القربة
وذلك من جهة أن النهي المتعلق بالعبادة بالمعنى الأعم لا يدل على
الفساد يقينا، فان غسل الثوب النجس لان يصلي فيه بالماء المغصوب
مثلا منهي عنه، وهذا النهي لا يدل على فساد الغسل قطعا. وأما
المعاملة فلها ثلاثة استعمالات (أحدها) الأخص والأضيق، والمراد
به
العقود المعاوضية بل مطلق المعاوضات والمبادلات كما هو المتبادر
من هذه اللفظة عند العرف (ثانيها) - المعنى المتوسط بين هذا
المعنى والمعنى الثالث الأخير، والمراد به مطلق أبواب العقود و
الايقاعات، وهذا المعنى والمعنى الثالث اصطلاح فقهي (ثالثها) -
411

ما عدا العبادات بالمعنى الأخص فيطلق حتى على أبواب الاحكام:
كإحياء الموات والصيد والذباحة والمواريث والحدود والديات و
القضاء والشهادات، فيقابلون العبادات بالمعاملات ويقسمون الفقه
إلى قسمين: العبادات والمعاملات، ومن اصطلح إرادة المعنى
المتوسط قسم الفقه إلى ثلاثة أقسام: العبادات والمعاملات و
الاحكام، والمراد من هذه الكلمة هاهنا في العنوان هو المعنى الأول
أو
الثاني، إذ من الواضح المعلوم عدم تأثير النهي في الفساد بالنسبة إلى
الاحكام مثلا لو نهى الوالد عن إحياء أرض، فبناء على وجوب
إطاعة الوالد شرعا في أمثال هذه النواهي الصادرة منه يكون الاحياء
منهيا عنه، ومع ذلك لو خالف وفعل يؤثر أثره، وهكذا الامر لو
حلف على ترك إحياء أرض ثم خالف وحنث حلفه وأحياها.
(الخامس)
- المراد بالصحة والفساد ترتب الأثر المطلوب من الشئ وعدم
ترتبه، فالصحيح هو الذي يترتب عليه الأثر، والفاسد في قباله ما لا
يترتب عليه مع قابليته له، وهذه القابلية مأخوذة في مفهوم الفاسد، و
هذا هو السر في أن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة لا ما ذكره
شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أنهما من لواحق الماهية الموجودة ثم
إن الصحيح المقابل للفاسد غير الصحيح المقابل للمعيب، لأنه عبارة
عن عدم الخروج عن الخلقة الأصلية ومقابله المعيب.
ومما ذكرنا ظهر أنهما لا يتطرقان في البسائط فان أمرها يدور بين
الوجود والعدم، فان وجدت فقهرا يترتب عليها أثرها وإلا يلزم
الخلف أي عدم كون ما فرض أثرا لها أثرا لها، وأيضا لا يتطرقان في
موضوعات الاحكام وان كانت مركبة، فان أمرها أيضا يدور بين
الوجود والعدم، بل محلهما متعلقات الاحكام والعقود والايقاعات،
ولا يلزم ان تكون نسبة الصحيح إلى أثره الذي يترتب عليه نسبة
العلة التامة إلى معلولها أو نسبة الأسباب التوليدية إلى مسبباتها، بل في
الغالب بل الأغلب يكون من قبيل المعدات. وقد تقدم تفصيل
ذلك في بعض المباحث السابقة.
412

(إشكال ودفع)
(أما الأول) فهو أن ألفاظ المعاملات موضوعة للمسببات، والمسببات
يدور أمرها بين الوجود والعدم، ولا تتطرق إليها الصحة و
الفساد، فلا يبقى مجال للنزاع في أن النهي في المعاملات يدل على
الفساد أو لا؟.
(وأما الثاني) - أي الدفع - فهو أن العقود آلات لانشاء المعاملات،
فالمنشئ يوجد المعاملة بتلك الآلة غاية الامر آلية تلك الآلات
تشريعية
لا تكوينية كالقدوم للنحت، فمعنى النهي عن معاملة هو النهي عن
إيجادها بتلك الآلة، فيبقى المجال للتكلم في أنه هل مثل هذا النهي
يدل
على عدم ترتب الأثر على مثل هذا الايجاد بمثل تلك الآلة أو لا؟ فمن
يقول بأن النهي يدل على الفساد يقول بعدم ترتيب الأثر على مثل
ذلك الايجاد، ومن يقول بعدم دلالته على الفساد يقول بترتيب أثر
تلك المعاملة على ذلك الايجاد.
ثم إنهم اختلفوا في أن الصحة والفساد هل هما مجعولان بالجعل
الاستقلالي التشريعي كالملكية والزوجية، أو منتزعان عن مطابقة
المأتي به للمأمور به في العبادات، ولما جعل موضوعا للأثر بمعنى أن
الشارع رتب الأثر عليه في المعاملات.
والحق هو الثاني، وذلك من جهة أن أثر الصحة ونتيجتها في العبادات
هو الاجزاء وعدم لزوم الإعادة والقضاء. وهذا يترتب على
مطابقة المأتي به للمأمور به. وفي المعاملات هو ترتيب أثر تلك
المعاملة على المأتي به في الخارج، فالصحة في كلا البابين تنتزع من
تلك المطابقة، كما أن الفساد أيضا ينتزع من عدم تلك المطابقة. و
نفس المطابقة أمر تكويني وليست من المجعولات في عالم الاعتبار.
نعم ربما يحكم الشارع بالمطابقة الظاهرية في بعض الموارد مع الشك
فيها واقعا، كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة
الصحة بجعل الموجود بدلا عن الواقع التام، أو بالتوسعة في مقام
الامتثال، ففي مثل هذه الموارد يمكن أن يقال بأن منشأ انتزاع الصحة
مجعول شرعي وإلا ففي غالب الأحيان لا هما مجعولان ولا منشأ
انتزاعهما.
413

ومما ذكرنا ظهر لك أن التفصيل بين الصحة والفساد في باب
المعاملات وبينهما في باب العبادات بجعل الأول من المجعولات
الشرعية والثاني من الانتزاعيات لا وجه له، وأنهما في كلا البابين
ينتزعان من المطابقة وعدم المطابقة.
(السادس)
- في أن النزاع في هذه المسألة ليس متوقفا على أن يكون عموم دليل
أو إطلاقه في البين بحيث يدلان على صحة تلك العبادة المنهي
عنها أو تلك المعاملة المنهي عنها لولا النهي، وذلك من جهة أن غاية
ما يمكن ان يقال في المقام للزوم وجود عموم أو إطلاق في البين
هو أنه لو لم يكن كذلك فلا يحتاج في إثبات الفساد إلى النهي، بل
مقتضى الأصل هو فسادهما ولو لم يكن نهى، فلا تبقى ثمرة للنزاع
في أن النهي يدل على الفساد أو لا، كما ذهب إلى هذا الوجه المحقق
القمي (قدس سره) حيث قال إن الأصل في المعاملات دائما هو
الفساد
من جهة أصالة عدم ترتب الأثر مثل النقل والانتقال، وهكذا بالنسبة
إلى سائر الآثار كأصالة عدم تحقق العلاقة بين الزوجين، وغير
ذلك من الآثار وهكذا في العبادات إذا شككنا في مشروعية عبادة،
فمقتضى الأصل هو عدم مشروعيتها وقد مثل للمعاملة التي لا
يشملها عموم أو إطلاق بالقمار وللعبادة التي لا يشملها عموم أو
إطلاق بصوم الوصال، وقال بأنه لو لم يتعلق نهي بهذين المشكوكين
أيضا كان مقتضى الأصل فسادهما (وأنت خبير) بأن دلالة الأصل على
الفساد يكون في طول دلالة الدليل عليه، وذلك لحكومة الامارات
على الأصول وإن كانت موافقة لها في المؤدى. هذا مضافا إلى أن
الشك في الفساد قد يكون من جهة الشبهة الحكمية من جهة احتمال
شرطية شئ أو جزئيته أو مانعيته في العبادة أو المعاملة، ففي هذه
الصورة ربما يكون مقتضى الأصل العملي صحتها لجريان البراءة، و
لكن النهي ربما يدل على الفساد.
(السابع)
- أنه لا أصل عند الشك في نفس المسألة الأصولية يعتمد عليه في
هذه المسألة، واما بالنسبة إلى المسألة الفرعية فان كان الشك من جهة
المشروعية وعدمها فمقتضى الأصل هو عدمها، وإن كان من جهة
الشبهة الموضوعية وأن هذا الفرد هل
414

هو مصداق لتلك العبادة المشروعة أو لتلك المعاملة المشروعة،
فائضا مقتضى الأصل اشتغال الذمة وعدم فراغها بذلك الفرد
المشكوك
الفردية بالنسبة إلى العبادة، وأصالة عدم ترتب الأثر في مشكوك
الفردية للمعاملة المشروعة. واما إن كان من جهة الشبهة الحكمية و
ان الشئ الفلاني هل هو جز أو شرط أو مانع لهذه المعاملة أو تلك
العبادة فقد بينا أنه ربما يكون مجرى البراءة فيكون مثل تلك
العبادة أو المعاملة صحيحة يترتب عليهما الأثر المقصود منهما. (إذا
عرفت هذه المقدمات) فالكلام يقع في مقامين:
(الأول) - في النهي عن العبادة
(وما يقال) - من عدم إمكان تعلق النهي بالعبادة لان العبادة ما هو
المحبوب لله تعالى ومقرب منه، والنهي لا يتعلق إلا بما هو مبغوض
ومبعد أيضا إذا كان نفسيا - (مردود) بأنه ليس المراد بالعبادة العبادة
الفعلية حتى في ظرف تعلق النهي بها ووجوده، بل المراد بها ما
تكون عبادة ولا يمكن امتثالها الا بقصد القربة لو أمر به ولم يكن نهى
يدل على الفساد في البين. وقد ظهر مما ذكرنا الجواب عن
إشكال آخر، وهو ان النهي عن العبادة مستلزم لاجتماع الضدين لان
العبادية لا تتحقق إلا بعد وجود الامر وتعلقه بها، والنهي أيضا لو
تعلق يلزم اجتماع الضدين ولا يقاس بباب الاجتماع، لأنه هناك من
يقول بالجواز والامكان يكون من جهة تعلقهما بعنوانين، فيقول كل
واحد منهما لا يسري إلى متعلق الاخر واما فيما نحن فيه فحيث انهما
تعلقا بشئ واحد لا يمكن هذا القول. وقد عرفت انه ليس المراد
بالعبادة العبادة الفعلية وان الامر موجود حال وجود النهي حتى يلزم
اجتماعهما، فيندفع الاشكال من أصله ولا يبقى له مجال. واما
الاشكال - حينئذ بأنه لو لم يكن أمر في البين فمقتضى الأصل أي
أصالة عدم المشروعية هو الفساد فلا يبقى مجال للنزاع في أن النهي
يدل على الفساد أم لا؟ - فقد أجبنا عنه، وتقدم ان استناد الفساد إلى
الأصل في طول الاستناد إلى الامارة.
وما يقال - أيضا - من أن النهي المتعلق بالعبادة دائما يكون من جهة
خصوصية
415

زائدة على ذات العبادة خارجة عن حقيقتها لان ذات العبادة ما لم
تتخصص بتلك الخصوصية ولم تتصف بذلك الوصف تكون محبوبة
و
مقربة، فلا يمكن ان يتعلق بها نهي الا باعتبار تلك الخصوصية، وذلك
الوصف، ففي الحقيقة النهي يتعلق دائما بذلك الامر الخارج عن
ذات العبادة، فما قيل - في مقام أقسام النهي عن العبادة ان النهي اما
متعلق بذات العبادة أو بوصفه - لا وجه له، بل ينبغي ان يجعل قسما
واحدا ويقال بأن النهي دائما متعلق بأمر خارج عن حقيقة العبادة -
ففيه أن الخصوصيات الطارئة على ذات العبادة على قسمين قسم
ينوع العبادة، فكان الخصوصية الطارئة عليها تجعلها حقيقة أخرى و
نوعا آخر، وذلك كصلاة الحائض وصوم الوصال (وبعبارة
أخرى) الخصوصية المشخصة أو المصنفة كأنها ركن في نظر الشارع
من حيث مدخليتها في الملاك، ففي هذا القسم ولو كان منشأ النهي
وجود مثل تلك الخصوصية أو عدمها إلا أن النهي يتعلق بنفس تلك
العبادة لتنوعها بها، وقسم آخر ليس كذلك أي ليس منوعا حتى
بذلك المعنى من التنوع الذي قلنا به، بل يكون في نظر الشارع من
صفات العبادة التي توجب فضلها أو حزازة أو مفسدة فيها أو لا
توجب شيئا من ذلك أصلا. والمناقشة - في بعض الأمثلة وأنه من أي
القسمين - لا تضر بأصل المطلب.
(إذا ظهر لك ما ذكرنا) فنقول: أن النهي المتعلق بالعبادة له أقسام:
(الأول) - أن يتعلق بنفس العبادة بلا واسطة في العروض ولا في
الثبوت غير ذاته، وذلك كصوم الوصال وصلاة الحائض. وقد تقدم
الاشكال في إمكان هذا القسم في قبال سائر الأقسام مع جوابه.
(الثاني) - أن يتعلق بجزئها كذلك أي بدون واسطة في العروض أو
الثبوت (الثالث) - أن يتعلق بشرطها (الرابع) - أن يتعلق بوصفها
الملازم لها أو غير الملازم، وهذه الثلاثة الأخيرة قد تكون واسطة في
الثبوت بالنسبة إلى تعلق النهي بذات العبادة، فيرجع الامر - في
الحقيقة - إلى النهي عن نفس العبادة، وقد تكون واسطة في العروض،
ففي الحقيقة متعلق
416

النهي نفس ذوات هذه الثلاثة واستناده إلى ذات العبادة يكون
بالعرض والمجاز.
(أما الأول) - أي ما تعلق النهي بذات العبادة سواء كان بلا واسطة في
الثبوت أو كان معها - فيدل على الفساد أما بناء على مقالة صاحب
الجواهر (ره) من احتياج العبادة إلى الامر فواضح، لأنه مع تعلق النهي
به لا أمر في البين، وإلا يلزم اجتماع الضدين. وأما بناء على
المختار من عدم احتياجها إلى الامر وكفاية الملاك في صحتها. فمن
جهة أن الملاك التام مع النهي لا يتلائمان، إذ مع وجود النهي
النفسي التحريمي لا بد وأن تكون في المتعلق مفسدة فعلية غالبة
على مصلحة الامر وملاكه حتى يكون مقيدا لاطلاق دليل الامر أو
مخصصا لعمومه ويكون موجبا لسقوط الامر، فكيف يمكن إحراز
الملاك التام، ولا يمكن ذلك إلا في مورد عدم القدرة في
المتزاحمين،
وذلك لما تقدم من أن القدرة العقلية لا دخل لها في الملاك، وإلا
لاخذت في متعلق الامر كسائر ماله دخل في الملاك. وحينئذ كانت
تلك
القدرة شرعية لا عقلية، وكانت خارجة عن الفرض، فحيث ان الطبيعة
تعلق بها الامر ولم يكن مانع عن تعلقه بهذا الفرد غير المقدور الا
عدم القدرة التي لا دخل لها في الملاك على الفرض فباب إحراز
الملاك مفتوح بكلا مصراعيه، بخلاف ما نحن فيه كما اتضح ذلك.
و (أما الثاني) - أي فيما إذا تعلق بجز العبادة - فائضا يدل على
الفساد وذلك من جهة ان معنى تعلق النهي بجز العبادة تقييدها بعدم
ذلك الجز ومانعية وجوده مطلقا، سواء كان من الافعال أو من
الأقوال، وسواء اقتصر على ذلك الفرد المحرم كما أنه لو اقتصر على
قراءة سورة العزيمة في الصلاة المفروضة أو أتى بفرد آخر غير محرم
من طبيعة الجز، كما أنه لو أتى بسورة أخرى مباحة بعد قراءة
سورة العزيمة ولو قلنا بجواز القرآن بين السورتين، والسر في ذلك كله
هو ما ذكرنا من أن معنى النهي عن الجز تقييده بعدم ذلك
الجز ولا شك في أن الصلاة المقيدة بعدم شئ لا تنطبق على التي
وجد فيها ذلك الشئ. وقد ذكر شيخنا الأستاذ (قده) وجهين آخرين
أيضا: (أحدهما) - شمول أدلة الزيادة في المكتوبة الموجبة لبطلانها و
فسادها
417

(ثانيهما) - شمول أدلة التكلم العمدي المبطل واستثناء الذكر و
القرآن مخصوص بالجائز منهما. ولا بأس بما ذكره (قدس سره).
و (أما الثالث والرابع) - أي تعلق النهي بشرط العبادة أو بوصفها -
فهما أولا من واد واحد، لان الشرط اما من صفات المصلي مثلا وإما
من صفات الصلاة وبالآخرة يرجع إلى صفات المأمور به، فليس هاهنا
إلا شئ واحد وهو تعلق النهي بوصف العبادة، وهو اما متحد مع
المأمور به وجودا وليس له وجود استقلالي، فمرجع النهي المتعلق به
إلى النهي عن أصل العبادة. وقد تقدم الكلام فيه وإما له وجود
استقلالي فيكون من قبيل المقارنات والملازمات الوجودية، ولا وجه
لدلالة النهي عنها على الفساد، لان لزوم اتصاف المأمور به بصفة
لا يستفاد من ذلك تقييده بوجود صفة محللة. نعم لو استفيد ذلك من
أدلة الاشتراط والاتصاف يكون النهي حينئذ دالا على الفساد. و
الوجه واضح كما أنه لو كان الشرط عبادة فيصير فاسدا فيسري فساده
إلى المشروط.
(تنبيهان)
(الأول) - أن النهي في العبادة إذا سقط بواسطة الاضطرار أو النسيان أو
أي شئ يكون موجبا لسقوطه واقعا، لا أنه يكون موجبا
لسقوطه عن التنجز فقط مع بقائه واقعا كالجهل، فهل ترتفع المانعية
التي أثبتناها له أو لا؟ ذهب المشهور إلى ارتفاعها بسقوطه بما
ذكرنا، ولذلك أفتوا بصحة الصلاة في الذهب والحرير لو اضطر إلى
لبسهما أو وجد موجب آخر لرفع الحرمة وسقوط النهي واقعا. و
لكن التحقيق عدم ارتفاع المانعية بذلك، من جهة أن عمدة مستند
المشهور هو أن المانعية من ناحية النهي، فإذا ارتفع ترتفع لضرورة
انعدام المعلول بانعدام علته (وفيه) ان المانعية ليست معلولة لوجود
النهي، بل هي معلولة لما هو علة للنهي أيضا أعني المفسدة التي
صارت سببا للنهي، وبواسطة الاضطرار أو غيره من الموجبات ترتفع
الحرمة فقط لا المفسدة، لأنها أمر تكويني غير قابلة للرفع
تشريعا الا بلحاظ آثارها الشرعية
418

والا فهي بنفسها لا ترتفع الا برفع تكويني (وبعبارة أخرى) الملاك و
المفسدة التي صار سببا ومقتضيا للنهي والتحريم كان مقتضيا
للمانعية أيضا. ومن الممكن أن يقترن المقتضي بالمانع بالنسبة إلى
أحد مقتضييه دون الاخر، وليس من قبيل العلة التامة لهما حتى
يكون ارتفاع أحد المعلولين ملازما لارتفاع الاخر.
(الثاني) - هل أن الحرمة التشريعية كالحرمة الذاتية في إيجابها لبطلان
العبادة أو المعاملة إذا تعلقت بهما أو لا؟ أو التفصيل بين العبادة
والمعاملة، فالبطلان في الأول دون الثاني؟ الحق هو الأخير. أما بطلان
العبادة بها فمن جهة أن الحرمة التشريعية عبارة أخرى عن القبح
الفاعلي أي حكم العقل بقبح إصدار هذا الفعل من هذا الفاعل بما انه
من الدين مع عدم قيام حجة عنده على أنه منه، وهذا الحكم العقلي
يستتبع حكما شرعيا بقاعدة الملازمة. وعلى كل حال كلامنا في هذا
المقام بعد الفراغ عن حرمة التشريع شرعا سواء كان إثباتها
بقاعدة الملازمة أو بأحد الأدلة التي وردت في هذا الباب من الآيات و
الروايات، فإذا كان إصدار الفعل حراما ومبغوضا شرعا ينافي
ذلك عباديته ولا يمكن التقرب به. وأما بالنسبة إلى المعاملة فمثل
هذا لا يوجب البطلان لأنه لا منافاة بين مبغوضية جهة الاصدار و
إمضاء ما هو الصادر. فالحق هو التفصيل بين العبادة وبين المعاملة
بدلالتها على الفساد في الأول دون الثاني.
(المقام الثاني) - في النهي عن المعاملة.
وخلاصة الكلام في هذا المقام هو أن النهي المتعلق بالمعاملة إما
إرشادي بمعنى أنه يرشد إلى عدم وقوع مثل هذه المعاملة وعدم
صحتها. ولا كلام في دلالة مثل هذا النهي على الفساد. وإما أن مفاده
نفي ترتيب آثار الصحة على مثل تلك المعاملة، كقوله عليه السلام
إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه، وقوله عليه السلام ثمن العذرة سحت
وأمثال ذلك من الروايات. ولا شك في دلالة هذا القسم على
الفساد أيضا، لان نفي الأثر ملازم لنفي المؤثر.
(القسم الثالث) - وهو أن يتعلق النهي بنفس المعاملة وهو على
قسمين، لان النهي إما أن يتعلق بالمعنى المصدري أي بجهة إصدار
هذه
المعاملة أي مباشرة إنشائها
419

بأحد تلك العقود، كالبيع وقت النداء أو يتعلق بالمعنى الاسم
المصدري أي ما هو الصادر. أما الأول فقد تقدم أنه لا يدل على
الفساد، لما
ذكرنا من الوجه. وقد ذكر شيخنا الأستاذ (قده) وجها آخر وهو أن ما
تعلقت به الحرمة أو الوجوب يخرج عن كونه مقدورا بعد تعلق
أحد هذين به في عالم التشريع. وعليه بنى عدم صحة أخذ الأجرة
على الواجبات إلا النظامية منها مطلقا، سواء كان نفسيا أم غيريا عينيا.
أم كفائيا تعيينيا أم تخييريا، من جهة أن الوجوب في جميع هذه الصور
سلب السلطنة والقدرة بالنسبة إلى الفعل الواجب، ومعلوم أن من
شرائط صحة الإجارة في الافعال أن يكون فعل الأجير تحت قدرته و
سلطانه. وأما الواجبات النظامية أي الحرف والأشغال التي يتوقف
عليها السوق ونظام المجتمع، فالواجب فيها ليس ذات الفعل ونفسه،
بل الواجب الاشتغال بهذه الاشتغال (وبعبارة أخرى) الواجب
المعنى المصدري أي إصدار هذه الأفعال لا المعنى الاسم المصدري
أي نفس هذه الأفعال التي تصدر منه، فنفس الفعل يبقى تحت قدرته و
سلطانه، فيصح أخذ الأجرة عليه.
والحاصل أن الحرمة إذا تعلقت بالمعنى الاسم المصدري أي بالمنشأ
الصادر، وربما يعبر عنه بالمسبب لا بالمعنى المصدري أي إنشاء
ذلك الصادر بأحد أسبابه وربما يعبر عن ذلك بالنهي عن السبب أو
التسبب، فيدل على أن ذلك المنشأ ليس تحت قدرته واختياره
شرعا، فكما أنه لو لم يكن قادرا - تكوينا - على إيجاد ذلك المعنى لم
يكن يوجد، فكذلك في مورد عدم القدرة التشريعية. وأما إذا
تعلقت بالمعنى المصدري فيبقى نفس الفعل تحت قدرته وسلطانه،
فيشمله دليل الامضاء.
واما الاستدلال على دلالته على الفساد في باب المعاملات بالاخبار
المعللة لعدم فساد نكاح العبد بدون اذن سيده بأنه لم يعص الله و
انما عصى سيده، فالرواية تدل على أنه لو كان عصى الله وكان الله
نهى عن هذه المعاملة لكانت فاسدة، وفيه أن المراد من هذه الرواية
أن نكاح العبد ليس مما لم يشرعه الله كنكاح المحارم، غاية
420

الامر أنه عبد مملوك لا يقدر على شئ الا بإذن سيده، فحيث ان
نكاحه كان بدون إذن سيده فعصى سيده وتصرف في سلطانه، فلا
يجوز نكاحه الا بإجازته، فهذه الرواية تدل على أن كل من أوجد
معاملة مشروعة بحسب أصل الشرع وكان تصرفا في سلطان الغير،
فيجوز بإجازته. ومعنى هذا صحة المعاملة الفضولية إذا تعقبت بإجازة
المالك، وأين هذا من دلالة النهي على الفساد وعدم دلالته؟ وأما
ما حكي عن أبي حنيفة والشيباني من أن النهي في كلا المقامين - أي
العبادات والمعاملات - يدل على الصحة بتقريب أن متعلق النهي لا
بد وأن يكون مقدورا فعله وتركه حتى بعد النهي ليمكن موافقته و
مخالفته، ولو كان النهي عنهما موجبا لفسادهما فلا يمكن للمكلف
مخالفة هذا النهي، لأنه بنفس تعلق النهي بهما خرجا عن تحت قدرته
ولا يمكن له إيجادهما (ففيه) أنه (اما في العبادات) فقد تقدم ان
متعلق النهي ليس العبادة الفعلية، بل الوظيفة التي شرعت لان يتعبد به
بمعنى أنه لو تعلق به أمر ولم يتعلق به نهى لم يمكن امتثاله ولا
يسقط امره ولا يحصل الغرض منه الا بإتيانه بقصد القربة. و (أما في
المعاملات) فمتعلق النهي أيضا ليس هو المعاملة الصحيحة الشرعية
حتى يلزم هذا الاشكال، بل المتعلق هي المبادلات العرفية كما في بيع
الخمر، فإنهم - مع علمهم بفساد بيع الخمر - يبادلونها بالمال و
يبنون على صحته ويرتبون جميع آثار الصحة عليه، فيندفع الاشكال
من أصله.
(المقصد الثالث في المنطوق والمفهوم)
عرف المنطوق بأنه ما دل عليه اللفظ في محل النطق، والظاهر من
هذه العبارة هو أن المنطوق هو المدلول المطابقي للفظ أو التضمني
ان قلنا بأن للفظ مدلول تضمني خلافا لما ذهب إليه شيخنا الأستاذ
(قده) من إنكاره، وأن مداليل الألفاظ - التي نسميها بالمفاهيم
باعتبار، وبالمدركات العقلانية والصور الذهنية باعتبار آخر - بسائط
ليس لها أجزاء حتى تكون دلالة اللفظ على بعض تلك الاجزاء
دلالة تضمنية، لان هذين القسمين هما مدلولا اللفظ في محل النطق،
بخلاف المدلول الالتزامي
421

ليس مدلولا في محل النطق، بل لا ينتقل الذهن إليه الا بواسطة
الملازمة التي تكون بين مدلول اللفظ وبينه، ولذلك لو لم يعلم بتلك
الملازمة لا إجمالا وارتكازا ولا تفصيلا لا ينتقل ذهنه إليه، فهو معنى
خارج عن محل النطق أي ليس مدلولا لنفس اللفظ ابتداء وبلا
واسطة، وعرفوا المفهوم مقابل هذا المعنى بأنه ما دل عليه اللفظ لا
في محل النطق، وبناء على هذين التعريفين لهما يكون جميع مداليل
الألفاظ منحصرا في هذين ولا يخرج شئ منها منهما، والا يلزم
ارتفاع النقيضين، مثل دلالة الايماء والإشارة ان قلنا بأنهما من مداليل
الألفاظ، والا يكونان خارجين عن أصل المقسم، لان المقسم هو
مداليل الألفاظ، سواء كانت مداليل الألفاظ الأفرادية أو الجمل
التركيبية،
لان الجمل التركيبية أيضا لها مداليل مطابقية وتضمنية ولها مداليل
التزامية.
ولكن الظاهر أن اصطلاحهم في باب المنطوق والمفهوم ليس بهذه
السعة، بل المراد من المفهوم عندهم هو المداليل الالتزامية لزوما بينا
بالمعنى الأخص للجمل التركيبية، ولذلك يكون البحث عن المفاهيم
بحثا صغرويا، وأنه هل لهذه الجمل مثل هذه المداليل أم لا لا في
حجيتها بعد ثبوتها، إذ لا معنى لعدم حجيتها بعد دلالة اللفظ عليها و
لو بالدلالة الالتزامية. وظهوره فيها، لان بناء العقلا في باب حجية
الظهورات لا فرق فيه بين ان يكون المعنى الظاهر فيه مدلولا مطابقيا أو
تضمنيا أو التزاميا، إذ ما هو المعتبر عندهم الدلالة اللفظية
الوضعية بأقسامها الثلاثة من المطابقة والتضمن والالتزام فالمداليل
الالتزامية للافراد كلها خارجة عن المفهوم بهذا المعنى المصطلح، و
أيضا دلالة الايماء والإشارة خارجة عنه لان اللزوم فيهما بين بالمعنى
الأعم لا الأخص فتعريفهم للمفهوم المصطلح - بذلك التعريف
الذي ذكرنا - يكون تعريفا بالأعم، ولكن العذر من هذا وأمثاله بأن
هذه التعريفات التي يذكرها القوم لعناوين الأبحاث ليست الا
تعاريف لفظية ومن قبيل شرح الاسم، وليست تعاريف حقيقية ومن
قبيل الحد والرسم، فكونها أعم أو أخص من نفس العناوين لا ضير
فيها، لأنها لصرف الإشارة إليها لا لبيان حقيقتها وماهيتها حتى
يستشكل عليها بعدم الطرد أو العكس.
422

(إذا ظهر لك ما ذكرنا) - من أن المراد من المفهوم في المقام هي
القضية التي تكون مدلولا التزاميا للقضية الملفوظة المذكورة التي
نسميها بالمنطوق لكونها لازما لها باللزوم البين بالمعنى الأخص، و
يكون ما نسميه بالمفهوم مخالفا للمنطوق في الكيف متحدا معه في
الموضوع والمحمول، بل من جميع الجهات عدا ما علق عليه الحكم
المذكور - (فاعلم) ان هناك قضايا وقع الخلاف في ثبوت مثل هذا
المفهوم لها وعدمه:
(فمنها) - القضية الشرطية
المركبة من جملتين إحداهما تسمى بالشرط والأخرى بالجزاء، ولا
شك في أن مفادها تعليق الحكم في طرف الجزاء على ثبوته في
طرف الشرط وإناطته به، ولا فرق بين أن يكون هذا التعليق والإناطة
مفاد أدوات الشرط أو مفاد هيئة الجملة، ولكن هذا المقدار من
التعليق والإناطة لا يكفي في إثبات المفهوم، لان المفهوم كما ذكرنا
يكون من المداليل الالتزامية باللزوم البين بالمعنى الأخص
للمنطوق، فلا بد وأن تكون في القضية الشرطية خصوصية مستتبعة
للجملة التي نسميها بالمفهوم، بحيث تكون تلك الجملة من اللوازم
البينة بالمعنى الأخص لتلك الخصوصية، حتى تكون دلالتها عليها من
أقسام الدلالة اللفظية الوضعية المعتبرة في باب المحاورة، وليس
مثل تلك الخصوصية إلا كون الشرط علة منحصرة للجزاء فإذا دل
اللفظ بالوضع أو بالاطلاق أو بهما جميعا، كما أنه لو فرضنا أن اللفظ
دل على العلية والاطلاق على الانحصار فيثبت المطلوب أي
المفهوم، ولكن الشأن في إثبات ذلك أما أدوات الشرط أو هيئة القضية
فلا
تدل على أزيد من ترتب الجزاء على الشرط والملازمة بينهما، واما
إثبات هذا الترتب من جهة علية المقدم والشرط للجزاء أو من جهة
أخرى فمشكل فضلا عن إثبات انحصار العلة.
نعم يمكن أن يدعى - كما ادعاه شيخنا الأستاذ (قده) - الظهور
السياقي لاثبات علية الشرط للجزاء وهو أن الكلام كما عرفت مسوق
لترتب الجزاء على الشرط وتأخره عنه، وهذا السياق ظاهر في أن
الترتب الواقعي أيضا بينهما هكذا، فيكون الجزاء في الواقع مترتبا
على الشرط ويكون للشرط سبق على الجزاء وحيث أنه لا محل
423

لسائر أقسام السبق غير السابق بالعلية هاهنا فينحصر الامر فيه. وهذا
عين ما ادعيناه من دلالة سياق القضية الشرطية على العلية ولكن
ذلك أيضا لا يفيد في إثبات الانحصار ولذلك تمسك بعضهم لاثباته
بإطلاق الشرط (وتقريبه) انه لو كان لشئ آخر غير الشرط أيضا
دخل في ثبوت الحكم في طرف الجزاء فان كان ذلك الاخر تمام العلة
لكان عليه أن يأتي بكلمة أو وإن كان جزا لكان عليه أن يأتي
بالواو العاطفة، فمن عدم تقييده بأحد هذين مع أنه في مقام البيان
نستكشف عدم دخل شئ آخر في الجزاء لا مع الشرط ولا مستقلا، و
معنى هذا هو الانحصار فمن إطلاق الشرط نستكشف انحصار العلة
فيه.
واستشكل عليه شيخنا الأستاذ (قده) (أولا) - بأن التمسك بالاطلاق
في الشرعيات لا مورد له الا في المجعولات الشرعية والعلية و
انحصارها أمر تكويني و (ثانيا) - بعدم دلالة القضية الشرطية على
علية الشرط للجزاء حتى يثبت الانحصار بإطلاق الشرط (لكنك
عرفت) اعترافه بدلالة سياق القضية عليها. و (ثالثا) بأن استناد
المعلول إلى علته المنحصرة وغير المنحصرة على نسق واحد، فان
منشأ
انتزاع الانحصار وعدم الانحصار علية غير الشرط أيضا وعدم عليته لا
النقص والكمال في تأثير الشرط. وبهذا البيان يجاب أيضا -
كما في الكفاية - عن انصراف العلة إلى أكمل الافراد بعد منع هذه
الكبرى بمنع الصغرى أيضا وان العلة غير المنحصرة ليست أكمل من
غير المنحصرة إذ مناط العلية والتأثير فيها واحد، وليست المنحصرة
أكمل في العلية والتأثير من غير المنحصرة بعد ما كان الاثنان علة
تامة وواجدا لما هو مناط التأثير على حد سواء. وقد تمسك - أعلى
الله مقامه الشريف - لاثبات الانحصار ودلالتها على المفهوم بإطلاق
الجزاء. (وتقريبه) أن الحكم الذي هو نتيجة الجملة الجزائية و
المحمول المنتسب في طرف الجزاء - كما عرفت - علق وأنيط على
الشرط،
فان كانت تلك الاناطة عقلية تكوينية كقوله إن رزقت ولدا فاختنه فلا
تدل على المفهوم أصلا لان هذا من قبيل تعليق الحكم على
الموضوع وانتفاؤه بانتفائه عقلي، وإن
424

لم يكن كذلك بل كانت إناطة جعلية فحينئذ يقال بأنه لو كان الحكم
الذي في طرف الجزاء منوطا بشئ آخر استقلالا في نظر الشارع
كان عليه أن يعقب الشرط بذلك الاخر مقرونا بكلمة أو، كما أنه لو كان
منوطا به وبالشرط جميعا كان عليه أن يعقب الشرط بذلك
الاخر مع كلمة واو العاطفة، وحيث لم يفعل شيئا من هذين - مع أنه
في مقام البيان - نستكشف من إطلاق الجزاء وعدم إناطته بشئ
آخر غير الشرط عدم مدخلية غيره وهو الانحصار. (وبعبارة أخرى)
حكم الشارع - معلقا على شئ ومنوطا به مع أنه في مقام بيان
جميع ماله دخل في حكمه من دون تقييد ذلك الحكم وإناطته بشئ
آخر - دليل على عدم مدخلية شئ آخر، والا كان عليه البيان و
إنكار كونه بصدد البيان من جميع الجهات مساوق مع سد باب
التمسك بالاطلاقات مطلقا، لان هذا الاحتمال يمكن إبداؤه في جميع
موارد التمسك بالاطلاقات.
ثم إن أستاذنا المحقق (قده) سلك مسلكا آخر لاثبات المفهوم و
حاصله أن كل عنوان أخذ موضوعا للحكم مع ما كان من شؤونه و
قيوده
وحالاته وأطواره، فظاهر الكلام يقتضي أن يكون له دخل بخصوصه
في الحكم، ويكون هو تمام الموضوع للحكم لا هو مع شئ آخر
غيره أو هناك موضوع آخر غيره أيضا لهذا الحكم. وهذا هو معنى
الانحصار، فظهور كل قضية في أن الموضوع المذكور فيها المأخوذ
في طي الخطاب هو تمام الموضوع لمضمون الخطاب مما لا يمكن أن
ينكر ومع ذلك وقع النزاع بينهم في أن القضية الفلانية هل لها
مفهوم أو ليس لها ذلك، ومن جملتها القضية الشرطية فليس المناط
في وجود المفهوم وثبوته هو ظهور القضية في كون المقدم علة
منحصرة للتالي كما قيل لان هذا المعنى ثابت حتى في اللقب بل في
جميع القضايا كما ذكرنا فالسر في ثبوت المفهوم بعد ظهور جميع
القضايا في أن ما أخذ في طي الخطاب تمام الموضوع وعلة منحصرة
للحكم يكون شيئا آخر وهو ان المنشأ في طرف المحكوم هل هو
سنخ الحكم حتى تنتفي طبيعة وجوب إكرام زيد مثلا بانتفاء مجيئه و
يكون هو المفهوم لقضية ان جاءك زيد فأكرمه أو شخصه حتى لا
يدل على انتفاء
425

الطبيعة عند انتفاء المجئ، فلا يكون لها مفهوم فمورد المفهوم هو
تعليق السنخ لا تعليق شخص الحكم ولو كان على العلة المنحصرة،
فتمام مركز البحث بين المنكر والمثبت هو في مضمون الخطاب
المعلق على العنوان بخصوصه بأنه هو السنخ أو الشخص فم آل
البحث
في المقام إلى أن الظاهر من القضية - تعليقية كانت أو غيرها - كونها
في مقام تعليق الشخص أو السنخ بعد الفراغ عن ظهور العنوان
المأخوذ فيها في دخله في مضمون الخطاب بخصوصه الذي هو
ملازم لانحصاره فيه وليس له موضوع آخر غيره مستقلا ولا مشتركا
معه.
ثم انه يقول - في مقام تشخيص ان المنشأ في القضايا هل هو شخص
الحكم الذي ينتفي بانتفاء موضوعه عقلا، وليس انتفاؤه من
المدلولات الالتزامية للقضية المنطوقة أو سنخه حتى يكون انتفاؤه من
المفهوم المصطلح - ان طبع القضايا باقتضاء ذواتها ليس إلا
ترتب الحكم مهملة على موضوعاتها، ومعلوم انها في قوة الجزئية لا
إطلاق لها يشمل جميع وجودات طبيعة الحكم حتى ينتفي الجميع
بانتفاء الشرط لما بينا من ظهوره في الانحصار فيكون بهذا الاعتبار
للقضية مفهوم نعم لو كانت في البين جهة زائدة على ربط الحكم
بموضوعه - كما هو كذلك في القضية الشرطية من حيث اقتضاء أداة
الشرط ربط الحكم بشرطه زائدا على ربطه بموضوعه - أمكن ان
يدعي الاطلاق في هذه الجهة الزائدة وخروجه عن الاهمال من هذه
الجهة ولا منافاة بين إهمال الحكم من جهة وإطلاقه من جهة أخرى،
فبهذا البيان يثبت المفهوم في القضية الشرطية والغاية وأداة الحصر. و
أما في باب مفهوم الوصف فحيث ان الوصف من شؤون موصوفه
الموضوع وبلحاظ يكون عينه ونفسه فيقع التشكيك في أن ترتب
الحكم عليه هل هو من قبيل ترتب الحكم على موضوعه فقط وليست
جهة أخرى زائدة على ذلك في البين يكون الحكم مربوطا بها حتى لا
يكون لمثل تلك القضية مفهوم بل يكون حال الوصف حينئذ حال
اللقب ولا يكون له مفهوم أولا بل يكون ربطه بالوصف جهة زائدة
على ربطه بالموضوع الذي هو ذات الموصوف،
426

فيكون حاله حال القضية الشرطية. ويكون له مفهوم. ثم اختار الأول و
رجح أن ربط الحكم بالوصف عين ربط الحكم بموصوفه و
الموضوع لأنه من شؤونه. انتهى حاصل كلامه زيد في علو مقامه.
(وأنت خبير) بأن المنشأ سوأ كان مفاد الجملة الانشائية أو الخبرية
دائما هو طبيعة الحكم، إذ خصوصيات الانشاء لا يمكن أن تؤخذ في
المنشأ فحينئذ كون المنشأ وجوبا خاصا، وأحد أفراده في مثل إن
جاءك زيد فأكرمه مثلا يحتاج إلى قرينة وعناية، وإلا فطبع القضية
يقتضي أن يكون المنشأ هو طبيعة الوجوب. ومعلوم أن الطبيعة لا
تنعدم إلا بانعدام جميع أفرادها، فلو كان ما علقت عليه هذه الطبيعة
علة منحصرة لها ينعدم جميع أفرادها بانعدام ذلك المعلق عليه
لانحصار العلة، فيصدق انعدام الطبيعة ويثبت المفهوم، وإلا أمكن أن
تنوب عن تلك العلة علة أخرى ولا تنعدم طبيعة الحكم، فصرف كون
المعلق هو سنخ الحكم لا شخصه لا يفيد بل يحتاج إلى أمرين
أحدهما هو هذا، والاخر كون المعلق عليه علة منحصرة لطبيعة
الحكم، وكل واحد منهما وحده لا يكفي، ولذلك لو كان المعلق عليه
علة
منحصرة، ولكن كان المنشأ في طرف الجزاء شخص الحكم لا يمكن
أخذ المفهوم وكذلك لو كان المنشأ سنخ الحكم، ولكن كان المعلق
عليه علة غير منحصرة أيضا لا يمكن أخذ المفهوم، ولذلك ترى ان
كل من يقول بالمفهوم من ناحية كون المقدم علة منحصرة في القضية
الشرطية يشترط في ثبوته كون المنشأ في طرف الجزاء هو سنخ الحكم
لا شخصه، لان انتفاء الشخص بانتفاء موضوعه عقلي ليس من
باب المفهوم.
وينبغي التنبيه على أمور:
(الأول)
- أنه لا إشكال في أن أخذ المفهوم في القضية متوقف على أن يكون
المنشأ في طرف الحكم ومضمون الخطاب هو سنخ الحكم، لان
انتفاء شخصه بانتفاء موضوعه عقلي ليس من باب المفهوم كما تقدم.
وحينئذ (ربما يستشكل) في أن الهيئة معنى حرفي والموضوع له
في باب الحروف هو المعاني الجزئية الشخصية،
427

فلا يمكن أن يكون المنشأ بالخطابات هو سنخ الحكم إذا كان مفاد
الهيئة التي هو معنى حرفي جزئيا غير قابل الصدق على كثيرين. (و
ربما يجاب) عن هذا الاشكال بعدم كون المعاني الحرفية جزئية غير
قابلة للانطباق على كثيرين، بل الموضوع له فيها أيضا كلي على
حذو الأسماء. وربما يجاب بأن مفاد الهيئة ولو كان شخصا من
الوجوب مثلا، ولكن هذا التشخص جاء من قبل الانشاء و
الخصوصيات
الجائية من قبل الانشاء لا يمكن أخذها في المنشأ، فيكون المنشأ
مطلقا من هذه القيود والخصوصيات. وربما أجابوا بأجوبة أخرى، و
لكن الصحيح في مقام الجواب كما تقدم في مبحث الواجب المشروط
أن المعلق ليس هو نفس الحكم أي الوجوب الذي هو مفاد الهيئة، لا
من جهة أنه جزئي والجزئي ليس قابلا للتقييد لان معاني الحروف
عامة كما تقدم، بل لان المعنى الحرفي غير قابل لان يلاحظ مستقلا و
يلتفت إليه، ولذلك لا يقع محكوما عليه ولا به، فالمعلق هو نتيجة
الجملة الجزائية أي طبيعة وجوب إكرام زيد مثلا في قوله إن جاءك
زيد فأكرمه. وهذا معنى اسمي قابل للتقييد وهو سنخ الوجوب لا
شخصه. وربما يقال في هذا المقام بأن أخذ المفهوم غير متوقف على
أن يكون المنشأ هو سنخ الحكم، بل يمكن أخذه ولو كان شخص
الحكم إذا كان المقدم والشرط مثلا علة منحصرة لسنخ الحكم، ودل
اللفظ على ذلك أي كان مدلول لفظ القضية أن المقدم علة منحصرة
لسنخ الحكم.
وفيه أنه إن علمنا من الخارج بأن المقدم مثلا علة منحصرة لطبيعة
الحكم ومضمون الخطاب، فليس من المفهوم في شئ بل يكون هذا
أمرا عقليا بأن بانتفاء العلة ينتفي المعلول فتنتفي طبيعة الحكم بانتفاء
هذا المقدم أو هذا الوصف أو غيرهما من موارد الخلاف في أنه
هل له المفهوم أو لا، وليس مدلولا التزاميا للقضية الملفوظة.
وأما إن كان منشأ علمنا بأن ما ذكر علة منحصرة هو ظاهر القضية و
دلالة اللفظ المنطوق عليها، فواضح أن غاية ما يمكن أن يدل اللفظ
عليه بالوضع أو بالاطلاق هو كون المقدم أو غيره مما ذكرنا علة
منحصرة للمنشأ بالخطاب لا لشئ أجنبي عن مضمون
428

الخطاب وغير مذكور في الخطاب (وبعبارة أخرى) لو كان مفاد
الخطاب ومضمونه شخص الحكم وفردا من أفراده لكانت طبيعة
الحكم أو سائر الافراد غير مذكورة في القضية فلا بد وأن يكون المعلق
والمجعول أعني مضمون الخطاب المعلق هو سنخ الحكم حتى
يكون انتفاؤه بانتفاء علته المنحصرة مدلولا التزاميا للفظ والمنطوق.
(الثاني)
- أن المفهوم هو القضية المخالفة في الايجاب والسلب مع القضية
المذكورة في المنطوق مع اتحادهما موضوعا ومحمولا (وبعبارة
أخرى) المفهوم رفع الحكم المذكور في المنطوق عن موضوعه
بواسطة انتفاء أحد قيوده أو جميعها، فلو كانت للموضوع قيود متعددة
و
كان الحكم المذكور معلقا على جميعها فبانتفاء كل واحد منها ينتفي
ذلك الحكم. وعلى هذا ربما يتوهم أن مفهوم قوله عليه السلام -:
(إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شئ) تنجس الماء بشئ ما عند ارتفاع
الكرية، وذلك من جهة أن لسلب الكلي الذي هو الحكم المذكور
في المنطوق يرتفع بالايجاب الجزئي، ولذلك يقول المنطقيون أن
نقيض السالبة الكلية هي الموجبة الجزئية، لان نقيض كل شئ رفعه.
والسالبة الكلية ترتفع بالموجبة الجزئية، فمفهوم هذه الرواية لا يدل
على تنجس الماء القليل بكل واحد من النجاسات، فضلا عن دلالته
على تنجسه بالمتنجسات، لان مفاد مفهومها - كما ذكرنا - هو ارتفاع
العاصمية بارتفاع الكرية وأما ان جميع النجاسات بل
المتنجسات تؤثر في انفعاله ونجاسته إذا لاقى أحدها فلا.
ويمكن أن يقال (أولا) - أنه فرق بين نظر المنطقي في باب الأقيسة و
القضايا التي يتألف القياس البرهاني منها، ونظر الفقيه في باب
الحجج الشرعية على ثبوت الاحكام، فان ظواهر الألفاظ حجة عند
الفقيه إذا كان ذلك الكلام حجة بحسب الصدور وبحسب جهة
الصدور، ولو لم يكن موجبا لليقين بالمراد بخلافه عند المنطقي ولا
شك في أن أهل العرف والمحاورة يفهمون من هذا الكلام أنه كما أن
الماء إذا كان كرا فلا يؤثر أي واحد من النجاسات والمتنجسات في
نجاسته، فإذا ارتفعت الكرية كل واحد منها يؤثر في نجاسته عند
الملاقاة. و (ثانيا) - أن المنطوق قضية حقيقية تنحل
429

إلى قضايا متعددة، ففي الحقيقة المنطوق عبارة عن أن الماء الذي بلغ
مقدار الكر لا يتنجس بملاقاة العذرة والبول والدم، وغير ذلك
من النجاسات والمتنجسات فعلق في الرواية عدم انفعال الماء بأحد
المذكورات على الكرية، فمفهومه رفع هذا الحكم بارتفاع الكرية، و
رفع عدم الانفعال بأحد المذكورات عبارة أخرى عن الانفعال بأحدها
عند ارتفاع الكرية، وهو المطلوب و (ثالثا) - أن الكلام في
انفعال الماء القليل وأصل عدم اعتصامه مثل الكر لا في أنه هل
يتنجس بجميع النجاسات أو ببعضها وهكذا بالمتنجسات أم لا، و
مثل هذا
المعنى يثبت بهذا المفهوم يقينا وعلى كل حال مضافا إلى عدم القول
بالفصل بين النجاسات وإن كان لا يجري هذا الأخير في
المتنجسات.
(الثالث)
- انه إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فاما أن يكون اتحاده سنخيا قابلا
للتعدد أو لا، بل يكون غير قابل للتكثر والتعدد، فان كان من
قبيل الأول فظاهر إطلاق القضيتين أن كل واحد من الشرطين مؤثر
مستقل ولا وجه لتداخل الأسباب. نعم لو كان مفاد الجزاء صرف
الوجود وما هو عادم العدم، فحينئذ يخرج عن الفرض، لأنه ليس قابلا
للتعدد، لان صرف الوجود عبارة عن أول وجود للطبيعة وهو
مصداق عادم العدم، والوجود الثاني ليس مصداقا له، لان عدم
الطبيعة انعدم بالوجود الأول، لكن قد تقدم أن مضمون الخطاب ليس
إلا
طلب وجود الطبيعة، سواء تحقق وجود الطبيعة قبل هذا أو لا.
فظهر مما ذكرنا أن مقتضى القاعدة الأولية وظاهر القضية الشرطية إذا
تعدد شرطها واتحد جزاؤها وكان الجزاء مما يمكن تعدده و
تكرره هو تعدد الجزاء بتعدد الشرط، وهذا هو المراد من عدم تداخل
الأسباب ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الشرط المتعدد من
سنخ واحد كالاكل المتعدد مثلا في نهار رمضان بالنسبة إلى كفارة
الافطار أو من أسناخ متعددة كالاكل والشرب في نهار ذلك
الشهر بالنسبة إلى الكفارة وإن وقع الخلاف من بعض، لان المناط في
الجميع واحد، وهو أن ظاهر تعدد الشرط والسبب تعدد المسبب
فيما يمكن تعدده. وأيضا لا فرق بين الاتيان بالجزاء قبل تكرر
430

الشرط وبين عدمه، مثلا لا فرق بين أن يكفر بعد الاكل الأول في نهار
رمضان أو لم يكفر، ففي جميع هذه الصور مقتضى القاعدة تعدد
الجزاء بتعدد الشرط، إلا أن يجي دليل على كفاية الجزاء الواحد عن
الشروط المتعددة، كما أنه ورد في باب الوضوء والغسل بالنسبة
إلى أسباب متعددة من سنخ واحد أو من أسناخ مختلفة ويكون من
باب تداخل المسببات بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب، وتداخل
الأسباب في جميع الصور المتقدمة على خلاف القاعدة فيما يمكن
التعدد فيه، وإن وقع الخلاف بينهم في بعض تلك الصور، فقالوا
بالتداخل في متحد السنخ دون مختلفه كما أن البعض فرقوا بين ما إذا
أتى بالجزاء بعد الشرط الأول مثلا فقالوا بلزوم الاتيان بعد
الشرط لو وجد ثانيا، وبين ما إذا لم يأت بالجزاء حتى تكرر الشرط،
فيكفي الاتيان بجزاء واحد من باب تداخل المسببات أو الأسباب.
وحاصل الكلام في هذا المقام أن كل شرط في كل واحدة من
القضيتين ظاهر في كونه مؤثرا مستقلا في وجوب إتيان الجزاء لا بديل
له
في هذا التأثير، ولا شريك له فيه، فمع إمكان تكرر الجزاء وعدم ما
يصادم هذا الظهور لا وجه للخروج عن مقتضى هذا الظهور والقول
بتداخل الأسباب (واما ما ربما يتوهم) - من ابتناء التداخل فيها على
كونها معرفات وعدمه على كونها عللا حقيقية ومؤثرات واقعية -
لما توهم من إمكان تعدد المعرف للشئ وعدم إمكان تعدد العلل و
المؤثرات الواقعية فكلام لا أساس له لما تقدم من أن ما نسميه
بالأسباب للأحكام ليست في الحقيقة الا من قيود الموضوع،
فالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج وإن كانت تعد من أسبابه ولكنه
في
الحقيقة من قيود موضوع ذلك الوجوب، فالوجوب تعلق بالانسان
العاقل البالغ المستطيع، فهي جز موضوعه لا سبب له ولا معرف له.
نعم لا مانع من إطلاق السبب عليه باعتبار دخله في ملاك الحكم. و
على كل ظاهر كل واحدة من القضيتين أن المقدم تمام الموضوع
بخصوصه بنحو القضية الحقيقية، بمعنى أنه لو وجد هذا الموضوع
الف مرة يترتب عليه كذلك الجزاء الف مرة (وبعبارة أخرى)
431

القضية الشرطية حدوث الجزاء عند وجود الشرط، وهذا ينافي
التداخل في الأسباب (فعمدة الوجه) في عدم تداخل الأسباب وأنه
على
خلاف القاعدة في جميع الصور المتقدمة هو ظهور كل قضية شرطية
في استقلال شرطها في ترتب جزائها عليه، سواء أسبقه شئ آخر
أم لا أو قارنه أم لا، ولا يصادم هذا الظهور شئ الا توهم ظهور الجزاء
في وحدة الطلب بتخيل أن مفاد الهيئة هو صرف الوجود من
الطلب، وما هو نقيض عدمه المطلق، وهو لا ينطبق إلا على أول
وجود منه. وهذا معنى ظهور الجزاء في وحدة الطلب. (وفيه) أنه
ليس
هناك شئ يدل على أنه مفاد الجملة الجزائية في القضايا الشرطية
المتكفلة للأحكام الشرعية هو صرف الوجود من الطلب، لأنها مركبة
من مادة وهيئة أما مادتها، فهي عبارة عن ماهية ذلك الفعل الذي تعلق
به الطلب. وأما هيئتها فمفادها ليس إلا طلب إيجاد تلك الماهية،
فمن أين جاء عنوان صرف الوجود من الطلب حتى لا ينطبق إلا على
أول وجود منه الذي ملازم لوحدة الطلب. نعم لو لم يكن هناك ما
يقتضي التعدد فقهرا يحصل الامتثال بأول وجود من طبيعة المطلوب،
فيسقط الطلب بالامتثال. وهذا غير أن يكون مفاد الجملة الجزائية
وحدة الطلب وصرف الوجود منه.
هذا تمام الكلام في تداخل الأسباب بمعنى أن يكون للأسباب
المتعددة أثر واحد. وقد عرفت أن هذا خلاف الأصل والقاعدة، بل
القاعدة
تقتضي أن يؤثر كل سبب أثرا غير ما يؤثر فيه الاخر. وأما تداخل
المسببات بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب، فالمراد به أن يكون
الاتيان بمسبب واحد كافيا في امتثال ما تقتضيه الأسباب المتعددة (و
بعبارة أخرى) لو اجتمعت أسباب متعددة للزوم الاتيان بشئ،
فإتيان تلك الطبيعة القابلة للتكرر والتعدد مرة واحدة يكفي عن
الجميع وإن اشتغلت ذمته بالجميع. ومن هذا عرفت أن مرجع الشك
في تداخل الأسباب إلى الشك في التكليف الزائد وأن ذمته هل
اشتغلت بالزائد أم لا، لان نتيجة عدم التداخل فيها اشتغال ذمة
المكلف
بالمتعدد من المسببات، كما أن نتيجة
432

التداخل عدم اشتغال ذمته بأزيد من واحد، فالشك فيه شك في
اشتغال ذمته بأزيد من واحد ومجراه البراءة لأنه شك في ثبوت الزائد
لا
في السقوط بعد الثبوت ومرجع الشك في تداخل المسببات إلى
الاشتغال، لأنه من الشك في الامتثال والسقوط بعد الفراغ عن أصل
الثبوت واشتغال ذمته به، فهو أي تداخل المسببات أيضا خلاف
الأصل والقاعدة، لأنه بعد ما اشتغلت عهدته وذمته بأزيد من واحد
فكفاية الواحد تحتاج إلى دليل، وقد ورد في بعض الموارد والأبواب
كباب الوضوء والغسل إذا اجتمعت أسباب متعددة من سنخ واحد،
كتعدد البول، أو من أسناخ متعددة كالبول والنوم أو الاحتلام والجماع
مثلا، أو يكون ما أتى به مصداقا لعنوانين تعلق بهما الامر يكون
بينهما عموم من وجه، كقوله ضيف عالما وأكرم سيدا فضيف عالما
سيدا فيصدق عليه أنه ضيف عالما وأكرم سيدا بواسطة تلك
الضيافة ولا فرق فيما ذكرنا بين القول بجواز الاجتماع وعدمه. أما
على الأول فواضح، وأما على الثاني فلان انطباق كل واحد من
متعلقي الامر على المجمع قهري والاجزاء عقلي (إن قلت) إن كان
امتثال العبادة لا يمكن إلا بوجود الامر ولا يكفي فيه الملاك فيرد على
هذا الكلام ما أوردناه على صاحب جامع المقاصد (ره) فيما تقدم،
بناء على الامتناع (قلنا) أن هناك بناء على الامتناع وتغليب جانب
النهي
لا أمر في المجمع فاستشكلنا في انطباق الطبيعة المأمور بها بما هي
مأمور بها على ذلك الفرد الذي لا أمر في البين بالنسبة إليه، بخلافه
هاهنا فان الامرين المتعلقين بالعنوانين الذين بينهما عموم من وجه
يتحدان في المجمع ولا يبقيان بحدهما حتى يلزم اجتماع المثلين،
فيسقط الاثنان من باب عدم جواز الترجيح بلا مرجح أو أحدهما إذا
كان للآخر مرجح في البين، فظهر مما ذكرنا أن تداخل المسببات
خلاف الأصل مثل تداخل الأسباب.
وأما إن كان من قبيل الثاني أي لم يكن الجزاء قابلا للتعدد والتكثر إما
لكونه أمرا شخصيا لا ينطبق على كثيرين، مثل قتل زيد إذا
اجتمعت له أسباب متعددة فإنه ليس قابلا للتعدد والتكرر وإما من
جهة ان المراد في جانب الجزاء صرف
433

الوجود. نعم ربما يكون ما ليس بقابل للتعدد والتكثر قابلا للتقيد
بسببه مثل الخيار، فإنه ملك فسخ العقد وحله وإبرامه. وهذا معنى
غير قابل للتعدد، بالنسبة إلى عقد واحد من شخص واحد ولكن إذا
اجتمعت أسباب متعددة كالمجلس وكون المبيع حيوانا والغبن و
غير ذلك من أسباب الخيار يمكن تقييده بأحد هذه الأسباب، فيقول
ذو الخيار مثلا أسقطت خياري المسبب عن الغبن أو عن المجلس، فلا
يسقط إلا من حيث إضافته واستناده إلى ذلك السبب. وأما من سائر
الجهات فيبقى بحاله.
وهذا الأخير أي ما يكون قابلا للتقيد وإن لم يكن قابلا للتعدد أيضا
يلحق بالقسم الأول، ويدخل في محل النزاع، وأنه هل تتداخل
الأسباب بالنسبة إليه أم لا.
وأما بالنسبة إلى ما ليس بقابل للتعدد ولا للتقيد فيخرج عن محل
النزاع البتة.
وعلى الفرض فإذا اجتمعت أسباب في مثل تلك فلا بد من صرف
النظر عن ظهور القضية الشرطية في كون كل شرط مؤثرا مستقلا
بحيث لا شريك له في تأثير هذا الأثر حتى يكون هو جز المؤثر، ولا
بديل له حتى يكون علة غير منحصرة، وحينئذ إذا تقارن وجود
أحد الشرطين مع الاخر فلا بد من استناد الأثر إلى كليهما، فيكون كل
واحد منهما جز المؤثر، إذ استناده إلى أحدهما ترجيح بلا مرجح،
ولو تعاقبا فمقتضى ظهور القضية الشرطية في كون المقدم والشرط
علة تامة للجزاء استناده إلى أولهما وجودا فيبقى الثاني بلا أثر،
لعدم قابلية المحل فلو زنى زيد مثلا محصنا، ثم ارتد عن فطرة
فوجوب قتله مستند إلى زنائه، ولا يؤثر الارتداد في شئ لعدم قابلية
المحل لعروض وجوب القتل عليه ثانيا. وأما احتمال تأكده بالسبب
الثاني فلا وجه له، لان الوجوب من الاعتباريات التي لا تقبل التأكد،
ومنشأ اعتباره - وهو الطلب الحقيقي والبعث نحو المطلوب بنحو لا
يأذن في الترك - قد حصل على الفرض بالسبب الأول، فيكون
تحصيله ثانيا من قبيل تحصيل الحاصل.
وقد ظهر مما ذكرناه ان ما ذكروه من الوجوه الخمسة في المقام ليس
كما ينبغي وأنه يرجع بعض تلك الوجوه إلى البعض الاخر و
الصحيح هو ما ذكرنا من أنه مع
434

التقارن والاجتماع يكون كل واحد منهما جز السبب ولزوم رفع اليد
عن ظهور القضية الشرطية في كون الشرط تمام العلة للجزاء، و
مع التعاقب يكون الحكم المذكور في الجزاء مستندا إلى أول الشرطين
وجودا والشرط المتأخر وجودا عن الأول لا يبقى له محل للتأثير.
و (منها) - مفهوم الوصف
وقد وقع الخلاف في أنه هل له مفهوم أولا؟ والتحقيق عدمه، وذلك
من جهة ما عرفت في القضية الشرطية أن المناط في ثبوت المفهوم
للقضية هو ظهورها في كون سنخ الحكم المذكور في القضية مقيدا
بقيد يكون ذلك القيد علة منحصرة لذلك الحكم حتى ينتفي بانتفائه
سنخ ذلك الحكم، فثبوت المفهوم في القضية الوصفية متوقف على
أمور: و (منها) - أن يكون المنشأ في جانب المحمول سنخ الحكم و
(منها) - أن يكون الوصف قيدا للحكم و (منها) - أن يكون بخصوصه
دخيلا في الموضوع. ولا شك في ظهور القضية المشتملة على
الوصف في أمرين من هذه الأمور: (أحدهما) - أن المنشأ هو سنخ
الحكم في جانب المحمول (ثانيهما) - أن هذا الوصف - بخصوصه -
له
دخل في الموضوع، ولكن هذا المقدار من الظهور ثابت في القضايا
اللقبية أيضا، لان فيها أيضا ظهور في أن المنشأ هو سنخ الحكم، وأن
ما جعل موضوعا في ظاهر القضية هو الموضوع الواقعي لهذا الحكم
المذكور، ولكن انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقلي ليس من
المداليل اللفظية، فالعمدة في المقام هي الجهة الثالثة وهي أن يكون
الوصف قيدا للحكم بالمعنى المعقول لقيديته للحكم وهو أن يكون
قيدا للمادة المنتسبة لا للموضوع، فحينئذ لو كان قيدا للحكم أمكن
التمسك بإطلاق الحكم كما ذكرنا في القضية الشرطية طابق النعل
بالنعل، لاثبات العلية المنحصرة للوصف فيكون للقضية مفهوم. وأما
لو كان قيدا للموضوع فليس هناك ما يدل على انتفاء سنخ هذا
الحكم عن غير هذا الموضوع، إلا أن يعلم من الخارج أنه ليس لسنخ
هذا الحكم موضوع غير هذا الموضوع المقيد وهذا أمر آخر ربما
يتفق في بعض المقامات ولا ربط له بالمفهوم أصلا، لان معنى
435

المفهوم كما تقدم هو أن تكون للقضية اللفظية دلالة التزامية على جملة
أخرى (وبعبارة أخرى) تكون الجملة الأخرى مستفادة من ظاهر
القضية الملفوظة حتى تشملها أدلة حجية الظواهر، وإلا لكان لجميع
القضايا مفهوم، لان انتفاء الحكم بانتفاء الموضوع ثابت في جميع
القضايا، فالعمدة في ثبوت المفهوم في قضيته هو إناطة الحكم بقيد،
سواء كانت هذه الاناطة بصورة القضية الشرطية أو بالتقييد
بالوصف أو بشكل آخر. ومما ذكرنا ظهر لك أن هذا النزاع لا يجري
في الوصف غير المعتمد على الموصوف، لأنه هناك جعل نفس
الوصف موضوعا، فلا يبقى مجال للبحث في أن الوصف قيد للحكم
أو قيد للموضوع. هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده).
ثم إن ظاهر القضايا المشتملة على الوصف أن الوصف قيد للموضوع
لا للحكم بمعنى أن تقييد الموضوع بوصفه في الرتبة السابقة على
الاسناد، ويكون من قيود عقد وضع القضية قبل الاسناد، فالاسناد
وارد على الموضوع المقيد، فلا يكون من قيود الحكم، لان الحكم -
بناء على هذا - متأخر عن التقييد، فكيف يمكن أن يكون التقييد
تقييدا له، فالموضوع الذي ورد عليه الحكم موضوع مضيق بواسطة
ذلك
القيد، وليس في ظاهر القضية ما يدل على انتفاء سنخ هذا الحكم
الثابت لهذا الموضوع المقيد عن نفس هذا الموضوع إذا كان فاقدا لهذا
القيد فضلا عن نفيه عن موضوع آخر لم يكن منعوتا بهذا النعت كما
توهم بعض الشافعية أن قوله عليه السلام في الغنم السائمة زكاة يدل
على نفي الزكاة عن الإبل المعلوفة. وأما ما اشتهر من أن تعليق الحكم
على الوصف مشعر بعلية مبدأ الاشتقاق فربما يؤيد ما ذكرنا من
أن ثبوت المفهوم في القضية المشتملة على الوصف موقوف على أن
يكون الوصف قيدا للحكم لا للموضوع ولا للمحمول أي لا يكون
لأحدهما قبل الاسناد، لان قولهم تعليق الحكم على الوصف أي
تقييده به، لا أن يكون قيدا لعقد الوضع أو عقد الحمل. وأما قولهم أن
الأصل في القيد أن يكون احترازيا لا توضيحيا فائضا لا يثبت به
المفهوم، لأنه لا يثبت به أزيد من أن هذا الحكم موضوعه المقيد لا
المطلق،
436

وأما كون مفاده انتفاء سنخ هذا الحكم بجميع وجوداته عن هذا
الموضوع غير مقترن بهذا القيد فلا، ولذلك اشتهر أن إثبات شئ
لشئ لا ينفي عما عداه، مع أنه هناك فوائد اخر قد تكون لذكر القيد
غير كونه احترازيا.
وأما مسألة حمل المطلق على المقيد فليس من باب المفهوم، بل من
جهة أنه بعد إحراز وحدة المطلوب وان المراد من المطلق والجملة
المشتملة على المقيد شئ واحد، فالمقيد نص في تعيين المراد في
واجد القيد، ومفاد المطلق هو التخيير بحكم العقل ومقدمات
الحكمة. و
المفروض أن المراد والمطلوب واحد ولا يمكن أن يكون ذلك
المطلوب الواحد معينا ومخيرا، فيتعارضان. والجمع العرفي بينهما
يكون بحمل المطلق على المقيد، فهذا هو السبب في حمل المطلق
على المقيد لا ثبوت المفهوم للوصف كما توهمه المتوهم (إن قلت):
إن
هذا الكلام - بالنسبة إلى المطلق البدلي الذي يكون المطلوب فيه
صرف الوجود - صحيح، ولكنه لا يجري في المطلق الشمولي، لأنه
في
الاطلاق الشمولي لا تخيير في البين، بل ينحل المطلق إلى قضايا
متعددة حسب تعدد أفراد الطبيعة، ويكون مثل العام الأصولي كل فرد
معينا موردا للحكم لا مخيرا، فحمل المطلق على المقيد لا يكون إلا
من باب المفهوم، وإلا فلا تعارض بين ثبوت الحكم لجميع الافراد تارة
وفي لسان دليل وبين ثبوته للبعض بدليل آخر. نعم لا بد وأن يكون
لاختصاص هذا البعض بالذكر من نكتة وجهة، لكونه أفضل
الافراد مثلا أو جهة أخرى (قلنا) أولا لا نسلم لزوم حمل المطلق على
المقيد في الاطلاق الشمولي إذا كانا مثبتين، لعدم التنافي والتعارض
بينهما حتى يحتاج إلى الجمع كذلك و (ثانيا) - حال التقييد
بالمنفصل حال التقييد بالمتصل، فكما أنه في التقييد بالمتصل ليس
الا تضييق
الموضوع لا نفي الحكم عن مورد فاقد القيد، فكذلك يكون في
المنفصل. وأما حمل المطلق الشمولي على المقيد على تقدير القول
به في
غير المتنافيين فمن جهة نصوصية المقيد في واجد القيد مع وحدة
المطلوب.
ثم إنا قد أشرنا إلى أنه على تقدير أن يكون للقضية المشتملة على
الوصف
437

مفهوم انما يكون بالنسبة إلى نفس الموضوع المذكور في القضية الذي
موصوف لهذا الوصف إذا كان خاليا عن هذا الوصف لا موضوع
آخر فاقد لهذا الوصف، فلا بد في الدخول في محل النزاع من كون
الوصف أخص من موصوفه ولو كان من وجه.
وأما الوصف المساوي أو الأعم فلا يجري فيه هذا النزاع لعدم وجود
الموضوع.
حينئذ خاليا عن هذا الوصف.
و (منها) - مفهوم الغاية
وقد عرفت في باب مفهوم الوصف أن المناط في كون القضية ذات
مفهوم هو أن يكون التقييد المذكور في القضية من شرط أو وصف
أو غاية قيدا للحكم بالمعنى المعقول منه أي يكون قيدا لمفاد الجملة
ونتيجتها بعد تحقق الاسناد، بمعنى أن يكون التقييد في رتبة نفس
الاسناد ولا يكون متقدما عليه (وبعبارة أخرى) لا يكون التقييد راجعا
إلى عقد وضع القضية أو عقد حملها حتى يكون الاسناد واردا
على عقد الوضع المقيد أو عقد الحمل كذلك. وبناء على هذا إن
كانت الغاية المذكورة في القضية قيدا للحكم المذكور فيها، فتكون
القضية ذات مفهوم. وأما إن كانت قيدا للموضوع أو للمحمول فلا.
(هذا) كله بحسب مقام الثبوت. و (أما) في مقام الاثبات فحيث أن
الغاية
غالبا تكون مفاد أحد الحروف الجارة فتكون من قبيل الجار و
المجرور، ولا بد من تعلق الجار والمجرور بشئ وبمقتضى القواعد
العربية يكون المتعلق هي الجملة التي تم الاسناد فيها فيكون من قيود
الجملة بعد تحقق الاسناد فيها لا من قيود عقد وضعها أو عقد
حملها، فقوله عليه السلام كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام
بعينه أو قوله تعالى (وأتموا الصيام إلى الليل) وأمثال ذلك من الموارد
ظاهرة في أن الغاية قيد للحكم المستفاد من الجملة التي سميناها
بنتيجة الجملة، فيكون حال الغاية حال الشرط في كونه قيدا للحكم لا
للموضوع ولا للمحمول لا حال الوصف من كونه قيدا لعقد الوضع أو
الحمل قبل الاسناد (وبعبارة أخرى) الغاية من قيود الجملة لا من
قيود المعنى الافرادي قبل تحقق الجملة.
438

وأما التفصيل بين حتى وإلى من أدوات الغاية بعدم الدلالة على
المفهوم في مورد حتى ودلالته عليه في إلى لان ما بعد حتى داخل
في
حكم ما قبلها والمفهوم انتفاء حكم ما قبل الغاية عما بعدها فهو وإن
كان صحيحا بالنسبة إلى حتى من عدم كون المفهوم لها غالبا
لعين تلك الجهة لكنها حينئذ ليست للغاية وإلا لو كانت غاية للحكم
كان لها أيضا مفهوم وأما بالنسبة إلى إلى وما يشابهها فيحتاج أخذ
المفهوم إلى ما قلنا من إثبات أن القيد قيد للحكم لا للموضوع أو
المحمول.
وأما مسألة دخول الغاية في المغيا فان كان المراد منه موضوعا بمعنى
أنه داخل في موضوع حكم المغيا فهذا شئ يمكن أن يكون و
يمكن أن لا يكون، ولكن في مقام الاثبات والاستظهار ربما يختلف
باختلاف التعبيرات، فإذا قال مثلا مات الناس حتى الأنبياء أو قدم
الحاج حتى المشاة فلا شك في ظهور ما ذكر في الدخول، كما أنه لو
قال سرت من الكوفة إلى البصرة لا شك في ظهوره في عدم
الدخول وإن كان المراد هو الحكم المغيا بمعنى أن تكون الغاية قيدا
للحكم، فلا شك في خروجه، لان معنى كون الحكم مغيا بغاية -
زمانا مثل أتموا الصيام إلى الليل بناء على أن تكون الغاية قيدا للحكم
أو زمانيا مثل ابق في هذا المكان إلى أن يجي زيد - انتهاء ذلك
الحكم عند الوصول إلى تلك الغاية، فكيف يمكن أن تكون تلك الغاية
داخلة في ذلك الحكم المغيا.
و (منها) - مفهوم الحصر،
والحصر إذا كان في الحكم لا شك في أنه يفيد المفهوم، فإذا قال
جاءني القوم إلا زيدا، وقلنا بأن ظاهر هذا الكلام هو حصر الحكم أي
المجئ بالقوم دون زيد، فيدل على أن زيدا لم يشمله هذا الحكم، و
هو منتف عنه. ولا نعني من المفهوم إلا انتفاء سنخ هذا الحكم الثابت
للمستثنى منه عن المستثنى، بل ربما لا تخلو تسمية مثل هذا
بالمفهوم عن مناقشة فإنه بالمنطوق أشبه وأما إذا كان في الموضوع أي
المستثنى منه مثلا لا في الحكم، كما أنه لو قال مثلا العلماء إلا الفساق
منهم يجب إكرامهم، فهذا لا يدل على المفهوم، بل يكون مفاد
439

هذا الكلام ان موضوع وجوب الاكرام مضيق مقيد، وقلنا إن انتفاء
الحكم بانتفاء موضوعه عقلي وليس من المداليل اللفظية. وبين كون
موضوع الحكم مضيقا ومقيدا بقيد، وبين انحصار سنخ الحكم فيه
فرق واضح. هذا بحسب مقام الثبوت. وأما في مقام الاثبات، فلا شك
في أن ظاهر كلمة إلا الاستثنائية هو حصر الحكم في المستثنى منه و
إخراج المستثنى عن تحت ذلك الحكم المذكور في القضية، ولذلك
قالوا بأن الاستثناء من النفي إثبات ومن الاثبات نفي.
و (أما ما قيل) - في رفع التناقض المتوهم في باب الاستثناء بخروج
المستثنى عن المستثنى منه قبل ورود الحكم على المستثنى منه،
ففي الحقيقة الحكم الايجابي أو السلبي والاخباري أو الانشائي يرد
على المستثنى منه الذي خرج عنه المستثنى، فلا يرد الحكم المذكور
في جملة المستثنى منه على المستثنى أصلا، حتى يكون استثناؤه و
إخراجه تناقضا - (فكلام) لا واقع ولا صحة له، وإن نسب إلى نجم
الأئمة (رحمة الله عليه) وذلك من جهة أن التناقض بين الكلامين لا
يحصل إلا بعد تماميتهما وعدم تقييد متصل أو منفصل ولا قرينة
متصلة أو منفصلة في البين، ولذلك ترى أن التعارض يرتفع بين دليلين
بواسطة الجمع العرفي، ومن أظهر موارد الجمع العرفي هو
المطلق مع المقيد المنفصل. والسر في ذلك كله أنه في باب
المحاورات صار الدأب والديدن في بعض الأحيان على بيان المراد
بالمخصصات والمقيدات والقرائن المنفصلة والاستثناءات، وأيضا
كل من راجع وجدانه لا يرى في نفسه شكا في أن الاستثناء عن
المستثنى منه يكون بلحاظ الحكم الوارد عليه، فيكون هذا القيد في
الرتبة المتأخرة عن الاسناد وتمامية جملة المستثنى منه، فلا يمكن أن
يكون من قيود المستثنى منه قبل الاسناد. نعم يمكن أن يقيد
المستثنى منه بغير المستثنى، سواء كان التقييد بلفظة غير أو بكلمة إلا
أو
بلفظة ما عدا أو بشئ آخر مما يدل على خروج المستثنى من
المستثنى منه في الرتبة السابقة على الاسناد ومجئ الحكم، فيقول
مثلا
القوم غير زيد أو ما عداه جاءني، لكن هذا خلاف المستفاد من ظاهر
الاستثناء كما تقدم لكل من راجع وجدانه.
440

والحاصل أنه من الممكن تقييد المستثنى منه بقيد عدم المستثنى و
خروجه عنه قبل الاستثناء، ولكنه حينئذ ليس باستثناء عن الحكم كما
هو ظاهر الاستثناء. نعم قد تكون إلا بمعنى غير وتكون وصفا لا
استثناء فلا مفهوم حينئذ، ولكن كلامنا في مفهوم الحصر وهو لا يفيد
الحصر، بل من قيود الموضوع ويوجب تضييقا فيه، وذلك كقوله
العلماء إلا الفساق منهم أكرمهم، فيكون مفاده أن العلماء الموصوفين
بأنهم ليسوا من الفساق يجب إكرامهم، و (أما استدلال أبي حنيفة)
على عدم المفهوم للجملة الاستثنائية بقوله صلى الله عليه وآله (لا
صلاة
إلا بطهور) وأمثال ذلك من الموارد التي نفيت الحقيقة فيها إلا بوجود
شرط أو جز مثلا، بأنه لو كان لها مفهوم تدل على أن الصلاة
مثلا توجد مع وجود الطهارة سواء وجد سائر ما يعتبر فيها أو لم يوجد
مع أن هذا قطعا ليس بصحيح (فجوابه) أن المراد من هذه
العبارة وأمثالها أن الصلاة الصحيحة لا يمكن أن توجد وتتحقق الا مع
هذا الشرط أو الجز ومفهوم هذا الكلام هو أنه مع وجود هذا
المستثنى يمكن أن تقع وتوجد ولو بضم سائر الشرائط والاجزاء، و
كل ما يعتبر فيها وليس المفهوم أنها توجد مع هذا المستثنى
مطلقا، سواء انضم إليها سائر ما اعتبر فيها أو لم ينضم حتى يرد ذلك
الاشكال. و (أما الاشكال) على كلمة التوحيد بأنه لو قدر (ممكن)
خبرا للا لا تدل الكلمة الا على إمكان الله تعالى لا على وجوده تبارك
وتعالى، لان الامكان أعم من الوجود، ولو قدر (موجود) لا ينفي
إمكان الغير، لان نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، (فواضح الدفع)
لان الواجب تعالى لو لم يكن موجودا فليس بممكن، ولو لم يكن
ممكنا فليس بموجود، لان إمكانه يلازم وجوده، ولذا قالوا ان كل ما
يمكن في حقه تعالى بالامكان العام يجب أن يكون وكذلك قالوا:
واجب الوجود بالذات واجب من جميع الجهات. وأما الامكان
الخاص فلا يحمل عليه لأنه تبارك وتعالى واجب، والوجوب و
الامكان
متقابلان.
ومن جملة أدوات الحصر هي (انما)، ولا شك في أن المتبادر منها
حصر المسند في المسند إليه سواء قلنا بأن الكلمة مركبة من إن
الاثباتية وما النافية أو لم نقل
441

وقلنا بأنها كلمة بسيطة. (وبعبارة أخرى) إذا دخلت على جملة
فمفادها إثبات محمول تلك الجملة لموضوعها ونفي سنخ ذلك
المحمول
عن غير ذلك الموضوع، فمفادها جملتان مختلفتان في الايجاب و
السلب إحداهما المنطوق وهي نفس الجملة المدخولة والأخرى
المفهوم وهي المدلول الالتزامي لما هو المنطوق بعد دخول إنما
عليها، فقوله تعالى:
(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة وهم راكعون) يدل على أن هؤلاء أولياء وغيرهم ليسوا
كذلك. نعم المفهوم ليس حكما عقليا غير قابل للتخصيص. وأما سائر
ما يفيد الحصر كتقديم ما حقه التأخير أو تعريف المسند إليه إذا
كان مبتداء كقولهم الكرم في العرب وأمثال ذلك، فيختلف باختلاف
القرائن والمقامات.
وأما العدد واللقب،
فالظاهر أنه لا مفهوم لهما لأنهما من قبيل تعلق الحكم بموضوع
خاص، وليس الحكم المتعلق بهما منوطا بشئ حتى يتمسك
بإطلاق
ذلك الحكم بانتفائه عند انتفاء ذلك الشئ، كما هو الشأن في باب
المفاهيم. نعم لا يبعد ظهور العدد في المفهوم إذا كان واقعا في مورد
التحديد كالأعداد الواقعة في تحديد المسافة مثلا.
(المقصد الرابع في العام والخاص)
عرف العموم بالسريان وشمول المفهوم لكل ما يصلح أن ينطبق عليه
والخصوص ما يقابل هذا المعنى أي عدم الشمول والسريان إما
لكونه جزئيا لا يصلح للانطباق على كثيرين، وإما من جهة أخذه مهملا
لم يلاحظ فيه الشمول والسريان، وإن كان طبيعة كلية، ولا شك
في أن هذين المفهومين من المفاهيم العامة المبينة فلا يحتاجان إلى
التعريف كما هو الشأن في أغلب المفاهيم العامة، فهذه التعاريف
تعاريف لفظية للإشارة إلى ما هو محل الكلام، فأمر عدم طردها أو
عكسها ليس بمهم، ثم إن الشمول والسريان إن كان بالوضع يسمى
بالعموم، وان كان بمقدمات الحكمة يسمى بالاطلاق، ولذلك يقدم
العموم على الاطلاق عند التعارض، وذلك من جهة أن جريان
مقدمات الحكمة حتى يثبت الاطلاق بها موقوف على عدم ما يصلح
بيانا للتقييد
442

والعام يصلح للبيانية، ولا يمكن هذا القول في العكس، لان ظهور
العام وضعي وليس موقوفا على شئ (وبعبارة أخرى) ظهور العام
في العموم حيث أنه بالوضع تنجيزي، وظهور المطلق في الاطلاق
حيث أنه بمقدمات الحكمة تعليقي، والمقتضي التعليقي لا يعارض
المقتضي التنجيزي.
ثم إن العموم على ثلاثة أقسام: العموم الاستغراقي - وقد يسمى مثل
ذلك العام بالعام الأصولي - والعموم المجموعي، والعموم البدلي. و
العموم في الثلاثة بمعنى واحد وهو الشمول والسريان (غاية الامر)
أن الشمول في الاستغراقي لكل فرد فرد بنحو الاستقلال و
الانفراد، ولذلك ينحل العام الأصولي إلى قضايا متعددة حسب تعدد
الافراد، ويكون لكل واحدة منها امتثال مستقل وعصيان مستقل،
وفي المجموعي شموله للافراد يكون بنحو الاجتماع، ولذلك لا
يكون امتثاله الا بإتيان الجميع. وأما العصيان، فكما أنه يكون بترك
الجميع كذلك يحصل بترك أي واحد من الافراد، وفي البدلي يكون
الشمول بنحو البدلية، بمعنى أن المكلف في سعة في تطبيق المأمور
به على أي واحد من أفراد ذلك العام، ولذلك يحصل امتثاله بإتيان أي
فرد شاء مما هو مأمور به. والعموم البدلي قد يكون مفاد كلمة
موضوعة لهذا المعنى، وذلك مثل كلمة أي كقولك جئني بأي شخص
شئت، وقد يكون من جهة تعلق الحكم بصرف الوجود من الطبيعة، و
هو وإن كان غير قابل للتكرر، ولكنه قابلا للانطباق على أي فرد وأي
وجود من وجودات الطبيعة (هذا ما قيل) ولكن الانصاف ان
وضع كلمة أي للعموم البدلي في غاية الاشكال، لاستعمالها كثيرا في
العموم الاستغراقي المسمى بالعام الأصولي بلا عناية أصلا، كقوله
أكرم أي عالم رأيته وصادفته. و (أما الثاني) - أي في مورد تعلق الحكم
بصرف الوجود فالظاهر أنه بالاطلاق وإجراء مقدمات الحكمة،
وليس من باب العموم لما ذكرنا من أن الفرق بين العموم والاطلاق هو
ان الشمول في الأول بالوضع وفي الثاني بمقدمات الحكمة
(فالأولى) أن يقال إن اختلاف أنحاء العموم بواسطة اختلاف أنحاء
الحكم
443

وتعلقه بالطبيعة المأمور بها، فان تعلق بصرف الوجود منها تكون
النتيجة هي العموم البدلي وأن تعلق بجميع وجودات الطبيعة مقيدة
باجتماعها، فهذا هو العام المجموعي وإن كان تعلقه بها بنحو الانفراد
والاستقلال، فهذا هو العام الاستغراقي.
ثم انه إذا شك في عموم أنه مجموعي أو استغراقي فمقتضى الاطلاق
أنه استغراقي لان الشمول والسريان إلى جميع وجودات العام هو
المعنى المشترك بينهما، وانما يختص المجموعي بعناية زائدة وهي
لحاظ جميع تلك الوجودات مجتمعة موضوعا للحكم الشرعي
فبالنسبة إلى الاستغراقي ليس الا شمول الحكم لجميع الافراد ولازم
هذا المعنى هو استقلال كل فرد في موضوعيته للحكم. نعم لو جاء
لحاظ آخر وهو أن مجموع هذه الافراد موضوع واحد، فيخرج كل فرد
عن الاستقلال، لكن الاطلاق يدفع هذا اللحاظ الأخير، فيكون
بمقتضى الاطلاق ظاهرا في العموم الاستغراقي. وأما إذا شك في أنه
عموم بدلي أو عموم استغراقي فالظاهر أنه لا يمكن تعيين أحدهما
بالاطلاق، لان كل واحد منهما يحتاج إلى عناية ليست تلك العناية في
الاخر فالعموم البدلي يحتاج إلى ملاحظة موضوع الحكم صرف
الوجود من الطبيعة، أو كون المدخول لأداة العموم نكرة والعموم
الاستغراقي يحتاج إلى ملاحظة موضوع الحكم الطبيعة السارية، و
هما لحاظان مختلفان كل واحد منهما خلاف مقتضى الاطلاق.
ثم إنه لا يتوهم أن ظاهر لفظة (كل) - وأمثالها من ألفاظ العموم التي
هي أسماء - هو العموم المجموعي، لان العموم الافرادي - كما
تقدم - ملاحظة كل فرد موضوعا للحكم، فالنظر إلى الافراد لا إلى
عنوان الكل والجميع وأمثالهما (وبعبارة أخرى) لا بد وأن يكون
العموم من قبيل المرآة إلى ملاحظة الافراد بحيث ينظر به إلى الافراد و
هذا لا يمكن إلا فيما إذا كان العموم مفاد الهيئة أو غيرها مما هو
من قبيل المعاني الحرفية لا مثل الكل ونظائره مما هو منظور
استقلالي، ولذا يقع محكوما عليه، فهو وأمثاله مما ينظر فيه مستقلا و
يحكم عليه أو به لا أنه غير ملتفت إليه وينظر به إلى غيره، فلا بد وأن يكون
مفاده العموم المجموعي وهو ملاحظة المجموع الذي هو
معنى لفظة (كل)
444

ولفظة (جميع) و (تمام) وأمثالها موضوعا واحدا ثم الحكم عليها،
فإذا كانت لفظة (كل) وما هو من قبيلها موضوعا في القضية بما لها من
المعنى الاستقلالي وليس هو إلا الجميع والمجموع، فيكون ظاهرا
في العموم المجموعي، وليس معنى هذه الألفاظ كل فرد فرد حتى
يكون المراد منها العموم الاستغراقي، ودفع هذا التوهم بأنه من
الممكن أخذ المعنى الاسمي عنوانا مشيرا إلى الآحاد والافراد، وكان
بحيث ينظر به إلى تلك الافراد بحيث يكون كل فرد موضوعا مستقلا
(وبعبارة أخرى) لا مانع من جعل المعنى الاسمي الذي هو ملحوظ
مستقل في مرحلة الاستعمال حاكيا عن الافراد لا بما هي مجتمعات،
بل بما أن كل فرد موضوع مستقل للحكم. نعم استعمالها في العام
المجموعي أيضا صحيح، ولكن بعد ملاحظة مجموع تلك الافراد
موضوعا واحدا التي هي ملاحظة زائدة على حكاية هذه الألفاظ عن
تلك
الافراد وفنائها فيها.
(فصل)
في أن العام المخصص بالمخصص المبين مفهوما حجة في الباقي
سواء كان المخصص متصلا أو منفصلا، وسواء كان من قبيل الاستثناء
أو لم يكن، اما في المخصص المتصل وباب الاستثناء فمن جهة أنه لا
ينعقد من أول الامر ظهور للعام إلا في ما عدا مورد المخصص
فدائرة الظهور وما هو الحجة من أول الامر ضيقة. واما في المخصص
المنفصل، فلأنه لا يصادم الظهور الذي هو موضوع الحجة، بل
الظهور باق على حاله وكما كان قبل التخصيص. نعم أقوائية ظهور
الخاص في الكشف عن المراد لنصوصيته بالنسبة إلى عنوان الخاص
صارت سببا لتقديمه على ظهور العام وسلب حجيته في تلك القطعة
أي في المقدار الخاص. واما بالنسبة إلى ما عدا الخاص فالظهور و
حجيته كلاهما باقيان بلا معارض ولا مزاحم (ان قلت) ليس للعام إلا
ظهور واحد وهو حكايته وكشفه عن كل ما يصلح أن ينطبق عليه.
والمفروض ان هذه الدلالة سقطت عن الحجية بواسطة مجئ حجة
أقوى على خلافه، وليست هناك دلالة أخرى تكون حجة في الباقي
(قلنا) إن الظهور وان كان واحدا، ولكن حيث إنه يحكي عن
445

أحكام متعددة حسب تعدد الافراد فالظهور حجة بالنسبة إلى جميع
هذه الحكايات، ثم إذا جاء ظهور أقوى بالنسبة إلى بعض هذه
الحكايات، وأسقط ذلك الظهور بالنسبة إلى ذلك البعض عن الحجية،
فذلك لا يوجب سقوطه عن الحجية بالنسبة إلى ذلك البعض الاخر
لأنه بالنسبة إليه لا معارض ولا مزاحم له، وسقوطه عن الحجية
بالنسبة إلى قطعة لا يوجب سقوطه عن القطعة الأخرى، لعدم
الملازمة
بينهما وعدم توقف دلالته على كل بعض على دلالته على البعض
الاخر لامكان وجود المزاحم بالنسبة إلى البعض دون البعض الاخر (و
بعبارة أخرى) للعام دلالات وحكايات عرضية لا يتوقف وجود
بعضها أو حجيتها على حجية البعض الاخر. والسر في ذلك كله أن
بناء
العقلا على حجية جميع تلك الدلالات والحكايات في عرض
واحد، لا على توقف حجية بعض على حجية البعض الاخر. هذا إذا
كان
المخصص مبينا بحسب المفهوم، وأما إذا كان مجملا بحسبه، (فتارة)
يكون مرددا بين الأقل والأكثر، و (أخرى) بين المتباينين، ففي
الأول فرق بين ان يكون متصلا فيسري إجماله إلى العام، وذلك من
جهة عدم انعقاد ظهور للعام إلا بعد تمامية الكلام، فلا يمكن التمسك
بالعام للفرد المشكوك الدخول في الخاص من جهة الشبهة المفهومية،
فإذا شككنا في دخول مرتكب الصغيرة تحت مفهوم العادل من
جهة إجمال ذلك المفهوم ودور انه بين الأقل والأكثر، وكان
المخصص متصلا كقوله أكرم العالم العادل، فلا يمكن التمسك بعموم
أكرم العالم لان ظهوره انعقد في خصوص العالم العادل بواسطة كون
المخصص متصلا. والمفروض أنه مشكوك الدخول تحت مفهوم
العادل، وبين ان يكون منفصلا فلا يسري إجماله إلى العام بل يمكن
التمسك بذلك العموم لدخول الفرد المشكوك فيه وذلك من جهة
انعقاد ظهور العام في العموم وعدم مصادمته بالتخصيص المنفصل
فيكون ذلك الظهور حجة إلا في المقدار الذي جاء ظهور أقوى على
خلافه، والمفروض انه ليس للمخصص ظهور بالنسبة إلى الفرد
المشكوك فيه فضلا من أن يكون أقوى من ظهور العام و (أخرى) يكون
مرددا بين المتباينين ففي هذه الصورة لا فرق بين
446

المخصص المتصل والمنفصل. وفي كلتا الصورتين يسقط العام عن
الحجية بالنسبة إلى ذلك المردد بين المتباينين غاية الامر في
المخصص المتصل بواسطة عدم انعقاد ظهور العام الا فيما عدا ذلك
المردد بين المتباينين، وفي المخصص المنفصل بواسطة العلم
بخروج ذلك المردد عن تحت حجية العام، فلا تجري أصالة الظهور و
العموم مع العلم بخروج ذلك المردد بين المتباينين عن تحت العام،
فلا فرق بين المخصص المتصل والمنفصل في هذه الصورة في عدم
إمكان التمسك بأصالة العموم لادخال المشتبه والمحتمل تحت
حكم
العام، وانما الفرق في وجه عدم التمسك كما عرفت.
(فصل)
في أن العام المخصص حقيقة في الباقي بعد التخصيص أو لا؟ والحق
هو الأول، وذلك من جهة ان الألفاظ موضوعة للماهيات المهملة،
فليس العموم أو الاطلاق من مقتضيات وضع الألفاظ ولذلك إثبات
الاطلاق يحتاج إلى مقدمات الحكمة والعموم إلى أداة أو هيئة وأمثال
ذلك، فلفظ العام ما استعمل الا في تلك الماهية المهملة فما استعمل
في خلاف ما وضع له أصلا لا قبل التخصيص ولا بعده، بل مستعمل
أبدا
في تلك الماهية المهملة والعموم يكون بدال آخر، وهكذا القيود
الواردة عليها المتصلة أو المنفصلة والمخصصات كذلك لا تخرجها
عن
كونها تلك الماهية غاية الامر يكون من قبيل تعدد الدال والمدلول،
فأخذ الدالين هو لفظ العام والثاني هو المقيد أو المخصص وأحد
المدلولين هو الطبيعة والماهية المهملة والاخر تلك الخصوصيات أو
الحالات الواردة على الطبيعة التي تكون مفاد المقيدات و
المخصصات.
هذا حال نفس لفظ العام الذي نعبر عنه بمدخول أداة العموم. واما في
جانب نفس الأداة فأيضا لا تجوز في البين من جهة انها وضعت
لشمول الحكم لكل ما أريد مما ينطبق عليه مدخولها، وسعة انطباق
مدخولها أو ضيقه لا يغير شيئا من مفاد الأداة فلفظة (كل) - في قولك
أكرم كل من في المجلس - تفيد استيعاب الحكم لكل من في
المجلس، ولا يتفاوت الحال بالنسبة إلى معنى لفظة (كل) بين ان
يكون من
في المجلس
447

قليلا أو كثيرا، وكذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى مفادها ومعناها بين أن
يضيق مدخولها بالتقييد أو التخصيص أو لم يضيق بهما (و
بعبارة أخرى) تضييق المدخول بالتقييد أو التخصيص لا ربط له بمفاد
أداة العموم وقال صاحب الكفاية (قده) في وجه عدم كون العام
المخصص مجازا أن مناط الحقيقة والمجاز هي الإرادة الاستعمالية لا
الإرادة الجدية، فإذا استعمل شخص كلمة في معناها الحقيقي، يكون
هذا الاستعمال حقيقة ولو لم يكن مرادا جديا له والعام في المقام لم
يستعمل إلا في العموم وإنما التخصيص بلحاظ الإرادة الجدية، فلا
يضر بكون اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي الذي هو مدار كون
الاستعمال حقيقيا ومناطه (وفيه) أن حقيقة الاستعمال هي إرادة
المعنى
وإلقاء اللفظ فانيا فيه، والإرادة في مقام الاستعمال هي الإرادة
الواقعية، وإلا فيكون الكلام صرف لقلقة لسان بدون أن يكون قاصدا
لمعناه. والحاصل أنه ليس لنا عند إلقاء الكلام إرادتان إحداهما الإرادة
الاستعمالية والأخرى الجدية، فهذا التوجيه غير وجيه.
وقد ذكرت هنا وجوه اخر مثل أن العام استعمل في العموم بالإرادة
التمهيدية ليكون توطئة لبيان مخصصه أو أنه استعمل في العموم
ضربا للقاعدة والقانون.
وثمرة مثل هذا العموم هو التمسك به في ظرف الشك حتى تجي
حجة أقوى على خلافه فيؤخذ بها، وكل هذه الوجوه - كما ترى - غير
وجيهة، فالأحسن ما ذكرنا من أن لفظ العام موضوع للماهية المهملة -
كما ذهب إليه سلطان المحققين (قده) - واستعمل فيها أيضا و
أداة العموم موضوعة لاستيعاب ما أريد من المدخول، فالمخصص و
لو كان منفصلا وكان التخصيص أفراديا لا أنواعيا، وكان العموم
من قبيل القضية الخارجية لا الحقيقية فمع ذلك كله لا يضر التخصيص
لا بكون لفظ العام حقيقة في معناه لأنه استعمل في الماهية المهملة
حتى بعد التخصيص، ولا بكون الأداة مستعملة في معانيها الحقيقية
لأنها استعملت في عموم ما أريد من مدخولها. وهذا هو المعنى
الحقيقي لها.
448

(فصل)
في أنه هل يجوز التمسك بعموم العام في الشبهة المصداقية
للمخصص المنفصل المبين مفهوما أو لا؟ الحق عدم الجواز لان
المخصص بعد
ما كان أقوى ظهورا من العام، لان شمول العام لمورد المخصص
بواسطة أصالة العموم وظهور العام في العموم وأما شمول دليل
المخصص لذلك المورد فبالنصوصية، فظهور العام يسقط عن الحجية
في ما ينطبق عليه مفهوم الخاص واقعا لا فيما أحرز أنه من
مصاديق الخاص فقط، وذلك من جهة أن الخاص بعد ما كان حجة
أقوى من العام في عنوانه المبين، فعنوان الخاص بمصاديقه الواقعية
يخرج عن تحت حكم العام، والمخصص المنفصل ولو لم يصادم
ظهور العام، لان ظهور الكلام ينعقد بعد تماميته، والشي لا ينقلب
عما
هو عليه، ولكن يصادم حجية ذلك الظهور في ذلك المقدار بمعنى أن
حجية ذلك الظهور تسقط في المقدار الواقعي للخاص، فيخرج كل
ما هو مصداق واقعا للخاص عن تحت حجية ظهور العام وأصالة
العموم، فالتمسك بالعموم يحتاج إلى إحراز عدم كونه من مصاديق
الخاص، لان مصاديقه الواقعية خارجة عن تحت أصالة العموم، سوأ
أحرزت مصداقيتها أو لم تحرز، فيكون حال التمسك بأصالة العموم
في الشبهة المصداقية للمخصص المبين مفهوما حال التمسك بها في
الشبهة المصداقية لنفس العام.
ولا فرق بينهما إلا في أن الشبهة المصداقية للمخصص مشمول لظهور
العام، والشبهة المصداقية لنفس العام ليس مشمولا لذلك الظهور،
لكن المناط في التمسك هو الظهور الحجة وفي تلك المرحلة كلاهما
متساويان، لان الظهور الذي هو حجة في جانب العام على الفرض
هو ما عدا المصاديق الواقعية للخاص، فالمشكوك فيه على فرض
كونه من مصاديقه خارج عن تحت ما هو حجة قطعا، ففي ظرف
الشك
نشك في دخوله تحت ظهور العام بما هو حجة، فلا يبقى فرق بينهما
في الدخول تحت العام بما هو حجة، وإن كان أحدهما داخلا تحت
العام يقينا، لكن الدخول تحت العام الذي ليس بحجة مثل عدم
الدخول. ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون العام
449

أو الخاص من قبيل القضية الحقيقية أو الخارجية أو مختلفين، وذلك
من جهة أن المناط في الجميع واحد، وهو أن ظهور العام يسقط عن
الحجية بالنسبة إلى ما هو مصداق واقعي لعنوان المخصص المنفصل
المبين مفهوما. فالتمسك بالظهور الذي ليس بحجة مما لا وجه له.
وأما التمسك لجواز التمسك بالعموم بقاعدة المقتضي والمانع
بتقريب أن انطباق عنوان العام على المشكوك فيه مقتض لاثبات
حكم
العام له وانطباق عنوان الخاص عليه مانع، فالمقتضي موجود والمانع
مشكوك فيه فيؤثر المقتضي أثره لتلك القاعدة.
(ففيه) أن جريان تلك القاعدة في المقام ممنوع صغرى وكبرى (أما
الأول) فمن جهة أنه من الممكن أن لا يكون عنوان الخاص من قبيل
المانع لحكم العام أو لا يكون العام مقتضيا في تلك القطعة لعدم
حجية ظهوره في قطعة الخاص و (أما الثاني) فمن جهة عدم دليل على
صحة تلك القاعدة بل الدليل يقتضي خلافها، لان الشئ لا يمكن أن
يوجد إلا بعد وجود جميع أجزاء علته التامة إن كانت العلة مركبة ولا
يوجد بصرف وجود المقتضي مع عدم وجود الشرائط، ومع عدم فقد
الموانع فالحكم بوجود الشئ لا بد وأن يكون في ظرف إحراز
وجود المقتضي وإحراز وجود جميع الشرائط وفقد جميع الموانع،
فمع احتمال وجود المانع - على فرض تسليم كون المورد من ذلك
القبيل - كيف يمكن الحكم بوجود المقتضي إلا أن يكون حكما
تعبديا - بلحاظ ترتيب الآثار، وذلك يحتاج إلى وجود دليل شرعي أو
عقلي عليه، وليس في المقام مثل ذلك قطعا. فظهر من مجموع ما
ذكرنا عدم جواز التمسك بعموم العام في الشبهات المصداقية.
وأما حكم المشهور بالضمان في الشبهة المصداقية في اليد المشكوك
في كونها مأذونة أو عادية، فليس من جهة التمسك بعموم العام في
الشبهة المصداقية، بل لمكان الأصل المنقح للموضوع أي أصالة عدم
مأذونيته، فيخرج بذلك عن تحت المخصص فيشمله العام وذلك من
جهة أن ما هو موضوع الضمان شرعا هو الاستيلاء على مال الغير الذي
هو معنى اليد على مال الغير مع عدم كونه مأذونا في هذا
الاستيلاء أي عدم تحقق الاذن من قبل المالك، فالموضوع مركب من
جزين: (أحدهما) - الاستيلاء والسيطرة
450

التي هي عبارة أخرى عن اليد و (ثانيهما) - هو عدم صدور الإذن و
الإجازة من قبل المالك بمفاد ليس التامة بمعنى عدم وجود الإجازة
والاذن من طرف المالك بالنسبة إلى هذا التصرف. ولا شك في أن
مثل هذا العدم عدم محمولي مسبوق بالعدم الأزلي، ويجري فيه
الأصل بدون شائبة وإشكال.
ثم إنه بناء على ما هو الحق - من عدم جواز التمسك بعموم العام في
الشبهة المصداقية للمخصص المبين مفهوما - هل يمكن تنقيح
موضوع العام وإدخال الفرد المشتبه تحت حكم العام بإجراء أصالة
عدم كونه من مصاديق الخاص ومعنونا بعنوانه أو لا؟ فيه خلاف بين
الاعلام، فقال صاحب الكفاية (قده) بإمكان ذلك وصحته وذلك مثل
إجراء أصالة عدم كون المرأة قرشية لاثبات أنها ممن تحيض إلى
خمسين، بناء على أن حد اليأس وعدم رؤية الحيض في القرشية إلى
ستين، وفي غيرها إلى خمسين. وأفاد في وجه ذلك أن العام
بواسطة التخصيص بالمنفصل لا يتعنون بعنوان خاص، بل يشمل
الشئ بكل عنوان تعنون ذلك الشئ به ما لم يكن معنونا بعنوان
الخاص الخارج عن تحت حكم العام بواسطة التخصيص إذا كان ذلك
الشئ من مصاديق العام، مثلا العام في المثل المذكور هو قوله عليه
السلام المرأة ترى الحمرة إلى خمسين، والخاص هو استثناء القرشية
أو النبطية أيضا، فكل مرأة لم تكن معنونة بأحد هذين العنوانين أي
القرشية والنبطية تكون داخلة تحت العام، لان الخارج فقط هذان
العنوانان، وإلا فالعام يشمل كل من هو من مصاديقه أي تكون مرأة و
لم يتحقق بينها وبين القريش أو النبط انتساب إذ لم يحدث التخصيص
تضييقا في جانب العام أصلا، ولذلك افراد العام بأي عنوان
تعنونوا يشملهم العام إلا إذا كانوا معنونين بعنوان الخاص، لان ذلك
العنوان خارج عن تحت العام ففي الحقيقة موضوع الحكم مركب من
أمرين: (أحدهما) - صدق عنوان العام عليه وهو في المثل المفروض
بالوجدان، لان العنوان هو كل امرأة والمشكوك فيه امرأة و
(ثانيهما) - عدم صدق عنوان الخاص عليه وعدم اندراجه تحته، و
هذا في المثل المفروض
451

لان أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش يثبت عدم اندراجها
تحت عنوان الخاص. هذا ما أفاده (وأنت خبير) بأن التخصيص و
لو كان بالمنفصل يوجب تعنون العام وتقييده بنقيض ما خرج
بالتخصيص عن تحت العام، وذلك من جهة أن موضوع الحكم
بحسب
الواقع تابع لملاكه، والملاك في الموضوع إما مطلق بالنسبة إلى
الخصوصيات التي يمكن أن ترد عليه أو مقيد بوجودها أو بعدمها، و
الاهمال لا يمكن في ذلك المقام، فالمولى الملتفت إذا التفت إلى
جميع هذه الأمور، فلا بد وأن يكون موضوع حكمه إما مطلقا بالنسبة
إلى تلك الخصوصيات أو مقيدا بوجودها أو بعدمها، والاهمال لا
يجوز لما تقدم، فإذا ألقى مطلقا أو عاما ولم يقيد المطلق أو لم
يخصص
العام بالنسبة إلى تلك الخصوصيات نستكشف أن الموضوع الواقعي
مطلق بالنسبة إلى تلك الخصوصيات ونقيضها، وإذا اخرج
خصوصية من تلك الخصوصيات فلا يمكن أن يبقى الموضوع على
إطلاقه، فلا محالة يتقيد بنقيض الخارج، لان الاهمال لا يجوز و
الاطلاق ليس على الفرض، فلا يبقى إلا التقييد بنقيض الخاص الخارج
وحيث أن الخارج كان من النعوت الوجودية للموضوع فعدمها
الذي يكون نقيضها أيضا يكون نعتا للموضوع وفي الرتبة المتأخرة عن
وجود الموضوع، كما أن وجوداتها كانت في الرتبة المتأخرة
عن الموضوع. لسنا نقول أن العدم حيث أنه في رتبة وجود ذلك
النعت بحكم وحدة رتبة النقيضين ووجود النعت متأخر عن وجود
المنعوت ومتفرع عليه، فعدم النعت أيضا متأخر عن وجود المنعوت،
وذلك من جهة أن أحد المتحدين في الرتبة إذا كان متأخرا عن
شئ لا يلزم أن يكون الاخر أيضا كذلك، لامكان وجود ملاك التقدم و
التأخر في أحدهما دون الاخر، بل مرادنا أن نفس ذلك العدم
نعت فيحتاج إلى وجود المنعوت. وهذا هو المراد بالعدم النعتي
مقابل العدم المحمولي الذي هو في رتبة نفس وجود الشئ، لأنه
نقيضه
وبديله فإذا كان جز موضوع الأثر مثل هذا العدم المتأخر عن وجود
الشئ الذي نعبر عنه بالعدم النعتي فليس له حالة سابقة، لأن المفروض
فيما إذا كان العرض من لوازم الوجود
452

وعدم إمكان انفكاك الذات عنه مثل القرشية بالنسبة إلى المرأة و
مخالفة الكتاب بالنسبة إلى الشرط، فالذات والموضوع من أول
زمان وجوده إما متلبس بهذا العرض إلى الأبد أو غير متلبس به أيضا
إلى الأبد، واستصحاب العدم المحمولي الأزلي بالنسبة إليه يكون
من الأصل المثبت.
(لا يقال) إخراج خصوصية من تلك الخصوصيات عن تحت العام
ليس معناه اتصاف العام بعدم تلك الخصوصية حتى لا تكون له حالة
سابقة متيقنة، بل معناه عدم اتصاف العام بتلك الخصوصية، وعدم
الاتصاف - كما أنه قد يكون مع وجود الموضوع لعدم المحمول
كذلك - قد يكون مع عدم الموضوع، وذلك من جهة أن الاتصاف
قائم بالطرفين، ومع انعدام أي واحد منهما أي الموضوع أو المحمول
ينعدم.
(لأنا نقول) ليس المراد من الاتصاف الا عروض خصوصية خارجة عن
الذات وطروها عليها. والمفروض - كما بينا - أن العام بعد
التخصيص لا إطلاق له بالنسبة إلى الخصوصية الخارجة ولا إهمال له
بالنسبة إليها أيضا، فلا بد وأن يكون مقيدا بالنسبة إليها. ومعلوم
أنه ليس التقييد بوجودها لأنه خلاف صريح مضمون الخاص، فلا
محالة يكون التقييد بعدمها. وهذا معنى اتصاف العام بعدم تلك
الخصوصية.
فظهر من مجموع ما ذكرنا أن استصحاب العدم النعتي في تلك الموارد
ليست له حالة سابقة متيقنة، واستصحاب العدم الأزلي المحمولي
لاثبات ذلك العدم النعتي الذي هو جز موضوع للأثر مثبت (وبعبارة
أخرى) ليس معنى اتصاف العام بعدم الخاص إلا تقيده بذلك
العدم، وإذا أثبتنا أنه لا إطلاق ولا إهمال في البين والتقييد بالوجود لا
معنى له مع وجود دليل الخاص لأنه مناقض له، فلا يبقى إلا
التقيد بالعدم وليس الاتصاف بالعدم من جهة كونه نقيض الاتصاف
بالوجود، لان نقيض
453

الاتصاف بالوجود عدم الاتصاف به لا الاتصاف بالعدم، بل لما ذكرنا
من أن الملاك في لب الواقع إما مطلق أو مقيد بوجود عنوان
الخاص أو بعدمه، ولا يجوز الاهمال. والاطلاق والتقييد بوجود
الخاص لا يمكن، لأنه مناقض للتخصيص، فلا يبقى إلا التقيد بعدم
ذلك
العنوان، فلا يمكن عدم التقيد بعدم ذلك العنوان الخاص، إلا فلا بد و
أن يكون العام مطلقا بالنسبة إليه، لأنا لا نعني من الاطلاق إلا عدم
تقيده بوجود خصوصية من الخصوصيات الطارئة عليه وعدم تقيده
بعدمها أيضا بشرط أن يكون المحل قابلا للتقييد. والمفروض في
المقام عدم تقيد العام بوجود عنوان الخاص قطعا، فلو لم يكن مقيدا
بعدمه لزم أن يكون مطلقا.
والمفروض أنه ليس بمطلق فلا بد وأن يكون مقيدا بعدم تلك
الخصوصية، وهو عين الاتصاف بالعدم وهذا هو المراد من قولهم أن
الخاص يوجب تعنون العام بعنوان عدم الخاص.
هذا كله إذا كان المخصص لفظيا. وأما إذا كان لبيا كالاجماع ودليل
العقل، فربما يقال بجواز التمسك في المصداق المشتبه إلا إذا كان
ذلك الدليل اللبي - كالقرينة المتصلة - مانعا عن انعقاد ظهور العام في
العموم، مثلا لو قال أكرم جيراني وحكم العقل أو قام إجماع على
عدم وجوب إكرام أعدائه، فان كان ذلك الدليل العقلي أو الاجماع
مانعا عن انعقاد ظهور العام أي قوله أكرم كل واحد من جيراني في
العموم حتى بالنسبة إلى أعدائه، فليس هناك عموم حتى يتمسك به
في مورد الشك وأما إن لم يكن كذلك أي لم يكن كالتقييد بالمتصل
مانعا عن انعقاد الظهور بل انعقد الظهور في العموم، فأصالة الظهور
حجة الا فيما إذا قطع بالخروج عن تحت العام وأنه ليس بمراد،
ففي المصداق المشتبه حيث أنه لا قطع بالخروج لا مانع من شمول
أصالة العموم له، وذلك الظهور حجة بالنسبة إليه. ولكن التحقيق أنه
لا فرق بين المخصص اللفظي واللبي في تقييد حجية العام بما عدا
الخاص، لما ذكرنا من أنه بعد خروج الخاص عن تحت العام بواسطة
دليل لفظي أو لبي، فالعام بالنسبة إلى ذلك العنوان
454

لا يمكن أن يكون مطلقا ولا مهملا ولا مقيدا بوجوده، فلا بد وأن
يكون مقيدا بعدمه، فإذا استكشفنا من المخصص اللبي مثل
المخصص
اللفظي ان المراد الواقعي من العام مقيد بعدم كونه من مصاديق
الخاص، فلا بد من إحراز هذا العنوان حتى يكون مشمولا لحكم العام،
و
مع الشك في المصداق لا يمكن إحراز ذلك العنوان إلا بالأصل
الموضوعي كما تقدم، فالمخصص اللبي إذا كان من قبيل العقل
الضروري
بحيث كان مانعا عن انعقاد الظهور في العموم يكون حاله حال
المخصص اللفظي المتصل، وإذا لم يكن كذلك وانعقد ظهور العام
في
العموم، يكون حاله حال المخصص اللفظي المنفصل، فلم يبقى فرق
بين المخصص اللفظي واللبي أصلا في عدم جواز التمسك بالعموم
في الشبهات المصداقية للمخصص، وذلك لعدم انطباق المقيد بقيد
على فاقد ذلك القيد فإذا شككنا في مصداقيته للخاص نشك في
وجود ذلك القيد الذي يكون العام مقيدا به، ولا بد في مشموليته
لحكم العام في مقام الاثبات من إحراز انطباق العام عليه بقيوده و
جميع
الخصوصيات المأخوذة فيه، نعم لو كان الدليل اللبي المخصص
للعموم من جهة إدراك العقل عدم وجود ملاك حكم العام في بعض
أفراده
أو أصنافه، كما في قوله عليه السلام: (لعن الله بني أمية قاطبة) فان
العقل بعد ما أدرك أن ملاك اللعن - وهو بغض أهل البيت - ليس في
المؤمن منهم، فلا محالة يخصص العام بما عدا المؤمن منهم، ولكن
ليس ذلك من جهة تقييد العام بعدم كونه مؤمنا. والسر في ذلك أن
كون موضوع الحكم ذا ملاك أو عدم كونه ذا ملاك ليس من وظيفة
العبد، بل تشخيصه يكون من وظائف المولى، فإذا ألقى حكما بصورة
العموم نستكشف وجود الملاك في الجميع إلا مع القطع بعدم وجود
الملاك في بعض الموارد، فيكون خارجا عن تحت عموم حكم العام
قطعا. وأما مع الشك في وجود الملاك في بعضهم من جهة الشك في
إيمانه في المثل المتقدم مثلا، فنستكشف من عموم الحكم وجود
الملاك في ذلك الفرد المشكوك فيه ونقول بأنه ليس بمؤمن فيشمله
اللعن.
والسر في ذلك هو ما ذكرنا من أن تشخيص وجود الملاك في جميع
أفراد موضوع
455

حكمه بيد الحاكم والمولى لا بيد العبد والمكلف، فنفس إلقاء حكمه
- بصورة العموم مع عدم ورود مخصص من قبله لا متصلا ولا
منفصلا يبين مراده - يكون دليلا وأمارة على أنه استكشف الملاك في
الجميع، ففي مورد الشك في وجود الملاك، تلك الامارة على
وجود الملاك موجودة. نعم في مورد القطع بعدم وجود الملاك كما
إذا قطع بإيمان بعضهم لا معنى لدعوى وجود الامارة إذ الامارة مع
القطع بالخلاف لا معنى لها. وبمثل هذا أفاده شيخنا الأعظم
الأنصاري قدس سره في الشك في الخروج عن محل الابتلاء الرجوع
إلى
الاطلاقات وأورد عليه صاحب الكفاية قدس سره لا مجال للرجوع
إلى الاطلاقات لان المورد يكون مجرى البراءة لأنه يرجع إلى الشك
في التكليف ولكن أنت خبير بأن الشك في الخروج عن محل الابتلاء
لا مجال لجريان البراءة بل يجب الرجوع إلى الاطلاقات مثل اغسله
ويحرم وغير ذلك لان الشارع بعد ألقى حكمه بصورة العموم مع عدم
ورود منع نستكشف إعلانا في الجميع في مورد الشك فتكون
أصالة العموم أمارة عدم وجود الملاك ومع الشك في الملاك لا يكون
شكا في التكليف فيتعين الرجوع إلى أصالة العموم لأنه أمارة.
والحاصل أن المناط في عدم جواز التمسك هو تقييد العام بنقيض
المخصص من دون فرق في ذلك بين أن يكون المخصص لفظيا أو
لبيا، والتخصيص أنواعيا أو أفراديا، والعام والمخصص يكون بنحو
القضية الخارجية أو الحقيقية كانا متفقين في ذلك أو مختلفين بأن
يكون أحدهما أي العام أو الخاص قضية حقيقية مثلا، والاخر قضية
خارجية. وقد تقدم تفصيل ذلك ووجهه فلا نعيد. وأما لو لم يكن
المخصص اللبي - سواء كان من قبيل العقل الضروري أو النظري أو
الاجماع - موجبا لتقييد العام بنقيض عنوان الخاص كباب الملاكات
التي تشخيصها بيد المولى والامر لا العبد والمكلف، فلا مانع من
التمسك بعموم العام لادخال الفرد المشتبه من جهة الشبهة المصداقية
في حكم العام واستكشاف الملاك من نفس العموم. هذا كله مع العلم
بأن المخصص اللبي من أي القسمين. أما لو شك في ذلك وكان
المخصص في حد نفسه صالحا لكلا الامرين بمعنى صلاحيته لان
يكون من قيود العام ويكون أمر تشخيصه بيد العبد والمكلف وأن
يكون من قبيل الملاكات ويكون أمر تشخيصه بيد المولى والامر، فقد
فرق شيخنا الأستاذ (قده) في هذه الصورة بين أن يكون
المخصص من قبيل العقل الضروري حتى يكون من قبيل القرائن
المتصلة بالكلام وموجبا لعدم انعقاد الظهور من أول الامر الا فيما عدا
الخاص، فقال بعدم جواز التمسك لو كان هكذا وذلك من جهة
احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية. ومعلوم أن مثل هذا مانع عن
انعقاد
الظهور في العموم، فلا عموم حتى يتمسك به، وبين أن لا يكون
كذلك بأن كان المخصص إجماعا أو عقلا نظريا، ففي هذه الصورة قال
456

بجواز التمسك مستندا إلى أن ظهور العام في العموم قد انعقد، وذلك
الظهور حجة ما لم تقم حجة أقوى على خلافه. ولا يعتنى بصرف
احتمال الخروج عن تحت العام، فان مورد أصالة العموم هو احتمال
خروج هذا الفرد أو هذا الصنف عن تحت حكم العام.
(فصل)
في أنه لا يجوز العمل بأصالة العموم وأصالة الاطلاق إلا بعد الفحص
عن المخصص والمقيد، كما أنه لا يجوز أيضا العمل بالأصول العملية
إلا بعد الفحص عن الدليل وعدم الظفر به. نعم هناك فرق بين البابين و
هو أن الفحص في باب الأصول العملية دخيل في موضوع
حجيتها، لأنها وظائف عملية جعلت للمجتهد الشاك المتحير في
الحكم الشرعي بعد الفحص عن الدليل واليأس عن الظفر به، فقبل
الفحص لا حجة في البين وإلا يلزم وجود الحكم بدون موضوع. وأما
الفحص هاهنا فهو عما يكون معارضا ومزاحما للحجة، ومن جهة
أنه أقوى يقدم عليه، فاقتضاء الحجية هاهنا موجود، وانما الفحص
يكون عن المانع. وأما في باب الأصول العملية فحيث ان الموضوع
أخذ فيه الفحص، فقبل الفحص لا شئ في البين أصلا وعلى كل حال
الدليل - هاهنا على عدم جواز الاخذ بالعموم قبل الفحص عن
المخصص - أمران، لانهم وان استدلوا بالاجماع أيضا الا أنه مع وجود
هذين الامرين واستناد المجمعين إليهما لا يبقى اعتبار لذلك
الاجماع:
(الأول) - العلم الاجمالي بوجود مقيدات ومخصصات لتلك
الاطلاقات والعمومات في جملة من الآيات والاخبار المعتبرة
الموجودة في
الكتب التي بأيدينا التي ثبت اعتبارها وحجيتها، ولا شك في أنه مع
مثل هذا العلم لا يمكن الاخذ بجميع هذه العمومات وهذه
الاطلاقات
أيضا الا بعد الفحص عن تلك المخصصات والمقيدات، كما أن العلم
الاجمالي بوجود أمارات وحجج بين تلك الأخبار والآيات مانع أيضا
عن الرجوع إلى الأصول العملية، وذلك من جهة أن معنى الاخذ
بتلك العمومات مع العلم بوجود المخصصات بين الحجج التي
بأيدينا هو
طرح الحجة وعدم الاعتناء بها
457

من غير علة، كما أن معنى الرجوع إلى الأصول العملية - قبل الفحص
مع العلم بوجود حجج معتبرة في مواردها - هو عدم الاعتناء بتلك
الحجج والأمارات هذا مضافا إلى ما ذكرنا من الفرق بين البابين، وهو
أن موضوع الأصول العملية مأخوذ فيه اليأس عن الظفر بالدليل
بعد الفحص.
(الثاني) - كون هذه العمومات في معرض التخصيص، فان بناء الشارع
غالبا على ذكر العام بصورة العموم أولا، ثم إخراج الافراد أو
الأصناف غير المرادة بالمخصص المنفصل، ولذلك ترى أن العموم
في الكتاب العزيز أو في السنة النبوية أو أحد الأئمة المتقدم زمانا، و
المخصص يصدر عن لسان أحد الأئمة المتأخر زمانا صلوات الله
عليهم أجمعين، وإذا كان الامر كذلك، فلا تجري أصالة العموم أو
أصالة
الاطلاق، من جهة أن هذه أصول عقلائية ومدرك حجيتها هو بناء
العقلا وسيرتهم في محاوراتهم، ولا يمكن إثبات مثل هذه السيرة و
البناء في مثل المقام أي فيما إذا كان العام في معرض التخصيص وكان
دأب المتكلم وديدنه بيان مراده بالمخصصات والمقيدات
المنفصلة، بل يمكن دعوى استقرار بنائهم وسيرتهم على العدم (و
بعبارة أخرى) لا يحصل الوثوق والاطمئنان بإرادة العموم بعد ما
كان من دأبه وعادته بيان مراده بالمخصصات المنفصلة. والأصول
العقلائية - كأصالة العموم والاطلاق - ليست أصولا تعبدية، بل إنما
يعملون بها من باب الوثوق والاطمئنان ولو نوعيا، وبعد الفحص فيما
بأيدينا من الحجج وعدم العثور على المخصص والمقيد يحصل
ذلك الوثوق والاطمئنان، وأيضا بعد الفحص وعدم العثور على
المخصص أو المقيد يعلم بخروج ذلك المورد عن أطراف المعلوم
بالاجمال من جهة أن العلم تعلق بوجود المخصصات والمقيدات
بالنسبة إلى العمومات والاطلاقات فيما بأيدينا من الحجج فإذا تحقق
الفحص بالنسبة إلى عموم أو إطلاق ولم يوجد المخصص والمقيد
فيحصل الاطمئنان بخروج هذا العام أو هذا الاطلاق مثلا عن دائرة
ذلك العلم الاجمالي من أول الامر، وإلا لو كان لبان.
458

و (أما ما يقال) من حصول الانحلال حقيقة أو حكما بالظفر بالمقدار
المعلوم بالاجمال من المخصصات والمقيدات، فلا يلزم الفحص فيما
زاد، مع أن بناء الفقهاء على لزوم الفحص في جميع العمومات و
الاطلاقات من الطهارات إلى الديات (ففيه) أن ذلك فيما إذا لم يكن
المعلوم بالاجمال منجزا بعنوان آخر غير عنوان الكمية، وهو في
المقام كونه في الكتب المعتبرة وفيما بأيدينا من الحجج، فالانحلال
باعتبار الكمية لا ينافي تأثير العلم بعنوان كون معلومه في الحجج التي
بأيدينا، واعتبر ذلك ممن يعلم أن جميع ديونه مكتوبة في دفتره،
فيتنجز عليه بهذا العنوان، فلو علم بمقدار من ذلك الدين وشك في
الزائد فهذا وإن كان يوجب الانحلال من حيث الكمية، ولكن يبقى
التنجز في المحتملات من حيث ذلك العنوان الاخر أعني وجود كل
واحد من الديون في مجموع مكتوبات هذا الدفتر ففي ما نحن فيه كما
أنه يعلم مثلا بوجود مائة مخصص ومقيد لهذه العمومات و
الاطلاقات ويحتمل الزيادة كذلك يعلم بوجود مخصصات لهذه
العمومات و
المقيدات لهذه المطلقات في الكتب المعتبرة التي بأيدينا المنتشرة
في الأبواب من الطهارات إلى الديات، ومقتضى هذا العلم الاجمالي
هو
لزوم الفحص عن جميع موارد احتمال وجود المخصص في جميع
الأبواب من الطهارات إلى الديات حتى يحصل له الوثوق والاطمئنان
بعدم وجوده بالنسبة إلى ذلك العام الذي يريد أن يعمل به، لما ذكرنا
من كون أصالة العموم أصلا عقلائيا جريانها منوط بالاطمئنان و
الوثوق بعدم وجود المخصص، ولو لم تكن إتعاب جمع كثير من
أعاظم المحدثين جزاهم الله عن أهل العلم خير الجزاء، و تبويبهم
الأبواب حسب ترتيب الكتب الفقهية، وضبط كل حديث ورواية
راجعة إلى باب ومسألة في ذلك الباب وتلك المسألة لوجب على كل
مجتهد فحص جميع كتب الحديث لكل عام أو مطلق أراد أن يفتي
على طبقه. ولا يخفى ما في هذا الامر من الصعوبة والاشكال.
وقد ظهر مما ذكرنا أن مقدار لزوم الفحص هو إلى حصول الوثوق و
الاطمئنان بعدم وجود المخصص أو المقيد لهذا العام أو لهذا
المطلق، لأنهما المدار في جريان
459

الأصول العقلائية وسيرتهم، فلا يحتاج إلى حصول العلم بالعدم، لما
ذكرنا مع أن لزوم تحصيل العلم بالعدم لا يخلو عن العسر الشديد،
كما أن مطلق الظن بالعدم أيضا لا يفيد ولا دليل على اعتباره، لان
المناط والميزان في جريان الأصول العقلائية وبنائهم هو ما ذكرنا
من حصول الوثوق والاطمئنان لا مطلق الظن بالعدم كما ربما يتوهم.
(لا يقال) إن العلم بوجود المخصصات والمقيدات فيما بأيدينا من
الكتب المعتبرة أيضا يدور أمره بين الأقل والأكثر، فينحل بالظفر
بالمقدار الأقل المتيقن، فيعود الاشكال، (لأنا نقول): إن مناط تنجز
المحتملات في هذا العلم هو وجود المحتمل في الكتب المعتبرة، فلا
يرتفع تأثير هذا العلم إلا بالاطمئنان بعدمه في تلك الكتب، وفيما
بأيدينا من الحجج والأدلة.
(فصل)
في أن الخطابات الشفاهية هل تختص بالحاضرين في مجلس
التخاطب ولا تشمل الغائبين فضلا عن المعدومين أو لا؟ قولان: الحق
هو
الثاني، وهنا تفصيل، وهو الفرق بين أن يكون الخطاب أي دليل
الحكم مشتملا على أداة الخطاب فلا يشمل أو لا، بل كان بصورة
ثبوت
حكم كلي لعامة المكلفين كقوله تعالى: (... ولله على الناس حج البيت
من استطاع إليه سبيلا.). فيشمل حتى المعدومين، ولكن الأصح
خروج الفرض الأخير عن محل النزاع، لان ثبوت الحكم الكلي لطبيعة
المكلفين مما لا إشكال فيه، وشمول الطبيعة لجميع ما يمكن أن
ينطبق عليه ويكون من أفراده أيضا كذلك، لان نسبة الكلي والطبيعة
إلى الافراد الموجودة والمعدومة والحاضرة والغائبة على حد
سواء، فإذا ورد الحكم عليها بوجودها الساري يسري إلى المعدومين
فضلا عن الغائبين بدون شك وارتياب.
فعمدة الكلام في المقام وما هو محل البحث والنقض والابرام هو أن
الخطاب هل يمكن توجيهه عقلا إلى الغائبين بل المعدومين أو لا؟ و
على تقدير إمكان ذلك عقلا هل يصح استعمال أدوات الخطاب في
ذلك وضعا أو يكون استعمالا عنائيا مجازيا أو
460

لا يصح ذلك حتى ولو على نحو العناية والمجاز؟ (فنقول) أما مسألة
توجيه الخطاب نحو المعدومين فضلا عن الغائبين فأمر ممكن
معقول، والخطاب سواء كان مفاد الهيئة أو كان مفاد الحرف وإن كان
يحتاج إلى مخاطب، ولكن لا يلزم أن يكون شخصا خارجيا و
موجودا في الخارج، كما أنه لا يجب ان يكون قابلا للتخاطب و
المفاهمة ويكون من ذوي العقول، بل فرض وجوده وادعاء حضوره
و
شعوره يكفي في ذلك، كما أنه في قوله (أيا جبلي نعمان) أو قوله
(أسرب القطا هل من يعير جناحه) فرض الشعور وخاطب غير ذوي
العقول. وأما مسألة صحة استعمال أدوات الخطاب وأنه على تقدير
الصحة هل هو على نحو الحقيقة أو على نحو المجاز، فالظاهر - كما
تقدم في المعنى الحرفي - وضعها للنسب الخطابية التي بين المتكلم
والمخاطب وكون المخاطب موجودا خارجيا أو كان مفروض
الوجود، وهكذا بالنسبة إلى الحضور والشعور يكونان حاصلين
بالفعل أو يفرض وجودهما، لا دخل لما ذكر بصحة استعمال أدوات
الخطاب أو كون استعمالها حقيقيا أو مجازيا، لأنها على كل حال و
تقدير من هذه التقادير تستعمل في تلك النسبة وهذه الأمور لا تغير
شيئا من طرف استعمال تلك الأدوات أصلا.
ثم إنهم ذكروا لهذا البحث والنزاع ثمرات: (أحسنها) - هو أنه بناء على
الشمول للغائبين والمعدومين لا نحتاج في إثبات ذلك الحكم
الملقى إلى المكلفين بصورة الخطاب إلى دليل الاشتراك الثابت
بالاجماع والضرورة، بل يكون ثابتا لكلتا الطائفتين أي الغائبين و
المعدومين بنفس ذلك الدليل (لا يقال) إن هذا الحكم ثابت لهما على
كل حال إما بدليل الاشتراك وإما بنفس ذلك الدليل، فلا فرق بين
أن يقال بالشمول أو يقال بعدمه (لأنا نقول) - إن ما قام عليه الاجماع
من الاشتراك منحصر في متحد الصنف واما في غير متحد
الصنف فلم يثبت إجماع أصلا. والمراد من متحد الصنف هو أن يكون
غير الحاضرين من الغائبين والمعدومين واجدين لكل ما كان
الحاضرون واجدين له من الخصوصيات التي يحتمل دخلها في
الحكم، ومقابل ذلك مختلف الصنف والمراد به مقابل هذا المعنى،
وهو
أن لا يكون غير الحاضرين واجدين لجميع
461

الخصوصيات الكائنة في الحاضرين التي يحتمل دخلها في الحكم، و
بناء على ذلك لو احتملنا دخل خصوصية الحضور أو الوجود في ذلك
الزمان أو في ذلك البلد في الحكم فلا يمكن إثبات ذلك الحكم
للغائبين والمعدومين بدليل الاشتراك، لعدم الاتحاد في الصنف. وأما
لو
قلنا بشمول نفس دليل ذلك الحكم لهم فيشملهم ولا يحتاج إلى دليل
الاشتراك حتى يستشكل بعدم اتحادهما في الصنف. وهذه ثمرة
مهمة لهذه المسألة ومع وجود مثلها لا يبقى مجال للقول بأنه لا ثمرة
لهذه المسألة.
ثم إنه لا فرق فيما ذكرنا من إمكان توجيه الخطاب إلى الغائب و
المعدوم وغير ذوي الشعور بعد فرض حضوره ووجوده وشعوره
بين أن يكون جعل الاحكام على نحو القضايا الحقيقية أو يكون على
نحو القضايا الخارجية، لأنه على فرض تسليم جعلها على نحو
القضايا الخارجية أي ورود الحكم على الاشخاص الموجودين في
الخارج ويكون موضوعه نفس الاشخاص، فيمكن أيضا فرض
وجودهم وتوجيه الخطاب إليهم ادعاء. (اللهم) إلا أن يقال بأن فرض
وجودهم مناف مع كون القضية خارجية، لان القضية الخارجية كما
تقدم الكلام فيه في الواجب المشروط هو ورود الحكم على
الاشخاص الموجودين فعلا في الخارج، لا على الاشخاص ولو كان
توجيه
الخطاب إليهم بفرض وجودهم.
(فصل)
لو تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده، مثل قوله تعالى: (و
المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما
خلق الله في أرحامهن) إلى قوله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن) ولا
شك في أن ضمير بعولتهن يرجع إلى بعض أفراد المطلقات وهن
الرجعيات لا عموم المطلقات، فيدور الامر بين الاستخدام أو
التخصيص، لأنه إن أريد من المرجع عموم المطلقات فذلك
استخدام، لأنه
أريد من المرجع معنى وهو عموم المطلقات ومن الضمير معنى آخر
وهو خصوص الرجعيات وإن أريد من المرجع خصوص الرجعيات
فهذا هو التخصيص، ولا يخلو الامر
462

من أحد هذين. ولا شك في أن التخصيص والاستخدام كلاهما
خلاف الظاهر ومخالفان للأصل العقلائي أي أصالة العموم وأصالة
عدم
الاستخدام، فيتعارض الأصلان ويتساقطان إذا لم يكن مرجح
لأحدهما في البين. ونتيجته الشك في ثبوت هذه الأحكام المذكورة
في
الآية الشريفة لغير الرجعيات، فلا بد من الرجوع إلى الأصول العملية
في غيرها. ولكن هذا التعارض والتساقط فرع أن تكون إرادة
العموم من العام في حد نفسها مع إرادة الخصوص باعتبار كونه مرجعا
للضمير موجبة لاستعماله في معنيين حتى يكون بهذا الاعتبار
من قبيل الاستخدام الذي هو خلاف الأصل. واما لو لم يكن كذلك أي
لم تكن إرادة العموم باعتبار موضوعيته لبعض الاحكام و
الخصوص بالنسبة إلى البعض الاخر موجبة لتعدد المعنى وتغيره، كما
تقدم أن اللفظ دائما يستعمل في معنى واحد وهي الماهية المهملة
والقيود والخصوصيات الواردة عليه تستفاد من دال آخر، فليس في
البين معنيين حتى يكون استخدام فتجري أصالة عدمه، وتعارض
أصالة العموم (وبعبارة أخرى) إرادة خصوص الرجعيات من
المطلقات باعتبار كونه مرجعا للضمير لا يوجب استعمال لفظ
المطلقات
في معنى آخر غير ذلك المعنى العام، بل المعنى المستعمل فيه اللفظ
في كلتا الصورتين واحد، فلا استخدام في البين أصلا حتى تعارض
أصالة عدمه أصالة العموم.
نعم بناء على مسلك من يقول بأن التخصيص يوجب مجازية استعمال
العام في في الباقي يكون ما نحن فيه أيضا من قبيل الاستخدام، لأنه
حينئذ يكون معنى العام باعتبار كونه مرجعا معنى مجازيا، وباعتبار
إرادة العموم يكون معناه معنى حقيقيا، فينطبق عليه تعريف
الاستخدام. هذا مع أن إحراز بناء من العقلا على اتحاد المرجع من
حيث المعنى مع ما أريد من الضمير مع معلومية ما أريد من الضمير
في
غاية الاشكال. نعم لو كان المراد من الضمير مشكوكا فيه والمراد من
المرجع معلوما، فلا يبعد دعوى اتحادهما، لبناء العقلا على ذلك،
وهذا هو المراد من أصالة عدم الاستخدام عندهم. نعم اتصال مثل
هذا الضمير بالعام ربما
463

يكون مانعا عن انعقاد ظهور العام في العموم. وهذا لا ربط له بأصالة
عدم الاستخدام بل من جهة عدم بناء العقلا على إجراء أصالة
العموم مع وجود ما يصلح للقرينية متصلا بالعام وفي كل واحد.
(فصل)
في الاستثناء المتعقب بجمل متعددة، كقوله تعالى: (والذين يرمون
المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة. ولا
تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا.). اختلفوا
في أنه هل يرجع إلى الجميع، أو إلى خصوص الجملة الأخير، أو لا
ظهور له في شئ منهما بل رجوعه إلى كل واحد من تلك الجمل
يحتاج إلى قرينة، أو التفصيل بين أن تكون الجمل السابقة مذكورا فيها
الموضوع والمحمول جميعا، كقوله أكرم العلماء وضيف السادات و
وقر الكبار إلا الفساق منهم، فإلى خصوص الأخيرة، وبين أن لا
يكون كذلك بل يكون الموضوع فقط مذكورا دون المحمول، كقوله
أكرم العلماء والسادات والكبار إلا الفساق منهم، فيرجع إلى
الجميع، وهذا التفصيل ذهب إليه شيخنا الأستاذ (قده) ونظره في
هذا التفصيل إلى أن الاستثناء المتصل الذي هو الأصل في باب
الاستثناء يكون المستثنى خارجا بواسطة الاستثناء عن الموضوع أي
المسند إليه الحكم المذكور، والمستثنى المنقطع أيضا يكون
خارجا عنه، غاية الامر خروجا عنائيا حكميا لا حقيقيا فإذا تكرر
الموضوع والمسند إليه وأعيد في الجملة الأخيرة فيأخذ الاستثناء
محله
لأنه المتيقن في الرجوع إليه. وليس هناك ما يدل على رجوعه بعد
ذلك إلى سائر الجمل لا من باب لزوم استعمال اللفظ في أكثر من
معنى واحد، كما توهم، بل من جهة عدم وجود ما يدل على عدم
حجية سائر الجمل في العموم إلا توهم وجود ما يصلح للقرينية في
المقام
وهو الاستثناء، وهو لا يصلح لذلك، لأنه بعد ما كانت الجملة الأخيرة
مشتملة على الموضوع والمحمول وأخذ الاستثناء محله فليس
هناك شئ آخر يكون موجبا لتضييق الموضوعات بالنسبة إلى الحكم
المذكور في القضية. هذا غاية ما يمكن
464

أن يقال في توجيه كلامه (زيد في علو مقامه) كما أنه - قدس سره -
أيضا أشار إلى بعض ذلك.
(وأنت خبير) بأن هذا الاستثناء يصلح للرجوع إلى الجميع بحيث لو
علمنا أن المتكلم أراد الاستثناء من الجميع لا يلزم منه خلاف أصل أو
ارتكاب تجوز وعناية وأمثال ذلك من تقدير وإضمار وغيره، ومع
وجود مثل ذلك كيف يمكن إجراء أصالة العموم، وهل للعقلاء بناء
على عدم المخصص مع وجود ما يصلح للمخصصية؟ فيه إشكال نعم
لا ننكر أن في بعض الموارد بحسب المتفاهم العرفي يكون المرجع
خصوص الجملة الأخيرة أو الجميع لقرائن حالية أو مقالية أو لجهة
أخرى، ولكنه خارج عن محل الكلام. ولا فرق فيما ذكرنا بين أن
يكون الاستثناء بواسطة حرف الاستثناء مثل إلا أو بواسطة الاسم مثل
سوى وغير وأمثال ذلك، وإن قلنا بأن الوضع والموضوع له في
الحروف خاص، وذلك من جهة أن تعدد المخرج لا يلزم منه تعدد
الاخراج، بل يمكن إخراج المستثنى من تحت العناوين المتعددة
بإخراج واحد، فإذا قال أكرم العلماء والزهاد والسادات إلا النحويين
منهم وقصد إخراج النحويين من الجميع أو من خصوص العلماء
مثلا لا يقع تفاوت في مفاد إلا أصلا، لأنها أبدا تستعمل في إخراج ما
بعدها عن حكم ما قبلها، وليس في البين الا إخراج واحد عن جميع
تلك الجمل المتعددة. هذا مضافا إلى أن الوضع والموضوع له فيها
مثل الأسماء عام، فلا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد،
بتوهم أن إخراجه من كل واحد من الجمل معنى غير إخراجه من
الجملة الأخرى. نعم لو كان هناك المسمى بزيد مثلا شخصين
أحدهما
مثلا زيد بن عمرو، والاخر زيد بن بكر، ويريد إخراج زيد بن عمرو
مثلا عن تحت موضوع جملة، وزيد بن بكر عن جملة أخرى فقوله
أكرم العلماء والسادات الا زيدا يكون من استعمال اللفظ في أكثر من
معنى واحد إذا أراد إخراج زيد بن عمرو وزيد بن بكر كليهما، الا
أن يريد المسمى بزيد حتى يكون مفهوما جامعا بين زيد بن عمرو و
زيد بن بكر، ولكن ليس من جهة مفاد
465

أداة الاستثناء، بل من جهة إرادة معنيين من مدخولها أعني زيدا إذا لم
يرد به المسمى بزيد.
(فصل)
اختلفوا في جواز تخصيص العمومات الواردة في الكتاب أو السنة
بالمفهوم المخالف بعد اتفاقهم على جوازه بالمفهوم الموافق سوأ
كان
المفهوم الموافق باعتبار القطع بأولوية الملاك فيه مثل أكرم خدام
العلماء، فإنه يدل على إكرام نفس العلماء بالفحوى، أو كان من جهة
أن تعلق الحكم بالمنطوق باعتبار أنه فرد خفي من جامع مثل قوله
تعالى:
(ولا تقل لهما أف) أي لا تؤذهما.
(والتحقيق) أن يقال: إن المفهوم إذا كان بينه وبين العام العموم و
الخصوص المطلق بحيث يجمع العرف بينهما بحمل العام على
الخاص
ولا يرى تعارضا بينهما، فلا ينبغي الشك في تخصيصها به، لأنه لا
فرق بين المفهوم والمنطوق الا في أن المفهوم مدلول التزامي و
المنطوق مدلول مطابقي أو تضمني. والمفروض انه لا فرق في مقام
الحجية بين الأقسام الثلاثة من الدلالات وكلها معتبرة، فكما أنه لو
كان هناك خاص معتبر من حيث السند من قسم المنطوق يقدم على
العام الكتابي، فكذلك لو كان من قسم المفهوم. وأما لو كان بينهما
العموم والخصوص من وجه وكان التعارض مستقرا بينهما، فحينئذ لا
بد وأن ينظر إلى ظهور العام في العموم أنه هل هو بالوضع أو
بمقدمات الحكمة، وأيضا إلى ظهور القضية في المفهوم وأنه بالوضع
أو بمقدمات الحكمة، ففي صورة اختلافهما وضعا وإطلاقا لا شك
في تقديم الظهور الوضعي على الاطلاقي إذا كانا في كلام واحد، و
ذلك من جهة أن الظهور الاطلاقي تعليقي معلق على عدم البيان على
خلافه، والظهور الوضعي تنجيزي غير معلق على شئ، فالظهور
الوضعي يذهب بموضوع الظهور الاطلاقي عند المصادمة، فلو كان
ظهور العام وضعيا وظهور القضية في المفهوم إطلاقيا كان ظهور العام
في العموم مانعا عن انعقاد ظهور للقضية في المفهوم، فلا
يكون مفهوم في عالم الوجود حتى تخصص به العمومات. و (أما)
466

لو كان ظهور العام في العموم أيضا إطلاقيا مثل ظهور القضية في
المفهوم بناء على إمكان عدم كون العموم مستندا إلى الوضع، وكونه
مستندا إلى الاطلاق (فلا عموم ولا مفهوم) بل يصيران بحكم
المجمل إذا كانا في كلام واحد، لعدم انعقاد الظهور في كليهما لا العام
في
العموم ولا القضية في المفهوم. وأما إذا كانا في كلامين وانعقد
الظهوران فيتعارضان تعارض العموم من وجه، كما إذا كانا منطوقين.
و (أما التمسك) لعدم جواز تخصيص عمومات الكتاب بالمفهوم
المخالف بالأخبار المستفيضة بل المتواترة الواردة في عدم الاعتناء
بالخبر المخالف للكتاب وأنه يجب طرحه وانه زخرف وباطل وانهم
عليهم السلام ما قالوه (ففيه) أولا - أنه لا فرق حينئذ بين المفهوم
والمنطوق، فالمنطوق المخالف أيضا زخرف وباطل، فلا وجه
لاختصاص المنع بالمفهوم و (ثانيا) - أن الظاهر والمتفاهم العرفي من
مخالف الكتاب هو المخالفة بالتباين أو العموم من وجه والا
فالمخالف بالعموم والخصوص المطلق ليس مخالفا عندهم. و (ثالثا)
- أنه
على فرض شمولها لذلك عرفا لا بد ولا مناص من تخصيصها بما
عداه، لصدور مثل ذلك أي المخالف بالعموم والخصوص المطلق
منهم
عليهم السلام يقينا.
(المقصد الخامس في المطلق والمقيد)
وتوضيح هذا المبحث يحتاج إلى رسم أمور:
(الأول)
- أنهم عرفوا المطلق بأنه ما دل على معنى شائع في جنسه، والمراد
بالشيوع في الجنس شموله لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه شمولا
استغراقيا أو بدليا أو مجموعيا، وقد تقدم في باب العام والخاص أن
تحقق هذه الأقسام الثلاثة من ناحية اختلاف كيفية تعلق الاحكام
بالطبائع والماهيات، وإلا فالاطلاق في جميع الأقسام الثلاثة بمعنى
واحد وهو شمول المطلق لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه (إما)
شمولا عرضيا بحيث يكون كل فرد من أفراد الطبيعة المطلقة موضوعا
مستقلا للحكم في عرض سائر الافراد، وهذا يسمى بالاطلاق
الشمولي ويكون نظير العام الأصولي. والفرق بينهما هو أن العام
الأصولي يكون شموله بالوضع، والاطلاق الشمولي بمقدمات
الحكمة
467

و (إما) شمولا بدليا، وهو بأن تكون نفس الطبيعة المهملة مجردة عن
كل خصوصيته وقيد موضوعا للحكم الشرعي بحيث لو أتى
المكلف بأي فرد من الافراد كان ممتثلا.
وهذا هو البدلية و (إما) شمولا مجموعيا وهو بأن يكون مجموع
الافراد من حيث المجموع موضوعا واحدا وهذا نظير العام
المجموعي.
والفرق بينهما هو ما تقدم في العام الأصولي والاطلاق الشمولي.
(الثاني)
- أن الاطلاق والتقييد لا يتطرقان في المعاني الحرفية، لا لما ربما
يتوهم من جزئية المعاني الحرفية وأن المعنى الجزئي غير قابل
للاطلاق والتقييد، وذلك من جهة ما تقدم في المعنى الحرفي أن
معانيها كلية، وأن الوضع والموضوع له كلاهما فيها عامان، بل من
جهة
أن تقابل الاطلاق والتقييد - كما سنبين - تقابل العدم والملكة بمعنى
أنه في كل مورد لا يتطرق فيه التقييد ويكون محالا، فالاطلاق
أيضا يكون محالا ولا شك في أن المعاني الحرفية غير قابلة للتقييد،
لعدم استقلالها وكونها غير ملتفت إليها ولذلك لا تقع مسندا ولا
مسندا إليه لاحتياجهما إلى اللحاظ الاستقلالي.
(الثالث)
- أنه كما تتصف المعاني الأفرادية بالاطلاق والتقييد كذلك قد تتصف
الجمل والمعاني التركيبية بهما، وذلك كتقييد جملة الجزاء
بالشرط وكتقييد العقد بالقيود الخاصة، ولكن المقصود من الاطلاق و
التقييد في هذا المبحث هو الاطلاق والتقييد في المعاني الأفرادية
لا الجمل التركيبية.
(الرابع)
- أن التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة لا الايجاب و
السلب أو التضاد كما ربما يتوهم أما انه ليس من قبيل تقابل التضاد
فمن جهة أن الاطلاق ليس أمرا وجوديا بناء على ما هو التحقيق من أنه
يثبت بمقدمات الحكمة، وليس مدلول نفس اللفظ بالوضع، ولذلك
يحتاج إلى مقدمات لا يثبت إلا بها، بل الاطلاق عبارة عن عدم تقييد
الطبيعة والماهية بقيد وجودي أو عدمي في الموضوع القابل
للتقييد، وإلا لو لم تكن الطبيعة والماهية قابلة للتقييد فليست مطلقة
إطلاقا اصطلاحيا بالمعنى المعروف عند أهل الفن. (ومما ذكرنا)
ظهر لك أن التقابل بينهما
468

ليس تقابل الايجاب والسلب أيضا، وذلك من جهة اعتبار القابلية
للتقييد في طرف الاطلاق.
(الخامس)
- في اعتبارات الماهية والطبيعة، وهي كونها إما مطلقة أو مخلوطة أو
مجردة، ومعنى كونها مطلقة هو عدم تقيدها بقيد وتخصصها
بخصوصية، كما أن معنى كونها مخلوطة هو تخصصها بخصوصية، و
معنى كونها مجردة هو ملاحظتها مفارقة جميع الخصوصيات وكل
ما يمكن أن يطرأ عليها من العوارض والمصنفات والمشخصات و
التعينات (وبعبارة أخرى) ملاحظة الماهية محذوفة عنها جميع
العوارض ومجردة عن جميع الطوارئ والكلمات في هذا المقام لا
تخلو من الخلل والاضطراب.
(والتحقيق) أن يقال: إذا لوحظت الماهية من حيث هي بدون ملاحظة
أي شئ معها غير ذاتها وذاتياتها، وبهذه الحيثية يقال إن الماهية
من حيث هي ليست إلا هي لا كلية ولا جزئية لا واحدة ولا كثيرة،
حتى يقال أنها لا موجودة ولا معدومة وهذه هي الماهية المهملة التي
هي فوق المقسم بمعنى أنها بهذا الاعتبار لا قسم ولا مقسم بعد، لأنه
حتى اعتبار المقسمية متأخر عن هذه المرتبة إذا اعتبار المقسمية في
رتبة ملاحظة الماهية غير مقيدة بأحد الاعتبارات أعني اعتبارها لا
بشرط أو بشرط شئ أو بشرط لا والماهية في هذه الملاحظة لا
ينظر إلا إلى ذاتها ونفسها، ولذلك ينتفي جميع النقائض عنها في هذه
المرتبة وأسماء الأجناس موضوعة للماهية التي في هذه المرتبة
أي الماهية المهملة وذات المعنى من دون ملاحظة أية خصوصية
أخرى معها، وإذا لوحظت مع ما هو خارج عن ذاتها (فتارة) تلاحظ
مجردة عنه وبشرط عدم اقترانها أو اتحادها معه. وهذا هو البشرط لا
القسمي و (تارة) تلاحظ بشرط الاتحاد أو الانضمام معه، وهذا
هو البشرط شئ و (تارة) تلاحظه لا بشرط عن الاتحاد وعدم الاتحاد
والانضمام وعدم الانضمام، وهذا هو اللابشرط القسمي. وأما
اللابشرط المقسمي وهو أن لا يلاحظ فيها حتى هذا الاعتبار أي اعتبار
أن تكون لا بشرط فهو عبارة عن لحاظ الماهية مع الخارج عن
ذاتها غير مشروط بوجوده ولا بعدمه أي تكون
469

لا بشرط بالنسبة إليه، ولكن لا يلاحظ فيها هذا الاعتبار أيضا أي اعتبار
اللابشرطية.
(والحاصل) أن الفرق بين اللابشرط القسمي واللابشرط المقسمي هو
أن اللابشرطية في القسمي بالنسبة إلى التقييد بالعوارض و
الطوارئ والتقييد بعدمها، واللابشرطية في المقسمي تكون بالنسبة
إلى نفس هذه الاعتبارات الثلاثة أعني البشرط لائية والبشرط
شيئية واللابشرطية التي كلها أقسام اللابشرط المقسمي، فاللابشرط
القسمي هو ملاحظة الطبيعة غير مقيدة بوجود خصوصية أو
خصوصيات، وأيضا غير مقيدة بعدمها، واللابشرط المقسمي هو
ملاحظة الطبيعة غير مقيدة بأحد هذه الاعتبارات الثلاثة ولا بعدمها،
لأنها مقسم لهذه الاعتبارات، فلا بد وأن تكون غير مقيدة لا بوجود
أحدها ولا بعدم أحدها حتى يكون ساريا في الجميع. وقد عرفت
ان الألفاظ وأسماء الأجناس موضوعة لنفس الماهيات المهملة
بالوجدان، لان الذي راجع وجدانه يرى من نفسه أن الواضع حين
الوضع لا
يتصور إلا ذات المعنى لا الخصوصيات التي يمكن ان تطرأ عليها،
فجميع الخصوصيات والعوارض غير ملحوظة في الموضوع له ولا
مأخوذ فيه، فما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) - من وضع الألفاظ
للماهية اللابشرط المقسمي - ليس كما ينبغي، وذلك من جهة أن
اللابشرط المقسمي - كما تقدم آنفا - عبارة عن ملاحظة الماهية و
النظر إليها والاعتبارات الثلاثة وملاحظتها غير مقيدة بأحدها ولا
بعدمها. ومعلوم ان الواضع حال الوضع لا نظر له الا إلى ذات المعنى و
لا نظر له إلى هذه الاعتبارات أصلا لا إلى بشرط شيئية الماهية ولا
إلى بشرط لائيتها، ولا إلى لا بشرطيتها، فالموضوع له للألفاظ ليس في
نظر الواضع إلا ذات المعنى الذي تقدم أنه الماهية المهملة. ومما
ذكرنا عرفت الفرق بين الماهية المهملة واللابشرط المقسمي وان
الأول عبارة عن ملاحظة الماهية من دون التفات إلى ما هو خارج عن
ذاتها، والثاني عبارة عن ملاحظة الماهية مع الاعتبارات الثلاثة وكونها
لا بشرط بالنسبة إليها لكونها مقسما لها، والمقسم لا بد وأن
يكون لا بشرط بالنسبة إلى خصوصيات الأقسام، وإلا فلا يكون ساريا
فيها.
470

ثم انه ربما يتوهم أن اللابشرط القسمي عبارة عن لحاظ الماهية و
الطبيعة بشرط الاطلاق والسريان. ومثل هذا المعنى من قبيل الكلي
العقلي لا ينطبق على الخارجيات أصلا، لان كل ما في الخارج شخص
غير قابل الصدق على كثيرين، فلا تنطبق الطبيعة المقيدة بقيد
السريان والاطلاق عليه. ولكن هذا توهم فاسد، لان اللابشرط
القسمي - كما تقدم - هو ملاحظة الماهية غير مقيدة بطرف وجود
الخصوصية ولا بطرف عدمها، ولذلك يلائم وجودها ويتحد مع
واجدها ومع فاقدها ويحمل على كليهما، وذلك من جهة أن
اللابشرط
القسمي في قبال القسمين الآخرين وحيث أنهما عبارة عن تقيد
الطبيعة واشتراطها بوجود الخصوصية أو بعدمها، فهذا لا بد وأن
يكون
عبارة عن عدم تقيدها لا بالوجود ولا بعدم تلك الخصوصية، لا
تقيدها بالارسال والاطلاق كما توهم.
ثم إنه بعد ما عرفت معنى اللابشرط القسمي والمقسمي والماهية
المهملة فلو قلنا بوضع الألفاظ وأسماء الأجناس للماهية المهملة أو
اللابشرط المقسمي فلا بد في إثبات الاطلاق من التمسك بمقدمات
الحكمة، وان قلنا بوضعها لذلك المعنى اللابشرط القسمي، فيكون
الاطلاق مدلولا لنفس اللفظ ولا يحتاج إثباته إلى مقدمات الحكمة
(بيان ذلك): أن الاطلاق - سواء كان عبارة عن استواء نسبة الطبيعة
إلى جميع الخصوصيات أو الارسال - يكون مفاد اللابشرط القسمي
إذ الطبيعة غير المقيدة بطرف وجود شئ ولا بطرف عدمه تكون
مرسلة قهرا، ونسبتها إلى وجود القيد وعدمه متساوية قطعا. وأما لو
كان الموضوع له هي الماهية المهملة، فنفس اللفظ - بما هو - لا
يدل إلا على نفس الذات والسريان والاطلاق خارجان عن مدلوله، و
لا بد في إثباتهما من دال آخر، سواء كان هو مقدمات الحكمة أو
شئ آخر غيره.
وأما لو كان الموضوع له هو اللابشرط المقسمي فحيث أن لا بشرطيته
تكون بالنسبة إلى الاعتبارات الثلاثة لا بالنسبة إلى الخصوصيات
والعوارض التي يمكن أن تطرأ على الطبيعة والماهية فالاطلاق الذي
هو عبارة عن عدم تقيد الطبيعة لا بوجود
471

ولا بعدمها يكون خارجا عن مدلول اللفظ، ويحتاج إثباته إلى
التمسك بمقدمات الحكمة، وحيث أنك عرفت ان الحق هو أن
الألفاظ و
أسماء الأجناس موضوعة للماهيات المهملة، فإثبات الاطلاق يحتاج
إلى
مقدمات الحكمة، وهي أمور:
(الأول)
- أن يكون المورد أي اللفظ والمعنى الذي نريد إثبات إطلاقه قابلا
للاطلاق والتقييد، ولا يكون من قبيل الخصوصيات التي تطرأ على
الطبيعة بعد تعلق الخطاب بها، فان مثل ذلك المتعلق أو الموضوع
بالنسبة إلى مثل تلك الخصوصية الجائية من قبل الخطاب المتعلق به لا
يمكن أن يكون مقيدا بها، لان معنى كون المتعلق مقيدا بخصوصية هو
تقدم تلك الخصوصية على ذلك الخطاب، لان المتعلق بجميع
خصوصياته مقدم على الخطاب المتعلق به، لان نسبة الخطاب إلى
متعلقه نسبة العرض إلى معروضه. والمفروض أنها جائية من ناحية
الخطاب، فيكون متأخرا عنه فيلزم أن يكون ما هو متأخر عن الشئ مقدما
عليه، فإذا امتنع تقييد المتعلق أو الموضوع بها يمتنع الاطلاق
أيضا، وذلك لما ذكرنا من أن الاطلاق عبارة عن عدم التقييد في موضوع
قابل للتقييد. والحاصل أنه لا يمكن الاخذ بإطلاق متعلق
الخطاب أو موضوعه بالنسبة إلى جميع الانقسامات الثانوية كقصد القربة
والعلم والجهل بالحكم، وكل ما كان من هذا القبيل.
(الثاني)
- أن يكون المتكلم في مقام البيان من الجهة التي نريد أن نأخذ بإطلاقها،
وإلا فان لم يكن في مقام البيان أصلا، كما إذا كان في مقام
أصل تشريع العبادة كقوله تعالى: (أقيموا الصلاة) أو المعاملة كقوله:
(أحل الله البيع) أو لم يكن في مقام البيان من تلك الجهة، بل كان في
مقام البيان من جهة أخرى كقوله تعالى: (وكلوا مما أمسكن) أي مما
أمسك كلب الصيد فإنه تعالى في مقام بيان حكم ما أمسك كلب الصيد
من جهة كونه مذكى وعدم كونه ميتة لا من جهة طهارة موضع عض
كلب الصيد وجواز أكله بدون غسله وتطهيره، فلا يمكن التمسك
بإطلاقه من هذه الجهة ثم إن أصالة كون المتكلم في مقام البيان
ولو كان أصلا عقلائيا، لكنه
472

لا يجري عندهم إلا فيما إذا شك في أنه بصدد البيان أو الاهمال
والاجمال لا في مورد إحراز كونه في مقام التشريع أو في مقام بيان
حكم آخر.
(الثالث)
- عدم تقييده بدليل لفظي أو لبي متصل أو منفصل، إذ مع التقييد
بالمتصل لا ينعقد للمطلق ظهور في الاطلاق، ومع التقييد بالمنفصل لا
تبقى حجية لذلك الظهور في مورد عدم القيد، فلا يمكن الاخذ بالاطلاق.
(الرابع)
- عدم قدر متيقن في مقام التخاطب. والمراد بمقام التخاطب مقام التفهيم
والتفهم بحسب الدلالة اللفظية الوضعية. والمقصود من هذا
القيد إخراج القدر المتيقن بالنسبة إلى كونه موضوعا للحكم، إذ ما من مطلق
الا وله قدر متيقن بحسب موضوعيته للحكم، مثلا إذا قال
أكرم العلماء فلا يشك أحد في أن العالم العادل الفاطمي يقينا موضوع لهذا
الحكم، ومع ذلك لا يضر ذلك بالتمسك بالاطلاق عند الشك
في شموله لبعض الأحوال، ولكنه مع ذلك كله القدر المتيقن مطلقا بأي
معنى كان لا يضر بالاطلاق، بل الظهور الاطلاقي حجة ولو مع
وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب بالمعنى الذي ذكرنا له، وذلك
من جهة أن ورود المطلق في مورد خاص يدل دلالة صريحة على
شموله لذلك المورد، ويكون ذلك المورد قدرا متيقنا من مدلول ذلك
المطلق في مقام التخاطب، إذ ربما يمكن تقييده بالنسبة إلى
الموارد الاخر ولا يمكن تقييده بالنسبة إلى ذلك المورد لاستهجانه،
ومع ذلك لا يضر بالاطلاق، بل يؤخذ به في موارد الشك. وما ادعى
أحد تخصيص المطلقات بموارد ورودها باعتبار أنها القدر المتيقن.
نعم انصراف المطلق إلى بعض أفراده أو أصنافه مانع عن الاخذ
بإطلاق ذلك المطلق فيما عداه والانصراف قد يكون لغلبة الوجود،
ومثل هذا الانصراف بدوي لا اعتبار به، ولا يضر بالأخذ بالاطلاق
في مورده، وقد يكون بواسطة حكم العرف بأن هذا الفرد ليس من
مصاديق المطلق قطعا أو بواسطة شكه في كونه من مصاديقه، و
ذلك من جهة كون طبيعة المطلق ذات تشكيك وكونها متفاوتة بالشدة
والضعف والكمال والنقص، فربما تنصرف الطبيعة من الناقص
في نظر
473

العرف مع كونه منها بالدقة. وهذان القسمان يمنعان عن الاخذ بالاطلاق
في موردهما. فتلخص من جميع ما ذكرنا أن مقدمات الحكمة
مركبة من ثلاث لا أربع وأن القدر المتيقن في مقام التخاطب ليس من
مقدماتها، بل ينبغي عدم عد قابلية المحل أيضا من المقدمات، لان
موضوع إجراء تلك المقدمات هو المحل القابل للاطلاق.
والتقييد، فتكون قابلية المحل للاطلاق والتقييد داخلة في موضوع
مقدمات الحكمة لا أنها من جملتها، فبناء على هذا تكون مقدمات
الحكمة مركبة من مقدمتين:
(إحداهما) - كون المتكلم في مقام البيان و (الثانية) - عدم التقييد
بالنسبة إلى مورد نريد الاخذ بالاطلاق فيه، بل التحقيق هو حذف هذا
الأخير أيضا، ووضع حكم العقل - بقبح نقض الغرض وأن القبيح
على الحكيم محال - مكانه.
(فصل)
في أن التقييد بالمتصل أو المنفصل هل يوجب كون استعمال المطلق
في المقيد مجازا أو لا؟ اختلفوا على أقوال: (ثالثها) - التفصيل بين
التقييد بالمتصل وبين التقييد بالمنفصل، فقالوا بالمجازية في الثاني دون الأول.
(والحق) عدم كونه مجازا مطلقا بناء على ما هو
التحقيق من وضع أسماء الأجناس للماهية المهملة وخروج الاطلاق والتقييد
عن كونهما مدلولين للفظ، بل كل واحد منهما لا بد وأن
يستفاد من الخارج وبدال آخر، غاية الامر أن الاطلاق يستفاد - كما تقدم -
من مقدمات الحكمة وكون المتكلم في مقام البيان وعدم
تقييده لا بالمتصل ولا بالمنفصل، والتقييد من التقييد لفظا أو لبا بأحدهما،
وفي كلا الموردين لا يستعمل اللفظ إلا في معناه الحقيقي أي
الماهية المهملة. ولا فرق بين أن يستفاد التقييد من دليل منفصل أو متصل.
وعلى أي حال يكون من باب تعدد الدال والمدلول. نعم لو
قلنا بأن الاطلاق جز مدلول اللفظ وداخل في الموضوع له، بأن يكون اللفظ
موضوعا للابشرط القسمي كما ذهب إليه المشهور، فيكون
استعمال المطلق في المقيد مجازا، لأنه استعمال في خلاف ما وضع له،
لاستعمال اللفظ الموضوع للابشرط القسمي في
474

البشرط شئ، ولكنه بناء على هذا المبنى أيضا لا فرق بين التقييد بالمتصل
أو بالمنفصل، لأنه في كلتا الصورتين استعمال في خلاف ما
وضع له، فالتفصيل بين المتصل والمنفصل باطل على كل حال.
ثم إنه لا يخفى أن التقييد من جهة وبحسب حالة وخصوصية لا ينافي الاطلاق
بحسب حالة أخرى، ولذلك نأخذ بإطلاق المطلقات مع أنها
ربما كانت مقيدة بأزيد من تقييد واحد بتقييد متصل أو منفصل.
والسر في ذلك واضح من جهة أن تقييد المتكلم للطبيعة بقيد متصل أو
منفصل بتقييد واحد أو متعدد يدل على مدخلية ذلك القيد في المراد.
وأما بالنسبة إلى سائر الحالات والخصوصيات فلا يدل على شئ،
فتجري مقدمات الحكمة بالنسبة إليها ويؤخذ بالاطلاق من تلك الجهات.
(فصل)
إذا ورد مطلق ومقيد، فاما ان يكونا متنافيين في الايجاب والسلب.
أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة، وإما ان يكونا متوافقين فيهما بمعنى
ان كليهما اما متعلقان للامر أو للنهي، فان كانا من قبيل الأول و
كان المطلق مأمورا به والمقيد منهيا عنه كقوله أعتق رقبة ولا تعتق رقبة
كافرة فقد يكون من باب حمل المطلق على المقيد كما في نفس
المثال، حيث إن ظهور أمر المطلق في وجوب عتق أي رقبة: مؤمنة
كانت أو كافرة مع ظهور نهي المقيد في حرمة عتق الرقبة الكافرة لو
كان النهي نفسيا لا يجتمعان، فلا بد من رفع اليد إما عن ظهور المطلق
في الاطلاق وإما عن ظهور النهي في التحريم، وحيث أن ظهور
المطلق في الاطلاق تعليقي معلق على عدم البيان وعدم مجئ قرينة على
المراد، ويكفي في البيانية ورود المقيد وتكون أصالة الظهور
في طرف المقيد واردة على أصالة الظهور في طرف المطلق، لأنه
من قبيل أصالة الظهور في طرف القرينة بالنسبة إلى ذي القرينة و
ظهور المقيد في التقييد تنجيزي غير معلق على شئ فقهرا يكون واردا
على ظهور المطلق ولا يبقى له محل أصلا. وهذا هو المراد من
حمل المطلق على المقيد أي رفع اليد عن ظهوره في الاطلاق وحمله على إرادة المقيد.
475

(وبعبارة أخرى) الاطلاق البدلي في ناحية المطلق كان مقتضيا لتطبيق
صرف الوجود من الطبيعة على أي فرد أراد ومقترنة بأية
خصوصية كانت. وهذا هو المراد من التخيير العقلي في مقام الامتثال،
ولكن هذا التخيير العقلي بالنسبة إلى الافراد حيث لا مانع عن
التطبيق ومعلق على عدم مجئ قرينة على الخلاف وعدم بيان على المراد
والنهي التحريمي النفسي كاف في البيانية وقرينة على عدم
إمكان التطبيق بالنسبة إلى ذلك الفرد. وقد يكون من قبيل النهي عن العبادة،
كقوله: (صل ولا تصل في الحمام أو صم ولا تصم يوم
العيد) بناء على أن يكون الاطلاق في المثال الأخير إطلاقا بدليا.
والمناط في كونه نهيا عن العبادة أن يكون المطلق عبادة بالمعنى
الأخص، والمقيد المنهي عنه أخص مطلقا من المطلق الأعم منه مطلقا
(وبعبارة أخرى) يكون بين متعلق الأمر والنهي عموم وخصوص
مطلق، وأما لو كان بينهما عموم وخصوص من وجه فان كانت هذه
النسبة بين ما هو متعلق الامر ومتعلق النهي كقوله صل ولا تغصب،
فيكون من باب الاجتماع. وقد تقدم الكلام فيه تفصيلا فلا نعيد.
هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) ولكن يمكن أن يقال بأنه لو قلنا بأن
التركيب في مورد الاجتماع اتحادي فيكون من قبيل النهي عن
العبادة، ويكون من القسم الثاني المتقدم مثل صل ولا تصل في الحمام،
وليس قسما ثالثا، وإن قلنا بأن التركيب انضمامي كما تقدم
فخارج عن الاطلاق والتقييد المصطلح، لان ما هو المصطلح من الاطلاق
والتقييد هو أن يكون الأمر والنهي واردين على طبيعة واحدة
غاية الامر في أحدهما تكون الطبيعة مطلقة وفي الاخر تكون مقيدة لا أن
الامر يكون واردا على طبيعة والنهي على طبيعة أخرى كما
في باب الاجتماع، بناء على أن يكون التركيب انضماميا، وقد يكون
من باب التعارض، فيجب أن يعمل فيه عمل الدليلين المتعارضين و
يرجع إلى قواعد باب التعارض، وذلك فيما إذا كانت نسبة العموم من
وجه بين متعلقي المتعلقين للامر والنهي، كقوله أكرم عالما ولا
تكرم الفاسق.
وهذا القسم غير خارج عن الاطلاق والتقييد الاصطلاحي، لان الأمر والنهي واردان
476

على موضوع واحد في المجمع، والتركيب في المجمع اتحادي لا انضمامي
، فما هو مصداق للعالم مصداق للفاسق بعينه. وإن كانا من قبيل
الثاني أي كان المطلق والمقيد متوافقين في الحكم، فان كان كل واحد منهما
متعلقا للنهي فحيث أن مفاد النهي غالبا هو الاطلاق
الشمولي والمطلوب به ترك جميع وجودات الطبيعة، فلا تنافي بين طلب
ترك المطلق وترك المقيد أيضا. نعم ذكر المقيد حينئذ يحتاج
إلى نكتة وجهة، ولو كانت شدة الاهتمام بتركه وإلا فطلب ترك
المطلق بالاطلاق الشمولي يغني عن طلب ترك المقيد ثانيا، فلو قال
للمريض مثلا لا تشرب الحامض يغني عن قوله لا تشرب ماء الحصرم
، إلا أن تكون في ذكره نكتة من كونه أضر من سائر الحوامض مثلا.
وأما إن كان كل واحد منهما متعلقا للامر كقوله أعتق رقبة وأعتق رقبة
مؤمنة (فتارة) لا يذكر السبب في كل واحد منهما كما في المثال
المتقدم و (تارة) يذكر السبب في كليهما، وما يذكر السبب في
كليهما (تارة) مع وحدة السبب، كقوله إن ظاهرت فأعتق رقبة وان
ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة و (أخرى) مع اختلاف السبب كقوله:
إن ظاهرت فأعتق رقبة مثلا وإن أفطرت متعمدا في نهار شهر رمضان
فأعتق رقبة مؤمنة و (تارة) يذكر السبب في أحدهما دون الاخر.
أما ما يذكر السبب في كليهما مع وحدة السبب، فلا مناص فيه من حمل
المطلق على المقيد، وذلك من جهة دلالة وحدة السبب على وحدة
المسبب، فحينئذ ذلك الحكم الواحد المجعول لا يمكن أن يكون متعلقه
مطلقا لا دخل لخصوصية القيد فيه، ويحصل الامتثال بدونه كما هو
قضية الاطلاق، وأن يكون القيد دخيلا فيه لا يحصل الامتثال بدونه
كما هو قضية التقييد، فلا بد في رفع هذا التناقض من حمل المطلق
على المقيد، وأن المراد من كليهما واحد وهو المقيد.
وأما مع اختلاف السبب فيهما فلا وجه لحمل المطلق على المقيد،
بل يستكشف من تعدد السبب تعدد المسبب وأن الحكم المجعول في
جانب المطلق غير ما هو المجعول في طرف المقيد، فلا يبقى تناف
بينهما حتى يحمل المطلق على المقيد، بل كل واحد منهما محكوم
بحكمه.
477

وأما ما يذكر السبب في أحدهما دون الاخر، فلا يمكن فيه حمل
المطلق على المقيد، لأنه لا بد فيه من وحدة المطلوب، فان أحرزت من
الخارج فهو وإلا فمشكل من جهة أن هناك تقييدان كل واحد منهما
متوقف على الاخر: (أحدهما) - تقييد الحكم في الطرف الذي لم يذكر
السبب بالسبب المذكور في الطرف الآخر، وإلا - أي إن كان هناك
سببان يقتضيان مسببين أي حكمين أحدهما للمطلق والاخر للمقيد
- فلا منافاة بينهما حتى يحمل المطلق على المقيد (ثانيهما) -
تقييد المتعلق في طرف المطلق بالقيد المذكور في المقيد. ومعلوم أن تقييد
الحكم بذلك السبب المذكور في الطرف الآخر متوقف على تقييد المتعلق
، وإلا - أي إن لم يقيد - فهناك متعلقان لكل واحد منهما حكم
غير ما هو للآخر. ولا منافاة بينهما ولا موجب لوحدة السبب.
وتقييد المتعلق أيضا متوقف على تقييد الحكم وإلا - أي إن لم يقيد الحكم
- فهناك حكمان لكل واحد منهما متعلق، فلا موجب لتقييد المتعلق.
وهذا دور واضح، فلا طريق إلى حمل المطلق على المقيد.
وأما ما لم يذكر السبب في كليهما فحيث أن الامر في المطلق والمقيد
ظاهر في طلب صرف الوجود مما تعلق به، وصرف وجود الطبيعة
ينطبق على أول وجود منها، وليس قابلا للتعدد والتكرر،
فلا محالة يكون الاطلاق إطلاقا بدليا لا شموليا، ولا بد حينئذ من حمل
المطلق على المقيد، وذلك من جهة ما ذكرنا من أن ظاهر دليل المقيد
هو لزوم إتيان صرف الوجود من الطبيعة في ضمن ذلك القيد
المذكور فيه، وظاهر دليل المطلق هو تخيير المكلف في تطبيقه
صرف الوجود على أي فرد أراد، وعدم لزوم إتيانه في ضمن تلك
الخصوصية فيتنافيان، وحيث أن ظهور المقيد - كما ذكرنا -
وارد على ظهور المطلق ومن قبيل ظهور القرينة بالنسبة إلى ذي القرينة،
لان ظهور المطلق في الاطلاق بمقدمات الحكمة، ومن جملة تلك
المقدمات عدم وجود بيان على التقييد، فإذا ورد بيان ولو كان بدليل
منفصل لا يبقى موضوع للاطلاق. نعم الفرق بين المتصل والمنفصل
هو أنه في المقيد المتصل
478

لا ينعقد ظهور في الاطلاق، وفي المنفصل ينعقد ذلك الظهور،
ولكن بواسطة ورود المقيد المنفصل يسقط عن الحجية في غير مورد
وجود القيد (وبعبارة أخرى) حمل المطلق على المقيد يحتاج إلى
إحراز وحدة المطلوب فيهما، ولكن وحدة المطلوب قد تحرز من
الخارج. وقد تستفاد من نفس الدليل وفي المقام تستفاد من نفس
الدليل من جهة أن المفروض أن المطلوب فيهما هو صرف الوجود، و
صرف وجود الشئ لا يتعدد ولا يقبل التكرر، بل ينطبق
على أول وجود منه، ففي هذا القسم بعد أن فرضنا أن المطلوب في الطرفين
صرف الوجود، والحكم المجعول فيهما حكم إلزامي لا مناص من حمل المطلق على المقيد.
بقي هنا أمور:
(الامر الأول)
- أن الاحتمالات - في مورد حمل المطلق على المقيد في المثبتين الذين
يكون المطلوب فيهما صرف الوجود - أربعة (أحدها) - هو ما
اخترناه وعليه المشهور من حمل المطلق على المقيد، وقد تقدم آنفا مع
وجهه فلا نعيد (ثانيها) - حمل الامر في المقيد على الاستحباب و
كونه أفضل الافراد، (وفيه) أنه لا وجه لرفع اليد عن ظهور الامر
في المقيد في الوجوب إلا منافاته مع ظهور المطلق في الاطلاق وقد
عرفت أن ظهور المقيد وارد على ظهور المطلق في الاطلاق، ومعه ل
ا يبقى له محل أصلا (ثالثها) - أن يكون مفاد أمر المقيد هو الواجب
في الواجب بمعنى أن يكون أصل الطبيعة المطلقة واجبا ويكون القيد
واجبا آخر، فلو أتى بأصل الطبيعة وترك القيد أتى بواجب وترك
واجبا آخر وهو القيد (وفيه) أن ظاهر دليل المقيد وجوب الطبيعة
المقيدة بحيث لو أتى بالقيد وحده أو بذات المقيد وحده لما امتثل
أصلا، ومعنى وجوب شئ في واجب آخر هو أن يكون ذلك الشئ
بنفسه ومستقلا واجبا، غاية الامر أن محل وجوبه في أثناء واجب
آخر كالقنوت بناء على القول بوجوبه أو قبله كالإقامة بناء على وجوبها
أو بعده كما لو نذر أن يعقب بعد الصلاة مثلا فكونه من قبيل
الواجب في الواجب لا يساعده دليل المقيد (رابعها) - تعدد الواجب
بمعنى أن المطلق واجب والمقيد واجب آخر، فالمجعول حكمان متعلق
أحدهما
479

المطلق ومتعلق الاخر هو المقيد، وإذا كان حكمان فلا منافاة بينهما،
لأنه لكل واحد منهما متعلق غير ما هو للآخر. (وفيه) أن مفروض
كلامنا هو فيما إذا كان المطلوب - في كليهما أي المطلق والمقيد -
هو صرف الوجود، وقد عرفت أن صرف الوجود لا يتكرر ولا يقبل
التعدد، وإذا كان المتعلق واحدا فلا يمكن أن يكون المجعول حكمين،
وإلا يلزم اجتماع المثلين، فتعدد الواجب أيضا خلاف ظاهر دليل
المطلق والمقيد، فيتعين الاحتمال الأول وهو حمل المطلق على المقيد
الذي عليه المشهور وهو المختار.
(الامر الثاني)
- أن قوام حمل المطلق على المقيد في المثبتين بأمرين:
(أحدهما) - وحدة المطلوب في كليهما أي في المطلق والمقيد سواء
أحرز من الخارج أو من وحدة السبب فيهما أو من نفس الدليلين وأن
المطلوب فيهما صرف الوجود (ثانيهما) - أن يكون المجعول فيهما
إلزاميا (ووجه الأول) هو أنه لو لم تحرز وحدة المطلوب، بل كان
من المحتمل أن يكون هناك حكمين مجعولين متعلق أحدهما المطلق
ومتعلق الاخر المقيد، فلا يمكن إحراز المنافاة بينهما حتى يرفع
التنافي بحمل المطلق على المقيد، بل يكون الحكم بالنسبة إلى المقيد
معلوما، وفي مورد عدم القيد يكون مشكوكا فيه يرجع إلى الأصل
(ووجه الثاني) هو أنه لو كان التكليف بالمقيد استحبابيا لما كان
يمنع من تركه والاتيان بسائر الافراد الذي هو قضية المطلق، فلا
منافاة بين ما هو مفاد المطلق وما هو مفاد المقيد حتى يحمل المطلق على المقيد.
(الامر الثالث)
- أن الأدلة الواردة لبيان الجزئية أو الشرطية أو المانعية وإن كانت تقيد
المطلقات الواردة بالنسبة إلى المركبات، لكنها خارجة عن
محل الكلام، لأنه ليس هناك تلك الاحتمالات التي ذكرناها في مورد
حمل المطلق على المقيد من احتمال كون المقيد من قبيل أفضل
الافراد أو واجبا في واجب أو واجبا آخر ويكون المطلق أيضا واجبا
آخر، بل تلك الأدلة لا محالة تقيد المطلقات، وإلا فلا معنى لكونها
دليلا على الجزئية والشرطية والمانعية. ولا فرق في ذلك بين أن يكون
480

منشأ انتزاع المانعية أو الجزئية أو الشرطية من قبيل الأوامر والنواهي
الغيرية، كقوله: إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ واقرأ فاتحة الكتاب
في الصلاة، ولا تصل فيما لا يؤكل لحمه، أو كان من قبيل نفي
المركب بعدم شئ بالنسبة إلى الجزئية والشرطية أو بوجوده بالنسبة
إلى المانعية كقوله: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) (ولا صلاة مع
لبس غير المأكول): أو كان بتوصيف المركب بعدم شئ أو بوجوده
كقوله: (صل مستقبلا) فان تقييد المركب - بالوجود بالنسبة إلى
الجز والشرط وبالعدم بالنسبة إلى المانع - أمر معلوم ليس محلا
للاشكال أو الكلام.
(المقصد السادس في المجمل والمبين)
عرفوا المجمل والمبين بما ليس له ظاهر وماله ظاهر، وحيث انه
لا ثمرة فقهية في فهم مفهوم المجمل والمبين، لا يهمنا ذكر تعريفات
القوم لهما والنقض والابرام فيها، هذا مع وضوح هذين المفهومين
وعدم إجمال في البين، ثم إن الاجمال والتبيين كما يكونان في
مداليل الافراد كذلك قد يكونان في الجمل، فرب كلام تام من حيث
أركان الكلام ومع ذلك ليس له ظاهر يستكشف مراد المتكلم منه، و
لا شك في أنهما معنيان إضافيان يختلفان باختلاف الاشخاص،
فرب كلام أو لفظ يكون مجملا بالنسبة إلى شخص، ومبينا بالنسبة إلى
آخر. تمت والحمد لله أولا وآخرا.
481