الكتاب: تفسير الآلوسي
المؤلف: الآلوسي
الجزء: ٣٠
الوفاة: ١٢٧٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

سورة النبأ
وتسمى سورة عم وعم يتساءلون والتساؤل والمعصرات وهي مكية بالاتفاق وآيها إحدى وأربعون في المكي والبصرى وأربعون في غيرهما ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي دل ما قبل على تكذيب الكفرة به وفي تناسق الدرر وجه اتصالها بما قبل تناسبها معها في الجمل فإن في تلك * (ألم نهلك الأولين ألم نخلقكم من ماء مهين ألم نجعل الأرض كفاتا) * الخ وفي هذه * (ألم نجعل الأرض مهادا) * الخ مع اشتراكها والأربع قبلها في الاشتمال على وصف الجنة والنار وما وعد المدثر وأيضا في سورة المرسلات لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل وفي هذه أن * (يوم الفصل كان ميقاتا) * الخ ففيها شرح يوم الفصل المجمل ذكره فيما قبلها اه‍ وقيل أنه تعالى لما ختم تلك بقوله سبحانه: فبأي حديث بعده يؤمنون وكان المراد بالحديث فيه القرآن افتتح هذه بتهويل التساؤل عنه والاستهزاء به وهو مبني على ما روى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن المراد بالنبأ العظيم القرآن والجمهور على أنه البعث وهو الأنسب بالآيات بعد كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.
* (عم يتسآءلون) *
* (عم) * أصله عما على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية فحذفت الألف وعلل بالتفرقة بينها وبين الخبرية والإيذان بشدة الاتصال وكثرة الدوران وحال العلل النحوية معلوم وقد قرأ عبد الله وأبي عكرمة وعيسى بالألف على الأصل وهو قليل الاستعمال وقال ابن جني
2

إثبات الألف أضعف اللغتين وعليه قوله: على ما قام يشتمني لئيم * كخنزير تمرغ في رماد
والاستفهام للإيذان بفخامة شأن المسؤل عنه وهوله وخروجه عن حدود الأجناس المعهودة أي عن أي شيء عظيم الشأن * (يتساءلون) * الضمير لأهل مكة وأن لم يسبق ذكرهم للاستغناء عنه بحضورهم حسا مع ما في الترك على ما قيل من التحقير والإهانة لإشعاره بأن ذكرهم مما يصان عنه ساحة الذكر الحكيم ولا يتوهم العكس لمنع المقام عنه وكانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم ويخوضون فيه إنكارا واستهزاء لكن لا على طريقة التساؤل عن حقيقته ومسماه بل عن وقوعه الذي هو حال من أحواله ووصف من أوصافه وما كما مر غير مرة وإن اشتهرت في طلب حقائق الأشياء ومسميات أسمائها لكنها قد يطلب بها الصفة والحال فيقال ما زيد ويجاب بعالم أو طبيب وقيل كانوا يتساءلون الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين استهزاء فالتساؤل متعد ومفعوله مقدر هنا وحذف لظهوره أو لأن المستعظم السؤال بقطع النظر عمن سأل أو لصون المسؤل عن ذكره مع هذا السائل وتحقيق ذلك على ما في الإرشاد أن صيغة التفاعل في الأفعال المتعدية لإفادة صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلا ومفعولا معا لكنه يرفع المتعدد على الفاعلية ترجيحا لجانب فاعليته وتحال مفعوليته على دلالة الفعل كما في قولك تراءى القوم أي رأي كل واحد منهم الآخر وقد تجرد عن المعنى الثاني فيراد بها مجرد صدور الفعل عن المتعدد عاريا عن اعتبار وقوعه عليه فيذكر للفعل حينئذ مفعول كما في قولك تراأوا الهلال وقد يحذف كما فيما نحن فيه فالمعنى عن أي شيء يسأل هؤلاء القوم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وربما تجرد عن صدور الفعل عن المتعدد أيضا فيراد بها تعدده باعتبار تعدد متعلقه مع وحدة الفاعل كما في قوله تعالى: * (فبأي آلاء ربك تتمارى) * وذكر بعض المحققين أنه قد يكون لصيغة التفاعل على الوجه الأول مفعول أيضا لكنه غير الذي فعل به مثل فعله كما في تعاطيا الكاس وتفاوضا الحديث وعليه قول امرىء القيس: فلما تنازعنا الحديث واسمحت * حصرت بغصن ذي شماريخ ميال
فمن قال أن تفاعل لا يكون الأمن اثنين ولا يكون إلا لازما فقد غلط كما قال الطبليوسي في " شرح أدب الكاتب " إن أراد ذلك على الإطلاق وليت شعري كيف يصح ذلك مع أن مجيء تفاعل بمعنى فعل غير متعدد الفاعل كتواني زيد وتداني الأمر وتعالى الله عما يشركون كثير جدا وكدا مجيئه متعديا إلى غير الذي فعل به مثل فعله كما سمعت وجوز أن يكون ضمير يتساءلون للناس عموما سواء كانوا كفار مكة وغيرهم من المسلمين وسؤال المسلمين ليزدادوا خشية وإيمانا وسؤال غيرهم استهزاء ليزدادوا كفرا وطغيانا وهو خلال ما يقتضيه ظاهر الآيات بعد وقيل كان التساؤل عن القرآن وتعقب بأن قوله تعالى: * (ألم نجعل الأرض) * ظاهر في أنه كان عن البعث وهو مروي عن قتادة أيضا لأنه من أدلته وأجيب بأن تساؤلهم عنه واستهزاؤهم به واختلافهم فيه بأنه سحر أو شعر كان لاشتماله على الأخبار بالبعث فبعد أن ذلك ما يفيد استعظام التساؤل عنه تعرض لدليل ما هو منشأ لذلك التساؤل وفيه بعد وقوله تعالى:
* (عن النبإ العظيم) *
* (عن النبإ العظيم) * بيان لشأن المسؤل عنه إثر تفخيمه بإبهام أمره وتوجيه أذهان السامعين نحوه وتنزيلهم منزلة المستفهمين فإن إيراده على طريقة الاستفهام من علام الغيوب للتنبيه على أنه لانقطاع قرينة وانعدام نظيره خارج عن دارة علوم الخلق خليق بأن يعتني بمعرفته ويسأل عنه كأنه قيل عن أي شيء يتساءلون هل أخبركم به ثم قيل بطريق الجواب عن النبأ العظيم على
3

منهاج لمن الملك اليوم لله الواحد القهار فعن متعلقة بما يدل عليه المذكور من مضمر حقه على ما قيل أن يقدر بعدها مسارعة إلى البيان ومراعاة لترتيب السؤال وإلى تعلقه بما ذكر ذهب الزجاج وهو الذي تقتضيه جزالة التنزيل وقال مكي أن ذلك بدل من ما الاستفهامية بإعادة حرف الجر وتعقبه في " الكشف " بأنه لا يصح فإن معنى الأول عن النبأ العظيم أم عن غيره والبدل لا يطابقه أعيد الاستفهام أولا وقال الخفاجي البدلية جائزة ولا يلزم إعادة الاستفهام لأنه غير حقيقي ولا أن يكون البدل عين الأول لجواز كونه بدل بعض وقيل هو متعلق ب * (يتساءلون) * المذكور و * (عم) * متعلق بمضمر مفسر به وأيد ذلك بقراءة الضحاك ويعقوب وابن كثير في رواية عمه بهاء السكت ووجهه أنه على الوقف وهو يدل على أنه غير متعلق بالمذكور لأنه لا يحسن الوقف بين الجار والمجرور ومتعلقه لعدم تمام الكلام ولعل من ذهب إلى الأول يقول إن إلحاق الهاء مبني على إجراء الوصل مجرى الوقف وقيل عن الأولى للتعليل وهي والثانية متعلقتان بيتساءلون المذكور كأنه قيل عم يتساءلون أيتساءلون عن
النبأ العظيم ووصف النبا وهو الخبر الذي له شأن بالعظيم لتأكيد خطره ووصفه بقوله سبحانه:
* (الذى هم فيه مختلفون) *
* (الذي هم فيه مختلفون) * للمبالغة في ذلك والإشعار بمدار التساؤل عنه وفيه متعلق بمختلفون قدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات أي هم راسخون في الاختلاف فيه فمن جازم باسحالته يقول إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا الخ وشاك يقول ما ندري ما الساعة أن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين وقيل منهم من ينكر المعادين معاكهؤلاء ومنهم من ينرك المعاد الجسماني فقط كجمهور النصارى وقد حمل الاختلاف على الاختلاف في كيفية الإنكار فمنهم من ينكره لإنكاره الصانع المختار تعالى شأنه ومنهم من ينكره بناء على استحالة إعادة المعدوم بعينه وقيل الاختلاف بالإقرار والإنكار أو بزيادة الخشية والاستهزاء على أن ضمير * (يتساءلون) * وضميرهم للناس عامة وقيل يجوز أن يكون الاختلاف بالإقرار والإنكار على كون ضمير يتساءلون للكفار أيضا بأن يجعل للسائلين والمسؤلين والكل كما ترى وإن تفاوتت مراتب الضعف والمعول عليه الأول وقال مفتي الديار الرومية الذي يقتضيه التحقيق ويستدعيه النظر الدقيق أن يحمل اختلافهم في البعث على مخالفتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعتبر في الاختلاف محض صدور الفعل عن المتعدد حسبما قيل في التساؤل فإن الافتعال والتفاعل صيغتان متآخيتان كالاستباق والتسابق والانتضال والتناضل يجري في كل منهما ما يجري في الأخرى لا على مخالفة بعضهم لبعض على أن يكون كل من الجانبين مخالفا اسم فاعل ومخالفا اسم مفعول لأن الكل وإن استحق ما يذكر بعد من الردع والوعيد لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر إذ لا حقية في شيء منهما حتى يستحق من يخالفه المؤاخذة بل لمخالفته عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل الذي هو فيه مخالفون للنبي صلى الله عليه وسلم انتهى وفيه أنه خلاف الظاهر وما ذكره من التعليل لا يخلو عن شيء وقرأ عبد الله وابن جبير تساءلون بغير ياء وشدة السين على أن أصله تتساءلون بتاء الخطاب فأدغمت التاء الثانية في السين.
* (كلا سيعلمون) *
* (كلا) * ردع عن التساؤل على الوجهين المتقدمين فيه وقيل عنه وعن الاختلاف بمعنى مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر البعث وتعقب بأن الجملة التي تضمنته لم تقصد لذاتها فيبعد اعتبار الردع إلى ما فيها وقوله سبحانه: * (سيعلمون) * وعيد لأولئك المتسائلين المستهزئين بطريق الاستئناف وتعليل للردع والسين للتقريب والتأكيد ومفعول يعلمون محذوف وهو ما يلاقونه من فنون الدواهي والعقوبات والتعبير
4

عن لقائه بالعلم لوقوعه في معرض التساؤل والمعنى ليرتدعوا عما هم عليه فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال ومثل هذا تقدير المفعول جزاء التساؤل وقيل هو ما ينبىء عنه الظاهر وهو وقوع ما يتساءلون عنه على معنى سيعلمون ذلك فيخجلون من تساؤلهم واستهزائهم بين يدي ربهم عز وجل والألم يظهر كون ما ذكر وعيدا ومن جعل ضمير يتساءلون للناس عامة جعل ما هنا من باب التغليب لأنه لغير المؤمنين بالبعث الجازمين به وجوز بعضهم كون كلا سيعلمون ردعا ووعدا على الارتداع والمراد ليتردعوا فإنهم سيعلمون مثوبات الارتداع وأنت تعلم أن ذلك شائع في الوعيد وهو المتبادر منه في أمثال هذه المقامات وقوله تعالى:
* (ثم كلا سيعلمون) *
* (ثم كلا سيعلمون) * قيل تكرير لما قبله من الردع والوعيد للمبالغة وثم للتفاوت في الرتبة فكأنه قيل لهم يوم القيامة ردع وعذاب شديدان بل لهم يومئذ أشد وأشد وبهذا الاعتبار صار كأنه مغاير لما قبله فعطف عليه وابن مالك يقول في مثله إنه من التوكيد اللفظي وإن توسط حرف العطف فلا نغفل وقيل الأول إشارة إلى ما يكون عند النزع وخروج الروح من زجر ملائكة الموت عليهم السلام وملاقاة كربات الموت وشدائده وانكشاف الغطاء والثاني إشارة إلى ما يكون في القيامة من زجر ملائكة العذاب عليهم السلام وملاقاة شديدة العقاب ف * (ثم) * في محلها لما بينهما من البعد الزماني ولا تكرار فيه والظاهر أن العطف على هذا وما قبله على مجموع كلا سيعلمون وتوهم بعضهم من كلام بعض الأجلة أن العطف على سيعلمون وأورد عليه أن ثم إذا كانت للتراخي الزماني يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبي بخلاف ما إذا كانت للتراخي الرتبي ووجه لدفع التخصيص بلا مخصص أنه على الثاني يفهم تفاوت الرتبة بين الردعين كتفاوتها بين الوعيدين لتبعية الردع للوعيد فلا تكون * (كلا) * الثانية أجنبية بخلاف الأول فإن التراخي إنما يتحقق فيما يتحقق فيه الزمان وليس هو إلا سيعلمون دون كلا فتكون هي أجنبية ثم قال ذلك المتوهم ولا يبعد أن يقال الردع الأول عن التساؤل والثاني عن الانكار أي الصريح وتفاوت ما بينهما يقتضي العطف بثم والكل كما ترى وقيل متعلق العلم في الأول البعث وفي الثاني الجزاء على إنكار وثم في محلها أي كلا سيعلمون حقية البعث إذا بعثوا * (ثم كلا سيعلمون) * الجزاء على إنكاره إذا دخلوا النار وعوقبوا وجوز أن يكون المعلق مختلفا وثم للتراخي الرتبي بأن يكون المعنى سيعلم الكفار أحوالهم ثم سيعلمون أحوال المؤمنين والأول إشارة إلى العذاب الجسماني والثاني إلى العذاب الروحاني الذي هو أشد وأخزى وأن يكون فاعل سيعلم في الموضعين مختلفا بناء على أن ضمير * (يتساءلون) * للناس عامة وثم لذلك أيضا بأن يكون المعنى سيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم ثم سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم فيكون الأول وعدا للمؤمنين والآخر وعيدا للكافرين وهما متفاوتان رتبة ولا يخفى عليك ما في ذلك وقرأ مالك بن دينار وابن مقسم والحسن وابن عامر ستعلمون في الموضعين بالتاء الفوقية على نهج الالتفات إلى الخطاب الموافق لما بعده من الخطابات تشديد للردع والوعيد لا على تقدير قل لهم كلا ستعلمون الخ فإنه ليس بذاك وإن كان فيه نوع حسن على تقدير كون المراد يسألون النبي صلى الله عليه وسلم وعن الضحاك أنه قرأ الأول بتاء الخطاب والثاني بياء الغيبة وقوله تعالى:
* (ألم نجعل الارض مه‍ادا) *
* (ألم نجعل الأرض مهادا) * الخ استئناف مسوق لتحقيق النبأ المتساءل عنه بتعداد بعض الشواهد الناطقة بحقيته أثر ما نبه عليها بما ذكر من الردع وجوز أن يكون
بتقدير قل كأنه قيل قل كيف تنكرون أو تشكون في البعث وقد عاينتم ما يدل عليه من القدرة التامة والعلم المحيط والحكمة الباهرة المقتضية أن لا يكون ما خلق عبثا وفيه أن من كان عظيم الشأن باهر القدرة ينبغي أن يخاف ويخشى ويتأثر من زجره ووعيده والهمزة للتقرير بما بعد النفي والمهاد الفراش الموطأ وفي " القاموس " المهد الموضع الذي يهيأ للصبي
5

كالمهاد وعليه فالمهد والمهاد بمعني ويؤيده قراءة مجاهد وعيسى الهمداني مهدا وفي الآية حينئذ تشبيه بليغ وكل منهما مصدر سمي به ما يمهد وجوز أن يكون باقيا على المصدرية والوصف بالمصدر كثير أو التقدير ذات مهاد أو مهد وقيل كما يمكن أن يكون المهاد مصدرا سمي به المفعول يحتمل أن يكون فعالا أي اسما على زنته يؤخذ للمفعول كالإله والإمام وجعل الأرض معادا إما في أصل الخلقة أو بعدها وأيا ما كان فلا دلالة في الآية على ما ينافي كريتها كما هو المشهور من عدة مذاهب ومذهب أهل الهيئة المحدثين أنها مسطحة عند القطبين لأنها كانت لينة جدا في مبدأ الأمر لظهور غاية الحرارة الكامنة فيها اليوم فيها إذ ذاك وقد تحركت على محورها فاقتضى مجموع ذلك صيرورتها مسطحة عندهما عندهم وأهل الشرع لا يقولون بذلك ولا يتم للقائل به دليل حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
* (والجبال أوتادا) *
* (والجبال أوتادا) * أي كالأوتاد ففيه تشبيه بليغ أيضا والمراد أرسينا الأرض بالجبال كما يرسي البيت بالأوتاد قال الأفوه: والبيت لا يبتنى الإله عمد * ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وفي الحديث خلق الله تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها الجبال فاستقرت فقالت الملائكة ربنا هل خلقت خلقا أشد من الجبال قال نعم الحديد فقالت ربنا هل خلقت خلقا أشد من الحديد قال نعم النار فقالوا ربنا هل خلقت خلقا أشد من النار قال نعم الماء فقالوا ربنا هل خلقت خلقا أشد من الماء قال نعم الهواء فقالوا ربنا هل خلقت خلقا أشد من الهواء قال نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفى ذلك عن شمال وظاهره كغيره أن خلق الجبال بعد خلق الأرض وإليه ذهب الفلاسفة المتقدمون والمحدثون وهي متفاوتة عندهم في الحدوث تقدما وتأخرا وجاء في حديث رواه الحاكم وصححه عن ابن عباس أن أول جبل أبو قبيس وفي كيفية حدوثها منذ حدثت خلاف عندهم وقد يتلاشى ما حدث منها بطول الزمان: إن الجديدين إذا ما استوليا * على جديد أسماءه للبلى
وربما يشاهد حدوق بعض تلاع حجريلا من انجماد بعض المياه واستشكل احتياجها للإرساء بالجبال مع طلبها للمركز بثقلها المطلق وأجيب بأنه قد علم الله تعالى أنها ستكن ويكون عليها من الأثقال ما يكون ومن المعلوم أنها حينئذ يكون لها مركزان مركز جحم ومركز ثقل والذي ينطبق منهما على مركز العالم إنما هو مركز الثقل فيلزم من تحرك ثقيل إلى جهة المشرق أو المغرب مثلا عليها تحركها لاختلاف مركز ثقلها ولزوم انطباقه على مركز العالم فيحصل الميد ولم تكن إذ ذاك بحيث لا يكون لما يكون عليها من أثقال سكنتها قدر يحس به فوضعت عليها الجبال وانطبق مركز ثقلها على مركز العالم وصار مجموع الأرض والجبال بحيث لا يظهر للمتحرك بعد قدر يحس به وقيل إنها كانت لخفتها بحيث يحركها أمواج البحر المحيط بها فيصل الميد فثقلت بالجبال مع ما في الجبال من المنافع الجمة التي لم تخلق الأرض لأجلها بحيث لا تحركها الأمواج وتمام الكلام في ذلك حسبما كنا واقفين عليه قد مر فتذكر وحكى عن بعض أن جعلها كذلك بمعنى جعلها سببا كذلك بمعنى جعلها سببا لانتظام أهل الأرض بما أودع فيها من المنافع ولولاها لمادت بهم أي لما تهيأت للانتفاع بها ولاختل أمر سكناهم إياها وهو تأويل مناف للظواهر لا يحتاج إليه ما لم يقم الدليل القطعي على محالية إرادة الظاهر نعم قيل إن هذا أقرب للتقرير فإن جعلها أوتادا بهذا المعنى أظهر من جعلها كذلك بذلك المعنى وأقرب إلى العلم به وربما يقال إنه أوفق لترك إعادة العامل ومن لا يراه يجعل النكتة فيه قوة ما بين الأرض والجبال من الاشتراك والارتباط فافهم.
* (وخلقن‍اكم أزواجا) *
* (وخلقناكم) * عطف على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه فإنه قي قوة أما جعلنا الخ أو على ما يقتضيه الانكار التقريري فإنه في قوة أن يقال قد جعلنا الخ والالتفات إلى الخطاب هنا بناء على القراءة المشهورة في سيعلمون
6

للمبالغة في الإلزام والتبكيت * (أزواجا) * قال الزجاج وغيره مزدوجين ذكرا وأنثى ليتسنى التناسل وينتظم أمر المعاش وقيل أصنافا في اللون والصورة واللسان وقيل يجوز أن يكون المراد من الخلق أزواجا الخلق من منيين مني الرجل ومني المرأة والمعنى خلقنا كل واحد منكم * (أزواجا) * باعتبار مادته التي هي عبارة عن منيين فيكون هلقناكم * (أزواجا) * من قبيل مقابلة الجمع بالجمع وتوزيع الأفراد على الأفراد وهو خلاف الظاهر جدا ولا داعي إليه.
* (وجعلنا نومكم سباتا) *
* (وجعلنا نومكم سباتا) * أي كالسبات ففي الكلام تشبيه بليغ كما تقدم والمراد بالسبات الموت وقد ورد في اللغة بهذا المعنى ووجه تشبيه النوم ظاهر وعلى ذلك قوله تعالى: * (وهو الذي يتوفاكم بالليل) * وهو على بناء الأدواء مشتق من السبت بمعنى القطع لما فيه من قطع العمل والحركة ويقال سبت شعره إذا حلقه وأنفه إذا اصطلمه وزعم ابن الأنباري كما في الدور أنه لم يسمع السبت بمعنى القطع وكأنه كان أصم وقيل أصل السبت التمدد كالبسط يقال سبت الشعر إذا حل عقاصه وعليه تفسير السبات بالنوم الطويل الممتعد والامتنان به لما فيه من عدم الانزعاج وجوز بعضهم حمله على النوم الخفيف بناء على ما في " القاموس " من إطلاقه عليه على أن المعنى * (جعلنا نومكم) * نوما خفيفا غير ممتد فيختل به أمر معاشكم ومعادكم وفي " البحر " سباتا أي سكونا ورواحة يقال سبت الرجل إذا استراح وزعم ابن الانباري أيضا عدم سماع سبت بهذا المعنى ورد عليه المرتضى بأنه أريد الراحة اللازمة للنوم وقطع الإحصاص فإن في ذلك راحة القوى الحيوانية مما عراها في اليقظة من الكلام ومنه سمي اليوم المعروف سبتا لفراغ وراحة لهم فيه وقيل سمي بذلك لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السموات والأرض يوم الأحد فخلقها في ستة أيام كما ذكر عز وجل فقطع
عمله سبحانه يوم السبت فسمي بذلك واختار المحققون كون السبات هنا بمعنى الموت لأنه أنسب بالمقام كما لا يخفى.
* (وجعلنا اليل لباسا) *
* (وجعلنا الليل) * الذي يقع فيه النوم غالبا * (لباسا) * يستركم بظلامه كما يستركم اللباس ولعل المراد بهذا اللباس المشبه به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه فإن شبه الليل به أكمل واعتباره في تحقيق المقصد ادخل واختار غير واحد إرادة الأعم وإن المعنى جعلناه ساترا لكم عن العيون إذا أردتم هربا من عدو أو بياتا له أو خفاه ما لا تحبون الإطلاع عليه من كثير من الأمور وقد عد المتنبي من نعم الليل البيات على الأعداء والفوز بزيارة المحبوب واللقاء مكذبا ما اشتهر من مذهب المانوية من أن الخير منسوب إلى النور والشر إلى الظلمة بالمعنى المعروف فقال: وكم لظلام الليل عندي من يد * تخبر أن المانوية تكذب
وقاك ردى الأعداء تسري إليهم * وزارك فيه ذو الدلال المحجب
وقال بعضهم يمكن أن يحمل كون الليل كاللباس على كونه كاللباس لليوم في سهولة أخراجه ومنه ولا يخفى بعده ومما يقضي منه العجب استدلال بعضهم بهذه الآية على أن من صلى عريانا في ليل أو ظلمة فصلاته صحيحة ولعمري لقد أتى بعري عن لباس التحقيق على من أرشق عليه ضياء الحق الحقيق.
* (وجعلنا النهار معاشا) *
* (وجعلنا النهار معاشا) * مصدر ميمي بمعنى العيش وهو الحياة المختصة بالحيوان على ما قال الراغب دون العامة لحياة الملك مثلا ووقع هنا ظرفا كما قيل في نحو أتيتك خفوق النجم وطلوع الفجر وجوز أن يكون اسم زمان وتعقب بأنه لم يثبت مجيئه كذلك في اللغة والمعنى وجعلنا النها روقت معاش أي حياة تبعثون فيه من نومكم الذي هو أخو الموت وكأنه لما جعل سبحانه النوم موتا مجازا جعل جل شأنه اليقظة معاشا كذلك لكن أوثر النهار ليناسب المتوسط وقيل المعنى وجعلنا النهار وقت معاض تتقلبون فيه لتحصيل ما تعيشون به وهو أنسب بجعل السبات فيما تقدم بمعنى القطع عن الحركة على ما قيل ولا يخفى حسن ذكر جعل الليل لباسا بعد جعل النوم سباتا وهو مشير إلى حكمة جعل النوم
7

ليلا أيضا لأن النائم معطل الحواس فكان محتاجا لساتر عما يضره فهو أحوج ما يكون للدثار وضرب خيام الاستتار وفي " الكشف " أن المطابقة بين قوله تعالى: * (وجعلنا الليل لباسا) * وقوله سبحانه: * (وجعلنا النهار معاشا) * مصرحة وفيه مطابقة معنوية أيضا مع قوله تعالى: * (وجعلنا النوم) * من حيث أن النهار وقت اليقظة والمعاش في مقابلة السبات لأنه حركة الحي ومنه علم أن قوله تعالى: * (وجعلنا الليل لباسا) * غير مستطرد ووجه النظم أنه لما ذكر خلقهم أزواجا استوفى أحوالهم مقترنين ومفترقين اه‍ وفيه تعريض بالطيبي حيث زعم الاستطراد إذا أريد بالمعاش اليقظة وبالسبات الموت.
* (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) *
* (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) * أي سبع سموات قوية الخلق محكمة لا يسقط منها ما يمنعكم المعاش والتعبير عن خلقها بالبناء للإشارة إلى تشبيها بالقباب المبنية على سكنتها وقيل للإشارة إلى أن خلقها على سبيل التدريج وليس بذاك وفيه أن السماء خيمية لا سطح مستو وفي الآثار ما يشهد له ولا يأباه جعلها سقفا في آية أخرى وقد صح في العرش ما يشهد بخيمية أيضا والفلاسفة السالفون على استدارتها ويطلقون عليها اسم الفلك واستدلوا على ذلك حسب أصولهم بعد الاستدلال على استدارة السطح الظاهر من الأرض ولا يكاد يتم لهم دليل عليه قالوا الذي يدل على استدارة السماء هو أنه متى قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت الرأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجدناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن. كذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلا بمثل تلك النسب فتحدب السماء في العرض مشابه لتحدب الأرض فيه لكن هذا التشابه موجود في كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حسا فكذا سطح السماء الموازي له وأيضا أصحاب الأرصاد دونوا مقادير أجرام الكواكب وإبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد كما في إنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي إبعاد مراكز الكواكب عن منظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون السماء كرية وزعموا أن هذين أقرب ما يتمسك بهما في الاستدارة من حيث النظر التعليمي وفي كل مناقشة أما الثاني فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الفلك عندهم ساكنا والكوكب متحركا إذ لو كان السماء متحركا جاز أن يكون مربعا ويكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الأجرام للكواكب حاصلا وأما الأول: فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الاعتدال المذكور موجودا في كل خط من خطوط الطول والعرض وهو غير معلوم وأما غير ماذكر من أدلتهم فمذكور مع ما فيه في نهاية الإدراك في دراية الأفلاك فارجع إليه إن أردته بقي ههنا بحث وهو أن العطف إذا كان على الفعل المنفي بلم داخلا في حكمه يلزم أن يكون بناه سبع سموات شداد فوق معلوما للمخاطبين وهم مشركو مكة المنكرون للبعث كما سمعت ليتأتى تقريرهم به كسائر الأمور السابقة واللاحقة فيقال إن كون السموات سبعا مما لا يدرك بالكمشاهدة وهم المكذبون بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يصدقونه بمثل ذلك مما معرفته بحسب الظاهر إنما هي من طريق الوحي وأجيب بأنهم علموا ذلك بواسطة مشاهدتهم اختلاف حركات السيارات السبع مع اختلاف أبعادها بعضها عن بعض وذلك أنهم علموا السيارات واختلاف حركاتها وعلموا أن بعضها فوق بعض لخسف بعضها بعضا فقالوا في باديء النظر بسبع سموات كل سماء لكوكب من هاتك الكواكب ولا يلزمنا البحث عما قالوا في الثواب وفي المحرك لها وللسبع بالحركة اليومية إذ هو وراء ما نحن فيه واعترض بأن هذا لا يتم إلا إذا كانوا قائلين بأن السماء
8

عبارة عن الفلك وأنها تتحرك على الاستدارة ويكون أوجها حضيضا وحضيضها أوجا ولعلهم لا يقولون بذلك وإنما يقولون كبعض السلف من الصحابة رضي الله تعالى
عنهم أن السماء ساكنة والكوكب متحرك والفلك إنما هو مجراه وحينئذ فيجوز أن تكون السبع على اختلاف حركاتها وأبعادها في ثخن سماء واحدة تجري في أفلاك ومجار لها على الوجه المحسوس ويجوز أيضا غير ذلك كمالا يخفى وأيضا لو كان علمهم بذلك مما ذكر لقالوا بالتداوير ونحوها أيضا كما قال بذلك أهل الهيئة السالفون لأن اختلاف الحركات يقتضيه بزعمهم لا سيما في المتحيرة ولو كان العرب قائلين به لوقع في أشعارهم بل لا يبعد أنه لو ذكر لهم ذاكر التداوير والمتممات الحاوية والمحوية مثلا لنسبوه إلى ما يكره وقيل إنهم ورثوا علم ذلك عن أسلافهم السامعين له ممن يعتقدون صدقه كإسماعيل عليه السلام ويجوز أن يكونوا سمعوه من أهل الكتاب ولما لم يروه منافيا لما هم عليه اعتقدوه ويكفي في صحة التقرير هذا المقدار من العلم وتعقب بأنه على هذا لا تنتظم المتعاطفات المقر بها في سل واحد من العلم والأمر فيه سهل وقيل نزلوا منزلة العالمين به لظهور دليله وهو اخبار من دلت المعجزة على صدقه به وفيه بعد وقيل الخطاب للناس مؤمنيهم ومشركيهم وغلب المؤمنون على غيرهم في التقرير المقتضي لسابقيه العلم وهو كما ترى واختار بعض أن العطف على ما يقتضيه الإنكار التقريري فيكون الكلام في قوة قد جعلنا الأرض إلى آخره وبنينا فوقكم سبعا شدادا وهو حينئذ ابتداه اخبار منه عز وجل بالبناء المذكور فلا يقتضي سابقية علم وتعقب بأن العطف على الفعل المنفي بلم أوفق بالاستدلال بالمذكورات على صحة البعث كما لا يخفى فتأمل وتقديم الظرف على المفعول للتشويق إليه مع مراعاة الفواصل.
* (وجعلنا سراجا وهاجا) *
* (وجعلنا) * أي أنشأنا وأبدعنا * (سراجا وهاجا) * مشرقا متلألئا من وهجت النار إذا أضاءت أو بالغا في الحرارة من الوهج والمراد به الشمس والتعبير عنها بالسراج من روادف التعبير عن خلق السموات بالبناء ونصب سراجا على المفعولية ووهاجا على الوصفية له وجوز بعضهم أن يكونا مفعولين للجعل على أنه هنا مما يتعدى إليهما وتعقب بأنه مخالف للظاهر للتنكير فيهما وأن قيل السراج الشمس وهي لانحصارها في فرد كالمعرفة واختلف في موضع الجعل والمشهور أنه في السماء الرابعة ولم نر فيه أثرا سوى ما في " البحر " من عبد الله بن عمرو بن العاص قال الشمس في السماء الرابعة إلينا ظهرها ولهبها يضطرم علوا والمذكور في كتب القوم أنهم جعلوا سبعة أفلاك للسيارات السبع على ترتيب خسف بعضها بعضا أقصاها لزحل والذي تحته للمشتري ثم للمريخ والأدنى للقمر والذي فوقه لعطارد ثم للزهرة إذ وجدوا القمر يكسف الست من السيارات وكثيرا من الثوابت المحاذية لطريقته في ممر البروج وعلى هذا الترتيب وجدوا الأدنى يكسف الأعلى والثوابت تنكسف بالكل ويعلم الكاسف من المنكسف باختلاف اللون فأيهما ظهر لونه عند الكسف فهو كاسف وأيهما خفي لونه فهو منكسف وبقي الشك في أمر الشمس إذ لم يعرف انكساف شيء من الكواكب بها لاضمحلال نورها في ضيائها عند القرب منها ولا انكسافها بشيء من الكواكب غير القمر فذهب بعض القدماء إلى أن فلكي الزهرة وعطارد فوق فلكها مستدلين عليه بأنهما لا يكسفانها كما يكسفها القمر وهو باطل إذ من شرط كسف السافل العالي أن يكونا معا والبصر على خط واحد مستقيم والألم يكسفه كما في أكثر اجتماعات القمر وإذا كان كذلك فمن المحتمل أن يكون مدارهما بين الشمس والإبصار ولأن جرميهما عندهم صغيران غير مظلمين كجرم القمر حتى يكسفاها ولأنه إذا كسف القمر من جرم الشمس ما مساحته مساوية لجرم أحد هذين الكوكبين أو أكثر لا يظهر المنكسف للإبصار على ما نص عليه بطليموس في الاقتصاص وذهب بعضهم من تقادم عهدهم إلى أنهما تحت فلك الشمس وإن لم تكسف بهما استحسانا لما في ذلك من حسن الترتيب وجودة
9

النظام على ما بين في موضعه ومال إليه بطليموس قال في المجسطي ونحن نرى ترتيب من تقادم عهده أقرب إلى الإقناع لأنه أشبه بالأمر الطبيعي لتوسط الشمس بين ما يبعد عنها كل البعد وبين ما لا يبعد عنها إلا يسيرا ثم قوي عزمه لما رأى بعد الشمس المعلوم من الأرض مناسبا لهذا الموضع لأنه لما وجد بين أبعد بعد القمر وأقرب قرب الشمس بعدا يمكن أن يوجد فيه فلكا الزهرة وعطارد وأبعادهما المختلفة قال في الاقتصاص مثل هذا الفضاء لا يحسن أن يترك عطلا ولا يحسن أن يكون فيه المريخ فضلا عن غيره فليكونا فيه وتأكد هذا عند بعض المتأخرين بأنه شوهدت الزهرة على قرص الشمس في وقتين بينهما نيف وعشرون سنة وكانت أول الحالين في ذروة التدوير وفي الثاني في أسفله ويبطل به ما ظن من كون عطارد والزهرة مع الشمس في كرة ومركز تدويرهما لاستحالة أن ترى الزهرة في الذروة على هذا الوجه وهذه أمور ضعيفة بعضها خطابي إقناعي وبعضها مبين ما فيه في محله وقد زعم بعض الناس أنه كما وجد في وجه القمر محو فكذا في وجه الشمس فوق مركزها بقليل نقطة سوداء وأهل الأرصاد اليوم على ما سمعنا من غير واحد جازمون بأن في قرصها سوادا وعلامات مختلفة ولهم في ذلك كلام مذكور في كتبهم وعليه ففي تشبيههما بالسراج من الحسن ما فيه وعن بعضهم أن النور كخيمة عليها ورأيت في بعض كتبهم أنه ينشق من حوالي جرمها والكلام في مقدار جرمها وبعدها عن الأرض عند كل من المتقدمين والمعاصرين من الفلاسفة مما لا حاجة لنا به في هذا المقام مع ما في ذلك من الاختلاف المفضي بيانه بما له وعليه إلى مزيد تطويل.
* (وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجا) *
* (وأنزلنا من المعصرات) * هي السحائب على ما روي عن ابن عباس وأبي العالية والربيع والضحاك ولما كانت معصرة اسم مفعول لا معصرة اسم فاعل قيل أنها جمع معصرة من أعصر على أن الهمزة فيه للحينونة أي حانت وشارفت أن تعصرها الرياح فتمطر والأفعال يكون بهذا المعنى كثيرا كأجزر إذا حان وقت جزاره وأحصد إذا شارف وقت حصاده ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض قال أبو النجم العجلي: تمشي الهوينا مائلا خمارها * قد عصرت أو قد دنا إعصارها
وجوز على تقدير كون الهمزة للحينونة أن يكون المعنى حان لها أن تعصر أي تغيت ومنه العاصر المغيث ولذا قال ابن كيسان سميت السحائب بذلك لأنها تغيث فهي من العصرة كأنه في الأصل بمعنى حان أن تعصر بتخييل أن الدم يحصل منها بالعصر وقيل أنها جمع لذلك أيضا إلا أن الهمزة لصيرورة الفاعل ذا المأخذ كأيسر وأعسر وألحم أي صار ذا يسر وصار ذا عسر وصار ذا لحم وعن ابن عباس أيضا ومجاهد وقتادة أنها الرياح لأنها تعصر السحاب فيمطر وفسرها بعضهم بالرياح ذوات الأعاصير على أن صيغة اسم الفاعل للنسبة إلى الإعصار بالكسر وهي ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق ويعتبر التجريد عليه على ما قيل والمازني اعتبر النسبة أيضا إلا أنه
قال المعصرات السحائب ذوات الأعاصير فإنها لا بد أن تمطر معها وأيد تفسيرها بالرياح بقراءة ابن الزبير وابن عباس وأخيه الفضل وعبد الله بن يزيد وعكرمة وقتادة بالمعصرات بياء السببية والآلية فإنها ظاهرة في الرياح فإن بها ينزل الماء من السحاب ولهذه القراءة جعل بعضهم من في قراءة الجمهور وتفسير المعصرات بالرياح للتعليل وذهب غير واحد إلى أنها للتعليل ابتدائية فإن السحاب كالمبدأ الفاعل للإنزال وتعقب بأن ورود من كذلك قليل وعن أبي الحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة أيضا أنها السموات وتعقب بأن السماء لا ينزل منها الماء بالعصر فقيل في تأويله أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكان السموات يعصرن أي يحملن على عصر الرياح السحاب ويمكن منه وتعقب بأنه مع بعده إنما يتم لو جاء المعصر بمعنى العاصر أي الحامل على العصر ولو قيل المراد بالمعصر الذي حان له أن يعصر كان تكلفا
10

على تكلف والذي في " الكشف " أن الهمزة على التأويل المذكور للتعدية فتدبر ولا تغفل * (ماء ثجاجا) * أي منصبا بكثرة يقال ثج الماء إذا سال بكثرة وثجه أي أساله فثج ورد لازما ومتعديا واختير جعل ما في " النظم الكريم " من اللازم لأنه الأكثر في الاستعمال وجعله الزجاج من المتعدي كان الماء المنزل لكثرته يصب نفسه ومن المتعدي ما في قوله صلى الله عليه وسلم أفضل الحج العج والثج أي رفع الصوت بالتلبية وصب ماء الهدى والمراد أفضل أعمال الحج التلبية والنحر ولا يأبى الكثرة كون الماء من المعصرات وظاهره أنه بالعصر وهو لا يحصل منه إلا القليل لأن ذلك غير مسلم ولو سلم فالقلة نسبية وقرأ الأعرج ثجاحا بجيم ثم حاء مهملة ومناجح الماء مصابه.
* (لنخرج به حبا ونباتا) *
* (لنخرج به) * أي بذلك الماء وهو على ظاهره عند السلف ومن اقتدى بهم وقالت الأشاعرة أي عنده * (حبا ونباتا) * ما يقتان به كالحنطة والشعير ويعتلف كالحشيش والتبن وتقديم الحب مع تأخره عن النبات في الإخراج لأصالته وشرفه لأن غالبه غذاء الإنسان.
* (وجن‍ات ألفافا) *
* (وجنات) * جمع جنة وهي كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض من الجن وهو الستر وقال الفراء الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعليه حمل قول زهير: من النواضح تسقى جنة سحقا
وهو المراد هنا وقوله تعالى: * (إلفافا) * أي ملتفة تداخل بعضها ببعض قيل لا واحد له كالأوزاع والأخياف للجماعات المتفرقة المختلفة واختاره الزمخشري وقال ابن قتيبة جمع لف بضم اللام جمع لفاء فهو جمع الجمع واستبعد بأنه لم يجىء في نظائره ذلك فقد جاء خضر جمع خضراء وحمر جمع حمراء ولم يجىء إخضار جمع خضر ولا أحمار جمع حمر وجمع الجمع لا ينقاس ووجود نظيره في المفردات لا يكفي كذا قيل وقال الكسائي جمع لفيف بمعنى ملفوف وفعيل يجمع على أفعال كشريف وأشراف وإنما اختلف النحاة في كونه جمعا لفاعل وفي " الكشاف " لو قيل هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولا وجبها انتهى وإنما يقدر حذف الزوائد وهو الذي يسميه النحاة في مثل ذلك ترخيما لأن قياس جمع ملتفة ملتفات لا ألفاف واعترضه في " الكشف " فقال فيه أنه لا نظير له لأن تصغير الترخيم ثابت أما جمعه فلا لكن قيل أن هذا غير مسلم فإنه وقع في كلامهم ولم يتعرضوا له لقلته والحق أنه وجه متكلف وجمهور اللغويين على أنه جمع لف بالكسر وهو صفة مشبهة بمعنى ملفوف وفعل يجمع على أفعال باطراد كجذع وأجذاع وعن صاحب الإقليد أنه قال أنشدني الحسن بن علي الطوسي: جنة لف وعيش مغدق * وندامى كلهم بيض زهر
وجوز في " القاموس " أن يكون جمع لف بالفتح هذا وفيما ذكر من أفعاله تعالى شأنه دلالة على صحة البعث وحقيته من أوجه ثلاثة على ما قيل الأول باعتبار قدرته عز وجل فإن من قدر على إنشاء تلك الأمور البديعة من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه كان على الإعادة أقدر وأقوى الثاني باعتبار علمه وحكمته فإن من أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع مستتبع لغايات جليلة ومنافع جميلة عائدة إلى الخلق يستحيل حكمة أن لا يجعل لها عاقبة الثالث باعتبار نفس الفعل فإن اليقظة بعد النوم أنموذج للبعث بعد الموت يشاهده كل واحد وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض يعاين كل حين فكأنه قيل قد فعلنا أو ألم نفعل هذه الأفعال الآفاقية الدالة بفنون الدلالات على حقية البعث الموجبة للإيمان به فما لكم تخوضون فيه إنكارا وتسألون عنه استهزاء وقوله تعالى:
* (إن يوم الفصل كان ميق‍اتا) *
* (إن يوم الفصل كان ميقاتا) * شروع في بيان سر تأخير ما يتساءلون عنه ويستعجلون به قائلين متى هذا
11

الوعد إن كنتم صادقين ونوع تفصيل لكيفية وقوعه وما سيلقونه عند ذلك من فنون العذاب حسبما جرى به الوعيد إجمالا وقال بعض الأجلة أنه لما أثبت سبحانه صحة البعث كان مظنة السؤال عن وقته فقيل إن الخ وأكد لأنه مما ارتابوا فيه وليس بذاك أي أن يوم فصل الله تعالى شأنه بين الخلائق كان في علمه عز وجل ميقاتا وميعادا لبعث الأولين والآخرين وما يترتب عليه من الجزاء ثوابا وعقابا لا يكاد يتخطاه بالتقدم والتأخر وقيل حدا توقت به الدنيا وتنتهي إليه أو حدا للخلائق ينتهون إليه لتمييز أحوالهم والأول أوفق بالمقام على أن الدنيا تنتهي على ما قيل عند النفخة الأولى وأيا ما كان فالمضي في كان باعتبار العلم وجوز أن يكون بمعنى يكون وعبر عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه.
* (يوم ينفخ فى الصور فتأتون أفواجا) *
* (يوم ينفخ في الصور) * أي النفخة الثانية ويوم بدل من يوم الفصل أو عطف بيان مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله ولا ضير في تأخر الفصل عن النفخ فإنه زمان ممتد يقع في مبدئه النفخ وفي بقيته الفصل ومباديه وآثاره وتقدم الكلام في الصور وقرأ أبو عياض في الصور بفتح الواو جمع صورة وقد مر الكلام في ذلك أيضا والفاء في قوله
تعالى: * (فتأتون) * فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانا بغاية سرعة الإتيان كما في قوله تعالى: * (فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفلق) * أي فتحيون فتبعثون من قبوركم فتأتون إلى الموقف عقيب ذلك من غير لبث أصلا * (أفواجا) * أي أمما كل أمة بأمامها كما قال سبحانه: يوم ندعو كل أناس بامامهم أو زمرا وجماعات مختلفة الأحوال متباينة الأوضاع حسب اختلاف الأعمال وتباينها واستدل لهذا بما خرج ابن مردويه عن البراء بن عازب أن معاذ بن جبل قال يا رسول الله ما قول الله تعالى يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا فقال يا معاذ سألت عن عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه ثم قال عليه الصلاة والسلام عشرة أصناف قد ميزهم الله عز وجل من جماعة المسلمين فبدل صورهم فبعضهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسين أرجلهم فوق وجوههم أسفل يسحبون عليها وبعضهم عمي يترددون وبعضهم صم بكم لا يعقلون وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذرهم أهل الجمع وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم وبعضهم مصلبون على جذوع من نار وبعضهم أشد نتنا من الجيف وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس وأما الذين على صورة الخنازير فأكلة السحت وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا وأما العمي فالذين يجورون في الحكم وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف أقوالهم أعمالهم وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران وأما المصلبون على جذوع من نار فالساعون بالناس إلى السلطان وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى من أموالهم وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والخيلاء والفخر وهذا كما قال ابن حجر حديث موضوع وآثار الوضع لائحة عليه وعليه قيل لا بد من التغليب في قوله تعالى تأتون إذ لا يمكن الإتيان للمصلوب والمسحوب على الوجه ولا لمن قطعت يداه ورجلاه وتعقب بأنه ليس بشيء فإن أمور الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا والقادر على البعث قادر على جعلهم ماشين بلا أيد وأرجل وأن تمشي بهم عمد النار التي صلبوا عليها مع أنه لا يلزم أن يأتوا بأنفسهم لجواز أن تأتي بهم الزبانية.
* (وفتحت السمآء فكانت أبوابا) *
* (وفتحت السماء) * عطف على ينفخ على ما قيل وصيغة الماضي للدلالة على التحقق وعن الزمخشري أنه معطوف على فتأتون وليس بشرط أن يتوافقا في الزمان كما يظن من ليس بنحوي وأقره في " الكشف " وقال الشرط في حسنه أن يكون مقربا من الحال أو يكون المضارع حكاية حال ماضية وما نحن فيه مضارع جىء به بلفظ الماضي تفخيما وتحقيقا أقرب
12

قريب منه ولو جعل حالا على معنى فتأتون وقد فتحت السماء لكان وجها وقرأ الجمهور أي من عدا الكوفيين فتحت بالتشديد قيل وهو الأنسب بقوله تعالى: * (فكانت أبوابا) * وفسر الفتح بالشق لقوله تعالى: * (إذا السماء انشقت) * وقوله سبحانه: * (إذا السماء انفطرت) * إلى غير ذلك والقرآن يفسر بعضه بعضا وجاء الفتح بهذا المنى كفتح الجسور وما ضاهاها ولعل نكتة التعبير به عنه الإشارة إلى كمال قدرته تعالى حتى كان شق هذا الجرم العظيم كفتح الباب سهولة وسرعة وكان بمعنى صار ولدلالتها على الانتقال من حال إلى أخرى وكون السماء بالشق لا تصير أبوابا حقيقة قالوا إن الكلام على التشبيه البليغ أي فصارت شقوقها لسعتها كالأبواب أو فصارت من كثرة الشقوق كأنه الكل أبواب أو بتقدير مضاف أي فصارت ذات أبواب وقيل الفتح على ظاهره والكلام بتقدير مضاف إلى السماء أي فتحت أبواب السماء فصارت كان كلها أبواب ويجامع ذلك شقها فتشق وتفتح أبوابها وتعقب بأن شقها لنزول الملائكة كما قال تعالى: * (ويوم تشقق السماء بالغمام) * ونزل الملائكة تنزيلا فإذا شققت لا يحتاج لفتح الأبواب وأيضا فتح أبوابها ليس من خواص يوم الفصل وفيه بحث نعم إن الوجه الأول أولى وقيل المعنى بفتح مكان السماء بالكشط فتصير كلها طرقا لا يسدها شيء وفيه بعد وعلى ما تقدم في الآية رد على زاعمي امتناع الخرق على السماء وفيها على هذا رد لزاعمي كشطها كما هو المشهور عن الفلاسفة المتقدمين وإن حقق الملأ صدرا في الأسفار أن أساطنتهم على خلاف ذلك والفلاسفة اليوم ينفون السماء المعروفة عند المسلمين ولم يأتوا بشيء تؤل له الآيات والأخبار الصحيحة في صفتها كما لا يخفى على الذكي المنصف.
* (وسيرت الجبال فكانت سرابا) *
* (وسيرت الجبال) * أي في الجو على هيئتها بعد تفتتها وبعد قلعها من مقارها كما يعرب عنه قوله تعالى: * (وترى الجبال تحسبها جامدة) * وهي تمر مر السحاب وأدمج فيه تشبيه الجبال بحبال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما ينطق به قوله تعالى: * (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) * * (فكانت سرابا) * أي فصارت بعد تسييرها مثل سراب فترى بعد تفتتها وارتفاعها في الهواء كأنها جبال وليس بجبال بل غبار غليظ متراكم يرى من بعيد كأنه جبل كالسراب يرى كأنه بحر مثلا وليس به فالكلام على التشبيه البليغ والجامع أن كلا من الجبال والسراب يرى على شكل شيء وليس هو بذلك الشيء وجوز أن يكون وجه الشبه التخلخل إذ تكون بعد تسييرها غبارا منتشرا كما قال تعالى: * (وبست الجبال بسا) * فكانت هباء منبثا والمستفاد من " الأزهار البديعة في علم الطبيعة " لمحمد الهراوي أن السراب هواء تسخنت طبقته السفلى التي تلي الأرض لتسخن الأرض من حر الشمس فتخلخلت وصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات فكان أكثف مما تحته وخرج بذلك التسخن عن موقعه الطبيعي من الأرض ولانعكاس الأشعة الضوئية وانكسارها فيه على وجه مخصوص مبين في الكتاب المذكور مع انعكاس لون السماء يظن ماء وترى فيه صورة الشيء منقلبة وقد ترى فيه صور سابحة كقصور وعمد ومساكن جميلة مستغربة وأشباح سائرة تتغير هيئتها في كل لحظة وتنتقل عن محالها ثم تزول وما هي إلا صور حاصلة من انعكاس صور مرئية بعيدة جدا أو متراكبة في طبقات الهواء المختلفة الكثافة فاعتبار التخلخل فقط في وجه الشبه لا يخلو عن نظر وأيا ما كان فهذا بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق فالله عز وجل يسير الجبال ويجعلها هباء منبثا ويسوي الأرض يومئذ كما نطق به قوله تعالى: * (ويسألونك عن الجبال) * فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الدعي وقوله تعالى: * (يوم تبدل الأرض) * غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار فإن اتباع
الداعي الذي هو إسرافيل عليه السلام وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلا بعد النفخة الثانية وأما اندكاك الجبال وانصداعها فعند النفخة الأولى وقيل أن تسييرها وصيرورتها
13

سرابا عند النفخة الأولى أيضا ويأباه ظاهر الآية نعم لو جعلت الجملة حالية أي فتأتون أفواجا وقد سيرت الجبال فكانت سرابا لكان ذلك محتملا والظاهر أنها تصير سرابا لتسوية الأرض ولا يبعد أن يكون فيه حكم أخرى وقول بعضهم إنها تجري جريان الماء وتسيل سيلانه كالسراب فيزيد ذلك في اضطراب متعطشي المحشر وغلبة شوقهم إلى الماء خلاف الظاهر.
* (إن جهنم كانت مرصادا) *
* (إن جهنم كانت مرصادا) * شروع في تفصيل أحكام الفصل الذي أضيف إليه اليوم إثر بيان هوله والمرصاد اسم مكان كالمضمار للموضع الذي تضمر فيه الخيل ومفعال يكون كذلك على ما صرح به الراغب والجوهري وغيرهما كما يكون اسم آلة وصفة مشبهة للمبالغة والظاهر أنه حقيقة في الجميع أي موضع رصد وترقب ترصد فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم وقيل ترصد فيه خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مجازهم عليها وقيل ترصد فيه الملائكة عليهم السلام الطائفتين لتعذب إحداهما وهي المؤمنة وتعذب الأخرى وهي الكافرة وجوز أن يكون صيغة مبالغة كمنحار أي مجدة في ترصد الكفرة لئلا يشذ منهم واحد أو مجدة في ترصد المؤمنين لئلا يتضرر أحد منهم من فيحها أو مجدة في ترصد الطائفتين على نحو ما سمعت آنفا وإسناد ذلك إليها مجاز أو على سبيل التشبيه وفي " البحر " أن مرصادا معنى النسب أي ذات رصد وقد يفسر المرصاد بمطلق الطريق وهو أحد معانيه فيكون للطائفتين ومن هنا قال الحسن كما أخرج عنه ابن جرير
14

وابن المنذر وعبد بن حميد في الآية لا يدخل الجنة أحد حتى يجتاز النار وقال قتادة كما أخرج هؤلاء عنه أيضا اعلموا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار وقوله تعالى: * (للطاغين) * أي المتجاوزين الحد في الطغيان متعلق بمضمر إما نعت لمرصادا أي كائنا للطاغين وإما حال من قوله تعالى:
* (للط‍اغين م‍اابا) *
* (مآبا) * قدم عليه لكونه نكرة ولو تأخر لكان صفة له أي كانت مرجعا ومأوى كائنا لهم يرجعون إليه ويأوون لا محالة وجوز أن يكون خبرا آخر لكانت أو متعلقا بمآبا أو بمرصاد، وعليه قيل معنى مرصادا لهم معدة لهم من قولهم أرصدت له أي أعددت وكافأته بالخير أو بالشر ومآب قيل بدل من مرصادا يلي جميع الأوجه بدل كل من كل وقيل هو خبر ثان لكانت أو صفة لمرصادا وللطاغين متعلق به أو حال منه على بعض التفاسير السابقة في كانت مرصادا فتأمل وقرأ أبو عمر والمنقري وابن يعمر أن جهنم بفتح الهمزة بتقدير لام جر لتعليل قيام الساعة المفهوم من الكلام والمعنى كان ذلك لإقامة الجزاء وتعقب بأنه ينبغي حينئذ أن يكون أن للمتقين أيضا بالفتح ومعطوفا على ما هنا لأنه بكليهما يتم التعليل بإقامة الجزاء إلا أن يقال ترك العطف للإشارة إلى استقلال كل من الجزاءين في استدعاء قيام الساعة وفيه نظر لأنه بذاك يتم الجزاء وأما نفس إقامته فيكفي في تعليلها ما ذكر على أنه لو كان المراد فيما سبق كانت مرصادا للفريقين على ما سمعت لا يتسنى هذا الكلام أصلا وقوله تعالى:
* (ل‍ابثين فيهآ أحقابا) *
* (لابثين فيها) * أي مقيمين في جهنم ملازمين لها حال مقدرة من المستكن في للطاغين وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وابن وثاب وعمرو بن شرحبيل وابن جبير وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وسورة وروح لبثين بغير ألف بعد اللام وفيه من المبالغة ما ليس في لابثين وقال أبو حيان: إن فاعلا يدل على من وجد منه الفعل وفعلا يدل على من شأنه ذلك كحاذر وحذر وقوله تعالى: * (أحقابا) * ظرف للبثهم وهو وكذا أحقب جمع حقب بالضم وبضمتين وهو على ما روي عن الحسن بزمان غير محدود ونحوه تفسير بعض اللغويين له بالدهر وأخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه ال الحقب الواحد ثمانون سنة وأخرج نحوه البزار عن أبي هريرة وابن جرير عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن عمر وروي عن جمع من السلف بيد أنهم قالوا: إن كل يوم منه أي هنا مقدار ألف سنة من سني الدنيا وأخرج البزار وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر مرفوعا أنه بضع وثمانون سنة كل سنة ثلثمائة وستون يوما واليوم ألف سنة مما تعدون وقيل أربعون سنة وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت فيه حديثا مرفوعا وقال بعض اللغويين سبعون ألف سنة واختار غير واحد تفسيره بالدهر وأيا ما كان فالمعنى لابثين فيها أحقابا متتابعة كلما مضى حقب تبعه حقب آخر وإفادة التتابع في الاستعمال بشهادة الاشتقاق فإنه من الحقيبة وهي ما يشد خلف الراكب والمتتابعات يكون أحدها خلف الآخر فليس في الآية ما يدل على خروج الكفرة من النار وعدم خلودهم فيها لمكان فهم التتابع في الاستعمال وصيغة القلة لا تنافي عدم التناهي إذ لا فرق بين تتابع الأحقاب الكثيرة إلى ما لا يتناهى وتتابع الأحقاب القليلة كذلك وقيل أن الصيغة هنا مشتركة بين القلة والكثرة إذ ليس للحقب جمع كثرة فليرد بها بمعونة المقام جمع الكثرة وتعقب بثبوت جمع الكثرة له وهو الحقب كما ذكر الراغب والذي رأيته في مفرداته أن الحقب أي بكسر الحاء وفتح القاف الحقبة المفسرة بثمانين عاما نعم قيل أنه ينافيه ما ورد أنه يخرج أناس من أهل النار من النار ويقربون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده المؤمنين فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيردون إلى النار بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها وتعقب بأنه إن صح إنما ينافيه لو كان الخروج حقبا تاما أما لو كان في بعض أجزاء الحقب فلا لبقاء تتابع الأحقاب جملة سلمنا لكن هذا الإخراج الذي يستعقب الرد لزيادة التعذيب كاللبث في النار أشد والكلام من باب التغليب وليس فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ثم إن وجد أن في الآية ما يقتضي الدلالة على التناهي والخروج من النار ولو بعد زمان طويل فهو مفهوم معارض بالمنطوق الصريح بخلافه كآيات الخلود وقوله تعالى: * (وما هم بخارجين منها) * * (ولهم عذاب مقيم) * إلى غير ذلك وإن جعل قوله تعالى:
* (لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا) *
* (لا يذوقون فيها بردا ولا شربا إلا حميما وغساقا) * حالا من المستكن في لابثين فيكون قيدا للبث فيحتمل أن يلبثوا فيها أحقابا منصوبا بلا يذوقون قيدا له إلا أن فيه
بعدا ومثله لو جعل لا يذوقون فيها الخ صفة لأحقابا وضمير فيها لها لا لجهنم لكنه أبعد من سابقه وقيل المراد بالطاغين ما يقابل المتقين فيشمل العصاة والتناهي بالنظر إلى المجموع وهو كما ترى وقول مقاتل: إن ذلك منسوخ بقوله تعالى: * (فذوقوا) * * (فلن نزيدكم إلا عذابا) * فاسد كما لا يخفى وجوز أن يكون أحقابا جمع حقب كحذر من حقب الرجل إذا أخطأه الرزق وحقب العام إذا قل مطره وخيره والمراد محرومين من النعيم وهو كناية عن كونهم معاقبين فيكون حالا من ضمير لابثين وقوله تعالى لا يذوقون صفة كاشفة أو جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب وهو على ما ذكر أولا جملة مبتدأة خبر عنهم والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار فلا ينافي أنهم قد يعذبون بالزمهرير والشراب معروف والحميم الماء الشديد الحرارة والغساق ما يقطر من جلود أهل النار من الصديد أي لا يذوقون فيها شيئا ما من روح ينفس عنهم حر النار ولا من شراب يسكن عطشهم لكن يذوقون ماء حارا وصديدا وفي الحديث أن الرجل منهم إذا أدنى ذلك من فيه سقط فروة وجهه حتى يبقى عظاما تقعقع وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن البرد الشراب البارد المستلذ ومنه قول حسان بن ثابت: يسقون من ورد البريص عليهم * برد يصفق بالرحيق السلسل
15

وقول الآخر: أماني من سعدى حسان كأنما * سقتك بها سعدى على ظمأ بردا
فيكون ولا شرابا من نفي العام بعد الخاص وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي البرد النوم والعرب تسميه بذلك لأنه يبرد سورة العطش ومن كلامهم منه البرد البرد وقال الشاعر: فلو شئت حرمت النساء سواكم * وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
أي وهو مجاز في ذلك عند بعض ونقل في " البحر " عن كتاب اللغات في القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل وعن ابن عباس وأبي العالية الغساق الزمهرير وهو على ما قيل مستثنى من بردا إلا أنه أخر لتوافق رؤوس الآي فلا تغفل وقرأ غير واحد من السبعة غساقا بالتخفيف.
* (جزآء وف‍اقا) *
* (جزاء) * أي جوزوا بذلك جزاء فجزاء مفعول مطلق منصوب بفعل مقدر وجعله خبرا آخر لكانت ليس بشيء وقوله تعالى: * (وفاقا) * مصدر وافقه صفة له بتقدير مضاف أي ذا وفاق أو بتأويله باسم الفاعل أو لقصد المبالغة على ما عرف في أمثاله وأيا ما كان فالمراد جزاء موافقا لأعمالهم على معنى أنه بقدرها في الشدة والضعف بحسب استحقاقهم كما يقتضيه عدله وحكمته تعالى والجملة من الفعل المقدر ومعموله جملة حالية أو مستأنفة وجوز أن يكون وفاقا مصدرا منصوبا بفعل مقدر أيضا أي وافقها وفاقا وهذه الجملة في موضع الصفة لجزاء وقال الفراء: هو جمع وفق ولا يخفى ما في جعله حينئذ صفة لجزاء من الخفاء وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة وفاقا بكسر الواو وتشديد الفاء من وفقه يفقه كورثه يرثه وجده موافقا لحاله وفي " الكشف " وفقه بمعنى وافقه وليس وصف الجزاء به وصفا بحال صاحبه كما لا يخفى وحكى ابن القوطية وفق أمره أي حسن وليس المعنى عليه.
* (إنهم كانوا لا يرجون حسابا) *
* (إنهم كانوا لا يرجون حسابا) * تعليل لاستحقاق العذاب المذكور أي كانوا لا يخافون أن يحاسبوا بأعمالهم.
* (وكذبوا بااي‍اتنا كذابا) *
* (وكذبوا بآياتنا) * الناطقة بذلك أو به وبغيره مما يجب الإيمان به * (كذابا) * أي تكذيبا مفرطا وفعال بمعنى تفعيل في مصدر فعل مطرد شائع في كلام فصحاء العرب وعن الفراء أنه لغة يمانية فصيحة وقال لي أعرابي على جبل المروة يستفتيني آلحلق أحب إليك أم القصار ومن تلك اللغة قول الشاعر: لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي * وعن حاجة قضاؤها من شفائيا
وقال ابن مالك في التسهيل أنه قليل وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى بخلاف عنه في التخفيف قال صاحب اللوامح وذلك لغة اليمن يجعلون مصدر كذب مخففا كذابا بالتخفيف مثل كتب كتابا فكذابا بمعنى كذبا وعليه قول الأعشى: فصدقتها وكذبتها * والمرء ينفعه كذابه
والكلام هنا عليه من باب أنبتكم من الأرض نباتا ففعله الثلاثي أما مقدر أي كذبوا بآياتنا وكذبوا كذابا أو هو مصدر للفعل المذكور باعتبار تضمنه معنى كذب الثلاثي فإن تكذيبهم الحق الصريح يستلزم أنهم كاذبون وأيا ما كان يدل على كذبهم في تكذيبهم وجوز أن يكون بمعنى مكاذبة كقتال بمعنى مقاتلة فهو من باب المفاعلة على معنى أن كلا منهم ومن المسلمين اعتقد كذب الآخر بتنزيل ترك الاعتقاد منزلة الفعل لا على معنى أن كلا كذب الآخر حقيقة ويجوز أن تكون المفاعلة مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم عن الجد والاجتهاد في الفعل ويحتمل الاستعارة فإنهم كانوا مبالغين في الكذب مبالغة المغالبين فيه وعلى المعنيين كونه بمعنى الكذب وكونه بمعنى المكاذبة يجوز أن يكون حالا بمعنى كاذبين أو مكاذبين على اعتبار المشاركة وعدم اعتبارها وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون كذابا بضم الكاف وتشديد الذال وخرج على أنه جمع كاذب كفساق جمع فاسق فيكون حالا أيضا وكذبوا في حال كذبهم نظير إذا جاء حين يأتي على ما قيل في قول طرفة:
16

إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا * به حين يأتي لا كذاب ولا علل
وفيه بحث ظاهر وجوز أن يكون مفردا صيغة مبالغة ككبار وحسان فيكون صفة لمصدر محذوف أي تكذيبا كذابا فيفيد المبالغة والدلالة على الإفراط في الكذب لأنه كليل أليل وظلام مظلم والإسناد فيه مجازي.
* (وكل شىء أحصين‍اه كت‍ابا) *
* (وكل شيء) * من الأشياء التي من جملتها أعمالهم وقال أبو حيان أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب فهو عام مخصوص وانتصابه بمضمر يفسره * (أحصيناه) * أي حفظناه وضبطناه وقرأ أبو السماء بالرفع على الابتداء * (كتابا) * مصدر مؤكد لأحصيناه فإن الإحصاء والكتب يتشاركان في معنى الضبط فأما أن
يؤول أحصيناه بكتبناه أو كتابا بإحصاء وجوز الاحتباك على الحذفين من الطرفين أو حال بمعنى مكتوبا في اللوح أو صحف الحفظة والظاهر أن الكلام على حقيقته وقال بعضهم الظاهر أنه تمثيل لصورة ضبط الأشياء في علمه تعالى بضبط المحصي المجد المتقن للضبط بالكتابة وإلا فهو عز وجل مستغن عن الضبط بالكتابة وهذا التمثيل لتفهيمنا وإلا فالانضباط في علمه تعالى أجل وأعلى من أن يمثل بشيء والمشهور عند أهل السنة ما قدمنا وليس ذلك للاحتياج وإنما هو لحكم تقصر عنها العقول والجملة اعتراض لتأكيد الوعيد السابق بأن ذلك كائن لا محالة لاحق بهم لأن معاصيهم مضبوطة مكتوبة يكفحون بها يوم الجزاء وقيل لتأكيد كفرهم وتكذيبهم بالآيات بأنهما محفوظان للجزاء وليس بذاك وقال البعض الأوجه عند أن كل شيء منصوب بالعطف على اسم أن في أنهم كانوا لا يركون حسابا وأحصيناه كتابا عطف على خبره والرفع على العطف على محل اسم ان والجمل بيان لكون الجزاء المذكور موافقا وعمالهم لأن الجزاء الموافق إنما يكون لصدور أفعال موجبة له عنهم وضبطها وعدم فوتها على المجازي فالجملتان الأوليان لإفادة صدور الموجب وهو الكفر المعبر عنه بعدم رجاء الحساب والتكذيب بالآيات لما أن ذلك كالعلم فيه والأخيرة لإفادة الضبط وعدم الفوت أي مع دماج الإشارة إلى باقي المعاصي فيها وليست اعتراضا انتهى ولا يخفى ما فيه من التكلف
* (فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا) *
* (فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا) * مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات وتسبب الذوق والأمر به في غاية الظهور وقيل الأظهر أنه مرتبط بقوله تعالى لا يذوقون فيها بردا الخ أي إذا ذاقوا الحميم والغساق فيقال لهم ذوقوا فلن نزيدكم الخ وحينئذ الجمل بينهما اعتراضية وفيه أنه في غاية البعد مع ما فيه من كثرة الاعتراض ومجيئه على طريق الالتفات للمبالغة لتقدير إحضارهم وقت الأمر ليخاطبوا بالتقريع والتوبيخ وهو أعظم في الإهانة والتحقير ولو قدر القول فيه لم يكن هناك التفات وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن الحسن قال سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله تعالى على أهل النار فقال قول الله تالى فذوفوا فلن نزيدكم إلا عذابا ووجه الأشدية على ما قيل أنه تقريب في يوم الفصل وغضب من أرحم الراحمين وتأييس لهم مع ما في لن أي على القول بإفادتها التأبيد من أن ترك الزيادة كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة وقيل يحتمل أن يكون المراد أنه أشد حجج القرآن على أهل النار فإنه إذا بلغهم في الدنيا هذا الوعيد ولم يخافوا منه فقد قبلوا العذاب الأبدي في مقابلة الكفر فلا عذر لهم يوم القيامة في الحكم عليهم بخلود النار وفيه من البعد ما فيه واستشكل أمر زيادة العذاب بمنافاتها كون الجزء موافقا للأعمال وأجيب بأنها لحفظ الأصل إذ لولاها لألفوا ما أصابهم من العذاب أول مرة ولم يتألموا به وهو كما ترى وقيل إن العذاب لما كان للكفر والمعاصي وهي متزايدة في القبح في كل آن فالكفر مثلا في الزمن الثاني أقبح منه في الزمن الأول وهكذا وعلم الله تعالى منهم لسوء استعدادهم استمرارهم على ذلك اقتضى ذلك زيادة العذاب وشدته يوما فيوما وقيل
17

لما كان كفرهم أعظم كفر اقتضى أشد عذاب والعذاب المزاد يوما يوما فيوما من أشد العذاب وقيل غير ذلك فليتأمل.
* (إن للمتقين مفازا) *.
* (إن للمتقين مفازا) * شروع في بيان محاسن أحوال المؤمنين أثر بيان سوء أحوال الكافرين ومفازا مصدر ميمي أو اسم مكان أي أن للذين يتقون عمل الكفر فوزا وظفرا بمساعيهم أو موضع فوز وقيل نجاة مما في أولئك أو موضع نجاة.
* (حدآئق وأعن‍ابا) *
* (حدائق) * بدل اشتمال من مفازا على الأول وبدل البعض على الثاني والرابط مقدر وتقديره حدائق فيه أو هي في محله أو نحو ذلك وجوز أن يكون بدل كل على الادعاء أو منصوبا باعني مقدرا وهو جمع حديقة وهي بستان فيها أنواع الشجر المثمر زاد بعضهم والرياحين والزهر وقال الراغب قطعة من الأرض ذات ماء سميت بذلك تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها وكأنه أراد ذات ماء وشجر * (وأعنابا) * جمع عنب ويقال للكرم نفسه ولثمرته والمتبادر عطفه على حدائق قبله وهو بعض منها إذا أريد به الكروم وبها الأشجار وموضعها وخص بالذكر اعتناء به وأما إن أريد به الكروم وبها الموضع فقط فلا ويتعين الاشتمال كما إذا أريد به ثمرات الكرون وجوز أن يكون هو وكذا ما بعد عطف على مفازا.
* (وكواعب أترابا) *
* (وكواعب) * جمع كاعب وهي المرأة التي تكعب ثدياها واستدار مع ارتفاع يسير ويكون ذلك في سن البلوغ وأحسن التسوية * (أترابا) * أي لذات ينشأن معا تشبيها في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو لوقوعهن معا على التراب أي الأرض وفي بعض التفاسير نساء الجنة كلهن بنات ست عشرة سنة ورجالهن أبناء ثلاث وثلاثين.
* (وكأسا دهاقا) *
* (وكأسا دهاقا) * أي مترعة يقال دهق فلان الحوض وأدهقه أي ملأه وروى عن ابن عباس أنه فسره بذلك وأنشد قول الشاعر: أتانا عامر يبغي قرانا * فاتر عنا له كأسا دهاقا
وفي البحر الدهاق الملأى مأخوذ من الدهق وهو ضغبط الشيء وشده باليد كأنه لامتلائه انضغط وعن مجاهد وجماعة تفسيره بالمتتابعة وصحح الحاكم عن ابن عباس ما رواه غير واحد أنه قال هي الممتلئة المترعة المتتابعة وربما سمعت العباس يقول يا غلام اسقنا وأدهق لنا وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال أي صافية ولا يخلو عن كدر والجمهور على الأول.
* (لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا) *
* (لا يسمعون فيها) * أي في الجنة وقيل في الكأس وجعلت الفاء للسببية * (لغوا) * هو ما لا يعتد به من الكلام وهو على ما قال الراغب الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطير وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا وكذا ما لا يعتد به مطلقا * (ولا كذابا) * أي تكذيبا وقرىء بالتخفيف أي كذابا أو مكاذبة وقد تضمنت هذه المذكورات أنواعاف من الذات الحسية كما لا يخفى.
* (جزآء من ربك عطآء حسابا) *
* (جزآء من ربك) * مصدر مؤكد منصوب بمعنى أن للمتقين مفازا فإنه في قوة أن يقال جازى المتقين بمفازا جزاء كائنا من ربك والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أن ذلك حصل بترتيبه وإرشاده تعالى وإضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام دونهم لتشريفه صلى الله عليه وسلم وقيل لم يقل من ربهم لئلا يحملهم المشكرون على أصنامهم وهو بعيد جدا ويعلم مما ذكرنا وجه ترك من ربك فيما تقدم من قوله تعالى جزاء وفاقا وعدم التعرض هناك لنسبة الجزاء إليه تعالى بعنوان آخر قيل من باب اللهم أن الخير بيديك والشر ليس إليك وقوله تعالى: * (عطاء) * أي تفضلا وإحسانا منه عز وجل إذ لا يجب عليه سبحانه شيء بدل من جزاء فمعنى كونه جزاء أنه كذلك بمقتضى وعده جل وعلا وجوز أن يكون نصبا بجزاء نصب المفعول به وتعقبه أبو حيان بأن جزاء مصدر مؤكد لمضمون الجملة والمصدر المؤكد لا يعمل بلا خلاف نعلمه عند النحة لأنه لا ينحل لفعل وحرف مصدري ورد بأن ذلك إذا كان الناصب للمفعول المطلق مذكور أما
18

إذا حذف مطلقا ففيه خلاف هل هو العامل أو الفعل وقال الشهاب الحق ما قال أبو حيان لأن المذكور هنا هو المصدر المؤكد لنفسه أو لغيره والذي اختلف فيه النحاة هو المصدر الآتي بدلا من اللفظ بفعله. كندلا زريق المال ندل الثعالب
وقوله: يا قابل التوب غفرانا مآثم قد * أسلفتها أنا منها خائف وجل
فليعرف وقوله تعالى: * (حسابا) * صفة عطاء بمعنى كافيا على أنه مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه أو هو على تقدير مضاف وهو مأخوذ من قولهم أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي وقيل على حسب أعمالهم أي مقسطا على قدرها وروى ذلك عن مجاهد وكان المراد مقسطا بعد التضعيف على ذلك فيندفع ما قيل إنه غير مناسب لتضعيف الحسنات ولذا لم يقل وفاقا كما في السابق ودفع أيضا بأن هذا بيان لما هو الأصل لا للجزاء مطلقا وقيل المعنى عطاء مفروغا عن حسابه لا كنعم الدنيا وتعقب بأنه بعيد عن اللفظ مع ما فيه من الإيهام وقرأ ابن قطيب حسابا بفتح الحاء وشد السين قال ابن جني نبي فعالا من أفعل كدراك من أدرك فمعناه محسبا أي كافيا ومنع بعضهم مجيء فعالا من الأفعال ودراك من درك فليحرر وقرأ شريح بن يزيد الحمصي وأبو البرهسم بكسر الحاء وشد السين على أن مصدر ككذاب وقرأ ابن عباس حسنا بالنون من الحسن وحكى المهدوى حسبا بفتح الحاء وسكون السين والباء الموحدة نحو قولك حسبك كذا أي كافيك.
* (رب السم‍اوات والارض وما بينهما الرحم‍ان لا يملكون منه خطابا) *
* (رب السموات والأرض وما بينهما) * بدل من لفظ ربك وفي إبداله تعظيم لا يخفى وإيماء على ما قيل إلى ما روى في كتب الصوفية من الحديث القدسي لولاك لما خلقت الأفلاك وقوله تعالى: * (الرحم‍ان) * صفة لربك أو لرب السموات على الأصح عند المحققين من جواز وصف المضاف إلى ذي اللام بالمعرف بها وجوز أن يكون عطف بيان وهل يكون بدلا من لفظ ربك قال في " البحر " فيه نظر لأن الظاهر أن البدل لا يتكرر وقوله تعالى: * (لا يملكون منه خطابا) * استئناف مقرر لما أفادته الربوبية العامة من غاية العظمة واستقلالا له تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء من غير أن يكون لأحد قدرة عليه والقراءة كذلك مروية عن عبد الله وابن أبي إسحق والأعمش وابن محيصن وابن عامر وعاصم وقرأ الأعرج وأبو جعفر وشيبة وأبو عمرو والحرميان برفع الاسمين فقيل على أنهما خبران لمبتدأ مضمر أي هو رب السموات الخ وقيل الأول هو الخبر والثاني صفة له أو عطف بيان وقيل الأول مبتدأ والثاني خبره ولا يملكون منه خبر آخر أو هو الخبر والثاني نعت للأول أو عطف بيان وقيل لا يملكون حال لازمة وقيل الأول مبتدأ أول والثاني مبتدأ ثان ولا يمركون خبره والجملة خبر للأول وحصل الربط بتكرير المبتدا بمعناه على رأي من يقول به واختير أن يكون كلاهما مرفوعا على المدح أو يكون الثاني صفة للأول ولا يملكون استئنافا على حاله لما في ذلك من توافق القراءتين معنى وقرأ الأخوان والحسن وابن وثاب والأعمش وابن محيصن بخلاف عنهما بجر الأول على ماسمعت ورفع الثاني على الابتداء والخبر مابعده أو على أنه خبر لمبتدا مضمر وما بعده استئناف أو خبر ثان وضمير لا يملكون لأهل السموات والأرض ومنه بيان لخطابا مقدمعليه أي لا يملكون أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم كما ينبىء عنه لفظ الملك خطابا ما في شيء ما والمراد نفي قدرتهم على أن يخاطبوه عز وجل بشيء من نقص العذاب أو زيادة الثواب من غير إذنه تعالى على أبلغ وجه وآكده وجوز أن يكون منه صلة يملكون ومن ابتدائية والمعنى لا يملكون من الله تعالى خطابا واحدا أي لا يملكهم الله تعالى ذلك فلا يكون في أيديهم خطاب يتصرفون فيه تصرف المك فيزيدون في الثواب أو ينقصون من العقاب وهذا كما تقول ملكت منه درهما وهو أقل تكلفا وأظهر من جعل منه حالا من خطابا مقدما وإضمار مضاف أي خطابا
19

من خطاب الله تعالى فيكون المعنى لا يملكون خطابا واحدا من جملة ما يخاطب به الله تعالى ويأمر به في أمر الثواب والعقاب وظاهر كلام البيضاوي حمل الخطاب على خطاب الاعتراض عليه سبحانه في ثواب أو عقاب ومنه على ما سمعت منا أولا أي لا يملكون خطابه تعالى والاعتراض عليه سبحانه في ثواب أو عقاب لأنهم مملوكون له عز وجل على الإطلاق فلا يستحقون عليه سبحانه اعتراضا أصلا وأيا كان فالآية لا تصلح دليلا على نفي الشفاعة بإذنه عز وجل وعن عطاء عن ابن عباس أن ضمير لا يملكون للمشركين وعدم الصلاحية عليه أظهر.
* (يوم يقوم الروح والمل‍ائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحم‍ان وقال صوابا) *
* (يوم يقوم الروح والمل - ئكة صفا) * قيل الروح خلق أعطم من لملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين وقيل هو ملك ما خلق الله عز وجل بعد العرض خلقا أعظم منه عن ابن عباس أنه إذا كالن يوم القيامة قام هو وحده صفا والملائكة صفا وعن الضحاك أنه لو فتح فاه لوسع جميع الملائكة عليهم السلام وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الروح جند من جنود الله تعالى ليسوا ملائكة لهم رؤس وأيد وأرجل وفي رواية يأكلون الطعام ثم قرأ * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) * وقال هؤلاء جند وهؤلاء جند وروى القول بهذا عن مجاهد وأبي صالح وقيل هم أشراف الملائكة وقيل هم حفظة الملائكة وقيل ملك موكل على الأرواح قال في الاحياء الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجسام فإنه يتنفس فيكون في كل نفس من أنفاسه روح في جسم وهو حق يشاهده أرباب القلوب ببصائرهم وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك أنه جبريل عليه السلام وهو قول لابن عباس فقد أخرج هو عنه أيضا أنه قال أن جبريل عليه السلام يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار ترعد فرائصه فرقا من عذاب الله تعالى يقول سبحانك لا إله إلا أنت ما عبدناك حق عبادتك وأن ما بين منكبيه كما بين المشرق والمغرب أما سمعت قول الله تعالى يوم يقوم الروح والملائكة صفا وفي رواية البيهقي في الأسماء والصفات عنه أن المراد به أرواح الناس وأن قيامها مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجساد وهو خلاف الظاهر في الآية جدا ولعله لا يصح عن الحبر وقيل القرآن وقيامه مجازعن ظهور آثاره الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع ما لا يخفى ولم يصح عندي فيه هنا شيء ويوم ظرف ل " لايملكون " وصفا حال أي مصطفين قيل هما صفان الروح صف واحد أو متعدد والملائكة صف آخر وقيل صفوف وهو الأوفق لقوله تعالى: * (والملك صفا صفا) * وقيل: * (يوم يقوم الروح والملائكة الكل صفا واحدا) * وجوز أن يكون ظرفا لقوله تعالى: * (لا يتكلمون) * وقوله سبحانه: * (إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) * بدل من ضمير لا يتكلمون وهو عائد إلى أهل السموات والأرض الذين من جملتهم الروح والملائكة وذكر قيامهم مصطفين لتحقيق عظمة سلطانه تعالى وكبرياءي ربوبيته عز وجل وتهويل يوم البعث الذي عليه مدار الكلام من مطلع السورة الكريمة إلى مقطعها والجملة استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى: * (لا يملكون) * الخ ومؤكد له على معنى أن أهل السموات والأرض إذا لم يقدروا حينئذ أن يتكلموا بشيء من جنس الكلام إلا من أذن الله تعالى له منهم في التكلم مطلقا وقال ذلك المأذون له بعد الإذن في مطلق التكلم قولا صوابا أي حقا من الشفاعة لمن ارتضى فكيف يملكون خطاب رب العزة جل جلاله مع كونه أخص من مطلق الكلام وأعز منه مراما وجوز أن يكون ضمير لا يتكلمون إلى الروح والملائكة والكلام مقرر لمضمون قوله تعالى: * (لا يملكون) * الخ أيضا لكن على معنى أن الروح والملائكة مع كونهم أفضل الخلائق وأقربهم من الله تعالى إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما هو صواب من الشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه فكيف يملكه غيرهم وذكره بعض أهل السنة فتعقب بأنه مبني على مذهب الاعتزال من كون الملائكة عليهم السلام أفضل من البشر مطلقا
20

وأنت تعلم أن من أهل السنة أيضا من ذهب إلى هذا كأبي عبد الله الحليمي والقاضي أبي بكر الباقلاني والإمام الرازي ونسب إلى القاضي البيضاوي وكلامه في التفسير هنا لا يخلو عن إغلاق وتصديق من تصدى لتوجيهه وأطالوا في ذلك على أن الخلاف في أفضليتهم بمعنى كثرة الثواب وما يترتب عليها من كونهم أكرم على الله تعالى وأحبهم إليه سبحانه لا بمعنى قرب المنزلة ودخول حظائر القدس ورفع ستارة الملكوت بالإطلاع على ما غاب عنا والمناسبة في النزاهة وقلة الوسائط ونحو ذلك فإنهم بهذا الاعتبار أفضل بلا خلاف وكلام ذلك البعض يحتمل أن يكون مبنيا عليه وهذا كما نشاهده من حال خدام الملك وخاصة حرمه فإنهم أقرب إليه من وزرائه والخارجين من أقربائه وليسوا عنده بمرتبة واحدة وإن زادوا في التبسط والدلال عليه وعن ابن عباس أن ضمير لا يتكلمون للناس وجوز أن يكون الأمن أذن الخ منصوبا على أصل الاستثناء والمعنى لا يتكلمون إلا في حق شخص أذن له الرحمن وقال ذلك الشخص في الدنيا صوابا أي حقا هو التوحيد وقول لا إله إلا الله كما روى عن ابن عباس وعكرمة وعليه قيل يجوز أن يكون قال صوابا في موضع الحال ممن بتقدير قد أو بدونه لا عطفا على إذن ومن الناس من جوز الحالية على الوجه الأول أيضا لكن من ضمير يتكلمون باعتبار كل واحد أو باعتبار المجموع وظن أن قول بعضهم المعنى لا يتكلمون بالصواب إلا بإذنه لا يتم بدون ذلك وفيه مافيه وقيل جملة لا يتكلمون حال من الروح والملائكة أو من ضميرهم في صفا والجمهور على ما تقدم وإظهار الرحمن في موقع الاضمار للإيذان بأن مناط الإذن هو الرحمة البالغة لا أن أحدا يستحقه عليه سبحانه وتعالى كما أن ذكره فيما تقدم للإشارة إلى أن الرحمة مناط تربيته عز وجل.
* (ذلك اليوم الحق فمن شآء اتخذ إلى ربه م‍اابا) *
* (ذلك) * إشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو دجرته وبعد منزلته في الهول والفخامة ومحله الرفع على الابتداء خبره قوله تعالى: * (اليوم) * الموصوف بقوله سبحانه: * (الحق) * أو هو الخبر واليوم بدل أو عطف بيان والمراد بالحق الثابت المتحقق أي ذلك اليوم الثابت الكائن لا محالة والجملة مؤكدة لما قبل ولذا لم تعطف والفاء في قوله عز وجل: * (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) * فصيحة تفصح عن شرط محذوف ومفعول المشيئة محذوف دل عليه الجزاء وإلى ربه متعلق بمآبا قدم عليه اهتماما ورعاية للفواصل كأنه قيل وإذا كان الأمر كما ذكر من تحقق الأمر المذكور لا محالة فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم فعل ذلك بالايمان والطاعة وقال قتادة فيما رواه عنه عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن المنذر * (مآبا) * أي سبيلا وتعلق الجار به لما فيه من معنى الافضاء والإيصال والأول أظهر وتقدير المضاف أعني الثواب قيل لاستحالة الرجوع إلى ذاته عز وجل وقيل لأن رجوع كل أحد إلى ربه سبحانه ليس بمشيئته إذ لا بد منه شاء أم لا والمعلق بالمشيئة الرجوع إلى ثوابه تعالى فإن العبد مختار في الايمان والطاعة ولا ثواب بدونها وقيل لتقدم قوله تعالى: * (للطاغين مآبا) * فإن لهم مرجعا لله تعالى أيضا لكن للعقاب لا للثواب ولكل وجهة.
* (إنآ أنذرن‍اكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ي‍اليتنى كنت ترابا) *
* (إنا أنذرناكم) * أي بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث بما فيه وما بعده من الدواهي أو بها وبسائر القوارع الواردة في القرآن العظيم * (عذابا قريبا) * هو عذاب الآخرة وقربه لتحقق إتيانه فقد قيل ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت أو لأنه قريب بالنسبة إليه عز وجل أو يقال البرزخ داخل في الآخرة ومبدؤه الموت وهو قريب حقيقة كما لا يخفى على من عرف القرب والبعد وعن قتادة هو عقوبة الذنب لأنه أقرب العذابين وعن مقاتل هو قتل قريش يوم بدر وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى: * (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه) * فإن الظاهر أنه
21

ظرف لمضمر هو صفة * (عذابا) * أي عذابا كائنا يوم الخ وليس ذلك اليوم إلا يوم القيامة وكذا على ما قيل من أنه بدل من * (عذابا) * أو ظرف لقريبا وعلى هذا الأخير قيل لا حاجة إلى توجيه القرب لأن العذاب في ذلك اليوم قريب لا فاصل بينه وبين المرء ونظر فيه بأن الظاهر جعل المنذر به قريبا في وقت الإنذار لأنه المناسب للتهديد. والوعيد إذ لا فائدة في ذكر قربه منهم يوم القيامة فإذا تعلق به فالمراد بيان قرب اليوم نفسه فتأمل والظاهر أن المرء عام للمؤمن والكافر وما موصولة منصوبة بينظر والعائد محذوف والمراد يوم يشاهد المكلف المؤمن والكافر ما قدمه من خير أو شر وجوز أن تكون ما استفهامية منصوبة بقدمت أي شيء قدمت يداه والجملة معلق عنها لأن النظر طريق العلم والكلام في قوة ينظر جواب ما قدمت يداه وفي الكلام على ما ذكره العلامة التفتازاني تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه حيث ذكر اليدان لأن أكثر الأعمال تزاول بهما فجعل الجميع كالواقع بهما تغليبا وقرأ ابن أبي إسحق المرء بضم الميم وضعفها أبو حاتم ولا ينبغي أن تضعف لأنها لغة بعض العرب يتبعون حركة الهمزة فيقولون مرء ومرأ ومرء على حسب الاعراب * (ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا) * تخصيص لأحد الفريقين اللذين تناولهما المرء فيما قبل منه بالذكر وخص قول الكافر دون المؤمن لدلالة قوله على غاية الخيبة ونهاية التحسر ودلالة حذف قول المؤمنين على غاية التبجح ونهاية الفرح والسرور وقال عطاء المرء هنا الكافر لقوله تعالى: * (إنا أنذرناكم) * وكان الظاهر عليه الضمير فيما بعد إلا أنه وضع الظاهر موضع لزيادة الذم وفيه أن تناول الفريقين هو المطابق لما سبق من صف يوم مفصل لما اشتمل على حالهما وهو الوجه لقوله تعالى فمن شاء استخذ إلى ربه مآبا * (وإنا أنذرناكم) * لا يخص الكافر لأن الإنذار عام للفريقين أيضا فلا دلالة على الاختصاص وقال ابن عباس وقتادة والحسن المراد به المؤمن قال الإمام دل عليه قول الكافر فلما كان هذا بيانا لحال الكافر وجب أن يكون الأول بيانا لحال المؤمن ولا يخفى ما فيه من الضعف كاستدلال الرياشي بالآية على أن المرء لا يطلق إلا على المؤمن وأراد الكافر بقوله هذا: * (ليتني كنت ترابا) * في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف أو * (ليتني كنت ترابا) * في هذا اليوم فلم أبعث وعن ابن عمر وأبي هريرة ومجاهد إن الله تعالى يحضر البهائم فيقتص لبعضها من بعض ثم يقول سبحانه لها كوني ترابا فيعود جميعها ترابا فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله وإلى حشر البهائم والاقتصاص لبعضها من بعض ذهب الجمهور وسيأتي الكلام في ذلك في سورة التكوير إن شاء الله تعالى وقيل الكافر في الآية إبليس عليه اللعنة لما شاهد آدم عليه الصلاة والسلام ونسله المؤمنين وما لهم من الثواب تمنى أن يكون ترابا لأنه احتقره لما قال خلقتني من نار وخلقته من طين وهو بعيد عن السياق وإن كان حسنا والتراب على جميع ما ذكر بمعناه المعروف والكلام على ظاهره وحقيقته وجوز لا سيما على الأخير أن يكون المراد بقول ليتني كنت في الدنيا متواضعا لطاعة الله تعالى لا جبارا ولا متكبرا والمعول عليه ما تقدم كما لا يخفى.
سورة النازعات
وتسمى سورة الساهرة والطامة وهي مكية بالاتفاق وعدد آياها ست وأربعون في الكوفي وخمس وأربعون في غيره وعن ابن عباس أنها نزلت عقب سورة عم وأولها يشبه أن يكون قسما لتحقيق ما في آخر عم أو ما تضمنته كلها وفي " البحر " لما ذكر سبحانه في آخر ما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة أقسم عز وجل في هذه على البعث
22

* (والن‍ازع‍ات غرقا * والن‍اشط‍ات نشطا * والس‍ابح‍ات سبحا * فالس‍ابق‍ات سبقا * فالمدبرات أمرا) *
* (والنازعات غرقا * والناشطات نشطا * والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا) * أقسام من الله تعالى بطوائف من ملائكة الموت عليهم السلام الذين ينزعون الأرواح من الأجساد على الإطلاق كما في رواية عن ابن عباس ومجاهد أو أرواح الكفرة على ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه وجويبر في تفسيره عن الحبر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وعبد بن حميد عن قتادة وروي عن سعيد بن جبير ومسروق وينشطونها أي يخرجونها من الأجساد من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ويسبحون في إخراجها سبح الذي يخرج من البحر ما يخرج فيسبقون ويسرعون بأرواح الكفرة إلى النار وبأرواح المؤمنين إلى الجنة فيدبرون أمر عقابها وثوابها بأن يهيؤها لإدراك ما أعد لها من الالآم واللذات ومال بعضهم إلى تخصيص النزع بأرواح الكفار والنشط والسبح بأرواح المؤمنين لأن النزع جذب بشدة وقد أردف بقوله تعالى غرقا وهو مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إغراقا في النزع من أقاصي الأجساد وقيل هو نوع والنزع جنس أي في هذا المحل وذلك أنسب بالكفار قال ابن مسعود تنزع الملائكة روح الكافر من جسده من تحت كل شعرة ومن تحت الأظافر وأصول القدمين ثم تغرقها في جسده ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج يردها في جسده وهكذا مرارا فهذا عملها في الكفار والنشط الإخراج برفق وسهولة وهو أنسب بالمؤمنين وكذا السبح ظاهر في التحرك برفق ولطافة قال بعض السلف: إن الملائكة يسلون أرواح المؤمنين سلا رقيقا ثم يتركونها حتى تستريح رويدا ثم يستخرجونها برفق ولطف كالذي يسبح في الماء فإنه يتحرك برفق لئلا يغرق فهم يرفقون في ذلك الاستخراج لئلا يصل إلى المؤمن ألم وشدة وفي التاج أن النشط حل العقدة برفق ويقال كما في " البحر " أنشطت العقال ونشطته إذا مددت أنشوطته فانحلت والأنشوطة عقدت يسهل انحلالها إذا جذبت كعقدة التكة فإذا جعلت الناشطات من النشط بهذا المعنى كان أوفق للإشارة إلى الرفق والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما مر غير مرة للإشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور حقيق بأن يكون على حياله مناطا لاستحقاق موصوفة للإجلال والإعظام بالإقسام به من غير انضمام الأوصاف الأخر إليه ولو جعلت النازعات ملائكة العذاب والناشطات ملائكة الرحمة كان العطف للتغاير الذاتي على ما هو الأصل والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة وانتصاب نشطا وسبحا وسبقا على المصدرية كانتصاب غرقا وأما انتصاب أمرا فعلى
المفعولية للمدبرات لا على نزع الخافض أي بأمر منه تعالى كما قيل وزعم أنه الأولى وتنكيره للتهويل والتفخيم وجوز أن يكون غرقا مصدرا مؤولا بالصفة المشبهة ونصبه على المفعولية أيضا للنازعات أو صفة للمفعول به لها أي نفوسا غرقة في الأجساد وحمل بعضهم غرقها فيها بشدة تعلقها بها وغلبة صفاتها عليها وكان ذلك مبني على تجرد الأرواح كما ذهب إليه الفلاسفة وبعض أجلة المسلمين هذا ولم نقف على نص في أن الملائكة حال قبض الأرواح وإخراجها هل يدخلون في الأجساد أم لا وظاهر تفسير الناشطات أنهم حالة النزع خارج الجسد كالواقف والسابحات دخولهم فيه لإخراجها على ما قيل وأنت تعلم أن السبح ليس على حقيقته ولا مانع من أن يراد به مجرد الاتصال ونحوه مما لا توقف له على الدخول وجوز أن يكون المراد بالسابحات وما بعدها طوائف من الملائكة يسبحون في مضيهم فيسبقون فيه إلى ما أمروا به من الأمور الدنيوية والأخروية فيدبرون أمره من كيفيته وما لا بد منه فيه ويعم ذلك ملائكة الرحمة وملائكة العذاب والعطف عليه لتغاير الموصوفات كالصفات وأيا ما كان
23

فجواب القسم محذوف يدل عليه ما بعد من أحوال القيامة ويلوح إليه الأقسام المذكورة والتقدير * (والنازعات) * الخ لتبعثن وإليه ذهب الفراء وجماعة وقيل أقسام بالنجوم السيارة التي تنزع أي تسير من نزع الفرس إذا جرى من المشرق إلى المغرب غرقا في النزع وجدا في السير بأن تقطع الفلك على ما يبدو للناس حتى تنحط في أقصى الغرب وتنشط من برج إلى برج أي تخرج من نشط الثور إذا خرج من مكان إلى مكان آخر ومنه قول هميان بن قحافة: أرى همومي تنشط المناشطا * الشأم بي طورا وطورا واسطا
وتسبح في الفلك فيسبق بعضها في السير لكونه أسرع حركة فتدبر أمرا نيط بها كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات والمعاملات المؤجلة ولما كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب سريعة قسرية وتابعة لحركة الفلك الأعظم ضرورة وحركاتها من برج إلى برج بإرادتها من غير قسر لها وهي غير سريعة أطلق على الأولى النزع لأنه جذب بشدة وعلى الثانية النشط لأنه برفق وروى حمل النازعات على النجوم عن الحسن وقتادة والأخفش وابن كيسان وأبي عبيدة وحمل الناشطات عليها عن ابن عباس والثلاثة الأول وحمل السابحات عليها عن الأولين وحملها أبو روق على الليل والنهار والشمس والقمر منها والمدبرات عليها عن معاذ وإضافة التدبير إليها مجاز وقيل أقسام بالنفوس الفاضلة حالة المفارقة لأبدانها بالموت فإنها تنزع عن الأبدان غرقا أي نزعا شديدا من أغرق النازع في القوس إذا بلغ غاية المد حتى ينتهي إلى النصل لعسر مفارقتها إياها حيث الفه وكان مطية لها لاكتساب الخير ومظنة لازدياده فتنشط شوقا إلى عالم الملكوت وتسبح به فتسبق إلى حظائر القدس فتصير لشرفها وقوتها من المدبرات أي ملحقة بالملائكة أو تصلح هي لأن تكون مدبرة كما قال الإمام: إنها بعد المفارقة قد تظهر لها آثار وأحوال في هذا العالم فقد يرى المء شيخه بعد موته فيرشده لما يهمه وقد نقل عن جالينوس أنه مرض مرضا عجز عن علاجه الحكماء فوصف له في منامه علاجه فأفاق وفعله فأفاق وقد ذكره الغزالي ولذا قيل وليس بحديث كما توهم إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أصحاب القبور أي أصحاب النفوس الفاضلة المتوفين ولا شك في أنه يحصل لزائرهم مدد روحاني ببركتهم وكثيرا ما تنحل عقد الأمور بأنامل التوسل إلى الله تعالى بحرمتهم وحمله بعضهم على الأحياء منهم الممتثلين أمر موتوا قبل أن تموتوا وتفسير النازعات بالنفوس مروى عن السدي إلا أنه قال هي جماعة النفوس تنزع بالموت إلى ربها والناشطات بها عن ابن عباس أيضا إلا أنه قال هي النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج والسابقات بها عن ابن مسعود إلا أنه قال هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة عليهم السلام الذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله تعالى وقيل أقسام بالنفوس حال سلوكها وتطهير ظاهرها وباطنها بالاجتهاد في العبادة والترقي في المعارف الإلهية فإنها تنزع عن الشهوات وتنشط إلى عالم القدس فتسبح في مراتب الارتقاء فتسبق إلى الكمالات حتى تصير من المكملات للنفوس الناقصة وقيل أقسام بأنفس الغزاة أو أيديهم تنزع القسي بإغراق السهام وتنشط بالسهم للرمي وتسبح في البر والبحر فتسبق إلى حرب العدو فتدبر أمرها وإسناد السبح وما بعده إلى الأيدي عليه مجاز للملابسة وحمل النازعات على الغزاة مروى عن عطاء إلا أنه قال هي النازعات بالقسي وغيرها وقيل بصفات خيلهم فإنها تنزع في أعنتها غرقا أي تمد أعنتها مدا قويا حتى تلصقها بالأعناق من غير ارتخائها فتصير كأنها انغمست فيها وتخرج من دار الإسلام إلى دار الكفر وتسبح في جريها فتسبق إلى العدو فتدبر أمر الظفر وإسناد التدبير إليها إسناد إلى السبب وحمل السابحات على الخيل مروى عن عطاء أيضا وجماعة ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال لا يليق بشأن جزالة التنزيل وليس له قوة مناسبة للمقام ومنها ما فيه قول بما عليه أهل الهيئة المتقدمون
24

من الحركة الإرادية للكوكب وهي حركته الخاصة ونحوها مما ليس في كلام السلف ولم يتم عليه برهان ولذا قال بخلافه المحدثون من الفلاسفة وفي حمل المدبرات على النجوم إيهام صحة ما يزعمه أهل الأحكام وجهلة المنجمين وهو باطل عقلا ونقلا كما أوضحنا ذلك فيما تقدم وكذا في حملها على النفوس الفاضلة المفارقة إيهام صحة ما يزعمه كثير من سخفة العقول من أن الأولياء يتصرفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض وإنقاذ الغريق والنصر على الأعداء وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد على معنى أن الله تعالى فوض إليهم ذلك ومنهم من خص ذلك بخمسة من الأولياء والكل جهل وإن كان الثاني أشد جهلا نعم لا ينبغي التوقف في أن الله تعالى قد يكرم من شاء من أوليائه بعد الموت كما يكرمه قبله بما شاء فيبرىء سبحانه المريض وينقذ الغريق وينصر على العدو وينزل الغيث وكيت وكيت كرامة له وربما يظهر عز وجل من يشبهه صورة فتفعل ما سئل الله تعالى بحرمته مما لا إثم فيه استجابة للسائل وربما يقع السؤال على الوجه المحظور شرعا فيظهر سبحانه نحو ذلك مكرا بالسائل واستدراجا له ونقل الإمام في هذا المقام عن الغزالي أنه قال: إن الأرواح الشريفة إذا فارقت أبدانها ثم اتفق إنسان مشابه للإنسان الأول في الروح والبدن فإنه لا يبعد أن يحصل للنفس المفارقة تعلق بهذا البدن حتى تصير كالمعاونة للنفس المتعلقة بذلك البدن على أعمال الخير فتسمى تلك المعاونة إلهاما ونظيره في جانب النفوس الشريرة وسوسة انتهى ولم أر ما يشهد على صحته في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة وقد ذكر الإمام نفسه في المباحث المشرقية استحالة تعلق أكثر من نفس ببدن واحد وكذا استحالة تعلق نفس واحدة بأكثر من بدن ولم يتعقب ما نقله هنا فكأنه فهم أن التعلق فيه غير التعلق المستحيل فلا تغفل وقال في وجه حمل المذكورات على الملائكة أن الملائكة عليهم السلام لها صفات سلبية وصفات إضافية أما الأولى فهي أنها مبرأة عن الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة والموت والهرم والسقم والتركيب والأعضاء
والأخلاط والأركان بل هي جواهر روحانية مبرأة عن هذه الأحوال فالنازعات غرقا إشارة إلى كونها منزوعة عن هذه الأحوال نزعا كليا من جميع الوجوه على أن الصيغة للنسبة والناشطات نشطا إشارة إلى أن خروجها عن ذلك ليس كخروج البشر على سبيل الكلفة والمشقة بل بمقتضى الماهية فالكلمتان إشارتان إلى تعريف أحوالهم السلبية وأما صفاتهم الإضافية فهي قسمان الأول: شرح قوتهم العاقلة وبيان حالهم في معرفة ملك الله تعالى وملكوته سبحانه والاطلاع على نور جلاله جل جلاله فوصفهم سبحانه في هذا المقام بوصفين أحدهما: والسابحات سبحا فهم يسبحون من أول فطرتهم في بحار جلاله تعالى ثم لا منتهى لسبحهم لأنه لا منتهى لعظمة الله تعالى وعلو صمديته ونور جلاله وكبريائه فهم أبدا في تلك السباحة. وثانيهما: فالسابقات سبقا وهو إشارة إلى تفاوت مراتبهم في درجات المعرفة وفي مراتب التجلي والثاني: شرح قوتهم العاملة وبيان حالهم فيها فوصفهم سبحانه في هذا المقام بقوله تعالى: * (والمدبرات أمرا) * ولما كان التدبير لا يتم إلا بعد العلم قدم شرح القوة العاقلة على شرح القوة العاملة انتهى وهو على ما في بعضه من المنع ليس بشديد المناسبة للمقام ونقل غير واحد أقوالا غير ما ذكر في تفسير المذكورات فعن مجاهد النازعات المنايا تنزع النفوس وحكى يحيى بن سلام أنها الوحش تنزع إلى الكلأ وعن الأول تفسير الناشطات بالمنايا أيضا وعن عطاء تفسيرها بالبقر الوحشية وما يجري مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر وعنه أيضا تفسير السابحات بالسفن وعن مجاهد تفسيرها بالمنايا تسبح في نفوس الحيوان وعن بعضهم تفسيرها بالسحاب وعن آخر تفسيرها بدواب البحر وعن بعض تفسير السابقات بالمنايا على معنى أنها تسبق الآمال وعن غير واحد تفسير المدبرات بجريل يدبر الرياح والجنود والوحي وميكال
25

يدبر القطر والنبات وعزرائيل يدبر قبض الأرواح وإسرافيل يدبر الأمر المنزل عليهم لأنه ينزل به ويدبر النفخ في الصور والأكثرون تفسيرها بالملائكة مطلقا بل قال ابن عطية لا أحفظ خلافا في أنها الملائكة وليس في تفسير شيء مما ذكر خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أعلم وما ذكرته أولا هو المرجح عندي نظرا للمقام والله تعالى أعلم وقوله سبحانه:
* (يوم ترجف الراجفة) *
* (يوم ترجف الراجفة) * منصوب بالجواب المضمر والمراد بالراجفة الواقعة أو النفخة التي ترجف الأجرام عندها على أن الإسناد إليها مجازي لأنها سبب الرجف أو التجوز في الطرف بجعل سبب الرجف راجفا وجوز أن تفسر الراجفة بالمحركة ويكون ذلك حقيقة لأن رجف يكون بمعنى حرك وتحرك كما في " القاموس " وهي النفخة الأولى وقيل المراد بها الأجرام الساكنة التي تشتد حركتها حينئذ كالأرض والجبال لقوله تعالى: * (يوم ترجف الأرض والجبال) * وتسميتها راجفة باعتبار الأول ففيه مجاز مرسل وبه يتضح فائدة الإسناد وقوله تعالى:
* (تتبعها الرادفة) *
* (تتبعها الرادفة) * أي الواقة أو النفخة التي تردف وتتبع الأولى وهي النفخة الثانية وقيل الأجرام التابعة وهي السماء والكواكب فإنها تنشق وتنتثر بعد والجملة حال من الراجفة مصححة لوقوع اليوم ظرفا للبعث لإفادتها امتداد الوقت وسعته حيث أفادت أن اليوم زمان الرجفة المقيدة بتبعية الرادفة لها وتبعية الشيء الآخر فرع وجود ذلك الشيء فلا بعد من امتداد اليوم إلى الرادفة واعتبار امتداده مع أن البعث لا يكون عند الرادفة أعني النفخة الثانية وبينها وبين الأولى أربعون لتهويل اليوم ببيان كونه موقعا لداهيتين عظيمتين وقيل يوم ترجف منصوب باذكر فتكون الجملة استئنافا مقرر المضمون الجواب المضمر كأنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم اذكر لهم يوم النفختين فإنه وقت بعثهم وقيل هو منصوب بما دل عليه قوله تعالى:
* (قلوب يومئذ واجفة) *
* (قلوب يومئذ واجفة) * أي يوم ترجف وجفت القلوب أي اضطربت يقال وجف القلب وجيفا اضطرب من شدة الفزع وكذلك وجب وجيبا وروي عن ابن عباس أن واجفة بمعنى خائفة بلغة همدان وعن السدي زائلة عن مكانها ولم يجعل منصوبا بواجفة لأنه نصب ظرفه أعني يومئذ والتأسيس أولى من التأكيد فلا يحمل عليه كيف وحذف المضاف وإبدال التنوين مما يأباه أيضا ورفع قلوب على الابتداء ويومئذ متعلق بواجفة وهي الخبر على ما قيل وهو الأظهر كما في قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة وجاز الابتداء بالنكرة لأن تنكيرها للتنويع وهو يقوم مقام الوصف المخصص نعم التنويع في النظير أظهر لذكر المقابل بخلاف ما نحن فيه ولكن لا فرق بعد ما ساق المعنى إليه وإن شئت فاعتبر ذلك للتكثير كما اعتبر في شرأ هر ذا ناب وقيل واجفة صفة قلوب مصححة للابتداء بها وقوله تعالى:
* (أبص‍ارها خ‍اشعة) *
* (أبصارها خاشعة) * أي أبصار أهلها ذليلة من الخوف ولذلك أضافها إليها فالإضافة لأدنى ملابسة وجوز أن يراد بالأبصار البصائر أي صارت البصائر ذليلة لا تدرك شيئا فكني بذلها عن عدم إدراكها لأن عز البصيرة إنما هي بالإدراك وبحث في كون القلوب غير مدركة يوم القيامة وأجيب بأن المراد شدة الذهول والحيرة جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع على الخبرية لقلوب وتعقب بأنه قد اشتهر أن حق الصفة أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند السامع حتى قال غير واحد أن الصفات قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها صفات فحيث كان ثبوت الوجيف وثبوت الخشوع لإبصار أصحاب القلوب سواء في المعرفة والجهالة كان جعل الأول عنوان الموضوع مسلم الثبوت مفروغا عنه وجعل الثاني مخبرا به مقصود الإفادة تحكما بحتا على أن الوجيف الذي هو عبارة عن اضطراب القلب وقلقه من شدة الخوف والوجل أشد من خشوع البصر وأهول فجعل أهون الشرين عمدة وأشدهما فضلة مما لا عهد له في الكلام وأيضا فتخصيص الخشوع بقلوب موصوفة بصفة معينة غير مشعرة بالعموم والشمول
26

تهوين للخطب في موقع التهويل انتهى وأنت تعلم أن المشتهر وما قاله غير واحد غير مجمع على اطراده وأن بعض ما اعترض به يندفع على ما يفهمه كلام بعض الأجلة
من جواز جعل المفرد خبرا والجملة بعد صفة لكنه بعيد وما قيل على الأول من أن جعل التنوين للتنويع مع الباسه مخالف للظاهر وكونه كالوصف معنى تعسف خروج عن الإنصاف وزعم ابن عطية أن النكرة تخصصت بقوله تعالى: * (يومئذ) * وتعقب بأنه لا تتخصص بالأجرام بظروف الزمان وقدر عصام الدين جواب القسم ليأتين وقال نحن نقدره كذلك ونجعل يوم ترجف فاعلا له مرفوع المحل ونجعل تتبعها الرادفة صفة للراجفة بجعلها في حكم النكرة لكون التعريف للعهد الذهني نحو أمر على اللئيم يسبني وفيه ما فيه وفيه ما فيه وقيل أن الجواب تتبعها الرادفة ويوم منصوب به ولام القسم محذوفة أي ليوم كذا تتبعها الرادفة ولم تدخل نون التأكيد لأنه قد فصل بين اللام المقدرة والفعل وليس بذاك وقال محمد بن علي الترمذي: إن جواب القسم أن في ذلك لعبرة لمن يخشى وهو كما ترى ومثله ما قيل هو هل أتاك حديث موسى لأنه في تقدير قد أتاك وقال أبو حاتم على التقديم والتأخير كأنه قيل فإذا هم بالساهرة والنازعات وخطأه ابن الأنباري بأن الفاء لا يفتتح بها الكلام وبالجملة الوجه الوجيه هو ما قدمنا وقوله تعالى:
* (يقولون أءنا لمردودون فى الح‍افرة) *
* (يقولون ءإنا لمردودون في الحافرة) * حكاية لما يقوله المنكرون للبعث المذبكون بالآيات الناطقة به أثر بيان وقوعه بطريق التوكيد القسمي وذكر مقدماته الهائلة وما يعرض عند وقوعها للقلوب والأبصار أي يقولون إذا قيل لهم أنكم تبعثون منكرين له متعجبين منه أئنا لمردودون بعد موتنا في الحافرة أي في الحالة الأولى يعنون الحياة كما قال ابن عباس وغيره وقيل أنه تعالى شأنه لما أقسم على البعث وبين ذلهم وخوفهم ذكر هنا إقرارهم بالبعث وردهم إلى الحياة بعد الموت فالاستفهام لاستغراب ما شاهدوه بعد الإنكار والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لما يقولون إذ ذاك والظاهر ما تقدم وأن القول في الدنيا وأيا ما كان فهو من قولهم رجع فلان في حافرته أي طريقته التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيه والقياس المحفورة فهي إما بمعنى ذات حفر أو الإسناد مجازي أو الكلام على الاستعارة المكنية بتشبيه القابل بالفاعل وجعل الحافرية تخييلا وذلك نظير ما ذكروا في عيشة راضية ويقال لكل من كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته وعليه قوله: أحافرة على صلع وشيب * معاذ الله من سفه وعار
يريد أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والتصابي بعد أن شبت معاذ الله من ذاك سفها وعارا ومنه المثل النقد عند الحافرة فقد قيل الحافرة فيه بمعنى الحالة الأولى وهي الصفقة أي النقد حال العقد لكن نقل الميداني عن ثعلب أن معناه النقد عند السبق وذلك أن الفرس إذا سبق أخذ الرهن والحافرة الأرض التي حفرها السابق بقوائمه على أحد التأويلات وقيل الحافرة جمع الحافر بمعنى القدم أي يقولون أئنا لمردودون أحياء نمشي على أقدامنا ونطأ بها الأرض ولا يخفى أن أداء اللفظ هذا المعنى غير ظاهر وعن مجاهد الحافرة القبور المحفورة أي لمردودون أحياء في قبورنا وعن زيد بن أسلم هي النار وهو كما ترى وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة في الحفرة بفتح الحاء وكسر الفاء على أنه صفة مشبهة من حفر اللازم كعلم مطاوع حفر بالبناء للمجهول يقال حفرت أسنانه فحفرت حفرا بفتحتين إذا أثر إلا كال في أسناخها وتغيرت ويرجع ذلك إلى معنى المحفورة وقيل هي الأرض المنتنة المتغيرة بأجساد موتاها وقوله تعالى:
* (أءذا كنا عظ‍اما نخرة) *
* (ءإذا كنا عظاما نخرة) * تأكيد لإنكار البعث بذكر حالة منافية له والعامل في إذا مضمر يدل عليه مردودون أي أئذا كنا عظاما بالية نرد ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة وقرأ
27

نافع وابن عامر إذا كنا بإسقاط همزة الاستفهام فقيل يكون خبر استهزاء بعد الاستفهام الإنكاري واستظهر أنه متعلق بمردودون وقرأ عمر وأبي وعبد الله وابن الزبير وابن عباس ومسروق ومجاهد والأخوان وأبو بكر ناخرة بالألف وهو كنخرة من نخر العظم أي بلي وصار أجوف تمر به الريح فيسمع له نخير أي صوت وقراءة الأكثرين أبلغ فقد صرحوا بأن فعلا أبلغ من فاعل وإن كانت حروفه أكثر وقولهم زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى أغلبي أو إذا اتحد النوع لا إذا اختلف كأن كان فاعل اسم فاعل وفعل صفة مشبهة نعم تلك القراءة أوفق برؤوس الآي واختيارها لذلك لا يفيد اتحادها مع الأخرى في المبالغة كما وهم وإلى الأبلغية ذهب المعظم وفسرت النخرة عليه بالأشد بلى وقال عمرو بن العلاء النخرة التي قد بليت والناخرة التي لم تنخر بعد ونقل اتحاد المعنى عن الفراء وأبي عبيدة وأبي حاتم وآخرين وقوله تعالى:
* (قالوا تلك إذا كرة خ‍اسرة) *
* (قالوا) * حكاية لكفر آخر لهم متفرع على كفرهم السابق ولعل توسيط قالوا بينهما للإيذان بأن صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الاطراد والاستمرار مثل كفرهم السابق المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم حسبما ينبىء عنه حكايته بصيغة المضارع أي قالوا بطريق الاستهزاء مشيرين إلى ما أنكروه من الرد في الحافرة مشعرين بغاية بعده عن الوقوع * (تلك إذا كرة خاسرة) * أي ذات خسر أو خاسر أصحابها أي إذا صحت تلك الرجعة فنحن خاسرون لتكذيبنا بها وأبرزوا ما قطعوا بانتفائه واستحالته في صورة ما يغلب على الظن وقوعه لمزيد الاستهزاء وقال الحسن خاسرة كاذبة أي بكائنة فكان المعنى تلك إذا كنا عظاما نخرة كرة ليست بكائنة وقوله تعالى:
* (فإنما هى زجرة واحدة) *
* (فإنما هي زجرة واحدة) * تعليل لمقدر يقتضيه إنكارهم ذلك فإنه لما كان مداره استصعابهم الكرة رد عليهم ذلك فقيل لا تحسبوا تلك الكرة صعبة فإنما هي صيحة واحدة أي حاصلة بصيحة واحدة وهي النفخة الثانية عبر عنها بها تنبيها على كمال اتصالها بها كأنها عينها وقيل هي راجع إلى الرادفة وقوله تعالى:
* (فإذا هم بالساهرة) *
* (فإذا هم بالساهرة) * حينئذ بيان لترتب الكرة على الزجرة مفاجأة أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في بطنها وعلى الأول بيان لحضورهم
الموقف عقيب الكرة التي عبر عنها بالزجرة والساهرة قيل وجه الأرض والفلاة وأنشدوا قول أمية بن أبي الصلت: وفيها لحم ساهرة وبحر * وما فاهوا به أبدا مقيم
وفي " الكشاف " الأرض البيضاء أي التي لا نبات فيها المستوية سميت بذلك لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة جارية الماء وفي ضدها نائمة قال الأشعث بن قيس: وساهرة يضحي السراب مجللا * لأقطارها قد جبتها ملتثما
أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة وفي الأول مجاز على المجاز وعلى الثانيا لسهر على حقيقته والتجوز في الإسناد وحكى الراغب فيها قولين الأول: أنها وجه الأرض والثاني: أنها أرض القيامة ثم قال وحقيقتها التي يكثر الوطء بها فكأنها سهرت من ذلك إشارة إلى نحو ما قال الشاعر: تحرك يقظان التراب ونائمه
وروى الضحاك عن ابن عباس أن الساهرة أرض من فضة لم يعص الله تعالى عليها قط بخلقها عز وجل حينئذ وعنه أيضا أنها أرض مكة وقيل هي الأرض السابعة يأتي الله تعالى بها فيحاسب الخلائق عليها وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض وقال وهب بن منبه جبل بالشام يمده الله تعالى يوم القيامة لحشر الناس وقال أبو العالية وسفيان أرض قريبة من بيت المقدس وقيل الساهرة بمعنى الصحراء على شفير جهنم وقال قتادة هي جهنم لأنه لا نوم لمن فيها وقوله تعالى:
* (هل أتاك حديث موسى) *
* (هل أتاك حديث موسى) * كلام مستأنف وارد لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه وتهديدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من كان أقوى منهم وأعظم ومعنى هل أتاك أن اعتبر أن هذا أول ما أتاه عليه الصلاة والسلام من حديثه عليه السلام
28

ترغيب له صلى الله عليه وسلم في استماع حديثه كأنه قيل هل أتاك حديثه أنا أخبرك به وإن اعتبر إتيانه قبل هذا وهو المتبادر من الإيجاز في الاقتصاص أليس قد أتاك حديثه وليس هل بمعنى قد على شيء من الوجهين وقوله تعالى:
* (إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى) *
* (إذ ناديه ربه بالواد المقدس طوى) * ظرف للحديث لا للإتيان لاختلاف وقتيهما وجوز كونه مفعول اذكر مقدرا وتقدم الكلام في الواد المقدس واختلاف القراء في طوى.
* (اذهب إلى فرعون إنه طغى) *
* (إذهب إلى فرعون) * على إرادة القول والتقدير وقال له أو قائلا له اذهب الخ وقيل هو تفسير للنداء أي ناداه اذهب وقيل هو على حذف أن المفسرة يدل عليه قراءة عبد الله أن اذهب لأن في النداء معنى القول وجوز أن يكون بتقدير أن المصدرية قبلها حرف جر * (إنه طغى) * تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به.
* (فقل هل لك إلى أن تزكى) *
* (فقل) * بعد ما أتيته * (هل لك إلى أن تزكى) * أي هل لك ميل إلى أن تتزكى فلك في موضع الخبر لمبتدأ محذوف وإلى أن تزكى متعلق بذلك المبتدأ المحذوف ونحوه قول الشاعر: فهل لكم فيها إلي فإنني * بصير بما أعيا النطاسي حذيما
قد يقال هل لك في كذا فيؤتى بفي ويقدر المبتدأ رغبة ونحوه مما يتعدى بها ومنهم من قدره هنا رغبة لأنها تعدى بها أيضا وقال أبو البقاء لما كان المعنى أدعوك جىء بإلى ولعله جعل الظرف متعلقا بمعنى الكلام أو بمقدر يدل عليه وتزكى بحذف إحدى التاءين أي تتطهر من دنس الكفر والطغيان وقرأ الحرميان وأبو عمرو بخلاف تزكى بتشديد الزاي وأصله كما أشرنا إليه تتزكى فأدغمت التاء الثانية في الزاي.
* (وأهديك إلى ربك فتخشى) *
* (وأهديك إلى ربك) * أي ارشدك إلى معرفته عز وجل فتعرفه * (فتخشى) * إذا الخشية لا تكون إلا بعد معرفته قال الله تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * وجعل الخشية غاية للهداية لأنها ملاك الأمر من خشيء الله تعالى أتى منه كل خير ومن أمن اجترأ على كل شر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة من خاف ادلج ومن ادلج بلغ المنزل وفي الاستفهام ما لا يخفى من التلطف في الدعوة والاستنزال عن العتو وهذا ضرب تفصيل لقوله تعالى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وتقديم التزكية على الهداية لأنها تخلية والفاء في قوله تعالى:
* (فأراه الاية الكبرى) *
* (فأريه الآية الكبرى) * فصيحة تفصح عن جمل قد طويت تعويلا على تفصيلها في موضع آخر كأنه قيل فهذب وكان كيت وكيت فأراه واقتصر الزمخشري في الحواشي على تقدير جملة فقال إن هذا معطوف على محذوف والتقدير فذهب فأراه لأن قوله تعالى اذهب يدل عليه فهو على نحو اضرب بعصاك الحجر فانبجست والآراء إما بمعنى التبصير أو بمعنى التعريف فإن اللعين حين أبصرها عرفها وادعاء سحريتها إنما كان إظهارا للتجلد ونسبتها إليه عليه الصلاة والسلام بالنظر إلى الظاهر كما أن نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى ولقد أريناه آياتنا بالنظر إلى الحقيقة والمراد بالآية الكبرى على ما روي عن ابن عباس قلب العصا حية فإنها كانت المقدمة والأصل والأخرى كالتبع لها وعلى ما روي عن مجاهد ذلك واليد البيضاء فإنهما باعتبار الدلالة كالآية الواحدة وقد عبر عنهما بصيغة الجمع في قوله تعالى: اذهب أنت وأخوك بآيات باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون وجوز أن يراد بها مجموع معجزاته عليه السلام والوحدة باعتبار ما ذكر والفاء لتعقيب أولها أو مجموعها باعتبار أولها وكونها كبرى باعتبار معجزات من قبله من الرسل عليهم السلام أو هو للزيادة المطلقة ولا يخفى بعده ويزيده بعدا ترتيب حشر السحرة بعد فإنه لم يكن إلا على إراءة تينك الآيتين وإدباره عن العمل بمقتضاهما وأما ما عداهما من التسع فإنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من
عشرين سنة وزعم غلاة
29

الشيعة أن الآية الكبرى علي كرم الله تعالى وجهه أراه إياه متطورة روحه الكريمة بأعظم طور وهو هذيان وراء طور العقل وطور النقل.
* (فكذب وعصى) *
* (وعصى) * الله تعالى بالتمرد بعد ما علم صحة الأمر ووجوب الطاعة أشد عصيان وأقبحه حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأسا وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عز وجل وترك العظمة التي يدعيها الطاغية ويقبلها منه فئته الباغية لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر فقط وفي جعل متعلق التكذيب موسى عليه السلام ومتعلق العصيان الله عز وجل ما ليس في جعلهما موسى كما قيل فكذب موسى وعصاه من الذم كما لا يخفى.
* (ثم أدبر يسعى) *
* (ثم أدبر) * تولى عن الطاعة * (يسعى) * أي ساعيا مجتهدا في إبطال أمره عليه السلام ومعارضة الآية وثم لأن إبطال ذلك وقيل أدبر يسعى هاربا من الثعبان فإنه روى أنه لما ألقى العصا انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون زراعا فوضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر فهرب فرعون وأحدث وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه وفي بعض الآثار أنها انقلبت حية وارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول يا موسى مرني بما شئت ويقول فرعون أنشدك بالذي أرسلك إلا أخذته فأخذه فعاد عصى وأنت تعلم أن هذا إن كان بعد حشر السحرة للمعارضة كما هو المشهور فلا تظهر صحة إرادته ههنا إذا أريد بالحشر بعد حشرهم وإن كان بعد التكذيب والعصيان وقبل الحشر فلا يظهر تراخيه عن الأولين نعم قيل أن ثم عليه للدلالة على استبعاد ادباره مرعوبا مسرعا مع زعمه الإلهية وقيل أريد بقوله سبحانه: * (ثم أدبر) * ثم أقبل من قولهم أقبل يفعل أي أنشأ لكن جعل الإدبار موضع الإقبال تمليحا وتنبيها على أنه كان عليه دمارا وإدبارا.
* (فحشر فنادى) *
* (فحشر) * أي فجمع السحرة لقوله تعالى فأرسل فرعون في المدائن حاشرين وقوله سبحانه فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى أي بما يكاد به من السحرة وآلاتهم وقيل جمع جنوده وجوز أن يراد جمع أهل مملكته * (فنادى) * في المجمع نفسه أو بواسطة المنادي وأيد الأول بقوله تعالى:
* (فقال أنا ربكم الاعلى) *
* (فقال أنا ربكم الأعلى) * وعلى الثاني فيه تقدير أي فقال يقول فرعون أنا ربكم الخ مع ما في الثاني من التجوز وفي بعض الآثار أنه قام فيهم خطيبا فقال تلك العظيمة وأراد اللعين تفضيل نفسه على كل من يلي أمورهم.
* (فأخذه الله نكال الاخرة والاولى) *
* (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى) * النكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم وهو التعذيب الذي ينكل من رآه أو سمعه ويمنعه من تعاطي ما يفضي إليه وهو نصب على أنه مصدر مؤكد كوعد الله وصبغة الله كأنه قيل نكل الله تعالى به نكال الآخرة والأولى وهو الإحراق في الآخرة والإغراق والإذلال في الدنيا وجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول مطلق لأخذ أي أخذه الله تعالى أخذ نكال الآخرة الخ وأن يكون مفعولا له أي أخذه لأجل نكال الخ وأن يكون نصبا بنزع الخافض أي أخذه بنكال الآخرة والأولى وإضافته إلى الدارين باعتبار وقوع نفس الأخذ فيهما لا باعتبار أن ما فيه من معنى المنع يكون فيهما فإن ذلك لا يتصور في الآخرة بل في الدنيا فإن العقوبة الأخروية تنكل من سمعها وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها فيها وأن يكون في تأويل المشتق حالا وإضافته على معنى في أي منكلا لمن رآه أو سمع به في الآخرة والأولى وجوز أن تكون الإضافة عليه لامية وحمل الآخرة والأولى على الدارين هو الظاهر وروي عن الحسن وابن زيد وغيرهما وعن ابن عباس وعكرمة والضحاك والشعبي أن الآخرة قولته: أنا ربكم الأعلى والأولى قولته ما علمت لكم من إله غيري وقيل بالعكس فهما كلمتان
30

وكان بينهما على ما قالوا أربعون سنة وقال أبو رزين الأولى حالة كفره وعصيانه والآخرة قولته * (أنا ربكم الأعلى) * وعن مجاهد أنهما عبارتان عن أول معاصيه وآخرها أي نكل بالجميع والإضافة على جميع ذلك من إضافة المسبب إلى السبب ومآل من يقول بقبول إيمان فرعون إلى هذه الأقوال وجعل ذلك النكال الإغراق في الدنيا وقد قدمنا الكلام في هذا المقام.
* (إن فى ذلك لعبرة لمن يخشى) *
* (إن في ذلك) * أي فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل وما فعل به * (لعبرة) * عظيمة * (لمن يخشى) * أي لمن شأنه أن يخشى وهو من شأنه المعرفة وهذا إما لأن من كان في خشية لا يحتاج للاعتبار أو ليشمل من يخشى بالفعل وم كان من شأنه ذلك على ما قيل وقوله تعالى:
* (أءنتم أشد خلقا أم السمآء بن‍اها) *
* (ءأنتم أشد خلقا) * خطاب للمخاطبين في جواب القسم أعني لتبعثن من أهل مكة المنكرين للبعث بناء على صعوبته في زعمهم بطريق التوبيخ والتبكيت بعدما بين كمال سهولته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى بقوله سبحانه: فإنما هي زجرة واحدة ونصب خلقا على التمييز وهو محول عن المبتدا أي أخلقكم بعد موتكم أشد أي أشق وأصعب في تقديركم * (أم السماء) * أي أم خلق السماء على عظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها وقوله تعالى: * (بن‍اها) * الخ بيان وتفصيل لكيفية خلقها المستفاد من قول تعالى أم السماء وفي عدم ذكر الفاعل فيه وفيما عطف من الأفعال من التنبيه على تعيينه وتفخيم شأنه عز وجل ما لا يخفى وقوله
سبحانه:
* (رفع سمكها فسواها) *
* (رفع سمكها) * بيان للبناء أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى سمت العلو مديدا رفيعا وجوز أن يفسر السمك بالثخن فالمعنى جعل ثخنها مرتفعا في جهة العلو ويقال للثخن سمك لما فيه من ارتفاع السطح الأعلى عن السطح الأسفل وإذا لوحظ هذا الامتداد من العلو للسفل قيل له عمق ونظير ذلك الدرج والدرك وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن ارتفاع السماء الدنيا عن الأرض خمسمائة عام وارتفاع كل سماء عن سماء وثخن كل كذلك والظاهر تقدير ذلك بالسير المتعارف وأن المراد بالعدد المذكور التحديد دون التكثير ونحن مع الظاهر إلا أن بمنع عنه مانع * (فسويها) * أي جعلها سواء فيما اقتضته الحكمة فلم يخل عز وجل قطعة منها عما تقتضيه الحكمة فيها ومن ذلك تزيينها بالكواكب وقيل تسويتها جعلها ملساء ليس في سطحها انخفاض وارتفاع وقيل جعلها بسيطة متشابهة الأجزاء والشكل فليس بعضها سطحا بعضها زاوية وبعضها خطا وهو قول بكريتها الحقيقية وإليه ذهب كثير وقالوا وحكاه الإمام لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار فأي ضرر في الدين ينشأ من كونها كرية وقيل تسويتها تتميمها بما يتم به كما لها من الكواكب والمتممات والتداوير وغيرها مما بين في علم الهيئة من قولهم سوى أمره أي أصلحه أو من قولهم استوت الفاكهة إذا نضجت وأنت تعلم أن هذا مع بنائه على اتحاد السموات والأفلاك غير معروف في الصدر الأول من المسلمين لعدم وروده عن صاحب المعراج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم ظهور الدليل عليه والأدلة التي يذكرها أهل الهيئة لتلك الأمور لا يخفى حالها ولذا لم يقل بما تقتضيه مخالفوهم من أهل الهيئة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
* (وأغطش ليلها وأخرج ضح‍اها) *
* (وأغطش ليلها) * أي جعله مظلما يقال غطش الليل وأغطشه الله تعالى كما يقال ظلم وأظلمه ويقال أيضا أغطش الليل كما يقال أظلم وجاء ليلة غطشاء وليل أغطش وغطش قال الأعشى: عقرت لهم ناقتي موهنا * فليلهم مدلهم غطش
وفي " البحر " عن كتاب اللغات في القرآن أغطش أظلم بلغة أنمار وأشعر * (وأخرج ضحاها) * أي أبرز نهارها والضحى في الأصل على ما يفهم من كلام الراغب انبساط الشمس وامتداد النهار ثم سمي به الوقت
31

المعروف وشاع في ذلك وتجوز به عن النهار بقرينة المقابلة وقيل الكلام على حذف مضاف أي ضحى شمسها أي ضوء شمسها وكنى بذلك عن النهار والأول أقرب وعبر عن النهار بالضحى لأنه أشرف أوقاتها وأطيبها وفيه من انتعاش الأرواح ما ليس في سائرها فكان أوفق لمقام تذكير الحجة على منكري البعث وإعادة الأرواح إلى أبدانها وقيل إنه لذلك كان أحق بالذكر في مقام الامتنان وإضافة الليل والضحى إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها وهي سماوية أو وهما إنما يحصلان بسبب حركتها على القول بحركتها لاتحادها مع الفلك أو وهما إنما يحصلان بسبب حركة الشمس في فلكها فيها على القول بأن السماء والفلك متغايران والمتحرك إنما هو الكوكب في الفل كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى كل في فلك يسبحون وإن الفلك ليس إلا مجرى الكوكب في السماء وقيل أضيفا إليها لأنهما أول ما يظهران منها إذ أول الليل بإقبال الظلام من جهة المشرق وأول النهار بطلوع الفجر وإقبال الضياء منه وفي " الكشاف " أضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوها واعترض بأن الليل ظل الأرض وأجيب بأنه اعتبار بمرأى الناظر كذلك كما أن زينة السماء الدنيا أيضا اعتبار بمرأى الناظر وقيل إضافتهما إليها باعتبا رأنهما إنما يحدثان تحتها وشملا بهذا الاعتبار ما لم يكد يخطر في أذهان العرب من ليل ونهار طول كل منهما ستة أشهر وهما ليل ونهار عرض تسعين حيث الدور رحوى وتعقب بأنهم قالوا إن ظل الأرض لمخروطي ينتهي إلى فلك الزهرة وهي في السماء الثالثة فالحصر غير تام وفيه نظر فتأمل وبالجملة الإضافة لأدنى ملابسة * (والأرض بعد ذلك) * الظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من خلق السماء وأغطاش الليل وإخراج النهار دون خلق السماء فقط وانتصاب الأرض بمضمر قيل على شريطة التفسير وقيل تقديره تذكر أو تدبر أو اذكر وستعلم ما في ذلك إن شاء الله تعالى ومعنى قوله تعالى: * (دحاها) * بسطها ومدها لسكنى أهلها وتقلبهم في أقطارها من الدحو أو الدحى بمعنى البسط وعليه قول أمية بن أبي الصلت: وبث الخلق فيها إذ دحاها * فهم قطانها حتى التنادي
وقيل دحاها سواها وأنشدوا قول زيد بن عمرو بن نفيل: وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها * بأيد وارسي عليها الجبالا
والأكثرون على الأول وأنشد الإمام بيت زيد فيه والظاهر أن دحوها بعد خلقها وقيل مع خلقها فالمراد خلقها مدحوة وروى الأول عن ابن عباس ودفع به توهم تعارض بين آيتين أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أن رجلا قال له آيتان في كتاب الله تعالى تخالف إحداهما الأخرى فقال إنما أتيت من قبل رأيك اقرأ: * (قال قل أئنكم لتفكرون بالذي خلق الأرض في يومين) * حتى بلغ ثم استوى إلى السماء وقوله تعالى:
* (والارض بعد ذلك دح‍اها) *
* (والأرض بعد ذلك دحاها) * قال خلق الله تعالى الأرض قبل أن يخلق السماء ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعدما خلق السماء وإنما قوله سبحانه دحاها بسطها وتعقبه الإمام بأن الجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي ويستحيل أن يكون هذا الجسم العظيم مخلوقا ولا يكون ظاهره مدحوا مبسوطا وأجيب أنه لعل مراد القائل بخلقها أولا ثم دحوها ثانيا خلق مادتها أولا ثم تركيبها وإظهارها على هذه الصورة والشكل مدحوة مبسوطة وهذا كما قيل في قوله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء) * وهي دخان فسواهن سبع سموات إن السماء خلقت مادتها أولا ثم سويت وأظهرت على صورتها اليوم وعن الحسن ما يدل على أنها كانت يوم خلقت قبل الدحو كهيئة الفهر
ويشعر بأنها لم تكن على عظمها اليوم وتعقبه بعضهم بشيء آخر وهو أنه يأبى ذلك قوله تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض
32

جميعا) * ثم استوى إلى السماء الآية فإنه يفيد أن خلق ما في الأرض قبل خلق السموات ومن المعلوم أن خلق ما فيها إنما هو بعد الدحو فكيف يكون الدحو بعد خلق السموات وأجيب بأن خلق في الآية بمعنى قدر أو أراد الخلق ولا يمكن أن يراد به فيها الإيجاد بالفعل ضرورة أن جميع المنافع الأرضية يتجدد إيجادها أولا فأولا سلمنا أن المراد الايجاد بالفعل لكن يجوز أن يكون المراد خلق مادة ذلك بالفعل ومن الناس من حمل مثم على التراخي الرتبي لأن خلق السماء أعجب من خلق الأرض وقال عصام الدين أن بعد ذلك هنا كما في قوله تعالى * (عتل بعد ذلك زنيم) * يعني فعل بالأرض ما فعل بعدما سمعت في السماء والمراد التأخير في الأخبار فخلق الأرض ودحوها وإخراج مائها ورعاها وإرساء الجبال عليها عنده قبل خلق السماء كل يقتضيه ظاهر آية البقرة وظاهر آية الدخان وأيد حمل البعدية على ما ذكر بأن حملها على ظاهرها مع حمل الإشارة على الإشارة إلى مجموع ما تقدم مما سمعت يلزم عليه أن اغطاش الليل وإبراز النهار كانا قبل خلق الأرض ودحوها وذلك مما لا يتسنى على تقدير أنها غير مخلوقة أصلا ومما يبعد على تقدير أنها مخلوقة غير عظيمة وأيضا قيل لو لم تحمل البعدية ما ذكره وقيل بنحو ما قال ابن عباس من تأخر الدحو عن خلق السماء مع تقدم خلق الأرض من غير دحو على خلقها لم تنحسن مادة الاشكال إذ آية الدخان ظاهرة في أن جعل الرواسي في الأرض قبل خلق السماء وتسويتها وهذه الآية إلى آخرها ظاهرة في أن جعل الرواسي بعد وبالجملة أنه قد اختلف أهل التفسير في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مأخر فقال ابن الطاشكبري نقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض واختاره جمع لكنهم قالوا إن خلق ما فيها مؤخر وأجابوا عما هنا وآية البقرة بأن الخلق فيها بمعنى التقدير أو بمعنى الإيجاد وتقدير الإرادة وأن البعدية ههنا لإيجاد الأرض وجميع ما فيها وعما هنا وآية الدخان بنحو ذلك فقدروا الإرادة في قوله تعالى خلق الأرض في يومين وكذا في قوله سبحانه وجعل فيها رواسي وقالوا يؤيد ما ذكر قوله تعالى فقال لها وللأرض أئتيا طوعا أو كرها قالتا أئينا طائعين فإن الظاهر أن المراد أئتيا في الوجود ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه قال سبحانه أئنكم لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا لأمر التكوين فأوجد سبع سماوات في يومين وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام ونكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الظاهر في سورتي البقرة والدخان على خلق السموات والعكس ههنا أن المقام في الأولين مقام الامتنان وتعداد النعم على أهل الكفر والايمان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة بالنظر إلى المخاطبين من الفريقين فكأنه قال سبحانه هو الذي دبر أمركم قبل السماء ثم خلق السماء والمقام هنا مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل انتهى وفي " الكشف " أطبق أهل التفسير أنه تم خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء في يومين إلا ما نقل الواحدي في " البسيط " عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها والكلام مع من فرق بين الإيجاد والدحو وما قيل إن دحو الأرض متأخر عن خلق السماء لا عن تسويتها يرد عليه بعد ذلك فإنه إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية والجواب بتراخي الرتبة لا يتم لما نقل من أطباق المفسرين فالوجه أن يجعل الأرض منصوبا بمضمر نحو تذكر وتدبر واذكر الأرض بعد ذلك وإن جعل مضمرا على شريطة التفسير جعل بعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيها على أنه قاصر في الدلالة عن الأول لكنه تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم وكان بعد ذلك بهذا
33

المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة وقد تستعمل بهذا المعنى وكذا الفاء وهذا لا ينافي قول الحسن أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى: * (كانتا رتقا ففتقناهما) * الآية فإنه يدل على أن كون السماء دخانا سابق على دحو الأرض وتسويتها وهو كذلك بل ظاهر قوله تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان يدل على ذلك وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال لمبطن بالرحمة والجمال وذوبها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات وأما ما نقله الواحدي عن مقاتل واختاره الإمام فلا إشكال فيه ويتعين ثم في سورتي البقرة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما روى أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الإثنين ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة ثم خلق آدم عليه السلام انتهى والذي أميل إليه أن تسوية السماء بما فيها سابقة على تسوية الأرض بما فيها لظهور أمر العلية في الأجرام العلوية وأمر المعلولية في الأجرام السفلية ويعلم تأويل ما ينافي ذلك مما سمعت أوما الخبر الأخير ففي صحته مقال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقد مر شيء مما يتعلق بهذا المقام وإنما أعدنا الكلام فيه تذكيرا لذوي الأفهام فتأمل والله تعالى الموفق لتحصيل المراد وقوله تعالى:
* (أخرج منها مآءها ومرع‍اها) *
* (أخرج منها ماءها) * بأن فجر منها عيونا وأجرى أنهارا * (ومرعاها) * يقع على الرعي بالكسر وهو الكنز والرعي بالفتح وهو المصدر وكذا على الموضع والزمان وزعم بعضهم أنه في الأصل للموضع ولعله أراد أنه أشهر معانيه والمناسب للمقام المعنى الأول لكنه قيل إنه خاص بما يأكله الحيوان غير الإنسان وتجوز به عن مطلق المأكول للإنسان وغيره فهو مجاز مرسل من قبيل المرسن وقال الطيبي يجوز أن يكون استعارة مصرحة لأن الكلام مع منكري الحشر بشهادة أأنتم أشد خلقا كأنه قيل أيها المعاندون المللزوزون في قرن البهائم في التمتع بالدنيا والذهول عن الآخرة بيان وتفسير لدحاها وتكملة له فإن السكنى لا تتأتى بمجرد البسط والتمهيد بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه وكلا الوجهين مقتضى لتجريد الجملة عن العاطف وقوله تعالى:
* (والجبال أرس‍اها) *
* (والجبال) * منصوب بمضمر يفسره قوله سبحانه: * (أرساها) * أي أثبتها وفيه تنبيه على أن الرسول المنسوب إليها في مواضع كثيرة من التنزيل ليس من
مقتضيات ذاتها وللفلاسفة المحدثين كلام في أمر الأرض وكيفية بدئها لا مستند لهم فيه إلا آثار أرضية يزعمون دلالتها على ذلك هي في أسفل الأرض عن ساحة القبول وقرأ عيسى برفع الأرض والحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال برفع الأرض والجبال وهو على ما قيل على الابتداء وتعقبه الزجاج بأن ذلك مرجوح لأن العطف على فعلية وأورد عليه أن قوله تعالى: * (بناها) * لكيفية خلق السماء وقوله سبحانه: * (رفع سمكها) * بيان للبناء وليس لدحو الأرض وما بعده دخل في شيء من ذلك فكيف يعطف عليه ما هو معطوف على المجموع عطف القصة على القصة والمعتبر فيه تناسب القصتين وهو حاصل هنا فلا ضير في الاختلاف بل فيه نوع تنبيه على ذلك وقيل إن جملة قوله تعالى * (والأرض) * الخ على القراءتين ليس معطوفة على قوله سبحانه: * (رفع سمكها) * لأنها لا تصلح بيانا لبناء السماء فلا بد من تقدير معطوف عليه وحينئذ يقدر جملة فعلية على قراءة الجمهور أي فعل ما فعل في السماء وجملة اسمية على قراءة الآخرين أي السماء وما يتعلق بها مخلوق له تعالى وجوز عطف الأرض بالرفع على السماء من حيث المعنى كأنه قيل السماء أشد خلقا والأرض بعد ذلك أي والأرض
34

بعدما ذكر من السماء أشد خلقا فيكون وزان قوله تعالى: * (دحاها) * الخ وزان قوله تعالى: * (بناها) * الخ وحينئذ فلا يكون بعد ذلك مشعرا بتأخر دحو الأرض عن بناء السماء وقوله تعالى:
* (مت‍اعا لكم ولانع‍امكم) *
* (متاعا لكم ولانعامكم) * قيل مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم لأن فائدة ما ذكر من الدحو إخراج الماء والمرعى واصلة إليهم ولأنعامهم فإن المرعى كما سمعت مجاز عما يأكله الإنسان وغيره وقيل مصدر مؤكد لفعله المضمر أي متعكم بذلك مختاعا أو مصدر من غير لفظه فإن قوله تعالى: * (أخرج منها ماءها ومرعاها) * في معنى متع بذلك وأورد على الأول أن الخطاب لمنكري البعث والمقصود هو تمتيع المؤمنين فلا يلائم جعل تمتيع الآخرين كالغرض فالأولى ما بعده وأجيب بأن خطاب المشافهة وإن كان خاصا بالحاضرين إلا أن حكمه عام كما تقرر في الأصول فالمآل إلى تمتيع الجنس وأيضا على المصدرية بفعله المقدر لا يدفع المحذور لكونه استئنافا لبيان المقصود ولا يخفى أن كون المقصود هو تمتيع المؤمنين محل بحث وقوله سبحانه:
* (فإذا جآءت الطآمة الكبرى) *
* (فإذا جاءت الطامة الكبرى) * الخ شروع في بيان معادهم أثر بيان أحوال معاشهم بقوله عز وجل متاعا الخ والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها على ما قيل كما ينبىء عنه لفظ المتاع والطامة أعظم الدواهي لأنه من طم بمعنى علا كما ورد في المثل جرى الوادي فطم على القرى وجاء السيل فطم الركي وعلوها على الدواهي غلبتها عليها فيرجع لما ذكر قيل فوصفها بالكبرى للتأكيد ولو فسرها كونها طامة بكونها غالبة للخلائق لا يقدرون على دفعها لكان الوصف مخصصا وقيل كونها طامة باعتبار أنها تغلب وتفوق ما عرفوه من دواهي الدنيا وكونها كبرى باعتبار أنها أعظم من جميع الدواهي مطلقا وقيل غير ذلك وأنت تعلم أن الطامة الكبرى صارت كالعلم للقيامة وروى كونها اسما من أسمائها هنا عن ابن عباس أيضا وعن الحسن أنها النفخة الثانية وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن القاسم بن الوليد الهمداني أنها الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وأخرجا عن عمرو بن قيس الكندي أنها ساعة يساق أهل النار إلى النار وفي معناه قول مجاهد هي إذا دفعوا إلى مالك خازن جهنم.
* (يوم يتذكر الإنس‍ان ما سعى) *
* (يوم يتذكر الإنسان ما سعى) * بدل كل أو بعض من إذا جاءت على ما قلي وقيل بدل من الطامة الكبرى فيكون مرفوع المحل وفتح لإضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين وتكون الطامة حقيقة التذكر والبروز لأن حسن العمل يغلب كل لذة وسواه كل مشقة وكذا بروز الجحيم مع الابتلاء به يغلب كل مشقة ومع النجاة عنه كل لذة ولا يخفى تعسفه وقيل ظرف لجاءت وعليه الطبرسي واستظهر أنه منصوب باعني تفسيرا للطامة الكبرى وما موصولة وسعى بمعنى عمل والعائد مقدر أي له والمراد يوم يتذكر كل أحد ما عمله من خير أو شر بأن يشاهده مدونا في صحيفته وقد كان نسبه من فرط الغفلة أو طول الأمد أو شدة ما لقي أو كثرته التي تعجز الحافظ عن الضبط لقوله تعالى: * (أحصاه الله) * ونسوه ويمكن أن يكون تذكره بوجه آخر وجوز أن تكون ما مصدرية أي يتذكر فيه سعيه.
* (وبرزت الجحيم لمن يرى) *
* (وبرزت الجحيم) * عطف على جاءت وقيل على يتذكر وقيل حال من الإنسان بتقدير قد أو بدونه والموصول بعد مغن عن العائد وكلا القولين على ما في الإرشاد على تقدير الجواب يتذكر الإنسان ونحوه وسيأتي إن شاء الله تعالى فلا تغفل ومعنى برزت أظهرت إظهارا بينا لا يخفى على أحد * (لمن يرى) * كائنا من كان يروى أنه يكشف عنها فتتلظى فيراها كل ذي بصر وخص بعض من بالكافر وليس بشيء وقرأت عائشة وزيد بن علي عكرمة ومالك بن دينار وبرزت مبنيا للفاعل مخففا لمن ترى بالتاء الفوقية على أن فيه ضمير جهنم كما في قوله تعالى: * (إذا رأتهم من مكان بعيد) * وإسناد الرؤية لها مجازا وهو حقيقة على أن يخلق الله تعالى ذلك فيها ويجوز
35

أن تكون خطابا لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لكل راء كقوله تعالى: * (ولو ترى) * إذ المجرمون أي لمن تراه من الكفار وقرأ أبو نهيك وأبو السماء وهرون عن أبي عمرو وبرزت مبنيا للمفعول مخففا وقوله تعالى:
* (فأما من طغى) *
* (فأما من طغى) * الخ جواب إذا على أنها شرطية لا ظرفية كما جوز على طريقة قوله تعالى: * (فاما يأتينكم مني هدي) * الآية وقولك إذا جاءك بنو تميم فاما
العاصي فاهنه وأما الطائع فاكرمه واختاره أبو حيان وقيل جوابها محذوف كأنه قيل فإذا جاءت وقع ما لا يدخل تحت الوصف وقوله سبحانه: * (فإما) * الخ تفصيل لذلك المحذوف وفي جعله جوابا غموض وهو وجه وجيه بيد أنه لا غموض في ذاك بعد تحقق استقامة أن يقال فإذا جاءت فإن الطاغي الجحيم مأواه وغيره في الجنة مثواه وزيادة أما لم تفد إلا زيادة المبالغة وتحقيق الترتيب والثبوت على كل تقدير وقيل هو محذوف لدلالة ما قبل والتقدير ظهرت الأعمال ونشرت الصحف أو يتذكر الإنسان ما سعى أو لدلالة ما بعد والتقدير انقسم الراؤن قسمين وليس بذاك أي فأما من عتا وتمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان حتى كفر.
* (وءاثر الحيواة الدنيا) *
* (وآثر) * أي اختار * (الحياوة الدنيا) * الفانية التي هي على جناح الفوات فانهمك فيما متع به فيها ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالايمان والطاعة.
* (فإن الجحيم هى المأوى) *
* (فإن الجحيم) * التي ذكر شأنها * (هي المأوى) * أي مأواه على ما رآه الكوفيون من أن ال في مثله عوض عن المضاف إليه الضمير وبها يحصل الربط أو المأوى له على رأي البصريين من عدم كونها عوضا ورابطا وهذا الحذف هنا للعلم بأن الطاغي هو صاحب المأوى وحسنه وقوع المأوى فاصلة وهو الذي اختاره الزمخشري. وهي أما ضمير فصل لا محل له من الإعراب أو ضمير جهنم مبتدأ والكلام دال على الحصر أي كأنه قيل فإن الجحيم هي مأواه أو المأوى له لا مأوى له سواها.
* (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى) *.
* (وأما من خاف مقام ربه) * أي مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى على أن الإضافة مثلها في رقود حلب أو وأما من خاف ربه سبحانه على أن لفظ مقام مقحم والكلام معه كناية عن ذلك وإثبات للخوف من الرب عز وجل بطريق برهاني بليغ نظير ما قيل في قوله تعالى: * (اكرمي مثواه) * وتمام الكلام في ذلك قد تقدم في سورة الرحمن * (ونهى النفس عن الهوى) * أي زجرها وكفها عن الهوى المردى وهو تلميل إلى الشهوات وضبطها بالطبر والتوطين على إيثار الخيرات ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها ولم يغتر بزخارفها وزينتها علما بوخامة عاقبتها وعن ابن عباس ومقاتل أنه الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب بين يدي ربه سبحانه فيخاف فيتركها وأصل الهوى مطلق الميل وشاع في الميل إلى الشهوة وسمي بذلك على ما قال الراغب لأنه يهوى بصاحبه في الدنيا إلى كل واهية وفي الآخرة إلى الهاوية ولذلك مدح مخالفه قال بعض الحكماء إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه وقال الفضيل أفضل الأعمال مخالفة الهوى وقال أبو عمران الميرتلي: فخالف هواها واعصها أن من يطع * هوى نفسه تنزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده * وترم به في مصرع أي مصرع
إلى غير ذلك وقد قارب أن يكون قبح موافقة الهوى وحسن مخالفته ضروريين إلا أن الشالم من من الموافقة قليل قال سهل لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الصديقين فطوبى لمن سلم منه.
* (فإن الجنة هى المأوى) *
* (فإن الجنة هي المأوى) * له لا غيرها والظاهر أن هذا التفصيل عام في أهل النار وأهل الجنة وعن ابن عباس أن الآيتين نزلتا في أبي عزيز بن عمير وأخيه مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه كان الأول طاغيا مؤثر الحياة الدنيا وكان مصعب خائفا مقام ربه ناهيا النفس عن الهوى وقد وقى
36

رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عن حتى نفذت المشاقص أي السهام في جوفه فلما رآه عليه الصلاة والسلام متشحطا في دمه قال عند الله تعالى احتسبك وقال لأصحابه لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب ولما أسر أخوه أبو عزيز ولم يشد وثاقه إكراما له وأخبر بذلك قال ما هولي بأخ شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا وفي " الكشاف " أنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد وعن ابن عباس أيضا أنهما نزلتا في أبي جهل وفي مصعب وقيل نزلت الأولى في النضر وابنه الحرث المشهورين بالغلو في الكفر والطغيان.
* (يسألونك عن الساعة أيان مرس‍اها) *
* (يسئلونك عن الساعة أيان مرساها) * أي متى إرساؤها أي إقامتها يريدون متى يقيمها الله تعالى ويكونها ويثبتها فالمرسي مصدر ميمي من سار بمعنى ثبت ومنه الجبال الرواسي وحاصل الجملة الاستفهامية السؤال عن زمان ثبوتها ووجودها وجوزأن يكون المرسى بمعنى المنتهى أي متى منتهاها ومستقرها كما أن مرسي السفينة حيث تنتهي إليها وتستقر فيه كذا قيل وتقدير الاستفهام بمتى يقتضي أن المرسى اسم زمان وقوله كما أن الخ ظاهر في أنه اسم مكان ولذا قيل الكلام على الاستعارة بجعل اليوم المتباعد فيه كشخص سائر لا يدرك ويوصل إليه ما لم يستقر في مكان فجعل وقت داركه مستقرا له فتدبر وقوله تعالى:
* (فيم أنت من ذكراها) *
* (فيم أنت من ذكراها) * إنكار ورد لسؤال المشركين عنها أي في أي شيء أنت من أن تذكر لهم وقتها وتعلمهم به حتى يسألوك بيانها كقوله تعالى: * (يسألونك) * كأنك حفى عنها فالاستفهام للإنكار وفيم خبر مقدم وأنت مبتدأ مؤخر ومن ذكراها على تقدير مضاف أي ذكري وقتها متعلق بما تعلق به الخبر وقيل فيم إنكار لسؤالهم وما بعده استئناف تعليل للإنكار وبيان لبطلان السؤال أي فيم هذا السؤال ثم ابتدىء فقيل أنت من ذكراها أي ارسالك وأنت خاتم الأنبياء المبعوث في نسم الساعة علامة من علامتها ودليل يدلهم على العلم بوقوعها عن قريب فحسبهم هذه المرتبة من العلم فمعنى قوله تعالى:
* (إلى ربك منته‍اهآ) *
* (إلى ربك منتهاها) * على هذا الوجه إليه تعالى يرجع منتهى علمها أي علمها بكنهها وتفاصيل أمرها ووقت وقوعها لا إلى أحد غيره سبحانه وإنما وظيفتهم أن يعلموا ياقترابها ومشارفتها وقد حصل لهم ذلك بمبعثك فما معنى سؤالهم عنها بعد ذلك وأما على الوجه الأول فمعناه إليه عز وجل انتهاه علمها ليس لأحد منه شيء كائنا ما كان فلأي شيء يسألونك عنها وقوله تعالى:
* (إنمآ أنت منذر من يخش‍اها) *
* (إنما أنت منذر من يخشاها) * عليه تقرير لما قبل من قوله سبحانه * (فيم أنت من ذكراها) * وتحقيق لما هو المراد منه وبيان لوظيفته عليه الصلاة والسلام في ذلك الشأن فإن إنكار كونه صلى الله عليه وسلم في شيء من ذكراها مما يوهم بظاهره أن ليس له عليه الصلاة والسلام أن يذكرها بوجه من الوجوه فأزيح ذلك ببيان أن المنفي عنه صلى الله عليه وسلم ذكراها لهم بتعيين وقتهما حسبما كانوا يسألونه عنها فالمعنى إنما أنت منذر من يخشاها ويخاف أهوالها وظيفتك الامتثال بما أمرت به من بيان اقترابها وتفصيل ما فيها من فنون الأهوال كما تحيط به لا معلم بتعيين وقتها الذي لم يفوض إليه فما لهم يسألونك عما لم تبعث له ولم يفوض إليك أمره وعلى الوجه الثاني هو تقرير لقوله تعالى أنت من ذكراها ببيان أن إرساله عليه الصلاة والسلام وهو خاتم الأنبياء عليهم السلام منذر بمجيء الساعة كما ينطق به قوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين إن كادت لتسبقني... " والظاهر على الأول أن القصر من قصر الموصوف على الفة والمعنى ما أنت إلا منذر لا معلم بالوقت مبين له وإنما ذكر صلة المنر إظهارا لكونها ذات مدخل في القصر لكون الكلام في القصر على منذر خاص ونفي إعلام خاص يقابله وكونه من قصر الصفة على الموصوف بناء على ما يتبادر إلى الفهم من كلام السكاكي أن المعنى إنما أنت منذر الخاشي دون من لا يخشى أي ما أنت منذر إلا من يخشى دون غيره غير مناسب للمقام على أنه
37

قيل عليه أن من يخشى من صلة منذر ليس من متعلق إنما في شيء ليجعل الجزء الأخير المقصور عليه الإنذار وهذا إن صح استلزم عدم صحة ما قرر لكن في صحته مقال إذ يستلزم أيضا أن لا يصح إنما هو غلام زيد لا عمرو وإنما هو ضارب عمرا لا زيدا مع شهرة استعمال ذلك من غير نكير فتأمل والظاهر على الثاني أن إنما لمجرد التأكيد زيادة في الاعتناء بشأن الخبر وليست للحصر إذ لا يتعلق به غرض عليه بحسب الظاهر على ما قيل وقوله تعالى:
* (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضح‍اها) *
* (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) * اما تقرير وتأكيد لما ينبىء عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به لا سيما على الوجه الثاني والمعنى كأنه يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلا قليلا وأما رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستبطاء مستعجلين بها وإن كان على نهج الاستهزاء بها ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلا عشية الخ وهذا الكلام على ما نقل عن الزمخشري له أصل وهو لم يلبثوا إلا ساعة من نهار عشيته أو ضحاها فوضع هذا المختصر موضعه وإنما أفادت الإضافة ذلك كما في " الكشف " من حيث أنك إذا قلت لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى احتمل أن تكون العشية من يوم والضحى من آخر فيتوهم الاستمرار من ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الآخر أما إذا قلت عشيته أو ضحاها لم يحتمل ذلك البتة وفي قولك ضحى تلك العشية ما يغني عن قولك عشية ذلك النهار أو ضحاه وقال الطيبي أنه من المحتمل أن يراد بالعشية أو الضحى كل اليوم مجازا فلما أضيف أفاد التأكيد ونفى ذلك الاحتمال وجعله من باب رأيته بعيني وهو حسن ولكن السابق أبعد من التكلف ولا منع من الجمع وزاد الإضافة حسنا كون الكلمة فاصلة واعتبر جمع كون اللبث في الدنيا وبعضهم كونه في القبور وجوز كونه فيهما واختار في الإرشاد ما قدمنا وقال إن الذي يقتضيه المقام اعتبار كونه بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقا للإنذار وردا لاستبطائهم والجملة على الوجه الأول حال من الموصول كأنه قيل تنذرهم مشبهين يوم يرونها في الاعتقاد بمن لم يلبث بعد الإنذار بها إلا تلك المدة اليسيرة وعلى الثاني مستأنفة لا محل لها من الإعراب هذا ولا يخفى عليك أن الوجه الثاني وإن كان حسنا في نفسه لكنه مما لا يتبادر إلى الفهم وعليه يحسن الوقف على فيم ثم يستأنف أنت من ذكراها لئلا يلبس وقيل إن قوله تعالى: * (فيم) * الخ متصل بسؤالهم على أنه بدل من جملة * (يسألونك) * الخ أو هو بتقدير القول أي يسألونك عن زمان قيام الساعة ويقولون لك في أي مرتبة أنت من ذكراها أي علمها أي ما مبلغ علمك فيها أو يسألونك عن ذلك قائلين لك في أي مرتبة أنت الخ والجواب عليه قوله تعالى * (إلى ربك منتهاها) * ولا يخفى ضعف ذلك وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله تعالى عليه * (فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها) * فانتهى عليه الصلاة والسلام فلم يسأل بعدها وأخرج النسائي وغيره عن طارق بن شهاب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها فكف عنها وعلى هذا فهو تعجيب من كثرة ذكره صلى الله عليه وسلم لها كأنه قيل في أي شغل واهتمام أنت من ذكراها والسؤال عنها والمعنى أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها ونظر فيه ابن المنير بأن قوله عز وجل: * (يسألونك) * كأنك حفي عنها يرده إذ المراد أنك لا تحتفى بالسؤال عنها ولا تهتم بذلك وهم يسألونك كما يسأل الحفي عن الشيء أي الكثير السؤال عنه وأجيب بأنه يحتمل أنه لم يكن منه صلى الله عليه وسلم أو لا احتفاه ثم كان وإن سؤالهم هذا ونزول الآية بعد وقوع الاحتفاء وأنت تعلم ما في ذلك من البعد وقرأ أبو جعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وابن مقسم وأبو عمرو في رواية منذر بالتنوين والأعمال وهو الأصل في مثله بعد اعتبار
38

المشابهة والإضافة للتخفيف فلا ينافي أن الأصل في الأسماء عدم الأعمال والاعمال عارض للشبه والوصف عند إعماله وإضافته للتخفيف صالح للحال والاستقبال وإذا أريد الماضي فليس إلا الإضافة كقولك هو منذر زيد أمس وهو هنا على ما قيل للحال لمقارنة يخشى ولا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم منذر في الماضي والمستقبل حتى يقال المناسب لحال الرسالة الاستمرار ومثله يجوز فيه الاعمال وعدمه ثم المراد بالحال حال الحكم لا حال التكلم وفي ذلك في كتب الأصول فلا تغفل والله تعالى أعلم.
سورة عبس
وتسمى سورة الصاخة وسورة السفرة وسميت في غير كتاب سورة الأعمى وهي مكية بلا خلاف وآيها اثنتان وأربعون في الحجازي والكوفي وإحدى وأربعون في البصري وأربعون في الشامي والمدني الأول ولما ذكر سبحانه فيما قبلها إنما أنت منذر من يخشاها ذكر عز وجل في هذه من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه فقال عز وجل من قائل:
* (عبس وتولى * أن جآءه الاعمى) *
* (عبس وتولى * إن جاءه الأعمى) * الخ روى أن ابن أم مكتوم وهو ابن خال خديجة واسمه عمرو بن قيس بن زائدة بن جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤي القرشي وقيل عبد الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري والأولى أكثر وأشهر كما في " جامع الأصول " وأم مكتوم كنية أمه واسمها عاتكة بنت عبد الله المخزومية وغلط الزمخشري في جعلها في " الكشاف " جدته وكان أعمى وعمى بعد نور وقيل ولد أعمى ولذا قيل لأمه أم مكتوم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يناجيهم ويدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى وكرر ذلك ولم يعلم تشاغله بالقوم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت فكان رسول الله عليه الصلاة والسلام يكرمه ويقول إذا رآه مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول هل لك من حاجة واستخلفه صلى الله عليه وسلم على المدينة فكان يصلي بالناس ثلاث عشرة مرة كما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب من أهل العلم بالسير ثم استخلف بعده أبا لبابة وهو من المهاجرين الأولين هاجر على الصحيح قبل النبي صلى الله عليه وسلم ووهم القرطبي في زعمه أنه مدني وأنه لم يجتمع بالصناديد المذكورين من أهل مكة وموته قيل بالقادسية شهيدا يوم فتح المدائن أيام عمر رضي الله تعالى عنه ورآه أنس يومئذ وعليه درع وله راية سوداء وقيل رجع منها إلى المدينة فمات بها رضي الله تعالى عنه وضمير عبس وما بعده للنبي صلى الله عليه وسلم وفي التعبير عنه عليه الصلاة والسلام بضمير الغيبة إجلال له صلى الله عليه وسلم لإيهام أن من صدر عنه ذلك غيره لأنه لا يصدر عنه صلى الله عليه وسلم مثله كما أن في التعبير عنه صلى الله عليه وسلم بضمير الخطاب في قوله سبحانه:
* (وما يدريك لعله يزكى) *
* (وما يدريك لعله يزكى) * ذلك لما فيه من الإيناس بعد الإيحاش والإقبال بعد الإعراض والتعبير عن ابن أم مكتوم بالأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وتشاغله بالقوم وقيل إن الغيبة أولا والخطاب ثانيا لزيادة الإنكار وذلك كمن يشكو إلى الناس جانيا جني عليه ثم يقبل على الجاني إذا حمى على الشكاية مواجها بالتوبيخ وإلزام الحجة وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك لأنه وصف يناسب الإقبال عليه والتعطف وفيه أيضا دفع إيهام الاختصاص بالأعمى المعني وإيماء إلى أن كل
39

ضعيف يستحق الإقبال من مثله على أسلوب لا يقضي القاضي وهو غضبان وأن بتقدير حرف الجر أعني لام التعليل وهو معمول لأول الفعلين على مختار الكوفيين وثانيهما على مختار البصريين وكليهما معا على مذهب الفراء نعم هو بحسب المعنى علة لهما بلا خلاف أي عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك وقرأ زيد بن علي عبس بتشديد الباء للمبالغة لا للتعدية وهو والحسن وأبو عمران الجوني وعيسى آن بهمزة ومدة بعدها وبعض القراء بهمزتين محققتين والهمزة في القرائتين للاستفهام الإنكاري ويوقف على تولي والمعنى إلا إن جاء الأعمى فعل ذلك وضمير لعله للأعمى والظاهر أن الجملة متعلقة بفعل الدراية على وجه سد مسد مفعوله أي أي شيء يجعلك داريا بحال هذا الأعمى لعله يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أوضار الإثم.
* (أو يذكر فتنفعه الذكرى) *
* (أو يذكر) * أي يتعظ * (فتنفعه الذكرى) * أي ذكراك وموعظتك والمعنى أنك لا تدري ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر ولو دريت لما كان الذي كان والغرض نفي دراية أنه يزكي أو يذكر والترجي راجع إلى الأعمى أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ما قيل دلالة على أن رجاء تزكيه أو كونه ممن يرجى منه ذلك كاف في الامتناع من العبوس والإعراض كيف وقد كان استركاؤه محققا ولما هضم من حقه في تعلق الرجاء به لا التحقق اعتبر متعلق التزكي بعض الأوضار ترشيحا لذلك وفيه إظهار ما يقتضي مقام العظمة ههنا من إطلاق التزكي وحمله على ما ينطلق عليه الاسم لا الكامل وقال بعضهم متعلق الدراية محذوف أي ما يدريك أمره وعاقبة حاله ويطلعك على ذلك وقوله سبحانه * (لعله) * الخ استئناف وارد لبيان ما يلوح به ما قبله فإن مع إشعاره بأن له شأنا منافيا للإعراض عنه خارجا عن دراية الغير وإدرائه مؤذن بأنه تعالى يدريه ذلك واعتبر في التزكي الكمال فقال أي لعله يتطهر بما يقتبس منك من أوضار الإثم بالكلية أو يتذكر فتنفعه موعظتك إن لم تبلغ درجة التزكي التام ولعل الأول أبعد مغزى وقدم التزكي على التذكر لتقدم التخلية على التحلية وخص بعضهم الثاني بما إذا كان يتعلمه من النوافر والأول بما إذا كان سوى ذلك وهو كما ترى وفي الآية تعريض وإشعار بأن من تصدى صلى الله عليه وسلم لتزيكتهم وتذكيرهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلا فهي كقولك لمن يقرر مسألة لمن لا يفهمها وعنده آخر قابل لفهمها لعل هذا يفهم ما تقرر فإنه يشعر بأنه قصد تفهيم غيره وليس بأهل لما قصده وقيل جاء التعريض من جهة أن المحدث عنه كان متزكيا من الآثام متعظا وقيل ضمير لعله للكافر والترجي راجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي إنك طمعت في تزكيه بالإسلام وتذكره بالموعظة ولذلك أعرضت عن غيره فما يدريك أن ما طمعت فيه كائن وضعف بعدم تقدم ذكر الكافر وبإفراد الضمير والظاهر جمعه أي بناء على المشهور في أن من تشاغل عليه الصلاة والسلام به كان جمعا وجاء في بعض الروايات أنه كان واحدا وقرأ الأعرج وعاصم في رواية أو يذكر بسكون الذال وضم الكاف وقرأ الأكثر فتنفعه بالرفع عطفا على يذكر وبالنصب قرأ
عاصم في المشهور والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وهو عند البصريين بإضمار أن بعد الفاء وعند الكوفيين في جواب الترجي وهو كالتمني عندهم ينصب في جوابه وفي " الكشف " أن النصب يؤيد رجوع ضمير لعله على الكافر لإشمام الترجي ومعنى التمني لبعد المرجو من الحصول أي بالنطر إلى المجموع إذ قد حصل من الباس وعلى السابق وجهه ترشيح معنى الهضم فتذكر.
* (أما من استغنى) *
* (أما من استغنى) * أي عن الايمان وعما عندك من العلوم والمعارف التي ينطوي عليها القرآن وفي معناه ما قيل استغنى بكفره عما يهديه وقيل أي وأما من كان ذا ثروة وغنى وتعقب بأنه لو كان كذلك لذكر الفقر في مقابله وأجيب بما ستعمله إن شاء الله تعالى:
* (فأنت له تصدى) *
* (فأنت له تصدى) * أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه والاهتمام بإرشاده واستصلاحه وفيه مزيد تنفير له صلى الله عليه وسلم عن مصاحبتهم
40

فإن الإقبال على المدبر مخل بالمروءة ومن هنا قيل: لا أبتغي وصل من لا يبتغي صلتي * ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
والله لو كرهتا كفى مصاحبتي * يوما لقلت لها عن صحبتي بيني
وقرأ الحرميان تصدى بتشديد الصاد على أن الأصل تتصدى فقلبت التاء صادا وأدغمت وقرأ أبو جعفر تصدى بضم التاء وتخفيف الصاد مبنيا للمفعول أي تعرض ومعناه يدعوك إلى التصدي والتعرض له داع من الحرص ومزيد الرغبة في إسلامه، وأصل تصدى على ما في " البحر " تصدد من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك يقال داري صدد داره أي قبالتها وقيل من الصدى وهو العطش وقيل من الصدى وهو الصوات المعروف.
* (وما عليك ألا يزكى) *
* (وما عليك ألا يزكى) * وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم فما نافية والجملة حال من ضمير تصدى والممنوع عنه في الحقيقة الإعراض عمن أسلم لا الإقبال على غيره والاهتمام بأمره حرصا على إسلامه ويجوز أن تكون ما استفهامية للإنكار أي أي شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله النفي أيضا.
* (وأما من جآءك يسعى) *
* (وأما من جاءك يسعى) * أي حال كونه مسرعا طالبا لما عندك من أحكام الرشد وخصال الخير.
* (وهو يخشى) *
* (وهو يخشى) * أي يخاف الله تعالى وقيل أذية الكفار في الإتيان وقيل العثار والكبوة إذ لم يكن معه قائد والجملة حال من فاعل يسعى كما أن جملة يسعى حال من فاعل جاءك واستظهر الأفاضل أن النظم الجليل من الاحتباك ذكر الغنى أو لا للدلالة على الفقر ثانيا والمجيء والخشية ثانيا للدلالة على ضدهما أولا وكأ حمل استغنى على ما نقل أخيرا واستشعر ما قيل عليه فاحتاج لدفعه إلى هذا التكلف وعدم الاحتياج إليه على ما نقلناه في غاية الظهور.
* (فأنت عنه تلهى) *
* (فأنت عنه تلهى) * تتشاغل يقال لهي عنه كرضي ورمي والنهي وتلهى. وفي تقديم ضميره عليه الصلاة والسلام على الفعلين تنبيه على أن مناط الإنكار خصوصيته عليه الصلاة والسلام وتقديم له وعنه قيل للتعريض بالاهتمام بمضمونهما وقيل للعناية لأنهما منشأ العتاب وقيل للفاصلة وقيل للحصر وذكر التصدي في المستغني دون الاشتغال به وهو المقابل للتلهي عن المسرع الخاشي والتلهي عنه دون عدم التصدي له وهو المقابل للتصدي لذلك قيل للاشعار بأن العتاب للاهتمام بالأول لا للاشتغال به إذ الاشتغال بالكفار غير ممنوع وعلى الاشتغال عن الثاني لا لأنه لا اهتمام له صلى الله عليه وسلم في أمره إذ الاهتمام غي رواجب لأنه عليه الصلاة والسلام ليس إلا منذرا وقرأ البزي عن ابن كثير عنه و * (تلهى) * بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل وأبو جعفر * (تلهى) * بضم التاء مبنيا للمفعول أي يشغلك الحرص على دعاء الكافر للإسلام وطلحة تتلهى بتاءين وعنه بتاء واحدة وسكون اللام.
* (كلا إنها تذكرة) *
* (كلا) * مبالغة في إرشاده صلى الله عليه وسلم إلى عدم معاودة ما عوتب عليه صلى الله عليه وسلم وقد نزل ذلك كما في خبر رواه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس بعد أن قضى عليه الصلاة والسلام نجواه وذهب إلى أهله وجوز كونه إرشادا بليغا إلى ترك المعاتب عليه عليه الصلاة والسلام بناء على أن النزول في أثناء ذلك وقبل انقضائه وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم بعدما عبس في وجه فقير ولا تصدى لغني وتأدب الناس بذلك أدبا حسنا فقد روى عن سفيان الثوري أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء والضمير في قوله تعالى: * (إنها) * للقرآن العظيم والتأنيث لتأنيث الخبر أعني قوله سبحانه: * (تذكرة) * أي موعظة يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها وكذا الضمير في قوله عز وجل:
* (فمن شآء ذكره) *
* (فمن شاء ذكره) * والجملة المؤكدة تعليل لما أفادته كلا ببيان علو رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه من تصدى عليه الصلاة واللاسم له
41

والجملة الثانية اعتراض جيء به للترغيب في القرآن والحث على حفظه أو الاتعاظ به واقتران الجملة المعترض بها بالفاء قد صرح به ابن مالك في " التسهيل " من غير
نقل اختلاف فيه كلام الزمخشري في " الكشاف " عند الكلام على قوله تعالى: * (فاسألوا أهل الذكر) * نص في ذلك نعم قيل إنه قيل له فمن شاء ذكره اعتراض فقال لا لأن الاعتراض شطه أن يكون بالواو أو بدونه فأما بالفاء فلا أي وهو استطراد لكن تعقب بأن النقل لمنافاته ذلك ليس بثبت ويمكن أن يكون في القوم من ينكر ذلك فوافقه تارة وخالفه أخرى وما ألطف قول السعدي في التلويح الاعتراض يكون بالواو والفاء. فاعلم فعلم المرء ينفعه
هذا وقيل الضمير الأول للسورة أو للآيات السابقة والثاني للتذكرة والتذكير لأنها بمعنى الذكر والوعظ أو لمرجع الأول والتذكير باعتبار كون ذلك قرآنا ورجح بعدم ارتكاب التأويل قبل الاحتياج إليه وتعقب بأنه ليس بذاك فإن السورة أو الآيات وإن كانت متصفة بماسيأتي إن شاء الله تعالى من الصفات الشريفة لكنها ليست مما ألقى على من استغنى عنه واستحق بسبب ذلك ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الدعاء عليه والتعجب من كفره المفرط لنزولها بعد الحادثة وجوز كون الضميرين للمعاتبة الواقعة وتذكير الثاني لكونها عتابا وفيه أنه يأباه الوصف بالصفات الآتية وإن كان باعتبار أن العتاب وقع بالآيات المذكورة قبل وهي متصفة بما ذكر جاءما سمعت آنفا وقيل لك أن تجعلهما للدعوة إلى الإسلام وتذكير الثاني لكونهما دعاء وهذا على ما فيه مما يأباه المقام وقوله تعالى:
* (فى صحف مكرمة) *
* (في صحف) * متعلق بمضمر هو صفة لتذكرة أو خبر ثان لأن أي كائنة أو مثبتة في صحف والمراد به الصحف المنتسخة من اللوح المحفوظ وعن ابن عباس هي اللوح نفسه وهو غير ظاهر وقيل الصحف المنزلة على الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى: * (وأنه لفي زبر الأولين) * وقيل صحف المسلمين على أنه إخبار بالغيب فإن القرآن بمكة لم يكن في الصحف وإنما كان متفرقا في الدفاف والجريد ونحوهما وأول ما جمع في صحيفة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو كما ترى * (مكرمة) * عند الله عز وجل:
* (مرفوعة مطهرة) *
* (مرفوعة) * أي في السماء السابعة كما قال يحيى بن سلام أو مرفوعة القدر كما قيل * (مطهرة) * منزهة عن مساس أيدي الشياطين أو عن كل دنس على ما روى عن الحسن وقيل عن الشبه والتناقص والأول قيل مأخوذ من مقابلته بقوله تعالى:
* (بأيدى سفرة) *
* (بأيدي سفرة) * أي كتبة من الملائكة عليهم السلام كما قال مجاهد وجماعة فإنهم ينسخون الكتب من اللوح وهو جمع سافر أي كاتب والمصدر السفر كالضرب وعن ابن عباس هم الملائكة المتوسطون بين الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام على أنه جمع سافر أيضا بمعنى سفير أي رسول وواسطة والمشهور في مصدره بهذا المعنى السفارة بكسر السين وفتحها وجاء فيه السفر أيضا كما في " القاموس " وقيل هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم سفراء بين الله تعال والأمة أو لأنهم يكتبون الوحي ولا يخفى بعده فإن الأنبياء عليهم السلام وظيفتهم التلقي من الوحي لا الكتب لما يوحى على أن خاتمهم صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتب القرآن وتعليم الشرائع والأحكام لا مجرد السفارة إليهم وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب بن منبه أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قيل لأنهم سفراء ووسائط بينه عليه الصلاة والسلام وبين سائر الأمة وقيل لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير والتعليم والتعلم وفي رواية عن قتادة أنهم القراء وكان القولين ليس بالمعول عليه وقد قالوا هذه اللفظة مختصة بالملائكة عليهم السلام لا تكاد تطلق على غيرهم وإن جاز الإطلاق بحسب اللغة ومادتها موضوعة بجميع تراكيبها لما يتضمن الكشف كسفرت المرأة إذ كشفت القناع عن وجهها والباء قيل متعلقة بمطهرة
42

وقيل بمضمر هو صفة أخرى لصحف.
* (كرام بررة) *
* (كرام) * أي أعزاء على الله تعالى معظمين عنده عز وجل فهو من الكرامة بمعنى التوقير أو متعطفين على المؤمنين يستغفرون لهم ويرشدونهم إلى ما فيه الخير بالإلهام وينزلون بما فيه تكميلهم من الشرائع فهو من الكرم ضد اللؤم * (بررة) * أي أتقياء وقيل مطيعين لله تعالى من قولهم فلان يبر خالقه أي يطيعه وقيل صادقين من بر في يمينه وهو جمع بر لا غير وأما إبرار فيكون جمع بركوب وإرباب وجمع بار كصاحب وأصحاب وإن منعه بعض النحاة لعدم إطراده واختص على ما قيل الجمع الأول بالملائكة والثاني بالآدميين في القرآن ولسان الشارع صلى الله عليه وسلم وكان ذلك لأن الإبرار من صيغ القلة دون البررة ومتقو الملائكة أكثر من متقي الآدميين فناسب استعمال صيغة القلة وإن لم ترد حقيقتها في الآدميين دونهم وقال الراغب خص البررة بهم من حيث أنه أبلغ من إبرار فإنه جمع بر وإبرار جم بار وبر أبلغ من بار كما أن عدلا أبلغ من عادل وكأنه عنى أن الوصف ببر أبلغ لكونه من قبيل الوصف بالمصدر من الوصف ببار لكن قد سمعت أن إبرارا يكون جمع بر كما يكون جمع بار وأيضا في كون الملائكة أحق بالوصف بالأبلغ بالنسبة إلى الآدميين مطلقا بحث وقيل إن الأبرار أبلغ من البررة إذ هو جمع بار والبررة جمع بر وبار أبلغ منه لزيادة بنيته ولما كانت صفات الكمال في بني آدم تكون كاملة وناقصة وصفوا بالأبرار إشارة إلى مدحهم بأكمل الأوصاف وأما الملائكة فصفات المال فيهم لا تكون ناقصة فوصفوا بالبررة لأنه يدل على أصل الوصف بقطع النظر عن المبالغة فيه لعدم احتياجهم لذلك وإشارة لفظيلة البشر لما في كونهم إبرارا من المجاهدة وعصيان داعي الجبلة وفيه ما لا يخفى ومن استعمال البررة في الملائكة ما أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران.
* (قتل الإنس‍ان مآ أكفره) *
* (قتل الإنسان) * دعاء عليه بأشنع الدعوات وأفظعها * (ما أكفره) * تعجيب من إفراطه في الكفران وبيان لاستحقاقه الدعاء عليه والمراد به إما من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال عليه والايمان به وإما الجنس باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده ورجح هذا بأن الآية نزلت على ما أخرج ابن المنذر عن عكرمة في عتبة بن أبي لهب غاضب أباه فأسلم ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كافر برب النجم إذا هوى فقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم ابعث عليه كلبك حتى يفترسه " فلما كان في أثناء الطريق ذكر الدعاء فجعل لمن معه ألف دينار أن أصبح حيا فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حول فأقبل أسد إلى الرحال ووثب فإذا هو فوقه فمزقه فكان أبو يندبه ويبكي عليه ويقول ما قال محمد صلى الله عليه وسلم شيئا قد إلا ان وسيأتي إن شاء الله تعالى خبر في هذه القصة أصول من هذا الخبر فلا تغفل ثم أن هذا كلام في غاية الإيجاز وقد قال جار الله لا ترى أسلوبا أغلظ منه ولا أدل على سخط ولا أبعد شوطا في المذمة مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأئمة على قصر متنه حيث اشتمل على ما سمعت من الدعاء مرادا به إذ لا يتصور منه تعالى لازمه وعلى التعجب المراد به لاستحالته عليه سبحانه التعجيب لكل سامع وقال الإمام أن الجملة الأولى تدل على استحقاقهم أعظم أنواع العقاب عرفا والثانية تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات شرعا ولم يسمع ذلك قبل نزول القرآن وما نسب إلى امرىء القيس من قوله: يتمنى المرء في الصيف الشتا * فإذا جاء الشتا أنكره
فهو لا يرضى بحال واحد * قتل الإنسان ما أكفره
43

لا أصل له ومن له أدنى معرفة بكلام العرب لا يجهل أن قائل ذلك مولد أراد الاقتباس لا جاهلي وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى: * (قتل الإنسان) * خبرا عن أنه سيقتل الكفار بإنزال آية القتال وعبر بالماضي مبالغة في أنه سيتحقق ذلك وليس بيء ونحوه ما قيل إن ما استفهامية أي أي شيء أكفره أي جعله كافرا بمعنى لا شيء يسوع له أن يكفر وقوله تعالى:
* (من أى شىء خلقه) *
* (من أي شيء خلقه) * شروع في بيان إفراطه في الكفران بتفصيل ما أفاض عز وجل عليه من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره من فنون النعم الموجبة لأن تقابل بالشكر والطاعة مع إخلافه بذلك والاستفهام قيل للتحقير وذكر الجواب أعني قوله تعالى:
* (من نطفة خلقه فقدره) *
* (من نطفة خلقه) * لا يقتضي أنه حقيقي لأنه ليس بجواب في الحقيقة بل على صورته وهو بدل من قوله سبحانه من أي شيء خلقه وجوز أن يكون للتقرير والتحقير مستفاد من شيء المنكر وقيل التحقير يفهم أيضا من قوله سبحانه من نطفة الخ أي من أي شيء حقير مهين خلقه من نطفة مذرة خلقه * (فقدره) * فهيأه لمايصلح ويليق به من الأعضاء والأشكال فالتقدير بمعنى التهيئة لما يصلح ولذا ساغ عطفه بالفاء دون التسوية لأن الخلق بمعنى التقدير بهذا المعنى أو يتضمنه فلا تصلح الفاء وجوز أن يكون هذا تفصيلا لما أجمل أولا في قوله تعالى: * (من أي شيء خلقه) * أي فقدره أطوارا إلى أن أتم خلقه.
* (ثم السبيل يسره) *.
* (ثم السبيل يسره) * أي ثم سهل مخرجه من البطن كما جاء في رواية عن ابن عباس بأن فتح فم الرحم ومدد الأعصاب في طريقه ونكس رأسه لأسفل بعد أن كان في جهة العلو وعن ابن عباس أيضا وقتادة وأبي صالح والسدي المراد بالسبيل سبيل النظر القويم المؤدي إلى الايمان وتيسيره له هو هبة العقل وتمكينه من النظر وقال مجاهد والحسن وعطاء وهو رواية عن الحبر أيضا هو سبيل الهدي والضلال أي سهل له الطريق الذي يريد سلوكه من طريق الخير والهدي وطريق الشر والضلال بأن أقدره عز وجل على كل ومكنه منه والإقدار على المراد نعمة ظاهرة بقطع النظر عن خيرته وشريته فلا يرد عليه أنه كيف يعد تسهيل طريق الشهر والضلال من النعم وقيل أنه عد منها لأنه لو لم يكن مسهلا كسبيل الخير لم يستحق المدح والثواب بالإعراض عنه وتركه وهو مبني على القول بأن ترك المحرم كالزنا مع عدم القدرة عليه لعنة مثلا لا يثاب عليه وقيل يثاب ويمدح عليه إذا قدر التارك في نفسه أنه لو تمكن لم يفعل وقال بعضهم العجز عن الشر نعمة وأنشد: جكونه شكر ابن نعمت كزارم * كه زور مردم أزاري ندارم
ونصب لسبيل بمضمر يفسره الظاهر وفيه مبالغة في التيسير وتمكين في النفس بسبب التكرير قيل وفي تعريفه باللام دون الإضافة إشعار بعمومه فأنه لو قيل سبيله أوهم أنه على التوزيع وإن لكل إنسان سبيلا يخصه وخص بعضهم هذه النكتة بالمعنى الأخير للسبيل فتدبر وعلى هذا المعنى قيل إن فيه إيماء إلى أن الدنيا طريق والمقصد غيرها لما أشعرت به الآية من أن الميسر سبيل المكلفين الذي يترتب عليه الثواب والعقاب وفيه خفاء وأيا ما كان فالضمير المنصوب في يسره للسبيل وليس في التفكيك لبس حتى يكون نقصا في البيان.
* (ثم أماته فأقبره) *
* (ثم أماته فأقبره) * أي جعله ذا قبر توارى فيه جيفته تكرمة له ولم يجعله مطروحا على الأرض يستقذره من يراه وتقتسمه السباع والطير إذا ظفرت كسائر الحيوان والمراد من جعله إذا قبر أمره عز وجل بدفنه يقال قبر الميت إذا دفنه بيده ومنه قول الأعشى: لو أسندت ميتا إلى نحرها * عاش ولم ينقل إلى قابر
وأقبره إذا أمر بدفنه أو مكن منه ففي الآية إشارة إلى مشروعية دفن الإنسان وهي مما لا خلاف فيه وأما دفن غيهر من الحيوانات فقيل هو مباح لا مكروه وقد يطلب لأمر مشروع يقتضيه كدفع أذى جيفته مثلا وعد الإماتة
44

من النعم لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم وخصت هذه النعم بالذكر لما فيها من ذكر أحوال الإنسان من ابتدائه إلى انتهائه وما تتضمن من النعم التي
هي محض فضل من الله تعالى فإذا تأمل ذلك العاقل علم قبح الكفر وكفران نعم الرب سبحانه وتعالى فشكره جل وعلا بالايمان والطاعة.
* (ثم إذا شآء أنشره) *
* (ثم إذا شاء أنشره) * أي ءذا شاء إنشاره أنشره على القاعدة المعروفة في حذف مفعول المشيئة وفي تعليق الإنشار بمشيئته تعالى إيذان بأن وقته غير معين أصلا بل هو تابع لها وهذا بخلاف الاماتة فإن وقتها معين إجمالا على ما هو المعهود في الأعمار الطبيعية وكذا الحال في وقت الاقبار بل هو أظهر في ذلك وقرأ شعيب بن الحجاب كما في " كتاب اللوامح " وابن أبي حمزة كما في تفسير بن عطية نشره بدون همزة وهما لغتان في الاحياء وقوله تعالى:
* (كلا لما يقض مآ أمره) *
* (كلا) * ردع للإنسان عما هو عليه من كفران النعم البالغ نهايته وقوله سبحانه: * (لما يقض ما أمره) * بيان لسبب الردع ولما نافية جازمة ونفيها غير منقطع وما موصولة وضمير أمره إما للإنسان كالمستتر في يقض والعائد إلى الموصول محذوف أي به أو للموصول على الحذف والإيصال والعائد إلى الموصول والمراد بما أمره جميع ما أمره والمعنى على ما قال غير واحد لم يقض من أول زمان تكليفه إلى زمان أمانته وإقباره أو من لدن آدم عليه السلام إلى هذه الغاية مع طول المدى وامتداده جميع ما أمره فلم يخرج من جميع أوامره تعالى إذ لا يخلو أحد عن تقصير ما ونقل هذا عن مجاهد وقتادة وفيه حمل عدم القضاء على نفي العموم وتعقب بأنه لا ريب في أن مساق الآيات الكريمة لبيان غاية عظم الإنسان وتحقيق كفرانه المفرط المستوجب للسخط العظيم وظاهر أن ذلك لا يتحقق بهذا القدر من نوع تقصير لا يخلو عنه أحد من أفراده واختير أن يحمل عدم القضاء على عموم النفي أما على أن المحكوم عليه هو الإنسان المستغني أوهو الجنس لكن لا على الإطلاق بل على أن مصداق الحكم بعدم القضاء بعض أفراده وقد أسند إلى الكل كما في قوله تعالى: إن الإنسان لظلوم كفار وأما على أن مصداقه الكل من حيث هو كل بطريق رفع الايجاب الكلي دون السلب الكلي فالمعنى لما يقض جميع أفراده ما أمره بل أخل به بضعها بالكفر والعصيان مع أن مقتضى ما فصل من فنون النعماء الشاملة للكل أن لا يتخلف عنه أحد وعن الحسن أن * (كلا) * بمعنى حقا فيتعلق بما بعده أي حق لم يعمل بما أمره به وقال ابن فورك الضمير يقض لله تعالى أي لم يقض الله تعالى لهذا الكافر ما أمره به من الايمان بل أمره إقامة للحجة عليه بما لم يقض له ولا يخفى بعده والظاهر عليه أن * (كلا) * بمعنى حقا أيضا وقوله سبحانه:
* (فلينظر الإنس‍ان إلى طعامه) *
* (فلينظر الأنسان إلى طعامه) * على معنى إذا كان هذا حال الإنسان وهو أنه إلى الآن لم يقض ما أمره مع أن مقتضى النعم السابقة القضاء فلينظر إلى طعامه الخ لعله يقضي وفي " الحواشي العصامية " لا يخفى ما في قوله تعالى: * (لما يقض ما أمره) * من كمال تهييج الإنسان وتحريضه على امتثال ما يعقبه من الأمر بالنظر وتفريع الأمر عليه مبني على أن الائتمار كما ينبغي أن يتيسر بعد الارتداع عما هو عليه والظاهر أن المراد بالإنسان هنا نحو ما أريد به في قوله تعالى: * (قتل الإنسان) * ولما جوز " صاحب الحواشي " المذكورة حمل عدم القضاء على السلب الكلي وجعل الكلام في الإنسان المبالغ في الكفر قال فالمراد بضمير يقض غير الإنسان الذي أمر بالنظر فإنه عام فلذا أظهر وتضمن ما مر ذكر النعم الذاتية أي ما يتعلق بذات الإنسان من الذات نفسها ولوازمها وهذا ذكر النعم الخارجية المقابلة لذلك وقيل الأولى نعم خاصة والثانية نعم عامة وقيل تلك نعم متعلقة بالحدوث وهذه نعم متعلقة بالبقاء وفيه نظر والظاهر أن المراد بالطعام المطعوم بأنواعه واقتصر عليه ولم يذكر المشروب لأن آثار القدرة فيه أكثر من آثارها في المشروب واعتبار التغليب لا يخفى ما فيه وقوله تعالى:
* (
ط * (أنا صببنا المآء صبا) *
* (أنا صببنا الماء) * بدل منه بدل اشتمال فإنه لكونه من أسباب
45

تكونه كالمشتمل عليه والعائد محذوف أي * (صببنا) * له وجوز كونه بدل كل من كل على معنى فلينظر الإنسان إلى انعامنا في طعامه أنا * (صببنا) * الخ وهو كما ترى وأيا ما كان فالمقصود بالنظر هو البدل وبذلك يضعف ما روى عن أبي وابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم أن المعنى فلينظر إلى طعامه إذا صار رجيعا ليتأمل عاقبة الدنيا وما تهالك عليه أهلها ولعمري أن هذا بعيد الإرادة عن السياق ولا أظن أنه وقع على صحة روايته عن هؤلاء الأجلة الاتفاق وظاهر الصب يقتضي تخصيص الماء بالغيث وهو المروي عن ابن عباس وجوز بعضهم إرادة الأعم وقال إن في كل ماء صبا من الله تعالى بخلق أسبابه على أصول النباتات وأنت تعلم أن إيصال الماء إلى أصول النباتات يبعد تسميته صبا وتأكيد الجملة للاعتناء بمضمونها مع كونها مظنة لإنكار القاصر لعدم الإحساس بفعل من الله تعالى وإنما يعرف الاستناد إليه عز وجل بالنظر الصحيح وقرأ الأكثر إنا بالكسر على الاستئناف البياني كأنه لما أمر سبحانه بالنطر إلى ما رزقه جل وعلا من أنواع المأكولات قيل كيف أحدث ذلك وأوجد بعد أن لم يكن فقيل * (إنا صببنا) * الخ وقرأ الإمام الحسين بن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجههما ورضي سبحانه عنهما أنى * (صببنا) * بفتح الهمزة والإمالة على معنى فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء * (صبا) * عجيبا.
* (ثم شققنا الارض شقا) *
* (ثم شققنا الأرض) * أي بالنبات كما قال ابن عباس * (شقا) * بديعا لائقا بما يشقها من النبات صغرا وكبرا وشكلا وهيئة وقيل شقها بالكراب وإسناده إلى ضميره تعالى مجاز من باب الإسناد إلى السبب وإن كان الله تعالى عز وجل هو الموجد حقيقة فقد تبين في موضعه أن إسناد الفعل حقيقة لمن قام به لا من صدر عنه إيجادا ولهذا يشتق اسم الفاعل له وتعقب بأنه يأباه كلمة ثم والفاء في قوله تعالى:
* (فأنبتنا فيها حبا) *
* (فأنبتنا فيها حبا) * فإن الشق بالمعنى المذكور لا ترتب بينه وبين الأمطار أصلا ولأبينه وبين إنبات الحب بلا مهلة فإن المراد بالنبات ما نبت من الأرض إلى أن يتكامل النمو وينعقد الحب فإن انشقاق الأرض بالنبات لا يزال يتزايد ويتسع إلى تلك المرتبة على أن مساق النظم الكريم لبيان النعم الفائضة من جنابه تعالى على وجه بديع خارج عن العادات المعهودة كما ينبىء عنه أرداف الفعلين بالمصدرين فتوسيط فعل المنعم عليه في حصول تلك النعم مخل بالمرام وللبحث فيه مجال وقيل عليه أيضا أن الشق بالكراب لا يظهر في العنب والزيتون والنخل وأجيب بأنه ليس من لوازم العطف تقييد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه ويحتمل أن يكون ذكر الكراب في القيل على سبيل التمثيل أو أريد به ما يشمل الحفر وجوز أن يكون المراد شقها بالعيون على أن المراد بصب الماء أمطار المطر وبهذا إجراء الأنهار وتعقب بأنه يأباه ترتب الشب على صب الماء بكلمة التراخي وأيضا ترتب الانبات على مجموع الصب والشق بالمعنى المذكور لا يلائم قوله تعالى: * (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا) * الآية لإشعاره باستقلال الصب وإنزال الغيث في ذلك ودفعا بأن ماء العيون من المطر لا من الأبخرة المحتبسة في الأرض ولا يخفى على ذي عين أن هذا الوجه بعيد متكلف والمراد بالحب جنس الحبوب التي يتقوت بها وتدخر كالحنطة والشعير والذرة وغيرها.
* (وعنبا وقضبا) *
* (وعنبا) * معروف * (وقضبا) * أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال هو الفصفصة وقيدها الخليل بالرطبة وقال إذا يبست فهي القت وسميت بمصدر قضبه أي قطعه مبالغة كأنها لتكرر قطعها وتكثره نفس القطع وضعف هذا من فسر الأب بما يشمل ذلك وقيل هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم غضا من النبات كالبقول والهليون وفي " البحر " عن الحبر أنه الرطب وهو يقضب من النخل واستأنس له بذكره مع العنب ولا يخفى ما فيه.
* (وزيتونا ونخلا) *
* (وزيتونا ونخلا) * هما معروفان.
* (وحدآئق غلبا) *
* (وحدائق) * رياضا * (غلبا) * أي عظاما وأصله جمع أغلب وغلباء صفة العنق وقد يوصف به الرجل لكن الأول هو الأغلب ومنه قول الأعشى:
46

يمشي بها غلب الرقاب كأنهم * بزل كسين من الكحيل جلالا
ووصف الحدائق بذلك على سبيل الاستعارة شبه تكاثف أوراق الأشجار وعروقها بغلظ الأوداج وانتفاخ الأعصاب مع اندماج بعضها في بعض في غلظ الرقبة ولا يرد أن الغلظ في الأشجار أقوى لأن الأمر بالعكس نظرا إلى الاندماج وتقوي البعض بالبعض حتى صارت شيئا واحدا وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل كما في المرسن بأن يراد بالأغلب الغليظ مطلقا وتجوز في الإسناد أيضا لأن الحدائق نفسها ليست غليظة بل الغليظ أشجارها وقال بعض المراد بالحدائق نفس الأشجار لمكان العطف على ما في حيز أنبتنا فلا تغفل.
* (وف‍اكهة وأبا) *
* (وفاكهة) * قيل هي الثمار كلها وقيل بل هي الثمار ما عدا العنب والرمان وأيا ما كان فذكر ما يدخل فيها أولا للاعتناء بشأنه * (وأبا) * عن ابن عباس وجماعة أنه الكلأ والمرعى من أبه إذا أمه وقصده لأنه يؤم ويقصد أو من أب لكذا إذا تهيأ له متهىء المرعى ويطلق على نفس مكان الكلأ ومنه قوله: جذمنا قيس ونجد دارنا * ولنا الأب بها والمكرع
وذكر بعضهم أن ما يأكله الآدميون من النبات يسمى الحصيدة والحصيد وما يأكله غيرهم يسمى الأب وعليه قول بعض الصحابة يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: له دعوة ميمونة ريحها الصبا * بها ينبت الله الحصيدة والأبا
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه التبن خاصة وقيل هو يابس الفاكهة لأنها تؤب وتهيأ للشتاء للتفكه بها وأخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال سئل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عن الأب ما هو فقال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم وأخرج ابن سعد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ على المنبر فأنبتنا فيها حبا وعنبا إلى قوله: وأبا فقال كل هذا قد عرفناه فما الأب ثم رفض عصا كانت في يده فقال هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ابتغوا ما بين لكم من هذا الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه وفي " صحيح البخاري " من رواية أنس أيضا أنه قرأ ذلك وقال فما الأب ثم قال ما كلفنا أو ما أمرنا بهذا ويتراءى من ذلك النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته وفي " الكشاف " لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا فأراد رضي الله تعالى عنه أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطمعه واستدعاء شكره وقد علم من فحواها أن الأب بعض ما أنبت سبحانه للإنسان متاعا له أو لأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر له عز وجل على ما تبين لك ولم يشكل مما عدد من نعمته تعالى ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن انتهى وهو قصارى ما يقال في توجيه ذلك لكن في بعض الآثار عن الفاروق كما في " الدر المنثور " ما يبعد فيه إن صح هذا التوجيه في شيء وهو أنه ينبغي أن خفاء تعيين المراد من الأب على الشيخين رضي الله عنهما ونحوها من الصحابة وكذا الاختلاف فيه لا يستدعي كونه غريبا مخلا بالفصاحة وأنه غير مستعمل عند العرب العرباء وقد فسره
ابن عباس لابن الأزرق بما تعتلف منه الدواب واستشهد به بقول الشاعر: ترى به الأب واليقطين مختلطا
ووقع في شعر
47

بعض الصحابة كما سمعت ومن تتبع وجد غير ذلك.
* (مت‍اعا لكم ولانع‍امكم) *
* (متاعا لكم ولأنعامكم) * قيل إما مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم فإن بعض النعم المعدودة طعام لهم وبعضها علف لدوابهم ويوزع وينزل كل على مقتضاه والالتفات لتكميل الامتنان وإما مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف الزوائد أي متعكم بذلك متاعا أو لفعل مرتب عليه أي فتمتعتم بذلك متاعا أي تمتعا أو مصدر من غير لفظه فإن ما ذكر من الأفعال الثلاثة في معنى التمتيع وقد مر الكلام في نظيره فتذكر.
* (فإذا جآءت الصآخة) *
* (فإذا جاءت الصاخة) * شروع في بيان أحوال معادهم بعد بيان ما يتعلق بخلقهم ومعاشهم والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشعر به لفظ المتاع من سرعة زوال هاتيك النعم وقرب اضمحلالها والصاخة هي الداهية العظيمة من صخ بمعنى أصاخ أي استمع والمراد بها النفخة الثانية ووصفت بها لأن الناس يصخون لها فجعلت مستمعة مجازا في الظرف أو الإسناد وقال الراغب الصاخة شدة صوت ذي النطق يقال صخ يصخ فهو صاخ فعليه هي بمعنى الصائحة مجازا أيضا وقيل مأخوذة من صخه بالحجر أي صكه وقال الخليل هي صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها لشدة وقعتها ومنه أخذ الحافظ أبو بكر بن العربي قوله الصاخة هي التي تورث الصمم وأنها لمسمعة وهو من بديع الفصاحة كقوله: أصم بك الداعي وإن كان اسمعا
ثم قال ولعمر الله تعالى: إن صيحة القيامة مسمعة تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة والكلام في جواب إذا وفي يوم من قوله تعالى:
* (يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه) *
* (يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه وصاحبته) * أي زوجته.
* (وص‍احبته وبنيه) *
* (وبنيه) * على نحو ما تقدم في النازعات فتذكره فما في العهد من قدم أي يوم يعرض عنهم ولا يصاحبهم ولا يسأل عن حالهم كما في الدنيا لاشتغاله بحال نفسه كما يؤذن به قوله تعالى:
* (لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه) *
* (لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه) * فإنه استئناف وارد لبيان سبب الفرار وجعله جواب إذا والاعتذار عن عدم التصدير بالفاء بتقدير الماضي بغير قد أو المضارع المثبت أو بالفاء إبدال يوم يفر المرء عنه إياه لأن البدل لا يطلب جزاء لا يخفى حاله على من شرط الإنصاف على نفسه أي لكل واحد من المذكورين شغل شاغل وخطب هائل يكفيه في الاهتمام به وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا قد الجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان قلت يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضهم إلى بعض قال شغل الناس عن ذلك وتلا يوم يفر الآية وجاء في رواية الطبراني عن سهل بن سعد أنه قيل له عليه الصلاة والسلام ما شغلهم فقال صلى الله عليه وسلم: " نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل " وقيل يفر منهم لعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا وكلام الكشاف يشعر بذلك ويأباه ما سمعت وكذا ما قيل يفر منهم حذرا من مطالبتهم بالتبعات يقول الأخ لم تواسني بمالك والأبوان قصرت في برنا والصاحبة أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت والبنون لم تعلمنا ولم ترشدنا ويشعر بذلك ما أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن قتادة قال ليس شيء أشد على الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يكون يطلبه بمظلمة ثم قرأ يوم يفر الآية وذكر المرء بناء على أنه الرجل لا الإنسان ليعلم منه حال المرأة من باب أولى وقيل هو من باب التغليب وفيه نظر وجعل القاضي ذكر المتعاطفات على هذا النمط من باب الترقي على اعتبار عطف الأب على الأم سابقا على عطفهما على الأخ فيكون المجموع معطوفا عليه وكذا في صاحبته وبنيه فقال تأخير الأحب فالأحب للمبالغة كأنه قيل يفر من أخيه بل من أبويه بل من صاحبته وبنيه ولا يخفى تكلفه مع اختلاف الناس والطباع في أمر الحب ولعل عدم مراعاة ترق أو تدل لهذا الاختلاف مع الرمز إلى أن الأمر يومئذ أبعد من أن يخطر بالبال فيه ذلك وروي عن ابن عباس أنه يفر قابيل من أخيه هابيل ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه ويفر
48

إبراهيم عليه السلام من أبيه ويفر نوح عليه السلام من ابنه ويفر لوط عليه السلام من امرأته وفي خبر رواه ابن عساكر عن الحسن نحو ذلك وفيه فيرون أن هذه الآية أعني يوم يفر الخ نزلت فيهم وكلا الخبرين لا يعول عليهما ولا ينبغي أن يلتفت إليهما كما لا يخفى والذي أدين الله تعالى به نجاة أبويه صلى الله عليه وسلم وقد ألفت رسائل في ذلك رغما لأنف علي القاري ومن وافقه وأعتقد أن جميع آبائه عليه الصلاة والسلام لا سيما من ولداه بلا واسطة أوفر الناس حظا مما أوتي هناك من السعادة والشرف وسمو القدر. كم من أب قد سما بابن ذرى شرف * كما سما برسول الله عدنان
وقرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السميفع يعنيه بفتح الياء وبالعين المهملة أي يهمه من عناه الأمر إذا أهمه أي أوقعه في الهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه لا من عناه إذا قصده كما زعمه أبو حيان وقوله تعالى:
* (وجوه يومئذ مسفرة) *
* (وجوه يومئذ مسفرة) * بيان لمآل أمر المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء فوجوه مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه في حيز التنويع كما مر ومسفرة خبره ويومئذ متعلق به أي مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء وعن ابن عباس أن ذلك من قيام الليل وعن الضحاك من آثار الوضوء فيختص ذلك بهذه الأمة أي لأن الوضوء من خواصهم قيل أي بالنسبة إلى الأمم السابقة فقط لا مع أنبيائهم عليهم السلام وقيل من طول ما اغبرت في سبيل الله تعالى:
* (ض‍احكة مستبشرة) *
* (ضاحكة مستبشرة) * أي مسرورة بما تشاهد من النعيم المقيم والبهجة الدائمة.
* (ووجوه يومئذ عليها غبرة) *
* (ووجوه يومئذ عليها غبرة) * أي غبار وكدورة.
* (ترهقها قترة) *
* (ترهقها) * أي تعلوها وتغشاها * (قترة) * أي سواد وظلمة ولا ترى أوحش من اجتماع الغرة والسواد في الوجه وسوى الفيروزأبادي والجوهري بين الغبرة والقترة فقيل المراد بالقترة الغبار حقيقة وبالغبرة ما يغشاهم من العبوس من الهم وقيل هما على حقيقتهما والمعنى أن عليها غبارا وكدورة فوق غبار وكدورة وقال زيد بن أسلم الغبرة ما انحطت إلى الأرض والقترة ما ارتفع إلى السماء والمراد وصول الغبار إلى وجوههم من فوق ومن تحت والمعول عليه ما تقدم وقرأ ابن أبي عبلة قترة بسكون التاء.
* (أول‍ائك هم الكفرة الفجرة) *
* (أولئك) * إشارة إلى أصحاب تلك الوجوه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر * (هم الكفرة الفجرة) * أي الجامعون بين الكفر والفجور فلذلك جمع الله تعالى لهم بين الغبرة والقترة وكان الغبرة للفجور والقترة للكفور نعوذ بالله عز وجل من ذلك.
سورة التكوير
ويقال سورة كورت وسورة إذا الشمس كورت وهي مكية بلا خلاف وآيها تسع وعشرون آية وفي التيسير ثمان وعشرون وفيها من شرح حال يوم القيامة الذي تضمنه آخر السورة قبل ما فيها وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت أي السور الثلاث وكفى بذلك مناسبة.
* (إذا الشمس كورت) *
* (إذا الشمس كورت) * أي لفت من كورت العمامة إذا لففتها وهو مجاز عن رفعها وإزالتها من مكانها بعلاقة اللزوم فإن الثوب إذا أريد رفعه يلف لفا ويطوى ثم يرفع ونحوه قوله تعالى: * (يوم نطوي السماء) * ويجوز أن يراد لف ضوئها المنبسط في الآفاق
49

المنتشر في الأقطاء إما على أن الشمس مجاز عن الضوء فإنه شائع في العرف أو على تقدير المضاف أو على التجوز في الإسناد ويراد من لفه إذهابه مجازا بعلاقة اللزوم كما سمعت آنفا أو رفعه وستره استعارة كما قيل وقد اعتبر تشبيه الضوء بالجواهر والأمور النفيسة التي إذا رفعت لفت في ثوب ثم تعتبر الاستعارة ويجعل التكوير بمعنى اللف قرينة ليكون هناك استعارة مكنية تخييلية وكون المراد إذهاب ضوئها مروى عن الحسن وقتادة ومجاهد وهو ظاهر ما رواه جماعة عن ابن عباس من تفسيره كورت باظلمت والظاهر أن ذاك مع بقاء جرمها كالقمر في خسوفه وفي الآثار ما يؤيد ذلك وقيل أن ذاك عبارة عن إزالة نفس الشمس والذهاب بها للزوم العادي واستلزام زوال اللازم لزوال الملزوم ويجوز أن يكون المراد بكورت ألقيت عن فلكها وطرحت من طعنه فحوره وكوره أي ألقاه مجتمعا على الأرض والقاؤها في جهنم مع عبدتها كما يدل عليه بعض الأخبار المرفوعة ويذهب إذ ذاك نورها كما صرح به القرطبي أو في " البحر " كما يدل عليه خبر ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عتيك وفيه أن الله تعالى يبعث ريحا دبورا فتنفخه أي البحر حتى يرجع نارا وعظم جرم الشمس اليوم لا يقتضي استحالة القائها في البحر ذلك اليوم لجواز اختلاف الحال في الوقتين والله عز وجل على كل شيء قدير لكن جاء في الأخبار الصحيحة أن الشمس تدنو يوم القيامة من الرؤوس في المحشر حتى تكون قدر ميل ويلجم الناس العرق يومئذ ولا بحر حينئذ لتلقى فيه بعد فلا تغفل وعن أبي صالح كورت نكست وفي رواية عن ابن عباس تكويرها إدخالها في العرش وعن مجاهد أيضا اضمحلت ومدار التركيب على الإدارة والجمع هذا ولم نقف لأحد من السلف على إرادة لفها حقيقة وللمتأخرين في جواز إرادته خلاف فقيل لا تجوز إرادته لأن الشمس كرية مصمتة وغاية اللف هي الإدارة وهي حاصلة فيها وقيل تجوز لأن كون الشمس كذلك مما لا يثبته أهل الشرع وعلى تسليمه يجوز أن يحدث فيها قابلية اللف بأن يصيرها سبحانه منبسطة ثم يلفها وله عز وجل في ذلك ما له من الحكم ويبعد إرادة الحقيقة فيما أرى كونها كيفما كانت من الأجرام التي لا تلف كالثياب نعم القدرة في كل وقت لا يتعاصاها شيء وارتفاع الشمس بفعل مضمر يفسره المذكور عند جمهور البصريين لاختصاص إذا الشرطية عندهم بالفعل وعلى الابتداء عند الأخفش والكوفيين لعدم الاختصاص عندهم وكون التقدير خلاف الأصل وكذا يقال في قوله تعالى:
* (وإذا النجوم انكدرت) *
* (وإذا النجوم انكدرت) * أي انقضت وسقطت كما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد وقتادة ومنه انكدر البازي إذا نزل بسرعة على ما يأخذه قال العجاج يمدح عمر بن معمر التيمي: إذا الكرام ابتدروا الباع بدر * تقضي البازي إذا البازي كسر داني جناحيه من الطود فمر * أبصر خربان فضاء فانكدر
وهذا إحدى روايتين عن ابن عباس وروي عنه أنه قال لا يبقى يومئذ نجم إلا سقط في الأرض وعنه أيضا أن النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي ملائكة من نور فإذا مات من في السموات والأرض تساقطت من أيديهم وظاهر هذا أن النجوم ليست في جرم أفلاك لها كما يقول الفلاسفة المتقدمون بل معلقة في فضاء ويقرب منه من وجه قول الفلاسفة المحدثين فإنهم يقولون بكونها في فضاء أيضا لكن بقوى متجاذبة لا معلقة بسلاسل بأيدي ملائكة وليس وراء ما يشاهد منها الأسماء بمعنى جهة علو لا سماء بالمعنى المعروف وإن صح خبر الحبر وهو في حكم المرفوع لم نعدل عن ظاهره إلا أن ظهر استحالته وهيهات ذلك وحينئذ فالأمر سهل وقد ذكر بعض المتألهين أن الملائكة قد تطلق على الأرباب النورية كما في خير إن لكل شيء ملكا وأن كل قطرة من قطرات المطر ينزل معها ملك وخبر أتاني
50

ملك الجبال وملك البحار وتسمى المثل الأفلاطونية وهي أنوار مجردة قائمة بنفسها مدبرة بإذن الله تعالى للمربوبات حافظة إياها وهي المنمية والغاذية والمولدة في النباتات والحيوانات ويقال في السلاسل أنه أريد بها القوى التي بها حفظ الأوضاع أو نحو ذلك وقيل انكدرت تغيرت وانطمس نورها كما هو الرواية الأخرى عن ابن عباس من كدرت الماء فانكدر ففيه تشبيه انطماس نورها بتكدر الماء الذي لا يبقى معه صفاؤه ورونق منظره وتكون هي حينئذ على ما في بعض الآثار مع عبدتها في النار وظاهر أن النجوم لا تشمل الشمس وقيل تشملها وذكرها بعدها تعميم بعد تخصيص فلا تغفل.
* (وإذا الجبال سيرت) *
* (وإذا الجبال سيرت) * أي أزيلت عن أماكنها من الأرض بالرجفة الحاصلة على أن التسيير مجاز عن ذلك وقيل سيرت بعد رفعها في الجو كما قال تعالى * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) * وهذا إنما يكون بعد النفخة الثانية.
* (وإذا العشار عطلت) *
* (وإذا العشار) * جمع عشراء كنفاس جمع نفساء وهي الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل فيها الفحل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع وقد يقال لها ذلك بعدما تضع أيضا وهي أنفس ما يكون عند أهلها وأعز شيء عليهم * (عطلت) * تركت مهملة لا راعي لها ولا طالب وقيل عطلها أهلها عن الحلب والصر وقيل عن أن يرسل فيها الفحول وذلك إذا كان قبيل قيام القيامة لاشتغال أهلها بما عراهم مما يكون إذ ذاك وقيل إن هذا التعطيل يوم القيامة فقال القرطبي الكلام على التمثيل إذ لا عشار حينئذ والمعنى أنه لو كانت عشار لعطلها أهلها واشتغلوا بأنفسهم وقيل على الحقيقة أي إذا قاموا من القبور وشاهدوا الوحوش والأنعام والدواب محشورة ورأوا عشارهم التي كانت كرائم أموالهم فيها لم يعبؤا بها لشغلهم بأنفسهم وهو كما ترى وقيل المرادب العشاء السحاب على تشبيه السحابة المتوقع مطرها بالناقة العشراء القريب وضع حملها وفيه استعارة لطيفة مع المناسبة التامة بينه وبين ما قبله فإن السحب تنعقد على رؤوس الجبال وترى عندها ولا ينافيه كونه مناسبا لما بعده على الأول فإنه معنى حقيقي مرجح بنفسه وتعطيلها مجاز عن عدم ارتقاب مطرها لأنهم في شغل عنه وقيل عن عدم إمطارها وقيل هي الديار تعطل فلا تسكن وقيل الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع وقرأ مضر عن اليزيدي عطلت بالتخفيف والبناء للمجهول ونقله في اللوامح عن ابن كثير ثم قال هو وهم إنما هو عطلت بفتحتين بمعنى تعطلت لأن تشديده للتعدية يقال عطلت الشيء وأعطلته فعطل بنفسه وعطلت المرأة فهي عاطل إذا لم يكن عليها حلى فلعل هذه القراءة لغة استوى فيها فعلت وافعلت أي في التعدي وقيل اوظهر أنه عدي بالحرف ثم حذف وأوصل الفعل بنفسه.
* (وإذا الوحوش حشرت) *
* (وإذا الوحوش) * جمع وحش وهو حيوان البر الذي ليس في طبعه التأنس ببني آدم والمراد به ما يعم البهائم مطلقا * (حشرت) * أي جمعت من كل جانب وذلك قبيل النفخة الأولى حين تخرج نار تفر الناس والأنعام منها حتى تجتمع وقيل أميتت من قولهم إذا أجحنت السنة الناس حشرتهم ونحوه ما أخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنهق ال حشرها موتها وعن ابن عباس تفسير الحشر بالجمع إلا أنه قال كما أخرجه جماعة وصححه الحاكم جمعت بالموت فلا تبعث ولا يحضر في القيامة غير الثقلين وقيل بعثت للقصاص فيحشر كل شيء حتى الذباب وروي ذلك عن ابن عباس أيضا وعن قتادة وجماعة وفي رواية عن الحبر تحشر الوحوش حتى يقتص من بعضها لبعض فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها موتي فتموت وقيل إذا قضى بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس والظبي وقيل يبقى كل ما لم ينتفع به إلا المؤمن كشاة لم يأكل منها إلا هو ويدخل ما يبقى الجنة على حال لائقة بها وذهب كثير إلى بعض جميع الحيوانات ميلا إلى هذه الأخبار ونحوها فقد أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة في هذه الآية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتؤدن الحقوق إلى
51

أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء " وزاد أحمد بن حنبل وحتى الذرة من الذرة ومال حجة الإسلام الغزالي وجماعة إلى أنه لا يحشر غير الثقلين لعدم كونه مكلفا ولا أهلا للكرامة بوجه وليس في هذا الباب نص من كتاب أو سنة معول عليها يدل على حشر غيرهما من الوحوش وخبر مسلم والترمذي وإن كان صحيحا لكنه لم يخرج مخرج التفسير للآية ويجوز أن يكون كناية عن العدل التام وإلى هذا القول أميل ولا أجزم بخطأ القائلين بالأول لأن لهم ما يصلح مستندا في الجملة والله تعالى أعلم وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون حشرت بالتشديد للتكثير.
* (وإذا البحار سجرت) *
* (وإذا البحار سجرت) * أي أحميت بأن تغيض مياهها وتظهر النار في مكانها ولذا ورد على ما قيل أن البحر غطاء جهنم أو ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتى يكون مالحها وعذبها بحرا واحدا من سجر التنور إذا ملأه بالحطب ليحميه وقيل ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار وقيل ملئت ترابا تسوية لها بأرض المحشر وليس له مستند أثر عن السلف ونقل في " البحر " عن كتاب لغات القرآن إن سجرت بمعنى جمعت بلغة خثعم ولعل جمعها عليه بالتفجير وقال ابن عطية يحتمل أن يكون المعنى
ملكت وقيد اضطرابها حتى لا يخرج عن الأرض من الهول فيكون ذلك مأخوذا من ساجور الكلب وهو خشبة تجعل في عنقه ويقال سجره إذا شده به وقرأ ابن كثير وأبو عمرو سجرت بالتخفيف.
* (وإذا النفوس زوجت) *
* (وإذا النفوس زوجت) * أي قرنت كل نفس بشكلها أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن النعمان بن بشير عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن ذلك فقال يقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة ويقرن الرجل السوء مع الرجل السوء في النار فذلك تزويج الأنفس وفي حديث مرفوع رواه النعمان أيضا ما يقتضي ظاهره ذلك وقال بعض هذا في الموقف أن يقرن بين الطبقات الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل وقال مقاتل بن سليمان تقرن نفوس المؤمنين بأزواجهم من الحور وغيرهن ونفوس الكافرين بالشياطين وقيل تقرن كل نفس بكتابها وقيل بعملها وجوز أن يراد تقرن كل نفس بخصمها فلا يمكنها الفرار منه وأنت تعلم أن كون كل نفس ذا خصم بين الانتفاء وأيا ما كان فالنفس بمعنى الذات والتزويج جعل الشيء زوجا أي مقارنا وقال عكرمة والضحاك والشعبي نقرن النفوس بأزواجها وذلك عند البعث والنفس عليه بمعنى الروح وقرأ عاصم زوجت على فوعلت.
* (وإذا الموءودة سئلت) *
* (وإذا الموؤدة) * وهي البنت التي تدفن حية من الوأد وهو الثقل كأنها سميت بذلك لأنها تثقل بالتراب حتى تموت وقيل هو مقلوب الأود وحكاه المرتضى في درره عن بعض أهل اللغة وهو غير مرتضى عند أبي حيان وكانت العرب تئد البنات مخافة لحوق العار بهم من أجلهن وقيل مخافة الإملاق ولعله بالنسبة إلى بعضهم ومنهم من يقول الملائكة بنات الله سبحانه عما يقولون فالحقوا البنات به تعالى فهو عز وجل أحق بهن وذكر غير واحد أنه كان الرجل منهم إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض وقيل كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها فيها وإن ولدت ابنا حبسته ورأيت إذ أنا يافع في بعض الكتب أن أول قبيلة وأدت من العرب ربيعة وذلك أنهم أغير عليهم فنهبت بنت لأمير لهم فاستردها بعد الصلح فخيرت برضا منه بين أبيها ومن هي عنده فاختارت من هي عنده وآثرته على أبيها فغضب وسن لقومه الوأد ففعلوه غيرة منهم ومخافة أن يقع لهم بعد مثل ما وقع وشاع في العرب غيرهم والله تعالى أعلم بصحة ذلك وقرأ البزي في رواية الموؤدة كمعونة فاحتمل أن يكون
52

الأصل الموؤدة كقراءة الجمهور فنقل حركة الهمزة إلى الواو قبلها وحذفت ثم همزت تلك الواو قبلها وحذفت ثم همزت تلك الواو واحتمل أن يكون اسم مفعول من آد والأصل المأوودة فحذف أحد الواوين فصارت الموودة كما حذف من مقوول فصار مقولا وقرىء الموودة بضم الأولى وتسهيل الهمزة أعني التسهيل بحذفها ونقل حركتها إلى ما قبلها وفي " مجمع البيان " والعهدة عليه روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنهم قرؤا المودة بفتح الميم والواو والمراد بها الرحم والقرابة وعن أبي جعفر قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم ويراد بقتلها قطعها أو هو على حقيقته والإسناد مجازي والمراد قتل المتصف بها وتوجيه السئال إلى الموؤدة في قوله تعالى: * (سئلت) *.
* (بأى ذنب قتلت) *
* (بأي ذنب قتلت) * دون الوائد مع أن الذنب له دونها لتسليتها وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها وإسقاطه عن درجة الخطاب والمبالغة في تبكيته فإن المجني عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت إليه الجناية دون الجاني كان ذلك بعثا للجاني على التفكر في حال نفسه وحال المجني عليه فيرى براءة ساحته وأنه هو المستحق للعتاب والعقاب وهذا نوع من الاستدراج واقع على طريق التعريض كما في قوله تعالى * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين) * وقرأ أبي وابن مسعود والربيع بن خيثم وابن يعمر سألت أي خاصمت أو سألت الله تعالى أو قاتلها وإنما قيل قتلت لما أن الكلام أخبار عنها لا حكاية لما خوطبت به حين سئلت ليقال قتلت على الخطاب ولا حكاية لكلامها حين سألت ليقال قتلت على الحكاية عن نفسها وقد قرأ كذلك علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود أيضا وجابر بن يزيد وأبو الضحى ومجاهد وقرأ الحسن والأعرج سيلت بكسر السين وذلك على لغة من قال سال بغير همز وقرأ أبو جعفر بشد الياء لأن الموؤدة اسم جنس فناسب التكثير باعتبار الأشخاص وفي الآية دليل على عظم جناية الوأد وقد أخرج البزار والحاكم في الكنى والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعتق عن كل واحدة رقبة قال: إني صاحب إبل قال فاهد عن كل واحدة بدنة وكان الأمر للندب لا للوجوب لتوقف صحة التوبة عليه فإن الإسلام يجب ما قبله من مثل ذلك وفيه تعظيم أمر الوأد وكان من العرب من يستقبحه كصعصعة بن ناجية المجاشعي جد الفرزدق كان يفتدي الموؤدات من قومه بني تميم وبه افتخر الفرزدق في قوله: وجدي الذي منع الوائدات * فأحيا الوئيد فلم تفتد
وأخرج الطبراني عنه قال قلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية فهل فيها من أجر أحييت ثلثمائة وستين من الموؤدة اشترى كل واحد منهن بناقتين عشراوين وجمل فهل في ذلك من أجر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لك أجره إذ من الله تعالى عليك بالإسلام وعد من الواد العزل لما أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني وابن مردويه عن خذامة بنت وهب قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال ذلك الوأد الخفي ومن هنا قيل بحرمته وأنت تعلم أن المسألة خلافية فقد قال الإمام النووي في شرح " صحيح مسلم " العزل وهو أن يجامع فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج مكروه عندنا في كل حال وكل امرأة سواء رضيت أم لا لأنه طريق إلى قطع النسل وأما التحريم فقد قال أصحابنا يعني الشافعية لا يحرم في مملوكته ولا في زوجته الأمة سواء رضيت أم
لا لأن عليه ضررا في مملوكته بمصيرها أم ولد وامتناع بيعها وعليه ضرر في زوجته الرقيقة بمصير ولده رقيقا تبعا لأمه وأما زوجته الحرة فإن أذنت فيه لم يحرم وإلا فوجهان أصحهما لا يحرم ثم الأحاديث التي ظاهرها التعارض في هذا المطلب يجمع بينها بأن ما ورد منها في النهي محمول على كراهة التنزيه وما ورد في الإذن في ذلك محمول على أنه ليس بحرام وليس
53

معناه نفي الكراهة انتهى وأجيب على الحديث السابق بأن تسميته بالوأد الخفي لا يدل على أن حكمه حكم الوأد الظاهر فقد صح أن الرياء شرك خفي ولم يقل أحد بأن حكمه حكمه ولا يبعد أن يكون الاستمناء باليد كالعزل وأدا خفيا وذكر بعضهم أنه إذا لم يخش الزنا حرام وإن خشي لم يحرم وكذا لا يبعد أن يكون التفخيذ مع من يحل له وطؤها كذلك ولم أر قائلا بحرمته وتمام الكلام في هذا المقام في كتب الفقه فلتراجع واستدل الزمخشري بالآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وعلى أن العذاب لا يستحق إلا بالذنب أما الأول فلان تبكيت قاتلها يباين تعذيبها لأن استحقاق التبكيت لبراءتها من الذنب فمتى بكت سبحانه الكافر ببراءتها من الذنب كيف يكر سبحانه عليها فيفعل بها ما ينسى عنده فعل المبكت من العذاب السرمدي وأما الثاني فلإشارة قوله تعالى: * (بأي ذنب قتلت) * إلى أن القتل إنما يصار إليه بذنب وأنه لا يستحسن ارتكابه دونه ومعلوم أن في معناه كل تعذيب ثم الآية لما دلت على أن الموؤدة لا ذنب لها ليتم التبكيت تضمنت عدم استحقاقها العقاب وزعم أن ابن عباس سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية وتعقب بأن مبنى ما ذكره التحسين والتقبيح وقد بين ما فيهما في موضعه وعلى التسليم نمنع انحصار سبب التبكيت في البراءة على أن القتل للباعث المذكور في القرآن بمعنى خشية الإملاق رذيلة يستحق بها التبكيت استحق بها المقتول التعذيب الأخروي أولا وإشارة الآية على أن باعثهم على القتل لم يكن الذنب لا إلى أن الذنب أعني ما يستحق به الموؤدة التعذيب معدوم من كل وجه وما روي عن ابن عباس لا نسلم صحته وفي الأخبار ما ينافيه أخرج الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن سلمة بن يزيد الجعفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: الوائدة والموؤدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله تعالى عنها وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين وتفسيره على ما قيل ما روى أبو داود عن عائشة قلت: يا رسول الله فذراري المشركين فقال من آبائهم قلت بلا عمل قال: الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وفي مسند الإمام أحمد سألت خديجة عن ولدين ما بالهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هما في النار وأنت تعلم أن في مسألة الأطفال من هذه الحيثية ما عدا أطفال الأنبياء عليهم السلام فإنهم أجمع على كونهم من أهل الجنة كما قال اللقاني خلافا فقد قال الإمام النووي في شرح " صحيح مسلم " أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفا وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة توفي صبي من الأنصار فقالت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك: يا عائشة إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة والسلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم صلى الله عليه وسلم قال ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم وغير ذلك من الأحاديث وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب قال الأكثرون هم في النار تبعا لآبائهم لحديث سئل عن أولاد المشركين من يموت منهم صغيرا فقال عليه الصلاة والسلام: الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين أي وغير ذلك وتوقفت طائفة فيهم وقالت الثالثة وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له
54

بأشياء منها حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة حوله أولاد الناس قالوا يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والجواب عن حديث الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين أنه ليس فيه تصريح بأنهم في النار وحقيقة لفظة الله تعالى أعلم بما كانوا يعملون لو بلغوا ولم يبلغوا والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ انتهى وتعقب ما ذكره من الاحتمال في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها بأنه يأباه ما ذكره من حديث إبراهيم عليه السلام فإن حديث عائشة كان بالمدينة لأنه في صبي من الأنصار وبناؤه عليه الصلاة والسلام عليها إنما كان فيها وحديث إبراهيم عليه السلام كان بمكة لأن الظاهر أن تلك الرؤية كانت ليلة المعراج وهو قد كان فيها ومنه يعلم أنه صلى الله عليه وسلم قد علم أن الأطفال كلهم في الجنة يومئذ فكيف يحتمل أن يكون ما قاله بعد قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة وأيضا إذا كان حديث إبراهيم عليه السلام في مكة يضعف الجواب الأول عن حديث عائشة باحتمال أن تكون قالت ما قالت لأنه بلغها ذلك الحديث ثم ما ذكر من أن المذاهب في أطفال المشركين ثلاثة الظاهر أنه مبني على ما وقف عليه وإلا فهي غير منحصرة فيها بل منها أنهم في برزخ بين الجنة والنار ومنها أنهم يمتحنون بدخول النار يوم القيامة فمن كتب له السعادة أطاع بدخولها فيرد إلى الجنة ومن كتب له الشقاوة امتنع فيسحب إلى النار كما جاء في بعض الروايات فلا يحكم على معين منهم بجنة ولا نار وعليه حمل الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وفي اختيارات الشيخ ابن تيمية إن هذا أحسن الأجوبة فيهم وقال الجلال السيوطي هو الصحيح المعتمد ومنها ما ذكره هذا الجلال واختاره الإمام الرباني الفاروقي السرهندي قدس سره أنهم يحشرون ثم يصيرون ترابا كالوحوش وإن أريد مما تقدم من أنهم في الجنة كونهم فيها كسائر أهلها فهناك قول آخر وهو أنهم فيها خدما لأهلها وقد نقله النسفي في بحر الكلام على أهل السنة والجماعة وفيه أحاديث جمة والظاهر أن المراد بأطفال المشركين الأطفال الذين ولدوا لهم وهم مشركون ولو آمنوا بعد ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام السابق في ولدي خديجة هما في النار وهو يعكر على من يقول أطفال الذين ماتوا مشركين في النار وأطفال المشركين الذين آمنوا بعد موتهم في الجنة إكراما لهم والذي اختاره القول بأن الأطفال مطلقا وكذا فرخ الزنا ومن جن قبل البلوغ في الجنة فهو إلا خلق بكرم الله تعالى وواسع رحمته عز وجل والأوفق للحكمة بحسب الظاهر والأكثر تأيدا بالآيات ولا بعد في ترجح الأخبار الدالة على ذلك بما ذكر على الأخبار الدالة على خلافه والقول
بأن ما تضمنته هاتيك الأخبار كان منه عليه الصلاة والسلام قبل علمه صلى الله عليه وسلم بأن الأطفال في الجنة بعيد عندي نعم جوز أن يكون قد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنهم من أهل النار بناء على أخبار الوحي به كإخباره بالوعيدات التي يعفو الله تعالى عنها من حيث إنه مقيد بشرط كان لم يشملهم الفضل مثلا لكنه لم يذكر معه كما لو يذكر معها لحكمة ثم أخبر عليه الصلاة والسلام بأنهم من أهل الجنة بناء على أخبار الوحي به أيضا ويكون متضمنا للأخبار بأن شرط كونهم من أهل النار لا يتحقق فضلا من الله تعالى وكرما ويكون ذلك كالعفو عما يقتضيه الوعيد ومثل ذلك إخباره بما ذكر بناء على مشاهدة كونهم في الجنة عند إبراهيم عليه السلام فتأمل.
* (وإذا الصحف نشرت) *
* (وإذا الصحف نشرت) * أي صحف الأعمال أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال إذا مات الإنسان طويت صحيفته ثم تنشر يوم القيامة فيحاسب بما فيها وقيل نشرت أي فرقت بين أصحابها عن مرثد بن وداعة إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية وتقع صحيفة
55

الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي نشرت بالتشديد للمبالغة في النشر بمعنييه أو لكثرة الصحف أو لشدة التطاير.
* (وإذا السمآء كشطت) *
* (وإذا السماء كشطت) * قلعت وأزيلت كما يكشف الإهاب عن الذبيحة والغطاء عن الشيء المستور به فأصل الكشط السلخ واستعير هنا للإزالة وقرأ عبد الله قشطت بالقاف مكان الكاف واعتقابهما غير عزيز كالكافور والقافور وعربي قح وكح.
* (وإذا الجحيم سعرت) *
* (وإذا الجحيم سعرت) * أي أوقدت إيقادا شديدا قال قتادة سعرها غضب الله تعالى وخطايا
بني آدم وقرأ جمع منهم علي كرم الله تعالى وجهه سعرت بالتخفيف.
* (وإذا الجنة أزلفت) *
* (وإذا الجنة أزلفت) * أي قربت من المتقين كقوله تعالى: وأزلفت للجنة للمتقين غير بعيد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي العالية أنه قال: ست آيات من هذه السورة في الدنيا والناس ينظرون وست في الآخرة إذا الشمس كورت إلى وإذا البحار سجرت هذه في الدنيا وإذا النفوس زوجت إلى وإذا الجنة أزلفت هذه في الآخرة وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال: ست آيات قيل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ انكدرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش فماجوا بعضهم في بعض وأهملت العشار وقال الجن للإنس نحن نأتيكم بالخبر فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فإما تتهم وقال بعضهم: إن الست الأولى فيما بين النفختين وأنه مراد من قال إنها في الدنيا وقيل هي فيما قبل النفخة الأولى وما بعدها إلى النفخة الثانية فلا تغفل.
* (علمت نفس مآ أحضرت) *
* (علمت نفس ما أحضرت) * جواب إذا على أن المراد بها زمان واحد ممتد يسع الأمور المذكورة مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه فصل القضاء بين الخلائق لكن لا بمعنى أن النفس تعلم ما تعلم في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت المديد أو عند وقوع داهية من تلك الدواهي بل عند نشر الصحف إلا أنه لما كان بعض تلك الدواهي من مباديه وبعضها من روادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كلها تهويلا للخطب وتفظيعا للحال والمراد بما أحضرت أعمالها من الخير والشر وبحضور الأعمال أما حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها وأما حضور أنفسها على ما قالوا من أن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح على كيفيات مخصوصة وهيئات معينة حتى أن الذنوب والمعاصي تتجسم هنالك وتتصور وحمل على ذلك نحو قوله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) * وعن ابن عباس ما يؤيده ويؤيده أيضا حديث ذبح الموت ونحوه قيل ولا بعد في ذلك ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن كما لا يخفى على من له خبرة بأحوال الحضرات الخمس وقد حكي عن بعض الأكابر أنهم يشاهدون في هذه النشأة الأعمال عند العروج بها إلى السماء وكان ذلك بنوع من التجسد وأيا ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله تعالى كما تؤذن به قوله تعالى: * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) * الآية لأنها لما عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف ومعنى علمها بها على التقدير الأول اطلاعها عليها مفصلة في الصحف بحيث لا يشذ عنها منها شيء كما ينبىء عنه قولهم مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وعلى التقدير الثاني أنها تشاهدها على ما هي عليه في الحقيقة فإن كانت صالحة تشاهدها على صور أحسن مما كانت تدركها في الدنيا لأن الطاعات لا تخلو فيها عن نوع مشقة وإن كانت سيئة تشاهدها على خلاف ما كانت عندها في الدنيا كانت مزينة لها موافقة
56

لهواها وتنكير النفس المفيد لثبوت العلم لفرد من النفوس أو لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها قاطبة من الظهور والوضوح بحيث لا يكاد يحوم حوله شائبة قطعا يعرفه كل أحد ولو جىء بعبارة تدل على خلافه وللرمز إلى أن تلك النفوس العالمة بما ذكر مع توفر أفرادها وتكثر أعدادها مما تستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياء والعظمة الذي أشير إلى بعض بدائع شؤونه المنبئة عن عظم سلطانه عز وجل وفي " الكشاف " إن هذا من عكس كلامهم الذي يقصدون فيه الإفراط فيما يعكس عنه ومنه قوله
تعالى: * (ربما يود الذين كفروا لو كانو مسلمين) * ومعناه كم وأبلغ وقول القائل: قد أترك القرم مصفرا أنامله * كان أثوابه مجت بفرصاد
وتقول لبعض قواد العساكر كم عندك من الفرسان فيقول رب فارس عندي أولا تعدم عندي فارسا وعنده المقانب وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه ولكنه أراد إظهار براءته من التزيد وأنه ممن يقلل كثير ما عنده فضلا أن يتزيد فجاء بلفظ التقليل ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين وبين بالكشف أنه يفيد ذلك مع ما في خصوص كل موقع من فائدة خاصة وذكر أن من الفوائد ههنا تهويل اليوم بتقليل الأنفس العالمة وإن كن جميعها وإظهار أنه كلام من غاية العظمة والكبرياء وأن من يغير هذه الأجرام العظام ويبدلها صفات وذوات تستقل الأنفس الإنسانية في جنب قدرته سبحانه أيما استقلال وتعقب ذلك أبو السعود بما لا يخلو عن نظر كما لا يخفى على ذي نظر جليل فضلا عن ذي نظر دقيق وجوز أن يكون ذلك للإشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي تلك التي عملت ما أحضرت فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه لعلك ستندم ما فعلت وربما ندم الإنسان على ما فعل فإنك لا تقصد بذلك أن ندمه مرجو الوجود لا متيقن به أو نادر الوجود بل تريد أن العاقل يجب عليه أن يجتنب أمرا يرجى منه الندم أو قل ما يقع فيه فكيف إذا كان قطعي الوجود كثير الوقوع واشتهر أن النكرة هنا في معنى العموم وهي قد تعم في الإثبات إذا اقتضى المقام أو نحوه ذلك ومنه قول ابن عمر لبعض أهل الشام وقد سأله عن المحرم إذا قتل جرادة أيتصدق بتمرة فدية لها تمرة خير من جرادة قيل ولهذا العموم ساغ الابتداء بالنكرة فيه وقول بعض أنه لا عموم فيها بل العموم جاء من تساوي نسبة الجزء إلى أفراد الجنس قيل مبني على ظن منافاة العموم للوحدة والإفراد وأنت تعلم أن ذلك إنما ينافي العموم الشمولي دون البدلي وقال بعض لا يبعد أن يقال استفيد العموم بجعلها في حيز النفي معنى لأن علمت نفس في معنى لم تجهل نفس لأن الحكم بالشيء يستلزم نفي ضده ليس بشيء وإلا لعمت كل نكرة في الإثبات بنحو هذا التأويل وعن عبد الله بن مسعود أن قارئا قرأ هذه السورة عنده فلما بلغ علمت نفس ما أحضرت قال وانقطاع ظهرياه.
* (فلا أقسم بالخنس) *
* (فلا أقسم بالخنس) * جمع خانس من الخنوس وهو الانقباض والاستخفاء.
* (الجوار الكنس) *
* (الجواري) * جمع جارية من الجري وهو المر السريع وأصله لمر الماء ولما يجري بجريه * (الكنس) * جمع كانس وكانسة من كنس الوحش إذا دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر والمراد بها على ما أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه الكواكب أي جميعها فقيل لأنها تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها وفي تفسير تكنس بتطلع خفاء وقيل لأنها تخنس نهارا وتخفى عن العيون مع طلوعها وكونها فوق الأفق وتكنس بعد طلوعها في المغيب وتدخل فيه كما تكنس الطباء في الكنس فتكون تحت الأفق بعد إن كانت فوقه وروي تفسيرها
57

بالكواكب عن الحسن وقتادة أيضا وأخرج ابن أبي حاتم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: هي خمسة أنجم زحل وعطارد والمشتري وبهرام يعني المريخ والزهرة والخنس الرواجع من خنس إذا تأخر ووصفت بما ذكر في الآية لأنها تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها بحسب الرؤية وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها وتسمى المتحيرة لاختلاف أحوالها في سيرها فيما يشاهد فلها استقامة ورجعة وإقامة فبينما تراها تجري إلى جهة إذا بها راجعة تجري إلى خلاف تلك الجهة وبينما تراها تجري إذا بها مقيمة لا تجري وسبب ذلك على ما قال المتقدمون من أهل الهيئة كونها في تداوير في حوامل مختلفة الحركات على ما بين في موضعه وللمحدثين منهم النافين لما ذكر غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم وهي مع الشمس والقمر يقال لها السيارات السبع لأن سيرها بالحركة الخاصة مما لا يكاد يخفى على أحد بخلاف غيرها من الثوابت وأخرج الخطيب في كتاب النجوم وابن مردويه عن ابن عباس أنها المرادة هنا ووصفهاب الخنس بمعنى الرواجع قيل من باب التغليب إذ لا جعة للشمس ولا للقمر وبالخنس لاختفائها في مغيبها وقيل الوصفان باعتبار أنها تغيب عن العيون وتطلع في أماكنها على نحو ما تقدم على تقدير أن يكون المراد بها الكواكب جميعها وكون السيارات هي هذه السبع هو المعروف عند المتقدمين من المنجمين وأما اليوم فقد ضموا إليها كواكب أخر يقال لها وستا وزونوا وبالاس وسرس وأورونوس ويسمى هرشل وهو اسم المنجم الذي ظفر به بالرصد وبينوا مقدار أقطارها وأبعادها وحركاتها ولولا مخافة التطويل لذكرت ذلك وعدوا من جملة السيارات الأرض بناء على زعمهم أن لها حركة حول الشمس واشتهر أنهم لم يعدوا القمر منها لكونه من توابع الأرض بزعمهم وأخرج الحاكم وصححه وجماعة من طرق عن ابن مسعود أنها بقر الوحش وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعبد بن حميد عن مجاهد وأبي ميسرة والحسن وحكاه في " البحر " عن النخعي وجابر بن زيد وجماعة وأخرج ابن جرير عن الحبر أنها الظباء وروي ذلك أيضا عن ابن جبير والضحاك قالوا والخنس تأخر الأنف عن الشفة مع ارتفاع قليل من الأرنبة وتوصف به بقر الوحش والظباء ومنه قول بعض المولدين: ما سلم الظبي على حسنه * كلا ولا البدر الذي يوصف
فالظبي فيه خنس بين * والبدر فيه كلف يعرف
* (واليل إذا عسعس) *
* (والليل إذا عسعس) * أي أدبر ظلامه أو أقبل وكلاهما مأثوران عن ابن عباس وغيره وهو من الأضداد عند المبرد وقال الراغب العسعسة والعساس رقة الظلام وذلك في طرفي الليل فهو من المشترك المعنوي عنده وليس من الأضداد وفسر عسعس هنا بأقبل وأدبر معا وقال ذلك في مبدأ الليل ومنتهاه وقال الفراء أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر وعليه العجاج يصف الخمر أو المفازة. حتى إذا الصبح لها تنفسا * وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وقيل هي لغة قريش خاصة وقيل كونه بمعنى أقبل ظلامه أوفق بقوله تعالى:
* (والصبح إذا تنفس) *
* (والصبح إذا تنفس) * فإنه أول النهار فيناسب أول الليل وقيل كونه بمعنى أدبر أنسب بهذا لما بين أدبار الليل وتنفس الصبح من الملاصقة فيكون بينهما مناسبة الجوار والمراد من تنفس الصبح على ما ذكر غير واحد إضاءته وتبلجه وفي " الكشاف " أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفسا له على المجاز وقيل تنفس الصبح وعنى بالمجاز الاستعارة لأنه لما كان النفس ريحا خاصا يفرح عن القلب انبساطا وانقباضا شبه ذلك النسيم بالنفس وأطلق عليه الاسم استعارة وجعل الصبح متنفسا لمقارنته له ففي الكلام استعارة مصرحة وتجوز في الإسناد وظاهر
58

كلام بعضهم أنه بعد الاستعارة يكون ذلك كناية عن الإضاءة وجوز أن يكون هناك مكنية وتخييلية بأن يشبه الصبح بماش وآت من مسافة بعيدة ويثبت له التنفس المراد به هبوب نسيمه مجازا على طريق التخييل كما في ينقضون عهد الله وقال الإمام النهار بغشيان الليل المظلم كالمكروب وكما أنه يجد راحة بالتنفس كذلك تخلص الصبح من الظلام وطلوعه كأنه تخلص من كرب إلى راحة وهذا أدق مما في " الكشاف " كما لا يخفى وجوز أن يقال إن الليل لما غشي النهار ودفع به إلى تحت الأرض فكأنه أماته ودفنه فجعل ظهور ضوئه كالتنفس الدال على الحياة وهو نحو مما نقل عن الإمام وقيل تنفس أي توسع وامتد حتى صار نهارا والظاهر أن التنفس في الآية إشارة إلى الفجر الثاني الصادق وهو المنتشر ضوءه معترضا بالأفق بخلاف الأول الكاذب وهو ما يبدو مستطيلا وأعلاه أضوأ منت باقيه ثم يعدم وتعقبه ظلمة أو يتناقص حتى ينغمر في الثاني على زعم بعض أهل الهيئة أو يختلف حاله في ذلك تارة وتارة بحسب الأزمنة والعروض على ما قيل وسمي هذا الكاذب عارضا ففي خبر مسلم لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير أي ينتشر ذلك العموم في نواحي الأفق وكلام بعض الأجلة يشعر بأنه فيها إشارة إلى الكاذب حيث قال يؤخذ من تسمية الفجر الأول عارضا للثاني أنه يعرض للشعاع الناشىء عنه الفجر الثاني انحباس قرب ظهوره كما يشعر به التنفس في قوله تعالى: * (والصبح إذا تنفس) * فعند ذلك الانحباس يتنفس منه شيء من شبه كوة والمشاهد في المنحبس إذا خرج بعضه دفعة أن يكون أوله أكثر من آخره ويعلم من ذلك سبب طول العمود وأضاءه أعلاه إلى آخر ما قال وفيه بحث ثم الظاهر أن تنفس الصبح وضياءه بواسطة قرب الشمس إلى الأفق الشرقي بمقدار معين وهو في المشهور ثمانية عشر جزءا وقول الإمام: إنه يلزم على ذلك بناء على كرية الأرض واستضاءة أكثر من نصفها من الشمس دائما ظهور الضياء وتنفس الصبح إذا فارقت الشمس سمت القدم من دائرة نصف النهار وذلك بعيد نصف الليل والواقع خلافه تشكيك فيما يقرب أن يكون بديهيا وفيه غفلة عن أحوال ظل الأرض وانعكاس الأشعة من أبصار سكنة أقطارها فتأمل ولا تغفل والواو في قوله تعالى والصبح والليل على ما نقل عن ابن جني للعطف وإذا ليس معمولا لفعل القسم لفساد المعنى إذ التقييد بالزمان غير مراد حالا كان أو استقبالا وإنما هو على ما اختاره غير واحد معمول مضاف مقدر من نحو العظمة لأن الإقسام بالشيء إعظام له كأنه قيل ولا أقسم بعظمة الليل زمان عسعس وبعظمة النهار زمان تنفس على نحو قولهم عجبا من الليث إذا سطا فإنه ليس المعنى على تقييد بالليل كائنا إذا عسعس والحال مقدرة أي مقدرا كونه في ذلك الوقت وصرح العلامة التفتازاني في التلويح في مثله أن إذا بدل من الليل إذ ليس المراد تعليق القسم وتقييده بذلك الوقت ولهذا منع المحققون كونه حالا من الليل لأنه أيضا يفيد تقييد القسم بذلك الوقت وسيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الشمس ما يتعلق بهذا المقام أيضا.
* (إنه لقول رسول كريم) *
* (إنه) * أي القرآن الجليل الناطق بما ذكر من الدواهي الهائلة وجعل الضمير للإخبار عن الحشر والنشر تعسف * (لقول رسول) * هو كما قال ابن عباس وقتادة والجمهور جبريل عليه السلام ونسبته إليه عليه السلام لأنه واسطة فيه وناقل له عن مرسله وهو الله عز وجل * (كريم) * أي عزيز على الله سبحانه وتعالى وقيل متعطف على المؤمنين.
* (ذى قوة عند ذى العرش مكين) *
* (ذي قوة) * أي شديد كما قال سبحانه شديد القوى وجاء في قوته أنه عليه السلام بعث إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن وفي كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري فحملها بمن فيها من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب ثم هوى بها فأهلكها وقيل المراد القوة في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال
59

بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف وقيل لا يبعد أن يكون المراد قوة الحفظ والبعد عن النسيان والخلط * (عند ذي العرش مكين) * أي ذي مكانة رفيعة وشرف عند الله العظيم جل جلاله عندية إكرام وتشريف لا عندية مكان فالظرف متعلق بمكين وهو فعيل من المكانة وقد كثر استعمالها كما في الصحاح حتى ظن أن الميم من أصل الكلمة واشتق منه تمكن كما اشتق من المسكنة تمسكن وجوز أن يكون مصدرا ميميا من الكون وأصله مكون بكسر الواو فصار بالنقل والقلب مكينا وأريد بالكون الوجود كأنه من كمال الوجود صار عين الوجود والأول هو الظاهر وقيل إن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة أخرى لرسول أي كائن عند ذي العرش الكينونة اللائقة وهو كما ترى.
* (مط‍اع ثم أمين) *
* (مطاع) * فيما بين الملائكة المقربين عليهم السلام يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه * (ثم) * ظرف مكان للبعيد وهو يحتمل أن يكون ظرفا لما قبله وجعل إشارة إلى عند ذي العرش والمراد بكونه مطاعا هناك كونه مطاعا في ملائكته تعالى المقربين كما سمعت ويحتمل أن يكون ظرفا لما بعده أعني قوله سبحانه: * (أمين)
* والإشارة بحالها وأمانته على الوحي وفي رواية عنه عليه السلام أنه قال: أمانتي أني لم أومر بشيء فعدوته إلى غيره ولأمانته أنه عليه السلام يدخل الحجب كما في بعض الآثار بغير إذن وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو البرهسم وابن مقسم ثم بضم الثاء حرف عطف تعظيما للأمانة وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة وقال صاحب اللوامح هي بمعنى الواو لأن جبريل عليه السلام كان بالصفتين معا في حال واحدة ولو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى على ثم أمين عند انفصاله عنهم حال وحيه إلى الأنبياء عليهم السلام لجاز إن ورد به أثر انتهى والمعول عليه ما سمعت والمقام يقتضي تعظيم الأمانة لأن دفع كون القرآن افتراء منوط بأمانة الرسول.
* (وما ص‍احبكم بمجنون) *
* (وما صاحبكم) * هو رسول الله صلى الله عليه وسلم * (بمجنون) * كما تبهته الكفرة قاتلهم الله تعالى وفي التعرض لعنوان الصحبة مضافة إلى ضميرهم على ما هو الحق تكذيب لهم بألطف وجه إذ هو إيماء إلى أنه عليه الصلاة والسلام نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن فأنتم أعرف به وبأنه صلى الله عليه وسلم أتم الخلق عقلا وأرجحهم قيلا وأكملهم وصفا وأصفاهم ذهنا فلا يسند إليه الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون. واستدل الزمخشري بالمبالغة في ذكر جبريل عليه السلام وتركها في شأن النبي صلى الله عليه وسلم على أفضليته عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وأجابوا بما بحث فيه والوجه في الجواب على ما في " الكشف " أن الكلام مسوق لحقية المنزل دلالة على صدق ما ذكر فيه من أهوال القيامة وقد علمت أن من شأن البليغ أن يجرد الكلام لما ساق له لئلا يعد الزيادة لكنة وفضولا ولا خفاء أن وصف الآتي بالقول يشد من عضد ذلك أبلغ شد وأما وصف من أنزل عليه فلا مدخل له في البين إلا إذا كان الغرض الحث على اتباعه فلهذا لم تدل المبالغة في شأن جبريل عليه السلام وعد صفاته الكوامل وترك ذلك في شأن نبينا عليه أفضل الصلوات والتسليمات على تفضيله بوجه. وقال بعضهم إن لأحد من هو معزز معظم مقرب لديه دل على أن المرسل إليه بمكانة عنده ليس فوقها مكانة وقد علمت أن المقام ليس للمبالغة في مدح المنزل عليه وقيل المراد بالرسول هو نبينا صلى الله عليه وسلم كالمراد بالصاحب وهو خلاف الظاهر الذي عليه الجمهور.
* (ولقد رءاه بالافق المبين) *
* (ولقد رآه) * أي وبالله تعالى لقد رأى صاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسول الكريم جبريل عليه السلام على كرسي بين السماء والأرض بالصورة التي خلقه
60

الله تعالى عليها له ستمائة جناح * (بالأفق المبين) * وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق كما روى عن الحسن وقتادة ومجاهد وسفيان وفي رواية عن مجاهد أنه صلى الله عليه وسلم رآه عليه السلام نحو جياد وهو مشرق مكة وقيل إن المراد به مطلع رأس السرطان فإنه أعلى المطالع لأهل مكة وهذه الرؤية كانت فيها بعد أمر غار حراء. وخكى ابن شجرة أنه أفق السماء الغربي وليس بشيء. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية رآه في صورته عند سدرة المنتهى والأفق على هذا قيل بمعنى الناحية وقيل سمي ذلك أفقا مجازا.
* (وما هو على الغيب بضنين) *
* (وما هو) * أي رسول الله صلى الله عليه وسلم * (على الغيب) * على ما يخبر به من الوحي إليه وغيره من الغيوب * (بضنين) * من الضن بكسر الضاد وفتحها بمعنى البخل أي ببخيل لا يبخل بالوحي ولا يقصر في التبليغ والتعليم ومنح كل ما هو مستعد له من العلوم على خلاف الكهنة فإنهم لا يطلعون على ما يزعمون معرفته إلا بإعطاء حلوان وقرأ ابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم ومن السبعة النحويان وابن كثير بظنين بالظاء أي بمتهم من الظنة بالكسر بمعنى التهمة وهو نظير الوصف السابق بامين. وقيل معناه بضعيف القوة على تبليغ الوحي من قولهم بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء والأول أشهر ورجحت هذه القراءة عليها بأنها أنسب بالمقام لاتهام الكفرة له صلى الله عليه وسلم ونفي التهمة أولى من نفي البخل وبأن التهمة تتعدى بعلى دون البخل فإنه لا يتعدى بها إلا باعتبار تضمينه معنى الحرص ونحوه لكن قال الطبري بالضاد خطوط المصاحف كلها ولعله أراد المصاحف المتداولة فإنهم قالوا بالظاء خط مصحف ابن مسعود ثم أن هذا لا ينافي قول أبي عبيدة أن الظاهر والضاد في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة رأس إحداهما على الأخرى زيادة يسير قد تشتبه كما لا يخفى والفرق بين الضاد والظاء مخرجا أن الضاد مخرجها من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره ومنهم من يتمكن من إخراجها منهما والظاء مخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا واختلفوا في إبدال إحداهما بالأخرى هل يمتنع وتفسد به الصلاة أم لا فقيل تفسد قياسا ونقله في المحيط البرهاني عن عامة المشايخ ونقله في الخلاصة عن أبي حنيفة ومحمد وقيل لا استحسانا ونقله فيها عن عامة المشايخ كأبي مطيع البلخي ومحمد بن سلمة وقال جمع أنه إذا أمكن الفرق بينهما لتعمد ذلك وكان مما لم يقرأ به كما هنا وغير المعنى فسدت صلاته وإلا فلا لعسر التمييز بينهما خصوصا على العجم وقد أسلم كثير منهم في الصدر الأول ولم ينقل حثهم على الفرق وتعليمه من الصحابة ولو كان لازما لفعلوه ونقل وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه ويفتي به وقد جمع بعضهم الألفاظ التي لا يختلف معناها ضادا وظاء في رسالة صغيرة ولقد أحسن بذلك فليراجع فإنه مهم.
* (وما هو بقول شيط‍ان رجيم) *
* (وما هو) * أي القرآن * (بقول شيطان رجيم) * أي بقول بعض المسترقة للمسع لأنها هي التي ترجم وهو نفي لقولهم أنه كهانة.
* (فأين تذهبون) *
* (فأين تذهبون) * استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر القرآن العظيم كقولك تارك الجادة الذاهب في بنيات الطريق أين تذهب والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ظهور أنه وحي.
* (إن هو إلا ذكر للع‍المين) *
* (إن هو) * أي ما هو * (إلا ذكر للعالمين) * موعظة وتذكير عظيم لمن يعلم وضمير هو للقرآن أيضا وجوز كون الضميرين للرسول عليه الصلاة والسلام أي وما هو ملتبس بقول شيطان رجيم كما هو شأن الكهنة إن هو إلا * (مذكر للعالمين) * وقوله تعالى: * (فأين) * الخ استضلال لهم فيما يسلكونه في أمره صلى الله عليه وسلم وهو كما ترى وقوله سبحانه:
* (لمن شآء منكم أن يستقيم) *
* (لمن شاء منكم) * بدل من العالمين بدل بعض من كل والبدل هو المجرور وأعيد معه العامل على
61

المشهور وقيل هو الجار والمجرور وجوز أن يكون بدل كل من كل لإلحاق من لم يشأ بالبهائم ادعاء وهو تكلف وقوله تعالى: * (أن يستقيم) * مفعول شاء أي لمن شاء منكم الاستقامة بتحري الحق وملازمة الصواب وإبداله من العالمين لأنهم المنتفعون بالتذكير.
* (وما تشآءون إلا أن يشآء الله رب الع‍المين) *
* (وما تشاؤن) * أي الاستقامة بسبب من الأسباب * (إلا أن يشاء الله) * أي إلا بأن * (يشاء الله) * تعالى مشيئتكم فمشيئتكم بسبب مشيئة الله تعالى * (رب العالمين) * أي ملك الخلق ومربيهم أجمعين وما تشاءون الاستقامة مشيئة نافعة مستتبعة لها إلا بأن يشاءها الله تعالى فله سبحانه الفضل والحق عليكم باستقامتكم إن استقتم روى عن سليمان بن موسى والقاسم بن مخيمرة أنه لما نزلت لمن شاء منكم أن يستقيم قال أبوجهل جعل الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فأنزل الله تعالى: * (وما تشاءون) * الآية وأن وما معها هنا على ما ذكرنا في موضع خفض باضمار باء السببية وجوز أن تكون للمصاحبة وذهب غير واحد إلى أن الاستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي وما تشاءون الاستقامة في وقت من الأوقات إلا وقت أن يشاء الله تعالى شأنه استقامتكم وهو مبني على ما نقل عن الكوفيين من جواز نيابة المصدر المؤول من أن والفعل عن الظرف وفي الباب الثامن من المغنى أن أن وصلتها لا يعطيان حكم المصدر في النيابة عن ظرف الزمان تقول جئتك صلاة العصر ولا يجوز جئتك أن تصلي العصر فالأولى ما ذكرنا أولا وإليه ذهب مكي وذهب القاضي إلى الثاني وقد اعترض عليه أيضا بأن ما لنفي الحال وأن خاصة للاستقبال فيلزم أن يكون وقت مشيئته تعالى المستقبل ظرفا لمشيئة العبد الحالية وأجيب بأنا لا نسلم أن ما مختصة بنفي الحال ومن ادعى اختصاصها بذلك اشترط انتفاء القرينة على خلافه ولم تنتف ههنا لمكان أن في حيزها أو بأن كون أن للاستقبال مشروط بانتفاء قرينة خلافه وههنا قد وجدت لمكان ما قبلها فهي لمجرد المصدرية وقيل يندفع الاعتراض بجعل الاستثناء منقطعا فليجعل كذلك وإن كان الأصل فيه الاتصال وليس بشيء وقد أورد على وجه السببية الذي ذكرناه نحو ذلك وهو أنه يلزم من كون ما لنفي الحال وأن للاستقبال سببية المتأخر للمتقدم ومما ذكر يعلم الجواب كما لا يخفى فتأمل جميع ذلك والله تعالى الهادي لأوضح المسالك.
وقال بعض أهل التأويل الشمس شمس الروح والنجوم نجوم الحواس والجبال جبال القوالب وهي تسير كل وقت إلا أنه يظهر ذلك للمحجوب إذا كشف له الغطاء والعشار عشار القوى القالبية والوحوش وحوش الأخلاق الذميمة النفسانية والبحار بحار العناصر الطبيعية والنفوس القوى النفسانية وتزويجها قرن كل قوة بعملها والموؤدة الخواطر الإلهامية التي ترد على السالك فيئدها في قبر القالب ويظلمها والصحف على ظاهرها والسماء سماء الصدر والجحيم جحيم النفس وتسعيرها بنيران الهوى والجنة جنة القلب والخنس الأنوار المودعة في القوى القلبية والليل الأنوار الجلالية والصبح الأنوار الجمالية إلى آخر ما قال ويستدل بحال البعض على البعض وقد حكى أبو حيان شيئا من نحو ذلك وعقبه بتشنيع فظيع وهو لا يتم إلا إذا أنكر إرادة الظاهر وأما إذا لم تنكر وجعل ما ذكر ونحوه من باب الإشارة فلا يتم أمر التشنيع كما حقق ذلك في موضعه.
سورة الانفطار
وتسمى سورة انفطرت وسورة المنفطرة ولا خلاف في أنها مكية ولا في أنها تسع عشر آية ومناسبتها لما قبلها معلومة.
* (إذا السمآء انفطرت) *
* (إذا السماء انفطرت) * أي انشقت لنزول الملائكة كقوله تعالى: * (يوم
62

تشقق السماء بالغمام) * ونزل الملائكة تنزيلا والكلام في ارتفاع السماء كما مر في ارتفاع الشمس.
* (وإذا الكواكب انتثرت) *
* (وإذا الكواكب انتثرت) * أي تساقطت متفرقة وهو استعارة لإزالتها حيث شبهت بجواهر قطع سلكها وهي مصرحة أو مكنية.
* (وإذا البحار فجرت) *
* (وإذا البحار فجرت) * فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من البرزخ واختلط العذب بالإجاج وصارت بحرا واحدا وروى أن الأرض تنشف الماء بعد امتلاء الجار فتصير مستوية أي في أن لا ماء وأريد أن البحار تصير واحدة أولا ثم تنشف الأرض جميعا فتصير بلا ماء ويحتمل أن يراد بالاستواء بعد النضوب عدم بقاء مغايض الماء لقوله تعالى: * (لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) * وقرأ مجاهد والربيع بن خيثم والزعرفاني والثوري فجرت بالتخفيف مبنيا للمفعول وعن مجاهد أيضا فجرت به
مبنيا للفاعل بمعنى نبعت لزوال البرزخ من الفجور نظر إلى قوله تعالى: * (لا يبغيان) * لأن البغي والفجور أخوان.
* (وإذا القبور بعثرت) *
* (وإذا القبور بعثرت) * قلب ترابها الذي حتى على موتاها وأزيل وأخرج من دفن فيها على ما فسر به غير واحد وأصل البعثرة على ما قيل تبديد التراب ونحوه وهو إنما يكون لإخراج شيء تحته فقد يذكر ويراد معناه ولازمه معا وعليه ما سمعت وقد يتجوز به عن البعث والإخراج كما في * (العاديات حيث أسند فيها لما في القبور دونها كما هنا وزعم بعض أنه مشترك بين النبش والإخراج وذهب بعض الأئمة كالزمخشري والسهيلي إلى أنه مركب من كلمتين اختصارا ويسمى ذلك نحتا وأصل بعثر بعث وأثير ونظيره بسمل وحمدل وحوقل ودمعز أي قال بسم الله والحمد لله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى وأدام لله تعالى عزه إلى غير ذلك من النظائر وهي كثيرة في لغة العرب وعليه يكون معناه النبس والإخراج معا واعترضه أبو حيان بأن الراء ليست من أحرف الزيادة وهو توهم منه فإنه فرق بين التركيب والنحت من كلمتين والزيادة على بعض الحروف الأصول كم كلمة واحدة كما فصل في الزهر نقلا عن أئمة اللغة نعم الأصل عدم التركيب.
* (علمت نفس ما قدمت وأخرت) *
* (علمت نفس ما قدمت وأخرت) * جواب إذا لكن لا على أنها تعلمه عند البعث بل عند نشر الصحف لما عرفت أن المراد بها زمان واحد مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه الفصل بين الخلائق لا أزمنة متعددة بحسب كلمة إذا وإنما كررت لتهويل ما في حيزها من الدواهي والكلام فيه كالذي مر في نظيره ومعنى ما قدم وأخر ما أسلف من عمل خير أو شر وأخر من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وأبي مسعود وعن ابن عباس أيضا ما قدم معصية وأخر طاعة وهو قول قتادة وقيل ما عمل ما كلف به وما لم يعمل منه وقيل ما قدم من أمواله لنفسه وما أخر لورثته وقيل أول عمله وآخره ومعنى علمها بهما علمها التفصيلي حسبما ذكر فيما قدم.
* (ياأيها الإنس‍ان ما غرك بربك الكريم) *
* (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) * أي أي شيء خدعك وجراك على عصيانك تعالى وارتكاب ما لا يليق بشأن عز شأنه وقد علمت ما بين يديك وما سيظهر من أعمالك عليك والتعرض لعنوان كرمه تعالى دون قهره سبحانه من صفات الجلال المانعة ملاحظتها عن الاغترار للإيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدارا لاغتراره حسبما يغويه الشيطان ويقول له افعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك في الدنيا وسيفعل مثله في الآخرة أو يقول له نحو ذلك مما مبناه الكرم كقول بعض شياطين الإنس: تكثر ما استطعت من الخطايا * ستلقى في غد ربا غفورا
تعض ندامة كفيك مما * تركت مخافة الذنب السرورا
فإنه قياس عقيم وتمنية باطلة بل هو مما يوجب المبالغة في الإقبال على الايمان والطاعة والاجتناب عن الكفر والعصيان دون العكس ولذا قال بعض العارفين لو لم أخف الله تعالى لم أعصه فكأنه قيل ما حملك على عصيان ربك
63

الموصوف بما يزجر عنه وتدعو إلى خلافه وقيل إن هذا تلقين للحجة وهو من الكرم أضا فإنه إذا قبل له ما غرك الخ يتفطن للجواب الذي لقنه ويقول كرمه كما قيل يعرف حسن الخلق والإحسان بقلة الآداب في الغلمان ولم يرتض ذلك الزمخشري وكان الاغترار بذلك في النظر الجليل وإلا فهو في النظر الدقيق كما سمعت وعن الفضيل أنه قال غره ستره تعالى المرخي وقال محمد بن السماك: يا كاتم الذنب أما تستحي * والله في الخلوة رائيكا
غرك من ربك إمهاله * وستره طول مساويك
وقال بعضهم: يقول مولاي أما تستحي * مما أرى من سوء أفعالك
فقلت يا مولاي رفقا فقد * جرأني كثرة أفضالك
وقال قتادة غره عدوه المسلط عليه وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية فقال الجهل وقاله عمر رضي الله تعالى عنه وقرأ أنه كان ظلوما جهولا والفرق بين هذا وبين ماذكروا لا يخفى على ذي علم واختلف في الإنسان المنادى فقيل الكافر بل عن عكرمة أنه أبي بن خلف وقيل الأعم الشامل للعصاة وهو الوجه لعموم اللفظ ولوقوعه بين المجمل ومفصله أعنى علمت نفس وأن الأبرار وأن الفجار وأما قوله تعالى: * (بل يكذبون بالدين) * ففي " الكشف " أما أن يكون ترشيحا لقوة اغترارهم بإيهام أنهم أسوأ حالا من المكذبين تغليظا وأما لصحة خطاب الكل بما وجد فيما بينهم وقرأ ابن جبير والأعمش ما أغرك بهمزة فاحتمل أن يكون تعجبا وأن تكون ما استفهامية كما في قراءة الجمهور وأغرك بمعنى أدخلك في الغرة وقوله سبحانه:
* (الذى خلقك فسواك فعدلك) *
* (الذي خلقك فسواك فعدلك) * صفة ثانية مقررة للربوبية مبينة للكرم مومية إلى صحة ما كذب من البعث والجزاء موطئة لما بعد حيث نبهت على أن من قدر على ذلك بدأ أقدر عليه إعادة والتسوية جعل الأعضاء سوية سليمة معدة لمنافعها وهي في الأصل جعل الأشياء على سواء فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها بإعطائها ما تتم به وعدلها عدل بعضها ببعض بحيث اعتدلت من عدل فلانا بفلان إذا ساوى بينهما أو صرفها عن خلقة غير ملائمة لها من عدل بمعنى صرف وذهب إلى الأول الفارسي وإلى الثاني الفراء وقرأ غير واحد من السبعة عدلك بالتشديد أي صيرك معتدلا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه ونقل القفال عن بعضهم إن عدل وعدل بمعنى واحد.
* (فىأى صورة ما شآء ركبك) *
* (في أي صورة ما شاء ركبك) * أي ركبك ووضعك في أي صورة اقتضتها مشيئته تعالى وحكمته جل وعلا من الصور المختلفة في الطول والقصر ومراتب الحسن
ونحوها فالجار والمجرور متعلق بركبك وأي للصفة مثلها في قوله: أرأيت أي سوالف وخدود * برزت لنا بن اللوى وزرود
ولما أريد التعميم لم يذكر موصوفها وجملة شاء صفة لها والعائد محذوف وما مزيدة وإنما لم تعطف الجملة على ما قبلها لأنها بيان لعدلك وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال أي ركبك كائنا في أي في صورة شاءها وقيل أي موصولة صلتها جملة شاءها كأنه قيل ركبك في الصورة التي شاءها وفيه أنه صرح أبو علي في التذكرة بأن أيا الموصولة لا تضاف إلى نكرة وقال ابن مالك في الألفية واخصصن بالمعرفة موصولة أيا.
وفي شرحها للسيوطي مع اشتراط ما سبق يعني كون المعرفة غير مفردة فلا تضفها إلى نكرة خلافا لابن عصفور ويجوز أن تجعل أي شرطية والماضي في جوابها في معنى المستقبل إذا نظر إلى تعلق المشيئة وترتب التركيب عليه فجيء بصورة إلى الماضي نظر إلى المشيئة وأداة الشرط نظرا إلى المتعلق والترتب ويجوز أن يكون الجار متعلقا بعدلك وحينئذ يتعين في أي الصفة كأنه قيل فعدلك في صورة أي صورة أي في صورة عجيبة ثم حذف الموصوف زيادة للتفخيم والتعجيب وأي هذه منقولة من الاستفهامية لكنها
64

لانسلاخ معناها عنها بالكلية عمل فيها ما قبلها ويكون ما شاء ركبك كلاما مستأنفا وما أما موصولة أو موصوفة مبتدأ أو مفعولا مطلقا لركبك أي ما شاء من التركيب ركبك فيه أو تركيبا شاء ركبك وجوز أن تكون شرطية وشاء فعل الشرط وركبك جزاؤه أي إن شاء تركيبك في أي صورة غير هذه الصورة ركبك فيها والجملة الشرطية في موضع الصفة لصورة والعائد محذوف ولم يجوزوا على هذا الوجه تعلق الظرف بركبك لأن معمول ما في حيز الشرط لا يجوز تقديمه عليه.
* (كلا بل تكذبون بالدين) *
* (كلا) * ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى وجعله ذريعة إلى الكفر والمعاصي مع كونه موجبا للشكر والطاعة وقوله تعالى: * (بل تكذبون بالدين) * إضراب عن جملة مقدرة ينساق إليها الكلام كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجترؤن على أعظم منه حيث تكذبون بالجزاء والبعث رأسا أو بدين الإسلام اللذين هما من جملة أحكامه فلا تصدقون سؤالا ولا جوابا ولا ثوابا ولا عقابا وفيه ترق من الأهون إلا الأغلظ وعن الراغب بل هنا لتصحيح الثاني وإبطال الأول كأنه قيل ليس هنا مقتضى لغرورهم ولكن تكذيبهم حملهم على ما ارتكبوه وقيل تقدير الكلام أنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمي عليكم وإرشادي لكم بل تكذبون الخ وقيل إن كلا ردع عما دل عليه هذه الجملة من نفيهم البعث وبل إضراب عن مقدر كأنه قيل ليس الأمر كما تزعمون من نفي البعث والنشور ثم قيل لا تتبينون بهذا البيان بل تكذبون الخ وأدغم خارجة عن نافع ركبك كلا كأبي عمرو في إدغامه الكبير وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وأبو بشر يكذبون بياء الغيبة وقوله تعالى:
* (وإن عليكم لح‍افظين) *
* (وإن عليكم لحافظين) * حال من فاعل تكذبون مفيدة لبطلان تكذيبهم وتحقيق ما يكذبون به من الجزاء على لوجهين في الدين أي تكذبون بالجزاء والحال إن عليكم من قبلنا لحافظين لأعمالكم.
* (كراما ك‍اتبين) *
* (كراما) * لدينا * (كاتبين) * لها.
* (يعلمون ما تفعلون) *
* (يعلمون ما تفعلون) * من الأفعال قليلا كان أو كثيرا ويضبطونه نقيرا أو قطميرا وليس ذلك للجزاء وإقامة الحجة وإلا لكان عبثا ينزه عنه الحكيم العليم وقيل جيء بهذه الحال استبعاد للتكذيب معها وليس بذاك وفي تعظيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء وأنه عند الله عز وجل من جلائل الأمور حيث استعمل سحبانه فيه هؤلاء الكرام لديه تعالى ثم إن هؤلاء الحافظين غير المعقبات في قوله تعالى: * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) * فمع الإنسان عدة ملائكة روى عن عثمان أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم كم من ملك على الإنسان فذكر عليه الصلاة والسلام عشرين ملكا قال المهدوي في الفيصل وقيل إن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك ومن يكتب الأعمال ملكان كاتب الحسنات وهو في المشهور على العاتق الأيمن وكاتب ما سواها وهو على العاتق الأيسر والأول أمين على الثاني فلا يمكنه من كتابة السيئة الأبعد مضى ست ساعات من غير مكفر لها ويكتبان كل شيء حتى الاعتقاد والعزم والتقرير وحتى الأنين في المرض وكذا يكتبان حسنات الصبي على الصحيح ويفارقان المكلف عند الجماع ولا يدخلان مع العبد الخلاء وأخرج البزار عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حاجات الغائط والجنابة والغسل ولا يمنع ذلك من كتبهما مايصدر عنه ويجعل الله تعالى لهما أمارة على الاعتقاد القلبي ونحوه ويلزمان العبد إلى مماته فيقومان على قبره يسبحان ويهللان ويكبران ويكتب ثوابه للميت إلى يوم القيامة إن كان مؤمنا ويلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا واستظهر بعضهم أنهما اثنان بالشخص وقيل بالنوع وقيل كاتب الحسنات يتغير دون كاتب السيئات ونصوا على أن المجنون
65

لا حفظة عليه وورد في بعض الآثار ما يدل على أن بعض الحسنات ما يكتبها غير هذين الملكين والظواهر تدل على أن الكتب حقيقي وعلم الآلة وما يكتب فيه مفوض إلى الله عز وجل وقوله سبحانه:
* (إن الابرار لفى نعيم * وإن الفجار لفى جحيم) *
* (إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم) * استئناف مسوق لبيان نتيجة الحفظ والكتب من الثواب والعقاب وفي تنكير النعيم والجحيم ما لا يخفى من التفخيم
والتهويل وقوله تعالى:
* (يصلونها يوم الدين) *
* (يصلونها) * أما صفة للجحيم أو حال من ضمير الفجار في الخبر أو استئناف مبني على سؤال نشأ من تهويلها كأنه قيل ما حالهم فيها فقيل يقاسون حرها وقرأ ابن مقسم يصلونها مشددا مبنيا للمفعول. * (يوم الدين) * يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به استقلالا أو في ضمن تكذيبهم بالإسلام.
* (وما هم عنها بغآئبين) *
* (وما هم عنها بغائبين) * طرفة عين فإن المراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار وهو كقوله تعالى: * (وما هم بخارجين) * منها في الدلالة على سردمية العذاب وأنهم لا يزالون محسين بالنار وقيل معناه وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم حسبما قال النبي صلى الله عليه وسلم القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار على أن غائبين من حكاية الحال الماضية والجملة قيل على الوجهين في موضع الحال لكنها على الأول حال مقدرة وعلى الثاني من باب جاؤكم حصرت صدورهم وقيل إنها على الأول حالية دون الثاني لانفصال ما بين صلى النار وعذاب القبر بالبعث وما في موقف الحساب بل هي عليه معطوفة على ما قبلها ويحتمل اسم الفاعل فيها أعني غائبين على الحال أي وما هم عنها بغائبين الآن لتغاير المعطوف عليه الذي أريد به الاستقبال والكلام على ما عرف في أخباره تعالى من التعبير عن المستقبل بغيره لتحققه فلا يرد أن بعض الفجار في زمرة الأحياء بعد وبعضهم لم يخلق كذلك وعذاب القبر بعد الموت فكيف يحمل غائبين على الحال وقوله تعالى:
* (ومآ أدراك ما يوم الدين * ثم مآ أدراك ما يوم الدين) *
* (وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين) * تفخيم لشأن يوم الدين الذي يكذبون به أثر تفخيم وتعجيب منه بعد تعجيب والخطاب فيه عام والمراد أن كنه أمره بحيث يدركه دراية داري وقيل الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم وقيل للكافر والإظهار في موضع الإضمار تأكيد لهول يوم الدين وفخامته وقد تقدم الكلام في تحقيق كون الاستفهام في مثل ذلك مبتدأ أو خبرا مقدما فلا تغفل وقوله سبحانه:
* (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله) *
* (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئد لله) * بيان إجمالي لشأن يوم الدين إثر أبهامه وإفادة خروجه عن الدائرة الدراية قيل بطريق إنجاز الوعد فإن نفي الإدراء مشعر بالوعد الكريم بالادراء على ما روى عن ابن عباس من أنه قال كل ما في القرآن من قوله تعالى: * (ما أدراك فقد أفراده) * وكل ما فيه من قوله عز وجل: * (ما يدريك) * فقد طوى عنه ويوم منصوب بإضمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين وتشويقه صلى الله عليه وسلم إلى معرفته اذكر يوم لا تملك نفس من النفوس لنفس من النفوس مطلقا لا للكافرة فقط كما روى عن مقاتل شيئا من الأشياء الخ فإنه يدريك ما هو أو مبني على الفتح محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف على رأي من يرى جواز بناء الظرف إذا أضيف إلى ير متمكن وهم الكوفيون أي هو يوم لا تملك الخ وقيل هو نصب على الظرفية بإضمار يدانون أو يشتد الهول أو نحوه مما يدل عليه السياق أو هو مبنى على الفتح محله الرفع على أنه بدل من يوم الدين وكلاهما ليسا بذاك لخولهما عن إفادة ما أفاده ما قبل وقرأ ابن أبي إسحق وعيسى وابن جندب وابن كثير وأبو عمرو يوم بالرفع بلا تنوين على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو يوم لا بدل لما سمعت آنفا وقرأ محبوب عن أبي عمرو يوم بالرفع والتنوين فجملة لا تملك الخ في موضع الصفة له والعائد محذوف أي في والأمر كما قال في الكشف واحد الأوامر لقوله تعالى لمن الملك اليوم فإن الأمر
66

من شأن الملك المطاع واللام للاختصاص أي الأمر له تعالى لا لغيره سبحانه لا شركة ولا استقلالا أي أن التصرف جميعه في قبضة قدرته عز وجل لا غير وفي تحقيق قوله تعالى * (لا تملك نفس لنفس شيئا) * لدلالته على أن الكل مسوسون مطيعون مشتغلون بحال أنفسهم مقهورون بعبوديتهم لسطوات الربوبية وقيل واحد الأمور أعني الشأن وليس بذاك وقول قتادة فيما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن المنذر أي ليس ثم أحد يقضي شيئا ولا يصنع شيئا غير رب العالمين تفسير لحاصل المعنى لا إيثار لذلك هذا وقوله وحده ليس بحجة يترك له الظاهر والمنازعة في الظهور مكابرة وأيا ما كان فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة يوم القيامة كما لا يخفى والله تعالى أعلم.
سورة التطفيف
ويقال لها سورة المطففين واختلف في كونها مكية أو مدنية فعن ابن مسعود والضحاك أنها مكية وعن الحسن وعكرمة أنها مدنية وعليه السدي قال كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيا لأن يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت وعن ابن عباس روايات فأخرج ابن الضريس عنه أنه قال آخر ما نزل بمكة سورة المطففين وأخرج ابن مردويه والبيهقي عنه أنه قال أول ما نزل بالمدينة * (ويل للمطففين) * ويؤيد هذه الرواية ما أخرجه النسائي وابن ماجه والبيهقي في " شعب الايمان " بسند صحيح وغيرهم عنه قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من اخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى: * (ويل للمطففين) * فاحسنوا الكيل بعد ذلك وفي رواية عنه أيضا وعن قتادة أنها مكية الأثمان آيات من آخرها * (أن الذين أجرموا) * الخ وقيل إنها مدنية إلا ست آيات من أولها وبعض من يثبت الواسطة بين المكي والمدني يقول إنها ليست أحدهما بل نزلت بين مكة والمدينة ليصلح الله تعالى أمر أهل المدينة قبل ورود رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم وآيها ست وثلاثون بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها أنه سبحانه لما ذكر فيها قبل السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأنه ذكر عز وجل هنا ما أعد جل وعلا لبعض العصاة وذكر سبحانه بأخس ما يقع من المعصية وهو التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئا في تثمير المال وتنميته مع اشتمال هذه السورة من شرح حال المكذبين المذكورين هناك على زيادة تفصيل كما لا يخفى وقال الجلال السيوطي الفصل بهذه السورة بين الانفطار والانشقاق التي هي نظيرتها من أوجه لنكتة لطيفة ألهمنيها الله تعالى وذلك أن السور الأربع هذه والسورتان قبلها
والانشقاق لما كانت في صفة حال يوم القيامة ذكرت على ترتيب ما يقع فيه فغالب ما وقع في التكوير وجميع ما وقع في الانفطار يقع في صدر يوم القيامة ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل ومقاساة الأهوال فذكر في هذه السورة بقوله تعالى: * (يوم يقوم الناس لرب العالمين) * ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى فتنشر الصحف فآخذ باليمين وآخذ بالشمال وآخذ من وراء ظهره ثم بعد ذلك يقع الحساب كما ورد بذلك الآثار فناسب تأخر سورة الانشقاق التي فيها ايتاء الكتب والحساب عن السورة التي فيها ذكر الموقف والسورة التي فيها ذكره عن السورة التي فيها ذكر مبادي أحوال اليوم ووجه آخر وهو أنه جل جلاله لما قال في الانفطار * (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين) * وذلك في الدنيا ذكر سبحانه في هذه حال ما يكتبه الحافظون وهو مرقوم يجعل في عليين أو سجين وذلك أيضا في الدنيا كما تدل عليه الآثار فهذه حالة ثانية للكتاب ذكرت في السورة الثانية وله حالة ثالثة متأخرة عنهما وهي إيتاؤه صاحبه باليمين أو غيرها وذلك يوم القيامة فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك عن السورة التي فيها الحالة الثانية انتهى وهو وإن لم يخل عن لطافة للبحث فيه مجال فتذكر.
67

* (ويل للمطففين) *
* (ويل للمطففين) * قيل اليول شدة الشر وقيل الحزن والهلاك وقيل العذاب الأليم وقيل جبل في جهنم وأخرج ذلك عن عثمان مرفوعا ابن جرير بسند فيه نظر وذهب كثير إلى أنه واد في جهنم فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويل واد في جهنم يهوى فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره وفي " صحيحي " ابن حبان والحاكم بلفظ واد بين جبلين يهوى فيه الكافر الخ وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله أنه واد في جهنم من قبح وفي كتاب المفردات للراغب قال الأصمعي ويل قنوح وقد يستعمل للتحسر ومن قال ويل واد في جهنم لم يرد أن يولا في اللغة موضوع لهذا وإنما أراد من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرا من النار وثبت ذلك له انتهى والظاهر إن إطلاقه على ذلك كإطلاق جهنم على ما هو المعروف فيها فلينظر من أي نوع ذلك الإطلاق وأيا ما كان فهو مبتدأ وإن كان نكرة لوقوعه في موقع الدعاء وللمطففين خبره والتطفيف البخس في الكيل والوزن لما أن ما يبخس في كيل أو وزن واحد شيء طفيف أي نزر حقير والتفعيل فيه للتعدية أو للتكثير ولا ينافي كونه من الطفيف بالمعنى المذكور لأن كثرة الفعل بكثرة وقوعه وهو بتكراره لا بكثرة متعلقه وعن الزجاج أنه من طف الشيء جانبه وقوله تعالى:
* (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون) *.
* (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون) * الخ صفة مخصصة للمطففين الذين نزلت فيهم الآية أو صفة كاشفة لحالهم شارحة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل أي إذا أخذوا من الناس ما أخذوا بحكم الشراء ونحوه كيلا يأخذونه وافيا وافرا وتبديل كلمة علي هنا بمن قيل لتضمين الاكتيال معنى الاستيلاء أو للإشارة إلى أنه اكتيال مضر للناس لا على اعتبار الضرر من حيث الشرط الذي يتضمنه إذا لإخلاله بالمعنى بل في نفس الأمر بموجب الجواب بناء على أن المراد بالاستيفاء ليس أخذ الحق وافيا من غير نقص بل مجرد الأخذ الوافي الوافر حسبما أرادوا بأي وجه يتيسر من وجوه الحيل وكانوا يفعلونه بكبس المكيل ودعدعة المكيال إلى غير ذلك وقيل إن ذلك لاعتبار أن اكتيالهم لما لهم من الحق على الناس فعن الفراءان من وعلى يعتقبان في هذا الموضع فيقال اكتلت عليه أي أخذت ما عليه كيلا واكتلت منه أي استوفيت منه كيلا وتعقب بأنه مع اقتضائه لعدم شمول الحكم لاكتيالهم قبل أن يكون لهم على الناس شيء بطريق الشراء ونحوه مع أنه الشائع فيما بينهم يقتضي أن يكون معنى الاستيفاء أخذ ما لهم على الناس وافيا من غير نقص إذ هو المتبادر منه عند الإطلاق في معرض الحق فلا يكون مدارا لذمهم والدعاء عليهم وحمل ما لهم عليهم على معنى ما سيكون لهم عليهم مع كونه بعيدا جدا مما لا يجدي نفعا فإن اعتبار كون المكيل لهم حالا كان أو مآلا يستدعي كون الاستيفاء بالمعنى المذكور حتما انتهى وأقول: أن قطع النظر عن كون الآية نازلة في مطففين صفتهم أخذ مكيل الناس إذا اكتالوا وافرا حسبما يريدون فلا بأس بحملها على ما يدل على أن المأخوذ حق حالا أو مآلا وكون المتبادر حينئذ من الاستيفاء أخذ ما لهم وافيا من غير نقص مسلم لكنه لا يضر قوله فلا يكون مدارا لذمهم والدعاء عليهم قلنا مدار الذم ما تضمنه مجموع المتعاطفين والكلام كقولك فلان يأخذ حقه من الناس تاما ويعطيهم حقهم ناقصا وهي عبارة شائعة في الذم بل الذم بها أشد من الذم بنحو يأخذ ناقصا وكونه دون الذم بنحو قولك يأخذ زائدا ويعطى ناقصا لا يضر كما لا يخفى ثم يقال إن الأغلب في اكتيال الشخص من شخص كون المكيل حقا له بوجه من الوجوه ولعل مبنى كلام الفراء على ذلك فتأمل وجوز على أن تكون على متعلقة ب * (يستوفون) * ويكون تقديمها على الفعل لإفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة فأما أنفسهم فيستوفون لها وتعقب بأن القصر بتقديم الجار والمجرور إنما يكون فيما يمكن تعلق الفعل بغير المجرور أيضا حسب تعلقه به فيقصد
68

بالتقديم قصره عليه بطريق القلب أو الأفراد أو التعيين حسبما يقتضيه المقام ولا ريب في أن الاستيفاء الذي هو عبارة عن الأخذ الوافي مما لا يتصوران يكون على أنفسهم حتى يقصد بتقديم الجار والمجرور قصره على الناس على أن الحديث واقع في الفعل لا فيما وقع عليه انتهى وأجيب بأن المراد بالاستيفاء المعدي بعلي على ذلك الأضرار فكأنه قيل إذا اكتالوا يضرون الناس خاصة ولا يضرون أنفسهم بل ينفعونها والقصر بطريق القلب والاضرار مما يمكن أن يكون لأنفسهم كما يمكن أن يكون للناس وإن كان ما به الإضرار مختلفا حيث أن اضرارهم أنفسهم بأخذ الناقص وإضرارهم الناس بأخذ الزائد ثم أن خصوصية ما وقع عليه الفعل هو مدار الذم والدعاء بالويل وبه يجاب عما في حيز العلاوة انتهى ولا يخفى ما فيه فتدبر والضمير المنفصل في قوله تعالى:
* (وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) *
* (وإذا كالوهم أو وزنوهن يخسرون) * للناس وما تقدم في الأخذ من الناس وهذا في الإعطاء فالمعنى وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للبيع ينقصون وكال تستعمل مع المكيل باللام وبدونه فقد جاء في اللغة على ما قيل كال له وكاله بمعنى كال له وجعل غير واحد كاله من باب الحذف والإيصال على أن الأصل كال له فحذف الجار وأوصل الفعل كما في قوله: ولقد جنيتك اكمؤا وعساقلا * ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
وقولهم في المثل الحريص يصيدك لا الجواد أي جنيت لك ويصيد لك وجوز أن يكون الكلام على حذف المضاف وهو مكيل وموزون وإقامة المضاف مقامه والأصل وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوهم وعن عيسى بن عمر وحمزة إن المكيل له والموزون له محذوف وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع وهو الواو وكانا يقفان على الواوين وقيفة يبينان بهاما أرادوا وقال الزمخشري لا يصح كون الضمير مرفوعا للمطففين لأنه يكون المعنى عليه إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص اخسروا وهو كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر وذلك على ما في " الكشف " لأن التأكيد اللفظي يدفعه المقام فليس المراد أن يحقق أن الكيل صدر منهم لا من عبيدهممثلا والتقوى وحده يدفعه ترك الفاء في جواب إذا لأن الفصيح إذ ذاك فهم يخسرون فيتعين الحمل على التخصيص ويظهر العذر في ترك الفاء إذا المعنى لا يخسر إلا هم ويلزم التنافر وفوات المقابلة هذا وهم أولا في كالوهم مانع من هذا التقدير أشد المنع والحمل على حذف الخبر من أحدهما وهو شطر الجزاء لا نظير له وقيل إنه يبعد كون الضمير مرفوعا عدم إثبات الألف بعد الألف بعد الواو وقد تقرر في علم الخط إثباتها بعدها في مثل ذلك وجرى عليه رسم المصحف العثماني في نظائره وكونه هنا بالخصوص مخالفا لما تقرر ولما سلك في النظائر بعيد كما لا يخفى ولعل الاقتار على الاكتيال في صورة الاستيفاء وذكر الكيل والوزن في صورة الأخسار أن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة وإذا أعطوا كالوا ووزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعا والحاصل أنه إنما جاء النظم الجليل هكذا ليطابق من نزل فيهم فالصفة تنعى عليهم ما كانوا عليه من زيادة البخس والظلم وهذا صحيح جعلت الصفة مخصصة لهؤلاء المطففين كما هو الأظهر أو كاشفة لحالهم فقد أريد بالأول معهود ذهني وقال شيخ مشايخنا العلامة السيد صبغة الله الحيدري في ذلك أن التطفيف في الكيل يكون بشيء قليل لا يعبأ به في الأغلب دون التطفيف في الوزن فأن أدنى حميلة فيه يفضي إلى شيء كثير وأيضا الغالب فيما يوزن ما هو أكثر قيمة مما يكال فإذا أخبرت الآية بأنهم لا يبقون على الناس ما هو قليل مهين من حقوقهم علم أنهم لا يبقون عليهم الكثير الذي لا يتسامح به أكثر الناس بل أهل المروآت أيضا إلا نادرا بالطريق الأولى بخلاف ما إذا
69

ذكر أنهم يخسرون الناس بالأشياء الجزئية كما يفهم من ذكر الأخسار في الكيل فإنه لا يعلم منه أنهم يخسرونهم بالشيء الكثير أيضا بل ربما يتوهم من تخصيص الجزئية بالذكر أنهم لا يتجرؤن على أخسارهم بكليات الأموال فلا بد في الشق الثاني من ذكر الأخسار في الوزن أيضا فتكون الآية منادية على ذميم أفعالهم ناعية عليهم بشنيع أحوالهم انتهى وتعقب بأنه لا يحسم السؤال لجواز أن يقال لم لم يقل إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا وزنوهم يخسرون ليعلم من القرينتين أنهم يستوفون الكير ويخسرون بالنزر الحقير بالطريق الأولى ويكون في الكلام ما هو من قبيل الاحتباك وقال الزجاج المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل وكذلك إذا اتزنوا استوفوا الوزن ولم يذكر إذا اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن ومراده على ما نص عليه الطيبي أنه استغنى بذكر إحدى القرينتين عن الأخرى لدلالة القرينة الآتية عليها وهو كما ترى وقيل إن المطففين باعة وهم في الغالب يشترون الشيء الكثير دفعة ثم يبيعونه متفرقا في دفعات وكم قد رأينا منهم من يشتري من الزارعين مقدارا كثيرا من الحبوب مثلا في يوم واحد فيدخره ثم يبيعه شيئا فشيئا في أيام عديدة ولما كانت العادة الغالبة أخذ الكثير بالكيل ذكر الاكتيال فقط في صورة الاستيفاء ولما كان ما يبيعونه مختلفا كثرة وقلة ذكر الكيل والوزن في صورة الاعطاء أو لما كان اختيار ما به تعيين المقدار مفوضا إلى رأي من يشتري منهم ذكرا معا في تلك الصورة إذ منهم من يختار الكيل ومنهم من يختار الوزن وأنت تعلم أن كون العادة الغالبة أخذ الكثير في الكيل غير مسلم على الإطلاق ولعله في بعض المواضع دون بعض وأهل بلدنا مدينة السلام اليوم لا يكتالون ولا يكيلون أصلا وإنما عادتهم الوزن والاتزان مطلقا وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين على ما قال غير واحد لأن مساق الكلام لبيان سوء معاملة المطففين في الأخذ والإعطاء لا في خصوصية المأخوذ والمعطى.
* (ألا يظن أول‍ائك أنهم مبعوثون) *
* (ألا يظن أولئكأنهم مبعوثون) * استئناف وارد لتهويل ما ارتكبوه من التطفيف والهمزة للانكار والتعجيب ولا نافية فليست ألا هذه الاستفتاحية أو التنبيهية بل مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية والظن على معناه المعروف وأولئك إشارة إلى المطففين ووضعه موضع ضميرهم للاشعار بمناط الحكم الذي هو وصفهم فإن الاشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه وأما الضمير فلا يتعرض للوصف وللإيذان بأنهم ممتازون بذلك الوصف القبيح عن سائر الناس أكمل امتياز نازلون منزلة الأمور المشار إليه إشارة حسية وما فيه من معنى البعد للاشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد أي ألا يظن أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهائل أنهم مبعوثون.
* (ليوم عظيم) *
* (ليوم عظيم) * لا يقادر قدر عظمه فإن من يظن ذلك وإن كان ظنا ضعيفا لا يكاد يتجاسر على أمثال هذه القبائح فكيف بمن يتيقنه ووصف اليوم بالعظم لعظم ما فيه كما أن جعله علة للبعث باعتبار ما فيه وقدر بعضهم مضافا أي لحساب يوم وقيل الظن هنا بمعنى اليقين والأول أولى وأبلغ وعن الزمخشري أنه سبحانه جعلهم اسوأ حالا من الكفار لأنه أثبت جل شأنه للكفار ظنا حيث حكى سبحانه عنهم إن نظن إلا ظنا ولم يثبته عز وجل لهم والمراد أنه تعالى نزلهم منزلة من لا يظن ليصح الانكار وقوله تعالى:
* (يوم يقوم الناس لرب الع‍المين) *
* (يوم يقوم الناس لرب العالمين) * أي لحكمه تعالى وقضائه عز وجل منصوب بإضمار أعني وجوز أن يكون معمولا لمبعوثون أو مرفوع المحل خبرا لمبتدأ مضمر أي هو أو ذلك يوم أو مجرور كما قال الفراء بدلا من يوم عظيم وهو على الوجهين مبني على الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين وقد مر
غير مرة ويؤيد الوجهين قراءة زيد بن علي يوم بالرفع وقراءة بعضهم كما حكى أبو معاذ يوم بالجر وفي هذا الإنكار والتعجيب وإيراد الظن والاتيان باسم الإشارة ووصف يوم قيامهم بالعظمة وإبدال يوم يقوم الخ منه على القول به ووصفه
70

تعالى بربوبية العالمين من البيان البليغ لعظم الذنب وتفاقم الاثم في التطفيف ما لا يخفى وليس ذلك نظرا إلى التطفيف من حيث هو تطفيف بل من حيث إن الميزان قانون العدل الذي قامت به السموات والأرض فيعم الحكم التطفيف على الوجه الواقع من أولئك المطففين وغيره وصح من رواية الحاكم والطبراني وغيرهما عن ابن عباس وغيره مرفوعا خمس بخمس قيل يا رسول الله وما خمس بخمس قال ما نقض قوم العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول اتق الله تعالى وأوف الكيل فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمان حتى أن العرق ليلجمهم وعن كرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار فقيل له إن ابنك كيال ووزان فقال أشهد أنه في النار وكأنه أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف ومن هذا القبيل ما روى عن أبي رضي الله تعالى عنه لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤس المكاييل وألسن الموازين والله تعالى أعلم. واستدل بقوله تعالى: * (يوم يقوم) * الخ على منع القيام للناس لاختصاصه بالله تعالى وأجاب عنه الجلال السيوطي بأنه خاص بالقيام للمرء بين يديه أما القيام له إذا قدم ثم الجلوس فلا وأنت تعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها على ما ذكر ليحتاج إلى هذا الجواب وأرى الاستدلال بها على ذلك من العجب العجاب وقوله تعالى:
* (كلا إن كت‍ابالفجار لفى سجين) *
* (كلا) * ردع عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب * (إن كتاب الفجار لفي سجين) * الخ تعليل للردع أو وجوب الارتداع بطريق التحقيق وكتاب قيل بمعنى مكتوب أي ما يكتب من أعمال الفجار لفي الخ وقلي مصدر بمعنى الكتابة وفي الكلام مضاف مقدر أي كتابة عمل الفجار * (لفي) * الخ والمراد بافلجار هنا على ما قال أبو حيان الكفار وعلى ما قال غير واحد ما يعمهم والفسقة فيدخل فيهم المطففون وسجين قيل صفة كسكير واختار غير واحد أنه علم لكتاب جامع وهو ديوان الشر دون فيه أعمال الفجرة من الثقلين كما قال تعالى:
* (ومآ أدراك ما سجين * كت‍ابمرقوم) *
* (وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم) * فإن الظاهر أن كتاب بدل من سجين أو خبر مبتدا محذوف هو ضمير راجع إليه أي هو كتاب وأصله وصف من السجن بفتح السين لقب به الكتاب لأنه سبب الحبس فهو في الأصل فعيل بمعنى فاعل أو لأنه ملقى كما قيل تحت الأرضين في مكان وحش كأنه مسجون فهو مبعنى مفعول ولا يلزم على جعله علما لما ذكر كون الكتاب ظرفا للكتاب لما سمعت من تفسير كتاب الفجار وعليه يكون الكتاب المذكور ظرفا للعمل المكتوب فيه أو ظرفا للكتابة وقيل الكتاب على ظاهره والكلام نظير أن تقول إن كتاب حساب القرية الفلانية في الدستور الفلاني لما يشتمل على حسابها وحساب أمثالها في أن الظرفية فيه من ظرفية الكل للجزء وعن الإمام لا استبعاد في أن يوضع أحدهما في الآخر حقيقة أو ينقل ما في أحدهما للآخر وعن أبي علي أن قوله تعالى: * (كتاب مرقوم) * أي موضع كتاب فكتاب على ظاهره وسجين موضع عنده ويؤيده ما أخرج ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا أن الفلق جب في جهنم مغطى وسجين جب فيها مفتوح وعليه يكون سجين لشر موضع في جهنم وجاء فعدة آثار أنه موضع تحت الأرض السابعة ولا منافاة بين ذلك وبين الخبر المذكور بناء على القول بأن جهنم تحت الأرض وفي " الكشف " لا يبعد أن يكون سجين علم الكتاب وعلم الموضع أيضا جمعا بين ظاهر الآية وظواهر الأخبار وبعض من ذهب إلى أنه في الآية علم الموضع قال وما أدراك سجين على حذف مضاف أي وما أدراك ما كتاب سجين وقال ابن عطية من قال بذلك فكتاب عنده مرفوع على أنه خبر أن والظرف الذي هو * (لفي سجين) * ملغى وتعقب بأن إلغاءه لا يتسنى إلا إذا كان معمولا للخبر أعني كتاب أو لصفته أعني مرقوم وذلك لا يجوز لأن كتاب موصوف فلا يعمل ولأن مرقوم الذي هو
71

صفته لا يجوز أن تدخل اللام في معموله ولا يجوز أن يتقدم معموله على الموصوف وفيه نظر وقيل كتاب خبر ثان لأن وقيل خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى كتاب الفجار ومناط الفائدة الوصف والجملة في البين اعتراضية وكلا القولين خلاف الظاهر وعن عكرمة أن سجين عبارة عن الخسارة والهوان كما تقول بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول والكلام في * (وما أدراك) * الخ عليه يعلم مما ذكرنا وهذا خلاف المشهور وزعم بعض اللغويين أن نونه بدل من لام وأصله سجيل فهو كجبرين في جبريل فليش مشتقا من السجن أصلا ومرقوم من رقم الكتاب إذا أعجمه وبينه لئلا يلغو أي كتاب بين الكتابة أو من رقم الكتاب إذا جعله له رقما أي علامة أي كتاب معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه وقال ابن عباس والضحاك مرقوم مختوم بلغة حمير وذكر بعضهم أنه يقال رقم الكتاب بمعنى ختمه ولم يخصه بلغة دون لغة وفي " البحر " مرقوم أي مثبت كالرقم لا يبلى ولا يمحى وهو كما ترى وشاع الرقم في الكتابة قال أبوحيان وهو أصل معناه ومنه قول الشاعر: سأرقم في الماء القراح إليكم * على بعدكم إن كان للماء راقم
وأما الرقم المعروف عند أهل الحساب فالظاهر أنه بمعنى العلامة وخص بعلامة العدد فيما بينهم وقوله تعالى:
* (ويل يومئذ للمكذبين) *
* (ويل يومئذ للمكذبين) * متصل بقوله تعالى يوم يقوم الناس لرب العالمين وما بينهما اعتراض والمراد للمكذبين بذلك اليوم فقوله تعالى:
* (الذين يكذبون بيوم الدين) *
* (الذين يكذبون بيوم الدين) * أما مجرور على أنه صفة ذامة للمكذبين أو بدل منه أو مرفوع أو منصوب على الذم وجوز أن يكون صفة كاشفة موضحة وقيل هو
صفة مخصصة فارقة على أن المراد المكذبين بالحق والأول أظهر لأن قوله تعالى:
* (وما يكذب به إلا كل معتد أثيم) *
* (وما يكذب به إلا كل معتد) * الخ يدل على أن القصد إلى المذمة أي وما يذكب بيوم الدين الأكل متجاوز حدود النظر والاعتبار غال في التقليد حتى جعل قدرة الله تعالى قاصرة عن الإعادة وعلمه سبحانه قاصرا عنمعرفة الأجزاء المتفرقة التي لا بد في الإعادة منها فعد الإعادة محالة عليه عز وجل * (أثيم) * أي كثير الآثام منهمك في الشهوات المخدجة الفانية بحيث شغلته عما وراءها من اللذات التامة الباقية وحملته على إنكارها.
* (إذا تتلى عليه ءاي‍اتنا قال أس‍اطير الاولين) *
* (إذا تتلى عليه آياتنا) * الناطقة بذلك * (قال) * من فرط جهله وإعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه * (أساطير الأولين) * أي هي حكايات الأولين يعني هي أباطيل جاء بها الأولون وطال أمد الأخبار بها ولم يظهر صدقها أو أباطيل ألقيت على آبائنا الأولين وكذبوها ولسنا أول مكذب بها حتى يكون التكذيب منا عجلة وخروجا عن طريق الحزم والاحتياط والأول أظهر والآية قيل نزلت في النضر بن الحرث وعن الكلبي أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأيا ما كان فالكلام على العموم وقرأ أبو حيوة وابن مقسم إذا يتلى بتذكير الفعل وقرىء إذا تتلى على الاستفهام الإنكاري.
* (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) *
* (كلا) * ردع للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له فيه وقوله عز وجل * (بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) * بيان لما أدى بهم إلى التفوه بتلك العظيمة أي ليس في آياتنا ما يصحح أن يقال في شأنها مثل تلك المقالة الباطلة بل ركب قلوبهم وغلب عليها ما استمروا على اكتسابه من الكفر والمعاصي حتى صار كالصدافي المرآة فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق فلذلك قالوا ما قالوا والرين في الأصل الصدأ يقال * (ران) * عليه الذنب وغان عليه رينا وغنيا ويقال * (ران) * فيه النوم أي رسخ فيه وفي " البحر " أصل الرين الغلبة يقال رانت الخمر على عقل شاربها أي غلبت وران الغشي على عقل المريض أي غلب وقال أبو زيد يقال رين بالرجل يران به رينا إذا وقع فيما لا يستطيع منه الخروج وأريد به حب المعاصي الراسخ بجامع أنه كالصدا المسود للمرآة والفضة مثلا المغير عن الحالة الأصلية وأخرج
72

الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححاه والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال كانوا يرون أن الرين هو الطبع وذكروا له أسبابا وفي حديث أخرجه عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجبر أنه عليه الصلاة والسلام قال أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقد قال الله تعالى بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون والخلوة بالنساء والاستمتاع بهن والعمل برأيهن ومجالسة الموتى قيل يا رسول الله من هم قال كل غني قد أبطره غناه وقرىء بإذغام اللام في الراء وقال أبو جعفر بن الباذش أجمهوا يعني القراء على إدغام اللام في الراء إلا ما كان من وقف حفص على بل وقفا خفيفا يسيرا لتبيين الإطهار وليس كما قال من الإجماع ففي " اللوامح " عن قالون من جميع طرقه إظهار اللام عند الراء نحو قوله تعالى: * (بل رفعه الله إليه) * بل ربكم وفي كتاب ابن عطية وقرأ نافع بل ران غير مدغم وفيه أيضا وقرأ نافع أيضا بالإذغام والإمالة وقال سيبويه في اللام مع الراء نحو أشغل رحمه البيان والإدغام حسنان وقال أيضا فإذا كانت يعني اللام غير لام التعريف نحو لام هل وبل فإن الإدغام أحسن فإن لم تدغم فهي لغة لأهل الحجاز وهي عربية جائزة وفي " الكشاف " قرىء بادغام اللام في الراء وبالإظهار والإدغام أجود وأميلت الألف وفحمت فليحفظ.
* (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) *
* (كلا) * ردع وزجر عن الكسب الرائن أو بمعنى حقا * (إنهم) * أي هؤلاء المكذبين * (عن ربهم يومئذ لمحجوبون) * لا يرونه سبحانه وهو عز وجل حاضر ناظر لهم بخلاف المؤمنين فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية لأن المحجوب لا يرى ما حجب أو الحجب المنع والكلام على حذف مضاف أي عن رؤية ربهم لممنوعون فلا يرونه سبحانه واحتج بالآية مالك على رؤية المؤمنين له تعالى من جهة دليل الخطاب وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص وقال الشافعي لما حجب سبحانه قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا وقال أنس بن مالك لما حجب عز وجل أعداءه سبحانه فلم يروه تجلى جل شأنه لأوليائه حتى رأوه عز وجل ومن أنكر رؤيته تعالى كالمعتزلة قال إن الكلام تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم كما قال: إذا اعتروا باب ذي عبية رجبوا * والناس من بين مرجوب ومحجوب
أو هو بتقدير مضاف أي عن رحمة ربهم مثلا لمحجوبون وعن ابن عباس وقتادة ومجاهد تقدير ذلك وعن ابن كيسان تقدير الكرامة لكنهم أرادوا عموم المقدر لرؤية وغيرها من ألطافه تعالى والجار والمجرور متعلق بمحجوبون وهو العامل في يومئذ والتنوين فيه تنوين عوض والمعوض عنه هنا يقوم الناس السابق كأنه قيل إنهم لمحجوبون عن ربهم يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين.
* (ثم إنهم لصالوا الجحيم) *
* (ثم إنهم لصالوا الجحيم) * مقاسو حرها على ما قال الخليل وقيل داخلون فيها وثم قيل لتراخي الرتبة لكن بناء على ما عندهم فإن صلى الجحيم عندهم أشد من حجابهم عن ربهم عز وجل وأما عند المؤمنين لا سيما الوالهين به سبحانه منهم فإن الحجاب عذاب لا يدانيه عذاب.
* (ثم يقال ه‍اذا الذى كنتم به تكذبون) *
* (ثم يقال) * لهم تقريعا وتوبيخا من جهة الخزنة أو أهل الجنة * (هذا الذي كنتم به تكذبون) *
73

فذوقوا عذابه.
* (كلا إن كت‍ابالابرار لفى عليين) *
* (كلا) * تكرير للردع السابق في قوله تعالى: * (كلا إن كتاب الفجار) * الخ ليعقب بوعد الأبرار كما عقب ذاك بوعيد الفجار إشعارا بأن التطفيف فجور والإيفاء بر وقيل ردع عن التكذيب فلا تكرار * (إن كتاب الأبرار لفي علين) *.
* (ومآ أدراك ما عليون * كت‍ابمرقوم) *
الكلام نحو ما مر في نظيره بيد أنهم اختلفوا في عليين على وجه آخر غير اتخلافهم في سجين فقال غير واحد هو علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع على فعيل من العلو كسجين من السجن سمي بذلك أما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي درجات الجنان أو لأنه مرفوع في السماء السابعة أو عند قائمة العرش اليمني مع الملائكة المقربين عليهم السلام تعظيما له وقيل هو المواضع العلية واحده على وكان سبيله أن يقال علية كما قالوا للغرفة علية فلما حذفوا التاء عوضوا عنها الجمع بالواو والنون وحكى ذلك عن أبي الفتح بن جني وقيل هو وصف لملائكة ولذلك جمع بالواو والنون وقال الفراء هو اسم موضوع على صيغة الجمع ولا واحد له من لفظه كعشرين وثلاثين والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء واحدا ولا تثنية أطلقوه في المذكر والمؤنث بالواو والنون.
* (يشهده المقربون) *
* (يشهده المقربون) * صفة أخرى لكتاب أي يحضرونه على أن يشهد من الشهود بمعنى الحضور وحضوره كناية عن حفظه في الخارج أو يشهدون بما فيه يوم القيامة على أن من الشهادة وعلى الوجهين المراد بالمقربين جمع من الملائكة عليهم السلام كذا قالوا. وأخرج عبد بن حميد من طريق خالد بن عرعرة وأبي عجيل أن ابن عباس سأل كعبا عن هذه الآية فقال إن المؤمن يحضره الموت ويحضره رسل ربه عز وجل فلا هم يستطيعون أن يؤخروه ساعة ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة الرحمة فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الخير ثم عرجوا بروحه إلى السماء فيشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهوا به إلى السماء السابعة فيضعونه بين أيديهم ولا ينتظرون به صلاتكم عليه فيقولون اللهم هذا عبدك فلان قبضنا نفسه ويدعون له بما شاء الله تعالى أن يدوا له فنحن نحب أن تشهدنا اليوم كتابه فينشر كتابه من تحت العرش فيثبتون اسمه فيه وهم شهود فذلك قوله تعالى: * (كتاب مرقوم يشهدوه المقربون) * وسأله عن قوله تعالى: * (إن كتاب الفجار) * الآية فقال إن العبد الكافر يحضره الموت ويحضره رسل ربه سبحانه فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدعوه إلى ملائكة العذاب فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الشر ثم هبطوا به إلى الأرض السفلى وهو سجين وهي آخر سلطان إبليس فأثبتوا كتابه فيها الحديث وفي بعض الأخبار ما ظاهره أن نفس العمل يكون في سجين ويكون في عليين فقد أخرج ابن المبارك عن صخرت بن حببي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الملا ئكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على مافي نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجني ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا أخلص لي عمله فاجعلوه في عليين وبأدنى تأويل يرجع إلى ما تضمنته الآية فلا تغفل وقوله تعالى:
* (إن الابرار لفى نعيم) *
* (إن الأبرار لفي نعيم) * شروع في بيان محاسن أحوالهم إثر بيان حال كتابهم والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل هذا حال كتابهم فما حالهم فأجيب بما ذكر أي أنهم لفي نعيم عظيم.
* (على الارآئك ينظرون) *
* (على الأرائك) * أي على الأسرة في الحجال وقد تقدم تمام الكلام فيها * (ينظرون) * أي إلى ما شاؤا من رغائب مناظر الجنة وما تحجب الحجال أبصارهم وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد إلى
74

ما أعد الله تعالى لهم من الكرامات وقال مقاتل إلى أهل النار أعدائهم ولم يرتضه بعض ليكون ما في آخر السورة تأسيسا وقيل ينظر بعضهم إلى بعض فلا يحجب حبيب عن حبيبه وقيل النظر كناية عن سلب النونم فكأنه قيل لا ينامون وكأنه لدفع توهم النوم من ذكر الأرائك المعدة للنوم غالبا وفيه إشارة إلى أنه لا نوم في الجنة كما وردت به الأخبار لما فيه من زوال الشعور وغفلة الحواس إلى غير ذلك مما لا يناسب ذلك المقام وليه يكون قوله سبحانه:
* (تعرف فى وجوههم نضرة النعيم) *
* (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) * أي بهجة النعيم ورونقه لنفي ما يوهمه سلب النوم من الضعف وتغير بهجة الوجه كما في الدنيا وهو وجه لا يعرف فيه الناظر نضرة التحقيق والخطاب في تعرف لكل من له حظ من الخطاب للإيذان بأن مال هم من آثار النعمة وأحكام البهجة بحيث لا يختص براء دون راء وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحق وطلحة وشيبة ويعقوب تعرف مبنيا للمفعول نضرة رفعا على النيابة عن الفاعل وجوز بعضهم أن يكون نائب فاعل تعرف ضمير الأبرار وفي وجوههم نضرة مبتدأ وخبر كأنه قيل تعرف الأبرار بأن في وجوههم نضرة النعيم وليس بشيء كما لا يخفى وقرأ زيد بن علي كذلك إلا أنه قرأ يعرف بالياء إذ تأنيث نضرة مجازي.
* (يسقون من رحيق مختوم) *
* (يسقون من رحيق) * قال الخليل هو أجود الخمر وقال الأخفش والزجاج الشراب الذي لا غش فيه قال حسان: يسقون من ورد البريص عليهم * بردى يصفق بالرحيق السلسل
وفسر ههنا بالشراب الخالص مما يكدر حتى الغول.
* (خت‍امه مسك وفى ذلك فليتنافس المتن‍افسون) *
* (مختوم ختامه مسك) * أي مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين كما روى عن مجاهد وذكر أن طين الجنة مسك معجون والظاهر أن الختام ما يختم به وإن الختم على حقيقته وكذا إسناده وقولنا مختوم أوانيه الخ اليس لأن الإسناد مجازي بل لأن الختم على الشيء أعني الاستيثاق منه بالختم طريقه ذلك وختم اعتناء به وإظهارا لكرامة شاربه وكان ذلك بما هو على هيئة الطين ليكون على النهج المألوف ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا لكمال نفاسته وإلا فليس ثمة غبار أو ذباب أو خيانة ليصان عن ذلك بالختم وقال ابن عباس وابن جبير والحسن المعنى خاتمته ونهايته رائحة رائحة مسك إذا شرب أي يجد شاربه ذلك عند انتهاء شربه وكان ذلك لأن اشتغال الذائقة بكمال لذته تمنع عن إدراك الرائحة فإذا انقطعع الشرب أدركت وإلا فالرائحة لا تختص بالانهاء وقيل المعنى ذو نهاية نهايته وما يبقى بعد شربه ويشرب في أوانيه مسك وليس كشراب الدنيا نهايته وما يرسب في إنائه طين أو نحوه وهو كما ترى وقيل إن الرحيق يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك فالمعنى ذو ختام ختام مزاجه مسك وهو مع كونه خلاف الظاهر وفيما بعد ما يبعده في الجملة يحتاج إلى نقل يعود عليه وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والنخعي والضحاك وزيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي خاتمه بألف بعد الخاء وفتح التاء والمراد ما يختم به أيضا فإن فاعلا بالفتح يكون أيضا اسم آلة كالقالب والطابع لكنه سماعي وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الإنطاكي عن الكسائي كسر التاء أي آخره رائحة مسك والجمل السابقة أعني على الأرائك ينظرون و * (تعرف في وجوههم) * الخ و * (يسقون) * الخ قيل أحوال مترادفة وقيل مستأنفات كجملة أن الأبرار الخ وقعت أجوبة للسؤال في حالهم والفصل للتنبيه على استقلال كل في بيان كرامتهم * (وفي ذلك) * إشارة إلى الرحيق وهو الأنسب بما بعد أو إلى ماذكر من أحوالهم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو مرتبته وبعد منزلته وجوز أن يكون لكونه في الجنة والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: * (فليتنافس) * وقدم للاهتمام أو للحصر أي فليتنافس
75

وليرغب فيه لا في خمور الدنيا أولا في غيره من ملاذها ونعيمها * (المتنافسون) * أي الراغبون في المبادرة إلى طاعة الله تعالى وقيل أي فليعمل لأجله أي لأجل تحصيله خاصة والفوز به العاملون كقوله تعالى: * (لمثل هذا فليعمل العاملون) * أي فليستبق في تحصيل ذلك المتسابقون وأصل التنافس التغالب في الشيء النفيس وأصله من النفس لعزتها قال الواحدي نفست الشيء أنفسه نفاسة والتنافس تفاعل منه كان كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به وقال البغوي أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ويريده كل أحد لنفسه ويقال نفست عليه بالشيء أنفس نفاسة إذا بخلت به عليه وفي مفردات الراغب المنافسة مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره وهي بهذا المعنى من شرف النفس وعلو الهمة والفرق بينها وبين الحسد أظهر من أن يخف واستشكل ذلك التعلق بأنه يلزم عليه دخول العاطف على العاطف إذ التقدير فليتنافس في ذلك وأجيب بأنه بتقدير القول أي ويقولون لشدة التلذذ من غير اختيار في ذلك فليتنافس المتنافسون أي في الدنيا على معنى أنه كان اللائق بهم أن يتنافسوا في ذلك وقيل الكلام على تقدير حرف الشرط والفاء واقعة في جوابه أي وإن أريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون وتقديم الظرف ليكون عوضا عن الشرط في شغل حيزه وهو أنفس مما تقدم وقوله تعالى:
* (ومزاجه من تسنيم) *
* (ومزاجه من تسنيم) * عطف على ختامه مسك صفة أخرى لرحيق مثله وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته وتسنيم علم لعين بعينها في الجنة كما روى عن ابن مسعود وعن حذيفة اليمان أنه قال عين من عدن سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه إما لأن شرابها أرفع شراب في الجنة على ما روى عن ابن عباس أو لأنها تأتيهم من فوق على ما روى عن الكلبي وروى أنها تجرى في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم وقيل سميت بذلك لرفعة من يشرب بها ولا يلزم من كونه علما لما ذكر منع صرفه للعلمية والتأنيث لأن العين مؤنثة إذ هي قد تذكر بتأويل الماء أو نحوه ومن بيانية أو تبعيضية أي ما يمزج به ذلك الرحيق هو تسليم أي ماء تلك العين أو بعض ذلك وجوز أن تكون ابتدائية
* (عينا يشرب بها المقربون) *
* (عينا) * نصب على المدح وقال الزجاج على الحال من تسنيم قيل وصح كونه حالا مع جموده لوصفه بقوله تعالى: * (يشرب بها المقربون) * أو لتأويله بمشتق كجارية وأنت تعلم أن الاشتقاق غير لازم والباء أما زائدة أي يشربها أو بمعنى من أي يشرب منها أو على تضمين يشرب معنى يروى أي يشرب راوين بها أو يروى بها شاربي المقربون أو صلة الالتذاذ أي يشرب ملتذا بها أو الامتزاج أي يشرب الرحيق ممتزجا بها أو الاكتفاء أي يشب مكتفين بها أوجه ذكروها وفي كونها صلة الامتزاج مقال فقد قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح يشرب بها المقربون صرفا وتمزج للأبرار ومذهب الجمهور أن الأبرار هم أصحاب اليمين وأن المقربين هم السابقون كأنهم إنما كان شرابهم صرف التسنيم لاشتغالهم عن الرحيق المختوم بمحبة الحي القيوم فهي الرحيق التي لا يقاس بها رحيق والمدامة التي تواصي على شربها ذووا الأذواق والتحقيق. على نفسه فليبك من ضاع عمره * وليس له مها نصيب ولا سهم
وقال قوم الأبرار والمقربون في هذه السورة بمعنى واحد يشمل كل من نعم في الجنة وقوله تعالى:
* (إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون) *
* (إن الذين أجرموا) * الخ حكاية لبعض قبائح مشركي قريش أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم جيء بها تمهيدا لذكر بعض أحوال الأبرار في الجنة * (كانوا) * أي في الدنيا كما قال قتادة: * (من الذين آمنوا يضحكون) * كانوا يستهزؤن بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من الفقراء وفي " البحر " روى أن عليا كرم الله
76

تعالى وجهه وجمعا من المؤمنين معه مروا بجميع من كفار مكة فضحكوا منهم واستخفوا بهم فنزلت * (إن الذين أجرموا) * قبل أن يصل علي كرم الله تعالى وجهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي " الكشاف " حكاية ذلك عن المنافقين وأنهم قالوا ربنا اليوم الأصلع أي سيدنا يعنون عليا كرم الله تعالى وجهه وإنما قالوا استهزاء ولعل الأول أصح وتقديم الجار والمجرور إما للقصر إشعارا بغاية شناعة ما فعلوا أي كانوا من الذين آمنوا يضحكون مع ظهور عدم استحقاقهم لذلك على منهاج قوله تعالى: * (أفي الله شك) * لمراعاة الفواصل.
* (وإذا مروا بهم يتغامزون) *
* (وإذا مروا) * أي المؤمنون * (بهم) * أي بالذين أجرموا وهم في أنديتهم * (يتغامزن) * أي يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم استهزاء بالمؤمنين وإرجاع ضمير مروا للمؤمنين وضمير بهم للمجرمين هو الأظهر الأوفق بحكاية سبب النزول واستظهر أبو حيان العكس معلللا له بتناسق الضمائر.
* (وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين) *
* (وإذا انقلبوا) * أي المجرمون ورجعوا من مجالسهم * (إلى أهلهم انقلبوا فكهين) * ملتذين باتسخفافهم بالمؤمنين وكان المراد بذلك الإشارة إلى أنهم يعدون صنيعهم ذلك من أحسن ما اكتسبوه في غيبتهم عن أهلهم أ إلى أن له وقعا في قلوبهم ولم يفعلوه مراعاة لأحد وإنما فعلوه لحظ أنفسهم وقيل فيه إشارة إلى أنهم كانوا لا يفعلون ذلك بما رأى من المارين بهم ويكتفون حينئذ بالتغامز وقرأ المجهور فاكهين بالألف قيل هما بمعنى وقيل فكهين أشرين وقيل فرحين وفاكهين قيل متفكهين وقيل ناعمين وقيل مادحين.
* (وإذا رأوهم قالوا إن ه‍اؤلاء لضآلون) *
* (وإذا رأوهم) * وإذا رأوا المؤمنين أينما كانوا * (قالوا إن هؤلاء لضالون) * يعنون جنس المؤمنين مطلقا لا خصوص المرئيين منهم والتأكيد لمزيد الاعتناء بسبهم.
* (ومآ أرسلوا عليهم ح‍افظين) *
* (وما أرسلوا عليهم حافظين) * جملة حالية من ضمير قالوا أي قالوا ذلك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى على المؤمنين موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ويهيمنون على أعمالهم ويشهدون برشدهم وضلالهم وهذا تهكم واستهزاء بهم وإشعارا بأن ما اجترؤا عليه من القول من وظائف من أرسل من جهته تعالى وجوز أن يكون من جملة قول المجرمين والأصل وما أرسلوا علينا حافظين إلا أنه قيل عليهم نقلا بالمعنى عى نحو قال زيد ليفعلن كذا وغرضهم بذلك إنكار صد المؤمنين إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الايمان.
* (فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون) *
* (فاليوم الذين آمنوا) * أي المعهودون من الفقراء * (من الكفار) * أي من المعهوندين وجوز التعميم من الجانبين * (يضحكون) * حين يرونهم أذلاء مغلولين قد غشيتهم فنون الهوان والصغار بعد العز والكبر ورهقهم ألوان العذاب بعد التنعم والترفه والظرف والجار والمجرور متعلقان بيضحكون وتقديم الجار والمجرور قيل للقصر تحقيقا للمقابلة أي واليوم هم من الكفار يضحكون لا الكفار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا وقوله تعالى:
* (على الارآئك ينظرون) *
* (على الأرآئك ينظرون) * حال من فاعل يضحكون أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال وقيل يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم هلم هلم فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم يفعل ذلك مرارا حتى أن أحدهم يقال له هلم فما يأتي من إياسه ويضحك المؤمنون منهم وتعقب بأن قوله تعالى:
* (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) *
* (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) * يأباه فإنه صريح في أن ضحك المؤمنين منهم جزاء لضحكهم منهم في الدنيا فلا بد من المجانسة والمشاكلة حتما والحق أنه لا أباه كما لا يخفى والتثويب والإثابة المجازاة ويقال ثوبه وأثابه إذا جازاه ومنه قول الشاعر: سأجزيك أو يجزيك عني مثوب * وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي
وظاهر كلامهم إطلاق ذلك على المجازاة بالخير والشر واشتهر بالمجازاة بالخير وجوز حمله عليه هنا على أن المراد التهكم كما قيل به في قوله تعالى: * (فبشرهم بعذاب أليم) * وذق أنك أنت العزيز الكريم كأنه تعالى يقول للمؤمنين هل أثبنا هؤلاء على ما كانوا يفعلون كما أثبناكم على ما كنتم تعلمون هذا القول زائدا
77

في سرورهم لما فيه من تعظيمهم والاستخفاف بأعدائهم والجملة الاستفهامية حينئذ معمولة لقول محذوف وقع حالا من ضمير يضحكون أو من ضمير ينظرون أي يضحكون أو ينظرون مقولا لهم هل ثوب الخ ولم يتعرض لذلك الجمهور وفي " البحر " الاستفهام لتقرير المؤمنين والمعنى قد جوزي الكفار ما كانوا الخ وقيل هل ثوب متعلق بينظرون والجملة في موضع نصب به بعد إسقاط حرف الجر الذي هو إلى انتهى وما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف أي يفعلونه والكلام بتقدير مضاف أي ثواب أو جزاء ما كانوا الخ وقيل هو بتقدير باء السببية أي هل ثوب الكفار بما كانوا وقرأ النحويان وحمزة وابن محيصن بإدغام اللام في الثاء والله تعالى أعلم.
سورة الانشقاق
ويقال سورة انشقت وهي مكية بلا خلاف وآيها ثلاث وعشرون آية في البصرى والشامي وخمس وعشرون في غيرهما ووجه مناسبتها لما قبلها يعلم مما نقلناه عن الجلال السيوطي فيما قبل وأوجز بعضهم في بيان وجه ترتيب هذه السور الثلاث فقال إن في انفطرت التعريف بالحفظة الكاتبين وفي المطففين مقر كتبهم وفي هذه عرضها في القيامة.
* (إذا السمآء انشقت) *
* (إذا السماء انشقت) * أي بالغمام كما روى عن ابن عباس وذهب إليه الفراء والزجاج كما في " البحر " ويشهد له قوله تعالى: * (ويوم تشقق السماء) * بالغمام فالقرآن يفسر بعضه بعضا وقيل تنشق لهول يوم القيامة لقوله تعالى: * (وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) * وبحث فيه بأنه لا ينافي أن يكون الانشقاق بالغمام وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها تنشق من المجرة وفي الآثار أنها باب السماء وأهل الهيئة يقولون إنها نجوم صغار متقاربة جدا غير متميزة في الحسن ويظهر ذلك ظهورا بينا لمن نظر إليها بالارصاد ولا منافاة على ما قيل من أن المراد بكونها باب السماء أن مهبط الملائكة عليهم السلام ومصعدهم من جهتها وذلك بجامع كونها نجوما صغارا متقاربة غير متميزة في الحسن وخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذا إلى أهل اليمن فقال له يا معاذ إنهم سائلوك عن المجرة فقل هي لعاب حية تحت العرش ومنه قيل إنها في " البحر " المكفوف تحت السماء لا يكاد يصح والقول المذكور لا ينبغي أن يحكي إلا لينبه على حاله وقرأ عبيد بن عقيل عن أبي عمرو وانشقت وكذا مابعد من نظائره بإشمام التاء كسرا في الوقف وحكى عنه أيضا الكسر أبو عبيد الله بن خالويه وذلك لغة طيء على ما قيل وعن أبي حاتم سمعت أعرابيا فصيحا في بلاد قيس يكسر هذه لتاء أي تاء التأنيث اللاحقة للفعل وهي لغة ولعل ذلك لأن الفواصل قد تجري مجرى القوافي فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي كما في قول كثير عزة من قصيدة: وما أنا بالداعي لعزة بالردي * ولا شامت إن قيل عزة ذلت
إلى غير ذلك من أبيات تلك القصيدة تكسر في الفواصل وإجراء الفواصل في الوقف مجرى القوافي مهيع معروف كقوله تعالى: * (الظنونا) * و * (الرسولا) * في سورة الأحزاب وحمل الوصل على حالة الوقف موجود أيضا في الفواصل.
* (وأذنت لربها وحقت) *
* (وأذنت لربها) * أي استمعت له تعالى يقال أذن إذا سمع قال الشاعر: صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
وقال قعنب: إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا * وما هم أذنوا من صالح دفنوا
والاستماع هنا مجاز عن الانقياد والطاعة أي انقادت لتأثير قدرته عز وجل حين تعلقت إرادته سبحانه بانشقاقه
78

انقياد المؤمور المطواع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليها للإشعار بعلة الحكم وهذه الجملة ونظيرتها بعد قيل بمنزلة قوله تعالى: * (أتينا طائعين) * في الانباء عن كون ما نسب إلى السماء والأرض من الانشقاق والمد وغيرهما جاريا على مقتضى الحكمة على ما قرروه * (وحقت) * أي جعلت حقيقة بالاستماع والانقياد لكن لا بعد إن لم تكن كذلك بل في نفسها وحد ذاتها من قولهم هو محقوق بكذا وحقيق به وحاصل المعنى انقادت لربها وهي حقيقة وجديرة بالانقياد لما أن القدرة الربانية لاي تعاصاها أمر من الأمور لا لأمر اختصت به من بين الممكنات وذكر بعضهم أن أصل الكلام حق الله تعالى عليها بذلك أي حكم عليها بتحتم الانقياد على معنى أراده سبحانه منها إرادة لا نقض لها وقيل المعنى وحق لها أن تنشق لشدة الهول والجملة على ما اختاره بعض الأجلة اعتراض مقرر لما قبلها وقيل معطوفة عليه وليس بذاك.
* (وإذا الارض مدت) *
* (وإذا الأرض مدت) * قال الضحاك بسطت باندكاك جبالها وآكامها وتسويتها فصارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا وقال بعضهم زيدت سعة وبسطة من مده بمعنى أمده أي زاده ونحوه ما قيل جرت فزاد انبساطها وعظمت سعتها وأخرج الحاكم بسند جيد عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه.
* (وألقت ما فيها وتخلت) *
* (وألقت ما فيها) * أي رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز كما أخرج ذلك عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة وإليه ذهب الزجاج واقتصر بعضهم كابن جبير وجماعة على الموتى بناء على أن إلقاء الكنوز إذا خرج الدجال وكأن من ذهب إلى الأول لا يسلم إلقاء الكنوز يومئذ ولو سلم يقول يجوز أن لا يكون عاما لجميع الكنوز وإنما يكون كذلك يوم القيامة والقول بأن يوم القيامة متسع يجوز أن يدخل فيه وقت خروج الدجال ينبغي أن يلقى ولا يلتفت إليه * (وتخلت) * أي وخلت عما فيها غاية الخلو حتى لم يبق فيها شيء من ذلك كأنها تكلفت في ذلك أقصى جهدها فصيغة التفعل للتكلف والمقصود منه المبالغة كما في قولك تحلم الحليم وتكرم الكريم وقيل تخلت ممن على ظهرها من الإحياء وقيل مما على ظهرها من جبالها وبحارها وكلا القولين كما ترى وقد أخرج أبو القاسم الجيلي في الديباج عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول من تنشق عنه الأرض فاجلس جالسا في قبري وأن الأرض تحرك بي فقلت لها مالك فقالت إن ربي أمرني أن ألقى ما في جوفي وأن أتخلى فأكون كما كنت إذ لا شيء في ذلك وقوله تعالى: * (وألقت ما فيها) * وتخلت.
* (وأذنت لربها وحقت) *
* (وأذنت لربها) * في الإلقاء وما بعده * (وحقت) * الكلام فيه نظير ما تقدم وفيه إشارة إلى أن ما ذكر وإن أسند إلى الأرض فهو بفعل الله تعالى وقدرته عز وجل وتكرير كلمة إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة.
* (ياأيها الإنس‍ان إنك كادح إلى ربك كدحا فمل‍اقيه) *
* (يا أيها الإنسان إنك كادح) * أي جاهد ومجد جدا في عملك من خير وشر * (إلى ربك كدحا) * أي طول حياتك إلى لقاء ربك أي إلى الموت وما بعده من الأحوال الممثلة باللقاء والكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه قال ابن مقيل: وما الدهر إلا تارتان فمنهما * أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقال آخر: ومضت بشاشة كل عيش صالح * وبقيت أكدح للحياة وأنصب
* (فملاقيه) * أي فملاق له عقيب ذلك لا محالة من غير صارف يوليك عنه والضمير له عز وجل أي فملاقي جزائه تعالى وقيل هو للكدح أي فملاقي جزاء الكدح وبولغ فيه على نحو إنما هي أعمالكم ترد إليكم
79

والظاهر أن ملاقيه معطوف على كادح على القولين وقال ابن عطية بعد ذكره الثاني فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على الجملة التي قبلها والتقدير فأنت ملاقيه ولا يظهر وجه التخصيص والمراد بالإنسان الجنس كما بؤذن به التقسيم بعد وقال مقاتل المراد به الأسود بن هلال المخزومي جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث فقال أبو سلمة أي والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة فقال الأسود فأين الأرض والسماء وما حال الناس وكأنه أراد أنها نزلت فيه وهي تعم الجنس وقيل المراد أبي بن خلف كان يكدح في طلب الدنيا وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والإصرار على الكفر ولعل القائل أراد ذلك أيضا وأبعد غاية الإبعاد من ذهب إلى أنه الرسول عليه الصلاة والسلام على أن المعنى إنك تكدح في إبلاغ رسالات الله عز وجل وإرشاد عباده سبحانه واحتمال الضرر من الكفار فأبشر فإنك تلقى الله تعالى بهذا العمل وهو غير ضائع عنده جل شأنه وجواب إذا قيل قوله تعالى:
* (فأما من أوتى كت‍ابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا) *
* (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا) * الخ كما في قوله تعالى: * (فأما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * وقوله تعالى: * (يا أيها الإنسان) * الخ اعتراض وقيل هو محذوف للتهويل أي كان ما كان مما يضيق عنه نطاق البيان وقدره بعضهم نحو ما صرح به في سورتي التكوير والانفطار وقيل هو ما دل عليه * (يا أيها الإنسان) * الخ وتقديره لاقى الإنسان كدحه وقيل هو نفسه على حذف الفاء والأصل فيا أيها الإنسان أو بتقدير يقال وقال الأخفش والمبرد هو قوله تعالى: * (فملاقيه) * بتقدير فأنت ملاقيه ليكون مع المقدر جملة وعلى هذا جملة يا أيها الإنسان الخ معترضة وقال ابن الانباري والبلخي هو وأذنت على زيادة الواو كما قيل في قوله تعالى: * (حتى إذا جاؤا وفتحت أبوابها) * وعن الأخفش أن إذا هنا لا جواب لها لأنها ليست بشرطية بل هي في إذا السماء متجردة عنها مبتدأ وفي وإذا الأرض خبر والواو زائدة أي وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض وقيل لا جواب لها لأنها ليست بذلك بل متجردة عن الشرطية واقعة مفعولا لا ذكر محذوفا ولا يخفى ما في بعض هذه الأقوال من الضعف ولعل الأولى منها الأولان والحساب اليسير السهل الذي لا مناقشة فيه كما قيل وفسره عليه الصلاة والسلام بالعرض وبالنظر في الكتاب مع التجاوز فقد أخرج الشيخان والترمذي وأبو داود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس أحد يحاسب إلا هلك قلت يا رسول الله جعلني الله تعالى فداك أليس الله تعالى يقول: * (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا) * قال ذلك العرض يعرضون ومن نوقش الحساب هلك وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته اللهم حاسبني حسابا يسيرا فلما انصرف عليه الصلاة والسلام قلت يا رسول الله ما الحساب اليسير قال أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه.
* (وينقلب إلى أهله مسرورا) *
* (وينقلب إلى أهله مسرورا) * أي عشيرته المؤمنين مبتهجا بحاله قائلا هاؤم اقرؤا كتابيه وقيل أي فريق المؤمنين ملطا وإن لم يكونوا عشيرته إذ كل المؤمنين أهل للمؤمن من جهة الاشتراك في الايمان وقيل أي إلى خاصته ومن أعده الله تعالى له في الجنة من الحور والغلمان وأخرج هذا ابن المنذر عن مجاهد وقرأ زيد بن علي ويقلب مضارع قلب مبنيا للمفعول.
* (وأما من أوتى كت‍ابه ورآء ظهره) *
* (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره) * أي يؤتاه بشماله من وراء ظهره قيل تغل يمناه إلى عنقه وتجعل شماله وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله وروى أن شماله تدخل في صدره حتى تخرج من وراء ظهره فيأخذ كتابه بها فلا تدافع بين ما هنا وما في سورة الحاقة حيث لم يذكر فيه الظهر ثم هذا إن كان في الكفرة وما قبله في المؤمنين المتقين فلا تعرض هنا للعصاة كما استظهره في " البحر " وقيل لا بعد في إدخال العصاة في أهل اليمين أما لأنهم يعطون كتبهم باليمين بعد الخروج من النار كما اختاره ابن
80

عطية أو لأنهم يعطونها بها قبل لكن مع حساب فوق حساب المتقين ودون حساب الكافرين ويكون قوله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا من وصف الكل بوصف البعض وقيل إنهم يعطونها بالشمال وتمييز الكفرة بكون الإعطاء من وراء ظهورهم ولعل ذلك لأن مؤتي الكتب لا يتحملون مشاهدة وجوههم لكمال بشاعتها أو لغاية بغضهم إياهم أو لأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
* (فسوف يدعو ثبورا) *
* (فسوف يدعوا ثبورا) * يطلبه ويناديه ويقول يا ثبوراه تعالى فهذا أو أنك والثبور الهلاك وهو جامع لأنواع المكاره.
* (ويصلى سعيرا) *
* (ويصلى سعيرا) * يقاسي حرها أو يدخلها وقرأ أكثر السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج يصلي بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة من التصلية لقوله تعالى وتصلية جحيم وقرأ أبو الأشهب وخارجة عن نافع وأبان عن عاصم والعتكي وجماعة عن أبي عمرو يصلي بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام مبنيا للمفعول من الأصلاء لقوله تعالى: * (ونصله جهنم) *.
* (إنه كان فىأهله مسرورا) *
* (إنه كان في أهله) * في الدنيا * (مسرورا) * فرحا بطرا مترفا لا يخطر بباله أمور الآخرة ولا يتفكر في العواقب ولم يكن حزينا متفكرا في حاله ومآله كسنة الصلحاء والمتقين والجملة استئناف لبيان علة ما قبلها وقوله تعالى:
* (إنه ظن أن لن يحور) *
* (إنه ظن أن لن يحور) * تعليل لسروره في الدنيا أي ظن أن لن يرجع إلى الله تعالى تكذيبا للمعاد وقيل ظن أن لن يرجع إلى العدم أي ظن أنه لا يموت وكان غافلا عن الموت غير مستعد له وليس بشيء والحور الرجوع مطلقا ومنه قول الشاعر: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه * يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
والتقييد هنا بقرينة المقام وإن مخففة من الثقيلة سادة ما في حيزها مسد مفعولي الظن على المشهور.
* (بلى إن ربه كان به بصيرا) *
* (بلى) * إيجاب لما بعد لن وقوله تعالى: * (إن ربه كان به بصيرا) * تحقيق وتعليل له أي بلى يحور البتة أن ربه عز وجل الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء بصيرا بحيث لا تخفى عليه سبحانه منها خافية فلا بد من رجعه وحسابه ومجازاته.
* (فلا أقسم بالشفق) *
* (فلا أقسم بالشفق) * هي الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب بعد الغروب وأصله من رقة الشيء يقال شيء شفق أي لا يتماسك لرقته ومنه أشفق عليه رق قلبه والشفقة من الإشفاق وكذلك الشفق قال الشاعر: تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا * والموت أكرم نزال على الحرم
وقيل البياض الذي يلي تلك الحمرة ويرى بعد سقوطها وفي تسمية ذلك شفقا خلاف فالجمهور على أنه لا يسمى به وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وأبوحنيفة رضي الله تعالى عنهم على أنه يسمى وروى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه رجع عن ذلك إلى ما عليه الجمهور وتمام الكلام عليه في " شروح الهداية " وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة أنه هنا النهار كله. وروى ذلك عن الضحاك وابن أبي نجيح وكأنه شجعهم على ذلك عطف الليل عليه وعن عكرمة أيضا أنه ما بقي من النهار والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا عرفت هذا أو إذا تحقق الحور بالبعث فلا أقسم بالشفق.
* (واليل وما وسق) *
* (والليل وما وسق) * وما ضم وجمع يقال وسقه فاتسق واستوسق أي جمعه فاجتمع ويقال طعام موسوق أي مجموع وابل مستوسقة أي مجتمعة قال الشاعر: إن لنا قلائصا حقائقا * مستوسقات لم يجدن سائقا
ومنه الوصق الأصواع المجتمعة وهي ستون صاعا أوحمل بعير لاجتماعه على ظهره وما تحتمل المصدرية والموصولة والجمهور على الثاني والعائد محذوف أي والذي وسقه والمراد به ما يجتمع بالليل ويأي إلى مكانه من الدواب وغيرها
81

وعن مجاهد ما يكون فيه من خير أو شر وقيل ما ستره وغطى عليه بظلمته وقيل ما جمعه من الظلمة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال وما وسق وما عمل فيه ومنه قوله: فيوما ترانا صالحين وتارة * تقوم بنا كالواسق المتلبب
وقيل وسق بمعنى طرد أي وما طرده إلى أماكنه من الدواب وغيرها أو ما طرده من ضوء النهار ومنه الوسيقة قال في " القاموس " وهي من الإبل كالرفقة من الناس فإذا سرقت طردت معا.
* (والقمر إذا اتسق) *
* (والقمر إذا اتسق) * أي اجتمع نورع وصار بدرا.
* (لتركبن طبقا عن طبق) *
* (لتركبن طبقا عن طبق) * خطاب لجنس الإنسان المنادى أولا باعتبار شموله لأفراده والمراد بالكوب الملاقاة والطبق في الأصل ما طابق غيره مطلقا وخص في العرف بالحال المطابقة لغيرها ومنه قول الأقرع بن حابس. إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره * وساقني طبق منه إلى طبق
وعن للمجاوزة وقال غير واحد هي بمعنى بعد كما في قولهم سادوك كابرا عن كابر وقوله: ما زلت أقطع منهلا عن منهل * حتى أنخت بباب عبد الواحد
والمجاوزة والبعدية متقاربان والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لطبقا أو حالا من فاعل تركبن والظاهر أن نصب طبقا على أنه مفعول به أي لتلاقن حالا مجاوز لحال أو كائنة بعد حال أو مجاوزين لحال أو كائنين بعد حال كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول وجوز كون الركوب على حقيقته وتجعل الحال مركوبة مجازا وقيل نصب طبقا على التشبيه بالظرف أو الحالية وقال جمع الطبق جمع طبقة كتخم وتخمة وهي المرتبة ويقال إنه اسم جنس جمعي واحدة ذلك والمعنى لتركبن أحوالا بعد
أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها ورجحه الطيبي فقال هذا الذي يقتضيه النظم وترتب الفاء في فلا أقسم على قوله تعالى: * (بلى إن ربه كان به بصيرا) * وفسر بعضهم الأحوال بما يكون في الدنيا من كونهم نطفة إلى الموت وما يكون في الآخرة من البعث إلى حين المستقر في إحدى الدارين وقيل يمكن أن يراد بطبقا عن طبق الموت المطابق للعدم الأصلي والإحياء المطابق للإحياء السابق فيكون الكلام قسما على البعث بعد الموت ويجري فيه ما ذكره الطيبي وأخرج نعيم بن حماد وأبو نعيم عن مكحول أنه قال في الآية تكونون في كل عشرين سنة على حال لم تكونوا على مثلها وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في كل عشرين عاما تحدثون أمرا لم تكونوا عليه فالطبق بمعنى عشرين عاما وقد عد ذلك في " القاموس " من جملة معانيه وما ذكر بيان للمعنى المراد وقيل الطبق هنا القرن من الناس مثله في قول العباس بن عبد المطلب يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنت لما ولدت أشرقت الأر * ض وضاءت بنورك الأفق
تنقل من صالب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق
وإن المعنى لتركبن سنن من مضى قبلكم قرنا بعد قرن وكلا القولين خلاف الظاهر وقرأ عمر وابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان وابن كثير * (لتركبن) * بتاء الخطاب وفتح الباء وروى عن ابن عباس وابن مسعود أنهما أيضا كسرا تاء المضارعة وهي لغة بني تميم على أنه خطاب للإنسان أيضا لكن باعتبار اللفظ لا باعتبار الشمول وأخرج البخاري عن ابن عباس أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم روى عن جماعة وكأن من ذهب إلى أنه عليه الصلاة والسلام هو المراد بالإنسان فيما تقدم يذهب إليه وعليه يراد لتركبن أحوالا شريفة بعد
82

أخرى من مراتب القرب أو مراتب من الشدة في الدنيا باعتبار ما يقاسيه صلى الله عليه وسلم من الكفرة ويعانيه في تبليغ الرسالة أو الكلام عدة بالنصر أي لتلاقن فتحا بعد فتح ونصرا بعد نصر وتبشيرا بالمعراج أي لتركبن سماء بعد سماء كما أخرجه عبد بن حميد عن ابن عباس وابن مسعود وأيد بالتوكيد بالجملة القسمية والتعقيب بالإنكارية وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في ذلك يعني السماء تنفطر ثم تنشق ثم تحمر وفي وراية السماء تكون كالمهل وتكون مردة كالدهان وتكون واهية وتشقق فتكون حالا بعد حال فالتاء للتأنيث والضمير الفاعل عائد على السماء وقرأ عمر وابن عباس أيضا ليركبن بالياء آخر الحروف وفتح الباء على الالتفات من خطاب الإنسان إلى الغيبة وعن ابن عباس يعني نبيكم عليه الصلاة والسلام فجعل الضمير له صلى الله عليه وسلم والمعنى على نحو ما تقدم وقيل الضمير الغائب يعود على القمر لأنه يتغير أحوالا من سرار واستهلال وأبدار وقرأ عمر أيضا ليركبن بياء الغيبة وضم الباء على أن ضمير الجمع للإنسان باعتبار الشمول وقرىء بالتاء الفوقية وكسر الباء على تأنيث الإنسان المخاطب باعتبار النفس وأمر تقدير الحالية المشار إليها فيما مر على هذه القراآت لا يخفى والفاء في قوله تعالى:
* (فما لهم لا يؤمنون) *
* (فما لهم لا يؤمنون) * جوز أن تكون لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة وأهوالها المشار إليها بقوله تعالى: * (لتركبن) * الخ على بعض الأوجه الموجبة للايمان والسجود أي إذا كان حالهم يوم القيامة كما أشير إليه فأي شيء لهم حال كونهم غير مؤمنين أي أي شيء يمنعهم من الايمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وسائر ما يجب الايمان به مع تعاضد موجباته من الأهوال التي تكون لتاركه يومئذ وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما قيل من عظيم شأنه عليه الصلاة والسلام المشار إليه بقوله سبحانه: * (لتركبن) * الخ على بعض آخر من الأوجه السابقة فيه أي إذا كان حاله وشأنه صلى الله عليه وسلم ما أشير إليه فأي شيء يمنعهم من الايمان به عليه الصلاة والسلام وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما تضمنه قوله سبحانه فلا أقسم الخ مما يدل على صحة البعث من التغييرات العلوية والسفلية الدالة على كمال القدرة وإليه ذهب الإمام أي إذا كان شأنه تعالى شأنه كما أشير إليه من كونه سبحانه وتعالى عظيم القدرة واسع العلم فأي شيء يمنعهم عن الايمان بالبعث الذي هو من جملة الممكنات التي تشملها قدرته عز وجل ويحيط بها علمه جل جلاله.
* (وإذا قرىء عليهم القرءان لا يسجدون) *
* (وإذ قرىء عليهم القرآن لا يسجدون) * عطف على الجملة الحالية فهي حالية مثلها أي فأي مانع لهم حال عدم سجودهم عند قراءة القرآن والسجود مجاز عن الخضوع اللازم له على ما روى عن قتادة أو المراد به الصلاة وفي قرن ذلك بالايمان دلالة على عظم قدرها كما لا يخفى أو هو على ظاهره فالمراد بما قبله قرىء القرآن المخصوص أو وفيه آية سجدة وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد عند قراءة هذه الآية أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة قال سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في * (إذا السماء انشقت) * و * (اقرأ باسم ربك) * وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي رافع قال صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ * (إذا السماء انشقت) * فسجد فقلت له فقال سجدت خلفي أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه عليه الصلاة والسلام وفي ذلك رد على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حيث قال ليس في المفصل وهو من سورة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل من الفتح وقيل هو قول الأكثر من الحجرات سجدة وهي سنة عند الشافعي الشافعي وواجبة عند أبي حنيفة قال الإمام روى أنه صلى الله عليه وسلم قرأ ذات يوم واسجد واقترب فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفر فنزلت هذه الآية واحتج أبو حنيفة على وجوب السجدة بهذا من وجهين
83

الأول إن فعله عليه الصلاة والسلام يقتضي الوجوب لقوله تعالى فأتبعوه الثاني أنه تعالى ذم من يسمعه ولا يسجد وحصول الذم عند الترك يدل على الوجوب انتهى وفيه بحث مع أن الحديث كما قال ابن حجر لم يثبت.
* (بل الذين كفروا يكذبون) *
* (بل الذين كفروا يكذبون) * أي بالقرآن وهو انتقال عن كونهم لا يسجدون عند قراءته إلى كونهم يكذبون به صريحا ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم
بالكفر والإشعار بعلة الحكم وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة يكذبون مخففا وبفتح الياء.
* (والله أعلم بما يوعون) *
* (والله أعلم بما يوعون) * أي بالذي يضمرونه في صدورهم من الكفر والحسد والبغضاء والبغي فما موصولة والعائد محذوف وأصل الإيعاء جعل الشيء في وعاء وفي مفردات الراغب الإيعاء حفظ الأمتعة في وعاء ومنه قوله: والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وأريد به هنا الإضمار مجازا وهو المروي عن ابن عباس ولا يلزم عليه كون الآية في حق المنافقين مع كون السورة مكية كما لا يخفى وفسره بعضهم بالجمع وحكى عن ابن زيد وجوز أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يجمعونه في صحفهم من أعمال السوء وأيا ما كان فعلم الله تعالى بذلك كناية عن مجازاته سبحانه عليه وقيل المراد الإشارة إلى أن لهم وراء التكذيب قبائح عظيمة كيرة يضيق عن شرحها نطاق العبارة وقال بعضهم يحتمل أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يضمرونه في أنفسهم من أدلة كونه أي القرآن حقا فيكون المراد المبالغة في عتادهم وتكذيبهم على خلاف علمهم والظاهر أن الجملة على هذا حال من ضمير يكذبون وكونها كذلك على ما قيل من الإشارة خلاف الظاهر وقرأ أبو رجاء بما يعون من وعي يعي.
* (فبشرهم بعذاب أليم) *
* (فبشرهم بعذاب أليم) * مرتب على الاخبار بعلمه تعالى بما يوعون مرادا به مجازاتهم به وقيل على تكذيبهم وقيل الفاء فصيحة أي إذا كان حالهم ما ذكر * (فبشرهم) * الخ والتبشير في المشهور الاخبار بسار والتعبير به ههنا من باب: تحية بينهم ضرب وجيع
وجوز أن يكون ذلك على تنزيلهم لأنهماكهم في المعاصي الموجبة للعذاب وعدم استرجاعهم عنها منزلة الراغبين في العذاب حتى كان الاخبار به تبشيرا وإخبارا بسار والفرق بين الوجهين يظهر بأدنى تأمل وأبعد جدا من قال إن ذلك تعريض بمحبة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم البشارة فيستعار لأمره عليه الصلاة والسلام بالإنذار لفظ البشارة تطييبا لقلبه صلى الله عليه وسلم.
* (إلا الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات لهم أجر غير ممنون) *
* (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * استثناء منقطع من الضمير المنصوب في فبشرهم وجوز أن يكون متصلا على أن يراد بالمستثنى من آمن وعمل الصالحات من آمن وعمل بعد منهم أي من أولئك الكفرة والمضي في الفعلين باعتبار علم الله تعالى أوهما بمعنى المضارع ولا يخفى ما فيه من التكلف مع أن الأول أنسب منه بقوله تعالى: * (لهم أجر غير ممنون) * لأن الأجر المذكور لا يخص المؤمنين منهم بل المؤمنين كافة وكون الاختصاص إضافيا بالنسبة ءلى الباقين على الكفر منهم خلاف الظاهر على أنإيهام الاختصاص بالمؤمنين منهم يكفي في الغرض كما لا يخفى والتنوين في أجر للتعظيم ومعنى غير ممنون غير مقطوع من من إذا قطع أو غير معتد به ومحسوب عليهم من من عليه إذا اعتد بالصنيعة وحسبها وجعل بعضهم المن بهذا المعنى من من بمعنى قطع أيضا لما أنه يقطع النعمة ويقتضي قطع شكرها والجملة على ما قيل استئناف مقرر لما أفاده الاستثناء من انتفاء العذاب عن المذكورين ومبين لكيفيته ومقارنته للثواب العظيم الكثير.
سورة البروج
لا خلاف في مكيتها ولا في كونها اثنتين وعشرين آية ووجه مناسبتها لما قبلها باشتمالها كالتي قبل على وعد المؤمنين
84

ووعيد الكافرين مع التنويه بشأن القرآن وفخامة قدره وفي " البحر " أنه سبحانه لما ذكر أنه جل وعلا أعلم بما يجمعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والصلب والحرق بالشمس وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه ذكر سبحانه أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم فكانوا يعذبون بالنار وأن المعذبين كان لهم من الثبات في الايمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم وإن الذين عذبوهم ملعونون فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذبونه من المؤمنين انتهى وهو وجه وجيه:
* (والسمآء ذات البروج) *
* (والسماء ذات البروج) * أي القصور كما قال ابن عباس وغيره والمراد بها عند جمع البروج الإثنا عشر المعروفة وأصل البرج الأمر الظاهر ثم صار حقيقة للقصر العالي لأنه ظاهر للناظرين ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضا وبروج والسماء بالمعنى المعروف وإن التحقت بالحقيقة فهي في الأصل استعارة فإنها شبهت بالقصور لعلوها ولأن النجوم نازلة فيها كسكانها فهناك استعارة مصرحة تتبعها مكنية وقيل شبه السماء بسور المدينة فأثبت لها البروج وقيل هي منازل القمر وهذا راجع إلى القول الأول لأن البروج منقسمة ثمانية وعشرين منزلا وقد تقدم الكلام فيها وقال مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة هي النجوم وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه فيه حديثا مرفوعا بلفظ الكواكب بدل النجوم والله تعالى أعلم بصحته وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن أبي صالح أنه قال هي النجوم العظام وعليه إنما سميت بروجا لظهورها وكذا على ما قبله وإن اختلف الظهور ولم يظهر شموله جميع النجوم وقيل هي أبواب السماء وسميت بذلك لأن النوازل تخرج من الملائكة عليهم السلام منها فجعلت مشبهة بقصور العظماء النازلة أو أمرهم منها أو لأنها لكونها مبدأ للظهور وصفت به مجازا في الطرف وقيل في النسبة والبروج الإثنا عشر في الحقيقة على ما ذكره محققو أهل الهيئة معتبرة في الفلك الأعلى المسمى بفلك الأفلاك والفلك الأطلس وزعموا أنه العرش بلسان الشرع لكنها لما لم تكن ظاهرة حسا دلوا عليها بما سامتها وقت تقسيم الفلك الأعلى من الصور المعروفة كالحمل والثور وغيرهما التي هي في الفلك الثامن المسمى عندهم بفلك الثوابت وبالكرسي في لسان الشرع على ما زعموا فبرج الحمل مثلا ليس إلا جزءا من اثني عشر جزءا من الفلك الأعلى سامتته صورة الحمل من الثوابت وقت التقسيم وبرج الثور ليس إلا
جزءا من ذلك سامتته صورة الثور منها ذلك الوقت أيضا وهكذا وإنما قيل وقت التقسيم لأن كل صورة قد خرجت لحركتها وإن كانت بطيئة عما كانت مسامتة له من تلك البروج حتى كاد يسامت الحمل اليوم برج الثور والثور برج الجوزاء وهكذا فعلى هذا وكون المراد بالروج البروج ازثني عشر أو المنازل قيل المراد بالسماء الفلك الأعلى وقيل الفلك الثامن لظهور الصور الدالة على البروج فيه ولذا يسمى فلك البروج وقيل السماء الدنيا لأنها ترى فيها بظاهر الحس نظير ما قيل في قوله تعالى: ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وقيل الجنس الشامل لكل سماء لأن السموات شفافة فيشارك العليا فيما فيها السفلى لأنه يرى فيها ظاهرا وإذا أريد بالبروج النجوم فقيل المراد بالسماء الفلك الثامن لأنها فيه حقيقة وقيل السماء الدنيا وقيل الجنس على نحو ما مر ولا يراد على ما قيل الفلك الأعلى لأنه كاسمه غير مكوكب وإذا أريد بها الأبواب فقيل المراد بالسماء ما عدا فلك الأفلاك المسمى بلسان الشرع بالعرش فإنه لم يرد أن له أبوابا هذا وأنت تعلم أن أكثر ما ذكر مبني على كلام أهل الهيئة المتقدمين وهو لا يصح له مستند شرعا ولا يكاد تسمع فيه إطلاق السماء على العرش أو الكرسي لكن لما سمع بعض الإسلاميين
85

من الفلاسفة أفلاكا تسعة وأراد تطبيق ذلك على ما روى في الشرع زعم أن سبعة منها هي السموات السبع والإثنين الباقيين هما الكرسي والعرش ولم يدر أن في الأخبار ما يأبى ذلك وكون الدليل العقلي يقتضيه محل بحث كما لا يخفى ومن رجع إلى كلام أهل الهيئة المحدثين ونظر في أدلتهم على ما قالوه في أمر الأجرام العلوية وكيفية ترتيبها قوي عنده وهن ما ذهب إليه المتقدمون في ذلك فالذي ينبغي أن يقال البروج هي المنازل للكواكب مطلقا التي يشاهدها الخواص والعوام وما علينا في أي سماء كانت أو الكواكب أنفسها أينما كانت أو أبواب السماء الواردة في لسان الشرع والأحاديث الصحيحة وهي لكل سماء ولم يثبت للعرش ولا للكرسي منها شيء ويراد بالسماء جنسها أو السماء الدنيا في غير القول الأخير على ما سمعت فيما تقدم فلا تغفل.
* (واليوم الموعود) *
* (واليوم الموعود) * أي الموعود به وهو يوم القيامة باتفاق المفسرين وقيل لعله اليوم الذي يخرج الناس فيه من قبورهم فقد قال سبحانه يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون أو يوم طيء السماء كطيء السجل للكتب وقيل يمكن أن يراد به يوم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم على ما أشار إليه قوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ولا يخفى أن جميع ذلك داخل في يوم القيامة.
* (وش‍اهد ومشهود) *
* (وشاهد ومشهود) * أي ومن يشهد بذلك اليوم ويحضره من الخلائق المبعوثين فيه وما يحضر فيه من الأهوال والعجائب فيكون الله عز وجل قد أقسم سبحانه بيوم القيامة وما فيه تعظيما لذلك اليوم وإرهابا لمنكريه وتنكير الوصفين للتعظيم أي وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما أو للتكثير كما قيل في علمت نفس ما أحضرت وأخرج الترمذي وجماعة عن أبي هريرة مرفوعا الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وروى ذلك عن أبي مالك الأشعري وجبير بن مطعم رضي الله تعالى عنهما مرفوعا أيضا وأخرج جماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه وغيره من الصحابة والتابعين وأخرج الحاكم وصححه عنه مرفوعا أيضا الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة والمشهود يوم القيامة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النجم وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما أن رجلا سأل عن ذلك فقال هل سألت أحدا قبلي قال نعم سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة قال لا ولكن الشاهد محمد وفي رواية جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قرأ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا والمشهود يوم القيامة ثم قرأ ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وروى النسائي وجماعة من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه الشاهد الله عز وجل والمشهود يوم القيامة وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار الشاهد آدم عليه السلام وذريته والمشهود يوم القيامة وعن ابن المسيب الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة وعن الترمذي الشاهد الحفظة والمشهود أي عليه الناس وعن عبد العزيز بن يحيى هما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته عليه الصلاة والسلام وعنه أيضا هما الأنبياء عليهم السلام وأممهم وعن ابن جبير ومقاتل هما الجوارح وأصحابها وقيل هما يوم الإثنين ويوم الجمعة وقيل هما الملائكة المتعاقبون عليهم السلام وقرآن الفجر وقيل هما النجم والليل والنهار وقيل الشاهد الله تعالى والملائكة وأولو العلم والمشهود به الوحدانية وإن الدين عند الله تعالى الإسلام وقيل الشاهد مخلوقاته تعالى والمشهود به الوحدانية وقيل هما الحجر الأسود والحجيج وقيل الليالي والأيام وبنو آدم فعن الحسن ما من يوم إلا ينادي أنى يوم جديد وأنى على ما يعمل في شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى اليوم القيامة وقيل أمة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر
86

الأمم وجوز أن يراد بها المقربون والعليون لقوله تعالى: * (كتاب مرقوم يشهده المقربون) * وأن يراد بالشاهد الطفل الذي قال يا أماه اصبري فإنك على الحق كما سيجيء إن شاء الله تعالى والمشهود له أمه والمؤمنون لأنه إذا كانت أمه على الحق فسائر المؤمنين كذلك وقيل وقيل وجميع الأقوال في ذلك ما وقفت عليه نحو من ثلاثين قولا والوصف على بعضها من الشهادة بمعنى الحضور ضد المغيب وعلى بعضها الآخر من الشهادة على الخصم أو له شهادة الجوارح بأن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء وكذا الحجر الأسود ولا سعد في حضوره يوم القيامة للشهادة للحجيج وأما شهادة اليوم فيمكن أن تكون بعد ظهوره في صورة كظهور القرآن على صورة الرجل الساحب إذ يتلقى صاحبه عند قيامه من قبره وظهور الموت في صورة كبش يوم القيامة حتى يذبح بين الجنة والنار إلى غير ذلك وقال الشهاب الله تعالى قادر على أن يحضر الموت ليشهد ولم يبين كيفية ذلك فإن كانت كما ذكرنا فذاك وإن كانت شيئا آخر بإن يحضر نفس اليوم في ذلك اليوم فالظاهر أنه يلزم أن يكون للزمان زمان وهو وإن جوزه من جوزه من المتكلمين لكن في الشهادة بلسان القال عليه خفاء ومثلها نداء اليوم الذي سمعته آنفا عن الحسن إن كان بلسان القال أيضا دون لسان الحال كا هو الأرجح عندي واختار أبو حيان من الأقوال على تقدير أن يراد بالشهادة الشهادة بالمعنى الثاني القول بأن الشاهد من يشهد في ذلك اليوم أعني اليوم الموعود يوم القيامة
وأن المشهود من يشهد عليه فيه وعلى تقدير أن يراد بها الشهادة بالمعنى الأول القول بإن الشاهد الخلائق الحاضرون للحساب وإن المشهود اليوم ولعل تكرير القسم به وإن اختلف العنوان لزيادة تعظيمه فتأمل وجواب القسم قيل هو قوله تعالى: * (إن الذين فتنوا) * وقال المبرد هو قوله تعالى: * (إن بطش ربك لشديد) * وصرح به ابن جريج وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن مسعود ما يدل عليه وقال غير واحد هو قوله تعالى:
* (قتل أصح‍ابالاخدود) *
* (قتل أصحاب الأخدود) * على حذف اللام منه للطول والأصل لقتل كما في قوله: حلفت لها بالله حلفة فاجر * لناموا فما ان من حديث ولا صالي
وقيل على حذف اللام وقد والأصل لقد قتل وهو مبني على ما اشتهر من أن الماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله تلزمه اللام وقد ولا يجوز الاقتصار على أحدهما إلا عند طول الكلام كما في قوله سبحانه قد أفلح من زكاها بعد قوله سبحانه: * (قد أفلح من زكاها) * بعد قوله تعالى: * (والشمس وضحاها) * الخ والبيت المذكور ولا يجوز تقدير اللام بدون قد لأنها لا تدخل على الماضي المجرد منها وتمام الكلام في محله كشروح التسهيل وغيرها وأيا ما كان فالجملة خبرية وقال بعض المحققين إن الأظهر أنها دعائية دالة على الجواب كأنه قيل أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش لملعونون أحقاء بأن يقال فيهم قتلوا كما هو شأن أصحاب الأخدود لما أن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الايمان وتصبيرهم على أذية الكفرة وتذكيرهم بما جرى ممن تقدمهم من التعذيب لأهل الايمان وصبرهم على ذلك حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ويعلموا أنهم مثل أولئك عند الله عز وجل في كونهم ملعونين مطرودين فالقتل هنا عبارة عن أشد اللعن والطرد لاستحالة الدعاء منه سبحانه حقيقة فاريد لازمه من السخط والطرد عن رحمته جل وعلا وقال بعضهم الأظهر أن يقدر أنهم لمقتولون كما قتل أصحاب الأخدود فيكون وعدا له صلى الله عليه وسلم بقتل الكفرة المتمردين لإعلاء دينه ويكون معجزة بقتل رؤسهم في غزوة بدر انتهى وظاهره إبقاء القتل على حقيقته واعتبار الجملة خبرية وهو كما ترى وحكى في البحر أن الجواب محذوف وتقديره لتبعثن ونحوه وليس بشيء كما لا يخفى والأخدود الخد وهو الشق في الأرض ونحوهما بناء ومعنى الخق والأخقوق ومنه ما جاء في خبر سراقة حين
87

تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت قوائمه أي قوائم فرسه في أخاقيق جرذان. أخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث صهيب يرفعه كان ملك من الملوك وكان ذلك الملك كاهن يكهن له فقال له ذلك الكاهن انظروا إلى غلاما فهما فأعلمه علمي هذا فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه فنظروا له غلاما على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه فجعل الغلام يختلف إليه وكان على طريق الغلام راهب في صومعه فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به فلم يزل به حتى أخبره فقال إنما أعبد الله تعالى فجعل الغلام يمكث عند الراهب ويبطىء على الكاهن فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب إذا قال لك الكاهن أي كنت فقل عند أهلي وإذا قال لك أهلك أين كنت فأخبرهم إنك كنت عند الكاهن فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثيرة قد حبستهم دابة يقال كانت أسدا فأخذ الغلام حجرا فقال اللهم إن كان ما يقول الراهب حقا فاسألك أن أقتل هذه الدابة وإن كان ما يقوله الكاهن حقا فأسألك أن لا أقتلها ثم رمى فقتل الدابة فقال الناس من قتلها فقالوا الغلام ففزع الناس وقالوا قد علم هذا الغلام علما لم يعلمه أحد فسمع أعمى فجاءه فقال له إن أنت رددت بصري فلك كذا وكذا فقال الغلام لا أريد منك هذا ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك قال نعم فرد عليه بصره فآمن الأعمى فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى ثم أمر بالغلام فقال انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسه فانطلقوا به إلى ذلك الجبل فلما انتهوا به إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون حتى لم يبق منهم إلا الغلام ثم رجع الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه فانطلق به إلى البحر ففرق الله تعالى الذين كانوا معه وأنجاه الله تعالى فقال الغلام للملك إنك لا تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول بسم الله رب الغلام فأمر به فصلب ثم رماه وقال بسم الله رب الغلام فوضع الغلام يده على صدغه حين رمي ثم مات فقال الناس لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد فإنا نؤمن برب هذا الغلام فقيل للملك أجزعت إن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك فخذ أخدودا ثم ألقى فيها الحطب والنار ثم جمع الناس فقال من رجع عن دينه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار فجعل يلقيهم في تلك الأخدود فقال يقول الله تعالى قتل أصحاب الأخدود حتى بلغ العزيز الحميد وفيه فأما الغلام فإنه دفن ثم أخرج فيذكر أنه خرج في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه واصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل وفي بعض رواياته فجاءت امرأة بابن لها صغير فكأنها تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي يا أمه اصبري فإنك على الحق وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن نجى قال شهدت عليا كرم الله تعالى وجهه وقد أتاه اسقف نجران فسأله عن أصحاب الأخدود فقص عليه القصة فقال علي كرم الله تعالى وجهه أنا أعلم بهم منك بعث نبي من الحبش إلى قومه ثم قرأ رضي الله تعالى عنه ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك فدعاهم فتابعه الناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذ فأوثق فانفلت فأنس إليه رجال فقاتلهم وقتلوا وأخذ فأوثق فخددوا أخدودا وجعلوا فيها النيران وجعلوا يعرضون الناس فمن تبع النبي رمى به فيها ومن تابعهم ترك وجاءت امرأة في آخر من جاء ومعها صبي لها فجزعت فقال الصبي يا أمه اصبري ولا تماري فوقعت واخرج عبد بن حميد عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال كان المجوس أهل كتاب وكانوا متمسكين
88

بكتابهم وكانت الخمرة قد أحلت لهم فتناول منها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله فتناول أخته أو ابنته فوقع عليها فلما ذهب عنه السكر ندم وقال لها ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه قالت المخرج منه أن تخطب الناس فتقول أيها الناس إن الله أحل نكاح الأخوات أو البنات فقال الناس جمعتهم معاذ الله تعالى أن نؤمن بهذا أو نقر به أو جاءه به نبي أو نزل علينا في كتاب فرجع إلى صاحبته وقال ويحك إن الناس قد أبوا على ذلك قالت إن أبوا عليك فابسط فيهم السوط فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا
قالت فجرد فيهم السيف فأبوا أن يقروا قالت فخذ لهم الأخدود ثم أوقد فيها النيران فمن تابعك خل عنه فخذ لهم أخدودا وأوقد فيها النيران وعرض أهل مملكته على ذلك فمن أبى قذفه في النار ومن لم يأب خلى عنه وقيل وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد وقيل سبعين ألفا وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعا وعرضه اثني عشر ذراعا ولاختلاف الأخبار في القصة اختلفوا في موضع الأخدود فقيل بنجران لهذا الخبر الأخير وقيل بأرض الحبشة لخبر ابن نجي السابق وأخرج عبد بن حميد وابن ا لمنذر عن قتادة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان بمذراع اليمن أي قراه وهذا لا ينافي كونه بنجران لأنه بلد باليمن وكذا اختلفوا في أصحاب الأخدود لذلك فحكى فيه ما يزيد على عشرة أقوال منها أنهم حبشة ومنها أنهم من النبط وروى عن عكرمة ومنها أنهم من بني إسرائيل وروى عن ابن عباس وأصح الروايات عندي في القصة ما قدمناه عن صهيب رضي الله تعالى عنه والجمع ممكن فقد قال عصام الدين لعل جميع ما روى واقع والقرآن شامل له فلا تغفل وقرأ الحسن وابن مقسم قتل بالتشديد وهو مبالغة في لعنهم لعظم ما أتوا به وقد كان صلى الله عليه وسلم على ما أرج ابن أبي شيبة عن عوف وعبد بن حميد عن الحسن إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ من جهد البلاء.
* (النار ذات الوقود) *
* (النار) * بدل اشتمال من الأخدود والرابط مقدر أي فيه أو أقيم إلى مقام الضمير أو لأنه معلوم اتصاله به فلا يحتاج لرابط وكذا كل ما يظهر ارتباطه فيما قبل وجوز أبو حيان كونه بدل كل من كل على تقدير محذوف أي أخدود النار وليس بذاك وقرأ قوم النار بالرفع فقيل على معنى قتلتهم النار كما في قوله تعالى: * (يسبح له فيها بالغدو والآصال) * رجال على قراءة يسبح بالبناء للمفعول وقوله: ليبك يزيد ضارع لخصومة
ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين وليس المراد بالقتل اللعن وجوز أن يراد بهم الكفرة والقتل على حقيقته بناء على ما قال الربيع بن أنس والكلبي وأبو العالية وأبو إسحق من الله تعالى بعث على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذي كانوا على حافتي الأخدود وأنت تعلم أن قول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دلت عليه القصص التي ذكروها فلا ينبغي أن يعول عليه وإن حمل القتل على حقيقته غير ملائم للمقام ولعل الأولى في توجيه هذه القراءة أن النار خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هو النار ويكون الضمير راجعا على الأخدود وكونه النار خارج مخرج المبالغة كأنه نفس النار * (ذات الوقود) * وصف لها بغاية العظمة وارتفاع اللهب وكثرة ما يوجبه ووجه إفادته ذلك أنه لم يقل موقدة بل جعلت ذات وقود أي مالكته وهو كناية عن زيادته زيادة مفرطة لكثرة ما يرتفع به لهبها وهو الحطب الموقد به لأن تعريفه استغراقي وهي إذا ملكت كل موقود به عظم حريقها ولهبها وليس ذلك لأنه لا يقال ذو كذا إلا لمن كثر عنده كذا لأنه غير مسلم وذو النون يأباه وكذا ذو العرض وقرأ الحسن وأبو بجار وأبو حيوة وعيسى الوقود بضم الواو وهو مصدر بخلاف مفتوحه فإنه ما يوقد به. وقد حكى سيبويه أنه مصدر كمضمونه وقوله تعالى:
* (إذ هم عليها قعود) *
* (إذ هم عليها قعود) *
89

ظرف لقتل أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها في مكان قريب منها مشرفين عليها من حافات الأخدود كما في قول الأعشى: تشب لمقرورين يصطليانها * وبات على النار الندى والمحلق
وقيل الكلام بتقدير مضاف أي على حافاتها أو نحوه والجمهور على أن المراد ذلك من غير تقدير.
* (وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) *
* (وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) * أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأن أحدا لم يقصر فيما أمر به أو يشهدون عنده على ما حسن ما يفعلون واشتماله على الصلاح على ما قيل أو يشهد بعضهم على بعض بذلك الفعل الشنيع يوم القيامة أو يشهدون على أنفسهم بذلك يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم وقيل علي بمعنى مع والمعنى وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور لا يرقون لهم لغاية قسوة قلوبهم ومن زعمم أن الله تعالى نجى المؤمنين وإنما أحرق سبحانه الكافرين يقول هنا المراد وهم على ما يريدون فعله بالمؤمنين شهود وأيا ما كان ففي المؤمنين تغليب والمراد بالمؤمنين والمؤمنات ومن الغريب الذي لا يلتفت إليه ما قيل إن أصحاب الأخدود عمرو بن هند المشهور بمحرق ومن معه حرق مائة من بني تميم وضميرهم على ما يفعلون لكفار قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات.
* (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) *
* (وما نقموا منهم) * أي ما أنكروا منهم وما عابوا وفي مفردات الراغب يقال نقمت الشيء إذا أنكرته بلسانك أو بعقوبة وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وما نقموا بكسر القاف والجملة عطف على الجملة الاسمية وحسن ذلك على ما قيل كون تلك الاسمية لوقوعها في حيز إذ ماضوية فكان العطف عطف فعلية على فعلية وقيل إن هذه الفعلية بتقدير وهم ما نقموا منهم * (إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) * استثناء مفصح عن براءتهم عما يعاب وينكر بالكلية على منهاج قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب
وكون الكفرة يرون الايمان أمرا منكرا والشاعر لا يرى الفلول كذلك لا يضر على ما أرى في كون ذلك منه عز وجل جاريا على ذلك المنهاج من تأكيد المدح بما يشبه الذم ثم إن القوم إن كانوا مشركين فالمنكر عندهم ليس هم الايمان بالله تعالى بل نفى ما سواه من معبوداتهم الباطلة وإن كانوا معطلة فالمنكر عندهم ليس إلا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الأمرين إنكار المعبود بحق الموصوف بصفات الجلال والإكرام عبر بما ذكر مفصحا عما سمعت فتأمل ولبعض الأعلام كلام في هذا
المقام قد رده الشهاب فإن أردته فارجع إليه وفي المنتخب إنما قال سبحانه إلا أن يؤمنوا لأن التعذيب إنما كان واقعا على الايمان في المستقبل ولو كفروا فيه لم يعذبوا على ما مضى فكأنه قال عز وجل إلا أن يدوموا على ايمانهم انتهى وكأنه حمل النقم على الانكار بالعقوبة ووصفه عز وجل بكونه عزيزا غالبا يخشى عقابه وحميدا منعما يرجى ثوابه وتأكيد ذلك بقوله سبحانه:
* (الذى له ملك السم‍اوات والارض والله على كل شىء شهيد) *
* (الذي له ملك السماوات والأرض) * للإشعار بمناط إيمانهم وقوله تعالى: * (والله على كل شيء شهيد) * وعد لهم ووعيد لمعذبيهم فإن علم الله جل شأنه الجامع لصفات الجلال والجمال بجميع الأشياء التي من جملتها أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما ولكونه تذييلا لذلك واللائق به الاستقلال جيء فيه بالاسم الجليل دون الضمير.
* (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمن‍ات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق) *.
* (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) * أي محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه والمراد بالذين فتنوا وبالمؤمنين والمؤمنات المفتونين أما أصحاب الأخدود والمطرحون فيه خاصة وأما الأعم ويدخل المذكورون دخولا أوليا وهو الأظهر وقيل المراد بالموصول كفار قريش الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات من هذه الأمة بأنواع من العذاب وقوله تعالى: * (ثم لم يتوبوا) * قال ابن عطية يقوى أن الآية
90

في قريش لأن هذا اللفظ فيهم أحكم منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتواعلى كفرهم وأما قريش فكان فيهم وقت نزولها من ماب وآمن وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يعكر على أظهرية العموم والظاهر أن المراد ثم لم يتوبوا من فتنهم * (فلهم عذاب جهنم) * أي بسبب فتنهم ذلك * (ولهم عذاب الحريق) * وهو نار أخرى زائدة الإحراق كما تنبىء عنه صيغة فعيل لعدم توبتهم ومبالاتهم بما صدر منهم وقال بعض الأجلة أي فلهم عذاب جهنم بسبب كفرهم فإن فعلهم ذلك لا يتصور من غير الكافر ولهم عذاب الحريق بسبب فتنهم المؤمنين والمؤمنات وفي جعل ذلك جزاء الفتن من الحسن ما لا يخفى وتعقب بأن عنوان الكفر لم يصلح به في جانب الصلة وإنما المصرح به الفتن وعدم التوبة فالأظهر اعتبارهما سببين في جانب الخبر على الترتيب وقيل أي فلهم جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا بناء على ما روى عن الربيع ومن سمعت أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم وقد علمت حاتله وتعقبه أبو حيان بأن ثم لم يتوبوا بأبي عنه لأن أولئك المحرقين لم ينقل لنا أن أحدا منهم تاب بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر وفيه نظر وعليه إنما أخر ولهم عذاب الحريق ورعاية للفواصل أو للتميم والترديف كأنه قيل ذلك وهو العقوبة العظمى كائن لا محالة وهذا أيضا لا يتجاوزونه وفي الكشف الوجه أن عذاب جهنم وعذاب الحريق واحد ووصف بما يدل على أنه للمعبودين جدا عن رحمته عز وجل وعلى أنه عذاب هو محض الحريض وهو الحرق البالغ وكفى به عذابا والظاهر أنه اعتبر الحريق مصدرا والإضافة بيانية ولا بأس بذلك إلا أن الوحدة التي ادعاها خلاف ظاهر العطف وقال بعضهم لو جعل من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما كان أقرب ولعل ما ذكرناه أبعد عن القال والقيل وجملة فلهم عذاب الخ وقعت خبرا لأن أو الخبر الجار والمجرور وعذاب مرتفع به على الفاعلية وهو الأحسن والفاء لما في المبتدا من معنى الشرط ولا يضر نسخه بأن وإن زعمه الأخفش واستدل بالآية على بعض أجوهها على أن عذاب الكفار يضاعف بما قارنه من المعاصي.
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات لهم جن‍ات تجرى من تحتها الانه‍ار ذلك الفوز الكبير) *
* (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * على الإطلاق من المفتونين وغيهرم * (لهم) * بسبب ما ذكر من الايمان والعمل الصالح * (جنات تجري من تحتها الأنهار) * إن أريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحية باعتبار جزئها الظاهر فإن أشجارها ساترة لساحتها كما يعرب عنه اسم الجنة وفصل الجملة قيل لأنها كالتأكيد لما أشعرت به الآية قبل من اختصاص العذاب بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا * (ذلكع) * إشارة إلى كون ما ذكر لهم وحيازتهم إياه وقيل للجنات الموصوفة والتذكير لتأويلها بما ذكر وما فيها من معنى البعد للإيذان بعلو الدرجة وبعد المنزلة في الفضل والشرف ومحله الرفع على الابتداء خبره * (الفوز الكبير) * الذي يصغر عنده الفوز بالدنيا وما فيها من الرغائب والفوز النجاة من الشر والظفر بالخير فعلى الوجه الثاني في الإشارة هو مصدر أطلق على المفعول مبالغة وعلى الأول مصدر على حاله.
* (إن بطش ربك لشديد) *
* (إن بطش ربك لشديد) * استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم إيذانا بأن لكفار قومه نصيبا موفورا من مضمونه كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام والبطش الأخذ بصولة وعنف وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم وهو بطشه عز وجل بالجبابرة والظلمة وأخذه سبحانه إياهم بالعذاب والانتقام.
* (إنه هو يبدىء ويعيد) *
* (إنه هو يبديء ويعيد) * أي أنه عز وجل هو يبدىء الخلق بالإنشاء وهو سبحانه يعيده بالحشر يوم القيامة كما قال ابن زيد والضحاك أو يبدىء كل ما يبدأ ويعيد كل ما يعاد كما قال ابن عباس من غير دخل لأحد في شيء منهما ومن كان كذلك كان بطشه في غاية الشدة
91

أو يبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ثم يعيده في الآخرة وعلى الوجهين الجملة في موضع التعليل لما سبق ووجهه على الثاني ظاهر وعلى الأول قد أشرنا إليه وقيل وجهه عليه إن الإعادة للمجازاة فهي متضمنة للبطش وليس بذاك وعن ابن عباس يبدىء العذاب الكفار ويعيده عليهم فتأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثم يعيدهم عز وجل خلقا
جديدا وفيه خفاء وإن كان أمر الجملة عليه في غاية الظهور واستعمال بيدىء مع يعيد حسن وإن لم يسمع أبدأ كما بين في محله وحكى أبو زكيد أنه قرىء يبدأ من بدأ ثلاثيا وهو المسموع لكن القراءة بذلك شاذة.
* (وهو الغفور الودود) *
* (وهو الغفور) * لمن يشاء من المؤمنين وقيل لمن تاب وآمن والتخصيص عند من يرى رأي أهل السنة إما لمناسبة مقام الإنذار أو لما في صيغة الغفور من المبالغة فأصل المغفرة لا يتوقف على التوبة وزيادتها بما لا يعلمه إلا الله تعالى للتائبين * (الودود) * المحب كثيرا لمن أطاع ففعول صيغة مبالغة في الواد اسم فاعل ومحبة الله تعالى ومودته عند الخلف بانعامه سبحانه وإكرامه جل شأنه ومن هنا فسر الودود بكثير الإحسان وعن ابن عباس أي المتودد إلى عباده تعالى شأنه بالمغفرة وقيل هو فعول بمعنى مفعول كركوب وحلوب أي يوده ويحبه سبحانه عباده الصالحون وهو خلاف الظاهر وحكى المبرد عن القاضي اسمعيل بن إسحق أن الودود هو الذي لا ولد له وأنشد قوله: وأركب في الروع عريانة * ذلول الجماح لقاحا ودودا
أي لا ولد لها تحن إليه وحمله مع الغفور على هذا المعنى غير مناسب كما لا يخفى.
* (ذو العرش المجيد) *
* (ذو العرش) * أي صاحبه والمراد مالكه أو خالقه وهو أعظم المخلوقات وعن علي كرم الله تعالى وجهه لو جمعت مياه الدنيا ومسح بها سطح العرش الذي يلينا لما استوعب منه إلا قليل وجاء في الأخبار من عطمه ما يبهر العقول وقال القفال ذو العرش ذو الملك والسلطان كأنه جعل العرش بمعنى الملك بطريق الكناية والتجوز وجوز أن يبقى العرش على حقيقته ويراد بذي العرش الملك لأن ذا العرش لا يكون إلا ملكا وقرأ ابن عامر في رواية ذي العرش بالياء على أنه صفة لربك وحينئذ يكون قوله تعالى: * (إنه هو) * الخ جملة معترضة لا يضر الفصل بها بين الصفة وا الموصوف وكذا لا يضر الفصل بينهما بخبر المبتدأ لأنه ليس بأجنبي فإن الموصوف هنا من تتمة المبتدأ وقد قال ابن مالك في التسهيل يجوز الفصل بين التابع والمتبوع بما لا يتمحض مباينته نعم قال ابن الحاجب الفصل بين الصفة والموصوفة بخبر المبتدأ شاذ كما في قوله: وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفر قدان
* (المجيد) * العظيم في ذاته عز وجل وصفاته سبحانه فإنه تعالى شأنه واجب الوجود تام القدرة كامل الحكمة وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان المجيد بالجر صفة للعرش ومجده علوه وعظمته وحسن صورته وتركيبه فإنه قيل العرش أحسن الأجسام صورة وتركيبا وليس من مجده كون الحوادث الكونية بتوسط أوضاعه كما يزعمه المنجمون فإن ذلك باطل شرعا وعقلا على ما تقتضيه أصولهم وجاز على قراءة ذي العرش بالياء أن يكون صفة لذي وجوز كونه صفة لربك وليس بذاك لأن الأصل عدم الفصل بين التابع والمتبوع فلا يقال به ما لم يتعين.
* (فعال لما يريد) *
* (فعال لما يريد) * بحيث لا يتخلف عن إرادته تعالى من أفعاله سبحانه وأفعال غيره عز وجل فما للعموم وفي التنكير من التفخيم ما لا يخفى وفهي رد ظاهر على المعتزلة في قولهم أنه سبحانه وتعالى يريد ايمان الكافر وطاعة العاصي ويتخلفان عن إرادته سبحانه والمرفوعات كلها على ما استحسنه أبو حيان أخبار لهو في قوله تعالى: * (هو الغفور) * وجوز أن يكون الودود وذو العرش والمجيد صفات للغفور ومن لم يجوز تعدد الخبر لمبتدأ واحد يقول بذلك أو بتقدير مبتدآت
92

للمذكورات وأطلق الزمخشري القول بأن فعال خبر لمبتدأ محذوف أي فعال فقال " صاحب الكشف " إنما لم يحمله على أنه خبر السابق أعني هو في قوله تعالى: * (هو الغفور) * لأن قوله سبحانه: * (فعال لما يريد) * تحقيق للصفتين البطش بالأعداء والغفر والود للأولياء ولو حمل عليه لفاتت هذه النكتة اه‍ وهو تدقيق لطيف وقوله تعالى:
* (هل أتاك حديث الجنود) *
* (هل أتاك حديث الجنود) * استئناف فيه تقرير لكونه تعالى فعالا لما يريد وكذا لشدة بطشه سبحانه بالظلمة العصاة والكفرة العتاة وتسلية له صلى الله عليه وسلم بالإشعار بأنه سيصيب كفرة قومه ما أصاب الجنود وهو جمع جند يقال للعسكر اعتبارا بالغلظة من الجند أي الأرض الغليظة وكذا للأعوان ويقال لصنف من الخلق على حدة وكذا لكل مجتمع والمراد بالجنود ههنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله تعالى عليهم السلام واجتمعوا على ذريتهم.
* (فرعون وثمود) *
* (فرعون وثمود) * بدل من الجنود بدل كل من كل على حذف مضاف أي جنود فرعون أو على أن يراد بفرعون هو وقومه واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه وقيل البدل هو المجموع لا كل من المتعاطفين وهو خلاف الظاهر وقال السمين يجوز كونه منصوبا بأعني لأنه لما لم يطابق ماق بله وجب قطعه وتعقب بأنه تفسير للجنود حينئذ فيعود الإشكال وأجيب بأن المفسر حينئذ المجموع وليس اعتباره مع أعني كاعتباره مع الإبدال والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال والمعنى قد أتاك حديثهم وعرفت ما فعلوا وما فعل بهم فذكر قومك بأيام الله تعالى وشؤونه سبحانه وأنذرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم وقوله تعالى:
* (بل الذين كفروا فى تكذيب) *
* (بل الذين كفروا) * أي من قومك * (في تكذيب) * إضراب انتقالي عن مماثلتهم لهم وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان كما ينبىء عنه العدول عن يكذبون
إلى في تكذيب المفيد لإحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بالغريق فيه مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله فكأنه قيل ليسوا مثلهم بل هم أشد منهم فإنهم غرقى مغمورون في تكذيب عظيم للقرآن الكريم فهم أولى منهم في استحقاق العذاب أو كأنه قيل ليست جنايتهم مجرد عدم التذكر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم بل هم مع ذلك في تكذيب عظيم للقرآن الناطق بذلك وكونه قرآنا من عند الله تعالى مع وضوح أمره وظهور حاله بالبينات الباهرة وقوله تعالى:
* (والله من ورآئهم محيط) *
* (والله من ورائهم محيط) * جوز أن يكون اعتراضا تذييليا وأن يكون حالا من الضمير في الجار والمجرور السابق والكلام تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوت المحاط المحيط كما قال غير واحد وكان المعنى أنه عز وجل عالم بهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه ولا يفوتونه سبحانه وتعالى وذكر عصام الدين أن في ذلك تعريضا وتوبيخا للكفار بأنهم نبذوا الله سبحانه وراء ظهورهم وأقبلوا على الهوى والشهوات بكليتهم ولعل ذلك من العدول عن بهم إلى من ورائهم وقوله تعالى:
* (بل هو قرءان مجيد) *
* (بل هو قرآن مجيد) * رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم وتحقيق للحق أي بل هو كتاب شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى لا يحق تكذيبه والكفر به وقيل إضراب وانتقال عن الأخبار بشدة تكذيبهم وعدم ارعوائهم عنه إلى وصف القرآن للإشارة إلى أنه لا ريب فيه ولا يضره تكذيب هؤلاء والأول أولى وزعم بعضهم أن ازضراب الأول عن قصة فرعون وثمود إلى جميع الكفار والمعنى عليه أن جميع الكفار في تكذيب ولم يكن نبي فارغا عن تكذيبهم والله تعالى لا يهمل أمرهم وفيه من تسليته صلى الله عليه وسلم ما فيه ويبعده إرداف ذلك بهذا الإضراب وقرأ ابن السميفع قرآن مجيد بالإضافة قال ابن خالويه سمعت ابن الأنباري يقول معناه بل هو قرآن رب مجيد كما قال الشاعر. ولكن الغني رب غفور
أي غني رب غفور وقال ابن عطية قرأ اليماني بالإضافة على أن يكون المجيد
93

هو الله تعالى وهو محتمل للتقدير وعدمه وجوز أن يكون من إضافة الموصوف لصفته قال أبو حيان وهذا أولى لتوافق القراءتين.
* (فى لوح محفوظ) *
* (في لوح) * أي كائن في لوح * (محفوظ) * أي ذلك اللوح من وصول الشياطين إليه وهذا هو اللوح المحفوظ المشهور وهو على ما روي عن ابن عباس والعهدة على الراوي لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب وحافتاه الدر والياقوت ودفتاه ياقوتة حمراء وقلمه نور وهو معقود بالعرش وأصله في حجر ملك يقال له ساطريون لله عز وجل فيه في كل يوم ثلثمائة وستون لحظة يحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء وأنه كتب في صدره لا إله إلا الله وحده لا شريك له دينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله فمن آمن بالله عز وجل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة وقال مقاتل إن اللوح المحفوظ عن يمين العرش وجاء فيه أخبار غير ذلك ونحن نؤمن به ولا يلزمنا البحث عن ماهيته وكيفية كتابته ونحو ذلك نعم نقول إن ما يزعمه بعض الناس من أنه جوهر مجرد ليس في حيز وأنه كالمرأة للصور العلمية مخالف لظواهر الشريعة وليس له مستند من كتاب ولا سنة أصلا وقرأ ابن يعمر وابن السميفع لوح بضم اللام وأصله في اللغة الهواء والمراد به هنا مجازا ما فوق السماء السابعة وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه محفوظ بالرفع على أنه صفة لقرآن وفي لوح قيل متعلق به وقيل صفة أخرى لقرآن وتعقب بأن فيه تقديم الصفة المركبة على المفردة وهو خلاف الأصل والمعنى عليه قيل محفوظ بعد التنزيل من التغيير والتبديل والزيادة والنقص كما قال سبحانه: * (انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون) * وقيل محفوظ في ذلك اللوح عن وصول الشياطين إليه والله تعالى أعلم.
سورة الطارق
مكية بلا خلاف وهي سبع عشرة آية على المشهور وفي التيسير ست عشرة ولما ذكر سبحانه فيما قبلها تكذيب الكفار للقرآن نبه تعالى شأنه هنا على حقارة الإنسان ثم استطرد جل وعلا منه إلى وصف القرآن ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بإمهال أولئك المكذبين فقال عز قائلا:
* (والسمآء والطارق) *
* (والسماء) * هي المعروفة على ما عليه الجمهور وقيل المطر هنا وهو أحد استعمالاتها ومنه قوله: إذا نزل السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا
ولا يخفى حاله * (والطارق) * وهو في الأصل اسم فاعل من الطرق بمعنى الضرب بوقع وشدة يسمع لها صوت ومنه المطرقة والطريق لأن السابلة تطرقها ثم صار في عرف اللغة اسما لسالك الطريق لتصور أنه يطرقها بقدمه واشتهر فيه حتى صار حقيقة ثم اختص بالآتي ليلا لأنه في الأكثر يجد الأبواب مغلقة فيطرقها ثم اتسع في كل ما يظهر بالليل كائنا ما كان حتى الصور الخيالية البادية فيه والعرب تصفها بالطروق كما في قوله: طرق الخيال ولا كليلة مدلج * سدكا بأرحلنا ولم يتعرج
والمراد به ههنا عند الجمهور الكوكب البادي بالليل إما على أنه اسم جنس أو كوكب معهود كما ستعلمه إن شاء الله تعالى وقوله تعالى:
* (ومآ أدراك ما الطارق) *
* (وما أدراك ما الطارق) * تنويه بشأنه إثر تفخيمه بالإقسام وتنبيه على أن رفعة قدره بحيث لا ينالها إدراك الخلق فلا بد من تلقيها من الخلاق العليم فما الأولى مبتدأ وإدراك خبره وما الثانية
94

خبر والطارق مبتدأ على ما اختاره بعض المحققين أي أي شيء أعلمك ما الطارق وقوله سبحانه:
* (النجم الثاقب) *
* (النجم الثاقب) * خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف وقع جوابا عن استفهام نشأ عما قبل كان قيل ما هو فقيل هو النجم الخ والثاقب في الأصل الخارق ثم صار بمعنى المضىء لتصور أنه يثقب الظلام وقد يخص بالنجوم والشهب لذلك وتصور أنها ينفذ ضوءها في الأفلاك ونحوها وقال الفراء: الثاقب المرتفع يقال ثقب الطائر أي ارتفع وعلا والمراد بالنجم الثاقب الجنس عند الحسن فإن لكل كوكب ضوءا ثاقبا لا محالة وكذا كل كوكب مرتفع ولا يضر التفاوت في ذلك وذهب غير واحد إلى أن المراد به معهود فعن ابن عباس أنه الجدي وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أنه الثريا وهو الذي تطلق العرب عليه اسم النجم وروي عنه أيضا أنه زحل وهو أبعد السيارات وأرفعها وما يثقبه ضوؤه من الأفلاك أكثر فيما يزعم المنجمون المتقدمون وإنما قلنا أبعد السيارات لأن الجدي والثريا عندهم أبعد منه بكثير وكذا عند المحدثين وعن الفراء أنه القمر لأنه آية الليل وأشد الكواكب ضوءا فيه وهو زمان سلطانه وأنت تعلم أن إطلاق النجم عليه ولو موصوفا غير شائع وقيل هو النجم الذي يقال له كوكب الصبح وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة فهو طارق حين ينزل وطارق حين يصعد ولا يخفى أن المعروف أن الذي يسكن السماء السابعة أعني الفلك السابع وحده هو زحل فيكون ذلك قولا بأن النجم الثاقب هو لكن لا يعرف له نزول ولا صعود بالمعنى المتبادر وأيضا لا يعقل له نزول إلى حيث تكون النجوم أعني الثوابت لأن المعروف عندهم أنها في الفلك الثامن ويجوز عقلا أن يكون بعضها في أفلاك فوق ذلك بل نص المحدثون لما قام عندهم على تفاوتها في الارتفاع ولم يشكوا في أن كثيرا منها أبعد من زحل بعدا عظيما وإذا اعتبرت الظواهر وقلنا بأنها في السماء الدنيا وإن تفاوتت في الارتفاع فلذلك أيضا مما يأباه أن النجوم قد تأخذ أمكنتها من السماء وليس معها زحل وبالجملة ما يعكر على هذا الخبر كثير وكونه كرم الله تعالى وجهه أراد كوكبا آخر هذا شأنه لا يخفى حاله والذي يقتضيه الإنصاف وترك التعصب أن الخبر مكذوب على الأمير رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه وجوز على إرادة الجنس أن يراد به جنس الشهب التي يرجم بها وليس بذاك وما روي أن أبا طالب كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فانحط نجم فامتلأ ماء ثم نورا ففزع أبو طالب فقال: أي شيء هذا فقال عليه الصلاة والسلام هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله تعالى فعجب أبو طالب فنزلت لا يقتضي ذلك على ما لا يخفى وزعم ابن عطية أن المراد بالطارق جميع ما يطرق من الأمور والمخلوقات فيعم النجم الثاقب وغيره ويكون معنى وما أدراك ما الطارق حق الطارق بأن تكون أل في ما الطارق مثلها في أنت الرجل وما أدري ما الطارق على هذا الرجل حتى ركب هذا الطريق الوعر في التفسير وفي إيراد ذلك عند الإقسام به بوصف مشترك بينه وبين غيره ثم الإشارة إلى أن ذلك الوصف غير كاشف عن كنه أمره وأن ذلك مما لا يبغله أفكار الخلائق ثم تفسيره بالنجم الثاقب من تفخيم شأنه وإجلال محله ما لا يخفى على ذي نظر ثاقب ولإرادة ذلك لم يقل ابتداء والنجم الثاقب مع أنه أخصر وأظهر ولله عز وجل أن يفخم شأن ما شاء من خلقه لما شاء ولا دلالة فيه ههنا على شيء مما يزعمه المنجمون في أمر النجوم زحل وغيره من التأثير في سعادة أو شقاوة أو نحوهما وجواب القسم قوله تعالى:
* (إن كل نفس لما عليها حافظ) *
* (إن كل نفس لما عليها حافظ) * وما بينهما اعتراض جىء به لما ذكر من تأكيد فخامة المقسم به المستتبع لتأكيد مضمون الجملة المقسم عليها وقيل جوابه قوله سبحانه: * (إنه على رجعه لقادر) * وما في البين اعتراض وهو كما ترى وإن نافية ولما بمعنى إلا ومجيئها كذلك
95

لغة مشهورة كما نقل أبو حيان عن الأخفش في هذيل وغيرهم يقولون أقسمت عليك أو سألتك لما فعلتك كذا يريدون إلا فعلت وبهذا رد على الجوهري المنكر لذلك وقال الرضي: لا تجىء إلا بعد نفي ظاهر أو مقدر ولا تكون إلا في المفرغ أي بخلاف الاوكل لتأكيد العموم لتحقق أصله من وقوع النكرة في سياق النفي وهو مبتدأ والخبر على المشهور حافظ وعليها متعلق به وعلى ما سمعت عن الرضي محذوف أي ما كل نفس كائنة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكون عليها حافظ أي مهيمن ورقيب وهو الله عز وجل كما في قوله تعالى: * (وكان الله على كل شيء رقيبا) *. إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل * خلوت ولكن قل على رقيب
وقيل هو من يحفظ عملها من الملائكة عليهم السلام ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر كما في قوله تعالى: * (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين) * الآية وروي ذلك عن ابن سيرين وقتادة وغيرهما وخصصوا النفس بالمكلفة وقيل هو من وكل على حفظها والذب عنها من الملائكة كما في قوله تعالى: * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) * يحفظونه من أمر الله وعن أبي امامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين وقيل هو العقل يرشد المرء إلى مصالحه ويكفه عن مضاره وقرأ الأكثر لما بالتخفيف فعند الكوفيين إن نافية كما سبق واللام بمعنى إلا وما زائدة وصرحوا هنا بأن كل وحافظ مبتدأ وخبر فلا تغفل وعند البصريين إن مخففة من الثقيلة وكل مبتدأ وما زائدة واللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن المخففة وحافظ خبر المبتدأ وعليها متعلق به وقدر لأن ضمير الشأن وتعقب بأنه لا حاجة إليه لأنه في غير المفتوحة ضعيف لعدم العمل مع أنه مخل بإدخال اللام الفارقة لأنه إذا كان الخبر جملة فالأولى إدخال اللام على الجزء الأول كما صرح به في التسهيل وإدخالها على الجزء الثاني كما صرح به بعض الأفاضل في حواشيه عليه ولعل من قال أي إن الشأن كل نفس لعليها حافظ لم يرد تقدير الضمير وإنما أراد بيان حاصل المعنى وحكى هارون أنه قرىء إن بالتشديد وكل بالنصب ولما بالتخفيف فاللام هي الداخلة في خبر إن وما زائدة وعلى جميع القراآت أمر الجوابية ظاهر لوجود ما يتلقى به القسم وتلقيه بالمشددة مشهور وبالمخففة تالله إن كدت لتردين وبالنافية ولئن زالتا أن أمسكهما وقوله تعالى:
* (فلينظر الإنس‍ان مم خلق) *
* (فلينظر الإنسان مم خلق) * متفرع على ما قبله وليست الفاء بفصيحة خلافا للطيبي إذ لا يحتاج إلى حذف في استقامة الكلام أما على تقدير أن يكون الحافظ هو الله عز وجل أو الملك الذي وكله تعالى شأنه للحفظ على الوجه الذي سمعت فلانه لما أثبت سبحانه أن عليه رقيبا منه تعالى حثه على النظر المعرف لذلك مع أوصافه كأنه
قيل فليعرف المهيمن عليه بنصبه الرقيب أو بنفسه وليعلم رجوعه إليه تعالى وليفعل ما يسر به حال الرجوع وعبر عن الأول بقوله تعالى: * (فلينظر) * ليبين طريق المعرفة فهو بسط فيه إيجاز وأدمج فيه الأخيران وأما على تقدير أن يكون المراد به العقل فلأنه لما أثبت سبحانه أن له عقلا يرشد إلى المصالح ويكف عن المضار حثه على استعماله فيما ينفعه وعدم تعطيله وإلغائه كأنه قيل فلينظر بعقله وليتفكر به في مبدأ خلقه حتى يتضح له قدرة واهبة وأنه إذا قدر على إنشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط فهو سبحانه على إعادته أقدر وأقدر فيعمل بما يسر به حين الإعادة وقد يقرر التفريع على جميع الأوجه بنحو واحد فتأمل ومم خلق استفهام ومن متعلقة بخلق والجملة في موضع نصب بينظر وهي معلقة بالاستفهام وقوله تعالى:
* (خلق من مآء دافق) *
* (خلق من ماء دافق) * استئناف وقع جوابا عن استفهام مقدر كأنه قيل مم خلق فقيل: * (خلق من ماء) * الخ وظاهر كلام بعض الأجلة أنه جواب الاستفهام
96

المذكور مع تعلق الجار بينظر وفيه مسامحة وكأن المراد أنه على صورة الجواب وجعله جوابا له حقيقة على أنه مقطوع عن ينظر ليس بشيء عند من له نظر والدفق صب فيه دفع وسيلان بسرعة وأريد بالماء الدافق المني ودافق قيل بمعنى مدفوق على تأويل اسم الفاعل بالمفعول وقد قرأ بذلك زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وقال الخليل وسيبويه هو على النسب كلابن وتامر أي ذي دفق وهو صادق على الفاعل والمفعول وقيل هو اسم فاعل وإسناده إلى الماء مجاز وأسند إليه ما لصاحبه مبالغة أو هو استعارة مكنية وتخييلية كما ذهب إليه السكاكي أو مصرحة بجعله دافقا لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق أي يدفع بعضه بعضا وقد فسر ابن عطية الدفق بالدفع فقال الدفق دفع الماء بعضه ببعض يقال تدفق الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضا ويصح أن يكون الماء دافقا لأن بعضه يدفع بعضا فمنه دافق ومنه مدفوق وتعقبه أبو حيان بأن الدفق بمعنى الدفع غير محفوظ في اللغة بل المحفوظ أنه الصب ونقل عن الليث أن دفق بمعنى انصب بمرة فدافق بمعنى منصب فلا حاجة إلى التأويل وتعقب بأنه مما تفرد به الليث كما في " القاموس " وغيره وقيل من ماء مع أن الإنسان لا يخلق إلا من ماءين ماء الرجل وماء المرأة ولذا كان خلق عيسى عليه السلام خارقا للعادة لأن المراد به الممتزج من الماءين في الرحم وبالامتزاج صارا ماء واحدا ووصفه بالدفق قيل باعتبار أحد جزئيه وهو مني الرجل وقيل باعتبار كليهما ومني المرأة دافق أيضا إلى الرحم ويشير إلى إرادة الممتزج على ما قيل قوله تعالى:
* (يخرج من بين الصلب والترآئب) *
* (يخرج من بين الصلب) * أي من بين أجزاء صلب كل رجل أي ظهره * (والترائب) * أي ومن بين ترائب كل امرأة أي عظام صدرها جمع تريبة وفسرت أيضا بموضع القلادة من الصدور وروي عن ابن عباس وهو لكل امرأة واحد إلا أنه يجمع كما في قول امرىء القيس: مهفهفة بيضاء غير مفاضة * ترائبها مصقولة كالسجنجل
باعتبار ما حوله على ما في " البحر " وجاء في المفرد تريب كما في قول المثقب العبدي: ومن ذهب يبين على تريب * كلون العاج ليس بذي غضون
وحمل الآية على ما ذكر مروى عن سفيان وقتادة إلا أنهما قالا أي يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة وظاهره كالآية أن أحد الطرفين للبينية الصلب والآخر الترائب وهو غير ما قلناه وعليه قيل هو كقولك يخرج من بين زيد وعمرو خير كثير على معنى أنهما سببان فيه وقيل إن ذلك باعتبار أن الرجل والمرأة يصيران كالشيء الواحد فكان الصلب والترائب لشخص واحد فلا تغفل ثم إن ما تقدم مبني إما على أن الترائب مخصوصة بالمرأة كما هو ظاهر كلام غير واحد وإما على حمل تعريفها على العهد وقال الحسن وروي عن قتادة أيضا أن المعنى يخرج من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائب كل منهما ولم يفسر الترائب فقيل عظام الصدر وقيل ما بين الثديين وقيل ما بين المنكبين والصدر وقيل التراقي وقيل أربع أضلاع من يمنة الصدر وأربع من يسرته وعن ابن جبير الأضلاع التي هي أسفل الصلب وحكى مكي عن ابن عباس أنها أطراف المرء رجلاه ويداه وعيناه والأشهر أنها عظام الصدر وموضع القلادة منه وطعن في ذلك على ما قال الإمام بعض الملاحدة خذلهم الله تعالى بأن المني إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع وينفصل من جميع أجزاء البدن فيأخذ من كل عضو طبيعة وخاصية مستعدا لأن يتولد منه مثل تلك الأعضاء وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني تتولد في ذينك الموضعين فهو ضعيف لأن معظمه إنما يتولد في الدماغ ألا ترى أنه في صورته يشبه الدماغ والمكثر منه يظهر الضعف أولا في دماغه وعينيه وإن كان المراد أن مستقره هناك
97

فهو ضعيف أيضا لأن مستقره عروق يلتف بعضها بالبعض عند البيضتين وتسمى أوعية المني وإن كان المراد أن مخرجه هناك فهو أيضا كذلك لأن الحس يدل على خلافه وأجاب رحمه الله تعالى بأنه لا شك أن أعظم الأعضاء معونة في توليد المني الدماغ وخليفته النخاع في الصلب وشعب نازلة إلى مقدم البدن وهي التريبة فلذا خصا بالذكر على أن كلامهم في أمر المني وتولده محض الوهم والظن الضعيف وكلام الله تعالى المجيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو المقبول والمعول عليه اه‍ وفي " الكشف " أقول النخاع بين الصلب والترائب ولا يحتاج إلى تخصيص التربية بالنساء فقد يمنع الشعب النازلة على أن تلك الشعب إن كانت فهي أعصاب لا ذات تجاويف والوجه والله تعالى أعلم أن النخاع والقوى الدماغية والقلبية والكبدية كلها تتعاون في إبراز ذلك الفضل على ما هو عليه قابلا لأن يصير مبدأ الشخص على ما بين في موضعه وقوله سبحانه: * (من بين الصلب والترائب) * عبارة مختصرة جامعة لتأثير الأعضاء الثلاثة فالترائب يشمل القلب والكبد وشمولها للقلب أظهر والصلب النخاع ويتوسطه الدماغ ولعله لا يحتاج إلى التنبيه على مكان الكبد لظهور ذلك لأنه دم نضيج وإنما احتيج إلى ما خفي وهو أمر الدماغ والقلب في تكون ذلك الماء فنبه على مكانهما وقيل ابتداء الخروج منه كما أن انتهاءه بالإحليل انتهى وقيل لو جعل ما بين الصلب والترائب كناية عن البدن كله لم يبعد وكان تخصيصهما بالذكر لما أنهما كالوعاء للقلب الذي هو المضغة العظمى فيه وأمر هذه الكناية على ما حكى مكي عن ابن عباس في الترائب أظهر وزعم بعضهم جواز كون الصلب والترائب للرجل أي يخرج من بين صلب كل رجل وترائبه فالمراد بالماء الدافق ماء الرجل فقط وجعل الكلام إما على التغليب أو على أنه لا ماء للمرأة أصلا فضلا عن الماء الدافق كما قيل
به ولا يخفى ما فيه والقول بأن المرأة لا ماء لها تكذبه الشريعة وغيرها وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم يخرج مبنيا للمفعول وهما وأهل مكة وعيسى الصلب بضم الصاد واللام واليماني بفتحهما وروي على اللغتين قول العجاج: ريا العظام فخمة المخدم * في صلب مثل العنان المؤدم
وفيه لغة رابعة وهي صالب كما في قوله العباس: تنقل من صالب إلى رحم * وهي قليلة الاستعمال واستشهد بعض الأجلة بقوله تعالى: خلق من ماء دافق على أن الإنسان هو الهيكل المخصوص كما ذهب إليه جمهور المتكلمين النافين للنفس الناطقة الإنسانية المجردة التي ليست داخل البدن ولا خارجه وقال: إنه شاهد قوي على ذلك وتأويله بأنه على حذف المضاف أي خلق بدن الإنسان لا يسمع ما لم يقم برهان على امتناع ظاهره انتهى وأنت تعلم أن القائلين بالنفس الناطقة المجردة قد أقاموا فيما عندهم براهين على إثباتها نعم إن فيها أبحاثا للنافين وتحقيق ذلك بما لا مزيد عليه في كتاب الروح للعلامة ابن القيم عليه الرحمة.
* (إنه على رجعه لقادر) *
* (إنه على رجعه لقادر) * الضمير الأول للخالق تعالى شأنه وكما فخم أولا بترك الفاعل في قوله تعالى: * (مما خلق) * خلق إذ لا يذهب إلى خالق سواه عز وجل فخم بازضمار ثانيا والضمير الثاني للإنسان أي إن ذلك الذي خلقه ابتداء مما ذكر على إعادته بعد موته لبين القدرة وهذا كما في قوله: لئن كان تهدي برد أنيابها العلي * لأفقر مني أنني لفقير
فإنه أراد لبين الفقر والألم يصح إيراده في مقابلة لأفقر مني والتأكيد البالغ لفظا لما قام عليه البرهان الواضح معنى ولذا فسر قادر هنا ببين القدرة كما في " الكشاف " واعتبر فيه أيضا الاختصاص فقال أي على
98

إعادته خصوصا وكأن ذلك لأن الغرض المسوق له الكلام ذلك فكأن ما سواه مطرح بالنسبة إليه وحينئذ يراد ما ذكر جعل الجار من صلة لقادر أو مدلولا على موصوله به على المذهبين وفصل الجملة عما سبق لكونه جواب الاستفهام دونها وقال مجاهد وعكرمة الضمير الثاني للماء أي أنه تعالى على رد الماء في الإحليل أو في الصلب لقادر وليس بشيء ومثله كون المعنى على تقدير كونه للإنسان أنه عز وجل على رده من الكبر إلى الشباب لقادر وليس بشيء ومثله كون المعنى على تقدير كونه للإنسان أنه عز وجل على رده من الكبر إلى الشباب لقادر كما روي عن الضحاك وما ذكرناه أولا مروى عن ابن عباس.
* (يوم تبلى السرآئر) *
* (يوم تبلى السرائر) * أي يتعرف ويتصفح ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها ومما أخفي من الأعمال ويميز بين ما طاب منها وما خبث وأصل الابتلاء الاختبار وإطلاقه على ما ذكر إطلاق على اللازم وحمل السرائر على العموم هو الظاهر وأخرج ابن المنذر عن عطاء ويحيى بن أبي كثير أنها الصوم والصلاة والغسل من الجنابة وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن الله تعالى خلقه أربعا: الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة وهن السرائر التي قال الله تعالى يوم تبلى السرائر وفي " البحر " ضم التوحيد إليها ولعل المراد بيان عظيمها على سبيل المبالغة لا حقيقة الحصر وسمع الحسن من ينشد قول الأخوص: سيبقى لها في مضمر القلب والحشا * سريرة وديوم تبلى السرائر
فقال ما أغفله عما في والسماء والطارق وكأنه حمل البقاء فيه على عدم التعرف أصلا فليفهم ويوم عند جمع من الحذاق ظرف لمحذوف يدل عليه رجعه أي يرجعه يوم الخ وقال الزمخشرية وجماعة: ظرف لرجعه واعترض بأن فيه فصلا بين المصدر ومعموله بأجنبي وأجب تارة بأنه جائز لتوسعهم في الظروف وأخرى بأن الفاصل هنا غير أجنبي لأنه إما تفسير أو عامل على المذهبين وقال عصام الدين: إن الفصل بهذا الأجنبي كلا فصل لأن المعمول في نية التقديم عليه وإنما أخر لرعاية الفاصلة وفيه ما لا يخفى وقيل ظرف لناصر بعد وتعقبه أبو حيان بأنه فاسد لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها وكذلك ما النافية على المشهور المنصور وقيل معمول لأذكر محذوفا وهو كما ترى ويتعين هو أو ما قبله على رأي مجاهد وعكرمة ورأى الضحاك السابقين آنفا وجوز الطبرسي تعلقه بقادر ولم يعلقه جمهور المعربين به لأنه يوهم اختصاص قدرته عز وجل بيوم دون يوم كما قال غير واحد وقال ابن عطية فروا من أن يكون العامل لقادر للزوم تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون العامل وذلك أنه تعالى قال: * (على رجعه لقادر) * على الإطلاق أولا وآخرا وفي كل وقت ثم ذكر سبحانه من الأوقات الوقت الأعظم على الكفار لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب ليجتمع الناس على حذره والخوف منه انتهى وهو على ما فيه لا يدفع الإيهام.
* (فما له من قوة ولا ناصر) *
* (فمآله) * أي الإنسان * (من قوة) * في نفسه يمتنع بها * (ولا ناصر) * ينتصر به.
* (والسمآء ذات الرجع) *
* (والسماء) * وهي المظلة في قول الجمهور * (ذات الرجع) * أي المطر في قولهم أيضا كما في قول الخنساء: يوم الوداع ترى دموعا جارية * كالرجع في المدجنة السارية
وأصله مصدر رجع المتعدي واللازم أيضا في قول ومصدره الخاص به الرجوع سموا به الممطر كما سموه بالأوب مصدر آب ومنه قوله: رياء شماء لا يأوي لقلتها * إلا السحاب وإلا الأوب والسبل
99

فيرجع أو لأن السحاب يحمله من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض وبنى هذا غير واحد على الزعم وفيه بحث وعن أو المراد به فيه النحل لأن الله تعالى يرجعه حينا فحينا وقال الحسن: لأنه يرجع بالرزق كل عام أو أرادوا بذلك التفاؤل ابن عباس ومجاهد تفسير السماء بالسحاب والرجع بالمطر وقال ابن زيد السماء هي المعروفة
والرجع رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال ومن منزلة إلى منزلة فيها وقيل رجوعها نفسها فإنها ترجع في كل دورة إلى الموضع الذي تتحرك منه وهذا مبني على أن السماء والفلك واحد فهي تتحرك ويصير أوجها حضيضا وحضيضها أوجا وقد سمعت فيما تقدم أن ظاهر كلام السلف أن السماء غير الفلك وأنها لا تدور ولا تتحرك والذي ذكر رأي الفلاسفة ومن تابعهم وقيل الرجع الملائكة عليهم السلام سموا بذلك لرجوعهم بأعمال العباد.
* (والارض ذات الصدع) *
* (والأرض ذات الصدع) * هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات وأصله الشق سمي به النبات مجازا أو هو مصدر من المبني للمفعول فالمراد تشققها بالنبات وروي ذلك عن عطية وابن زيد وقيل تشققها بالعيون وتعقب بأن وصف السماء والأرض عند الإقسام بهما على حقيقة القرآن الناطق بالبعث بما ذكر من الوصفين للإيماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده وهو السر في التعبير عن المطر بالرجع وذلك في تشقق الأرض بالنبات المحاكي للنشور حسبما ذكر في مواضع من التنزيل لا في تشققها بالعيون ويعلم منه ما في تفسير الرجع بغير المطر وكذا ما في قول مجاهد الصدع ما في الأرض من شقاق وأودية وخنادق وتشقق بحرث وغيره وما روي عنه أيضا الصدع الطرق تصدعها المشاة وقيل ذات الأموات لانصداعها عنهم للنشور.
* (إنه لقول فصل) *
* (إنه) * أي القرآن الذي من جملته هذه الآيات الناطقة بمبدأ حال الإنسان ومعاده وهو أولى من جعل الضمير راجعا لما تقدم أي ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم لأن القرآن يتناول ذلك تناولا أوليا وقوله تعالى: * (لقول فصل) * أنسب به والمراد لقول فاصل بين الحق والباطل قد بلغ الغاية في ذلك حتى كأنه نفس الفصل وقيل مقابلة الفصل بالهزل بعد يستدعي أن يفسر بالقطع أي قول مقطوع به والأول أحسن.
* (وما هو بالهزل) *
* (وما هو بالهزل) * أي ليس في شيء منه شائبة هزل بل كله جد محض فمن حقه أن يهتدي به الغواة وتخضع له رقاب العتاة وفي حديث أخرجه الترمذي والدارمي وابن الأنباري عن الحرث الأعور عن علي كرم الله تعالى وجهه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنها ستكون فتنة قلت فما المخرج منها يا رسول الله قال كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ فيه الأهواء ولا نشبع منه العلماء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن الرد ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن لما سمعته عن أن قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن هدي به هدي إلى صراط مستقيم وفي هذا من الرد على الذين نبذوه وراء ظهورهم ما فيه.
* (إنهم يكيدون كيدا) *
* (إنهم) * أي كفار مكة * (يكيدون) * يعملون المكايد في إبطال أمره وإطفاء نوره أو في إبطال أمر الله تعالى وإطفاء نور الحق والأول أتم انتظاما وهذا قيل أملأ فائدة * (كيدا) * أي عظيما حسبما تفي به قدرتهم والجملة تحتمل أن تكون استئنافا بيانيا كأنه قيل إذا كان حال القرآن ما ذكر فما حال هؤلاء الذين يقولون فيه ما يقولون فقيل إنهم يكيدون كيدا.
* (وأكيد كيدا) *
* (وأكيد كيدا) * أي أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده حيث استدرجهم من حيث لا يعلمون أو أقابلهم بكيدي في إعلاء أمره وإكثار نوره من حيث لا يحتسبون والفصل لهذا وقيل لئلا يتوهم عطفها على جواب القسم مع أنها غير مقسم عليها.
* (فمهل الك‍افرين أمهلهم رويدا) *
* (فمهل الكافرين) * فلا تشتغل بالانتقام منهم ولا تدع عليهم
100

بالهلاك أو تأن وانتظر الانتقام منهم ولا تستعجل والفاء لترتيب مما بعدها على ما قبلها فإن الأخبار بتوليه تعالى لكيدهم بالذات وعدم اهمالهم مما يوجب إمهالهم وترك التصدي لمكايدتهم قطعا ووضع الظاهر موض الضمير لذمهم بأبي الخبائث وأمها وقيل للاشعار بعلة ما تضمنه الكلام من الوعيد وقوله تعالى: * (أمهلهم) * بدل من مهل على ما ضرح به في الإرشاد وقوله سبحانه: * (رويدا) * اما مصدر مؤكد لمعنى العامل أو نعت لمصدره المحذوف أي أمهلهم إمهالا رويدا أي قريبا كما أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس أو قليلا كما روي عن قتادة وأخرج ابن المنذر عن السدى أنه قال أي أمهلهم حتى آمر بالقتال ولعله المراد بالإمهال القريب أو القليل واختار بعضهم أن يكون المراد إلى يوم القيامة لأن ما وقع بعد الأمر بالقتال كالذي وقع يوم بدر وفي سائر الغزوات لم يعم الكل وما يكون يوم القيامة يعمهم والتقريب باعتبار أن كل آت قريب وعلى هذا النحو التقليل على أن من ماتب فقد قامت قيامته والظاهر ما قال السدى وقد عراهم بعد الأمر بالقتال ما عراهم وعدم العموم الحقيقي لا يضر وهو في الأصل على ما قال أبو عبيدة تصغير رود بالضم وأنشد: كانها ثمل تمشي على رود
أي على مهل وقال أبو حيان وجماعة تصغير ارواد مصدر رواد يرود بالترخيم وهو تصغير تحقير وتقليل وله في الاستعمال وجهان آخران كونه اسم فعل نحو رويدا زيد أي أمهله وكونه حالا نحو سار القوم رويدا أي متمهلين غير مستعجلين ولم يذكر أحد اجتمال كونه اسم فعل هنا وصرح ابن الشيخ بعدم جريانه وعلل ذلك بأن الأوامر كلها بمعنى فكانه قيل أمهل الكافرين أمهلهم أمهلهم وفائدة التأكيد تحصل بالثاني فيلغو الثالث وفي التعليل نظر فقد يسلك في التأكيد بألفاظ متحدة لفظا ومعنى نحو ذلك ففي
الحديث أيما امرأة أنكحت نفسها بدون ولي فنكاحها باطل باطل ولا فرق بين الجمل والمفردات نعم هو خلاف الظاهر جدا وجوز رحمه الله كونه حالا أي أمهلهم غير مستعجل والظاهر أنه حال مؤكدة كما في قوله تعالى لا تعثوا في الأرض مفسدين فلا تغفل وهو أيضا بعيد وظاهر كلام أبي حيان وغيره أن الأمر الثاني توكيد للأول قالوا والمخالفة بين اللفظين في البنية لزيادة تسكينه صلى الله عليه وسلم وتصبيره عليه الصلاة والسلام وإنما دلت الزيادة من حيث الاشعار بالتغاير كأن كلا كلام مستقل بالأمر بالتأني فهو أوكد من مجرد التكرار وقرأ ابن عباس مهلهم بفتح الميم وشد الهاء موافقة للفظ الأمر الأول.
سورة الأعلى جل وعلا
وتسمى سورة سبح والجمهور على أنها مكية وحكى ابن الفرس عن بعضهم أنها مدنية لذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها ورده الجلال السيوطي بما أخرج البخاري وابن سعد وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئانا القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد ثم جاء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في عشرين ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به عليه الصلاة والسلام حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء فما جاء عليه الصلاة والسلام حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور مثلها ثم ان ذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها غير مسلم ولو سلم فلا دلالة فيه على ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله وهي تسع عشرة آية بلا خلاف ووجه مناسبتها لما قبلها أنه ذكر في سورة الطارق خلق الإنسان وأشير إلى خلق النبات بقوله تعالى والأرض ذات الصدع وذكر ههنا في قوله تعالى خلق فسوى وقوله سبحانه أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى وقصة النبات هنا أوضح وأبسط كما أن قصة خلق الإنسان
101

هناك كذلك نعم ان ما في هذه السورة أعم من جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات وكان صلى الله عليه وسلم يحبها أخرج الإمام أحمد والبزار وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة سبح اسم ربك الأعلى وجاء في حديث أخرجه أبو عبيد عن أبي تميم أنه عليه الصلاة والسلام سماها أفضل المسبحات وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر في الركعة الأولى سبح وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين وفي حديث أخرجه المذكورون وغيرهم إلا الترمذي عن أبي بن كعب نحو ذلك بيد أنه ليس فيه المعوذتان وأخرج ابن أبي شيبة والإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا وأخرج الطبراني عن عبد الله بن الحرث قال آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فقرأ في الركعة الأولى ب * (سبح اسم ربك الأعلى) * وفي الثانية ب * (قل يا أيها الكافرون) *.
* (سبح اسم ربك الاعلى) *
* (بسم الله الرحمن الرحيم * سبح اسم ربك الأعلى) * أي نزه أسماءه عز وجل عما لا يليق فلا تؤول مما ورد منها اسما من غير مقتض ولا تبقه على ظاهره إذا كان ما وضع له مما لا يصح له تعالى ولا تطلقه على غيره سبحانه أصلا إذا كان مختصا كالاسم الجليل أو على وجه يشعر بأنه تعالى والغير فيه سواء إذ لم يكن مختصا فلا تقل لمن أعطاك شيئا مثلا هذا رازقي على وجه يشعر بذلك وصنه عن الابتذال والتلفظ به في محل لا يليق به كالخلاء وحالة التغوط وذكره لا على وجه الخشوع والتعظيم وربما يعد مما لا يليق ذكره عند من يكره سماعه من غير ضرورة إليه وعن الإمام مالك رضي الله تعالى عنه إنه كان إذا لم يجد ما يعطي السائل يقول ما عندي ما أعطيك أو ائتني في وقت آخر أو نحو ذلك ولا يقول نحو ما يقول الناس يرزقك الله تعالى أو يبعث الله تعالى لك أو يعطيك الله تعالى أو نحوه فسئل عن ذلك فقال إن السائل أثقل شيء على سمعه وأبغضه إليه قول المسؤول ما يفيده رده وحرمانه فأنا أجل اسم الله سبحانه من أن أذكره لمن يكره سماعه ولو في ضمن جملة وهذا منه رضي الله تعالى عنه غاية في الورع وما ذكر من التفسير مبني على الظاهر من أن لفظ اسم غير مقحم وذهب كثير إلى أنه مقحم وهو قد يقحم لضرب من التعظيم على سبيل الكناية ومنه قول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
فالمعنى نزه ربك عما لا يليق به من الأوصاف واستدل لهذا بما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال لما نزلت * (فسبح باسم ربك العظيم) * قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال اجعلوها في سجودكم ومن المعلوم أن المجهول فيهما سبحان ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى وبما أخرج الإمام أحمد وأبو داود والطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا * (قرأ سبح اسم ربك الأعلى) * قال سبحان ربي الأعلى وروي عبد بن حميد وجماعة أن عليا كرم الله تعالى وجهه قرأ ذلك فقال سبحان ربي الأعلى وهو في الصلاة فقيل له أتزيد في القرآن قال لا إنما أمرنا بشيء ففعلته وفي الكشاف تسبيح اسمه تعالى تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني التي هي الحاد في أسمائه سبحانه كالجبر والتشبيه مثلا وان يصان عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم
102

فجعل المعنيين على ما قيل راجعين إلى الاسم وان كان الأول بالحقيقة راجعا إليه عز وجل لكن كما يصح أن يقال نزع الذات عما لا يصح له من الأوصاف أن يقال أيضا نزه أسماءه تعالى الدالة على الكمال عما لا يصح فيه من خلافه وليس المعنى الأول مبنيا على أن لفظ اسم مقحم ولا على أن المراد به المسمى إطلاقا لاسم الدال على المدلول نعم قال به بعضهم هنا وهو إن كان للأخبار السابقة كما في دعوى الاقحام فلا بأس وإن كان لظن أن التسبيح لا يكون للإلفاظ الموضوعة له تعالى فليس بشيء لفساد هذا الظن بظهور أن التسبيح يكون لها كما سمعت وقد قال الإمام إنه كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته جل وعلا عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لذلك عن الرفث وسوء الأدب ومن هذا يعلم ما في التعبير عنه تعالى شأنه بنحو ليلى ونعم كما يدعي ذلك في قول ابن الفارض قدس سره: أبرق بدا من جانب الغور لامع * أم
ارتفعت عن وجه ليلى البراقع
وقوله: إذا أنعمت نعم علي بنظرة * فلا أسعدت سعدى ولا أجملت جمل
إلى غير ذلك من أبياته وقد عاب ذلك بعض الأجبلة وعده من سوء الأدب ومخالفا لقوله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها الآية وأجاب بعضهم بان ذلك لبس من الوضع في شيء وفهم الحضرة الإلهية من تلك الألفاظ إنما هو بطريق الاشارة كما قالوا في فهم النفس الأمارة من البقرة مثلا في قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة والمنكر لا يقنع بهذا والاظهر أن يقال إن الكلام المورد فيه ذلك من قبيل الاستعارة التمثيلية ولا نظر فيها تشبيه المفردات بالمفردات فليس فيه التعبير عنه وجل بليلى ونحوها واستعمال الاستعارة التمثيلية في شأنه تعالى مما لا بأس به حتى إنهم قاوله في البسملة كما لا يخفى على من تتبع رسائلهم فيها هذا ولعل عندهم خيرا منه وقال جمع الاسم بمعنى التسمية والمعنى نزه تسمية ربك بأن تذكره وأنت له سبحانه معظم ولذكره جل شأنه محترم وأنت تعلم أن هذا يندرج في تسبيح الاسم كما تقدم وعن ابن عباس أن المعنى صل باسم ربك الأعلى كما تقول ابدأ باسم الله تعالى وحذف حرف الجر حكاه في البحر ولا أظن صحته وقال عصام الدين لا يبعد أن يراد الاسم الأثر أي سبح آثار ربك الأعلى عن النقصان فإن أثره تعالى دال عليه سبحانه كالاسم فيكون منعا عن عيب المخلوقات أي من حيث أنها مخلوقة له تعالى وعلى وجه ينافي قوله تعالى ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت ولا يخفى بعده وإن كان فيما بعد من الصفات ما يستأنس به له وأنا أقول إن كان سبح بمعنى نزع فكلا الأمرين من كون اسم مقحما وكونه غير مقحم وتعلق التسبيح به على الوجه الذي سمعت محتمل غير بعيد وإذا كان معناه قل سبحان كما هو المعروف فيما بينهم فكونه مقحما متعين إذ لم يسمع سلفا وخلفا من يقول سبحان اسم ربي الأعلى أو سبحان اسم الله والأخبار ظاهرة في ذلك وحمل ما فيها على اختيار الأخصر المستلزم لغيره كما ترى ويؤيد هذا قراءة أبي بن كعب كما في خبر سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن جبير سبحان ربي الأعلى واما ما قيل من أن الاسم عين المسمى واستدل عليه بهذه الآية ونحوها فهو مما لا يعول عليه أصلا وقد تقدم الكلام أول الكتاب فارجع إليه ان أردته والأعلى صفة للرب وأريد بالعلو والعلو بالقهر والاقتدار لا بالمكان لاستحاله عليه سبحانه والسلف وان لم يؤولوه بذلك لكنهم أيضا يقولون باستحالة العلو المكاني عليه عز وجل وجوز جعله صفة لاسم وعلوه ترفعه عن أن يشاركه اسم في حقيقة معناه واستشكل بأن قوله تعالى:
* (الذى خلق فسوى) *
* (الذي خلق) * الخ ان كان صفة للرب كما هو الظاهر لزم الفصل بين الموصوف وصفته بصفة غيره وهو لا يجوز فلا يقال رأيت غلام هند العاقل الحسنة وان كان صفة لاسم أيضا اختل المعنى إذ الاسم لا يتصف بالخلق وما بعده
103

وأجيب باختيار الثاني ولا اختلال إما لأن الاسم بمعنى المسمى أو لأنه لما كان مقحما كان اسم ربك بمنزلة ربك فصح وصفه بما يوصف به الرب عز وجل وفيه نظر والجواب المقبول إن الذي على ذلك التقدير اما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح ومفعول خلق محذوف ولذا قيل بالعموم أي الذي خلق كل شيء * (فسوى) * أي فجعله متساويويا وهو أصل معناه والمراد فجعل خلقه كما تقتضيه حكمته سبحانه في ذاته وصفاته وفي معناه ما قيل أي فجعل الأشياء سواء في باب الأحكام والاتقان لا انه سبحانه أتقن بعضا دون بعض ورد بما دلت عليه الآية من العموم على المعتزلة في زعمهم إن العبد خالق لأفعاله والزمخشري مع أن مذهبه مذهبهم قال هنا بالعموم ولعله لم يرد العموم الحقيقي أو أراده لكن على معنى خلق كل شيء إما بالذات أو بالواسطة وجعل ذلك في أفعال العباد باقداره سبحانه وتمكينهم على خلقها باختيارهم وقدرهم الموهوبة لهم وعن الكلبي خلق كل ذي روح فسوى بين يديه وعينيه ورجليه وعن الزجاج خلق الإنسان فعدل قامته ولم يجعله منكوسا كالبهائم وفي كل تخصيص لا يقتضيه ظاهر الحذف.
* (والذى قدر فهدى) *
* (والذي قدر) * أي جعل الأشاء على مقادير مخصوصة في أجناسها وأنواعها وأفرادها وصفاتها وأفعالها وآجالها * (فهدى) * فوجه كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له طبعا أو اختيارا ويسره لما خلق له بخلق الميول والإلهامات ونصب الدلائل وانزال الآيات فلو تتبعت أحوال النباتات والحيوانات لرأيت في كل منها ما تحار فيه العقول وتضيق عنه دفاتر النقول وأما فنون هداياته سبحانه وتعالى للإنسان على الخصوص ففوق ذلك بمراحل وابعد منه ثم ابعد وابعد بالوف من المنازل وهيهات أن يحيط بها فلك العبارة والتحرير ولا يكاد يعلمها إلا اللطيف الخبير. اتزعم إنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر
وقيل أي والذي قدر الخلق على ما خلقهم فيه من الصور والهيئات وأجرى لهم أسباب معاشهم من الارزاق والأقوات ثم هداهم إلى دينه ومعرفة توحيده باظهار الدلالات والبينات وقيل قدر أقواتهم وهداهم لطلبها وعن مقاتل والكلبي قدرهم ذكرانا وإناثا وهدى الذكر كيف يأتي الأنثى وعن مجاهد قدر الإنسان والبهائم وهدى الإنسان للخير والشر والبهائم للمراتع وعن السدى قدر الولد في البطن تسعة أشهر أو أقل أو أكثر وهداه للخروج منه للتمام وقيل قدر المنافع في الأشياء وهدى الإنسان لاستخراجها والأولى ما ذكر أولا ولعل ما في سائر الأقوال من باب التمثيل لا التخصيص وزعم الفراء أن في الآية اكتفاء والأصل فهدى وأضل وليس بشيء وقرأ الكسائي قدر بالتخفيف من القدرة أو التقدير.
* (والذىأخرج المرعى) *
* (والذي أخرج المرعى) * أي أنبت ما ترعاه الدواب غضارطبا يرف.
* (فجعله غثآء أحوى) *
* (فجعله غثاء) * هو ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات وأصله على ما في المجمع الاخلاط من أجناس شتى والعرب تسمى القوم إذا اجتمعوا من قبائل شتى أخلاطا وغثاء ويقال غثاء بالتشديد وجاء جمعه على أغثاء وهو غريب من حيث جمع فعال على أفعال والمراد به هنا اليابس من النبات أي فجعله بعد ذلك يابسا * (أحوى) * من الحوة وهي كما قيل السواد وقال الأعلم لون يضرب إلى السواد وفي الصحاح الحوة السمرة فالمراد باحوى أسود أو أسمر والنبات إذا يبس أسود أو اسمر فهو صفة مؤكدة للغثاء وتفسر الحوة بشدة الخضرة وعليه قول ذي الرمة: لمياه في شفتيها حوة لعس * وفي اللثات وفي أنيابها شنب
ولا ينافي ذلك تفسيرها بالسواد لأن شدة الخضرة ترى في بادىء النظر كالسواد وجوز كونه حالا من المرعى أي أخرج المرعى حال كونه طريا غضا شديد الخضرة فجعله غثاء والفصل بالمعطوف بين الحال وصاحبها ليس فصلا بأجنبي لا سيما وهو حال يعاقب الأول من غير تراخ وسر التقديم المبالغة في استعقاب حالة الجفاف حالة الرفيف
104

والغضارة كأنه قبل أن يتم رفيفه وغضارته يصير غثاه ومع هذا هو خلاف الظاهر وهذه الأوصاف على ما قيل يتضمن كل منها التدريج ففي الوصف بها تحقيق لمعنى التربية وهي تبليغ الشيء كما له شيئا فشيئا وقوله تعالى:
* (سنقرئك فلا تنسى) *
بيان لهدايته تعالى شأنه الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم أثر بيان هدايته عز وجل العامة لكافة مخلوقاته سبحانه وهي هدايته عليه الصلاة والسلام لتلقي الوحي وحفظ القرآن الذي هو هدى للعالمين وتوفيقه صلى الله عليه وسلم لهداية الناس أجمعين والسين إما للتأكيد واما لأن المراد اقراء ما أوحى إليه صلى الله عليه وسلم حينئذ وما سيوحي إليه عليه الصلاة والسلام بعد فهو وعد كريم باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالاقراء وإسناد الإقراء إليه تعالى مجازي أي سنقرئك ما نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسان جبريل عليه السلام فإنه عليه السلام الواسطة في الوحي على سائر كيفياته فلا تنسى أصلا من قوة الحفظ والاتقان مع أنك أمي لم تكن تدري ما الكتاب وما القراءة ليكون ذلك لك آية مع ما في تضاعيف ما تقرؤه من الآيات البينات من حيث الاعجاز ومن حيث الأخبار بالمغيبات وجوز أن يكون المعنى سنجعلك قارئا بالهام القراءة أي في الكتاب من دون تعليم أحدكما هو العادة فقد روي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ الكتابة ولا يكتب ويكون المراد بقوله تعالى فلا تنسى نفي النسيان مطلقا عنه عليه الصلاة والسلام امتنانا عليه صلى الله عليه وسلم بأنه أوتي قوة الحفظ وفيه أنه مع كونه خلاف المأثور عن السلف في الآية تأباه فاء التفريع وجوز أيضا أن يكون المراد نفى نسيان المضمون أي سنقرئك القرآن فلا تغفل عنه فتخالفه في أعمالك ففيه وعد بتوفيقه عليه الصلاة والسلام لالتزام ما فيه من الأحكام وهو كما ترى وقيل فلا تنسى نهى والألف لمراعاة الفاصلة كما في قوله تعالى وأضلونا السبيلا وفيه أن النسيان ليس بالاختيار فلا ينهى عنه إلا أن يراد مجازا ترك أسبابه الاختيارية أو ترك العمل بما تضمنه المقرأ وفيه ارتكاب تكلف من غير داع وأيضا رسمه بالياء يقتضي أنها من البنية لا للاطلاق وكون رسم المصحف مخالفا تكلف أيضا نعم قيل رسمت ألف الاطلاق ياء لموافقة غيرها من الفواصل وموافقة أصلها مع أن الإمام المرزوقي صرح بأنه عند الاطلاق ترد المحذوفة وقيل هو نهى لكن لم تحذف الألف فيه إذ قد لا يحذف الجازم حرف العلة وحسن ذلك هنا مراعاة الفاصلة وفيه أيضا ما فيه والأهون للطالب معنى النهي أن يقول هو خبر أريد به النهي على أحد التأويلين السابقين آنفا.
* (إلا ما شآء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى) *
* (إلا ما شاء الله) * استثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي لا تنسى أصلا مما سنقرئكه شيئا من الأشياء إلا ما شاء الله أن تنساه قيل أي أبدا قال الحسن وقتادة وغيرهما وهذا مما قضى الله تعالى نسخة وأن يرتفع
105

حكمه وتلاوته والظاهر أن النسيان على حقيقته وفي الكشاف أي إلا ما شاء الله فذهب به عن حفظك برفع حكمه وتلاوته وجعل النسيان عليه بمعنى رفع الحكم والتلاوة وكناية عنه لأن ما رفع حكمه وتلاوته يترك فينسى فكأنه قيل بناه على إرادة المعنيين في الكتايات سنقرئك القرآن فلا تنسى شيئا منه ولا يرفع حكمه وتلاوته إلا ما شاء الله فتنساه ويرفع حكمه وتلاوته أو نحو هذا وأنا لا أرى ضرورة إلى اعتبار ذلك والباء في برفع الخ للسببية والمراد إما بيان السبب العادي البعيد الذهاب الله تعالى به عن الحفظ فإن رفع الحكم والتلاوة يؤدي عادة في الغالب إلى ترك التلاوة لعدم التعبد بها وإلى عدم اخطاره في البال لعدم بقاء حكمه وهو يؤدي عادة في الغالب أيضا إلى النسيان أو بيان السبب الدافع لاستبعاد الذهاب به عن حفظه عليه الصلاة والسلام وهو كالسبب المجوز لذلك وأيا ما كان فلا حاجة إلى جعل معنى فلا تنسى فلا تترك تلاوة شيء منه والعمل به فتأمل ثم انه لا يلزم من كون ما شاء الله تعالى نسيانه مما قضى سبحانه إن يرتفع حكمه وتلاوته أن يكون كل ما ارتفع حكمه وتلاوته قد شاء الله تعالى نسيان النبي صلى الله عليه وسلم فإن من ذلك ما يحفظه العلماء إلى اليوم فقد أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات الحديث وكونه صلى الله عليه وسلم نسى الجميع يعد تبليغه وبقي ما بقي عند بعض من سمعه منه عليه الصلاة والسلام فنقل حتى وصل إلينا بعيد وإن أمكن عقلا وقيل كان صلى الله عليه وسلم يعجل بالقراءة إذا لقنه جبريل عليه السلام فقيل لا تعجل فإن جبريل عليه السلام مأمور أن يقرأه عليك قراءة مكررة إلى أن تحفظه ثم لا تنساه إلا ما شاء الله تعالى ثم تذكره بعد النسيان وأنت تعلم أن الذكر بعد النسيان وان كان واجبا إلا أن العلم به لا يستفاد من هذا المقام وقيل إن الاستثناء بمعنى القلة وهذا جار في العرف كأنه قيل إلا ما لا يعلم لأن المشيئة مجهولة وهو لا محالة أقل من الباقي بعد الاستثناء فكأنه قيل فلا تنسى شيئا إلا شيئا قليلا وقد جاء في صحيح البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة وكانت صلاة الفجر فحسب أبي أنها نسخت فسأله عليه الصلاة والسلام فقال نسيتها ثم أنه عليه الصلاة والسلام لا يقر على نسيانه القليل أيضا بل يذكره الله تعالى أو ييسر من يذكره ففي البحر أنه صلى الله عليه وسلم قال حين سمع قراءة عباد بن بشير لقد
ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا وقيل الاستثناء بمعنى القلة وأريد بها النفي مجازا كما في قولهم قل من يقول كذا قيل والكلام عليه من باب: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
البيت والمعنى فلا تنسى إلا نسيانا معدوما وفي الحواشي العصامية على أنوار التنزيل أن الاستثناه على هذا الوجه لتأكيد عموم النفي لا لنقض عمومه وقد يقال الاستثناء من أعم الأوقات أي فلا تنسى في وقت من الأوقات إلا وثت مشيئة الله تعالى نسيانك لكنه سبحانه لا يشاء وهذا كما قيل في قوله تعالى في أهل الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك وقد قدمنا ذلك وإلى هذا ذهب الفراء فقال إنه تعالى ما شاء الله ينسى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا إلا أن المقصود من الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصيره عليه الصلاة والسلام ناسيا لذلك لقدر عليه كما قال سبحانه ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم انا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك وقله له صلى الله عليه وسلم لئن أشركت ليحبطن عملك مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يشرك البتة وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء إن يعرفه الله تعالى قدرته حتى يعلم صلى الله عليه وسلم أن عدم النسيان من فضلة تعالى واحسانه لا من قوته أي حتى يتقوى ذلك جدا أو ليعرف غيره ذلك وأن نفي أن يشاء الله تعالى نسيانه عليه الصلاة والسلام معلوم من خارج ومنه آية لا تحرك به لسانك لتعجل به الآية وقد أشار أبو حيان إلى ما قاله الفراء وإلى الوجه الذي قبله وإباهما غاية الآباء لعدم الوقوف على حقيقتهما وقال لا ينبغي أن يكون ذلك في كلام الله تعالى بل ولا في كلام فصيح وهو مجازفة منه عفا الله تعالى عنه ثم إن المراد من نفى نسيان شيء من القرآن نفى النسيان التام المستمر مما لا يقر عليه صلى الله عليه وسلم كالذي تضمنه الخبر السابق ليس كذلك وقد ذكروا أنه عليه الصلاة والسلام لا يقر على النسيان فيما كان من أصول الشرائع والواجبات وقد يقر على ما ليس منها أو منها وهو من الآداب والسنن ونقل هذا عن الإمام الرازي عليه الرحمة فليحفظ والالتفات إلى الاسم الجليل على سائر الأوجه لتربية المهابة والإيذان بدوران المشيئة على عنوان الألوهية المستتبعة لسائر الصفات وربط الآية بما قبلها على الوجه الذي ذكرناه هو الذي اختاره في الإرشاد وقال أبو حيان إنه سبحانه لما أمره صلى الله عليه وسلم بالتسبيح وكان لا يتم إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن وكان صلى الله عليه وسلم يتفكر في نفسه مخافة أن ينسى أزال سبحانه عنه ذلك بأنه عز وجل يقرئه وأنه لا ينسى إلا
106

ما شاء أن ينسيه لمصلحة وفيه نظر لا يخفى ولو قيل إن سنقرئك استئناف واقع موقع التعليل للتسبيح أو للأمر به فيفيد جلالة الإقراء وأنه مما ينبغي أن يقابل بتنزيه الله تعالى وإجلاله كان أخون مما ذكر ونحوه كونه في موقع التعليل على معنى هيىء نفسك للإفاضة عليك بتسبيح الله تعالى لأنا سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ويتضمن ذلك الإشارة إلى فضل التسبيح وقد وردت أخبار كثيرة في ذلك وذكر الثعلبي بعضا منها ونقله ابن الشيخ في " حواشيه " على تفسير البيضاوي والله تعالى أعلم بصحته * (إنه يعلم الجهر وما يخفى) * تعليل لما قبله والجهر هنا ما ظهر قولا أو فعلا أو غيرهما وليس خاصا بالأقوال بقرينة المقابلة أي أنه تعالى يعلم ما ظهر وما بطن من الأمور التي من جملتها حالك وحرصك على حفظ ما يوحي إليك بأسره فيقرئك ما يقرئك ويحفظك عن نسيان ما شاء منه وينسيك ما شاء منه مراعاة لما نيط بكل من المصالح والحكم التشريعية وقيل توكيد لجميع ما تقدمه وتوكيد لما بعده وقيل توكيد لقوله تعالى: * (سنقرئك) * الخ على أن الجهر ما ظهر من الأقوال أي يعلم سبحانه جهرك بالقراءة مع جبريل عليه السلام وما دعاك إليه من مخافة النسيان فيعلم ما فيه الصلاح من إبقاء وانساء أو فلا تخف فإني أكفيك ما تخاف وقيل إنه متعلق بقوله تعالى: * (سبح اسم ربك الأعلى) * وهذا ليس بشيء كما ترى.
* (ونيسرك لليسرى) *
* (ونيسرك لليسرى) * عطف على سنقرئك كما ينبىء عنه الالتفات إلى الحكاية وما بينهما اعتراض وارد لما سمعت وتعليق التيسير به صلى الله عليه وسلم مع أن الشائع تعليقه بالأمور المسخرة للفاعل كما في قوله تعالى: * (ويسر لي أمري) * للإيذان بقوة تمكينه عليه الصلاة والسلام من اليسرى والتصرف فيها بحيث صار ذلك ملكة راسخة له كأنه عليه الصلاة والسلام جبل عليها أي نوفقك توفيقا مستمرا للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين علما وتعليما واهتداء وهداية فيندرج فيه تيسير تلقي طريقي الوحي والإحاطة بما فيه من أحكام الشريعة السمحة والنواميس الإلهية مما يتعلق بتكميل نفسه الكريمة صلى الله عليه وسلم وتكميل غيره كما يفصح عنه الفاء فيما بعد كذا في الإرشاد وقيل المراد باليسرى الطريقة التي هي أيسر وأسهل في حفظ الوحي وقيل هي الشريعة الحنيفية السهلة وقيل الأمور الحسنة في أمر الدنيا والآخرة من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة وضم إليها بعض أمر الدين وهو مع هذا الضم تعميم حسن وظاهر عليه أيضا أمر الفاه في قوله تعالى:
* (فذكر إن نفعت الذكرى) *
* (فذكر إن نفعت الذكرى) * أي فذكر الناس حسبما يسرناك بما يوحي إليك واهدهم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعية كما كنت تفعله وقيل أي فذكر بعد ما استتب أي استقام وتهيأ لك الأمر فإن أراد فدم على التذكير بعدما استقام لك الأمر من اقرائك الوحي وتعليمك القرآن بحيث لا تنسى منه إلا ما اقتضت المصلحة نسيانه وتيسيرك للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين فذاك وإلا فليس بشيء وتقييد التذكير بنفع الذكرى لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد ذكر وبالغ فيه فلم يدع في القوس منزعا وسلك فيه كل طريق فلم يترك مضيفا ولا مهيعا حرصا على الايمان وتوحيد الملك الديان وما كان يزيد ذلك بعض الناس إلا كفرا وعنادا وتمردا وفسادا فأمر صلى الله عليه وسلم تخفيفا عليه حيث كاد الحرص على ايمانهم يوجه سهام التلف إليه كما قال تعالى فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا بأن يخص التذكير بمواد النفع في الجملة بأن يكون من يذكره كلا أو بعضا ممن يرجى منه التذكر ولا يتعب نفسه الكريمة في تذكير من لا يورثه التذكير إلا عتوا ونفورا وفسادا وغرورا من المطبوع على قلوبهم كما في قوله تعالى: * (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) * وقوله سبحانه: * (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا) * وعلمه صلى الله عليه وسلم بمن طبع على قلبه بإعلام الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام به فهو صلى الله عليه وسلم بعد التبليغ وإلزام الحجة
107

لا يجب عليه تكرير التذكير على من علم أنه مطبوع على قلبه فالشرط على هذا على حقيقته وقيل إنه ليس كذلك وإنما هو استبعاد النفع بالنسبة إلى هؤلاء المذكورين نعيا عليهم بالتصميم كأنه قيل افعل ما أمرت به لتؤجر وإن لم ينتفعوا به وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم ورجح الأول بأن فيه إبقاء الشرط على حقيقته مع كونه أنسب بقوله تعالى:
* (سيذكر من يخشى) *
* (سيذكر من يخشى) * أي سيذكر بتذكيرك من من شأنه أن يخشى الله تعالى حق خشيته أو من يخشى الله تعالى في الجملة فيزداد ذلك بالتذكير فيتفكر في أمر ما تذكره به فيقف على حقيته فيؤمن به وقيل إن إن بمعنى إذ كما في قوله تعالى: * (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) * أي إذ كنتم لأنه سبحانه لم يخبرهم بكونهم الأعلون إلا بعد إيمانهم وقوله صلى الله عليه وسلم في زيادة أهل القبور * (وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون) * وأثبت هذا المعنى لها الكوفيون احتجاجا بما ذكر ونظائره وأجاب النافون عن ذلك بما في " المغنى " وغيره وقيل هي بمعنى قد وقد قال بهذا المعنى قطرب وقال عصام الدين المراد أن التذكير ينبغي أن يكون بما يكون مهما لمن له التذكير فينبغي تذكير الكافرين بالايمان لا بالفروع كالصلاة والصوم والحج إذ لا تنفعه بدون الايمان وتذكير المؤمن التارك للصلاة بها دون الايمان مثلا وهكذا فكأنه قيل ذكر كل واحد بما ينفعه ويليق به وقال الفراء والنحاس والجرجاني والزهراوي الكلام على الاكتفاء والأصل فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع كقوله تعالى: * (سرابيل تقيكم الحر) * والظاهر أن الذين لا يقولون بمفهوم المخالفة سواء كان مفهوم الشرط أو غيره لا يشكل عليهم أمر هذه الآية كما لا يخفى.
* (ويتجنبها الاشقى) *
* (ويتجنبها) * أي ويتجنب الذكرى ويتحاماها * (الأشقى) * وهو الكافر المصر على إنكار المعاد ونحوه الجازم بنفي ذلك مما يقتضي الخشية بوجه وهو أشقى أنواع الكفرة وقيل المراد به الكافر المتوغل في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم كالوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وقد روى أن الآية نزلت فيهما فإنه أشقى من غير المتوغل وقيل المراد به الكافر مطلقا فإنه أشقى من الفاسق وقيل المفضل عليه كفرة سائر الأمم فإنه حيث كان المؤمن من هذه الأمة أسعد من مؤمنيهم كان الكافر منها أشقى من كافريهم والأوجه عندي في المراد بالأشقى ما تقدم.
* (الذى يصلى النار الكبرى) *
* (الذي يصلى النار الكبرى) * أي الطبقة السفلى من أطباق النار كما قال الفراء ولا بعد في تفاضل نار الآخرة وكون بعض منها أكبر من بعض وأشد حرارة وقال الحسن الكبرى نار الآخرة والصغرى نار الدنيا ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم وفي رواية للإمام أحمد عنه مرفوعا أيضا أن هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم فلعل السبعين وارد مورد التكثير وهو كثير.
* (ثم لا يموت فيها ولا يحيا) *
* (ثم لا يموت فيها) * فيستريح * (ولا يحيى) * أي حياة تنفعه وقيل إن روح أحدهم تصير في حلقه فلا تخرج فيموت ولا ترجع إلى موضعها من الجسد فيحيا وهو غير غني عن التقييد بنحو حياة كاملة على أنه بعد لا يخلو عن بحث وثم للتراخي في الرتبة فإن هذه الحالة أفظع وأعظم من نفس الصلى وقال عصام الدين يحتمل أن يكون هذا الكلام كناية عن عدم النجاة لأن النجاة عن العذاب إنما يكون بالعمل في دار يموت فيها العامل ويحيا والنظم أقرب إلى هذا المعنى كيف واللائق بالمعنى السابق ثم لا يكون ميتا فيها ولا حيا فتأمل انتهى وفي كون اللائق بالمعنى السابق ما ذكره دون ما في النظ م الجليل منع ظاهر والظاهر أنه لائق به مع تضمنه رعاية الفواصل وكذا في توجيه كون ما ذكر كناية عن عدم النجاة خفاه وكأنه لذلك أمر بالتأمل وقد يقال إن مثل ذلك لكم يقال لمن وقع في شدة واستمر فيها فلا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى خلودهم في العذاب وأمر التراخي الرتبى عليه ظاهر أيضا لظهور أن الخلود في النار الكبرى أفظع من دخولها وصليها واعلم إن عدم الموت في النار على ما صرح به غير واحد مخصوص بالكفرة وأما عصاة المؤمنين الذين يدخلونها
108

فيموتون فيها واستدل لذلك بما أخرجه مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار يذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله تعالى إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من الماء فينبتون نبات الحبة في حميل السيل قال الحافظ ابن رجب أنه يدل على أن هؤلاء يموتون حقيقة وتفارق أرواحهم أجسادهم وأيد بتأكيد الفعل بالمصدر في قوله عليه الصلاة والسلام فأماتهم الله تعالى إماتة وأظهر منه ما أخرجه البزار عن أبي هريرة مرفوعا أن أدنى أهل الجنة حظا أو نصيبا قوم يخرجهم الله تعالى من النار فيرتاح لهم الرب تبارك وتعالى وذلك أنهم كانوا لا يشركون بالله تعالى شيئا فينبذون بالعراء فينبتون كما ينبت البقل حتى إذا دخلت الأرواح أجسادهم فيقولون ربنا كما أخرجتنا من النار وأرجعت الأرواح إلى أجسادنا فاصرف وجوهنا عن النار فيصرف وجوههم عن النار وهذه الإماتة على ما اختاره غير واحد بعد أن يذوقوا ما يستحقونه من عذابها بحسب ذنوبهم كما يشعر به حديث مسلم وإبقاؤهم فيها ميتين إلى أن يؤذن بالشفاعة لا يجابه تأخير دخولهم الجنة تلك المدة كان تتمة لعقوبتهم بنوع آخر فتكون ذنوبهم قد اقتضت أن يعذبوا بالنار مدة ثم يحبسوا فيها من غير عذاب مدة فهم كمن أذنب في الدنيا ذنبا فضرب وحبس بعد الضرب جزاء لذنبه ولم يبقوا أحيا فيها من غير عذاب كخزنتها إما ليكون أبعد عن أن يهولهم رؤيتها أو لتكون الإماتة وإخراج الروح من تتمة العقوبة أيضا وقال القرطبي يجوز أن تكون إماتتهم عند إدخالهم فيها ويكون ادخالهم وصرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم كالحبس في السجن بلا غل ولا قيد مثلا ويجوز أن يكونوا متألمين حالة موتهم نحو تألم الكافر بعد موته وقبل قيام الساعة ويكون ذلك أخف من تألمهم لو بقوا أحياء كما أن تألم الكافر بعد موته في قبره أخف من تألمه إذا أدخل النار بعد البعث وهو كما ترى وفي مطامح الإفهام
يجوز أن يراد بالاماتة المذكورة في الحديث الانامة وقد سمى الله تعالى النوم وفاة لأن فيه نوعا من عدم الحس وفي الحديث المرفوع إذا أدخل الله تعالى الموحدين النار أماتهم فيها فإذا أراد سبحانه أن يخرجوا أمسهم العذاب تلك الساعة انتهى والمعول عليه ما ذكرناه أولا والله تعالى أعلم.
* (قد أفلح من تزكى) *
* (قد أفلح) * أي نجا من المكروه وظفر بما يرجوه * (من تزكى) * أي تطهر من الشرك بتذكره واتعاظه بالذكرى وحمله على ذلك مروي عن ابن عباس وغيره وأخرج البزار وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك من شهد أن لا إله إلا الله وخلع الانداد وشهد أني رسول الله واعتبر بعضهم أمرين فقال أي تطهر من الكفر والمعصية وعليه يجوز أن يكون ما تقدم من باب الاقتصار على الأهم وقيل تزكى أي تكثر من التقوى والخشية من الزكاء وهو النما وقيل تطهر للصلاة وقيل آتي الزكاة وروى هذا عن أبي الأحوص وقتادة وجماعة.
* (وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحيواة الدنيا) *
* (وذكر اسم ربه) * بلسانه وقلبه لا بلسانه مع غفلة القلب إذ مثل ذلك لا ثواب فيه فلا ينبغي أن يدخل فيما يترتب عليه الفلاح والذكر القلبي باستحضار اسمه تعالى في القلب وإن كان ممدوحا بلا شبهة إلا إن أردته بخصوصه مما ذكر خلاف الظاهر وحكاه في " مجمع البيان " عن بعض وما روى عن ابن عباس من قوله أي ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه عز وجل ظاهر فيه وفي اقحام لفظ اسم وذهب بعض الحنفية إلى أن المراد بهذا الذكر تكبيرة الافتتاح كأنه قيل وكبر للافتتاح.
* (فصلى) * أي الصلوات الخمس كما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس وروى ذلك في حديث مرفوع وقيل الصلاة المفروضة وما أمكن من النوافل واحتج بذلك على وجوب التكبيرة حيث نيط به الفلاح ووقع بين واجبين بل فرضين التزكي من الشرك والصلاة مع أن الاحتياط في العبادات واجب
109

فلا يضر الاحتمال وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل وهو ظاهر وعلى أن التكبيرة شرط لا ركن للعطف بالفاء وعطف الكل على الجزء كعطف العام على الخاص وإن جاز لا يكون بها مع أنه لو سلم صحته بتكلف فلا بد من نكتة ليدعى وقوعه في الكلام المعجز فحيث لم تظهر لم يصح ادعاؤه وبناء الركنية عليه والانصاف أنه مع ما سمعت احتجاج ليس بالقوي وقيل هو خصوص بسم الله الرحمن الرحيم قبل الصلاة وليس بشيء وعن علي كرم الله تعالى وجهه تزكى أي تصدق صدقة الفطر وذكر اسم ربه كبر يوم العيد فصلى صلاة العيد وعن جماعة من السلف ما يقتضي ظاهره ذلك وتعقب بأن الصلاة مقدمة على الزكاة في القرآن وأن السورة مكية ولم يكن حينئذ عيد ولا فطر ورد بأن ذلك إذا ذكرت باسمها أما إذا ذكرت بفعل فتقديمها غير مطرد ومنه فلا صدق ولا صلى على أنه يجوز أن تكون مخالفة العادة ههنا للإرشاد إلى أن هذه الزكاة المقدمة قولا ينبغي تقديمها فعلا على الصلاة ولهذا كانوا يخرجونها قبل أن يصلوا العيد كما جاء في الآثار وكون السورة مكية غير مجمع عليه وعلى القول بمكيتها الذي هو الأصح يكون ذلك مما تأخر حكمه عن نزوله وأقول يجوز أن يقال تزكى أي تطهر من الشرك بأن آمن من بقلبه وذكر اسم ربه أي قال لا إله إلا الله فصلي أي الصلاة المفروضة وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ما يؤيده فيكون تزكى إشارة إلى التصديق بالجنان وذكر اسم ربه إلى النطق باللسان وصل إلى العمل بالأركان لما أن الصلاة عماد الدين وأفضل الأعمال البدنية وناهية عن الفحشاء والمنكر فلا بدع أن تذكر فيراد جمع الأعمال البدنية والعبادات القالبية وقد يقال اقتصر على ذكر الصلاة لأن الفرائض والواجبات البدنية لم تكن تامة يوم نزول السورة وكانت الصلاة أهم ما نزل إن كان نزل غيرها وقد روى عطاء عن ابن عباس ويزيد النحوي عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن إن أول ما نزل من القرآن بمكة * (اقرأ باسم ربك) * ثم * (ن) * ثم * (المزمل) * ثم * (المدثر) * ثم * (تبت) * ثم * (إذا الشمس كورت) * ثم * (سبح اسم ربك) * ثم إن من رادف لا إله إلا الله محمد رسول الله وكان ذكر الله تعالى المطلوب هو مجموع الجملتين فلا بعد في أن يراد من ذكره تعالى في الآية وإذا اعتبر الاتيان باسمه عز وجل في الجملة الثانية على الوجه الذي أتى به ذكرا له تعالى كان أمر الإرادة أقرب وهذا الوجه لا يخلو عن حسن وكلمة قد لما أنه عند الاخبار بسوء حال المتجنب عن الذكر في الآخرة يتوقع السامع الاخبار بحسن حال المتذكر فيها ولا يبعد أن تكون الجملة مستأنفة استئنافا جوابا لسؤال نشأ عن بيان حال المتجنب والسكوت عن حال المتذكر الذي يخشى فكأنه قيل ما حال من تذكر فقيل قد أفلح إلى آخره وكان الظاهر قد أفلح من تذكر إلا أنه وضع من تزكى إلى آخره موضع من تذكر إشارة إلى بيان المتذكر بسماته وقوله تعالى:
* (بل تؤثرون الحيواة الدنيا) *
* (بل تؤثرون الحيوة الدنيا) * إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح * (لا تفعلون ذلك بل تؤثرون) * الخ ولعله مراد من قال إنه إضراب عن * (قد أفلح) * الخ وقيل إضراب عن بيان حال المتذكر والمتجنب إلى بيان أنه لا ينفع هذا البيان وأضعافه المتمردين على وجه يتضمن بيان سبب عدم النفع وهو ايثار الحياة الدنيا والخطاب على هذا للكفرة الأشقين من أهل مكة وعلى الأول يحتمل أن يكون لهم فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضاء والاطمئنان بها والإعراض عن الآخرة بالكلية كما في قوله تعالى: * (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) * الآية ويحتمل أن يكون لجميع الناس على سبيل التغليب فالمراد بإيثارها ما هو أعم مما ذكر وما لا يخلو عنه الناس غالبا من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادىء وعن ابن مسعود ما يقتضيه والالتفات على الأول لتشديد التوبيخ وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة ولتشديد العتاب في
110

حق لمسلمين وقيل لا التفات لأنه بتقدير قل وقرأ عبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم يؤثرون بياء الغيبة وقوله تعالى:
* (والاخرة خير وأبقى) *
* (والآخرة خير وأبقى) * حال من فاعل تؤثرون مؤكد للتوبيخ والعتاب أي تؤثرونها على الآخرة والحال أن الآخرة خير في نفسها لما أن نعيمها مع كونها في غاية ما يكون من اللذة خالص عن شائبة أبدى لا انصرام له وعدم التعرض لبيان تكدر نعيم الدنيا بالمنغصات وانقطاعه عما قليل لغاية الظهور.
* (إن ه‍اذا لفى الصحف الاولى) *
* (إن هذا) * إشارة على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد إلى قوله تعالى: * (والآخرة) * خير وأبقى وروى ذلك عن قتادة وقال غير واحد إشارة إلى ما ذكر من قوله سبحانه قد أفلح من تزكى الخ وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث ما يشهد له وقال الضحاك إشارة إلى القرآن فالآية كقوله تعالى: * (وأنه لفي زبر الأولين) * وعن ابن عباس وعكرمة والسدي إشارة إلى ما تضمنته السور جميعا وفيه بعد.
* (لفي الصحف الأولى) * أي ثابت فيها معناه وقرأ الأعمش وهرون وعصمة كلاهما عن أبي عمرو بسكون الحاء وكذا فيما بعد وهي لغة تميم على ما في اللوامح.
* (صحف إبراهيم وموسى) *
* (صحف إبراهيم وموسى) * بدل من الصحف الأولى وفي إبهامها ووصفها بالقدم ثم بيانها وتفسيرها من تفخيم شأنها ما لا يخفى وكانت صحف ابراهيم عشرة وكذا صحف موسى عليه السلام والمراد بها ما عدا التوراة أخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله كم أنزل الله تعالى من كتاب قال مائة كتابة وأربعة كتب أنزل على شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قلت يا رسول الله فما كانت صحف ابراهيم قال أمثال كلها أيها الملك المتسلط على المبتلي المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه ويتذكر فيما صنع وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال فإن في هذه الساعة عونا لتلك الساعات واجتماعا للقلوب وتفريغا لها وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه فإن من حسب كلامه من عمله أقل الكلام إلا فيما يعنيه وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث مرمة لمعاش أو تزود لمعاد أو تلذذ في غير محرم قلت يا رسول الله فما كانت صحف موسى قال كانت عبرا كلها عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح ولمن أيقن بالنار ثم يضحك ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها ولمن أيقن بالقدر ثم يضغب ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل قلت يا رسول الله هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى قال يا أبا ذكر نعم قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى الله والله تعالى أعلم بصحة الحديث وقرأ أبو رجاء ابرهم بحذف الألف والياء وبالهاء مفتوحة ومكسورة وعبد الرحمن بن أبي بكرة بكسرها لا غير وقرأ أبو موسى الأشعري وابن الزبير ابراهام بالغين في كل القرآن وقرأ مالك بن دينار ابراهم بألف وفتح الهاء وبغير ياء وجاء كما قال ابن خالويه ابرهم بضم الهاء بلا ألف ولا ياء وهذا من تصرفات العرب في الأسماء الأعجمية فإن براهيم على الصحيح منها وحكى الكرماني في عجائبه أنه اسم عربي مشتق من البرهمة وهي شدة النظر ونسبه قد تقدم وكذا نسب موسى صلى الله عليه وسلم.
سورة الغاشية
مكية بلا خلاف وعدة آياتها ست وعشرون كذلك وكان صلى الله عليه وسلم كما أخرج مسلم وأبو داود والنسائي
111

وابن ماجه عن النعمان بن بشير يقرؤه في الجمعة مع سورتها ولما أشار سبحانه فيما قبل إلى المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا بسط الكلام ههنا فقال عز قائلا:
* (هل أتاك حديث الغ‍اشية) *
* (هل أتاك حديث الغاشية) * قيل هل بمعنى قد وقد ظاهر كلام قطرب حيث قال أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية والمختار أنه للاستفهام وهو استفهام أريد به التعجيب مما في حيزه والتشويق إلى استماع والاشعار بأنه من الأحاديث البديعة التي حقها أن تتناقلها الرواة ويتنافس في تلقنها الوعاة وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ * (هل أتاك حديث الغاشية) * فقام عليه الصلاة والسلام يستمع ويقول نعم قد جاءني والغاشية القيامة كما قال سفيان والجمهور وأطلق عليها ذلك لأنها تغنشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأهوالها وقال محمد بن كعب وابن جبير هي النار من قوله تعالى: * (وتغشى وجوههم النار) * وقوله سبحانه: * (ومن فوقهم غواش) * وليس بذاك فان ما سيرى من حديثها ليس مختصا بالنار وأهلها بل ناطق بأحوال أهل الجنة أيضا.
* (وجوه يومئذ خ‍اشعة) *
* (وجوه يومئذ) * المرفوع مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لوقوعه في موضع التنويع وقيل لأن تقدير الكلام أصحاب وجوه والخبر ما بعد والظرف متعلق به والتنوين عوض عن جملة اشعرت بها الغاشية أي يوم إذ غشيت والجملة إلى قوله تعالى: * (مبثوثة) * استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الاستفهام التشويقي كأنه قيل من جهته عليه الصلاة والسلام ما أتاني حديثها ما هو فقيل * (وجوه) * الخ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن أتاه صلى الله عليه وسلم حديثها فأخبره سبحانه عنها فقال جل وعلا وجوه يومئذ: * (خاشعة) * والمراد بخاشعة ذليلة ولم توصف بالذل ابتداء لما في وصفها بالخشوع من الإشارة إلى التهكم وإنها لم تخشع في وقت ينفع فيه الخشوع وكذا حال وصفها بالعمل في قوله سبحانه:
* (عاملة ناصبة) *
* (عاملة) * على ما قيل وهو وقوله تعالى: * (ناصبة) * خبر إن آخران لوجوه إذ المراد بها أصحابها وفي ذلك الاحتمالات أخر ستأتي إن شاء الله تعالى أي عاملة في ذلك اليوم تعبة فيه وذلك في النار على ما روى عن ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة وعملها فيها على ما قيل جر السلاسل والأغلال والخوض فيها خوض الإبل
في الوحل والصعود والهبوط في تلالها ووهادها وذلك جزاء التكبر عن العمل وطاعة الله تعالى في الدنيا وعن زيد بن أسلم أنه قال أي عاملة في الدنيا ناصبة فيها لأنها على غير هدى فلا تمرة لها إلا النصب وخاتمته النار وجاء ذلك في رواية أخرى عن ابن عباس وابن جبير أيضا والظاهر أن الخشوع عند هؤلاء باق على كونه في الآخرة وعليه فيومئذ لا تعلق له بالوصفين معنى بل متعلقهما في الدنيا ولايخفى ما في هذا الوجه من البعد وظهور أن العمل لا يكون في الآخرة بعد تسليمه لا يجدي نفعا في دفع بعده وقال عكرمة عاملة في الدنيا ناصبة يوم القيامة والظاهر أن الخشوع على ما مر ولا يخفى ما في جعل المحاط باستقباليين ماضويا من البعد وقيل الأوصاف الثلاثة في الدنيا والكلام على منوال. إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
أي ظهر لهم يومئذ أنها كانت خاشعة عاملة ناصبة في الدنيا من غير نفع وأما قبل ذلك اليوم فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهؤلاء النساك من اليهود والنصارى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس ويشمل غيرهم مما شاكلهم من نساك أهل الضلال وهذا الوجه أبعد من أخويه وقوله تعالى:
* (تصلى نارا حامية) *
* (تصلى نارا حامية) * متناهية في الحر من حميت النار إذا اشتد حرها خبر آخر لوجوه وقيل خاشعة صفة لها وما بعد أخبار وقيل الأولان صفتان والأخيران خبران وقيل الثلاثة الأول صفات وهذه الجملة هي الخبر
112

والكل كما ترى وجوز أن يكون هذا وما بعده من الجملتين استئنافا مبينا لتفاصيل أحوالها وقرأ ابن كثير في رواية شبل وحميد وابن محيصن عاملة ناصبة بالنصب على الذم وقرأ أبو رجاء وابن محيصن ويعقوب وأبو عمرو وأبو بكر تصلى بضم التاء وقرأ خارجة تصلى بضم التاء وفتح الصاد مشدد اللام للمبالغة.
* (تسقى من عين ءانية) *
* (تسقى من عين آنية) * بلغت أناها أي غايتها في الحر فهي متناهية فيه كما في قوله تعالى: * (وبين حميم آن) * وهو التفسير المشهور وقد روى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقال ابن زيد أي حاضرة لهم من قولهم أنى الشيء حضر وليس بذاك.
* (ليس لهم طعام إلا من ضريع) *
* (ليس لهم طعام إلا من ضريع) * بيان لطعامهم أثر بيان شرابهم والضريع كما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس الشبرق اليابس وهي على ما قال عكرمة شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض وقال غير واحد هو جنس من الشوك ترعاه الإبل رطبا فإذا يبس تحامته وهو سم قاتل قال أبو ذؤيب: رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى * وصار ضريعا بان عنه النحائص
وقال ابن غرارة الهذلي يذكر إبلا وسوء مرعى: وحبسن في هزم الضريع فكلها * حدباء دامية اليدين حرود
وقال بعض اللغويين الضريع يبيس العرفج إذا انحطم وقال الزجاج نبت كالعوسج وقال الخليل نبت أخضر منتن الريح يرمى به البحر والظاهر أن المراد ما هو ضريع حقيقة وقيل هو شجرة نارية تشبه الضريع وأنت تعلم أنه لا يعجز الله تعالى الذي أخرج من الشجر الأخضر نارا أن ينبت في النار شجر الضريع نعم يؤيد ما قيل ما حكاه في البحور الزاخرة عن البغوي عن ابن عباس يرفعه الضريع شيء في النار شبه الشوك أمر من الصبر وأنتن من الجيفة وأشد حرا من النار فإن صح فذاك وقال ابن كيسان هو طعام يضرعون عنده ويذلون ويتضرعون إلى الله تعالى طلبا للخلاص منه فسمي بذلك وعليه يحتمل أن يكون شجرا وغيره وعن الحسن وجماعة أنه الزقوم وعن ابن جبير أنه حجارة في النار وقيل هو واد في جهنم أي ليس لهم طعام إلا من ذلك الموضع ولعله هو الموضع الذي يسيل إليه صديد أهل النار وهو الغسلين وعليه يكون التوفيق بين هذا الحصر والحصر في قوله تعالى: * (ولا طعام إلا من غسلين) * ظاهرا بأن يكون طعامهم من ذلك الوادي هو الغسلين الذي يسيل إليه وكذا إذا أريد به ما قاله ابن كيسان واتحد به وقد يتحد بهما عليه أيضا الزقوم واتحاده بالضريع على القول بأنه شجرة قريب وقيل في التوفيق أن الضريع مجاز أو كناية أريد به طعام مكروه حتى للإبل وغيرها من الحيوانات التي تلتذ رعي الشوك فلا ينافي كونه زقوما أو غسلينا وقيل إنه أريد أن لا طعام لهم أصلا لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الناس كما يقال ليس لفلان ظل إلا الشمس أي لا ظل له وعليه يحمل قوله تعالى: و * (لا طعام إلا من غسلين) * وقوله تعالى: * (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) * فلا مخالفة أصلا وقيل إن الغسلين وهو الصديد في القدرة الإلهية أن تجعله على هشية الضريع والزقوم فطعامهم الغسلين والزقوم اللذان هما الضريع ولا يخفى تعسفه على الرضيع وقد يقال في التوفيق على القول بأن الثلاثة متغايرة بالذات أن العذاب ألوان والمعذبون طبقات فمنهم أكلة لزقوم ومنهم أكلة الغسلين ومنهم أك الضريع لكل باب منهم جزء مقسوم.
* (لا يسمن ولا يغنى من جوع) *
* (لا يسمن ولا يغني من جوع) * أما في محل جر صفة لضريع والمعنى أن طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس وإنما هو شوك والشوك مما تراعاه الإبل وتتولع به وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه ومنفعتنا الغذاء منتفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة القوة والسمن في البدن وإن شئت فقل إنه من شيء مكروه يضرع عنده ويتضرع إلى الله تعالى ويطلب منه سبحانه الخلاص عنه وليس فيه منفعتنا الغذاء أصلا وأما في محل رفع صفة
113

لطعام المقدر إذ التقدير ليس لهم طعام إلا طعام من ضريع والمعنى قريب مما ذكر ولا يجوز كونه صفة للمذكور إذ لا يدل حينئذ على أن طعامهم منحصر في الضريع بل يدل على أن ما لا يسمن ولا يغني من طعامهم منحصر فيه ويفسد المعنى وأما لا محل له من الإعراب على أنه مستأنلف والأول أظهر ويروى أن كفار قريش قالوا لما سمعوا صدر الآية إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت * (لا يسمن) * الخ قيل فلا يخلوا أما أن يتذكبوا ويتعنتوا بذلك وهو الظاهر فيرد قولهم بنفي السمن والشبع وأما
أن يصدقوا فيكون المعنى أن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو غير مسمن ولا مغن من جوع وعلى الأول هو صفة مؤكدة ردا لما زعموه لا كاشفة إذ لا خفاء وعلى الثاني هو صفة مخصصة وأيا ما كان فتنكير الجوع للتحقير أي لا يغنى من جوع ما وتأخير نفي الإغناء منه لمراعاة الفواصل والتوسل به إلى التصريح بنفي كلا الأمرين إذ لو قدم لما احتيج إلى ذكر نفي الاسمان ضرورة استلزام نفي الإغناء عن الجوع إياه ولذلك كرر لا لتأكيد النفي وفي " الإرشاد " أن نفي الأمرين عنه ليس على أن لهم استعدادا للشبع والسمن إلا أنه لا يفيد شيئا منهما بل على أن لا استعداد من جهتهم ولا إفادة من جهتهم وتحقيق ذلك أن جوعهم وعطشهم ليسا من قبيل ما هو المعهود منهما في هذه النشأة من حالة عارضة للإنسان عند استعداء الطبيعة لبدل ما يتحلل من البدن مشوقة له إلى المطعوم والمشروب بحيث يلتذ بهما عند الأكل والشرب ويستغنى بهما عن غيرهما عند استقرارهما في المعدة ويستفيد منهما قوة وسمنا عند انهضامهما بل جوعهم عبارة عن اضطرارهم عند اضطرام النار في أحشائهم إلى ادخال شيء كثيف يملؤها ويخرج ما فيها من اللهب وأما أن يكون لهم شوق إلى مطعوم ما والتذاذ به عند الأكل واستغناء به عن الغير واستفادة قوة فهيهات وكذا عطشهم عبارة عن اضطرارهم عند أكل الضريع والتهابه في بطونهم إلى شيء مائع بارد ليطفؤه من غير أن يكون لهم التذاذ بشربه أو استفادة قوة به في الجملة وهو المعنى بما روى أنه تعالى يسلط عليهم الجوع بحيث يضطرون إلى أكل الضريع فإذا أكلوه سلط عليهم العطش فاضطروا إلى شرب الحميم فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم أعاذنا الله تعالى وسائر المسلمين من ذلك انتهى وهو خلاف الظاهر ومثله لا يقال عن الرأي وليس له فيما وقفنا عليه مستند يؤول لأجله الظواهر فالحق أن لهم جوعا وعطشا وشهوة إلى الطعام والشراب كما أن للجائع والعطشان في الدنيا شهوة إليهما لكنهما لهم هناك قد بلغا الغاية بتسليط الله تعالى عز وجل بدون سبب عادي على نحو ما في الدنيا فيضطرون لذلك إلى الضريع والحميم كما يضطر من أفرط فيه الجوع والعطش في الدنيا إلى تناول الكريه البشع من المطعوم والمشروب لكنهم لا ينتفعون بما يتناولونه بل يزدادون به عذابا فوق العذاب نسأل الله تعالى العفو والعافية بمنه وكرمه وقوله تعالى:
* (وجوه يومئذ ناعمة) *.
* (وجوه يومئذ ناعمة) * شروع في رواية حديث أهل الجنة وتقديم حكاية أهل النار لأنه أدخل في تويل الغاشية وتفخيم حديثها ولأن حكاية حال أهل الجنة بعد حكاية سوء أهل النار مما يزيد المحي حسنا وبهجة والكلام في إعرابه نظير ما تقدم وإنما لم تعطف هذه الجملة على تلك الجملة إيذانا بكمال تباين مضونيهما والناعمة إما من النعومة وكنى بها عن البهجة وحسن المنظر أي وجوه يومئذ ذات بهج وحسن كقوله تعالى: * (تعرف في جوههم نضرة النعيم أو من النعيم) * أي وجوه يومئذ متنعمة.
* (لسعيها راضية) *
* (لسعيها) * أي لعملها الذي عملته في دار الدنيا وهو متعلق بقوله تعالى: * (راضية) * والتقديم للاعتناء مع رعاية الفاصلة واللام ليست للتعليل بل مثلها في رضيت بكذا فكأنه قيل * (راضية) * بسعيها وذكر بعض المحققين أنها مقوية لتعدي الوصف بنفسه ولذا قال سفيان في ذلك كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم رضيت عملها ورضاها به كناية أو مجاز عن أنه محمود العاقبة مجازي عليه أعظم الجزاء وأحسنه
114

وقيل في الكلام مضاف مقدر أي لثواب سعيها راضية وجوز كون اللام للتعليل أي لأجل سعيها في طاعة الله تعالى راضية حيث أوتيت ما أوتيت من الخير وليس بذاك.
* (في جنة عالية) *
* (في جنة عالية) * مرتفعة المحل أو علية القدر فالعلو إما حسي أو معنوي وجمع أبو حيان بينهما.
* (لا تسمع فيها ل‍اغية) *
* (لا تسمع) * خطاب لكل من يصلح للخطاب أو هو مسند إلى ضمير الغائبة المؤنثة وهو راجع للوجوه على أن المراد بها أصحابها أو الإسناد المجازي وكذا يقال فيما قبل وأشار بعض إلى أن في الآية صنعة الاستخدام اختيارا لأن المراد بالوجوه أولا حقيقتها وعند إرجاع الضمير إليها ثانيا أصحابها فهم الذين لا يسمعون * (فيها لاغية) * أي لغوا فهي مصدر بمعناه ويجوز كونها صفة كلمة محذوفة على أنها للنسب أي كلمة ذات لغو وجوز على تقدير كونها صفة كون الإسناد مجازيا لأن الكلمة ملغو بها لا لاغية ويجوز أن تكون صفة نفس محذوفة أي لا تسمع فيها نفسا لاغية وجعلها مسموعة لوصفها بما يسمع كما تقول سمعت زيدا يقول كذا وجوز أن يكون ذلك على المجاز في الإسناد أيضا وقرأ الأعرج وأهل مكة والمدينة ونافع وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنهم لا تسمع بتاء التأنيث مبنيا للمفعول لاغية بالرفع وابن محيصن وعيسى ابن كثير وأبو عمرو كذلك إلا أنهم قرؤا بالياء التحتية لأن التأنيث مجازي مع وجود الفاصل والجحدري كذلك إلا أنه نصب لاغية على معنى لا يسمع فيها أي أحد لاغية من قولك أسمعت زيدا.
* (فيها عين جارية) *
* (فيها عين جارية) * قيل يجري ماؤها ولا ينقطع وعدم الانقطاع إما من وصف العين لأنها الماء الجاري فوصفها بالجريان يدل على المبالغة كما في نار حامية وإما من اسم الفاعل فإنه للاستمرار بقرينة المقام والتنكير للتعظيم واختار الزمخشري كونه للتكثير كما في علمت نفس أي عيون كثيرة تجري مياهها.
* (فيها سرر مرفوعة) *
* (فيها سرر مرفوعة) * رفيعة السمك أو المقدار وقيل مخبوءة من رفعت لك كذا أي خبأته.
* (وأكواب موضوعة) *
* (وأكواب) * وقداح لا عرا لها * (موضوعة) * أي بين أيديهم وقيل على حافات العيون وجوز أن يراد موضوعة عن حد الكبار أوساط بين الصغر والكبر كقوله
تعالى: * (قدروها) * تقديرا ولا يخفى بعده.
* (ونمارق مصفوفة) *
* (ونمارق) * ووسائد قال زهير: كهولا وشبانا حسانا وجوههم * على سرر مصفوفة ونمارق
جمع نمرقة بضم النون والراء وبكسرهما وفتحهما وبغير هاء * (مصفوفة) * صف بعضها إلى جنب بعض للاستناد إليها والاتكاء عليها وقال الكلبي وسائد موضوعة بعضها إلى جنب بعض كالشيء الذي جعل صفا أينما أراد أن يجلس المؤمن جلس على واحدة واستند إلى أخرى وعلى رأسه وصائف كأنهن الياقوت والمرجان.
* (وزرابي مبثوثة) *
* (وزرابي) * وبسط فاخرة كما قال غير واحد وقال الفراء هي الطنافس التي لها خمل رقيق وقال الراغب: إنها في الأصل ثياب محبرة منسوبة إلى موضع ثم استعيرت للبسط واحدها زربية مثلثة الزاي ولم يفرق في الصحاح بين الزرابي والنمارق والظاهر الفرق نعم قيل قد جاء نمارق بمعنى الزرابي ومنه: نحن بنات طارق * نمشي على النمارق
لظهور أن الوسائد لا يمشي عليها عادة * (مبثوثة) * مبسوطة أو مفرقة في المجالس.
* (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) *
* (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) * استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشبة وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال لما نعت الله تعالى ما في الجنة عجب من ذلك أهل الضلالة فأنزل سبحانه وتعالى: * (أفلا ينظرون) * الخ ويرجع هذا في الآخرة إلى إنكار البعث كما لا يخفى والهمزة للإنكار والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر
115

يقتضيه المقام وكملة كيف منصوبة بما بعدها على أنها حال من مرفوع خلقت كما في قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله) * معلقة لفعل النظر والجملة بدل اشتمال من الإبل. وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم: عرفت زيدا أبو من هو على أصح الأقوال على أن العرب قد أدخلت إلى علي كيف بلا واسطة إبدال كما أدخلت عليها على فحكى عنهم أنهم قالوا: انظر إلى كيف يصنع كما حكي عنهم أنهم قالوا على كيف تبيع الأحمرين وذكر أبو حيان في " البحر " والتذكرة وغيرهما أنه إذا علق الفعل عما فيه الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته وقيل كيف بدل من الإبل وتعقبه في " المغني " بما في بعضه نظر وجوز في " مجمع البيان " كونها في موضع نصب على المصدر وهو كما ترى والإبل يقع على البعران الكثيرة ولا واحد له من لفظه وهو مؤنث ولذا إذا صغر دخلته التاء فقالوا أبيلة وقالوا في الجمع آبال وقد اشتقوا من لفظه فقالوا أبل وتابل الرجل وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس فقالوا ما آبل زيدا ولم يحفظ سيبويه فيما قيل اسما جاء على فعل بكسر الفاء والعين غير ابل أي أينكرون ما أشير إليه من البعث وأحكامه ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين كيف خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلق أكثر أنواع الحيوانات في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيآتها اللائقة بتأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلة وهي باركة وإيصالها الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة وفي صبرها على الجوع والعطش حتى إن ظمأها ليبلغ العشر بكسر فسكون وهو ثمانية أيام بين الوردين وربما يجوز ذلك وتسمى حينئذ الحوازي بالحاء المهملة والزاي واكتفائها بالسير ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم وفي انقيادها مع ذلك للإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض حيث يستعملها في ذلك كيف يشاء ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير وفي تأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها إلى غير ذلك وخصت بالذكر لأنها أعجب ما عند العرب من الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعا ولهم على أحوالها أتم وقوف وعن الحسن أنها خصت بالذكر لأنها تأكل النوى وألقت وتخرج اللبن وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة فقال العرب بعيدة العهد بالفيل ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره أي على نحو ما يركب ظهر البعير من غير مشقة في ترييضه ولا يحلب دره وقال أبو العباس المبرد الإبل هنا السحاب لأن العرب قد تسميها بذلك إذ تأتي إرسالا كالإبل وتزجى كما تزجى الإبل وهي في هيآتها أحيانا تشبه الإبل يعني أن إرادته منها هنا على طريق التشبيه والمجاز وكأنه كما قال الزمخشري لم يدع القائل بذلك إلا طلب المناسبة بين المتعاطفات على ما يقتضيه قانون البلاغة وهي حاصلة مع بقاء الإبل في عطنها قال الإمام التناسب فيها أن الكلام مع العرب وهم أهل أسفار على الإبل في البراري فربما انفردوا فيها والمنفرد يتفكر لعدم رفيق يحادثه وشاغل يشغله فيتفكر فيما يقع عليه طرفه فإذا نظر لما معه رأى الإبل وإذا نظر لما فوقه رأى السماء وإذا نظر يمينا وشمالا رأى الجبال وإذا نظر لأسفل رأى الأرض فأمر بالنظر في خلوته لما يتعلق به النظر من هذه الأمور فبينها مناسبة بهذا الاعتبار وقال عصام الدين: إن خيال العرب جامع بين الأربعة لأن مالهم النفيس الإبل ومدار السقي لهم على السماء ورعيهم في الأرض وحفظ مالهم بالجبال وما ألطف ذكر الإبل بعد ذكر الضريع فإن خطورها بعده على طرف الثمام وإذا صح ما روي من كلام قريش عند نزول تلك الآية كان ذكرها ألطف وألطف وقرأ الأصمعي عن أبي عمرو إلى الإبل بسكون الباء وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إبل بتشديد اللام ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي وقالوا: إنها السحاب عن قوم من أهل اللغة.
* (وإلى السمآء كيف رفعت) *
116

* (وإلى السماء) * التي يشاهدونها ليلا ونهارا * (كيف رفعت) * رفعا سحيق المدى بلا عماد ولا مساك بحيث لا يناله الفهم والإدراك.
* (وإلى الجبال كيف نصبت) *
* (وإلى الجبال) * التي ينزلون في أقطارها وينتفعون بمائها وأشجارها * (كيف نصبت) * وضعت وضعا ثابتا يتأتى معه ارتقاؤها فلا تميل ولا تميد ويمكن الرقي إلى
دارها.
* (وإلى الارض كيف سطحت) *
* (وإلى الأرض) * التي يضربون فيها ويتقلبون عليها * (كيف سطحت) * سطحا بتوطئة وتمهيد وتسوية وتوطيد حسبما يقتضيه صلاح أمور أهلها ولا ينافي ذلك القول بأنها قريبة من الكرة الحقيقية لمكان عظمها وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وأبو حيوة وابن أبي عبلة خلقت رفعت نصبت سطحت بتاء المتكلم مبنيا للفاعل والمفعول ضمير محذوف وهو العائد إلى المبدل منه بدل اشتمال أي خلقتها رفعتها نصبتها سطحتها وقرأ الحسن وهارون الرشيد سطحت بتشديد الطاء والمعنى أفلا ينظرون نظر التدبر والاعتبار إلى كيفية خلق هذه المخلوقات الشاهدة بحقية البعث والنشور ليرجعوا عما هم عليه من الإنكار والنفور ويسمعوا إنذارك ويستعدوا للقائه بالإيمان والطاعة وجوز أن يحمل النظر على الإبصار ويكون فيه دعوى ظهور المطلوب بحيث يظهر بمجرد أبصار هذه المخلوقات وهو خلاف الظاهر والفاء في قوله تعالى:
* (فذكر إنمآ أنت مذكر) *
* (فذكر) * لترتيب الأمر بالتذكير على ما ينبىء عنه الإنكار السابق من عدم النظر أي فاقتصر على التذكير ولا تلح عليهم ولا يهمنك أنهم لا ينظرون ولا يتذكرون وقوله تعالى: * (إنما أنت مذكر) * تعليل للأمر وقوله سبحانه:
* (لست عليهم بمسيطر) *
* (لست عليهم بمصطير) * تقرير له وتحقيق لمعنى الإنذار أي لست بمتسلط عليهم تجبرهم على ما تريد كقوله تعالى: وما أنت عليهم بجبار وقرأ الجمهور بمصيطر بالصاد وكسر الطاء والأصل السين والصاد بدل منه فإنه من السطر بمعنى التسلط يقال سطر عليه إذا تسلط وقرأ حمزة في رواية بإشمام الصاد زايا وهارون بفتح الطاء وهي لغة تميم وسيطر متعد عندهم ويدل عليه قولهم تسيطر لمكان المطاوعة وقوله تعالى:
* (إلا من تولى وكفر) *
* (إلا من تولى وكفر) * قيل استثناء منقطع وإلا فيه بمعنى لكن ومن موصولة مبتدأ وما بعدها صلة والعائد الضمير المستتر فيه وقوله تعالى:
* (فيعذبه الله العذاب الاكبر) *
* (فيعذبه الله العذاب الأكبر) * خبر المبتدأ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط نحو الذي يأتيني فله درهم وجعل من شرطية يبعده وجود الفاء فيما يصلح لجوابيتها بدونها وتقدير فهو يعذبه تكلف مستغنى عنه وأيا ما كان فمن المنقطع ما يقع بعد إلا فيه جملة أي لكن من أعرض وأقام على الكفر منهم يعذبه الله تعالى العذاب الأكبر وهذا عذاب الآخرة في النار فإنه الأكبر وعذاب الدنيا بالنسبة إليه أصغر وجعل الزمخشري الانقطاع على معنى لست بمستول عليهم لكن من تولى وكفر منهم فإن لله تعالى الولاية عليه والقهر فيعذبه في نار جهنم ولم يجعل على ما قيل متصلا لأنه يلزم عليه كونه صلى الله عليه وسلم مستوليا على من تولى وقد حصرت الولاية به تعالى وجوز اتصاله بأن يكون من ضمير عليهم فيكون من في محل جر تابعا له وتسلطه صلى الله عليه وسلم على المتولي باعتبار جهاده وقتله الذي وعد به عليه الصلاة والسلام ولا ينافي حصر الولاية به تعالى لأنه بأمره عز وجل فكأنه قيل لست عليهم بمسيطر إلا على من تولى وأقام على الكفر فإنك متسلط عليه بما يؤذن لك من جهاده وقتله وسبيه وأسره وبعد ذلك يعذبه الله تعالى في جهنم فيكون في الآية إيعاد لهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة وجوز أن يكون إبعادا بالجهاد فقط على أن المراد بالعذاب الأكبر القتل وسبي النساء والأولاد وسائر ما يترتب على الجهاد من البلايا فيكون فيه إشارة إلى أن هذه الأمة أكبر عذابهم في الدنيا ذلك لا ما كان في الأمم السابقة من الخسف والمسخ ونحوهما وأقيم فيعذبه الخ مقام فتكون عليه
117

متسلطا إيذانا بأن ذلك من قبله عز وجل حتى كأنه صلى الله عليه وسلم لا دخل له فيه وقال عصام الدين في كون الاستثناء منقطعا اشكال لأن المستثنى المنقطع هو المذكور بعدا لا غير مخرج عن متعدد قبله لعدم دخوله فيه مخالف له في الحكم وليس من تولى وكفر خارجا عن قوله تعالى عليهم وليس حكمهم مخالفا له ثم أجاب بأن الاستثناء المنقطع قد يكون لدفع توهم ناشىء مما سبق من غير أن يخالف المستثنى منه في الحكم فالواجب ذكر حكم له ليعلم أنه ليس حكمه مخالفا لحكم المستثنى منه فكأنه ههنا لدفع توهم التعذيب فتأمل وجوز كون الاستثناء متصلا من قوله تعالى فذكر ومن موصولة لا غير والمراد بالعذاب استحقاق العذاب أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر وقوله: * (إنما أنت) * الخ على هذا اعتراض ورجح الانقطاع بأن ابن عباس وزيد بن علي وقتادة وزيد بن أسلم قرؤا ألا حرف تنبيه واستفتاح وقوله تعالى:
* (إن إلينآ إيابهم) *
* (إن إلينا إيابهم) * تعليل لتعذيبه تعالى إياهم بالعذاب الأكبر وإياب مصدر آب أي رجع أي إن إلينا رجوعهم بالموت والبعث لا إلى أحد سوانا لا استقلالا ولا اشتراكا وجمع الضمير فيه وفيما بعده باعتبار معنى من كما أن أفراده فيما سبق باعتبار لفظها وقرأ أبو جعفر وشيبة إيابهم بتشديد الياء قال البطليوسي في كتاب " المثلثات " هذه القراءة تحتمل تأويلين أحدهما أن يكون إياب بالتشديد فعالا من أوب على زنة فعل ككذب كذابا وأصله أواب فلم يعتدب الواو الأولى حاجزا لضعفها بالسكون فأبدل من الواو الثانية ياء لانكسار الهمزة فصار في التقدير أويابا ثم قلبت الأولى ياء أيضا لاجتماع ياء وواو وسكون إحداهما ولأن الواو الأولى إذا لم تمنع من انقلاب الثانية فهي أجدر بالانقلاب والثاني أن يكون فيعالا وأصله أيوابا فاعل اعلال سيد وفعله على هذا أيب على وزن فيعل كحوقل حيقالا من الإياب وأصله أيوب فأعل كما ذكرنا والوجه الأول أقيس لأنهم قالوا في مصدره التأويب والتفعيل مصدر فعل لا فيعل ومع ذلك فقد قالوا هو سريع الأوبة والأيبة فكأنهم آثروا الياء لخفتها انتهى وقد ذكر هذين الوجهين
الزمخشري إلا أنه في الأول منهما يجوز أن يكون أصله أوابا فعالا من أوب ثم قيل إيوابا كديوان في دوان ثم فعل به ما فعل بأصل سيد وظاهره أن الواو الأولى هي التي قلبت أولا ياء واعترض بأن المقرر أن الواو الأولى إذا كانت موضوعة على الإدغام وجاء ما قبلها مكسورا لا تقلب ياء لأجل الكسر كما في اخرواط مصدر اخروط وأن ديوانا إذا كان مذكورا للقياس عليه لا للتنظير لا يصلح لذلك لنصهم على شذوذه وكأن البطليوسي عدل إلى ما عدل لذلك وفي " الكشف " لو جعل مصدر فاعل من الأوب فقد جاء فيه فيعال حتى قال بعضهم: إن فعالا مخفف عنه لكان أظهر لأن فيعل لا يثبت إلا بثبت والأول كالمنقاس ومعنى المفاعلة حينئذ إما المبالغة وإما مسابقة بعضهم بعضا في الأوب وأما جعله فعالا على ما قرر الزمخشري فأبعد إلى آخر كلامه وكونه من فاعل جوزه ابن عطية أيضا لكنه قال ويصح أن يكون من آوب فيجىء إيوابا سهلت همزته وكان اللازم في الإدغام يردها أوابا لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس فاعترضه أبو حيان بأن قوله وكان اللازم الخ ليس بصحيح بل اللازم إذا اعتبر الإدغام أن يكون إيابا لأنه قد اجتمعت ياء وهي المبدلة من الهمزة بالتسهيل وواو وهي عين الكلمة وإحداهما ساكنة فتقلب الواو ياء وتدغم فيها الياء فيصير إيابا فلا تغفل.
* (ثم إن علينا حسابهم) *
* (ثم إن علينا حسابهم) * في المحشر لا على غيرنا وثم للتراخي الرتبي لا الزماني فإن الترتيب الزماني بين إيابهم وحسابهم لا بين كون إيابهم إليه تعالى وحسابهم عليه سبحانه فإنهما أمران مستمران وفي تصدير الجملتين بأن وتقديم خبرها والإتيان بضمير العظمة وعطف الثانية على الأولى بثم المفيدة لبعد منزلة الحساب في الشدة من الإنباء عن غاية السخط الموجب لشديد العذاب ما لا يخفى وفي الآية رد على كثير من الشيعة حيث زعموا أن حساب الخلائق على الأمير
118

كرم الله تعالى وجهه واستدلوا على ذلك بما افتروه عليه وعلى أهل بيته رضي الله تعالى عنهم أجمعين من الأخبار ومعنى قوله كرم الله تعالى وجهه أنا قسيم الجنة والنار إن صح أن الناس من هذه الأمة فريقان فريق معي فهم على هدى وفريق على فهم على ضلال فقسم معي في الجنة وقسم في النار ولعلهم عنوا أن عليا كرم الله تعالى وجهه يحاسب الخلائق بأمره عز وجل كما يقول غيرهم بأن الملائكة عليهم السلام يحاسبونهم بأمره جل وعلا وهو معنى لا ينافي الحصر الذي تقتضيه الآية لكنه لم يثبت وأي خصوصية في الأمير كرم الله تعالى وجهه من بين جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين عليهم الصلاة والسلام أجمعين تقتضيه ولا نقص له كرم الله تعالى وجهه في نفي ذلك عنه ويكفيه رضي الله تعالى عنه من ظهور شرفه يوم القيامة أنه يزف إلى الجنة بين النبي وإبراهيم عليهما وعليه الصلاة والسلام كما جاء في الحديث إلى غير ذلك مما يظهر في ذلك اليوم والله تعالى أعلم.
سورة الفجر
مكية في قول الجمهور وقال علي بن أبي طلحة مدنية وآيها اثنتان وثلاثون آية في الحجازي وثلاثون في الكوفي والشامي وتسع وعشرون في البصري ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وجوه يومئذ خاشعة ووجوه يومئذ ناعمة أتبعه تعالى بذكر الطوائف المكذبين من المتجبرين الذين وجوههم خاشعة وأشار جل شأنه إلى الصنف الآخر الذين وجوههم ناعمة بقول سبحانه فيها: * (يا أيتها النفس المطمئنة) * وأيضا فيها مما يتعلق بأمر الغاشية ما فيها وقال الجلال السيوطي لم يظهر لي في وجه ارتباطها سوى أن أولها كالإقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها أو على ما تضمنته من الوعد والوعيد هذا مع أن جملة ألم تر كيف فعل ربك مشابهة لجملة أفلا ينظرون وهو كما ترى.
* (والفجر) *
* (والفجر) * أقسم سبحانه بالفجر كما أقسم عز وجل بالصبح في قوله تعالى والصبح إذا تنفس فالمراد به الفجر المعروف كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن الزبير وغيرهم رضي الله تعالى عنهم وقيل المراد عموده وضوءه الممتد واصله شق الشيء شقا واسعا وسمى الصبح فجرا لكونه فاجر الليل وهو كاذب لا يتعلق به حكم الصوم والصلاة وصادق به يتعلق حكمهما وقد تكلموا في سبب كل بما يطول وتقدم بعض منه ولعل المراد به هنا الصادق فهو أحرى بالقسم به والمراد عند كثير جنس الفجر لا فجر يوم مخصوص وعن ابن عباس ومجاهد فجر يوم النحر وعن عكرمة فجر يوم الجمعة وعن الضحاك فجر ذي الحجة وعن مقاتل فجر ليلة جمع وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في " الشعب " عن ابن عباس أنه قال هو فجر المحرم فجر السنة وروي نحوه عن قتادة وعن الحبر أيضا أنه النهار كله وأخرج ابن جرير عنه أيضا أنه قال يعني صلاة الفجر وروي نحوه عن زيد بن أسلم فهو إما على تقدير مضاف أو على إطلاقه على الصلاة مجازا وهو شائع وقيل المراد فجر العيون من الصخور وغيرها.
* (وليال عشر) *
* (وليال عشر) * هن العشر الأول من الأضحى كما أخرجه الحاكم وصححه وجماعة على ابن عباس وروي عن ابن الزبير ومسروق ومجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم وأخرج ذلك أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبزار وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في " الشعب " عن جابر يرفعه ولها من الفضل ما لها وقد أخرج أحمد والبخاري عن ابن عباس مرفوعا ما من أيام فيهن العمل أحب إلى الله عز وجل وأفضل من أيام العشر قيل يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل جاهد في سبيل الله بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء وأخرج ابن المنذر وابن أبي /
119

حاتم عن ابن عباس أنهن العشر الأواخر من رمضان وروي أيضا عن الضحاك بل زعم التبريزي الاتفاق على أنهن هذه العشر وأنه لم يخالف فيه أحد واستدل له بعضهم بالحديث المتفق على صحته قالت عائشة رضي الله تعالى عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر تعني العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأحيا ليله
وأيقظ أهله وتعقبه بعضهم بأن ذلك محتمل لأن يحظى عليه الصلاة والسلام بليلة القدر لأنها فيها لا لكونها العشر المرادة هنا وعن ابن جريج أنهن العشر الأول من رمضان وعن يمان وجماعة أنهن العشر الأول من المحرم وفيها يوم عاشوراء وقد ورد في فضله ما ورد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقال عليه الصلاة والسلام ما هذا اليوم الذي تصومونه قالوا هذا يوم عظيم أنجى الله تعالى فيه موسى وأغرق آل فرعون فيه فصامه موسى عليه السلام شكرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق بموسى منكم فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه وصح في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة من كان أصبح صائما فليتم يومه ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه فكان الصحابة بعد ذلك يصومونه ويصومونه صبيانهم الصغار ويذهبون بهم إلى المسجد ويجعلون لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطوه إياها حتى يكون الإفطار وأخرج أحمد وغيره عن الحبر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود وصوموا قبله يوما وبعده يوما وجاء في الأمر بالتوسعة فيه على العيال عدة أحاديث ضعيفة لكن قال البيهقي: هي وإن كانت ضعيفة إذا ضم بعضها إلى بعض أحدث قوة وأياما كان فتنكيرها للتفخيم وقيل للتبعيض لأنها بعض ليالي السنة أو الشهر والتفخيم أولى قيل ولولا قصد ما ذكر كان الظاهر تعريفها كأخواتها لأنها ليال معهودة معينة وقدر بعضهم على إرادة صلاة الفجر فيما مر مضافا هنا أي وعبادة ليال ويقال نحوه فيما بعد على بعض الأقوال فيه وليس بلازم ولا أثر فيه وقرأ ابن عباس بالإضافة فضبطه بعضهم وليال عشر بلام دون ياء وبعضهم وليالي عشر بالياء وهو القياس والمراد وليالي أيام عشر فحذف الموصوف وهو المعدود وفي مثل ذلك يجوز التاء وتركها في العدد ومنه واتبعه بست من شوال وما حكاه الكسائي صمنا من الشهر خمسا والمرجح للترك ههنا وقوعه فاصلة وجوز أن تكون الإضافة بيانية وهو خلاف الظاهر.
* (والشفع والوتر) *
* (والشفع والوتر) * هما على ما في حديث جابر المرفوع الذي أشرنا إليه فيما تقدم يوم النحر ويوم عرفة وقال الطيبي روينا عن الإمام أحمد والترمذي عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال الصلاة بعضها شفع وبعضها وترثم قال هذا هو التفسير الذي لا محيد عنه انتهى وقد رواه عن عمران أيضا عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وصححه لكن في " البحر " أن حديث جابر أصح إسنادا من حديث عمران بن حصين ووراء ذلك أقوال كثيرة فأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قال: اقسم ربنا بالعدد كله منه الشفع ومنه الوتر وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد أنه قال: الخلق كله شفع ووتر فأقسم سبحانه بخلقه وأخرج ابن المنذر وجماعة عنه أنه قال الله تعالى الوتر وخلقه سبحانه الشفع الذكر والأنثى وروي نحوه عن أبي صالح ومسروق وقرآ ومن كل شيء خلقنا زوجين وقيل المراد شفع تلك الليالي ووترها وقيل الشفع أيام عاد والوتر لياليها وقيل الشفع أبواب الجنة والوتر أبواب النار وقيل غير ذلك وقد ذكر في كتاب التحرير والتحبير مما قيل فيهما ستا وثلاثين قولا وفي " الكشاف " قد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه
120

وقال بعض الأفاضل لا اشعار للفظ الشفع والوتر بتخصيص شيء مما ذكروه وتعيينه بل هو إنما يدل على معنى كلي متناول لذلك ولعل من فسرهما بما فسرهما لم يدع الانحصار فيما فسر به بل أفرد بالذكر من أنواع مدلولهما ما رآه أظهر دلالة على التوحيد أو مدخلا في الدين أو مناسبة لما قبل أو لما بعد أو أكثر منفعة موجبة للشكر أو نحو ذلك من النكات وإذا ثبت من الشارع عليه الصلاة والسلام تفسيرهما ببعض الوجوه فالظاهر أنه ليس مبنيا على تخصيص المدلول بل وارد على طريق التمثيل بما رأى في تخصيصه بالذكر فائدة معتدا بها فحينئذ يجوز للمفسر أن يحمل اللفظ على بعض آخر من محتملاته لفائدة أخرى انتهى وهو ميل إلى أن أل فيهما للجنس لا للعهد والظاهر أن ما تقدم من الحديثين من باب القطع بالتعيين دون التمثيل لكن يشكل أمر التوفيق بينهما حينئذ وإذا صح ما قال في " البحر " كان المعول عليه حديث جابر رضي الله تعالى عنه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وقرأ حمزة والكسائي والأغر عن ابن عباس وأبو رجاء وابن وثاب وقتادة وطلحة والأعمش والحسن بخلاف عنه والوتر بكسر الواو وهي لغة تميم والجمهور على فتحها وهي لغة قريش وهما لغتان كالحبر والحبر بمعنى العالم على ما قال صاحب المطلع في الوتر المقابل للشفع وأما في الوتر بمعنى الترة أي الحقد فالكسر هو المسموع وحده والأصمعي حكى فيه أيضا اللغتين وقرأ يونس عن أبي عمرو بفتح الواو وكسر التاء وهو إما لغة أو نقل حركة الواو في الوقف لما قبلها.
* (واليل إذا يسر) *
* (والليل إذا يسر) * أي يمضي كقوله تعالى: * (والليل إذا أدبر والليل إذا عسعس) * والظاهر أنه مجاز مرسل أو استعارة ووجه الشبه كالنهار وإذا على ما صرح به العلامة التفتازاني في التلويح بدل من الليل وخروجها عن الظرفية مما لا بأس به أو ظرف متعلق بمضاف مقدر وهو العظمة على ما اختاره بعضهم والإقسام بذلك الوقت أو تقييد العظمة به لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة أو يسري فيه على ما نقل أبو حيان عن الأخفش وابن قتيبة كقولهم صلى المقام أي صلى فيه على أنه تجوز في الإسناد بإسناد ما للشيء للزمان كما يسند للمكان وأيا ما كان فالمراد بالليل جنسه وقال مجاهد وعكرمة والكلبي المراد به ليلة النحر وهي يسري الحاج فيها إلى المزدلفة بعد الإفاضة من عرفات وليس بذاك والإقسام والتقييد على الوجه الأخير لما في السير في الليل من نعمة الحفظ من حر الشمس وشر قطاع الطريق غالبا وحذفت الياء عند الجمهور وصلا ووقفا من آخر يسر مع أنها لام مضارع غير مجزوم اكتفاء عنها بالكسر للتخفيف ولتتوافق رؤوس الآي ولذا رسمت كذلك في المصاحف ولا ينبغي أن يقال إنها حذفت لسقوطها في خطها فإنه يقتضي أن القراءة باتباع الرسم دون رواية اسبقة عليه وهو غير صحيح وخص نافع وأبو عمرو في رواية هذا الحذف بالوقف لمراعاة الفواصل ولم يحذف مطلقا ابن كثير ويعقوب وفي تفسير البغوي سئل الأخفش عن علة سقوط ياء يسر فقال الليل لا يسري ولكن يسري
فيه وهو تعليل كثيرا ما يسئل عنه لخفائه والجواب أنه أراد أنه لما عدل عن الظاهر في المعنى وغير عما كان حقه معنى غير لفظه لأن الشيء يجر جنسه لا لفه به. إن الطيور على أمثالها تقع
وهذا كما قيل في قوله تعالى * (ما كانت أمك بغيا) * أنه لما عدل عن باغية أسقطت منه التاء ولم يقل بغية ومثله من بدائع اللغة العربية ويمكن التعليل بنحوه على تفسير يسر بيمضي لما فيه من العدول عن الظاهر في المعنى أيضا علمت من أنه مجاز في ذلك وقرأ أبو الدينار الأعرابي والفجر والوتر ويسر بالتنوين في الثلاثة قال ابن خالويه هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف على أواخر القوافي بالتنوين وإن كانت أفعالا أو فيها أل نحو قوله: أقلي اللوم عاذل والعتابن * وقولي إن أصبت لقد أصابن
121

انتهى وهذا كما قال أبو حيان ذكره النحويون في القوافي المطلقة يعني المحركة إذا لم يترنم الشاعر وهو أحد وجهين للعرب إذا لم يترنموا والوجه الآخر الوقف فيقولون العتاب وأصاب كحالهم إذا وقفوا على الكلمة في النثر وهذا الأعرابي أجرى الفواصل مجرى الوقف وعاملها معاملة القوافي المطلقة ويسمى هذا التنوين تنوين الترنم ولا اختصاص له بالاسم ويغلب على ظني أنه قيل يكتب نونا بخلاف أقسام التنوين المختصة بالاسم وقوله تعالى:
* (هل فى ذلك قسم لذى حجر) *
* (هل في ذلك) * الخ تحقيق وتقرير لفخامة الأشياء المذكورة المقسم بها وكونها مستحقة لأن تعظم بالإقسام بها فيدل على تعظيم المقسم عليه وتأكيده من طريق الكناية فذلك إشارة إلى المقسم به وما فيه من معنى البعد لزيادة تعظيمه أي هل فيما ذكر من الأشياء * (قسم) * أي مقسم به * (لذي حجر) * أي هل يحق عنده أن يقسم به إجلالا وتعظيما والمراد تحقيق أن الكل كذلك وإنما أوثرت هذه الطريقة هضما للحق وإيذانا بظهور الأمر وهذا كما يقول المتكلم بعد ذكر دليل واضح الدلالة على مدعاه هل دل هذا على ما قلناه وجوز أن يكون التحقيق أن ذوي الحجر يؤكدون بمثل ذلك المقسم عليه فيدل أيضا على تعظيمه وتأكيده فذلك إشارة إلى المصدر أعني الإقسام هل في إقسامي بتلك الأشياء إقسام لذي حجر مقبول عنده يعتد به ويفعل مثله ويؤكد به المقسم عليه وحاصل الوجهين فيماي رجع إلى تأكيد المقسم عليه واحد إلا أن الوجه مختلف كما لا يخفى ولعل الأول أظهر والحجر العقل لأنه يحجر صاحبه أي يمنعه من التهافت فيما لا ينبغي كما سمي عقلا ونهيه لأنه يعقل وينهى وحصاة من الإحصاء وهو الضبط وقال الفراء يقال: إنه لذو حجر إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها والمقسم عليه محذوف وهو ليعذبن كما ينبىء عنه قوله تعالى شأنه:
* (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) *
* (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) * الخ فإنه استشهاد بعلمه صلى الله عليه وسلم بما يدل عليه من تعذيب عاد وأضرابهم المشاركين لقومه عليه الصلاة والسلام في الطغيان والفساد على طريقة * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) * الآية وقوله سبحانه: * (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) * وقال أبو حيان الذي يظهر أنه محذوف يدل عليه ما قبله من آخر صورة الغاشية وهو قوله تعالى: * (إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم) * وتقديره لإيابهم إلينا وحسابهم علينا وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ والفجر إلى قوله سبحانه: * (إذا يسر) * فقال هذا قسم على أن ربك لبالمرصاد وإلى أنه هو المقسم عليه ذهب ابن الأنباري وعن مقاتل أنه هل في ذلك الخ وهل بمعنى أن وهو باطل رواية ودراية إذ يبقى عليه قسم بلا مقسم عليه والمراد بعاد أولا عاد بن عاص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام قوم هود عليه السلام سموا باسم أبيهم كما سمي بنو هاشم هاشما وإطلاق الأب على نسله مجاز شائع حتى ألحق بعضه بالحقيقة وقد قيل لأوائلهم عاد الأولى ولأواخرهم عاد الآخرة قال عماد الدين بن كثير كلما ورد في القرآن خبر عاد فالمراد بعاد فيه عاد الأولى إلا ما في سورة الأحقاف ويقال لهم أيضا ارم تسمية لهم باسم جدهم والتسمية بالجد شائعة أيضا وهو اسم خاص بالأولى وعليه قول ابن الرقيات: مجدا تليدا بناه أوله * أدرك عادا وقبلها إرما
ونحوه قول زهير: وآخرين ترى الماذي عدتهم * من نسج داود أو ما أورثت إرما
[بم فقوله تعالى:
* (إرم ذات العماد) *.
* (إرم) * عطف بيان لعاد للإيذان بانهم عاد الأولى وجوز أن يكون بدلا ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار القبيلة وصرف عاد باعتبار الحي وقد يمنع من الصرف باعتبار القبيلة أيضا وقرأ الضحاك بذلك في إحدى الروايتين عنه ورجح اعتبار الصرف فيه بخفته لسكون وسطه وقدر بعضهم مضافا
122

في الكلام أي سبط ارم وجعل ارم عليه اسم أمهم وهو قول فيه حكاه في القاموس ووجه منع الصرف فيه ظاهر وأبى بعضهم إلا جعله اسم جدهم ومعنى كونهم سبطه أنهم ولد ولده ولا يظهر على هذا علة منع صرفه ولعل ذلك هو الذي دعا إلى جعله اسم أمهم لكن رأيت في تعليقات بعض الأفاضل على الحواشي العصامية على تفسير البيضاوي إن ارم إنما منع من الصرف سواء كان اسما للقبيلة أم لجدها للعلمية والعجمة وقال إنهما موجودتان في عاد أيضا إلا أنه لكونه ثلاثيا ساكن الوسط يجوز فيه الأمران الصرف وعدمه وزعم أن هذا هو الحق وبكونه اسم القبيلة قال مجاهد وقتادة زابن اسحق ولا حاجة معه إلى تقدير مضاف فقوله تعالى: * (ذات العماد) * صفة لارم نفسها والمراد ذات القدود الطوال على تشبيه قاماتهم بالأعمدة ومنه قولهم رجل معمد وعمدان إذا كان طويلا وروي هذا عن ابن عباس ومجاهد واشتهر انه كان قد احدهم اثنى عشر ذراعا وأكثر وفي تفسير الكواشي قالوا كان طول الطويل منهم أربعمائة ذراع وكان أحدهم يأخذ الصخرة العظيمة قيقلبها على الحي فيهلكهم وعن قتادة وابن عباس في رواية عطاء المراد ذات الخيام والأعمدة وكانوا سيارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم وقال غير واحد كانوا بدويين أهل عمد وخيام يسكنونها حلا وارتحالا وقيل المراد ذات الوقار أو ذات الثبات وطول العمر والكل على الاستعارة وقوله تعالى:
* (التى لم يخلق مثلها فى البل‍اد) *
* (التي لم يخلق مثلها في البلاد) * صفة أخرى لها أي لم يخلق مثلهم في عظم الاجرام والقوة في بلاد الدنيا وقد سمعت ما نقل عن الكواشي آنفا وما ذكر فيه من انه كان أحدهم الخ جاء في حديث مرفوع أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن المقدام بن معد يكرب وقيل ارم اسم مدينة لهم قال محمد بن كعب هي الاسكندرية وقال ابن المسيب والقبري هي دمشق وقيل اسم أرضهم وهي بين عمان وحضرموت وهي أرض رمال وأحقاف فقد قال سبحانه وتعالى واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وبهذا اعترض القول بأن مدينتهم الاسكندرية والقول بأنها دمشق حيث أنهمنا ليستا من بلاد الأحقاف والرمال إلا أن يقال ما هنا عاد الأولى وما في آية الأحقاف عاد الآخرة ويلتزم عدم اتحاد منازلهما وعلى القول بكونه اسم مدينتهم أو اسم أرضهم فهو بتقدير مضاف لتصحيح التبعية أي أهل ارم وقيل يقدر مضاف في جانب المتبوع أي بمدينة أو بأرض عاد ارم وهو كما ترى ومنع الصرف على الوجهين لما سمعت والأكثرون على أنها اسم مدينة عظيمة في أرض اليمن والوصفان لها والمراد ذات البناء الرفيع أو ذات الأساطين التي لم يخلق مثلها سعة وحسن بيوت وبساتين في بلاد الدنيا ويروى أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال إبني مثلها فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ولما تم ناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب ابل له فوقع عليها فحمل قدر عليه مما ثم وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال هي ارم ذالت العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فابصر من قلابة فقال هذا والله ذلك الرجل وخبر شداد المذكور أخوه في الضعف بل لم تصح روايته كما ذكره الحافظ ابن حجر فهو موضوع كخبر ابن قلابة وروي عن مجدهد أن ارم مصدر أرم يأرم إذا هلك فارم بمعنى هلاك منصوب على نحو نصب المصدر التشبيعي مضاف إلى ذات والتي صفة لذات العماد مرادا بها المدينة وكيف فعل في
123

قوة كيف أهلك فكانه قيل ألم تر كيف أهلك ربك عادا كهلاك ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وهو قول غريب غير قريب وقرأ الحسن بعاد ارم بإضافة عاد إلى ارم فجاز أن يكون ارم جدا والوصفان لعاد وأن يكون مدينة والوصفان لازم وجوز أن يكونا لعاد وقرأ ابن الزبير بعاد أرم بالإضافة أيضا إلا أن أرم بفتح الهمزة وكسرة الراء قيل وهي لغة في المدينة لا غير وعن الضحاك أنه قرأ بعاد مصرروفا وغير مصروف أرم بفتح الهمزة وسكون الراء للتخفيف وأصله أرم كفخذ وقرىء إرم ذات باضافة إرم إلى ذات فقيل الارم عليه العلم والمعنى بعاد أعلام العماد وهي مدينتهم والتي صفة لذات العماد على الأظهر وعن ابن عباس أنه قرأ أرم بالتشديد فعلا ماضيا ذات بالنصب على المفعول به أي جعل الله تعالى ذات العماد رميما ويكون أرم على ما في البحر بدلا من فعل أو تبيينا له والمراد بذات العماد عليه اما عاد نفسها ويكون فيه وضع المظهر موضع المضمر والنكتة فيه ظاهرة وإما مدينتهم ويكون جعلها رميما أي اهلاكها كناية عن جعلهم كذلك وقرأ ابن الزبير لم يخلق مبنيا للفاعل وهو ضميره عز وجل مثلها بالنصب على المفعولية وعنه أيضا لم نخلق بنون العظمة.
* (وثمود الذين جابوا الصخر بالواد) *
* (وثمود) * عطف على عاد وهي قبيلة مشهورة سميت باسم جدهم ثمود أخي جديس وهما ابنا عابر بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام كانوا عربا من العاربة يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك وكانوا يعبدون الأصنام ومنع الصرف للعلمية والتأنيث وقرأ ابن وثاب بالتنوين صرفه باعتبار الحي كذا قالوا وظاهره أنه عربي وقد صرح بذلك فقيل هو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائة لكثرة غشيانه لهن ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفدت مادة ما له وحكى الراغب أنه عجمي فمنع الصرف للعلمية والعجمية * (الذين جابوا الصخر) * أي قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا نحتوها من الصخر كثوله تعالى وتنحتون من الجبال بيوتا قيل أول من نحت الحجارة والصخور والرخام ثمود وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة ولا أظن صحة هذا البناء * (بالواد) * هو وادي القرى وقرىء بالياء آخر الحروف والباء للظرفية والجار والمجرور متعلق بجابوا أو بمحذوف هو حال من الفاعل أو المفعول وقيل الباء للآلة أو السببية متعلقة بجابوا أي جابوا الصخر بواديهم أو بسببه أي قطعوا الصخر وشقوة جهلوه واديا ومحلا لمائهم فعل ذوى القوة والآمال وهو خلاف الظاهر وأيا ما كان فالجواب القطع والظاهر أنه حقيقة فيه تقول جبت البلاد أجوبها إذا قطعتها قال الشاعر: ولا رأيت قلوصا قبلها حملت * ستين وسقا ولا جابت بها بلدا
ومنه الجواب لأنه يقطع السؤال وقال الراغب الجوب قطع الجوبة وهي الغائط من الأرض ثم يستعمل في قطع كل أرض وجواب الكلام وهو ما يقطع الجوب فيصل من فم القائد إلى سمع المستمع لكنه خص بما يعود من الكلام دون المبتدأ من الخطاب اننتهى فاختلا لنفسك ما يحلو.
* (وفرعون ذى الاوتاد) *
* (وفرعون ذي الأوتاد) * وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي يضربون أوتادها في منازلهم أو لأنه كان يدق للمعذب أربعة أوتاد ويشده بها مبطوحا على الأرض فيعذبه بما يريد من ضرب أو إحراق أو غيره وقد تقدم الكلام في ذلك.
* (الذين طغوا فى البل‍اد) *
* (الذين طغوا في البلاد) * اما مجرور على أنه صفة للمذكورين عاد ومن بعده أو منصوب أو مرفوع على الذم أي طغى كل طاغية منهم في بلاده وكذا الكلام في قوله تعالى:
* (فأكثروا فيها الفساد) *
* (فأكثروا فيها الفساد) * أي بالكفر وسائر المعاصي.
* (فصب عليهم ربك سوط عذاب) *
* (فصب عليهم ربك) * أي أنزل سبحانه إنزالا شديدا على كل طائعة من أولئك الطوائف عقيب ما فعلت من الطغيان والفساد * (سوط عذاب) * أي سوطا من عذاب على أن الإضافة بمعنى
124

من والعذاب بمعنى المعذب به والمراد بذلك ما حل بكل منهم من فنون العذاب التي شرحت في سائر السور الكريمة والسوط في الأصل مصدر من ساط يسوط إذا خلط قال الشاعر: أحارث أنا لو تساذ دماؤنا * تزايلن حتى لا يمس دم دما
وشاع في الجلد المضفور الذي يضرب به وسمي به لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض أو لأنه يخلط اللحم بالدم والتعبير عن إنزاله بالصب للإيذان بكثرته وتتابعه واستمراره فإنه عبارة عن إراقة شيء مائع أو جار مجراه في السيلان كالحبوب والرمل وإفراغه بشدة وكثرة واستمرار ونسبته إلى السوط مع أنه على ما سمعت ليس من هذا القبيل باعتبار تشبيهه في سرعة نزوله بالشيء المصبوب وتسمية ما أنزل سوطا قيل للإيذان بأنه على عظمة بالنسبة إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط بالنسبة إلى سائر ما يعذب به وفي الكشف إن إضافة السوط إلى العذاب تقليل لما أصابهم منه ولا يأبى ذلك التعبير بالصب المؤذن بالكثرة لأن القلة والكثرة من الأمور النسبية وجوز أن يراد بالعذاب التعذيب والإضافة حينئذ على معنى اللام وأمر التعبير بالصب والتسيمة بالسوط على ما تقدم والآية من قبيل قوله تعالى فأذاقهم الله لباس الجوع وجوز أن تكون الإضافة كالإضافة في لجين الماء أي فصل عليهم ربك عذابا كالسوط على معنى أنواعا من العذاب مخلوطا بعضها ببعض اختلاط طاقات السوط بعضها ببعض وأن يكون السوط مصدرا بمعنى المفعول والإضافة كالإضافة في جرد قطيفة أي فصب عليهم ربك عذابا مسوطا أي مخلوطا ومآله فصب أنواعا من العذاب خلط بعضها ببعض وفي الصحاح سوط عذاب أي نصيب عذاب ويقال شدته لأن العذاب قد يكون بالسوط وأراد أن الغرض التصوير والأليق بجزالة التنزيل ما تقدم.
* (إن ربك لب المرصاد) *
* (إن ربك لبالمرصاد) * تعليل لما قبله وإيذان بأن كفار قومه صلى الله عليه وسلم شيصيبهم مثل ما أصاب أضرابهم المذكورين من العذاب كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام والمرصاد المكان الذي يقوم به الرصد ويترقبون فيه مفعال من رصده كالميقات من وقته وفي الكلام استعارة تمثيلية شبه كونه تعالى حافظا لأعمال العصاة على ما روي عن الضحاك مترقبا لها ومجازيا على نقيرها وقطميرها بحيث لا ينجو منه سبحانه أحد منهم بحال من قعد على الطريق مترصدا لمن يسلكها ليأخذه فيوقه به ما يريد ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر والآية على هذا وعيد للعصاة مطلقا وقيل هي وعيد للكفرة وقيل وعيد للعصاة ووعد لغيرهم وهو ظاهر قول الحسن أن يرصد سبحانه أعمال بني آدم وجوز ابن عطية وكون المرصاد صيغة مبالغة كالمطعام والمطعان وتعقبه أبو حيان بأنه لو كان كما زعم لم تدخل الباء لأنها ليس في مكان دخولها لا زائدة ولا غير زائدة وأجيب بأنها على ذلك تجريدية نعم يلزمه إطلاق المرصاد على الله عز وجل وفيه شيء وقوله تعالى:
* (فأما الإنس‍ان إذا ما ابتل‍اه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربىأكرمن) *
* (فأما الإنسان) * الخ متصل بما عنده كأنه قيل إنه سبحانه لبالمرصاد من أجل الآخرة فلا يطلب عز وجل إلا السعي لها فأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها فإن نال منها شيئا رضي وإلا سخط وكان اللائق أن لا يهمه إلا ما يطلبه الله عز وجل ولا يكون حاله ذلك وقيل هو متصل به متفرع عليه على معنى فالإنسان يؤاخذ لا محالة لأنه بين غني مهلك موجب للتكبر والافتخار بلالدنيا وبين فقر لا يصبر عليه ويكفر لأجله بالجزع والقول بما لا ينبغي وهو كما ترى * (إذا ما ابتليه ربه) * أي عامله معاملة من يبتليه بالغنى واليسار ليرى هل يشكر أم لا والفاء في قوله سبحانه: * (فأكرمه ونعمه) * تفسيرية فإن الإكرام والتنعيم عين المراد بالابتلاء ولما كان الإكرام والتنعيم في حكم شيء واحد اقتصر على قوله أكرمن في قوله سبحانه: * (فيقول ربي أكرمن) * ولم يضم إليه ونعمني وهذه لجملة خبر للمبتدأ الذي هو الإنسان والفاء لما في أما من معنى الشرط والظرف أعني إذا متعلق بيقول وهو
125

على نية التأخير ولا تمنع الفاء من ذلك كما صرح به الزمخشري وغيره من متقدمي النحاة وتبعهم من بعدهم كأبي حيان والسمين والسفاقسي مع جمع غفير من المفسرين وهو كما قال الشهاب الحق الذي لا محيد عنه وخالفهم في ذلك الرضى ومن تبعه كالبدر الدماميني في شرح المغنى فقالوا إنما يجوز تقديم ما بعد الفاء إذا كان المقدم هو الفاصل بين أما والفاء لما يتعلق بتقديمه من الاغراض فإن كان ثمت فاصل آخر امتنع تقديم غيره فيمتنع أما زيد طعامك فآكل وان جاز أما طعامك فزيد آكل وقالوا في ذلك إنهم لما التزموا حذف الشرط لزم دخول أداته على فاء الجواب وهو مستكره فدعت الضرورة للفصل بينهما بشيء مما بعد الفاء والفاصل الواحد كاف فيه فيجب الاقتصار عليه وزعم الجلبي محشي المطول ان هذا متفق عليه فرد به على المفسرين أعرابهم السابق وقال إنه خطأ والصواب أن يجعل الظرف متعلقا بمقدر وهو المبتدأ في الحقيقة والتقدير فأما شأن الإنسان إذا الخ فالظرف من تتمة الجزء المفصول وبه ليس فاصلا ثانيا كقولك أما أحسان زيد إلى الفقير فحسن ويرد على تقديره أنه لا يصح وقوع جملة يقول خبرا عن الشأن إلا بتعسف كأن يكون الفعل بتأويل المصدر وإن لم تكن معه في اللفظ أن المصدرية كما قيل في تسمع بالمعيدي خير من أن تراه
وهو فرار من السحاب إلى الميزاب وذهب أبو البقاء إلى أن إذا شرطية وقوله تعالى فيقول جوابها والجملة الشرطية خبر الإنسان ويلزمه حذف الفاء بدون القول وقد قيل إنه ضرورة وقوله عز وجل.
* (وأمآ إذا ما ابتل‍اه فقدر عليه رزقه فيقول ربىأهانن) *
* (وأما إذا ما ابتلاه) * عامله معاملة من يبتليه ويختبره بالحاجة والتفقير ليرى هل يصبر أم لا * (فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن) * بتقدير وأما هو أي الإنسان إذا ما ابتلاه الخ ليصح التفصيل ويتم التوازن وبقية الكلام فيه كما في سابقه والظاهر أن كلتا الجملتين متضمنة لإنكار قول الإنسان الذي تضمنته وإنكار قوله إذا ضيق عليه رزقه ربي أهانن لدلالته على قصور نظره وسوء فكره حيث حسب أن تضييق الرزق إهانة مع أنه قد يؤدي إلى كرامة الدارين ولعدم كونه إهانة أصلا لم يقل سبحانه في تفسير الابتلاء فإهانه وقدر عليه رزقه نظير ما قال سبحانه أولا فاكرمه ونعمه وإنكار قوله إذا أكرم ربي أكرمني مع قوله تعالى فاكرمه أولا من حيث أنه أثبت إكرام الله تعالى له على خلاف ما أثبت الله تعالى وهو قصد أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراما له مستحقا ومستوجبا قصدا جاريا على ما كانوا عليه من افتخارهم وزعمهم جلالة أقدارهم والحاصل أن المنكر كونه عن استحقاق لحسب أو نسب وفي المفصل ما يدل على أن أصل الإكرام منكر لا كونه عن استحقاق وإنكار أصل الإهانة يعضده ووجهه ما أثبته تعالى من الإكرام إن الله عز وجل أثبت الإكرام بإيتاء المال والتوسعة وهو جعله إكراما كليا مثبتا للزلفى عنده تعالى فإنكار أنه ليس من ذلك الإكرام في شيء وجوز أن يكون الإنكار إنكارا للإهانة فقط يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله تعالى وإكرامه وإذا لم يتفضل عليه سمي ترك التفضل هوانا وليس به قيل ويعضده ذكر الإكرام في قوله تعالى فأكرمه وفي الآية مع ما بعد شمة من أسلوب قوله تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ولا يخفى أن الوجه هو الأول وقرأ ابن كثير أكرمني وأهانني بإثبات الياء فيهما ونافع بإثباتها وصلا وحذفها وقفا وخير في الوجهين أبو عمرو وحذفها باقي السبعة فيهما وصلا ووقفا ومن حذفها وقفا سكن النون فيه وقرأ أبو جعفر وعيسى وخالد والحسن بخلاف عنه وابن عامر فقدر بتشديد الدال للمبالغة.
* (كلا بل لا تكرمون اليتيم) *
* (كلا) * ردع للإنسان عن قوليه المحكيين وتكذيب له فيهما لا عن الأخير فقط كما في الوجه الأخير وقد نص الحسن على ما قلنا وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المعنى لم أبتله بالغنى لكرامته على ولم أبتله
126

بالفقر لهوانه على بل ذلك لمحض القضاء والقدر وقوله سبحانه: * (بل لا تكرمون اليتيم) * الخ انتقال وترق من ذمه بالقبيح من القول إلى الأقبح من الفعل والالتفات إلى الخطاب لتشديد التقريع وتأكيد التشنيع وقيل هو بتقدير قل فلا التفات نعم فيه من الإشارة إلى تنقيصهم ما فيه والجمع باعتبار معنى الإنسان إذا المراد هو الجنس أي بل لكن أفعال وأحوال أشد شرا مما ذكر وأدل على تهالككم على المال حيث يكرمكم الله تعالى بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالمبرة به والإحسان إليه وفي الحديث أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرم وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو عمرو لا يكرمون بياء الغيبة.
* (ولا تحاضون على طعام المسكين) *
* (ولا تحاضون) * بحذف احدى التاءين من تتحاضون أي ولا يحض ويحث بعضكم بعضا * (على طعام المسكين) * أي على اطعامه فالطعام مصدر بمعنى الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء وزعم أبو حيان أن الأولى أن يراد به الشيء المطعوم ويكون الكلام على حذف مضاف أي على بذلك طعام المسكين والمراد بالمسكين ما يعم الفقير وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وعبد الله بن المبارك والشيرزي عن الكسائي كقراءة الجماعة إلا أنهم ضموا تاء تحاضون من المحاضة وقرأ أبو عمرو ومن سمعت الحسن ومن معه ولا يحضون بياء الغيبة ولا ألف بعد الحاء وباقي السبعة بتاء الخطاب كذلك وكذا الفعلان بعد والفعل على القراءتين جوز أن يكون متعديا ومفعوله محذوف فقيل أنفسهم أو أنفسكم وقيل أهليهم أو أهليكم وقيل أحدا وجوز وهو الأولى أن يكون منزلا منزلة اللازم للتعميم.
* (وتأكلون التراث أكلا لما) *
* (وتأكلون التراث) * أي المراث وأصله وراث فابدلت الواو تاء كما في نخمنة وتكأة ونحوهما. * (أكلا لما) * أي ذا لم أو هو نفس اللم على المبالغة واللم الجمع ومنه قول النابغة: ولست بمستبق أخالا تلمه * على شعث أي الرجال المهذب
والمراد به هنا الجمع بين الحلال والحرام وما يحمد وما لا يحمد ومنه قول الخطيئة. إذا كان لما يتبع الذم ربه * فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا
يعني إنكم تجمعون في أكلكم بين نصيبكم من الميراث ونصيب غيركم ويروى أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد فيأكلون نصيبهم ويقولون لا يأخذ الميراث إلا من يقاتل ويحمى الحوزة هذا وهم يعلمون من شريعة اسماعيل عليه السلام أنه يرثون فاندفع ما قيل إن السورة مكية وآية المواريث مدنية ولا يعلم الحل والحرمة إلا من الشرع فإن الحسن والقبح العقليين ليسا مذهبا لنا وقيل يعني تأكلون ما جمعه الميت المورث من حلال وحرام عالمين بذلك فتلمون في الأكل بين حلاله وحرامه. وفي الكشاف يجوز أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلا واسعا جامعا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه ونحوها كما يفعله الوارث البطالون وتعقب بأنه غير مناسب للسياق.
* (وتحبون المال حبا جما) *
* (وتحبون المال حبا جما) * أي كثيرا كما قال ابن عباس وأنشد قول أمية: إن تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما
والمراد إنكم تحبونه مع حرص وشره.
* (كلا إذا دكت الارض دكا دكا) *
* (كلا) * ردع لهم عن ذلك وقوله تعالى: * (إذا دكت الأرض دكا دكا) * إلى آخره استئناف جيء به بطريق الوعيد تعليلا للردع والدك قال الخليل كسر الحائط والجبل ونحوهما وتكريره للدلالة على الاستيعاب فليس الثاني تأكيدا للأول بل ذلك نظير الحال في نحو قولك جاؤوا رجلا رجلا وعلمته الحساب بابا بابا أي
127

إذا دكت الأرض دكا متتابعا حتى انكسر وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور وغيرها حين زلزلت المرة بعد المرة وصارت هباء منثورا وقال المبرد الدك حط المرتفع بالبسط والتسوية واندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره وناقة دكاء إذا كانت كذلك والمعنى عليه إذا سويت تسوية بعد تسوية ولم يبق على وجهها شيء حتى ثارت كالصخرة الملساء وأيا ما كان فهو على ما قيل عبارة عما عرض للأرض عند النفخة الثانية.
* (وجآء ربك والملك صفا صفا) *
* (وجاء ربك) * قال منذر بن سعيد معناه ظهر سبحانه للخلق هنا لك وليس ذلك بمجيء نقلة وكذلك مجيء الطامة والصاخة وقيل الكلام على حذف المضاف للتهويل أي وجاء أمر ربك وقضاؤه سبحانه واختار جمع أنه تمثيل لظهور آيات اقتداره تعالى وتبين آثار قدرته عز وجل وسلطانه عز سلطانه مثلت حاله سبحانه في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظخر بحضور عساكره ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم وأنت تعلم ما للسلف في المتشابه من الكلام * (والملك) * أي جنس الملك فيشمل جمع ملائكة السموات عليهم السلام * (صفا صفا) * أي مصطفين أو ذوي صفوف فإنه قيل ينزل يوم القيامة ملائكة كل سماى فيصطفون صفا بعد صف بحسب منازلهم ومراتبهم محدقين بالجن والإنس وقيل يصطفون بحسب أمكنة أمور تتعلق بهم وهو قريب مما ذكر وروي أن ملائكة كل سماء تكون صفا حول الأرض فالصفوف سبعة على ما هو الظاهر وقال بعض الأفاضل الظاهر إن الملك أعم من ملائكة السموات وغيرها وتعريفه للاستغراق وادعى أن اصطفافهم بحسب مراتبهم اصطفاف أهل الدنيا في الصلاة وظاهره أنه اصطفاف من غير تحديق ورأيت غير أثر في أنهم يصطفون محدقين.
* (وجىء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنس‍ان وأنى له الذكرى) *
* (وجيء يومئذ بجهنم) * قيل هو كقوله تعالى وبرزت الجحيم لمن يرى على أن يكون مجيؤها متجوزا به عن إظهارها واختيرانه على حقيقته فقد أخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتي بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كا زمام سبعون ألف ملك يجرونها وفي رواية بزيادة حتى تنصب عن يسار العرس لها تغيظ وزغير وجاء في بعض الآثار أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناجاه ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام منكسر الطرف فسأله علي كرم الله تعالى وجهه فقال صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل عليه السلام بهذه الآية كلا إذا دكت الأرض الآية فقال له علي كرم الله تعالى وجهه كيف يجاء بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام يقوده سبعون ألف ملك فبينما هم كذلك إذ شردت عليهم شردة انفلتت من أيديهم فلولا أنهم أدركوها فأخذوها لا حرقت من في الجمع وفي رواية لولا أن الله تعالى حبسها لا حرقت السموات والأرض وتأويل كل ما كذر ونحوه مما ورد وحمله على المجاز لا يدعو إليه إلا استحالة الانتقال الذي يقتضيه المجيء الحقيقي على جهنم وهو لعمري غير مستحيل فيجوز أن تخرج وتنتقل من محلها في المحشر ثم تعود إليه والحال في ذلك اليوم وراء ما تتخيله الأذهان * (يومئذ) * بدل من إذا دكت وظاهر كلام الزمخشري إن العامل فيه هو العامل نفسه في المبدل منه أعني قوله تعالى: * (يتذكر الإنسان) * وهو قول قد نسب إلى سيبويه وفي البحر المشهور خلافه وهو أن البدل على نية تكرار العامل والظاهر عندي الأول ويتذكر من الذكر ضد النسيان أي يتذكر الإنسان ما فرط فيه بتفاصيله بمشاهدة آثاره وأحكامه أو بإحضار الله تعالى إياه في ذهنه وإخطاره له وإن لم يشاهد بعد أثرا أو بمعاينة عينه بناء على أن الأعمال تتجسم في النشأة الآخرة فتبرز بما يناسبها من الصور حسنا وقبحا أو من
128

التذكر بمعنى الاتعاظ أي يتعظ بما يرى من آثار قدرة الله عز وجل وعظيم عظمته تعالى شأنه وقوله تعالى: * (وأني له الذكرى) * اعتراض جيء به لتحقيق أنه ليس بتذكر حقيقة لعرائه عن الجدوى لعدم وقوعه في أوانه واني خبر مقدم والذكرى مبتدأ وله تمعلق بما تعلق به الخبر أي ومن أين تكون له الذكرى وقد فات أوانها وقيل هناك مضاف محذوف أي وأني له منفعة الذكرى ولا بد من تقديره لئلا يكون تناقض وقد علمت إن هذا يتحقق بما قرر أولا على أنه إذا جعل اختصاص اللام مقصورا على النافع استقام من غير تقدير ويكون إنكار أن تكون الذكرى له لا عليه وأما كونه حكاية لما كان عليه في الدنيا من عدم الاعتبار والاتعاظ فليس بشيء. واستدل بالآية على أن التوبة من حيث هي توبة غير واجبة القبول عقلا كما زعم المعتزلة بناء على وجوب الاصلح عندهم وقيل في توجيهه أنه لو وجب قبولها لوجب قبول هذا التذكر فإنه توبة إذ هي كما بين في محله الندم على المعصية من حيث هي معصية والعزم على أن لا يعود لها إذا قدر عليها ولم يعتبر أحد في تعريفها كونها في الدنيا وإن كانت النافعة منها لا تكون إلا فيها وهذا التذكر هو عين الندم المذكور وقد صرح الضحاك كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم بأنه توبة ولم تقبل لعدم ترتب المنفعة عليه التي هي من لوازم القبول واعترض بأن المعتزلة إنما يقولون بوجوب قبولها بشرط عدم رفع التكاليف وقيل إن تذكره لبس من التوبة في شيء فإنه عالم بأنها إنما تكون في الدنيا كما يعرب عنه قوله تعالى:
* (يقول ياليتنى قدمت لحياتى) *
* (يقول يا ليتني قدمت لحياتي) * ويعلم ما فيه مما تقدم من توجيه الاستدلال فلا تغفل وهذه. الجملة بدل اشتمال من يتذكر أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل ماذا يقول عند تذكره فقيل يقول يا ليتني الخ واللام للتعليل والمراد بحياته حياته في الآخرة ومفعول قدمت محذوف فكأنه قال يا ليتني قدمت لأجل حياتي هذه أعمالا صالحة انتفع بها فيها وقيل اللام للتعليل إلا أن المعنى يبا ليتني قدمت أعمالا صالحة لأجل أن أحيا حياة نافعة وقال ذلك لأنه لا يموت ولا يحيا حينئذ وهو كما ترى ويجوز أن تكون اللام توقيتية مثلها في نحو كتبته لخمس عشرة ليلة مضين من المحرم وجئت لطلوع الشمس ويكون المراد بحياته حياته في الدنيا أي يا ليتني قدمت وعملت أعمالا صالحة وقت حياتي في الدنيا لا نتفع بها اليوم وليس في هذا التمني شائبة دلالة على استقلال العبد بفعله وإنما يدل على اعتقاد كونه متمكنا من تقديم الأعمال الصالحة وإما أن ذلك بمحض قدرته تعالى أو بخلق الله عز وجل عند صرف قدرته الكاسبة إليه فكلا وزعمه الزمخشري دليلا على الاستقلال ورد به على المجبرة وهو
عنده غير المعتزلة زعما منه المنافاة بين التمني والحجر وقد علمت أنه لا دلالة على ذلك وفي الكشف إن التمني قد يقع على المتحسيل على أنه حالتئذ كالغريق هذا وأهل الحق لا يقولون بسلب الاختيار بالكلية.
* (فيومئذ لا يعذب عذابه أحد) *
* (فيومئذ) * أي يوم إذ يكون ما ذكر من الأحوال والأقوال. * (لا يعذب عذابه أحد) *.
* (ولا يوثق وثاقه أحد) *
* (ولا يوثق وثافه أحد) * الهاء اما لله عز وجل أي لا يتولى عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه أحد سواه عز وجل وكأنه قيل لا يفعل عذاب الله تعالى ووثاقه ولا يباشرهما أحد وذلك لأن الفعل في ضمن كل فعل خاص واستعمل ذلك استعمالا شائعا في مثل. وقد حيل بين العير والنزوان
وان نظن إلا ظنا فالعذاب مفعول به وكذا الوثاق وفيه تعظيم عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه لهذا الإنسان الذي شرح من أحواله ما شرح على طريق الكناية فما ادعاه ابن الحاجب من عدم قوة المعنى على تقدير عود الضمير إليه تعالى بناء على فوات التعظيم الذي يقتضيه السياق فللغفول عن نكتة الكناية وإما للإنسان الموصوف والإضافة إلى المفعول أي لا يعذب ولا يوثق أحد من الزبانية أحدا من أهل النار مثل ما يعذبونه ويوثقونه كأنه أشدهم عذابا ووثاقا لأنه أشدهم سيئات أفعال وقبائح أحوال وهو وجه
129

حسن بل هو أرجح من الأول على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحق وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وسهل وخارجة عن أبي عمر ولا يعذب ولا يوثق بالبتاء للمفعول فالهاء في عذابه ووثاقه للإنسان الموصوف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والإغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وشقاقه ونصب العذاب على المصدرية واقع موقع التعذيب إما لأنه بمعناه في الأصل كالسلام بمعنى التسليم ثم نقل إلى ما يعذب به أو لأنه وضع موضعه كما يوضع العطاء موضع الإعطاء وكذلك الوثاق وجوز أن يكون المعنى لا يحمل عذاب الإنسان أحد ولا يوثق وثاقه أحد كقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى والعذاب عليه جار على المتعارف والنصب على تضمين التعذيب معنى التحميل والأول أنسب بمقام التغليظ على هذا الإنسان المفرط أوان التمكن والوجه الثاني للقراءة الأولى مطابق لهذا كما لا يخفى والمراد من أنه لا يعذب أحد مثل عذابه أنه لا يعذب أحد من جنسه كالعصاة كذلك فلا يلزم كونه أشد عذابا من إبليس ومن في طبقته ثم إن الظاهر أن المراد جنس المتصف بما ذكر وقيل المراد به أمية بن خلف وقيل أبي بن خلف وهو خلاف الظاهر وإن قيل إن الآية نزلت فيمن ذكر وأما القول بأن هذا المعذب الموثق إبليس عليه اللعنة فليس بشيء إذ لا يقال له إنسان وكون الضمير له وإن لم يسبق له ذكر للإنسان المذكور في قوله تعالى يومئذ يتذكر الإنسان الخ مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنه وثاقه بكسر الواو وقوله تعالى:
* (ياأيتها النفس المطمئنة) *
* (يا أيتها النفس المطمئنة) * الخ حكاية لأحوال من اطمأن بذكر الله تعالى وطاعته عز وجل أثر حكاية من اطمأن بالدنيا وسكن إليها وذكر انه على إرادة القول أي يقول الله تعالى يا أيتها النفس الخ اما بالذات كما كلم سبحانه موسى عليه السلام أو على لسان الملك واستظهر أن ذلك القول عند تمام الحساب وليظهر التفاوت ما بين ذلك الإنسان وهذه النفس ذاك يقول يا ليتني قدمت لحياتي وهذه يقول الله تعالى لها يا أيتهال النفس المطمئة الخ وكأنه للإيذان بغاية التباين لم يذكر القول وتعطف الجملة على الجملة السابقة. والنفس قيل بمعنى الذات ووصفت بالإطمئنان بذلك لأنها لترقي بقوتها العاقلة في معارج الأسباب والمسببات إلى المبدأ المؤثر بالذات جلت صفاته وأسماؤه فتضطرب وتقلق قبل الوصول إلى معرفته تعالى فإذا وصلت إليه عز وجل اطمأنت واستغنت به سبحانه عن وجودها وسائر شؤونها ولم تلتفت إلى ما سواه جل وعلا بالكلية وقيل هي النفس المؤمنة المطمئنة إلى الحق الواصلة إلى ثلج اليقين وبرودته بحيث لا يخالطها شك ما ولا بمازجها سخونة اضطراب القلب في الحق أصلا وهو وجه حسن والارتباط عليه إن هذه النفس هي المتعظة الذاكرة على خلاف الإنسان الموصوف فيما قبل فإن التذكر على قدر قوة اليقين ألا ترى إلى قوله تعالى إنما يتذكر أولو الألباب وقيل هي الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن يوم القيامة أعني النفس المؤمنة اليوم المتوفاة على الإيمان وأيد بقراءة أبي يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة وكأنه لأن الوصفين يعتبر تناسبهما في الآكثر وهي على هذا أيضا تقابل السابق وهو المتحسر المتحزن وقرأ زيد بن علي يا أيها بغير تاء وذكر صاحب البديع أن ايا قد تذكر مع المنادي المؤنث قيل ولذلك وجه من القياس وذلك إنها كما لن تثن ولم تجمع في نداء المثنى والمجموع فكذلك لم تؤنث في نداء المؤنث واعتبار النفس ههنا مذكرة ثم مؤنثة مما لا تلتفت إليه النفس المطمنئة.
* (ارجعى إلى ربك راضية مرضية) *
* (إرجعي) * أي من حيث حوسبت * (إلى ربك) * أي إلى محل عنايته تعالى وموقف كرامته عز وجل لك أولا وهذا لأن للسعداء قبل الحساب كما يفهم من الأخبار موقفا في المحشر مخصوصا يكرهم الله تعالى به لا يجدون فيه ما يجده غيرهم في مواقفهم من النصب ومنه ينادي الواحد بعد الواحد للحساب فمتى كان هذا القول عند تمام الحساب
130

اقتضى أن يكون المعنى ما ذكر ويجوز أن يكون المعنى ارجعي بتخلية القلب عن الأعمال والالتفات إليها والاهتمام بأمرها أتقبل أم لا أي إلى ملاحظة ربك والانقطاع إليه وترك الالتفات إلى ما سواه عز وجل كما كنت أولا كان النفس المطمئنة لما دعيت للحساب شغل فكرها وإن كانت مطمئنة بمقتضى الطبيعة وحال اليوم بأمر الحساب وما ينتهى إليه وأنه ماذا يكون حال أعمالها أتقبل أم لا فلما تم حسابها وقبلت أعمالها قيل لها ذلك تطييبا لقلبها بأن الأمر قد انتهى وفرغ منه وليس بعد الأكل خير ونداؤها بعنوان الاطمئنان لتذكيرها بما يقتضي الرجوع نظير قولك لشجاع مشهور بالشجاعة أحجم في بعض المواقف يا أيها الشجاع أقدم ولا تحجم والظاهر أنه على الأول لا
يناسبها ولا يخفى ما في قوله سبحانه إلى ربك على الوجهين من مزيد اللطف بها ولذا لم يقل نحو ارجعي إلى الله تعالى أو إلى * (راضية) * أي بما تؤتينه من النعم التي لا تتناهى وقد يقال راضية بما نلتيه من خفة الحساب وقبول الأعمال وليس بذاك * (مرضية) * أي عند الله عز وجل وقيل المراد راضية عن ربك مرضية عنده وزعم أنه الأظهر واعترض بأنه غير مناسب للسياق وفيه نظر والوصفان منصوبان على الحال والظاهر أن الحال الأولى مقدرة وقيل مقارنة وذكر الحال الثانية من باب الترقي فقد قال سبحانه وتعالى ورضوان من الله أكبر.
* (فادخلى فى عبادى) *
* (فادخلي في عبادي) * في زمرة عبادي الصالحين المخلصين لي وانتظمي في سلكهم وكوني في جملتهم * (وادخلي جنتي) * عطف على الجملة قبلها داخلة معها في حيز الفاء المفيدة لكون ما بعدها عقيب ما قبلها من غير تراخ وكان الأمر بالدخول في جملة عباد الله تعالى الصالحين إشارة إلى السعادة الروحانية لكمال استئناس النفس بالجليس الصالح والأمر بدخول الجنة إشارة إلى السعادة الجسمانية ولفضل الأولى على الثانية قدم الأمر الأول وجيء بالثاني على وجه التتميم ونكتة الالتفات فيهما ظاهرة بأدنى التفات وتعدي الدخول أولا بفي وثانيا بودنها قال أبو حيان لأن المدخول فيه إن كان غير ظرف حقيقي تعدى إليه في الاستعمال بفي تقول دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس وإذا كان ظرفا حقيقيا تعدى إليه في الغالب بغير وساطتها فلا تغفل وقيل المراد ارجعي إلى موعد ربك واستظهر أن المراد بموعده تعالى على تقدير كون القول المذكور بعد تمام الحساب ما وعده سبحانه من الجنة والكون مع عباده تعالى الصالحين والفاء تفسيرية واستشكل عليه الأمر بالرجوع إذ يقتضي أن تكون الجنة مقرا للنفس قبل ذلك وأجيب بتحقق هذا المقتضى بناء على وجودا بالقوة في ظهر آدم عليه السلام حين كان في الجنة وقد قيل نحو هذا في قوله تعالى: * (إن الذي فرض عليك القرآن) * لرادك إلى معاد على ما روى عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بالمعاد الجنة دون مكة وأنت تعلم أن هذا على مافيه لا يتم إلا على القول بأن جنة آدم عليه السلام هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة لا جنة أخرى كانت في الأرض والخلاف في ذلك قوي كما لا يخفى على من راجع كتاب " مفتاح السعادة " للعلامة ابن القيم واطلع على أدلة الطرفين وقيل المراد ارجعي إلى أمر ربك واستظهر أن المراد بالأمر على ذلك التقدير واحد الأمور ويفسر بمعاملة الله تعالى إياها بما ليس فيه ما يشغل بالها أو بتمييزها بموقف كريم أو بنحو ذلك مما يتحقق معه ما يقتضيه ظاهر الجروع وقيل المراد ارجعي إلى كرامة ربك ويراد جنس كرامته سبحانه والرجوع إليه باعتبار أنها كانت بعد الموت في البرزخ أو بعد البعث وقبل الحساب في نوع منه والفاء عليه قيل تفسيرية أيضا وعن عكرمة والضحاك أن ذلك القول عند البعث فقيل النفس بمعنى الذات أيضا والمراد بالرب هو الله عز وجل والكلام على حذف مضاف ولا يقدر محل كرامته تعالى مرادا به الموقف الخاص على ما سمعت لأنه إنما يكون لها بعد وقيل النفس بمعنى الروح والمراد بالرب الصاحب
131

وفسر بالجسد وباقي الآية على حاله أي ارجعي إلى جسدك كما كنت في الدنيا فادخلي بعد الرجوع إليه في جملة عبادي وادخلي دار ثوابي وقيل المراد بالنفس والرب ما ذكر وقوله تعالى: * (في عبادي) * على حذف مضاف أي داخلي في أجساد عبادي وجاء هذا في رواية عن ابن عباس وابن جبير ولا يضر الأفراد أولا والجمع ثانيا لأن المعنى على الجنس وقال ابن زيد وجماعة إن ذلك القول عند الموت وأيد بما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن جبير قال قرئت عند النبي صلى الله عليه وسلم * (يا أيتها النفس المطمئنة) * الآية فاقل أبو بكر رضي الله تعالى عنه إن هذا الحسن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أن الملك سيقولها لك عند الموت وجاء نحو هذا من رواية الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " من طريق ثابت بن عجلان عن سليم بن عامر عن الصديق رضي الله تعالى عنه والنفس عليه بمعنى الروح والمعنى على ما قيل ارجعي بالموت إلى عالم قدس ربك راضية بما تؤتين من النعيم أو راضية عن ربك مرضية عنده تعالى فادخلي في زمرة عبادي المقربين سكنة حظائر القدس وادخلي جنتي التي أعددتها لذوي النفوس المطمئنة وهذا الدخولان يعقبان الرجوع إلا أن الدخول الأول يعقبه بلا تراخ قبل يوم القيامة والثاني يعقبه بتراخ لأنه يوم القيامة إن أريد بدخول الجنة دخولها على وجه الخلود إلا أن الأمر لتحققه يجوز تعقيبه بالفاء وجوز أن يكون تعقيب الأمرين على هذا النمط إن أريد بالدخول في عباده تعالى انتظامها في سلك العباد الصالحين المخلصين من جنسها ويجوز على إرادة هذا التعقيب أن يراد فادخلي في أجساد عبادي وجوز أن يكون تعقيب الأمرين بلا تراخ إن أريد بالدخول في العباد الدخول في زمرة المقربين من سكنة حظائر القدس وبالدخول في الجنة الدخول لا على وجه الخلود بل لنوع من التنعم إلى أن تقوم الساعة ففي الحديث أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور في الجنة وفي بعض الآثار إذا مات المؤمن أعطى نصف الجنة أي نصف جنته التي وعد دخولها يوم القيامة وذكر في وجه ادخالها مع الأرواح القدسية كالمرايا المصقولة فإذا انظم بعضها إلى بعض تعاكست أشعة أنوار المعارف فيظهر لكل منه ما يكملها فيكون سببا أنها لتكامل السعادات وتعاظم الدرجات وهو عندي كلام خطابي وعن بعض السلف ما يؤيد بعض هذه الأوجه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح أنه قال في الآية * (ارجعي إلى ربك) * هذا عند الموت ورجوعها إلى ربها خروجها من الدنيا فإذا كان يوم القيامة قيل لها ادخلي في عبادي وادخلي جنتي وقيل إن هذا القول بعد الموت وقبل القيامة والمراد برجوعها إلى ربها رجوعها إلى جسدها لسؤال الملكين أخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي أنه قال في الآية إن المؤمن إذا مات أرى منزله من الجنة فيقول تبارك وتعالى: " يا أيها النفس المطمئنة عندي ارجعي إلى جسدك الذي خرجت منه راضية بما رأيت من ثوابي مرضيا عنك حتى يسألك منكر ونكير " وقيل إنه في مواطن ثلاثة أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه قال في الآية " بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث يوم الجمع " وتفسر عليه بما ينطبق على الجمع وقيل يجوز أن يكون ذلك في سائر أوقات النفس في حياتها الدنيا والمراد بالأمر بالرجوع إلى الرب الأمر بالرجوع إليه تعالى في كل أمر من الأمور والمراد بالأمر بالدخول في العباد الأمر بالدخول في زمرة العباد الخلص الذين ليس للشيطان عليهم سلطان بالاكثار من العمل الصالح وبالأمر بالدخول في الجنة الأمر بالدخول فيها بالقوة القريبة فكأنه سبحانه بعد أن بالغ جل وعلا في سوء حال الامارة ووعيدها خاطب المطمئنة بذاك
وأرشدها سبحانه إلى ما فيه صلاحها ونجاتها ولا يخفى ما فيه فلا ينبغي أن يعد وجها وأيا ما كان من الأوجه فالظاهر العموم فيها وإن أخرج ابن أبي حاتم من
132

طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عبا سأنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه حين اشترى بئر رومة وجعلها سقاية للناس وقيل إنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وقيل نزلت في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك فحول لله تعالى وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله بعد فتفسير النفس المذكور بأحد هؤلاء المذكورين كما نقل عن بعض من باب التمثيل وأن صورة السبب قطعية الدخول وينبغي أن يحمل قول ابن عباس في تلك النفس كما أخرجه عنه ابن مردويه هو النبي صلى الله عليه وسلم على نحو ذلك واشعرت الآية على بعض أوجهها بأن على بعض أوجهها بأن الأرواح مخلوقة قبل الأبدان ومقرها إذ ذاك في عالم الملكوت والخلاف في المسألة شهير وجمهور المتكلمين على أنها مخلوقة عند استعداد الأبدان لها وكذا أفلاطون وأصحابه وقرأ ابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح وأبو شيخ واليماني في عبدي على الأفراد واستظهر أن المراد الجنس كما في النفس. وللسادة الصوفية قدست نفوسهم كلام طويل في تقسيم مراتب النفس وقالوا إن الآية متضمنة لمراتب ثلاث منها المطمئنة والراضية والمرضية وفسروا كلا بما فسروه فمن أراده فليرجع إليه في كتبهم وأنا أقول كما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة على ما أخرج للطبراني وابن عساكر عن أبي إمامة رضي الله تعالى عنه اللهم إني أسألك نفسا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك.
سورة البلد
مكية في قول الجمهور بتمامها وقيل مدنية بتمامها وقيل مدنية إلا أربع آيات من أولها واعترض كلا القولين بأنه يأباها قوله تعالى * (بهذا البلد) * وقيل لقوة الاعتراض ادعى الزمخشري الاجماع على مكيتها وسيأتي إن شاء الله تعالى أن في بعض الأخبار ما هو ظاهر في نزول صدرها بمكة بعد الفتح وهي عشرون آية بلا خلاف ولما ذم سبحانه فيما قبلها من أحب المال وأكل التراث أكلا لما ولم يحض على طعامالمسكين ذكر جل وعلا فيها الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة وإطعام في يوم ذي مسغبة وكذا لما ذكر عز وجل النفس المطمئنة هناك ذكر سبحانه ههنا بعض ما يحصل به الاطمئنان فقال عز قائلا:
* (لا أقسم به‍اذا البلد) *
* (لا أقسم بهذا البلد) * أقسم سبحانه بالبلد الحرام أعني مكة فإنه المراد بالمشار إليه بالإجماع وما عطف عليه على الإنسان خلق مغمورا في مكابدة المشاق ومعاناة الشدائد وقوله تعالى:
* (وأنت حل به‍اذا البلد) *
* (وأنت حل بهذا البلد) * على ما اختاره في " الكشاف " اعتراض بين القسم وجوابه وفيه تحقيق مضمونه بذكر بعض المكابدة على نهج براعة الاستهلال وإدماج لسوء صنيع المشركين ليصرح بذمهم على أن الحل بمعنى المستحل بزنة المفعول الذي لا يحترم فكأنه قيل ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمته يستحل بهذا البلد الحرام ولا يحترم كما يستحل الصيد في غير الحرم عن شرحبيل بن سعد يحرمون أن يقتلوا به صيدا ويعضدوا شجره ويستحلون إخراجك وقتلك وفي تأكيد كون الإنسان في كبد بالقسم تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على أن يطأ من نفسه الكريمة على احتماله فإن ذلك قدر محتوم وجوز أن يكون الحل بمعنى الحلال ضد الحرام قال ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وغيره وأنت يا محمد يحل لك أن تقاتل به وأما غيرك فلا وقال مجاهد أحله لله تعالى له عليه الصلاة والسلام ساعة من نهار وقال سبحانه له ماصنعت فيه من شيء فأنت في حل
133

لا تؤاخذ به وروى نحو ذلك عن أبي صالح وقتادة وعطية وابن زيد والحسن والضحاك ولفظه يقول سبحانه أنت حل بالحرم فاقتل إن شئت أودع وذلك يوم الفتح وقد قتل صلى الله عليه وسلم يومئذ عبد الله بن خطل وهو الذي كانت قريش تسميه ذا القلبين قدمه أبو برزة سعد بن حرب الأسلمي فضرب بأمره صلى الله عليه وسلم عنقه وهو متعلق بأستاذ الكعبة وكان قد أظهر الإسلام وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الوحي فارتد وشنع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ما يمليه من القرآن منه عليه الصلاة والسلام لا من الله تعالى وقتل غيره أيضا كما هو مذكور في كتب السير ثم قال عليه الصلاة والسلام إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لا تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد فقال العباد يا رسول الله إلا الأذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا فقال عليه الصلاة والسلام إلا الأذخر وتقديم المسند إليه على هذا للاختصاص كما أشير إليه في خبر ابن عباس وحل على معنى الاستقبال بناء على أن نزول السورة قبل الهجرة التي هي قبل الفتح بكثير وفي خبر رواه عبد بن حميد عن ابن جبير ما هو ظاهر في أن الآية نزلت بعد أن ضرب أبو برزة عنق ابن خطل يوم الفتح فإن صح لا يكون في معنى الاستقبال لكن الجمهور على الأول وفي تعظيم المقسم به وتوكيد المقسم عليه بالاقسام توكيد لما سيق له الكلام وهو على ما ذكر أن عاقبة الاحتمال والمكابدة إلى الفتح والظفر والغرض تسليته صلى الله عليه وسلم ثم ترشيحها بالتصريح بما سيكون من الغلبة وتعظيم البلد يدل على تعظيم من أهل له وفي الاقسام به توطئة للتسلية لأن تعظيم البلد تعظيم للساكن فيه وجوز أن يكون الحل على نحو ما ذكر في هذا الوجه لكن المعنى وأنت حل بهذا البلد مما يقترفه أهله من المآثم متحرج بريء منها والمعنى في الأقسام بالبلد تعظيمه وفي الاعتراض ترشيح التعظيم والتشريف بكون مثله صلى الله عليه وسلم في جلالة القدر ومنصب النبوة ساكنا فيه مباينا لما عليه الغاغة والهمج والفائدة فيه تأكيد المقسم عليه بأنهم من أهل الطبع فلا ينفعهم شرف مكان والمتمكن فيه كأنه قيل أقسم بهذا البلد الطيب بنفسه وبمن سكن فيه أن أهلهل لفي مرض قلب وشك لا يقادر قدره وقيل الحل صفة أو مصدر بمعنى الحال يقال حل أي نزل يحل حلا وحلولا ويقال أيضا هو حل بموضع كذا كما يقال حال به والقول بأن الصفة من الحلول حال لا حل ومصدر حل بمعنى نزل الحلول والحل بفتح الحاء والحلل
فقط ناشيء من قلة التتبع والاعتراض لتشريفه صلى الله عليه وسلم بجعل حلوله عليه الصلاة والسلام مناطا لإعظام البلد بالاقسام به وجعل بعض الأجلة الجملة على هذا الوجه حالا من هذا البلد وكذا جعلها بعضهم حالية على الوجهين قبل إلا أن الحال على ثانيهما مقارنة وعلى أولهما مقدرة أو مقارنة إن قيل أن النزول ساعة احلت مكة وجعلها ابن عطية حالا على الوجه الأول أيضا أعني كون الحل بمعنى المستحل لكن قيده بكون لا نافية غير زائدة فتأمل وأيا ما كان ففي الإشارة وإقامة الظاهر مقام الضمير من تعظيم البلد ما فيهما.
* (ووالد وما ولد) *
* (ووالد) * عطف على هذا البلد المقسم به وكذا قوله تعالى: * (وما ولد) * والمراد بالأول آدم عليه السلام وبالثاني جميع ولده على ما أخرج الحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عباس ورواه جماعة أيضا عن مجاهد وقتادة وابن جبير وقيل المراد آدم عليه السلام والصالحون من ذريته وقيل نوح عليه السلام وذريته وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عمران أنهما إبراهيم عليه السلام وجميع ولده وقيل إبراهيم عليه السلام وولده إسمعيل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم ادعى أنه ينبىء عن ذلك المعطوف عليه فإنه حرم ابراهيم ومنشأ اسمعيل ومسقط رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم أجمعين وقال الطبري
134

والماوردي يحتمل أن يكون الوالد النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره وما ولد أمته لقوله عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى وقيل المراد كل والد وولده من العقلاء وغيرهم ونسب ذلك لابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق عكرمة عنه أنه قال * (الوالد الذي يلد) * وما ولد العاقر الذي لا يلد من الرجال والنساء ونسب إلى ابن جبير أيضا فما عليه نافية فحيتاج إلى تقدير موصول يصح به المعنى الذي أريد كأنه قيل ووالد والذي ما ورد وإضمار الموصول في مثله لا يجوز عند البصريين ومع هذا هو خلاف الظاهر ولعل ظاهر اللفظ عدم التعيين في المعطوفين وظاهر العطف على هذا البلد إرادة من له دخل فيه وشهرة بنسبة البلد إليه والمشهور في ذلك ابراهيم واسمعيل عليهما السلام وتنكير والد على ما اختاره غير واحد للتعظيم وإيثار ما على من بناء على أن المراد بما ولد العاقل لإرادة الوصف فتفيد التعظيم في مقام المدح وأنه مما لا يكتنه كنهه لشدة إبهامها ولذا أفادت التعجب أو التعجيب وإن لم تكن استفهامية كما في قوله تعالى: * (والله أعلم بما وضعت) * أي أي مولود عظيم الشأن وضعته والتعظيم والتعجيب على تقدير أن يراد بما ولد ذرية آدم عليه السلام مثلا قيل باعتبار التغليب وقيل باعتبار الكثرة وما خص به الإنسان من خواص البشر كالعقل وحسن الصورة ومن تأمل في شؤون الإنسان من حيث هو إنسان يعلم أنه من تلك الحيثية معظم يتعجب منه.
* (لقد خلقنا الإنس‍ان فى كبد) *
* (لقد خلقنا الإنسان في كبد) * أي في تعب ومشكقة فإنه لا يزال يقاسي فنون الشداد من وقت نفخ لروح إلى حين نزعها وما وراءه يقال كبد الرجل كبدا فهو أكبد إذا وجعته كبده وانفتخت فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ومنه اشتقت المكابدة لمقاساة الشداد كما قيل كبته بمعنى أهلكه وأصله كبده إذا أصاب كبده قال لبيد يرثي أخاه. يا عين هل بكيت أربد إذ * قمنا وقام الخضوم في كبد
أي في شدة الأمر وصعوبة الخطب وعن ابن عمر يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء وعن ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبي صالح والضحاك ومجاهد أنهم قالوا أي خلقناه منتصب القامة واقفا ولم نجعله منكبا على وجهه وقال ابن كيسان أي منتصبا رأسه في بطن أمه فإذاأدن له في الخروج قلب رأسه إلى قدمي أمه وهذه الأقوال كلها ضعيفة لا يعول عليها بخلاف الأول وقد رواه الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس وروى عن غير واحد من السلف نعم جوز أن يكون المعنى لقد خلفناه في مرض شاق وهو مرض القلب وفساد الباطن وهذا بناء على الوجه الثالث من الأوجه الأربعة السابقة في قوله تعالى: * (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهاذ البلد) * المراد بالإنسان عليه الذين علم الله تعالى منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات والظاهر أن المراد على ما عداه جنس الإنسان مطلقا وقال ابن زيد المراد بالإنسان آدم عليه السلام وبالكبد السماء وشاع في وسط السماء كالكبيداء والكبيداة والكبداء والكبد بفتح فسكون وليس بشيء أصلا والضمير في قوله تعالى:
* (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) *
* (أيحسب) * على ما عدا ذلك راجع إلى ما دل عليه السياق ممن يكابد منه صلى الله عليه وسلم ما يكابد من كفار قريش وينتهك حرمة البيت وحرمته عليه الصلاة والسلام وعليه للإنسان والتهديد مصروف لمن يستحقه وقيل على إرادة البعض هو أبو الأشد أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد القوة مغترا بقوته وكان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول من أزالني عنه فله كذا فيجذبه عشرة فينقطع قطعا ويبقى موضع قدميه وقيل عمرو بن عبدود وقيل الوليد بن المغيرة وقيل أبو جعل بن هشام وقيل الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ويجوز أن يكون كل من هؤلاء سبب النزول فلا تغفل وجعل عصام الدين الاستفهام
135

للتعجيب على معنى أيظن * (أن لن يقدر عليه) * أي على الانتقام منه ومكافأته بما هو عليه * (أحد) * مع أنه لا يتخلص من المكابدة ومقاساة الشدائد وإن مخففة من الثقيلة ولعل في ذلك إدماج عدم الايمان بالقيامة.
* (يقول أهلكت مالا لبدا) *
* (يقول أهلكت مالا لبدا) * أي كثيرا من تلبد الشيء إذا اجتمع أي يقول ذلك وقت الاغترار فخرا ومباهاة وتعظما على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياء وسمعة وعبر عن الانفاق بالإهلاك إظهارا لعدم الاكتراث وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفه فكأنه جعل المال الكثيرة ضائعا وقيل يقول ذلك إظهارا لشدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم مريدا بالمال ما أنفقه في معاداته عليه الصلاة والسلام وقيل يقول ذلك إيذاء له عليه الصلاة والسلام فعن مقاتل أن الحرث بن نوفل كان إذا أذنب استفتى الرسول صلى الله عليه وسلم فيأمره عليه الصلاة والسلام بالكفارة فقال لقد أهلكت مالا لبدا في الكفارات والتبعات منذ أطعت محمدا صلى الله عليه وسلم وقيل المراد ما تقدم أولا
إلا أن هذا القول وقت الانتقام منه وذلك يوم القيامة والتعبير عن الانفاق بالإهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ وقرأ أبو جعفر لبدا بشد الباء وعنه وعن زيد بن علي لبدا بسكون الباء وقرأ مجاهد وابن أبي الزنا لبدا بضم اللام والباء.
* (أيحسب أن لم يره أحد) *
* (أيحسب أن لم يره أحد) * أي حين كان ينفق ما ينفق رئاء الناس أو حرصا على معاداته صلى الله عليه وسلم يعني أن الله تعالى كان يراه وكان سبحانه عليه رقيبا فهو عز وجل يسأله عنه ويجازيه عليه وفي الحديث لا تزل قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن ماله مم جمعه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به وجوز أن يكون المعنى أن لم يجده أحد على المراد بالرؤية الوجدان اللازم له ولم بمعنى لن وعبر بها لتحقق الوقوع يعني أنه تعالى يجده يوم القيامة فيحاسبه على ذلك وعن الكلبي أن هذا القائل كان كاذبا لم ينفق شيئا فقال تعالى: أيظن أن الله تعالى ما رأى ذلك منه فعل أو لم يفعل أنفق أو لم ينفق بل رآه عز وجل وعلم منه خلاف ما قال وقرر سبحانه القدرة على مجازاته ومحاسبته والإطلاع على حاله بقوله جل وعلا:
* (ألم نجعل له عينين) *
* (ألم نجعل له عينين) * يبصر بهما.
* (ولسانا وشفتين) *
* (ولسانا) * يفصح به عما في ضميره * (وشفتين) * يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك والمفرد شفة وأصلها شفهة حذفت منها الهاء ويدل عليه شفيهة وشفاه وشافهت وهي مما لا يجوز جمعه بالألف والتاء وإن كان فيه تاء التأنيث على ما في " البحر ".
* (وهدين‍اه النجدين) *
* (وهديناه النجدين) * أي طريقي الخير والشر كما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس وروى عن عكرمة والضحاك وآخرين وأخرجه الطبراني عن أبي إمامة مرفوعا والنجد مشهور في الطريق المرتفع قال امرؤ القيس: فريقان منهم جازع بطن نخلة * وآخر منهم قاطع نجد كبكب
وسميت نجد به لارتفاعها عن انخفاض تهامة والامتنان المحدث عنه بأن هداه سبحانه وبين له تعالى شأنه ما إن سلكه نجا وما أن سلكه هلك ولا يتوقف الامتنان على سلوك طريق الخير وقد جعل الإمام هذه الآية كقوله تعالى: * (إنا هديناه السبيل) * إما شاكرا وإما كفورا ووصف سبيل الخير بالرفعة والنجدية ظاهر بخلاف سبيل الشر فإن فيه هبوطا من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقاوة فهو على التغليب أو على توهم المتخيلة له صعودا ولذا استعمل الترقي في الوصول إلى كل شيء وتكميله كذا قيل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس أنهما الثديان وروى ذلك عن ابن المسيب أي ثديي الأم لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه والارتفاع فيهما ظاهر والبطن تحتهماكالغور والعرب تقسم بثديي الأم فتقول أما ونجديها ما فعلت ونسب هذا التفسير لعلي كرم الله
136

تعالى وجهه أيضا والمذكور في " الدر المنثور " من رواية الفريابي وعبد بن حميد وكذا في مجمع البيان أنه كرم الله تعالى وجهه إن أناسا يقولون أن النجدين الثديان فقال لا هما الخير والشر ولعل القائل بذلك رأى أن للفظ يحتمله مع ظهور الامتنان عليه جدا.
* (فلا اقتحم العقبة) *.
* (فلا اقتحم العقبة) * الاقتحام الدخول بسرعة وضغط وشدة ويقال قحم في الأمر قحوما رمى نفسه فيه من غير روية والعقبة الطريق الوعر في الجبل وفي البحر هي ما صعب منه وكان صعودا والجمع عقب وعقاب وهي هنا استعارة لما فسرت به من الأعمال الشاقة المرتفعة القدر عند الله تعالى والقرينة ظاهرة وإثبات الاقتحام والمراد به الفعل والكسب ترشيح ويجوز أن يكون قد جعل فعل ما ذكر اقتحاما وصعودا شاقا وذكره بعد النجدين جعل الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة والمراد ذم المحدث عنه بأنه مقصدر مع ما أنعم الله تعالى به عليه من النعم العظام والأيادي الجليلة الجسام كأنه قيل فقصر ولم يشكر تلك النعم العظيمة والأيادي الجسيمة بفعل الأعمال الصالحة بل غمط النعمة وكفر بالمنعم واتبع هوى نفسه وقوله تعالى:
* (ومآ أدراك ما العقبة) *
* (وما أدريك ما العقبة) * أي أي شيء أعلمك ما هي تعظيم تعظيم لشأن العقبة المفسرة بقوله سبحانه:
* (فك رقبة) *
* (فك رقبة) * الخ وتفسيرها بذلك بناء على الادعاء والمجاز وهو مما لا شبهة في صحته وإن لم يتحد العقبة والفك حقيقة فلا حاجة إلى تقدير مضاف كما زعمه الإمام ليصح التفسير أي وما أدراك ما اقتحام العقبة * (فك) * الخ وقال بعضهم يحتمل أن يراد بالعقبة نفس الشكر عبر بها عنه لصعوبته ولا يأباه * (وما أدراك) * ما الشكر * (فك رقبة) * وهو كما ترى وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن أبي شيبة عن ابن عمر أن العقبة جبل زلال في جهنم وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها النار وفي راية عبد بن حميد عنه أنها عقبة بين الجنة والنار وعن مجاهد والضحاك والكلبي أنها الصراط وقد جاء في صفته ما جاء ولعل المراد بعقبة بين الجنة والنار هذا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي رجاء أنه قال بلغني أن العقبة التي ذكر الله تعالى في القرآن مطلعها سبعة آلاف سنة ومهبطها سبعة آلاف سنة وهذه الأقوال إن صحت يتعين عليها أن يراد بالاقتحام المرور والجواز بسرعة وأن يقدر المضاف أي وما أدراك ما اقتحام العقبة * (فك) *
وجعل الفك وما عطف عليه نفس الاقتحام على سبيل المبالغة في سببيته له حتى كأنه نفسه ومآل المعنى فلا فعل ما ينجو به ويجوز بسبب العقبة الكؤد يوم القيامة وبهذا يندفع ما نقله الإمام عن الواحدي بعد نقله تفسيرها بجبل زلال في جهنم وبالصراط ونحو ذلك وهو قوله وفي هذا التفسير نظر لأن من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها فحمل الآية عليه يكون إيضاحا للواضحات ثم قال ويدل عليه أنه لما قال سبحانه * (وما أدراك ما العقبة) * فحمل الآية عليه يكون إيضاحا للواضحات ثم قال ويدل عليه أنه لما قال سبحانه * (وما أدراك ما العقبة) * فسرها جل شأنه بفك الرقبة والإطعام انتهى نعم إنا لا أقول بشيء من ذلك حتى تصح فيه تفسيرا للآية رواية مرفوعة والفك تخليص شيء من شيء قال الشاعر: فيا رب مكروب كررت وراءه * وعان فككت الغل منه ففداني
وهو مصدر فك وكذا الفكاك بفتح الفاء كما نص عليه الفراء والمشهور أن المراد به هنا تخليص رقبة الرقيق من وصف القرقية بالاعتاق وأخرج أحمد وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن البراء رضي الله تعالى عنه أن اعرابيا قال يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة قال أعتق النسمة وفك الرقبة قال أو ليسا بواحد قال لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في عتقها الحديث وعليه يكون نفي العتق عن المحدث عنه متحققا من باب أولى ومن الفك بهذا المعنى إعطاء المكاتب ما يصرفه في جهة فكاك نفسه وجاء في فضل الاعتاق أخبار كثيرة منها ما أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم
137

عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى الفرج بالفرج وهو أفضل من الصدقة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وعند صاحبيه الصدقة أفضل والآية على ما قيل أدل على قول الإمام لمكان تقديم الفك على الإطعام وعن الشعبي تفضيل العتق أيضا على الصدقة على ذي القرابة فضلا عن غيره وقال الإمام في الآية وجه آخر حسن وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه بما يكلفه من العبادة التي يصير بها إلى الجنة فهي الحرية الكبرى وعليه قيل يكون ما بعد من قبيل التخصيص بعد التعميم وفيه بعد كما لا يخفى.
* (أو إطعام فى يوم ذى مسغبة) *
* (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) * مصدر ميمي بمعنى السغب قال أبو حيان وهو الجوع العام وقد يقال سغب الرجل إذا جاع وقال الراغب هو الجوع مع التعب وربما قيل في العطش مع التعب وفسره ابن عباس هنا بالجوع من غير قيد وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن إبراهيم أنه قال في يوم فيه الطعام عزيز وليس بتفسير بالمعنى الموضوع له. ووصف اليوم بذي مسغبة نحو ما يقول النحويون في قولهم هم ناصب ذو نصب وليل نائم ذو نوم ونهار صائم ذو صوم.
* (يتيما ذا مقربة) *
* (يتيما ذا مقربة) * أي قرابة فهو مصدر ميمي أيضا من قرب في النسب يقال فلان ذو قرابتي وذو مقربتي بمعنى قال الزجاج وفلان قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر قال: يبكي الغريب عليه ليس يعرفه * وذو قرابته في الحي مسرور
وفيه بحث وفي إطعام هذا جمع بين الصدقة والصلة وفهيما من الأجر ما فيهما وقيل إنه لا يخص القريب نسبا بل يشمل من له قرب بالجوار.
* (أو مسكينا ذا متربة) *
* (أو مسكينا ذا متربة) * أي افتقار وهو مصدر ميمي كما تقدم من ترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب وأما أترب فاستغنى أي صار ذا مال كالتراث في الكثرة كما قيل أقرى وعن ابن عباس أنه فسره هنا بالذي لا يقيه من التراب شيء وفي رواية أخرى هو المطروح على ظهر الطريق قاعدا على التراب لا بيت له وهو قريب مما أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا هو الذي مأواه المزابل فإن صح لا يعدل عنه وفي رواية أخرى عن ابن عباس هو الذي يخرج من بيته ثم يقلب وجهه إليه مستيقنا أنه ليس فيه إلا التراب وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال في ذلك يعني بعيد التربة أي بعيدا من وطنه وهو بعيد والصفة على بعض هذه التفاسير صفة كاشفة وبعض آخر مخصصة واو على مافي البحر للتنويع وقد استشكل عدم تكرار لا هنا مع أنها دخلت على الماضي وهم قالوا يلزم تكرارها حينئذ كما في قوله تعالى: * (فلا صدق ولا صلى) * وقول الحطيئة: وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها * وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وشذ قوله: لا هم أن الحرث بن جبلة * جنى على أبيه ثم قتله
وكان في جاراته لا عهد له * فأي أمر سيىء لا فعله
وأجيب بأن اللازم تكرارها لفظا أو معنى وهي هنا مكررة معنى لأن تفسير العقبة بما فسرت به من الأمور المتعددة يلزم منه تفسير الاقتحام فيكون * (فلا اقتحم العقبة) * في معنى فلا فك رقبة * (ولا أطعم يتيما) * الخ وقد يقال في البيت نحو ذلك بأن يقال إن العموم فيه قائم مقام التكرار ويلزمه على ما قيل جواز لا جاءني زيد وعمر ولأنه في معنى لا جاءني زيد ولا جاءني عمرو ومنعه بعضهم وقال الزجاج والفراء يجوز أن يكون منه قوله تعالى:
* (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) *
* (ثم كان من الذين آمنوا) * فإن عطف على المنفي أعني اقتحم فكأنه قيل فلا أقتحم ولا آمن ولا يلزم منه كون الايمان غير داخل في مفهوم العقبة لأنه يكفي في صحة العطف والتكرار كونه جزءا أشرف خص بالذكر عطفا فجاءت صورة التكرار ضرورة إذ الحمل على غير ذلك
138

مفسد للمعنى ويلزمه جواز لا أكل زيد وشرب على العطف على المنفي والبعض المتقدم يمنعه وقيل إن لا للدعاء والكلام دعاء على ذلك الكافر أن لا يرزقه الله تعالى ذلك الخير وقيل لا مخفف ألا للتحضيض كهلا فكأنه قيل فهلا أقتحم أو الاستفهام محذوف والتقدير أفلا أقتحم ونقل ذلك عن ابن زيد والجبائي وأبي مسلم وفيه أنه لم يعرف تخفيف ألا التحضيضية وأنه كما قال المرتضى يقبح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله: ثم قالوا تحبها قلت بهرا * عدد
الرمل والحصى والتراب
وقولهم لو أريد النفي لم يتصل الكلام ليس بشيء لظهور كان تحت النفي واتصال الكلام عليه قيل الكلام إخبار عن المستقبل فليس مما يلزم فيه التكرير أي فلا يقتحم العقبة لأن ماضيه معلوم بالمشاهدة فالأهم الإخبار عن حاله في الاستقبال لكن لتحقق الوقوع عبر بالماضي ونقل الطيبي عن أبي علي الفارسي عدم وجوب تكريرها رادا على الزجاج في زعمه ذلك وقال هي كلم والتكرر في نحو فلا صدق ولا صلى لا يدل على الوجوب كما في لم يسرفوا ولم يقتروا وعلى عدم التكرر جاء قول أمية السابق: أن تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما
والمتيقن عندي أكثرية التكرر وأما وجوبه فليس بمتيقن والله تعالى أعلم وقرأ ابن كثير والنحويان فك فعلا ماضيا رقبة بالنصب أو أطعم فعلا ماضيا أيضا وعلى هذه القراءة ففك مبدلة من اقتحم وما بينهما اعتراض ومعناه أنك لم تدر كنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله عز وجل وقرأ أبو رجاء كذلك إلا أنه قرأ ذا مسغبة بالألف على أن ذا منصوب على المفعولية بأطعم أي أطعم في يوم من الأيام إنسانا ذا مسغبة ويكون يتيما بدلا منه أو صفة له وقرأ هو أيضا والحسن أو إطعام في يوم ذا بالألف أيضا على أنه مفعول به للمصدر وقرأ بعض التابعين فك رقبة بالإضافة أو أطعم فعلا ماضيا وهو معطوف على المصدر لتأويله به والتراخي المفهوم من ثم في قوله تعالى: * (ثم كان) * الخ رتبي فالإيمان فوق جميع ما قبله لأنه يستقل بكونه سببا للنجاة وشكرا بدون الأعمال كما فيمن آمن بشرطه ومات في يومه قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال فإن ذلك ينفعه ويخلصه بخلاف ما عداه فإنه لا يعتد به بدونه وقوله سبحانه: * (وتواصوا بالصبر) * عطف على آمنوا أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والثبات عليه أو بذلك والصبر على الطاعات أو به والصبر عن المعاصي وعلى المحن التي يبتلي بها الإنسان * (وتواصوا بالمرحمة) * أي بالرحمة على عباده عز وجل ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تواصوا بأسباب رحمة الله تعالى وما يؤدي إليها من الخيرات على أن المرحمة مجاز عن سببها أو الكلام على تقدير مضاف وذكر أن تواصوا بالصبر إشارة إلى تعظيم أمر الله تعالى وتواصوا بالمرحمة إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى وهما أصلان عليهما مدار الطاعة وهو الذي قاله بعض المحققين الأصل في التصوف أمران صدق مع الحق وخلق مع الخلق.
* (أول‍ائك أصح‍اب الميمنة) *
* (أولئك) * إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه لما مر غير مرة أي أولئك الموصوفون بالنعوت الجليلة المذكورة * (أصحاب الميمنة) * أي جهة اليمين التي فيها السعداء أو اليمن لكونهم ميامين على أنفسهم وعلى غيرهم.
* (والذين كفروا بااي‍اتنا هم أصح‍ابالمش‍امة) *
* (والذين كفروا بآياتنا) * بما نصبناه دليلا على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن * (هم أصحاب المشئمة) * أي جهة الشمال التي فيها الأشقياء أو الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم.
* (عليهم نار مؤصدة) *
* (عليهم نار) * عظيمة * (مؤصدة) * مطبقة من آصدت
139

الباب إذا غلقته وأطبقته وهي لغة قريش على ما روي عن مجاهد وظاهر كلام ابن عباس عدم الاختصاص بهم ومن ذلك قول الشاعر: تحن إلى أجبال مكة ناقتي * ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة
ويجوز أن يكون من أوصدت بمعنى غلقت أيضا وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزا وقرأ غير واحد من السبعة موصدة بغير همز فيظهر أنه من أوصدت وقيل يجوز أن يكون من آصدت وسهلت الهمزة وقال الشاعر: قوما يعالج قملا أبناؤهم * وسلاسلا ملسا وبابا موصدا
والمراد مغلقة أبوابها وإنما أغلقت لتشديد العذاب والعياذ بالله تعالى عليهم وصرح بوعيدهم ولم يصرح بوعد المؤمنين لأنه الأنسب بما سيق له الكلام والأوفق بالغرض والمرام ولذا جىء بضمير الفصل معهم لإفادة الحصر واعتبروا غيبا كأنهم بحيث لا يصلحون بوجه من الوجوه لأن يكونوا مشارا إليهم ولم يسلك نحو هذا المسلك في الجملة الأولى التي في شأن المؤمنين ونقل عن الشمني أنه قال الحكمة في ترك ضمير الفصل في الأولين والإتيان بدله باسم الإشارة أن اسم الإشارة يؤتى به لتمييز ما أريد به أكمل تمييز كقوله: هذا أبو الصقر فردا في محاسنه * من نسل شيبان بين الضال والسلم
ولا كذلك الضمير فإن اسم الإشارة البعيد يفيد التعظيم لتنزيل رفعة محل المشار به إليه منزلة بعد درجته فاسم الإشارة للتعظيم والإشارة إلى تمييزهم واستحقاقهم كمال الشهرة بخلاف أصحاب المشأمة والضمير لا يفيد ذلك انتهى وفيه أن اسم الإشارة كما يفيد التعظيم يفيد التحقير كما في قوله تعالى فذلك الذي يدع اليتيم وكمال الشهرة كما يكون في الخير يكون في الشر فأي مانع من اعتبار استحقاقهم كمال الشهرة في الشر وبالجملة لما ذكره ليس بشيء ولعل ما ذكرناه هو الأولى فتدبر.
سورة الشمس
مكية بلا خلاف وآيها ست عشرة آية في المكي والمدني الأول وخمس عشرة في الباقية ولما ختم سبحانه السورة المتقدمة بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة أعاد جل شأنه في هذه السورة الفريقين على سبيل الفذلكة بقوله سبحانه قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها وفي هذه فألهمها فجورها وتقواها وهو كالبيان لقوله تعالى في الأولى: * (وهديناه النجدين) * على أول التفسيرين وختم سبحانه الأولى بشيء من أحوال الكفرة في الآخرة وختم جل وعلا هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا فقال عز من قائل:
* (والشمس وضح‍اها) *
* (والشمس وضحاها) * أي ضوئها كما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس والمراد إذا أشرقت وقام سلطانها وقال بعض المحققين حقيقة الضحى تباعد الشمس عن الأفق الشرقي المرئي وبروزها للناظرين ثم صار حقيقة في وقته ثم إنه قيل لأول الوقت ضحوة ولما يليه ضحى ولما بعده إلى قريب الزوال ضحاء بالفتح والمد فإذا أضيف إلى الشمس فهو مجاز عن إشراقها كما هنا ونقل عن المبرد أن الضحى مشتق من الضح وهو نور الشمس والألف مقلوبة من الحاء الثانية وكذلك الواو من ضحوة مقلوبة منها وتعقبه أبو حيان بقوله لعله مختلق عليه لأن المبرد أجل من أن يذهب إلى هذا وهذان مادتان مختلفتان لا تشتق إحداهما من الأخرى وأجيب بأنه لم يرد الاشتقاق الصغير ولا يخفى حاله على الصغير والكبير وعن مقاتل أن ضحاها حرها وهو تفسير باللازم وعن مقاتل المراد به النهار كله وفيه أنه تعالى أقسم به بعيد ذلك.
* (والقمر إذا تل‍اها) *
* (والقمر إذا تلاها) * أي تبعها فقيل باعتبار طلوعه وطلوعها أي إذا تلا طلوعه طلوعها بأن طلع من الأفق الشرقي بعد
140

طلوعها وذلك أول الشهر فإن الشمس إذا طلعت من الأفق الشرقي أول النهار يطلع بعدها القمر لكن لا سلطان له فيرى بعد غروبها هلالا ومناسبة ذلك للقسم به لأنه وصف له بابتداء أمره فكما أن الضحى كشباب النهار فكذا غرة الشهر كولادته وقيل باعتبار طلوعه وغروبها أي إذا تلا طلوعه غروبها وذلك في ليلة البدر رابع عشر الشهر فإنه حينئذ في مقابلة الشمس والبعد بينهما نصف دور الفلك فإذا كانت في النصف الفوقاني منه أعني ما يلي رؤوسنا كان القمر في التحتاني منه أعني ما يلي اقدامنا فإذا غربت طلع من الأفق الشرقي وهو المروى عن قتادة وقولهم سمي بدرا لأنه يسبق طلوعه غروب الشمس فكأنه بدرها بالطلوع لا ينافيه لأنه مبني على التقريب ومناسبة ذلك للقسم به لأنه وقت ظهور سلطانه فيناسب تعظيم شأنه وقال ابن زيد تبعها في الشهر كله ففي النصف الأول تبعها بالطلوع وفي الآخر بالغروب ومراده ما ذكر في القولين وقيل المراد تبعها في الإضاءة بأن طلع وظهر مضيئا عند غروبها آخذا من نورها وذلك في النصف الأول من الشهر فإنه فيه يأخذ كل ليلة منه قدرا من النور بخلافه في النصف الثاني وهو مروى عن ابن سلام واختاره الزمخشري وقال الحسن والفراء كما في " البحر " أي تبعها في كل وقت لأنه يستضىء منها فهو يتلوها لذلك وأنكر بعض الناس ذهاب أحد من السلف إلى أن نور القمر مستفاد من ضوء الشمس وزعم أنه رأى المنجمين لا غير وما ذكر حجة عليه والحجة عن أصل المسألة أظهر من الشمس وهي اختلاف تشكلاته النورية قربا وبعدا منها مع ذهاب نوره عند حيلولة الأرض بينه وبينها وكون الاختلاف لاحتمال أن يكون أحد نصفيه مضيئا والنصف الآخر غير مضىء وأنه يتحرك على محوره حركة وضعية حتى يرى كل نصف منهما تدريجا وكون ذهاب النور عند الحيلولة لاحتمال حيلولة جسم كثيف بيننا وبينه لا نراه أضعف من حبال القمر كما لا يخفى وقال الزجاج وغيره تلاها معناه امتلأ واستدار فكان تابعا لها في الاستدارة وكمال النور.
* (والنهار إذا جل‍اها) *
* (والنهار إذا جلاها) * أي جلى النهار الشمس أي أظهرها فإنها تنجلي وتطهر إذا انبسط النهار ومضى منه مدة فالإسناد مجازي كالإسناد في نحو صام نهاره وقيل الضمير المنصوب يعود على الأرض وقيل على الدنيا والمراد بها وجه الأرض وما عليه وقيل يعود على الظلمة وجلاها حينئذ بمعنى أزالها وعدم ذكر المرجع على هذه الأقوال للعلم به والأول أولى لذكر المرجع واتساق الضمائر وجوز بعضهم أن يكون الضمير المرفوع المستتر في جلاها عليه عائدا على الله عز وجل كأنه قيل والنهار إذا جلى الله تعالى الشمس فيكون قد أقسم سبحانه بالنهار في أكمل حالاته وهو كما ترى.
* (واليل إذا يغش‍اها) *
* (والليل إذا يغشاها) * أي الشمس فيغطي ضوءها والإسناد كما مر وقيل أي الأرض وقيل أي الدنيا وجيء بالمضارع هنا دون الماضي كما في السابق بأن يقال إذا غشيها قال أبو حيان رعاية للفاصلة ولم يقل غشاها لأنه يحتاج إلى حذف أحد المفعولين لتعديه إليهما فإنه يقال غشيته كذا كما قال الراغب كذا قيل وقال بعض الأجلة جيء بالمضارع للتنبيه على استواء الأزمنة عنده تعالى شأنه وقال الخفاجي الأولى أن يقال المراد بالليل الظلمة الحادثة بعدم الضوء لا العدم الأصلي والظلمة الأصلية فإن هذه أظهر في الدلالة على القدرة وهي مستقبلة بالنسبة لما قبلها فلا بد من تغيير التعبير ليدل على المراد واستصعب الزمخشري الأمر في نصب إذا بأن ما سوى الواو الأولى أن كانت عاطفة لزم العطف على معمولي عاملين مختلفين كعطف النهار مثلا على الشمس المعمول لحرف القسم وعطف الظرف أعني إذا في إذا جلاها على نظيرتها في إذا تلاها المعمولة لفعل القسم وإن كانت قسمية لزم اجتماع المقسمات المتعددة على جواب واحد وقد استكرهه الخليل وسيبويه وأجاب باختيار الشق الأول ونفى ما لزمه فقال إن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل اطراحا كليا فكان لها شأن
141

خلاف شأن الباء حيث أبرز معها الفعل تارة وأضمر أخرى فكانت الواو قائمة مقام فعل القسم وباؤه سادة مسدهما معا والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو فهي عاملة الجر وعاملة النصب فالعطف من قبيل العطف على معمولي عامل واحد وهذا كما تقول ضرب زيد عمرا وبكر خالدا فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملها انتهى وأنت تعلم أن أول الواوات العواطف ههنا ليس معها ما تعمل فيه النصب فلعله أراد أنها تعمل ذلك إن كان هناك منصوب أو هي عاملة باعتبار أن معنى والشمس وضحاها والشمس وضوئها إذا أشرقت وفيه أيضا أنه لم يقل أحد بأن الحروف العواطف عوامل وأيضا الإشكال مبني على امتناع العطف على معمولي عاملين مطلقا حتى لو جوز مطلقا أو بشرط كون المعطوف مجرورا على ما ذهب إليه جمع كما في قولك في الدار زيد والحجرة عمرو لم يكن إشكال وأيضا هو مبني على قبول هذا الاستكراه وعدم إمكان التخلص من الاجتماع بتقدير جواب لكل من المقسمات حتى إذا لم يقبل أو قبل وقدر لكل جواب لم يبق أشكال وأيضا هو مبني على أن إذا ظرفية وهو ممنوع لجواز أن تكون قد تجردت عن الظرفية وحينئذ تكون بدلا مما بعد الواو كما قيل في قوله: وبعد غد يا لهف نفسي من غد * إذا راح أصحابي ولست
برائح
إن إذا بدل من غد وعلى تسليم أنها ظرفية يجوز أن يقدر مع كل مضاف تتعلق به كان يقدر وتلو القمر إذا تلاها وتجلية النهار إذا جلاها وغشيان الليل إذا يغشاها أو تجعل متعلقة بمحذوف وقع حالا مقدرة مما تليه أي أقسم بالقمر كائنا إذا تلاها وبالليل كائنا إذا جلاها كما زعمه بعضهم وفيه بحث وأيضا يرد على الزمخشري مثل قوله تعالى: * (والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس) * لأن الواو هنالك عاطفة وقد تقدم صريح فعل القسم كما ذكره الشيخ ابن الحاجب على أن التحقيق كما قال بعض المحققين أن الظرف ليس معمولا لفعل القسم لفساد المعنى إذا التقييد بالزمان غير مراد حالا كان أو استقبالا وإنما هو معمول مضاف مقدر من نحو العظمة لأن الإقسام بالشيء إعظام له فكأنه أقسم بعظمة زمان كذا وما قيل عليه من أن إقسامه تعالى بشيء مستعار لإظهار عظمته وإبانة شرفه فيجوز تقييده باعتبار جزء المعنى المراد يعني الإظهار وأيضا إذا كان الإقسام إعظاما لغا تقديره فلو سلم فالاستعارة إما تبعية أو تمثيلية وعلى كل حال فليس ثمت ما يكون متعلقا بحسب الصناعة والتقدير ليتعلق به وليظهر ما أريد منه مؤكدا فلا لغوية.
* (والسمآء وما بن‍اها) *
* (والسماء وما بناها) * أي ومن بناها وإيثار ما على من لإرادة الوصفية تفخيما على ما تقدم في وما ولد كأنه قيل والقادر العظيم الشأن الذي بناها ودل على وجوده وكمال قدرته بناؤهما والمراد به إيجادها بحيث تدل على ذلك ويستدل بها عليه وهو أولى من تفسيره بيانيها لإشعاره بالمراد من البناء وكذا الكلام في قوله تعالى:
* (والارض وما طح‍اها) *
* (والأرض وما طحاها) * أي بسطها من كل جانب ووطأها كدحاها ويكون طحا بمعنى ذهب كقول علقمة: طحا بك قلب في الحسان طروب * بعيد الشباب عصر حان مشيب
وبمعنى أشرف وارتفع ومن أيمانهم لا والقمر الطاحي ويقال طحا يطحو طحوا وطحى يطحي طحيا وقوله سبحانه:
* (ونفس وما سواها) *
* (ونفس وما سواها) * أي أنشأها وأبدعها مستعدة لكمالها وذلك بتعديل أعضائها وقواها الظاهرة والباطنة والتنكير للتكثير وقيل للتفخيم على أن المراد بالنفس آدم عليه السلام والأول أنسب بجواب القسم الآتي ومن ذهب إلى ذلك جعله من الاستخدام وذهب الفراء والزجاج والمبرد وقتادة وغيرهم إلى أن ما في المواضع الثلاث مصدرية أي
142

وبنائها وطحوها وتسويتها وتعقبه الزمخشري بأنه ليس بالوجه لقوله تعالى:
* (فألهمها فجورها وتقواها) *
* (فألهمها فجورها وتقواها) * وما يؤدي إليه من فساد النظم وذلك على ما في " الحواشي " لما يلزم من عطف الفعل على الاسم وأنه لا يكون له فاعل لا ظاهر وهو ظاهر ولا مضمر لعدم مرجعه واعترض بأن الأخير منتقض بالأفعال السابقة أعني بناها طحاها سواها على أن دلالة السياق كافية في صحة الإضمار وأما الأول ففيه أن عطف الفعل على الاسم ليس بفاسد وإن كان خلاف الظاهر على أنه عطف على ما بعد ما كانه قيل ونفس وتسويتها فالهامها فجورها وتقواها واعترض هذا بأن الفاء يدل على الترتيب من غير مهملة والتسوية قبل نفخ الروح والإلهام بعد البلوغ وأجيب بأن التشوية تعديل الأعضاء والقوى ومنها المفكرة والإلهام عبارة عن بيان كيفية استعمالها في النجدين في هذا المحل وهو غير مفارق عنه منذ سوى نعم يزداد بحسب ازدياد القوى كيفية لا وجودا على أن المهلة في نحوها عرفي وقد يعد متعقبا دون تراخ ثم أنه مشترك الإلزام ولا معنى لقول الطيبي النظم السري يوجب موافقة القرائن فلا يجوز ونفس وتسويتها فألهمها الله فهي حاصلة وإنما ذلك بناء على توهم أن قوله تعالى: * (فألهما) * جملة وبالجملة لا يلوح فساد هذا الوجه وأبى القاضي عبد الجبار إلا المصدرية دون الموصولية قال لما يلزم منها تقديم الإقسام بغير الله تعالى على إقسامه سبحانه بنفسه عز وجل وأجاب عنه الإمام بأن أعظم المحسوسات الشمس فذكرها الله تعالى مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمها ثم ذكر سبحانه ذاته المقدسة ووصفها جل وعلا بصفات ثلاث ليحظى العقل بإدراك جلال الله تعالى وعظمته سبحانه كما يليق به جل جلاله ولا ينازعه الحس فكان ذلك طريقا إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى بيداء أوج كبريائه جل شأنه وجوز أن تكون ما عبارة عن الأمر الذي له بنيت السماء وطحيت الأرض وسويت النفس من الحكم والمصالح التي لا تحصى ويكون إسناد الأفعال إليها مجازا وفاعل ألهمها يجوز أن يكون ذلك أمر ويكون الإسناد مجازا أيضا وهو كما ترى والفجور والتقوى على ما أخرج عبد بن حميد وغيره عن الضحاك المعصية والطاعة مطلقا قلبيين كانا أو قالبيين وإلهامهما النفس على ما أخرج هو وابن جرير وجماعة عن مجاهد تعريفهما إياها بحيث تميز رشدها من ضلالها وروي ذلك عن ابن عباس كما في " البحر " وقريب منه قول ابن زيد ألهمها فجورها وتقواها بينهما لها وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهما نحوه عن قتادة والآية على ذلك نظير قوله تعالى: * (وهديناه النجدين) * وقدم الفجور على التقوى لأن إلهامه بهذا المعنى من مبادىء تجنبه وهو تخلية والتخلية مقدمة على التحلية وقيل قدم مراعاة للفواصل وأضيفا إلى ضمير النفس قيل إشارة إلى أن الملهم للنفس فجور وتقوى قد استعدت لهما فهما لها بحكم الاستعداد وقيل رعاية للفواصل أيضا وقوله تعالى:
* (قد أفلح من زك‍اها) *
* (قد أفلح من زكاها) * جواب القسم على ما أخرجه الجماعة عن قتادة وإليه ذهب الزجاج وغيره وحذف اللام كثير لا سيما عند طول الكلام المقتضي للتخفيف أو
لسده مسدها وفاعل زكاها ضمير من والضمير المنصوب للنفس وكذا في قوله تعالى:
* (وقد خاب من دس‍اها) *
* (وقد خاب من دساها) * وتكرير قد فيه لإبراز الاعتناء بتحقيق مضمونه والإيذان بتعلق القسم به أصالة والتزكية التنمية والتدسية الإخفاء وأصل دسى دسس فأبدل من ثالث التماثلات ياء ثم أبدلت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وأطلق بعضهم فقال ابدل من ذلك حرف علة كما قالوافي تقضض تقضي ودسس مبالغة في دس بمعنى أخفى قال الشاعر: ودسست عمرا في التراب فأصبحت * حلائله منه أرامل ضيعا
وفي " الكشاف " التزكية الإنماء والإعلاء والتدسية النقص والإخفاء أي لقد فاز بكل مطلوب ونجا من كل مكروه من أنمى نفسه وأعلاها بالتقوى علما وعملا ولقد خسر من نقصها وأخفاها بالفجور
143

جهلا وفسوقا وجوز أن تفسر التزكية بالتطهير من دنس الهيولى والتدسية بالإخفاء فيه والتلوث به وأيا ما كان ففي الوعد والوعيد المذكورين مع إقسامه تعالى عليهما بما أقسم به مما يدل على العلم بوجوده تعالى ووجوب ذاته سبحانه وكمال صفاته عز وجل ويذكر عظائم آلائه وجلائله نعمائه جل وعلا من اللطف بعباده ما لا يخفى وقوله تعالى:
* (كذبت ثمود بطغواهآ) *
* (كذبت ثمود بطغواها) * استئناف وارد لتقرير مضمون قوله تعالى: * (وقد خاب من دساها) * وجعل الزمخشري قوله تعالى: * (قد أفلح) * الخ تابعا لقوله تعالى: * (فألهمها) * الخ على سبيل الاستطراد وأبى أن يكون جواب القسم وجعل الجواب محذوفا مدلولا عليه بهذا كأنه قيل ليدمدمن الله تعالى على كفار مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه السلام فقيل إن ذلك لما يلزم من حذف اللام وأنه لا يليق بالنظم المعجز أن يجعل أدنى الكمالين أعني التزكية لاختصاصها بالقوة العملية المقصود بالإقسام ويعرض عن أعلاهما أعني التحلية بالعقائد اليقينية التي هي لب الألباب وزبدة ما مخضته الأحقاب ولو سلم عدم الاختصاص فهي مقدمة التحلية في البابين وأما حذف المقسم عليه فكثير شائع لا سيما في الكتاب العزيز وتعقب بأن حذف اللام كثير لا سيما مع الطول وهو أسهل من حذف الجملة بتمامها وقد ذكره في قد أفلح المؤمنون فما حدا مما بدأ وأن التزكية مرادا بها الإنماء لا اختصاص لها وليست مقدمة بل مقصودة بالذات ولو سلم فلا مانع من الاعتناء ببعض المقدمات أحيانا لتوقف المقاصد عليها فتدبر وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال في فألهما ألزمها وأخرجه الديلمي عن أنس مرفوعا وعلى ذلك قال الواحدي وصاحب المطلع الإلهام أن يوقع في القلب التوفيق والخذلان فإذا أوقع سبحانه في قلب عبد شيئا منهما فقد ألزمه سبحانه ذلك الشيء ويزيد ذلك قوة ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن عمران بن حصين أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم فقال عليه الصلاة والسلام لا بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: * (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) * ولا يقتضي ذلك أن لا يكون لقدرة العبد واختياره مدخل في الفجور والتقوى بالكلية وإن قيل أن مآله إلى خلق الله تعالى إياهما ليقال يأباه حينئذ قوله تعالى: * (قد أفلح من زكاها) * الخ حيث جعل فيه العبد فاعل التزكية بالتقوى والتدسية بالفجور لأن الإسناد يقتضي قيام المسند ويكفي فيه المدخلية المذكورة ولا يتوقف صحة الإسناد حقيقة إلى العبد على كون فعله الإيجاد فالاستدلال بهذا الإسناد على كونه متمكنا من اختيار ما شاء من الفجور والتقوى وإيجاده إياه بقدرة مستقلة فيه على خلاف ما يقوله الجماعة ليس بشيء على أن الضمير المستتر في زكاها وكذا في دساها الله عز وجل والبارز لمن بتأويل النفس فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في ذلك يقول الله تعالى: قد أفلح من زكى الله تعالى نفسه فهداه وقد خاب من دسى الله تعالى نفسه فأضله بل أخرج عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: * (قد أفلح من زكاها) * الآية أفلحت نفس زكاها الله تعالى وخابت نفس خيبها الله تعالى من كل خير وأخرج الإمام أحمد وابن أبي شيبة ومسلم والنسائي عن زيد بن أرقم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها وفي رواية الطبراني وغيره عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام إذا تلا هذه الآية وقف وقال ذلك ولهذه الأخبار ونحوها قال بعضهم: إن ذلك هو
144

المرجح ورجحه صاحب الانتصاف بأن الضمائر في والسماء وما بناها الخ تكون عليه متسقة عائدة كلها إلى الله تعالى وبأن قوله تعالى قد أفلح من تزكى أوفق به لأن تزكي مطاوع زكي فيكون المعنى قد أفلح من زكاه الله تعالى فتزكى ومع هذا كله لا ينبغي أن ينكر أن المعنى السابق هو السابق إلى الذهن وما ذكر من الأخبار ليس نصا في تعيين المعنى الآخر نعم هو نص في تكذيب الزمخشري في زعمه أنه من تعكيس القدرية يعني بهم أهل السنة والجماعة فتأمل. والطغوي مصدر من الطغيان بمعنى تجاوز الحد في العصيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلي من بنات الياء بأن قلبوا الياء واوا في الاسم وتركوا القلب في الصفة فقالوا في الصفة امرأة صديا وخزيا وفي الاسم تقوى وطغوى كذا في " الكشاف " وغيره وكلام الراغب يدل على أن طغى واوي ويائي حيث قال يقال: طغوت وطغيت طغوانا وطغيانا فلا تغفل. والباء عند الجمهور للسببية أي فعلت التكذيب بسبب طغيانها كما تقول ظلمني الخبيث بجرائته على الله تعالى وجعلها الزمخشري للاستعانة والأمر سهل وجوز أن تكون صلة للتكذيب على معنى كذبت بما أوعدت به في لسان نبيها من العذاب ذي الطغوى أي التجاوز عن الحد والزيادة ويوصف العذاب بالطغيان بهذا المعنى كما في وقوله تعالى: * (فأهلكوا بالطاغية) * وقد يوصف بالطغوى مبالغة كما يوصف بسائر المصادر لذلك فلا يكون هناك مضاف محذوف. وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بن سلمة طغواها بضم الطاء وهو مصدر أيضا كالرجعى والحسنى في المصادر إلا أنه قيل كان القياس الطغيا كالسقيا لأن فعلى بالضم لا يفرق فيه بين الاسم والصفة كأنهم شذوا
فيه فقلبوا الياء واوا وأنت تعلم أن الواو عند من يقول طغوت أصلية.
* (إذ انبعث أشق‍اها) *
* (إذ انبعث) * متعلق بكذبت أو بطغوى وانبعث مطاوع بعثه بمعنى أرسله والمراد إذ ذهب لعقر الناقة * (أشقاها) * أي أشقى ثمود وهو قدار بن سالف أو هو ومن تصدى معه لعقرها من الأشقياء اثنان على ما قال الفراء أو أكثر فإن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة يصلح للواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث وفضل شقاوتهم على من عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به ولخبائث غير ذلك يعلمها الله تعالى فيهم هي فوق خبائث من عداهم.
* (فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقي‍اها) *
* (فقال لهم) * أي لثمود أو لأشقاها على ما قيل بناء أن المراد به جمع ولا يأباه وسقياها كما لا يخفى * (رسول الله) * هو صالح عليه السلام وعبر عنه بعنوان الرسالة إيذانا بوجوب طاعته وبيانا لغاية عتوهم وتماديهم في الطغيان وهو السر في إضافة الناقة إليه تعالى في قوله سبحانه: * (ناقة الله) * وهو نصب على التحذير وشرطه ليس تكرير المحذر منه أو كونه محذرا بما بعده فقط ليقال هو منصوب بتقدير ذروا أو احذروا لا على التحذير بل شرطه ذاك أو العطف عليه كما هنا على ما نص عليه مكي والكلام على حذف مضاف أي احذروا عقر ناقة الله أو المعنى على ذلك وإن لم يقدر في نظم الكلام وجوز أن يكون التقدير عظموا أو الزموا ناقة الله وليس بشيء * (وسقياها) * أي واحذروا سقياها فلا تتعرضوا بمنعها عنها في نوبتها ولا تستأثروا بها عليها وقيل الواو للمعية والمراد ذروا ناقة الله مع سقياها ولا تحولوا بينهما وهو كما ترى وقرأ زيد بن علي ناقة الله بالرفع فقيل أي همكم ناقة الله وسقياها فلا تعقروها ولا تستأثروا بالسقيا عليها.
* (فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها) *
* (فكذبوه) * أي في وعيده إياهم كما حكي عنه بقوله تعالى: * (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) * فالتكذيب لخبر مقدر ويجوز أن يكون لخبر تضمنه الأمر التحذيري السابق وهو الخبر بحلول العذاب أن فعلوا ما حذرهم منه وقيل إن ما قاله لهم من الأمر قاله ناقلا له عن الله تعالى كما يؤذن بذلك التعبير عنه عليه السلام بعنوان الرسالة ومآل ذلك أنه قال لهم: إنه قال الله تعالى
145

ناقة الله وسقياها فالتكذيب لذلك وهو وجه لا بأس به * (فعقروها) * أي فنحروها أو فقتلوها وضمير الجمع للأشقى وجمعه على تقدير وحدته لرضا الكل بفعله قال قتادة بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم * (فدمدم عليهم ربهم) * فأطبق عليهم العذاب وقالوا دمدم عليه القبر أي أطبقه وهو مما تكرر فيه الفاء فوزنه فعفل لا فعلل من قولهم ناقة مدمومة إذا لبسها الشحم وغطاها وقال في " القاموس " معناه أتم العذاب عليهم وقال مؤرج الدمدمة إهلاك باستئصال وفي الصحاح دمدمت الشيء ألزقته بالأرض وطحطحته وقرأ ابن الزبير فدهدم بهاء بين الدالين والمعنى كما تقدم * (بذنبهم) * بسبب ذنبهم المحكي والتصريح بذلك مع دلالة الفاء عليه للإنذار بعاقبة الذنب ليعتبر به كل مذنب * (فسواها) * الضمير للدمدمة المفهومة من دمدم أي فجعل الدمدمة سواء بينهم أو جعلها عليهم سواء فلم يفلت سبحانه منهم أحدا لا صغيرا ولا كبيرا أو هو لثمود والتأنيث باعتبار القبيلة كما في طغواها وأشقاها والمعنى ما ذكر أيضا أو فسواها بالأرض.
* (ولا يخاف عقب‍اها) *
* (ولا يخاف) * أي الرب عز وجل * (عقباها) * أي عاقبتها وتبعتها كما يخاف المعاقبون من الملوك عاقبة ما يفعلونه وتبعته وهو استعارة تمثيلية لأهانتهم وأنهم أذلاء عند الله جل جلاله والواو للحال أو للاستئناف وجوز أن يكون ضمير لا يخاف للرسول والواو للاستئناف لا غير على ما هو الظاهر أي ولا يخاف الرسول عقبى هذه الفعلة بهم إذ كان قد أنذرهم وحذرهم وقال السدي والضحاك ومقاتل والزجاج وأبو علي الواو للحال والضمير عائد على أشقاها أي انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه وهو أبعد مما قبله بكثير وقرأ أبي والأعرج ونافع وابن عامر فلا يخاف بالفاء وقرىء ولم يخف بواو وفعل مجزوم بلم هذا واختلف في هؤلاء القوم هل آمنوا ثم كفروا أو لم يؤمنوا أصلا فالجمهور على الثاني وذهب بعض إلى أنهم آمنوا وبايعوا صالحا مدة ثم كذبوه وكفروا فأهلكوا بما فصل في موضع آخر وقال الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره في فصوصه أنهم وقوم لوط عليه السلام لا نجاة لهم يوم القيامة بوجه من الوجوه ولم يساو غيرهم من الأمم المكذبة المهلكة في الدنيا كقوم نوح عليه السلام بهم ولكلامه قدس سره أهل يفهمونه فارجع إليهم في فهمه إن وجدتهم.
وذكر بعض أهل التأويل أن الشمس إشارة إلى ذات واجب الوجود سبحانه وتعالى وضحاها إشارة إلى الحقيقة المحمدية والقمر إشارة إلى ماهية الممكن المستفيدة للوجود من شمس الذات والنهار إشارة إلى العالم بسائر أنواعه الذي ظهرت به صفات جمال الذات وجلاله وكماله والليل إشارة إلى وجود ما يشاهد من أنواع الممكنات الساتر في أعين المحجوبين للوجود الحق والسماء إشارة إلى عالم العقل والأرض إشارة إلى عالم الجسم والنفس معلومة وناقة الله إشارة إلى راحلة الشوق الموصلة إليه سبحانه وسقياها إشارة إلى مشربها من عين الذكر والفكر وقال بعض آخر الشمس إشارة إلى الوجود الحق الذي هو عين الواجب تعالى فهو أظهر من الشمس الله نور السموات والأرض وقال شيخ مشايخنا البندنيجي قدس سره. ظاهر أنت ولكن لا ترى * لعيون حجبتها النقط
وضحاها إشارة إلى أول التعينات بأي اسم سميته والقمر إشارة إلى الأعيان الثابتة المفاضة بالفيض الأقدس أو الشمس إشارة إلى الذات وضحاها إشارة إلى وجودها والإضافة للتغاير الاعتباري والقمر إشارة إلى أول التعينات والنهار إشارة إلى الممكنات المفاضة بالفيض المقدس والليل إشارة إليها أيضا باعتبار نظر المحجوبين أو النهار إشارة إلى صفة الجمال والليل إشارة إلى صفة القهر والجلال والسماء إشارة إلى عالم اللطافة وذكر النفس بعد مع دخولها في هذا العالم للاعتناء بشأنها والأرض إشارة إلى عالم الكثافة وناقة الله إشارة إلى الطريقة وسقياها
146

مشربها من عين الشريعة وقيل غير ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
سورة الليل
لا خلاف في أنها إحدى وعشرون آية واختلف في مكيتها ومدنيتها فالجمهور على نها مكية وقال علي بن أبي طلحة مدنية وقيل بعضها مكي وبعضها مدني وكذا اختلف في سبب نزولها فالجمهور على أنها نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وروي ذلك بايانيد صحيحة عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما وقال السدى أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري وذلك أنه كان في دار منافق نخلة يقع منها في دار يتامى في جواره بعض بلح فيأخذه منهم فقال له صلى الله عليه وسلم دعها لهم ولك بدلها محل في الجنة فأبى فاشتراها أبو الدحداح بحائطها فقال للنبي صلى الله عليه وسلم أهبها لهم بالنخلة التي في الجنة فقال صلى الله عليه وسلم افعل فوهبها فنزلت وروي نحوه مطولا مهما فيه أبو الدحداح ابن أبي حاتم عن ابن عباس بسند ضعيف كما نص عليه الحفظ السيوطي وذكر بعضهم أن قوله تعالى فيها وسيجنبها الأتقي الخ نزل في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وسكت عما عداه ونقل عن بعض اتلمفسرين إن هذا مجمع عليه وان زعم بعض الشيعة أنه نزل في الأمير كرم الله تعالى وجهه وسيأتي إن شاء الله تعالى شرح ما له نزل ولما ذكر سبحانه فيما قبلها قد أفلح الخ ذكر سبحانه فيها من الأوصاف ما يحصل به الفلاح وما يحصل به لخيبة ففيها نوع تفصيل لذلك لا سيما وقد عقب جل وعلا ذلك بشيء من أنواع الفلاح وأنواع الخيبة والعياذ بالله تعالى فقال عز من قائل.
* (واليل إذا يغشى) *.
* (والليل إذا يغشى) * أي حين يغشى الشمس كقوله تعالى والليل إذا يغشاها أو النهار كقوله تعالى يغشى الليل النهار أو كل ما يواريه في الجملة بظلامه والمقسم به في الأوجه الثلاث الليل كله.
* (والنهار إذا تجلى) *
* (والنهار إذا تجلى) * ظهر بزوال ظلمة الليل أو تبين وانكشف بطلوع الشمس والأول على تقدير كون المغشى النهار أو كل ما يواري إذ مآلهما اعتبار وجود الظلام والثاني على تقدير كونه الشمس إذ ما له اعتبار غروبها فيحسن التقابل بين القرينتين على ذلك واختلاف الفعليه مضيا واستقبالا قد تقدم الكلام فيه وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير تتجلى بتائين على أن الضمير للشمس وقرىء تجلى بضم التاء وسكون الجيم على أن الضمير لها أيضا.
* (وما خلق الذكر والانثى) *
* (وما خلق الذكر والأنثى) * أي والقادر العظيم القدرة الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من الحيوان المتصف بذلك وقيل من بني آدم وقال ابن عباس والحسن والكلبي المراد بالذكر آدم عليه السلام وبالأنثى حواء رضي الله تعالى عنها وأيا ما كان فما موصولة بمعنى من واو ثرت عليها لإرادة الوصفية على ما سمعت وتحتمل المصدرية وليس بذاك وقرىء والذي خلق وقرأ ابن مسعود والذكر والأنثى وتبعه ابن عباس كما أخرج ذلك ابن انلجار في تاريخ بغداد من طريق الضحاك عنه ونسبت لعلي كرم الله تعالى وجهه وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن علقمة أنه قدم الشام فجلس إلى أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه فقال له أبو الدرداء فمن أنت فقال من أهل الكوفة قال كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ والليل إذا يغشى قال علقمة والذكر والأنثى فقال أبو الدرداء أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا وهؤلاء يريدوني على أن أقرأ وما خلق الذكر والأنثى والله لا أتابعهم وأنت تعلم أن هذه قراءة شاذة منقولة آحادا لا تجوز القراءة بها لكنها بالنسبة إلى من سمعها من النبي عليه الصلاة والسلام في حكم المتواترة تجوز قراءته بها وذكر ثعلب أن من السلف من قرأ وما خلق الذكر بجر الراء وحكاها الزمخشري عن الكسائي وخرجوا ذلك على البدل من
147

ما بمعنى وما خلقه الله أي ومخلوق الله الذكر والأنثى قيل وقد يخرج على توهم المصدر بناء على مصدرية ما أي وخلق الذكر والأنثى كما في قوله: تطوف العفاة بأبوابه * كما طاف بالبيعة الراهب
بجر الراهب على توهم النطق بالمصدر أي كطواف الراهب بالبيعة.
* (إن سعيكم لشتى) *
* (إن سعيكم) * أي مساعيكم فإن المصدر المضاف يفيد العموم فيكون جمعا معنى ولذا أخبر عنه بجمع أعني قوله تعالى: * (لشتى) * فإنه جمع شتيت بمعنى متفرق ويجوز أن لا يعتبر سعيكم في معنى الجمع ويكون شتى مصدرا مؤنثا كذكرى وبشرى خبرا له بتقدير مضاف أي ذو شتى أو بتأويله بالوصف أي شتيت أو بجعلها عين الافتراق مبالغة وأيا ما كان فالجملة جواب القسم كما أخرجه ابن جرير عن قتادة وجوز أن يكون الجواب مقدرا كما مر غير مرة والمراد بتفرق المساعي اختلافها في الجزاء وقوله تعالى:
* (فأما من أعطى واتقى) *
* (فأما من أعطى) * الخ تفصيل مبين لتفرقها واختلافها في ذلك وجوز أن يراد باختلافها كون البعض طالبا لليوم المتجلي والبعض طالبا لليل الغاشي وبعضها مستعانا بالذكر وبعضها مستعانا بالأنثى فيكون الجواب شديد المناسبة بالقسم ولا يخفى بعده وركاكته والظاهر أن المراد بالإعطاء بذل المال ومن هنا قال ابن زيد المراد إنفاق ماله في سبيل الله تعالى وقال قتادة المعنى أعطى حق الله تعالى وظاهره الحقوق المالية * (واتقى) * أي واتق الله عز وجل كما قال ابن عباس وفي معناه قول قتادة واتقى ما نهى عنه وفي رواية محارم الله تعالى وقال مجاهد واتقي البخل وهو كما ترى * (وصدق بالحسنى) * أي بالكلمة الحسنى وهي كما قال أبو عبد الرحمن السلمي وغيره
وروي ذلك عن ابن عباس لا إله إلا الله أو هي ما دلت على حق كما قال بعضهم وتدخل كلمة التوحيد دخولا أوليا أو بالمالة الحسنى وهي ملة الإسلام وقال عكرمة وجماعة وروي عن ابن عباس أيضا هي المثوبة بالخلف في الدنيا مع المضاعفة وقال مجاهد الجنة وقيل المثوبة مطلقا ويترجح عندي أن الإعطاء إشارة إلى العبادة المالية والاتفاء إشارة إلى ما يشمل سائر العبادات من فعل الحسنات وترك السيآت مطلقا والتصديق بالحسنى إشارة إلى الإيمان بالتوحيد أو بما يعمه وغيره مما يجب الإيمان به وهو تفصيل شامل للمساعي كلها وتقديم الإعطاء لما أنه سبب النزول ظاهرا فقد أخرج الحاكم وصححه عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال قال أبو قحافة لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقيمون دونك فقال يا أبه إنما أريد ما أريد فنزلت فأما من أعطى واتقى إلي وما لأحد عنده من نعمة تجزي وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن ابن مسعود قال أن أبا بكر اشترى بلالا من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق فاعتقه فأنزل الله تعالى والليل إذا يغشى إلى قوله سبحانه أن سعيكم لشتى وكذا على القول بأنها نزلت في أبي الدحداح ولما كان الإيمان أمرا معتنى به في نفسه أخر عن الاتقاء ليكون ذكره بعده من باب ذكر الخاص بعد العام مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة وقيل المراد أعطي الطاعة واتتقي المعصية وصدق بالكلمة الدالة على الحق ككلمة الوتحيد وفيه أن المعروف في الإعطاء تعلقه بالمال خصوصا وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال وأمر تأخير الإيمان عليه بحاله وقيل آخر لأن من جملة إعطاء الطاعة الإصغاء لتعلم كلمة التوحيد التي لا يتم الإيمان إلا بها ومن جملة الاتقاء الاتقاء عن الإشراك وهما مقدمان على ذلك وليس بشيء.
* (فسنيسره لليسرى) *
* (فسنيسره لليسرى) * فسنهيئه للخصلة التي تؤدي إلى يسر وراحة كدخول الجنة ومباديه من يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها ووصفها
148

باليسرى إما على الاستعارة المصرحة أو المجاز المرسل أو التجوز في الإسناد.
* (وأما من بخل واستغنى) *
* (وأما من يخل) * بما له فلم يبذله في سبيل الخير وقيل أي بخل بفعل ما أمر به وفيه ما فيه * (واستغنى) * أي وزهد فيما عنده عز وجل كأنه مستغن عنه سبحانه فلم يتقه جل وعلا أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى لأنه في مقابلة واتقى كما أن قوله تعالى:
* (وكذب بالحسنى) *
* (وكعذب بالحسنى) * في مقابلة وصدق بالحسنى والمراد بالحسنى فيه ما مر في الأقوال قبل.
* (فسنيسره للعسرى) *
* (فسنيسره للعسرى) * أي للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار ومباديه ووصفها بالعسرى على نحو ما ذكر وأصل التيسير من اليسر بمعنى السهولة لكن أريد التهيئة والإعداد للأمر أعني ما يفضي إلى راحة وما يفضي إلى شدة والسين في سنيسره قيل للتأكيد وقيل للدلالة على أن لحزاء الموعود معظمة يكون في الآخرة التي هي أمر منتظر متراخ وتقديم البخل فالاستغناء فالتكذيب يعلم وجهه مما تقدم وفي الإرشاد لعل تصدير القسمين بالإعطاء والبخل مع أن كلا منهما أدنى رتبة مما بعد في استتباع التيسير لليسرى والتعسير للعسرى للإيذان بأن كلا منهما أصيل فيما ذكر لما بعدهما من التصديق والتقوى والتكذيب والاستغناء وقيل التيسير أولا بمعنى اللطف وثانيا بمعنى الخذلان واليسرى والعسرى الطاعة لكونها أيسر شيء على المتقي وأعسره على غيره والمعنى أما من أعطى فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة عليه أيسر الأمور وأهونها من قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام وأما من بخل الخ فسنخذله ونمنعه الالطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد من قوله تعالى يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء وأصل هذا فسنيسره للطاعة العسرى ثم أريد ما ذكر على أن الوصف هو المقصود بتعلق التيسير أعني التعسير لا الموصوف أعني الطاعة ومع هذا إطلاق التيسير للعسرى مشاكلة وجوز أن يراد باليسرى طريق الجنة وبالعسرى طريق النار وبالتيسير في الموضعين معنى الهداية وهو في الآخرة وعدا ووعيدا وأمر المشاكلة فيه على حاله وجوز أن يراد بالتيسير التهيئة والإعداد واليسرى والعسرى الطاعة والمعصية ومباديهما من الصفات المحمودة والمذمومة وهو وجه حسن غير بعيد عن الأول وكلاهما حسن الطباق لما صح في الأخبار أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء ثم قرأ عليه الصلاة والسلام فأما من أعطى واتقى الآيتين وكان حاصل ما أراده صلى الله عليه وسلم بقوله اعملوا الخ عليكم بشأن العبودية وما خلقتم لأجله وأمرتم به وكلوا أمور الربوبية المغيبة إلى صاحبها فلا عليكم بشأنها وأيا ما كان فالمراد بمن أعطى الخ وبمن بخل الخ المتصف بعنوان الصلة مطلقا وان كان السبب خاصا إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب نعم هو قطعي الدخول وقيل من أعطى أبو بكر رضي الله تعالى عنه ومن بخل أمية بن خلف وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس أن الأول أبو بكر رضي الله تعالى عنه والثاني أبو سفيان بن حرب ونحوه عن عبد الله بن أبي أوفي وفي هذا انظر لأن أبا سفيان أسلم وقوى إسلامه في آخر أمره عند أهل السنة وفي رواية الطستي عنه أن وأما من بخل الخ نزل في أبي جهل ولعل كل ما قيل من التخصيص فهو من باب التنصيص على بعض أفراد العام لتحقق دخوله فيه عند من خصص.
* (وما يغنى عنه ماله إذا تردى) *
* (وعما يغني عنه ماله) * أي ولا يغنى عنه على أن ما نافية أو أي شيء يغنى عنه
149

ماله الذي يبخل به على أنها استفهامية * (إذا تردى) * أي هلك تفعل من الردي وهو الهلاك قاله مجاهد وقيل تردي في حفرة القبر وقال قتادة وأبو صالح تردي في جهنم أي سقط وقال قوم ترى باكفانه من الرداء وهو كناية عن موته وهلاكه.
* (إن علينا للهدى) *
* (إن علينا للهدى) * استئناف مقرر لما قبله أي إن علينا بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة حيث خلقنا الخلق للعبادة أي ندلهم ونرشدهم إلى الحق أو أن نبين لهم طريق الحدى وما يؤدي إليه من طريق الضلال وما يؤدي إليه وقد فعلنا ذلك بما لا مزيد عليه فلا يتم الاستدلال بالآية على الوجوب عليه عز وجل بالمعنى الذي يزعمه المعتزلة وقيل المراد أن الهدى موكول علينا لا على غيرنا كما قال سبحانه إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وليس المعنى أن الهدى يجب علينا حتى يكون بظاهره دليلا على وجوب الأصلح عليه تعالى عن ذلك علوا كثيرا وفيه أن تعلق الجار بالكون الخاص أعني موكولا خلاف الظاهر ومثله ما قيل أن المراد ثم أن علينا طريقة الهدى على معنى أن من سلك الطريقة المبينة بالهدى والإرشاد إليها يصل إلينا كما قيل في قوله تعالى وعلى الله قصد السبيل أي من سلك السبيل القصد أي المستقيم وصل إليه سبحانه:
* (وإن لنا للاخرة والاولى) *
* (وإن لنا للآخرة والأولى) * أي التصرف الكلي فيهما كيفما نشاء فنفعل فيهما ما نشاء من الأفعال التي من جملتها ما ذكرنا فيمن أعطى وفيمن بخل أو أن لنا ذلك فنثيب من اهتدى وأنجع فيه هدانا أوان لنا كل ما في الدارين فلا يضرنا ترككم الاهتداء وعدم انتفاعكم بهدانا أو فلا ينفعنا اهتداؤكم كما لا يضرنا ضلالكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.
* (فأنذرتكم نارا تلظى) *
* (فانذرتكم نارا تلظى) * قيل متفرع على كون الهدى عليه سبحانه أي فهديتكم بالإنذار وبالغت في هدايتكم وتلظى بمعنى تلتهب وأصله تتلظى بتاءين فحذفت منه إحداهما وقد قرأ بذلك ابن الزبير وزيد بن علي وطلحة وسفيان بن عيينة وعبيد بن عمير.
* (لا يصل‍اهآ إلا الاشقى) *
* (لا يصلاها إلا الأشقى) * المراد به الكافر فإنه أشقى من الفاسق ويفصح بذلك وصفه بقوله تعالى:
* (الذى كذب وتولى) *
* (الذي كذب) * أي بالحق * (وتولى) * وأعرض عن الطاعة.
* (وسيجنبها الاتقى) *
* (وسيجنبها) * أي سيبعد عنها * (الأتقى) * المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي فلا يحوم حولها واستشكل بأن صلى النار دخولها أو مقاساة حرها وهو لازم دخولها على المشهور فالحصر السابق يقتضي أن لا يصلي المؤمن العاصي النار لأنه ليس داخلا في عموم الأشقى الموصوف بما ذكر وان سيجنبها الاتقى يقتضي بمفهومه أن غير الاتقى أعني التقى في الجملة وهو المؤمن العاصي لا يجنبها بل يصلاها فبين الحصرين مخالفة وأجيب بأن الصلى مطلق دخول النار ولا مطلق مقاساة حرها بل هو مقاساته على وجه الأشدية فقد نقل ابن المنير عن أئمة اللغة أن الصلى أن يحفروا حفيرة فيجمعوا فيها جمرا كثيرا ثم يعمدوا لي شاة فيدسوها وسطه بين أطباقه فالمعنى لا يعذب بين أطباقها ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية إلا الأشقى وسيعد عنها الاتقى فلا يدخلها فضلا عن مقاساة ذلك فيلزم من الأول أن غير الأشقى وهو المؤمن العاصي لا يعذب بين أطباقها ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية ولا يلزم منه أن لا يدخلها ولا يعذب بها أصلا فيجوز أن يدخلها ويعذب بها على وجهها عذابا دون ذلك العذاب ويلزم من الثاني أن غير الاتقى لا يجنبها ولا يلزم منه أن غيره أعني التفي في الجملة وهو المؤمن العاصي يصلاها ويعذب بين أطباقها أشد العذاب بل غايته أنه لا يجنبها فيجوزو أن يدخلها ويعذب بها على وجهها عذابا ليس بالأشد فلا مخالفة بين الحصرين واعتبر بعضهم في الصلى الأشدية لما ذكر واللزوم هنا لمقابلته بقوله تعالى وسيجنبها كذا قيل واستحسن جعل السين للتأكيد ليكون المعنى يجبنها الاتقى ولا بد فيفيد على القول بالمفهوم إن غيره وهو المؤمن العاصي
150

لا يجنبها ولا بد على معنى أنه يجوز أن يجنبها وجيوز أن لا يجنبها بل يدخلها غير بها وقرر الزمخشري الاستشكال بأنه قد علم أن كل شقي بصلاها وكل تقي بجنيها لا يختص الصلى باشقى الأشقياء ولا التجنب والنجاة بأتقى الأتقياء وظاهر الجملتين ذلك وأجاب بما حاصله أن الحصر حيث كانت الآية واردة للموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ادعائي مبالغة لا حقيقي كان غير هذا الأشقى غير صال وغير هذا الأتقى غير مجنب بالكلية واستحسنه في الكشف فقال هو معنى حسن وأنت تعلم أن مبني ما قاله على الاعتزال وتخليد العصاة في النار وقال القاضي إن قوله تعالى لا يصلاها لا يدل على أنه تعالى لا يدخل النار إلا الكافر كما يقول المرجئة وذلك لأنه تعالى نكر النار فيها فالمراد أن نارا من النيران لا يصلاها إلا من هذه حاله والنار دركات على ما علم من الآيات فمن أين عرف أن هذه النار لا يصلاها قوم آخرون وتعقبه الزمخشري بأنه ما يصنع عليه بقوله تعالى وسيجنبها الاتقى فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة لا الاتقي منهم خاصة وأجيب بأنه لعل هذها القائل لا يقول بمفهوم الصفة ونحوها فلا تفيد الآية المذكورة عنده الحصر ويكون تمييز هذا الاتقى عنده بمجموع التجنب وما سيذكر بعد ولعل كل من لا يقول بالمفهوم لا يشكل عليه الأمر إلا أمر الحصر في لإيصالها الخ فإنه كالنص في بادىء النظر فيما يدعيه المرجئة لحملهم الصلى فيه على مطلق الدخول وأيدوه بما أخرج الإمام أحمد وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل النار إلا من شقى قيل ومن الشقي قال الذي لا يعمل لله تعالى طاعة
ولا يترك لله تعالى معصية وهذا الخبر ونحوه من الأخبار مما يستندون إليه في تحقيق دعواهم وأهل السنة يؤولون ما صح من ذلك للنصوص الدالة على تعذيب بعض ممن ارتكب الكبيرة على ما بين في موضعه وقيل في الجواب أن المراد بالاشقى والاتقى الشقي والتقي وشاع أفعل في مثل ذلك ومنه قول طرفة. تمنى رجال أن أموت فإن أمت * فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فإنه أراد بواحد واعترض بأنه لا يحسم مادة الإشكال إذ ذلك الشقي في الآية ليس إلا الكافر فيلزم الحصر أن لا يدخل النار أو لا يعذب بها غيره مع أنه خلاف المذهب الحق وأيضا أن ذلك التقي فيها قد وصف بما وصف فعلى القول بالمفهوم يلزم أن لا يجنبها التقي الغير الموصوف بذلك كالتقي الذي لا مال له وكغير المكلفين من الأطفال والمجانين مع أن الحق أنهم يجنبونها وقيل غير ذلك ولعلك بعد الاطلاع عليه وتدقيق النظر في جميع ما قيل واستحضار ما عليه الجماعة في أهل الجمع نستحسن ان قلت بالمفهوم ما استحسنه صاحب الكشف مما مر عن الزمخشري وإن لم تكن ممن يقول بتخليد أهل الكبائر من المؤمنين فتأمل وجنب يتعدى إلى مفعولين فالضمير ههنا المفعول الثاني والاتقى المفعول الأول وهو النائب عن الفاعل ويقال جنب فلان خيرا وجنب شرا وإذا أطلق فقيل جنب فلان فمعناه على ما قال الراغب أبعد عن الخير وأصلب جنبته كما قيل جعلته على جانب منه وكثيرا ما يراد منه التبعيد ومنه ما هنا ولذا قلنا أي سيبعد عنها الاتقى.
* (الذى يؤتى ماله يتزكى) *
* (الذي يؤتي ماله) * أي يعطيه ويصرفه * (يتزكى) * طالبا أن يكون عند الله تعالى زاكيا ناميا لا يريد به رياء ولا سمعة أو متطهرا من الذنوب فالجملة نصب على الحال من ضمير يؤتي وجوز أن تكون بدلا من الصلة فلا محل لها من الإعراب وجوز أيضا أن يكون الفعل وحده بدلا من الفعل السابق وحده واعترض كلا الوجهين بأن البدل من قسم التابع المعرف بكل ثان أعرب بإعراب سابقه ولا إعراب للصلة حتى يثبت لها نابع فيه وسبب الإعراب وهو الرفع في الفعل متوفر مع قطع النظر عن التبعية وهو على المشهور تجرده عن الناصب والجازم فليس معربا بإعراب سابقه لظهور
151

ذلك في كون إعرابه للتبعية وهو هنا ليس لها بل للتجرد وأجيب مع الإغماض عما في ذلك التعريف مما نبه على بعضه الرضى أما عن الأول فبان المراد أعرب بإعراب سابقه إن كان له إعراب أو بأن المراد أعرب بإعراب سابقه وجودا وعدما وقيل إطلاق التابع على ذلك ونحوه من الحرف والفعل الغير المعرب مجاز من حيث انه مشابه للتابع لموافقته لسابقه فيما له وأما عن الثاني فبان الشيء قد يقصد لشيء وإن كان متحققا قبل ذلك الشيء لأمر آخر كألف التثنية وواو الجمع فإنه يؤتي بهما للدلالة على التثنية والجمع فيتحققان ويأتي عامل الرفع على المثنى والمجموع وهما فيهما قبله فيقصدان له وقال السيد عيسى المراد بقولهم كل ثان أعرب الخ كل ثان أعرب لو لم يكن معربا فتدبر ولا تغفل وجوز أن يكون يتزكى بتقدير لأن يتزكى متعلقا بيؤتي علة له ثم حذفت اللام وحذفها من أن وأن شائع ثم حذفت أن فارتفع الفعل أو بقي منصوبا كما في قول طرفة: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغي
فقد روي برفع أحضر وبنصبه وقيل إنه بتقدير لأن أو عن أن أحضر فصنع فيه نحو ما سمعت وأيا ما كان يدل الكلام على أن المراد بأيتائه صرفه في وجوه البر والخير وقرأ الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم يزكي بإدغام التاء في الزاي.
* (وما لاحد عنده من نعمة تجزى) *
* (وعما لأحد عنده من نعمة تجزى) * استئناف مقرر لما أفاده الكلام السابق من كون إيتائه للزكى خالصا لله تعالى أي ليس لأحد عنده نعمة من شأنها أن تجزي وتكافأ فيقصد بإيتاء ما يؤتي مجازاتها ويعلم مما ذكر أن بناء تجزي للمفعول لأن القصد ليس لفاعل معين وقيل إن ذلك لكونه فاصلة وأصله يجزيه إياها أو يجزيها إياه.
* (إلا ابتغآء وجه ربه الاعلى) *
* (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) * منصوب على الاستثناء المنقطع من نعمة لأن الابتغاء لا يندرج فيها فالمعنى لكنه فعل ذلك لابتغاء وجه ربه سبحانه وطلب رضاه عز وجل لا لمكافأة نعمة وقرأ يحيى بن وثاب ابتغاء بالرفع على البدل من محل من نعمة فإنه الرفع إما على الفاعلية أو على الابتداء ومن مزيدة والرفع في مثل ذلك لغة تميم وعليها قوله: وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير وإلا العيس
وروي بالرفع والنصب على ما في البحر قول بشر بن أبي حازم. أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها * إلا الجآذر والظلمان تختلف
وجوز أن يكون نصبه على أنه مفعول له على المعنى لأن معنى الكلام لا يؤتي ماله لأجل شيء من الأشياء إلا لأجل طلب رضا ربه عز وجل لا لمكافاة نعمة فهو استثناء مفرغ من أعم العلل والأسباب وإنما أولا لأن الكلام أعني يؤتي ماله موجب والاستثناء المفرغ يختص بالنفي عند الجمهور لكنه لما عقب بقوله تعالى وما لأحد وقد قال سبحانه أولا يتزكى متضمنا نفي الرياء والسمعة دل على المعنى المذكور وقرأ بن أبي عبلة إلا ابتغا مقصور وفيه احتمال النصب والرفع وهذه الآيات على ما سمعت نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما أنه كان يعتق رقابا ضعافا فقال له أبوه ما قال وأجابه هو بما أجاب وقد أوضحت ما أبهمه رضي الله تعالى عنه في قوله فيه إنما أريد ما أريد وفي رواية ابن جرير وابن عساكر أنه قال أي أبه إنما أريد ما عند الله تعالى وفي رواية عطاء والضحاك عن ابن عباس أنه رضي الله تعالى عنه اشترى بلالا وكان رقيقا لامية بن خلف يعذبه لإسلامه برطل من ذهب فأعتقه فقال المشركون ما أعتقه أبو بكر الأليد كانت له عنده فنزلت وهو رضي الله تعالى عنه أحد الذين عذبوا لإسلامهم فاشتراهم الصديق وأعتقهم فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أعتق سبعة كلهم يعذب في الله عز وجل بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وابنتها ودنيرة وأم عيسى وأمة بني المؤمنل وفيه نزلت وسيجنبها الاتقى
152

إلى آخر السورة واستدل بذلك الإمام علي أنه رضي الله تعالى عنه أفضل الأمة وذكر أن في الآيات ما يأبى قول الشيعة أنها في علي كرم الله تعالى وجهه وأطال الكلام
في ذلك وأتى بما لا يخلو عن قيل وقال قوله تعالى:
* (ولسوف يرضى) *
* (ولسوف يرضى) * جواب قسم مضمر أي وبالله * (لسوف يرضى) * والضمير فيه للاتقى لمحدث عنه وهو وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها إذ به يتحقق الرضا وجوز الإمام كون الضمير للرب تعالى حيث قال بعد أن فسر الجملة على رجوعه للأتقى وفيه عندي وجه آخر وهو أن المراد أن ما أنفق إلا لطلب رضوان الله تعالى * (ولسوف يرضى) * الله تعالى عنه وهذا عندي أعظم من الأول لأن رضا الله سبحانه عن عبده أكمل للعبد من رضاه عن ربه عز وجل وبالجملة فلا بد من حصول الأمرين كما قال سبحانه: * (راضية مرضية) * انتهى والظاهر هو الأول وقد قرىء * (ولسوف يرضى) * بالبناء للمفعول من الإرضاء وما أشار إليه في معنى * (راضية مرضية) * غير متعين كما سمعت وفي هذه الجملة كلام يعلم مما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.
سورة الضحى
مكية وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وسيجنبها الأتقى وكان سيد الأتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب سبحانه ذلك بذكر نعمه عز وجل عليه صلى الله عليه وسلم وقال الإمام لما كانت الأولى سورة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهذه سورة رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب جل وعلا بها ولم يجعل بينهما واسطة ليعلم أن لا واسطة بين رسوله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله تعالى عنه وتقديم سورة الصديق على سورته عليه الصلاة والسلام لا يدل على أفضليته منه صلى الله عليه وسلم ألا ترى أنه تعالى أقسم أولا بشيء من مخلوقاته سبحانه ثم أقسم بنفسه عز وجل في عدة مواضع منها السورة السابقة على ما علمت والخدم قد تتقدم بين يدي السادة وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة ولا يضر النور تأخره عن أغصانه ولا السنان كونه في أطراف مرانه ثم أن ما ذكره زهرة ربيع لا تتحمل الفرك كما لا يخفى.
* (والضحى) *
* (والضحى) * تقدم الكلام فيه والمراد به هنا وقت ارتفاع الشمس الذي يلي وقت بروزها للناظرين دون ضوئها وارتفاعها لأنه أنسب بما بعد وتخصيصه بالأقسام به لأنه شباب النهار وقوله فيه قوة غير قريبة من ضدها. ولذا عد شرفا يوميا للشمس وسعدا ولأنه على ما قالوا الساعة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه السلام وألقى فيه السحرة سجدا لقوله تعالى: * (وأن يحشر الناس ضحى) * ففيه مناسبة للمقسم عليه وهو أنه تعالى لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه الطافة تعالى وتكليمه سبحانه وقيل المراد به النهار كما في قوله تعالى: * (أن يأتيهم بأسنا ضحى) * واعترض بالفرق فإنه فوقع هناك في مقابلة البيات وهو مطلق الليل وهنا في مقابلة الليل مقيدا معنى باشتداد ظلمته فالمناسب أن يراد به وقت ارتفاعه وقوة إضاءته وأجيب بمنع دلالة القيد على الاشتداد وستسمع إن شاء الله تعالى ما في ذلك وأيا ما كان فالظاهر أن المراد الجنس أي وجنس الضحى.
* (واليل إذا سجى) *
* (والليل) * أي وجنس الليل * (إذا سجى) * أي سكن أهله على أنه من السجو وهو السكون مطلقا كما قال غير واحد والإسناد مجازي أو هو على تقدير المضاف كما قيل ونحوه ما روى عن قتادة أي سكن أهله على أنه من السجو وهو السكون مطلقا كما قال غير واحد والإسناد مجازي أو هو على تقدير المضاف كما قيل ونحوه ما روى عن قتادة أي سكن الناس والأصوات فيه وهذا يكون في الغالب فيما بين طرفيه أو بعد مضى برهة من أوله أو ركد ظلامه من سجا البحر سكنت أمواجه قال الأعشى:
153

وما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم * وبحرك ساج لا يوارى الدعا مصا
فالسجو قيل على هذا في الأصل سكون الأمواج ثم عم والمراد بسكون ظلامه عدم تغيره بالاشتداد والتنزل أي فيما يحس ويظهر وذلك إذا كمل حسا بوصول الشمس إلى سمت القدم وقبيله وبعيده وصرح باعتبار الاشتداد ابن الأعرابي حيث قال سجا الليل اشتد ظلامه وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه قال أي إذا أقبل فغطى كل شيء وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس تفسير سجا بأقبل بدون ذكر التغطية وأخرجاهما وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا أنه قال سجا إذا ذهب وكلا التفسيرين خلاف المشهور وشاعر ليل ساكن أوساج لما لا ريح فيه ووصفه بذلك أعني السكون قيل على الحقيقة كما إذا قيل ليل لا ريح فيه ولا يقال إن الساكن هو الريح بالحقيقة لأن السكون عليها حقيقة محال لأنه هواء متحرك ثم إنهم يقولونه لما لا ريح فيه لا لما سكن ريحه والتحقيق أن يقال إن السكون على تفسيريه أعني عدم الحركة عما من شأنه الحركة أو كونين في حيز واحد لا يصح على الليل لأنه زمان خاص لكن لما كان سكون الهواء بمنزلة عدم له في العرف العامي لعدم الإحساس أو لتضمنه عدم الريح لا الهواء قيل ليل ساج وساكن وصف الليل على الحقيقة أي لا إسناد فيه إلى غير ملائم على أنه يحتمل أن يجعل السكون بهذا المعنى حقيقة عرفية وجوز حمل ما في الآية على هذا الشائع ولعل التقييد بذلك لأن الليل الذي لا ريح فيه أبعد عن الغوائل وقد ذكر بعض الفقهاء أن الريح الشديدة ليلا عذر من أعذار الجماعة ونقل عن قتادة ومقاتل أن المراد بالضحى هو الضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى عليه السلام وبالليل ليلة المعراج ومن الناس من فسر الضحى بوجهه صلى الله عليه وسلم والليل بشعره عليه الصلاة والسلام كما ذكر الإمام وقال لا استبعاد فيه وهو كما ترى ومثله ما قيل الضحى ذكور أهل بيته عليه الصلاة والسلام أناثهم وقال الإمام يحتمل أن يقال الضحى رسالته صلى الله عليه وسلم والليل زمان احتباس الوحي فيه لأن في حال النزول حصل الاستئناس وفي زمان الاحتباس حصل الاستيحاش أو الضحى نور علمه تعالى الذي يعرف المستور من الغيوب والليل عفوه تعالى الذي به يستر جميع العيوب أو الضحى إقبال الإسلام بعد أن كان غريبا والليل
إشارة إلى أنه سيعود غريبا أو الضحى كمال العقل والليل حال الموت أو الضحى علانيته عليه الصلاة والسلام التي لا يرى الخلق عليها عيبا والليل سره صلى الله عليه وسلم لا يعلم عالم الغيب عليها عيبا انتهى ولا يخفى أنه ليس من التفسير في شيء وباب التأويل والإشارة يدخل فيه أكثر من ذلك وتقديم الضحى على الليل بناء على ما قلنا أولا لرعاية شرفه لما فيه من ظهور زيادة النور وللنور شرف ذاتي على الظلمة لكونه وجوديا أو لكثرة منافعه أو لمناسبته لعالم الملائكة فإنها نورانية وتقديم الليل في السورة السابقة لما فيه من الظلمة التي هي لعدميتها أصل للنور الحادث بإزالتها لأسباب حادثة وقيل تقديمه هناك لأن السورة في أبي بكر وهو قد سبقه كفر وتقديم الضحى هنا لأن السورة في رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو صلى الله عليه وسلم لم يسبقه ذلك وتخصيصه تعالى الوقتين بالأقسام قيل ليشير سبحانه بحالهما إلى حال ما وقع له عليه الصلاة والسلام ويؤيد عز وجل نفي ما توهم فيه فكأنه تعالى يقول الزمان ساعة فساعة ساعة ليل وساعة نهار ثم تارة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار وأخرى بالعكس فلا الزيادة لهوى ولا النقصان لقلى بل كل لحكمة وكذا أمر الوحي مرة إنزال وأخرى حبس فلا كان الانزال عن هوى ولا الحبس عن قلى بل كل لحكمة وقيل ليسلى عز وجل بحالهما حبيبه عليه الصلاة والسلام كأنه سبحانه يقول انظر إلى هذين المتجاورين لا يسلم أحدهما من الآخر بل الليل يغلب تارة والنهار أخرى فكيف تطمع أن تسلم من الخلق والقولان مبنيان على أن المراد بالضحى
154

النهار كله وبالليل إذا سجى جميع الليل وتخصيص الضحى على ما سمعت ولا لما سمعت وتخصيص الليل بناء على أن المراد وقت اشتداد الظلمة قيل لأنه وقت خلو المحب بالمحبوب والأمن من كل واش ورقيب وقال الطيبي طيب الله تعالى ثراه في ذلك أنه تعالى أقسم له صلى الله عليه وسلم بوقتين فيهما صلاته عليه الصلاة والسلام التي جعلت قرة عينه وسبب مزبد قربه وأنسه أما الضحى فلما رواه الدارقطني في المجتبى عن ابن عباس مرفوعا كتب على النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها وأما الليل فلقوله تعالى * (ومن الليل فتهجد به) * نافلة لك إرغاما لأعدائه وتكذبا لهم في زعم قلاه وجفائه فكأنه قيل وحق قربك لدينا وزلفاك عندنا إنا اصطفيناك ما هجرناك وقليناك فهو كقوله: وثناياك انها اغريض
وهو مما تستطيبه أهل الأذواق ويمكن أن يكون الأقسام بالليل على ما نقل عن قتادة من باب وثناياك أيضا وكذا الأقسام بهما على بعض الأوجه المارة كما لا يخفى وعلى كون المراد بالضحى الوقت المعروف من النهار وبالليل جميعه قيل إن التفرقة للإشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل كما أن النبي عليه الصلاة والسلام يوازي جميع الأنبياء عليهم السلام وللإشارة لكون النهار وقت السرور والليل وقت الوحشة والغم إلى أن هموم الدنيا وغمومها أدوم من سرورها وقد روى أن الله تعالى لما خلق العرض أظلت عن يساره غمامه فنادت ماذا أمطر فأمرت أن تمطر الغموم والأحزان فامطرت مائة سنة ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى إتمام ثلثمائة سنة ثم أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء فنادت ماذا أمطر فأمرت أن تمطر السرور اسعة فلذا ترى الغموم والأحزان أدوم من المسار في الدنيا والله تعالى أعلم بصحة الخبر وقيل غير ذلك وقوله تعالى:
* (ما ودعك ربك وما قلى) *
* (ما ودعك ربك) * الخ جواب القسم وودع من التوديع وهو في الأصل من الدعة وهو أن تدعو للمسافر بأن يدفع الله تعالى عنه كآبة السفر وأن يبلغه الدعة وخفض العيش كما أن التسليم دعاء له بالسلامة ثم صار متعارفا في تشييع المسافر وتركه ثم استعمل في الترك مطلقا وفسر به هنا أي ما تركك ربك وفي البحر والكشاف التوديع مبالغة في الودع أي الترك لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك قيل وعليه يلزم أن يكون المنفي الترك المبالغ فيه دون أصل الترك مع أن الظاهر نفى ذلك فلا بد من أن يقال إنه إنما نفى ذلك لأنه الواقع في كلام المشركين الذي نزلت له الآية أو أن المبالغة تعود على النفي فيكون المراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة وقد ذكروا نظير هذين الوجهين في قوله تعالى: * (وما ربك بظلام للعبيد) * فتدبر وقيل: إن المعنى ما قطعك قطع المودع على أن التوديع مستعار استعارة تبعية للترك وفهي من اللطف والتعظيم ما لا يخفى فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته كما قال المتنبي: حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا * فلم أدر أي الظاعنين أشيع
وحقيقة التوديع المتعارف غير متصورة ههنا وتعقب بأنه على هذا لا يكون ردا لما قاله المشركون لأنهم لم يقولوا ودعه ربه على هذا المعنى كيف وهم بمعزل عن اعتقاد كونه عليه الصلاة والسلام بالمحل الذي هو صلى الله عليه وسلم فيه من ربه سبحانه وقيل في الجواب أنه يجوز أن يدل ودعه ربه على ذلك إلا أنهم قاتلهم الله تعالى قالوه على سبيل التهكم والسخرية وحين رد عليهم قصد ما يشعر به اللفظ على التحقيق وقيل إن الترك مطلق في كلامهم والظاهر من حال أنهم لم يريدوا الماهية من حيث هي ولا من حيث تحققها في ضمن ما لا يخل بشريف مقامه عليه الصلاة والسلام بل الماهية من حيث تحققها في ضمن ما يخل بذلك ولما كان المقصود إيناسه صلى الله عليه وسلم وإزالة وحشته عليه الصلاة والسلام جيء بما يتضمن نفي ما زعموه على أبلغ وجه كأنه قيل إن هذا
155

النوع الغير المخل بمقامك من الترك لم يكن فضلا عما زعموه من الترك المخل بعزيز مقامك وعندي أن الظاهر أن ذلك القول بأي معنى كان صادر على سبيل التهكم إذا كان المراد بالرب هو الله عز وجل وكان القائل من المشركين كما لا يخفى على المتأمل وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ما ودعك بالتخفيف وهي على ما قال ابن جني قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وخرجت على أن ودع مخفف ودع ومعناه معناه قال في " القاموس " ودعه كوضعه وودع بمعنى وقيل ليس بمخففة بل هو فعل برأسه بمعنى ترك وأنه يعكر على قول النحاة أماتت العرب ماضي يدع ويذر ومصدرهما واسم فاعلهما واسم مفعولهما واستغنوا بما ليترك من ذلك وفي المغرب أن النحاة زعموا أن العرب أماتت ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم أفصحهم وقد قال عليه الصلاة والسلام لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات وقرأ ما ودعك وقال أبو الأسود: ليت شعري عن خليلي ما الذي * غاله في الحب حتى ودعه
ومثله قول آخر: وثم ودعنا إل عمرو وعامر * فرائس أطراف المثقفة السمر
وهو دليل أيضا على استعمال ودع وهو بمعنى ترك المتعلق بمفعولين فلا تغفل وفي الحديث اتركوا الترك ما تركوكم ودعوا الحبشة ما ودعوكم وفي المستوفي أن كل ذلك قد ورد في كلام العرب ولا عبرة بكلام النحاة وإذا جاء نهر الله بطن نهر معقل نعم وروده نادر وقال الطيبي بعد أن ذكر ورود نظما ونثرا إنما حسن هذه القراءة الموافقة بين الكلمتين يعني هذه وما بعدها كما في حديث الترك والحبشة لأن رد العجز على الصدر وصنعة الترصيع قد جبرا منه وقيل إن القائلين إنما قالوا ودعه ربه بالتخفيف فنزلت فيكون المحسن له قصد المشاكلة لما قالوه وهم تكلموا بغير المعروف طيرة منهم كان غير المعروف من اللفظ مما يتشاءم به من الفأل الرديء أو أنهم لما قصدوا السخرية حسن استعمال اللفظ وقد قالوا يحسن استعمال الألفاظ الغريبة ونحوها في الهجاء فلا يبعد أن يكون في السخرية كذلك والحق أنه بعد ثبوت وروده لا يحتاج إلى تكلف محسن له والظاهر أن المراد بالرب هو الله عز وجل وفي التعبير عنه بعنوان الربوبية وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من اللطف ما لا يخفى فكأنه قيل ما تركك المتكفل بمصلحتك والمبلغ لك على سبيل التدريج كمالك اللائق بك * (وما قلى) * أي وما أبغضك وحذف المفعول لئلا يواجه عليه الصلاة والسلام بنسبة القلى وإن كانت في كلام منفي لطفا به صلى الله عليه وسلم وشفقة عليه عليه الصلاة والسلام أو لنفي صدوره عنه عز وجل بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم ولأحد من أصحابه ومن أحبه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة أو للاستغناء عنه بذكره من قبل مع أن فيه مراعاة للفواصل واللغة المشهورة في مضارع قلى يقلي كيرمي وطيىء تقول يقل بفتح العين كيرضى وتفير القلى بالبغض شائع وفي القاموس من الواوي قلا زيدا قلا وقلاه أبغضه ومن اليائي قلاه كرماه ورضيه قلى وقلاء ومقلية أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه أو قلاه في الهجر وقليه في البغض وفي مفرد ات الراغب القلي شدة البغض يقال قلاه يقلوه ويقليه فمن جعله من الواوي فهو من القلو أي الرمي من قولهم قلت الناقة براكبها قالوا وقلوت بالقلة فكان المقلو هو الذي يقذفه القلب من بغضه فلا يقبله ومن جعله من اليائي فمن قليت اليسر والسويق على المقلاة انتهى وبينهما مخالفة لا تخفى وعلى اعتبار شدة البغض فالظاهر أن ذلك في الآية ليس إلا لأنه الواقع في كلامهم قال المفسرون أبطأ جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال المشركون قد قلاه ربه وودعه فأنزل الله تعالى ذلك وأخرج الحاكم عن زيد بن أرقم قال لما نزلت * (تبت يدا أبي لهب) * الخ قيل لامرأة أبي لهب أم جميل أن محمدا صلى الله عليه
156

وسلم قد هجاك فاتته عليه الصلاة والسلام وهو صلى الله عليه وسلم جالس في الملا فقالت يا محمد علام تهجوني قال إني والله ما هجوتك ما هجاك إلا الله تعالى فقالت هل رأيتني أحمل حطبا أو في جيدي حبلا من مسد ثم انطلقت فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينزل عليه فاتته فقالت ما أرى صاحبك إلا قد ودعك وقلاك فأنزل الله تعالى ذلك وأخرج الترمذي وصححه وابن أبي حاتم واللفظ له عن جندب البجلي قال رمى صلى الله عليه وسلم بحجر في أصبعه فقال: / جسم]
ما أنت إلا اصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت
فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم فقالت له امرأة ما أرى شيظانك إلا قد تركك وفي رواية للترمذي أيضا والإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وجماعة بلفظ اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله تعالى والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وليس فيه حديث المرأة ولا الحجر والرجز وذلك لا يطعن في صحته وقال جمع من المفسرين أن اليهود سألوه عليه الصلاة والسلام عن أصحاب الكهف وعن الروح وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسلام سأخبركم غدا ولم يستثن فاحتبس عنه الوحي فقال المشركون ما قالوا فنزلت وقيل إن عثمان أهدى إليه صلى الله عليه وسلم عنقود عنب وقيل عذق تمر فجاء سائل فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدمه إليه عليه الصلاة والسلام ثانيا ثم عاد السائل فاعطيه وهكذا ثلاث مرات فقال عليه الصلاة والسلام ملاطفا لا غضبان أسائل أنت يا فلان أم تاجر فتأخر الوحي أياما فاستوحش فنزلت ولعلهم أيضا قالوا ما قالوا وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه من حديث خوله وكانت تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جروا دخل تحت سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات ولم نشعر به فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي فقال يا خولة ما حدث في بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام جبريل لا يأتيني فقلت يا نبي الله ما أتى علينا يو خير منا اليوم فأخذ برده فلبسه وخرج فقلت في نفسي لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بدا لي الجر وميتا فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة فقال يا خولة دثريني فأنزل الله تعالى * (والضحى والليل) * إلى قوله بسحانه: * (فترضى) * وهذه الرواية تدل على أن الانقطاع كان أربعة أيام وعن ابن جريج أنه كان اثني عشر يوما وعن الكلبي خمسة عشر يوما وقبل بضعة عشر يوما وعن ابن عباس خمسة وعشرين يوما وعن السدي ومقاتل أربعين يوما وأنت تعلم أن مثل ذلك مما يتفاوت العلم بمبدئه ولا يكاد يعلم على التحقيق إلا منه عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم وفي بعض الروايات ما يدل على أن قائل ذلك هو النبي عليه الصلاة والسلام فعن الحسن أنه قال أبطأ الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لخديجة أن ربي ودعني وقلاني يشكو إليها فقالت كلا والذي بعثك بالحق ما ابتدأك الله تعالى بهذه الكرامة إلا وهو سبحانه يريد أن يتمها لك فنزلت واستشكل هذا بأنه لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يظن أن الله تعالى شأنه ودعه وقلاه وهل إلا نحو من العزل وعزل النبي عن النبوة غير جائز في حكمته عز وجل والنبي عليه الصلاة والسلام أعلم بذلك ويعلم صلى الله عليه وسلم أيضا أن إبطاء الوحي وعكسه لا يخلو كل منهما عن مصلحة وحكمة وأجيب بأن مراده عليه الصلاة والسلام إن صح أن يجر بها ليعرف قدر علمها أو ليعرف الناس ذلك فقال ما قال صلى الله عليه وسلم بضرب من التأويل كان يكون قد قصد إن ربي ودعني وقلاني بزعم المشركين أو أن معاملته سبحانه إياي بإبطاء الوحي تشبه صورة معاملة المودع والقالي وأنت تعلم أن هذه الرواية شاذة لا يعول عليها ولا يلتفت إليها فلا ينبغي اتعاب الذهن بتأويلها
157

ونحوها ما دل على أن قائل ذاك خديجة رضي الله تعالى عنها أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عروة قال ابطأ جبريل عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم فجزع جزعا شديدا فقالت خدجية أرى ربك قد قلاك مما أرى من جزعك فنزلت * (والضحى والليل) * إلى آخرها والقول بأنها رضي الله تعالى عنها أرادت أن هذا الجزع لا
ينبغي أن يكون إلا من قلى ربك إياك وحاشى أي يقلاك فما هذا الجزع بعيد غاية البعد والمعول ما عليه الجمهور وصحت به الأخبار أن القائل هم المشركون وأنه عليه الصلاة والسلام إنما أحزنه بمقتضى الطبيعة البشرية تعبيرهم وعدم رؤية جبريل عليه السلام مع مزيد حبه إياه وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام ما جئتني حتى اشتقت إليك فقال جبريل عليه السلام كنت أنت إليك أشوق ولكني عبد مأمور وتلا وما نتنزل إلا بأمر ربك وفي رواية أنه عاتبه عليهما الصلاة والسلام فقال أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة وراوي هذا يروي أن السبب في إبطاء الوحي وجود جرو في بيته عليه الصلاة والسلام والروايات في ذلك مختلفة وجوز بعضهم أن يكون الإبطاء لتجمع الأسباب ثم أن قد زعم بعض بناء على بعض الروايات السابقة جواز أن يكون المراد بربك في ما وعدك ربك دون ما بعد صاحبك والمراد به جبريل عليه السلام وهو كما ترى وحيث تضمن ماسبق من نفي التوديع والقلي أنه عز وجل لا يزال يواصله عليه الصلاة والسلام بالوحي والكرامة في الدنيا بشر صلى الله عليه وسلم بأن ما سيؤتاه في الآخرة أجل وأعظم من ذلك فقيل:
* (وللاخرة خير لك من الاولى) *
* (وللآخرة خير لك من الأولى) * لما أنها باقية صافية عن الشوائب على الإطلاق وهذه فانية مشوبة بالمضار وما أوتي عليه الصلاة والسلام من شرف النبوة وإن كان مما لا يعادله شرف ولا يدانيه فضل لكنه لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض القادحة في تمشية الأحكام مع أنه عندما أعد له عليه الصلاة والسلام في الآخرة من السبق والتقدم على كافة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يوم الجمع يوم يوم النار لرب العالمين وكون أمته صلى الله عليه وسلم شهداء على سائر الأمم ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تحيط بها العبارات وتقصر دونها الإشارات بمنزلة بعض المبادي بالنسبة إلى المطالب كذا في الأرشاد والاختصاص الذي تقتضيه اللام قيل إضافي على معنى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بخيرية الآخرة دون من آذاه وشمت بتأخير الوحي عنه صلى الله عليه وسلم ولا مانع من عمومه لجميع الفائزين كيف وقد علم بالضرورة أن الخير المعد له عليه الصلاة والسلام خير من المعد لغيره على الإطلاق ويكفي في ذلك اختصاص المقام المحمود به صلى الله عليه وسلم على أن اختصاص اللام ليس قصريا كما قرر في موضعه وحمل الآخرة على الدار الآخرة المقابلة للدنيا والأولى على الدار الأولى وهي الدنيا هو الظاهر المروى عن أبي إسحق وغيره وقال ابن عطية وجماعة يحتمل أن يراد بهما نهاية أمره صلى الله عليه وسلم وبدايته فاللام فيهما للعهد أو عوض عن المضاف إليه أي لنهاية أمرك خير من بدايته لا تزال تتزايد قوة وتتصاعد رفعة وفي بعض الأخبار المرفوعة ما هو أظهر في الأول أخرج الطبراني في " الأوسط " والبيهقي في " الدلائل " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني فأنزل الله تعالى وللآخرة خير لك من الأولى ثم أن ربط الآية بما قبلها على الوجه الذي سمعت هو ما اختاره غير واحد من الأجلة وجوز أن يقال فيه أنه لما نزل ما ودعك ربك وما قلى حصل له عليه الصلاة والسلام به تشريف عظيم فكأنه صلى الله عليه وسلم استعظم ذلك فقيل له وللآخرة خير لك من الأولى على معنى أن هذا التشريف وإن كان عظيما إلا أن مالك عند الله تعالى في الآخرة خير وأعظم
158

وجوز أيضا أن يكون المعنى إنقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لما يتوهمون لأنه عزل عن النبوة وهو مستحيل في الحكمة بل أقصى ما في الباب أن يكون ذلك لأنه حصل الاستغناء عن السالة وذلك إمارة الموت فكأنه تعالى قال انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت لكن الموت خير لك فإن مالك عند الله تعالى في الآخرة أفضل مما لك الدنيا وهذا كما ترى دون ما قبله بكثير والمتبادر مما قرروه أن الجملة مستأنفة واللام فيها ابتدائية وقد صرح جمع بأنها كذلك في قوله تعالى:
* (ولسوف يعطيك ربك فترضى) *
* (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * وقالوا فائدتها تأكيد مضمون لجملة وبعدها مبتدأ محذوف أي ولانت سوف يعطيك الخ وأورد عليه أن التأكيد يقتضي الاعتناء والحذف ينافيه ولذا قال ابن الحاجب أن المبتدأ المؤكد باللام لا يحذف وأن اللام مع المبتدأ كقد مع الفعل وإن مع الاسم فكما لا يحذف الفعل والاسم ويبقيان بعد حذفهما كذلك لا يحذف المبتدأ وتبقى اللام وأنه يلزم التقدير والأصل عدمه وأن اللام لتخلص المضارع الذي في حيزها للحال كتأكيد مضمون الجملة وهو هنا مقرون بحرف التنفيس والتأخير فيلزم التنافي ورد بأن المؤكد الجملة لا المبتدا وحده حتى ينافي تأكيده حذفه وكلام ابن الحاجب ليس حجة على الفارسي وأمثاله وأن يحذف معها الاسم كثيرا كما ذكره النحاة وكذا قد يحذف بعدها الفعل كقوله: أزف الترحل غير أن ركابنا * لما تزل برحالنا وكان قد
مع أنه لو سلم فقد يفرق كما قال الطيبي بين أن وقد وهذه اللام بأنهما يؤثران في المدخول عليه مع التأكيد بخلاف هذه اللام فإن مقتضاه أن تؤكد مضمون الجملة لا غير وهو باقي وإن حذف المبتدا فالقياس قياس مع الفارق والنحويون يقدرون كثيرا في الكلام كما قدروا المبتدا في نحو قمت واصك عينه وهو لأجل الصناعة دون المعنى كما فيما نحن فيه واللام المؤكدة لا نسلم أنها لتلخيص المضارع للحال أيضا بل هي لمطلق التأكيد فقط ويفهم معهاالحال بالقرينة لأنه أنسب بالتأكيد على تسليم أنها لتخليصه للحال أيضا يجوز أن يقال إنها تجردت للتأكيد هنا بقرينة ذكر سوق بعدها والمراد تأكيد المؤخر أعني الإعطاء لا تأكيد التأخير فالمعنى أن الإعطاء كائن لا محالة وإن تأخر لحكمة وعلى تسليم أنها للأمرين ولا تجرد يجوز أن يقال نزل المستقبل أعني الإعطاء الذي يعقبه الرضا لتحقق وقوعه منزلة الواقع الحالي نظير ما قيل في قوله تعالى: * (إن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة) * وقيل يحسن هذا جدا فيما نحن فيه على القول بأن الإعطاء قد شرع فيه عند نزول الآية بناء على أحد أوجهها الآتية بعد أن شاء الله تعالى وذهب بعضهم بأن اللام الأولى للقسم وكذا هذه اللام وبقسميتها جزم غير واحد فالواو عليه للعطف فكلا الوعدين داخل في المقسم عليه ويكون الله تعالى قد أقسم على أربعة أشياء اثنان منفيان واثنان مثبتان وهو حسن في نظري واعترض بأن لام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة فلو كان للقسم لقيل لسوف يعطيك ربك ولا يخفى أن هذا أحد مذهبين للنحاة والآخر أن يستثنى ما قرن بحرف تنفيس كما هنا ففي " المغنى " أنه تجب اللام وتمتنع النون فيه كقوله: فوربي لسوف يجزى
الذي * أسلف المرء سيئا أو جميلا
وكذا مع فصل معمول الفعل بين اللام والفعل نحو لئن متم أو قتلتم لالى الله تحشرون ومع كون الفعل للحال نحو لاقسم وقد يمتنعان وذلك مع الفعل المنفي نحو تالله تفتؤ وقد يجبان وذلك فيما بقي نحو تالله لأكيدن أصنامكم وعليه لا يتجه الاعتراض مع أن الممنوع بدون النون في جواب القسم لا في المعطوف عليه كما هنا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإنما ذكرت اللام تأكيدا للقسم وتذكيرا به وبالجملة هذا الوجه أقل دغدغة من الوجه السابق ولا يحتاج فيه إلى توجيه جمع اللام مع سوف إذ لم يقل أحد من
159

علماء العربية بأن اللام القسمية مخلصة المضارع للحال كما لا يخفى على من تتبع كتبهم وظاهر كلام الفاضل الكلنبوي أن كلا من اللامين موضوع للدلالة على الحال ووجه الجمع على تقدير كونها في الآية قسمية بأنها محمولة على معناها الحقيقي وسوف محمولة على تأكيد الحكم ولذا قامت مقام إحدى النونين عند أبي على الفارسي وقد أطال رحمه الله تعالى الكلام فيما يتعلق بهذا المقام وأتى على غزارة فضله بما يستبعد صدوره من مقله وقال عصام الدين الأظهر أن جملة ما ودعك حالية أي ما ودعك ربك وما قلاك والحال أن الآخرة خير لك من الأولى وأنت تختارها عليها ومن حاله كذلك لا يتركه ربه ففيه إرشاد للمؤمنين إلى ما هو ملاك قرب العبد إلى الرب عز وجل وتوبيخ للمشركين بما هم فيه من التزام أمر الدنيا والإعراض عن الآخرة وحينئذ معنى قوله سبحانه: * (ولسوف يعطيك) * أنه سوف يعطيك الآخرة ولا يخفى حينئذ كمال اشتباك الجمل انتهى وفيه أن دخول اللام عليها مع دخوله على الجملة بعدها وسبقهما بالقسم يبعد الحالية جدا وأيضا المعنى ذكره على تقديرها غير ظاهر من الآية وكان الظاهر عليه عندك بدل لك كما لا يخفى عليك واختلف في قوله تعالى ولسوف الخ فقيل هو عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله عز وجل في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين وظهور الأمر وإعلاء الدين بالفتوح الواقعة في عصره صلى الله عليه وسلم وفي أيام خلفائه عليه الصلاة والسلام وغيرهم من الملوك الإسلامية وفشو الدعوة والإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ولما ادخر جل وعلا له عليه الصلاة والسلام في الآخرة من الكرامات التي لا يعلمها إلا هو جل جلاله وعم نواله وقيل عدة بما أعطاه سبحانه وتعالى في الدنيا من فتح مكة وغيره والجمهور على أنه عدة أخروية فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال هي الشفاعة وروى نحوه عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في " الحلية " من طريق حرب بن شريح قال قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين على جدهم وعليهم الصلاة والسلام أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحق هي قال أي والله حدثني محمد بن الحنفية عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اشفع لأمتي حتى ينادي ربي ارضيت يا محمد فأقول نعم يا رب رضيت ثم اقبل علي فقال إنكم تقولون يا معشر أهل العراق إن أرجى آية في كتاب الله تعالى يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله أن الله يغفر الذنوب جميعا قلت إنا لنقول ذلك قال فكلنا أهل البيت نقول إن أرجى آية في كتاب الله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى وقال هي الشفاعة وقيل هي أعم من الشفاعة وغيرها ويرشد إليه ما أخرجه العسكري في المواعظ وابن مردويه وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من جلد الإبل فلما نظر إليها قال يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا بنعيم الآخرة غدا فأنزل الله تعالى: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * وقال أبو حيان الأولى العموم لما في الدنيا والآخرة على اختلاف أنواعه والخبر المذكور لو سلم صحته لا يأبى ذلك نعم عطايا الآخرة أعظم من عطايا الدنيا بكثير فقد روى الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس أنه قال أعطاه الله تعالى في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابه المسك في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم وأخرج ابن جرير عنه أنه قال في الآية من رضا محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار وأخرج البيهقي في " شعب الايمان " عنه أنه قال رضاه صلى الله عليه وسلم أن يدخل أمته كلهم الجنة وفي رواية الخطيب في تلخيص المتشابه من وجه آخر عنه لا يرضى محمد صلى الله عليه وسلم وأحد من أمته النار وهذا ما تقتضيه
160

شفقته العظيمة عليه الصلاة والسلام على أمته فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصا عليهم رؤوفا بهم مهتما بأمرهم وقد أخرج مسلم كما في " الدر المنثور " عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام فمن تبعني فإنه مني وقوله تعالى في عيسى: * (أن تعذبهم فإنهم عبادك) * الآية فرفع عليه الصلاة والسلام يديه وقال اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقل له أنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك وفي إعادة اسم الرب مع إضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى أيضا من اللطف به صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى:
* (ألم يجدك يتيما فآوى) *
* (ألم يجدك يتيما فآوى) * تعديل لما أفاض عليه صلى الله عليه وسلم من أول أمره إلى وقت النزول من فنون النعماء العظام ليستشهد بالخاص الموجود على المترقب الموعود فيزداد قلبه الشريف وصدره الرحيب طمأنينة وسرورا وانشراحا وحبورا ولذا فصلت الجملة. والهمزة لإنكار النفي وتقرير النفي على أبلغ وجه كأنه قيل قد وجدك الخ ووجدته على ما قال الرضي بمعنى أصبته على صفة ويراد بالوجود فيه العلم مجازا بعلاقة اللزوم وفي مفردات الراغب لوجود اضرب وجود بالحواس الظاهرة ووجود بالقوى الباطنة ووجود بالعقل وما نسب إلى الله تعالى من لوجود فبمعنى العلم المجرد إذ كان الله تعالى منزها عن الوصف بالجوارح والآلات وقد فسره بعضهم هنا بالعلم وجعل مفعوله الأول الضمير ومفعوله الثاني يتيما وبعضهم بالمصادفة وجعله متعديا لواحد ويتيما حالا وأنت تعلم أن المصادفة لا تصح في حقه تعالى لأنها ملاقاة ما لم يكن في علمه سبحانه وتقديره جل شأنه فلا بد من التجوز بها عن تعلق علمه عز وجل بذلك واليتم انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه والإيواء ضم الشيء إلى آخر يقال آوى إليه فلانا أي ضمه إلى نفسه أي ألم يعلمك طفلا لا أبا لك فضمك إلى من قام بأمرك روي أن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتار تمرا من يثرب فتوفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم جنين قد أتت عليه ستة أشهر فلما وضعته كان في حجر جده مع أمه فماتت وهو عليه الصلاة
والسلام ابن ست سنين ولما بلغ عليه الصلاة والسلام ثماني سنين مات جده فكفله عمه الشفيق الشقيق أبو طالب بوصية من أبيه عبد المطلب وأحسن تربيته صلى الله عليه وسلم وفي " الكشاف " ماتت أمه عليه الصلاة والسلام وهو ابن ثماني سنين فكفله عمه وكان شديد الاعتناء بأمره إلى أن بعثه الله تعالى وكان يرى منه صلى الله عليه وسلم في صغره ما لم ير من صغير روي أنه قال يوما لأخيه العباس ألا أخبرك عن محمد صلى الله عليه وسلم بما رأيت منه فقال بلى قال: إني ضممته إلي فكنت لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولم ائتمن عليه أحدا حتى أني كنت أنومه في فراشي فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهية في وجهه وكره أن يخالفني فقال يا عماه اصرف وجهك عني حتى أخلع ثيابي إني لا أحب أن تنظر إلى جسدي فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش إذا بيني وبينه ثوب والله ما أدخلته في فراشي فإذا هو في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئا وكثيرا ما كنت أفقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فارجع وكنت كثيرا ما أسمع منه كلاما يعجبني وذلك عندما مضى بعض الليل وكنا لا نسمي على الطعام والشراب ولا نحمد وكان يقول في أول الطعام بسم الله الأحد فإذا فرغ من طعامه قال الحمد لله فكنت أعجب منه ولم أر منه كذبة ولا ضحكا ولا جاهلية ولا وقف مع الصبيان وهم يعلبون وهذا لعمري يغض من فيض. في المهد يعرب عن سعادة جده * أثر النجابة ساطع البرهان
161

وقيل المعنى ألم يجدك يتيما أبتك المراضع فآواك من مرضعة تحنو عليك بأن رزقها بصحبتك الخير والبركة حتى أحبتك وتكفلتك والأول هو الظاهر وقيل غير ذلك مما ستعلمه بعد إن شاء الله تعالى ومن بدع التفاسير على ما قال الزمخشري أن يتيما من قولهم درة يتيمة والمعنى ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير فآواك والأولى عليه أن يقال ألم يجدك واحدا عديم النظير في الخليقة لم يحو مثلك صدف إلا مكان فآواك إليه وجعلك في حق اصطفائه وقرأ أبو الأشعث فأوى ثلاثيا فجوز أن يكون من أواه بمعنى آواه وأن يكون من أوى له أي رحمه ومصدره أياواية وماوية وماوية وتحقيقه على ما قال الراغب أي رجع إليه بقلبه ومنه قوله: أواني ولا كفران لله أية
وقوله تعالى:
* (ووجدك ضآلا فهدى) *
* (ووجدك ضآلا فهدى) * عطف على ما يقتضيه الإنكار السابق كما أشير إليه أو على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه كأنه قيل أما وجدك يتيما فآوى ووجدك غافلا عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول كما في قوله تعالى: * (ما كنت تدري ما الكتاب) * وقوله سبحانه: * (وإن كنت من قبله لمن الغافلين) * فهدك إلى مناهجها في تضاعيف ما أوحى إليك من الكتاب المبين وعلمك ما لم تكن تعلم وعلى هذا كما قال الواحدي أكثر المفسرين وهو اختيار الزجاج وروى سعيد بن المسيب أن صلى الله عليه وسلم سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام فبينما هو راكب ناقة ذات ليلة ظلماء وهو نائم جاءه إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق فجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها بالحبسة ورده إلى القافلة فما في الآية إشارة إلى ذلك على ما قيل وقيل إشارة إلى ما روي عن ابن عباس من أنه صلى الله عليه وسلم ضل وهو صغير عن جده في شعاب مكة فرآه أبو جهل منصرفا من أغنامه فرده لجده وهو متعلق بأستار الكعبة يتضرع إلى الله تعالى في أن يرد إليه محمدا وذكر له أنه لما رآه أناخ الناقة وأركبه من خلفه فأبت أن تقوم فأركبه أمامه فقامت فكانت الناقة تقول يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدي وفي إرجاعه عليه الصلاة والسلام إلى أهله على يد أبي جهل وقد علم سبحانه منه أنه فرعونه يشبه إرجاع موسى عليه السلام إلى أمه على يد فرعون وقيل ضل عليه الصلاة والسلام مرة أخرى وطلبوه فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعا وتضرع إلى الله تعالى فسمعوا مناديا ينادي من السماء يا معشر الناس لا تضجوا فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه وأن محمدا بوادي تهامة عند شجرة السمر فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل فإذا النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يلعب بالأغصان والأوراق وقيل أضلته مرضعته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لترده على عبد المطلب فضالا على هذه الروايات من ضل في طريقه إذا سلك طريقا غير موصلة لمقصده وضعف حمل الآية على ذلك بأن مثله بالنسبة إلى ما تقدم لا يعد من نعم الله تعالى على مثل نبيه صلى الله عليه وسلم التي يمتن سبحانه بها عليه وقيل الضال الشجرة المنفردة في البيداء ليس حولها شجر والمراد أما وجدك وحدك ليس معك أحد فهدى الناس إليك ولم يتركك منفردا وقال الجنيد قدس سره أي وجدك متحيرا في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه وفيه قرب ما من الأول وقال بعضهم وجدك غافلا عن قدر نفسك فأطلعك على عظيم محلك وقيل وجدك ضالا عن معنى محض المودة فسقاك كأسا من شراب القربة والمودة فهداك به إلى معرفته عز وجل وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه كنت ضالا عن محبتي لك في الأزل فمننت عليك بمعرفتي وهو قريب من سابقه وقال الحريري أي وجدك مترددا في غوامض معاني المحبة فهداك لها وهو أيضا كذلك وكل ذلك منزع صوفي ورأى أبو حيان في منامه أن الكلام على حذف مضاف والمعنى ووجد رهطك ضالا فهدى بك وهو كما ترى في يقظتك وقوله تعالى:
* (ووجدك عآئلا فأغنى) *
162

* (ووجدك عائلا فأغنى) * على نمط سابقه والعائل المفتقر من عال يعيل عيلا وعيلة وعيولا ومعيلا افتقر أي وجدك عديم المقتنيات فأغناك بما حصل لك من ربح التجارة وذلك في سفره صلى الله عليه وسلم مع ميسرة إلى الشام وبما وهبته لك خديجة رضي الله تعالى عنها من المال وكانت ذا مال كثير فلما تزوجها عليه الصلاة والسلام وهبته جميعه له صلى الله عليه وسلم لئلا يقول قائل ما يثقل على سمعه الشريف عليه الصلاة والسلام وبمال أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وكان أيضا ذا مال فأتى به كله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام ما تركت لعيالك فقال تركت الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وقيل بما أفاء عليك من الغنائم وفيه أن السورة مكية والغنائم إنما كانت بعد الهجرة وقيل المراد فنعك وأغنى قلبك فإن غنى القلب هو الغنى وقد قيل من عدم القناعة لم يفده المال غنى وقيل أغناك به عز وجل عما سواه وهذا الغنى بالافتقار إليه تعالى وفي الحديث اللهم أغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك وبهذا ألم بعض الشعراء فقال: ويعجبني فقري
إليك ولم يكن * ليعجبني لولا محبتك الفقر
وشاع حديث الفقر فخرى وحمل الفقر فيه على هذا المعنى وهو على ما قال ابن حجر باطل موضوع وأشد منه وضعا وبطلانا ما يذكره بعض المتصوفة إذا تم الفقر فهو الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا وقد خاضوا في بيان المراد به بما لا يدفع بشاعته بل لا يقتضي استقامته وقيل عائلا أي ذا عيال من عال يعول عولا وعيالة كثر عياله ويحتمل المعنيين قول جرير: الله نزل في الكتاب فريضة * لابن السبيل وللفقير العائل
ولعل الثاني فيه أظهر ورجح الأول في الآية بقراءة ابن مسعود عديما وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن ذا عيال في أول أمره صلى الله عليه وسلم وقرأ اليماني عيلا كسيد بشد الياء المكسورة هذا وذكر عصام الدين في هذه الآيات أنه يحتمل أن يراد باليتيم فاقد المعلم فإن الآباء ثلاثة من علمك ومن زوجك ومن ولدك ويناسبه حمل الضلال على الضلال عن العلم وحمل العيال أي على تفسير عائلا بذا عيال على عيال الأمة الطالبة منه معرفة مصالح الدين مع احتايجه إلى المعرفة فأغناه الله تعالى بالوحي إليه عليه الصلاة والسلام ولا يخفى ما فيه وحذف المفعول في الأفعال الثلاثة لظهور المراد مع رعاية الفواصل وقيل ليدل على سعة الكرم والمراد آواك وآوى لك وبك وهداك ولك وبك وأغناك ولك وبك وظاهر الفاء مع تلك الأفعال نأبى ذلك وأطال الإمام الكلام في الآيات وأتى فيها بغث وسمين ولولا خشية الملل لذكرنا ما فيه.
* (فأما اليتيم فلا تقهر) *
* (فأما اليتيم فلا تقهر) * فلا تستذله كما قال ابن سلام وقريب منه قول مجاهد لا تحتقره وقال سفيان لا تظلمه بتضييع ماله وفي معناه ما قيل لا تغلبه على ماله ولعل التقييد لمراعاة الغالب والأولى حمل القهر على الغلبة والتذليل معابان يراد به التسلط بما يؤدي أو باستعمال المشترك في معنييه على القول بجوازه وفي مفردات الراغب القهر الغلبة والتذليل معا ويستعمل في كل واحد منهما وقرأ ابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي فلا تكهر بالكاف بدل القاف ومعناه على ما في " البحر " فلا تقهر وفي تهذيب الأزهري الكهر القهر والكهر عبوس الوجه والكهر الشتم واختار بعضهم هنا أوسطها فالمعنى فلا تعبس في وجهه وهو نهي عن الشتم والقهر على ما سمعت من معناه من باب الأولى وأيا ما كان ففي الآية دلالة على الاعتناء بشأن اليتيم وعن ابن مسعود مرفوعا من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر عليها يده نور يوم القيامة وعن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا أيضا أن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمان فيقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم
163

الذي غيب أبوه في التراب فيقول الملائكة أنت أعلم فيقول الله تعالى: يا ملائكتي إني أشهدكم أن علي لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة فكان عمر رضي الله تعالى عنه إذا رأى يتيما مسح رأسه وأعطاه شيئا ولم يصح في كيفية مسحه شيء والرواية عن ابن عباس في ذلك قد قيل فيها ما قيل وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أنا وكافل اليتيم كهاتين إذا اتقى الله عز وجل وأشار بالسبابة والوسطى إلى غير ذلك من الأخبار.
* (وأما السآئل فلا تنهر) *
* (وأما السائل فلا تنهر) * أي فلا تزجره ولكن تفضل عليه بشيء أورده بقول جميل وأريد به عند جمع السائل المستجدي الطالب لشيء من الدنيا وتدل الآية على الاعتناء بشأنه أيضا وعن إبراهيم ابن أدهم نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة وعن إبراهيم النخعي السائل يريد الآخرة يجىء إلى باب أحدكم فيقول أتبعثون إلى أهليكم بشيء وشاع حديث للسائل حق وإن جاء على فرس وقد قال فيه الإمام أحمد كما في تمييز الطيب من الخبيث لا أصل له وأخرجه أبو داود عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما موقوفا وسكت عنه وقال العراقي سنده جيد وتبعه غيره وقال ابن عبد البر أنه ليس بالقوي وعول كثير على ما قال الإمام أحمد وفي معناه احتمالان كل منهما يؤذن بالاهتمام بأمر السائل وروي من طرق عن عائشة وغيرها لو صدق السائل ما أفلح من رده وهو أيضا على ما قال ابن المديني لا أصله له وقال ابن عبد البر جميع أسانيده ليست بالقوية نعم أخرج الطبراني في الكبير عن أبي أمامة مرفوعا ما يقرب منه وهو لولا أن المساكين يكذبون ما أفلح من ردهم ولم أقف على من تعقبه. ثم النهي على النهر على ما قالوا إذا لم يلح في السؤال فإن ألح ولم ينفع الرد اللين فلا بأس بالزجر وقال أبو الدرداء والحسن وسفيان وغيرهم المراد بالسائل هنا السائل عن العلم والدين لا سائل المال ولعل النهي عن زجره على القول الأول يعلم بالأولى ويشهد للأولوية أنه لا وعيد على ترك إعطاء المستجدي لمن يجد ما يستجديه بخلاف ترك جواب سائل العلم لمن يعلم ففي الحديث من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار وسيأتي إن شاء الله تعالى ما قيل من أن الظاهر الثاني من القولين.
* (وأما بنعمة ربك فحدث) *
* (وأما بنعمة ربك فحدث) * فإن التحدث بها شكر لها كما قال عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة والفضيل بن عياض وأخرج البخاري في الأدب وأبو داود والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن حبان والبيهقي والضياء عن جابر بن عبد الله مرفوعا من أعطى عطاء فوجد فليجز به فإن لم يجد فليثن به فمن أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور ولذا استحب بعض السلف التحدث بما عمله من الخير إذا لم يرد به الرياء والافتخاء وعلم الاقتداء به بل بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم حمل الآية على ذلك أخرج ابن أبي حاتم عن مقسم قال لقيت الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما فقلت أخبرني عن قول الله تعالى وأما بنعمة ربك فحدث فقال الرجل المؤمن يعمل عملا صالحا فيخبر به أهل بيته وأخرج ابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال فيها: إذا أصبت خيرا فحدث إخوانك والظاهر أن المراد بالنعمة ما أفاضه الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم من فنون النعم التي من جملتها ما تقدم وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد تفسيرها بالنبوة ورووا عنه أيضا تفسيرها بالقرآن ووافقه في الأول محمد بن إسحاق وفي الثاني الكلبي وعليهما المراد بالتحديث التبليغ ولا يخفى أن كلا التفسيرين غير مناسب لما قبل وهذه الجمل الثلاث مرتبة على ما قبلها فقيل على اللف والنشر المشوش وحاصل المعنى أنك كنت يتيما وضالا وعائلا فآواك وهداك وأغناك فمهما يكن من شيء فلا تنس نعمة الله تعالى عليك في هذه الثلاث واقتد بالله تعالى فتعطف على اليتيم وترحم على السائل فقد ذقت اليتم والفقر وقوله تعالى: * (وأما
بنعمة) * الخ في مقابلة قوله سبحانه: وحدك ضالا فهدى لعمومه وشموله لهدايته عليه الصلاة والسلا من
164

الضلال بتعليم الشرائع وغير ذلك من النعم ولم يراع الترتيب لتقديم حقوق العباد على حقه عز وجل فإنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين وقيل لتقديم التخلية على التحلية أو للترقي أو لمراعاة الفواصل ونظر في كل ذلك وقال الطيبي: الظاهر أن المراد بالسائل طالب العلم لا المستجد وعليه لا مانع من كون التفصيل على الترتيب فيقال إنه تعالى ذكر أحواله صلى الله عليه وسلم على وفق الترتيب الخارجي بأن يراد بهدايته عليه الصلاة والسلام ما يعم توفيقه للنظر الصحيح في صباه فقد كان صلى الله عليه وسلم موفقا لذلك ولذا لم يعبد عليه الصلاة والسلام صنما أو يراد بإغنائه ما كان بعد البعثة ثم فصل سبحانه على ذلك الترتيب فجعل عدم قهر اليتيم في مقابلة إيوائه تعالى له عليه الصلاة والسلام في يتمه وعدم زجر السائل طالب العلم والمتعلم منه في مقابلة هدايته له والتحدث بالنعمة في مقابلة الغنى وإن كانت النعمة شاملة له ولغيره وآثر سبحانه فحدث على فخبر قيل ليكون ذكر النعمة منه عليه الصلاة والسلام حديثا لا ينساه ويوجده ساعة غب ساعة والله تعالى أعلم وندب التكبير عند خاتمة هذه السورة الكريمة وكذا ما بعدها إلى آخر القرآن العظيم فقد أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في " الشعب " من طريق أبي الحسن البزي المقري قال سمعت عكرمة بن سليمان يقول قرآت على إسماعيل بن قسطنطين فلما بلغت والضحى قال كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم فإني قرأت على عبد الله بن كثير فلما بلغت والضحى قال كبر حتى تختم وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمره بذلك وأخبره أن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أمره بذلك وأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك وكان ذلك منه عليه الصلاة والسلام فرحا بنزول الوحي بعد تأخره وبطئه حتى قيل ما قيل هذا وعلى ذلك عمل الناس اليوم والحمد لله رب العالمين.
سورة ألم نشرح
وتسمى سورة الشرح وهي كما روي عن ابن الزبير وعائشة مكية وأخرج ذلك ابن الضريس والنحاس والبيهقي وابن مردويه عن ابن عباس وفي رواية عنه زيادة نزلت بعد الضحى وزعم البقاعي أنها عنده مدنية وفي حديث طويل أخرجه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما هو ظاهر في أن قوله تعالى فيها: * (فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا) * نزل بالمدينة لكن في صحة الحديث توقف وآيها ثمان بالاتفاق وهي شديدة الاتصال بسورة الضحى حتى أنه روي عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان هما سورة واحدة وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وعلى ذلك الشيعة كما حكاه الطبرسي منهم قال الإمام والذي دعا إلى ذلك هو أن قوله تعالى: * (ألم نشرح) * كالعطف على قوله تعالى: * (ألم يجدك يتيما) * وليس كذلك لأن الأول كان عند اغتمام الرسول صلى الله عليه وسلم من إيذاء الكفرة وكانت الحالة حال محنة وضيق صدر والثاني يقتضي أن يكون حال النزول منشرح الصدر طيب القلب فأنى يجتمعان وفيه نظر والحق أن مدار مثل ذلك الرواية لا الدارية والمتواتر كونهما سورتين والفصل بينهما بالبسملة نعم هما متصلتان معنى جدا ويدل عليه ما في حديث الإسراء الذي أخرجه ابن أبي حاتم إن الله تعالى قال له عليه الصلاة والسلام يا محمد ألم أجدك يتيما فآويت وضالا فهديت وعائلا فأغنيت وشرحت لك صدرك وحططت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا ذكرت معي الحديث.
* (ألم نشرح لك صدرك) *
* (ألم نشرح لك صدرك) * الشرح في الأصل الفسح والتوسعة وشاع استعماله
165

في الإيضاح ومنه شرح الكتاب إذا أوضحه لما أن فسح الشيء وبسطه مستلزم لإظهار باطنه وما خفي منه وكذا شاع في سرور النفس حتى لو قيل أنه حقيقة عرفية فيه لم يبعد وذلك إذا تعلق بالقلب كان قيل شرح قلبه بكذا أي سره به لما أن القلب كالمنزل للنفس ويلزم عادة من فسح المنزل وتوسعته سرور النازل فيه وكذا إذا تعلق بالصدر الذي هو محل القلب وربما يؤذن ذلك بسعة القلب لما أن العادة كالمطردة في أن توسعة ما حوالي المنزل إنما تكون إذا كان المنزل واسعا فيوسع ما حواليه لتحصيل زيادة بهجة ونحوها فيه فينتقل منه إلى سور النفس بالواسطة وقد يراد به إذا تعلق بالقلب أو الصدر أيضا تكثير ما فيه من المعلومات فقيل يتخيل أنها تحتاج إلى فضاء تكون فيه وأن ذلك محل لها فمتى كانت كثيرة اقتضت أن يكون محلها واسعا ليسعها وقد يراد بها تكثير ما في النفس من ذلك فقيل أيضا بتخيل أن تكثير معلوماتها يستدعي توسيعها وتوسيعها يستدعي توسيع ذلك لتنزيله منزلة محلها وقد يراد به تأييد النفس بقوة قدسية وأنوار إلهية بحيث تكون ميدانا لمواكب المعلومات وسماء لكواكب الملكات وعرشا لأنواع التجليات وفرشا لسوائم الواردات فلا يشغله شأن عن شأن ويستوي لديه يكون وكائن وكان ووجه نسبته إلى الصدر على نحو ما مر وإرادة القلب من الصدر والنفس من القلب بعلاقة المحلية ونحوها مما لا تميل إليه النفس وإرادة كل مما ذكر بقرينة المقام والأنسب بمقام الامتنان هنا إرادة هذا المعنى الأخير وجوز غيره فالمعنى ألم نفسح صدرك حتى حوى عالمي الغيب والشهادة وجمع بين ملكتي الاستفادة والإفادة فما صدك الملابسة بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملكات الروحانية وما عاقك التعلق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شؤون الحق وقيل المعنى ألم نزل همك وغمك بإطلاعك على حقائق الأمور وحقار الدنيا فهان عليك احتمال المكاره في الدعاء إلى الله تعالى ونقل عن الجمهور أن المعنى ألم نفسحه بالحكمة ونوسعه بتيسيرنا لك نلقى ما يوحى إليك بعد ما كان يشق عليك وعن ابن عباس وجماعة أنه إشارة إلى شق صدره الشريف في صباه عليه الصلاة والسلام وقد وقع هذا الشق على ما في بعض الأخبار وهو عند مرضعته حليمة فقد روي عنها أنها قالت في شأنه عليه الصلاة والسلام لم نزل نتعرف من الله تعالى الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته فكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على بقائه عندنا لما نرى من بركته فقلنا لأمه لو تركتيه عندنا حتى يغلظ فإنا نخشى عليها وباء مكة فلم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به فوالله إنه لبعد مقدمنا به بشهر أو ثلاثة مع أخيه من الرضاعة لفي بهم لنا خلف بيوتنا جاء أخوه يشتد فقال ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه وشقا
بطنه فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فوجدناه قائما منتقعا لونه فاعتنقه أبوه وقال: أي بني ما شأنك قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه ثم رداه كما كان فرجعنا به معنا فقال أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب فانطلقي فرديه إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوفه قالت فاحتملناه إلى أمه فقالت ما ردكما به فقد كنتما حريصين عليه قلنا نخشى الاختلاف والأحداث فقالت ما ذالك بكما فأصدقاني شأنكما فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره فقالت أخشيتما عليه الشيطان لا والله ما للشيطان عليه سبيل وأنه لكائن لابني هذا شأن فدعاه عندكما وفي حديث لأبي يعلى وأبي نعيم وابن عساكر ما يدل على تكرر وقوع ذلك له عليه الصلاة والسلام وهو عند حليمة وقد وقع له صلى الله عليه وسلم أيضا بعد بلوغه صلى الله عليه وسلم ففي " الدر المنثور " أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن أبي بن كعب أن أبا هريرة قال يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوة فاستوى رسول
166

الله صلى الله عليه وسلم جالسا وقال لقد سألت أبا هريرة أني لفي صحراء ابن عشرين سنة وأشهر إذا بكلام فوق رأسي وإذا رجل يقول لرجل أهو هو فاستقبلاني بوجوه لم أرها بخلق قط وأرواح لم أجدها من خلق قط وثياب لم أجدها على أحد قط فأقبلا إلي يمشيان حتى إذا دنيا أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأخذهما مسا فقال أحدهما لصاحبه افلق صدره فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع فقال له أخرج الغل والحسد فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها فقال له أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة ثم حزا إبهام رجلي اليمنى وقال اغد وأسلم فرجعت أغدوا بها رأفة على الصغير ورحمة على الكبير والذي رأيته في شرح الهمزية لابن حجر المكي رواية هذا الخبر بلفظ آخر وفيه أني لفي صحراء واسعة ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسي يقول أحدهما لصاحبه أهو هو إلى آخر ما فيه فيكون الشق عليه قبل البلوغ أيضا والله تعالى أعلم ثم إنه على الروايتين ليس نصا على نفي وقوع شق قبله لجواز أن يكون الذي استشعر منه النبوة هو هذا لا ما قبله ووقع له عليه الصلاة والسلام أيضا عند مجىء جبريل عليه السلام بالوحي في غار حراء وممن روى ذلك الطيالسي والحرث في مسنديهما وكذا أبو نعيم ولفظه أن جبريل وميكائيل عليهما السلام شقا صدره وغسلاه ثم قال * (اقرأ باسم ربك) * الآيات ووقع أيضا مرة أخرى تواترت بها الروايات خلافا لمن أنكرها ليلة الإسراء به صلى الله عليه وسلم روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن قتادة قال حدثنا أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان فأتيت بطست من ذهب فيها ماء زمزم فشرح صدري إلى كذا وكذا قال قتادة قلت يعني لأنس ما تعني قال: إلى أسفل بطني قال فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ثم أعيد مكانه ثم حشي إيمانا وحكمة ثم أتى بدابة دون البغل وفوق الحمار البراق فانطلقت مع جبريل عليه السلام حتى أتينا السماء الدنيا الحديث وطعن القاضي عبد الجبار في ذلك بما حاصله أنه يلزم على وقوعه في الصغر وقبل النبوة تقدم المعجزة على النبوة وهو لا يجوز ووقوعه بعد النبوة وإن لم يلزم عليه ما ذكر إلا أن ما ذكر معه من حديث الغسل وإدخال الرأفة والرحمة وحشو الإيمان والحكمة يرد عليه أن الغسل مما لا أثر له في التكميل الروحاني وإنما هو لإزالة أمر جسماني وأنه لا يصح إدخال ما ذكر وحشوه فإنما هو شيء يخلقه الله تعالى في القلب وليس بشيء فإن تقدم الخارق على النبوة جائز عندنا ونسميه إرهاصا والأخبار كثيرة في وقولعه له عليه الصلاة والسلام قبل النبوة والغسل بالماء كان لإزالة أمر جسماني ولا يبعد أن يكون إزالته وغسل المحل بماء مخصوص كماء زمزم على ما صح في بعض الروايات ولذا قال البلقيني: إنه أفضل من مكاء الكوثر موجبا لتبديل المزاج وهو مما له دخل في التكميل الروحاني ولذا يأمر المشايخ السالكين لديهم بالرياضة التي يحصل بها تبديل المزاج ويرشد إلى ذلك تغير أحوال النفس وأخلاقها صبا وكهولة وشيخوخة والمراد من إدخال الرأفة وحشو الإيمان مثلا إدخال ما به يحصل كمال ذلك وكثيرا ما يسمى المسبب باسم السبب مجازا ويحتمل أن يكون على حقيقته وتجسم المعاني جائز وقال العارف بن أبي جمرة كما في " المواهب اللدنية " للعسقلاني ما حاصله: إن ما دل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على جوهريته وجسميته من أعيان المخلوقات التي ليس للحواس إلى إدراكها سبيل هو كما دل عليه كلامه عليه الصلاة والسلام في نفس الأمر وأن الحكم من المتكلم أو نحوه عليها بالعرضية إنما هو باعتبار ما ظهر له بعقله وللعقل حد يقف عنده والحقيقة في الحقيقة ما دل عليه خبر الشارع المؤيد بالوحي الإلهي والنور القدسي المحلق بجناحيهما في جو الحقائق إلى حيث لا يسمع لنحلة العقل دندنة ولا للرواة عنه عنعنة فالإيمان والحكمة ونحوهما مما دل عليه كلام النبي
167

صلى الله عليه وسلم على جوهريتها جواهر محسوسة لا معان وإن حسبها من حسبها كذلك انتهى والأمر فيه اعتقادا وإنكارا إليك ولا ألزمك الاعتقاد فما أريد أن أشق عليك وقال بعض الأجلة لعل ذلك من باب التمثيل إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرا كما مثل له عليه الصلاة والسلام الجنة والنار في عرض حائط مسجده الشريف وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس وهو ميل إلى عدم الوقوع حقيقة وقد قال غير واحد جميع ما ورد من الشق وإخراج القلب وغيرهما يجب الإيمان به وإن كان خارقا للعادة ولا يجوز تأويله لصلاحية القدرة له ومن زعم ذلك وقع في هوة المعتزلة في تأويلهم نصوص سؤال الملكين وعذاب القبر ووزن الأعمال والصراط وغير ذلك بالتشهي وأما حكمة ذلك مع إمكان إيجاد ما ترتب عليه بدونه فقد أطالوا الكلام في بيانها في موضعه نعم حمل الشرح في الآية على ذلك الشق ضعيف عند المحققين والتعبير عن ثبوت الشرح بالاستفهام الإنكاري عن انتفائه للإيذان بأن ثبوته من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن يجيب عنه بغير بلى وإسناد الفعل إلى ضمير العظمة للإيذان بعظمته وجلالة قدره وزيادة الجار والمجرور مع توسيطه بين الفعل ومفعوله للإيذان من أول الأمر بأن الشرح من منافعه عليه الصلاة والسلام ومصالحه مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم وتشويقا له عليه الصلاة والسلام إلى ما يعقبه ليتمكن عنده وقت وروده فضل تمكن وقرأ أبو جعفر المنصور ألم نشرح بفتح الحاء وخرجه ابن عطية وجماعة على أن الأصل ألم نشرحن بنون التأكيد الخفيفة فأبدل من النون ألفا ثم حذفها تخفيفا كما في قوله: / جسم]
اضرب عنك الهموم طارقها * ضربك بالسيف قونس الفرس
ولا يخفى أن الحذف هنا أضعف مما في البيت لأن ذلك في الأمر وهذا في النفي ولهذا روى ابن جني في المنتفى عن أبي مجاهد أنه غير جائز أصلا فنون التوكيد أشبه شيء به الإسهاب والإطناب لا الإيجاز والاختصار والبيت يقال أنه مصنوع والأولى في التمثيل ما أنشده أبو زيد في نوادره: من أي يومي من الموت افر * أيوم لم يقدر
أم يوم قدر
وقال غير واحد لعل أبا جعفر بين الحاء وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها وفي " البحر " أن لهذه القراءة تخريجا أحسن مما ذكر وهو أن الفتح على لغة بعض العرب من النصب بلم فقد حكى اللحياني في نوادره أن منهم من ينصب بها ويجزم بلن عكس المعروف عند الناس وعلى ذلك قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد: في كل ما هم أمضى رأيه قدما * ولم يشاور في الأمر الذي فعلا
وخرجها بعضهم على أن الفتح لمحاورة ما بعدها كالكسر في قراءة الحمد لله بالجر وهو لا يتأتى في بيت عائشة ويتأتى فيما عداه مما مر وقوله تعالى:
* (ووضعنا عنك وزرك) *
* (ووضعنا عنك وزرك) * عطف على ما أشير إليه من مدلول الجملة السابقة كأنه قيل قد شرحنا لك صدرك ووضعنا الخ وعنك متعلق بوضعنا وتقديمه على المفعول الصريح لما مر من القصد إلى تعجيل المسرة والتشويق إلى المؤخر ولما أن في وصفه نوع طول فتأخير الجار والمجرور عنه مخل بتجاوب أطراف النظم الكريم والوزر الحمل الثقيل أي وحططنا عنك حملك الثقيل.
* (الذىأنقض ظهرك) *
* (الذي أنقض ظهرك) * أي حمله على النقيض وهو صوت الانتقاض والانفكاك أعني الصرير ولا يختص بصوت المحامل والرجال بل يضاف إلى المفاصل فيقال نقيض المفاصل ويراد صوتها فتقيض الظهر ما يسمع من مفاصله من الصوت لثقل الحمل وعليه قول عباس بن مرداس: وأنقض ظهري ما تطويت منهم * وكنت عليهم مشفقا متحننا
168

واسناد الانقاض للحمل إسناد للسبب الحامل مجازا والمراد بالحمل المنقض هنا ما صدر منه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة مما يشق عليه صلى الله عليه وسلم بعد أو غفلته عن الشرائع ونحوها مما لا يدرك إلا بالوحي مع تطلبه صلى الله عليه وسلم له أو حيرته عليه الصلاة والسلام في بعض الأمور كأداء حق الرسالة أو الوحى ويلقيه فقد كان يثقل عليه صلى الله عليه وسلم في ابتداء أمره جدا أو ما كان يرى صلى الله عليه وسلم من ضلال قومه مع العجز عن إرشادهم لعدم طاعتهم له وإذعانهم للحق أو ما كان يرى من تعديهم في إيذائه عليه الصلاة والسلام أو همه عليه الصلاة والسلام من وقاة أبي طالب وخديجة بناء على نزول الصورة بعد وفاتهما ويراد بوضعه على الأول مغفرته وعلى الثاني إزالة غفلته عليه الصلاة والسلام عنه بتعليمه إياه بالوحي ونحوه على الثالث إزالة ما يؤدي للحيرة وعلى الرابع تيسيره له صلى الله عليه وسلم بتدربه واعتياده له وعلى الخامس توفيق بعضهم للإسلام كحمزة وعمر وغيرهما وعلى السادس تقويته صلى الله عليه وسلم على التحمل وعلى السابع إزالة ذلك يرفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك ويحاه وفوزه بمشاهدة محبوبه الأعظم ومولاه عز وجل وأيا ما كان ففي الكلام استعارة تمثيلية والوضع ترشيح لها وليس فيه دليل لنا في العصمة كما لا يخفى واختار أبو حيان كون وضع الوزر كتابة عن عصمته صلى الله عليه وسلم عن الذنوب وتطهيره من الأدناس عبر عن ذلك بالوضع على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك كما يقول القائل رفعت عنك مشقة الزيارة لمن لم يصدر منه زيارة على طريق المبالغة في انتفاء الزيارة منه له والتمثيل عليه بحاله على ما قيل وقيل المراد وزر أمتك وإنما أضيف إليه صلى الله عليه وسلم لاهتمامه بشأنه وتفكره في أمره والمراد بوضعه رفع غائلته في الدنيا من العذاب الهاجل ما دام صلى الله عليه وسلم فيهم وما داموا يستغفرون فقد قال سبحانه وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ولا يخفى بعد هذا الوجه وقرأ أنس وحططنا وحللنا مكان وضعنا وقرأ ابن مسعود وحللنا عنك وقرك.
* (ورفعنا لك ذكرك) *
* (ورفعنا لك ذكرك) * بالنبوة وغيرها وأي رفع مثل أن قرن اسمه عليه الصلاة والسلام باسمه عز وجل في كلمتي الشهادة وجعل طاعته طاعته وصلى عليه في ملائكته وأمر المؤمنين بالصلاة عليه وخاطبه بالألقاب كيا أيها المدثر يا أيها المزمل يا أيها النبي يا أيها الرسول وذكره سبحانه في كتب الأولين وأخذ على الأنبياء عليهم السلام وأممهم أن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم وروي عن مجاهد وقتادة ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وغيرهم أنهم قالوا في ذلك لا أذكر إلا ذكرت معي وفيه حديث مرفوع أخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتاني جبريل عليه السلام فقال إن ربك يقول أتدري كيف رفعت ذكرك قلت الله تعالى أعلم قال إذا ذكرت ذكرت معي وكان ذلك من الاقتصار على ما هو أعظم قدرا من أفراد رفع الذكر ويشير إلى عظم قدره قول حسان: أغر عليه للنبوة خاتم * من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الاله اسم النبي إلى اسمه * إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
ولا يخفى لطف ذكر الرفع بعد الوضع والكلام في العطف وزيادة لك كالذي سلف والفاء في قوله عز وجل:
* (فإن مع العسر يسرا) *
* (فإن مع العسر يسرا) * على ما في الكشاف فصيحة والكلام وعد له صلى الله عليه وسلم مسوق للتسلية والتنفيس قال كان المشركون يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم
169

والمؤمنين بالفقر والضيقة حتى سبق إلى ذهنه الشريف عليه الصلاة والسلام أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم فذكره سبحانه ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال تعالى شأنه إن مع العسر يسرا كأنه قال سبحانه خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله تعالى فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا وهو ظاهر في أن أل في العسر
للعهد وأما التنوين في يسرا فللتفخيم كأنه قيل إن مع العسر يسرا عظيما وأي يسر والمراد به ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يسر الدنيا مطلقا وقوله تعالى:
* (إن مع العسر يسرا) *
* (إن مع العسر يسرا) * يحتمل أن يكون تكريرا للجملة السابقة لتقرير معناها وفي النفوس وتمكينها في القلوب كما هو شأن التكرير ويحتمل أن يكون وعدا مستأنفا وال والتنوين على ما سبق بيد أن المراد باليسر هنا ما تيسر لهم في أيام الخلفاء أو يسر الآخرة واحتمال الاستئناف هو الراجح لما علم من فضل التأسيس على التأكيد كيف وكلام الله تعالى محمول على أبلغ الاحتمالين وأوفاهما والمقام كما تقدم مقام التسلية والتنفيس والاستئناف نحوى وتجرده عن الواو أكثر من أن يحصى ولا يحتاج إلى بيان نكتة لأنه الأصل وقال عصام الدين لا يبعد أن تكون نكتة الفصل كونه في صورة التكرير فاحفظه فإنه من البدائع وتعقب بنحو ما ذكرنا وكان الظاهر على ما سمعت من المراد باليسر تعريفه إلا أنه أوثر التنكير التفخيم وقد يقال إن فائدته الظهور في التأسيس لأن النكرة المعادة ظاهرها التغاير والاشعار بالفرق بين العسر واليسر ويظهر مما ذكر وجه ما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي عن الحسن قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحا مسرورا وهو يضحك ويقول لن يغلب عسر يسرين أن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا وأفاد بعض الأجلة أن الكلام تقرير لما قبله وعدة له صلى الله عليه وسلمبتيسير كل عسير فالفاء قيل سيبية ودخلت على السبب وان تعارف دخولها على المسبب لتسبب ذكره عن ذكره فإن ذكر أحدهما يستدعي ذكر الآخر وال في العسر للاستغراق فيدخل فيه سبب النزول والتنوين في يسرا على ما سبق كأنه قيل فعلنا لك كذا وكذا لأن مع كل عسر كضيق الصدر والوزر المنقض للظهر والخمول يسرا عظيما كالشرح والوضع ورفع الذكر فلا تيأس من روح الله تعالى إذا عراك ما يغمك وقال بعضهم الفاء للتفريع وهو من قبيل تفريع الحكم على الدليل في صورة الاستدلال بالجزئي على الكلي وذلك كما تقول اما ترى إلى الإنسان والفرس والغنم كلها تحرك الفك الأسفل عند المضغ فاعلم بذلك إن كل حيوان يفعل كذلك فتدبر وفي الجملة الثانية الاحتمالان السابقان والاستئناف أيضا هو الراجح لما تقدم وعلى اتحاد العسر وتعديد اليسر يكون الحاصل من الجملتين إن مع كل عسر يسرين عظيمين والظاهر أن المراد بذينك اليسرين يسر دنيوي ويسر أخروي وقيل الظاهر أن الجملة الثانية تكرير للأولى وتأكيد لها فاليسر فيها عين اليسر في الأولى كما أن العسر كذلك والكلام نظير قولك أن مع الفارس رمحا أن مع الفارس رمحا وهو ظاهر وحدة الفارس والرمح ولن يغلب عسر يسرين ليس نصا في الحمل على الاستئناف إذ يصح على التأكيد أيضا بأن يكون مبنيا على كون التنوين في يسرا للتفخيم فحمل لقوة الرجاء على يسر الدارين وذلك يسران في الحقيقة ويشهد لذلك أنه ليس في مصحف ابن مسعود الجملة الثانية مع أنه جاء عنه أيضا لن يغلب عسر يسرين وقيل يمكن أن يحمل الخبر على أنه لن يغلب فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين وتكريره في مقام الوعد وهو كما ترى والمشهور على جميع الأوجه أنه شبه التقارب بالتقارن فاستعير لفظ مع لمعنى بعد وذلك للمبالغة في معاقبة اليسر العسر واتصاله به واستشكل أمر الاستغراق بأن من العسر
170

ما لا يعقبه يسر دنيوي كالفقر والمرض الدائمين إلى الموت ولا أراك ترضى القول بأن الموت يسر دنيوي وإن من العسر مالا يعقبه يسر أخروي أيضا كعسر الكافر والجواب أن الحكم بالنسبة للمؤمنين كما يقتضيه مقام التسلية والتنفيس ويشعر به ما رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم قال كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن شدة يجمل الله تعالى بعده فرجا ولن يغلب عسر يسرين لا يحسم الاشكال إذ يبقى معه إن من عسر المؤمن ما لا يعقبه يسر دنيوي كما هو ظاهر بل منه ما لا يعقبه بسر أخروي أيضا وذلك كعسر المؤمن الجازع فإنه لا يثاب عليه في الآخرة والظاهر من اليسر الأخروي هو الثواب فيها على ذلك العسر وإرادة المؤمن الصابر يبقى معها إن من عسره أيضا ما لا يعقبه اليسر الدنيوي وأجاب بعض على وجه التأكيد بأن الاستغراق عرفي ويكفي فيه أن العسر في الغالب يقبه يسر وعلى وجه التأسيس بهذا مع كون الحكم بالنسبة للمؤمن الصابر وآخر بأن الحكم مشروط بمشيئته تعالى وإن لم تذكر قيل ويشعر بذلك ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام لن يغلب عسران شاء الله تعالى يسرين ويفهم من كلام بعض الأفاضل أنه يجوز على وجه التأكيد أن يكون مع على ظاهرها والتنوين في يسرا للنوعية ولا اشكال في الاستغراق إذ لا يخلو لمرة في حال العسر عن نوع من اليسر وأقله دفع ما هو أعظم مما أصابه عنه ويجوز أن يكون التنوين للتفخيم أيضا ويكون اليسر العظيم المقارن للعسر هو دفع ذلك الأعظم وما من عسر إلا وعند الله تعالى أعظم منه وأعظم وأنه لا يأبى ذلك لن يغلب عسر يسرين اما لأن المعنى لن يغلب فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين في مقام التسلية أو لأن الآية أفادت ان مع العسر يسرا وقد علم أن بعده آخر على ما جرت به العادة الغالبة أو فهم من قوله تعالى * (سيجعل الله بعد هسر يسرا) * إن كان نزوله متقدما وذكر بعضم ان المعية على حقيقتها عند الخاصة على معنى ان كل ما فعل المحبوب محبوب كما يشير إليه قول الشيخ عمر بن الفارض قدس سره. وتعذيبكم عذب لدى وجوركم * على بما يقضي الهوى لكم عدل
وقول الآخر: برجا تم أزتوهرجه * رسد جاي منت است
كدناوك جفا ست * وكر خنجر ستم
وتسمية ذلك عسرا لأنه في نفسه وعند العامة كذلك لا بالنسبة إلى من أصابه من المحبين المستعذبين له والكل كما ترى ثم أنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما أخرجه البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وحياله حجر فقال عليه الصلاة والسلام لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه فانزل الله تعالى إن مع العسر يسرا الخ ولفظ الطبراني وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مع العسر يسرا وإرادة العهد اسلم من القيل والقال وكأن من اختاره اختاره لذلك مع الاستئناس له بسبب النزول لكن الذي يقتضيه الظواهر ومقاماتها الخطابية
الاستغراق فإذا قيل به فلا بد من التقييد بكون من أصابه العسر واثقا بالله تعالى حسن الرجاء به عز وجل منقطعا إليه سبحانه أو بنحو ذلك من القيود فتدبر والله تعالى الميسر لكل ما يتعسر. وقرأ ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى العسر ويسرا في الموضعين بضم السين.
* (فإذا فرغت فانصب) *
* (فإذا فرغت) * أي من عبادة كتبليغ الوحي * (فانصب) * فاتعب في عبادة أخرى شكرا لما عددنا عليك من النعم السالفة ووعدناك من الآلاء الآنفة كأنه عز وجل لما عدد عليه ما عدد ووعده صلى الله عليه وسلم بما وعد بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة وإن لا يخلي وقتا من أوقاته منها فإذا فرغ من
171

عبادة أتبعها بأخرى.
* (وإلى ربك فارغب) *
* (وإلى ربك) * وحده * (فارغب) * فاحرص بالسؤال ولا تسأل غيره تعالى فإنه القادر على الاسعاف لا غيره عز وجل وأخرج ابن جرير وغيره من طرق عن ابن عباس أنه قال أي إذا فرغت من لصلاة فانصب في الدعاء وروي نحوه عن الضحاك وقتادة وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أي إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل وعن الحسن أي إذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم نحوه وأخرج ابن نصر وجماعة عن مجاهد أي إذا فرغت من أسباب نفسك وفي لقظ من دنياك فصل وفي رواية أخرى عنه نحو ما روي عن ابن عباس والأنسب حمل الآية على ما تقدم وأما قول ابن عباس ومن معه فهو تخصيص لبعض العبادات فراغا وشغلا اما مثالا لا أن اللفظ خاص وهو الأظهر وكذا يقال فيما روي عن ابن مسعود واما لأن الصلاة أم العبادات البدنية والدعاء مخ العبادة فهما هما وقول الحسن فيه ما شاع من قوله صلى الله عليه وسلم رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وهو قريب إلا أنه قيل عليه أن السورة مكية والأمر بالجهاد بعد الهجرة ولعله يقول بمدنيتها أو مدنية هذه الآية أو أنها مما تأخر حكمه عن نزوله كآيات أخر وقول مجاهد نظر فيه إلى أن الفراغ أكثر ما يستعمل في الخلو عن الأشغال الدنيوية كما في قوله صلى الله عليه وسلم اغتنم فراغك قبل شغلك وهو أضعف الأقوال لبعده عما يقتضيه السياق وتؤذن به الفاء وقال عصام الدين لا نسب ان يراد فإذا فرغت من يسر فانصب بعسر آخر طلبا لليسرين فإذا كنت كذلك فكن راغبا إلى ربك يعني لا تتحمل عسر الدنيا طمعا في يسرين فيها بل تحمل عسر طلب الرب وقربه جل شأنه لليسرين انتهى ولعمري أنه خلاف ما يفهمه من لا سقم في ذهنه من اللفظ. وأشعرت الآية بأن اللائق بحال العبد أن يستغرق أوقاته بالعبادة أو بأن يفرغ إلى العبادة بعد أن يفرغ من أمور دنياه على ما سمعت من قول مجاهد فيها وذكروا ان قعود الرجل فارغا من غير شغل أو استغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه من سفه الرأي وسخافة العقل واستيلاء الغفلة وعن عمر رضي الله تعالى عنه أني لأكره أن أرى أحدكم فارغا سبهللا لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته وروي أن شريكا مر برجلين يصطرعان فقال ما بهدا أمر الفارغ وقرأ أبو السمال فرغت بكسر الراء وهي لغة قال الزمخشري ليست بفصيحة وقرأ قوم فانصب بشد الباء مفتوحة من الانصباب والمراد فتوجه إلى عبادة أخرى كل التوجه ونسب إلى بعض الأمامية انه قرأ فانصب بكسر الصاد فقيل أي فإذا فرغت من النبوة فانصب عليا للإمامة وليس في الآية دليل على خصوصية المفعول فللسنى أن يقدره أبا بكر رضي الله تعالى عنه فإن احتج الإمامي بما وقع في غدير خم منع السني دلالته على ما ثبت عنده على النصب وصحته على ما يرويه الإمامي واحتج لما قدره بقوله صلى الله عليه وسلم مروا أبا بكر فليصل بالناس وقال إنه أوفق بإذا فرغت لما أنه صدر منه عليه الصلاة والسلام في مرض وفاته قيل وفاته صلى الله عليه وسلم بخلاف ما كان في الغدير فإنه لا يظهر أن زمانه زمان فراغ من النبوة ظهور كون زمان الأمر كذلك وإن رجع وقال المراد فإذا فرغت من الحج فانصب عليا ورد عليه أمر مكية السورة مع ما لا يخفى وقال في الكشاف لو صح ذلك للرافضي لصح للناصبي أن يقرأ هكذا ويجعله أمرا بالنصب الذي هو بغض علي كرم الله تعالى وجهه وعداوته وفيه نظر ومن الناس من قدر المفعول خليفة والأمر فيه هين وقال ابن عطية أن هذه القراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة فرغب أمر من رغب بشد الغين أي فرغب الناس إلى طلب ما عنده عز وجل.
سورة والتين
172

ويقال لها سورة التين بلا واو مكية في قول الجمهور وعن قتادة أنها مدنية وكذا عن ابن عباس علي ما في البحر ومجمع البيان برواية المعدل وأخرج عنه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي ما يوافق قول الجمهور ويؤيده إشارة الحضور في قوله تعالى وهذا البلد الأمين فإن المراد به مكة بإجماع المفسرين فيما نعلم وآيها ثمان آيات في قولهم جميعا ولما ذكر سبحانه في السورة السابقة حال أكمل النوع الإنساني بالاتفاق بل أكمل خلق الله عز وجل على الإطلاق صلى الله عليه وسلم ذكر عز وجل في هذه السورة حال النوع وما ينتهي إليه أمره وما أعد سبحانه لمن آمن منه بذلك الفرد الأكمل وفخر هذا النوع المفضل صلى الله عليه وسلم وشرف وعظم وكرم فقال عز قائلا
* (والتين والزيتون * وطور سينين * وه‍اذا البلد الامين) *
* (والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين) * أقسام ببقاع مباركة شريفة على ما ذهب إليه كثير فأما البلد الأمين فمكة حماها الله تعالى بلا خلاف وجاء في حديث مرفوع وهو مكان البيت الذي هو هدى للعالمين ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه والأمين فعيل اما بمعنى فاعل أي الآمن من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين وجاء أمان أيضا كما جاء كريم وكرام ولم يسمع آمن اسم فاعل وسمع على معنى النسب كما في قوله تعالى حرما آمنا بمعنى ذي أمن وأمانته أن يحفظ من دخله كما يخفظ الأمين ما يؤتمن عليه ففيه تشبيه بالرجل الأمين وأما بمعنى مفعول أي المأمون من أمته أي لم يخفه ونسبته إلى البلد مجازية والمأمون حقيقة الناس أي لا تخاف غوائلهم فيه أو الكلام على الحذف والإيصال أي المأمون فيه من الغوائل. واقحام اسم الإشارة للتعظيم وأما طور سينين فالجبل الذي كلم الله تعالى شأنه موسى عليه
السلام عليه ويقال له طور سيناء بكسر السين والمد وبفتحها والمد وقد قرأ بالأول هنا بدل سينين عمر بن الخطاب وعبد الله وطلحة والحسن وبالثاني عمر أيضا وزيد بن علي وطور سينين بفتح السين وهي لغة بكر وتميم وقد قرأ بها ابن أبي إسحق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء وفي البحر أنه لم يختلف في أنه جبل بالشام وتعقبه الشهاب بأنه خلاف المشهور فإن المعروف اليوم بطور سينا ما هو بقرب التيه بين مصر والعقبة وسينين قيل اسم للبقعة التي فيها الجبل أضيف إليه الطور ويعامل في الإعراب معاملة بيرون ونحوه فيعرب بالواو والياء ويقر على الياء وتحرك النون بحركات الإعراب وقال الأخفش سينين جمع بمعنى شجر واحدته سينة فكأنه قيل طور الأشجار وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال سينين هو الحسن وأخرج عبد بن حميد نحوه عن الضحاك وكذلك أخرج هو وجماعة عن عكرمة بزيادة بلسان الحبشة وأخرج هو أيضا وابن جرير وابن عساكر وغيرهما عن قتادة أنه قال سينين مبارك حسن ذو شجر والإضافة على ما ذكر من إضافة الصفة إلى الموصوف واما التين والزيتون فروي جماعة عن قتادة أن الأول منهما الجبل الذي عليه دمشق والثاني الجبل الذي عليه بيت المقدس ويقال على ما أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن أبي حبيب الحرث بن محمد للأول طور تينا وللثاني طور زيتا وذلك لأنهما منبتا التين والزيتون وكان الكلام على هذا اما على حذف مضاف أو على التجوز بأن يكون قد تجوز بالتين والزيتون عن منبتيهما وشاع ذلك وأخرج عبد بن حميد عن أبي عبد الله الفارسي أن التين مسجد دمشق والزيتون بين المقدس ولعل اطلاقهما عليهما لأن فيهما شجرا من جنسهما وعن كعب الأحبار أنهما دمشق وإيلياء بلد بيت المقدس وكأن تسميتهما بذلك من تسمية المحل باسم الحال فيه وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنهما
173

مسجد أصحاب الكهف ومسجد إيلياء وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنهما مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودى وبيت المقدس وعن شهر بن حوشب أنهما الكوفة والشام وتعقب بأن الكوفة بلدة إسلامية مصرها سعد بن أبي وقاص في أيام أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه ولعله أراد الأرض التي تسمى اليوم بالكوفة فقد كانت كما في القاموس وغيره منزل نوح عليه السلام وقال بعضهم إن الكوفة بلد كانت قبل لكنها خربت فجددت في أيام عمر رضي الله تعالى عنه وفيل هما جبال ما بين حلوان وهمدان وجبال الشام لأنهما منابتهما وأيا ما كان فالمتعاطفات متناسبة في أن المراد بها أماكن خصوصة وقيل المراد بهما الشجران المعروفان وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال التين والزيتون الفاكهة التي يأكلها الناس وأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد نحوه وحكاه في البحر أيضا عن إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي وعكرمة والحسن وخصهما الله تعالى على هذا القول بالاقسام بهما من بين الثمار لاختصاصهما بخواص جليلة فإن التين فاكهة طيبة لا فضل لها وغذاء لطيف سريع الانهضام بل قيل إنه أصح الفواكه غذاء إذا أكل على الخلاء ولم يتبع بشيء وهو دواء كثير النفع يفتح السدد ويقوي الكبد ويذهب الطحال وعسر البول وهزال الكلى والخفقان والربو وعسر النفس والسعال وأوجاع الصدر وخشونة القصبة إلى غير ذلك وعن علي الرضا بن موسى الكاظم على جدهما وعليهما السلام أنه يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج وروي أبو ذر أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس ولم أقف للمحدثين على شيء في هذا الحديث لكن قال داود الطبيب بعد سرد نبذة من خواص التين وفي نفعه من البواسير حديث حسن وذكر أن نفعه من النقرس إذا دق مع دقيق الشعير أو القمح أو الحلبة وذكر أنه حينئذ ينفع من الأورام الغليظة وأوجاع المفاصل وله مفردا ومركبا خواص أخرى كثيرة وكذا لشجرته كما لا يخفى على من راجع كتب الطب وما أشبه شجرته بمؤثر على نفسه وبكريم يفعل ولا يقول وأما الزيتون فهو ادام ودواء وفاكهة فيما قيل وقالوا إن المكلس منه لا شيء مثله في الهضم والتسمين وتقوية الأعضاء ويكفيه فضلا دهنه الذي عم الاصطباح به في المساجد ونحوها مع ما فيه من المنافع كتحسين الألوان وتصفية الاخلاط وشد الأعصاب وكفتح السدد وإخراج الدود والإدرار وتفتيت الحصى واصلاح الكلي شربا بالماء الحار كقلع البياض وتقوية البصرا كتحالا إلى غير ذلك وشجرته من الشجرة المباركة المشهود لها في التنزيل وإذا تتبعت خواص أجزائها ظهر لك أنها أجدى من تفاريق العصا وعن معاذ بن جبل أنه مر بشجرة زيتون فأخذ منها سواكا فاستاك به وقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة وسمعته عليه الصلاة والسلام يقول هو سواكي وسواك الأنبياء عليهم السلام قبلى وقال بعضهم أن تفسيرهما بما ذكر هو الصحيح وكان المراد عليه تين تلك الأماكن المقدسة وزيتونها والغرض من القسم بتلك الأشياء الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة ويرجع إلى القسم بالأرض المباركة وبالبلد الأمين وفيه رمز إلى فضل البلد كما يشعر به كلام صاحب الكشاف وبين ذلك في الكشف بقوله وذلك أنه فصل بركتي الأرض المقدسة الدنيوية والدينية بذكر الشجرتين أو ثمرتيهما والطور الذي نودي منه موسى عليه السلام وناب المجموع مناب والأرض المباركة على سبيل الكناية فظهر التناسب في العطف على وجه بين إذ عطف البلد على مجموع الثلاثة لأنها
174

كالفرد بهذا الاعتبار كأنه قيل والأرض التي باركنا فيها دينا ودنيا والبلد الآمن من دخله في الدارين وذلك بركة يتضاءل دونها كل بركة يتضائل دونها كل بركة ويتضمن ذلك أن شرف تلك البقاع بمنجاة موسى عليه السلام ربه عز وجل أياما معدودة وكم نوجيت في البلد الأمين ثم قال والحمل على الظاهر أريد المنابت أو الشجر أن يفوته المناسبة بين الأولين والبلد الأمين لأن مناسبة طور سينين للبلد غير مناسبته لهما والكلام مسوق للأول انتهى فتأمل فإنه دقيق وأيا ما كان فجواب القسم قوله تعالى:
* (لقد خلقنا الإنس‍ان فىأحسن تقويم) *
* (لقد خلقنا الإنسان) * الخ وأريد بالانسان الجنس فهو شامل للمؤمن والكافر لا مخصوص بالثاني واستدل عليه بصحة الاستثناء وان الأصل فيه الاتصال وقوله تعالى: * (في أحسن تقويم) * في موضع الحال من الإنسان أي كائنا في تقويم أحسن تقويم والتقويم التثقيف والتعديل وهو فعل الله عز وجل فمعنى كون الإنسان كائنا في ذلك على ما قيل إنه ملتبس به نظير قولك فلان في رضا زيد بمعنى أنه مرضي عنه وقال الخفاجي هو مؤول بمعنى القوام أو المقوم وفيه مضاف مقدر أي قوام أحسن تقويم
أو في زائدة وما بعدها في موضع المفعول المطلق وقد ناب فيه عن المصدر صفته والتقدير قومناه تقويما أحسن تقويم والمراد بذلك جعله على أحسن ما يكون صورة ومعنى فيشمل ماله من انتصاب القامة وحسن الصورة والإحساس وجودة العقل وغير ذلك ومن أمعن نظره في أمره وأجال فكره في دقائق ظاهره وسره رآه كما قال بعض الأجلة مجمع مجرى الغيب والشهادة ومطلع نيري فلكي الإفادة والاستفادة والنسخة الجامعة لما في رسائل إخوان الصفا وسائر المتون والشارح بسطورطروس العجائب الإلهية المودعة فيه لما كان وسيكون وظهر له صدق ما قيل ونسب لعلي كرم الله تعالى وجهه: دواؤك فيك ولا تشعر * وداؤك منك وما تبصر
وتزعم انك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر
ومما يدل على أحسنية تقويمه إن الله تعالى رسم فيه من الصفات ما تذكره صفاته عز وجل وتدله عليها فجعله عالما مريدا قادرا إلى غير ذلك وقال تعالى تخلقوا بأخلاق الله لئلا يتوهم ان ما للسيد على العبد حرام ويكفي في هذا الباب وهو القول الفصل إن الله تعالى خلقه بيديه وأمر سبحانه ملائكته عليهم السلام بالسجود له وهم المكرمون لديه وجاء إن الله تعالى خلق آدم على صورته وفي رواية على صورة الرحمن وهي تأبى احتمال عود الضمير على آدم على معنى خلقه غير متنقل في الأطوار كينية ولكونه النسخة الجامعة قال يحيى بن معاذ الرازي من عرف نفسه فقد عرف ربه والناس يزعمونه حديثا وليس كما قال النووي بثابت وعن يحيى بن أكثم وبعض الحنفية أنهما أفتيا من قال لزوجته إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت طالق بعد وقوع الطلاق واستدلا بهذه الآية في قصة مشهورة وللشعراء في تفضيل معشوقهم على القمر ليلة تمه ما يضيق عنه نطاق الحصر والحق أن الفرق مثل الصبح ظاهر وثم في قوله تعالى:
* (ثم رددن‍اه أسفل س‍افلين) *
* (ثم رددناه أسفل سافلين) * للتراخي الزماني أو الرتبى والرد إما بمعنى الجعل فينصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر كما في قوله: فرد شعورهن السود بيضا * ورد وجوههن البيض سودا
فاسفل مفعول ثان له هنا والمعنى ثم جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح وأسفل من كل سافل خلقا وتركيبا لعدم جريه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات وجوز أن يكون المراد بالرد
175

تغيير الحال فهو متعد لواحد وأسفل حال من المفعول أي رددناه حال كونه أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة وهم أصحاب النار وأن يكون الرد بمعناه المعروف وأسفل منصوب بنزع الخافض وجعل الأسفل عليه صفة لمكان وأريد بالسافلين الامكة السافلة أي رددناه إلى مكان أسفل الأمكنة السافلة وهو جهنم أو الدرك الأسفل من النار ويعكر على هذا جمعها جمع العقلاء وكونه للفاصلة أو التنزيل منزلة العقلاء ليس مما يهتش له ولعل الأولى على ذلك ان يراد إلى أسفل من سفل من أهل الدركات وقال عكرمة والضحاك والنخفي وقتادة في رواية المراد بذلك رده إلى الهرم وضعف القوى الظاهرة والباطنة أي ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره بعد اعتداله وابيض شعره بعد سواده وقوته ضعف وشهامته خرف والآية على هذا نظير قوله تعالى ثم يرد إلى أرذل العمر وقوله سبحانه ومن نعمره ننكسه في الخلق وهو باعتبار الجنس فلا يلزم أن يكون كل الإنسان كذلك وفي إعراب أسفل قيل الأوجه السابقة والأوجه منه غير خفي ثم المتبادر من السياق الإشارة إلى حال الكافر يوم القيامة وانه يكون على أقبح صورة وأبشعها بعد ان كان على أحسن صورة وأبدعها لعدم شكره تلك النعمة وعمله بموجبها وإرادة ما ذكر لا يلائمه ومن هنا قيل إنه خلاف الظاهر والظاهر ما لاءم ذلك كما هو المروى عن الحسن ومجاهد وأبي العالية وابن زيد وقتادة أيضا وقرأ عبد الله السافلين مقرونا بال وقوله تعالى:
* (إلا الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات فلهم أجر غير ممنون) *
* (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * على ما تقدم استثناء متصل من ضمير رددناه العائد على الإنسان فإنه في معنى الجمع فالمؤمنون لا يردون أسفل سافلين يوم القيامة ولا تقبح صورهم بلا يزدادون بهجة إلى بهجتهم وحسنا إلى حسنهم وقوله تعالى: * (فلهم أجر غير ممنون) * أي غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم مقرر لما يفيده الاستثناء من خروجهم عن حكم الرد ومبين لكيفية حالهم وعلى الأخير الاستثناء منقطع والموصول مبتدأ وجملة لهم أجر خبره والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والكلام على معنى الاستدراك كأنه قيل لكن الذين آمنوا لهم أجر الخ وهو لدفع ما يتوهم من أن التساوي في أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره فلا يرد أنه كيف يكون متقطعا والمؤمنون داخلون في المردودين إلى أرذل العمر غير مخالفين لغيرهم في الحكم وقال بعض المحققين الانقطاع لأنه لم يقصد إخراجهم من الحكم وهو مدار الاتصال والانقطاع كما صرح به في الأصول لا الخروج والدخول فلا تغفل وحمل غير واحد هؤلاء المؤمنين على الصالحين من الهرمي كأنه قيل لكن الذين كانوا صالحين من الهرمي لهم ثواب دائم غير منقطع أو غير ممنون به عليهم لصبرهم على ما ابتلوا به من الهرم والشيخوخة المانعين إياهم عن انلهوض لإداء وظائفهم من العبادة أخرج أحمد والبخاري وابن حبان عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما وفي رواية عنه ثم قرأ صلى الله عليه وسلم فلهم أجر غير ممنون أخرج الطبراني عن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله تبارك وتعالى يقول إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا ويقول الرب عز وجل أني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك وهو صحيح وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية إذا كبر العبد وضعف عن العمل كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته ومن الناس من حملهم على قراء القرآن وجعل الاستثناء متصلا مخرجا لهم عن حكم الرد إلى أرذل العمر بناء على ما أخرج الحاكم
176

وصححه والبيهقي في الشعب عن الحبر قال من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وذلك قوله تعالى ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا قال إلا الذين قرؤوا القرآن
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه وفيه أنه لا ينزل تلك المنزلة يعني الهرم كي لا يعلم من بعد علم شيئا أحد من قراء القرآن ولا يخفى أن تخصيص الذين آمنوا بما خصص به خلاف الظاهر وفي كون أحد من القراء لا يرد إلى أرذل العمر توقف فليتتبع والخطاب في قوله تعالى:
* (فما يكذبك بعد بالدين) *
* (فما يكذبك بعد بالدين) * عند الجمهور للإنسان على طريقة الالتفات لتشديد التوبيخ والتبكيت والفاء لتفريع التوبيخ عن البيان السابق والباء للسببية والمراد بالدين الجزاء بعد البعث أي فما يجعلك كاذبا بسبب الجزاء وإنكاره بعد هذا الدليل والمعنى أن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه على وجه يبهر الأذهان ويضيق عنه نطاق البيان أو هذا مع تحويله من حال إلى حال من أوضح الدلائل على قدرة الله عز وجل على البعث والجزاء فأي شيء يضطرك أيها الإنسان بعد هذا الدليل القاطع إلى أن تكون كاذبا بسبب تكذيبه فإن كل مكذب بالحق فهو كاذب وقال قتادة والأخفش والفراء الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي فأي شيء يكذبك بالجزاء بعد ظهور دليله وهو من باب الإلهاب والتعريض بالمكذبين أي أنه لا يكذبك شيء ما بعد هذا البيان بالجزاء لا كهؤلاء الذين لا يبالون بآيات الله تعالى ولا يرفعون بها رأسا فالاستفهام لنفي التكذيب وإفادة أنه عليه الصلاة والسلام لاستمرار الدلائل وتعاضدها مستمر على ما هو عليه من عدم التكذيب وفيه من اللطف ما ليس في الأول وجوز على هذا الوجه كون الباء بمعنى في وكونها للسببية وتقدير مضاف عليهما والمعنى أن أي شيء ينسبك إلى الكذب في أخبارك بالجزاء أو بسبب إخبارك به بعد هذا الدليل وكونها صلة التكذيب والدين بمعناه والمعنى أي شيء يجعلك مكذبا بدين الإسلام وروى هذا عن مجاهد وقتادة والاستفهام على ما سمعت وجوز كون الدين بمعناه على الوجه الأول أيضا وبعض من ذهب إلى كون الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم جعل ما بمعنى من لان المعنى عليه أظهر وضعف بأنه خلاف المعروف في ما فلا ينبغي ارتكابه مع صحة بقائها على المعروف فيها.
* (أليس الله بأحكم الح‍اكمين) *
* (أليس الله بأحكم الحاكمين) * أي أليس الذي فعل ما ذكر بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء وحيث استحال عدم كونه سبحانه أحكم الحاكمين تعين الإعادة والجزاء والجملة تقرير لما قبلها وقيل الحكم بمعنى القضاء فهي وعيد للكفار وأنه عز وجل يحكم عليهم بما هم أهله من العذاب وأيا ما كان فالاستفهام على ما قيل تقرير بما بعد النفي ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي وأبو داود وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ منكم * (والتين والزيتون) * فانتهى إلى قوله تعالى: * (أليس الله بأحكم الحاكمين) * فليقل * (بلى وأنا على ذلك من الشاهدين) * وجاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أتى على هذه الآية سبحانك فبلى وقد تقدم ما يتعلق بهذا في تفسير سورة * (لا أقسم بيوم القيامة) * فتذكر.
سورة العلق
وتسمى سورة اقرأ لا خلاف في مكيتها وإنما الخلاف في عدد آيها ففي الحجازي عشرون آية وفي العراقي تسع عشر وفي الشامي ثماني عشرة وفي أنها أول نازل أولا فذهب كثير إلى أنها أول نازل فقد أخرج الطبراني في " الكبير " بسنده على شرط الصحيح عن أبي رجاء العطاردي قال كان أبو موسى الأشعري يقرئنا فيجلسنا حلقا عليه ثوبان أبيضان فإذا تلا هذه السورة * (اقرأ باسم
177

ربك) * قال هذه أول سورة أنزلت على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخرج الحاكم في " المستدرك " والبيهقي في " الدلائل " وصححاه عن عائشة نحوه وأخرج غير واحد عن مجاهد قال أول ما نزل من القرآن * (اقرأ باسم ربك) * ثم * (ن) * و * (القلم) * وروى الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل أولا قال * (يا أيها المدثر) * قلت يقولون * (اقرأ باسم ربك) * قال أحدثكم بما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فساق الحديث مستدلا به على ما ادعاه وأجاب عنه الأولون بعدة أجوبة مر ذكرها وقيل الفاتحة واحتج له بحديث مرسل رجاله ثقات أخرجه البيقي في " الدلائل " والواحدي من طريق يونس بن بكير عن يونس بن عمر عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل وأجيب عنه بأن ما فيه يحتمل أن يكون خبرا عما نزل بعد * (اقرأ) * و * (يا أيها المدثر) * مع أن غيره أقوى منه رواية وجزم جابر بن زيد بأن أول ما نزل * (اقرأ) * ثم * (ن) * ثم * (يا أيها المزمل) * ثم * (يا أيها المدثر) * ثم * (الفاتحة) * وقيل أول ما نزل صدرها إلى ما لم يعلم في غار حراء ثم نزل آخرها بعد ذلك بما شاء الله تعالى وهو ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد والشيخان وعبد بن حميد وعبد الرزاق وغيرهم من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة في حديث بدء الوحي وفيه فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال * (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) * فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره إلى أن قالت ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي وفي آخر ما رووا قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه بينا أنا أمشي إذا سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني زملوني فأنزل الله تعالى: * (يا أيها المدثر قم فانذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر) * فحمى الوحي وتتابع ويعلم منه ضعف الاستدلال على كون سورة المدثر أول نازل من القرآن على الإطلاق بما روى أولا عن جابر المذكور كما لا يخفى على الواقف عليه وقد ذكرناه صدر الكلام في سورة المدثر لقوله فيه وهو يحدث عن فترة الوحي وقوله فإذا الملك الذي جاءني بحراء وقوله: * (فحمى الوحي وتتابع) * أي بعد فترة وبالجملة الصحيح كما قال البعض وهو الذي اختاره أن صدر هذه السورة الكريمة هو أول ما نزل من القرآن على الإطلاق كيف وقد ورد حديث بدء الوحي المروي عن عائشة من أصح الأحاديث وفيه فجاءه الملك فقال: * (اقرأ) * فقال قلت ما أنا بقارىء فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد الخ. والظاهر أن ما فيه نافية بل قال النووي هو الصواب وذلك إنما يتصور أولا وإلا لكان الامتناع
من أشد المعاصي ويطابقه ما ذكره الأئمة في باب تأخير البيان وسنشير إليه إن شاء الله تعالى وفي الكشف الوجه حمل قول جابر على السورة الكاملة وفي شرح " صحيح مسلم " الصواب أن أول ما نزل * (اقرأ) * أي مطلقا وأول مانزل بعد فترة الوحي * (يا أيها المدثر) * وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر انتهى وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله والله تعالى أعلم ولما ذكر سبحانه في سورة التين خلق الإنسان في أحسن تقويم بين عز وجل هنا أنه تعالى خلق الإنسان من علق فكان ما تقدم كالبيان للعلة الصورية وهذا كالبيان للعلة المادية وذكر سبحانه هنا أيضا من أحواله في الآخرة ما هو أبسط مما ذكره عز وجل هناك فقال سبحانه وتعالى:
* (اقرأ باسم ربك الذى خلق) *.
* (إقرأ) * أي ما يوحى إليك من القرآن فالمفعول مقدر بقرينة المقام كما قيل وليس الفعل منزلا منزلة اللازم ولا أن مفعوله قوله تعالى: * (باسم ربك) * على الباء زائدة كما قال
178

أبو عبيدة وزعم أن المعنى * (اذكر ربك) * بل هي أصلية ومعناها الملابسة وهي متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع حالا كما روى عن قتادة والمعنى * (اقرأ) * مبتدئا أو مفتتحا * (باسم ربك) * أي قل * (بسم الله) * ثم اقرأ وهو ظاهر في أنه لو افتتح بغير اسمه عز وجل لم يكن ممتثلا واستدل بذلك على أن البسملة جزء من كل سورة وفيه بحث وكذا الاستدلال به على أنها ليس من القرآن للمقابلة إذ لقائل أن يقول إنها تخصص القرآن المقدر مفعولا بغيرها وبعضهم استدل على أنها ليست بقرآن في أوائل السور بأنها لم تذكر فيما صح من أخبار بدء الوحي الحاكية لكيفية هذه الآيات كذا أفاده النووي عليه الرحمة ثم قال وجواب المثبتين أنها لم تنزل أولا بل نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة كذلك وهذا خلاف ما أخرج الواحدي عن عكرمة والحسن أنهما قالا أول ما نزل من القرآن * (بسم الله الرحمان الرحيم) * وأول سورة * (اقرأ) * وكذا خلاف ما أخرجه ابن جرير وغيره من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال أول ما نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم قال يا محمد استعذ ثم قل * (بسم الله الرحمان الرحيم) * وقد عد القول بأنها أول ما نزل أحد الأقوال في تعيين أول منزل من القرآن وقال الجلال السيوطي أن هذا القول لا يعد عندي قولا برأسه فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق وفيه منع ظاهر كما لا يخفى وجوز كون الباء للاستعانة متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع حالا ورجحت الملابسة بلاسمتها عن إيها كون اسمه تعالى آلة لغيره وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول الكتاب ثم إنه ليس في الأمر المذكور تكليف بما لا يطاق سواء دل الأمر على الفور أم لا لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن ما أوحي قرآن فهو المكلف بقراءته عليه الصلاة والسلام ولا محذوف في كون * (اقرأ) * الخ مأمورا بقراءته لصدق المأمور بقراءته عليه وهذا كما تقول لشخص اسمع ما أقول لك فإنه مأمور بسماع هذا اللفظ أيضا وقد ذكر جمع من الأصوليين أن هذا بيان للمأمور به في قول جبريل عليه السلام * (اقرأ) * المذكور في حديث بدء الوحي المتفق عليه قال الآمدي عند ذكر أدلة جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب الذي ذهب إليه جماعة من الحنفية وغيرهم ومن الأدلة ما روى أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم * (اقرأ) * قال وما اقرأ كرر عليه ثلاث مرات ثم قال له * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * فاخر بيان ما أمره به أولا مع إجماله إلى ما بعد ثلاث مرات من أمر جبريل عليه السلام وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم مع إمكان بيانه أولا وذلك دليل جواز التأخير إلى آخر ما قال سؤالا وجوابا لا يتعلق بهما غرضنا ولا يخفى أن كون هذا بيانا للمراد على الوجه الذي ذكرناه ظاهر وكونه كذلك بجعل * (اقرأ باسم ربك) * إلى آخر ما نزل أو * (بسم الله الرحمن الرحييم اقرأ) * الخ ما ادعاه الجلال معمولا لاقرأ المكرر في كلام جبريل عليه السلام مما لا أظن أن أصوليا يقول به ومثله كونه كذلك بحمل الآية على ما سمعت عن أبي عبيدة وأما بناء الاستدلال على ما في بعض الآثار من أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بحراء بنمط من ديباج مكتوب فيه * (اقرأ باسم ربك) * إلى ما لم يعلم فقال له اقرأ فقال عليه الصلاة والسلام ما أنا بقارىء قال * (اقرأ باسم ربك) * بأن يكون * (اقرأ) * الخ بيانا وتلاوة من جبريل عليه السلام لما في النمط المنزل لعدم العلم بما فيه وإن كان مشاهدا منزلة المجمل الغير المعلوم فلا يخفى حاله فتأمل ثم أن في كلام الآمدي من حيث رواية الخبر ما فيه فلا تغفل والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئا فشيا مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للإشعار بتبليغه عليه الصلاة والسلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية بإنزال الوحي المتواتر ووصف الرب بقوله تعالى: * (الذي خلق) * لتذكيره عليه الصلاة والسلام أول النعماء الفائضة عليه صلى الله
179

عليه وسلم منه سبحانه مع ما في ذلك من التنبيه على قدرته تعالى على تعليم القراءة بالطف وجه وقيل لتأكيد عدم إرادة غيره تعالى من الرب فإن العرب كانت تسمى الأصنام أربابا لكنهم لا ينسبون الخلق إليها والفعل إما منزل منزلة اللازم أي الذي له الخلق أو مقدر مفعوله عاما أي الذي خلق كل شيء والأول يفيد العموم أيضا فعلى الوجهين يكون وجه تخصيص الإنسان بالذكر في قوله تعالى:
* (خلق الإنس‍ان من علق) *
* (خلق الإنسان) * إنه أشرف المخلوقات وفيه من بدائع الصنع والتدبير ما فيه فهو أدل على وجوب العبادة المقصودة من القراءة مع أن التنزيل إليه ويجوز أن يراد خلق الإنسان إلا أنه لم يذكر أولا وذكر ثانيا قصدا لتفخيمه بالإبهام ثم التفسير وعن الزمخشري أن المناسب أن يراد خلق الإنسان بعد الأمر بقرارة القرآن تنبيها على أنه تعالى خلقه للقراءة والدراية كما أن ذكر خلق الإنسان عقيب تعليم القرآن أول سورة الرحمان لنحو ذلك وقوله تعالى: * (من علق) * أي دم جامد لبيان كمال قدرته تعالى بإظهار ما بين حالتيه الأولى والآخرة من التباين البين وأتى به دالا على الجمع لأن الإنسان مراد به الجنس فهو في معنى الجمع فأتى بما خلق منه كذلك ليطابقه مع ما في ذلك من رعاية الفواصل ولعله على ما قيل السر في تخصيص هذا الطور من بين سائر أطوار الفطرة الإنسانية مع كون النطفة والترب أدل على كمال القدرة
لكونهما أبعد منه بالنسبة إلى الإنسانية وفي " البحر " لم يذكر سبحانه مادة الأصل يعني آدم عليه السلام وهو التراب لأن خلقه من ذلك لم يكن متقررا عند الكفار فذكر مادة الفرع وخلقه منها وترك مادة أصل الخلقة تقريبا لأفهامهم وهو على ما فيه لا يحسم مادة السؤال وقيل خص هذا الطور تذكيرا له عليه الصلاة والسلام لما وقع من شرح الصدر قبل النبوة وإخراج العلق منه ليتهيأ تهيئا تاما لما يكون له بعد فكأنه قيل الذي خلق الإنسان من جنس ما أخرجه من صدرك الشريف ليهيئك بذل لمثل ما يلقى إليك الآن وبهذا تقوى مناسبة هذه السورة لسورة الشرح قبلها أتم مناسبة لا سيما على تفسير الشرح بالشق فتدبره ومن الناس من زعم أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام وأن المعنى خلق آدم من طين يعلق باليد وهو مما لا تعلق به يد القبول ولما كان خلق الإنسان أول النعم الفائضة عليه منه تعالى وأقدم الدلائل الدالة على وجوده عز وجل وكمال قدرته وعلمه وحكمته سبحانه وصف ذاته تعالى بذلك أولا ليستشهد عليه الصلاة والسلام به على تمكينه تعالى له من القراءة ثم كرر جل وعلا الأمر بقوله تعالى:
* (اقرأ وربك الاكرم) *
* (اقرأ) * أي افعل ما أمرت به تأكيدا للإيجاب وتمهيدا لما يعقبه من قوله تعالى * (وربك الأكرم) * الخ فإنه كلام مستأنف وأراد لإزاحة ما بينه صلى الله عليه وسلم من العذر بقوله عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام حين قال له " اقرأ ما أنا بقارىء " يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ وأنا أمي فقيل وربك الذي أمرك بالقراءة مفتتحا ومبتدأ باسمه الأكرم.
* (الذى علم بالقلم) *
* (الذي علم بالقلم) * أي علم ما علم بواسطة القلم لا لغرض فهو صفة لا يشاركه تعالى في إطلاقها أحد فافعل للمبالغة وجوز أن لا يكون اقرأ هذا تأكيدا للأول وإنما ذكر ليوصل به ما يزيح العذر فجملة * (وربك) * الخ في موضع الحال من الضمير المستتر فيه وقوله تعالى:
* (علم الإنس‍ان ما لم يعلم) *
* (علم الإنسان ما لم يعلم) * بدل اشتمال من علم بالقلم أي علمه به وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية والخفية ما لم يخطر بباله وفي حذف المفعول أولا وإيراده بعنوان عدم المعلومية ثانيا من الدلالة على كمال قدرته تعالى وكما لكرمه عز وجل والإشعار بأنه تعالى يعلمه عليه الصلاة والسلام من العلوم ما لا يحيط به العقول ما لا يخفى قاله في " الإرشاد " وقدر بعضهم مفعول علم الخط وجعل بالقلم متعلقا به وأيد بقراءة
180

ابن الزبير الذي علم الخط بالقلم حيث صرح فيها بذلك وقال الجبائي أن * (اقرأ) * الأول أمر بالقراءة لنفسه وقيل مطلقا والثاني أمر بالقراءة للتبليغ وقيل في الصلاة المشار إليها فيما بعد وجملة * (وربك) * الخ تحتمل الحالية والاستئنافية وحاصل المعنى على إرادة القراءة للتبلغي في قول بلغ قوملك * (وربك الأكرم) * الذي يثيبك على عملك بما يقتضيه كرمه ويقويك على حفظ القرآن لتبلغه وأولى الأوجه وأظهرها التأكيد وأبعد بعضهم جدا فزعم أن بسم في البسملة متعلق باقرأ الأول و * (باسم ربك) * متعلق باقرأ الثاني ليفيد التقديم اختصاص اسم الله تعالى بالابتداء وجوز أيضا أن يبقى باسم الله على ما هو المشهور فيه و * (اقرأ) * أمر باحداث القراءة * (وباسم ربك) * متعلق باقرأ الثاني لذلك ولا يخفى أن الظاهر تعلق * (باسم ربك) * بما عنده وتقديم الفعل ههنا أوقع لأن السورة المذكورة على ما سبق من التصحيح أول سورة نزلت فالقراءة فيها أهم نظرا للمقام وقيل أنه لو سلم كون غيرها نازلا قبلها لا يضر في حسن تقديم الفعل لأن المعنى كما سمعت عن قتادة اقرأ مفتتحا * (باسم ربك) * أي قل * (باسم الله) * ثم اقرأ فلو افتتح بغير البسملة لم يكن ممتثلا فضلا عن أن يفتتح بما يضادها من أسماء الأصنام ولو قدم الجار أفاد معنى آخر وهو أن المطلوب عند القراءة أن يكون الافتتاح باسم الله تعالى لا باسم الأصنام ولا تكون القراءة في نفسها مطلوبة لما علم أن مقتضى التقديم أن يكون أصل الفعل مسلما على ما هو عليه من زمان طلبا كان أو خبرا وأجاب من علق الجار بالثاني بأن مطلوبية القراءة في نفسها استفيدت من اقرأ الأول فلا تغفل والظاهر أن المعلم بالقلم غير معين وقيل هو كل نبي كتب وقال الضحاك هو إدريس عليه السلام وهو من خط وقال كعب هو آدم عليه السلام وهو أول من كتب وقد نسبوا لآدم وإدريس عليهما السلام نقوشا مخصوصة في كتابة حروف الهجاء والذي يغلب على الظن عدم صحة ذلك وقد أدمج سبحانه وتعالى التنبيه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة ونيل الرتب الفخيمة ولولاه لم يقم دين ولم يصلح عيش ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره سبحانه دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به وقد قيل فيه: لعاب الأفاعي القاتلات لعباه * وأرى الجني اشتارته أيد عواسل
ومما نسبه الزمخشري في ذلك لبعضهم وعنى على ما قيل نفسه: ورواقم رقش كمثل إراقم * قطف الخطى نيالة أقصى المدى
سود القوائم ما يجد مسيرها * إلا إذا لعبت بها بيض المدى
ولهم في هذا الباب كلام فصل يضيق عنه الكتاب وظاهر الآثار أن الكتابة في الأمم غير العرب قديمة وفهيم حادثة لا سيما في أهل الحجاز وذكر غير واحد أن الكتابة نقلت إليهم من أهل الحيرة وأنهم أخذوها من أهل الأنبار وذكر الكلبي والهيثم بن عدي أن الناقل للخط العربي من العراق إلى الحجاز حرب بن أمية وكان قد قدم الحيرة فعاد إلى مكة به وأنه قيل لابنه أبي سفيان ممن أخذ أبوك هذا الخط فقال من أسلم بن أسدرة وقال سألت أسلم ممن أخذت هذا الخط فقال من واضعه مرامر بن مرة وقيل كان لحمير كتابة يسمونها المسند منفصلة غير متصلة وكان لها شان عندهم فلا يتعاطاها إلا من أذن له في تعلمها وأصناف الكتابة كثيرة وزعم بعضهم أن جل كتابات الأمم اثنا عشر صنفا العربية والحميرية والفارسية والعبرانية واليونانية والرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية والسريانية ولعل هذا إن صح باعتبار الأصول وإلا فالفروع توشك أن لا يحصيها قلم كما لا يخفى والله تعالى أعلم ولم ير بعض العلماء من الأدب وصف غيره تعالى بالأكرم كما يفعله كثير من الناس في رسائلهم فيكتبون إلى فلان الأكرم ومع هذا يعدونه وصفا نازلا ويستهجنونه بالنسبة للملوك ونحوهم من الأكابر وقد يصفون
181

به اليهودي والنصراني ونحوهما مع أنه تعالى يقول وربك الأكرم فعلى العبد أن يراعي الأدب مع مولاه شاكرا كرمه الذي أولاه.
* (كلا إن الإنس‍ان ليطغى) *
* (كلا) * ردع لمن كفر من جنس الإنسان بنعمة الله تعالى عليه بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه وذلك لأن مفتتح السورة إلى هذا المقطع يدل على عظيم منته تعالى على الإنسان فإذا قيل كلا كان ردعا للإنسان الذي قابل تلك النعم لجلائل بالكفران والطغيان وكذلك التعليل بقوله تعالى: * (إن الإنسان ليطغى) * أي ليتجاوز والحد في المعصية واتباع هوى النفس ويستكبر على ربه عز وجل وقال الكلبي أي ليرتفع عن منزلة إلى منزلة في اللباس والعطام وغيرهما وليس بذاك وقدر بعضهم بعد قوله تعالى: * (ما لم يعلم) * ليشكر تلك النعم الجليلة فطغى وكفر كلا وقيل كلا بمعنى حقا لعدم ما يتوجه إليه الردع والزجر ظاهرا فقوله سبحانه: * (إن الإنسان) * الخ بيان لما أريد إحقاقه وهذا إلى آخر السورة قيل نزل في أبي جهل بعد زمان من نزول الآيات السابقة وهو الظاهر ومع نزوله في ذلك اللعين المراد بالإنسان الجنس وقوله سبحانه:
* (أن رءاه استغنى) *
* (أن رآه استغنى) * مفعول من أجله أي يطغى لأن رأى نفسه مستغنيا على أن جملة استغنى مفعول ثان لرأى لأنه بمعنى علم ولذلك ساغ كون فاعله ومفعوله ضميري واحد نحو علمتني فقد قالوا إن ذلك لا يكون في غير أفعال القلوب وفقد وعدم وذهب جماعة إلى أن رأي البصرية قد تعطى حكم القلبية في ذلك وجعلوا منه قول عائشة لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا الاسودان وأنشدوا: ولقد أراني للرماح دريئة * من عن يميني تارة وأمامي
فإذا جعلت رأي هنا بصرية فالجملة في موضع الحال وتعليل طغيانه برؤيته لا بنفس الاستغناء كما ينبىء عنه قوله تعالى: * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) * للايذان بأن مدار طغيانه زعمه الفاسد على الأول ومجرد رؤيته ظاهر الحال من غير روية وتأمل في حقيقته على الثاني وعلى الوجهين المراد بالاستغناء الغني بالمال أعني مقابل الفقر المعروف وقيل المراد أن رأى نفسه مستغنيا عن ربه سبحانه بعشيرته وأمواله وقوته وهو خلاف الظاهر ويبعده ظاهر ما روى أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهبا وفضة لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك فنزل جبريل عليه السلام فقال إن شئت فعلنا ذلك ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء ابقاء عليهم وقرأ قنبل بخلاف عنه أن رأه بحذف الألف التي بعد الهمزة وهي لام الفعل وروى ذلك عنه ابن مجاهد وغلطه فيه وقال إن ذلك حذف لا يجوز وفي " البحر " ينبغي أن لا يغلطه بل يتطلب له وجها وقد حذفت الألف في نحو من هذا قال: وصاني العجاج فيمن وصني
يريد وصاني فحذف الألف وهي لام الفعل وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم أصاب الناس جهد لوتر أهل مكة وهو حذف لا ينقاس لكن إذا صحت الرواية وجب القبول فالقراآت جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها وقوله تعالى:
* (إن إلى ربك الرجعى) *
* (إن إلى ربك الرجعى) * تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطغيان والخطاب قيل للإنسان والالتفات للتشديد في التهديد وجوز أن يكون الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم والمراد أيضا تهديد الطاغي وتحذيره ولعله الأظهر نظرا إلى الخطابات قبله والرجعى مصدر بمعنى الرجوع كالبشرى والألف فيها للتأنيث وتقديم الجار والمجرور عليه للقصر أي أن إلى ربك رجوع الكل بالموت والبعث لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا فترى حينئذ عاقبة الطغيان وفي هذه الآيات على ما قيل ادماج التنبيه على مذمة المال كما أن في الآيات الأول إدماج التنبيه على مدح العلم وكفى ذلك مرغبا في الدين والعلم ومنفرا عن الدنيا والمال وقوله تعالى:
* (أرأيت الذى ينهى * عبدا إذا صلى) *
182

* (أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى) * ذكر لبعض آثار الطغيان ووعيد عليها ولم يختلف المفسرون كما قال ابن عطية في أن العبد المصلي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والناهي هو اللعين أبو جهل فقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة أن أبا جهل حلف باللات والعزى لئن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ليطأن على رقبته وليعفرن وجهه فأتى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يصلي ليفعل فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه فقيل له مالك فقال إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا وأنزل الله تعالى كلا أن الإنسان إلى آخر السورة وقول الحسن هو أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة لا يكاد يصح لأنه لا خلاف في أن إسلام سلمان رضي الله تعالى عنه كان بالمدينة بعد الهجرة كما أنه لا خلاف في أن السورة مكية نعم حكم الآية عام فإن كان ما حكي عن أمية واقعا فحكمها شامل له والصلاة التي أشارت إليها الآية كانت على ما حكى أبو حيان صلاة الظهر وحكي أيضا أنها كانت تصلي جماعة وهي أول جماعة أقيمت في الإسلام وأنه كان معه عليه الصلاة والسلام أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما فمر أبو طالب ومعه ابنه جعفر فقال له يا بني صل جناح ابن عمك وانصرف مسرورا وأنشأ يقول: إن عليا وجعفرا ثقتي * عند ملم الزمال والكرب
والله لا أخذ النبي ولا * يخذله من يكون من حسبي
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي لأمي من بينهم وأبي
وفي هذا نظر لأن الصلاة فرضت ليلة الإسراء بلا خلاف وادعى ابن حزم الإجماع على أنه كان قبل الهجرة بسنة وجزم ابن فارس بأنه كان قبلها بسنة وثلاثة أشهر وقال السدي بسنة وخمسة أشهر وموت أبي طالب كان قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين لأنه كان قبل وفاة خديجة بثلاثة وقيل بخمسة أيام وكانت وفاتها بعد البعثة بعشر سنين على
الصحيح فأبو طالب على هذا لم يدرك فرضية الصلاة نعم حكى القاضي عياض عن الزهري ورجحه النووي والقرطبي أن الإسراء كان بعد البعث بخمس سنين لكن قيل عليه ما قيل فليراجع والنهي قيل بمعنى المنع وعبر به إشارة إلى عدم اقتدار اللعين على غير ذلك وفي بعض الأخبار ما ظاهره أنه حصل منه نهي لفظي فقد أخرج أحمد والترمذي وصححه وغيرهما عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا ألم أنهك عن هذا الحديث والتعبير بما يفيد الاستقبال لاستحضار الصورة الماضية لنوع غرابة والرؤية قيل قلبية وكذا في قوله تعالى:
* (أرءيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى * أرءيت إن كذب وتولى) *
* (أرأيت إن كذب وتولى) * والمفعول الأول للأول الموصول وللثاني والثالث محذوف وهو ضمير يعود عليه أو اسم إشارة يشار به إليه والمفعول الثاني للثالث قوله سبحانه:
* (ألم يعلم بأن الله يرى) *
* (ألم يعلم بأن الله يرى) * والأولان متوجهان إليه أيضا وهو مقدر عندهما وترك إظهاره اختصارا ونظير ذلك أخبرني عن زيدان وفدت عليه أخبرني عنه أن استخبرته أخبرني عنه إن توسلت إليه اما يوجب حقي وليس ذلك من التنازع لأن الجمل لا يصح إضمارها وإنما هو من الطلب المعنوي والحذف في غير التنازع وجواب الشرط في الجملتين محذوف لدلالة ألم يعلم عليه ويقدر حسبما تقتضيه الصناعة وقيل يدل عليه أرأيت مرادا به ما سيذكر قريبا إن شاء الله تعالى ويقدر كذلك والكلام عليه أيضا نظير ما مر آنفا والضمائر المستترة في كان وما بعد من الأفعال للناهي والمراد من أرأيت أخبرني
183

فإن الرؤية لما كانت سببا للعلم أجري الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها والاستفهام الواقع موقع المفعول الثاني هو متعلق الاستخبار هنا وهذا الإجراء على ما يفهم من كلام بعض الأئمة يكون مع الرؤية البصرية والرؤية القلبية وللنحاة فيه قولان والخطاب في الكل على ما اختاره جمع لكل من يصلح أن يكون مخاطبا ممن له مسكة وقيل للإنسان كالخطاب في إلى ربك وتنوين عبدا على ما هو ظاهر كلام البعض للتنكير وتقييد النهي بالظرف يشعر بأن النهي عن الصلاة حال التلبس بها وفصل بين الجمل للاعتناء بأمر التشنيع والوعيد حيث أشعر أن كل جملة مقصودة على حيالها فشنع سبحانه على الناهي أولا بنهيه عن الصلاة وأوعد عليه مطلقا بقوله تعالى: * (أرأيت الذي) * الخ أي أخبرني يا من له أدنى تمييز أو أيها الإنسان عمن ينهى عن الصلاة بعض عباد الله تعالى ألم يعلم بأن الله تعالى يرى ويطلع فيجازيه على ذلك النهي وشنع سبحانه عليه ثانيا بنهيه عن ذلك وأوعده عليه أيضا على تقدير أنه على زعمه على هدى ورشد في نفس النهي أو أنه أمر بواسطته بالتقوى لأن النهي عن الشيء أمر بضده أو مستلزم له فقال تعالى شأنه: * (أرأيت إن كان) * الخ أي أخبرني عن ذلك الناهي ألم يعلم أن الله يطلع فيجازيه إن كان على هدى ورشد في نفس النهي أو كان أمرا بواسطته بالتقوى كما يزعم وشنع جل شأنه عليه ثالثا بذلك وأوعده عليه أيضا على تقدير أنه في نفس الأمر وفيما يقوله تعالى مكذبا بحقية الصلاة متوليا عنها معرضا عن فعلها بقوله تعالى: * (أرأيت إن كذب) * الخ أي أخبرني عن ذلك الناهي ألم يعلم بأن الله تعالى يطلع على أحواله إن كذب بحقية ما نهى عنه وأعرض عن فعله على ما نقول نحن والحاصل أنه تعالى شنع وأوعد على النهي عن الصلاة بدون تعرض لحال الناهي الزعمي أو الحقيقي ثم شنع وأوعد جل وعلا عليه مع التعرض لحاله الزعمي ثم شنع عز وجل وأوعد عليه مع التعرض لحاله الحقيقي وهذا كالترقي في التشنيع والجمهور على عدم تقييد ما في حيز الشرطيتين بما ذكرنا حيث قالوا إن كان على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو كان أمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يزعم وأكان مكذبا للحق ومتوليا عن الصواب كما نقول وذكر أن الشرط الثاني تكرار للأول لأن معنى الأول أنه ليس على الهدى وأوضح بأن إدخال حرف الشرط في الأول لإرخاء العنان صورة والتهكم حقيقة إذ لا يكون في النهي عن عبادته تعالى والأمر بعبادة الأصنام هدى البتة وفي الثاني لذلك والتهكم على عكس الأول إذ لا شك أنه مكذب متول فما لهما إلى واحد وقيل إن الرؤية في الجملة الأولى بصرية فلا تحتاج إلى مفعول ثان وفي الثانية والثالثة قلبية والمفعول الأول على ما تقدم والمفعول الثاني سد مسده الجملة الشرطية بجوابها وهو في الأخيرة * (ألم يعلم) * الخ المذكور وفيما قبلها محذوف دل هو عليه ولم تعطف الأخيرة على ما قبلها للإيذان باستقلالها بالوقوع في نفس الأمر وباستتباع الوعيد الذي ينطق به الجواب وأما ما قبلها فأمر الشرط فيه ليس إلا لتوسيع الدائرة وهو السر في تجريده عن الجواب والإحالة به على جواب الشرطية بعده والخطاب في الكل لمن يصلح له والتنوين في عبدا لتفخيمه عليه الصلاة والسلام واستعظام النهي وتأكيد التعجيب منه والمعنى أخبرني عن ذلك الناهي إن كان على الهدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى الخ ما ذكر آنفا ألم يعلم أن الله يرى ويطلع على أحواله فيجازيه بها حتى اجترأ على ما فعل وقيل إن أرأيت في الجمل الثلاث من الرؤية القلبية والمفعول الأول للأولى الموصول ومفعولها الثاني الجملة الشرطية الأولى بجوابها المحذوف اكتفاء عنه بجواب الشرطية الثانية إذ علم من ضرورة التقابل وأرأيت الثانية تكرارا للأولى وأرأيت الثالثة ومفعولها الأول محذوف للقرينة مستقلة لأنها تقابل الأولى للتقابل بين الشرطين يعني قوله تعالى: * (إن كان) * الخ وقوله سبحانه:
184

* (إن كذب) * الخ وفي الإتيان بالجملة الأخيرة من دون العطف ترشيح للكلام المبكت وتنبيه على حقية الشرط ولهذا صرح بجوابه ليتمحض وعيدا والخطاب على ما تقدم أولا والكلام من قبيل الكلام المنصف وإرخاء لعنان ولذا قيل عبدا ولم يقل نبيا مجتبى فكأنه قيل أخبرني يا من له أدنى تمييز عن حال هذا الذي ينهى بعض عباد الله تعالى فضلا عن النبي المجتبى عن صلاته إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو كان آمرا بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأصنام كما يزعم وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح كما تقول: * (ألم يعلم) * الخ وقيل أرأيت في الجملتين الثانية والثالثة تكرار للأولى والشرطيتان بجوابهما سادتان مسد المفعول الثاني للأولى و * (ألم يعلم) * الخ جواب الشرط الثاني وجواب الأول محذوف لدلالته عليه ولم يقل أو * (إن كذب) * الخ لأنه ليس بقسيم لما
قبله على ما قيل والمعنى على نحو ما سمعت وأورد على جميع هذه الأقوال إن في تجويز الإتيان بالاستفهام في جزاء الشرط من غير الفاء وإن صرح له الزمخشري في كشافه وارتضاه الرضي واستشهد له بقوله تعالى: قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون بحثا لأن ظاهر نقل الزمخشري نفسه في المفصل ونقل غيره وجوب الفاء إذا كان الجزاء جملة إنشائية والاستفهام وإن لم يبق على الحقيقة لم يخرج على ما في " الكشف " من الإنشاء وقال أبو حيان إن وقوع جملة الاستفهام جوابا للشرط بغير فاء لا أعلم أحد أجازه بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلبا بوجه ما ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة أو شعر وقال الدماميني في شرح التسهيل إن جعل هل يهلك جزاء مشكل لعدم اقترانه بالفاء والاقتران بها في مثل ذلك واجب واعترض أيضا جعل الجملة الشرطية في موضع المفعول الثاني لا رأيت بأن مفعولها الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية كمانص عليه أبو حيان وجماعة أو قسمية كما في " الإرشاد " وقال الخفاجي إن جعل الشرطية في موقع المفعول والجملة الاستفهامية في موقع جواب الشرط إما على ظاهره أو على أنهما لدلالتهما على ذلك جعلا كأنهما كذلك لسدهما مسد المفعول والجواب وبما ذكر صرح الرضي والدماميني في شرح التسهيل في باب اسم الإشارة فما قيل من أن المفعول الثاني لا رأيت لا يكون إلا جملة استفهامية مخالف لما صرحوا بأنه مختار سيبويه فلا يلتفت إليه ولم يجعلوا فيما ذكر الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولا للكافر الناهي لأن السياق مقتض لخروج الناهي والمنهي عن مورد الخطاب واستظهر في " البحر " جعله للنبي صلى الله عليه وسلم وجوز غيره جعله للكافر والمراد تصوير الحال بعنوان كلي وهو كما ترى وقيل الضميران في أن كان وأمر للعبد المصلي والضمائر في كذب وتولى ويعلم للذي ينهى وحاصل المعنى على ما قال الفراء أرأيت الذي ينهى عبدا يصلي والمنهي على الهدى وأمر بالتقوى والناهي مكذب متول فما أعجب من ذا والظاهر أن جواب الشرط عليه محذوف وهو فما أعجب من ذا بقرينة أرأيت فإنه يفيد التعجب والرؤية فيه قيل علمية والمفعول الثاني محذوف نحو هذا الجواب وقيل بصرية و * (ألم يعلم) * الخ جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها وتأكيده وأو تقسيمية بمعنى الواو وقيل الخطاب في أرأيت الثانية للكافر وفي الثانية للنبي صلى الله عليه وسلم فهو عز وجل كالحاكم الذي حضر الخصمان يخاطب هذا مرة والآخر أخرى وكأنه سبحانه قال يا كافر أخبرني إن كانت صلاته هدى ودعاؤه إلى الله تعالى أمر بالتقوى أتنهاه وأخبرني أيها الرسول إن كان الناهي مكذبا بالحق متوليا عن الدين الصحيح ألم يعلم بأن الله تعالى يجازيه وسكت هذا القائل عن الخطاب في أرأيت الأول فقيل لكل من يصلح له وقيل للإنسان وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم كالخطاب في الثالث وقوله أتنهاه يحتمل أنه جعله مفعولا لرأيت ويحتمل أنه جواب الشرط وأو كما في سابقه ولعل ذكر الأمر بالتقوى في الجملة الثانية لأن
185

النهي على ما قيل كان عن الصلاة والأمر بها وكان الظاهر عليه أن يذكر في الجملة الأولى أيضا بأن يقال أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أو أمر بالتقوى لكنه حذف اكتفاء بذكره في الثانية واقتصر على ذكر الصلاة ولم يعكس لأن الأمر بالتقوى دعوة قولية والصلاة دعوة فعلية والفعل أقوى من القول وإنما كانت دعوة وأمرا لأن المقتدى به إذا فعل فعلا كان في قوة قوله افعلوا هذا وقيل المذكور أولا ليس النهي عن الصلاة بل النهي حين الصلاة وهو محتمل أن يكون لها أو لغيرها وعامة أحوال الصلاة لما انحصرت في تكميل أنفس المصلي بالعبادة وتكميل غيره بالدعوة فنهيه في تلك الحالة يكون عن الصلاة والدعوة معا فلذا ذكر في الجملة الثانية انتهى فلا تغفل وجوز الإمام كون الخطاب في الكل له عليه الصلاة والسلام وقال في بيان معنى * (أرأيت إن كان) * الخ أرأيت إن صار على الهدى واشتغل بأمر نفسه أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة فلو اختار الرأي الصائب والاهتداء والأمر بالتقوى أما كان ذلك خيرا له من الكفر بالله تعالى والنهي عن خدمته سبحانه وطاعته عز وجل كأنه تعالى يقول تلهف عليه كيف فوت على نفسه المراتب العلية وقنع بالمراتب الردية واعتبر عصام الدين هذه الجملة توبيخا على تفويت ما ينفع وما بعدها توبيخا على كسب ما يضر فقال إن قوله تعالى: * (أرأيت الذي) * الخ استشهاد لطغيان الإنسان إن رآه مستغنيا والرؤية بمعنى الإبصار أي أشاهدت الذي ينهى عبدا إذا صلى وعرفت طغيان الإنسان المستغني وأنه لا يكفي بكفرانه ويتجاوز إلى تكليف العبد الذي أرسل للمنع عن الكفران بالكفران وقوله سبحانه: * (أرأيت إن كان) * الخ توبيخ له على فوت ما لا يعلم كنهه بفوت الهدى والأمر بالتقوى يعني أعلمت أنه على أي فوز إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى وقوله عز وجل: * (أرأيت إن كذب) * الخ توبيخ له بما كسب من استحقاق العذاب والبعد عن رب الأرباب أي أعلمت أنه على أي عقوبة ومؤاخذة وقوله تعالى: * (ألم يعلم) * الخ تهديد ووعيد شديد بعد التوبيخ على كسب حال الشقي وفوت حال السعيد انتهى وهو كما ترى فتأمل جميع ما تقدم والله تعالى بمراده أعلم ثم إن الآية وإن نزلت في أبي جهل عليه اللعنة لكن كل من نهى عن الصلاة ومنع منها فهو شريكه في الوعيد ولا يلزم على ذلك المنع عن النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة والأوقات المكروهة لأن المنهي عنه في الحقيقة ليس عن الصلاة نفسها بل عن وصفها المقارن ولشدة الاحتياط تحاشي بعضهم عن النهي مطلقا فروي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه رأى في المصلي أقواما يصلون قبل صلاة العيد فقال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فقيل له رضي الله تعالى عنه ألا تنهاهم فقا لرضي الله تعالى عنه أخشي أن أدخل تحت وعيد قوله تعالى: * (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) * وفي رواية لا أحب أن أنهي عبدا إذا صلى ولكن أحدثهم بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سلك نحو هذا المسلك أبو حنيفة عليه الرحمة فقد روي أن أبا يوسف قال له أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع اللهم اغفر لي فقال يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي ويقاس على النهي عن الصلاة النهي عن غيرها من أنواع العبادة ولا فرق بين النهي القالي والنهي الحالي ومنه أن يشغل المرء المرء عن ذلك وقد ابتلي به كثير من الناس.
* (كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية) *
* (كلا) * ردع للناهي اللعين وزجر له واللام في قوله تعالى: * (لئن لم ينته) * موطئة للقسم أي والله لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر * (لنسفعا بالناصية) * أي لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار يوم القيامة والسفع قال المبرد الجذب بشدة وسفع بناصية فرسه جذب قال عمرو بن معد يكرب: قوم إذ كثر الصياح رأيتهم *
ما بين ملجم مهره أو سافع
186

وقال مؤرج السفع الأخذ بلغة قريش والناصية شعر الجبهة وتطلق على مكان الشعر وأل فيها للعهد واكتفى بها عن الإضافة وهو معنى كونها عوضا عن المضاف إليه في مثله والكلام كناية عن سحبه إلى النار وقول أبي حيان أنه عبر بالناصية عن جميع الشخص لا يخفى ما فيه وقيل المراد لنسحبنه على وجهه في الدنيا يوم بدر وفيه بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجروه إن لم ينته وقد فعل عز وجل فقد روي أنه لما نزلت سورة الرحمان قال صلى الله عليه وسلم: " من يقرؤها على رؤساء قريش فقام ابن مسعود وقال: أنا يا رسول الله فلم يأذن له عليه الصلاة والسلام لضعفه وصغر جثته حتى قالها ثلاثا وفي كل مرة كان ابن مسعود يقول أنا يا رسول الله فأذن له صلى الله عليه وسلم فأتاهم وهم مجتمعون حول الكعبة فشرع في القراءة فقام أبو جهل فلطمه وشق أذنه وأدماه فرجع وعيناه تدمعان فنزل جبريل عليه السلام ضاحكا فقال له صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال عليه السلام ستعلم فلما كان يوم بدر قال عليه الصلاة والسلام التمسوا أبا جهل في القتلى فرآه ابن مسعود مصروعا يخور فارتقى على صدره ففتح عينه فعرفه فقال لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه فعالج قطع رأسه فقال اللعين دونك فاقطعه بسيفي فقطعه ولم يقدر على حمله فشق أذنه وجعل فيها خيطا وجعل يجره حتى جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء جبريل عليه السلام يضحك ويقول يا رسول أذن بأذن والرأس زيادة " وكأن تخصيص الناصية بالذكر لأن اللعين كان شديد الاهتمام بترجيلها وتطييبها أو لأن السفع بها غاية الإذلال عند العرب إذ لا يكون إلا مع مزيد التمكن والاستيلاء ولأن عادتهم ذلك في البهائم وقرأ محبوب وهارون كلاهما عن أبي عمرو لنسفعن بالنون الشديدة وقرأ ابن مسعود لأسفعن كذلك مع إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم وحده وكتبت النون الخفيفة في قراءة الجمهور ألفا اعتبارا بحال الوقف فإنه يوقف عليها بالألف تشبيها لها بالتنوين وقاعدة الكتابة مبنية على حال الوقف والابتداء ومن ذلك قوله: ومهما تشأ منه فزارة تمنعا
وقوله: يحسبه الجاهل ما لم يعلما
وقوله تعالى:
* (ناصية ك‍اذبة خاطئة) *
* (ناصية) * بدل من الناصية وجاز إبدالها عن المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت بقوله سبحانه: * (كاذبة خاطئة) * فاستقلت بالإفادة وقد ذكر البصريون أنه يشترط لإبدال النكرة من المعرفة الإفادة لا غير ومذهب الكوفيين أنها تبدل منها شرطين اتحاد اللفظ ووصف النكرة وليشمل بظاهره كل ناصية هذه صفتها وهذا مما يتأتى على سائر المذاهب ووصف الناصية بما ذكر مع أنه صفة صاحبها للمبالغة حيث يدل على وصفه بالكذب والخطأ بطريق الأولى ويفيد أنه لشدة كذبه وخطئه كأن كل جزء من أجزائه يكذب ويخطأ وهو كقوله تعالى تصف ألسنتهم الكذب وقولهم وجهها يصف الجمال فالإسناد مجازي من إسناد ما للكل إلى الجزء وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي ناصية كاذبة خاطئة بنصب الثلاثة على الشتم والكسائي في رواية يرفعها أي هي ناصية الخ.
* (فليدع ناديه) *
* (فليدع ناديه) * النادي المجلس الذي ينتدي فيه القوم أي يجتمعون للحديث ويجمع على أندية والكلام على تقدير المضاف أي فليدع أهل ناديه أو الإسناد فيه مجازى أو أطلق اسم المحل على من حل فيه ومثله في هذا المجلس ونحوه كما قال جرير أو ذو الرمة: لهم مجلس صهب السبال أذلة * سواسية أحرارها وعبيدها
وقال زهير: وفيهم مقامات حسان وجوههم * وأندية ينتابها القول والفعل
وهذا إشارة إلى ما صح من أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال ألم أنهك فأغاظ عليه الصلاة والسلام له فقال أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا والأمر على ما في " البحر " للتعجيز والإشارة إلى أنه لا يقدر
187

على شيء.
* (سندع الزبانية) *
* (سندع الزبانية) * أي ملائكة العذاب ليجروه إلى النار وهو في الأصل الشرط أي أعوان الولاة واختلف فيه فقيل جمع لا واحد له من لفظه كعباديد وقال أبو عبيد واحده زبنية بكسر فسكون كعفرية وقال الكسائي واحدة زبني بالكسر كأنه نسب إلى الزبن بالفتح وهو الدفع ثم غير للنسب وكسر أوله كأنسي وأصل الجمع زباني فقيل زبانية بحذف إحدى ياميه وتعويض التاء عنها وقال عيسى بن عمر والأخفش واحده زابن والعرب قد تطلق هذا الاسم على من اشتد بطشه وإن لم يكن من أعوان الولاة ومنه قوله: مطاعم في القصوى مطاعين في الوغى * زبانية غلب عظام حلومها
وسمى ملائكة العذاب بذلك لدفعهم من يعذبونه إلى النار وهذا الدعاء في الدنيا بناء على ما روي من أنه لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا والظاهر أن سندع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم ورسم في المصاحف بدون واو لاتباع الرسم للفظ فإنها محذوفة فيه عن الوصل لالتقاء الساكنين أو لمشاكلة فليدع وقيل إنه مجزوم في جواب الأمر وفيه نظر وقرأ ابن أبي عبلة سيدعي الزبانية بالبناء للمفعول ورفع الزبانية.
* (كلا لا تطعه واسجد واقترب) *
* (كلا) * ردع لذلك اللعين بعد ردع وزجر له أثر زجر * (لا تطعه) * أي دم على ما أنت عليه من معاصاته * (واسجد) * وواظب غير مكترث به على سجودك وهو على ظاهره أو مجاز عن الصلاة * (اقترب) * وتقرب بذلك إلى ربك وفي " صحيح مسلم " وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا أقرب ما يكون العبد من
ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء وفي " الصحيح " وغيره أيضا من حديث ثوبان مرفوعا عليك بكثرة السجود فإنه لا تسجد لله تعالى سجدة إلا رفعك الله تعالى بها درجة وحط عنك بها خطيئة ولهذه الأخبار ونحوها ذهب غير واحد إلى أن السجود أفضل أركان الصلاة ومن الغريب أن العز بن عبد السلام من أجلة أئمة الشافعية قال بوجوب الدعاء فيه وفي " البحر " ثبت في " الصحيحين " أنه عليه الصلاة والسلام سجد في إذا السماء انشقت وفي هذه السورة وهي من العزائم عند علي كرم الله تعالى وجهه وكان مالك يسجد فيها في خاصة نفسه والله تعالى الموفق.
سورة القدر
قال أبو حيان مدنية في قول الأكثر وحكى الماودري عكسه وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة وقال الجلال في الإتقان فيها قولان والأكثر على أنها مكية ويستدل لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي والحاكم عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أرى بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت: * (إنا أعطيناك الكوثر) * ونزلت: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * ففي قول المزني: هو منكر تردد عندي وأيا ما كان فقد استشكل وجه دلالته على كون السورة مدنية وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك لقوله فيه على منبره والظاهر أن يكون المنبر موجودا زمن الرؤيا وهو لم يتخذ إلا في المدينة وآيها ست في المكي والشامي وخمس فيما عداهما وجاء في حديث أخرجه محمد بن نصر عن أنس مرفوعا أنها تعدل ربع القرآن وذكر غير واحد من الشافعية أنه يسن قراءتها بعد الوضوء وقال بعض أئمتهم ثلاثا ووجه مناسبتها لما
188

قبلها أنها كالتعليل للأمر بقراءة القرآن المتقدم فيه كأنه قيل * (اقرأ) * القرآن لأن قدره عظيم وشأنه فخيم وقال الخطابي المراد بالكتابة في قوله تعالى: * (فيها انا أنزلناه) * الإشارة إلى قوله تعالى: * (اقرأ) * ولذا وضعت بعد وارتضاه القاضي أبو بكر بن العربي وقال هذا بديع جدا والظاهر أنه أراد أن الضمير المنصور في ذاك * (لاقرأ) * الخ ما ستسمعه إن شاء الله تعالى وكونه أراد أنه للمقروء المفهوم من اقرأ فيكون في معنى رجوعه للقرآن خلاف الظاهر فلا تغفل.
* (إنا أنزلن‍اه فى ليلة القدر) *.
* (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * الضمير عند الجمهور للقرآن وادعى الإمام فيه إجماع المفسرين وكأنه لم يعتد بقول من قال منهم برجوعه لجبريل عليه السلام أو غيره لضعفه قالوا في التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدم ذكره تعظيم له أي تعظيم لما أنه يشعر بأنه لعلو شأنه كأنه حاضر عند كل أحد فهو في قولة المذكور وكذا في إسناد إنزاله إلى نون العظمة مرتين وتأكيد الجملة وأشار الزمخشري إلى إفادة الجملة اختصاص الإنزال به سبحانه بناء على أنها من باب أنا سعيت في حاجتك مما قدم فيه الفاعل المعنوي على الفعل وتعقب بأن ما ذكروه في الضمير المنفصل دون المتصل كما في اسم أن هنا نعم الاختصاص يفهم من سياق الكلام وفيه أنهم لم يصرحوا باشتراط ما ذكر وكذا في تفخيم وقت إنزاله بقوله تعالى:
* (ومآ أدراك ما ليلة القدر) *
* (وما أدراك ما ليلة القدر) * لما فيه من الدلالة على أن علوها خارج عن دائرة دراية الخلق لا يعلم ذلك ولا يعلم به إلا علام الغيوب كما يشعر به قوله سبحانه:
* (ليلة القدر خير من ألف شهر) *
* (ليلة القدر خير من ألف شهر) * فإن بيان إجمالي لشأنها أثر تشويقه عليه الصلاة والسلام إلى درايتها فإن ذلك معرب عن الوعد بإدرائها وعن سفيان بن عيينية أن كل ما في القرآن من قوله تعالى: * (ما أدراك) * أعلم الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم وما فيه من قوله سبحانه * (وما يدريك) * لم يعلمه عز وجل به وقد مر بيان كيفية إعراب الجملتين وفي إظهار ليلة القدر في الموضعين من تأكيد التعظيم والتفخيم ما لا يخفى والمراد بإنزاله فيها إنزاله كله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا فقد صح عن ابن عباس أنه قال أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله تعالى ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في أر بعض وفي رواية بدل وكان بمواقع الخ ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة وفي رواية أخرى عنه أيضا أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ونزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بجواب كلام العباد وأعمالهم وفي أخرى أنه أنزل في رمضان ليلة القدر جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام وكون النزول بعد في عشرين سنة قول لهم وقال بعضهم وهو الأشهر في ثلاث وعشرين وقال آخر في خمس وعشرين وهذا للخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد البعث وقال الشعبي المراد ابتدأنا بإنزاله فيها والمشهور أن أول ما نزل من الآيات * (اقرأ) * وأنه كان نزولها بحراء نهارا نعم في " البحر " روى أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان فإن صح وكان المراد كان ليلا فذاك وإلا فظاهر كلام الشعبي غير مستقيم اللهم إلا أن يقال أنه أراد ابتداء إنزاله إلى السماء الدنيا فيها ولا يلزم أن يتحد ذلك وابتداى إنزاله عليه صلى الله عليه وسلم في الزمان ثم أن في أنزلناه على ما ذكر تجوزا في الإسناد لأنه أسند فيه ما للجزء إلى الكل أو مجازا الطرف أو تضمينا وقي المراد إنزاله من اللوح إلى السماء الدنيا مفرقا في ليالي قدر على أن المراد بليلة الجنس فقد قيل إن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين وكان ينزل في كل ليلة ما يقدر الله تعالى إنزاله في كل السنة ثم ينزله سبحانه منجما في جميع السنة وهذا القول ذكره الإمام احتمالا ونقله القرطبي كما قال ابن كثير عن مقاتل لكنه مما لا يعود عليه والصحيح المعتمد عليه كما قال
189

ابن حجر في " شرح البخاري " أنه أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا بل حكى بعضهم الإجماع عليه نعم لا يبعد القول بأن السفرة هناك نجموه لجبريل عليه السلام في الليالي المذكورة وأجاب السيد عيسى الصفوي بأنه لا محذور في ذلك بناء على جواز مثل أتكلم مخبرا به عن التكلم بقولك أتكلم وفي ذلك
اختلاف بين الدواني وغيره ذكره في رسالته التي ألفها في الجواب عن مسألة الحذر الأصم أو يقال يرجع الضمير للقرآن باعتبار جملته وقطع النظر عن أجزائه فيخبره عن الجملة بأنا أنزلنا وإن كان من جملته إنا أنزلناه المندرج في حملته من غير نظير له بخصوصه وقد ذكروا أن الجزء من حيث هو مستقل مغاير له من حيث هو في ضمن الكل وفي الاتقان عن أبي شامة فإن قلت إنا أنزلنا إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة فما نزل جملة وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة قلت لها وجهان أحدهما أن يكون المعنى إنا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر وقضينا به وقدرناه في الأزل والثاني أن لفظ أنزلناه ماض ومعناه على الاستقبال أي تنزله جملة في ليلة القدر انتهى ولم يظهر لي في كلا وجهيه رحمه الله تعالى شامة حسن فأجل في ذلك نظرا فلعلك ترى وقيل المعنى إنا أنزلناه في فضل ليلة القدر أو في شأنها وحقها فالكلام على تقدير مضاف أو الظرفية مجازية كما في قول عمر رضي الله تعالى عنه خشيت أن ينزل في قرآن وقول عائشة رضي الله تعالى عنها لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن وجعل بعضهم في في ذلك للسببية والضمير قيل للقرآن بالمعنى الدائر بين الكل والجزء وقيل بمعنى السورة ولا يأباه كون أنا أنزلناه فيها لما مر آنفا فلا حاجة إلى أن يقال المراد بها ما عدا * (إنا أنزلناه) * في ليلة القدر وقيل يجوز أن يراد به المجموع لاشتماله على ذلك وأيا ما كان فحمل الآية على هذا المعنى غير معول عليه وإنما المعول عليه ما تقدم والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة أو إثباته لدى السفرة هناك أو نحو ذلك مما لا يشكل نسبته إلى القرآن واختلفوا في تلك الليلة فقيل أنها رفعت لخبر في ذلك وهو كما قال الكرماني غلط لأن آخر الخبر يرده والمراد رفع تعيينها فيه وعكرمة أنها ليلة النصف من شعبان وهو قول شاذ غريب كما في " تحفة المحتاج " وظاهر ما هنا مع ظاهر قوله تعالى: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) * يرده وعن ابن مسعود أنها تنتقل في ليالي السنة فتكون في كل سنة في ليلة ونسبه النووي إلى أبي حنيفة وصاحبيه والأكثرون على أنها في شهر رمضان فعن ابن رزين أنها الليلة الأولى منه وعن الحسن البصري السابعة عشر لأن وقعة بدر كانت في صبيحتها وحكى عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضا وعن أنس مرفوعا التاسعة عشر وحكى موقوفا على ابن مسعود أيضا وعن محمد بن إسحق الحادية والعشرون لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري أنه عليه الصلاة والسلام قال قد رأيت هذه الليلة يعني ليلة القدر ثم نسيتها وقد رأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين قال أبو سعيد فمطرت السماء من تلك الليلة فوكف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين وفي " مسلم " من صبيحة ثلاث وعشرين ومنه مع ما قبله مال الشافعي عليه الرحمة إلى أنها الليلة الحادية أو الثالثة والعشرون وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن أنيس أنه سئل عن ليلة القدر فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول التمسوها الليلة وتلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن بلال قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة القدر ليلة أربع وعشرين وفي الاتقان وغيره أنها الليلة التي أنزل فيها القرآن وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي ذر أنه سئل عن ليلة القدر فقال كان عمر وحذيفة وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشكون أنها ليلة سبع وعشرين وأخرج ابن نصر وابن جرير في تهذيبه عن معاوية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التمسوا ليلة القدر
190

في آخر ليلة من رمضان وفي رواية أحمد عن أبي هريرة مرفوعا أنها آخر ليلة وقيل هي في العشر الأوسط تنتقل فيه وقيل في أوتاره وقيل في أشفاعه وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من شهر رمضان وفي حديث أخرجه أحمد وجماعة عن عبادة بن الصامت مرفوعا وحديثين أخرجهما ابن جرير وغيره عن جابر بن سمرة وعن عبد الله بن جابر كذلك ما يدل على ما ذكر أيضا بل الأخبار الصحيحة الدالة عليه كثيرة وبالجملة الأقوال فيها مختلفة جدا إلا أن الأكثرين على أنها في العشر الأواخر لكثرة الأحاديث الصحيحة في ذلك وأكثرهم على أنها في أوتارها لذلك أيضا وكثير منهم ذهب إلى أنها الليلة السابعة من تلك الأوتار وصح من رواية الإمام أحمد ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم أن زرد بن حبيش سأل أبي بن كعب عنها فحلف لا يستثنى أنها ليلة سبع وعشرين فقال له بم تقول ذلك يا أبا المنذر فقال بالآية والعلامة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها تصبح من ذلك اليوم تطلع الشمس ليس لها شعاع وبعض الأخبار عن ابن عباس ظاهرة في ذلك وفي بعضها الاستئناس له بما يدل على جلالة شأن السبعة التي قالوا فيها إنها عدد تام من كون السموات سبعا والأرضين سبعا والأيام سبعا والجمار سبعا والطواف بالبيت سبعا والسجود على سبع إلى غير ذلك مما ذكره لما علمت من الأخبار الصحيحة المتظافرة وهو زمان ضعف البدن وفيه يزيد أجر العمل ووقت قوة الاستعداد للتجليات لمزيد التصفية وأنها في الأوتار أرجى للأحاديث أيضا مع أن الله تعالى وتر يحب الوتر وقال ابن حجر الهيثمي اختار جمع أنها لا تلزم ليلة بعينها من العشر الأواخر بل تنتقل في لياليه فعاما أو أعواما تكون وترا إحدى أو ثلاثا أو غيرهما وعاما أو أعواما تكون شفعا اثنتين أو أربعا أو غيرهما قالوا ولا تجتمع الأحاديث المتعارضة فيها إلا بذلك وكلام الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجمع بين الأحاديث يقتضيه انتهى ولا يخفى أن الجمع بين الأحاديث يقتضيه انتهى ولا يخفى أن الجمع بذلك بين الأحاديث المتعارضة فيها مطلقا مما لا يتسنى وإنما يتسنى الجمع بذلك بين الأحاديث المتعارضة فيها بالنظر إلى العشر وقيل في الجمع مطلقا إنها تنتقل وما صح من التعيين في الجملة أو على التحقيق محمول على ليلة قدر في شهر رمضان مخصوص بأن يكون قد علم صلى الله عليه وسلم أنها في أول شهر رمضان فرض ليلة كذا فقال عليه الصلاة والسلام هي ليلة كذا أي في هذا الشهر رمضان المخصوص وعلم عليه الصلاة والسلام أنها في شهر رمضان بعده ليلة كذا غير تلك الليلة التي ذكرها قبل فقال صلى الله عليه وسلم هي ليلة كذا وعلم صلى الله عليه وسلم أنها في آخر في العشر الأخير منه فقال هي في العشر الأخير أي من هذا الشهر المخصوص وهكذا وهو كما ترى وعلى القول بانتقالها ادعى بعضهم أنه إذا كان أول الشهر ليلة كذا فهي الليلة السابعة والعشرون وإن كانت ليلة كذا فهي الليلة الحادية والعشرون إلى آخر ما قال وقد ذكرناه مع نظمه في الطراز المذهب وليس في ذلك ما يقوم حجة على الغير وفي بعض الأخبار ذكر علامات لها ففي حديث الإمام أحمد والبيهقي وغيرهما عن عبادة بن الصامت من إماراتها أنها ليلة بلجة صافية ساكنة لا حارة ولا باردة كأن فيها قمرا ساطعا لا يرمى فيها بنجم حتى الصباح وأخرج نحوا منه ابن جرير في تهذيبه وابن مردويه عن جابر بن عبد الله مرفوعا وحمل ذلك إن
صح على ليلة قدر من شهر رمضان مخصوص كالمتعين لعدم إطراده ولا أغلبيته فيما يظهر والحكمة في إخفائها أن يجتهد من يطلبها في العبادة في غيرها ليصادفها كأن يحيى ليالي شهر رمضان كلها كما كان دأب السلف وللإمام في هذا المقام كلام يجل مثله عن التكلم بمثله ولعمري لقدسها فيه سهوا بينا وأتى فيه بما يوشك أن يدل على جهله ومعنى ليلة القدر ليلة التقدير وسميت بذلك لما روى عن ابن عباس وغيره أنه يقدر
191

فيها ويقضي ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وأحياء وإماتة إلى السنة القابلة والمراد إظهار تقديره تعالى ذلك للملائكة عليهم السلام المأمورين بالحوادث الكونية وإلا فتقديره تعالى جميع الأشياء أزلي قبل خلق السموات والأرض لكن قال بعض الأجلة كون التقدير في هذه الليلة يشكل عليه قول كثير أنه ليلة النصف من شعبان وهي المراد بالليلة المباركة التي قال الله تعالى فيها فيها يفرق كل أمر حكيم وأجاب بأن ههنا ثلاثة أشياء الأول نفس تقدير الأمور أي تعيين مقاديرها وأوقاتها وذلك في الأكل والثاني إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ وذلك في ليلة النصف من شعبان والثالث إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبرات فتدفع نسخة الأرزاق والنباتات والأمطار إلى ميكائيل عليه السلام ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبريل عليه السلام ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه السلام ونسخة المصائب إلى ملك الموت وذلك في ليلة القدر وقيل يقدر في ليلة النصف الآجال والأرزاق وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة وقلي يقدر في هذه ما يتعلق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلم إلى ملك الموت والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقال الزهري المعنى ليلة العظمة والشرف من قولهم رجل له قدر عند فلان أي منزلة وشرف وسميت بذلك لأن من أتى بفعل الطاعات فيها صار ذا قدر وشرف عند الله عز وجل أو لأن الطاعات لها فيها ذلك وقيل لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر بواسطة ملك ذي قدر على رسول ذي قدر لأمة ذات قدر وقيل لأنه يتنزل فيها ملائكة ذوات قدر وقال الخليل بن أحمد المعنى ليلة الضيق من قدر عليه رزقه ضيق وسميت بذلك لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة عليهم السلام وخيريتها من ألف شهر باعتبار العبادة عند الأكثرين على معنى أن العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ولا يعلم مقدار خيريتها منها إلا هو سبحانه وتعالى وهذا تفضل منه تعالى وله عز وجل أن يخص ما شاء بما شاء ورب عمل قليل خير من عمل كثير ولا ينافي هذا قاعدة أن كل ما كثر وشق كان أفضل لخبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها أجرك على قدر نصبك لأنها أغلبية على ما قال غير واحد ولا شك أن العمل القليل قد يفضل الكثير باعتبار الزمان وباعتبار المكان وباعتبار كيفية الأداء كصلاة واحدة أديبت بجماعة فإنها تعدل خمسا وعشرين مرة صلاة مثلها أديت على الانفراد إلى غير ذلك نعم هذه الأفضلية قد تعقل في بعض وقد لاكما فيما نحن فيه ولا حجر على الله عز وجل ولا يعلم ما عنده سبحانه إلا هو جل شأنه وتخصيص الألف بالذكر قيل إما للتكثير كما في قوله تعالى: * (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) * وكثيرا ما يراد بالاعداد ذلك وفي " البحر " حكاية أن المعنى عليه خير من الدهر كله أو لما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في " سننه " عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل ليس السلاح في سبيل الله تعالى ألف شهر فعجب المسلمون من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم فانزل الله تعالى السورة وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن عروة قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله تعالى ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون فعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة فقد أنزل الله تعالى عليك خيرا من ذلك فقرأ عليه * (إنا أنزلناه) * الخ ثم قال هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك منه فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحق
192

بأن يسموا عابدين من أولئك العباد وقال أبو بكر الوراق كان ملك كل من سليمان وذي القرنين خمسمائة شهر فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما وفي هذا نظر لأن إن أريد بذي القرنين الأول فهو على القول به قد ملك أكثر من ذلك بكثير وإن أريد به الثاني أعني قاتل دارا فهو قد ملك أقل من ذلك بكثير وقيل أرى صلى الله عليه وسلم أعمار الأمم كافة فاستقصر أعمار أمته فخاف عليه الصلاة والسلام أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله تعالى ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر لسائر الأمم وذكره الإمام مالك في الموطأ وقد سمعت ما يدل على أن الألف إشارة إلى ملك بني أمية وكان على ما قال القاسم بن الفضل ألف شهر لا يزيد يوم ولا ينقص يوم على ما قيل ثمانين سنة وهي ألف شهر تقريبا لأنها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر ولا يعكر عل ذلك ملكهم في جزيرة الأندلس بعد لأنه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب ولذا لم يعد من ملك منهم هناك من خلفائهم وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار وطعن القاضي عبد الجبار في كون الآية إشارة لما ذكر بأن أيام بني أمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة أنها خير من ألف شهر مذمومة. / جسم]
ألم تر أن السيف ينقص قدره * إذا قيل إن السيف خير من العصا
وأجيب بأن تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية فلا يبعد أن يقول الله تعالى أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية فلا تبقى فائدة واختلف في أن تلك الليلة تستتبع يومها أم لا فقال الشعبي نعم يومها مثلها وقيل لعل الوجه فيه إن ذكر الليالي يستتبع الأيام ومنه إذا نذر اعتكاف ليلتين لزمتاه بيوميهما والكثير لا لكن قيل يسن الاجتهاد في يومها كما يسن فيها ولذا جاء في وصفها أن الشمس تطلع صبيحتها وليس لها شعاع كما تقدم أي لعظم أنوار الملائكة الصاعدين والنازلي فيها فإنه لا فائدة فيه سوى معرفة يومها ولا فائدة فيها لو لم يسن الاجتهاد فيه ومنع بأنه يجوز أن تكون الفائدة معرفتها نفسها ليجتهد فيها من قابل بناء على أنها لا تنتقل وظاهر الآية أنها أفضل من ليلة الجمعة والمسألة خلافية وأكثر الأئمة على أنها أفضل منها للآية ولأن الله تعالى أنزل فيها القرآن وهو هو ولم ينزله في غيرها ولأنه سبحانه أمر بطلبها فعن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: * (وابتغوا ما كتب الله لكم ليلة القدر) * ولأنه عز وجل جعلها ليلة الفرق والحكم فقال جل شأنه فيها
يفرق كل أمر حكيم وسماها جل وعلا ليلة القدر أي التقدير ولما روى عن كعب أنه قال إن الله تعالى اختار الساعات فاختار ساعات أوقات الصلاة واختار الأيام فاختار يوم الجمعة واختار الشهور فاختار شهر رمضان واختار الليالي فاختار ليلة القدر فهي أفضل ليلة في أفضل شهر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل فيها فقد صح من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وفي رواية وما تأخر ونهى عليه الصلاة والسلام أن يخص ليلة الجمعة بقيام ويومها بصيام ولأنه سبحانه وتعالى أخفاها ولم يعينها كما أخفى سبحانه أعظم أسمائه عز وجل وكما أخفى جل شأنه أفضل الصلوات وهي الصلاة الوسطى إلى غير ذلك وذهب أكثر الحنابلة كأبي الحسن الجزري وعبد الله بن بطة وأبي حفص البرمكي وغيرهم إلى أن ليلة الجمعة أفضل لما أخرج مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يغفر الله تعالى ليلة الجمعة لأهل الإسلام أجمعين وهذه فضيلة لم تجيء لغيرها ونحوه ما روى عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من ليلة جمعة إلا وينظر الله تعالى إلى خلقه ثلاث مرات فيغفر لمن لا يشرك بالله تعالى شيئا ولأنه روى ابن بشكوال في كتابه
193

القربة إلى رب العالمين بسنده إلى عمر رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال اكثروا الصلاة علي في الليلة الغراء واليوم الأزهر ليلة الجمعة ويوم الجمعة والغرة من الشيء خياره ولأنه قد روى كثيرون منهم الإمام أحمد أن يومها سيد الأيام وأعظمها وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى وصحح ابن حبان خبر لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة فهي لذلك سيدة الليالي وأعظمها وأفضلها ولأنها معينة مشهودة يشهدها الخاص والعام من ذكر وأنثى وصغير وكبير وبصير وضرير وتصل بركتها إلى الأحياء والأموات وليلة القدر غير معينة فلا ينتفع بها إلا قليل إلى غير ذلك وأجاب هؤلاء عن الآية بأنه لما أريد فيها أنها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر كما قال قتادة وغيره فليرد أيضا أنها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة جمعة ويدل للأمرين أن أكثر أسباب النزول السابقة تدل على أن المراد بالشهور شهور من تقدمنا وهي ليس فيها ليلة قدر ولا ليلة جمعة وعن سائر المستندات بأن بعضها معارض وبعضها لا يدل على أكثر من فضلها وهو ما لم ينكره أحد والأولون أجابوا عن مستنداتهم بنحو ما أجابوا وللتعارض قال أحمد بن الحسين بن يعقوب بن قاسم المقري من الحنابلة أن القولين في المسألة قولان شائعان بين الأصحاب ولكل دلائل تدل على صوابيته فلا ينبغي لأحد أن يطلق الخطا على قائل كل منهما وأنت بعد التأمل في أدلة الطرفين والوقوف على أحوالها يتعين عندك أفضلية ليلة القدر وتعين ليلة الجمعة وههنا قول متوسط بين القولين حكى القاضي أبو يعلى أن أبا الحسن التميمي من الحنابلة أيضا كان يقول ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن أفضل من ليلة الجمعة لما حصل فيها من الخير الكثير الذي لم يحصل في غيرها فأما أمثالها من ليالي القدر فليلة الجمعة أفضل منها وقيل نظيره في ليلة المعراج مع ليلة الجمعة ونحوها ثم إن ظاهر كلام بعض الحنفية كصاحب الجوهرة أن ليلة النحر أفضل من ليلة القدر وسائر ليالي السنة ويرد عليه ظاهر الآية أيضا ولعله يجيب بنحو ما سبق آنفا ونقل الطحطاوي عليه الرحمة في " حواشي الدر المختار " عن بعض الشافعية أن أفضل الليالي ليلة مولده عليه الصلاة والسلام ثم ليلة القدر ثم ليلة الإسراء والمعراج ثم ليلة عرفة ثم ليلة الجمعة ثم ليلة النصف من شعبان ثم ليلة العيد وأنا لا أرى أن له ما يعول عليه في ذلك والله تعالى أعلم وما أشير إليه من كونها من خصائص هذه الأمة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول وصرح به الهيثمي وغيره وقال القسطلاني أنه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي حيث قال فيه يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال بل هي باقية ثم ذكر أن عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدمناه في سبب النزول من رؤيته صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم وتعقبه بقوله هذا محتمل للتأويل فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن كثير في " تفسيره " وابن حجر في فتح الباري انتهى والحق الأول والصراحة في حيز المنع وقد أخرج الديلمي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى وهب لأمتي ليلة القدر لم يعطها من كان قبلهم فتأمل ولا تغفل وقوله تعالى:
* (تنزل المل‍ائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) *
* (تنزل المل‍ائكة والروح فيها) * استئناف مبين لمناط فضلها على تلك المدة المديدة فضمير فيها لليلة وزعم بعضهم أن الجملة صفة لألف شهر والضمير لها وليس بشيء وجوز بعضهم كون الضمير للملائكة على أن الروح مبتدأ لا معطوف على الملائكة وفيها خبره لا متعلق بتنزل والجملة حال من الملائكة وهو خلاف الظاهر والروح عند الجمهور هو جبريل عليه السلام وخص بالذكر لزيادة شرفه مع أنه النازل بالذكر وقيل ملك عظيم لو التقم السموات والأرض كان ذلك له لقمة واحدة وذكر في التيسير من وصفه ما يبهر العقول والله تعالى أعلم بصحة الخبر وقال كعب ومقاتل الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة كالزهاد الذين ل
194

ا تراهم إلا يوم العيد أو الجمعة وقيل حفظة على الملائكة كالملائكة الحفظة علينا وقيل خلق من خلق الله تعالى يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الانس ويخلق ما لا تعلمون وما يعلم جنود ربك إلا هو ولعلهم على ما قيل خدم أهل الجنة وقيل هو عيسى عليه السلام ينزل لمطالعة هذه الأمة وليزور النبي صلى الله عليه وسلم وقيل أرواح المؤمنين ينزلون لزيارة أهليهم وقيل الرحمة كما قرىء لا تيأسوا من روح الله بالضم وعلى الأول المعول والظاهر الذي تشهد له الأخبار أن التنزل إلى الأرض فقيل إن ذلك لما ذكر الله تعالى بعد وسيأتي إن شاء الله تعالى لكلام فيه وقيل ينزلون إليها للتسليم على المؤمنين وقيل لأن الله تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاستغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إليها لتصير طاعاتهم أكثر ثوابا كما أن الرجل منا يذهب إلى مكة لتصير طاعته كذلك فيكون المقصود من الأخبار بذلك ترغيب الإنسان في الطاعة وقال عصام الدين يحتمل أن يكون تنزلهم لإدراكها إذ ليس في السماء ليل والجملة حينئذ مقررة لما سبق لا مبينة لمناط الفضل وفيه نظر لا يخفى وقيل غير ذلك مما سنشير إليه إن شاء الله تعالى وقيل المراد تنزلهم إلى السماء الدنيا وهو خلاف المتبادر وأنزل منه بكثير كون المراد بتنزلهم تنزلهم عن مراتبهم العلية من الاشتغال بالله تعالى والاستغراق بمطالعة جلاله عز وجل ليسلموا على المؤمنين واستظهر أن المراد بالملائكة عليهم السلام جميعهم واستشكل بأن لهم كثرة عظيمة لا تتحملها الأرض وكذا السماء الدنيا لأنها قبل نزولهم مملوءة اطت السماء وحق لها أن تتطء ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم وأجيب بأنهم ينزلون فوجا فوجا فمن
نازل وصاعد كالحجاج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة مثلا بأسرهم لكن لا على وجه الاجتماع بل هم بين داخل وخارج وفي التعبير بتنزل المفيد للتدريج دون نزل رمز إليه وقيل إنهم لكونهم أنوارا لا تزاحم بينهم فالنور إذا ملأ حجرة مثلا لا يمنع من إدخال ألف نور عليه وهو كما ترى ومن الناس من خص الملائكة ببعض فرقهم وهم سكان سدرة المنتهى أو بعض منهم وفي الغنية للقطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال إذا كان ليلة القدر يأمر الله تعالى جبريل عليه السلام أن ينزل إلى الأرض ومعه سكان سدرة المنتهى سبعون ألف ملك ومعهم الوية من نور فإذا هبطوا إلى الأرض ركز جبريل عليه السلام لواءه والملائكة عليهم السلام ألويتهم في أربعة مواطن عند الكعبة وقبر النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد بيت المقدس ومسجد طور سيناء ثم يقول جبريل عليه السلام تفرقوا فيتفرقون ولا يبقى دار ولا حجر ولا بيت ولا سفينة فيها مؤمن أو مؤمنة إلا دخلته الملائكة عليهم السلام إلا بيتا فيه كلب أو خنزير أو خمر أو جنب من حرام أو صورة تماثيل فيسبحون ويقدسون ويهللون ويستغفرون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان وقت الفجر ثم يصعدون إلى السماء فيستقبلهم سكان سماء الدنيا فيقولون لهم من أين أقبلتم فيقولون كنا في الدنيا لأن الليلة لية القدر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيقول سكان السماء الدنيا ما فعل الله تعالى بحوائج أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيقول جبريل عليه السلام أن الله تعالى غفر لصالحهم وشفعهم في طالحهم فترفع ملائكة سماء الدنيا أصواتهم بالتسبيح والتقديس والثناء على رب العالمين شكرا لما أعطى الله تعالى هذه الأمة من المغفرة والرضوان ثم تشيعهم ملائكة السماء الدنيا إلى الثانية كذلك وهكذا إلى السابعة ثم يقول جبريل عليه السلام يا سكان السموات ارجعوا فيرجع ملائكة كل سماء إلى مواضعهم فإذا وصلوا إلى سدرة المنتهى يقول لهم سكانها أين كنتم فيجيبونهم مثل ما أجابوا أهل السموات فيرفع سكان سدرة المنتهى أصواتهم بالتسبيح والتهليل والثناء فتسمع جنة المأوى ثم جنة النعيم وجنة عدن والفردوس ويسمع عشر الرحمن فيرفع
195

العرش صوته بالتسبيح والتهليل والثناء على رب العالمين شكرا لما أعطى هذه الأمة ويقول إلهي بلغني عنك إنك غفرت البارحة لصالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم وشفعت صالحها في طالحها فيقول الله عز وجل: * (صدقت يا عرشي) * ولأمة محمد عليه الصلاة والسلام عندي من الكرامة ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وفي رواية عن كعب نزول جميع ملائكة سدة المنتهى مع جبريل عليهم السلام ولا يعلم عددهم إلا الله تعالى وأن جبريل عليه السلام لا يدع أحدا من الناس إلا صافحه وفي رواية لا يدع مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلم عليه إلا مد من الخمر وآكل لحم الخنزير والمتضمخ بالزعفران وأن علامة مصافحته عليه السلام اقشعرار الجلد ورقة القلب ودمع العينين وروى في نزوله مع الملائكة عليهم السلام وعروجه معهم غير ذلك وقد ذكر بعضا من ذلك الإمام وغيره ونسأل الله تعالى صحة الأخبار وذكر بعضهم أن جبريل عليه السلام يقسم تلك الليلة ما ينزل من رحمة الله تعالى حتى يستغرق أحياء المؤمنين فيقول يا رب بقي من الرحمة كثيرا فما أصنع به فيقول الله عز وجل قسم على أموات أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيقسم حتى يستغرقهم فيقول يا رب بقي من الرحمة كثير فما أصنع به فيقول سبحانه وتعالى: * (قسمه على الكفار) * فيقسمه عليهم فمن أصابه منهم شيء من تلك الرحمة مات على الايمان * (بإذن ربهم) * متعلق بتنزل أو بمحذوف هو حال من فاعله أي ملتبسين بإذن ربهم أي بأمره عز وجل والتقييد بذلك لتعظيم أمر تنزلهم وقيل الإشارة إلى أنهم يرغبون في أهل الأرض من المؤمنين ويشتاقون إليهم فيستأذنون فيؤذن لهم وفيه نوع ترغيب في الاجتهاد في الطاعة واستشكل أمر هذه الرغبة مع كثرة المعاصي وأجيب بأنهم غير واقفين على تفاصيلها أو لم يعتبروها مانعة من ذلك لأنهم يرون من أنواع الطاعات ما لا يرونه في السماء أو ليسمعوا أنين العصاة التائبين ففي الحديث القدسي لأنين المذنبين أحب إلى من زجل المسبحين أو ليجتمعوا مع من بينه وبينهم مناسبة من الصديقين أداء لمراسم المحبة فإن أرواح الصديقين المتجردة عن جلابيب الأبدان لم تزل تزور الملائكة عليهم السلام في مواضعهم بعروجها إليهم فناسب أن تزورهم الملائكة عليهم السلام في زواياهم وإن اقتضى ذلك الاجتماع مع غيرهم ممن ليسوا كذلك فإنه أمر تبعي. / جسم]
ولأجل عين ألف عين تكرم
* (من كل أمر) * أي من أجل كل أمر تعلق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم قاله غي واحد من بمعنى اللام التعليلية متعلقة بتنزل قال عصام الدين فإن قلت المقدرات لا تفعل في تلك الليلة بل في تمام السنة فلماذا تنزل الملائكة عليهم السلام فيها لأجل تلك الأمور قلت لعل تنزلهم لتعيين انفاذ تلك الأمور لهم وتنزلهم لأجل كل أمر ليس على معنى تنزل كل واحد لأجل كل أمر ولا تنزل كل واحد لأمر بل على معنى تنزل الجميع لأجل جميع الأمور حتى يكون في الكلام تقسيم العلل على المعلولات انتهى وأقول يمكن أن يكون تنزلهم لإعداد القوابل لقبول ما أمروا به وأشار بما ذكره من التقسيم إلى أنه يجوز أن يكون نزول الواحد منهم لعدة أمور وقولهم * (من أجل كل أمر تعلق) * الخ قد تقدم ما فيه من البحث فتذكر وقال أبو حاتم من بمعنى الباء أي تنزل بكل أمر فقيل أي من الخير والبركة وقيل من الخير والشر وجعلت الباء عليه للسببية فيرجع المعنى إلى نحو ما مر ومنهم من جعلها للملابسة والمراد بملابستهم له ملابستهم للأمر به فكأنه قيل تنزل الملائكة وهم مأمورون بكل أمر يكون في السنة وكونهم يتنزلون وهم كذلك يستدعي فعلهم جميع ما أمروا به في تلك الليلة والظاهر على ما قالوا أن المراد بالملائكة المدبرات إذ يرهم لا تعلق له في الأمور التي تعلق بها التقدير ليتنزلوا لأجلها على المعنى السابق وهو خلاف ما تدل عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبرات فتدبر وكأنه لذلك قيل إن من كل أمر متعلق بقوله
196

تعالى:
* (سل‍ام هى حتى مطلع الفجر) *
* (سلام) * وهو مصدر بمعنى السلامة خبر مقدم وقوله تعالى: * (هي) * مبتدأ أي هي سلام من كل أمر مخوف وتعلقه بذلك على التوسع في الظرف وإلا فمعمول المصدر لا يتقدم عليه في المشهور وقيل هو متعلق بمحذوف مقدم يفسره المذكور ومن وقف على كلام العلامة التفتازاني في أوائل شرح التلخيص في مثل ذلك استغنى
عما ذكر وقيل من كل أمر متعلق بتنزل لكن على معنى تنزل إلى الأرض منفصلة من كل أمر لها في السماء وتاركة له وفيه إشارة إلى مزيد الاهتمام بالتنزل إلى الأرض وفيه من البعد ما فيه وتقديم الخبر للحصر كما في تميم أنا والإخبار بالمصدر للمبالغة أي ما هي إلا سالمة جدا حتى كأنها عين السلامة قال الضحاك في معنى ذلك أنه تعالى لا يقدر ولا يقضي فيها إلا السلامة قيل أي لا ينفذ تقديره تعالى ويتعلق قضاؤه إلا بذلك وحاصله لا يوجد إلا ذلك وقال مجاهد: إنها سالمة من الشيطان وأذاه وروي أن الشيطان لا يخرج في ليلة القدر حتى يضىء فجرها ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدا بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد ولا ينفذ فيها سحر ساحر ولعل ما يصدر من المعاصي على هذا من النفس الأمارة بالسوء لا بواسطة الشيطان واستشكل كلام الضحاك بناء على ما قيل فيه بأنه لا تخلوا ليلة من الشر والأمر المخوف ولا موجد إلا الله عز وجل فلعله أراد ما تقدم نقله غير بعيد من أن الله تعالى إنما يقدر في هذه الليلة السلامة والخير أي لا يظهر سبحانه للملائكة عليهم السلام إلا تقديره عز وجل ذلك وقيل ما هي إلا سلامة على نحو ما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة والمراد أنها سبب تام للسلامة والنجاة من المهالك يوم القيامة حيث إن من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وقيل السلام مصدر بمعنى التسليم أي ما هي إلا تسليم لكثرة التسليم والمسلمين من الملائكة على المؤمنين فيها وروي ذلك عن الشعبي ومنصور وجعلها عين التسليم للمبالغة أيضا وقوله تعالى: * (حتى مطلع الفجر) * غاية تبين تعميم السلامة أو التسليم كل الليلة فالجار متعلق بسلام ومطلع اسم زمان وقد صرحوا أنه من يفعل ويفعل بفتح العين وضمها على مفعل مفتوح العين وجوز كونه مصدرا ميميا بمعنى الطلوع ويحتاج إلى تقدير مضاف قبله هو وقت أو ما في معناه لتتحد الغاية والمغيا فيكونان من جنس واحد وصح تعلق الجار بذلك مع الفصل لأنه ليس بمصدر نظرا للحقيقة وأفاد الطبرسي وغيره أنه لا بد من تأويله بسالمة أو مسلمة ليصح التعلق أما لو أبقى على مصدريته فلا يصح للزوم الفصل بين الصلة والموصول وذهب بعضهم إلى أن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر وجوز أن تتعلق الغاية بتنزل على معنى أنه لا ينقطع تنزلهم فوجا بعد فوج إلى وقت طلوع الفجر وتعقب بأنه تعسف لأن سلام هي أجنبي وليس باعتراض فلا يحسن الفصل به وجعله حالا من الضمير المجرور في قوله تعالى فيها أي ذات سلامة أو سلام لا يخفى حاله وقيل يجوز أن يكون الوقف على سلام وهو خبر لمحذوف ومن كل أمر متعلق به وهي مبتدأ وحتى مطلع الفجر خبره ولم يجوز ذلك الطيبي والطبرسي وغيرهما قالوا لعدم الفائدة بالإخبار عنها بأنها حتى مطلع الفجر إذ كل ليلة بهذه الصفة وأجيب بأنه لما أخبر عنها بأنها خير من ألف شهر وفهم أنها مخالفة لسائر الليالي في الصفة وكان ذلك مظنة توهم أن ذاتها في المقدار مغايرة لذوات الليالي فيه أيضا دفع ذلك بقوله تعالى: * (هي حتى مطلع الفجر) * أي لم تخالف سائر الليالي في ذلك وإن خالفتها في الفضل والخيرية وقرأ ابن عباس وعكرمة والكلبي من كل امرىء بهمز في آخره أي تنزل من أجل كل إنسان أي من أجل ما يتعلق به مما قدر في تلك الليلة ويرجع إلى نحو ما تقدم أو من أجل مصلحته من الاستغفار له ونحوه على أن المراد بذلك كل امرىء مؤمن على ما قيل وقيل الجار متعلق بسلام والمراد بكل امرىء الملائكة عليهم السلام أي سلام وتحية هي على المؤمنين من كل ملك وأنكر كما قال ابن جني هذه القراءة أبو حاتم وقرأ أبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن
197

محيصن والكسائي وأبو عمرو بخلاف عنه مطلع بكسر اللام على أنه مصدر كالمرجع ويقدر مضاف كما سمعت أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق فإن مفعلا بالكسر قياس يفعل مكسور العين وفي " البحر " قيل مطلع ومطلع بالفتح والكسر مصدران في لغة تميم وقيل المصدر بالفتح وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز انتهى وإرادة الموضع ههنا لا موضع لها كما لا يخفى هذا واعلم أنه يسن الدعاء في هذه الليلة المباركة وهي أحد أوقات الإجابة وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قلت يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول قال قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ويجتهد فيها بأنواع العبادات من صلاة وغيرها وقال سفيان الثوري الدعاء في تلك الليلة أحب من الصلاة ثم أفاد أنه إذا قرأ أو دعا كان حسنا وكان صلى الله عليه وسلم يجتهد في ليالي شهر رمضان ويقرأ فيها قراءة مرتلة لا يمر بآية رحمة إلا سأل ولا بآية عذاب إلا تعوذ وذكر ابن رجب أن الأكمل الجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك كله لا سيما في العشر الأواخر ويحصل قيامها على ما قال البعض بصلاة التراويح وأخرج البيهقي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى المغرب وعشااءل في جماعة حتى ينقضي شهر رمضان فقد أصاب من ليلة القدر بحظ وافر وأخرج مالك وابن أبي شيبة وابن زنجويه والبيهقي عن سعيد بن المسيب قال من شهد العشاء ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه منها وفي تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي عليه الرحمة يسن لرائيها كتمها ولا ينال فضلها أي كماله إلا من أطلعه الله تعالى عليها انتهى والظاهر أنه عنى برؤيتها رؤية ما يحصل به العلم له بها مما خصت به من الأنوار وتنزل الملائكة عليهم السلام أو نحوا من الكشف المفيد للعلم مما لا يعرف حقيقته إلا أهله وهو كالنص في أنها يراها من شاء الله تعالى من عباده وقال أبو حفص بن شاهين على ما حكاه ابن رجب أن الله تعالى لم يكشفها لأحد من الأولين والآخرين ولا النبيين والمرسلين في يوم ولا ليلة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه لما أنزلها عليه وعرفه قدرها أراه عليه الصلاة والسلام إياها في منامه وعرفه في أي ليلة تكون فأصبح عالما بها وأراد أن يخبر بها الناس لسروره فتلاحى بين يديه رجلان فأنسيها صلى الله عليه وسلم أصلا فأمروا بذلك ليلتمس فضلها في الليالي المسماة انتهى وحديث أنه صلى الله عليه وسلم رآها ونسيها قد رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم وهو مما لا تردد في صحته لكن في دلالته على أنه لم يعلم عليه الصلاة والسلام بها ولم يرها بعد ولا يراها أحد من أمته صلى الله عليه وسلم أبدا ترددا ولعل الأمر بالتماسه في العشر الأواخر مثلا يشير إلى رجاء رؤيتها فيها إذ ما لا يرجى في زمان أو مكان لا يحسن أن يؤمر أحد بالتماسها فيه عادة وفي بعض الأخبار ما يدل على أن رؤيتها مناما وقعت لغيره صلى الله عليه وسلم ففي " صحيح مسلم " وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر " وحكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضا وغلط ففي " شرح الصحيح " للنووي اعلم أن ليلة القدر موجودة وأنها ترى ويتحققها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان كما تظاهرت عليه
الأحاديث وأخبار الصالحين بها ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصى وأما قول القاضي عياض عن المهلب بن أبي صفرة لا يمكن رؤيتها حقيقة فغلط فاحش نبهت عليه لئلا يغتر به انتهى
198

بقي في الكلام على هذه الليلة بحث مهم وهو أنه على قول المعتبرين لاختلاف المطالع يلزم القول بتعددها في رمضان وكونها وترا من لياليه عند قوم وشفعا عند آخرين فلا يصح إطلاق القول بأحدهما وكذا لا يصح إطلاق القول بأنها ليلة كذا كليلة السابع والعشرين أو الحاديث والعشرين مثلا من الشهر على ذلك أيضا بل لا يصح إطلاق القول بأن وقت التقدير وتنزل الملائكة ليلة فالليلة عند قوم نهار في الجهة المسامتة لاقدامهم وهي قد تكون مسكونة ولو بواسطة سفينة تمر فيها وربما يكون زمان الليل عند قوم بعضه ليلا وبعضه نهارا عند آخرين كاهل بعض العروض البعيدة عن خط الاستواء بل قد تنقضي أشهر بليل ونهار على قوم ولم ينقض يوم واحد في بعض العروض بل لا يصح أيضا إطلاق القول بأنها في رمضان وأنها الليلة الأولى أو الأخيرة منه إذ الشهر دخولا وخروجا مختلف بالنسبة إلى سكان البسيطة وأجاب بعض بالتزام أن ما أطلق من القول فيها ليس على إطلاقه فيكون القول بوتريتها بالنسبة إلى قوم وبشفعيتها بالنسبة إلى آخرين وهكذا القول بأنها ليلة كذا من الشهر وبالتزام أنها ليلة بالنسبة إلى قوم نهار بالنسبة إلى آخرين وأن التعبير بالليلة لرعاية مكان المنزل عليه القرآن عليه الصلاة والسلام وغالب المؤمنين به فإن ما هو سمت اقدامهم مما ليلهم نهاره لم يعمر بالمسلمين بل لا يكاد يعمر بهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها وقال: إنها حيث كانت نهارا عند قوم لا يبعد أن يعطي الله تعالى أجرها من اجتهد من غيرهم في ليلة ذلك النهار وأن يعطي سبحانه ذلك أيضا من اجتهد منهم ليلا وهي عندهم نهار وعلى نحو هذا يقال في الصور التي ذكرت في البحث وأدعى أن هذا نوع من الجمع بين الأحاديث المتعارضة وأن في قولهم يسن الاجتهاد في يومها رمز إما لشيء من ذلك وهو كما ترى وأجاب آخر بما يستحي القلم من ذكره ويرى تركه هو الحري بقدره وسمعت من بعض أحبابي أن الشيخ إسماعيل العجلوني عليه الرحمة تعرض فيما شرح من " صحيح البخاري " لشيء من هذا البحث والجواب عنه ولم أقف عليه وعندي أن البحث قوي والأمر مما لا مجال لعقلي فيه ومثل ليلة القدر فيما ذكر وقت نزوله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا من الليل كما صحت به الأخبار وكذا ساعة الإجابة من يوم الجمعة إلى أمثال أخر وللشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى كلام طويل في الأول لم يحضرني منه الآن ما يروي الغليل ولغيره كابن حجر كلام مختصر في الثاني وهو مشهور وربما يقال أنها لكل قوم ليلتهم وإن اختلفت دخولا وخروجا بالنسبة إلى آفاقهم كسائر لياليهم فتدخل الليلة مطلقا في بغداد مثلا عند غروب الشمس فيها وبعد نصف ساعة منه تدخل في إسلامبول مثلا وذلك أول وقت الغروب فيها وهكذا والخروج على عكس ذلك فكان الليلة راكب يسير إلى جهة فيصل إلى كل منزل في وقت ويلتزم أن تنزل الملائكة حسب سيرها ولا يبعد أن يتنزل عند كل قوم ما شاء الله تعالى منهم عند أول دخولها عندهم ويعرجون عند مطلع فجرها عندهم أيضا أو يبقى المتنزل منهم هناك إلى أن تنقضي الليلة في جميع المعمورة فيعرجون معا عند انقضائها ويلتزم القول بتعدد التقدير حسب السير أيضا بأن يقدر الله تعالى في أي جزء شاء سبحانه منها بالنسبة إلى من هي عندهم أمورا تتعلق بهم ومناط الفضل لكل قوم تحققها بالنسبة إليهم وقيامهم فيها ومثل هذه الليلة فيما ذكر سائر أوقات العبادة كوقت الظهر والعصر وغيرهما وهذا غاية ما يخطر بالبال فيما يتعلق بهذا الإشكار وأمر ما يعكر عليه من أخبار الآحاد سهل على أن الكثير منها في صحته مقال فتأمل في ذاك والله عز وجل يتولى هداك ثم إن ليلة القدر عند السادة الصوفية ليلة يختص فيها السالك بتجل خاص يعرف به قدره ورتبته بالنسبة إلى محبوبه وهي وقت ابتداء وصول السالك إلى عين الجمع ومقام البالغين في المعرفة وما ألطف قول الشيخ عمر بن الفارض قدس سره: / جسم]
199

وكل الليالي ليلة القدر إن دنت * كما كل أيام اللقا يوم جمعة
هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
سورة البينة
وتسمى سورة القيامة وسورة البلد وسورة المنفكين وسورة البرية وسورة لم يكن قال في " البحر " مكية في قول الجمهور وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار مدنية قاله ابن عطية وفي كتاب التحرير مدنية وهو قول الجمهور وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية واختاره يحيى بن سلام انتهى وقال ابن الفرس الأشهر أنها مكية ورواه ابن مردويه عن عائشة وجزم ابن كثير بأنها مدنية واستدل على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردويه عن أبي خيثمة البدري قال لما نزلت لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب إلى آخرها قال جبريل عليه السلام يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي رضي الله تعالى عنه أن جبريل عليه السلام أمرني أن أقرئك هذه السورة فقال أبي أو قد ذكرت ثم يا رسول الله قال نعم فبكى وهذا هو الأصح وآيها تسع في البصري وثمان في غيره وجاء في فضلها ما أخرجه أبو موسى المديني في المعرفة عن إسماعيل بن أبي حكيم عن مطر المزني أو المدني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى يسمع قراءة لم يكن الذين كفروا فيقول أبشر عبدي فوعزتي لا أسألك على حال من أحوال الدنيا والآخرة ولأمكنن لك في الجنة حتى ترضى ووجه مناسبتها لما قبلها أن قوله تعالى فيها: * (لم يكن الذين) * الخ كالتعليل لإنزال القرآن كأنه قيل إنا نزلناه لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفا مطهرة وهي ذلك المنزل فلا تغفل.
* (لم يكن الذين كفروا من أهل الكت‍ابوالمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) *
* (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) * أي اليهود والنصارى وإيرادهم بذلك العنوان قيل لإعظام شناعة كفرهم وقيل للإشعار بعلة ما نسب إليهم من الوعد باتباع الحق فإن مناط ذلك وجدانهم له في كتابهم وهو مبني على وجه يأتي إن شاء الله تعالى في الآية بعد وإيراد الصلة فعلا لما أن كفرهم حادث بعد أنبيائهم عليهم السلام بالآحاد في صفات الله عز وجل ومن للتبعيض كما قال علم الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي في التأويلات لا للتبيين لأن منهم من لم يكفر بعد نبيه وكان على الاعتقاد الحق حتى
توفاه الله تعالى وعد من ذلك الملكانية من النصارى فقيل أنهم كانوا على الحق قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتبيين يقتضي كفر جميعهم قبل البعث والظاهر خلافه وأيد إرادة التبعيض بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بأهل الكتاب اليهود الذين كانوا بأطراف المدينة من بني قريظة والنضير وبني قينقاع وقال بعض لا نسلم أن التبيين يقتضي كفر جميعهم قبل البعث لجواز أن يكون التعبير عنهم بالذين كفروا باعتبار حالهم بعد البعثة كأنه قيل لم يكن هؤلاء الكفرة وبينوا بأهل الكتاب * (والمشركين) * وهم من اعتقدوا لله سبحانه شريكا صنما أو غيره وخصهم بعض بعبدة الأصنام لأن مشركي العرب الذين بمكة والمدينة وما حولهما كانوا كذلك وهم المقصودون هنا على ما روي عن الحبر وأيا ما كان فالعطف على أهل الكتاب ولا يلزم على التبعيض أن لا يكون بعضهم كافرين ليجب العدول عنه للتبيين لأنهم بعض من المجموع كما أفاده بعض الأجلة واحتمال أن يراد بالمشركين أهل الكتاب وشركهم لقولهم المسيح ابن الله وعزير ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا والعطف لمغايرة العنوان ليس بشيء وقرىء والمشركون بالرفع عطفا على الموصول وحمل قراءة الجمهور على
200

ذلك واعتبار أن الجر للجوار لا يخفى حاله والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير كفروا وقوله تعالى: * (منفكين) * خبر يكن والانفكاك في الأصل افتراق الأمور الملتحمة بنوع مزايلة وأريد به المفارقة لما كانوا عليه مما ستعرفه إن شاء الله تعالى فالوصف اسم فاعل من انفك التامة دون الناقصة الداخلة على المبتدأ والخبر وزعم بعض النحاة أنه وصف منها والخبر محذوف أي واعدين اتباع الحق أو نحوه وتعقب مع كونه خلاف الظاهر بأن خبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه في السعة لا اقتصارا ولا اختصارا وحين ليس مجير أي في الدنيا ضرورة وقوله تعالى: * (حتى تأتيهم البينة) * متعلق بمنفكين والبينة صفة بمعنى اسم الفاعل أي المبين للحق أو هي بمعناها المعروف وهو الحجة المثبتة للمدعي ويراد بها المعجز وعلى الوجهين فقوله تعالى:
* (رسول من الله يتلو صحفا مطهرة) *
* (رسول) * بدل منها بدل كل من كل أو خبر لمقدر أي هي رسول وتنوينه للتفخيم والمراد به نبينا صلى الله عليه وسلم وقوله سبحانه: * (من الله) * في موضع الصفة له مفيد للفخامة ازضافية فهو مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية وقوله تعالى: * (يتلوا صحفا مطهرة) * صفة أخرى له أو حال من الضمير في صفته الأولى كما أن قوله سبحانه:
* (فيها كتب قيمة) *
* (فيها كتب قيمة) * صفة ثانية لصحفا أو حال من الضمير في صفتها الأولى أعني مطهرة ويجوز أن يكون الصفة أو الحال هنا الجار والمجرور فقط وكتب مرتفعا على الفاعلية وإطلاق البينة عليه عليه الصلاة والسلام على المعنى الأول ظاهر وعلى المعنى الأخير باعتبار أن أخلاقه وصفاته صلى الله عليه وسلم كانت بالغة حد الإعجاز كما قال الغزالي في " المنقذ من الضلال " وأشار إليه البوصيري بقوله: كفاك بالعلم في الأمي معجزة * في الجاهلية والتأديب في اليتم
ويعلم منه حكمة جعله عليه الصلاة والسلام يتيما أو باعتبار كثرة معجزاته صلى الله عليه وسلم غير ما ذكر وظهورها وجوز أن يراد بالبينة القرآن لأنه مبين للحق أو معجز مثبت للمدعي وروي ذلك عن قتادة وابن زيد ورسول عليه قيل بدل اشتمال أو بدل كل من كل أيضا بتقدير مضاف أي بينة أو وحي أو معجز أو كتاب رسول أو هو خبر مبتدأ مقدر أي هي رسول ويقدر معه مضاف كما سمعت وجوز أن يكون رسول مبتدأ لوصفه وخبره جملة * (يتلوا) * الخ وجملة المبتدأ وخبره مفسرة للبينة وقيل اعتراض لمدحها وقيل صفة لها مرادا بها القرآن ويراد بالصحف المطهرة البينة وقد وضعت موضع ضميرها فكانت الرابط وقرأ أبي وعبد الله رسولا بالنصب على الحالية من البينة والصحف جمع صحيفة وكذا الصحاف القراطيس التي يكتب فيها وأصلها المبسوط من الشيء والمراد بتطهيرها تنزيهها عن الباطل على سبيل الاستعارة المصرحة ويجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية أو تطهير من يمسها على التجوز في النسبة فكأنه قيل صحفا لا يمسها إلا المطهرون والمراد بالكتب المكتوبات وبالقيمة المستقيمة واستقامتها نطقها بالحق وفي التيسير هي كتب الأنبياء عليهم السلام والقرآن مصدق لها فكأنها فيه ووصفه عليه الصلاة والسلام بتلاوة الصحف المذكورة بناء على المشهور من أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقرأ الكتاب كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتب من باب التجوز في النسبة إلى المفعول لأنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ ما فيها فكأنه قرأها وقيل على تقدير مضاف أي مثل صحف وقيل في ضمير يتلو استعارة مكنية بتشبيهه عليه الصلاة والسلام لتلاوته مثل ما فيها بتاليها أو الصحف مجاز عما فيها بعلاقة الحلول ففي ضمير فيها استخدام لعوده على الصحف بالمعنى الحقيقي وقيل المراد بالرسول جبريل عليه السلام وبالصحف صحف الملائكة عليهم السلام المنتسخة من اللوح المحفوظ وبتطهيرها ما سبق والمراد بتلاوته عليه الصلاة والسلام إياها ظاهر وجعلها
201

مجازا عن وحيه إياها غير وجيه والأولى حمل الرسول على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المروى عن ابن عباس ومقاتل وغيرهما وقد اختلفوا في المعنى المراد بالآية اختلافا كثيرا حتى قال الواحدي في كتاب البسيط أنها من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا وبين ذلك بناء على أن الكفر وصف لكل من الفريقين قبل البعثة بأن الظاهر أن المعنى لم يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عما هم عليه من الكفر حتى يأتيهم الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى لانتهاء الغاية فتقتضي أنهم انفكوا عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو خلاف الواقع ويناقضه قوله تعالى:
* (وما تفرق الذين أوتوا الكت‍ابإلا من بعد ما جآءتهم البينة) *
* (وما تفرق الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءتهم البينة) * فإنه ظاهر في أن كفرهم قد زاد عند ذلك فقال جار الله كان الكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث لا ننفك عما نحن فيه من ديننا حتى يبعث الله تعالى النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد صلى الله عليه وسلم فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال سبحانه: * (وما تفرق) * الخ يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ثم ما فرقهم عن الحق وأقرهم على الكفر إلا مجيئه ونظيره
في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله تعالى الغنى فيرزقه الله عز وجل ذلك فيزداد فسقا فيقول واعظه لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما وحاصله أن الأول من باب الحكاية لزعمهم وقوله سبحانه: * (وما تفرق) * الخ إلزام عليهم حكى الله تعالى كلامهم على سبيل التوبيخ والتعيير فقال هذا هو الثمرة وظاهره أنه أراد بتفرقهم تفرقهم عن الحق وحمل على الثبات على الكفر والباطل لاستلزامه إياه وعدم التعرض للمشركين في قوله تعالى: * (وما تفرق) * الخ لعلم حالهم من حال الذين أوتوا الكتاب بالأولى روقيل وهو قريب من ذاك من وجه وفيه إيضاح له من وجه أي لم يكونوا منفكين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان إلى أن أتاهم ما جعلوه ميقاتا للاجتماع والاتفاق فاجعلوه ميقاتا للانفكاك والافتراق كما قال سبحانه: * (وما تفرق) * الخ وفي التعبير بمنفكين إشارة إلى وكادة وعدهم وهو من أهل الكتاب مشهور حتى أنهم كانوا يستفتحون ويقولون اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان ويقولون لأعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ومن المشركين لعله وقع من متأخريهم بعد ما شاع من أهل الكتاب واعتقدوا صحته مما شاهدوا مثلا من بعض من يوثق به بينهم من قومهم كزيد بن عمرو بن نفيل فقد كان يتطلب نبيا من العرب ويقول قد أظل زمانه وأنه من قريش بل من بني هاشم بل من بني عبد المطلب ويشهد لذلك أنهم قبيل بعثته عليه الصلاة والسلام سمي منهم غير واحد ولده بمحمد رجاء أن يكون النبي المبعوث والله أعلم حيث يجعل رسالته والتعبير عن إتيانه بصيغة المضارع باعتبار حال المحكي لا باعتبار حال الحكاية كما في قوله تعالى: * (واتبعوا ما تتلوا الشياطين) * أي تلت وقوله تعالى: * (وما تفرق) * الخ كلام مسوق لمزيد التشنيع على أهل الكتاب خاصة ببيان أن ما نسب إليهم من الانفكاك لم يكن لاشتباه في الأمر بل بعد وضوح الحق وتبين الحال وانقطاع الأعذار بالكلية وهو السر في وصفهم بإيتاء الكتاب المنبىء عن كمال تمكنهم من مطالعته والإحاطة بما في تضاعيفه من الأحكام والأخبار التي من جملتها ما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام وصحة بعثته بعد ذكرهم فيما سبق بما هو جار مجرى اسم الجنس للطائفتين ولما كان هؤلاء والمشركون باعتبار اتفاقهم على الرأي المذكور في حكم فريق واحد عبر عما صدر منهم عقيب الاتفاق عند الإخبار بوقوعه بالانفكاك وعند بيان كيفية وقوعه بالتفرق اعتبار الاستقلال كل من
202

فريقي أهل الكتاب وإيذانا بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي آخر بل بطريق الاختلاف القديم وتعقب التقريران بأنه ليس في الكلام ما يدل على أنه حكاية ولا على إرادة منفكين عن الوعد باتباع الحق وقال القاضي عبد الجبار المعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وتعقبه الإمام بأن فتسير لفظ حتى بما ذكر ليس من اللغة في شيء ولعله أراد أن المراد استمرار النفي وإن في الكلام حذفا أي لم يكونوا منفكين عن كفرهم في وقت من الأوقات حتى وقت أن تأتيهم البينة إلا أنه عبر بما ذكر لأنه أخصر وفيه أيضا ما لا يخفى وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمناقب والفضائل إلى أن أتاهم فحينئذ تفرقوا فيه وقال كل منهم فيه عليه الصلاة والسلام قولا زورا وتعقب بأنه لا دلالة على إرادة ما قدر متعلق الانفكاك وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجىء الرسول صلى الله عليه وسلم فلما جاءهم تفرقوا فمنهم من آمن ومنهم من أصر على كفره ويكفي ذلك في العمل بموجب حتى وتعقب بأن ظاهر وما تفرق الخ ذم لجميعهم وتشنيع عليهم ويؤيده قوله سبحانه بعد: * (إن الذين كفروا من أهل الكتاب) * الخ ويبعد ذلك على حمل التفرق على إيمان بعض وإصرار بعض وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم بأن يترددوا فيه بل كانوا جازمين به معتقدين حقيته إلى أن أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعند ذلك اضطربت خواطرهم وأفكارهم وتشكك كل في دينه ومقالته وفيه ما لا يخفى وقيل معنى منفكين هالكين من قولهم انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن ينفصل فلا يلتئم والمعنى لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وقريب منه معنى ما قيل لم يكونوا منفكين عن الحياة بأن يموتوا ويهلكوا حتى تأتيهم البينة وهو كما ترى وقيل المراد أنهم لم ينفكوا عن دينهم حقيقة إلى مجىء الرسول التالي للصحف المبينة نسخة وبطلانه ولما جاء وتبين ذلك انفكوا عنه حقيقة وإن بقوا عليه صورة وفيه ما فيه وقال أبو حيان الظاهر أن المعنى لم يكونوا منفكين أي منفصلا بعضهم عن بعض بل كان كل منهم مقرا الآخر على ما هو عليه مما اختاره لنفسه هذا من اعتقاده بشريعته وهذا من اعتقاده بأصنامه وحاصله أنه اتصلت مودتهم واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة وما تفرق الذين أوتوا أي من المشركين وانفصل بعضهم من بعض فقال كل ما يدل عنده على صحة قوله إلا من بعد ما جاءتهم البينة وكان يقتضي عند مجيئها أن يجتمعوا على اتباعها ولا يخفى أن قوله: * (بل كان كل منهم) * الخ في حيز المنع وأيضا حمل وما تفرق على ما حمله عليه غير ظاهر وقال ابن عطية ههنا وجه بارع المعنى وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره سبحانه حتى يبعث عز وجل إليهم رسولا منذرا يقيم تعالى عليهم به الحجة ويتم على من آمن به النعمة فكأنه قال ما كانوا ليتركوا سدى ولهذا نظائر في كتاب الله جل جلاله هذا ما ظفرنا به سؤالا وجوابا وجرحا وتعديلا ثم إني أقول ما تقدم في تقرير الإشكال مبني على مذهب القائلين بمفهوم الغاية وهم أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين كالقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم دون مذهب الغير القائلين به وهم أصحاب الإمام أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء والمتكلمين واختاره الآمدي واستدل عليه بما استدل ورد ما يعارضه من أدلة المخالف وعليه يمكن أن يقال إنه سبحانه وتعالى بين أولا حال الذين كفروا من الفريقين إلى وقت إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله عز وجل: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين) * أي عما هم عليه من الدين حسب اعتقادهم فيه إلى أن يأتيهم الرسول ولما لم يتعرض في ذلك على ذلك المذهب لحالهم بعد إتيان الرسول عليه الصلاة والسلام بينه سبحانه بقوله
203

جل وعلا: * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب) * الخ أي وما تفرقوا فعرف بعض منهم الحق وآمن وعرفه بعض آخر منهم وعاند فلم يؤمن في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم البينة وطوى سبحانه ذكر حال المشركين لعلمه بالأولى من حالهم ثم إنه تعالى ذكر بعد حال كل من الفريقين المؤمن والكافر وماله في الآخرة بقوله سبحانه: * (إن الذين كفروا) * الخ وقوله تعالى: * (إن الذين آمنوا) * الخ والذي أميل إليه مما تقدم كون الانفكاك عن الوعد باتباع الحق ولعل القرينة على اعتباره حالية
ويحتمل نحوا آخر من التوجيه وذلك بأن يجعل الكلام من باب الأعمال فيقال إن منفكين يقتضي متعلقا هو المنفك عنه وتأتيهم يقتضي فاعلا وليس في الكلام سوى البينة فكل منهما يقتضيه فاعمل فيه تأتيهم وحذف معمول منفكين لدلالته عليه فكأنه قيل لم يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عن البينة حتى تأتيهم البينة وحيث كان المراد بالبينة الرسول كان الكلام في قوة لم يكونوا منفكين عن الرسول حتى يأتيهم ويراد بعدم الانفكاك عن الرسول حيث لم يكن موجودا إذ ذاك عدم الانفكاك عن ذكره والوعد باتباعه ويكون باقي الكلام في الآية على نحو ما سبق على تقدير إرادة منفكين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق وإن شئت قلت في قوله تعالى: * (وما تفرق) * الخ أنه على معنى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب عن الرسول ما انفكوا عنه بالإصرار على الكفر إلا من بعد ما جاءهم فتأمل جميع ما أتيناك به والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وقوله تعالى:
* (ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفآء ويقيموا الصلواة ويؤتوا الزكواة وذلك دين القيمة) *
* (وما أمروا إلا ليعبدوا الله) * جملة حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا والمراد بالأمر مطلق التكليف ومتعلقه محذوف واللام للتعليل والكلام في تعليل أفعاله تعالى شهير والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي والحال أنهم ما كلفوا في كتابهم بما كلفوا به لشيء من الأشياء إلا لأجل عبادة الله تعالى وقال الفراء العرب تجعل اللام موضع أن في الأمر كأمرنا لنسلم وكذا في الإرادة كيريد الله ليبين لكم فهي هنا بمعنى أن أي إلا بأن يعبدوا الله وأيد بقراءة عبد الله إلا أن يعبدوا فيكون عبادة الله تعالى هي المأمور بها والأمر على ظاهره والأول هو الأظهر وعليه قال علم الهدى أبو منصور الماتريدي هذه الآية علم منها معنى قوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * أي إلا لأمرهم بالعبادة فيعلم المطيع من العاصي وهو كما قال الشهاب كلام حسن دقيق * (مخلصين له الدين) * أي جاعلين دينهم خالصا له تعالى فلا يشركون به عز وجل فالدين مفعول لمخلصين وجوز أن يكون نصبا على إسقاط الخافض ومفعول مخلصين محذوف أي جاعلين أنفسهم خالصة له تعالى في الدين وقرأ الحسن مخلصين بفتح اللام وحينئذ يتعين هذا الوجه في الدين ولا يتسنى الأول نعم جوز أن يكون نصبا على المصدر والعامل ليعبدوا أي ليدينوا الله تعالى بالعبادة الدين * (حنفاء) * أي مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام وفيه من تأكيد الإخلاص ما فيه فالحنف الميل إلى الاستقامة وسمي مائل الرجل إلى الاعوجاج أحنف للتفاؤل أو مجاز مرسل بمرتبتين وعن ابن عباس تفسير حنفاء هنا بحجاجا وعن قتادة بمخنتنين محرمين لنكاح الأم والمحارم وعن أبي قلابة بمؤمنين بجميع الرسل عليهم السلام وعن مجاهد بمتبعين دين إبراهيم عليه السلام وعن الربيع بن أنس بمستقبلين القبلة بالصلاة وعن بعض بجامعين كل الدين وحال الأقوال لا يخفى * (ويقيموا الصلوة ويؤتوا الزكوة) * إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة فالأمر بهما ظاهر وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في كتابهم أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي هما من جملتها * (وذلك) * إشارة إلى ما ذكر من عباد الله تعالى بالإخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وما فيه من البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته في الشرف * (دين القيمة) * أي الكتب القيمة
204

فأل للعهد إشارة إلى ما تقدم في قوله تعالى: * (فيها كتب قيمة) * وإليه ذهب محمد بن الأشعث الطالقاني وقال الزجاج أي الأمة القيمة أي المستقيمة وقال غير واحد أي الملة القيمة والتغاير الاعتباري بين الدين والملة يصحح الإضافة وبعضهم لم يقدر موصوفا ويجعل القيمة بمعنى الملة وقيل أي الحجج القيمة وقرأ عبد الله رضي الله تعالى عنه الدين القيمة فقيل التأنيث على تأويل الدين بالملة وقيل الهاء للمبالغة.
* (إن الذين كفروا من أهل الكت‍ابوالمشركين فى نار جهنم خ‍الدين فيهآ أول‍ائك هم شر البرية) *
* (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم) * قيل بيان لحال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا وذكر المشركين لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم فالمراد بهئلاء الذين كفروا هم المتقدمون في صدر السورة وفي ذلك احتمال أشرنا إليه فلا تغفل ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة لكن لتحقق ذلك لم يصرح به وجيء بالجملة اسمية أو يقدر متعلق الجار بمعنى المستقبل أو أنهم فيها الآن على إطلاق نار جهنم على ما يوجبها من الكفر مجازا مرسلا بإطلاق اسم المسبب على السبب وجوزت الاستعارة وقيل إن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلا أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة عرضية وستخلفها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقية وقد مر نظيره غير مرة * (خالدين فيها) * حال من المستكن في الخبر واشتراك الفريقين في دخول النار بطريق الخلود لا ينافي تفاوت عذابهما في الكيفية فإن جهنم والعياذ بالله تعالى دركات وعذابها ألوان فيعذب أهل الكتاب في درك منها نوعا من العذاب والمشركون في درك أسفل منه بعذاب أشد لأن كفرهم أشد من كفر أهل الكتاب وكون أهل الكتاب كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم مع علمهم بنعوته الشريفة وصحة رسالته من كتابهم ولم يكن للمشركين علم بذلك كعلمهم لا يوجب كون عذابهم أشد من عذاب المشركين ولا مساويا له فإن الشرك ظلم عظيم وقد انضم إليه من أنواع الكفر في المشركين مما ليس عند أهل الكتاب وقد استدل بالآية على خلود الكفار مطلقا في النار * (أولئك) * إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما هم فيه من القبائح المذكورة وما فيه من معنى البعد لبعد منزلتهم في الشر أي أولئك البعداء المذكورون * (هم شر البرية) * أي الخلقية وقيل أي البشر والمراد قيل هم شر البرية أعمالا فتكون الجملة في حيز التعليل لخلودهم في النار وقيل شرها مقاما ومصيرا فتكون تأكيدا لفظاعة حالهم ورجح الأول بأنه الموافق لما سيأتي إن شاء الله تعالى في حق المؤمنين وأيا ما كان فالعموم على ما قيل مشكل فإن إبليس وجنوده شر منهم أعمالا ومقاما وكذا المشركون المنافقون حيث ضموا إلى الشرك النفاق وقد قال سبحانه إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وقال بعض لا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو شر منهم كفرعون وعاقر الناقة وأجاب بأن المراد بالبرية المعاصرون لهم ولا يخفى أنه يبقى معه الاشكال بإبليس ونحوه وأجيب بأن ذلك إذا كان الحصر حقيقيا وأما إذا كان إضافيا بالنسبة إلى المؤمنين بحسب زعمهم فلا اشكال إذ يكون المعنى أولئك هم شر البرية لا غيرهم من المؤمنين كما يزعمون قالا أو حالا وقيل يراد بالبرية البشر ويراد بشريتهم بحسب الأعمال ولا يبعد أن يكونوا بحسب ذلك هم شر جميع
البرية لما أن كفرهم مع العلم بصحة رسالته عليه الصلاة والسلام ومشاهدة معجزاته الذاتية والخارجية ووعد الإيمان به عليه الصلاة والسلام ومع إدخالهم به الشبهة في قلوب من يأتي بعدهم وتسببهم به ضلال كثير من الناس إلى غير ذلك مما تضمنه واستلزمه من القبائح شر كفر وأقبحه لا يتسنى مثله لأحد من البشر إلى يوم القيامة وكذا سائر أعمالهم من تحريف الكلم عن مواضعه وصد الناس عنه صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم إياه عليه الصلاة والسلام وكون كفر فرعون وعاقر الناقة وفعلهما بتلك المثابة غير مسلم ويلتزم دخول المنافقين في عموم الذين كفروا أو كون كفرهم وأعمالهم دون كفر واعمال
205

المذكورين وفيه شيء لا يخفى فتأمل وقيل ليس المراد بأولئك الذين كفروا أقواما مخصوصين وهم المحدث عنهم أولا بل الأعم الشامل لهم ولغيرهم من سالف الدهر إلى آخره وهو على ما فيه لا يتم بدون حمل البرية على البشر فلا تفغل وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع البريئة هنا وفيما بعد بالهمزة فقيل هو الأصل من برأهم الله تعالى بمعنى ابتدأهم واخترع خلقهم فهي فعلية بمعنى مفعولة لكن عامة العرب إلا أهل مكة التزموا تسهيل الهمزة بالإبدال والإدغام فقالوا البرية كما قالوا الذرية والخابية وقيل ليس بالأصل وإنما البرية بغير همو من البري المقصور يعني التراب فهو أصل برأسه والقراءتان مختلفتان أصلا ومادة ومتفقتان معنى في رأي وهو أن يكون المراد عليهما البشر ومختلفان فيه أيضا في رأي آخر وهو أن يكون المراد بالمهموز الخليفة الشاملة للملائكة والجن كالبشر وبغير المهموز البشر المخلوقون من التراب فقط وأيا ما كان فليست القراءة بالهمز خطأ كيف وقد نقلت عمن ثبتت عصمته مع أن الهمزة لغة قوم من أنزل عليه الكتاب صلى الله عليه وسلم.
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات أول‍ائك هم خير البرية) *
* (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * بيان لمحاسن أحوال المؤمنين أثر بيان سوء حالالكفرة جريا على السنة القرآنية من شفع الترهيب بالترغيب أو هو على ما أشرنا إليه سابقا وقال عصام الدين إن قوله تعالى إن الذين كفروا الخ كالتأكيد لقوله تعالى وذلك دين القيمة إذ لا تحقيق لكونها الملة القيمة فوق أن يكون جزاء المعرض هذا وجزاء الممتثل ذلك إلا أن ذلك اقتضى قوله تعالى إن الذين آمنوا الخ وكأنه فصل لتخييل عدم المناسبة بين الجملتين لا في المسند إليه ولا في المسند * (أولئك) * أي المنعوتون بما هو الغاية القاصية من الشرف والفضيلة من الإيمان والطاعة * (هم خير البرية) * وقرأ حميد وعامر بن عبد الواحد هم خيار البرية وهو جمع خير كجباد وجيد.
* (جزآؤهم عند ربهم جن‍ات عدن تجرى من تحتها الانه‍ار خ‍الدين فيهآ أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه) *
* (جزآؤهم) * بمقابلة ما لهم من الإيمان والطاعات * (عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا) * تقدمت نظائره وفي تقديم مدحهم بخير البرية وذكر الجزاء المؤذن بكون ما منح في مقابلة ما وصفوا به وبيان كونه من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم وجمع الجنات وتقييدها بالإضافة وبما يزيدها نعيما وتأكيد الخلود بالأبود من الدلالة على غاية حسن حالهم ملا لا يخفى والظاهر أن جملة هم خير البرية خبر اسم الإشارة وكذا ما بعد وزعم بعض الأجلة أن الأنسب بالعديل السابق أن تعجل معترضة ويكون الخبر ما بعدها وفيه نظر وقوله تعالى: * (رضي الله عنهم) * استئناف نحوي واخبار عما تفضل عز وجل به زيادة على ما ذكر من أجزية أعمالهم ويجوز أن يكون بيانيا جوابا لمن يقول ألهم فوق ذلك أمر آخر وجوز أن يكون خبرا بعد خبر أو حالا بتقدير قد أو بدونه وجوز أن يكون دعاء لهم من ربهم وهو مجاز عن الإيجاد مع زيادة التكريم وهو خلاف الظاهر ويبعده عطف قوله تعالى: * (ورضوا عنه) * عليه وعلل رضاهم بأنهم بلغوا من المطالب قاصيتها ومن المآرب ناصيتها واتيح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر * (ذلك) * أي ما ذكر من الجزاء والرضوان * (لمن خشي ربه) * فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية والفوز بالمراتب العلية إذ لولاها لم تترك المناهي والمعاصي ولا استعد ليوم يؤخذ فيه بالاقدام والنواصي وفيه إشارة إلى أن مجرد الإيمان والعمل الصالح ليس موصلا إلى أقصى المراتب ورضوان من الله أكبر بل الموصل له خشية الله تعالى وإنما يخشى الله من عباده العلماء ولذا قال الجنيد قدس سره الرضا على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة وقال عصام الدين الأظهر إن ذلك إشارة إلى ما يترتب عليه الجزاء والرضوان من الإيمان والعمل الصالح وتعقب بأن فيه غفلة عما ذكر وعن أنه لا يكون حينئذ
206

لقوله تعالى ذلك الخ كبير فائدة والتعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية للاشعار بعلة الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية واستدل بقوله تعالى إن الذين آمنوا الخ على أن البشر أفضل من الملك لظهور أن المراد بالذين آمنوا المؤمنون من البشر وفي الآثار ما يدل على ذلك أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعا أتعجبون لمنزلة الملائكة من الله تعالى والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله تعالى يوم القيامة أعظم من منزلة الملك واقرؤوا إن شئتم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت قلت يا رسول الله من أكرم الخلق على الله تعالى قال يا عائشة أما تقرئين أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية وأنت تعلم أن هذا ظاهر في أن المراد بالبرية الخليقة مطلقا ليتم الاستدلال ثم أنه يحتاج أيضا إلى ادخال الأنبياء عليهم السلام في عموم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لا يراد بهم قوم بخصوصهم إذ لو لم يدخلوا لزم تفضيل عوام البشر أي الذين ليسوا بأنبياء منهم على خواص الملائكة أعني رسلهم عليهم السلام وذلك مما لم يذهب إليه أحد من أهل السنة بل هو يكفرون من يقول به فليتفطن والإمام قد ضعف الاستدلال في تفسيره بما لا يخلو عن بحث ولعل الأبعد عن القيل والقال جعل الحصر إضافيا بالنسبة إلى ما يزعمه أهل الكتاب والمشركون قالا أو حالا من أنهم هم خير البرية وكذا يجعل الحصر السابق بالنسبة إلى ما يزعمونه من أن المؤمنين هم شر البرية وصحة ما سبق من الآثار في حيز المنع ثم الظاهر أن المراد بالذين آمنوا الخ مقابل الذين كفروا لا قوم من الذين انصفوا بما في حيز الصلة بخصوصهم وزعم بعض أنهم مخصوصون فقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تسمع قول الله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جثت الأمم للحساب يدعون غرا محجلين وروي نحوه الإمامية عن
يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب الأمير كرم الله تعالى وجهه وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك له عند الوفاة ورأسه الشريف على صدره رضي الله تعالى عنه وأخرج ابن مردويه أيضا عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية أن الذين آمنوا الخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين وذلك ظاهر في التخصيص وكذا ما ذكره الطبرسي الإمامي في " مجمع البيان " عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال في الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وأهل بيته وهذا ان سلمت صحته لا محذور فيه إذ لا يستدعي التخصيص بل الدخول في العموم وهم بلا شبهة داخلون فيه دخولا أوليا وأما ما تقدم فلا تسلم صحته فإنه يلزم عليه علي كرم الله تعالى وجهه خيرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم والإمامية وإن قالوا إنه رضي الله تعالى عنه خير من الأنبياء حتى أولي العزم عليهم السلام ومن الملائكة حتى المقربين عليهم السلام لا يقولون بخيريته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قالوا بأن البرية على ذلك مخصوصة بمن عداه عليه الصلاة والسلام للدليل الدال على أنه صلى الله عليه وسلم خير منه كرم الله تعالى وجهه قيل إنها مخصوصة أيضا بمن عدا الأنبياء والملائكة ومن قال أهل السنة بخيريته للدليل الدال على خيريتهم وبالجملة لا ينبغي أن يرتاب في عدم تخصيص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالأمير كرم الله تعالى وجهه وشيعته ولا به رضي الله تعالى عنه وأهل بيته وان دون إثبات صحة تلك الأخبار خرط القتادة والله تعالى أعلم. ثم أن الروايات في أن هذه السورة قد نسخ منها كثير كثيرة منها ما أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه عن أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك
207

القرآن فقرأ عليه الصلاة والسلام لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب فقرأ فيها ولو أن ابن آدم سأل وديا من مال فاعطيه يسأل ثانيا ولو سأل ثانيا فاعطيه يسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تاب وان الدين عند الله الحنيفية غير الشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفره وفي بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم اقرأه هكذا ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة أن أقوم الدين لحنيفية مسلمة غير مشركة ولا يهودية ولا نصرانية ومن يعمل صالحا فلن يكفره وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وفارقوا الكتاب لما جاءهم أولئك عند الله شر البرية ما كان الناس إلا أمة واحدة ثم أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين يأمرن الناس يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعبدون الله وحده أولئك عند الله خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه أخرج ذلك ابن مردويه عن أبي رضي الله تعالى عنه وهو مخالف لما صح عنه فلا يعول عليه كما لا يخفى على العارف بعلم الحديث.
سورة الزلزلة
ويقال سورة إذا زلزلت وهي مكية في قول ابن عباس ومجاهد وعطاء ومدنية في قول قتادة ومقاتل واستدل له في الاتقان بما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال لما نزلت فمن يعمل مثقال ذرة الخ قلت يا رسول الله إني لراء عملي قال نعم قلت تلك الكبار الكبار قال نعم قلت الصغار قال نعم قلت واثكل أمي قال أبشر يا أبا سعيد فإن الحسنة بعشر أمثالها الحديث وأبو سعيد لم يكن إلا بالمدينة ولم يبلغ إلا بعد أحد وآيها ثمان في الكوفي والمدني الأول وتسع في الباقية وصحح في حديث الترمذي والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا إذا زلزلت تعدل نصف القرآن وجاء في حديث آخر تسميتها ربعا ووجه ما في الأول بأن أحكام القرآن تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة وهذا السورة تشتمل على أحكام الآخرة اجمالا وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وبحديث الأخبار وما في الآخر بأن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان في الحديث الذي رواه الترمذي لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالموت ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا المقام وكأنه لما ذكر عز وجل في السورة السابقة جزاء الفريقين المؤمنين والكافرين كان ذلك كالمحرك للسؤال عن وقته فبينه جل شأنه في هذه السورة فقال عز من قائل:
* (إذا زلزلت الارض زلزالها) *
* (إذا زلزلت الأرض) * أي حركت تحريكا عنيفا متداركا متكررا * (زلزالها) * أي الزلزال المخصوص بها الذي تقتضيه بحسب المشيئة الإلهية المبنية على الحكم البالغة وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده زلزال فكان ما سواه ليس زلزالا بالنسبة إليه أو زلزالها العجيب الذي لا يقادر قدره فالإضافة على الوجهين للعهود ويجوز أن يراد الاستغراق لأن زلزالا مصدر مضاف فيعم أي زلزالها كله وهو استغراق عرفي قصد به المبالغة وهو مراد من قال أي زلزالها الداخل في حيز الإمكان أو عني بذلك العهد أيضا وقرأ الجحدري وعيسى زلزالها بفتح الزاي وهو عند ابن عطية مصدر كالزلزال بالكسر وقال الزمخشري المكسور مصدر والمفتوح
208

اسم للحركة المعروفة وانتصب ههنا على المصدر تجوزا لسده مسد المصدر وقال أيضا ليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف وذكروا أنه يجوز في ذلك الفتح والكسر إلا أن الأغلب فيه إذا فتح أن يكون بمعنى اسم الفاعل كصلصال بمعنى مصلصل وقضقاض بمعنى مقضقض ووسواس بمعنى موسوس وليس مصدرا عند ابن مالك وأما في غير المضاعف فلم يسمع إلا نادرا سواء كان صفة أو اسما جامدا وبهرام وبسطام معربان أن قيل بصحة الفتح فيهما ومن النادر خزعال بمعجمتين وهو الناقة التي بها ظلع ولم يثبت بعضهم غيره وزاد ثعلب قهقازا وهو الحجر الصلب وقيل هو جمع وقيل هو لغة ضعيفة والفصيحة قهقر بتشديد الراء وزاد آخر قسطالا وهو الغبار وهذا الزلزال على ما ذهب إليه جمع عند النفخة الثانية لقوله تعالى:
* (وأخرجت الأرض أثقالها) *
* (وأخرجت الأرض أثقالها) * فقد قال ابن عباس أي موتاها وقال النقاش والزجاج ومنذر بن سعيد أن كنوزها وموتاها وروي عن ابن عباس أيضا وهذه الكنوز على هذا القول غير الكنوز التي تخرج أيام الدجال على ما وردت به الأخبار وذلك بأن تخرج بعضا في أيامه وبعضا عند النفخة الثانية ولا بعد في أن تكون بعد الدجال كنوز
أيضا فتخرجها مع ما كان قد بقي يومئذ هو عند النفخة الأولى وأثقالها ما في جوفها من الكنوز أو منها ومن الأموات ويعتبر الوقت ممتدا وقيل يحتمل أن يكون اخراج الموتى كالكنوز عند النفخة الأولى وإحياؤها في النسخة الثانية وتكون على وجه الأرض بين النفختين وأنت تعلم انه خلاف ما تدل عليه النصوص وقيل أنها تزلزل عند النفخة الأولى فتخرج كنوزها وتزلزل عند الثانية فتخرج موتاها وأريد هنا بوقت الزلزال ما يعم الوقتين واقتصر بعضهم على تفسير الأثقال بالكنوز مع كون المراد بالوقت وقت النفخة الثانية وقال تخرج الأرض كنوزها يوم القيامة ليراها أهل الموقف فيتحسر العصاة إذا نظروا إليها حيث عصوا الله تعالى فيها ثم تركوها لا تغنى عنهم شيئا وفي الحديث تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانات من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا وقيل إن ذلك لتكوى بها جباه الذين كنزوا وجنوبهم وظهورهم وأيا ما كان فالأثقال جمع ثقل بالتحريك وهو على ما في القاموس متاع المسافر وكل نفيس مصون وتجوز به ههنا على سبيل الاستعارة عن الثاني وجوز أن يكون جمع ثقل بكسر فسكون بمعنى حمل البطن على التشبيه والاستعارة أيضا كما قال الشريف المرتضى في الدرر وأشار إلى أنه لا يطلق على ما ذكر إلا بطريق الاستعارة ومنهم من فسر الأثقال ههنا بالأسرار وهو مع مخالفته للمأثور بعيد وإظهار الأرض في موقع الاضمار لزيادة التقرير وقيل للإيماء إلى تبديل الأرض غير الأرض أو لأن إخراج الأرض حال بعض أجزائها والظاهر أن اخراجها ذلك مسبب عن الزلزال كما ينفض البساط ليخرج ما فيه من الغار ونحوه وإنما اختيرت الواو على الفاء تفويضا لذهن السامع كذا قيل ولعل الظاهر انه لم ترد السببية والمسببية بل ذكر كل مما ذكر من الحوادث من غير تعرض لتسبب شيء منها على الآخر.
* (وقال الإنس‍ان ما لها) *
* (وقال الإنسان) * أي كل فرد من أفراد الإنسان لما يبهرهم من الطامة التامة ويدهمهم من الداهية العامة * (ما لها) * تزلزلت هذه المرتبة من الزلزال وأخرجت ما فيها من الأثقال استعظاما لما شاهدوه من الأمر الهائل وقد سيرت الجبال في الجو وصيرت هباء وذهب غير واحد إلى أن المراد بالإنسان الكافر غير المؤمن بالبعث والاظهر هو الأول على أن المؤمن يقول ذلك بطريق الاستعظام والكافر بطريق التعجب.
* (يومئذ تحدث أخبارها) *
* (يومئذ) * بدل من إذا وقوله تعالى: * (تحدث أخبارها) * أي الأرض واحتمال كون الفاعل المخاطب كما زعم الطبرسي لا وجه له عامل فيهما وقيل العامل مضمر يدل عليه مضمون الجمل بعد والتقدير يحشرون إذا زلزلت ويومئذ متعلق
209

بتحديث وإذ عليه لمجرد الظرفية وقيل هي نصب على المفعولية لا ذكر محذوفا أي اذكر ذلك الوقت فليست ظرفية ولا شرطية وجوز أن تكون شرطية منصوب بجواب مقدر لأأي يكون ما لا يدرك كنهه أو نحوه والمراد يوم إذا زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها وقال الإنسان ما لها تحدث الخلق ما عندها من الأخبار وذلك بأن يخلق الله تعالى فيها حياة وداكا وتتكلم حقيقة فتشهد بما عمل عليها من طاعة أو معصية وهو قول ابن مسعود والنوري وغيرهما ويشهد له الحديث الحسن الصحيح العريب أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية يومئذ تحدث أخبارها ثم قال أتدرون ما أخبارها قالوا الله ورسوله أعلم، قال فإن أخبارها إن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول عمل يوم كذا كذا فهذه أخبارها والباء في قوله تعالى:
* (بأن ربك أوحى لها) *
* (بأن ربك أوحى لها) * للسببية أي تحدث بسبب إيحاء ربك لها وأمره سبحانه إياها بالتحديث واللام بمعنى إلى أي أوحى إليها لأن المعروف تعدى الوحي بها كقوله تعالى: * (وأوحى ربك إلى النحل) * لكن قد يتعدى باللام كما في قول العجاج يصف الأرض أوحى لها القرار فاستقرت. وشدها بالراسيات الثبت ولعل اختيارها لمراعاة الفواصل وجوز أن تكون اللام للتعليل أو المنفعة لأن الأرض بتحديثها بعمل العصاة يحصل لها تشف منهم بفضحا إياهم بذكر قبائحهم والموحى إليه هي أيضا والوحي يحتمل أن يكون وحي الهام وان يكون وحي ارسال بأن برسل سبحانه إليها رسولا من الملائكة بذلك وقال الطبري وقوم التحديث استعارة أو مجاز مرسل لمطلق دلالة حالها والإيحاء احداث ما تدل به فيحدث عز وجل فيها من الأحوال ما يكون به دلالة تقوم مقام التحديث باللسان حتى ينظر من يقول مالها إلى تلك الأحوال فيعلم لم زلزلت ولم لفظت الأموات وإن هذا ما كانت الأنبياء عليهم السلام ينذرونه ويحذرون منه وما يعلم هو أخبارها وقيل الإيحاء على تقدير كون التحديث حقيقيا أيضا مجاز عن أحداث حالة ينطقها سبحانه بها كإيجاد الحياة وقوة التكلم والأخبار على ما سمعت آنفا وقال يحيى بن سلام تحدث بما أخرجت من أثقالها ويشهد له ما في حديث ابن ماجة في سننه تقول الأرض يوم القيامة يا رب هذا ما استودعتني وعن ابن مسعود تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان مالها فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى وأمر الآخرة قد أتى فيكون ذلك جوابا لهم عند سؤالهم وقال الزمخشري يجوز أن يكون المعنى تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث بأخبارها كما تقول نصحتني كل نصيحة بأن نصحتني في الدين فاخبارها عليه هو أن ربك أوحى لها والباء تجريدية مثلها في قولك لئن لقيت فلانا لتلقين به رجلا متناهيا في الخبر وكان الظاهر تحدث بخبرها بالأفراد وكذا على ما قبله من الوجهين لكن جمع للمبالغة كما يشير إليه المثال ونحوه قول الشاعر: فانالني كل المنى بزيارة * كانت مخالسة كخطفة طائر
فلو استطعت خلعت على الدجى * لتطول ليلتنا سواد الناظر
ولا يخفى بعده وبالع أبو حيان في الحط عليه فقال هو عفش ينزه القرآن عنه وأراد بالعفش بعين مهملة وفاء وشين معجمة ما يدنس المنزل من الكناسة وهي كلمة تستعملها في ذلك عوام أهل المغرب وليس كما قال وجوز أيضا أن يكون * (بأن ربك) * الخ بدلا من أخبارها كأنه قيل يومئذ تحدث بأن ربك أوحى لها لأنك تقول حدثته كذا
وحدثته بكذا فيصح إبدال بأن الخ من أخبارها وان أحدهما مجرور والآخر منصوب لأنه يحل محله في بعض الاستعمالات وليس ذلك في الامتناع خلافا لأبي حيان كاستغفرت الذنب العظيم بنصب الذنب وجر العظيم على أنه نعت له باعتبار قولهم استغفرت من الذنب لأن
210

البدل هو المقصود فهو في قوة عامل آخر بخلاف النعت نعم هو أيضا خلاف الظاهر وبعد كل ذلك اللائق أن لا يعدل عن المأثور لا سيما إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي ههنا بحث وهو أنهم اختلفوا في نحو حدثت هل هو متعد إلى مفعول واحد أو إلى أكثر فذهب الزمخشري وغيره ونقل عن سيبويه إلى الثاني وهو عندهم ملحق بأفعال القلوب فينصب مفعولين كحدثت زيدا الخبر أو ثلاثة كحدثته عمرا قائما فأخبارها عليه هو المفعول الثاني والمفعول الأول محذوف كما أشرنا إليه ولم يذكر لأنه لا يتعلق بذكره غرض إذ الغرض تهويل اليوم وأنه مما ينطق به الجماد بقطع النظر عن المحدث كائنا من كان وقال الشيخ ابن الحاجب إنما هو متعد لواحد وما جاء بعده لتعين المفعول المطلق فعمرا قائما في حدثت زيدا عمرا قائما منصوب لوقوعه موقع المصدر لا لكونه مفعولا ثانيا وثالثا ولا يقال كيف يصح أن يقع ما ليس بفعل في المعنى أعني عمرا قائما مصدرا لأنه لم يكن مصدرا باعتبار كونه عمرا قائما ولكن باعتبار كونه حديثا مخصوصا فالوجه الذي صحح الإخبار به عن الحديث إذا قلت حديث زيد عمرو قائم هو الذي صحح وقوعه مصدرا فإخبارها عليه في موقع المفعول والمفعول به محذوف لما تقدم بل قال بعضهم إنك إذا قلت حدثته حديثا أو خبرا فلا نزاع في أنه مفعول مطلق والظاهر أن الأخبار في زعمه كذلك وتعقب ذلك في " الكشف " بأن ما ذكره الشيخ غير مسلم فإنه لم يفرق بين التحديث والحديث والأول هو المفعول المطلق كيف وهو يجر بالباء فتقول حدثته الخبر وبالخبر ومعلوم أن ما دخل عليه الباء لا يجوز أن يكون مفعولا مطلقا وقد يقال كون الشيخ لم يفرق في حيز المنع وكيف يخفى مثل ذلك على مثله لكنه قائل بأن أثر المصدر ومتعلقه قد سد مسده فيما ذكر كما سد مسده آلته في نحو ضربته سوطا ولعل ما قرره في غير ما دخلته الباء وقال الطيبي يمكن أن يقال إن حدث وأخواتها متعديات إلى مفعول واحد حقيقة وجعلها متعديات إلى ثلاثة أو إلى اثنين تجوز أو تضمين لمعنى الإعلام واستأنس له بكلام نقله عن المفصل وكلام نقله عن صاحب الإقليد فتأمل وقرأ ابن مسعود تنبىء أخبارها وسعيد بن جبير تنبىء بالتخفيف.
* (يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعم‍الهم) *
* (يومئذ) * أي يوم إذ ما ذكر وهو يقع ظرف لقوله تعالى: * (يصدر الناس) * يخرجون من قبورهم بعد أن دفنوا فيها إلى موقف الحساب * (أشتاتا) * متفرقين بحسب طبقاتهم بيض الوجوه آمنين وسود الوجوه فزعين وراكبين وماشين ومقيدين بالسلاسل وغير مقيدين وعن بعض السلف متفرقين إلى سعيد وأسعد وشقي وأشقى وقيل إلى مؤمن وكافر وعن ابن عباس أهل الإيمان على حدة وأهل كل دين على حدة وجوز أن يكون المراد كل واحد وحده لا ناصر له ولا عاضد كقوله تعالى ولقد جئتمونا فرادى وقيل متفرقين بحسب الأقطار * (ليروا أعمالهم) * أي ليبصروا جزاء أعمالهم خيرا كان أو شرا فالرؤية بصرية والكلام على حذف مضاف أو على أنه تجوز بالأعمال عما يتسبب عنها من الجزاء وقدر بعضهم كتب أو صحائف وقال آخر لا حاجة إلى التأويل والأعمال تجسم نورانية وظلمانية بل يجوز رؤيتها مع عرضيتها وهو كما ترى وقيل المراد ليعرفوا أعمالهم ويوقفوا عليها تفصيلا عند الحساب فلا يحتاج إلى ما ذكر أيضا وقال النقاش الصدور مقابل الورود فيردون المحشر ويصدرون منه متفرقين فقوم إلى الجنة وقوم إلى النار ليروا جزاء أعمالهم من الجنة والنار وليس بذاك وأيا ما كان فقوله تعالى: * (ليروا) * متعلق بيصدر وقيل هو متعلق بأوحى لها وما بينهما اعتراض وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة وعيسى ونافع في رواية ليروا بفتح الياء وقوله تعالى:
* (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) *
* (فمن يحعل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * تفصيل ليروا والذرة نملة صغيرة حمراء رقيقة ويقال إنها تجري إذا مضى لها حول وهي علم في القلة
211

قال امرؤ القيس: من القاصرات الطرف لو دب محول * من الذر فوق الأتب منها لأثرا
وقيل الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء وأخرج هناد عن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها وقال كل واحدة من هؤلاء مثقال ذرة وانتصاب خيرا وشرا على التمييز لأن مثقال ذرة مقدار وقيل على البدلية من مثقال والظاهر أن من في الموضعين عامة للمؤمن والكافر وأن المراد من رؤية ما يعادل مثقال ذرة من خير أو شر مشاهدة جزائه بأن يحصل له ذلك واستشكل بأن ذلك يقتضي إثابة الكافر بحسناته وما يفعله من الخير مع أنهم قالوا أعمال الكفرة محبطة وادعى في شرح المقاصد الإجماع على ذلك كيف وقد قال سبحانه وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وقال عز وجل: * (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار) * وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون وقال تعالى: * (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد) * الآية وكون خيرهم الذي يرونه تخفيف العذاب يدفعه قوله تعالى: * (فلا يخفف عنهم العذاب) * وقوله سبحانه: * (زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) * ويقتضي أيضا عقاب المؤمن بصغائره إذا اجتنب الكبائر مع أنهم قالوا إنها مكفرة حينئذ لقوله تعالى: أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم وقول ابن المنير: إن الاجتناب لا يوجب التكفير عند الجماعة بل التوبة أو مشيئة الله تعالى ليس بشيء لأن التوبة والاجتناب سواء في حكم النص ومشيئة الله تعالى هي السبب الأصيل فالتزم بعضهم كون المراد بمن الأولى السعداء وبمن الثانية الأشقاء بناء على أن فمن يعمل الخ تفصيل ليصدر الناس أشتاتا وكان مفسرا بما حاصله فريق في الجنة وفريق في السعير فالمناسب أن يرجع كل فقرة إلى فرقة لتطابق المفصل المجمل ولأن الظاهر قوله سبحانه: * (فمن يعمل) * ومن يعمل بتكرير أداة الشرط يقتضي التغاير بين العاملين وقال آخرون بالعموم إلا أن منهم من قال في الكلام قيد مقدر ترك لظهوره والعلم به من آيات أخر فالتقدير فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره إن لم يحبط ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره إن لم يكفر ومنهم من جعل الرؤية أعم مما تكون في الدنيا وما تكون في الآخرة فالكافر يرى جزاء خيره في الدنيا وجزاء شره في الآخرة والمؤمن يرى جزاء شره في الدنيا وجزاء خيره في الآخرة فقد روى
البغوي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: فمن يعمل مثال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله حتى يبلغ الآخرة وليس له فيها خير ومن يعمل مثقال ذرة من شر وهو مؤمن كوفىء ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله حتى يبلغ الآخرة وليس عليه فيها شر وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في " الشعب " وابن أبي حاتم وجماعة عن أنس قال بينما أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه: * (فمن يعمل مثقال ذرة) * الآية فرفع أبو بكر يده وقال يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر فقال عليه الصلاة والسلام يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة وفي رواية ابن مردويه عن أبي أيوب أنه صلى الله عليه وسلم قال له إذ رفع يده من عمل منكم خيرا فجزاؤه في الآخرة ومن عمل منكم شرا يره في الدنيا مصيبات وأمراضا ومن يكن فيه مثقال ذرة من خير دخل الجنة ومنهم من قال المراد من رؤية ما يعادل ذلك من الخير والشر مشاهدة نفسه عن غير أن يعتبر معه الجزاء ولا عدمه بل يفوض كل منهما إلى سائر الدلائل الناطقة بعفو صغائر المؤمن المجتنب عن الكبائر وإثابته بجميع حسناته وبحبوط حسنات الكافر ومعاقبته بجميع معاصيه وبه يشعر ما أخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن عباس من قوله في الآية ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا وشرا في
212

الدنيا إلا أراه الله تعالى إياه فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر له من سيئاته ويثيبه بحسناته وأما الكافر فيريه حسناته وسيئاته فيرد حسناته ويعذبه بسيئاته واختار هذا الطيبي فقال إنه يساعده النظم والمعنى والأسلوب أما النظم فإن قوله تعالى: * (فمن يعمل) * الخ تفصيل لما عقب به من قوله سبحانه: * (يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم) * فيجب التوافق والأعمال جمع مضاف يفيد الشمول والاستغراق ويصدر الناس مفيد بقول عز وجل: * (أشتاتا) * فيفيد أنهم على طرائق شتى للنزول في منازلهم من الجنة والنار بحسب أعمالهم المختلفة ومن ثم كانت الجنة ذات درجات والنار ذات دركات وأما المعنى فإنها وردت لبيان الاستقصاء في عرض الأعمال والجزاء عليها كقوله تعالى: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) * وأما الأسلوب فإنها من الجوامع الحاوية لفوائد الدين أصلا وفرعا روينا عن البخاري ومسلم عن أبي هريرة سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر أي عن صدقتها قال لم ينزل على فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة أي المتفردة في معناها فتلاها عليه الصلاة والسلام وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية فقال حسبي لا أبالي أن لا أسمع من القرآن غيرها انتهى وأقول الظاهر عموم من وكون المراد رؤية الجزاء كما تقدم وكذا الظاهر كون ذلك في الآخرة ولا إشكال وذلك لأن الفقرة الأولى وعدو الثانية وعيد ومذهبنا أن الوعد لازم الوقوع تفضلا وكرما والوعيد ليس كذلك فيفوض أمر الشر في الثانية على الدلائل وهي ناطقة بأنه إن كان كفرا لا يغفر وإن كان صغيرة من مؤمن مجتنب الكبائر يكفر وإن كان كبيرة من مؤمن أو صغيرة منه وهو غير مجتنب الكبائر فتحت المشيئة وخبرا أنس وأبي أيوب السابقان لا يأبيان ذلك بعد التأمل ولا يبعد فيما أرى أن يكون ما عدا الكفر من الكافر كذلك وأما أمر الخير فباق على ما يقتضيه الظاهر وهو بالنسبة إلى المؤمن ظاهر وأما بالنسبة إلى الكافر فتخفيف العذاب للأحاديث الصحيحة فقد ورد أن حاتما يخفف الله تعالى عنه لكرمه وأن أبا لهب كذلك لسروره بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وإعتاقه لجاريته ثويبة حين بشرته بذلك والحديث في تخفيف عذاب أبي طالب مشهور وما يدل على عدم تفخيف العذاب فالعذاب فيه محمول على عذاب الكفر بحسب مراتبه فهو الذي لا يخفف والعذاب الذي دلت الأخبار على تخفيفه غير ذلك ومعنى إحباط أعمال الكفار أنها لا تنجيهم من العذاب المخلد كأعمال غيرهم وهو معنى كونها سرابا وهباء ودعوى الإجماع على إحباطها بالكلية غير تامة كيف وهم مخاطبون بالتكاليف في المعاملات والجنايات اتفاقا والخلاف إنما هو في خطابهم في غيرها من الفروع ولا شك أنه لا معنى للخطاب بها الأعقاب تاركها وثواب فاعلها وأقله التخفيف وإلى هذا ذهب العلامة شهاب الدين الخفاجي عليه الرحمة ثم قال وما في " التبصرة " و " شرح المشارق " و " تفسير الثعلبي " من أن أعمال الكفرة الحسنة التي لا يشترط فيها الإيمان كإنجاء الغريق وإطفاء الحريق وإطعام ابن السبيل يجزون عليها في الدنيا ولا تدخر لهم في الآخرة كالمؤمنين بالإجماع للتصريح به في الأحاديث فإن عمل أحدهم في كفره حسنات ثم أسلم اختلف فيه هل يثاب عليها في الآخرة أم لا بناء على أن اشتراط الإيمان في الاعتداد بالأعمال وعدم إحباطها هل هو بمعنى وجود الإيمان عند العمل أو وجوده ولو بعد لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث أسلمت على ما سلف لك من خير غير مسلم ودعوى الإجماع فيه غير صحيحة لأن كون وقوع جزائهم في الدنيا دون الآخرة كالمؤمنين مذهب لبعضهم وذهب آخرون إلى الجزاء بالتخفيف وقال الكرماني: إن التخفيف واقع لكنه ليس بسبب عملهم بل لأمر آخر كشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ورجائه ومنه ما يكون
213

لأبي لهب كما قال الزركشي انتهى ولقائل أن يقول إن الشفاعة من آثار عمل المشفوع الخير أيضا فتأمل وسبب نزول الآية على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه لما نزل ويطعمون الطعام على حبه كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه فيجىء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والبسرة فيردونه ويقولون ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ويقولون إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر فنزلت الآية ترغبهم في القليل من الخير أن يعملوه وتحذرهم اليسير من الشر أن يعملوه وفيها من دلالة الخطاب ما لا يخفى وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعدها يتصدقون بما قل وكثر فقد روي أن عائشة رضي الله تعالى عنها بعث إليها ابن الزبير بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين فدعت بطبق وجعلت تقسمها بين الناس فلما أمست قالت لجاريتها هلمي وكانت صائمة فجاءت بخبز وزيت فقالت ما أمسكت لنا درهما نشتري به لحما نفطر عليه فقالت لو ذكرتيني لفعلت وجاء في عدة روايات أنها أعطت سائلا يوما حبة من عنب فقيل لها في ذلك فقالت هذه أثقل من ذر كثير ثم قرأت الآية وروي نحو هذا عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك رضي الله تعالى عنهم وكان غرضهم تعليم الناس أنه لا بأس بالتصدق بالقليل ولهم بذلك أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الزجاجي في أماليه عن أنس بن مالك أن سائلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه تمرة فقال السائل نبي من الأنبياء بالتصدق بتمرة فقال عليه الصلاة والسلام أما علمت
فيها مثاقيل ذر كثيرة وجاء أنه عليه الصلاة والسلام قال اتقوا النار ولو بشق ثمرة ثم قرأ الآية وتقديم عمل الخير لأنه أشرف القسمين والمقصود بالأصالة لا يخفى حسن موقعه ويعلم منه أن هذا الإحصاء لا ينافي كرمه عز وجل المطلق وما يحكى من أن أعرابيا أخر خيرا يره فقيل له قدمت وأخرت فقال: / جسم]
خذا بطن هرشي أو قفاها فإنه * كلا جانبي هرشي لهن طريق
فغفلة عن اللطائف القرآنية أو لعله أراد أنه فيما يتعلق بالعمل لا بأس به قدم أو أخر لا أن القراءة به جائزة وقرأ الحسين بن علي على جده وعليهما الصلاة والسلام وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبد الله بن مسلم وزيد بن علي وأبو حيوة والكلبي وخليد بن نشيط وأبان عن عاصم والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه يره بضم الياء في الموضعين وقرأ هشام وأبو بكر يره بسكون الهاء فيهما وأبو عمرو بضمها مشبعة وباقي السبعة بالإشباع في الأول والسكون في الثاني والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش ولم يحكها سيبويه وحكاها الكسائي أيضا عن بني كلاب وبني عقيل وقرأ عكرمة يراه بالألف فيهما وذلك على لغة من يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة على حرف العلة كما حكى الأخفش أو على ما يقال في غير القرآن من توهم ان من موصولة لا شرطية كما قيل في قوله تعالى: إنه من يتق ويصبر في قراءة من أثبت ياء يتق وجزم يصبر وجوز أن تكون الألف للإشباع والوجه الأول أولى والله تعالى أعلم.
سورة العاديات
مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء مدنية في قول أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس وقد أخرج عنه البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني في الإفراد وابن مردويه أنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا فاستمرت شهرا لا يأتيه منها خبر فنزلت: * (والعاديات) * الخ
214

وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف وأخرج أبو عبيد في فضائله من مرسل الحسن أنها تعدل بنصف القرآن وأخرج ذلك محمد بن نصر من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس مرفوعا ولم أقف على سره ولما ذكر سبحانه فيما قبلها الجزاء على الخير والشر أتبع ذلك فيها بتعنيت من آثر دنياه على آخرته ولم يستعد لها بفعل الخير ولا يخفى ما في قوله تعالى هناك: * (وأخرجت الأرض أثقالها) * وقوله سبحانه هنا: * (إذا بعثر ما في القبور) * من المناسبة والعلاقة على ما سمعت من أن المراد بالأثقال ما في جوفها من الأموات أو ما يعمهم والكنوز.
* (والع‍ادي‍ات ضبحا) *
* (والعاديات) * الجمهور على أنه قسم لخيل الغزاة في سبيل الله تعالى التي تعدو أي تجري بسرعة نحو العدو واصل العاديات العادوات بالواو فقلت ياء لانكسار ما قبلها وقوله تعالى: * (ضبحا) * مصدر منصوب بفعله المحذوف أي تضبح أو يضبحن ضبحا والجملة في موضع الحال وضبحها صوت أنفاسها عند عدوها وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس الخيل إذا عدت قالت اح اح فذلك ضبحها وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه الضبح من الخيل الحمحمة ومن الإبل التنفس وفي " البحر " تصويت جهير عند العدو الشديد ليس بصهيل ولا رغاء ولا نباح بل هو غير الصوت المعتاد من صوت الحيوان الذي ينسب هو إليه وعن ابن عباس ليس يضبح من الحيوان غير الخيل والكلاب ولا يصح عنه فإن العرب استعملت الضبح في الإبل والأسود من الحيات والبوم والأرنب والثعلب وربما تسنده إلى القوس أنشد أبو حنيفة في صفتها: حنانة من نشم أو تالب * تضبح في الكف ضباح الثعلب
وذكر بعضهم أن أصله للثعلب فاستعير للخيل كما في قول عنترة: والخيل تكدح حين تض‍ * بح في حياض الموت ضبحا
وإنه من ضبحته النار غيرت لونه ولم تبالغ فيه ويقال الضبح لونه تغير إلى السواد قليلا وقال أبو عبيدة الضبح وكذا الضبع بمعنى العدو الشديد وعليه قيل إنه مفعول مطلق للعاديات وليس هناك فعل مقدر وجوز على تفسيره بما تقدم أن يكون نصبا على المصدرية به أيضا لكن باعتبار أن العدو مستلزم للضبح فهو في قوة فعل الضبح ويجوز أن يكون نصبا على الحال مؤولا باسم الفاعل بناء على أن الأصل فيها أن تكون غير جامدة أي والعاديات ضابحات.
* (فالموري‍ات قدحا) *
* (فالموريات قدحا) * الإيراء إخراج النار والقدح هو الضرب والصك المعروف يقال قدح فأوري إذا أخرج النار وقدح فاصلد إذا قدح ولم يخرجها والمراد بها الخيل أيضا أي فالتي توري النار من صدم حوافرها للحجارة وتسمى تلك النار نار الحباحب وهو اسم رجل بخيل كان لا يوقد إلا نارا ضعيفة مخافة الضيفان فضربوا بها المثل حتى قالوا ذلك لما تقدحه الخيل بحوافرها والإبل بإخفافها وانتصاب قدحا كانتصاب ضبحا على ما تقدم وجوز كونه على التمييز المحول عن الفاعل أي فالموري قدحها ولعله أميز وأبعد عن القدح وعن قتادة الموريات مجاز في الخيل توري نار الحرب وتوقدها وهو خلاف الظاهر.
* (فالمغيرات صبحا) *
* (فالمغيرات) * من أغار على العدو هجم عليه بغتة بخيله لنهب أو قتل أو اسار فالإغارة صفة أصحاب الخيل وإسنادها إليها إما بالتجوز فيه أو بتقدير المضاف والأصل فالمغير أصحابها أي فالتي يغير أصحابها العدو عليها وقيل بسببها * (صبحا) * أي في وقت الصبح فهو نصب على الظرفية وذلك هو المعتاد في الغارات كانوا يعدون ليلا لئلا يشعر بهم العدو ويهجمون صباحا ليروا ما يأتون وما يذرون وكانوا يتحمسون بذلك ومنه قوله:
215

قومي الذين صبحوا الصباحا * يوم النخيل غارة ملحاحا
* (فأثرن به نقعا) *
* (فأثرن به) * من الإثارة وهي التهييج وتحريك الغبار ونحوه والأصل أثورن نقلت حركة الواو إلى ما قبلها وقلبت ألفا وحذفت لاجتماع الساكنين والفعل عطف على
الاسم قبله وهو العاديات أو ما بعده لأنه اسم فاعل وهو في معنى الفعل خصوصا إذا وقع صلة فكأنه قيل فاللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن ولا شذوذ في مثله لأن الفعل تابع فلا يلزم دخول أل عليه ولا حاجة إلى أن يقال هو معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه والحكمة في مجىء هذا فعلا بعد اسم فاعل على ما قال ابن المنير تصوير هذه الأفعال في النفس فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم لما بينهما من التخالف وهو أبلغ من التصوير بالأسماء المتناسقة وكذلك التصوير بالمضارع بعد المضارع كقول ابن معد يكرب: بأني قد لقيت الغول يهوى * بشهب كالصحيفة صحصحان
فآخذه فأضربه فخرت * صريعا لليدين وللجران
وخص هذا المقام من الفائدة على ما قال الطيبي: إن الخيل وصفت بالأوصاف الثلاثة ليرتب عليها ما قصد من الظفر بالفتح فجىء بهذا الفعل الماضي وما بعده مسببين عن أسماء الفاعلين فأفاد ذلك أن تلك المداومة أنتجت هاتين البغيتين ويفهم منه أن الفاء لتفريع ما بعدها عما قبلها وجعله مسببا عنه وسيأتي الكلام فيها قريبا إن شاء الله تعالى وضمير به للصبح والباء ظرفية أي فهيجن في ذلك الوقت * (نقعا) * أي غبارا وتخصيص إثارته بالصبح لأنه لا يثور أولا يظهر ثورانه بالليل وبهذا يظهر أن الإيراء الذي لا يظهر في النهار واقع في الليل وفي ذكر إثارة الغبار إشارة بلا غبار إلى شدة العدو وكثرة الكر والفر وكثيرا ما يشيرون به إلى ذلك ومنه قول ابن رواحة: عدمت بنيتي إن لم تروها * تثير النقع من كنفي كداء
وقال أبو عبيدة النقع رفع الصوت ومنه قول لبيد: فمتى ينقع صراخ صادق * يحلبوه ذات جرس وزجل
وقول عمر رضي الله تعالى عنه وقد قيل له يوم توفي خالد بن الوليد أن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد ما على نساء بني المغيرة أن يسفكن على أبي سليمان دموعهن وهن جلوس ما لم يكن نقع ولا لقلقة والمعنى عليه فهيجن في ذلك الوقت صياحا وهو صياح من هجم عليه وأوقع به والمشهور المعنى الأول وجوز كون ضمير به للعدو الدال عليه العاديات أو للإغارة الدال عليها المغيرات والتذكير لتأويلها بالجري ونحوه والباء للسببية أو للملابسة وجوز كونها ظرفية أيضا والضمير للمكان الدال عليه السياق والأول أظهر وألطف ومثله ضمير به في قوله عز وجل:
* (فوسطن به جمعا) *
* (فوسطن) * * (به) * أي فتوسطن في ذلك الوقت * (جمعا) * من جموع الأعداء وجوز فيه وفي بائه نحو ما تقدم في به قبله وجوز أيضا كون الضمير للنقع والباء للملابسة أي فتوسطن ملتبسات بالنقع جمعا أو هي على ما قيل للتعدية إن أريد أنها وسطت الغبار والفاآت كما في " الإرشاد " للدلالة على ترتيب ما بعد كل منها على ما قبله فتوسط الجمع مترتب على الإثارة المترتبة على الإيراء المترتب على العدو وقرأ أبو حيوة وابن أبي ليلى الأول: كالجمهور والثاني: كذين والمعنى على تشديد الأول فأظهرن به غبارا لأن التأثير فيه معنى الإظهار وعلى تشديد الثاني على نحو ما تقدم فقد نقلوا أن وسط مخففا ومثقلا بمعنى واحد وأنهما لغتان وقال ابن جني: المعنى ميزن به جمعا أي
216

جعلنه شطرين أي قسمين وشقين وقال الزمخشري التشديد فيه للتعدية والباء مزيدة للتأكيد كما في قوله تعالى وأوتوا به في قراءة وهي مبالغة في وسطن وجوز أن يكون قلب ثورن إلى وثرن ثم قلبت الواو همزة فالمعنى على ما مر وهو تمحل مستغنى عنه. وعن السدي ومحمد بن كعب وعبيد بن عمير أنهم قالوا العاديات هي الإبل تعدو ضبحا من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى ونسب إلى علي كرم الله تعالى وجهه فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال بينما أنا في الحجر جالس إذ أتاني رجل فسألني عن العاديات ضبحا فقلت الخيل حين تغير في سبيل الله تعالى ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم فانفتل عني فذهب إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو جالس تحت سقاية زمزم فسأله عن العاديات ضبحا فقال سألت عنها أحدا قبلي قال نعم سألت عنها ابن عباس فقال هي الخيل حين تغير في سبيل الله تعالى فقال اذهب فادعه لي فلما وقفت على رأسه قال تفتي الناس بما لا علم لك به والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام لبدر وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود فكيف تكون العاديات ضبحا إنما العاديات ضبحا الإبل تعد من عرفة إلى المزدلفة فإذا أووا إلى المزدلفة أوروا النيران والمغيرات صبحا من المزدلفة إلى منى فذلك جمع وأما قوله تعالى: * (فأثرن به نقعا) * فهو نقع الأرض حين تطؤها بخفافها قال ابن عباس فنزعت عن قولي إلى قول علي كرم الله تعالى وجهه ورضي الله تعالى عنه واستشكل رده كرم الله تعالى وجهه كون المراد بها الخيل بما كان من أمر غزوة بدر بأن ابن عباس لم يدع أن أل في العاديات للعهد وأنها إشارة إلى عاديات بدر ولا أن السورة نزلت في شأن تلك الغزوة ليلزم تحقق ذلك فيها ودخولها تحت العموم بل ظاهر كلامه حمل ذلك على جنس الخيل التي تعدو في سبيل الله عز وجل وإن حملت على العهد وقيل أن المعهود هو الخيل التي بعثها عليه الصلاة والسلام للغزو على ما سمعت صدر السورة وكذا على ما روي من أنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى أناس من بني كنانة سرية واستعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري وكان أحد النقباء فأبطأ عليه صلى الله عليه وسلم خبرها شهرا فقال المنافقون أنهم قتلوا فنزلت السورة إخبارا له عليه الصلاة والسلام بسلامتها وبشارة له صلى الله عليه وسلم بإغارتها على القوم لم يعد وأجيب بأنه كرم الله تعالى وجهه أراد أن غزوة بدر هي أفضل غزوات الإسلام وبدرها الذي ليس فيه انثلام فيتعين أن لا تكون المراد ذلك ويسلك في الآية ما يناسبها من المسالك ولا يخفى أن هذا الجواب لا يتحمل لمزيد ضعفه الإغارة عليه وإطلاق أعنة عاديات الأفكار إليه والأحرى أن الخبر لا صحة له وتصحيح الحاكم محكوم عليه عند أهل الأثر بكثرة التساهل فيه وأنه غير معتبر ثم أن النقل عنه رضي الله تعالى عنه في المراد بالعاديات متعارض فما تقدم أنه إبل الحجاج ونقل صاحب التأويلات أنه كرم الله تعالى وجهه فسرها بإبل بدر وأن ابن مسعود هو الذي فسرها بإبل الحجاج ويرجح إرادة الخيل أن إثارة النقع فيها أظهر منها في الإبل ثم إن ذلك الخبر يقتضي أن للقسم به نوعان الخيل والإبل وجماعة الغزاة أو الحجاج الموقدة نارا لطعامها أو نحوه وفي بعض الآثار عن ابن عباس ما هو
أصرح مما تقدم في تفسير الموريات بما يغاير العاديات بالذات ففي " البحر " عنه أنها الجماعة التي توري نارها بالليل لحاجتها وطعامها وفي رواية أخرى عنه تلك جماعة الغزاة تكثر النار إرهابا ورويت المغايرة عن آخرين أيضا فعن مجاهد وزيد بن أسلم وهي رواية أخرى عن ابن عباس هي الجماعة تمكر في الحرب فالعرب تقول إذا أرادت المكر بالرجل والله لأورين له ومن الغريب ما روي عن عكرمة أنها ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما يتكلم به ويظهر من الحجج والدلائل وإظهار الحق وإبطال الباطل وهو كما ترى.
وهو من البطون والإشارات أن
217

يكون المقسم به النفوس العادية أثر كمالهن الموريات بأفكارهن أنوار المعارف والمغيرات على الهوى والعادات إذا ظهر لهن مثل أنوار القدس فأثرن به شوقا فوسطن بذلك الشوق جمعا من جموع العليين ومثله ما قيل إن ذلك قسم بالهمم القالبية التي تعدو في سبيل الله تعالى خارجا من جوف اشتياقها صوت الدعاء من شدة العدو وغاية الشوق بحيث يسمع الروحانيون ضجيج دعائها وتضرعها والتماسها تسهيل سلوك الطريق الوعر الذي يتعلق بجبال القالب الموريات بحوافر الذكر نار الهداية المستكنة في حجر القالب وقت تخمير اللطيفة والمغيرات بعد سلوكها في جبال القالب الراسية في ظلام الليل القالبي وعبورها عنها إلى أفق عالم النفس وتنفس صبح النفس على الخواطر النفسية وشؤونها فهيجن بذلك الجري غبار الخواطر وأثرنه لئلا يختفي خاطر من الخواطر فوسطن بذلك جمعا من جنود القوى القلبية وحزب الخواطر الذكرية التي هي حزب الرحمن في وسط عالم النفس ولهم في هذا الباب غير ذلك وأيا ما كان فالمقسم عليه قوله تعالى:
* (إن الإنس‍ان لربه لكنود) *
* (إن الإنسان لربه لكنود) * أي لكفور جحود من كند النعمة كفرها ولم يشكرها وأنشدوا: كنود لنعماء الرجال ومن يكن * كنودا لنعماء الرجال يبعد
وعن ابن عباس ومقاتل الكنود بلسان كندة وحضرموت العاصي وبلسان ربيعة ومضر الكفور وبلسان كنانة البخيل السيء الملكة ومنه الأرض الكنود التي لا تنبت شيئا وقال الكلبي نحوه إلا أنه قال وبلسان بني مالك البخيل ولم يذكر حضرموت بل اقتصر على كندة وتفسيره بالكفور هنا مروى عن ابن عباس والحسن وأخرجه ابن عساكر عن أبي أمامة مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أخرى عن الحسن أنه قال هو اللائم لربه عز وجل يعد السيآت وينسى الحسنات وروى الطبراني وغيره بسند ضعيف عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتدرون ما الكنود قالوا الله تعالى ورسوله أعلم قال هو الكفور الذي يضرب عبده ويمنع رفده ويأكل وحده " وأخرج البخاري في الأدب المفرد والحكيم الترمذي وغيرهما تفسيره بالذي يمنع رفده وينزل وحده ويضرب عبده موقوفا على أبي أمامة والجمهور على تفسيره بالكفور وكل مما ذكر لا يخلو عن كفران والكفران المبالغ فيه يجمع صنوفا منه وأل في الإنسان للجنس والحكم عليه بما ذكر باعتبار بعض الأفراد وقيل المراد به كافر معين لما روي عن ابن عباس أنها نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي وأيد بقوله تعالى بعد: * (أفلا يعلم) * الخ لأنه لا يليق إلا بالكافر وفي الأمرين نظر وقيل المراد به كل الناس على معنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلا إذا عصمه الله تعالى بلطفه وتوفيقه من ذلك واختاره عصام الدين وقال فيه مدح للغزاة لسعيهم على خلاف طبعهم. ولربه متعلق بكنود واللام غير مانعة من ذلك وقدم للفاصلة مع كونه أهم من حيث إن الذم البالغ إنما هو على كنود نعمته عز وجل وقيل للتخصيص على سبيل المبالغة.
* (وإنه على ذلك لشهيد) *
* (وإنه) * أي الإنسان كما قال الحسن ومحمد بن كعب * (على ذلك) * أي على كنوده * (لشهيد) * لظهور أثره عليه فالشهادة بلسان الحال الذي هو أفصح من لسان المقال وقيل هي بلسان المقال لكن في الآخرة وقيل شهيد من الشهود لا من الشهادة بمعنى أنه كفور مع علمه بكفرانه وعمل السوء مع العلم به غاية المذمة والظاهر الأول وقال ابن عباس وقتادة ضمير أنه عائد على الله تعالى أي وأن ربه سبحانه شاهد عليه فيكون الكلام على سبيل الوعيد واختاره التبريزي فقال هو الأصح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور قبله وفيه أن الوجوب ممنوع واتساق الضمائر وعدم تفكيكها يرجح الأول فإن الضمير السابق أعني ضمير لربه للإنسان ضرورة وكذا الضمير اللاحق أعني الضمير في قوله تعالى:
* (وإنه لحب الخير لشديد) *
* (وإنه لحب الخير) * أي المال
218

وورد بهذا المعنى في القرآن كثيرا حتى زعم عكرمة أن الخير حيث وقع في القرآن هو المال وخصه بعضهم بالمال الكثير وفسر به في قوله تعالى: * (إن ترك خيرا لوصية) * وإطلاق كونه خيرا باعتبار ما يراه الناس وإلا فمنه ما هو شر يوم القيامة واللام للتعليل أي أنه لأجل حب المال * (لشديد) * أي لبخيل كما قيل وكما يقال للبخيل شديد يقال له متشدد كما في قول طرفة: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى * عقيلة مال الفاحش المتشدد
وشديد فيه يجوز أن يكون بمعنى مفعول كأن البخيل شد عن الافضال ويجوز أن يكون بمعنى فاعل كأنه شد صرته فلا يخرج منها شيئا وجوز غير واحد أن يراد بالشديد القوي ولعله الأظهر وكان اللام عليه بمعنى في أي وأنه لقوي مبالغ في حب المال والمراد قوة حبه له وقال الزمخشري المعنى وأنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق وهو لحب عبادة الله تعالى وشكر نعمته سبحانه ضعيف متقاعس تقول هو شديد لهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقا له ضابطا وجعل النيسابوري اللام على هذا التعليل وليس بظاهر فتأمل وقال الفراء يجوز أن يكون المعنى وأنه لحب الخير لشديد الحب يعني أنه يحب المال ويحب كونه محبا له إلا أنه اكتفى بالحب الأول عن الثاني كما قال تعالى: * (اشتدت به الريح في يوم عاصف) * أي في يوم عاصف الريح فاكتفى بالأولى عن الثانية وقال قطرب أي أنه شديد لحب الخير كقولك أنه لزيد ضروب
في أنه ضروب لزيد وظاهر لتمثيل أنه اعتبر حب الخير مفعولا به لشديد وإن شديد اسم فاعل جيء به على فعيل للمبالغة وإن اللام في لحب للتقوية وفيه ما فيه وقيل يجوز أن يعتبر أن شديدا صفة مشهبة كانت مضافة إلى مرفوعها وهو حب المضاف إلى الخير إضافة المصدر إلى مفعوله ثم حول الإسناد وانتصب المرفوع على التشبيه بالمفعول به ثم قدم وجر باللام وفيه مع قطع النظر عن التكلف أن تقدم معمول الصفة عليها لا يجوز وكونه مجرورا في مثل ذلك لا يجدي نفعا إذ ليس هو فيه نحو زيد بك فرح كما لا يخفى ويفهم من كلام الزمخشري في " الكشاف " جواز أن يراد به ما هو عنده تعالى من الطاعات على أن المعنى أنه لحب الخيرات غير هش منبسط ولكنه شديد منقبض وقوله تعالى:
* (أفلا يعلم إذا بعثر ما فى القبور) *
* (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبر) * الخ تهديد ووعيد والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ومفعول يعلم محذوف وهو العامل في إذا وهي ظرفية أي أيفعل ما يفعل من القبائح أو ألا يلاحظ فلا يعلم الآن مآله إذا بعثر من في القبور من الموتى وإيراد ما لكونهم إذ ذاك بمعزل من رتبة العقلاء وقال الحوفي العامل في إذا الظرفية يعلم وأورد عليه أنه لا يراد منه العلم في ذلك الوقت بل العلم في الدنيا وأجيب بأن هذا إنما يرد إذا كان ضمير يعلم راجعا إلى الإنسان وذلك غير لازم على هذا القول لجواز أن يرجع إليه عز وجل ويكون مفعولا يعلم محذوفين والتقدير أفلا يعلمهم الله تعالى عاملين بما عملوا إذا بعثر على أن يكون العلم كناية عن المجازاة والمعنى أفلا يجازيهم إذا بعثر ويكون الجملة المؤكدة بعد تحقيقا وتقرير لهذا المعنى وهو كما ترى وقيل إن إذا مفعول به ليعلم على معنى أفلا يعلم ذلك الوقت ويعرف تحققه وقل إن العامل فيها بعثر بناء على أنها شرطية غير مضافة قالوا ولم يجوز أن يعمل فيها لخبير لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها وأوجه الأوجه ما قدمناه وتعدى العلم إذا كان بمعنى المعرفة لواحد شائع وتقدم تحقيق معنى البعثرة فتذكر. وقرأ عبد الله بحثر بالحاء والثاء المثلثة وقرأ الأسود بن زيد بحث بهما بدون راء وقرأ نصر بن عاصم بحثر كقراءة عبد الله لكن بالبناء للفاعل.
* (وحصل ما فى الصدور) *
* (وحصل ما في الصدور) * أي جمع ما في القلوب من العزائم المصممة وأظهر كإظهار اللب من القشر وجمعه أو ميز خيره من شره فقد استعمل حصل الشيء بمعنى ميزه من غيره كما في البحر وأصل التحصيل إخراج اللب من القشر كإخراج الذهب من حجر المعدن
219

والبر من التبن وتخصيص ما في القلوب لأنه الأصل لأعمال الجوارح ولذا كانت الأعمال بالنيات وكان أول الفكر آخر العمل فجميع ما عمل تابع له فيدل على الجميع صريحا وكناية وقرأ ابن يعمر ونصر بن عاصم ومحمد بن أبي معدان وحصل مبنيا للفاعل وهو ضميره عز وجل وقرأ ابن يعمر ونصر أيضا حصل مبنيا للفاعل خفيف الصاد فما عليه هو الفاعل.
* (إن ربهم بهم يومئذ لخبير) *
* (إن ربهم) * أي المبعوثين كنى عنهم بعد الإحياء الثاني بضمير العقلاء بعدما عبر عنهم قبل ذلك بما بناء على تفاوتهم في الحالين * (بهم) * بذواتهم وصفاتهم وأحوالهم بتفاصيلها * (يومئذ) * أي يوم إذ يكون ما عد من بعث ما في القبور وتحصيل ما في الصدور والظرفان متعلقان بقوله تعالى: * (لخبير) * أي عالم بظواهر ما عملوا وبواطنه علما موجبا للجزاء متصلا به كما يبنىء عنه تقييده بذلك اليوم وإلا فمطلق علمه عز وجل بما كان وما سيكون. وقرأ أبو السماء والحجاج أن ربهم بهم يومئذ خبير بفتح همزة أن وإسقاط لام التأكيد فإن وما بعدها في تأويل مصدر معمول ليعلم على ما استظهره بعضهم وأيد به كون يعلم معلقة عن العلم في * (إن ربهم) * الخ على قراءة الجمهور لمكان اللام وإذا على هذا لا يجوز تعلقها بخبير أيضا لكونه في صلة إن المصدرية فلا يتقدم معموله عليها ويعلم أمره مما تقدم وقيل الكلام على تقدير لام التعليل وهي متعلقة بحصل كأنه قيل وحصل ما في الصدور لأن ربهم بهم يومئذ خبير والأول أظهر والله تعالى أعلم وأخبر.
سورة القارعة
مكية بلا خلاف وآيها إحدى عشر آية في الكوفي وعشرة في الحجازي وثمان في البصري والشامي ومناسبتها لما قبلها أظهر من أن تذكر
* (القارعة * ما القارعة * ومآ أدراك ما القارعة) *
* (ما القارعة * ما القارعة * وما أدريك ما القارعة) * الجمهور على أنها القيامة نفسها ومبدؤها النفخة الأولى ومنتهاها فصل القضاء بين الخلائق وقيل صوت النفخة وقال الضحاك هي النار ذات التغيظ والزفير وليس بشيء وأيا ما كان فهي من القرع وهو الضرب بشدة بحيث يحصل منه صوت شديد وقد تقدم الكلام فيها وكذا ما يعلم منه إعراب ما ذكر في الكلام على قوله تعالى: * (الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة) * وقرأ عيسى القارعة بالنصب وخرج على أنه بإضمار فعل أي اذكر القاعرة وقوله تعالى:
* (يوم يكون الناس ك الفراش المبثوث) *
* (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) * قيل أيضا منصوب باضمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة والسلام إلى معرفتها * (اذكر يوم يكون الناس) * الخ فإنه يدريك ما هي وقال الزمخشري ظرف لمضمر دلت عليه القاعرة أي تقرع يوم وقال الحوفي ظرف تأتي مقدرا وبعضهم قدر هذا الفعل مقدما على القارعة وجعلها فاعلا له أيضا وقال ابن عطية ظرف للقارعة نفسها من غير تقدير ولم يبين أي القوارع أراد وتعقبه أبو حيان بأنه إن أراد اللفظ الأول ورد عليه الفصل بين العامل وهو في صلة أل والمعمول بالخبر وهو لا يجوز وإن أراد الثاني أو الثالث فلا يلتئم معنى الظرف معه وأيد بقراءة زيد بن علي يوم بالرفع على ذلك
وقدر بعضهم المبتدأ وقتها والفراش قال في " الصحاح " جمع فراشة التي تطير وتهافت في النار وهو المروى عن قتادة وقيل هو طير رقيق يقصد النار ولا يزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى يحترق وقال الفراء هو غوغاء الجراد الذي ينتشر في الأرض ويركب بعضه بعضا من الهول وقال صاحب التأويلات اختلفوا في تأويله على وجوه لكن كلها ترجع
220

إلى معنى واحد وهو الإشارة إلى الحيرة والاضطراب من هول ذلك اليوم واختار غير واحد ما روى عن قتادة وقالوا شبهوا في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والمجيء والذهاب على غير نظام والتطاير إلى الداعي من كل جهة حين يدعوهم إلى المحشر بالفراش المتفرق المتطاير قال جرير: إن الفرزدق ما علمت وقومه * مثل الفراش غشين نار المصطلى
* (وتكون الجبال ك العهن المنفوش) *
* (وتكون الجبال كالعهن) * أي الصوف مطلقا أو المصبوغ كما قيده الراغب به وقد تقدم الكلام فيه في المعارج وكان بمعنى صار أي وتصير جميع الجبال كالعهن * (المنفوش) * المفرق بالإصبع ونحوها في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو حسبما ينطق به غير آية وقوله تعالى:
* (فأما من ثقلت موازينه) *
* (فأما من ثقلت موازينه) * إلى آخره بيان إجمالي لتحزب الناس حزبين وتنبيه على كيفية الأحوال الخاصة بكل منهما أثر بيان الأحوال الشاملة للكل وهذا إشارة إلى وزن الأعمال وهو مما يجب الايمان به حقيقة ولا يكفر منكره ويكون بعد تطاير الصحف وأخذها بالايمان والشمائل وبعد السؤال والحساب كما ذكره الواحدي وغيره وجزم به صاحب كنز الأسرار بميزان له لسان وكفتان كإطباق السموات والأرض والله تعالى أعلم بماهيته وقد روى القول به عن ابن عباس والحسن البصري وعزاه في " شرح المقاصد " لكثير من المفسرين ومكانه بين الجنة والنار كما في " نوادر الأصول " وذكر يتقبل به العرش يأخذ جبريل عليه السلام بعموده ناظرا إلى لسانه وميكائيل عليه السلام أمين عليه والأشهر الأصح أنه ميزان واحد كما ذكرنا لجميع الأمم ولجميع الأعمال فقوله تعالى موازينه وهو جمع ميزان وأصله موازن بالواو لكن قلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها قيل للتعظيم كالجمع في قوله تعالى: * (كذبت عاد المرسلين) * في وجه أو باعتبار أجزائه نحو شابت مفارقة أو باعتبار تعدد الأفراد للتغاير الاعتباري كما قيل في قوله: لمعان برق أو شعاع شموس * وزعم الرازي على ما نقل عنه أن فيه حديثا مرفوعا وقال آخرون يوزن نفس الأعمال فتصور الصالحة بصور حسنة نوارنية ثم تطرح في كفة النور وهي اليمنى المعدة للحسنات فتثقل بفضل الله تعالى وتصور الأعمال السيئة بصور قبيحة ظلمانية ثم تطح في كفة الظلمة وهي الشمال فتخف بعدل الله تعالى وامتناع قلب الحقائق في مقام خرق العادات ممنوع أو مقيد ببقاء آثار الحقيقة الأولى وقد ذهب بعضهم إلى أن الله تعالى يخلق أجساما على عدد تلك الأعمال من غير قلب لها وادعى أن فيه أثرا والظاهر أن الثقل والخفة مثلهما في الدنيا فما ثقل نزل إلى أسفل ثم يرتفع إلى عليين وما خف طاش إلى أعلى ثم نزل إلى سجين وبه صرح القرطبي وقال بعض المتأخرين هما على خلاف ما في الدنيا وإن عمل المؤمن إذا رجح صعد وثقلت سيآته وأن الكافر تثقل كفته لخو الأخرى من الحسمات ثم تلا والعمل الصالح يرفعه وفي كونه دليلا نظر وذكر بعضهم أن صفة الوزن أن يجعل جميع أعمال العباد في الميزان مرة واحدة الحسنات في كفة النور عن يمين العرش جهة الجنة والسيآت في كفة الظلمة جهة النار ويخلق الله تعالى لكل إنسان علما ضروريا يدرك به خفة أعماله وثقلها وقيل نحوه إلا أن علامة الرجحان عمود من نور يثور من كفة الحسنات حتى يكسو كفة السيآت وعلامة الخفة عمود ظلمة يثور من كفة السيآت حتى يكسو كفة الحسنات فالكيفيات أربع وستظهر حقيقة الحال بالعيان وهو قال القرطبي لا يكون في حق كل أحد لما في الحديث الصحيح فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن الحديث وأحرى الأنبياء عليهم السلام وقوله سبحانه: * (يعرف المجرمون بسيماهم) * فيؤخذ بالنواصي والأقدام وإنما يبقى الوزن لمن شاء الله تعالى من الفريقين وذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن أهل الصبر لا توزن أعمالهم وإنما يصب لهم
221

الأجر صبا والظاهر أنه يدرج المنافق في الكافر والحق أن أعمالهم مطقلا توزن لظواهر الآيات والأحاديث الكثيرة والمراد في الآية * (وزنا نافعا) * والصحيح أن الجن مؤمنهم وكافرهم كالإنس في هذا الشأن كما قرر في محله والتقسيم فيما نحن فيه على ما سمعت عن القرطبي بالنسبة إلى من توزن أعماله لا بالنسبة إلى الناس مطلقا وأنكر المعتزلة الوزن حقيقة وجماعة من أهل السنة والجماعة منهم مجاهد والضحاك والأعمش قالوا إن الإعمال أعراض إن أمكن بقاؤها لا يمكن وزنها فالوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل وجوزوا فيما هنا أن تكون الموازين جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى وأن معنى ثقلها رجحانها وروى هذا عن الفراء أي فمن ترجحت مقادير حسناته ورتبها.
* (فهو فى عيشة راضية) *
* (فهو في عيشة راضية) * المشهور جعل ذلك من باب النسب أي ذات رضا وجوز أن تكون * (راضية) * بمعنى المفعول أي مرضية على التجوز في الكلمة نفسها وأن يكون الإسناد مجازيا وهو حقيقة إلى صاحب العيشة وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية وتخييلية على ما قرر في كتب المعاني لكن ذكر بعض الأجلة ههنا كلاما نفيسا وهو أن ما كان للنسب يؤول بذي كذا فلا يؤنث لأنه لم يجر على موصوف فالحق بالجوامد ونقل عن السيرافي أنع قال يقدح فيما عللوا به سقوط الهاء في * (عيشة راضية) * وفيه وجهان. أحدهما: أن تكون بمعنى أنها * (راضية) * أهلها فهي ملازمة لهم راضية بهم والآخر أن تكون الهاء للمبالغة كعلامة وراوية ووجه بإن الهاء لزمت لئلا تسقط الياء فيخل بالبنية كناقة مشلية وكلبة مجرية وهم يقولون ظبية مطفل ومشدان وباب مفعل ومفعال لا يؤنث وقد أدخلوا الهاء في بعضه كمصكة انتهى ثم قال إن هذا حقيق بالقبول ومحصله الجواب بوجه. أحدها: ان راضية هنا فيه ليس من باب النسب بل هو اسم فاعل أريد به لازم معناه لأن من شاء شيئا
ورضى به لازمه فهو مجاز مرسل أو استعارة ويجوز أن يراد أنه مجاز في الإسناد وما ذكر بيان لمعناه الثاني: إن الهشاء للمبالغة ولا تختص بفعال ولذا مثل برواية أيضا والثالث: أنه يجوز الحاق الهاء في المعتل لحفظ البلية ومصكة أما شاذا ولتشبيه المضاعف بالمعتل انتهى فاحفظه فإنه نفيس خلا عنه أكثر الكتب.
* (وأما من خفت موازينه) *
* (وأما من خفت موازينه) * بأن لم يكن له حسنة يعتد بها أو ثقلت سيئآته على حسناته.
* (فأمه هاوية) *
* (فأمه) * أي فماواه كما قال ابن زيد وغيره * (هاوية) * أريد بها النار كما يؤذن به قوله تعالى:
* (ومآ أدراك ما هيه * نار حامية) *
* (وما أدريك ماهيه * نار حامية) * فإنه تقرير لها بعد إبهامها والاشعار بخروجها عن المعهود للتفخيم والتهويل وذكر أن إطلاق ذلك عليها لغاية عمقها وبعد مهواها فقد روى أن أهل النار تهوى فيها سبعين خريفا وخصها بعضهم بالباب الأسفل من النار وعبر عن المأوى بالأم على التشبيه بها فالام مفزع الولد ومأواه وفيه تهكم به وقيل شبه النار بالأم في أنها تحيط بها إحاطة رحم الولد بالأم. وعن قتادة وأبي صالح وعكرمة والكلبي وغيرهم المعنى فام رأسه هاوية في قعر جهنم لأنه يطرح فيها منكوسا وفي رواية أخرى عن قتادة هو من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة هوت أمه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلا وحزنا ومن ذلك قول كعب بن سعد الغنوي: هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا * وماذا يرد الليل حين يؤب
وفي " الكشف " أن هذا أحسن ليطابق قوله سبحانه: * (في عيشة راضية) * وما فيه من المبالغة وقال الطيبي أنه الأظهر وللبحث فيه مجال والضمير أعني هي عليه للداهية التي دل عليها الكلام وعلى ما قدمنا لهاوية وعلى الوجه الثاني لما يشعر به الكلام كأنه قيل فأم رأسه هاوية في نار * (وما أدراك ماهية) * الخ والهاء الملحقة في هيه هاء السكت وحذفها في الوصل ابن أبي إسحق والأعمش وحمزة وأثبتها الجمهور ورفع نار على أنها خبر
222

مبتدأ محذوف أي هي نار وحامية نعت لها وهو من الحمى اشتداد الحر قال في " القاموس " حمى الشمس والنار حميا وحميا وحموا اشتد حرهما وجعله بعضهم على ما قيل من حميت القدر فهي محمية ففسره بذات حمى وهو كما ترى وقرأ طلحة فأمه بكسر الهمزة قال ابن خالويه وحكى ابن دريد أنها لغة وأما النحويون فيقولون لا يجوز كسر الهمزة إلا أن يتقدمها كسرة أو ياء والله تعالى أعلم.
سورة التكاثر
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن أبي هلال يسمونها المقبرة وهي مكية قال أبو حيان عند جميع المفسرين وقال الجلال السيوطي على الأشهر ويدل لكونها مدنية وهو المختار ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي بريدة فيها قال نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار في بني حارثة وبني الحرث تفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما فيكم مثل فلان وفلان وقال الآخرون مثل ذلك تفاخروا بالاحياء ثم قالوا انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول فيكم مثل فلان تشير إلى القبر ومثل فلان وفعل الآخرون مثل ذلك فأنزل الله تعالى: * (ألهاكم التكاثر) * الخ وأخرج البخاري وابن جرير عن أبي بن كعب قال كنا نرى هذا من القرآن لو أن لابن آدم واديين من مال لتمني واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ثم يتوب الله على من تاب حتى نزلت * (ألهاكم التكاثر) * الخ وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت ألهاكم التكاثر وعذاب القبر لم يذكر إلا في المدينة كما في الصحيح في قصة اليهودية انتهى ولقوة الأدلة على مدنيتها قال بعض الأجلة أنه الحق. وآيها ثمان بالاتفاق وهي تعدل ألف آية من القرآن أخرج الحاكم والبيهقي في " الشعب " عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم قالوا ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية قال أما يستطيع أحدكم أن يقرأ * (ألهاكم التكاثر) * وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ في ليلة ألف آية لقى الله تعالى وهو ضاحك في وجهه فقيل يا رسول الله من يقوي على ألف آية فقرأ سورة * (الهاكم التكاثر) * إلى آخرها ثم قال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده أنها لتعدل ألف آية وذكر ناصر الدين بن الميلق في سر ذلك أن القرآن ستة آلاف ومائتا آية وكسر فإذا تركنا الكسر كان الألف سدس القرآن وهذه السورة تشتمل على سدس من مقاصد القرآن فإنها على ما ذكره الغزالي ستة ثلاثة مهمة وهي تعريف المدعو إليه وتعريف الصراط المستقيم وتعريف الحال عند الرجوع إليه عز وجل وثلاثة متمة وهي تعريف أحوال المطيعين وحكاية أقوال الجاحدين وتعريف منازل الطريق وأحدها معرفة الآخرة المشار إليه بتعريف الحال عند الرجوع إليه تعالى المشتمل عليه السورة والتعبير على هذا المعنى بألف آية أفخم وأجل من التعبير بالسدس انتهى. والأمر والله تعالى أعلم وراء ذلك ومناسبتها لما قبلها ظاهرة.
* (أله‍اكم التكاثر) *.
* (ألهاكم) * أي شغلكم وأصل اللهو الغفلة ثم شاعر في كل شاغر وخصه العرف بالشاغل الذي يسر المرء وهو قريب من اللعب ولذا ورد بمعناه كثيرا وقال الراغب اللهو ما يشغلك عما يعني ويهم وقيل ليس بذاك المراد به هنا الغفلة والمعنى جعلكم لاهين غافلين * (التكاثر) * أي التباري في الكثرة والتباهي بها بأن يقول هؤلاء نحن أكثر وهؤلاء نحن أكثر.
* (حتى زرتم المقابر) *
* (حتى زرتم المقابر) * حتى إذا استوعبتم عدد الأحياء
223

صرتم إلى المقابر وانتقلتم إلى ذكر من فيها فتكاثرتم بالأموات فالغاية داخلة في المغيا وقد تقدم من سبب النزول ما يوضح ذلك. وعن الكلبي ومقاتل أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عددا فكثرتهم بنو عبد مناف فقالت بنو سهم أن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالإحياء والأموات فكثرتهم بنو سهم وزيارة المقابر على ما تقدم على ظاهرها وأما على هذا فقد عبر بها عن بلوغهم ذكر الموتى كناية أو مجازا واستحسن جعله تمثيلا وفي " الكشاف " عبر بذلك عما ذكر تهكما بهم ووجهه بعض بأنه كأنه قيل أنتم في عفلكم هذا كمن يزور القبور من غير غرض صحيح وبعض آخر بأن زيارة القبور للاتعاظ وتذكر الموت وهم عكسوا فجعلوها سببا للغفلة وهذا أولى والمعنى * (ألهاكم) * ذلك وهو لا يعنيكم ولايجدي عليكم في دنياكم وآخرتكم عما يعنيكم من أمر الدين الذي هو أهم وأعنى من كل مهم وحذف الملهى عنه للتعظيم المأخوذ من الإبهام بالحذف والمبالغة في الذم حيث أشار إلى أن ما يلهي مذموم فضلا عن الملهى عن أمر الدين وقيل المراد * (ألهاكم التكاثر) * بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا والاشتياق إليها والتهالك عليها إلى أتاكم الموت لا هم لكم غيرها عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم والعمل لآخرتكم وصدره قد أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس وهو ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة عن الحسن وزيارة المقابر عليه عبارة عن الموت كما قال الشاعر: إني رأيت الضمد شيئا نكرا * لن يخلص العام خليل عشرا ذاق الضماد أو يزور القبرا
وقال جرير: زار القبور أبو مالك * فأصبح ألام زوارها
وفي ذلك إشارة إلى تحقيق البعث. يحكى أن أعرابيا سمع ذلك فقال بعث القوم للقيامة ورب الكعبة فإن الزائد منصرف لا مقيم وعن مر بن عبد العزيز أنه قال لا بد لمن زاد أن يرجع إلى جنة أو نار وفيه أضيا إشارة إلى قصر زمن اللبث في القبور والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع أو لتغليب من مات أولا أو لجعل موت آبائهم بمنزلة موتهم. ومما يقضي منهم العجب قول أبي مسلم أن الله عز وجل يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييرا للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور وقيل هذا تأنيب على الإكثار من زيارة القبور تكثرا بمن سلف ومباهاة وتفاخرا به لا اتعاظا وتذكرا للآخرة كما هو المشروع ويشير إليه خبر أبي داود نهيتكم عن زيادة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ولا يخفى أن الآية بمعزل عن ذلك نعم لا كلام في ذم زيارة القبور للتفاخر بالمزور أو للتباهي بالزيارة كما يفعل كثير من الجهلة المنتسبين إلى المتصوفة في زياراتهم لقبور المشايخ عليهم الرحمة هذا مع ما لهم فيها من منكرات اعتقدوها طاعات وشنائع اتخذوها شرائع إلى أمور تضيق عنها صدور السطور وقرأ ابن عباس وعائشة ومعاوية وأبو عمران الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة آلهاكم بالمد على الاستفهام وروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وابن عباس أيضا والشعبي وأبي العالية وابن أبي عبلة والكسائي في رواية أألهاكم بهمزتين والاستفهام للتقرير.
* (كلا سوف تعلمون) *
* (كلا) * ردع عن الاشتغال بما لا يعنيه عما يعنيه وتنبيه على الخطا فيه لأن عاقبته وخيمة * (سوف تعلمون) * سوء مغبة ما أنتم عليه إذا عاينتم عاقبته والعلم بمعنى المعرفة المتعدية لواحد.
* (ثم كلا سوف تعلمون) *
* (ثم كلا سوف تعلمون) * تكرير للتأكيد وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ كما يقول العظيم لعبده أقول لك ثم أقول لك لا تفعل قيل ولكونه أبلغ نزل منزلة المغايرة فعطف وإلا فالمؤكد لا يعطف على المؤكد لما بينهما من شدة الاتصال وأنت تعلم أن المنع هو رأي اللغويين وقد صرح المفسرون والنحاة بخلافه. وقال علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه الأول في القبور والثاني في النشور فلا تكرير والتراخي على ظاهره ولا كلام في العطف وقال الضحاك الزجر الأول ووعيده
224

للكافرين وما بعد للمؤمنين وهو خلاف الظاهر.
* (كلا لو تعلمون علم اليقين) *
* (كلا لو تعلمون علم اليقين) * أي لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر المتيقن أي كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور فالعلم مضاف للمفعول واليقين بمعنى المتيقن صفة لمقدر وجوز أبو حيان كون الإضافة من إضافة الموصوف إلى صفته أي العلم اليقين وفائدة الوصف ظاهرة بناء على أن العلم يطلق على غير اليقين وجواب لو محذوف للتهويل أي لو تعلمون كذلك لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه أو لشغلكم ذلك عن التكاثر وغيره أو نحو ذلك وقوله تعالى:
* (لترون الجحيم) *
* (لترون الجحيم) * جواب قسم مضمر أكد به الوعيد وشدد به التهديد وأوضح به ما أنذروه بعد إبهامه تفخيما ولا يجوز أن يكون جواب لو الامتناعية لأنه محقق الوقوع وجوابها لا يكون كذلك وقيل يجوز ويكون المعنى سوف تعلمون الجزاء ثم قال سبحانه لو تعلمون الجزاء علم اليقين الآن لترون الجحيم يعني تكون الجحيم دائما في نظركم لا تغيب عنكم وهو ترى.
* (ثم لترونها عين اليقين) *
* (ثم لترونها) * تكرير للتأكيد وثم للدلالة على الأبلغية وجوز أن تكون الرؤية الأولى إذا رأتهم من بعيد والثاني إذا وردوها أو إذ دخلوها أو الأولى إذا وردوها والثانية إذا دخلوها أو الأولى المعرفة والثانية المشاهدة والمعاينة وقيل يجوز أن يكون المراد لترون الجحيم غير مرة إشارة إلى الخلود وهذا نحو التثنية في وقوله تعالى فارجع البصر كرتين وهو خلاف الظاهر جدا. * (عين اليقين) * أي الرؤية التي هي نفس اليقين فإن الانكشاف بالرؤية والمشاهدة فوق سائر الانكشافات فهو أحق بأن يكون
عين اليقين فعين بمعنى النفس مثله في نحو جاء زيد نفسه وهو صففة مصدر مثدر أي رأية عين اليقين والعامل فيه لترونها وجوز أن يكون متنازعا فيه للفاعلين قبله وفي إطلاقه كلام لا أظنه يخفى عليك واليقين في اللغة على ما قال السيد السند العلم الذي لا شك فيه وفي الاصطلاح اعتقاد الشيء إنه كذا مع اعقاد أنه لا يمكن إلا كذا اعتقادا مطابقا للواقع غير ممكن الزوال وقال الراغب اليقيم من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وإخواتهما يقال علم يقين ولا يقال معرفة يقين وهو سكون النفس مع ثبات الفهم وفسر السيد اليقين بما سمعت ونقل عن أهل الحقيقة عدة تفسيرات فيه وعلم اليقين بما أعطاه الدليل من إدراك الشيء على ما هو عليه وعين اليقين بما أعطاه المشاهدة والكشف وجعل وراء ذلك حق اليقين وقال على سبيل التمثيل علم كل عاقل بالموت علم اليقين وإذا عاين الملائكة عليهم السلام فهو عين اليقين وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين ولهم غير ذلك ومبنى أكثر ما قالوه على الاصطلاح فلا تغفل وقرأ ابن عامر والكسائي لترون بضم التاء وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن كثير في رواية وعاصم كذلك بفتحها في لترون وضمها في لترونها ومجاهد وأشهب وابن أبي عبلة بضمها فيهما وروي عن الحسن وأبي عمر وبخلاف عنهما أنهما همزا الواوين ووجه بأنهم اسثقلوا الضمة على الواو فهمزوا للتخفيف كما همزوا في وقت وكان القياس ترك الهمز لأن الضمة حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها لكن لما لزمن الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا وقد همزوا من الحركة العارضة التي تزول في الوقف نحو اشترؤوا الضلالة فالهمز من هذه أولى.
* (ثم لتس‍الن يومئذ عن النعيم) *
* (ثم اتسئلن يومئذ عن النعيم) * قيل الخطاب للكفار وحكى ذلك عن الحسن ومقاتل واختاره الطيبي والنعيم عام لكل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب وكذا قيل في الخطابات السابقة وقد روي عن ابن عباس أنه صرح بأن الخطاب في لترون الجحيم للمشركين وحملوا الرؤية عليه على رؤية الدخول وحملوا السؤال هنا على سؤال التقريع والتوبيخ لما أنهم لم يشكروا ذلك بالإيمان به عز وجل والسؤال قيل يجوز أن يكون
225

بعد رؤية الجحيم ودخولها كما يسألون كذلك عن أشياء أخر على ما يؤذن به قوله تعالى كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير وقوله سبحانه ما سلككم في سقر وذلك لأنه إذ ذاك أشد إيلاما وادعى للاعتراف بالتقصير فثم على ظاهرها وأن يكون في موقف الحساب قبل الدخول فتكون ثم للترتيب الذكرى وقيل الخطاب مخصوص بكل من ألهاه دنياه عن دينه والنعيم مخصوص بما شغله عن ذلك لظهور أن الخطاب في ألهاكم الخ للمهلين فيكون قرينة على ما ذكر وللنصوص الكثيرة كقوله تعالى قل من حرم زينة الله وكلوا من الطيبات وهذا أيضا يحمل السؤال على سؤال التوبيخ ويدخل فيما ذكر الكفار وفسقة المؤمينن وقيل الخطاب عام وكذا السؤال يعم سؤال التوبيخ وغيره والنعيم خاص واختلف فيه على أقوال فاخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن مسعود مرفوعا هو الأمن والصحة وأخرج البيهقي عن الأمير على كرم الله تعالى وجهه قال النعيم العافية وأخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعا أكل خبز البر والنوم في الظل وشرب ماء الفرات مبردا وأخرج ابن جرير عن ثابت البناني مرفوعا النعيم المسؤول عنه يوم القيامة كسرة تقوته وماء يرويه وثوب يواريه وأخرج الخطيب عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسره قال الخصاف والماء وفلق الكسر وروي عنه وعن جابر أنه ملاذ المأكول والمشروب وقال الحسين بن الفضل هو تخفيف الشرائع وتيسير القرآن ويروى عن جابر الجعفي من الإمامية قال دخلت على الباقر رضي الله تعالى عنه قال ما يقول أرباب التأويل في قوله تعالى لتسئلن يومئذ عن النعيم فقلت يقولون الظل والماء البارد فقال لو أنك ادخلت بيتك أحدا وأقعدته في ظل وسقيته اتمن عليه قلت لا قال فالله تعالى أكرم من أن يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه قلت ما تأويله قال النعيم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أنعم الله تعالى به على أهل العالم فاستنقذهم به من الضلالة أما سمعت قوله تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا ومن رواية العياش من الإمامية أيضا ان أبا عبد الله رضي الله تاعلى عنه قال لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في الآية ما لنعيم عندك يا نعمان فقال القوت من الطعام والماء البارد فقال أبو عبد الله بئن أوقفك الله تعالى بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه فقال أبو حينفة فما النعيم قال نحن أهل البيت النعيم أنعم الله تعالى بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعدان كانوا مختلفين وبنا ألف الله تاعلى بين قلوبهم وجعلهم إخوانا بعد ان كانوا أعداء وبنا هداهم إلى الإسلام وهو النعمة التي لا تنقطع والله تعالى سائلهم عن حث النعيم الذي أنعم سبحانه به عليهم وهو محمد وعثرته عليه وعليهم الصلاة والسلام وكلا الخبرين لا أرى لهما صحة وفيهما ما ينادي عن عدم صحتهما كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد والحق عموم الخطاب والنعيم بيد أن المؤمن لا يثرب عليه في شيء ناله منه في الدنيا بل يسئل غير مثرب وإنما يثرب على الكافر كما ورد ذلك في حديث رواه الطبراني عن ابن مسعود ويدل على عموم الخطاب ما أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وآخرون عن أبي هريرة قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة قالا الجوع يا رسول الله قال والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما فقوموا فقاموا معه عليه الصلاة والسلام فاتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته فلما رأته صلى الله عليه وسلم المرأة قالت مرحبا فقال النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فقال الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني فانطلق فجاء بعذق فيه بسر وتمر فقال كلوا من هذا وأخذ المدية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك والحلوب فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك
226

العذق وشربوا فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة وفي رواية ابن حبان وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه انطلقوا إلى منزل أبي أيوب الأنصاري فقالت امرأته مرحبا بنبي الله صلى الله عليه وسلم ومن معه فجاء أبو أيوب فقطع عذقا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تقطع لنا هذا ألا جنيت من تمره قال أحببت يا رسول الله إن تأكلوا من تمره وبسره ورطبه ثم ذبح جديا فشوي نصفه وطبخ نصفه فلما وضع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من الجدي فجعله في رغيف وقال يا أبا أيوب ابلغ هذا فاطمة رضي الله تعالى عنها فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام فذهب به أبو أيوب إلى فاطمة رضي الله تعالى عنها فلما أكلوا وشبعوا قال النبي صلى الله عليه وسلم خبز ولحم وتمر وبسر ورطب ودمعت عيناه عليه
الصلاة والسلام والذي نفسي بيده ان هذا لهو النعيم الذي تسألون عنه قال الله تعالى ثم لتسألن يوئذ عن النعيم فهذا النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة فكبر ذلك على أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام بلى إذا أصبتم مثل هذا فضربتم بأيديكم فقولوا بسم الله فإذا شبعتم فقولوا الحمد لله الذي أشبعنا وأنعم علينا وأفضل فإن هذا كفاف بذاك وليس المراد في هذا الخبر حصر النعيم مطلقا فيما ذكر بل حصر النعيم بالنسبة إلى ذلك الوقت الذي كانوا فيه جياعا وكذا فيما يصح من الأخبار التي فيها الاقتصار على شيء أو شيئين أو أكثر فكل ذلك من باب التمثيل ببعض أفراد خصت بالذكر لأمر اقتضاه الحال ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في غير رواية عند ذكر شيء من ذلك هذا من النعيم الذي تسألون عنه بمن التبعيضية وفي التفسير الكبير الحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعم سواء كان ما لا بد منه أولا لأن كل ما يهب الله تعالى يجب أن يكون مصروفا إلى طاعته سبحانه لا إلى معصيته عز وجل فيكون السؤال واقعا عن الكل ويؤكده قوله عليه الصلاة والسلام لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم ابلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به لأن كل نعيم داخل فيما ذكره عليه الصلاة والسلام ويشكل عليه ما أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد والديلمي عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث لا يحاسب بهن العبد ظل خص يستظل به وكسرة يشد بها صلبه وثوب يوارى به عورته وأجيب بأنه إن صح فالمراد لا يناقش الحساب بهن وقيل المراد ما يضطر العبد إليه من ذلك لحياته فتأمل ورأيت في بعض الكتب أن الطعام الذي يؤكل مع اليتيم لا يسأل عنه وكان ذلك لأن في الأكل معه جبرا لقلبة وازالة لوحشته فيكون ذلك بمنزلة الشكر فلا يسأل عنه سؤال تقريع وفي القلب من صحة ذلك شيء والله تعالى أعلم.
سورة العصر
مكية في قول ابن عباس وابن الزبير والجمهور ومدنية في قول مجاهد وقتاة ومقاتل. وآيها ثلاث بلا خلاف وهي على فصرها جمعت من العلوم ما جمعت فقد روي عن الشافعي عليه الرحمة إنه قال لو لم ينزل غير هذه السورة لكفت الناس لأنها شملت جميع علوم القرآن وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن أبي حذيفة وكانت له صحبة قال كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة والعصر ثم يسلم أحدهما على الآخر وفيها اشارة إلى حال من لم يلهه التكاثر ولذا وضعت بعد سورته.
* (والعصر) *
* (والعصر) * قال مقاتل أقسم سبحانه بصلاة العصر لفضلها لأنها الصلاة الوسطى عند الجمهور لقوله عليه الصلاة والسلام شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ولما في مصحف
227

حفصة والصلاة الوسطى صلاة العصر وفي الحديث من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله وروي أن امرأة كانت تصيح في سكك المدينة دلوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآها عليه الصلاة والسلام فسألها ماذا حدث فقال يا رسول الله إن زوجي غاب فزنيت فجاءني ولد من الزنا فألقيت الولد في دن خل فمات ثم بعت ذلك الخل فهل لي من توبة فقال عليه الصلاة والسلام أما الزنا فعليك الرجم بسببه وأما القتل فجزاؤه جهنم وأما بيع الخل فقد ارتكبت كبيرا لكن ظننت أنك تركت صلاة العصر ذكر ذلك الإمام وهو لعمر إمام في نقل مثل ذلك مما لا يعول عليه عند أئمة الحديث فإياك والاقتداء به وخصت بالفضل لأن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واستغالهم بمعايشهم وقيل أقسم عز وجل بوقت تلك الصلاة لفضيلة صلاته أو لخلق آدم أبي البشر عليه السلام فيه من يوم الجمعة وإلى هذا ذهب قتادة فقد روي عنه أنه قال العصر العشى أقسم سبحانه به كما أقسم بالضحى لما فيهما من دلائل القدرة وقال الزجاج العصر اليوم والعصر الليلة وعلية قول حميد بن ثور. ولم يلبث العصران يوم وليلة * إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
وقيل العصر بكرة والعصر عشية وهما إلا برادان وعليه وعلى ما قبله يكون القسم بواحد من الأمرين غير معين وقيل المراد به عصر النبوة وكأنه عني به وقت حياته عليه الصلاة والسلام فإنه أشرف الأعصار لتشريف النبي صلى الله عليه وسلم وقيل هو زمان حياته صلى الله عليه وسلم وما بعده إلى يوم القيامة ومقداره فيما مضى من الزمان مقدار وقت العصر من النهار ويؤذن بذلك ما رواه البخاري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول إنما بقاؤكم فيمن سلف قلبكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وشرفه لكونه زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأمته التي هي خير أمة أخرجت للناس ولا يضره تأخيره كما لا يضر السنان تأخره عن أطراف مرانه والنور تأخره عن أطراف أغصانه وقال ابن عباس هو الدهر أقسم عز وجل به لاشتماله على أصناف العجائب ولذا قيل له أبو العجب وكأنه تعالى يذكر بالقسم به ما فيه من النعم وأضدادها لتنبيه الإنسان المستعد للخسران والسعادة ويعرض عز وجل لما في الأقسام به من التعظيم بنفي أن يكون له خسران أو دخل فيه كما يزعمه من يضيف الحوادث إليه وفي إضافة الخسران بعد ذلك للإنسان اشعار بأنه صفة له لا للزمان كما قيل: يعيبون الزمان وليس فيه * معايب غير أهل للزمان
وتعقب بأن استعمال العصر بذلك المعنى غير ظاهر.
* (إن الإنس‍ان لفى خسر) *
* (إن الإنسان لفي خسر) * أي خسران في متاجرهم ومساعيهم وصرف أعمارهم في مباغيهم التي لا ينتفعون بها في الآخرة بل ربما تضربهم إذا حلوا الساهرة والتعريف للاستغراق بقرينة الاستثناء والتنكير قيل للتعظيم أي في خسر عظيم ويجوز أن يكون للتنويع أي نوع من الخشر غير ما يعرفه الإنسان.
* (إلا الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) *
* (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * فإنهم في تجارة لن تبور حيث باعوا الفاني الخسيس واشتروا الباقي النفيس واسبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات فيا لها من صقفة ما أربحها ومنفعة جامعة للخير ما أوضحها والمراد بالموصول كل من اتصف بعنوان الصلة لا علي كرم الله تعالى وجهه وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه فقط كما يتوهم من اقتصار ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الذكر عليهما بل هما داخلان في ذلك دخولا أوليا ومثل ذلك اقتصاره في الإنسان الخاسر على أبي جهل وهو ظاهر وهذا بيان لتكميلهم لأنفسهم وقوله تعالى: * (وتواصوا بالحق) * الخ بيان لتكميلهم
228

لغيرهم أي وصى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره وهو الخير كله من الإيمان بالله عز وجل واتباع كتبه ورسله عليهم السلام في كل عقد وعمل * (وتواصوا بالصبر) * عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها وعلى ما يبتلى الله تعالى به عباده من المصائب والصبر المذكور داخل في الحق وذكر بعده مع إعادة الجاروالفعل المتعلق هو به لإبراز كمال العناية به ويجوز أن يكون الأول عبارة رتبة العبادة التي هي فعل ما يرضى الله تعالى والثاني عبارة رتبة العبودية التيهي الرضا بما فعل الله تعالى فإن المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تتوق إليه من فعل أو ترك بل هو تلقي ما ورد منه عز وجل بالجميل والرضا به باطنا وظاهرا وقرأ سلام وهرون وابن موسى عن أبي عمرو والعصر بكسر الصاد والصبر بكسر الباء قال ابن عطية وهذا لا يجوز ألا في الوقف على نقل الحركة وروي عن أبي عمرو بالصبر بكسر الباء اشماما وهذا كما قال لا يكون أيضا إلا في الوقف وقال صاحب اللوامح قرأ عيسى البصرة بالصبر بنقل حركة الراء إلى الباء لئلا يحتاج إلى أن يؤتى ببعض الحركة في الوقف ولا إلى أن يسكن فيجمع بين ساكنين وذلك لغة شائعة وليست بشاذة بل مستفيضة وذلك دلالة على الاعراب وانفصال من التاء الساكنين وتأدية حق الموقوف عليه من السكون انتهى ومن هذا كما في البحر قوله: أنا جرير كنيتي أبو عمرو * اضرب بالسيف وسعد في العصر
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقرى والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان لفي خسر وانه لقيه إلى آخر الدهر وأخرج عبد بن حميد وابن أبي داود في المصاحف عن ميمون بن مهران أنه قرأ والعصر إن الإنسان لفي خسر وإنه لفيه إلى آخر الدهر إلا الذين آمنوا الخ وذكر انها قراءة ابن مسعود هذا واستدل بعض المعتزلة بما في هذه السورة على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار لأنه لم يستثن فيها عن الخسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات الخ وأجيب عنه بأنهلا دلالة في ذلك على أكثر من كون غير المستثنى في خسر وأما على كونه مخلدا في النار فلا كيف والخسر عام فهو اما بالخلود ان مات كافرا وأما بالدخول في النار ان مات عاصيا ولم يغفروا ما بفوت الدرجات العاليات إن غفر وهو جواب حسن وللشيخ الماتريدي رحمه الله تعالى في التفصي عن ذلك تكلفات مذكورة في التأويلات فلا تغفل وفي السورة من الندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وان يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه ما لا يخفى.
سورة الهمزة
مكية وآيها تسع بلا خلاف في الأمرين ولما ذكر سبحانه فيما قبلها أن الإنسان سوى من استثنى في خسر بين عز وجل فيها أحوال بعض الخاسرين فقال عز من قائل.
* (ويل لكل همزة لمزة) *.
* (ويل لكل همزة لمزة) * تقدم الكلام على اعراب مثل هذه الجملة والهمز والكسر كالهمز واللمز الطعن كاللهز شاعا في الكسر من اعراض الناس والغض منهم واغتيابهم والطعن فيهم وأصل ذلك كان استعارة لأنه لا يتصور الكسر والطعن الحقيقيان في الأجسام فصار حقيقة عرفية ذلك وبناء فعلة يدل على الاعتياد فلا يقال ضحكة ولعنة إلا للمكثر المتعود قال زياد الأعجم. إذا لقيتك عن شحط تكاشرني * وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة
229

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس أن سئل عن ذلك فقال هو المشاء بالنميمة المفرق بين الجمع المغري بين الإخوان وأخرج ابن أبي حاتم وعبد بن حميد وغيرهما عن مجاهد الهمزة الطعان في الناس واللمزة الطعان في الأنساب وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية الهمز في الوجه واللمز في الخلف وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن جريج الهمز بالعين والشدق واليد واللمز باللسان وقيل غير ذلك وما تقدم أجمع. وقرأ الباقر رضي الله تعالى عنه لكل همزة لمزة بسكون الميم فيهما على البناء الشائع في معنى المفعول وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك فيضحك منه ويشتم ويهمز ويلمز ونزل ذلك على ما أخرج بن أبي حاتم من طريق ابن إسحق عن عثمان بن عمر في أبي بن خلف وعلى ما أخرج عن السدى في أبي بن عمر والثقفي الشهير بالاخنس بن شريق فإنه كان متغتابا كثير الوقعية وعلى ما قال ابن اسحق في أمية بن خلف الجمحي وكان يهمز النبي صلى الله عليه وسلم ويعيبه وعلى ما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد في جميل بن عامر وعلى ما قيل في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغضه منه وعلى قول في العاص بن وائل ويجوز أن يكون نازلا في جميع من ذكر لكن استشكل نزولها في الأخنس بأنه على ما صححه ابن حجر في " الإصابة " أسلم وكان من المؤلفة قلوبهم فلا يتأتى الوعيد الآتي في حقه فاما أن لا يصح ذلك أو لا يصح إسلامه وأيضا استشكلت قراءة الباقر رضي الله تعالى عنه بناء على ما سمعت في معناها وكون الآية نازلة في الوليد بن المغيرة ونحوه من عظماء قريش وبه اندفع ما في التأويلات من أنه كيف عيب الكافر بهذين الفعلين مع أن فيه حالا أقبح منهما وهو الكفر وأما ما أجاب به من أن الكفر غير قبيح لنفسه بخلافهما فلا يخفى ضعفه لأن فوت الاعتقاد الصحيح أقبح من كل شيء قبيح وقوله تعالى:
* (الذى جمع مالا وعدده) *
* (الذي جمع مالا) * بدل من كل بدل كل وقيل بدل بعض من كل وقال الجاربردي يجوز أن يكون صفة له لأنه معرفة على ما ذكره الزمخشري في قوله تعالى وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد إذ جعل جملة معها سائق حالا من كل نفس لذلك ولا يخفى ما فيه ويجوز أن يكون منصوبا أو مرفوعا على الذم وتنكير مالا للتفخيم
والتكثير وقد كان عند القائلين إنها نزلت في الأخنس أربعة آلاف دينار وقيل عشرة آلاف وجوز أن يكون للتحقير والتقليل باعتبار أنه عند الله تعالى أقل وأحقر شيء وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر والاخوان جمع بشد الميم للتكثير وهو أوفق بقوله تعالى: * (وعدده) * أي عدة مرة بعد أخرى حباله وشغفا به وقيل جعله أصنافا وأنواعا كعقار ومتاع ونقود حكاه في التأويلات وقال غير واحد أي جعله عدة ومدخرا لنوائب الدهر ومصائبه وقرأ الحسن والكلبي وعدده بالتخفيف فقيل معناه وعده فهو فعل ماض فك إدغامه على خلاف القياس كما في قوله: مهلا اعاذل هل جربت من خلقي * إنى أجود لأقوام وان ضننوا
وقيل هو اسم بمعنى العدد المعروف معطوف على ماله أي جمع ماله وضبط عدده وأحصاه وليس ذلك على ما في الكشف من باب علفتها تبنا وماء باردا لأن جمع العدد عبارة عن ضبطه وإحصائه فلا يحتاج إلى تكلف وعلى الوجهين أيد بالقراءة المذكورة المعنى الأول لقراءة الجمهور وقيل هو اسم بمعنى الاتباع والأنصار يقال فلان ذو عدد وعدد إذا كان له عدد وافر من الأنصار وما يصلحهم وهو معطوف على ماله أيضا أي جمع ماله وقومه الذين ينصرونه.
* (يحسب أن ماله أخلده) *
* (يحسب أن ماله أخلده) * جملة حالية أو استئنافية وأخلده وخلده بمعنى أي تركه خالذا أي ما كثا مكثا لا يتناهى أو مكثا طويلا جدا والكلام من باب الاستعارة التمثيلية والمرادان المال طول أمله ومناه الأماني البعيدة فهو يعمل من تشييد البنيان وغرس الأشجار وكرى
230

الأنهار ونحو ذلك عمل من يظن أنه ماله أبقاه حيا والاظهار في مقام الاضمار لزيادة التقرير والتعبير بالماضي للمبالغة في المعنى المراد وجوز أن يراد انه حاسب ذلك حقيقة لفرط غروره واشتغاله بالجمع والتكاثر عما امامه من قوارع الآخرة أو لزعمه إن الحياة والسلامة عن الأمراض والآفات تدور على مراعاة الأسباب الظاهرة وإن المال هو المحور لكرتها والملك المطاع في مدينتها وقيل المراد انه يحسب المال من المخلدات ولا نظر فيه إلى أن الخلود دنيوي أو أخروي ذكرا أو عينا إنما النظر في إثباتا هذه الخاصة للمال والغرض منه التعريض بأن ثم مخلدا ينبغي للعاقل أن يكب عليه وهو السعي للآخرة وهو بعيد جدا ولذا لم يجعل بعض الأجلة التعريض وجها مستقلا وزعم عصام الدين أنه يحتمل أن يكون فاعل أخلد الحاسب ومفعوله المال أن يظن أن يحفظ ماله أبدا ولا يعرف أنه مرعض للحوادث أو للمفارقة بالموت كما قيل بشر مال البخيل بحادث أو وارث وهو لعمري مما لا عصام له.
* (كلا لينبذن فى الحطمة) *
* (كلا) * ردع له عن ذلك الحسبان الباطل أو عنه وعن جمع المال وحبه المفرط على ما قيل واستظهر أنه ردع عن الهمز واللمز وتعقب بأنه بعيد لفظا ومعنى وأنا لا أرى بأسا في كون ذلك ردعا له عن كل ما تضمنته الجمل السابقة من الصفات القبيحة وقوله تعالى: * (لينبذن) * جواب قسم مقدر والجملة استئناف مبين لعلة الردع أي والله ليطرحن بسبب أفعاله المذكورة * (في الحطمة) * أي في النار التي من شأنها أن تحطم كل من يلقي فيها وبناء فعلة لتنزيل الفعل لكونه طبيعيا منزلة المعتاد. والحطم كسر الشيء كالهشم ثم استعمل لكل كسر متناه وأنشدوا: انا حطمنا بالقضيب مصعبا * يوم كسرنا أنفه ليغضبا
ويقال رجل حطمة أي أكول تشبيها له بالنار ولذا قيل في أكول. كإنمافي جوفه تنور، وفسر الضحاك الحطمة هنا بالدرك الرابع من النار وقال الكلبي هي الطبقة السادسة من جهنم وحكى القشيري عنه أنها الدرك الثاني وقال الواحدي هي باب من أبواب جهنم وزعم أبو صالح انها النار التي في قبورهم وليس بشيء وقوله تعالى:
* (ومآ أدراك ما الحطمة) *
* (وما أدراك ما الحطمة) * لتهويل أمرها ببيان انها ليست من الأمور التي تنالها عقول الخلق وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن بخلاف عنه وابن حيصن وحميد وهرون عن أبي عمرو لينبذان بضمير الاثنين العائد على الهمزة وماله وعن الحسن أيضا لينبذن بضم الذال وحذف ضمير الجمع فقيل هو راجع لكل همزة باعتبار أنه متعدد وقيل له ولعدده أي اتباعه وانصاره بناء على ما سمعت في قراءته هناك وعن أبي عمرو لننبذنه بنون العظمة وهاء النصب ونون التأكيد وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنه في الحاطمة وما أدراك ما الحاطمة.
* (نار الله الموقدة) *
* (نار الله) * خبر مبتدأ محذوف والجملة لبيان شان المسؤول عنها أي هي نار الله * (الموقدة) * بأمر الله عز وجل وفي إضافتها إليه سبحانه ووصفها بالايقاد من تهويل ما لا مزيد عليه.
* (التى تطلع على الافئدة) *
* (التيب تطلع على الأفئدة) * أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها وتخصيصها بالذكر لما أن الفؤاد الطف ما في الجسد وأشده تالما بادنى أذى يمسه أو لأنه محل العقائد الزائغة والنيات الخبيثة والملكات القبيحة ومنشأ الأعمال السيئة فهو أنسب بما تقدم من جميع أجزاء الجسد وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب انه قال في الآية تأكل كل كل شيء منه حتى تنتهي إلى فؤاد فإذا بلغت فؤاده ابتدأ خلقه وجوز أن يراد الإطلاع العلمي والكلام على سبيل المجاز وذلك أنه لما كان لكل من المعذبين عذاب من النار على قدر ذنبه المتولد من صفات قلبه قيل اناه تطالع الأفئدة التي هي معادن الذنوب فتعلم ما فيها فتجازي كلا بحسب ما فيه من الصفة المقتضية للعذاب. وأرباب الإشارة يقولون ان
231

ما ذكر إشارة إلى العذاب الروحاني الذي هو أشد العذاب.
* (إنها عليهم مؤصدة) *
* (إنها عليهم مؤصدة) * أي مطبقة وتمام الكلام مر في سورة البلد.
* (فى عمد ممددة) *
* (في عمد) * جمع عمود كما قال الراغب والفراء وقال أبو عبيدة جمع عماد وفي البحر وهو اسم جمع الواحد عمود وقرأ الإخوان وأبو بكر عمد بضمتين وهارون عن أبي عمرو بضم العين وسكون الميم وهو في القراءتين جمع عمود بلا خلاف وقوله تعالى: * (ممددة) * ضفة عمد في القراآت الثلاث أي طوال والجار والمجرور في موضع الحال من الضمير المجرور في عليهم أي كائنين في عمد ممددة أي موثقين فيها مثل المقطر وهي خشب أو جذوع كبار فيها خروق يوضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص ونحوهم أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم كائنون في عمد موثقون فيها وهي والعياذ بالله تاعلى على ما روي عن ابن زيد عمد من حديد وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها من نار واستظهر بعضهم أن العمد تمدد على الأبواب بعد أن تؤصد عليهم تأكيدا ليأسهم واستيثاقا في استيثاق وفي حديث طويل أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة مرفوعا أن الله تعالى بعد أن يخرج من النار عصاة المؤمنين وأطولهم مكثا فيها من يمكث سبعة آلاف سنة يبعث عز وجل إلى أهل النار ملائكة باطباق من نار ومسامير من نار وعمد من نار فيطبق عليهم بتلك الأطباق ويشد بتلك المسامير وتمدد تلك العمد ولا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح ولا يخرج منه غم وينساهم الجبار عز وجل على عرشه ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم ولا يستغيثون بعدها أبدا وينقطع الكلام فيكون كلامهم زفيرا وشهيقا وفيه فذلك قوله تعالى إنها عليهم مؤصدة في عمد ممدة اللهم أجرنا من النار يا خير مستجار وعلى هذا يكون الجار والمجرور متعلقا بمؤصدة حالا من الضمير فيها كما قال صاحب الكشف وحكان الطيبي وفي الإرشاد عن أبي البقاء أنه صفة لمؤصدة وقال بعض لا مانع عليه أن يكون صلة مؤصدة على معنى أن الأبواب أوصدت بالعمد وسدت بها وأيد بما أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية أدخلهم في عمد وتمددت عليهم في أعناقهم السلاسل فسدت بها الأبواب ثم أن ما ذكر لإشعاره بالخلود وأشدية العذاب يناسب كون المحدث عنهم كفارا همزوا ولمزوا خير البشر صلى الله عليه وسلم وما تقدم من حمل العمد على المقاطر قيل يناسب العموم لأن المغتاب كأنه سارق من أعراض الناس فيناسب أن يعذب بالمقاطر كاللصوص فلا يلزم الخلود وقد يقال من تأمل في هذه السورة ظهر له العجب العجاب من التناسب فإنه لما بولغ في الوصف في قوله تعالى همزة لمزة قيل الحطمة للتعادل ولما أفاد ذلك كسر الأعراض قوبل بكسر الاضلاع المدلول عليه بالحطمة وجيء بالنبيذ المنبىء عن الاستحقار في مقابلة ما ظن الهامز اللامز بنفسه من الكرامة ولما كان منشأ جمع المال استيلاء حبه على القلب جيء في مقابله تطلع على الأفئدة ولما كان من شأن جامع المال المحب له أن ياصد عليه قيل في مقابله إنها عليهم مؤصدة ولما تضمن ذلك طول الأمل قيل في عمد ممددة وقد صرح بذلك بعض الأجلة فليتأمل والله تعالى أعلم.
سورة الفيل
مكية وأيها خمس بلا خلاف فيهما وكأنه لما تضمن الهمز واللمز من الكفرة نوع كيد له عليه الصلاة والسلام عقب ذلك بقصة أصحاب الفيل للإشارة إلى أن عقبى كيدهم في الدنيا تدميرهم فإن عناية الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم أقوى وأتم من عنايته سبحانه بالبيب فالسورة مشيرة إلى مآلهم في الدنيا أثر بيان مآلهم في الأخرى ويجوز أن تكون كالاستدلال على ما أشير إليه فيما قبلها من أن المال لا يغنى من الله تعالى شيئا أو على قدرته عز وجل على انفاذ ما توعد به أولئك الكفرة في
232

قوله سبحانه لينبذن في الحطمة الخ.
* (ألم تر كيف فعل ربك بأصح‍ابالفيل) *
* (ألم تر كيف فعل ربك بإصحاب الفيل) * الظاهر أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزة لتقرير رؤيته عليه الصلاة والسلام بإنكار عدمها وهي بصرية تجوز بها عن العلم على سبيل الاستعارة التبعية أو المجاز المرسل لأنها سببية ويجوز جعلها علمية من أول الأمر إلا أن ذاك أبلغ وعلمه صلى الله عليه وسلم بذلك لما أنه سمعه متواترا وكيف في محل نصب على المصدرية بفعل والمعنى أي فعل فعل وقيل على الحالية من الفاعل والكيفية حقيقة للفعل لا بألم تر لمكان الاستفهام والجملة سادة مسد المفعولين لتر وجوز بعضهم نصب كيف بتر لانسلاخ معنى الاستفهام عنه كما في " شرح المفتاح " الشريفي وصرح أبو حيان بامتناعه لأنه يراعي صدارته إبقاء لحكم أصله وتعليق الرؤية بكيفية فعله تعالى شأنه لا بنفسه بأن يقال: ألم تر ما فعل ربك الخ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وغريبته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك كما قال غير واحد من الإرهاصات لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري لا يشك في ذلك أحد من العلماء وعليه الإجماع وكل ما خالفه وهم أي من أنها كانت قبل بعشر سنين أو بخمس عشرة سنة أو بثلاث وعشرين سنة أو بثلاثين سنة أو بأربعين سنة أو بسبعين سنة الأقوال المذكورة في كتب السير وعلى الأول المرجح الذي عليه الجمهور قيل ولادته عليه الصلاة والسلام في اليوم الذي بعث الله تعالى فيه الطير على أصحاب الفيل من ذلك العام وهو المذكور في تاريخ ابن حبان وهو ظاهر قول ابن عباس ولد عليه الصلاة والسلام يوم الفيل وذهب السهيلي أنه صلى الله عليه وسلم ولد بعدها بخمسين يوما وكانت في المحرم والولادة في شهر ربيع الأول وقال الحافظ الدمياطي بخمسة وخمسين يوما وقيل بأربعين وقيل بشهر والمشهور ما ذهب إليه السهيلي وفي قوله تعالى: * (ربك) * نوع رمز إلى الإرهاص وكون ذلك لشرف البيت ودعوة الخليل عليه السلام لا ينافي الإرهاص وكذا لا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديبية لما بركت ناقته وقال الناس: خلأت أي حزنت ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل إذ لم يدع أن ما كان للإرهاص لا غير ومثل هذه العلل لا يضر تعددها ويؤيد الإرهاص قصة القرامطة وغيرهم وتفصيل القصة أن أبرهة الأشرم بن الصباح الحبشي كما قال ابن إسحاق وغيره وهو الذي يكنى بأبي يكسوم بالسين المهملة ولا يأباه التسمية بأبرهة بناء على أن معناه بالحبشة الأبيض الوجه كما لا يخفى وقيل أنه الحميري خرج على ارباط ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بكسر النون بعد سنتين من سلطانه فتبارزا وقد أرصد الأشرم خلفه غلامه عتورة فحمل عليه
أرباط بحربة فضربه يريد يافوخه فوقعت على جبهته فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته ولذا سمي الأشرم فحمل عتورة من خلف أبرهة فقتله وملك مكانه فغضب النجاشي فاسترضاه فرضي فأثبته ثم أنه بنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها سماها القليس بقاف مضمومة ولام مفتوحة مشددة كما في ديوان الأدب أو مخففة كما قيل وبعدها ياء مثناة سفلية ثم سين مهملة وكان ينقل إليها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب على ما يقال من قصر بلقيس زوج سليمان عليه السلام وكتب إلى النجاشي إنني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حجر العرب فلما تحدثت العرب بكتابه ذلك غضب رجل من النساءة أحد بني فقيم بن عدي من كنانة فخرج حتى أتاها فقعد فيها أي أحدث ولطخ قبلتها بحدثه ثم خرج ولحق بأرضه فأخبر أبرهة
233

فقال من صنع هذا فقيل رجل من أهل هذا البيت الذي تحج إليه العرب بمكة غضب لما سمع قولك اصرف إليها حج العرب ففعل ذلك فاستشاط أبرهة غضبا وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه وقيل أججت رفقة من العرب نارا حولها فحملتها الريح فأحرقتها فغضب لذلك فأمر الحبشة فتهيأت وتجهزت فخرج في ستين ألفا على ما قيل منهم ومعه فيل اسمه محمود وكان قويا عظيما واثنا عشر فيلا غيره وقيل ثمانية وروي ذلك عن الضحاك وقيل ألف فيل وقيل معه محمود فقط وهو قول الأكثرين الأوفق بظاهر الآية فسمعت العرب بذلك فأعظموه وقلقوا به ورأوا جهاده حقا عليهم فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر بمن أطاعه من قومه وسائر العرب فقاتله فهزم وأخذ أسيرا فأراد قتله فقال أيها الملك لا تقتلني فعسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي فتركه وحبسه عنده حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي بمن معه من قومه وغيرهم فقاتله فهزم وأخذ أسيرا فهم بقتله فقال نحو ما سبق فخلى سبيله وخرج به يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معيب بن مالك الثقفي في رجال من ثقيف فقال له أيها الملك إنما نحن عبيدك سماعون لك مطيعون ليس لك عندنا خلاف وليس بيتنا هذا الذي تريد يعنون بيت اللات إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبا رغال فخرج ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس كمعظم موضع بطريق الطائف معروف فلما نزله مات أبو رغال ودفن هناك فرجمت قبره العرب كما قال ابن إسحاق وقيل القبر الذي هناك لأبي رغال رجل من ثمود وهو أبو ثقيف كان بالحرم يدفع عنه فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بالمغمس فدفن فيه واختاره صاحب القاموس ذاكرا فيه حديثا رواه أبو داود في سننه وغيره عن ابن عمر مرفوعا وقال فيما تقدم بعد نقله عن الجوهري ليس بجيد وجمع بعض بجواز أن يكون قبران لرجلين كل منهما أبو رغال ثم أن أبرهة بعث وهو بالمغمس رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصور حتى انتهى إلى مكة فساق أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير وقيل أربعمائة بعير لعبد المطلب وكان يومئذ سيد قريش فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم بحربه فعرفوا أن لا طاقة لهم به فكفوا وبعث أبرهة حياطة الحميري إلى مكة وقال قل لسيد أهل هذا البلد أن الملك يقول: إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم فإن هو لم يرد حربي فإنني به فلما دخل حياطة دل على عبد المطلب فقال له ما أمر به فقال عبد المطلب والله ما نريد حربه وما لنا به طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه وأن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه ثم انطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان صديقه فدخل عليه فقال له هل عندك من غناء فيما نزل بنا فقال وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا وعشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسا سائس الفيل سأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك فقال حسبي فبعث إليه فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة ويطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال وقد أصاب الملك له مائتي بعير فاستأذن له عليه وأنفعه عنده بما استطعت فقال افعل فكلم أبرهة ووصف عبد المطلب بما وصفه به ذو نفر فأذن له وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم فلما رآه أكرمه عن أن يجلس تحته وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل عن سريره فجلى على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه والقول بأنه أعظمه لما رأى من نور النبوة الذي كان في وجهه ضعيف لما فيه من الدلالة على كون
234

القصة قبل ولادة عبد الله وهو خلاف ما علمت من القول المرجح اللهم إلا أن يقال أنه تجلى فيه ذلك النور وإن كان قد انتقل ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك فقال حاجتي أن يرد علي الملك إبلي فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه فلا تكلمني فيه فقال عبد المطلب: إني رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه قال ما كان ليمنع مني قال أنت وذاك، وفي رواية أنه دخل عليه مع عبد المطلب ثقانة بن عدي سيد بني بكر وخويلد بن واثلة سيد هذيل فعرضا عليه ثلث أموال أهل تهامة على أن يرجع ولا يهدم البيت فأبى فرد الإبل على عبد المطلب فانصرف إلى قريش فأخبرهم الخبر فتحرزوا في شعف الجبال تخوفا من معرة الجيش ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفر من قريش يدعون الله عز وجل ويستنصرونه فقال وهو آخذ بالحلقة: / جسم]
لا هم أن المرء يم‍ * - نع رحله فامنع حلالك
وانصر على آل الصلي‍ * - بوعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم * ومحالهم غدوا محالك
جروا جموع بلادهم * والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم * جهلا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكعب‍ * - تنا فأمر ما بدا لك
وقال أيضا: يا رب لا أرجو لهم سواكا * يا رب فامنع عنهم حماكا
أن عدو البيت من عادا كا * امنعهم أن يخربوا فناكا
ثم أرسل الحلقة وانطلق هو ومن معه إلى شعف الجبال ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها فلما أصبح تهيأ للدخول وعبى جيشه وهيأ الفيل فلما وجهوه إلى مكة أقبل نفيل بن جبيب حتى قام إلى جنبه فأخذ بإذنه فقال ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل إذن فبرك أي سقط وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل فضربوا الفيل وأوجعوه ليقوم فأبى ووجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول إلى الشام ففعل مثل ذلك فوجهوه إلى مكة فبرك فسقوه الخمر ليذهب تمييزه فلم ينجع ذلك وقيل إن عبد المطلب هو الذي عرك أذنه وقال له ما ذكر وكان ذلك عند وادي محسر وأرسل الله تعالى طيرا من البحر قيل سودا وقيل خضرا وقيل بيضا مثل الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب أحدا منهم إلا هلك ويروى أنه يلقيها على رأس أحدهم فتخرج من دبره ويتساقط لحمه فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤا يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفيل حين رأى ما نزل بهم: أين المفر والاله الطالب * والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال أيضا: ألا حييت عنا يا ردينا * نعمناكم عن الإصباح عينا
ردينة لو رأيت ولا تريه * لدى جنب المحصب ما رأينا
إذا لعذرتني وحمدت أمري * ولا تأسى على ما فات بينا
فكل القوم تسأل عن نفيل * كأن عليه للحبشان دينا
وجعلوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون في كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم تسقط أنملة أنملة كلما سقطت أنملة تبعها منه مدة ثم دم وقيح حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات
235

حتى انصدع صدره عن قلبه وقد أشار إلى ذلك ابن الزبعرى بقوله من أبيات يذكر فيها مكة: سائل أمير الحبش عنا ما ترى * ولسوف يلبي الجاهلين عليمها
ستون ألفا لم يؤبوا أرضهم * بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
ولهم في ذلك شعر كثير ذكر ابن هشام جملة منه في سيره وفيها أن الطير لم تصب كلهم وذكر بعضهم أنه لم ينج منهم غير واحد دخل على النجاشي فأخبره الخبر والطير على رأسه فلما فرغ ألقى عليه الحجر فخرقت البناء ونزلت على رأسه فألحقته بهم وقيل إن سائس الفيل وقائده تخلفا في مكة فسلما فعن عائشة أنها قالت: أدركت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس وعن عكرمة أن من أصابه الحجر جدرته وهو أول جدري ظهر أي بأرض العرب فعن يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام وأنه أول ما رؤي بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام أيضا ويروى أن عبد المطلب لما ذهب إلى شعف الجبال بمن معه بقي ينتظر ما يفعل القوم وما يفعل بهم فلما أصبح بعث أحد أولاده على فرس له سريع ينظر ما لقوا فذهب فإذا القوم مشدخين جميعا فرجع رافعا رأسه كاشفا عن فخذه فلما رأى ذلك أبوه قال ألا إن ابني أفرس العرب وما كشف عن عورته إلا بشيرا أو نذيرا فلما دنا من ناديهم قالوا ما وراءك قال هلكوا جميعا فخرج عبد المطلب وأصحابه إليهم فأخذوا أموالهم وقال عبد المطلب: أنت منعت الحبش والافيالا * وقد رعوا بمكة الاحبالا
وقد خشينا منهم القتالا * وكل أمر منهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
هذا ومن أراد استيفاء القصة على أتم مما ذكر فعليه بمطولات كتب السير وقرأ السلمي ألم تر بسكون الراء جدا في إظهار أثر الجازم لأن جزمه بحذف آخره فإسكان ما قبل الآخر للاجتهاد في إظهار أثر الجازم قيل والسر فيه هنا الإسراع إلى ذكر ما يهم من الدلالة على أمر الألوهية والنبوة أو الإشارة إلى الحث في الإسراع بالرؤية إيماء إلى أن أمرهم على كثرتهم كان كلمح البصر من لم يسارع إلى رؤيته لم يدركه حق إدراكه وتعقب هذا بأن تقليل البنية يدل على قلة المعنى وهو الرؤية لا على قلة زمانه وقيل لعل السر فيه الرمز من أول الأمر إلى كثرة الحذف في أولئك القوم فتدبر وقوله تعالى:
* (ألم يجعل كيدهم فى تضليل) *
* (ألم يجعل كيدهم في تضليل) * الخ بيان إجمالي لما فعل الله تعالى بهم والهمزة للتقرير كما سبق ولذلك عطف على الجملة الاستفهامية ما بعدها كأنه قيل قد جعل كيدهم في تعطيل الكعبة وتخريبها وصرف شرف أهلها لهم في تضييع وإبطال بأن دمرهم أشنع تدمير وأصل التضليل من ضل عنه إذا ضاع فاستعير هنا للإبطال ومنه قيل لامرىء القيس الضليل لأنه ضلل ملك أبيه وضيعه.
* (وأرسل عليهم طيرا أبابيل) *
* (وأرسل عليهم طيرا أبابيل) * أي جماعات جمع إبالة بكسر الهمزة وتشديد الباء الموحدة وحكى الفراء إبالة مخففا وهي حزمة الحطب الكبيرة شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها وتستعمل أيضا في غيرها ومنه قوله: كادت تهد من الأصوات راحلتي * إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
وقيل واحده إبول مثل عجول وقيل إبيل مثل سكين وقيل أبال وقال أبو عبيدة والفراء لا واحد له من لفظه كعباديد الفرق من الناس الذاهبون في كل وجه والشماطيط القطع المتفرقة وجاءت هذه الطير على ما روي عن جمع من جهة البحر ولم تكن نجدية ولا تهامية ولا حجازية وزعم بعض أن حمام
236

الحرم من نسلها ولا يصح ذلك ومثله ما نقل عن حياة الحيوان من أنها تعشش وتفرخ بين السماء والأرض وقد تقدم الخلاف في لونها وعن عكرمة كأن وجهوها مثل وجوه
السباع لم تر قبل ذلك ولا بعده.
* (ترميهم بحجارة من سجيل) *
* (ترميهم بحجارة) * صفة أخرى لطير وعبر بالمضارع لحكاية الحال واستحضار تلك الصورة البديعة وقرأ أبو حنيفة وأبو يعمر وعيسى وطلحة في رواية يرميهم بالياء التحتية والضمير المستتر للطير أيضا والتذكير لأنه اسم جمع وهو على ما حكى الخفاجي لازم التذكير فتأنيثه لتأويله بالجماعة وقيل يجوز الأمران وهو ظاهر كلام أبي حيان وقيل الضمير عائد على ربك وليس بذاك ونسبة القراءة المذكورة لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه حكاها في " البحر " وعن صاحب النشر أنه رضي الله تعالى عنه لا قراءة له وأن القراآت المنسوبة له موضوعة * (من سجيل) * صفة حجارة أي كائنة من طين متحجر معرب سنك كل وقيل هو عربي من السجل بالكسر وهو الدلو الكبيرة ومعنى كون الحجارة من الدلو أنها متتابعة كثيرة كالماء الذي يصب من الدلو ففيه استعارة مكنية وتخييلية وقيل من الاسجال بمعنى الإرسال والمعنى من مثل شيء مرسل ومن في جميع ذلك ابتدائية وقيل من السجل وهو الكتاب أخذ منه السجين وجعل علما للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار والمعنى من جملة العذاب المكتوب المدون فمن تبعيضية واختلف في حجم تلك الطير وكذا في حجم تلك الحجارة فمن أنها مثل الخطاطيف وأن الحجارة أمثال الحمص والعدس وأخرج أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية الديلمي أنه قال رأيت الحصى التي رمى بها أصحاب الفيل حصى مثل الحمص وأكبر من العدس حمر بحتمة كأنها جزع ظفار وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أنه قال حجارة مثل البندق وفي رواية ابن مردويه عنه مثل بعر الغنم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير أنه قال في الآية هي طير خرجت من قبلة البحر كأنها رجال السند معها حجارة أمثال الإبل الوارك وأصغرها مثل رؤوس الرجال لا تريد أحدا منهم إلا أصابته ولا أصابته إلا قتلته والمعول عليه أن الطير في الحجم كالخطاطيف وأن الحجارة منها ما هو كالحمصة ودوينها وفويقها وروى ابن مردويه وأبو نعيم عن أبي صالح أنه مكتوب على الحجر اسم من رمى به واسم أبيه وأنه رأى ذلك عند أم هانىء.
* (فجعلهم كعصف مأكول) *
* (فجعلهم كعصف مأكول) * كورق زرع وقع فيه الأكال وهو أن يأكله الدود أو أكل حبه فبقي صفرا منه والكلام على هذا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أو على الإسناد المجازي والتشبيه بذلك لذهاب أرواحهم وبقاء أجسادهم أو لأن الحجر بحرارته يحرق أجوافهم وذهب غير واحد إلى أن المعنى كتبن أكلته الدواب وراثته والمراد كروث إلا أنه لم يذكر بهذا اللفظ لهجنته فجاء على الآداب القرآنية فشبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث ففيه إظهار تشويه حالهم وقيل المعنى كتبن تأكله الدواب وتروثه والمراد جعلهم في حكم التبن الذي لا يمنع عنه الدواب أي مبتذلين ضائعين لا يلتفت إليهم أحد ولا يجمعهم ولا يدفنهم كتبن في الصحراء تفعل به الدواب ما شاءت لعدم حافظ له إلا أنه وضع مأكول موضع أكلته الدواب لحكاية الماضي في صورة الحال وهو كما ترى وكأنه لما أن مجيئهم لهدم الكعبة ناسب إهلاكهم بالحجارة ولما أن الذي أثار غضبهم عذرة الكناني شبههم فيما فعل سبحانه بهم على القول الأخير بالروث أو لما أن الذي أثاره احتراقها بما حملته الريح من نار العرب على ما سمعت شبههم عز وجل فيما فعل جل شأنه بهم بعصف أكل حبه على ما أشرنا إليه أخيرا وقرأ أبو الدرداء فيما نقل ابن خالويه مأكول بفتح الهمزة اتباعا لحركة الميم وهو شاذ وهذا كما أتبعوا في قولهم محموم الحاء لحركة الميم والله تعالى أعلم.
237

سورة قريش
ويقال سورة لإيلاف قريش وهي مكية في قول الجمهور مدنية في قول الضحاك وابن السائب وآيها خمس في الحجازي وأربع في غيره ومناسبتها لما قبلها أظهر من أن تخفى بل قالت طائفة أنهما سورة واحدة واحتجوا عليه بأن أبي بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة بما روي عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: صليت المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقرأ في الركعة الأولى والتين وفي الثانية ألم تر ولإيلاف قريش من غير أن يفصل بالبسملة وأجيب بأن جمعا أثبتوا الفصل في مصحف أبي والمثبت مقدم على النافي وبأن خبر ابن ميمون إن سلمت صحته محتمل لعدم سماعه ولعله قرأها سرا ويدل على كونها سورة مستقلة ما أخرج البخاري في تاريخه والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الخلافيات عن أم هانىء بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فضل الله تعالى قريشا بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم ولا يعطاها أحد بعدهم أني فيهم وفي لفظ النبوة فيهم والخلافة فيهم والحجابة فيهم والسقاية فيهم ونصروا على الفيل وعبدوا الله تعالى سبع سنين وفي لفظ عشر سنين لم يعبده سبحانه أحد غيرهم ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم لإيلاف قريش وجاء نحو هذا الأخير في خبرين آخرين أحدهما عن الزبير بن العوام يرفعه والثاني عن سعيد بن المسيب عنه صلى الله عليه وسلم ويؤيد الاستقلال كون آيها ليست على نمط آي ما قبلها وأنت تعلم أنه بعد ثبوت تواتر الفصل لا يحتاج إلى شيء مما ذكر.
* (لإيل‍افقريش) *
* (لإيلاف قريش) * الإيلاف على ما قال الخفاجي مصدر ألفت الشيء وآلفته من الألف وهو كما قال الراغب اجتماع مع التئام وقال الهروي في الغريبين الإيلاف عهود بينهم وبين الملوك فكان هاشم يؤلف ملك الشام والمطلب كسرى وعبد شمس ونوفل يؤالفان ملك مصر والحبشة قال ومعنى يؤالف يعاهد ويصالح وفعله آلف على وزن فاعل ومصدره آلاف بغير ياء بزنة قبال أو ألف الثلاثي ككتب كتابا ويكون الفعل منه أيضا على وزن أفعل مثل آمن ومصدره إيلاف كإيمان وحمل الإيلاف على العهود خلاف ما عليه الجمهور كما لا يخفى على المتتبع وفي " البحر " إيلاف مصدر آلف رباعيا وآلاف مصدر ألف ثلاثيا يقال ألف الرجل الأمر ألفا وآلافا وآلف غيره إياه وقد يأتي آلف متعديا لواحد كآلف ومنه قوله: من المؤلفات الرمل أدماء حرة * شعاع الضحى في جيدها يتوضح
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما في ذلك من القراآت وقريش ولد النضر بن كنانة وهو أصح الأقوال وأثبتها عند القرطبي قيل وعليه الفقهاء لظاهر ما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل من قريش فقال من ولد النضر وقيل ولد فهر بن مالك بن النضر وحكي ذلك عن الأكثرين بل قال الزبير بن بكار أجمع النسابون من قريش وغيرهم على أن قريشا إنما تفرقت عن فهر واسمه عند غير واحد قريش وفهر لقبه ويكنى بأبي غالب وقيل ولد مخلد بن النضر وهو ضعيف وفي بعض السير أنه لا عقب للنضر بن كنانة إلا مالك وأضعف من ذلك بل هو قول رافضي يريد بن نفي حقية خلافة الشيخين أنهم ولد قصي بن حكيم وقيل عروة المشهور بلقبه كلاب لكثرة صيده أو لمكالبته أي مواثبته في الحرب للأعداء نعم قصي جمع قريشا في الحرم حتى اتخذوه مسكنا بعد أن كانوا متفرقين في غيره وهذا الذي عناه الشاعر بقوله:
238

أبونا قصي كان يدعي مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر
فلا يدل على ما زعمه أصلا وهو في الأصل تصغير قرش بفتح القاف اسم لدابة في " البحر " أقوى دوابه تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى وبذلك أجاب ابن عباس معاوية لما سأله لم سميت قريش قريشا وتلك الدابة تسمى قرشا كما هو المذكور في كلام الحبر وتسمى قريشا وعليه قول تبع كما حكاه عنه أبو الوليد الأزرقي وأنشده أيضا الحبر لمعاوية إلا أنه نسبه للجمحي: وقريش هي التي تسكن البح‍ * - ر بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا تت‍ * - رك يوما لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش * يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي * يكثر القتل فيهم والخموشا
وقال الفراء هو من التقرش بمعنى التكسب سموا بذلك لتجارتهم وقيل من التقريش وهو التفتيش ومنه قول الحرث بن حلزة: أيها الشامت المقرش عنا * عند عمرو فهل لنا إبقاء
سموا بذلك لأن أباهم كان يفتش عن أرباب الحوائج ليقضي حوائجهم وكذا كانوا هم يفتشون على ذي الخلة من الحاج ليسدوها وقيل من التقرش وهو التجمع ومنه قوله: اخوة قرشوا الذنوب علينا * في حديث من دهرهم وقديم
سموا بذلك لتجمعهم بعد التفرق والتصغير إذا كان من المزيد تصغير ترخيم وإذا كان من ثلاثي مجرد فهو على أصله وأيا ما كان فهو للتعظيم مثله في قوله: وكل أناس سوف تدخل بينهم * دويهية تصفر منها الأنامل
والنسبة إليه قرشي وقريشي كما في " القاموس " وأجمعوا على صرفه هنا راعوا فيه معنى الحي ويجوز منع صرفه ملحوظا فيه معنى القبيلة للعلمية والتأنيث وعليه قوله: وكفى قريش المعضلات وسادها
وعن سيبويه أنه قال في نحو معد وقريش وثقيف هذه الأحياء أكثر وإن جعلت أسماء للقبائل فجائز حسن واللام في لإيلاف للتعليل والجار والمجرور متعلق عند الخليل بقوله فليعبدوا والفاء لما في الكلام من معنى الشرط إذ المعنى أن نعم الله تعالى غير محصورة فإن لم يعبدوا لسائر نعمه سبحانه فليعبدوا لهذه النعمة الجليلة ولما لم تكن في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلا يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها وقوله تعالى:
* (إيل‍افهم رحلة الشتآء والصيف) *
* (إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) * بدل من إيلاف قريش ورحلة مفعول به لإيلافهم على تقدير أن يكون من الألفة أما إذا كان من المؤالفة بمعنى المعاهدة فهو منصوب على نزع الخافض أي معاهدتهم على أو لأجل رحلة الخ وإطلاق لإيلاف ثم أبدل المقيد منه للتفخيم وروي عن الأخفش أن الجار متعلق بمضمر أي فعلنا ما فعلنا من إهلاك أصحاب الفيل لإيلاف قريش وقال الكسائي والفراء كذلك إلا أنهما قدرا الفعل بدلالة السياق اعجبوا كأنه قيل أعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف وتركهم عبادة الله تعالى الذي أعزهم ورزقهم وآمنهم فلذا أمروا بعبادة ربهم المنعم عليهم بالرزق والأمن عقبه وقرن بالفاء التفريعية وعن الأخفش أيضا أنه متعلق بجعلهم كعصف في السورة قبله والقرآن كله كالسورة الواحدة فلا يضر الفصل بالبسملة خلافا لجمع والمعنى أهلك سبحانه من قصدهم من الحبشة ولم يسلطهم عليهم ليبقوا على ما كانوا عليه من إيلافهم رحلة الشتاء والصيف أو أهلك عز وجل من قصدهم ليعتبر الناس ولا يجترىء عليهم أحد فيتم لهم الأمن في رحلتهم ولا ينافي هذا كون إهلاكهم
239

لكفرهم باستهانة البيت لجواز تعليله بأمرين فإن كلا منهما ليس علة حقيقية ليمتنع التعدد وقال غير واحد أن اللام للعاقبة وكان لقريش رحلتان رحلة في الشتاء إلى اليمن ورحلة في الصيف إلى بصرى من أرض الشام كما روي عن ابن عباس وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله تعالى وولاة بيته العزيز فلا يتعرض لهم والناس بين متخطف ومنهوب وعن ابن عباس أيضا أنهم كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل يرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم وأفردت الرحلة مع أن المراد رحلتا الشتاء والصيف لا من اللبس وظهور المعنى ونظيره قوله: حمامة بطن لواديين ترنمي
حيث لم يقل بطني الواديين وقوله: كلوا في بعض بطنكم تعفوا * فإن زمانكم زمن خميص
حيث لم يقل بطونكم بالجمع لذلك وقول سيبويه: إن ذلك لا يجوز إلا في الضرورة فيه نظر وقال النقاش كانت لهم أربع رحل وتعقبه ابن عطية بأنه قول مردود وفي " البحر " لا ينبغي أن يرد فإن أصحاب الإيلاف كانوا أربعة إخوة وهم بنو عبد مناف هاشم كان يؤالف ملك الشام أخذ منه خيلا فأمن به في تجارته إلى الشام وعبد شمس يؤالف إلى الحبشة والمطلب إلى اليمن ونوفل إلى فارس فكان هؤلاء يسمون المتجرين فيختلف تجر قريش بخيل هؤلاء الإخوة فلا يتعرض لهم قال الأزهري الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة فإن كان كذلك جاز أن يكون لهم رحل أربع باعتبار هذه الأماكن التي كانت التجارة في خفارة هؤلاء الأربعة فيها فيكون رحلة هنا اسم جنس يصلح للواحد
وللأكثر وفي هؤلاء الإخوة يقول الشاعر: يا أيها الرجل المحول رحله * هلا نزلت بآل عبد مناف
الآخذون العهد من آفاقها * والراحلون لرحلة الإيلاف
والرائشون وليس يوجد رائش * والقائلون هلم للأضياف
والخالطون غنيهم بفقيرهم * حتى يصير فقيرهم كالكافي
انتهى وفيه مخالفة لما نقلناه سابقا عن الهروي ثم إن إرادة ما ذكر من الرحل الأربع غير ظاهرة كما لا يخفى وقرأ ابن عامر لالاف قريش بلا ياء ووجه ذلك ما مر ولم تختلف السبعة في قراءة إيلافهم بالياء كما اختلف في قراءة الأول ومع هذا رسم الأول في المصاحف العثمانية بالياء ورسم الثاني بغير ياء كما قاله السمين وجعل ذلك أحد الأدلة على أن القراء يتقيدون بالرواية سماعا دون رسم المصحف وذكر في وجه ذلك أنها رسمت في الأول على الأصل وتركت في الثاني اكتفاء بالأول وهو كما ترى فتدبر وروي عن أبي بكر عن عاصم أنه قرأ بهمزتين فيهما الثانية ساكنة وهذا شاذ وإن كان الأصل وكأنهم إنما أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل اجتماع همزتين وروى محمد بن داود النقار عن عاصم ائيلافهم بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما أشبعت والصحيح رجوعه عن القراءة بهمزتين وأنه قرأ كالجماعة وقرأ أبو جعفر فيما حكى الزمخشري لألف قريش وقرأ فيما حكى ابن عطية الفهم وحكيت عن عكرمة وابن كثير وأنشدوا: زعمتم أن إخوتكم قريش * لهم إلف وليس لكم إلاف
وعن أبي جعفر أيضا وابن عامر إلافهم على وزن فعال وعن أبي جعفر أيضا ليلاف بياء ساكنة بعد اللام ووجه بأنه لما أبدل الثانية ياء حذف الأولى حذفا على غير قياس وعن عكرمة ليألف قريش على صيغة المضارع المنصوب بأن مضمرة بعد اللام ورفع قريش على الفاعلية وعنه أيضا لتالف على الأمر وعنه وعن هلال بن فتيان بفتح لام
240

الأمر والظاهر أن إيلافهم على جميع ذلك منصوب على المصدرية ولم أر من تعرض له وقرأ أبو السمال رحلة بضم الراء وهي حينئذ بمعنى الجهة التي يرحل إليها وأما مكسور الراء فهو مصدر على ما صرح به في البحر.
* (فليعبدوا رب ه‍اذا البيت) *
* (فليعبدوا رب هذا البيت) * هو الكعبة التي حميت من أصحاب الفيل وعن عمر أنه صلى بالناس بمكة عند الكعبة فلما قرأ فليعبدوا رب هذا البيت جعل يومي بإصبعه إليها وهو في الصلاة بين يدي الله تعالى:
* (الذىأطعمهم من جوع وءامنهم من خوف) *
* (الذي أطعمهم) * بسبب تينك الرحلتين اللتين تمكنوا منهما بواسطة كونهم من جيرانه * (من جوع) * شديد كانوا فيه قبلهما وقيل أريد به القحط الذي أكلوا فيه الجيف والعظام * (وآمنهم من خوف) * عظيم لا يقادر قدره وهو خوف أصحاب الفيل أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم أو خوف الجذام كما أخرج ذلك ابن جرير وغيره عن ابن عباس فلا يصيبهم في بلدهم فضلا منه تعالى كالطاعون وعنه أيضا أنه قال اطعمهم من جوع بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال وارزقهم من الثمرات وآمنهم من خوف حيث قال إبراهيم عليه السلام رب اجعل هذا البلد آمنا. ومن قيل تعليلية أي أنعم عليهم وأطعمهم لإزالة الجوع عنهم ويقدر المضاف لتظهر صحة التعليل أو يقال الجوع علة باعثة ولا تقدير وقيل بدلية مثلها في قوله تعالى: * (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) * وحكى الكرماني في غرائب التفسير أنه قيل في قوله تعلى: * (وآمنهم من خوف) * أن الخلافة لا تكون إلا فيهم وهذا من البطلان بمكان كما لا يخفى وقرأ المسيبي عن نافع من خوف بإخفاء النون في الخاء وحكى ذلك عن سيبويه وكذا إخفاؤها مع العين نحو من على مثلا والله تعالى أعلم.
سورة الماعون
وتسمى سورة أرأيت والدين والتكذيب وهي مكية في قول الجمهور وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير كما في " الدر المنثور " وفي " البحر " أنها مدنية في قول ابن عباس وقتادة وحكى ذلك أيضا عن الضحاك وقال هبة الله المفسر الضرير نزل نصفها بمكة في العاص بن وائل ونصفها في المدينة في عبد الله بن أبي المنافق. وآيها سبع في العراقي وست في الباقية ولما ذكر سبحانه في سورة قريش أطعمهم من جوع ثم عز وجل هنا من لم يحض على طعام المسكين ولما قال تعالى: * (هناك فليعبدوا رب هذا البيت) * ذم سبحانه هنا من سها عن صلاته أو لما عدد نعمه تعالى على قريش وكانوا لا يؤمنون بالبعث والجزاء أتبع سبحانه امتنانه عليهم بتهديدهم بالجزاء وتخويفهم من عذابه فقال عز قائل:
* (أرءيت الذى يكذب بالدين) *
* (أرأيت الذي يكذب بالدين) * استفهام أريد بن تشويق السامع إلى تعرف المكذب وإن ذلك مما يجب على المتدين ليحترز عنه وعن فعله وفيه أيضا تعجيب منه والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له والرؤية بمعنى المعرفة المتعدية لواحد وقال الحوفي يجوز أن تكون بصرية وعلى الوجهين يجوز أن يتجوز بذلك عن الاخبار فيكون المراد بأرأيت أخبرني وحينئذ نكون متعدية لاثنين أو لهما الموصول وثانيهما محذوف تقديره من هو أو أليس مستحقا للعذاب والقول بأنه لا تكون الرؤية المتجوز بها إلا بصرية فيه نظر وكذا إطلاق القول بأن كاف الخطاب لا تلحق البصرية إذ لا مانع من ذلك بعد التجوز فلا يرجح كونها علمية قراءة عبد الله أرأيتك بكاف الخطاب المزيدة لتأكيد التاء. والدين الجزاء وهو أحد معانيه ومنه كما تدين تدان وفي معناه قول مجاهد الحساب أو الإسلام كما هو الأشهر ولعله مراد من فسره بالقرآن وكذا من فسره كابن عباس بحكم الله عز وجل وقرأ الكسائي أرأيت بحذف الهمزة كأنه حمل الماضي في حذف همزته على مضارعه
241

المطرد فيه حذفها وهذا كما ألحق تعد بيعد في الإعلال ولعل تصدير الفعل هنا بهمزة الاستفهام سهل أمر الحذف فيه لمشابهته للفظ المضارع المبدوء بالهمزة ومن هنا كانت هذه القراءة أقوى توجيها مما في قوله: صاح هل رأيت أو سمعت براع * رد في الضرع ما قرى في العلاب
وقيل ألحق بهد همزة الاستفهام باري ماضي الأفعال لشدة مشابهته به وعدم التفاوت إلا بفتحة هي لخفتها في حكم السكون وليس بذاك وإن زعم أنه الأوجه والفاء في قوله تعالى:
* (فذلك الذى يدع اليتيم) *
* (فذلك الذي يدع اليتيم) * قيل للسببية وما بعدها مسبب عن التشويق الذي دل عليه الكلام السابق وقيل واقعة في جواب شرط محذوف على أن ذلك مبتدأ والموصول خبره والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالجزاء أو بالإسلام إن لم تعرفه فذلك الذي يكذب بذلك هو الذي يدع اليتيم أي يدفعه دفعا عنيفا ويزجره زجرا قبيحا ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للدلالة على التحقير وقيل للإشعار بعلة الحكم أيضا وفي الاتيان بالموصول من الدلالة على تحقق الصلة ما لا يخفى وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن وأبو رجاء واليماني يدع بالتخفيف أي يترك اليتيم لا يحسن إليه ويجفوه.
* (ولا يحض على طعام المسكين) *
* (ولا يحض) * أي ولا يبعث أحدا من أهله وغيرهم من الموسرين * (على طعام المسكين) * أي بذل طعام المسكين وهو ما يتناول من الغذاء والتعبير بالطعام دون الإطعام مع احتياجه لتقدير المضاف كما أشرنا إليه للاشعار بأن المسكين كأنه مالك لما يعطى له كما في قوله تعالى: * (في أموالهم حق للسائل والمحروم) * فهو بيان لشدة الاستحقاق وفيه إشارة للنهي عن الامتنان وقيل الطعام هنا بمعنى الإطعام وكلام الراغب محتمل لذلك فلا يحتاج إلى تقدير لمضاف وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ولا يحاض مضارع حاضضت وهذه الجملة عطف على جملة الصلة داخلة معها في حيز التعريف للمكذب فيكون سبحانه وتعالى قد جعل علامته الإقدام على إيذاء الضعيف وعدم بذل المعروف على معنى أن ذلك من شأنه ولوازم جنسه.
* (فويل للمصلين * الذين هم عن صل‍اتهم ساهون) *
* (فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون) * أي غافلون غير مبالين بها حتى تفوتهم بالكلية أو يخرج وقتها أولا يصلونها كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف ولكن ينقرونها نقرا ولا يخشعون وينجدون فيها ويتهمون وفي كل واد من الأفكار الغير المناسبة لها يهيمون فيسلم أحدهم منها ولا يدري ما قرأ فيها إلى غير ذلك مما يدل على قلة المبالاة بها وللسلف أقوال كثيرة في المراد بهذا السهو ولعل كل ذلك من باب التمثيل فعن أبي العالية هو الالتفات عن اليمين واليسار وعن قتادة عدم مبالاة المرء أصلي أم لم يصل وعن ابن عباس وجماعة تأخيرها عن وقتها وفيه حديث أخرجه غير واحد عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا وقال الحاكم والبيهقي وقفه أصح وعن أبي العالية هو أن لا يدري المرء عن كم انصرف عن شفع أو عن وتر وفسر بعضهم السهو عنها بتركها وقال المراد بالمصلين المتسمون بسمة أهل الصلاة إن أريد بالترك الترك رأسا وعدم الفعل بالكلية أو المصلون في الجملة إن أريد بالترك الترك أحيانا.
* (الذين هم يرآءون) *
* (الذين هم يراؤن) * الناس فيعملون حيث يروا الناس ويرونهم طلبا للثناء عليهم.
* (ويمنعون الماعون) *
* (ويمنعون الماعون) * أي الزكاة كما جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه وابنه محمد بن الحنفية وابن عباس وابن عمر وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة ومنه قول الراعي: أخليفة الرحمن أنا معشر * حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله من أموالنا * حق الزكاة منزلا تنزيلا
قوم على الإسلام لما يمنعوا * ما عونهم ويضيعوا التهليلا
وعن محمد بن كعب والكلبي المعروف كله وأخرج جماعة عن ابن مسعود تفسيره بما يعاوره الناس بينهم من القدر والدلو والفاس ونحوها من متاع البيت وجاء ذلك عن ابن عباس أيضا في خبر رواه عنه الضياء في
242

المختارة والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم ورووا فيه عدة أحاديث مرفوعة ومنع ذلك قد يكون محظورا في الشريعة كما إذا استعير عن اضطرار وقبيحا في المروءة كما إذا استعير في غير حال الضررة وهو على ما أخرج ابن أبي شيبة عن الزهري المال بلسان قريش وقال أبو عبيدة والزجاج والمبرد هو في الجاهلية كل ما فيه منفعة من قليل أو كثير وأريد به في الإسلام الطاعة. واختلف في أصله فقال قطرب أصله فاعول من المعن وهو الشيء القليل وقالوا ماله معنة أي شيء قليل وقيل أصله معونة والألف عوض من الهاء فوزنه مفعل في الأصل كمكرم فتكون الميم زائدة ووزنه بعد زيادة الألف عوضا ما فعل وقيل هو اسم مفعول من أعان يعين وأصله معوون فقلبت فصارت عينه مكان فائه فصار موعون ثم قلبت الواو ألفا فصار ماعونا فوزنه معفول بتقديم العين على الفاء والفاء في قوله تعالى: * (فويل) * الخ جزائية والكلام ترق من ذلك المعرف إلى معرف أقوى أي إذا كان دع اليتيم والحض بهذه المثابة فما بال المصلي الذي هو ساه عن صلاته التي هي عماد الدين والفارق بين الايمان والكفر مرتكب للرياء في أعماله الذي هو شعبة من الشرك ومانع للزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام أو مانع لإعارة الشيء الذي تعارف الناس إعارته فضلا عن إخراج الزكاة من ماله فذاك العلم على التكذيب الذي لا يخفى والمعرف له الذي لا يوفي والغرض التغليظ في أمر هذه الرذائل التي ابتلى بها كثير من الناس وأنها لما
كانت من سماء المكذب بالدين كان على المؤمن المعتقد له أن يبعد عنها بمراحل ويتبين أن أم كل معصية التكذيب بالدين والمراد بالمكذب على هذا الجنس والإشارة لا تمنع منه كما لا يخفى. وقيل هو أبو جهل وكان وصيا ليتيم فأتاه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه دفعا شنيعا وقال ابن جريج هو أبو سفاين نحر جزورا فسأله يتيم لحما فقرعه بعصاه وقيل الوليد بن المغيرة وقيل العاص بن وائل وقيل عمرو بن عائد وقيل منافق بخيل وعلي جميع هذه الأقوال يكون معينا وحينئذ فالقول بأن الساهين عن الصلاة المرائين أيضا معرف قال " صاحب الكشف " غير ملائم بل يكون شبه استطراد مستفاد من الوصف المعرف أعني دع اليتيم على معنى أن الدع إذا كان حاله أنه علم المكذب فما حال السهو عن الصلاة وما عطف عليه وهما أشد من ذلك وأشد وإنما جعل شبه استطراد على ما قال لأن الكلام في التكذيب لا في التحذير من الدع بالأصالة والمراد الجنس الصادق بالجمع وكون ذلك تكلفا واضحا كما قيل غير واضح فكأنه قيل أخبرني ما تقول فيمن يكذبون بالدين وفيمن يؤذون اليتيم أحسن حالهم وما يصنعون أم قبيح والغرض بت القول بالقبح على أسلوب قوله تعالى: * (فهل أنتم منتهون) * ثم قيل فويل للمصلين على معنى إذا علم أن حالهم قبيح فويل لهم فوضع المصلين موضع الضمير دلالة على أنهم مع الاتصاف بالتكذيب متصفون بهذه الأشياء أيضا وجعل بعضهم الفاء في فويل على العطف المذكور للسببية وهذا الوجه يقتضي اتحاد المصلين والمكذبين وعليه قيل المراد بهم المنافقون بل روى إطلاق القول بأنهم المرادون عن ابن عباس ومجاهد والإمام مالك وقال في " البحر " يدل عليه الذين هم يراؤن ويصح أن يراد بالمصلين على الاتحاد المكلفون بالصلاة ولو كفارا غير منافقين وبسهوهم عن الصلاة تركه إياها بالكلية ويلتزم القول بأن الكفار مكلفون بالفروع مطلقا واعترض أبو حيان ذلك الوجه بأن التركيب عليه تركيب غريب وهو كقولك أكرمت الذي يزورني فذاك الذي يحسن إلي والمتبادر إلى الذهن منه أن فذلك مرفوع بالابتداء وعلى تقدير النصب بالعطف يكون التقدير أكرمت الذي يزورني فأكرمت ذلك الذي يحسن إلي واسم الإشارة فيه غير متمكن تمكن ما هو فصيح إذ لا حاجة إليه بل الفصيح أكرمت الذي يزورني فالذي يحسن إلي أو أكرمت الذي يزورني فيحسن إلي وقيل إن اسم الإشارة هنا مقحم للإشارة إلى بعد المنزلة في الشر والفساد فتأمل وجوز أيضا أن يكون العطف عطف ذات
243

على ذات فالاستخبار عن حال المكذبين وحال الداعين أحسن هو أم قبيح على قياس ما مر وتعقبه في الكشف بأنه لا يلائم المقام رجوع الضمير إلى الطائفتين حتى يوضع موضع المصلين فافهم وقرأ ابن إسحق والأشهب يرؤون بالقصر وتشديد الهمزة وفي رواية أخرى عن ابن إسحق أنه قرأ بالقصر وترك التشديد والله تعالى أعلم.
سورة الكوثر
وتسمى كما قال البقاعي سورة النحر. وهي مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل ونسب في " البحر " إلى الجمهور مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد وفي الاتقان أنه الصواب ورجحه النووي عليه الرحمة في شرح صحيح مسلم لما أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي في " سننه " وغيرهم عن أنس بن مالك قال أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة فرفع رأسه متبسما فقال إنه أنزل علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم * (إنا أعطيناك الكوثر) * حتى ختمها الحديث. وفي أخبار سبب النزول ما يقتضي كلا من القولين وستسمع بعضا منها إن شاء الله تعالى ومن هنا استشكل أمرها وذكر الخفاجي أن لبعضهم تأليفا صحح فيه أنها نزلت مرتين وحينئذ فلا إشكال. وآيها ثلاث بلا خلاف وليس في القرآن كما أخرج البيهقي عن ابن شبرمة سورة آيها أقل من ذلك بل قد صرحوا بأنها أقصر سورة في القرآن وقال الإمام هي كالمقابلة للتي قبلها لأن السابقة وصف الله تعالى فيها المنافق بأربعة أمور البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة فذكر عز وجل في هذه السورة في مقابلة البخل * (إنا أعطيناك الكوثر) * أي الخير الكثير وفي مقابلة ترك الصلاة فصل أي دم على الصلاة وفي مقابلة الرياء لربك أي لرضاه لا للناس وفي مقابلة منع الماعون وانحر وأراد به سبحانه التصدق بلحوم الأضاحي ثم قال فاعتبر هذه المناسبة العجيبة انتهى فلا تغفل.
* (إنآ أعطين‍اك الكوثر) *
* (إنا أعطيناك) * وقرأ الحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني أنطيناك بالنون وهي على ما قال التبريزي لغة العرب العرباء من أولى قريش وذكر غيره أنها لغة بني تميم وأهل اليمن وليست من الإبدال الصناعي في شيء ومن كلامه صلى الله عليه وسلم اليد العليا المنطية واليد السفلى المنطاة وكتب عليه الصلاة والسلام لوائل أنطوا الثيجة أي الوسط في الصدقة * (الكوثر) * فيه أقوال كثيرة فذهب أكثر المفسرين إلى أنه نهر في الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث المتقدم آنفا المروي عن الإمام أحمد ومسلم ومن معهما هل تدرون ما الكوثر قالوا الله تعالى ورسوله أعلم قال هو نهر أعطانيه ربي في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم فأقول يا رب إنه من أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك وقوله عليه الصلاة والسلام على ما أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه وآخرون عن أنس عنه صلى الله عليه وسلم دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك إذ فر قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي أعطاكه الله تعالى وجاء في حديث عن أنس أيضا قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قد أعطيت الكوثر قلت يا رسول الله وما الكوثر قال نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب لا يشرب منه أحد فيظمأ ولا يتوضأ منه أحد فيشعث أبدا لا يشرب منه من أخفر ذمتي ولا من قتل أهل بيتي وروى عن عائشة أنها قالت هو نهر في الجنة عمقه سبعون ألف فرسخ ماؤه أشد بياضا
244

من اللبن وأحلى من العسل شاطئاه الدر والياقوت والزبرجد خص الله تعالى به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقالت ليس أحد يدخل اصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر وهو على التشبيه البليغ وقيل هو حوض له عليه الصلاة والسلام في المحشر. وقول بعضهم الاختلاف في الروايات سببه ملاحظة اختلاف سرعة السير وعدمها وهو قبل الميزان والصراط عند بعض وبعدهما قريبا من باب الجنة حيث يحبس أهلها من أمته صلى الله عليه وسلم ليتحاللوا من المظالم التي بينهم عند آخرين ويكون على هذا في الأرض المبدلة. وقيل له صلى الله عليه وسلم حوضان حوض قبل الصراط وحوض بعده ويسمى كل منهما على ما
حكاه القاضي زكريا كوثرا وصحح رحمه الله تعالى أنه بعد الصراط وأن الكوثر في الجنة وإن ماءه ينصب فيه ولذا يسمى كوثرا وليس هو من خواصه عليه الصلاة والسلام كالنهر السابق بل يكون لسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يرده مؤمنو أممهم ففي حديث الترمذي أن لكل نبي حوضا وأنهم يتباهون أيهم أكثر واردة وأني أرجو أن أكون أكثرهم واردة وهو كما قال حديث حسن غريب وهذا الحياض لا يجب الايمان بها كما يجب الايمان بحوضه عليه الصلاة والسلام عندنا خلافا للمعتزلة النافين له لكون أحاديثه بلغت مبلغ التواتر بخلاف أحاديثها فإنها آحاد بل قيل لا تكاد تبلغ الصحة ورأيت في بعض الكتب أن الكوثر هو النهر الذي ذكره أولا وهو الحوض وهو على ظهر ملك عظيم يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث يكون فيكون في المحشر إذ يكون عليه الصلاة والسلام فيه وفي الجنة إذ يكون عليه الصلاة والسلام فيها ولا يعجز الله تعالى شيء وقيل هو أولاده عليه الصلاة والسلام لأن السورة نزلت ردا على ما عابه صلى الله عليه وسلم وهم الحمد لله تعالى كثيرون قد ملؤا البسيطة وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن وثاب أصحابه وأشياعه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة وقيل علماء أمته صلى الله عليه وسلم وهم أيضا كثيرون في كل قطر وإن كانوا اليوم في بعض الأقطار والأمر لله تعالى أقل قليل وعن الحسن أنه القرآن وفضائله لا تحصى وقال الحسين بن الفضل هو تيسير القرآن وتخفيف الشرائع وقيل هو الإسلام وقال هلال هو التوحيد وقال عكرمة هو النبوة وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه هو نور قلبه صلى الله عليه وسلم وقيل هو العلم والحكمة وقال ابن كيسان هو الايثار وقيل هو الفضائل الكثيرة المتصف بها عليه الصلاة والسلام وقيل المقام المحمود وقيل غير ذلك وقد ذكر في التحرير ستة وعشرين قولا فيه وصحح في " البحر " قول النهر وجماعة أنه الخير الكثير والنعم الدنيوية والأخروية من الفضائل والفواضل ورواه ابن جرير وابن عساكر عن مجاهد وهو المشهور عن الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد أخرج البخاري وابن جرير والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال الكوثر الخير الذي أعطاه الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام قال أبو بشر قلت لسعيد فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة قال النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله عز وجل إياه صلى الله عليه وسلم وحكى هذا الجواب عن ابن عباس نفسه أيضا وفيه إشارة إلى أن ما صح في الأحاديث من تفسيره صلى الله عليه وسلم إياه بالنهر من باب التمثيل والتخصيص لنكتة وإلا فبعد أن صح الحديث في ذلك بل كاد يكون متواترا كيف يعدل عنه إلى تفسير آخر وكذا يقال في سائر ما في الأقوال السابقة وغيرها. وهو فوعل من الكثرة صيغة مبالغة الشيء الكثير كثرة مفرطة قيل زعرابية رجع ابنها من السفر بم آب ابنك قالت بكوثر وقال الكميت: وأنت كثير يا ابن مروان طيب * وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
245

وفي حذف موصوفه ما لا يخفى من المبالغة على ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وفي إسناد الإعطاء إليه دون الإيتاء إشارة إلى أن ذلك إيتاء على جهة التمليك فإن الإعطاء دونه كثيرا ما يستعمل في ذلك ومنه قوله تعالى لسليمان عليه السلام: * (عطاؤنا فامنن أو أمسك) * بعد قوله * (هب لي ملكا) * وقيل فيه إشارة إلى أن المعطي وإن كان كثيرا في نفسه قليل بالنسبة إلى شأنه عليه الصلاة والسلام بناء على أن الإيتاء لا يستعمل إلا في الشيء العظيم كقوله تعالى: * (وآتاه الله الملك) * ولقد آتينا داود منا فضلا وآتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم والإعطاء يستعمل في القليل والكثير كما قال تعالى أعطي قليلا وأكدي ففيه من تعظيمه عليه الصلاة والسلام ما فيه وقيل التعبير بذلك لأنه بالتفضل أشبه بخلاف الايتاء فإنه قد يكون واجبا ففيه إشارة إلى الدوام والتزايد أبدا لأن التفضل نتيجة كرم الله تعالى الغير المتناهي وفي جعل المفعول الأول ضمير المخاطب دون الرسول أو نحوه إشعار بأن الإعطاء غير معلل هو من محض الاختيار والمشيئة وفيه أيضا من تعظيمه عليه الصلاة والسلام بالخطاب ما لا يخفى وجوز أن يكون في إسناد الإعطاء إلى نا إشارة إلى أنه مما سعى فيه الملائكة والأنبياء المتقدمون عليهم السلام وفي التعبير بالماضي قيل إشارة إلى تحقق الوقوع وقيل إشارة إلى تعظيم الإعطاء وأنه أمر مرعى لم يترك إلى أن يفعل بعدو قيل إشارة إلى بشارة أخرى كأنه قيل إنا هيؤنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية وقيل إشارة إلى أن حكم الله تعالى بالإغناء والإفقار والإسعاد والإشقاء ليس أمرا محدثا بل هو حاصل في الأزل. وبنى الفعل على المبتدأ للتأكيد والتقوى وجوز أن يكون للتخصيص على بعض الأقوال السابقة في الكوثر وفي تأكيد الجملة بأن ما لا يخفى من الاعتناء بشأن الخبر وقيل لرد استبعاد السامع الإعطاء لما أنه لم يعلل والمعطى في غاية الكثرة وجوز أن يكون لرد الانكار على بعض الأقوال في الكوثر أيضا والفاء في قوله تعالى:
* (فصل لربك وانحر) *
* (فصل لربك وانحر) * لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إعطاءه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام ما ذكر من العطية التي لم يعطها أحدا من العالمين مستوجب للمأمور به أي استيجاب أي فدم على الصلاة لربك الذي أفاض عليك ما أفاض من الخير خالصا لوجهه عز وجل خلاف الساهين عنها المرائين فيها أداه لحق شكره تعالى على ذلك فإن الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر ولذا قيل فصل دون فاشكر وانحر البدن التي هي خيار أموال العرب باسمه تعالى وتصدق على المحاويج خلافا لمن يدعهم ويمنع منهم الماعون كذا قيل وجعل السورة عليه كالمقابلة لما قبلها كما فعل الإمام ولم يذكروا مقابل التكذيب بالدين وقال الشهاب الخفاجي أن الكوثر بمعنى الخير الكثير الشامل للأخروي يقابل ذلك لما فيه من إثباته ضمنا وكذا إذا كان بمعنى النهر والحوض والأمر على تفسير بالإسلام وتفسير الدين به أيضا في غاية الظهور والمراد بالصلاة عند أبي مسلم الصلاة المفروضة وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك وأخرجه الأول وابن المنذر عن ابن عباس وذهب جمع إلى أنها جنس الصلاة وقيل المراد بها صلاة العيد وبالنحر التضحية أخرج ابن جرير وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال كانت هذه الآية يوم الحديبية أتاه جبريل عليهما الصلاة والسلام فقال انحر وارجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب خطبة الأضحى ثم ركع ركعتين ثم انصرف إلى البدن فنحرها فذلك قوله تعالى: * (فصل لربك وانحر) * واستدل به على وجوب تقديم الصلاة على التضحية وليس بشيء وأخرج عبد الرزاق وغيره عن مجاهد وعطاء وعكرمة أنهم قالوا المراد صلاة الصبح بمزدلفة والنحر بمنى والأكثرون على أن المراد بالنحر نحر الأضاحي واستدل به بعضهم على وجوب الأضحية لمكان الأمر مع قوله تعالى فاتبعوه وأجيب بالتخصص بقوله صلى الله
عليه وسلم ثلاث كتبت علي ولم تكتب عليكم الضحى
246

والأضحية والوتر وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الأحوص أنه قال وانحر أي استقبل القبلة بنحرك وإليه ذهب الفراء وقال يقال منازلهم تتناحر أي تتقابل وأنشد قوله: أبا حكم هل أنت عم مجالد * وسيد أهل الأبطح المتناحر
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في " سننه " عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم * (إنا أعطيناك) * الخ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي فقال إنها ليست بنحيرة ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذي هم في السموات السبع وإن لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة وأخرج ابن جرير عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه قال في ذلك ترفع يديك أول ما تكبر في الافتتاح وأخرج البخاري في " تاريخه " والدارقطني في " الأفراد " وآخرون عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال ضع يدك اليمنى على ساعد اليسرى ثم ضعهما على صدرك في الصلاة وأخرج نحوه أبو الشيخ والبيهقي في " سننه " عن أنس مرفوعا ورواه جماعة عن ابن عباس وروى عباس وروى عن عطاء إن معناه اقعد بين السجدتين حتى يبدو نحرك وعن الضحاك وسليمان التيمي أنهما قالا معناه ارفع يديك عقيب الصلاة عند الدعاء إلى نحرك ولعل في صحة الأحاديث عند الأكثرين مقالا وإلا فما قالوا الذي قالوا وقد قال الجلال السيوطي في حديث علي كرم الله تعالى وجهه الأول أنه أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم في " المستدرك " بسند ضعيف وقال فيه ابن كثير أنه حديث منكر جدا بل أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات وقال الجلال في الحديث الآخر عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم بسند لا بأس به ويرجح قول الأكثرين إن لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخالفه أن الأشهر استعمال النحر في نحر الإبل دون تلك المعاني وإن سنة القرآن ذكر الزكاة بعد الصلاة وما ذكر بذلك المعنى قريب منها بخلافه على تلك المعاني وإن ما ذكروه من المعاني يرجع إلى آداب الصلاة أو إبعاضها فيدخل تحت فصل لربك ويبعد عطفه عليه دون ما عليه الأكثر مع أن القوم كانوا يصلون وينحرون للأوثان فالأنسب أن يؤمر صلى الله عليه وسلم في مقابلتهم بالصلاة والنحر له عز وجل هذا واعتبار الخلوص في * (فصل) * الخ كما أشرنا إليه لدلالة السياق عليه وقيل لدلالة لأم الاختصاص وفي الالتفات عن ضمير العظمة إلى خصوص الرب مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تأكيد لترغيبه صلى الله عليه وسلم في أداء ما أمر به على الوجه الأكمل.
* (إن شانئك هو الابتر) *
* (إن شانئك) * أي مبغضك كائنا من كان * (هو الأبتر) * الذي لا عقب له حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان وأصل البتر القطع وشاع في قطع الدنب وقيل لمن لا عقب له أبتر على الاستعارة شبه الولد والأثر الباقي بالذنب لكونه خلفه فكأنه بعده وعدمه بعدمه وفسره قتادة بالحقير الذليل وليس بذاك كما يفصح عنه سبب النزول وفيها عليه دلالة على أن أولاد البنات من الذرية كما قال غير واحد واسم الفاعل أعني شانىء ههنا قيل بمعنى الماضي ليكون معرفة بالإضافة فيكون الأبتر خبره ولا يشكل ذلك بمن كان يبغضه عليه الصلاة والسلام قبل الايمان من أكابر الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثم هداه الله تعالى للايمان وذاق حلاوته فكان صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وأعز عليه من روحه ولم يكن أبتر لما أن الحكم على المشتق يفيد علية مأخذه فيفيد الكلام إن الأبترية معللة
247

بالبغض فتدور معه وقد زال في أولئك الأكابر رضي الله تعالى عنهم واختار بعضهم في دفع ذلك حمل اسم الفاعل على الاستمرار فهم لم يستمروا على البغض والظاهر أنه انقطع نسل كل من كان مبغضا له عليه الصلاة والسلام حقيقة وقيل انقطع حقيقة أو حكما لأن من أسلم من نسل المبغضين انقطع انتفاع أبيه من بالدعاء ونحوه لأنه لا عصمة بين مسلم وكافر. ما أشرنا إليه من أن هو ضمير فصل هو الأظهر وجوز أن يكون مبتدأ خبره الأبتر والجملة خبر شانئك وحينئذ يجوز صناعة أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال وحمل شانئك على الجنس الظاهر وخصه بعضهم بمن جاء في سبب النزول واحدا أو متعددا وفيه روايات أخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال كان أكبر ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية فمات القاسم عليه السلام وهو أول ميت من ولده عليه الصلاة والسلام بمكة ثم مات عبد الله عليه السلام فقال العاص بن وائل السهمي قد انقطع نسله فهو أبتر فأنزل الله تعالى إن شانئك هو الأبتر وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن شمر بن عطية قال كان عقبة بن أبي معيط يقول إنه لا يبقى للنبي صلى الله عليه وسلم عقب وهو أبتر فأنزل الله فيه * (إن شانئك هو الأبتر) * وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب قال لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا إن هذا الصابىء قد بتر الليلة فأنزل الله تعالى * (أنا أعطيناك) * السورة وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس أنه قال في الآية هو أبو جهل أي لأنها نزلت فيه وهذا المقدار في الرواية عن ابن عباس لا بأس به وحكية أبي حيان عنه أنه لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال بتر محمد عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى: * (إن شانئك هو الأبتر) * لا تكاد تصح لأن هلاك اللعين أبي جهل على التحقيق قبل وفاة إبراهيم عليه السلام وعن عطاء أنها نزلت في أبي لهب والجمهور على نزولها في العاص بن وائل وأيا ما كان فلا ريب في ظهور عموم الحكم والجملة كالتعليل لما يفهمه الكلام فكأنه قيل * (إنا أعطيناك) * ما لا يدخل تحت الحصر من النعم فصل وانحر خالصا لوجه ربك ولا تكترث بقول الشانيء الكريه فإنه هو الأبتر لا أنت وتأكيدها قيل للاعتناء بشأن مضمونها وقيل هو مثله في نحو قوله تعالى: * (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرفون وذلك لمكان فلا تكترث) * الخ المفهوم من السياق وفي التعبير بالأبتر دون على ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ما لا يخفى من المبالغة وعمم هذا الشيخ عليه الرحمة كلا من جزأى الجملة فقال إنه سبحانه يبتر شانيء رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل خير
فيبتر أهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحا لمعاده ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته تعالى ومحبته والايمان برسله عليهم السلام ويبتر أعماله فلا يستعمله سبحانه في طاعته ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرا ولا عونا ويبتره من جميع القرب فلا يذوق لها طعما ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها وهذا جزاء كل من شنأ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل هواه كمن تأول آيات الصفات أو أحاديثها على غير مراد الله تعالى ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام أو تمنى أن لا تكون نزلت أو قيلت ومن أقوى العلامات على شنآنه نفرته عنها إذا سمعها حين يستدل بها السلفي أو تمنى أن لا تكون نزلت أو قيلت ومن أقوى العلامات على شنآنه نفرته عنها إذا سمعها حين يستدل بها السلفي على ما دلت عليه من الحق وأي شنآن للرسول عليه الصلاة والسلام أعظم من ذلك وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغناء والدفوف والشبابات فإذا سمعوا القرآن يتلى أو قرىء في مجلسهم استطالوه واستثقلوه وكذلك من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة إلى غير ذلك ولكل نصيب من الانبتار على قدر شنآته وفي بعضه نظر لا يخفى وقرأ ابن عباس شنيك بغير
248

ألف فقيل مقصور من شانى كما قالوا برد في بارد وبر في بار وجوز أن يكون بناء على فعل هذا واعلم أن هذه السورة الكريمة على قصرها وإيجازها قد اشتملت على ما ينادي على عظيم إعجازها وقد أطال الإمام فيها الكلام وأتى بكثير مما يستحسنه ذوو الأفهام وذكر أن قوله تعالى: * (وانحر) * متضمن الإخبار بالغيب وهو سعة ذات يده صلى الله عليه وسلم وأمته وقيل مثله في ذلك * (إن شانئك هو الأبتر) *. وذكر أنه روى أن مسيلمة الكذاب عارضها بقوله: إنا أعطيناك الزماجر فصل لربك وهاجر إن مبغضك رجل كافر. ثم بين الفرق من عدة أوجه وهو لعمري مثل الصبح ظاهر ومن أراد الاطلاع على أزيد مما ذكر فليرجع إلى تفسير الإمام والله تعالى ولي التوفيق والإنعام.
سورة الكافرون
وتسمى المقشقشة كما أخرجه ابن أبي حاتم على زرارة بن أوفى وهو من قشقش المريض إذا صح وبرأ أي المبرئة من الشرك والنفاق وتسمى أيضا كما في جمال القراء سورة العبادة وكذا تسمى سورة الإخلاص وهي عند ابن عباس والجمهور مكية وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير أنها مدنية وحكاه في " البحر " عن قتادة على خلاف ما في " مجمع البيان " من أنه قائل بمكيتها وأيا ما كان فقول الدواني أنها مكية بالاتفاق ليس في محله. وآيها ست بلا خلاف وفيها إعلان ما فهم مما قبلها من الأمر بإخلاص العبادة له عز وجل ويكفي ذلك في المناسبة بينهما وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبلة بن حارثة وهو أخو زيد بن حارثة وقد قال له عليه الصلاة والسلام علمني شيئا أقوله عند منامي نحو ذلك كما في حديث أخرجه الإمام أحمد والطبراني في الأوسط وأمر صلى الله عليه وسلم أنسا بأن يقرأها عند منامه أيضا معللا لذلك بما ذكر كما أخرجه البيهقي في " الشعب " وأمر عليه الصلاة والسلام خبابا بذلك أيضا كما في حديث أخرجه البزار وابن مردويه وأخرج أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس مرفوعا ألا أدلكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله تعالى تقرؤون: * (قل يا أيها الكافرون) * عند منامكم وروى الديلمي عن عبد الله بن جراد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المنافق لا يصلي الضحى ولا يقرأ قل يا أيها الكافرون ويسن قراءتها أيضا مع سورة * (قل هو الله أحد) * في ركعتي سنة الفجر التي هي عند الأكثرين أفضل السنن الرواتب وكذا في الركعتين بعد المغرب وهي حجة على من قال من أنه لا يسن في سنة الفجر ضم سورة إلى الفاتحة وجاء في حديث أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر مرفوعا وفي آخر أخرجه في الصغير عن سعد بن أبي وقاص كذلك أنها تعدل ربع القرآن ووجه ذلك الإمام بأن القرآن مشتمل على الأمر بالمأمورات والنهي عن المحرمات وكل منهما أما أن يتعلق بالقلب أو بالجوارح فيكون أربعة أقسام وهذه السورة مشتملة على النهي عن المحرمات المتعلقة بالقلب فتكون كربع القرآن وتعقب بأن العبادة
249

أعم من القلبية والقالبية والأمر والنهي المتعلقان بها لا يختصان بالمأمورات والمنهيات القلبية والقالبية وأن مقاصد القرآن العظيم لا تنحصر في الأمر والنهي المذكورين بل هو مشتمل على مقاصد أخرى كأحوال المبدأ والمعاد ومن هنا قيل لعل الأقرب أن يقال إن مقاصد القرآن التوحيد والأحكام الشرعية وأحوال المعاد والتوحيد عبارة عن تخصيص الله تعالى بالعبادة وهو الذي دعا إليه الأنبياء عليهم السلام أولا بالذات والتخصيص إنما يحصل بنفي عبادة غيره تعالى وعبادة الله عز وجل إذ التخصيص له جزآن النفي عن الغير والإثبات للمخصص به فصارت المقاصد بهذا الاعتبار أربعة وهذه السورة تشتمل على ترك عبادة غيره سبحانه والتبري منها فصارت بهذا الاعتبار ربع القرآن ولكونها ليس فيها التصريح بالأمر بعبادة الله عز وجل كما أن فيها التصريح بترك عبادة غيره تعالى لم تكن كنصف القرآن وقيل إن مقاصد القرآن صفاته تعالى والنبوات والأحكام والمواعظ وهي مشتملة على أساس الأول وهو التوحيد ولذا عدلت ربعه وذكر بعض أجلة أحبابي المعاصرين أوجها في ذلك أحسنها فيما أرى أن الدين الذي تضمنه القرآن أربعة أنواع عبادات ومعاملات وجنايات ومناكحات والسورة متضمنة للنوع الأول فكانت ربعا وتعقب بأنه إن أراد فكانت ربعا من القرآن فلا نسلم صحة تفريعه على كون الدين الذي تضمنه القرآن أربعة أنواع وإن أراد فكانت ربعا من الدين فليس الكلام فيه إنما الكلام في كونها تعدل ربعا من القرآن إذ هو الذي تشعر به الأخبار على اختلاف ألفاظها والتلازم بينهما غير مسلم على أن المقابلة الحقيقية بين ما ذكر من الأنواع غير تامة وأجيب باحتمال أنه أراد أن مقاصد القرآن هي تلك الأربعة التي هي الدين ولا يبعد أن يكون ما تضمن واحدا منها عدل القرآن كله مقاصده وغيرها ولا يرد على الحصران من مقاصده أحوال المبدأ والمعاد فبدخول ذلك في العبادات بنوع عناية وعدم التقابل الحقيقي لا يضر إذ يكفي في الغرض عد أهل العرف تلك الأمور متقابلة ولو بالاعتبار فتأمل جميع ذلك والله تعالى الهادي لأقوم المسالك.
* (قل ياأيها الك‍افرون) *
* (قل يا أيها الكافرون) * قال أجلة المفسرين المراد بهم كفرة من قريش مخصوصون قد علم الله تعالى أنهم لا يتأتى منهم الإيمان أبدا أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال لقي الوليد بن المغيرة والعاصي بن واثل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد وتشترك نحن وأنت في أمرنا كله فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظا وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظا فأنزل الله تعالى: * (قل يا أيها الكافرون) * حتى انقضت السورة وفي رواية أن رهطا من عتاة قريش قالوا له صلى الله عليه وسلم هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فقال عليه الصلاة والسلام معاذ الله تعالى أن أشرك بالله سبحانه غيره فقالوا فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك فنزلت فعدا صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام عليه الصلاة والسلام على رؤوسهم فقرأها عليهم فأيسوا ولعل نداءهم بيا أيها للمبالغة في طلب إقبالهم لئلا يفوتهم شيء مما يلقى إليهم وبالكافرون دون الذين كفروا لأن الكفر كان دينهم القديم ولم يتجدد لهم أو لأن الخطاب مع الذين يعلم استمرارهم على الكفر فهو كاللازم لهم أو للمسارعة إلى ذكر ما يقال لهم لشدة الاعتناء به وبه دون المشركين مع أنهم عبدة أصنام والأكثر التعبير عنهم بذلك لأن ما ذكر أنكى لهم فيكون أبلغ في قطع رجائهم الفارغ وقيل هذا للإشارة إلى أن الكفر كله ملة واحدة ولا يبعد أن
250

يكون في هذه الإشارة إنكاء لهم أيضا وفي ندائه عليه الصلاة والسلام بذلك في ناديهم ومكان بسطة أيديهم دليل على عدم اكتراثه عليه الصلاة والسلام بهم إذ المعنى قل يا محمد والمراد حقيقة الأمر خلافا لصاحب التأويلات للكافرين يا أيها الكافرون.
* (لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم ع‍ابدون مآ أعبد * ولا أنآ عابد ما عبدتم * ولا أنتم ع‍ابدون مآ أعبد) *
* (لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد) * يتراءى أن فيه تكرارا للتأكيد فالجملة الثالثة المنفية على ما في " البحر " توكيد للأولى على وجه أبلغ لإسمية المؤكدة والرابعة توكيد للثانية وهو الذي اختاره الطيبي وذهب إليه الفراء وقال إن القرآن نزل بلغة العرب ومن عادتهم تكرار الكلام للتأكيد والإفهام فيقول المجيب بلى بلى والممتنع لالا وعليه قوله تعالى: * (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) * وأنشد قوله: كائن وكم عندي لهم من صنيعة * أيادي سنوها على وأوجبوا
وقوله: نعق الغراب ببين ليلى غدوة * كم كم وكم بفراق ليلى ينعق
وقوله: هلا سألت جموع كن‍ * - دة يوم ولوا أين أينا
وهو كثير نظما ونثرا وفائدة التأكيد ههنا قطع أطماع الكفار وتحقيق أنهم باقون على الكفر أبدا واعترض بأن تأكيد الجمل لا يكون مع العاطف إلا بثم وكأن القائل بذاك قاس الواو على ثم والظاهر أن من قال بالتأكيد جعل الجملة الرابعة معطوفة على الثالثة وجعل المجموع معطوفا على مجموع الجملتين الأوليين فهناك مجموعان متعاطفان يؤكد ثانيهما أولهما ولمغايرة الثاني للأول بما فيه من الاستمرار عطف عليه بالواو فلا يرد ما ذكر ويتضمن ذلك معنى تأكيد الجزء الأول من الثاني للجزء الأول من الأول وتأكيد الجزء الثاني من الثاني للجزء الثاني من الأول وإلا فظاهر ما في " البحر " مما لا يكاد يجوز كما لا يخفى والذي عليه الجمهور أنه لا تكرار فيه لكنهم اختلفوا فقال الزمخشري لا أعبد أريد به نفي العبادة فيما يستقبل لأن لا لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي وما كنت عابدا قط فيما سلف ما عبدتم فيه وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته والظاهر أنه اعتبر في الجملة الأخيرة استمرار النفي وأنه حمل المضارع فيها على إفادة الاستمرار والتصوير وفي الثانية استغرق النفي للأزمنة الماضية وقال الطيبي أنه جعل القرينتين للأوليين للاستقبال والآخريين للماضي واعترض عليه بأن الحصرين اللذين ذكرهما في لا وما غير صحيح وإن كانا يشعر بهما ظاهر كلام سيبويه وقال الخفاجي ما ذكر أغلبي أو مقيد بعدم القرينة القائمة على ما يخالفه أو هو كلي ولا حجر في التجوز والحمل على غيره لمقتض كدفع التكرار هنا وإن قيل بتحقق الاستغراب على القول باشتراطه في الحكاية في عابد الأول وعدم ضرر فقده في الثاني لأن النصب به للمشاكلة وقيل القرينتان الأوليان للاستقبال كما مر والأخريان للحال واختاره أبو حيان أي ولست في الحال بعابد معبوديكم ولا أنتم في الحال بعابدي معبودي وقيل بالعكس وعليه كلام الزجاج ومحيي السنة وقيل الأوليان للماضي والأخريان للمستقبل نقله ابن كثير عن حكاية البخاري وغيره ونقل أيضا عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن المراد بقوله سبحانه: * (لا أعبد ما تعبدون) * نفي الفعل لأنها جملة فعلية وبقوله تعالى: * (ولا أنا عابد ما عبدتم) * نفى قبوله صلى الله عليه وسلم لذلك بالكلية لأن النفي بالجملة الاسمية آكد فكأنه نفى الفعل وكونه عليه الصلاة والسلام قابلا لذلك ومعناه نفي الوقوع ونفي إمكانه الشرعي ونوقش في إفادة الجملة الاسمية نفي القبول ولا يبعد أن يقال إن معنى الجملة الفعلية نفي الفعل في زمان معين والجملة الاسمية معناها نفي الدخول تحت هذا المفهوم مطلقا
251

من غير تعرض للزمان كأنه قيل أنا ممن لا يصدق عليه هذا المفهوم أصلا وأنتم ممن لا يصدق عليه ذلك المفهوم فتدبر وقيل الأوليان لنفي الاعتبار الذي ذكره الكافرون والأخريان للنفي على العموم أي لا أعبد ما تعبدون رجاء أن تعبدوا الله تعالى ولا أنتم عابدون رجاء أن أعبد صنمكم ثم قيل ولا أنا عابد صنمكن لغرض من الأغراض بوجه من الوجوه وكذا أنتم لا تعبدون الله تعالى لغرض من الأغراض وإيثار ما في ما أعبد قيل على جميع الأقوال السابقة على من لأن المراد الصفة كأنه قيل ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته وجوز أن يقال لما أطلقت ما على الأصنام أولا وهو إطلاق في محزه أطلقت على المعبود بحق للمشاكلة ومن يقول أن ما يجوز أن تقع على من يعلم ونسب إلى سيبويه لا يحتاج إلى ما ذكر وقال أبو مسلم ما في الأوليين بمعنى الذي مفعول به والمقصود المعبود أي لا أعبد الأصنام ولا تعبدون الله تعالى وفي الآخريين مصدرية أي ولا أنا عابد مثل عبادتكم المبنية على الشك وإن شئت قلت على الشرك المخرج لها عن كونها عبادة حقيقة ولا أنتم عابدون مثل عبادتي المبنية على اليقين وإن شئت قلت على التوحيد والإخلاص وعليه لا يكون تكرار أيضا وقال بعض الأجلة في هذا المقام أن قوله تعالى: * (لا أعبد ما
تعبدون) * وقوله سبحانه: * (ولا أنا عابد ما عبدتم) * أما كلاهما نفي الحال أو كلاهما نفي الاستقبال أو أحدهما للحال والآخر للاستقبال وعلى التقادير فلفظ ما إما مصدرية في الموضعين وإما موصولة أو موصوفة فيهما وأما مصدرية في أحدهما وموصولة أو موصوفة في الآخر وهذه ستة احتمالات حاصلة من ضرب الثلاثة في الاثنين ولم يلتفت إلى تقسيم صورة الاختلاف إلى الفرق بين الأولى والأخرى ولا إلى الفرق بين الموصولة والموصوفة لتكثر الإقسام لأن صور الاختلاف متساوية الأقدام في دفع التكرار ومؤدى الموصولة والموصوفة متقاربان فيكتفي بإحداهما وكذا الحال في قوله تعالى: * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * في الموضعين ومعلوم أنه لا تكرار في صورة الاختلاف سواء كان باعتبار الحال والاستقبال أو باعتبار كون ما في أحدهما موصولة أو موصوفة وفي الآخر مصدرية ونفى عبادتهم في الحال أو الاستقبال معبوده عليه الصلاة والسلام بناء على عدم الاعتداد بعبادتهم لله تعالى مع الإشراك المحبط لها وجعلها هباء منثورا كما قيل: / جسم]
إذا صافى صديقك من تعادى * فقد عاداك وانقطع الكلام
ومن هنا قال بعض الأفاضل في إخراج الآية عن التكرار يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى: * (لا أعبد ما تعبدون) * نفى عبادة الأصنام ومن قوله تعالى: * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * نفى عبادة الله تعالى من غير تعرض لشيء آخر ولما كان مظنة أن يقولوا لغفلة عن المراد أو نحوها كيف يسوغ لك أن تنفي عنك عبادة ما نعبد وعنا عبادة ما تعبد ونحن أيضا نعبد الله تعالى غاية ما في الباب أنا نعبد معه غيره أردف ذلك بقوله سبحانه: * (ولا أنا عابد ما عبدتم) * الخ للإشارة إلى أنهم ما عبدوا الله حقيقة وإنما عبدوا شيئا قالوا إنه الله والله عز وجل وراء ذلك أي ولا أنا عابد في وقت من الأوقات الاله الذي عبدتم لأنكم عبدتم شيئا تخيلتموه وذلك بعنوان ما تخيلتم ليس بالإله الذي أعبده ولا أنتم عابدون في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته لأني إنما أعبد الإله المتصف بالصفات التي قام البرهان على أنها صفات الإله النفس الامرى ويعلم منه وجه غير ما تقدم للتعبير بالكافرون دون المشركون وكأنه لم يؤت بالقرينتين الأوليين بهذا المعنى ويكتفي بهما عن الأخريين لأنهما أوفق بجوابهم مع أن هذا الأسلوب أنكى لهم فلا تغفل ومن الناس من اختار كون ما في القرينتين الأوليين موصولة مفعولا به لما قبلها والمراد بها أولا آلهتهم وثانيا إلهه عليه الصلاة والسلام والمراد نفي العبادة ملاحظا معها
252

التعلق بما تعلقت به من المفعول بل هو المقصود ومحط النظر كما يقتضي ذلك وقوع القرينتين في الجواب ويعتبر الاستقبال رعاية للغالب في استعمال لا داخلة على المضارع مع كونه أوفق بالجواب أيضا ويكون قد تم بهما فكأنه قيل لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في الحال من الآلهة أي لا أحدث ذلك حسبما تطلبونه مني وتدعوني إليه ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد في الحال وكونها في الأخريين مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر وقع مفعولا مطلقا لما قبل كما فعل أبو مسلم ليتضمن الكلام الإشارة إلى بيان حال العبادة في نفسها من غير نظر إلى تعلقها بالمفعول وإن كانت لا تخلو عنه في الواقع أثر الإشارة إلى بيان حالها مع ملاحظة تعلقها بالمفعول ويراد استمرار النفي في كلتيهما كما في قوله تعالى: * (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * وفي ذلك من إنكائهم ما ليس في الاقتصار على ما تم به الجواب فكأنه قيل ولا أنا عابد على الاستمرار عبادة مثل عبادتكم التي أذهبتم بها أعماركم لأن عبادتي مأمور بها وعبادتكم منهي عنها ولا أنتم عابدون على الاستمرار عبادة مثل عبادتي التي أنا مستمر عليها لأنكم الذين خذلهم الله تعالى وختم على قلوبهم وإني الحبيب المبعوث بالحق فلا زلتم في عبادة منهي عنها ولا زلت في عبادة مأمور بها ولك أن تعتبر الفرق بين العبادتين بوجه آخر واعتبار الاستمرار في ما أعبد يشعر به العدول عن ما عبدت الذي يقتضيه ما عبدتم قبله إليه وعن العدول في الثانية إلى ذلك لأن أنواع عبادته عليه الصلاة والسلام لم تكن تامة بعد بل كانت تتجدد لها أنواع أخر فأتى بما يفيد الاستمرار التجددي للإشارة إلى حقية جميع ما يأتي به صلى الله عليه وسلم من ذلك وقال الزمخشري لم يقل ما عبدت كما قيل ما عبدتم لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل البعث وهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت وتعقب بأن فيه نظرا لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يتحنث في غار حراء قبل البعثة ونص أبو الوفاء على ابن عقيل على أنه صلى الله عليه وسلم كان متدينا قيل بعثه بما يصح عنه أنه من شريعة إبراهيم عليه السلام وأما بعد البعث فقال ابن الجوزي في كتاب الوفاء فيه روايتان عن الإمام أحمد إحداهما أنه كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي لا من جهتهم ولا نقلهم ولا كتبهم المبدلة واختارها أبو الحسن التميمي وهو قول أصحاب أبي حنيفة الثانية إن لم يكن متعبد إلا بما يوحى إليه من شريعته وهو قول المعتزلة والأشعرية ولأصحاب الشافعي وجهان كالروايتين والقائلون بأنه عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله اختلفوا في التعيين فقيل وجهان كالروايتين والقائلون بأنه عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله اختلفوا في التعيين فقيل كان متعبدا بشريعة إبراهيم السلام وعليه أصحاب الشافعي وقيل بشريعة موسى عليه السلام إلا ما نسخ في شرعنا وظاهر كلام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بكل ما صح أنه شريعة لنبي قبله ما لم يثبت نسخه لقوله تعالى: * (الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * وقال ابن قتيبة لم تزل العرب على بقايا دين إسماعيل عليه السلام كالحج والختان وإيقاع الطلاق الثلاث والدية والغسل من الجنابة وتحريم المحرم بالقرابة والصهر وكان عليه الصلاة والسلام على ما كانوا عليه من الإيمان بالله تعالى والعمل بشرائعهم. انتهى. والمعتزلة لم يجوزوا ذلك لزعمهم أن فيه مفسدة وهو إيجاب النفرة نعم من أصولهم وجوب التعبد العقلي بالنظر في آيات الله تعالى وأدلة توحيده سبحانه ومعرفته عز وجل ولا يمكن أن يخل صلى الله عليه وسلم بذلك وفي " الكشف " العبادة قد تطلق على أعمال الجوارح الناقعة على سبيل القربة فالإيمان والنية والإخلاص شروط ومنه لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد واختلف أنه عليه الصلاة والسلام كان متعبدا بهذا المعنى قبل نبوته بشرع أولا فميل الإمام فخر الدين وجماعة من الشافعية وأبي الحسين البصري وأتباعه إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدا وأجابوا عن الطواف والتحنث
253

وغيرهما من المكارم أنها لا تحرم من غير شرع حتى يقال الآتي بها لا بد أن يكون متعبدا بل هي من اقتضاء العادات المستمرة والمكارم الغريزية دون نظر إلى قربة والزمخشري اختار ذلك القول وعليه بنى تفسيره وقد ظهر أنه لم يخالف أصله في وجوب التعبد العقلي بالنظر في الآيات وأدلة التوحيد والمعرفة ثم قال والظاهر حمل ما
أعبد على إفادة الاستمرار والتصوير على أنهم ما كانوا ينكرون ما كان عليه صلى الله عليه وسلم فيما مضى عبادة كانت أولا بل كانوا يعظمونه ويلقبونه بالأمين إنما كان المنكر ما كان عليه بعد النبوة فلذلك قيل ثانيا ولا أنتم عابدون ما أعبد إذ لو قيل ما عبدت لم يطابق المقام وفيه أن ما كانوا يتوهمونه من موافقته عليه الصلاة والسلام قبل النبوة لم يكن صحيحا بل إنما كان ذلك لأنه لم يكن صلى الله عليه وسلم مأمورا بالدعوة انتهى فتدبره وزعم بعضهم أن تغاير الأساليب في هذه السورة لتغاير أحوال الفريقين وليس بشيء وفي تكليف مثل هؤلاء المخاطبين بما ذكر على القول بإفادته الاستمرار على الكفر بالإيمان بحث مذكور في كتب الأصول إن أردته فارجع إليه وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة تبت إشارة ما إلى ذلك وقوله تعالى:
* (لكم دينكم ولى دين) *
* (لكم دينكم) * هو عند الأكثرين تقرير لقوله تعالى: * (لا أعبد ما تعبدون) * وقوله تعالى: * (ولا أنا عابد ما عبدتم) * كما أن قوله تعالى: * (ولي دين) * عندهم تقرير لقوله تعالى: * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * والمعنى أن دينكم وهو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول كما تطمعون فيه فلا تعلقوا به أمانيكم الفارغة فإن ذلك من المحالات وأن ديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم أيضا لأن الله تعالى قد ختم على قلوبكم لسوء استعدادكم أو لأنكم علقتموه بالمحال الذي هو عبادتي لآلهتكم أو استلامي لها أو لأن ما وعدتموه عين الإشراك وحيث إن مقصودهم شركة الفريقين في كلتا العبادتين كان القصر المستفاد من تقديم المسند قصر إفراد حتما وجوز أن يكون هذا تقريرا لقوله تعالى: * (ولا أنا عابد ما عبدتم) * والآية على ما ذكر محكمة غير منسوخة كما لا يخفى أو المراد التاركة على معنى أني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فدعوني كفافا ولا تدعوني إلى الشرك فهي على هذا كما قال غير واحد منسوخة بآية السيف وفسر الدين بالحساب أي لكم حسابكم ولي حسابي لا يرجع إلى كل منا من عمل صاحبه أثر وبالجزاء أي لكم جزاؤكم ولي جزائي قيل والكلام على الوجهين استئناف بياني كأنه قيل فما يكون إذا بقينا على عبادة آلهتنا وإذا بقيت على عبادة إلهك فقيل لكم الخ والمراد يكون لهم الشر ويكون له عليه الصلاة والسلام الخير لكن أتى باللام في لكم للمشاكلة وعليه لا نسخ أيضا ويحتمل أن يكون المراد غير ذلك مما تكون عليه الآية منسوخة ولعله لا يخفى وقد يفسر الدين بالحال كما هو أحد معانيه حسبما ذكره القالي في أماليه وغيره أي لكم حالكم اللائق بكم الذي يقتضيه سوء استعدادكم ولي حالي اللائق بي الذي يقتضيه حسن استعدادي والجملة عليه كالتعليل لما تضمنه الكلام السابق فلا نسخ والأولى أن تفسر بما لا تكون عليه منسوخة لأن النسخ خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا عند الضرورة وللإمام الرازي أوجه في تفسيرها لا يخلو بعضها عن نظر وذكر عليه الرحمة أنه جرت العادة بأن الناس يتمثلون بهذه الآية عند المتاركة وذلك لا يجوز لأن القرآن ما أنزل ليتمثل به بل ليهتدي به وفيه ميل إلى سد باب الاقتباس والصحيح جوازه فقد وقع في كلامه عليه الصلاة والسلام وكلام كثير من الصحابة والأئمة والتابعين وللجلال السيوطي رسالة وافية كافية في إزالة الالتباس عن وجه جواز الاقتباس عن وجه جوازا الاقتباس وما ذكر من الدليل فأظهر من أن ينبه على ضعفه وقرأ سلامخ ويعقوب ديني بياء وصلا ووقفا وحذفها القراء السبعة والله تعالى أعلم.
254

سورة النصر
وتسمى سورة إذا جاء وعن ابن مسعود أنها تسمى سورة التوديع لما فيها من الإيماء إلى وفاته عليه الصلاة والسلام وتوديعه الدنيا وما فيها وجاء في عدة روايات عن ابن عباس وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال حين نزلت نعيت إلى نفسي وفي رواية للبيهقي عنه أنه لما نزلت دعا عليه الصلاة والسلام فاطمة رضي الله تعالى عنها وقال إنه قد نعيت إلى نفسي فبكت ثم ضحكت. فقيل لها، فقالت أخبرني إنه نعيت إليه نفسه فبكيت ثم أخبرني بأنك أول أهلي لحاقا بي فضحكت وقد فهم ذلك منها عمر رضي الله تعالى عنه وكان يفعل عليه الصلاة والسلام بعدها فعل مودع وهي مدنية على القول الأصح في تعريف المدني فقد أخرج الترمذي في مسنده والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة وعبد الله بن دينار وصدقة بن بشار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق بمعنى وهو في حجة الوداع إذا جاء نصر الله والفتح حتى ختمها الخبر وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وغيرهما لكن قال الحافظ بن رجب بعد أن أخرجه عن الأولين أن إسناده ضعيف جدا وموسى بن عبيدة قال أحمد: لا تحل الرواية عنه وعليه إن صح يكون نزولها قريبا جدا من زمان وفاته صلى الله عليه وسلم فإن ما بين حجة الوداع وإجابته عليه الصلاة والسلام داع الحق ثلاثة أشهر ونيف وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال: والله ما عاش صلى الله عليه وسلم بعد نزول إذا جاء نصر الله والفتح إلا قليلا سنتين ثم توفي عليه الصلاة والسلام وفي " البحر " أن نزولها عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من خيبر وأنت تعلم أن غزوة خيبر كانت في سنة سبع أواخر المحرم فيكون ما في البين أكثر من سنتين ويدل على مدنيتها أيضا ما أخرجه مسلم وابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال آخر سورة نزلت من القرآن جميعا إذا جاء نصر الله وآيها ثلاث بالاتفاق وفيها إشارة إلى اضمحلال ملة الأصنام وظهور دين الله عز وجل على أتم وجه وهو وجه مناسبتها لما قبلها ويحتمل غير ذلك وهي على ما أخرج الترمذي وغيره من حديث أنس إذا جاء نصر الله والفتح ربع القرآن ولم أظفر بوجه ذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق به.
* (إذا جآء نصر الله والفتح) *
* (إذا جاء نصر الله) * أي إعانته تعالى وإظهاره إياك على عدوك وهذا معنى النصر المعدي بعلى وفسر به لأنه أوفق بقوله تعالى: * (والفتح) * وجوز أن يراد به المعدي بمن ومعناه الحفظ والفتح يتضمن النصر بالمعنى الأول فحينئذ يكون الكلام مشتملا على إفادة النصرين والأول هو الظاهر وإذا منصوب بسبح والفاء غير مانعة على ما عليه الجمهور في مثل ذلك وأبو حيان على أنها معمولة للفعل بعدها وليست مضافة إليه وسيأتي إن شاء الله تعالى قول آخر والمراد بهذا النصر ما كان في أمر
مكة من غلبته عليه الصلاة والسلام على قريش وذكر النقاش عن ابن عباس أن النصر هو صلح الحديبية وكان في آخر سنة ست وأما الفتح فقد أخرج جماعة عنه وعن عائشة أن المراد به فتح مكة وروي ذلك عن مجاهد وغيره وصححه الجمهور وكان في السنة الثامنة وقال ابن شهاب لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان على رأس ثمان سنين ونصف من الهجرة وخرج عليه الصلاة والسلام على ما أخرجه أحمد بسند صحيح عن أبي سعيد لليلتين خلتا من شهر رمضان وفي رواية أخرى عن أحمد لثمان عشرة وفي أخرى لثنتي عشرة وعند مسلم لست عشرة وقال الواقدي خرج صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان بعد العصر وضعفه القسطلاني وكان المسلمون في تلك الغزوة عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف من العرب وفي الإكليل اثني
255

عشر ألفا وجمع بأن العشرة خرج بها عليه الصلاة والسلام من المدينة ثم تلاحق الألفان والأولى أن يحمل النصر على ما كان مع الفتح المذكور فإن كانت السورة الكريمة نازلة قبل ذلك فالأمر ظاهر وتتضمن الإعلام بذلك قبل كونه وهو من أعلام النبوة وإذا كانت نازلة بعده فقال الماتريدي في التأويلات أن إذا بمعنى إذ التي للماضي ومجيئها بهذا المعنى كثير في القرآن وعليه تكون متعلقة بمقدر ككمل الأمر أو أتم النعمة على العباد أو نحو ذلك لا بسبح لأن الكلام حينئذ نحو أضرب زيدا أمس وقال بعض الأجلة هي لما يستقبل كما هو الأكثر في استعمالها وحينئذ لم يكن بد من أن يجعل شيء من ذلك مستقبلا مترقبا باعتبار أن فتح مكة كان أم الفتوح والدستور لما يكون من بعده فهو مترقب باعتبار ما يدل عليه وإن كان متحققا باعتباره في نفسه وجوز أن يكون الاستقبال باعتبار مجموع ما في حيز إذا فمنه ما هو مستقبل وهو ما تضمنه قوله سبحانه:
* (ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا) *
* (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) * ولو باعتبار آخر داخل وهو مما لا بأس به إن لم يكن النزول بعد تمام الدخول وقيل المراد جنس نصر الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين وجنس الفتح فيعم ما كان في أمر مكة زادها الله تعالى شرفا وغيره وأمر الاستقبال عليه ظاهر وأيا ما كان فالمراد بالمجىء الحصول وهو حقيقة فيه على ما يقتضيه ظاهر كلام الراغب وقال القاضي مجاز والظاهر أن الخطاب في رأيت للنبي عليه الصلاة والسلام والرؤية بصرية أو علمية متعدية لمفعولين والناس العرب ودين الله ملة الإسلام التي لا دين له تعالى يضاف إليه غيرها والأفواج جمع فوج وهو على ما قال الراغب الجماعة المارة المسرعة ويراد به مطلق الجماعة قال الحوفي وقياس جمعه أفوج ولكن استثقلت الضمة على الواو فعدل إلى أفواج وفي " البحر " قياس فعل صحيح العين أن يجمع على أفعل لا على أفعال ومعتل العين بالعكس فالقياس فيه أفعال كحوض وأحواض وشذ فيه أفعل كثوب وأثوب ونصب أفواجا على الحال من ضمير يدخلون وأما جملة يدخلون فهي حال من الناس على الاحتمال الأول في الرؤية ومفعول ثان على الاحتمال الثاني فيها وكونها حالا أيضا بجعل رأيت بمعنى عرفت كما قال الزمخشري تعقبه أبو حيان بقوله لا نعلم أن رأيت جاءت بمعنى عرفت فيحتاج في ذلك إلى استثبات والمراد بدخول الناس في دينه تعالى أفواجا أي جماعات كثيرة إسلامهم من غير قتال وقد كان ذلك بين فتح مكة وموته عليه الصلاة والسلام وكانوا قبل الفتح يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين أخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي وعن الحسن قال لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قالت الأعراب أما إذ ظفر بأهل مكة وقد أجارهم الله تعالى من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان فدخلوا في دين الله تعالى أفواجا وقال أبو عمر بن عبد البر لم يتوف رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين والطائف منهم من قدم ومنهم من قدم وافده وتأول ذلك ابن عطية فقال، المراد والله تعالى أعلم، العرب عبدة الأوثان فإن نصارى بني تغلب ما أراهم أسلموا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أعطوا الجزية ونص بعضهم على أنهم لم يسلموا إذ ذاك فالمراد بالناس عبدة الأوثان من العرب كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن ونحوهم وقال عكرمة ومقاتل المراد بالناس أهل اليمن وفد منهم سبعمائة رجل وأسلموا واحتج له بما أخرجه ابن جرير من طريق الحصين بن عيسى عن معمر عن الزهري عن أبي حازم عن أبي عباس قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال: الله أكبر الله أكبر جاء نصر الله والفتح وجاء أهل اليمن قيل يا رسول الله وما أهل اليمن قال قوم رقيقة قلوبهم
256

لينة طاعتهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية وأخرجه أيضا من طريق عبد الأعلى عن معمر عن عكرمة مرسلا وقوله عليه الصلاة والسلام الإيمان يمان جاء في حديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة والين قلوبا الإيمان يمان والحكمة يمانية فقيل قال صلى الله عليه وسلم ذلك لأن مكة يمانية ومنها بعث صلى الله عليه وسلم وفشأ الإيمان وقيل أراد عليه الصلاة والسلام مدح الأنصار لأنهم يمانون وقد تبوؤا الدار والإيمان وقول ابن عباس في الخبر في المدينة يعارض قول من قال إن ذلك إنما قاله صلى الله عليه وسلم بتبوك وكان بينه وبين اليمن مكة والمدينة وهما دار الإيمان ومظهراه ويحتمل تكرر القول والظاهر أنه ثناء على أهل اليمن لإسراعهم إلى الإيمان وقبولهم له بلا سيف ويشمل الأنصار من أهل اليمن وغيرهم فكان الإيمان كان في سنخ قلوبهم فقبلوه كما أنهى إليهم كمن يجد ضالته ومثله في الثناء عليهم قوله عليه الصلاة والسلام أجد نفس ربكم من قبل اليمن وقال عصام الدين يحتمل أن يكون الخطاب في رأيت الناس عاما لكل مؤمن ثم قال ومما يختلج في القلب أن المناسب بقوله تعالى يدخلون في دين الله أفواجا أن يحمل قوله سبحانه والفتح على فتح باب الدين عليهم انتهى وكلا الأمرين كما ترى وقرأ ابن عباس كما أخرج أبو عبيدة وابن المنذر عنه إذا جاء فتح الله والتصر وقرأ ابن كثير في رواية يدخلون بالبناء للمفعول.
* (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) *
* (فسبح بحمد ربك) * أي فنزهه تعالى بكل ذكر يدل على التنزيه حامدا له جل وعلا زيادة في عبادته والثناء عليه سبحانه لزيادة انعامه سبحانه عليك فالتسبيح التنزيه لا التلفظ بكلمة سبحان الله والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال والحمد مضاف إلى المفعول والمعنى على الجمع بين تسبيحه تعالى وهو تنزيهه سبحانه عما
لا يليق به عز وجل من النقائص وتحميده وهو إثبات ما يليق به تعالى من المحامد له لعظم ما أنعم سبحانه به عليه عليه الصلاة والسلام وقيل أي نزهه تعالى عن العجز في تأخير ظهور الفتح واحمده على التأخير وصفه تعالى بأن توقيت الأمور من عنده ليس إلا لحكمة لا يعرفها إلا هو عز وجل وهو كما ترى وايد ذلك بما في الصحيحين عن مسروق عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن تعني هذا مع قوله تعالى: * (واستغفره) * أي أطلب منه أن يغفر لك وكذا بما في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم عن عائشة أيضا قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قول سبحان الله وبحمده استغفر الله وأتوب إليه وقال أن ربي كان أخبرني أن سأرى علامة في أمتي وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده واستغفره الخ وروي ابن جرير من طريق حفص بن عاصم عن الشعبي عن أم سلمة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال سبحان الله وبحمده قال إني أمرت بها وقرأ السورة وهو غريب وفي المسند عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء نصر الله والفتح كان يكثر إذا قرأها وركع أن يقول سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم ثلاثا وجوز أن تكون الباء للاستعانة والحمد مضاف إلى الفاعل أي سبحه بما حمد سبحانه به نفسه قال ابن رجب إذ ليس كل تسبيح بمحمود فتسبيح المعتزلة يقتضي تعطيل كثير من الصفات وقد كان بشر المريسي يقول سبحان ربي الأسفل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا والظاهر الملابسة وجوز أن يكون التسبيح مجازا عن التعجب بعلاقة السببية فإن من رأى أمرا عجيبا قال سبحان الله أي فتعجب لتيسير الله تعالى ما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحد على أهل الحرم وأحمده تعالى على صنعه وهذا التعجب تعجب
257

متأمل شاكر يصح أن يأمر به وليس الأمر بمعنى الخبر بأن هذه القصة من شأنها أن يتعجب منها كما زعم ابن المنير والتعليل بأن الأمر في صيغة التعجب ليس أمرا بين السقوط نعم هذا الوجه ليس بشيء والأخبار دالة على أن ذلك أمر له صلى الله عليه وسلم بالاستعداد للتوجه إلى ربه تعالى والاستعداد للقائه بعد ما أكمل دينه وأدى ما عليه من البلاغ وأيضا ما ذكرناه من الآثار آنفا لا يساعد عليه وقيل المراد بالتسبيح الصلاة لاشتمالها عليه ونقله ابن الجوزي عن ابن عباس أي فصل له تعالى حامدا على نعمه وقد روي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة صلى في بيت أم هانىء ثمان ركعات وزعم بعضهم أنه صلاها داخل الكعبة وليس بالصحيح وأيا ما كان فهي صلاة الفتح وهي سنة وقد صلاها سعد يوم فتح المدائن وقيل صلاة الضحى وقيل أربع منها للفتح وأربع للضحى وعلى كل ليس فيها دليل على أن المراد بالتسبيح الصلاة والأخبار أيضا تساعد على خلافه واستغفار صلى الله عليه وسلم لأنه كان دائما في الترقي فإذا ترقى إلى مرتبة استغفر لما قبلها وقيل مما هو في نظره الشريف خلاف الأولى بمنصبه المنيف وقيل عما كان من سهو ولو قبل النبوة وقيل لتعليم أمته صلى الله عليه وسلم وقيل هو استغفار لأمته عليه الصلاة والسلام أي واستغفره لأمتك وجوز بعضهم كون الخطاب في رأيت عاما وقال ههنا يجوز حينئذ أن يكون الأمر بالاستغفار لمن سواه عليه الصلاة والسلام وادخاله صلى الله عليه وسلم في الأمر تغليب وهذا خلاف الظاهر جدا وأنت تعلم أن كل أحد مقصر عن القيام بحقوق الله تعالى كما ينبغى وادائها على الوجه اللائق بجلاله جل جلاله وعظمته سبحانه وإنما يؤديها على قدر ما يعرف والعارف يعرف أن قدر الله عز وجل أعلى وأجل من ذلك فهو يستحى من عمله ويرى أنه مقصر وكلما كان الشخص بالله تعالى أعرف كان له سبحانه أخوف وبرؤية تقصيره أبصر وقد كان كهمس يصلي كل يوم ألف ركعة فإذا صلى أخذ بلحيته ثم يقول لنفسه قومي يا مأوى كل سوء فوالله ما رضيتك لله عز وجل طرفة عين وعن مالك بن دينار لقد هممت أن أوصي إذا مت أن ينطلق بي كما ينطلق بالعبد الآبق إلى سيده فإذا سألني قلت يا رب أني لم أرض لك نفسي طرفة عين فيمكن أن يكون استغفاره عليه الصلاة والسلام لما يعرف من عظيم جلال الله تعالى وعظمته سبحانه فيرى أن عبادته وان كانت أجل من عبادة جميع العابدين دون ما يليق بذلك الجلال وتلك العظمة التي هي وراء ما يخطر بالبال فيستحي ويهرع إلى الاستغفار وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة وللاشارة إلى قصور العابد عن الاتيان بما يليق بجلال المعبود وإن بذل المجهود شرع الاستغفار بعد كثير من الطاعات فذكروا إنه يشرع لمصلي المكتوبة أن يستغفر عقبها ثلاثا وللمتهجد في الاسحار أن يستغفر ما شاء الله تعالى وللحاج أن يستغفر بعد الحج فقد قال تعالى ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم وروي أنه يشرع لختم الوضوء وقالوا يشرع لختم كل مجلس وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: إذا قام من المجلس سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك. ففي الأمر بالاستغفار رمز من هذا الوجه على ما قيل إلى ما فهم من النعي والمشهور أن ذلك للدلالة على مشارفة تمام أمر الدعوة وتكامل أمر الدين والكلام وإن كان مشتملا على التعليق وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار قيل على طريقة النزول من الخالق إلى الخلق كما قيل ما رأيت شيئا إلا ورأيت
258

الله تعالى قبله لأن جميع الأشياء مرايا لتجيله جل جلالهه وذلك لأن في التسبيح والحمد توجها بالذات لجلال الخالق وكماله وفي الاستغفار توجها بالذات لحال العبد وتقصيراته ويجوز أن يكون تأخير الاستغفار عنهما لما أشرنا إليه في مشروعية تعقيب العبادة بالاستغفار وقيل في تقديمها عليه تعليم أدب الدعاء وهو أن لا يسأل فجأة من غير تقديم الثناء على المسؤول منه * (إنه كان توابا) * أي منذ خلق المكلفين أي مبالغا في قول توبتهم فليكن المستغفر التائب متوقعا للقبول فالجملة في موضع التعليل لما قبلها واختيار توابا على غفارا مع أنه الذي يستدعيه استغفره ظاهرا للتنبيه كما قال بعض الأجلة على أن الاستغفار إنما ينفع إذا كان مع التوبة وذكر ابن رجب أن الاستغفار المجرد هو التوبة مع طلب المغفرة بالدعاء والمقرون بالتوبة فاستغفر الله تعالى وأتوب إليه سبحانه هو طلب المغفرة بالدعاء فقط وقال أيضا أن المجرد طلب وقاية شر الذنب الماضي بالدعاء والندم عليه ووقاية شر الذنب المتوقع بالعزم على الإقلاع عنه وهذا الذي يمنع الاصرار كما جاء ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة ولا صغيرة مع الاصرار ولا كبيرة مع الاستغفار والمقرون بالتوبة مختص بالنوع الأول فإن لم يصحبه الندم على الذنب الماضي فهو دعاء محض وإن صحبه ندم فهو توبة انتهى والظاهر أن ذلك الدعاء المحض غير مقبول وفيه من سوء الأدب مع الله تعالى ما فيه وقال بعض الأفاضل إن في الآية احتباكا والأصل واستغفره إنه كان غفارا وتب إليه إنه كان توابا وأيد بما قدمناه من حديث الإمام أحمد ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها وحمل الزمان الماضي على زمان خلق المكلفين هو ما
ارتضاه غير واحد وقال الماتريدي في " التأويلات " أي لم يزل توابا لا أنه سبحانه تواب بأمر اكتسبه وأحدثه على ما يقوله المعتزلة من أنه سبحانه صار توابا إذ أنشأ الخلق فتابوا فقبل توبتهم فأما قبل ذلك فلم يكن توابا ورد عليه بأن قبول التوبة من الصفات الإضافية ولا نزاع في حدوثها واختار بعضهم ما ذهب إليه الماتريدي على أن المراد أنه تعالى لم يزل بحيث يقبل التوبة ومآله قدم منشأ قبولها من الصفات اللائقة به جل شأنه وفي ذلك مما يقوي الرجاء به عز وجل ما فيه وصح لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم وفي الاستغفار خير الدنيا والآخرة أخرج الإمام أحمد من حديث عطية عن أبي سعيد مرفوعا من قال حين يأوى إلى فراشه استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر وإن كانت مثل رمل عالج وإن كانت عدد ورق الشجر وأخرج أيضا من حديث ابن عباس من أكثر من الاستغفار جعل الله تعالى له من كل هم فرجا وأنا أقول سبحان الله وبحمده استغفر الله تعالى وأتوب إليه واسأله أن يجعل لي من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا بحرمة كتابه وسيد أحبابه صلى الله تعالى عليه وسلم.
سورة تبت
وتسمى سورة المسد، وهي مكية وآيها خمس بلا خلاف في الأمرين ولما ذكر سبحانه فيما قبل دخول الناس في ملة الإسلام عقبه سبحانه يذكر هلاك بعض ممن لم يدخل فيها وخسرانه. على نفسه فليبك من ضاع عمر
وليس له منها نصيب ولا سهم
كذا قيل في وجه الاتصال وقيل هو من اتصال الوعيد بالوعد وفي كل مسرة له عليه الصلاة والسلام وقال الإمام في ذلك انه تعالى لما قال لكم دينكم ولي دين فكأنه صلى الله عليه وسلم قال الهي فما جزائي فقال الله تعالى لك النصر والفتح فقال فما جزاء عمي الذي دعاني إلى عبادة الأصنام فقال تبت يداه وقدم الوعد على الوعيد
259

ليكون النصر متصلا بقوله تعالى ولي دين والوعيد راجعا إلى قوله تعالى لكم دينكم على حد يوم تبيض وجوه الآية فتأمل هذه المجانسة الحاصلة بين هذه السور مع أن سورة النصر من آخر ما نزل بالمدينة وتبت من أوائل ما نزل بمكة لتعلم أن ترتيبها من الله تعالى وبأمره عز وجل ثم قال ووجه آخر وهو أنه لما قال لكم دينكم ولي دين فكأنه قيل الهي ما جزاء المطيع قال حصول النصر والفتح ثم قيل فما جزاء العاصي قال الخسار في الدنيا والعقاب في العقبى كما دلت عليه سورة تبت انتهى وهو كما ترى.
* (تبت يدآ أبى لهب وتب) *
* (تبت) * أي هلكت كما قال ابن جبير وغيره ومنه قولهم أشابة أم تابة يريدون أم هالكة من الهرم والتعجيز أي خسرت كما قال ابن عباس وابن عمر وقتادة وعن الأول أيضا خابت وعن يمان بن وثاب صفرت من كل خير وهي على ما في البحر أقوال متقاربة وقال الشهاب أن مادة التباب تدور على القطع وهو مؤد إلى الهلاك ولذا فسر به وقال الراغب هو الاستمرار في الخسران ولتضمنه الاستمرار قيل استتب لفان كذا أي استمر ويرجع هذا المعنى إلى الهلاك * (يدا أبي لهب) * هو عبد العزى بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد المعاداة والمناصبة له عليه الصلاة والسلام ومن ذلك ما في المجمع عن طارق المحاربي قال بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا برجل حديث السن يقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وإذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه فقلت من هذا فقالوا هو محمد صلى الله عليه وسلم يزعم أنه نبي وهذا عمه أبو لهيب يزعم أنه كذاب وأخرج الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس قال لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يابني عدى لبطنون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا نعم، ما جربنا عليك الا صدقاء قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب تبا لك سائر الأيام ألهذا جمعتنا فنزلت ويروى أنه مع ذلك القول أخذ بيديه حجرا ليرمي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هذا يعلم وجر إيثار التباب على الهلاك ونحوه مما تقدم واسناده إلى يديه وكذا مما روى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس أيضا أن أبا لهب قال لما خرج من الشعب وظاهر فريشا أن محمدا يعدنا أشياء لا نراها كائنة يزعم أنها كائنة بعد الموت فماذا وضع في يديه ثم نفخ في يديه ثم قال تبالكما ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فنزلت تبت يدا أبي لهب ومما روي عن طارق يعلم وجه الثاني فقط فاليدان على المعنى المعروف والكلام دعاء بهلاكهما وقوله سبحانه * (وتب) * دعاء بهلاك كله وجوزان يكونا أخبارين بهلاك ذينك الأمرين والتعبير بالماضي في الموضعين لتحقق الوقوع وقال الفراء الأول دعاء بهلاك جملته على أن اليدين اما كناية عن الذات والنفس بما بينهما من اللزوم في الجلمة أو مجاز من إطلاق الجزء على الكل كما قال محيي السنة والقول في رده أنه يشترك أن يكون الكل يعدم بعدمه كالرأس والرقبة واليد ليست كذلك غير مسلم لتصريح فحول بخلافه هنا وفي قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أو المراد على ما قيل بذلك الشرط يعدم حقيقة أو حكما كما في إطلاق العين على الربيئة واليد على المعطي أو المتعاطى لبعض الأفعال فإن الذات من حيث اتصافها بما قصد اتصافها به تعدم يعدم ذلك العضو والثاني أخبار بالحصول أي وكان ذلك وحصل كقول النابغة: جزاني جزاه الله شر جزائه * جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
واستظهر أن هذه الجملة حالية وقد مقدرة على المشهور كما قرأ به ابن مسعود وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس
260

في سبب النزول فنزلت هذه السورة تبت يدا أبي لهب وقد تب وعلى هذه القراءة يمتنع أن يكون ذلك دعاء لأن قد لا تدخل على أفعال الدعاء وقيل الأول أخبار عن هلاك عمله حيث لم يفده ولم ينفعه لأن الأعمال تزاول بالأيدي غالبا والثاني أخبار عن هلاك نفسه وفي التأويلات اليد بمعنى النعمة وكان يحسن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى قريش ويقول إن كان الأمر لمحمد فلي عنده يد وإن كان لقريش فكذلك فأخبر أنه خسرت يده التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم بعناده له ويده التي عند قريش
أيضا بخسران قريش وهلاكهم في يد النبي عليه الصلاة والسلام فهذا معنى تبت يدا أبي لهب والمراد بالثاني الأخبار بهلاكه نفسه وذكر بكنيته لاشتهاره بها وقد أريد تشهيره بدعوة السوء وإن تبقى سمة له وذكره بأشهر علميه أوفق بذلك ويؤيد ذلك قراءة من قرأ يدا أبو لهب كما قيل علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع أو لكراهة ذكر اسمه القبيح أو لأنهلأكما روي عن مقاتل كان يكنى بذلك لتلهب وجنتيه واشراقهما فذكر بذلك تهكما به وبافتخاره بذلك أو لتجانس ذات لهب ويوافقه لفظا ومعنى والقول بأنه ليس بتجنيس لفظي لأنه ليس في الفاصلة وهم فانهم لم يشترطوه فيه أو لجعله كناية عن الجهنمي فكأنه قيل تبت يدا جهنمي وذلك لأن انتسابه إلى اللهب كانتساب الأب إلى الولد يدل على ملابسته له وملازمته إياه كما يقال هو أبو الخير وأبو الشر وأخو الفضل وأخو الحرب لمن يلابس هذه الأمور ويلازمها وملازمته لذلك تستلزم كونه جهنميا لزوما عرفيا فإن اللهب الحقيقي هو لهب جهنم فالانتقال من أبي لهب إلى جهنمي انتقال من الملزوم إلى اللازم أو بالعكس على اختلاف الرأيين في الكناية فإن التلازم بينهما في الجملة متحقق في الخارج والدهن إلا أن هذا اللزوم إنما هو بحسب الوضع الأول أعني الإضافي دون الثاني أعني العلمي وهم يعتبرون في الكنى المعاني الأصلية فأبو لهب باعتبار الوضع العلمي مستعمل في الشخص المعين وينتقل منه باعتبار وضعه الأصلي إلى ملابس اللهب وملازمه لينتقل منه إلى أنه جهنمي فهو كناية عن الصفة بالواسطة وهذا ما اختاره العلامة الثاني فعنده كناية بلا واسطة لأن معناه الأصلي أعني ملابس اللهب ملحوظ مع معناه العلمي واحق مع العلامة لأن أبا لهب يستعمل في الشخص المعين والمتكلم بناء على اعتبارهم المعاني الأصلية في الكنى ينتقل منه إلى المعنى الأصلي ثم ينتقل منه إلى الجهنمي ولا يلاحظ معه معناه الأصلي وإلا لكان لفظ أبي لهب في الآية مجازا سواء لوحظ معه معناه الأصلي بطريق الجزئية أو التقييد لكونه غير موضوع للمجموع وما قيل إن المعنى الحقيقي لا يكون مقصودا في الكناية وإن مناط الفائدة والصدق والكذب فيها هو المعنى الثاني وههنا قصد الذات المعين فليس بشيء لأن الكناية لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه فيجوز ههنا أن يكون كلا المعنيين مرادا وفي المفتاح تصريح بأن المراد في الكناية هو المعنى الحقيقي ولازمه جميعا وزعم السيد أيضا أن الكناية في أبي لهب لأنه اشتهر بهذا الاسم وبكونه جهنميا فدل اسمه على كونه جهنميا دلالة حاتم على أنه جواد فإذا أطلق وقصد به الانتقال إلى هذا المعنى يكون كناية عنه وفيه أنه يلزم منه أن تكون الكناية في مثله موقوفة على اشتهار الشخص بذلك العلم وليس كذلك فانهم ينتقلون من الكنية إلى ما يلزم مسماها باعتبار الأصل من غير توقف على الشهرة قال الشاعر: / جسم]
قصدت أنا المحاسن كي أراه * لشوق كاد يجذبني إليه
فلما أن رأيت رأيت فردا * ولم أر من بنيه ابنا لديه
261

على أن فيه بعدما فيه وقرأ ابن محيصن وابن كثير أبي لهب بسكون الهاء وهو من تغيير الاعلام على ما في الكشاف وقال أبو البقاء الفتح والسكون لغتان وهو قياس على المذهب الكوفي.
* (مآ أغنى عنه ماله وما كسب) *
* (ما أغنى عنه ماله) * أي لم يغن عنه ماله حين حل به التباب على أن ما نافية ويجوز أن تكون استفهامية في محل نصب بما بعدها على أنها مفعول به أو مفعول مطلق أي أي اغناه أو أي شيء أغنى عنه ماله * (وما كسب) * أي والذي كسبه على أن ما موصولة وجوز أن تكون مصدرية أي وكسبه وقال أبو حيان إذا كان ما الأولى استفهامية فيجوز أن تكون هذه كذلك أي وأي شيء كسب أي لم يكسب شيئا وقال عصام الدين يحتمل أن تكون نافية والمعنى ما أعبد عنه ماله مضرة وما كسب منفعة وظاهره أنه جعل فاعل كسب ضمير المال وهو كما ترى واستظهر في البحر موصوليتها فالعائد محذوف أي ولذي كسبه به من الأرباح والنتائج والمنافع والوجاهة والاتباع أو ما أغنى عنه ماله الموروث من أبيه والذي كسبه بنفسه أو ماله والذي كسبه من عمله الخبيث الذي هو كيده في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الضحاك أو من عمله الذي يظن انه منه على شيء كقوله تعالى وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلناه هباء منثورا كما قال قتادة وعن ابن عباس ومجاهد ما كسب من الولد أخرج أبو داود عن عائشة مرفوعا أن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه وروي أنه كان يقول إن كان ما يقول ابن أخي حقا فإنا أفتدى منه نفسي بمالي وولدي وكان له ثلاثة أبناء عتبة ومعتب وقد أسلما يوم الفتح وسر النبي عليه الصلاة والسلام بإسلامهما ودعا لهما وشهدا حنينا والطائف وعتيبة بالتصغير ولم يسلم وفي ذلك يقول صاحب كتاب الالباء. كرهت عتيبة إذ أجرما * وأحببت عتبة إذ أسلما
كذا معتب مسلم فاحترز * وخف أن تسب فتى مسلما
وكانت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عتيبة ورقية أختها عند أخيه عتبة فلما نزلت السورة قال أبو لهب لهما رأسي ورأسكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد صلى الله عليه وسلم فطلقاهما إلا أن عتيبة المصغر كان قد أراد الخروج إلى الشام مع أبيه فقال لآتين محمدا عليه الصلاة والسلام وأوذينه فأتاه فقال يا محمد أني كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ثم تفل تجاه رسول الله: صلى الله عليه وسلم ولم يصبه عليه الصلاة والسلام شيء وطلق ابنته أم كلثوم فأغضبه عليه الصلاة والسلام بما قال وفعل فقال صلى الله عليه وسلم اللهم سلط عليه كلبا من كلابك وكان أبو طالب حاضرا فكره ذلك وقال له ما أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة فرجع إلى أبيه ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من دير وقال لهم إن هذه أرض مسبعة فقال أبو لهب أغيثوني يا معشر قريش في هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم خوفا من الأسد فجاء أسد يتشمم وجوههم حتى أتى عتيبة فقتله وفي ذلك يقول حسان: من يرجع العام إلى أهله * فما أكيل السبع بالراجع
وهلك أبو لهب نفسه بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال فاجتنبه أهله مخافة العدوى وكانت قريش تتقيها كالطاعون فبقي ثلاثا حتى انتن فلما خافوا العار استأجروا بعض
السودان فاحتملوه ودفنوه وفي رواية حفروا له حفرة ودفعوه بعود حتى وقع فيها فقذفوه بالحجارة حتى واروه وفي أخرى انهم لم يحفروا له وإنما أسندوه لحائط وقذفوا عليه الحجارة من خلفه حتى توارى فكان الأمر كما أخبر به القرآن وقرأ عبد الله وما اكتسب بناء الافتعال.
* (سيصلى نارا ذات لهب) *
* (سيصلى نارا) * سيدخلها لا محالة في الآخرة ويقاسي حرها
262

والسين لتأكيد الوعيد والتنوين للتعظيم أي نارا عظيمة * (ذات لهب) * ذات اشتعال وتوقد عظيم وهي نار جهنم وجملة ما أغنى الخ قال في الكشف استئناف جوابا عما كان ياول أنا افتدى بمالي ويتوهم من صدقه وفيه تحسير له وتهكم بما كان يفتخر به من المال والبنين وهذه الجملة تصوير للهلاك بما يظهر معه عدم اغناء المال والولد وهو ظاهر على تفسير ما كسب بالولد وقال بعض الأفاضل الأولى اشارة لهلاك عمله وهذه اشارة لهلاك نفسه وهو أيضا على بعض الأوجه السابقة فتذكر ولا تغفل وقوله تعالى:
* (وامرأته حمالة الحطب) *
* (وامرأته) * عطف على المستكن في سيصلي لمكان الفصل بالمفعول وقوله تعالى: * (حمالة الحطب) * نصب على الشتم والذم وقيل على الحالية بناء على أن الإضافية غير حقيقية للاستقبال على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان أخرج ابن عساكر عن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر رضي الله تعالى عنهما أن عقيل بن أبي طالب دخل على معاوية فقال معاوية له: أين ترى عمك أبا لهب من النار، فقال له عقيل: إذا دخلتها فهو على يسارك مفترش عمتك حمالة الحطب والراكب خير من المركوب ولا أظن صحة هذا الخبر عن الصادق لأن فيه ما فيه وكانت على ما في " البحر " عوراء ووسمت بذلك لأنها على ما أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن زيد كانت تأتي بأغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل كانت تحمل حزمة الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريقة عليه الصلاة والسلام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير وروي عن قتادة أنها مع كثرة مالها كانت تحمل الحطب على ظهرها لشدة بخلها فعيرت بالبخل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه وعن مجاهد أنها كانت تمشي بالنميمة وأخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن أيضا وروي عن ابن عباس والسدى ويقال لمن يمشي بها يحمل الحطب بين الناس أي يوقد بينهم النائرة ويؤرث الشر فالحطب مستعار للنميمة وهي استعارة مشهورة ومن ذلك قوله: من البيض لم تصطد على ظهر لأمة * ولم تمش بين الحسن بالحطب الرطب
وجعله رطيا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر ففيه إيغال حسن وكذا قول الراجز: ان بني الأدرم حمالو الحطب * هم الوشاة في الرضاء والغضب
وقال ابن جرير حمالة الخطايا والذنوب من قولهم فلأن يحطب على ظهره إذا كان يكتسب الآثام والخطايا والظاهر أن الحطب عليه مستعار للخطايا بجامع أن كلا منها مبدى للاحراق وقيل الحطب جمع حاطب كحارس وحرس أي تحمل الجناة على الجنايات وهو محمل بعيد وقرأ أبو حيوة وابن مقسم سيصلي بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام ومريئته بالتصغير والهمز وقرىء ومريته بالتصغير وقلب الهمزة ياء وادغامها وقرأ الحسن وابن اسحق سيصلي بضم الياء وسكون الصاد واختلس حركة الهاء في امرأته أبو عمر وفي رواية وقرى أبو قلابة حاملة الحطب على وزن فاعله مضافا وقرأ الأكثرون حمالة الخطب بالرفع والإضافة وقرىء حمالة للحطب بالتنوين رفعا ونصبا وبلام الجر في الحطب وقوله تعالى:
* (فى جيدها حبل من مسد) *
* (في جيدها حبل من مسد) * جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر في موضع الحال من الضمير في حالة وقيل من امرأته المعطوف على الضمير وقيل الظرف حال منها وحبل مرتفع به على الفاعلية وقيل هو خبر لامرأته وهي مبتدأ لا معطوفة على الضمير وحبل فاعل وعلى قراءة حمالة بالرفع قيل امرأته مبتدأ وحمالة خبر وفي جيدها حبل خبر ثان أو حال من ضمير حمالة أو الظرف كذلك وحبل مرتفع به على الفاعلية أو امرأته مبتدأ وحمالة صفته لأنه للماضي فيتعرف بالإضافة والخبر على ما سمعت أو امرأته عطف على الضمير وحمالة خبر مبتدأ محذوف أي هي حمالة ما بعد خبر ثان أو حال من ضمير حمالة على نظير ما مر وفي التركيب غير ذلك من أوجه الإعراب سيذكران إن شاء الله تعالى وبعض ما ذكرناه ههنا غير مطرد على
263

جميع الأوجه في معنى الآية كما لا يخفى عند الاطلاع عليها على المتأمل والمسد ما مسد أي فتل من الحبال فتلا شديدا من ليف المقل على ما قال أبو الفتح ومن أي ليف على ما قيل وقيل من لحاء شجر باليمن يسمى المسد وروي ذلك عن ابن زيد وقد يكون كما في البحر من جلود الإبل أو أوبارها ومنه قوله: ومسد أمر من أيانق * ليست بأنياب ولا حقائق
أي في عنقها حبل مما مسد من الحبال والمراد تصويرها بصور الحطابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها تخسيسا لحالها وتحقيرا لها لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها إذا كانا في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحاله الحطب فقال: ما ذا أردت إلى شتمى ومنقصتي * أم ما تعير من حمالة الحطب
غراء شادخة في المجد غرتها * كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب
وقد أغضبها ذلك فيروى أنها لما سمعت السورة أتت أبا بكر رضي الله تعالى عنه وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر، فقالت بلغني أن صاحبك هجاني ولا فعلن وأفعلن وان كان شاعرا فإنا مثله أقول: مذمما أبينا ورينه * قلينا وأمره عصينا
وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فروي أن أبا بكر قال لها هل ترى معي أحدا فقالت أتهزأ بي لا أرى غيرك فسكت أبو بكر ومضت وهي تقول قريش تعلم أني بنت سيدها فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام لقد حجبني عنها ملائكة فما رأتني وكفى الله تعالى شرها وقيل إن ذلك ترشيح للمجاز بناء على اعتباره في حمالة الحطب وفي الكشاف يحتمل أن يكون المعنى تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه وعليه فالحبل مستعار للسلسلة وروي هذا عن عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان وأمر الاعراب على ما في الكشف انه إن نصب حمالة يكون حالا هو والجملة أعني في جيدها حبل عن المعطوف على ضمير سيصلي أي ستصلي امرأته على هذه الحالة أو يكون حمالة نصبا على الذم والجملة وحدها حالا أو امرأته في جيدها حبل جملة وقعت حالا عن الضمير ويحتمل عطف الجملة على الجملة على ضعف وعلى الرفع يحتمل أن تكون الجملة حالا وإن يكون امرأته عطفا على الفاعل وحمالة الحطب في جيدها جملة لا محل لها من الإعراب وقعت بيانا لكيفية صليها أي هي حمالة الحطب انتهى فتأمل ولا تغفل وعلى جميع الأوجه والاحتمالات إنما لم يقل سبحانه في عنقها والمعروف أن يذكر العنق مع الغل ونحوه مما فيه امتهان كما قال تعالى في أعناقهم أغلالا والجيد مع الحلي كقوله: وأحسن من جيد المليحة حليها
ولو قال عنقها كان غثا من الكلام قال في الروض الانف لأنه تهكم نحو فبشرهم بعذاب أليم أي لا جيد لها فيحلى ولو كان لكانت حليته هذه ولتحقيرها قيل امرأته ولم يقل زوجه انتهى وهو بديع جدا إلا أنه يعكر على آخره قوله تعالى وامرأته قائمة ولعله استعان ههنا على ما قال بالمقام وعن قتادة انه كان في جيدها قلادة من ودع وفي معناه قول الحسن من خرز وقال ابن المسيب كانت قلادة فاخرة من جوهر وأنها قالت واللات والعزى لانفقتها على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ولعل المراد على هذا أنها تكون في نار جهنم ذات قلادة من حديد ممسود بدل قلادتها التي كانت تقول فيها
264

لأنفقنها الخ وعلى ما قبله تهجين أمر قلادتها لتأكيد ذمها بالبخل الدال عليه قوله تعالى: * (حمالة الحطب) * على ما نقلناه سابقا عن قتادة ويحتمل غير ذلك ووجه التعبير بالجيد على ما ذكر مما لا يخفى وزعم بعضهم أن الكلام يحتمل أن يكون دعاء عليها بالخنق بالحبل وهو عن الذهن مناط الثريا نعم ذكر أنها ماتت يوم ماتت مخنوقة بحبل حملت به حزمة حطب لكن هذا لا يستدعي حمل ما ذكر على الدعاء هذا. واستشكل أمر تكليف أبي لهب بالايمان مع قوله تعالى: * (سيصلى) * الخ بأنه بعد أن أخبر الله تعالى عنه بأنه سيصلى النار لا بد أن يصلاها ولا يصلاها إلا الكافر فالاخبار بذلك يتضمن الاخبار بأنه لا يؤمن أصلا فمتى كان مكلفا بالايمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ومنه ما ذكر لزم أن يكون مكلفا بأن يؤمن بأن لا يؤمن أصلا وهو جمع بين النقيضين خارج عن حد الامكان وأجيب عنه بأن ما كلفه هو الايمان بجميع ما جاء النبي عليه الصلاة والسلام إجمالا لا الايمان بتفاصيل ما نطق به القرآن الكريم حتى يلزم أن يكلف الايمان بعدم إيمانه المستمر ويقال نحو هذا في الجواب عن تكليف الكافرين المذكورين في قوله تعالى: * (قل يا أيها الكافرون) * الخ بالايمان بناء على تعينهم مع قوله تعالى: * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * الخ بناء على دلالته على استمرار عدم عبادتهم ما يعبد عليه الصلاة والسلام وأجاب بعضهم بأن قوله تعالى: * (سيصلى) * الخ ليس نصا في أنه لا يؤمن أصلا فإن صلى النار غير مختص بالكفار فيجوز أن يفهم أبو لهب منه أن دخوله النار لفسقه ومعاصيه لا لكفره ولا يجري هذا في الجواب عن تكليف أولئك الكافرين بناء على فهمهم السورة إرادة الاستمرار وأجاب بعض آخر بأن من جاء فيه مثل ذلك وعلم به مكلف بأن يؤمن بما عداه مما جاء به صلى الله عليه وسلم وأجاب الكعبي وأبو الحسين البصري وكذا القاضي عبد الجبار بغير ما ذكر مما رده الإمام وقيل في خصوص هذه الآية أن المعنى سيصلى نارا ذات لهب ويخلد فيها إن مات ولم يؤمن فليس ذلك مما هو نص في أنه لا يؤمن وما لهذه الأجوبة وما عليها يطلب من مطولات كتب الأصول والكلام واستدل بقوله تعالى: * (وامرأته) * على صحة أنكحة الكفار والله تعالى أعلم.
سورة الإخلاص
وسميت بها لما فيها من التوحيد ولذا سميت أيضا بالأساس فإن التوحيد أصل لسائر أصول الدين وعن كعب كما قال الحافظ بن رجب أسست الموات السبع والأرضون السبع على هذه السورة قل هو الله أحد ورواه الزمخشري عن أبي وأنس مرفوعا ولم يذكره أحد من المحدثين المعتبرين كذلك وكيف كان فالمراد به كما قال ما خلقت السماوات والأرضون إلا لتكون دلائل على توحيد الله تعالى ومرعفة صفاته التي تضمنتها هذه السورة وقيل معنى تأسيسها عليها أنها إنما خلقت بالحق كما قال تعالى: * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق) * وهو العدل والتوحيد وهو إن لم يرجع إلى الأول لا يخلو عن نظر وقيل المراد أن مصحح إيجادهما أي بعد إمكانهما الذاتي ما أشارت إليه السورة من وحدته عز وجل واستحالة أن يكون له سبحانه شريك إذ لولا ذلك لم يمكن وجودهما لإمكان التمانع كما قرره بعض الأجلة في توجيه برهانية قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * وفيه بعد وتسمى أيضا سورة * (قل هو الله أحد) * كما هو مشهور يشير إليه الأثر أيضا والمقشقشة لما سمعت في تفسير سورة الكافرون وسورة التوحيد وسورة التفريد وسورة التجريد وسورة النجاة وسورة الولاية وسورة المعرفة لأن معرفة الله تعالى إنما تتم بمعرفة ما فيها وفي اثر أن رجلا صلى فقرأها فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا عبد عرف ربه وسورة الجمال قيل لما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال إن الله جميل يحب
265

الجمال فسألوه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال * (أحد صمد لم يلد ولم يولد) * ولا أظن صحة الخبر وسورة النسبة لورودها جوابا لمن قال أنسب لنا ربك على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى وقيل لما أخرجه الطبراني من طريق عثمان بن عبد الرحمن الطرايفي عن الوازع بن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل شيء نسبة ونسبة الله تعالى * (قل هو الله أحد الله الصمد) * وهو كما قال الحافظ ابن رجب ضعيف جدا وعثمان يروي المناكير وفي " الميزان " أنه موضوع وسورة الصمد وسورة المعوذة لما أخرج النسائي والبزار وابن مردويه بسند صحيح عن عبد الله بن أنيس قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده
على صدري ثم قال قل فلم أدر ما أقول ثم قال قل هو الله أحد فقلت حتى فرغت منها ثم قال: * (قل أعوذ برب الفرق من شر ما خلق) * فقلت حتى فرغت منها ثم قال: * (قل أعوذ برب الناس) * فقلت حتى فرغت منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا فتعوذ وما تعوذ المتعوذون بمثلهن قط وسورة المانعة قيل لما روى ابن عباس أنه تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم حين عرج به أعطيتك سورة الإخلاص وهي من ذخائر كنوز عرشي وهي المانعة تمنع كربات القبر ونفحات النيران والظاهر عدم صحة هذا الخبر ويعارضه ما أخرجه ابن الضريس عن أبي أمامة أربع آيات نزلت من كنز العرش لم ينزل منه غيرهن أم الكتاب وآية الكرسي وخاتمة سورة البقرة والكوثر وحكمه حكم المرفوع بل أخرجه الشيخ ابن حبان والديلمي وغيرهما بالسند عن أبي أمامة مرفوعا وسورة المحضر قيل لأن الملائكة عليهم السلام تحضر لاستماعها إذا قرئت وسورة المنفرة قيل لأن الشيطان ينفر عند قراءتها وسورة البراءة قيل لما روى أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يقرؤها فقال أما هذا فقد بريء من الشرك ولم أدر من روى ذلك نعم روى أبو نعيم من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة عن مهاجر قال سمعت رجلا يقول صحبت النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فسمع رجلا يقرأ * (قل يا أيها الكافرون) * فقال قد برىء من الشرك وسمع آخر يقرأ * (قل هو الله أحد) * فقال غفر له وعليه فألحق بهذا الاسم سورة الكافرون ولعل الأولى أن يقال سميت بذلك لما في حديث الترمذي عن أنس من أراد أن ينام على فراشه فنام على يمينه ثم قرأ قل هو الله أحد مائة مرة كتب الله تعالى له براءة من النار وسورة المذكورة لأنها تذكر خالص التوحيد وسورة النور قيل لما روى من قوله صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء نورا ونور القرآن * (قل هو الله أحد) * وسورة الايمان لأنه لا يتم بدون ما تضمنته من التوحيد وقد ذكر معظم هذه الأسماء الإمام الرازي وبين وجه التسمية بها بما بين والرجل رحمه الله تعالى ليس بإمام في معرفة أحوال المرويات لا يميز غثها من سمينها أو لا يبالي بذلك فيكتب ما ظفر به وإن عرف شدة ضعفه وهي مكية في قول عبد الله والحسن وعكرمة وعطاء ومجاه وقتادة مدنية في قول ابن عباس ومحمد بن كعب وأبي العالية والضحاك قاله في " البحر " وخبر ابن عباس السابق إن صح ظاهر في أنها عنده مكية وفي " الاتقان " فيها قولان لحديثين في سبب نزولها متعارضين وجمع بعضهم بينهما بتكرر نزولها ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية اه‍ وعلى ما في الكتابين لا يخفى ما في قول الدواني إنها مكية بالاتفاق من الدلالة على قلة الإطلاع. وآيها خمس في المكي والشامي أربع في غيرهما ووضعت هنا قيل للوزان في اللفظ بين فواصلها ومقطع سورة المسد وقيل وهو الأولى إنها متصلة بقل يا أيها الكافرون في المعنى فهما بمنزلة كلمة التوحيد في النفي والإثبات ولذا يسميان المقشقشتين وقرن بينهما في القراءة في صلوات كثيرة على ما قاله بعض الأئمة كركعتي الفجر والطواف والضحى وسنة المغرب وصبح المسافر ومغرب ليلة الجمعة إلا أنه فصل بينهما بالسورتين لما تقدم من الوجه ونحوه وكان في إيلائها سورة تبت ردا على أبي لهب بخصوصه وجاء فيها أخبار كثيرة تدل على مزيد فضلها منها ما تقدم
266

آنفا وروى مبارك بن فضالة عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله إني أحب هذه السورة * (قل هو الله أحد) * قال إن حبك إياها أدخلك الجنة وأخرجه الإمام أحمد في المسند عن أبي النضر عن مبارك المذكور عن أنس وذكر البخاري أن حبها يوجب دخول الجنة تعليقا وروى مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن قال سمعت أبا هريرة يقول أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ * (قل هو الله أحد) * فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت قلت وما وجبت قال الجنة وأخرجه النسائي والترمذي وقال حديث صحيح لا تعرفه إلا من حديث مالك وأخرج أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حسن غريب عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول اللهم أني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى وفي المسند عن محجن بن الأدرع إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فإذا هو برجل قد قضى صلاته وهو يتشهد ويقول إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قد غفر له قد غفر له قد غفر له وأخرج البخاري ومالك وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد أن رجلا سمع رجلا يقرأ * (قل هو الله أحد) * يرددها فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده أنها لتعدل ثلث القرآن وأخرج أحمد والنسائي في اليوم والليلة من طريق هشيم عن أبي بن كعب أو رجل من الأنصار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ * (قل هو الله أحد) * فكأنما قرأ بثلث القرآن " وفي رواية يوسف بن عطية الصفار بسنده عن أبي مرفوعا من قرأ * (قل هو الله أحد) * فكأنما قرأ ثلث القرآن وكتب له من الحسنات بعدد من أشرك بالله تعالى وآمن به وجاء أنها تعدل ثلث القرآن في عدة أخبار مرفوعة وموقوفة وفي المسند من طريق ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال بات قتادة بن النعمان يقرأ الليلة كله ب * (قل هو الله أحد) * فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال والذي نفسي بيده أنها لتعدل نصف القرآن أو ثلثه وحمل على الشك من الراوي والروايات تعين الثلث واختلف في المراد بذلك فقيل المراد أنها باعتبار معناها ثلث من القرآن المجزأ إلى ثلاثة لا أن ثواب قراءتها ثلث ثواب القرآن وإلى هذا ذهب جماعة لكنهم اختلفوا في بيان ذلك فقيل إن القرآن يشتمل على قصص وأحكام وعقائد وهي كلها مما يتعلق بالعقائد فكانت ثلثا بذلك الاعتبار وقال الغزالي في " الجواهر " ما حاصله هي عدل ثلثه باعتبار أنواع العلوم الثلاثة التي هي أم ما في القرآن علم المبدأ وعلم المعاد وعلم ما بينهما أعني الصراط المستقيم وقال الجوني المطالب التي في القرآن معظمها الأصول الثلاثة التي بها يصح الإسلام ويحصل الايمان وهي معرفة الله تعالى والاعتراف بصدق رسوله صلى الله عليه وسلم واعتقاد القيام بين يديه وهذه السورة تفيد الأصول الأولى فهي ثلثه من هذا الوجه وقيل القرآن قسمان خبر وإنشاء والخبر قسمان خبر عن الخالق وخبر عن المخلوق فهذه ثلاثة أثلاث وسورة الإخلاص أخلصت الخبر عن الخالق فهي بهذا الاعتبار ثلث وهذا كما ترى وأيا ما كان قيل لا تنافي بين رواية الثلث ورواية عدل القرآن كله المذكورة في " الكشاف " على تقدير ثبوتها لجواز أن يقال هي عدل القرآن باعتبار أن المقصود التوحيد وما عداه ذرائع إليه ويؤيد اعتبار الأجزاء أنفسها دون الثواب ما في " صحيح مسلم " من طريق قتادة عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيعجز أحدكم أن يقرأ كل يوم ثلث القرآن قالوا نعم قال فإن الله تعالى جزأ
القرآن
267

ثلاثة أجزاء ف * (قل هو الله أحد) * ثلث القرآن وقيل المراد تعدل الثلث ثوابا بالظواهر الأحاديث وضعف ذلك ابن عقيل وقال لا يجوز أن يكون المعنى فله أجر ثلث القرآن لقوله صلى الله عليه وسلم من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات فيكون ثواب قراءة القرآن بتمامه أضعافا مضاعفة بالنسبة لثواب قراءة هذه السورة والدواني أورد هذا إشكالا على هذا القول ثم أجاب بأن للقارىء ثوابين تفصيليا بحسب قراءة الحروف وإجماليا بسبب ختمه القرآن فثواب * (قل هو الله أحد) * يعدل ثلث ثواب الختم الإجمالي لا غيره ونظيره إذا عين أحد لمن يبني له دارا في كل يوم دنانير وعين له إذا أتمه جائزة أخرى غير أجرته اليومية وفي " شرح البخاري " للكرماني فإن قلت المشقة في قراءة الثلث أكثر منها في قراءتها فكيف يكون حكمه حكمها قلت يكون ثواب قراءة الثلث بعشر وثواب قراءتها بقدر ثواب مرة منها لأن التشبيه في الأصل دون الزائد وتسع منها في مقابلة زيادة المشقة وقال الخفاجي بعد أن قال ليس فيما ذكر ما يثلج الصدر ويطمئن له البال والذي عندي في ذلك أن للناظر في معنى كلام الله تعالى المتدبر لآياته ثوابا وللتالي له وإن لم يفهمه ثواب آخر فالمراد أن من تلاها مراعيا حقوق إدائها فاهما دقيق معانيها كانت تلاوته لها مع تأملها وتدبرها تعدل ثواب تلاوة ثلث القرآن من غير نظر في معانيه أو ثلث ليس فيه ما يتعلق بمعرفة الله تعالى وتوحيده ولا بدع في أشرف المعاني إذا ضم لبعض من أشرف الألفاظ أن يعدل من جنس تلك الألفاظ مقدارا كثيرا كلوح ذهب زنته عشرة مثاقيل مرصع بأنفس الجواهر يساوي ألف مثقال ذهبا فصاعدا انتهى ولا أرى له كثير امتياز على غيره مما تقدم والذي اختاره أن يقال لا مانع من أن يخص الله عز وجل بعض العبادات التي ليس فيها كثير مشقة بثواب أكثر من ثواب ما هو من جنسها واشق منها بأضعاف مضاعفة وهو سبحانه الذي لا حجر عليه ولا يتناهى وجوده وكرمه فلا يبعد أن يتفضل جل وعلا على قارىء القرآن بكل حرف عشر حسنات ويزيد على ذلك أضعافا مضاعفة جدا لقارىء الإخلاص بحيث يعدل ثوابه ثواب قارىء ثلث منه غير مشتمل على تلك السورة ويفوض حكمة التخصيص إلى علمه سبحانه وكذا يقال في أمثالها وهذا مراد من جعل ذلك من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه وليس هذا بأبعد ولاأبدع من تخصيص بعض الأزمنة والأمكنة المتحدة الماهية بأن للعبادة منه ولو قليلة من الثواب ما يزيد أضعافا مضاعفة على ثواب العبادة في مجاوره مثلا ولو كثيرة بل قد خص سبحانه بعض الأزمنة والأمكنة بوجوب العبادة فيه وبعضها بحرمتها فيه وله سبحانه في كل ذلك من الحكم ماهو به أعلم وقال ابن عبد البر السكون في هذه المسألة أفضل من الكلام فيها وأسلم وكذلك حديث معاوية بن معاوية الليثي الذي افتتح به الإمام الكلام في هذه السورة الكريمة خرجه الطبراني وأبو يعلى من طرق كلها ضعيفة والأحاديث الصحيحة الواردة فيها تكفي في فضلها بل
268

قيل لذلك أنها أفضل سورة في القرآن ومنهم من استدل عليه بما روى الدارمي في مسنده عن أبي المغيرة عن صفوان الكلاعي قال قال رجل يا رسول الله أي سور القرآن أعظم قال: * (قل هو الله أحد) * وفي " المسند " من طريقي معاذ بن رفاعة وأسيد بن عبد الرحمن عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم قلت بلى قال فاقرأني * (قل هو الله أحد) * و * (قل أعوذ برب الفلق) * و * (قل أعوذ برب الناس) * ثم قال يا عقبة لا تنساهن ولا تبت ليلة حتى تقرأهن وروى الترمذي بعض هذا الحديث وحسنه ولا يدل على أنها أفضل سور القرآن مطلقابل على أنها من الأفضل وقال ابن الحصاد العجب ممن ينكر الاختلاف في الفضل مع كثرة النصوص الواردة فيه واختلف القائلون بالتفضيل فقال بعضهم الفضل راجع إلى عظم ومضاعفة الثواب بحسب انتقالات النفس وخشيتها وتدبرها عند أوصاف العلا وقيل بل يرجع لذات اللفظ فإن تضمنته سورة الإخلاص مثلا من الدلالة على الوحدانية وصفاته تعالى ليس موجودا في تبت مثلا فالتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها ونقل الحليمي عن البيهقي أن معنى التفضيل بين الآيات والسور يرجع إلى أشياء أحدها أن يكون العمل بها أولى من العمل بأخرى وأعود على الناس وعلى هذا يقال في آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من آيات القصص لأنه إنما أريد بها تأكيد الأمر والنهي والإنذار والتبشير ولا غنى للناس عن هذه الأمور وقد يستغنون عن القصص فكان ما هو أعود عليهم وأنفع لهم مما يجري مجرى الأصول خير لهم مما يجعل تبعا لما لا بد منه الثاني أن يقال الآيات التي تشتمل على تعديد أسماء الله تعالى وبيان سفاته والدلالة على عظمته عز وجل أفضل بمعنى أنها أسنى وأجل قدرا مما لا تشتمل على ذلك الثالث أن يقال سورة خير من سورة أو آية خير من آية بمعنى أن القارىء يتعجل به بقراءتها فائدة سوى الثواب الآجر ويتأدى منه بتلاوتها عبادة كآية الكرسي والإخلاص والمعوذتين فإن قارئها يتعجل بقراءتها الاحتراز مما يخشى والاعتصام بالله تعالى ويتأدى بتلاوتها عبادة الله سبحانه لما فيها من ذكره تعالى بالصفات العلا على سبيل الاعتقاد لها وسكون النفس إلى فضل ذلك الذكر وبركته وأما آيات الحكم فلا يقع بنفس تلاوتها إقامة حكم وإنما يقع بها علم وقد يقال إن سورة أفضل من سورة لأن الله تعالى جعل قراءتها كقراءة أضعافها مما سواها وأوجب بها من الثواب ما لم يوجب سبحانه لغيهرا وإن كان المعنى الذي لأجله بلغ بها هذا المقدار لا يظهر لنا وهذا نظير ما يقال في تفضيل الأزمنة والأمكنة بعضها على بعض على ما سمعت آنفا وبالجملة التفضيل بأحد هذه الاعتبارات لا ينافي كون الكلام كلام الله عز وجل ومتحد النسبة إليه سبحانه كما لا يخفى والله تعالى أعلم.
* (قل هو الله أحد) *
* (قل هو الله أحد) * المشهور أن هو
269

ضمير الشأن ومحله الرفع على الابتداء خبره الجملة بعده ومثلها لا يكون لها رابط لأنها عين المبتدأ في المعنى والسر في تصديرها به التنبيه من أول الأمر على فخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة التحقيق والتقرير فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر جليل فيبقى الذهن مترقبا لما أمامه مما يفسره ويزيل إبهامه فيتمكن عند وروده له فضل تمكن وقول الشيخ عبد القاهر في " دلائل الإعجاز " أن له مع أن حسنا بل لا يصح بدونها غير مسلم نعم قال الشهاب القاسمي أن ههنا إشكالا لأنه إن جعل الخبر مجموع معنى الجملة المبين في باب القضية أعني مجموع الله ومعنى أحد والنسبة بينهما ففيه أن الظاهر أن ذلك المجموع ليس هو الشأن وإنما الشأن
مضمون الجملة الذي هو مفرد أعني الوحدانية وإن جعل مضمون الجملة الذي هو مفرد فتخصيص عدم الرابط بالجملة المخبر بها عن ضمير الشأن غير متجه إذ كل جملة كذلك لأن الخبر لا بد من اتحاده بالمبتدأ بحسب الذات ولا يتحد به كذلك إلا مضمون الجملة الذي هو مفرد وأجيب باختيار الشق الأول كما يرشد إليه تعبيرهم عن هذا الضمير أحيانا بضمير القصة ضرورة أن مضمون الجملة الذي هو مفرد ليس بقصة وإنما القصة معناها المبين في باب القضية وأيضا هم يعدون مثل قوله صلى الله عليه وسلم أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد من الجمل التي هي عين المبتدأ في المعنى الغير المحتاجة إلى الضمير لذلك ومن العلوم أن ما يقال ليس المضمون الذي هو مفرد بل هو الجملة بذلك المعنى ولذا تراهم يوجبون كسر همزة إن بعد القول وكذا تمثيلهم لها بنطقي الله حسبي وكفى أي منطوقي الذي أنطق به ذلك إذ من الظاهر أن ما نطق به هو الجملة بالمعنى المعروف وقد دل كلام ابن مالك في " التسهيل " على المراد يكون الجملة التي لا تحتاج إلى رابط عين المبتدأ أنها وقعت خبرا عن مفرد مدلوله جملة وهو ظاهر فيما قلنا أيضا وكون ذلك شأنا أي عظيما من الأمور باعتبار ما تضمنه ووصف الكلام بالعظم ومقابله بهذا الاعتبار شائع ذائع وقال العلامة أحمد الغنيمي إن أريد أنها عينه بحسب المفهوم فهو مشكل لعدم الفائد وإن أريد عينه بحسب المصدق مع الغاير في المفهوم كما هو شأن سائر الموضوعات مع محمولاتها فقد يقال إن مشكل أيضا إذ ما صدق ضمير الشأن أعم من الله أحد والخاص لا يحمل على العام في القضايا الكلية ودعوى الجزئية في هذا المقام ينبو عنه تصريحهم بأن ضمير الشأن لا يخلو عن إبهام وبعبارة أخرى وهي أن ما صدق عليه ضمير الشأن مفرد وما صدق الجملة مركب ولا شيء من المفرد بمركب ولذا تراهم يؤولون الجملة الواقعة خبرا بمفرد صادق على المبتدأ ليصح وقوعها خبرا والتزام ذلك في الجملة الواقعة خبرا عن ضمير الشأن ينافي تصريحهم بأنها غير مؤولة بالمفرد وإن كانت في موقعه وأجيب بأن معنى قولهم هو ضمير الشأن أنه ضمير راجع إليه وموضوع موضعه وإن لم يسبق له ذكر للإيذان بأنه من الشهرة والنباهة بحيث يستحضره كل أحد وإليه يشير كل مشير وعليه يعود كل ضمير وقولهم في عد الضمائر التي ترجع إلى متأخر لفظا ورتبة منها ضمير الشأن فإنه راجع إلى الجملة بعده مسامحة ارتكبوها لأن بيان الشأن وتعيين المراد به بها فما صدق الضمير هو بعينه ما صدق الشأن الذي عاد هو عليه فيختار الشق الثاني فإما أن يراد بالشأن الشأن المعهود ادعاء وتجعل القضية شخصية نظير هذا زيد وأما أن يراد المعنى الكلي وتجعل القضية مهملة وهي في قوة الجزئية كأنه قيل بعض الشأن الله أحد وجاء الإبهام الذي ادعى تصريحهم به من عدم تعين البعض قبل ذكر الجملة وحملها عليه وما صدق عليه الشأن كما يكون مفردا يكون جملة فليكن هنا كذلك واستمجد الأول واحتمال الكلية مبالغة نحو كل الصيد في جوف الفرا كما ترى فليتأمل وجوزوا أن يكون هو ضمير المسؤول عنه أو المطلوب صفته أو نسبته فقد أخرج الإمام أحمد في " مسنده " والبخاري في " تاريخه " والترمذي والبغوي في " معجمه " وابن عاصم في " السنة " والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد أنسب لنا ربك فأنزل الله تعالى: * (قل هو الله أحد) * السورة وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني في " الأوسط " والبيهقي بسند حسن وآخرون عن جابر قال جاء إعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أنسب لنا ربك فأنزل الله تعالى: * (قل هو الله أحد) * الخ وفي المعالم عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر إلام تدعونا يا محمد قال إلى الله قالا صفه لنا أمن ذهب هو أم من فضة أو من حديد أو من خشب فنزلت هذه السورة فأهلك الله تعالى أربد بالصاعقة وعامرا بالطاعون وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في " الأسماء والصفات " عن ابن عباس أن اليهود جاءت إلى النبي عليه الصلاة
270

والسلام منهم كعب بن الأشرف وحيى بن أخطب فقالوا يا محمد صف لنا ربك الذي بعثك فأنزل الله تعالى السورة وكون السائلين اليهود مروي عن الضحاك وابن جبير وقتادة ومقاتل وهو ظاهر في أن السورة مدنية وجاز رجوع الضمير إلى ذلك للعلم به من السؤال وجرى ذكره فيه وهو عليه مبتدأ والاسم الجليل خبره وأحد خبر بعد خبر وأجاز الزمخشري أن يكون بدلا من الاسم الجليل على ما هو المختار من جواز إبدال النكرة من المعرفة وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو أحد وأجاز أبو البقاء أن يكون الاسم الأعظم بدلا من هو وأحد خبره والله تعالى وتقدم علم على الذات الواجب الوجود كما ذهب إليه جمهور الأشاعرة وغيرهم خلافا للمعتزلة حيث قالوا العلم في حقه سبحانه محال لأن أحدا لا يعلم ذاته تعالى المخصوص بخصوصية حتى يوضع له وإنما يعلم بمفهومات كلية منحصرة في فرد فيكون اللفظ موضوعا لأمثال تلك المفهومات الكلية فلا يكون علما ورد بأنه تعالى عالم بخصوصية ذاته فيجوز أن يضع لفظا بإزائه بخصوصه فيكون علما وهذا على مذهب القائلين بأن الواضع هو الله تعالى ظاهر إلا أنه يلزم أن يكون ما يفهم من لفظ الله غير ما وضع له إذ لا يعلم غيره تعالى خصوصية ذاته تعالى التي هي الموضوع له على هذا التقدير والقول بأنه يجوز أن يكون المفهوم الكلى آلة للوضع ويكون الموضوع له هو الخصوصية التي يصدق عليها المفهوم الكلي كما قيل في هذا ونظائره يلزم عليه أيضا أن يكون وضع اللفظ لما لا يفهم منه فإنا لا نفهم من أسمائه تعالى إلا تلك المفهومات الكلية والظاهر أن الملائكة عليهم السلام كذلك لاحتجاب ذاته عز وجل عن غيره سبحانه ومن هنا استظهر بعض الأجلة ما نقل عن حجة الإسلام أن الأشبه أن الاسم الجليل جار في الدلالة على الموجود الحق الجامع لصفات الإلهية المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقي مجرى الإعلام أي وليس بعلم وقد مر ما يتعلق بذلك أول الكتاب فارجع إليه بقي في هذا المقام بحث وهو أن الإعلام الشخصية كزيد أما أن يكون كل منها موضوعا للشخص المعين كما هو المتبادر المشهور فإذا أخبر أحد بتولد ابن له فسماه زيدا مثلا من غير أن يبصره يكون ذلك اللفظ اسما للصورة الخيالية التي حصلت في مخيلته وحينئذ إذا لم يكن المولود بهذه السورة لم يكن إطلاق الاسم عليه بحسب ذلك الوضع ولو قيل بكونه موضوعا للمفهوم الكلي المنحصر في ذلك الفرد لم يكن علما كما سبق ثم إذا سمعنا علما من تلك الأعلام الشخصية ولم نبصر مسماه أصلا فإنا لا نفهم الخصوصية التي هو عليها بل ربما تخيلناه على غير ما هو عليه من الصور وإما أن يكون جميع تلك الصور الخالية موضوعا له فيكون من قبيل الألفاظ المشتركة بين معان غير محصورة وأما أن يكون الموضوع له هو الخصوصية التي هو عليها فقط فيكون غيرها خارجا عن الموضوع له فيكون فهم غيرها من الخصوصيات منه غلطا فإما أن يترك دعوى كون تلك الأعلام جزئيات حقيقة ويقال إنها
موضوعات للمفهومات الكلية المنحصرة في الفرد أو يلتزم أحد الاحتمالات الآخر وكلا الوجهين محل تأمل كما ترى فتأمل واحد قالوا همزته مبدلة من الواو وأصله واحد وإبدال الواو المفتوحة همزة قليل ومنه قولهم امرأة أناة يريدون وناة لأنه من الونى وهو الفتور وهذا بخلاف أحد الذي يلازم النفي ونحوه ويراد به العموم كما في قوله تعالى: * (لما منكم من أحد عنه حاجزين) * وقوله عليه الصلاة والسلام أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وقوله تعالى: * (هل تحس منهم من أحد) * وقوله سبحانه: * (فلا تدعو مع الله أحدا) * وقوله عز وجل: * (وإن أحد من المشركين استجارك) * فإن همزته أصلية وقيل الهمزة فيه أصلية كالهمزة في الآخرة والفرق بينهما قال الراغب أن المختص بالنفي منهما لاستغراق جنس الناطقين ويتناول القليل والكثير على طريق الاجتماع والافتراق نحو ما في الدار
271

أحد أي لا واحد ولا اثنان فصاعدا لا مجتمعين ولا مفترقين ولهذا لم يصح استعماله في الإثبات لأن نفي المتضادين يصح ولاي صح إثباتهما فلو قيل في الدار أحد لكان فيه إثبات واحد منفرد مع إثبات ما فوق الواحد مجتمعين ومفترقين وذلك ظاهر الإحالة ولتناول ذلك ما فوق الواحد يصح أن يقال ما من أحد فاضلين وعليه الآية المذكورة آنفا والمستعمل في الإثبات على ثلاثة أوجه الأول أن يضم إلى العشرات نحو أحد عشر واحد وعشرون والثاني أن يستعمل مضافا أومضافا إليه بمعنى الأول كما في قوله تعالى: * (إما أحدكما فيسقى ربه خمرا) * وقولهم يوم الأحد أي يوم الأول والثالث أن يستعمل مطلقا وصفا وليس ذلك إلا في وصف الله تعالى وهو وأن كان أصله واحدا إلا أن وحدا يستعمل في غيره سبحانه نحو قول النابغة: / جسم]
كأن رحلي وقد زال النهار بنا * بذي الجليل على مستأنس وحد
انتهى. وقال مكي أصل أحد واحد فأبدلوا الواو همزة فاجتمع ألفان لأن الهمزة تشبه الألف فحذفت إحداهما تخفيفا وفرق ثعلب بين أحد وواحد بأن أحدا لا يبني عليه العدد ابتداء فلا يقال أحد واثنان كما يقال واحد واثنان ولا يقال رجل أحد كما يقال رجل واحد ولذلك اختص به سبحانه وفرق بعضهم بينهما أيضا بأن الأحد في النفس نص في العموم بخلاف الواحد فإنه محتمل للعموم وغيره فيقال ما في الدار أحد ولا يقال بأن اثنان ويجوز أن يقال ما في الدار واحد بل اثنان ونقل عن بعض الحنفية أنه قال في التفرقة بينهما أن الأحدية لا تحتمل الجزئية والعددية بحال والواحدية تحتملها لأنه يقال مائة واحدة وألف واحد ولا يقال مائة أحد ولا ألف أحد وبنى على ذلك مسألة الإمام محمد بن الحسن التي ذكرها في " الجامع الكبير " إذا كان لرجل أربع نسوة فقال والله لا أقرب واحدة منكن صار موليا منهن جميعا ولم يجز أن يقرب واحدة منهن إلا بكفارة ولو قال والله لا أقرب أحداكن لم يصر موليا إلا من إحداهن والبيان إليه وفرق الخطابي بأن الأحدية لتفرد الذات والواحدية لنفي المشاركة في الصفات ونقل عن المحققين التفرقة بعكس ذلك ولما لم ينفك في شأنه تعالى أحد الأمرين من الآخر قيل الواحد الأحد في حكم اسم واحد وفسر الأحد هنا ابن عباس وأبو عبيدة كما قال ابن الجوزي بالواحد وأيد بقراءة الأعمش * (قل هو الله) * الواحد وفسر بما لا يتجزأ ولا ينقسم وقال بعض الأجلة أن الواحد مقول على ما تحته بالتشكيك فالمراد به هنا حيث أطلق المتصف بالواحدية التي لا يمكن أن يكون أزيد منها ولا أكمل فهو ما يكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد خارجا وذهنا وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامة المقتضية للألوهية وهو مأخوذ من كلام الرئيس أبي علي بن سينا في تفسيره السورة الجليلة حيث قال إن أحدا دال على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه وأنه لا كثرة هناك أصلا لا كثرة معنوية وهي كثرة المقومات والأجناس والفصول وكثرة الأجزاء الخارجية المتمايزة عقلا كما في المادة والصورة والكثرة الحسية بالقوة أو بالفعل كما في الجسم وذلك يتضمن لكونه سبحانه: منزها عن الجنس والفصل والمادة والصورة والأعراض والأبعاض والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما يثلم الوحدة الكاملة والبساطة الحقة اللائقة بكرم وجهه عز وجل عن أن يشبهه شيء أو يساويه سبحانه شيء وقال ابن عقيل الحنبلي الذي يصح لنا من القول مع إثبات الفات أنه تعالى واحد في إلهيته لا غير وقال غيره من السلفيين كالحافظ ابن رجب هو سبحانه الواحد في إلاهيته
272

وربوبيته فلا معبود ولا رب سواه عز وجل واختار بعد وصفه تعالى بما ورد له سبحانه من الصفات أن المراد الواحدية الكاملة وذلك على الوحهين كون الضمير للشأن وكونه للمسؤول عنه ولا يصح أن يراد الواحد بالعدد أصلا إذ يخلو الكلام عليه من الفائدة وذكر بعضهم أن الاسم الجليل يدل على جميع صفات الكمال وهي الصفات الثبوتية ويقال لها صفات الإكرام أيضا والأحد يدل على جميع صفات الجلال وهي الصفات السلبية ويتضمن الكلام على كونهما خبرين الأخبار بكون المسؤول عنه متصفا بجميع الصفات الجلالية والكمالية وتعقب بأن الإلهية جامعة لجميع ذلك بل كل واحد من الأسماء الحسنى كذلك لأن الهوية الإلهية لا يمكن التعبير عنها لجلالتها وعظمتها إلا بأنه هو هو وشرح تلك الهوية بلوازم منها ثبوتية ومنها سلبية واسم الله تعالى متناول لهما جميعا فهو إشارة إلى هويته تعالى والله سبحانه كالتعريف لها فلذا عقب به وكلام الرئيس ينادي بذلك وسنشير إليه إن شاء الله تعالى وقرأ عبد الله وأبي هو الله أحد بغير قل وقد اتفقوا على أنه لا بد منها في * (قل يا أيها الكافرون) * ولا تجوز في تبت فقيل لعل ذلك لأن سورة الكافرين مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم أو موادعته عليه الصلاة والسلام لهم ومثل ذلك يناسب أن يكون من الله تعالى لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالإنذار والجهاد وسورة تبت معاتبة لأبي لهب والنبي عليه الصلاة والسلام على خلق عظيم وأديب جسيم فلو أمر بذلك لزم مواجهته به وهو عمه صلى الله عليه وسلم وهذه السورة توحيد وهو يناسب أن يقول به تارة ويؤمر بأن يدعو إليه أخرى وقيل في وجه قل في سورة الكافرون أن فيها ما لا يصح أن يكون من الله تعالى كلا أعبد ما تعبدون فلا بد فيها من ذكر قل وفيه نظر لأنه لا يلزم ذكره بهذا اللفظ فافهم وقال الدواني في وجه ترك قل في تبت لا يبعد أن يقال أن القول بمعاتبة أبي لهب إذا كان من الله تعالى كان أدخل في زجره وتفضيحه وقيل فيه رمز إلى أنه لكونه على العلات عمه صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يهينه بمثل هذا الكلام إلا الذي خلقه إذ لا يبعد أن يتأذى مسلم من أقاربه لو سبه أحد غيره عز وجل فقد أخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهما قال مرت درة ابنة أبي لهب برجل فقال هذه ابنة عدو الله أبي لهب فأقبلت عليه فقالت ذكر الله تعالى أبي بنباهته وشرفه وترك أباك بجهالته ثم ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه
وسلم فخطب فقال لا يؤذين مسلم بكافر ثم إن إثبات قل على قراءة الجمهور في المصحف والتزام قراءتها في هذه السورة ونظائرها مع أنه ليس من دأب المأمور بقل إن يتلفظ في مقام الائتمار إلا بالمقول قال الماتريدي في التأويلات لأن المأمور ليس المخاطب به فقط بل كل أحد ابتلى بما ابتلى به المأمور فأثبت ليبقى على مر الدهور منا على العباد وقيل يمكن أن يقال المخاطب بقل نفس التالي كأنه تعالى أعلم به أن كل أحد عند مقام هذا المضمون ينبغي أن يأمر نفسه بالقول به وعدم التجاوز عنه فتأمل والله تعالى الموفق وقوله تعالى:
* (الله الصمد) *
* (الله الصمد) * مبتدأ وخبر وقيل الصمت نعت والخبر ما بعده وليس بشيء. والصمد قال ابن الأنباري لا خلاف بين أهل اللغة أنه السيد الذي ليس فوقه أحد الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم وقال الزجاج هو الذي ينتهي إليه السودد ويصمد إليه أي يقصد كل شيء وأنشدوا: لقد بكر الناعي بخير بني أسد * بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وقوله: علوته بحسام ثم قلت له * خذها خزيت فأنت السيد الصمد
وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال هو السيد الذي قد كمل في سودده والشريف الذي قد كمل في شرفه والعظيم
273

الذي قد كمل في عظمته والحليم الذي قد كمل في حلمه والعليم الذي قد كمل في علمه والحكيم الذي قد كمل في حكمته وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسودد وعن أبي هريرة هو المستغني عن كل أحد المحتاج إليه كل أحد وعن ابن جبير هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وعن الربيع هو الذي لا تعتريه الآفات وعن مقاتل بن حيان هو الذي لا عيب فيه وعن قتادة هو الباقي بعد خلقه ونحوه قول معمر هو الدائم وقول مرة الهمداني هو الذي يبلي ولا يفني وعنه أيضا هو الذي يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ولأراد لقضائه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال لا أعلمه إلا قد رفعه قال الصمد الذي لا جوف له وروى عن الحسن ومجاهد ومنه قوله: شهاب حروب لا تزال جياده * عوابس يعلكن الشكين المصمدا
وعن أبي عبد الرحمان السلمي عن ابن مسعود قال الصمد الذي ليس له أحشاء وهو رواية عن ابن عباس وعكرمة هو الذي لا يطعم وفي رواية أخرى الذي لم يخرج منه شيء وعن الشعبي هو الذي لا يأكل ولا يشرب وعن طائفة منهم أبي بن كعب والربيع بن أنس أنه الذي لم يلد ولم يولد كأنهم جعلوا ما بعده تفسيرا له والمعول عليه تفسيرا بالسيد الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج والمطالب وتفسيره بالذي لا جوف له وما عداهما إما راجع إليهما أو هو مما لا تساعد عليه اللغة وجعل معنى كونه تعالى سيدا أنه مبدأ الكل وفي معناه تفسيره بالغنى المطلق المحتاج إليه ما سواه وقال يحتمل أن يكون كلا المعنيين مرادا فيكون وصفا له تعالى بمجموع السلب والإيجاب وهو ظاهر في جواز استعمال المشترك في كلا معنييه كما ذهب إليه الشافعي والذي اختاره تفسيره بالسيد الذي يصمد إليه الخلق وهو فعل بمعنى مفعول من صمد بمعنى قصد فيتعدى بنفسه وباللام وإطلاق الصمد بمعنى السيد عليه تعالى مما لا خلاف فيه وإن كان في إطلاق السيد نفسه خلاف والصحيح إطلاقه عليه عز وجل كما في الحديث السيد الله وقال السهيلي لا يطلق عليه تعالى مضافا فلا يقال سيد الملائكة والناس مثلا وقصد الخلق إياه تعالى بالحوائج أعم من القصد الإرادي والقصد الطبيعي والقصد بحسب الاستعداد الأصلي الثابت لجميع الماهيات إذ هي كلها متوجهة إلى المبدأ تعالى في طلب كمالاتها منه عز وجل وتعريفه دون أحد قيل لعلمهم بصمديته تعالى دون أحديته وتعقب بأنه لا يخلو عن كدر لأن علم المخاطب بمضمون الخبر لا يقتضي تعريفه بل إنما يقتضي أن لا يلقى إليه إلا بعد تنزيله منزلة الجاهل لأن إفادة لازم فائدة الخبر بمعزل عن هذا المقام فالأولى أن يقال إن التعريف لإفادة الحصر كقولك زيد الرجل ولا حاجة إليه في الجملة السابقة بناء على أن مفهوم أحد المنزه عن أنحاء التركيب والتعدد مطلقا إلى آخر ما تقدم مع أنهم لا يعرفون أحديته تعالى ولايعترفون بها واعترض بأنه يقتضي أن الخبر إذا كان معلوما للمخاطب لا يخبر به إلا بتنزيله منزلة الجاهل أو إفادته لازم فائدة الخبر أو إذا قصد الحصر وهو ينافي معلوما للمخاطب لا يخبر به إلا بتنزيله منزلة الجاهل أو إفادته لازم فائدة الخبر أو إذا قصد الحصر وهو ينافي ما تقرر في المكعاني من أن كون المبتدا والخبر معلومين لا ينافي كون الكلام مفيدا للسامع فائدة مجهولة لأن ما يستفيده السامع من الكلام هو انتساب أحدهما للآخر وكونه هو هو فيجوز أن يقال هنا إنهم يعرفونه تعالى بوجه ما ويعرفون معنى المقصود سواء كان هو الله سبحانه أو غيره عندهم ولكن لا يعرفون أنه هو سواء كان بمعنى الفرد الكامل أو الجنس فعينه الله تعالى لهم وقيل إن أحد في غير النفي والعدد لا يطلق على غيره تعالى فلم يحتج إلى تعريفه بخلاف الصمد فإنه جاء في كلامهم إطلاقه على غيره عز وجل أي كما في البيتين السابقين فلذا عرف وتكرر الاسم الجليل دون الاتيان بالضمير قيل للاشعار بأن من لم يتصف بالصمدية لم يستحق الألوهية وذلك على ما صرح به الدواني مأخوذ من إفادة تعريف الجزأين الحصر فإذا قلت السلطان العادل أشعر بأن من لم يتصف
274

بالعدل لم يستحق السلطنة وقيل ذلك لأن تعليق الصمد بالله يشعر بعلية الألوهية للصمدية بناء على أنه في الأصل صفة وإذا كانت الصمدية نتيجة للألوهية لم يستحق الألوهية من لم يتصف بها وبحث فيه بأن الألوهية فيما يظهر للصمدية لأنه إنما يعبد لكونه محتاجا إليه دون العكس إلا أن يقال المراد بالألوهية مبدؤها وما تترتب عليه لا كونه معبودا بالفعل وإنما لم يكتف بمسند إليه واحد لأحد والصمد هو الاسم الجليل بأن يقال الله الأحد الصمد للتنبيه على أن كلا من الوصفين مستقل في تعيين الذات وترك العاطف في الجملة المذكورة لأنها كالدليل عليه فإن من كان غنيا لذاته محتاجا إليه جميع ما سواه لا يكون إلاواحد أو ما سواه لا يكون إلا ممكنا محتاجا إليه أو لأنها كالنتيجة لذلك بناء على أن الأحدية تستلزم الصمدية والغنى المطلق وبالجملة هذه الجملة من وجه تشبه الدليل ومن وجه تشبه النتيجة فهي مستأنفة أو مؤكدة وقرأ أبان بن عثمان وزيد بن علي ونصر بن عاصم وابن سيرين والحسن وابن أبي إسحق وأبو السمال وأبو عمر وفي رواية يونس ومحبوب والأصمعي واللؤلؤي وعبيد أحد الله بحذف التنوين لالتقائه مع لام التعريف وهو موجود في كلام العرب وأكثر ما يوجد في الشعر كقول أبي الأسود الدؤلي: / جسم]
فألقيته غير مستعتب * ولا ذاكر الله إلا قليلا
وقول الآخر: عمرو الذي هشم الثريد لضيفه * ورجال مكة مسنتون عجاف
والجيد هو التنوين وكسره لالتقاء الساكنين وقوله تعالى:
* (لم يلد ولم يولد) *
* (لم يلد) * الخ على نحو ما سبق ونفى ذلك عنه تعالى لأن الولادة تقتضي انفصال مادة منه سبحانه وذلك يقتضي التركيب المنافي للصمدية والأحدية أو لأن الولد من جنس أبيه ولا يجانسه تعالى أحد لأنه سبحانه واجب وغيره ممكن ولأن الولد على ما قيل يطلبه العاقل إما لإعانته أو ليخلفه بعده وهو سبحانه دائم باق غير محتاج إلى شيء من ذلك والاقتصار على الماضي دون أن يقال لن يلد لوروده ردا على من قال إن الملائكة بنات الله سبحانه، أو المسيح ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ويجوز أن يكون المراد استمرار النفي وعبر بالماضي لمشاكلة قوله تعالى: * (ولم يولد) * وهو لا بد أن يكون بصيغة الماضي ونفى المولودية عنه سبحانه لاقتضائها المادة، فيلزم التركيب المنافي للغنى المطلق والأحدية الحقيقية أو لاقتضائها سبق العدم ولو بالذات أولاقتضائها المجانسة المستحيلة على واجب الوجود وقدم نفي الولادة لأنه الأهم لأن طائفة من الكفار توهموا خلافه بخلاف نفي المولودية أو لكثرة متوهمي خلاف الأول دون خلاف الثاني بناء على أن النصارى يلزمهم بواسطة دعوى الاتحاد القول بالولادة والمولودية فيمن يعتقدونه إلها وذلك على ما تضمنته كتبهم أنهم يقولون الأب هو الأقنوم الأول من الثالوث والابن هو الثاني الصادر منه صدورا أزليا مساويا بالأزلية له وروح القدس هو الثالث الصادر عنهماكذلك والطبيعة الإلهية واحدة وهي لكل من الثلاثة وكل منها متحد معها ومع ذلك هم ثلاثة جواهر لا جوهر واحد فالأب ليس هو الابن والابن ليس هو الأب وروح القدس ليس هو الأب ولا الابن وهما ليسا روح القدس ومع ذا هم إله واحد إذ لهم لاهوت واحد وطبيعة واحدة وجوه رواحد وكل منهم متحد مع اللاهون وإن كان بينهم تمايز والأول هو الوجود الواجد الجوهري والثاني هو العقل الجوهري ويقال له العلم والثالث هو الإدارة الجوهرية ويقال لها المحبة فالله ثلاثة أقانيم جوهرية وهي على تمايزها تمايزا حقيقيا وقد يطلقون عليه إضافيا أي بإضافة بعضها إلى بعض جوهر وطبيعة واحدة هو الله وليس يوجد فيه غيره بل كل ما هو داخل فيه عين ذاته ويقولون إن فيه تعالى عما يقولون أربع إضافات أولاها فاعلية التعقيل في الأقنوم الأول ثانيتها مفعولية التعقل في الأقنوم الثاني
275

الذي هو صورة عقل الأب ثالثتها فاعلية الانبثاق في الأقنوم الأول والثاني اللذين لهما الإرادة رابعتها مفعولية هذا الانبثاق في الأقنوم الثالث الذي هو حب الإرادة الإلهية التي للاقنوم الأول والثاني وزعموا أن التعبير بالفاعلية والمفعولية في الأقانيم الإلاهية على سبيل التوسع وليست الفاعلية في الأب نحو الابن إلا الأبوة وفيه وفي الابن نحو روح القدس ليست إلا بدء صدوره منهما وليست المفعولية في الابن وروح القدس إلا البنوة في الابن والانبثاق في الروح ويقولون كل ذلك مما يجب الايمان به وإن كان فوق الطور البشري ويزعمون أن لتلك الأقانيم أسماء تلقوها من الحواريين فالأقنوم الأول في الطبع الإلهي يدعى أبا والثاني ابنا وكلمة وحكمة ونورا وضياء وشعاعا والثالث روح القدس ومغريا وهو معنى قولهم باليونانية اراكليط وقالوا في بيان وجه الإطلاق إن ذلك لأن الأقنوم الأول بمنزلة ينبوع ومبدأ أعطى الأقنوم الثاني الصادر عنه بفعل يقتضي شبه فاعله وهو فعل العقل طبيعته وجوهره كله حتى إن الأقنوم الثاني الذي هو صورة الأول الجوهرية الإلهية مساو له كمال المساواة وحد الإيلاد هو صدور حي من حي بآلة ومبدا مقارن يقتضي شبه طبيعته وهنا كذلك بل أبلغ لأن للثاني الطبيعية الإلهية نفسها فلا بدع إذا سمي الأول أبا والثاني ابنا وإنما قيل للثاني كلمة لأن الإيلاد ليس على نحو إيلاد الحيوان والنبات بل يفعل العقل أي يتصور الأب لاهوته وفهمه ذاته ولا شك أن تلك الصورة كلمة لأنها مفهومية العقل ونطقه وقيل لها حكمة لأنه كان مولودا من الأب بفعل عقله الإلهي الذي هو حكمة وقيل له نور وشعاع وضياء لأنه حيث كان حكمة كان به معرفة حقائق الأشياء وانكشافها كالمذكورات وقيل للثالث روح قدس لأنه صادر من الأب والابن بفعل الإرادة التي هي واحدة للأب والابن ومنبثق منهما بفعل كهيجان الإرادة بالحب نحو محبوبها فهو حب الله والله نفسه هو الروح الصرف والتقدس عينه ولكل من الأول والثاني وجه لأن يدعي روحا لمكان الاتحاد لكن لما دعى الأول باسم يدل على رتبته وإضافته إلى الثاني والثاني كذلك اختص الثالث بالاسم المشاع ولم يدع ابنا وإن كان له طبيعة الأب وجوهره كالابن لأنه لم يصدر من الأب بفعل يقتضي شبه فاعله يعني بفعل القعل بل صدر منه فعل الإرادة فالثاني من الأول كهابيل من آدم والثالث كحواء منه والكل حقيقة واحدة لكن يقال لهابيل ابن ولا يقال لها بنت وقيل له مغزى لأنه كان عتيدا لأن يأتي الحواريين فيغريهم لفقد المسيح عليه السلام وأما الفاعلية والمفعولية فلأنهما غير موجودين حقيقة والأبوة والبنوة ههنا لا تقتضيهما كما في المحدثات ولذا لا يقال هنا للأب علة وسبب لابنه وإن قيل هناك فالثلاثة متساوية في الجوهر والذات واستحقاق العبادة والفضل من كل وجه ثم أنهم زعموا تسجد الأقنوم الثاني وهو الكلمة واتحاده بأشرف أجزاء البتول من الدم بقوة روح القدس فكان المسيح عليه السلام المركب من الناسوت والكلمة والكلمة مع اتحادهما لم تخرج عن بساطتها ولم تتغير لأنها الحد الذي ينتهي إليه الاتحاد فلا مانع في جهتها من الاتحاد وكذا لا مانع في جانب الناسوت منه فلا يتعاصى الله تعالى شيء زعموا أن المسيح عليه السلام كان إلها تاما وإنسانا تاما ذا طبيعتين ومشيئتين قائمتين باقنوم إلهي وهو اقنوم الكلمة ومن ثم تحمل عليه الصفات الإلهية والبشرية معا لكن من حيثيتين ثم إنهم زادوا في الطنبور رنة وقالوا إن المسيح أطعم يوما الحواريين خبزا وسقاهم خمرا، فقال أكلتم لحمي وشربتم دمي فاتحدتم معي وأنا متحد مع الأب إلى رنات أخر هي أشهر من أن تذكر ويعلم مما ذكرنا أنه لا فرق عندهم بين أن يقال إن الله تعالى هو المسيح وبين أن يقال أن المسيح ابنه وبين أن يقال إنه سبحانه ثالث ثلاثة ولذا جاء في التنزيل كل من هذه الأقوال منسوبا إليهم ولا حاجة إلى جعل كل قول لقوم منهم كما قال غير واحد
276

من المفسرين والمتكلمين ثم لا يخفى منافاة ما ذكروه للأحدية والصمدية وقولهم إن الأقانيم مع كونها ثلاث جواهر متمايزة تمايزا حقيقيا جوهر واحد لبداهة بطلانه لا يسمن
ولا يغنى وما يذكرونه من المثال لإيضاح ذلك فهو عن الإيضاح بمعزل وبعيد عن المقصود بألف ألف منزل وكنا ذكرنا في ضمن هذا الكتاب ما يتعلق ببعض عقائدهم مع رده إلا أنه كان قبل النظر في كتبهم وقد اعتمدنا فيه ما ذكره المتكلمون عنهم واليوم لنا عزم على تأليف رسالة تتضمن تحرير اعتقاداتهم في الواجب تعالى وذكر شبههم العقلية والنقلية التي يستندون إليها ويعولون في التثليث عليها حسبما وقفنا عليه في كتبهم مع ردها على أكمل وجه إن شاء الله تعالى ونسأل الله تعالى التوفيق لذلك وأن يسلك سبحانه بنا في جميع أمورنا أقوم المسالك فهو سبحانه الجواد الأجود الذي لم يجبه من توجه إليه بالرد.
* (ولم يكن له كفوا أحد) *
* (ولم يكم له كفوا أحد) * أي لم يكافئه أحد ولم يماثله ولم يشاكله من صاحبة وغيرها وقيل هو نفي للكفاءة المعتبرة بين الأزواج وهو كما ترى وله صلة كفوا على ما ذهب إليه المبرد وغيره والأصل أن يؤخر إلا أنه قدم للاهتمام لأن المقصود نفي المكافاة عن ذاته عز وجل وللاهتمام أيضا قدم الخبر مع ما فيه من رعاية الفواصل قيل له إن الظرف هنا وإن لم يكن خيرا مبطل سقوطه معنى لكلام لأنك لو قلت لم يكن كفوا أحد لم يكن له معنى فلما احتيج إليه صار بمنزلة الخبر فحسن ذلك وقال أبو حيان كلام سيبويه في الظرف الذي يصلح أن يكون خبرا وهو الظرف التام وما هنا ليس كذلك وقال ابن الحاجب قدم الظرف للفواصل ورعايتها ولم يقدم على أحد لئلا يفصل بين المبتدا وخبره وفيه نظر ظاهر وجوز أن يكون الظرف حالا من أحد قدم عليه رعاية للفاصلة ولئلا يلتبس بالصفة أو الصلة وأن يكون خبرا ليكن ويكون كفوا حالا من أحد قدم عليه لكونه نكرة أو حالا من الضمير في الظرف الواقع خبرا وهذا الوجه نقله أبو علي في الحجة عن بعض النحاة ورد بأنه كما سمعت آنفا عن أبي حيان ظرف ناقص لا يصح أن يكون خبرا فإن قدر له متعلق خاص وهو مماثل ونحوه مما تتم به الفائدة يكون كفوا زائدا ولعل وقوع الجمل الثلاث متعاطفة دون ماعداها من هذه السورة لأنها سيقت لمعنى وغرض واحد وهو نفي المماثلة والمناسبة عنه تعالى بوجه من الوجوه وما تضمنته أقسامها لأن المماثل إما ولد أو والد أو نظير غيرهما فلتغاير الأقسام واجتماعها في المقسم لزم العطف فيها بالواو كما هو مقتضى قواعد المعاني وفي كفوا لغات ضم الكاف وكسرها وفتحها مع سكون الفاء وضم الكاف مع ضم الفاء وقراءة حمزة ويعقوب ونافع في رواية كفؤا بالهمز والتخفيف وحفص بالحركة وإبدال الهمزة واوا وباقي السبعة بالحركة مهموزا وسهل الهمزة الأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع في رواية وفي أخرى عنه كفى من غير همز نقل حركة الهمزة إلى الفاء وحذف الهمزة وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس كفاء بكسر الكاف وفتح الفاء والمد كما في قول النابغة: لا تقذفني بركن لا كفاء له
أي لا مثل له كما قال الأعلم وهذه السورة الجليلة قد انطوت مع تقارب قطرها على أشتات المعارف الإلهية والعقائد الإسلامية ولذا جاء فيها ما جاء من الأخبار وورد ما ورد من الآثار ودل على تحقيق معنى الآلهة بالصمدية التي معناها وجوب الوجود أو المبدئية لوجود كل ما عداه من الموجودات تم عقب ذلك ببيان أنه لا يتولد عنه غيره لأنه غير متولد عن غيره وبين أنه تعالى وإن كان إلها لجميع الموجودات فياضا للوجود عليها
277

فلا يجوز أن يفيض الوجود على مثله كما لم يكن وجوده من غيره ثم عقب ذلك ببيان أنه ليس في الوجود ما يساويه في قوة الوجود فمن أول السورة إلى الصمد في بيان ماهيته تعالى ولوازم ماهيته ووحدة حقيقته وإنه غير مركب أصلا ومن قوله تعالى لم يلد إلى أحد في بيان أنه ليس ما يساويه من نوعه ولا من جنسه لا بأن يكون سبحانه متولدا ولا بأن يكون متولدا عنه ولا بأن يكون موازي في الوجود وبهذا المبلغ يحصل تمام معرفة ذاته عز وجل انتهى وأشار فيه إلى أن ولم يولد كالتعليل لما قبله وكأن قد قال قبل إن كل ما كان ماديا أو كان له علاقة بالمادة يكون متولدا عن غيره فيصير تقدير الكلام لم يلد لأنه لم يتولد والإشارة إلى دليله فهو أول السورة فإنه لما لم يكن له ماهية واعتبار سوى أنه هو لذاته وجب أن لا يكون متولدا عن غيره إلا لكانت هويته مستفادة عن غيره فلا يكون هو لذاته وظاهر العطف يقتضي عدم اعتبار ما أشار إليه من العلية وقد علمت فيما سبق وجه ذكره وجعل بعضهم العطف فيه قريبا من عطف لا يستقدمون على لا يستأخرون وأشار بعض السلف إلى أن ذكر ذلك لأنه جاء في سبب النزول أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه من أي شيء هو أمن كذا أم من كذا وممن ورث الدنيا ولمن يورثها وقال الإمام أن هو الله أحد ثلاثة ألفاظ وكل واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات الطالبين فالمقام الأول مقام المقربين وهو أعلى مقامات السائرين إلى الله تعالى وهؤلاء نظروا بعيون عقولهم إلى ماهيات الأشياء وحقائقها من حيث هي فما رأوا موجودا سوى الحق لأنه الذي يجب وجوده لذاته وما عداه ممكن لذاته فهو من حيث ذاته ليس فقالوا هو إشارة إلى الحق إذ ليس هناك في نظرهم موجود يرجع إليه سواه عز وجل ليحتاج إلى التمييز والمقام الثاني لأصحاب اليمين وهؤلاء شاهدوا الحق سبحانه موجودا وكذا شاهدوا الخلق فحصلت كثرة في الموجودات في نظرهم فلم يكن هو كافيا في الإشارة إلى الحق بل لا بد من مميز فاحتاجوا إلى أن يقرنوا لفظة الله بلفظ فقيل لأجلهم هو الله والمقام الثالث مقام أصحاب الشمال الذين يجوزون أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد والإله كذلك فجيء بأحد ردا عليهم وإبطالا لمقالتهم انتهى وبعض الصوفية عد لفظة هو من عداد الأسماء الحسنى بل قال إن هاء الغيبة هي اسمه تعالى الحقيقي لدلالته على الهوية المطلقة مع كونه من ضروريات التنفس الذي به بقاء حياة النفس وإشعار رسمه بالإحاطة ومرتبته من العدد إلى دوامه وعدم فنائه ونقل الدواني عن الإمام أنه قال علمني بعض المشايخ يا هو يا من هو يا من لا إله إلا هو وعلى ذلك اعتقاد أكثر المشايخ اليوم ولم يرد ذلك في الأخبار المقبولة عند المحدثين والله تعالى أعلم.
سورة الفلق
مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر ورواية كريب عن ابن عباس مدنية في قول ابن عباس في رواية أبي صالح وقتادة وجماعة وهو الصحيح لأن سبب نزولها سحر اليهود كما سيأتي إن شاء الله تعالى وهم إنما سحروه عليه الصلاة والسلام بالمدينة كما جاء في الصحاح فلا يلتفت لمن صحح كونها مكية وكذا الكلام في سورة الناس وآيها خمس بلا خلاف ولما شرح أمر الإلهية في السورة قبلها جيء بها بعدها شرحا لما يستعاذ منه بالله تعالى من الشر الذي في مراتب العالم ومراتب مخلوقاته
وهي والسورة التي بعدها نزلتا معا كما في " الدلائل " للبيهقي فلذلك قرنتا مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين ومن الافتتاح ب * (قل أعوذ) *. وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهما عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت علي الليلة آيات لم أر مثلهن قط
278

* (قل أعوذ برب الفلق) * و * (قل أعوذ برب الناس) * وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما * (قل هو الله أحد) * و * (قل أعوذ برب الفلق) * و * (قل أعوذ برب الناس) * ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات وجاء في الحديث أن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي وثلاثا حين يصبح كفته من كل شيء وفي فضلهما أخبار كثيرة غير ما ذكر وعن ابن مسعود أنه أنكر قرآنيتهما أخرج الإمام أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق صحيحة عنه أنه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول لا تخلطوا القرآن بما ليس منه أنهما ليستا من كتاب الله تعالى إنماأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما قال البزار لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف وأخرج الإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن حبان وغيرهم عن زر بن حبيش قال أتيت المدينة فلقيت أبي بن كعب فقلت له يا أبا المنذر إني رأيت ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه فقال أما والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما وما سألني عنهما أحد منذ سألت غيرك فقال قيل لي قل فقلت فقولوا فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذا الاختلاف قدح بعض الملحدين في " إعجاز القرآن " قال لو كانت بلاغة ذلك بلغت حد الإعجاز لتميز به عن غير القرآن فلم يختلف في كونه منه وأنت تعلم أنه قد وقع الإجماع على قرآنيتهما وقالوا إن إنكار ذلك اليوم كفر ولعل ابن مسعود رجع عن ذلك وفي شرح المواقف أن اختلاف الصحابة في بعض سور القرآن مروي بالآحاد المفيدة للظن ومجموع القرآن منقول بالتواتر المفيد لليقين الذين يضمحل الظن في مقابلته فتلك الآحاد مما لا يلتفت إليه ثم إن سلمنا اختلافهم فيما ذكر قلنا إنهم لم يختلفوا في نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم ولا في بلوغه في البلاغة حد الإعجاز بل في مجرد كونه من القرآن وذلك لا يضر فيما نحن بصدده انتهى وعكس هذا القول في السورتين المذكورتين قيل في سورتي الخلع والحفد وفي ألفاظهما روايات منها ما يقنت به الحنفية فقد روى أنهما في مصحف أبي بن كعب وفي مصحف ابن عباس وفي مصحف ابن مسعود فهما إن صح أنهما كلام الله تعالى منسوخا التلاوة وليسا من القرآن كما لا يخفى.
* (قل أعوذ برب الفلق) *.
* (قل أعوذ) * أي ألتجيء وأعتصم وأتحرز * (برب الفلق) * فعل بمعنى مفعول صفة مشبهة كقصص بمعنى مقصوص من فلق شق وفرق وهو يعم جميع الموجودات الممكنة فإنه تعالى فلق بنور الإيجاد عنها سيما ما يخرج من أصل كالعيون من الجبال والأمطار من السحاب والنبات من الأرض والأولاد من الأرحام وخص عرفا بالصبح وإطلاقهم المفلوق عليه مع قولهم فلق الله تعالى الليل عن الصبح على نحو إطلاق المسلوخ على الشاة مع قولهم سلخت الجلد من الشاة وتفسيره بالمعنى العام أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ولفظه الفلق الخلق وأخرج الطستي عنه أنه فسره بالصبح وأنشد رضي الله تعالى عنه قول زهير: الفارج الهم مسد ولا عساكره * كما يفرج غم الظلمة الفلق
وهو مروي عن جابر بن عبد الله ومجاهد وقتادة وابن جبير والقرطبي وابن زيد وعليه فتعليق العياذ باسم الرب المضاف إلى الفلق المنبىء عن النور عقيب الظلمة والسعة بعد الضيق والفتق بعد الرتق عدة كريمة بإعاذة العائذ مما يعوذ منه وانجائه
279

منه وتقوية لرجائه بتذكير بعض نظائره ومزيد ترغيب له في الجد والاعتناء بقرع باب الالتجاء إليه عز وجل وقيل إن في تخصيص الفلق بالذكر لأنه أنموذج من يوم القيامة فالدور كالقبور والنوم أخو الموت والخارجون من منازلهم صباحا منهم من يذهب لنضرة وسرور ومنهم من يكون من مطالبة ديون في غموم وشرور إلى أحوال أخر تكون للعباد هي أشبه شيء بما يكون لهم في المعاد وفي تفسير القاضي أن لفظ الرب ههنا أوقع من سائر الأسماء أي التي يجوز إضافتها إلى الفلق على ما قيل لأن الإعاذة من المضار تربية وهو على تعميم الفلق ظاهر لشموله للمستعيذ والمستعاذ منه وعلى تخصيصه بالصبح قيل لأنه مشعر بأنه سبحانه قادر مغير للأحوال مقلب للأطوار فيزيل الهموم والأكدار وقال الرئيس بن سينا بعد أن حمل الفلق على ظلمة العدم المفلوقة بنور الوجود إن في ذكر الرب سرا لطيفا من حقائق العلم وذلك أن المربوب لا يستغني في شيء من حالاته عن الرب كما يشاهد في الطفل ما دام مربوبا ولما كانت الماهيات الممكنة غير مستغنية عن إفاضة المبدأ الأول لا جرم ذكر لفظ الرب للإشارة إلى ذلك وفيه إشارة أخرى من خفيات العلوم وهو أن العوذ والعياذ في اللغة عبارة عن الالتجاء إلى الغير فلما أمر بمجرد الالتجاء إلى الغير وعبر عنه بالرب دل ذلك على أن عدم الحصول ليس لأمر يرجع إلى المستعاذ به المفيض للخيرات بل لأمر يرجع إلى قابلها فإن من المقرر أنه ليس شيء من الكمالات وغيرها مبخولا به من جانب المبدأ الأول سبحانه بل الكل حاصل موقوف على أن يصرف المستعد جهة قبوله إليه وهو المعنى بالإشارة النبوية إن لربكم في أيام دهركم نفحات من رحمته إلا فتعرضوا لها بين أن نفحات الألطاف دائمة وإنماالخلل من المستعد انتهى وفي رواية عن ابن عباس أيضا وجماعة من الصحابة والتابعين أن الفلق جب في جهنم وأخرج ابن مردويه والديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل * (قل أعوذ برب الفلق) * قال هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون وإن جهنم لتعوذ بالله تعالى منه وأخرج ابن مردويه عن عمرو بن عنبسة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: * (قل أعوذ برب الفلق) * فقال يا ابن عنبسة أتدري ما الفلق قلت الله ورسوله أعلم قال بئر في جهنم فإذا سعرت البئر فمنها تسعر جهنم وإن جهنم لتتأذى منه كا يتأذى ابن آدم من جهنم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن كعب قال الفلق بيت في جهنم إذا فتح صاح أهل النار من شدة حره وعن الكلبي أنه واد في جهنم وقيل هو جهنم وهو على ما في " الكشاف " من قولهم لما اطمأن من الأرض الفلق والجمع فلقان كخلق وخلقان وتخصيصه بالذكر قيل لأنه مسكن اليهود فعن بعض الصحابة أنه قدم
الشام فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خفض العيش وما وسع عليهم من دنياهم فقال لا أبالي أليس من ورائهم الفلق وفسر بما روى آنفا عن كعب ومنهم الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ففي تعليق العياذ بالرب مضافا إليه عدة كريمة بإعاذته صلى الله عليه وسلم من شرهم ولا يخفى إن هذا مما لا يثلج الصدر وأظن ضعف الأخبار السالفة ويترجح في نظري المعنى الأول للفلق.
* (من شر ما خلق) *
* (من شر ما خلق) * أي من شر الذين خلقه من الثقلين وغيرهم كائنا ما كان من ذوات الطباع والاختيار والظاهر عموم الشر للمضار البدنية وغيرها وزعم بعضهم أن الاستعاذة ههنا من المضار البدنية وإنها تعم الإنسان وغيره مما ليس بصدد الاستعاذة ثم جعل عمومها مدار إضافة الرب إلى الفلق بالمعنى العام وهو كما ترى نعم الذي يتبادر إلى الذهن أن عمومه لشرور الدنيا وقال بعض الأفاضل هو عام لكل شر في الدنيا والآخرة وشر الإنس والجن والشياطين وشر البساع والهوام وشر النار وشر الذنوب والهوى وشر النفس وشر العمل وظاهره تعميم ما خلق بحيث يشمل
280

نفس المستعيذ ولا يأبى ذلك نزول السورة ليستعيذ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوز بعضهم جعل ما مصدرية مع تأويل المصدر باسم المفعول وهو تكلف مستغني عنه وإضافة الشر إلى ما خلق قيل لاختصاصه بعالم الخلق المؤسس على امتزاج المواد المتباينة المستتبعة للكون والفساد وأما عالم الأمر الذي أوجد بمجرد أمركن من غير مادة فهو خير محض منزه عن شوائب الشر بالمرة والظاهر أنه عنى بعالم الأمر عالم المجردات وهم الملائكة عليهم السلام وأورد عليه بعد غض الطرف عن عدم ورود ذلك في لسان الشرع أن منهم من يصدر منه شر كخسف البلاد وتعذيب العباد وأجيب بأن ذلك بأمره تعالى فلم يصدر إلا لامتثال الأمر لا لقصد الشر من حيث هو شر فلا إيراد نعم يرد أن كونهم مجردين خلاف المختار الذي عليه سلف الأمة ومن تبعهم بل هم أجسام لطيفة نورية ولو سلم تجردهم قلنا بعدم حصر المجردات فيهم كيف وقد قال كثير بتجرد الجن فقالوا إنها ليست أجساما ولا حالة فيها بل هي جواهر مجردة قائمة بأنفسها مختلفة بالماهية بعضها خيرة وبعضها شريرة وبعضها كريمة حرة محبة للخيرات وبعضها دنية خسيسة محبة للشرور والآفات وبالجملة ما خلق أعم من المجرد على القول به وغيره والكل مخلوق له تعالى أي موجد بالاختيار بعد العدم إلا أن المراد الاستعاذة مما فيه شر من ذلك وقرأ عمرو بن فائد على ما في " البحر " من شر بالتنوين وقال ابن عطية هي قراءة عمرو بن عبيد وبعض المعتزلة القائلين بأن الله تعالى لم يخلق الشر وحملوا ما على النفي وجعلوا الجملة في موضع الصفة أي من شر ما خلقه الله تعالى ولا أوجده وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل انتهى وأنت تعلم أن القراءة بالرواية ولا يتعين في هذه القراءة هذا التوجيه بل يجوز أن تكون ما بدلا من شر على تقدير محذوف قد حقف لدلالة ما قبله عليه أي من شر شر ما خلق.
* (ومن شر غاسق إذا وقب) *
* (ومن شر غاسق) * تخصيص لبعض الشرور بالذكر مع اندراجه فيما قبل لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه لكثرة وقوعه ولأن تعيين المستعاذ منه أدل على الاغتناء بالاستعاذة وادعى إلى الإعاذة والغاسق الليل إذا اعتكر ظلامه وأصل الغسق الامتلاء يقال غسقت العين امتلأت دمعا وقيل هو السيلان وغسق الليل انصباب ظلامه على الاستعارة وغسق العين سيلان دمعها وإضافة الشر إلى الليل لملابسته له لحدوثه فيه على حد نهاره صائم وتنكيره لعموم شمول الشر لجميع أفراده ولكل أجزائه.
* (إذا وقب) * أي إذا دخل ظلامه في كل شيء وأصل الوقب النقرة والحفرة ثم استعمل في الدخول ومنه قوله: وقب العذاب عليهم فكأنهم * لحقتهم نار السموم فأخمدوا
وكذا في المغيب لما أن ذلك كالدخول في الوقب أي النقرة والحفرة وقد فسر هنا بالمجيء أيضا والتقييد بهذا الوقت لأن حدوث الشر فيه أكثر والتحرز منه أصعب وأعسر ومن أمثالهم الليل أخفى للويل وتفسير الغاسق بالليل والوقوب بدخول ظلامه أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ومجاهد وابن أبي حاتم عن الضحاك وروى عن الحسن أيضا وإليه ذهب الزجاج إلا أنه جعل الغاسق بمعنى البارد وقال أطلق على الليل لأنه أبرد من النهار وقال محمد بن كعب هو النهار ووقب بمعنى دخل في الليل وهو كما ترى وقيل القمر إذا امتلأ نورا على أن الغسق الامتلاء ووقوبه دخوله في الخسوف واسوداده وقيل التعبير عنه بالغاسق لسرعة سيره وقطعه البروج على أن الغسق مستعار من السيلان وقيل التعبير عنه بذلك لأن جرمه مظلم وإنما يستنير من ضوء الشمس ووقوبه على القولين المحاق في آخر الشهر والمنجمون يعدونه نجسا ولذلك لا تشتغل السحرة بالسحر المورث للمرض إلا في ذلك الوقت قيل وهو المناسب لسبب نزول واستدل على تفسيره بالقمر بما أخرجه
281

الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه وغيرهم عن عائشة قالت نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى القمر لما طلع فقال يا عائشة استعيذي بالله تعالى من شر هذا فإن هذا الغاسق إذا وقب ومن سلم صحة هذا لا ينبغي له العدول إلى تفسير آخر وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أنه قال الغاسق إذا وقب الشمس إذا غربت وكأن إطلاق الغاسق عليها لامتلائها نورا ونقبل ابن زيد عن العرب أن الغاسق الثريا ووقوبها سقوطها وكانت الأقسام والطواعين تكثر عن ذلك وروى تفسيره بذلك غير واحد عن أبي هريرة مرفوعا وفي الحديث إذا طلع النجم ارتفعت العاهة وفي بعض الروايات زيادة عن جزيرة العرب وفي بعضها ما طلع النجم ذات غداة إلا رفعت كل آفة أو عاهة أو خفت وفيه روايات أخر فليراجع " شرح المناوي الكبير " للجامع الصغير وقيل أريد بذلك الحية إذا لدغت وإطلاق الغاسق عليها لامتلائها سيما وقتل أريد سمها إذا دخل في الجسد وأطلق عليه الغاسق لسيلانه من نابها وكلا القولين لا يعول عليه وقيل هو كل شر يعتري الإنسان والشر يوصف بالظلمة والسواد ووقوبه هجومه وذكر المجد الفيروزأبادي في " القاموس " في مادة وقب قولا في معنى الآية زعم أنه حكاه الغزالي وغيره عن ابن عباس ولا أظن صحة نسبته إليه لظهور أنه عورة بين الأقوال.
* (ومن شر النف‍اث‍ات فى العقد) *
* (ومن شر النفاثات في العقد) * أي ومن شر النفوس السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها فالنفاثات صفة للنفوس واعتبر ذلك لمكان التأنيث مع أن تأثير السحر إنما هو من جهة النفوس الخبيثة والأرواح الشريرة وسلطانه منها وقدر بعضهم النساء موصوفا والأول أولى ليشمل الرجال ويتضمن الإشارة السابقة ويطابق سبب النزول فإن الذي سحره صلى الله عليه وسلم كان رجلا على المشهور كما ستسمع إن شاء الله تعالى وقيل أعانه بعض النساء ولكونه مثل ذلك من عمل النساء وكيدهن غلب المؤنث على المذكر هنا وهو جائز على ما فصله الخفاجي في " شرح درة الغواص " والنفث والنفخ مع ريق كما قال الزمخشري وقال " صاحب اللوامح " هو شبه النفخ يكون في الرقية ولا ريق معه فإن كان بريق فهو تفل والأول هو الأصح لما نقله ابن القيم من أنهم إذا سحروا استعانوا على تأثير فعلهم بنفس يمازجه بعض أجزاء أنفسهم الخبيثة وقرأ الحسن النفاثات بضم النون وقرأ هو أيضا وابن عمر وعبد الله بن القاسم ويعقوب في رواية النافثات وأبو الربيع والحسن أيضا النفثات بغير ألف كالحذرات وتعريفها أما للعهد أو للإيذان بشمول الشر لجميع أفرادهن وتمحضهن فيه وتخصيصه بالذكر لما روى البخاري ومسلم وابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا الله ثم دعا ثم دعا ثم قال أشعره يا عائشة إن الله تعالى قد أفتاني فيما استفتيته فيه قلت وما ذاك يا رسول الله فقال جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي ما وجع الرجل قال مطبوب قال من طبه قال لبيد بن الأعصم قال في أي شيء قال في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر قال فأين هو قال في بئر ذي أروان قالت فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه ثم قال يا عائشة والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رؤس الشياطين، قالت فقلت يا رسول الله أفلا أحرقته قال لا أما أنا فقد عافاني الله تعالى وكرهت أن أثير على الناس شرا فأمرت بها فدفنت وهذان الملكان على ما يدل عليه رواية ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس هما جبريل وميكائيل عليهما السلام ومن حديثها في " الدلائل " للبيهقي بعد ذكر حديث الملكين فما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا ومعه أصحابه إلى البئر فدخل رجل فاستخرج جف طلعة من تحت الراعوثة فإذا فيها مشط رسول
282

الله صلى الله عليه وسلم ومن مشاطة رأسه وإذا تمثال من شمع تمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا فيها إبر مغروزة وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة فأتاه جبريل عليه السلام بالمعوذتين فقال يا محمد * (قل أعوذ برب الفلق) * وحل عقدة من شر ما خلق وحل عقدة حتى فرغ منهما وحل العقد كلها وجعل لا ينزع إبرة إلا وجد لها ألما ثم يجد بعد ذلك راحة فقيل يا رسول الله لو قتلت اليهودي قال قد عافاني الله تعالى وما يراه من عذاب الله تعالى أشد وفي رواية أن الذي تولى السحر لبيد بن الأعصم وبناته فمرض النبي صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل بالمعوذتين وأخبره بموضع السحر وبمن سحره وبم سحره فأرسل صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله تعالى وجهه والزبير وعمارا فنزحوا ماء البئر وهو كنقاعة الحناء ثم رفعوا راعوثة البئر فأخرجوا أسنان المشط ومعها وتر قد عقد فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر فجاؤا بها النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقرأ المعوذتين عليها فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة ووجد عليه الصلاة والسلام خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة عند تمام السورتين فقام صلى الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال الخبر والرواية الأولى أصح من هذه وقال الإمام المارزري قد أنكر ذلك الحديث المبتدعة من حيث أنه يحط منصب النبوة ويشك فيها وإن تجويزه يمنع الثقة بالشرع وأجيب بأن الحديث صحيح وهو غير مراغم للنص ولا يلزم عليه حط منصب النبوة والتشكيك فيها لأن الكفار أرادذوا بقولهم مسحور أنه مجنون وحاشاه ولو سلم إرادة ظاهره فهو كان قبل هذه القصة أو مرادهم أن السحر أثر فيه وأن ما يأتيه من الوحي من تخيلات السحر وهو كذب أيضا لأن الله تعالى عصمه فيما يتعلق بالرسالة وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث عليه الصلاة والسلام بسببها وهي مما يعرض للبشر فغير بعيدان يخيل إليه من ذلك ما لا حقيقة له وقد قيل إنه إنما كان يخيل إليه أنه وطىء زوجاته وليس بواطىء وقد يتخيل الإنسان مثل هذا في المنام فلا يبعد تخيله في اليقظة وقيل إنه يخيل أنه فعله وما فعله ولكن لا يعتقد صحة ما تخيله فتكون اعتقاداته عليه الصلاة والسلام على السداد وقال القاضي عياض قد جاءت روايات حديث عائشة مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده الشريف صلى الله عليه وسلم وظواهر جوارحه لا على عقله عليه الصلاة والسلام وقلبه واعتقاده ويكون معنى ما في بعض الروايت حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهن وفي بعض أنه يخيل إليه أنه الخ أنه يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك كما يعتري المسحور وكل ما جاء في الروايات من أنه عليه الصلاة والسلام يخيل إليه فعل شيء ولم يفعله ونحوه فمحمول على التخيل بالبصر لا لخلل تطرق إلى العقل وليس في ذلك ما يدخل لبسا على الرسالة ولا طعنا لأهل الضلالة انتهى وبعضهم أنكر أصل السحر ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها ومذهب أهل السنة وعلماء الأمة على إثباته وإن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء لدلالة الكتاب والسنة على ذلك ولا يستنكر في العقل أن الله تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام مخصوصة والمزج بين قوي على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر وإذا شاهد الإنسان بعض الأجسام منها قاتلة كالسموم ومنها مسقمة كالأدوية الحادية ومنها مضرة كالأدوية المضادة للمرض لم يستبعد عقله أن ينفرد الساحر بعلم قوي قتالة أو كلام مهلك أو مؤد
283

إلى التفرقة ومع ذلك لا يخلو من تأثير نفساني ثم إن القائلين به اختلفوا في القدر الذي يقع به فقال بعضهم لا يزيد تأثيره على قدر التفرقة بين المرء وزوجه لأن الله تعالى إنما ذكر ذلك تعظيما لما يكون عنده وتهويلا له فلو وقع به أعظم منه لذكره لأن المثل لا يضرب عند المبالغة إلا بأعلى أحوال المذكور ومذهب الأشاعرة أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك وهو الصحيح عقلا لأنه لا فاعل إلا الله وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى ولا تفترق الأفعال في ذلك وليس بعضها بأولى من بعض ولورود الشرع بقصوره عن مرتبة لوجب المصير إليه ولكن لا يوجد شرع قاطع يوجب الاقتصار على ما قاله القائل الأول وذكر التفرقة بين الزوجين في الآية ليس بنص في منع الزيادة وإنما النظر في أنه ظاهر أم لا والفرق بين الساحر وبين النبي والولي على قول الأشاعرة بأنه يجوز خرق العادة على يد الساحر مبين في الكتب الكلامية وغيرها
من شروح الصحاح وقيل في الآية المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقد بنفث الريق ليسهل حلها وهو يقرب من بدع التفاسير.
* (ومن شر حاسد إذا حسد) *
* (ومن شر حاسد إذا حسد) * أي إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه بترتيب مقدمات الشر ومبادي الأضرار بالمحسود قولا وفعلا ومن ذلك على ما قيل النظر إلى المحسود وتوجيه نفسه الخبيثة نحوه على وجه الغضب فإن نفس الحاسد حينئذ تتكيف بكيفية خبيثة بما تؤثر في المحسود بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد شرا قد يصل إلى حد الإهلاك ورب حاسد يؤذي بنظره بعين حسهد نحو ما يؤذى بعد الحيات بنظرهن وذكروا أن العائن والحاسد يشتركان في أن كلا منهما تتكيف نفسه وتتوجه نمحو من تريد أذاه إلا أن العائن تتكيف نفسه عند مقابلة العين والمعاينة والحاسد يحصل حسده في الغيبة والحضور وأيضا العائن قد يعين من لا يحسده من حيوان وزرع وإن كان لا ينفك من حسد صاحبه والتقييد بذلك إذ لا ضرر قبله بل قيل إن ضرر الحسد إنما يحيق بالحاسد لا غير كما قال علي كرم الله تعالى وجهه لله در الحسد ما أعد له بدأ بصاحبه فقتله وقال ابن المعتز: اصبر على حسد الحسو * د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها * إن لم تجد ما تأكله
وليعلم أن الحسد يطلق على تمني زوال نعمة الغير وعلى تمني استصحاب عدم النعمة ودوام ما في الغير من نقص أو فقر أو نحوه والإطلاق الأول هو الشائع والحاسد بكلا الإطلاقين ممقوت عند الله تعالى وعند عباده عز وجل آت بابا من الكبائر على ما اشتهر بينهم لكن التحقيق أن الحسد الغريزي الجبلي إذا لم يعمل بمقتضاه من الأذى مطلقا بل عامل المتصف به أخاه بما يحب الله تعالى مجاهد أنفسه لا إثم فيه بل يثاب صاحبه على جهاد نفسه وحسن معاملته أخاه ثوابا عظيما لما في ذلك من مشقة مخالفة الطبع كما لا يخفى ويطلق الحسد على الغبطة مجازا وكان ذلك شائعا في العرف الأول وه يتمني أن يكون له مثل ما لأخيه من النعمة من غير تمني زوالها وهذا مما لا بأس به ومن ذلك ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله تعالى ما لا وسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله تعالى الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس وقال أبو تمام: هم حسدوه لا ملومين مجده * وما حاسد في المكرمات بحاسد
وقال أيضا: وأعذر حسودك فيما قد خصصت به * إن العلا حسن في مثلها الحسد
هذا وقال الرئيس ابن سينا الغاسق القوة الحيوانية فهي ظلمة غاسقة منكدرة على خلاف النفس الناطقة التي هي المستعيذة فإنها خلقت في جوهرها نقية صافية مبرأة عن كدورات المادة وعلائقها قابلة لجميع الصور والحقائق وإنما تتلوث من الحيوانية والنفاثات في العقد إشارة إلى القوى النباتية
284

من حيث إنها تزيد في المقدار من جميع جهاته الطوال والعرض والعمق فكأنها تنفث في العقد الثلاث ولما كانت العلاقة بين النفس الإنسانية والقوى النباتية بواسطة الحيوانية لا جرم قدم ذكر القوى الحيوانية على القوى النباتية والشر اللازم من هاتين القوتين في جوهر النفس هو استحكام علائق البدن وامتناع تغذيها بالغذاء الموافق لها اللائق بجوهرها وهو الإحاطة بملكوت السموات والأرض والانتقاش بالنقوش الباقية وعنى بقوله تعالى: * (ومن شر حاسد إذا حسد) * النزاع الحاصل بين البدن وقواه وبين النفس فالحاسد هو البدن من حيث له القوتان والمحسود هو النفس فالبدن وبال عليها فما أحسن حالها عند الاعراض عنه وما أعظم لذتها بالمفارقة إن لم تكن تلوثت منه وقيل الغاسق إشارة إلى المعدن والنفاثات إلى النباتات والحاسد إلى الحيوان ولما كان الإنسان لا يتضرر عن الأجسام الفلكية وإنما يتضرر عن الأجسام العنصرية وهي إما معدن أو نبات أو حيوان أمر بالاستعاذة من شر كل منها وكلا القولين كما ترى والله تعالى أعلم.
سورة الناس
وتسمى مع ما قبلها كما أشرنا إليه قبل بالمعوذتين بكسر الواو والفتح خطأ وكذا بالمقشقشتين وتقدم الكلام في أمر مكيتها ومدنيتها وهي ست آيات لا سبع وإن اختاره بعضهم.
* (قل أعوذ برب الناس) *.
* (قل أعوذ) * وقرىء في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام كما قرىء فخذ أربعة * (برب الناس) * أي مالك أمورهم ومر بيهم بإفاضة ما يصلحهم ودفع ما يضرهم وأمال الناس هنا أبو عمرو والدوري عن الكسائي وكذا في كل موضع وقع فيه مجرورا.
* (ملك الناس) *
* (ملك الناس) * عطف بيان على ما اختاره الزمخشري جيء به لبيان أن تربيته تعالى إياهم ليست بطريق تربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والتصرف الكلي والسلطان القاهر وكذا قوله تعالى:
* (إل‍اه الناس) *
* (إله الناس) * فإنه لبيان أن ملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم والقيام بتدبير أمور سياستهم والتولي لترتيب مبادىء حفظهم وحمايتهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهم إحياء وإماتة وإيجادا وإعداما وجوزت البدلية أيضا وأنت تعلم أنه لا مانع منه عقلا ثم ماهنا وإن لم يكن جامدا فهو في حكمه ولعل الجزالة دعت إلى اختياره وتخصيص الإضافة إلى الناس مع انتظام جميع العالم في سلك ربوبيته تعالى وملكوته وألوهيته على ما في الإرشاد للإرشاد إلى منهاج الاستعاذة الحقيقة بالإعاذة فإن توسل العائذ بربه وانتسابه إليه بالمربوبية والمملوكية والعبودية في ضمن جنس هو فرد من أفراده من دواعي مزيد الرحمان والرأفة وأمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة ولأن المستعاذ منه شر الشيطان المعروف بعداوتهم ففي التنصيص
على انتظامهم في سلك عبوديته تعالى وملكوته رمز إلى انجائهم من ملكة الشيطان وتسلطه عليهم حسبما ينطبق به قوله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * واقتصر بعض الأجلة في بيان وجه التخصيص على كون الاستعاذة هنا من شر ما يخص النفوس البشرية وهي الوسوسة كما قال تعالى:
* (من شر الوسواس الخناس) *
* (من شر الوسواس) * وبحث فيه بعد الاغماض عما فيه من القصور في توفية المقام حقه بأن شر الموسوس كما يلحق النفوس يلحق الأبدان أيضا وفيه شيء سنشير إن شاء الله تعالى إليه واختار هذا الباحث في ذلك أنه
285

لما كانت الاستعاذة فيما سبق من شر كل شيء أضيف الرب إلى كل شيء أي بناء على عموم الفلق ولما كانت هنا من شر الوسواس لم يضف إلى كل شيء وكان النظر إلى السورة السابقة يقتضي الإضافة إلى الوسواس لكنه لم يضف إليه حطا لدرجته عن إضافة الرب إليه بل إلى المستعيذ وكان في هذا الحط رمزا إلى الوعد بالإعاذة وهو الذي يجعل لما ذكر حظا في أداء حق المقام وربما يقال إن في إضافة الرب إلى الناس في آخر سورة من كتابه تذكير الأول أمر عرفوه في عالم الذر وأخذ عليهم العهد بالإقرار به فيما بعد كما أشار إليه قوله تعالى: وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى الآية فيكون في ذلك تحريض على الاستعاذة من شر الوسواس لئلا يتدنس أمر ذلك العهد وفيه أيضا رمز إلى الوعد الكريم بالإعاذة وذكر القاضي أن في النظم الجليل إشعارا بمراتب الناظر المتوجه لمعرفة خالقه فإنه يعلم أولا بما يرى عليه من النعم الظاهرة والباطنة أن له ربا ثم يتغلغل في النظر حتى يتحقق أنه سبحانه غني عن الكل وذات كل شيء له ومصارف أمره منه فهو الملك الحق ثم يستدل به على أنه المستحق للعبادة لا غير وينذرج في وجوه الاستعاذة المعتادة تنزيلا لاختلاف الفات منزلة اختلاف الذت فإن عادة من ألف به هم أن يرفع أمره لسيده ومربيه كوالديه فإن لم يقدر على رفعه رفعه لملكه وسلطاه فإن لم يزل ظلامته شكاه إلى ملك الملوك ومن إليه المتشكي والمفزع وفي ذلك إشارة إلى عظم الآفة المستعاذ منها ولابن سينا ههنا كلام تتحرج منه الأقلام كما لا يخفى على من ألم به وكان له بالشريعة المطهرة أدنى إلمام وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة وقيل لا تكرار فأنه يجوز أن يراد بالعام بعض أفراده فالناس الأول بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية والثاني الكهول والشبان لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم والثالث الشيوخ المتعبدون المتوجهون لله تعالى وهو على ما فيه يبعده حديث إعادة الشيء معرفة وإن كان أغلبيا والوسواس عند الزمخشري اسم مصدر بمعنى الوسوسة والمصدر بالكسر وهو صوت الحلي والهمس الخفي ثم استعمل في الخطرة الردية وأريد به ههنا الشيطان سمي بفعله مبالغة كأنه نفس الوسوسة أو الكلام على حذف مضاف أي ذي الوسواس وقال بعض أئمة العربية أن فعلل ضربان صحيح كدحرج وثنائي مكرر كصلصل ولهما مصدران مطردان فعللة وفعلال بالكسر وهو أقيس والفتح شاذ لكنه كثر في المكرر كتمتام وفأفاء ويكون للمبالغة كفعال في الثلاثي كما قالوا وطواط للضعيف وثرثار للمكثر والحق أنه صفة فليحمل عليه ما في الآية الكريمة من غير حاجة إلى التجوز أو حذف المضاف وقد تقدم في سورة الزلزال ما يتعلق بها المبحث فتذكر فما في العهد من قدم والظاهر أن المراد الاستعاذة من شر الوسواس من حيث هو وسواس ومآله إلى الاستعاذة من شر وسوسته وقيل المراد الاستعاذة من جميع شروره ولذا قيل من شر الوسواس ولم يقل من شر وسوسة الوسواس قيل وعليه يكون القول بأن شره يلحق البدن كما يلحق النفس أظهر منه على الظاهر وعد من شره أنه كما في " صحيح البخاري " يعقد على قافية رأس العبد إذا هو نام ثلاث عقد مراده بذلك منعه من اليقظة وفي عد هذا من الشر البدني خفاء وبعضهم عد منه التخبط إذا لحق عند أهل السنة أنه قد يكون من مسه كما تقدم في موضعه وقوله تعالى: * (الخناس) * صيغة مبالغة أو نسبة أي الذي عادته أن يخنس ويتأخر إذا ذكر الإنسان ربه عز وجل أخرج الضياء في " المختارة " والحاكم وصححه وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس قال ما من مولود يولد إلا على قلبه الوسواس فإذا عقل فذكر الله تعالى خنس فإذا غفل وسوس وله على ما روى عن قتادة خرطوم كخرطوم الكلب ويقال إن رأسه كرأس الحية وأخرج ابن شاهين عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله
286

عليه وسلم يقول إن للوسواس خطما كخطم الطائر فإذا غفل ابن آدم وضع ذلك المنقار في أذن القلب يوسوس فإن ذكر الله تعالى نكص وخنس فلذلك سمي الوسواس الخناس.
* (الذى يوسوس فى صدور الناس) *
* (الذي يوسوس في صدور الناس) * قيل أريد قلوبهم مجازا وقال بعضهم إن الشيطان يدخل الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز فيلقى منه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه ولا مانع عقلا من دخوله في جوف الإنسان وقد ورد السمع به كما سمعت فوجب قبوله والايمان به ومن ذلك أن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ومن الناس من حمله على التمثيل وقال في الآية أنها لا تقتضي الدخول كما ينادي عليه البيان الآتي وقال ابن سينا الوسواس القوة التي توقع الوسوسة وهي القوة المتخيلة بحسب صيرورتها مستعملة للنفس الحيوانية ثم إن حركتها تكون بالعكس فإن النفس وجهتها إلى المبادي المفارقة فالقوة المتخيلة إذا أخذتها إلا الاشتغال بالمادة وعلائقها فتلك القوة تخنص أي تتحرك بالعكس وتجذب النفس الإنسانية إلى العكس فلذلك تسمى خناسا ونحوه ما قيل إنه القوة الوهمية فهي تساعد العقل في المقدمات فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست وأخذت توسوسه وتشككه ولا يخفى أن تفسير كلام الله تعالى بأمثال ذلك من شر الوسواس الخناس والقاضي ذكر الأخير عن سبيل التنظير لا على وجه التمثيل والتفسير بناء على حسن الظن به ومحل الموصول أما الجر على الوصف وأما الرفع والنصب على الذم والشتم ويحسن أن يقف القارىء على أحد هذين الوجهين على الخناس وأما على الأول ففي " الكواشي " أنه لا يجوز الوقف وتعقبه الطيبي بأن في عدم الجواز نظرا للفاصلة وفي الكشف أنه إذا كان صفة فالحسن غير مسلم اللهم إلا على وجه وهو أن الوقف الحسن شامل لمثله في فاصلة خاصة.
* (من الجنة والناس) *
* (من الجنة والناس) * بيان للذي يوسوس على أنه ضربان جني وأنسي كما قال تعالى: * (شياطين الإنس والجن) * أو متعلق ب " يوسوس " ومن لابتداء الغاية أي يوسوس في صدورهم من جهة الجن مثل أن يلقى في قلب المرء من جهتهم أنهم ينفعون ويضرون ومن جهة الناس مثل أنت يلقى في قلبه من جهة المنجمين والكهان أنهم يعلمون الغيب وجوز فيه الحالية من ضمير يوسوس والبدلية من قوله تعالى: من شر بإعادة الجار وتقدير المضاف والبدلية من الوسواس على أن من تبعيضية وقال الفراء وجماعة هو بيان للناس بناء على أنه يطلق على الجن أيضا فيقال كما نقل عن الكلبي ناس من الجن كما يقال نفر ورجال منهم وفيه أن المعروف عند الناس خلافه مع ما في ذلك من شبه جعل قسم الشيء قسيما له ومثله لا يناسب بلاغة القرآن وإن سلم صحته وتعقب أيضا بأنه يلزم عليه القول بأن الشيطان يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس ولم يقم دليل عليه ولا يجوز جعل الآية دليلا لما لا يخفى وأقرب منه على ما قيل أن يراد بالناس الناسي بالياء مثله في قراءة بعضهم من حيث أفاض الناس بالكسر ويجعل سقوط الياء كسقوطها في قوله تعالى: * (يوم يدع الداع) * ثم يبين بالجنة والناس فإن كان كل فرد من أفراد الفريقين مبتلي بنسيان حق الله تعالى إلا من تداركه شوافع عصمته وتناوله واسع رحمته جعلنا الله ممن نال من عصمته الحظ الأوفى وكال له مولاه من رحمته فأوفى ثم أنه قيل أن حروف هذه السورة غير المكرر اثنان وعشرون حرفا وكذا حروف الفاتحة وذلك بعدد السنين التي أنزل فيها القرآن فليراجع وبعد أن يوجد الأمر كما ذكر لا يخفى أن كون سني النزول اثنتين وعشرين سنة قول لبعضهم والمشهور أنها ثلاث وعشرون اه‍ ومثل هذا الرمز ما قيل إن أول حروفه الباء وآخرها السين فكأنه قيل بس أي حسب ففيه إشارة إلى أنه كاف عما سواه ورمز إلى قوله تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء وقد نظم ذلك بعض الفرس فقال:
287

أول وآخر قرآن زجه با آمد وسين * يعني اندرد وجهان رهبر ما قرآن بس
ومثله من الرموز كثير لكن قيل لا ينبغي أن يقال إنه مراد الله عز وجل نعم قد أرشد عز وجل في هذه السورة إلى الاستعانة به تعالى شأنه كما أرشد جل وعلا إليها في الفاتحة بل لا يبعد أن يكون مراده تعالى على القول بأن ترتيب السور بوحيه سبحانه من ختم كتابه الكريم بالاستعاذة به تعالى من شر الوسواس الإشارة كما في الفاتحة إلى جلالة شأن التقوى والرمز إلى أنها ملاك الأمر كله وبها يحصل حسن الخاتمة فسبحانه من ملك جليل ما أجل كلمته ولله در التنزيل ما أحسن فاتحته وخاتمته.
288