الكتاب: هداية المسترشدين
المؤلف: الشيخ محمد تقي الرازي
الجزء: ١
الوفاة: ١٢٤٨
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

هداية المسترشدين ج 1
مؤلف
آية العظمى الحاج الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الأصفهاني (قدس سره)
المتوفى عام 1248 المدفون في بقعته الخاصة في مقبرة تخت فولاد بمدينة
إصبهان، فألف هذا السفر القيم والأثر الخالد المسمى ب‍ " هداية المسترشدين " ألفه
في ثلاث مجلدات
1

مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
تقديم: بقلم سماحة آية الله
الشيخ مهدي مجد الاسلام النجفي
آل العلامة التقي صاحب الهداية
الحمد لله الذي أرشدنا إلى معالم دينه بهداية رسوله الأمين ونور قلوبنا بضياء
كتابه المبين وأتم نعمته علينا بولاية مولانا علي أمير المؤمنين وأولاده المعصومين
- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - وعصمنا عن متابعة أهل البدع والأهواء
المنحرفين الضالين.
وبعد، لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد: أن علم الأصول من أشرف
العلوم الإسلامية وأنفعها حيث يتعرف به طرق استنباط الأحكام الشرعية من
أدلتها التفصيلية، على صعوبة مداركها ودقة مسالكها، وهو العلم الذي ازدوج فيه
العقل والسمع، فليست مباحثه عقلية صرفة بحيث لا يتلقاها الشرع بالقبول ولا
نقلية محضة لا تؤيدها ولا تسددها العقول، وهو من العلوم المبتكرة للمسلمين، لا
يساهمهم في إبداعه وتوسعه غيرهم من الملاحدة الكافرين.
ولقد اعتنى علماؤنا الإمامية بدراسة هذا العلم أكثر مما اعتنى به علماء سائر
الفرق، لشدة اهتمامهم بالتفقه ومعرفة الحلال والحرام وتعهدهم والتزامهم العمل
بأحكام الاسلام، ولهذا اشتدت عنايتهم عبر القرون والأعصار بالهداية إلى معالمه
وإحكام قوانينه وتهذيب أصوله وترتيب فصوله وبيان بدائعه ونقد فرائده، إلى أن
أصبح هذا الفن عدة وافية وزبدة شافية.
وناهيك شاهدا - مما ألفوه وصنفوه - هذه الموسوعة المنيفة والجوهرة النفيسة
التي صنفها فخر الفقهاء العظام وأستاذ العلماء الأعلام محيي معالم الدين ومشيد
قوانين سيد المرسلين، الموفق بهداية المسترشدين، العلامة الرباني الشيخ محمد تقي
3

الرازي النجفي الإصبهاني، تغمده الله برضوانه وأسكنه في أعلى غرفات جنانه.
ونحن التزاما بالعهد الذي أخذناه على عاتقنا منذ تأسيس مؤسستنا في بسط
المعارف الدينية وإحياء المواريث الإسلامية أقدمنا على تحقيق هذا السفر القيم
بتقويم نصوصه وتدقيق متونه ومقابلته كرارا على الأصل وتخريج الآيات
المستدل بها والأحاديث المستند إليها، ولم نشر إلى مواضع الأقوال المنقولة فيه،
حرصا على التسرع في إصداره ولئلا يضخم حجم الكتاب بعد أن قررنا طبعه
ونشره في ثلاث مجلدات.
وفي الختام يجب علينا أن نقدم ثناءنا الجميل وشكرنا الجزيل إلى سماحة
الخلف الصالح من آل المؤلف حجة الاسلام والمسلمين الحاج الشيخ مهدي
مجد الاسلام النجفي - دام ظله - كفاء ما تفضل به علينا من نسخة الأصل لهذا
المجلد، مع تقدمة مشتملة على التعريف بالهداية وأثرها في علم الأصول.
ونشكر أيضا نجله الفاضل سماحة الحجة الشيخ هادي النجفي - حفظه الله -
حيث ساعدنا في إعداد مقدمات التحقيق وأعاننا في شتى المجالات إلى أن خرج
الكتاب بهذه الحلة القشيبة.
ونقدم أيضا الشكر الجزيل للمتتبع البصير والمحقق الخبير سماحة حجة
الاسلام والمسلمين السيد أحمد الحسيني الأشكوري بما سمح لنا بترجمة
المؤلف (قدس سره) من كتابه: " المفصل في تراجم الأعلام ".
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
4

تقديم: بقلم سماحة آية الله
الشيخ مهدي مجد الاسلام النجفي
آل العلامة التقي صاحب الهداية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين
الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
اما بعد، فإن أئمة أهل البيت - سلام الله عليهم أجمعين - ولا سيما الإمام محمد
ابن علي بن الحسين الباقر (عليه السلام) ونجله الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) هم
المبتكرون والمؤسسون لعلم الأصول.
لأنهم ألقوا على تلاميذهم ورواة أحاديثهم، أسس التفكير الأصولي، وأنت
تجد في رواياتهم بذرتها، فإن شئت راجع إلى المجلد الأول من كتاب جامع
أحاديث الشيعة.
ثم لعلم الأصول أدوار وعصور قد مر منا إجماله في مقدمتنا على كتاب جدنا
العلامة المحقق آية الله العظمى أبي المجد الشيخ محمد الرضا النجفي الإصفهاني
- طاب ثراه - الموسوم ب‍ " وقاية الأذهان " نشر مؤسسه آل البيت - لا زالت مؤيدة
لنشر تراث أهل البيت (عليهم السلام) ومن أراد فعليه بالمراجعة. تدرج هذا العلم إلى أن
انتهت النوبة إلى جدنا الأعلى، العلامة المحقق، التقي النقي، الإمام في الفقه
وأصوله آية الله العظمى الحاج الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الأصفهاني (قدس سره)
المتوفى عام 1248 المدفون في بقعته الخاصة في مقبرة تخت فولاد بمدينة
إصبهان، فألف هذا السفر القيم والأثر الخالد المسمى ب‍ " هداية المسترشدين " ألفه
5

في ثلاث مجلدات، فرغ من المجلد الأول المنتهى إلى مبحث المرة والتكرار ليلة
الجمعة 10 ربيع الثاني 1237 وانتهى المجلد الثاني إلى آخر مفهوم الوصف وجمع
ابن أخته وتلميذه الشيخ محمد بن محمد علي الطهراني النجفي (1) من مسوداته
مجلدا ثالثا أنهاه إلى مباحث الاجتهاد والتقليد.
الأقوال في الهداية
1 - قال تلميذه وابن أخته وصهره الشيخ محمد الطهراني النجفي (رحمه الله) جامع
المجلد الثالث من الكتاب ومصححه الأول: إن هذا الكتاب المستطاب
الموسوم بهداية المسترشدين من مصنفات الإمام الهمام، والمولى القمقام،
العالم العامل، والفاضل الكامل، بحر الفواضل والفضائل، وفخر الأواخر
والأوائل، قدوة المحققين ونخبة المدققين، وأسوة العلماء الراسخين، ورئيس
الفقهاء والمجتهدين، مخيم أهل الفضل والحجى، ومحط رحال أرباب العلم
والنهى، قطب رحى المجد الأثيل، ومحيط دائرة الفعل الجميل، منبع العدل، وسباق
غايات الفضل، ملاذ الشيعة، وموضح أحكام الشريعة، كاشف أسرار الآثار
وابن بجدتها ومبدع أبكار الأفكار وأبو عذرتها، الزكي الذكي والتقي النقي،
والمهذب الصفي، والحبر الألمعي مولاي وعمادي وخالي وأستاذي الشيخ
محمد تقي...
إن الذي برز في حياة المصنف طاب مرقده من هذا التأليف، وأفرغه في قالب
التنضيد والترصيف، وكان هو الذي باشر جمعه وترتيبه ونظمه وتهذيبه مجلدان،
أنهى الأول منهما إلى أول مسألة المرة والتكرار، وبلغ من الثاني إلى مسألة مفهوم
الوصف، فبينا يكتب المسألة المذكورة وهو يومئذ في محروسة اصبهان والطلبة

(1) راجع في ترجمته كتاب بيان سبل الهداية في ذكر أعقاب صاحب الهداية، أو " تاريخ
علمي واجتماعي إصفهان در دو قرن أخير " 3 / 260.
6

مجتمعون عنده من كل مكان، يقتبسون منه أنوار العلوم الدينية، ويرتوون من
رحيق المعارف اليقينية، إذ أشار الدهر إلينا بالبنان وأصابتنا عين الزمان، فاختفى
بعد أن كان ظاهرا مشهورا، وأصبح لفقده العلم كأن لم يكن شيئا مذكورا. ثم إني
عثرت له - أعلى الله مقامه - على أوراق متشتة ومسودات متفرقة قد كتبها في
سالف الزمان من مسألة الأمر بالشئ مع علم الآمر بانتفاء شرطه إلى مباحث
الاجتهاد، فصرفت برهة من الزمان في جمع شتاتها، وترتيب متفرقاتها، ولم
أقتصر على إيراد المسائل التامة، بل نقلت من المباحث كل ما وجدت منه جملة
وافية بتحقيق مقام، كافية في توضيح مرام، وإن كان المبحث غير تام، وأسقطت كل
مسألة لم أجد منها إلا قليلا لا يروي غليلا، فبلغ المجلد الذي جمعته قريبا من
عشرين ألف بيت، وبلغ الكتاب بأجمعه ما يقرب من خمسة وأربعين ألف بيت،
وكان المصنف (قدس سره) يقول: إن الكتاب لو تم يكون نحوا من ثمانين ألف بيت، فيكون
الناقص منه اذن نحوا من خمسة وثلاثين ألف بيت (1).
2 - قال تلميذه الآخر صاحب روضات الجنات في ترجمة المؤلف: وله
من المصنفات الرشيقة والمؤلفات الأنيقة كتاب شرحه لأصول معالم الدين المسمى
بهداية المسترشدين في ما ينيف على ستين ألف بيت في ظاهر التخمين إلا أن
البارز منه إلى البياض مجلدان إلى آخر مسألة مفهوم الوصف، والباقي منه متخلف
في المسودة على ما كان أو خارج منها بتدوين بعض تلامذته الأعيان... (2).
3 - وقال في كتابه الآخر المسمى بعلماء الأسرة في عد أساتذته: وتطفلت بعد
ذلك برهة من الأوان على المشتغلين والمستمعين من مجلس شيخنا المحقق
المدقق النحرير، والجامع الفقيه الخبير، خاتمة المجتهدين، ورئيس الموحدين
إمامنا البارع الورع التقي النقي الأوحدي الرباني الشيخ محمد تقي بن عبد الرحيم

(1) هداية المسترشدين / آخر صفحة من الطبعة الحجرية.
(2) روضات الجنات 2 / 124.
7

الرازي الطهراني أصلا، والحائري النجفي منشأ وتحصيلا، الإصفهاني موطنا
ومقبلا ومدفنا، رزقه الله في أعلى غرف الجنان منزلا ومسكنا. وكان هذا الشيخ
أفضل أهل عصره في الفقه والأصول، حاوي مراتب المعقول والمنقول، له شرح
على أصول المعالم مبسوط كبير جدا يقرب كله من مائة ألف بيت، ولم يخرج منه
إلا ثلاث مجلدات تبلغ نصفه، فوا أسفا على باقيه إذ لن نكونن من بعد بملاقيه... (1).
4 - قال ثالث المجلسيين الشيخ الميرزا حسين النوري في خاتمة المستدرك:
عن قدوة المحققين وترجمان الأصوليين الشيخ محمد تقي بن عبد الرحيم
الطهراني المتوطن في إصفهان المتوفى سنة 1248 صاحب التعليقة الكبيرة على
المعالم التي هي بين كتب الأصول كالربيع من الفصول وغيرها من الرسائل في
الأصول والفقه....
5 - قال العلامة الشيخ عبد الكريم الجزي في تذكرة القبور ما نصه بالفارسية:
... در ميان علماء حاشية شيخ وحاشية مطلق كه گويند أين كتابست، بس است در
بلندي تحقيق وبلندي وتبحر ذهن وفكر أو كه مى توان گفت أكثر تحقيقات
أصولية أين زمانها در پيش علماء مأخوذ از آن بزرگوار است (2).
6 - قال ثقة الاسلام التبريزي الشهيد في مرآة الكتب في عد شارحي المعالم:
ومنهم: المحقق الشيخ محمد تقي بن محمد رحيم الإصفهاني المتوفى سنة 1248،
شرح شرحا وافيا كافيا مبسوطا، وله تحقيقات أنيقة خصوصا في مباحث الألفاظ
أطال الكلام، وحقق المقام بما مثله لا يرام يسمى بهداية المسترشدين، إلا أنه لم
يتم، بل خرج إلى مبحث حجية مفهوم الوصف مرتبا، وجمع ما علق على بعض
باقي المباحث الشيخ محمد ابن أخته... (3).
7 - قال العلامة الطهراني في ترجمة المؤلف في الكرام البررة: وللمترجم

(1) علماء الأسرة / 180.
(2) تذكرة القبور المطبوع ضمن رجال أصفهان / 73.
(3) مرآة الكتب 4 / 78.
8

آثار هامة جليلة أشهرها حاشية المعالم سماها هداية المسترشدين في شرح
أصول معالم الدين، فرغ من المجلد الأول المنتهي إلى مبحث المرة والتكرار ليلة
الجمعة 10 ربيع الثاني 1237، وعبر عن نفسه هناك بمحمد تقي بن محمد رحيم،
وانتهى المجلد الثاني إلى آخر مفهوم الوصف، وجمع ابن أخته الشيخ محمد بن
محمد علي من مسوداته مجلدا ثالثا أنهاه إلى مباحث الاجتهاد والتقليد، وقد
حظي هذا الكتاب بالقبول، ولاقى استحسان الأكابر والفحول من المحققين
والأعلام، حتى اشتهر المترجم بصاحب الحاشية، وبذلك يلقب آله حتى التاريخ،
وإذا أطلق بين العلماء في عصرنا لم يتبادر الذهن إلى غير هذا الكتاب.
والحق أنه يكفي للاستدلال على مدى إحاطة المترجم وتبحره وتحقيقه في
علم الأصول، ففيه تحقيقات عالية خلت منها جملة من الأسفار الجليلة، ولم تزل
آراؤه ونظرياته محط أنظار الأفاضل ومحور أبحاثهم إلى الآن... (1).
8 - قال صاحب ريحانة الأدب في ترجمة المؤلف ما نصه بالفارسية:
بالخصوص در أصول فقه كه تبحري بي نهايت داشته وگويا كه طينت أو از أفكار
دقيقه وأنظار عميقة سرشته بوده، وبا قطع نظر از همه چيز همين كتاب هداية
المسترشدين أو كه در أصول فقه تا مبحث مفهوم وصف وحاشية معالم الأصول
[است] داراى تحقيقات عميقه مبتكره بوده... (2).
9 - قال المؤرخ المحقق الشيخ محمد علي المعلم صاحب مكارم الآثار في
ترجمة المؤلف ما نصه بالفارسية: وحاشية اي بر أصول معالم تأليف شيخ حسن
ابن شهيد ثاني أعلى الله مقامه به نام هداية المسترشدين دارد كه بغايت مشهور
ومورد تدريس وتدرس علماء أعلام وفضلاء كرام قرار گرفته... (3).
10 - قال العلامة السيد مصلح الدين المهدوي في كتابه الخاص المدون
لترجمة المؤلف وتراجم العلماء من بيته المسمى ب‍ " بيان سبل الهداية في ذكر

(1) الكرام البررة 1 / 216.
(2) ريحانة الأدب 2 / 449 الطبعة الأولى.
(3) مكارم الآثار 4 / 1329.
9

أعقاب صاحب الهداية " يا تاريخ علمي واجتماعي أصفهان در دو قرن أخير:
همانگونه كه قبلا گفته شد كتاب هداية المسترشدين مورد توجه وعنايت وقبول
واستحسان جميع علماء وبزرگان قرار گرفته، ومؤلف بزرگوار آن به صاحب
حاشية معروف مى بأشد وهمچنين وى را صاحب الهداية مى خوانند. (1)
نسخ الهداية وأساس هذا الطبع
لما كان الكتاب موردا للعناية من كافة أهل التحقيق وفضلاء أهل العلم فلذا
كثرت نسخه وتوجد في أكثر المكتبات العامة والخاصة:
منها: نسخة خط المؤلف من المجلد الأول توجد في مكتبة ابن عمتنا العلامة
المحقق آية الله السيد محمد علي الروضاتي - مد ظله - بإصبهان أرسلها الينا
مشكورا وصححنا المجلد الأول من الكتاب عليها.
ومنها: نسخة أخرى من المجلد الأول لمكتبته العامرة أرسلها أيضا إلينا.
ومنها: اثنتا عشرة نسخة في مكتبة سيدنا وإمامنا علي بن موسى الرضا عليه
آلاف التحية والثناء (2) وقد اخترت منها نسختين لتصحيح المجلد الثاني والثالث.
ومنها: نسختان من المجلد الأول كلتاهما مخرومة الآخر في مكتبة سيدتنا
فاطمة بنت موسى بن جعفر عليها وعلى آبائها الصلاة والسلام بقم (3).
ومنها: خمس نسخ في مكتبة مدرسة الفيضية العامرة بقم المقدسة (4).
ومنها: أربع نسخ في مكتبة آية الله الگلپايگاني (قدس سره) بقم المقدسة، عرف واحدة
منها في فهرسها (5).

(1) تاريخ علمي واجتماعي أصفهان در دو قرن أخير 1 / 173.
(2) فهرست الفبائي كتب خطى آستان قدس رضوى / 610.
(3) فهرست نسخه هاى خطى آستانه مقدسه حضرت معصومه (عليها السلام)، دانش پژوه / 181
و 1 / 233 الرقم 226.
(4) فهرست نسخه هاى خطى كتابخانهء مدرسهء فيضيه 1 / 298.
(5) فهرست نسخه هاى خطى كتابخانهء آية الله گلپايگاني 2 / 194 الرقم 930.
10

ومنها: نسختان في المكتبة العامة بإصبهان (1).
ومنها: نسخة من المجلد الأول وقطعة من المجلد الثاني في مكتبة آية الله
المرعشي النجفي (قدس سره) العامة، عرف خطأ بأنها نسخة المؤلف (2).
ومنها: نسخة من المجلد الأول في مكتبة المسجد الأعظم بقم المقدسة (3).
ومنها: نسخة من المجلد الأول في مكتبة الإمام الهادي (عليه السلام) العامة في المشهد
الرضوي على ساكنه آلاف التحية والثناء (4).
طبعات الهداية
طبع كتاب " هداية المسترشدين " غير مرة في إيران لشدة اهتمام العلماء به
واحتياجهم إليه، فقد طبع أول مرة في عام 1269 ثم أعيد طبعه في عام 1272 ثم
طبع ثالثا في عام 1281 وطبع رابعا 1282 وخامسا سنة 1310 ه‍. ق ومحل الطبع
في جميع الطبعات طهران (5).
وأعادت طبعها بالأفست، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث قبل عشر سنوات
بقم المقدسة.
وأشرف الشيخ محمد الطهراني ابن أخت صاحب الهداية على الطبع في
عام 1283 وطبعته أصح الطبعات، وصححها وعلق عليها.
ويعتبر أول من جمع كتاب الهداية وصححه بعد مؤلفه (قدس سره) الشيخ محمد
الطهراني النجفي المذكور.

(1) فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه عمومي أصفهان 1 / 326 الرقم 618 و 617.
(2) فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه آية الله مرعشي 23 / 280 الرقم 9153.
(3) فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه مسجد أعظم قم / 423.
(4) فهرست نسخه هاى خطى كتابخانهء عمومي امام هادي (عليه السلام) - مشهد مقدس / 7.
(5) فهرست كتابهاى چاپى عربي / 104 - معجم المطبوعات العربية في إيران / 204 -
تاريخ علمي واجتماعي أصفهان در دو قرن أخير 1 / 173.
11

وهو أول من علق عليه أيضا، وهو تلميذ المصنف وابن أخته وكان صهرا على
بنته رحمة الله عليهما.
وأنت تجد ترجمته في كتاب: بيان سبل الهداية في ذكر أعقاب صاحب
الهداية (1).
شرح الهداية
أول من شرح قسما من كتاب الهداية نجل المؤلف العلامة الفقيه المحقق
الرئيس آية الله العظمى الحاج الشيخ محمد باقر النجفي الأصفهاني المعروف
بحجة الاسلام طاب ثراه المتوفى عام 1301، فإنه شرح بحث حجية المظنة من
هداية والده، وقد طبع مع الهداية في عام 1283 في قريب من مائة وثلاثين صفحة
كبيرة من الطبع الحجري.
قال (قدس سره) في أول كتابه: إني لما رأيت الرسالة الشريفة بل الجوهرة النفيسة التي
أدرجت في كتاب هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين التي صنفها
وهذبها والدي الامام عماد الاسلام فقيه أهل البيت (عليهم السلام) مشكاة حنادس الظلام
ومربي الفضلاء الكرام، بل أستاذ العلماء الأعلام وفخر الفقهاء العظام، كشاف
غوامض عويصات العلوم بفهمه الثاقب، وحلال مشكلاتها بفكره الصائب، محيي
ما درس من سنن المرسلين ومحقق حقائق السابقين، طود العلم الشريف وعضد
الدين الحنيف مالك أزمة التصنيف والتأليف الذي جمع من أنواع الفنون، فانعقد
عليه الاجماع، وتفرد بأصناف الفضائل، فبهر النواظر والأسماع، فما من فن إلا
وله فيه القدح المعلى والمورد العذب المحلى.
إن قال لم يدع قولا لقائل، أو أطال لم يأت غيره بطائل، أو صنف ألف أشتات
الفنون كالدر المكنون، وإذا جلس مفيدا في صدر ناديه جثت بين يديه طلاب
فوائده وأياديه مل ء أصداف الأسماع من الدر الفاخر، وبهر الأبصار والبصائر

(1) تاريخ علمي واجتماعي أصفهان در دو قرن أخير 3 / 260.
12

في المحاسن والمفاخر، فهو علامة البشر ومجدد المذهب في القرن الثالث عشر،
قدس الله سبحانه نفسه الزكية، وأفاض على تربته المراحم الرحمانية ورفع مقامه
في بحبوحة جنته، وجمع بينه وبين أئمته، وجدتها مشتملة على تحقيقات فائقة
تفرد بها عن السابقين، وتدقيقات رائقة لم يسبقه إليها أحد من الأولين والآخرين،
قد عملها في إبطال القول بالظن المطلق، وإثبات المذهب الحق، كشف فيها عن
مشكلات هذه المسألة نقابها، وذلل صعابها، وملك رقابها، وحلل للعقول عقالها،
وأوضح قيلها وقالها، ففوائدها في سماء الإفادة نجوم، وللشكوك والشبهات
رجوم، غير أنها قد استصعبت على علماء هذا العصر حتى اختفت عليهم دقائقها،
وانطوت عنهم حقائقها، فجعلوها غرضا لسهام النقض والإبرام، وليس ذلك إلا من
زلل الأفهام.
وحيث وجدت الأمر بهذه المثابة مع كون المسألة من أعظم المسائل التي تعم
بها البلية وتشتد إليها الحاجة، بل يبتني عليها أساس استنباط الأحكام الشرعية
رأيت أن أكتب عليها شرحا وافيا بإيضاح مبهماتها كافيا في بيان مشكلاتها
متكفلا بدفع الشكوك والشبهات عنها وتنقيح مطالبها وتهذيب مقاصدها (1).
أقول: بعون الله تعالى ومنه سوف يطبع هذا الشرح للمرة الثانية بعد إكمال طبع
هداية المسترشدين إن شاء الله تعالى، وهو المستعان.
الحواشي على الهداية
شهرة الكتاب في أندية العلم وقبوله لدى الفطاحل، دعا جماعة من العلماء
إلى كتابة حواش وتعاليق عليه، لا بأس بالإشارة إلى ما اطلعنا عليه:
منها: حاشية الشيخ محمد بن محمد علي الطهراني النجفي (قدس سره) ابن أخت
صاحب الهداية وتلميذه. فهو صحح الهداية وعلق عليه، وطبعت حواشيه على
الكتاب في الطبعة الحجرية عام 1282 وفي الطبعة الآتية ستطبع باسمه.

(1) شرح حجية المظنة / 1 من الطبعة الحجرية.
13

ومنها: حاشية الشيخ ميرزا أحمد بن علي أكبر المراغي التبريزي.
كان عالما جليلا من تلاميذ الشيخ الأعظم الأنصاري وكتب تقريراته في الفقه
ثم نزل تبريز وتوفى بها بالوباء خامس محرم سنة 1310، وحمل نعشه إلى وادي
السلام في الغري الشريف.
وله: تفسير مشكلات القرآن [على حواشيه] وشرح نهج البلاغة [على
حواشيه] وحاشية القوانين وغيرها من الكتب.
ترجم له في نقباء البشر (1)، ومن مصنفاته حاشية هداية المسترشدين، وهي غير
مدونة توجد نسختها في حاشية نسخة مطبوعة من الكتاب في خزانة مخطوطات
مكتبة آية الله المرعشي (قدس سره) العامة برقم 10095، وقد عرف في فهرس مخطوطاتها (2).
تدريس الهداية واستحضارها
قام بتدريسها الشيخ الأعظم الأنصاري - طاب ثراه - في بيته الشريف في
جامعة النجف الدينية وحضر عليه نجل صاحب الهداية الشيخ الكبير الشيخ محمد
باقر أعلى الله مقامه.
يحدثنا العلامة الشيخ عباس القمي (رحمه الله) عن هذا الدرس: تلمذ مرحوم حاج شيخ
محمد باقر در نزد مرحوم شيخ أنصاري در أوائل أمر تدريس مرحوم شيخ أنصاري
بوده وآن مرحوم به خانه جناب أستاد مشرف شده، وحاشيهء پدرش بر معالم را
نزد آنجناب مى خوانده است واو از شاگردان طبقهء أول مرحوم شيخ أنصاري
مى بأشد كه علاوة بر فوائد علمي كه از آنجناب حاصل كرده به مناسبت صحبت و
معاشرت با ايشان نيز تكميل مراتب تقوى وتزكيه نفس وأخلاق نموده است (3).
قال الشيخ الأعظم في إجازته لنجل صاحب الهداية المكتوبة في شهر صفر

(1) نقباء البشر 1 / 114 الرقم 255.
(2) فهرس مخطوطات مكتبة آية الله المرعشي 26 / 65 الرقم 10095.
(3) فوائد الرضوية 2 / 409 - تاريخ علمي واجتماعي أصفهان در دو قرن أخير 1 / 316.
زندگانى وشخصيت شيخ أنصاري / 108.
14

من شهور سنة 1262:... فقد أجزت للأعز الأمجد والأتقى الأوحد العالم العامل
والفاضل الكامل صاحب التدقيقات الرائعة بالذهن، والتحقيقات الفائقة بالفهم
المستقيم، سلالة الفحول، ومتقن الفروع والأصول الألمعي المؤيد، واللوذعي
المسدد، جناب الشيخ محمد باقر وفقه الله لمرضاه وبلغه أقصى مناه....
أقول: وقد طبعت صورة خط الشيخ الأعظم الأنصاري في كتاب تاريخ
علمي واجتماعي أصفهان در دو قرن أخير 1 / 319 و 318 فراجعها إن شئت.
وكان بعض العلماء مغاليا للهداية ومستحضرا لأقواله، ومنهم العلامة الشيخ
مهدي المازندراني النجفي طاب ثراه.
قال تلميذه الشيخ جعفر آل محبوبة في ماضي النجف وحاضرها: ومن
مشايخي الشيخ مهدي المازندراني النجفي أحد مشايخي الذين حضرت عندهم
كتاب كفاية الأصول خارجا. كان محققا ماهرا في الأصول، مغاليا في حاشية
الشيخ محمد تقي على المعالم، مستحضرا لأقواله في كل آن. كان من تلامذة
العلامة الحاج ميرزا حبيب الله الرشتي، واختص بعد وفاته بآية الله الخراساني
وكان من مقرري درسه، استقل بالتدريس بعد وفاة شيخه الخراساني، حضرت
درسه أول قراءتي للكفاية، توفي في النجف سنة 1341 (1).
الهداية في كتب علم الأصول المدونة في بيت صاحبها
رزق الله تعالى صاحب الهداية نسلا طيبا وبيتا جليلا، نشأ فيهم كثير من
العلماء والفقهاء والمراجع بحيث كتب العلامة السيد مصلح الدين المهدوي رحمه
الله تعالى ثلاث مجلدات كبيرة في تراجمهم، وقد طبع الكتاب (2).
قال العلامة الطهراني في شأنهم: آل صاحب الحاشية بيت علم جليل في

(1) ماضي النجف وحاضرها 3 / 287.
(2) راجع بيان سبل الهداية في ذكر أعقاب صاحب الهداية أو تاريخ علمي واجتماعي
أصفهان در دو قرن أخير.
15

أصفهان يعد من أشرفها وأعرقها في الفضل، فقد نبغ فيه جمع من فطاحل العلماء
ورجال الدين الأفاضل كما قضوا دورا مهما في خدمة الشريعة، ونالوا الرئاسة
العامة لا في إصفهان فحسب، بل في إيران مطلقا (1)....
وأما كتب الأصول المدونة في بيته كثيرة نشير إلى بعضها، ومن الواضح أنهم
تعرضوا لمباني جدهم قدس الله أسرارهم:
منها: الفصول: تأليف شقيق صاحب الهداية وتلميذه الأكبر العلامة المحقق
الشيخ محمد حسين الإصفهاني طاب ثراه، فإنه استفاد بعض المباني من أخيه
وأستاذه صاحب الهداية، وحيث إن كتابه دورة كاملة أصولية أصبح برهة من
الزمن من الكتب الدراسية، وقد طبع غير مرة في إيران.
ومنها: شرح حجية المظنة: تأليف نجله الشيخ محمد باقر (رحمه الله) وقد مر منا أنه
شرح الهداية لوالده العلامة وطبع مع الهداية في عام 1282.
ومنها: وقاية الأذهان: تأليف جدنا العلامة الأكبر أبي المجد الشيخ محمد
الرضا النجفي الإصفهاني (قدس سره) فإنه تعرض لمباني جده، ودافع عنها أشد الدفاع،
وأجاب مناقشات الشيخ الأعظم والمحقق الخراساني عليها، وقد طبع الكتاب
للمرة الثانية أخيرا بقم من قبل مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.
وقال في ديوان شعره:
وقيت كل الرزايا * لما أتتك الوقاية
خذها ودع ما سواها * فإن فيها الكفاية
إن الهداية منا * بداية ونهاية (2)
ومن جملة كتب الأصول المدونة في بيته:
لب الأصول: من مؤلفات نجل صاحب الهداية الشيخ محمد باقر النجفي
الإصفهاني.
ومنها: رسالة في أصل البراءة: من مؤلفات جدنا صاحب مجد البيان في

(1) نقباء البشر 2 / 748.
(2) ديوان أبي المجد / 146.
16

تفسير القرآن، الشيخ محمد حسين ابن الشيخ محمد باقر بن الشيخ محمد تقي
صاحب الهداية. ألفها بالتماس ابن أخيه وتلميذه الشيخ جلال الدين ابن الشيخ
محمد تقي الآقا نجفي. مجلد كبير. مخطوط صورة نسختها عندنا موجودة.
ومنها: أرائك الأصول: تأليف العلامة الزاهد الشيخ مهدي ابن الشيخ محمد
علي بن الشيخ محمد باقر ابن الشيخ محمد تقي صاحب الهداية. طبع الكتاب
بإصفهان.
ومنها: غير ذلك من الكتب والرسائل، والحمد لله على جميع ما أنعم.
الهداية في رسائل الشيخ الأعظم وتقريراته
1 - قال الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في دليل العقل على حجية خبر الواحد:
الثالث: ما ذكره بعض المحققين من المعاصرين في حاشيته على المعالم لإثبات
حجية الظن الحاصل من الخبر لا مطلقا، وقد لخصناه لطوله [ثم ذكر حاصل كلامه
وقال]: وقد أطال (قدس سره) في النقض والإبرام بذكر الإيرادات والأجوبة على هذا
المطلب (1).
2 - قال الشيخ في وقوع التعبد بالظن: الوجه الثاني: ما ذكره بعض المحققين
من المعاصرين مع الوجه الأول، وبعض الوجوه الاخر قال: [ثم نقل كلام صاحب
الهداية في أكثر من صفحتين] (2).
3 - ثم بعد أوراق نقل أكثر من صفحة من هداية المسترشدين في بحث لزوم
الأخذ بمظنون الاعتبار في تنبيهات دليل الانسداد (3).
4 - وقال في تقريراته في بحث مقدمة الواجب: ولهم في التفصي عن هذه
العويصة طريقان: الأول: ما سلكه بعض أعاظم المحققين في تعليقاته على
المعالم و... (4).

(1) فرائد الأصول / 172 طبع جماعة المدرسين.
(2) فرائد الأصول / 221.
(3) فرائد الأصول / 233.
(4) مطارح الأنظار / 50.
17

5 - وقال في تقريرات بحثه: وهل يصح أن يكون الواجب مشروطا بمقدمة
محرمة مقارنة للفعل في الوجود أولا؟ وجهان، بل قولان، الذي يظهر من ثاني
المحققين في جامع المقاصد هو الأول وتبعه في ذلك الشيخ الأجل الفيلسوف في
مقدمات الكشف، وتبعه في ذلك صهره الصفي التقي في تعليقاته على المعالم
وتبعه أخوه الجليل في الفصول فحكم فيه بصحة الوضوء فيما إذا انحصر الماء في
آنية مغصوبة وتوقف الوضوء على الاغتراف فيها (1)....
6 - ثم بعد صفحة قال: ولذلك سلك بعض أصحاب هذا القول مسلكا آخر
في تعليقاته على المعالم ومحصله (2)....
7 - قال مقرره في مطارح الأنظار: هداية: زعم بعض الأجلة أن المعتبر في
وقوع الواجب الغيري على صفة الوجوب ترتب الغير عليه، بحيث لو لم يترتب
عليه يكشف عن عدم وقوعه على صفة الوجوب، وإذا ترتب عليه الغير يكشف
عن كونه واقعا على صفة الوجوب، ولعله أخذه مما احتمله أخوه البارع في تعليقه
على المعالم حيث جعل ذلك من محتملات كلام المعالم (3)....
8 - قال في حجج المجوزين لاجتماع الأمر والنهي:... أوضحه بعض
المحققين في حاشية المعالم حيث قال (4):... [ونقل نصف صفحة من كلامه].
9 - وقال بعد صفحات: وهو صريح المجيب الأول في حاشية المعالم حيث
إنه بعد ما أورد الجواب المذكور في المقام الأول طرد الكلام في المقام أيضا (5)....
10 - أقول: وقد نقلوا لنا غير مرة أسباط الشيخ الأعظم طاب ثراهم الذين
يوجد فيهم إلى الآن - بحمد الله - من لهم مراتب عالية من العلم والعمل من جدهم
الشيخ الأنصاري (قدس سره) أنه قال في جواب من سأل عنه: لماذا لا يكتب الشيخ في
مباحث الألفاظ بقلمه الشريف شيئا؟

(1) مطارح الأنظار / 56.
(2) مطارح الأنظار / 57.
(3) مطارح الأنظار / 74.
(4) مطارح الأنظار / 131.
(5) مطارح الأنظار / 135.
18

أجاب الشيخ الأعظم: هل الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين
بقي لنا شيئا حتى نكتبه (1).
الهداية في تقريرات المجدد الشيرازي
فقيه الطائفة ومرجعها آية الله العظمى السيد محمد حسن الحسيني الشيرازي أعلى
الله مقامه كان من أعاظم تلاميذ شيخنا الأعظم، وانتقلت الزعامة الدينية إليه بعد
أستاذه وقد تتلمذ على العلامة التقي صاحب الهداية برهة من الزمان في بلدة إصفهان.
نقل العلامة الشيخ آقا بزرك الطهراني عنه: حدثني (قدس سره) أنه صار يحضر درس
الشيخ المحقق محمد تقي صاحب الحاشية ولكثرة الجمعية ما كنت أتمكن من
التكلم معه، فقل انتفاعي بالدرس العمومي، فاجتمعت مع بعض إخواني من أهل
الفهم وقلت لهم: هلا نمضي إلى الشيخ ونلتمس منه أن يعين لنا وقتا يقرر لنا فيه
درسه العمومي حتى نتمكن من التكلم معه ونذكر له إشكالاتنا، فوافقوا فيه، وكنا
أربعة، وذكر لي أسماءهم، فمضوا إليه والتمسوه على ذلك، فأجابهم إلى ذلك
واستأنس منهم، وعين لهم وقتا مخصوصا، فصاروا يحضرون الدرس العام والخاص
قال: فانتفعت كثيرا، غير أنه لم تطل أيامه وتوفي بعد أشهر في سنة 1248 (2).
ولما كان المجدد الشيرازي ممن تتلمذ على المحقق صاحب الهداية عموما
وخصوصا كثيرا ما ينقل عنه في درسه الشريف، وتقريراته بقلم تلميذه العلامة
المولى علي الروزدري تدل عليه، فإنه ينقل من صاحب الهداية قريبا من ستين
مورد نشير إلى بعضها، وبعضها الاخر مفوضة إلى مراجعتك:
1 - أولها أنه قال في مجلس بحثه على ما حكى عنه تقريراته: ومنها ما عن
الآخرين منهم الشيخ محمد تقي من أنها هي الكلمة المستعملة في ما وضعت له
من حيث إنه ما وضعت له (3).

(1) زندگانى وشخصيت شيخ أنصاري / 109.
(2) هدية الرازي إلى الامام المجدد الشيرازي / 38.
(3) تقريرات آية الله المجدد الشيرازي 1 / 10 طبع مؤسسة آل البيت.
19

2 - قال: ثم إن بعض مهرة الفن وهو الشيخ محمد تقي (قدس سره) احتج على اعتبار
الأصل في الموارد الثلاثة (1).
3 - قال: ثم إن الأقرب عندي في تعريف الاطراد وعدمه وبيان موردهما هو
ما ذكرته نقلا عن الشيخ محمد تقي (قدس سره)، وهو المعتمد بجريان مناط الاعتبار (2).
4 - قال: وقد تصدى بعض المحققين في حاشيته على المعالم لبيان الضابط
بأنه ما يجمع شروطا ثلاثة... (3).
5 - وقال: وقد أجاد بعض المحققين من المتأخرين في ما علقه على
المعالم (4).
قد مر منا بأن المجدد الشيرازي ينقل عن أستاذه صاحب الهداية في تقريرات
بحثه في الأصول قريبا من ستين مورد وحتى نقل من فقه صاحب الهداية، فقال:
وقد ذهب بعض من المحققين من متأخري المتأخرين في فقهه على ما حكي عنه
إلى كون الإجازة كاشفة والتزم باللازم الأول وهو جواز تصرف الأصيل و...
ثم جاء في هامش الأصل: وهو الشيخ محمد تقي (قدس سره) على ما حكى عنه (5).
أقول: قد استخرجت مواقع نقل المجدد الشيرازي عن صاحب الهداية في
ستين موردا، ولكن لا فائدة لنقل الأعداد، والأمر واضح لمن أراد.
الهداية في الكفاية للمحقق الخراساني
المحقق الأوحدي العلامة آية الله الشيخ محمد كاظم الخراساني (قدس سره) صاحب
كفاية الأصول أشهر من أن يوصف وأعرف من أن يذكر، ومسلم عند الكل مهارته
وتبحره ودقته في علم الأصول، فإنه ينقل من الهداية في الكفاية خمس مرات
نشير فيما يلي إلى مواضعها:

(1) التقريرات 1 / 44.
(2) التقريرات 1 / 125.
(3) التقريرات 1 / 242.
(4) التقريرات 2 / 56.
(5) التقريرات 2 / 282.
20

1 - قال في بحث وضع الحروف:... ولذا التجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيا
إضافيا (1).
أقول: مراده من بعض الفحول العلامة التقي صاحب الهداية (2) وأخذ منه أخوه
العلامة الشيخ محمد حسين الإصفهاني في الفصول (3).
2 - وفي بحث مقدمة الواجب نقل إشكال صاحب الهداية في كون الأجزاء
مقدمة للمركب وقال: وربما يشكل في كون الأجزاء مقدمة له وسابقة عليه بأن
المركب ليس إلا نفس الأجزاء بأسرها (4).
3 - وفي بحث الضد أشار إلى قول صاحب الهداية وإشكاله فيه (5).
4 - ثم قال في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خبر الواحد: ثالثها:
ما أفاده بعض المحققين بما ملخصه (6): [ثم نقل كلام صاحب الهداية ملخصا].
5 - وقال في بحث دليل الانسداد: ثانيهما ما اختص به بعض المحققين قال (7):
[ثم نقل كلام صاحب الهداية في أكثر من نصف صفحة].
الهداية في مدرسة المحقق النائيني
آية الله الميرزا محمد حسين الغروي النائيني من أعاظم الفقهاء والأصوليين
المتوفى عام 1355، ومن الفحول الذين حضروا على المحقق الخراساني،
وكان (رحمه الله) قد تتلمذ على حفيد صاحب الهداية جدنا الشيخ محمد حسين صاحب
التفسير ثم على نجل صاحب الهداية، الشيخ محمد باقر في أصفهان وقال في شأن
أستاذه على منبر تدريسه على ما نقله لنا من حضر بحثه: كان الشيخ محمد باقر
فقيها كبيرا كان فقيها كبيرا، كان فقيها كبيرا، (ثلاث مرات). وقد طبع له دورتين
كاملتين من تقريرات بحثه في الأصول:

(1) كفاية الأصول / 11 طبع مؤسسة آل البيت.
(2) هداية المسترشدين / 30 الطبعة الحجرية.
(3) الفصول / 16.
(4) الكفاية / 90.
(5) الكفاية / 130.
(6) الكفاية / 306.
(7) الكفاية / 319.
21

الأولى: فوائد الأصول: تأليف العلامة المحقق الشيخ محمد علي الكاظمي
الخراساني الذي توفي بعد أستاذه بعشر سنين، يعني عام 1365.
الثانية: أجود التقريرات: تأليف مرجع الطائفة وفقيه الأمة آية الله العظمى
السيد أبي القاسم الخوئي (قدس سره).
1 - قال في فوائد الأصول: في بحث المقدمة الموصلة من أبحاث مقدمة
الواجب:... وهذا وإن لم يمكن ان ينطبق عليه مقالة صاحب الفصول لتصريحه
بأخذ التوصل قيدا إلا أنه يمكن ان ينطبق عليه كلام أخيه المحقق صاحب الحاشية
حيث إنه قد تكرر في كلامه نفي اعتبار قيد التوصل ومع ذلك يقول إن الواجب
هو المقدمة من حيث الايصال (1)....
2 - وفي مسألة الترتب نقل كلام صاحب الحاشية ورد اشكال المحقق الرشتي
عليه (2).
3 - وقال في تقريب مقدمات الانسداد الصغير: وتقريب مقدمات الانسداد
الصغير على هذا الوجه يقرب مما سيأتي من المحقق صاحب الحاشية وأخيه
صاحب الفصول من تقريب مقدمات الانسداد الكبير (3)....
4 - قال في بحث تقرير حكم العقل بحجية الخبر الواحد: الوجه الثاني: هو ما
ذكره المحقق صاحب الحاشية وحاصله (4) [ثم نقل حاصل كلامه].
5 - وقال في نتيجة بحث دليل الانسداد: فقيل: ان مقدمات دليل الانسداد انما
تقتضي اعتبار الظن في خصوص المسألة الأصولية وهي كون الشئ طريقا، ذهب
اليه صاحب الفصول تبعا لأخيه المحقق صاحب الحاشية (5).
6 - وقال فيه أيضا: الوجه الثاني: ما أفاده المحقق صاحب الحاشية مضافا إلى
الوجه الأول وحاصله يتألف من مقدمات (6) [ثم نقل حاصل كلامه في أكثر

(1) فوائد الأصول 1 / 293 طبع جماعة المدرسين.
(2) فوائد الأصول 1 / 391.
(3) فوائد الأصول 3 / 206.
(4) فوائد الأصول 3 / 212.
(5) فوائد الأصول 3 / 280.
(6) فوائد الأصول 3 / 287.
22

من صفحة] وبحث عنه في ست صفحات.
7 - قال في بحث دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين: منها: ما حكى
عن المحقق صاحب الحاشية (قدس سره) (1) [ثم نقل حاصل كلامه في أكثر من صفحة].
8 - وقال في أجود التقريرات في بحث وضع الحروف: اما القول الأول
فقد اختاره المحقق صاحب الحاشية (2).
9 - وقال في بحث مقدمة الواجب: إذا عرفت ذلك فاعلم أن المحقق صاحب
الحاشية (قدس سره) أخرج المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص عن حريم النزاع وقد
استدل عليه (3).
10 - وقال فيه أيضا: بقي الكلام في ما أفاده المحقق صاحب الحاشية في
المقام من أن المقدمة إنما وجبت من حيث الإيصال لا مقيدة بكونها موصلة. وقد
أصر على ذلك في مواضع من كلامه وأنكر وجوب المقدمة الموصلة (4).
ثم بعد البحث عنه ارتضاه المحقق النائيني (قدس سره).
11 - واعترف بذلك في بحث الترتب حيث قال: فإن المقدمة إنما وجبت من
حيث الإيصال كما أفاده المحقق صاحب الحاشية (قدس سره) (5).
12 - وقال في أواخر بحث الترتب: يتضح لك بطلان الإيراد المذكور وإن
توقف المحقق المذكور (قدس سره) عن القول بالترتب لأجله، وتشنيعه على المحقق
صاحب الحاشية (قدس سره) لأجل ذهابه إلى الترتب ليس في محله (6).
13 - قال في الوجوه العقلية على حجية الخبر الواحد: الوجه الرابع: ما ذكره
المحقق صاحب الحاشية (قدس سره) وهو. (7)
14 - وقال في نتيجة دليل الانسداد: أو تختص بما إذا تعلق بحجية طريق

(1) فوائد الأصول 4 / 152.
(2) أجود التقريرات 1 / 26.
(3) أجود التقريرات 1 / 216.
(4) أجود التقريرات 1 / 240.
(5) أجود التقريرات 1 / 321.
(6) أجود التقريرات 1 / 326.
(7) أجود التقريرات 2 / 122.
23

أو أصل كما ذهب إليه المحقق صاحب الحاشية وصاحب الفصول (قدس سرهما) (1).
15 - وقال فيه أيضا:... أما الوجه الثاني فهو الذي أفاده المحقق صاحب
الحاشية (قدس سره) (2).
تذييل: ولما كان آية الله الخوئي (قدس سره) من أعاظم تلاميذ المحقق النائيني نشير
إلى ما ذكره في تقريرات بحثه في الأصول هنا:
قال المحقق الخوئي: الوجه الثالث من الوجوه العقلية [التي أقيمت على حجية
الخبر الواحد] ما حكي عن صاحب الحاشية وملخصه (3)....
وفي تعليقه على أجود التقريرات أيضا اعترض على أستاذه المحقق النائيني
حيث ارتضى قول صاحب الهداية في وجوب المقدمة من حيث الإيصال، فراجع
كلامه إن شئت (4).
الهداية في مدرسة المحقق العراقي
الفقيه المحقق والأصولي المدقق آية الله الشيخ ضياء الدين العراقي طاب
ثراه من أعلام تلاميذ المحقق الخراساني، وقد تتلمذ في إصفهان على نجل
صاحب الهداية الشيخ محمد باقر، وخرج من عنده مجتهدا إلى الغري الشريف.
وقد ينقل من صاحب الهداية في كتبه وتقريرات بحثه بقلم العلامة الشيخ
محمد تقي البروجردي (رحمه الله) المسماة ب‍ " نهاية الأفكار ".
1 - نقل المحقق العراقي قول صاحب الهداية من التفصيل في موجدية المعنى
بين بعض الحروف عن بعض (5).
2 - ونقل عنه هذا المعنى في تقريرات بحثه نهاية الأفكار (6).
3 - قال في تقريراته في الاستدلال على حجية الخبر الواحد بدليل العقل:

(1) أجود التقريرات 2 / 139.
(2) أجود التقريرات 2 / 142.
(3) مصباح الأصول 2 / 214.
(4) أجود التقريرات 1 / 242.
(5) مقالات الأصول 1 / 24 (1 / 94 الطبعة الحديثة).
(6) نهاية الأفكار 1 / 47 طبعة جماعة المدرسين.
24

الثالث من وجوه تقرير دليل العقل: ما ذكره بعض المحققين في حاشيته على
المعالم لإثبات حجية خصوص الظن الحاصل من الخبر، وملخص ما أفاده هو (1).
4 - قال في تنبيهات دليل الانسداد: ثم إن في المقام تقريبا آخر لصاحب
الحاشية (قدس سره) في وجه تخصيص النتيجة بالظن بالطريق بلا احتياج فيه إلى دعوى
العلم الاجمالي بجعل الطرق قال (قدس سره) (2): [ثم نقل كلام صاحب الهداية في أكثر من
صفحة وبحث عنه في أكثر من صفحتين].
5 - وقال في تعليقته على فوائد الأصول تقريرات المحقق النائيني: وكان
وجهه حينئذ ممتازا عن كلام المحقق صاحب الحاشية (3).
تذييل: ومن أعلام تلاميذ المحقق العراقي ومقرري بحثه العلامة المحقق آية
الله الميرزا هاشم الآملي النجفي طاب ثراه، فإنه نقل عن صاحب الهداية في
تقريرات بحثه المسماة ب‍ " مجمع الأفكار ومطرح الأنظار ":
قال (قدس سره) في دلالة العقل على حجية الخبر الواحد: الوجه الثالث من حكم
العقل ما ذكره المحقق صاحب الحاشية على المعالم (قدس سره) لإثبات حجية الظن
الحاصل من الخبر لا مطلقا وملخصه (4).
الهداية في مدرسة المحقق الإصفهاني
الأصولي المدقق والفيلسوف المحقق آية الله الحاج الشيخ محمد حسين
الإصفهاني صاحب نهاية الدراية في شرح الكفاية المتوفى عام 1361 من أعلام
تلاميذ المحقق الخراساني نقل عن صاحب الهداية عدة مرات في شرحه منها:
1 - ما ذكره في حاشية شرحه: وحينئذ يرد عليه ما أوردناه في المتن على
المحكي من شيخ المحققين صاحب حاشية المعالم (قدس سره) من أن الكلام في مانعية

(1) نهاية الأفكار 3 / 143.
(2) نهاية الأفكار 3 / 170.
(3) تعليقة العراقي المطبوع في ذيل فوائد الأصول 4 / 159 طبعة جماعة المدرسين.
(4) مجمع الأفكار ومطرح الانظار تقرير أبحاث المحقق الآملي 3 / 198.
25

الضد عن الضد للتضاد (1).
2 - نقل كلام صاحب الهداية على حجية الظن بدليل الانسداد وبحث عنها
في سبع صفحات من شرحه نهاية الدراية (2).
3 - ثم عقد تنبيها وذكر كلام نجل صاحب الهداية، المحقق الشيخ محمد باقر
في شرح كلام والده وقال: تنبيه: ذكر بعض الأجلة (رحمه الله) في شرح كلام والده
المحقق (قدس سره) (3).
4 - وطرح كلام صاحب الهداية في بحث وضع الحروف (4).
5 - وقال في رسالته في الطلب والإرادة:... وإلا فيرد عليه ما أورده شيخ
المحققين في هداية المسترشدين من وقوع الفرض المعلق عليه، فيستحيل الأمر
والإرادة بعده كما يستحيل وجود النقيض بعد ثبوت نقيضه (5).
الهداية في مدرسة المحقق الحائري
العلامة المؤسس آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي
طاب ثراه المتوفى عام 1355 صاحب درر الفوائد في علم الأصول نقل عن
الهداية في كتابه ومجلس درسه الشريف:
1 - قال في بحث الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية الخبر الواحد: الوجه
الثالث: ما ذكره بعض الأساطين في حاشيته على المعالم وملخصه (6).
2 - وقال في تنبيهات دليل الانسداد: الوجه الثاني ما أفاده بعض
المحققين ومحصل كلامه (قدس سره) (7) [ثم نقل أكثر من صفحة من كلامه ثم بحث عنه أيضا

(1) نهاية الدراية في شرح الكفاية 2 / 197 طبعة مؤسسة آل البيت.
(2) نهاية الدراية 3 / 319.
(3) نهاية الدراية 3 / 326.
(4) نهاية الدراية 1 / 59.
(5) الطلب والإرادة / 42 المطبوع ضمن بحوث في الأصول، طبعة جماعة المدرسين بقم.
(6) درر الفوائد / 397 طبعة جماعة المدرسين.
(7) درر الفوائد / 411.
26

في أكثر من صفحة].
3 - ونقل تلميذه الأكبر آية الله الشيخ محمد علي العراقي المقرر لأبحاثه:
والوجه الثالث: ما ذكره الشيخ محمد تقي طاب ثراه في حاشية المعالم
وحاصله (1).
4 - وهكذا قال في مجلس درسه الشريف على ما حكي في تقريراته:
والوجه الثاني ما ذكره الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية وهو مركب من
مقدمات (2): [ثم نقل حاصل كلامه في أكثر من صفحة ثم بحث عنه].
تذييل: من أعاظم تلاميذ المحقق الحائري، آية الله السيد محمد رضا
الگلپايگاني (قدس سره) فإنه كتب تعليقة على درر أستاذه وطبع في مجلدين باسم إفاضة
العوائد تعليق على درر الفوائد، فوافق فيها مع صاحب الهداية وخالف أستاذه
الحائري، واختار تقريب صاحب الهداية في بحث دلالة العقل على حجية الخبر
الواحد، فراجع تمام كلامه في كتابه (3) (قدس الله سره القدوسي).
تنبيه: يأتي عنوان الهداية في آثار السيد الإمام الخميني (رحمه الله) في ما بعد إن شاء
الله تعالى.
الهداية في تقريرات المحقق البروجردي
آية الله العظمى الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي من أعاظم تلاميذ
المحقق الخراساني، وكان فقيه الأمة ومرجع الطائفة في زمانه، نقل عن صاحب
الهداية في تقريراته المسماة بنهاية الأصول:
1 - قال: وقال المحقق صاحب الحاشية على المعالم: إن معاني الأسماء معان
متحصلة في نفس الأمر ومعاني الحروف معان إنشائية ايقاعية توجد بإنشاء
المتكلم (4).

(1) أصول الفقه 1 / 636.
(2) أصول الفقه 1 / 675.
(3) إفاضة العوائد تعليق على درر الفوائد 2 / 99.
(4) نهاية الأصول / 19 الطبعة الحديثة.
27

2 - ونقل عن صاحب الهداية الحكم بتغاير الطلب والإرادة وتخيل أنه وافق
في هذه المسألة الأشاعرة، وخالف المعتزلة والإمامية، فراجع إلى نهاية
الأصول (1).
ولكن تفطن مقرره المحقق في ذيل عبارة أستاذه ورد هذه المقالة بما ذكره
العلامة الجد في الوقاية.
أقول: قال العلامة الجد أبو المجد الشيخ محمد الرضا النجفي الإصفهاني في
كتابه وقاية الأذهان: العلامة الجد (صاحب الهداية)، لم يخالف العدلية في ذلك
ولم يجنح إلى قول الأشاعرة قط، بل هو من ألد أعداء هذه المقالة، وأشد من
خاصمهم، وقد قال في بحث مقدمة الواجب بعد ما بين مذهب العدلية من أن
حقيقة الطلب عندهم هي الإرادة المتعلقة بفعل الشئ أو تركه ما نصه: وقد خالف
في ذلك الأشاعرة فزعموا أن الطلب أمر آخر وراء الإرادة وجعلوه من أقسام
الكلام النفسي المغاير عندهم للإرادة والكراهة. وقد عرفت أن ما ذكروه أمر فاسد
غير معقول مبني على فاسد آخر أعني الكلام النفسي (2) انتهى.
فلينظر المنصف إلى هذا الإمام كيف يجعل مقالة الأشاعرة أمرا فاسدا غير
معقول مبنيا على فاسد آخر ثم ليعجب ممن نسب إليه موافقتهم، ويخالف في
كلامه سنة الأدب، وهو لم يعرف صحيح مرامه من صريح كلامه (3).
الهداية في آثار السيد الإمام الخميني
آية الله الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني (قدس سره) من أعاظم تلاميذ المحقق
الحائري واستفاد واستجاز أيضا من جدنا العلامة أبي المجد الشيخ محمد الرضا
النجفي الإصفهاني صاحب وقاية الأذهان وغيرهما حتى نال مراتب عالية في
الفقه وأصوله، وصار من المراجع العظام ووفقه الله تعالى لتأسيس الحكومة
الإسلامية في إيران وأمره كالشمس في رابعة النهار.

(1) نهاية الأصول / 91.
(2) هداية المسترشدين / 133 الطبعة الحجرية.
(3) وقاية الأذهان / 188 طبعة مؤسسة آل البيت.
28

1 - قال في كتابه في مباحث الألفاظ: ومنها: ما نسب إلى بعض الفحول من
كون معانيها جزئيا إضافيا (1).
2 - وقال: إلا ما عن المحقق صاحب الحاشية نقلا عن بعض من أن الرجوع
إلى الهيئة مستلزم لرجوعه إلى المادة دون العكس (2)....
3 - وقال في تعليقه على المجلد الثاني من الكفاية: ومن مواقع النظر فيه:
أنه قال: إن تقريب مقدمات الانسداد، على هذا الوجه الثاني يقرب مما أفاد
صاحب الحاشية وأخوه في الانسداد، وإن كان فرق بينهما، وتصدى لبيان الفرق
بما لا يرجع إلى محصل، وظني أنه من قصور العبارة (3).
4 - وقال فيها: وأما ما أفاده صاحب الفصول (رحمه الله) تبعا لأخيه المحقق (رحمه الله) من
الاختصاص بالطريق فهو مبتن على مقدمات (4).
5 - وفي المجلد الثاني من كتابه (5) نقل كلام صاحب الهداية فراجعه إن شئت.
فذلكة القول في الهداية
فظهر لك مما ذكرنا منزلة هداية المسترشدين في علم الأصول وأنه كتاب
نفيس ومورد لعناية أهل التحقيق ورواد العلم، وصاحبه الإمام العلامة التقي الشيخ
محمد تقي النجفي الإصفهاني الرازي من أعاظم المحققين الذين قل نظيرهم
في علم الأصول.
تنبيه: وللعلامة الجد صاحب الهداية غير حاشيته على المعالم المسماة بهداية
المسترشدين على أصول معالم الدين، رسالة في مسألة الأقل والأكثر رد فيها قول
العلامة السيد محسن الكاظمي طاب ثراه.

(1) مناهج الوصول إلى علم الأصول 1 / 83.
(2) مناهج الوصول إلى علم الأصول 1 / 365.
(3) أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية 1 / 325.
(4) أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية 1 / 383.
(5) أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية 2 / 288.
29

قال حفيده العلامة أبو المجد الشيخ محمد الرضا النجفي الإصفهاني في شأنها:
وله ردود على العلامة السيد محسن الكاظمي (قدس سره) في مسألة الأقل والأكثر رأيتها
بخطه الشريف (1).
تبصرة: قال صاحب الروضات في ترجمة صاحب الهداية:... وله أيضا كتاب
في الفقه الاستدلالي كبير جدا كان يشتغل به أيام تشرفنا بخدمته المقدسة إلا أنه
بقي في المسودات ولم يدون منه مجلد بعد (2).
واستدرك عليه جدنا العلامة أبو المجد الشيخ محمد الرضا النجفي
الأصفهاني: خرج منه كتاب الطهارة وهو في الفقه كالهداية في الأصول، وله شرح
كتاب الوافي على ما نقل لي والدي طاب ثراه (3).
أقول: وجدنا نسخة كتاب فقه صاحب الهداية في قريب من خمسمائة
صفحة، سمي ب‍ " تبصرة الفقهاء "، وفيه جل مسائل الطهارة وبحث مواقيت الصلاة،
وبعض الزكاة، وقسم من البيع.
وهذا الكتاب تبصرة الفقهاء في الفقه، كالهداية في الأصول كما نقلناه عن
جدنا العلامة أبي المجد في شأنه.
وإن شاء الله وبإذنه وعونه سوف يطبع لأول مرة بعد هداية المسترشدين، وإنه
على كل شئ قدير.
خاتمة المطاف: شكر وتقدير
وفي الختام يجب علينا أن نشكر كل من سعى لإخراج الهداية بهذه الصورة
الزاهية ونخص بالذكر:
1 - سماحة آية الله السيد محمد علي الروضاتي (مد ظله) من أسباط صاحب
الهداية، تفضل علينا بإرسال نسخة خط المؤلف التي تشمل المجلد الأول من

(1) تعليقته على روضات الجنات المسماة بأغلاط الروضات / 10.
(2) روضات الجنات 2 / 124.
(3) أغلاط الروضات / 10.
30

الكتاب، واستفدنا منها وصححنا الكتاب عليها، فلم نحتج إلى ذكر النسخ واختلافها.
2 - المحقق الخبير حجة الاسلام والمسلمين السيد أحمد الحسيني
الأشكوري (مد ظله) كتب بالتماس منا حياة صاحب الهداية (قدس سره).
3 - قرة عيننا وولدنا البار، سماحة الحجة الشيخ هادي النجفي - كان الله له -
حيث بذل الجهد في إعداد مقدمات التحقيق وأشرف على طبع الكتاب وإخراجه
بهذه الحلة القشيبة.
4 - أصحاب مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
سيما حجج الاسلام والمسلمين الشيخ محمد رضا الفاكر والشيخ محمد مهدي
نجف، والشيخ رحمت الله رحمتي دامت بركاتهم حيث ساعدونا على طبع الكتاب
ونشره بهذه الطبعة الزاهية، أيدهم الله تعالى ووفقهم لطبع التراث.
تمت هذه المقدمة في يوم السبت غرة ثاني الجمادين عام 1418 ببلدتنا
إصفهان صانها الله تعالى عن الحدثان.
وأنا العبد الشيخ مهدي ابن الشيخ مجد الدين بن الشيخ محمد الرضا بن الشيخ
محمد حسين بن الشيخ محمد باقر ابن الشيخ محمد تقي النجفي الإصفهاني
صاحب هداية المسترشدين.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وصلى الله على محمد وآله الطيبين
الطاهرين المعصومين.
31

ترجمة المؤلف:
من كتاب " المفصل في تراجم الأعلام " للمحقق
الخبير السيد أحمد الحسيني (مد ظله)
العلامة الكبير، الفقيه الأصولي الشهير، أستاذ الفقهاء والمجتهدين، مولانا
الشيخ محمد تقي بن محمد رحيم بن محمد قاسم الأيوان كيفي الرازي الأصبهاني
النجفي (1).
كان والده يعرف ب‍ " محمد رحيم بيك استاجلو " وقد سماه بعض
" عبد الرحيم "، ولكن الموجود بخط صاحب الترجمة " محمد رحيم " وهو الأصح.
عشيرته وأسرته:
ينتهي نسب الأسرة إلى عشيرة تعرف ب‍ " استاجلو " التي كان لها صلة وثيقة
بالسلاطين الصفوية منذ بداية حكومتها في إيران، وتصدى بعض رجالها وظائف

(1) الأيوان كيفي نسبة إلى قرية " إيوان كي " و " أيوان كيف " من قرى ورامين في شرقي
طهران، اشتهرت بذلك لبناية فيها أثرية قديمة يقال: إنها من أبنية سلاطين إيران الكيانية.
و " استاجلو " عشيرة كبيرة اتصلت بالأعمال الحكومية منذ سلطنة الشاه إسماعيل الصفوي.
ونسبة النجفي، لاعتزاز الأسرة بمنشأ صاحب الترجمة العلمي النجف الأشرف، ولم تزل
تعرف بهذه النسبة، وهي تعرف " بالمسجد شاهي " أيضا نسبة إلى مسجد شاه حيث كان
علماؤها يقيمون صلاة الجماعة فيه.
32

حكومية هامة في أيام الصفويين والقاجاريين كما جاء في تواريخ تلك العصور.
أشغل والد الشيخ صاحب الترجمة بعض الوظائف الحكومية في " إيوان
كيف "، إلا أنه ترك الوظيفة وهاجر إلى العتبات المقدسة بالعراق، وأقام بالنجف
الأشرف منصرفا إلى العبادة حتى وافاه الأجل في سنة 1217.
جده الأعلى ميرزا مهدي، أرسله السلطان نادر شاه إلى النجف لتولي شؤون
تعمير الصحن العلوي الشريف، فتصدى ذلك وسجل اسمه على القاشي لبعض
الكتائب.
بزغ نجم هذه الأسرة العلمي في إصبهان منذ نحو سنة 1225، حيث هاجر
الشيخ في ما يقرب من هذا التاريخ من يزد إليها، واشتهر بالمقام العلمي الرفيع
والزهد والتقوى، والتف حوله الخاصة والعامة، وانتهت إليه الزعامة العلمية
والإمامة.
اشتهر من الأسرة علماء مشاهير وفضلاء ذوي الأقدار والمكانة، كانوا ولم
يزالوا موضع احترام العلماء وحفاوة سائر الطبقات المؤمنة في إصبهان وغيرها،
نذكر أسماء بعضهم كنماذج بارزة لا للحصر:
1 - أخو صاحب الترجمة، الشيخ محمد حسين الأصبهاني (ت 1261)،
العالم الكبير مؤلف الكتاب السائر في الأوساط العلمية " الفصول الغروية ".
2 - ابنه الشيخ محمد باقر المسجد شاهي الإصبهاني (ت 1301)، من أعاظم
علماء إصبهان الفقهاء.
3 - الشيخ محمد حسين النجفي الإصبهاني (ت 1308)، من وجوه تلامذة
الإمام المجدد ميرزا محمد حسن الشيرازي ومؤلف التفسير القيم " مجد البيان ".
4 - الشيخ أبو المجد محمد الرضا المسجد شاهي الإصبهاني النجفي
(ت 1362)، العالم الكبير والأديب الشاعر المشهور، مفخرة القرن الرابع عشر في
العلم والفضل والأدب.
5 - الشيخ محمد تقي آقا نجفي الإصبهاني (1332)، حفيد الشيخ وصاحب
33

المؤلفات الكثيرة المطبوعة الذائعة والمتقدم على علماء عصره بإصبهان.
6 - الحاج آقا نور الله النجفي الإصبهاني (ت 1346)، من تلامذة المجدد
الشيرازي والمشارك في النهضة المعروفة بإيران.
7 - الأستاذ محمد باقر النجفي الإصبهاني المعروف بالفت (ت 1384)،
العلامة الأديب الفاضل المشهور.
8 - الشيخ محمد علي النجفي الإصبهاني (ت 1318).
9 - الشيخ مهدي بن الشيخ محمد علي النجفي (ت 1393)، صاحب المؤلفات
الكثيرة المتجاوزة على الثلاثين.
10 - الشيخ جمال الدين النجفي الإصبهاني (ت 1354)، من أعلام علماء
إصبهان وذي المكانة المحترمة في مختلف الأوساط.
11 - الشيخ محمد إسماعيل النجفي الإصبهاني (ت 1370).
12 - الشيخ مجد الدين الملقب بمجد العلماء النجفي الإصبهاني (ت 1403)،
العالم الجليل الوجيه عند العامة.
يتصل بيت النجفي مصاهرة ببيوتات علمية كبيرة معروفة في الأوساط
العراقية والإيرانية، بواسطة: بنت الشيخ جعفر الكبير النجفي صاحب كشف الغطاء
المسماة " نسمة خاتون " أو " حبابة "، وهي زوجة الشيخ صاحب الترجمة،
وتوفيت سنة 1295 ودفنت بجوار قبر زوجها في " تخت فولاد ".
والعلوية بنت السيد صدر الدين العاملي، زوجة الشيخ محمد باقر النجفي.
والعلوية " ربابة سلطان بيگم " بنت السيد محمد علي المعروف بآقا مجتهد،
حفيدة السيد محمد باقر حجة الاسلام الشفتي، زوجة الشيخ محمد حسين
الإصبهاني وأم أبي المجد.
قال الشيخ آقا بزرك الطهراني:
(آل صاحب الحاشية) بيت علم جليل في إصفهان، يعد من أشرفها وأعرقها
في الفضل، فقد نبغ فيه جمع من فطاحل العلماء ورجال الدين الأفاضل، كما قضوا
34

دورا مهما في خدمة الشريعة، ونالوا الرئاسة العامة لا في إصبهان فحسب، بل
في إيران مطلقا، ففيهم علماء وفضلاء وأجلاء.
مولده وشئ عن نشأته:
لم يتعرض أصحاب التراجم لتاريخ ولادة الشيخ ومحلها على التحديد،
إلا أن السيد المهدوي يحتمل أن تكون الولادة نحو سنة 1185 - 1187 في قرية
" أيوان كيف " (1) حيث كانت مسكن والده قبل هجرته إلى العتبات المقدسة.
والسيد الخوانساري صاحب الروضات يصرح أنه انتقل في عنفوان الشباب إلى
عتبات الأئمة الأطياب، وهذا يعني أنه ولد في القرية المذكورة.
كانت دراسته في الحوزات العلمية بالنجف الأشرف وكربلا والكاظمية، فبقي
أكثر من اثنتي عشرة سنة في كربلاء قبل وفاة المولى محمد باقر الوحيد البهبهاني
(ت 1205)، ويذكر المترجمون له من أساتذته الذين درس لديهم في المراحل
العالية واستفاد من علمهم جماعة لم نعرف تفصيل ما تتلمذ لديهم (2)، وهم:
1 - السيد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي النجفي، استفاد منه علما
وعملا.
2 - الشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي، وله منه إجازة الحديث والاجتهاد،
وصاهره على بنته كما سبق ذكره.
3 - المولى محمد باقر الوحيد البهبهاني.
4 - السيد علي الطباطبائي الحائري.
5 - السيد محسن الأعرجي الكاظمي.

(1) " إيوان كي " أو " إيوان كيف " من توابع دماوند، وهي قرية كبيرة في الجنوب الشرقي من
مدينة طهران وتبعد عنها 71 كم.
(2) نقل المرحوم الحبيب آبادي في مكارم الآثار عن شخص مجهول أن الشيخ صاحب
الترجمة أخذ في العرفان وتهذيب النفس من درويش كافي النجف آبادي الإصبهاني، وأنكر
بعض الأعلام أخذ الشيخ منه في السير والسلوك، والانكار في محله.
35

6 - الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي (1).
يبدو من بعض القرائن في أحوال الشيخ أنه كان ذا جد وسعي كبير في
تحصيل العلم واكتساب الفضائل أيام الدراسة والتحصيل، فإنه كما يظهر من قائمة
أسماء أساتذته وشيوخه - كان يختار أحسن رجال العلم وأشهر المدرسين
المتقدمين في التدريس، ولو أدى ذلك إلى التنقل في الحوزات العلمية وعدم
الإخلاد إلى الاستقرار والطمأنينة في حوزة ما. بهذا وبما نرى من مؤلفاته العلمية
المتناهية في الدقة والإحاطة والموقع الدراسي والعلمي الذي حصله زمن الإفادة،
نستشف مدى جهده أيام الطلب وذكائه في تلقي العلوم وتقدمه على كثير من
أترابه ومعاصريه.
اضطر إلى الهجرة من العتبات المقدسة إلى إيران على أثر صدمة الوهابيين
وابتلائه بمرض القلب، ولو كان باقيا بها لكان له شأن عظيم أكثر مما حصل له في
إصبهان، ولكن الله تعالى يقدر الأمور وليس مما قدر من مفر.
الهجرة إلى إيران:
هاجر الشيخ من العراق إلى إيران بعد سنة 1216 التي كان فيها واقعة حملة
الوهابيين على كربلاء والمجزرة الدموية التي أجروا فيها وهتكوا الحرم الحسيني،
وظهرت منهم فضائح وجرائم لا يسع المقام شرحها، وربما كانت هجرته بعد وفاة
والده سنة 1217، ويقال في سبب هجرته كثرة ديونه وابتلائه بمرض القلب
واضطراب الوضع في كربلاء والنجف بسبب الحملة الوهابية عليهما.
قصد أول دخوله إيران زيارة الإمام الرضا (عليه السلام)، فنزل بالمشهد في بيت الحاج
ميرزا داود الخراساني الإصبهاني الذي كان من أجلاء فضلاء المدينة (ت 1240)،

(1) علق السيد المهدوي هنا ما ملخصه: يظهر أن حضور الشيخ لدى الأحسائي لم يكن
للاستفادة العلمية، بل للوقوف على آرائه وأقواله التي كانت سببا لإقبال جمع عليه وتكفير
آخرين له.
36

وأقام في ضيافته لمدة أربعة عشر شهرا بكل تجلة واحترام، وكان الميرزا يدرس
لديه في هذه المدة علم الفقه والأصول، ويذكرون أنه أدى كل ديون شيخه البالغة
في ذلك الوقت ألف تومان.
ثم انتقل الشيخ من المشهد الرضوي إلى يزد، واشتغل فيها بتدريس الفقه
والأصول العاليين، واجتمع عليه طلاب العلوم الدينية للاستفادة من علمه وفضله.
بعد بقاء مدة في يزد - لا نعلم مقدارها بالتحديد - انتقل الشيخ إلى إصبهان
مهد العلم يومذاك ومجمع كبار العلماء والفحول، وكان ذلك نحو سنة 1225
احتمالا، فاحتفى به العلماء والطلاب وبقية الطبقات المؤمنة، وبقي بها إلى حين
وفاته معززا مكرما.
كان الشيخ - كما علمنا مما سبق - موضع حفاوة العلماء والطلاب أينما حل
وحيثما ارتحل، يهتم بالتدريس وإفادة الطلاب مما رزقه الله تعالى من العلم
والدراية، حريصا على وقته أن يضيع في ما لا طائل تحته، وعلى علمه أن لا
يؤدي زكاته بتعليم الآخرين، وبهذا كان منبعا فياضا أينما أقام ومأسوفا عليه
حيث انتقل.
الإقامة بإصبهان:
أول ما ورد الشيخ المترجم له مدينة " إصبهان "، سكن في محلة " أحمد
آباد "، وهي من المحلات القديمة بهذه المدينة.
كون بعد استقراره حوزة تدريسية في مسجد المحلة " مسجد ايلچي "، وشاع
ذكره وعرف مقامه العلمي في أوساط الأفاضل والطلاب، فاجتمعوا عليه
للاستفادة من درسه وتحقيقاته العلمية المعمقة، وخاصة في أصول الفقه الذي
اشتهر بأنه صاحب آراء خاصة فيه.
كان يقيم صلاة الجماعة أيضا بهذا المسجد، وأمه كثير من المؤمنين عند ما
عرفوا مكانته الرفيعة في الزهد والتقوى والإعراض عن زخارف الدنيا والتوجه
37

التام إلى الله تعالى، فكانت الصفوف مزدحمة بالمؤمنين المؤتمين بصلاته جماعة.
كثرة الطلاب في مجالس التدريس وازدياد عدد المصلين في الجماعة بعد
مرور مدة على ورود الشيخ، سببا الشعور بالضيق وضرورة الانتقال إلى مكان
أوسع، فانتقل إلى محلة مسجد شاه والصلاة والتدريس في " مسجد شاه "، وهو من
أبنية الشاه عباس الصفوي الكبير.
المؤهلات العلمية في الشيخ وشدة ممارسته لعلمي الفقه والأصول وحسن
الإلقاء في محاضراته، كانت أسبابا لنجاحه في التدريس لأعلى المراحل العلمية
المسمى ب‍ " الخارج "، حتى نقلوا أن مجلس درسه كان يحضره ثلاثمائة إلى
أربعمائة طالب، ولازدحامهم طلب الميرزا محمد حسن المجدد الشيرازي وبعض
رفاقه من متقدمي شباب الطلبة الذين كانوا يحضرون في مجالس الدرس آنذاك،
طلبوا وقتا خاصا بهم يستفيدون به أكثر لحل مشاكلهم العلمية، فأجابهم الأستاذ
على ذلك وعين لهم ساعة يحضرون لديه ويطرحون ما أشكل عليهم، ثم يجدون
الحل على أحسن ما يكون، وكان السيد المجدد يتباهى بذلك ويأسف على قصر
مدته ومفاجأتهم بوفاة الأستاذ.
بعض تلامذته البارزين:
لقد ذكرنا سابقا شيئا عن رفيع مقام الشيخ التدريسي وازدحام الطلاب على
محاضراته العلمية، حتى ذكر بعض أن محضر درسه كان يحتوي على ثلاثمائة أو
أربعمائة طالب، وكان في عصره المدرس الأول في حوزة إصبهان للدروس
العالية، والعدد المذكور لا يعني الحصر فيه، بل كان التلامذة يتجددون حيثما تنتهي
دورتهم الدراسية، فيكون العدد عاليا جدا والعطاء العلمي وفيرا لا يمكن حصره
في هذه الفئة خاصة.
وفي ما يلي نسرد أسماء المشاهير من تلامذة الشيخ من دون تعرض لتراجمهم،
وذلك تبعا لطريقتنا في الأخذ بجانب الاختصار وعدم التطويل في الكلام:
38

1 - ملا أحمد بن عبد الله الخوانساري.
2 - ميرزا محمد باقر الخوانساري الإصبهاني صاحب الروضات.
3 - الشيخ محمد تقي الگلپايگاني.
4 - المولى محمد تقي الهروي الإصبهاني.
5 - السيد محمد حسن الخواجوئي الإصبهاني.
6 - مير سيد حسن المدرس الإصبهاني.
7 - ميرزا محمد حسن المجدد الشيرازي.
8 - السيد ميرزا حسن الرضوي المشهدي.
9 - آقا حسين اللنجاني الإصبهاني.
10 - الشيخ محمد حسين الأصبهاني، أخوه صاحب الفصول.
11 - الحاج ملا حسين علي التويسركاني.
12 - ميرزا داود الشهيد الإصبهاني الخراساني.
13 - المولى زين العابدين الگلپايگاني.
14 - السيد محمد صادق الموسوي الخوانساري.
15 - ملا عبد الجواد التوني الإصبهاني.
16 - الشيخ عبد الجواد الخراساني.
17 - ملا علي قاربوز آبادي الزنجاني.
18 - الشيخ فتح الله الشاروي القزويني.
19 - مير محمد بن محمد حسين الشهرستاني الحائري، وله منه إجازة.
20 - الحاج آقا مهدي المهدوي الكرمانشاهي.
21 - الشيخ مهدي الكجوري الشيرازي.
22 - المولى هادي الأسرار السبزواري، مؤلف شرح المنظومة المعروف
في الفلسفة.
23 - ميرزا هداية الله ابرسجي الشاهرودي.
39

24 - الشيخ محمد الطهراني النجفي (1).
قالوا فيه:
لقد طفحت كتب التراجم بعبارات تنم عن عظيم مكانة الشيخ بين معاصريه
وجليل منزلته عند من ترجمه بعد عصره، فقد بجلوا بمقامه العلمي ومجدوا زهده
وتقواه بشتى التعابير ومختلف الألفاظ، وفي ما يلي نورد بعض ما قالوه اكتفاء
باليسير عن الكثير:
قال السيد الخوانساري في " روضات الجنات ":
" فأصبح أفضل أهل عصره في الفقه والأصول، بل أبصر أهل وقته في المعقول
والمنقول، وصار كأنه المجسم في الأفكار الدقيقة، والمنظم من الأنظار العميقة،
أستاذا للكل في الكل، وفي أصول الفقه على الخصوص، وجنات الفضل الدائمة
الأكل في مراتب المعقول والمنصوص، فجعل أفئدة طلاب العصر تصرف إليه،
وأخبية أصحاب الفضل تضرب لديه، بحيث لم ير في الدنيا مدرس أخص بأهله
من مدرسة الشريف، ولا مجلس أفيد لنهله من مجلسه المنيف... ".
وقال الشيخ القمي في " الفوائد الرضوية " ما تعريبه مختصرا:
" الشيخ العالم الفاضل المحقق المدقق، قدوة المحققين وترجمان الأصوليين،
صاحب تعليقة كبيرة على المعالم. اختص بالشيخ جعفر الكبير صاحب كشف
الغطاء حتى زوجه بابنته.. ".
وقال المدرس الخياباني في " ريحانة الأدب " ما تعريبه:
" من أكابر فحول علماء الإمامية أواسط القرن الثالث عشر الهجري، فقيه
أصولي محقق مدقق عابد زاهد، عميق الفكر دقيق النظر.. جلالته العلمية والعملية

(1) الشيخ محمد بن محمد علي الخراساني الطهراني، ابن أخت صاحب الترجمة ومن المدرسين
المجيدين، رتب الجزء الثالث من كتاب " هداية المسترشدين " وأخرجه من المسودة إلى
المبيضة، صاهر خاله على ابنته الصغرى ولكن لم تدم حياتهما الزوجية طويلا فافترقا.
40

مشهورة، بل تقدم على معاصريه في المعقول والمنقول بشهادة بعض المترجمين
له، خصوصا في أصول الفقه الذي كان فيه بغاية التبحر.. انتهت اليه المرجعية
بإصبهان، وكان يحضر في حلقة درسه قريبا من ثلاثمائة طالب.. ".
وقال الشيخ آقا بزرك الطهراني في " الكرام البررة " ص 215:
" أحد رؤساء الطائفة ومحققي الإمامية المؤسسين في هذا القرن (القرن
الثالث عشر). فاز بدرجة عالية من العلم والعمل، معقولا ومنقولا فقها وأصولا.
وقد حظي هذا الكتاب (حاشية المعالم) بالقبول، ولاقى استحسان الأكابر
والفحول من المحققين والأعلام.. والحق أنه يكفي للاستدلال على مدى إحاطة
المترجم وتبحره وتحقيقه في علم الفصول، ففيه تحقيقات عالية خلت منها جملة
من الأسفار الجليلة، ولم تزل آراؤه ونظرياته محط أنظار الأفاضل ومحور
أبحاثهم إلى الآن ".
آثاره العلمية:
بالرغم من اشتغال الشيخ بالتدريس وتربية الطلاب والقيام بالشؤون
الاجتماعية وقضاء حوائج الناس، دبجت يراعته آثارا علمية اشتهر بعضها في
الحوزات وعند العلماء، وبقي بعضها الآخر غير معروف لدى الجهابذة، وفيما يلي
نذكر هاتيك الآثار مع الاجمال في وصفها:
1 - أجوبة المسائل، جوابات على استفتاءات بعضها مختصر وفي بعضها
تفصيل.
2 - أحكام الصلاة، في مكتبة السيد المرعشي رسالة فارسية في أحكام
الصلاة برقم 655، ألفت سنة 1245 نظنها له.
3 - تبصرة الفقهاء، استدلالي نجز منه كتاب الطهارة وأوقات الصلاة وكتاب
الزكاة وبعض البيع.
4 - تقرير أبحاث بحر العلوم، كتاب الطهارة شرحا على كتاب " الوافي "، كتبه
41

حين دراسته على السيد محمد مهدي بحر العلوم النجفي.
5 - حجية المظنة. طبع مع حاشية معالم الأصول.
6 - عدم مفطرية التتن. رد على بعض معاصري الشيخ.
7 - الرسالة العملية.
8 - فساد الشرط ضمن العقد. في شرط الضمان لو ظهر المبيع مستحقا للغير.
9 - شرح الأسماء الحسنى.
10 - كتاب الطهارة، وهو غير شرحه على الوافي المذكور سابقا، توجد نسخته
في مكتبة السيد المرعشي العامة بقم.
11 - الفقه الاستدلالي. الظاهر أنه نفس كتابه الاستدلالي في الطهارة وليس
كتابا غيره، وقد صرح بعض أنه لم يخرج من المسودة وذكر أنه كتاب كبير جدا.
12 - هداية المسترشدين في شرح معالم الدين. وهو شرح أو حاشية موسعة
على قسم أصول الفقه من كتاب " معالم الدين " للشيخ حسن بن زين الدين
العاملي، وقد اشتهر في الحوزات العلمية الشيعية وتلقاه العلماء بعين الإكبار.
13 - مسألة الظنون. ذكرها كذلك تلميذه السيد الخوانساري وقال: إنه
مستخرج من كتاب الهداية، ولعلها هي رسالته " حجية المظنة ".
أما فوائد الأمة في رد شياطين الكفرة فهو للشيخ محمد تقي المعروف بآقا
نجفي الإصبهاني، وقد نسبوه إلى صاحب الترجمة اشتباها.
موقع هداية المسترشدين:
شرح استدلالي كبير على القسم الأصولي من كتاب " معالم الدين " للشيخ أبي
منصور حسن بن الشهيد زين الدين العاملي (ت 1011)، الذي أصبح منذ تأليفه
مدارا للتدريس في الحوزات العلمية في المرحلة الوسطى، وقد شرحه كثير من
العلماء المشتغلين بالأصول دراسة وتدريسا، وكتبوا عليه حواش مختصرة ومفصلة
يصعب عد أساميها وتعداد النسخ الموجود منها في المكتبات العامة والخاصة.
42

ولعل من أبرز هذه الشروح والحواشي ذكرا الكتاب القيم الذي نحن
بصدد التعريف به، وقد ذكره جماعة من المؤلفين في التراجم والمفهرسين
للكتب وأشادوا به، حتى قال عنه العلامة الحاج ميرزا حسين النوري في كتابه
السائر " مستدرك وسائل الشيعة - الخاتمة ": هذا الكتاب في الأصول كفصل الربيع
في الفصول.
وهو حاشية مفصلة بعناوين " قوله - قوله " بلغ تبييض المؤلف فيها إلى مبحث
مفهوم الوصف في جزأين تم الأول منهما في ليلة الجمعة عاشر ربيع الثاني سنة
1237، ويصرح شيخنا الطهراني في كتابه الكرام البررة ص 216 أن ابن أخت
المؤلف - وهو الشيخ محمد بن محمد علي الخراساني الطهراني - جمع مواد الجزء
الثالث من مسوداته، ولم يكن قد خرج هذا الجزء إلى البياض.
ولشهرة هذا الكتاب عرف مؤلفه ب‍ " صاحب الحاشية " و " صاحب الهداية "،
وهكذا سمي في جملة من كتب أصول الفقه.
طبع هذا الكتاب على الحجر مكررا، منها في سنوات 1269 و 1272 و 1281
و 1282 و 1310، ولتداوله بين الطلاب والمحصلين نجد منه نسخا مخطوطة كثيرة
في المكتبات العامة والخاصة، وقد علق عليه جماعة من العلماء تعاليق لا نطول
المقام بذكرها.
يشتمل هذا الكتاب على تحقيقات ممتازة مع التعرض لمختلف الآراء
والأدلة مع المناقشات الطويلة لما ينقل عن أعلام العلماء والأصوليين، وخاصة
في مباحث الألفاظ التي لقيت منه عناية أكثر من المباحث العقلية، ويهتم فيه
بشكل ملحوظ بآراء العالم الأصولي الشهير ميرزا أبو القاسم الجيلاني القمي
المدرجة في كتابه القيم " قوانين الأصول "، ويتصدى لها بمناقشات فيه الشئ
الكثير من التحقيق.
نظرة خاطفة على كل تعليقة من هذه الحاشية، تبين مدى إحاطة المؤلف
على جمع مختلف الآراء وتمحيصها تمحيصا دقيقا ودراستها من مختلف جوانبها،
43

فهو لا يقنع بنقل قول ما كيفما كان، ولكنه يقلبه ظهرا لبطن ويحسب له حساب
الخبير المتمرس المحقق. ويكفي لمعرفة مدى فحص الشيخ في الآراء اللغوية
والأصولية والاستنتاج الصحيح من مجموعها، النظر بدقة في التعليقة الأولى على
قول صاحب المعالم " الفقه في اللغة الفهم ".
ومن الجانب الفقهي:
عرف شيخنا المترجم له - في عصره وبعد عصره - بتبحره في أصول الفقه
لانتشار كتابه " هداية المسترشدين " وتداوله بين العلماء في الحوزات العلمية،
والأصول من المقدمات التي لابد للفقهاء من النظر فيها توطئة للاجتهاد واستنباط
الأحكام الشرعية والتصدي للفتوى، وليس هذا الفن مقصودا بالذات كما يعلمه
المشتغلون بالدراسات العالية، وتوفر آلات الاجتهاد يمهد للشخص طريق
الاستنباط، فكلما كانت هذه الآلات أوفر يكون سبيل الوصول إلى الهدف الغائي
أيسر وأسهل. ومن هنا نجد كثيرا من أعلامنا المجتهدين يتوغلون في القواعد
الأصولية، وبه يكون استنباطهم للمسائل الفقهية أوفق وأركز دعامة.
اشتغل الشيخ في أيام الدراسة والطلب بالفقه والأصول معا، ثم درس فيهما
طيلة حياته ممارسا لهما معا وفاحصا عن أدلتهما سوية، ولذا نراه في كتابه
" تبصرة الفقهاء " مستوعبا لجوانب المسائل الفقهية، كما هو الحال في كتابه " هداية
المسترشدين ".
لم يوفق الشيخ إلى إكمال الشوط لكل أبواب الفقه في كتابه " تبصرة الفقهاء "،
بل كتب منه نبذا من كتاب الطهارة والصلاة والزكاة والبيع، وبهذه النبذ دلنا على
قوة عارضته في الاجتهاد الفقهي وتسلطه على الأقوال والآراء وقدرته الفائقة
على نقدها وتمحيصها، ثم لباقته الممتازة في عرض الأدلة من الكتاب الكريم
والسنة المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) واستخراج الحكم الأوفق بها.
نرى شيخنا الفقيه عندما يتعرض لموضوع ما، يبدأ بما ذكره اللغويون مع
44

الجرح والتعديل لما ذكروه وتطبيقه بالذوق العرفي، ثم يستعرض أهم الآراء لكبار
الفقهاء ويتناولها بالفحص والنقد العلمي، ثم يأتي بالأدلة الفقهية من الآيات
والأحاديث ويسندها بما يؤدي اليه نظره، ويستخرج بالتالي فتواه غير مشوبة
بالضعف على الأغلب. وبهذه الطريقة المتأنية يدلنا على تمكنه من الاجتهاد
ويعرفنا الطريقة الصحيحة للاستنباط.
وفاته:
توفي شيخنا صاحب الترجمة وقت الزوال من يوم الجمعة منتصف شهر شوال
لسنة 1248 بإصبهان، وصلى عليه الشيخ محمد إبراهيم الكلباسي أو السيد محمد
باقر حجة الاسلام الشفتي، واقتدى في الصلاة جماعة كبيرة من العلماء وبقية
الناس.
دفن في المقبرة المعروفة ب‍ " تخت فولاد " وأقبر في " بقعة مادر شاهزاده "
التي عرفت بعد ذلك عند بعض المؤرخين " بقعة الشيخ محمد تقي ".
أبنه جماعة من الأدباء ورثاه جملة من الشعراء وأرخوا وفاته بالعربية
والفارسية، منها قصيدة تلميذه ميرزا محمد باقر الخوانساري التي يقول فيها:
يا للذي أضحى تقيا نهتدي * بهداه كالبدر المنير الأوقد
أسفا لفقد إمامنا الحبر الذي * حتى الزمان لمثله لم نفقد
أسفا عليه وليس يعقوب الأسى * في مثل يوسف هجره بمفند
لهفي على من لا يفي لثنائه * رفش الأجام على مجال القدقد
العلم أمسى بعده مترحلا * والشرع لم ير بعده بمؤيد
مهما أخال زحام حلقة درسه * ينشق قلبي من شديد تجلدي
وا حسرتا أهل المدارس إذ جنت * أيدي الحوادث في إمام المسجد
وا كربتاه لمسلمي هذي الحمى * من ثلمة الاسلام في المتجدد
من ثلمة لا يسددن وبددت * شمل الفضائل والعلى والسؤدد
45

نقصت طلاع الأرض من أصرافها * في موت مولانا التقي محمد
لا يوم للشيطان كاليوم الذي * ينعى بمثلك من فقيه أوحدي
لما مضيت مضت صبابة من هوى * مجدا وأنت من السليل الأمجد
علامة العلماء من في جنبه * أركانهم بمكان طفل الأبجد
مولاي أي قطب الأنام وطودهم * ومشيد الشرع المنير الأحمدي
لا سقي ربع ملت عنه وحبذا * رمس أحلك طاهرا من مشهد
جسد لك العفر المعطر ضمه * أم لحدوا جدثا لكنز المسجد
من ذا يحل المعضلات بفكرة * تفري ومن لأولي الحوائج من غد
ومن الذي يحيي الليالي بعدكا * بتفقه وتضرع وتهجد
أين الذي ما زال سلسل خلقه * لذوي عطاش الخلق أروى مورد
طابت ثراه كما أتى تاريخه * طارت كراك إلى النعيم السرمدي
مصادر الترجمة:
روضات الجنات 2 / 123، مستدرك وسائل الشيعة 3 / 400، أعيان الشيعة
9 / 198، الفوائد الرضوية ص 434، قصص العلماء ص 117، مرآة الأحوال
1 / 138، مكارم الآثار ص 1327، ريحانة الأدب 3 / 403، الكرام البررة
ص 215، نجوم السماء 1 / 477، تذكرة القبور ص 72، الروضة البهية ص 262،
لباب الألقاب ص 50، ترجمة هدية الرازي ص 32، الذريعة في مختلف الأجزاء،
الأعلام للزركلي 6 / 62، معجم المؤلفين 9 / 131، هدية العارفين 2 / 362، تاريخ
علمي واجتماعي إصفهان 1 / 125 (ومنه أكثر هذه الترجمة).
46

معالم الدين:
فصل
الفقه في اللغة: الفهم وفي الاصطلاح هو: العلم بالأحكام الشرعية
الفرعية عن أدلتها التفصيلية. فخرج بالتقييد بالأحكام العلم بالذوات
كزيد مثلا، وبالصفات ككرمه وشجاعته، وبالأفعال ككتابته وخياطته.
وخرج بالشرعية غيرها كالعقلية المحضة واللغوية. وخرج بالفرعية
الأصولية. وبقولنا: " عن أدلتها " علم الله سبحانه، وعلم الملائكة
والأنبياء، وخرج بالتفصيلية علم المقلد في المسائل الفقهية، فإنه
مأخوذ من دليل إجمالي مطرد في جميع المسائل، وذلك لأنه إذا علم
أن هذا الحكم المعين قد أفتى به المفتي، وعلم أن كلما أفتى به المفتي،
فهو حكم الله تعالى في حقه، يعلم بالضرورة أن ذلك الحكم المعين هو
حكم الله سبحانه في حقه. وهكذا يفعل في كل حكم يرد عليه.
وقد أورد على هذا الحد: أنه إن كان المراد بالأحكام البعض لم
يطرد، لدخول المقلد إذا عرف بعض الأحكام كذلك، لأنا لا نريد به
العامي، بل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد. وقد يكون عالما متمكنا من
تحصيل ذلك، لعلو رتبته في العلم، مع أنه ليس بفقيه في الاصطلاح.
وإن كان المراد بها الكل لم ينعكس، لخروج أكثر الفقهاء عنه، إن لم
يكن كلهم، لأنهم لا يعلمون جميع الأحكام، بل بعضها أو أكثرها.
49

ثم إن الفقه أكثره من باب الظن، لابتنائه غالبا على ما هو ظني
الدلالة أو السند. فكيف أطلق عليه العلم.
والجواب: أما عن سؤال الأحكام، فبأنا نختار أولا: أن المراد
البعض. قولكم: " لا يطرد لدخول المقلد فيه "، قلنا: ممنوع، أما على
القول بعدم تجزي الاجتهاد، فظاهر، إذ لا يتصور على هذا التقدير،
انفكاك العلم ببعض الأحكام كذلك عن الاجتهاد، فلا يحصل للمقلد،
وإن بلغ من العلم ما بلغ. وأما على القول بالتجزي، فالعلم المذكور
داخل في الفقه، ولا ضير فيه، لصدقه عليه حقيقة وكون العالم بذلك
فقيها بالنسبة إلى ذلك المعلوم اصطلاحا وإن صدق عليه عنوان
التقليد بالإضافة إلى ما عداه.
ثم نختار ثانيا: أن المراد بها الكل - كما هو الظاهر، لكونها جمعا
محلى باللام، ولا ريب أنه حقيقة في العموم - قولكم: " لا ينعكس
لخروج أكثر الفقهاء عنه "، قلنا: ممنوع، إذ المراد بالعلم بالجميع التهيؤ
له، وهو أن يكون عنده ما يكفيه في استعلامه من المآخذ والشرائط،
بأن يرجع إليه، فيحكم. وإطلاق " العلم " على مثل هذا التهيؤ شايع في
العرف، فإنه يقال في العرف: " فلان يعلم النحو " مثلا، ولا يراد أن
مسائله حاضرة عنده على التفصيل. وحينئذ فعدم العلم بالحكم في
الحال الحاضر لا ينافيه.
واما عن سؤال الظن، فبحمل " العلم " على معناه الأعم، أعني
ترجيح أحد الطرفين، وإن لم يمنع من النقيض، وحينئذ فيتناول الظن.
وهذا المعنى شايع في الاستعمال، سيما في الأحكام الشرعية.
وما يقال في الجواب أيضا - من أن الظن في طريق الحكم، لا فيه
نفسه، وظنية الطريق لا تنافى علمية الحكم - فضعفه ظاهر عندنا. وأما
عند المصوبة القائلين بأن كل مجتهد مصيب - كما سيأتي الكلام فيه،
إن شاء الله تعالى، في بحث الاجتهاد - فله وجه. وكأنه لهم. وتبعهم فيه
من لا يوافقهم على هذا الأصل، غفلة عن حقيقة الحال.
50

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد
وعترته الأطائب الأكرمين.
قوله: * (الفقه في اللغة: الفهم) *
كما نص عليه الجوهري وغيره، قال الله تعالى: " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " (1)
وخصه بعضهم بفهم غرض المتكلم من كلامه، وآخر بفهم الأشياء الدقيقة. وفي
مفردات الراغب: أنه التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد.
والفهم مطلق الإدراك، ولذا فسره الجوهري بالعلم. وقيل: هو جودة الذهن
من حيث استعداده لاكتساب المطالب وسرعة انتقاله من المبادئ إلى المقاصد.
والظاهر ثبوت الإطلاقين، وكأن الأول هو الأصل في معناه والثاني مأخوذ منه.
وكيف كان، فالظاهر هنا هو الأول، إذ إطلاق الفقه على الثاني بعيد جدا،
وعلى فرضه فالظاهر أنه مجاز فيه، كما لا يخفى.
قوله: * (وفي الاصطلاح) *
الظاهر أن ذلك من مصطلحات الفقهاء، وليس معنى شرعيا ليكون حقيقة
شرعية فيه بناء على القول بثبوتها. نعم قد أطلق التفقه في الدين على معرفة أحكام

(1) الإسراء: 44.
51

الشرع في الآية الشريفة (1)، وكذا في الأخبار المأثورة. والظاهر أن المراد به مجرد
العلم بالأحكام الشرعية، فاستعماله في الآية فيما عدا المعنى اللغوي غير معلوم،
وكذا في عدة من الأخبار المسوقة سوق الآية. إلا أن الظاهر شيوع إطلاقه على
خصوص المعرفة بالأحكام الشرعية بعد شيوع الاسلام في أعصار الأئمة (عليهم السلام)،
غير أن استعماله في خصوص المعنى المشهور غير معلوم، فقد يكون المراد به
مطلق المعرفة بالأحكام الشرعية، سواء كانت بطريق النظر أو الضرورة على وجه
السماع من المعصوم أو غيره على سبيل الاجتهاد أو التقليد، كما في قوله (عليه السلام):
" الفقه ثم المتجر " (2) فإن الظاهر أن المراد به معرفة أحكام التجارة ولو بطريق
التقليد، حتى أن إطلاقه على علومهم (عليهم السلام) بالمسائل الفقهية غير بعيد. وإطلاق
" الفقيه " على الكاظم (عليه السلام) معروف في كلام الرواة.
وكان يطلق أيضا في الصدر الأول على علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات
النفوس ومفسدات الأعمال ومصلحاتها وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع
على نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب، نص على ذلك بعض أفاضل
المتأخرين (3) وقال: إن اسم الفقه في العصر الأول إنما كان يطلق على ذلك، وجعل
آية التفقه شاهدة عليه.
ويظهر من كلام بعض المحدثين كون المعنى الأول من المعاني الشرعية،
ولذا ناقش في المقام في اخراج الضروريات عن الفقه بالمعنى المذكور قائلا:
بأن الاجماع على بعض الأحكام من فرق الاسلام كلها لا يخرجها عن كونها
مسألة فقهية بحسب إطلاق الشرع، ألا ترى أن كثيرا من الفرعيات مما قد انعقد
إجماع المسلمين عليها مع أنها دونت في الكتب، وذكروا مدارك أحكامها. ونص
بأن الفقهاء لم يزعموا أن هذا الاصطلاح اخترعوه من عند أنفسهم، بل قالوا:

(1) وهي قوله تعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة...) * التوبة: 122. أثبتناه من المطبوع [1].
(2) الوسائل 12: 282، الباب 4 من أبواب آداب التجارة، ح 1.
(3) الظاهر أن هذا من كلام الغزالي (منه (رحمه الله)).
52

إنه مفهوم من الأخبار وكلام الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، ومن تتبع كلامهم لم يختلجه
شك ولا ريب في ذلك.
وأنت خبير بأن ما ادعاه في المقام غير ظاهر، أقصى الأمر إطلاق الفقه في
الكتاب والأخبار على العلم بالأحكام الشرعية في الجملة، وبمجرد ذلك لا يثبت
كون ذلك من المعاني الشرعية، بل يمكن حمل عدة منها - بل كلها - على المعنى
اللغوي، ويكون إطلاقها على علم الشريعة من قبيل إطلاق الكلي على الفرد،
وليس في كلامهم ما يفيد كون ذلك معنى شرعيا، ولا ادعوه في المقام، كيف!
والتعبير عنه بالاصطلاح - كما في الكتاب وسائر تعبيرات الأصحاب - شاهد
على خلافه.
وقد احتمله المحدث المذكور في بعض رسائله وقطع به في موضع آخر،
ونص على أن ذلك معنى جديد بين المجتهدين، قال: وإطلاقه المتكثر في الأخبار
هو البصيرة في أمر الدين. وعلى هذا فلا وجه للمناقشة المذكورة، إذ لا مشاحة
في الاصطلاح.
نعم، قد أنكر بعض فضلاء المتأخرين كون المعنى المذكور من المعاني
الاصطلاحية الطارئة، لئلا يحمل عليه إطلاق الشارع، ونص على أن إطلاق
الفقه والتفقه على معرفة الأحكام عن أدلتها غير عزيز في الأخبار، مشهور في
الصدر السابق.
وظاهر كلامه يومئ إلى دعوى الحقيقة الشرعية فيه. ثم إنه ذكر أخبارا
كثيرة ذكر فيها لفظ " الفقه " أو " التفقه " مستشهدا بها على ذلك، وليس في شئ
منها صراحة في إرادة خصوص المعنى المذكور، بل المنساق من كثير منها هو
المعرفة بأحكام الدين كما أشرنا إليه. ثم إنه شدد النكير على جماعة من الأعلام
حيث ادعوا أن اسم الفقه في الصدر السابق إنما يطلق على علم الآخرة... إلى
آخر ما مر.
قلت: إن أراد الجماعة انحصار إطلاقه المعروف في الصدر السابق في ذلك
53

فالظاهر وهنه كما أشار إليه الفاضل المذكور، وليس هناك قرينة على إطلاقه
في آية التفقه على ذلك كما ادعاه بعضهم. وإن أرادوا أنه كان إطلاقا معروفا في
ذلك العصر في الجملة فليس بالبعيد، وفي غير واحد من الأخبار شهادة عليه،
كقوله (عليه السلام): " لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله تعالى، وحتى
يرى للقرآن وجوها كثيرة، ثم يقبل على نفسه، فيكون لها أشد مقتا " (1).
وكيف كان، فثبوت الحقيقة الشرعية في أحد المعاني المذكورة غير معلوم
حتى يتعين حمل إطلاق الكتاب والأخبار عليه، بل واستعماله في خصوص
المعنى المصطلح غير معلوم أيضا. نعم قد يستظهر إطلاقه عليه من بعض الروايات.
ثم إنه بعد انتشار علم الفقه وتدوينه في الكتب في عصر الصادقين (عليهما السلام)
لا يبعد القول بحصول النقل في الجملة.
ثم إنه قد فرع المحدث المتقدم على ما مر ذكره مسألة النذر والوصية فيما لو
نذر أو أوصى لمن تكلم في مسألة فقهية، فإن قلنا بخروج الضروريات عن الفقه لم
يثبت ذلك لمن تكلم في إحدى تلك المسائل، وإلا ثبت له ذلك.
وفيه: أن الإطلاقات العرفية إنما تنصرف إلى معانيها المتداولة في
المحاورات الجارية دون الاصطلاحات العلمية، سواء كانت مأخوذة عن
الأئمة (عليهم السلام) أو لا، وإنما يتم ما ذكره على فرض اتحاد معناه الاصطلاحي والمعنى
العرفي الشائع بين الناس، لكنه محل تأمل.
قوله: * (هو العلم بالأحكام) *
قد شاع إطلاق العلم على أمور: خصوص التصديق اليقيني، ومطلق الإدراك
الشامل له وللتصور، ونفس المسائل المبينة في العلوم، أي: المعلومات بالعلوم
التصديقية وهي النسب التامة المغايرة للتصديقات بالاعتبار - كما بين في محله -
وعلى الملكة التي يقتدر بها على استنباط المسائل.
ويطلق الحكم على التصديق، وعلى النسبة التامة الخبرية، وعلى خطاب الله

(1) عدة الداعي: ص 218، بتفاوت.
54

المتعلق بأفعال المكلفين، وعلى ما يعم الأحكام الخمسة الشرعية، وعلى ما يعمها
والوضعية التي منها: السببية والشرطية والمانعية والصحة والبطلان، وإذا لوحظت
وجوه العلم مع وجوه الأحكام ارتقى الاحتمالات إلى عشرين، والصحيح منها
وجوه عديدة.
وتوضيح الحال: أن الأول والثاني من وجوه العلم لا مانع من إرادته في
المقام، وأما الثالث فلا يرتبط بالأحكام، وأما الرابع فهو وإن صح ارتباطه
بالأحكام إلا أنه لا يلائم الظرف الواقع بعده، إذ الملكة إنما تحصل من المزاولة
والممارسة، ولا تحصل من الأدلة التفصيلية. ويمكن أن يصحح ذلك بجعل الظرف
من متعلقات الأحكام أو التصديق المتعلق للملكة المذكورة حسبما يأتي
الإشارة إليه.
وأما وجوه الأحكام فلا يصح إرادة الأول منها في المقام، إذ لا يرتبط به العلم
بأحد المعاني المذكورة، ضرورة أنه لا محصل للتصديق بالتصديقات ولا لملكة
التصديق بالتصديقات، وكذا لو أريد به مطلق الإدراك أو ملكته، على أن مرجعه
إلى التصديق.
فما ذكره المحقق الشريف وتبعه بعض الأفاضل من تفسير الأحكام
بالتصديقات ليس على ما ينبغي. ويمكن تصحيحه بحمل " العلم " على مطلق
الملكة المجردة عن التصديق، فيصح تعلقه بالتصديقات.
ويبعده: أن المعروف في حمل " العلم " على الملكة هو إرادة ملكة العلم منه
تنزيلا للقوة القريبة منزلة الفعل، لا الملكة المطلقة ليعلم تعلقها بالعلم من متعلقها،
إلا أن الظاهر أن إطلاق " العلم " على مجرد الملكة وارد في الاستعمالات أيضا،
كما يقال: فلان عالم بالصياغة أو الحياكة أو النجارة (1)، ويراد به حصول تلك
الملكة له، فالظاهر صحة إطلاقه عليها، سيما إذا كان ما أطلق عليه من ملكات

(1) في المطبوع [1]: التجارة.
55

العلوم وإن كان بعيدا عن ظاهر الإطلاق، فحينئذ يتعين أن يكون الظرف من
متعلقات الأحكام.
فما ذكراه من تعلق الظرف بالعلم غير متجه، وكأنهما أرادا بالتصديق المصدق
به، لشيوع إطلاقه عليه، فيرجع إلى الوجه الآتي.
وكيف كان، فالوجه المذكور وإن أمكن تصحيحه إلا أن فيه من التعسف
والركاكة ما لا يخفى.
وأما الثاني فهو أظهر الوجوه في المقام، وعدم كونه من مصطلحات
الأصوليين والفقهاء لا يبعد الحمل عليه، سيما قبل بيان الاصطلاح، مضافا إلى
قيام بعض الشواهد المبعدة للحمل على المصطلح، كما ستعرف.
وأما الثالث فلا يصح إرادته في المقام، إذ ليس العلم بنفس الخطابات فقها،
سواء فسر الخطاب بتوجيه الكلام نحو الغير أو الكلام الموجه نحوه، وأيضا لا
معنى لتعلق الأدلة بها، إذ من جملة الأدلة الكتاب والسنة وهما عين الخطاب على
الثاني، فيتحد المدلول والدليل، وقد وقع الخطاب بهما على الأول فلا يكونان
دليلين عليه.
وقد أجاب الأشاعرة عن ذلك - بناء على ما ذهبوا إليه من القول بالكلام
النفسي - بحمل الأحكام على الخطابات النفسية وما عد في الأدلة من اللفظية،
فجعلوا الثانية أدلة على الأولى.
وأورد عليه بعض أفاضل العصر: بأن الكلام اللفظي حينئذ كاشف عن المدعى
لا أنه مثبت للدعوى، فلا يكون دليلا عليه بحسب الاصطلاح.
ويدفعه: أنه إنما يتم لو فسر الكلام النفسي بمدلول الكلام اللفظي، أعني نفس
ما دل عليه اللفظ من حيث إنه مدلوله، إذ من الواضح عدم كون اللفظ دليلا على
معناه في الاصطلاح وإن كان دالا عليه.
وأما إذا فسر بالكلام القائم بالذات الأزلية المدلول عليه بالخطاب اللفظي
- كما هو الظاهر من مذهبهم حيث يذهبون إلى كونه من الصفات القديمة -
56

فالخطاب اللفظي دليل عليه بحسب الاصطلاح، إذ كما يدل اللفظ على مدلوله
الخارجي يدل على كونه مطابقا لما في نفس المتكلم، فينتظم في المقام قياس بهذه
الصورة: هذا ما دل الخطاب اللفظي على قيامه بالذات الأزلية، وكل ما دل عليه
خطابه اللفظي فهو مطابق للحقيقة، فينتج أن خطابه النفسي هو ذلك.
وقد علل (رحمه الله) في الحاشية عدم كون الخطاب اللفظي دليلا على الخطاب
النفسي بحسب الاصطلاح بأنه: لابد في الدليل الاصطلاحي من تصور المدلول
قبل الدليل والعلم به على سبيل الاجمال، وهو غير حاصل في المقام،
إذ الخطابات النفسية إنما تعلم بعد ملاحظة الخطابات اللفظية من غير علم بها قبل
ذلك أصلا لا إجمالا ولا تفصيلا.
وأنت خبير بعدم وضوح ما ذكره من الدعويين، إذ لا يلزم تقدم العلم
الاجمالي بالمدلول على الدليل مطلقا حتى يكون ذلك من لوازم الدليل بالمعنى
المصطلح، بل قد يكون العلم به مطلقا متأخرا عن الدليل، كما إذا حصل الانتقال
إلى النار بعد ملاحظة الدخان، غاية الأمر أنه مسبوق في المثال بمعرفة الملازمة
بين مطلق الدخان والنار وهو شئ آخر.
نعم، ما ذكره (رحمه الله) من لوازم الاستدلال، وأيضا لا مانع من تقدم العلم
بالخطابات النفسية إجمالا على معرفة الخطابات اللفظية التفصيلية، كيف! وثبوت
الأحكام على سبيل الاجمال من ضروريات الدين، كما أشار إليه في الجواب
المختار عنده، وذلك عندهم هو العلم بالخطابات النفسية على الاجمال، وهو
متقدم في المعرفة على العلم بالخطابات اللفظية، وهو ظاهر.
هذا، وقد أجاب الفاضل المذكور عن أصل الإيراد بحمل الأحكام على
الأحكام الإجمالية التي دلت على ثبوتها الضرورة، قال: والمراد من الأدلة
الخطابات التفصيلية، فيكون الفرق بين المدلول والدليل بالإجمال والتفصيل.
قلت: وأنت خبير بما فيه، إذ لا محصل لما ذكره من التفرقة، فإن من البين أن
المجهول في المقام إنما هي الخطابات التفصيلية وهي التي يتوقف إثباتها على
57

الأدلة، والمفروض في الحد المذكور كون الدليل عليها هي الخطابات التفصيلية
التي هي عين ذلك المدلول المجهول، فالمحذور المذكور على حاله واعتبار العلم
بها إجمالا لا يفيد شيئا في المقام. وليس العلم بها على سبيل الاجمال حاصلا من
تلك الخطابات التفصيلية حتى يصح الفرق بين المدلول والدليل بالإجمال
والتفصيل، بل العلم الاجمالي الحاصل في المقام على نحو سائر العلوم الإجمالية
المتعلقة بالنتائج عند طلب الدليل عليها، ومن البين أنه ليس التفصيل الحاصل من
الدليل دليلا على ذلك المعلوم الاجمالي، بل هو عين المجهول المعلوم على جهة
الاجمال الحاصل من الدليل القائم عليه، على أنه من الواضح أن العلم بتلك
الخطابات على سبيل الاجمال ليس من الفقه في شئ، فلا يصح تحديده به.
ثم إن ما ذكرناه على فرض حمل الخطاب في الحد المشهور للحكم على
ظاهر معناه، وأما إن أول بما يجعل جامعا بين الأحكام الخمسة الشرعية
والوضعية - كما هو ظاهر كلامهم في ذلك المقام حيث جعلوه مقسما لتلك
الأحكام - رجع إلى المعنى الخامس، ولا يتوجه عليه شئ من الإيرادين
المذكورين.
وأما الرابع فبعد تسليم شيوع إطلاق الحكم عليه بخصوصه لا يتجه إرادته في
المقام، لخروج معظم مسائل الفقه عنه، كبيان شرائط العبادات وموانعها وأسباب
وجوبها والبحث عن الصحة والفساد الذي هو المقصود الأهم في قسم المعاملات.
والتزام الاستطراد في جميعها أو كون البحث عنها من جهة الأحكام التكليفية
التابعة لها - ولذا قيل بانحصار الأحكام في الخمسة الشرعية وإرجاع الوضعية
إليها - كما ترى! نعم يتم ذلك على القول بانحصار الأحكام في التكليفية وإرجاع
الوضعية إليها، وحينئذ فلا مانع من حملها على ذلك، إلا أن البناء على ذلك غير
متجه، كما قرر في محله.
وأما الخامس فلا مانع من إرادته في المقام، إلا أنه إن فسر بالصفات الخاصة
المحمولة - كما هو الظاهر من ملاحظة حدود الأحكام الشرعية - لم يمكن تعلق
58

التصديق بها إلا بنوع من التأويل، إذ لا يتعلق التصديق إلا بالنسبة. وإن فسر
بانتساب تلك المحمولات إلى موضوعاتها نسبة تامة - كما هو أحد الوجهين في
تفسيرها - صح تعلق التصديق بها من غير تأويل، إذ المراد بها إذا نوع خاص من
النسب التامة. وعلى أي من الوجهين يكون قيد " الشرعية " توضيحيا، إذ لا يكون
الحكم المذكور إلا شرعيا.
وربما يقال باخراجه الأحكام الغير الشرعية كالوجوب الذي يذكر في سائر
العلوم والصنائع أو الحاصل بمقتضى العادة.
وفيه: أن ذلك خارج عن المصطلح قطعا، كما يظهر من ملاحظة حدودها
المذكورة في كتب الأصول.
وقد يجعل حينئذ قيد " الفرعية " أيضا توضيحيا بناءا على دعوى ظهور
الأحكام في الشرعية الفرعية، كما يتراءى ذلك من حده المعروف. ولا يخلو عن
تأمل، إذ الوجوب المتعلق بالعقائد الدينية أو المسائل الأصولية - كوجوب العمل
بالكتاب والسنة - مندرج في الاصطلاح قطعا، وكذا غيره من الأحكام، فلا وجه
لانصرافها إلى خصوص الفرعية مع شيوع إطلاقها على غيرها أيضا وشمول
المصطلح للأمرين، كما هو الظاهر من ملاحظة الاستعمالات.
وقد يقال: بأن الاصطلاح إنما يثبت للحكم مقيدا بالشرعي، ولذا عرفوا
الحكم الشرعي في المبادئ الأحكامية بالمعنى المذكور، وقسموه إلى الأقسام
المعروفة، فلا يكون التقييد بالشرعية أيضا لغوا.
هذا، وقد ظهر بما قررناه رجوع الوجوه الثلاثة المتأخرة إلى وجه واحد، وهو
القدر الجامع بين الأحكام الشرعية، ويبنى شموله للأحكام الوضعية وعدمه على
الخلاف المذكور.
والمراد ب‍ " الشرعية " المنتسبة إلى الشرع وإن كان إدراكها بمحض العقل من
غير توسط بيان الشارع أصلا كما قد يتفق في بعض الفروض، أو كان العلم بها
بملاحظة بيانه كما هو الحال في معظم المسائل، أو كان معلوما بالوجهين.
59

وقد تفسر بالمأخوذة من الشرع وإن حكم به العقل أيضا، ويشكل بخروج
القسم الأول عنه.
وقد تفسر أيضا بما من شأنه أن يؤخذ من الشارع، فلا مانع من استقلال العقل
في الحكم ببعضها وانفراده في ذلك من دون انضمام بيان الشارع.
وفيه: أنه غير جامع أيضا، لخروج بعض الأحكام الشرعية عنه، كوجوب
الحكم بوجود الصانع والحكم بثبوت الرسول والحكم بوجوب النظر في المعجزة،
إذ ليس من شأن الأحكام المذكورة الأخذ من الشارع، فإن إثبات وجوبها بقول
الرسول إنما يكون بعد ثبوت كونه رسولا، ولا معنى حينئذ لوجوب شئ من
الأمور المذكورة، لحصولها بعد ثبوت الرسالة، فلا يعقل وجوب إثبات الرسالة بعد
حصوله، وكذا وجوب إثبات الصانع والنظر في المعجزة لحصولهما حينئذ أيضا من
جهة توقف إثبات الرسالة عليهما، إلا أن يمنع كونها أحكاما شرعية، أو يفصل بين
الحكم بها قبل إثبات النبي وبعده، وهو على إطلاقه أيضا مشكل، على أن تسميته
حكما شرعيا بعد العلم بحكم الشارع به لا يجعل التصديق به مأخوذا من الشارع،
لحصوله قبل العلم بحكمه، مضافا إلى أن كون الحكم شرعيا غير العلم بكونه
كذلك، فغاية الأمر أن يتوقف العلم به عليه.
والمراد ب‍ " الفرعية " ما يتعلق بفروع الدين في مقابلة الأصولين، أعني:
أصول الدين وأصول الفقه.
وقد تفسر بما يتعلق بالعمل بلا واسطة.
ويشكل بخروج كثير من مسائل الفقه عنه، كمسائل الميراث وبعض
مباحث (1) النجاسات، لعدم تعلقها بالعمل بلا واسطة. ودخول ما ليس من الفقه فيه،
كوجوب رجوع المقلد إلى المجتهد وصحة عمل المجتهد برأيه ووجوب تسليم
العقائد الدينية والإذعان بها، فإنه مما يتوقف عليه حصول الاسلام، إذ مجرد العلم
بتلك المعتقدات ليس كافيا في حصوله من دون حصول التسليم والانقياد،

(1) في المطبوع [1]: مسائل.
60

والأولان من مسائل أصول الفقه، والأخير يتعلق بأصول الدين.
ولو دفع ذلك بالبناء على تخصيص العمل بأعمال الجوارح فمع عدم اخراجه
لجميع المذكورات يستلزم خروج كثير من مسائل الفقه، كمباحث النيات وسائر
الأحكام الثابتة لأعمال القلب: كحرمة الحسد أو كراهته وحرمة بغض المؤمن أو
كراهته واستحباب التفكر والتذكر ووجوب الحب في الله والبغض في الله، إلى غير
ذلك مما لا يحصى.
فالأظهر في المقام إحالة التسمية إلى العرف، فإن مسائل أصول الدين
وأصول الفقه معروفة بحسب الاصطلاح، فالمراد بالفرعية سائر الأحكام الشرعية
مما لا يندرج في شئ من الأمرين حسبما ذكرنا.
قوله: * (عن أدلتها... الخ) *
إما متعلق بالعلم، أو بالأحكام، أو بعامل مقدر من أفعال العموم أو الخصوص
يقدر صفة للعلم أو الأحكام. ولو أخذنا الأحكام بمعنى النسب التامة أو ما يعم
الأحكام التكليفية والوضعية لم يرتبط الأدلة بها إلا مع تعلقها بمقدر مخصوص
يقدر صفة لها، كأن يراد المستنبطة أو المعلومة عن أدلتها، وإضافتها إلى الضمير
جنسية، فالمراد بها جنس الأدلة، فلا يعتبر فيها الاستغراق، ويشهد له سوق الكلام
بحسب المقام.
وقد يحمل ذلك على الاستغراق ويجعل مقابلته بالأحكام من مقابلة الجمع
بالجمع حتى يصح إرادته في المقام، وذلك بأن يراد كون شمول تعلق العلم
بالأحكام عن جميع الأدلة، لا كون العلم بكل واحد واحد منها عن كل واحد
واحد من الأدلة كما هو الظاهر من الحد، أو يراد بالعموم في الجمعين العموم
المجموعي.
ولا يذهب عليك بعد الوجهين، مضافا إلى أن ذلك غير حاصل في الخارج
ولا مأخوذ في صدق الفقه.
ولو حمل ذلك على إرادة العموم بحسب أنواع الأدلة ففيه - مع خروجه عن
61

ظاهر الاستغراق - أنه غير معتبر في صدق الفقه أيضا، كما لا يخفى.
والمراد ب‍ " التفصيلية " ما يفيد ثبوت الحكم على جهة التفصيل وإن كان ما
يستند إليه من الأدلة من جنس واحد، كما إذا فرض استنباط جميع الأحكام عن
السنة، كما قد يفرض بالنسبة إلى بعض أصحاب الأئمة (عليهم السلام).
ويقابلها الأدلة الإجمالية، وهي ما لا يفيد الحكم إلا من جهة إجمالية جارية
في الجميع، فإن المقلد إنما يعلم الحكم من فتوى المجتهد من جهة كون حكمه
حجة عليه بحسب ظاهر التكليف، لا من جهة كون ذلك هو حكم المسألة في
نفسها، وليس الدليل القائم عنده إلا مفيدا لتلك الأحكام من تلك الجهة الواحدة،
فهو إنما يعلم الأحكام من تلك الجهة الإجمالية الجارية في الجميع، وهذا بخلاف
ما إذا أخذ الأحكام كلها من الإمام (عليه السلام) فإن قوله (عليه السلام) مثبت للحكم في نفسه، وكذا
الكلام في الكتاب والإجماع ودليل العقل. وفيه تأمل.
وقد يفسر التفصيلية بما يكون ذات وجوه وشعب كما هو الحال في أدلة
المجتهد. وفيه أيضا كلام يأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.
قوله: * (فخرج بالتقييد بالأحكام العلم بالذوات) *
هذا إذا فسر العلم بمطلق الإدراك، وأما إذا اخذ بمعنى التصديق فالعلم
بالذوات بمعنى تصورها - كما هو ظاهر العبارة - خارج عن الجنس.
قوله: * (وبالصفات ككرمه وشجاعته... الخ) *
الظاهر أنه أراد به تصور تلك الصفات والأفعال كما يومئ إليه عطفها على
الذوات، وإن أراد به انتساب تلك الصفات أو الأفعال إليه - كما قد يومئ إليه إضافتها
إلى الضمير المشعر بملاحظة الانتساب - فخروجها بقيد الأحكام غير ظاهر، إلا
بحملها على المعنى المصطلح، وقد عرفت أنه يكون قيد الشرعية حينئذ توضيحيا،
فلا وجه للحكم بخروج العقلية بالتقييد بها إلا مع البناء على الوجه المتقدم.
وقد يورد في المقام: أنه كما يخرج المذكورات من جهة التقييد بالأحكام
كذا يخرج به العلم بالموضوعات الشرعية كالصلاة والزكاة والحج والوضوء
62

والغسل ونحوها، مع أن بيانها من شأن الفقيه والمعرفة بها إنما تحصل في الفقه،
فلا ينعكس الحد.
ويدفعه: أن الحكم بأن الصلاة كذا والصوم كذا - مثلا - أحكام شرعية وضعية
مقررة من صاحب الشريعة، إذ لا ينحصر الأحكام الوضعية في عدد، فلا مخرج لها
عن الحد. وكونها موضوعات لمسائل الفن إنما يقضي بخروج تصوراتها عن الفن
وهو كذلك، لوضوح خروج التصورات عن مسائل الفنون.
ومع الغض عن التفصيل المذكور فلا مانع من التزام خروجها عن الفقه،
لوضوح كون تصور الموضوع وأجزائه وجزئياته خارجا عن مسائل الفنون وكذا
التصديق التابع لها. وكون العلم بها في الفقه وبيانها من شأن الفقيه لا يقضي
باندراجها في مسائل الفقه، كما هو الحال في تصور جزئيات الموضوعات في
سائر الفنون، فإن العلم بها غالبا إنما يكون في تلك الفنون المدونة وبيانها من شأن
أربابها مع خروجها عن الفن.
هذا، وقد يقال: إن قيد الاحتراز في الحد لابد أن يكون محتاجا إليه بحيث
لو لم يكن لدخل ما احترز به عنه، وليس الحال كذلك في التقييد بالأحكام بالنسبة
إلى اخراج الأمور المذكورة، لخروجها بالتقييد بالشرعية الفرعية، فالأولى أن
يجعل التقييد بالأحكام لإخراج الموضوعات الشرعية حسب ما ذكر، وكذا
صفاتها كصلاة الظهر والنكاح الدائم والطلاق الرجعي ونحوها، لعدم خروجها
بقيد الشرعية الفرعية، فهي إنما تخرج بالتقييد بالأحكام، كذا يستفاد من كلام
بعض الأفاضل.
وأنت خبير بما فيه، لوضوح أن المعتبر في القيود الاحترازية عدم إغناء الأول
عن الأخير دون العكس، فلا غضاضة فيما ذكره المصنف (رحمه الله) أصلا.
نعم، قد يقال: إنه لا وجه لتخصيص المخرج بالأحكام بما ذكره.
وفيه: أنه لا دلالة في كلامه على التخصيص، غاية الأمر أنه نص على
المذكورات، لوضوحها دون غيرها.
63

قوله: * (كالعقلية المحضة) *
كأنه قيدها بالمحضة إشارة إلى اندراج غير المحضة في الشرعية مما يحكم به
كل من العقل والشرع استقلالا، أو يدركه العقل بضميمة الشرع كوجوب مقدمة
الواجب، وكأنه أخذ الشرعية بأحد الوجهين المذكورين. وقد عرفت ما فيه.
وإن فسرت بما ذكرناه خرج بها العقليات التي لا ارتباط لها بالشريعة سواء
اخذت عن محض العقل أو النقل أو العقل المعتضد بالنقل، ويمكن تطبيق كلامه
على ذلك.
قوله: * (الأصولية) *
سواء كانت من أصول الدين وما يتبعها من الأمور المتعلقة بالمبدأ والمعاد
وغيرها، أو من أصول الفقه.
قوله: * (وبقولنا: عن أدلتها علم الله (1)... إلخ) *
إذ ليس علمه تعالى بالأشياء حاصلا بطريق النظر والاستدلال والانتقال من
المبادئ إلى المطالب، وكذا علوم الملائكة والأنبياء (عليهم السلام).
ونحوها علوم الأئمة (عليهم السلام) فإن علومهم ضرورية حاصلة من أسباب باعثة
عليه قد ذكر عدة منها في الأخبار (2). وليس قول جبرئيل أو سائر الملائكة للنبي
أو الإمام (عليهما السلام) بمنزلة قول النبي أو الإمام (عليهما السلام) بالنسبة إلينا، إذ إفادة كلامهم للعلم
لنا إنما يكون على سبيل النظر والاستدلال وملاحظة عصمتهم عن الكذب والسهو
[والنسيان] (3) وليس كذلك الحال بالنسبة إليهم صلوات الله عليهم، بل إنما يستفيد

(1) في هامش المطبوع [1] ما يلي: وقد يقال بخروج علمه تعالى عن التصديق، لما تقرر من
عدم كون علمه تعالى من قبيل التصور والتصديق، فإنهما قسمان للعلم الذي يكون بحصول
الصورة دون غيره، وقد نص أرباب المعقول بأن علمه تعالى وعلوم المبادئ العالية ليس من
قبيل التصور والتصديق.
وفيه: أن المراد بالعلم في العرف أعم من التصديق المصطلح، لصدق العالم عليه تعالى قطعا
مع أن علمه تعالى ليس من قبيل التصديق بمعناه المعروف. (منه).
(2) راجع أصول الكافي 1: 255 - 264.
(3) أثبتناه من المطبوع [1].
64

النبي (صلى الله عليه وآله) من الوحي علما ضروريا بالحكم، وكذا الإمام (عليه السلام) من قول الملك
والإلهام أو غيرهما من وجوه العلم على نحو ما يحصل لنا العلم الضروري
بالفطريات، وكذا ما يستفيده الوصي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو الأوصياء بعضهم من
بعض بطريق الوراثة.
وعلم الأئمة (عليهم السلام) بالكتاب والسنة وضروب الاستدلال على النحو الحاصل
لنا لا يوجب صدق كون علومهم حاصلة عن النظر، إذ مع حصول الوجه الأوضح
في العلم إنما ينسب العلم إليه، فالدليل والمدلول عندهم بمرتبة واحدة في
المعلومية، وإن كان لو فرض انتفاء تلك الضرورة اكتفي بمعرفة الأدلة في الانتقال
إلى مدلولاتها، فلا يصدق حينئذ كون علومهم حاصلة عن الأدلة.
وقد يورد في المقام بعدم خروج العلوم المذكورة بذلك، إذ يصدق على علمه
تعالى وعلوم المعصومين (عليهم السلام) أنه علم بالأحكام الحاصلة عن الأدلة، ولو كان
حصولها عنها عند المجتهد، إذ ليس في الحد ما يفيد كون ذلك العلم بخصوصه
مستفادا عن الأدلة.
وأجيب عنه تارة بجعل الظرف من متعلقات العلم دون الأحكام، وعدم صدقه
على العلوم المذكورة حينئذ ظاهر.
وفيه: أن قيام الاحتمال كاف في الإيراد، إذ ليس في الحد ما يقضي بإرجاع
الظرف إلى العلم.
ويدفعه: أن المأخوذ من الدليل إنما هو التصديق، فذلك شاهد على ارتباط
الظرف بالعلم، وارتباطه بالأحكام وإن صح أيضا إلا أنه يتوقف على إضمار مقدر
خاص، وهو خلاف الظاهر.
نعم، لو اخذ الأحكام بمعنى التصديقات ارتبط الظرف بها ولا إيراد أيضا، إذ
ليست التصديقات الحاصلة للمذكورين عن الأدلة، مضافا إلى أنه لابد حينئذ من
أخذ العلم بمعنى الملكة كما عرفت، فلا يندرج علمه تعالى في الجنس. وقد يقال
بمثله أيضا في علوم بعض المذكورين.
65

وتارة باعتبار الحيثية في المقام، فيكون المراد العلم بالأحكام المستنبطة عن
الأدلة من حيث إنها مستنبطة عنها، فيخرج العلوم المذكورة، فإنه وإن صدق عليها
أنها علم بالأحكام المستنبطة عن الأدلة إلا أنها ليست علما بها من تلك الحيثية،
كذا ذكره بعض الأفاضل.
وفيه: أن الحيثية المذكورة إن ارتبطت بالعلم تم ما ذكر من الجواب. وأما إن
ارتبطت بالأحكام فلا، إذ يصدق على علمه تعالى أنه علم بالأحكام المستنبطة
عند المجتهدين عن الأدلة من حيث إن تلك الأحكام مستنبطة عند المجتهد كذلك،
وكذا علوم الملائكة والأنبياء والأئمة (عليهم السلام) إذا علموا بعلم المجتهد بها عن الأدلة،
لصدق الحد المذكور على علومهم حينئذ مع تلك الحيثية، ومن البين أن الحيثية
المذكورة إنما ترتبط بما اخذت قيدا فيه، والمفروض اعتبارها في ارتباط
الأحكام بالأدلة فيتعين الوجه الأخير.
ولو فرض جواز ارتباطه بالعلم أيضا فلا أقل من قيام الاحتمال القاضي في
الحد بالإجمال.
ثم إنه ذكر الفاضل المذكور أنه يمكن اخراج الضروريات عن الحد بالقيد
المذكور، إذ ليس العلم الحاصل معها علما محصلا من الدليل وإن كانت تلك
الضرورة علة لتلك العلوم في نفس الأمر.
قلت: ويرد عليه: أن ضروريات الدين ونحوها ليست من الأمور المعلومة
على سبيل الضرورة ليمكن اخراجها بالقيد المذكور، إذ غاية ما تقضي به الضرورة
ثبوتها كذلك عن صاحب الشريعة، نظرا إلى التواتر أو من جهة التسامع والتظافر،
لا ثبوت الحكم بحسب الواقع، إذ ثبوتها الواقعي موقوف على صدق النبي (صلى الله عليه وآله)
المتوقف على البيان وإقامة البرهان، فالظاهر أن ما ذكره مبني على اشتباه
ضروريات الدين بسائر الضروريات، وبينهما من البين البين ما لا يخفى، إذ ليس
المقصود من ضروريات الدين ما يكون ثبوت الحكم وصحته على سبيل الضرورة
كما هو الحال في سائر الضروريات، بل المقصود ثبوتها من الدين على سبيل
66

الضرورة، فيتوقف ثبوتها الواقعي على صحة الدين بحسب الواقع، ولذا زاد في
التهذيب وغيره لإخراج ضروريات الدين قيدا آخر، وهو أن لا يعلم ثبوتها من
الدين ضرورة.
ثم أقول: الظاهر أن الفقه بحسب مصطلحهم اسم للعلم بالمسائل التي لا يكون
ثبوتها عن صاحب الشريعة من الضروريات عند الأمة، سواء كان ثبوتها عنه
ضروريا عند ذلك العالم أو لا، إذ من البين أن الراوي الذي سمع الحكم مشافهة
من النبي (صلى الله عليه وآله) يكون ثبوته عن صاحب الشريعة ضروريا عنده مع أن علمه من
الفقه قطعا، وكذا الحال في ضروريات المذهب دون الدين، سيما ما كان من
ضروريات المذهب عند العلماء خاصة أو بلغ في الوضوح عند الناظر إلى حد
الضرورة، فإن الظاهر إدراج الجميع في الفقه، فإخراج مطلق الضروريات ليس
على ما ينبغي، وإنما حكمنا بخروج ضروريات الدين، لتصريح جماعة منهم بذلك
مع مساعدة ظاهر الإطلاقات المؤيد ببعض الاعتبارات، كما سنشير إليه.
وما ذهب إليه بعض الأفاضل تبعا لما حكاه عن الأخباريين: من إدراجها
أيضا في الفقه محتجا بأن البداهة والضرورة لو أخرجتا بعض الأحكام عن الفقه
للزم أن يكون ضروريات المذهب كذلك أيضا وهم لا يقولون به - مع أن كثيرا من
ضروريات الدين والمذهب إنما صار ضروريا في أواسط الاسلام بعد إقامة
الدلائل وتظافر الخواطر من المجتهدين والمحدثين من أهل مذهب الاسلام حتى
انتهى الأمر في هذه الأعصار وما قبلها فصارت ضرورية - فاسد، إذ بعد نص
جماعة من أعاظم أهل الاصطلاح على خروجها عن المصطلح لا يتجه المناقشة
فيه، سيما بعد مساعدة ما هو الشائع من إطلاقاتهم عليه.
ودعوى كون ذلك من المعاني الشرعية المأخوذة عن صاحب الشريعة
ممنوعة، كما تقدمت الإشارة إليه.
والقول بلزوم اخراج سائر الضروريات لا وجه له، إذ ليس مجرد ثبوته على
سبيل الضرورة عند العالم به قاضيا بذلك، كيف! ولو كان كذلك لزم أن لا يكون من
67

تعلم المسألة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) على سبيل المشافهة عالما بالفقه، وهو
واضح الفساد كما أشرنا إليه، بل لما كان المقصود في الفقه بيان الأحكام التي
قررها صاحب الشريعة وكان ثبوت بعض تلك الأحكام عنه معلوما عند الخواص
والعوام من دون حاجة في إثباته إلى البيان وإقامة البرهان بل كان العالم والعامي
في معرفته سيان أخرجوه عن مسمى الفقه، إذ لا حاجة في إثباته إلى الاستدلال،
بخلاف سائر الضروريات، لحصول الحاجة في إثباتها إلى الدليل ولو بالنسبة إلى
البعض، فثبوت تلك المسائل عن صاحب الشريعة نظرية في الجملة، بخلاف هذه.
ولما كان المنظور في علم الفقه إثبات الأحكام المقررة عن صاحب الشريعة
من حيث تقررها عنه وإن كان ثبوتها الواقعي واعتقاد صحتها موقوفا على صحة
الشريعة، ولذا عد الكلام من مبادئه التصديقية - كما سيجئ الإشارة إليه إن شاء
الله تعالى - كان اخراج الضروريات المذكورة مناسبا، إذ ليست مسائل الفنون
المدونة إلا عبارة عن المطالب النظرية المثبتة فيها دون الأحكام الضرورية، فكما
أن الضروريات خارجة عن مسائل سائر الفنون المدونة فكذا هذا العلم.
وبذلك يظهر ضعف ما حكاه الفاضل المذكور عن الأخباريين في الرد على
المجتهدين من أن ما ذكروه إنما يتم على طريقة الحكماء والمتكلمين، حيث إن
تدوين المسائل البديهية في باب التعليم والتعلم غير مستحسن، والفقهاء ظنوا أن
ذلك الباعث جار هنا، وليس كذلك، لأنه ليس شئ من الأحكام الشرعية بديهيا
بمعنى أنه لا يحتاج إلى الدليل، والسبب في ذلك أنها كلها محتاجة إلى السماع من
صاحب الشريعة، ووضوح الدليل لا يستلزم بداهة المدعى، وذلك لما عرفت من
أن المقصد في الفقه إنما هو إثبات الأحكام عن صاحب الشريعة، ولما كان ورود
بعض الأحكام عنه ضروريا عند الأمة كان بمنزلة سائر الضروريات المخرجة عن
سائر العلوم، إذ لا حاجة في إثباتها عن صاحب الشريعة إلى إقامة حجة. فما
توهموه من الفرق بين المقامين غير متجه، وبلوغ بعضها إلى حد الضرورة
المذكورة في أواسط الاسلام لا يمنع منه، إذ لا مانع من خروجه بعد ذلك عن الفقه
68

المصطلح، لدوران الأمر في اندراجه وخروجه مدار ذلك كغيره من أسامي العلوم.
ثم إن ما ذكرناه لا يستلزم أن يكون الفقه مجرد العلم بصدور الأحكام عن
صاحب الشريعة حتى يلزم أن لا يكون الكلام من مبادئه التصديقية مع ما فيه من
المخالفة لحدوده المعروفة، بل المقصود أن المنظور بيانه في العلم المذكور إنما هو
ذلك وإن كان العلم بنفس المسألة - الذي هو عبارة عن الفقه - متوقفا على صحة
الشريعة، وذلك القدر كاف في صحة ما قررناه. فتأمل.
والحاصل: أن العلم بضروريات الدين وإن كان حاصلا عن الدليل، لكن ليس
حاصلا عن الأدلة الفقهية، بل عن الأدلة الكلامية الدالة على صحة الشريعة
المقدسة وصدق النبي (صلى الله عليه وآله) فيما أتى به، وذلك مما لا يقرر في الفقه ولا ربط له
بوضعه.
ومما ذكرنا ظهر الوجه في اخراج الضروريات المذكورة عن حد الفقه، وهو
أن يجعل قولهم: " عن أدلتها " إشارة إلى الأدلة المعروفة في الفقه من الكتاب
والسنة والإجماع وغيرها مما يستدل بها في المطالب الفقهية على وقوع الحكم
من صاحب الشريعة، فيكون الإضافة عهدية، ومن البين أن ضروريات الدين غير
مأخوذة عن تلك الأدلة وإن قامت عليها أيضا وكانت في الأصل مأخوذة عنها،
وقد أشرنا إلى الوجه فيه.
وقد يشكل بأن ذلك بعينه جار في ضروريات المذهب، فإن المعلوم بالضرورة
هناك ثبوت الحكم عن الإمام (عليه السلام) وثبوته الواقعي متوقف على صدق الإمام (عليه السلام)
فيما حكم به وهو أيضا من المسائل الكلامية، فلا يكون العلم بالمسألة هناك
حاصلا من الأدلة الفقهية المعهودة، فيلزم خروج ضروريات المذهب أيضا.
والقول بأن ثبوت الحكم عن الإمام (عليه السلام) على سبيل الضرورة لا يزيد على أخذ
الحكم من الإمام (عليه السلام) على سبيل المشافهة مع حصول القطع بما هو مراده، ولا
ريب أن القول الصادر منه دليل فقهي وإن كانت حجيته موقوفة على علم الكلام.
فكذا الحال في المقام.
69

مدفوع بجريان ذلك بعينه في ضروريات الدين، فإن الحجة هناك هو قول
النبي (صلى الله عليه وآله) فيكون قيام الضرورة هناك على ثبوته عنه بمنزلة سماع ذلك منه، ولا
ريب أن قوله عند السماع منه حجة فقهية.
ويمكن أن يقال: إن المعلوم بالضرورة في ضروريات الدين هو نفس الحكم
المقرر في الشريعة لا قوله (صلى الله عليه وآله) ليندرج في الأدلة، فنفس الحكم المقرر منه
ضروري لا يحتاج إلى الدليل، بخلاف ضروريات المذهب، فإنه ليس حكم
الشارع بها ضروريا، وإنما الضروري هو حكم الإمام (عليه السلام) به، وليس هو بنفسه
حكما شرعيا، إذ ليسوا (عليهم السلام) بشارعين للأحكام، فهو في الحقيقة دليل على حكم
الشارع لما دل على عصمتهم عن الخطأ، فيندرج بملاحظة ذلك في الأدلة الفقهية.
هذا غاية ما يتخيل في الفرق ولا يخلو عن إشكال. فتأمل.
قوله: * (وخرج بالتفصيلية علم المقلد... الخ) *
يمكن الإيراد عليه من وجوه:
أحدها: أن التقليد مغاير للعلم، ولذا يجعل قسيما له، حيث قسموا الاعتقاد إلى
العلم والظن والتقليد والجهل المركب، فاعتقاد المقلد غير مندرج في الجنس.
ويمكن دفعه بأن التقليد المقابل للعلم غير التقليد المصطلح في المقام، فإن
المراد به هناك هو الأخذ بقول الغير عن غير حجة، وأخذ المقلد بقول المجتهد
ليس كذلك، لكون أخذه به عن دليل صغراه محسوسة أو ما بمنزلتها، وكبراه قطعية
ظاهرة يحصل العلم بها بأدنى التفات، وقد نصوا بذلك في محله.
ثانيها: أن علم المقلد غير حاصل عن الأدلة، وإنما يحصل عن دليل واحد
إجمالي مطرد في جميع المسائل.
والجواب عنه ما عرفت من أن المراد بالأدلة في المقام جنسها، ولذا لو فرض
كون الفقيه عالما بجميع الأحكام عن السنة لم يكن مانعا عن صدق الفقه، فالجمعية
غير منظورة في المقام كما مر.
ولو سلم ملاحظة الجمعية فيه فقد يكتفى في صدقها بملاحظة تعدد الآحاد،
70

فإن قول كل مجتهد دليل بالنسبة إليه، وكذا كل واحد من فتاويه دليل بالنسبة إلى
الحكم الذي أفتى به. ومع الغض عن ذلك فالأدلة الإجمالية في شأنه أيضا متعددة،
فإنه قد يكون الحجة عليه قول المجتهد الحي الأفضل ثم المفضول ثم قول معظم
الأموات - فيما إذا لم يتمكن من قول الحي وتمكن من تحصيل الشهرة - ثم قول
الأفضل من الأموات ثم قول أي منهم، وقد يرجع إلى الأخذ بالاحتياط إذا تمكن
من تحصيله، إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في محله، فهناك أدلة إجمالية في
شأنه وإن كانت مترتبة في الحجية، لكن يمكن اجتماعها في الحجية بالنسبة إلى
المسائل المتعددة.
ثالثها: أنه بعد الحكم بكون المقلد أيضا آخذا عن الأدلة فله أيضا تفصيل
فيها، فإن قول المجتهد بالنسبة إليه كقول النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) بالنسبة إلى
المجتهد، فلكلامه أيضا عام وخاص ومطلق ومقيد ونص وظاهر، بل وناسخ
ومنسوخ نظرا إلى ما يطرؤه من العدول في بعض الأحكام، وكذا قد يأخذ الحكم
عنه مشافهة، وقد يأخذه بالواسطة مع اتحادها أو تعددها مع اختلاف مراتب
العدالة وكيفية ثبوتها عنده، إلى غير ذلك، مضافا إلى ما عرفت من أدلته المترتبة.
ومع الغض عن ذلك كله فقد يضم الدليل الاجمالي إلى الأدلة التفصيلية كما في
المتجزئ على القول به، فيصدق إذن على علمه أنه مأخوذ عن الأدلة التفصيلية مع
عدم صدق الفقه على ما أخذه على سبيل التقليد.
ويدفعه ما مر: من أن شيئا من أدلة المقلد لا يفيد الحكم على وجه التفصيل،
وإنما يفيده على جهة الاجمال حسب ما مر، وليس مجرد تعدد الأدلة قاضيا
بكونها تفصيلية، كما أن اتحاد نوع الدليل للمجتهد في صورة الاكتفاء به لا يجعله
إجماليا، على أن الحجة عليه هو قول المجتهد وهو دليل واحد إجمالي، والتفصيل
المذكور إنما يقع في معرفة حكمه وطريق إثباته والعلم به. ومما ذكرنا يعرف
الحال في المتجزئ بالنسبة إلى ما يأخذه على وجه التقليد.
هذا، وأنت خبير بأن الظاهر من الأدلة في المقام هو الأدلة المعهودة للفقه بناء
71

على ظهور الإضافة هنا في العهد (1) حسب ما مرت الإشارة إليه، وحينئذ فلا
حاجة إلى ضم التفصيلية. ويعضده أنه لا يقال عرفا لمن أخذ المسألة عن التقليد:
إنه عرفها بالدليل، بل يجعل المعرفة على جهة التقليد مقابلا للأخذ عن الدليل كما
لا يخفى، فحينئذ يتجه كون التقييد بالتفصيلية توضيحيا.
قال بعض أفاضل العصر: إنه يمكن أن يكون قيد " التفصيلية " لإخراج الأدلة
الإجمالية، لأن ثبوت الأحكام في الجملة من ضروريات الدين، فما دل على
ثبوت الأحكام إجمالا من الضرورة وغيرها - مثل عمومات الآيات والأخبار
الدالة على ثبوت التكاليف إجمالا - أدلة، لكن إجمالا لا تفصيلا، وهذا لا يسمى
فقها، بل الفقه هو معرفة تلك الأحكام الإجمالية عن الأدلة التفصيلية.
وفيه: أن الظاهر من العلم بالأحكام هو المعرفة بآحادها على سبيل التفصيل،
إذ لا يعد ما ذكره علما بالأحكام، وأيضا العلم بالأحكام على وجه الاجمال
حاصل من الضرورة كما نص عليه، وليس العلم الحاصل منها [علما] (2) حاصلا
من الدليل.
ومن العجيب! أنه نص سابقا بخروج الضروريات عن الفقه بقولهم: " عن
أدلتها " معللا بأنه لا يسمى العلم الحاصل منها علما محصلا من الدليل، ومع ذلك
ذكر في المقام ما حكيناه، وأعجب من ذلك! تعجبه من فحول العلماء أنهم كيف
غفلوا عن ذلك، ولم يسبقه إلى ما ذكره أحد فيما يعلم.
قوله: * (يعلم بالضرورة أن ذلك الحكم المعين... الخ) *
قد يقال في المقام: إن الدليل المذكور ليس دليلا لعلم المقلد بالحكم، وإنما هو
دليل على جواز عمله به ووجوب الأخذ به وكونه حجة عليه، كما أن للمجتهد
نظيره أيضا، فليس للمقلد إذا علم بالأحكام الشرعية، وليس هناك دليل إجمالي
يفيده العلم بها حتى يقال بخروجه بالقيد المذكور.

(1) ولا ينافيه ما مر من كون الإضافة جنسية، فإن المقصود منه إرادة جنس المعهود، فتأمل.
(منه (رحمه الله)).
(2) من المطبوع [1].
72

وأنت خبير بأن العمل يتوقف على العلم، فلولا علمه بالحكم لم يصح منه
الأعمال المتوقفة على القربة وقصد الامتثال، كيف! وهو عالم بما هو تكليفه في
الشريعة، فإن ما أفتى به المفتي هو حكم الله تعالى في حقه، ولذا يصح له الحكم
بالمسألة إذا أخذها عن المجتهد في وجه قوي، إذ فتواه دليل شرعي بالنسبة إليه،
فهو حاكم بالمسألة عن دليله، وليت شعري! كيف يعقل القول بكونه غير عالم
بالحكم مع قطعية المقدمتين المذكورتين المنتجتين لكون ما أفتى به المفتي هو
حكم الله في حقه؟ وأقصى ما يراد من العلم بالأحكام القطع بأحكامه تعالى، وهو
حاصل له بمقتضى الدليل القاطع المذكور غاية الأمر أن لا يكون قاطعا بحكمه
الواقعي الأولي، وهو غير حاصل للمجتهد أيضا في الغالب، كما سيجئ الكلام فيه
إن شاء الله تعالى.
قوله: * (إن كان المراد بالأحكام البعض) *
كأنه يريد به حمل اللام على الجنس الصادق على البعض، إذ إرادة العهد
الذهني مما لا وجه له في المقام.
قوله: * (لم يطرد) *
لما كانت مساواة الحد للمحدود معتبرة في صحة التحديد وكان مرجع
التساوي إلى موجبتين كليتين اعتبر في صحة الحد من صدق قضيتين موجبتين
كليتين: إحداهما صدق المحدود على جميع مصاديق الحد وحمله عليه كليا،
والأخرى عكسه، أعني صدق الحد على جميع مصاديق المحدود وحمله عليه
كذلك وإن لم يكن عكسا بالمصطلح. فعبروا عن الأول بالاطراد، وعن الثاني
بالانعكاس.
فالمقصود بالاطراد هو اطراد صدق المحدود على مصاديق الحد، فلا يكون
شئ من مصاديق الحد إلا ويصدق عليه المحدود، وعكسه وهو اطراد صدق
الحد على المحدود يسمونه بالعكس. وإنما اعتبروا الأول أصلا والثاني عكسا
دون العكس، إذ الملحوظ في صحة التحديد حال الحد في مساواته للمحدود،
73

فالأنسب أن يجعل موضوعا في الكلية الأولى فيؤخذ في الأخيرة عكسها.
هذا، والجامعية أن لا يخرج عن الحد شئ من أفراد المحدود، والمانعية أن
لا يصدق الحد على غير أفراد المحدود. فالثاني من لوازم الإطراد كما أن الأول
من لوازم الانعكاس، ولذا يقع التعبير في كلماتهم تارة بالطرد والعكس، وأخرى
بالجمع والمنع.
وقد يقال: إن الاطراد هو التلازم في الثبوت، أي كل ما يصدق عليه الحد
يصدق عليه المحدود، والانعكاس التلازم في الانتفاء، أي كل ما لم يصدق عليه
الحد لم يصدق عليه المحدود، كذا فسرهما بعض الأفاضل، ويمكن إرجاعه إلى ما
قلنا. وقد يؤخذ الاطراد من الطرد بمعنى المنع، أي كون الحد ذا منع عن اندراج
غير المحدود فيه، ولا يلائمه إذا ذكر الانعكاس إلا بوجه بعيد.
قوله: * (إذ لا يتصور على هذا التقدير... الخ) *
قد يقال: إن القائل بعدم التجزي إنما يقول بعدم حجية الظن الحاصل
للمتجزئ لا عدم إمكان حصوله، إذ حصول الظن ببعض الأحكام دون البعض مما
لا مجال لإنكاره.
ويمكن دفعه: بأن الأدلة التفصيلية بناء على ما ذكر إنما تكون أدلة بالنسبة إلى
المجتهد المطلق دون غيره، فيخرج ما يستنبطه المتجزئ عن كلمة المجاوزة، وقد
أشار إليه المصنف (رحمه الله) بقوله: " كذلك " أي عن الأدلة، وعلى ما سنذكره من حمل
" العلم " على اليقين و " الأحكام " على الظاهرية، فخروجه ظاهر، إذ لا يقين له
حينئذ بالأحكام الظاهرية.
وقد يورد عليه أيضا: أن القائل ببطلان التجزي إنما يقول به بالنسبة إلى
المسائل الاجتهادية دون الأحكام القطعية، إذ لا كلام في حجية القطع الحاصل من
الأدلة القاطعة بحجيته ولو لغير المجتهد المطلق، كيف! والعلم بضروريات المذهب
حاصل للكل مع اندراجها في الفقه كما عرفت، فغاية الأمر توقف الحكم بالبعض
على الحكم بالكل في المسائل الاجتهادية، والفقه يعمها وغيرها، كما هو مقتضى
74

الحد المذكور على ما اختاره المصنف (رحمه الله) في تفسير العلم.
وأيضا القائل بعدم التجزي في المسائل الاجتهادية إنما يقول به في هذه
الأعصار ونحوها لتوقف معرفة الأحكام حينئذ على الاجتهاد واستفراغ الوسع من
صاحب الملكة، وأما بالنسبة إلى عصر الإمام (عليه السلام) فلا كلام في إمكان العلم ببعض
الأحكام دون الباقي، فإن من أخذ بعض الأحكام عنه بالمشافهة مثلا يجوز له
العمل به قطعا، إذ لا يقصر الإمام (عليه السلام) عن المجتهد الذي يؤخذ عنه الأحكام،
فكيف يقال بعدم انفكاك العلم بالبعض عن الكل؟
والحاصل: أنه يقول بعدم جواز التجزي في الاجتهاد، لا بعدم إمكان المعرفة
ببعض المسائل دون بعض مطلقا.
ومع الغض عن ذلك فلا يذهب عليك أن ما ذكره من عدم انفكاك العلم
بالبعض عن العلم بالكل لو صح فلا يقضي بتصحيح الحد وإن ارتفع به النقض
المذكور على التقدير المفروض، إذ ليس الفقه عبارة عن العلم بمسألة واحدة أو
ثلاث مسائل، بل هو كسائر أسماء العلوم اسم للمسائل المتكثرة التي يجمعها
وحدة أو العلم بتلك المسائل، إذ الظاهر أن أسماء العلوم ليست من قبيل أسماء
الأجناس الصادقة على القليل والكثير كالماء الصادق على القطرة والبحر على
حد سواء، بل الكثرة ملحوظة في مفهومها معتبرة في وضعها، كما هو ظاهر من
ملاحظة إطلاقاتها، فعدم الانفكاك بين الأمرين ليس مصلحا للحد ولا مصححا
لحمله على المحدود، كما لا يخفى.
قوله: * (فالعلم المذكور داخل في الفقه) *
إن عنى به صدقه عليه مواطاة فضعفه ظاهر، لما عرفت من عدم صدق أسامي
العلوم على مسألة واحدة أو ثلاث من مسائلها، ولا اختصاص لاسم الفقه في
الاصطلاح من بين سائر أسماء العلوم. وإن أراد به صدق كونه من الفقه ومن جملة
مسائله - كما يومئ إليه التعبير بدخوله في الفقه - فمسلم، ولا يفيد شيئا في
تصحيح الحد، إذ أقصى ما يفيده كون المتجزئ عالما ببعض الفقه وكون ذلك حجة
75

عليه، ولا يقضي ذلك بصدق الفقه على علمه ولا كونه فقيها في الاصطلاح.
فظهر بذلك أنه لا دخل لجواز التجزي في صدق اسم الفقه، بل إنما يفيد كون
المتجزئ عالما ببعض مسائله، فيكون إذا كمن عرف مسألة أو ثلاثا من النحو
فيصدق عليه أنه عارف ببعض النحو، ولا يلزم منه صدق " النحوي " عليه ولا
صدق " النحو " على علمه بخلاف ما لو قلنا بعدم التجزي إذ لا يكون حينئذ عالما
بشئ من الفقه، وبذلك يحصل الفرق بينه وبين غيره من أسامي العلوم.
قوله: * (إذ المراد بالعلم بالجميع التهيؤ له) *
قد يشكل ذلك من جهة عدم ارتباط الأدلة حينئذ بالعلم بالمعنى المذكور،
إذ ليست الملكة والتهيؤ حاصلة عن الأدلة التفصيلية، وإنما تحصل عن الممارسة،
ولو جعلت متعلقة بالأحكام أشكل الحال في اخراج علوم المذكورين من جهة
التقييد بها، إلا أن يقال بخروجها عن الجنس أو يجعل الأحكام بمعنى التصديقات
على ما مرت الإشارة إليه، أو يجعل من متعلقات متعلق الملكة المذكورة، أعني
ملكة العلم بالأحكام عن الأدلة، فيكون قوله: " عن أدلتها " متعلقا بالعلم الذي
تعلقت به الملكة المذكورة، ولا يخلو شئ من الوجهين المذكورين عن بعد،
كما لا يخفى.
هذا، وقد أورد عليه: بأن التهيؤ لاستعلام جميع الأحكام كحصول العلم
بالجميع فعلا متعذر أو متعسر أيضا، لحصول التوقف والتحير من فحول الفقهاء في
كثير من المسائل ولو بعد استفراغ الوسع وبذل الجهد. وحصول قوة قوية بحيث لا
يتوقف في شئ من الأحكام بعد بذل الوسع مما لا يتحقق في العادات، فالإيراد
على حاله، كذا أورده شيخنا البهائي (رحمه الله).
وقد يجاب عنه: بأن التوقف في المسألة إنما يكون لانتفاء الدليل رأسا أو
لضعف الأدلة الناهضة أو لتصادم بعضها للبعض لا من جهة ضعف في القوة، بل قد
يكون زيادة القوة باعثة على زيادة الإشكال في المسألة من جهة سعة الباع
الباعثة على استخراج سائر وجوه الاستنباط وتقوية سائر الاحتمالات الضعيفة
76

في ظاهر الحال، أو تضعيف بعض الأدلة القوية في بادئ الرأي بإبداء وجوه
الإشكال، فالتوقف المذكور إنما هو من جهة انتفاء الأدلة لا لضعف في القوة.
ويشكل بأنه إما أن يراد بالقوة المطلقة القوة التي يمكن أن يستنبط بها جميع
الأحكام من الأدلة الموجودة المتداولة، أو التي يمكن أن يستفاد بها الأحكام
على فرض وجود الأدلة وورودها في الشريعة.
والثاني مما لا وجه له، لظهور أنه لو كان هناك أخبار ظاهرة في كل حكم من
الأحكام الشرعية لأدركه أكثر الأفهام حتى كثير من العوام، سيما مع اشتهارها
وغاية وضوح أسانيدها، مع وضوح انتفاء صدق " الفقه " و " الفقيه " على تلك القوة
ومن حصلت فيه.
وأما الأول ففيه مع مخالفته للجواب المذكور أن من الظاهر امتناعه في العادة،
إذ مع ما فيه من المخالفة لمجاري العادات قد لا تكون تلك الأدلة في نفسها وافية،
أو يكون بعض الأحكام غير وارد في الأخبار المأثورة، ولم يقم عليه شئ من
سائر الأدلة.
ولو أريد بالقوة المطلقة القوة التي يقتدر معها على استنباط ما يمكن استنباطه
من الأحكام من الأدلة الموجودة واستنباط ما لم تنهض به تلك الأدلة مما يضاهي
تلك في وجوه الإشكال وصعوبة الاستدلال، ففيه - مع ما فيه من التعسف البين -
أن ذلك أيضا مما يمتنع بحسب العادة، لوضوح تجدد ظهور وجوه الاستدلال
وطرق الاستنباط بحسب تلاحق الأفكار، ولذا ترى الفقيه الواحد يستنبط في
أواخر عمره من الأدلة ما لم يصل إليه في الأول، فالقوة المقتدرة على استنباط
الكل بعد الاجتهاد خارج عن مجاري العادات. ثم العلم ببلوغها إلى ذلك الحد
ليعد صاحبها فقيها أظهر امتناعا، كما لا يخفى.
قلت: إن أريد بالأحكام في المقام: الأحكام الواقعية فلا شك في امتناع القوة
المفروضة، إذ من الظاهر امتناع استنباط جميع الأحكام الواقعية ولو ظنا من
الأدلة الموجودة، إذ كثير من الأدلة مما لا ربط لها بالواقع، والكاشف عن الواقع
77

منها لا يرتبط حجية كثير منها بإفادة الظن بالواقع - كما سيجئ في محله إن شاء
الله تعالى - بل وكذا يمتنع عادة حصول قوة مقتدرة على استنباط جميع ما يمكن
استنباطه من الأحكام عن الأدلة الموجودة.
وإن أريد بالأحكام: الظاهرية التكليفية فلا وجه لاستبعاد حصول تلك القوة،
بل لا شك في حصولها لكل من بلغ درجة الاجتهاد المطلق، فإنه إن رجح شيئا من
الأدلة فذاك، وإلا فإما أن يبني على العمل بالاحتياط أو أصالة البراءة أو على
التخيير في العمل، وكل منها من الأحكام الشرعية الظاهرية، والتوقف الواقع من
العلماء إنما يكون في مقام الاجتهاد أعني المقام الأول، وأما المقام الثاني أعني
مقام الفقاهة فلا مجال للتوقف فيه. وكأن هذا هو مقصود المجيب، فالإيراد المذكور
بين الاندفاع، وسيجيئك ما يؤيد إرادة المعنى المذكور.
نعم، يرد هناك شئ آخر، وهو أن حمل " العلم " على الملكة والقوة القريبة
وإن صحح تعلقه بجميع الأحكام، إلا أنه لا يصح تفسيرا للفقه، إذ ليس الفقه ولا
غيره من أسماء العلوم المدونة أسماء لنفس الملكات الحاصلة والحالات
الراسخة، بل لا يتبادر منها في الاستعمالات إلا نفس المسائل أو العلم بها على
اختلاف الوجهين.
ألا ترى أنه يصدق على كل مسألة مسألة من مسائل العلوم أنه من ذلك العلم
وبعض منه، ولا يمكن أن يجعل ذلك من الملكة ولا بعضا منها بالضرورة، وكذا
يتصف الملكة بالضعف والشدة والوهن والقوة ولا يتصف بها شئ من أسماء
العلوم، وأيضا الملكة حالة بسيطة راسخة في النفس ولا يصدق ذلك على شئ
من العلوم.
فالظاهر أن إطلاقها على الملكات من جهة تنزيل القوة القريبة منزلة الفعل،
فيطلق عليها لفظ العلم، وليس شئ من أسماء العلوم موضوعا بإزاء الملكة كما
عرفت، سواء قلنا بكون إطلاق لفظ العلم على الملكة حقيقة أو مجازا.
ويدل أيضا على فساد حمل " العلم " هاهنا على الملكة أنه لو أريد به ما ذكر
78

لزم صحة إطلاق " الفقيه " على صاحب الملكة المفروضة وإن لم يعلم شيئا من
الأحكام الشرعية فعلا، وهو فاسد قطعا. وحصول الملكة المفروضة من دون
تحصيل شئ من الأحكام أو قدر يعد معه فقيها عرفا لا مانع منه أصلا، بل الظاهر
حصولها في العادات كثيرا.
فالأظهر في الجواب أن يقال: إن المراد بالأحكام هنا وبالمسائل أو القواعد
ونحوها المذكورة في حدود سائر الفنون هي جملة معتد بها من الأحكام
والمسائل والقواعد كافية في ترتب الثمرة المطلوبة من وضع الفن المفروض
بحسب العرف بحيث يصدق على العالم بها أنه عالم بمسائل ذلك الفن، وهذا
المعنى قدر جامع بين العلم بجميع المسائل على فرض إمكانه وما دونه إلى أقل ما
يصدق معه اسم كونه عارفا بالمسائل.
والظاهر أن العلم بالأحكام والمسائل والقواعد المفروضة لا ينفك عن الملكة
المذكورة إلا أن الفقه وغيره من أسامي العلوم اسم لتلك المسائل أو العلم بها على
اختلاف الوجهين دون الملكة المذكورة، فعدم إطلاق الفقيه والنحوي والصرفي
ونحوها على غير أرباب الملكات في تلك العلوم لا يدل على أن تلك العلوم
موضوعة بإزاء الملكات حسب ما مر. وكان المرجع في ما ذكرنا إلى حمل
" الأحكام " على الاستغراق العرفي، فليس فيه مخالفة لظاهر العبارة، سيما
بملاحظة ما هو معلوم من عدم إمكان الإحاطة التامة بجميع مسائل شئ من
الفنون بحيث لا يشذ عنها شاذ، إذ فيه دلالة ظاهرة على عدم إرادة الاستغراق
الحقيقي لو سلمنا كون الاستغراق أظهر فيه، فتأمل.
وقد يقال بحمل " الأحكام " على الاستغراق الحقيقي، ويجعل الفقه اسما
لمجموع المسائل أو العلم بها، لكن يراد بذلك نفس المسائل المعروفة دون الفروع
المتجددة المتفرعة على تلك المسائل مما لا يقف على حد وإن اندرجت تلك
أيضا في الفقه، لكونها في الحقيقة تفصيلا لذلك الاجمال المعلوم، ويجري ذلك في
أسماء سائر العلوم، وكأن هذا هو المراد مما احتملوه من كون أسامي العلوم
79

موضوعة لمجموع المسائل أو العلم بها، في مقابلة احتمال وضعها للقدر المعتد به
أو العلم به.
وربما يقال بكون تلك الأسامي موضوعة لمجموع المسائل المعروفة
والمتجددة، فلا يكون مسمى تلك الألفاظ متحصلا لأحد من أرباب تلك العلوم
ولا مدونا في شئ من الكتب، وإنما المعلوم والمدون بعض منها، ويصح انتساب
أربابها إليها بناء على تنزيل ملكة العلم بها منزلة الفعلية، لشيوع إرادة الملكة من
لفظ الفقيه والنحوي والصرفي ونحوها، كما يراد ذلك من سائر الألفاظ الموضوعة
لأرباب الحرف والصنائع المعروفة كالنجار والصائغ والقارئ والكاتب ونحوها،
فإن الظاهر ملاحظة الملكة في أوضاع تلك الألفاظ.
وأنت خبير ببعد ذلك عن إطلاق تلك الأسامي، ولذا يصح أن يقال: فلان
عالم بالفقه والنحو والصرف على سبيل الحقيقة إذا كان عارفا بمسائله المعروفة،
نعم اعتبار الملكة في وضع لفظ الفقيه والنحوي والصرفي ونحوها لا يخلو عن
وجه، فتأمل.
قوله: * (وهو أن يكون عنده ما يكفيه في استعلامه من المأخذ) *
لا يخفى أن وجود المأخذ عنده وتمكنه من الرجوع إليه مما لا ربط له
بالملكة والتهيؤ المفروض، لظهور صدق كونه عالما بذلك الفن ولو فرض منعه عن
مراجعة الأدلة أو عدم وجود المأخذ عنده، فالظاهر أن المراد بالتهيؤ القريب هو
الملكة والقوة القريبة الباعثة على سهولة إدراك المسألة واستنباط حكمها من
الأدلة وإن فرض عدم حضور المأخذ عنده، والظاهر أن ذلك هو مقصود المصنف
وإن كان هناك اختلال في تعبيره، وقد يجعل قوله: " من المأخذ " متعلقا
ب‍ " استعلامه " فيوافق ما ذكرناه. ولا يساعده عطف " الشرائط " عليه ولا قوله:
" بأن يرجع إليه " فتأمل.
قوله: * (وإطلاق العلم على هذا التهيؤ شائع... الخ) *
أراد بذلك دفع ما لعله يورد في المقام: من أن إطلاق العلم على التهيؤ المذكور
80

مجاز تنزيلا للقوة القريبة منزلة الفعلية كما مر، فكيف يجوز استعماله في الحد مع
ما اشتهر بينهم من عدم جواز استعمال الألفاظ المشتركة والمجازات في الحدود
والتعريفات؟
فأجاب بأن إطلاق العلم على المعنى المذكور شائع في الاستعمالات متداول
في الإطلاقات، فيكون إما حقيقة عرفية أو مجازا شائعا، وعلى الأول لا إشكال،
وكذا على الثاني، إذ المقصود مما ذكروه المنع من استعمال ما قد يخفى دلالته على
المقصود، إذ المقصود من الحدود الإيضاح وتفهيم المخاطبين حين التعريف وهو
قد لا يحصل بذلك، ومن البين أن اللفظ المذكور بعد انضمام القرينة إليه ليس من
هذا القبيل، فتأمل.
ثم لا يذهب عليك أن إطلاق العلم على مجرد الملكة - كما هو ظاهر العبارة -
غير ظاهر في الإطلاقات الشائعة، وإنما يطلق غالبا على الملكة مع حصول فعلية
معتد بها حسبما أشرنا إليه، فلا تغفل.
قوله: * (بحمل العلم على معناه الأعم... الخ) *
يرد عليه: أنه لا ظن بالأحكام الواقعية في معظم المسائل الفرعية، فكما أن
طريق العلم بالأحكام الواقعية مسدود في الغالب (1) كذا لا طريق إلى الظن بها في
كثير من المسائل، وإنما المرجع في معرفة الأحكام إلى الأدلة الشرعية والأخذ
بمقتضاها، أفادت الظن بالواقع أولا، ألا ترى أن أصالة البراءة والاستصحاب إنما
يفيدان ثبوت الحكم في الظاهر، واللازم البناء عليهما حتى يثبت الخلاف، ولا
دلالة فيهما على الواقع في الغالب ولو على سبيل الظن، وعلى فرض حصول الظن
هناك فهو من الأمور الاتفاقية وليست حجيتهما مبنية عليه، كما سيجئ تفصيل
القول فيهما إن شاء الله تعالى.
وكذا الكلام في كثير من الآيات والأخبار، ألا ترى أنه يحكم بمقتضى
العمومات والإطلاقات والظواهر والقواعد المقررة مع الشك فيما يوجب الخروج

(1) في المطبوع (1): الأغلب.
81

عنها، إما لورود بعض الأخبار الضعيفة أو غيرها مما لا يثبت به خلافها، ومن البين
أنه مع الشك فيه لا يبقى ظن بذلك الظاهر في المقامات المذكورة مع أنها حجة
شرعية، لحجية استصحاب البناء على الظاهر المفروض حتى يتبين خلافه من غير
خلاف فيه بين الأصولية والأخبارية كما سيقرر في محله إن شاء الله، إلى غير ذلك
مما سيجئ بيانه في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى، فيلزم خروج الأحكام
المذكورة عن الفقه مع أن كثيرا من مسائله من هذا القبيل.
وقد يورد عليه أيضا بأنه ينافي ما مر من حمل " العلم " على الملكة نظرا إلى
ابتناء ما ذكر على كون العلم بمعنى الإدراك، فيحمل على ما يعم الإدراك العلمي
والظني، والملكة لا تكون علمية ولا ظنية.
ويدفعه: أنه ليس المراد من العلم مجرد الملكة كما مرت الإشارة إليه، بل إنما
يراد بها ملكة الإدراك أو التصديق، فيحمل ذلك الإدراك أو التصديق على ما يعم
العلم والظن. نعم إن حمل على الملكة المجردة كما قررناه على فرض حمل
الأحكام على التصديقات لم يتجه ذلك، وحينئذ يجري الإيراد والتوجيه
المذكوران في الأحكام، فتحمل على ما يعم التصديقات العلمية والظنية.
وقد يورد أيضا بلزوم سبك المجاز من المجاز، إذ يراد أولا من العلم مطلق
الرجحان الشامل له وللظن إطلاقا للأخص على الأعم، ثم ينتقل من ذلك إلى
إرادة ملكته تنزيلا للقوة القريبة منزلة الفعلية.
ويدفعه: أنه يمكن الانتقال من معناه الحقيقي - أعني الإدراك اليقيني - إلى
ملكة الإدراك الأعم من غير حاجة إلى توسط مجاز آخر في الانتقال إليه
لمشاركته للعلم في ظهور المدرك من جهته، فإن وضوحه من جهة العلم إنما يكون
به، وفي الملكة المذكورة من جهة كونها باعثة على حصول العلم أو الظن الباعث
على الانكشاف في الجملة.
وما قد يقال: من أن حمل العلم على المعنى الأعم يوجب إدراج القطعيات
في الفقه مع أنها خارجة عنه، ولذا لا يتعلق بها الاجتهاد كما ينطق به حده، حيث
82

أخذوا فيه الظن فلا يطرد الحد، ولذا اختار شيخنا البهائي (رحمه الله) في الزبدة في
الجواب عن الإيراد المذكور حمل العلم على خصوص الظن.
مدفوع بأن اخراج القطعيات مطلقا عن الفقه مما لا وجه له أصلا، كيف!
والاجتهاد قد ينتهي إلى اليقين، وأيضا صدق " الفقيه " على أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
والأئمة (عليهم السلام) مما لا كلام فيه، مع أنهم كانوا يأخذون الأحكام عن النبي (صلى الله عليه وآله)
والأئمة (عليهم السلام) بالمشافهة، ولا يتصور ظن في شأنهم في كثير من المسائل،
وعلومهم اليقينية الثابتة بنص المعصوم (عليه السلام) من الفقه قطعا، فكيف يعقل اخراج
القطعيات عنه مطلقا؟ نعم القطعيات التي هي من ضروريات الدين خارجة عنه
حسب ما مر، وأما غيرها فهي مندرجة فيه، إلا أنها مما لا يتعلق بها الاجتهاد.
وتوضيح المقام: أن القطعيات إما أن تكون من ضروريات الدين، أو من
ضروريات المذهب، أو القطعيات الغير الواصلة إلى حد الضرورة إلا أنها ثابتة في
الدين أو المذهب على سبيل اليقين بالنظر أو غيره بحيث لا مجال فيها للاجتهاد،
وإما أن تكون من المسائل الظنية إلا أنه اتفق انتهاء الأمر فيها إلى القطع للبعض.
فالأولى خارجة عن الفقه وليست من متعلقات الاجتهاد قطعا.
والأخيرة مندرجة في الفقه قطعا، والظاهر كونها من متعلقات الاجتهاد أيضا،
إذ انتهاء الأمر في المسائل الاجتهادية إلى القطع أحيانا لا يخرجها عن كونها
اجتهادية، ولا كون بذل الوسع فيها اجتهادا، وأخذ الظن في حده لا ينافيه، إذ
المعول عليه في المسائل الظنية هو الظن، إذ هو المتوقع حصوله بعد الاجتهاد في
الأدلة، وحصول اليقين على سبيل الاتفاق لا ينافي كون بذل الوسع فيه لتحصيل
الظن كما سيجئ الكلام فيه في محله إن شاء الله. وأما المراتب المتوسطة:
فالظاهر إدراج الجميع في الفقه كما مر. والأظهر عدم تعلق الاجتهاد بشئ منها
كما هو ظاهر من حده، وسيجئ الإشارة إليه في محله إن شاء الله.
وبالجملة: المسائل الفقهية عندنا قسمان: أحدهما: المسائل القطعية التي
لا مجال للتأمل فيها من العارف الناظر في أدلتها. وثانيهما: المسائل الظنية التي
83

لا يتوقع فيها زيادة على الظن وإن اتفق فيها تحصيل العلم أحيانا. ومتعلق
الاجتهاد إنما هو القسم الثاني، ولذا اخذ الظن في حده حيث إنه المتوقع فيه أو
للاكتفاء فيه بذلك دون الأول، ولذا يمضي قضاياه وأحكامه هنا وإن أخطأ فيها
بخلاف تلك الصورة حيث ينقض حكمه مع خطئه فيها حسب ما قرر في محله.
وما ذكروه من جواز التجزي في الاجتهاد وعدمه إنما هو في الثاني، وأما
القطعيات فلا مجال للتأمل في إمكان حصول العلم بها لغير المجتهد أيضا.
فدعوى الملازمة بين العلم ببعض الفقه والاجتهاد ممنوعة لا شاهد عليها، بل
فاسدة حسب ما قررناه. فالاستناد في عدم كون القطعيات من الفقه إلى انتفاء
الاجتهاد فيها - كما صدر من بعض الأعلام - كما ترى!
قوله: * (وأما ما يقال: من أن الظن في طريق الحكم... الخ) *
قد يتراءى تدافع بين الكلامين، إذ بعد فرض كون الطريق ظنيا لا يعقل كون
الحكم قطعيا، ضرورة تبعية المدلول في ذلك للدليل.
ويدفعه: أنه أراد بذلك ظنيته في نفسه لا مطلقا.
وملخص تقرير الجواب: إنا نختار حمل " العلم " على معناه الظاهر، وما ذكر
من أن أدلة الفقه ظنية غالبا فيتبعها الأحكام المدلول عليها بتلك الأدلة ممنوع، إذ
أدلة الفقه ظنية بملاحظة أنفسها، وأما بملاحظة ما دل على حجية تلك الظنون
ووجوب العمل بها قطعية، فظنية الطريق في نفسه لا تنافي علمية الحكم من جهة
قيام الدليل القاطع على ثبوت الحكم على المكلف بمقتضى ما دل عليه ذلك
الطريق، فالدليل القاطع على ذلك الحكم هو الدليل المذكور بعد الملاحظة
المذكورة، فتلك الأدلة ظنية من جهة وقطعية من جهة أخرى، ولا منافاة بين
الوجهين، فظنيتها في نفسها لا ينافي قطعية الحكم من جهتها نظرا إلى ما ذكرنا.
قوله: * (فضعفه ظاهر عندنا... الخ) *
يريد بذلك أن الجواب المذكور إنما يتم على أصول الأشاعرة القائلين
بالتصويب وتعدد أحكامه تعالى في الواقع على حسب تعدد آراء المجتهدين،
84

فيكون ظن كل مجتهد بالحكم كاشفا عن كون ذلك هو حكمه بحسب الواقع، إذ
حينئذ يتم التقرير المذكور ويكون كل مجتهد عالما بما هو حكم الله تعالى في حقه
بحسب الواقع. وأما على أصول الإمامية على ما وردت به نصوصهم المتواترة عن
أئمتهم (عليهم السلام) من كون حكم الله تعالى في الوقائع واحدا بحسب الواقع وأن له تعالى
في كل واقعة حكما مخزونا عند أهله، أصابه من أصابه وأخطأه من أخطأه،
فلا وجه للكلام المذكور أصلا، إذ لا تفيد الأدلة المفروضة القطع بكون ذلك هو
حكم الله تعالى في الواقع، إذ المفروض احتمال الخطأ في الاستدلال، بل ووقوعه
قطعا بالنسبة إلى الآراء المختلفة فلا يعقل علمهم بحكمه تعالى مع فرض كون
الطريق ظنيا، غاية الأمر أن يكون المخطئ مع عدم تقصيره في بذل الوسع
معذورا، فيجب عليه العمل بمؤدى نظره وإن كان مخطئا، وأين ذلك من العلم
بأحكامه تعالى كما هو المدعى.
ويضعفه: أن ذلك كله إنما يتم لو كان مبنى الجواب على حمل " الأحكام " في
الحد على الأحكام الواقعية، كما هو الظاهر من كلام المصنف (رحمه الله). وأما لو كان مبنيا
على حمل " الأحكام " على الظاهرية التكليفية فلا، إذ من الواضح اختلافها
باختلاف الآراء، للقطع بتكليف كل مجتهد ومقلديه بما أدى إليه ظنه، وهي أيضا
أحكام شرعية متعلقة لخطاب الشرع، غاية الأمر أنها على فرض مخالفتها للواقع
أحكام ثانوية، وهي أيضا مطابقة للواقع على الوجه المذكور.
وكشف الحال: أن هناك حكمين: حكم واقعي وهو الذي كلفنا به أولا لولا
جهل المكلف المانع من تعلق التكليف به، وحكم ظاهري وهو الذي يجب علينا
البناء عليه والتعبد به في ظاهر الشرع بمقتضى الأدلة الشرعية، سواء علمنا مطابقته
للأول أو ظنناه أو شككنا فيه أو ظننا خلافه أو ولو علمنا المخالفة كما في بعض
الفروض، فالنسبة بينهما عموم من وجه.
والفقه بحسب الاصطلاح هو الثاني، والعلم به يحصل عن الأدلة الشرعية التي
قررها صاحب الشريعة وأوجب علينا العمل بمؤداها وهي الأدلة التفصيلية
85

المذكورة في الحد. فعلم بذلك أن تفسير الأحكام بالظاهرية يعم الواقعية أيضا،
فلا حاجة إلى حملها على الأعم من الظاهرية والواقعية كما في كلام بعض
الأفاضل، بل لا يخلو ظاهر ما ذكره عن مناقشة، كما لا يخفى.
فإن قلت: لو كان الأمر كما ذكر فلا فرق بين المصوبة والمخطئة، إذ المفروض
مطابقة الحكم المذكور للواقع أيضا وإن كان مخالفا للحكم الأول، غاية الأمر أن
يكون الثاني ثانويا، ولا شك أن الأحكام الواقعية ليست كلها أولية، لاختلاف
الأحكام الواقعية باختلاف الأحوال كالقدرة والعجز والصحة والمرض والحضر
والسفر وغيرها من الأمور الطارئة على المكلف.
قلت: فرق بين بين الأمرين، فإن مطلوب الشارع في المقام حقيقة هو الأول
وإنما تعلق التكليف بالأخير في الظاهر نظرا إلى اشتباه المكلف.
وتحقيقه: أن الحسن أو القبح الحاصل من جهة نفس الفعل إما بملاحظة ذاته
أو سائر اعتباراته - ولو بانضمام تعلق الأمر به - هو الحكم الواقعي، وأما الحسن
أو القبح الطارئ عليه أو على تركه من جهة اشتباه المكلف وغفلته عما هو عليه أو
عدم إمكان وصوله إليه من غير أن يكون لنفس الفعل أو الترك أو بعض اعتباراتهما
بعث عليه فهو الظاهري المفارق للواقعي، وبين الأمرين بون بعيد، إذ الحكم
بالامتثال في الأخير إنما يكون مع بقاء الغفلة والجهل، وأما بعد ظهور الحال
فلا امتثال لما هو مطلوب الآمر، فكل من التكليف الظاهري المفروض والحكم
بحصول الامتثال لو أتى بالفعل إنما يستمر باستمرار الجهل، وأما بعد انكشاف
الخلاف فيرجع الأمر إلى التكليف الأول، فإن كان الوقت باقيا وجبت الإعادة
بمقتضى الأصل لبقاء التكليف ووجوب الامتثال، وإن كان فائتا وجب القضاء
لو دل دليل على وجوب القضاء لصدق الفوات.
فإن قلت: كيف يصح القول بعدم تحقق الامتثال مع تعلق التكليف بما أتى به
من الفعل قطعا؟ فيكون الإتيان به قاضيا بالإجزاء محصلا للطاعة والامتثال
بلا امتراء.
86

قلت: لا شك في حصول الإطاعة بأداء ما ثبت وجوبه في الشرع، وكذا في
حصول العصيان بتركه وإن لم يكن مطابقا للواقع، لكن نقول: إن كلا من الطاعة
والمعصية قد يحصل بالإتيان بما هو مطلوب الآمر على جهة الوجوب أو تركه
مثلا، وقد يحصل بأداء ما يعتقد كونه كذلك من الطريق الذي قرره الشارع أو بتركه
كذلك مع انتفاء المطابقة. إلا أن هناك فرقا بين الصورتين، وذلك أنه كما يكون فعل
المأمور به وترك المنهي عنه مطلوبا للآمر مرادا له كذا الإتيان بما يعتقده طاعة من
حيث إنه طاعة وترك المخالفة من حيث إنها كذلك مطلوب لديه، لما دل من الدليل
القاطع أو المنتهي إليه على الرجوع إلى الطريق المفروض، فإذا فرض موافقة ما
أتى به للواقع كان الحسن فيه من جهتين، وكذا القبح في صورة المخالفة، ومع
انتفاء المطابقة فلا حسن ولا قبح إلا من الجهة الأخيرة كما هو الحال في التكاليف
الاختبارية، فإن الحسن أو القبح فيها ليس إلا من جهة تعلق الأمر أو النهي بحسب
الظاهر، فكما أنه بعد انكشاف الحال يظهر أن لا وجوب ولا تحريم للفعل في نفسه
كذا في المقام وإن حصل الامتثال أو العصيان من جهة الموافقة أو المخالفة
المفروضة، فإذا انكشف الخلاف تبين عدم الإتيان بما هو مطلوب الآمر، فيجب
تداركه بالإعادة أو القضاء على فرض ثبوت القضاء فيه، وكذا الحال لو كان
الاشتباه في الموضوع.
فالحال في التكاليف الظاهرية للمجتهد من جهة اشتباهه في الأحكام نظير
الحال في التكاليف الاختبارية. ومن التأمل في ذلك يتضح حقيقة المرام في
المقام، وليست التكاليف الاختبارية تكاليف صورية مجازية خالية عن حقيقة
التكليف، كما يظهر من جماعة من الأعلام، وسيجئ بيانه في المحل اللائق به.
فصار المحصل أن الواجب أو الحرام الواقعي هو ما كان مطلوبا للشارع أو
مبغوضا له في نفسه، والظاهري هو ما يكون كذلك بحسب اعتقاد المكلف، نظرا
إلى الطريق الذي قرره المكلف له وأوجب الأخذ به من حيث كونه موصلا إلى
الواقع، فإن تطابقا فقد اجتمع الحكمان وإلا حصل الافتراق من الجانبين، فالحكم
87

بوجوب العمل بمؤدى الدليل إنما يكون في الغالب من حيث كونه طريقا موصلا
إلى الواقع، فإذا انكشف الخلاف تبين عدم حصول الامتثال وأداء التكليف، نظرا
إلى انتفاء الحيثية المذكورة وعدم حصول ما هو مطلوب الشارع. لكن لا يخرج
بذلك الفعل الواقع قبل الانكشاف عن كونه متعلقا للتكليف مرادا للشارع [لوقوعه
حال تعلق التكليف به كذلك، إلا أنه بعد ظهور الحال يكون التكليف المتعلق به
على نحو التكاليف الاختبارية حسبما أشرنا إليه] (1) وتفصيل الكلام في هذا المرام
مما لا يسعه المقام، ولعلنا نفصل القول فيه في مقام آخر.
إذا تقرر ذلك فلنرجع إلى ما كنا فيه، فنقول: قد عرفت أن الأحكام الظاهرية
مع المخالفة للواقع واقعية أيضا بوجه وإن لم تكن واقعية بمعناها الظاهر، والفقه هو
العلم بتلك الأحكام، وهي أحكام شرعية مستفادة من الأدلة التفصيلية سواء
طابقت الحكم الأول أو لا.
فإن قلت: إن العلم بالأحكام الظاهرية إنما يحصل من الدليل الاجمالي دون
الأدلة التفصيلية، فإن أقصاها إفادة الظن بالحكم.
قلت: إن تلك الأدلة ليست مفيدة لليقين بملاحظة أنفسها، وأما بملاحظة
الدليل القاطع أو المنتهي إلى القطع القاضي بحجيتها فهي تفيد اليقين قطعا من غير
حاجة إلى ملاحظة الدليل الاجمالي المفروض، بل ذلك الدليل الاجمالي إجمال
لذلك التفصيل، فتأمل (2).

(1) ما بين المعقوفتين من المطبوع (1).
(2) إشارة إلى ما قد يورد في المقام من جريان ذلك بالنسبة إلى المقلد أيضا، فإن كل واحد من
فتاوى مجتهده دليل تفصيلي له نظرا إلى قيام الدليل القاطع على كون ذلك حجة عليه.
ويدفعه: ما عرفت في بيان معنى التفصيلية.
فإن قلت: إن الأدلة التفصيلية بالنظر إلى الواقع لا تفيد بما فيها سوى الظن، وبالنظر إلى
الظاهر أنها تفيد العلم من جهة إجمالية جارية في جميع المسائل، أي من حيث كونه حكم
الله في شأنه وشأن مقلده، فكيف تعد تفصيلية على الوجه المذكور من حيث إفادتها للعلم
بالأحكام؟
قلت: يكفي الملاحظة المذكورة في كونها تفصيلية إن كانت إفادتها العلم من جهة إجمالية، إذ
ليس في العبارة ما يفيد كونها تفصيلية من كل جهة. (منه أعلى الله مقامه).
88

فإن قلت: لا زال الفقهاء يخطئ بعضهم بعضا ويخالف بعضهم آخر ويقيم كل
منهم الأدلة على إثبات مطلوبه وتخطئة صاحبه، ومن البين أن ما اختلفوا فيه هو
المطالب الفقهية والمسائل المبحوث عنها في تلك الصناعة، والفقه اسم لتلك
المطالب النظرية المتداولة بينهم، وظاهر أيضا أنه ليس الاختلاف الواقع بينهم
بالنسبة إلى الحكم الظاهري ضرورة اتفاق الكل على تعدده بحسب تعدد آراء
المجتهدين واختلافه بحسب اختلاف ظنونهم، للإجماع على وجوب أخذ كل
منهم بظنه وعدم جواز أخذه بقول الآخر وإن اعتقد كل منهم تخطئة صاحبه، فليس
اختلافهم إلا بالنسبة إلى الحكم الواقعي الثابت في نفسه مع قطع النظر عن ثبوته
في حقه بخصوصه وحق مقلده، فلا يكون الأحكام الفقهية إلا بالنظر إلى الواقع،
فكيف يحمل " الأحكام " على الظاهرية؟
قلت: كون المبحوث عنه هو الأحكام الواقعية لا ينافي أن يكون الفقه هو
الأحكام الظاهرية، فالأحكام الفقهية الحاصلة للمجتهد من حيث وجوب الأخذ
بها والحكم بمقتضاها تكون فقها، وهي بهذه الحيثية تكون معلومة للفقيه مقطوعا
بها عنده، ومن حيث مطابقتها للواقع أو لمقتضى الأدلة الشرعية تكون ظنية في
الغالب موردا للاختلاف، وبهذه الحيثية تكون متعلقة للاجتهاد. فوقوع الخلاف في
المسائل الفقهية وكون المنظور حين الاستدلال هو الوصول إلى الواقع أو إصابة
ما هو مقتضى الأدلة الموجودة لا يقضي بكون الملحوظ في صدق الفقه هو الأحكام
الواقعية، بل لما كان ثبوت الحكم في الظاهر منوطا بظن موافقته للواقع أو لمقتضى
الأدلة الشرعية أو القطع بها مع إمكانه كان الملحوظ هناك حال الواقع أو مؤدى
الدليل، فوقع (1) الاختلاف فيها من تلك الجهة وإن كانت من حيث وجوب الأخذ
بها وثبوتها على المكلف بحسب الشرع فقها وكانت معلومة للفقيه، فالجهة الأولى

(1) في المطبوع (1): فوقوع.
89

حيثية الاجتهاد، والثانية حيثية الفقاهة، والجهة الأولى مقدمة على الثانية.
ويؤيد ما ذكرناه: أن الفقه في ظاهر كلماتهم اسم للعلم بالأحكام الشرعية عن
الأدلة، أو للأحكام المستنبطة عن الأدلة من حيث كونها كذلك وإن قلنا بكون
سائر أسامي العلوم موضوعة لنفس المسائل، ولذا أخرجوا علوم الملائكة
والأنبياء والأئمة عن الفقه نظرا إلى ما مر مع وضوح علمهم بأحكام الشريعة (1)
على أتم وجه، فيكون جهة تعلق العلم بها على الوجه المذكور معتبرة في صدق
الفقه، وهي حيثية الفقاهة حسب ما قررنا.
وأيضا ما حصل عند المجتهدين من الأدلة التفصيلية فقه عندهم مع اختلافهم
في إصابة الواقع وعدمه والقطع بعدم إصابة بعضهم، سواء جعلنا الفقه اسما لنفس
العلوم المفروضة أو للمعلومات من حيث تعلق العلم المفروض بها، فيكون ذلك
شاهدا على اختلاف حيثية الفقاهة للحيثية التي يقع الخلاف من جهتها في
المسائل الفقهية.
وقد أجاب بعض الأفاضل عن الإشكال المتقدم بوجهين آخرين حيث قال:
إن ظنية المدرك لا يستلزم ظنية الإدراك، والمدرك المظنون إنما هو حكم الله
الظاهري، ولا ريب أن إدراكه علمي، فحاصل التعريف: أن الفقه هو العلم
بالمظنونات عن أدلتها. وإن أبيت عن ذلك مع وضوحه فهذا التوهم إنما يرد إذا
جعلنا كلمة المجاوزة في التعريف متعلقا بالعلم، وأما إن جعلناها متعلقة بالأحكام
وقلنا بكونه ظرفا مستقرا صفة للأحكام ويجعل الاحتراز عن علم الله والملائكة
بقيد الحيثية المعتبرة في الحدود فلا محذور، فكلامنا المتقدم في تعلقها بالعلم إنما
كان جريا على مذاق القوم، انتهى.
ولا يذهب عليك ضعف الجوابين المذكورين.
أما الأول، ففيه: أولا: أنه لا ربط له بالإيراد المذكور ولا دخل له في دفعه،
إذ المذكور فيه كون العلم بها غير حاصل عن الأدلة التفصيلية وإنما يحصل عن

(1) في مصححة المطبوع (1): بالأحكام الشرعية.
90

الدليل الاجمالي كالمقلد، فهذا الجواب غير مرتبط به. نعم، لو أورد عليه بالتنافي
بين تعلق العلم والظن به صح الجواب عنه بما ذكر.
وثانيا: أنه إن أراد بقوله: " إن ظنية المدرك لا يستلزم ظنية الإدراك " أنه لا
يستلزم ظنية الإدراك المتعلق به فهو بين الفساد، لوضوح الملازمة بين الأمرين،
وإن أراد أنه لا يستلزم ظنية إدراكه بإدراك آخر فهو كذلك، إلا أنه ليس هناك
إدراكان متعلقان بالأحكام الظاهرية حتى يكون أحدهما مظنونا والآخر مقطوعا.
وكأن ما ذكره مبني على أن يراد بالحكم الظاهري هو الواقعي المظنون،
فتكون المظنونية مأخوذة في الأحكام، فالمعنى: أن الفقه هو العلم بالأحكام
الواقعية المظنونة عن أدلتها التفصيلية، وهو فاسد، لإفادته العلم بأصل النسبة
مع فرض مظنونيتها، وهو مع اشتماله على التدافع خلاف المدعى، فلا بد من
التأويل بإرادة العلم بمظنونيتها.
وفيه - مع ما فيه من التعسف - أنه غير حاصل عن الأدلة التفصيلية، بل هو
حاصل من الضرورة الوجدانية، وقد نص في كلامه على جعل كلمة المجاوزة من
متعلقات العلم.
ولو أول ذلك بكون العلم به حاصلا عن الأدلة ولو بالواسطة من جهة بعثها
على حصول الظن القاضي بالعلم به على سبيل الضرورة، فضعفه أظهر من أن يخفى.
وأيضا من الواضح: أن العلم بمظنونية الحكم ليس فقها في الاصطلاح، إذ الفقه
عبارة عن العلم بأحكامه تعالى وليست من الوجدانيات التابعة لحصول المظنة كما
يتلخص من كلامه، وهو ظاهر. والظاهر أن ما ذكره نشأ عن غفلة في تفسير الحكم
الظاهري، والتحقيق فيه ما قدمناه.
وإن أراد من العلم بالنسبة المظنونة العلم بوجوب العمل بها والبناء عليها، ففيه
مع مخالفته لظاهر كلامه - حيث إنه جعله جوابا مستقلا عن الايراد المشهور، ولم
يرتض به في ذلك المقام - أنه ليس الفقه عبارة عنه، إذ العلم بوجوب العمل بمؤدى
الاجتهاد من المسائل الأصولية أو يتلخص منها، وليس مندرجا في مسائل الفقه،
91

فضلا عن كونه عين الفقه كما هو مقتضى التحديد.
وأما الثاني، ففيه: أنه ينتقض الحد بعلم المقلد، فإنه إذا عرف فتاوى المجتهد
فقد علم بالأحكام الحاصلة عن أدلتها، إذ كما يصدق ذلك على علم المجتهد
بالأحكام الحاصلة (1) عنده، كذا يصدق على علم مقلده بتلك الأحكام الحاصلة
عنده من غير فرق، بل يصدق ذلك على علم الله سبحانه وعلم الملائكة
والمعصومين بالأحكام الحاصلة عند المجتهد، لصدق الحد المذكور عليه من غير
ريب. وتوهم خروجها باعتبار الحيثية المذكورة بين الفساد، كما مرت الإشارة إليه.
ولو سلم اخراجه لعلوم المذكورين فإنما يخرج به علمهم بنفس الأحكام،
وأما علمهم بالأحكام الحاصلة عند المجتهد فلا، إذ اعتبار الحيثية المذكورة
جارية فيها قطعا. نعم، لو جعلت الحيثية المذكورة مرتبطة بالعلم صح ما ذكر، لكنه
فاسد، لعدم ارتباطها بالعلم أصلا، إذ الحيثيات المعتبرة في نظائر المقام هي
المقررة لعنوان ما تقيده والمبينة لاعتبار الوصف العنواني فيما اخذت فيه، ولذا
يدعى فهمها من الإطلاق، وهذا إنما يعطي تقييد الأحكام دون العلم.
ثم إنه صرح أولا بحمل " الأحكام " على النسب، فلا وجه إذا لجعل الظرف
مستقرا صفة له، إذ ليست النسب حاصلة عن الأدلة. نعم، يمكن أن يجعل الظرف
متعلقا بالمظنونة الملحوظة في الأحكام بالتفسير الذي ذكره، أو بالمستنبطة
ونحوها من الأفعال الخاصة، وحينئذ لا يكون الظرف مستقرا بمعناه المعروف، مع
ما فيه من البعد.
هذا، وقد ظهر بما اخترناه في الجواب عن أصل الإيراد صحة عد كل من
أحكام المجتهدين وأقوالهم المتعددة في مسألة واحدة من الفقه مع القطع بالخطأ
فيما يزيد على واحد منها وقيام احتمال الخطأ في كل من آحادها، نظرا إلى كون
كل من تلك الأحكام حكما ظاهريا وقع التكليف به في الظاهر، فالخطأ الواقع فقه
أيضا، والعالم به فقيه إذا علم بقدر يعتد به من الأحكام حسب ما مر وإن فرض

(1) في المطبوع (1) زيادة: عن أدلتها.
92

كون الجميع أو معظمها خطأ بملاحظة الواقع. هذا بالنسبة إلى فقهاء أهل الحق
مع عدم التقصير في الاجتهاد.
وأما فقهاء أهل الخلاف فليسوا فقهاء عندنا على سبيل الحقيقة (1) وهو ظاهر
مع تقصيرهم في تحصيل الحق. وأما لو فرض بذل وسعهم في ذلك فغاية الأمر
القول بكونهم معذورين، لا أنهم مكلفون شرعا بما أدى إليه اجتهادهم ليكون ذلك
حكما شرعيا في شأنهم على نحو المخطئ من فقهاء أهل الحق، كما هو ظاهر من
أصول المذهب، ويأتي تفصيل القول فيه في محله إن شاء الله.
ولما كان هذا الكتاب (2) موضوعا في الفقه وكان تعرضه لبيان الأصول من
باب المقدمة اقتصر المصنف (رحمه الله) في المقام على بيان حد الفقه، وحيث كان
الملحوظ بالبحث عندنا هو الكلام في أصول الفقه فبالحري أن نشير إلى حده.
فنقول: قد جرت طريقة القوم على بيان معناه الإضافي والعلمي، ومن البين
أن المقصود في المقام هو الثاني، وأما بيان الأول فإما لإبداء المناسبة بينه وبين
معناه العلمي، أو لدعوى انطباقه على المعنى العلمي بانحصار مفهومه الإضافي في
الخارج بحسب المصداق في ذلك، وهو الذي حاوله جماعة منهم، ولذا جعلوا له
حدين: أحدهما بحسب معناه الإضافي، والآخر بحسب معناه العلمي، مشيرين
بذلك إلى أن بيان معناه الإضافي تحديد بحسب الحقيقة لهذا الفن نظرا إلى
الدعوى المذكورة، كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.
ثم إنه قد يدعى كون لفظ " الأصول " حين إضافته إلى الفقه علما لهذا العلم،
على أن يكون التقييد داخلا والقيد خارجا، وهو الظاهر من صاحب الوافية. وقد
يشير إليه ظاهر الإطلاقات، إذ لا يبعد كون معنى الفقه مقصودا في استعمالات
أصول الفقه.

(1) وإطلاق الفقهاء عليهم عندنا إنما هو من جهة التسمية لهم نظير إطلاق الصلاة وسائر أسامي
العبادات على أعمالهم، ولا تجوز إذا في الاستعمال كما سنشير إليه. (منه (رحمه الله)).
(2) أي كتاب معالم الدين.
93

وربما يقال بكون معناه التركيبي مأخوذا في معناه الاصطلاحي، بأن يكون قد
خصص معناه التركيبي ببعض مصاديقه، فقد زيدت تلك الخصوصية في معناه
الإضافي بالوضع الطارئ عليه من جهة التخصيص أو التخصص، كما قد يقال ذلك
في لفظ " ابن عباس " وغيره، فإن تعيين ابن عباس في عبد الله لا ينافي أن يكون
كل من لفظة " ابن " و " عباس " مستعملا في معناه الحقيقي، إذا كان التخصيص
المذكور حاصلا من جهة غلبة إطلاق ذلك المركب على خصوص ذلك الفرد،
فيكون قد تعين ذلك اللفظ بملاحظة معناه التركيبي لخصوص ذلك الفرد، ويجري
ذلك في لفظ " الرحمن " بعد اختصاصه به تعالى من جهة الوضع الطارئ، فإن معناه
الوصفي ملحوظ فيه أيضا، وليس اسما لنفس الذات، فالقول بمثل ذلك في لفظ
" أصول الفقه " غير بعيد أيضا، وحينئذ فلا بد من ملاحظة معناه التركيبي في معناه
العلمي أيضا.
وكيف كان، فلنجري الكلام في المقام على حسب ما ذكروه.
فنقول: أما حده بحسب معناه الإضافي فيتوقف على بيان أجزائه، وقد مر
الكلام في بيان الفقه، والمراد به هنا هو المعنى الاصطلاحي.
والأصول: جمع أصل، وهو في اللغة بمعنى ما يبتنى عليه الشئ، سواء كان
ابتناؤه عليه حسيا كما في أصل الحائط وأسفل الشجرة، أو معنويا كابتناء العلم
بالمدلول على العلم بالدليل.
ويطلق في الاصطلاح - حسب ما نصوا عليه - على معان عديدة، منها:
الأربعة المشهورة، أعني: القاعدة والدليل والراجح والاستصحاب، وفي كونه
حقيقة بحسب الاصطلاح في كل من الأربعة المذكورة نظر.
وكيف كان، فلا يلائم إرادة شئ منها في المقام سوى الدليل، وهو أيضا
لا ينطبق على شئ من مسائل الفن، إذ أدلة الفقه موضوع لهذا الفن، ومن البين
خروج موضوع كل فن عن ذلك الفن.
وقد يقال: إن المقصود من ذلك هو أدلة الفقه من حيث إنها أدلة عليه، لظهور
94

ملاحظة الحيثية في نظائر تلك العبارة، فيرجع المراد إلى دلالة تلك الأدلة على
الفقه، وإثبات تلك الدلالات إنما يكون في الأصول، فمسائله هو ثبوت الدلالة
لكل من تلك الأدلة كدلالة الأمر على الوجوب والإجزاء، والنهي على التحريم
والفساد، ودلالة الأمر بالشئ على النهي عن ضده، ونحو ذلك.
يبقى الكلام في مباحث الاجتهاد والتقليد، فإن البحث فيها ليس عن الأدلة،
فيحتمل أن يكون ذكرها في الأصول على سبيل الاستطراد. ويمكن إدراج
مباحث الاجتهاد فيه نظرا إلى أن البحث هناك عن حال المستدل، وهو أيضا
يرجع إلى أن دلالة تلك الأدلة على ثبوت الأحكام الشرعية إنما هي بالنسبة إلى
من جمع تلك الشرائط المخصوصة، فهو أيضا بحسب الحقيقة بحث عن حال
الأدلة.
وأنت خبير بأن أدلة الفقه من حيث إنها أدلة عليه هي الموضوع لعلم الأصول،
فهي بتلك الحيثية أيضا خارجة عن الفن، وملاحظتها من حيث دلالتها على الفقه
لا يجعل الأدلة عين الدلالة، مضافا إلى الفرق البين بين أخذ الدلالة بالمعنى
التصوري وملاحظتها متعلقا للحكم والتصديق، والمأخوذ في المسائل إنما هو
الثاني، ومدلول المركب المفروض لا يزيد عن الأول، فكيف ينطبق ذلك على
مسائل الأصول؟ على أن أدلة الفقه يشمل الأدلة التفصيلية المذكورة في علم
الاستدلال، بل أظهر فيها، فكيف يدعى انطباق المعنى الإضافي على فن الأصول
كما ادعوه حسب ما سيجئ الإشارة إليه.
فظهر بما قررنا: أن أخذ " الأصول " في المقام بمعنى الأدلة - كما رجحه
جماعة من الأعلام - ليس على ما ينبغي، سيما إذا أريد تطبيقه على المعنى العلمي،
فالأولى حمل " الأصول " هنا على معناه اللغوي.
ثم إنهم قالوا: إن هناك جزء ثالثا هو جزؤه الصوري أعني الإضافة، وقالوا:
إن إضافة اسم المعنى - يعني ما دل على معنى حاصل في الذات، سواء دل معه
على الذات كما في المشتقات أو لا - يفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه
95

في المعنى الذي عين له لفظ المضاف أعني وصفه العنواني، وإنما خصصوا ذلك
باسم المعنى - وإن كان إضافة اسم العين مفيدة للاختصاص عندهم - نظرا إلى عدم
تعين ما به الاختصاص في تلك الأسماء، فيختلف ذلك بحسب اختلاف الألفاظ
كما في " دار زيد " و " حمار عمرو " ونحوهما، بخلاف اسم المعنى، فإن وجه
الاختصاص متعين هناك، فان قولك: " مكتوب زيد " و " مملوك عمرو " إنما يفيد
الاختصاص في وصفه العنواني أعني: المكتوبية والمملوكية. واستندوا في
الدعوى المذكورة إلى تبادر ذلك بحسب العرف كما هو ظاهر من ملاحظة
المثالين المذكورين ونحوهما، فقالوا حينئذ: إن إضافة " الأصول " إلى " الفقه " تفيد
اختصاص الأصول بالفقه في كونها أصولا له، فيخرج عنه سائر العلوم مما يبتني
عليه الفقه، إذ ليست تلك العلوم مما يخص الفقه في توقفه عليها، لتوقف غيره من
العلوم أيضا عليها.
وأما علم الأصول وإن كان كثير من مسائله جاريا في غير الفقه أيضا إلا أنه
لما كان تدوينه ووضعه لخصوص الفقه كان له اختصاص به بحسب التدوين،
فيصح لذلك أن يقال باختصاصه بالفقه، فينطبق على معناه العلمي، فيصير المفهوم
المذكور معرفا رسميا له، لاشتماله على خاصته، وبذلك يصح عد معناه الإضافي
حدا لهذا الفن.
ويمكن المناقشة في ذلك - مع ما فيه من التكلف - بأنه مبني على ما ادعوه
من إفادة الإضافة الاختصاص، وهو على إطلاقه محل منع.
وتوضيح الكلام فيه: أن مفاد الإضافة هو انتساب المضاف بالمضاف إليه
نسبة ناقصة، والمستفاد من إضافة اسم المعنى هو انتسابه إليه في خصوص وصفه
العنواني، كما هو الظاهر من التأمل في استعمالاته العرفية، وحينئذ فإن كان انتسابه
إلى المضاف إليه مانعا من انتسابه إلى غيره بأن لم يكن ذلك العنوان قابلا
للانتساب إلى شيئين كما في " مملوك زيد " و " مكتوب عمرو " إذ لا يمكن أن
يكون جميع ذلك الشئ مملوكا أو مكتوبا لشخصين أفاد الاختصاص، وكان
96

استفادة الاختصاص منه حينئذ مبنيا على ذلك من غير أن يكون مستندا إلى
الوضع ابتداء، وإن لم يكن كذلك بل كان قابلا للانتساب إلى شيئين أو أشياء كما
في قولك: " محبوب زيد " و " مطلوب عمرو " و " مقصود بكر " ونحوها لم يفد
الاختصاص أصلا، كيف! ولو كان ذلك مفيدا للاختصاص لكان قولك: " الله ربي
وخالقي ورازقي ومصوري " ونحوها... دالا على عدم كونه تعالى ربا وخالقا
ورازقا ومصورا لغيره، وهو ظاهر البطلان.
وحينئذ فنقول في المقام: إن كون الشئ أصولا للفقه لا ينافي كونه أصولا
لغيره أيضا حتى يكون انتسابه إلى الفقه في ذلك مانعا من انتسابه إلى غيره،
فلا يتجه دلالتها على الاختصاص ليتم ما ذكر من التقريب.
فظهر بما قررنا أن دعوى انطباق معناه الإضافي على معناه العلمي غير
واضح، مضافا إلى أنه قد يناقش في اختصاص ما دون من العلوم لخصوص الفقه
بالأصول، كما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله.
وأما حده بالنظر إلى معناه العلمي: فهو على ما اختاره جماعة من المتأخرين:
هو " العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية " فخرج بالقواعد
العلم المتعلق بالجزئيات كعلم الرجال. وبالممهدة لاستنباط الأحكام العلوم الغير
الآلية. وبالتقييد بالشرعية علم المنطق، إذ ليس تمهيده لاستنباط الأحكام
الشرعية، بل لمطلق تصحيح النظر في اكتساب المطالب النظرية، وكذا ما مهد من
القواعد لاستنباط الأحكام العقلية. وبالفرعية ما يتقرر من القواعد في بعض
المقامات لاستنباط الأحكام الأصولية.
وقد يستشكل في الحد بلزوم اندراج القواعد المقررة في الفقه مما يستنبط
منها الأحكام الفرعية المترتبة عليه في الأصول.
وقد يجاب بالتزام إدراج جملة منها في مباحث الأصول كأصالة الصحة في
العقود وأصالة صحة تصرفات المسلم ونحوهما مما تقرر لأجل استنباط
الأحكام، وادراج جملة منها في الفقه مما يكون المقصود منها بيان نفس الحكم
الشرعي وإن استنبط منه حكم شرعي آخر، إذ لا منافاة.
97

وفيه: أن اندراج بعض تلك القواعد في الفقه لا يقضي بخروجها عن الحد،
إذ لم يؤخذ فيه عدم اندراج تلك القواعد في الأحكام الفرعية، إلا أن يقال: إن
الظاهر من اعتبار كونها ممهدة لاستنباط الأحكام الفرعية أن لا تكون هي من
جملة الأحكام الفرعية، لكن في اندراج جميع ما تقرر من القواعد الفقهية
لاستنباط الأحكام الفرعية في الأصول تأمل.
وقد يجعل التقييد بالفرعية مخرجا لعلم الدراية، فإنها موضوعة لاستنباط
الأحكام الشرعية أصلية كانت أو فرعية، إذ المقصود منها معرفة الحديث، وهو
يعم النوعين.
وفيه: أن الملحوظ هناك معرفة الحديث لا خصوص استنباط الأحكام
الشرعية، ومن البين أن الحديث يعم الوارد في الأحكام الشرعية وغيرها من
القصص ونحوها وإن كان معظم ما يراد منها الأحكام الشرعية بل خصوص
الفرعية.
هذا، وذكر بعض الأفاضل أن التقييد بالممهدة يخرج علم المنطق والعربية
وغيرهما مما يستنبط منها الأحكام، ولكن لم يمهد لذلك، وبالأحكام ما يستنبط
منها الماهيات الشرعية كالصلاة والصيام ونحوهما وغيرها مثل صفاتها كصلاة
الظهر والنكاح الدائم والطلاق الرجعي ونحوها، فإن معرفتها ليست من مسائل
الفقه حتى تكون قواعد الأصول ممهدة لاستنباطها، بل هي من مبادئه وإن ذكرت
في طي مسائله، فمثل مباحث الحقيقة الشرعية، وجواز إجراء الأصل في إثبات
ماهية العبادات - ونحو ذلك مما يبحث عنه في علم الأصول - وإن كان يستنبط
منها الماهيات، لكنها لم تمهد لمعرفة الماهيات من حيث إنها هي، بل لما يترتب
عليها من الأحكام.
ولا يذهب عليك ما فيه:
أما اخراج المنطق والعربية بقيد " الممهدة " فظاهر الوهن، لوضوح كون جميع
العلوم المدونة من الأمور الممهدة، فكيف يعقل خروج شئ منها بذلك؟ نعم، بعد
تقييدها بقوله: " لاستنباط الأحكام الشرعية " يخرج ذلك حسب ما أشرنا إليه،
98

لا بمجرد التقييد بالممهدة حسب ما ذكره.
وأما اخراجه ب‍ " الأحكام " ما يستنبط منه الماهيات ونحوها، فغير متجه
أيضا، إذ ليس عندنا قواعد ممهدة لاستنباط نفس الماهيات، ومجرد استنباطها
منها لا يقضي بكونها ممهدة لأجلها. ومن الغريب! تسليمه (رحمه الله) لذلك حيث قال: إن
معرفتها ليست من مسائل الفقه حتى تكون قواعد الأصول ممهدة لاستنباطها، فإنه
إذا لم يكن تمهيد الأصول لبيانها كانت خارجة بقيد " الممهدة " على حسب ما
ذكره في اخراجه المنطق والعربية.
على أنه يمكن أن يقال: إن الخارج من الفقه تصور تلك الماهيات لا التصديق
بما قرر الشارع من حقائقها، وخروجها عن الفقه من الحيثية الأولى لا يقضي
بخروجها عنه بالاعتبار الثاني، ولا يبعد حينئذ إدراجها في الأحكام الشرعية
الفرعية الوضعية كما سيجئ الإشارة إليه إن شاء الله، ومن البين أن ذلك هو
المستفاد أولا من تلك القواعد دون الجهة الأولى وإن تفرعت عليها، ومع الغض
عن ذلك فلا ريب في كون المستفاد من تلك القواعد أن الصلاة كذا والصيام كذا
ونحوهما، ولا ريب في اندراجها في الحكم وإن لم نقل بكونها حكما شرعيا، فتأمل.
هذا، وقد يشكل الحال في الحد المذكور بخروج مباحث الاجتهاد والتقليد
عنه مع اندراجها في مسائل الأصول.
وقد يقال باندراج كثير من المسائل المتعلقة بالاجتهاد في البحث عن حال
الأدلة، فإن المرجع فيه إلى كون الدليل دليلا بالنسبة إلى المجتهد دون غيره.
وحينئذ ربما يلتزم الاستطراد في ذكر المباحث المتعلقة بالتقليد كبعض
مباحث الاجتهاد مما لا يتعلق بالبحث عن الأدلة، كاشتراط العدالة في المفتي
ونحوه. ولا يخلو عن بعد، لتصريح جماعة من الأعاظم باندراجها في الفن، ولذا
زادوا في الحد ما يدل صريحا على اندراجها في الأصول، كما هو الظاهر من
عدهم ذلك من مطالب الفن.
وما قد يتخيل في إدراج الجميع في الحد المذكور من كون البحث عن أحوال
المستفتي أيضا بحثا عن حال الدليل فمما لا يعقل وجهه.
99

معالم الدين:
فصل
واعلم: أن لبعض العلوم تقدما على بعض، إما لتقدم موضوعه،
أو لتقدم غايته، أو لاشتماله على مبادي العلوم المتأخرة، أو لغير ذلك
من الأمور التي ليس هذا موضع ذكرها.
ومرتبة هذا العلم متأخرة عن غيره، بالاعتبار الثالث، لافتقاره إلى
سائر العلوم واستغنائها عنه.
أما تأخره عن علم الكلام، فلأنه يبحث في هذا العلم عن كيفية
التكليف، وذلك مسبوق بالبحث في معرفة نفس التكليف والمكلف.
وأما تأخره عن علم أصول الفقه، فظاهر، لأن هذا العلم ليس
ضروريا، بل هو محتاج إلى الاستدلال، وعلم أصول الفقه متضمن
لبيان كيفية الاستدلال.
ومن هذا يظهر وجه تأخره عن علم المنطق أيضا، لكونه متكفلا
ببيان صحة الطرق وفسادها.
وأما تأخره عن علم اللغة والنحو والتصريف، فلأن من مبادي هذا
العلم الكتاب والسنة، واحتياج العلم بهما إلى العلوم الثلاثة ظاهر. فهذه
هي العلوم التي يجب تقدم معرفتها عليه في الجملة. ولبيان مقدار
الحاجة منها محل آخر.
101

قوله: * (واعلم أن لبعض العلوم تقدما على بعض... الخ) *
لا يخفى أن العلوم المدونة لها مراتب مختلفة في التقديم والتأخير بحسب
الشرافة وبحسب التعليم.
أما الأول فيختلف الحال بحسب اختلاف الموضوعات في الشرافة واختلاف
الغايات في ذلك وفي شدة الاهتمام، كما في علم الإلهي وعلم الفقه بالنسبة إلى ما
عداهما من العلوم.
وأما الثاني فقد يكون التقديم والتأخير فيه استحسانيا، وقد يكون من جهة
توقف العلم المتأخر عليه.
أما الأول فمن وجوه:
منها: أن يكون أحد العلمين سهل التناول بينة المقدمات دون الآخر، فيناسب
تقديمه في التعليم لسهولة تحصيله على المتعلم، فإذا قوي استعداده للعلوم وحصل
له ملكة في الإدراكات سهل عليه الاشتغال بالآخر.
ومنها: أن يكون أدلة العلم المتقدم أحكم من غيره وأبعد عن حصول الخطأ،
فيقدم في التعليم حتى يتعود المتعلم على عدم الإذعان بالمطالب إلا بعد وضوح
البرهان والوصول إلى كمال الإيقان، فلا يعتقد الحكم بأدنى شاهد أو استحسان
يشبه البرهان، لأداء ذلك غالبا إلى اعتقاد ما يخالف الواقع. وهاتان الجهتان
حاصلتان في تقديم العلوم الرياضية على سائر فنون الحكمة، كما كان متداولا في
تعاليم الفلاسفة.
ومنها: أن يكون موضوع أحد العلمين متقدما بحسب الرتبة على موضوع
العلم المتأخر، كعلم النحو الباحث عن أحوال الكلام من حيث صحة التركيب
وسقمه بالنسبة إلى علوم البلاغة الباحثة عن محسناته، فإن الحيثية الأولى متقدمة
في الرتبة على الأخيرة.
ومنها: أن يتقدم غايته على غاية العلم الآخر كذلك، كما في المثال المفروض،
فإن المقصود من النحو حفظ اللسان عن الغلط في البيان، ومن علوم البلاغة أداء
102

الكلام جامعا للمحسنات على مقتضى الحال، ومن البين تقدم الغاية الأولى على
الأخيرة.
وأما الثاني فإنما يكون مع اشتمال أحد العلمين على مبادئ الآخر، فيتوقف
التصديق بمسائله عليه، وذلك قد يكون من جهة اشتمال أحدهما على إثبات
الموضوع للآخر كما في تقدم العلم الإلهي على الطبيعي والرياضي، وقد يكون
لاشتماله على إثبات مواد المقدمات المأخوذة في أقيسة العلم الآخر كما في تقدم
الأصول على الفقه، وقد يكون من جهة تكفله لبيان كيفية النظر والاستدلال
وإثبات انتاج صور الأقيسة المأخوذة في العلوم كما في المنطق بالنسبة إلى ما
عداها من العلوم.
هذا، ولا يذهب عليك أن التقدم في التعليم من الجهات الأخيرة وإن كان
لازما، لتوقف التصديق لمسائل العلم الآخر عليه، إلا أنه قد يكون هناك جهة
أخرى تمنع من التقديم وحينئذ فإما أن يبين ما يتوقف عليه ذلك العلم من مطالب
العلم الآخر في مقدماته، أو يؤخذ فيه على سبيل التسليم أو حسن الظن بالأستاذ
إلى أن يتبين في العلم المتأخر، وقد يعبر عنه بالأصول الموضوعة.
ثم إنه لما كان بيان مرتبة العلم من المطالب التي تذكر في المقدمة أراد
المصنف (رحمه الله) بذلك الإشارة إلى بيانه، وأشار بعد ذلك إلى مبادئه من سائر العلوم.
قوله: * (ومرتبة هذا العلم متأخرة عن غيره بالاعتبار الثالث) *.
وعن بعض النسخ " بالاعتبارات الثلاثة " وهو لا يناسب التعليل، إذ هو إنما
يفيد تأخره بالوجه الأخير، ومع ذلك فالوجه في تأخره بالوجوه الثلاثة عن جميع
العلوم المذكورة غير ظاهر، بل الظاهر خلافه. وقد يوجه ذلك بجعل الاعتبارات
الثلاثة وجها في تأخره عن مجموع العلوم المذكورة وإن لم يجر الكل في كل منها.
وقد يتعسف في إجراء الجميع في الجميع ببعض التوجيهات البعيدة ولا داعي إليه.
قوله: * (فهذه هي العلوم التي يجب تقدم معرفتها... الخ) *
أشار بذلك إلى كون العلوم المذكورة مبادئ للفقه كما نص عليه جماعة منهم.
103

وربما زاد على ذلك بعض علوم اخر، وسيجئ تفصيل الكلام فيه في مباحث
الاجتهاد إن شاء الله.
هذا، ولا يذهب عليك أن القدر الذي يتوقف عليه الفقه من علم الكلام هو ما
يتحقق به الاسلام والإيمان، ومن البين أن ذلك لا يتوقف على علم الكلام وإن
كانت المطالب المذكورة من المطالب الكلامية، إلا أن العلم بها إن كان بالأدلة
الإجمالية الإقناعية - على ما هو المتداول بين العوام - لم يعد من علم الكلام،
ولذا لا يعدون العوام عارفين بشئ من الكلام. وكذا الكلام في المنطق وغيره،
إذ لو اخذت تلك المسائل على نحو الطرق المعروفة في تلك الصناعات صدق معه
أسامي تلك العلوم، وأما بدونه كالمسائل المعلومة منها بالفطرة على جهة الاجمال
فلا. وحينئذ فعد جملة من الفنون المذكورة مما يتوقف عليها الفقه ليس على
ما ينبغي، فتأمل.
104

معالم الدين:
فصل
ولا بد لكل علم أن يكون باحثا عن أمور لاحقة لغيرها. وتسمى
تلك الأمور مسائله، وذلك الغير موضوعه. ولا بد له من مقدمات
يتوقف الاستدلال عليها، ومن تصورات الموضوع وأجزائه وجزئياته.
ويسمى مجموع ذلك بالمبادي.
ولما كان البحث في علم الفقه عن الأحكام الخمسة، أعني:
الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والحرمة، وعن الصحة
والبطلان، من حيث كونها عوارض لأفعال المكلفين، فلا جرم كان
موضوعه هو أفعال المكلفين، من حيث الاقتضاء والتخيير. ومباديه ما
يتوقف عليه من المقدمات، كالكتاب والسنة والاجماع، ومن
التصورات، كمعرفة الموضوع وأجزائه وجزئياته، ومسائله هي
المطالب الجزئية المستدل عليها فيه.
105

قوله: * (لابد لكل علم أن يكون باحثا... الخ) *
لما جرت الطريقة على بيان أجزاء العلم في المقدمة أراد المصنف (رحمه الله) الإشارة
إلى ذلك. وأجزاء العلوم على ما ذكروها ثلاثة: المسائل والموضوع والمبادئ، كما
سيجئ تفصيل الكلام فيها.
فإن قلت: إن أسامي العلوم إنما وضعت لنفس المسائل أو العلم بها، فكيف
يجعل المسائل أحد أجزاء العلوم ويدرج الموضوع والمبادئ في أجزائها مع
خروجها عن نفس المسائل والعلم بها؟
قلت: المراد بالعلم في المقام هو الفن الموضوع المشتمل على إثبات المطالب
النظرية المطلوب تحصيلها في الفن، ومن البين أن الفنون الموضوعة لا يقتصر فيها
على ذكر المطالب مجردة عن الدلائل، إذ لا فائدة يعتد بها في ذلك، فاندرجت
المقدمات التي يستدل بها على تلك المطالب في تلك الفنون والصناعات، وكذا
غيرها مما يتوقف عليه التصديق بمسائلها مما يذكر في الفن، فصارت أجزاء من
الفن وإن كانت خارجة عن المسائل، فظهر أن المراد بالعلوم في المقام غير ما
وضعت تلك الأسامي بإزائها، فهو إطلاق آخر مغاير لما ذكر.
قوله: * (وتسمى تلك الأمور مسائله... الخ) *
حكى المحقق الدواني في حواشيه على المطالع عن القيل تفسير المسائل
بالمحمولات المثبتة بالدليل، ولذا احتمل بعض الأفاضل تفسيرها بالمحمولات
المنسوبة إلى الموضوعات، وهو يوافق ما ذكره المصنف (رحمه الله).
وأنت خبير بأن المحمولات المنسوبة إلى موضوعاتها أمور تصورية لا يتعلق
بها التصديق الذي يقصد من النظر في العلم، بل هي من شرائط حصول التصديق
كما أن تصور الموضوعات كذلك.
فالحق أن مسائل العلوم: هي المطالب التصديقية المثبتة فيها، وهي
المحمولات التصديقية التي يراد من وضع الفن حصول التصديق بها، فمسائل الفن
106

هي ما يتعلق به تلك التصديقات، ومن البين أن المعلوم بالعلم التصديقي هي
النسبة التامة الخبرية، فيكون مسائل الفنون عبارة عن تلك النسب التامة، وهي
المتعلقة للتصديق بعد إقامة الأدلة، فتفسيرها بالمحمولات اللاحقة مما لا وجه له.
وقد يؤول بما يرجع إلى إرادة النسب التامة، وهو قريب جدا مما حكاه
المحقق الدواني، فإن المثبت بالدليل هي النسب التامة، فلا بد إذن من ملاحظة
النسبة في المحمولات فالمراد نسب المحمولات المثبتة بالدليل فيرجع إلى ما
قلناه، وكأنه مقصود الفاضل المذكور من تفسيرها بالمحمولات المنسوبة إلى
موضوعاتها أي من حيث إنها منسوبة إليها، فيكون المراد نسبتها، ويشير إلى حمل
كلام المصنف (رحمه الله) عليه تفسيره مسائل الفقه بالمطالب الجزئية المستدل عليها فيه،
ففيه شهادة على تسامحه في التعبير في المقام.
وفسرها جماعة بالقضايا التي تطلب في العلم، فتكون عبارة عن مجموع
الموضوع والمحمول والنسب التامة المذكورة.
وفيه ما عرفت، إذ المقصود من إقامة الأدلة في الفن إنما هو التصديق بالنسب
التامة، فالمناسب بل المتعين أن يجعل المسائل عبارة عنها، ويضعفه أيضا أنهم
عدوا كلا من الموضوع والمسائل من أجزاء العلوم، فلو فسرت المسائل بالنسب
المذكورة صحت المغايرة بينهما، وإن فسرت بالقضايا اندرج الأول في الثاني،
فلا يصح عده جزء آخر، وما يعتذر عن ذلك حينئذ ركيك، كما لا يخفى.
قوله: * (وذلك الغير موضوعه) *
ظاهره يعطي تعريف الموضوع بما تلحقه وتحمل عليه أمور غيره، وهو كما
ترى لا يوافق تعريفه المشهور من أنه ما يبحث عن عوارضه الذاتية، وكأنه عرفه
بالأعم اتكالا على ما اشتهر بينهم من الحد المذكور، أو أنه أراد بذلك ما تلحقه
اللواحق المذكورة في العلوم، والمفروض أنها من العوارض الذاتية، فينطبق على
ما ذكروه.
107

وكيف كان، فلنفصل الكلام ببيان ما أوردوه في المقام، ثم نتبعه بما تحقق
عندنا في هذا المرام.
فنقول: قد ذكروا أن موضوع كل علم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية،
والمراد بالعوارض المحمولات الخارجة عن حقيقة ما حملت عليه، وقد فسروا
العوارض الذاتية بما يعرض الشئ لذاته أو لجزئه أو للخارج المساوي دون
غيرها من العوارض، وفصلوا ذلك بأن العوارض على خمسة أقسام:
الأول: ما يعرض الشئ لذاته، كإدراك الكليات العارض للناطق، وقد يمثل
له بالتعجب اللاحق للإنسان، وفيه تأمل (1).
الثاني: ما يعرض الشئ لجزئه، سواء كان مساويا له كإدراك الكليات العارض
للإنسان بتوسط الناطق، أو أعم منه كالتحرك بالإرادة اللاحق له بواسطة الحيوان.
الثالث: ما يعرض الشئ لأمر خارج مساو له كالسطح العارض للجسم
باعتبار التناهي وكالضحك اللاحق للإنسان بواسطة التعجب، ولا فرق بين
أن يكون ذلك الخارج المساوي لاحقا له لذاته أو لجزئه المساوي أو لخارج
مساو آخر.
الرابع: ما يعرض الشئ لأمر خارج أعم كالتحرك بالإرادة العارض للناطق
بتوسط الحيوان.
الخامس: ما يعرضه لأمر خارج أخص كإدراك الكليات العارض للحيوان
بتوسط الناطق.
وجعلوا الثلاثة الأول عوارض ذاتية، وعللوا ذلك بأن العروض فيها مستند
إلى الذات، أما في الأول فظاهر. وأما في الثاني فلاستناده إلى الجزء، وهو من
مقومات الذات. وأما في الثالث فلأن العارض المساوي مستند إلى الذات،

(1) لأن التعجب يلحق للإدراك، والإدراك يلحق للإنسان، وهما متساويان، فالإدراك واسطة
بينهما (منه (رحمه الله)).
108

والمستند إلى المستند إلى الذات مستند إليها. وأما الأخيران فلا استناد لهما إلى
الذات بشئ من الوجهين المذكورين، لوضوح عدم استنادهما إليها بلا واسطة
وكذا مع الواسطة، إذ المفروض استنادهما إلى الأعم من المعروض أو أخص منه،
ولا يمكن استناد شئ منهما إلى الذات نظرا إلى انتفاء المساواة.
وقد يورد على ذلك أمور:
أحدها: ما أشار إليه بعضهم من أن هناك قسما سادسا خارجا عن تلك
الأقسام، وهو ما يعرضه لأمر مباين له كالحرارة العارضة للماء بتوسط النار، ولذا
اختار صاحب القسطاس تسديس الأقسام، وعد الأخير أيضا من العوارض
الغريبة، بل جعله أولى بالغرابة من الأولين، فيكون كل من العوارض الذاتية
والغريبة عنده ثلاثة.
ورد ذلك بأن المراد بالوسط في المقام ما يقرن بقولنا، لأنه حين يقال إنه كذا
فلا بد وأن يكون الوسط محمولا عليه، فلا يتصور أن يكون مباينا، ولحوق الحرارة
للماء في المثال المفروض ليس بتوسط النار بالمعنى المذكور، بل بواسطة المماسة
أو المقاربة ونحوهما، وهي من عوارض الجسم ولا مباينة لها للماء، فهو راجع إلى
أحد القسمين الأخيرين.
وتوضيح ذلك: أن المراد بالعوارض - كما عرفت - هي المحمولات الخارجة،
وحينئذ فإن كانت تلك العوارض محمولة على موضوعاتها من دون ملاحظة
حمل شئ آخر عليها أصلا كانت تلك العوارض عارضة لذات الموضوع، وإن
كان عروضها بواسطة حمل شئ عليها، فذلك الشئ إما أن يكون داخلا في
الموضوع أو خارجا عنه حسب ما فصلنا من الأقسام، فلا يعقل أن يكون
العروض بواسطة أمر مباين للماهية، إذ من الواضح أن الأمر المباين غير مرتبط
في نفسه بالمباين الآخر، وإن لوحظ الانتساب الحاصل بينهما كانت الواسطة في
الحقيقة هو الارتباط المفروض، وهو مما يصح حمله على تلك الذات، فالواسطة
109

في المثال المفروض إنما هي المماسة أو المقاربة ونحوهما، وهي أمر خارج عن
الموضوع أعم منه، فيصح حملها عليه.
وقد يورد على ذلك:
أولا: بأن الواسطة لا تنحصر فيما ذكر، إذ قد يكون الوسط أمرا مباينا للشئ،
ويكون حمل العارض على ذلك الوسط مصححا لحمله على ذلك المعروض كما
في حمل الأبيض على الجسم، فإنه بتوسط السطح المباين للجسم، فيحمل أولا
على السطح، ويحمل بتوسط حمله عليه على الجسم، وإن جعل الارتباط الحاصل
بين السطح والجسم واسطة في ذلك فهو أيضا أمر مباين للجسم.
والقول بأن الواسطة إنما هو المسطح دون السطح مدفوع بأن المراد بالمسطح
إن كان ما صدق عليه ذلك فهو عين الجسم، وإن كان مفهومه فليس ذلك واسطة
في المقام، بل الواسطة هو عروضه للسطح الموجود في الخارج.
وثانيا: أن المراد بالوسط في المقام هو الواسطة في العروض، وذلك بأن يكون
المحمول ثابتا للوسط أولا وبالذات، ويكون بتوسطه ثابتا للذات، لا بأن يكون
هناك ثبوتان، بل ثبوت واحد ينسب إلى الواسطة بالذات وباعتبار الواسطة
المفروضة إلى الذات، وليس المراد به الواسطة في الثبوت التي هي أعم من ذلك
كما قد يتوهم حسبما يأتي الإشارة إليه، كيف وقد اتفقوا على أن السطح من
الأعراض الذاتية للجسم مع أنه إنما يعرضه باعتبار الانتهاء الذي هو أعم من
الجسم، لعروضه للسطح والخط فيعرض بسببه، وكذا الخط للسطح والنقطة للخط،
وحينئذ فلا وجه للتفصيل المذكور في المقام، ولا لعد العارض لأمر خارج أعم أو
أخص من الأعراض الغريبة مطلقا، إذ لو كان الخارج واسطة في الثبوت وكانت
الصفة عارضة للذات أولا وبالذات من دون اعتبار عروضها أولا لغيرها كانت من
الأعراض الذاتية.
ومن ذلك يظهر فساد جعل النار أو مماستها أو مقاربتها واسطة في المقام،
110

إذ ليس شئ من ذلك واسطة في عروض الحرارة بالمعنى المذكور، وإنما تكون
واسطة في ثبوتها، وهي عارضة للجسم العنصري عروضا أوليا، فيكون عروضها
للماء بتوسط الجزء الأعم لا لأمر خارج عن الذات.
فتحقق بما عرفت أن الأقسام ستة، إلا أنه ليس العارض للأمر الخارج
المباين من قبيل ما مثل به القائل المذكور، وليس أيضا مندرجا في العرض
الغريب حسبما ذكره، بل يندرج في الأعراض الذاتية إن كان ذلك الخارج المباين
مساويا للذات في الوجود وإن كان مباينا له في الصدق كما في المثال المفروض،
ولذا يبحث عن الألوان في العلم الذي موضوعه الجسم الطبيعي، نعم لو كانت
الواسطة المباينة مباينة له في الوجود أيضا - كما في الحركة الحاصلة لجالس
السفينة بواسطة السفينة - كان ذلك من الأعراض الغريبة، فإن الحركة هنا إنما هي
من أحوال السفينة المباينة للجالس فيها بحسب الوجود، فلو أريد عد العارض
لأجل المباين من الأعراض الغريبة أو الذاتية فليعتبر المباينة في الوجود
والمساواة فيه، فيجعل العارض بتوسط الأول من الأعراض الغريبة وبتوسط
الثاني من الأعراض الذاتية، سواء كان مساويا له في الصدق أو مباينا فيه.
قلت: أما ما ذكره من كون المراد بالواسطة في المقام هو الواسطة في العروض
دون الثبوت بالمعنى المقابل له فهو الذي يقتضيه التحقيق في المقام، إذ العارض
في الثاني إنما يعرض ذات الشئ، فيكون من العوارض الذاتية لمعروضه وإن كان
عروضه بتوسط الأعم أو الأخص أو غيرهما، وليس المراد بكونها ذاتية أن تكون
الذات كافية في ثبوتها وعروضها، كيف ولو كان كذلك لزم خروج معظم الأعراض
الذاتية، وحينئذ فلا يكون شئ من لوازم الوجود من الأعراض الذاتية، حيث إن
الوجود مما لا يمكن استناده إلى شئ من الماهيات، وهو بين الفساد.
وأما ما ذكره من صحة كون الواسطة في العروض مباينا للمعروض فغير
واضح، بل الظاهر فساده.
111

بيان ذلك: أنه إن جعل الواسطة في العروض فيما يفتقر إلى واسطة فيه
الأعراض القائمة بمحالها المباينة لمعروضاتها - كما هو الشأن في العروض - كان
الحمل في جميع ما يفتقر إلى الواسطة الخارجية بتوسط الأمر المباين، ولا يتحقق
هنا واسطة خارجية، لا تكون مباينة للمعروض بحسب الصدق، ضرورة تباين
كل عرض لمعروضه، فلا يتجه الحكم بكون بعض الوسائط مباينا في الصدق
دون البعض.
وإن جعل الواسطة فيه العرضيات والمشتقات المحمولة على المعروضات لم
يتحقق هناك مباينة بالنسبة إلى شئ منها، ضرورة صحة حملها على الذات من
غير فرق في ذلك بين خصوصيات الأعراض، فما ادعى من الفرق بين الفساد،
وليس السطح بالنسبة إلى الجسم إلا كالتناهي والسواد وغيرهما من الأعراض من
غير تعقل فرق في المقام، فكما لا يعد توسط التعجب في عروض الضحك للإنسان
من توسط المباين فكذا الحال في توسط السطح في عروض اللون.
فإن قلت: إن ما حكم فيه بكون الواسطة غير مباينة من المثال المذكور هو
توسط المتعجب في عروض الضاحك، وهو كذلك، ضرورة صدق المتعجب
على الانسان.
قلت: يجري الاعتبار المذكور بعينه في توسط السطح، بأن يجعل المسطح
واسطة في عروض الأبيض مثلا، فالفرق الحاصل في المقام إنما هو باعتبار المبدأ
أو المشتق، وهذا يجري في كل الأعراض، فلا يصح الفرق بينهما في ذلك، مضافا
إلى أن ما ذكر في الجواب من كون المسطح واسطة في المثال جار في المتعجب
أيضا، إذ المتعجب على ما قرره هو ذات الانسان إن أريد به المصداق، وإن أريد به
المفهوم فمن البين أن الضحك إنما يعرضه من جهة التعجب الحاصل منه في
الخارج دون ذلك المفهوم حسب ما قرره في عروض اللون بتوسط السطح غير أن
الفرق بينهما أن ذلك واسطة في العروض وهذه في الثبوت على وجه.
ثم إن ما ذكرناه يجري بعينه بالنسبة إلى العارض بتوسط الجزء سواء كان أعم
112

أو مساويا للكل، فإن عروض إدراك الكليات للإنسان إن جعل بتوسط مبدأ
الناطق فهو أمر مباين للإنسان، ضرورة عدم صحة حمله عليه، وإن اخذ المشتق
واسطة فيه فإن أريد به مصداقه فليس أمرا وراء الانسان، فلا يتحقق واسطة في
المقام، وإن أريد به نفس المفهوم ففيه: أن عروض الإدراك له في الخارج إنما هو
بتوسط صورته الخارجية المباينة في الوجود لمادته، وقضية ذلك مباينته للكل
أيضا لا بمجرد المفهوم الملحوظ على النحو المذكور، حسب ما ذكر في الوسائط
الخارجية.
فالتحقيق في المقام أن يقال: إن ما يحمل على الماهية من الذاتيات
والعرضيات لها اتحاد مع الماهية من جهة ومغايرة من أخرى، فالذاتيات في
المركبات الخارجية والعرضيات في الصفات الخارجية مغايرة للكل، والمعروض
من وجه متحدة معه في وجه آخر، وفي غيرها إنما يكون المغايرة في العقل، إذ
المفروض فيها انتفاء التركيب والعروض في الخارج، ويدل على ما ذكرناه في
المقامين حكمهم بقيام الصورة بالمادة وقيام العرض بموضوعه، ومن البين
استلزام ذلك تغاير الأمرين في الخارج ووضوح صحة حمل الأجزاء والعوارض
على الماهية ومدار الحمل على الاتحاد في الوجود، فاللازم من ذلك هو ما قلناه
من الاتحاد في وجه والتغاير في آخر، فالذاتيات من حيث المغايرة مادة
وصورة، ومن حيث الاتحاد جنس وفصل، والعرضيات من حيث التغاير عرض
وموضوع، ومن حيث الاتحاد عرضي وماهية مثلا.
فإن قلت: إن المحمول في تلك المقامات إنما هو المشتقات دون مبادئها،
والذات مأخوذة في المشتقات وهو المصحح للحمل، إذ المفروض اتحاد الانسان
والذات التي ثبت لها النطق أو البياض مثلا، وهي مغايرة للمبادئ المفروضة
مغايرة حقيقية لا اتحاد بينهما بوجه.
قلت: مع أنه من المقرر أن الملحوظ في جهة المحمول هو المفهوم دون
الذات، يرد عليه أن المحمول حينئذ إنما يكون تلك الذات المأخوذة في
113

المشتقات دون مبادئها، وتكون المبادئ حينئذ قيودا مأخوذة في الذات، فيتحد
المحمول في جميع المشتقات بالذات وإن اختلفت بحسب القيود واللواحق، وهو
واضح الفساد، وأنه لا يفترق الحال حينئذ بين حمل الذاتي والعرضي لما عرفت
من اتحاد الذات المأخوذة فيهما وأن الذاتية والشيئية ونحوهما من الأمور
الخارجة عن حقائق الأشياء فكيف تقع فصولا للماهيات وإن قيدت بغيرها؟.
ومن هنا اختار جماعة من المحققين عدم اعتبار الذات في المشتقات
المحمولة من الفصول والعرضيات، وجعلوا الفرق بين العرض والعرضي بالاعتبار
على نحو الفرق بين الصورة والفصل والمادة والجنس.
بيان ذلك: أن المفهوم قد يؤخذ بشرط لا، لا بأن لا ينضم إليه غيره، بل بأن
يتصور معناه بشرط أن يكون ذلك المعنى وحده بحيث يكون كل ما يقارنه زائدا
عليه ويكون جزء لذلك المجتمع من الأمرين ولو على سبيل الاعتبار، وقد يؤخذ
لا بشرط شئ بأن يتصور معناه مع تجويز كونه وحده، وكونه لا وحده بأن يقترن
مع شئ آخر، فيحمل إذن على المجموع وعلى نفسه، فالمأخوذ مبدأ في الفصول
والعرضيات هو الاعتبار الأول، وهو بهذا الاعتبار يكون صورة وعرضا بحسب
الخارج، ولذا لا يصح الحمل في شئ منهما، والمأخوذ اشتقاقا هو الوجه الأخير
في الأمرين، وهو المصحح للحمل في الجميع، فيكون بالاعتبار المذكور فصلا
وعرضيا.
والفرق بين الذاتي والعرضي: أن الأول مأخوذ عما هو داخل في الذات،
والثاني إنما اخذ عما هو خارج عنها، فتلك المفاهيم المحمولة متحدة مع الذات
اتحادا ذاتيا في الذاتيات، وعرضيا في العرضيات.
إذا تمهد ذلك تبين أن عروض شئ لشئ إما أن يكون بلا واسطة، أو بواسطة
محمولة، فإنه إن صح حمل العارض على موضوعه من دون لحوق شئ آخر
للموضوع وحمله عليه كان عارضا لذاته من دون حاجة إلى الواسطة، وإن افتقر
إلى لحوق شئ آخر له فلا بد أن يكون ذلك الشئ من عوارض المحل، إذ لولاه
114

لم يعقل كون العارض له عارضا لذلك المحل سواء كان جوهرا أو عرضا قائما
بغير المحل المذكور، ولو أطلق العروض في مثله فعلى سبيل المجاز دون الحقيقة،
وهو خلاف الفرض، إذ الكلام في العوارض الحقيقية وإن كانت غريبة بالنسبة إلى
معروضاتها، فإذا ثبت ذلك لزمه صحة حمل الواسطة على المحل حسب ما مر
بيانه من صحة حمل العوارض على معروضاتها بالاعتبار المتقدم.
فبما قررنا ظهر فساد ما ذكر من تسديس الأقسام على النحو المذكور،
وجواز كون الواسطة في العروض مباينة للمعروض، وكذا ما مثل له من عروض
اللون للجسم بتوسط السطح. وما مثل أيضا من عروض الحركة لجالس السفينة
فأبين فسادا منه، إذ لو أريد بالحركة في المقام مجرد الخروج من حيز إلى آخر
فلا ريب في كونها عارضة لذات الجالس، وإن أريد بها صدور الحركة منه
ومبدئيته لها فمع أنه ليس من حقيقة الحركة ليس مسندا إلى السفينة أيضا، وإنما
يسند إلى الماء أو الريح المحرك لها.
ولو صحح ذلك بدعوى جعل القاسر في السفينة مبدأ للحركة المفروضة تزول
الحركة بزواله ففيه: بعد تسليمه أن ذلك غير عارض للجالس في السفينة بوجه،
إذ ليس فيه مبدأ الحركة المفروضة لا أصالة ولا تبعا، وإنما هو من عوارض السفينة
خاصة، وهو ظاهر.
ثم إن ما ذكر من اعتبار المساواة في الوجود في الأعراض الذاتية إذا
كان عروضها لأمر غير الذات ليكون المراد بالمباين في الأعراض الغريبة أيضا
هو المباين في الوجود مما لا يكاد يصح كما لا يخفى (1). هذا كله بالنسبة

(1) إذ مع عدم جريانه في الأعم والأخص المقابلين لهما، يرد عليه: أن المراد بالمساواة في
الوجود مجرد عدم الانفكاك بين الأمرين في الخارج، ومن البين أن مجرد ذلك لا يقضي
بكون العارض بتوسطه ذاتيا للمعروض، إذ لا يلزم من ذلك أن يكون أحدهما مستندا إلى
الآخر حتى يكون المستند إلى المستند إليه مستندا إليه مع أنه قد يكون العارض مستندا إلى
الملزوم أولا، ولا يقضي ذلك بعروضه لذات اللازم ولو بالواسطة كما في عكسه، فكيف
يقضي ذلك بكون المعروض ذاتيا؟ على أن المباين في الوجود بالمعنى المقابل للمساوي فيه
لا يعقل أن يكون واسطة في العروض، إلا أن يحمل المباينة على مجرد عدم الملازمة في
الوجود، كما يدل عليه التمثيل بالسفينة والجالس فيها، إذ المفروض اجتماعهما في الوجود
جزئيا، فيندفع عنه المناقشة الأولى أيضا، إذ لا واسطة بينهما حينئذ. وهو كما ترى (منه (رحمه الله)).
115

إلى الواسطة في العروض.
وأما الواسطة في الثبوت فيمكن حصول المباينة فيها قطعا كما مرت الإشارة
إليه. وما قد يتوهم من أن المباين في نفسه لا يعقل أن يكون مصححا لعروض أمر
لمباينه وإنما الارتباط الحاصل بينهما هو المصحح له وهو مما يصح حمله عليه
مدفوع: بأنا ننقل الكلام إلى الارتباط المفروض، فإنه أيضا من العوارض، وحمله
عليه بتوسط الأمر المباين.
ثانيها: أن عد العارض للجزء الأعم من العوارض الذاتية غير متجه، فإن
الظاهر عدم كونه من العوارض الذاتية للأخص، إذ عروضه له بتبعية اتحاده مع
الأعم وصدقه عليه، فهو من العوارض الذاتية للأعم.
فإن قلت: إن العارض للجزء المساوي إنما يعرض الكل بتوسط اتحاده معه،
فلا يكون عرضا ذاتيا للكل أيضا، وإنما يكون ذاتيا بالنسبة إلى ذلك الأمر
المساوي خاصة حسب ما قرر في الجزء الأعم.
قلت: فرق بين بين الأمرين، فإن الجزء المساوي هو المقوم عندهم للنوع
وبه يتحصل الجنس، أعني الجزء الأعم، فذاتية النوع إنما يكون بالفصل
القريب ويكون الجنس متحصلا بتحصله، وحينئذ فالعوارض اللاحقة للفصل
لاحقة لذات النوع ولو بالواسطة، بخلاف لواحق الجنس فإنه لا خصوصية لتلك
الذات في لحوقها، وليس لحوقها لاستعداد حاصل في خصوصها، ومجرد كون
الجنس ذاتيا للنوع لا يقضي بكون عوارضه ذاتية له، لما عرفت من عدم ارتباطها
إلا بالأمر العام.
وتوضيح المقام: أن التحقيق في العوارض الذاتية أنها هي المستندة إلى ذات
116

المعروض استنادا أوليا أو بالواسطة، بأن تكون معروضها هي تلك الذات ابتداء
أو بواسطة مرتبطة بها ارتباطا ذاتيا، وهو الداخل المساوي، لما عرفت من كونه
الأصل في قوام النوع وأنه إنما يكون نوعا مخصوصا من جهته، فاللواحق الطارئة
عليه طارئة على ذات النوع المخصوص مما يكون لذلك النوع الخاص مدخلية
في عروضها، وكذا الحال في الخارج المساوي، نظرا إلى عروضها ابتداء لما هو
مساو للذات، فتكون من العوارض اللاحقة لتلك الذات من غير أن ينضم إليها ما
يتخصص ويتقيد به ذلك النوع، حيث إن ذلك النوع موصوف بالعارض المفروض
وإن افتقر في ذلك إلى ضم الوصف بالموصوف، فإن الافتقار المذكور لا يقضي
بخروج ذلك عن عوارض النوع المفروض كما يعرف الحال فيه من التأمل في
وسائط الثبوت.
والحاصل: أن العارض بتوسط الخارج المساوي من عوارض الذات بما هو
تلك الذات، وهذا بخلاف ما لو كانت الواسطة في العروض عرض أعم أو أخص
ولو كانت ذاتية.
فإن قلت: على هذا يكون جميع العوارض الذاتية للأعراض المساوية من
العوارض الذاتية للشئ، مع أنه فاسد على إطلاقه، إذ مجرد كون العرض ذاتيا
بالنسبة إلى العرض الذاتي ولو كان مساويا لا يقضي بكونه ذاتيا بالنسبة إلى
معروضه، كما في عروض الشدة والسرعة للجسم بواسطة البياض والحركة
العارضين له، فإنهما من أعراضه الذاتية، والعارضين المذكورين من الأعراض
الذاتية بالنسبة إليهما، ومع ذلك فليسا من الأعراض الذاتية للجسم أصلا ولو
فرض كون الحركة أو البياض من الأعراض المساوية له أو لنوع منه.
قلت: الكلام في المقام إنما هو في العوارض اللاحقة للشئ مما يتصف به
ذلك الشئ على سبيل الحقيقة وإن كان تبعا للغير، إذ لا ينافي ذلك كون الاتصاف
به حقيقيا، غاية الأمر أن لا يكون في بعض صوره ذاتيا، والشدة والسرعة في
المثالين المفروضين مما لا يتصف الجسم بهما إلا على سبيل المجاز، من باب
117

توصيف الشئ بوصف متعلقه، فهما خارجان عن محل الكلام.
والحاصل: أن اللازم مما ذكرنا أن يكون العارض للشئ بتوسط عرضه
المساوي عرضا ذاتيا وهو كذلك، ولا يستلزم ذلك أن يكون جميع الأعراض
الذاتية لأعراضه المساوية أعراضا ذاتية له وإن لم يتحقق هناك اتصاف بين
الأمرين.
فإن قلت: كيف يعقل القول عدم اتصاف المعروض بالوصف الحاصل لعرضه
الحال فيه مع ما هو ظاهر من عدم إمكان قيام العرض إلا بالجوهر ومع حصول
القيام لا بد من الاتصاف غاية الأمر أن لا يكون الاتصاف ذاتيا؟
قلت: لا ملازمة بين الأمرين، فإن مجرد القيام بالواسطة لا يقضي بصحة
الاتصاف، إذ قد يكون قيامه بذلك العرض من جهة اعتباره بشرط لا، أي لا على
وجه يمكن حمله على المعروض حسب ما قررناه، وحينئذ فلا يلزم من اتصاف
العرض به اتصاف المعروض كما هو المفروض في المثالين المذكورين، فإن
الشدة والسرعة إنما يعرضان للبياض والحركة باعتبار ملاحظتهما بياضا وحركة
أعني اعتبارهما بشرط لا بالمعنى المتقدم، لا باعتبار الأبيض والمتحرك أعني
اعتبارهما لا بشرط، نعم لو كان الاتصاف حاصلا بالاعتبار الأخير لزمه اتصاف
الموصوف أيضا على سبيل الحقيقة وإن لم يكن الاتصاف ذاتيا في بعض الصور.
هذا، ومما قررنا يعرف الحال في العارض للجزء الأعم، فإنه ليس لذلك النوع
المخصوص مدخلية في عروضه، فلا يكون ذلك من العوارض المتعلقة بذات
النوع المفروض، وإنما هو من لواحق ذلك الأمر العام، ويكون اتصاف النوع به من
جهة اتحاده مع الواسطة المفروضة.
ومما يشهد لذلك أنهم نصوا على أن العارض لأمر خارج عام ليس من
الأعراض الذاتية كما مرت الإشارة إليه، مع أن الأمر العام قد يستند إلى الجنس
الذي هو جزء من الذات، فيكون المستند إليه مستندا إلى الذات حسب ما ذكروه
في عوارض الفصل.
118

وبالجملة: لو جعل المناط في كون العرض ذاتيا كونه متعلقا بنفس الذات
أو بعض ذاتياتها ولو بالواسطة لزم إدراج ذلك في الأعراض الذاتية، بل جرى
ذلك في جميع ما يعرض الأنواع، إذ عروض كل عارض إنما يكون لاستعداد
حاصل في نفس الذات أو ذاتياته بلا واسطة أو مع الواسطة، فلا يبقى هناك عرض
غريب لشئ من الأنواع وهو خلاف الواقع، وما نصوا عليه وإن جعل المناط فيه
كون العروض لاستعداد حاصل في ذات المعروض من حيث كونها ذاتا
مخصوصة سواء كان بلا واسطة أو معها، فكما يخرج عنه حينئذ ما يكون عروضه
لأمر خارج عام كذا يخرج ما يكون لأمر داخل عام من غير فرق أصلا، فظهر من
ذلك أن ما بنوا عليه من الفرق بين الأمرين غير متجه.
فتحصل مما ذكرنا: أن العرض الذاتي ما يكون عارضا للشئ لنفس ذاته من
غير واسطة في العروض أو لأمر مساو للذات، سواء كان داخلا في الذات
أو خارجا عنها كما نص عليه جماعة من محققي المتأخرين، فيكون حينئذ كل من
العوارض الذاتية والغريبة أقساما ثلاثة، والواسطة الملحوظة في المقام إنما هي
الواسطة في العروض دون الثبوت، فما ذكره بعض الأجلة وحكاه عن التفتازاني
في شرح الرسالة - من أن المقصود بها الواسطة في الثبوت - فاسد، كما عرفت
تفصيل الحال فيه مما قررنا.
ثالثها: أن تفسير الموضوع بالمعنى المذكور لا يكاد ينطبق على شئ من
موضوعات العلوم من وجهين:
الأول: أنه ما من علم إلا ويبحث فيه عن الأحوال اللاحقة للأنواع الواقعة
تحت موضوعه أو الأصناف المندرجة فيه، وقد نصوا على أن الموضوع في مسائل
الفنون إما أجزاء الموضوع، أو جزئياته، أو عوارضه الذاتية، والعوارض الخاصة
اللاحقة للجزئيات ليست أعراضا ذاتية بالنسبة إلى موضوع العلم، إذ ليس عروضها
لذات الموضوع ولا لأمر مساو له على ما اخترناه، ولا لذاتي أعم أيضا على
ما ذكروه، بل إنما يكون لأمر أخص، وإلا لما اختص بالنوع أو الصنف المفروض.
119

وقد أجاب عنه المحقق الدواني بوجهين:
أحدهما: أن ما ذكروه في حد الموضوع طي في العبارة، ومعناه ما يبحث (1)
فيه عن عوارضه الذاتية أو عن العوارض الذاتية لأنواعه أو لأعراضه الذاتية،
وكأنهم أجملوه في المقام ثقة بما فصلوه في موضوعات المسائل.
ثانيهما: الفرق بين محمول العلم ومحمول المسألة كما فرقوا بين موضوعيهما،
فمحمول العلم ما ينحل إليه تلك الأحوال التي هي محمولات المسائل، وهو
المفهوم المردد بين جميعها، وهو عرض ذاتي لموضوع العلم وإن كان كل واحد
عرضا غريبا بالنظر إليه.
ويضعف الوجهين مع ما فيهما من التعسف: أن الأول يقضي باختلاط العلوم
وعدم امتياز العلم الأدنى عن الأعلى كسائر العلوم بالنسبة إلى علم الإلهي، حيث
نصوا على أن الموضوعات في سائر العلوم من العوارض الذاتية لموضوع علم
الإلهي، فيكون البحث عن عوارضها الذاتية المذكورة في سائر العلوم المدونة
مندرجا في الإلهي حسب ما ذكره في التوجيه، وقد يجعل من ذلك علم الطب
بالنسبة إلى الطبيعي، إذ الموضوع فيه من أنواع الجسم الطبيعي من حيث الصحة
والمرض، وهما من العوارض الذاتية له، والثاني إنما يتم لو كان الملحوظ في تلك
المباحث ما ذكر من القدر المشترك وليس كذلك، إذ المبحوث عنه في الموارد
المذكورة إنما هو الأحوال الخاصة، وليس القدر المشترك إلا اعتبارا صرفا
لا يلحظ حين البحث أصلا.
وتنظير ذلك بإرجاع الموضوع في المسائل والأبواب إلى موضوع الفن غير
متجه، لوضوح الفرق، ضرورة أن البحث عن كل منها بحث عن موضوع الفن،
وهذا بخلاف إرجاع المحمولات إلى المفهوم المردد، فإن إثبات تلك المحمولات
ليس إثباتا للمفهوم المردد قطعا، نعم غاية الأمر استلزام ذلك صدقه، وليس ذلك

(1) كأن ما ذكره مبني على التمثيل، لعدم انحصار الوجوه فيما ذكره حسب ما أشرنا إليه في
الحاشية. (منه (رحمه الله)).
120

منظورا في شئ من العلوم كما ذكرنا، فظهر مما قررنا ضعف ما ذكره من وجهين.
الثاني: أن المتداول في المباحث العلمية هو البحث عن الأمور العارضة
لموضوعاتها بتوسط أمر أعم من تلك الموضوعات، ألا ترى أن الفقهاء يبحثون
عن وجوب الأفعال وحرمتها ونحوهما مع أن تلك الأحكام إنما تعرض للأفعال
باعتبار تعلق طلب الشرع لفعلها أو تركها ونحو ذلك، وهي أمور تعم خصوص كل
من تلك الموضوعات وغيرها.
وأجيب عنه: بأنه يعتبر عندهم في الأمر الأعم في الفرض المذكور أن
لا يكون أعم من موضوع العلم، والحال كذلك في المحمولات المفروضة ونحوها،
إذ ليست الاعتبارات المفروضة أعم من موضوع العلم.
ويدفعه: أن مجرد عدم أعميته من موضوع الفن غير نافع في المقام، إذ ليست
حينئذ أعراضا ذاتية لخصوص ما يتعلق بها من موضوعاتها، إذ المفروض
عروضها لأمر أعم منها، ولا بالنسبة إلى موضوع الفن، إذ لا يلزم أن تكون من
الأمور المساوية له بل قد يكون أخص منه كما في المثال المفروض.
فالتحقيق في الجواب عن الإيرادين المذكورين أن يقال: إن مجرد أخصية
العرض أو أعميته عن معروضه لا يقضي بكونه عرضا غريبا بالنسبة إليه، كيف وقد
عرفت أن العارض بتوسط الأمر الأعم أو الأخص أو المباين من الأعراض
الذاتية؟ إذا كانت الواسطة ثبوتية، ومن البين أن أخصية الواسطة قاضية بأخصية
العرض، والأعم والمباين مما يمكن معهما وجود ذلك العرض في غير ذلك
الموضوع أيضا، فقد يكون أعم من المعروض، ألا ترى أن عروض الفصل للجنس
وعروض العرض المصنف أو المشخص للطبيعة النوعية من الأعراض الذاتية
بالنسبة إلى معروضاتها، مع أن الكل عارضة لنفس الذات من دون واسطة في
العروض ولا مساواة لشئ منها للمعروض.
نعم، العارض بتوسط تلك العوارض في عروضه من الأعراض الغريبة وإن
كانت الواسطة ذاتية، بل مستندة إلى نفس الذات بذاتها، بأن تكون نفس الذات
121

كافية في عروضها، لما عرفت من أن عروض تلك الصفة لها ليس لخصوصية في
ذلك الموضوع، فليس عروض تلك العوارض لاستعداد حاصل في ذات
المعروض، وإنما هو من جهة الاستعداد الحاصل في الواسطة التي هي أعم
أو أخص من الموضوع، وحيث لم يكن لخصوصية تلك الذات استعداد للعروض
لم يكن العرض ذاتيا بالنسبة إليها حسب ما مر من التحقيق في معناه، وليس
تهيؤها لعروض المعروض باعثا على التهيؤ لعروض ما يعرضه، إذ مع العموم
يكون التهيؤ في الأعم، ومع الخصوص لا تكون متهيئا له إلا بعد تخصيصها بما
يجعلها مستعدا لذلك، فلا استعداد لنفس الذات، وهذا بخلاف ما لو كانت الواسطة
مساوية للمعروض على ما مر.
إذا تقرر ذلك فقد ظهر اندفاع الإيرادين، فإن ما ذكر من كون تلك الأعراض
لاحقة بتوسط الأعم أو الأخص لا ينافي كونها أعراضا ذاتية بالنسبة إلى
الموضوع، لكون الواسطة فيها واسطة في الثبوت، فتلك العوارض تكون لاحقة
لذات الموضوع بتوسط تلك الأمور فصولا كانت أو عوارض، ألا ترى أن الرفع
العارض للفاعل عارض لذات الكلمة وإن كان بتوسط الفاعلية في ثبوته، وكذا
نصب المفعول وسائر عوارض الكلمات بسبب ما يعرض لها من الخصوصيات،
وكذا الحال في عروض الحركة بالإرادة للجسم في ضمن الحيوان فإنها من
الأعراض الذاتية للجسم، وإن كان المبدأ لعروضها هو الإرادة التي هي أخص منه،
وهي من العوارض الذاتية للحيوان، فالحركة المفروضة من العوارض الذاتية
للجسم، والواسطة فيها من الأعراض الذاتية للحيوان الغريبة بالنسبة إلى الجسم.
فقد ظهر بما ذكرنا أن كون الموضوع في المسائل هو جزئيات موضوع
الفن من الأنواع أو الأصناف المندرجة تحته لا ينافي كون الأعراض المذكورة
أعراضا ذاتية بالنسبة إلى موضوع الفن، وكذا الحال فيما ذكروه من كون الموضوع
في المسائل هو أجزاء الموضوع أو عوارضه الذاتية، فإنهم يعنون بهما الأجزاء
والعوارض المساوية، وقد عرفت أن الأعراض اللاحقة لهما من العوارض الذاتية
للموضوع. فتأمل.
122

قوله: * (ولا بد له من مقدمات... الخ) *
كأنه أراد بالمقدمات التصديقات التي يتوقف عليها التصديق بمسائل العلم،
وظاهر إطلاقه يعم ما لو كان التوقف عليها قريبا أو بعيدا، اخذت جزء من
القياسات المرتبة في العلم أو لا، فيشمل مسائل سائر الفنون المستقلة التي يتوقف
عليها مسائل الفن والمقدمات التي تستعمل في الفن لإثبات المطالب المذكورة،
ولذا عد العلوم الآتية من مبادئ الفقه.
قوله: * (ومن تصورات الموضوع... الخ) *
قضية ما ذكر من التعميم في التصديقات تعميم التصورات أيضا لسائر
التصورات التي يتوقف عليها التصديق بمسائل الفن، سواء كانت حدودا
للموضوع أو لأجزائه أو لجزئياته أو لعوارضه الذاتية مما يقع موضوعا في مسائل
العلم، وكذا حدود محمولات المسائل وسائر التصورات التي يتوقف عليها
التصديق بالمقدمات، قريبة كانت أو بعيدة، مذكورة في ذلك الفن أو غيره،
فاقتصاره في التصورات على ذكر التصورات الثلاثة ليس على ما ينبغي، وربما
يحمل ذلك على المثال.
قوله: * (ويسمى مجموع ذلك بالمبادئ) *
لا يخفى أن المبادئ على ما ذكر هو ما يتوقف عليه التصديق بمسائل الفن،
فإن كانت تصديقات كانت مبادئ تصديقية، وإن كانت تصورات كانت مبادئ
تصورية، وحينئذ يشكل الحال في عد المبادئ من أجزاء العلوم كما هو المعروف
بينهم، إذ يلزم حينئذ جعل كثير من مسائل سائر العلوم جزء من العلم الذي يتوقف
عليها، وهو خلاف المعهود، وكأن المعدود من أجزاء العلوم غير المعنى المذكور،
ولذا خص بعضهم المبادئ التصديقية بالقضايا التي يتألف منها قياسات العلم
والمبادئ التصورية بحدود الموضوع وأجزائه وجزئياته وعوارضه الذاتية.
وبالجملة: المناسب أن يراد من المبادئ المجعول جزء من العلوم التصورات
والتصديقات المذكورة في الفن مما يتوقف عليه التصديق بمسائل ذلك الفن،
123

فالأولى هي حدود الأمور المذكورة والمحمولات وحدود سائر التصورات
المأخوذة في التصديقات المذكورة في الفن، والثانية هي التي يتألف منها قياسات
العلم، فيكون للمبادئ إطلاقان، والمراد منها في المقام هو الأخير، ولذا قوبل
بالموضوع والمسائل، إذ هما الجزءان الآخران للعلوم، وحينئذ فالتعميم المذكور
في المبادئ التصديقية ليس على ما ينبغي، وإنما المناسب لذلك هو المبادئ
بالمعنى الأول، فلا تغفل.
وهناك إطلاق ثالث للمبادئ ذكره ابن الحاجب، وهو إطلاقه على ما يبتدأ به
قبل الشروع في المقصود من الفن، والنسبة بينه وبين كل من الإطلاقين المتقدمين
هي العموم من وجه.
قوله: * (عن الأحكام الخمسة... الخ) *
قد يقال: إنه يبحث في علم الفقه عن سائر الأحكام الوضعية كالسببية
والمانعية والشرطية وغيرها، فلا وجه لتخصيص المبحوث عنه بالأمور السبعة.
وقد يدفع: بأنه ليس في كلامه ما يفيد الحصر في المذكورات، وإنما اقتصر
عليها، إذ هي الأحوال المتعلقة بأفعال المكلفين في الغالب.
وقد يقال برجوع السببية والشرطية ونحوهما إلى الأحكام المذكورة، فإن
مرجع سببية الدلوك مثلا لوجوب الصلاة هو وجوب الصلاة عند الدلوك وعدم
وجوبها قبله، ومعنى اشتراط البيع بالملك أو إجازة المالك عدم صحته مع
انتفائهما... وهكذا.
وفيه: أن مرجع الصحة والفساد أيضا إلى الأحكام التكليفية كما نص عليه غير
واحد منهم، ولذا قيل بانحصار الأحكام في الخمسة التكليفية، فإن بني على
استقلال كل من التكليفية والوضعية في كونه حكما شرعيا - كما هو المختار - لزم
ذكر الجميع، وإلا كان المتجه ترك ذكر الصحة والفساد أيضا.
قوله: * (من حيث كونها عوارض لأفعال المكلفين) *
يرد عليه: أن اعتبار خصوص أفعال المكلفين يقضي بخروج ما كان من
124

الأحكام المذكورة متعلقا بأفعال الأطفال والمجانين، كالحكم بفساد عقودهم
وإيقاعاتهم وفساد عبادات المجنون، واستحباب سائر العبادات للصبي المميز بناء
على شرعية عباداته كما هو الأظهر، ونحو ذلك من الأحكام المتعلقة بأفعالهم
وقد يذب عنه بالتزام الاستطراد في المباحث المذكورة.
وقد يورد عليه أيضا: بأن كثيرا من مباحث الفقه قد لا يتعلق بأفعال المكلفين
كمباحث الميراث، سيما إذا كان الوارث والمورث غير مكلف، والتزام الاستطراد
فيه بعيد جدا. وقد يوجه ذلك بأن المقصود هناك هو الأحكام المتفرعة عليه
المتعلقة بالمكلفين. فتأمل.
قوله: * (من حيث الاقتضاء والتخيير) *
فيه: أنه لا وجه لقصر جهة البحث في الوجهين المذكورين مع تعميمه في
المحمولات اللاحقة، فكان ينبغي ذكر جهتي الصحة والفساد، وقد يؤول بالتعميم
في لفظ الاقتضاء بحيث يشمل ذلك، وكان الأولى أن يقول: من حيث كونها
متعلقات خطاب الشرع.
z z z
125

معالم الدين:
المقصد الثاني
في تحقيق مهمات المباحث الأصولية التي هي الأساس لبناء
الأحكام الشرعية، وفيه مطالب:
المطلب الأول
في نبذة من مباحث الألفاظ
تقسيم:
اللفظ والمعنى، إن اتحدا، فاما أن يمنع نفس تصور المعنى من وقوع
الشركة فيه، وهو الجزئي، أولا يمنع، وهو الكلي ثم الكلي: إما أن يتساوى
معناه في جميع موارده، وهو المتواطي، أو يتفاوت، وهو المشكك.
وإن تكثرا، فالألفاظ متباينة، سواء كانت المعاني متصلة كالذات
والصفة، أو منفصلة كالضدين.
وإن تكثرت الألفاظ واتحد المعنى فهي مترادفة.
وإن تكثرت المعاني واتحد اللفظ من وضع واحد، فهو المشترك.
وإن اختص الوضع بأحدها، ثم استعمل في الباقي، من غير أن
يغلب فيه، فهو الحقيقة والمجاز. وإن غلب، وكان الاستعمال لمناسبة،
فهو المنقول اللغوي، أو الشرعي، أو العرفي. وإن كان بدون المناسبة
فهو المرتجل.
127

قوله: * (اللفظ والمعنى إن اتحدا) *
المراد بالمعنى هو المفهوم الذي يقصد من اللفظ دون ما يلاحظ حين الوضع،
سواء كان ذلك اللفظ موضوعا بإزائه على جهة الخصوص أو العموم أو لم يكن
موضوعا له.
والمراد باتحادهما أن يكونا متحدين في الملاحظة وإن كان اللفظ المعين
لذلك المعنى متعددا في الواقع أو تعدد المعنى المعين بإزائه، فيجري التقسيم
المذكور بالنسبة إلى اللفظ والمعنى في جميع الأقسام الآتية، إلا أن الاختلاف بين
الأقسام بحسب الملاحظة، للزوم ملاحظة الكثرة من جانب واحد أو جانبين في
تلك الأقسام بخلاف هذا وإن لم يكن ملاحظة الوحدة معتبرة في المقام أيضا،
إلا أنه لما كانت الكلية والجزئية باعتبار ملاحظة نفس المفهوم من حيث تجويز
صدقه على الكثرة وعدمه لزمه اتحاد المعنى الملحوظ من تلك الجهة وإن فرض
ضم غيره إليه، إذ لا مدخل له في الاتصاف المذكور أصلا، فليس الملحوظ في
تلك الملاحظة إلا معنى واحدا، ولو فرض ضم معنى آخر إليه فهو بملاحظة أخرى
لا ربط له بتلك الملاحظة ومن ثم لاحظ الوحدة في المقام ليتقابل الأقسام.
ثم إن المتصف بالصفات المذكورة بالذات هو المعاني خاصة، وإنما تتصف
الألفاظ بها على سبيل التبعية، كما أن الصفات الآتية يتصف بها الألفاظ بالذات،
ولا تتصف المعاني بها إلا بالتبعية على فرضه.
قوله: * (إما أن يمنع نفس تصور المعنى... الخ) *
أراد بذلك أن تكون نفس تصور المعنى مانعة من الصدق على الكثرة مع قطع
النظر عن جميع ما هو خارج عنه، فيكون المعتبر في القسم الآخر أن لا تكون
نفس تصور المعنى مانعة عن الصدق على الكثرة وإن امتنع صدقه عليها بحسب
الواقع، نظرا إلى غير الجهة المذكورة، إما بامتناع صدقه على شئ من الأفراد
أو امتناع صدقه على ما عدا الواحد.
128

وهذا البيان في التقسيم أولى مما ذكر من بناء التقسيم على امتناع فرض صدقه
على كثيرين وعدمه في القسمين المذكورين، لما في لفظ الفرض من الاشتراك بين
التقدير والتجويز، ولا يصح الحد إلا على الأخير، ولخروج الكلي الذي يمتنع
صدقه على شئ مطلقا كشريك الباري أو على ما يزيد على الواحد كواجب
الوجود عن حد الكلي واندراجه في الجزئي لعدم تجويز صدقه على كثيرين.
وقد يذب عنه بإمكان تصحيح الحد بالفرق بين استحالة الفرض وفرض
المستحيل، والمذكور في الحد هو امتناع الفرض، والممتنع في الكلي المفروض
إنما هو المفروض دون الفرض.
وفيه ما لا يخفى، نظرا إلى امتناع تجويز العقل ذلك في بعض الكليات مما
يكون امتناع صدقها على الأفراد ضروريا كاللا شئ والممتنع، وأيضا يلزم
اختلاف حال المفهوم في الكلية والجزئية باختلافه في التجويز المذكور، فإنه قبل
قيام البرهان على امتناع صدقه على كثيرين يندرج في الحد المذكور، وبعد قيام
البرهان عليه عند العقل يخرج عنه.
ثم إنه قد يورد على التقسيم المذكور تارة: بأن الشبح المرئي من البعيد مما
يجوز العقل صدقه على أمور عديدة مع أنه ليس بكلي، وقد نص الشيخ على أن
الطفل يدرك شبحا واحدا من أمه بحيث يصدق على غيرها، ولذا يتخيل أن يكون
كل وارد عليه هي أمه، فيصدق ذلك على كثيرين مع كونه جزئيا حقيقيا.
وأخرى: بأن كلا من المفاهيم الجزئية مطابق لصورها التي في أذهان الجماعة،
فيلزم أن يكون كليا.
وما يقال من أن الكلية والجزئية من العوارض الذهنية فهي إنما تعرض
للمفاهيم الحاصلة في الذهن دون الأمور الخارجية.
مدفوع: بأنا لا نلاحظ المفهوم المذكور من حيث وجوده في الخارج، بل من
حيث تصور المتصور له، فإن ذلك المفهوم الحاصل في العقل مع كونه جزئيا
129

حقيقيا منطبق على جميع تلك الصور الكثيرة الحاصلة في الأذهان العديدة.
ويندفع الأول: بأن المقصود امتناع صدق المفهوم على الكثرة على سبيل
الشمول كالإنسان الصادق على أفراده لا على سبيل البدلية، إذ مصداقه حينئذ
واحد شخصي بحسب الواقع لا تكثر فيه، وإنما يقوم الاحتمال في العقل لعدم تعين
المصداق عنده، والصورة الشبحية يمتنع صدقها عند العقل على ما يزيد على
الواحد، إلا أنه لعدم تعينه عند المدرك يدور بين آحاد من نوع واحد أو أنواع
عديدة على سبيل البدلية، وكذا الحال في الصورة المدركة للصبي، إلا أنه لعدم
ادراكه تعدد الآحاد المنطبقة عليها يحسب الجميع واحدا.
ومن ذلك يعلم أن النكرة التي يراد بها - باعتبار عدم تعيين مدلوله - فرد ما
على سبيل الإبهام تندرج في الجزئي وإن كان هناك شيوع في معناها، وإطلاق
الكلي عليها في كلماتهم إما مجاز، نظرا إلى ملاحظة شيوعها تنزيلا لها من تلك
الجهة منزلة الكلي الصادق على كثيرين، أو بملاحظة مدخول التنوين لوضعه
للطبيعة الكلية المطلقة.
والثاني: بأن المراد امتناع صدقها على كثيرين بحسب الوجود الأصيل دون
الظلي، فإنه بناء على ما ذهب إليه المحققون من وجود الأشياء بحقائقها في
الأذهان تكون حقيقة الجزئي موجودة في أذهان عديدة، مع كونها حقيقة واحدة
غير قابلة للصدق على كثيرين في الخارج. وهذا مقصود من أجاب بأن المراد هنا
هو امتناع الصدق على الكثرة باعتبار الوجود الخارجي دون الوجود الذهني.
فما أورد عليه من انتقاضه بالكليات التي لا وجود لأفرادها إلا في الأذهان
- كالعلم - مدفوع بأن ذلك هو الوجود الخارجي بالنسبة إليها، فعلى هذا يتحد
المقصود من الوجود الخارجي والوجود الأصيل، كالوجود الذهني والوجود الظلي.
فإن قيل: لو كانت الصورة المنتزعة من زيد مثلا جزئيا حقيقيا - كما هو
المدعى - لزم قيام الجزئي الحقيقي بمحال متعددة، وهو محال.
130

قلت: الجزئي - كما عرفت - ما يستحيل صدقه على كثيرين بحسب الوجود
الأصيل، وقيام الجزئي الحقيقي من حيث الوجود الظلي بمحال متعددة لا مانع
منه، لرجوعه إذن إلى أشخاص متعددة من العلم وإن كان المعلوم شخصا واحدا،
والمحال حينئذ قيام شخص واحد من العلم بمحال عديدة.
قوله: * (إما أن يتساوى معناه) *
لا يذهب عليك أنه لا يجري شئ من القسمين المذكورين في الكليات
الفرضية، إذ لا صدق هناك حتى يتساوى أو يتفاوت، فتكون واسطة بين القسمين
المذكورين، وإنما لم يتعرضوا لها نظرا إلى أنه لا فائدة في البحث عن الأمور
الممتنعة، وقد يدرج ذلك في المتواطئ، لتساويها في الصدق على الأفراد الفرضية،
نظرا إلى صدق تلك المفاهيم على أفرادها على نهج واحد مع قطع النظر عما هو
خارج عنها، نظير ما قررنا صدق الكلي عليها، أو يقال: إن المراد بالتساوي عدم
حصول التفاوت في الصدق، فيصدق مع انتفاء الصدق أيضا.
قوله: * (أو يتفاوت) *
سواء كان الاختلاف بأولية، بأن يكون صدقه على أحدهما قبل صدقه على
الآخر قبلية زمانية أو غيرها، والمقصود أن يكون بعض أفراده متقدما على غيره
في صدق ذلك الكلي عليه بنفس ذلك الكلي لا بغيره، فليس من ذلك تقدم صدق
الانسان على الأب بالنسبة إلى صدقه على الابن، إذ التقدم هناك إنما هو في صدق
الانسان عليه خارجا لا بنفس الانسانية، فهو من التقدم في الوجود نظرا إلى
توقف وجود الابن على وجود الأب، ولا تقدم له بالنسبة إلى نفس الانسانية،
إذ ليس صدق المفهوم مطلقا على الابن متوقفا على صدقه على الأب.
أو بأولوية، بأن يكون صدقه على بعض الأفراد بالذات دون بعض آخر.
أو بأشدية، بأن يكون ذلك المفهوم في بعض الأفراد أقوى من البعض.
وقد يعبر عن الثلاثة بالأولوية، لحصولها بكل من الاعتبارات المذكورة،
131

والوجوه الثلاثة من التشكيك حاصلة في الوجود، فإن صدقه على الواجب أولى
بالوجوه الثلاثة من صدقه على الممكن.
قوله: * (سواء كانت المعاني... الخ) *
المدار في تعدد المعنى على اختلافه بحسب المفهوم، سواء اندرج أحد
المعنيين في الآخر أو لا، وسواء اتحدا في المصداق كليا كما في المتساويين
أو جزئيا كما في العام المطلق أو من وجه، أو تباينا فيه مع اتصال أحدهما بالآخر
كالصفة والموصوف أو مفارقته له، فإن جميع الصور المفروضة مندرجة في
المتباينة وإن لم يكن هناك تباين بين المعنيين في كثير من صوره، فلا ربط للتباين
المعروف بالمقصود في المقام.
ثم إن ذلك يعم ما لو تعدد الوضع فيها أو اتحد كما في المشتقات (1)، وما
لو وضع اللفظ لهما أو لأحدهما أو لم يوضع لشئ منهما، فيعم الحقائق
والمجازات منفردة وملحوظة مع الآخر.
قوله: * (وإن تكثرت الألفاظ واتحد المعنى) *
سواء كان لكل من اللفظين وضع مستقل أو كان الجميع موضوعا بوضع واحد
كما في " جالس " و " قاعد " في وجه، وكذا الحال لو كان الوضع في أحدهما
شخصيا وفي الآخر نوعيا لو فرض حصوله، وليس منه نحو زيد، وهذا وإن كان
الموضوع له في المبهمات خاصا، إذ الموضوع له هناك خصوص أفراد المشار إليه
من حيث إنه مشار إليه، فالمفهومان متغايران وإن اتحدا في المصداق.
ثم إن إطلاق العبارة قاض بصدق الترادف بالنسبة إلى المجازات والملفق
من الحقيقة والمجاز، وهو خلاف ظاهر الاصطلاح.
قوله: * (من وضع واحد) *
فسر المصنف (رحمه الله) ذلك بما لم ينظر فيه إلى الوضع الآخر، فالمقصود توحد كل

(1) إذ ليس شئ من خصوص تلك الألفاظ موضوعا بالوضع الشخصي لمعناه، بل كل منها
موضوع لمعناه الخاص به بالوضع المشترك بين الكل، حسب ما فصل في محله. (منه (رحمه الله)).
132

من الأوضاع وتفرده بأن لا يكون تابعا لغيره ولا منظورا فيه حال الغير، وكأن
القرينة عليه أن مقتضى العبارة كون تعدد المعنى حاصلا من الوضع الواحد،
فلا يلائمه اتحاد الوضع على النحو المعروف، إذ هو قاض باتحاد المعنى لا تعدده،
نعم على القول بثبوت الوضع العام مع كون الموضوع له خاصا ينصرف ظاهر
العبارة إليه، إلا أن القول به إنما شاع بين المتأخرين، وليست التقسيمات مبنية
عليه، ولذا لا يذكرون ذلك في الأقسام، وأيضا وضوح الحال في تعدد الأوضاع
في المشترك كاف في الصرف عنه.
وكيف كان، فعدم إرادة الوحدة بمعناه المعروف ظاهر في المقام، وأنت خبير
بأن مجرد ذلك لا يعين حمله على المعنى المذكور إن أريد به ظاهره من عدم النظر
إلى الوضع الآخر مطلقا، ويومئ إليه عده المرتجل فيما يقابله على التوجيه الآتي.
وما يقال من أن تفسيره له بذلك بمنزلة جزء التعريف بين الفساد، على أنه يرد
عليه خروج اللفظ الموضوع وضعا مستقلا لمعنى آخر بملاحظة مناسبته للمعنى
الأول، فإنه لا ينبغي التأمل في إدراجه في المشترك مع خروجه عن الحد
المذكور، بل ظاهر تقسيمه خروجه عن جميع الأقسام المذكورة، لعدم اندراجه في
شئ من الأقسام الآتية أيضا، وعلى ظاهر عبارته بناء على الوجه المذكور
يندرج في المجاز.
ولو حمل العبارة على إرادة الوضع المنفرد الذي لا يكون تابعا لوضع آخر
مترتبا عليه كما في المنقول التخصصي وإن لوحظ فيه المناسبة للمعنى الأول فهو
- مع بعده عن ظاهر التفسير المذكور - يقتضي فساد ما ذكره في المرتجل، إذ لا
يمكن تصحيحه ظاهرا بالتعسف الآتي أيضا، على أنه لو فرض بلوغ المجاز إلى
حد الحقيقة من جهة الغلبة مع عدم هجر الأول كان من المشترك مع خروجه عن
الحد المذكور قطعا، وعلى ظاهر كلامه يندرج في المجاز في وجه وفي المنقول
في آخر كما سيأتي الإشارة إليه. والأول واضح الفساد، والثاني بعيد جدا مخالف
لظاهر الاصطلاح، لاعتبارهم تحقق الهجر في حصول النقل.
133

ثم إن اعتبار تعدد الوضع في المشترك قاض بعدم شموله لما إذا تصور الواضع
معنيين ووضع اللفظ لكل منهما، أو تصور معاني مختلفة على سبيل الاجمال
ووضع اللفظ بإزاء كل منها، لاتحاد الوضع هناك وإن تعدد الموضوع له، مع أن
الظاهر إدراج ذلك في المشترك، إذ لا فرق في الحقيقة بين إبراز الوضع بصيغة
مخصوصة به أو بنحو يتعلق بكل واحد من المعاني المختلفة.
ويجري الإشكال المذكور في المشتقات التي تكون مبادئها مشتركة، فإنه
يسري الاشتراك إليها مع عدم تعدد الوضع فيها، إذ هي موضوعة بوضع واحد
نوعي، إلا أن يقال: إن لها وضعين: أحدهما شخصي وهو وضعها بحسب المادة،
والآخر نوعي وهو وضعها الهيئي، وهو كلام ظاهري مخالف للتحقيق وإن أوهمه
بعض العبارات، إذ من البين أن وضع المادة مخصوص بتلك المادة المأخوذة على
الهيئة المخصوصة الملحوظة في مبادئها ولا يعم تلك المادة على أية هيئة كانت
ليعم المشتقات، فالوضع الحاصل في المادة المأخوذة في المشتقات إنما يأتي من
الوضع النوعي المتعلق بها، غاية الأمر أن يكون الوضع النوعي هناك مختصا بما
إذا كان المبدأ موضوعا، فتكون موضوعية المبدأ في نفسه قيدا ملحوظا في وضع
المشتق، ولا يقضي ذلك بكون المادة في ضمنها موضوعة بذلك الوضع، فلفظة
" ضارب " موضوعة بالوضع النوعي لمن قام به الضرب، ويكون انفهام مجموع
ذلك المعنى بذلك الوضع لا غير وإن توقف معرفة مفاد المادة على العلم بوضع
الضرب، نظرا إلى ترتب الوضع المذكور عليه وتسرية المعنى بهذا الوضع إليه من
الموضوع بالوضع الأول.
وقد يقال بتنزيل الوضع المذكور منزلة وضعين: أحدهما بالنسبة إلى الهيئة،
والآخر بالنظر إلى المادة، حيث إن الملحوظ عند الواضع كون الهيئة مفيدا لشئ
والمادة لآخر، فمعناه الهيئي إنما يحصل بنفس هذا الوضع استقلالا، ومعناه المادي
إنما يسري إليه من اللفظ الموضوع بوضع آخر، فاللفظ الموضوع ملحوظ على
134

سبيل العموم بالنسبة إلى الأمرين، إلا أن الوضع نوعي بالنسبة إلى الهيئة شخصي
بالنظر إلى المادة، والاشتراك المفروض إنما لوحظ بالنسبة إلى الأخير، وبهذا
الوجه يمكن تنزيل بعض العبائر الدالة على تعدد الوضع في المشتقات.
فإن قلت: كيف يصح القول بكون الوضع بالنظر إلى المادة خاصا مع أن معناها
المادي ملحوظ على جهة العموم أيضا، إذ ليس شئ من معاني المبادئ ملحوظا
هناك بالخصوص؟
قلت: الحال كما ذكرت إلا أن هناك فرقا بين اللحاظين، فإنه قد يكون
الملحوظ في الوضع هو الجهة العامة، ويكون كل من الخصوصيات مما وضع اللفظ
بإزائه من جهة كونه من أفراد المعنى الملحوظ ومن حيث صدق المفهوم
المفروض عليه، كما هو الحال في أسماء الإشارة ونحوها على القول بوضعها
للخصوصيات وقد يكون الموضوع له هو خصوص كل من المعاني الخاصة،
ويكون المعنى العام ملحوظا لمجرد كونها آلة لملاحظتها ووجها من الوجوه
الباعثة لإحضارها في الذهن، من غير أن يكون لخصوصية ذلك المفهوم العام
مدخلية في المعنى الموضوع له كما في الصورة المفروضة، فإن كلا من
خصوصيات المواد الحاصلة في ضمنها إنما وضعت لخصوصيات معانيها الخاصة
وإن كان إحضار كل منها في الذهن حال الوضع على وجه عام.
وكذلك الحال في الصورة المتقدمة فإن الوضع هناك وإن تعلق بأمر يعم الكل
إلا أن كلا من تلك الخصوصيات مما وضع اللفظ بإزائها لخصوصها، فهو إذن
كالوضع المستقل المنفرد من غير فرق أصلا، وحينئذ فيمكن إدراج ذلك في
العبارة من حيث إن تحقق الوضع لكل منها غير منظور فيه الوضع للآخر وإن
حصل الوضع للكل بجعل واحد. هذا غاية الكلام في توجيه هذا المقام.
ثم إن ظاهر العبارة يعم ما لو بقي الوضعان على حالهما أو هجر أحد المعنيين
أو كلاهما، نظرا إلى حصول الوضع بالنسبة إليهما، وكذا لو وضع اللفظ لأحدهما
135

في اللغة ثم وضع للآخر في العرف ابتداء من دون ملاحظة الوضع للأول مع بقاء
ذلك المعنى أو هجره، وإدراج ذلك كله في المشترك محل خفاء، والظاهر إدراج
الأخير في المرتجل.
هذا، ويعم الاشتراك ما لو كان الوضعان شخصيين أو نوعيين أو مختلفين،
ولو اتحد اللفظان من جهة إعلالهما أو إعلال أحدهما فلا يبعد إدراجهما في
المشترك ك‍ " أن " الفعلية والحرفية، إذ الأظهر تعلق الوضع بما بعد الإعلال إلا أن
يكون الإعلال عارضيا، فالظاهر عدم اندراجه فيه ولو كان أحد اللفظين موضوعا
بوضعين والآخر بوضع واحد ك‍ " أن " الحرفية والمركبة من فعل الأمر ونون
التأكيد ففي إدراجهما في المشترك وجهان، وظاهر الحد الخروج وإن لحقهما
أحكام الاشتراك، ويجري ذلك في المركبات الموضوعة للأعلام ك‍ " عبد الله "
علما ومركبا إضافيا و " تأبط شرا " ثم إن ظاهر الحد المذكور يعم ما لو كان
الوضعان في لغة واحدة أو لغتين وفي عرف واحد أو عرفين، إلا أنه لا يلحقه
أحكام الاشتراك غالبا مع الاختلاف، لحمله مع الإطلاق على اصطلاح القائل،
ويجري التعميم المذكور في المترادفين أيضا.
قوله: * (وإن اختص الوضع بأحدهما) *
لا يخفى أنه لا يعتبر في المجاز ولا في المنقول والمرتجل اختصاص الوضع
بأحد المعاني، بل يعم صورة التعدد أيضا، كما لو كان للفظ معنيان أو معاني ثم
استعمل في غيرها مجازا أو نقل إليه، فلا وجه لاعتباره اختصاص الوضع
بواحد منها.
ثم إنه إن أراد اختصاص مطلق الوضع به لزم أن يكون المنقول خاليا عن
الوضع بالنسبة إلى معناه المنقول إليه، بل يلزم أن يكون المرتجل مستعملا من دون
الوضع والمناسبة، وهو من الغلط قطعا، لانحصار الاستعمال الصحيح في الحقيقة
والمجاز.
وإن أراد به الوضع الواحد بالمعنى الذي فسره به ليكون اللام للعهد لزم أن
136

يكون اللفظ الموضوع لأحد المعنيين بمناسبة الآخر، إذ لم يغلب استعماله فيه
مندرجا في المجاز، نعم لو حمل الوضع الواحد على الوجه الأخير من الوجهين
المذكورين - فيما حكي عنه من التفسير - اندفع ذلك، إلا أنه لا يصح عد المرتجل
من جملة ذلك، لوضوح تعدد الوضع فيه بالمعنى المذكور، كيف ولولا ذلك لزم أن
يكون استعمالاته قبل الغلبة غلطا، لوقوعها من دون الوضع والمناسبة.
قوله: * (من غير أن يغلب فيه) *
قيل: المراد بالغلبة أن يهجر المعنى الأول، فلا يراد إلا مع القرينة بخلاف
المعنى الثاني.
قلت: فيرد عليه: أن يكون اللفظ الذي كثر استعماله في المعنى الثاني إلى أن
وصل إلى حد الحقيقة مع عدم هجر الأول مندرجا في الحقيقة والمجاز، وهو
واضح الفساد.
وقد يفسر الغلبة بشيوع استعماله في المحاورات إلى أن يتبادر من اللفظ من
دون ملاحظة شئ من القرائن الخاصة والعامة، سواء ساوى الحقيقة الأولى
أو غلب عليها، وإنما أطلقها اتكالا على وضوح الحال، إذ لا مجال لتوهم الاكتفاء
بمطلق الشيوع وغلبة الاستعمال، وإلا لانتقض حد المنقول والمجاز طردا وعكسا
بالمجاز المشهور، فالمراد بها خصوص الغلبة البالغة إلى الحد المذكور، سواء
حصل معها هجر الأول أو لا، وحينئذ فيندفع اندراج الفرض المذكور في المجاز،
لكن يلزم اندراجه في المنقول، ولا يقولون به لما عرفت من اعتبارهم فيه حصول
الهجر.
وقد ظهر مما ذكرنا ضعف ما قد يورد في المقام من لزوم اندراج المجاز
المشهور في المنقول وخروجه عن المجاز، نظرا إلى تحقق الغلبة فيه لمساواته
الحقيقة أو رجحانه عليها، فيفتقر فيه حمل اللفظ على الحقيقة على قيام القرينة،
وذلك لما عرفت من أن المراد بالغلبة في المقام ما يوجب تعين اللفظ لذلك المعنى،
فيقضي بالتوقف في الحمل أو رجحان المعنى الغالب، مع قطع النظر عن جميع
137

القرائن حتى ملاحظة الشهرة، وهو غير حاصل في المجاز المشهور.
هذا، ولا يذهب عليك أن استعمال المنقول في كل من معنييه على سبيل
الحقيقة، لحصول الوضع بالنسبة إلى كل منهما، غير أن إطلاقه مع انتفاء القرائن
ينزل على المعنى الأخير، والحمل على الأول يتوقف على قيام القرينة، وربما
يتوهم زوال أثر الوضع بالنسبة إلى الأول، فإذا استعمل فيه كان مجازا فينعكس
فيه الأمر، وهو فاسد، إذ لا رافع هناك للوضع بعد تحققه، ومجرد انصراف إطلاقه
إلى الأخير وافتقار حمله على الأول على القرينة من جهة الغلبة المفروضة
لا يقضي بكون الأول مجازا، كيف ولو كان مجازا لما اتجه جعله قسما برأسه
وانتقض به حد المجاز، ومن هنا يعلم أن الألفاظ المتروكة في العرف لا يلحق
بالمهملات مع حصول الهجر بالنسبة إليها. هذا إذا استعمل في الأول من جهة
الوضع له، وأما إذا كان بملاحظة العلاقة الحاصلة بينه وبين الأخير - كما هو الظاهر
من استعماله فيه بعد تحقق النقل - فلا شك في كونه من المجاز، ويجري الوجهان
في استعمال المشترك في أحد معنييه مع هجره أو بقائه على حاله، ولذا اعتبرت
الحيثية في حدي كل من الحقيقة والمجاز.
قوله: * (فهو الحقيقة والمجاز) *
المعروف أن التسمية بالحقيقة والمجاز فرع الاستعمال، ولذا عرفتا في
المشهور بالكلمة المستعملة فيما وضع له في اصطلاح به التخاطب أو ما يؤدي
ذلك، كما هو مذكور في الكتب الأصولية والبيانية، وهو غير مأخوذ في الحقيقة
على ما ذكره، فلا يستقيم إطلاقه.
ولو قيل باختصاص المقسم بما إذا تحقق الاستعمال إذ المراد بالمعنى هو
الأمر المقصود من اللفظ، ففيه - مع عدم دلالته عليه إذ لا يفيد ذلك كونه مقصودا
بالفعل - أنه يلزم من ذلك تخصيص سائر الأقسام كالمشترك والمترادف بذلك،
وظاهر تحديداتهم لها يعم المستعمل وغيره.
ثم إن في العبارة إشكالا آخر، فإن تخصيص المجاز بالذي لم يغلب على
138

الحقيقة يقتضي خروج الغالب عليها مع اندراجه في المجاز أيضا، فإن المنقول
العرفي أو الشرعي مجاز لغوي ولو بعد النقل والغلبة.
وقد يذب عنه: بأن الحيثية معتبرة في المقام، فيكون من حيث غلبته منقولا،
ومع قطع النظر عن غلبته وتعين اللفظ له إذا لوحظ في الاستعمال علاقته لمعناه
الأول يكون مجازا، لكن استفادة ذلك من العبارة مشكل، وكأنه تسامح في التعبير
اتكالا على وضوح الأمر.
قوله: * (فهو المنقول اللغوي... الخ) *
ينسب إلى ما وقع النقل بحسبه من الشرع أو اللغة أو العرف العام أو الخاص،
وثبوت المنقول بالوجه الأخير مما لا كلام فيه، والنزاع في المنقول الشرعي
معروف يأتي الكلام فيه إن شاء الله.
والمنقول اللغوي لم يثبت وجوده، فهو مجرد فرض ولذا تركه جماعة، ومثل
له بعضهم بالغائط، فإنه اسم للأرض المنخفضة وقد جعل اسما للحدث المعروف،
وهو كما ترى، وكأنه مبني على تعميم اللغة للعرف القديم.
وأما المنقول العرفي العام فالمعروف وجوده، وربما ناقش فيه بعضهم لشبهة
ركيكة بينة الاندفاع، ثم الظاهر أن المراد به ما يعم عرف معظم أهل اللسان بأن
لا يختص بطائفة دون أخرى ولا يعتبر فيه العموم لسائر الأفراد، فلا ينافيه عدم
ثبوته عند شرذمة قليلة، ولا ينافي العلم بثبوته الجهل بتحققه عند جميع الآحاد.
ثم إنه قد يكون الوضع في المنقول تعيينيا حاصلا من وضع اللفظ للمعنى
الثاني، لمناسبته لما وضع له أولا، وهل يكتفى فيه بمطلق المناسبة الملحوظة أو
يعتبر أن تكون مصححة للتجوز؟ وجهان، وظاهر إطلاقهم يومئ إلى الأول وهو
الأوجه. وقد يكون تعينيا حاصلا من كثرة استعمال اللفظ فيه، وحينئذ قد يكون
الاستعمال فيه أولا على سبيل المجاز إلى أن يصل إلى حد الحقيقة، وقد يكون
إطلاقه عليه على سبيل الحقيقة كما إذا كان من قبيل إطلاق الكلي على الفرد
لا بإرادة الخصوصية من اللفظ، فشاع الإطلاق المذكور إلى أن تعين اللفظ له
139

وانسبق إلى الفهم بخصوصه، كما يحتمل ذلك في الدابة والقارورة، فلا يكون النقل
إذن مسبوقا بالمجاز.
وفي كلام العلامة (رحمه الله) في النهاية إشارة إلى ذلك، حيث قال: " واعلم أن العرف
العام منحصر في أمرين: الأول: اشتهار المجاز بحيث يصير حقيقة عرفية - إلى أن
قال: - الثاني: تخصيص الاسم ببعض مسمياته كالدابة المشتقة من الدبيب واختص
ببعض البهائم، فإن مقابلته بالمجاز يومئ إلى عدم كون الاستعمال في الثاني
مجازا، بأن يكون الخصوصية ملحوظة في استعمالاته " فتأمل.
قوله: * (وإن كان بدون المناسبة فهو المرتجل) *
قضية كلامه حصول الغلبة في المرتجل على نحو المنقول وخلوه عن المناسبة
فهو الفارق بينه وبين المنقول، والفارق بينه وبين المجاز أمران: أحدهما ذلك،
والآخر حصول الغلبة فيه بخلاف المجاز.
وأنت خبير بلزوم خلو استعمالات المرتجل قبل حصول الغلبة المفروضة عن
الوضع والمناسبة حسب ما مر، فلا يندرج في الاستعمال الصحيح.
وغاية ما يتعسف في تصحيح ذلك أن يقال بثبوت الوضع فيه في الجملة،
ويدعى اعتبار ملاحظة عدم المناسبة بينه وبين المعنى الأول، فمن جهة تلك
الملاحظة يحصل نوع تبعية للوضع الحاصل فيه بالنسبة إلى وضعه الأول، فيختص
الوضع المنفرد فيه بأحد معانيه.
وفيه مع ما فيه من التكلف البين: أن اعتبار ذلك في المرتجل غير معلوم ولا
منقول في كلماتهم، وإنما المعتبر فيه عدم ملاحظة المناسبة وإن كانت موجودة،
وأين ذلك من اعتبار ملاحظة عدم المناسبة، مضافا إلى أن اعتبار الغلبة فيه غير
ظاهر، إذ لم يعتبروا ذلك في حده، ومع البناء على اعتبارها فيه يلزم خروجه قبل
الغلبة عن جميع الأقسام المذكورة، وظاهر العبارة اندراجه إذن في المجاز، وهو
بين الفساد.
هذا، وظاهر إطلاقات المرتجل في كلامهم يعطي اعتبار مغايرة واضعه للثاني
140

لواضعه للأول، ولو بالاعتبار من جهة اختلاف العرف الذي وقع الوضع فيه، سواء
حصل هناك هجر للمعنى الأول أو لا، فتأمل.
وحيث إن المصنف (رحمه الله) اقتصر في مباحث الألفاظ على قليل من مطالبها وكان
هناك فوائد عديدة تليق بالإشارة إليها ومطالب جمة يتوقف كثير من المباحث
المتعلقة بالألفاظ عليها كان الحري الإشارة إلى ما يسع المقام لذكرها، ولنضع ذلك
في فوائد:
الأولى
أن دلالة اللفظ على المعنى قد تكون بالوضع وقد تكون بغيره، فمن الأول
دلالة اللفظ على ما استعمل فيه من المعاني المطابقية الحقيقية، ومن الثاني دلالته
على المعاني التضمنية والإلتزامية، فإن دلالته عليها من جهة استلزام الكل لجزئه
والملزوم للازمه، وهو إنما يأتي من جهة العقل من غير ارتباط له بالوضع، وقد
يجعل دلالته عليها وضعية لتوقفها على الوضع، وهو الذي اعتبره المنطقيون
فحكموا بكون الدلالات الثلاث وضعية، وأما ما ذكرناه فهو المذكور في كتب
البيان، وهو الأنسب بالمقام.
وكيف كان، فهذا بحث لفظي لا طائل تحته، فإنه إن فسرت الدلالة الوضعية بما
يكون للوضع مدخلية في حصولها سواء كانت بلا واسطة أو معها اندرج ذلك في
الوضعية، ضرورة توقفها على الوضع، إذ دلالة اللفظ على المعاني التضمنية
والإلتزامية فرع الدلالة على المعنى المطابقي المتوقف على الوضع.
وإن فسرت بما يكون مستندا إلى الوضع ابتداء - كما هو الأظهر في معناها -
لم تكن من الوضعية.
وقد يقال بالتفصيل بين التضمنية والالتزامية، إذ ليست الدلالة على المعنى
المطابقي إلا عين الدلالة على أجزائه، والمفروض أن الأولى وضعية، فتكون
دلالته على الأجزاء أيضا كذلك، وهذا بخلاف الالتزام.
141

وفيه: أن هناك فرقا بين ملاحظة الأجزاء بلحاظ واحد هو لحاظ الكل وبين
ملاحظة كل منها منفردا في اللحاظ، والمعنى التضمني هو الأخير، ودلالته عليه
غير الدلالة على الكل.
وما قد يقال من أنه إنما تكون الأجزاء مدلولة للفظ بملاحظتها في ضمن الكل
لا منفردة، فهي مدلولة بدلالته على الكل، فكيف يجعل الدلالة على الجزء مغايرة
للدلالة على الكل؟
مدفوع بأنهما إنما يتحدان ذاتا لا اعتبارا، بمعنى أن هناك دلالة واحدة إذا
نسبت إلى الكل كانت مطابقة، وإذا نسبت إلى الأجزاء كانت تضمنيا، فهما
مختلفتان في اللحاظ، فإذا كانت تلك الدلالة بالملاحظة الأولى وضعية لم يستلزم
أن تكون بالاعتبار الثاني أيضا كذلك.
ثم لا يخفى أن اعتبار ملاحظة الجزء في ضمن الكل بلحاظ مستقل غير
ملاحظته في ضمن الكل بملاحظة الكل، فالجزء مدلول في ضمن الكل على النحو
الثاني، إلا أن اعتبار كون الدلالة تضمنية حاصل باللحاظ الأول، فلا ينافي ذلك
ملاحظة الجزء استقلالا ولو اعتبر كونه في ضمن الكل، فلا تغفل.
وقد ظهر مما ذكرنا أن الأظهر إدراج المفاهيم ونحوها في الدلالات العقلية
كسائر الاستلزامات العقلية، كدلالة الأمر بالشئ على النهي عن ضده الخاص
ونحوها.
وقد يتفرع على الوجهين جواز الاعتماد في ذلك على الظن إن قيل بكون
الدلالة فيها وضعية وعدم الأخذ إلا بالقطع مع كونها عقلية، لعدم الاعتداد بالظنون
العقلية.
ويدفعه الاكتفاء بالظن في الدلالات اللفظية لجريان الاستعمالات عليه،
فلا فرق بين جعلها وضعية أو عقلية.
نعم العقلية الصرفة الغير المستفادة من اللفظ على حسب المخاطبات العرفية
لا بد فيها من القطع، سواء كانت الملازمة بين الأمرين بينا بالمعنى الأعم أو غير
142

بين، كما هو الحال في الاستلزامات العقلية من دلالة الأمر بالشئ على الأمر
بمقدمته ونحوها، فإنها خارجة عن الدلالات اللفظية وإن كانت الدلالة عليها
بواسطة اللفظ، ولذا لم يندرج في شئ من الدلالات الثلاث.
وقد يجعل من الأول دلالة المجازات على المعاني المجازية، فإنه إنما يصح
استعمال المجاز من جهة ترخيص الواضع وإذنه في الاستعمال، وهو أيضا نحو من
الوضع النوعي، فتكون دلالتها على تلك المعاني أيضا بالمطابقة، لكونها تمام
الموضوع له بالوضع المذكور.
وقد يشكل: بأنه لا حاجة في دلالة اللفظ على معناه المجازي إلى الوضع بعد
وجود القرينة، ضرورة أن المعاني المجازية من اللوازم الذهنية للمعاني الحقيقية
ولو بحسب العرف والعادة بعد انضمام القرينة، فالانتقال إليها يحصل من المعاني
الحقيقية المنضمة إلى القرينة، فهي وإن لم تكن لازمة للموضوع له مطلقا لكنها
لازمة له في الجملة ولو بعد انضمام القرينة، وذلك كاف في حصول الالتزام، غاية
الأمر أن لا تكون لازمة مطلقا، ولذا نص علماء البيان على كون الدلالة في
المجازات من قبيل الالتزام، وحينئذ فيكون الحال فيها كسائر الدلالات الالتزامية
في عدم استنادها إلى الوضع بلا واسطة، إذ ليس لترخيص الواضع تأثير في دلالتها
على تلك المعاني أصلا، وليس الانتقال إليها إلا مستندا إلى ما ذكرنا، فيقوى إذن
كونها من قبيل الثاني على نحو غيرها من المداليل الالتزامية، حسب ما مر.
وقد يقال بأن الوضع الترخيصي الحاصل في المجاز وإن لم يكن مفيدا لدلالة
اللفظ على المعنى كما هو الشأن في الحقائق إذ الدلالة هناك حاصلة مع قطع النظر
عنه من جهة انضمام القرينة، إلا أن جواز استعمال اللفظ فيه بحسب اللغة لما كان
أمرا توقيفيا متوقفا على ترخيص الواضع متوقف عليه، ولذا لا يجوز استعمال
اللفظ في أي جزء وأي لازم فرض، وإنما يتبع جوازه الترخيص المذكور المعلوم
من تتبع استعمالات أهل اللسان، فالمعاني المجازية أيضا مما وضع اللفظ بإزائها
على الوجه المذكور، فيكون دلالتها بهذا الاعتبار وضعية مندرجة في المطابقة،
143

كما قرر ذلك بالنسبة إلى المعاني الحقيقية.
وفيه: أن ما ذكر إنما يفيد إناطة جواز الاستعمال في تلك المعاني على إذن
الواضع وترخيصه وأما نفس الدلالة فغير مستندة إلى إذنه وتقريره، والملحوظ في
المقام هو حال الدلالة لا جواز الاستعمال، والمناط في كون الدلالة وضعية أو
عقلية كون الباعث على الانتقال إلى ذلك المدلول ابتداء هو الوضع أو العقل، فإذا
لم تكن الدلالة في المقام منوطة بالوضع المفروض وكانت حاصلة من جهة التزام
ذلك لمعناه الحقيقي ولو بواسطة القرينة لم يتجه الحكم بكونها وضعية، وإنما الحال
فيها كسائر المداليل الالتزامية، وتوقف استعمال اللفظ فيها على الوضع المذكور
لا يجعل دلالته عليها وضعية، كما قررنا.
نعم، يصح بذلك أن يقال بكونها مداليل مطابقية لكونها تمام الموضوع له بهذا
الوضع النوعي، وبذلك يظهر وجه الجمع بين ما ذكره علماء البيان من كون الدلالة
في المجازات التزامية وما نص عليه بعض محققي الأصوليين من كون المعنى
المجازي مدلولا مطابقيا، فإن تلك المعاني مداليل التزامية من حيث إن الانتقال
إليها إنما يحصل بتوسط المعاني الحقيقية ولو من جهة القرائن المنضمة، ومطابقية
من حيث كونها تمام الموضوع له بهذا الوضع الترخيصي المجوز لاستعمال اللفظ
فيها وإن لم يتوقف على ذلك دلالتها عليها، وحيث كان الملحوظ عند البيانيين
هو حال الدلالة أشاروا إلى كونها التزامية حاصلة بتوسط المعاني الحقيقية.
هذا، ولا يذهب عليك أن المعاني المجازية وإن كانت لازمة للمعاني الحقيقية
ولو بعد انضمام القرينة إلا أن فهمها لا يتوقف على الانتقال إلى المعاني الحقيقية، إذ
كثيرا ما يفهم المراد من اللفظ من جهة القرائن من غير علم بما وضع اللفظ له،
فتكون القرينة هي الدالة على إرادة ذلك المعنى من اللفظ ابتداء من غير انتقال إليه
مما وضع اللفظ له.
وإن شئت قلت: إن اللفظ دال عليه بتوسط تلك القرينة المنضمة إليه، وحينئذ
يشكل الحال في إدراج ذلك في شئ من الدلالات الثلاث، إذ ليس الباعث على
144

الانتقال إليه الوضع ابتداء ولا مع الواسطة، فالظاهر كونها من الدلالات العقلية،
لكن المدلول بتلك الدلالة مندرج في المدلول المطابقي بالتقريب المذكور، فتأمل.
ثم إن ما ذكرناه من الكلام جار في دلالة الحكاية على المحكي، إذ لا حاجة
في دلالتها عليه إلى الوضع، ضرورة حصول الدلالة بنفس التلفظ بها، غاية الأمر
أن يتوقف الالتفات إلى نفس اللفظ على قيام القرينة الصارفة عن جعله آلة لملاحظة
معناه كما هو الغالب في الاستعمالات، ولا يبعد القول بتوقف صحة استعماله كذلك
على ترخيص الواضع وإذنه، لئلا يخرج به الاستعمال عن قانون اللغة.
وكيف كان، فيشكل الحال في إدراجها تحت الحقيقة والمجاز، والظاهر
خروجها عنهما، فهي واسطة بين الأمرين، والظاهر عدم إدراجهم لها في شئ من
أقسام الكلمة إذا لم تكن من الألفاظ الموضوعة وإن نزلت منزلة الاسم في
الاستعمالات.
الثانية
الغالب في أوضاع الألفاظ أن تكون بإزاء المعاني التي يستعمل اللفظ فيها كما
هو الحال في معظم الألفاظ الدائرة في اللغات، وحينئذ فقد يكون ذلك المعنى أمرا
حاصلا في نفسه مع قطع النظر عن اللفظ الدال عليه، فليس من شأن اللفظ إلا
إحضار ذلك المعنى ببال السامع، وقد يكون ذلك المعنى حاصلا بقصده من اللفظ
من غير أن يحصل هناك معنى قبل أداء اللفظ، فيكون اللفظ آلة لإيجاد (1) معناه
وأداة لحصوله.
ويجري كل من القسمين في المركبات والمفردات، فالأول من المركبات:
الإخبارات، والثاني منها الإنشاءات، ولذا قالوا: إن الخبر: ما له خارج يطابقه
أو لا يطابقه، والإنشاء: ما ليس له خارج بل يحصل معناه بقصده من اللفظ.

(1) وكأن تعبير المنطقيين عن الحروف بالأداة مبني على ذلك، إذ كثير من المعاني الحرفية من
هذا القبيل، والمعاني الإنشائية الحاصلة في المركبات إنما يكون بملاحظة وضعها الهيئي،
وهو أيضا من قبيل الأوضاع الحرفية. (منه (رحمه الله)).
145

والنوع الأول من المفردات معظم الألفاظ الموضوعة فإنها إنما تقضي
بإحضار معانيها ببال السامع من غير أن تفيد إثبات تلك المعاني في الخارج، فهي
أعم من أن تكون ثابتة في الواقع أولا، والنوع الثاني منها كأسماء الإشارة
والأفعال الإنشائية بالنسبة إلى وضعها النسبي وعدة من الحروف كحروف النداء
والحروف المشبهة بالفعل ونحوها، فإن كلا من الإشارة والنسبة الخاصة والنداء
والتأكيد حاصل من استعمال (هذا، واضرب، ويا، وإن) في معانيها، فمفاد تلك
الألفاظ إيجاد معانيها الأفرادية في الخارج نظير الإنشاءات في المعاني التركيبية.
هذا، وقد يكون وضع اللفظ لا بإزاء معنى يستعمل فيه، وحينئذ فقد يكون
موضوعا بإزاء أمور اخر غير إفادة المعاني ك‍ (أن المصدرية، وما الكافة، وتنوين
الترنم) ونحوها، وقد يجعل له فائدة معنوية كالتأكيد المستفاد من بعض الحروف
الزائدة ك‍ (من) في قولك: " ما في الدار من رجل " وقد لا يكون فيه ذلك أيضا
كبعض آخر من الحروف الزائدة، والظاهر خروج الجميع عن قسمي الحقيقة
والمجاز كما يظهر من ملاحظة حديهما، وقد يعبر عن هذا النوع من الوضع في غير
الصورة الأخيرة بالوضع الإفادي، كما قد يعبر عن الأول بالوضع الاستعمالي (1)
وقد يكون الوضع لأجل أن يتركب منه الألفاظ الموضوعة كوضع حروف التهجي،
وقد يعبر عنه بالوضع التحصلي.
الثالثة
قد يكون المقصود باستعمال اللفظ إفادة الموضوع له، وقد يكون المقصود
إفادة غير ما وضع له ابتداء، وحينئذ فالغالب أن يكون الموضوع له واسطة في
الانتقال إليه بمعونة القرينة الدالة عليه من غير أن يراد ذلك من اللفظ، بل إنما يكون
واسطة في الانتقال خاصة، وقد لا يكون المعنى الموضوع له واسطة في الانتقال
إليه أيضا، بل يكون القرينة هي المفهمة لإرادة ذلك المعنى من غير انتقال إلى معناه

(1) أي الغالب في الأوضاع. (منه (رحمه الله)).
146

الموضوع له أصلا كما أشرنا إليه، وقد يكون المقصود بالإفادة غير ما وضع له،
لكن يراد من اللفظ خصوص ما وضع له ابتداء لينتقل منه إلى المعنى المقصود.
ولا إشكال في كون الاستعمال على النحو الأول حقيقة، وعلى الوجه الثاني
مجازا، وأما الثالث فيندرج في الحقيقة بملاحظة ما يتراءى من ظاهر حدها، نظرا
إلى استعمال اللفظ حينئذ في المعنى الحقيقي ابتداء وإن جعل ذلك واسطة في الانتقال
إلى غيره. وفيه: ما سيأتي الإشارة إليه. وهذه الطريقة أيضا شائعة في الاستعمالات.
منها: العام المخصوص على ما هو الأظهر فيه من استعماله في العموم، ودلالة
المخصص على ما هو المراد بحسب الواقع، حسب ما يأتي الكلام فيه في محله.
ومنها: الكناية حيث إن الانتقال إلى المعنى الكنائي إنما يكون بتوسط إرادة
الموضوع له من اللفظ ابتداء، لينتقل منه إلى لازمه المقصود بالإفادة، وقد جعلها
علماء البيان قسيما للحقيقة والمجاز، حيث اعتبروا في المجاز لزوم القرينة
المعاندة لإرادة الحقيقة، وجعلوا الكناية خالية عنها.
قلت: والظاهر أن مقصودهم بذلك عدم اعتبار قيام القرينة على كون المراد
هو بيان المعنى الكنائي خاصة كما هو الشأن في المجاز، بل يعم ما لو كان المراد
هو ذلك أو أريد به بيان الأمرين معا، فالمعتبر في الكناية هو كون المعنى الكنائي
مقصودا بالإفادة من الكلام، سواء كان الموضوع له أيضا مقصودا بالإفادة معه
أو لا، فهو أعم من الوجهين، بخلاف المجاز فإن المقصود فيه إفادة المعنى
المجازي خاصة من دون إفادة المعنى الحقيقي، فهو ملزوم للقرينة المعاندة.
والسر فيه ظاهر مما قررناه، فإنه لما كان اللفظ في المجاز مستعملا في معناه
المجازي لزمه وجود القرينة المعاندة حسب ما ذكروه، لمنافاة استعماله في المعنى
المجازي لاستعماله في المعنى الحقيقي.
وأما في الكناية فلما كان المستعمل فيه هو الموضوع له وأريد الانتقال إلى
المعنى الكنائي بتوسطه كان قيام القرينة على كون المقصود من الكلام إفادة ذلك
غير مانع عن كون إفادة الموضوع له مقصودا معه أيضا، فلذا قالوا: إن القرينة
147

المعاندة غير لازمة في الكناية، إذ يتم استعمالها بدونها، وقيامها في بعض
المقامات من المقارنات الاتفاقية وليس من الأمور المعتبرة في تحققها، وأما قيام
القرينة من الحال أو المقال على كون المعنى الكنائي مقصودا بالذات في الجملة
فمما لا مجال للتأمل فيه، إذ لا شك في انصراف الإطلاق مع عدمه إلى الحقيقة
على الوجه الأول، فهي مشاركة للمجاز في لزوم القرينة المفهمة لمشاركتهما
في الخروج عن الظاهر.
وإنما التفاوت بينهما في كون المستعمل فيه في المجاز ابتداء غير الموضوع له
غالبا، وفي الكناية هو الموضوع له، والمقصود منه الانتقال إلى لازمه أو ملزومه
والحكم به.
فإن قلت: إن المعنى الحقيقي قد يراد ابتداء في بعض المجازات ويقصد منه
الانتقال إلى المعنى المجازي كما يأتي الإشارة إلى عدة منها، فلا يتم ما ذكر من
الوجه في الفرق بينه وبين الكناية، ولا يمكن الفرق أيضا باعتبار وجود القرينة
المعاندة في المجاز وعدمه في الكناية، لإمكان وجود القرينة المعاندة في الكناية
أيضا وإن لم تكن من لوازمها، فأي فرق بينها وبين المجاز في تلك الصورة؟ وقد
ظهر بذلك أيضا عدم اتجاه ما ذكر من الوجه في اعتبار القرينة المعاندة في المجاز
دون الكناية.
قلت: الانتقال في الكناية إنما يكون من أحد المتلازمين في الوجود إلى
الآخر، فيحكم بثبوت أحدهما حتى ينتقل إلى ثبوت الآخر، فهناك قد يقصد إثبات
اللازم خاصة، فيكون الحكم بثبوت الآخر لمجرد الوصلة إليه، وقد يراد منه إثبات
الأمرين من غير منافاة بين القصدين أصلا، بخلاف الحال في المجاز وإن فرض
جعل إرادة المعنى الحقيقي وصلة إلى الانتقال إليه بمعونة القرينة، فإنه لما كان
الانتقال على غير النحو المذكور لم يمكن الجمع بينهما، كما في التمثيل والعام
المخصوص ونحوهما، فالفارق بينهما كون التعبير في الكناية على نحو لا ينافي
إرادة غير الموضوع له لإرادة الموضوع له، بخلاف المجاز إذا لم نقل بجواز
148

استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل ولو قلنا بجوازه للمنافاة بينهما أيضا بحسب
الإرادة الخاصة المتعلقة بكل منهما، ولذا نص أهل البيان بكون المجاز ملزوما
للقرينة المعاندة لإرادة الحقيقة، فالقصدان في الكناية مرتبطان بخلاف الاستعمال
في الحقيقة والمجاز، لانفصال كل من الإرادتين هناك عن الآخر، فكأن كلا منهما
هو المراد من اللفظ دون الآخر، حسب ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
هذا على ما هو الأظهر في تفسير الكناية، ويستفاد من كلام السكاكي حيث
نص على أن الحقيقة في المفرد والكناية تشتركان في كونهما حقيقتين، وتفترقان
في التصريح وعدمه.
ومن التفتازاني في التلويح حيث قال: إنه لا بد في الكناية من أن يقصد
تصوير المعنى الأصلي في ذهن السامع لينتقل عنه إلى المكنى عنه، فيكون
الموضوع له مقصودا في الكناية من حيث التصور دون التصديق. انتهى.
فإن ظاهر كلامه - بل صريحه - أن الموضوع له مقصود في المقام من اللفظ
إلا أنه ليس مقصودا بالتصديق، بل الغرض منه الانتقال إلى المكنى عنه والتصديق
به، فيكون المستعمل فيه في الكناية هو الموضوع له حسب ما ذكرناه.
فما أورد عليه بعض الأفاضل - من أنه لا بد في المجاز أيضا من تصوير
المعنى الحقيقي ليفهم المعنى المجازي المشتمل على المناسبة المصححة
للاستعمال، فدعوى كون الموضوع له مقصودا في الكناية دون المجاز تحكم - بين
الاندفاع، للفرق البين بين المقامين، فإن المعنى الموضوع له يراد من اللفظ في
الكناية بخلاف المجاز، إذ لم يستعمل اللفظ فيه إلا في المعنى المجازي، غاية
الأمر أنه يدل على المعنى الحقيقي بمقتضى الوضع إن كان عالما به، وينتقل منه
إلى ما استعمل فيه اللفظ بمعونة القرينة، وأين ذلك من استعمال اللفظ فيه وإرادة
تصويره في ذهن المخاطب كما في الكناية.
وقد يقال بجواز كون المستعمل فيه في الكناية هو المعنى الكنائي خاصة، غير
أنه يجوز معه إرادة الموضوع له أيضا، إذ ليس معها قرينة معاندة لإرادة الحقيقة.
149

وتوضيح ذلك: أن المعنى الكنائي مقصود من الكناية قطعا، إما باستعمال
اللفظ فيه فلا يكون الموضوع له مرادا أصلا، أو باستعماله في الموضوع له
والانتقال إليه بتوسطه، فيكون الموضوع له مرادا معه أيضا.
وقد يستظهر ذلك من حدها المعروف، من أنها لفظ أريد به لازم معناه مع
جواز إرادته معه بحمله على كون اللازم مرادا من العبارة قطعا، وأما الموضوع له
فيمكن أن يراد معه أيضا بأن يستعمل اللفظ في الموضوع له وينتقل منه إلى اللازم،
وأن لا يراد معه بأن يستعمل في نفس اللازم لينتقل إليه من المدلول الحقيقي كما
في المجاز، فعلى الاحتمال الأول يكون حقيقة أصولية، وعلى الثاني مجازا
أصوليا، وحيث إنها محتملة للأمرين وليس معها قرينة صارفة عن إرادة الموضوع
له رأسا جعلوها في البيان قسما ثالثا، وجعلوا المائز بينها وبين المجاز وجود
القرينة المانعة.
وفيه: أن مجرد دوران اللفظ بين الوجهين المذكورين لا يجعلها قسما ثالثا
في المقام، غاية الأمر أن يصح حمل اللفظ على الحقيقة بالنحو المذكور وعلى
المجاز، ومن البين أن عدهم الكناية قسيما للحقيقة والمجاز ليس مبنيا على مجرد
الاصطلاح لمجرد قيام الاحتمال المذكور، بل ليس إلا لكونها نحوا خاصا من
الاستعمال يخالف المجاز والحقيقة بالتفسير المذكور في كلامهم، وهو ما بيناه،
والظاهر انطباق الحد المذكور على ما ذكرناه، إذ قضية ما ذكر في الحد كون المعنى
الكنائي مرادا قطعا وكون إرادة الموضوع له معه أيضا محتملا ومن البين أن ذلك
إنما يصح مع عدم استعمال اللفظ في المعنى الكنائي ابتداء، إذ مع استعماله كذلك
فيه لا يصح استعماله في المعنى الحقيقي أيضا إلا على القول بجواز استعمال اللفظ
في حقيقته ومجازه، وليس ذلك من الكناية في شئ كما سنبينه إن شاء الله.
فالمقصود من إرادة اللازم منها ليس باستعمالها فيه ابتداء، بل بكونه مقصودا
بالإفادة من العبارة وإن كان بتوسط فهم ملزومه، وحينئذ فيمكن أن يكون الملزوم
مقصودا بالإفادة أيضا، فيراد بالكلام المذكور إفادة أمرين وأن لا يكون بأن يكون
150

المراد منه إفادة اللازم خاصة، وليس المقصود جواز ذلك فعلا في جميع
الكنايات، بل المراد أن إرادة المعنى الكنائي من حيث هو لا تنافي إرادة المعنى
الموضوع له كما تنافيها إرادة المعنى المجازي، فالاحتمال المذكور قائم في
الكناية في نفسها مع قطع النظر عن الخارج، فلا ينافيه قيام قرينة خارجية مانعة
عن إرادة الموضوع له حسب ما مر بيانه، كيف؟ ولو حمل العبارة على غير ذلك
لزم اندراج الكناية المجامعة للقرينة المانعة عن كون الموضوع له مقصودا بالإفادة
في المجاز كما هو اللازم على التفسير المذكور، فلا ينعكس الحد.
ومما قررنا ظهر ما في كلام التفتازاني في شرح التلخيص، حيث نص في غير
موضع منه على أن المستعمل فيه في الكناية إنما هو غير ما وضع اللفظ له، إلا أنه
يجوز إرادة الموضوع له أيضا، قال في أوائل بحث الحقيقة والمجاز: إن الكناية لم
يستعمل في الموضوع له، بل إنما استعمل في لازم الموضوع له مع جواز إرادة
الملزوم، ومجرد جواز إرادة الملزوم لا يوجب كون اللفظ مستعملا فيه. إنتهى.
إذ من الظاهر أنه إن قام هناك قرينة توجب الصرف عن الموضوع له فلا
مجال لاحتمال إرادته، ويندرج ذلك إذن في المجاز، وليس من الكناية في شئ
وإن لم تقم هناك قرينة صارفة تعين الحمل على الحقيقة أخذا بالقاعدة المعلومة
التي جرت عليها المخاطبات من بدو اللغة، فقيام احتمال إرادة الموضوع له على
الوجه المذكور مما لا وجه له.
فإن قلت: إنه لا بد من قيام القرينة على إرادة المعنى الكنائي قطعا، لكن يقوم
هناك احتمال إرادة الموضوع له معه وعدمها، وهو الفارق بينها وبين المجاز.
قلت: إن كان المقصود من الاحتمال المذكور استعماله في كل من المعنيين
المذكورين كان مبنيا على جواز استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي
وعدم كونه مرجوحا بالنسبة إلى استعماله في المجازي خاصة، وأما مع عدم
جوازه أو مرجوحيته بالنسبة إلى استعماله في خصوص المجازي فلا مجال
لهذا الاحتمال.
151

وإن أريد استعماله في المجموع المركب من المعنيين فلا شك في كون
الاستعمال هناك مجازيا متوقفا على وجود القرينة الصارفة، وليس ذلك من
الكناية في شئ وهو ظاهر.
وقد ينزل ما ذكره على ما بيناه، ويظهر الوجه فيه بملاحظة ما يأتي بيانه في
آخر هذه الفائدة إن شاء الله.
فتلخص مما ذكرناه أن الكناية مستعملة ابتداء في معناه الحقيقي لينتقل منه إلى
الأمر الخارج عنه، سواء كان المقصود هو إفادة ذلك الأمر الخارج خاصة أو إفادة
المعنى الحقيقي معه أيضا، ومن البين أن في ذلك أيضا مخالفة للظاهر، فلا تحمل
العبارة عليه إلا مع قيام قرينة على كون الغرض المسوق له الكلام بيان غير مدلوله
الحقيقي في الجملة، سواء كان المدلول الحقيقي مقصودا بالإفادة أيضا أو لا.
وهذا الوجه كما ترى طريق خاص في التعبير يخالف التعبير بكل من الحقيقة
والمجاز، ويقع فيه الاختلاف في الدلالة وضوحا وخفاء على نحو المجاز، ولذا
جعلوه أحد المقاصد في فن البيان، فجعلوا الكناية قسيمة للحقيقة والمجاز،
فقسموا الألفاظ على أقسام ثلاثة، واعتبروا في المجاز الاقتران بالقرينة المعاندة
لإرادة الحقيقة، فتأمل.
ومنها: الاستعارة على قول السكاكي، حيث ذهب إلى أنها مستعملة في
معناها الحقيقي، وأن التصرف فيها في أمر عقلي فلا يطلق اسم المشبه به على
المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به، فإذا كان نقل اسم المشبه به إلى
المشبه من جهة نقل معناه لم يكن مجازا لغويا، نظرا إلى ظاهر حده.
واحتج لذلك بأنه لولا ابتناء الاستعارة على ما ذكر لم تكن مشتملة على
المبالغة، إذ لا مبالغة في نقل مجرد اللفظ كما في نقل لفظ المشبه به إلى المشبه
بالوضع الجديد، مع ما هو ظاهر من حصول المبالغة فيها زيادة على التشبيه.
ورد ذلك بظهور إطلاق اسم المشبه به على المشبه وظهور عدم اندراج المشبه
في المشبه به على سبيل الحقيقة، فلا محالة يكون مستعملا في غير ما وضع له،
152

وهو معنى المجاز، والمبالغة إنما تحصل هناك من جهة ملاحظة المشابهة والتشبيه
المضمر في النفس، فالفرق بينها وبين نقل الاسم بالوضع الجديد ظاهر، والفرق
بينها وبين التشبيه التصريح بالمغايرة وعدم اندراج المشبه في المشبه به هناك
وإيهام اندراجه فيه في الاستعارة، نظرا إلى ظاهر اللفظ لإضمار التشبيه في
النفس، فيكون أبلغ في إظهار المشابهة حيث أطلق عليه اسم المشبه به، ولذا اختار
جمهور أهل البيان كونها من قبيل المجاز اللفظي.
أقول: إن مجرد إطلاق اسم المشبه به على المشبه مع كون المشبه خارجا عن
أفراده الحقيقية لا يقضي بالتزام استعمال اللفظ في غير ما وضع له، للفرق بين
استعمال اللفظ في المعنى وإطلاق الكلي على الفرد، ألا ترى أن استعمال الكلي
في خصوص الفرد مجاز مع أن إطلاقه على ذلك ليس من المجاز، ألست في
قولك: " رأيت إنسانا " قد أطلقت الانسان على خصوص الفرد الذي رأيته، مع أنه
ليس مجازا قطعا لاستعماله في نفس مفهومه، ينبهك على ذلك أنك لو قلت:
" رأيت إنسانا " وقد رأيت شجرا كان قولك كذبا، ولم يكن الاستعمال غلطا، فإنك
لم تستعمل قولك: " إنسانا " إلا في مفهوم فرد من الانسان الغير الصادق على
الشجر، وكذا الحال في قولك: " رأيت عالما " وقد رأيت زيدا الجاهل، وقولك:
" رأيت زيدا العالم " وهو جاهل في الواقع، فلو اشتبه عليك الحال فزعمته على ما
أخبرت ظهر عليك حصول الغلط في الحكم دون الغلط في الاستعمال، وكذا في
الأخير بالنسبة إلى الحكم الضمني اللازم من التوصيف، وهذا هو الوجه في عدم
كون الأسامي الواردة على الشبح المرئي من بعيد بحسب اختلاف اعتقاد المتكلم
فيه غلطا، لاستعمالها فيما وضعت لها، وإطلاقها على ذلك من جهة اعتقاد انطباق
كل من تلك المعاني معها، وإنما الغلط هناك في الاعتقاد المذكور.
إذا تبين ذلك ظهر أن مجرد إطلاق اسم المشبه به على المشبه لا يقضي
باستعماله في مفهومه، لإمكان استعماله في المفهوم الذي وضع اسم المشبه به
بإزائه وإطلاقه على ذلك الفرد لدعوى انطباقه عليه من غير استعمال اللفظ في
153

المفهوم المفروض ليكون مجازا، فالمعنى الموضوع له هو المراد من اللفظ، إلا أنه
غير منطبق على ما أطلق عليه على سبيل الحقيقة، ففيها مخالفة للظاهر من تلك
الجهة وهي جهة أخرى غير استعمال اللفظ فيه أولا الذي عليه مدار الكلام في
المقام، فالاستناد في استعمال الاستعارة في غير ما وضع له إلى الإطلاق المذكور
غير متجه، وكذا دعوى استعمالها فيما وضع له البتة، إذ لا شاهد على تعينه كما
عرفت وإمكان استعمالها في غير ما وضع له تنزيلا له منزلة الموضوع له من جهة
المشابهة، كأن يراد بالأسد في " أسد يرمي " مطلق الشجاع الصادق على الفرد
المخصوص المتعلق للحكم في الاستعمال المفروض.
فظهر بما قررنا تصحيح الاستعارة بكل من الوجهين المذكورين ودوران
الأمر فيها بالخروج عن الظاهر على كل من النحوين، إلا أن الوجه الأول أبلغ
فلا يتعين أحدهما بحسب الاستعمال وإنما يتعين بملاحظة المستعمل، نعم الظاهر
في بعض أنواع الاستعارة استعمال اللفظ فيما وضع له، والمقصود منها الانتقال إلى
ما يشبهه أو أمر آخر.
فمن ذلك: الاستعارة في المركبات ويسمى بالتمثيل، كما في قولك: " أراك
تقدم رجلا وتؤخر أخرى " المستعمل في مقام بيان تردد المخاطب، فإن من البين
أن تلك المفردات لا يمكن إخلاؤها عن المعنى.
والقول باستعمال المركب في المعنى الذي شبه بمعناه الأصلي من دون
استعمال المفردات في شئ بين الفساد، لوضوح أن المعنى التركيبي إنما يؤخذ من
معاني المفردات، فإذا لم تكن مستعملة في شئ لم يعقل استعمال المركب في
المعنى المقصود، فهي لا محالة مستعملة في معانيها الحقيقية أو المجازية، وحيث
إن استعمالها في المعاني الذي يتركب منها المعنى المجازي المقصود في المقام
غير ظاهر بل فاسد - ولو أمكن تصحيحه في المثال المفروض على بعض الوجوه
الركيكة فلا يجري في غيره - انحصر الأمر في استعمالها في معناها الحقيقي،
فيكون الغرض من استعمالها في معانيها هو إحضار معناها التركيبي في ذهن
154

السامع لينتقل منها بمعونة القرينة إلى ما يشابهه، فالمقصود من تأدية العبارة
المذكورة هو الحكم بالمعنى المجازي، إلا أن اللفظ غير مستعمل فيه وإنما استعمل
في معناه الحقيقي، للانتقال إلى المجازي المشابه له بواسطة القرينة حسب ما بيناه.
هذا ما يقتضيه التحقيق في المقام، وقد يرجع إليه ما ذكره علماء البيان في بيانه،
إلا أن تطبيق كلامهم عليه لا يخلو عن خفاء.
ومن ذلك: الاستعارة التخييلية كما في قوله: " وإذا المنية أنشبت أظفارها "
فإن المقصود منها إثبات ذلك الأمر المختص بالمشبه به، لتخييل أن المشبه من
جنسه، وهو إنما يكون باستعمالها فيما وضعت له.
ومنها: المبالغة بأصنافها الثلاثة من التبليغ والإغراق والغلو، فإن المبالغة هناك
إنما تحصل باستعمال اللفظ فيما وضع له، غير أنه ليس المقصود منه إثبات ذلك
المعنى على سبيل الحقيقة، بل المراد المبالغة في الأمر المقصود في ذلك المقام من
المدح أو الذم ونحوهما.
هذا، ولا يذهب عليك أن الصور المذكورة كلها مندرجة في حد الحقيقة على
ظاهر حدها المعروف بين علماء الأصول والبيان، لما عرفت من استعمال اللفظ
في معناه الموضوع له في الجميع، مع أن الظاهر بعد التأمل في الاستعمالات عدم
إندراج شئ منها في الحقيقة، واتفق الفريقان على عد بعضها من المجاز، واختلفوا
في الكناية فالبيانيون جعلوها قسما برأسه، وظاهر علماء الأصول إدراجها في
المجاز، وقد نص عليه بعضهم بل ربما يحكى إجماعهم عليه، وحينئذ يشكل
الحال في الحد المشهور بالنسبة إلى كل من الحقيقة والمجاز.
والذي يخطر بالبال في تصحيح هذا المرام أن يقال: إن المراد باستعمال اللفظ
في المعنى في المقام هو إطلاق اللفظ وقصد إفادة المعنى الملحوظ بأن يكون ذلك
المعنى أول ما يراد حقيقة من اللفظ، سواء تقدمه مراد صوري جعل واسطة في
الانتقال إليه كما في الصور المفروضة، أو لا كما في الحقائق وسائر أنحاء المجاز.
فيتفرع على ذلك إدراج الكناية في أحد وجهيها في الحقيقة باصطلاح أهل
155

الأصول، وهو ما إذا أريد من اللفظ إفهام معناه الحقيقي وأريد الانتقال منه إلى
لازمه أيضا، فيكون المعنيان مقصودين بالإفادة، فالمستعمل فيه - على ما قررنا -
هو المعنى الحقيقي خاصة، إذ ليس لازمه مرادا بالأصالة ابتداء، وإنما أريد بتوسط
إرادة المعنى الحقيقي، فهو مدلول التزامي للفظ قد صارت دلالة اللفظ عليه من
جهة كونه لازما لما أريد منه مقصودا للمتكلم من غير أن يستعمل اللفظ فيه، ولذا
لا يكون قصده لتلك الدلالة تصرفا في اللفظ ليتوقف جوازه على ترخيص الواضع
كما هو الحال في استعمال اللفظ في معانيه المجازية، فبعد استعمال اللفظ في معناه
الحقيقي وتعلق القصد به يحصل الدلالة على ذلك اللازم قهرا، ولا يتفاوت الحال
في استعمال اللفظ بين أن تكون تلك الدلالة الخارجية مقصودة للمتكلم أيضا أو لا.
فالفرق بينه وبين ما إذا لم يكن المعنى الحقيقي مقصودا بالإفادة ظاهر
للمتأمل، لوضوح حصول التصرف في اللفظ هناك، حيث أطلق وأريد به غير معناه
الموضوع له، فيتوقف على ترخيص الواضع له لئلا يخرج عن كلام العرب، من غير
فرق بين ما يستعمل اللفظ في غير الموضوع له ابتداء وما يجعل إرادة المعنى
الموضوع له صورة وصلة إليه، فإنه حينئذ هو الذي يستعمل اللفظ فيه على
الوجهين.
فظهر بما ذكرنا عدم اندراجها إذن في استعمال اللفظ في معناه الحقيقي
والمجازي معا، وسيجئ لذلك مزيد توضيح في محله إن شاء الله.
فإن قلت (1): إذا كان المناط في استعمال اللفظ في المعنى أن يكون ذلك

(1) قوله: " فإن قلت: إذا كان المناط... الخ " غرض المورد إبطال التفسير المذكور للاستعمال،
بأنه لو كان معنى استعمال اللفظ في المعنى ما ذكر من كونه مقصودا أصليا أوليا من اللفظ
وإن تقدمه مراد صوري لمجرد الايصال إليه لزم أن يكون اللفظ مستعملا في مثل التلذذ
بمخاطبة المحبوب، حيث يكون هو الغرض الأصلي من الخطاب أو في لازم الحكم، حيث
يكون الغرض المسوق له الكلام إفادته فلا يكون حقيقة، ضرورة أن اللفظ غير موضوع لتلك
الأغراض، وبطلانه ظاهر. ولو جعل الثاني كون اللفظ في الموارد المذكورة غلطا نظرا إلى انتفاء
الوضع والمناسبة للموضوع له لوضوح انتفاء العلاقة المصححة للاستعمال بين مضمون
الخبر ولازم الإخبار - كما سينبه عليه في ذيل الجواب - كان بطلان الثاني أوضح، وإنما عدل
عنه لأنه لم يميز بعد بين لازم الإخبار ولازم المخبر به حتى يفرق بينهما بانتفاء العلاقة في
الأول وثبوتها في الثاني، وإنما يتضح ذلك فيما يذكره في الجواب، وإنما اقتصر هنا على
لزوم انتفاء الحقيقة. للشيخ محمد سلمه الله تعالى. [وهو ابن أخت المصنف وتلميذه
والمصحح للطبع الحجري وكان صهرا له على بنته كما مر في المقدمة]. من المطبوع (1).
156

المعنى هو المقصود الأصلي الأولي من العبارة بمعنى أن لا يتقدمه مقصود أصلي
آخر يكون الانتقال إليه من جهته، وإن تقدمه إرادة معنى آخر لمجرد الايصال إليه
لزم خروج كثير من الاستعمالات عن الحقيقة، كما إذا كان الغرض المسوق له
الكلام إفادة لازم الحكم أو كان (1) الغرض الأصلي هو التلذذ بمخاطبة المحبوب
ونحو ذلك من الأغراض، مع أنه من الظاهر إدراج ذلك كله في الحقيقة، فما الفارق
في المقام؟
قلت (2): من البين أن هناك لوازم لنفس الإخبار والمخاطبة ولوازم للمعنى

(1) قوله: " أو كان الغرض الأصلي هو التلذذ بمخاطبة المحبوب... الخ " لا يخفى وهن
الإشكال المذكور بالنسبة إلى مثل التلذذ بمخاطبة المحبوب، لأنه اعتبر في الاستعمال كون
المعنى مقصودا بالإفادة، ومن البين أن التلذذ وأشباهه من الأغراض ليست مما يقصد إفادتها
للمخاطب وانتقاله إليها لوضوح عدم صلوحها للإفادة، وأن المتكلم إنما يقصد نفس حصولها
في الخارج، فكان الأولى الاقتصار في تقرير الإشكال على لازم الحكم فإنه المقصود
بالإفادة للمتكلم، فجعلهما من باب واحد والجواب عنهما بوجه واحد ليس على ما ينبغي.
للشيخ محمد (سلمه الله). من المطبوع (1).
(2) قوله: " قلت: من البين... الخ " محصل الجواب منع الملازمة المذكورة، وتوضيحه أن المراد
بما اعتبرناه في معنى الاستعمال من كون المعنى مقصودا أصليا أن لا يكون مقصودا لمجرد
الانتقال منه إلى غيره كما هو الحال في أحد وجهي الكناية، وحينئذ فلا يلزم ما ذكر من كون
اللفظ مستعملا في لازم الحكم حيث يكون المقصود بالإفادة للمتكلم، إذ ليس المعنى
الموضوع له حينئذ واسطة في الانتقال إلى اللازم المذكور، لوضوح أن الانتقال إلى اللازم
إنما يكون بتوسط ملزومه، والمفروض أن ملزومه الإخبار والحكم دون نفس المعنى
الموضوع له، فإنما يراد الانتقال إلى اللازم المفروض من ملزومه الذي هو الإخبار، والحكم
لا من نفس المعنى الموضوع له. وبالجملة: ففرق بين بين قولك: " زيد كثير الرماد " وغرضك
من كثرة الرماد مجرد الانتقال إلى جوده وقولك: " مات زيد " وغرضك من الإخبار بذلك
مجرد انتقال المخاطب إلى علمك به، فإنهما وإن اشتركا في أن المعنى الموضوع له مراد من
اللفظ فيهما، إلا أنك في المثال الأول إنما قصدت المعنى الموضوع له أعني كثرة الرماد
لمجرد الانتقال منه إلى لازمه، وفي الثاني لم يقصد المعنى الموضوع له أعني موت زيد
بحسب الواقع ليكون ذلك المعنى واسطة في الانتقال إلى غيره، وكون غرضك من الإخبار
المذكور أن ينتقل المخاطب إلى لازم ذلك الإخبار أمر آخر لا ربط له بإرادة المعنى
الموضوع له في نفسه، أي لا لأجل الانتقال منه إلى غيره، ولذا قلنا: يكون المعنى الموضوع
له مقصودا أصليا من اللفظ هنا واللفظ مستعملا فيه وحقيقة، بخلاف الأول فإن المقصود
للأصلي عن اللفظ فيه هو اللازم واللفظ مستعمل فيه ومجاز. للشيخ محمد (سلمه الله). من
المطبوع (1).
157

المخبر به، فإن كان المقصود بالإفادة هو اللازم على الوجه الثاني فهو يندرج في
المجاز وينطبق حده عليه، لكونه من استعمال اللفظ في غير ما وضع له مع مناسبته
له، وأما إرادة اللازم على الوجه الأول فليس من استعمال اللفظ في ذلك أصلا، بل
المستعمل فيه هو المعنى الحقيقي، إلا أنه ليس مقصود المتكلم من الكلام إفادة
مضمونه، بل سائر الفوائد المترتب على ذلك الكلام من لازم الحكم أو غيره،
فالمعنى الموضوع له مقصود بالذات من ذلك الكلام بالنظر إلى ما قصد من الألفاظ
وإن لم يكن ذلك هو المقصود بالذات من التكلم، ولا يعتبر في قصد المعنى من
اللفظ بالذات أن يكون المقصود بالذات من التكلم إفادة ذلك، لوضوح أنه قد
يكون المراد أمورا اخر مع عدم استعمال اللفظ في شئ منها.
وبتقرير أوضح: أن لوازم الكلام إما أن يكون من لوازم المعنى الموضوع له
فلا يراد من الكلام إفادة الموضوع له بل إفادتها فيكون ذلك إذن من المجاز، وإما
أن يكون من لوازم الإخبار أو التكلم أو المخاطبة ونحوها. فكونها هي المقصودة
بالإفادة لا ربط له باستعمال اللفظ، كيف ولو كان اللفظ هناك مستعملا في تلك
اللوازم لزم أن يكون غلطا، إذ لا واسطة بين الحقيقة والمجاز، والاستعمال
الصحيح منحصر فيهما عندهم، وذلك لانتفاء المناسبة بين الموضوع له وبينها،
ألا ترى أن المعنى الموضوع له لقولك: " زيد مات " هو موت زيد بحسب الواقع
158

وهو مما لا ربط له بعلم المتكلم، وليس بينهما مناسبة مصححة لاستعمال اللفظ
الموضوع بإزائه فيه، وإنما هو من لوازم الإخبار به حيث إن الإخبار بشئ يقضي
بعلم المخبر بمضمون ما يخبر به، فذلك من الفوائد المترتبة على الكلام، وقد كان
مقصود المخبر حينئذ هو إفادة تلك الفائدة دون الفائدة الأصلية المترتبة على ذلك
الكلام، أعني إفادة ذلك المخبر به، وهذا مما لا ربط له بالمعنى الذي يستعمل فيه
اللفظ أصلا.
ويعرف بالتأمل فيما قررناه أن إرادة التذلل والتخضع ونحو ذلك من الكلام
على الوجه المذكور كما في قولك: " أنا عبدك ومملوكك " ونحو ذلك من القسم
المتقدم، فيكون اللفظ المستعمل على ذلك الوجه مندرجا في المجاز، إلا أن
المجاز هناك غالبا في المركبات، فتأمل في المقام.
فصار المتحصل: أنه ليس المراد بالمستعمل فيه في المقام ما أريد من اللفظ
ابتداء ولو من جهة التوصل إلى غيره، بل المراد ما كان المقصود الأصلي الأولي
من اللفظ إفادته، فحينئذ إن كان المقصود من اللفظ كذلك إفادة ما وضع له كان
حقيقة، وإن أراد مع ذلك الانتقال إلى لازم ذلك المعنى أيضا - كما هو أحد وجهي
الكناية - وإن كان المقصود كذلك إفادة غيره كان مجازا، سواء كان ذلك بتوسط
إرادة الموضوع له أو بدون توسطها، مع قيام القرينة الصارفة عن إرادة الموضوع
له مطلقا ومع عدمه، ويندرج في ذلك الوجه الآخر من الكناية، هذا على اصطلاح
الأصوليين.
وأما على اصطلاح البيانيين فإن كان المقصود بالإفادة هو المعنى الموضوع
له خاصة فهو الحقيقة، وإن كان المقصود بالإفادة هو غير ما وضع له مع قيام
القرينة المعاندة لإرادة الموضوع له فهو المجاز، وإن كان غير ما وضع له مقصودا
بالإفادة من دون اعتبار قرينة معاندة لإرادة الموضوع له فهو الكناية، سواء كان
الموضوع له مقصودا بالإفادة أيضا أو لا.
فالاصطلاح الأصولي في كل من الحقيقة والمجاز مغاير للاصطلاح البياني،
159

وهما بالمعنى الأول أعم مطلقا منهما بالمعنى الثاني، ولتحقيق الكلام في الكناية
محل آخر ليس هذا موضع ذكره، ولعله يجئ الإشارة إلى بعض منه في بحث
استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه إن شاء الله تعالى.
وقد ظهر بما ذكرنا أن استعمال الاستعارة على الوجهين المذكورين من
المجاز اللفظي، إذ ليس المقصود الأصلي من اللفظ هو بيان المعنى الحقيقي، فما
ذكره السكاكي - من كونها حقيقة لغوية بناء على الوجه الأول وأن التصرف حينئذ
في أمر عقلي خاصة - ليس على ما ينبغي، فالأظهر فيها هو القول المشهور.
هذا غاية ما يوجه به المقام، ومع ذلك فتصحيح المقصود بذلك لا يخلو عن
كلام، وتطبيق الحد عليه لا يخلو عن خفاء، والاتيان بمثل تلك التعبيرات في
الحدود والتقسيمات غير خال عن إشكال، وكأن وضوح الحال عندهم من
الخارج قرينة متممة للحد، فتأمل.
الرابعة
الوضع باعتبار الموضوع قد يكون شخصيا وقد يكون نوعيا، وذلك لأن
الواضع إما أن يلاحظ شخصا من اللفظ متعينا بمادته وهيئته ويضعه بإزاء المعنى
فالوضع فيه شخصي، لتعلقه بشخص معين من اللفظ غير ممكن الصدق على ألفاظ
مختلفة وإن كان بحسب الواقع كليا لتعدده بحسب تعدد أزمنة الاستعمال وتعدد
المستعملين ولو في زمان واحد، فإن ذلك لا يوجب تعددا في نفس اللفظ، وإنما
يقضي بتعدد الاستعمال، فوحدة اللفظ من قبيل الوحدة النوعية لا ينافي التكثر
في الوجود.
فليس المراد بالشخص في المقام ما لا يمكن صدقه على كثيرين كما يتراءى
في بادئ النظر، بل المراد به - كما قلنا - هو اللفظ المخصوص الذي يستحيل
صدقه على ألفاظ مختلفة، وحينئذ فإذا وضع ذلك اللفظ لمعنى تعين له حيث ما
وجد من غير أن يحتاج تعين تلك الجزئيات له إلى معين آخر، بل يتعين له بذلك
الوضع، وحينئذ فلا وجه لجعل اللفظ حال الوضع مرآة لمستعملاته ووضع
160

خصوص كل من تلك المستعملات بإزاء المعنى المقصود، فإن الاعتبار المذكور
تعسف ركيك لا داعي إلى الالتزام به ولا إلى احتماله في المقام مع ظهور خلافه.
وإما أن يلاحظ حال الوضع أمرا عاما شاملا لألفاظ مختلفة شمول الكلي
لجزئياته أو شمول العرض لأفراد معروضه، فيضع ذلك الأمر بإزاء المعنى أو
يجعل ذلك مرآة لملاحظة ما يندرج تحته من الألفاظ الخاصة أو الخصوصيات
العارضة لها، ويضع كلا منها بإزاء ما يعينه من المعنى، فيكون الوضع حينئذ نوعيا.
أما على الأول فظاهر لكون الموضوع نفس النوع، وأما على الثاني فلكون
النوع هو المتصور حال الوضع، والأمر الموضوع حينئذ وإن كان أشخاص تلك
الألفاظ أو الخصوصيات العارضة للألفاظ الخاصة إلا أنها غير متصورة بشخصها،
بل في ضمن النوع حيث جعل تصور النوع مرآة لملاحظتها، فلما كان الملحوظ
حال الوضع هو النوع وكانت الأشخاص الموضوعة متصورة إجمالا بتصور ذلك
النوع عد الوضع نوعيا.
فالوضع النوعي يتصور في بادئ الرأي على كل من الوجوه الأربعة
المذكورة، لكن الوجه الأول منها غير حاصل في وضع الألفاظ، ضرورة تعلق
الوضع فيها بخصوص كل واحد منها.
وأخذ اللفظ على وجه عام ووضعه للمعنى من غير أن يتعلق الوضع بلفظ
مخصوص غير معهود في وضع الألفاظ، فالقول به في وضع المشتقات - بأن يجعل
الموضوع هناك هو مفهوم ما كان على هيئة فاعل مثلا الصادق على تلك
المصاديق من غير أن يتعلق الوضع بخصوص شئ منها - تعسف ركيك.
ولو قلنا بوجود الكلي الطبيعي في الخارج فإنه إن أريد بذلك كون المفهوم
المذكور موضوعا بإزاء ذلك فهو بعيد جدا، إذ من الظاهر بملاحظة الاستعمالات
تعلق الوضع بنفس تلك الألفاظ، ومن البين أن المفهوم المذكور ليس من قبيل
اللفظ، وإنما هو معنى صادق عليه. وإن أريد به كون مصاديق ذلك المفهوم
موضوعة بإزائه فهو خروج عن الفرض.
161

والحاصل: أن الظاهر تعلق الوضع في المشتقات بخصوص كل من تلك
المصاديق كما هو معلوم من ملاحظة العرف واللغة، فإن كلا من الضارب والناصر
والقائم والقاعد ونحوها موضوع لمن قام به كل من المبادئ المذكورة، لا أن
الموضوع هناك أمر عام حاصل في ضمن كل واحد منها من غير تعلق الوضع
بتلك الألفاظ.
ومما قررنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأفاضل من أن الواضع إن كان غرضه
تعلق بوضع الهيئة أي ما كان على زنة فاعل لمن قام به المبدأ، فحينئذ إنما وضع
لفظا كليا منطقيا لمعنى كلي منطقي، وكما يتشخص كلي اللفظ في ضمن مثل
" ضارب " كذلك يتشخص كلي المعنى في ضمن من قام به الضرب، ولا يستلزم
ذلك وضعا جزئيا لمعنى جزئي، بل لفظة " ضارب " من حيث إنه تحقق فيه الهيئة
الكلية موضوعة لمن قام به الضرب من حيث إنه تحقق فيه المعنى الكلي، أعني من
قام به المبدأ، ولا يلزم من ذلك تجوز في لفظة " ضارب " إذا أريد به من قام به
الضرب، كما أنه لا يلزم التجوز في إطلاق الكلي على الفرد مثل " زيد انسان ".
وبالجملة: وضع اللفظ الكلي للمعنى الكلي مستلزم لوضع اللفظ الجزئي للمعنى
الجزئي، لا أن اللفظ الجزئي موضوع للمعنى الجزئي بالاستقلال، بل بملاحظة
المعنى الكلي. إنتهى.
فإنه يرد عليه أولا: أن ما ذكره - من كون الموضوع في المقام عاما منطقيا
وهو ما كان على زنة فاعل - غير متجه، إذ قضية ذلك أن يكون المفهوم المذكور
موضوعا بإزاء المعنى المفروض دون خصوص الألفاظ، وقد عرفت أنه في غاية
البعد.
وثانيا: أن إطلاق المشتقات على معانيها بناء على ما ذكره إنما يكون حقيقة
إذا أريد بها مفهوم ما قام به المبدأ لكن على وجه مخصوص، ليقال إذن يكون
الخصوصية غير مقصودة من اللفظ، فيكون من قبيل إطلاق الكلي على الفرد على
وجه الحقيقة، وليس المقام من ذلك لما عرفت من أن المقصود من لفظة " ضارب "
162

مثلا هو خصوص من قام به الضرب، وذلك من مصاديق من قام به المبدأ،
ولم يؤخذ فيه ذلك المفهوم أصلا، وحينئذ فبعد القول بكون الموضوع له هو مفهوم
ما قام به المبدأ كيف يعقل القول بكون استعماله فيما قام به الضرب حقيقة،
وهو مفهوم مغاير للمفهوم المذكور قطعا.
وما ذكره من التنظير غير منطبق عليه، فإن المراد بالإنسان هناك هو مفهوم
الانسان، وقد حمل على زيد لاتحاده معه، وأين ذلك مما نحن فيه، والمثال
الموافق للمقام إطلاق الماشي وإرادة مفهوم الحيوان منه، نظرا إلى صدق مفهوم
الماشي عليه، ولا ريب أنه ليس استعمالا له في الموضوع له أصلا، وقد يكون ذلك
في بعض الصور غلطا.
وثالثا: أنه لو سلم كون ذلك استعمالا له في المفهوم المذكور المأخوذ مع
الخصوصية فلا شك أنه ليس المراد به مطلق ذلك المفهوم لتكون الخصوصية مرادة
من الخارج، بل لا ريب في إرادة الخصوصية من اللفظ، إذ ليس المفهوم من لفظة
" ضارب " إلا خصوص من قام به المبدأ الذي هو الضرب، فليست تلك
الخصوصيات مرادة إلا من نفس اللفظ، ولا شك في كون إطلاق الكلي على الفرد
مجازا إذا أريد الخصوصية من اللفظ.
وقد يذب عنه: بأن الخصوصية المذكورة إنما تراد من المادة، فمعناه الهيئي
على حاله من غير تصرف فيه سوى إطلاقه على ذلك، ويمكن دفع الوجه الثاني
بما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى لو صح حمل كلامه عليه.
هذا، وقد يستدل على عدم كون الموضوع في المقام عاما بأنه لو كان كذلك
لزم أن لا يكون شئ من استعمالات خصوصيات الصيغ حقيقة - ضرورة عدم
تعلق الوضع بخصوص كل من تلك الأفراد المندرجة تحت ذلك الأمر العام - ولا
مجازا أيضا، إذ ليس ذلك من استعمال اللفظ الموضوع في غير ما وضع له من جهة
علاقته للموضوع له، بل استعمال لغير اللفظ الموضوع فيما وضع له ما يناسب ذلك
اللفظ، فهو على عكس المجاز لكون وضع اللفظ هناك لمعنى مخصوص، فيستعمل
163

ذلك اللفظ في غيره لعلاقته له، وهنا قد تعلق الوضع للمعنى بلفظ مفروض،
فيستعمل غيره فيه لارتباطه بذلك اللفظ ارتباط الخاص بالعام والمقيد بالمطلق.
وبالجملة: أن الوضع المتعلق بالكلي على ما فرض في المقام لا يسري إلى
أفراده، فهي باقية على إهمالها فلا يصح استعمالها، ومع الغض عن ذلك فغاية الأمر
أن تكون تلك الاستعمالات مجازات أو واسطة بين الحقيقة والمجاز لو قلنا بثبوت
الواسطة بينهما، وعلى أي من الوجهين فلا شك في خروج ذلك عن مقتضى
الظاهر، فلا وجه للالتزام به في جميع تلك الاستعمالات من غير باعث عليه.
وفيه: أن وضع الكلي لمعنى قاض بموضوعية جميع جزئياته من حيث
اتحادها بتلك الطبيعة الكلية كما هو الحال في الأوضاع الشخصية حسب ما
عرفت، فليس المستعمل حينئذ مغاير للموضوع حتى يرد ما ذكر لما تقرر من
اتحاد الطبيعة الكلية مع أفرادها في الخارج.
وأجيب عنه: بأن المستعمل هنا إنما هو خصوص الجزئيات المتقومة
بخصوص المواد لا مطلق النوع الكلي المتحد معها، إذ المفهوم من لفظة " ضارب "
مثلا هو الذات المتصفة بالضرب، وهو مدلوله المطابقي المعلوم بالرجوع إلى
العرف، واللغة، ولو كان استعماله بملاحظة النوع الكلي الحاصل في ضمنه لكان
معناه مطلق الذات المتصفة بالمبدأ، من غير أن يؤخذ فيه الاتصاف بخصوص
الضرب أصلا، لوضوح عدم وضع النوع لتلك الخصوصية مع أنها مستفادة من
نفس اللفظ قطعا، ولا يتم ذلك إلا بالقول بتعلق الوضع بخصوص كل من تلك
الألفاظ الخاصة.
وما قد يقال من أن استفادة تلك الخصوصية إنما تجئ من ملاحظة وضعها
المادي المتعلق بالمبدأ المخصوص فبعد انضمام الوضع الكلي إلى ذلك يكون مفاد
المشتق وضعا خصوص المعنى المذكور.
فمدفوع: بأن اعتبار خصوصية المادة غير قاض بذلك أيضا، أما إذا قيل بأن
وضعها الكلي للدلالة على ذات ما ثبت له المبدأ مطلقا فظاهر، إذ المستفاد حينئذ
164

من خصوص تلك الألفاظ بعد ملاحظة الوضعين هو ذلك المعنى ومعنى المادة،
وأين ذلك من مفاد المشتقات؟ كضارب ونظائره.
وأما إذا قيل بوضعها للدلالة على ذات ما ثبت له خصوص المبدأ المقترن به
فلأن المفهوم المذكور أيضا أمر عام حاصل في جميع المشتقات، غاية الأمر أن
يلزم من ذلك بعد ملاحظة وضع المادة كون تلك الذات متصفة بالمبدأ المخصوص
كالضرب مثلا، فلا يكون خصوص ذات ثبت له الضرب معنى مطابقيا لضارب، بل
أمرا حاصلا بالالتزام من ملاحظة وضعه النوعي المتعلق بالهيئة والشخصي
المتعلق بالمادة، ومن المعلوم خلافه، إذ ليس مفاد ضارب ابتداء إلا ذات ثبت له
الضرب لا ذات ثبت له المبدأ المقترن بالهيئة المخصوصة الذي هو الضرب
بملاحظة معناه المادي، فيفهم بعد ملاحظة الأمرين أن الضارب من ثبت له
الضرب، وما يتوقف فهمه من اللفظ على ملاحظة وسط لا يكون اللفظ موضوعا
بإزائه، ضرورة عدم الحاجة في فهم المعنى الحقيقي بعد العلم بالوضع إلى وسط
يكون الانتقال من جهته.
وفيه: أما أولا: فبأن وضعها الهيئي لمن قام به المبدأ ليس على نحو يتكرر
ملاحظة المبدأ في الصيغ المندرجة تحت ذلك العنوان - بأن يلاحظ تارة مبادئها
الخاصة الموضوعة بالأوضاع الشخصية ثم يلاحظ فيها المبدأ على سبيل
الاجمال، نظرا إلى أخذها كذلك في وضعها الهيئي حتى يكون الحال فيها على ما
ذكر - بل ليس مدلول كل من تلك الصيغ بملاحظة الوضعين المذكورين إلا من قام
به ذلك المبدأ الخاص الحاصل فيها، غير أن دلالتها على المادة بملاحظة وضعها
المادي ودلالتها على من يقوم به ذلك بوضعها النوعي الكلي، فالموضوع له
بوضعها الهيئي هو الذات من حيث قيام المبدأ بها، فمعناها الهيئي مفهوم ناقص
تعلقي لا يتم إلا بمادتها، فأخذ المادة في معناها الهيئي إنما هو لكونها من متممات
ذلك المفهوم لا لكونها جزء منه، بل لتوقف تصورها عليها فحيث كان وضعها
الهيئي منوطا بوضعها المادي وكان معناها الهيئي مرتبطا في ذاته بمعناها المادي
165

لزم أخذ معناها المادي في معناها الهيئي ليصح بذلك تصوره، فالمادة المأخوذة
في وضعها الهيئي مرآة لملاحظة معناها المادي على سبيل الكلية، والإجمال قد
اخذت فيه لتوقف تصوره عليها، فإذا فرض قيام تلك الهيئة بمادة مخصوصة تعين
ذلك الكلي في ضمن ذلك وكان مفاد الهيئة هو من قام به ذلك المبدأ فإرادة
خصوص من قام به ذلك المبدأ الخاص ليس خروجا عن معناها الموضوع له، ولا
متوقفا فهمه على ما يزيد على ملاحظة الوضعين المذكورين، إذ التعيين المذكور
من لوازم ذلك المعنى حيث اخذ في مفهومه الارتباط إلى الغير، فمع تعين ذلك
الغير بوضعها المادي لا بد من تعيينه.
فظهر بما قررنا أن ما ذكر - من توقف دلالة الضارب على ذات ثبت له
الضرب على ملاحظة الوسط بناء على كون ما وضع له الهيئة كليا - إن أريد به عدم
كفاية وضع الهيئة فيه بل لا بد من ملاحظة وضع المادة أيضا فهو مما لا كلام فيه،
لوضوح عدم تمامية وضع تلك الألفاظ بناء على الوجه المذكور إلا بهما، لما
عرفت من ارتباط وضعها الهيئي بالمادي.
وإن أريد توقف الفهم المذكور بعد ملاحظة الوضعين إلى وسط - كما هو مبنى
الكلام المذكور - فهو مما لا وجه له، ضرورة تعين معناها الهيئي بذلك بعد تعلق
الهيئة بمادة مخصوصة حسب ما بيناه، فينتقل الذهن إلى المعنى المذكور بمجرد
ملاحظة تلك المادة والهيئة المقترنتين من غير حاجة إلى الوسط أصلا، فتأمل.
وأما ثانيا: فبأن ذلك على فرض تسليمه إنما يفيد عدم وضع النوع (1) المذكور
لذات ثبت له المبدأ على سبيل الإطلاق، وأما إن قيل بوضعه لجزئيات المفهوم
المذكور فلا مانع منه أصلا، فغاية الأمر أن يكون الوضع هناك عاما والموضوع له
خاصا، أعني خصوص الذات المقترنة بخصوص المواد المفروضة، فيكون
الموضوع له للنوع الكلي الحاصل في ضمن ضارب هو الذات المتصفة بمبدأ
الضرب وإن كان ذلك ملحوظا بعنوان كلي، إذ لا يلزم من ملاحظته على نحو كلي

(1) كذا في الأصل وفي المطبوع (1): وضعه النوعي.
166

أن يكون الموضوع له أيضا كليا، ولا أن يكون خصص ذلك المفهوم ملحوظة
بخصوصها في الخصوصيات التي وضعت بإزائها.
فتبين بما قررناه أنه كما يراد دفع الإشكال المذكور بجعل الوضع في
الموضوع عاما والموضوع [له] (1) خصوص الجزئيات كذا يمكن دفعه بجعل
الوضع في الموضوع له عاما والموضوع له خصوص الجزئيات وإن كان
الموضوع عاما.
على أنا نقول: يتوقف اندفاع الإشكال المذكور على جعل الموضوع له هناك
خاصا، إذ لا يندفع الإشكال بمجرد جعل الموضوع خصوص الجزئيات وإن كان
الموضوع له مطلق ما قام به المبدأ بأي من الوجهين المذكورين، وإذا جعل
الموضوع له خصوص تلك الجزئيات فقد اندفع الإشكال من غير حاجة إلى جعل
الموضوع أيضا خصوص الجزئيات كما هو المدعى.
فدفع الإشكال المذكور بمجرد جعل الموضوع خصوص الجزئيات - كما
يتراءى من التقرير المذكور - كما ترى، والقول باستلزام خصوصية الموضوع كون
الموضوع له أيضا خاصا بين الفساد.
فظهر بذلك أن الاستناد في إبطال عموم الموضوع في المشتقات إلى ما ذكر
غير ظاهر، وأن الظاهر الاستناد فيه إلى ما أشرنا إليه، فظهر أيضا صحة وقوع
الوضع النوعي على الوجه الثاني من الوجوه الأربعة المذكورة دون الأول.
وقد يقال بكون الوضع النوعي المتعلق بالمشتقات على أحد الوجهين
الأخيرين، وذلك بأن يقال: إن هناك وضعين تعلقا بتلك الألفاظ: أحدهما بالمواد
المعروضة لتلك الهيئات، والآخر بالهيئات العارضة لها، ودلالة تلك الألفاظ
على معانيها باعتبار الوضعين المذكورين، فالموضوع بالوضع الأول خصوص
المادة المعروضة ووضعه شخصي، والموضوع في الثاني كلي ومدلوله أيضا مثله،
وخصوص الجزئيات المندرجة تحته وكون مفاد ضارب من قام به الضرب

(1) ما بين المعقوفتين من المطبوع (1).
167

إنما حصل من الوضعين المذكورين.
وقد نص بعض الأفاضل بأن الهيئة من حيث هي لا تدل إلا على الأمر الكلي
والخصوصية مدلول المادة، فعلى هذا يكون الوضع هناك على الوجه الثالث،
ولو قلنا بكون الهيئة المفروضة مرآة لملاحظة جزئيات الهيئات العارضة لقائم
وقاعد ونائم ونحوها والموضوع خصوص تلك الجزئيات كان من قبيل الرابع،
وعلى أي من الوجهين المذكورين يكون الوضع المتعلق بتلك الهيئات مقيدا بما
إذا كانت عارضة لمادة موضوعة متصرفة، والوضع المتعلق بالمواد بما إذا كانت
معروضة لهيئة موضوعة، فيكون الوضع المتعلق بموادها مغايرا للوضع المتعلق
بمصادرها، إذ ذلك الوضع غير كاف في موضوعية المواد الحاصلة في ضمن
هيئات المشتقات، ضرورة اختصاص ذلك الوضع بتلك الهيئة الخاصة العارضة
للمصادر، فلا يعقل موضوعية المواد الحاصلة في المشتقات بذلك الوضع.
هذا غاية ما يوجه به احتمال كون الوضع في المشتقات على أحد الوجهين (1)
المذكورين، لكنه ضعيف أيضا، لما عرفت من بعد تعلق الوضع فيها بغير اللفظ،
ولزوم التعسف البين في التزام تعلق وضعين بلفظ واحد، إذ الظاهر عدم تعدد
الوضع المتعلق بكل من الألفاظ، فالهيئة والمادة المعروضة لها موضوعة بوضع
واحد نوعي، كما أشرنا إليه.
وما يقال من كون وضع مواد المشتقات شخصيا فإنما يعني به الأوضاع
المتعلقة بمصادرها لا المواد الحاصلة في ضمنها، أو أنه لما كان المنظور في الوضع
المذكور هو دلالة المادة على الحدث ودلالة الهيئة على اعتبار ذلك الحدث جاريا
على الذات نزل ذلك منزلة وضعين، وكان وضعه بالنسبة إلى الأول شخصيا،
لاختصاصه بالمادة المعينة تسرية إليها من المبدأ من جهة الوضع المذكور،

(1) وربما يقال بناء على أحد الوجهين المذكورين بكون وضعها المادي تابعا لما ذكر من
أوضاع هيئاتها حاصلا بتعلق الوضع بها من غير أن يتعلق بها وضع آخر، وهو أيضا كما ترى.
(منه (رحمه الله)).
168

وبالنسبة إلى الثاني نوعيا كليا، ثم إنه يجري في إبطال تعدد الوضع في المقام
ما مر من الكلام.
ويدفعه أيضا ما عرفت من الجواب، نعم يندفع به القول بكون مفاد الهيئة
مفهوم من قام به المبدأ كما قد يستفاد من كلمات بعضهم، وقد مر الكلام فيه.
وكيف كان، فظهر بذلك أيضا عدم كون وضع المشتقات على أحد الوجهين
الأخيرين.
نعم، إن قلنا بثبوت الوضع في المركبات فالظاهر كون الموضوع فيها نفس
الهيئات العارضة، إذ يبعد جدا التزام وضع هناك في مجموع الجملة، بأن تكون
تلك الألفاظ المجتمعة المعروضة للهيئات المفروضة موضوعة ثانيا بوضع
وحداني متعلق بالمجموع، كما لا يخفى.
فما يستفاد من كلام بعض الأجلة - من كون الحال في المركبات على نحو
المشتقات - محل نظر.
وحينئذ فيحتمل تعلق الوضع بتلك الهيئات على كل من الوجهين المذكورين،
والأظهر كون الموضوع حينئذ مطلق الهيئة فيسري الوضع إلى جزئياتها لانطباقها
معها، إذ لا داعي إلى التزام تعلق الوضع بجزئيات ذلك المفهوم كما قلنا به في
المشتقات، لكن ستعرف أن الأظهر عدم ثبوت وضع في المركبات، فلا يظهر بما
ذكر وقوع الوضع النوعي على شئ من الوجهين المذكورين.
نعم، لا يبعد القول به في كثير من الأوضاع الكلية المذكورة في العربية، فإن
كلا من تلك القواعد حكم وضعي صادر من الواضع، فهي مندرجة في الأوضاع
النوعية على أحد الوجهين المذكورين، إذ ليس الموضوع هناك خصوص اللفظ،
بل ما يلابسه من الأعاريب والعوارض اللاحقة له.
والأظهر كون الموضوع هناك عاما دون كل من الخصوصيات المندرجة
تحته، إذ لا داعي إلى الاعتبار المذكور والعدول عن وضع الأمر المتصور إلى
جعله مرآة لوضع جزئياته، حسب ما أشرنا إليه.
169

ومن جملة الأوضاع النوعية: الوضع الحاصل في المجازات، وفيه عمومية
من جهة اللفظ والمعنى، إذ لم يلحظ فيه خصوص مادة ولا هيئة ولا خصوص
معنى دون آخر، وحيث إن الوضع هناك غير قاض بتعيين اللفظ للمعنى - بحيث
يفيد دلالة اللفظ عليه على ما هو الحال في الأوضاع الحقيقية، بل الدلالة الحاصلة
في اللفظ هناك إنما هي من جهة القرينة، وإنما يثمر الوضع المذكور جواز استعمال
اللفظ فيه بحسب اللغة لا غير، كما مرت الإشارة إليه - لم يندرج ذلك في الوضع
بمعناه المعروف، ولذا قالوا باختصاص الوضع بالحقائق، وجعلوا المجاز خاليا عن
الوضع واستعمالا للفظ في غير ما وضع له، إلا أن الترخيص الحاصل من الواضع
في استعمال اللفظ فيه دون المعاني الخالية عن تلك العلاقة نحو من الوضع بمعناه
الأعم، وبهذا الاعتبار صح شمول الوضع له، وربما يسمى الوضع الحاصل فيه
ترخيصا، ويمكن اعتبار الموضوع هناك عاما منطقيا، فيكون كل من الوضع
والموضوع عاما وعاما أصوليا ليكون الوضع عاما والموضوع خاصا، لصحة
وقوع الترخيص على كل من الوجهين المذكورين من غير تفاوت في المقام بين
كل من الاعتبارين.
ومن الوضع النوعي الترخيصي: وضع التوابع اللاحقة للكلمات، كقولهم:
عطشان بطشان، وخراب يباب وهرج مرج ونحوها، فإن تلك الألفاظ وإن كانت
مهملة في أصلها إلا أن الواضع قد رخص في استعمالها في مقام الاتباع إشباعا
وتأكيدا، وذلك أيضا نحو من الوضع حسب ما أشرنا إليه.
ومن الوضع الترخيصي النوعي أيضا: وضع الحكايات بإزاء المحكي،
والثمرة المتفرعة على الترخيص المذكور جواز استعمال اللفظ في ذلك بحسب
اللغة دون إفادته الدلالة عليه، لحصولها بدون اعتباره، كما أشرنا إليه في المجاز.
الخامسة
ينقسم الوضع باعتبار الموضوع له والمعنى المتصور حال الوضع إلى أقسام
أربعة:
170

وتفصيل القول في ذلك: أن من البين توقف الوضع على ملاحظة المعنى
وتصوره، وحينئذ فإما أن يكون المعنى الذي يتصوره حين الوضع أمرا جزئيا غير
قابل الصدق على كثيرين، أو كليا شاملا للجزئيات. وعلى التقديرين فإما أن يضع
اللفظ لعين ذلك المعنى الذي تصوره، أو لغيره مما يعمه أو يندرج تحته بأن يجعل
ذلك المعنى عنوانا له ومرآة لملاحظته ليصح له بذلك وضع اللفظ بإزائه.
فهذه وجوه أربعة لا سبيل إلى الثاني منها، ضرورة أن الخاص لا يمكن أن
يكون عنوانا للعام ومرآة لملاحظته إلا أن يجعل مقياسا لتصوره، كأن يتصور
جزئيا من الجزئيات ويضع اللفظ بإزاء نوعه، وهو خروج عن المفروض، لتصور
ذلك الأمر العام حينئذ بنفسه وإن كان ذلك بعد تصور الخاص، فبقي هناك
وجوه ثلاثة:
أحدها: أن يتصور معنى جزئيا غير قابل الصدق على كثيرين ويضع اللفظ
بإزائه، فيكون الوضع خاصا والموضوع [له] (1) أيضا خاصا، ولا خلاف في وقوعه
كما هو الحال في الأعلام الشخصية، وفي معناه ما إذا تصور مفهوما جزئيا وجعله
مرآة لملاحظة مفهوم آخر يتصادقان، فيضع اللفظ بإزاء ذلك الآخر كما إذا تصور
زيدا بعنوان هذا الكاتب ووضع اللفظ بإزائه.
ثانيها: أن يتصور مفهوما عاما قابل الصدق على كثيرين ويضع اللفظ بإزائه،
فيكون كل من الوضع والموضوع له عاما، وهو أيضا مما لا كلام في تحققه كما هو
الحال في معظم الألفاظ.
ومناقشة بعض الأفاضل - في جعل هذه الصورة من قبيل الوضع العام نظرا
إلى أنه لا عموم في الوضع لتعلقه إذن بمفهوم واحد - ليس في محلها، بعد كون
المقصود من عموم الوضع - كما نصوا عليه ونبه عليه ذلك الفاضل - عموم المعنى
الملحوظ حال الوضع لا نفس الوضع، فلا مشاحة في الاصطلاح.
ومع الغض عن ذلك فعموم الموضوع له وشموله لأفراده يقضي بعموم الوضع

(1) ما بين المعقوفتين من المطبوع (1).
171

أيضا، لسريانه إلى جميع المصاديق المندرجة في ذلك الأمر العام، فيصح
إطلاق ذلك اللفظ عليها على سبيل الحقيقة من حيث انطباقها على تلك الطبيعة
المتحدة معها.
وحيث إن العام الملحوظ في المقام هو العام المنطقي فلا يندرج فيه العام
الأصولي، لعدم صدقه على كل من جزئياته، فعلى هذا قد يتوهم كون الوضع فيه
من قبيل القسم الأول وليس كذلك، فإن معنى العموم أيضا كلي منطقي بالنسبة إلى
موارده وإن لم يكن كذلك بالنظر إلى الجزئيات المندرجة فيه، فإن العموم الحاصل
في كل رجل غير الحاصل في كل امرأة وهكذا، والملحوظ في وضع " كل " للعموم
هو المعنى الشامل للجميع، وهكذا الكلام في نظائره، فهي مندرجة في هذا القسم
قطعا، نعم لا يندرج فيه نحو " كل انسان " إلا أنه لم يتعلق هناك وضع بمجموع
اللفظين، والوضع عام بالنسبة إلى كل منهما.
ومن هذا القبيل الوضع المتعلق بأسماء الأجناس وأعلامها وإن اخذ في
الأخير اعتبار التعين والحضور في الذهن، فإن ذلك أيضا أمر كلي ملحوظ في
وضعها على جهة الاجمال، فتعريفها من الجهة المذكورة مع اختلاف حضورها
باختلاف الأذهان والأشخاص لا يقضي بتعلق الوضع بالخصوصيات، على أنه لو
فرض أخذ كل من تلك الخصوصيات في وضعها فهو لا يقضي بتعدد المعنى، إذ
المفروض أن الموضوع له نفس الطبيعة الكلية وتلك الخصوصيات خارجة عن
الموضوع له. ومن ذلك أيضا أوضاع النكرات والمشتقات.
وقد يشكل الحال في المشتقات نظرا إلى أن الملحوظ في أوضاعها هو
المعنى العام الشامل لخصوص كل من المعاني الخاصة الثابتة (1) لكل ما يندرج في
الصيغة المفروضة دون خصوص كل واحد واحد منها، مع أن الموضوع له هو تلك
الخصوصيات، فيكون مرآة الوضع هناك عاما والموضوع له خصوص جزئياته،
ولذا اختار العضدي فيها ذلك وجعلها كالمبهمات، وكون كل من تلك المعاني

(1) في المطبوع (1): الشاملة.
172

الخاصة أيضا عامة شاملة لما تحتها من الأفراد لا ينافي ذلك، إذ لا يعتبر في القسم
الثالث أن يكون الموضوع له خصوص الجزئيات الحقيقية.
ويمكن دفعه: بأنه لما كان كل من تلك الألفاظ الخاصة متصورا إجمالا في
ضمن الأمر العام الملحوظ للواضع حين وضعه النوعي كان كل من معانيها
متصورة على سبيل الاجمال أيضا، لكن الوضع المتعلق بتلك الجزئيات إنما تعلق
بكل منها بالنظر إلى معناه المختص به حسب ما مر في بيان الوضع النوعي، فلفظة
" ضارب " إنما وضعت في ضمن ذلك الوضع لخصوص من قام به الضرب، ولفظة
" عالم " لخصوص من قام به العلم... وهكذا، فينحل الوضع المذكور إلى أوضاع
شتى متعلقة بألفاظ متعددة لمعان مختلفة، فالوضع المتعلق بكل لفظ من تلك
الألفاظ إنما هو لما يقابله من المعنى، فالمعنى الملحوظ في وضع كل منها عام
والموضوع له أيضا ذلك المعنى لا خصوص جزئياته، فملاحظة ما يعم خصوص
كل من تلك المعاني حين الوضع إنما هي من جهة ملاحظة ما يعم مخصوص كل
واحد من تلك الألفاظ المتعينة بإزاء كل منها، فحيث لم يلحظ لفظا مخصوصا لم
يلحظ هناك معنى خاصا. وأما إذا لوحظ كل لفظ منها بإزاء ما يخصه من المعنى
كان كل من الوضع والموضوع له بالنسبة إليه عاما بتلك الملاحظة التي هي المناط
في وضع كل من تلك الألفاظ بحسب الحقيقة.
فإن قلت: إن شيئا من تلك المعاني الخاصة لم يلحظ حين الوضع بخصوصه،
وإنما الملحوظ هو مفهوم من قام به مبدؤه، وهو أمر عام شامل للجميع فكيف
يتصور القول بكون كل من المعاني الخاصة ملحوظة للواضع؟
قلت: إن كلا من تلك المعاني وإن لم يكن ملحوظا بنفسه لكنه ملحوظ بما
يساويه ويساوقه، فإن مفهوم من قام به مبدؤه إذا لوحظ بالنظر إلى خصوص كل
واحد من الألفاظ المختلفة في المبادئ كقائم وقاعد ونائم ونحوها انطبق على
المفهوم المراد من كل واحد منها من غير أن يكون أعم منه، فلا يكون المعنى
الملحوظ في وضع كل من تلك الألفاظ لمعناه ما يعم ذلك المعنى وغيره وإن لم
173

يكن كل من تلك المفاهيم الخاصة ملحوظة بخصوصها، إذ لا يعتبر فيما يكون كل
من الوضع والموضوع له فيه عاما أن يكون الموضوع له متصورا على سبيل
التفصيل، بل لو جعل بعض وجوهه عنوانا لتصوره فوضع اللفظ بإزائه كان جائزا
- كما مر نظيره - فيما يكون فيه كل من الوضع والموضوع له خاصا.
والحاصل: أن مفهوم من قام به المبدأ ليس مما تعلق الوضع به على إطلاقه
ولا لجزئياته من حيث إنطباقها على ذلك المفهوم كما هو الحال في أسماء الإشارة
ونحوها، بل جعل المفهوم المذكور عنوانا لإحضار تلك المفاهيم المختلفة
المندرجة تحته على حسب ملاحظة الألفاظ الموضوعة في ضمن الأمر العام
المفروض، فوضع كل من تلك الألفاظ المختلفة الملحوظة على سبيل الاجمال
لكل من تلك المفاهيم المختلفة المساوية للمفهوم المذكور بعد ملاحظة المادة
الخاصة المعتبرة في كل لفظ من تلك الألفاظ المخصوصة، فملاحظة تلك المعاني
على سبيل الاجمال إنما هي لكون الألفاظ الموضوعة بإزائها ملحوظة كذلك،
وتلك الملاحظة الإجمالية منزلة منزلة التفصيل في وضع كل لفظ منها لمعناه
الخاص به، كما إذا ذكر ألفاظ مخصوصة ومعان خاصة وقال: وضعت كلا من
الألفاظ المذكورة لكل من تلك المعاني المفروضة، فإنه وإن أخذ الألفاظ والمعاني
حال الوضع على نحو إجمالي إلا أنه منزل منزلة التفصيل كما مرت الإشارة إليه.
فالفرق بين المشتقات وأسماء الإشارة ونحوها ظاهر لا سترة فيه، فإن أريد
بكون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصا جعلهما من قبيل واحد فهو واضح
الفساد، وإن أريد به كون تلك المفاهيم المختلفة ملحوظة في الوضع النوعي
المتعلق بها بلحاظ واحد فهو مما لا ريب فيه وإن انحل ذلك في الحقيقة إلى
أوضاع عديدة وتعين بسببه ألفاظ متعددة لمعان كلية مختلفة، فيشبه أن يكون
الاختلاف في ذلك لفظيا، نظرا إلى اختلاف الإعتبارين المذكورين.
وقد ظهر بما قررناه أنه لو قلنا بكون الموضوع في المقام هو ما تصوره
الواضع من المفهوم الكلي - أعني مفهوم ما كان على هيئة فاعل مثلا - دون
174

خصوصيات الألفاظ المندرجة تحت المفهوم المذكور والموضوع له هو الجزئيات
المندرجة تحت مفهوم ما قام به مبدؤه كان الوضع هناك عاما والموضوع له خاصا
من غير إشكال، كما أنا إذا قلنا بكون الموضوع له أيضا ذلك المفهوم مطلقا كان كل
من الوضع والموضوع له عاما قطعا.
وإنما يجري الوجهان المذكوران إذا قلنا بكون الموضوع خصوص جزئيات
المفهوم المذكور لخصوص جزئيات المفهوم الآخر، لما عرفت حينئذ من حصول
الإعتبارين، وإن كان الأظهر حينئذ هو ما عليه جماعة من المحققين من كون كل
من الوضع والموضوع له في كل من تلك الألفاظ المندرجة في ذلك العنوان عاما،
كما ظهر مما ذكرناه.
ثالثها: أن يتصور معنى عاما ويضع اللفظ بإزاء جزئياته، فيكون الوضع عاما
والموضوع له خاصا، سواء كان الموضوع له هناك جزئيات حقيقية أو إضافية، وما
يظهر من كلام بعضهم من اختصاصه بالأول غير متجه، كيف ولا يجري ذلك في
كثير مما جعلوه من هذا القسم كالحروف، فإنها وإن وضعت عندهم لخصوص
المعاني المتعينة بمتعلقاتها إلا أنها مع ذلك قد تكون مطلقة قابلة للصدق على
كثيرين، كما في قولك: " كن على السطح " و " كن في البلد " ونحوهما، فإن كلا من
الاستعلاء والظرفية المتعينين بمتعلقاتهما في المثالين قد استعمل فيهما لفظة
" على " و " في " لكنهما مع ذلك صادقان على أفراد كثيرة لا تحصى.
وبالجملة: أن مفاد " على " و " في " في المثالين المذكورين قد جعل مرآة
لملاحظة حال الكون الكلي بالنسبة إلى السطح والبلد، فهو تابع له في الكلية وإن
كان ذلك جزئيا إضافيا بالنسبة إلى مطلق الاستعلاء والظرفية، وكذا الحال في
أسماء الإشارة إن قلنا بوضعها للأعم من الإشارة الحسية وغيرها، فإن الكليات
يشار إليها بعد ذكرها.
وما قيل من أن الكلي المذكور من حيث إنه مذكور بهذا الذكر الجزئي
صار في حكم الجزئي، فاستعملت لفظة " هذا " فيه من تلك الحيثية، فهو جزئي
بتلك الملاحظة.
175

مدفوع: بأن تلك الحيثية إنما تصحح الإشارة إليه، وأما المشار إليه فهو نفس
الماهية من حيث هي، ألا ترى أنك لو قلت: وضع لفظ الانسان للحيوان الناطق
وذلك المعنى عام لم ترد بذلك إلا الإشارة إلى ذلك المفهوم من حيث هو، لتحكم
عليه بالعموم لا إلى خصوص ذلك المفهوم الخاص من حيث تقيده بالحضور في
ذهنك أو ذهن السامع وإن كان ذلك الحضور مصححا للإشارة إليه كما هو الحال
في المعهود، ينبهك على ذلك ملاحظة الاسم المعرف الواقع بعد ذلك في المثال
المذكور، إذ لا ينبغي التأمل في كونه كليا مع أنه إشارة إلى المذكور أولا، وهو عين
ما أريد بذلك، وإن قلنا بوضعها لخصوص الإشارة الحسية تعين وضعها للجزئيات
الحقيقية، فتكون الاستعمالات المذكورة مجازية.
وأما الضمائر فلا ينبغي التأمل في إطلاقها على المفاهيم العامة فيما إذا كان
مرجعها كليا، غاية الأمر أن لا يراد به الطبيعة المرسلة بل بملاحظة تقدمها في
الذكر، وذلك لا يقضي بصيرورتها جزئيا حقيقيا كما عرفت، فما في كلام بعضهم
- من الحكم بوضع الضمائر وأسماء الإشارة لخصوص الجزئيات الحقيقية لكون
التعين فيهما بأمر حسي يفيد الجزئية - ليس على ما ينبغي، كما عرفت الوجه فيه.
وأما الموصولات فوضعها - بناء على القول المذكور - للأعم من الوجهين أمر
ظاهر لا سترة فيه، فإن غاية ما اخذ فيها من الخصوصية هي التعينات الحاصلة
بصلاتها، ومن البين أن التعين الحاصل بها كثيرا ما يكون أمرا كليا، كما في قولك:
" أكرم الذي أكرمك " و " أعط من جاءك " ونحو ذلك، ومما يوضح الحال فيها
ملاحظة الموصولات المأخوذة في الحدود، فإنها إنما أوتيت بها لبيان المفاهيم
الكلية، فلا يراد هناك من الموصول إلا أمرا كليا.
ومن الغريب ما يوجد في كلام بعض الأفاضل وحكي التصريح به عن
العضدي في رسالته الوضعية من كون الموضوع له في كل من المبهمات الثلاثة
جزئيا حقيقيا.
وأجاب عما ذكره بعضهم - من كون الصلة في نفسها أمرا كليا وضم الكلي
176

إلى الكلي لا يفيده تشخصا - بأن التشخص الحاصل في المقام ليس بمجرد ضم
ذلك الكلي إليه، بل من جهة الإشارة به إلى ذاته المخصوصة، كما في قولك: " الذي
كان معنا أمس " قال: وذلك نظير إضافة النكرة إلى المعرفة الباعثة على تعريفها،
كما في قولك: " غلام زيد " فإنه وإن كان ذلك المفهوم كليا أيضا إلا أن المقصود
بالإضافة هو الإشارة إلى غلام شخصي.
وفيه: أن ما ذكره لو تم فإنما يتم فيما فرضه من المثال ونظائره لا في سائر
المواضع حسب ما أشرنا إليه، والبناء على اختصاص وضع الموصولات بما ذكره
وكون استعمالها فيما ذكرناه من المجاز مجازفة بينة.
نعم قد اعتبرت خصوصية في المفاهيم التي وضعت بإزائها الألفاظ المذكورة
تكون تلك الخصوصية جزئيا حقيقيا بالنسبة إلى كليها الملحوظ حال وضعها، فإن
الحروف مثلا إنما وضعت لخصوص المفاهيم الواقعة مرآة لملاحظة حال غيرها،
فتلك المفاهيم الخاصة وإن كانت كلية في نفسها في كثير من الصور لكن
خصوصية وقوعها مرآة لملاحظة الحال في غيرها جزئي حقيقي من جزئيات
كونها مرآة لملاحظة الغير، فلفظة " على " مثلا إنما وضعت لخصوصيات الاستعلاء
الواقع مرآة لتعرف حال الغير، وحينئذ فمفهوم الاستعلاء الواقع مرآة لحال متعلقه
وإن كان كليا في نفسه لكن في كونه مرآة لملاحظة حال الكون والسطح في قولك:
" كن على السطح " جزئي حقيقي من جزئيات الاعتبار المذكور.
والحاصل: أن نفس المعنى الجزئي المأخوذ مرآة لحال الغير وإن كانت كلية
في نفسها إلا أن كونها مرآة لخصوص كل من متعلقاتها جزئي حقيقي بالنسبة إلى
ما اعتبر فيها حال وضعها من كونها مرآة لحال غيرها، ويجري ذلك في جميع
المبهمات ومعاني الأفعال، ألا ترى أن الموصول إنما وضع للشئ المتعين بصلته،
وتعينه بصلته الخاصة جزئي حقيقي من جزئيات التعين بالصلة وإن كان نفس
المفهوم التعين بها كليا أيضا.
وأنت خبير بأن تلك الخصوصيات لا يجعل نفس ما وضع له تلك الألفاظ
177

جزئيات حقيقية، وإنما يكون الاعتبار المأخوذ في كل منها جزئيا حقيقيا لمطلقه
حسب ما بيناه، فإن عنى القائل بوضعها للجزئيات الحقيقية إفادة ذلك فلا كلام،
لكن لا يساعده العبارة وإن أراد به كون نفس المفهوم الذي وضعت بإزائه جزئيا
حقيقيا، ففساده ظاهر مما قررنا.
هذا، وقد اختلفوا في تحقق الوضع على الوجه المذكور على قولين، فقد ذهب
إليه جماعة من محققي المتأخرين وقالوا به في أوضاع المبهمات الثلاثة
والحروف بأجمعها والأفعال الناقصة وكذا الأفعال التامة بالقياس إلى معانيها
النسبية، والضابط فيه كل لفظ استعمل في أمر غير منحصر لمعنى مشترك لا
يستعمل فيه على إطلاقه، فإن الملحوظ عندهم حين وضع تلك الألفاظ هو ذلك
الأمر الجامع المشترك بين تلك المستعملات والموضوع له هو خصوص تلك
الجزئيات، فجعل ذلك الأمر العام مرآة لملاحظتها حتى يصح وضع اللفظ بإزائها،
وهذا القول هو المعزى إلى أكثر المتأخرين، بل الظاهر إطباقهم عليه من زمن
السيد الشريف إلى يومنا هذا.
والمحكي عن قدماء أهل العربية والأصول القول بكون الوضع والموضوع له
في جميع ذلك عاما، فيكون الحال في المذكورات من قبيل القسم الثاني عندهم،
وهذا هو الذي اختاره التفتازاني لكنه ذكر أن المعارف ما عدا العلم إنما وضعت
لتستعمل في معين، وظاهر كلامه أن الواضع اشترط في وضعها لمفهومها الكلي أن
لا تستعمل إلا في جزئياته.
وفي الحواشي الشريفية أن جماعة توهموا وضعها لمفهوم كلي شامل
للجزئيات، والغرض من وضعها له استعمالها في أفرادها المعينة دونه، والظاهر أن
هذا الاعتبار إنما وقع في كلام جماعة من المتأخرين تفصيا من المنافاة بين
وضعها للمفهوم الكلي وعدم صحة استعمالها إلا في الجزئيات، وإلا فالقدماء لم
ينبهوا على ذلك فيما عثرنا عليه من كلامهم.
حجة القول الأول وجوه:
178

أحدها: أنه لو كانت تلك الألفاظ موضوعة للمعاني الكلية لصح استعمالها فيها
بلا ريبة، ضرورة قضاء الوضع بصحة الاستعمال، فإنه أقوى السببين في جواز
استعمال اللفظ لاندراج الاستعمال معه في الحقيقة، فعلى هذا ينبغي أن يصح
استعمال " هذا " في مفهوم المفرد المذكر المشار إليه على سبيل الإطلاق،
واستعمال " أنا " في مفهوم المتكلم على الإطلاق، واستعمال " الذي " في مطلق
الشئ المتعين بصلته، والتالي باطل، ضرورة عدم جواز الاستعمالات المذكورة
بحسب اللغة والعرف، فإنه لا يقصد بتلك الألفاظ إلا بيان المعاني الجزئية دون
المفاهيم الكلية، والفرق بينها وبين الألفاظ الدالة على تلك الكليات واضح جلي
بعد ملاحظة العرف.
وأورد عليه بقلب الدليل، بأنها لو كانت موضوعة بإزاء الجزئيات لجاز
استعمالها في المطلقات على سبيل المجاز، لوجود العلاقة المصححة للاستعمال،
فكما أن وضعها للمفاهيم الكلية قاض بجواز استعمالها فيها كذا وضعها للجزئيات
قاض بجواز استعمالها في المفاهيم الكلية، غاية الأمر أن يكون المصحح
لاستعمالها في تلك الكليات بناء على الأول هو الوضع الحقيقي، وبناء على الثاني
هو الوضع المجازي، مع أنه لا يجوز استعمالها فيها ولو على سبيل المجاز، فما
يجاب به بناء على الثاني يجاب به بناء على الأول أيضا.
والجواب عنه ظاهر بعد ملاحظة ما سنقرره إن شاء الله تعالى من بيان الحال
في المجاز، فإن مجرد وجود نوع العلاقة المعروفة غير كاف عندنا في صحة
التجوز، وإنما المناط فيه العلاقة المعتبرة في العرف بحيث لا يكون الاستعمال
معها مستهجنا عرفا، فعلى هذا يدور جواز استعمال المجاز مدار عدم الاستقباح
في العرف بخلاف الحال في الحقيقة، لدوران جواز الاستعمال هناك مدار الوضع،
فالفرق بين الصورتين واضح.
وأما على ظاهر كلام القوم من الاكتفاء في صحة التجوز بوجود نوع العلاقة
المنقولة فبأن وجود واحد من تلك العلائق من المقتضيات لصحة الاستعمال،
179

وقد يجامع حصول المقتضي وجود المانع فلا يعمل عمله، فالترخيص العام
الحاصل من الواضع في استعمال اللفظ في غير الموضوع له مع حصول واحد من
تلك العلائق لا يقضي بجواز الاستعمال مع تحقق المنع منه في خصوص بعض
المقامات، لقيام الدليل عليه كما في المقام، لوضوح تقديم الخاص على العام.
والحاصل: أن الترخيص المذكور كسائر القواعد المقررة إنما يؤخذ بها في
الجزئيات مع عدم ظهور خلافها في خصوص المقام، وهذا بخلاف الوضع لكونه
علة تامة لجواز الاستعمال في الجملة، ولا يعقل هناك المنع من الاستعمال بالمرة
مع تحقق الوضع له.
وأورد عليه: بأنا قد نرى المنع من الاستعمال مع تحقق الوضع كما في لفظ
" الرحمن " والأفعال المنسلخة عن الزمان.
والجواب عنه ظاهر، أما عن لفظ " الرحمن " فبعد تسليم صدق مفهومه
الحقيقي على غيره تعالى بأنه لا مانع من الاستعمال بحسب اللغة وإنما المانع
هناك شرعي فلا ربط له بالمقام، وأما عن الأفعال المنسلخة عن الزمان إن سلم
أولا وضعها للزمان فلنقلها عن ذلك بحسب العرف فالمنع في استعمالها في الزمان
إنما طرأها في العرف بعد حصول النقل، ولا مانع من استعمالها فيه بملاحظة وضع
اللغة، والتزام مثله في المقام غير متجه، لظهور المنع من استعمالها في ذلك بحسب
اللغة أيضا، ومع الغض عنه فلا داعي إلى التزام النقل من غير باعث عليه، فإنه - بعد
ثبوت كون الموضوع له لتلك الألفاظ عرفا هو الجزئيات - يثبت بضميمة أصالة
عدم النقل كونها كذلك بحسب اللغة أيضا، على أن المقصود في المقام تحقق
الوضع العام مع كون الموضوع له هو خصوص الجزئيات، ووجود ذلك في
الأوضاع العرفية كاف في ثبوت المرام، فتأمل.
أقول: ويمكن الجواب عن الحجة المذكورة بأن المعاني الكلية المأخوذة في
وضع الألفاظ المفروضة إنما اخذت على وجه لا يمكن إرادتها من اللفظ إلا حال
وجودها في ضمن الجزئيات، من غير أن يكون خصوص شئ من تلك الجزئيات
مما وضع اللفظ له.
180

بيان ذلك: أنا قد أشرنا سابقا إلى أن المعاني المرادة من الألفاظ قد تكون
أمورا واقعية مع قطع النظر عن إرادتها من اللفظ، فإنما يراد من اللفظ إحضارها
ببال السامع، وقد لا تكون كذلك بأن تكون إرادة تلك المعاني من الألفاظ هو عين
إيجادها في الخارج، فالمعاني التي وضعت تلك الألفاظ بإزائها إنما يتحقق في
الخارج بإرادتها من اللفظ، سواء كانت معاني تركيبية كما في الإنشاءات، أو
إفرادية كما في أسماء الإشارة، فإنها إنما وضعت للمشار إليه من حيث تعلق
الإشارة به لا لمفهوم المشار إليه من حيث هو ليحصل إحضار ذلك المفهوم عند
أداء اللفظ، بل لما تعلق به فعل الإشارة وأداتها فيحصل معنى الإشارة في الخارج
باستعمال لفظة " هذا " في معناه بخلاف استعمال لفظ " الإشارة " و " المشار إليه "
فبما وضع له، فإنه لا يتحقق به الإشارة ولا يكون الشئ مشارا إليه بذلك، بل إنما
يحصل به إحضار ذلك المفهوم بالبال وتصويره في ذهن السامع لا غير، فنظير لفظة
" هذا " في ذلك لفظة " أشير " إذا أريد بها إنشاء الإشارة وإن كان الفرق بينهما
واضحا من جهات أخرى، ولهذا قد ينزل " هذا " منزلة " أشير " في الاستعمالات،
فيجري عليه بعض أحكامه كما أشير إليه في محله.
فحينئذ نقول: إن إرادة معنى المشار إليه على الوجه المذكور من لفظة " هذا "
ونظائرها غير ممكن الحصول إلا في ضمن متعلق خاص، لوضوح عدم إمكان
تعلق الإشارة إلا بمتعلق مخصوص وعدم تحققها في الخارج إلا في ضمن فرد
خاص من الإشارة وجزئي حقيقي من جزئياتها، ضرورة عدم إمكان حصول
الكليات إلا في ضمن الأفراد، فلا يمكن استعمال تلك الألفاظ إلا في معاني
خاصة وإشارات مخصوصة وإن لم تكن تلك الخصوصيات مرادة من نفس اللفظ،
بل هي لازمة لما هو المراد منها، لوضوح عدم حصول مطلق الإشارة في الخارج
إلا في ضمن إشارة خاصة وعدم تعلقها إلا بمتعلق مخصوص.
وبذلك يظهر الوجه في بناء تلك الألفاظ وإعراب لفظ " الإشارة " و " المشار
إليه " فإن المأخوذ فيهما مفهوم الإشارة، وهو معنى تام اسمي بخلاف ما وضع له
181

" هذا " لاشتماله على نفس الإشارة التي هي معنى ناقص حرفي قد جعل آلة
ومرآة لملاحظة الذات التي أشير إليها، وهو مفتقر إلى متعلقها افتقارا ذاتيا كغيره
من المعاني الحرفية.
إذا تقرر ذلك ظهر اندفاع ما ذكر في الاحتجاج من أنها لو كانت موضوعة
للمفهوم العام لزم جواز استعمال " هذا " في مطلق المشار إليه المفرد المذكر على ما
هو الحال في لفظ المشار إليه، لما عرفت من وضوح الفرق بين الأمرين وعدم
إمكان إرادة المشار إليه على الوجه المأخوذ في معنى " هذا " إلا في ضمن
خصوص الأفراد، فهذا هو السر في عدم إطلاقه إلا على الخصوصيات وعدم
جواز استعماله في الأمر العام على إطلاقه وعمومه، فلا دلالة في ذلك على وضعه،
لخصوص تلك الجزئيات وعدم وضعه للقدر الجامع بينهما كما زعموه، بل لا بعد
أصلا في القول بوضعها للقدر الجامع بين تلك الخصوصيات، ويشير إليه أنه
لا يفهم من لفظة " هذا " في العرف إلا معنى واحد يختلف متعلقه بحسب الموارد،
ولا يكون إرادته إلا في ضمن جزئي معين بحسب الواقع، فلا يكون إطلاقها على
الجزئيات بإرادة الخصوصية من نفس اللفظ، بل لحصول الموضوع له في ضمنها
وتوقف إرادته على ذلك، فالموضوع له للفظة " هذا " هو المشار إليه المفرد المذكر
من حيث تعلق الإشارة به وجعل الإشارة مرآة لملاحظته، وهو مفهوم كلي في
نفسه، إلا أنه لا يمكن إرادته إلا في ضمن الفرد، ضرورة كون الإشارة الواقعة من
جزئيات مطلق الإشارة واقتضاء الإشارة في نفسها تعين الأمر المشار إليه لكون
ذلك من اللوازم الظاهرة لحصولها، ضرورة استحالة الإشارة إلى المبهم من حيث
أنه مبهم فتعين المشار إليه، وخصوصية الإشارة إنما يعتبر في مستعملات تلك
الأسماء من الجهة المذكورة لا لوضعها لخصوص تلك الجزئيات، ويجري نظير ما
قلناه في سائر ما جعلوه من هذا القبيل.
أما الضمائر فلأنها إنما وضعت للتعبير عن المتكلم أو المخاطب أو الغائب
المذكور وما بحكمه، لا بأن تكون تلك المفاهيم مأخوذة في وضعها على سبيل
182

الاستقلال حتى يكون الموضوع له للفظة " أنا " مثلا هو المفهوم من لفظ المتكلم
ليصح إطلاقه كلفظ المتكلم على مطلق المتكلم، بل يأخذ تلك المفاهيم من حيث
حصولها وصدورها قيدا في وضع اللفظ للذوات التي تجري عليها المفاهيم
المذكورة وحيثية معتبرة فيها، فتلك الذوات بملاحظة الجهات المفروضة قد
وضعت لها الألفاظ المذكورة، فالمراد بكون " أنا " موضوعا للمتكلم أنه موضوع
لذات جعل صدور الكلام حيثية معتبرة في وضع اللفظ له، وكذا الحال في لفظ
" أنت " و " هو " وغيرهما، فالموضوع له للفظ " أنا " هو من صدر منه الكلام، وللفظ
" أنت " من القي إليه الكلام، وللفظ " من " هو من سبق ذكره صريحا أو ضمنا بجعل
حصول تلك الصلات قيودا معتبرة في وضع اللفظ لها، فتلك المعاني أمور كلية في
نفسها، فإن من صدر منه الكلام أو تعلق الخطاب به مثلا مفهوم صادق على ما
لا يتناهى [من مصاديقه، إلا أن إرادة ذلك المفهوم ملحوظا على الوجه المذكور لا
يتحقق إلا في ضمن مصداق من مصاديقه.
فإن قلت: إن كان المراد بمن صدر عنه الكلام أو تعلق الخطاب به مثلا نفس
المفهوم المذكور كان من الألفاظ المذكورة كلفظ المتكلم والمخاطب، ولزم جواز إرادة
المفهوم المذكور منها على وجه العموم وإن جعل المفهوم المذكور عنوانا لمصاديقه
الخاصة وكان الموضوع له هو خصوص مصاديقه كان ذلك عين ما ذكره الجماعة
من كون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصا، ويجري ذلك بالنسبة إلى أسماء
الإشارة وغيرها، فلا يصح القول بكون الموضوع له فيها أيضا عاما كما هو المدعى.
قلت: فرق بين بين جعل الموضوع له خصوص كل من الجزئيات المندرجة
تحت المفهوم المذكور من غير أن يتعلق الوضع بنفس المفهوم المتصور حين
الوضع وبين أن يجعل الموضوع له نفس ذلك المفهوم، لكن توجد فيه حيثية
لا يمكن حصولها إلا في ضمن الفرد، فيتوقف إرادة ذلك المفهوم من اللفظ على
إطلاقه على خصوص الحصة المقيدة بإحدى تلك الخصوصيات. فتأمل منه] (1).

(1) ما بين المعقوفتين لم يرد في الأصل، أورده في المطبوع (1) وكتب في آخره: نسخة.
183

وأما الموصول فلأنه موضوع للشئ المتعين بصلته لا بضم مفهوم التعين إلى
مفهوم الشئ ليكون مفاده هو المفهوم المركب من المفهومين، بل المراد به الشئ
المتحقق تعينه بصلته، وهذا المعنى مما لا يمكن حصوله بدون ذكر الصلة، فهو وإن
كان أمرا كليا صادقا على كثيرين إلا أنه لا يمكن استعمال اللفظ فيه بدون ذكر
الصلة التي يتحقق بها التعيين المذكور ويتم بحصولها ذلك المفهوم، فذكر الصلة
يتوقف عليه حصول المفهوم المذكور ويفتقر إليه افتقارا ذاتيا، حيث إن التقييد بها
مأخوذ في وضع تلك الألفاظ وإن كان القيد خارجا، فلا يعقل إرادة ذلك المفهوم
بدون وجود الصلة، ولأجل ذلك لحقها البناء، فلا يمكن استعمال تلك الألفاظ في
معانيها إلا مع ذكر صلاتها وإن أمكن تصور ذلك المعنى ووضع اللفظ بإزائه من
دون ضم صلة خاصة أو خصوصية الصلات على جهة الاجمال، لكن يتوقف على
ملاحظة تقييده بالصلة ولو كان على وجه كلي حسب ما أشرنا إليه.
فما أورد عليه من لزوم جواز استعمال " الذي " في مطلق الشئ المتعين
بصلته مبني على الخلط بين الاعتبارين، مضافا إلى أن المفهوم من " الذي " في
جميع استعمالاته هو نفس الشئ، وإنما الاختلاف في الخصوصيات المأخوذة
معه، فالقول بكون الوضع في الموصولات عاما والموضوع له خاصا كما ترى ولو
مع الغض عما ذكرنا، فلا تغفل.
وأما الحروف فلأنها موضوعة للمعاني الرابطية المتقومة بمتعلقاتها الملحوظة
مرآة لحال غيرها حسب ما فصل في محله، وذلك المعنى الرابطي وإن اخذ في
الوضع على وجه كلي إلا أنه لا يمكن إرادته من اللفظ إلا بذكر ما يرتبط به، فلا
يمكن استعمال اللفظ في ذلك المعنى الكلي إلا في ضمن الخصوصيات الحاصلة
من ضم ما جعل مرآة لملاحظته لتقوم المعنى الرابطي به، فالحصول في ضمن
الجزئي هنا أيضا من لوازم الاستعمال فيما وضعت له بالنظر إلى الاعتبار المأخوذ
في وضعها له، لا لتعلق الوضع بتلك الخصوصيات بأنفسها، فعدم استعمالها في
184

المعنى العام على إطلاقه إنما هو لعدم إمكان إرادته كذلك لا لعدم تعلق الوضع به
كما زعموه، فكون المستعمل فيه دائما هو الطبيعة المقترنة بشرط شئ لا ينافي
وضعها للطبيعة اللابشرط إذا كان استعمالها فيها مستلزما لحصول الخصوصية،
واستعمالها في تلك المفاهيم على جهة استقلالها في الملاحظة ليس استعمالا لها
فيما وضعت له، لما عرفت من عدم تعلق الوضع بها من تلك الجهة، فلا وجه لإلزام
القائل بعموم الموضوع له بجواز استعمالها كذلك، وكذا الحال في الأفعال بالنسبة
إلى معانيها النسبية فإنها في الحقيقة معان حرفية لا يمكن حصولها إلا بذكر
متعلقاتها حسبما ذكرناه في الحروف.
وأنت بعد التأمل فيما قررناه تعرف ضعف ما ذكر في هذه الحجة وسائر
حججهم الآتية، كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.
وقد ظهر بما بيناه وهن ما ذكره المحقق الشريف في شرح المفتاح عند بيان
القول المذكور من أن الموضوع له عندهم هو الأمر الكلي بشرط استعماله في
جزئياته المعينة، وقال في حاشية له هناك: إن لفظة " أنا " مثلا موضوعة على
[هذا] (1) الرأي لأمر كلي هو المتكلم المفرد، لكنه اشترط في وضعها أن لا يستعمل
إلا في جزئياته، ثم حكم بركاكة القول المذكور واستصوب القول الآخر، إذ ليس
في كلام الذاهبين إلى القول المذكور إشارة إلى ذلك عدا شذوذ من المتأخرين
كالتفتازاني في ظاهر كلامه كما أشرنا إليه، وكأنه ألجأه إلى ذلك ما يتراءى من
توقف تصحيح كلام القائل به على ذلك، نظرا إلى ما ذكر في هذه الحجة وغيرها،
كما يظهر من التفتازاني في التزامه به.
وقد عرفت مما قررناه في بيان القول المذكور أنه لا حاجة إلى اعتبار الشرط
المذكور أصلا ولا إلى التزام التجوز في استعمالاتها المتداولة كما ادعاه جماعة
من الأجلة.
ثم إنه لا ريب في أن القول المذكور على ما قرره في كمال الوهن والركاكة،

(1) لم يرد في الأصل.
185

وفي اعتبار الشرط المذكور في أوضاع تلك الألفاظ من السماجة ما لا يخفى،
بل مرجع ذلك بمقتضى ما ذكروه - من كون الاستعمال في الجزئيات بخصوصها
لا من حيث إنطباق الكلي عليها - إلى كون تلك الألفاظ بمقتضى الاشتراط
المذكور متعينة في الحقيقة بإزاء تلك الجزئيات، فيكون مرجعه على أقبح الوجوه
إلى القول الآخر.
نعم، لو قيل بأن استعمالها في الجزئيات لا من حيث الخصوصية بل من حيث
انطباق الكليات التي وضعت بإزائها عليها فيجعل ثمرة الاشتراط المذكور عدم
جواز استعمالها في تلك الكليات على الوجه الآخر نظرا إلى كون الوضع توقيفيا
فلا يجوز التعدي فيه عما اعتبره الواضع أمكن أن يوجه به القول المذكور، إلا أن
فيه خروجا عن الطريقة المعروفة في الأوضاع، لا أن فيه تفكيكا بين الوضع
ولازمه كما ادعي في الاحتجاج المذكور.
ثانيها: أنها لو كانت موضوعة للمعاني الكلية لكانت الألفاظ المذكورة
مجازات لا حقائق لها، نظرا إلى عدم استعمالها في المعاني الكلية أصلا، وهو مع ما
فيه من البعد لا وجه للالتزام به من دون قيام دليل ظاهر عليه، إذ لا داعي لحمل
الاستعمالات المعروفة على المجاز والقول بوضع تلك الألفاظ المتداولة لمعنى لم
تستعمل فيه أصلا، كيف ومن المقرر كون الأصل في الاستعمال الحقيقة حتى
يتبين المخرج، مضافا إلى أنه لو كان الحال فيها على ما ذكر لما احتاجوا في
التمثيل للمجازات التي لا حقائق لها إلى التمسك بالأمثلة النادرة كلفظ " الرحمن "
والأفعال المنسلخة عن الزمان مع ما فيها من المناقشة، وكان التمثيل بالألفاظ
المذكورة هو المتعين في المقام، ففي العدول عن ذكرها إلى التمثيل بتلك الأمثلة
الخفية دلالة ظاهرة على فساد القول المذكور.
والجواب عنه ظاهر مما بيناه، إذ لا داعي إلى التزام التجوز في تلك الألفاظ
بالنظر إلى إطلاقها على تلك المعاني الخاصة، إذ ليس ذلك إلا من قبيل إطلاق
الكلي على الفرد، ومن البين أنه إنما يكون على وجه الحقيقة إذا لم يؤخذ في
186

المفهوم المراد من اللفظ ما يزيد على معناه الموضوع له كما هو الحال في المقام،
إذ ليس المراد من لفظة " هذا " مثلا في سائر الموارد إلا أمرا واحدا وإن انطبق ذلك
على أمور مختلفة، وقد عرفت أن إطلاقها على خصوص الأفراد من اللوازم
الظاهرة لاستعمالها في معناه الموضوع له، حيث إنه لا يمكن إرادتها من اللفظ
إلا في ضمن الفرد، فليست تلك الخصوصيات مرادة من اللفظ منضمة إلى معناه
الموضوع له في الاستعمال، بل إنما تكون إرادة تلك الخصوصيات باستعمال تلك
الألفاظ فيما وضعت له.
فما عزاه المدقق الشيرواني (رحمه الله) إلى القائلين بعموم الموضوع له لتلك الألفاظ
من التزام التجوز في إستعمالاتها الشائعة مبني على توهم لزوم ذلك للقول المذكور
لا على نصهم عليه، وقد عرفت أنه توهم فاسد لا وجه لالتزامهم به، كيف ولو قالوا
بذلك لكانت المجازات التي لا حقيقة لها أمرا شائعا عندهم لا وجه لاختلافهم
فيها، ولا لتمسكهم لها بتلك الأمثلة النادرة حسبما ذكر، ففي ذلك دلالة ظاهرة
على كون الاستعمالات الشائعة واقعة عندهم على وجه الحقيقة، مع ذهابهم إلى
كون الموضوع له هناك هو المفاهيم المطلقة دون كل من تلك الأمور الخاصة.
ثالثها: أن المتبادر من تلك الألفاظ عند الإطلاق إنما هو المعاني الخاصة دون
المفاهيم الكلية، وهو دليل على كونها موضوعة لذلك دون ما ذكر من المعاني
المطلقة، نظرا إلى قيام أمارة الحقيقة بالنسبة إلى الأولى وأمارة المجاز بالنظر
إلى الثانية.
والجواب عنه ظاهر مما مر، لمنع استناد التبادر المذكور إلى نفس اللفظ، إذ مع
عدم انفكاك إرادة المعاني المذكورة من تلك الألفاظ عن ذلك والدلالة على إرادة
تلك الجزئيات بمجرد الدلالة عليها من غير توقف على أمر آخر غيرها لا يبقى
ظهور في استناد التبادر المدعى إلى نفس اللفظ، لينهض دليلا على الوضع، ومما
ذكرنا يظهر الحال فيما ذكر من عدم تبادر المعاني المطلقة.
رابعها: أنها لو كانت موضوعة للمعاني الكلية لكانت تلك المعاني هي
187

المفهومة منها أولا عند الإطلاق، وكانت المعاني الجزئية مفهومة بواسطة الانتقال
إلى تلك المعاني بعد قيام القرينة الصارفة عن إرادتها كما هو الشأن في المجاز،
وليس الحال كذلك قطعا، إذ المفهوم من لفظة " هذا " مثلا هو الشخص المشار إليه
من غير خطور لمفهوم المشار إليه أصلا.
وجوابه معلوم بعد القول بعدم التجوز في شئ من تلك الاستعمالات، وأن
إرادة تلك الخصوصيات غير ممكنة الانفكاك عن إرادة الموضوع له حتى يتوقف
فهمها على وجود القرينة، فهي إنما تكون مفهومة بإرادة الموضوع له.
ودعوى عدم حصول واسطة في فهم الخصوصية من اللفظ بالمرة ممنوعة، بل
إنما هو من جهة استحالة انفكاك إرادتها عن إرادة الموضوع له. نعم لما كانت
الملازمة هناك واضحة جدا يتراءى في بادئ النظر فهمها من اللفظ ابتداء، وليس
ذلك بظاهر عند التأمل.
وما ذكر من عدم خطور مفهوم المشار إليه بالبال إن أريد به عدم فهم ذلك
المفهوم ملحوظا بالاستقلال كما هو الحال في لفظ المشار إليه فممنوع، ولا قائل
بوضع لفظة " هذا " لذلك أصلا، وإن أريد به عدم فهم شئ أشير إليه وجعلت
الإشارة مرآة لملاحظته فهو بين الفساد، كيف وليس المفهوم من لفظة " هذا " في
العرف إلا ذلك.
خامسها: أنه لو كان كما ذكروه لزم اتحاد معاني الحروف والأسماء، لكون كل
من " من " و " إلى " و " على " موضوعا على هذا التقدير لمطلق الابتداء والانتهاء
والاستعلاء التي هي من المعاني الإسمية المستقلة بالمفهومية، ولذا وضع بإزائها
لفظ الابتداء والانتهاء والاستعلاء التي هي من الأسماء، وهو واضح الفساد،
ضرورة اختلاف معاني الأسماء والحروف بحسب المفهوم حيث إن الأولى
مستقلة بالمفهومية، ويصح الحكم عليها وبها بخلاف الثانية، لعدم استقلالها
بالمفهومية وعدم صحة الحكم عليها وبها أصلا، ويجري ذلك في الأفعال أيضا
بالنسبة إلى معانيها النسبية، فإنها أيضا معان حرفية، ومع البناء على الوجه المذكور
188

تكون معاني إسمية مستقلة بالمفهومية.
والجواب عنه: أن الفرق بين المعاني الإسمية والحرفية ليس من جهة عموم
الموضوع له في الأسماء وعدمه في الحروف حتى تتميز المعاني الحرفية عن
المعاني الإسمية، على القول بوضع الحروف لخصوصيات الجزئيات دون القول
بوضعها للمفاهيم المطلقة، كيف ومن البين أن جزئيات تلك المفاهيم أيضا أمور
مستقلة بالمفهومية على نحو مفهومها الكلي، فكما أن مطلق الابتداء مفهوم مستقل
كذلك الابتداء الخاص وإن افتقرت معرفة خصوصيته إلى ملاحظة متعلقه، فإن
ذلك لا تخرجه عن الاستقلال وصحة الحكم عليه وبه، بل الفرق بين الأمرين في
كيفية الملاحظة حيث إن الملحوظ في المعاني الإسمية هو ذات المفهوم بنفسه،
والملحوظ في المعاني الحرفية كونه آلة ومرآة لملاحظة غيره.
ومن البين أن ما جعل آلة لملاحظة الغير لا يكون ملحوظا بذاته، بل الملحوظ
بالذات هناك هو ذلك الغير، فهذه الملاحظة لا يمكن حصولها إلا بملاحظة الغير،
ولذا قالوا: إنها غير مستقلة بالمفهومية، وإنه لا يمكن الحكم عليها وبها، لتوقف
ذلك على ملاحظة المفهوم بذاته.
فحصول المعاني الحرفية في الذهن متقوم بغيرها، كما أن وجود الأعراض
في الخارج متقوم بمعروضاتها، بخلاف المعاني الإسمية فإنها أمور متحصلة في
الأذهان بأنفسها وإن كان نفس المفهوم في المقامين أمرا واحدا، وحينئذ فكما
يمكن اعتبار جزئيات الابتداء مثلا مرآة لملاحظة الغير فيقال بوضع لفظة " من "
لكل منها كذا يمكن اعتبار مطلق الابتداء مرآة لحال الغير ويقال بوضع " من "
بإزائه، فيكون مفهوم الابتداء ملحوظا بذاته من المعاني الإسمية، وملحوظا
باعتبار كونه آلة ومرآة لحال الغير من المعاني الحرفية، مع كون ذلك المفهوم أمرا
كليا في الصورتين.
والحاصل: أنه لا اختلاف بين المعنى الاسمي والحرفي بحسب الذات، وإنما
الاختلاف بينهما بحسب الملاحظة والاعتبار، فيكون المعنى بأحد الاعتبارين
189

تاما إسميا، وبالاعتبار الآخر ناقصا حرفيا، ويتفرع على ذلك إمكان إرادة نفس
المفهوم على إطلاقه في الأسماء من غير ضمه إلى الخصوصية بخلاف المعنى
الحرفي، إذ لا يمكن إرادته من اللفظ إلا بضمه إلى الغير، ضرورة كونه غير مستقل
بالمفهومية في تلك الملاحظة، فلا يمكن إرادته من اللفظ إلا مع الخصوصية حسب
ما بيناه، وذلك لا يقضي بوضعها لكل من تلك الخصوصيات.
فإن قلت: إن الابتداء المأخوذ مرآة لحال الغير لا يكون إلا جزئيا من
جزئيات الابتداء متقوما في الملاحظة بخصوص متعلقه، فلا يعقل أن يؤخذ مطلق
الابتداء مرآة لحال الغير حتى يكون مفاد لفظة " من " هو الابتداء على إطلاقه.
قلت: توقف تحقق الحيثية المأخوذة في الوضع على تحقق المفهوم المذكور
في ضمن جزئي من جزئياته وكون ما أطلق عليه اللفظ دائما خصوص الجزئيات
لا يستلزم أن تكون تلك الخصوصيات مأخوذة في الوضع، إذ لا مانع من تعلق
الوضع بنفس المفهوم، وتكون تلك الخصوصيات من لوازم الحيثية المعتبرة في
المعنى الموضوع له، فلا يمكن استعمال اللفظ فيه إلا في ضمن جزئي من تلك
الجزئيات حسب ما أشرنا إليه.
فاعتبار الابتداء مرآة لحال الغير إنما يكون في ضمن الخصوصية المنضمة
إليه، والمعنى الملحوظ في الوضع هو القدر الجامع بينها، أعني مفهوم الابتداء من
حيث كونه مرآة لحال الغير، فذلك المفهوم من تلك الحيثية لا يمكن حصوله ولا
إرادته إلا في ضمن الجزئيات، من غير أن تكون تلك الجزئيات ملحوظة حين
الوضع ولو على سبيل الاجمال حسب ما ذكروه، فليس المقصود من كون مطلق
الابتداء موضوعا له للفظة " من " أن يكون ذلك المفهوم بملاحظة حال إطلاقه - كما
هو الحال في حال تصوره - موضوعا له لذلك اللفظ، بل المقصود كون ذلك المفهوم
لا خصوص جزئياته موضوعا له لذلك وإن اعتبر هناك حيثية في الوضع لا يمكن
تحققها إلا في ضمن الجزئيات، فالموضوع له في ضمن تلك الجزئيات هو القدر
الجامع بينها، أعني مفهوم الابتداء من حيث كونه مرآة لملاحظة الغير، وتلك
190

الخصوصيات من لوازم تلك الحيثية المعتبرة في الوضع، فذلك المعنى الملحوظ
حال الوضع ليس موضوعا له للفظة " من " بتلك الملاحظة، ضرورة أنه ليس في
تلك الملاحظة مرآة لحال الغير، وإنما هو إحضار لحالها الأخرى وهي حال
وقوعها مرآة لحال الغير وعنوان لملاحظتها كذلك، كيف والمعنى الحرفي غير
مستقل في الملاحظة، وتعلق الوضع بالمعنى يستلزم استقلالها في اللحاظ،
فلا يعقل تعلق الوضع بالمعنى الحرفي من حيث إنه معنى حرفي، بل ذلك المفهوم
من حيث إنه معنى اسمي يجعل عنوانا لكونه معنى حرفيا ويوضع اللفظ بإزائه، فهو
في تلك الملاحظة نظير ملاحظة المعدوم المطلق في الحكم عليه بأنه لا يحكم
عليه، كما هو الحال أيضا في الحكم على المعنى الحرفي بأنه لا يحكم عليه ولا به،
فلا تغفل. ويجري ما قلناه بعينه في المعاني النسبية الملحوظة في وضع الأفعال،
إذ هي أيضا معان حرفية، والحال فيهما على نحو سواء.
سادسها: أنهم صرحوا بأن للحروف والضمائر وأسماء الإشارة وغيرها من
الألفاظ التي وقع النزاع فيها معاني حقيقية ومعاني مجازية، ويرجحون حملها
على معانيها الحقيقية مع الدوران بينها وبين غيرها حال الإطلاق، وهو لا يتم إلا
على القول بوضعها للمعاني الجزئية، إذ لو قيل بوضعها للمفاهيم الكلية لزم أن يكون
جميع تلك الاستعمالات مجازية، فلا وجه للتفصيل ولا لترجيح إرادة المعاني
الحقيقية على غيرها، لوضوح اشتراك الجميع في المجازية بحسب الاستعمال.
وجوابه ظاهر مما ذكرنا فلا حاجة إلى إعادته.
هذا، ويحتج للقول بوضعها للمفاهيم الكلية بوجوه:
أحدها: نص أهل اللغة بأن " هذا " للمشار إليه و " أنا " للمتكلم و " أنت "
للمخاطب و " من " للابتداء و " إلى " للانتهاء و " على " للاستعلاء إلى غير ذلك، وتلك
المفاهيم أمور كلية.
ثانيها: أن ظاهر كلماتهم في تقسيم الألفاظ انحصار متعدد المعنى في
المشترك والمنقول والمرتجل والحقيقة والمجاز، ولو كان الوضع في تلك الألفاظ
191

لخصوص الجزئيات لكانت من متعدد المعنى قطعا مع عدم اندراجها في شئ من
المذكورات، فيكون قسما خامسا، وهو خلاف ما يقتضيه كلام القوم.
ثالثها - وهو أضعفها -: أنها لو كانت موضوعة بإزاء الجزئيات لزم استحضار
ما لا يتناهى حال تعلق الوضع بها، ضرورة توقف الوضع على تصور المعنى،
وهو واضح البطلان.
وأجيب عن الأول بحمل كلامهم على إرادة المصداق دون المفهوم، كيف
ومقصودهم من بيان معاني تلك الألفاظ هو معرفة المراد منها في الاستعمالات،
ومن البين أن المراد منها في الاستعمال هو ذلك دون نفس المفهوم، للاتفاق على
عدم جواز الاستعمال فيه.
وعن الثاني بأن تقسيم الألفاظ إلى الأقسام المعروفة لما كان من القدماء وهم
لما لم يثبتوا هذا النوع من الوضع لم يذكروه في الأقسام، والمتأخرون مع إثباتهم
لذلك لم يغيروا الحال في التقسيم عما جرى عليه القوم، بل جروا في ذلك على
منوالهم، وأشاروا إلى ما اختاروه في المسألة في مقام آخر.
وعن الثالث بما هو ظاهر من الفرق بين الحضور الاجمالي والتفصيلي،
والقدر اللازم في الوضع هو الأول، والمستحيل بالنسبة إلى البشر إنما هو الثاني.
قلت: وأنت بعد التأمل في جميع ما ذكرناه تعرف تصحيح الوضع في المقام
على كل من الوجهين المذكورين، وأنه لا دليل هناك يفيد تعيين إحدى الصورتين
وإن كان الأظهر هو ما حكي عن القدماء على الوجه الذي قررناه، لما عرفت من
تطبيق الاستعمالات عليه، فلا حاجة إلى التزام التغاير بين المعنى المتصور حال
الوضع والموضوع له، فإنه تكلف مستغنى عنه مخالف لما هو الغالب في الأوضاع،
بل وكأنه الأوفق عند التأمل بظاهر الاستعمالات، ولولا أن عدة من الوجوه
المذكورة قد ألجأت المتأخرين إلى اختيار الوجه المذكور لما عدلوا عما يقتضيه
ظاهر الوضع، ويعاضده ظاهر كلام الجمهور، ويؤيده أيضا ظاهر ما حكي عن
أهل اللغة.
192

وحمل كلامهم على الوجه المتقدم وإن كان ممكنا إلا أنه لا داعي إليه مع
خروجه عن الظاهر، وما ذكر من قيام الشاهد عليه مدفوع بما عرفت من تصحيح
الاستعمالات على كل من الوجهين المذكورين، وعليك بالتأمل في ما فصلناه
فإني لم أر أحدا حام حول ما قررناه، فإن وجدته حقيقا بالقبول فهو من الله،
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
السادسة
ذهب جماعة من علماء العربية إلى اختصاص الوضع بالمفردات، وأن
المركبات لا وضع فيها من حيث التركيب، لحصول المقصود من الانتقال إلى
المعنى التركيبي بوضع المفردات، فلا حاجة في استفادة ذلك منها إلى وضع آخر.
ويدفعه: أن مجرد وضع المفردات غير كاف فيما يراد من المركبات، فإن
الجمل الخبرية مثلا إذا أريد بها الإخبار عما تضمنته كانت حقيقة دون ما إذا أريد
بها غير ذلك، فتكون موضوعة لإفادته، وهو أمر وراء ما يعطيه أوضاع المفردات،
فإنه حاصل فيها مع عدم إرادة الإخبار، أيضا فإنه إذا أريد بها إفادة المدح أو بيان
التحزن والتحسر أو التذلل والتخضع أو الضعف والوهن ونحو ذلك كان مفاد
المفردات في الجميع على حاله من غير تفاوت إلا بالنسبة إلى المعنى التركيبي،
فلولا القول بثبوت الوضع للهيئات التركيبية لما صح القول بكونها حقيقة في
الإخبار منصرفة إليه عند الإطلاق مجازا في غيره.
وفيه: أن دلالة المفردات بعد ضم بعضها إلى البعض كافية في إفادة الإخبار،
إذ هو مدلول تلك الألفاظ مع قطع النظر عن جميع الأمور الخارجية، وأما كون
الملحوظ سائر الفوائد المترتبة على الكلام فلا بد من قيام شاهد عليه، إذ لا تفي
المفردات بالدلالة على إرادتها، وبعد قيام القرينة على ملاحظتها فليست
المفردات مجازا قطعا وكذا المركب وإن لم يكن مجرد تلك العبارة كافيا في فهمها
من دون ملاحظة القرينة، فانصراف إطلاق الجمل الخبرية إلى خصوص الإخبار
بمضمونها لا يستلزم كونها موضوعة بإزائه، لما عرفت من أن السبب في انصرافها
193

إليه هو ملاحظة وضعها الأفرادي مع الخلو عن القرائن الدالة على خلافه، وكذا
افتقار إرادة سائر المقاصد إلى ضم القرائن المفهمة لإرادتها لا يفيد كونها مجازا
عند إرادتها.
والحاصل: أن إسناد الفعل إلى فاعله أو حمل المحمول على موضوعه دال
على ثبوت تلك النسبة التامة، وبعد ضم أحدهما إلى الآخر يحصل ذلك، فلو جرد
الكلام حينئذ عن سائر القرائن أفاد كون المقصود هو الإخبار عن ذلك الشئ من
دون حاجة إلى وضع آخر متعلق بالهيئة التركيبية، ولو انضم إليه ما يفيد إرادة
سائر المقاصد تمت الدلالة عليه بتلك الضميمة من دون لزوم مجاز أصلا،
هذا إذا كان المقصود إسناد تلك المحمولات إلى موضوعاتها على سبيل الحقيقة.
وأما إذا لم يكن إسنادها إلى موضوعاتها مقصودا في ذلك المقام بل كان
المقصود بيان ما يلزم ذلك من التخضع ونحوه كما في قولك: " أنا عبدك " و " أنا
مملوكك " فلا ريب إذن في الخروج عن مقتضى الوضع، إذ ليس المقصود في
المقام بيان ما يعطيه معاني المفردات بحسب أوضاعها، فحينئذ يمكن التزام
التجوز في المفردات كأن يراد ب‍ " عبدك " أو " مملوكك " مثلا لازمه، أو في
المركب بأن يراد من الحكم بثبوت النسبة المذكورة لازمها.
وعلى كل حال فالتجوز حاصل هناك، فظهر مما ذكرنا أن الجمل المذكورة
تندرج في الحقيقة تارة وفي المجاز أخرى.
فإن قلت: إن استعمال الجمل الخبرية في الدعاء أو بمعنى الأمر مجاز قطعا،
ولولا وضعها للإخبار لما صح ذلك.
قلت: إن المجاز هناك في المفرد - أعني الفعل المستعمل في المعنى المذكور
مثلا - لخروجه بإرادة ذلك عن مقتضى وضعه.
فإن قلت: إن الإسناد الحاصل في الجمل الخبرية الغير المشتملة على الفعل
مما يدل عليه صريح العبارة، مع أن أوضاع المفردات مما لا يدل عليه، فليس ذلك
إلا من جهة التركيب.
194

قلت: ليس ذلك من جهة وضع المركب، وإنما هو من جهة الطوارئ الواردة
على الكلمة، فإنها إنما تكون بسبب الأوضاع النوعية المتعلقة بذلك المقررة في
النحو، فالظاهر أن الأعاريب الواردة على تلك الكلمات هي الموضوعة بإزاء
النسب، والرابطة بين الموضوع والمحمول وكذا سائر الارتباطات الحاصلة بين
الكلمات إنما يستفاد من الأعاريب الواردة عليها، وربما يضم إلى ذلك ملاحظة
التقديم والتأخير ونحوهما المأخوذة في تلك الكلمات، فإن أريد بوضع المركبات
ما ذكرناه فلا كلام، إذ ثبوت الأوضاع المذكورة مما لا ينبغي التأمل فيه، ولم
يخالف أحد في الحكم فيه، وإن أريد به غير ذلك فهو مما لا شاهد عليه.
فإن قلت: قد نص علماء البيان على ثبوت المجاز في المركبات، وقد جعلوه
قسيما للمجاز في المفردات، ولا يتم ذلك إلا مع ثبوت الوضع في المركبات، لكون
المجاز فرع الوضع. وقد اعتذر بعضهم عن عدم تعرضهم للحقيقة في المركبات
بكون التعرض للحقائق غير مقصود بالذات في فن البيان، فذلك أيضا نص في
ثبوت الوضع في المركبات.
قلت: لا منافاة بين نفي الوضع من الهيئات التركيبية وراء وضع المفردات
والقول بثبوت الحقائق والمجازات التركيبية، فإن المعاني التركيبية مستندة إلى
الأوضاع قطعا، إلا أنه لا حاجة فيها إلى اعتبار وضع زائد على أوضاع المفردات،
وما يتعلق بها من الخصوصيات فإنها إذا استعملت فيما قضت به أوضاع المفردات
مع مراعاة الخصوصيات الحاصلة عند ضم بعضها إلى البعض كان المعنى الحاصل
من مجموع ذلك حقيقة مركبة، وإن استعملت في غيرها بأن كان الانتقال له من
تلك الحقيقة المركبة كان مجازا مركبا، وحينئذ فلا يبعد أن يقال بكون ما اشتمل
عليه من المفردات مجازا أيضا وإن استعملت في معانيها الموضوع لها ابتداء، إذ
المقصود منها حينئذ إحضار معناها التركيبي والانتقال منها إلى المعنى المجازي،
فلا يكون معانيها الحقيقية حينئذ هي المقصودة بالإفادة.
فدعوى كونها إذن مستعملة في معانيها الحقيقية وأن التجوز إنما هو في
195

المركب - كما في شرح التلخيص - ليست على ما ينبغي، إلا أن يبنى على كون
المناط في استعمال اللفظ في المعنى كونه مرادا من اللفظ ابتداء وإن أريد الانتقال
منه إلى غيره، وقد عرفت ما فيه.
ويمكن تصحيحه: بأن المجاز في المفرد هو الكلمة المستعملة في غير
ما وضع له، بأن يكون ذلك المعنى قد استعملت فيه الكلمة ابتداء، أو كان ذلك
مقصودا منها بالواسطة، والمفروض انتفاء الأمرين في المقام، فتكون مستعملة
في الموضوع له مندرجة في الحقيقة، فالتجوز هنا إنما يكون بالنسبة إلى المعنى
التركيبي المتحصل من أوضاع المفردات لا باستعمال المجموع فيه ابتداء،
إذ قد عرفت أنه غير متصور في المقام بل الانتقال (1) إليه من المعنى المذكور
حسب ما مر، وحينئذ فيكون التجوز في المعنى التركيبي خاصة وإن لم نقل بثبوت
وضع خاص بالنسبة إليه، فحيث لم يكن الانتقال إليه إلا بملاحظة المعنى المركب
من غير ملاحظة لخصوص كل من مداليل المفردات كان التجوز في المركب
وإن كان فيه خروج عن مقتضى أوضاع المفردات أيضا، إلا أن ذلك إنما هو
بالنسبة إلى المجموع دون كل واحد منها ليكون من المجاز في المفرد.
وفيه: أنه ليس المقصود الأصلي من كل واحد من تلك الألفاظ إفادة معناه
الحقيقي قطعا، فلا تكون مندرجة في الحقيقة، فلا بد من إدراجها في المجاز لكون
المقصود بكل منها إفادة غير الموضوع له ولو كان ذلك بملاحظة المعنى الذي يراد
من جميع تلك الألفاظ، فعدم قصد خصوص معنى مجازي من كل واحد من تلك
الألفاظ لا ينافي كونها مجازات مستعملة في غير ما وضعت له إذا كان المقصود
من الجميع غير الموضوع له، لظهور صدق كون المقصود من كل منها غير ما وضع
له وإن كان في ضمن الكل.
فظهر بما ذكرنا أن المجاز في المركب يستلزم المجاز في المفرد على النحو
المذكور وإن لم يستلزم استعمال كل واحد من المفردات في معنى مجازي

(1) كما هو أحد الوجهين في المجاز في المفرد كما عرفت. (منه (رحمه الله)).
196

مخصوص، كما هو الشأن في سائر المجازات المفردة. فتأمل.
إذا عرفت ذلك فقد تبين لك الوجوه التي يمكن الاستناد إليها في إثبات
الوضع للهيئات التركيبية كما هو مختار جماعة من الأجلة، والوجه في ضعفها،
وظهر لك قوة القول بنفي الوضع في المركبات.
وربما يقال بثبوت الوضع فيها من جهة دلالة بعض التراكيب على بعض
الخصوصيات كدلالة الجملة الإسمية على الدوام والثبوت والفعلية على التجدد
والحدوث. وفيه تأمل.
ثم على القول بثبوت الوضع في التراكيب ففي اندراجها في حد الحقيقة
إشكال، والقول بشمول اللفظ لها كما ادعي غير متجه.
إلا أن يقال بكون الهيئة مرآة لوضع الألفاظ المركبة لا أنها بنفسها موضوعة،
فيتعلق هناك وضع بالأجزاء ووضع بالكل. وفيه ما لا يخفى.
نعم، على ما قررناه في المجاز المركب يندرج ذلك في حد المجاز، وكأنه
الوجه في أخذهم اللفظ في حده والكلمة في حد المجاز في المفرد، ويجري نحوه
في اندراج المركب في حد الحقيقة، والظاهر عدم جريان الحقيقة والمجاز بالنسبة
إلى الأوضاع المتعلقة بالخصوصيات المعتورة على الكلمات، إذ ليس هناك
استعمال لفظ في الموضوع له أو في خلافه، كما لا يخفى.
السابعة
أنه لا شك في كون إثبات المعاني الحقيقية توقيفية لا بد فيه من الرجوع
إلى الواضع ولو بنقل النقلة أو بملاحظة العلائم والأمارات المقررة، واختلفوا
في المعاني المجازية.
فذهب جماعة إلى اعتبار نقل الآحاد في صحة استعمال كل لفظ بالنسبة
إلى كل من المعاني المجازية كما هو الحال في المعاني الحقيقية.
والمحكي عن الأكثر الاكتفاء فيه بنقل نوع العلاقة المصححة للإستعمال،
197

فلا يصح التجوز إلا بعد ثبوت الترخيص في نوع تلك العلاقة من غير حاجة
بعد ذلك إلى نقل الآحاد.
وعن بعض المتأخرين التفصيل بين الحروف وما بمنزلتها من الأسماء
الناقصة كالظروف وصيغة الأمر والنهي ونحوها، وما عدا ذلك من سائر الأسماء
والأفعال فاختار اعتبار نقل الآحاد في الأول دون الأخير.
والأظهر في المقام عدم الحاجة إلى نقل آحاد المجاز ولا نقل خصوص أنواع
العلائق في صحة التجوز، وغاية ما يلتزم به في المقام هو الاحتياج إلى ترخيص
الواضع في صحة الاستعمال بحسب اللغة في غير ما وضع له من المعاني المجازية
حسب ما مرت الإشارة إليه، وحينئذ نقول: إن من البين أن الترخيص هنا لم يرد
بطريق النقل المتصل ولا المرسل عن صاحب اللغة، وإنما يرجع فيه إلى استقراء
الاستعمالات والنظر في الطريقة الجارية في المحاورات وملاحظة موارد
الإطلاقات كما هي الطريق في استنباط الأوضاع النوعية، إذ لا يزيد ذلك عليها.
والمتحصل من التأمل في الطريقة الجارية المتداولة من بدو اللغة إلى الآن في
استعمال الألفاظ في المعاني المجازية والتعدي عن مقتضى الأوضاع الحقيقية هو
ملاحظة الارتباط والعلاقة التي لا يستهجن معها استعمال اللفظ في المعنى
المجازي والانتقال إليه من المعنى الحقيقي، من غير ملاحظة لشئ من خصوص
المعاني المستعملة فيها من قديم الأيام المنقولة عن العرب، ولا لشئ من
خصوص العلاقات المقررة في شئ من الاستعمالات المتداولة.
فظهر أن المدار في ترخيص الواضع هو ذلك من غير اعتبار لشئ من
الوجهين المذكورين، كيف وتلك الخصوصيات غير مضبوطة عند أهل العرف ولا
معروفة عند العامة، مع عدم تأمل أحد من أهل العرف في صحة التجوز، واستعمال
الألفاظ في المعاني المستحدثة الجديدة مما لم يخطر ببال المتقدمين من أهل
اللسان من الاستعارات وضروب الكنايات وسائر أقسام المجاز.
وبالجملة: الملحوظ في الاستعمالات العرفية عند التجوز في اللفظ هي
198

العلاقة التي لا يستهجن معها الانتقال من المعنى الحقيقي إلى المجازي، بحيث
يكون استعماله فيه مرضيا عندهم غير مستنكر لديهم، من غير ملاحظة لما يزيد
عليه ولا التفات إلى اندراجه في أي نوع من أنواع العلائق المقررة، وهو ظاهر
لمن تأمل في الاستعمالات الجارية بحيث لا يعتريه شبهة.
وما تصدوا له من حصر أنواع العلائق في الوجوه المذكورة في كتبهم فإنما هو
مبني على الغالب، ولذا وقع الاختلاف في تعدادها بحسب اختلافهم في كثرة
التتبع في أصناف المجاز وقلته من غير بنائهم على وقوع اختلاف في ذلك،
فملاحظة تلك الخصوصيات غير معتبرة في صحة التجوز أصلا، وإنما الملحوظ
فيها هو ما ذكرنا، فهو المناط في الترخص وانطباقه على تلك الخصوصيات من
قبيل الاتفاق من غير اعتبار في الترخيص لخصوص تلك الجهات، ولذا وقع
الاختلاف في إرجاع بعضها إلى البعض واقتصر جماعة على عده من العلائق
بارجاع الباقي إليها.
والحق - كما عرفت - إرجاع الجميع إلى أمر واحد هو ما قررناه، كيف ولو
كان المصحح للإستعمال هو خصوص العلائق المقررة - كما هو قضية ما ذكروه -
لكان الملحوظ حين الاستعمال إدراج العلاقة الحاصلة في واحد منها، ليصح
الإقدام على استعماله نظرا إلى إناطة الترخيص به، ومن المعلوم خلافه، ولصح
استعمال المجاز كليا مع حصول واحد منها، مع أنه بين الفساد، إذ لا يصح التجوز
في كثير من الأمثلة مع حصول نوع العلاقة المعروفة ولو مع حصول الشرط الذي
اعتبروه في بعضها كاستعمال الجزء في الكل، ولذا قد يصح الاستعمال مع انتفاء
ما اعتبروه من الشرط كاستعمال اليد في الانسان كما في الحديث المشهور: " على
اليد ما أخذت حتى تؤدي " (1) مع أنها مما لا ينتفي الكل بانتفائها، ويصح استعمال
مجاز بعينه في مقام دون آخر كما في المثال المذكور، واستعمال الرقبة في
الانسان فإنه إنما يصح فيما تعلق به الرق أو العتق ونحوهما لا في ما سوى ذلك،

(1) سنن البيهقي: ج 6 ص 95.
199

كأن يقول: " رأيت رقبة " أو " زرت رقبة " ونحوهما فظهر أنه إنما يدور الأمر
في كل من تلك العلائق مدار ما قلناه.
والقول بأن الترخيص الحاصل في المجازات مقتض لصحة الاستعمال،
وليس علة تامة في ذلك كما في أوضاع الحقائق، وحصول المقتضي إذا قارن
وجود المانع - أعني منعهم من الاستعمال في خصوص بعض المعاني - لم يعمل
عمله، فلا مانع من عدم اطراد العلائق وعدم جواز الاستعمال مع وجودها.
مدفوع: بأنه لا حاجة إلى التكلف المذكور، مع أن الظاهر من ملاحظة موارده
عدم حصول المقتضي لصحة الاستعمال هناك، حيث إنه لا فارق بينها وبين
المعاني التي ليست بينها وبين المعاني الحقيقية مناسبة ظاهرة كما هو ظاهر بعد
ملاحظة العرف، لا أن المقتضي لصحة الاستعمال موجود هناك، وإنما يمنع عنها
وجود المانع.
وقد يحتج للقول باعتبار نقل الآحاد تارة، بأن ما لم ينقل عن أهل اللسان
خارج عن اللغة لانحصارها في الحقيقة والمجاز، وغير المنقول ليس من الأول
قطعا ولا من الثاني، إذ المجاز اللغوي ما كان المتجوز فيه صاحب اللغة، فيخرج
حينئذ عن العربية، فلا يصح استعماله فيه في تلك اللغة، ويقضي وجوده في القرآن
بعدم كون جميعه عربيا وقد وصفه تعالى بكونه عربيا الظاهر في كون كله عربيا.
وتارة بأنه لو لم يحتج إلى نقل الآحاد لما ذكروا المعاني المجازية في كتب
اللغة، واقتصروا على بيان المعاني الحقيقية، مع أنهم لا زالوا يذكرون المجازات
حسب ما يذكرون الحقائق.
وأنت خبير بوهن الوجهين، أما الأول فبأن استعمال المجاز لما كان عن
ترخيص الواضع صح اندراجه في العربي، لما عرفت من كون ذلك نحوا من
الوضع، وأيضا يكفي في اندراجه في العربية وقوعه من أتباع أهل اللسان.
ألا ترى أن الحقائق العرفية العامة والخاصة غير خارجة عن اللسان العربي،
مع أن الاستعمال هناك من جهة الوضع الخاص المغاير لوضع اللغة، بل وكذا الحال
200

في المرتجلات مع عدم ملاحظة مناسبتها للمعاني اللغوية ليحصل لها بذلك نوع
تبعية لواضع اللغة.
وأما الثاني فبأن ذكر المعاني المجازية ليس لاستقصاء المجازات حتى
لا يصح استعمال مجاز غيرها كما هو شأنهم في بيان المعاني الحقيقية، بل إنما
يذكرون المعاني الدائرة بين الحقيقة والمجاز لاحتمال كونها من الحقيقة، أو
يشيرون إلى بعض المجازات المتداولة عند أهل اللغة والمجازات الخفية مما
يكون العلاقة فيها غير واضحة، ليكون باعثا على سهولة الخطب في معرفة المعاني
المستعملة فيها في الإطلاقات الواقعة في الآيات القرآنية والروايات المأثورة
والأشعار والخطب والرسائل ونحوها، فإن في ذكرها توضيحا لتفسيرها، كما
لا يخفى.
حجة القائل باعتبار النقل في أنواع العلاقة ووقوع الترخيص بالنسبة إلى كل
نوع منها من غير حاجة إلى نقل آحاد المجاز، أما على عدم التوقف على نقل
الآحاد فبما يقرب مما ذكرناه في حجة ما اخترناه، وأما على اعتبار نقل النوع
فبعدم جواز التعدي عن مقتضى الوضع ولزوم الاقتصار في الاستعمال على
حسب ما عينه الواضع، وإنما يجوز التعدي عنه بعد ترخيصه وإجازته لكونه أيضا
نحوا من الوضع، فلا بد أيضا من الاقتصار فيه على القدر الذي قامت عليه الشواهد
من النقل، وثبت الترخيص فيه لابتناء الأمر في باب الألفاظ على التوقيف، والقدر
الثابت من الترخيص هو ما ذكرناه فلا بد من الاقتصار عليه.
ولا يخفى وهنه بعد ملاحظة ما أشرنا إليه.
على أنه قد يقال: إن ذلك إنما يتم إذا كان التصرف في المجاز بإطلاق اللفظ
من أول الأمر على غير ما وضع بإزائه، فإن ذلك خروج عن مقتضى الوضع
متوقف على ترخيص الواضع حسب ما ذكر، وأما إذا كان التصرف فيه بواسطة
إرادة معناه الحقيقي والانتقال منه إلى المعنى المجازي - كما مر القول فيه -
فلا حاجة فيه إلى الترخيص، إذ ليس ذلك تصرفا في اللفظ.
201

ويشكل: بأن ذلك أيضا نحو من التصرف في اللفظ، حيث إن المقصود منه
حقيقة غير معناه الحقيقي وإن جعل إرادة معناه الحقيقي واسطة في الانتقال إليه.
وقد يناقش فيه: بأنه إنما يتم إذا قلنا بكون دلالة اللفظ على كون مدلوله هو
المقصود بالإفادة من جهة الوضع، وهو غير ظاهر، وأما إن قلنا بدلالة ظاهر الحال
عليه فلا حاجة في التعدي عنه إلى التوقيف بعد إرادة الموضوع له من اللفظ.
وفيه: أن معاني الألفاظ وكيفية استعمالها فيها أمور توقيفية لا بد من الجري
فيها على النحو المألوف والطريقة المتلقاة عن أهل اللغة، وإلا لكان غلطا بحسب
تلك اللغة، وقد عرفت أن إرادة المعاني المجازية من الألفاظ إنما تكون باستعمالها
فيها وإن كان بتوسط إرادة معانيها الحقيقية، فيتوقف جواز استعمالها كذلك
على التوقيف.
حجة المفصل: أما على عدم الافتقار إلى نقل الآحاد فبما عرفت من عدم
توقف استعمال المجازات في شائع الاستعمالات على ورود الخصوصيات من
أهل اللسان وثبوت الترخيص في الأشخاص وجريان السيرة واستمرار الطريقة
عليه حسب ما أشرنا إليه.
وأما على الافتقار إلى نقل الآحاد في الحروف والظروف ونحوهما من
الأفعال والأسماء الناقصة فباعتناء علماء العربية في تعيين مستعملاتها وبيان
معانيها الحقيقية والمجازية من غير فرق بينهما في ذلك، وفي إيراد الشواهد
والأدلة لإثبات كل من معانيها ولو كانت مجازية، ووقوع النزاع في بعض منها على
نحو المعاني الحقيقية واستناد كل من الطرفين إلى الشواهد والمرجحات، فلولا
الحاجة إلى النقل وتوقف الاستعمال فيها على التوقيف لم يتجه ما ذكروه، ولم
يترتب فائدة على ما بينوه، بل لم ينحصر معانيها المجازية فيما شرحوه، لاتساع
الدائرة فيها وعدم توقف صحة الاستعمال على نقلهم لها.
وفيه: أن ذلك لا يفيد توقف المجاز على النقل، فقد يكون ذلك لمزيد عنايتهم
بشأنها لكثرة دورانها في الاستعمالات وشيوع استعمالها في المحاورات، وقد كان
202

معظم ما يصح استعماله فيه من معانيها المجازية جاريا في استعمالاتهم واقعا
في إطلاقاتهم، فأرادوا بيان معانيها المجازية ليسهل تفسير استعمالاته الواردة
في كلامهم.
وحصرهم لمعانيها فيما ذكروه لو سلم فإنما هو لعدم حصول ما ذكرناه
من المناط في صحة التجوز إلا بالنسبة إليها في الغالب، لا لتوقف الأمر فيها
على النقل.
وقد يورد على ذلك: بأن إستنادهم فيما ذكروه من المعاني إلى الشواهد النقلية
نظير المعاني الحقيقية، ومناقشتهم فيما يستندون إليه في ثبوت الإطلاق على
بعض المعاني المفروضة مما يدل على توقف الاستعمال فيها على النقل دون
القاعدة.
ويمكن الجواب عنه: بأن ما كان من هذا القبيل قد يدعى كونه من المعاني
الحقيقية، إذ لا يتجه المناقشة في صحة التجوز مع حصول العلاقة بين المعنيين بعد
ملاحظة ما هو ظاهر من طريقتهم في المجاز، فلا يبعد حينئذ أن يكون ما ناقشوا
في ثبوته من جملة المعاني الحقيقية وإن كان من المعاني القديمة المهجورة.
أو يقال: إنه لما كانت العلاقة هناك خفية أرادوا بالرجوع إلى الشواهد معرفة
كون تلك العلاقة معتبرة عندهم مصححة للإستعمال في نظرهم حيث وقع
الاستعمال من جهتها في كلامهم.
وربما يقال: بأن التجوز في الحروف وما ضاهاها ليس على حد غيرها من
سائر الأسماء والأفعال، بل يصح الخروج عن مقتضى أوضاعها باستعمالها في
غير ما وضعت له مما أجاز الواضع استعمالها فيه بملاحظة القرائن وإن لم يكن
مناسبا لمعانيها الحقيقية كاستعمال " إلى " بمعنى مع، و " الباء " بمعنى من، و " أو "
بمعنى بل، ونحو ذلك، بل كثير من المعاني المذكورة لها من هذا القبيل، فإذا التزم
بمجازيتها اتجه البناء على ما ذكرنا، وهو وإن كان خلاف ما هو المعروف في
المجاز إلا أنه غير بعيد عن الاعتبار، ولا مانع منه بعد إذن الواضع وترخيصه فيه،
203

فيكون اعتبار العلاقة والمناسبة حاصلا في القسم الشائع من المجاز، ويكون
إطلاق كلام القوم في اعتبار العلاقة محمولة على ذلك، ويكون الوضع الترخيصي
الحاصل هناك نوعيا كليا بخلاف التجوز على الوجه المذكور، لعدم إناطة
الترخيص فيه بالعلاقة، فيكون الوضع الترخيصي فيه شخصيا متعلقا بلفظ خاص
ومعنى مخصوص على نحو الأوضاع الحقيقية الشخصية، فلا بد من ثبوت التوقيف
فيه كذلك، فإن الحاجة إلى نقل الآحاد أو النوع يتبع الوضع الحاصل من أهل اللغة،
فإن كان الوضع هناك نوعيا كليا لزم حصول التوقيف فيه بالنسبة إلى النوع من غير
حاجة إلى نقل الآحاد كما في الوجه الأول، وإن كان شخصيا خاصا فلا بد من
ثبوته كذلك كما في الثاني، من غير فرق في ذلك بين الحقيقة والمجاز.
ومن ذلك يظهر وجه آخر في عدم توقف صحة التجوز على الوجه الأول
على نقل خصوص آحاد المجاز ولا أنواع العلائق، إذ الظاهر كون الوضع
الترخيصي الحاصل هناك أمرا واحدا كليا لا أن هناك أوضاعا ترخيصية شخصية
متعلقة بآحاد المجازات، أو نوعية متعلقة بأنواع العلائق متعددة على حسبها،
ليفتقر صحة التجوز بالنسبة إلى كل منها على نقله وثبوته عن الواضع.
وكيف كان، فالتحقيق في المقام دوران الأمر هناك بين أحد الوجهين
المذكورين من التزام كونها من المعاني الحقيقية، أو التزام صحة التجوز مع الخلو
عن العلاقة المعتبرة من جهة الترخيص الخاص المتعلق به، نظرا إلى خلو معظم
المعاني المذكورة لها عن العلاقة المسوغة.
وتعنى بعض التعسفات الركيكة في إبداء المناسبة بينها وبين المعاني الحقيقية
لو أمكن فمما لا داعي إليه، وتوقف ثبوتها إذن على التوقيف، ونقل الآحاد على
كل من الوجهين المذكورين واضح.
وأما غيرها من المعاني المناسبة لمعناه الحقيقي فقد يكون تعرضهم له من
جهة احتمال ثبوت الوضع فيه، أو من جهة بنائهم على استيفاء معانيها المستعملة،
أو لتوضيح المراد منها في الاستعمالات الواردة حسب ما أشرنا إليه. فتأمل.
204

الثامنة
الأصل في الاستعمال حمل اللفظ على معناه الحقيقي فيما إذا دار الأمر بين
الحمل عليه وعلى المعنى المجازي، فيحكم بكون المعنى الحقيقي هو المقصود
بالإفادة، المطلوب إفهامه من العبارة، إلا أن يقوم هناك قرينة صارفة عن ذلك
قاضية بحمل اللفظ على غيره، إما باستعمال اللفظ فيه ابتداء، أو باستعماله في
المعنى الحقيقي لينتقل منه إلى المجازي، كما في الكناية وغيرها حسب ما مر.
ويدل عليه بعد قيام السيرة القاطعة المستمرة من بدو وضع اللغة إلى الآن عليه
النظر إلى الغاية الباعثة على التصدي للوضع، إذ الغرض من الأوضاع تسهيل الأمر
في التفهيم والتفهم حيث إن الانسان مدني الطبع يحتاج في أمر معاشه ومعاده إلى
أبناء نوعه، ولا يتم له حوائجه من دون الاستعانة بغيره، ولا يحصل ذلك إلا بإبداء
ما في ضميره وفهمه ما في ضمير غيره مما يحتاج إليه، ولا يتسهل له ذلك
إلا بواسطة الموضوعات اللفظية، حيث إن سائر الطرق من الإشارة ونحوها لا يفي
بجميع المقاصد ولا يمكن الإفهام بها في كثير من الأوقات، ويتعسر إفهام تمام
المقصود بها في الغالب، مضافا إلى ما يقع فيها من الخطأ والالتباس، فلذا قضت
الحكمة بتقرير اللغات وبناء الأمر في التفهيم والتفهم على الألفاظ.
ومن البين أن الفائدة المذكورة إنما تترتب على ذلك بجعل الألفاظ كافية في
بيان المقاصد من غير حاجة إلى ضم شئ من القرائن، إذ لو توقف الفهم على
ضمها لزم العود إلى المحذور المذكور، مضافا إلى كونه تطويلا بلا طائل، لإمكان
حصول المقصود من دونه.
نعم، قد يطلب الاجمال وعدم التصريح بخصوص المقصود في بعض
المقامات، ولذلك وغيره من الفوائد وقع الاشتراك في بعض الألفاظ، إلا أنه ليس
في المشترك قصور في الدلالة على المعنى وإنما طرأه قصور في الدلالة على
خصوص المراد من جهة تعدد الأوضاع، ولذا جعلوه مخالفا للأصل، نظرا إلى
منافاته للحكمة المذكورة في الجملة.
205

وبالجملة: أصالة حمل اللفظ على المعنى الحقيقي والحكم بكونه مرادا
للمتكلم عند الدوران بينه وبين المعنى المجازي مما لا كلام فيه في الجملة، وعليه
مبنى المخاطبة وهو المدار في فهم الكلام من لدن زمان آدم (عليه السلام) إلى الآن في كافة
اللغات وجميع الاصطلاحات.
نعم، قد يتأمل في أن القاعدة المذكورة هل هي من القواعد الوضعية المقررة
من الواضع بتعيينه ووضعه سوى وضعه المتعلق بالألفاظ؟ فيكون مستفادا من
ملاحظة السيرة والطريقة المستمرة حسب غيره من الأوضاع العامة والقواعد
الكلية المتلقاة منه. أو أنه لا حاجة فيها إلى وضع سوى وضع الألفاظ لمعانيها، إذ
بعد دلالة الألفاظ على المعاني يكون التصدي لاستعمالها في مقام البيان مع شعور
المتكلم وعدم غفلته وذهوله شاهدا على إرادة معناه ومدلوله، فيكون كدلالة
الإشارات على مقصود المشير، فيكون الأصل المذكور متفرعا على الوضع من
غير أن يكون متعلقا لوضع الواضع وإن كان الغاية الملحوظة في الأوضاع هو فهم
المراد، إذ لا يلزم من ذلك أن يكون ترتبها عليه بلا واسطة.
وقد يقال بكون الألفاظ موضوعة للدلالة على معانيها من حيث كونها مرادة
للمتكلم مقصودة منها فالوضع هو تعيين اللفظ أو تعينه ليدل على كون المعنى
مرادا للمتكلم، لا لمجرد الدلالة على المعنى وإحضاره بالبال كما هو الظاهر، وكان
ذلك مراد القائل بكون الدلالة تابعة للإرادة، لانتفاء الدلالة المذكورة في المجاز
بعد قيام القرينة الصارفة لا ما يتراءى من ظاهره، لوضوح فساده، وعلى هذا
الوجه أيضا تكون دلالة الألفاظ على كون معانيها مقصودة للمتكلم وضعية،
فيكون الأصل المذكور مستندا إلى الوضع أيضا.
إلا أن الوجه المذكور بعيد عن ظاهر الأوضاع، فإن الظاهر كون الحاصل من
نفس الوضع مجرد الإحضار، ودلالة اللفظ على كون ذلك مرادا للمتكلم حاصلة
بعد ذلك بأمر آخر فيتعين حينئذ أحد الوجهين الآخرين.
وكيف كان، فنقول: إن إجراء الأصل المذكور إما أن يكون من المخاطب،
206

أو غيره، وعلى التقديرين فإما أن يعلم انتفاء القرائن المتصلة أو المنفصلة أو لا،
فمع العلم بالخلو عن القرينة المانعة لا تأمل في إجراء الأصل من المخاطب وكذا
من غيره، وأما مع انتفاء العلم بها وعدم اطلاعه على قيامها فهو أيضا حجة بالنسبة
إلى المخاطب، لجريان الطريقة عليه من غير توقف على الاستفسار ولو مع إمكانه
حسب ما بيناه. وورود السؤال حينئذ عن حقيقة الحال في بعض الموارد من جهة
الاحتياط والأخذ بالجزم، لا لعدم جواز الأخذ بالظاهر.
وأما بالنسبة إلى غير المخاطب سيما مع عدم الحضور في مجلس الخطاب
فقد يتأمل في جريان الأصل المذكور، خصوصا مع طول المدة وتعارض الأدلة
وظهور القرائن المنفصلة الباعثة على الخروج عن الظاهر بالنسبة إلى كثير من
الخطابات الواردة، إذ الأخذ بالأصل المذكور في ذلك غير ظاهر من الدليل
المتقدم لعدم ابتناء المخاطبات العرفية على مثل ذلك ليمكن الاستناد فيه إلى
الوجه المذكور.
نعم، الدليل على الأخذ بالظنون المتعلقة بالأحكام الشرعية منحصر عندنا
فيما دل على حجية مطلق الظن بعد انسداد باب العلم، فيتفرع ذلك على الأصل
المذكور دون ما ذكر من قيام السيرة القاطعة والإجماع المعلوم على حجية
الظواهر، فإن القدر الثابت من ذلك هو القسم الأول خاصة، كذا يستفاد مما ذكره
بعض أفاضل العصر.
قلت: من الواضح المستبين أن علماء الأعصار في جميع الأمصار مع
الاختلاف البين في آرائهم وطرائقهم والتفاوت الواضح في كيفية استنباطهم
وسلايقهم اتفقوا على الرجوع إلى الظواهر المأثورة، والاستناد إلى ما يستفاد منها
والأخذ بما تدل عليها وإن اختلفوا في تعيين الحجة منها بحسب الإسناد، وما
يصلح من تلك الجهة للاعتماد.
نعم ربما وقع خلاف ضعيف لبعض متأخري الأخباريين في الظواهر القرآنية
لأمور اتضح فسادها في محله.
207

وقد اعترف بذلك الفاضل المذكور بالنسبة إلى الكتاب، نظرا إلى أن الظاهر أن
الله تعالى يريد من جميع الأمة فهمه والتدبر فيه والعمل به، وقال: إن ذلك طريقة
أهل العرف في تأليف الكتب وإرسال المكاتيب والرسائل إلى البلاد النائية، ومن
البين أن هذا الوجه بعينه جار في سائر الروايات والأخبار الواردة بعد فرض
حجيتها ووجوب العمل بمضمونها، إذ هو الطريق في استنباط المطالب من الألفاظ.
وبالجملة: أن جواز العمل بالظواهر اللفظية مما قام عليه إجماع الفرقة من
قدمائها ومتأخريها ومجتهدها وأخباريها، بل الظاهر إجماع الأمة عليه على
مذاهبها المتشعبة وآرائها المتفرقة، وقد حكى الاجماع عليه جماعة من الأجلة
حتى أنه قد صار عندهم من المشهورات المسلمات حجية الظن في الموضوعات،
يعنون بها الموضوعات اللفظية، إذ سائر الموضوعات يعتبر فيها القطع أو الأخذ
بالطرق الخاصة المقررة في الشريعة.
فما ادعاه الفاضل المذكور من الفرق بين الصورتين وقصره مورد الاجماع
على الأول من الوجهين المذكورين بين الفساد (1).
نعم، غاية الأمر المناقشة في إجراء الوجه المتقدم في الأخير، إذ قد يتأمل في
جريان طريقة أهل اللسان عليه، إذ القدر الثابت من طريقتهم جريان ذلك بالنسبة
إلى المتخاطبين دون غيرهما إذ المدار في التفهيم والتفهم على فهمهما.
وأما ما ذكرناه من الاجماع فهو جار في المقام قطعا، فليس حجية الظن
المذكور محل كلام أصلا بل هو من الظنون الخاصة التي دل على حجيتها إجماع
الأمة.
على أنه لا يبعد القول بجريان طريقة الناس في العادات على ذلك أيضا،

(1) ومن الغريب ما صدر عن الفاضل المذكور من حمل الموضوعات هنا على موضوعات
الأحكام سواء كانت من الألفاظ أو غيرها، فجعل حجية الظن فيها موردا للإجماع إلا أنه
قصر الحكم بحجية الظن المتعلق للموضوعات اللفظية على الظن الحاصل للمخاطبين،
وقد عرفت وهن كل من إطلاقه وتقييده. (منه (رحمه الله)).
208

كما يظهر من ملاحظة تفاسيرهم للأشعار والعبارات المنقولة عن السلف، وكذا
الحال في المكاتيب المرسومة والوصايا المكتوبة في الدفاتر ونحوها وإن كان
المخاطب بها خصوص بعض الأشخاص، فإنهم لا زالوا يفسرونها على مقتضى
قانون اللغة وقواعد العربية ويحكمون بإرادة ما يظهر منها بمقتضى الأصول المقررة.
وبالجملة: لا نجد منهم فرقا بين المتخاطبين وغيرهما في حمل العبائر على
ظواهرها وإجراء أحكامها عليها، بل نجدهم مطبقين على الحكم بها من غير فرق
بين المقامين، وقد أشار غير واحد منهم إليه ونبه على جريان الطريقة عليه.
بقي الكلام في أن الأصل المذكور هل يناط بوضع اللفظ فلا نخرج عن
مقتضاه إلا بعد قيام الدليل على الخروج عنه، أو أنه إنما يدور مدار الظن فلا يصح
البناء عليه بعد انتفاء المظنة بالمراد ولو من غير حجة شرعية صالحة للاعتماد؟ كما
إذا عارض القياس أو الاستحسان إطلاق الخبر الصحيح وقضى الظن الحاصل من
ذلك بانتفاء الظن بإرادة الظاهر من العبارة، فحصل الشك بعد تصادمهما أو غلب
الظن الحاصل من الجهة الأخرى.
وكذا الحال ما لو دل خبر ضعيف على تخصيص العام وحصل الشك في
صدق الخبر وكذبه، فإن الشك في ذلك قاض بالشك في البناء على العام.
بل وكذا ما لو شك في ورود مخصص للعام لم يصل الينا [كما] (1) إذا كان هناك
من الشواهد ما يقضي بالشك المذكور فيتساوى احتمال وجوده وعدمه.
وبالجملة: أنه لا يبنى على حمل اللفظ على ما يقتضيه الوضع إلا مع حصول
الظن بإرادة الموضوع له وانتفاء ما يقضي بالشك في إرادته، نظرا إلى أن الحجة
في المقام هو الظن الحاصل من ذلك فإذا فرض انتفاء المظنة لم ينهض حجة،
فالأمور المذكورة وإن لم تكن حجة إلا أنها مانعة عن الاستناد إلى الحجة مسقطة
لها عن الحجية.
وقد نبه على ذلك بعض أفاضل المتأخرين حيث قال: إن أصالة الحقيقة لم

(1) ما بين المعقوفتين من المطبوع (1).
209

يثبت دليل على اعتبارها ولو مع انتفاء المظنة، لأن القدر الثابت هو حجية ما هو
ظاهر مظنون بالنسبة إلى العالم بالاصطلاح وأما أزيد منه فلم يثبت، فظاهر كلامه
المنع من الحجية مع انتفاء المظنة.
والظاهر من جماعة من الأصحاب البناء على الأصل المذكور مطلقا إلى أن
يقوم دليل على خلافه، كما يظهر من ملاحظة كلماتهم في طي المسائل. وفي كلام
بعض الأفاضل أن التحقيق القول بلزوم العمل بظواهر الألفاظ إذا حصل الظن منها
بالواقع وبإرادة المتكلم منها ظواهرها، وأما مع الشك في ذلك فلا يجوز التعويل
عليها إلا أن يقوم دليل على لزوم العمل بها من باب التعبد، والقدر الثابت هو ما إذا
عارضها ما يوجب الشك أو الظن بخلافها مما لم يقم دليل من الشرع على حجيته.
والحاصل أن الأصل المنع من العمل بها بدون الظن إلا أن يقوم دليل على
لزوم العمل من باب التعبد، فيقتصر على مورد الدليل.
قلت: والذي يقتضيه التحقيق في المقام: أن يقال بالفرق بين ما يكون باعثا
على الخروج عن الظاهر بعد حصول الدلالة بحسب العرف وانصراف اللفظ إليه
في متفاهم الناس، وما يكون مانعا من دلالة العبارة بملاحظة العرف وباعثا على
عدم انصراف اللفظ إليه بحسب المتعارف في المخاطبة وإن لم يكن ظاهرا في
خلافه صارفا إليه عن ظاهره، وقد ينزل عليه ما حكيناه عن بعض أفاضل
المتأخرين من المنع عن الأخذ بالأصل المذكور إلا مع الظن بمقتضاه.
وما حكيناه عن الجماعة من البناء على الأخذ به إلا مع قيام الدليل على
خلافه ولو فرض إجراؤهم له في غير المحل المذكور فهو من الاشتباه في مورده،
كما يتفق كثيرا في سائر الموارد من نظائره، وفي طي كلمات الأصحاب شواهد
على التنزيل المذكور فيرتفع الخلاف في المعنى.
وكيف كان، ففي الصورة الأولى يصح الاستناد إلى ظاهر العبارة حتى يثبت
المخرج، ومجرد الشك في حصوله أو الظن الغير المعتبر لا يكفي فيه، فلو شك في
ورود مخصص على العام أو ظن حصوله من غير طريق شرعي وجب البناء على
210

العام، ويدل عليه عمل العلماء خلفا عن سلف بالعمومات وسائر الظواهر على
النحو المذكور حتى يثبت المخرج بطريق شرعي، كيف! ومن المسلمات بينهم
حجية استصحاب العموم حتى يثبت التخصيص واستصحاب الظاهر حتى يثبت
التأويل ولم يخالف فيه أحد من القائلين بحجية الاستصحاب في الأحكام
والمنكرين له، وقد حكوا الاجماع عليه من الكل كما سيجئ الإشارة إليه في
محله إن شاء الله تعالى.
والحاصل: أنه بعد قيام الحجة ودلالتها على شئ لا بد من الأخذ بمقتضاها
والوقوف عليها حتى تقوم حجة أخرى قاضية بالخروج عن ظاهرها وترك ما
يستفاد منها، والظاهر أن ذلك طريقة جارية بالنسبة إلى التكاليف الصادرة في
العادات من المولى لعبده والوالد لولده والحاكم لرعيته وغيرهم، بل وكذا الحال
في غير التكاليف من سائر المخاطبات الواقعة بينهم.
وأما الثانية فلا يتجه فيها الاستناد إلى ظاهر الوضع، أو الحجة في المخاطبات
العرفية إنما هي ظاهر العبارة على حسب المفهوم في العرف والعادة، فإذا قام
هناك ما يرجح الحمل على المجاز لا بأن يرجحه على الحقيقة، بل بأن يجعل ذلك
مساويا للظهور الحاصل في جانب الحقيقة لم يحصل التفاهم بحسب العرف،
لتعادل الاحتمالين وإن كان الظهور الحاصل في أحدهما وضعيا وفي الآخر
عارضيا فيلزم التوقف عن الحكم بأحدهما حتى ينهض شاهد آخر يرجح الحمل
على أحد الوجهين، إذ ليس انفهام المعنى من اللفظ مبنيا على التعبد وإنما هو من
جهة حصول الظهور والدلالة العرفية على المراد والمفروض إنتفاؤها في المقام.
ومن هنا ذهب جماعة إلى التوقف في المجاز المشهور، فلا يحمل اللفظ
عندهم على خصوص الحقيقة أو المجاز إلا بعد قيام القرينة على إرادة أحد
المعنيين، منهم المصنف (رحمه الله) في ظاهر كلامه في الكتاب كما سيجئ إن شاء الله.
وقد خالف فيه جماعة فرجحوا الحمل على الحقيقة، وآخرون فحملوه مع
الإطلاق على المجاز.
211

والأظهر بمقتضى ما بيناه التفصيل والقول بكل من الأقوال المذكورة بحسب
اختلاف مراتب الشهرة، فإن لم تكن بالغة إلى حد يعادل الظهور الحاصل من
ملاحظتها ظهور الحقيقة تعين الحمل على الحقيقة، وإلا فإن كان معادلا للحقيقة
في الرجحان لزم الوقف فلا يحمل اللفظ على أحد المعنيين إلا لقرينة دالة عليه،
وإن كانت ملاحظة الاشتهار مرجحة للحمل على المجاز بأن كان الظهور الحاصل
منها غالبا على الظهور الحاصل من الوضع كان المتعين حمله على المجاز.
ويجري ما ذكرناه من التفصيل بالنسبة إلى سائر القرائن القائمة في المقام مما
تنضم إلى ظاهر الكلام، فإنها قد تقرب المعنى المجازي إلى الفهم من غير أن يبلغ
به في الظهور إلى درجة الحقيقة، فيتعين معها الحمل على الحقيقة أيضا وإن ضعف
بها الظهور الحاصل قبلها، أو تجعله مساويا لإرادة الحقيقة أو غالبا عليها فيتوقف
في الأول ولا يحمل اللفظ على الحقيقة مع عدم كون القرينة صارفة عنها إلى
غيرها، وإن صرفته عن الحمل عليها وجعلت إرادة المجاز مكافئة لإرادتها فدار
الأمر بين إرادته وإرادتها ويتعين حمله على المجاز في الأخير، لبناء المخاطبات
على الظنون الحاصلة من العبارات سواء كانت حاصلة بملاحظة الأوضاع أو
إنضمام القرائن على اختلاف مراتبها في الوضوح والخفاء، إذ لا يعتبر في القرينة
أن تكون مقيدة للقطع بالمراد.
فظهر بما قررناه أنه لا وجه لاعتبار حصول الظن بالفعل بما هو مقصود
المتكلم في الواقع ولا الالتزام بالخروج عن مقتضى قاعدة عدم حجية الألفاظ مع
عدم ظهورها في المقصود ودلالتها عليه دلالة ظنية لوجود ما يعارضها، نظرا إلى
وجود الدليل على لزوم الأخذ بها في بعض المقامات مع انتفاء الظن أيضا حسب
ما قدمناه حكايته عن الفاضل المذكور، بل قد عرفت أن الأصل المذكور معول
عليه في الصورة الأولى مطلقا ولا معول عليه في الثانية مطلقا من غير حاجة إلى
التزام الخروج عن الأصلين في شئ من المقامين.
هذا كله مع العلم بوجود الشواهد المفروضة المقارنة لتأدية العبارة أو العلم
212

بانتفائها أو الظن بأحد الجانبين، أما لو لم يعلم بمقارنة القرائن ولا بعدمها واحتمل
وجودها بحسب الواقع ولم يحصل مظنة بأحد الجانبين فهل يحكم بأصالة الحمل
على ظاهر اللفظ من دون ظن بالمراد وبما هو مدلول العبارة بحسب الواقع أو لا بد من
التوقف لعدم العلم أو الظن بانفهام المعنى المفروض من العبارة حين التأدية
وبدلالتها عليه بحسب العادة حتى يستصحب البناء عليه كما في الفرض المتقدم؟
وجهان، أوجههما الأول، أخذا بظاهر اللفظ مع عدم ثبوت ما يوجب العدول عنه
أو الشك فيه، والظاهر جريان الطريقة المتداولة في الأحكام العادية والبناء في
فهم المخاطبات الجارية بين الناس، كالخطاب الواصل من الموالي إلى العبيد
والحكام إلى الرعية على ذلك وهو الطريقة الجارية في العمل بالروايات الواردة
من غير أن يجعل احتمال مقارنتها لما يوجب الصرف عن ظواهرها باعثا على
التوقف عن العمل بها.
فصار المتحصل من الأصل هو الأخذ بظاهر اللفظ ملحوظا مع القرائن
والأمارات المنضمة إليه عند من يرد الخطاب عليه من غير التفات إلى احتمال
حصول ما يوجب الخروج عنه من القرائن المتأخرة أو المقارنة الصارفة عن
الظن. فتأمل.
التاسعة
لمعرفة كل من الحقيقة والمجاز طرق عديدة:
أحدها: تنصيص الواضع بالوضع أو بلوازمه أو بنفيه أو نفي لوازمه.
ثانيها: النقل المتواتر وما بمنزلته من التسامع والتظافر أو الآحاد، وحجية
الأول ظاهرة، إلا أنه قد يناقش في وجوده ويدفعه: ملاحظة الوجدان.
ويدل على حجية الثاني عموم البلوى باستعلام اللغات وعدم حصول الغنى
عنها مع انسداد طريق القطع في كثير منها، فلا مناص عن الأخذ بالظن فيها،
وجريان الطريقة من الأوائل والأواخر على الاعتماد على نقل النقلة والرجوع
213

إلى الكتب [المعتمدة] (1) المعدة لذلك من غير نكير فكان إجماعا من الكل.
والقول بعدم إفادة كلامهم للظن - لاحتمال ابتنائه على بعض الأصول
الفاسدة كالقياس في اللغة أو لعدم التحرج عن الكذب لبعض الأغراض الباطلة
مع انتفاء العدالة عنهم في الغالب وفساد مذهب أكثرهم - فاسد، بشهادة الوجدان
والدواعي على التحرج عن الكذب قائمة غالبا سيما في الكتب المتداولة لولا قيام
الدواعي الإلهية. نعم، لو فرض عدم إفادته للظن لقيام بعض الشواهد على خلافه
فلا معول عليه.
وربما يناقش في حجية الظن في المقام لأصالة عدمها وعدم وضوح شمول
أدلة خبر الواحد لمثله.
وضعفه ظاهر مما عرفت، مضافا إلى أن حجية أخبار الآحاد في الأحكام مع
ما فيها من وجوه الاختلال وشدة الاهتمام في معرفتها يشير إلى حجيتها في
الأوضاع بطريق أولى.
وثالثها: الاستقراء وهو تتبع موارد الاستعمالات كما في استنباط الأوضاع
النوعية والقواعد الكلية الوضعية كأوضاع المشتقات، وما قرروه من رفع الفاعل
ونصب المفعول ونحوها، فإن تلك الأوضاع والقواعد إنما تستنبط من تتبع
الموارد، والطريق إلى معرفتها منحصر في ذلك في الغالب وعليه جرت طريقة
علماء الأدب في معرفة ما قرروه من قواعد العربية وما بينوه من الأوضاع الكلية.
وأما الأوضاع الشخصية فيمكن استفادتها من ذلك أيضا بملاحظة موارد
إطلاقات اللفظ وإطلاقه على جزئيات ما وضع له لو كان كليا ونحو ذلك، كما
احتجوا به في إثبات الحقائق الشرعية.
ثم الاستقراء إن كان مفيدا للقطع كما في الحكم برفع الفاعل ونصب المفعول
فلا كلام، وإن كان مفيدا للظن فكذلك أيضا، لما دل على حجية الظن في مباحث
الألفاظ وإطباق أهل الأدب عليه من غير نكير كما ينادي به ملاحظة كلماتهم.

(1) ما بين المعقوفتين من المطبوع (1).
214

ورابعها: الترديد بالقرائن وملاحظة مواقع الاستعمال، وهو طريقة معروفة في
الأوضاع كما في الأطفال يتعلمون اللغات والجاهلين بالأوضاع يتعلمونها عن
أربابها، وهو أيضا قد يفيد القطع وقد يفيد الظن، ويمكن إدراج بعض صوره في
الاستقراء. وقد يجعل الاستناد في بعضها إلى الوجه الآتي، إلا أن الظاهر أن في
الترديد بالقرائن زيادة دلالة على الوضع بالنظر إلى ما سنذكره من الأصل، فهو
وجه آخر يغاير الوجوه المذكورة.
خامسها: أصالة الحقيقة فيما إذا استعمل اللفظ في معنى مخصوص ولم يعلم
كونه موضوعا بإزائه أو مستعملا فيه على سبيل المجاز على المعروف من المذهب
مع اتحاد المستعمل فيه أو تعدده والعلم بكونه مجازا في غيره، بل ظاهر
الأصوليين الإطباق على الحكم بدلالته على الحقيقة، وإنما اختلفوا فيما إذا تعدد
المستعمل فيه.
وقد ذهب السيدان (رحمهما الله) وغيرهما من المتقدمين إلى جريان الأصل المذكور
في ذلك أيضا، ولذا اشتهر عنهم تقديم الاشتراك على المجاز كلما دار الأمر بينهما
بعد ورود الاستعمال في المعنيين، وجروا على ذلك في إثبات ما يدعونه من
الاشتراك في المباحث الآتية.
والمشهور تقديم المجاز عليه، ولذا قالوا: " إن الاستعمال أعم من الحقيقة "
يعنون به مع تعدد المعنى، فلا يتوهم منافاة بينه وبين الأصل المذكور، فهناك
موردان لإجراء أصل الحقيقة:
أحدهما: فيما إذا علم الموضوع له وشك في المعنى المراد.
وثانيهما: إذا علم المستعمل فيه وشك في الموضوع له مع اتحاد ما استعمل
اللفظ فيه مما يحتمل تعلق الوضع به، ومورد للحكم بكون الاستعمال أعم من
الحقيقة وهو ما إذا تعدد المستعمل فيه الذي يحتمل الوضع له.
وقد خالف فيه الجماعة المذكورة فحكموا هناك أيضا بأصالة الحقيقة فهم
ينكرون القاعدة الأخيرة ولا يقولون بها في شئ من المقامات، وقد مر الكلام
215

في إجراء الأصل المذكور في الصورة الأولى وهي ليست من مورد البحث
في المقام، إذ ليس فيها استعلام الوضع من الاستعمال بل بالعكس، فالكلام إنما
هو في الصورتين الأخيرتين.
ولنوضح القول فيهما في مقامين:
الأول: في دلالة الاستعمال على الحقيقة مع اتحاد المعنى ولا كلام ظاهرا في
تحقق الدلالة المذكورة في الجملة، وقد حكى الاجماع عليه جماعة من الأجلة
منهم العلامة في النهاية، وقد يستفاد من كلام السيد في الذريعة أيضا كما سيأتي
الإشارة إليه.
ويدل عليه بعد ذلك جريان طريقة أئمة اللغة ونقلة المعاني اللغوية على ذلك.
فعن ابن عباس الاستناد في معنى " الفاطر " إلى مجرد الاستعمال. وكذا عن
الأصمعي في معنى " الدهاق ". وكذا الحال فيمن عداهم فإنهم لا زالوا يستشهدون
في إثباتها إلى مجرد الاستعمالات الواردة في الأشعار وكلمات العرب ويثبتون
المعاني اللغوية بذلك، ولا زال ذلك ديدنا لهم من قدمائهم إلى متأخريهم كما
لا يخفى على من له أدنى خبرة بطريقتهم.
وأن ظاهر الاستعمال قاض بإرادة الموضوع له بعد تعينه والشك في إرادته
بغير خلاف فيه كما مرت الإشارة إليه، وذلك قاض بجريان الظهور المذكور
في المقام، إذ لا فرق في ذلك بين العلم بالموضوع له والجهل بالمراد أو العلم
بالمراد والجهل بما وضع له لاتحاد المناط في المقامين، وهو استظهار أن يراد من
اللفظ ما وضع بإزائه من غير أن يتعدى في اللفظ عن مقتضى وضعه إلا أن يقوم
دليل عليه.
مضافا إلى ما في المجاز من كثرة المؤن لتوقفه على الوضع والعلاقة والقرينة
الصارفة والمعينة، بل ويتوقف على الحقيقة على ما هو الغالب وإن لم يستلزمه
على التحقيق.
فإن قلت: إن مجرد وجدان اللفظ مستعملا في معنى كيف يدل على كونه
216

حقيقة فيه مع احتمال كونه مستعملا في معاني عديدة غير المعنى المفروض؟
ومجرد أصالة العدم لا يفيد ظنا به، وليس الأمر في المقام مبنيا على التعبد ليؤخذ
فيه بمجرد الأصل.
قلت: فيه - بعدما عرفت من الوجه في ظهور الاستعمال في الحقيقة القاضي
بكون المستعمل فيه معنى حقيقيا حتى يتبين أن هناك معنى آخر استعمل اللفظ
فيه - أنه ليس المراد هو الحكم بالحقيقة بمجرد ما يرى في بادئ الرأي من
استعمال اللفظ في معنى مخصوص من دون خبرة بسائر استعمالاته، بل المقصود
هو الحكم بها بعد ملاحظة إستعمالاته المعروفة وانحصار الأمر فيما يحتمل الوضع
له من مستعملاته لو فرض استعماله في غيره أيضا في المعنى المفروض، لبعد
وجود معنى آخر غيره يكون اللفظ موضوعا بإزائه مما لا يوجد في الاستعمالات
المعروفة ولا يكون له عين ولا أثر في الإطلاقات المتداولة.
وبذلك يظهر وجه آخر في الحكم بكونه هو الموضوع له، نظرا إلى دوران
الحكم في إثبات الأوضاع مدار الظن، وحصول الظن حينئذ بكونه هو الحقيقة
ظاهر مما ذكرنا إذا لم يقم شئ من الشواهد على كونه مجازا فيه كما هو
المفروض.
وقد ظهر مما قررناه وجه آخر في قولهم: " إن الاستعمال أعم من الحقيقة "
بأن يكون المراد به أن مجرد الاستعمال من دون ملاحظة كونه في معنى واحد أعم
من الحقيقة. فتأمل.
الثاني: في بيان الأصل فيما يتعدد فيه المعنى مع قيام احتمال كونه حقيقة
في الجميع أو فيما يزيد على المعنى الواحد، والمشهور حينئذ كما عرفت عدم
دلالة مجرد الاستعمال على كونه حقيقة فيهما وهو الأظهر، إذ القدر الثابت حينئذ
هو تحقق الوضع لواحد منهما فقضية الأصل حينئذ عدم تحقق الوضع بالنسبة إلى
ما عداه، مضافا إلى أغلبية المجاز بالنسبة إلى الاشتراك وكونه أقل مؤنة منه،
وذهاب الجمهور إلى ترجيحه عليه فيغلب في الظن البناء عليه.
217

فإن قلت: أي فرق بين متعدد المعنى ومتحده في استظهار الحمل على
الحقيقة؟ مع أن عمدة الوجوه المذكورة لرجحان الحمل على الحقيقة في متحد
المعنى جار في متعددة أيضا، فإن استظهار استعمال اللفظ فيما وضع له وعدم
خروج المستعمل عن مقتضى الوضع إلا أن يقوم دليل عليه مما لا يفرق فيه بين
متحد المعنى والمتعدد، وكذا كثرة المؤن وقلتها جار في المقام، لعدم احتياج
المشترك إلا إلى وضع وقرينة، بخلاف المجاز لاحتياجه إلى وضع وعلاقة
وملاحظة للعلاقة المجوزة للاستعمال وقرينة صارفة وقرينة معينة.
وكذا الحال في جريان الطريقة على إثبات الأوضاع بالاستعمالات، فإنهم
يستندون إليها في إثبات المعاني المتعددة على نحو غيرها من غير فرق بين
المقامين.
قلت: جريان الوجوه المذكورة في متعدد المعنى ممنوع، إذ استظهار كون
المستعمل فيه مما وضع اللفظ له مع تعدد ما استعمل اللفظ فيه غير ظاهر، بل
الاستعمال كما عرفت أعم من الحقيقة وإنما يسلم ذلك مع اتحاد المستعمل فيه
كما مر.
وظهور الاستعمال في إرادة الموضوع له مع العلم بالموضوع له والجهل
بالمراد واحدا كان الموضوع له أو متعددا لا يقضي بظهوره فيها مع الجهل
بالموضوع له، واحدا كان المستعمل فيه أو متعددا، إذ لا مانع من مرجوحية
الاشتراك بالنسبة إلى المجاز في نفسه ورجحان إرادة أحد المعاني المشتركة
بالنسبة إلى [المعنى] (1) المجازي بعد تحقق الاشتراك، فإن ثبوت الوضع المتعدد
إذا كان مرجوحا في نفسه لا ينافي رجحان إرادة الموضوع له بعد ثبوت ما
يخالف الظاهر من التعدد، ولذا اتفقوا على رجحان الأخير مع أن المشهور
مرجوحية الأول ولا يجري ذلك في متحد المعنى، ضرورة لزوم تحقق وضع ذلك
اللفظ لمعنى في الجملة، نظرا إلى توقف كل من الحقيقة والمجاز عليه، فيستظهر

(1) ما بين المعقوفتين من المطبوع (1).
218

إذن من الاستعمال فيه كون ذلك هو الموضوع له، فتعيين الموضوع له بالاستعمال
بعد العلم به إجمالا غير إثبات الموضوع له مع عدم العلم بتعدد الوضع لا إجمالا
ولا تفصيلا كما هو المفروض في المقام، فيكون ظاهر الاستعمال هناك شاهدا
على تعيين الموضوع له بعد تحقق حصول الوضع، وأين ذلك من إثبات أصل
الوضع به مع قضاء الأصل عدمه؟
ودعوى ظهور عدم خروج المستعمل عن مقتضى الوضع لو سلم حصوله
فليس بمثابة يمكن أن يخالف الأصل من جهته ويحكم بحدوث حادث جديد
لأجله، مع ما في الاشتراك من مخالفة الظاهر لوجوه شتى.
نعم، لو علمنا تعدد الموضوع له إجمالا في خصوص بعض الألفاظ ووجدناه
مستعملا في معنيين لا غير أمكن إثبات تعلق الوضع بهما واشتراكه بينهما، نظرا
إلى ما ذكرناه فيثبت بذلك وضعه لهما، وليس في كلام الجماعة ما ينافي ذلك
فهو الموافق لما ذكرناه دون ما هو المفروض في محل البحث.
ثم إن دعوى قلة المؤن في الاشتراك ممنوعة، بل الظاهر العكس، لافتقاره
إلى وضع ثان وملاحظة له حال الاستعمال وقرينتين بالنظر إلى استعماله في كل
من المعنيين، بخلاف المجاز، إذ لا يفتقر إلا إلى ملاحظة العلاقة المسوغة
للاستعمال وقرينة مفهمة له، إذ الغالب اتحاد القرينة الصارفة والمعينة، وأما الوضع
الترخيصي والعلاقة فالمفروض (1) حصولهما على كل حال.
مضافا إلى ما في الاشتراك من الإخلال بالتفاهم الذي هو الحكمة في الوضع،
بخلاف المجاز.
وما ذكر من استناد أهل اللغة في إثبات تعدد الأوضاع إلى مجرد
الاستعمالات الواردة عن العرب غير ظاهر.
وما يتراءى من استنادهم إلى بعض الإطلاقات لا يفيد تعويلهم على مجرد

(1) إذ بعد وجود العلاقة المصححة للتجوز يجوز استعماله فيه مجازا بملاحظة علاقته للمعنى
الآخر، سواء قلنا بثبوت وضعه له ليجوز استعماله فيه على سبيل الحقيقة أيضا أولا. (منه (رحمه الله)).
219

الاستعمال، فقد يكون الملحوظ هناك تبادر ذلك المعنى من كلامهم أو الرجوع
إلى غيره من علائم الحقيقة، كيف والبناء على أصالة الحقيقة مطلقا ليس معروفا
بين أهل اللغة ولا منقولا عنهم في الكتب الأصولية!.
وقد ظهر بما ذكرنا ما قد يستدل به للقائل بأصالة الحقيقة في المتعدد أيضا،
والوجه في تضعيفه، إلا أنه لا ثمرة بين القولين إلا في بعض الصور.
وتوضيح المرام: أنه مع استعمال اللفظ في المعنيين إما أن تقوم بعض أمارات
الحقيقة على وضعه لكل منهما أو بعض علائم المجاز على عدم تحقق الوضع
لشئ منهما، أو تقوم الأمارة على كونه حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر،
أو تقوم أمارة المجاز في أحدهما من غير قيام أمارة الحقيقة أو المجاز بالنسبة إلى
الآخر، أو تقوم أمارة الحقيقة في أحدهما كذلك، أو لا يقوم شئ من الأمارتين
على شئ من الأمرين.
فعلى الثلاثة الأول لا كلام وكذا على الرابع، لخروجه أيضا عن محل الكلام،
لكونه من متحد المعنى كما عرفت.
وعلى الخامس يحكم بالتجوز في الآخر، لأصالة انتفاء الوضع فيه وأغلبية
المجاز وقلة مؤنته وغير ذلك مما مر.
والثمرة بين القولين هنا ظاهرة وربما يتوهم خروجه عن محل البحث
وهو ضعيف، لإطلاق القائلين بالبناء على الحقيقة من غير إشارة إلى التفصيل.
وعلى السادس قد عرفت الحال فيه إلا أنه لا يتفرع هنا ثمرة على القولين،
لوجوب التوقف في فهم المراد مع انتفاء القرينة على الوجهين وتوقف حمله على
أحدهما على قيام القرينة في كل من المذهبين.
هذا، وقد يحكى قولان آخران في المقام:
أحدهما: القول بتقديم المجاز على الحقيقة وظهور الاستعمال في المجاز في
متحد المعنى ومتعدده، فقد عزي إلى بعض المتأخرين الميل إليه، لما حكي عن ابن
جني من غلبة المجاز على الحقيقة وأن أكثر اللغة مجازات، فالظن يلحق
المشكوك بالأعم الأغلب.
220

وهو بين الفساد، كيف! ولو كان كذلك لزم عدم ظهور اللفظ في معناه
الموضوع له حال التجرد عن القرائن وكان حمل اللفظ على معناه المجازي أظهر
من حمله على الحقيقي، وقد عرفت فساده بل مصادمته لما قضت به الضرورة.
وقد ذكر في بيان الغلبة المدعاة أنا إذا قلنا: " قام زيد " فقد تجوزنا حيث
أسندنا المصدر المتناول لكل قيام إلى واحد وكذا الحال في سائر الأفعال المسندة
إلى سائر الفاعلين، وكذا لفظ " زيد " ونحوه اسم لجميع الأجزاء الذاهبة منها
والباقية وقد أطلق على بعضها، وبملاحظة ذلك ونظائره يظهر عدم خلو شئ من
الألفاظ عن التجوز إلا نادرا.
وهذا كما ترى، بين البطلان، لظهور أن المادة المأخوذة في ضمن الأفعال إنما
وضعت لمطلق الحدث الصادق على كل من الآحاد، لا أن يكون موضوعا بإزاء
مجموعها ولا له مقيدا باعتبار صدقه على الكثرة، وليس البدن بجميع الأجزاء
المتحللة والباقية مأخوذا في وضع الأعلام وإنما اخذ فيه على وجه كلي يأتي
الإشارة إليه في محل آخر إن شاء الله تعالى، فدعوى التجوز في المثال المذكور
ونحوه مجازفة واهية.
وربما يوجه ما ذكره بأن أكثر التراكيب المتداولة في ألسنة البلغاء مستعملة في
معانيها المجازية، إذ لا يريدون غالبا من التراكيب الخبرية مثلا ما وضعت بإزائها،
وإنما يراد منها في الغالب المدح أو الذم أو التحزن أوالتفجع أو المبالغة ونحوها.
وهو أضعف من سابقه، إذ هو - مع اختصاصه بالتراكيب وخصوص الوارد
منها في كلام البلغاء في مقام البلاغة فلا يجري في المفردات ولا في كلام غيرهم
بل ولا في كلامهم في غير المقام المذكور - محل منع ظاهر، وقد عرفت عدم
حصول التجوز في شئ من المركبات المذكورة في كثير من استعمالاتها
المتداولة، ومع الغض عن ذلك فالدعوى المذكورة من أصلها محل خفاء أيضا.
ثانيهما: القول بالوقف وعدم ظهور الاستعمال في شئ من الأمرين، وقد
حكى ذلك بعض المحققين قولا في المقام فجعل الأقوال في المسألة أربعة،
221

واختاره بعض أفاضل العصر وقال: إنه المشهور.
وهو غريب، إذ لم نجد مصرحا بذلك بل استنادهم إلى أصالة الحقيقة في متحد
المعنى معروف، وقد عرفت حكاية الاجماع عليه من العلامة (رحمه الله) وهو الظاهر من
السيد في الذريعة حيث ذكر في مقام إثبات كون الاستعمال في المتعدد أمارة على
وضعه لهما إنه ليس استعمال اللفظ في المعنيين إلا كاستعماله في المعنى الواحد
في الدلالة على الحقيقة، فقد جعل الحكم بدلالة الاستعمال على الحقيقة في متحد
المعنى مفروغا عنه في المقام.
وكأنه أخذ ذلك مما اشتهر بينهم من كون الاستعمال أعم من الحقيقة حملا له
على ما إذا تبين المراد وشك في الموضوع له، فأريد به دفع دلالة الاستعمال على
الحقيقة وإن كان الأصل بعد العلم بالموضوع له والشك في المراد هو الحمل على
الحقيقة كما هو قضية الأصل المشهور، فجمع بين الحكمين المشهورين على النحو
المذكور، وقد عرفت التحقيق في وجه الجمع وأن المقصود من الحكم المذكور
أحد الوجهين المتقدمين، فلا ربط له بما ادعاه.
وكيف كان، فالوجه في ذلك عدم الملازمة بين الاستعمال والوضع وإنكار
الظهور المدعى في المقام، وقد عرفت ضعفه مما قدمناه ويومئ إليه أن الاستعمال
في معنى الحمل، فإنه إذا أطلق الأسد على الرجل الشجاع كان بمنزلة قولك:
" الرجل الشجاع أسد " وقد اعترف الفاضل المذكور بكون الحمل ظاهرا في بيان
الموضوع له كما إذا قال: " إقرأوا في ليلة القدر هذه الليلة السورة الفلانية وإن لم
يكن ذلك بنفسه دليلا على الوضع عندنا حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى ".
سادسها: ورود اللفظ في مقام البيان مجردا عن القرائن مع حصول العلم
بالمعنى المقصود من الخارج من غير قرينة منصوبة من المتكلم أو ملحوظة له في
الإفهام وعدم استعماله في غيره في مقام البيان، إلا مع إقامة قرينة صارفة عن
الأول معينة له، فإنه إذا وجد اللفظ على النحو المذكور في الاستعمالات المتداولة
دل ذلك على كونه حقيقة في الأول مجازا في غيره، فإن ذلك من لوازم الوضع
222

وعدمه، وكذا الحال فيما إذا لوحظ تردد أهل العرف في فهم المعنى وحكمهم
بإجمال المقصود عند الإطلاق فإن ذلك من أمارات الاشتراك.
لكن لا بد في المقام من العلم أو الظن بانتفاء سائر الوجوه الباعثة على ذلك،
ككونه الفرد الكامل أو غيره أو الشائع أو غيره، فلو احتمل أن يكون الاتكال في
الأول على كماله الباعث على الانصراف إليه وفي الثاني على نقصه الموجب
للانصراف عنه - كما هو الحال في صيغة الأمر بناء على وضعها للطلب بالنسبة إلى
انصرافه إلى الوجوب وعدم انصرافه إلى الندب إلا مع قيام القرينة عليه - لم يصح
الاستناد إلى إرادة الوجوب منها مع الإطلاق في مقام البيان في كونها حقيقة فيه،
ولا في كونها مجازا في الندب بعدم إرادته حينئذ إلا مع وجود قرينة صارفة عن
الوجوب، لاحتمال الاتكال على كمال الطلب الحاصل في الوجوب في عدم
الاحتياج إلى نصب قرينة حال إرادته، وكون ذلك هو الباعث على التزام نصبها
عند إرادة غيره.
وكذا لو احتمل أن يكون شيوع المعنى وغلبته باعثا على الانصراف إليه
ليكون ذلك قرينة صارفة عن الحقيقة معينة للمجاز، أو قرينة على الحمل على أحد
أقسام المشترك المعنوي وعدم حمله على غيره، أو الحمل على أحد معنيي
المشترك اللفظي دون الآخر أو باعثة على الوقف وعدم انصراف اللفظ إلى
الحقيقة، فلا يمكن الاستناد إلى ما قلناه في شئ من ذلك مع ظهور ما ذكر أو
احتماله احتمالا متساويا. والاستناد إلى أصل العدم في نفي ذلك كله مع عدم
إفادته ظنا بمؤداه قد عرفت وهنه، سيما في المقام.
سابعها: انتفاء المناسبة المصححة للتجوز بين مستعملات اللفظ فإنه شاهد
على تعلق الوضع بالجميع، وكذا لو كانت المناسبة الحاصلة أمرا بعيدا يبعد
اعتبارها في الاستعمالات الشائعة، وحينئذ فيعتبر في حصول الظن بالوضع غالبا
شيوع استعماله فيه، وهذه الطريقة قد تفيد القطع بالوضع وقد تفيد الظن به، ولو
احتمل أن يكون هناك معنى ثالث يناسبهما جرى في الكلام المتقدم، فيندفع إذن
223

احتمال وضعه له بما مر، والظاهر تقديم الاشتراك على الاحتمال المذكور، إذ
تعلق الوضع بما لم يوجد استعماله فيه في غاية البعد. وهذا كله ظاهر في معاني
الأسماء التامة والمعاني الحدثية للأفعال.
وأما الأسماء الناقصة والحروف ومفاد هيئات الأفعال فالأخذ بالطريقة
المذكورة فيها موقوف على عدم القول بحصول الترخيص هناك في استعمالها في
غير ما وضعت لها مع انتفاء المناسبة حسب ما مر القول فيه، وأما مع القول به
واحتماله احتمالا مساويا لحصول الوضع أو مرجوحا بالنسبة إليه، كما هو الحال
في الترخيص على الوجه الآخر كما عرفت، فلا يصح التعويل على الوجه
المذكور، لدوران الأمر في المقام على الظن كما مرت الإشارة إليه.
ثامنها: استعمال اللفظ في معنى مجازي بملاحظة معنى مخصوص من
مستعملات اللفظ فإنه يدل على كونه حقيقة في ذلك المعنى، لعدم جواز سبك
المجاز من المجاز إذ يعتبر في المجاز وجود العلاقة المصححة بينه وبين معناه
الموضوع له، ويدل على كون المعنى مجازيا أن يلاحظ في استعمالاته حصول
العلاقة بينه وبين غيره مما علم وضع اللفظ له، إذ لا حاجة إلى الملاحظة المذكورة
في الحقائق.
وما قد يتخيل من جواز استعمال المشترك في أحد معنييه من جهة علاقته
لمعناه الآخر - وحينئذ فأقصاه أن يكون ذلك الاستعمال مجازا ولا يقضي ذلك
بعدم تعلق الوضع به - مدفوع، ببعد الاعتبار المذكور بعد تحقق الوضع، فلا ينافي
الظهور المطلوب في المقام، فلو كان استعمال اللفظ في أحد معنييه بملاحظة
العلاقة بينه وبين الآخر دل ذلك على كونه حقيقة في ذلك مجازا فيه.
تاسعها: أصل العدم ويثبت به مبدأ الوضع فيما إذا ثبت الوضع عندنا في
الجملة، وكذا يثبت به بقاء الوضع عند الشك فيه.
وتوضيح ذلك: أنا إذا علمنا ثبوت معنى للفظ في العرف نحكم لذلك بثبوته له
في أصل اللغة أيضا، نظرا إلى أصالة عدم النقل وعدم تعدد الأوضاع، هذا مع علمنا
224

بثبوت تلك اللفظة في أصل اللغة، وأما مع الجهل بذلك واحتمال كونه من
الموضوعات الجديدة فلا. وكذا إذا علمنا بكون اللفظ حقيقة بحسب اللغة في معنى
حكمنا بثبوته في العرف جريا على الأمر الثابت وأخذا بأصالة عدم النقل. ولو
علمنا بطرو وضع آخر عليه حكمنا بتأخره سواء قضي بهجر الأول أو لا.
ومنه يعلم أن إثبات المعنى العرفي بحسب اللغة إنما هو مع عدم ثبوت الوضع
فيها لمعنى آخر وإلا بني على أصالة تأخر الحادث، فلا يحكم باشتراكه بين
المعنيين في اللغة بمجرد ذلك بل يحكم حينئذ بتأخر ذلك المعنى إلى حين ثبوت
الوضع له سواء قضى بهجر الأول أو لا.
ولو علم بحصول الهجر وشك في مبدئه بني على تأخر الهجر سواء علم
بوضعه لذلك المعنى قبل تحقق الهجر أو لا، إلا أنه مع الجهل بذلك يحكم بتأخر
الوضع أيضا.
ولو ثبت للفظ معنيان بحسب العرف من دون ثبوت وضعه لخصوص أحدهما
بحسب اللغة فهل يثبتان له معا في وضع اللغة أيضا؟ وجهان، وقضية الأصل عدم
ثبوت وضعه لغة إلا لأحدهما، غير أن الظاهر مع عدم ظهور أمارات حدوث
الوضع لأحدهما ثبوت الوضعين بحسب اللغة كما هو الشأن في معرفة المشتركات
اللغوية، إذ طريقة استعلام نقلة اللغة غالبا ملاحظة حال الاستعمالات العرفية
المتداولة في كلام العرب.
هذا، وقد يستشكل في المقام بأن الأوضاع أمور توقيفية لا يمكن إثباتها إلا
من جهة التوقيف، فلا وجه لإثباتها بالأصل والاستصحاب، فلا بد مع الجهل
بالحال من التوقف في المقام، ولو سلم جواز الرجوع إليهما فغاية الأمر الاستناد
إليهما في نفي الوضع، وأما إثباته كما هو ديدنهم في كثير من مباحث الألفاظ
فليس على ما ينبغي.
ويدفعه: أن الحجة من الأصل والاستصحاب في المقام هو ما أفاد الظن
بالوضع ومعه فالوجه في الحجية ظاهر، لبناء الأمر في مباحث الأوضاع على
225

الظنون لانسداد طريق العلم فيها غالبا، وأما مع عدم حصول الظن فلا معول عليهما
في إثبات الوضع في الأزمنة المتقدمة أو المتأخرة، إذ لا دليل على الرجوع إليهما
في المقام على سبيل التعبد.
ومن هنا يظهر القدح في الاحتجاج المعروف لنفي الحقيقة الشرعية من
الاستناد إلى أصالة بقاء المعاني اللغوية في عهد الشارع، إذ لا أقل من الشك في
بقائها بعد اشتهار الخلاف في ثبوت الحقيقة الشرعية وقيام بعض الشواهد على
خلافه كما لا يخفى بعد الرجوع إلى الوجدان.
عاشرها: التبادر وهو سبق المعنى إلى الذهن من نفس اللفظ وإنما اعتبرنا أن
يكون السبق إلى الذهن من مجرد اللفظ احترازا عما يكون بواسطة الخارج، إما
من القرائن الخاصة، أو العامة، أو مع انضمامها إليه مع الشك في استناد الفهم إلى
نفس اللفظ إذ لا يكون ذلك أمارة على الحقيقة.
والوجه في كون التبادر على الوجه المذكور أمارة على الحقيقة: أن فهم
المعنى من اللفظ إما أن يكون بتوسط الوضع، أو القرينة، لانحصار وجه الدلالة
فيهما لوضوح بطلان القول بالدلالة الذاتية، فإذا كان انفهام المعنى من اللفظ بمجرد
سماعه من دون إنضمام قرينة إليه دل على حصول الوضع له من قبيل دلالة اللازم
المساوي على وجود ملزومه، وهذا بخلاف ما لو انضم إليه شئ من القرائن،
لاحتمال استناد الفهم حينئذ إليها فلا يدل على خصوص الحقيقة، لحصول مطلق
الفهم في المجاز أيضا فهو لازم أعم، لا دلالة فيه على خصوص الملزوم.
ومن هنا يظهر أنه لو احتمل وجود القرينة في المقام واستناد الفهم إليها
احتمالا مساويا لاحتمال عدمها لم يحكم بالحقيقة على نحو ما لو وجدت القرينة
ولم يعلم استناد الفهم إليها أو إلى اللفظ. ومجرد دفع احتمال وجود القرينة بالأصل
غير مفيد في المقام، إذ المدار في إثبات الأوضاع على الظنون.
نعم، إن حصل منه أو من غيره ظن بانتفاء القرينة فالظاهر البناء عليه، كما لو
ظن باستناد الفهم إلى مجرد اللفظ وإن انضم إليه بعض القرائن.
226

وقد أورد عليه بوجوه:
أحدها: أن سبق المعنى إلى الذهن من مجرد اللفظ موقوف على العلم بالوضع
ضرورة كون العلم بالوضع شرطا في فهم المعنى كذلك من اللفظ، فإذا كان العلم
بالوضع موقوفا على سبق المعنى إلى الذهن كذلك كما هو قضية جعله دليلا عليه
لزم الدور.
والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن المقصود تبادر المعنى من اللفظ عند العالم بالوضع وتوضيحه: أن
الجاهل بلسان قوم إذا أراد معرفة أوضاعهم رجع إلى أرباب ذلك اللسان، فإذا
وجد انسباق معنى من اللفظ عندهم حال الإطلاق وانتفاء القرائن علم وضع اللفظ
بإزائه في لسانهم وجرى ذلك مجرى نصهم بوضع ذلك اللفظ له، بل هو أقوى منه
لاحتمال الكذب فيه بخلاف المقام، لما عرفت من كون الفهم المذكور من لوازم
الوضع المساوية له. والظاهر أن ذلك كان طريقة جارية لأرباب اللغة في معرفة
الأوضاع اللغوية كما يشهد به ملاحظة طريقتهم.
وحينئذ فنقول: إن العلم بالوضع موقوف على سبق المعنى من اللفظ عند العالم
بالوضع، وسبقه عنده موقوف على علمه بالوضع لا على علم ذلك الجاهل
المتمسك بالتبادر فلا دور.
ثانيهما: أن تبادر المعنى من اللفظ مسبوق بالعلم بالوضع لكن لا يستلزم ذلك
علمه بذلك العلم، فقد يحصل الغفلة عنه لطرو بعض الشبه للنفس وارتكازه في
الخاطر، إذ من البين جواز انفكاك العلم بالشئ عن العلم بالعلم به، فهو حينئذ
جاهل بذلك الشئ في معتقده غير عالم به وإن كان عالما به بحسب الواقع،
فبالرجوع إلى تبادر المعنى عنده حال الإطلاق الذي هو من لوازم علمه بالوضع
يرتفع عنه الجهل المذكور ويكون ذلك موجبا لعلمه بالوضع بحسب معتقده، فنقول
إذن: إن علمه بالوضع بحسب معتقده متوقف على تبادر المعنى من اللفظ وتبادره
منه عنده إنما يتوقف على علمه بالوضع بحسب الواقع وإن كان غافلا عن علمه
227

جاهلا به، فباختلاف الطرفين يرتفع الدور، وهذا هو المعروف في الرجوع إلى
التبادر في المسائل المتداولة إذ لا حاجة فيها غالبا إلى الرجوع إلى غير المستدل،
كما هو ظاهر من ملاحظة موارد الاحتجاج به.
ثم لا يذهب عليك أن مرجع الوجهين المذكورين إلى جواب واحد مردد بين
ذينك الوجهين، وذلك لأن المستدل بالتبادر إن كان من أهل ذلك اللسان أو
الاصطلاح فلا حاجة له غالبا إلى الرجوع إلى غيره، كما هو المتداول في
الاحتجاج به في الأصول وغيره، وحينئذ فالجواب ما ذكرناه أخيرا.
وإن كان من الجاهل بذلك اللسان أو الاصطلاح فحينئذ لا بد من الرجوع إلى
العالم به وملاحظة ما يتبادر منه عنده، فالجواب حينئذ ما ذكرناه أولا.
ولبعض أفاضل المحققين جواب آخر عن الدور المذكور وهو منع المقدمة
الأولى المذكورة في الإيراد، أعني توقف سبق المعنى إلى الذهن على العلم
بالوضع، بل المسلم في الدلالة الوضعية هو توقفه على نفس الوضع، وأما فهم
المعنى فيكتفى فيه باشتهار استعماله في ذلك المعنى وحصول المؤانسة المفهمة،
سواء كان ذلك هو السبب للوضع كما في الأوضاع التعينية، أو كان متفرعا عن
التعيين كما في غيرها من الأوضاع، فلا يتوقف فهم المعنى على العلم بالوضع في
شئ من الصورتين.
والحاصل: أنه يكتفى في فهم المعنى بتلك الغلبة وإن استلزم ذلك حصول
الوضع، نعم إن كان ذلك في أوائل الاستعمال توقف الفهم على العلم بالوضع،
وهو فرض نادر، فغاية الأمر أن لا يصح الاستناد فيه إلى التبادر، لعدم حصوله
هناك وهو لا ينافي كونه من أمارات الحقيقة في مواقع تحققه، غاية الأمر أن
لا تكون تلك العلامة مطردة في سائر الحقائق ولا ضير فيه، إذ لا يعتبر الاطراد
في شئ من الأمارات.
قال (قدس سره): " كيف! والقول باعتبار العلم بالوضع مع القول بأن التبادر علامة
الحقيقة دور صريح لا مدفع له، وكون التبادر علامة الحقيقة مما اتفق عليه
228

الجمهور، بل الظاهر أنه لا خلاف فيه أصلا فلم يبق إلا القدح في توقف الدلالة
على العلم بالوضع، وعدم اعتبار العلم بالوضع في دلالة اللفظ لا يستلزم كون
الوضع بمجرده كافيا في حصول الفهم، إذ لا بد من تعلق السبب بالسامع، فإن وضع
اللغات متحقق ولا يفهمه كل أحد، وكأن الذي اعتبر العلم بالوضع إنما أراد هذا
التعلق الذي هو بمنزلته " إنتهى كلامه رفع مقامه.
قلت: ما ذكره (قدس سره) محل مناقشة، إذ انفهام المعنى من أجل الاشتهار والغلبة إما
أن يكون بملاحظة الغلبة والشهرة، أو بدونها بأن تكون الشهرة باعثة على تعين
ذلك اللفظ لذلك المعنى أو كاشفة عن تعيينه له، فيتبادر ذلك المعنى منه من دون
ملاحظتها أيضا.
فعلى الأول لا دلالة في التبادر على الحقيقة، لعدم استناده إلى مجرد إطلاق
اللفظ، وفهم المعنى في الثاني موقوف على العلم بتعين ذلك اللفظ لذلك المعنى أو
التعيين له وإن كان ذلك العلم حاصلا من جهة الممارسة أو الشهرة.
والحاصل: أن الوضع ربط خاص بين اللفظ والمعنى يجعل أحدهما دليلا على
الآخر فكيف يعقل حصول تلك الدلالة من غير علم بذلك الارتباط؟
والقول بأن العلم بالشهرة البالغة إلى الحد المذكور كاف في الفهم وإن غفل عن
حصول الوضع - فيستدل بالفهم المفروض على حصوله ويجعل ذلك طريقا إلى
معرفته - لا يرجع إلى طائل، لما عرفت من أن الفهم هناك إن استند إلى ملاحظة
الشهرة المفروضة لم يفد الحقيقة، وإن كان حاصلا من دون ملاحظته فلا يتم إلا
بعد معرفة تعين اللفظ له الحاصل من الشهرة المذكورة أو المتفرع عن التعيين له
المستفاد بتلك الشهرة، فلا يمكن الاستغناء عن ملاحظة الشهرة في فهم ذلك
المعنى من اللفظ إلا بعد العلم بذلك التعين، أعني كونه موضوعا بإزائه.
كيف! ومن البين أن حصول الوضع في الواقع لا يكون سببا لانفهام المعنى من
اللفظ ما لم يتعلق ذلك السبب بالسامع ولا يعقل تعلقه بالسامع إلا بعلمه به ولو
بواسطة الشهرة المتفرعة عنه أو الباعثة عليه، إذ لو كان العلم بشئ آخر كافيا في
229

الانفهام لم يحتج في حصوله إذن إلى الوضع، وكان حصول ذلك الشئ والعلم به
كافيا في الفهم هذا خلف، ولذا تقرر عندهم كون العلم بالوضع شرطا في الدلالات
الوضعية، فالعلم بالشهرة المفروضة باعث على العلم بالوضع الباعث على الفهم،
فلا يكون انفهام المعنى إلا بعد العلم بالوضع (1).
ثانيها: النقض بجزء المعنى ولازمه، فإنهما يتبادران من اللفظ ويفهمان منه
حال انتفاء القرائن مع أن استعمال اللفظ في كل منهما مجاز قطعا.
والجواب: أن تبادرهما من اللفظ إنما هو بواسطة الكل والملزوم، فالمتبادر
أولا هو الكل والملزوم خاصة، وقد عرفت أن علامة الحقيقة هو تبادر المعنى من
اللفظ وفهمه منه بلا واسطة فلا نقض.
فإن قلت: إن ما ذكر إنما يتم بالنسبة إلى اللازم وأما بالنسبة إلى الجزء فلا،
لوضوح أن حصول الكل خارجا وذهنا يتوقف على حصول الجزء فيكون متأخرا
عنه وفهم المعنى من اللفظ ليس إلا حصوله في الذهن بتوسط حضور اللفظ فيكون
فهم الكل متأخرا عن فهم الجزء، فكيف يعقل أن يكون بتوسط الكل.
قلت: إن الجزء وإن كان متقدما في الرتبة على الكل إلا أن دلالة اللفظ عليه
تابعة لدلالته على الكل ولا منافاة بين الأمرين، ألا ترى أن وجود الجزء في
الخارج تابع لوجود الكل إذا تعلق الايجاد بالكل، ومع ذلك فهو متقدم عليه
بالرتبة، وكذا الكلام في فهم الجزء بالنسبة إلى فهم الكل، فالتقدم الرتبي لا ينافي
تبعية المتقدم رتبة للمتأخر عنه في الرتبة.
وتحقيق المقام: أن الدلالة التضمنية ليست مغايرة للدلالة المطابقية بالذات
وإنما تغايرها بالاعتبار، فإن مدلولية الجزء إنما هو بمدلولية الكل غير أن تلك
الدلالة إذا نسبت إلى الكل كانت مطابقة، وإذا نسبت إلى الجزء كانت تضمنا كما
مرت الإشارة إليه، فليس هناك حصولان وإنما هو حصول واحد يعتبر على

(1) وما يستفاد من كلامه رفع مقامه من انحصار دفع الإيراد بمنع المقدمة المذكورة قد عرفت
ما فيه، وأنه بين الاندفاع بما قررناه من غير حاجة إلى المنع المذكور. (منه (رحمه الله)).
230

وجهين وهو بأحد الاعتبارين متأخر عن اعتباره الآخر بحسب الرتبة من جهة
وإن كان ذلك الاعتبار المتأخر متأصلا، والآخر تابعا له حاصلا بواسطته، نظرا إلى
تعلقه بالكل ابتداء وتعلقه بالجزء من جهة حصوله في ضمنه.
ومن ذلك يظهر الجواب بالنسبة إلى بعض المداليل الإلتزامية أيضا فإن منها ما
يكون تصور الملزوم هناك متوقفا على تصور اللازم فيكون دلالته على الملزوم
متوقفة على دلالته على اللازم، إذ ليس مفاد الدلالة كما عرفت إلا وجود المدلول
في الذهن عند وجود الدال كما هو الحال في العمى بالنسبة إلى البصر، وذلك لأن
تأخر دلالته على الملزوم نظرا إلى توقفه على تصور اللازم لا ينافي كون الملزوم
هو المدلول بالأصالة واللازم مدلولا بالتبع بواسطته. فتأمل.
ثم إنه قد ظهر مما قلنا أن ظهور المعنى المتبادر من اللفظ في شئ لا يفيد
كون اللفظ حقيقة فيه - كما يتفق في كثير من المقامات، إذ ليس ذلك ظهورا ناشئا
من نفس اللفظ لينحصر الأمر مع عدم استناده إلى القرينة في الاستناد إلى الوضع -
وإنما هو ظهور معنوي ناش من انصراف المعنى إلى بعض أنواعه، لكونه أكمل من
غيره أو لشيوع وجوده في ضمنه أو نحو ذلك (1) ويكشف عن ذلك إنصراف الذهن
إليه حال إرادة ذلك المعنى ولو من غير طريق اللفظ، فلا دلالة فيه على الوضع
وكثيرا ما يكون التبادر الإطلاقي من هذا القبيل وقد يكون من جهة شيوع إطلاقه
على بعض الأفراد من غير أن يتعين له أو شيوع استعماله في خصوصه وإن كان
استعماله حينئذ مجازا وكثيرا ما يشتبه الحال في المقام فيظن التبادر الناشئ من
ظهور المعنى ناشئا من اللفظ من جهة الغفلة عن ملاحظة توسط المعنى في حصول
التبادر فيستدل به على الحقيقة.
ومن ذلك احتجاج الجمهور على كون الأمر حقيقة في الوجوب بتبادره منه
عند التجرد عن القرائن ولذا يحسن الذم والعقاب عند العقلاء بمجرد مخالفة العبد

(1) كما إذا كان أظهر حصولا في ضمنه وإن لم يكن أكمل. (منه (رحمه الله)).
231

لأمر السيد والظاهر أن التبادر الحاصل هناك من جهة وضع الصيغة للطلب وظهور
الطلب في الوجوب لا من جهة ظهور اللفظ فيه أولا كما يشهد له ظهور الطلب في
الوجوب بأي لفظ وقع وكذا الحال في احتجاجهم على كون النهي موضوعا
للحرمة إلى غير ذلك من المقامات التي يقف عليها المتتبع فلا بد من التأمل فيما
ذكرناه في مقام الاستدلال لئلا يشتبه الحال.
ثالثها: النقض بالمجاز المشهور لتبادر ذلك المعنى منه حال انتفاء القرائن مع
كونه معنى مجازيا.
وجوابه: أن اشتهار استعمال اللفظ في ذلك المعنى من جملة القرائن على
إرادته، والتبادر الذي جعل أمارة على الحقيقة هو ما كان مع الخلو عن جميع
القرائن الحالية والمقالية والقرائن الخاصة والعامة ولو بحسب الملاحظة والشهرة
في المقام من القرائن العامة على إرادة المعنى المشهور الشاملة لسائر موارد
استعماله إلا أن يقوم قرينة أخرى على خلافه.
فالفرق بينه وبين التبادر الحاصل في الحقيقة أن فهم المعنى في المجاز
المشهور منوط بملاحظة الشهرة وكثرة الاستعمال، بخلاف الحقيقة فإنه لا حاجة
في فهمه من اللفظ إلى تلك الملاحظة وإن كان حصول الوضع من جهة التعين
الحاصل بالاشتهار والغلبة كما في كثير من المنقولات العرفية، فإن الشهرة وغلبة
الاستعمال قد تصل إلى حد يكون تبادر المعنى من اللفظ غير محتاج إلى ملاحظة
تلك الغلبة، وحينئذ تكون سببا لتعين اللفظ لذلك المعنى وقد لا تصل إلى ذلك
الحد، وحينئذ لو قطع النظر عن ملاحظة الشهرة كان المتبادر هو المعنى الأصلي
ولم يتبادر المعنى المجازي إلا بعد ملاحظتها.
وتفصيل الكلام في المرام: أن لكثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي
مراتب:
أحدها: أن يكون استعمال اللفظ فيه شائعا كثيرا بحيث تكون تلك الشهرة
والغلبة باعثة على رجحان ذلك المعنى على سائر المجازات بحيث لو قام هناك
232

قرينة صارفة إنصرف اللفظ إليه بمجرد ذلك من غير حاجة إلى قرينة معينة، فتكون
تلك الغلبة منزلة منزلة القرينة المعينة فالشهرة إنما تكون باعثة على رجحان ذلك
المجاز على سائر المجازات، ولا يقاوم الظن الحاصل من الوضع لتكون قاضية
بانفهام المعنى المذكور مع الخلو عن القرينة الصارفة أيضا بل ليس المفهوم منه
حينئذ إلا معناه الحقيقي خاصة.
ثانيها: أن يكون اشتهار استعماله فيه موجبا لانفهام المعنى المفروض من
اللفظ مع ملاحظة الشهرة، لا بأن يرجحه على المعنى الحقيقي بل بجعله مساويا له
فيتردد الذهن بينهما بالنسبة إلى المراد مع الخلو عن قرينة التعيين، فيكون الظهور
الحاصل من الشهرة مساويا للظهور الحاصل من الوضع.
ثالثها: أن يكون مع تلك الملاحظة منصرفا إلى ذلك المعنى دون المعنى
الحقيقي إلا أنه مع قطع النظر عن تلك الملاحظة ينصرف إلى ما وضع له.
رابعها: أن يكون بحيث يجعل المعنى المجازي مساويا للحقيقي في الفهم، مع
قطع النظر عن ملاحظة الشهرة سواء كان راجحا عليه مع ملاحظتها أو لا.
خامسها: أن يكون راجحا عليه كذلك فينصرف الذهن إليه، مع قطع النظر عن
ملاحظة الشهرة فاللفظ في المراتب الثلاث الأول باق على معناه الأصلي ويكون
مجازا شائعا في المعنى الثاني على اختلاف مراتب الشهرة فيها، فيقدم الحقيقة
عليه في الصورة الأولى ويتوقف في الثانية، ويترجح على الحقيقة في الثالثة،
وهذا هو التحقيق في مسألة دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز المشهور كما أشرنا
إليه ويأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله.
والتبادر الحاصل في الصورتين الأخيرتين منها ليس أمارة على الوضع،
لاستناده إلى ملاحظة الشهرة التي هي قرينة لازمة للفظ كما عرفت، وحينئذ فيفتقر
ترجيح الحقيقة في الأول منهما وصرفه عن المجاز في ثانيهما إلى وجود القرينة
المعينة أو الصارفة كما في المشترك والحقيقة والمجاز.
إلا أن هناك فرقا بين القرينة المرعية في المقام والقرينة المعتبرة في المشترك
233

حيث إن القرينة في المشترك لرفع الإبهام الحاصل في نفس اللفظ، نظرا إلى تعدد
وضعه، وهنا من جهة رفع المانع الخارجي من رجحان الحقيقة، وكذا قرينة المجاز
حيث إن القرينة هنا لرفع ما حصل من المانع من رجحان الحقيقة الباعث على
مرجوحيتها وهناك إنما تقام لتكون مقتضية لرجحان المجاز، ولذا يكتفى في
المقام بمجرد القرينة الصارفة عن إرادة المجاز الراجح من غير حاجة إلى القرينة
المعينة لإرادة الحقيقة وفي المرتبتين الأخيرتين تكون حقيقة في المعنى الجديد،
غير أنه في الأول يكون مشتركا بينه وبين المعنى الأصلي، وفي الثاني يكون
منقولا والتبادر الحاصل فيهما يكون علامة للحقيقة كاشفا عن حصول الوضع، فلا
نقض في المقام من جهتهما.
وقد أنكر بعض المحققين تحقق المجاز المشهور، نظرا إلى أنه إن بلغ المجاز
في الكثرة إلى حد يفهم منه المعنى من دون قيام القرائن الخارجية كان حقيقة وإلا
كان كسائر المجازات وإن كان استعماله أغلب من غيره، وعلى هذا فالإيراد
مندفع من أصله.
إلا أن الأظهر في المقام ما ذكرناه من التفصيل بين كون الشهرة سببا لفهم
المعنى من اللفظ بنفسه وبين كونها سببا للفهم بملاحظتها من غير أن يكون اللفظ
بنفسه كافيا في فهمه، كما يشهد به التأمل الصادق في المقام.
فإن قلت: إنه حينئذ يشكل التعلق بالتبادر في إثبات الأوضاع، إذ مع حصول
التبادر على الوجهين المذكورين لا مائز بينهما في الأغلب ومع قيام الاحتمال لا
يصح الاستدلال.
قلت: لا بد في الاستناد إلى التبادر من معرفة استناده إلى نفس اللفظ ولو
بطريق الظن، وذلك ظاهر فيما إذا كان الرجوع في التبادر إلى وجدان المستدل،
لإمكان قطع النظر عن جميع الأمور الخارجة عن مدلول نفس اللفظ.
وما قد يقال من أن العلم بحصول الشهرة كاف في الفهم وإن قطع النظر عن
ملاحظته فإن وجود القرينة الصارفة والعلم بها كاف في الصرف، ومجرد قطع
234

النظر عنه لا يوجب الحمل على الحقيقة، إذ فرض الخلو عن القرينة غير خلوصه
عنها في الواقع، فحينئذ لا يصح الاستناد إليه في الدلالة على الحقيقة إلا مع انتفاء
الشهرة أو انتفاء العلم بها لا بمجرد قطع النظر عنها ولو مع حصولها في الواقع
والعلم بها.
مدفوع بأن فهم المعنى المجازي موقوف على ملاحظة القرينة قطعا، إذ حال
وجود القرينة لو قطع النظر عنها وفرض انتفاؤها كان وجودها كعدمها، كما يشهد
به الوجدان، وحينئذ لو حصل الفهم مع قطع النظر عن الشهرة كان دليلا على
حصول الوضع حسب ما ذكرنا.
وأما إذا كان المرجع في التبادر إفهام العارفين بالوضع من أهل العرف أو
الاصطلاح فتحصيل الظن بعدم استناده إلى الشهرة وغيرها مما لا بعد فيه،
والاكتفاء به في مباحث الأوضاع ظاهر، لابتنائها غالبا على الظنون، بل لا يبعد
الاكتفاء فيه بالرجوع إلى الأصل لإفادته الظن في المقام، نظرا إلى أن تبادر المعنى
بمجرد الشهرة الخالية عن الوضع أقل قليل بالنسبة إلى الكائن عن الوضع والظن
إنما يتبع الأعم الأغلب.
نعم، إن قام في بعض المقامات شاهد على خلافه بحيث حصل الظن بخلافه
أو شك فيه فلا يصح الاستناد إلى التبادر قطعا، وقد يتوهم حينئذ في صورة الشك
كون الأصل فيه أن يكون علامة للوضع نظرا إلى أصالة عدم استناده إلى الخارج
ولا يخفى وهنه (1).
رابعها: النقض بالمشترك فإنه لا يتبادر منه عند الإطلاق إلا أحد معنييه أو
معانيه وليس حقيقة فيه وإنما هو حقيقة في خصوص كل منها.
وربما يظهر من السكاكي أنه حقيقة في ذلك، مستدلا عليه بالتبادر، إلا أنه

(1) إذ ليست حجية الأصل في أمثال هذه المقامات مبنية على التعبد وإنما تدور مدار الظن
والمفروض انتفاؤه، مضافا إلى أن الأصل أيضا عدم استناده إلى نفس اللفظ ولا بد للمستدل
من إثباته. (منه (رحمه الله)).
235

شاذ ضعيف، لا معول عليه، والعبارة المنقولة عنه غير صريحة في ذلك، فحملها
على ما يوافق المشهور غير بعيد، كما سيجئ الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.
وقد يقرر الإيراد المذكور بنحو آخر وهو أن المشترك موضوع بإزاء كل من
معانيه مع أنه لا يتبادر منه خصوص شئ من معانيه لتوقف السامع عند سماعه
مجردا عن القرائن، فلو كان التبادر أمارة على الحقيقة لزم أن لا يكون حقيقة
في شئ منها.
وأنت خبير بوهن الإيراد المذكور وضعفه جدا، لوضوح أنه إنما يصح النقض
في المقام فيما لو كان التبادر حاصلا من دون أن يكون حقيقة في المعنى المتبادر،
وأما كون اللفظ حقيقة من دون حصول التبادر فلا يقضي بانتقاض العلامة، إذ قد
تكون العلامة أخص موردا من ذيها.
نعم، إنما يرد ذلك على ما قررناه من الوجه في دلالة التبادر على الوضع
حيث جعلناه لازما مساويا للحقيقة، وكذا على جعل عدم التبادر أمارة على
المجاز، كما سنقرره وسيظهر الجواب عنه بما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وقد غير بعضهم هذه الأمارة نظرا إلى تلك الشبهة الواهية، فجعل عدم تبادر
الغير أمارة على الحقيقة وحينئذ فلا انتقاض بالمشترك.
وفيه أولا: أنه يتبادر منه أحد المعاني، وهو غير كل واحد منها حسب ما
قررناه في الإيراد.
وثانيا: أنه ينتقض بالمعاني المجازية الثابتة للمشترك، إذ لا يتبادر من اللفظ
غيرها بناء على عدم تبادر المعاني الحقيقية منه حسب ما ذكره.
ثم إن الجواب عما قررناه من الإيراد وجهان:
أحدهما: أن الذي يتبادر من المشترك عند إطلاقه هو كل واحد من معانيه،
غير أن المحكوم بإرادته من اللفظ هو واحد منها، وفرق بين المدلول والمراد،
والدلالة على جميع المعاني وإحضارها ببال السامع حاصلة في المشترك مع العلم
بالوضع وإن لم يحكم بإرادة الجميع والمقصود بالتبادر في المقام هو فهم المعنى
236

وإحضاره في الذهن مع انتفاء القرائن، لا الانتقال إلى كونه مرادا من اللفظ والأمر
الأول حاصل في المشترك دون الثاني.
وقد يورد عليه: أن مجرد إحضار المعنى لو كان كافيا في المقام لزم أن يكون
اللفظ حقيقة في جزئه، ولازمه الذي لا ينفك تصوره عن تصوره كما في العمى
بالنسبة إلى البصر لحصول الفهم المذكور، بل سبق فهمه على فهم الموضوع له في
الجزء واللازم الذي يتوقف تصور الملزوم على تصوره كما في المثال المفروض.
ويدفعه: ما عرفت من أن دلالة اللفظ على الجزء واللازم بتوسط الكل
والملزوم وإن فرض تأخر تصورهما عن تصورهما في الرتبة، إذ لا ينافي ذلك
توسطهما في الفهم كما لا يخفى، وقد مر أن المقصود من التبادر في المقام ما كان
الانتقال إليه من اللفظ من دون واسطة.
نعم، يرد عليه أنه يلزم أن يكون دلالة اللفظ على لافظه حقيقيا، لحصول
الانتقال إليه من سماع اللفظ، وكذا غيره من اللوازم التي ينتقل إليه الذهن بمجرد
سماع اللفظ من غير مدخلية للوضع فيه.
ويمكن دفعه بأن المقصود تبادر المعاني المبتنية على الوضع في الجملة
المستفادة من اللفظ بتوسطه دون الحاصلة من جهة العقل مما لا مدخل للوضع في
فهمها، بل لا يعد ذلك معنى اللفظ.
ثانيهما: أنه بعد تسليم أن مراد تبادر المعنى من حيث كونه مرادا من اللفظ
لا مانع من تحققه في المشترك بل الظاهر حصوله، فإن كلا من المعنيين متبادر من
اللفظ من حيث كونه مرادا إلا أنه يراد على سبيل البدلية دون الجمع، فيسبق كل
منهما إلى الذهن بعد سماع اللفظ على أنه مراد منه على سبيل البدلية.
وكيف كان، فقد ظهر بما قررناه من الوجهين اندفاع الإيراد المذكور، إذ ليس
المتبادر في المشترك من حيث الدلالة إلا كل من المعنيين بخصوصه وليس المفهوم
من حيث الإرادة إلا ذلك أيضا لكن على سبيل البدلية، وأما أحد المعنيين الصادق
على كل منهما أو بمعناه الإبهامي فليس بمتبادر من اللفظ على النحو المذكور.
237

نعم يلزم العلم به من العلم باستعماله في المعنى المعين عند المتكلم المجهول
عند المخاطب، وليس هذا من تبادر ذلك في شئ، بل لا دلالة في اللفظ عليه
بشئ من الوجهين المذكورين.
وحيث علمت الوجه في كون التبادر علامة للحقيقة ظهر لك أن عدم التبادر
علامة للمجاز.
وبعضهم جعل العلامة بالنسبة إليه تبادر الغير حذرا من الانتقاض بالمشترك،
إذ لا يتبادر شئ من معنييه مع الخلو عن القرينة مع كونه حقيقة فيهما، فعلى هذا لا
يكون التبادر على الوجه المذكور من اللوازم لمطلق الحقيقة وإنما هو من لوازم
بعض أنواعه، فلا يكون انتفاؤه دليلا على انتفائها، ولذلك غير العلامة بالنسبة إلى
الحقيقة أيضا فجعل عدم تبادر الغير أمارة عليه، كما مرت الإشارة إليه.
ويضعفه ما عرفت من كونه من اللوازم المساوية للحقيقة من حصول التبادر
في المشترك، فإن حصول الوضع عند أهل اللسان قاض بفهمهم للموضوع له مع
الغض عن جميع القرائن، فإن الوضع بعد العلم به علة للانتقال المذكور فإذا انتفى
المعلول دل على انتفاء علته.
وأجاب بعضهم (1) عن الإيراد المذكور بأن عدم التبادر إنما يدل على المجاز
حيث لا يعارضه ما يدل على الحقيقة من نص الواضع وغيره، بخلاف ما إذا عارضه
ذلك كما هو الحال في المشترك لقيام الدليل من نص الواضع ونحوه على الاشتراك.
وفيه: ما لا يخفى، إذ دلالة عدم التبادر على المجازية إنما هي من جهة العقل
من قبيل دلالة اللازم المساوي على ملزومه فكيف يتعقل فيه الانفكاك؟ وليست
دلالة ذلك على المجازية من جهة القاعدة الوضعية ليمكن تطرق التخصيص إليه.
هذا وقد اختار بعض أفاضل المحققين ما ذكره القائل المذكور بالنسبة إلى
علامة المجاز فجعل التبادر أمارة على الحقيقة وتبادر الغير أمارة على المجاز،

(1) ذكره في رسالة له في مبادئ اللغة، وهو مذكور أيضا في الفوائد الحائرية في الفائدة الرابعة
والثلاثين. (هامش المخطوط).
238

لا من جهة الانتقاض بالمشترك لما عرفت من اندفاعه، بل من جهة تحقق عدم
التبادر في اللفظ الموضوع قبل اشتهاره فيما وضع له، فإنه لا يتبادر منه المعنى مع
أنه حقيقة فيه بنص الواضع.
وأنت خبير بأن المرجع في التبادر وعدمه إلى أهل اللسان العارفين
بالأوضاع دون غيرهم كما مر فلا انتقاض بما ذكر.
وأيضا لو صح ذلك لجرى نحوه في تبادر الغير أيضا فيما إذا وضع اللفظ
لمعنيين وكان الرجوع إلى العلامة المذكورة بعد اشتهار وضعه لأحدهما وقبل
اشتهاره في الآخر، فإن اللفظ حينئذ حقيقة في كل منهما بنص الواضع مع حصول
تبادر الغير أيضا.
ثم إنه أورد على ذلك أيضا ما مر من الدور الوارد على جعل التبادر أمارة
على الحقيقة.
ويدفعه ما ذكر هناك في دفعه.
ويمكن الإيراد عليه أيضا بأن عدم فهم المعنى قد يكون من جهة الهجر فإن
الأوضاع المهجورة غير قاضية بفهم المعنى عرفا عند الإطلاق مع أن استعمال
اللفظ فيها ليس على سبيل المجاز، كما مر سواء كان الهجر في المنقول بالنظر إلى
معناه المنقول منه أو في المشترك بالنسبة إلى بعض معانيه.
والجواب عنه أن هجر المعنى في العرف وعدم فهمهم ذلك حال التجرد عن
القرائن قاض بسقوط الوضع القديم في العرف وعدم اعتبارهم له في
الاستعمالات، وحينئذ فيكون استعمالهم إياه في المعنى المهجور بملاحظة المعنى
الآخر واعتبار المناسبة بينه وبينه فيكون مجازا، لما تقرر من ملاحظة الحيثية في
كل من حدي الحقيقة والمجاز، فيكون المستفاد من ملاحظة العلامة المذكورة كون
استعماله العرفي مجازيا، وذلك لا ينافي كونه حقيقة باعتبار آخر.
والحاصل: أنه لا يستفاد من الأمارة المذكورة إلا كونه مجازا في اصطلاح
من لا يتبادر عنده وذلك هو المقصود من إعمال تلك العلامة، وهو لا ينافي كونه
239

حقيقة فيه بالنسبة إلى الوضع القديم أو وضع آخر.
نعم، يمكن دفعه حينئذ مع عدم ثبوته بأصالة العدم ومرجوحية الاشتراك
أو النقل، فعلى هذا قد يجعل تبادر الغير علامة للمجاز ونفى الوضع له بالمرة،
بخلاف مجرد عدم التبادر، وقد يجعل ذلك وجها في تبديل عدم التبادر بتبادر
الغير، وهو أيضا كما ترى.
حادي عشرها: عدم صحة السلب والمقصود عدم صحة سلبه عنه حال
الاطلاق، فإن عدم صحة سلبه عنه حينئذ يفيد حصول معناه الحقيقي المفهوم منه
عند إطلاقه، إذ لو كان على خلاف ذلك لصح سلبه عنه ضرورة صحة السلب مع
عدم حصول المعنى الذي يراد سلبه، ولذا جعل صحة السلب علامة للمجاز أيضا.
ويمكن الاعتراض عليه بوجوه:
الأول: أن المحكوم بعدم صحة سلبه إنما هو معنى اللفظ، ضرورة صحة سلب
اللفظ عن المعاني بأسرها، وحينئذ فإن كان الموضوع في القضية المفروضة نفس
ذلك المعنى لم يتصور هناك حمل بالمعنى المشهور حتى يتصور الإيجاب
والسلب للزوم اتحاد الموضوع والمحمول، وإن كان غيره لم يفد عدم صحة
السلب كون ذلك معنى حقيقيا، إذ المفروض مغايرته لما وضع اللفظ بإزائه،
ومجرد (1) الاتحاد في المصداق لا يقضي بكون اللفظ حقيقة فيه، ألا ترى أن
استعمال الكلي في خصوص الفرد مجاز مع أنه لا يصح سلبه عنه، وكذا لا يصح
سلب شئ من المفاهيم المتحدة في المصداق عن بعض آخر، كالإنسان
والضاحك والناطق والحيوان والجسم والجوهر مع أن شيئا من تلك الألفاظ لم
يوضع بإزاء المفهوم الذي وضع له الآخر، ولا حقيقة فيه إذا أريد عند الإطلاق
خصوص ذلك منه.

(1) والحاصل: أن الحمل يقتضي التغاير في المفهوم والاتحاد في المصداق، فإن كان المعنى
الملحوظ في الموضوع والمحمول متحدا في المقام لم يتصور حمل لا إثباتا ولا سلبا، وإن
تغاير المفهومان لم يكن عدم صحة السلب حينئذ دليلا على الحقيقة حسب ما قررنا.
(منه (رحمه الله)).
240

الثاني: لزوم الدور، تقريره: أن الحكم بعدم صحة السلب موقوف على العلم
بما وضع اللفظ له، إذ الدال على الحقيقة والأمارة عليها هو خصوص ذلك، ضرورة
أن عدم صحة سلب المعاني المجازية لا يفيد كون ما لا يصح سلبها عنه معنى
حقيقيا بل يفيد كونه مجازيا والمفروض توقف العلم بما وضع اللفظ له على الحكم
بعدم صحة السلب لجعله أمارة عليه، وهو دور مصرح.
وببيان أوضح إن أريد بالمعنى الذي لا يصح سلبه مطلق المعنى فمن البين
حينئذ عدم كونه أمارة على الحقيقة، وإن أريد به خصوص المعنى الحقيقي فلزوم
الدور عليه واضح.
قال بعض الأفاضل: الحق أن الدور فيه مضمر، لأن معرفة كون الانسان مثلا
حقيقة في البليد موقوف على عدم صحة سلب المعاني الحقيقية للإنسان عنه،
وعدم صحة سلب المعاني الحقيقية للإنسان عنه موقوف على عدم معنى حقيقي
للإنسان يجوز سلبه عن البليد كالكامل في الانسانية، ومعرفة عدم هذا المعنى
موقوف على معرفة كون الانسان حقيقة في البليد.
أقول: من البين أن الحكم بعدم صحة سلب معانيه الحقيقية في معنى الحكم
بعدم معنى حقيقي للإنسان يجوز سلبه عن البليد، فإن كلا من معانيه الحقيقية إذا لم
يصح سلبه عنه فليس هناك معنى يصح سلبه عن ذلك، ضرورة امتناع اجتماع
المتنافيين في المعنى المفروض، فهذان مفهومان متقاربان متلازمان في مرتبة
واحدة من الظهور، والعلم بكل منهما علم بالآخر على سبيل الاجمال وإن لم يكن
العالم به متفطنا له بالعنوان الآخر.
فدعوى التوقف المذكور بين الفساد، وحينئذ فادعاء إضمار الدور غير سديد،
إذ العلم بعدم صحة سلب كل من المعاني الحقيقية عن المعنى المفروض متوقف
على العلم بكون اللفظ حقيقة فيه، والمفروض أن العلم به يتوقف على العلم بعدم
صحة السلب.
وأيضا فالمطلوب في علامة الحقيقة إثبات الوضع للمعنى المفروض أو
241

اندراجه في الموضوع له على ما يأتي تفصيله وهو حاصل بعدم صحة السلب في
الجملة، فلا يعتبر فيه عدم صحة سلب كل واحد من المعاني حسب ما ذكره.
ويظهر بذلك أيضا فساد ما ذكره من إضمار الدور من وجه (1) آخر، وقد أشار
الفاضل المذكور إلى ذلك، إلا أنه طالب بالفرق بين ذلك والمجاز حيث اعتبروا فيه
صحة سلب كل من معانيه الحقيقية، قال: نعم لو قلنا: إن عدم صحة السلب علامة
للحقيقة سالبة جزئية كما هو الظاهر فلا يحتاج إلى إضمار الدور، لكنه لا يثبت به
إلا الحقيقة في الجملة وبالنسبة، وعلى هذا فلم لم يكتفوا في حد المجاز بالموجبة
الجزئية ويقولوا: إن صحة سلب بعض الحقائق علامة المجاز في الجملة وبالنسبة؟
قلت: الفرق بين الأمرين بين لا خفاء فيه، إذ من الظاهر أن المطلوب في
أمارة الحقيقة استكشاف الوضع له أو اندراجه فيما وضع له، وفي المجاز عدم كونه
كذلك، وظاهر صدق الأول مع تحقق الوضع له أو الاندراج في الجملة لصدق
الموجبة بذلك، وأما الثاني فلا يصدق إلا مع انتفاء الوضع والاندراج رأسا.
وبتقرير آخر: المأخوذ في الحقيقة تحقق الوضع للمعنى والمأخوذ في المجاز
عدم تحقق الوضع له، فإطلاق كون اللفظ مجازا في المعنى إنما يكون مع عدم
تحقق الوضع بالنسبة إليه أصلا، وإطلاق كونه حقيقة فيه إنما يكون مع تعلق الوضع
به في الجملة، لا انحصار الوضع فيه أو اندراجه في جميع المعاني التي وضع اللفظ
بإزائها، إذ ذاك مما لم يعهد اعتباره في ذلك، ولا يجري في معظم الألفاظ
المشتركة، لظهور صحة سلب بعض معانيها عن بعض وعدم إندراج مصاديق
البعض في الآخر غالبا، ولذا يحكمون باندراج اللفظ في المشترك مع تعدد
الأوضاع ولا يجعلونه من الحقيقة والمجاز وإن كان اللفظ مجازا في كل منهما لو
فرض استعماله فيه لا من جهة الوضع له بل من جهة مناسبته للمعنى الآخر.
والحاصل: أنه إذا لوحظ اللفظ والمعنى فإن كان اللفظ موضوعا بإزائه كان

(1) فإن الحكم بعدم صحة السلب عنه في الجملة متوقف على العلم بالوضع له أو اندراجه في
الموضوع له والعلم بذلك يتوقف على الحكم بعدم صحة السلب، كما هو المفروض. (منه (رحمه الله)).
242

حقيقة فيه، وإلا كان مجازا ولا واسطة بين الوجهين، والمقصود في المقام هو بيان
الأمارة على كل من الأمرين، ولا يراد هنا بيان حال الاستعمال الخاص التابع
لملاحظة المتكلم.
نعم يمكن استعلام ذلك بعد بيان العلامتين، فإنه إذا لوحظ ذلك بالنسبة إلى
المعنى الخاص من الجهة الملحوظة في نظر المتكلم اتضح الحال في ذلك
الاستعمال أيضا.
ومع الغض عن جميع ما ذكرناه فإنما يتم ما ذكره بالنسبة إلى ما تعذر فيه
المعنى مع عدم صحة سلب شئ من معانيه المتعددة عن المصداق المفروض، وهو
إن ثبت في الألفاظ فليس إلا في نادر منها، فلا إضمار في الدور بالنسبة إلى غيره،
فكيف يقرر ذلك على سبيل الإطلاق.
هذا، ويمكن تقرير الدور مضمرا في المقام بوجه آخر، وذلك بأن يقال: إن
الحكم بعدم صحة سلب المعنى المراد حال الإطلاق موقوف على فهم المعنى
المراد منه حينئذ، ضرورة توقف الحكم على تصور المحمول، وفهم المعنى منه
حال الإطلاق موقوف على العلم بالوضع، إذ المفروض انتفاء القرينة والعلم
بالوضع أيضا موقوف على الحكم بعدم صحة السلب، إذ المفروض استعلامه به
وكونه أمارة عليه.
وهذا التقرير في إيراد الدور في المقام نظير ما مر في إيراده على التبادر،
إلا أن وروده هناك على سبيل التصريح وهنا على نحو الإضمار.
وقد يقرر هنا أيضا مصرحا بأن يقال: إن الحكم بعدم صحة سلب المعنى
المفهوم منه حال الإطلاق متوقف على العلم بما وضع اللفظ له لتوقف تصوره
حينئذ على العلم بالوضع والعلم بما وضع اللفظ له موقوف على الحكم بعدم صحة
السلب.
لكنك خبير بأن التوقف الأول ليس توقفا أوليا، بل بواسطة توقفه على فهم
المعنى المراد حال الإطلاق المتوقف على ذلك، فيكون الدور مضمرا بحسب
243

الحقيقة وإن قرر مصرحا في الصورة.
الثالث: النقض بجزء المعنى وخارجه المحمولين عليه من الكليات الذاتية
والعرضية، فإنه لا يصح سلب شئ منها عنه ومع ذلك ليس شئ من تلك الألفاظ
موضوعا بإزائه وليس استعمالها فيه حقيقة قطعا، بل ربما يخرج عن دائرة المجاز
أيضا كاستعمال الموجود في مفهوم الحيوان الناطق ونحوه.
والجواب: أما عن الأول فيبتنى على تحقيق الكلام في الأمارتين
المذكورتين وما يراد بهما ويستفاد منهما بعد إعمالهما، فنقول: قد يكون الموضوع
في تلك القضية عين المفهوم الذي يراد معرفة وضع اللفظ بإزائه وعدمه، وحينئذ
فالمراد باللفظ الذي يراد استعلام حاله الواقع في المحمول إما مفهوم المسمى
بذلك اللفظ وما بمعناه، أو المعنى الذي يفهم من إطلاق اللفظ عند العالم بالوضع
على سبيل الاجمال، فيكون الحمل الملحوظ فيه متعارفيا في الأول وذاتيا في
الثاني، وقد يكون الموضوع فيه خصوص المصداق مع العلم بعدم ثبوت الوضع له
بخصوصه، وحينئذ فقد يكون المراد باللفظ المفروض الواقع في المحمول هو
المعنى المنساق منه حال الإطلاق عند العارفين بالوضع على سبيل الاجمال، وقد
يكون خصوص المعنى الذي وضع اللفظ بإزائه المعلوم على سبيل التفصيل.
فهذه وجوه ثلاثة في العلامة المذكورة، فعلى الأول يستكشف بها خصوص
ما وضع اللفظ بإزائه، لوضوح كون عدم صحة سلب المسمى بذلك اللفظ عنه
شاهدا على كونه مسماه، وكذا عدم صحة سلب المفهوم من اللفظ حال الإطلاق
عن ذلك المفهوم دليل على كونه عين ذلك المفهوم، ضرورة صحة سلب كل مفهوم
عن المفهوم المغاير له، ولما كان المفهوم من اللفظ حال الإطلاق هو معناه الحقيقي
لما عرفت في التبادر ودل عدم صحة السلب على اتحاد المعنيين ثبت كون المعنى
المفروض هو الموضوع له.
والفرق حينئذ بينه وبين التبادر مع ما هو ظاهر من اختلاف الطريق وإن كان
المناط فيهما واحدا أن المعنى المفهوم حال الإطلاق ملحوظ في التبادر على
244

سبيل التفصيل وإنما يقصد بملاحظة تبادره معرفة كونه موضوعا له، بخلاف المقام
فإنه ملحوظ عنده على سبيل الاجمال ويستكشف التفصيل بملاحظة عدم صحة
سلبه عن ذلك المفهوم الملحوظ في جانب الموضوع.
وعلى الثاني فالمفهوم الذي وضع اللفظ بإزائه مجهول أيضا ويراد بملاحظة
عدم صحة سلب المعنى المفهوم حال الإطلاق استعلام حال المصداق، وكذا حال
نفس الموضوع له من حيث كونه المعنى الشامل لذلك، فيستعلم به أولا حال
المصداق من حيث كونه من مصاديقه الحقيقية، وحال الموضوع له في الجملة من
جهة شموله لذلك وعدمه، بل يمكن تعيينه بذلك أيضا إذا دار بين أمرين أو أمور
يتميز أحدها بالشمول للمعنى المذكور وعدمه كما في الصعيد إذا قلنا بعدم
صحة سلبه عما عدا التراب الخالص من سائر وجه الأرض، فإنه يكون شاهدا
على كونه موضوعا لمطلق وجه الأرض، وحينئذ فيكون دليلا على تعيين نفس
الموضوع له أيضا.
وعلى الثالث فالمعنى الموضوع له متعين معلوم ولا يراد بالعلامة المذكورة
استعلام الوضع له، بل المقصود منها استكشاف حال المصداق في الاندراج تحته
فهي إذن علامة لمعرفة المصاديق الحقيقية ومميزة بينها وبين المصاديق المجازية،
وذلك قريب في الثمرة من معرفة المعنى الحقيقي، فيكون إطلاقه على الأول
حقيقة في الغالب وعلى الثاني مجازا، ولذا عد العلامة المذكورة من سائر أمارات
الحقيقة مطلقا.
إذا عرفت ذلك فقد ظهر لك الوجه في اندفاع الإيراد المذكور أما بالنسبة إلى
الأخيرين فظاهر.
وأما بالنسبة إلى الأول فعلى الوجه الأول المأخوذ فيه في جانب المحمول
مفهوم المسمى به وما في معناه فلا خفاء أيضا، وعلى الوجه الثاني فلا حاجة هناك
إلى تصحيح الحمل، إذ المأخوذ علامة إنما هو عدم صحة السلب ومن البين
حصوله لعدم صحة سلب الشئ عن نفسه، ولا يستلزم ذلك صحة الحمل ليلزم
245

حمل الشئ على نفسه، لإمكان انتفاء الأمرين معا، على أنه لو أريد الحكم بصحة
الحمل أيضا فيمكن مراعاته باعتبار الحمل الذاتي دون المتعارف كما أشرنا إليه،
إلا أنه غير مأخوذ في العلامة المذكورة، وأما بالنسبة إلى صحة السلب المأخوذ
علامة للمجاز فالأمر أظهر، إذ المفروض هناك تغاير المفهومين فلا إشكال في
صحة السلب أصلا.
هذا، وقد ظهر بما قررنا أن تخصيص الحمل في المقام بالحمل الذاتي كما
يوجد في كلام بعضهم (1) في الجواب عن الإيراد الأخير ليس على ما ينبغي، كيف!
ومعظم موارد إعمال العلامتين المذكورتين ما يستعلم به الحال في المصاديق ولا
معنى لأخذ الحمل هناك ذاتيا ومن الغريب نصه قبل ذلك بإعمال العلامة المذكورة
في مقام تعرف حال المصداق.
وأما (2) عن الثاني فبأن ما يتوقف عليه الحكم بعدم صحة السلب هو ملاحظة

(1) ذكره في رسالة له في بيان جملة من المبادئ اللغوية. (منه (رحمه الله)).
(2) قوله: " وأما عن الثاني... إلخ "..
لا يخفى أن إشكال الدور لا يختص بعدم صحة السلب بل يجري في صحة السلب أيضا، ولم
يتعرض له المصنف (قدس سره) بل اقتصر عند تقرير الدور على بيان ما يرد منه في عدم صحة
السلب. والأجوبة المذكورة في كلامه منطبقة على دفعه بالنسبة إلى عدم صحة السلب، إلا
أنه صرح في ذيل الجواب الثالث بجريانه بالنسبة إلى صحة السلب أيضا فأشار بذلك إلى
جريان الدور فيه أيضا، وسيأتي منه عند الكلام في الأجوبة المذكورة في كلام القوم تقريره
في صحة السلب أيضا. لكن لا يخفى أن الذي قرره بالنسبة إلى عدم صحة السلب يغاير ما
يرد منه في صحة السلب ولا يجري أيضا في جميع الوجوه المذكورة له بل يختص ببعضها،
وما يرد منه في صحة السلب يجري في جميع وجوهها وفي عدم صحة السلب بجميع
وجوهه. وتوضيح المقام أن إشكال الدور يجري في عدم صحة السلب من وجهين:
أحدهما: خاص به لا يجري في التبادر ولا في صحة السلب، وهو الدور المصرح الذي
قرره أولا فإنه إنما يتجه من حيث أن العلامة عدم صحة سلب المعنى الحقيقي المتوقف
معرفته على معرفة المعنى الحقيقي المتوقفة على معرفة عدم صحة السلب المذكورة فمبنى
التوقف الأول على أن السلب المأخوذ في العلامة لا بد أن يعتبر مضافا إلى موصوف بكونه
معنى حقيقيا، إذ لولا ذلك لم يدل على الحقيقة، كما سبق التنبيه عليه في كلامه. وظاهر
أن معرفة عدم صحة السلب المعتبر على الوجه المذكور متوقفة على العلم باتصاف ما أضيف
إليه بكونه معنى حقيقيا، والتوقف الثاني هو مقتضى كونه علامة للحقيقة، وهو ظاهر.
وبالتأمل فيما ذكرناه يعلم أنه لا يرد في التبادر إذ العلامة هناك تبادر مطلق المعنى من
نفس اللفظ دون المقيد منه بكونه معنى حقيقيا وإنما تعلم الصفة المذكورة بملاحظة تبادره
من نفس اللفظ، وليس الاتصاف المذكور معتبرا في العلامة ليتوهم توقف العلم بالوضع على
العلم به، وكذلك لا يرد في صحة السلب فإنه وإن كانت العلامة هناك صحة سلب المعنى
الحقيقي المشاركة لعدم صحة السلب في الإضافة إلى المعنى الحقيقي الموجبة للتوقف
المذكور، إلا أن المتوقف على ذلك إنما هو معرفة المعنى المجازي دون المعنى الحقيقي
ليتوهم لزوم الدور.
ثم الوجه المذكور من الدور لا يجري في جميع الوجوه المذكورة، لعدم صحة السلب بل
يختص بالوجه الثاني منها وبالصورة الثانية من الوجه الأول، ولا يجري في الصورة الأولى
منه ولا في الوجه الثالث، أما الأول فلأن العلامة في الصورة المذكورة إنما هو عدم صحة
سلب مفهوم المسمى وما بمعناه ولا ريب أن معرفته من الجهة المذكورة لا تتوقف إلا على
تصور المفهوم المذكور، وظاهر أنه لا محذور في ذلك أصلا، وأما الثاني فلأن العلامة في
الوجه المذكور عدم صحة سلب الحقيقة الخاصة والطبيعة المعلومة عن الفرد المذكور
المبحوث عنه من غير اعتبار كونه معنى حقيقيا للفظ، إذ ليس المقصود بها إلا العلم باندراج
المبحوث عنه في تلك الطبيعة وكونه من أفرادها، فليست الإضافة إلى المعنى الحقيقي
معتبرة في العلامة ليتوهم لزوم الدور من جهته.
فظهر بما قررناه أن الدور بالتقرير المذكور إنما يتجه في موردين قد اعتبر فيهما عدم
صحة السلب مضافا إلى مصداق المعنى الحقيقي، فإنه الذي يتوهم توقف العلم على العلم
بكون المعنى حقيقيا ثانيهما ما هو نظير الدور الوارد على التبادر من توقف العلم بالوضع على
الحكم بعدم صحة السلب - كما هو مقتضى كونه علامة - وتوقف الحكم بعدم صحة السلب
على العلم بالوضع، لوضوح أن الجاهل بالوضع مع احتماله لكون المعنى مجازيا غير
موضوع له اللفظ أو غير مندرج في المعنى الموضوع له لا يتأتى منه الحكم بعدم صحة سلب
المعنى الحقيقي بوجه من الوجوه المذكورة.
وهذا الدور يجري في صحة السلب في جميع الوجوه المذكورة، لعدم صحة السلب حق
فيما يرد عليه الدور السابق من الموردين المذكورين فيتجه فيهما إشكال الدور من جهتين،
وهذا الدور كالدور السابق إنما يرد على وجه التصريح دون الإضمار، كما أن وروده في
التبادر أيضا كذلك حسبما مر بيانه هناك في كلامه ولا تعرض في كلامه هنا لهذا القسم عند
تقرير إشكال الدور لكنه سينبه عليه عند نقل الأجوبة المذكورة في كلام القوم وردها.
ويندفع هذا الدور في جميع موارده بالوجهين المذكورين في التبادر، إلا في الصورة
الأولى من الوجه الأول فيتعين فيها الجواب بالرجوع إلى العالم، ولا يجري فيها الوجه
الآخر من الفرق بين العلم بالشئ والعلم بالعلم به كما أشار إليه رفع مقامه، والوجه فيه: أن
كون المعنى موضوعا له وعدم صحة سلب مفهوم الموضوع له عنه مفهومان متلازمان في
مرتبة واحدة، ففرض عدم العلم بالعلم بالأول يوجب عدم العلم بالعلم بالثاني أيضا، فلا
يعقل الاستدلال بأحد العلمين على الآخر، وهذا بخلاف عدم صحة السلب في سائر الوجوه
ضرورة حصول الاختلاف فيها بينه وبين الوضع بحسب المرتبة بالعلية والمعلولية، بل نقول:
مرجع هذه العلامة على الوجه المذكور عند التحقيق إلى التنصيص بالوضع، ولا يعقل أن
يكون التنصيص بالوضع علامة له بالنسبة إلى من يصدر عنه ذلك التنصيص. وأما في غير
الصورة المذكورة فالجواب عنه ما ذكر من الوجهين.
وينبغي أن يعلم أن الوجهين المذكورين إنما يجديان في رفع الدور على الوجه الثاني
خاصة ولا جدوى لها في رفع الدور على الوجه الأول، لبقائه مع البناء على كل من الوجهين.
أما بقاؤه على الوجه الأول من رجوع الجاهل بالوضع إلى حكم العالم به بعدم صحة
السلب فلأن العلامة حينئذ وإن كان حكم العالم بعدم صحة سلب المعنى الحقيقي المتوقف
على علمه بالمعنى الحقيقي لا على علم الجاهل المستدل لكن لا ريب أن المستدل بعلامة لا
يتأتى له الاستدلال بها والتوصل بها إلى ذيها إلا مع علمه بتحققها، فإذا كانت العلامة حكم
العالم بالوضع بعدم صحة السلب المخصوص أي المضاف إلى ما يكون معنى حقيقيا للفظ
والمفروض أن الجاهل المستدل يجب أن يعلم بثبوتها وتحققها فلا جرم يتوقف علمه
بالوضع على علمه بكون المعنى الذي يحكم العالم بعدم صحة سلبه معنى حقيقيا تحقيقا لما
هو العلامة للوضع وهو الدور المذكور.
وبالجملة: فالتوقف الموجب للدور المذكور إنما ينشأ من إضافة السلب المعتبر في
العلامة إلى ما يكون معنى حقيقيا الموجبة لتوقف العلم بالعلامة على العلم به، ولا ريب في
246



لزوم العلم بالعلامة للمستدل فيتوقف علمه بالوضع على علمه بالعلامة المتوقف على علمه
بكون المعنى حقيقيا وإن كانت العلامة المعلومة حكم العالم بالوضع بعدم صحة السلب لا
حكم المستدل نفسه فظهر أن كون الحاكم بعدم صحة السلب غير المستدل بالعلامة وهو
الوجه الأول من الوجهين مما لا أثر له في دفع الدور المذكور.
وأما بقاؤه على الوجه الثاني - وهو الفرق بين العلم بالشئ والعلم بالعلم به وان الأول قد
يفارق الثاني والعلم بالعلامة إنما يتوقف على الأول المتوقف على العلم بها إنما هو الثاني
فيختلف الطرفان - فلجريانه حينئذ بالنسبة إلى العلم بالعلم، وذلك لأن العلم بالوضع إذا كان
علة للعلم بعدم صحة السلب فالاستدلال بثبوت الثاني على ثبوت الأول استنادا في إثبات
العلة إلى ثبوت المعلول يوجب توقف العلم بالعلم بالوضع على العلم بالعلم بعدم صحة
السلب، ضرورة أن مفاد الاستدلال ومحصله تحصيل العلم بالمدلول بالعلم بالدليل الموصل
إليه، ولا ريب أن العلم بالعلم بعدم صحة سلب المعنى الحقيقي يتوقف على العلم بالعلم
بكونه معنى حقيقيا لعين ما ذكر من توقف العلم بالأول على العلم بالثاني وهو دور ظاهر،
غاية الأمر جريانه حينئذ بالنسبة إلى العلم بالعلم دون العلم نفسه.
فقد اتضح مما قررناه أن الجوابين المذكورين لا يجديان في دفع الدور على الوجه الأول
وإنما يندفع بها الدور على الوجه الثاني، والوجه فيه اختلاف جهة التوقف في المقامين
فيختلف وجه التفصي عنهما لا محالة.
وأما الجواب عن الدور الأول فقد ذكر المصنف - طاب مرقده - فيه وجهين والصحيح
منهما الثاني، وتوضيحه: أن العلم بعدم صحة سلب المعنى الحقيقي إنما يتوقف على العلم
باتصاف المسلوب بكونه معنى حقيقيا وإن كان ذلك المسلوب متصورا له على وجه الاجمال،
ويكفي فيه تصوره بعنوان أنه معنى حقيقي فيعلم من عدم صحة سلب ذلك المعنى الملحوظ
في المجهول على وجه الاجمال عن المعنى التفصيلي الملحوظ في الموضوع كونه عين ذلك
المجمل على أحد الوجهين ومندرجا فيه على الوجه الآخر، فيكون الحاصل من العلامة هو
العلم بالموضوع له على سبيل التفصيل على أحد الوجهين مع حصول العلم به على وجه
الاجمال، بمعنى أن له معنى حقيقيا قبل ملاحظة العلامة وإعمالها، وعلى الوجه الآخر العلم
بالاندراج في الموضوع له المعلوم على سبيل الاجمال قبل ملاحظة العلامة بل وبعدها أيضا.
وأما الوجه الأول في الجواب فليس بشئ لأنه إن اعتبر في العلامة علم المستدل
بالملازمة بين المعنى الملحوظ، أعني المفهوم من اللفظ حال الإطلاق وبين المعنى الحقيقي
عاد الإشكال لتوقف الحكم بعدم صحة سلب المعنى المذكور على العلم بالمعنى الحقيقي،
وإن لم يعتبر فيها ذلك لم يدل الحكم بعدم صحة السلب على الوجه المذكور على الحقيقة
وإنما مقتضاه كون المبحوث عنه مفهوما من اللفظ حال الإطلاق أو مندرجا في المفهوم منه
كذلك، فيكون العلامة المذكورة حينئذ طريقا لإثبات التبادر ولا يكون علامة أخرى
مستقلة، كما هو المفروض.
وأما الجواب الثالث المذكور أخيرا فجواب عن الدور الثاني، لأن جهة التوقف المدعى
فيه أن عدم صحة السلب معلول للوضع فيتوقف العلم به على العلم بالوضع توقف العلم
بالمعلول على العلم بعلته فيجاب بالمنع من ذلك، وأنه قد تحقق العلم بالمعلول ولا يتحقق
العلم بعلته، إذا لاحظه العقل ابتداءا وإن تحقق العلم بها بعد ملاحظة العلم بالمعلول، فإن ذلك
قضية كونه أمارة عليه إلى آخر ما ذكره رفع مقامه، ومن هنا صح اجرائه الجواب المذكور في
صحة السلب أيضا إذ قد عرفت جريان الدور المذكور فيه أيضا، وحيث كان هذا جوابا ثالثا
مغايرا للجوابين المذكورين في التبادر صح جوابا عن الدور واقعا له من غير التزام شئ من
الوجهين المذكورين، فيجاب به مع التزام توقف العلم بالوضع على الحكم بعدم صحة
السلب دون العلم بالعلم خاصة والتزام رجوع المستدل إلى وجدان نفسه في الحكم المذكور
دون غيره من العالمين بالوضع.
بقي الكلام في الدور الذي يمكن إيراده في المقام على وجه الإضمار، والحق أنه ملفق
من القسمين ومركب من الجهتين، ولذا يختص مورده بالموردين المتقدمين للدور الأول،
أعني ما اعتبر فيهما عدم صحة السلب، مضافا إلى مصداق يساوق المعنى الحقيقي ويلازمه
كالمعنى المراد من اللفظ حال الإطلاق أو المفهوم منه عند الإطلاق ونحو ذلك، والصحيح
في تقريره: أن يقال: إن الحكم بعدم صحة السلب المعنى المراد من اللفظ حال الإطلاق
موقوف على العلم بكونه مرادا منه حال الإطلاق لعين ما ذكر في وجه التوقف في الدور
الأول، والعلم بكونه مرادا منه حال الإطلاق موقوف على العلم بالوضع لنحو ما ذكر في
الدور الثاني فإذا توقف العلم بالوضع على الحكم بعدم صحة السلب المذكور - كما هو قضية
جعله أمارة عليه - لزم الدور، وحيث كان التوقف المدعى فيه أولا هو التوقف المدعى في
الدور الأول وثانيا هو المدعى في الثاني اتجه اندفاع كل منهما بجوابه المختص به وإن اندفع
بدفع أحدهما.
وأما تقرير الدور على الوجه الذي ذكره المصنف (رحمه الله) فليس على ما ينبغي لأنه أشبه شئ
بالمغالطات، فإن الحكم بعدم صحة سلب المعنى المراد حال الإطلاق إنما يتوقف على فهم
المعنى المراد منه حال الإطلاق بمعنى تصوره كما يقتضيه التعليل على أن يكون الظرف
متعلقا بالمراد دون الفهم ولا توقف له على فهم المعنى المذكور من اللفظ، والمتوقف على
العلم بالوضع إنما هو فهم المعنى من اللفظ على أن يكون الظرف متعلقا بالفهم، والحاصل أن
الفهم الموقوف عليه في المقدمة الأولى هو مطلق الفهم والتصور لا خصوص الحاصل من
اللفظ دون مطلق الفهم.
ومما قررنا يظهر ما في كلامه (قدس سره) من أن هذا التقرير في إيراد الدور في المقام نظير ما مر
في إيراده على التبادر مشيرا به إلى أن الجواب عنه أيضا نظير الجواب عنه، كيف! ولزوم
تحقق العلامة عند المستدل بها كما أشرنا إليه سابقا قاض بلزوم تصور المستدل لمعنى المراد
المعتبر في المحمول سواء أراد الاستدلال بها على الوضع وعلى العلم به سواء كان الحاكم
بعدم صحة السلب المذكور هو المستدل أو غيره من العالمين بالوضع، فلا الدور المذكور
نظير الدور الوارد على التبادر ولا الجواب عنه بالوجهين المذكورين بمجد هنا كما اتضح
الوجه في ذلك كله مما قررنا. للشيخ محمد.
أثبتناه من هامش المطبوع - 1.
246

المعنى الحقيقي بنفسه لا ملاحظته بعنوان كونه معنى حقيقيا، والمعلوم بالعلامة
المفروضة هو الصفة المذكورة، غاية الأمر أن يلاحظ مع نفس المعنى ما يتعين به
كونه معنى حقيقيا في الواقع حتى لا يحتمل بحسب الواقع أن يكون المحكوم بعدم
صحة سلبه غير ذلك، وذلك كان يعتبر فيما يحكم بعدم صحة سلبه أن يكون هو المعنى
المفهوم منه حال الإطلاق حسب ما أشرنا إليه، إذ ليس ذلك إلا معناه الموضوع له
بحسب الواقع وإن لم يلاحظ بعنوان أنه الموضوع له، فلا دور بالتقرير المذكور.
وأيضا المعنى الحقيقي الملحوظ في جانب المحمول إنما هو الأمر الاجمالي فيعلم
من عدم صحة سلبه عن ذلك المعنى كونه عين ذلك، فتعين ذلك الحمل حاصل
بإعمال العلامة المذكورة وأما العلم بالموضوع له على جهة الاجمال حسب ما
اعتبر في المحمول فهو حاصل قبل إعمال العلامة المذكورة فيكون اللازم توقف
معرفته التفصيلي على المعرفة به على نحو الاجمال ولا ضير فيه. هذا كله بالنسبة
إلى الوجهين الأولين من الوجوه الثلاثة المذكورة عدا الصورة الأولى من
الاحتمالين المذكورين في الوجه الأول، فيتعين فيه الجواب بالرجوع إلى العالم.
وأما بالنسبة إلى الوجه الثالث فيندفع بما تقدم من الوجهين في جواب الدور
الوارد على التبادر، لاتحاد منشأ الإيراد في المقامين، وكذا الحال فيما قررناه
أخيرا في بيان الدور، ويجري فيه أيضا ما حكيناه هناك عن بعض الأفاضل من
الجواب بمنع كون فهم المعنى متفرعا على العلم بالوضع مع ما يرد عليه مما مر
251

الكلام فيه، وهذا كله ظاهر بعد التأمل.
ويمكن الجواب هنا أيضا بوجه ثالث وهو أنه قد يتحقق العلم بالشئ على
تقدير تصوره بعنوان خاص مع عدم العلم به إذا تصور بعنوان آخر وإن كانا
متلازمين بحسب الواقع، فحينئذ نقول: إنه قد يحصل العلم بكون المعنى مما لا
يصح سلب مدلول اللفظ عنه ولا يحصل العلم بكونه معنى حقيقيا أو مندرجا فيه
من دون ملاحظة عدم صحة السلب المفروض وإن كان الأول متفرعا على الثاني
تابعا له، لإمكان العلم بالفرع مع الجهل بأصله المبتني عليه بحسب الواقع، وحينئذ
فالقول بكون الحكم بعدم صحة السلب مبتنيا على العلم بكونه حقيقة فيه ممنوع،
لامكان فرض الجهل به إذا لاحظه ابتداء مع العلم بالآخر وإن تحقق العلم به بعد
ملاحظة علمه بالآخر، فإن ذلك هو قضية كونه أمارة عليه، وحينئذ فينتظم قياس
بهذه الصورة: هذا مما لا يصح سلب مدلول اللفظ عنه على أحد الوجهين
المذكورين وكلما لا يصح سلبه عنه كذلك فهو معنى حقيقي له على أحدهما ومن
مصاديق معناه الحقيقي على الآخر، فينتج ما هو المدعى، وبمثله نقول بالنسبة إلى
صحة السلب أيضا.
والقول بأن الحكم بعدم صحة سلب مدلول اللفظ موقوف على فهمه إنما يتم
لو قلنا بتوقف ذلك على تصوره على سبيل التفصيل وليس كذلك للاكتفاء فيه
بالإجمال.
هذا إذا أريد من ملاحظة العلامة المذكورة معرفة نفس الموضوع له في
الجملة، وأما إذا أريد معرفة المصداق فالكلام المذكور ساقط من أصله.
ومما ذكرنا يعرف عدم جريان هذا الجواب في التبادر حيث إن الملحوظ
هناك فهم المعنى على سبيل التفصيل وانسباقه إلى الذهن كذلك المتفرع على العلم
بوضعه له، بخلاف المفروض في المقام.
هذا، وقد أجيب أيضا عن الدور المذكور بوجوه:
منها: أن المراد بصحة السلب هو صحة سلب المعنى الملحوظ في الإثبات في
252

نفس الأمر، لا مطلق المعنى حتى يلزم فساد الحكم بصحة السلب في بعض صوره
وعدم دلالته على المجاز في بعض آخر، ولا خصوص المعنى الحقيقي ليلزم الدور
مثلا أنا نعلم أن في إطلاق " الحمار " على البليد قد لوحظ معنى الحيوان الناهق، إذ
إطلاقه عليه إنما هو بهذا الوجه مع أنه يصح سلب هذا المعنى بعينه عنه في نفس
الأمر، فيقال: البليد ليس بحمار، أي ليس بحيوان ناهق في نفس الأمر، فيكون
مجازا، وإذا تبين المراد في صحة السلب فقس عليه الحال في عدم صحة السلب.
ويشكل ذلك بأن المراد بالمعنى الملحوظ في الإثبات في نفس الأمر إما
الملحوظ في الاستعمال - يعني خصوص ما استعمل اللفظ فيه - فهو مما لا يصح
سلبه في المجاز، لوضوح أن الحمار في إطلاقه على البليد مستعمل في الحيوان
القليل الإدراك لا الحيوان الناهق، ولذا كان مجازا لغويا، ومن البين عدم صحة
سلبه عن البليد، فلا يتم ما ذكر من أن إطلاقه على البليد ليس إلا من جهة كونه
حيوانا ناهقا، إلا على قول من يجعل الاستعارة مبنيا على المجاز العقلي باستعمال
اللفظ في معناه الحقيقي وادعاء كون ما أطلق عليه من أفراده على أنه لا يجري
في غير الاستعارة من سائر أنواع المجاز كإطلاق النهر على الماء وإطلاق القرية
على الأهل ونحوهما.
وإما المعنى الملحوظ في استعمال اللفظ في المعنى المفروض بارتباطه به
وعلاقته له فالتجوز في الاستعمال إذن ظاهر قبل ملاحظة العلامة المذكورة، إذ مع
فرض كون الاستعمال فيه من جهة ملاحظة علاقته لغيره لا مجال للشك في كونه
مجازا حتى يفتقر إلى العلامة المذكورة، ضرورة أنه لا يكون ذلك في غير المجاز،
ولو قطع النظر عن ذلك وفرض عدم استفادة الحال من ذلك فصحة سلب ذلك
المعنى عنه لا تفيد كونه مجازا فيه، إلا بعد العلم بكونه حقيقة في ذلك المعنى،
فيكون صحة سلبه عنه إذن موقوفا على العلم بكونه غير الموضوع له فالدور على
حاله، ونحوه الكلام في عدم صحة السلب، إلا أنه يجري نحو الكلام الأخير في
الشق الأول ولا حاجة فيه إلى الباقي.
253

ومنها: أن المراد بكون صحة السلب علامة للمجاز أن صحة سلب كل واحد
من المعاني الحقيقية عن المبحوث عنه علامة لمجازيته بالنسبة إلى ذلك المعنى
المسلوب، فإن كان المسلوب الحقيقي واحدا في نفس الأمر كان ذلك المبحوث
عنه مجازا مطلقا، وإن تعدد كان مجازا بالنسبة إلى ما علم سلبه عنه لا مطلقا.
ومثله الكلام في عدم صحة السلب، فإن المراد عدم صحة سلب المعنى
الحقيقي في الجملة، فيقال: إنه علامة لكون ما لا يصح سلب المعنى الحقيقي عنه
معنى حقيقيا بالنسبة إلى ذلك المعنى الذي لا يجوز سلبه عنه وإن احتمل أن يكون
لذلك اللفظ معنى آخر يصح سلبه عن المبحوث عنه فيكون مجازا بالنسبة إليه، فلا
يتوقف معرفة كون المبحوث عنه حقيقة على العلم بكونه حقيقة حتى يلزم الدور.
والحاصل: أن معرفة كونه حقيقة في هذا المعنى الخاص موقوف على معرفة
الحقيقة في الجملة، وذلك لا يستلزم دورا.
وأنت خبير بما فيه، إذ لا يفيد شيئا في دفع الدور، فإنه من البين أن صحة
سلب المعنى الحقيقي المفروض عن المبحوث عنه تتوقف على العلم بكونه مغايرا
له مباينا إياه وهو معنى كونه مجازا بالنسبة إليه، إذ ليس المجاز إلا اللفظ
المستعمل في غير ما وضع له فالعلم بالمغايرة - أعني كونه مجازا بالنظر إليه - إن
كان متوقفا على صحة السلب - كما هو المدعى - لزم الدور.
وكذا الحال في عدم صحة السلب، فإنه إن كان المقصود من ملاحظة العلامة
المذكورة معرفة كون المبحوث عنه موضوعا له اللفظ فإن كان المعنى المسلوب
عنه معينا معلوما - كما هو الظاهر من الكلام المذكور - فكونه حقيقة فيه لا بد أن
يكون معلوما قبل إعمال العلامة المذكورة كما هو المفروض، فلو توقف عليه كان
دورا، وإن اخذ معناه الحقيقي على سبيل الاجمال والإبهام وأريد بالعلامة
المذكورة تعيينه ومعرفته بخصوصه فمعلوم أيضا، أن معرفة كون ذلك المجمل هذا
المعين موقوف على الحكم بعدم صحة السلب والحكم به موقوف على العلم
باتحادهما وهو دور.
254

وإن أريد بها العلم بكون المبحوث عنه مصداقا حقيقيا لمعناه الحقيقي
لا موضوعا له اللفظ بخصوصه فهو يرجع إلى جوابه الآتي ولا يكون جوابا آخر
وهو أيضا لا يدفع الدور، كما سيجئ الإشارة إليه إن شاء الله.
ومنها: أن المراد بصحة سلب المعنى وعدمها هو صحة سلب المعنى الحقيقي
وعدمها عما احتمل فرديته له بأن يعلم للفظ معنى حقيقي ذو أفراد ويشك في
دخول المبحوث عنه فيها وعدمه، فيكون الشك في كون ذلك مصداقا لما علم كونه
موضوعا له، لا في كونه موضوعا له بخصوصه، فيختبر ذلك بصحة السلب وعدمها،
وهذا أيضا لا يستلزم دورا، لاختلاف الطرفين.
وأنت خبير بأن ذلك أيضا لا يفيد في دفع الدور شيئا، إذ نقول حينئذ: إن
معرفة كونه مصداقا لذلك المعنى يتوقف على عدم صحة سلبه عنه، وعدم صحة
سلبه عنه يتوقف على العلم بكونه مصداقا له، وكذا الحال في صحة السلب فيجئ
هناك إختلاف في تقرير الدور، نظرا إلى تغيير ظاهر المدعى حيث إن ظاهر
جعلهما علامة للحقيقة والمجاز كونهما علامتين لمعرفة نفس الموضوع له وغيره
فصرف ذلك في الجواب المذكور إلى معرفة مصداق كل منهما، والدور بحاله غير
مندفع أصلا.
ومنها: أن صحة سلب بعض المعاني الحقيقية، كافية في الدلالة على المجاز،
إذ لو كان حقيقة لزم الاشتراك المرجوح بالنسبة إلى المجاز، وكأن الوجه في
اندفاع الدور حينئذ: أن معرفة كونه مجازا مطلقا متوقفة على صحة سلب بعض
المعاني الحقيقية، وصحة سلب بعض المعاني الحقيقية متوقفة على كونه مجازا
بالنسبة إلى ذلك المعنى الحقيقي فاختلف طرفا الدور. ولا يخفى وهنه.
أما أولا فلأن العلم بكونه مجازا مطلقا يندرج فيه العلم بالمجازية بالنسبة إلى
المعنى المفروض، فالدور بالنظر إليه على حاله.
وأما ثانيا فلأن معرفة كونه مجازا مطلقا لا يتوقف على العلامة المذكورة، بل
عليها وعلى الأصل المذكور، وإنما يعرف من العلامة المفروضة كونه مجازا فيه
255

بملاحظة المعنى المفروض، ومن الأصل المذكور عدم ثبوت الوضع له بخصوصه
أو لمعنى آخر لا يصح سلبه عنه فالدور أيضا بحاله.
وأما ثالثا فبعدم جريانه في عدم صحة السلب، إذ عدم صحة سلب بعض
المعاني الحقيقية عنه موقوف على العلم بكونه حقيقة فيه والمفروض توقف العلم
بكونه حقيقة فيه على ذلك فالدور فيه على حاله.
وأما رابعا فلأن المفروض في الجواب المذكور إثبات كونه مجازا فيه بذلك
وبالأصل فلا تكون العلامة المفروضة بنفسها أمارة للمجاز، وهو خلاف المدعى.
ومنها: أن المراد إنا إذا علمنا المعنى الحقيقي للفظ ومعناه المجازي ولم نعلم
ما أراد القائل منه فإنا نعلم بصحة سلب المعنى الحقيقي عن المورد، أن المراد هو
المعنى المجازي، وقد نص المجيب المذكور بعدم جريان الجواب في عدم صحة
السلب، إذ لا يعرف من عدم صحة سلب المعنى الحقيقي عن المورد كونه حقيقة
فيه، ضرورة عدم صحة سلب الكلي عن فرده، مع أن استعماله فيه مجاز. وأورد
عليه بوجوه:
أحدها: أن العلائم المذكورة إنما تلحظ في مقام الشك في الموضوع له والجهل
بكون اللفظ حقيقة في المعنى المستعمل فيه أو مجازا وأما مع العلم بكون اللفظ
حقيقة في معنى مجازا في آخر فلا حاجة إلى العلامة، إذ مع إمكان حمله على
الحقيقة يتعين الحمل عليها نظرا إلى أصالة الحمل على الحقيقة، وبدونه يتعين
الحمل على المجاز ويكون امتناع حمله على الحقيقة قرينة على ذلك وليس ذلك
من العلامة في شئ.
ثانيها: أنه لو صح ذلك لاقتضى أن يكون كل من صحة السلب وعدمها علامة
لكل من الحقيقة والمجاز فإن صحة سلب المعنى الحقيقي علامة للمجاز وصحة
سلب المعنى المجازي علامة للحقيقة، وعدم صحة السلب بالعكس، وهم
لا يقولون به لجعلهم عدم صحة السلب أمارة للحقيقة وصحة السلب أمارة للمجاز.
ثالثها: أن استعمال الكلي في الفرد ليس مجازا مطلقا وإنما يكون مجازا إذا
256

استعمل فيه بخصوصه، ومع إرادة الخصوصية من اللفظ، فلا ريب في صحة سلب
معناه الحقيقي عنه بهذا الاعتبار وإن لم يصح سلبه عنه بالاعتبار الأول، فما ذكره
في وجه عدم جريان ما ذكره في عدم صحة السلب ليس بمتجه.
قلت: يظهر مما ذكر في الإيراد حمل كلام المجيب على أنه إذا لم يعلم
المستعمل فيه أصلا وأريد المعرفة به فبصحة سلب المعنى الحقيقي عن المراد من
جهة القرينة الدالة على إرادة غيره يعلم إرادة المجازي، ولذا ذكر في الإيراد عليه:
أن ذلك ليس من العلامة في شئ، والذي يظهر بالتأمل في كلامه أن ذلك ليس من
مقصود المجيب في شئ كيف! وفساد الكلام المذكور يشبه أن يكون ضروريا
ولا داعي لحمل كلامه عليه مع ظهوره في خلافه، بل الظاهر أن مراد المجيب أنه
إذا أطلق اللفظ على مصداق - كما إذا استعمل الحمار في البليد - وشككنا في كونه
مصداقا لمعناه الحقيقي أو المجازي مع العلم بكل منهما فلم يعلم المستعمل فيه في
المقام من جهة الشك المذكور فإنه إن كان فردا للحيوان الناهق كان اللفظ مستعملا
في معناه الحقيقي إن أطلق على فرد منه لا من حيث الخصوصية، وإن لم يكن فردا
منه فهو من مصاديق معناه المجازي، أعني الحيوان القليل الإدراك ويكون اللفظ
إذن مستعملا فيه فيتعرف إذن بصحة سلب معناه الحقيقي عنه أنه من أفراد المعنى
المجازي وأن اللفظ مستعمل في معناه المجازي.
وقوله: " فإنا نعلم بصحة سلب المعنى الحقيقي عن المورد... إلخ " كالصريح
فيه، فإنه إذا لم يطلق اللفظ على مصداق معين فمن أين يتحقق هناك مورد معلوم
للاستعمال.
ثم إنه مع الجهل بالمراد مطلقا كيف يعقل سلب المعنى الحقيقي عن المجهول
المطلق؟ ويتعرف بذلك كون المستعمل فيه مجازا. والحاصل: أن ما ذكرناه في
كمال الظهور من الكلام المذكور.
ثم ما ذكره ثانيا من عدم جريان ذلك في عدم صحة السلب معللا بما ذكره في
غاية الظهور أيضا فيما قلناه.
257

فظهر بما ذكرنا اندفاع الإيرادات المذكورة عنه، أما الأول فظاهر.
وأما الثاني فبأنهم إنما اعتبروا صحة السلب وعدمها بالنسبة إلى المعنى
الحقيقي لتعينه وتميزه وأما المعنى المجازي فلما لم يكن متعينا مضبوطا بل كان
دائرا مدار حصول العلامة لم تفد صحة سلب ما نعرفه من المعاني المجازية كونه
مصداقا لمعناه الحقيقي، لاحتمال كونه مندرجا في مجازي آخر غيرها، ولا عدم
صحة سلبه عنه كونه فردا من المعنى المجازي، لإمكان أن يكون معناه المجازي
أعم من الحقيقي فلا يصح سلب شئ منهما عنه.
وأما الثالث فلأن الوجه المذكور إنما يفيد تميز مصداق معناه المجازي عن
الحقيقي من دون إفادة لمعرفة نفس الموضوع له وغيره، فيستفاد من ذلك كون
المستعمل فيه مجازا إذا علم اندراج ذلك المصداق في معناه المجازي ويتعرف به
كون اللفظ مجازا في الاستعمال المفروض، وأما إذا علم بعدم صحة سلبه عنه
اندراجه في معناه الحقيقي لم يفد ذلك كون اللفظ هناك حقيقة أو مجازا، لاحتمال
استعمال اللفظ فيه بخصوصه، فيكون الاستعمال مجازا مع عدم صحة سلبه عنه،
فما ذكر في الإيراد عليه من أنه مع استعماله في الفرد بخصوصه يصح سلب ذلك
المعنى عنه غير متجه، لوضوح عدم صحة سلب الكلي عن الفرد بالحمل الشائع
وإن لوحظ الفرد بخصوصه.
فمرجع هذا الجواب إلى الجواب الثاني الذي حكيناه عن بعض الأفاضل، إلا
أنه جعل صحة السلب أمارة لكون اللفظ مجازا في استعماله المفروض فلم يصح
له جعل عدم صحة السلب أمارة لكونه حقيقة كذلك، وحينئذ فيرد عليه ما أوردناه
عليه وأنه لا حاجة إذن إلى جعله علامة لحال اللفظ بالنسبة إلى ما استعمل فيه
حتى لا يجري في عدم صحة السلب، بل ينبغي جعله أمارة لتميز المصداق
الحقيقي عن المجازي ليجري في المقامين حسب ما مر، على أنه قد يجعل أمارة
بالنسبة إلى الأول أيضا بعد ملاحظة ما هو الغالب من عدم ملاحظة الخصوصية في
إطلاق الكليات على أفرادها. فتأمل.
258

ومنها: أن المراد صحة سلب ما يستعمل فيه اللفظ المجرد عن القرينة في
العرف فإنه يصح عرفا أن يقال للبليد: إنه ليس بحمار، ولا يصح أن يقال: إنه ليس
بإنسان، فعلم بالأول كون الحمار مجازا فيه، وبالثاني صدق الانسان عليه على
سبيل الحقيقة.
وهذا الجواب يرجع إلى أحد الجوابين المذكورين في الجواب عن الدور
الوارد في التبادر، إذ قد عرفت مما مر جريان ذلك بالنسبة إلى ملاحظة صحة
السلب وعدمها مع الإطلاق في كلام العارفين باللسان غير المتكلم، وكذا بالنسبة
إلى نفسه لو كان من أهل اللسان كما هو الغالب، نظرا إلى الفرق بين العلم بالشئ
والعلم بالعلم به، وحينئذ فالمتوقف على إعمال العلامة هو الثاني والمتوقف عليه
هو الأول حسب ما عرفت.
هذا وقد أورد عليه بعض الأفاضل (رحمهم الله) بأن ذلك مجرد تغيير عبارة لا يدفع
السؤال، فإن معرفة ما يفهم من اللفظ عرفا مجردا عن القرائن هو بعينه معرفة
الحقائق سواء اتحد المفهوم العرفي ففهم معينا أو تعدد من جهة الاشتراك ففهم
الكل إجمالا وبدون التعيين، وذلك يتوقف على معرفة كون المستعمل فيه ليس هو
عين ما يفهم عرفا على التعيين أو من جملة ما يفهم عرفا على الاجمال فيبقى
الدور بحاله.
وأنت بعد ملاحظة ما قررناه تعرف ما فيه كيف! والحاكم بصحة السلب
وعدمها بناء على الأول هو العرف، وإنما يتوقف حكمهم بذلك على معرفتهم
بمعنى اللفظ لا على علم الملاحظ للأمارة المذكورة، والحاصل بملاحظة العلامة
المذكورة علم الملاحظ بالحال بعد الرجوع إليهم، فمن أين يتوهم لزوم الدور؟
وأما على الثاني فلا اتحاد أيضا في طرفي الدور كما عرفت.
وأما الجواب عن الثالث فبما عرفت من اختلاف الحال في العلامة المذكورة،
فإن كان المراد معرفة حال المفهوم من حيث ثبوت الوضع له وعدمه فلا ريب في
صحة السلب في المقامات المفروضة، ضرورة أن مفهوم الكل غير مفهوم الجزء
259

واللازم، وإن أريد به معرفة حال المصداق من حيث اندراجه حقيقة في المفهوم
المفروض وعدمه فلا ريب إذن في إفادة عدم صحة السلب الحاصل في المقام
اندراجه فيه على سبيل الحقيقة وكونه من أفراده الحقيقية، فلو أطلق ذلك اللفظ
عليه لا من جهة اعتبار الخصوصية كان الاستعمال حقيقة وهو كذلك في الواقع،
فلا نقض من الجهة المذكورة أصلا.
وقد يجاب عنه بأن المعتبر من الحمل في صحة السلب وعدمها هو الحمل
الذاتي والحمل الصادق في الموارد المذكورة إنما هو الحمل الشائع خاصة. وفيه
ما عرفت مما قررناه.
ثاني عشرها: الإطراد وعدمه، فالأول علامة الحقيقة، والثاني أمارة المجاز،
والمراد به إطراد استعمال اللفظ في المعنى المفروض بحسب المقامات بحيث
لا يختص جوازه بمقام دون آخر أو مع خصوصية دون أخرى ويصح اطلاقه على
مصاديق ذلك المعنى إذا كان كليا من غير اختصاص له ببعضها.
واختلفوا في كون الإطراد على الوجه المفروض دليلا على كون اللفظ حقيقة
في ذلك المعنى وعدمه على قولين:
أحدهما: دلالته على ذلك، وحكي القول به عن جماعة منهم الغزالي والسيد
العميدي والعلامة في ظاهر التهذيب.
وثانيهما: عدمها، ذهب إليه جماعة من العامة والخاصة منهم الآمدي في
الإحكام والحاجبي والعضدي، وشيخنا البهائي (رحمه الله) وهو ظاهر العلامة (رحمه الله) في
النهاية حيث ذكر الإيراد على دلالته على الحقيقة مقتصرا عليه، واختاره الشريف
الأستاذ (قدس سره).
حجة الأول أنه مع تحقق الوضع للمعنى لا ريب في جواز إطلاق اللفظ عليه
بحسب الموارد والمقامات وكذا على كل من مصاديقه، نظرا إلى تحقق الطبيعة فيه
وحصولها في ضمنه، وأما مع عدم حصول الوضع فجواز الاستعمال فيه يتبع وجود
العلاقة المصححة، وقد تقرر أنه يعتبر في وجود العلاقة المجوزة للتجوز عدم إباء
260

العرف عن استعمال اللفظ وعدم استهجانه في المخاطبات، وذلك أمر يختلف
بحسب اختلاف المقامات وليس له قاعدة مطردة في الاستعمالات، ولذا ترى أنه
يصح استعمال " القرية " في أهلها في قولك: " اسأل القرية " ولا يصح في قولك:
" جلست القرية أو باعت القرية أو آجرت القرية " ونحوها مع وجود تلك العلاقة
بخصوصها، وكذلك يقال: " أعتق رقبة " ولا يقال: " مات رقبة أو نام رقبة " ويطلق
اليد على الانسان في نحو قوله: " على اليد ما أخذت " ولا يقال في سائر المقامات
إلى غير ذلك مما يظهر بملاحظة موارد استعمال المجازات، فيختلف الحال في
جواز الاستعمال بملاحظة الخصوصيات الحاصلة في موارد الاستعمالات فالإطراد
من اللوازم المساوية للحقيقة وعدمه من اللوازم المساوية للمجاز، فالأول يدل
على الحقيقة والثاني على المجاز من باب دلالة اللازم المساوي على ملزومه.
ويرد عليه: أن المجاز وإن لم يستلزم الإطراد في الاستعمالات إلا أنه قد
يطرد سيما إذا كانت العلاقة في كمال الوضوح وكان الارتباط بين المعنى
المجازي والحقيقي في غاية الكمال كما في استعمال " الأسد " في الشجاع، فإنه
يصح استعماله فيه مطردا على نحو استعمال اللفظ الموضوع لذلك من غير فرق
سوى ذكر القرينة المعتبرة في المجاز، وحينئذ فيكون الإطراد لازما أعم بالنسبة
إلى الحقيقة فلا يدل عليها، لوضوح عدم دلالة اللازم الأعم على خصوص
ملزومه، وهذا هو حجة القول الآخر المانع من دلالته على الحقيقة، فيقال: إن
الإطراد كما يوجد في الحقيقة يوجد في المجاز فلا يصح جعله علامة للحقيقة، لما
تقرر من اعتبار الإطراد في العلامة.
وقد يجاب عنه بأن الإطراد في المجازات إنما يكون في آحاد منها على
سبيل الندرة فلا ينافي حصول الظن المطلوب في باب الأوضاع، والإطراد المعتبر
في العلامة إنما يعتبر في أمثال المقام بالنظر إلى الغالب، نظرا إلى إفادته الظن
المكتفى به في مباحث الألفاظ.
وقد يمنع الغلبة المدعاة، فإن معظم المجازات المشتملة على المشابهة
261

الظاهرة يطرد استعمالها في المحاورات وإنما ينتفي الإطراد غالبا في سائر أنواع
المجاز مما تكون العلاقة فيها غير المشابهة، وحينئذ فلا يبقى ظن بكون المعنى
الذي فرض اطراده في الاستعمال من المعاني الحقيقية.
نعم، لو علمنا انتفاء المشابهة في المقام - كما إذا علمنا معنى حقيقيا للفظ
ووجدنا استعماله في غيره مطردا مع انتفاء المشابهة بينه وبين معناه الحقيقي
وأمكن ملاحظة غيرها من العلائق بينهما - فإنه حينئذ قد يصح الرجوع إلى
الإطراد في إثبات وضعه له، نظرا إلى ما قلناه.
وبالجملة: إذا دار الأمر بين أن يكون حقيقة في ذلك المعنى أو مجازا مرسلا
أمكن إثبات الوضع بالإطراد، نظرا إلى أن الغالب في المجاز المرسل عدمه، وأما إذا
دار [الأمر] (1) بينهما وبين الاستعارة أو بين الثلاثة لم يصح ذلك حسب ما عرفت.
واعلم أنه يمكن أن يؤخذ الإطراد على وجه آخر فيراد به اطراد استعمال
اللفظ فيه في جميع المقامات وسائر الأحوال مع انضمام القرينة وبدونه ودورانه
بينهم كذلك في الاستعمالات، من غير فرق في استعماله فيه بحسب تلك
المقامات، وحينئذ يتم دلالته على الحقيقة، ويندفع عنه الإيراد المذكور، إذ
لا اطراد في شئ من المجازات على الوجه المفروض، إذ مجرد وجود العلاقة
غير كاف في التجوز ما لم يوجد هناك قرينة صارفة.
فإن قلت: إنه لا شك في جواز استعمال المجازات مع انتفاء القرائن في حال
الاستعمال، بناء على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب - كما هو المعروف -
والمفروض في المقام وجود القرينة في الجملة وإلا لم يعلم استعماله فيه قبل العلم
بوضعه له، غاية الأمر أن تكون القرينة منفصلة.
قلت: إن ذلك مما يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأقوال، فقد يكون
المقام مقام البيان والإفهام فيكون في تأخير القرينة تفويت للمقصود، وحينئذ
فلا ريب في المنع من تأخير البيان عن وقت الخطاب. وليس مقصود القائلين

(1) من المطبوع (1).
262

بجواز تأخيره عن ذلك جوازه كليا كما نصوا عليه ويأتي في محله الإشارة إليه
إن شاء الله.
فإن قلت: إن استعماله حينئذ في ذلك من دون اقتران القرينة في المقام
المفروض كاف في الدلالة على الحقيقة، فلا حاجة إلى ملاحظة الإطراد، وذلك
بنفسه أمارة على الحقيقة كما مرت الإشارة إليه.
قلت: قد يعرف المقام المفروض بالخصوص ويرى استعماله فيه على النحو
المذكور، فيمكن استنباط ثبوت الوضع له من ذلك من دون حاجة إلى ملاحظة
غيره إذا كان المستعمل ممن يعتد بشأنه، وقد لا يعلم خصوص المقام
ولا خصوص المستعمل فيعرف من اطراد استعماله في المقامات على النحو
المذكور وروده في المقام المفروض في الجملة من غير استنكار له في العرف، فلا
مانع من اعتباره أمارة مستقلة بملاحظة ذلك وإن اتحد الوجه في استفادته منه في
المقامين والظاهر أنه بهذا المعنى مما لا ينبغي الخلاف فيه، لوضوح كونه من
خواص الحقيقة سواء قلنا بكون القرينة مصححا لاستعمال المجاز، أو قلنا بأن
المصحح له وجود العلاقة، والمقصود منها مجرد الإفهام. فتأمل في المقام.
هذا، وأما دلالة عدم الإطراد بالوجه المتقدم على المجاز فقد أثبتها كثير من
الأصوليين منهم: الآمدي والحاجبي والعضدي وشيخنا البهائي.
ونفاها العلامة (رحمه الله) في النهاية، نظرا إلى عدم اطراد بعض الحقائق كما سيجئ
الإشارة إليه، واختاره بعض الأفاضل من المعاصرين، إلا أنه ذهب إلى حصول
الإطراد في المجازات على نحو الحقائق ولم يفسر العلامة المذكورة على وجهها،
وسنورد بعض ما ذكره في بيانها.
وظاهر بعض الأعلام التوقف فيه.
وذهب بعض آخر إلى كونه دالا على نفي الوضع النوعي خاصة، فلا يفيد
نفي الأوضاع الشخصية سواء كان الوضع فيها عاما أو خاصا والموضوع له عاما
أو خاصا.
263

والأظهر هو الأول، إذ لو ثبت وضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى لما صح التخلف،
ضرورة قضاء الوضع بصحة استعمال اللفظ فيه في جميع المقامات من غير
اختصاص ببعض الصور دون بعضها، كما هو الحال في سائر الألفاظ الدائرة في
الاستعمال.
وقد يورد عليه: أن في الحقائق أيضا ما لا يطرد استعماله في الموارد ولا
يصح اطلاقه على كل من مصاديقه مع وجود المعنى فيه، كما في إطلاق " الفاضل "
عليه تعالى وإطلاق " السخي " عليه وإطلاق " الأبلق " على غير الفرس مع حصول
المعنى فيه وإطلاق " القارورة " على غير الزجاج وإطلاق " الدابة " على غير ذات
القوائم إلى غير ذلك.
ويدفعه: أن المنع من الإطلاق في الأولين شرعي فلا مانع من الإطلاق
بحسب اللغة، والاطراد إنما يلحظ بالنسبة إليها.
على أنه قد يمنع المنع منه بحسب الشرع أيضا، إذ قد ورد في بعض الأدعية
إطلاق " الفاضل " عليه تعالى وورد فيه أيضا: " يا ذا الجود والسخاء " مخاطبا
إياه تعالى.
مضافا إلى ما قد يقال بعد تسليم عدم الإطلاق عليه تعالى في اللغة أيضا: من
أن " الفاضل ": هو العالم الذي من شأنه الجهل، والسخي: هو الجواد الذي من شأنه
البخل، فعدم إطلاقهما عليه تعالى من جهة انتفاء المعنى بالنسبة إليه تعالى، والمنع
من إطلاق " الأبلق " على غير الفرس لاختصاص مفهومه بها، فإنه الفرس ذات
اللونين، أو نقول أنه خصص بها في العرف بعد أن كان للأعم فهو منقول عرفي كما
هو الحال في الأخيرين، إذ لا اختصاص لهما لغة بما ذكر، واطراد الاستعمال
حاصل فيهما بالنسبة إليها، وعدم اطرادهما إنما هو بحسب العرف، فهو فيهما دليل
على المجازية في المعنى الأعم بحسب الاستعمالات العرفية لا أنه ناقض لدلالته
على المجازية.
وربما يورد عليه أيضا بلزوم الدور، فإن العلم بعدم الإطراد متوقف على العلم
264

بالمجازية، إذ مع احتمال الوضع له لا يمكن العلم بعدم الإطراد، ضرورة لزوم
الإطراد في الثاني حسب ما مر فلو كان العلم بالمجازية متوقفا على العلم بعدم
الإطراد كما هو المدعى لزم الدور.
ويدفعه: أن العلم بعدم الإطراد إنما يحصل من ملاحظة موارد الاستعمالات
فيستنبط منه انتفاء الوضع لا أنه يحصل العلم بعدم الإطراد من العلم بانتفاء الوضع،
لما عرفت من إمكان الاطراد في المجاز ولا بعد العلم به، إذ لا توقف له عليه بعد
ملاحظة العرف بل قد لا يحصل العلم به بعد العلم بعدم الاطراد أيضا مع الغض عن
ملاحظة ما ذكر في بيان دلالته عليه.
والوجه في المنع من عدم الإطراد في المجاز حسبما ذكره الفاضل المذكور
أنه إن أريد بعدم اطراد المجاز أنه يقتصر فيه على موارد الرخصة في نوع العلاقة
ولو كان في صنف من أصنافه فلا يطرد استعماله مع حصول نوع العلاقة إذا كان في
غير مورد الرخصة فهو حق، لكن لا ريب أن المجاز حينئذ منحصر فيما حصل
الرخصة فيه وهو مطرد في مورد الرخصة، وإن أريد به أن المجاز غير مطرد بعد
تحقق الرخصة فيه بالنسبة إلى ما تعلق الرخصة به فمن البين خلافه، فإن الوضع
في المجاز كأوضاع الحقائق يقضي بصحة الاستعمال مطردا على حسب الوضع.
وأنت خبير بأنه ليس المراد به شيئا من الأمرين المذكورين، بل المقصود من
عدم اطراد المجاز عدم اطراد الاستعمال في المعنى الذي فرض استعماله فيه على
سبيل المجاز في بعض المقامات بالنسبة إلى غير ذلك من موارد الاستعمال.
وتوضيح المقام حسب ما مرت الإشارة إليه أن الأمر في العلائق دائر مدار
قبول العرف وعدم استهجان الاستعمال في المخاطبات، وذلك مما يختلف بحسب
المقامات اختلافا بينا بالنسبة إلى اللفظ الواحد والمعنى الواحد، فيصح استعماله
فيه في مقام دون آخر، ألا ترى أنه يصح استعمال " القرية " في أهلها عند تعلق
السؤال، ولا يصح ذلك عند تعلق الجلوس أو البيع أو الشراء أو الضحك ونحوها
مع وجود تلك العلاقة بعينها، وكذا الحال في استعمال " النهر " في مائه فإنه يصح
265

عند تعلق الجريان أو الوقوف أو نحوهما به، تقول: جرى النهر أو وقف النهر،
ولا يصح أن تقول: جمعت النهر أو أخرجت النهر إذا جمعت ماءه أو أخرجت
الماء منه، ونحوه استعمال الرقبة في الانسان في مقام تعلق الرق أو العتق به
واستعمال اليد فيه في مقام الأخذ أو الإعطاء دون سائر المقامات إلى غير ذلك.
فيستعلم من عدم الاطراد على الوجه المذكور انتفاء الوضع للمعنى المفروض
وكون الاستعمال من جهة العلاقة، إذ لو تحقق الوضع له لم يتخلف عنه صحة
الاستعمال، وأما مع انتفائه فيصح التخلف لاختلاف الحال في العلاقة بحسب
المقامات والمتعلقات في شدة الارتباط وضعفه، واستحسان العرف لاستعماله فيه
واستقباحه.
فما ذكره من أنه مع تحقق العلاقة والإذن لا يمكن التخلف، إن أراد به أنه إذا
تحققت العلاقة مع الخصوصية الملحوظة في الإذن لم يمكن أن يتخلف عنه صحة
الاستعمال، ففيه - مع ما فيه من المناقشة إذ لا مانع إذن من قضاء الإذن العام بجواز
الاستعمال ووقوع المنع الخاص من استعماله في خصوص بعض الصور فيقدم
الخاص على العام، فالإذن العام ليس إلا مقتضيا للصحة، ووجود المقتضي إذا
قارن وجود المانع لم يعمل عمله - أنه غير مفيد في المقام، إذ عدم إمكان التخلف
لا يجدي فيما هو بصدده لاختلاف الخصوصية الملحوظة في الوضع بحسب
اختلاف المقامات والمتعلقات فيصح الاستعمال في بعضها دون آخر، فلا يلزمه
الإطراد على ما هو المقصود في المقام وإن اطرد على حسب الترخيص الحاصل
من الواضع، فليس المراد بعدم اطراد المجاز كونه مجازا مع عدم صحة الاستعمال،
بل المدعى أن المعنى الذي لم يوضع له اللفظ واستعمل فيه على سبيل المجاز قد
لا يكون جواز الاستعمال فيه مطردا، بأن لا يكون العلاقة المصححة للاستعمال
فيه في مقام مصححة له في سائر المقامات، لما عرفت من اختلاف الحال فيه
بملاحظة موارد الاستعمال، ولذا يصح استعمال اللفظ في معنى مخصوص في
بعض المقامات دون غيره كما عرفت.
266

ومع الغض عن ذلك كله نقول: إنه قد يكون المعنى المستعمل فيه مشتملا على
صنف العلاقة المعتبرة في مقام دون آخر فيجئ فيه عدم الاطراد من الجهة
المذكورة، فلا منافاة بين القول باطراد العلائق في مواردها وعدم حصول الإطراد
في جواز الاستعمال بالنسبة إلى خصوص المعاني، نظرا إلى اختلاف أحوالها في
الاشتمال على العلاقة وعدمه، فحينئذ لا مانع من القول بعدم حصول الإطراد في
المجازات، نظرا إلى ذلك فيتعرف به حال المعنى كما هو المقصود في المقام،
وهو ظاهر.
هذا، والوجه في الوقف عدم حصول الإطراد في بعض الحقائق لمانع
خارجي فيحتمل ذلك في موارد استعمال اللفظ، ومع قيام هذا الاحتمال لا يتم
الاستدلال به على انتفاء الوضع. ودعوى الغلبة بحيث تفيد المظنة محل إشكال.
وأنت خبير بأن انتفاء الإطراد في بعض الحقائق على فرض صحته في غاية
الشذوذ والندرة، فلا ينافي إفادة تلك الأمارة للمظنة، على أنه غير متحقق
الحصول في شئ من الحقائق حسب ما مرت الإشارة إليه.
والوجه في التفصيل أما بالنسبة إلى دلالته على نفي الوضع النوعي فظاهر،
لاعتبار الإطراد فيه قطعا، وأما بالنسبة إلى عدم إفادته نفي غيره من الأوضاع
فلاحتمال أن يكون عدم الإطراد من جهة اختصاص الوضع بما يصح الاستعمال
فيه من المعنى المفروض من غير تعدية إلى غيره فلا يفيد انتفاء الوضع، فلو علم
انتفاء الوضع الشخصي بخصوصه ودار الأمر في اللفظ بين أن يكون موضوعا
بالوضع النوعي أو مجازا دل عدم الإطراد على الثاني، كما هو الحال في الأفعال
والمشتقات.
وأنت بعدما عرفت ما قررناه في بيان معنى الإطراد تعرف وهن هذا الكلام،
لظهور دلالته حسب ما بينا على انتفاء الوضع بالنسبة إلى المعنى الذي ثبت فيه
نوعيا كان أو شخصيا من غير فرق حتى أنه يفيد انتفاء الأوضاع الجزئية أيضا.
ثم إن ما قرره على فرض تسليمه غير جار بالنسبة إلى الأوضاع الكلية.
267

وقد أجاب عنه بأنه لما كان الوضع الشخصي حاصلا على كل من الوجهين
ولم يكن ملازما لكلية الوضع أو الموضوع له قام في نظر الجاهل احتمال كون
اللفظ هناك موضوعا بالوضع الخاص لبعض أفراد ذلك الكلي فلا يطرد في الكل.
وهو كما ترى، إذ غاية ما يفيده الاحتمال المذكور اختصاص الوضع ببعض
أفراد المعنى الملحوظ، وأين ذلك مما هو المقصود من دلالته على انتفاء الوضع
بالنسبة إلى ذلك المعنى الكلي الملحوظ في ذلك المقام، فالمقصود دلالة عدم
الإطراد على انتفاء الوضع بالنسبة إلى المعنى الذي لا يطرد الاستعمال بالنسبة
إليه، لا بالنظر إلى غيره ولو كان جزئيا من جزئيات ذلك المعنى، وهو واضح، ومع
الغض عنه فقد يعلم في خصوص المقام انتفاء الوضع الخاص فينحصر الأمر بين
كونه مجازا فيه أو موضوعا بالوضع العام فيحكم بالأول، نظرا إلى عدم الاطراد
حسب ما ذكره في دلالته على نفي الوضع النوعي. فتأمل.
هذا ملخص الكلام في الأمور المثبتة للوضع أو النافية له.
وقد ذكر في المقام أمور اخر لإثبات الوضع ونفيه، وهي ما بين مزيف أو
راجع إلى ما قلناه أو مفيد لذلك في بعض صوره في موارد نادرة فلا بأس بالإشارة
إليها ليتبين حقيقة الحال فيها.
منها: التقسيم، فإنه يفيد عند بعضهم كون اللفظ حقيقة في المقسم الجامع بين
تلك الأقسام إذا وقع في ذلك كلام من يعتد به من أهل اللغة أو العرف العام أو
الخاص، وبالجملة يفيد كونه حقيقة في ذلك في عرف المقسم سواء كان المقسم
لغويا أو غيره.
والمراد بالقدر الجامع بين الأقسام هو المفهوم الصادق على كل منها، سواء
كان صدقا ذاتيا أو عرضيا أو مختلفا، فلا دلالة فيه على كون المقسم هو تمام
المشترك بين مفهوم كل من القسمين اللذين يرد القسمة عليهما، ولا بعض المشترك
بينهما، بل قد يكون خارجا عن حقيقة كل منهما أو أحدهما، إلا أنه لا يخلو الواقع
عن إحدى الصور المذكورة كما في تقسيم الحيوان إلى الانسان والفرس، وتقسيمه
268

إلى الانسان والطائر وإلى الأسود والأبيض، وتقسيم الجسم كذلك.
نعم، لا بد من اشتراكه في مصاديق الأقسام، ضرورة قضاء القسمة بصدق
المقسم عليها فلا دلالة في القسمة على اشتراك المقسم بين الأقسام زيادة على
ذلك، وهو معنى ما قيل من اعتبار مفهوم المقسم في الأقسام، فإن تقسيم الحيوان
إلى الأسود والأبيض إنما يفيد ثبوت معنى الحيوان في مصاديق كل من القسمين،
فلو عبر عن تلك الأقسام من حيث كونها قسما للحيوان يعبر عنها بالحيوان
الأبيض والحيوان الأسود، وليس مفاد ذلك اعتبار مفهوم الحيوان في الأبيض
والأسود اللذين وقع التقسيم عليهما، وهو ظاهر.
ثم إن المختار عند جماعة منهم العلامة (رحمه الله) وابنه فخر الاسلام دلالة التقسيم
على كون المقسم حقيقة في الأمر الشامل لتلك الأقسام.
والمذكور في كلام آخرين أن التقسيم أعم من ذلك وأنه لا دلالة فيه على
الحقيقة نصوا عليه في طي مباحث الأصول عند إبطال الاحتجاج بالقسمة على
وضع اللفظ للأعم، ويمكن أن يستدل للأول بوجوه:
أحدها: أن ذلك هو الظاهر من إطلاق اللفظ، فإن قضية التقسيم كما عرفت
إطلاق المقسم على المعنى الأعم، والظاهر من الإطلاق الحقيقة فيكون التقسيم
واردا على معناه الحقيقي، ويكون ذلك إذن شاهدا على عمومه وإطلاقه.
وأنت خبير بأن ذلك حينئذ راجع إلى دلالة الاستعمال على الحقيقة، لكون
الأصل فيه ذلك، وقد عرفت أن الحق فيه هو الدلالة على الحقيقة في متحد المعنى
دون متعددة فلو ثبت استعماله في غير المفهوم المشترك أيضا لم يصح الاستناد
إلى التقسيم ومع عدمه لا يكون ذلك دليلا آخر وراء الأصل المذكور. نعم يكون
محققا لموضوعه حيث يثبت به الاستعمال في الأعم.
ثانيها: ظهور الحمل في ذلك، فإن قضية التقسيم هو حمل كل من القسمين على
المقسم، والمستفاد من الحمل في العرف كون عنوان الموضوع صادقا على سبيل
الحقيقة على مصداق المحمول، بمعنى كون مصداق المحمول مصداقا للموضوع
269

بالنظر إلى معناه الحقيقي إن كان الحمل شائعا كما هو المفروض في المقام.
وفيه: أنه إن كان الظهور المذكور من جهة استعماله في المقام فيما يصدق
على ذلك فهو راجع إلى الوجه الأول، وإن كان استظهاره من جهة دلالة الحمل
بنفسه عليه ففيه أنه إنما يدل على كون الحمل حقيقيا لا ادعائيا كما يتفق في بعض
الصور في نحو قولك: " زيد أسد " على وجه، فإن الحمل هناك خارج عن حقيقته.
وأما أن المراد بالموضوع هو معناه الحقيقي فلا يستفاد من الحمل.
نعم، إن كان المقام مقام بيان حقيقة اللفظ أو بيان مصداقه الحقيقي أفاد ذلك،
إلا أنه حينئذ مستفاد من ملاحظة خصوصية المقام لا من مجرد الحمل، فيدل في
الأول على كون المحمول هو نفس ما وضع له اللفظ وفي الثاني على صدق معناه
الحقيقي عليه، إلا أنه خارج عن محل الكلام.
كيف! ولو كان مطلق الحمل دليلا على الحقيقة لما جعلوا عدم صحة السلب
علامة عليها بل اكتفوا مكانه بصحة الحمل، فإن في تركهم ذلك واعتبارهم مكانه
لعدم صحة السلب دلالة ظاهرة على أن الحمل يقع على الوجهين ويصح بظاهره
في الصورتين، بخلاف عدم صحة السلب.
ويومئ إلى ذلك أن إطلاق اللفظ على معناه المجازي بمنزلة حمله عليه حملا
ذاتيا بالنظر إلى المفهوم الذي استعمل اللفظ فيه وحمله شائعا بالنسبة إلى الفرد
الذي أطلق عليه، كما في استعمال الأسد في مفهوم الشجاع وإطلاقه على زيد، فلو
كان الحال على ما ذكر لكان مطلق الاستعمال دليلا على الحقيقة، وقد عرفت
ما فيه.
فإن قلت: أي فرق بين عدم صحة السلب وصحة الحمل حال الخلو عن
القرائن مع أن ظاهر اللفظ حينئذ حمله على حقيقته في المقامين، فكما أن عدم
صحة السلب إذن يفيد عدم صحة سلب معناه الحقيقي عنه كذا يفيد صحة الحمل
حمل معناه الحقيقي عليه، فيتحد المفاد فيهما.
قلت: الفرق بينهما أن نفس ملاحظة الموضوع قد تكون قرينة على إرادة
270

المعنى المجازي في المحمول أو بالعكس، فإن كون الموضوع هو البليد في قولك:
" البليد حمار " شاهد على إرادة المعنى المجازي من الحمار، لعدم إمكان حمله
عليه إلا بذلك الاعتبار، فبتلك الملاحظة يصح حمله عليه وإن صح مع ذلك سلبه
عنه أيضا، فمجرد صحة الحمل لا ينهض دليلا على الوضع، نعم قد يفيد ذلك
بملاحظة ما ينضم إليه في خصوص المقام ولا كلام فيه، وهذا بخلاف عدم صحة
السلب، فإن نفس ملاحظة الموضوع والمحمول هناك لا تقضي بصرف اللفظ عن
ظاهره والمفروض خلو المقام عن القرينة فيكون المحكوم بعدم صحة سلبه عنه
هو معناه المنصرف إليه عند الإطلاق وليس إلا معناه الحقيقي في نفس الأمر.
فتأمل.
ومما قررنا يظهر ضعف ما ربما يظهر من بعض الأفاضل من دلالة الحمل على
الحقيقة، ومع الغض عن ذلك فلو قلنا بدلالة الحمل على الحقيقة كان ذلك في نفسه
أمارة عليها فلا ربط له بدلالة التقسيم على الحقيقة كما هو الملحوظ في المقام.
ثالثها: أن الغالب في التقسيمات وقوع القسمة بملاحظة المعنى الحقيقي،
فالظن يلحق المشكوك بالأعم الأغلب.
وفيه تأمل، إذ لا بد في الغلبة المعتبرة في أمثال المقام أن تكون بحيث تفيد
ظنا بالمرام، لدوران الأمر في الأوضاع مدار الظن وكونها في المقام على النحو
المذكور غير واضح، وما ذكر من أن الظن يلحق المشكوك فيه بالأغلب ليس
على إطلاقه.
نعم، قد يستفاد من التقسيم ظن بذلك بعد ملاحظة خصوصية المقام وهو كلام
آخر، وحينئذ فلا مانع من الاستناد إليه في ذلك المقام.
ثم إن ما ذكرناه من دلالة التقسيم على الحقيقة وعدمها إنما هو بالنسبة إلى
تقسيم العام المنطقي إلى جزئياته كما هو ظاهر كلام الجماعة، والظاهر جريان
الكلام المذكور بالنسبة إلى تقسيم الكل إلى أجزائه وتقسيم العام الأصولي إلى
جزئياته، فيفيد ذلك بناء على ظهور القسمة في تعلقها بالمعنى الحقيقي اعتبار
271

كل من الأجزاء المفروضة في المسمى واندراجه في الموضوع له اندراج الجزء
في كله بالنسبة إلى الأول، واندراج كل من تلك الجزئيات فيه إندراج الخاص
تحت العام الأصولي في الثاني، فيفيد وضع اللفظ المتعلق للعموم لما يعم الأقسام
المفروضة.
ومنها: أصالة الوضع للقدر المشترك إذا وجد اللفظ مستعملا في معنيين أو
أزيد وكان هناك معنى جامع بين المعنيين أو المعاني المفروضة صالح لتعلق
الوضع به، فالمختار عند بعضهم جواز الاستناد إليها، ولذا وقع الاحتجاج بها في
جملة من المباحث الآتية، وهو المحكي عن الفاضلين والرازي والبيضاوي.
وصرح جماعة بالمنع منه، كما هو ظاهر آخرين.
حجة الأول أنه لو قيل بوضعه لواحد منها دون الباقي لزم المجاز، وإن قيل
بوضعه للكل لزم الاشتراك، وكل من الأمرين مخالف للأصل فلا بد من القول
بوضعه للقدر المشترك خاصة حتى يقوم الدليل على خلافه.
ويرد عليه أن القول بوضعه للقدر المشترك يقضي بكونه مجازا في كل من
قسميه أو أقسامه فيلزم زيادة المجاز.
وأجيب عنه بأن تعدد المجاز لازم على تقدير اختصاص الوضع بواحد من
القسمين أو الأقسام أيضا إذا فرض استعماله في القدر المشترك.
وفيه: أن التساوي كاف في الإيراد، على أنه قد يرجح ارتكاب التجوز في
القدر المشترك، لقلة استعماله فيه بحيث يعلم عدم إرادة خصوص واحد من
القسمين أو الأقسام.
ويمكن أن يقال: إن وضعه للقدر المشترك كاف في كون إطلاقه على كل من
الأقسام على سبيل الحقيقة، إذ لا حاجة إلى ملاحظة الخصوصية في الاستعمال
حتى يلزم المجاز، بخلاف ما إذا قيل بوضعه لخصوص أحد الأقسام، فإن استعماله
في الباقي أو في القدر المشترك لا يكون إلا على سبيل المجاز، فلا يلزم القول
بحصول التجوز في شئ من الاستعمالات بناء على الوجه الأول، لامكان
272

تصحيحه على وجه الحقيقة حسب ما قررناه.
ويدفعه أن ذلك إثبات اللغة بالترجيح من غير رجوع إلى التوقيف. نعم لو ثبت
استعماله في القدر المشترك أمكن الحكم بثبوت الوضع له من جهة الأصل
على بعض الوجوه.
وتوضيح المقام: أن كلا من استعمال اللفظ في القدر المشترك وخصوص كل
من المعنيين أو أحدهما إما أن يكون معلوما، أو لا يعلم شئ منهما، أو يكون
الأول معلوما دون الثاني، أو بالعكس.
فعلى الرابع لا وجه للقول بكونه حقيقة في القدر المشترك مع فرض عدم
ثبوت استعماله فيه رأسا وإن احتمل جريان الاستعمالات على إرادته في كثير من
المقامات، إذ مجرد الاحتمال غير كاف فيه، والاستناد إلى الوجه المذكور تخريج
محض لا معول عليه في باب الأوضاع، مضافا إلى استلزامه للمجاز أيضا.
وكذا الحال في الأول والثاني، إذ ليس الرجوع إلى ما ذكر استنادا إلى النقل
ولا إلى ما يستظهر منه حصول الوضع كما هو معلوم بملاحظة الوجدان.
نعم، لو فرض حصول ظن في المقام أمكن القول بصحة الاستناد إليه في
الجميع كما إذا أطلق على معاني عديدة متكثرة مشتركة في أمر جامع ظاهر يقرب
جدا وضعه بإزاء ذلك الجامع، فيكون إطلاقه على كل من تلك المعاني من جهة
حصوله في ضمنه، فإن التزام وضعه إذن لكل من تلك المعاني بعيد جدا، لما فيه
من لزوم التكثر في الاشتراك المشتمل على زيادة المخالفة للأصل الحاصلة في
أصل الاشتراك، مضافا إلى ندرة وقوعه في الأوضاع فبملاحظة اشتراكها في ذلك
الجامع الظاهر يرجح في النظر تعلق الوضع به.
وبعد حصول الظن من ملاحظة جميع ما ذكرنا بوضعه للقدر المشترك
لا إشكال في الحكم به، وأما مجرد ما تقدم من الوجه فليس قاضيا بحصول الظن،
ومع عدم إفادته الظن لا عبرة به.
وظاهر بعض الأفاضل التوقف في الترجيح في الصورة الثانية لكنه نفى البعد
273

عن ترجيح الاشتراك المعنوي في الصورة الأولى، نظرا إلى أن الغالب في الألفاظ
المستعملة في المعنيين أن يكون حقيقة في القدر المشترك.
وفيه - بعد تسليمه -: أن بلوغ الغلبة إلى حد يورث المظنة محل تأمل ثم
لو كان قاضيا بحصول الظن فلا وجه للتوقف في الصورة الثانية، بل الحكم به هناك
أولى، إذ لا حاجة فيها حينئذ إلى الالتزام بالتجوز في شئ من استعمالاته بخلاف
الصورة الأولى، للزوم التجوز فيما ورد من استعماله في خصوص كل من المعنيين
أو أحدهما.
وأما الصورة الثالثة فلا يبعد فيها القول بالوضع للقدر المشترك، نظرا إلى
ثبوت استعماله في المعنى الواحد من غير ظهور استعماله في غيره، فقضيته البناء
على أصالة الحقيقة مع اتحاد المعنى في الظاهر، وعدم ظهور التعدد على ما مر
الكلام فيه هو البناء على ثبوت الوضع له، فالأصل المذكور المؤيد بما ذكر هو
المستند فيه إن صح الأخذ به مطلقا أو مع إفادته الظن به كما هو الغالب فيه،
لا مجرد مرجوحية المجاز والاشتراك كما هو مبنى الكلام في المقام.
ومنها: أنه إذا قيد اللفظ في الاستعمالات بقيدين مختلفين دل ذلك على
وضعه للقدر المشترك بينهما، حذرا من التأكيد المخالف للأصل والتناقض.
والأولى ذكر المجاز مكانه بل ضم الاشتراك إليهما أيضا إذا قام احتماله في
المقام، والمستند فيه راجع إلى المستند في الوجه المتقدم.
وقد عول بعضهم عليه في الاحتجاج على بعض المباحث الآتية كما يأتي
الإشارة إليه، وحكي البناء عليه من العلامة (رحمه الله) في التهذيب وغيره. ومنع منه
آخرون، كما يأتي في كلام المصنف (رحمه الله) عند استناد البعض إليه.
والوجه فيه: شيوع وقوع كل من التأكيد والتجوز والاشتراك في الكلام،
فلا يفيد مجرد لزوم ذلك ثبوت الوضع للأعم كما مرت الإشارة إليه.
وتحقيق المقام: أن الأوضاع اللفظية من الأمور التوقيفية المبتنية على توقيف
الواضع أو ظهور الوضع من ملاحظة لوازمه وآثاره وتتبع موارد الاستعمالات،
274

فإثبات الوضع للمعنى ابتداء بمجرد هذه الوجوه ونحوها غير متجه على سبيل
الإطلاق، سيما مع كون التقييد حاصلا في كثير من المقامات شائعا في الإطلاقات
وما سيجئ الإشارة إليه من الاستناد إلى أمثال ذلك في مسائل الدوران ليس
بالنسبة إلى إثبات نفس الأوضاع وإنما هو بالنظر إلى الحكم باستمرارها أو نفيها
حسب اختلاف المقامات من جهة إفادتها الظن في ذلك المقام، أو بالنظر إلى
معرفة حال العبارة من جهة ورود الطوارئ عليها، أخذا بظواهر الأحوال، وما
جرى عليه الناس في مكالماتهم ومخاطباتهم حسب ما يأتي الإشارة إليه إن شاء
الله تعالى، وليس الحال في إثبات نفس المعاني مع عدم ثبوت الوضع لها كالحال
في ذلك، بل لا بد من إثباتها بالطرق المقررة لها، ومجرد ملاحظة هذه الأصول
لا يفيد ظنا في الغالب بتعين نفس المعنى الذي وضع اللفظ له.
فالتمسك بالوجوه الدائرة في مباحث الدوران في إثبات نفس المعاني غير
سديد، كما إذا أريد إثبات كون الصلاة حقيقة فيما يعم صلاة الأموات بأنا لو قلنا
بوضعها للأعم كان إطلاق الصلاة على صلاة الأموات في الاستعمالات الشائعة
حقيقة، وإذا قلنا بكونها حقيقة في خصوص ذوات الركوع والسجود كانت تلك
الاستعمالات كلها مجازا، أو لزم القول بالاشتراك، وهما خلاف الأصل، إذ ليس
ذلك إلا من قبيل الاستناد إلى التخريجات العقلية في إثبات الأمور التوقيفية، ولذا
لا يفيد ظنا بالمرام في هذا المقام، بخلاف المقام المذكور في الدوران، وسنشير إن
شاء الله إلى أنه لا حجية فيها هناك أيضا مع عدم إفادتها الظن في خصوص بعض
المقامات، إذ المرجع في مباحث الألفاظ هو الظن دون التعبد فلو فرض حصول
ظن في المقام بملاحظة الخصوصيات الحاصلة في بعض المقامات اتجه الاستناد
إلى ما ذكر من وجدانه مقيدا بالقيدين، كما إذا شاع تقييد اللفظ بكل منهما على
نحو واحد بحيث ظهر من ملاحظة الاستعمالات كون مدلول اللفظ هو الأعم جاز
الاسناد إليه من جهة الظهور المذكور، لا من مجرد أصالة عدم التأكيد أو المجاز
ونحوهما. فتأمل.
275

ومنها: حسن الاستفهام، فقيل: إنه يدل على اشتراك اللفظ بين المعنيين اللذين
يستفهم عنهما اشتراكا لفظيا أو معنويا، وقد يرجح الثاني بمرجوحية الاشتراك
اللفظي، ويمكن ترجيح الأول بدعوى ظهور حسن الاستفهام في إجمال اللفظ من
جهة تعدد المعنى، وإلا لجاز الأخذ بكل من الوجهين في مقام التكليف من غير
حاجة إلى السؤال، وهو ظاهر السيد (رحمه الله) حيث استدل بذلك في بعض المباحث
الآتية على ما ذهب إليه من القول بالاشتراك اللفظي.
نعم، إن كان حسن الاستفهام في مقام الإخبار أمكن ترجيح الأول من جهة
الأصل المذكور، سيما إذا لم يستحسن ذلك في مقام التكليف فإنه يتعين معه
البناء عليه.
والحق أنه لا يدل على شئ من ذلك، فإن حسن الاستفهام إنما يفيد عدم
صراحة اللفظ في أحد الوجهين المذكورين ولو بقيام احتمال التجوز ونحوه، فلا
يفيد إلا قيام الاحتمال في المقام الباعث على حسن الاستفهام ولا دلالة فيه على
إثبات الوضع أصلا.
ومنها: صحة الاستثناء، فإنها تفيد وضع اللفظ للعموم فيما إذا شك في وضعه
له، وكذا تفيد وضع اللفظ بنفسه لما يعم المستثنى إذا صح الاستثناء منه بعد تصديره
بأداة العموم، إذ لولا ذلك لم يندرج فيه بعد تصديره بها فإنها إنما تفيد تعميم اللفظ
لما يتناوله بحسب الوضع دون غيره، ويمكن استناد الأمرين منها إذا كان الشك
فيهما.
فنقول في كل من الصورتين المذكورتين: إنه لولا شمول اللفظ لما يعم
المستثنى لما صح استثناؤه، فإنه موضوع لإخراج ما يتناوله اللفظ، لوضوح كونه
مجازا في المنقطع إذ لا اخراج هناك بحسب الواقع، ولذا اشتهر بينهم أنه موضوع
لإخراج ما لولاه لدخل في المستثنى منه.
وربما يعتبر في المقام صحته مطردا حذرا عما لو صح في بعض المقامات،
لجواز أن يكون ذلك لانضمام بعض القرائن.
276

وقد يفصل بين المقامين بأن يقال بإثباته دلالة اللفظ على نفس الشمول
والعموم مع ظهور المعنى الذي تعلق العموم به على فرض ثبوته دون إثبات وضع
اللفظ لما يعم المستثنى، فإنه إذا علم نفس المعنى المتعلق للشمول وشك في
عمومه كان صحة الاستثناء منه مطردا دليلا على الشمول لابتناء الاستثناء عليه،
إذ لا يتعلق بغير ما يفيد العموم إلا على سبيل الندرة.
وأما إذا علم إفادته الشمول وشك في مفاد الأمر المشمول - أعني المستثنى
منه - فإن صحة الاستثناء منه يدل على اندراج ذلك فيه، وملاحظة المعنى الشامل
لذلك هناك، فأقصى ما يفيده استعماله فيما يعم ذلك. ومجرد الاستعمال أعم من
الحقيقة ولو كان مجازا فالاستثناء المفروض كاف في الدلالة عليه وكونه قرينة
لإرادته، ولا يلزم حينئذ أن يكون الاستثناء منقطعا، ضرورة اندراج المستثنى في
المستثنى منه في ظاهر المراد، كما إذا قيل: " تحذر من الآساد إلا زيدا " فإنه قرينة
على إرادة الرجل الشجاع أو ما يعمه من لفظ " الأسد " فصحة الاستثناء حاصلة
في أمثال ذلك مع انتفاء الحقيقة.
ولا ينافيه كونه لإخراج ما لولاه لدخل، نظرا إلى دخوله فيما أريد من اللفظ
وإن كانت القرينة على دخوله نفس الاستثناء، وهو المخرج عنه أيضا ولا منافاة.
ومما يشير إلى ما قلناه أن صحة الاستثناء لا يزيد على صحة الحمل بحسب
العرف، فكما لم يجعلوا ذلك أمارة على الحقيقة لاحتمال كون المراد من اللفظ
المحمول معناه المجازي فكذا الحال في صحة الاستثناء، لقيام احتمال كون المراد
بالمستثنى منه ما يشمل ذلك مجازا ليصح الإخراج، وهذا بخلاف إفادته دلالة
المستثنى منه على العموم كما أشرنا إليه، ولذا جروا عليه في هذا المقام دون المقام
المذكور.
ويشكل بجريان هذا الكلام بعينه في المقام الأول أيضا، إذ غاية ما يتوقف
عليه صحة الاستثناء على سبيل الحقيقة إرادة العموم من المستثنى منه، كما هو قضية
حده حسب ما ذكر في الاستدلال، وأما كون تلك الإرادة على سبيل الحقيقة فلا،
277

حسب ما أشير إليه في الصورة المذكورة.
توضيح ذلك: أن هناك وجوها ثلاثة:
أحدها: أن لا يكون المستثنى منه مستعملا في العموم، وحينئذ يكون
الاستثناء مجازا خارجا عن مقتضى وضعه على ما ذكر في الاحتجاج.
ثانيها: أن يكون مستعملا في العموم لكن على سبيل المجاز، وحينئذ يكون
الاستثناء على حقيقته، إذ المفروض حينئذ اندراج المستثنى في المستثنى منه
وحصول الإخراج بالاستثناء، كما هو مقتضى حده، وخروج المستثنى منه عن
مقتضى وضعه لا يقضي بخروج الاستثناء أيضا.
ثالثها: أن يكون مستعملا في العموم موضوعا بإزائه، وحينئذ لا مجاز في
شئ من الأمرين.
والمقصود في المقام هو الاحتجاج بصحة الاستثناء على ذلك وهو على
فرض صحته إنما يفيد ما يعم الوجهين الأخيرين، وغاية الأمر أن يتمسك حينئذ
في إثبات وضع المستثنى منه للأعم بأصالة الحقيقة بعد ثبوت استعماله في الأعم،
وقد عرفت أنه لا يتم ذلك إلا مع اتحاد المستعمل فيه لا مع تعدده.
ويمكن تتميم الاستدلال حينئذ بوجهين:
أحدهما: أن يقال: إن اطراد صحة الاستثناء دليل على استفادة العموم منه في
سائر استعمالاته، وإلا لم يصح ورود الاستثناء عليه فيما إذا استعمل في غيره،
فلا يكون صحة ورود الاستثناء عليه مطردا هذا خلف، فيكون اطراد صحة
الاستثناء منه دليلا على اتحاد معناه، وحينئذ فلا إشكال في الحكم بأصالة الحقيقة
حسب ما مر.
فإن قلت: إن ورود الاستثناء عليه قاض باستعماله في الخصوص، وهو مغاير
للعموم فيتعدد معناه.
قلت: فرق بين استعماله أولا في الخصوص، وكون الخصوص هو المقصود
منه أخيرا بعد استعمال اللفظ في العموم أولا ليكون قابلا لورود التخصيص عليه،
278

فإن استعماله في الخصوص على الوجه الأول قاض بتعدد المعنى قطعا، وأما على
الوجه الأخير فلا سواء أدرجنا التخصيص في أقسام المجاز أو لا كما لا يخفى،
فلا تغفل.
نعم، يمكن أن يقال: إن الوجه المذكور لا يفيد كون صحة الاستثناء دليلا على
الوضع وإنما هو دليل على جعل اللفظ من مورد إجراء الأصل المذكور، فالدليل
على الوضع حينئذ هو الأصل.
إلا أن يوجه بأنه لما كان سببا بعيدا في إثبات الوضع أسند ذلك إليه،
ولا مشاحة فيه بعد ظهور المراد. ولا يخلو عن تكلف.
ثانيهما: أن قبول مدلول اللفظ للاستثناء على سبيل الاطراد شاهد على وضع
اللفظ للعموم، إذ لولا وضعه له لكان استفادته منه متوقفا على قيام القرينة عليه
فلا يصح الاستثناء منه إلا بعد قيامها هذا خلف، والقول بكون نفس الاستثناء قرينة
عليه، مدفوع بأنه إنما يصح جعله قرينة عند وجوده، وأما مجرد صحة وروده عليه
فلا يعقل أن يكون قرينة عليه، بل هو شاهد على كون المعنى في نفسه قابلا لذلك
ولا يمكن أن يكون كذلك إلا مع وضعه للعموم، إذ لو كان موضوعا لغيره فقط
أو مشتركا بينه وبين غيره لم يطرد صحة ورود الاستثناء عليه، لتوقفها على إرادة
العموم أولا كما عرفت.
وقد يجري التقرير المذكور بالنسبة إلى صحة الحمل في دلالتها على الحقيقة
فيفرق إذن بين مطلق صحة الحمل وكون اللفظ مع إطلاقه قابلا للحمل لتوقف ذلك
إذن على قبول معناه الحقيقي له. فتأمل.
هذا، ويشكل الحال في الاستناد إلى ذلك في المقام الأول بأن أقصى ما يفيده
صحة الاستثناء حينئذ هو استفادة العموم من المستثنى منه، سواء كان إفادته ذلك
على سبيل الوضع أو بالالتزام من جهة العقل، لصحة الاستثناء حقيقة على كل من
الوجهين، كما في: أكرم كل رجل إلا زيدا، أو ما جاءني أحد إلا زيد، فإن شمول
الأول للآحاد من جهة وضعه له، والثاني من جهة دلالته على نفي الطبيعة
279

المستلزمة (1) لنفي آحادها، فالاستناد إليه في المثال على الوضع للعموم ليس
في محله.
نعم، لو انحصر الأمر في دلالته على العموم على وضعه له كما في لفظة " كل "
ونحوها أمكن الاستناد إليه في إثباته.
ومنها: اختلاف جمعي اللفظ بحسب معنييه مع ثبوت كونه حقيقة في أحدهما،
فإن ذلك دليل على كونه مجازا في الآخر كالأمر، فإنه يجمع بملاحظة إطلاقه على
القول المخصوص المعلوم وكونه حقيقة فيه على " أوامر " وبملاحظة إطلاقه على
الفعل على " أمور " فيستفاد من الاختلاف المذكور كونه مجازا في الثاني، إذ
لولا ذلك لما اختلف الجمع بحبسهما، فان اختلافه بالنسبة إليهما دليل على
اختلاف حال اللفظ بالنظر إليهما، ولو كان موضوعا بإزاء كل منهما لم يؤثر ذلك
اختلافا في اللفظ بملاحظة كل منهما وإنما يترتب عليه اختلاف المسمى
والاختلاف في الجمع يترتب على اختلاف في حال اللفظ وهو غير حاصل،
إلا مع كونه مجازا في الآخر. كذا يستفاد من الآمدي في الإحكام.
وهو من الوهن بمكان، إذ لا مانع من اختلاف جموع المشترك بحسب
اختلاف معانيه، كما أشار إليه العلامة (رحمه الله) في النهاية، فإن أريد باعتبار اختلاف
حال اللفظ في اختلاف جموعه ما يعم ذلك فممنوع ولا يثبت المدعى، وإن أريد
به غير ذلك فهو غير بين ولا مبين، ومع الغض عنه فعدم حصوله إلا من جهة
الاختلاف المذكور غير ظاهر أيضا بل الاختلافات اللفظية ككونه اسما في وجه
ومصدرا في آخر أولى في البعث على ذلك.
ثم بعد تسليم ذلك فلا فرق بين ما إذا علم وضعه لخصوص أحد المعنيين
أو لا، فإن الوجه المذكور على فرض صحته ينفي احتمال الاشتراك ويعين كونه
مجازا في أحدهما، غاية الأمر أن لا يتميز خصوص معناه الحقيقي عن المجازي
فلا داعي إلى اعتبار العلم بكونه حقيقة في خصوص أحدهما.

(1) كذا والمناسب المستلزم.
280

إلا أن يقال: إنه لا يترتب على نفي الاشتراك مع الجهل بخصوص الموضوع له
وغيره فائدة يعتد بها فلذا خصه بالصورة الأولى.
ثم إنه قد يقال بأن اختلاف الجمع دليل على عدم وضع اللفظ للقدر المشترك
بين المعنيين، إذ مع اتحاد المعنى لا وجه لاختلاف الجمع بحسب اختلاف قسميه،
فلو علم كون إطلاقه على أحد المعنيين حقيقيا ولم يعلم حال الآخر أمكن إذن
دفع احتمال وضعه للقدر المشترك باختلاف جمعه حسب إطلاقيه، فيحكم حينئذ
بكونه حقيقة في خصوص المعنى المذكور فيكون مجازا في الآخر، لكونه أولى
من الاشتراك، فالحاصل من ملاحظة الاختلاف في الجمع هي المعرفة بعدم وضعه
للقدر المشترك بين المعنيين، وإنما يثبت كونه حقيقة في خصوص أحد المعنيين
من جهة العلم بكون إطلاقه عليه على سبيل الحقيقة وكونه مجازا في الآخر من
جهة مرجوحية الاشتراك.
وهذا الوجه أولى مما ذكره الآمدي، إلا أنه لا دلالة فيه على الوضع لخصوص
شئ من المعنيين، ولا على نفي الوضع بالنسبة إلى شئ منهما وإنما استفيد وضعه
لأحدهما بملاحظة الخارج، وحكم بنفي الوضع للآخر من جهة أصالة عدم
الاشتراك فليس ذلك من الرجوع إلى الأمارة في شئ.
نعم، يمكن أن يعتبر ذلك أمارة لعدم وضعه للقدر المشترك، وقد عرفت أن
لذلك مدخلا في إثبات وضعه لخصوص أحد المعنيين، فقد يعد بملاحظة ذلك من
أمارة المجاز بل الحقيقة أيضا.
ويمكن أن يقال بأن اختلاف الجمع ظاهر في اشتراك اللفظ وتعدد معناه على
عكس ما ادعاه الآمدي، إذ لم يعهد للألفاظ بملاحظة معانيها المجازية جمع
مخصوص وكما يجوز التوسع في المفرد بإطلاقه على غير ما وضع له فلا مانع من
جريان ذلك في جمعه أيضا كما هو الغالب، فالتعين المذكور بوضع جمع له
بملاحظة المعنى المفروض شاهد على كونه مما وضع اللفظ له.
وأيضا المفروض ثبوت الوضع بالنسبة إلى الجمع فالمادة أيضا موضوعة في
281

ضمنه فبعد ثبوت الوضع بالنسبة إليها في الجملة وتحقق استعمالها في المعنى
المفروض يستظهر كونه حقيقة فيه أيضا.
على أن الغالب بل المطرد تبعية الجموع لأوضاع المفردات، فتحقق الوضع
في الجمع شاهد على حصوله في مفرده أيضا.
ومنها: التزام التقييد، فإنه دليل المجاز بالنسبة إلى ما يلتزم فيه مثل: جناح
الذل، ونار الحرب ذكره العلامة (رحمه الله) في النهاية وكأنه أراد به غلبة التقييد، لورود
استعمال اللفظين المذكورين في ذلك من دون القيد أيضا.
ودلالته إذن على المجازية لا يخلو عن إشكال، لاحتمال أن يكون ذلك
لتعيين أحد معنيي المشترك.
والأولى في هذا المقام ما ذكره في الأحكام من أنه إذا كان المألوف من أهل
اللغة أنهم إذا استعملوا اللفظ في معنى أطلقوه إطلاقا وإذا استعملوه في غيره قرنوا
به قرينة فإن ذلك دليل على كونه حقيقة في الأول مجازا في الثاني.
والوجه فيه: ظهور الصورة الأولى في استقلال اللفظ بالدلالة والثاني في
توقفه على القرينة، وإنما يكون ذلك في المجاز، ويجري ما ذكره بالنسبة إلى
استعمالات العرف العام والخاص أيضا، والتعليل المذكور على فرض صحته جار
في الجميع.
وربما يتفرع على ذلك كون الماء مجازا في المضاف، إذ لا يستعمل فيه غالبا
إلا مقيدا، وكذا الصلاة بالنسبة إلى صلاة الأموات. وفيه تأمل، لاحتمال تقييد
الوضع في الأول بصورة الإضافة وإن كان المضاف إليه خارجا عن الموضوع
واحتمال كون اللفظ ظاهرا في أحد المعنيين من جهة الغلبة ونحوها فيتوقف
صرفه إلى الآخر على التقييد.
وبالجملة: غاية ما يستفاد من الوجه المذكور ظهور اللفظ في أحد المعنيين
المفروضين وتوقف صرفه إلى الآخر على وجود القرينة وليس ذلك من اللوازم
المساوية للحقيقة والمجاز، إذ قد يكون ذلك من جهة الشهرة والغلبة، أو لكونه
282

الفرد الأكمل ونحوه، كما هو الحال في كثير من المقامات. نعم لو علم انحصار
الطريق أو ظن به في خصوص المقام اتجه الاستناد إلى ذلك.
ومنها: أن يكون إطلاقه على أحد معنييه متوقفا على مقارنته للإطلاق على
الآخر بخلاف العكس، فإن ذلك علامة على كونه مجازا في المتوقف، ذكره في
النهاية والإحكام، وزاد الأخير دلالته على الحقيقة بالنسبة إلى الآخر ومثلوا له
بقوله تعالى: * (ومكروا ومكر الله) * (1).
وهو غير متجه، لنسبة المكر إليه تعالى مكررا من دون المقابلة المذكورة، ولذا
أورد على ذلك بعض الأفاضل بمنع التوقف وعدم تسليم الالتزام، وهو كما ترى
مناقشة في المثال. وإن كان المقصود منع حصول التوقف المذكور مطلقا حتى
يكون منعا لتحقق عنوان المسألة. فليس في محله، لحصول التوقف في بعض
الموارد قطعا كما في قوله: " قالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت: اطبخوا لي جبة
وقميصا " لظهور توقف إطلاق الطبخ على المعنى الأخير على المقابلة، وحينئذ
فدلالته على التجوز متجه إلا أنه مندرج في عدم الاطراد وليس أمارة أخرى
سواه وأما دلالة مجرد عدم توقف استعماله في الآخر على المقابلة على كونه
حقيقة فيه فغير ظاهر.
نعم، يمكن الحكم بكونه حقيقة في ذلك بعد انحصار ما يحتمل الوضع له من
مستعملاته فيه بالنظر إلى أصالة الحقيقة.
ومنها: امتناع الاشتقاق مع كون المعنى صفة قائمة بموصوفه، فإن امتناع
اشتقاق اسم منه لموصوفه مع عدم حصول مانع من الاشتقاق دليل على كونه
مجازا فيه كما في إطلاق الأمر على الفعل، فإنه لا يشتق لمن قام به ذلك الفعل لفظ
الأمر ذكره في الإحكام، ثم أورد على ذلك بانتقاضه بلفظ الرائحة القائم معناه
بالجسم مع عدم صحة الاشتقاق، وأجاب عنه بالمنع، نظرا إلى صحة اشتقاق

(1) سورة آل عمران: 54.
283

المتروح له. وقد نبه على الإيراد المذكور في النهاية، إلا أنه نص على عدم صحة
اشتقاق المتروح.
وأنت خبير بصحة الاشتقاق المذكور ووروده في الاستعمالات، فالظاهر
ما ذكره الآمدي، إلا أن دلالة ما ذكر على التجوز مما لا شاهد عليه، وكفى ما
فرض من عدم صحة الاشتقاق في اللغة مانعا منه، فكيف يفرض انتفاء المانع،
ألا ترى أن العلوم والملكات صفات قائمة بموصوفاتها ولا يصح الاشتقاق من
لفظ الملكة ولا من أسماء العلوم إلا في بعضها كالفقيه والمتكلم.
ولنختم الكلام في المرام بذكر قاعدة في المقام أشار إليها جماعة من الأعلام
وهي: أن كل معنى يشتد الحاجة إلى التعبير عنه بالخصوص ويكثر الاحتياج في
المحاورات إلى بيانه يجب في الحكمة وضع لفظ بإزائه، سواء اخذ ذلك المعنى
على إطلاقه ووضع اللفظ بإزائه ليكون كل من الوضع والموضوع له عاما، أو اعتبر
المعنى المفروض ووضع اللفظ لجزئياته، ليكون الوضع عاما والموضوع له خاصا،
فليس الكلام في خصوصية الوضع وإنما المقصود ثبوت الوضع له في الجملة
وعدم الاكتفاء في بيانه بالمجاز والإشارة ونحوهما، وقد نص على الحكم المذكور
العلامة (رحمه الله) في التهذيب والنهاية، وأطال القول فيه في النهاية في باب العموم
واحتج به في إثبات لفظ العموم، وقد حكى إنكاره عن جماعة منهم السيد والشيخ
والآمدي والعضدي، والأظهر الأول ويدل عليه أمور:
الأول: أن المقتضي للوضع موجود والمانع منه مفقود فيجب تحققه، أما الأول
فلأن الباعث على وضع الألفاظ هو تسهيل الأمر في التعبير عما في الضمير عند
الحاجة إلى التعبير والمفروض ثبوت الحاجة في المقام على الوجه الأكمل، وأما
الثاني فظاهر، لإمكان الفعل في نفسه وقدرة الواضع على إيجاده.
فإن قلت: إن ذلك إنما يتم إذا كان الواضع عالما بشدة الحاجة إليه وكثرة
دورانه بين الناس حتى يكون مقتضيا لوضعه وهو ممنوع.
قلت: إن قلنا بأن الواضع هو الله تعالى فظاهر، وإن قلنا بأنه البشر فلوضوح
284

أن مثل ذلك مما لا يكاد يخفى عليه لمعاشرته للناس ومعرفته بما يحتاجون إليه
في التعبيرات، ففرض جهله بالحال خارج عن مجاري العادات سيما فيما يعم به
البلية ويكثر الحاجة إليه في المخاطبات الدائرة.
الثاني: أن قضية الحكمة عدم إهمال الوضع بالنسبة إلى ما كان كذلك، إذ بعد
البناء على وضع الألفاظ بإزاء المعاني وجعلها آلة للتعبير والإفهام لم يكن إفهامها
إذن بالألفاظ وتوقف على ملاحظة الإشارات وضم القرائن والأمارات، وذلك في
الأمور الدائرة المتداولة مخالف للحكمة الباعثة على وضع الألفاظ.
فإن قلت: إن الواضع لم يهمل وضع الألفاظ بإزاء تلك المعاني بالمرة حتى
يتوقف بيانها إلى التعبير بالإشارة والإفهام بغير اللفظ والعبارة حتى يرد ما ذكرت،
بل وضع جملة من الألفاظ بإزاء معاني خاصة ثم وضعها لكل ما يناسب تلك
المعاني ويرتبط بها ارتباطا مخصوصا بالوضع النوعي الترخيصي، وهو كاف في
إفهامها بالألفاظ وإن افتقر إلى ضم بعض القرائن، كما هو الحال في المشتركات مع
تعلق الوضع التعييني بها، فأي مانع من اكتفاء الواضع فيها بذلك، فالمدعى
هو حصول الوضع التعييني المخصوص بالحقائق، والذي يقتضيه الوجه المذكور
هو ثبوت الوضع على الوجه الأعم.
قلت: لا ريب في أن الحكمة في وضع الألفاظ هو تسهيل الأمر على الناس
في بيان مطالبهم والتعبير عما في ضمائرهم، وقضية ذلك كون الأوضاع المتعلقة
بها تعيينية على ما هو الحال في أوضاع الحقائق اللغوية، إذ هو الطريق الأكمل
والنحو الأسهل في ذلك لما في التعبيرات المجازية من توقف الإفهام على القرينة،
فمع ما فيها من الإطالة قد تخفى القرينة أو يصعب إقامتها في بعض الموارد فيختل
الأمر، ولأجل ذلك كان الاشتراك على خلاف الأصل مع ظهور الفرق بين القرينة
المعتبرة في المجاز والحاصلة في المشترك، إذ ليست القرينة في المشترك باعثة
على الإفهام لحصول الفهم بعد العلم بالوضع كما مر بخلاف المجاز، فإن نفس إفهام
المعنى إنما يجئ من القرينة دون الوضع المتعلق به كما سبق بيانه.
285

نعم، لما كان في المجاز فوائد اخر خاصة زائدة على أصل التعبير عما في
الضمير من محسنات لفظية ومعنوية رخص الواضع فيه أيضا لتكميل المقصود
واختاره (1) على الحقيقة في المحل اللائق به، لا أن يكتفى به عن تعيين اللفظ
للمعنى، لما فيه من المنافاة لما هو أصل الغرض من وضع الألفاظ سيما بالنسبة إلى
المعاني الدائرة والأمور المتداولة. نعم لو كان هناك معنى قل ما يحتاج إلى التعبير
عنه في المخاطبات فربما اكتفي لبيانه بالمجازات.
الثالث: أنا إذا تتبعنا الألفاظ الموضوعة واللغات الدائرة وجدنا المعاني التي
يشتد إليها الحاجة ويكثر دورانها في المحاورة قد وضع الألفاظ بإزائها ولم
يهملها الواضع ليتوقف استعمالها فيها على ملاحظة العلاقة بينها وبين غيرها، فإذا
شك في وضع اللفظ بإزاء معنى من تلك المعاني فالظن يلحق المشكوك بالأعم
الأغلب.
فإن قلت: إنا نجد كثيرا من المعاني التي يشتد الحاجة إليها قد أهمل الواضع
وضع لفظ خاص بإزائها فلا يتم ما ذكر من الاستقراء، فإن أنواع الروائح كرائحة
المسك والعنبر والعود ونحوها من المعاني المتداولة بخصوصها لم يوضع لها لفظ
بالخصوص وكذا كثير من المياه المضافة، كماء الورد والصفصاف وماء الرمان
ونحوها مما يضاهيها في الدوران وعدم وضع لفظ خاص بإزائها، وذلك كما يكون
هادما للاستقراء المدعى كذا يصح جعله نقضا للوجهين الأولين، إذ لو تمت
دلالتهما على المدعى لما صح التخلف فيما ذكرنا.
قلت: إن من المعاني ما يكون أمورا كلية مستقلة غير مرتبطة بغيرها في
ملاحظة نفسها ولا حاصلة من إضافة شئ إلى غيرها ولا ضم شئ إلى شئ،
كالسماء والأرض والماء والنار والجبال والبحار والأنهار والتمر والزبيب
والحنطة والشعير ونحوها من الذوات والرائحة والطعم واللون والحسن والقبح
والعداوة والحب، ونحوها من الصفات فهذه مما يجب وضع الألفاظ بإزائها مع

(1) في الأصل اختياره.
286

شدة الحاجة إليها وكثرة دورانها حسب ما ذكرنا ليسهل التعبير عنها في
المخاطبات، وقضت ملاحظة الاستقراء عدم إهمال الواضع وضع اللفظ لخصوصها.
ومنها: ما يكون معاني ارتباطية وأمور مركبة حاصلة من ضم المعاني بعضها
إلى بعض كالمركبات التامة والناقصة، فهناك قد وضع الواضع ألفاظا خاصة
لمعانيها الإفرادية، وقرر قانونا في فهم المركبات بضم الألفاظ بعضها إلى بعض،
وتركيبها مع اخر تركيبا تاما أو ناقصا حسب ما يقتضيه المعنى المقصود، فجعل
هناك إضافة وتوصيفا وتقييدا وجملة فعلية واسمية وخبرية وإنشائية لبيان تلك
المعاني المركبة على حسب اختلاف تراكيبها، وهذا القدر كاف فيها ولا يجب
وضع لفظ مفرد بإزاء المعاني التركيبية. فما ذكر من النقض إن أريد به عدم وضع
لفظ لتلك المعاني أصلا ولو بأوضاع عديدة فهو ممنوع، وإن أريد عدم وضع لفظ
مفرد بإزائها فقد عرفت أنه لا حاجة إليه.
ومنها: ما يكون أمور جزئية متجددة على مر الدهور والأزمنة يحتاج إلى
التعبير عن جملة منها جماعة دون أخرى وطائفة دون غيرها، فهذا مما لا يمكن
وضع الألفاظ اللغوية بإزائها، لعدم تناهيها ولاختلاف الحاجة إليها بحسب
اختلاف الأزمنة، فينحصر الأمر فيها في الأوضاع الكلية المتعلقة بالكليات التي
تندرج هي فيها سواء وضعت بإزائها أو جعلت مرآة لآحادها، فيتعلق الوضع
بجزئياتها فيكون إفهام الخصوصيات حينئذ بانضمام القرائن والأمارات، إلا أن
يحصل هناك مزية في بعضها لكثرة الدوران فيحتاج إذن إلى وضع شخصي، كما
في الأعلام الشخصية، ولا ربط له إذن بواضع اللغات، بل يتصدى له من يحتاج
إلى التعبير عنه، ولذا لا يوجد في الأوضاع اللغوية ما يتعلق بالمعاني المفروضة.
فإن قلت: إذا كان وضع الألفاظ بإزاء الكليات والتعبير عنها كافية في إفهام ما
يندرج فيها وبيانه فلا حاجة إذن إلى وضع الألفاظ لخصوص المعاني المندرجة
تحت تلك الكليات وإن حصل هناك حاجة إلى التعبير عن تلك المعاني
بخصوصها، واشتد الاحتياج إلى بيانها، وحينئذ فلا يمكن إجراء القاعدة المذكورة
287

في الموارد المفروضة، إذ هناك ألفاظ موضوعة لمعاني كلية يندرج فيها أكثر
المعاني المتداولة.
قلت: من البين أن مجرد تلك الألفاظ الموضوعة بإزاء المعاني الكلية غير
كاف في جميع المقامات التي يراد فيها إفهام المعاني المندرجة تحتها.
توضيح ذلك: أن إرادة إفهام الجزئيات بواسطة إحضار الكليات قد تكون
بملاحظة كون ذلك الأمر المندرج في الكلي فردا منه ومصداقا له، فيفهم ذلك
الكلي بواسطة اللفظ الدال عليه، ويحصل الانتقال إلى الخصوصية المذكورة إما
بواسطة وضع آخر كالتنوين، أو لقيام القرينة عليه في اللفظ، أو من الحال، فهذا مما
يحصل به الإفهام بسهولة وعليه جرى أمر اللغة في كثير من المقامات.
وقد تكون بملاحظة ذلك الأمر المندرج في نفسه، وحينئذ فقد لا يمكن إفهامه
باللفظ الموضوع للكلي كذلك كما إذا أردنا بيان معنى التمر أو الزبيب، فإنه
لا يمكن إفهامه بإحضار معنى الجوهر أو الجسم ونحو ذلك، فإن اكتفى الواضع فيه
بالقرينة الخارجية أو الإشارة كان في ذلك تفويت ما هو المقصود بالوضع، فلا بد
إذن من وضع لفظ بإزائه في اللغة مع حصول الحاجة إلى التعبير عنه في الغالب.
وقد يحتج للقول الآخر بأن الرجوع إلى ما ذكر استناد إلى التخريجات العقلية
في إثبات الأوضاع اللفظية، فلا معول عليه وأنه مبني على حكمة الواضع والتفاته
إلى ذلك وعدم غفلته عنه أو عدم معارضته لأمر آخر في نظره، وكل ذلك غير
معلوم ودفع الجميع ظاهر بعد ما قررناه.
ثم لا يخفى عليك أن ما ذكرناه يفيد ثبوت الوضع اللغوي فيما يشتد الحاجة
إلى التعبير عنه في أصل المخاطبات كما هو الحال في ألفاظ العموم، ولذا استند
العلامة (رحمه الله) إلى ذلك في إثباته، وأما ما طرأت الحاجة إليه إما لحدوث معناه
أو لحدوث الحاجة إليه فإما أن يكون الاحتياج إليه من عامة الناس فينبغي القول
بثبوت الحقيقة العرفية العامة فيه أو وضع لفظ مرتجل بإزائه، وإما أن يكون
الحاجة إليه في صناعة مخصوصة وعرف خاص فلا بد من القول بثبوت الوضع له
288

في ذلك العرف، فيصح إثبات الوضع التعييني بإزائه مع ثبوت الحكمة في واضع
تلك الصناعة ومقررها ويشهد له ملاحظة الحال في الألفاظ الدائرة في الصناعات
فيصح الاستناد إلى ذلك في إثبات الحقائق الشرعية حسب ما يأتي الإشارة إليه
إن شاء الله تعالى. هذا كله في ثبوت نفس الوضع.
وأما تعيين خصوص الألفاظ الموضوعة فلا يظهر من القاعدة المذكورة،
ويمكن تعيينها بملاحظة المقامات إذا قام هناك شاهد على التعيين على فرض
ثبوت الوضع، كما هو الحال في الحقائق الشرعية وفي ألفاظ العموم في الجملة.
العاشرة
إذا دار الأمر في اللفظ بين أحد الأمرين من الأمور المخالفة للأصل، فهناك
صور عشر للدوران دائرة في كتب الأصول، وتفصيل الكلام في المرام مع توسعة
في الأقسام أن يقال:
إن هناك أمورا سبعة مخالفة للأصل: الاشتراك والمجاز والتخصيص والتقييد
والإضمار والنقل والنسخ، والمقصود في المقام معرفة الترجيح بينها من حيث
ذواتها مع قطع النظر عن سائر الأمور الطارئة عليها المرجحة لها بحسب
خصوصيات المقامات، إذ ليس لذلك حد مضبوط يبحث عنها في الأصول وإنما
يتبع ملاحظة المقامات الخاصة.
نعم، يبحث في الأصول عن حجية الظن المتعلق بالألفاظ وهو كلام في ذلك
على وجه كلي، والظاهر أنه في الجملة مما لا خلاف فيه.
وحينئذ نقول: إن الدوران بين الوجوه المذكورة قد يكون ثنائيا، وقد يكون
ثلاثيا فما فوقها، لكن لما كان معرفة الحال في الثنائي منها كافية في غيرها فرضوا
صور الدوران في الثنائي خاصة، وجملة صور الدوران بين الوجوه المذكورة
تنتهي إلى أحد وعشرين وجها نشير إلى وجوه الترجيح بينها أو مساواتها إن شاء
الله تعالى.
289

ثم إن ملاحظة الترجيح يبن الوجوه المذكورة قد تفيد حال اللفظ في نفسه من
جهة ثبوت وضعه للمعنى المفروض أو نفيه، مع قطع النظر من ملاحظة الحال في
استعمال خاص، كما في أحد عشر وجها من الوجوه المذكورة، أعني صور
الدوران بين الاشتراك وما عداها من الصور الستة الباقية، وصور الدوران بين
النقل وما عداها من الصور الخمسة، وقد يفيد معرفة الحال في استعمال مخصوص
من غير دلالة على حال اللفظ في نفسه وهو في الصور العشر الباقية، وحيث ثبت
حجية الظن في اللغات وفي فهم المراد في المخاطبات صح الرجوع إلى الوجوه
الظنية المذكورة في الصورتين وجاز الاستناد إليها في إثبات كل من الأمرين،
فلنفصل القول فيها في مقامين:
المقام الأول: في بيان ما يستفاد منه حال اللفظ في نفسه، وقد عرفت أن
وجوه الدوران فيه أحد عشر.
أحدها: الدوران بين الاشتراك والمجاز، وهذه المسألة وإن مر الكلام فيها عند
البحث في أصالة الحقيقة إلا أنا نستأنف القول فيها ونفصل الكلام في وجوهها،
لكونها قاعدة مهمة في مباحث الألفاظ.
فنقول: إن محل الكلام في ذلك ما إذا استعمل اللفظ في معنيين أو أكثر
واحتمل أن يكون موضوعا بإزاء كل من ذلك وأن يكون حقيقة في واحد مجازا
في الباقي، لوجود العلاقة المصححة للتجوز، فلو لم يكن هناك علاقة مصححة
للتجوز بحسب العرف، فلا وجه لاحتمال التجوز حينئذ ولا دوران بينه وبين
الاشتراك، بل يتعين القول بالوضع للجميع، لانحصار الاستعمال الصحيح في
الحقيقة والمجاز. نعم يمكن المناقشة فيه بالنسبة إلى الحروف ونحوها بناء على
ما مر من الاحتمال المتقدم إلا أن ظاهر ما يتراءى من كلماتهم الإطباق على
خلافه، كما أشرنا إليه.
ثم إن مجرد إطلاق اللفظ على معنيين أو أكثر غير كاف في المقام، بل لا بد من
ثبوت استعماله في خصوص كل من ذلك في تحقق الدوران بينهما، فلو استعمل
290

الأمر - مثلا - في الطلب مرة وأطلق في مقام إرادة الوجوب تارة وفي مقام إرادة
الندب أخرى من غير علم بملاحظة الخصوصية في الاستعمال بل احتمل كون
الإطلاق عليه من جهة كونه نوعا من الطلب ليكون من قبيل إطلاق الكلي على
فرده لم يندرج في محل النزاع، إذ لم يثبت حينئذ للفظ ما يزيد على المعنى الواحد.
ومجرد احتمال تعدد المستعمل فيه غير كاف في المقام، إذ الظاهر اعتبار
وقوع الاستعمال في كل منها في محل النزاع، إذ لو دار الأمر بين كون اللفظ
موضوعا لمعنى واحد أو معاني من غير تحقق لاستعمال اللفظ فيها وإن جاز
استعمالنا فيها بملاحظة العلاقة على فرض ثبوت الوضع لأحدها فلا قائل بتقديم
الاشتراك والحكم بوضعه للكل بمجرد الاحتمال، وهو واضح، وعمدة مستند
القائل بتقديم الاشتراك ظهور الاستعمال في الحقيقة كما سيجئ بيانه إن شاء الله.
ولا بد فيه أيضا من عدم العلم أو الظن بكون الاستعمال فيه من جهة ملاحظة
العلاقة بينه وبين المعنى الآخر، إذ لو كان المعلوم أو المظنون من استعماله فيه ما
كان على النحو المذكور لم يكن شاهدا على الحقيقة، ومجرد احتمال استعماله فيه
على وجه يحتمل الحقيقة غير كاف في محل النزاع حسب ما عرفت.
فصار المحصل أنه إذا علم استعمال اللفظ في خصوص معنيين مثلا وجاز أن
يكون الاستعمال فيهما على وجه الحقيقة وأن يكون في أحدهما حقيقة وفي
الآخر مجازا فهل قضية الأصل فيه أن يكون حقيقة في كليهما ترجيحا للاشتراك،
أو يكون حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر ترجيحا للمجاز؟ ولا فرق بين أن
يعلم تحقق الوضع في أحدهما أو يجهل الحال في الجميع، وربما يسبق إلى بعض
الأوهام خروج الثاني عن محل الخلاف فيحكم فيه بالحقيقة فيهما على القولين،
وهو وهم ضعيف، ينادي ملاحظة كلماتهم بخلافه.
نعم قد يكون المشهور هناك موافقا في معظم الثمرة لمذهب السيد (رحمه الله) على
بعض الوجوه كما مرت الإشارة إليه.
إذا عرفت ذلك فنقول: ذهب السيدان (رحمهما الله) ومن وافقهما إلى تقديم الاشتراك
291

حينئذ على المجاز والحكم بثبوت وضع اللفظ بإزاء المعنيين أو المعاني حتى
يثبت خلافه، وبنوا على أن الأصل في الاستعمال الحقيقة مطلقا حتى يتبين
المخرج عنه.
وظاهر المشهور هو تقديم المجاز حينئذ والحكم بعدم دلالة الاستعمال في
ذلك على الحقيقة، ومن هنا اشتهر منهم أن الاستعمال أعم من الحقيقة، يعنون به
صورة تعدد المعنى، وأما مع اتحاده فالمعروف دلالته على الحقيقة كما مرت
الإشارة إليه، وهذا هو الأظهر ويدل عليه أمور:
الأول: أن ذلك هو مقتضى الأصل، إذ ثبوت الوضع لكل منهما يحتاج إلى قيام
دليل عليه، وحيث لا دليل عليه لما سنبينه من ضعف ما تمسكوا به لتقديم
الاشتراك فينبغي نفي الوضع بمقتضى الأصل.
فإن قلت: كما أن الحكم بالحقيقة يحتاج إلى الدليل فكذا الحكم بالمجازية
لتوقفه أيضا على الوضع غاية الأمر الاكتفاء فيه بالوضع الترخيصي فإذا دار الأمر
فيه بين كون الوضع فيه على أحد الوجهين توقف الحكم بتعيين كل منهما على قيام
الدليل عليه، فلا بد أن يتوقف مع عدم نهوض دليل على تعيين أحد الوجهين
ولا وجه للحكم برجحان المجاز.
قلت: لا شبهة في حصول الوضع الترخيصي في المقام ولو على تقدير ثبوت
الوضع له، إذ لا منافاة بين الوضعين فيكون اندراج اللفظ تحت كل من القسمين
تابعا لملاحظة المستعمل، ولذا اعتبروا الحيثية في كل من الحدين لئلا ينتقض
كل منهما بالآخر، فالوضع المجازي شامل لذلك قطعا، إذ المفروض وجود العلاقة
بينه وبين الآخر، وإنما الكلام في حصول الوضع المعتبر في الحقيقة أيضا فالأصل
عدمه.
فإن قيل: إن المجاز لا بد فيه من ملاحظة العلاقة بينه وبين ما وضع له،
والأصل عدمها.
قلت: قد أجيب عنه بأنه معارض بلزوم ملاحظة الوضع في استعماله فيما
292

وضع له، فان الالتفات إلى الأمر المصحح أمر لازم على كل حال سواء كان
الاستعمال على سبيل الحقيقة أو المجاز فكما أنه يجب الالتفات إلى العلاقة في
المجاز فكذا يجب الالتفات إلى الوضع في الحقائق، فأصالة عدم الالتفات في
الأول معارضة بأصالة عدمها في الثاني فيتساقطان ويبقى أصالة عدم الوضع
بلا معارض.
ويرد عليه: أن اللازم في المجاز الالتفات إلى العلاقة وإلى المعنى الحقيقي
والوضع المتعلق به، لتوقف المجاز على ذلك كله، بخلاف المعنى الحقيقي، إذ
لا يتوقف إلا على ملاحظة الوضع له، فملاحظة الوضع بإزاء المعنى الحقيقي
معتبرة في كل من الحقيقة والمجاز، ويزيد المجاز عليه بتينك الملاحظتين، بل
وبملاحظة أخرى ثالثة وهو الوضع الترخيصي الحاصل فيه المجوز لاستعماله في
ذلك مع العلاقة، والأصل عدم ذلك كله.
فالأولى في الجواب أن يقال: إن الكلام في ثبوت وضع اللفظ وعدمه
ولا ريب أن قضية الأصل عدمه وليس في المجاز ما يعارض ذلك في هذا المقام
وتوقف صحة التجوز على أمور عديدة لا يقضي بانقلاب الأصل في المقام، كيف!
ولو صح ذلك لكان أصل العدم مثبتا للوضع وهو واضح الفساد، لكونه إذن من
الأصول المثبتة، ولا مجال لتوهم جواز الاستناد إليها في الإثبات.
فإن قلت: إن أصالة عدم الوضع للمعنى المفروض قاض بلزوم اعتبار الأمور
المذكورة في الاستعمال فيكون ذلك أيضا من الأصول المثبتة، فكيف يصح
الاستناد إليها؟
قلت: إن اعتبار الأمور المذكورة مما يتفرع على عدم الوضع الثابت بالأصل،
فإنه بعد البناء عليه بحكم الأصل يتوقف صحة الاستعمال على المصحح، فلا بد
إذن من ملاحظة الأمور المذكورة، بخلاف وضع اللفظ للمعنى فإنه لا يتفرع على
عدم ملاحظة تلك الأمور حال الاستعمال لو أثبتناه بالأصل، إذ ذلك إذن من فروع
الوضع وليس الوضع فرعا عليه، فلا وجه لإثبات وجود الأصل من جهة أصالة
293

عدم تحقق فروعه، ومثل ذلك يعد من الأصول المثبتة لا ما كان من قبيل ما قلناه،
لوضوح أن قضية حجية الأصل هو الالتزام بفروعه، فلو كان أصالة عدم حصول
فروعه معارضا لأصالة عدم الأصل لم يتحقق هناك مصداق لجريان الأصل،
كما لا يخفى.
فإن قلت: إن الاستناد إلى الأصل إنما يتم في المقام إذا أفاد الظن بمؤداه،
لابتناء الأمر في اللغات على الظن، وأما مع الشك في حصول الوضع وعدمه
فلا دلالة فيه على ذلك، لانتفاء دليل على حجية الأصل في المقام على سبيل التعبد.
قلت: إنما يتم ما ذكر إذا أريد بإعمال الأصل المذكور إثبات معنى للفظ، فإنه
لا وجه إذن للحكم به من دون الظن، وأما إذا أريد نفيه به فلا وجه لاعتبار الظن
فيه بل يكتفى في ذلك بمجرد الشك. ويشهد له ابتناء إثبات اللغات على الظن فمع
عدم حصول الظن لا يمكن الحكم بالثبوت كما هو المفروض في المقام، فيبنى
على عدمه بمقتضى الأصل.
وأنت خبير بأن قضية ابتناء اللغات على الظن توقفها عليه في الإثبات والنفي
غاية الأمر أنه مع عدم حصول الظن ينبغي التوقف فيها عن الحكم لا الحكم بنفيها،
كما هو المدعى، وبعد التسليم فإنما يصح الاستناد إلى ما ادعي من الأصل في نفي
الوضع للمعنى المذكور، وأما إثبات اتحاد المعنى الموضوع له لينصرف اللفظ إليه
عند انتفاء القرائن ويحكم بكونه مراد اللافظ بخصوصه فهو من الأمور الوجودية
المبتنية في المقام على المظنة، إذ لا وجه للحكم بكون شئ مقصودا للمتكلم من
دون ظن بإرادته له ولا أقل من الظن به بحسب متفاهم العرف، والمفروض الشك
فيه في المقام.
فالتحقيق في الجواب أن يقال: إنا لا نقول بما ذكرنا إلا مع الظن به، وقد
عرفت أن الكلام في تقديم المجاز على الاشتراك بعد ملاحظة كل منهما في نفسه
مع قطع النظر عن الأمور الطارئة عليهما المرجحة لكل منهما بحسب خصوصية
المقامات، ولا شك أن المجاز إذا كان موافقا للأصل والاشتراك مخالفا له من غير
294

أن يكون في جهة الاشتراك ما يعارضه كان المجاز هو الظاهر، لإفادة الأصل ظنا
بمؤداه في مثل ذلك.
نعم، إذا قام في جهة الاشتراك مرجح آخر بحسب المقام وحصل الشك لزم
الوقف إلى أن يحصل مرجح يوجب غلبة الظن بأحد الجانبين، وهو خارج عن
محل الكلام.
الثاني: أن المجاز أغلب من الاشتراك، فإن الألفاظ المستعملة في معان
متعددة مجاز فيما يزيد على المعنى الواحد في الغالب، وما هو حقيقة في المعنيين
فما فوقهما قليل بالنسبة إليه، والظن إنما يلحق الشئ بالأعم الأغلب.
ويرد عليه تارة أن الاشتراك أغلب من المجاز، إذ أكثر المواد المذكورة في
كتب اللغة قد ذكر لها معان عديدة، فلو لم تكن حقيقة في الكل فلا أقل من كونها
حقيقة غالبا فيما يزيد على المعنى الواحد، وكذا الحال في الحروف والأفعال، كما
يظهر من ملاحظة كتب العربية، ثم مع الشك في كون تلك المعاني حقائق أو
مجازات فقيام الاحتمال كاف في هدم الاستدلال، إذ لا يثبت معه كثرة المجاز
بالنسبة إلى الاشتراك ليتم الاحتجاج.
وأخرى بأنا إذا سلمنا قلة الاشتراك بالنسبة إلى المجاز فليس كل قلة وكثرة
باعثا على حصول الظن في جهة الكثير، بل يعتبر في الكثرة المفيدة للمظنة أن
يكون ما يقابلها نادرا في جنبها حتى يحصل الظن بكون المشكوك فيه من الغالب،
إذ من البين أن مجرد الغلبة مع شيوع مقابله أيضا لا يفيد ظنا بكون المشكوك من
الغالب كما هو ظاهر من ملاحظة نظائر المقام، وكون الكثرة في المجاز على النحو
المذكور ممنوع، بل الظاهر خلافه.
وقد يجاب عن الأول بأنه لا تأمل في غلبة الحقيقة والمجاز على الاشتراك،
ألا ترى أن معظم المخاطبات خالية عن الاشتراك، وهو مع كمال ظهوره مقتضى
الحكمة الباعثة على الوضع، إذ لولا ذلك لافتقر معظم الاستعمالات إلى ضم
القرائن المعينة للمراد.
295

وفيه: فوات الحكمة الباعثة على وضع الألفاظ، إذ المقصود منها عدم الافتقار
إلى القرائن في الانتقال إلى المقصود، حتى أنه قيل بامتناع الاشتراك نظرا إلى
إخلاله بالتفاهم، فإذا لم نقل بذلك في جميع الألفاظ لوجود فوائد اخر باعثة على
الاشتراك فلا أقل من القول به في المعظم، إذ الاخلال بالتفاهم في معظم
الاستعمالات مخالف للحكمة المذكورة قطعا، والفوائد المترتبة على الاشتراك
لا تعارض تلك الفائدة العظمى التي هي العمدة في ثمرة الوضع.
وقد يقال: إن الوجه المذكور إنما يفيد عدم شيوع الاشتراك في الألفاظ
الدائرة في المحاورات، وليس كثير من الألفاظ الموضوعة بحسب اللغة دائرة
في المحاورات الجارية، فأي مانع من غلبة الاشتراك أو مساواته للمجاز بعد
ملاحظة الجميع؟
وفيه: - مع عدم جريان ذلك في خصوص الألفاظ الدائرة لتسليم قلة
الاشتراك فيها - أن دوران اللفظ في الاستعمالات من الأمور المختلفة بحسب
اختلاف العادات بالنسبة إلى الأزمان والبلدان، والحكمة المذكورة إنما تلاحظ
حين الوضع، فغلبة الاشتراك في الألفاظ الموضوعة مخالفة لما هو الغرض الأهم
من الوضع، فالظاهر عدمه، مضافا إلى ما عرفت من أنه الظاهر من ملاحظة
الألفاظ الدائرة في المحاورات، حتى أنه وقع الخلاف في وقوع المشترك في
اللغة، فغلبة الحقيقة المتحدة على المتعددة مما لا ينبغي الريب فيه.
وعن الثاني بأنه لو نوقش في كون غلبة مطلق المجاز على الاشتراك بالغة إلى
حد يورث الظن بالتجوز عند الشك في حال اللفظ فلا مجال للمناقشة في غلبته
في خصوص المقام، إذ المفروض هنا حصول العلاقة المصححة للتجوز، ولا شك
في غلبة المجاز حينئذ على الاشتراك، فإن أغلب المشتركات ليس بين معانيها
مناسبة مصححة للتجوز.
ويومئ إليه أنه مع حصول العلاقة المصححة للتجوز وحصول الوضع
الترخيصي في المجاز لا حاجة إلى وضع اللفظ ثانيا بإزاء ذلك المعنى، لاشتراك
296

الاشتراك والمجاز في اعتبار القرينة وحصول التفاهم معها على الوجهين،
فلا يترتب حينئذ على الوضع فائدة يعتد بها، مع ما فيه من المفسدة، ولذا يقل
الاشتراك فيما هو من هذا القبيل.
وقد يقرر كثرة المجاز بوجه آخر، وهو أن يقال: إن المعاني المجازية للألفاظ
إذا لوحظت بالنسبة إلى معانيها الحقيقية كانت أكثر منها جدا، وهو أحد الوجوه
فيما اشتهر بينهم من أن أغلب اللغة مجازات، وحينئذ فيلحق المشكوك بالأعم
الأغلب، وعلى هذا يندفع عنه بعض ما ذكر من الإيراد من غير حاجة إلى ملاحظة
ما ذكر. نعم قد يرد النقض بمتحد المعنى مع البناء فيه على أصالة الحقيقة ويمكن
دفعه بما مر هناك.
الثالث: أن في الاشتراك مخالفة لما هو الغرض الأهم في وضع الألفاظ،
لإخلاله بالتفاهم والاحتياج معه إلى القرينة في فهم المراد، فالظاهر عدم ثبوته
إلا في موضع دل الدليل عليه أو قام بعض الشواهد المرشدة إليه.
الرابع: كثرة المؤن في الاشتراك، لاحتياجه إلى وضع وقرينتين بالنسبة إلى
المعنيين بخلاف المجاز، فإنه لا يحتاج إلا إلى قرينة واحدة. وما يتوهم من أن
المؤن فيه أكثر، نظرا إلى افتقاره إلى وضعين وعلاقة وقرينتين مدفوع بأن
المفروض في المقام ثبوت الوضع لأحد المعنيين في الجملة، وحصول العلاقة
المصححة للتجوز والترخيص في استعمال المجاز حاصل على سبيل العموم،
فلا حاجة إلى حدوث وضع في المقام، فلا يبقى هناك إلا اعتبار القرينة وهي
متحدة في الغالب.
نعم، قد يقال بأنه لا بد في المجاز من ملاحظة المعنى الحقيقي وملاحظة
الوضع بإزائه وملاحظة المعنى المجازي والعلاقة الحاصلة بينه وبين المعنى
الحقيقي وملاحظة الوضع الحاصل في المجاز واعتبار القرينة الصارفة بل المعينة
أيضا إن احتيج إلى المتعدد، بخلاف البناء على الاشتراك للاكتفاء فيه بالوضع
وملاحظته وذكر القرينة. فتأمل.
297

حجة القول بتقديم الاشتراك وجوه:
أحدها: أن الظاهر من الاستعمال كون ما استعمل اللفظ فيه حقيقة، فإن الحقيقة
هي الأصل والمجاز طار عليها تابع لها، ومبنى اللغة على حصول التفاهم بواسطة
أوضاع الحقائق وإنما رخص الواضع في استعمال المجازات من جهة التوسعة في
اللسان ولنكات خاصة متفرعة على المجاز، وأما معظم الفائدة المترتبة على وضع
اللغات فإنما يترتب على الحقائق، ولذا ترى معظم المخاطبات مبنية على
استعمال الحقائق حتى في كلام البلغاء، فإنه وإن كان استعمال المجازات
والكنايات في ألسنتهم أكثر من الموارد في كلمات غيرهم لكنها ليست بأكثر من
الحقائق المستعملة في كلامهم، كما يشهد به ملاحظة الأشعار والخطب والرسائل
وغيرها، فكيف سائر المخاطبات الواقعة من سائر الناس؟ فإن استعمال
المجازات فيها أقل قليل بالنسبة إلى الحقائق وحينئذ فظاهر الاستعمال هو الحقيقة
حتى يتبين المخرج عنه.
وأيضا لا كلام في كون الأصل في الاستعمال هو الحمل على الحقيقة إذا تميز
المعنى الحقيقي عن المجازي ولم يعلم المراد، والسبب الداعي هناك بعينه داع
في المقام، إذ ليس الباعث هناك على الحمل على الحقيقة إلا ظاهر الاستعمال
وهو أيضا حاصل في المقام.
والفرق بين المقامين بكون الموضوع له معلوما هناك وحصول الشك في
المراد وكون الأمر هنا بالعكس لا يصلح فارقا في المقام، إذ لو كان ظاهر
الاستعمال قاضيا بإرادة الحقيقة قضى بها في كل ما يحتمل ذلك، وكما يقضي
بالحكم بإرادة الحقيقة مع عدم قيام قرينة عليها إذا لم يقم دليل على خلافه فكذا
يقضي بكون المستعمل فيه هو الحقيقة حتى يقوم دليل على عدمها.
وأيضا فاستعمال اللفظ في المعنى بمنزلة حمل ذلك المعنى عليه، فإن استعمال
" الأسد " في الحيوان المفترس بمنزلة أن يقال: " الأسد الحيوان المفترس " فكما
أنه إذا ورد نحو تلك العبارة في كلام من يعتد بقوله يفيد كون اللفظ حقيقة في ذلك
كذا ما هو بمنزلته.
298

ثانيها: أن الطريقة الجارية بين أهل اللغة من قديم الزمان هو تحصيل
الأوضاع بمجرد ملاحظة الاستعمالات، بل الظاهر أنه طريقة جارية في معرفة
سائر اللغات إذا أريد معرفتها، إذ لم يعهد نص الواضع بوضعها لمعانيها ولا نقل ذلك
عنه مسندا أو مرسلا، وإنما الغالب في الجميع معرفتها بملاحظة الاستعمالات كما
يعرف ذلك من ملاحظة شواهدهم المذكورة في كتبهم، وقد حكى العلامة (رحمه الله) عن
ابن عباس أنه قال: " ما كنت أعرف معنى الفاطر حتى اختصم إلي شخصان في
بئر، فقال أحدهما: فطرها أبي " أي اخترعها، وحكي عن الأصمعي أنه قال:
" ما كنت أعرف الدهاق حتى سمعت رجلا يقول: اسقني دهاقا " أي ملآنا من غير
فرق في ذلك عندهم بين ما إذا اتحد المعنى أو تعدد.
ثالثها: أنهم قد حكموا بأصالة الحقيقة في متحد المعنى وبنوا على كون
المستعمل فيه هو المعنى الحقيقي حتى يتبين خلافه، فجعلوا الاستعمال شاهدا
على الوضع، ومن البين أن ذلك جار في متعدد المعنى أيضا، إذ ليس استعمال
اللفظ في المعاني المتعددة إلا كاستعماله في المعنى الواحد في إفادة الحقيقة، فإن
كان دالا هناك كان دالا في ذلك أيضا وربما يؤيد ذلك أيضا بوجوه اخر:
منها: أنه لو كان حقيقة في أحد المعنيين مجازا في الآخر لبينه أهل اللغة،
وعلمنا ذلك ضرورة من حال أهل اللسان، وملاحظة استعمالاتهم كما علمنا ذلك
في إطلاق الأسد على الرجل الشجاع والحمار على البليد ونظائر ذلك، فلما
جرت طريقتهم على إيضاح الحال في المجازات وتبيين الأمر فيها ولم يحصل
ذلك في المقام دل ذلك على انتفاء التجوز فيه.
ومنها: أن تعدد المعنى أكثر في اللغة من اتحاده كما يظهر ذلك من ملاحظة
الحال في الأسماء والأفعال والحروف، ويشهد به تتبع كتب اللغة والعربية فالظن
يلحق الشئ بالأغلب.
ومنها: ملاحظة فوائد الاشتراك ومفاسد المجاز، فإن المشترك لا اضطراب
فيه، نظرا إلى حصول الوضع فيه بالنسبة إلى كل من المعنيين، بخلاف المجاز.
299

وأنه يصح الاشتقاق منه بالنسبة إلى كل منهما، وكذا يصح التجوز فيه كذلك،
وهو باعث على اتساع اللغة وتكثر الفائدة.
وأنه يتعين إرادة أحد معنيي المشترك بمجرد قيام القرينة على عدم إرادة
الآخر، ولا يحصل ذلك في المجاز بعد قيام القرينة على عدم إرادة الحقيقة، لتعدد
المجازات في الغالب.
وأن المشترك لا يتوقف استعماله إلا على الوضع والقرينة، وأما المجاز
فيتوقف على ملاحظة المعنى الحقيقي والوضع المتعلق به والوضع الترخيصي
الحاصل فيه وملاحظة العلاقة والإتيان بالقرينة الصارفة والمعينة.
وأيضا مع خفاء القرينة في المجاز يحمل اللفظ على الحقيقة فيوجب الخطأ
في فهم المطلوب وفي الامتثال بخلاف المشترك، إذ غاية ما يلزم حينئذ حصول
الاجمال وعدم وضوح الحال.
وأيضا ففي المجاز مخالفة للظاهر وخروج عن مقتضى الوضع، ولذا يحتاج
إلى القرينة الصارفة بخلاف الاشتراك، إلى غير ذلك مما يعرف بالتأمل من فوائد
الاشتراك ومفاسد المجاز.
والجواب أما عن الأول فبالمنع من ظهور الاستعمال في الحقيقة مطلقا، وما
ذكر في بيانه من كون الحقيقة هي الأصل والمجاز طار عليها لا يقضي بذلك، إذ
مجرد كون الحقيقة أصلا والمجاز طارئا لا يوجب حصول الظن بالأول مع شيوع
الثاني أيضا، ودورانه في الاستعمالات، غاية الأمر أن يستفاد ذلك مع اتحاد
المعنى، نظرا إلى بعد متروكية الأصل وشهرة الفرع، إلا أن يقوم دليل عليه بل
الظاهر من تعدد المعاني مع وجود العلاقة المصححة للاستعمال بينها اختصاص
الوضع بالبعض، سيما إذا علم حصول الوضع في خصوص واحد منها، لما عرفت
من شمول وضع المجاز لذلك وتصحيح الاستعمال به ولزوم اعتبار القرينة مع
فرض الوضع له أيضا، فلا يترتب عليه فائدة يعتد بها.
وكثرة استعمال الحقائق في المحاورات مع اتحاد معاني الألفاظ الدائرة
300

لا يقضي الظن به مع تعدده، كما هو المفروض في المقام، مضافا إلى أن تلك الغلبة
غير مفيدة للظن بالوضع مع شيوع التجوز وكثرته أيضا.
وكون الأصل في الاستعمال الحقيقة مع تميز الحقيقة من المجاز والشك في
المراد لا يقضي بجريانه في صورة تميز المعنى المراد، والشك في الوضع ودعوى
اتحاد المناط في المقامين بين الفساد، فإن قضية وضع اللفظ للمعنى بعد ثبوته هي
الحمل عليه حتى يقوم دليل على خلافه، إذ ذلك ثمرة الوضع وعليه بناء
المحاورات من لدن آدم (عليه السلام) إلى الآن ولولاه لما أمكن التفهيم والتفهم إلا بواسطة
القرائن، وفيه هدم لفائدة الأوضاع، وأما بعد تعين المراد بالقرينة والشك في
حصول الوضع له فأي دليل يقضي بثبوت الوضع هناك؟
والاستظهار المذكور مجرد دعوى لا شاهد عليه، غاية الأمر أن يسلم ذلك
في متحد المعنى لما تقدم في بيانه.
ودعوى كون الاستعمال بمنزلة الحمل على فرض تسليمها لا يفيد شيئا، لما
عرفت من أن الحمل وصحته لا يدل على الحقيقة، إلا على بعض الوجوه، ولذا لم
يعدوا ذلك من أمارات الحقيقة وإنما اعتبروا عدم صحة السلب.
وأما عن الثاني فبالمنع من جريان الطريقة على استعلام الحقائق المتعددة من
مجرد الاستعمال، بل الظاهر حكمهم بها من الرجوع إلى أمارات الحقيقة أو
ملاحظة الترديد بالقرائن، وهي الطريقة الجارية في معرفة الأوضاع كما هو الحال
في الأطفال في تعلم اللغات، غاية الأمر أن يسلم ذلك في متحد المعنى. وكأن أحد
الوجهين المذكورين هو الوجه فيما حكي عن ابن عباس والأصمعي.
نعم، لو لم يكن هناك علاقة بين المعنيين أمكن الاستعلام من مجرد
الاستعمال، وهو خارج عن محل الكلام.
وأما عن الثالث فبالفرق البين بين المقامين كما مر تفصيل القول فيه، فقياس
المتعدد على المتحد مما لا وجه له، وكفى فارقا بين المقامين ما عرفت من ذهاب
المعظم إلى دلالة الاستعمال على الحقيقة في الأول وإعراضهم عن القول به في
301

الثاني ومن البين بناء الأمر في المقام على الظن، وهو حاصل بذلك. وما ذكر في
التأييد مما لا يفيد ظنا بالمقصود، وقد عرفت الحال في أكثر ما ذكر مما قررناه
فلا حاجة إلى التفصيل.
ومن الغريب احتجاج السيد (رحمه الله) بالوجه الأول منها على ما ادعاه مع ما هو
ظاهر من أنه لا مقتضي للالتزام بحصول العلم الضروري بذلك، وحصول العلم به
في بعض الأمثلة لا يقضي بكلية الحكم، كيف! وهو منقوض بالحقائق، فإنا نعلم
بالضرورة من اللغة وضع السماء والأرض والنار والهواء وغيرها لمعانيها، فلو كان
المعنى المشكوك فيه حقيقة لعلمنا ذلك بالضرورة من الرجوع إلى اللغة، كما
علمناه في غيرها.
مضافا إلى ما هو معلوم من عدم لزوم حصول العلم الضروري ولا النظري
بذلك، إذ كثير من الحقائق والمجازات مأخوذ على سبيل الظن ونقل الآحاد،
فالاحتجاج على نفي المجازية بمجرد انتفاء العلم الضروري به غريب.
هذا، واعلم أنه بناء على ترجيح المجاز على الاشتراك كما هو المشهور لو
علم بوضع اللفظ بإزاء أحدهما بخصوصه حكم بكون الآخر مجازا، وأما إذا لم
يثبت ذلك فإنما يحكم حينئذ بكون أحدهما على سبيل الاجمال حقيقة والآخر
مجازا، ولا يمكن الحكم إذن بإرادة خصوص أحدهما مع انتفاء القرينة على
التعيين، فلا بد من الوقف، فعلى هذا لا يترتب هنا على القولين ثمرة ظاهرة كما
مرت الإشارة إليه. نعم قد يثمر ذلك في مواضع.
منها: أن يكون أحد المعنيين مناسبا للآخر بحيث يصح كونه مجازا فيه لو
فرض اختصاص الوضع بالآخر دون العكس، إذ لا ملازمة بين الأمرين كما في
استعمال " الرقبة " في الانسان حيث لا يصح استعمال الانسان في خصوص
الرقبة، وحينئذ فيحكم بكونه حقيقة في خصوص أحدهما مجازا في الآخر.
ومنها: أنه لا يجوز التجوز في اللفظ بملاحظة مناسبة المعنى لشئ من
المعنيين لاحتمال كونه مجازا ولا يجوز سبك المجاز من المجاز، نعم لو كان هناك
302

معنى مناسب لكل منهما صح التجوز فيه، هذا على المشهور وأما على القول الآخر
فيصح ذلك مطلقا.
ومنها: أنه لا يتعين الحمل على كل منهما بمجرد القرينة الصارفة عن الآخر
على المشهور إذا لم يكن هناك قرينة على التعيين، وقام في المقام احتمال إرادة
معنى مجازي آخر، بخلاف ما لو قيل بالاشتراك بينهما.
وينبغي التنبيه لأمور:
أحدها: أنه كما يقال بترجيح اتحاد المعنى على الاشتراك كذا يقال بترجيح
الاشتراك بين المعنيين على الاشتراك بين الثلاثة... وهكذا، وبالجملة كما أن
المجاز يقدم على أصل الاشتراك فكذا على مراتبه، والشواهد المذكورة تعم
الجميع، إلا أنه قد يتأمل في جريان البعض، وفي البعض الآخر الذي هو العمدة في
المقام كفاية في ذلك.
ثانيها: أنه لو استعمل اللفظ في معنيين لا مناسبة بينهما وأمكن كون اللفظ
موضوعا بإزاء ثالث يناسبهما بحيث يصح التجوز فيهما على فرض كونه موضوعا
بإزائه لكن لم نجد اللفظ مستعملا في ذلك فلا وجه إذن لتقديم المجاز على
الاشتراك، بل يحكم بالاشتراك أخذا بظاهر الاستعمال على نحو ما يقال في متحد
المعنى بعينه، فإن شيوع استعمال اللفظ في معنى وعدم استعماله في غيره يفيد
الظن بالوضع له دون الآخر.
ثالثها: لو ثبت وضع لفظ لمعنى وكان مجازا في غيره لكن اشتهر المجاز إلى
أن حصل الشك في معادلته للحقيقة وحصول الاشتراك من جهة الغلبة أو لطرو
وضع عليه بعد ذلك فالظاهر أنه لا كلام إذن في تقديم المجاز استصحابا للحالة
الأولى، إلا أن يجئ في خصوص المقام ما يورث الظن بالاشتراك أو يقضي
بالشك فيتوقف.
رابعها: لو كان اللفظ مشتركا بين معنيين فترك استعماله في أحدهما واستعمل
في الآخر إلى أن احتمل هجر الأول في العرف وصيرورته مجازا في المحاورات
303

لم يحكم به من دون ثبوته، بل بنى على الاشتراك إلى أن يتبين خلافه أو يشك في
الحال فيتوقف.
خامسها: لو نقل اللفظ عن معناه واستعمل في معنيين آخرين وحصل الشك
في نقله إليهما معا أو إلى أحدهما فإن كان وضعه الطارئ من جهة التعيين وغلبة
الاستعمال فلا ريب في الاقتصار على القدر الثابت وعدم تقديم الاشتراك وإن
قيل بترجيح الاشتراك على المجاز استصحابا لحال الاستعمال، وكذا لو كان
الوضع الثانوي على سبيل التعيين مع ثبوت استعماله فيه قبل ذلك على سبيل
المجاز، وأما مع حدوث المعنى والشك في كون الاستعمال من جهة الوضع أو
العلاقة فعلى القول بتقديم الاشتراك وجهان، ولا يبعد البناء حينئذ على ترجيح
الاشتراك أيضا.
ثانيها: الدوران بين الاشتراك والتخصيص، وحيث عرفت ترجيح المجاز
على الاشتراك ظهر ترجيح التخصيص عليه أيضا، سيما بملاحظة شيوعه وكثرته
ورجحانه على المجاز، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثالثها: الدوران بين الاشتراك والتقييد، والأمر فيه أيضا ظاهر مما مر، سيما إذا
كان التقييد خاليا عن التجوز.
رابعها: الدوران بين الاشتراك والإضمار، والحال فيه أيضا ظاهر مما عرفت،
إذ الإضمار عديل المجاز، والظاهر أن القائل بتقديم الاشتراك على المجاز
لا يقول بتقديمه على هذين، إذ العمدة فيما استند إليه ظهور الاستعمال فيه
والاستعمال في غير المعنى الواحد غير ظاهر في المقامين، نعم إن كان التقييد
بالاستعمال في خصوص المقيد جرى فيه ما ذكر، ويجري الوجهان في
التخصيص، فإن قلنا باستعمال اللفظ في الخصوص كما هو المشهور قام الوجه في
ترجيح الاشتراك وإلا فلا وجه له، لعدم تعدد المستعمل فيه.
خامسها: الدوران بين الاشتراك والنقل وذلك بأن يكون اللفظ موضوعا
بحسب اللغة مثلا لمعنى ثم يستعمل في العرف في معنى آخر إلى أن يبلغ حد
304

الحقيقة، أو يوضع له في العرف وضعا تعيينيا، ويشك حينئذ في هجر المعنى الأول
ليكون منقولا، وعدمه ليكون مشتركا قولان.
ذهب العلامة (رحمه الله) إلى كل منهما في النهاية والتهذيب.
والأول محكي عن جماعة من العامة كالرازي والبيضاوي واختاره في المنية.
وكأن الأظهر الثاني، أخذا بأصالة بقاء الوضع الأول وعدم هجره إلى أن يثبت
خلافه، وغاية ما ثبت حينئذ بلوغ المعنى الثاني إلى حد الحقيقة أو الوضع له، وأما
هجر الأول فغير معلوم، والقول بغلبة النقل على الاشتراك على فرض تسليمه
مدفوع، بأنها ليست بمثابة تورث الظن به لشيوع الأمرين، غاية الأمر أن يكون
ذلك أغلب في الجملة، وقد عرفت أن مثل تلك الغلبة لا يفيد ظنا في الغالب.
نعم، قد يقال: إن الغالب في الأوضاع الجديدة هجر المعنى السابق وتركه في
ذلك العرف، كما يعرف ذلك من ملاحظة المعاني العرفية العامة والخاصة بل
لا يكاد يوجد صورة يحكم فيها ببقاء المعنى الأول، فقد يستظهر بملاحظة ذلك
الحكم بالهجر. فتأمل.
وربما يؤيده أيضا ذهاب الجماعة إليه حيث إنه لا يعرف القول الآخر
إلا للعلامة (رحمه الله)، وهو ممن ذهب إلى الثاني أيضا.
ومن التأمل فيما ذكرناه ينقدح وجه آخر، وهو التفصيل بين ما إذا كان ثبوت
المعنى الثاني في عرف غير العرف الأول أو عند أهل ذلك العرف، فيقال بترجيح
النقل في الأول والاشتراك في الثاني، وكأنه الأوجه. فتأمل.
ثم إنه ربما يعارض أصالة بقاء المعنى الأول وعدم هجره بتوقف المشترك في
إفادة المراد على القرينة بخلاف المنقول.
وفيه: أنه إن أريد بذلك التمسك بأصالة عدم التوقف عليها ففيه أن الحكم
بالفهم من دون القرينة خلاف الأصل أيضا، فينبغي أن يقتصر فيه على القدر
الثابت، وهو صورة وجود القرينة.
فإن قلت: وضع اللفظ للمعنى قاض بفهمه من اللفظ فالأصل البناء عليه حتى
يثبت خلافه.
305

قلت: لا مجال لذلك بعد ثبوت الوضع للمعنيين، فإن قضية ذلك الوقف بين
الأمرين، غاية الأمر أن يشك في كون أحدهما ناسخا للآخر فمع الغض عن أصالة
عدمه لا أقل من الوقف في الفهم، لاحتمال الأمرين فلا محصل لأصالة عدم
التوقف عليها، مضافا إلى ما عرفت من أن التوقف المذكور من فروع أصالة بقاء
المعنى الأول، فلا وجه لجعله معارضا لأصله.
وإن أريد به أصالة عدم ذكر القرينة في مقام التفهيم فمرجعه أيضا إلى الوجه
الأول، إذ ذكر القرينة في المقام إنما يتبع وجود الحاجة إليها، فإن فرض استقلال
اللفظ في الدلالة وإلا فلا معنى لعدم الحاجة إليها وأصالة عدمها، مع أن المفروض
الشك في الأول ومع الغض عن ذلك فهو معارض بأصالة عدم استقلال اللفظ في
الإفادة.
وإن أريد به التمسك بذلك في إثبات قلة المؤن في جانب النقل وكثرتها في
الاشتراك فذلك مع عدم إفادته ظنا في المقام معارض بوجود ما يعارضه في
جانب النقل أيضا.
ثم إنه قد يقع الدوران بين الاشتراك والنقل في صور أخرى:
منها: أن يكون اللفظ حقيقة بحسب اللغة في معنى مخصوص ويوجد في
العرف حقيقة في آخر، ويشك حينئذ في ثبوت ذلك المعنى في اللغة أيضا ليكون
مشتركا بينهما، وعدمه ليكون منقولا، وقد يشك حينئذ في ثبوت المعنى اللغوي
في العرف أيضا ليكون مشتركا بينهما في اللغة والعرف، وقضية الأصل حينئذ عدم
اشتراكه بحسب اللغة فيقدم النقل عليه، ويرجع الحال في اشتراكه بحسب العرف
إلى الصورة المتقدمة، نظرا إلى الشك في هجر المعنى الأول وعدمه.
ومنها: أن نجد للفظ معنيين في العرف ونجد استعماله في اللغة في معنى ثالث
يناسبهما ونشك في كون ذلك هو معناه الحقيقي في اللغة ليكون متحد المعنى
بحسبها فيكون منقولا إلى ذينك المعنيين في العرف، أو أنه حقيقة فيهما من أول
الأمر ليكون مشتركا بحسب اللغة من دون نقل، وقضية أصالة تأخر الحادث عدم
306

ثبوت الوضع لهما في اللغة، إلا أنه لما لم يكن وضعه للمعنى الآخر معلوما من
أصله فقضية الأصل عدم ثبوت الوضع له أيضا، وحينئذ فيحتمل ثبوت المعنيين له
بحسب اللغة، لأصالة عدم تغيير الحال فيه، وأن يقال بوضعه لأحدهما ثم طرو
وضعه للآخر، اقتصارا في إثبات الحادث على القدر الثابت. فتأمل.
ومنها: أن يكون مشتركا بين المعنيين بحسب اللغة واستعمل في العرف في
معنى ثالث واشتهر استعماله فيه إلى أن شك في حصول النقل وهجر المعنيين،
فيدور الأمر بين الاشتراك بينهما بحسب العرف - كما كان في اللغة - ونقله إلى
المعنى الثالث، ولا ريب أن قضية الأصل حينئذ بقاء اشتراكه بين المعنيين
المفروضين إلى أن يثبت النقل.
سادسها: دوران الأمر بين الاشتراك والنسخ، كما إذا قال: " ليكون ثوبي
جونا " وعلمنا بوضع الجون للأحمر، ثم قال بعد ذلك: " ليكون أسود " فشك حينئذ
في وضع الجون للأسود أيضا حتى يكون مشتركا، فيكون قوله الثاني قرينة معينة
لإرادة ذلك من أول الأمر، أو أنه نسخ الحكم الأول بذلك من غير أن يكون هناك
اشتراك بين المعنيين، وليفرض هناك انتفاء العلاقة المصححة للتجوز لئلا يقوم
احتمال المجاز أيضا، وحينئذ ربما يرجح الاشتراك، لغلبته على النسخ، ولأنه
يثبت بأي دليل ظني أقيم عليه بخلاف النسخ، إذ لا يثبت إلا بدليل شرعي بل ربما
يعتبر فيه ما يزيد على ما اعتبر في الدليل على سائر الأحكام، ولأن غاية ما يلزم
من الاشتراك الاجمال أحيانا بخلاف النسخ، فإن قضيته إبطال العمل بالدليل السابق.
وأنت خبير بما في جميع ذلك، فلا وجه لإثبات الوضع للمعنى المفروض بهذه
الوجوه الموهونة من غير قيام شاهد عليه من النقل أو الرجوع إلى لوازم الوضع
ونحو ذلك مما يفيد ظنا به.
فالأظهر عدم ثبوت اشتراك اللفظ بين المعنيين بمجرد دفع احتمال النسخ في
مورد مخصوص، ولا الحكم بثبوت النسخ هناك أيضا، وقضية ذلك التوقف في
حكمه بالنظر إلى ما تقدم على ورود الدليل المذكور وإن كان البناء على حمله
307

على معناه الثابت والحكم بكون الثاني ناسخا له لا يخلو عن وجه.
سابعها: الدوران بين النقل والمجاز، والمعروف فيه ترجيح المجاز لا نعرف
فيه خلافا، لأصالة عدم تحقق الوضع الجديد وعدم هجر المعنى الأول، ولتوقف
النقل غالبا على اتفاق العرف العام أو الخاص عليه، بخلاف المجاز، مضافا إلى
غلبة المجاز وشيوعه في الاستعمالات.
وما قد يتخيل في المقام من أن الدوران بين النقل والمجاز إنما يكون مع كثرة
استعمال اللفظ في ذلك المعنى - كما في الحقائق الشرعية - ليكون من مظان حصول
النقل حتى يتحقق الدوران بين الأمرين، وحينئذ فترجيح المجاز يستلزم اعتبار
وجود القرينة في كل من استعمالاته مع كثرتها وشيوعها، وقضية الأصل في كل
واحد منها عدمها، بخلاف ما لو قيل بالنقل، وربما يحكى عن البعض ترجيحه النقل
على المجاز لأجل ذلك، ففرع عليه ثبوت الحقيقة الشرعية أخذا بالأصل المذكور.
موهون جدا، إذ بعد ظهور التجوز في نظر العقل من جهة أصالة بقاء الوضع
الثابت وعدم حصول ناسخ له، مضافا إلى كثرته وشيوعه يحكم بلزوم ضم القرينة
في كل استعمال واقع قبل ذلك أو بعده، إذ ذلك من لوازم المجازية ومتفرعاته
ولا يجعل أصالة عدمه مانعا من جريان الأصل في أصله، لما عرفت من عدم
معارضة أصالة عدم الفروع المترتبة على عدم الشئ لأصالة عدمه، فإن قضية
حجية الأصل الأخذ بمتفرعاته.
نعم، لما كان الأمر في المقام دائرا مدار الظن فلو فرض تفرع أمور بعيدة عن
نظر العقل على الأصل المفروض أمكن معارضته له من جهة ارتفاع المظنة - كما
هو الحال في الحقيقة الشرعية - إلا أن المقام ليس كذلك، بل بالعكس لشيوع
التجوز في الاستعمالات.
ومع الغض عن ذلك فإثبات الوضع بمجرد أصالة عدم ضم القرينة في
الاستعمال استناد في إثبات الأوضاع إلى التخريجات، وقد عرفت وهنه.
مضافا إلى أن لزوم ضم القرينة إليه مقطوع به قبل حصول النقل، فقضية
308

الأصل بقاؤه، فإن أريد من أصالة عدم ضم القرائن أصالة عدم لزومه فهو واضح
الفساد، إذ قضية الأصل فيه بالعكس استصحابا للحكم السابق.
وإن أريد به أصالة عدمه مع لزوم اعتباره فهو أوضح فسادا منه.
فظهر بما قررنا أن قضية الأصل في ذلك تقديم المجاز ولو مع قطع النظر عن
ملاحظة الظهور الحاصل من غلبة المجاز.
ثامنها وتاسعها: الدوران بين النقل والتخصيص وبينه وبين التقييد، والأمر
فيهما ظاهر مما قررناه سيما بملاحظة اشتهارها في الاستعمالات، مضافا إلى أن
التزام التقييد غير ظاهر في استعمال اللفظ في المقيد، فضلا عن ثبوت الوضع له.
عاشرها: الدوران بين النقل والإضمار كما في قوله تعالى: * (وحرم الربو) * (1)
فإن الربا حقيقة لغة في الزيادة، ويحتمل نقله شرعا إلى العقد المشتمل عليها، فعلى
الأول يفتقر إلى إضمار مضاف كالأخذ دون الثاني.
وقد عرفت مما ذكرناه ترجيح الإضمار، إذ مجرد أصالة عدم الإضمار
لا يثبت وضعا للفظ سيما مع عدم ثبوت الاستعمال فيه، فبعد ثبوت المعنى الأول
وتوقف صحة الكلام على الإضمار لا بد من الالتزام به، لا أن يثبت وضع جديد
للفظ بمجرد ذلك، وقد نص جماعة على أولوية الإضمار على النقل من غير خلاف
يعرف فيه.
وفي كلام بعض الأفاضل نفي البعد عن ترجيح النقل عليه لكونه أكثر،
ولا يخفى بعده، على أن الكثرة المدعاة غير ظاهرة، إذ اعتبار الإضمار في
المخاطبات أكثر من أن يحصى وربما كان أضعاف المنقولات.
حادي عشرها: الدوران بين النقل والنسخ، ففي المنية ترجيح النقل عليه،
وكأنه لكثرة النقل بالنسبة إلى النسخ.
وأنت خبير بأن بلوغ كثرة النقل وقلة النسخ إلى حد يورث الظن بالأول

(1) البقرة: 275.
309

غير معلوم، لطريان النسخ كثيرا على الأحكام الشرعية والعادية، فلو سلم الغلبة
في المقام فليست بتلك المثابة، فقضية ثبوت المعنى الأول وعدم ثبوت الثاني
هو البناء على النسخ، أخذا بمقتضى الوضع الثابت.
وقد يرجح النقل أيضا بما مر من الوجه في ترجيح الاشتراك على النسخ،
وقد عرفت وهنه. فتأمل.
المقام الثاني: في بيان ما يستفاد منه حال اللفظ بالنسبة إلى خصوص
الاستعمالات، وهي وجوه عشرة:
أحدها: الدوران بين المجاز والتخصيص، والمعروف ترجيح التخصيص، وقد
نص عليه جماعة من الخاصة والعامة، كالعلامة وولده والبيضاوي والعبري
والأصفهاني وغيرهم.
وربما يعزى إلى المصنف التوقف في الترجيح، فيتوقف البناء على كل منهما
على مرجح خارجي، وكأنه لما في كل من الأمرين من مخالفة الظاهر، ولا ترجيح
بحسب الظاهر بحيث يورث الظن بأحدهما.
وفيه: أن في التخصيص رجحانا على المجاز من وجوه شتى:
أحدها: أن التخصيص أكثر من المجاز في الاستعمال حتى جرى قولهم:
" ما من عام إلا وقد خص " مجرى الأمثال.
وقد يستشكل فيه بأن الأكثرية الباعثة على المظنة ما إذا كان الطرف الآخر
نادرا، وأما إذا كان شائعا أيضا فإفادتها للظن محل تأمل، كما هو الحال فيما نحن
فيه، لعدم ندرة المجاز في الاستعمالات، كيف! وقد اشتهر أن أكثر اللغة مجازات.
وقد يقال بأن استعمال العام في عمومه نادر بالنسبة إلى استعمال اللفظ في
معناه الحقيقي، لشيوع الثاني فإذا دار الأمر في الخروج عن الظاهر بين الأمرين
فالظاهر ترجيح الأول.
وقد يناقش فيه بأن أقصى ما يدل عليه ذلك ترجيح التخصيص على
المجاز في العام الذي لا يظهر له مخصص سوى ما هو المفروض، وأما إذا ثبت
310

تخصيصه بغير ذلك فهو كاف في الخروج عن الندرة، فترجيح التخصيص الثاني
يحتاج إلى الدليل.
ويمكن الذب عنه بأنه إذا ثبت ترجيح التخصيص في العام الذي لم يخصص
ففي غيره بالأولى، لوهن العموم بعد تطرق التخصيص إليه حتى أنه قيل بخروجه
بذلك عن الحجية في الباقي.
ثانيها: أن ذلك هو المفهوم بحسب العرف بعد ملاحظة الأمرين، كما إذا قال:
أكرم العلماء، ثم قال: لا يجب إكرام زيد، فإنه لا شك في فهمهم من ذلك استثناء
زيد من الحكم، لا أنه يحمل الأمر في " أكرم " على الندب أو يتوقف بين الأمرين.
فتأمل.
ثالثها: ما عرفت من شهرة القول بترجيح التخصيص، ونص جماعة من فحول
الأصوليين عليه، فيقدم في مقام الترجيح لابتناء المقام على الظن هذا إذا لوحظ
كل من التخصيص والمجاز في نفسه، وقد يعرض لكل منهما ما يوجب رجحان
المجاز أو التوقف بينهما - كما إذا كان المجاز مشهورا أو كان التخصيص نادرا -
فهناك إذن وجوه:
منها: أن يكون المجاز مشهورا والتخصيص بعيدا مرجوحا، ولا شبهة إذن
في ترجيح المجاز.
ومنها: أن يكون التخصيص نادرا - كما إذا اشتمل على اخراج معظم أفراد
العام من غير أن يكون في المجاز مزية باعثة على رجحانه - والظاهر حينئذ
ترجيح المجاز أيضا، لبعد التخصيص كذلك حتى أنه ذهب جماعة إلى امتناعه في
بعض صوره.
ومنها: أن يكون في المجاز مزية باعثة على رجحانه من غير أن يكون
في التخصيص ما يوجب وهنه، فإن كان رجحان المجاز من جهة شهرته وقد بلغ
في الشهرة إلى حيث يترجح على الحقيقة بملاحظة الشهرة أو يعادلها فلا شبهة إذن
في ترجيح المجاز، وإلا ففي ترجيحه على التخصيص إشكال.
311

وقد يقال بترجيحه عليه مع كون الباعث على رجحانه الشهرة، نظرا إلى كون
الغلبة الحاصلة فيه شخصية بخلاف غلبة التخصيص، فإنها غلبة نوعية، والأظهر
الرجوع حينئذ إلى ما هو المفهوم بحسب المقام بعد ملاحظة الجهتين.
ومنها: أن يكون المجاز نادرا والتخصيص اللازم أيضا كذلك، فقد يتخيل إذن
ترجيح التخصيص أيضا، لغلبة نوعه والأظهر الرجوع إلى ما هو الظاهر في
خصوص المقام ومع التكافؤ فالتوقف.
ثانيها: الدوران بين المجاز والتقييد، والظاهر أن حكمه حكم الدوران بينه
وبين التخصيص، فالظاهر ترجيح التقييد لظاهر فهم العرف، مؤيدا بما مر من
الغلبة، مضافا إلى أن التقييد قد لا يكون منافيا لاستعمال اللفظ فيما وضع له فهو
وإن كان خلاف الظاهر أيضا إلا أنه راجح بالنسبة إلى ما كان مخالفته للظاهر من
جهة ارتكاب التجوز.
وقد يفصل بين التقييد الذي يندرج في المجاز بأن يستعمل المطلق في
خصوص المقيد وما لا تجوز فيه، فإن الأول نوع من المجاز مع التأمل في شيوعه،
فإن معظم التقييدات من قبيل الثاني فهو بمنزلة سائر المجازات بخلاف الثاني.
ولا يخلو عن وجه.
ثالثها: الدوران بين المجاز والإضمار، وقد نص العلامة (رحمه الله) في النهاية
والتهذيب على تساويهما، فيتوقف الترجيح على ملاحظة المرجحات في
خصوص المقامات، وكأنه الأظهر، لشيوع كل من الأمرين واشتراكهما في مخالفة
الظاهر. ومجرد أشيعية المجاز على فرض تسليمه لا يفيد ظنا في المقام، ليحكم
بثبوت ما يتفرع عليه من الأحكام، هذا إذا اختلف الحكم من جهة البناء على كل
من الوجهين، وأما إذا لم يكن هناك اختلاف كما في قوله تعالى: * (وسئل القرية) * (1)
فلا إشكال.
وذهب غير واحد من المتأخرين إلى ترجيح المجاز، نظرا إلى كثرته، وربما

(1) سورة يوسف: 82.
312

ضم إليه أفيديته، وكلا الأمرين في محل المنع، وبعد ثبوتها فكون ذلك باعثا
على الفهم كما ترى.
وحكي عن البعض ترجيح الإضمار، وكأنه من جهة أصالة الحمل على
الحقيقة، إذ لا مجاز في الإضمار.
ويدفعه: أنه وإن لم يكن الإضمار باعثا على الخروج عن مقتضى الوضع
إلا أن فيه مخالفة للظاهر قطعا، فإن الظاهر مطابقة الألفاظ للمعاني المقصودة
في الكلام، فبعد كون الأمرين مخالفين للظاهر يحتاج الترجيح إلى مرجح.
وفيه تأمل، إذ بعد قيام القرينة الظاهرة على المحذوف لا حاجة إلى ذكره بل
قد يعد ذكره لغوا، فلا مخالفة فيه إذن للظاهر، بخلاف المجاز للخروج فيه عن
مقتضى الظاهر على كل حال.
نعم، لو قيل بثبوت الوضع النوعي في المركبات وجعلت الهيئة الموضوعة هي
ما كانت طارئة على الكلمات التي يراد بيان معانيها الإفرادية للتوصل إلى المعنى
المركب بعد ملاحظة وضع الهيئة من دون اسقاط شئ منها كان في الحذف إذن
خروج عن ظاهر الوضع، إلا أنه أجاز الواضع ذلك مع قيام القرينة على المحذوف
إلا فيما قام الدليل على المنع منه حسب ما فصل في محله.
وحينئذ فقد يقال بكون التوسع في المدلول، وقد يجعل من قبيل التوسع
في الدال.
وكيف كان يكون ذلك أيضا نحوا من المجاز، وقد يشير إليه عدهم الإضمار
أو بعض أقسامه من جملة المجاز حيث يعبرون عنه بمجاز الحذف. فتأمل.
رابعها: الدوران بين المجاز والنسخ، وقد نص في المنية على ترجيح المجاز
عليه، وكأنه مما لا ريب فيه، لظاهر فهم العرف، ولغلبة المجاز بالنسبة إلى النسخ،
وندور النسخ بالنسبة إليه.
وقد يقال بكون النسخ من أقسام التخصيص، فإنه تخصيص في الأزمان،
وقد مر ترجيح التخصيص على المجاز، فينبغي إذن ترجيح النسخ عليه أيضا.
313

ويدفعه: بعد تسليم كونه تخصيصا أنه ليس المراد بالتخصيص هناك ما يشمل
ذلك، بل المراد به ما عداه، لوضوح ندرة النسخ بالنسبة إلى المجاز وغيره وعدم
انصراف الكلام إليه مع دوران الأمر بينه وبين المجاز.
وبالجملة: أنه ليس من التخصيص المعروف الذي مرت الإشارة إليه.
نعم، لو كان نفي الحكم بالنسبة إلى بعض الأزمان مندرجا في التخصيص
المعروف لم يبعد ترجيحه على المجاز - كما إذا قال: " أكرم زيدا كل يوم "، ثم قال
بعد عدة أيام: " لا يجب عليك إكرام زيد " - إذ من القريب حينئذ البناء على
تخصيص الحكم بالأيام السالفة، إلا أنه قد يتأمل في اندراج ذلك في النسخ
المذكور في المقام.
هذا، ولو كان ورود ما يحتمل النسخ بعد حضور وقت العمل تعين الحكم
بالنسخ، لما تقرر من عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو حينئذ خارج
عن محل الكلام، هذا إذا علم انتفاء البيان السابق.
وأما مع الشك فيه - كما هو الحال في غالب الأخبار الواردة عندنا سواء كانت
نبوية ليحتمل كونها هي الناسخة، أو إمامية لا يحتمل فيها ذلك، لقيام احتمال كونها
كاشفة عن الناسخ - فالظاهر أيضا فيها ترجيح المجاز، لما قلناه، ويحتمل التوقف
في الأول، أو ترجيح النسخ، نظرا إلى أصالة عدم تقدم غيره.
خامسها: الدوران بين التخصيص والتقييد، كما في قولك: " أكرم العلماء، وإن
ضربك رجل فلا تكرمه " فيدور الأمر في المقام بين تخصيص العام في الأول بغير
الضارب، وتقييد الرجل في الثاني بغير العالم، وجهان:
التوقف في المقام حتى يظهر الترجيح من ملاحظة خصوصيات الموارد،
لشيوع الأمرين وتساويهما في كونهما مخالفين للأصل.
وترجيح التقييد، لضعف شموله للأفراد بالنسبة إلى شمول العام، فإن شمول
العام لها بحسب الوضع وشمول المطلق من جهة قضاء ظاهر الإطلاق، وأنه
لا تجوز في التقييد في الغالب بخلاف التخصيص. وكأنه الأظهر.
314

وقد يتأمل فيما لو كان التقييد على سبيل التجوز باستعمال المطلق في
خصوص المقيد، إذ قد يقال حينئذ بكونه من المعارضة بين التخصيص والمجاز.
فتأمل.
وقد يعد من ذلك دوران الأمر بين اخراج بعض الأفراد عن العموم أو تقييد
الحكم فيما يراد اخراجه ببعض الأحوال، كما في قوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * (1)
فإنه بعد ثبوت خيار المجلس مثلا في البيع يجب ارتكاب أحد الأمرين من القول
بخروج البيع عن العام المذكور وتخصيصه بغيره أو تقييد الحكم الثابت للبيع بغير
الصورة المفروضة.
وأنت خبير بأنه لا دوران في المقام بين التقييد والتخصيص، فإنا إن قلنا
بعموم الحكم لكل الأفراد في كل الأحوال فلا تأمل إذن في أن القدر الثابت
اخراجه هو خصوص الحالة المذكورة، وهو أيضا تخصيص للعام، وإن قلنا بأن
عمومه إنما يثبت بالنسبة إلى الأفراد دون الأحوال فلا موجب إذن للقول
بالتخصيص، إذ الدليل إنما دل على عدم ثبوت الحكم بالنسبة إلى الحال المفروض
فيثبت اللزوم في سائر أحواله من جهة إطلاق دلالة العام على ثبوت اللزوم.
وبالجملة: أقصى ما يقتضيه الدليل المذكور اخراج البيع بالنسبة إلى خصوص
الحالة المفروضة ليس إلا، فمن أين يجئ الدوران بين التخصيص والتقييد، فما
في كلام بعض الأفاضل من عد ذلك من المسألة كما ترى.
سادسها: الدوران بين التخصيص والإضمار، والظاهر ترجيح التخصيص،
لرجحانه على المجاز المساوي للإضمار، وعلى القول برجحان المجاز على
الإضمار فالأمر أوضح، وأما على القول برجحان الإضمار على المجاز فربما
يشكل الحال في المقام، إلا أنه لا يبعد البناء على ترجيح التخصيص أيضا، نظرا
إلى غلبته وشيوعه في الاستعمالات.
سابعها: الدوران بين التخصيص والنسخ، فعن ظاهر المعظم ترجيح التخصيص

(1) سورة المائدة: 1.
315

مطلقا، وهو الأظهر، إذ هو المفهوم بحسب العرف سيما مع تأخر الخاص،
بل الظاهر الاتفاق عليه حينئذ، ولغلبة التخصيص على النسخ، ولما في النسخ من
رفع الحكم الثابت ومخالفة ظاهر ما يقتضيه المنسوخ من بقاء الحكم، بخلاف
التخصيص، إذ ليس فيه إلا مخالفة لظاهر العام، كما مرت الإشارة إليه، وأيضا
قد عرفت تقدم المجاز على النسخ فيقدم عليه التخصيص الراجح على المجاز.
وعن جماعة منهم السيد والشيخ القول برجحان النسخ على التخصيص في
الخاص المتقدم على العام، لدعوى فهم العرف، وأن التخصيص بيان فلا يتقدم
على المبين. وهما مدفوعان بما لا يخفى، وسيجئ تفصيل القول في ذلك إن شاء
الله تعالى في مباحث العموم والخصوص عند تعرض المصنف (رحمه الله) له.
ثم إن ما ذكرناه من ترجيح التخصيص على النسخ إنما هو بملاحظة كل منهما
في ذاته حسب ما مر، وأما بملاحظة الخصوصيات اللاحقة، فقد يقدم النسخ عليه،
كما إذا كان التخصيص بعيدا وكان البناء على النسخ أقرب منه كما إذا لزم مع البناء
على التخصيص اخراج معظم أفراد العام، أو كان في المقام ما ينافي ذلك، وهو
كلام آخر خارج عن المرام.
واعلم أنه لو كان في المقام ما يوجب تكافؤ احتمالي التخصيص والنسخ
فالواجب التوقف حينئذ في الحكم بأحد الأمرين، إلا أنه لا فرق بين الوجهين مع
تأخر الخاص بالنسبة إلى ما بعد وروده، للزوم الأخذ الخاص حينئذ والعمل
بمقتضى العام فيما عداه من أفراده، وإنما الكلام حينئذ في حال الزمان السابق مما
يحتمل وقوع النسخ بالنسبة إليه ولا يتفرع عليه ثمرة مهمة، مضافا إلى ما عرفت
من كون احتمال النسخ حينئذ في كمال الوهن فاحتمال تكافؤهما بعيد جدا.
وأما إذا تقدم الخاص وتأخر العام فلا إشكال إذن بالنسبة إلى سائر أفراد
العام، إذ لا معارض بالنسبة إليها، وأما بالنسبة إلى مورد الخاص فهل يحكم بعد
تكافؤهما وانتفاء المرجحات بمقتضى الأصول الفقهية من التخيير، أو الطرح
والرجوع إلى البراءة، أو الاحتياط، أو لا بد من الأخذ بالخاص؟ وجهان، من أنهما
316

بعد تكافؤهما لا ينهضان حجة على المطلق فلا بد من البناء على الوجه المذكور،
ومن أن الحكم بمدلول الخاص قد ثبت أولا قطعا وإنما الكلام في رفعه وهو
مشكوك بحسب الفرض فيستصحب إلى أن يعلم الرافع، وحيث أن حجية
الاستصحاب مبنية على التعبد فلا مانع من الأخذ به مع انتفاء الظن. وكأن هذا
هو الأظهر.
ثامنها: الدوران بين التقييد والإضمار.
تاسعها: الدوران بينه وبين النسخ، والحال فيهما كالحال في دوران الأمر بين
التخصيص وكل منهما، بل الظاهر أن الحكم بالتقديم فيه أوضح من التخصيص،
لانتفاء التجوز فيه في الغالب، ويجئ في الأول منهما نظير ما مر من احتمال
التفصيل.
عاشرها: الدوران بين الإضمار والنسخ، وقد نص في المنية بترجيح الإضمار،
ولم أعرف من حكم فيه بتقديم النسخ أو بنى على الوقف. ويدل عليه ظاهر فهم
العرف، وبعد النسخ، وشيوع الإضمار، ومخالفة النسخ للأصل والظاهر، كما مرت
الإشارة إليه.
ولو تكافأ الاحتمالان بملاحظة خصوصية المقام، فإن كان هناك قدر جامع
اخذ به، ولا بد في غيره من الوقف والرجوع، إلى القواعد والأصول الفقهية.
ثم إنك قد عرفت أن ما ذكرناه من ترجيح بعض الوجوه المذكورة على آخر
إنما هو بالنسبة إلى معرفة المراد من اللفظ، وتعيين ما هو المستفاد منه في متفاهم
أهل اللسان بعد معرفة نفس الموضوع له، وأما استعلام المعنى الموضوع له
بملاحظة ذلك - كما إذا كان ترجيح التخصيص باعثا على الحكم بثبوت الوضع
للعموم - فلا يحصل بمثل ذلك، فإن الاستناد إليها في ذلك يشبه الاعتماد على
التخريجات العقلية في إثبات الأمور التوقيفية، وتحصيل الظن بالوضع من جهتها
في كمال البعد، والفرق بين المقامين ظاهر كما لا يخفى على المتأمل.
هذا ملخص القول في مسائل الدوران، وقد عرفت أن ما ذكرناه من ترجيح
317

بعض هذه الوجوه على البعض إنما هو بملاحظة كل منهما في نفسه مع قطع النظر
عن الأمور الطارئة بحسب المقامات الخاصة، فلا بد إذن في الحكم بالترجيح في
خصوص المقامات من الرجوع إلى الشواهد القائمة في خصوص ذلك المقام.
ولا يغرنك ما ذكر من وجوه الترجيح في الحكم به مع الغفلة عن ملاحظة
سائر المرجحات الحاصلة في المقامات الخاصة، كيف! وليس الأمر في المقام
مبنيا على التعبد وإنما المناط فيه تحصيل الظن وحصول الفهم بحسب المتعارف
في المخاطبات، فإن حصل ذلك من ملاحظة ما ذكرناه مع ضم ما في خصوص
المقام إليه فلا كلام، وإلا فلا وجه للحكم بأحد الوجهين وترجيح أحد الجانبين من
غير ظن به.
فالعمدة في فهم الكلام عرض العبارة الواردة على العرف وملاحظة المفهوم
منها عند أهل اللسان فيؤخذ به وإن كان فيه مخالفة لما قرر لما في التراجيح من
وجوه شتى، فلا يمكن دفع فهم العرف في خصوص المقام بمثل ما مر من الوجوه.
نعم، إن لم يكن في خصوص المقام ما يقضي بالحكم بأحد الوجوه فالمرجع
ما قررناه، والظاهر جريان فهم العرف على ذلك كما مرت الإشارة إليه.
هذا ولو دار الأمر بين المجازين والمجاز الواحد والتخصيصين والتخصيص
الواحد رجح الواحد على المتعدد... وهكذا الحال في غيرهما من سائر الوجوه،
إلا أن يكون في المقام ما يرجح جانب المتعدد.
ولو دار الأمر بين المجاز الواحد والتخصيصين لم أر من حكم بترجيح أحد
الجانبين. والظاهر الرجوع إلى فهم العرف في خصوص المقام.
ولو دار الأمر بين المجازين والإضمار الواحد أو الإضمارين والمجاز
الواحد قدم الواحد في المقامين بناء على مساواة المجاز والإضمار.
ويعرف بذلك الحال في التركيبات الثلاثية والرباعية وما فوقها، الحاصلة من
نوع واحد أو ملفقة من أنواع متعددة مع اتفاق العدد من الجانبين واختلافه، والمعول
عليه في جميع ذلك ما عرفت من مراعاة الظن بالمراد على حسب متفاهم العرف.
318

ولنختم الكلام في المقام بذكر مسائل متفرقة من الدوران غير ما بيناه ليكون
تتميما للمرام.
منها: أنه لو كان اللفظ مشتركا بين معنيين أو معان ودار المراد بينها حيث لم
ينصب قرينة على التعيين فإن كان بعض تلك المعاني مشهور في الاستعمالات
دون الباقي تعين الحمل عليه، فيكون اشتهاره قرينة معينة للمراد. لكن قد عرفت
أن مجرد الأغلبية غير كاف في ذلك، بل لا بد من غلبة ظاهرة بحيث توجب
انصراف الإطلاق إليه عرفا ولو على سبيل الظن.
ولو لم يكن هناك شهرة مرجحة للحمل على أحد المعنيين أو المعاني وجب
التوقف في الحمل، وكذا الحال بالنسبة إلى المعاني المجازية بعد وجود القرينة
الصارفة وانتفاء ما يفيد التعيين رأسا كما سيجئ بيانه إن شاء الله.
وعلى قول من يذهب إلى ظهور المشترك في جميع معانيه عند الإطلاق
يجب حمله على الكل مع الإمكان، فيرجع إلى العموم. وعلى ما ذهب إليه صاحب
المفتاح من ظهوره في أحد معانيه بناء على كون مراده من أحد المعاني هو الكلي
الصادق على كل منها يتخير في الإتيان بأي منها، فيرجع إلى المطلق.
وهما ضعيفان حسب ما يأتي الإشارة إليه إن شاء الله.
وقد يتعين الحمل على أحد المعاني الحقيقية أو المجازية من جهة لزوم أحد
الأمور المخالفة، للأصل في بعضها، وعدم لزومه في الآخر، فيترجح الخالي عن
المخالفة على المشتمل عليها والمشتمل على الأهون على غيره أخذا بمقتضى ما
قرر في مسائل الدوران، فيكون ذلك قرينة على التعيين، وليس ذلك استنادا في
تعيين المراد إلى التخريجات والمناسبات، بل لقضاء فهم العرف به، فالبناء على
ذلك مبتن على فهم العرف فلو انتفى الفهم في خصوص بعض المقامات لم يصح
الاتكال عليه حسب ما مرت الإشارة إليه.
ثم مع تكافؤ الحمل على كل من المعنيين لتساوي الاحتمالين في أنفسهما أو
من جهة ملاحظة العرف في خصوص المقام فلا بد من التوقف في الحمل، وحينئذ
319

فإن كان أحدهما مندرجا في الآخر اندراج الخاص تحت العام أو الجزء تحت
الكل اخذ به قطعا ودفع الباقي بالأصل إن كان الحكم هناك مخالفا للأصل،
وإلا اخذ به من جهة الأصل لا لاستفادته من اللفظ.
ثم على الأول إنما يصح رفع الزائد بالأصل إذا لم يكن الحكم في الكل منوطا
بجميع أجزائه أو جزئياته بحيث لا يحصل الامتثال إلا باجتماع الكل، وأما مع
ذلك فالأظهر لزوم الاحتياط أخذا بيقين الفراغ بعد اليقين بالاشتغال، وسيجئ
تفصيل القول فيه في مباحث أصالة البراءة إن شاء الله.
ولو علق عليه ثبوت تكليف آخر فالظاهر إذن عدم ثبوته إلا مع ثبوت
الأخص أو الأكثر أخذا بالبراءة.
ولو علق عليه جواز الفعل فإن لم يكن محرما مع قطع النظر عن ذلك اخذ
بالأقل أو الأعم، عملا بالأصل، وإلا اخذ بالأخص أو الأكثر تقليلا للتخصيص بناء
على جواز التخصيص بالمفهوم.
وإن لم يكن أحدهما مندرجا في الآخر فإن كان هناك قدر جامع بين
المعنيين ثبت ذلك إن أمكن الأخذ به، ويرجع فيما عداه إلى حكم الأصل فيما إذا
كان الحكم في أحدهما موافقا له دون الآخر، وإلا يرجع الأمر فيه إلى التخيير
أو الطرح والرجوع إلى أصل البراءة أو الاحتياط حسب ما يبنى عليه في ذلك.
وإن لم يكن هناك قدر جامع فإن كان أحد المعنيين موافقا للأصل والآخر
مخالفا اخذ بما يوافق الأصل، لعدم ثبوت ما يخالفه نظرا إلى إجمال اللفظ.
وقد يرجح الحمل على المخالف، نظرا إلى كونه على الأول مؤكدا لحكم
الأصل، فالتأسيس أولى منه. وهو ضعيف وإلا لزم الرجوع إلى الأصول الفقهية.
ومنها: أنه لو قامت قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي وكانت هناك معان
مجازية ودار الأمر بينها فإن كان الكل متساويا بحسب القرب من الحقيقة والبعد
عنها وكذلك في كثرة الاستعمال فيها وقلته فلا إشكال في لزوم الوقف في الحمل،
والحكم بإجمال المراد إلى أن يجئ قرينة على التعيين، والحكم فيه إذن على
320

حسب ما فصلناه في المشترك.
وربما يحتمل في المقام حمله على جميع المعاني المجازية نظير ما قيل من
ظهور المشترك في إرادة الجميع عند انتفاء القرينة المعينة.
وهو فاسد جدا، أما على القول بعدم جواز استعمال اللفظ في المعنيين ولو
كان محاذيين فظاهر، وأما على القول بجوازه فلأن حمل اللفظ على الكل أيضا
مجاز ولا دليل على تعيينه، مضافا إلى أنه على فرض جوازه من أبعد المجازات
في الاستعمالات، فكيف يحمل اللفظ عليه مع الإطلاق.
وربما يقال بلزوم حمل اللفظ عليها بأسرها على سبيل البدلية، حكاه
العلامة (رحمه الله) في النهاية حيث قال: " وإن انحصرت وجوه المجاز وتساوت حمل
اللفظ عليها بأسرها على البدل، أما على الجميع فلعدم أولوية البعض بالإرادة،
وأما البدلية فلعدم عموم الخطاب حتى يحمل على الجميع، هذا عند من يجوز
استعمال المشترك في مفهوميه " إنتهى.
وهذا أيضا كسابقه في الوهن، لبعد الاستعمال المذكور جدا عن ظاهر
المخاطبات العرفية، فحمل المطلق عليه فاسد جدا.
ومجرد جواز استعمال المشترك في معنييه غير قاض به عند القائل به، ولذا
ذهب معظم القائلين به إلى إجمال المشتركات حتى يقوم دليل على التعيين أو
إرادة الكل، بل نص جماعة منهم بكون إطلاقه على الكل أبعد الوجوه، فكيف
يصح على القول به حمل اللفظ هنا مع الإطلاق على جميع المجازات؟ ففي
إسناده (رحمه الله) القول المذكور إلى من جوز استعمال المشترك في مفهوميه ما لا يخفى،
وكأنه تخريج منه (رحمه الله)، تفريعا على القول المذكور.
وأنت خبير بأنه إن صح التفريع في المقام فإنما يتفرع ذلك على ما يتراءى
من كلام صاحب المفتاح في المشترك حسب ما مرت الإشارة إليه أو على القول
بظهور المشترك في جميع معانيه، إلا أن الظاهر حينئذ البناء على ظهور المجاز
أيضا في الجميع تنزيلا للمعاني المجازية منزلة المعاني الحقيقية، وحينئذ فما ذكره
321

في بيان كون إرادتها على سبيل البدلية من انتفاء العموم في الخطاب ليس في
محله، كيف! وهو جار في المشترك أيضا.
ثم إن قضية ما ذكره هو الحمل على الجميع على سبيل الاستغراق لو كان
هناك ما يفيد العموم، كما إذا كان اللفظ نكرة واردة في سياق النفي أو النهي أو
دخل عليه أحد أدوات العموم.
وكيف كان، فالوجه المذكور أيضا بين الفساد، لا حاجة إلى إطالة الكلام فيه.
وأما إذا اختلفت المجازات فإما أن يكون اختلافها من جهة قرب بعضها من
الحقيقة وشدة علاقته لها وبعد الباقي وضعفه في العلاقة، أو من جهة اشتهار بعضها
وتداوله في الاستعمالات دون الباقي، وكل من الوجهين المذكورين باعث على
تعين المجاز بعد وجود القرينة الصارفة عن الحقيقة من غير حاجة إلى ضم القرينة
المعينة للمراد.
أما الأول فلما فيه من كمال الارتباط والمناسبة الجلية الباعثة على فهم ذلك
بحسب العرف بعد تعذر الحقيقة، ففهم العرف هو المناط في ذلك، والمنشأ له هو
الأقربية وشدة الارتباط والمناسبة.
وفي كلام بعض المحققين أن السبب فيه الغلبة والاشتهار المقتضي للتعين
بنفسه أو بواسطة التبادر، فإن قوة العلاقة في المجاز وشدة المناسبة من أعظم
دواعي الرغبة في استعماله المفضية إلى الغلبة والاشتهار.
وأنت خبير بأن انفهام أقرب المجازات بعد تعذر الحقيقة ليس إلا من جهة
ملاحظة نفس المعنى من غير ملاحظة لغلبته واشتهاره أصلا، ولو كان الفهم من
الجهة المذكورة للزم اعتبارها وملاحظتها حال الانتقال إليه، ومن البين خلافه.
وأيضا كون الأقربية باعثة على شهرة المجاز محل منع، وإنما الباعث عليه
شدة الحاجة إلى المعنى ووفور الاحتياج إليه في المحاورات، وهي قد تكون
بالنسبة إلى غير الأقرب دونه، إذ من الواضح أن مجرد القرب من الحقيقة
لا يقتضي شدة الحاجة إليه، فالظاهر أن نفس قرب المعنى هو الباعث على
322

الانتقال إليه، والحمل عليه بعد تعذر الحقيقة، وليس ذلك استنادا في الفهم إلى
التخريجات العقلية والمناسبات الاعتبارية بل إلى فهم أهل اللسان، وتبادر ذلك
عندهم بعد تعذر الحقيقة حسب ما ذكرناه.
فالمناط في الأقربية الملحوظة في المقام هي التي تكون باعثة على انصراف
اللفظ إليه حينئذ بمقتضى فهم العرف، لا مطلق الأقربية في الجملة وهو ظاهر.
فمن ذلك: انصراف اللفظ الدال على نفي الحقيقة بعد العلم بوجودها إلى نفي
الصحة عند دوران الأمر بينه وبين نفي الكمال.
ومنه أيضا: انصراف نفيها فيما لا تتصف بالصحة إلى نفي الآثار والفوائد
المطلوبة، كما في لا علم إلا ما نفع، ولا كلام إلا ما أفاد.
ومنه أيضا: انصراف التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان إلى تحليل
المنافع المقصودة الغالبة وتحريمها، فلا إجمال في شئ من ذلك.
وأما الثاني فلإلحاق المشكوك بالأعم الأغلب، وعليه يجري الأمر في
المخاطبات العرفية، فلا بد حينئذ من كون الشهرة بحيث توجب انصراف اللفظ إليه
في العرف بعد قيام الصارف عن الحمل على الحقيقة فمجرد الأشهرية غير كاف
فيه، بل لا بد من كونها بحيث توجب انفهام المعنى من اللفظ عند الإطلاق، وكون
الشهرة والغلبة باعثة على ذلك مما لا ريب فيه، بل ربما يقتضي اشتهار المجاز إلى
مساواته للحقيقة أو رجحانه عليها، فتكون قرينة صارفة ومعينة، فكيف لا تكون
معينة للحمل عليه ومرجحة له على سائر المجازات بعد وجود القرينة الصارفة عن
الحقيقة؟ وهذا أيضا ظاهر.
ومن ذلك حمل الألفاظ التي استعملها الشارع في المعاني الشرعية على
القول بنفي الحقيقة الشرعية فيها، بعد قيام القرينة الصارفة عن إرادة معانيها اللغوية
ودوران الأمر فيها بين إرادة المعاني الشرعية أو مجاز آخر، فيحمل على الأولى
نظرا إلى غلبة استعمالها في كلام الشارع في المعاني المذكورة واشتهارها فيها
حتى قيل بحصول النقل، ومن البين أن ما عداها ليس كذلك فيقدم الحمل عليها،
323

ولا يكون اللفظ مجملا، كذا ذكره بعض المحققين.
وأنت خبير بأن الدعوى المذكورة على إطلاقها في محل المنع، إذ ليس جميع
الألفاظ المتداولة عندنا مما ثبت كثرة استعمال الشارع لها بحيث يحصل الظن
بإرادة تلك المعاني منها بعد وجود القرينة الصارفة عن إرادة الحقيقة.
نعم، هو ظاهر في الألفاظ المتداولة في كلامه كالصلاة والصيام والحج
والزكاة ونحوها، والقول بثبوت الحقيقة الشرعية فيها لا يتعين أن يكون من جهة
الشهرة والغلبة، بل ظاهر المشهور خلافه، كما سيجئ الكلام فيه إن شاء الله.
هذا، ولو اجتمعت الجهتان المذكورتان - أعني الشهرة والقرب إلى الحقيقة في
بعض المجازات - فتقديمه على الخالي عنهما واضح، وكذا على الخالي عن أحدهما.
ولو تعارضت الجهتان بأن كان بعض المجازات مشهورا في الاستعمالات
وبعضها أقرب إلى الحقيقة فربما يشكل الحال إذن في الترجيح، والظاهر حينئذ
مراعاة أقوى الوجهين وأقربهما إلى الفهم، لاختلاف مراتب الشهرة والقرب إلى
الحقيقة، فلا بد من ملاحظة الراجح منهما والأخذ بمقتضاه.
ومنها: أنه إذا دار الأمر يبن حمل اللفظ على الحقيقة المرجوحة والمجاز
الراجح ولم يكن هناك قرينة دالة على تعيين المراد فهل يقدم الحقيقة أو المجاز؟
أقوال.
فعن أبي حنيفة ترجيح الحقيقة.
وعن الشافعي ترجيح المجاز.
وعن جماعة من العامة والخاصة منهم الغزالي والبيضاوي والعلامة والسيد
العميدي والشهيد الثاني والمصنف والفاضل الخراساني والعلامة الخوانساري
وجماعة من المتأخرين البناء على الوقف وعدم ترجيح أحد المعنيين في الحمل
إلا بقرينة دالة عليه، وحكي القول به عن الشافعي أيضا.
حجة الأول أصالة الحمل على الحقيقة حتى يتبين المخرج، ومجرد الشهرة
لا يصلح صارفا عنها، كيف! وقد شاع تخصيص العام في الاستعمال حتى جرى
324

قولهم: " مامن عام إلا وقد خص " مجرى الأمثال، ومع ذلك لا يستراب في حمله
على العموم حتى يقوم صارف عنه.
وحجة الثاني أن الغلبة وشهرة الاستعمال باعثة على انصراف الإطلاق إلى
المعنى الشائع، وهي من أعظم الأمارات المفيدة للظن.
وحجة الثالث تكافؤ الظن الحاصل من الشهرة للظن الحاصل من الوضع،
فلا يحصل معه ظن بالمراد ومع عدمه لا يمكن الحكم بأحد الوجهين، لابتناء
مداليل الألفاظ وفهم المراد منها على حصول الظن، إذ لا أقل منه في حصول
الفهم، فلا وجه لحمله على أحدهما إلا مع قيام قرينة خارجية على التعيين.
والتحقيق في المقام: أن مراتب الغلبة مختلفة ودرجاتها متفاوتة، فإن شهرة
استعمال اللفظ في المعنى ورجحانه قد يكون بحيث يوجب فهمه من اللفظ
وترجيحه على سائر المجازات من غير حاجة إلى قيام قرينة معينة عليه، لكن بعد
قيام القرينة الصارفة عن معناه الحقيقي، ولا تكون تلك الغلبة بالغة إلى حيث
يكافؤ الظن الحاصل منها الظن المتفرع على الوضع، فلا ريب إذن في ترجيح
الحمل على الحقيقة مع إطلاق اللفظ.
وقد يكون غلبة استعماله فيه فوق ذلك بأن يكون الظن الحاصل من ملاحظة
الشهرة مكافئا لظن الحقيقة، ولا ريب إذن في الوقف وعدم جواز حمله على
أحدهما من دون قرينة دالة عليه.
وقد تكون الغلبة فوق ذلك أيضا فيكون اللفظ بملاحظتها ظاهرا في ذلك
المعنى فيكون الظن الحاصل من الشهرة غالبا على ظن الحقيقة فيتعين القول
حينئذ بترجيح المجاز الراجح، وتكون الشهرة إذن قرينة صارفة عن المعنى
الحقيقي معينة لحمله على ذلك، فإن دلالة القرائن لا تعتبر أن تكون علمية بل
يكتفى فيها بالمظنة، لابتناء مداليل الألفاظ على الظنون، وقيام الاجماع على
حجية الظن فيها.
ويجري ما ذكرناه في مراتب الشهرة بالنسبة إلى سائر القرائن المنضمة
325

إلى اللفظ، فإن الظن الحاصل منها قد لا يعادل ظن الحقيقة فلا يوجب صرف اللفظ
عن الموضوع له، نعم توجب وهن الظن الحاصل منه.
وقد يترجح مفادها على ذلك فيعادل ظنها الظن الحاصل من الوضع، فيقضي
حينئذ بالوقف عن الحمل على الحقيقة أو المجاز، فلا يمكن الحكم بشئ منهما،
فهي وإن لم توجب الحمل على المجاز إلا أنها مانعة من الحمل على الحقيقة أيضا.
وقد يترجح على ذلك أيضا فيقضي بصرف اللفظ عن معناه الحقيقي وحمله
على المجازي على اختلاف مراتبه في الظهور.
فليس الأمر في اللفظ دائرا بين حمله على الحقيقة أو المجاز بأنه إن وجدت
قرينة صارفة حمل على المجاز وإلا فعلى الحقيقة، كما قد يتراءى من ظاهر
كلماتهم بل هناك واسطة بين الأمرين، وهو الوقف عن الحملين، لدوران الحمل
مدار الفهم بحسب العرف بعد ملاحظة المقام، فإذا حصل هناك مانع عن الفهم من
شهرة أو قيام قرينة أخرى توجب ترديد الذهن فلا دليل على لزوم الحمل على
الموضوع له.
والحاصل: أن حمله على الموضوع له أو غيره يدور مدار المتفاهم بحسب
العرف، وأقل مراتبه الظن، وليس الأمر مبنيا على التعبد حسب ما مر تفصيل القول
فيه.
فظهر بما قررنا ضعف كل من الوجوه الثلاثة المذكورة التي هي المستند
للأقوال المتقدمة.
وهناك درجتان أخريان للغلبة فوق ما ذكر قد مرت الإشارة إليهما، وهما
خارجتان عن محل الكلام، لخروج اللفظ معهما عن حد المجاز واندراجه في
الحقيقة.
وما قد يقال من أن مجرد الغلبة لا يكون باعثا على حمل اللفظ عليه من دون
البلوغ إلى حد الحقيقة، كيف! ولو كان قاضيا بذلك لزم رجحان المجاز على
الحقيقة مطلقا، نظرا إلى غلبة مطلق المجاز على الحقيقة حتى اشتهر أن أكثر اللغة
326

مجازات، والبناء على كون العام مخصصا قبل ظهور المخصص، نظرا إلى شهرة
التخصيص وغلبته في الاستعمالات.
مدفوع بأنه ليس المدار في المقام على مطلق الغلبة، بل الغلبة القاضية
بانصراف اللفظ إلى ذلك المعنى أو الباعثة على توقف الذهن عن الحمل على
الحقيقة بحسب المتفاهم بين الناس، ومن البين أن استعمال المجازات والعمومات
المخصصة ليس كذلك.
وكأن الوجه فيه أن اشتهار الاستعمال في غير المعنى الحقيقي هناك نوعي
لا شخصي، لعدم شيوع استعمال اللفظ في خصوص مجاز أو مرتبة من التخصيص.
مضافا إلى كون الاستعمالات هناك مقرونة في الغالب بالقرينة الصارفة، ومثل
تلك الغلبة لا يوجب صرف اللفظ غالبا عند الإطلاق على نحو ما إذا اشتهر اللفظ
في مجاز مخصوص، سيما إذا كان كثير من استعمالاته خاليا عن القرينة المقارنة،
ويعلم الحال فيه من ملاحظة الخارج، كما لا يخفى على المتأمل.
على أن دعوى اشتهار المجازات وغلبتها على الحقائق غير ظاهرة، بل من
الظاهر فساده، فإن من البين أن غالب الاستعمالات العرفية والمخاطبات
المتداولة من قبيل الحقائق دون المجازات، وإنما يؤتى بالمجاز في بعض
المقامات لمراعاة بعض النكات، فإن أريد بما اشتهر من أن أكثر اللغة مجازات هذا
المعنى فهو بين الفساد، وقد مرت الإشارة إليه، وإلا فلا دلالة فيه على ذلك.
ومنها: أنه لو كان أحد معنيي المشترك مهجورا وقامت قرينة على عدم إرادة
الآخر، فدار الأمر بين إرادة معناه المهجور أو الحمل على المجاز، فإن كان معناه
المجازي مشهورا في الاستعمالات فالظاهر تقديمه على الحقيقة المهجورة، ومع
عدمه ففي تقديم الحقيقة المهجورة نظرا إلى كونه معنى حقيقيا، أو التوقف بين
الحمل عليه وحمله على معناه المجازي وجهان؟
ومنها: أنه إذا ثبت نقل اللفظ إلى معنى ودار المعنى المنقول إليه بين كونه
الأقرب إلى الحقيقة أو الأبعد منه تعين الأول مع كون الوضع حاصلا بالتعين،
327

لكون النقل المفروض مسبوقا بالتجوز، والغالب فيه مراعاة الأقرب إلى الحقيقة،
ولذا يحمل اللفظ عليه عند الإطلاق قبل حصول النقل بعد تعذر الحقيقة.
وبالجملة: يجب الحكم بأن المنقول إليه هو المجاز الذي يجب حمل اللفظ
عليه مع عدم ثبوت النقل، سواء كان باعتبار غلبة استعمال اللفظ فيه التي هي أحد
وجوه الأقربية، أو باعتبار المناسبة الاعتبارية التي هي أحد وجوهها أيضا،
كذا قيل.
وأنت خبير بأنه إن علم تحقق الغلبة بالنسبة إلى أحدهما بخصوصه فلا مجال
للشك، وإلا فمجرد الأقربية غير قاض بذلك، لتفرع النقل على غلبة الاستعمال،
وهي إنما تتبع شدة الحاجة لا مجرد القرب من الحقيقة كما مر.
وليس الوجه في حمل اللفظ على أقرب المجازات بعد تعذر الحقيقة كونه
غالبا في الاستعمالات، بل لكون نفس الأقربية معينة له عند انتفاء القرينة المعينة
والمفروض انتفاء العلم في المقام بوجود القرينة المعينة وعدمه، فكيف يمكن
الحكم بحصول الغلبة في المعنى المفروض بمجرد ما ذكر؟.
إلا أن يقال: إن الأصل عدم الحاجة إلى القرينة المعينة لما استعمل فيه فيتعين
بملاحظة ذلك كون المعنى المذكور هو الشائع في استعماله، لافتقار غيره إلى
القرينة المعينة. وفيه ما لا يخفى.
ومنها: أنه إذا ورد لفظ في كلام الشارع أو الأئمة (عليهم السلام) واختلف معناه بحسب
اللغة والعرف العام فلا إشكال في حمله على الأول لو علم بتأخر العرف، كما أنه
لا إشكال في حمله على الثاني مع ثبوت تقدمه، وإنما الإشكال فيما إذا لم يثبت
أحد الوجهين ودار الأمر بين الحمل على كل من المعنيين، فهل يحكم بتقديم اللغة
أو العرف قولان؟
فالمحكي عن بعضهم ترجيح الأول.
وعن الشيخ والعلامة والشهيدين والبيضاوي القول بالثاني، وهو الأظهر،
إذ الغالب في المعاني العرفية العامة ثبوتها من قديم الزمان كما يعرف ذلك بعد
328

ملاحظة المعاني العرفية وتتبع موارد استعمالها في كلمات الأوائل وملاحظة كتب
اللغة لبيانهم غالبا للمعاني العرفية العامة، ويكشف عن ذلك حكم الأكثر ممن
عرف آراؤهم بتقديم العرف، إذ ليس ذلك إلا من الجهة المذكورة الباعثة على
الظن بالمراد، وقد حكى بعضهم عليه الشهرة، بل ربما يعزى القول به إلى جميع
الأصوليين، وهو في الحقيقة حجة أخرى على ذلك لبعثه على المظنة الكافية
في المقام.
وربما يستدل على ذلك أيضا باستبعاد استقرار العرف العام في المدة القليلة
من بعد زمن النبي (صلى الله عليه وآله).
وبأنه لا مجال للتأمل في حمل اللفظ على معناه الثابت في العرف العام إذا لم
يعرف له معنى آخر بحسب اللغة مع قيام احتمال وجوده، وهو مبني على تقديم
العرف، إذ لولا ذلك لوجب الوقف فيه والحكم بإجمال اللفظ لاحتمال وجود معنى
آخر له في اللغة واستمراره إلى وقت صدور الرواية، وهو باطل بالاتفاق.
وأنت خبير بوهن الوجهين، إذ لا بعد في استقرار العرف العام في المدة
المذكورة بل وفيما دونها أيضا، ولو سلم فليضم إليه زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وما قبله
ليحكم باستقرار العرف بملاحظة الجميع، فلا عرف إذن في زمانه (صلى الله عليه وآله) بل وكذا في
أزمنتهم، إذ المفروض في الاحتمال المذكور حصول النقل بملاحظة الكل.
والوجه في الحمل على المعنى العرفي في الصورة المفروضة من جهة
استظهار اتحاد العرف واللغة، نظرا إلى أصالة عدم النقل، ولذا تداول بينهم إثبات
اللغات بمجرد ثبوت المعنى في العرف على ما هو شأن نقلة اللغات وطريقة علماء
الأصول في إثبات مداليل الأمر والنهي وألفاظ العموم وغيرها.
حجة القول بتقديم اللغة أصالة تأخر الحادث، إذ المفروض عدم ثبوت
مبدأ النقل.
ويضعفه أن الأصل المذكور لا معول عليه في المقام إلا بعد إفادته الظن
بمؤداه، لما عرفت من ابتناء اللغات على المظنة وحصول الاستفادة من العبارة،
329

فمجرد الأصل المذكور لا تعويل عليه مع الظن بخلافه من التتبع ومصير الأكثر إليه
كما عرفت.
ولا يذهب عليك أن قضية ما ذكرناه أنه لو شك في خصوص بعض المقامات
في مبدأ النقل ولم يكن هناك مظنة بحصوله حال صدور الخطاب لزم التوقف في
الحمل، والحكم بإجمال اللفظ والرجوع إلى ما يقتضيه الأصول الفقهية، فيؤخذ
حينئذ بما وافق الأصل من المعنيين المذكورين إن وافقه أحدهما، وليس ذلك من
جهة حمل اللفظ عليه ليكون إثباتا للغة بالترجيح، بل من جهة استقلال الأصل إذن
بإثباته وعدم مزاحمة النص له لإجماله.
ومنها: أنه لو اختلف عرف المتكلم والمخاطب في لفظ فدار المراد بين ذينك
المعنيين - لعدم قيام قرينة على كون الخطاب بأي من العرفين - فهل يقدم الأول
أو الثاني أو يتوقف بينهما؟ أقوال.
والأول مختار الشريف الأستاذ (قدس سره) ويحكى القول به عن ظاهر السيد.
والثاني محكي عن العلامة والشهيد الثاني.
والثالث مختار جماعة من المتأخرين منهم صاحب المدارك، واختاره في
الفوائد الحائرية.
وتفصيل الكلام في المرام مع خروج عن خصوص المقام أن يقال: إنه إذا
صدر الخطاب من المتكلم وكان عرفه وعرف المخاطب وعرف المحل الذي وقع
الخطاب فيه متحدا فلا إشكال في حمله مع الإطلاق على ذلك العرف، وكذا إذا لم
يكن للمحل أو المخاطب أو المتكلم عرف مع اتحاد الآخرين، أو انحصر الحال
فيه في عرف المحل أو المتكلم أو المخاطب، فهذه وجوه سبعة لا إشكال فيها،
حيث لا دوران هناك نظرا إلى انحصار العرف في معنى واحد.
وإن اختلف الحال فإما أن يكون باختلاف عرف المتكلم لعرف المخاطب مع
انتفاء العرف في المحل، أو موافقته لأحد العرفين، أو باختلاف عرف المتكلم
لعرف المحل مع انتفاء عرف المخاطب، أو موافقته لعرف المتكلم، أو باختلاف
330

عرف المخاطب لعرف المحل مع انتفاء عرف المتكلم، أو باختلاف كل منها للآخر،
فهذه أيضا وجوه سبعة يقع التأمل فيها.
فإن اختلف عرف المتكلم والمخاطب مع انتفاء العرف في محل الخطاب
فالأظهر تقديم عرف المتكلم، إذ الظاهر من المخاطبات الدائرة بين الناس مراعاة
المتكلم لعرف نفسه والوضع الحاصل بملاحظة اصطلاحه إن ثبت له عرف،
ولذا يقدم العرف الخاص على اللغة والعرف العام من غير خلاف يظهر بينهم،
وليس ذلك إلا من جهة ظهور جريه في الكلام على وفق مصطلحه، وهو بعينه جار
في المقام.
ومتابعته في الاستعمال لعرف المخاطب مجرد احتمال لا ظهور فيه ليزاحم
الظهور المذكور، حتى يقضي بالوقف بين الأمرين.
فالظاهر المذكور متبع في المقام حتى يجئ هناك ما يزاحمه من ملاحظة
الخصوصيات في بعض المقامات، لما عرفت من أن المدار في أمثال هذه المسائل
على حصول الظن كيف كان.
وقد يقرر الاحتجاج المذكور بملاحظة الغلبة فإن عادة الناس جارية على
المكالمة بمقتضى عرفهم وعدم متابعتهم لاصطلاح الغير في محاوراتهم، إلا لقصد
التعلم أو فائدة أخرى.
وأورد عليه بأن المسلم من الغلبة المذكورة ما إذا كانت المكالمة مع من
يوافق عرفه عرف المتكلم، وأما إذا كانت مع من يخالف عرفه لعرفه فالغلبة
المدعاة ممنوعة، بل الظاهر عدمها، وإلا لما خفيت على من يذهب إلى خلاف
القول المذكور.
وفيه: أنه لما تحققت الغلبة في معظم المحاورات فمع حصول الشك في
الصورة المفروضة - وهو ما إذا كانت المخاطبة مع من يخالف عرفه - قضى ذلك
بإلحاقه بالأعم الأغلب، ولا يعتبر ثبوت الغلبة في خصوص الصورة المفروضة،
بل حصولها في معظم المحاورات كاف في تحصيل المظنة في محل الكلام.
331

نعم، يعتبر أن لا يحصل هناك غلبة في خصوص المورد على عكس الغالب
في سائر الموارد ليزاحم بها الغلبة المفروضة، وهي غير متحققة في المقام ولو على
سبيل الظن قطعا.
ثم دعوى انتفاء الغلبة في خصوص المقام من جهة ذهاب المخالف إلى عدم
الحمل عليه غير متجهة، وأي بعد في خفاء الغلبة المذكورة عليه؟ وكم له من نظائر
في سائر المباحث؟
على أنه قد يكون ذلك من جهة اعتقادهم ما يعارض ذلك مما يعادله أو
يترجح عليه، وقد يومئ إليه ملاحظة ما احتجوا به في المقام.
وربما يحتج لذلك أيضا بأنه لو حمل الكلام على عرف المخاطب لزم المجاز،
وهو مخالف للأصل فلا يحمل عليه إلا بعد دلالة القرينة.
وهو في وضوح الفساد بمكان لا يحتاج إلى البيان.
حجة القول بتقديم عرف المخاطب أن في تكلمه بمقتضى عرفه إغراء بالجهل
حيث إن المخاطب يحمله على عرف نفسه فلا يصدر من الحكيم.
وأيضا قد ورد أن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) إنما يخاطبون الناس بما يعقلونه
فينبغي أن يكون مخاطبتهم بمقتضى عرف مخاطبيهم.
ولا يذهب عليك وهن كل من الوجهين المذكورين، فلا حاجة إلى إطالة
الكلام فيما يرد عليهما.
حجة القول بالوقف كون اللفظ إذن مشتركا بين المعنيين، وصحة تكلم
المتكلم على كل من عرفه وعرف مخاطبه، فلا يحكم بأحدهما إلا بعد قيام القرينة
عليه.
وقد ظهر ما فيه مما قررناه، إذ صحة التكلم على الوجهين لا ينافي ظهوره
في أحدهما مع انتفاء القرائن حسب ما بيناه.
ثم إنه لو كان عرف المتكلم موافقا لعرف البلد فالأمر فيه حينئذ أظهر، وظهور
الحمل على العرف المذكور حينئذ مما لا ينبغي التأمل فيه كما لا يخفى بعد ملاحظة
332

الاستعمالات. فتوقف بعض الأفاضل في هذه الصورة أيضا ليس على ما ينبغي.
نعم، لو وافق عرف المخاطب عرف المحل فلا يخلو المقام عن إشكال،
لاتباعهم عرف المحل كثيرا في المخاطبات سيما مع طول المكث فيه، فللتوقف
فيه إذن مجال سواء وافق عرف المخاطب أو لا وإن كان الإشكال في الثاني أظهر،
إلا أن يكون الحكم متعلقا ببلد المتكلم، فيحتمل قويا ترجيح عرفه أيضا، وكذا لو
لم يتحقق مكثه في المقام قدرا يعتد به سيما مع اتحاد عرف المتكلم والمخاطب.
ولو دار الأمر بين عرف المحل وعرف المخاطب من غير أن يكون للمتكلم
عرف فيه فلا يخلو الحال أيضا عن إشكال وإن كان ترجيح عرف المحل قويا مع
طول مكثه فيه.
ولو دار الأمر بين الوجوه الثلاثة قوي تقديم عرف المتكلم أيضا، إلا مع مكثه
في المحل ففيه الإشكال المذكور.
ثم إن ما ذكرناه من الدوران فيما إذا كان المتكلم عالما بعرف المخاطب
أو المحل وأما مع جهله بهما فلا تأمل في حمل كلامه على عرفه، وكذا لو كان
جاهلا بأحدهما في عدم حمل كلامه على العرف المجهول، وكذا لو كان عالما
بعرف المخاطب مع علمه بعدم علمه بعرفه وعرف المحل، فإنه لا شبهة في حمله
على عرف المخاطب إذا كان المقام مقام بيان، ومع جهله بعلمه وعدمه وجهان،
وكذا لو شك في الحال.
هذا، ولا فرق فيما ذكرناه بين ما إذا كان لكل من المتكلم أو المخاطب
أو المحل عرف خاص في اللفظ المفروض، أو يكون المعنى الثابت عند بعضهم
هو المعنى اللغوي أو العرفي العام.
وبالجملة: المراد بالعرف المنسوب إلى المتكلم أو المخاطب أو المحل أعم
من الوجوه الثلاثة، لاتحاد المناط في الجميع وإن اختلف الحال فيها ظهورا
وخفاء بحسب المقامات.
333

الحادية عشر
أنهم اختلفوا في كون الألفاظ موضوعة للأمور الخارجية، أو للصور الذهنية،
أو غيرهما، على أقوال:
ثالثها: أنها غير موضوعة لشئ من الأمرين وإنما هي موضوعة لنفس
المفاهيم والماهيات مع قطع النظر عن الوجودين.
رابعها: التفصيل بين الكليات والجزئيات، فالكليات موضوعة بإزاء المفاهيم
الكلية مع قطع النظر عن الوجودين، والجزئيات الخارجية بإزاء الموجودات
الخارجية، والجزئيات الذهنية بإزاء الموجودات الذهنية، وحيث إن الأقوال
المذكورة غير خالية عن إبهام فبالحري توضيح الحال فيها في المقام.
فنقول: إن القول بوضع الألفاظ للأمور الخارجية يحتمل في بادئ الرأي
وجوه.
أحدها: أن يقال بوضعها للموجودات الخارجية على أن يكون الوجود
الخارجي معتبرا في الموضوع له على سبيل الجزئية.
ثانيها: أن يكون ذلك قيدا فيه على أن يكون القيد خارجا والتقييد داخلا.
ثالثها: أن يقال بوضعها للمفاهيم باعتبار وجودها الخارجي ومن حيث
تحققها كذلك، فالموضوع له هو نفس المفاهيم بتلك الملاحظة أعم من أن تكون
موجودة في الخارج أو لا، ويحتمل أن يعتبر الوجوه الثلاثة المذكورة باعتبار
كونها خارجية وإن لم تكن موجودة في الخارج، أو يفصل بين ما يكون موجودة
في الخارج فيؤخذ وجودها الخارجي على أحد الوجوه المذكورة، وما يكون
نفسها خارجيا فيؤخذ خارجيتها كذلك.
رابعها: أن يراد بذلك وضعها للمفاهيم من حيث كونها عنوانات لمصاديقها في
الواقع، سواء كان من شأن مصاديقها أن تكون خارجية أو ذهنية أو أعم منهما ولو
كان تقديريا كما في الممتنعات، أو لم يكن تقديرها إلا بنحو من الاعتبار، كما في
" اللاشئ " و " اللا موجود المطلق " ونحوهما فكونها خارجية باعتبار مقابلتها
334

للصور الذهنية وخروجها عن الإدراكات المفروضة وإن كانت مدركات للعقل
على فرض تصورها.
والمراد بوضعها للصور الذهنية إما نفس الصور الحاصلة في العقل من حيث
كونها مرآة لما يطابقها في الخارج إن كان ما يطابقها أمورا خارجية، أو لما يطابقها
في الذهن إن كانت ذهنية، فتكون الألفاظ دالة على الصور الذهنية الدالة على ما
يطابقها حسب ما ذكر، فتكون تلك الأمور الخارجية أو الذهنية مدلولة للفظ
بتوسط تلك الصور.
وإما المفاهيم المعلومة عند العقل من حيث تقيدها بكونها معلومة، وإنما عبر
عنها بالصور لاتحادها معها في الذهن وإن أمكن الانفكاك بينها بتحليل العقل،
وإطلاق الصورة على ذلك مما لا مانع منه، وقد تكرر إطلاقها عليه في كلماتهم.
ويحتمل هناك وجوه اخر في بادئ الرأي كأن يكون المراد وضعها بإزاء
الصور والإدراكات بنفسها، أو يكون المراد وضعها بإزاء المفاهيم المقيدة بالوجود
الذهني مع اندراج القيد في الموضوع له أو خروجه، أو بملاحظة حصولها في
الذهن من دون أن يؤخذ ذلك شطرا أو شرطا على حسب الاحتمالات المتقدمة.
لكنها ضعيفة جدا، بل فاسدة قطعا.
والظاهر أن شيئا من ذلك مما لا يقول به أحد أصلا، إذ لا معنى لكون الألفاظ
أسامي للأمور الذهنية بنفسها، ضرورة دلالتها على الأمور الخارجية قطعا،
والصور الذهنية بنفسها غير مقصودة بالإفادة والاستفادة غالبا، والوجوه المذكورة
مشتركة في ذلك.
وكذا الحال في الوجهين الأولين للقول بوضعها للأمور الخارجية، إذ كون
الوجود الخارجي جزء من الموضوع له أو قيدا فيه واضح الفساد، إذ لا دلالة في
اللفظ عليه أصلا كما لا يخفى، وسيجئ توضيح الكلام في ذلك إن شاء الله.
والمراد بوضعها للمفاهيم إما مطلق المفهوم الشامل للحاصل منها في الذهن،
أو الخارج وإن لم يكن الأول من مصاديقه الحقيقية، أو المراد بها المفاهيم من
حيث كونها عنوانات لمصاديقها حسب ما ذكر في الوجه الرابع، فيرجع ذلك اليه.
335

ويعرف مما ذكرنا الحال في القول الرابع، ويجري فيه عدة من الاحتمالات
المذكورة، كما لا يخفى على المتأمل فيما ذكرنا.
ثم إنه قد يستشكل فيما ذكر من التفصيل في وضع الجزئيات بأنه ليس عندنا
ألفاظ موضوعة بإزاء الجزئيات الذهنية ليكون الوجود الذهني ملحوظا في
وضعها على أحد الوجوه المذكورة.
نعم، هناك معان لا وجود لها إلا في الأذهان كالكلية والجنسية والفصلية
ونحوها، لكنها أمور كلية أيضا فلا يتجه التعبير عنها بالجزئيات.
وقد يقال بأن أسماء الإشارة إذا أشير بها إلى المعاني الحاصلة في الأذهان
كانت موضوعة لتلك الجزئيات الذهنية، بناء على كون الموضوع له فيها خاصا كما
هو المعروف بين المتأخرين. إلا أن حمل كلام المفصل على ذلك لا يخلو عن بعد.
وكأن المقصود منه هو الوجه الأول وإن كان التعبير عنه بما ذكر غير خال
عن التعسف.
لكن يرد عليه عدم ظهور فرق بينها وبين سائر الكليات، إذ عدم قبولها
للوجود الخارجي لا يقضي باعتبار الوجود الذهني في وضع اللفظ بإزائها.
هذا، ولا يذهب عليك بعد التأمل فيما قرر من الأقوال المذكورة الفرق بين
هذه المسألة وما وقع الخلاف فيه من اعتبار الاعتقاد في مداليل الألفاظ وعدمه،
حيث يمكن القول بكل من الوجهين على كل من الأقوال المذكورة، وليس اعتبار
الاعتقاد في الموضوع له مبنيا على كون الألفاظ موضوعة بإزاء الصور الذهنية.
بل يمكن القول بنفيه ولو مع البناء على القول المذكور، والقول بإثباته على
القول بوضعها للأمور الخارجية أيضا، فإن القائل المذكور يجعل ما وضع اللفظ له
بحسب الواقع هو ما يعتقد أنه ذلك المفهوم سواء كان المعنى الملحوظ في الوضع
هو الأمر الخارجي أو الذهني.
فالخلاف في المقام في كون المعاني المتعلقة للأوضاع هل هي الأمور
الخارجية، أو الصور الذهنية، أو غيرهما؟ وهذا القائل قد زاد عليه زيادة فجعل
الموضوع له هو الأمر الخارجي، لكن على حسب الاعتقاد أو الصورة الذهنية
336

للشئ على حسب الاعتقاد وإن لم يطابقه بحسب الواقع.
ويشهد بالفرق بين المقامين أنه لم ينقل هناك قول بالتفصيل، والقول بالتفصيل
معروف في المقام، مضافا إلى أن القول بملاحظة الاعتقاد في مداليل الألفاظ
مذهب سخيف قد أعرض المحققون عنه وأطبقوا على فساد القول به، ولم يقل به
إلا شذوذ من الناس ممن لا تحقيق له، ومع ذلك فهو في غاية الوضوح من الفساد،
ولا يدرى أن العبرة عندهم في الاعتقاد المأخوذ في مدلول اللفظ هل هو اعتقاد
المتكلم، أو المخاطب، أو المكلف؟ وظاهر ما حكي عنهم الأخير، وهو لا يجري
في الإخبارات إلا أن يفصل في ذلك بين المقامين. وأما الخلاف في المقام فهو
معروف بين الأفاضل الأعلام. فتأمل.
والحق في المقام هو القول بوضع الألفاظ للأمور الخارجية مطلقا بالتفسير
الرابع.
وتوضيح القول في ذلك: أن الألفاظ إنما وضعت للماهيات بالنظر إلى
حصولها اللائق بها وإن لم يكن ذلك حاصلا لها بالفعل، فلفظ الانسان - مثلا -
قد وضع بإزاء الحيوان الناطق من حيث حصوله في الخارج، وبملاحظة كونه أمرا
خارجيا وإن لم يتحقق له حصول في الخارج، فهو ملحوظ في الوضع على نحو
ملحوظية الموضوع في القضية المقدرة، فإن المراد بالإنسان في قولك: " كل انسان
حيوان " هو الانسان الخارجي حيث حكمت على جميع أفراده بالحيوانية، وكذا
الحال في قولك: " النار حارة " و " الماء بارد " و " التراب ثقيل " ونحو ذلك فإن
المقصود بالنار والماء والتراب ليس إلا الأمور الخارجية وإن لم تكن موجودة
بالفعل، حيث إن الوجود اللائق بحالها هو الوجود الخارجي، فالموضوع له هو
تلك الماهيات بملاحظة حصولها في الخارج من غير أن يكون الوجود الخارجي
جزء من الموضوع له، ولا قيدا فيه، لكنه ملحوظ في وضع اللفظ بإزاء تلك
الماهيات بمعنى أنها قد وضع اللفظ بإزائها بملاحظة كونها عنوانات لمصاديقها
الخارجية، فالمفهوم الملحوظ حال الوضع لم يوضع له اللفظ بملاحظة صورته
337

الحاصلة في الذهن ولا بملاحظة نفسه - سواء كانت حاصلة في الذهن أو في
الخارج - ليكون حكاية عن الأعم من الموجود في الذهن أو في الخارج، بل من
حيث كونه حكاية وعنوانا للأمر الخارج.
فالمفاهيم التي من شأنها الاتصاف بالوجود الخارجي على فرض وجودها
كالمذكورات ونحوها إنما وضعت الألفاظ بإزائها بملاحظة كونها خارجية وإن لم
توجد في الخارج أصلا كالعنقاء، بل ولو كانت ممتنعة في الخارج كشريك الباري،
فإنه إنما يراد به الأمر الخارجي المشارك للباري في صفات الكمال.
وأما ما لم يكن من شأنها الاتصاف بالوجود الخارجي كالكلية والجنسية
والفصلية ونحوها فهي أيضا قد وضعت لها الألفاظ من حيث كونها عنوانا للأفراد
الموجودة بوجودها اللائق بحالها وإن كان حصولها في الذهن.
والحاصل أن الكلية ليست موضوعة لمفهوم جواز الصدق على كثيرين
بملاحظة نفسه، ليصدق على ذلك بملاحظة كونه متصورا عند العقل، بل من حيث
كونه عنوانا لملاحظة تلك الحيثية الحاصلة في المفاهيم الكلية من الانسان
والحيوان وغيرهما وإن كان حصول تلك الحيثية في الذهن خاصة.
وأما ما كانت من شأنها أن تكون في الخارج وفي الذهن معا فهي موضوعة
بإزائها بكل من الاعتبارين كالزوجية، فإنها موضوعة بإزاء المفهوم المذكور من
حيث كونه عنوانا للأفراد الذهنية أو الخارجية، فالمفاهيم إنما وضعت لها الألفاظ
بملاحظة تحصلها في ظرفها اللائق بحالها من الذهن أو الخارج، من غير أن يكون
ذلك التحصل جزء من الموضوع له ولا قيدا فيه، بل قد وضع الألفاظ بإزائها بتلك
الحيثية ومن تلك الجهة، سواء كانت تلك الحيثية حاصلة لها في الواقع أو لا، وذلك
مما لا إشكال فيه بالنسبة إلى ما يكون له وجود كذلك إما في الذهن، أو الخارج،
أو ما يصح تقدير وجوده كذلك كما في العنقاء وشريك الباري.
وأما ما لا يكون له وجود في نفسه مع قطع النظر عن تصوره ولا يصح أن
يفرض له مصاديق خارجية أو ذهنية يصدق عليها على حسب التقدير
338

" كاللا شئ " و " اللا موجود " ونحوهما فقد يشكل الحال فيها، إذ ليس لتلك
المفاهيم تحقق في ذاتها من حيث كونها مدلولة لتلك الألفاظ، ومقصودا إفهامها بها
ولو على سبيل التقدير، وليس حصولها في الذهن هو وجودها اللائق بحالها،
وليست تلك الألفاظ موضوعة بإزائها من تلك الحيثية.
قلت: لا شك أن الوجود الخارجي أو الذهني غير ملحوظ فيما وضع له لفظ
العدم والنفي وأمثالهما، بل الملحوظ فيه هو مفهوم العدم المحض، وبطلان الذات
فليس مفهوم العدم من حيث كونه حاصلا في العقل قد وضع له لفظ العدم، بل من
حيث كونه أمرا باطل الذات لا تحقق له في الكون أصلا، فحيثيته هي حيثية
البطلان، فذلك المفهوم من حيث كونه عنوانا لتلك الحيثية قد وضع اللفظ له فحيثية
حقيقة العدم هي حيثية البطلان والليس المحض، وهي بتلك الحيثية مراد من تلك
اللفظة، فالحال فيما وضع تلك الألفاظ بإزائه على نحو سائر المفاهيم، غاية الأمر
أن حيثية الحقيقة في سائر المفاهيم متحصلة ولو تقديرا بخلاف هذه، فإنها حيثية
العدم وبطلان الذات.
فإن قلت: إذا كانت تلك الحيثية فيها هي حيثية العدم الصرف والليس المحض
فكيف يمكن ارتباط أمر وجودي به بأن يتعلق به الوضع؟.
قلت: لا مانع من ذلك، فإن المفهوم المذكور مما يمكن أن يتصوره العقل
ويتعقله، وهو بهذا الاعتبار يمكن أن يتعلق الوضع به وإن كانت حيثية كونه
موضوعا له هي حيثية أخرى، يظهر ذلك بملاحظة ما قرروه في الجواب عن شبهة
الحكم على المعدوم المطلق بعدم إمكان الحكم عليه.
فصار المتحصل أن تلك المفاهيم إنما تكون متعلقة للأوضاع من حيث كونها
عنوانات لحقائقها في نفس الأمر، من غير فرق بين أن يكون حقائقها قابلة
للوجود الخارجي أو الذهني أو لكليهما معا، أو غير قابلة لشئ منهما، سواء كانت
ممكنة الاتصاف به، أو ممتنعة، ولا بين أن تكون حقيقتها هي حيثية الوجود
والتحقق كما في مفهوم الوجود أو حيثية العدم والبطلان كما في مفهوم العدم، فتلك
339

المفاهيم من حيث كونها عنوانات لمصاديقها قد وضع الألفاظ بإزائها من غير فرق
بين الصور المذكورة أصلا، ويدل على ذلك وجوه:
أحدها: أن المتبادر من الألفاظ عند التجرد عن القرائن هو ذلك، إذ لا ينساق
منها إلى الذهن إلا نفس المفاهيم على النحو المذكور، مع قطع النظر عن وجودها
في الذهن أو الخارج، ولا أخذها بحيث يشمل تصوراتها الذهنية، بل انما ينصرف
إلى تلك المفاهيم من حيث كونها عناوين لمصاديقها، فليس حصول تلك المفاهيم
في الذهن إلا من جهة كونه آلة لملاحظة ما عين اللفظ بإزائه ومرآة لمعرفته، فهي
من حيث حصولها عند العقل مرآة لملاحظتها في نفسها من حيث كونها عنوانا
لمصاديقها، وهي بالحيثية الثانية قد وضع اللفظ لها إلا أن حصولها في الذهن إنما
يكون على الوجه الأول.
ثانيها: أنا نجد مفاد الألفاظ والمفهوم منها في العرف قابلا للحكم عليه
بالوجود الذهني أو الخارجي، على حسب اختلاف المفاهيم في قبول الوجود غير
متحقق الحصول بالوجود اللائق به، ولذا يصح حمل المعدوم عليها من غير تناقض
ولا لزوم تجوز، ولو كان الوجود مأخوذا فيه شرطا أو شطرا لما صح ذلك، فإذا
انضم إلى ذلك صحة سلب المعنى المفهوم من تلك الأسامي بحسب العرف عن
صورها الذهنية وتصوراتها الحاصلة عند العقل - كما هو واضح بعد ملاحظة
العرف ولو بالنسبة إلى الأمور الذهنية فإن تصور العقل لها غير حصولها في العقل -
دل ذلك على عدم وضعها للصور الذهنية ولا للمفاهيم على النحو الأعم بحيث
يشمل تلك الصور أيضا، وحيث عرفت أن الحقائق التي يراد الانتقال إليها من
تلك الألفاظ قد تكون أمورا خارجية وقد تكون غيرها فلا وجه للقول بملاحظة
خصوص الوجود الخارجي في وضعها، فتعين القول بوضعها للمفاهيم على النحو
الذي ذكرنا.
فإن قلت: كما أنه يصح ما ذكر مع كون الألفاظ موضوعة بإزاء المفاهيم على
الوجه المذكور كذا يصح لو قيل بكونها موضوعة لنفس الصور من حيث كونها
340

مرآة لملاحظة ما تعلقت بها، وحينئذ فليس الملحوظ بالدلالة إلا الأمور الخارجية
بالمعنى المذكور من غير أن يكون الصورة ملحوظة أصلا، إذ ذلك قضية كونها مرآة
فإن ذات المرآة غير منظور إليها أصلا في لحاظ كونها مرآة، فغاية ما يستفاد من
الوجه المذكور عدم كون الصور الذهنية موضوعا لها من حيث ذواتها لا من حيث
كونها مرآة لملاحظة غيرها.
قلت: هذا الاحتمال وإن صح قيامه في المقام في بادئ الرأي إلا أنه فاسد بعد
التأمل في العرف، لصحة السلب عنها ولو بملاحظة كونها مرآة، ألا ترى أنه يصح
أن يقال في العرف: إن الصورة الحاصلة من التمر في الذهن ليس تمرا وإن اخذت
مرآة لملاحظة الحقيقة الخارجية، من غير أن تكون ذات الصورة ملحوظة أصلا.
وبالجملة: أنه يصح سلب التمر - مثلا - عن الصورة الذهنية مطلقا سواء
اخذت ملحوظة بنفسها أو مرآة لملاحظة غيرها.
ثالثها: أن المعاني التي يحتاج إلى التعبير عنها في المخاطبات إنما هي تلك
المفاهيم على الوجه المذكور، دون صورها الذهنية أو وجوداتها الخارجية،
وانما وجودها في الخارج من جملة أحوالها، فينبغي أن تكون الألفاظ موضوعة
بإزائها.
نعم، الوجودات الخارجية أو الذهنية قد تكون مقصودة بالإفادة والموضوع
بإزائها هو لفظ الوجود، لا بأن يكون موضوعا لعين الوجود الخارجي أو الذهني،
لعدم إمكان حصول الوجود الخارجي في العقل، ولا حصول الوجود الذهني
الحاصل في ذهن في آخر، ومن البين أن الغرض من وضع الألفاظ هو حصول
المعنى في الذهن بواسطة اللفظ بل بوجه من وجوهه، أعني المفهوم المذكور
الصادق عليه وهو عنوان كاشف عنه ومرآة لملاحظته، وقد تقرر في محله أن
المعلوم بالوجه إنما يتعلق العلم حقيقة بذلك الوجه، فليس الموضوع له هناك أيضا
إلا المفهوم.
حجة القول بوضعها للأمور الخارجية أن من قال: أكلت الخبز، وشربت الماء،
341

واشتريت العبد، وبعت الدابة، وخرجت من الدار، ودخلت البلد... إلى غير ذلك
من الاستعمالات الكثيرة إنما يريد من تلك الألفاظ الأمور الخارجية كما هو
ظاهر من ملاحظة الخطابات العرفية، فلو كانت هي الموضوع لها فهو المدعى وإلا
لزم أن تكون تلك الاستعمالات كلها مجازات، من جهة مشاكلة تلك الأمور
الخارجية لصورها الذهنية، وهو واضح الفساد، لأدائه إلى انسداد باب الحقيقة
والتزام التجوز في جميع الألفاظ المتداولة، وهو مع مخالفته للأصل ضرورة كون
الأصل في الاستعمال الحقيقة باطل بالاتفاق.
ويمكن الإيراد عليه من وجوه:
أحدها: المنع من استعمال تلك الألفاظ في الأمور الخارجية، بل إنما
استعملت في الأمور الذهنية من حيث كونها مرآة للأمور الخارجية، فالانتقال من
تلك الألفاظ إلى الأمور الخارجية بواسطة تلك الصور الذهنية، فقضية الدليل
المذكور إبطال القول بوضعها للأمور الذهنية من حيث حصولها في الذهن، وذلك
مما لا يتوهمه أحد في المقام كما مر.
وأما وضعها للصور الذهنية من حيث كونها مرآة لملاحظة الأمور الخارجية
وآلة موصلة إليها فلا، إذ غاية ما يسلم من ملاحظة الأمثلة المذكورة وغيرها هو
كون الحكم واقعا على الأمور الخارجية، وهو لا يستلزم استعمال اللفظ فيها، إذ قد
تكون تلك الألفاظ مستعملة في تلك الصور الموصلة إلى تلك الأمور حيث جعلت
مرآة لملاحظتها فوقع الحكم عليها.
ثانيها: المعارضة بالألفاظ المستعملة في المعدومات من الممتنعات وغيرها،
كشريك الباري، واجتماع النقيضين، والعنقاء، وذي الرؤوس العشرة من الانسان
ونحوها، فإن استعمالها في معانيها حقيقة قطعا ولا وجود لشئ منها في الخارج
حتى يعقل كونها موضوعة للأمور الخارجية.
ثالثها: المعارضة أيضا بصدق أحكام كثيرة على المفاهيم مما لا تحقق لها
إلا في الذهن، مثل قولك: " الانسان نوع " و " الحيوان جنس " و " الجوهر صادق
342

على كثيرين " ونحوها فليس المراد بتلك الموضوعات إلا المفاهيم الموجودة في
الذهن، ضرورة عدم ثبوت تلك الأحكام لها في الخارج، ومن المعلوم بعد
ملاحظة العرف انتفاء التجوز فيها.
ويمكن دفع الأول بأن المفهوم عرفا من تلك الألفاظ في الأمثلة المفروضة
ليس إلا الأمور الخارجية ابتداء، فهي مستعملة فيها قطعا لا أن يكون المراد منها
الصور الحاصلة في الأذهان الموصلة إلى تلك الأمور ليكون فهم الأمور
الخارجية بتلك الواسطة، وذلك أمر معلوم بالوجدان بعد ملاحظة المفهوم من تلك
الألفاظ في تلك المقامات.
فإن قلت: لا شك أن الانتقال هناك إلى الأمور الخارجية إنما يكون بتوسط
الصور الذهنية، لعدم إمكان إحضار نفس الأمور الخارجية بواسطة الألفاظ
المستعملة من غير واسطة، فمن أين يعلم كون اللفظ مستعملا في الأمور الخارجية
دون الصور الذهنية؟ مع أن المفروض حصول الانتقال إلى الأمرين، فكما أنه
يحتمل أن تكون مستعملة في الأمور الخارجية - ويكون الانتقال إلى الصور
الذهنية من باب المقدمة، حيث إنه لا يمكن إحضارها إلا بصورها - كذا يحتمل أن
تكون تلك الصور هي المستعمل فيها من حيث إيصالها إلى الأمور الخارجية،
فيتبعها الانتقال إلى الخارج، فإن الانتقال إلى الصور من حيث كونها مرآة للخارج
يستلزم الانتقال إلى الأمور الخارجية.
قلت: لا ريب أن الصور الذهنية الحاصلة في المقام غير ملحوظة من حيث
كونها صورا حاصلة في الذهن أصلا، بل ليست ملحوظة إلا من حيث ملاحظة
الخارج بها، فليس المفهوم من تلك الألفاظ إلا الأمور الخارجية وليس الانتقال
من اللفظ في ملاحظة السامع إلا إليها ابتداء غير أن الانتقال إليها في الواقع إنما
كان بواسطة صورها وقضية ذلك كون حصول الصورة مقدمة عقلية للانتقال إلى
تلك المعاني، فإن دلالة اللفظ على المعنى كونه بحيث يلزم من العلم به العلم
بمعناه، فمعنى اللفظ في الحقيقة غير العلم بمعناه الحاصل من الدلالة - أعني
343

الصورة الحاصلة - فتلك الصورة الحاصلة من ثمرات الدلالة، لا أنها نفس
المدلول. فتأمل.
ويمكن دفع الثاني بأنه إنما يتم المعارضة المذكورة إذا كان المراد من وضع
الألفاظ للأمور الخارجية وضعها لها بحيث يؤخذ وجودها الخارجي جزء
للمدلول أو قيدا فيه، ولو أريد وضعها للأمور الخارجية بمعنى كون الملحوظ فيها
ذلك ولو كان وجودها تقديريا حسب ما تقدمت الإشارة اليه فلا نقض بما ذكر.
نعم قد يصح المعارضة بمثل المعدوم المطلق واللا شئ ونحوهما.
والتزام القائل المذكور بالتخصيص غير بعيد حينئذ، لبداهة عدم إمكان القول
بوضعها للأمور الخارجية، حيث إنه لا مصداق لها في الخارج لا محققا ولا مقدرا.
ودفع الثالث بالتزام التجوز في الألفاظ المذكورة، ودعوى القطع بعدم كونها
إذن مجازات ممنوعة، كيف! ومن الظاهر أن المتبادر من الانسان والحيوان
ونحوهما ليس إلا الأمور الخارجية، ويصح سلبها قطعا عن الأمور الحاصلة في
الأذهان، وحينئذ فكيف يقطع بانتفاء المجاز في المقام مع كون المراد بها المعاني
الحاصلة في الأذهان؟ ولو قررت المعارضة بالنسبة إلى لفظ " النوع " و " الجنس "
و " الفصل " ونحوها فهي من الاصطلاحات الخاصة، ولا بعد في الالتزام
بالتخصيص بالنسبة إليها أيضا.
ولا يذهب عليك أن التزام التخصيص في المقام وفيما مر مبني على حمل
القول بوضعها للأمور الخارجية على الوجه الثالث، وأما لو أريد به ما قلناه
فالإشكال مندفع من أصله، كما هو ظاهر من ملاحظة ما قررناه.
والأولى الإيراد على الدليل المذكور بأنه غير مثبت للمدعى، لإمكان القول
بوضعها للماهيات من حيث هي، ولا تجوز إذن في إطلاقها على الأمور
الخارجية، لحصول الماهيات في الخارج، إلا أن يدعى كون تلك الاستعمالات
في خصوص الأمور الخارجية مع ملاحظة الخصوصية في المستعمل فيه، وهو
حينئذ محل منع، مضافا إلى ما عرفت من كونه أخص من المدعى، لعدم جريانه
344

في كثير من الألفاظ مما وضع للأمور الذهنية كالكلية ونحوها، وما وضع للأعم
كالزوجية والفردية ونحوهما والتزام التخصيص إذن يرجع إلى القول بالتفصيل.
حجة القول بوضعها للأمور الذهنية أمور:
أحدها: أن وضع الألفاظ للمعاني إنما هو لأجل التفهيم والتفهم، ومن البين أن
ذلك إنما يكون بحصول الصور في الذهن، فليس المفهوم من الألفاظ إلا الصور
الحاصلة، وهي التي ينتقل إليها من الألفاظ فتكون الألفاظ موضوعة بإزائها وهي
مرآة لملاحظة الأمور الخارجية وآلة لمعرفتها.
ويدفعه أن كون التفهيم والتفهم بحصول الصور لا يستدعي كون الألفاظ
موضوعة بإزاء الصور، لجواز أن تكون موضوعة للأمور الخارجية ويكون
الانتقال إليها بواسطة صورها، ضرورة انحصار طريق العلم بها حينئذ بذلك، فليس
المنتقل اليه إلا نفس الأمور الخارجية إلا أن الانتقال إليها بحصول صورها لا أن
المنتقل اليه هو نفس الصورة، وهذا هو الظاهر من ملاحظة العرف.
فإن قلت: إن الصورة الحاصلة إذا اخذت مرآة للخارج ووضع اللفظ بإزائها
من تلك الجهة كان المنتقل اليه أولا بحسب الملاحظة هو الأمر الخارج قطعا، إلا
أن المنتقل اليه في الواقع هو الصورة أولا، فكون المنتقل اليه بحسب العرف هو
الأمور الخارجية أولا إنما هو من هذه الجهة، لا لكون اللفظ موضوعا بإزائها.
قلت: الظاهر تعلق الوضع بما يحصل الانتقال من اللفظ اليه ابتداء بحسب ما
يفهم منه في العرف حسب ما مرت الإشارة اليه، ومع الغض عنه فمجرد قيام ما
ذكره من الاحتمال كاف في هدم الاستدلال.
ثانيها: أنها لو لم تكن موضوعة لذلك لما اختلفت التسمية بحسب اختلاف
الصور الذهنية مع عدم اختلاف الشئ في الخارج، فدوران التسمية مدار ذلك
دال على وضعها بإزاء الصور الذهنية حيث اختلفت الأسامي باختلافها من دون
اختلاف الأمر الخارجي، يدل على ذلك أن من رأى شبحا من بعيد يسميه إنسانا
إذا اعتقده ذلك، ثم إذا اعتقده شجرا يطلق عليه اسم الشجر، ثم إذا اعتقده حجرا
345

أطلق عليه اسمه من غير خروج عن حقيقة اللفظ في شئ من ذلك، فلو كانت
الألفاظ أسامي للأمور الخارجية لزم أن يكون إطلاق غير ما هو اسمه في الواقع
عليه إما غلطا، أو مجازا مع أنه ليس كذلك قطعا فتوارد تلك الأسامي عليه على
سبيل الحقيقة، مع كون الحقيقة الخارجية متحدة ليس إلا لتعدد الصور المتواردة
عليه، فيكون أوضاعها متعلقة بالصور الذهنية حيث دار الاستعمال الحقيقي مدارها.
وكذا لو ظن الأشياء المختلفة في النوع من نوع واحد وأطلق اسم ذلك النوع
عليها كان حقيقة وإن كانت حقائقها مختلفة متباينة.
فظهر من اختلاف التسمية على سبيل الحقيقة مع اتحاد الحقيقة الخارجية
ومن اتحادها كذلك مع اختلاف الحقيقة في الحقيقة وضع اللفظ بإزاء الصور
الذهنية دون الأمور الخارجية حيث كانت التسمية في المقامين تابعة للأولى دون
الأخيرة.
وأورد عليه بوجوه:
الأول: المنع من الملازمة المذكورة، فليس اختلاف التسمية بحسب اختلاف
الاعتقاد لازما للقول بوضعها للأمور الذهنية، لاحتمال كونها موضوعة للأمور
الخارجية على حسب اعتقاد المتكلم، فغاية ما يلزم من الدليل المذكور بطلان
وضعها للأمور الخارجية المطابقة لنفس الأمر من غير مدخلية لاعتقاد المتكلم
فيه، إذ لا وجه إذن لتغير التسمية مع عدم اختلاف المسمى بحسب الحقيقة، وأما لو
قيل بوضعها للأمور الخارجية على حسب ما يعتقده المستعمل فلا مانع، إذ من
الظاهر حينئذ دوران التسمية مدار اعتقاد المتكلم نظرا إلى اختلاف الحال في
الأمر الخارجي بحسب معتقده.
ويدفعه أنه إن أراد بوضعها للأمور الخارجية على حسب اعتقاد المتكلم أنها
موضوعة بإزاء ما يعتقده المتكلم خارجيا حتى يكون الاعتقاد مأخوذا في وضع
الألفاظ فهو راجع إلى المذهب الضعيف المتقدم وإن خالفه في اعتبار خصوص
اعتقاد المتكلم إن أريد اعتباره فيه مطلقا، وقد قام الدليل القاطع على فساده،
كما مرت الإشارة اليه.
346

وإن أراد به وضعها للأمور الذهنية من حيث كونها مرآة للخارج فمع بعده عن
التعبير المذكور أنه بعينه مراد القائل بوضعها للأمور الذهنية، لظهور فساد القول
بكونها موضوعة بإزاء الأمور الذهنية من حيث حصولها في الذهن، ولا مجال
لذهاب أحد اليه حسب ما مر بيانه، فيكون ذلك إذن تسليما لكلام المستدل
وإرجاعا للقول الآخر اليه.
الثاني: أنه يجوز أن يكون لفظ الانسان والشجر والحجر موضوعا للإنسان
والشجر والحجر الخارجي، إلا أن المتكلم لما ظن الشبح إنسانا في الخارج أطلق
عليه ما هو موضوع له ثم لما ظنه شجرا أطلق عليه اسمه... وهكذا، فإطلاق اللفظ
ليس إلا باعتبار كون الموضوع له هو الأمر الخارجي.
وفيه أن ذلك لا يصحح الاستعمال، إذ غاية الأمر أن يكون المستعمل معذورا
في إطلاقه نظرا إلى ظنه، وأما بعد الانكشاف فلا بد من الحكم بكون الاستعمال
غلطا، وملاحظة حدي الحقيقة والمجاز تنادي به، لعدم اندراجه في شئ منهما،
ومن البين انحصار الاستعمال الصحيح فيهما، مع أنه من الواضح أيضا خلافه، إذ
ليس شئ من تلك الإطلاقات غلطا بحسب اللغة.
الثالث: أنه لو تم ذلك لقضي بنفي الوضع للصور الذهنية أيضا، إذ على هذا
القول تكون الألفاظ موضوعة بإزاء الصور الذهنية المطابقة لذيها بحسب الواقع،
كما أن القائل بوضعها للأمور الخارجية يريد بها الأمور الخارجية المطابقة للواقع،
فحينئذ ينبغي أن لا يطلق اللفظ إلا على الصورة الواحدة المطابقة دون غيرها،
والبناء على اعتبار المطابقة في الثاني دون الأول تحكم بل فاسد، إذ لا داعي
للفرق.
وأنت خبير بما فيه، إذ من البين أن القائل بوضعها للأمور الخارجية لا يحتاج
إلى اعتبار المطابقة، ضرورة كون الشئ الخارجي هو نفس الواقع، وكذا القائل
بوضعها للأمور الذهنية بالنسبة إلى مطابقتها لما في الذهن، إذ ليس الأمر الذهني
إلا الشئ الحاصل في الذهن، فلا مغايرة في المقامين حتى يعتبر المطابقة.
347

نعم، يعتبر المطابقة في المقام بين الصورة الحاصلة وذيها، وهو حاصل
ضرورة اتحادهما بالذات وإن تغايرا بالاعتبار، وأما المطابقة بين الصورة
الحاصلة المطابقة للماهية المعلومة للمصداق الذي ينتزع منها تلك الماهية ويطلق
اللفظ عليها من تلك الجهة، فلا دليل على اعتبارها، غاية الأمر حينئذ أن يكون
استعمال اللفظ في المعنى المذكور في غير محله، وذلك لا يستدعي غلطا في
الاستعمال.
الرابع: المعارضة بقلب الدليل بأن يقال: إنها لو كانت موضوعة للصور الذهنية
لما تغيرت التسمية مع تغير الشبح المرئي بحسب الواقع إذا لم يعلم به المتكلم
وكانت الصورة الأولى باقية مستمرة، والتالي باطل قطعا، لامتناع إطلاق الحجر
على الانسان حقيقة.
فإن قيل: إن الموضوع له هو صورة الشبح المطابقة له بحسب الواقع، فتغيير
التسمية إنما يكون من تلك الجهة.
قلنا: قضية ذلك عدم صحة الإطلاق في الصورتين، ومبنى الاحتجاج على
صحتهما، والقول بكون المناط في صحة الاستعمال اعتقاد المطابقة للواقع جار
على القول بوضعها للأمور الخارجية أيضا، فيصح توارد الأسامي المختلفة مع
اتحاد المسمى، نظرا إلى اختلاف الاعتقاد، ففيه هدم للاحتجاج، وتجويز ذلك
على القول بوضعها للأمور الذهنية دون القول بوضعها للأمور الخارجية تحكم
بحت.
وفيه: أن الاعتقاد لا يصحح الاستعمال بحسب الواقع وإنما يصححه بحسب
اعتقاد المستعمل، فبعد انكشاف الخلاف ينبغي الحكم بالغلط حسب ما مر ومن
المعلوم خلافه، فذلك إذن شاهد على وضعها للأمور الذهنية، لما عرفت من الوجه
في صحة الاستعمال حينئذ على القول المذكور، غاية الأمر أن يكون إرادة المعنى
المذكور في غير محله، وذلك لا يوجب غلطا في الاستعمال كما عرفت.
فما ذكر من تغير التسمية مع تغير الشبح إن أريد به تغير الاسم بالنسبة إلى من
348

يعلم به فممنوع، وليس ذلك إلا لملاحظة الصورة الحاصلة، وإن أريد تغيره بالنظر
إلى الواقع مع عدم ملاحظة الصورة الحاصلة فممنوع، إذ من الواضح أن القائل
بوضع الألفاظ للصور الذهنية لا يقول به، فإن المناط عنده في ذلك ملاحظة
الصورة الذهنية.
وكذا الحال لو أريد تغيره بالنسبة إلى من يعتقده بقاء الأول، لوضوح فساده
ضرورة صحة إطلاق اللفظ الأول عليه بالنسبة اليه فيصح استناده إلى ذلك نظير ما
مر من الاحتجاج.
الخامس: المعارضة بأنها لو كانت موضوعة بإزاء الصور الذهنية لم يجز إرادة
الأمور الخارجية منها إلا على سبيل المجاز، ومن الواضع بملاحظة الاستعمالات
خلافه.
ويدفعه ما عرفت من أنه ليس مراد القائل بوضعها للأمور الذهنية كونها
موضوعة للصور بنفسها بل من حيث كونها مرآة لملاحظة الخارج، وحينئذ فإرادة
الأمور الخارجية بتوسط تلك الصور الذهنية مما لا مانع منه أصلا ولا تقضي
بتجوز في اللفظ، كيف! ولا بد من التوسط المذكور على القولين وإن كان هناك فرق
بين الوجهين حسب ما عرفت.
أو أن المراد وضعها للمفاهيم من حيث كونها مدركات للعقل، وحينئذ
لا تجوز في إطلاقها على الأمور الخارجية أيضا، ضرورة صدق تلك المفاهيم
عليها، غاية الأمر أن يعتبر في استعمال اللفظ فيها كونها مدركات للعقل.
السادس: المعارضة أيضا بأنها لو كانت موضوعة بإزاء الصور الذهنية لوجب
الانتقال إليها عند الإطلاق وتبادرها في الفهم، مع أنه لا ينتقل الذهن عند سماع
الألفاظ إلا إلى الأمور الخارجية من غير التفات إلى الصور الذهنية.
وفيه: ما عرفت من فساد حمل كلام القائل بوضعها للأمور الذهنية على إرادة
نفس الصور والإدراكات بنفسها، فعدم الالتفات إلى نفس الصور الذهنية غير مانع
عن صحة القول المذكور حسب ما عرفت تفصيل القول فيه.
349

فالتحقيق في الجواب أن يقال: إن القائل بوضع الألفاظ للأمور الخارجية إنما
يقول بوضعها لها على حسب نفس الأمر، ضرورة مطابقة الخارج لنفس الأمر،
لكن من الظاهر أنه لا بد في استعمال الألفاظ في تلك المعاني وإطلاقها بحسب
الموارد من طريق إلى معرفتها حتى يستعمل الألفاظ فيها ويصح إطلاقها على
مصاديقها.
وحينئذ فنقول: إن إطلاق الألفاظ المذكورة على الشبح المرئي من البعيد إما
أن يكون على سبيل الحمل - كأن يقول: هذا شجر، أو حجر ونحو ذلك - أو
باستعمالها في خصوص ذلك - بأن يقول: هذا الشجر كذا، أو هذا الحجر كذا -
وهكذا.
أما على الأول فمن البين أنه ليس المستعمل فيه لتلك الألفاظ إلا معانيها
الخارجية، غاية الأمر أنه مع عدم المطابقة يلزم كذب ذلك الحكم وعدم مطابقته
للواقع من غير لزوم غلط في الاستعمال، وحصول الكذب حينئذ مما لا مجال
لإنكاره بناء على المشهور في تفسير الصدق والكذب، ومنه يظهر وجه آخر
لضعف الإيراد الأول، إذ بناء على ما ذكر لا كذب في تلك الإخبار، لكونه حجرا
في اعتقاده وكذا شجرا أو إنسانا فذلك إنما يوافق مذهب النظام دون ما هو المشهور.
وأما على الثاني فليس استعمال تلك الألفاظ إلا في معانيها الحقيقية، إذ لم
يرد بالشجر والحجر والإنسان إلا معانيها الخارجية وإنما أطلقها على الشئ
المفروض من جهة اعتقاد مطابقته لها وكونه فردا لذلك المعنى وحصول تلك
الطبيعة في ضمنه، فالمستعمل فيه اللفظ هو معناه الكلي الخارجي - أعني الطبيعة
اللابشرط - وإطلاقه على ذلك الفرد من جهة اعتقاد إنطباقها معه واتحادها به،
فبعد انكشاف الخلاف وظهور عدم المطابقة لا يلزم كون ذلك الاستعمال غلطا،
لوضوح استعماله فيما وضع له، غاية الأمر ظهور كون استعماله في ذلك المعنى في
غير محله، لعدم انطباق ما أطلق عليه لتلك الطبيعة التي استعمل اللفظ فيها، وليس
ذلك من قبيل استعمال الشجر في الحجر مثلا حتى يرد ذلك فلا دلالة في الدوران
350

المذكور على وضع الألفاظ للحقائق الذهنية أصلا.
ومع الغض عن ذلك كله فغاية ما يلزم من الدليل المذكور على فرض صحته
عدم وضعها للأمور الخارجية، وبمجرد ذلك لا يتعين القول بوضعها للأمور
الذهنية، لاحتمال كونها موضوعة بإزاء المفاهيم من حيث هي مع قطع النظر عن
وجودها في الذهن أو في الخارج.
ثالثها: أنها لو كانت موضوعة بإزاء الأمور الخارجية لزم امتناع الكذب في
الإخبار، إذ ليس ما وضع له اللفظ حينئذ إلا الأمر الموجود في الخارج، فإذا كان
اللفظ مستعملا في معناه كان ذلك موجودا في الخارج، إذ ليس مدلول اللفظ
إلا عين ما في الخارج، ومن ذلك يعلم امتناع صدق الخبر أيضا، فإن الصدق
والكذب مطابقة مدلول الخبر لما هو الواقع وعدمها، فإذا فرض كون الكلام
موضوعا بإزاء الأمور الخارجية كان مدلوله عين ما هو الواقع ولا معنى لمطابقة
الشئ لنفسه وعدمها.
وأجيب عنه تارة بأن الدلالة الوضعية ليست كالدلالة العقلية حتى لا يمكن
تخلفها عن المدلول، بل إنما توجب إحضار مدلوله بالبال سواء طابق الواقع أو
خالفه، فيلحظ المطابقة وعدمها بالنسبة إلى المعنى الحاضر في الذهن بواسطة
الدلالة المذكورة.
وأخرى بأن المراد من وضعها للأمور الخارجية هو وضعها للموجودات
الخارجية بزعم المتكلم واعتقاده، لا الأمور الخارجية المطابقة لنفس الأمر،
فحينئذ يكون مع مطابقته للواقع صدقا ومع عدمه كذبا.
وثالثة بالمعارضة بأنه لو كان الكلام موضوعا للنسبة الذهنية لكان مدلول
الكلام هو تلك النسبة، فيكون الواقع بالنسبة اليه هو ذلك، وحينئذ فيكون صدقه
وكذبه بملاحظة تحقق تلك النسبة في الذهن وعدمه لا بملاحظة حصول النسبة
الخارجية وعدمه، فيكون المناط في الصدق والكذب باعتبار المطابقة للاعتقاد
وعدمها، وهو إنما يوافق مذهب النظام دون المشهور.
351

ورابعة بأنه أخص من المدعى فإنه إنما يفيد عدم الوضع للأمور الخارجية
بالنسبة إلى المركبات الخبرية دون غيرها.
ويرد على الأول أن الأمر الحاصل في الذهن إنما يؤخذ مرآة لما هو مدلول
اللفظ والمحكوم عليه بالمطابقة وعدمها إنما هو مدلوله، والمفروض أن مدلوله هو
عين ما في الخارج فلا يمكن فرض المطابقة وعدمها بالنسبة اليه، وحينئذ فمع
انتفاء مدلوله في الخارج يكون اللفظ خاليا عن المعنى لوضعه لخصوص الموجود
في الخارج والمفروض انتفائه، هذا إذا كان الملحوظ استعماله فيما وضع له، وأما
إذا فرض استعماله في غير ما وضع له - أعني المفهوم المعدوم - فيكون إما غلطا أو
مجازا، ولا يندرج أيضا في الكذب إلا أن يلاحظ كذبه بالنظر إلى ظاهر اللفظ،
وفيه ما لا يخفى.
ومع الغض عن ذلك نجعل التالي للشرطية المذكورة عدم إمكان الكذب مع
استعمال اللفظ في حقيقته، وهو أيضا واضح البطلان، والملازمة ظاهرة مما ذكر.
وعلى الثاني ما عرفت من وهن الكلام المذكور، إذ لا ربط للاعتقاد
بموضوعات الألفاظ خصوصا على هذا القول، وأخذ العلم في معاني الألفاظ
مذهب سخيف قام الدليل القاطع على فساده، مضافا إلى عدم جريانه في صورة
تعمد الكذب، لانتفاء مطابقته لاعتقاده أيضا.
وعلى الثالث أن ما ذكر مبني على أن يكون المقصود وضع الألفاظ للصور
الذهنية بأنفسها أو ما يقرب من ذلك، وقد عرفت وضوح فساده، وأنه مما لم يذهب
اليه أحد، وأما إذا أريد وضعها للصور الذهنية من حيث كونها مرآة لملاحظة
الخارج أو للمفاهيم المقيدة بكونها معلومة حسب ما مر فلا ورود لذلك أصلا.
مضافا إلى أنه لو بني الأمر في القول المذكور على ما ذكر فاللازم حينئذ عدم
اتصاف الخبر بالصدق والكذب على القول المذكور أيضا، فيكون اللازم مشترك
الورود بين القولين، نظرا إلى كون الواقع بناء عليه هو الأمر الذهني والمفروض أنه
عين الموضوع له فلا تغاير بين المدلول والواقع حتى يعتبر المطابقة وعدمها،
352

فلا وجه لالتزام اعتبار الصدق والكذب على مذهب النظام دون المشهور.
وعلى الرابع بأنه إذا ثبت ذلك في المركبات الخبرية يثبت في غيرها فإنه إذا
اعتبرت النسبة ذهنية فلا بد من اعتبار الموضوع والمحمول كذلك، فيعم الحكم
لسائر الألفاظ حتى الإنشاءات نظرا إلى وضع مبادئها لذلك فيتبعها أوضاع
المشتقات.
والتحقيق في الجواب: أن يقال: إن الدليل المذكور على فرض صحته إنما
يفيد عدم وضع الألفاظ للأمور الخارجية المأخوذة مع الوجود شطرا أو شرطا،
وأما لو قيل بوضعها للماهيات بملاحظة وجودها في الخارج أو على النحو الذي
اخترناه فلا دلالة فيه على بطلانه أصلا، إذ لا يستلزم دلالة اللفظ عليها، كذلك
وجودها في الخارج إذ دلالة اللفظ على شئ باعتبار وجوده لا يستلزم وجوده،
فإن طابق مدلوله ما هو الواقع كان صدقا وإلا كان كذبا واللفظ مستعمل في معناه
الحقيقي على الوجهين.
ومع الغض عن ذلك فمن البين أن أقصى ما يفيده ذلك عدم وضعها للأمور
الخارجية ولا يثبت به الوضع للأمور الذهنية، لإمكان وضعها للماهيات.
رابعها: أن في الألفاظ ما وضع للمعدومات الممتنعة أو الممكنة وما وضع
للأمور الذهنية كالكلية والجنسية والفصلية ونحوها، ومع ذلك كيف يعقل القول
بوضعها للأمور الخارجية؟ وفيه - مع عدم دلالة ذلك على وضعها للأمور الذهنية
لاحتمال كون الوضع للماهية من حيث هي وعدم ثبوت الكلية بذلك، إذ أقصى ما
يفيده ثبوت وضع الألفاظ المذكورة للأمور الذهنية - أنه إنما يتم ذلك لو أريد
وضعها للأمور الموجودة في الخارج على أحد الوجهين السابقين، وأما لو أريد
وضعها للأمور الخارجية على ما ذكرناه فلا، وكذا لو أريد وضعها للمفاهيم بالنسبة
إلى وجودها في الخارج ولو امتنع وجودها كذلك.
نعم، يتم حينئذ بالنسبة إلى المعدوم واللا شئ، وكذا المفاهيم الذهنية مما
لا يقبل الوجود في الخارج، وقد مرت الإشارة اليه.
353

حجة القول بوضعها للماهيات - مع قطع النظر عن وجودها في الذهن أو
الخارج - أنها المنساقة من تلك الألفاظ، ولذا لا تدل الألفاظ الموضوعة لمعانيها
على وجود تلك المعاني ويصح الحكم على معانيها بالوجود والعدم.
وفيه: أنه إن أريد بالماهية المفهوم من حيث كونه عنوانا لمصداقه بحسب
الواقع فهو راجع إلى ما قلناه، وإن أريد بها الماهية من حيث هي بحيث يعم
الصورة الحاصلة منها في الذهن أو الموجود في الخارج فالتبادر المدعى ممنوع،
بل من البين خلافه، إذ لا يتبادر من الألفاظ إلا المفاهيم على النحو الذي قررناه.
والوجه في القول الرابع ما ذكر في القول بوضعها للماهيات إلا أن ذلك الوجه
إنما يجري بالنسبة إلى الكليات، وأما الأمور الشخصية فلا يصح القول بوضعها
للماهية، ضرورة عدم كون أسامي الأشخاص كزيد وعمرو موضوعة بإزاء نفس
ماهية الانسان من حيث هي، وليس هناك مع قطع النظر عن الوجودين ماهية غير
ماهية الانسان ليتحصل بانضمامها ماهية الشخص، بل ليس في هوية الشخص إلا
الماهية الكلية بعد انتزاع العقل إياها عن الوجود، فهي إنما تكون شخصا بانضمام
الوجود إليها من غير حاجة إلى انضمام أمر آخر من العوارض الخارجية، أو أمر
نسبته إلى الماهية نسبة الفصل إلى الجنس، فهي إذا انضم إليها الوجود الخارجي
كانت شخصيا خارجيا وإذا انضم إليها الوجود الذهني كانت شخصيا ذهنيا،
فالوجود هو الأمر الذي نسبته إلى الماهية النوعية نسبة الفصل إلى الجنس لتحصل
الشخص من جهته، فصيرورتها شخصا إنما هي باعتبار انضمام أحد الوجودين
إليها ومن البين أيضا استحالة حصول كل من الوجودين في طرف الآخر،
فيستحيل أيضا حصول كل من الشخصين كذلك، فالشخص الخارجي لا يكون إلا
في الخارج كما أن الذهني لا يكون إلا في الذهن.
فإذا تقرر ذلك تبين أنه ليس الموضوع له في الجزئيات الخارجية سوى
الماهية المنضمة إلى الوجود الخارجي، وفي الجزئيات الذهنية سوى المنضمة إلى
الوجود الذهني، وقد عرفت أن الألفاظ الموضوعة للكليات إنما وضعت
354

للماهيات من حيث هي الشاملة للوجود منها في الذهن أو الخارج فصح ما ذكر
من التفصيل.
قال بعض أفاضل المحققين: إن هذا هو الحق الذي لا محيص عنه إن أريد
بوضع الألفاظ للجزئيات الموجودة في الذهن أو الخارج وضعها للذوات المعينة
التي لو كانت موجودة لكانت موجودة في الذهن أو الخارج، على أن يكون
الوجود الخارجي أو الذهني وضعا تقديريا للموضوع له، فإنه لو اعتبر الوجود
جزء من الموضوع له أو وصفا محققا له - كما يوهمه ظاهر القول بأنها موضوعة
للموجودات الذهنية أو الخارجية - كان فاسدا، فإنا نقطع بأن المفهوم من زيد مثلا
ليس إلا الذات المشخصة من دون التفات إلى كونها موجودة في الخارج أو
معدومة فيه، ولذا صح الحكم عليه بالوجود والعدم الخارجيين وجاز التردد في
كونه موجودا في الخارج أو لا، قال (رحمه الله): والظاهر أن مراد القائل هو ذلك المعنى
وإن كانت عبارته موهمة لخلافه.
قلت: إن صح ما ذكر في الاحتجاج على وضع الجزئيات للأمور الخارجية أو
الذهنية من عدم تعين الماهية مفهوما إلا بعد ضم الوجود - بأن لا يكون هناك وراء
عين الوجود الخارجي أو الذهني أمر يوجب تعين ذلك المفهوم - فحينئذ كيف
يمكن أن يتعين لها ذات من دون انضمام الوجود الخارجي أو الذهني إليها، وأيضا
بعد فرض عدم تعين الماهية بملاحظة الخارج إلا بانضمام عين الوجود الخارجي
إليها مع ما هو واضح من عدم إمكان حصول عين الوجود الخارجي في الذهن
لا يمكن القول بحصول مفهوم الجزئي في الذهن، نظرا إلى عدم إمكان حصول
ما يعينه فيه، فحينئذ كيف يصح القول بوضع الألفاظ بإزائها؟ ضرورة كون
المقصود من وضعها إحضار معانيها بالبال عند استعمال ألفاظها والمفروض امتناع
حصولها كذلك.
وإن قيل بإمكان تعين الماهية بحيث تكون مفهوما يمتنع صدقه على كثيرين
مع قطع النظر عن تحقق الوجود له في الخارج وعدمه - كما هو قضية ما ذكر
355

وهو الحق في ذلك - بطل ما ذكر من الاحتجاج وجاز وضع اللفظ بإزاء ذلك
المفهوم على حسب سائر المفاهيم من غير فرق أصلا.
والحاصل أنه إذا كان للجزئي مفهوم حاصل عند العقل كما أن للكلي مفهوما
كذلك - على ما هو قضية تقسيم المفهوم إلى الكلي والجزئي - لم يكن هناك فرق
بين الأمرين، وكانا على حد سواء وكون ذلك المفهوم في الجزئي الخارجي مرآة
لملاحظة الخارج جار بالنسبة إلى الكلي أيضا، فإنه أيضا عنوان للأمر الخارجي
حسب ما مر بيانه، فالتفصيل المذكور غير متجه في المقام.
هذا واعلم أن بعض الأفاضل جعل النزاع في المسألة مبنيا على النزاع في
مسألة المعلوم بالذات، فمن قال بكون المعلوم بالذات هو الصورة الذهنية، وذو
الصورة يكون معلوما بالتبع من جهة انطباقه معه يجعل الألفاظ أسامي للصور
الذهنية، ومن قال بأن المعلوم بالذات إنما هو ذو الصورة، نظرا إلى أنه الملتفت اليه
والصورة مرآة لملاحظته ولذا لا يحصل الالتفات إليها عند ملاحظة ذي الصورة -
كما هو الشأن في الأمور التي يجعل مرآة لملاحظة غيرها فإن من شأن المرآة أن
لا يلحظ بالذات عند جعلها مرآة - فالألفاظ عنده أسامي للأمور الخارجية.
فعلى هذا ربما يزاد قول آخر في المقام، وهو كونها أسامي للأمور الخارجية
في الموجودات الخارجية وللأمور الذهنية فيما عدا ذلك، لذهاب بعض الأفاضل
إلى التفصيل المذكور في تلك المسألة، فبناء على ما ذكر من المبنى يتفرع عليه
القول بالتفصيل في هذه المسألة أيضا.
وعن بعض الأفاضل جعل النزاع في تلك المسألة لفظيا بإرجاع الإطلاقين
إلى التفصيل المذكور، وعليه فيكون النزاع في هذه المسألة أيضا لفظيا بناء على
صحة المبنى المذكور.
لكنك خبير بوهن ذلك، إذ لا ربط لهذه المسألة بالمسألة المذكورة، وأي مانع
من أن يكون المعلوم بالذات هو الصورة ويكون ما وضعت له الألفاظ هي ذوات
تلك الصور؟ نظرا إلى أن المحتاج اليه في التعبير إنما هي تلك الأمور دون صورها
356

الحاصلة عند العقل، والوضع إنما يتبع مورد الحاجة وما يحتاج الناس إلى التعبير
عنه غالبا في الأحكام المتداولة بينهم، فيكون الموضوع له على هذا هو ذوات
تلك الصور دون الصور بأنفسها، سواء كان المعلوم بالذات هو الصور أو ذواتها.
وكأن ملحوظ القائل بوضعها للصور الذهنية كون تفهيم تلك الأمور الخارجية
بواسطة إحضار معانيها وجعلها مرآة لملاحظتها، فجعلوا الموضوع له هو تلك
الصور من تلك الجهة حسب ما مر سواء كانت معلومة بالذات أو بالتبع.
وأنا إلى الآن لم يتبين لي الوجه في حكم الفاضل المذكور بابتناء هذه المسألة
على تلك المسألة، وكأنه توهم ذلك من جهة كون المعلوم بالذات أعرف في النظر
وأبين عند العقل، فينبغي أن يكون الوضع بإزائه.
وأنت خبير بعدم وضوح الدعوى المذكورة أولا وعدم تفرع الحكم المذكور
عليه ثانيا، إذ مجرد الأعرفية عند العقل غير قاض بوضع اللفظ بإزائه، لدوران
الوضع غالبا مدار الحاجة وتعلق القصد به في المخاطبة، فجعل النزاع في المسألة
مبنيا على ذلك غير متجه، كيف! ولو كان كذلك لزم الاختلاف في وضع اللفظ إذا
كان الموضوع له موجودا حال الوضع ثم انعدم، ومن الواضح خلافه، وكذا الحكم
بكون النزاع لفظيا من تلك الجهة غير ظاهر، بل جعل النزاع في تلك المسألة لفظيا
بإرجاع الإطلاقين إلى التفصيل المذكور في كمال البعد.
وما يتخيل في وجهه من وضوح فساد كون المعلوم بالذات في المعدومات
الخارجية هو الأمور الخارجية فينبغي حمل كلام القائل بكون المعلوم بالذات هو
الأمور الخارجية على الحكم بذلك بالنسبة إلى الأمور الخارجية، وكذا يبعد القول
بكون المعلوم بالذات في الأمور الخارجية هو الصور الذهنية، لوضوح كون
المعلوم هناك هو الأمر الخارجي، فينبغي حمل كلامهم على غير ذلك، فيكون
مرجع القولين إلى التفصيل المذكور غير متجه، لابتنائه على أن يكون المراد
بالأمور الخارجية في كلامهم هو الموجودات الخارجية وليس كذلك، بل المراد
357

نفس الأمور الحاصلة بصورها سواء كانت من الموجودات الخارجية أو لا، وعلى
استبعاد كون الصورة معلومة بالذات في الموجودات الخارجية وليس في محله.
فمحصل البحث المذكور أن المعلوم بالذات بالعلم الحصولي هل هو نفس
الصورة أو المعلوم المدرك بحصولها؟ فبالنظر إلى كون الصورة هي المنكشفة
بالذات عند العقل وانكشاف ذي الصورة إنما يكون بتوسطها يتجه الأول،
وبملاحظة كون العلم مرآة لملاحظة المعلوم وآلة لانكشافه فلا تكون تلك الصورة
الحاصلة ملحوظة بذاتها ولا معلومة بالذات يتجه الثاني، فلكل من القولين وجه
ظاهر، فحمل الإطلاقين المذكورين على ذلك التفصيل في كمال البعد، بل بين
الوهن.
مضافا إلى ما في التفصيل من الحزازة الظاهرة والمخالفة للوجدان السليم، إذ
لا نجد فرقا بين المعلومات الموجودة وغير الموجودة في كيفية العلم بها، كيف!
ومن البين عدم الفرق في الإدراك الحاصل بين بقاء المعلوم على حاله أو زواله إذا
اعتقد بقاءه على حاله.
وما يقال من حصول الفرق بين القسمين - فإنا نجد من أنفسنا في القسم الأول
الالتفات إلى أمر خارج عنا، وفي الثاني نجد أنا قد التفتنا إلى ما في أنفسنا
وراجعنا اليه - كما ترى، لوضوح كون المنكشف في المقامين هو نفس الصورة
بذاتها وإن لم تكن ملتفتا إليها كذلك، لكونها مرآة لملاحظة المعلوم والمعلوم إنما
ينكشف بتوسط تلك الصور في المقامين.
وقد عرفت أن المراد بالأمور الخارجية هو نفس المعلومات سواء كانت
موجودة في الخارج أو لا.
مضافا إلى أن ملاحظة الخارج بالمعنى المتوهم ليست مقصورة على
الموجودات الخارجية، بل هي حاصلة في المعدومات أيضا إذا لوحظ كونها
موجودة على سبيل التقدير، فالملحوظ هناك خارج عن أنفسنا بالوجه المذكور
أيضا.
358

وما قد يتخيل في المقام في توجيه ذلك من أن المعلوم في الأمور الخارجية
هو نفس الأمر الخارجي من غير حصول صورة منه في النفس، فيكون تلك الأمور
هي المعلومة بالذات بخلاف الأمور الغير الموجودة فبين الوهن، إذ قضية ذلك
انحصار المعلوم في الأمور الخارجية بالأمر الخارجي من غير أن يكون هناك
معلوم آخر بالتبع، وهو خلاف ما يقتضيه كلامهم من تعدد المعلومين ووقوع
الخلاف فيما هو معلوم منهما بالذات وما هو معلوم بالتبع، فإن ذلك صريح في كون
النزاع فيما يكون العلم فيه بحصول الصورة كما ذكرنا فلا تغفل.
هذا وقد يجعل النزاع في المسألة لفظيا من جهة أخرى، وذلك بحمل كلام
القائل بوضعها للأمور الذهنية على إرادة الماهية من حيث هي بناء على إطلاقهم
اسم الصورة عليها في بعض المقامات، وحمل كلام القائل بوضعها للأمور
الخارجية على ذلك أيضا، نظرا إلى كونها في مقابلة الصور نفسها فهي أمور
خارجة عن تلك الصور من حيث كونها إدراكات، وإرجاع القول بالتفصيل اليه
أيضا بناء على أن القول بوضع الجزئيات الخارجية أو الذهنية للأمور الخارجية
والذهنية إنما يعني بها المفاهيم الجزئية التي لو وجدت كانت في الخارج أو
الذهن، وحمل القول بوضعها للماهيات على إرادة المفاهيم على الوجه المذكور
قريب جدا، فيرجع الحال في الجميع إلى القول بوضع الألفاظ للمفاهيم كلية كانت
أو جزئية.
ولا يذهب عليك أن حمل كلماتهم على ذلك مجرد احتمال، فإن كان
المقصود من ذلك احتمال جعل النزاع لفظيا فلا بأس به وإلا فلا شاهد عليه، مضافا
إلى أن حمل القول بوضعها للصور الذهنية على إرادة المفاهيم من حيث هي في
كمال البعد، وإطلاق الصورة على الماهية وإن ورد في كلامهم لكن الظاهر إطلاقها
على الماهية المعلومة، نظرا إلى اتحادها مع الصورة، وأما إطلاقها على الماهية من
حيث هي فبعيد عن ظواهر الإطلاقات.
والتقريب في ذلك بأن الماهيات التي توضع لها الألفاظ لما كانت معلومات
359

حين الوضع كان الوضع بإزاء المعلومات وإن لم يكن بملاحظة كونها معلومات
فقد أطلق الصور بملاحظة ذلك على الماهيات المعلومة لا يخلو عن بعد، إذ مع
عدم ملاحظة كونها معلومات يكون المراد بالصور هو نفس الماهيات أيضا وإن
كانت معلومة حين ملاحظتها، وقد عرفت بعده عن ظاهر الإطلاق.
واعلم أنه لو بني على كون النزاع في المقام معنويا فلا ثمرة يترتب عليه
ظاهرا وإنما هي مسألة علمية لا يتفرع عليها شئ من الأحكام الفرعية، إذ لا شك
على الأقوال في كون المقصود بالألفاظ الأمور الواقعية، سواء كانت هي مقصودة
من تلك الألفاظ أو لا لتكون موضوعة بإزائها مستعملة فيها أو كانت مقصودة
بواسطة صورها الذهنية، وسواء قلنا بكون تلك المفاهيم مما وضع الألفاظ بإزائها
مطلقة أو مقيدة بحضورها عند العقل، كما هو أحد الوجوه المتقدمة.
نعم، قد يتوهم على الوجه الأخير توقف أداء المكلف به واقعا على العلم
بكون ما يأتي به هو المكلف به، كما إذا قال: " آتني بشاة " فإنه لا بد في صدق
إتيانه بالمأمور به معرفته بمعنى الشاة ثم إتيانه بفرد يعلم اندارجه فيه.
ويدفعه أولا: أن حضور المعنى غير العلم بوضع اللفظ بإزائه فإذا أتى بالشاة
عالما بكونه شاة فقد أتى بما وضع اللفظ بإزائه وإن لم يعلم بالوضع له، وكذا لو أتى
بالمصداق معتقدا خلافه أو شاكا في كونه مصداقا مع علمه بما كلف به لصدق
إتيانه بتلك الطبيعة المعلومة وإن لم يكن اندراج ذلك المصداق فيها معلوما له
حين الإتيان.
نعم، لو كان غافلا عن الطبيعة التي كلف بإتيانها غالطا في المصداق أيضا
احتمل حينئذ عدم تحقق الامتثال على الوجه المذكور.
وثانيا: أن الحضور المأخوذ في المكلف به بناء على الوجه المذكور هو
الحضور عند المستعمل دون المكلف، فإذا أتى بالطبيعة الحاضرة عند تحقق
الإتيان سواء كان المكلف عالما بالحال أو لا. نعم لا يتم ذلك على إطلاقه في
العبادات، وهو كلام آخر لا ربط له بهذه المسألة.
360

ومن غريب الكلام ما تخيله بعض الأعلام من تفرع أمرين على الخلاف
في المقام.
أحدهما: الاكتفاء بأداء الأذكار الموظفة وغيرها بتخيلها بناء على القول
بوضعها للصور الذهنية، وأورد على ذلك أنه لا يتم إذا كان مستند الحكم نحو من
ذكر أو من قال ونحوهما، إذ لا يتحقق ذلك إلا باللسان، وأجاب بأن تلك أيضا
ألفاظ والمفروض وضعها للصور الذهنية قال: بل يلزمه الحكم بعدم الامتثال فيما
إذا قرأها مع الغفلة عن صورها الذهنية، ولك أن تقول: إنه يلزم بناء على ظاهر
القول المذكور جواز النظر إلى المرأة الأجنبية في الخارج، إذ مقتضى الأصل حمل
اللفظ على حقيقته التي هي الصور الذهنية دون الأمور الخارجية، وهكذا الحال
في أمثاله فلا بد له من التزام ذلك أو التزام التجوز في جميع الاستعمالات وجعل
ذلك من الأدلة على فساد القول المذكور.
ثانيهما: اعتبار اعتقاد المستعمل والمكلف فيما وضع له اللفظ بناء على
وضعها للصور الذهنية وإناطة الحكم بالواقع ونفس الأمر بناء على القول بوضعها
للأمور الخارجية قال: وهذا من أهم المباحث في الباب، وكم يتفرع عليه من
الثمرات: مثلا أمر الشارع بإيقاع الصلوات في مواقيتها والى القبلة مع الخلو عن
النجاسة وأمر بترك المحرمات وغير ذلك مما تعلق به التكاليف الشرعية، فلو قلنا
إن المعاني الموضوع لها هي ما يكون باعتقاد المكلف يلزم دوران الأمر مدار ما
اعتقده دون الواقع بخلاف ما إذا قلنا بوضعها للأمور الواقعية.
وأنت خبير بوضوح عدم تفرع شئ من الأمرين على المسألة المذكورة،
وتفريع الأول عليها مبني على حمل مراد القائل بوضعها للصور الذهنية على
الصور بملاحظة أنفسها لا من حيث كونها مرآة للواقع، وقد عرفت أنه لا مجال
لأن يحتمله أحد في المقام، كيف! ولو كان كذلك لكان اللازم على القول المذكور
الاكتفاء في أداء العبادات والمعاملات والواجبات والمحرمات وغيرها بمحض
التخيلات، وكذا في سائر الأحكام الجارية في العادات، أو التزام التجوز في جميع
361

تلك الاستعمالات، ومن البين أن عاقلا لا يقول به ومثله لا يليق أن يذكر في
الكتب العلمية ولا أن يعد ثمرة.
وتفريع الثاني مبني على الخلط بين هذه المسألة ومسألة أخذ الاعتقاد في
مدلولات الألفاظ، وقد عرفت الفرق بين المقامين وأن اعتبار ذلك مما لم يذهب
اليه أحد من المحققين وإنما ذلك من توهمات بعض القاصرين.
نعم، قد وقع الكلام بين جماعة من الأعلام في خصوص بعض الألفاظ
كالطاهر والنجس بحسب الشرع، نظرا إلى ما يفيده بعض الأخبار، وهو كلام آخر.
ومما يستطرف في المقام ما قد يسبق إلى بعض الأوهام من تفرع حرمة النظر
إلى صورة الأجنبية في الماء أو المرآة أو المنقوشة في الحائط أو القرطاس، وهو
إنما نشأ من الاشتراك في لفظ الصورة. نعم لو ذكر مكان ذلك تخيل الصورة
الأجنبية أمكن التفرع بناء على الخيال المذكور.
الثانية عشر
لا خلاف ظاهرا في كون المشتقات من الصفات كاسم الفاعل والمفعول
والصفة المشبهة ونحوها حقيقة في الحال، لا بمعنى وضعها لخصوص الحال على
أن يكون الزمان جزء من مدلولها، ولا بمعنى اعتبار اتصاف الذوات التي تجري
عليها بمبادئها في خصوص الحال التي يحكم فيها بثبوتها لموصوفاتها، ليلزم
القول بالاشتراك لو قيل بكونها حقيقة في الماضي، بل المراد كون إطلاقها على
ذلك في الجملة على سبيل الحقيقة سواء كانت موضوعة لخصوص ذلك أو لما
يعمه، فهي حقيقة في ذلك في الجملة سواء كانت موضوعة له بالخصوص أو كان
ذلك مصداقا حقيقيا لما وضع له.
وقد نص جماعة من القائلين بكونها حقيقة في الماضي على كونها حقيقة في
القدر المشترك، فلا وضع عندهم بالنسبة إلى خصوص الحال كما قد يتوهم في
المقام.
وكذا لا خلاف في كونها مجازا في الاستقبال سواء اخذ فيها معنى الاستقبال
362

أو أريد إثبات ذلك المفهوم له حال الحكم، نظرا إلى حصوله في المستقبل فيكون
الثبوت المأخوذ في تلك الصفات هو الثبوت في الجملة الشامل لثبوته في
الاستقبال أيضا، فيصح الحمل في الحال نظرا إلى تلك الملاحظة.
وظاهر ما حكى في الوافية عن صاحب الكوكب الدري احتمال كونه حقيقة
في الاستقبال أيضا، لذكره أن إطلاق النحاة يقتضي أنه إطلاق حقيقي.
فإن أراد بذلك أن حكمهم بمجئ المشتق للاستقبال - كما نصوا بمجيئه
للماضي والحال - ظاهر في كونه حقيقة فيه فوهنه ظاهر، سيما مع عدم منافاته
للحال بالمعنى الذي سنقرره إن شاء الله.
وإن أراد الاستناد إلى إطلاقهم اسم الفاعل على ضارب غدا - كما قد يحكى
عنه - فهو موهون من وجوه شتى سيما مع خروج ذلك عن محل الكلام أيضا،
إذ هو من قبيل الاستعمال في حال التلبس وإن لوحظ فيه الاستقبال بالنسبة إلى
حال النطق.
فما يظهر من غير واحد من الأفاضل في كون ذلك من قبيل الاستعمال في
الاستقبال بالمعنى الملحوظ في المقام كما ترى، وسيظهر لك حقيقة الحال.
وقد وقع الخلاف في صحة إطلاقه حقيقة من جهة التلبس به في الماضي على
قولين أو أقوال يأتي الإشارة إليها، وقبل الخوض في المسألة وبيان الأقوال فيها
والأدلة لا بد من بيان أمور ينكشف بها حقيقة المقصود:
أحدها: أن المراد بالحال في المقام هو حال التلبس أي الحال الذي يطلق
عليه اللفظ بحسبه، سواء كان ماضيا بالنسبة إلى حال النطق أو حالا أو مستقبلا،
فلو قلت: " زيد كان ضاربا أو سيكون ضاربا " كان حقيقة لإطلاقه على الذات
المتصفة بالمبدأ، بالنظر إلى حال اتصافه وتلبسه به وإن كان ذلك التلبس في
الماضي أو المستقبل، وأما إذا أريد به الاتصاف في حال النطق فهو أيضا حقيقة،
إلا أنه لا قائل باعتبارها بالخصوص في صدق المشتقات حتى يكون إطلاقها
على من تلبس في ماضي النطق أو مستقبله مجازا مطلقا، وهذا مع غاية ظهوره
من ملاحظة إطلاقات المشتقات منصوص به في كلامهم، بل حكي عن جماعة
363

دعوى الاتفاق عليه والزمان المأخوذ في الفعل ملحوظ على الوجه المذكور
أيضا، فالحال الملحوظ في المضارع إنما يراد به حال التلبس على الوجه الذي
قررناه، سواء وافق حال النطق أو كان ماضيا بالنسبة اليه أو مستقبلا، كما في
قولك: جاءني زيد وهو يتكلم، وسيجئ زيد وهو يضرب عمرا وكذا الحال في
المضي والاستقبال فيعم كل منهما كلا من حال النطق وماضيه ومستقبله.
وظهور إطلاق الفعل إذا أريد به الحال في حال النطق كما يظهر من الرجوع
إلى العرف إنما هو من جهة استظهار كونها حال التلبس، كما أن الماضي
والمستقبل أيضا إنما ينصرفان مع الإطلاق إلى ما يقابل حال النطق.
وربما يعزى إلى البعض القول باختصاص الحال هنا بحال النطق وقد حكي
عن ظاهر أكثر العبارات، وصريح بعض أن المراد بالحال في المقام هو حال النطق
وربما يومئ إلى ذلك ما يأتي من الاحتجاج بقول النحاة على صحة قولنا:
" ضارب أمس " على كونه حقيقة في الماضي، وما ذكره جماعة من كون ضارب
في قولنا: " ضارب غدا " مجازا بل في كلام العضدي حكاية الاتفاق عليه وهو
لا يتم إلا على إرادة حال النطق، إذ لو كان الملحوظ هو حال التلبس لم يصح
الاحتجاج المذكور ولا حكمهم بالمجازية في قولنا: " ضارب غدا "، إذ ليس
إطلاق الضارب في قولنا: " ضارب أمس، أو ضارب غدا " إلا باعتبار حال
التلبس سواء اخذ قولنا: " أمس وغدا " ظرفا للنسبة أو قيدا في المحمول.
والحاصل أنه قد أطلق الضارب على الموضوع المذكور باعتبار حال صدقه
عليه من الأمس أو الغد، سواء أريد بذلك الحكم بصدق ذلك المفهوم عليه في
الأمس أو الغد - كما هو الظاهر من العبارة - أو أريد صدق ذلك المفهوم مقيدا
بملاحظة حصوله في الأمس أو الغد عليه في الحال، إذ من البين إطلاق المشتق
على كل من الوجهين على الذات المتلبسة بالمبدأ، فعلى الأول قد حمل على
الذات الغير المتلبسة في الحال لا باعتبار حال عدم تلبسها، بل باعتبار زمان
تلبسها به، وعلى الثاني قد لوحظ صدقه على المتلبس بالمبدأ بالنظر إلى حال
364

تلبسه به من الماضي أو المستقبل وحمل مقيدا بذلك الاعتبار على الذات الغير
المتلبسة في الحال فليس إطلاق المشتق حينئذ إلا بالنظر إلى حال التلبس أيضا،
إلا أن في صحة الحمل المذكور، إذن من دون حاجة إلى التأويل تأملا وهو كلام
آخر لا ربط له بالمقام، فبملاحظة ذلك قد يشكل الحال في دعوى الاتفاق
المذكور.
قلت: كلامهم في المرام غير خال عن الإبهام، وكثيرا ما يقع الخلط في المقام،
والذي يقتضيه التحقيق هو ما ذكرناه، والظاهر أن إطلاق " الضارب " في المثالين
على سبيل الحقيقة حسب ما قررناه وغاية ما يمكن أن يوجه به ما ذكروه أن قضية
الحمل في قولنا: " زيد ضارب " هو ثبوت ذلك المفهوم لزيد في حال النطق كما هو
ظاهر من الرجوع إلى العرف، فإذا قيد بذلك كان خارجا عن مقتضى وضعه.
نعم، لو اكتفينا في صدق مفهوم الضارب بالفعل بثبوت المبدأ للذات في أحد
الأزمنة الثلاثة صح الحمل على سبيل الحقيقة، وكان قولنا: " غدا " قرينة على
خصوص ما هو حاصل في المقام من تلك الأقسام، إلا أنه ليس ذلك هو المفهوم
من المشتق بالاتفاق، وهذا بخلاف قولك: " زيد يكون ضاربا غدا " إذ قضيته
ثبوت المحمول له في المستقبل فلا مجاز أصلا.
وأما قولك: " ضارب أمس " فيبتني المجازية وعدمه فيه على الخلاف
المذكور، فلو قيل بوضع المشتق للأعم من الماضي والحال فلا شك في صدق ذلك
المفهوم عليه في الحال من غير تجوز ويكون ذكر " أمس " قرينة على تعيين أحد
الوجهين، وإن قلنا بوضعه للحال كان أيضا مجازا كالمستقبل.
والتجوز في المقام وإن كان بالنسبة إلى الحمل دون اللفظ بالنظر إلى معناه
الأفرادي، إلا أن السبب فيه هو ملاحظة معناه الافرادي كما عرفت، فالإجماع
على المجازية في المثال المذكور من جهة إجماعهم على عدم وضعه للمعنى
الأعم.
وأنت خبير بأن ذلك مع وهنه وإن احتمل بالنسبة إلى ما ذكر في الاحتجاج،
365

إلا أنه بالنظر إلى كلام العضدي في غاية البعد، لظهور عبارته جدا في حكاية
الاجماع على التجوز في المشتق.
إلا أن يقال: إنه مع ظهور الحمل المذكور في اتصاف الموضوع بالمحمول في
حال النطق يكون ذلك قرينة على استعمال المشتق في الأعم مما حصل له المبدأ
في الاستقبال، فيصح الحمل ويكون قوله: " غدا " قرينة على ذلك، ويجري مثله
فيما ذكروه في الاحتجاج.
وفيه: أنه لا شك في أن الملحوظ في المقام ليس إثبات مفهوم الضارب له في
الحال ليلزم الملاحظة المذكورة في مفهومه حتى يصح حمله كذلك، بل المقصود
على الوجه الأول إثبات ذلك المفهوم له في زمان الماضي أو المستقبل، وعلى
الوجه الثاني إثبات المفهوم المقيد بحصوله في الماضي أو المستقبل بالنسبة إلى
الحال، نعم قد يكون دعوى الاجماع المذكور مبنيا على ما ذكر وإن كان فاسدا
كما عرفت.
وكيف كان، فلا ينبغي التأمل في كون المشتقات حقيقة بالنسبة إلى حال
التلبس ولا عبرة فيها بحال النطق، وينبغي حمل ما يتراءى منافاته لذلك من
كلماتهم على ما لا ينافيه لوضوح الحال فيه.
وكأن المنشأ في توهم البعض على ما حكي عنه انصراف حمل المشتق على
الذات مع الإطلاق إلى اتصافها به في حال النطق كما في قولك: " زيد قائم، أو
عالم، أو نائم " ونحو ذلك، فتوهم من ذلك كونه حقيقة في خصوص حال النطق
وهو بين الفساد، إذ قضية الحمل حينئذ هو الحكم بثبوت المحمول له بالنسبة إلى
الحال فيكون حال تلبسه هو حال النطق، فانصرافه اليه على القول بوضعه للحال
من جهة كونه حال التلبس، لا من جهة كونه حال النطق، وهو ظاهر.
وكذا المراد بالاستقبال في المقام هو الاستقبال المقابل للحال المذكور، وذلك
بأن يطلق المشتق على غير المتلبس بالمبدأ نظرا إلى تلبسه به بعد ذلك، كأن يطلق
الضارب على زيد في الحال باعتبار صدور الضرب منه في الاستقبال، وهذا الذي
366

اتفقوا على كونه مجازا فيه، فمحل الخلاف هو إطلاقه على المتلبس في الماضي
في مقابلة الحال والاستقبال المذكورين وليس الخلاف في كونه حقيقة في
خصوص الماضي أيضا، كما قد يتوهم على ما سيجئ الإشارة اليه عند بيان
الأدلة، بل النزاع كما أشرنا اليه في كونه موضوعا لخصوص المتلبس بالمبدأ بالنظر
إلى حال تلبسه به أو لما حصل له التلبس به في الجملة، سواء كان في الحال أو
الماضي ليكون إطلاقه حقيقة في الصورتين.
ثانيها: المعروف بين علماء العربية وغيرهم عدم دلالة الصفات على الزمان
على سبيل التضمن على ما هو الحال في الأفعال، والظاهر أنه مما لا كلام فيه وإن
أوهم بعض العبائر دلالتها على الزمان كذلك، إذ كونها من جملة الأسماء وعدم
اندراج الزمان في مداليل الأسماء من المسلمات المشهورات كما هو ظاهر من
ملاحظة حدودها وغيرها.
مضافا إلى اتضاح ذلك من ملاحظة الاستعمالات، إذ لو كان الزمان جزء من
مدلولها لدلت عليه على نحو دلالة الأفعال، مع وضوح الفرق بينهما بعد ملاحظة
العرف، وظهور عدم انفهام الزمان منها كذلك.
وقد يتراءى من كلام القائلين بكون المشتق حقيقة في الحال أن يكون الزمان
مأخوذا في مفهومه على سبيل التضمن، ولذا احتمل بعضهم اختلاف مذهبي أهل
العربية والأصول في دلالة المشتقات على الزمان.
وهو توهم ضعيف، إذ ليس في كلام أهل الأصول ما يومئ إلى كون الزمان
مدلولا تضمنيا للمشتقات كما ستعرف ذلك من ملاحظة أقوالهم وأدلتهم في المقام.
والأظهر أنه لا كلام في عدم دلالتها على الزمان على سبيل القيدية أيضا - بأن
يكون قد اخذ أحد الأزمنة الثلاثة قيدا في مدلولها بحسب الوضع، فيكون
ما وضعت بإزائها هو الذات المتصفة بالمبدأ مقيدا بكون الاتصاف في الحال على
أن يكون القيد خارجا والتقييد داخلا - لما عرفت من أن القائل بكونها حقيقة في
الماضي لا يقول بدلالتها على الزمان أصلا، وإنما يعتبر في مفهومها تحقق
367

الاتصاف في الجملة، وليس مقصوده اشتراكها بين الماضي والحال لتكون دالة
على الزمان، واحتجاجهم على ذلك بتحقق استعمالها في الأزمنة، فظاهر
الاستعمال يقتضي كونها حقيقة في الكل خرج الاستقبال بالإجماع فبقي الباقي
لا دلالة فيه على ذلك، إذ المقصود من ذلك إطلاق اللفظ باعتبار الاتصاف في
الماضي أو الحال أو الاستقبال لا استعماله في خصوص كل من تلك الأزمنة،
كيف! ولو أريد ما يتراءى من ظاهره لكانوا قائلين باندراج الزمان في مدلولها
على سبيل التضمن كما في الأفعال، وقد عرفت وضوح فساده.
فمحصل استدلالهم أنها قد أطلقت على الذات المتصفة بالمبدأ في أي من
الأزمنة الثلاثة، وحيث دل الدليل على كونها مجازا باعتبار الاتصاف اللاحق
فالأصل المذكور يقتضي كونها حقيقة باعتبار الاتصاف الحاصل، سواء كان في
الماضي أو الحال، وذلك مما لا ربط له بدلالتها على الزمان على نحو الشطرية أو
الشرطية كما لا يخفى، مضافا إلى ما عرفت من عدم ظهور قائل باشتراك
المشتقات لفظا بين المعنيين.
وقد صرح جماعة من القائلين بكونها حقيقة في الماضي بكونها حقيقة في
القدر المشترك، وسيظهر لك ذلك من ملاحظة أدلتهم إن شاء الله.
وأما القائلون بكونها حقيقة في الحال فلم يريدوا بذلك إلا كونها حقيقة في
الذات المتصفة بالمبدأ على أن يكون اتصافها به حاصلا متحققا فمهما أطلقت على
ذات لا بد من اتصافها بذلك المبدأ في الحال الملحوظ في ذلك الإطلاق، وأين
ذلك من دلالتها على الزمان وأخذ الزمان قيدا في مدلولها؟ فالحال فيها نظير
الحال في الجوامد فإنها إنما تصدق على مصاديقها مع صدق مفاهيمها عليها في
الحال، وسيجئ توضيح الكلام فيه إن شاء الله.
على أنك قد عرفت أن الحال المذكورة هي حال التلبس، وليست بالحال
المعدودة من أحد الأزمنة وإن اندرجت فيها في بعض الاعتبارات.
فجعل النزاع في المقام في كون الحال قيدا فيما وضعت بإزائه على القول
368

بكونها حقيقة في الحال - ليكون الحال إذن مدلولا التزاميا بينا بالمعنى الأخص
للمشتقات ويكون دلالتها عليه على نحو دلالة العمى على البصر وعدمه على
القول الآخر، لكون مجرد الاتصاف ولو في الماضي كافيا في صدقها عندهم كما
يوجد في كلام بعض الأفاضل - ليس على ما ينبغي، إذ لا دلالة في كلام القائلين
بكونها حقيقة في الحال على ذلك، لإمكان تصحيحه على نحو ما قلناه بل
واستظهاره من كلامهم حسب ما سنقرره إن شاء الله.
فظهر بما قررناه أنه لا ربط للنزاع المذكور بأخذ الزمان في مفاهيم المشتقات
على سبيل التضمن أو التقييد، ولا يلزم اعتبار شئ من الوجهين في شئ من
الأقوال المذكورة في المسألة، ولا معارضة بين كلمات علماء الأصول وما ذكره
النحاة من عدم دلالتها على الزمان، وما صرح به علماء البيان من عدم إفادتها
التقييد بأحد الأزمنة الثلاثة حسب ما حكي عنهم (1).
ثالثها: أن المشتقات التي وقع النزاع فيها في المقام تعم أسماء الفاعلين
والمفعولين والصفات المشبهة وأسماء التفضيل والأوصاف المشتقة، كالأحمر
والأصفر والحمراء والصفراء ونحوها من الصفات.
وربما يقال بخروج اسم المفعول عن محل البحث، وكذا الصفة المشبهة واسم
التفضيل لظهور الوضع للأعم في الأول، ولخصوص الحال في الأخيرين.
ويضعفه إطلاق كلمات الأصوليين من غير إشارة منهم إلى تخصيص النزاع
باسم الفاعل والتعبير الغالب في كلماتهم بلفظ المشتق الشامل للجميع.
وقد فرع غير واحد من الأفاضل على المسألة كراهة الوضوء بالماء المسخن
بالشمس بعد زوال حرارته، مع أنه من قبيل اسم المفعول.
ثم إن ظاهر كلماتهم تعميم النزاع فيها لسائر أحوالها وأنواعها من غير تقييد
لمحل البحث ببعض صورها إلا أنه قد وقع تقييد النزاع ببعض الصور في كلمات

(1) فبناء بعض الأفاضل على تحقق المعارضة بين ما حكي عن علماء البيان وما ذهب اليه
جماعة من علماء الأصول ليس على ما ينبغي (منه (رحمه الله)).
369

جماعة من المتأخرين على وجوه شتى:
منها: ما ذكره التفتازاني من أن النزاع في اسم الفاعل الذي بمعنى الحدوث
لا في مثل المؤمن والكافر والنائم واليقظان والحلو والحامض والحر والعبد ونحو
ذلك مما يعتبر في بعضه الاتصاف به مع عدم طريان المنافي وفي بعضه الاتصاف
بالفعل البتة.
ومنها: ما ذكره الشهيد الثاني طاب ثراه والإسنوي وجماعة من المتأخرين
من اختصاص النزاع بما إذا لم يطرأ على المحل ضد وجودي للوصف الزائل، وأما
مع طريانه فلا كلام في عدم صدق المشتق على سبيل الحقيقة، وحكي عن الرازي
في المحصول دعوى الاتفاق على المجازية حينئذ، قال بعض أفاضل المتأخرين:
لم نجد ذلك في المحصول ولا في كلام علماء الأصول.
ومنها: تخصيص النزاع بما إذا كان المشتق محكوما به، وأما إذا كان محكوما
عليه فلا كلام في صدقه مع الزوال، وقد حكي التخصيص المذكور عن الشهيد
الثاني والغزالي والإسنوي وهذا التخصيص من جانب القائل باشتراط البقاء،
كما أن الأولين من جانب القائلين بعدمه.
ويضعف جميع هذه التقييدات إطلاق كلماتهم في المسألة وعدم تعرض أحد
من المتقدمين للتقييد، بل وكذا جماعة من المتأخرين، وتصريح جماعة منهم بأن
تلك التقييدات إنما نشأت بين المتأخرين وليس هناك تعرض لها في كلام الأولين.
ويشهد له ملاحظة أدلتهم في المسألة حيث استندوا فيها إلى ما هو من قبيل
ما أخرجوه من محل البحث، ومنه حدث التجاء كل من الفريقين إلى التخصيص
حيث ضاق به الخناق في الحكم بالإطلاق، ورأوا ظهور فساد القول بإطلاق
الاشتراط أو عدمه فبنوا على خروج ذلك عن محل البحث.
وكيف كان، فمع البناء على الإطلاق في محل البحث كما هو الظاهر يكون
التخصيصات المذكورة في بعض الوجوه تفصيلا في المسألة.
إذا تقرر ذلك فنقول: المعروف بين الأصوليين في المقام قولان:
370

أحدهما: عدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق، وهو المعروف بين
أصحابنا وقد نص عليه العلامة (رحمه الله) في عدة من كتبه والسيد العميدي والشهيد
والمحقق الكركي، وعزاه جماعة إلى أصحابنا الإمامية مؤذنين باتفاقهم عليه منهم
السيد العميدي والشهيد الثاني، وأسنده في المبادئ إلى أكثر المحققين، وفي
المطول إلى الأكثر، وقد ذهب اليه كثير من العامة منهم عبد القاهر والشافعي ومن
تبعه، وحكي ذلك من الجبائي والمعتزلة، وعزي إلى ابن سينا وغيره.
ثانيهما: القول باشتراط البقاء، وعزي إلى الرازي والبيضاوي والحنفية،
وحكاه في النهاية عن قوم.
ويحكى هناك قول ثالث، وهو اشتراط البقاء فيما يمكن بقاؤه وعدمه في
غيره، وعزاه في النهاية إلى قوم، إلا أنه قال في أثناء الاحتجاج: " إن الفرق بين
ممكن الثبوت وغيره منفي بالإجماع " وهو يومئ إلى حدوث القول المذكور أيضا
وكونه خرقا للإجماع.
ولبعض المتأخرين من أصحابنا تفصيل آخر، وهو أن المشتق حقيقة في
الماضي إذا كان اتصاف الذات بالمبدأ أكثريا، بحيث يكون عدم الاتصاف بالمبدأ
مضمحلا في جنب الاتصاف، ولم يكن الذات معرضا عن المبدأ وراغبا عنه، سواء
كان المشتق محكوما عليه أو به، وسواء طرأ الضد أو لا.
وربما يفصل في المقام بين الألفاظ وخصوص المشتقات فلا يجعل هناك
ضابطة في الاشتقاق، بل يقال بدوران الأمر في كل لفظ مدار ما هو متبادر منه،
فنحو القاتل والضارب والآكل والشارب والبائع والمشتري حقيقة في الأعم،
ونحو النائم والمستيقظ والقائم والقاعد والحاضر والمسافر حقيقة في الحال.
وربما يجعل الأصل في أسماء المفعولين البناء على الأول، نظرا إلى غلبة
وضعها لذلك، والأصل في الصفات المشبهة وأسماء التفضيل هو الثاني لذلك أيضا،
فيلحق المشكوك بالغالب.
وقد يقال بخروج المشتقات المذكورة عن محل النزاع حسب ما أشرنا إليه.
371

حجة القول بعدم اشتراط البقاء وجوه:
أحدها: الأصل فإنها تستعمل تارة في الحال، وأخرى في الماضي، والأصل
فيما استعمل في معنيين أن يكون حقيقة في القدر المشترك بينهما، دفعا للاشتراك
والمجاز.
ثانيها: التبادر، إذ المتبادر من القاتل والضارب والمحسن والمكرم والبائع
والمشتري ونحوها هو من تحقق منه تلك المبادئ، سواء كان في حال صدوره أو
بعدها، ولذا نجد الفرق بين قولنا: " ضارب وضارب الآن... " وهكذا في غيره
وليس ذلك إلا لإطلاق الأول وتقييد الثاني.
ثالثها: عدم صحة السلب، إذ لا يصح سلب القاتل والضارب مطلقا عمن وقع
منه القتل أو الضرب وانقضى، فيفيد ذلك اندراجه في المفهوم المذكور فيكون
موضوعا لما يعمه.
رابعها: أنه يصح قطعا أن يقال في العرف على سبيل الحقيقة لمن وقع منه
الضرب في اليوم السابق: " إنه ضارب أمس " وصدق المقيد يستلزم صدق المطلق.
خامسها: صحة تقسيمها إلى المتلبس بالمبدأ في الحال والمتلبس به في
الماضي، وظاهر القسمة يعطي كون المقسم حقيقة فيما يعم القسمين.
سادسها: صحة تقييدها بالحال والماضي تقول: " زيد ضارب الآن وضارب
أمس " من غير لزوم تكرار ولا تناقض ولو كانت حقيقة في أحد الأمرين لزم أحد
المذكورين.
سابعها: أنها لو كانت حقيقة في الحال خاصة لكان إطلاق المؤمن على الغافل
والنائم والمغمى عليه مجازا، لعدم حصول المبدأ فيهم، ومن الواضح خلافه،
للإجماع على صدق المؤمن عليهم في تلك الأحوال من غير شك.
ثامنها: أنه لو اعتبر في صدقها التلبس بالمبدأ في الحال للزم أن لا يصح
الاشتقاق من المبادئ التي لا يمكن حصولها في الحال، والتالي باطل فالمقدم
مثله.
372

أما الملازمة فظاهرة، إذ ما لا يمكن وجوده في الحال لا يعقل حصول
الاتصاف به في الحال.
وأما بطلان التالي فللزوم عدم صدق المخبر والمتكلم وكذا الصادق والكاذب
والآمر والناهي ونحوها على أحد، إذ الخبر: اسم لمجموع القول الذي يحتمل
الصدق والكذب، ومن البين أنه تدريجي الحصول غير قار الذات، فلا يمكن
اجتماع أجزائه في الوجود، وليس الكل والجزء متشاركين في الاسم ليكفي في
صدق التلبس به التلبس بجزئه، فلا قيام له بها في الحال، وكذا الكلام في الكلام
والصدق والكذب والأمر والنهي.
أما الأول والأخيران فلكونها أسامي للحروف الصادرة على الترتيب،
ولا يمكن الاجتماع بينها في الوجود.
وأما الثاني والثالث فلأنهما متعلقان بالخبر، وهو غير حاصل في الحال.
تاسعها: أنه لولا الوضع للأعم لما صح الاستدلال بقوله تعالى: * (الزانية
والزاني...) * إلخ (1) وقوله: * (السارق والسارقة...) * الخ (2) على وجوب حد الزاني
والسارق لانصرافهما إذن بمقتضى الوضع إلى من تلبس بالزنى أو السرقة حال
نزول الآية فلا يندرج غيرهم فيهما وهو فاسد، لاحتجاج العلماء خلفا عن سلف
بهما على ثبوت الحكم لمطلق الزاني والسارق.
وهذا التقرير مبني على كون المراد بالحال في المقام حال النطق وقد عرفت
أنه خلاف التحقيق، فالصواب تغيير الاحتجاج بجعل التالي عدم صحة الاستدلال
بهما على وجوب الحد إلا على من كان مشغولا بالزنى أو السرقة متلبسا بهما دون
من وقع منه ذلك وانقضى، وهو خلاف ما اتفقوا عليه، على ما ذكر.
عاشرها: ما يستفاد من ظاهر غير واحد من الأخبار:
فعن الصادق (عليه السلام) بعد ذكر قوله تعالى: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (3): " من

(1) سورة النور: 2.
(2) سورة المائدة: 38.
(3) سورة البقرة: 124.
373

عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما " (1)، وليس الوجه في ذلك إلا صدق الظالم عليه
بذلك وإن تاب عنه.
وفي خبر آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " أنا دعوة أبي إبراهيم " فسئل عن ذلك
فذكر (صلى الله عليه وآله) ما أوحى الله إلى إبراهيم من جعله إماما للناس، وسؤاله ذلك لبعض
ذريته (إلى أن قال): قال لا أعطيك لظالم من ذريتك عهدا، فقال إبراهيم عندها:
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام قال (صلى الله عليه وآله): فانتهت الدعوة إلي، وإني وعلي لم
نسجد للصنم واتخذني نبيا واتخذ عليا وصيا (2).
فإن الظاهر من سياقه أن من سجد للصنم لا يناله العهد، وليس ذلك إلا
لاندراجه في الظالم.
حادي عشرها: اتفاق أهل اللغة على أن اسم الفاعل بمعنى الماضي لا يعمل
ولولا صحة إطلاقه على الماضي لما أمكن ذلك، كذا قرره العلامة في النهاية.
وهو بظاهره غير متجه، لوضوح أن غاية ما يفيده الاتفاق المذكور صحة
استعماله في الماضي وهو مما لا كلام فيه، إلا أن يقال: إن اتفاقهم على الحكم
المذكور يشير إلى كونه معنى حقيقيا، نظرا إلى ظهور حكمهم بكونه معنى للمشتق
واختصاصه بحكم مخصوص في ذلك.
وقد يقرر الاحتجاج بوجهين آخرين أشار إليهما العضدي:
أحدهما: أن أهل اللغة أجمعوا على صحة " ضارب أمس " والأصل في
الإطلاق الحقيقة.
ويوهنه ما عرفت من ضعف الاستناد إلى الأصل المذكور في متعدد المعنى،
إلا أن يرجع ذلك إلى الوجه الأول، وهو خلاف ظاهر التقرير المذكور.
مع أنه موهون أيضا بما عرفت، مضافا إلى أنه لا حاجة إذن إلى الاستناد في
صحة استعماله إلى إجماع أهل العربية على صحة الاستعمال المذكور، إذ جواز
إطلاقه على المتلبس في الماضي في الجملة مما لا كلام فيه.

(1) الكافي 1 / 175.
(2) راجع بحار الأنوار 25 / 200.
374

ثانيهما: أنهم أجمعوا على أنه اسم فاعل، فلو لم يكن المتصف به كذلك فاعلا
حقيقة لما أجمعوا عليه عادة، وتوضيحه أنهم اتفقوا على كون لفظ " الضارب "
اسما للفاعل فيما إذا أطلق على من انقضى عنه التلبس بذلك الفعل، فقد اتفقوا على
صدق الفاعل عليه مع انقضاء تلبسه به وهو أيضا من جملة المشتقات، فظاهر
إجماعهم يفيد كونه حقيقة لبعد كون اتفاقهم على صدق المجازي.
ويوهنه أن ما أجمعوا عليه كونه اسم فاعل بمعناه المصطلح دون معناه
الاشتقاقي، ولو فرض إرادة ذلك فيمكن تصحيحه بإطلاق الفاعل حينئذ على
المتلبس في الحال بالمعنى المتقدم، كما لا يخفى.
وقد يقرر ذلك بوجه آخر، وهو أن لفظ " الضارب " بالمعنى المذكور اسم
فاعل حقيقة، للاتفاق عليه فقضية الاتفاق المذكور أن يكون استعمال اسم الفاعل
بمعنى الماضي حقيقة.
وهو في الوهن كسابقه، نظرا إلى كونه من باب اشتباه العارض بالمعروض،
وقد وقع منهم نظائر هذا الاشتباه في موارد أخرى، يأتي الإشارة إليها إن شاء الله
تعالى.
ثاني عشرها: أنهم قالوا في تعريف اسم الفاعل: " إنه ما اشتق من فعل لمن قام
به " فظاهر لفظ " قام " هو القيام في الماضي، وقضية ذلك كونه حقيقة في خصوص
الماضي، فلما قام الاجماع على كونه حقيقة في الحال في الجملة لزم حمله إذن
على ما يعمها، وحمله على خصوص الحال بعيد جدا، كما أن حمله على ما يعم
الثبوت ولو في الاستقبال مضافا إلى كونه أبعد من الوجه المذكور مدفوع
بالإجماع، فدل ذلك على وضعه لمن تحقق فيه المبدأ في الجملة، سواء كان في
الماضي أو في الحال، وهو المدعى.
والجواب أما عن الأول فبما عرفت من ضعف الاستناد إلى الأصل المذكور
في إثبات اللغات، سيما فيما إذا كان الاستعمال في القدر المشترك غير متحقق
الحصول كما في المقام.
375

مضافا إلى أن الإطلاق على الماضي غير ثابت في كثير من المشتقات
- كالأحمر والأصفر والنائم واليقظان والقائم والقاعد ونحوها - فهو أخص من
المدعى. ودعوى انتفاء القائل بالفصل في المقام محل منع.
على أن المتبادر من الأمثلة المذكورة خصوص الحال، وهو دليل المجازية
في غيرها، ولا ريب أن ذلك أقوى في الدلالة من الأصل المدعى.
وقد يورد عليه أيضا بأن ذلك إنما يتم إذا لم يعلم كونه حقيقة في خصوص
أحد المعنيين، إذ قضية الأصل مع العلم به ترجيح كونه مجازا في الآخر والقدر
المشترك بينهما دفعا للاشتراك المرجوح بالنسبة إلى المجاز وهو كذلك في المقام،
لإجماعهم على كونه حقيقة في الحال.
ويدفعه ما عرفت من أن إجماعهم على الأعم من كونه معنى حقيقيا أو
مصداقا حقيقيا له، لا على خصوص الأول، كما قد يتراءى في بادئ النظر.
وأما عن الثاني فبما عرفت من انتقاضه بتبادر خلافه أيضا في موارد كثيرة
أخرى، على أن تبادر القدر المشترك منها في الأمثلة المذكورة محل نظر حسب ما
يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وأما عن الثالث فبأنه إن أريد بذلك عدم صحة سلب الضارب عنه بالنسبة إلى
ماضي النطق وإن كان بملاحظة حال تلبسه به فممنوع، ولا يفيد إلا كونه حقيقة في
حال التلبس، وهو كما عرفت خارج عن محل البحث.
وإن أريد عدم صحة سلبه عنه بحسب حال النطق نظرا إلى تلبسه به في
الماضي فممنوع، على أنه معارض بصحة السلب في أمثلة كثيرة أخرى مما تقدم
الإشارة إليها.
وأما عن الرابع فبأن صدق قولنا: " ضارب أمس " في المثال المفروض
ليس من محل النزاع، لاستعماله إذن في حال التلبس حسب ما مر بيانه، وما ذكر
من استلزامه صدق زيد ضارب مع الإطلاق إن أريد به صدقه عليه بملاحظة
حال اتصافه به - أعني الأمس - فلا يفيد المدعى، إذ ذلك أيضا من قبيل إطلاقه
على حال التلبس.
376

وان أريد صدقه بالنسبة إلى حال النطق فممنوع وصدق المقيد لا يستلزم
إلا صدق المطلق على نحو المقيد، لقضائه بصدق المطلق نظرا إلى حصوله في
ضمن ذلك المقيد لا بالنظر إلى حصول آخر.
وأما عن الخامس فبعدما عرفت من وهن دلالة التقسيم على الحقيقة أن
القسمة المذكورة إنما تفيد كونه حقيقة في الأعم من حال النطق، وهو غير المدعى
لما عرفت من الاتفاق على كونه حقيقة في حال التلبس، وهو أعم من حال النطق،
فيصدق " الضارب " في المثال المفروض على من هو متلبس بالضرب في حال
النطق وعلى من انقضى عنه، بملاحظة تلبسه به في الوقت الملحوظ في إطلاقه
عليه، ومع تسليم صحة التقسيم بالنسبة إلى حال التلبس وماضيه أيضا فهو إنما
يجري في بعض الأمثلة دون غيرها، فلا يفيد تمام المدعى.
على أنه معارض بصحة السلب وغيرها من علائم المجاز الحاصلة في أمثلة
أخرى، حسب ما أشرنا إليها.
وبنحو ذلك يجاب عن السادس.
وأما عن السابع فأولا: بأن التصديق حاصل للنفس في الحالتين المذكورتين
غير أنه غير ملتفت اليه فيهما، وفرق بين حصول التصديق والالتفات إلى حصوله
كيف! ولو كان التصديق مرتفعا بالنوم أو الغفلة توقف حصوله ثانيا على كسب
جديد وليس كذلك قطعا.
وما يقال من أن التصديق يتوقف على تصور أطرافه والحكم بوقوع النسبة أو
لا وقوعها، وهو غير حاصل في حال النوم أو الغفلة.
مدفوع، بأن حصول الصورة في النفس غير التفاته إلى ذلك الحصول، وأقصى
ما يسلم حينئذ انتفاء الالتفات لا نفس الحصول، فتصور الأطراف والحكم بثبوت
المحمول للموضوع أو نفيه عنه حاصل للنفس، إلا أنه غير ملتفت إلى شئ منها
في الحالتين وما بمنزلتهما.
وما قد يقال من عدم توقف التصديق على تصور الأطراف في بقائه
377

واستدامته وإنما يتوقف عليه في ابتداء حصوله غير متجه، كيف! وليس التصديق
إلا نفس الحكم أو مجموع الحكم والتصورات، فكيف يعقل حصوله من دونها
ابتداء أو استدامة؟!
وقد يقال بمثل ذلك في طريان الجنون أيضا، إذ لا يحتاج المجنون بعد
رفع الجنون إلى تجديد الاكتساب لما حصله من العلوم، فهي حاصلة له موجودة
عنده في الخزانة.
إلا أن الجنون مانع من التفاته إليها كالسكر والإغماء، فإبدال النائم والغافل
بالمجنون غير نافع في المقام.
نعم، لو طال جنونه بحيث زالت الصورة المذكورة عن النفس بالمرة صح ما
ذكر، إلا أن صدق المؤمن عليه حينئذ على سبيل الحقيقة غير مسلم، وإنما هو في
حكم المسلم كالأطفال، بل لو بني الأمر على ذلك في كل مجنون لم يكن بعيدا،
وربما يستظهر ذلك من كلام جماعة من الأصحاب.
وثانيا بأنه أخص من المدعى أو غير مطابق للدعوى، فإنه إن جعل النزاع في
الأعم مما يكون المبدأ فيه حدوثيا وغيره كما هو الظاهر، فهو غير واف به،
وإن خص بما إذا كان المبدأ فيه حدوثيا فهو غير مطابق للمدعى.
وثالثا بانتقاضه بعدم صدق المؤمن عليه بعد ارتداده، وعدم صدق الكافر
عليه إذا سبق منه الكفر، وإلا لكان جملة من أكابر الصحابة كفارا على الحقيقة.
والجواب عنه بكون المنع هناك من جهة الشرع دون اللغة جار في المقام.
ورابعا: بالتزام عدم صدق المؤمن عليه حينئذ على سبيل الحقيقة وإنما هو
بحكم المؤمن في الشرع، وهو كما ترى.
وأما عن الثامن فأولا: بخروج الأمثلة المذكورة عن محل النزاع على ما قيل،
وقد مرت الإشارة اليه.
وثانيا: بأنه أخص من المدعى، فلا يثبت به العموم، والإجماع المركب غير
متحقق في المقام.
378

وثالثا: بأنه ليس المدار في حصول المبدأ في الحال على التحقق العقلي بل
الصدق العرفي كاف فيه، وهو حاصل في المقام لصدق قولك: " فلان يتكلم أو
يخبر " في هذا الحال قطعا من غير تجوز أصلا إذا كان في حال التكلم والإخبار.
ورابعا: بما عرفت من أن المدار في إطلاق المشتقات على ملاحظة التلبس
وهي أعم من حال النطق، وحينئذ فلا يمنع عدم إمكان حصول مبادئها في الحال
من صدقها على سبيل الحقيقة، بالنظر إلى حصول التلبس بها في الزمان وإن لم
يمكن اجتماع أجزائها في الوجود. فتأمل.
وأما عن التاسع فأولا: بخروج الأمثلة المذكورة عن محل النزاع على ما قيل.
وثانيا: بأنه أخص من المدعي ولا مانع من القول بالتفصيل.
وثالثا: بقيام القرينة عليه في المقام ضرورة عدم إرادة إيقاع الحد عليه في
حال تلبسه بالزنى أو السرقة، ولا كلام في جواز استعمال المشتقات باعتبار
التلبس في الماضي مع انضمام القرينة.
ورابعا: بالمنع من استعمال المشتق في الآيتين المذكورتين وما بمعناهما في
الماضي باعتبار الحال الملحوظ في الإطلاق، حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله
تعالى.
وأما عن العاشر فبعد الغض عن إسنادهما بعدم وضوح دلالتهما على المدعى
إذ غاية الأمر دلالتهما على إطلاق الظالم في الآية على المعنى الأعم، وهو أعم
من الحقيقة، على أنه قد يصحح ذلك بإطلاقه باعتبار حال التلبس، كما ستعرف
الوجه فيه إن شاء الله.
وأما عن الحادي عشر فأولا: أن اتفاق أهل اللغة لا يفيد زيادة على استعماله
في الماضي، وهو أعم من الحقيقة كما مر.
واتفاقهم على ثبوت ذلك المعنى وثبوت حكم مخصوص له بحسبه لا يفيد
ثبوت الوضع له بوجه كيف! وجميع ما ذكر حاصل بالنسبة إلى استعماله في
المستقبل مع كونه مجازا فيه بالاتفاق، فملاحظة اتفاقهم على إطلاقه باعتبار
379

المستقبل وبيانهم لحكمه في الأعمال مع كونه مجازا فيه تشهد بكون الملحوظ
عندهم بيان حكم اللفظ، سواء كان حقيقة أو مجازا، فلا دلالة في ذلك على كونه
حقيقة بالنسبة إلى الماضي أيضا.
وثانيا: أن استعماله في الماضي في المثال الذي ذكروه إنما هو من قبيل
استعماله في حال التلبس وإن كان ماضيا بالنسبة إلى حال النطق وليس ذلك من
محل النزاع حسب ما مر القول فيه، مضافا إلى أن ذلك لو تم لم يفد تمام المدعى،
لعدم جريانه في جميع المشتقات.
وأما عن الثاني عشر فبأن إطلاق الماضي على الحال مما لا مانع منه ولا بعد
فيه بعد جريان التعبير به عن الحال في الاستعمالات، كما لا يخفى على من لاحظ
أمثال المقام في الإطلاقات، مضافا إلى ما عرفت من كون المراد بالحال في المقام
هو حال التلبس وقد مر أنه لا ينافي المضي بالنسبة إلى حال النطق، فحمل العبارة
على الأعم من الماضي والحال غير مناف لما ذكرناه.
ومع الغض عن ذلك فهم عنوا بالتحديد المذكور بيان اسم الفاعل بحسب
اصطلاحهم سواء استعمل الصيغة في معناه الحقيقي أو المجازي ولا ريب في
شمول اسم الفاعل للصيغة المفروضة في الأحوال الثلاثة، وليسوا بصدد بيان ما
وضع له الصيغة المفروضة حتى يستفاد من ذلك كونه حقيقة في الصورتين، فتأمل.
حجة القائل باشتراط البقاء أمور.
أحدها: أن المتبادر من الأحمر والأصفر والأبيض والحسن والقبيح والجميل
والكريم والصالح والتقي والزاهد والعالم والجاهل ونحوها هو خصوص من
اتصف بتلك المبادئ في الحال، والتبادر دليل الحقيقة.
ويجاب عنه تارة بمنع كون التبادر المدعى مستندا إلى نفس اللفظ بل إلى
غلبة الاستعمال، ويكشف عنه أنه لو كان كذلك لاطرد في غيرها من المشتقات،
لاتحاد جهة الوضع فيها، لما تقرر من كون أوضاعها نوعية، ولعدم قائل بالتفصيل
في الألفاظ على ما يظهر من كلماتهم كما عرفت، وليس كذلك، إذ لا يتبادر ذلك
380

في نحو القاتل والجارح والبائع والمشتري والمعلم والمضروب والمنصور ونحوها.
وأخرى بأن التبادر المدعى في تلك الأمثلة معارض بتبادر خلافه في أمثلة
أخرى، فإن أجيب بكون تبادر الأعم في تلك الأمثلة من جهة الغلبة لم يكن ذلك
أولى من العكس.
ثانيها: صحة السلب مع انتفاء التلبس في الحال في الأمثلة المذكورة.
ويرد عليه المعارضة المذكورة بعدم صحته في الأمثلة الأخيرة.
وقد يقرر ذلك بوجه آخر، بيانه: أنه يصح أن يقال لمن انقضى عنه الضرب في
الحال: " إنه ليس بضارب الآن " وإذا صح السلب المقيد صح السلب المطلق،
ضرورة صدق المطلق بصدق المقيد.
وبعبارة أخرى قولنا: " ليس بضارب الآن " قضية وقتية وصدق الوقتية
يستلزم صدق المطلقة العامة، فيصح القول بأنه ليس بضارب مع الإطلاق، وصحة
سلبه كذلك دليل المجاز، فيكون مجازا في الماضي فلا يكون موضوعا لما يعمه،
فتعين وضعه لخصوص المتلبس في الحال وهو المدعى.
ويمكن الإيراد عليه بالنقض والحل، أما الأول فلأنه لو تم ذلك لدل على
صحة سلبه عن المتلبس في الحال أيضا، إذ يصح أن يقال لمن لم يكن متلبسا
بالضرب في الماضي وقد تلبس به في الحال: " إنه ليس بضارب أمس " وصدق
المقيد يستلزم صدق المطلق... إلى آخر الدليل.
وأما الثاني فبأن قوله " الآن " اما أن يؤخذ قيدا في المحمول أو ظرفا للحكم،
فعلى الأول يسلم صدق السالبة المذكورة، لكن لا يكون نفس السلب حينئذ مقيدا
بل يكون من قبيل سلب المقيد، ومن البين أن سلب المقيد لا يستلزم سلب المطلق،
وعلى الثاني صدق القضية المذكورة ممنوع، بل هو أول الدعوى، إذ القائل بعدم
اشتراط البقاء يقول بصدق الضارب عليه في الحال مع تلبسه به في الماضي.
وقد يجاب أيضا بعد تسليم صدق النفي مع جعل القيد ظرفا للحكم بأن قضية
ذلك صدق السلب في الوقت الخاص، وأقصى ما يلزم من ذلك صدق السلب على
381

سبيل الإطلاق العام وهو غير مناف لصدق الايجاب كذلك، ضرورة عدم تناقض
المطلقتين.
ويدفعه أن المطلقتين إنما لا يتناقضان في حكم العقل لا في حكم العرف،
ضرورة وجدان التناقض عرفا بين قولك: " زيد ضارب وزيد ليس بضارب " وهو
المحكم في المقام وأيضا لو سلم صدق الايجاب أيضا فهو غير مانع لصحة الدليل،
إذ المقصود صحة السلب لا عدم صحة الايجاب، فإنه المأخوذ دليلا في المجاز،
وأما صحة الايجاب فلا ربط له بالدلالة على حال اللفظ، ولذا لم يعد من علائم
الحقيقة.
ويمكن الجواب عن ذلك بالفرق بين صدق السلب على سبيل الإطلاق
بملاحظة الإطلاق العام المنظور في حكم العقل وصدقه على سبيل الإطلاق في
حكم العرف، فالأول مسلم، ولا ثمرة فيه، إذ ليس مجرد ذلك علامة للمجاز،
والثاني ممنوع.
قلت: بعد تسليم صدق السلب المذكور في الحال على أن يكون الحال ظرفا
للحكم كما هو المفروض يتم الاحتجاج ولو اخذ صدق الإطلاق العام اللازم لذلك
بملاحظة العقل، والرجوع إلى العرف إنما هو في الحكم الأول وأما الثاني
فلا حاجة فيه إلى ملاحظة العرف، بل قطع العقل بصحة السلب كاف في الدلالة
على المقصود.
وأنت خبير بأنه لا حاجة إذن إلى ضم المقدمات الأخيرة، بل مجرد إثبات
صدق السالبة المفروضة كاف في إثبات المطلوب، إذ عدم صدق المفهوم من اللفظ
عليه في الحال وصحة سلبه عنه حينئذ قاض بعدم وضع اللفظ للمفهوم الأعم وإلا
لما صح سلبه عن مصداقه، فلا حاجة إلى إثبات صحة سلبه عنه مع اسقاط القيد
المذكور، إذ المفروض إطلاق المسلوب وإن اعتبر كون السلب في الحال.
فإن قلت: إن صحة السلب الدال على المجاز إنما هو صحة السلب
المنافي للإيجاب، وليس صحة السلب المذكور منافيا للإيجاب، لإمكان صحة
الإثبات أيضا.
382

قلت: أولا: أنه لا دليل على اعتبار الشرط المذكور، بل لا وجه له حسب
ما عرفت تفصيل القول فيه.
وثانيا: أن المعتبر في منافاته للإيجاب لو قيل به إنما هو على نحو ما تعلق به
السلب، ومن البين أنه لا يصح أن يقال له: " إنه ضارب الآن " فتعين الجواب في
المنع عن صحة السلب لو اخذ الحال قيدا للحكم.
وما يتراءى من صحة السلب مع التقييد فإنما هو مبني على انصراف التقييد
إلى كونه قيدا في المحمول، وفيه تأمل سيأتي الإشارة اليه إن شاء الله تعالى.
ثالثها: أنها لو كانت موضوعة للأعم لصح إطلاق القاعد على القائم والقائم
على القاعد والنائم على المستيقظ والمستيقظ على النائم ونحوها، ومن الواضح
فساده، وكذا يلزم صحة إطلاق الكافر على المؤمن والمؤمن على الكافر، وليس
كذلك وإلا لكان جملة من أكابر الصحابة كفارا على الحقيقة، والمرتد عن الدين
مؤمنا على الحقيقة، وليس كذلك إجماعا.
وأجيب أولا: بالتزام المنع والتخصيص في محل النزاع، لطريان الضد
الوجودي في المقام، ومحل النزاع ما إذا لم يطرأ ذلك، وكون المبدأ ثبوتيا في
بعضها ومحل النزاع ما إذا كان حدوثيا، وقد عرفت ما فيه.
وثانيا: بأن ذلك معارض بأنه لو كان موضوعا للحال لما صح إطلاق القاتل
والضارب والجارح والبائع والمشتري ونحوها على من انقضى عنه المبدأ إلا على
سبيل المجاز، مع أن ملاحظة الاستعمالات تشهد بخلافه.
والوجه في التفصيل بين ما يمكن حصوله في الحال وما لا يمكن فيه ذلك هو
الأخذ بأدلة القائل باشتراط التلبس في الحال، إلا أن ذلك إنما يتم فيما يمكن فيه
ذلك دون غيره، إذ لا يعقل اشتراط التلبس في الحال فيما لا يمكن حصوله فيها
كالمخبر والمتكلم ونحوهما، فلا يمكن القول بوضعه لخصوص المتلبس في
الحال، إذ لا وجه لوضع اللفظ للمعنى على وجه لا يمكن إرادته في الاستعمالات،
ولأنه يلزم أن يكون استعمالاته كلها مجازات لا حقيقة لها، وذلك وإن لم يكن
383

متعذرا إلا أنه لا أقل من كونه مستبعدا مخالفا للظاهر، وهو كاف في المقام لابتناء
ثبوت الأوضاع على الظن.
ويدفعه ما عرفت في رد أدلة القائلين باعتبار الحال وأن المعتبر في صدق
وجود المبدأ في الحال على القول باشتراطه كونه على النحو الصادق في العرف
دون التدقيقات العقلية... إلى آخر ما مر.
حجة التفصيل الذي اختاره بعض المتأخرين أنهم يطلقون المشتقات مع
حصول الاتصاف على النحو المذكور من دون نصب قرينة كالكاتب والخياط
والقارئ والمعلم والمتعلم ونحوها ولو كان المحل متصفا بالضد الوجودي كالنوم
ونحوه، قال: والقول بأن الألفاظ المذكورة كلها موضوعة لملكات هذه الأفعال
مما يأبى عنه الطبع السليم في أكثر الأمثلة، وغير موافق لمعنى مبادئها على ما في
كتب اللغة.
وفيه أولا: أن صدق المشتقات المذكورة ليس مبنيا على أكثرية الاتصاف
بالمبدأ، إذ ليس هناك أغلبية في الغالب، غاية الأمر حصول الاتصاف في زمان
يعتد به وإن كان مغلوبا بالنسبة إلى أزمنته عدم الاتصاف، بل قد يكون زمان عدم
الاتصاف به أضعاف زمان الاتصاف كما في المعلم والمتعلم والقارئ ونحوها فلا
يطابق ما عنون به الدعوى.
وثانيا: أنه منقوض بالنائم والمستيقظ والساكن والمتحرك والحاضر
والمسافر، فإنه لا يصدق شئ من تلك المشتقات مع زوال المبدأ مع عدم إعراض
الذات عنها وعدم قصور زمن الاتصاف بها عما فرض في المبادئ المذكورة، بل
ومع أغلبية اتصافها بها.
وثالثا: أن ما ذكر على ما فرض صحته إنما يثبت كونه حقيقة في الصورة
المذكورة، وأما عدم صدقه على سبيل الحقيقة في غيرها فلا دلالة في ذلك عليه،
مضافا إلى ما يرى من صدقها حقيقة بحسب العرف كالقاتل والضارب والبائع
والمشتري ونحوها، لوجود أمارات الحقيقة في تلك الأمثلة مع عدم اتصاف
384

الذات بمبادئها إلا في زمان يسير ولو مع إعراضها عن ذلك، فإنك تقول: " فلان
قاتل عمرو " بعد مضي اتصافه بقتله مع عدم إمكان عوده اليه، وكذا يصدق عليه
أنه جارحه أو ضاربه ولو مع ندامته عن ذلك وعزمه على عدم العود اليه، وتقول:
" فلان بائع الدار أو مشتريه " ولو ندم عن ذلك وعزم على عدم إقدامه عليه.
فظهر أن جعل المناط في صدق المشتق وعدمه ما ذكر مما لا وجه له أصلا،
واعتبار الإعراض عن المبدأ وعدمه مما لا مدخل له في صدقها.
نعم، إنما يلاحظ ذلك في الصنائع والملكات كالبقال والبناء والعطار والخياط
ونحوها، لقضاء الإعراض برفع اليد عن الصنعة، فلا بقاء للمبدأ معه، والمبادئ
المأخوذة في الأمثلة المفروضة يطلق على الصنعة والملكة قطعا، بل لا يبعد كونها
حقيقة في ذلك عرفا كما يظهر ذلك من ملاحظة الاستعمالات الدائرة، خصوصا
بالنسبة إلى الخياط فإن الشائع إطلاقه على صاحب الصنعة المعروفة.
والوجه في التفصيل الأخير اختلاف الحال في المشتقات بعد الرجوع إلى
العرف وعدم جريانها على نحو واحد في الاستعمالات، ولم يثبت هناك أصل كلي
يعم جميعها، ولا وضع نوعي يجري عليه فيها، فينبغي الرجوع في كل منها إلى
ما هو المتبادر منه في العرف، ودل عليه أمارات الحقيقة والمجاز.
نعم، لا يبعد البناء على أصالة الحمل على الحال في الصفات المشبهة وأفعل
التفضيل، لغلبتهما في ذلك بل لا يعرف فيهما مثال أريد به غير ذلك، وأصالة الحمل
على الأعم في اسم المفعول، لغلبته في ذلك مع احتمال خروج الثلاثة عن محل
البحث حسب ما مر نقله عن الفاضل المذكور.
وأنت خبير بأن إرجاع الأمر إلى خصوصيات الألفاظ والبناء على الرجوع
إلى المتبادر من كل لفظ من غير أن يكون هناك معنى ملحوظا في وضع الجميع
ينافي كون الوضع نوعيا في المشتقات، كما هو المعروف بل الثابت من تتبع
أقوالهم، وملاحظة المشتقات الدائرة في المحاورات الجارية.
وأنا إلى الآن لم يحضرني قائل بكون الوضع في المشتقات شخصيا، فالبناء
385

على ذلك في غاية البعد، وكان الوقف في موضوعها الأولي والبناء على النقل فيما
يتبادر منه خلاف ذلك أولى من التزام شخصية أوضاعها كما لا يخفى.
هذا والذي يتقوى في بادئ النظر أن يقال بالتفصيل بين المشتقات المأخوذة
على سبيل التعدية ولو بواسطة الحرف والمأخوذة على سبيل اللزوم، فالأولى
موضوعة للأعم من الماضي والحال، والثانية موضوعة لخصوص الحال، فيكون
هناك وضعان نوعيان متعلقين بالمشتقات باعتبار نوعيها ولو مع اتحاد الصيغة،
فاعتبر في أحدهما حصول الاتصاف في الجملة، سواء كان حاصلا في الحال أو
لا، وفي الآخر تحققه بالفعل على النحو المذكور.
يشهد بذلك استقراء الحال في المشتقات، فإن ما كان من قبيل الأول يكون
المتبادر منه هو المعنى الأعم، فيصدق أساميها بحسب العرف مع حصول
الاتصاف في الحال وعدمه، كالقاتل والضارب والبائع والمشتري والمضروب
والمنصور والمكتوب والمنقوش وغيرها من الأمثلة مما اخذ متعديا، سواء كان
من أسماء الفاعلين أو المفعولين.
وما كان من قبيل الثاني فالمتبادر منه هو الاتصاف في الحال، كالقائم
والقاعد والجالس والمضطجع والمستلقي والنائم والمستيقظ والأحمر والأصفر
والحسن والقبيح والأفضل والأحسن إلى غير ذلك.
وحيث كانت الصفات المشبهة وأسماء التفضيل مأخوذة على وجه اللزوم كان
المتبادر منها هو الحال وكان استعمالها في الماضي خروجا عما يقتضيه وضعها،
ولما كانت أسماء المفعولين مأخوذة على سبيل التعدية في الغالب كان الغالب
صدقها مع زوال المبدأ أيضا، ولو كانت مأخوذة على وجه اللزوم لم تصدق كذلك
كالمحموم والمهموم والمغموم والموجود والمعدوم ونحوها، فإن المقصود بها ما
ثبت له صفة الحمى والهم والغم والوجود والعدم من غير ملاحظة تعدية تلك الصفة
من الغير اليه، ولو لوحظ ذلك في وضعها بواسطة الحرف كانت كالأول كالممرور
به والمهدى اليه فتتبع صيغ المشتقات، واستقراء أقسامها شاهد لما فصلناه،
386

ولو وجد هناك بعض الصيغ على خلاف ذلك فيمكن القول بثبوت وضع ثانوي
بالنسبة اليه ولا ينافي ذلك ما قررناه، إذ الأوضاع النوعية إنما تستفاد من ملاحظة
غالب الألفاظ وتتبع معظم الموارد. هذا ما يقتضيه ظاهر النظر في المقام.
وأما ما يفضي اليه التحقيق بعد التأمل في المرام أن يقال بكون المشتقات
موضوعة بإزاء مفاهيم الصفات المدلول عليها بها، فالعالم والقائم والقاعد
والأحمر والأصفر ونحوها أسام للمفهومات المعينة والصفات المعلومة الجارية
على الذوات المتحدة معها المحمولة عليها، فهي عنوانات لتلك الذوات ومفاهيم
يصح التعبير عن تلك الذوات بها من جهة اتحادها معها واندراجها فيها، وهذا هو
المراد باعتبار الذات المطلقة في تلك الأوصاف، فإن المقصود بذلك إجراؤها
على الذوات والتعبير عن تلك الذوات بها وبالعكس، نظرا إلى اتحادها بها، لا أنه
قد اعتبر هناك صريح مفهوم الذات جزء من مداليلها حتى يكون مفهوم
" الضارب " هو ذات ثبت له الضرب ومفهوم " العالم " ذات ثبت له العلم... وهكذا
وإن أمكن التعبير عنها بذلك حيث إنها جارية على تلك الذوات، فيقال: إن العالم
ذات ثبت له العلم، كما أنه قد يقال ذلك في الجوامد أيضا فيقال: إن الحيوان ذات
ثبت له الحس والحركة، وذلك لا يستدعي كون الذات جزء من مفاهيمها.
كيف! ولو كان كذلك لكانت مفاهيم تلك الألفاظ عبارة عن الموصوف
والصفة معا فتكون دالة على كل من الأمرين بالتضمن، بل وعلى الاتصاف أيضا
فيكون مفادها مفاد المركب التام أو الناقص، ومن البين خلافه، إذ لا يستفاد منها
بحسب الوضع إلا معنى واحد ومفهوم فارد وضعي عنوان لذات متصفة بتلك
المبادئ، غاية الأمر أن يقال بدلالتها على الذات والاتصاف بالالتزام، بناء على
وضع اللفظ لتلك المفاهيم من حيث كونها جارية على الذوات بخلاف نفس
المبادئ حيث لم تؤخذ عنوانا للذات ولا أجريت عليها وإنما وضعت للصفات
المباينة لموصوفاتها.
وأيضا لو أخذ بظاهر التفسير المذكور كان المشتق اسما لنفس الذات المقيدة
387

بالقيد المفروض على أن يكون القيد خارجا والتقييد داخلا، فإن مفاده حينئذ هو
الذات المتصفة بالمبدأ لا مجموع الذات واتصافها بالمبدأ، ليكون كل من الأمرين
جزء مما وضع له، فيتخلص وضعه إذن للذات ويكون معناه الحدثي خارجا عن
معناه قيدا فيه، كما في العمى والبصر، ولا ينبغي الريب في فساده.
ومما يشير إلى ذلك أيضا أنها تقع محمولات على الذوات من غير تكلف
وتأويل، ومن المقرر أن المأخوذ في جانب الموضوع الذات وفي جهة المحمول
المفهوم.
كيف! ولو كانت الذات جزء من مفاهيم تلك الصفات لكان في قولك: " هذا
الذات ضارب " تكرار للذات، فكأنك قلت: " هذا الذات ذات ثبت له الضرب "
وهو مع ركاكته بعيد عن فهم العرف، كما لا يخفى بعد إمعان النظر.
فإن قلت: إذا لم يكن الذات مأخوذة في مفاهيم تلك الصفات لم يلائم ذلك
جعلها موضوعات والحكم عليها، لما تقرر من اعتبار الذات في جانب الموضوع
مع وقوعها موضوعات من غير تكلف.
قلت: لما كانت تلك المفاهيم جارية على الذوات وعنوانات لها صح جعلها
موضوعات بذلك الاعتبار، ففي قولك: " العالم كذا " قد جعلت " العالم " عنوانا
للذات المعينة وحكمت على تلك الذات المعلومة بذلك العنوان المندرجة فيه بما
ذكر في المحمول... وهكذا في سائر الأمثلة.
إذا تقرر ما ذكرناه فنقول: إنه إذا أريد التعبير عن الذوات بتلك المفاهيم
وجعلها عنوانات لها فلا بد من صدق تلك المفاهيم عليها واندراجها فيها، وإلا لم
يصح إطلاقها عليها على سبيل الحقيقة، إذ ذلك إنما يكون من قبيل إطلاق الكلي
على الفرد ولا يعقل ذلك إلا بصدق تلك المفاهيم عليها، فإذا حصل ذلك صح
التعبير المذكور سواء كانت تلك الذوات مندرجة تحت تلك العنوانات حال التكلم
أو لا، ففي قولك: " كل عالم كامل " قد حكمت بثبوت الكمال للذات المتصفة
بالعلم، سواء كان اتصافها به حال قولك هذا أو قبله أو بعده، فالمقصود ثبوت
388

الكمال لها حين الاندراج في ذلك العنوان، فالتعبير المذكور حينئذ مما لا إشكال
فيه ولا خروج فيه عن مقتضى الوضع أصلا، والحال فيه كحال سائر الألفاظ
الجامدة الموضوعة للمفاهيم الكلية أو الجزئية، وهذا هو المراد بإطلاق المشتق
على الذات باعتبار حال التلبس وقد عرفت أنه لا خلاف في كونه حقيقة جاريا
على وفق الوضع.
وأما إذا أردت التعبير بها عن تلك الذات بملاحظة حال عدم اندراجها في
ذلك العنوان فإن كان ذلك باعتبار ما يحصل من الاندراج بعد ذلك فمن البين
حينئذ عدم صحة الإطلاق المذكور على سبيل الحقيقة، إذ التعبير المذكور كما
عرفت من قبيل إطلاق الكلي على فرده والمفروض أن ما أطلق عليه اللفظ حينئذ
ليس من جملة أفراده، فلا يكون ذلك المفهوم حاصلا في ضمنه حتى يصح
الإطلاق من جهته، فلا بد إذن من التصرف في معنى اللفظ بأن يكون من قبيل
استعمال اللفظ فيما يؤول اليه حتى يصح إطلاقه على ذلك الفرد، فيصير اللفظ
بذلك مجازا غير مستعمل في المفهوم الذي وضع له، وهذا ما ذكروه من كونه
مجازا في المستقبل.
وقد يجعل ذلك من باب المجاز في الحمل كما في الاستعارة على مذهب
السكاكي، فيكون مجازا عقليا، إلا أنه بعيد عن ظاهر الاستعمالات. نعم، لو قام
قرينة على ملاحظته فلا مانع منه.
وهكذا الحال إذا أطلق المشتق على الذات بملاحظة حصول الاتصاف في
الماضي إذا كان المنظور صدق المشتق في الحال من جهة سبق الاتصاف بالمبدأ،
إذ لا معنى لصحة إطلاق اللفظ عليه على سبيل الحقيقة، مع أن المفروض عدم كونه
من مصاديقه.
والقول بكون المفهوم من تلك الألفاظ هو المعنى الأعم الصادق مع بقاء المبدأ
وزواله مدفوع ببعد ذلك عن ظاهر تلك الألفاظ لوضوح عدم حصول ذلك المفهوم
فيه بعد زوال المبدأ، ولذا لا يصح أن يحمل المشتق عليه مع تقييد الحمل بالحال،
389

فلا يقال: " إنه ضارب الآن " على أن يكون الآن ظرفا للنسبة، ومنع صحة سلبه عنه
كذلك كما مرت الإشارة اليه مما لا وجه له.
كيف! ومن البين صحة السلب المذكور بأدنى التفات إلى العرف، وهو أقوى
شاهد على المجازية وعدم كون الموضوع له هو المفهوم الأعم من الماضي
والحال.
فإن قلت: لا شبهة في صحة إطلاق القاتل والضارب والناصر ونحوها حقيقة
على من تلبس بتلك المبادئ ولو بعد زوالها، كما يشهد به ملاحظة الاستعمالات
العرفية، ولذا لا يصح سلبها عنه مع الإطلاق كما مر فكيف الجمع بين الأمرين؟.
قلت: يمكن تصحيح كون الإطلاقات المذكورة على سبيل الحقيقة بملاحظة
جعل الوصف المفروض عنوانا لتلك الذات، من حيث اتحادها معه حين اتصافها
به وثبوت ذلك المفهوم لها، فتلك الذات لما كانت أمرا واحدا في الحالين لا تغيير
فيها باعتبار ثبوت ذلك الوصف لها وعدمه صحت الإشارة إليها بذلك العنوان،
بملاحظة حال اندراجها فيه وإن لم تكن مندرجة فيه حال الإطلاق، فقد جعل
ذلك الوصف من جهة صدقه على تلك الذات حال تلبسها به عنوانا لها وان ارتفع
صدقه عليها بعد ذلك، نظرا إلى اتحاد الذات في الحالين، فاللفظ حينئذ مستعمل
فيما وضع له، أعني نفس ذلك المفهوم وجعل ذلك المفهوم عنوانا لتلك الذات
مطلقا، فإطلاق ذلك المفهوم على تلك الذات إنما هو باعتبار حال اتحادها معه،
إلا أنه لم يلحظ تلك الذات بشرط الاتحاد المذكور، بل جعل ذلك عنوانا معرفا لها
في نفسها فيصح الحكم عليها مع ملاحظة حال الاتصاف وبعدها، فإطلاق القاتل
على زيد إنما هو باعتبار حال اتصافه بالقتل حين صدوره منه، إلا أنه جعل ذلك
عنوانا معرفا له ولو بعد انقضاء الاتصاف.
وقد يجري الاعتبار المذكور في الجوامد أيضا، كما إذا قلت: " أكرم زوجة
زيد " وأردت بذلك العنوان بيان الذات الواقعة مصداقا له من غير أن يكون
المقصود صدق العنوان عليه حال الإطلاق، بل المراد تعيين تلك الذات بالوجه
390

المذكور بملاحظة حال اتحادها به وصدقه عليها، سواء بقي الصدق أو لا، ولذا
يثبت الحكم حينئذ بعد زوال الصدق أيضا ويصح الحكم عليها ولو كانت حال
الإطلاق خارجة عن ذلك العنوان من غير أن يكون هناك تجوز في استعماله على
النحو المذكور.
نعم، لا بد هناك من قيام قرينة على كون المقصود ذلك حيث إنه مخالف لظاهر
متفاهم العرف حال الإطلاق.
فإن قلت: إن إطلاق الكلي على الفرد ينزل منزلة حمل ذلك الكلي على الفرد
المفروض حملا شائعا، ولا وجه لصحة الحمل في المقام بعد انقضاء الاتصاف،
لانتفاء الاتحاد الذي هو المناط في صحة الحمل.
قلت: إن إطلاقه على الفرد المفروض إنما هو بملاحظة حال اتحاده معه، إلا
أنه جعل ذلك عنوانا لمعرفة تلك الذات وآلة لملاحظتها في نفسها والحكم عليها
من غير اعتبار للوصف العنواني في إطلاقه، وقد تقرر عدم لزوم اعتبار ذلك في
صحة الحمل فكما أنه قد لا يعتبر الوصف العنواني في صحة الحمل فقد لا يعتبر في
صحة عقد الوضع يجعل العنوان آلة لملاحظة الذات المأخوذة في جانب
الموضوع، ولذا صح تقييد العامتين باللا دوام من دون لزوم تجوز في اللفظ،
فمجرد الاتحاد المفروض كاف في صحة الإطلاق المذكور وجعل ذلك العنوان آلة
لملاحظة تلك الذات في نفسها وإن ارتفع الاتحاد حين الإطلاق، إذ لا منافاة بين
ارتفاع الاتحاد حال الإطلاق وملاحظة حال حصوله في إطلاق اللفظ.
وحيث كان المعتبر في جانب الموضوع هو الذات وعند وقوع المشتق
موضوعا للحكم إنما يراد به الإشارة إلى الذات التي وقعت مصداقا له كان المفهوم
المذكور ملحوظا من حيث كونه عنوانا للذات ومرآة لملاحظته، فلذا يكثر فيه
الملاحظة المذكورة حتى أنه قيل بالاتفاق (1) على كونه حقيقة في الأعم عند
وقوعه موضوعا، كما مر.

(1) باتفاقهم خ ل.
391

والوجه فيه في الحقيقة هو ما بيناه، لا كونه إذن موضوعا للأعم كما هو ظاهر
الكلام المذكور، إذ لا وجه لالتزام وضع خاص للفظ حال وقوعه موضوعا دون
سائر الأحوال، وهو وإن جاز عقلا إلا أنه عديم النظير في الأوضاع اللفظية.
فإن قلت: على هذا لا فرق بين إطلاقه على الذات المفروضة بعد اتحادها مع
المفهوم المذكور أو قبله، إذ كما يصح جعل الاتحاد المفروض حال حصوله
مصححا لإطلاق اللفظ وجعل ذلك المفهوم آلة لملاحظتها في نفسها من غير لزوم
تجوز فيما إذا حصل الاتصاف في الماضي فليصح ذلك بالنسبة إلى المستقبل
أيضا.
قلت: الحال على ما ذكرت إلا أنه لما كان الاتحاد المفروض حاصلا في
الأول صح جعله عنوانا لمعرفة تلك الذات معرفا لها، نظرا إلى حصول الاندراج
بخلاف الثاني، إذ مع عدم حصول الاندراج والاتصاف يبعد الاعتبار المذكور
بحسب ملاحظة العرف، ولذا لم يجر عليه الاستعمالات العرفية، إلا أنه لا تجوز
فيما لو اعتبر ذلك وقام عليه القرينة، كما هو الحال في الخاصتين بجعل الوصف
هناك عنوانا للذات مصححا للحكم عليه ولو مع زوال الاتصاف أو عدم حصوله،
فإن مضمون اللا دوام سلب الحكم عن الموضوع حال عدم اتصافه بالوصف
المأخوذ في العنوان وهو يعم الوجهين.
ودعوى التجوز في الاستعمال المفروض مما لا وجه له، بعدما عرفت، غاية
الأمر عدم انصراف اللفظ اليه عرفا مع الإطلاق، لما عرفت من مخالفته لظاهر
الملاحظات العرفية، وهو لا يقضي بالمجازية بعد ثبوت استعمال اللفظ في معناه
الموضوع له، حسب ما قررناه وإن كان اعتباره كذلك خارجا عن الملحوظ في
أنظار العرف.
فإن قلت: على هذا ينبغي صحة الإطلاق المذكور بالنسبة إلى سائر
المشتقات، مع أنا نرى الفرق بينها فإن ما كان مبادئها من قبيل الأفعال الصادرة
كالقتل والضرب والإكرام ونحوها نجد صحة استعمالها في الغالب مع زوال المبدأ
392

أيضا، ولذا يقال: " هذا قاتل زيد أو ضاربه أو مكرمه " وإن لم يكن في حال صدور
تلك الأفعال منه، وأما ما كان من قبيل الصفات كالصغير والشاب والحي والأحمر
والأصفر ونحوها فالغالب عدم استعمالها كذلك، ولذا لا يطلق شئ من تلك
الألفاظ بعد زوال الاتصاف سيما مع طريان الضد الوجودي، كما في تلك الأمثلة.
قلت: لا يخفى أن ظاهر إطلاق اللفظ بملاحظة معناه الموضوع له على
مصداق من المصاديق تحقق ذلك المعنى في ذلك المصداق بالفعل واندراجه تحته
بحسب الحال الذي لوحظ إطلاق اللفظ عليه بحسبه وإن لم يكن حال النطق،
فإطلاقه عليه باعتبار تحققه في زمان سابق وجعل ذلك عنوانا لملاحظة تلك
الذات المندرجة تحته ولو بعد زوال الاتصاف خروج عن مقتضى ظاهر اللفظ، إلا
أنه لما قام الدواعي على ملاحظة ذلك في جملة من المشتقات كان ذلك باعثا
على جريان الإطلاقات عليها كما في الأمثلة المتقدمة، فإنه لما كان اتصاف الذات
بذلك المبدأ في آن من الأوان وكانت الأغراض متعلقة بحسب العادة بتعريف تلك
الذات وبيانها بالجهة المذكورة جروا في التعبيرات على النحو المذكور، وشاع فيها
الملاحظة المذكورة في الإطلاقات العرفية بحيث صار الاعتبار المذكور هو
الظاهر في كثير منها بخلاف الصفات اللازمة، فإن تعريف الذات وبيانها غالبا إنما
يكون بتلك الصفة الحاصلة فيها سيما مع طريان الضد الوجودي فهناك وإن أمكن
الاعتبار المذكور بحسب العقل، إلا أنه لم تجر العادة به ولم يتعارف في
المخاطبات، فلذا لا ينصرف اللفظ اليه مع الإطلاق، بل ولا مع القرينة في بعضها،
إذ إرادة المجاز من جهة علاقة ما كان قد يكون أقرب منه في الملاحظات العرفية،
اللهم إلا أن يقوم قرينة دالة على خصوص الاعتبار المذكور كما إذا وقع ذلك
موضوعا في الخاصتين لدلالة اللا دوام بملاحظة المقام على الاعتبار المذكور.
فتحصل مما بيناه أن إطلاق المشتقات على من زال عنه المبدأ على سبيل
الحقيقة كما هو الظاهر في كثير من الأمثلة لا ينافي وضعها لخصوص الحال
بالمعنى المذكور، وتبين الوجه في الفرق الحاصل بين الأمثلة من غير حاجة إلى
393

التزام شئ من التفصيلات المذكورة مما أورده في تخصيص محل النزاع، وما
ذهب اليه الجماعة من المتأخرين فيما حكينا عنهم من التفاصيل، فتأمل في
المقام، فإنه من مزال الأقدام.
تتميم: قد فرع على الخلاف في المسألة كراهة الوضوء بالماء المسخن
بالشمس بعد زوال السخونة عنه على القول بعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق
المشتق بخلاف ما لو قيل بالاشتراط، وكذا الحال في كراهة التخلي تحت الأشجار
المثمرة بعد رفع الثمرة، وكذا لو نذر مالا لمجاوري المشاهد المشرفة أو لساكني
بلدة معينة أو لخدمة الروضات المعظمة، أو وقف دارا عليهم، أو أوصى بمال لهم،
أو للغزاة أو المعلمين أو المتعلمين، أو وقف شيئا عليهم، أو شرط خروج
المحدودين أو الفساق أو شاربي الخمور ونحوهم عن الوقف... إلى غير ذلك من
الأحكام المتعلقة بنحو تلك الألفاظ، سواء تعلقت بها في أصل الشرع أو بحسب
جعل الجاعل في العقود أو الإيقاعات أو سائر الالتزامات الواقعة من الناس.
والذي يقتضيه التأمل في المقام - حسب ما مر من الكلام من القول بوضع
تلك الألفاظ للمفاهيم المعينة المعلومة الجارية على الذوات الصادقة عليها - أن
قضية تعلق الحكم بتلك العنوانات اعتبار اندراج الأفراد تحت تلك العناوين
وصدقها عليها، إلا أنه يختلف الحال فيها من جهة الاختلاف في ملاحظة ذلك
العنوان على الوجهين المذكورين، فقد يكون العنوان ملحوظا بذاته فلا بد إذن في
اندراج المصداق تحت ذلك العنوان من حصوله فيه بالفعل، وقد يؤخذ مرآة
لملاحظة الذوات الصادق عليها على الوجه الذي فصلناه، وحينئذ يكتفى بتحققه
في ضمن ذلك الفرد ولو في الماضي، كما في المحدود والزاني والسارق والقاتل
ونحوها ومعظم أسماء المفعولين من هذا القبيل، فيكون اندراجه تحت العنوان بعد
زوال المبدأ بملاحظة الاعتبار المذكور الملحوظ في ذلك العنوان حسب ما مر،
وحينئذ فلا بد من ملاحظة الحال في اللفظ المفروض ومراعاة ما هو الملحوظ فيه
بحسب المحاورات وفي خصوص ذلك المقام، ومع الشك لا يبعد البناء على
394

الوجه الأول لما عرفت من أنه قضية ظاهر اللفظ، مضافا إلى أصالة عدم تعلق
الحكم بما عدا ذلك وكذا يختلف الحال فيه من جهة اختلاف المبادئ المأخوذة
في المشتقات فقد يكون المبدأ فيها وصفا أو قولا، وقد يكون ملكة راسخة أو حالة
مخصوصة، وقد يكون حرفة وصناعة.
ويختلف الحال في صدق التلبس بحسب اختلافها فلا بد في الأول من
حصول التلبس بالفعل في صدقه.
وأما الثاني فيعتبر فيه بقاء الملكة والحالة، ومنه شارب الخمر وشارب القهوة
وشارب القليان ونحوها، فإن المراد بتلك الألفاظ من كان مشتغلا بذلك الفعل
وكان ديدنه ذلك، فالمأخوذ مبدأ في تلك المشتقات هو المعنى المذكور كما يعرف
من الرجوع إلى العرف، ونحوه الكلام في المجاور والساكن والقاطن والخادم
ونحوها.
وأما الثالث فلا بد في صدقه من عدم ترك الحرفة والإعراض عن الصنعة وإن
وقع منه ذلك أحيانا على سبيل الاتفاق، كما يعرف من ملاحظة موارد استعمال
المشتقات المأخوذة على ذلك الوجه كالبقال والخياط والصائغ والتاجر والحائك
ونحوها، وقد يكون المبدأ مشتركا بين الوجوه الثلاثة أو وجهين منها كما في
الكاتب والقارئ ونحوهما فيعتبر التعيين من ملاحظة المقام، ويختلف الحال جدا
من جهة ذلك، ولا بد من ملاحظة ما هو الظاهر في خصوص كل من الألفاظ
ومراعاة الأمارات القائمة في خصوص المقامات. فتأمل.
z z z
395

معالم الدين:
أصل
لا ريب في وجود الحقيقة اللغوية والعرفية. وأما الشرعية، فقد
اختلفوا في إثباتها ونفيها. فذهب إلى كل فريق. وقبل الخوض في
الاستدلال، لا بد من تحرير محل النزاع.
فنقول: لا نزاع في أن الألفاظ المتداولة على لسان أهل الشرع،
المستعملة في خلاف معانيها اللغوية، قد صارت حقائق في تلك
المعاني، كاستعمال " الصلاة " في الأفعال المخصوصة، بعد وضعها في
اللغة للدعاء، واستعمال " الزكاة " في القدر المخرج من المال، بعد
وضعها في اللغة للنمو، واستعمال " الحج " في أداء المناسك
المخصوصة، بعد وضعه في اللغة لمطلق القصد. وإنما النزاع في أن
صيرورتها كذلك، هل هي بوضع الشارع وتعيينه إياها بإزاء تلك
المعاني بحيث تدل عليها بغير قرينة، لتكون حقائق شرعية فيها، أو
بواسطة غلبة هذه الألفاظ في المعاني المذكورة في لسان أهل الشرع،
وإنما استعملها الشارع فيها بطريق المجاز بمعونة القرائن، فتكون
حقائق عرفية خاصة، لا شرعية.
وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا وقعت مجردة عن القرائن في كلام
الشارع، فإنها تحمل على المعاني المذكورة بناء على الأول، وعلى
397

اللغوية بناء على الثاني. وأما إذا استعملت في كلام أهل الشرع، فإنها
تحمل على الشرعي بغير خلاف.
احتج المثبتون: بأنا نقطع بأن " الصلاة " اسم للركعات المخصوصة
بما فيها من الأقوال والهيئات، وأن " الزكاة " لأداء مال مخصوص،
و " الصيام " لامساك مخصوص، و " الحج " لقصد مخصوص. ونقطع
أيضا بسبق هذه المعاني منها إلى الفهم عند إطلاقها، وذلك علامة
الحقيقة. ثم إن هذا لم يحصل إلا بتصرف الشارع ونقله لها إليها، وهو
معنى الحقيقة الشرعية.
وأورد عليه: أنه لا يلزم من استعمالها في غير معانيها أن تكون
حقائق شرعية، بل يجوز كونها مجازات.
ورد بوجهين: أحدهما: أنه إن أريد بمجازيتها: أن الشارع استعملها
في [غير] معانيها، لمناسبة المعنى اللغوي، ولم يكن ذلك معهودا من
أهل اللغة، ثم اشتهر، فأفاد بغير قرينة، فذلك معنى الحقيقة الشرعية،
وقد ثبت المدعى، وإن أريد بالمجازية: أن أهل اللغة استعملوها في
هذه المعاني والشارع تبعهم فيه، فهو خلاف الظاهر، لأنها معان حدثت،
ولم يكن أهل اللغة يعرفونها، واستعمال اللفظ في المعنى فرع معرفته.
وثانيهما: أن هذه المعاني تفهم من الألفاظ عند الاطلاق بغير
قرينة. ولو كانت مجازات لغوية، لما فهمت إلا بالقرينة.
وفي كلا هذين الوجهين مع أصل الحجة بحث.
أما في الحجة، فلأن دعوى كونها أسماء لمعانيها الشرعية لسبقها
منها إلى الفهم عند إطلاقها، إن كانت بالنسبة إلى إطلاق الشارع فهي
ممنوعة. وإن كانت بالنظر إلى اطلاق أهل الشرع فالذي يلزم حينئذ هو
كونها حقائق عرفية لهم، لا حقايق شرعية.
وأما في الوجه الأول، فلأن قوله: " فذلك معنى الحقيقة الشرعية "
398

ممنوع، إذ الاشتهار والإفادة بغير قرينة إنما هو في عرف أهل الشرع،
لا في إطلاق الشارع. فهي حينئذ حقيقة عرفية لهم، لا شرعية.
وأما في الوجه الثاني، فلما أوردناه على الحجة، من أن السبق إلى
الفهم بغير قرينة إنما هو بالنسبة إلى المتشرعة لا إلى الشارع.
حجة النافين وجهان.
الأول: أنه لو ثبت نقل الشارع هذه الألفاظ إلى غير معانيها اللغوية،
لفهمها المخاطبين بها، حيث إنهم مكلفون بما تتضمنه. ولا ريب أن
الفهم شرط التكليف. ولو فهمهم إياها، لنقل ذلك إلينا، لمشاركتنا لهم
في التكليف. ولو نقل، فإما بالتواتر، أو بالآحاد. والأول لم يوجد قطعا،
وإلا لما وقع الخلاف فيه. والثاني لا يفيد العلم. على أن العادة تقضي
في مثله بالتواتر.
الوجه الثاني: أنها لو كانت حقائق شرعية لكانت غير عربية،
واللازم باطل، فالملزوم مثله. بيان الملازمة: أن اختصاص الألفاظ
باللغات إنما هو بحسب دلالتها بالوضع فيها. والعرب لم يضعوها، لأنه
المفروض، فلا تكون عربية. وأما بطلان اللازم، فلانه يلزمه أن لا يكون
القرآن عربيا، لاشتماله عليها. وما بعضه خاصة عربي لا يكون عربيا
كله. وقد قال الله سبحانه: " إنا أنزلناه قرآنا عربيا ".
وأجيب عن الأول: بأن فهمها لهم ولنا باعتبار الترديد بالقرائن،
كالأطفال يتعلمون اللغات من غير أن يصرح لهم بوضع اللفظ للمعنى،
إذ هو ممتنع بالنسبة إلى من لا يعلم شيئا من الألفاظ. وهذا طريق قطعي
لا ينكر. فان عنيتم بالتفهيم بالنقل: ما يتناول هذا، منعنا بطلان اللازم،
وإن عنيتم به: التصريح بوضع اللفظ للمعنى، منعنا الملازمة.
وعن الثاني: بالمنع من كونها غير عربية. كيف، وقد جعلها الشارع
حقائق شرعية في تلك المعاني مجازات لغوية في المعنى اللغوي، فإن
399

المجازات الحادثة عربية، وإن لم يصرح العرب بآحادها، لدلالة
الاستقراء على تجويزهم نوعها. ومع التنزل، نمنع كون القرآن كله
عربيا، والضمير في " إنا أنزلناه " للسورة، لا للقرآن، وقد يطلق " القرآن "
على السورة وعلى الآية.
فان قيل: يصدق على كل سورة وآية أنها بعض القرآن، وبعض
الشئ لا يصدق عليه أنه نفس ذلك الشئ.
قلنا: هذا إنما يكون فيما لم يشارك البعض الكل في مفهوم الاسم،
كالعشرة، فإنها اسم لمجموع الآحاد المخصوصة، فلا يصدق على
البعض، بخلاف نحو الماء، فإنه اسم للجسم البسيط البارد الرطب
بالطبع، فيصدق على الكل وعلى أي بعض فرض منه، فيقال: هذا
البحر ماء، ويراد بالماء مفهومه الكلي، ويقال: إنه بعض الماء، ويراد به
مجموع المياه الذي هو أحد جزئيات ذلك المفهوم. والقرآن من هذا
القبيل، فيصدق على السورة أنها قرآن وبعض من القرآن، بالاعتبارين،
على أنا نقول: إن القرآن قد وضع - بحسب الاشتراك - للمجموع
الشخصي وضعا آخر، فيصح بهذا الاعتبار أن يقال السورة بعض
القرآن.
إذا عرفت هذا، فقد ظهر لك ضعف الحجتين.
والتحقيق أن يقال: لا ريب في وضع هذه الألفاظ للمعاني اللغوية،
وكونها حينئذ حقائق فيها لغة، ولم يعلم من حال الشارع إلا أنه
استعملها في المعاني المذكورة. أما كون ذلك الاستعمال بطريق النقل،
أو انه غلب في زمانه واشتهر حتى أفاد بغير قرينة، فليس بمعلوم،
لجواز الاستناد في فهم المراد منها إلى القرائن الحالية أو المقالية، فلا
يبقى لنا وثوق بالإفادة مطلقا. وبدون ذلك لا يثبت المطلوب.
فالترجيح لمذهب النافين، وإن كان المنقول من دليلهم مشاركا في
الضعف لدليل المثبتين.
400

قوله: * (لا ريب في وجود الحقيقة اللغوية... الخ) *
لما كانت الحقائق المذكورة معروفة حكم بوجود الأولين وذكر الخلاف في
الثالثة من دون إشارة إلى تعريفها، وما تقدم من بيان المنقول اللغوي والعرفي
والشرعي لا ربط له بها، فإن الحقائق المذكورة أعم منها.
وقد يعرف الحقيقة اللغوية بأنها اللفظ المستعمل فيما وضع له بحسب اللغة،
والحقيقة العرفية بما استعمل فيما وضع له لا بحسب اللغة.
والموضوع له في الأول يعم جميع المعاني اللغوية المتعددة للفظ الواحد وإن
تقدم بعضها على البعض، بل ولو كان وضعه للثاني مع هجر الأول، كما في المنقول
اللغوي.
واستظهر بعض المحققين من كلام علماء الأصول والبيان أن المعتبر في
الحقيقة اللغوية كونها أصلية غير مسبوقة بوضع أصلا، وعلى هذا يلزم أن لا يتحقق
مشترك لغوي إلا مع فرض تقارن الوضعين، وهو كما ترى، وهو أيضا يعم
الأوضاع المهجورة والباقية وإن كان المعنى المهجور مجازا بالنسبة إلى المعنى
الطارئ، إذ لا منافاة بين الحقيقة اللغوية والمجاز العرفي ولا ينتقض الحد به
باعتباره الثاني، لاعتبار الحيثية فيه.
والوضع في الثاني يعم الأوضاع التعيينية والتعينية الملحوظة فيها المناسبة
للمعنى اللغوي وغيره فيندرج فيها المنقولات والمرتجلات العرفية ويندرج فيه
أيضا الأوضاع العرفية المهجورة وغيرها.
وربما يعزى إلى ظاهر البعض اعتبار بقاء الوضع في الحقيقة العرفية، فيخرج
عنه المهجورة، وهو ضعيف وإدراجه إذن في الحقيقة اللغوية أضعف.
وظاهر الحد المذكور اندراج الألفاظ المستحدثة في العرفية، وهو غير بعيد،
لخروجها عن حد اللغوية وجعلها واسطة من البعيد، فالأولى إدراجها في العرفية،
وقد قطع به بعض المحققين، وعلى هذا لا يستلزم الحقيقة العرفية الحقيقة اللغوية،
ولا الموضوع اللغوي كما لا ملازمة في العكس.
401

وربما يظهر من بعضهم (1) اعتبار طرو الوضع الجديد على الوضع الأصلي
في الحقيقة العرفية، وحينئذ يخرج الألفاظ المذكورة عنها.
وعليه أيضا لا يثبت الملازمة بين الحقيقتين في شئ من الجانبين،
إذ لا ملازمة بين الوضع والاستعمال إلا أنه حينئذ يستلزم الحقيقة العرفية
الموضوع اللغوي.
وظاهر الحد المذكور وغيره إدراج الأعلام الشخصية المتجددة في الحقيقة
العرفية.
وأما القول بأن ظاهرهم حصر العرفية في العامة والخاصة وهي غير مندرجة
في شئ منهما - أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلتصريحهم بكون الوضع فيها من
قوم أو فريق والأعلام الشخصية إنما يكون الوضع فيها غالبا من واحد، وأيضا
استعمال الأعلام في مسمياتها حقيقة من أي مستعمل كان والعرفية الخاصة إنما
يكون حقيقة لو كان المستعمل لها من أهل ذلك الاصطلاح - فيمكن المناقشة فيه
أولا: بمنع الحصر، وكما أن ظاهرهم حصر العرفية في العامة والخاصة فكذا
ظاهرهم حصر الحقيقة في اللغوية والعرفية فأي داع للقول بثبوت الواسطة بين
الأخيرتين دون الأوليين.
وثانيا: بالتزامه وإدراجها في العرفية الخاصة، واعتبار كون الوضع فيها من
قوم أو فريق غير ثابت، بل الظاهر خلافه كما هو قضية حد العرفية، وورود مثل
ذلك في كلامهم مبني على الغالب.
والقول بأن الحقيقة العرفية الخاصة إنما تكون حقيقة إذا كان المستعمل من
أهل الاصطلاح محل منع، بل الظاهر أنه إذا استعمل في كلام أهل ذلك الاصطلاح
وكل من تابعهم في ملاحظة ذلك الوضع كان حقيقة كما هو الشأن في جميع
الحقائق من غير فرق.

(1) صاحب الوافية. (منه (رحمه الله)).
402

نعم، هناك فرق بين وضع الأعلام الشخصية وغيرها من الحقائق العرفية، نظرا
إلى وقوع الوضع فيها بحسب صناعة مخصوصة أو اصطلاح أقوام مخصوصين
وعدم اعتبار ذلك في وضع الأعلام، ولذا لا يتفاوت الحال فيها باختلاف
الصناعات والاصطلاحات بل اللغات أيضا، لعدم اختصاص الوضع فيها بشئ
من ذلك، ولا ينافي ذلك كونها عرفية خاصة، نظرا إلى صدور الوضع فيها من
خاص وتبعية غيره فيه. فتأمل.
نعم، ملاحظة ظاهر إطلاقاتهم يعطي خروج ذلك عن العرفية، وعدم اندراجها
في اللغوية ظاهر، فتكون واسطة بين الأمرين، وكأنه لعدم تعلق غرض بها لم
يعتنوا بشأنها ولم يجعلوها قسما برأسه، وحينئذ ينبغي زيادة قيد آخر في حد
العرفية هذه ليخرج ذلك عنها، وربما يجعل ذلك مندرجا في العرفية مغايرا
لأقسامها المعروفة، ولا يخلو عن بعد.
وقد يقال بخروجها عن الحقيقة والمجاز وتجعل واسطة بينهما، كما قد يعزى
إلى الرازي والآمدي، وهو ضعيف جدا، لعدم انطباقه على شئ من حدود الحقيقة
والمجاز الواردة في كلمات علماء الأصول والبيان، وربما يؤول ما عزي إليهما بما
يوافق المشهور.
ثم إن الحقيقة العرفية إما عامة، أو خاصة، والمناط في عموميتها عدم استناد
الوضع فيها إلى عرف شخص مخصوص أو فرقة معينة، وعدم كون وضعها في
صناعة مخصوصة وحرفة معينة - مثلا - فخصوصيتها إما أن يكون لكون وضعها
في عرف شخص معين أو فرقة معينة أو لكونه في صناعة مخصوصة ونحوها وإن
لم يكن الوضع فيها مستندا إلى خاص، كما لو قلنا باستناد الوضع في الألفاظ
الشرعية إلى عامة استعمالات أهل الشريعة الشامل لكافة العرب بعد شيوع الاسلام،
فإنه لا يجعلها عرفية عامة، فما يظهر من غير واحد من الأفاضل من اعتبار
العمومية والخصوصية بملاحظة من يستند الوضع اليه خاصة ليس على ما ينبغي.
403

ثم إن الحقيقة الشرعية مندرجة في العرفية الخاصة، إلا أنهم للاعتداد بشأنها
جعلوها قسما برأسه، وحينئذ ينبغي زيادة قيد آخر في تعريف العرفية ليخرج عنه
الشرعية، وحينئذ فبين الأقسام المذكورة تباين كلي كما هو قضية تقسيم الحقيقة
إليها على ما هو المعروف، وقد يطلق الحقيقة العرفية على اللفظ المستعمل فيما هو
حقيقة فيه في العرف سواء كان بوضع أهل اللغة أو غيرهم، كما يقال: " إن الأصل
اتحاد الحقيقة العرفية واللغوية حتى يثبت التعدد " وكأنه توسع في الاستعمال أو
أنه اصطلاح آخر، وكأن الأول هو الأظهر، وبين العرفية بهذا المعنى واللغوية
عموم من وجه، كما هو الحال بينهما وبين العرفية بالمعنى المتقدم وهو ظاهر.
ثم إن نفيه الريب عن وجود الحقيقتين وذكره الخلاف في خصوص الشرعية
يومئ إلى انتفاء الخلاف بالنسبة إلى الأوليين وهو كذلك، إلا أن هناك خلافا ضعيفا
في خصوص العرفية العامة.
وربما يعزى إلى شذوذ من العامة وأخبارية الخاصة المنع منها، وهو بين
الفساد، وكأنه مبني على الشبهة المعروفة في عدم تحقق الاجماع ثم العلم به بعد
ذلك، فيقال بامتناع اجتماع الكل على النقل ثم امتناع العلم به، وهو موهون جدا.
ومع الغض عن ذلك فأقصى ما يلزم منه امتناع حصول النقل بالنسبة إلى آحاد
أهل اللسان المتشتتين في البراري والبلدان، وأما لو اعتبر في المقام حصول النقل
بالنسبة إلى معظم أهل اللسان من غير ملاحظة لحال جميع الآحاد - كما هو الظاهر -
فلا يدل على ثبوت الحقيقتين المذكورتين - بعد الاتفاق عليه - ما يشاهد من
الألفاظ المعلوم وضعها بحسب اللغة لمعانيها المعروفة بالتسامع والتظافر بحيث
لا مجال فيها للريب، وكذا ما يشاهد من الموضوعات العرفية العامة والخاصة.
وما قد يناقش في العلم بثبوت الحقيقة اللغوية من أن القدر المعلوم هو وضع
تلك الألفاظ لمعانيها المعروفة، وأما كون ذلك عن واضع اللغة فغير معلوم، إذ ربما
كانت كلها منقولات عن معاني اخر قديمة مما يقطع بفساده وعلى فرض تسليمه
404

فثبوت تلك المعاني المهجورة القديمة كاف في ثبوت المطلوب، لما عرفت من
كون الحقيقة اللغوية أعم من المهجورة والباقية، والقول بأن القدر اللازم ثبوت
وضعها لمعانيها بحسب اللغة وهو لا يستلزم الاستعمال.
مدفوع بأن عمدة ثمرات الوضع هو الاستعمال، فسقوط الثمرة المهمة بالنسبة
إلى الكل، وحصول النقل في الجميع قبل استعمالها مما يقضي العادة بامتناعه،
ولو سلم حصول نقل كذلك فإنما هو بالنسبة إلى شذوذ من الألفاظ كما لا يخفى.
قوله: * (وأما الشرعية فقد اختلفوا... الخ) *
الكلام في الحقيقة الشرعية يقع في مقامات:
أحدها: في تعريفها وبيان مفهومها.
الثاني: في بيان محل النزاع فيها.
الثالث: في بيان الأقوال فيها.
الرابع: في بيان ثمرة الخلاف.
الخامس: في بيان ما يحتج به على إثباتها أو نفيها.
والمصنف (رحمه الله) قد أعرض عن الأول اكتفاء بشيوعه كما ذكرنا، أو اكتفى عنه
بذكر المنقول الشرعي حيث إن معظم الموجود من الحقائق الشرعية أو جميعها
على القول بها من المنقولات الشرعية وإن كان مفهومها أعم لشموله للمرتجل
وغيره كما نصوا عليه.
وكيف كان، فقد عرفوها بأنها اللفظ المستعمل في وضع أول شرعي.
والمراد بالوضع الأول هو الوضع الذي لا يعتبر في تحققه ملاحظة وضع آخر،
والمقصود بذكره اخراج المجاز حيث إن الوضع الترخيصي الحاصل فيه مما يعتبر
فيه وضع الحقيقة.
وقد يورد عليه وضع المنقولات الشرعية، فإنه قد اعتبر فيه ملاحظة وضع
المنقول منه فيخرج عن الحد معظم الحقائق الشرعية.
405

ويمكن دفعه بأنه إنما يعتبر ذلك في تحقق النقل لا في أصل الوضع،
أو يقال: إن الملحوظ فيه، إنما هو المعنى المنقول منه لا خصوص الوضع بإزائه،
وهو كما ترى.
وقد يفسر الوضع الأول بما لا يعتبر حال استعمال اللفظ في ذلك الوضع
ملاحظة وضع آخر فلا يرد عليه ما ذكر.
وأنت خبير بأن إطلاق الوضع إنما ينصرف إلى وضع الحقائق، فلو سلم تحقق
الوضع المذكور في المجاز بناء على توقف صحة التجوز عليه فلا حاجة إلى
التقييد المذكور.
وربما يورد على منعه بدخول الألفاظ التي وضعها الشارع مما لا ربط له
بالشريعة كالأعلام الخاصة ونحوها، مع أنها غير مندرجة في الحقيقة الشرعية.
ويدفعه ما هو ظاهر من اعتبار الحيثية في الحد.
ثم إن ظاهر الحد المذكور كغيره إنما ينصرف إلى ما كان الوضع فيه بتعيين
الشارع، فلا يشمل ما إذا كان الوضع له حاصلا بالتعين من جهة الغلبة وكثرة
الاستعمال، وأقصى ما يقال حينئذ إدراج ما يكون التعين فيه حاصلا من جهة
الغلبة الحاصلة في كلام الشارع بخصوصه ويبقى ما يكون التعين فيه حاصلا
بكثرة استعمال المتشرعة في زمانه أو بمجموع الاستعمالين خارجا عن الحد، مع
اندراجه في الحقيقة الشرعية على ما نص عليه جماعة.
إلا أن يقال بأن الشارع لما كان هو الأصل في استعماله في المعاني المذكورة
وكانت استعمالات المتشرعة فرعا على استعماله أسند الوضع الحاصل من
استعمال الجميع اليه.
وفيه: أن أقصى ذلك أن يكون مصححا لإسناد الوضع اليه على سبيل المجاز
فكيف يصح إرادته، من غير قرينة ظاهرة عليه؟! سيما في الحدود والتعريفات.
وكأن الحد المذكور ونحوه من الحدود المذكورة في كلامهم مبني على اختيار
406

كون الوضع فيها تعيينيا، كما هو ظاهر مذهبهم.
ولو قيل إنها اللفظ المستعمل في المعاني الشرعية الموضوع لها في عهد
صاحب الشريعة كان شاملا للوجهين.
هذا، واعلم أن المحكي عن المعتزلة تقسيم الموضوعات الشرعية على وجوه
أربعة: وذلك بأنها إما أن يعرف أهل اللغة لفظها ومعناها، أو لا يعرفون شيئا منهما،
أو يعرفون اللفظ دون المعنى، أو بالعكس.
وخصوا الثلاثة الأخيرة بالدينية فهي أخص مطلقا من الشرعية (1). وربما
يخص الشرعية بالأول، وهو إطلاق آخر لها في مقابلة الدينية.
وأنت خبير بأنه لا وجود لقسمين من الأقسام الثلاثة الأخيرة، إذ ليس في
الألفاظ الشرعية لفظ مخترع لا يعرفه أهل اللغة كما اعترف به جماعة، فلا يوجد
من أقسام الدينية إلا الثاني.
ثم من الظاهر أن جل المعاني الشرعية أو كلها أمور مستحدثة من صاحب
الشريعة لا يعرفها أهل اللغة، فلا يكاد يتحقق مصداق للحقيقة الشرعية غير ما
فرض حقيقة دينية، فيتحد مصداقا الحقيقتين في الخارج، وحينئذ فلا يتجه جعل
النزاع في الحقيقة الدينية مغايرا للنزاع في الشرعية كما وقع في المختصر وغيره
حيث أسند القول بثبوت الدينية إلى المعتزلة بعد اختياره القول بثبوت الشرعية.
وقد يوجه ذلك بأن كثيرا من تلك المعاني أمور معروفة قبل هذه الشريعة ثابتة
في الشرائع السابقة، وهي معلومة عند العرب، وربما يعبرون عن كثير منها
بالألفاظ الشرعية أيضا، إلا أنه حصل هناك اختلاف في مصاديق تلك المفاهيم
بحسب اختلاف الشرائع كاختلاف مصاديق كثير منها في هذه الشريعة بحسب
اختلاف الأحوال، والمفهوم العام متحد في الكل، فما لا يكون معروفا أصلا يكون
مندرجا في الدينية.

(1) في المطبوع: بالمعنى الأول.
407

وفيه: تأمل، إذ فيه - بعد الغض عن صحة الوجه المذكور - أنه لا ينطبق عليه
ظاهر كلماتهم حيث نصوا على حدوث المعاني الشرعية، ومع ذلك فمع البناء على
كون النزاع في المسألة في الإيجاب والسلب الكليين كما سيجئ بيانه لا يتحقق
وجه لما ذكر أيضا، لاندراج الدينية إذن في الشرعية فيقول بها من يقول بها كليا
وينفيها من ينفيها كذلك، إلا أن يخص الشرعية بما يقابل الدينية، وهو خلاف
ظاهر كلماتهم كما ينادي به ملاحظة حدودهم.
ثم إنه قد حكي عن المعتزلة أيضا أن ما كان من أسماء الذوات كالمؤمن
والكافر والإيمان والكفر ونحوها حقيقة دينية، بخلاف ما كان من أسماء الأفعال
كالصلاة والزكاة والمصلي والمزكي ونحوها.
والظاهر أنهم أرادوا بأسماء الذوات ما كان متعلقا بأصول الدين وما يتبعها
مما لا يتعلق بالأعمال، وبأسماء الأفعال ما كان متعلقا بفروع الدين مما يتعلق
بأفعال الجوارح ونحوها.
وفيه حينئذ مع ما فيه من ركاكة التعبير أن دعوى الفرق بين ما كان متعلقا
بأصول الدين وما يتعلق بالفروع بكون الأول مما لا يعرف أهل اللغة لفظه أو
معناه، بخلاف ما تعلق بالثاني من وضوح الفساد بمكان لا يحتاج إلى البيان.
والذي يتحصل من الكلام المذكور أن الحقيقة الدينية عندهم ما يتعلق بأصول
الدين ويكون الشرعية أعم من ذلك، أو خصوص ما يتعلق بأفعال الجوارح بناء
على الاحتمال المتقدم، فتعبيرهم عنها بأنها ما لا يعرف أهل اللغة لفظها أو معناها
أو كليهما فاسد كما عرفت.
وحيث إن الحقيقة الشرعية منسوبة إلى وضع الشارع - كما هو قضية حدها
المذكور وغيرها - أو ما هو أعم منه حسب ما مر فبالحري أن نشير إلى معناه.
فنقول: قد نص بعضهم بأن الشارع هو النبي (صلى الله عليه وآله) بل عزى ذلك بعض الأفاضل
إلى ظاهر كلام القوم، وهو قضية ما ذكروه في المقام وغيره فإن ثبت كونه حقيقة
عرفية فيه (صلى الله عليه وآله) كما ادعاه بعضهم فلا كلام، وإلا فإن اخذ اللفظ على مقتضى وضعه
408

اللغوي فصدقه عليه (صلى الله عليه وآله) لا يخلو عن إشكال، إذ ظاهر معناه بحسب اللغة: هو
جاعل الشرع وواضعه، كما هو المتبادر منه، فيختص به تعالى، وقد قال تعالى:
* (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * (1) وقال: * (شرع لكم من الدين ما وصى به
نوحا) * (2) الآية، وقد ورد " الشارع " في أسمائه تعالى.
نعم، إن فسر الشارع بمبين الشريعة صدق عليه (صلى الله عليه وآله) وقد يستند في مجيئه
بالمعنى المذكور إلى نص جماعة من أهل اللغة بكون " شرع " بمعنى سن، وقد نص
في القاموس بأن " سن الأمر " بمعنى بينه، لكنه حينئذ يشمل الأئمة (عليهم السلام) بل سائر
العلماء المبينين للشريعة.
والظاهر الاتفاق على عدم صدقه عليهم، مضافا إلى أنه خلاف المتبادر منه
في العرف، ومجئ سن بمعنى بين على فرض ثبوته لا يستلزم مجئ شرع لذلك.
قلت: ويمكن تصحيح صدقه عليه (صلى الله عليه وآله) على كل من الوجهين المذكورين:
أما على الأول فبأنه (صلى الله عليه وآله) هو الذي جعل الشرع في الظاهر ووضعه بين الناس
وإن كان من تعليم إلهي، وهذا القدر كاف في تصحيح صدقه عليه.
وأما على الثاني فيقال بأنه ليس المراد مطلق المبين للشرع، لبعده عن
الإطلاقات جدا، فعلى فرض مجيئه بالمعنى المذكور ينبغي أن يراد به المظهر له
من أول الأمر والمبين له بعد عدم ظهوره رأسا، وكأن مراده من تفسير " سن الأمر "
بمعنى بينه هو ذلك، وهو حينئذ لا يصدق على الأئمة (عليهم السلام) والعلماء.
وكيف كان، فالظاهر صدقه على الله تعالى أيضا على كل من الوجهين
المذكورين، وحينئذ فلو قلنا بأن الوضع منه تعالى أو من النبي (صلى الله عليه وآله) أو منهما يصح
النسبة المذكورة على كل حال.
وأما لو قلنا باختصاص الشارع بمعناه اللغوي به تعالى وقلنا بكونه حقيقة
عرفية في النبي (صلى الله عليه وآله) لم يصح النسبة إلى أحد الوجهين.

(1) المائدة: 48.
(2) الشورى: 13.
409

إلا أن يلتزم بإرادة القدر الجامع من الشارع مجازا، أو يقال باستعماله في
المعنيين بناء على جواز استعماله كذلك، وهو أيضا على فرض جوازه بعيد جدا،
إلا أن يقال: إن الحقيقة الشرعية إنما نسبت إلى الشرع دون الشارع واعتبر حينئذ
في مسماه كون وضعه من الله تعالى أو النبي (صلى الله عليه وآله) سواء خصصنا الشارع بالله تعالى
أو النبي (صلى الله عليه وآله) أو عممناه لهما.
ثم إنه قد يصحح القول بصدق الشارع على النبي (صلى الله عليه وآله) بالبناء على تفويض
الأحكام اليه في الجملة، للأخبار الكثيرة الدالة عليه المروية من طرق أهل
العصمة (عليهم السلام) (1).
إلا أنه يشكل بأن عدة من تلك الأخبار (2) قد دلت على التفويض إلى
الأئمة (عليهم السلام) أيضا فيلزم صدق الشارع عليهم أيضا.
والظاهر أنه خلاف الاتفاق، وأيضا إن قلنا بالتفويض فليس كل الأحكام
منه (صلى الله عليه وآله) بل جلها من الله تعالى، وقد ورد جملة منها في الكتاب (3) العزيز، فإن صح
البناء على التفويض فليس الأحكام المنسوبة اليه إلا آحاد مخصوصة، وصدق
الشارع عليه بمجرد ذلك محل إشكال إلا أن يقال بكون كل حكم من الأحكام
الشرعية شرعا، فيكون صدقه على البعض كصدقه على الجملة، كما هو الظاهر،
ولذا يعد اختراع بعض الأحكام تشريعا.
مضافا إلى أن القول بالتفويض مشكل جدا فإنه (صلى الله عليه وآله) كان ينتظر كثيرا ورود
الوحي في الأحكام، وقد دل نص الآية الشريفة على انتظاره لحكمه تعالى في
مسألة القبلة (4)، ولو كان الأمر مفوضا اليه (صلى الله عليه وآله) لما احتاج إلى ذلك.
وأيضا دلت الآية والأخبار على أنه (صلى الله عليه وآله) ما كان يأتي بالأحكام من تلقاء
نفسه وإنما كان ما يأتي به أمورا مأخوذة من الوحي.

(1) الكافي: ج 1 ص 266 - 267 ح 3 و 4 و 5 و 6.
(2) الكافي: ج 1 ص 265 - 268 ح 2 و 8 و 9.
(3) آل عمران: 154، الأعراف: 54، يونس: 3.
(4) البقرة: 144.
410

وأيضا قد دلت الأخبار الكثيرة على أن في القرآن تبيان كل شئ (1) وأنه قد
أكمل الدين بحيث لم يبق شئ إلا وبين الله تعالى حكمه لرسوله، وبينه الرسول
لأمير المؤمنين (عليه السلام)، إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع، وكل ذلك مناف للقول
بالتفويض.
وقد يجمع بين ذلك وبين الأخبار الدالة على التفويض على أن لا يراد من
التفويض المذكور هو التفويض في تشريع الأحكام، ولتفصيل الكلام فيه مقام آخر.
قوله: * (فنقول: لا نزاع في أن الألفاظ المتداولة... الخ) *
هذا هو المقام الثاني من المقامات المذكورة، وقد يشكل فيما ذكره في بيان
محل النزاع أن ظاهر القائل بثبوت الحقيقة الشرعية هو القول بثبوته مطلقا، كما هو
ظاهر كلام المصنف (رحمه الله) وغيره ممن حرر النزاع في المسألة وعلى ما ذكره من كون
النزاع في الألفاظ المتداولة في ألسنة المتشرعة الكائنة حقيقة عندهم في المعاني
الشرعية يلزم أن يكون القائل بالثبوت قائلا بثبوت الحقيقة الشرعية في جميع
تلك الألفاظ.
وهو بين الفساد، إذ في الألفاظ المذكورة ما لا يعلم استعمال الشارع لها في
المعاني الجديدة ومع ذلك فقد يعلم كون بعضها من المصطلحات الجديدة وقد
يشك فيه، وعلى فرض استعمال الشارع فيها على سبيل الندرة فقد يشك في
بلوغها إلى حد الحقيقة عند قدماء الأصحاب من أرباب الكتب الفقهية فضلا عن
كونها حقيقة في عهد الشارع. والقول بخلو جميع الألفاظ المتداولة عن جميع ذلك
واضح الفساد.
والذي يقتضيه النظر في المقام أن هناك أمور إذا حصلت كان عليها مدار
البحث في المقام، والقائل بالثبوت إنما يثبتها مطلقا بالنسبة إلى تلك الألفاظ.
أحدها: أن تكون الألفاظ متداولة في ألسنة المتشرعة من قديم الأيام، أعني

(1) بحار الأنوار: ج 92 باب 8 ص 78 - 101 لاحظ أخبار الباب.
411

في مبدأ وقوع النزاع في الحقيقة الشرعية، إذ من البين انتفاء التفاوت في موضوع
البحث من ذلك الزمان إلى الآن.
ثانيها: أن تكون مستعملة في المعاني الجديدة الشرعية بالغة إلى حد الحقيقة
عند المتشرعة في ذلك الزمان.
ثالثها: أن تكون تلك الألفاظ هي التي يعبر بها الشارع عن تلك المعاني غالبا
ويستعملها فيها ويريد بها إفهامها.
وبالجملة: إذا أراد التعبير عن تلك المعاني عبر عنها بتلك الألفاظ وإن عبر
بغيرها أيضا على سبيل الندرة، فإذا تحققت هذه المذكورات كان موردا للنزاع،
فالمثبت لها يثبتها في جميع ما كان بالصفة المذكورة وهو معيار الثبوت عنده
والمانع ينفيها كذلك، وإذا انتفى أحد الأمور المذكورة فليس ذلك من محل البحث
في شئ.
نعم، قد يحصل الشك في اندراج بعض الألفاظ في العنوان المذكور وعدمه،
ولأجل ذلك يقع الكلام في ثبوت الحقيقة الشرعية في بعض الألفاظ من المثبتين
لها أيضا، كما هو الحال في عدة من الألفاظ على ما يعرف من كتب الاستدلال،
ويمكن تطبيق ما ذكره المصنف على ما بيناه، كما لا يخفى على المتأمل فيها.
ثم لا يخفى عليك أن المعروف بين الأصوليين هو القول بالإثبات والنفي
المطلقين ولا يعرف بينهم في ذلك قول ثالث، ولذا اقتصر المصنف (رحمه الله) على
ذكرهما وكذا غيره في سائر الكتب الأصولية من الخاصة والعامة، والمعروف بين
الفريقين هو القول بالإثبات، إذ لم ينسب الخلاف فيه إلا إلى الباقلاني وشرذمة
أخرى من العامة ولا يعرف من الأصحاب مخالف في ذلك ولا نسب إلى أحد
منهم ذلك، بل حكى جماعة من متقدميهم الاجماع على ثبوت الحقيقة الشرعية
في غير واحد من الألفاظ. منهم السيد والشيخ والحلي، وفي ذلك بضميمة ما
ذكرناه شهادة على إطباقهم على الثبوت.
وكيف كان، فقد ظهر بين المتأخرين من أصحابنا القول بالنفي، وممن ذهب
412

اليه المصنف ومال اليه جماعة من متأخري متأخريهم.
ثم إنه قد أحدث جماعة منهم القول بالتفصيل حيث لم يروا وجها لإنكارها
بالمرة ولم يتيسر لهم إقامة الدليل على الثبوت المطلق، ولهم في ذلك تفاصيل
عديدة:
منها: التفصيل بين العبادات والمعاملات، فقيل بثبوتها في الأولى دون الثانية.
ومنها: التفصيل بين الألفاظ الكثيرة الدوران كالصلاة والزكاة والصوم
والوضوء والغسل ونحوها، وما ليس بتلك المثابة من الألفاظ فالتزم بثبوتها في
الأولى دون الثانية.
ومنها: التفصيل بين عصر النبي (صلى الله عليه وآله) وعصر الصادقين (عليهما السلام) وما بعده، فقيل
بنفيها في الأول إلى زمان الصادقين (عليهما السلام) وثبوتها في عصرهما وما بعده.
وهذا التفصيل في الحقيقة قول بالنفي المطلق، لما عرفت من عدم صدق
الشارع على الأئمة (عليهم السلام) فهو في الحقيقة تفصيل في الحقيقة المتشرعية وبيان
لمبدأ ثبوتها.
ومنها: التفصيل بين الألفاظ والأزمان، فقيل بثبوتها في الألفاظ الكثيرة
الدوران في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) وفيما عداها في عصر الصادقين (عليهما السلام) ومن بعدهما،
وهو في الحقيقة راجع إلى التفصيل الثاني في المسألة حسب ما عرفت.
ومنها: التفصيل أيضا بين الألفاظ والأزمان، فقال: إن الألفاظ المتداولة على
ألسنة المتشرعة مختلفة في القطع بكل من استعمالها ونقلها إلى المعاني الجديدة
بحسب اختلاف الألفاظ والأزمنة اختلافا بينا، فإن منها ما يقطع بحصول الأمرين
فيه في زمان النبي (صلى الله عليه وآله).
ومنها: ما يقطع باستعمال النبي (صلى الله عليه وآله) إياه في المعنى الشرعي ولا يعلم
صيرورته حقيقة إلا في زمان انتشار الشرع وظهور الفقهاء والمتكلمين.
ومنها: ما لا يقطع فيه باستعمال الشارع فضلا عن نقله.
ومنها: ما يقطع فيه بتجدد النقل والاستعمال في أزمنة الفقهاء.
413

وأنت خبير بعد ملاحظة ما ذكرناه في محل النزاع أن هذا التفصيل عين
التفصيل المتقدم أو قريب منه، وهو كسابقه راجع إلى التفصيل الثاني.
هذا محصل الكلام في الأقوال وهو المقام الثالث من المقامات المذكورة.
قوله: * (وإنما استعملها الشارع فيها بطريق المجاز) *
هذا الكلام يعطي اتفاق القائلين بثبوت الحقيقة الشرعية ومنكريها على ثبوت
استعمال الشارع لها في المعاني الجديدة.
وفيه: أن أحد النقلين عن الباقلاني هو إنكاره للاستعمال في المعاني الشرعية
رأسا، وإنما قال باستعمالها في المعاني اللغوية وجعل الزيادات شروطا خارجة
عن المستعمل فيه، وكأنه لعدم ثبوت هذه النسبة، أو لوهنه جدا ووضوح فساده لم
يلتفت اليه.
قوله: * (ويظهر ثمرة الخلاف... الخ) *
هذا هو المقام الرابع من المقامات المذكورة، وقد يشكل الحال فيما ذكره بأنه
إن قيل بكون الوضع هناك تعينيا حاصلا من الغلبة والاشتهار في زمان الشارع -
كما هو المتعين عند جماعة من المتأخرين على فرض ثبوت الحقيقة الشرعية -
فلا يتم ما ذكره من الثمرة، لعدم انضباط تاريخ الغلبة ولا تاريخ صدور الرواية،
فينبغي التوقف في الحمل.
والقول بأن قضية الأصل تأخرهما فيتقارنان، وهو كاف في المقصود مدفوع،
بأن الغلبة ليست مما تحصل في آن واحد وإنما هو من الأمور التدريجية، فلا وجه
للحكم بمقارنته لحال صدور الرواية.
مضافا إلى أن العبرة في المقام بالظن والأصل المفروض لا يفيد ظنا في المقام
ليمكن الرجوع اليه في معرفة المراد من اللفظ، وليس الأمر في فهم معاني الألفاظ
مبنيا على التعبد، مع ما في الأصل المذكور من المناقشة المذكورة في محله، على
أنه غير جار في اللفظ الوارد في الروايات المتعددة، لمقارنته إذن لواحد منها
فيشتبه المقارن بغيره.
414

وقد يجاب عن ذلك بأن الغلبة الحاصلة ليست في أيام وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بل
الظاهر حصولها على القول بها قبل ذلك، فالأصل حينئذ تأخر ورود الرواية.
وفيه حينئذ ما عرفت من التأمل في حجية الأصل المذكور، مع انتفاء المظنة
بمؤداه كما في المقام.
مضافا إلى أن هناك أخبارا صدرت بعضها قبل حصول الغلبة قطعا وبعضها
بعده فيرجع الأمر هنا إلى المشتبه ولا يقتضي الأصل حينئذ أن يكون هذه الرواية
هي المتأخرة، إلا أن يقال بكون ذلك من المشتبه بغير المحصور فيجري عليه
حكم غير المحصور في المقام، لكن في كلا الدعويين تأمل كيف! وليس إلحاقه
بالثاني أولى من إلحاقه بالأول.
نعم، لو ثبت كون الغلبة حاصلة في أوائل الاسلام أمكن الحكم بتأخر الرواية،
نظرا إلى أن الغالب تأخر الأخبار عن ذلك، نظرا إلى انتشار الاسلام حينئذ وكثرة
المسلمين ووفور الحاجة إلى الأحكام.
وكأن ما ذكره من الثمرة مبني على ما هو الظاهر من كلام المثبتين من بناء
الأمر على كون الوضع تعيينيا كما هو الظاهر.
وقد يناقش حينئذ أيضا بأنه ليس تأريخ الوضع أيضا معلوما.
إلا أنه مدفوع بأن الظاهر حصوله حينئذ من أول الأمر، إذ الداعي إلى ذلك
حاصل من الأول، وهو قضية ما يقام عليه من الأدلة كما سيأتي الإشارة اليه،
واتفاق القائلين بالثبوت على الحمل على المعاني الشرعية أقوى شاهد على
بنائهم عليه.
ثم إنه قد يناقش في المقام بأن الحمل على الحقيقة الشرعية حينئذ مطلقا
مبني على تقديم عرف المتكلم في المخاطبات، وعلى القول بتقديم عرف
المخاطب أو غيره أو التوقف يشكل الحكم المذكور مع كون المخاطب من أهل
العرف أو اللغة.
ويدفعه أن الحقيقة الشرعية ليست كغيرها من العرفيات، بل لا بد من حمل
415

كلام الشارع عليها مع الإطلاق على كل حال، إذ هو ثمرة وضعها لذلك ولذا لم
يتأمل أحد في ذلك مع حصول التأمل في تقديم أحد العرفين.
على أن المخاطب إذا كان من أهل الشرع فهو تابع لعرف الشارع إذا كان في
مقام بيان الأحكام وإن لم يتبعه في سائر المخاطبات.
قوله: * (وعلى اللغوية بناء على الثاني) *
أراد بها غير الشرعية فيعم العرفية إن ثبت هناك عرف.
وقد يتأمل في الحمل المذكور أيضا بأنه قد يقال بحصول الاشتهار في المجاز
المفروض، إذ لا ينافي القول به القول بنفي الحقيقة الشرعية، فحينئذ يبتنى المسألة
على تقديم الحقيقة المرجوحة على المجاز الراجح، ولهم فيه أقوال فكيف يحكم
بحملها على المعاني اللغوية على كل حال؟ إلا أن يقال بأن المنكرين للحقيقة
الشرعية ينكرون ذلك أيضا في جميع الألفاظ، وهو كما ترى.
قوله: * (وأما إذا استعملت في كلام أهل الشرع... الخ) *
أراد به بعد زمان الشارع، إذ من الظاهر أن الحال في وروده في كلام أهل
الشرع في زمانه كحال وروده في كلامه (صلى الله عليه وآله).
وقد يناقش في ذلك أيضا بأن تلك الألفاظ مع البناء على نفي الحقيقة
الشرعية لم تصر حقيقة في المعاني الجديدة بمجرد وفاته (صلى الله عليه وآله) وإنما صارت
حقيقة بالتدريج بعد مدة ولم يتعين فيه مبدأ النقل، وحينئذ فإطلاق القول بحمله
على المعاني الشرعية في كلام أهل الشرع ونفي الخلاف عنه ليس في محله.
وكأنه أراد به كلام الفقهاء المعروفين من أرباب الكتب الفرعية ومن قاربهم
في الزمان، إذ لا كلام في ثبوت الحقيقة المتشرعة في تلك الأزمنة.
ثم لا يذهب عليك أن النزاع في المسألة ليس بتلك المثابة في الفائدة، إذ
الثمرة المذكورة كما عرفت إنما هو في صورة انتفاء القرائن ولا يتحقق ذلك في
الألفاظ الموصوفة في الكتاب والسنة إلا قليلا، إذ الغالب أن في الألفاظ الشرعية
المستعملة من القرائن المتصلة أو المنفصلة ما يفيد إرادة المعنى الشرعي، وخلو
416

سابق الكلام ولاحقه عما يفيد ذلك وانتفاء سائر الشواهد عليه كأنه نادر فيهما،
وأيضا معظم أحاديثنا المروية في الأحكام الشرعية إنما هي عن الصادقين (عليهما السلام)
ومن بعدهما وليس عندنا من الروايات النبوية في الأحكام من غير جهتهم (عليهم السلام)
إلا أقل قليل ولا يكاد يوجد فيما اختص غيرهم (عليهم السلام) بنقله حديث معتبر يمكن
التعويل عليه في الأحكام إلا قليل من الروايات المعتضدة بالشهرة، ومع ذلك
فوجود تلك الألفاظ فيها خاليا عن القرينة في كمال الندرة.
وكذا الحال فيما يتعلق بالأحكام من القرآن، لورود تفسير معظم تلك الآيات
في الروايات المأثورة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام)، أو في كلام من يعتمد عليه من أئمة
التفسير، وورود ما هو من الألفاظ المذكورة فيها من دون ظهور ما هو المراد بوجه
إلا من جهة هذه المسألة قليل أيضا، وحينئذ فملاحظة ما عرفت من عدم صدق
الشارع على الأئمة (عليهم السلام) لا تكون الثمرة المتفرعة على هذا المرام بتلك المثابة
من الاهتمام.
وإن أريد ترتب تلك الفائدة عليها بالنسبة إلى كلام الصادقين (عليهما السلام) ومن
بعدهما من جهته، لوضوح أنه مع ثبوت الحقيقة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) يثبت بالنسبة
إلى أعصارهم، وأما مع عدمه فربما يشك بالنسبة إلى كلامهم أيضا، ففائدة الخلاف
المذكور وإن لم تكن مهمة بالنسبة إلى ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) لكنها مهمة بالنسبة
إلى ما ورد عن الأئمة.
ففيه: أن تلك الفائدة وإن ترتبت على القول بثبوت الحقيقة الشرعية إلا أنها
تترتب في الحقيقة على الكلام في مبدأ الحقيقة المتشرعة على القول بنفي الشرعية
أيضا إذا تعين حصولها في عصرهما كما هو الظاهر وكأنه مما لا ينبغي التأمل فيه
بل الظاهر كما قيل وقوع النزاع في الحقيقة الشرعية في تلك الأعصار مع إطباقهم
إذن على ثبوت الحقيقة المتشرعة.
واحتمال ترتب الفائدة عليه بالنسبة إلى الأحاديث النبوية المروية من
جهتهم (عليهم السلام) إن كان هناك لفظ خال عن القرينة.
417

موهون بأن الظاهر من نقلهم لها مطلقا في مقام بيان الأحكام مع فرض
اختلاف العرف إرادة المعاني الشرعية، إذ لولا ذلك لأشاروا اليه ولم ينقلوها على
إطلاقها مع كون المنساق عنها في زمانهم خلاف ما أراده النبي (صلى الله عليه وآله).
على أن كون المنقول لفظ " النبي " (صلى الله عليه وآله) في الغالب غير معلوم، بل لا يبعد أن
يكون إسنادها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) غالبا من جهة التقية، كما في روايات السكوني
وأضرابه، نظرا إلى كون جميع ما عندهم مأخوذا عنه (صلى الله عليه وآله) وكلما يذكرونه من
الأحكام فهو عن الرسول (صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل عن الله تعالى.
وبالجملة: ليس المقصود عدم ترتب فائدة على المسألة ولا غناء الفقيه عنها
بالمرة - إذ لا شك في لزوم معرفتها واستفراغ الوسع في تحصيلها، لاحتمال
اختلاف الحكم من جهتها وتوقف بعض المسائل عليها - بل المدعى أنها ليست
بتلك المكانة من الحاجة بحيث يتوقف الأمر عليها غالبا ويكون استنباط الأحكام
من جهتها كثيرا، بل لا يتوقف الحكم عليها إلا في أقل قليل من المسائل، كما
لا يخفى بعد ممارسة كتب الاستدلال.
قوله: * (إن الصلاة اسم للركعات... الخ) *
ظاهر قوله: " اسم " يعطي كونها حقيقة في ذلك، وحينئذ فذكره المقدمة الثانية
المشتملة على دعوى القطع بكونها حقيقة فيها من جهة تبادرها منها ليس بمتجه،
بل ينبغي جعل ذلك دليلا على المقدمة الأولى.
والقول بكون تلك المقدمة مسوقة لأجل الاحتجاج على الأولى وإن عطفها
عليها بعيد جدا وان كان ذلك ظاهر كلامه الآتي في الإيراد سيما مع دعوى القطع
بالمقدمة الأولى، ودعوى القطع بالثانية مع زيادة لفظة " أيضا " إذ لو كان القطع
بالأولى حاصلا عن الثانية لم يصح التعبير بذلك.
فالأظهر أن يحمل قوله: " اسم " على مجرد استعمالها في المعاني المذكورة
وكونها مفيدا لها في الجملة، دفعا للاحتمال المعزى إلى الباقلاني من إنكاره استعمال
تلك الألفاظ في المعاني الشرعية الجديدة، وحينئذ فيكون المقدمة الثانية في محلها.
418

نعم، قد يحمل المقدمة الثانية على دعوى القطع بسبق تلك المعاني في
إطلاق الشارع، وحينئذ يمكن حمل قوله: " اسم " على ظاهره ويراد به ذلك
بالنسبة إلى استعمالات المتشرعة، إلا أنه حينئذ تكون المقدمة الثالثة - أعني
خصوص دعواه عدم حصول ذلك إلا بتصرف الشارع ونقله - لغوا لثبوت المدعى
حينئذ بالمقدمتين المذكورتين.
إلا أن يقال بأن تلك المقدمة ليست لإثبات مجرد كونها حقيقة بل لخصوصية
كونها على سبيل التعيين حيث إن الحقيقة الشرعية هو ذلك عندهم، كما يقضي به
ظاهر حدها المعروف، ويومئ اليه ظاهر الثمرة المتفرعة على القولين.
أو يراد ب‍ " تصرف الشارع ونقله " مجرد استعمال الشارع ونقله من المعاني
اللغوية إليها ولو على سبيل المجاز ويكون مقصوده من بيان ذلك وإن كان واضحا
إظهار كون الشارع هو الأصل في استعمالها في المعاني الجديدة، ليتجه نسبتها إذن
إلى الشارع وإن كان وصولها إلى حد الحقيقة بضميمة استعمالات المتشرعة
في زمانه، وكلا الوجهين لا يخلو عن تعسف، فتأمل.
قوله: * (ثم إن هذا لم يحصل... الخ) *
لا يخفى أنه لو جعل المقدمتين المتقدمتين لإثبات الحقيقة في لسان
المتشرعة كما هو أحد الوجوه المذكورة ثم أريد بذلك إثبات كونه بوضع الشارع
ليثبت كونها حقيقة شرعية كان ما ذكر مصادرة على المطلوب، إذ ليس ذلك إلا
عين المدعى، فإن الكلام كما مر في أن وضع الألفاظ المذكورة بإزاء المعاني
المعروفة هل هو من جعل الشارع وتعيينه، أو من الاشتهار في ألسنة المتشرعة؟
وليس في المقدمة المذكورة سوى دعوى كونه من جعل الشارع وتعيينه، وهو
عين ذلك المدعى.
قوله: * (إنه لا يلزم من استعمالها في غير معانيها... الخ) *
لا يخفى أن هذا الإيراد لا يرتبط بشئ من المقدمات المذكورة، إذ ليس
في كلام المستدل استناد إلى دلالة مجرد الاستعمال على الحقيقة حتى يورد عليه
بمنع ذلك.
419

وقد يوجه ذلك بجعله منعا للمقدمة الأخيرة حيث ادعى أن كونها حقيقة إنما
كان بتصرف الشارع ونقله فذكر أن القدر المسلم من تصرف الشارع فيها هو
استعماله إياها في المعاني المذكورة ولا يلزم من ذلك كونها حقائق شرعية، وأما
نقلها إلى المعاني الشرعية على سبيل التعيين أو التعين فغير معلوم، فاقتصر في
بيان ذلك على ما ذكر لوضوح الحال، وهو كما ترى.
قوله: * (إنه إن أريد بمجازيتها أن الشارع... الخ) *
فيه: - مع عدم كون شئ من الوجهين المذكورين تفسيرا للمجازية، بل قد
اخذ مع مجازيتها أمر آخر مردد بينهما - أن الوجوه غير منحصرة في ذلك، لإمكان
أن يكون الشارع قد استعملها في غير معانيها ولم تشهر في زمانه إلى أن تبلغ حد
الحقيقة، هذا إذا أراد بالاشتهار الاشتهار والغلبة في زمانه (صلى الله عليه وآله)، وإن أراد الأعم
فهو واضح الفساد، كما سيشير اليه المصنف.
قوله: * (فهو خلاف الظاهر... الخ) *
فيه: أن تلك الخصوصية مما لا ربط له بالمقام، إذ لو فرض بلوغها إلى حد
الحقيقة في زمان الشارع كانت حقيقة شرعية أيضا وإن كانت الخصوصية
المفروضة خلاف الظاهر، وإن لم تبلغ إليها في زمانه لم تكن وإن كانت المعاني من
مستحدثات الشارع، فالمناط بلوغ تلك الألفاظ حد الحقيقة في تلك المعاني في
عصره، سواء كان أهل اللغة يعرفون تلك المعاني أو لا.
قوله: * (فلأن دعوى كونها أسماء... الخ) *
فيه: أنه لم يستدل على كونها حقائق شرعية بمجرد تينك المقدمتين حتى
يتوجه المنع المذكور، بل ضم إليهما مقدمة أخرى فيكون الثابت منهما الوضع في
زمان المتشرعة غير هادم للاستدلال، فالمناسب منع المقدمة الثالثة.
نعم، ما ذكره يتجه على بعض الوجوه السالفة في بيان الاستدلال، وحمل كلام
المستدل عليه بعيد جدا، كما أشرنا اليه.
قوله: * (فلما أوردناه على أصل الحجة... الخ) *
420

قد يقال: إن دعوى تبادر تلك المعاني منها لما كانت من قدماء الأصوليين
وكانت أعصارهم قريبة من عهد الشارع فلا يبعد علمهم بالحال بالنسبة إلى
زمانه (صلى الله عليه وآله)، فمجرد منعه من التبادر من جهة بعد العهد وخفاء الحال لا يكون دافعا
للاستدلال بالنسبة إليهم مع علمهم بها، بل هو الظاهر عندنا أيضا، كما يظهر من
تتبع موارد استعمالاتها في المنقول من كلام الشارع والمتشرعة في ذلك العصر،
غاية الأمر أن لا يتم ذلك بالنسبة إلى كل الألفاظ فيتم الاحتجاج بعدم القول
بالفصل حسب ما مر.
قوله: * (لفهمها المخاطبين بها) *
فيه: أن ذلك إنما يلزم لو قلنا بحصول النقل على سبيل التعيين وأما لو قيل به
على سبيل التعين فلا، بل ملاحظة الغلبة كافية بالنسبة إليهم والى من بعدهم ممن
يقف على استعمالاتهم، كما هو الحال في سائر المنقولات الحاصلة بالغلبة سيما
إذا قلنا باستناد النقل إلى مجموع استعمالات الشارع والمتشرعة.
وأورد عليه أيضا بأن ما يقضي به الوجه المذكور لإثبات هذه المقدمة هو
وجوب تفهيم المراد من تلك الألفاظ، وهو كما يحصل ببيان الوضع كذا يحصل
ببيان المراد من الألفاظ المذكورة، وقد حصل ذلك بالبيانات النبوية حيث روي
في تفسير الألفاظ المستعملة في غير المعاني اللغوية أحاديث كثيرة.
وأجيب عنه بأن ثمرة الخلاف إنما تظهر في الألفاظ الخالية عن القرينة
المتصلة أو المنفصلة كما سبق، فلو ثبت نقل الشارع لهذه الألفاظ من معانيها
اللغوية كانت تلك المعاني مرادة من الألفاظ الخالية عن القرينة كما هو شأن
الحقائق، فلا بد إذن من بيان كون تلك المعاني مرادة، وذلك إما ببيان المراد، أو
بيان الوضع، والمفروض انتفاء الأول فتعين الثاني وهو ما أردناه.
وأجيب أيضا بأن فائدة الوضع أن يستغنى عن القرينة في الاستعمال، إذ لو
نصب القرينة كلما استعمل في تلك المعاني لعرى الوضع عن الفائدة، ومن البين أنه
مع عدم إفهام الوضع وإعلامه المخاطبين لا يستغنى عن القرينة في الاستعمال.
421

وأورد عليه أنه لو تم ذلك لكان دليلا آخر لا تتميما لهذا الدليل، إذ بعد أخذ
هذه المقدمة - أعني انتفاء فائدة الوضع على تقدير عدم الإعلام - يلغو حديث
كوننا مكلفين واشتراط التكليف بالفهم، إذ يمكن تقرير الدليل مع طرح تينك
المقدمتين، بأن يقال: لو ثبت النقل لزم الإعلام به، وإلا لعرى الوضع عن الفائدة
والتالي باطل لما ذكر من انتفاء التواتر الخ، وبناء الاعتراض على الدليل المذكور
في الأصل لا على هذا الدليل، ففي هذا الجواب تسليم للاعتراض وتغيير للدليل.
قلت: مبنى هذا الجواب والجواب المتقدم أمر واحد، ولا يتم الاحتجاج في
شئ منهما بدون أخذ المقدمتين المذكورتين، لابتناء الأمر في الجواب الأول
على كون المراد من الألفاظ الخالية عن القرائن هو المعنى الشرعي دون المعنى
اللغوي.
وهذا المجيب قد اعتبر ذلك أيضا وإن لم يصرح به، ضرورة أن هناك ألفاظا
خالية عن القرائن وأنه أريد منها أحد المعنيين، إلا أنه قد استند الأول في حملها
على المعاني الشرعية إلى اتفاق الفريقين عليه حيث جعلوا ذلك ثمرة للنزاع، وفي
الجواب المذكور قد استند فيه إلى ما هو المنشأ لذلك الاتفاق، فإنه لو التزم في
إفهام تلك المعاني بالإتيان بالقرائن ليكون المراد بالألفاظ الخالية عنها هو المعنى
اللغوي لعرى الوضع عن الفائدة، لوضوح أنه مع عدم الإعلام بالوضع يفتقر إفهام
الموضوع له إلى الإتيان بالقرينة بخلاف إفهام المعنى الأول على ما كان الحال
عليه قبل الوضع.
وإذا بطل حمل الألفاظ العارية عن القرينة على المعاني اللغوية في صورة
تحقق الوضع لها إما لاتفاق الفريقين عليه، أو لزوم عراء الوضع عن الفائدة فلا بد
إذن من إفهام الوضع، إذ لا شك في كوننا مكلفين بما تضمنه وأن الفهم شرط
التكليف... إلى آخر الدليل، فجعل هذا الجواب مبنيا على تغيير الدليل بخلاف
الوجه الأول ليس على ما ينبغي، إذ لو كان الاستناد إلى عدم حمل المطلقات حينئذ
على المعنى اللغوي موجبا لذلك فهو مشترك بين الوجهين، وإلا فلم يعتبر في
422

الثاني ما يزيد على ذلك عند التحقيق وإن كان ظاهر تقريره قد يوهم خلاف ذلك.
وقد ظهر بما ذكرنا أن ما ذكر من إمكان تقرير الدليل بطرح المقدمتين
المذكورتين ليس بمتجه، وما ذكر في بيانه من الاكتفاء في إثبات الملازمة بانتفاء
فائدة الوضع إنما يتم مع أخذ هاتين المقدمتين، فإنه حينئذ إما أن يلتزم في إرادة
الموضوع له من مراعاة القرينة فيراد من المطلقات هو المعنى السابق ففيه خلو
الوضع عن الفائدة، وإما أن يراد منها المعنى الموضوع له بمجرد الوضع له من غير
إعلام وهو باطل، إذ لا يفهم المقصود حينئذ بمجرد ذلك، ولا شك في كوننا مكلفين
بما تضمنه وأن الفهم شرط التكليف، فإبطال هذه الصورة يتوقف على ملاحظة
المقدمتين المذكورتين وبذلك يتم الدليل. فتأمل.
قوله: * (لمشاركتنا لهم في التكليف) *
لا يخفى أن مجرد المشاركة في التكليف لا يقضي بنقل الوضع الينا، ووجوب
ذلك عليهم غير معلوم، لاحتمال اكتفائهم في معرفة ذلك بما يظهر من استقراء كلام
الشارع واستعمالاتهم، وعلى فرض التسليم فلا عصمة فيهم يمنع من ترك الواجب
أو الغفلة عنه، ومع الغض عن ذلك فالواجب بيانهم لما هو مراد الشارع منها وهو
حاصل بتفسيرهم لما أطلقه الشارع مما أراد به المعاني الشرعية، وإطلاقهم ما
أريد به المعاني اللغوية ولو بترك القرينة المنضمة إليها، لانتفاء الحاجة إليها مع عدم
بيان النقل.
لا يقال: إنه مع وضع الشارع لتلك الألفاظ لا بد من حمل المطلقات عليه
اتفاقا، فكيف يقال بحملها حينئذ على المعاني اللغوية؟.
إذ نقول: إن الاتفاق إنما هو بعد ثبوت الوضع لا بمجرد احتماله، والمقصود
مما ذكرنا عدم صحة الاستناد إلى الوجه المذكور في لزوم بيان النقل الينا على
تقدير حصوله، نظرا إلى قيام الاحتمال المذكور.
قوله: * (وإلا لما وقع الخلاف فيه) *
فيه: أولا: أنه منقوض بوقوع الخلاف في كثير من المتواترات، وثانيا:
423

أن مجرد كون الشئ متواترا لا يقضي بانتفاء الخلاف فيه، لإمكان حصوله
عند قوم دون آخرين أو عدم إفادته القطع للبعض أو الكل نظرا إلى وجود ما يمنع
منه، كما بين في محله.
ويجاب عنه بأنا ننقل الكلام إذن إلى الفرقة التي لم يتواتر بالنسبة إليهم،
فنقول: إن التواتر مفقود والآحاد غير مفيد.
وفيه: أن الكلام في عدم صحة الاستناد في انتفاء التواتر بلزوم انتفاء الخلاف،
وهذا الكلام على فرض صحته لا يصحح الاستناد اليه، فالإيراد بحاله.
قوله: * (والثاني لا يفيد العلم) *
أورد عليه بأن تفهيم المعنى المراد كاف في المقام، وليس ذلك مسألة أصولية
ليعتبر فيه القطع، بل هو بيان لما أريد من اللفظ، والمسألة الأصولية هي معرفة وضع
الشارع لها، وهو غير لازم.
ويدفعه أن هذا راجع إلى منع إحدى المقدمتين المذكورتين من لزوم إعلام
الشارع بالوضع ولزوم نقل المخاطبين الينا، وقد مر الكلام فيه، ولا ربط له بمنع
هذه المقدمة بعد تسليم المقدمتين المتقدمتين.
ثم لا يذهب عليك أن ما ادعاه من اعتبار القطع في المقام كلام في غاية
السقوط، لكون المسألة من مباحث الألفاظ وهي مما يكتفى فيها بالظن اتفاقا، ولو
استند فيه إلى ما اشتهر من وجوب القطع في الأصول.
ففيه أولا: أنه لم يقم حجة عليه، إذ ليست المسائل الأصولية إلا كغيرها من
الأحكام الشرعية، ولا بد فيها من القطع أو الظن المنتهى اليه.
وثانيا: أن المراد بالأصول هناك أصول الدين لا أصول الفقه.
وثالثا: بعد التسليم فمباحث الألفاظ خارجة عنها قطعا، والتفصيل بين
الأوضاع الشرعية وغيرها من اللغوية والعرفية، كما قد يحتمل في المقام غير
معقول، لاتحاد المناط في الكل، بل الظاهر الاتفاق عليه كذلك.
ثم إن عدم إفادة الآحاد للعلم لا يقضي بعدم حصول النقل الذي هو تكليف
424

الحاضرين، فغاية الأمر عدم ثبوته بذلك عندنا، وهو لا يقضي بانتفائه في الواقع،
كما هو المقصود.
فإن قلت: إن الواجب على الحاضرين إبلاغه بطريق التواتر، إذ لا فائدة في
نقل الآحاد في المقام.
قلت: لا معنى لوجوب نقله متواترا على كل من الآحاد، فغاية الأمر وجوب
النقل آحادا على كل منهم لحصول التواتر بالمجموع، وليس الجميع عدولا لئلا
يتهاونوا بالتكليف، على أنه قد يحصل مانع آخر من حصول التواتر في الطبقات.
قوله: * (إنما هو بحسب دلالتها بالوضع فيها) *
إن أراد بذلك حصول الوضع في تلك اللغة من أرباب اللسان فمسلم ولا يثبت
به المدعى، إذ المفروض كون الشارع من العرب وسيدهم، ولو فرض كون الواضع
لها هو الله تعالى فكون النقل بحسب ذلك اللسان كاف فيه، كما أن وضعه كذلك
كاف في الانتساب إلى اللغة لو قلنا بكون واضع اللغات هو الله سبحانه لاتحاد
الواضع اذن في الكل، وإن اعتبر وقوع الوضع من واضع أصل اللغة فممنوع، بل
ظاهر الفساد، لوضوح كون المنقولات العرفية العامة والخاصة مندرجة في العربية
مع كون الوضع فيها من غيرهم، على أنه لا يتم لو قلنا بأن واضع اللغات هو الله
تعالى، وقلنا بكون الوضع في الحقيقة الشرعية منه تعالى.
قوله: * (باعتبار الترديد بالقرائن) *
أورد عليه بأن العلم بالترديد بالقرائن لو حصل للكل لم يقع خلاف، وإلا لنقلنا
الكلام إلى من لم يحصل له العلم، فنقول: إن علمه إما بالتواتر، أو بالآحاد... الخ.
ويدفعه أن الترديد بالقرائن قد حصل بالنسبة إلى الحاضرين، وهم قد نقلوا
تلك الأخبار على حالها ليقف من بعدهم على الحال، فإن لم يحصل هناك علم
لبعضهم فلا مانع، وكون طريق معرفته حينئذ منحصرا في التواتر والآحاد وعدم
حصول الأول وعدم الاكتفاء بالثاني لا يقضي بعدم حصول التفهيم لهم ونقلهم
ما يفيد ذلك، فكيف يمكن تتميم الاحتجاج بمجرد ذلك؟.
425

قوله: * (كيف! وقد جعلها الشارع حقائق شرعية في تلك المعاني
مجازات لغوية في المعنى اللغوي) *
لا يخفى أن الألفاظ المذكورة إنما تكون حينئذ مجازات لغوية في المعنى
الشرعي لا في المعنى اللغوي، ولو أريد به صيرورتها مجازات في معناها اللغوي
بعد النقل فهو مما لا ربط له بالمقام، مع أنها حينئذ تكون مجازات شرعية لا لغوية.
وقد يتكلف في توجيهه بأن المراد من قوله: " في المعنى اللغوي " بالنسبة إلى
المعنى اللغوي أي بملاحظة ما وضع لها في اللغة، فالمراد أن تلك الألفاظ صارت
حقائق شرعية في المعاني الحادثة بالنسبة إلى العرف الشرعي مجازات لغوية فيها
بالنسبة إلى اللغة.
ثم لا يذهب عليك أن الألفاظ المذكورة إذا استعملها الشارع حينئذ في
المعاني الشرعية كانت حقائق شرعية، وليست بهذه الملاحظة مجازات أصلا، وإن
استعملها غيره في تلك المعاني من غير تبعيته - بل من جهة مناسبتها لمعناها
اللغوي - كانت مجازات لغوية ولم تكن حينئذ حقائق شرعية.
فإن أراد المصنف بذلك اجتماع تينك الصفتين في لفظ واحد في آن واحد
بالاعتبارين كما هو الظاهر من العبارة المذكورة فذلك فاسد قطعا، إذ لا يمكن
اجتماع الأمرين كذلك، كما هو ظاهر من حديهما لاعتبار الحيثية في كل منهما.
وإن أراد كونها مجازات لغوية لو استعملت فيها بمناسبة المعاني اللغوية من
غير ملاحظة لوضعها في الشرع فهو غير مجد فيما هو بصدده، فإن كونها مجازات
لغوية من تلك الجهة يقضي بكونها عربية لو استعملت على تلك الجهة، فمن أين
ثبت كونها عربية لو استعملت فيها من جهة الوضع لها مع الفرق الظاهر بين
الجهتين؟ فإن الاستعمال في الأولى من جهة تبعية الواضع بخلاف الثانية.
وغاية ما يوجه به ذلك أن يقال: إن مراده من ذلك بيان تقريب للحكم، فإن
تلك الألفاظ بالنظر إلى استعمالها في تلك المعاني إذا كانت عربية لم يخرجها
الوضع الشرعي من ذلك، لعدم تصرف الشارع حينئذ في اللفظ ولا في المعنى،
وهو كما ترى.
426

ومن الغريب ما قيل (1) في توجيهه من أن تلك الألفاظ حال استعمالها في
المعاني الشرعية حقائق شرعية فيها مجازات لغوية عند صدور استعمالها فيها من
أهل اللغة، فيكون المراد أن تلك الألفاظ حقائق شرعية بالفعل مجازات لغوية
بالقوة، وهذا القدر كاف في اتصافها بوصف العربية، إذ بعد صيرورة القوة فعلا
تكون عربية لا محالة.
قلت: فهي إذن غير عربية لكنها قابلة لأن تكون عربية لو استعملت على غير
هذا النحو، وأين ذلك من الحكم بكونها عربية بالفعل؟ كما هو المفروض في كلام
المجيب، إلا أن يحمل ما ذكره المجيب على المجاز ويجعل ذلك علاقة للتجوز،
وهو مع ما فيه من التعسف - لعدم ملائمته لسوق كلامه - غير كاف في دفع
الاستدلال.
قوله: * (ومع التنزل نمنع... الخ) *
لا يخفى أن هذا الكلام صدر من المجيب في مقام المنع لإبداء المناقشة فيما
استند اليه المستدل وإن لم يكن موافقا للتحقيق، فإن كون القرآن كله عربيا أمر
واضح غني عن البيان، وقد قال الله تعالى: * (لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي
وعربي) * (2).
فالأولى مع التنزل أن يقال بأن وجود غير العربي فيه لا يقضي بعدم كونه
عربيا، إذ المناط في صدق العربي والعجمي على النظم والأسلوب كما هو ظاهر،
كيف! وقد ورد المعرب والرومي والأعلام العجمية وغيرها في القرآن وليست
بأقرب إلى العربية من الحقائق الشرعية.
قوله: * (والتحقيق أن: يقال... الخ) *
ما حققه في المقام إنما يتم إذا أفاد الظن بانتفاء الوضع تعيينا وتعينا، وأما مع
الشك في ذلك - نظرا إلى شيوع الخلاف فيه من قديم الزمان وذهاب المعظم إلى

(1) ذكره بعضهم في كتاب له في المبادئ اللغوية. (منه (رحمه الله)).
(2) سورة فصلت: 44.
427

الثبوت وقيام بعض الشواهد على النقل - فإنه وإن فرض عدم إفادتها الظن في
مقابلة الأصل لتنهض حجة على الإثبات إلا أنه لا أقل من الشك كما هو معلوم
بالوجدان بعد الغض عن الأدلة المفيدة للظن.
وكأنه الظاهر من آخر كلامه حيث قال: " إنه لا يبقى لنا وثوق بالإفادة
مطلقا " فلا وجه للحكم بالنفي من جهة الأصل، إذ ليست حجية الأصل في مباحث
الألفاظ من باب التعبد وإنما هي من جهة إفادة الظن، فمع عدم حصول الظن من
جهته لا وجه للرجوع اليه والحكم بمقتضاه مع عدم حصول ظن بما هو مراد
الشارع من تلك الألفاظ.
والحاصل: أنه لا شك في حمل تلك الألفاظ على المعاني اللغوية بالنسبة إلى
ما قبل الشرع، وكذا في الحمل على المعاني الشرعية في عرف المتشرعة، وقد
حصل الشك في زمان الشارع في كون الحال فيه حال زمان المتشرعة أو حال ما
قبل الشريعة، فمع الشك لا وجه لتعيين أحد الوجهين وحمل الحديث على أحد
المعنيين مع عدم انفهام أحدهما منه حينئذ وحصول الشك في فهم أهل ذلك
العصر، فلا بد إذن من التوقف، وقد مرت الإشارة إلى ذلك في المسائل المتقدمة،
فبناؤه على النفي والرجوع إلى الأصول الفقهية محتجا بما بينه (رحمه الله) ليس على ما
ينبغي.
نعم إن قام هناك دليل على حجية الأصل المذكور في مباحث الألفاظ على
سبيل التعبد اتجه ذلك، لكنه ليس في الأدلة ما يشمل ذلك، بل الحجة في باب
الألفاظ هو الظن حسب ما قرروه، والمفروض انتفاؤه في المقام.
فظهر مما قررناه أن احتجاج النافين بمجرد الأصل غير كاف في المقام، بل
لا بد بعد العجز عن إقامة الدليل على أحد الطرفين وحصول الشك في النقل وعدمه
من التوقف في الحكم والحمل.
ثم إن هنا أدلة اخر غير ما ذكروه تدل على حصول الوضع فيها في زمان
الشارع بل من أول الأمر.
428

منها: أن المسألة لغوية متعلقة بالأوضاع ومن البين حجية النقل فيها وإن كان
مبنيا على الاجتهاد وملاحظة العلامات، كما هو الحال غالبا في إثبات اللغات
وأنا إذا راجعنا كلمات أهل الخبرة في المقام وجدنا معظم العامة والخاصة قائلين
بثبوتها، حتى أنه لا يعرف فيه مخالف من العامة سوى القاضي وبعض آخر ممن
تبعه، ولا من الخاصة سوى جماعة من متأخريهم، بل الاجماع منقول عليه في
الجملة من جماعة من متقدميهم حسب ما مرت الإشارة اليه وعدم ظهور قائل
بالفصل مع اعتضاده بعدم ظهور خلاف فيه بينهم، وقد اكتفي بما دون ذلك في
مباحث الألفاظ فلا مجال لإنكاره في المقام.
مضافا إلى تقديم قول المثبت على النافي، فبعد فرض تكافؤ القولين ينبغي
ترجيح قول المثبت أيضا، وليس في المقام دليل على النفي سوى الأصل ففي
الحقيقة لا معارض لأقوال المثبتين، فمرجع هذا الوجه عند التأمل إلى وجوه ثلاثة.
ومنها: الاستقراء فإن من تتبع موارد استعمالات كثير من الألفاظ المستعملة
في المعاني الجديدة كالصلاة والزكاة والصوم والحج والوضوء والغسل ونحوها
وجد استعمال الشارع لها في تلك المعاني على نحو استعمال الحقائق، بحيث
يحصل الظن من ملاحظة استعمالاتها بالبناء فيها على النقل.
والحاصل أنه يفهم ذلك من ملاحظة استعمالات الشارع على نحو ما يفهم
أوضاع اللغة ونحوها من ملاحظة استعمالات العرب وأرباب الاصطلاح، ويعبر
عنه بالترديد بالقرائن، وذلك طريقة جارية في فهم الأوضاع بل هو الغالب في
المعرفة باللغات، فيستفاد من ذلك ثبوت الحقيقة الشرعية في الألفاظ التي حصل
الاستقراء في موارد استعمالها دون جميع الألفاظ مما فرض فيه النزاع، وحينئذ
فلا بد في تتميم الدليل من ملاحظة عدم القول بالفصل حسب ما مرت الإشارة اليه.
وهناك طريق ثان للاستقراء يستفاد منه شمول الحكم للكل تقريره: أن
المستفاد من تتبع الألفاظ وملاحظة نقل الشارع لجملة منها إلى المعاني الجديدة
هو بناء الشارع فيما يعبر عنه من المعاني الجديدة المتداولة على نقل اللفظ إليها،
429

وتعيين تلك الألفاظ للتعبير عن تلك المعاني، كيف! والأمر الباعث على النقل فيما
عرفت نقلها بالاستقراء المذكور أولا هو الباعث على النقل في الباقي.
وبالجملة: أن استفادة ذلك من ملاحظة جملة من الألفاظ المذكورة غير بعيد
لمن تأمل في المقام بعد استنباط جهة النقل فيها من استقراء خصوصياتها.
وفيه أيضا طريق ثالث يستفاد منه أيضا عموم الوضع، وهو أنا إذا استقرأنا
طريقة أرباب العلوم المدونة كالنحو والتصريف والبيان والمنطق وغيرها وكذا
أرباب الحرف والصناعات على كثرتها وجدناهم قد وضعوا ألفاظا خاصة بإزاء
كل ما يحتاجون إلى بيانها ويتداول بينهم ذكرها، لئلا يقع الخلط والاشتباه ولا
يطول المقام بذكر القرينة من غير طائل، ومن البين أن اهتمام الشارع في بيان
الشريعة أعظم من اهتمامهم في حرفهم وصنائعهم، وملاحظته للحكم أكثر من
ملاحظتهم والاحتياج إلى أداء تلك المعاني أعظم من الاحتياج إليها والاهتمام
بشأنها أشد من الاهتمام بغيرها، وقضية ذلك وقوع النقل من صاحب الشريعة
بالأولى.
وبالجملة: أن المستفاد من استقراء الحال في سائر أرباب الصناعات العلمية
والعملية الظن بوقوع ذلك عن صاحب الشريعة أيضا، فمرجع الاستقراء أيضا إلى
وجوه ثلاثة وإن كان الوجه الأول منها مأخوذا في الثاني.
ومنها: أن ذلك هو المستفاد مما ورد في الأخبار في بيان جملة، منها:
كقوله (عليه السلام): " الصلاة: ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود " (1) والتعبير بنحو ذلك
وما يقرب منها كثير في الأخبار وقد وردت في عدة من الألفاظ وهو ظاهر فيما
قلناه، فإن ظاهر الحمل قاض بكونه حقيقة في المعنى المذكور كما يستفاد ذلك من
تعبيرات أهل اللغة.
ومنها: دليل الحكمة، فإن من المقرر في مباحث الألفاظ أن كل معنى تشتد
الحاجة اليه يجب في الحكمة وضع لفظ بإزائه، ومن البين شدة الحاجة إلى المعاني

(1) الوسائل 1: ب 1 من أبواب الوضوء ص 257 ح 8.
430

الجديدة الشرعية وكثرة دورانها في الشريعة فكيف يهمل الشارع الحكيم وضع
الألفاظ بإزائها؟ مع ما يرى من شدة اهتمامه بالشريعة وعظم حاجة الناس إليها
وقوام أمور الدين والدنيا بها.
ومنها: أن جملة من تلك الألفاظ قد صارت حقائق في المعاني الشرعية في
الشرائع السابقة، كالصلاة والصوم والزكاة وقد عبر بها في القرآن حكاية عن
الأنبياء السابقين، وهو معلوم أيضا من الخارج فهي حقيقة فيها قبل مجئ هذه
الشريعة أيضا.
وما يورد عليه من مخالفة هذا اللسان للغاتهم فغاية الأمر أن يكون للمعاني
المستحدثة عندهم ألفاظ موضوعة من لغاتهم، ولا يلزم من ذلك وضع هذه
الألفاظ بإزائها، ومن أن هذه المعاني أمور جديدة لم يكونوا يعرفونها وإنما اتي بها
في شرعنا، فعلى فرض كون هذه الألفاظ حقيقة في المعاني الثابتة في شرائعهم
لا يثبت به كونها حقيقة فيما ثبت في شرعنا، بل لا بد في ثبوته عندنا من وضع
جديد.
مدفوع، أما الأول فبان الظاهر أن العرب كانوا يعبرون عنها بهذه الألفاظ، ولذا
وقع التعبير بها في الكتاب العزيز، وقد كان كثير من العرب متدينين ببعض تلك
الأديان وكانت تلك الألفاظ معروفة عندهم وإن كان المعبر به عنها في أصل
شرعهم من غير اللغة العربية.
وأما الثاني فبما مرت الإشارة اليه من أن الاختلاف إنما وقع في المصداق
كاختلاف كثير من تلك العبادات في شرعنا بحسب اختلاف الأحوال، وأما
المفهوم العام المأخوذ في وضع تلك الألفاظ فهو يعم الجميع.
فقد ظهر مما قررناه من الوجوه قوة القول بالثبوت مطلقا، ولو نوقش في
استقلال كل واحد من الوجوه المذكورة في إفادة الظن فلا مجال للإنكار بعد ضم
بعضها إلى البعض، لحصول المظنة بمؤداها، وهي كافية في المقام قطعا، بل يكتفى
بما دون ذلك في مباحث الألفاظ.
431

وأما حجج القائلين بالتفاصيل المذكورة فهي مبنية على كون الوضع فيها
تعينيا لا تعيينيا، فيختلف الحال فيه باختلاف الألفاظ في شدة الحاجة وكثرة
الدوران وعدمها وطول المدة وقصرها، وكل ذهب على حسب ما اعتقده في
البلوغ إلى حد الحقيقة.
نعم، التفصيل بين العبادات والمعاملات ليس مبنيا على ذلك وإنما احتج عليه
بأن ألفاظ المعاملات باقية على معانيها اللغوية ولم يستعملها الشارع في معان
جديدة، وإنما ضم إلى معانيها اللغوية شروطا لصحتها من غير أن يعتبر ذلك في
تسميتها، ولذا يرجع فيها إلى العرف ولا يتوقف تفسيرها على توقيف الشرع،
بخلاف العبادات لكونها من الأمور المجعولة الشرعية والماهيات المقررة من
صاحب الشريعة، ولذا حكموا بأنها توقيفية يعنون به توقيفية موضوعاتها، وإلا
فالأحكام توقيفية في العبادات والمعاملات من غير فرق اتفاقا، فالألفاظ الدالة
عليها موضوعة بالأوضاع الشرعية على خلاف المعاملات.
ويدفعه أن المناط في المقام حسب ما ذكره وتقدمت الإشارة اليه هو كون
المعنى من الأمور المجعولة الشرعية دون المعاني القديمة الثابتة قبل الشريعة،
لكن لا اختصاص لذلك بالعبادات كما زعمه، إذ للشارع في غيرها أيضا ماهيات
مخترعة وأمور مجعولة لم يكن قبل ورود الشريعة كالإيمان والكفر، والطهارة
والنجاسة، والفسق والعدالة، والخلع والايلاء واللعان ونحوها، فلا اختصاص
للمعاني المستحدثة بالعبادات ولا تمتاز العبادة بذلك عن غيرها، بل لا امتياز لها
إلا بالتوقف على القربة بخلاف غيرها، وهذا مما لا ربط له في ثبوت الحقيقة
الشرعية ونفيها.
نعم لو لم يكن للشارع ماهية مجعولة ومعنى جديد في غير العبادات صح
ما ذكره، لكن ليس الحال على ذلك كما عرفت.
وأنت خبير بأن مقتضى الكلام المذكور خروج المعاملات عند هذا القائل عن
محل النزاع في الحقيقة الشرعية، إذ قد عرفت أن محل النزاع هو الألفاظ
432

المستعملة في المعاني الجديدة المقررة في الشريعة، وهو حينئذ قائل بثبوتها في
ذلك مطلقا، إلا أنه يعتقد انتفاء ذلك في المعاملات فلذا حكم بعدم ثبوت الحقيقة
الشرعية بالنسبة إليها.
ولو اعتقد ثبوت معان جديدة هناك يقال بثبوتها فيها أيضا بمقتضى ما نسب
اليه من الاحتجاج فهو في الحقيقة مفصل في أمر آخر غير هذه المسألة.
ثم لا يذهب عليك أن ما استند اليه لا ينهض دليلا على ثبوت الحقيقة
الشرعية في العبادات، إذ ما ذكره من كونها أمورا جعلية وماهيات جديدة متوقفة
على بيان صاحب الشريعة مما لا خلاف فيه بين الفريقين، ولا دلالة فيه على
حصول الوضع، ولذا وقع الخلاف فيه مع الاتفاق على ذلك فلا وجه للاستناد اليه،
إلا أن يضم اليه غيره مما مر في الاحتجاج.
وكأن مقصود القائل من ذلك إبداء الفرق بين العبادات والمعاملات بأنه لم
يقرر الشارع في المعاملات معان جديدة ليضع الألفاظ بإزائها بخلاف العبادات،
ثم يحتج لثبوتها فيها بما يحتج به المثبتون لها.
وكيف كان، فقد عرفت ما فيه، وقد عرفت أيضا أن الأمر في الحقيقة الشرعية
ليس متوقفا على كون الوضع فيها تعينيا كما زعموه، بل الظاهر القول بكونه تعيينيا
كما هو ظاهر كلام القوم حسب ما عرفت.
وقد يستبعد من وقوع ذلك، إذ لو وقع لصرح به النبي (صلى الله عليه وآله) وصعد على المنبر
لإبلاغه لما يترتب عليه من الثمرة العظيمة، ولو كان كذلك لما خفي على أحد من
الأمة لتوفر الدواعي إلى نقله كيف! ولم ينقل ذلك أحد من أرباب التواريخ
ولا غيرهم ولا حكوا إيقاعه بشئ من تلك الأوضاع.
ويدفعه أن وقوع الوضع لا يستتبع شيئا من ذلك، إذ هو تعيين قلبي لا يفتقر
إلى عقد ولا إيقاع، وإفهام ذلك للمخاطبين لا يتوقف على صعود على المنبر
ولا تصريح بالحال، بل يحصل بالترديد بالقرائن كما هو الحال في سائر
الاصطلاحات واللغات، وهو ظاهر.
433

ولنتبع الكلام في المرام بمسألة أخرى تداول ذكرها بين الأعلام يناسب
إيرادها في المقام، وهي أن ألفاظ العبادات كالصلاة والزكاة والصيام هل هي
أسامي للصحيحة المستجمعة لجميع الأجزاء المعتبرة في الصحة وشرائطها، أو
يعمها والفاسدة؟ وقد اختلفوا في ذلك على قولين، أو أقوال، ولنوضح الكلام في
المسألة برسم مقامات أربعة:
الأول في بيان محل النزاع في ذلك:
فنقول: إن النزاع في المقام إنما هو في ألفاظ العبادات مما استعملها الشارع
في المعاني الجديدة المستحدثة كالصلاة والزكاة والصوم والوضوء والغسل
ونحوها، دون ما كان من ألفاظ العبادات مستعملة في معانيها اللغوية كالزيارة
والدعاء وتلاوة القرآن ونحوها، فلا ريب في وضعها في اللغة للأعم، والمفروض
استعمالها في المعاني اللغوية فتكون مستعملة في الأعم من الصحيحة والفاسدة.
نعم هناك شرائط اعتبرها الشارع في صحتها كما اعتبر نظير ذلك في المعاملات.
ثم إن الخلاف في أن المعاني المقررة من الشرع التي استعمل فيها تلك
الألفاظ هل هي خصوص الصحيحة، أو هي أعم منها ومن الفاسدة؟ فيصح النزاع
فيها من القائلين بثبوت الحقيقة الشرعية ونفاتها، إذ لا كلام في استعمال تلك
الألفاظ في المعاني الجديدة كما عرفت، وإنما الكلام هناك في كونه على وجه
الحقيقة أو لا كما مر.
فإن قلت: على هذا يكون النزاع بناء على القول بنفي الحقيقة الشرعية في
المعنى المستعمل فيه في كلام الشارع وليس ذلك قابلا للخلاف، لوضوح
استعمالها في كل من الصحيحة والفاسدة كصلاة الحائض وصوم الوصال وصيام
العيدين ونحوها.
وبالجملة: أن صحة استعمالها في كل من المعنيين ووقوعه ولو على القول
المذكور ليس مما يقبل التشكيك ليقع محلا للكلام، وإنما القابل لوقوع النزاع فيه
بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية هو تعيين ما وضع اللفظ له، سواء كان على سبيل
434

التعين أو التعيين، ومع البناء على نفيها فلا مجال للنزاع فيها، إذ وضوح استعمالها
في كل من الأمرين بمكان لا يحتاج إلى البيان.
قلت: ليس النزاع في المقام في تعيين المعنى الحقيقي ليبتني على القول
بثبوت الحقيقة الشرعية، ولا في مجرد ما استعمل اللفظ فيه لئلا يكون قابلا
للخلاف والمنازعة، بل الخلاف في أن المعاني المحدثة من الشارع المقررة في
الشريعة المستعملة فيها تلك الألفاظ المخصوصة هل هي خصوص الصحيحة، أو
الأعم منها ومن الفاسدة؟ ولا ينافي ذلك استعمالها في الفاسدة أيضا، لغرض من
الأغراض.
والفرق واضح بين الأمرين وإن كان استعمالها مجازا على الوجهين، فإن
الأول هو الشائع في الاستعمال حتى أنها صارت حقيقة عند المتشرعة بخلاف
الثاني، لبقائه على المجازية في ألسنة المتشرعة، إذ لا قائل باشتراكها لفظا عند
المتشرعة بين الأمرين.
ويظهر الثمرة في ذلك فيما إذا قامت القرينة الصارفة عن إرادة المعنى
اللغوي، فإنه يتعين حملها على ما هو المختار في المقام من غير حاجة إلى القرينة
المعينة، ولا تبقى دائرة بين حملها على الأعم أو خصوص الصحيحة، كما مرت
إليه الإشارة.
وإن أبيت عن ذلك فقرر الخلاف في المقام في تعيين ما هي حقيقة فيه عند
المتشرعة، إذ هو المعنى المستعمل فيه عند صاحب الشريعة، ولا مجال للإيراد
المذكور فيه ومرجعه إلى ما تقدم.
وما في كلام بعض الأفاضل بعد حكمه بعدم ابتناء المسألة على ثبوت الحقيقة
الشرعية: " أنه لا ريب في أن الماهيات المحدثة أمور مخترعة من الشارع، ولا
شك أن ما أحدثه الشارع متصف بالصحة لا غير بمعنى أنه بحيث لو أتى به على ما
اخترعه الشارع يكون موجبا للامتثال للأمر بالماهية من حيث هو أمر بالماهية ".
غير مفهوم المعنى سيما مع ذهابه إلى القول بكونها للأعم فإنه إن أراد أن
435

الماهيات المحدثة من الشارع التي استعمل الشارع فيها تلك الألفاظ متصفة
بالصحة لا غير - إذ لا يحدث الشارع أمرا فاسدا - فهذا هو عين القول بكون تلك
الألفاظ بإزاء الصحيحة مع الإشارة إلى دليله، وإن أراد أن الماهيات التي أحدثها
الشارع متصفة بالصحة قطعا فالشارع على القول بالأعم لم يستعمل تلك الألفاظ
فيما أحدثه وإنما استعملها في شئ آخر أعم منه فهو كما ترى ومع ذلك فالعبارة
لا تفي به.
ثم إن اعتباره الحيثية في الأمر في قوله: " للأمر بالماهية من حيث إنه أمر
بالماهية " غير مفهوم الجهة.
والحاصل: أن الكلام في أن ما أحدثه الشارع وقرره من تلك الطبائع الجعلية
وعبر عنها بتلك الألفاظ الخاصة هل هو خصوص الصحيحة، أو الأعم منها ومن
الفاسدة؟ وإن حكمنا بأن مطلوب الشارع هو قسم منها بعد ما قام الدليل على
فساد بعضها فهذا هو عين المتنازع فيه في المقام، فكيف ينفى عنه الريب في بيان
محل الكلام؟.
المقام الثاني في بيان الأقوال في المسألة:
وهي عديدة:
منها: القول بوضعها للصحيحة الجامعة لجميع الأجزاء المعتبرة وسائر شروط
الصحة، واليه ذهب جماعة من الخاصة والعامة.
فمن الخاصة: السيد والشيخ في ظاهر المحكي عن كلاميهما، والعلامة في
ظاهر موضع من النهاية، والسيد عميد الدين في موضع من المنية والشهيدان في
القواعد والمسالك، واستثنى الأول منه الحج لوجوب المضي فيه، ومن فضلاء
العصر الشريف الأستاذ (قدس سره) وعزاه إلى أكثر المحققين، والفقيه الأستاذ رفع مقامه
وغيرهما.
ومن العامة: أبو الحسين البصري و عبد الجبار بن أحمد، وحكي القول به عن
الآمدي والحاجبي وغيرهما، وحكاه الإسنوي عن الأكثرين، وحكى في
436

المحصول عن الأكثرين القول بحمل النفي الوارد على الأسماء الشرعية كقوله:
" لا صلاة إلا بطهور " على نفي الحقيقة، لإخبار صاحب الشرع به.
ومنها: القول بوضعها للمستجمعة لجميع الأجزاء المعتبرة فيها من غير اعتبار
للشرائط في وضعها، وهو محكي عن البعض، وكأن ملحوظ القائل به مراعاة
دخول الأجزاء في الكل فلا يمكن الحكم بصدق الكل مع انتفاء شئ منها، وأن
الشرائط خارجة عن المشروط فلا وجه لأخذها فيه، وإلا لكانت أجزاء، هذا
خلف. وستعرف وهنه.
ومنها: أنها موضوعة بإزاء الأعم من الصحيحة والفاسدة من غير مراعاة
لاعتبار جميع الأجزاء ولا الشرائط، بل إنما يعتبر ما يحصل معه التسمية في عرف
المتشرعة، واليه ذهب من الخاصة العلامة في غير موضع من النهاية وولده في
الإيضاح والسيد عميد الدين في موضع من المنية والشهيد الثاني في تمهيده
وروضته وشيخنا البهائي وجماعة من الفضلاء المعاصرين، ومن العامة القاضي
أبو بكر وأبو عبد الله البصري وغيرهم.
ثم إنه يمكن تقرير القول المذكور على وجوه:
أحدها: أن يقال بوضعها لخصوص أجزاء مخصوصة من غير اعتبار وجود
سائر الأجزاء معها ولا عدمها في التسمية، فيقال: إن الصلاة مثلا اسم لخصوص
الأركان المخصوصة وسائر الأجزاء لا يعتبر وجودها في التسمية، فإذا انتفى أحد
الأركان انتفت التسمية بخلاف غيرها.
ويشكل حينئذ بأن سائر الأجزاء مما عدا الأركان تكون خارجة عن المسمى
فتكون كالشرائط فلا يصح عدها أجزاء، كيف ومن الواضح انتفاء الكل بانتفاء
جزئه فكيف يلتزم في المقام بخلافه؟!.
ويمكن الجواب بأن القدر الثابت هو كونها أجزاء في الجملة لا كونها أجزاء
لمطلق الصلاة، فنقول: إنها أجزاء للصلاة الصحيحة ولا منافاة، فإن كون الشئ
جزء للأخص لا يستلزم أن يكون جزء للأعم، ضرورة كون الناطق جزء للإنسان
دون الحيوان.
437

وفيه: أنه مع عدم اعتبار تلك الأجزاء في مسمى مطلق الصلاة يكون
استعمالها في المستجمع للأركان وغيرها كما هو الغالب مجازا، لكونه استعمالا
للفظ فيما وضع له وغيره، إذ المفروض خروج الباقي عن الموضوع له.
وقد يجاب عن ذلك بأنه مع كون ما اندرج فيه ذلك أنواعا أو أصنافا لذلك
الكلي لا يلزم أن يكون إطلاق الكلي عليه مجازا، كما يشاهد ذلك في إطلاق
الحيوان على الانسان وإطلاق الانسان على الرومي والزنجي.
ويدفعه أن إطلاق الحيوان على الانسان ونحوه إنما يكون حقيقة إذا أريد به
معناه المطلق، فيكون استعماله في المقيد من جهة حصول المطلق فيه، ومع التنزل
نقول به إذا استعمل في خصوص الحصة المقيدة بتلك الخصوصية، وأما استعماله
في مجموع الحيوان والناطق فلا ريب في كونه مجازا، بل قد يشك في صحة
استعمال الكلي فيه، وقد يقطع بعدم جوازه كما إذا استعمل لفظ " الجسم " في مفهوم
الجسم النامي الحساس الناطق، فإن إرادة هذا المفهوم المركب منه غير صحيح
ولو على سبيل المجاز. والتزام التجوز في المقام مما لا وجه له.
كيف! ويصح القول بكون القراءة جزء من الصلاة، كما هو ظاهر من ملاحظة
الشرع بل الظاهر قضاء الضرورة به، وكذا الحال في غيرها من أجزائها، ولا يصح
أن يقال: إن الناطق جزء من الحيوان أو الحساس جزء من الجسم النامي أو
الجسم المطلق... وهكذا، وهو ظاهر.
وأيضا فأجزاء الصلاة ونحوها أجزاء خارجية متباينة وليست من الأجزاء
التحليلية المتحدة في المصداق، فإطلاق اللفظ الموضوع لبعضها على الكل مجاز،
بل قد يكون غلطا وليس من قبيل إطلاق الجنس على النوع أو النوع على الصنف
أو الفرد.
ثانيها: أن يقال بكون جميع الأجزاء المفروضة للعبادة جزء لمطلق تلك
العبادة ولا يلزم من ذلك انتفاؤها بانتفاء كل منها، إذ الأجزاء على قسمين:
فإن منها: ما يكون بقاء الكل وقوامه مرتبطا بها كالأعضاء الرئيسية ونحوها
438

للإنسان، ولا ريب حينئذ بانتفاء الكل مع انتفاء كل منها.
ومنها: ما لا يكون كذلك كاليد والإصبع والظفر للإنسان، لعدم انتفاء الكل
بانتفائها، وصدق الانسان بعد قطع كل منها كصدقة قبله.
فإن قلت: بعد فرض شئ جزء لشئ كيف يعقل وجود الكل حقيقة مع
انتفائه؟ إذ من الفطريات الحكم بانتفاء الكل بانتفاء جزئه.
قلت: إنما يرد ذلك إذا قلنا بكون ذلك جزء معتبرا في معنى اللفظ على كل
حال، وأما إذا قلنا بجزئيته حين حصوله دون عدمه فلا، ويتصور ذلك بأن يقال
بوضع اللفظ لما يقوم به الهيئة العرفية المخصوصة من تلك الأجزاء مثلا، فإن قامت
بعشرين منها مثلا كان ذلك كلا، وإن قامت بعشرة منها كان ذلك أيضا كلا،
ولا ينتفي مسمى اللفظ مع انتفاء الباقي وإن انتفت الخصوصية السابقة، إذ هي غير
مأخوذة في معنى اللفظ وقد وقع نحو ذلك في كثير من الأوضاع، فإن لفظ " البيت "
إنما وضع لما قام به هيئة البيت المخصوصة المعروفة في العادة، وتلك الهيئة قد
تقوم بجميع الأركان والجدران والروازن والأبواب والأخشاب وغيرها مما
يندرج في اسم البيت مع وجوده، وقد تقوم بمجرد الأركان وبعض الجدران،
وقد تقوم بذلك وببعض آخر على اختلاف وجوهه، إلا أن وجود الأركان ونحوها
قد اعتبر في تحقق مفهومه لتقوم الهيئة بها بحيث لا حصول لها بدونها، وأما البواقي
فغير مأخوذة بالخصوص فإن حصلت كانت جزء لقيام الهيئة بها حينئذ أيضا،
وإلا فلا.
واختلاف الهيئة مع زيادة ما تقوم به ونقصه لا يوجب اختلاف المعنى، فإن
خصوصية شئ منها غير مأخوذة في الوضع وإنما اعتبرت على وجه يعم الجميع.
ونحوه الكلام في الأعلام الشخصية، نظرا إلى عدم اختلاف التسمية مع اختلاف
المسمى جدا فإن البدن المأخوذ في وضعها مختلف في نفسه جدا من زمن الرضاع
إلى حين الشيخوخة، مع قطع النظر عن ورود سائر الطوارئ عليه، والتسمية على
حالها من غير اختلاف وليس ذلك إلا لكون الوضع فيها على ما ذكرنا.
439

إذا تقرر ذلك فنقول: إن الوضع في المقام إنما كان على النحو المذكور، فهناك
أجزاء قد اخذت في تحقق المفهوم وبها قوامه، فإذا انتفى شئ منها انتفى ذلك
المفهوم بانتفائه، وأجزاء ليست على تلك الصفة فهي أجزاء ما دامت موجودة وإذا
انعدمت لا ينعدم الكل بانعدامها، فالصلاة مثلا قد اخذت الأركان المعروفة في
تحقق مفهومها على كل حال، وأما سائر الأجزاء فإن وجدت كانت أجزاء، لقيام
الهيئة حينئذ بالمجموع، وإلا لم ينتف الكل بانتفائها لقيام الهيئة حينئذ بالأركان،
وهذا الوجه قد مال اليه بعض الفضلاء وإن لم يذكر في بيانه ما فصلناه.
ويضعفه أنه لا فرق بين أركان الصلاة وغيرها من الأجزاء في صدق اسم
الصلاة عرفا مع انتفاء كل منها إذا تحقق هناك من الأجزاء ما يصدق معه الاسم.
والحاصل: أن كل واحد من أجزاء الصلاة إذا انتفى وحصل الباقي صدق معه
الاسم بحسب العرف قطعا من غير فرق بين الأركان وغيرها، فليس هناك أجزاء
معينة للصلاة تعتبر هي بخصوصها في تحقق مفهومها، فهي بناء على وضعها للأعم
موضوعة بإزاء جملة من تلك الأفعال المخصوصة مما يقوم بها الهيئة المعروفة من
غير تعيين لخصوص ما يقوم به، وقد يكون الحال كذلك في غيرها من العبادات
أيضا.
وكيف كان، فينبغي أن يقال حينئذ بكونها أسامي لما يقوم به هيئاتها بحسب
العرف مما يصدق معها الاسم، سواء اعتبر في حصولها تحقق بعض الأجزاء
بخصوصها كما قد يقال به في بعض العبادات، أو لا كما هو الحال في الصلاة، وهذا
ثالث الوجوه في المقام.
ويشكل ذلك أيضا مع بعد الوجه المذكور في نفسه أنه لا معيار حينئذ لتعيين
المعنى المراد، والرجوع فيه إلى العرف إنما يكون بعد حصول الغلبة والاشتهار،
وأما قبله فلا يكاد يتعين الموضوع له أو المستعمل فيه بوجه، لعدم إمكان الإحالة
إلى العرف حينئذ، بل لا يكاد يحصل في العرف معنى جامع بينها بحيث يشمل
الصحيح والفاسد عندنا أيضا، وسيجئ تتمة الكلام.
440

ثم إنك بعدما عرفت ما قررناه في تبيين المرام تعرف ضعف ما قرره بعض
الأفاضل في المقام، حيث إنه رأى القول بوضع الألفاظ المذكورة للأعم من
الصحيح الجامع لجميع الأجزاء والشرائط - بحيث يعم صدقه حال انتفاء الجزء
أو الشرط - مشكلا.
فقرر النزاع تارة في الأعم بحسب الشرائط دون الأجزاء فجعل مدلول اللفظ
على القول المذكور هو المستجمع لجميع الأجزاء من غير اعتبار استجماع
الشرائط، فهي على هذا معتبرة في الصحة خاصة، وحينئذ فالقائل بالوضع
للصحيح والوضع للأعم متوافقان في اعتبار استجماع الأجزاء، وإنما التفاوت
بينهما في اعتبار الشرائط.
وأخرى عمم النزاع في الكل، ودفع الإشكال المذكور بأن مبنى كلام القوم
على العرف وليس كل جزء مما ينتفي الكل بانتفائه عرفا، بل منها ما ينتفي الكل
بانتفائه كالرقبة للإنسان، ومنها ما لا ينتفي كالإصبع والظفر له لبقاء الكل في العرف
مع انتفائهما، فالصلاة وإن كانت موضوعة للماهية التامة الأجزاء لكن لا يصح
سلبها عنها بمجرد النقض في بعض الأجزاء.
وظاهر كلامه المذكور أنه وإن انتفى الكل حقيقة في حكم العقل بانتفاء ذلك
إلا أنه لا ينتفي ذلك بالنظر إلى العرف، وهو المناط في مباحث الألفاظ.
وأنت خبير بأن تخصيص النزاع بالشرائط خلاف ما هو المعروف، بل خلاف
ما هو الواقع في المقام.
ومن الغريب أنه قرر النزاع أولا في الأعم من الجزء والشرط، ورد ما ربما
يظهر من بعضهم من التفصيل بينهما بما ذكره في الوجه الثاني من الوجهين
المذكورين، وحينئذ فلا وجه لتقريره النزاع على الوجه المذكور وتفسيره قول
القائل بالأعم بما ذكره، ففي كلامه (رحمه الله) اضطراب لا يخفى على الناظر فيه.
ثم إنه بعد فرض الشئ جزء ووضع اللفظ لتمام الأجزاء لا بد من انتفاء الكل
بانتفاء أي جزء منها، لقيام الضرورة على انتفاء الكل بانتفاء الجزء، والحكم ببقاء
441

الكل عرفا بعد فرض الجزئية إنما هو من باب المسامحة العرفية، ولا يناط بها
الأحكام الشرعية، كما قرر في محله، وإن فرض كونه جزء من المسمى لا مأخوذا
في التسمية فليس المسمى خصوص ذلك المفروض كلا حسب ما قررناه آنفا،
فانتفاء ذلك الجزء لا يستلزم انتفاء أصل المسمى عقلا ولا عرفا، وهو كلام آخر
وقد يرجع كلامه إلى ذلك، إلا أن ظاهر تعبيره بما ذكر يأباه كما لا يخفى.
المقام الثالث في بيان حجج الأقوال المذكورة:
أما القول بكونها للصحيحة فيحتج له بوجوه:
الأول: التبادر فإن أسامي العبادات كالصلاة والصيام والزكاة والوضوء
والغسل والتيمم وغيرها إذا أطلقت عند المتشرعة انصرفت إلى الصحيحة، ألا ترى
أنك إذا قلت: " صليت الصبح أو صمت الجمعة أو توضأت أو اغتسلت "
لم ينصرف إلا إلى الصحيح من تلك الأعمال ولم يفهم منها في عرف المشترعة
إلا ذلك، فاطلاق تلك الألفاظ لا ينصرف إلا إلى الصحيحة ولا يحمل على الفاسدة
إلا بالقرينة، كما هو واضح من ملاحظة الإطلاقات الدائرة، وذلك من أقوى
الأمارات على كونها حقيقة في الأولى مجازا في الثانية.
ومما يوضح ذلك أن المتشرعة إنما يحكمون بكون الصلاة وغيرها من
الألفاظ المذكورة عبارة عن الأمور الراجحة والعبادات المطلوبة لله تعالى
ولا يجعلونها أسامي لما يعم الطاعة والمعصية فقد تكون طاعة وقد تكون معصية
بل الأغلب فيها المعصية، بل لا يمكن عدها مطلقا من الطاعات أصلا، إذ لا يتعلق
الأمر حينئذ بما هو مفهوم الصلاة مثلا وإنما يتعلق ببعض أنواعها خاصة، وكأن هذا
بين الفساد بعد الرجوع إلى عرف المتشرعة، إذ لا يعدون الصلاة والزكاة ونحوهما
إلا من الطاعات والعبادات.
وأورد عليه بأن تبادر الصحيحة من تلك الألفاظ مسلم، إلا أنه ليس كل تبادر
أمارة على الحقيقة بل ما لا يكون لغير اللفظ فيه مدخلية فإن سبق المعنى من اللفظ
إذا استند إلى مجرد إطلاقه من غير ملاحظة شئ من الأمور الخارجية معه دل
442

على حصول الوضع له، وأما إذا انضم اليه شئ آخر أو احتمل انضمامه اليه
احتمالا متساويا لم يكن دليلا على الحقيقة، إذ لا ملازمة حينئذ بين الفهم المذكور
والوضع كما مر بيانه، ألا ترى أن المتبادر من سائر العقود كالبيع والإجارة
والمزارعة والمساقاة وغيرها إذا أطلقت ليس إلا الصحيحة مع أنها موضوعة
للأعم فكذا الحال في التبادر الحاصل في ألفاظ العبادات، فإن الظاهر أن التبادر
الحاصل في المقامين من قبيل واحد والباعث عليه في العقود والإيقاعات هو
الباعث على الانصراف في العبادات.
وما يتوهم من أن الأصل في التبادر أن يكون دليلا على الحقيقة إلا أن يدل
دليل على خلافه وهو ثابت في المعاملات فنقول بمقتضاه، بخلاف ما نحن فيه.
فمما لا دليل عليه بل ليس الدليل على الوضع إلا التبادر على النحو المذكور
بعد تحققه والمعرفة بحصوله ولو على سبيل الظن.
ودعوى كون الأصل في كل تبادر أن يكون مستندا إلى نفس اللفظ ممنوعة.
والقول بأصالة عدم ضم شئ آخر إلى اللفظ في حصوله معارض بأصالة
عدم استقلال اللفظ في إفادته.
على أن الأصل لا حجة فيه في هذه المقامات إلا من جهة إفادة الظن
دون التعبد ومع حصول الظن لا كلام وإنما الكلام في حصوله في المقام، وهو
ممنوع إن لم نقل بكون المظنون خلافه، كما يشهد به ملاحظة نظائره من المعاملات
كما عرفت.
ويشهد له أيضا أنه لو كان التبادر هنا ناشئا عن الوضع لكان ذلك منساقا إلى
الذهن في سائر المقامات وليس كذلك، ألا ترى أنك إذا قلت: " رأيت فلانا
يصلي، أو جماعة يصلون " لم يدل ذلك على كون ما وقع صحيحا كيف! ولو لم
يكن كذلك لصح الإخبار بأن زيدا لا يصلي ولا يصوم ولا يغتسل من الجنابة إذا
كانت أعماله المذكورة فاسدة ومن الظاهر أنه يحكم بكذب القائل إذا أطلق حينئذ
في الإخبار بخلاف ما إذا قيدها بالصحيحة، فلو كانت تلك الألفاظ منساقة إلى
443

خصوص الصحيحة لم يكن فرق بين الإطلاق والتقييد ومن الواضح خلافه.
وأيضا لو كان الأمر كما ادعى لما صح الإخبار عن أحد بأنه صلى أو صام
أو أتى بشئ من العبادات إلا مع العلم بصحة فعله، وهو مما لا يمكن عادة
ولو تحقق ففي غاية الندرة مع صحة الإخبار بها بحسب العرف من غير إشكال
ولا زال بعضهم يخبر عن بعض بما ذكر.
فظهر من جميع ذلك أن التبادر المدعى ليس من جهة الوضع وإنما هو من
جهة قضاء خصوص المقام، أو ظهور الإطلاق فيه في بعض المقامات.
والجواب عنه أن مجرد احتمال كون التبادر المذكور ناشئا من الخارج
غير دافع للاستدلال، إذ لو كان انفتاح أبواب الاحتمالات باعثا على المنع من
الأخذ بالظاهر في مباحث الألفاظ لانسد باب إثبات الأوضاع بالتبادر أو غيره
في سائر المقامات.
وظاهر الحال هنا استناد التبادر إلى نفس اللفظ، إذ ليس ذلك من جهة شيوع
الصحيحة، إذ الفاسدة أكثر منها بكثير.
ولا من جهة شيوع استعمالها فيها، إذ قلة استعمالها في الفاسدة على فرضها
بحيث يوجب صرف الإطلاق عنها لو كانت حقيقة فيها غير ظاهرة، لإطلاقها كثيرا
على الفاسدة أيضا.
ولا من جهة انصراف المطلق إلى الكامل وإلا لانصرفت إلى الفرد الكامل
الجامع لمعظم الآداب والمندوبات، ومن البين خلافه.
ودعوى بعض الأفاضل انصراف الإطلاق إليها غريب، فدوران الانصراف
مدار الصحة شاهد على استناده إلى نفس اللفظ.
وما توهم من انتقاض ذلك بسائر العقود والإيقاعات لانصرافها أيضا إلى
الصحيحة مع أنها موضوعة للأعم فهو على إطلاقه ممنوع.
والقول بوضعها للأعم مطلقا غير مسلم أيضا وإن لم تكن موضوعة لخصوص
الصحيح الشرعي، كما سنبين الحال فيها إن شاء الله تعالى.
444

ثم إن ما ذكر من عدم انصراف الألفاظ المذكورة في الأمثلة المفروضة
إلى الصحيحة مع الخلو عن القرينة ممنوع، بل الظاهر خلافه.
توضيح ذلك: أن الصلاة مثلا إنما وضعت للأفعال المعهودة المتكررة في اليوم
والليلة المطابقة لأمره تعالى، لكن حصل هناك اختلاف في تعيين مصداقها فهو في
كل من المذاهب والآراء شئ غير ما يقوله الآخر، بل العاملون على مذهب واحد
يختلف الحال فيهم من جهة المعرفة بالأحكام وتأدية القراءة والأذكار الواجبة
وغيرها، كما يشاهد ذلك في صلوات العوام، إذ كل يعتقد أن ما يؤديه مصداق
لتلك الماهية الصحيحة المطلوبة لله تعالى مع ما بينها من الاختلاف الفاحش، بل
لا يبعد القول بكون اختلاف صلاة اليهود والنصارى للصلاة الثابتة عندنا من هذا
القبيل أيضا، كما مرت الإشارة اليه، فإن المفهوم الاجمالي الملحوظ في وضع
الصلاة صادق عليها أيضا حال صحتها، غير أن النسخ الطارئ عليها أخرجها من
ذلك المفهوم من جهة طريان الفساد عليها وارتفاع الأمر بها، فلفظة " الصلاة "
مستعملة في معنى واحد وكل يطلقها على المصداق الثابت عنده لاعتقاد مطابقته
لتلك الطبيعة، وإطلاق كل من الفرق تلك على ما هو باطل عنده صحيح عند غيره
يصح من جهة تبعيته له، كما أنه يصح التبعية في الوضع من غير لزوم تجوز ليصح
بملاحظة ذلك إطلاق الصلاة على الصحيحة عندنا وعلى الصحيحة عند سائر
الفرق من المخالفين كالنواصب والخوارج بل واليهود والنصارى، إلا أن صدقها
على الواقعة من الفرقة المحقة المطابقة لأمره تعالى واقعي وعلى غيرها من جهة
التبعية لمعتقده.
وكذا الحال في كل فرقة بالنسبة إلى ما يعتقده ذلك فإن إطلاق اللفظ عليه
بملاحظة الواقع وعلى ما يعتقده غيره من جهة تبعيته له من غير لزوم تجوز في
اللفظ، إذ المفروض استعماله فيما وضع له - أعني تلك العبادة الصحيحة - وإطلاقه
على المصداق المعين من جهة حصولها فيه واقعا أو في اعتقاد عاملها تبعا لما
يعتقده، وهذه التبعية وإن كانت خلاف الظاهر أيضا إلا أن في الأمثلة المذكورة
445

قرينة عليه، فإن نسبة الصلاة فيها إلى أشخاص معينة تفيد إيقاعها على ما هو
معتقدهم، فإنه لما اختلفت الآراء في تعيين تلك الطبيعة واختلفت الأشخاص في
أدائها فحيث ما نسب إلى شخص فإنما ينصرف إلى تلك العبادة المأتي بها على
حسب معتقد الفاعل، سواء كان من أهل الحق أو من سائر الفرق حتى اليهود
والنصارى.
والحاصل: أنها تنصرف حينئذ إلى الأفعال المعهودة مما يعتقد الفاعل كونه
مصداقا للصلاة المطلوبة، ولذا يصح أن يقال: ما صلى إذا صلى صلاة فاسدة
باعتقاده كأن صلى مع الحدث عالما عامدا، وكذا إذا أتى المسلم بصلاة اليهود أو
النصارى بخلاف ما إذا أتوا بها، وليس ذلك إلا من جهة كون النسبة قرينة على
إطلاقها على الصحيحة في نظر الآتي بها، ومن هذه الجهة لا يصح سلبها مع أدائه
لها كذلك، وكذا الحال في سائر العبادات.
وأما ما ذكر من عدم صحة الإخبار بأدائه لتلك الأفعال إذا لم يعلم صحتها
بالخصوص فأوهن شئ، إذ مبنى الإخبار بالمذكورات شرعا وعرفا على ظاهر
الحال، وسيجئ إن شاء الله ما يزيد المقام توضيحا. فتأمل.
الثاني: صحة السلب، فإنه يصح سلب كل من العبادات عن الفاسدة فيصح أن
يقال لمن صلى مع الحدث متعمدا أو بدون القراءة كذلك: إنه لم يصل حقيقة، وإنما
وقع منه الصورة، وكذا الحال في غيرها من الوضوء والغسل والتيمم ونحوها،
وصدق تلك العبادات على الفاسدة منها ليس إلا من جهة المشاكلة، وإلا فصحة
السلب عنها عند التأمل في العرف ظاهر، وذلك دليل على عدم كون الفاسدة من
الأفراد الحقيقية لها، فلا تكون أسامي لما يعمها فينحصر الأمر في كونها أسامي
لخصوص الصحيحة منها، وهو المدعى.
ويمكن أن يقرر ذلك بوجه آخر بأن يستند إلى عدم صحة السلب بناء على ما
تقرر فيما مر من كون عدم صحة السلب على بعض الوجوه مثبتا لنفس الموضوع
له ابتداء دون مصاديقه الحقيقية، وذلك بأخذ الحمل ذاتيا لا متعارفيا وأخذ معنى
446

اللفظ في الموضوع أو المحمول على جهة الاجمال، فإنه إذا لم يصح سلب
الحيوان الناطق عن الانسان أو سلب الانسان عنه بحسب العرف دل على أن ذلك
هو معناه، ضرورة صحة سلب كل مفهوم عن مفهوم مغاير له على الوجه المذكور
وإن اتحدا في الصدق، وبهذا الوجه يصح سلب الخاص عن العام وبالعكس، تقول:
" الحيوان ليس بانسان، والانسان ليس بحيوان " وإن لم يصح ذلك بحسب الحمل
الشائع فنقول في المقام إنه إذا اخذت الماهية مستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط
المعتبرة في صحتها فلا يصح سلب الصلاة عنها بالمعنى المذكور في عرف
المتشرعة، كما لا يخفى على من أجاد التأمل في ملاحظة عرفهم فيكون ذلك
هو عين معناها.
والجواب عن ذلك بمنع الدعويين المذكورتين، والقول بعدم صحة السلب
على الوجه الأول وصحته في الثاني كما ترى، إذ من أمعن النظر في العرف يجد
الأمر على ما ذكرنا.
الثالث: ظواهر الآيات والأخبار كقوله تعالى: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر) * (1) وقوله عز وجل: * (ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * (2)
وقوله (عليه السلام): " الصلاة عمود الدين " (3) و " الصلاة قربان كل تقي " (4) و " الصوم جنة من
النار " (5) و " الصوم لي " (6) إلى غير ذلك من الأخبار المتكثرة جدا الواردة في
الأبواب المتفرقة، فإن حمل تلك المحمولات على مطلق الصلاة معرفا باللام
ظاهر جدا في أن الطبيعة المقررة من الشارع المحدثة منه هي المتصفة بذلك، لا أن
نوعا منها كذلك والبواقي أمور محرمة متصفة بما يضاد الصفات المذكورة كالزنا
والسرقة، فإنه في غاية البعد عن ظواهر تلك التعبيرات الواردة في تلك الآيات
والروايات كما لا يخفى.

(1) سورة العنكبوت: 45.
(2) سورة النساء: 103.
(3) المحاسن: ص 44.
(4) عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 7 ح 16.
(5) المحاسن: ص 289.
(6) بحار الأنوار: ج 96 ص 255 ح 31.
447

الرابع: ما دل من الأخبار على نفي الصلاة مع انتفاء بعض الأجزاء والشرائط
كقوله (عليه السلام): " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " (1) وقوله (عليه السلام): " لا صلاة إلا بطهور " (2)
وقوله (عليه السلام): " لا صلاة لمن لم يقم صلبه " (3) و " لا صلاة إلا إلى القبلة " (4) وقوله (عليه السلام)
في حد الركوع والسجود: " ومن لم يسبح فلا صلاة له " (5) وقوله: " لا صيام لمن
لم يبيت الصيام من الليل " (6)... إلى غير ذلك مما ورد في الأخبار في الصلاة
وغيرها مما يقف عليه المتتبع، فإن قضية ذلك بحسب ظاهر اللفظ هو نفي الحقيقة،
وقد أخبر به صاحب الشريعة، ولو كانت أسامي للأعم لما صح ذلك بل لزم حملها
على نفي صفة من صفاتها كالكمال أو الصحة مع بقاء الحقيقة، وهو خروج عن
ظاهر العبارة.
ثم إن هذه الروايات وإن كانت واردة في خصوص بعض الألفاظ وبعض
الأجزاء والشرائط إلا أنه يتمم الكلام في المقامين بعدم القول بالفصل، إذ لا فارق
بين تلك الألفاظ وغيرها ولا تلك الأجزاء والشرائط وما عداها، مضافا إلى عدم
فرق في العرف الذي هو عمدة معتمد القائلين بوضعها للأعم بين تلك الأجزاء
والشرائط وتلك الألفاظ وغيرها.
وقد أورد عليه بوجوه:
أحدها: المنع من كون العبارة المذكورة حقيقة في نفي وجود الماهية وإنما
مفادها نفي وجود صفة من صفاتها الظاهر ذلك في بقاء الحقيقة. نعم قضية وضعها
القديم هو نفي الحقيقة لكن قد هجر ذلك المعنى بالنسبة إلى التركيب المذكور
وحصل النقل إلى المعنى الثاني، كما يظهر ذلك من ملاحظة استعمالاته كما في
" لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " و " لا قراءة إلا من مصحف " و " لا علم إلا

(1) عوالي اللآلي: ج 1 ص 196 ح 2.
(2) من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 58 ح 129.
(3) الوسائل: ب 18 من أبواب الركوع ح 6 ص 9.
(4) من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 278 ح 855.
(5) الوسائل: ب 4 من أبواب الركوع ح 7 ص 924.
(6) عوالي اللآلي: ج 3 ص 132 ح 5.
448

ما نفع " و " لا عمل إلا بنية " و " لا كلام إلا ما أفاد "... إلى غير ذلك، فعلى هذا تكون
تلك الأخبار أدلة على القول بوضعها للأعم على عكس ما أراد المستدل.
ثانيها: أن العبارة المذكورة قد شاع استعمالها في نفي الكمال أو الصحة من
غير أن يراد بها نفي الحقيقة، فإن سلمنا بقاء وضعها لنفي الحقيقة فلا أقل من شهرة
استعمالها في نفي الصفة، فبملاحظة تلك الشهرة تكون من المجازات الراجحة
على الحقيقة فيقدم الحمل عليه على الحمل على الحقيقة، ومن التنزل فلا أقل من
مساواة الظن الحاصل من الشهرة للظن بإرادة الموضوع له فيحصل الاجمال
الباعث على سقوط الاستدلال.
ويضعف هذين الوجهين أنه لا شك في كون مفاد العبارة المذكورة بحسب
اللغة بل العرف أيضا هو نفي الحقيقة.
ودعوى نقلها أو كونها مجازا راجحا أو مساويا للحقيقة في نفي وجود الصفة
مع انتفاء القرائن الخاصة مجرد دعوى خالية عن الحجة، بل ملاحظة فهم العرف
في استعمالها مجردا عن القرينة تنادى بخلافه، كما في قولك: " لا وصول إلى
الدرجة العالية إلا بالتقوى، ولا روح للعمل إلا بالإقبال، ولا قبول للطاعة
إلا بالولاية " إلى غير ذلك من الأمثلة المتكثرة.
ومجرد استعمالها في عدة مقامات قضت القرائن الداخلة أو الخارجة بإرادة
نفي صفة من الصفات - نظرا إلى القطع ببقاء الذات - لا يقضي بعدم انصرافها إلى
ما وضعت له مع انتفاء القرينة، كيف! وليس بأشيع من تخصيص العام واستعمال
الأمر في الندب ولم يقل أحد فيهما بالنقل.
نعم، ربما قيل بصيرورة الثاني مساويا للحقيقة، إلا أنه موهون مردود عند
المعظم.
فدعوى مرجوحية الحمل على المعنى المذكور أو مساواته للآخر عجيب.
وأعجب منه دعوى الحقيقة العرفية في ذلك كما لا يخفى على من أعطى النظر حقه
في استعمالات تلك العبارة في مواضع الخلو عن القرينة.
449

ومما يوضح ما ذكرناه أنه قد احتج جماعة من الخاصة والعامة في مبحث
المجمل والمبين على نفي الاجمال في: " لا صلاة إلا بطهور " ونحوه بأن مفاد
العبارة نفي الحقيقة وهو ممكن، وقد أخبر الشارع به فيحمل على الحقيقة ولم
يتفوه أحد هناك بمنع دلالة العبارة على ذلك حتى أن من ذهب إلى الاجمال فيها
لم يتشبث بذلك بل ادعى صدق الصلاة على الفاسدة، فأثبت بذلك عدم إمكان
صرف النفي إلى الحقيقة، فالتزم بصرف النفي إلى الصفة، وحينئذ بنى على إجمال
العبارة من جهة تعدد الصفات كالكمال والصحة، ولم يقع منهم مناقشة في دلالتها
على نفي الحقيقة كما هو معلوم من ملاحظة الباب المذكور من كتب الأصول.
ومن غريب الكلام ما ذكره بعض الأعلام في المقام حيث استشهد على عدم
دلالة العبارة المذكورة على نفي الحقيقة بأنه لم يتمسك أحد من العلماء الفحول
في ذلك المبحث لإثبات نفي الاجمال بأصالة الحقيقة وتمسكوا بكونها موضوعة
للصحيحة من العبادات، لما عرفت من أن الحال على خلاف ما ذكره مصرحين
بخلافه وهي مذكورة في معظم الكتب الأصولية منصوص به في كلام الأجلة ولولا
مخافة الإطناب في الكلام لذكرنا جملة من عبائرهم في المقام.
ثم الظاهر أنها في معظم الموارد التي لم يرد بها نفي الحقيقة على الحقيقة فإنما
أريد بها ذلك أيضا على سبيل المبالغة فإن المقصود بالتعبير المذكور حصر
الموضوع في المحمول ادعاء، جعلا لما عداه بحكم العدم كما هو واضح بعد
ملاحظة موارد تلك الاستعمالات.
ومجرد شيوع استعمالها كذلك لا يوجب هجر وضعها لنفي الحقيقة ونقلها إلى
نفي الصفة، إذ المفروض ابتناء المعنى المذكور عليه وعدم استفادة ما هو المقصود
إلا بذلك.
على أنه لو ادعي النقل أو الشهرة فإنما يدعى في نحو " لا صلاة إلا بطهور "
حيث إن له نظائر كثيرة استعملت في المعنى المذكور، وأما نحو " لا صلاة له،
ولا صيام له " ونحوهما كما في عدة من الأخبار المذكورة وغيرها فلا وجه لهذه
450

الدعوى بالنسبة اليه أصلا، وفيه كفاية في الدلالة على المدعى.
ثالثها: أن ظاهر تلك العبارة وإن كان ذلك إلا أن ظاهر المقام يصرفها عن
ذلك، فإن شأن الشارع بيان الأحكام الشرعية لا مجرد انتفاء الحقيقة والماهية
وعدم حصول مسمى الموضوعات اللفظية، فينصرف إلى نفي الكمال أو الصحة،
كما قيل نحوه فيما أثبت فيه ذلك كقوله (عليه السلام): " الطواف بالبيت صلاة " (1) و " الاثنان
فما فوقها جماعة " (2) حيث حمل على إرادة الفضيلة.
وفيه أنه لا مانع من إرادة نفي الحقيقة في المقام، إذ الحقيقة المذكورة من
مقررات صاحب الشريعة فليس بيان ذلك إلا من شأنه، والفرق بينه وبين المثالين
المذكورين ظاهر لا يخفى.
رابعها: أنه لو بنى على ظاهر العبارة لزم أن لا تكون الصلاة الخالية عن
الفاتحة صلاة ولو كانت متروكة نسيانا أو لعذر ولا قائل به، والقول بتقييدها
بصورة القدرة والعمد خروج عن ظاهر اللفظ فليس بأولى من حملها على نفي
الكمال من غير التزام بالتخصيص، إذ لا بعد في كون صلاة الناسي للفاتحة أو غير
القادر عليها دون صلاة الآتي بها عن الكمال، بل الظاهر ذلك.
ودعوى ترجيح التخصيص على المجاز غير جارية في المقام، لشيوع التجوز
هنا حتى قيل فيه بالنقل، مضافا إلى ما في التخصيص المذكور من الخروج عن
الظاهر، لكونه تخصيصا بالأكثر وهو على فرض جوازه بعيد جدا، ولا أقل من
مساواته لما ذكر من الاحتمال، وهو كاف في هدم الاستدلال.
وفيه - مع اختصاص المناقشة ببعض الروايات المذكورة فلا مانع في غيره من
تلك الجهة - أنه لا بد من التقييد المذكور قطعا، للأدلة الدالة عليه، فالمراد أنه لا
صلاة للقادر الغير الغافل إلا بالفاتحة.
ودعوى معارضة ذلك بالحمل على نفي الكمال ولا حاجة إذن إلى التقييد
فيتقاوم الاحتمالان غير متجهة، ضرورة كون الحمل عليه في غاية البعد من اللفظ.

(1) عوالي اللآلي: ج 2 ص 167 ح 3.
(2) عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 61 ح 248.
451

ويشهد له فهم كافة الأصحاب وغيرهم حيث اتفقوا على دلالتها على وجوب
الفاتحة في الصلاة، ولو حمل على المعنى المذكور لم يكن دالا على وجوب
الفاتحة أصلا، وهو كما ترى اسقاط للرواية عن الإفادة، فعلى فرض الخروج عن
حقيقة اللفظ فلا مناص حينئذ من حملها على نفي الصحة، فلا بد من الالتزام
بالتقييد، وحينئذ فيلزم الخروج عن الظاهر من وجهين، بخلاف ما إذا حمل على
ما قلناه فيقدم عليه.
وما ذكر من لزوم التخصيص بالأكثر فمما لا يعرف الوجه فيه، فإن نسيان
الفاتحة في كمال الندرة، وكذا عدم القدرة عليها كما يشاهد ذلك بالنظر إلى أحوال
المسلمين.
خامسها: أنها معارضة بقوله (عليه السلام): " إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة " (1)
فإن ظاهر العطف قاض بالمغايرة، وتحقق مفهوم كل منهما بدون الآخر وقوله (عليه السلام):
" الصلاة: ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود " (2) ونحو ذلك مما ورد فإن ظاهر
العبارة تحقق الماهية بذلك، وهو يعم الصحيح والفاسد.
وفيه أن الرواية الأولى لا دلالة فيها على ذلك بوجه، لظهور مغايرة الشرط
للمشروط، وليس القائل بوضع الصلاة للصحيحة قائلا باندراج الشرائط في
مسمى اللفظ كما قد يتوهم.
فإن قلت: إذا حكم بوجوب الصلاة فقد دل ذلك على وجوب ما اشترط في
مسماه، فأي فائدة في ذكره؟
قلت: أولا: أن ذلك مبني على القول بوجوب المقدمة، فلا دلالة فيها على ذلك
على القول بعدمه، كما هو مذهب المعترض وإن اخذ في التسمية.
وثانيا: أن في التصريح بالحكم زيادة دلالة على المقصود، إذ قد يخفى الحكم
بالوجوب لعدم اندراجه في الدلالات اللفظية، مضافا إلى ما فيه من الدلالة على

(1) الوسائل: ب 4 من أبواب الوضوء ح 1 ج 1 ص 261.
(2) الوسائل: ب 1 من أبواب الوضوء ح 8 ج 1 ص 257.
452

عدم وجوب المقدمة قبل تعلق الوجوب بذيها.
وثالثا: أن المذكور أولا هو وجوب الطهور، وهو لا يغني عن الحكم بوجوب
الصلاة، ولو كان المذكور أولا وجوب الصلاة فربما أغنى عنه.
والرواية الثانية غير مشتملة على سائر الأركان ولا سائر الواجبات،
وظاهرها إدراج الطهور في الصلاة فلا بد من تنزيلها على بعض الوجوه الصحيحة،
ومثل ذلك لا ينهض حجة في مقام الاستدلال، مضافا إلى أن ظاهرها عدم صدق
الصلاة بدون الطهور، ولا يقول به القائل بوضعها للأعم بل وكذا الركوع والسجود
على ما مر القول فيه، فهي بالدلالة على الوضع للصحيح أقرب من خلافه.
سادسها: المنع من عدم القول بالفصل فغاية الأمر أن تدل تلك الروايات على
كون ما ذكر فيها من الأجزاء والشرائط مأخوذة في التسمية، وأين ذلك من القول
بوضعها للصحيحة؟ وأيضا غاية ما يدل عليها كون ما وردت في تلك الروايات
كالصلاة والصيام موضوعة بإزاء الصحيحة ولا يستلزم ذلك ثبوته في سائر ألفاظ
العبادات.
وفيه: أنا لم نجد إلى الآن مفصلا في شئ من المقامين، ولا تخيله أحد في
المقام، فبعد ثبوت اعتبار ما ذكر فيها في تحقق الماهية يكتفى به في اعتبار سائر
الشرائط والأجزاء وفي ثبوته في سائر الألفاظ وإن لم يتحقق هناك اجماع،
إذ المسألة متعلقة بمباحث الألفاظ فيكتفى فيها بالظن ولو كان دون ذلك.
على أن عمدة أدلة القائل بوضعها للأعم هو العرف، ومن الواضح عدم فرق
العرف بين ما ذكر وغيره، فإذا ثبت فساد ما استند اليه انهدم به أساس القول
المذكور.
الخامس: أن الأمر المهتم به في الشريعة الذي يشتد اليه الحاجة وبه ينوط
معظم الأحكام الواردة في الكتاب والسنة ويكثر التعبير عنه في المخاطبات
الدائرة في كلام الشارع والمتشرعة إنما هي الصحيحة، إذ بها ينوط المثوبات
الأخروية وعليها بنيت أساس الشريعة، فالطبيعة المقررة من الشارع هي تلك،
453

كيف! وهي الأمر المجعول عبادة والمعدود من الفروع الشرعية، فهي الماهية
المحدثة من صاحب الشريعة، وأما الفاسدة فهي خارجة عن العبادة مندرجة في
أنواع البدعة ولا حاجة إلى التعبير عنه في الغالب، ولو احتيج اليه فإنما هو بواسطة
بيان الصحيحة، ولو فرض تعليق بعض الأحكام عليها فإنما هو في كمال الندرة.
وعلى ما اخترناه من ثبوت الحقيقة الشرعية فالأمر أوضح، إذ قضية الحكمة
وضع اللفظ بإزاء ما يشتد اليه الحاجة ويعتد بشأنه سيما بعد إثبات عرف خاص
لأجل بيانه، وذلك ظاهر. ويرشد اليه التعبير عن تلك الألفاظ بأسامي العبادات، إذ
ليست الفاسدة مندرجة في العبادة على سبيل الحقيقة.
السادس: ما أفاده بعض المحققين من أنا نعلم أن للعبادات أجزاء معتبرة فيها
يتألف منها ماهياتها، كما هو ظاهر من ملاحظة الشرع ولو كانت للأعم لما كانت
كذلك، إذ صحة إطلاقها حينئذ مع فقد كل واحد منها يستلزم انتفاء جزئيتها أو
تحقق الكل بدون الجزء، هذا خلف.
وأورد عليه بمنع الملازمة، فإن القائل بوضعها للأعم يسلم وجود أجزاء
معتبرة في الماهية ولا يقول بحصول الماهية مع عدمها، سواء اعتبرت على نحو
الاجمال أو التعيين، وانما القول بأن جميع الأجزاء ليس من ذلك القبيل بل هناك
أجزاء اعتبرت بخصوصها في خصوص الصحيح، كالتشهد والقراءة ونحوهما، أو
يقول بصدق الصلاة على ما هو فاسد من جهة انتفاء الشرائط، أو وجود الموانع من
الصحة والدليل المذكور لا يبطل شيئا من ذلك.
ويدفعه أن المقدمة المذكورة أولا كافية في دفع ذلك، فإن من راجع عرف
المتشرعة وجد حكمهم بجزئية جميع الأجزاء المقررة للصلاة على سبيل الإطلاق
من غير حاجة إلى التقييد.
وبالجملة: أنه بعد ثبوت الجزئية في الجملة يحكمون بكونه جزء لمطلق
الصلاة، فالمنع المذكور موهون بعد الرجوع إلى عرف المتشرعة، والتفصيل بين
الأجزاء والشرائط ليس مذهبا معروفا، فلا معول عليه بعد إبطال كونها للأعم مطلقا.
454

السابع: ما أفاده المحقق المذكور أيضا، وهو أن كل واحد من العبادات متعلق
لطلب الشارع وأمره، ولا شئ من الفاسدة كذلك فلا شئ من تلك العبادات
بفاسدة، ويمكن تقريره بالشكل الأول بأن يقال في الكبرى: ولا شئ من متعلق
طلب الشارع بفاسدة فينتج النتيجة المذكورة.
وأورد عليه أنه إن أريد أن كلا من العبادات مأمور به في الجملة فمسلم
ولا يجدي نفعا، وإن أريد أنه مأمور به على كل حال فهو ممنوع، ولو استند فيه إلى
إطلاقات الأمر ففيه مع منع ورودها في جميع الموارد أنها لا تقاوم ما دل على
الوضع للأعم، القاضي بتقييدها بما إذا كانت جامعة لجميع الأجزاء والشرائط مما
ثبت اعتبارها في الصحة.
ويدفعه: أنه لا ريب في تعلق الأوامر أو ما بمعناها بجميع العبادات، إذ قوام
العبادة بالأمر ومن البين أن الأوامر لا تتعلق بالفاسدة، فقضية ذلك كون ما تعلق به
تلك الأوامر صحيحة، ولما كانت متعلقة بها على إطلاقها يثبت صحتها كذلك
فتكون الفاسدة خارجة عنها.
ودعوى عدم مقاومته لما دل على الوضع للأعم تسليم لدلالة ذلك على
المدعى، فيتشبث في دفعه إلى كون ما يدل على الوضع للأعم أقوى، وستعرف إن
شاء الله تعالى أن ما احتج به لذلك غير ناهض عليه في نفسه، فكيف بمقاومته
لذلك؟!.
الثامن: ما أفاده المحقق المذكور أيضا من أنها لو كانت موضوعة للأعم لم
تكن توقيفية بل كان المرجع فيها إلى العرف، إذ هو المناط فيها على القول المذكور
والتالي باطل ضرورة كونها أمورا توقيفية متلقاة من صاحب الشريعة لا يصح
الرجوع فيها إلى عرف ولا عادة.
وأورد عليه تارة بالنقض فإن القائل بوضعها للصحيحة يرجع أيضا في إثباته
إلى العرف، ولذا استدلوا عليه بالتبادر وصحة السلب كما مر.
وأخرى بمنع الملازمة، إذ مجرد الرجوع إلى العرف لا يقضي بعدم كونها توقيفية.
455

نعم إنما يلزم ذلك لو كان المرجع فيها إلى العرف العام كما هو الحال في
المعاملات، وليس كذلك بل المرجع فيها إلى عرف المتشرعة الكاشف عن مراد
صاحب الشريعة، وهو أخذ بالتوقيف، وكما أنه يرجع في الألفاظ اللغوية والعرفية
العامة إلى اللغة والعرف العام ولا ينافي كون ذلك توقيفيا بل يحققه فكذا في
المقام، غاية الأمر أن المعتبر هناك التوقيف من أهل اللغة والعرف العام والمعتبر
هنا التوقيف من الشرع وهو حاصل بالرجوع إلى عرف المتشرعة، للاتفاق على
اتحاد المعنى العرفي لما استعمل فيه في كلام الشارع ولا فارق بين التوقيفين
والعلة المجوزة هناك مجوزة هنا أيضا، لاشتراكهما في التوقف على التوقيف
وعدم سبيل للعقل في الحكم به، وهو ظاهر.
قلت: لا يخفى أن هنا توقيفيا في معرفة المعنى في الجملة ككونه العبادة
المعروفة المستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة في الصحة أو الأعم من
ذلك ومن الفاسدة، وتوقيفيا في معرفة تفاصيل ذلك المعنى من أجزائه وشرائطه
المعتبرة فيه فيتميز به خصوص المصاديق.
ولا ريب أن الأول مما يتحصل من ملاحظة عرف المتشرعة ولا مانع من
الرجوع اليه، ولذا استند الفريقان فيما ادعوه إلى العرف حيث احتجوا بالتبادر
وغيره.
وأما الثاني فهو الذي عناه المستدل في المقام، ولا ريب أن العرف لا يفي
بتلك التفاصيل بل يرجع فيه المقلد إلى المجتهد، والمجتهد إلى الأدلة التفصيلية من
غير رجوع في تعيين شئ من واجباته وشرائطه إلى العرف، سواء قلنا بكون تلك
الألفاظ موضوعة بإزاء المعنى الاجمالي - حسب ما أشرنا اليه في الصلاة من غير
أن يؤخذ في نفس ما وضع اللفظ له تلك التفاصيل كما هو الظاهر، فيدور الأمر في
صدقه مدار صحته وكونه مقربا سواء زادت أجزاؤه أو نقصت، حتى أنه يقال
بصدق الصلاة مثلا على الصلوات المقررة في الشرائع المتقدمة بملاحظة زمان
صحتها - أو قلنا بكونها موضوعة بإزاء ما اعتبر فيه الأجزاء، على التفصيل بأن
456

يجعل كلا من الأجزاء والشرائط معتبرا في الموضوع له.
أما على الأول فظاهر، إذ معرفة المصداق حينئذ ليس من شأن العرف،
ألا ترى أن القيمة السوقية ونحوها يرجع في فهم معناها إلى العرف، لكن في
تعيين ما هو قيمته أنما يرجع إلى أهل الخبرة، فكذا في المقام.
وأما على الثاني فلأنه لما كانت الأجزاء والشرائط المعتبرة فيها متكثرة
والعرف لا يفي غالبا بمعرفة تلك التفاصيل - فهم إنما يتصورون المعنى الموضوع
له في أمثال ذلك على وجه يميزه من غيره من غير أن ينتقل إلى التفصيل، فهم إنما
يعرفون من الموضوع له في أمثال المقام أنه معنى شأنه كذا مثلا - فلا بد في معرفة
التفصيل أيضا من الرجوع إلى الأدلة التفصيلية.
والحاصل: أن كون المعنى موضوعا له عند أهل العرف للفظ لا يستلزم
تصورهم لذلك المعنى على سبيل التفصيل حتى يتميز تفاصيله بالرجوع إليهم، بل
الغالب فيه في مثل المقام هو تصور المعنى بالوجه وعلى سبيل الاجمال حسب
ما ذكر، وهو كاف في فهمه، وحينئذ فلا وجه لما ذكر من الرجوع في تمييز تفصيل
المعنى إلى العرف، إذ ليس ذلك من شأنهم وإنما شأن أهل العرف الرجوع في ذلك
إلى العلماء وأهل المعرفة، كما هو ظاهر من ملاحظة الحال في كل واحد من
العبادات، كيف! ولو كان العرف مرجعا في معرفة التفصيل لما كانت حاجة إلى
الرجوع إلى الأخبار وغيرها من الأدلة الشرعية في معرفة أجزاء الصلاة وغيرها،
وهو واضح البطلان، وليس الوجه فيه إلا ما عرفت من الفرق بين الاجمال
والتفصيل، والمستفاد من تلك الألفاظ ليس إلا الأمور المجملة هو الذي يستفاد
من العرف، ولا يعرف التفصيل إلا بالرجوع إلى الأدلة، وهذا كله واضح بناء على
القول بوضعها للصحيحة.
وأما القائل بوضعها للأعم فيذهب إلى تعيين المعنى بحسب عرف المتشرعة
على التفصيل، ولذا يذهب إلى جريان الأصل في كل ما شك في جزئيته أو
شرطيته بعد إحراز ما يصدق معه الاسم في العرف.
457

فمحصل الاستدلال أنه لو كانت تلك الألفاظ موضوعة للأعم لكان الرجوع
إلى عرف المتشرعة كافيا في معرفة تفاصيل معاني العبادات المقررة في الشريعة،
مع أنه ليس كذلك بل لا يعرف تلك التفاصيل إلا بالرجوع إلى الأدلة التفصيلية
المقررة في الكتب الاستدلالية.
والمراد من كونها توقيفية هو هذا المعنى، وهو الفارق بين ألفاظ العبادات
وغيرها حيث جعلوا الأولى توقيفية والثانية محولة إلى العرف، كيف! ولو كان
الأمران مما يحال إلى العرف لم يكن هناك فرق بينهما.
وكون إحديهما محالة إلى العرف العام والأخرى إلى عرف المتشرعة الذي
هو بمنزلة العرف العام بعد انتشار الاسلام لا يصلح فارقا في المقام، وسياق
كلامهم يأبى عنه غاية الإباء، كما لا يخفى على المتأمل فيما قررنا.
حجة القائلين بكونها للأعم وجوه:
أحدها: قضاء أمارات الحقيقة به، وهو من وجوه:
منها: التبادر فإن المنساق في العرف من نفس تلك الألفاظ مع قطع النظر عن
الأمور الخارجية هو ما يعم القسمين، ولا دلالة فيها على خصوصية أحد
الوجهين، ولذا يصح الإخبار بأن فلانا يصلي وإن لم يعلم صحة فعله، بل وإن علم
فساده، ولولا تبادر الأعم لكان ذلك كذبا.
ومنها: عدم صحة سلبها عن الفاسدة، ولذا لا يصح الإخبار عمن كان وضوؤه
وغسله فاسدا أو عباداته فاسدة: إنه لا يتوضأ ولا يغتسل من الجنابة ولا يصلي
ولا يصوم، ولو أخبر كذلك من دون قيام قرينة على إرادة خلاف الظاهر عد كذبا،
بخلاف ما لو قيد بالصحيحة.
والحاصل: أن الفرق بين نفي المطلق ونفي المقيد في العرف - كما هو معلوم
من ملاحظته - دليل على عدم صحة سلب المطلق عن الفاسدة عندهم.
ومنها: صحة تقسيمها إلى الصحيحة والفاسدة، وهو ظاهر في كونها حقيقة
في المقسم.
458

ومنها: أنها تقيد بالصحة تارة، وبالفساد أخرى، والأصل فيما هو كذلك أن
يكون حقيقة في القدر المشترك بين القيدين.
ومنها: صحة استثناء الفاسدة منها إذا دخل عليها أداة العموم، كما في قولك:
" كل صلاة توجب التقرب إلى الله تعالى إلا الفاسدة، وكل صلاة صلاها فلان كانت
مجزية إلا صلاته الكذائية " وهي دليل على اندراج المستثنى في المستثنى منه،
إذ الأصل فيه الاتصال.
ومنها: حسن الاستفهام فيما لو أخبر أحد بوقوع شئ من تلك العبادات،
أو حكم عليه بشئ أنها هل كانت صحيحة أو فاسدة، والأصل في ذلك كون
المستفهم عنه مشتركا لفظيا بين ذينك الأمرين أو معنويا، وحيث إن الأول منفي
في المقام بالإجماع فيتعين الثاني.
ومنها: أنها تطلق على الصحيحة تارة، وعلى الفاسدة أخرى، والأصل فيما
هو كذلك أن يكون حقيقة في القدر المشترك بين الأمرين، حذرا من الاشتراك
والمجاز.
والجواب: أما عن الأول فبمنع التبادر، بل الأمر فيه بالعكس، إذ ليس المتبادر
إلا الصحيحة حتى أنه اعترف به القائل بوضعها للأعم إلا أنه ادعى كونه إطلاقيا،
وما ذكر من المثال فمحمول على الوجه المتقدم من جهة إسنادها إلى معين، لما
عرفت من كون ذلك قرينة على إطلاق المفهوم على ما هو مصداق له عند العامل،
لما في تعيين مصداق تلك المفاهيم من الاختلاف في الآراء والأداء، وكل عامل
فإنما يأتي بها على حسب ما يعتقده فيها أو جرى عمله عليها، فإذا أسند ذلك اليه
قضى ذلك بأدائها على حسب ما عنده، والمتبادر منه حينئذ هو الصحيحة بزعم
العامل، كما هو ظاهر من ملاحظة العرف، ولولا ما قلناه من كون المتبادر هو
الصحيح وكون الانصراف هنا من الجهة المذكورة لما كان فرق بين الأمرين، بل
كان الصحيح بزعمه الفاسد في الواقع كالفاسد بزعمه أيضا من غير فرق في
الانصراف مع وضوح الفرق، وهو شاهد على ما ذكرناه.
459

ويومئ إلى ما قلناه أنه يقال: إن المخالفين يأتون بالعبادات ويؤدون
الواجبات ويواظبون على السنن مع أن العبادة والواجب والسنة ليست إلا
الصحيحة، فقد أطلق المذكورات على خصوص ما يعتقدونه كذلك، فاللفظ في
تلك الإطلاقات قد استعمل في معناه الموضوع له - أعني العبادة المخصوصة
الصحيحة وإنما أطلقت على المصداق المخصوص تبعا لاعتقاد عاملها كونه
مصداقا لها - وذلك لا يقضي بتجوز في المقام كما لا تجوز فيما إذا استعمل اللفظ
في غير الموضوع له عنده تبعا للوضع الثابت في عرف آخر، غاية الأمر أن فيه
مخالفة للظاهر، وتكفي النسبة المذكورة شاهدة عليه حسب ما عرفت.
ومما يشهد على ما ذكرنا أنه يصح سلب الصلاة الحقيقية عن تلك الأعمال
الفاسدة وأن يقال: إنها ليست بصلاة أتى بها الشرع وليست من الماهية المجعولة
في الشريعة، ومن البين أن القائل بالوضع للأعم يقول بكون الأعم هي الصلاة
المجعولة المقررة من الشارع، ويقول بكون المستعمل فيه للفظ الصلاة والموضوع
لفظها بإزائه (1) هو ذلك، لنصه على كون المعنى الشرعي قابلا للصحة والفساد،
وكون المقرر من الشرع قدرا جامعا بين القسمين وإن لم يقل بكونها مطلوبة كذلك.
ومن غريب الكلام ما وجدته في كلام بعض الأعلام حيث إنه بعدما نفى
الريب عن كون الماهيات المحدثة أمورا مخترعة من الشرع قال: " ولا شك أن ما
أحدثه الشارع متصف بالصحة لا غير، بمعنى أنه بحيث لو أتى بها على ما اخترعه
يكون موجبا للامتثال للأمر بالماهية من حيث إنه أمر بالماهية " ونص أيضا على
أنه: إذا وضع الشارع اسما لهذه المركبات أو استعمله فيها لمناسبة فهو يريد تلك
الماهية على الوجه الصحيح بالمعنى المذكور. وبعد ذلك كله ذهب إلى كونها
أسامي للأعم فيكون الموضوع له أو المستعمل فيه هو الأعم. وهل هذا إلا تدافع
بين وتناقض ظاهر؟!.
وقد ظهر مما ذكرنا الجواب عما ذكر في الوجه الثاني، ووجه الفرق بين نفي

(1) وما وضعت بإزائه. (خ. ل).
460

المطلق والمفيد بالصحيحة ظاهر مما قررناه، إذ التصريح بالصحة في المقام مع
دلالة اللفظ على اعتبار الصحة في الجملة ظاهر في اعتبار الصحة الواقعية، كما
لا يخفى ذلك بعد التأمل في العرف.
وأما الثالث ففيه: أن التقسيم إنما يفيد كون المقسم مستعملا في خصوص
الأعم ومجرد الاستعمال أعم من الحقيقة، لاستعماله في خصوص الصحيحة قطعا.
ودعوى كون التقسيم ظاهرا في كون المقسم حقيقة في الأعم محل منع، سيما
إذا اشتهر استعماله في خصوص أحد القسمين، وكذا الحال فيما ذكر من التقييد
وصحة الاستثناء ولا يلزم كون الاستثناء منقطعا إن قلنا بكونها موضوعة
للصحيحة، لتسليم دلالته على استعمال المستثنى منه في الأعم إلا أن مجرد
الاستعمال غير كاف في المقام.
وكذا الكلام في دعوى كونها حقيقة في القدر المشترك من جهة إطلاقها على
كل من القسمين.
وحسن الاستفهام إنما يتبع حصول الاحتمال ويختلف الحال فيه بحسب
قرب الاحتمال وبعده، ولا دلالة فيه على كون المستفهم عنه مشتركا لفظيا أو
معنويا أصلا، وقد عرفت الحال في ذلك كله فيما قدمناه في بيان أمارات الحقيقة،
على أنه لو سلم دلالة تلك الأمارات على الحقيقة ففيها ظهور ما في ذلك، ولا
يعادل ذلك ما قدمناه من الشواهد على كونها للصحيحة.
ثانيها: أنه قد شاع استعمال تلك الألفاظ في مواضع عديدة في الأعم من
الفاسدة، يستفاد من كل منها وضعها بإزاء الأعم من الصحيحة، ويبعد التزام التجوز
في تلك الاستعمالات الشائعة.
منها: أنه قد شاع في الأخبار بل جاوز حد التواتر بمرار الأمر بإعادة الصلاة
وغيرها من العبادات إذا طرأها فساد لترك جزء أو ارتفاع شرط أو وجود مانع،
وقد تداول الحكم بالإعادة حينئذ في ألسنة العلماء كافة من الخاصة والعامة، وقد
جروا على استعمالها في كتبهم المصنفة وشاع استعمالها في ذلك المقام حتى بين
461

العوام، ومن البين أن الإعادة بحسب العرف واللغة عبارة عن الإتيان بالشئ
ثانيا يعني بعد الإتيان به أولا، بل ذلك هو معناه المصطلح أيضا وإن اخذ فيه بعض
الخصوصيات، وقضية ذلك كون الفعل الواقع أولا مندرجا في المسمى وإلا لم يكن
الفعل الثاني إتيانا بذلك الفعل ثانيا، بل كان إتيانا أوليا وبذلك يخرج عن كونه إعادة.
وبالجملة: لو كانت أسامي العبادات موضوعة بإزاء الصحيحة لم يمكن تحقق
الإعادة إلا مع صحة المأتي به أولا، ولا يجري ذلك إلا في نادر من المقامات مما
وردت إعادته مع صحة الأول كالمعادة جماعة ونحوها، وأما معظم ما ورد فيه
الإعادة وتواتر نقله عن أهل العصمة وشاع استعماله بين المتشرعة فإنما هو
مع فساد الفعل الأول، كما هو قضية الأمر بالإعادة والحكم بوجوبها، إذ لا وجه له
مع صحة الفعل الأول.
والتزام التجوز في جميع الاستعمالات المذكورة مع شيوعها وتداولها بعيد
كمال البعد، بل ربما يقطع بفساده، على أن مجرد الظهور كاف في المقام، لكون
المسألة لغوية متعلقة بالأوضاع اللفظية.
ومنها: أنه قد شاع في الاستعمالات الجارية وتداول بين الخاصة والعامة
الحكم ببطلان الصلاة وفسادها عند حصول ما يفسدها، وكذا الحال في غيرها من
العبادات، ولولا أنها موضوعة للأعم لم يصح الحكم عليها بذلك، لوضوح بطلان
الحكم ببطلان العبادة الصحيحة والحكم بفسادها، والتزام التجوز في تلك
الإطلاقات الشائعة بعيد جدا.
ومنها: أنه قد تظافر النهي عن جملة من العبادات ولو كانت أسامي للصحيحة
لما صح تعلق النهي بها، أو لزم القول بعدم اقتضاء النهي عنها للفساد، بل قضى ذلك
بدلالة النهي عنها على الصحة بمقتضى المادة، كما حكي القول به عن أبي حنيفة
وتلميذه، لتعلق النهي بمسمى اللفظ الذي هو خصوص الصحيحة، فيكون الإتيان
به صحيحا بمقتضى المادة، محرما خاصة بمقتضى الهيئة، وإلا لزم المناقضة بين
الهيئة والمادة.
462

والقول بأن ذلك إنما يتم على فرض إمكان وقوعه منه وهو ممنوع مدفوع
بما هو ظاهر من عدم جواز تعلق النهي بغير المقدور، كما لا يصح تعلق الأمر
بما لا يقدر على تركه كالكون في المكان، ولذا يقبح أن يقال للأعمى: لا تبصر،
وللإنسان: لا تطر، ونحو ذلك فتعلق النهي بها دليل على إمكان وقوعها.
والقول بالتزام التجوز في لفظ الإعادة، أو في مادة النهي والخروج عما
وضعت له مدفوع بكونه خلاف الظاهر، لبعد التزام التأويل في جميع تلك
الاستعمالات، بل ربما يقطع بفساده، سيما مع عدم قيام دليل على الوضع
للصحيحة ليبعث على ذلك، وعلى فرض قيامه فلا ريب في كون الجري على
الظاهر في تلك الاستعمالات الشائعة أظهر، فهو بالترجيح أولى.
والجواب عن الأول أما أولا فبأن ذكر الإعادة في الأخبار وسائر
الاستعمالات ليس مختصا بما إذا وقع الفعل كاملا بحيث يصدق عليه الاسم، بل
كثيرا ما يطلق مع الإتيان ببعض الفعل بحيث لا يصدق عليه اسم تلك العبادة، وإنما
يعد بعضا منه كما إذا صلى ركعة من الظهر أو العصر أو بعضا منها وشك بين الركعة
والركعتين أو طرأه غير ذلك من المفسدات، فإنه يقال: إنه يعيد صلاته، مع أن ما
أتى به لم يكن مصداقا محققا من مصاديق الصلاة، والفرق بين ذكر الإعادة في
هذه المقامات وغيرها بالتزام التجوز في المقام دون غيره بعيد جدا، إذ الظاهر
كون الإطلاق في الجميع على نهج واحد.
والذي يخطر بالبال في تصحيح ذلك أن يقال: إن صدق الإعادة لا يتوقف
على الإتيان بتمام الفعل أولا، بل إذا تلبس بفعل ودخل فيه ثم تركه فاستأنفه يقال:
إنه عاد إلى ذلك الفعل وأعاده، وليس القدر المتكرر منه إلا البعض، فذلك كاف
عرفا في نسبة الإعادة إلى مطلق ذلك، والظاهر أنه كذلك لغة أيضا، ونظير ذلك
واقع في غيرها من الألفاظ، تقول: " ضربت زيدا، ومسحت الجدار " ولم يقع
الضرب والمسح إلا على البعض منهما، فنقصان بعض الأجزاء والشرائط وإن
قضى بفساد العمل إلا أنه يصدق معه الإتيان ببعض ذلك العمل، وهو كاف في
463

صدق الإعادة بحسب العرف كما عرفت.
فإن قلت: إنه على القول بكون الصلاة اسما للصحيحة لا يكون القدر الواقع
منه بعد ابطال العمل بعضا من الصلاة لطرو الفساد الباعث على خروجه عن ذلك،
فكما أنه على فرض إكماله فاسدا لا يندرج في الصلاة حقيقة فليس مع الاقتصار
عليه بعضا من الصلاة أيضا، فالوجه المذكور إنما يتم على القول بكون الصلاة
اسما للأعم.
قلت: لما كان الفعل قبل طرو المفسد متصفا بالصحة، ولذا يقال بعد طروه: " إنه
أفسد عمله أو فسد عمله بكذا " ولا يصح القول ببطلان عمله من حين شروعه
بكشف ما لحقه من المفسد عن فساده من أول الأمر: كان ذلك مصححا للحكم
بإتيانه ببعض الصلاة الصحيحة وإن طرأه البطلان بعد ذلك.
وبالجملة: الصحة والفساد إنما يطرآن حقيقة على تمام العمل ويتصف
الأبعاض بهما تبعا للكل، فإذا وقع بعض العمل على الوجه المعتبر اتصف بالصحة
بملاحظة كونه بعضها من العمل الصحيح، فهو صحيح بالوجه المذكور قبل طرو
المفسد من غير منافاة بين وقوعه صحيحا بالوجه المذكور وما طرأه من الفساد
بعد ذلك، ولذا يصدق حينئذ دخوله في الصلاة على الوجه الصحيح، ويتعلق بذمته
أداء المنذور فيما لو نذر أن يتصدق بدرهم، إذا دخل في الصلاة على الوجه
الصحيح في الأماكن المكروهة.
بل حكم الشهيد (رحمه الله) بالحنث مع نذره عدم إيقاع الصلاة فيها بمجرد الدخول
فيها صحيحا، والوجه فيه أنه يصدق عرفا مع الشروع في الفعل: أنه يصلي في ذلك
المكان، والمفروض أنه نذر أن لا يصلي فيه، وعدم صدق الصلاة على ما أتى به
بعد إفساده في الأثناء لا يقضي بعدم صحة إطلاق يصلي هناك على سبيل الحقيقة
قبله، فإن الأفعال التدريجية يصح إسناد ذلك الفعل إلى المتلبس بها حقيقة على
النحو المذكور قطعا (1).

(1) وفي كلامه (رحمه الله) إشكال ليس تفصيل الكلام فيه لائقا بالمقام. (منه (رحمه الله)).
464

ومن هنا يظهر وجه آخر لصدق الإعادة في المقام، إذ الظاهر أنه لا يعتبر في
تحقق مفهومها ما يزيد على ذلك، فصحة إسناد الفعل اليه حينئذ قاضية بصدق
الإعادة على استئنافه كذلك.
فإن قلت: إن ما ذكر إنما يصحح صدق الإعادة إذا كان المأتي به صحيحا عند
الشروع فيطرؤه الفساد بعد ذلك، وأما إذا كان فاسدا من أول الأمر كما إذا انكشف
إيقاعها من غير طهارة فلا يتم ذلك.
قلت: قد يصحح ذلك بأن وقوع تلك الأفعال على وجه الفساد لا يقضي بعدم
صدق الإتيان ببعض ذلك العمل، إذ لا يعتبر في صدق ذلك اتصاف ذلك البعض
بالصحة لما عرفت من أن الصحة إنما يتصف بها في الحقيقة العمل بتمامه دون
الأبعاض، واعتبارها في التسمية إنما هو بالنسبة إلى وضع اللفظ للكل، والمدار
في صدق كون المأتي به بعضا من العمل أنه لو انضم اليه سائر الأجزاء والشرائط
كان عملا تاما وهو كذلك في المقام، فقد يكتفى بالإتيان بذلك في صدق الإعادة
بحسب العرف، ومن ذلك يظهر وجه آخر في الجواب عن الإيراد المتقدم.
ومع الغض عن ذلك فيمكن تصحيح إطلاق الإعادة في المقام بما سنذكره
في الوجه الثاني.
ومع الغض عنه أيضا فالتزام التجوز في خصوص الصورة المفروضة في لفظ
الإعادة أو اللفظ الموضوع لتلك العبادة غير مستنكر، وليس ذلك إلا كتجوزهم في
إطلاق تلك الأسامي على العبادات الفاسدة.
وأما ثانيا فبأن المراد بالصلاة في قولهم: " أعد صلاتك أو يعيد صلاته "
ونحوهما إما مطلق الصلاة من غير أن يكون إطلاقا لها على ما أوقعه من الفعل،
فلا مانع من أن يراد به الفعل المخصوص الموافق لأمر الله تعالى، فيكون صدق
الإعادة على فعله ثانيا من جهة إتيانه أولا بالفرد المفروض، على أنه أداء
للصحيح وبملاحظة كونه إتيانا بتلك الطبيعة وإن لم يكن ما فعله أولا إتيانا
بالصحيح بحسب الواقع، حتى يكون أداءا لذلك الفعل حقيقة، فإن غاية ما يعتبر
465

في صدق الإعادة هو إيقاع الفعل ثانيا سواء كان الواقع منه أولا من أفراد تلك
الطبيعة بحسب الحقيقة أو بحسب الصورة، واعتقاد العامل كونه أداءا لذلك الفعل
وإتيانا بتلك الطبيعة وإن لم يكن بحسب الواقع كذلك، ألا ترى أنه يصح أن يقال
في الصورة المفروضة: " أعد ما كلفت به أو ما أمرك الله بأدائه أو ما افترضه الله
عليك " مع أن شيئا من ذلك لا يشمل الفاسد قطعا، إلا أنه لما كان إتيانه بالفعل
الأول من جهة كونه أداء للمكلف به وإتيانا بالواجب صح التعبير المذكور، وظاهر
العرف لا يأبى عن صدق الإعادة على ذلك على سبيل الحقيقة.
وإما أن يراد به الفعل الصادر منه على أنه مصداق للصلاة والإتيان به إتيان
بتلك الطبيعة المخصوصة، فاللفظ المذكور قد استعمل فيما وضع له وأطلق على
المصداق المفروض بالاعتبار المذكور حسب ما مر تفصيل القول فيه، في بيان
الحال في إطلاق الصلاة على الصلوات الفاسدة بحسب الواقع الصحيحة باعتقاد
الآتي بها، فيكون الأمر بإعادتها دليلا على عدم صحة الأول واشتماله على الخلل،
ويكون صحة إطلاق الإعادة منوطا بصحة إطلاق الصلاة على الفعل الأول بالنظر
إلى اعتقاد العامل حسب ما عرفت.
وقد يجعل من هذا القبيل إطلاق الصلاة فيما لو قيل: رجل صلى بغير طهارة،
أو صلى بغير سورة، أو صلى مع الخبث ناسيا أو جاهلا بالحكم، أو صلى إلى غير
القبلة... إلى غير ذلك، فيصح الاستعمالات المذكورة على سبيل الحقيقة على
القول بوضعها للصحيحة بالملاحظة المذكورة.
ومما يشهد بما قلناه أنه لو فرض ثبوت وضع الصلاة بإزاء الصحيحة صح
استعمال الإعادة فيما ذكر من الاستعمالات قطعا، ولا يأبى عنه العرف على
الفرض المذكور أيضا، ولذا يستعملها القائل بوضعها للصحيحة أو الأعم على نحو
واحد، فتأمل.
وأما ثالثا فبالتزام التجوز في جميع تلك الاستعمالات إما في لفظ الإعادة،
أو في أسامي تلك العبادات حيث أريد بها المعنى الأعم ليتحقق بذلك صدق
466

الإعادة على سبيل الحقيقة ولا مانع من ذلك، إذ لا دلالة لمطلق الاستعمال على
الحقيقة كما مر، وكذا لا دلالة في لزوم التجوز في لفظ آخر على فرض كونها
حقيقة في معنى مخصوص دون غيره على عدم وضعه له ووضعها للآخر، نظرا
إلى مخالفة المجاز للأصل لما عرفت في مباحث الدوران من عدم صحة إثبات
الأوضاع بمثل الأصل المذكور، فإنها أمور توقيفية لا يصح الاستناد في إثباتها
إلى الوجوه التخريجية.
نعم، لو حصل ظن بالوضع من ملاحظة العرف صح الأخذ به، لما دل على
حجية مطلق الظن في مباحث الألفاظ، وحصول ذلك في المقام محل منع.
والحاصل: أن الاحتجاج المذكور إن كان من جهة الاستناد إلى لزوم المجاز
في لفظ الإعادة أو اسم العبادة في تلك الاستعمالات لإثبات كون تلك الألفاظ
موضوعة للأعم من الصحيحة فقد عرفت أن مجرد لزوم التجوز على أي من
الوجهين لا يصبح دليلا على وضعها لذلك، وليس الأصل المذكور بنفسه أصيلا في
إثبات الأوضاع ونفيها.
وإن كان من جهة بعد التجوز في تلك الاستعمالات الشائعة ففيه أنه لا مانع
من شيوع المجاز مع انضمام القرينة اليه كما هو المفروض في المقام، سيما مع
قرب المجاز وكمال ارتباطه بالحقيقة وقيام الشواهد من الخارج على المجازية،
فتأمل.
وعن الثاني أنه لا باعث على التزام التجوز في تلك الاستعمالات بناء على
وضعها للصحيحة، إذ المراد بالصلاة حينئذ هو مفهوم الصلاة المستجمعة للأجزاء
والشرائط، وقد أطلقت على ما كان مشتغلا بأدائه، نظرا إلى مطابقته لتلك الطبيعة
بملاحظة ما أتى به من أجزائها وما هو بصدد الإتيان به من باقي تلك الأجزاء،
ومفاد الحكم ببطلان ما أتى به لطريان المفسد عليه هو خروجه عن كونه مصداقا
لتلك الطبيعة وإتيانا بذلك الواجب، فالمقصود أن ذلك المصداق المحصل لتلك
الطبيعة في الخارج قد خرج عن كونه مصداقا لها مصححا لوجودها، فالبطلان
467

إنما يتصف به ذلك المصداق باعتبار طرو المفسد عليه، وإطلاق الصلاة عليه
إنما هو بالاعتبار الآخر، أعني من جهة اعتبار المكلف أداءه مستجمعة للأجزاء
والشرائط ليتحقق الطبيعة في ضمنه، وقد يجعل البطلان أيضا متعلقا بتلك الطبيعة
من جهة وجودها نظرا إلى منع المبطل عن وجودها وإطلاق الصلاة عليها باعتبار
المفهوم الملحوظ حين الاستعمال حسب ما قررنا.
وعن الثالث أما أولا فبالمنع من استلزامه دلالة النهي على الصحة، إذ ذلك إنما
يتم إذا أمكن الإتيان بالماهية الصحيحة في ضمن المنهي عنه، وأما مع استلزامه
استحالة الإتيان به كذلك فمن أين يجئ الدلالة على صحة المنهي عنه؟.
والقول بأن استحالة إتيانه حينئذ بالصحيح قاضية بقبح تعلق النهي به حسب
ما مر مدفوع بالفرق بين ما يستحيل الاتيان به من جهة تعلق النهي وما كان
مستحيلا قبل تعلقه، وما يقبح تعلق النهي به إنما هو الأول خاصة، لما فيه من
الهذرية، وأما الثاني فلا مانع منه لإفادة النهي إذن استحالة حصوله.
فإن قلت: إن استحالة صدور ذلك من المكلف من الأمور الواقعية بالنظر
إلى ملاحظة الشئ في نفسه وليست حاصلة بالنهي، فما تعلق النهي به مستحيل
قبل تعلقه.
قلت: ثبوت الأحكام الشرعية إنما يتبع الأدلة المنصوبة عليها من الشارع،
فلولا تعلق النهي بها كانت محكومة بصحتها في الشريعة، نظرا إلى إطلاق الأوامر
بعد ثبوت الماهية بظاهر الأدلة الشرعية، وإنما يحكم بفسادها من جهة تعلق النهي
بها، فالقاضي بفسادها عندنا واستحالة وقوعها صحيحة في ظاهر الشرع إنما هو
النهي عنها.
ويشكل ذلك بأن المفروض كون النهي المتعلق بذلك للتحريم، والمفروض
استحالة وقوع ذلك المحرم في الخارج بحسب الواقع سواء نهى عنه الشارع أو لا،
فيكون الحكم بحرمته هذرا، فلا فائدة إذن في النهي سوى إعلام المكلف بذلك من
تعلق النهي به فلا يكون النهي إلا إرشاديا هذا خلف.
468

ويمكن دفعه بالفرق بين إيقاع الفعل بحسب قصد الفاعل وملاحظة إيقاعه
ووقوعه بحسب الواقع.
توضيح ذلك: أن هناك حصولا للطبيعة في ضمن الفرد بحسب الواقع واعتبارا
من الفاعل لايجادها في ضمنه، وهو لا يستلزم الحصول بحسب الواقع، فإن ذلك
إن صادف الإتيان به في ضمن ما هو من أفراده بحسب الواقع كان هناك حصول
لتلك الطبيعة بحسب الواقع وإلا فلا، والمنهي عنه في المقام إنما هو الثاني
دون الأول.
فإن قلت: إن ظاهر النهي بحسب الوضع هو طلب ترك نفس الطبيعة لا ترك
القصد إلى إيقاعها في الخارج ولو في ضمن ما ليس بمصداقها، وحمله على ذلك
مجازا أيضا يأبى عنه شيوع تلك الاستعمالات.
قلت: المقصود أن أسامي العبادات موضوعة بإزاء الصحيحة والأفعال
المطلوبة بالشريعة، فإذا وقعت متعلقة للنهي فالظاهر أيضا تعلق النهي بتلك
الأفعال، غاية الأمر أنه يرتفع عنها المطلوبية من جهة تعلق النهي بها، فمفاد تلك
النواهي حرمة أداء ما يصح قبل النهي بعد تعلقه بها فمادة النهي إذن مستعملة فيما
وضعت له، إلا أنه يلزم من تعلق النهي بها خروج المنهي عنه عن كونه مصداقا لما
وضع المبدأ له.
والمتحصل من ذلك هو حرمة الفعل الملحوظ به أداء تلك العبادة الشرعية،
فكما أن الواجب قبل تعلق النهي هو الفعل الملحوظ به أداء العبادة المخصوصة
فكذلك هو المحرم بعد تعلق النهي به، إلا أنه يلزمه الفساد في الثاني، والخروج عن
كونه مصداقا لتلك الطبيعة بحسب الواقع هو أمر آخر لا مدخل له بما استعمل اللفظ
فيه حتى يلزم استعماله في غير ما وضع له.
وأما ثانيا فبالتزام التجوز في النواهي الواردة بحملها على إرادة الفساد دون
التحريم، لما ذكر من امتناع حصول الصحيحة، فلا يتجه الحكم بتحريمها،
فالمقصود من تلك النواهي الدلالة على فساد تلك الأعمال اللازمة من دلالتها
469

على عدم مطلوبيتها، ولذا تكرر في كلام الشارع بيان الموانع عن الصحة بالنواهي
في العبادات والمعاملات على نحو بيانه الأجزاء والشرائط بالأوامر.
والظاهر أن ذلك طريقة جارية في مخاطبات العرف أيضا في أمثال تلك
المقامات، فمفاد تلك النواهي عدم حصول تلك الطبائع المقررة في ضمن ما تعلق
النهي به، بالألفاظ المذكورة مستعملة في خصوص الصحيحة من غير حاجة إلى
صرفها عن ذلك، فيجئ تحريم الإتيان بما تعلق النهي به من جهة البدعة خاصة
لا لحرمته في نفسه مع قطع النظر عن كونه بدعة إلا أن يقوم شاهد عليه.
والقول بأن البناء على وضع تلك الألفاظ للصحيحة لما كان مستلزما للخروج
عن مقتضى وضع الصيغة في الاستعمالات المذكورة كان ذلك مدفوعا بالأصل
موهون بما عرفت من عدم جواز إثبات الأوضاع التوقيفية بمثل تلك الأصول،
ولذا لم يتداول بينهم إثبات شئ من الأوضاع بذلك في سائر المقامات.
مضافا إلى لزوم الخروج عما يستظهر من المادة بناء على القول بوضعها
للأعم لتبادر الصحيحة منها ولو من جهة الإطلاق، فالالتزام بالخروج عن ظاهر
الإطلاق حاصل على القول المذكور أيضا، فأي بعد إذن في الخروج عن ظاهر
وضع الصيغة؟ سيما مع دورانه في الاستعمالات في أمثال تلك المقامات، فتأمل.
هذا، وقد يلتزم بالتجوز في أسامي العبادات المتعلقة للنهي، نظرا إلى كون
تعلق النهي بها قرينة على إطلاقها على الفاسدة، فيراد بها صورة تلك العبادة مما
يطلق الاسم عليه بحسب استعمال المتشرعة، واستبعاد التجوز في تلك
الاستعمالات غير متجه سيما مع انضمام القرينة وعدم شيوع استعمالها كذلك،
لورودها في موارد مخصوصة، والاستناد إلى الأصل في دفع التجوز في
الاستعمالات المذكورة قد عرفت ما فيه.
لكن مع البناء على ذلك يلزم القول بحرمة الإتيان بما يطلق عليه اسم تلك
العبادة بحسب العرف وإن لم يأت به الفاعل بملاحظة كونه العبادة المطلوبة،
وهو مشكل بل لا يبعد استظهار خلافه، وهذا مما يرد على القائل بوضعها للأعم
470

أيضا إلا أن يبني فيه على التقييد، وهو مع مخالفته للأصل خلاف المنساق من
العبارة كما عرفت ففي ذلك تأييد لما قررناه من أحد الوجهين المتقدمين.
ثالثها: أنها لو كانت موضوعة للصحيحة لزم التزام أحد أمرين في لفظ الصلاة
من القول باختصاصه بواحدة من الصور - ويكون غيرها من سائر صورها غير
مندرجة في الصلاة، إلا أنها تنوب منابها وتقوم مقامها في اسقاط التكليف بها - أو
القول بثبوت ماهيات متعددة متباينة للصلاة فوق حد الإحصاء، والتالي بقسميه
باطل فالمقدم مثله. أما الملازمة فلأن ماهية الشئ عبارة عما يكون به الشئ هو،
فلا بد أن يكون أمرا محققا في نفس الأمر متعينا في حد ذاته، ولا يكون تابعا
لاعتبار المعتبر بحيث يزيد أجزاؤه وينقص بمجرد الاعتبار، وإذا وضع لفظ
بإزائها فلا بد أن يلاحظ الواضع تلك الماهية على نحو يتعين ويتميز عما سواها،
وحينئذ إذا انتفى شئ من أجزائها أو شرائطها المعتبرة فيها يلزم انتفاء تلك
الماهية وخروجها من الموضوع له، فإذا كانت الصلاة اسما لماهية معينة محدودة
مكيفة بشرائط عديدة فيلزم من ذلك انتفاؤها بانتفاء جزء منها أو شرط، كما هو
قضية ما مهدناه ويعترف به القائل بكونها أسامي للصحيحة.
فنقول: حينئذ لا شك أن الصلاة يختلف أجزاؤها بحسب أحوال المصلين فلها
بالنسبة إلى الحاضر أجزاء وبالنسبة إلى المسافر أجزاء، وكذا بالنسبة إلى القادر
والعاجز على اختلاف مراتب العجز، وكذا بالنسبة إلى المتذكر والساهي على
اختلاف أنحاء السهو الواقع منه، وكذا الحال بالنسبة إلى شروطها على اختلاف
المراتب في القدرة والعجز والسهو والنسيان، فقد تحصل إذن ماهيات كثيرة غير
محصورة مختلفة في المقومات والأجزاء والشرائط المعتبرة.
فإن قيل بكون الصلاة اسما للجامع لجميع تلك الأجزاء والشرائط لا غير لزم
خروج الباقي عن الصلاة حقيقة، فيكون إجزاؤها عن الصلاة لنيابتها عنها، وهو
اللازم الأول، وإن قيل بوضعها لكل من تلك الحقائق المختلفة الخارجة عن حد
الإحصاء فهو اللازم الثاني.
471

وأما بطلان اللازم بقسميه فأما الأول فظاهر، لاتفاق الكل على فساده.
وأما الثاني فلوجهين:
أحدهما: أنه خارج عن الطريقة الدائرة في الأوضاع، إذ التسمية للماهيات
ووضع الألفاظ بإزاء المعاني إنما يكون بعد تعينها وتميزها حين الوضع من أول
الأمر، من غير توقف على طرو شئ وحصول شرط كما هو العادة الجارية في
الأوضاع والمفروض خلافه في المقام، إذ ليس الوضع للطبيعة التامة والناقصة
على اختلاف مراتبها على النحو المذكور وإنما يكون الوضع لها متوقفا على طرو
الطوارئ على اختلاف وجوهها وعدمه، فما دام متمكنا متذكرا يكون الصلاة
بالنسبة اليه شيئا وما دام عاجزا أو ناسيا أو ساهيا باختلاف المراتب في ذلك شيئا
آخر، ويختلف التسمية بحسب اختلاف الأحوال ومثله غير معهود في الأوضاع.
ثانيهما: أنه لو فرض تحقق الوضع على النحو المذكور، سواء قلنا بوضعها
لذلك على سبيل الاشتراك اللفظي أو المعنوي فلا بد أن ينوي المكلف أولا صلاته
التي هي تكليفه في نفس الأمر، لما عرفت من اختلاف الصلوات وتعدد الماهيات،
وحينئذ فلا بد أن ينوي أولا من ينسى التشهد - مثلا - في الركعة الثانية تلك الصلاة
الناقصة، وهو ضروري الفساد.
ولو قيل: إنه ينوي الصلاة التامة أولا، وحينئذ كيف يجزي عنه غير ما نواه؟
وكيف يجزي قصد ماهية عن غيرها مع وقوع الثانية من دون نية؟ وقصد الناقصة
في الأثناء كيف يقضي بالإجزاء مع دخوله فيها بغير قصدها؟.
ولو قيل بتركب ذلك إذن من الماهيتين حيث إنه من التامة إلى حد التمام
فيجزي فيه نيتها، ومن الناقصة بعد طرو النقص فلا بد من نيتها.
فهو واضح الفساد أيضا، إذ لا وجه لتركب الماهية من ماهيتين مختلفتين
متباينتين.
والحاصل: أنه لا يصح من الشارع إيقاع مثل تلك التسمية، ولا للمصلي
القصد إلى ذلك المسمى ونيته، هكذا ذكره بعض الأفاضل، ورأى أن شيئا من ذلك
472

لا يلزم القائل بوضعها للأعم، إذ هي حينئذ اسم لما يقبل الصحة والفساد والزيادة
والنقصان ولا يتفاوت فيه الحال ولا يرد عليه الإشكال، إذ تلك الزيادات
والنقيصات إنما هي من طوارئ الماهية وعوارضها ولا اختلاف في الماهية
بحسب اختلافها، فلا مانع من التسمية ولا إشكال في تصحيح النية.
قلت: إن القائل بوضعها للصحيحة يقول أيضا بنحو ذلك بعينه، إذ لا يقول أحد
باشتراك الصلاة لفظا بين تلك الخصوصيات وأن هناك ماهيات عديدة متباينة
خارجة عن حد الإحصاء، بل إنما يذهب إلى وضعها للقدر الجامع بين الجميع
ويجعل تلك الاختلافات اختلافا في الأفراد والخصوصيات، ويقول بكون نفس
الماهية أمرا قابلا لتلك الزيادات والنقيصات على ما يلتزم به القائل بكونها للأعم،
غير أنه يعتبر خصوصية زائدة على ما يقول به القائل بالأعم وهو كون تلك
الماهية حسنة مقربة إلى الله تعالى، فإن تلك الاختلافات قد تكون على نحو
يوجب خروج العمل عن قابلية التقرب، وقد لا تكون كذلك، فيجعل الموضوع له
هو تلك الماهية مقيدة بذلك ليخرج الأول عن المسمى، وهذا التقييد إن لم يوجب
زيادة تعين للمسمى فلا يزيده إبهاما حتى أنه يكون قبل التقييد به ماهية محدودة
متعينة الحدود والأجزاء، وبعد التقييد به ماهية مبهمة غير متعينة ليتوقف تعينه على
ملاحظة تلك الخصوصيات.
بل قد يقال بأن الأمر فيما ذكر بالعكس، فإنه يصح للقائل بوضعها للصحيحة
ملاحظة معيار للتسمية - أعني ما يحصل به القربة ويكون معروضا للأجزاء
والصحة - بخلاف القائل بوضعها للأعم، فيشكل الحال بالنسبة اليه، إذ لا معيار له
حينئذ سوى التسمية، والمفروض أن التسمية فرع تعين المسمى حسب ما ذكره.
والقول بتعين أجزاء مخصوصة يتعلق بها التسمية موجب لخروج الباقي عن
الحقيقة فلا يصح إطلاقها على الكل على سبيل الحقيقة وهو باطل باتفاق الكل كما
مرت الإشارة اليه.
على أنه لا فارق بين الأجزاء في ذلك لصدق الصلاة بحسب العرف قطعا
473

مع انتفاء كل منها، من غير فرق أصلا كما مر، وكيف يعقل تصور أمر متميز معلوم
جامع بين الصلوات الصحيحة والفاسدة بحيث يشمل الصلاة الجامعة لجميع
الأجزاء والشرائط المعتبرة في حال الشعور والاختيار والقدرة، وصلاة التكبير
التي تجزي فيها تكبيرات أربع، وما بين هذين من المراتب التي لا تحصى الواقعة
على الوجه الصحيح والفاسد فما أورده على القول المذكور فهو أشد ورودا على
القائل بكونها للأعم.
ثم نقول أيضا: إن من البين أن التكبيرات الأربع إذا صدرت من القادر
المتمكن من الصلاة التامة لا يسمى صلاة عند المتشرعة قطعا، بخلاف ما إذا
وقعت في محلها، وكذا في غيرها من بعض الوجوه التي قد تقع الصلاة عليه.
فما أورده من لزوم اختلاف التسمية باختلاف الأحوال الطارئة على القول
بوضعها للصحيحة وارد عليه أيضا، غاية الأمر أن لا يختلف الحال عنده في
التسمية بالنسبة إلى بعض الوجوه، ولا بد في بعض آخر من القول باعتبار
خصوصيات الأحوال في التسمية، إذ كما يقضي اختلافها باختلاف الحال في
الفساد والصحة فكذا يقضي باختلاف التسمية كما لا يخفى بعد ملاحظة
الإطلاقات العرفية.
وقد اتضح لك بملاحظة ما قررناه في المقام وما أشرنا اليه سابقا اندفاع
الإيرادين المذكورين.
أما الأول فلان ما ذكر من اختلاف الحال في التسمية بحسب اختلاف
الأحوال ليس من جهة ورود أوضاع مترتبة على اللفظ بحسبها، حتى يكون
خارجا عن القانون المتعارف، بل لاختلافها في الصحة المأخوذة في الوضع
والموضوع له مفهوم كلي إجمالي شامل للجميع، كما مرت الإشارة اليه وإنما
يختلف الحال في مصاديقه بحسب اختلاف تلك الأحوال.
وأما الثاني فلما عرفت من عدم اختلاف الطبيعة في النوع بحسب اختلاف
تلك الأحوال حتى لا يصح الأمر في النية وإنما هو اختلاف في الأمور العارضية
474

يختلف مصاديق تلك الطبيعة بحسب اختلافها، وذلك مما لا يقضي بإشكال في
النية، وهو ظاهر.
رابعها: أنها لو كانت موضوعة لخصوص الصحيحة لما صح تعلق الطلب
بشئ من العبادات معلقا له على أساميها، والتالي ظاهر الفساد، بيان الملازمة: أن
الألفاظ المذكورة حينئذ دالة بنفسها على مطلوبية معانيها مع قطع النظر عن تعلق
صيغ الطلب بها، إذ المفروض دلالتها على العمل الصحيح وهو لا يكون إلا مطلوبا،
فلا يحصل من تعلق الطلب بها فائدة جديدة ويكون بمنزلة أن يقول: أريد منك
العمل الذي هو مرادي.
وفيه أولا: أن هناك فرقا بينا بين دلالة الألفاظ المفردة على مطلوبية معانيها
ودلالة المركبات على وقوع الطلب، فإن غاية ما يستفاد من المفردات إحضار
مداليلها المقيدة بكونها مطلوبة، وأما كون ذلك الطلب حاصلا بحسب الواقع فلا،
لظهور كون ذلك معنى خبريا لا يدل المفرد عليه، مثلا لفظ " الصوم " اسم للإمساك
المعروف المطلوب لله تعالى، فغاية ما يستفاد من لفظه إحضار المعنى المذكور
ببال السامع، وأما أن ذلك المعنى أمر متحقق في الواقع قد تعلق طلب الشارع به
فلا دلالة فيه عليه أصلا، والمستفاد من تعلق الطلب بها هو المعنى الأخير
فلا تكرار.
نعم، لو قال الشارع: " إن الصوم ثابت في الشريعة " أفاد على القول المذكور
كونه مطلوبا للشارع ولا فساد فيه بل الظاهر بحسب متفاهم العرف دلالته عليه،
وهو مما يؤيد القول المذكور.
وثانيا: أن تلك الأوامر هي الدالة على كون تلك الأعمال عبادة مطلوبة
للشارع، فيعلم بذلك كون تلك الألفاظ مستعملة في تلك العبادات، فلولا ما دل
على مطلوبيتها لما علم كون تلك الألفاظ من أسامي العبادات وأن مداليلها من
الأمور الراجحة، فغاية الأمر أنه بعد تعلق الطلب بها ومعرفة كون تلك الأفعال
عبادة يمكن الرجوع قهقري واستعلام المطلوبية من مجرد اللفظ، وأين ذلك من
475

عدم صحة تعلق الأمر بها كما هو المدعى. هذا بالنسبة إلى الأوامر الابتدائية التي
يستفاد منها أصل المطلوبية؟.
وأما الأوامر المتكررة الواردة بعد معرفة كون تلك الأفعال عبادة مطلوبة فهي
أيضا مما لا مانع في ورودها، فإنها كالأمر بالطاعة مع أن الطاعة فيما يراد إيجاد
الفعل هي موافقة الأمر، فغاية الأمر أن تكون مؤكدة وهي إنما سيقت لأجل ذلك.
وثالثا: أن تعلق الأمر بها يفيد كون ما تعلق به واجبا إن كان الأمر إيجابيا، أو
مندوبا إن كان ندبيا، وذلك لا يستفاد من مجرد ملاحظة الألفاظ المذكورة، فإنها
إنما تدل على المطلوبية في الجملة الأعم من الوجوب والندب.
وقد يناقش فيه بأن غاية ما يصحح به من ذلك كون تعلق الأمر الإيجابي أو
الندبي مفيدا، وأما إذا كان اللفظ الدال على المطلوبية أعم من الوجهين بأن يدل
على مطلق الرجحانية فالإيراد على حاله، إذ المفروض كون الألفاظ المفروضة
مفيدة لذلك أيضا، وقد وقع ذلك كثيرا في الأدلة الشرعية.
خامسها: أنها لو كانت موضوعة لخصوص الصحيحة لزم دخول وصف الصحة
في مفاهيمها، وهو بين الفساد، لظهور كونها من عوارض وجودها في الخارج.
ويدفعه أنه ليس المقصود أخذ مفهوم الصحة في مداليل تلك الألفاظ حتى
يرد ما ذكر، بل المدعى كون الموضوع له هو الأفعال الجامعة للأجزاء والشرائط،
وهي من شأنها الاتصاف بالصحة عند وجودها في الخارج، ولا يلزم من ذلك أخذ
مفهوم الصحة في الموضوع له مطلقا فضلا عن أخذها بعنوان الجزئية، كما توهم
في الاحتجاج والتعبير عن المدعى بان تلك الألفاظ موضوعة للصحيحة إنما أريد
به ما ذكرنا بجعل الصحيحة عنوانا لتلك الماهية المستجمعة للأجزاء والشرائط.
سادسها: أنها لو كانت موضوعة للصحيحة لزم دخول الشرائط في مفاهيم
تلك العبادات، فلا يبقى فرق بين أجزائها وشرائطها، لاندراج الجميع إذن في
مفاهيمها، وهو فاسد بالإجماع، وقد أشار إلى ذلك العضدي.
وهو كسابقه في غاية الوهن، للفرق البين بين أخذ الشئ جزءا من المفهوم
476

وقيدا فيه على أن يكون القيد خارجا والتقييد داخلا، وأقصى ما يلزم في المقام
هو الثاني، والفرق بينه وبين الجزء في كمال الوضوح وإن اشتركا في لزوم الانتقال
إليهما عند تصور المفهوم على سبيل التفصيل، وبذلك يفترق الحال بينها وبين
الشرائط العقلية الخارجية مما لا يمكن حصول المطلوب في الخارج إلا بها حيث
إنه لا يلزم الانتقال إليها من تصور المشروط بها أصلا، بل يمكن أن يقال: إن
الحال فيها أيضا كذلك، إذ لا يلزم من القول بوضعها للصحيحة ملاحظة الشرائط
أصلا ولو بكونها قيدا في الموضوع له، إذ قد يكون الملحوظ في الوضع هو تلك
الأجزاء من حيث كونها حسنة مطلوبة أو من حيث كونها صحيحة مبرئة للذمة
ونحو ذلك، فغاية الأمر حينئذ أن لا يمكن وقوعها في الخارج إلا مع استجماعها
للشرائط ولا ربط لذلك بالانتقال إلى الشرائط بتوسطها.
ثم إنه قد أيد بعض الأفاضل هذا القول بأمور:
منها: اتفاق الفقهاء على أن أركان الصلاة هي ما تبطل الصلاة بزيادتها عمدا
أو سهوا، ومن البين أنه لا يمكن زيادة الركوع - مثلا - عمدا إلا عصيانا، ولا ريب
في كونه منهيا عنه ومع ذلك يعد ركوعا حقيقة لا صورة الركوع، لوضوح عدم
بطلان الصلاة بإيجاد الصورة كمن انحنى بمقدار الركوع للهوي إلى السجود
أو لأخذ شئ من الأرض.
وفيه: خروج نحو الركوع والسجود عن محل البحث لكونها من الألفاظ
اللغوية وليست معانيها من الماهيات الجعلية الشرعية، كما أشرنا اليه في أول
المسألة.
ولو سلم كونها من المعاني المستحدثة فليست الألفاظ المذكورة من أسامي
العبادات وإنما هي أسام لأجزاء العبادة، ومن البين أنه لا يتعلق هناك أمر
بالخصوص حتى يعتبر فيها الصحة والفساد، واعتبار الأمر المتعلق بالكل في
أوضاع تلك الأجزاء مما يستبعد جدا، ومع الغض عنه فعدم اعتباره هناك لا يفيد
عدم اعتباره في محل البحث مع الفرق البين بينهما.
477

ومنها: ما روي في الصحيح من بناء الاسلام على خمس الصلاة والزكاة
والحج والصوم والولاية، قال (عليه السلام): " ولم يناد بشئ كما نودي بالولاية فأخذ
الناس بأربع وتركوا هذه " (1) يعني الولاية فحكمه (عليه السلام) بأخذهم بالأربع مع ما ثبت
من فساد عباداتهم لا يتم إلا مع جعل تلك العبادات أسامي للأعم.
وفيه: ما عرفت من الفرق بين مفهوم الصلاة وما اخذ من التفاصيل في
مصاديقها، ففساد عباداتهم من جهة انتفاء شرط الولاية أو غيره من ترك بعض
الأجزاء والشرائط لا يقضي بعدم أخذهم بتلك العبادات، بل واعتقادهم بناء
الاسلام عليها بل وإتيانهم بها ومواظبتهم عليها على حسب معتقدهم وإن أخطأوا
في كيفية أدائها، ولا دلالة في حكمه (عليه السلام) بأخذهم بها على ما يزيد على ذلك.
بل نقول: إن الظاهر من الرواية إرادة خصوص الصحيحة، لوضوح عدم بناء
الاسلام على الفاسدة إذ هي من الأمور المحرمة التي نهي عنها في الشريعة، وأراد
الشارع عدم وقوعها فكيف يصح القول بابتناء الاسلام عليها؟ فذلك من أقوى
الشواهد على إرادة الصحيحة منها، فهي إذن لتأييد القول بوضعها للصحيحة أولى
كما لا يخفى.
ومنها: أنه لا إشكال عندهم في صحة اليمين على ترك الصلاة في مكان
مكروه أو مباح مثلا وحصول الحنث بفعلها، ويلزمهم على ذلك المحال لأنه يلزم
من ثبوت اليمين حينئذ نفيها، فإن ثبوتها يقتضي كون الصلاة منهيا عنها والنهي في
العبادة مستلزم للفساد، وكونها فاسدة يستلزم عدم تعلق اليمين بها، إذ المفروض
تعلقها بالصحيحة ويلزم حينئذ أن لا يتحقق الحنث بفعلها، لعدم تحقق الصلاة
الصحيحة، والقول بأن المراد الصلاة الصحيحة لولا اليمين لا يجعلها صحيحة في
نفس الأمر كما هو المدعى.
وفيه: أن مبنى الكلام المذكور على لزوم استعمال الصلاة في المقام في الأعم
لعدم إمكان إرادة الصحيحة، وإلا لزم الفساد المذكور، وحينئذ يرد عليه:

(1) المحاسن: 286 ح 429.
478

أولا: النقض بما إذا حلف أن لا يصلي صلاة واجبة أو مندوبة في الحمام مثلا،
إذ من الواضح عدم شمول الواجب والمندوب للفاسد، بل فيما لو نذر أن لا يصلي
صلاة صحيحة فيه، فإنه إن قيل بصحة صلاته فيه بعد ذلك وعدم انعقاد النذر فهو
مما لا وجه له، على أنه جار في نذر المطلق أيضا فلا مانع إذن من التزام القائل
بوضعها للصحيحة بذلك، وإن قيل بعدم صحتها نظرا إلى انعقاد النذر فكيف يتحقق
الحنث؟ مع أن الواقع ليس من أفراد المحلوف على تركه.
وثانيا: أن متعلق الحلف في المقام ليس هو الأعم من الفاسدة، بل الصحيحة
خاصة وليس اللفظ مستعملا إلا في ذلك، وفرق بين بين الفساد الحاصل قبل النذر
والحاصل به، فلفظ الصلاة في المثال المفروض قد استعملت في الصحيحة الجامعة
لجميع الأجزاء والشرائط إلا أنها لزمها الفساد بعد تعلق النذر وانعقاده، ونظير ذلك
أنه لو نذر ترك المكروهات في يوم معلوم أو حلف على ترك المباحات فيه فإنه
يحنث قطعا بالإتيان بشئ مكروه أو مباح قبل النذر والحلف، مع أن المأتي به
ليس من المكروه والمباح ولا تجوز في لفظ المكروه ولا المباح المتعلق للنذر
والحلف المفروضين، فكذا الحال في المقام، ومن التأمل في ذلك يتضح حقيقة
الحال في العبادات المتعلقة للنهي حسب ما مرت الإشارة اليه.
ومنها: أنه يلزم على القول بكونها أسامي للصحيحة أن يفتش عن أحوال
المصلي إذا نذر أن يعطيه شيئا ليعلم صحة صلاته بحسب نفس الأمر حتى يحكم
ببراءة ذمته عن النذر، والأخذ بأصالة حمل فعل المسلم على الصحة غير متجه في
المقام، إذ أقصى ما يقتضيه هو حمله على الصحيح عنده وهو مما يختلف باختلاف
الآراء، فقضية الأصل المذكور عدم تعمده الإتيان بالفاسد، بل عدم إيقاعه لما
يعتقد إفساده ولو على سبيل السهو.
وأما إتيانه بما يحكم الناذر بصحته فلا، مثلا إذا رأى رجلا صالحا يصلي
صلاة جامعة لجميع الأركان والواجبات لكن لا يدري أنه هل صلى بغسل غير
الجنابة من غير وضوء؟ لفتواه أو فتوى مجتهده بالاكتفاء به فليس له الاجتزاء
479

بذلك في حكمه بأداء الصلاة حقيقة إذا رأى الناذر بطلان الصلاة الواقعة كذلك،
وهكذا الحال في سائر الاختلافات الواقعة في الأجزاء والشرائط.
وأما بطلان اللازم فلأنا لم نقف إلى الآن على من التزم بهذه التفحصات
والتدقيقات وقال بتوقف البراءة عليها، وإنما يكتفون بإعطاء من ظاهره الأداء،
وليس ذلك إلا لأجل كونها أسامي للأعم لصدق الصلاة حينئذ على فعله قطعا مع
عدم علمه بفساده المانع من إعطائه، فإن ذلك هو غاية ما دل الدليل على خروجه
عن متعلق النذر، ولعله لأجل ذلك جرت الطريقة في الأعصار والأمصار على
عدم التفحص عن مذهب الإمام في جزئيات مسائل الصلاة عند الائتمام به
ويكتفون بثبوت عدالته.
نعم، إذا علموا بمخالفته لما عندهم كما إذا ترك السورة لذهابه إلى عدم
وجوبها أو توضأ بالماء القليل الملاقي للنجاسة - لحكمه بطهارته - لم يصح القدوة
فما لم يعلم بطلان صلاته يجوز الاقتداء به لأنه ائتم بمن يحكم بصحة صلاته
شرعا، والقدر الثابت من المنع هو ما علم بطلانه وإن كان صحيحا عند الإمام،
فليس هذا إلا من جهة الاكتفاء بمسمى الصلاة ما لم يعلم المأموم بطلانها على
مذهبه لا أنه لا يصح الاقتداء حتى يعلم بصحتها على مذهب نفسه، كما هو مقتضى
القول بوضعها للصحيحة.
وفيه: المنع من الملازمة المذكورة، إذ يجوز البناء في ذلك على ظاهر الحال
قطعا ولو على القول بوضعها للصحيحة، كيف! ولولا ذلك لوجب التفتيش بالنحو
المذكور على القولين فيما لو نذر شيئا لمن يصلي صلاة واجبة أو مندوبة، ضرورة
عدم اتصاف الفاسدة بشئ منهما مع أنا لم نقف على من يدقق في ذلك أيضا،
ولا من يفصل بين هذه الصورة وما تقدمها، وليس ذلك إلا من جهة الاكتفاء بظاهر
فعل المسلم في الحكم بالصحة كما هو قضية الأصل المقرر.
والقول بأن أقصى ما يقتضيه الأصل المذكور هو الحمل على الصحة عنده
مدفوع، بأن الذي يظهر من ملاحظة الطريقة الجارية هو الحمل على الصحة
480

الواقعية، كيف! ولولا ذلك لم يقم للمسلمين سوق لاختلافهم في أحكام الذبائح
والجلود وغيرها، وكثير من العامة لا يشترطون الاسلام في المذكي ويحللون
ذبائح أهل الكتاب، وجماعة منهم يقولون بطهر جلد الميتة بالدباغ، فلو لم نقل
بأصالة حمل فعل المسلم على الصحة الواقعية لم يجز لنا أن نأخذ منهم شيئا من
اللحوم والجلود مع عدم علمنا بحقيقة الحال، وهو خلاف الطريقة الجارية من لدن
أعصار الأئمة (عليهم السلام) بل يجري ذلك أيضا بالنسبة إلى أهل الحق أيضا، لاشتباه
العوام كثيرا في الأحكام فيزعمون صحة ما هو فاسد عند العلماء، فإذا كان مفاد
الأصل المذكور مجرد إفادة الصحة بزعم العامل صعب الأمر جدا ولم يمكن
الحكم بصحة شئ من العقود والإيقاعات ولم يجز أخذ شئ من اللحوم والجلود
ولو من أهل الحق إلا بعد التجسس عما يعتقده ذلك الشخص وهو مما تقضي
الضرورة بفساده.
ومع الغض عن ذلك - إذ قد يذب عنه ببعض الوجوه - فالاختلاف الحاصل
بين علماء الفرقة وحكم بعضهم بفساد ما يزعم الآخر صحته كاف في ذلك، غاية
الأمر أنه يحكم بصحة العقود والإيقاعات الواقعة على كل من تلك المذاهب
بالنسبة إلى من لا يذهب اليه، ولا يجري ذلك في سائر المقامات كمباحث
الطهارات والنجاسات وكثير من الأحكام، فالإشكال من جهته حاصل قطعا.
ثم بعد تسليم ما ذكر فعدم الاكتفاء بالصحيحة عند العامل محل منع.
نعم، إذا لم يكن مكلفا في حكم الشرع بالعمل به بأن لا يكون تكليفا شرعيا
ولو ثانويا في حقه صح ما ذكر، للحكم بفساده شرعا كما في صلاة المخالفين وإن
بذلوا جهدهم في تحصيل الحق وقلنا بإمكان عدم الوصول حينئذ إلى الحق، إذ
غاية الأمر حينئذ معذوريتهم في عدم الإتيان بما تعلق بهم من التكاليف الواقعية
وذلك لا يقضي بتعلق التكليف الثانوي بالإتيان بما زعموه، كما هو الحال بالنسبة
إلى سائر الأديان.
وأما إذا كان ذلك مطلوبا منه في الشرع كما في الأحكام الثابتة باجتهاد أهل
481

الحق بالنسبة إلى ذلك المجتهد ومن يقلده فيه فعدم اندراجه إذن في الصلاة مع
مخالفته للواقع محل إشكال، لصحة صلاته شرعا بالنظر إلى تكليفه الثانوي
المقطوع به من ملاحظة المقدمتين المشهورتين، فلا يبعد شمول الصلاة الصحيحة
لها كما سيجئ الإشارة اليه إن شاء الله تعالى.
ومع الغض عن ذلك أيضا، فلو بني على ما ذكر أشكل الحال في ذلك بناء على
القول بوضع تلك الألفاظ للأعم أيضا، نظرا إلى أن المفهوم عرفا بحسب المقام
المفروض هي الصحيحة، ولذا حكم بخروج معلوم الفساد عنه ولو بالنظر إلى معتقد
الناذر إذا عرف منه المخالفة كما مر.
وحينئذ فنقول: إنه إذا حكم بفساد الفعل مع عدم موافقته لمعتقده ولم يكن
عالما من الخارج بكون ما يأتي به موافقا لما يعتقده، ولا أصالة صحة فعل المسلم
قاضية بصحته كذلك لم يمكن حكمه إذن بصحة ما يأتي به ويكون دائرا عنده بين
الوجهين، وحينئذ كيف يمكن الحكم بخروجه عن الاشتغال اليقيني بالدفع اليه مع
الشك في كونه متعلقا للنذر، وكون الدفع اليه أداءا للمنذور؟
ومجرد صدق اسم الصلاة على ما أتى به لا يقضي بحكمه بالصحة ليكون من
متعلق النذر.
والقول بأن القدر المعلوم خروجه عن المسمى هو ما علم مخالفته لما يعتقده
فيبقى غيره مندرجا تحت الإطلاق بين الفساد، لوضوح أن الباعث على خروج
ذلك إنما هو فساده عنده من غير مدخلية لنفس العلم في ذلك، وإنما العلم به طريق
اليه، فإذا لم يكن هناك طريق إلى ثبوت الفساد ولا الصحة وجب الوقف لا الحكم
بالصحة.
فظهر بذلك ما في قوله: " إن ذلك هو غاية ما دل الدليل على خروجه عن
متعلق النذر " وجعله لما ذكر مبنى حكمهم بجواز القدوة مع عدم علمه بموافقة
مذهب الإمام لمذهبه، وكيف يمكن القول بصحة القدوة بمجرد صدق اسم الصلاة
عليه؟! والمفروض عدم قضاء أصل ولا غيره بصحته على الوجه المذكور، فيكون
482

احتمال فساده في ظاهر الشرع مكافئا لاحتمال صحته من غير فرق مع وضوح
اعتبار صحة صلاة الإمام، ولو في ظاهر الشرع في صحة الائتمام فالظاهر أن
الوجه في البناء المذكور أيضا أحد الوجهين المتقدمين.
هذا، والوجه في القول بالتفصيل بين الأجزاء والشرائط أما في اعتبار
الأجزاء فبما مرت الإشارة اليه من ظهور عدم إمكان تحقق الكل مع انتفاء الجزء،
فإذا تحققت الجزئية لم يعقل صدق الكل حقيقة بدونه، وإذا شك في حصوله أو في
جزئيته مع عدم وجوده لزمه الشك في صدق الكل.
وأما في عدم اعتبار الشرائط فبظهور خروج الشروط عن ماهية المشروط،
كيف! ولو كانت مندرجة فيه لما تحقق فرق بين الجزء والشرط، فإذا وضع اللفظ
بإزاء المشروط كان مفاده هو ذلك من غير اعتبار للشرائط في مدلوله، وعدم انفكاك
المشروط بحسب الخارج عن الشرط لا يقضي بأخذه في مفهومه، إذ غاية ما
يقضي به ذلك امتناع وجوده بدونه، وذلك مما لا ربط له باعتباره في موضوع اللفظ.
وفيه: ما عرفت مما فصلناه، أما ما ذكر من عدم تعقل الحكم بصدق الكل
بدون الجزء أو الشك فيه فبما مر توضيح القول فيه في توجيه كلام القائل بوضعها
للأعم، فلا حاجة إلى تكراره.
وأما ما ذكر من لزوم اندراج الشرط في الجزء على فرض اعتباره فيه فيدفعه
ما أشرنا اليه من الفرق بين اعتبار الشئ جزء واعتباره شرطا، فإن الملحوظ في
الأول إدراجه في الموضوع له ودخوله فيه، والمعتبر في الثاني هو تقييد الموضوع
له به، وأما نفس الشرط فخارجة عنه.
ومع الغض عن ذلك فلا يلزم من القول بوضعها للصحيحة مطلقا اعتبار كل من
الشرائط بخصوصها في المفهوم من اللفظ، لإمكان أن يقال بوضعها لتلك الأجزاء
من حيث إنها صحيحة أو مبرئة للذمة ونحوهما، وحينئذ فيتوقف حصولها في
الخارج على حصول تلك الشرائط من غير أن تكون معتبرة بخصوصها في
الموضوع له.
483

المقام الرابع في بيان ثمرة النزاع في المسألة:
فنقول: عمدة الثمرة المتفرعة على ذلك صحة إجراء الأصل في أجزاء
العبادات وشرائطها، فإنها إنما يثبت على القول بوضعها للأعم دون القول بوضعها
للصحيح، وعلى القول بالتفصيل بين الأجزاء والشرائط يفصل بينهما.
وتوضيح المقام: أن الشك المتعلق بالأجزاء أو الشرائط إن كان فيما يشك مع
انتفائه في التسمية ولو على القول بوضعها للأعم نظرا إلى وضوح اعتبار القائل به
أجزاء وشرائط في الجملة لتحقق التسمية فلا يمكن إجراء الأصل فيه على شئ
من المذهبين، لتحقق اشتغال الذمة بالمسمى وعدم حصول العلم بأدائه، من دون
ذلك من جهة الشك المفروض.
وأما إذا علم بحصول المسمى على القول بوضعها للأعم وحصل الشك في
اعتبار جزء أو شرط في تحقق الصحة فالقائل بالأعم ينفيه بالأصل، نظرا إلى
إطلاق المكلف به من غير ثبوت للتقييد، بخلاف القائل بوضعها للصحيحة،
لإجمال المكلف به عنده وعدم العلم بحصول المسمى في مذهبه، إلا مع العلم
باستجماعه لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة في الصحة.
فالشك في اعتبار جزء أو شرط في الصحة يرجع عنده إلى الشك في الجزء
أو الشرط المعتبر في التسمية، كما في الوجه الأول فلا يجري فيه الأصل عنده
لقضاء اليقين بالاشتغال اليقين بالفراغ، ولا يحصل إلا مع الإتيان بما يشك في
جزئيته أو شرطيته وترك ما يحتمل مانعيته.
فإن قلت: لا شك في كون مطلوب الشارع والمأمور به في الشريعة إنما هو
خصوص الصحيحة، لوضوح كون الفاسدة غير مطلوبة لله تعالى بل مبغوضة له
لكونها بدعة محرمة، فأي فارق إذن بين القولين مع حصول الشك في إيجاد
الصحيحة من جهة الشك فيما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط؟.
قلت: لا ريب في أن العلم بالصحة إنما يحصل من ملاحظة الأوامر الواردة،
فما وجد متعلقا للأمر ولو بالنظر إلى إطلاقه من غير أن يثبت فساده يحكم بصحته،
484

إذ ليست الصحة في المقام إلا موافقة الأمر، فإذا تعين عندنا مسمى الصلاة وتعلق
الأمر بها قضى ذلك بصحة جميع أفرادها وأنحاء وقوعها لحصول تلك الطبيعة بها،
إلا ما خرج بالدليل وقامت الحجة الشرعية على بطلانه، فيثبت الصحة إذن
بملاحظة إطلاق الأمر وعدم قيام دليل على الفساد، نظرا إلى حصول المأمور به
بذلك بملاحظة الإطلاق ولا يجري ذلك على القول بوضعها للصحيحة، لإجمال
المأمور به عنده، فكون المطلوب في الواقع هو الصحيحة لا يقضي بإجمال العبادة
حتى لا يثبت بملاحظة إطلاق الأمر بها صحتها في ظاهر الشريعة.
فإن قيل: إن العلم الاجمالي بكون مطلوب الشارع هو خصوص الصحيحة
يوجب تقييد تلك الإطلاقات بذلك، فيحصل الشك أيضا في حصول المكلف به،
إذ هو من قبيل التقييد بالمجمل فلا يمكن تحصيل العلم بالامتثال بحسب
الظاهر أيضا.
قلت: قبل ظهور ما يقضي بفساد بعض الأفراد من ضرورة أو إجماع أو رواية
ونحوها فلا علم هناك بفساد شئ من الأقسام ليلتزم بالتقييد، فلا بد من الحكم
بصحة الكل، وبعد ثبوت الفساد في البعض يقتصر فيه على مقدار ما يقوم الدليل
عليه ويحكم في الباقي بمقتضى الأصل المذكور، فلا تقييد هناك بالمجمل من
الجهة المذكورة ويتضح ذلك بملاحظة الحال في المعاملات، فإن حكمه تعالى
بحل البيع وأمره بالوفاء بالعقود ليس بالنسبة إلى الفاسدة قطعا، ومع ذلك لا إجمال
في ذلك من تلك الجهة لقضائه بصحة كل البيوع ووجوب الوفاء بكل من العقود،
فلا يحكم بفساد شئ منها إلا بعد قيام الدليل على اخراجه من الإطلاق والعموم
المذكورين، وحينئذ يقتصر على القدر الذي ثبت فساده بالدليل.
نعم، لو قام دليل إجمالي على فساد بعض الأفراد ودار بين أمرين أو أمور لم
يمكن معه الأخذ بمجرد الإطلاق، وهو كلام آخر خارج عن محل الكلام.
وربما يقال بجريان الأصل في أجزاء العبادات وشرائطها بناء على القول
بوضعها للصحيحة أيضا، لدعوى إطلاق ما دل على حجية أصالة البراءة والحكم
485

ببراءة الذمة إلى أن يعلم الشغل، لشموله لما إذا علم الاشتغال في الجملة أو لم
يعلم بالمرة.
والتحقيق خلافه، فإن الظاهر الفرق بين الصورتين وما دل الدليل على حجية
أصالة البراءة بالنسبة اليه إنما هو الصورة الثانية، وما يرجع إليها من الصورة
الأولى بالآخرة، ويأتي تفصيل القول فيه إن شاء الله عند الكلام في أصالة البراءة.
وقد ظهر مما أشرنا اليه أنه لو لم يكن هناك توقف في صحة الإتيان ببعض
أجزاء العبادة على بعض آخر كما في الزكاة صح إجراء الأصل فيه على القولين،
حسب ما يأتي تفصيل القول فيه في محله إن شاء الله.
هذا، ولا يذهب عليك بعد ملاحظة ما قررناه أن الأصل في المسألة بحسب
الثمرة مع القائل بوضع تلك الألفاظ للصحيحة إذا فرض عدم قيام الدليل على
شئ من الطرفين، وعدم نهوض شئ من الحجج المذكورة للقولين وإن لزم
التوقف حينئذ في تعيين الموضوع له، نظرا إلى وضوح عدم إجراء الأصل في
تعيين موضوعات الألفاظ لكونها من الأمور التوقيفية المتوقفة على توقيف
الواضع ولو على سبيل المظنة، فلا وجه لإثباتها بمجرد الأصل كما مرت الإشارة
اليه، والظاهر أنه مما لا إشكال فيه ولا كلام.
وأما بالنسبة إلى ملاحظة تفريغ الذمة فلا بد من الإتيان بما شك في جزئيته
أو شرطيته، ليحصل اليقين بتفريغ الذمة بعد تيقن الاشتغال، حسب ما أشرنا اليه
ويأتي تفصيل القول فيه في محله.
ومما يستغرب من الكلام ما ذكره بعض الأعلام في المقام حيث حكم بإجراء
الأصل فيما يشك فيه من الأجزاء والشرائط على القولين، وأسقط الثمرة المذكورة
بالمرة من البين.
ومحصل كلامه: أنا إذا تتبعنا الأخبار والأدلة وتصفحنا المدارك الشرعية على
قدر الوسع والطاقة ولم يثبت عندنا إلا أجزاء مخصوصة للعبادة وشرائط خاصة
لها حكمنا بأنه لا يعتبر في تلك العبادة إلا تلك الأجزاء والشرائط الثابتة عندنا،
فإن ادعى أحد جزئية شئ أو شرطيته من غير أن يقيم عليه دليلا تطمئن النفس
486

اليه دفعناه بالأصل ولو قلنا بكون تلك الألفاظ أسامي للصحيحة الجامعة لجميع
الأجزاء وشرائط الصحة، وذكر أن الوجه فيه أنه لو ثبت هناك جزء أو شرط آخر
لعثرنا عليه ولحصل النقل بالنسبة اليه، لتوفر الدواعي إلى النقل وتحقق الحاجة
بالنسبة إلى الكل، ولا فارق بين أجزائها وشرائطها في توفر الحاجة إلى كل منها،
فكما حصل النقل فيما وصل ينبغي حصوله في غيره أيضا على فرض ثبوته في
الواقع، فعدم وصوله الينا مع عظم الجدوى وعموم البلوى دليل على العدم،
واستشهد لذلك بأن أكثر الفقهاء والأصوليين قائلون بكون تلك الألفاظ أسامي
للصحيحة، كما هو ظاهر من تتبع الكتب الأصولية مع أنهم لا زالوا يجرون الأصل
في العبادات بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط من غير فرق، كما يظهر من ملاحظة
كتب الاستدلال سوى بعض المتأخرين منهم، فلا يبعد دعوى اتفاقهم عليه،
والظاهر أن السر فيه هو ما بيناه.
ثم أورد على نفسه بأنه مع ملاحظة ذلك لا يكون عدم اعتبار ذلك الجزء
أو الشرط مشكوكا فيه، كما هو المفروض للظن بعدمه حينئذ.
وأجاب بأن حصول الشك إنما هو في أول الأمر وأما بعد التتبع في كلمات
الشارع والالتفات إلى الأصل فلا.
وأنت خبير بما فيه أما أولا: فلأنه لو تم لقضى بعدم وقوع النزاع في شئ من
أجزاء العبادات وشرائطها، لقضاء عموم البلوى وعظم الحاجة والجدوى بعدم
خفاء شئ منها على العلماء المتقنين الباذلين وسعهم في تحصيل أحكام الدين، إذ
لو جاز ذلك بالنسبة إليهم لجاز بالنسبة الينا بالطريق الأولى، وفساده من أوضح
الضروريات.
وأما ثانيا: فلأن دعوى عموم البلوى بجميع أجزاء العبادات وشرائطها على
جميع الأحوال ممنوعة، كيف! وكثير منها إنما يتحقق الحاجة اليه في موارد خاصة
نادرة، كما في مراتب التيمم بعد العجز عن تحصيل التراب، وأحكام اللباس
بالنسبة إلى غير المتمكن من الثوب الطاهر، واعتبار ستر العورة بالطين ونحوه
عند تعذر الستر بالمعتاد، وحكم القبلة في حال الاشتباه وعدم التمكن من
487

الاستعلام ولو على سبيل الظن... إلى غير ذلك من المسائل الكثيرة المتعلقة
بالأجزاء والشرائط المعتبرة في الصلاة حال الضرورة مما لا يتفق عادة إلا على
سبيل الندرة... وهكذا الحال في غيرها من العبادات.
وأما ثالثا: فلأن مجرد عموم البلوى لا يقضي بثبوت الحكم عندنا، غاية الأمر
وروده في الأخبار وروايتها لنا بتوسط الرواة، وبمجرد ذلك لا يثبت الحكم عندنا
لما فيها من الكلام سندا ودلالة وتعارضا، كما هو الحال في معظم تلك المسائل
ووقوع التشاجر فيها من الأواخر والأوائل، وحينئذ فمن أين يحصل الظن بالحكم
بمجرد عدم قيام الدليل عليه عندنا؟ كيف! والضرورة الوجدانية قاضية بخلافه في
كثير من تلك المسائل، ولا مفزع حينئذ إلا إلى الرجوع إلى الأصل أو الحائطة بعد
حصول الشك من ملاحظة الأقوال والأدلة المتعارضة.
وأما رابعا: فلأن ذلك عين القول بحجية عدم الدليل وأنه دليل على العدم،
والوجه المذكور الذي قرره عين ما استدلوا به على حجية الأمر المذكور، ومن
البين أن ذلك على فرض إفادته الظن من قبيل الاستناد إلى مطلق الظن ولا حجية
فيه عندنا إلا بعد قيام الحجة عليه، ومن البين عدم اندراجه في شئ من الظنون
الخاصة التي ثبت اعتبارها والرجوع في استنباط الأحكام الشرعية إليها، واحتمال
خفاء الحكم للفتن الواقعة وذهاب معظم الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)
في غاية الظهور، فكيف يمكن الاعتماد على مجرد ذلك الظن الضعيف؟.
على أنه لو تم الاستناد إلى عدم وجدان الدليل على ذلك فهو إنما يتم عند
فقدان الدليل بالمرة، وأما مع وجوده في الجملة مع تعارض الأدلة فلا وجه له
أصلا، كما أشرنا اليه.
نعم، إن تم دليل أصالة البراءة بحيث يعم الموارد المفروضة كان ذلك وجها،
وهو كلام آخر لم يستند اليه القائل المذكور، والظاهر أنه لا يرتضيه أيضا،
ولا حاجة معه إلى ما ذكره.
نعم، للفقيه الأستاذ حشره الله تعالى مع محمد وآله الأمجاد كلام في المقام
بالنسبة إلى خصوص ما قد يشك فيه من الأجزاء والشرائط مما لم يرد به نص
488

ولا رواية ولا تعرض الأصحاب لذكر خلاف فيه في كتاب أو رسالة، فذهب إلى
عدم وجوب الاحتياط فيه، لحصول العلم العادي إذن بعدم اعتباره أو قيام
الاجماع عليه كذلك، إذ من المعلوم أنه لو كان ذلك شطرا أو شرطا لتعرضوا له
وأشاروا اليه ولا أقل من ورود رواية تدل عليه، فإذا لم نعثر له في الروايات
وكلمات الأصحاب على عين ولا أثر حكمنا بعدمه، وغرضه من ذلك حصر
الاحتياط في اعتبار الأجزاء والشرائط المشكوكة فيما لا يخرج عما هو مذكور
في الروايات وكلام الأصحاب حتى لا يشكل الأمر في الاحتياط، إذ قد يعسر
الأمر مع الغض عنه في مراعاة الاحتياط، ويؤول إلى الإتيان بعبادة خارجة عن
الطريق المألوف، فربما يشكل الحال فيه من جهة أخرى فلا معول على تلك
الاحتمالات الواهية، ولا يجب مراعاة الاحتياط من تلك الجهة، وهذا كلام آخر
غير بعيد عن طريق الفقاهة.
ولنتمم الكلام في المرام برسم أمور:
أحدها: أن الصحة المأخوذة في المقام هل هي الصحة الواقعية - أعني الموافقة
للأمر الواقعي - أو الصحة الشرعية؟ - سواء كانت حاصلة بموافقة الأمر الواقعي
أو الظاهري، فيندرج فيه الفعل الصادر على سبيل التقية المخالف لما عليه الفعل
في الواقع في الموارد التي حكم الشرع بصحته، وكذا الأفعال المختلفة باختلاف
فتاوى المجتهدين وإن لم يجز كل من تلك الأفعال عند غير القائل به، نظرا إلى أن
كلا من تلك الأفعال محكوم بصحته شرعا قد دل الدليل القاطع على تعلقه بذلك
المجتهد ومقلده، فيندرج الكل فيما يشمله أسامي تلك العبادات وإن قطع بعدم
موافقة الجميع للحكم الأولي الثابت بحسب الواقع - وجهان:
أوجههما الأخير، ولذا يحكم كل مجتهد بأداء المجتهد الآخر ومقلده العبادة
المطلوبة منه بحسب الشرع وإن كانت فاسدة لو وقعت منه ومن مقلده، حسب
ما يأتي تفصيل القول فيه في محله إن شاء الله.
هذا بالنسبة إلى اختلاف الأحكام من جهة الاختلاف في الاستنباط إذا تعلق
489

التكليف الثانوي بذلك على فرض مخالفته للواقع دون ما إذا لم يتحقق هناك
تكليف ثانوي به وإن قلنا بمعذورية الفاعل على فرض بذل وسعه أو غفلته لانتفاء
الأمر بالفعل القاضي بصحته ولو في الظاهر، كما سيجئ بيانه إن شاء الله.
وأما الاختلاف الحاصل من جهة الموضوعات فإن كان الحكم فيه دائرا
بحسب الواقع مدار ما دل عليه الطرق الشرعية في إثبات ذلك الموضوع - كما هو
الحال في القبلة في بعض الوجوه والظن المتعلق بأداء الواجبات غير الأركان
في الصلاة - فالظاهر الحكم بالصحة واندراج الفعل في تلك العبادة وإن خالف
الحكم الأولي.
وأما ما كان الحكم فيه دائرا مدار الواقع وإن أنيط الحكم ظاهرا بما دل عليه
الدليل الذي جعل طريقا اليه فلا يبعد القول بالخروج عن المسمى مع المخالفة.
وقد يفصل بين صورة انكشاف الخلاف وعدمه، وما إذا علم بخلو أحد
الفعلين والأفعال المحصورة عن الأمر المعتبر في الصحة وعدمه، فمع عدم
انكشاف الخلاف وعدم العلم به على النحو المذكور يقال بحصول الطبيعة
واتصافها بالصحة الشرعية، فيندرج الكل في العبادة المطلوبة وإن كان على
خلاف ذلك بحسب حكمه الأولي.
بخلاف صورة الانكشاف أو دوران المانع بين فعلين أو أفعال محصورة، كما
لو دارت الجنابة بين شخصين فلا يحكم معه بصحة الفعلين وإن حكم بصحة كل
منهما في ظاهر الشرع بالنظر إلى المتلبس به، ولتفصيل الكلام في ذلك مقام آخر
لعلنا نشير اليه في بحث دلالة الأمر على الاجزاء إن شاء الله تعالى.
ثانيها: أنه يمكن إجراء البحث المذكور في غير العبادات مما ثبت فيه للشارع
معنى جديد كاللعان والإيلاء والخلع والمبارات... ونحوها بناء على استعمال
الشارع لتلك الألفاظ في غير المعاني اللغوية، فيقوم احتمال كونها أسامي
لخصوص الصحيحة منها، أو الأعم منها ومن الفاسدة.
وكان الأظهر فيها أيضا الاختصاص بالصحيحة، ويجري بالنسبة إليها كثير
من الوجوه المذكورة، ويتفرع عليه عدم الحكم بثبوت تلك الموضوعات إلا مع
490

قيام الدليل على استجماعها للأجزاء والشرائط، فلا يصح نفي جزء أو شرط عنها
بمجرد الأصل حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ثالثها: أنه نص الشهيد الثاني في المسالك بكون عقد البيع وغيره من العقود
حقيقة في الصحيح مجازا في الفاسد، لوجود خواص الحقيقة والمجاز، كالتبادر
وعدم صحة السلب وغير ذلك من خواصها.
قال: ومن ثم حمل الإقرار به عليه، حتى أنه لو ادعى إرادة الفاسد لم يسمع
إجماعا، ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره بأحدهما كغيره من
الألفاظ المشتركة، وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعم من الحقيقة.
وقال الشهيد الأول (قدس سره) في القواعد: الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر
العقود لا تطلق على الفاسد إلا الحج، لوجوب المضي فيه.
وظاهره أيضا كون العقود أيضا حقيقة في خصوص الصحيحة.
وقد يشكل ذلك بأنه بناء على ما ذكر يكون ألفاظ المعاملات مجملة
كالعبادات متوقفة على بيان الشارع لها، لفرض استعمالها إذن في غير معناها
اللغوي، فلا يصح الرجوع فيها إلى الإطلاقات العرفية والأوضاع اللغوية.
والقول بكون ما وضعت له بحسب اللغة أو العرف هو خصوص الصحيحة
الشرعية بين الفساد، لظهور المغايرة بين الأمرين، مع أن صحة الرجوع فيها إلى
العرف واللغة مما أطبقت عليه الأمة ولا خلاف فيه ظاهرا بين الخاصة والعامة.
فقضية ذلك هو حملها على الأعم من الصحيح الشرعي وغيره، فلا يتجه
القول بكونها حقيقة في خصوص الصحيحة، ولا يوافق ذلك إطباقهم على ما ذكر،
ولذا نص جماعة من المتأخرين بكونها حقيقة في الأعم من الصحيح والفاسد،
فالوجه في انصرافها إلى الصحيح قضاء ظاهر الإطلاق به، فيكون التبادر المذكور
إطلاقيا ناشئا من حمل المطلق على الفرد الكامل، أو من جهة قضاء ظاهر المقام،
أو ظاهر حال المسلم به.
ويشكل ذلك أيضا بأن الظاهر انفهام ذلك من نفس اللفظ في الإطلاقات
واحتمال استناده إلى غير اللفظ في غاية البعد، ولذا يصح سلبها عن الفاسدة عند
491

التأمل في إطلاقات المتشرعة، بل صحة سلبها بالنسبة إلى بعضها في غاية الظهور،
مع أن إطلاق تلك الأسامي على ذلك كغيره من غير فرق.
فالأظهر أن يقال بوضعها لخصوص الصحيحة أي المعاملة الباعثة على النقل
والانتقال أو نحو ذلك مما قرر له تلك المعاملة الخاصة، فالبيع والإجارة والنكاح
ونحوها إنما وضعت لتلك العقود الباعثة على الآثار المطلوبة منها، وإطلاقها على
غيرها ليس إلا من جهة المشاكلة أو نحوها على سبيل المجاز.
لكن لا يلزم من ذلك أن تكون حقيقة في خصوص الصحيح الشرعي حتى
يلزم أن تكون توقيفيته متوقفة على بيان الشارع لخصوص الصحيحة منها، بل
المراد منها إذا وردت في كلام الشارع قبل ما يقوم دليل على فساد بعضها هو
العقود الباعثة على تلك الآثار المطلوبة في المتعارف بين الناس، فيكون حكم
الشرع بحلها أو صحتها أو وجوب الوفاء بها قاضيا بترتب تلك الآثار عليها في
حكم الشرع أيضا، فيتطابق صحتها العرفية والشرعية، وإذا دل الدليل على عدم
ترتب تلك الآثار على بعضها خرج ذلك عن مصداق تلك المعاملة في حكم
الشرع وإن صدق عليه اسمها بحسب العرف، نظرا إلى ترتب الأثر عليه عندهم.
وحينئذ فعدم صدق اسم البيع - مثلا - عليه حقيقة عند الشارع والمتشرعة
لا ينافي صدقه عليه عند أهل العرف مع فرض اتحاد العرفين، وعدم ثبوت عرف
خاص عند الشارع، إذ المفروض اتحاد المفهوم منه عند الجميع، وإنما الاختلاف
هناك في المصداق فأهل العرف إنما يحكمون بصدق ذلك المفهوم عليه من جهة
الحكم بترتب الأثر المطلوب عليه، وإنما يحكم بعدم صدقه عليه بحسب الشرع
للحكم بعدم ترتب ذلك الأثر عليه، ولو انكشف عدم ترتب الأثر عليه عند أهل
العرف لا من قبل الشارع لم يحكم عرفا بصدق ذلك عليه أيضا كما أن البيوع
الفاسدة في حكم العرف خارجة عندهم عن حقيقة البيع.
فظهر أنه لا منافاة بين خروج العقود الفاسدة عند الشارع عن تلك العقود
على سبيل الحقيقة، وكون المرجع في تلك الألفاظ هو المعاني العرفية من غير أن
يتحقق هناك حقيقة شرعية جديدة، فتأمل جيدا.
492

معالم الدين:
أصل
الحق أن الاشتراك واقع في لغة العرب. وقد أحاله شرذمة. وهو
شاذ ضعيف لا يلتفت إليه.
ثم إن القائلين بالوقوع اختلفوا في استعماله في أكثر من معنى إذا
كان الجمع بين ما يستعمل فيه من المعاني ممكنا، فجوزه قوم مطلقا،
ومنعه آخرون مطلقا، وفصل ثالث: فمنعه في المفرد وجوزه في التثنية
والجمع، ورابع: فنفاه في الاثبات وأثبته في النفي.
ثم اختلف المجوزون، فقال قوم منهم: إنه بطريق الحقيقة. وزاد
بعض هؤلاء: أنه ظاهر في الجميع عند التجرد عن القرائن، فيجب
حمله عليه حينئذ. وقال الباقون: إنه بطريق المجاز.
والأقوى عندي جوازه مطلقا، لكنه في المفرد مجاز، وفي غيره
حقيقة. لنا على الجواز: انتفاء المانع، بما سنبينه: من بطلان ما تمسك به
المانعون، وعلى كونه مجازا في المفرد: تبادر الوحدة منه عند إطلاق
اللفظ، فيفتقر إرادة الجميع منه إلى إلغاء اعتبار قيد الوحدة. فيصير
اللفظ مستعملا في خلاف موضوعه. لكن وجود العلاقة المصححة
للتجوز أعني: علاقة الكل والجزء يجوزه، فيكون مجازا.
فإن قلت: محل النزاع في المفرد هو استعمال اللفظ في كل من
المعنيين بأن يراد به - في إطلاق واحد - هذا وذاك، على أن يكون كل
493

منهما مناطا للحكم ومتعلقا للاثبات والنفي، لا في المجموع المركب
الذي أحد المعنيين جزء منه. سلمنا، لكن ليس كل جزء يصح إطلاقه
على الكل، بل إذا كان للكل تركب حقيقي وكان الجزء مما إذا انتفى
انتفى الكل بحسب العرف أيضا، كالرقبة للانسان، بخلاف الإصبع
والظفر ونحو ذلك.
قلت: لم أرد بوجود علاقة الكل والجزء: أن اللفظ موضوع لأحد
المعنيين ومستعمل حينئذ في مجموعهما معا، فيكون من باب إطلاق
اللفظ الموضوع للجزء وإرادة الكل كما توهمه بعضهم، ليرد ما ذكرت.
بل المراد: أن اللفظ لما كان حقيقة في كل من المعنيين، لكن مع قيد
الوحدة، كان استعماله في الجميع مقتضيا لإلغاء اعتبار قيد الوحدة
كما ذكرناه، واختصاص اللفظ ببعض الموضوع له أعني: ما سوى
الوحدة. فيكون من باب إطلاق اللفظ الموضوع للكل وإرادة الجزء.
وهو غير مشترط بشئ مما اشترط في عكسه، فلا إشكال.
ولنا على كونه حقيقة في التثنية والجمع: أنهما في قوة تكرير
المفرد بالعطف. والظاهر: اعتبار الاتفاق في اللفظ دون المعنى في
المفردات، ألا ترى أنه يقال: زيدان وزيدون، وما أشبه هذا مع كون
المعنى في الآحاد مختلفا. وتأويل بعضهم له بالمسمى تعسف بعيد.
وحينئذ، فكما أنه يجوز إرادة المعاني المتعددة من الألفاظ المفردة
المتحدة المتعاطفة، على أن يكون كل واحد منها مستعملا في معنى
بطريق الحقيقة، فكذا ما هو في قوته.
احتج المانع مطلقا: بأنه لو جاز استعماله فيهما معا، لكان ذلك
بطريق الحقيقة، إذ المفروض: أنه موضوع لكل من المعنيين، وأن
الاستعمال في كل منهما بطريق الحقيقة. وإذا كان بطريق الحقيقة، يلزم
كونه مريدا لأحدهما خاصة، غير مريد له خاصة، وهو محال.
بيان الملازمة: أن له حينئذ ثلاثة معان: هذا وحده، وهذا وحده،
494

وهما معا، وقد فرض استعماله في جميع معانيه، فيكون مريدا لهذا
وحده، ولهذا وحده، ولهما معا. وكونه مريدا لهما معا معناه: أن لا يريد
هذا وحده، وهذا وحده. فيلزم من إرادته لهما على سبيل البدلية،
الاكتفاء بكل واحد منهما، وكونهما مرادين على الانفراد، ومن إرادة
المجموع معا عدم الاكتفاء بأحدهما، وكونهما مرادين على الاجتماع.
وهو ما ذكرنا من اللازم.
والجواب: أنه مناقشة لفظية، إذ المراد نفس المدلولين معا، لا
بقاؤه لكل واحد منفردا. وغاية ما يمكن حينئذ أن يقال: إن مفهومي
المشترك هما منفردين، فإذا استعمل في المجموع، لم يكن مستعملا
في مفهوميه، فيرجع البحث إلى تسمية ذلك استعمالا له في مفهوميه،
لا إلى إبطال أصل الاستعمال. وذلك قليل الجدوى.
واحتج من خص المنع بالمفرد: بأن التثنية والجمع متعددان في
التقدير، فجاز تعدد مدلوليهما، بخلاف المفرد.
وأجيب عنه: بأن التثنية والجمع إنما يفيدان تعدد المعنى
المستفاد من المفرد. فان أفاد المفرد التعدد، أفاداه، وإلا، فلا.
وفيه نظر يعلم مما قلناه في حجة ما اخترناه.
والحق أن يقال: إن هذا الدليل إنما يقتضي نفي كون الاستعمال
المذكور بالنسبة إلى المفرد حقيقة، وأما نفي صحته مجازا حيث توجد
العلاقة المجوزة له، فلا.
واحتج من خص الجواز بالنفي: بأن النفي يفيد العموم فيتعدد،
بخلاف الاثبات.
وجوابه: أن النفي إنما هو للمعنى المستفاد عند الاثبات، فإذا لم
يكن متعددا فمن أين يجئ التعدد في النفي؟
حجة مجوزيه حقيقة: أن ما وضع له اللفظ واستعمل فيه هو كل من
المعنيين، لا بشرط أن يكون وحده، ولا بشرط كونه مع غيره، على ما هو
495

شأن الماهية لا بشرط شئ، وهو متحقق في حال الانفراد عن الآخر
والاجتماع معه فيكون حقيقة في كل منهما.
والجواب: أن الوحدة تتبادر من المفرد عند إطلاقه، وذلك آية
الحقيقة. وحينئذ، فالمعنى الموضوع له فيه ليس هو الماهية لا بشرط
شئ، بل هي بشرط شئ. وأما فيما عداه فالمدعى حق، كما أسفلناه.
وحجة من زعم أنه ظاهر في الجميع عند التجرد عن القرائن، قوله
تعالى: " الم تر ان الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض
والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من
الناس ". فان السجود من الناس وضع الجبهة على الأرض، ومن غيرهم
أمر مخالف لذلك قطعا. وقوله: " إن الله وملائكته يصلون على النبي ".
فان الصلاة من الله: المغفرة، ومن الملائكة: الاستغفار. وهما مختلفان.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن معنى السجود في الكل واحد، وهو: غاية الخضوع.
وكذا في الصلاة وهو الاعتناء باظهار الشرف ولو مجازا.
وثانيها: أن الآية الأولى بتقدير فعل، كأنه قيل: " ويسجد له كثير من
الناس "، والثانية بتقدير خبر، كأنه قيل: إن الله يصلى. وإنما جاز هذا
التقدير، لأن قوله: " يسجد له من في السماوات "، وقوله: " وملائكته
يصلون " مقارن له، وهو مثل المحذوف، فكان دالا عليه، مثل قوله:
نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف
أي نحن بما عندنا راضون. وعلى هذا، فيكون قد كرر اللفظ، مرادا
به في كل مرة معنى، لأن المقدر في حكم المذكور. وذلك جائز بالاتفاق.
وثالثها: أنه وإن ثبت الاستعمال فلا يتعين كونه حقيقة، بل نقول:
هو مجاز، لما قدمناه من الدليل. وإن كان المجاز على خلاف الأصل.
ولو سلم كونه حقيقة، فالقرينة على إرادة الجميع فيه ظاهرة، فأين وجه
الدلالة على ظهوره في ذلك مع فقد القرينة؟ كما هو المدعى.
496

قوله: * (وقد أحاله شرذمة) *
أراد بالاستحالة مخالفته للحكمة، فلا يصدر من الحكيم كما يدل عليه ما
احتجوا به من أنه إن ذكر مع القرينة كان تطويلا بلا طائل وإلا كان مخلا بالتفاهم.
وفساد الوجه المذكور كأصل الدعوى مما لا يكاد يخفى، لوضوح فوائد
الاشتراك ووجود الفوائد في استعماله مع القرينة وعدم إخلاله بمطلق الفهم مع
تجريده عن القرائن. على أنه قد يكون الاجمال مطلوبا في المقام.
مضافا إلى أنه مبني على كون الواضع هو الله سبحانه أو من يستحيل عليه
مخالفة الحكمة، وأما لو كان ممن يجوز عليه ذلك فلا يستحيل أن يقع منه ذلك.
على أنه قد يقع ذلك من جهة تعدد الواضع وعدم اطلاع أحدهم على وضع
الآخر.
ثم إن في القائلين بإمكانه من يمنع من وقوعه فيؤول ما يرى من المشتركات
إلى الحقيقة والمجاز أو غيره، وهو تعسف ظاهر لا موجب له.
وفي القائلين بوقوعه من يذهب إلى وجوبه، مستدلا بما وهنه أبين مما مر.
نعم، قد يقال بوجوبه بمعنى كونه مقتضى الحكمة، لقضائها بوجود المجملات
في اللغة نظرا إلى مسيس الحاجة إليها في بعض الأحوال، ولما فيه من فوائد اخر
لفظية ومعنوية.
قوله: * (إذا كان الجمع بين ما يستعمل فيه من المعاني ممكنا) *
قيل (1) أراد به أن يكون المعنيان مما يجتمعان في الإرادة بحسب استعمالات
العرف، فالمراد بغير الممكن ما لم يعهد الجمع بينهما في الإرادة كاستعمال الأمر
في الوجوب والتهديد ولو بالنسبة إلى شخصين، ولا يريد به ما يستحيل
اجتماعهما عقلا، إذ لا استحالة فيما ذكر.
وفيه: أنه لا وجه حينئذ للحكم بعدم إمكان الاجتماع، إذ عدم معهودية

(1) ذكره الفاضل الشيرواني. (منه (رحمه الله)).
497

استعمالهم له في ذلك لا يقضي بالمنع منه مع وجود المصحح، ومن البين أن كثيرا
من المجازات مما لم تكن جارية في كلام العرب القديم ولا كانوا يعرفونها وإنما
اقترحها المتأخرون بخيالاتهم، كيف! ولو بني على اخراج المتروكات عن محل
البحث لم يبق هناك محل للنزاع، لوضوح متروكية استعمال المشترك في معنييه
من أصله، إذ لم نجد شيئا من ذلك في الاستعمالات الدائرة ولو ورد من ذلك شئ
محقق في كلماتهم لكان ذلك من أقوى أدلة المجوزين، فلم لم يستند اليه أحد
منهم في إثبات الجواز، فلو قطعنا النظر عن ظهور عدم وروده في كلامهم فلا أقل
من عدم تحقق الورود أيضا فلا يكون هناك موضع يعرف كونه من محل الخلاف.
ومع الغض عن ذلك فمتروكية الاستعمال لا يمنع من استعمال الحقائق.
والقول بكون الاستعمال المذكور حقيقة إما مطلقا أو في بعض الصور من
الأقوال المعروفة في المسألة فلا وجه إذن لاعتبار عدم المتروكية في محل النزاع.
وقيل (1) أراد به اخراج ما لا يمكن إرادتهما معا منه في إطلاق واحد
كاستعمال صيغة الأمر في الوجوب والتهديد، وكأنه أراد ذلك بالنسبة إلى شخص
واحد وفعل واحد وزمان واحد، نظرا إلى استحالة اجتماع الأمر والنهي كذلك،
هذا إذا قلنا باستحالة اجتماع الأمر والنهي بناء على كونه من قبيل التكليف
المحال، لا التكليف بالمحال كما قيل.
ولو قلنا بالثاني فلا مانع من نفس الاستعمال الذي هو محط الكلام في المقام،
غاية الأمر عدم وروده في كلام الحكيم.
وكذا الحال في استعمال اللفظ في الضدين مما لا يمكن تحققهما في الخارج،
كما في قولك: " هند في القرء " إذا أردت به الطهر والحيض معا، فإن عدم جواز
الاستعمال حينئذ من جهة لزوم الكذب لا لمانع في اللفظ، فلا منع من جهة نفس
الاستعمال الذي هو المنظور في المقام كيف! ولو قيل بالمنع من الاستعمال لأجل

(1) ذكره سلطان العلماء. (منه (رحمه الله)).
498

ذلك لجرى في استعمال سائر الألفاظ إذا لم يطابق مفادها الواقع، ومن البين أن
أحدا لا يقول به، إذ لا مدخلية لمطابقة المدلول للواقع وعدمه في صحة الاستعمال
بحسب اللغة وعدمها، هذا إذا أراد بإمكان الجمع بينهما في الإرادة من جهة صحة
اجتماع المعنيين بحسب الواقع.
وأما إذا أراد به صحة اجتماع الإرادتين بأنفسهما كما هو قضية ما ذكرناه أولا
فله وجه إن تم ما ادعوه من الاستحالة، إلا أن عدم قابلية المعنيين حينئذ للاجتماع
ليس لمانع في نفس الاستعمال، بل لعدم إمكان حصول الأمرين في أنفسهما ولو
أديا بلفظين، فليس المنع حينئذ من جهة اللغة ولا لمدخلية اجتماعهما في الإرادة
من اللفظ الواحد، فلا يكون للتقييد به كثير مدخلية في المقام.
وكان الأولى تفسير ذلك بما إذا كان المعنيان مما يختلفان في الأحكام اللفظية
ولم يمكن اجتماعهما في الإرادة بحسب ما يلزمهما من التوابع المختلفة، كما إذا
كان اللفظ بالنظر إلى أحد المعنيين اسما، وبالنظر إلى الآخر فعلا أو حرفا، أو كان
اللفظ بالنظر إلى أحد المعنيين مرفوعا، وبالنظر إلى الآخر منصوبا أو مجرورا
مع ظهور الإعراب فيه.
قوله: * (ثم إن القائلين بالوقوع اختلفوا... الخ) *
أقول: قبل تحقيق المرام وتفصيل ما يرد على الأقوال من النقض والإبرام
لا بد من تبيين محل الكلام وتوضيح ما هو المقصود بالبحث في هذا المقام، فنقول:
للمشترك على ما ذكروه إطلاقات:
أحدها: أن يستعمل في كل من معنييه أو معانيه منفردا، ولا كلام في جوازه
ولا في كونه حقيقة، وهو الشائع في استعماله.
ثانيها: أن يستعمل في القدر المشترك بين معنييه أو معانيه كالأمر المستعمل
في الطلب على القول باشتراكه لفظا بين الوجوب والندب، ومنه إطلاقه على مفهوم
المسمى بذلك اللفظ كإطلاق زيد على المسمى به حسب ما ذكروه في مثنى
499

الأعلام، ولا تأمل في كون ذلك مغايرا لمعناه الموضوع له فيتبع جوازه وجود
العلاقة المصححة للتجوز، وليس مجرد كون ذلك قدرا مشتركا كافيا في صحة
التجوز، فما يظهر من بعض الأفاضل من صحة الاستعمال على النحو المذكور
مطلقا كما ترى.
ثالثها: أن يطلق على أحد المعنيين من غير تعيين، وعزي إلى السكاكي أنه
حقيقة فيه، وحكي عنه أن المشترك كالقرء - مثلا - مدلوله أن لا يتجاوز الطهر
والحيض غير مجموع بينهما، يعني أن مدلوله واحد من المعنيين غير معين، فهذا
مفهومه ما دام منتسبا إلى الوضعين لأنه المتبادر إلى الفهم، والتبادر إلى الفهم من
دلائل الحقيقة.
أقول: إطلاق المشترك على أحد معنييه إما أن يكون باستعماله في مفهوم
أحدهما، أو في مصداقه.
وعلى الأول فكل من المعنيين ملحوظ في المقام إلا أنه مأخوذ قيدا فيما
استعمل فيه، أعني مفهوم الأحد فالقيد خارج عن المستعمل فيه والتقييد داخل فيه
على نحو العمى، فإنه العدم الخاص المضاف إلى البصر، فليس خصوص كل من
المعنيين مما استعمل اللفظ فيه، وحينئذ فإما أن يراد به المفهوم الكلي الشامل لكل
منهما، أو يراد به أحدهما على سبيل الإبهام، بأن يجعل آلة لملاحظة أحد ذينك
المعنيين على سبيل الترديد والإجمال فيدور بينهما.
والفرق بين الوجهين أن الأول من قبيل المطلق فيحصل الامتثال بكل منهما،
والثاني من قبيل المجمل فلا يتعين المكلف به إلا بعد البيان.
وعلى الثاني فإما أن يكون المستعمل فيه أحد المعنيين المفروضين على
سبيل الإبهام والإجمال بحسب الواقع فلا يكون متعينا عند المتكلم ولا المخاطب،
أو يكون معينا بحسب الواقع عند المتكلم إلا أنه يكون مبهما عند المخاطب، نظرا
إلى تعدد الوضع وعدم قيام القرينة على التعيين والأول باطل، إذ استعمال اللفظ
500

في المعنى أمر وجودي لا يصح أن يتعلق بالمبهم المحض كما في هذا الفرض،
إذ المفروض عدم استعماله واقعا في خصوص شئ من المعنيين وإلا لكان
المستعمل فيه معينا بحسب الواقع ولا في مفهوم أحدهما الشامل لكل منهما كما
هو المفروض فلا يتصور استعماله على النحو المذكور، وكل من الوجوه الثلاثة
الباقية مما يصح استعمال المشترك فيه.
وأنت خبير بأن الوجه الأخير هو الوجه الأول الشائع في استعماله، والوجه
الأول راجع إلى الوجه الثاني، لكونه في الحقيقة من الاستعمال في القدر المشترك
وإن لوحظ فيه خصوص كل من المعنيين بل وكذا الوجه الثاني، إذ المستعمل فيه
هو القدر المشترك أيضا وإن ضم اليه اعتبار آخر، فلا يكون استعماله في أحد
المعنيين إطلاقا آخر، وكأنه لذا لم يذكره بعضهم في عداد استعمالات المشترك.
بقي الكلام في العبارة المنقولة عن السكاكي، وهي في بادئ الرأي قابلة
للحمل على كل من الوجوه الثلاثة المذكورة، وظاهر التفتازاني في المطول حملها
على أحد الوجهين الأولين حيث ذكر في تحقيق كلامه ما محصله:
أن الواضع عين المشترك تارة للدلالة على أحد معنييه بنفسه، وكذا عينه
أخرى للدلالة على الآخر كذلك، وحينئذ فافتقاره إلى القرينة ليس لأجل نفس
الدلالة بل لدفع مزاحمة الغير، ثم إنه حصل من هذين الوضعين وضع آخر ضمنا،
وهو تعيينه للدلالة على أحد المعنيين عند الإطلاق غير مجموع بينهما، وقال: إن
هذا هو المفهوم منه ما دام منتسبا إلى الوضعين، لأنه المتبادر إلى الفهم، والتبادر
من دلائل الحقيقة.
فعلى هذا يرجع ذلك إلى الوجه الثاني من إطلاقاته، كما أشرنا اليه، ولعله لذا
أسقطه في شرح الشرح وجعل استعمالات المشترك أربعة.
وربما يظهر من الفاضل الباغنوي ذلك أيضا، إلا أن الظاهر من كلامه حمله
على الوجه الثاني من الوجهين المذكورين.
501

وكيف كان، فالظاهر بعد الحمل المذكور بل فساده، إذ لا يخفى أن المعنى
المذكور معنى ثالث مغاير لكل من المعنيين المفروضين، ولا ملازمة بين وضعه
لكل منهما والوضع لهذا المعنى، والاحتجاج عليه بالتبادر بين الفساد، إذ لا يتبادر
من المشترك ذلك أصلا وإنما المتبادر منه خصوص أحد المعنيين المتعين عند
المتكلم المجهول عند المخاطب من جهة تعدد الوضع وانتفاء القرينة المعينة،
فحينئذ يعلم إرادة أحد المعنيين ولا يتعين خصوص المراد، وأين ذلك من
استعماله في المفهوم الجامع بين المعنيين؟ كيف! ولو تم ما ذكره لم يمكن تحقق
مشترك بين المعنيين، ولخرج المشترك عن الاجمال واندرج في المطلق بناء على
الوجه الأول من الوجهين المذكورين، وفساد ذلك ظاهر.
ولا باعث على حمل كلام السكاكي عليه من إمكان حمله على المعنى
الصحيح سيما مع عدم انطباق العبارة المذكورة عليه، حيث نص على أن مدلوله ما
لا يتجاوز معنييه، ومن البين أن حمله على المعنى المذكور تجاوز عن معنييه
وحكم باستعماله في ثالث.
فالأظهر حمل كلامه على الوجه الثالث، ومقصوده من العبارة المذكورة بيان
ما يدل عليه المشترك بنفسه، فإنه من جهة الاجمال الحاصل فيه بواسطة تعدد
الوضع لا يدل على خصوص المعنى المقصود ولا يقضي بانتقال المخاطب إلى ما
هو مراد المتكلم بخصوصه.
وتفصيل القول في ذلك: أن وضع اللفظ للمعنى بعد العلم به قاض بالانتقال من
ذلك اللفظ إلى ذلك المعنى وإحضاره ببال السامع عند سماع اللفظ، وهذا القدر من
لوازم الوضع، ولذا اخذ ذلك في تعريفه من غير فرق بين الحقيقة والمجاز
والمشترك، فإن كلا من المعاني التي وضع المشترك بإزائه مفهوم حال إطلاقه
حاضر ببال السامع عند سماع لفظه، وكذا المعنى الحقيقي مفهوم من لفظ المجاز
وإن قامت القرينة على عدم إرادته.
502

ثم إن هذا المدلول هو المراد من عدم قيام قرينة على عدم إرادته إن لم يكن
هناك تعدد في الوضع، ومع التعدد يدور المراد بين واحد منها على ما ذهب اليه
المحققون من عدم ظهوره في إرادة جميع معانيه، فيكون المشترك حينئذ مجملا
في إفادة المراد غير دال على خصوصه بنفسه وانما يدل عليه بمعاونة القرينة
كالمجاز.
إلا أن الفرق بينهما أن المجاز محتاج غالبا إلى القرينة في المقام الأول أيضا،
فإن إحضار المعنى ببال السامع فيه إنما يكون بمعاونة القرينة في الغالب أو بتوسط
المعنى الحقيقي فهما مشتركان في الحاجة إلى القرينة في تعيين المراد، ويختص
المجاز بالاحتياج إليها في فهم السامع وإحضاره بباله في الغالب وذلك فارق بينه
وبين الحقيقة.
وهناك فارق آخر ولو على تقدير الانتقال إلى المعنى المجازي من دون
ملاحظة القرينة، كما يتفق في بعض المجازات، فإنه يحمل اللفظ على معناه
الحقيقي إلى أن يقوم قرينة صارفة عن الحمل عليه، بخلاف المشترك.
نعم، يحصل الأمران بل الأمور المذكورة بقرينة واحدة في كثير من المقامات،
إلا أن الحيثيات فيه مختلفة والجهات متعددة، بخلاف قرينة المشترك.
فظهر بما قررناه استقلال المشترك في الدلالة على ما وضع بإزائه من المعاني
وإحضارها ببال السامع، بعد علمه بوضعه لها وقصوره في إفادة المراد بنفسه وعدم
استقلاله في الدلالة على خصوصه.
ولا ينتقض به حد الوضع، نظرا إلى أخذهم فيه استقلال اللفظ في الدلالة على
المعنى، إذ المأخوذ هناك الاستقلال في الدلالة على الوجه الأول لا في الحكم
بكونه مرادا للمتكلم.
كيف! والوضع للمعنى الحقيقي حاصل في المجاز، مع أنه غير دال على إرادته
فوضع اللفظ للمعنى أمر وراء الحكم بكون الموضوع له مرادا للمتكلم، وانما هو
من فوائده وثمراته على نحو مخصوص، مستفاد من القانون المقرر في اللغات من
503

أصالة الحمل على الحقيقة وغيرها.
وهذا الاستقلال في الدلالة حاصل في المشترك بالنسبة إلى جميع معانيه فهو
دال بنفسه على المراد وإن لم يكن دالا على كونه هو المراد وهذا هو الفارق بينه
وبين المجاز كما قررنا، فإن الانتقال إلى معناه المجازي لا يكون بنفس اللفظ بل
بتوسط القرينة في الغالب، أو بتوسط المعنى الحقيقي خاصة في بعض المجازات.
وأما في عدم الاستقلال في إفادة خصوص المراد فهما مشتركان فيه،
ولا يكون الانتقال اليه إلا بتوسط القرينة فيهما كما ذكرنا.
فتحصل مما قررنا: أن ما يستقل المشترك بإفادته إنما هو الدلالة على إرادة
أحد معانيه لا بمعنى المفهوم الجامع بينها بل خصوص واحد منها، فصح القول بأن
مدلول المشترك واحد من المعنيين غير معين.
ولا ينافي ذلك تعين ذلك المعنى في الواقع وعند المتكلم وبحسب دلالة
المشترك أيضا في وجه، فإن المقصود عدم دلالة المشترك على خصوصه.
وهذا هو مقصود صاحب المفتاح من العبارة المذكورة، وقد أحسن التأدية
عنه حيث قال: إن مدلوله ما لا يتجاوز معنييه غير مجموع بينهما، فإنه ظاهر
الانطباق على إرادة مصداق أحد معنييه دون مفهوم أحدهما الصادق على كل
منهما أو الدائر بينهما كما لا يخفى.
ومن الغريب ما صدر عن بعض الاعلام من حمل ذلك الكلام على كونه
مستعملا في المعنيين معا، إلا أنه يكون الحكم والإسناد واقعا على أحدهما، حيث
قال: الظاهر منه أنه يجعل كلا من المعنيين مفهوما من اللفظ ومتعلقا للحكم، لكن
على سبيل التخيير والترديد، فالفرق بينه وبين المتنازع فيه إنما هو في الجمع
بينهما في الحكم وعدمه، انتهى.
وكأنه غفل عن قوله: " إن مدلوله واحد من المعنيين غير معين " لصراحته في
خلاف ما ذكره.
على أن عبارته المتقدمة غير ظاهرة أيضا فيما ذكره، بل ظاهرة في خلافه،
504

فإن قوله: " غير مجموع بينهما " بعد قوله: " إن مدلوله ما لا يتجاوز معنييه "
كالصريح في عدم اجتماع المعنيين في الإرادة، وحملها على عدم الاجتماع
في الحكم بعيد جدا كما لا يخفى.
ولعل الوجه فيما ذكره أن ما نص عليه من دلالته على أحد المعنيين لا يمكن
حصوله إلا بالدلالة على المعنيين معا، إذ من دون دلالته على كل منهما لا يعقل
دلالته على أحدهما، فيكون كل من المعنيين مدلولا للفظ كما هو المفروض في
محل البحث، فحكمه بدلالته على أحدهما وكذا التخيير والترديد المستفاد من
ذلك إنما هو بالنسبة إلى تعلق الحكم لا في نفس الدلالة، إذ المفروض ثبوت دلالته
على كل منهما.
وأنت خبير بما فيه بملاحظة ما قدمنا.
رابعها: أن يستعمل في المجموع المركب من المعنيين بأن يكون كل منهما
جزء ما تعلق الحكم به، كقولك: " زيد يرفع هذا الحجر " إذا أردت أن الزيدين معا
يرفعانه لا أن كلا منهما يرفعه، ونقل عن بعضهم أن ذلك هو محل البحث في المقام،
وهو غلط ظاهر، لعدم انطباق الأقوال عليه، ضرورة كون الاستعمال المذكور في
خلاف ما وضع له اللفظ قطعا، فلا محالة لو صح كان مجازا، وقد نص جماعة على
خروجه عن المتنازع فيه.
قال الفاضل الباغنوي: لا نزاع في امتناع ذلك حقيقة، وفي جوازه مجازا.
قلت: نفيه النزاع عن جواز الاستعمال فيه مطلقا كما هو ظاهر إطلاقه محل
منع، بل الظاهر أن ذلك يتبع العلاقة المصححة للتجوز عرفا، بحيث لا يستهجن
استعماله كذلك، فلو أطلق البيع على مجموع البيع والشراء، والقرء على مجموع
الطهر والحيض، وعسعس على مجموع أقبل وأدبر فلعله لا مانع منه، لوجود
المناسبة المعتبرة، بخلاف إطلاق العين على مجموع الجاسوس وكفة الميزان،
إذ لا ربط بين الكل وكل من المعنيين.
ومجرد كون كل من المعنيين الحقيقيين جزء من المستعمل فيه ولو في
505

الاعتبار لا يكون مجوزا للاستعمال مطلقا.
وكأنه بني على وجود علاقة الكل والجزء حينئذ، فأطلق صحة استعماله فيه
على سبيل المجاز، وهو بين الوهن.
وأنكر بعض الأفاضل جواز استعماله في ذلك مطلقا، نظرا إلى أن العلاقة
الحاصلة في المقام هي علاقة الكل والجزء لا غيرها، وهي مشروطة بكون الكل
مما ينتفي بانتفاء الجزء وأن يكون للكل تركب حقيقي، وذلك منتف في المقام
فلا مصحح للاستعمال.
والدعويان الأوليان محل منع بل وكذا الثالث، لإمكان وضع اللفظ بإزاء
كل من جزئي المركب الحقيقي مع انتفاء الكل بانتفاء كل منهما.
خامسها: أن يستعمل في كل من المعنيين على أن يكون كل منهما مناطا
للحكم ومتعلقا للإثبات والنفي.
والفرق بينه وبين السابق عليه هو الفرق بين العام المجموعي والأفرادي
على ما ذكر، وهذا هو محل النزاع على ما نص عليه جماعة.
فإن قلت: إذا أريد من اللفظ كل واحد من معنييه لم يكن ما استعمل فيه اللفظ
إلا المعنيين معا كما لو أريد منه مجموع المعنيين، وإلا لم يكن فيه استغراق فالعام
في قولك: " كل من في الدار يرفع هذا الحجر " ليس مستعملا على كل من الوجهين
إلا في الاستغراق - أعني جميع مصاديقه - غير أن تعلق الحكم في الأول بجميع ما
استعمل فيه اللفظ - أعني مجموع الجزئيات - وفي الثاني بكل من الجزئيات
المندرجة فيما استعمل فيه - أعني خصوص كل واحد من الأفراد - فعلى هذا ليس
الفرق بين العام المجموعي والأفرادي إلا في تعلق الإسناد والحكم، إذ يجعل
الموضوع في القضية تارة خصوص فرد فرد، فيكون لفظة " كل " سورا لها، وتارة
مجموع الأفراد فلا يكون كل حينئذ سورا بل الموضوع حينئذ هو مع ما أضيف
اليه، وذلك لا مدخل له في إطلاق اللفظ على معناه واستعماله فيه الذي هو محط
النظر في المقام، إذ استعمال اللفظ لم يقع إلا في معنى واحد على ما بيناه.
506

قلت: الفرق بين المعنيين واضح مع قطع النظر عن ملاحظة الإسناد والحكم،
إذ المراد بكل الرجال في العام المجموعي هو مجموع الآحاد، وفي الاستغراقي
هو كل واحد منها، وهو معنى آخر ومفهوم مغاير لذلك المفهوم ضرورة كيف!
وليس الملحوظ في الأول إلا المجموع وليست الآحاد ملحوظة إلا في ضمنه،
وكل من الآحاد ملحوظة في الثاني على جهة الاجمال، فالفرق بين المعنيين بين
لا خفاء فيه.
نعم، يمكن أن يقال: إن المستعمل فيه في العام الاستغراقي أيضا معنى واحد
شامل للجزئيات، فيكون المستعمل فيه في المشترك عند استعماله في جميع معانيه
معنى آخر مغايرا لكل واحد من معانيه، غير أنه يندرج فيه اندراج الخاص في
العام الأصولي، كما نص عليه غير واحد من محرري محل النزاع، فلا يكون
استعمالا في شئ من معانيه، بل هو استعمال له في غير ما وضع له قطعا، نظير
استعماله في مجموع معانيه ويتوقف صحته على وجود العلاقة المصححة فلا
يكون من محل النزاع في شئ ولا ينطبق عليه الأقوال الموجودة في المسألة.
فالحق خروج ذلك عن محل النزاع أيضا، وإنما البحث في استعماله في كل
من معنييه أو معانيه على نحو آخر.
وتوضيح المقام: أن استعمال المشترك في المعنيين يتصور على وجوه:
أحدها: أن يستعمل في المعنيين معا فيندرج فيه كل منهما على نحو اندراج
الآحاد تحت العشرة مثلا، وحينئذ فقد يكون الحكم منوطا بكل منهما بحيث يكون
كل من المعنيين متعلقا للإثبات والنفي، كما قد يناط الحكم بكل من آحاد العشرة
إذا أسند حكم إليها.
وقد يكون منوطا بالمجموع من حيث المجموع.
وهذان الوجهان مشتركان في استعمال اللفظ في المعنيين معا، إلا أنه قد انضم
إلى كل منهما اعتبار غير ما في الآخر حيث أسند الحكم بملاحظته إلى كل منهما
في الأول، والى المجموع في الأخير.
507

ويوضح الحال في ذلك: ملاحظة العشرة إذا أسند الحكم إليها على الوجهين
لاستعمالها في معناها على الصورتين، إلا أنه يختلف الحال في ملاحظتها في
المقامين.
وكذا الحال في التثنية، فإن مدلولها الفردان وكل منهما جزء مدلوله قطعا
ومع ذلك فقد يناط الحكم بهما على سبيل الاجتماع، وقد يناط بكل واحد منهما،
والمفهوم المراد منها واحد في الصورتين إلا أن هناك اختلافا في الملاحظة يترتب
عليه ذلك.
ثانيها: أن يستعمل في مفهوم كل منهما على نحو استعمال العام في معناه،
فيكون ما استعمل فيه عبارة عن مفهوم إجمالي شامل لهما وهو ككل من المعنيين
مفهوم مستقل، ومن البين مغايرته لكل منهما.
ثالثها: أن يستعمل في كل من المعنيين على سبيل الاستقلال والانفراد في
الإرادة بأن يراد به هذا المعنى بخصوصه مرة، والآخر أخرى فقد استعمل حينئذ
في كل من المعنيين مع قطع النظر عن استعماله في الآخر.
والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها أن كلا من المعنيين على الأولى ليس مما
استعمل فيه اللفظ مستقلا بل المستعمل فيه هو الأمر الشامل لهما كما في العام، إذ
من البين أن لفظ " العام " إنما يستعمل في معنى واحد هو العموم، وكل واحد من
الأفراد مراد منه تبعا وضمنا من حيث الاندراج في المعنى المذكور على نحو يشبه
إرادة الأجزاء من المستعمل في الكل المجموعي.
وأما في هذه الصورة فكل واحد من المعنيين قد استعمل فيه اللفظ مستقلا مع
قطع النظر عن إرادة الآخر من غير أن يستعمل في مفهوم كل منهما الشامل لهما،
فالمفروض هناك استعماله في مفهوم كل منهما من غير أن يكون مستعملا في
خصوص كل منهما، كما هو الشأن في العام الأصولي بالنسبة إلى جزئياته،
لوضوح عدم استعمال العام في خصوص شئ من الأفراد، والمفروض في هذه
استعماله في خصوص كل من المعنيين مستقلا من غير تبعيته لاستعماله في
508

مجموع الأمرين ولا لاستعماله في مفهوم كل منهما الشامل لهما، نعم يتبعه
صدق هذا المفهوم فالأمر هنا على عكس العام.
وهذه الصورة هي محل البحث في المقام، وهو المراد من استعماله في كل من
المعنيين، فيكون الاستعمال المذكور بمنزلة استعمالين، فهناك إرادتان مستقلتان
من اللفظ يتعلق كل منهما بأحد المعنيين، فاللفظ حينئذ مستعمل في معنيين
مطابقيين، كما أن دلالته على كل منهما على سبيل المطابقة.
وأما في الصورة الأولى فقد أريد من اللفظ المعنيان معا ولم يرد خصوص
كل منهما إلا بالتبع، فلا يكون الموضوع له بكل من الوضعين إلا جزء من المراد،
ومن البين أنه ليس هناك وضع ثالث بإزاء المعنيين، ولا يلزم الوضع لهما من ذينك
الوضعين فيكون الاستعمال فيهما مجازا قطعا، سواء اخذ كل من المعنيين مناطا
للحكم أو لا.
وكذا الحال في الصورة الثانية، إلا أن الفرق بينهما أن كلا من المعنيين في
الأولى مندرج تحت المستعمل فيه اندراج الجزء تحت الكل، وفي الثانية اندراج
الخاص تحت العام الأصولي، فلا يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له في شئ
منهما، ويتبع صحة استعماله فيهما وجود العلاقة المصححة حسب ما عرفت،
وملاحظة كلماتهم في المقام تنادي بما قلناه.
ومما يوضح ذلك أن استعمال المشترك فيهما على نحو دلالته عليهما، فكما
أنه يدل على كل من المعنيين مستقلا من غير ملاحظة لغيره أصلا كذا يراد
استعماله فيه على ذلك النحو، ولا يتصور ذلك إلا على ما بيناه، فهناك وحدة في
الإرادة بالنسبة إلى كل من المعنيين، إذ لا يراد بملاحظة كل وضع إلا معنى واحدا
إلا أن هناك انضماما بين الإرادتين، فما يظهر من غير واحد من الأفاضل من كون
محل النزاع من الصورة الثانية بين الفساد.
وقد نص بعضهم في بحث استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه - في رد
احتجاج القائل بالمنع بكون المجاز ملزوم القرينة المانعة المعاندة لإرادة الحقيقة،
509

فيلزم الجمع بين المتنافيين - ما لفظه: المعتبر في المجاز نصب القرينة المانعة من
إرادة المعنى الحقيقي في هذه الإرادة بدلا عن المعنى المجازي، وأما لزوم كون
القرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي بإرادة أخرى منضمة إلى إرادة المعنى
المجازي فهو ممنوع بل هو عين النزاع.
وهذا كما ترى صريح فيما قلناه، ومن البين أن محل النزاع في المقامين من
قبيل واحد.
وإذ قد عرفت أن المناط في محل النزاع كون كل من المعنيين مما استعمل فيه
اللفظ وأريد منه على سبيل الاستقلال من غير تبعية واندراج تحت كل أو عام فهو
حينئذ يعم ما إذا كان كل من المعنيين مناطا للحكم ومتعلقا للإثبات والنفي، أو كان
الحكم متعلقا بالمعنيين معا.
وتوضيح المقام: أن هناك استقلالا في الإرادة من اللفظ بأن يكون كل من
المعنيين مرادا بإرادة مستقلة واستقلالا في تعلق الحكم وكونه مناطا للإثبات
والنفي، فالوجوه في المقام أربعة:
إذ قد يكون كل من المعنيين مستقلا في الإرادة مستقلا في تعلق الحكم.
وقد يكون كل منهما مستقلا في الأول دون الثاني.
وقد يكون بالعكس.
وقد لا يكون مستقلا في شئ منهما، ويعرف الجميع من ملاحظة ما قدمناه،
والصورتان الأوليان محل النزاع في المقام، بخلاف الأخيرتان.
فإن قلت: إذا كان كل من المعنيين مستقلا في الإرادة من اللفظ فكيف يتصور
كون الحكم منوطا بالمجموع؟ لقضاء ذلك بكون الكل مرادا من حيث هو كل،
وهو خلف.
قلت: لا منافاة أصلا، إذ لا ملازمة بين إرادة كل من المعنيين بإرادة مستقلة
وكون الحكم منوطا بهما معا، إذ الاستقلال في الأول إنما يلاحظ بالنظر إلى الإرادة
من اللفظ والثاني بالنسبة إلى تعلق الحكم والإسناد، فقد يكون المعنيان مرادين
510

استقلالا إلا أنهما يلاحظان معا من حيث وقوع الحكم عليهما.
ألا ترى أنك إذا قلت: قتل زيد و " عمرو بكرا " فقد أردت من كل من اللفظين
معناه بإرادة منفردة، لكنك أسندت القتل إلى المجموع فكذا في المقام،
إذ المفروض وقوع الاستعمال الواحد مقام استعمالين حسب ما ذكرناه.
فقد ظهر بما فصلناه ما في كلام القوم من الاجمالي في المقام، وعدم توضيح
المرام بما يرفع غشاوة الإبهام عما هو محل البحث والكلام، وأن ما اعتبروه
في المقام من كون كل من المعنيين مناطا للحكم ومتعلقا للإثبات والنفي ليس
في محله.
وكذا ما ذكروه من إناطة الحكم بالمعنيين معا في الوجه الرابع حيث جعلوه
وجه الفرق بين الوجهين الأخيرين، بل أكثر كلماتهم في تحرير محل النزاع
لا يخلو ظاهره عن إيراد كما لا يخفى على الناظر فيها بعد التأمل فيما قررنا.
وظهر أيضا مما قررنا أن استعمالات المشترك ترتقي إلى ثمانية.
ثم لا يذهب عليك أن ما ذكرناه في بيان محل النزاع إنما يتم بالنسبة إلى
المفرد وأما في التثنية فلا يصح ذلك، إلا إذا قرر النزاع فيها بإرادة الفردين من كل
من المعنيين أو المعاني التي يراد من مفردها، ليكون المراد بها الأربعة أو الستة،
وهكذا على النحو الذي قررنا.
والظاهر أنهم لم يجعلوا ذلك محلا للنزاع بالنسبة إليها بل اكتفوا فيها بمجرد
إرادة المعنيين، فيكون تعدد المعنيين بأنفسهما كافيا فيما يعتبر من التعدد في
مدلولها، أو يكون المراد بها الفردين ولو كانا من معنيين، والثاني إنما يتم في
غير الأعلام.
وكيف كان، فليس الاستعمال هناك في معنيين مطابقيين كما هو المفروض في
المفرد، لاعتبار الإثنينية في أصل وضع التثنية والمفروض انتفاء التعدد بالنسبة
إليها وانما اعتبر في معناه الأفرادي الذي هو جزء مدلولها، فمرجع النزاع فيها إلى
أنه هل يجوز بناء التثنية من معنيين مختلفين أو لا بد في بنائها من اتحاد المعنى،
511

وهي مسألة أدبية لا مدخل لها في استعمال المشترك في معنييه على النحو المذكور.
وقد يقال بأن في التثنية وضعين أحدهما بالنسبة إلى مفردها، والآخر بالنسبة
إلى علامة التثنية اللاحقة لها، والاشتراك الحاصل فيها إنما هو بالنسبة إلى الأول
وهو المقصود بالبحث في المقام، وأما وضعها الآخر فهو خارج عن محل الكلام،
إذ لا اشتراك بالنسبة اليه.
نعم، لو كان التعدد مأخوذا فيها بملاحظة وضع واحد قام الإشكال، إلا أنه
ليس الحال فيها على ذلك، فالنزاع جار فيها على نحو المفرد من غير فرق.
ويشكل بأن كلا من الاثنين ملحوظ في التثنية، على أنه بعض المراد.
فالتعدد المستفاد من وضع العلامة إن كان ملحوظا بالنسبة إلى نفس المعنيين
فمع خروجه عن وضع تلك العلامة قطعا يخرج ذلك عن محل البحث، لكون كل
من المعنيين إذن بعضا من المراد.
وإن كان ملحوظا بالنسبة إلى الفردين فإن لوحظ ذلك بالنسبة إلى كل من
المعنيين لزم ما قلناه أولا من كون المراد بها على القول بالجواز هو الأربعة
أو الستة... وهكذا، والظاهر أنهم لا يقولون به كما هو ظاهر ما احتجوا له.
وإن لوحظ كل من ذينك الفردين بالنسبة إلى معنى غير ما لوحظ في الآخر
ففيه أنه لا يمكن حينئذ إرادة كل من المعنيين على سبيل الاستقلال أيضا حسب
ما اعتبرناه في محل الخلاف، إذ المفروض كون دلالتها على كل من الفردين على
سبيل التضمن، والمفروض أيضا ملاحظة كل من المعنيين في إرادة الفردين،
فيكون المعنيان مرادين على حسب إرادة الفردين.
ومع الغض عن ذلك كله فلا يجري الكلام فيها فيما إذا أريد بها ما يزيد على
المعنيين، مع أن محل البحث في المفرد يعم ذلك قطعا، فالتثنية أولى بالشمول،
إلا أن الظاهر تقييد النزاع فيها بخصوص الاستعمال في المعنيين.
فظهر من جميع ما قررناه أن محل البحث فيها غير محل البحث في المفرد،
فمرجع النزاع فيها ما قلناه من الاكتفاء في بنائها بمجرد الاتفاق في اللفظ من غير
512

حاجة إلى اعتبار الاتحاد في المعنى، أو يعتبر فيه ذلك أيضا.
ويجري الإشكال المذكور أيضا في الجمع مصححه ومكسره، غير أنه
لا يجري فيه الإشكال المذكور أخيرا.
والظاهر أن محل النزاع فيه على نحو التثنية في الاكتفاء فيه بالاتفاق في
اللفظ أو اعتبار الاتفاق في المعنى أيضا، فتأمل في المقام جيدا.
قوله: * (لنا على الجواز انتفاء المانع... الخ) *
قد يورد عليه تارة بأن مجرد انتفاء المانع غير كاف في إثبات المقصود
من غير إثبات المقتضي، فاللازم أولا إثبات وجود المقتضي ثم بيان انتفاء المانع
حتى يتم الاحتجاج.
وتارة بأن الحكم بانتفاء مطلق المانع من جهة انتفاء خصوص ما توهمه
المانعون غير متجه، إذ انتفاء الخاص لا يدل على انتفاء المطلق، فلعل هناك مانعا
آخر وبمجرد الاحتمال لا يتم الاستدلال.
وقد يجاب عن الأول بأن المهم في المقام هو إثبات ارتفاع المانع، لوضوح
وجود المقتضي من جهة حصول الوضع بالنسبة إلى كل من المعنيين القاضي بصحة
الاستعمال لولا المانع، أو من جهة أصالة الجواز، فتركه ذكر وجود المقتضي من
جهة ظهوره لا للاكتفاء في ثبوت المدعى بمجرد رفع المانع.
وفيه: أن دعوى كون الوضع مقتضيا لجواز الاستعمال في المعنيين في محل
المنع فضلا عن كمال ظهوره، إذ غاية ما يلزم منه كونه مصححا لجواز الاستعمال
في كل من المعنيين على سبيل البدل، وأما كونه مصححا للاستعمال في المعنيين
معا فهو في مرتبة الدعوى.
ودعوى قضاء الأصل فيه بالجواز ممنوعة أيضا، إذ جواز الاستعمال المذكور
من الأمور التوقيفية المتوقفة على توقيف الواضع وظهور جوازه من اللغة إما لقضاء
دليل خاص، أو عام به، فقضية الأصل إذن قبل ثبوته هي المنع، وسيتضح لك إن
شاء الله تعالى أن وجود المقتضي في المقام غير ظاهر إن لم نقل بظهور خلافه.
513

وعن الثاني بأن المسألة لغوية مبنية على الظن فإذا انتفى المانع الذي ادعاه
المانعون بعد بذل وسعهم في ملاحظة الموانع حصل الظن بانتفاء المانع مطلقا،
إذ لو كان هناك مانع لاهتدوا اليه مع مبالغتهم في تحصيله، فمجرد احتمال مانع
لم يهتد اليه أحد خلاف الظاهر، على أنه مدفوع بالأصل.
وفيه: أيضا تأمل لا يخفى.
قوله: * (تبادر الوحدة منه... الخ) *
قلت: من الظاهر أن الوحدة التي يدعي اعتبارها في المقام ليس مفهوم
الوحدة، ولا الوحدة اللازمة للشئ المساوقة لوجوده، ولا الوحدة الطارئة عليه
من جهة عدم وجود ثان أو ثالث معه وانما الوحدة التي تدعى في المقام هي
وحدة المعنى بالنسبة إلى كونه مستعملا فيه ومرادا من اللفظ.
فظهر أن اعتبار المصنف للوحدة في الموضوع له وعدم اعتبار غيره لها
لا ينافي وضع أسماء الأجناس للطبائع المطلقة المعراة عن الوحدة والكثرة
ووضع النكرات للفرد المنتشر الذي لوحظ فيه الوحدة المطلقة، إذ الوحدة
الملحوظة هناك وجودا وعدما هي الوحدة الملحوظة في الطبيعة بالنسبة إلى
أفرادها، فيراد في الأول وضعه للطبيعة المطلقة من غير ملاحظة شئ من أفرادها
من حيث الوحدة أو الكثرة، وفي الثاني وضعه للفرد الواحد من الطبيعة، والوحدة
الملحوظة في المقام كما عرفت هو كون المعنى الموضوع له منفردا في الإرادة،
بأن لا يضم اليه معنى آخر في الإرادة من اللفظ، فلا منافاة بين ما ذكر في المقامين
في شئ من الوجهين.
ثم إن اعتبار الوحدة في المقام يمكن تصويره بوجوه:
أحدها: أن يكون وحدة المعنى في إرادته من اللفظ جزءا من المعنى
الموضوع له، بأن يكون اللفظ موضوعا بإزاء ذات المعنى وكونه منفردا في
الإرادة، فيكون الموضوع له مركبا من الأمرين المذكورين - أعني نفس المعنى
وصفتها المفروضة - وهذا هو الذي اختاره المصنف.
514

ثانيها: أن يكون الموضوع له هو ذات المعنى مقيدة بكونها في حال الوحدة
المذكورة، فلا تكون الوحدة جزءا من الموضوع له بل تكون قيدا فيه.
ثالثها: أن تكون الوحدة المذكورة قيدا في الوضع ويكون الموضوع له هو
نفس المعنى لا بشرط شئ، فالواضع قد اعتبر في وضعه اللفظ للمعنى أن يكون
المعنى منفردا في إرادته من اللفظ واستعماله فيه.
رابعها: أن يكون الوضع حاصلا في حال الوحدة من غير أن يكون الموضوع
له هو المعنى مع الوحدة ولا بشرط الوحدة، فيكون المعنى الحقيقي للمفرد هو
المعنى في حال الوحدة، إذ هو القدر الثابت من الوضع له، وحينئذ فيكون استعماله
في المعنى في غير حال الوحدة خروجا عما علم وضع اللفظ له.
أما الوجه الأول ففيه بعد القطع بأن الموضوع له هو ذات المعنى من غير أن
يكون جزءا مما وضع اللفظ له أن إنفراد المعنى في الإرادة من طوارئ الاستعمال
والصفات الحاصلة للمستعمل فيه عند استعمال اللفظ فيه، وليس مدلولا للفظ
فكيف يعقل كونه جزءا مما وضع اللفظ له؟ والتبادر الذي ادعاه في المقام لا دلالة
فيه على ذلك أصلا، إذ ليس المتبادر من اللفظ هو المعنى ووحدته في الإرادة
بحيث ينتقل من اللفظ إلى الأمرين معا حتى يكون كل منهما جزءا مما استعمل
اللفظ فيه، إذ ذلك مما يقطع بفساده، بل لا يخطر الوحدة غالبا بالبال عند سماع
اللفظ، كيف! ولو كان ذلك جزءا من الموضوع له لزم فهمه حال الإطلاق وانسباق
الأمرين إلى الذهن، إذ المفروض وضع اللفظ بإزائهما بل المتبادر منه هو المعنى
الواحد وهو غير ما ذكره، فإن الوحدة حينئذ قيد للمعنى في وجه لا أنه جزء له
وذلك لا يستلزم إحضار الوحدة بالبال، إذ انسباق ذات المعنى المتصف بالوحدة
حال الانسباق كاف فيه لحصول القيد بذلك، بخلاف ما لو كان موضوعا للأمرين
للزوم فهمهما إذن حسب ما عرفت.
وأما الوجه الرابع ففيه أن وضع اللفظ للمعنى في حال الانفراد لا بشرط
الانفراد المأخوذ في الوضع أو الموضوع له لا يفيد شيئا في المقام.
515

والقول بعدم ظهور شمول الوضع له حينئذ مطلقا بل في حال انفراده فلا يعلم
تعلقه به في صورة اجتماعه مع غيره فلا بد من الاقتصار على ما علم تعلق الوضع
به وهو خصوص حال الانفراد ولا يجوز التعدي عنه لكون الوضع توقيفيا.
مدفوع بأن مجرد تعلق الوضع به في حال الانفراد لا يقضي بالاقتصار عليه
مع عدم كون الوضع بشرط الانفراد على أحد الوجهين المذكورين، ضرورة كون
ذات المعنى حينئذ متعلقا للوضع، وهو حاصل في الحالين.
ومجرد حصول صفة له حال الوضع لا يقضي باختصاص وضعه لذلك المعنى
بتلك الحالة الخاصة مع عدم اعتبار الواضع لتلك الخصوصية قيدا في المقام.
وكون الوضع توقيفيا لا يقضي بالاقتصار عليه مع الاعتراف بكون اللفظ
موضوعا لذلك المعنى لا بشرط الانفراد.
كيف! ولو كان وجود صفة في حال الوضع باعثا على الاقتصار في الوضع
على ذلك لزم عدم صدق الأعلام الشخصية على مسمياتها بعد تغيير الحالة
الحاصلة لها حين الوضع، إلا مع ملاحظة الواضع تعميم الوضع لسائر الأحوال في
حال الوضع، وهو مما لا يتوهمه أحد في المقام، ولو فرض ذهول الواضع عن
تعميم الوضع بل ملاحظته لذات المعنى لا بشرط شئ كاف في التعميم المذكور.
فعلم بما قررنا أن عدم شمول الوضع في المقام لحال اجتماع المعنى مع غيره
متوقف على اعتبار أحد الوجهين المتوسطين، والمآل فيهما واحد، وسيجئ
القول فيهما وفيما هو التحقيق في المقام إن شاء الله.
قوله: * (بأن يراد في إطلاق واحد... الخ) *
قد عرفت أن مجرد ذلك غير كاف في المقام بل لا بد مع ذلك من تعدد
الإرادة، بأن يكون كل منهما مرادا على سبيل الاستقلال مع قطع النظر عن الآخر،
فمجرد إرادة المعنيين بإرادة واحدة من اللفظ ولو كان كل منهما مستقلا في تعلق
الحكم غير محل النزاع، إذ ليس المستعمل فيه إذن إلا المعنيين معا، وليس اللفظ
موضوعا بإزائهما قطعا وتعلق الوضع بكل منهما لا يقضي بكون المعنيين معا
516

موضوعا له أيضا، ضرورة عدم تعلق شئ من الوضعين به.
والحاصل: أنه لا فرق بينه وبين ما إذا تعلق الحكم بالمجموع أصلا، إلا بمجرد
الاعتبار كما مر.
ثم إن اعتبار استقلالهما في تعلق الحكم كما اعتبره قد نص عليه جماعة منهم،
وقد عرفت أيضا أنه مما لا وجه له، فهم قد أهملوا ما هو المناط في محل النزاع
أعني الاستقلال في الاستعمال والإرادة من اللفظ، واعتبروا ما لا يعتبر فيه، وهو
الاستقلال في تعلق الحكم، فلا تغفل.
قوله: * (وهو غير مشترط بما اشترط في عكسه) *
قد عرفت فيما تقدم أنه لا عبرة بخصوص شئ من أنواع العلائق المعروفة
المذكورة في كلمات المتأخرين، بل إنما يتبع جواز التجوز وجود العلاقة التي
لا يستهجن استعمال اللفظ الموضوع لغير المعنى المفروض في ذلك المعنى من
جهتها، وذلك هو المناط في صحة التجوز، وهو غير حاصل في المقام، لظهور
متروكية الاستعمال في المعنيين على النحو المذكور وعدم جريانه مجرى
الاستعمالات الجارية في كلامهم، فعلى فرض كون المراد من اللفظ حينئذ مغايرا
لما وضع له كيف يصح التجوز بالنسبة اليه؟
ومع الغض عما ذكرناه فلا ريب في عدم ثبوت الإطراد في أنواع العلاقات
ليحكم بصحة الاستعمال كلما تحقق شئ منها، بل لا بد من ملاحظة عدم استهجان
الاستعمال في المحاورات، وحينئذ فكيف يصح الاستناد إلى مجرد وجود نوع
العلاقة مع الإعراض عنه في الاستعمالات؟.
قوله: * (إنهما في قوة تكرير المفرد... الخ) *
إن أراد أنهما في قوة تكرير المفرد بالعطف مطلقا فممنوع، إذ غاية ما يسلم
من ذلك كونهما في قوة تكرير المفرد في إفادة التعدد في الجملة، وإن أراد أنهما
في قوة ذلك في الجملة فلا يفيده شيئا، إذ هو مما لا كلام فيه.
قوله: * (والظاهر اعتبار الاتفاق في اللفظ... الخ) *
517

ظاهر كلامه أن ذلك مقدمة مستقلة لا أنه متفرع على ما ادعاه أولا، وحينئذ
فنقول: إنه إن ثبت ما استظهره في المقام فلا حاجة إلى ضم المقدمة الأولى
ولا الثالثة، إذ مع ثبوت الاكتفاء في بنائهما بالاتفاق في اللفظ يتم ما ادعاه من
الاستعمال فيما يزيد على المعنى الواحد.
ثم إن ما استظهره من الاكتفاء بالاتفاق في اللفظ غير ظاهر، ومعظم أهل
العربية ذهبوا إلى المنع منه، والظاهر المتبادر منهما في العرف هو الفردان أو
الأفراد من جنس واحد، بحيث لا يكاد يشك في ذلك من تأمل في الإطلاقات.
وأيضا قد أشرنا سابقا إلى أن الظاهر أن لعلامتي التثنية والجمع وضعا حرفيا
مغايرا لوضع مدخوليهما، كما هو الحال في وضع التنوين، فهي حروف غير
مستقلة لفظا ومعنى لاحقة لتلك الألفاظ، لإفادة معاني زائدة حاصلة في
مدخوليهما، كما هو الحال في وضع سائر الحروف فلا يكون مفادها منافيا لما
يستفاد من مدخولها فعلى هذا ينبغي أن يكون التعدد المستفاد منها غير مناف
للوحدة الملحوظة في مفردها على ما ادعاه، فإذا جعلنا التعدد المستفاد من تلك
العلامات بالنظر إلى حصول ذلك المعنى في ضمن فردين أو أفراد - كما هو
الظاهر - فلا منافاة بينهما أصلا، ولا إشارة فيهما إذن إلى تعدد نفس المعنى.
وأما على ما ذكره من إفادة التعدد مطلقا فالمنافاة ظاهرة فيما لو كان التعدد
بسبب الاختلاف في نفس المعنى، وأيضا لو أريد المعنيان أو المعاني المتعددة من
المفرد المدخول لتلك العلامات كان التعدد مستفادا من المفرد بنفسه، فلا تكون
العلامة اللاحقة مفيدة لمعنى جديد على نحو غيرها من الحروف اللاحقة، فإنها
إنما وضعت لبيان حالات لاحقة لمدخولها أو متعلقها مما لا يستفاد ذلك إلا
بواسطتها، كما في: " سرت من البصرة إلى الكوفة " لدلالة " من " و " إلى " على
الابتداء والانتهاء، وهما حالان لمدخوليهما أو لمتعلقهما.
وربما يتكلف لتصحيح ذلك بما مرت الإشارة اليه، إلا أنه لا يلائم ظاهر كلام
المصنف، كما عرفت وسنشير اليه إن شاء الله تعالى.
518

قوله: * (وتأويل بعضهم له بالمسمى تعسف بعيد) *
ما اختاره المصنف في ذلك ظاهر في اكتفائه في التعدد المستفاد من التثنية
والجمع بتعدد نفس مدلول اللفظ، من غير دلالته على تعدد المصداق، وهو في
غاية البعد من العرف ولا يوافق ما هو المعروف في وضع الحروف كما مر.
إلا أن يقال بثبوت وضع خاص لمجموع المفرد والعلامة اللاحقة له، من غير
أن يكون هناك وضع حرفي لخصوص العلامة اللاحقة، كما هو الشأن في الجموع
المكسرة، وهو بعيد.
وغاية ما يمكن أن يتكلف في المقام أن يقال: إن العلامة المذكورة إنما تفيد
تعدد الفرد، سواء كان ذلك الفرد المتعدد من جنس واحد أو أزيد.
وهذا كما ترى غير جار في تثنية الأعلام وجمعها، فلا مناص فيهما من
التوجيه فلا يتجه الاحتجاج بهما في المقام. 2
وأيضا لا شك في كون تثنية الأعلام وجمعها نكرة حسب ما اتفقت عليه
النحاة، ويدل عليه دخول لام التعريف عليهما وخروجهما عن منع الصرف،
فليست تلك الأعلام باقية على معانيها كما هو مناط الاستدلال، فيكون المراد بها
مفهوم المسمى بذلك، وهو معنى شائع في الأعلام كما في: " مررت بأحمدكم
وبأحمد آخر " فيراد من علامتي التثنية والجمع ما يراد من غيرها فالخروج عن
ظاهر الوضع إنما هو في مدخول العلامة لا فيها.
فما ذكره من أن التأويل المذكور تعسف بعيد ليس في محله، بعد ما عرفت من
قيام الدليل عليه.
مضافا إلى تصريح جماعة من أساطين النحاة به، بل لا يبعد كونه المنساق
منها في العرف عند التأمل حيث إن لحوق تلك العلامات قرينة دالة عليه.
قوله: * (فكما أنه يجوز... الخ) *
قد عرفت أن هذه المقدمة لا حاجة إليها بعد استظهار الاكتفاء بالاتفاق في
اللفظ، وكأنها منضمة إلى المقدمة الأولى ومتفرعة عليها، فإنه لما ادعى كونهما في
519

قوة تكرير المفرد بالعطف فرع عليه أنه كما يجوز إرادة المعاني المتعددة من
الألفاظ المتحدة المتعاطفة فكذا ما بمنزلتها، فهاتان المقدمتان تفيدان الاكتفاء
بالاتفاق في اللفظ في بنائهما، فهذا في الحقيقة وجه آخر لما ادعاه من الاكتفاء
بالاتفاق في اللفظ، وحينئذ فلا يخفى ما في تعبيره من الاضطراب.
وأنت خبير بأن الدعوى المذكورة في محل المنع وحمل التعدد المستفاد من
التثنية والجمع على التعدد المستفاد من الألفاظ المتحدة المتعاطفة قياس في اللغة،
وهو بخصوصه فاسد سيما بعد عدم مساعدة العرف عليه وظهور خلافه منه.
وأيضا ليست التثنية إلا بمنزلة لفظين متعاطفين فجواز استعمال كل واحد
منهما في معنى مغاير للآخر بطريق الحقيقة إنما يفيد جواز استعمال التثنية في
معنيين، مع أن محل النزاع في المسألة يعم ما فوق الواحد من معاني المشترك،
سواء كان معنيين أو أكثر بل لا فارق بين المعنيين وما زاد عليهما بالنسبة إلى
المفرد، فلا ينبغي نقص التثنية عنه مع اعتبار التعدد فيها في الجملة.
والدليل المذكور كما ترى غير ناهض عليه، بل من الواضع خلافه، إذ لم يعهد
في اللغة والعرف إطلاقها على الثلاثة والأربعة وما زاد عليها، فلا يصح إطلاق
القول بكونها حقيقة مع استعمالها في الأزيد من معنى واحد، كما هو الظاهر من
تحريرهم لمحل النزاع، وقد يقيد النزاع فيها بخصوص المعنيين كما مرت الإشارة
اليه، إلا أنه مناف لما أشرنا اليه.
وإذ قد عرفت ضعف ما ذكره المصنف في المقامين تبين قوة القول بالمنع
مطلقا، وقد ظهر الوجه فيه مما قررناه إجمالا، إلا أنا نوضح الكلام في المقام بما
يتبين به حقيقة المرام.
ولنفصل ذلك برسم أمور:
أحدها: أنك قد عرفت ضعف القول بكون الوحدة جزءا من الموضوع له، وكذا
عدم ثمرة للقول بوضعها لمعانيها في حال الانفراد مع البناء على عدم تقييد الوضع
أو الموضوع له بذلك.
520

بقي الكلام في القول باعتبارها قيدا في الوضع أو الموضوع له بأن يقال:
إن الألفاظ المفردة إنما وضعت لمعانيها على أن يراد منها تلك المعاني على سبيل
الانفراد، بأن لا يراد من لفظ واحد إلا معنى واحدا، لا أعني به أن لا يراد به
معنى مركب من الموضوع له وغيره، أو من الموضوعين لهما، أو من غيرهما
لجواز ذلك كله في الجملة قطعا، بل المقصود أن لا يراد من لفظ واحد إلا معنى
واحدا بأن لا يكون هناك إرادتان مختلفتان من اللفظ ليكون كل من المعنيين
مرادا من اللفظ بإرادة مستقلة، ويكون للفظ معنيان مطابقيان مستقلان قد أريد
دلالته على كل منهما.
واعتبار الوحدة على الوجه المذكور مما لا يأبى عنه العرف في بادئ الرأي،
بل قد يساعد عليه بملاحظة تبادر المعنى الواحد من اللفظ الواحد، وقد يستدل
عليه بوجهين:
أحدهما: أن الظاهر من وضع اللفظ للمعنى هو تعيين اللفظ بإزاء المعنى، بأن
يكون ذلك المعنى تمام المراد والمقصود من اللفظ، لا أن يكون المقصود من
الوضع إفادة اللفظ لذلك المعنى في الجملة، سواء أريد معه غيره أو لا، وهذا هو
المراد باعتبار الوحدة في الوضع أو الموضوع له، لمساوقته لها فلا ينافيه ما هو
الظاهر من عدم ملاحظة الوحدة بخصوصها حال الوضع، وتبادر إرادة أحد
المعاني من المشترك عند خلوه عن القرائن أقوى شاهد على ذلك، لدلالته على
اعتبار ذلك في الوضع.
ودعوى كونه إطلاقيا، غير مسموعة، إذ ظاهر الحال استناده إلى الوضع حتى
يتبين خلافه.
ثانيهما: أن وضع اللفظ للمعنى إنما كان في حال الانفراد وعدم ضم معنى آخر
اليه، فإذا لم يقم دليل على اعتبار الانفراد وعدمه في الوضع فقضية الأصل في مثله
البناء على اعتباره وانتفاء الوضع مع عدمه، اقتصارا في الحكم بثبوت الوضع على
مورد الدليل، وهو ما إذا كان القيد المذكور مأخوذا معه دون ما إذا كان خاليا عنه،
521

نظرا إلى الشك في تحقق الوضع بالنسبة اليه، فلا يصح إجراء حكم الوضع فيه
لكونه من الأمور التوقيفية المتوقفة على التوقيف.
والقول بأصالة عدم اعتبار ذلك فيه بين الفساد، لمعارضته بأصالة عدم تعلق
الوضع بالخالي عن ذلك القيد.
ومع الغض عن ذلك فقد عرفت أنه لا مسرح للأصل في هذه المقامات،
كما مرت الإشارة اليه مرارا، كيف! ولو صح الرجوع اليه في ذلك لجاز الحكم
بوضع اللفظ لأحد الشيئين إذا دار الأمر بين القول بوضعه له أو للمركب منه
ومن الآخر، ومن الواضح خلافه.
فصار الحاصل: أنه لا يجوز إرادة الزائد على المعنى الواحد بالنحو المذكور،
لاحتمال اعتبار الانفراد الحاصل للمعنى حال الوضع في تحققه، وقضية الأصل
الاقتصار في الحكم بالوضع على هذا المقدار دون غيره.
ويمكن الإيراد على ذلك أما على الأول فبأن دلالة اللفظ على كون المعنى
مرادا منه ليس من جهة الوضع المتعلق به وليس كون المعنى مرادا من اللفظ
ملحوظا في وضعه له وإنما ذلك ثمرة مترتبة على الوضع، فليس اللفظ موضوعا
بإزاء المعنى مقيدا بكونه مرادا للمتكلم حتى يعتبر فيه التوحد في تلك الإرادة، بل
إنما وضع اللفظ لنفس المعنى لأجل الدلالة عليه، فإذا استعمله المستعمل دل ظاهر
حاله على إرادته، أو أن ذلك أمر دل عليه قاعدة أصالة الحمل على الحقيقة، الثابتة
من تتبع الاستعمالات إن جعلناها أمرا آخر مغايرا للظاهر المذكور، حسب ما
مرت الإشارة اليه.
نعم، غاية ما يمكن اعتباره في المقام أن يقال بملاحظة الواضع حال وضع
اللفظ للمعنى كون ذلك تمام مدلوله، وذلك أمر حاصل من غير اعتباره أيضا، إذ
بعد كون ذلك الوضع خاصا به لا يمكن اندراج غيره في المدلولية، فهو تمام
المدلول بذلك الوضع، ولا مانع من أن يكون غيره مدلولا بوضع آخر، فحينئذ
يجتمعان في المدلولية بملاحظة الوضعين، كما هو الحال في المشتركات لحصول
522

الدلالة على المعنيين بعد العلم بوضع اللفظ لهما قطعا.
والحاصل: أنه قد تعلق كل من الوضعين بالمعنى المتصف بالوحدة في
ملاحظة الواضع، وذلك المعنى هو تمام الموضوع له بالنسبة إلى كل من الوضعين،
وليس الموضوع له إلا ذات المعنى، والظاهر أنه غير مقيد بالوحدة، إذ لو أريد
باعتبار الوحدة فيه تقييد الوضع بكون ذلك المعنى واحدا غير مأخوذ معه غيره في
المدلولية بالنسبة إلى ذلك الوضع فقد عرفت أنه أمر حاصل بمجرد ملاحظة المعنى
الواحد في الوضع وعدم ضم غيره اليه من غير حاجة إلى الاشتراط.
ولا ينافي ذلك استعماله في كل منهما بإرادة مستقلة، نظرا إلى كل من
الوضعين، كما هو المفروض في محل البحث.
وإن أريد به اعتبار الواضع عدم إرادة غيره معه ولو من جهة وضع آخر بإرادة
أخرى فذلك مما لا وجه للقول به، إذ ذلك مما لا يخطر غالبا ببال الواضع حين
الوضع أصلا، فضلا عن اعتباره ذلك في الوضع.
وقد عرفت أن إرادة المعنى من اللفظ شئ وتعيين اللفظ بإزائه شئ آخر،
غاية الأمر أن الإرادة منه تابعة لذلك التعيين، والمقصود في المقام هو تبعية
الإرادة لكل من الوضعين، ولا دليل على اعتبار الواضع في الوضع ما يمنع منه كما
عرفت، بل من البين أنه لم يعتبر في وضع اللفظ لكل من المعنيين عدم تبعية
المتكلم للوضع الآخر في الإرادة، لا حال تبعيته لذلك الوضع ولا في حال آخر.
وقد ظهر بذلك فساد الوجه الثاني أيضا فإنه إنما يتم إذا شك في كون وحدة
المعنى في الإرادة على الوجه المذكور مأخوذة في نظر الواضع معتبرة عنده، إما
في الوضع، أو الموضوع له، وأما إذا كان عدم اعتباره لذلك ظاهرا بل كان الغالب
عدم خطور ذلك بباله أيضا - حسب ما عرفت - فلا وجه لذلك أصلا، إذ لا شك
حينئذ حتى يقتصر على القدر المذكور، كيف! وقد عرفت أن دلالة اللفظ على كون
معناه مرادا للمتكلم ليست من جهة الوضع ابتداء، بأن يكون ذلك قيدا مأخوذا
في الوضع أو الموضوع له فضلا عن أن تكون خصوصية تلك الإرادة قيدا فيه
على أحد الوجهين.
523

فلا وجه إذن للقول باشتراط الوحدة في الإرادة في الوضع أو الموضوع له
بشئ من الوجهين المذكورين، بل ليس محصل كل من الوضعين المفروضين
سوى تعيين اللفظ بإزاء المعنى الواحد، وليس المستفاد منهما سوى دلالة اللفظ
على المعنى الواحد من غير زيادة عليه، وليس المقصود في الاستعمال المفروض
سوى دلالته على كل من المعنيين كذلك على حسب ما وضع له، فكما أن كلا منهما
مدلول اللفظ حينئذ على سبيل الانفراد - كما هو مقتضى الوضعين ومعلوم من
ملاحظة إطلاق المشتركات بعد العلم بأوضاعها - فأي مانع من أن يراد منها على
حسب تلك الدلالة، بل ليس إرادة المعنى من اللفظ سوى كون دلالتها مقصودة
للمستعمل، فإذا كانت الدلالة على كل من المعنيين حاصلة قطعا من غير مزاحمة
أحد الوضعين للآخر كان قصد المتكلم لتينك الدلالتين استعمالا للفظ في المعنيين.
وما يتوهم من عدم دلالة المشترك على المعنيين معا بل إنما يدل على أحد
المعاني فقد ظهر فساده مما مر، فلا مانع إذن من صحة الاستعمال المفروض من
جهة وضع اللفظ لخصوص كل من المعنيين أصلا.
ثانيها: أنك قد عرفت أن دلالة اللفظ على المعنى غير إرادة ذلك المعنى منه
وأن الأولى إنما تحصل بمجرد وضع اللفظ للمعنى والعلم به، وأما إرادته منه فقد
تحصل كما في الحقائق، وقد لا تحصل كما في المجازات، فدلالته على المعنى
وضعية حاصلة من وضع اللفظ له، وأما دلالته على إرادة المستعمل ذلك فليست
بذلك الوضع.
وحينئذ نقول: كما أن دلالة الألفاظ على معانيها حاصلة من جعل الواضع
مقصورة على القدر الثابت من توقيفه ولا يتعدى عن ذلك المقدار فكذا جواز قصد
المتكلم لتلك الدلالة وإفادته المعنى المدلول عليه بها مقصور على القدر الثابت من
تجويز صاحب اللغة، فلو منع عن قصد نحو من الدلالة أو لم يعلم من تتبع
استعمالات أهل اللغة تجويزه لها وإذنه في استعمال اللفظ لإفادته لم يجز ذلك
قطعا، لوضوح كون اللغات أمورا جعلية توقيفية متوقفة على نحو ما قرره الجاعل،
524

فمجرد دلالة اللفظ على المعنى لا يقضي بجواز قصده وإرادته من اللفظ، كما هو
الحال في اللوازم البينة للحقائق فإنه لا يصح إرادة إفهام تلك اللوازم من نفس
اللفظ من غير أن يكون ذلك على النحو المتداول في المحاورات الكاشفة عن
تجويز الواضع.
وكذا الحال في إرادة سائر المجازات ولو بعد إفهام المعاني من الألفاظ بإقامة
القرينة عليها، فإن مجرد دلالة اللفظ على إرادة المعنى نظرا إلى ظاهر الحال
أو بواسطة القرينة غير كاف في صحة استعماله فيه، بل لا بد في صحة الاستعمال
من كونه على النحو المأذون فيه من واضع اللغة، ولذا ذهبوا إلى اعتبار الوضع
النوعي في المجاز مع أن فهم المعنى من اللفظ ودلالته على المراد إنما هو بواسطة
القرينة من غير حاجة فيها إلى الوضع المذكور.
وحينئذ نقول: إن القدر الثابت من تتبع الاستعمالات هو تجويز الواضع إرادة
معنى واحد من اللفظ أعني تعلق إرادة واحدة بها وإن كانت متعلقة بأمرين أو أزيد
لكون المعنى حينئذ واحدا مع عدم الخروج في ذلك أيضا عن مقدار ما ثبت فيه
الإذن كما مر.
وأما تجويزه لتعلق إرادتين متعددتين باللفظ الواحد فيتعلق للمتكلم قصدان
بإفهام معنيين فغير ثابت من اللغة، بل الظاهر ثبوت خلافه، كما يظهر من تتبع
الاستعمالات المنقولة عن العرب وملاحظة الاستعمالات الجارية بين أهل العرف
من غير فرق بين كون المعنيين حقيقيين أو مجازيين أو مختلفين، فلم يجوز
الواضع أن يكون اللفظ الواحد إلا علما لمراد واحد ومتضمنا لإرادة واحدة
بمقتضى الاستقراء ولا أقل من عدم ثبوت تجويزه لذلك، وهو أيضا كاف في
المقام حسب ما عرفت.
فإن قلت: إنه إذا عين الواضع لفظا للمعنى فالفائدة فيه إفهام المتكلم لذلك
المعنى بواسطة وضعه له، فأي حاجة إذن إلى توقيفه في ذلك؟.
قلت: إن ما ذكرت أيضا نحو من التوقيف لكن لا يثبت به إلا تجويز إرادة
525

إفهام ذلك المعنى في الجملة، غاية الأمر أن يثبت به تجويزه لإرادته منه انفرادا
على حسب ما تعلق الوضع به.
وأما إفهام كل من المعنيين بقصدين مستقلين - كما هو الملحوظ في المقام -
فلا يلزم من ذلك أصلا، سيما بعد جريان طريقة أهل اللغة والعرف على خلاف
ذلك، وظهور عدم تجويزه لذلك من استقراء الاستعمالات الشائعة والمحاورات
الدائرة.
ومما يوضح ذلك ملاحظة التثنية فإنها قد وضعت لإفادة تكرار المعنى المراد
من مفردها فدلالتها على الفردين دلالة مطابقية، فلو صحت إرادة معنيين من اللفظ
الواحد - كما هو المفروض - لجاز أن يراد من مثنى المشترك إفهام فردين من
معنى وفردين من معنى آخر، فيراد بها مرة هذا ومرة هذا بإرادتين مستقلتين
في استعمال واحد على نحو المفرد حسب ما بينا، ومن الواضح عدم جواز
استعمالها كذلك في المحاورات، ولذا لم يقع الخلاف في استعمالها في المعنيين
على النحو المذكور حسب ما أشرنا اليه، وبينا أن الخلاف فيها على نحو آخر غير
ما قرر في المفرد.
فإن قلت: إن المانع هناك تعدد الوضع في التثنية، فإن لمفردها وضعا
ولعلامتها وضعا آخر، وحيث إنه قد ضم فيها أحد الموضوعين إلى الآخر
ولا اشتراك في وضع العلامة بل إنما وضعت لإفادة الفردين لا غير لم يصح ذلك.
قلت: لا شك أن وضع العلامة على نحو وضع سائر الحروف فهي إنما وضعت
لإفادة التعدد فيما أريد من مدخولها، فإذا صح أن يراد من مدخولها معنيان
مستقلان بالإرادة كانت تلك العلامة دالة على تعدد كل منهما بملاحظتين.
فإن قلت: إنه لما كان الوضع فيها واحدا لم يجز فيه إرادة إفهام التعدد مرتين.
قلت: أولا: إن ذلك جار في المفردات أيضا فإن للتنوين واللام ونحوهما
اللاحقة للأسماء أيضا أوضاعا حرفية على النحو المذكور، وهم قد جوزوا إرادة
المتعدد من مدخولاتها فيتعدد مفادها تبعا لها كما في المقام.
526

وثانيا: أنه لا مانع من استعمالها في المتعدد بعد كون الموضوع له فيها
خصوص الجزئيات، فيراد منها هذا مرة وهذا مرة لتعلق الوضع بكل منهما وإن
كان الوضع فيها واحدا.
ولذا نقول أيضا في إيضاح ما ذكرناه: إنه لو جاز استعمال المشترك على النحو
المذكور لجاز استعمال أسماء الإشارة ونحوها فيما يزيد على الواحد أيضا، لتعلق
الوضع بكل منها على المعروف بين المتأخرين، فيراد منها إفادتها.
وكون الوضع فيها واحدا وفي المشترك متعددا غير قاض بالفرق بعد تعدد
الموضوع له وتكثر المعنى في الجملة، فهناك أيضا معان متعددة قد وضع اللفظ
بإزائها فلم لا يجوز إرادتها في استعمال واحد، بل نقول بلزوم جواز تلك الإرادة
من النكرات أيضا لوضعها للفرد المنتشر، وهو صادق على كل من الآحاد، فأي
مانع على ما بنوا عليه من إرادة واحد منها وإرادة آخر؟ وهكذا بإرادات متعددة
نظرا إلى كون كل منها مندرجا في الموضوع له.
والحاصل: أن التعدد في ما يطلق اللفظ عليه قد يكون ناشئا من تعدد الوضع
كما في المشتركات وقد يكون من جهة تعدد الموضوع له مع اتحاد الوضع كما في
الضمائر وأسماء الإشارة ونحوها على المعروف بين المتأخرين، وقد يكون من
جهة ملاحظة الإبهام فيما وضع اللفظ له كما في النكرات، فهناك وإن لم يكن تعدد
في نفس المعنى لكن التعدد حاصل فيما يطلق اللفظ عليه نظرا إلى اتحاده مع
الموضوع له، فإنك تطلق النكرة على خصوص الأفراد من جهة كونه فردا فالتعدد
هناك حاصل أيضا في الجملة.
بل وكذا الحال في سائر المطلقات من الألفاظ الموضوعة للمعاني الكلية
والطبائع المطلقة، نظرا إلى صدقها على أفرادها وإطلاق تلك الألفاظ عليها من
جهة اتحادها معها، فإن كان كون المعنى موضوعا له في الجملة كافيا في صحة
الإطلاق على المتعدد لزم الاكتفاء به في جميع ذلك، وإلا فليمنع من الكل إلا أن
يقوم دليل على الجواز، ولا وجه للتفصيل من غير بيان دليل.
527

ومما يشير إلى ما قلناه أيضا أن اتحاد اللفظين قد يكون باتحادهما في أصل
الوضع - كما هو الحال في المشترك على ظاهر حده - وقد يكون بالعارض نظرا
إلى طرو الطوارئ - كما إذا اتحد المفرد والتثنية في اللفظ من جهة إضافته إلى
المعرف باللام - وقد يكون اتحادهما في الصورة مع كون أحدهما لفظا واحدا
موضوعا لمعنى مخصوص والآخر متعددا بملاحظة أوضاع شتى لأبعاضه، كما
في: " سلعا " و " سل عن " و " عبد الله " بملاحظة وضعه العلمي ومعناه الإضافي،
و " تأبط شرا " بالنسبة إلى معناه التركيبي والعلمي.
فلو قيل بجواز إرادة معاني عديدة من اللفظ لوضعه بإزائها فلا بد من القول
بجوازه في جميع ذلك إن لم يكن هناك مانع من جهة الحركات الطارئة، كما أشرنا
اليه في أول البحث.
والتزام ذلك في غاية البعد، بل قد يقطع بفساده بعد ملاحظة الاستعمالات،
والبناء على التفصيل مع اتحاد المناط مما لا وجه له أيضا، فتأمل في المقام جيدا.
ثالثها: أن الحروف اللاحقة للأسماء أو الأفعال إنما تفيد معاني زائدة متعلقة
بتلك الأسماء أو الأفعال، فهي ليست قاضية بخروجها عن معانيها وأوضاعها
الحاصلة لها قبل لحوقها كما هو معلوم من ملاحظة الاستعمالات، ولا أقل من
قضاء الأصل بذلك حتى يثبت المخرج، وحينئذ فالنفي الوارد على اللفظ إنما ينفي
المعنى الثابت له قبل طروه، فلا وجه إذن للتفصيل بين النفي والإثبات، لكون النفي
مفيدا للعموم فيتعدد مدلوله. بخلاف الإثبات فإنه إذا أفاد العموم فإنما يفيده
بالنسبة إلى معناه قبل طرو النفي والمفروض أنه لا تعدد فيه حينئذ فكيف! يعقل
تعدده بعد ورود النفي عليه فغاية ما يفيده إذن هو العموم بالنسبة إلى المعنى
الواحد، ولا كلام فيه.
نعم، إذا قلنا بأن مدلول المشترك عند الإطلاق هو أحد المعاني الصادق على
كل منها كما هو أحد الوجوه فيما عزي إلى صاحب المفتاح أمكن التفصيل المذكور.
فإنه قد يقال بأن سلب أحد المعاني إنما يكون بسلب الجميع لصدق نقيضه
528

بحصول أحد أقسامه، بخلاف الإثبات لصدقه بحصول واحد منها.
لكنك قد عرفت ضعف الكلام المذكور، وأنه لا دلالة لكلام صاحب المفتاح
عليه، وعلى فرض دلالته فلا حجة فيه بعد مخالفته لصريح فهم العرف وكلام
المعظم، ومع ذلك فليس من الاستعمال في المعنيين كما هو مورد البحث.
ثم إنه لو تم الوجه المذكور لجرى فيما إذا كان الإثبات موردا لأدوات
العموم، إذ لا يختص العموم بالنفي فلا يتجه التفصيل المذكور.
وكذا الحال في علامتي التثنية والجمع اللاحقتين للمفرد، فإنهما إنما يفيدان
تعدد معناه الحاصل حال الإفراد كما أن لحوق التنوين له يفيد الوحدة، ولحوق
اللام يفيد التعريف، فاللفظ مع قطع النظر عن لحوق تلك الطوارئ له موضوع
للطبيعة المطلقة القابلة لاعتبار كل من المذكورات معها بواسطة ما يلحقها من
اللواحق المذكورة، فليس مفاد كل من علامتي التثنية والجمع سوى إفادة حال
ملحوقها بحصوله في ضمن فردين أو أكثر، وحينئذ فمن أين يجئ اختلاف أصل
المعنى فيهما؟.
فإن قلت: إن ما ذكرت لو تم فإنما يجري في التثنية والجمع المصحح، وأما
المكسر فليست إفادته للتعدد إلا بواسطة وضعه لذلك استقلالا من غير بقاء لوضعه
الأفرادي في ضمنه، لخروج المفرد عن وضعه بالتكسير، وحينئذ فأي مانع من
تعدد مفاده على الوجه الملحوظ في المقام؟.
قلت: إن المعنى المتبادر من الجمع في الصورتين أمر واحد لا اختلاف فيه
من هذه الجهة أصلا، كما هو ظاهر من ملاحظة العرف، فإذا ثبت عدمه في
المصحح ثبت في المكسر أيضا، مضافا إلى عدم قائل بالفصل.
ثم مع الغض عما ذكرناه والمنع من ثبوت وضع حرفي لعلامتي التثنية والجمع
- ليتم ما ذكر من البيان - لا بد من القول بثبوت وضع للمجموع.
والمرجع فيه علماء العربية، وقد ذهب المعظم منهم إلى عدم جواز بناء التثنية
والجمع الا مع اتفاق المعنى، ولا يعادله قول من ذهب إلى جوازه مع الاختلاف
529

فيه، لرجحان الأول من وجوه شتى.
ومع الغض عن ملاحظة كلامهم فالرجوع إلى التبادر كاف في إثباته، إذ
لا يستفاد من التثنية والجمع عرفا إلا تعدد المعنى المعروض للأفراد، ويشهد له
ملاحظة الاستعمالات.
نعم، لا يجري ذلك في تثنية الأعلام وجمعها، وقد عرفت قضاء الدليل فيهما
بالتصرف في معروضيهما، وأما تثنية الضمائر والموصولات وجمعهما فلا يبعد
كونهما موضوعات ابتدائية كمفرداتها، هذا إن قلنا بكون الوضع فيهما عاما
والموضوع له خاصا، وإلا فلا إشكال، على أنه من جهة اتحاد الوضع فيهما يكون
المعنى المستفاد منهما أمرا واحدا.
وإن كان اللفظ موضوعا بإزاء خصوصياته فالتعدد المأخوذ في تثنيتهما
وجمعهما إنما يلحق ذلك المعنى الواحد المعروض للوحدة في مفرداتهما، فتأمل.
إذا تقرر ما ذكرناه فبناء التثنية والجمع مع فرض تعدد المراد من مفرديهما
خروج عن وضع التثنية والجمع، فيفتقر جوازه على وجود العلاقة المعتبرة في
العرف بأن لا يكون خارجا عن مجاري الاستعمالات، وهو غير ظاهر، بل الظاهر
خلافه كما يظهر بالتأمل في موارد الإطلاقات.
على أن التصرف في الأوضاع الحرفية مقصور على السماع في الغالب، ولذا
اعتنى علماء العربية بضبط معانيها المجازية حتى أنه ذهب بعضهم إلى لزوم نقل
الآحاد فيه، وقد مرت الإشارة اليه.
قوله: * (لكان ذلك بطريق الحقيقة) *
أورد عليه أنه لا حاجة إلى ضم المقدمة المذكورة للاكتفاء في المقام بمجرد
الاستعمال، سواء كان بطريق الحقيقة أو المجاز، إذ المفسدة المدعاة إنما تتبع
وقوع الاستعمال مطلقا، فيكفي أن يقال: إنه مستعمل حينئذ في هذا وحده وفي
هذا وحده، والتناقض حاصل بذلك.
وأجيب عنه بأن المقدمة المذكورة لا بد منها في المقام، إذ لو فرض عدم الالتفات
530

إليها لم يلزم كونه مستعملا في هذا وحده وفي هذا وحده، لإمكان سقوط الوحدة
حينئذ فيكون مستعملا في نفس المعنى بدون القيد، غاية الأمر أن يكون مجازا.
وفيه: أن المفروض في محل البحث استعمال اللفظ في معنييه الموضوع لهما،
وذلك إنما يصدق باستعماله في هذا وحده وفي هذا وحده، فاعتبار ذلك في محل
النزاع مغن عن المقدمة المذكورة.
وأنت خبير بأن ما ذكر في الإيراد والجواب مبني على كون المفسدة المترتبة
على ذلك هو لزوم اجتماع المتنافيين في الإرادة حيث يراد المعنى وحده، ولا
يراد وحده بعد البناء على اعتبار الوحدة في الموضوع له.
لكنك تعلم أنه لو كان ذلك مقصود المستدل في المقام لم يحتج إلى إطالة
الكلام، وضم المقدمات المذكورة، ورده المشترك بين المعنيين إلى المشترك بين
الثلاثة ثم التمسك في بيان الاستحالة بالمنافاة بين إرادة المعنيين معا مع إرادة كل
منهما منفردا، بل كان يكفيه التمسك إلى المنافاة الظاهرة بين إرادة أحد المعنيين
مع الآخر نظرا إلى اعتبار قيد الوحدة في كل منهما فإرادة كل منهما مع الآخر
ينافي الوحدة الملحوظة من جهتين.
والذي يظهر من التأمل في كلامه أنه لم يأخذ في الاحتجاج اعتبار الوحدة
في وضع اللفظ لكل من المعنيين، سواء كانت جزء من الموضوع له، أو شرطا فيه،
أو في الوضع، كيف! ولو اخذ ذلك لم يصح ما ادعاه من كون معاني اللفظ حينئذ
ثلاثة، لكون استعماله في المعنيين معا كاستعماله في كل منهما منفردا حقيقة أيضا،
ضرورة اسقاط الوحدة المعتبرة حينئذ، فيكون اللفظ مستعملا في غير الموضوع له
قطعا، فكيف! يلزم أن يكون ذلك أيضا حقيقة حسب ما ادعاه؟
بل الظاهر أن مقصوده إلزام كون المعنيين معا أيضا معنى حقيقيا للفظ، نظرا
إلى وضعه لكل منهما واستعماله فيهما، فيكون ذلك إذن بناء على القول بجواز
الاستعمال فيهما معنى ثالثا للفظ مغايرا لكل منهما، ويكون اللفظ مشتركا بين
تلك الثلاثة.
ولما كان مورد النزاع هو استعمال المشترك في جميع معانيه فلا بد من كونه
531

مستعملا في المعاني الثلاثة المذكورة، ورتب على ذلك لزوم التناقض.
ويمكن تقرير كلامه في بيان التناقض بوجهين:
أحدهما: أن يريد بذلك لزوم التناقض بين المرادين، فإن إرادة المعنيين معا
قاضية بعدم الاكتفاء بكل منهما في الامتثال والإطاعة، بل لا بد فيه من حصول
الأمرين، وإرادة كل منهما منفردا قاضية بحصول الامتثال بالإتيان لكل منهما،
وهما متنافيان.
ثانيهما: أن يقرر ذلك بالنسبة إلى نفس الإرادتين، نظرا إلى أن إرادة المعنيين
معا قاضية بعدم إرادته لكل منهما منفردا، وإرادته لكل منهما منفردا إنما يكون
بعدم إرادته الأمرين معا.
وكأن الأظهر حمل كلامه على الأول، إذ لو أراد الثاني لم يقتصر في بيان
المنافاة على المنافاة الحاصلة بين إرادة كل منهما منفردا وإرادة المعنى الثالث
الذي أثبته في المقام - أعني المعنيين معا - لثبوت المنافاة بين إرادة المعنيين
الأولين أيضا، نظرا إلى ملاحظة الوحدة في كل منهما.
وكأن هذا الوجه ناظرا إلى التقرير المتقدم، فقد يلغو معه اعتبار تلك
المقدمات، لإمكان التمسك به من أول الأمر.
إلا أن يقال: إن ذلك لا يقضي بإلغاء المقدمات المذكورة بالنظر إلى ما ذكره
من التقرير، غاية الأمر أن لا يحتاج إليها في التقرير الآخر، فلا يرد عليه استدراك
بعض المقدمات، بل يرد عليه أن هناك طريقا آخر في الاحتجاج لا حاجة فيه إلى
ضم المقدمات المذكورة، وهو لا يعد إيرادا على الحجة.
وكيف كان، فلا يخفى وهن الحجة المذكورة على التقرير المذكور، وعلى
ما قررناه من وجوه شتى.
قوله: * (له حينئذ ثلاثة معان... الخ) *
لا يخفى أنه إن قيل بكون اللفظ موضوعا لكل من المعنيين بقيد الانفراد
لم يكن استعماله في المعنيين معا على سبيل الحقيقة قطعا، لسقوط قيد الانفراد.
وإن قيل بكونه موضوعا لكل من المعنيين لا بشرط الانفراد وعدمه لم يكن
532

استعماله في المعنيين استعمالا في معنى ثالث، لكونه استعمالا في نفس المعنيين
المفروضين.
نعم، يكون استعمال المشترك حينئذ على وجوه ثلاثة، إلا أن يثبت له هناك
معان ثلاثة والفرق بين الأمرين ظاهر.
وكأن مقصوده باستعماله في المعنيين أن يستعمل في مجموعهما، كما يومئ
اليه قوله: " معا " والتعبير عنه بعد ذلك بإرادة المجموع، وحينئذ فكون المعاني
ثلاثة مما لا ريب فيه مع قطع النظر عن اعتبار الوحدة أيضا، إلا أن دعوى كون
استعماله في المعنيين كذلك حقيقة بين الفساد.
ثم إنه لو صح ما ذكره في بيان كون المعاني ثلاثة لجرى في كونها أربعة...
وهكذا فلا تقف معانيها على حد.
قوله: * (وقد فرض استعماله في جميع معانيه) *
لا يخفى أن ذلك غير مأخوذ في محل البحث، فإن المبحوث عنه في المقام
هو استعماله في أزيد من معنى سواء استعمل في الجميع أو لا، نعم القائل بظهوره
في الاستعمال في جميع معانيه يحمله عليه عند التجرد عن القرائن، وذلك مما
لا ربط له بمحل النزاع في المقام.
قوله: * (الاكتفاء بكل واحد منهما) *
ظاهر ذلك يعطي ما ذكرناه من كون مقصوده الاكتفاء به في الامتثال لظهور
لفظ " الاكتفاء " في ذلك، وكذا قوله: " وكونهما مرادين على الانفراد " فإن الظاهر
كون قوله: " على الانفراد " قيدا للمراد لا للإرادة لما يشتمل عليه ذلك من التناقض
في نفسه.
وحينئذ فيرد عليه أن غاية ما يلزم حينئذ أن يكون هناك تكاليف ثلاثة.
أحدها: الإتيان بهما على الاجتماع بأن يكون كل منهما بعضا من المراد،
كما هو ظاهر كلامه.
والثاني والثالث: التكليف بكل منهما منفردا فلا تناقض.
نعم، لو تعلق هناك تكليف واحد بما ذكر على النحو المذكور ثبت التناقض،
533

إلا أن استعمال المشترك في معانيه لا يقضي بذلك أصلا.
ومع الغض عن ذلك فالمفروض في محل النزاع استعمال المشترك في معانيه
التي يمكن الاجتماع بينها في الإرادة حسب ما مر، فعلى فرض كون المعنيين معا
معنى ثالثا لا يلزم من القول بجواز استعمال المشترك في معانيه أن يراد أيضا،
لعدم إمكان إرادته أيضا نظرا إلى ما قرره من لزوم التناقض، فليكن المراد حينئذ
هو كل منهما منفردا، وبه يحصل ما هو المقصود.
على أنا نقول: إن موضع النزاع هو المعنى الثالث على ما يقتضيه جعله مقدما
في القياس الأول، فما ذكر في تالي القياس الثاني من لزوم كونه مريدا لأحدهما
خاصة غير مريد له كذلك فاسد، إذ مع إرادة المعنيين معا لا يراد كل منهما منفردا،
غاية الأمر أن لا يكون ذلك استعمالا له في معانيه، بل في معنى واحد، ولا مناقشة
فيه بعد وضوح المراد.
قوله: * (والجواب: أن ذلك مناقشة لفظية... الخ) *
هذا الجواب ينطبق على التقرير المتقدم، وقد عرفت بعده من كلام المستدل
كيف! وكثير من مقدماته المذكورة حينئذ مستدركة، ولا حاجة فيه إلى التطويل
المذكور حسب ما أشرنا إليه.
قوله: * (فإن أفاد المفرد التعدد أفاد... الخ) *
الظاهر أنه أراد بما ذكره أولا من كونهما مفيدين للتعدد، هو الدلالة على تعدد
المفرد، وبما ذكره ثانيا هو الدلالة على تعدد نفس المعنى فهما مستقلان في الدلالة
على التعدد، لكن على الوجه الأول، وهو الفارق بينهما وبين المفرد، وأما دلالتهما
على التعدد بالوجه الثاني فتابعة لإفادة المفرد إياه.
قوله: * (فإن السجود من الناس... الخ) *
لا يخفى أن قضية ظهور المشترك في جميع معانيه أن يكون المنسوب في
الآيتين إلى كل من المعطوف والمعطوف عليه هو جميع المعاني، كما هو شأن
الدلالة على العموم عند إسناد العام إلى كل من المذكورات، وليس مفاد الآيتين
ذلك ولا ادعاه المستدل، فلا يطابق ما ادعوه.
534

قوله: * (وهو غاية الخضوع) *
قد يستشكل في المقام بأنه لو أريد به ذلك لم يتجه تخصيصه بكثير من الناس
إن أريد به الخضوع التكويني وإن أريد به التكليفي فلا يعم ما عدا المكلفين
فلا يصح إسناده إلى غيرهم أيضا.
ويدفعه: أن المراد به مطلق الخضوع الأعم من الوجهين، إلا أن ذلك إذا أسند
إلى غير ذوي العقول انصرف إلى الأول وإذا أسند إلى ذويها انصرف إلى الثاني،
لظهور الفعل المنسوب إليهم فيما صدر منهم على سبيل الاختيار.
أو يقال: إن الكفار من ذوي العقول، لما تعارض فيهم الخضوع التكويني
والعناد والاستكبار الحاصل منهم في مقام التكليف تعادلا، فكأنه لا خضوع فيهم.
أو يقال: إن الفائدة في تخصيصهم بالذكر شرافتهم وظهور الخضوع والانقياد
بالنسبة إليهم بخلاف غيرهم.
ويؤيد ذلك اندراج الكل في قوله تعالى: * (من في السماوات ومن في
الأرض) * (1) فيكون ذكر الخاص بعد العام لأحد الوجهين المذكورين، فلا حاجة
إلى التزام التخصيص في الأول.
وقد يجعل ذكر الشمس والقمر وغيرهما أيضا من ذلك بناء على شمول من
في المقام لذوي العقول وغيرهم، تنزيلا للكل في المقام منزلة أرباب العقول.
هذا، ولنختم الكلام في المرام بالتنبيه على أمور:
أحدها: أن الظاهر أن البحث في المقام إنما هو في المشترك، وأما غيره من
الألفاظ المتحدة في الصورة المختلفة بحسب المعنى مما أشرنا اليه - كالألفاظ
المشتركة من جهة الإعلال أو غيره، والألفاظ المشتركة بين المفرد والمركب التام
أو غيره - فالظاهر خروجها عن موضوع البحث في المقام.
لكن قد عرفت أن الوجه المذكور لجواز استعمال المشترك في معانيه جار
فيه، وأما الوجه الذي ذكروه للمنع فلا يخلو جريانه فيه عن تأمل (2).

(1) سورة الحج: 18.
(2) إذ ليس في ذلك إرادة معنيين من لفظ واحد لينافي الوحدة الملحوظة في الوضع حسب
ما بني عليه الاستدلال المذكور، وإنما جعل الملفوظ في بعض الوجوه المفروضة إشارة إلى
لفظين متعددين، وأريد بكل منهما معناه بعد جعل اللفظ كلمة مستقلة في أحد وجهيه وجزء
من آخر في الوجه الآخر، كما في بعض آخر من الوجوه المذكورة، فتأمل. (منه (رحمه الله)).
535

وقد يتخيل بعض الوجوه للمنع من إرادة ما يزيد على الوجه الواحد في بعض
الصور المذكورة، لكنه لا ينهض حجة على المنع.
نعم، ظاهر المحاورات يأبى عنه كمال الإباء، والظاهر أنه لا مجال للتأمل في
المنع منه، وذلك من الشواهد على المنع من استعمال المشترك أيضا، كما مرت
الإشارة اليه.
ثانيها: أن إرادة الظاهر والباطن من القرآن ليست من قبيل استعمال المشترك
في أزيد من معنى، لما هو ظاهر من عدم كون البطون مما وضع اللفظ بإزائها
ليكون اللفظ مشتركا لفظيا بين الظاهر والباطن، فذلك أشبه باستعمال اللفظ في
حقيقته ومجازه إن كان الظاهر معنى حقيقيا، وفي مجازيه إن كان مجازيا، إلا أن
الظاهر أنه ليس من ذلك القبيل أيضا، إذ كثير من البطون المذكورة في الروايات
ليس بينها وبين المعنى الظهري مناسبة بينة يصحح استعمال اللفظ فيها بحسب
المتعارف في المحاورات.
والظاهر أن إرادة البطون مبنية على مراتب اخر عدا الأوضاع اللغوية
شخصية كانت أو نوعية بمعناها الأخص أو الأعم، وإنما هي مبنية على إشارات
لا يعرفها إلا الراسخون في العلم، فلا دلالة في إرادة أمور عديدة من الآيات
الكريمة على الوجه المذكور على جواز استعمال اللفظ في الحقيقتين أو الحقيقة
والمجاز، أو المجازين كما قد يتوهم في المقام.
ثالثها: أن الخروج عن مقتضى اللغة قد يكون باللحن في أصل الكلمة أو في
عوارضها ولواحقها الطارئة، كالإعراب والتقديم والتأخير والوقف بالحركة
والوصل بالسكون بناء على المنع منهما بحسب اللغة.
وقد يكون بالخروج عن القواعد الكلية المقررة في اللغة مما لا يتعلق
536

بخصوص صنف من الألفاظ، كمقصودية المعنى من اللفظ فإن التلفظ بالكلام من
غير قصد إلى معناه أصلا خارج عن قانون اللغة، ولا يندرج اللفظ معه في شئ
من الحقيقة والمجاز، إلا أنه ليس فيه لحن في أصل الكلمة ولا في عوارضها
اللاحقة، وإنما يخالف ذلك ما تقرر في اللغة من ذكر الألفاظ لإرادة معانيها
الموضوع لها أو غيرها مما يقوم القرينة عليها، حيث إن اللغات إنما قررت للتفهيم
والتفهم وإبداء ما في الضمير.
وقد (1) يجعل من ذلك استعمال المجازات من دون ضم قرينة إليها لخروجه
بذلك عما اعتبره الواضع من ضم القرينة إليها في الاستعمال.
والظاهر أن ما نحن فيه أيضا من هذا القبيل، فليس في استعمال المشترك في
معنييه لحن في نفس الكلمة ولواحقها، لما عرفت من عدم مخالفته لوضع اللفظ
لكل من المعنيين، وإنما المخالفة فيه للقاعدة المذكورة حسب ما مر بيانها، فكما
أن في عدم قصد المعنى من اللفظ وإخلائه عن إرادة المعنى خروجا عن القانون
المقرر في اللغة في استعمال الألفاظ، فكذا في جعل اللفظ علما لما زاد على
المعنى الواحد وإرادة كل منهما منه بإرادة مستقلة على نحو ما مر بيانه، فلا يحمل
عليه الكلام الوارد في المحاورات.
نعم، ربما يخرج المتكلم عن القانون المقرر فيريد ذلك من العبارة كما قد يقع
من بعض الناس في بعض المقامات، كمقام المطايبة والتمليح، وهو إذن من
تصرفات المتكلم.
كما قد (2) يقع منه غير ذلك أيضا من التصرفات الغير الشائعة في اللغة في
مقامات خاصة، ولا ربط لذلك بجواز الاستعمال المفروض بحسب اللغة كما هو
محط الكلام، فتأمل.

(1) هذا إذا قلنا بكون اعتباره لضم القرينة من جهة التفهيم كما هو الظاهر، لا في أصل تجويزه
لاستعمال اللفظ فيما يناسب معناه. (منه عفي عنه).
(2) كبعض الاشتقاقات المخترعة، وإدخال الألفاظ العجمية في الكلام العربي على النحو
الخارج عن النحو الوارد. (منه (رحمه الله)).
537

معالم الدين:
أصل
واختلفوا في استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي،
كاختلافهم في استعمال المشترك في معانيه فمنعه قوم، وجوزه
آخرون. ثم اختلف المجوزون فأكثرهم على أنه مجاز. وربما قيل
بكونه حقيقة ومجازا بالاعتبارين.
حجة المانعين: انه لو جاز استعمال اللفظ في المعنيين، للزم الجمع
بين المتنافيين. أما الملازمة، فلأن من شرط المجاز نصب القرينة
المانعة عن إرادة الحقيقة، ولهذا قال أهل البيان: إن المجاز ملزوم قرينة
معاندة لإرادة الحقيقة، وملزوم معاند الشئ معاند لذلك الشئ. وإلا
لزم صدق الملزوم بدون اللازم وهو محال، وجعلوا هذا وجه الفرق بين
المجاز والكناية. وحينئذ، فإذا استعمل المتكلم اللفظ فيهما، كان مريدا
لاستعماله فيما وضع له، باعتبار إرادة المعنى الحقيقي غير مريد له
باعتبار إرادة المعنى المجازي، وهو ما ذكر من اللازم. وأما بطلانه فواضح.
وحجة المجوزين: أنه ليس بين إرادة الحقيقة وإرادة المجاز معا منافاة.
وإذا لم يكن ثم منافاة لم يمتنع اجتماع الإرادتين عند التكلم.
واحتجوا لكونه مجازا: بأن استعماله فيهما استعمال في غير ما
وضع له أولا، إذ لم يكن المعنى المجازي داخلا في الموضوع له وهو
الآن داخل، فكان مجازا.
واحتج القائل بكونه حقيقة ومجازا: بأن اللفظ مستعمل في كل
واحد من المعنيين. والمفروض أنه حقيقة في أحدهما، مجاز في
539

الآخر، فلكل واحد من الاستعمالين حكمه.
وجواب المانعين عن حجة الجواز، ظاهر بعد ما قرروه في وجه
التنافي.
وأما الحجتان الأخيرتان، فهما ساقطتان بعد إبطال الأولى. وتزيد
الحجة على مجازيته: بأن فيها خروجا عن محل النزاع، إذ موضع
البحث هو استعمال اللفظ في المعنيين، على أن يكون كل منهما مناطا
للحكم، ومتعلقا للاثبات والنفي، كما مر آنفا في المشترك. وما ذكر في
الحجة يدل على أن اللفظ مستعمل في معنى مجازي شامل للمعنى
الحقيقي والمجازي الأول، فهو معنى ثالث لهما. وهذا مما لا نزاع فيه،
فان النافي للصحة يجوز إرادة المعنى المجازي الشامل ويسمى ذلك
ب‍ " عموم المجاز "، مثل أن تريد ب‍ " وضع القدم " في قولك: " لا أضع
قدمي في دار فلان " الدخول، فيتناول دخولها حافيا وهو الحقيقة،
وناعلا وراكبا، وهما مجازان.
والتحقيق عندي في هذا المقام: أنهم إن أرادوا بالمعنى الحقيقي
الذي يستعمل فيه اللفظ حينئذ تمام الموضوع له حتى مع الوحدة
الملحوظة في اللفظ المفرد، كما علم في المشترك، كان القول بالمنع
متوجها، لان إرادة المجاز تعانده من جهتين: منافاتها للوحدة
الملحوظة، ولزوم القرينة المانعة، وإن أرادوا به: المدلول الحقيقي من
دون اعتبار كونه منفردا، كما قرر في جواب حجة المانع في المشترك،
اتجه القول بالجواز، لأن المعنى الحقيقي يصير بعد تعريته عن الوحدة
مجازيا للفظ، فالقرينة اللازمة للمجاز لا تعانده. وحيث كان المعتبر في
استعمال المشترك هو هذا المعنى، فالظاهر اعتباره هنا أيضا. ولعل
المانع في الموضعين بناؤه على الاعتبار الآخر. وكلامه حينئذ متجه،
لكن قد عرفت أن النزاع يعود معه لفظيا. ومن هنا يظهر ضعف القول
بكونه حقيقة ومجازا حينئذ، فإن المعني الحقيقي لم يرد بكماله، وإنما
أريد منه البعض، فيكون اللفظ فيه مجازا أيضا.
540

قوله: * (كاختلافهم في استعمال المشترك في معانيه...) *
محل الخلاف في هذه المسألة كالمسألة المتقدمة بعينها من غير تفاوت،
والحق هنا أيضا ما حققناه هناك من غير فرق، وما ذكرناه من الوجه هناك جار هنا
أيضا، بل وفي استعمال اللفظ كذلك في مجازيه وإن لم يعنونوا له بحثا، وقد مرت
الإشارة إلى ذلك.
قوله: * (فأكثرهم على أنه مجاز...) *
قد يقال: إنه إن اعتبر استعمال اللفظ فيما وضع له واستعماله في غيره
المأخوذان في حدي الحقيقة والمجاز لا بشرط أن لا يكون ذلك مع استعماله في
غيره في ذلك الاستعمال لم يتجه نفي كونه حقيقة في المقام، نظرا إلى شمول كل
من حدي الحقيقة والمجاز حينئذ لذلك، فالوجه إذن هو القول الثاني.
وإن اخذ ذلك في الحدين بشرط أن لا ينضم اليه غيره أصلا ولو بإرادة أخرى
خرج الاستعمال المذكور عن الحدين معا، ولم يندرج في شئ منهما فلا وجه
لعده مجازا.
واعتبار حد الحقيقة على الوجه الثاني والمجاز بالوجه الأول مما لا وجه له،
لكون التحديد فيهما على نحو واحد، وكأن المنساق من ظاهر الحدين المذكورين
هو الوجه الثاني، وخروج الاستعمال المفروض عنهما مبني على عدم جوازه كما
هو الحق.
وأما على القول بالجواز فلا بد من اختيار الوجه الأول فيكون الاستعمال
المذكور حقيقة ومجازا بالاعتبارين، فالقول بكونه مجازا خاصة كما عن الأكثر
غير متجه.
نعم، لو قلنا باستعمال اللفظ إذن في المعنى الحقيقي والمجازي بإرادة واحدة
ليكون المعنيان معا مرادين من اللفظ اتجه ما ذكروه، إذ المركب من الداخل
والخارج خارج قطعا، إلا أنك قد عرفت خروج ذلك عن محل النزاع، فكأن
541

الاختيار المذكور مبني على خلط في المقام، فتأمل.
قوله: * (فلأن من شرط المجاز نصب القرينة المانعة... الخ) *
قد يقال: إن اعتبار القرينة المعاندة لإرادة الحقيقة في حد المجاز إنما وقع في
كلام أهل البيان، ولذا استشهد المستدل بما ذكروه، وهم قد بنوا على تثليث
الأقسام في المقام من الحقيقة والمجاز والكناية، وأما علماء الأصول فالاستعمال
عندهم منحصر في الحقيقة والمجاز، ولذا لم يعتبروا وجود القرينة المانعة في حد
المجاز، فعلى هذا يتحد الاصطلاحان في الحقيقة، وإنما الاختلاف بينهما في
المجاز، فالمجاز الأصولي أعم مطلقا من البياني، لاندراج الكناية في المجاز عند
الأصوليين وكونها قسيما له عند البيانيين.
فظهر بذلك أن الدليل المذكور إنما يفيد عدم جواز الاجتماع بين إرادة المعنى
الحقيقي والمجازي بالنسبة إلى المجاز البياني لا مطلقا، والقائل بالجواز لم يصرح
بجواز الاجتماع بالنسبة اليه بل أطلق جواز استعماله في الأمرين، ومعلوم أن ذلك
إنما يكون مع انتفاء القرينة المعاندة.
وأيضا فالظاهر من إطلاق المجاز في كلامهم هو المجاز الأصولي وجواز
اجتماع الإرادتين في ذلك معلوم بل متفق عليه بين أرباب البيان في الكناية، بل
اعتبر السكاكي فيها الجمع بين الإرادتين.
ومن هنا حاول بعض أعاظم المحققين جعل النزاع في المسألة لفظيا، نظرا
إلى أن المانع إنما أراد امتناع الاجتماع بالنسبة إلى المجاز البياني، كما يعطيه
ملاحظة دليله، والمجوز إنما أراد جواز الاجتماع في المجاز الأصولي الشامل
للكناية، فعلى هذا لا نزاع في المعنى، إذ القائل بالمنع لا يمنع من جواز الاجتماع
في الكناية المندرجة في المجاز الأصولي، والقائل بالجواز لا يجوزه في المجاز
البياني المعتبر فيه وجود القرينة المعاندة، إذ امتناع الاجتماع حينئذ ضروري غير
قابل للإنكار.
542

قلت: الظاهر أن محل النزاع في المقام هو جواز استعمال اللفظ فيما وضع له
وغير ما وضع له على النحو المفروض في المشترك من غير ملاحظة كونه مجازا
أصوليا أو بيانيا، وكون اللفظ حينئذ حقيقة أو مجازا حيث جعلوا ذلك نزاعا ثانيا،
والقائل بالمنع يمنع من ذلك مطلقا، والمجوز يجوزه سواء كان ذلك مجازا أو لا،
وما استند اليه المانع من أن المجاز ملزوم قرينة معاندة للحقيقة معروف بين أرباب
الأصول أيضا، لما يلهجون به من توقف المجاز على القرينة الصارفة، فليس ذلك
في كلام علماء البيان خاصة وإن اشتهرت تلك العبارة بينهم.
نعم، استشهاده في المقام بكلام البيانيين ليس في محله، وهو ناش من الخلط
بين الاصطلاحين، وأخصية الشاهد عن المدعى لا يقضي بتخصيص الدعوى.
مع أنه من الواضح دوران الأمر في المقام مدار استعمال اللفظ في المعنى
الموضوع له وغيره في مقابلة استعمال المشترك في المعنيين.
فتخصيص كلام المانع بخصوص المجاز المصطلح عند أرباب البيان في غاية
البعد، كيف! ولو جاز ذلك عندهم في غيره لأشاروا اليه وبينوا أنه لا منع من جهة
الاستعمال في المعنيين المفروضين وإنما المنع في خصوص فرض مخصوص
اقتضاه الاصطلاح، وهو ما إذا حصلت القرينة المعاندة بالمعنى المذكور في
الاستدلال، ولا كلام إذن في المنع.
وأيضا لو كان منظور المجيز جواز اجتماع الأمرين في الكناية لكان
استنادهم في الجواز إلى وجود الكناية المتفق عليها عند أرباب الأصول والبيان
أولى، وكان ذلك دليلا قاطعا على جواز الاستعمال في المعنيين وإن لم يسم اللفظ
حينئذ مجازا في اصطلاح البيانيين مع اندراج الكناية حسب ما ذكره في المجاز
الأصولي من غير ظهور خلاف فيه.
مضافا إلى أنه لا وجه حينئذ لما وقع من الخلاف بين المجوزين في كون
الاستعمال المذكور مجازا أو حقيقة ومجازا لاندراج الكناية في المجاز في
543

الجملة بحسب اصطلاح أرباب الأصول، وكونها قسما ثالثا عند أهل البيان.
والتحقيق أن الكناية ليست من قبيل استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له
وغيره سواء أدرجناها في المجاز أو جعلناها قسما آخر، فليس في صحة
استعمال الكناية دلالة على بطلان القول بالمنع من الاستعمال في المعنيين
المذكورين حسبما عرفت الحال فيه مما قدمناه في الفائدة الثالثة، ولنوضح الكلام
فيه أيضا في المقام.
فنقول: إن استعمال اللفظ في المعنى يكون على وجوه:
أحدها: أن يطلق اللفظ ويراد به إفهام معناه الموضوع له استقلالا من غير أن
يراد معه شئ آخر.
ثانيها: أن يراد به إفهام غير معناه الموضوع له كذلك، وهذا يكون على
وجهين:
أحدهما: أن يراد ذلك الغير من اللفظ ابتداء كما في: " رأيت أسدا يرمي " فإن
المراد أولا من لفظ " الأسد " هو الرجل الشجاع، غاية الأمر أن معناه الحقيقي
واسطة في دلالته عليه من غير أن يراد من اللفظ أصلا.
ثانيهما: أن يراد أولا من اللفظ معناه الحقيقي، لا لأن يقف السامع عنده
ويجعله متعلقا للإسناد المذكور في الكلام، بل لأن ينتقل منه إلى المعنى المجازي
الذي هو المقصود في المقام، فليس شأن إرادة المعنى الحقيقي إلا مجرد حضوره
لينتقل منه إلى غيره ويجعل وصلة إلى فهمه من غير أن يكون ذلك المعنى مقصودا
بالإفهام من اللفظ أصلا.
فالانتقال فيه إلى المعنى المجازي إنما يكون بعد توسط إرادة المعنى الحقيقي
من اللفظ، والمستعمل فيه على كل من الوجهين المذكورين هو المعنى المجازي،
إذ هو ملحوظ المستعمل، والمقصود بالإفهام من اللفظ.
وأما المعنى الحقيقي فليس إلا واسطة في الإفهام سواء لم يرد من اللفظ أصلا
544

- كما في الوجه الأول - أو أريد لأجل الانتقال إلى غيره، كما في الوجه الثاني.
وقد مر بيان ذلك وأشرنا هناك إلى أن جملة من المجازات الجارية في
المحاورات مندرجة في القسم الأخير، ومن جملتها الكناية في أحد وجهيها، ولذا
صح قولك: " كثير الرماد أو طويل النجاد أو مهزول الفصيل " مع علم المتكلم
والمخاطب بأنه لا رماد له ولا نجاد ولا فصيل، إذ ليس المقصود بالحقيقة من تلك
الألفاظ إلا معانيها المجازية، وليس المقصود من إرادة معانيها الحقيقية سوى
إحضار تلك المعاني ببال السامع لتجعل واسطة في الانتقال إلى غيرها، فيتعلق
الإسناد بتلك المعاني المنتقلة إليها فلا كذب حينئذ في تلك الإخبارات أصلا، لعدم
تعلق الإسناد بالمعاني الحقيقية مطلقا.
فتحقق بما ذكرنا كون اللازم مرادا في الكناية مع إرادة ملزومه، كما ذهب اليه
صاحب المفتاح، غير أن إرادة اللازم في هذه الصورة بالأصالة وإرادة الملزوم
بالتبع من جهة توسطه في الانتقال اليه.
ثالثها: أن يراد من اللفظ إفهام معناه الحقيقي استقلالا، لكن يراد مع ذلك
الانتقال إلى ما يلزم ذلك أيضا، سواء كان ذلك لازما لنفس الحكم، أو لما تعلق به
- أعني النسبة التامة المتعلقة للحكم - أو لخصوص المحكوم عليه أو المحكوم به
وسواء كان ذلك اللازم هو مقصوده المسوق له الكلام، أو بالعكس، أو يكون
الكلام مسوقا لإفهام الأمرين.
والظاهر إدراج ذلك على جميع وجوهه في الحقيقة باصطلاح أهل الأصول
لاستعمال اللفظ حينئذ فيما وضع له، وليس المعنى الآخر مما استعمل اللفظ فيه بل
إنما أريد إفهامه بعد إفهام المعنى الحقيقي وإرادته من اللفظ.
والفرق بينه وبين الوجه الثاني من الوجهين الأخيرين ظاهر، فإن المعنى
الحقيقي غير مراد هناك إلا تبعا لإفهام المجازي، ولذا لم يتعلق به الحكم أصلا،
فليس يراد حينئذ من أداء اللفظ إلا بيان معناه المجازي بخلاف الوجه الآخر، فإن
545

المعنى الحقيقي هناك مقصود بالإفادة، غير أنه أريد الانتقال منه إلى لازمه أو لازم
الحكم به أيضا، وذلك لا يقضي باستعمال اللفظ فيه، ولذا لا يتوقف ذلك على نقل
أهل اللغة ولا ترخيصهم في ذلك، إذ ليس فيه تصرف في اللفظ ولا خروج عن
مقتضى الوضع بخلاف الصورة المتقدمة.
والظاهر أن بعض الكنايات من هذا القبيل كما إذا قلت: " زيد طويل النجاد "
وأردت به بيان طول نجاده حقيقة وقصدت من ذلك أيضا بيان لازمه، أعني طول
قامته كما نص عليه علماء البيان، فعلى هذا تكون الكناية على وجهين يندرج
أحدهما في المجاز الأصولي والآخر في حقيقته.
وكأن هذا هو الوجه فيما ذكره صاحب المفتاح حيث قال في موضع: " إن
الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة " وهو ظاهر في عدم لزوم إرادتها أيضا، وفي
موضع: " إن المراد في الكناية هو المعنى ولازمه جميعا " إذ يمكن أن يكون مراده
بالأول هو إرادة المعنى الحقيقي أصالة وبالثاني ما يعمها والتبعي، فإرادة المعنيين
منها في الجملة حاصلة على التقديرين إلا أنه قد يكون المعنى الحقيقي مقصودا
بالأصالة أيضا فيكون اللفظ مستعملا فيه، وقد لا يكون حسب ما عرفت من
الوجهين.
وأيا ما كان فلا ربط للكناية بما نحن فيه من استعمال اللفظ في كل من حقيقته
ومجازه على سبيل الاستقلال كما هو المبحوث عنه في المقام، إذ ليس اللفظ على
الأول إلا مستعملا في معناه الحقيقي، وليس في الثاني إلا مستعملا في معناه
المجازي، فيتبع جواز استعماله على الوجه الثاني وجود العلاقة المصححة
للاستعمال، بخلاف الوجه الأول.
فإن قلت: إذا كان كل من معناه الحقيقي والكنائي مقصودا بالإفادة استقلالا
كان اللفظ مستعملا في كل من المعنيين، إذ ليس الاستعمال إلا إطلاق اللفظ وإرادة
المعنى، فكيف لا يعد ذلك من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؟.
546

قلت: لو كان الانتقال إلى معناه اللازم من اللفظ ابتداء ولو بواسطة الانتقال إلى
ملزومه أو إرادة تصويره في ذهن السامع كان اللفظ مستعملا فيه، وأما إذا كان
الانتقال اليه من جهة ثبوت المعنى المراد من اللفظ المستلزم ثبوته لثبوت ذلك
اللازم فليس ذلك من استعمال اللفظ فيه وإن أراد المتكلم إفادته أيضا.
وكأن بناءه على بيانه كبيان ملزومه، فإن الانتقال إلى وجود اللازم والعلم
بحصوله إنما يجئ من جهة ثبوت ملزومه لا بإرادته من اللفظ ابتداء، نظير سائر
اللوازم المقصودة من الكلام مما لا يستعمل اللفظ فيها، كما إذا كان المقصود من
الكلام إفادة لازم الحكم فقط أو مع إفادة الحكم أيضا، إذ ليس اللفظ هناك
مستعملا إلا في إفادة نفس الحكم وإنما ينتقل منه إلى لازم الحكم بالالتزام، ولذا
لا يعد الكلام المقصود منه إفادة لازم الحكم من المجاز.
والذي يوضح ذلك: أن استعمال اللفظ في المعنى إما أن يكون على سبيل
الحقيقة، أو المجاز، وعلى التقديرين فالدال على المعنى هو نفس اللفظ ابتداء غير
أن دلالته عليه قد تكون بتوسط الوضع، وقد تكون بواسطة القرينة، فالدال على
المعنى هو اللفظ، والوضع أو القرينة هما الباعثان (1) على دلالته فليست القرينة هي
الدالة على المعنى المجازي بل الدال هو اللفظ المقترن بالقرينة، كما قرر في محله.
وهذا بخلاف دلالة اللفظ على لوازم المعنى المراد وإن كانت تلك اللوازم
مقصودة بالإفادة أيضا، فإن الدال عليها أولا إنما هو ذلك المعنى المراد، واللفظ
هناك دال بعيد، حيث إنه يدل على ما يدل عليها.
فتبين بما قررنا وجه الفرق بين دلالة الألفاظ على معانيها المجازية، ودلالتها
على معانيها الالتزامية، فإنها وإن اشتركت في كون الدلالة غير وضعية حسب
ما مرت الإشارة اليه إلا أن الدال في المجازات هو نفس اللفظ بانضمام القرينة،
وفي المداليل الالتزامية يكون الملزوم هو الدال عليها بلا واسطة، واللفظ إنما يدل
عليها بتوسط دلالتها على المعنى الدال عليها.

(1) في هامش الأصل: " هو الباعث ظ ".
547

ومن هنا يظهر وجه الحاجة في دلالة المجازات على قيام القرينة مع أن من
المعاني المجازية ما لا يحتاج انفهامها إلى نصب القرينة، كما إذا كانت من اللوازم
البينة لمعانيها الحقيقية، فإن ذلك اللزوم لا يفيد كونها مدلولة بالدلالة الحاصلة في
المجازات، غاية الأمر أن يفيد كونها مدلولة على النحو الثاني، وهو غير قاض
بكونها مدلولة للفظ ليكون اللفظ مستعملا فيها، كما هو المعتبر في المجاز،
وبملاحظة ما ذكرنا صح إدراج دلالة المجازات في المطابقة نظرا إلى تعلق الوضع
الترخيصي بها حسب ما مرت الإشارة اليه.
إذا تقرر ذلك فقد ظهر الوجه في كون اللفظ مستعملا في خصوص المعنى
الموضوع له في المقام دون معناه اللازم، فلا يكون اللفظ مستعملا في معناه
الحقيقي والمجازي، كما هو الملحوظ في محل النزاع.
فإن قلت: إذا أمكن إرادة اللازم من اللفظ على كل من النحوين المذكورين
فأي مانع من أن يكون ذلك مرادا في الكناية على نحو ما يراد في المجاز مع إرادة
معناه الموضوع له أيضا؟ فيكون اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي والمجازي
على نحو ما يقوله المجوزون.
قلت: الاحتمال المذكور مدفوع بما قررناه في وجه المنع من تعلق إرادتين
مستقلتين بلفظ واحد، وجعله علما على كل من المعنيين المفروضين، والمقصود
مما بيناه دفع ما يقال من دلالة ما ذكره علماء البيان في بيان الكناية على جواز
استعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي، بجواز حمل ما ذكروه على ما
قررناه، وقد عرفت أنه الظاهر بعد التأمل في الاستعمالات.
ثم إن ما ذكر في وجه الجمع بين القولين من أن القائل بالجواز لا يجوزه في
المجاز البياني... الخ محل نظر، إذ قد يقال: إن القدر الثابت من اعتبار القرينة
المعاندة تعاندها لإرادة الحقيقة بتلك الإرادة، لا بإرادة أخرى منضمة إليها كما هو
المعتبر في موضع النزاع، فلا مانع من القول بجواز إرادة المعنيين مع حصول
القرينة المعاندة أيضا، كيف! وقد أورد ذلك جماعة من المتأخرين على الدليل
548

المذكور وبنوا على عدم إثباته لمنع الاجتماع بين المعنيين على ما هو المفروض
في المقام، فلا يتجه نفي الخلاف عن عدم جواز الاجتماع بالنسبة إلى المجاز
البياني.
فإن قلت: إن الظاهر مما ذكره علماء البيان هو كون القرينة مانعة عن إرادة
الحقيقة مطلقا ليمكن جعله فارقا بين المجاز والكناية، لما هو ظاهر من كون كل
من المعنى الحقيقي والكنائي مرادا هناك بإرادة مستقلة، إذ ليس المقصود هناك
مجموع المعنيين ولا أحدهما، فلا يتم الفرق المذكور إلا على ما بيناه.
قلت: إن المقصود مما ذكرناه إمكان وقوع الخلاف في المقام، نظرا إلى حمل
كلامهم على ذلك كما توهمه أولئك الأعلام، لا تصحيح حمله على ذلك، فلا يتجه
لأجل ذلك الحكم بانتفاء الخلاف عن جواز الاجتماع بالنسبة اليه وإن كان المتجه
عدم جوازه، كما يشهد به الشرط المذكور، ولا يلزم من ذلك جواز الاجتماع
بالنسبة إلى الكناية، لما عرفت مما أوضحناه، فظهر أيضا مما قررنا اندفاع ما
أورده الجماعة على الدليل المذكور.
قوله: * (إنه ليس بين إرادة الحقيقة... الخ) *
هذا مبني على إنكار كون المجاز ملزوما للقرينة المعاندة لإرادة الحقيقة
مطلقا، إذ ليست القرينة شرطا في صحة استعمال المجاز حتى يكون ملزوما لها
بحسب اللغة، فلو استعمل اللفظ في المعنى المجازي من دون ذكر قرينة أصلا لم
يكن ذلك غلطا في الاستعمال بحسب اللغة وإنما يكون قبيحا من جهة الإغراء
بالجهل، حتى أنه إذا لم يكن إغراء بالجهل لم يكن هناك مانع أصلا، كما إذا
استعمل المجازات في الأدعية من دون ذكر القرينة، لوضوح المقصود عنده تعالى،
وكذا لو جاز الكذب لأجل الضرورة فورى المستعمل في كلامه بإرادة المعنى
المجازي تفصيا من الكذب كان الاستعمال صحيحا قطعا، ويشير إلى ذلك أنه
لا يعتبر في القرينة أن تكون مقارنة للمجاز، لجواز تأخير البيان عن وقت
الخطاب في الجملة كما هو المعروف، ومن البعيد أن تكون القرينة المتأخرة شرطا
549

في صحة الاستعمال الحاصل في زمان آخر قبله.
فإذا ثبت أن ذكر القرينة لأجل الإفهام لا لأجل كونها شرطا في صحة
الاستعمال ظهر فساد كون المجاز ملزوما بحسب اللغة للقرينة المعاندة لإرادة
الحقيقة مطلقا، فإن ما يراد بها إفهام المخاطب إرادة المعنى المجازي وهو حاصل
بإقامة القرينة على إفهام المعنى المجازي في الجملة، سواء أريد معه المعنى
الحقيقي أيضا أو لا.
ويدفعه أن ما ذكر من كون المجاز ملزوما للقرينة المعاندة لإرادة الحقيقة
مطلقا ليس مبنيا على كون القرينة شرطا في صحة التجوز، بل يتم ذلك مع كون
القرينة لأجل الإفهام أيضا حيث إنه بعد توقف انفهامه على قيام القرينة وكون
الكلام مسوقا لأجل الإفهام يكون إرادة المعنى المجازي ملزوما للقرينة المفهمة،
لكن إرادة المعنى المجازي على النحو الذي فصلناه لا يجامع إرادة المعنى
الحقيقي، إذ لا يصح أن يراد من لفظ واحد معنيان مستقلان حسب ما مر القول فيه،
بل لا حاجة في المقام إلى ما قررناه في المشترك، نظرا إلى أن إرادة المعنى
المجازي من اللفظ موقوف على ترخيص الواضع قطعا والقدر الثابت من
ترخيصه من التتبع في الاستعمالات هو إرادة المعنى المجازي منفردا.
وأما تجويزه لإرادة المعنى المجازي مع إرادة المعنى الحقيقي أيضا حسب ما
فرض في محل النزاع فغير معلوم من ملاحظة الاستعمالات لو لم نقل بدلالتها
على المنع منه، وذلك كاف في عدم جواز الاستعمال، فإذا لم يجز الاجتماع بينهما
في الإرادة كانت القرينة الدالة على إرادة المعنى المجازي معاندة لإرادة الحقيقة
من الجهة المذكورة، وهذا هو الوجه فيما ذكره علماء البيان من كون المجاز ملزوما
للقرينة المعاندة، فيكون ما ذكروه كاشفا عن منع الجمع بينهما في الاستعمال.
وأما المعنى الكنائي فقد عرفت أن إرادته لا تنافي إرادة المعنى الحقيقي
حيث إنه يمكن أن يراد من اللفظ إفهام معناه الحقيقي ويراد من ذلك إفهام لازمه
أيضا، فكون المراد إفهام اللازم لا ينافي إرادة إفهام الملزوم أيضا، فإن أريد
550

الأمران كان اللفظ مستعملا في الموضوع له - أعني الملزوم ويكون إفهام اللازم
حاصلا من إفهام الملزوم واستعمال اللفظ فيه - فيكون حقيقة أصولية، وإن أريد
إفهام اللازم خاصة - كما إذا أقيم هناك قرينة معاندة لإرادة الحقيقة - كان مجازا
بالاصطلاح الأصولي، فصح ما جعلوه فارقا بين المجاز والكناية من كون الأول
ملزوما للقرينة المعاندة، بخلاف الثاني حيث إنه لا يستلزم القرينة المعاندة وإن
اتفق اقترانه بها.
قوله: * (وهو الآن داخل) *
يعني في المستعمل فيه، وظاهر العبارة إرادة دخول الجزء تحت الكل أو
دخول الخاص تحت العام الأصولي، وقد عرفت أنهما خارجان عن محل النزاع،
لكون الكل والمعنى العام الشامل للأمرين معنى مغايرا للموضوع له قطعا، وليس
ذلك من الاستعمال في الموضوع له وغيره على أن يراد كل منهما بإرادة منفردة
كما هو المفروض في محل البحث في شئ، فعلى كل من الوجهين المذكورين
لا يكون شئ من المعنيين مما استعمل اللفظ فيه، بل المستعمل فيه هو الكل
المجموعي أو العام الأصولي، بخلاف الوجه الأخير المفروض في محل البحث،
لكون كل من المعنيين على ذلك الفرض قد استعمل اللفظ فيه لكونه مرادا بإرادة
مستقلة.
وحينئذ فنقول: إن كان المراد مما ذكروه في حد الحقيقة من أنها اللفظ
المستعمل فيما وضع له أن يكون مستعملا فيما وضع له وحده فلا بد من اعتبار ذلك
في حد المجاز أيضا، لكون الحدين على نهج واحد، وحينئذ فيكون اللفظ
المستعمل في كل من المعنيين المذكورين خارجا عن الحدين فلا يكون اللفظ
المذكور حقيقة ولا مجازا.
وإن كان المقصود استعماله في الموضوع له في الجملة - أعني لا بشرط أن
لا يكون مستعملا في غيره أيضا - تعين اندراج اللفظ المذكور في كل من الحدين،
فيكون حقيقة ومجازا بالاعتبارين فلا يصح ما ادعاه من الاندراج في المجاز
دون الحقيقة.
551

نعم، لو اعتبرت الوحدة في حد الحقيقة دون المجاز تم ما ادعاه من الاندراج
في المجاز خاصة، إلا أنه وجه ركيك لا شاهد عليه ولا باعث للالتزام به.
قوله: * (في معنى مجازي شامل للمعنى الحقيقي) *
كأن ظاهر العبارة بملاحظة ما ذكره من المثال والحكم بكونه من عموم
المجاز يعطي كون اندراج الموضوع له في المستعمل فيه من اندراج الجزئي تحت
الكلي، فيكون اللفظ مستعملا في المعنى الكلي المشترك بين المعنيين الصادق
عليهما.
ولا يخفى أنه خلاف الظاهر من كلام المستدل، بل الذي يتراءى من ظاهر
كلامه جعله من باب اندراج الجزء تحت الكل، أو الخاص تحت العام الأصولي،
على أن يكون المراد من اللفظ مفهوم كل من المعنيين حسب ما مر بيانه في بحث
المشترك وقد قرر موضع النزاع هناك على كل من الوجهين المذكورين، كما مرت
الإشارة اليه والى وهنه.
وأما جعل المقام من استعمال اللفظ في مفهوم كلي مشترك بين المعنيين
صادق عليهما فمع وضوح فساده في نفسه لا وجه لحمل عبارة المستدل عليه.
وقد يحمل عبارة المصنف على بيان ما ذكرناه، فيكون مراده من شموله
للمعنى الحقيقي هو الشمول على أحد الوجهين المذكورين، ولا ينافيه جعله من
قبيل عموم المجاز، إذ لا مانع من تعميم عموم المجاز لذلك، وما ذكره من المثال
إنما هو لبيان عموم المجاز في الجملة وإن لم يطابق ذلك عموم المجاز الحاصل
في المقام.
هذا، ويمكن أن يقال: إن مقصود المستدل أن الحاصل في المقام استعمال
واحد والمفروض أن المستعمل فيه بذلك الاستعمال هو المعنى الحقيقي
والمجازي، فيكون المعنى المجازي مندرجا في المستعمل فيه، والمفروض
خروجه عن الموضوع له فلا يكون المستعمل فيه عين الموضوع له بل غيره،
فيندرج في المجاز وحينئذ فلا خروج فيه عن محل البحث، ولا يكون من عموم
المجاز في شئ.
552

والجواب عنه حينئذ ما عرفت من أن اندراج غير الموضوع له في المستعمل
فيه يكون على أحد وجهين:
أحدهما: أن لا يتعلق الاستعمال بشئ من المعنيين إلا بالتبع، نظرا إلى
اندراجه في المستعمل فيه، وحينئذ فيكون المستعمل فيه هو المعنى الشامل له
سواء كان شموله له من قبيل شمول الكل لجزئه، أو العام الأصولي للخاص
المندرج فيه، والمفروض أن ذلك المعنى مغاير للموضوع له فيكون مجازا قطعا.
وثانيهما: أن يتعلق الاستعمال بكل من المعنيين بأن يراد من اللفظ خصوص
معناه الحقيقي بإرادة منفردة وخصوص معناه المجازي بإرادة أخرى، وحينئذ
فلا شك في كون كل من المعنيين مما استعمل اللفظ فيه، فيندرج اللفظ حينئذ في
كل من حدي الحقيقة والمجاز بالاعتبارين، غاية الأمر أن لا يكون بملاحظة
استعماله في كل منهما مندرجا في خصوص شئ من الحدين، ولا يمنع ذلك من
اندراجه في الحقيقة بملاحظة استعماله في معناه الحقيقي، وفي المجاز بملاحظة
استعماله في الآخر.
نعم، لو كانت الوحدة ملحوظة في كل من الحدين لم يندرج ذلك في شئ
منهما، فلا يكون مجازا أيضا، وهو مع منافاته لما ادعاه باطل بالاتفاق فلا يتم
كلامه، إلا على ما أشرنا اليه من اعتبار الوحدة في حد الحقيقة دون المجاز، وقد
عرفت وهنه.
قوله: * (اتجه القول بالجواز) *
لا يخفى أن ما ذكره إنما يقضي بجواز الاستعمال المذكور بالنسبة إلى المفرد،
إذ الوحدة إنما تعتبر فيه على مذهبه، وأما بالنظر إلى التثنية والجمع فلا، لعدم
اعتبار الوحدة فيهما، فالجهة الثانية من المعاندة حاصلة هناك فلا وجه لإطلاق
الحكم بالجواز.
وقد يقال بأن مراد المصنف (رحمه الله) في المقام هو بيان الحال في المفرد لجريان
الترديد المذكور بالنسبة اليه، وأما بالنظر إلى التثنية والجمع فلا مجال لاحتمال
553

الحقيقة، نظرا إلى كونهما موضوعين لتكرير المفرد بالنظر إلى معناه الحقيقي، فلو
أريد تكريره بالنسبة إلى معناه المجازي أو الحقيقي والمجازي كان مجازا قطعا.
وفيه: أن ذلك إنما يتم لو قلنا بتعلق وضع مخصوص بالتثنية والجمع وهو إنما
يسلم في الجمع المكسر، وأما التثنية والجموع المصححة فلم يتعلق فيهما بمجموع
الكلمة وضع مخصوص، وإنما هناك وضع اسمي متعلق بالمفرد، ووضع حرفي
متعلق بالحرف الذي يلحقهما ليفيد تعدد ملحوقه، حسب ما مر القول فيه.
وحينئذ فعلى القول بجواز بنائهما مع اختلاف المعنى المراد من المفرد - كما
هو مختار المصنف (رحمه الله) على ما ذكره في بحث المشترك - يكون معناه الموضوع له
في الاستعمال المفروض على حاله من غير تصرف فيه، فلا تجوز فيه بالنظر إلى
إرادته فلا يصح حينئذ أن يراد منه معناه المجازي أيضا، بناء على تسليمه اعتبار
القرينة المعاندة في المجاز.
وكأن المصنف (رحمه الله) يقول بتعلق وضع بمجموع لفظي التثنية والجمع نظرا إلى
اعتباره الوحدة في وضع المفرد خاصة، وتوجيه ذلك على مذهبه بجعل المفرد مع
عدم لحوق علامة التثنية والجمع موضوعا بوضع وبشرط لحوق إحدى العلامتين
موضوعا بوضع آخر بعيد، فتأمل.
قوله: * (فالقرينة اللازمة للمجاز لا تعانده) *
لا يخفى أن القرينة المعاندة المعتبرة في المجاز على ما فهمه المستدل وقرره
المصنف (رحمه الله) إنما هي معاندة لإرادة المدلول الحقيقي بنفسه من دون اعتبار الوحدة
معه، كما هو ظاهر إطلاق عبارة القائل، وما استشهد به من كلام علماء البيان بل هو
صريح ما حكاه عنهم لجعلهم ذلك وجه الفرق بين الكناية والمجاز، ومن البين أن
إمكان إرادة المعنى الحقيقي في الكناية إنما يكون بإرادته معراة عن الوحدة
فتكون القرينة المعاندة اللازمة للمجاز معاندة لإرادة الحقيقة كذلك حتى يصح
جعلها فارقة بين الأمرين.
وغاية ما يقال في المقام إن ما يسلمه المصنف (رحمه الله) من اعتبار القرينة المعاندة
554

أن تكون معاندة لإرادة المعنى الحقيقي على الوجه الأول دون الثاني، إلا أن ذلك
إبطال لما ذكره المستدل وما قرره علماء البيان، وهو خلاف الظاهر من كلامه بل
صريحه، كيف! وقد احتمل كون النزاع لفظيا بالنظر إلى ذلك كما سنشير اليه.
قوله: * (ولعل المانع في الموضعين... الخ) *
ليس في كلام المانع ما يفيد حكمه بذلك، وقد عرفت في مبحث المشترك
عدم ابتناء كلامه عليه، وإن تخيله المصنف (رحمه الله) هنالك، وكذا الظاهر عدم ابتناء
كلامه في المقام على ذلك أيضا، كيف! ولو كان بناؤه عليه لم يحتج إلى ما استدل
به في المقام من الوجه الطويل، إذ المناقضة بين الوحدة المأخوذة في الموضوع له
وإرادة المعنى الآخر ظاهرة، فكان عليه إثبات اعتبار الوحدة في الوضع والتنبيه
على المناقضة المذكورة، فعدم إثباته لاعتبار الوحدة المذكورة في شئ من
البحثين مع كونه هو المناط في المنع بناء على ما ذكره وتمسكه بما قرره من
الوجهين المذكورين في المقامين كالصريح في عدم بنائه على ذلك.
قوله: * (ومن هنا يظهر ضعف القول بكونه حقيقة ومجازا) *
قد عرفت أن ما ذكره على فرض صحته لا يجري في التثنية والجمع، إذ ليس
قائلا باعتبار الوحدة فيهما، نعم يمكن الاستناد فيهما إلى ما أشرنا اليه، ويشكل
ذلك أيضا في غير الجمع المكسر بما عرفت.
z z z
555

معالم الدين:
المطلب الثاني
في الأوامر والنواهي
وفيه بحثان:
البحث الأول
في الأوامر
أصل
صيغة " إفعل " وما في معناها حقيقة في الوجوب فقط بحسب
اللغة على الأقوى وفاقا لجمهور الأصوليين. وقال قوم: إنها حقيقة في
الندب فقط. وقيل: في الطلب، وهو: القدر المشترك بين الوجوب
والندب. وقال علم الهدى (رضي الله عنه): إنها مشتركة بين الوجوب والندب
اشتراكا لفظيا في اللغة، وأما في العرف الشرعي فهي حقيقة في
الوجوب فقط. وتوقف في ذلك قوم فلم يدروا، أللوجوب هي أم
للندب. وقيل: هي مشتركة بين ثلاثة أشياء: الوجوب، والندب،
والإباحة. وقيل: هي للقدر المشترك بين هذه الثلاثة وهو الإذن. وزعم
قوم: أنها مشتركة بين أربعة أمور، وهي الثلاثة السابقة، والتهديد وقيل
فيها أشياء أخر، لكنها شديدة الشذوذ، بينة الوهن، فلا جدوى في
التعرض لنقلها.
557

لنا وجوه: الأول - أنا نقطع بأن السيد إذا قال لعبده: " إفعل كذا " فلم
يفعل، عد عاصيا وذمه العقلاء معللين حسن ذمه بمجرد ترك الامتثال،
وهو معنى الوجوب.
لا يقال: القرائن على إرادة الوجوب في مثله موجودة غالبا، فلعله
إنما يفهم منها، لا من مجرد الأمر.
لأنا نقول: المفروض فيما ذكرناه انتفاء القرائن، فليقدر كذلك، لو
كانت في الواقع موجودة. فالوجدان يشهد ببقاء الذم حينئذ عرفا.
وبضميمة أصالة عدم النقل إلى ذلك يتم المطلوب.
الثاني - قوله تعالى مخاطبا لإبليس: " ما منعك ألا تسجد إذ
أمرتك ". والمراد بالأمر: " اسجدوا " في قوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة:
اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس "، فان هذا الاستفهام ليس على
حقيقته، لعلمه سبحانه بالمانع، وإنما هو في معرض الانكار
والاعتراض، ولولا أن صيغة " اسجدوا " للوجوب لما كان متوجها.
الثالث - قوله تعالى: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم
فتنة أو يصيبهم عذاب أليم "، حيث هدد سبحانه مخالف الأمر،
والتهديد دليل الوجوب.
فان قيل: الآية إنما دلت على أن مخالف الأمر مأمور بالحذر، ولا
دلالة في ذلك على وجوبه إلا بتقدير كون الأمر للوجوب، وهو عين
المتنازع فيه.
قلنا: هذا الأمر للإيجاب والالزام قطعا، إذ لا معنى لندب الحذر
عن العذاب أو إباحته. ومع التنزل، فلا أقل من دلالته على حسن الحذر
حينئذ. ولا ريب أنه إنما يحسن عند قيام المقتضى للعذاب، إذ لو لم
يوجد المقتضي، لكان الحذر عنه سفها وعبثا. وذلك محال على الله
سبحانه. وإذا ثبت وجود المقتضي، ثبت أن الامر للوجوب، لأن
558

المقتضي للعذاب هو مخالفة الواجب، لا المندوب.
فان قيل: هذا الاستدلال مبني على أن المراد بمخالفة الأمر ترك
المأمور به، وليس كذلك. بل المراد بها حمله على ما يخالفه بأن يكون
للوجوب أو الندب، فيحمل على غيره.
قلنا: المتبادر إلى الفهم من المخالفة هو ترك الامتثال والاتيان
بالمأمور به. وأما المعنى الذي ذكرتموه فبعيد عن الفهم، غير متبادر
عند إطلاق اللفظ، فلا يصار إليه إلا بدليل. وكأنها في الآية اعتبرت
متضمنة معنى الإعراض، فعديت ب‍ " عن ".
فان قيل: قوله في الآية: " عن أمره "، مطلق فلا يعم، والمدعى إفادته
الوجوب في جميع الأوامر بطريق العموم.
قلنا: إضافة المصدر عند عدم العهد للعموم، مثل " ضرب زيد "
و " أكل عمرو ". وآية ذلك جواز الاستثناء منه، فإنه يصح أن يقال في
الآية: فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلا الأمر الفلاني. على أن
الاطلاق كاف في المطلوب، إذ لو كان حقيقة في غير الوجوب أيضا، لم
يحسن الذم والوعيد والتهديد على مخالفة مطلق الأمر.
الرابع: قوله تعالى: " وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون "، فإنه سبحانه
ذمهم على مخالفتهم للأمر، ولولا أنه للوجوب لم يتوجه الذم.
وقد اعترض أولا بمنع كون الذم على ترك المأمور به، بل على
تكذيب الرسل في التبليغ، بدليل قوله تعالى: " ويل يومئذ للمكذبين ".
وثانيا: بأن الصيغة تفيد الوجوب عند انضمام القرينة إليها إجماعا،
فلعل الأمر بالركوع كان مقترنا بما يقتضي كونه للوجوب.
وأجيب عن الأول: بأن المكذبين إما أن يكونوا هم الذين لم
يركعوا عقيب أمرهم به، أو غيرهم. فإن كان الأول، جاز أن يستحقوا
الذم بترك الركوع، والويل بواسطة التكذيب، فان الكفار عندنا معاقبون
559

على الفروع كعقابهم على الأصول، وإن كانوا غيرهم لم يكن اثبات
الويل لقوم بسبب تكذيبهم منافيا لذم قوم بتركهم ما امروا به.
وعن الثاني: بأنه تعالى رتب الذم على مجرد مخالفة الأمر، فدل
على أن الاعتبار به، لا بالقرينة.
إحتج القائلون بأنه للندب بوجهين:
أحدهما: قوله (صلى الله عليه وآله): " إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم ".
وجه الدلالة: أنه رد الاتيان بالمأمور به إلى مشيتنا، وهو معنى الندب.
وأجيب بالمنع من رده إلى مشيتنا، وإنما رده إلى استطاعتنا،
وهو معنى الوجوب.
وثانيهما: أن أهل اللغة قالوا: لا فارق بين السؤال والأمر إلا بالرتبة،
فان رتبة الآمر أعلى من رتبة السائل، والسؤال إنما يدل على الندب،
فكذلك الأمر، إذ لو دل الأمر على الايجاب لكان بينهما فرق آخر.
وهو خلاف ما نقلوه.
وأجيب: أن القائل بكون الأمر للإيجاب، يقول: إن السؤال يدل
عليه أيضا، لأن صيغة " إفعل " عنده موضوعة لطلب الفعل مع المنع من
الترك، وقد استعملها السائل فيه. لكنه لا يلزم منه الوجوب، إذ الوجوب
إنما يثبت بالشرع، ولذلك لا يلزم المسؤول القبول. وفيه نظر.
والتحقيق: أن النقل المذكور عن أهل اللغة غير ثابت، بل صرح
بعضهم بعدم صحته.
حجة القائلين بأنه للقدر المشترك: أن الصيغة استعملت تارة في
الوجوب، كقوله تعالى: " أقيموا الصلاة "، وأخرى في الندب، كقوله:
" فكاتبوهم "، فان كانت موضوعة لكل منهما لزم الاشتراك. أو لأحدهما
فقط لزم المجاز، فيكون حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهو طلب
الفعل، دفعا للاشتراك والمجاز.
560

والجواب: أن المجاز، وإن كان مخالفا للأصل، لكن يجب المصير
إليه إذا دل الدليل عليه. وقد بينا بالأدلة السابقة أنه حقيقة في الوجوب
بخصوصه، فلا بد من كونه مجازا فيما عداه، وإلا لزم الاشتراك المخالف
للأصل المرجوح بالنسبة إلى المجاز، إذا تعارضا، على أن المجاز لازم
بتقدير وضعه للقدر المشترك أيضا، لأن استعماله في كل واحد من
المعنيين بخصوصه مجاز، حيث لم يوضع له اللفظ بقيد الخصوصية،
فيكون استعماله فيه معها استعمالا في غير ما وضع له. فالمجاز لازم في
غير صورة الاشتراك، سواء جعل حقيقة ومجازا، أو للقدر المشترك.
ومع ذلك فالتجوز اللازم بتقدير الحقيقة والمجاز أقل منه بتقدير القدر
المشترك، لأنه في الأول مختص بأحد المعنيين، وفي الثاني حاصل
فيهما.
وربما توهم تساويهما، باعتبار أن استعماله في القدر المشترك على
الأول مجاز، فيكون مقابلا لاستعماله في المعنى الآخر على الثاني،
فيتساويان.
وليس كما توهم، لأن الاستعمال في القدر المشترك، إن وقع، فعلى
غاية الندرة والشذوذ، فأين هو من اشتهار الاستعمال في كل من
المعنيين وانتشاره.
وإذا ثبت أن التجوز اللازم على التقدير الأول أقل، كان بالترجيح
- لو لم يقم عليه الدليل - أحق.
احتج السيد المرتضى (رضي الله عنه) على أنها مشتركة لغة بأنه لا شبهة في
استعمال صيغة الأمر في الايجاب والندب معا في اللغة، والتعارف،
والقرآن، والسنة، وظاهر الاستعمال يقتضي الحقيقة، وإنما يعدل عنها
بدليل.
قال: " وما استعمال اللفظة الواحدة في الشيئين أو الأشياء إلا
561

كاستعمالها في الشئ الواحد في الدلالة على الحقيقة ".
واحتج على كونها حقيقة في الوجوب بالنسبة إلى العرف الشرعي:
بحمل الصحابة كل أمر ورد في القرآن أو السنة على الوجوب، وكان
يناظر بعضهم بعضا في مسائل مختلفة، ومتى أورد أحدهم على
صاحبه أمرا من الله سبحانه أو من رسوله (صلى الله عليه وآله)، لم يقل صاحبه هذا أمر،
والأمر يقتضي الندب، أو الوقف بين الوجوب والندب، بل اكتفوا في
اللزوم والوجوب بالظاهر. وهذا معلوم ضرورة من عاداتهم ومعلوم
أيضا: أن ذلك من شأن التابعين لهم، وتابعي التابعين. فطال ما اختلفوا
وتناظروا، فلم يخرجوا عن القانون الذي ذكرناه. وهذا يدل على قيام
الحجة عليهم بذلك حتى جرت عادتهم، وخرجوا عما يقتضيه مجرد
وضع اللغة في هذا الباب.
قال (رحمه الله): " وأما أصحابنا، معشر الامامية، فلا يختلفون في هذا
الحكم الذي ذكرناه، وإن اختلفوا في أحكام هذه الألفاظ في موضوع
اللغة، ولم يحملوا قط ظواهر هذه الألفاظ إلا على ما بيناه، ولم يتوقفوا
على الأدلة. وقد بينا في مواضع من كتبنا: أن إجماع أصحابنا حجة ".
والجواب عن احتجاجه الأول: أنا قد بينا أن الوجوب هو المتبادر
من إطلاق الأمر عرفا، ثم إن مجرد استعمالها في الندب لا يقتضي كونه
حقيقة أيضا، بل يكون مجازا، لوجود أماراته، وكونه خيرا من
الاشتراك، وقوله: " إن استعمال اللفظة الواحدة في الشيئين أو الأشياء
كاستعمالها في الشئ الواحد في الدلالة على الحقيقة "، إنما يصح إذا
تساوت نسبة اللفظة إلى الشيئين أو الأشياء في الاستعمال، أما مع
التفاوت بالتبادر وعدمه أو بما أشبه هذا من علامات الحقيقة والمجاز،
فلا. وقد بينا ثبوت التفاوت.
وأما احتجاجه على أنه في العرف الشرعي للوجوب، فيحقق
562

ما ادعيناه، إذ الظاهر أن حملهم له على الوجوب إنما هو لكونه له لغة،
ولأن تخصيص ذلك بعرفهم يستدعي تغيير اللفظ عن موضوعه
اللغوي، وهو مخالف للأصل. هذا، ولا يذهب عليك أن ما ادعاه في
أول الحجة، [من] استعمال الصيغة للوجوب والندب في القرآن
والسنة، مناف لما ذكره من حمل الصحابة كل امر ورد في القرآن أو
السنة على الوجوب، فتأمل!.
احتج الذاهبون إلى التوقف: بأنه لو ثبت كونه موضوعا لشئ من
المعاني، لثبت بدليل، واللازم منتف، لأن الدليل إما العقل، ولا مدخل
له، وإما النقل، وهو إما الآحاد، ولا يفيد العلم، أو التواتر، والعادة
تقتضي بامتناع عدم الاطلاع على التواتر ممن يبحث ويجتهد في
الطلب. فكان الواجب أن لا يختلف فيه.
والجواب: منع الحصر، فان ههنا قسما آخر، وهو ثبوته بالأدلة
التي قدمناها، ومرجعها إلى تتبع مظان استعمال اللفظ والأمارات
الدالة على المقصود به عند الاطلاق.
حجة من قال بالاشتراك بين ثلاثة أشياء: استعماله فيها، على حذو
ما سبق في احتجاج السيد (رحمه الله) على الاشتراك بين الشيئين. والجواب،
الجواب.
وحجة القائل بأنه للقدر المشترك بين الثلاثة وهو الإذن، كحجة من
قال بأنه لمطلق الطلب: وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب.
وجوابها كجوابها.
واحتج من زعم أنها مشتركة بين الأمور الأربعة بنحو ما تقدم في
احتجاج من قال بالاشتراك، وجوابه مثل جوابه.
563

قوله: * (في الأوامر والنواهي) *
هما جمعا الأمر والنهي، بمعنى القول المخصوص، ويجريان في الأمر والنهي
بمعنى الطلب أيضا، وليسا جاريين على القانون، إذ ليس القياس في جمع " فعل "
فواعل، وحكى في النهاية عن بعضهم إنكار مجئ " أوامر " جمعا للأمر، بل جمعه
" أمور " سواء كان بمعنى القول المخصوص أو الفعل، إذ " أوامر " جمع آمرة، وقال:
إن هذا شئ يذكره الفقهاء.
وربما يؤيده ما في القاموس حيث ذكر جمع الأمر على أمور بعد تفسيره بضد
النهي والحادثة، ولم يذكر جمعه على أوامر، وظاهره كون أمور جمعا له على
التفسيرين.
إلا أن الظاهر من الأصوليين وغيرهم كونهما جمعين للأمر والنهي بالمعنى
المذكور، ويشهد له ملاحظة الاستعمالات الدائرة في العرف وحملها على
التحريفات الطارئة بعيد جدا.
وقد يجعلان في الأصل جمعا لآمرة وناهية بتأويل كلمة آمرة وناهية على
سبيل المجاز من قبيل إسناد الشئ إلى الآلة، فيكون الجمع إذن على القاعدة،
ويكون إطلاقهما على الصيغة مجازا بملاحظة العلاقة المذكورة إلا أنه اشتهر ذلك
إلى أن بلغ حد الحقيقة، فيكون إذن من المنقولات العرفية.
ويظهر من ذلك وجه اختصاص الجمع المذكور بالأمر بمعنى القول المخصوص.
وربما يجعل أوامر جمعا لأمور، حكاه في الإحكام فيكون جمع جمع وكأنه
نقل فيه الواو عن مكانه فقدم على الميم.
ويضعفه مع ما فيه من التعسف أنه غير جار مجرى الأمور في الاستعمالات،
لاختصاصه بالأقوال واختصاص الأمور بغيرها، فلو كان جمعا له كان بمنزلته، إلا
أن يجعل ذلك من طوارئ الاستعمال في المقامين، ولا يخلو عن بعد وأنه لو كان
جمع جمع لما كان صادقا على أقل من تسعة، مع أنه ليس كذلك كما هو ظاهر من
ملاحظة الإطلاقات.
564

قوله: * (صيغة إفعل) *
الكلام في بيان معنى " الأمر " يقع في مقامات:
أحدها: في بيان مفاد مادة الأمر على سبيل الاجمال.
ثانيها: في تحديد معناها المقصود في المقام.
ثالثها: في أنها هل تفيد الوجوب عند الإطلاق أو لا؟.
رابعها: في بيان مفاد الصيغة.
والمصنف اقتصر على الرابع، إذ هو المهم بالبحث في المقام، وأما البواقي
فلا يترتب عليها ثمرة مهمة في الأحكام، ولا بأس أن نشير إليها.
أما الأول:
فنقول: إن لفظ " الأمر " يطلق على معاني عديدة:
منها: القول المخصوص الدال على طلب الفعل حسب ما يأتي بيانه في المقام
الثاني.
ومنها: الفعل، كما في قوله تعالى: * (وما أمر فرعون برشيد) * (1).
ومنها: الفعل العجيب، كما في قوله تعالى: * (فلما جاء أمرنا) * (2).
ومنها: الشئ، كما تقول: " رأيت اليوم أمرا عجيبا ".
ومنها: الشأن، تقول: " أمر فلان مستقيم ".
ومنها: الحادثة، نص عليه في القاموس.
ومنها: الغرض، كما تقول: " جاء زيد لأمر ".
وقد يرجع الستة الأخيرة إلى معنى واحد، وقد اتفقوا على كونه حقيقة في
القول المخصوص، كما حكاه جماعة منهم العلامة والآمدي والحاجبي والعضدي.
والظاهر من ما عدا الآمدي حكاية الاتفاق على كونه حقيقة في خصوص
القول المخصوص، بل نص عليه العضدي في آخر كلامه.

(1) سورة هود: 97.
(2) سورة هود: 66، 82.
565

ولا ينافي ذلك نقل الحاجبي والعضدي القول بوضعه للقدر المشترك،
لاحتمال أن يكون القول المذكور خرقا لما اتفقوا عليه، كما أشار اليه الحاجبي
ونص عليه العضدي.
نعم، ظاهر الآمدي كونه حقيقة فيه في الجملة، سواء كان ذلك خصوص ما
وضع له أو مصداقا حقيقيا له.
والمحكي عن الأكثر في كلام جماعة هو اختصاصه بالقول المخصوص
وكونه مجازا في غيره، وقد نص عليه جماعة من العامة والخاصة، وعزاه فخر
الاسلام إلى الجمهور، والسيد العميدي إلى المحققين.
وعن جماعة أنه مشترك لفظا بين القول والفعل، وعزاه في النهاية إلى السيد
وجمع من الفقهاء، وعن بعضهم إسناده إلى كافة العلماء.
وحكى الحاجبي والعضدي قولا باشتراكه معنى بين القول والفعل، إلا أنه نص
الحاجبي على حدوث القول به في مقام إبطاله فيومئ إلى انعقاد الاجماع على
خلافه، كما نص عليه العضدي.
وهذا القول هو مختار الآمدي في الإحكام فقد نص في آخر المسألة على
كونه متواطئا موضوعا للقدر المشترك بين القول والفعل، وقد حكي القول به في
بعض شروح المختصر عن جماعة.
وقد ظهر من ذلك ضعف ما ذكره في النقود والردود نقلا عن السيد ركن الدين
من تفسيره حكاية الحاجبي للقول بالتواطئ أنه مما ذكره بعضهم على سبيل
الإيراد فهو مجرد إبداء احتمال، واستند في ذلك إلى ما في الإحكام، وقد عرفت
الحال فيما ذكره، وكأنه غفل عن ملاحظة آخر كلامه، وإنما لاحظ ما ذكره في
مقام الإيراد.
وعن أبي الحسين البصري أنه مشترك لفظا بين عدة من المعاني المذكورة.
والذي يستفاد من النهاية في بيان احتجاجه كونه مشتركا عنده بين القول
566

المخصوص والشأن والشئ والغرض، وأدرج الفعل في الشأن ولم يجعله معنى
مستقلا مرادا بخصوصه.
وحكى عنه في المعارج القول باشتراكه بين القول المخصوص وبين الشئ
والصفة والشأن والطريق، واختار القول به، وظاهر ما ذكره في الاحتجاج عليه
إرجاعه الطريق إلى الشأن والصفة والغرض إلى الشئ، فيكون عنده مشتركا
بين الثلاثة.
وكيف كان، فالأظهر كونه حقيقة في القول المخصوص وما يعم المعاني
المذكورة، ولا يبعد أن يجعل الشأن هو المعنى الشامل لها ما عدا القول، فيكون كل
من تلك الخصوصيات مفهومة من الخارج، ويكون اللفظ مشتركا بين المعنيين
المذكورين.
لنا تردد الذهن بين المعنيين حال الإطلاق، وهو دليل الاشتراك، وكثرة
استعماله في غير القول من غير علاقة ظاهرة بينه وبين القول مصححة للتجوز.
ولو فرض وجود علاقة بعيدة فلا يبتني عليه الاستعمال الشائع، بل الظاهر من
ملاحظة موارد استعماله عدم ملاحظة المناسبة بينه وبين القول، كما هو ظاهر
للمتأمل فيها.
ودعوى تحقق العلاقة بينهما كما في النهاية - نظرا إلى أن جملة ما يصدر
من الانسان لما اندرج فيها القول سمى الجميع باسمه، من باب تسمية الجملة
باسم بعضها وأن الأفعال تشبه القول في الدلالة على تسديد أغراض الانسان -
كما ترى.
واحتمال كونه حقيقة في القدر المشترك بعد ما عرفت من وهنه من جهة
الاتفاق على خلافه حسب ما ذكروه ومخالفته لفهم العرف مدفوع، بأنه ليس هناك
جامع بين بين الأمرين ليمكن القول بوضع اللفظ بإزائه وأخذ مفهوم أحد المعنيين
جامعا بينهما في المقام متعلقا للوضع كما ذكره العضدي بعيد غاية البعد، بل قد
567

يقطع بفساده عند ملاحظة الاستعمالات، بل ملاحظة سائر الأوضاع إذ لا نظير له
في شئ من الأوضاع.
ويظهر من الإحكام جعله القدر المشترك بين المعنيين هو الشأن والصفة
حيث قال: إن مسمى اسم الأمر إنما هو الشأن والصفة، وكلما صدق عليه ذلك نهيا
كان أو غيره يسمى أمرا حقيقة، قال: وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من خرق
الاجماع، فإن ما ذكرناه من جعل الشأن والصفة مدلولا لاسم الأمر من جملة
ما قيل.
وهو أيضا بين الوهن، كيف! ولو كان كذلك لكان صدقه على القول
المخصوص وعلى النهي على نحو واحد، ومن الواضح بعد ملاحظة العرف خلافه.
ومن البين أيضا أن فهم القول المخصوص من لفظ الأمر ليس من جهة كونه
من مصاديق الشأن، وكأن ما ادعاه في المقام مصادم للضرورة.
والظاهر أن ما ذكره من قول بعضهم بكون الشأن والصفة مدلولا لاسم الأمر
إشارة إلى ما ذهب اليه أبو الحسين حيث لم ينسب ذلك إلى غيره، وهو إنما يقول
باشتراكه لفظا بين معاني عديدة حسب ما حكاه هو وغيره، فجعل ذلك شاهدا
على عدم كون ما ذهب اليه خرقا للإجماع كما ترى.
ويمكن الاحتجاج على فساده أيضا بما يرى من اختلاف جمعه بحسب
المعنيين، فلو كان متواطئا كما ادعاه لم يتجه ذلك، إذ لا وجه لاختلاف جموع
اللفظ بحسب المصاديق مع اتحاد معناه، ولا نظير له في سائر الألفاظ، وقد مرت
الإشارة اليه في محله، بل ظاهر اختلاف الجمعين يومئ إلى الاشتراك حسب
ما مر بيانه.
والقول بكون " أوامر " جمعا ل‍ " أمور " كما حكاه عن البعض في غاية البعد،
كما عرفت.
حجة القول بكونه مجازا فيما عدا القول المخصوص وجوه موهونة، سوى
568

الاستناد إلى أصالة تقديم المجاز على الاشتراك بعد ثبوت كونه حقيقة في
خصوص القول المخصوص، نظرا إلى الاتفاق عليه.
ويدفعه ما عرفت من قيام الدليل على كونه حقيقة في غيره أيضا.
حجة القول بكونه للقدر المشترك قضاء الأصل به حيث استعمل في كل من
المعنيين، وقضية دفع الاشتراك والمجاز المخالفين للأصل أن يكون حقيقة في
القدر الجامع بينهما.
وقد عرفت وهنه مما قررناه، سيما بملاحظة ما مر من وهن الأصل المذكور
على الإطلاق.
حجة أبي الحسين ومن وافقه تردد الذهن بين المعاني المذكورة عند سماع
لفظ الأمر خاليا عن القرائن، وهو دليل الاشتراك.
ويوهنه بعد تسليمه أن القدر المسلم منه أن يدل على الأعم مما ذكره وذكرناه
فلا دلالة فيه على خصوص ما ادعاه.
وأما المقام الثاني:
فنقول: إنهم ذكروا له حدودا شتى كلها مدخولة.
منها: ما حكي عن البلخي وأكثر المعتزلة من أنه قول القائل لمن دونه: " إفعل "
وما يقوم مقامه.
وهو منقوض بما إذا أريد من الصيغة غير الإيجاب من التهديد والتسلية
والإباحة ونحوها.
وما إذا صدرت الصيغة بعنوان الهزل، وما إذا كان القائل ناقلا للأمر عن غيره
لمن هو دونه، فإن قوله ذلك ليس أمرا مع أنه مندرج في الحد.
وما إذا كان القائل مستخفضا نفسه بجعله مساويا للمقول له أو دونه مع
اندراجه إذن في الالتماس أو الدعاء.
وما إذا لم يكن القائل عاليا وكان مستعليا، فإنه إذن خارج عن الحد مع
569

اندراجه في المحدود.
وما إذا استعمل الخبر بمعنى الأمر لاندراجه في الحد مع أنه ليس بأمر
على الحقيقة.
مضافا إلى أن الأمر نفس الصيغة الصادرة لا التلفظ بها، فإنه اسم للكلام
دون التكلم.
وقد يذب عن بعض ذلك بما لا يخفى.
ومنها: ما حكي عن القاضي أبي بكر والجويني والغزالي وأكثر الأشاعرة من
أنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به.
وفيه: أنه قد اخذ فيه لفظ " المأمور والمأمور به " وهما مشتقان من الأمر،
فيدور الحد، وأيضا قد اخذ فيه لفظ " الطاعة " ومفهومها موافقة الأمر، فلا يعرف
إلا بمعرفته فيدور أيضا، وأنه يقتضي بيان الثواب والعقاب على امتثال الأمر أو
مخالفته إقدام المأمور على فعل المأمور به، فيندرج ذلك في الحد بل ذلك هو
الظاهر من الحد المذكور، نظرا إلى ظهور لفظ " المأمور والمأمور به " في حصول
العنوانين المذكورين بغير ذلك القول، وأنه يندرج فيه قول المتضرع مع خروجه
عن الأمر.
وأنه يشمل قول الناقل للأمر. وأنه يندرج فيه الخبر إذا كان بمعنى الأمر.
وقد يذب عن الدور بأن المراد بالمأمور والمأمور به من تعلق القول به وما
تعلق به ذلك، وهذا القدر كاف في تصورهما في المقام، وأن المراد بالطاعة مطلق
الامتثال والانقياد الشامل للطاعة الحاصلة بموافقة الأمر أو النهي.
أو يتصور بغير ذلك على وجه لا يؤخذ فيه ملاحظة الأمر، إلا أنه يندرج فيه
حينئذ الصيغ المستعملة في الندب، فينتقض بها الحد بناء على عدم كون المندوب
مأمورا به.
ويمكن أيضا دفع عدة من الإيرادات المذكورة بما لا يخفى.
ومنها: ما حكي عن أبي الحسين البصري من أنه قول يقتضي استدعاء الفعل
570

بنفسه لا على جهة التذلل.
وفيه: أنه يندرج فيه الالتماس، بل وكذا الدعاء إذا لم يلاحظ فيه التذلل وأنه
يندرج فيه الصيغ المستعملة في الندب فينقض بها الحد بناء على عدم كون
المندوب مأمورا به وأنه يندرج فيه الصيغ المستعملة في غير الطلب كالتهديد
ونحوه من جهة قيام القرينة عليه لاقتضائها طلب الفعل بنفسها، وأنه يخرج عنه
" أترك " ونحوه مع اندراجه في الأمر.
ومنها: ما حكي عن بعض المعتزلة من أنه صيغة " إفعل " بإرادات ثلاث: إرادة
وجود اللفظ، وإرادة دلالتها على الأمر، وإرادة الامتثال، ويخرج بالأولى اللفظ
الصادر عن النائم ونحوه، وبالثانية ما إذا أريد بها سائر معاني الصيغة من التهديد
والإباحة ونحوهما وكذا إذا ذكر اللفظ هازلا، وبالثالثة ما إذا كان القائل حاكيا لها
عن الغير فإنه لا يريد بها الامتثال.
وفيه: أولا: لزوم الدور، لأخذه الأمر في حد الأمر.
وثانيا: أن الأمر إن كان بمعنى الصيغة فكيف يراد بالصيغة الدلالة عليه؟ وإن
كان غير الصيغة فكيف يفسر بها؟.
وقد يذب عنهما بأن الأمر المأخوذ في الحد غير ما هو المقصود من المحدود،
فإن المراد به في الحد هو مدلول الصيغة، وفي المحدود نفس الصيغة، فقد اخذ
مدلول الصيغة في حدها ولا دور فيه.
نعم، قد يرد عليه أنه إحالة على المجهول، إذ هو في الجهالة كنفس المحدود.
وثالثا: أن إرادة الامتثال لا يوجب خروج الصيغة الصادرة عن المبلغ، إذ قد
يقصد بتبليغه حصول الامتثال ولم يؤخذ في الحد قصد امتثال خصوص القائل.
ورابعا: أن تخصيصه بصيغة " افعل " يوجب اخراج سائر الصيغ الموضوعة له
في العربية وغيرها.
وقد يقال بأن صيغة " افعل " من الأعلام الجنسية فهي موضوعة لمطلق الصيغ
الموضوعة لطلب الفعل، سواء كانت على وزن افعل أو غيره.
571

وقد عرفت ما فيه مضافا إلى عدم شموله للأوامر الصادرة بغير العربية من
سائر اللغات مع شمول الأمر لها قطعا.
ومنها: ما حكي عن بعضهم من أنه صيغة " افعل " على تجردها عن القرائن
الصارفة لها من جهة الأمر إلى جهة التهديد وغيره.
وفيه: مع اختصاصه بصيغة " افعل " فلا يشمل غيرها من الصيغ أن أخذ الأمر
في حده يوجب الدور، وأنه يندرج فيه الصيغة الصادرة على سبيل الهزل مع الخلو
عن القرينة الدالة عليه، فإنها ليست بأمر في الواقع وإن اعتقد المأمور ذلك، وكذا
الحال فيما إذا استعملت في غير الطلب مع خلو الكلام عن القرينة.
وهذه الحدود كلها معرفة له بالصيغة والقول الصادر وإن أمكن حمل ما ورد
منها في كلام الأشاعرة على الخطاب النفسي أيضا.
وهناك حدود اخر معرفة له بالمعنى المدلول عليه بالصيغة.
منها: ما حكي عن جماعة من المعتزلة من أنه إرادة الفعل.
وفيه: أن مطلق إرادة الفعل لا يعد أمرا، إذ هي أعم من الطلب حسب ما
سنشير اليه، وأنه قد يريد الفعل ولا يبرزه بصيغة الأمر بل بالإشارة ونحوها، وأن
إرادة الفعل حاصلة في الملتمس والداعي وليست بأمر، وأنه يخرج عنه " أترك "
ونحوه، وقد يذب عن بعض ذلك بما لا يخفى.
ومنها: ما حكي عن بعض الأشاعرة من أنه طلب الفعل على وجه يعد فاعله
مطيعا.
وفيه: أن الطاعة: موافقة الأمر، فيدور.
ويمكن دفعه بما مر، وأنه يندرج فيه الطلب الحاصل بغير الصيغة المخصوصة
من سائر الأقوال، كالخبر المستعمل في الانشاء والإشارة والكتابة، وقد يندرج
فيه الالتماس بل الدعاء في وجه.
ومنها: ما حكي عن جماعة من الأشاعرة أيضا من أنه خبر عن الثواب على
الفعل، وعن آخرين منهم أنه خبر عن استحقاق الثواب على الفعل.
572

وهما في غاية الوضوح من الفساد.
ومنها: ما حكي عن إمام الحرمين في بعض تصانيفه من أنه استدعاء الفعل
بالقول عمن هو دونه على سبيل الوجوب.
وفيه: أنه يندرج فيه الطلب الحاصل بغير الصيغة المخصوصة، كالخبر
المستعمل في معنى الأمر، وأنه يندرج فيه طلب المستخفض إذا كان عاليا مع
اندراجه في الدعاء، وأنه يخرج عنه طلب المستعلي إذا لم يكن عاليا، وأنه يخرج
عنه " اترك " ونحوه.
ويمكن الجواب عن بعض ذلك بما لا يخفى.
ومنها: أنه طلب الفعل على جهة الاستعلاء، اختاره الآمدي في الإحكام.
وفيه: أنه بظاهره يخرج عنه طلب العالي مطلقا، فإن الظاهر من الاستعلاء هو
طلب العلو الحاصل من غير العالي - ومع الغض عنه بحمله على الأعم منه - لظهور
أنه المراد في المقام - فالعالي قد لا يلاحظ علوه حين الأمر ولا يخرج بذلك
خطابه عن كونه أمرا كما سنشير اليه إن شاء الله.
وأنه يخرج عنه طلب الترك بنحو أترك مع اندراجه في الأمر.
وقد يدفع بأن المراد بالفعل هو الحدث المدلول عليه بالمعنى المادي، فيشمل
الترك والكف المدلولين للمادة ونحوهما.
وأنه يندرج فيه الطلب الحاصل بالإشارة والكتابة والخبر المستعمل في
معنى الأمر.
وقد يذب عنه بأنه مبني على ثبوت الكلام النفسي والطلب الحاصل بالإشارة
ونحوها نحو منه، فلا مانع من اندراج ذلك فيه وإن لم تكن الإشارة الدالة عليه أمرا.
ومنها: ما اختاره العلامة (رحمه الله) في النهاية والتهذيب من أنه طلب الفعل بالقول
على جهة الاستعلاء.
ويرد عليه ما أورد على الحد السابق سوى شموله للطلب الحاصل بغير القول،
وأنه يندرج فيه ما إذا كان الطلب على سبيل الندب، مع أن المندوب ليس بمأمور
573

به عنده، والقول بخروج ذلك بملاحظة الاستعلاء - إذ لا استعلاء في الطلب
الندبي - غير متجه لما سنشير اليه إن شاء الله.
ومنها: ما اختاره الحاجبي من أنه اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء.
ويرد عليه جميع ما يرد على السابق عليه سوى انتقاضه بالأمر الندبي،
فإن المندوب مأمور به عنده.
ويرد عليه أيضا شموله للاقتضاء الحاصل بغير القول، وخروج كف نفسك
عنه، فإنه اقتضاء كف.
وقد يجاب عن الأول بما سيجئ الإشارة اليه إن شاء الله.
وعن الثاني تارة بأن المراد الكف عما هو مأخذ الاشتقاق عند عود الكلام
إلى اللفظي، فيدخل فيه اكفف إذ لا يطلب فيه الكف عن الكف.
وأخرى بأن المراد أنه عند عود الكلام إلى اللفظي لا يكون دالا على الكف
بصيغته، فيندرج فيه كف لدلالته عليه بالجوهر، وهو راجع إلى الأول.
وثالثا: بأن الكف عن الفعل قد يكون ملحوظا بذاته مقصودا بنفسه فيكون
كسائر الأفعال المطلوبة، وقد يكون ملحوظا من حيث كون متعلقا بغيره وحالا من
أحوال ذلك الغير، كما هو الحال في الكف الملحوظ في النهي، فإنه إنما لوحظ من
حيث كونه حالا للمنهي عنه فهو إذن غير مستقل بالمفهومية، والمقصود بغير الكف
في المقام هو الثاني فلا نقض.
ورابعا: بأن الكف قد يكون مقصودا بذاته، وقد يكون مقصودا لحصول الترك
به، فالغرض الأصلي إذن عدم الفعل، لكنه لما لم يمكن تعلق التكليف به لكونه غير
مقدور جعل تعلقه بالكف وسيلة اليه، فليس الكف مقصودا بذاته، بل لكونه موصلا
إلى غيره، والمقصود في المقام هو الثاني.
وأنت خبير بضعف الجميع، فإن تقييد الكف بما إذا كان عن مأخذ الاشتقاق
مما لا دليل عليه في الحد، بل الظاهر من الإطلاق خلافه، فإن أريد بالفعل المتعلق
للطلب فعل مأخذ الاشتقاق كان قوله: " غير كف " حينئذ لغوا.
574

وإن أريد به نفس مأخذ الاشتقاق أو الأعم كان ذلك استثناء عنه، فيخرج به ما
إذا كان مأخذ الاشتقاق كفا، ومنه يظهر الحال في الثاني.
ثم إن الظاهر من استثناء الكف كونه ملحوظا بذاته، إذ لو كان ملحوظا لغيره
كان متعلق الطلب في الحقيقة هو ذلك الغير دون الكف، وهو خلاف ظاهر
الإطلاق.
ومع الغض عن ذلك فلا أقل من تساوي الوجهين، وهو كاف في الإيراد.
هكذا، وظاهر هذه الحدود المأخوذ فيها الطلب وما بمعناه جنسا يعطي كون
الأمر موضوعا بإزاء المعنى دون اللفظ، وهو ينافي ما نصوا عليه من الاتفاق على
كونه حقيقة في القول المخصوص.
وقد ذكر الكرماني عند الكلام في الحد الذي ذكره الحاجبي: أن الواجب عليه
أن يقيد الاقتضاء باقتضاء القول، لأن حقيقة الأمر لا بد فيها من القول اتفاقا.
وبهذا يظهر ضعف ما قيل (1) من أن الأمر بالحقيقة هو اقتضاء الفعل - أعني ما
يقوم بالنفس - من الطلب، وتسمية الصيغة بالأمر مجاز.
وكأن ما ذكره مبني على ما ذهب اليه بعض الأشاعرة من كون الكلام هو
النفسي وأن الكلام مجاز في اللفظي، وحيث إن الأمر نوع منه فيتبعه في ذلك.
وأنت خبير بأن ذلك أيضا ينافي ما ادعوه من الاتفاق في المقام، إذ لا ملازمة
بين الأمرين، إلا أن يقال: إن المراد بالقول أيضا هو النفسي. وفيه ما لا يخفى.
نعم، يصح على مذهبهم جواز إطلاق الأمر على الأمرين، فلذا يصح تحديده
بالقول وبالأمر القائم بالنفس، فيكون الأول أمرا لفظيا والثاني نفسيا.
ومن ذلك يظهر اندفاع ما أورده الكرماني، وأما على رأي من يرى بطلان
الكلام النفسي فقد يشكل الحال في ذلك، وقد يبنى تحديدهم له على الوجه الثاني
على التسامح، فيكون تحديدا للدال بمدلوله.
ولا يبعد أن يقال بثبوت معنيين للأمر بحسب العرف وإن كان المتداول عندهم

(1) ذكره القطبي في شرحه على المختصر (منه (رحمه الله)).
575

في الاصطلاح هو القول المخصوص، إذ قد يراد به في العرف القول الخاص،
وقد يراد به الطلب المخصوص، فعلى الثاني يكون مصدرا، وعلى الأول يكون
اسما للفظ المخصوص إن أريد به نفس الصيغة الصادرة كما هو الظاهر من أكثر
تعريفاتهم المتقدمة، فيكون كالماضي والمضارع ونحوهما.
وإن أريد به التلفظ بالصيغة وأدائها في الخارج كما هو أحد إطلاقي القول
يكون مصدرا أيضا، كما هو الظاهر من استعمالاته العرفية، وقضية اشتقاق
سائر المشتقات منه، وعليه ينطبق الحد الأول من الحدود المذكورة كما مرت
الإشارة اليه.
وكيف كان، فالظاهر ثبوت المعنيين، والظاهر أنه على الأول يعم جميع الصيغ
الموضوعة للطلب المذكور إذا أريد بها ذلك سواء كانت من العربية أو غيرها،
وفي شموله لأسماء الأفعال وجهان.
وعلى الثاني يعم الطلب الحاصل بتلك الصيغة المخصوصة أو غيرها كقوله:
" آمرك بكذا أو أطلب منك كذا " ونحو ذلك.
فحده على الأول هو القول الذي أريد به بمقتضى وضعه إنشاء طلب الفعل
مع استعلاء الطالب أو علوه مع عدم ملاحظة خلافه.
وعلى الثاني هو طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء أو العلو كذلك.
وقد يورد عليهما ب‍ " اترك " ونحوه، إذ ليس طلبا للفعل مع كونه أمرا.
ويمكن الجواب تارة بالتزام خروجه، إذ هو نهي في الحقيقة وإن كان
بصورة الأمر.
وتارة بأن المراد بالفعل هو المعنى الحدثي المدلول عليه للمادة، فيعم
ما لو كان مدلولها تركا ونحوه حسب ما مر.
وأخرى بأنه ليس المراد به مفاد مادة الأمر بل المقصود به الإيجاد المتعلق
بالمادة، كما أن المراد بالترك المأخوذ في حد النهي هو الترك المتعلق بمادته،
وحينئذ فلا نقض إذ مفاد اترك هو طلب إيجاد الترك، فتأمل.
576

بقي الكلام في المقام في بيان أمور تتعلق بالمرام.
أحدها: أنهم اختلفوا في اعتبار العلو أو الاستعلاء وعدمه في صدق الأمر
على أقوال:
ومنها: اعتبار الاستعلاء سواء كان عاليا بحسب الواقع أو مساويا أو دانيا،
وهو المحكي عن جماعة من الخاصة والعامة، منهم الفاضلان والشهيد الثاني
وشيخنا البهائي وأبو الحسين البصري والرازي والحاجبي والتفتازاني وغيرهم،
وعزي إلى أكثر الأصوليين بل حكى الشيخ الرضي الاجماع على أن الأمر عند
الأصولي صيغة " افعل " الصادرة على جهة الاستعلاء، وعزي ذلك أيضا إلى النحاة
وعلماء البيان.
ومنها: اعتبار العلو خاصة، وعزي إلى السيد وجمهور المعتزلة وبعض
الأشاعرة.
ومنها: اعتبار العلو والاستعلاء معا، واختاره بعض المتأخرين في ظاهر
كلامه وحكاه عن جماعة.
ومنها: عدم اعتبار شئ منهما، وعزاه في النهاية إلى الأشاعرة، ويظهر ذلك
من العضدي، ويعزى إلى ظاهر البيضاوي والإصفهاني.
والأظهر حسب ما أشرنا اليه اعتبار أحد الأمرين من العلو أو الاستعلاء، لكن
لا بد في الأول من عدم ملاحظة خلافه باعتبار نفسه مساويا للمأمور أو أدنى منه.
ويدل على ذلك ملاحظة العرف أما صدقه مع الاستعلاء وإن خلا من العلو
فلظهور صدق الأمر بحسب العرف على طلب الأدنى من الأعلى على سبيل
الاستعلاء، ولذا قد يستقبح منه ذلك ويقال له: " ليس من شأنك أن تأمر من هو
أعلى منك " وقد نص عليه جماعة.
وأما الاكتفاء بالعلو الخالي عن ملاحظة الاستعلاء فلان من الظاهر في العرف
إطلاق الأمر على الصيغ الصادرة من الأمير إلى الرعية والسيد بالنسبة إلى العبد
وإن كان المتكلم بها غافلا عن ملاحظة علوه حين الخطاب كما يتفق كثيرا.
577

ومما يشير إلى ذلك انحصار الطلب الصادر من المتكلم في الأمر والالتماس
والدعاء ومن البين عدم اندراج ذلك في الأخيرين، فيتعين اندراجه في الأول.
والحاصل: أنهم يعدون الخطاب الصادر من العالي أمرا إذا لم يستخفض
نفسه، وليس ذلك من جهة استظهار ملاحظة العلو لظهور صدقه مع العلم بغفلته
أو الشك فيها أو الشك في اعتباره بملاحظة خصوص المقام.
والمناقشة بأن حال العالي لما اقتضت ملاحظة العلو في خطابه لمن هو دونه
وكان بانيا على ذلك في طلبه جرى ذلك مجرى استعلائه ولو مع غفلته حين إلقاء
الصيغة عن تلك الملاحظة مدفوعة بأن عد مجرد ذلك استعلاء محل منع. ومع
الغض عنه فقد يخلو المقام عن ملاحظة الاستعلاء قطعا، كما إذا رأى السيد أحدا
وشك في كونه عبده أو رجلا آخر مساويا له أو أعلى فطلب منه شيئا بصيغة الأمر،
فإن الظاهرة عده أمرا إذا كان عبده بحسب الواقع، ولذا لو عصى العبد مع علمه
بكون الطالب مولاه عد في العرف عاصيا لأمر سيده وذمه العقلاء لأجل ذلك، مع
أنه لا دليل إذن على اعتبار الاستعلاء.
وأما عدم صدقه مع استخفاض العالي نفسه بجعلها مساوية مع المخاطب
أو أدنى فلظهور عده إذن ملتمسا أو داعيا في العرف، كما أنه يعد المساوي
أو الداني مع استعلائه آمرا.
فصار الحاصل: أن الطلب الحاصل بالأمر أو الالتماس أو الدعاء إنما ينقسم
إلى ذلك بملاحظة علو الطالب أو مساواته أو دنوه بحسب الواقع، أو في ملاحظته
على سبيل منع الخلو، والعرف شاهد عليه.
والظاهر أن الطلب لا يكون إلا على أحد الوجوه المذكورة، وفي ذلك أيضا
شهادة على ما اخترناه، وحيث علمت اعتبار الاستعلاء أو العلو على النحو
المذكور في مفهوم الأمر كان دالا على ملاحظة العلو على أحد الوجهين، سواء
أريد به الطلب أو نفس الصيغة، وأما مصداقه من الصيغة أو الطلب فلا يعتبر في
صدقه الأمر عليه ملاحظة العلو فيه لما عرفت من صدقه على الصيغة أو الطلب
578

مع الخلو عن اعتبار العلو فيما إذا كان المتكلم عاليا بحسب الواقع. نعم لا بد
في إطلاق الأمر عليه من ملاحظة العلو على أحد الوجهين.
حجة القائل باعتبار الاستعلاء أن من قال لغيره: " افعل " على سبيل الاستعلاء
يقال: إنه أمره، ومن قال لغيره: " افعل " على سبيل التضرع لم يصدق ذلك وإن كان
أعلى وأنهم فرقوا بين الأمر والالتماس والدعاء بأنه إن كان الطلب على سبيل
الاستعلاء كان أمرا إلى آخر ما ذكروه، مضافا إلى ما عرفت من إسناده إلى الأكثر
ونقل الاتفاق عليه.
وأنت خبير بأن الأول لا ينافي ما ادعيناه، وما حكي عنهم من اعتبار
الاستعلاء في الأمر ممنوع، بل يظهر من بعضهم في حكاية الفرق بين الأمور
المذكورة كون الفارق عندهم علو الرتبة ومساواتها وانخفاضها، كما هو الظاهر
مما سيجئ في دليل القائلين بكون الأمر للندب.
والحاصل: أنه ليس هناك نقل مضبوط في المقام ليصح التعويل عليه، والحق
أن الفارق بينها هو ما بيناه كما هو الظاهر من العرف، وحمل ما نقل عنهم على ذلك
غير بعيد.
ودعوى الاتفاق في المقام بين الوهن، وملاحظة العرف أقوى شاهد على
فسادها.
حجة القائل باعتبار العلو أنه يستقبح أن يقال: " أمرت الأمير " ولا يستقبح
أن يقال: " سألته " ولولا أن الرتبة معتبرة في ذلك لما كان كذلك، وربما يتمسك
لذلك بجعلهم الرتبة فارقة بين الأمر وقرينيه.
وقد عرفت ضعف الأخير.
ويرد على الأول أن الاستقباح قد يكون من جهة نفس الاستعمال بحسب
اللغة، وقد يكون من جهة قبح ما يدل عليه اللفظ بحسب العرف نظرا إلى
خصوصية المقام، والشاهد على الخروج عن الوضع إنما هو الأول دون الثاني.
فإن أريد بالاستقباح المدعى ذلك كان ممنوعا بل هو على إطلاقه فاسد قطعا،
579

لجواز الاستعمال فيه في الجملة عند الجميع ولو على سبيل المجاز ولا قبح فيه
أصلا. نعم لو كان الاستعلاء منفيا في ذلك المقام أيضا فربما أمكن ما ذكر، إلا أنه
لا يفيد المدعى بل يوافق ما اخترناه.
وإن أريد به الثاني فهو لا يفيد المنع اللغوي بل فيه شهادة على الاكتفاء فيه
بالاستعلاء نظرا إلى كون القبح فيه من جهة استعلائه على الأمير المخالف للتأدب
معه، ألا ترى أنه لو طلب شيئا من الأمير على جهة الاستعلاء صح أن يقال له على
جهة الانكار: " أتأمر الأمير من غير استقباح ".
حجة القول باعتبار الأمرين ظهور لفظ " الأمر " عرفا في علو الآمر، إذ هو
المفهوم في العرف من قولك: " أمر فلان بكذا " فإذا انضم إلى ذلك ما يرى من عدم
صدق الأمر مع استخفاضه لنفسه دل على عدم الاكتفاء في صدقه بمجرد العلو،
فيعتبر الاستعلاء معه أيضا، والحاصل: أنه يدعى فهم العرف منه حصول العلو
والاستعلاء معا.
وفيه: ما لا يخفى ودلالة إطلاق الأمر على علو الآمر بحسب الواقع لا ينافي
وضعه لما يعم علوه في نظره واعتباره بعد شهادة العرف به، فالتبادر المدعى إن
سلم إطلاقي كما لا يخفى.
وربما يحتج لذلك بما يأتي من وضع لفظ " الأمر " للوجوب، وهو يتوقف على
علو الآمر واستعلائه، إذ لا يتحقق الوجوب إلا مع تحققهما.
وضعفه ظاهر بملاحظة ما يأتي إن شاء الله تعالى.
حجة القائل بعدم اعتبار شئ من الأمرين قياسه على الخبر وقوله تعالى
حكاية عن فرعون: * (فماذا تأمرون) * (1) وقول عمرو بن العاص لمعاوية: " أمرتك
أمرا حازما فعصيتني " وقول الآخر ليزيد بن المهلب:
أمرتك أمرا حازما فعصيتني * فأصبحت مسلوب الإمارة نادما

(1) سورة الأعراف: 110 والشعراء: 35.
580

وقوله:
رب من أنضجت غيظا صدره * قد تمنى لي موتا لم يطع
والطاعة تتبع الأمر في الصدق.
ووهن الجميع ظاهر لا حاجة فيه إلى التفصيل.
ثم إن المعتبر من العلو هو العلو العرفي على نحو يصحح الأمر، وكأن المعتبر
منه ارتفاع يقضي بالتزام طاعته في العرف، لا خصوص العلو الذي يوجب طاعته
عقلا أو شرعا، كما هو ظاهر من ملاحظة الاستعمالات العرفية في إطلاق الأمر
على طلب السلطان من الرعية، والرئيس من المرؤوسين، والمخدوم من الخدام
مع عدم وجب الطاعة هناك بشئ من الوجهين في شئ منها وإن لزمت طاعتهم
بملاحظة العرف.
وأيضا الوجوب العقلي أو الشرعي مما لا ربط له بالأوضاع اللغوية فلو اعتبر
وجوب الطاعة فيه لم يزد على اعتبار لزومها في العرف.
فما في كلام بعض الأفاضل من تفسيره: العالي بمن كان له تفوق يوجب
طاعته عقلا أو شرعا كما ترى، وكأنه أخذ ذلك من دلالة لفظ " الأمر " على
الوجوب حسب ما يأتي الإشارة اليه إن شاء الله تعالى.
وفيه: أن ما قرره في ذلك المقام غير متجه، والوجوب المدلول عليه بالصيغة
ليس خصوص الوجوب العقلي أو الشرعي كما سيجئ بيانه إن شاء الله تعالى،
فاعتبار ذلك مما لا وجه له أصلا.
على أن مجرد وجوب الإتيان بما يطلبه عقلا أو شرعا لا يكفي في صدق
الأمر، كيف! ولو كان كذلك لزم أن يكون الداني آمرا إذا التزم العالي شرعا بنذر
وشبهه بإجابة مسؤوله، كما إذا نذر السيد أن يجيب مسألة عبده، فيلزم انقلاب
السؤال بذلك أمرا، وهو بين الفساد، إلا أن يعتبر مع ذلك العلو العرفي أيضا، كما قد
يومئ اليه تعبيره عنه بالتفوق الذي يوجب طاعته عقلا أو شرعا، فيكون المعتبر
عنده هو العلو العرفي المقيد بذلك، وهو كما ترى إذ كان مقصوده بالتفوق في
المقام هو كونه بحيث يجب الإتيان بما يطلبه عقلا أو شرعا، فتأمل.
581

ثانيها: (1) أنهم اختلفوا في كون الطلب المدلول للأمر نفس الإرادة أو غيرها،
فالمحكي عن أصحابنا والمعتزلة هو الأول، وعن الأشاعرة القول بالثاني.
واحتج العلامة (رحمه الله) على ذلك بأنا لا نجد في الأمر أمرا آخر مغايرا للإرادة،
إذ ليس المفهوم منه إلا إرادة الفعل من المأمور، ولو كان هناك معنى آخر لا ندركه،
فلا شك في كونه أمرا خفيا غاية الخفاء حتى أنه لا يعقله إلا الآحاد، فلا يجوز
وضع لفظ " الأمر " المتداول في الاستعمالات بإزاء مثله، بناء على ما تقرر من
عدم وضع الألفاظ الدائرة في الاستعمالات بإزاء المعاني الخفية التي لا يدركها
إلا الخواص.
وربما يحتج عليه أيضا بأن المتبادر من الأمر هو إرادة الفعل من المأمور،
فيكون حقيقة فيها وقضية ذلك اتحادها مع الطلب، إذ لا قائل مع القول بدلالة الأمر
عليها وضعا بالتغاير بينهما.
واحتجت الأشاعرة بوجوه:
أحدها: أن الله تعالى أمر الكافر بالإيمان إجماعا ولم يرده منه لوجهين:
أحدهما: أنه يستحيل منه وقوع الإيمان وإرادة المستحيل من العالم بحاله
مستحيلة، والمقدمة الثانية ظاهرة، وأما الأولى فلعلمه تعالى بعدم صدوره منه فلو
فرض صدور الإيمان منه لزم انقلاب علمه تعالى جهلا، وهو محال، فالمقدم مثله
والملازمة ظاهرة.
ثانيهما: أن صدور الكفر من الكافر لا بد أن يستند إلى سبب، وذلك السبب
لا بد أن ينتهي إلى الواجب لاستحالة التسلسل وايجاده تعالى لذلك السبب
يستدعي إرادة وقوع الكفر منه، لكون إرادة السبب مع العلم بسببيته إرادة لمسببه،
فيستحيل منه إرادة ضده لاستحالة إرادة الضدين، فإنه من قبيل اجتماع الضدين.
ثانيها: أنه يصح أن يقول القائل لغيره: " أريد منك الفعل ولا آمرك به " من دون
تناقض بين القولين.

(1) ثاني الأمور المتعلقة بالمرام.
582

ثالثها: أنه يصح صدور الأوامر الامتحانية من السلطان بالنسبة إلى رعيته،
ومن السيد إلى عبده وليس هناك إرادة للفعل مع أنها أمر على الحقيقة.
رابعها: أنه قد ينسخ الأمر قبل حضور وقت العمل به، فلو كان هناك مريدا
للفعل لزم أن يكون مريدا وكارها للفعل الواحد في الوقت الواحد بالجهة الواحدة،
وهو محال.
فإن قلت: إن الإرادة والكراهة إنما تعلقتا بالفعل في زمانين مختلفين فلا
مضادة بينهما.
قلت: اختلاف زماني الإرادة والكراهة غير متعقل في المقام مع اتحاد زمان
الفعل وجهته، إلا في صورة البداء والنكول عن الشئ، وهو على حقيقته مستحيل
على الله تعالى، وأيضا فالإرادة والكراهة من صفاته تعالى وليستا حاصلتين في
الزمان ليختلف الحال فيهما بحسب اختلاف زمانيهما، فيستحيل اجتماعهما.
وأورد على الأول بالمنع من عدم إرادة الإيمان من الكافر، وما ذكر لإثباته
من الوجهين مردود.
أما الوجه الأول فبأن العلم تابع للمعلوم، فلا يؤثر في وجوده ولا عدمه، فهو
على إمكانه، وما يتراءى من تفريع المحال عليه نظرا إلى لزوم انقلاب علمه تعالى
جهلا إنما نشأ من فرض تعلق العلم به، كما أنه يستحيل وقوع أحد النقيضين أو
الضدين على فرض وقوع نقيضه أو ضده الآخر، وذلك لا يقضي باستحالة ذلك
الشئ، ضرورة أن استحالة وقوع الشئ على فرض لا يقضي باستحالته مطلقا،
كذا أجاب عنه العلامة (رحمه الله) في النهاية.
ويشكل بأن تابعية العلم للمعلوم إنما يقضي بعدم استناد وقوع المعلوم إلى
العلم، بل لما كان المعلوم حاصلا في وقته بحسب الواقع نظرا إلى حصول أسبابه
تعلق العلم به على ما هو عليه، وذلك مما لا ربط له بالمقام، إذ المقصود إثبات
استحالة وقوع خلاف المعلوم نظرا إلى تفريع المحال عليه، وهو لا يستدعي
استناد وجود المعلوم إلى العلم.
فإن قلت: على هذا يكون استحالة وقوع خلاف المعلوم مستندا إلى العلم،
583

ومن المعلوم أيضا خلافه.
قلت: إن أردت استناده اليه بحسب الواقع فممنوع، بل استحالة وقوعه في
الواقع إنما هو بالنظر إلى انتفاء أسبابه والعلم به تابع لذلك.
وإن أردت استناده اليه بحسب علمنا فلا مانع منه، بل لا مجال لإنكاره،
لوضوح المقدمتين وتفرع العلم بالنتيجة عليهما، إلا أنه لا يلزم من ذلك سلب
القدرة عن المكلف، فإن السبب الباعث على استحالة صدور الفعل منه عدم إقدامه
عليه وعدم مشيئته للفعل مع اجتماع أسباب القدرة، ومن البين أن المستحيل
بالاختيار لا ينافي القدرة والاختيار، واستحالة وقوع المشيئة منه - لعدم قيام
الداعي إليها - لا تنفي القدرة على الفعل، إذ ليس مفاد القدرة إلا كون الفاعل بحيث
لو شاء فعل ولو شاء ترك، ومن البين صدق الشرطية مع كذب المقدمتين، ومن هنا
نقول بقدرته تعالى على فعل القبيح وإن استحال وقوعه منه، نظرا إلى استحالة
إرادته له.
ومما قررنا ظهر فساد تقرير الاستدلال من جهة إثبات اضطراره إلى الكفر،
نظرا إلى ما ذكر، فلو أراد منه الإيمان لزم إرادة المحال، وما ذكره في الجواب إنما
ينفع في دفع هذا التقرير دون الوجه المذكور.
وقد يقرر الاحتجاج بالوجه الأخير، ويجعل التالي حينئذ لزوم التكليف
بالمحال لو أراد منه الفعل، وهو محال.
وقد أجاب عنه بعضهم بالمنع من عدم جواز التكليف بهذا المحال، نظرا إلى
تجويزهم ذلك.
وأنت خبير بفساد التقرير المذكور ووهنه جدا، لما عرفت، ولأن من البين أن
الأشاعرة يجوزون التكليف بالمحال، بل يحكمون بوقوعه في أمثال ذلك،
ضرورة وقوع التكاليف المذكورة، مضافا إلى ما فيه من التهافت حيث إن المأخوذ
في هذا الاحتجاج أولا هو ثبوت التكليف بالإيمان، ودعوى الاجماع عليه فكيف
يجعل التالي لزوم التكليف بالمحال ويحكم ببطلانه من جهة استحالة صدوره؟.
584

والحاصل: أن المقصود في المقام أن وقوع التكليف به - مع استحالة صدوره
منه إما لكونه تكليفا بالمحال على ما زعموه وجوزوه، أو لعدم قضاء استحالته
بعدم القدرة عليه، نظرا إلى أن المحال بالاختيار لا ينافي الاختيار إنما هو مع عدم
إرادة صدور الفعل من المكلف، نظرا إلى استحالة إرادة الحكيم واقعا صدور
المحال ولو بالغير، بل لو ذكر استحالة إرادته واقعا لما يعلم انتفاؤه وعدم حصوله
إذ لا أقل في إرادة الشئ من احتمال حصوله - كفى في المقام، وقد عرفت أن ما
ذكر في الجواب لا يدفع شيئا من ذلك.
ثم إن ما ذكر من كون المحال المذكور حاصلا من فرض العلم... إلى آخر ما
ذكر غير متجه على إطلاقه، فإن فرض الشئ قد يجامع وقوع المفروض وضرورة
وقوعه، وقد يكون فرضا غير واقع أو غير لازم، وعدم قضاء استحالة الشئ على
فرض باستحالته في الواقع إنما هو في الثاني دون الأول، كما هو الحال في المقام
ضرورة وجود الفرض المذكور وضرورة وقوعه، فكيف يمكن معه الحكم بعدم
استحالة ملزوم خلافه؟!.
فالأولى في الجواب عنه منع المقدمة الثانية وهو استحالة تعلق الإرادة
بالمحال على سبيل الكلية، إذ لا مانع من تعلق الإرادة التكليفية بالمستحيل
بالاختيار، فكما أن استحالته بالاختيار لا يمنع من كونه اختياريا متعلقا للقدرة
فلا مانع أيضا من تعلق الإرادة التكليفية بإيقاعه.
وقد يناقش فيه بأن المانع من تعلق الإرادة بالمحال هو عدم إمكان وقوعه
في الخارج ولو بتوسط الأسباب الباعثة عليه، وذلك مما لا يفترق الحال فيه بين
كونه مستحيلا بالاختيار أو الاضطرار. وفيه تأمل.
وأما الوجه الثاني فبأن الداعي من فعل العبد ليس بخلقه تعالى ذلك في العبد
حتى يستدعي خلقه له إرادة لازمة أعني الكفر.
ويرد عليه أن خلق الداعي وإن كان من فعل العبد والعبد هو السبب فيه، لكن
العبد من فعل الله تعالى ومسبب عنه، فغاية الأمر أن يكون خلق السبب البعيد منه
585

تعالى وهو كاف في إتمام المقصود، إذ لا فرق فيما ذكر بين السبب القريب والبعيد
ولم يؤخذ في الاحتجاج خصوص السبب القريب حتى يجاب بما ذكر.
وقد يجاب أيضا بمنع كون إرادة السبب إرادة لمسببه مطلقا، إذ قد يفرق في
ذلك بين السبب الاضطراري والاختياري، فإن إرادة الأول إرادة لمسببه، وأما
الثاني فيمنع فيه ذلك نظرا إلى كون الفعل موكولا إلى اختيار الآخر وإرادته.
وهو كما ترى.
ويمكن الجواب بمنع المقدمة الأخيرة، فإن إرادة الكفر نظرا إلى إرادة سببه
البعيد إرادة تبعية تكوينية، حيث إنها تابعة لإرادة إيجاد ذاته التكوينية، وإرادة
الإيمان منه إرادة تكليفية أصلية، نظرا إلى ثبوت قدرته على الفعل واختياره فيه،
لما عرفت من كون سببيته للكفر اختيارية وإن كان ثبوت الكفر لازما بعد اختياره،
فلا مانع إذن من تعلق الإرادتين المفروضتين بالضدين نظرا إلى اختلافهما بما
ذكر.
وفيه أيضا تأمل لا يخفى.
وعلى الثاني أن الإرادة المثبتة في المثال ليست إرادة خالصة، وقد يحصل في
الانسان إرادة مشوبة بعوارض فلا يتعقبها الفعل، كذا أجاب العلامة (رحمه الله) في النهاية.
وفيه: أنا نرى صحة ذلك مع فرض كون إرادته في كمال الخلوص، تقول:
" أريد الإحسان من السلطان ولا أطلبه منه " من دون تناقض أصلا فالمانع هناك
إنما يمنع من إظهار الإرادة لا من نفسها لتكون غير خالصة.
وقد أجاب عنه في التهذيب بأن نفي الأمر معناه نفي الإلزام وإن كان مريدا
لإيقاعه الفعل من دون أمره.
وتوضيحه: أن الإرادة أعم من الطلب المقصود في المقام، فإن المراد به إرادة
الفعل من المطلوب منه على جهة إلزامه به، والإرادة قد تخلو عن ذلك فنفي
الأخص لا يستلزم نفي الأعم، ولذا يصح إثبات الأعم ونفي الأخص كما في
المثال المفروض.
586

وقد ظهر مما قررنا أن المقصود في المقام اتحاد الطلب مع الإرادة من حيث
حصولها به، لا اتحادهما بحسب المفهوم كما قد يتراءى من ظاهر كلامهم.
وأنت خبير بأن الإلزام فعل من الأفعال مغاير للإرادة، غاية الأمر أن ينضم
إليها، فلا فائدة في الجواب المذكور لدفع الاحتجاج، وسيأتي الكلام في ذلك إن
شاء الله تعالى.
وعلى الثالث أن الأوامر الامتحانية إنما هي في صورة الأمر وليست بأوامر
على الحقيقة، فكما أن الإرادة هناك منتفية فكذا الطلب، وكما لا يريد العاقل ما هو
مبغوض عنده فكذا لا يطلبه.
وفيه كلام يأتي الإشارة اليه إن شاء الله تعالى.
وعلى الرابع المنع من جواز النسخ قبل حضور وقت العمل، بل المختار
امتناعه كذا ذكروه.
وفيه: أيضا تأمل، كما يظهر الوجه فيه في محله إن شاء الله تعالى، وسنشير اليه
أيضا في المقام إن شاء الله تعالى.
هذا، والذي يقتضيه التحقيق في المقام أن يقال: إن هناك إرادة لصدور الفعل
من الغير بحسب الواقع، واقتضاء بحسب الخارج لإيقاعه الفعل بإلزامه به أو ندبه
اليه، ومن البين أن الثاني لا يستلزم الأول وإن كان الظاهر صدور الاقتضاء على
طبق الإرادة الواقعية، لظهور إلزام المأمور بالفعل مثلا في كون ذلك الفعل محبوبا
للآمر مرادا له بحسب الواقع، إلا أنه مع العلم بالتخلف لا يخرج الاقتضاء عن
حقيقته.
فنقول: إن ظاهر ما حكي عن الأصحاب والمعتزلة من كون الطلب عين
الإرادة هو القول بوضع الأمر لخصوص المعنى الأول، فمعناه الموضوع له هو
إرادة إيقاع المأمور به من المأمور بحسب الواقع، وهذا هو الذي يستفاد منه
بحسب وضع اللغة، فإذا أريد به ذلك كان حقيقة مستعملا فيما وضع له، وإن لم يرد
به ذلك فقد استعمل في غير ما وضع له.
587

ويشهد لذلك ما حكي عنهم في الاحتجاج فإنه ظاهر الانطباق على ما ذكر.
وأنت خبير بأن المعنى المذكور ليس معنى إنشائيا حاصلا بالصيغة حتى
يندرج من جهة الأمر في الانشاء، لظهور كون ذلك أمرا قلبيا واقعيا حاصلا قبل
أداء الصيغة، وإنما يحصل منها بيان ذلك وإظهاره كما في سائر الإخبارات، وذلك
مما يكون قابلا للصدق والكذب، لظهور أن إرادة الواقع بالدلالة اللفظية لا يستلزم
المطابقة، فإن طابق الواقع بحصول ذلك المدلول في النفس كان صدقا وإلا كان
كذبا.
كيف! ومع البناء على ما ذكر أي فرق بين إظهار تلك الإرادة بصيغة الأمر أو
بصيغة الإخبار، كأن يقول: " أنا مريد منك كذا وأنا طالب ذلك منك " ونحو ذلك،
ومن الواضح المتفق عليه الفرق بين التعبيرين، وقبول الثاني للصدق والكذب،
بخلاف الأول.
والحاصل أن الإرادة أمر نفساني حاصل بتوسط الدواعي الباعثة عليه،
فلا يعقل إيقاعها بصيغة الأمر ليمكن القول بوضع تلك الصيغ لذلك، وهذا بخلاف
ما لو قيل بوضعها للمعنى الثاني، لظهور حصول ذلك الاقتضاء في الخارج بإيقاع
تلك الصيغ مريدا بها معناها، فيقع مدلولها بإيقاع الصيغة في الخارج على ما هو
الشأن في سائر الإنشاءات.
ويمكن توجيه كلامهم بحمله على إرادة الوجه الثاني، لكن مع تقييده بكون
ذلك الاقتضاء على وفق الإرادة الواقعية والمحبة النفسية، فيكون ذلك قيدا فيما
وضع له، ولا يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له إلا مع كون الاقتضاء المذكور عن
الإرادة الموصوفة، فالأمر الخالي عن ذلك ليس أمرا على الحقيقة.
وهذا الوجه وإن أمكن القول به في المقام، وربما يشهد له التبادر حيث إن
المتبادر من الصيغة هو كون الاقتضاء عن الإرادة القلبية، لكن تطبيق كلامهم على
ذلك لا يخلو عن بعد سيما بملاحظ الاحتجاج الأول.
وكيف كان، فالأظهر البناء على الوجه الثاني وعدم اعتبار القيد المذكور فيما
588

وضع الأمر له، فإن ذلك هو المستفاد من نفس الصيغة، ويعطيه التأمل في سائر
الإنشاءات من التمني والترجي والتعجب والنداء والاستفهام والمدح والذم
وغيرها، فإنها أسام لخصوص تلك الإيقاعات الحاصلة بواسطة الألفاظ الدالة
عليها المستعملة لإفادتها، سواء وافقت ما هو المحبوب عند المتكلم بها المراد له
في نفسه أو لا.
ألا ترى أنهم حكموا بصدق العقد على الواقع على سبيل الجبر والإكراه، ولذا
حكموا بصحته إذا تعقبه الإجازة مع أن القبول القلبي غير حاصل مع الإكراه قطعا،
فليس ذلك إلا لكون مفاد القبول المأخوذ في " قبلت " هو إنشاء القبول في الظاهر
الواقع بإرادة معنى اللفظ المذكور وإن لم يكن هناك قبول نفساني ورضاء قلبي
بالإيجاب واقعا حين صدور العقد، ولذا حكموا بصدق العقد الفاسد عليه إذا لم
يتعقبه الإجازة مع اعتبار الإيجاب والقبول في مطلق العقد.
فمدلول الأمر أيضا هو إنشاء الطلب في الخارج، سواء كان ذلك موافقا لما هو
مقصوده في الواقع أو لا، فالأوامر الامتحانية أوامر حقيقية لاستعمالها في الطلب
على الوجه المذكور وإن لم يكن فائدة الطلب هناك إيقاع المطلوب في الخارج،
بل فوائد اخر مترتبة على نفس الطلب، ولذا يتحقق عصيان المأمور حينئذ بترك
المأمور به ويحسن عقوبته لأجل ذلك مع أنه ينبغي عدم تحقق العصيان على
الوجه الآخر إلا من جهة التجري.
نعم، لو قامت قرينة على عدم إرادته لإنشاء الطلب في الخارج بل إنما ذكر
صورة الأمر لمصلحة مترتبة عليه من غير قصد إلى معناه كان أمرا صوريا خارجا
عن حقيقته.
فظهر بما قررنا قوة القول بمغايرة الطلب للإرادة بالمعنى المذكور، وأن دلالته
على الإرادة المذكورة ليست وضعية بل من جهة قضاء ظاهر الحال بها، نظرا إلى
أن الظاهر من إلزام المأمور بالفعل كون ذلك مرادا له بحسب الواقع حتى يقوم
دليل على خلافه.
589

ومن ذلك يظهر الجواب عما ذكر من دعوى تبادره فيما ذكروه، لعدم استناده
إلى نفس اللفظ حتى يقوم دليلا على الوضع، وقد يرجع إلى ذلك كلام القائلين
بالاتحاد فيعود النزاع لفظيا، إلا أنه لا يخلو عن بعد.
ثم إن هذه المسألة هي مبنى ما ذهب اليه الأشاعرة من جواز الأمر بالشئ
مع علم الآمر بانتفاء شرطه، وما ذهبوا اليه من جواز النسخ قبل حضور وقت
العمل به، وظاهر الأصحاب المنع من الأمرين، وسيجئ توضيح الكلام فيهما إن
شاء الله تعالى.
وعليها يبتنى أيضا ما ذهبوا اليه من جواز التكليف بالمحال نظرا إلى تسليمهم
امتناع إرادة المحال، فتجويزهم للتكليف بالمحال إنما هو من جهة بنائهم على
المغايرة وعدم الملازمة بين التكليف والإرادة.
والحق هناك المنع على التقدير المذكور أيضا على حسب ما نبينه في محله
إن شاء الله تعالى.
ثالثها: (1) المحكي عن أكثر علمائنا وكافة الأشاعرة وبعض المعتزلة القول
بعدم اشتراط الإرادة في دلالة الأمر على الطلب، فهو يدل عليه بالوضع، وعن
الجبائيين القول باشتراط دلالة الأمر على الطلب بإرادته فلا دلالة فيه عليه إلا معها.
وأنت خبير بوهن الخلاف المذكور على ظاهره، وكأنه نظير ما حكي من
القول باشتراط دلالة الألفاظ على معانيها بالإرادة وهو بظاهره قول سخيف
لا يليق صدوره من أهل العلم، فإنه إن أريد توقف الدلالة على إرادة المعنى
بحسب الواقع فهو غير معقول، إذ لا يعقل ترتبه على ذلك بل الأمر بالعكس.
وإن أريد توقفها على قيام دليل على إرادته فهو كسابقه في الفساد، إذ
المقصود من وضع الألفاظ الانتقال إلى مراد المتكلم بواسطتها، فلو توقفت دلالتها
على العلم بالمراد لم يعقل فائدة في وضعها بل لزم الدور، فلا يبعد إذن تنزيل كلام
القائل باشتراط الإرادة على ما لا يخالف ذلك.
وقد يحمل ذلك على إرادة توقف دلالة اللفظ على معناه على كونه مرادا

(1) ثالث الأمور المتعلقة بالمرام.
590

ولو بالنظر إلى ظاهر الإطلاق من جهة قضاء الأصل إذن بإرادته، فلو قام هناك
قرينة على عدم الإرادة لم يكن دالا عليه، بل على ما دلت القرينة على إرادته.
وهو أيضا كما ترى، إذ لا قصور حينئذ في دلالة اللفظ على نفس المعنى،
لوضوح الاكتفاء في حصولها بالوضع والعلم به وإنما تمنع القرينة من دلالته على
إرادة ذلك المعنى.
ومع الغض عن ذلك فهو لا يوافق ما احتجوا به على ذلك في المقام من انتفاء
المايز بين الصيغة إذا كانت طلبا أو تهديدا إلا الإرادة، بل لا يوافق الاحتجاج
المذكور ظاهر ما عنون به الدعوى، فإن الإرادة المذكورة في الاحتجاج إنما يراد
بها إرادة المطلوب كما هو الظاهر، والإرادة المأخوذة في العنوان إنما هي إرادة
الطلب.
هذا، وقد ذكر في المقام نزاع آخر، وهو أن الأمر بم يصير أمرا؟ وقد ذكروا
هناك أقوالا عديدة:
منها: ما حكي عن السيد المرتضى (رحمه الله) من أنه يصير أمرا بالإرادة، وعزي
ذلك إلى محققي المعتزلة، واختاره المحقق في المعارج.
ومنها: ما حكي عن الأشاعرة من أنها تكون أمرا بالوضع من غير اشتراط
بالإرادة.
فإن أريد بذلك توقف كونه أمرا على إرادة الطلب فلا يكون أمرا بدونها، فهو
من الأمور الظاهرة، ولا مجال لإنكاره، ولا يظن أن أحدا يخالف فيه، كما هو
الشأن في سائر الألفاظ لكون الإرادة هي المخصصة لها بمعانيها حقيقية كانت أو
مجازية، وإن كان الوضع كافيا في حملها على معانيها الحقيقية والحكم بإرادتها
من غير حاجة إلى قيام دليل آخر عليها فيعود النزاع إذن لفظيا، حملا لكلام
الأشاعرة على الاكتفاء في ذلك بظاهر الوضع.
وإن أريد توقفه على إرادة المطلوب بمعنى أن الصيغة إنما تكون أمرا إذا أريد
بها من المأمور إيقاع الفعل دون ما إذا لم يرد ذلك.
591

وكأن المقصود به الإشارة إلى الخلاف الواقع في اعتبار إرادة المطلق حسب
ما عرفت من زعم الأشاعرة عدم الحاجة إليها في تحقق الأمر، وبنائهم على
المغايرة بين الطلب والإرادة، وأما غيرهم فبنوا على اتحاد الأمرين، وحينئذ فلا
يمكن تحقق الأمر من دون حصولها، فمرجع هذا البحث إذن إلى البحث المتقدم.
واحتج في المعارج وغيره بأن الصيغة ترد أمرا كقوله: * (وأقيموا الصلاة) * (1)
وغير أمر كقوله: * (اعملوا ما شئتم) * (2) ولا مخصص إلا الإرادة.
فإن أراد به توقف كونه للطلب على إرادة المطلوب - إذ لا مخصص له بذلك
إلا الإرادة المذكورة فيكون الغرض دفع ما ذهب اليه الأشاعرة من الاختلاف بين
الأمرين وإمكان مفارقة الطلب عن الإرادة فلا حاجة إليها في صدق الأمر - ففيه:
أن من البين أن إرادة الطلب كافية عندهم في تخصيصه بالطلب من غير حاجة
إلى إرادة المطلوب.
وإن أراد به توقف كونه للطلب على إرادته - إذ لا مخصص له سواها كما هو
الظاهر من كلامه - فقد عرفت أنه مما لا كلام فيه.
وكيف كان، فالظاهر أن النزاع المذكور إما لفظي، أو أنه يعود إلى النزاع
المتقدم وإن اختلفا في ظاهر العنوان، فعدهما بحثين وإطالة الكلام في المقام كما
في النهاية ليس على ما ينبغي.
المقام الثالث:
في أن لفظ الأمر هل يفيد الوجوب وضعا أو لا؟
وقد اختلفوا في ذلك على قولين، والأرجح كونه حقيقة في الطلب أو الصيغة
الدالة عليه على نحو ما ذكرناه في حده، فيعم ما إذا كان الطلب على سبيل الحتم
والإلزام أو على سبيل الندب، سواء كان صادرا من العالي أو المستعلي أو هما معا.
ويدل عليه أنه لا فارق عرفا من الجهة المذكورة بين الأمر ومطلق الطلب

(1) سورة النور: 56.
(2) سورة فصلت: 40.
592

الصادر من العالي أو المستعلي مع أن لفظ " الطلب " حقيقة في المعنى الأعم اتفاقا
على ما يظهر منهم، فكذا ما بمنزلته، بل لو غض عن ذلك وادعي تبادره عرفا
في مطلق الطلب كان في محله، كما لا يخفى على المتأمل.
ويومئ اليه تعميم الالتماس والدعاء لما كان الطلب الواقع من المساوي
أو الداني على سبيل الحتم أو غيره، كما هو ظاهر من ملاحظة العرف، فالظاهر
كون الأمر أيضا كذلك.
مضافا إلى أنهم لم يعتبروا في حده ما يفيد الإلزام وإنما أخذوا فيه طلب الفعل
أو اقتضاءه أو استدعاءه أو ما يفيد مفاد ذلك الشامل لصورة الإلزام وخلافه،
وليس ذلك إلا لانصرافه إلى ذلك بحسب فهم العرف.
وأخذ الاستعلاء في جملة من حدوده لا يدل على كون الطلب على سبيل
الحتم، لوضوح أن الطلب الحتمي كما قد يكون مع الاستعلاء وقد يكون مع عدمه
كذلك الطلب الندبي يكون على الوجهين، فإن اقتضاء الشئ مع الإذن في تركه
لا ينافي استعلاء المتكلم أصلا، بل ظاهر قوله: " أذنت لك في تركه " يفيد
الاستعلاء، كما أن قولك: " ندبت عليك هذا الفعل " ظاهر فيه.
والحاصل: أن الاستعلاء مما يتبع اعتبار المتكلم سواء كان ذلك في مورد
التكليف أو غيره، فلو قال: " أبحت لك هذا الفعل " أفاد الاستعلاء.
بل قد يحصل الاستعلاء في الإخبارات أيضا، نظرا إلى ملاحظة
الخصوصيات الملحوظة في المخاطبات وخصوصيات بعض الألفاظ مما يقع
بها الخطاب.
بل قد يكون الاستعلاء مستفادا من الأفعال وملاحظة الأحوال، فما في كلام
بعض الأعلام من جعل الاستعلاء مستلزما للإلزام المنافي للندب كما ترى.
وما أورده على القائل بعدم إفادة لفظ " الأمر " الوجوب - بأنه إما أن يقول بأن
الأمر هو الطلب من العالي لا من حيث إنه مستعل وقد عرفت بطلانه، أو يأخذ
الاستعلاء في مفهوم الندب ويجعله أعم من الندب وستعرف بطلانه - غير وارد
593

عليه، لما عرفت من انتفاء المنافاة بين الأمرين.
وما ذكر في وجهه بعد ذلك من أن طلب الشئ على سبيل الندب هداية
وإرشاد ولا يلزم فيه اعتبار الاستعلاء غير متجه، فإن عدم لزوم اعتبار الاستعلاء
لا يستلزم عدم حصوله، فأي مانع إذن من اختصاص لفظ " الأمر " بصورة حصوله،
كما أن الطلب الحتمي لا يستلزم الاستعلاء، ضرورة حصوله أيضا في الالتماس
والدعاء، مع اختصاص صدق الأمر عليه إذا صدر من غير العالي، بما إذا كان
حصوله على سبيل الاستعلاء.
على أن القائل بعدم دلالته على الوجوب لا يلزمه القول بكون الأمر هو
الطلب الصادر من العالي، لا من حيث إنه مستعل، بل لو جعل مفاده هو الطلب من
العالي سواء كان مستعليا أو لا صح ما ذكره.
وإن قلنا باستلزام الاستعلاء للإلزام فعدم أخذه خصوص الاستعلاء في مفهوم
الأمر كاف في تصحيح ما ذكره من غير حاجة إلى اعتبار خلافه حسب ما ألزمه به
في ظاهر كلامه وإن أمكن توجيهه بحمله على عدم أخذ الاستعلاء فيه، سواء اتفق
حصوله أو لا.
إلا أنه بعيد عن العبارة كما لا يخفى، مضافا إلى أنك قد عرفت اكتفاء أحد
الأمرين فيه من العلو والاستعلاء حسب ما قررنا، وعليه فالكلام المذكور ساقط
من أصله.
فظهر بما ذكرنا أن من اعتبر الاستعلاء في مفهوم الأمر لا يلزمه القول بدلالته
على الوجوب، وكذا تبادر علو الآمر واستعلائه من لفظ " الأمر " إن سلم لا دلالة
فيه على اعتبار الإلزام، وكذا ظهوره عرفا في الطلب الحتمي لا يفيد ذلك، فإنه
كظهور مطلق الطلب فيه من باب انصراف المطلق إلى الفرد الكامل كما سنشير اليه
إن شاء الله تعالى.
وقد يحتج لوضعه للمعنى الأعم تارة بتقسيم الأمر إلى ما يكون على سبيل
الوجوب، وما يكون على سبيل الندب، وظاهر التقسيم أن يكون المقسم حقيقة
في الأعم.
594

وفيه ما عرفت من عدم وضوح دلالة التقسيم على ذلك، على أنه قد يحصل
الانقسام في المقام بالنسبة إلى سائر مستعملات الأمر أيضا.
نعم، قد يرجع الأمر في ذلك إلى التبادر بأن يدعى تبادر المعنى القابل للقسمة
المذكورة منه بحسب العرف فيؤول إلى ما ذكرناه.
وأخرى بأن فعل المندوب طاعة والطاعة الحاصلة بالفعل هو فعل المأمور به.
وقد يمنع من كلية الكبرى، إذ قد تكون الطاعة بفعل المأمور به، وقد تكون
بفعل المندوب.
وقد يذب عنه بأن المفهوم من الطاعة عرفا هو موافقة الأمر، فلا يتجه المنع
بعد فهم العرف، لكن الدعوى المذكورة محل خفاء وإن لم يخل عن ظهور ما، بل
ادعى بعضهم الاتفاق عليه، ففيه أيضا تأييد لما قلناه.
احتج القائل بكونه حقيقة في الوجوب بالتبادر، وبالآيتين الآتيتين،
وقوله (صلى الله عليه وآله): " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك " (1) مع وضوح طلبه له على
سبيل الندب.
ويدفع الأول أن المتبادر من مادة الأمر وصيغتها ليس إلا طلب الفعل،
والطلب ظاهر في الوجوب، ولذا ترى التبادر الحاصل فيهما حاصلا في قولك:
" أطلب منك الفعل وأريد منك الفعل " ونحوهما مما يفيد مفادهما من غير تفاوت
أصلا مع ظهور كون الطلب وما بمعناه موضوعا للأعم، وليس ذلك إلا لظهور
المعنى المذكور في الطلب الحتمي، لكونه أظهر أفراده عند الإطلاق.
ويشير اليه أيضا أن المتبادر من الإطلاق هو الوجوب النفسي العيني التعييني
كما سيجئ الإشارة اليه، مع أن ظاهر الجمهور عدم وضع الأمر له بخصوصه،
فيكون التبادر المذكور إطلاقيا عندهم أيضا فيهون الأمر في دعوى كونه إطلاقيا
بالنسبة إلى الوجوب أيضا.

(1) وسائل الشيعة: ب 5 من أبواب السواك ح 3 ج 1 ص 355.
595

فلا دلالة في التبادر المفروض على الحقيقة، ولذا لا يقال بكون الطلب
والإرادة حقيقة في خصوص الحتميين، فالدليل المذكور مدفوع أولا بالنقض،
ثم بالحل.
ومما ذكرنا ظهر الجواب عن الآيتين والرواية وما يفيد مفادهما، إذ لا كلام لنا
في انصراف الإطلاق إلى الوجوب إنما الكلام في استناده إلى الوضع ولا دلالة
فيها عليه.
قوله: * (صيغة " إفعل " وما في معناها) *.
أراد ب‍ " ما " في ما معناها سائر صيغ الأمر الحاضر نحو: تفعل وتفاعل، وصيغ
الأمر الغائب نحو: ليفعل وليفاعل، أو أراد به أسماء الأفعال نحو: صه وحيهل، أو
الأعم منهما.
وقد يعين حمله على الوجه الثاني ما حكي عن النحاة من أن إفعل علم جنس
لكل صيغة يطلب بها الفعل، كما أن فعل ويفعل علمان لكل ماض ومضارع مبني
للمفعول.
ويبعده أنه إن ثبت الاصطلاح المذكور فإنما يثبت في عرف علماء الصرف أو
وسائر علماء العربية وثبوته في عرف علماء الأصول غير معلوم بل الظاهر خلافه،
وليس من الاصطلاحات الشائعة الدائرة بين سائر الناس من غير أهل ذلك
الاصطلاح - كلفظ الفاعل والمفعول - ليستظهر الحمل عليه، فحمل العبارة على
ذلك مما لا شاهد عليه، ثم على فرض ثبوت الاصطلاح المذكور فشموله لصيغ
الأمر الغائب محل تأمل أيضا.
هذا، واعلم أن صيغة الأمر قد استعمل في معاني عديدة كالوجوب والندب
والطلب الجامع بينهما والإباحة والإذن والإرشاد والالتماس والدعاء والتمني
والترجي والخبر والتهديد والإنذار والاحتقار والإهانة والإكرام والتعجيز
والتسخير والتكوين والتسلية والامتنان وانقطاع الأمل والتحزن والتهكم وغيرها،
وليست حقيقة في جميع ذلك اتفاقا إذ كثير من المعاني المذكورة إنما يفهم من جهة
596

انضمام القرائن وملاحظة المقامات.
وفي النهاية - بعدما ذكر معاني خمسة عشر للصيغة - أنها ليست حقيقة
في جميع ذلك بالإجماع بل النزاع وقع في أمور خمسة: الوجوب أو الندب
أو الإباحة أو التنزيه أو التحريم.
وفي الإحكام قد اتفقوا على أنها مجاز فيما سوى الطلب والتهديد والإباحة.
وأراد بالطلب ما يعم الجامع بين الوجوب والندب والإرشاد أو بعضها،
وقد اتفقوا أيضا على كونها حقيقة في الطلب في الجملة حكاه في المعارج.
ثم إن الخروج عن مقتضى الوضع في عدة من المعاني المذكورة بالنسبة إلى
ملاحظة وضعها باعتبار الهيئة كما في الإباحة والإذن والتمني والترجي ونحوها،
وفي عدة منها بالنسبة إلى ملاحظة وضع الهيئة والمادة معا، بل في معناها التركيبي
الانشائي كما في التهديد والإنذار والتهكم ونحوها، فإن مفاد تلك الجمل
الإنشائية هو إنشاء طلب الفعل من المأمور وقد استعملت في إنشاء ما يتبعه
ويلزمه بحسب المقام، فأريد من تلك الجمل إحضار صورة الطلب بملاحظة وضع
المادة والهيئة لينتقل منه بملاحظة المقام إلى ما يتبعه من التهديد والإنذار
وغيرهما، فتلك التوابع هي المرادة من تلك الجمل الإنشائية، وقد جعل معناها
الموضوع له واسطة في إفهامها، كما هو الحال في سائر المجازات المركبة.
قوله: * (حقيقة في الوجوب) *
قد يورد في المقام أمور:
منها: أن الحقيقة هي اللفظ المستعمل في تمام ما وضع له، وليس الوجوب
إلا بعض مفاد صيغة الأمر لدلالتها على الوجوب مثلا والحدث الذي يتصف بذلك
الوجوب، فكيف يقال بكونها حقيقة في الوجوب الذي هو جزء معناها؟
ولو أجيب بأن المراد من الصيغة هو خصوص الهيئة وليس معناه الحدثي
مستندا إلى وضعها الهيئي فيكون الوجوب تمام الموضوع له بذلك الوضع ففيه:
أولا: أن الهيئة بنفسها لا وضع لها وإنما هي مرآة وآلة لوضع الألفاظ
597

المعروضة لها، فهي موضوعة بإزاء معناها المادي والهيئي بوضع واحد.
وثانيا: أن معناها الهيئي أيضا ليس مجرد الوجوب لأخذ الزمان والإسناد إلى
فاعل ما في معنى الأفعال، إذ ليس دلالتها على ذلك إلا من جهة وضعها الهيئي
فهو بتلك الملاحظة أيضا بعض من مدلولها.
ومنها: أن الوجوب بمعنى كون الفعل مما يترتب على تركه استحقاق الذم
أو العقاب، كما هو المعنى المصطلح من الأمور العقلية أو الشرعية التابعة لملاحظة
حال الآمر مع المأمور في وجوب طاعته واستحقاق الذم أو العقاب على مخالفته،
فهو من اللواحق الطارئة على الفعل المأمور به في بعض الأحوال وأين ذلك من
وضع الصيغة له بحسب اللغة.
ومنها: أن صيغة الأمر من جملة الأفعال المسندة إلى فاعليها، فكيف يصح
جعل الوجوب مدلولا لها؟ مع أنها من حيث الصدور من لواحق الأمر ومن حيث
القيام من لواحق الفعل المأمور به - أعني المادة المتعلقة لهيئة الأمر - وليس من
لواحق المأمور الذي هو الفاعل لتلك الصيغة ليصح إسنادها اليه.
والحاصل: أنه إن اخذ الوجوب مدلولا لصيغة الأمر فإن فسر بطلب الفعل
على سبيل المنع من الترك كان مسندا إلى الأمر، فينبغي أن يسند الفعل إلى المتكلم
دون المخاطب أو الغائب، وإن فسر بالصفة القائمة بالفعل فهو من لواحق الحدث
الذي اخذ مبدأ للأمر فلا وجه لإسناده إلى المخاطب أو غيره.
ومنها: أن الأمر من جملة الإنشاءات الغير المحتملة للصدق والكذب فلو كان
مدلولها بحسب الوضع هو وجوب الفعل على المأمور كان محتملا للصدق
والكذب، لإمكان مطابقة المدلول المفروض للواقع وعدمها.
وبالجملة: المعنى المذكور من المعاني الخبرية التي لها مطابق بحسب الواقع،
فلا يصح جعلها مدلولا للإنشاء.
ومنها: أن ما يستفاد من الصيغة بناء على القول المذكور إنما هو إيجاب الفعل
على المأمور وإلزامه به، ووجوب الفعل عليه متفرع على الإيجاب تابع له، فلا
598

يتجه جعل الموضوع له للصيغة هو الوجوب بل ينبغي جعلها بإزاء الإيجاب،
كما هو مختار البعض.
والجواب عن الأول أنه ليس المراد من كونه حقيقة في الوجوب أن ذلك تمام
معناه، بل المقصود كونها حقيقة فيه مع انضمام ما يضم اليه مما اخذ في معناه، إلا
أنه لما كان هذا الجزء هو محل الخلاف في المقام وكان اعتبار غيره معلوما من
الخارج اكتفوا في المقام بذكر الوجوب وتركوا ذكر الباقي اتكالا على الوضوح.
ويمكن أن يجاب أيضا بأن المراد كون الصيغة باعتبار وضعها الهيئي حقيقة
في ذلك، وليس المراد وضع الهيئة بنفسها لذلك حتى يرد ما ذكر من كون الهيئة
مرآة للوضع لا أنها موضوعة للمعنى.
فإن قلت: لا ريب في عدم تعدد الوضع المتعلق باللفظ الواحد باعتبار المعنى
الواحد، وحينئذ فليس لصيغ الأمر بالنسبة إلى ما يراد منها إلا وضع واحد متعلق
بتلك الكلمة باعتبار مادتها وهيئتها، فليس هناك وضعان متعلقان بها: أحدهما
بمادتها، والآخر بهيئتها كما قد يتراءى من ظواهر بعض الكلمات، فالإشكال
المذكور بحاله.
قلت: لا ريب في كون الوضع المتعلق بتلك الصيغة باعتبار مادتها وهيئتها
واحدة، كسائر المواد والهيئات المأخوذة في الجوامد وإن كان الوضع هنا نوعيا
وفي الجوامد شخصيا، إلا أن الفرق بينهما أن المادة والهيئة في الجوامد حتى
المصادر ملحوظتان في الوضع بلحاظ واحد، بخلاف المقام حيث إن ملحوظ
الواضع حين الوضع كون اللفظ باعتبار مادته بإزاء الحدث، وباعتبار هيئته بإزاء
الوجوب على الوجه الذي سنذكره إن شاء الله أو غير ذلك من المعاني الملحوظة
في الهيئات، فبملاحظة ذلك ينزل الوضع المذكور منزلة وضعين.
وكأن هذا هو مرادهم بما ذكروه من تعلق وضعين بتلك الصيغ باعتبار موادها
وهيئاتها حسب ما نفصل القول فيه في محل آخر إن شاء الله، وحينئذ فإطلاق
أن الصيغة حقيقة في ذلك إنما يراد به ذلك.
599

بقي الكلام فيما ذكر من تعدد معناه الهيئي أيضا نظرا إلى أخذ الزمان والإسناد
إلى فاعل ما في مدلول الأفعال، فلا يكون الوجوب تمام معناه الهيئي.
وقد يدفع بأن فعل الأمر منسلخ عن الزمان حيث إنه لا يراد منه إلا طلب
الفعل، فلا دلالة فيه على الزمان حسب ما يجئ الإشارة اليه في كلام المصنف (رحمه الله)
والوجوب الملحوظ في المقام ليس معنى تاما بل اخذ حالا في النسبة المأخوذة
في تلك الصيغ، فالنسبة ملحوظة فيه حسب ما سنشير اليه إن شاء الله.
وعن الثاني بأن مفاد الصيغة هو الوجوب المصطلح حيث إنه وضعت الصيغة
للدلالة عليه، فيكون الإلزام المستفاد منها هو الحاصل من العالي الذي يستحق
في مخالفته الذم والعقاب، فتدل على أن القائل بها شخص عال أوجب الفعل
على المخاطب.
والحاصل: أن الصيغة موضوعة لخصوص الأمر أي لخصوص الطلب الصادر
من العالي المستعلي، بناء على انحصار الاستعلاء في الإيجاب، فلا يكون الطلب
الصادر من غيره من موضوع اللفظ ويكون استعماله إذن مجازا، كذا اختاره بعض
الأفاضل عند تقرير محل الخلاف، على طبق ما حكيناه عنه من اعتبار العلو
والاستعلاء معا في الأمر، وتفسيره العلو بما مر.
وأنت خبير بأن الكلام المذكور في غاية البعد.
وكيف يقال بانحصار مدلول الأمر حقيقة في ذلك؟ ومع أن معظم استعمالاته
اللغوية والعرفية على خلاف ذلك، وقد عرفت أن العلو المأخوذ فيه حسب ما مر
هو العلو العرفي دون العلو الذي يوجب استحقاق الذم والعقاب في مخالفته.
فدعوى دلالة الصيغة على أن المتكلم بها ممن يجب طاعته عقلا أو شرعا
موهونة جدا، بل دعوى كونها موضوعة لخصوص الأمر غير ظاهرة أيضا.
بل الظاهر وضعها للأعم من الأمر والالتماس والدعاء، فليس العلو
أو الاستعلاء معتبرا في وضعها أصلا وإنما يعتبر ذلك في كونها أمرا، كما يعتبر
خلافه في كونها التماسا أو دعاء، وذلك ظاهر بعد ملاحظة الاستعمالات المتداولة
600

كمال الظهور، كيف! ولولا ذلك لم يكن للطلب الالتماسي والدعائي صيغة
موضوعة يكون استعمالها فيهما حقيقة مع أن الحاجة إليهما في الاستعمالات
ودورانهما في المخاطبات إن لم يكن أكثر من الأمر فليس بأقل منه، فكيف
يتصور تخصيص الواضع لوضع صيغة الطلب بالأمر وإهماله لهما؟.
فالذي ينبغي أن يقال بناء على القول بوضع الصيغة للوجوب أنها موضوعة
للطلب الحتمي، بمعنى طلب الفعل على وجه لا يرضى بتركه، وذلك إن صدر من
العالي أو المستعلي كان أمرا، وإن صدر عن غيره كان التماسا أو دعاء، ومدلول
الصيغة وضعا شئ واحد في الجميع، وخصوصية الأمر والالتماس والدعاء تعرف
من ملاحظة حال القائل وليست تلك الخصوصيات مما يستعمل اللفظ فيه،
واستعمال الصيغة على كل من الوجوه المذكورة على سبيل الحقيقة من غير تعدد
في الوضع واستحقاق الذم أو العقاب على تركه بحسب الواقع إنما يجئ من
الخارج بعد ثبوت وجوب الإتيان بما يطلبه المتكلم من العقل أو الشرع، وليس
ذلك من مدلول اللفظ بحسب وضع اللغة أصلا.
فالمقصود بالوجوب في المقام هو ما ذكرناه من الطلب الحتمي لا الوجوب
المصطلح، وهو وإن كان خلاف مصطلحهم، إلا أن ظاهر المقام قرينة مرشدة اليه،
ويتحد ذلك بالوجوب المصطلح إذا صدرت الصيغة من الشرع إن أخذ الوجوب
بمعنى طلب الشرع على الوجه المخصوص، وإن أخذ بمعنى كون الفعل بحيث
يستحق تاركه الذم أو العقاب فلا يكون ذلك من مدلول الصيغة بحسب الوضع
مطلقا، بل هو من المعاني المتفرعة اللازمة للطلب المذكور إذا صدرت الصيغة ممن
يحرم مخالفته، سواء صدرت من الشارع أو غيره وليس ذلك من خواص الأمر،
بل قد يوجد في الالتماس والدعاء حسب ما مرت الإشارة اليه، فبما قررنا ظهر
اندفاع الإيراد المذكور لابتنائه على حمل الوجوب على المعنى المصطلح.
وعن الثالث أن المراد بالوجوب هنا كما عرفت طلب الفعل على سبيل الحتم
وعدم الرضا بالترك، لكن ليس الطلب المذكور ملحوظا في المقام على سبيل
601

الاستقلال بأن يكون الوجوب معنى مستقلا ملحوظا بذاته ليمكن وقوعه مسندا
في المقام، إذ ليس القابل للإسناد في الأفعال إلا معانيها الحدثية فإنها هي المعاني
التامة الصالحة للإسناد إلى الغير، والطلب المذكور إنما اخذ آلة ومرآة لملاحظة
نسبة الحدث إلى فاعله فالمستفاد من تلك الجملة الطلبية إسناد الحدث المدلول
عليه بالمادة إلى فاعله على سبيل كونه مطلوبا منه، فليس الطلب الملحوظ في
المقام إلا معنى حرفيا غير مستقل في الملاحظة وقد جعلت هيئة الأمر دالة عليه
كما وضع له في سائر الطلبيات من التمني والترجي والاستفهام حروفا مخصوصة،
فليس الوجوب في المقام متعلقا للإسناد ولا معنى تاما ملحوظا بذاته ليكون قابلا
للإسناد المذكور.
وجعلهم مدلول الأمر هو الطلب أو وجوب المأمور به على المخاطب بيان لما
هو حاصل بالأمر على نحو ما يذكرونه في معاني الحروف، إلا أن ذلك بالملاحظة
المذكورة هو مدلوله بحسب الوضع حتى يكون الطلب أو الوجوب هو المعنى
المدلول عليه بالصيغة استقلالا، كما في قولك: " أطلب منك الفعل أو أوجبت عليك
الفعل " ونحوهما ليكون المعنى الحدثي مأخوذا معه شطرا أو شرطا ليكون مفاد
الأمر معنيين مستقلين، أو معنى واحد هو الطلب خاصة ويكون الآخر قيدا فيه، إذ
من الواضح بعد التأمل في مفادها بحسب العرف وملاحظة أوضاع مبادئها خلافه،
فليس المعنى المستقل بالمفهومية في الأفعال إلا معانيها الحدثية المفهومة منها
بملاحظة أوضاعها المادية، وأما وضعها الهيئي فلا يفيد إلا معنى حرفيا حتى أن
الزمان المفهوم منه إنما يؤخذ مرآة لحال الغير وليس ملحوظا بذاته، ولأجل ما
ذكرنا دخل النقض في معاني الأفعال.
فالحال في وضع هيئة الأمر على نحو أوضاع الحروف، فعلى ما اختاره
المتأخرون من كون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصا يكون الحال هنا أيضا
كذلك، فمطلق الطلب أو الوجوب إنما اخذ مرآة في الوضع، وأما الموضوع له
فهو جزئيات الطلب أو الوجوب.
602

ثم نقول: إن الإسناد إلى فاعل ما من المعاني المأخوذة في أوضاع الأفعال
بملاحظة الهيئات الطارئة على موادها، وذلك الإسناد قد يلحظ فيها على النحو
الحاصل في سائر الإخبارات، بأن يفيد انتساب الحدث المدلول عليه إلى غيره
بحسب الواقع، وقد يلحظ على سبيل الانشاء بأن يعتبر في نسبة ذلك الحدث إلى
ما أسند اليه ما يحصل معه تلك النسبة بمحض إسناده اليه، فيقع الانتساب بينهما
بمجرد الإسناد من غير أن يكون بيانا لنسبة حاصلة في الواقع، نظير قولك: " ليت
زيدا قائم " فإنك قد أسندت القيام إلى زيد لا على أنه حال له في الواقع، كما في:
" زيد قائم " بل على أن تلك الحال حالة متمنية له، وإسناده اليه على سبيل التمني
حاصل بنفس ذلك الإسناد، وكذا الحال في مدلول الأمر فإنه يفيد إسناد مدلوله
الحدثي إلى فاعله من حيث كونه مطلوبا مرادا حصوله منه حسب ما عرفت،
فإرادة النسبة المذكورة في هذه المقامات مفيدة لحصولها موجدة لها بخلاف
النسبة الحاصلة في الاخبارات.
فظهر بما قررناه أن الفرق بين الإنشاءات والإخبارات إنما هو بملاحظة
النسبة والإسناد، ومنه يتبين الجواب عن الإيراد الرابع.
وأنت إذا تأملت فيما قررناه عرفت أن مفاد قولهم: " إن الأمر للوجوب أو
الإيجاب " أمر واحد لا فارق بينهما بحسب الحقيقة، فإن المقصود منه هو إفادة ما
بيناه، وذلك المفهوم لما اخذ واسطة في انتساب الحدث إلى فاعله ومرآة لملاحظة
حال ذلك المنسوب - بالنظر إلى ما نسب اليه إن لوحظ بالنسبة إلى ذلك الحدث
سمي وجوبا ويوصف معه الفعل بالوجوب، وإن لوحظ بالنسبة إلى الآمر من حيث
صدوره عنه ووقعه بإيقاعه سمي إيجابا وتكليفا بمعناه الحدثي - فيصح التعبير
بكلا الوجهين من غير تكلف، ولذا قد يعبرون عنه بالأول وقد يعبرون عنه بالثاني
من غير بنائهم على اختلاف في ذلك، وفسروا الوجوب بطلب الفعل مع المنع من
الترك، مع أنه تفسير للإيجاب في الحقيقة.
فما ذكره بعض المتأخرين: من تغاير الأمرين بحسب الحقيقة وأن ما ذكر
603

من اتحادهما بالذات واختلافهما بالاعتبار من خرافات الأشاعرة، ليس على
ما ينبغي.
والظاهر أن ما ذكره مبني على أخذ الوجوب بمعنى رجحان الفعل مع المنع
من الترك، وقد عرفت أن المراد به في المقام غير ذلك.
وربما يظهر تغايرهما حقيقة من المحقق (1) في المعارج وغيره. وبما ذكرنا
يظهر الجواب عن الإيراد الخامس.
قوله: * (وفاقا لجمهور الأصوليين) *
وقد عزي ذلك إلى المحققين، وعزاه في النهاية إلى أكثر الفقهاء وجماعة من
المتكلمين، وفي الإحكام إلى الفقهاء وجماعة من المتكلمين، والعضدي إلى الجمهور،
وحكي القول به عن كثير من العامة والخاصة منهم: الشيخ والفاضلان والشهيدان
وكثير من المتأخرين، والشافعي في إحدى النسبتين إليه، وأبو الحسين البصري
والحاجبي والعضدي والرازي، والغزالي في إحدى الحكايتين عنه، وغيرهم.
قوله: * (وقيل: في الطلب) *
وهو الجامع بين الوجوب والندب، وقد يجعل أعم من الإرشاد أيضا حسب
ما يستفاد من الإحكام حيث جعل مفهوم الطلب شاملا للثلاثة، وفرق بين الندب
والإرشاد بأن الندب ما كان الرجحان فيه لأجل مصلحة أخروية، والإرشاد ما
كانت المصلحة فيه دنيوية، إلا أنه لم ينقل فيه قولا بوضع الصيغة للأعم من الثلاثة،
وقد وافقه على الفرق المذكور غيره أيضا، ولا يخلو ما ذكر عن تأمل.
والمعروف جعل الطلب قدرا مشتركا بين الوجوب والندب، وذلك هو الأظهر،
إذ الظاهر أن المقصود من الإرشاد هو بيان المصلحة المترتبة من دون حصول اقتضاء
هناك على سبيل الحقيقة فهو إبراز للمصلحة المترتبة على الفعل بصورة الاقتضاء.

(1) حيث جعل القول بالإيجاب مقابلا للقول بالوجوب، ويظهر ذلك أيضا من السيد العميدي
وقد نص على أن اتحاد الإيجاب والوجوب في الحقيقة إنما يتم على مذهب الأشاعرة فيما
سيجئ تتمة لهذا الكلام إن شاء الله. (منه عفي عنه).
604

ألا ترى أنه قد يكون ما يأمره به على سبيل الإرشاد مبغوضا عنده ولا يريد
حصوله أصلا، كما إذا استشاره أحد في إكرام زيد أو عمرو، وهو يبغضهما ويريد
إهانتهما ومع ذلك إذا كانت مصلحة المستشير في إكرام زيد مثلا يقول له: " أكرم
زيدا " مريدا بذلك إظهار المصلحة المترتبة عليه من غير أن يكون هناك اقتضاء
منه للإكرام، بل قد يصرح بأنه لا يحب إكرامه ويبغض الإتيان به.
وهذا بخلاف الندب لحصول الاقتضاء هناك قطعا، إلا أنه غير بالغ إلى حد
الحتم من غير فرق بين ما يكون السبب فيه المصلحة الدنيوية أو الأخروية،
كما أنه لا فرق في الإرشاد بين ما إذا كان الغرض إبداء المصلحة الدنيوية
أو الأخروية، كيف! ولولا ما قلنا لم يكن ندب في أغلب الأوامر العرفية، لعدم
ابتنائها على المصالح الأخروية في الغالب.
ومع الغض عن جميع ما ذكر فقد يكون المصلحة الدنيوية المتفرعة على الفعل
عائدة إلى غير المأمور وليس ذلك إذن من الإرشاد، فلا يتم ما ذكر من الفرق
إلا أن يخصص ما ذكر من التفصيل بالمصلحة العائدة إلى المأمور، وهو كما ترى.
هذا، وقد ذهب إلى وضع الأمر بإزاء الطلب جماعة من أصحابنا منهم السيد
العميدي، وجماعة من العامة منهم الجويني والخطيب القزويني وبعض الحنفية
على ما حكي عنهم، وهو المختار كما سنبين الوجه فيه إن شاء الله.
إلا أن الأوامر المطلقة مطلقا محمولة على الوجوب، لانصراف مطلق الطلب
اليه عرفا إلا أن يقوم دليل على الإذن في الترك، وكأنه لانصراف المطلق إلى
الكامل، واختاره صاحب الوافية أيضا، إلا أنه ذهب إلى حمل الأوامر الشرعية
كتابا وسنة على الوجوب لا لدلالة الصيغة عليه، بل لقيام قرائن عامة شرعا عليه،
وإليه ذهب العلامة في النهاية بحسب وضع اللغة وجعلها موضوعة في الشرع
لخصوص الوجوب.
قوله: * (وذهب السيد المرتضى إلى أنها مشتركة بين الوجوب والندب) *
وقد تبعه فيما فصله السيد ابن زهرة، وقد ذهب إلى اشتراكه لفظا بين المعنيين
605

جماعة، وهم لم يفصلوا بين اللغة والشرع.
قوله: * (وتوقف في ذلك قوم فلم يدروا أنها للوجوب أو الندب) *
وقد حكي ذلك عن الأشعري والقاضي أبي بكر وبنى عليه الآمدي في
الإحكام، وحكاه عن الأشعري ومن تابعه كالقاضي أبي بكر والغزالي، إلا أن
ظاهر كلامه بملاحظة سابقه هو التوقف بين الوجوب والندب والإرشاد.
وربما يعزى إلى جماعة التوقف بين كونها للوجوب أو الندب، أولهما اشتراكا
لفظيا، أو للقدر الجامع بينهما ليكون مشتركا معنويا.
وعن البعض التوقف بين الأخيرين، وعن بعض آخر التوقف بين الأحكام
الخمسة، فهي موضوعة لواحد من الأحكام لا نعلمه.
قوله: * (وقيل: إنها مشتركة بين ثلاثة أشياء) *
قد حكي ذلك عن جماعة.
قوله: * (وزعم قوم... الخ) *
قد حكاه الحاجبي والعضدي عن الشيعة، ولا أصل له إذ هو غير معروف بينهم
ولا منسوب إلى أحد من فضلائهم، فهو فرية عليهم، أو كان مذهبا لبعض الشيعة
من سائر فرقهم ممن لا يعتد بقوله عندهم.
وقد عزى الآمدي في الإحكام إلى الشيعة الاشتراك بين الوجوب والندب
والإرشاد، وهو أيضا غير معروف بين الأصحاب.
قوله: * (وقيل: فيه أشياء اخر) *
منها: القول بأنها للإباحة خاصة، حكاه في الإحكام.
ومنها: القول بالاشتراك اللفظي بين الأحكام الخمسة.
ومنها: القول بالاشتراك بين الوجوب والندب والإباحة والتهديد والتعجيز
والتكوين.
ومنها: القول بالاشتراك بين الطلب والتهديد والتعجيز والإباحة... إلى غير
ذلك مما يقف عليه المتتبع في كلماتهم، ولا جدوى في التعرض لها لندورها
606

ووضوح فسادها، وظاهر ما حكي من الاتفاق يدفعها.
قوله: * (لنا أنا نقطع أن السيد... الخ) *
هذه عمدة أدلة القائلين بوضعها للوجوب، وهو استناد إلى التبادر، تقريره: أن
السيد إذا قال لعبده مع خلو المقام عن القرائن: " إفعل " فلم يفعل عد عاصيا وذمة
العقلاء على ترك الفعل، وهو معنى الوجوب.
وقد يورد عليه بوجوه:
منها: أنه لو تبادر منه الوجوب لزم انتقال الذهن من الأمر إلى المنع من الترك
وليس كذلك، إذ قد لا يخطر الترك بالبال فضلا عن المنع عنه.
ويدفعه أن الوجوب معنى بسيط إجمالي يؤخذ فيه المنع من الترك عند
التحليل العقلي، فلا يلزم حينئذ تصور المنع من الترك عند تصور الوجوب إجمالا،
وذلك ظاهر من ملاحظة سائر المفاهيم الإجمالية المنحلة عند التفصيل إلى مفاهيم
عديدة.
مضافا إلى أن المنع من الترك ليس جزء من مفهوم الوجوب ولو عند التحليل
بل هو من لوازمه حسب ما يأتي الإشارة اليه.
ومنها: المنع من خلو المقام الذي يفهم منه ذلك عن القرينة، إذ الغالب في
العرف قيام القرائن الحالية أو المقالية على ذلك، وقد أشار اليه المصنف (رحمه الله) بقوله:
" لا يقال... " الخ ويأتي الكلام في الجواب عنه.
ومنها: أن الفهم المذكور قد يكون من جهة إيجاب الشرع طاعة السيد على
العبد وإلزامه بامتثال أوامره، أو من جهة قضاء العرف به، ففرض وقوع الأمر من
السيد بالنسبة إلى عبده قاض بذلك بملاحظة حكم الشرع أو العرف، وأين ذلك من
دلالة الصيغة بنفسها عليه.
ووهنه ظاهر، فإن الشرع أو العرف إنما أوجب على العبد الإتيان بما أوجبه
مولاه لا غير ذلك، وإيجابه في المقام فرع دلالة الأمر.
ومنها: أن العصيان بمعنى مخالفة الأمر لا يثبت كونه محرما إلا بعد دلالة الأمر
607

على الوجوب، ضرورة انتفاء الإثم فيها مع عدمها، وأنه قد يقع الذم على ترك
بعض المندوبات وارتكاب بعض المكروهات، فلا اختصاص له بالمخالفة
المحرمة فلا يلزم من عده عاصيا وترتب الذم على تركه وجوب الفعل عليه
وتحريم تركه.
وفيه: أن العصيان لا يطلق عرفا إلا على فعل الحرام أو ترك الواجب وليس
مخالفة مطلق الأمر عصيانا، بل لا يطلق إلا على مخالفة الأمر الإيجابي، فإذا عد
مخالفة الأمر المطلق عصيانا كان مفيدا للإيجاب، وأن الذم لا يتعلق بالمكلف من
جهة ترك ما هو مندوب عند الذام وإنما يتعلق بترك الأمر اللازم أو بفعل المحرم،
وربما يرد على ترك المندوب لوم ولا يعد ذما، ولذا عرفوا الواجب بما يذم تاركه.
وورود الذم عرفا على ترك بعض المندوبات فإنما هو من جهة لزوم الإتيان
به في العرف وعدم ارتضائهم بالإهمال فيه وإن جاز تركه بحسب الشرع.
ومنها: أنه معارض بالصيغة المجردة عن القرينة الصادرة من مجهول الحال
ممن لا يعلم وجوب طاعته بحسب الشرع أو العرف وعدمه، فإن المأمور لا يعد
عاصيا ولا يتعلق به ذم فلو كان حقيقة في الوجوب لزم ترتب الذم عليه.
وقد يجاب عنه بأن دلالة اللفظ لا يستلزم مطابقة مدلوله للواقع، فغاية الأمر
دلالة اللفظ عليه في المقام، وهو لا يستلزم وجوبه ليتفرع عليه استحقاق الذم.
نعم، لو علم وجوب طاعة الآمر من الخارج دل ذلك على مطابقة المدلول
لما هو الواقع وترتب الذم على مخالفته، ولذا فرضوا الكلام في المقام في أمر
السيد لعبده.
وفيه: أن ما ذكر إنما يتم في الإخبار وأما الانشاء فإنما هو إيجاد لمدلوله في
الخارج فلا يصح فيه ما ذكر.
والحق في الجواب أنك قد عرفت أن ما وضع له الأمر هو الطلب الحتمي
الذي لا يرضى الطالب معه بترك المطلوب، ومن لوازمه كون الفعل بحيث يذم
تاركه أو يعاقب عليه إذا صدر ممن يجب طاعته، والمعنى المذكور حاصل في
608

المقام وإنما لم يترتب عليه الذم من جهة الشك في وجوب الطاعة، وإنما فرضوا
في الاحتجاج صدور الأمر ممن يجب طاعته ليعلم من وجود اللازم المذكور
الدال على حمل الصيغة على الطلب بالمعنى المفروض كونها حقيقة في ذلك.
ومنها: أن غاية ما يفيده دلالة الصيغة الصادرة من العالي على الوجوب، وأين
ذلك من دلالة الصيغة عليه مطلقا، كما هو ظاهر العنوان.
ويدفعه بناء على تعميم العنوان أنه إذا ثبت كون الصيغة حقيقة في الوجوب
في الصورة المفروضة ثبت ذلك في غيرها أيضا بأصالة عدم تعدد الأوضاع،
أو من جهة ظهور عدم اختلاف معنى اللفظ باختلاف المتكلمين، كما يظهر من
استقراء سائر الألفاظ.
ومنها: أن التبادر المذكور بعينه حاصل في لفظ الطلب وما بمعناه، كما إذا قال
لعبده: " أطلب منك شراء اللحم أو أريد منك ذلك " مع أنه لا كلام في كون الطلب
أعم من الوجوب والندب، فلو كان التبادر المفروض دليلا على الوضع للوجوب
بالخصوص لجرى في ذلك مع أن من المعلوم خلافه.
والقول بأن قضية التبادر أن يكون الوجوب موضوعا له في المقامين إلا أنا
خرجنا من ذلك فيما ذكر - نظرا إلى قيام الدليل على وضعه للأعم فيبقى غيره
تحت الأصل - مدفوع بأن كون الأصل في التبادر مطلقا أن يكون دليلا على الوضع
مما لا دليل عليه، وإنما الدليل على الوضع هو التبادر المستند إلى نفس اللفظ،
فلا يصح الاستناد إلى التبادر في ثبوت الوضع إلا بعد ثبوت كون التبادر المفروض
من ذلك القبيل علما أو ظنا، وأما مع حصول الشك في وجه لدعوى الأصل فيه،
ولا أقل في المقام من الشك بعد ملاحظة ما قررناه فلا يتم الاستناد اليه.
ومنها: أن التبادر إنما يكون دليلا على الوضع إذا كان الانصراف مستندا إلى
نفس اللفظ دون ما إذا استند إلى أمر آخر حسب ما مر تفصيل القول فيه.
والظاهر أن انصراف الأمر إلى الوجوب في المقام من جهة دلالة اللفظ على
الطلب الظاهر حين إطلاقه في الوجوب، كما عرفت في انصراف لفظ " الطلب "
609

وكأنه من جهة كون الوجوب هو الكامل منه، نظرا إلى ضعف الطلب في المندوب
من جهة الرخصة الحاصلة في تركه، وقد مرت الإشارة إلى ذلك.
قوله: * (معللين حسن ذمه بمجرد ترك الامتثال) *
لا يخفى أنه بعد أخذ ذلك في الاحتجاج لا يتوجه ما أورده بقوله: " لا يقال "
إذ بعد ثبوت تعليلهم حسن الذم بمجرد ترك الامتثال لا فرق بين قيام القرائن على
إرادة الوجوب وعدمه، إذ غاية ما يلزم من ذلك حينئذ أن تكون القرائن مؤكدة
لا مفيدة للوجوب، وإلا لم يحسن التعليل.
والحاصل أنه إما أن يؤخذ في الاحتجاج انتفاء القرائن في الصيغة الصادرة
من السيد، أو تعليلهم الذم بمجرد ترك الامتثال، ويتم الاحتجاج بأخذ واحد منهما
وحينئذ فمع أخذه التعليل المذكور في الاحتجاج وعدم اعتباره انتفاء القرائن
هناك لا يتجه الإيراد، لاحتمال وجود القرائن في المقام.
وقد يوجه ذلك بأن ظاهر ترتب ذم العقلاء على مخالفة الصيغة الواردة هو
فرض ورودها خالية عن القرائن الدالة على الوجوب، وما ذكره من تعليل الذم
بمجرد ترك الامتثال تأييد لذلك، والمقصود من الإيراد منع المقدمة المذكورة،
ويظهر منه أيضا منع التعليل المذكور وإن لم يصرح به.
قوله: * (فليقدر كذلك لو كانت في الواقع موجودة) *
قد يورد عليه بأن مجرد التقدير لا فائدة فيه بعد وجودها في الواقع، فإن الفهم
إنما يتبع العلم بالقرينة ومجرد تقدير عدمه لا يفيد شيئا بعد كون الحكم بحصول
الذم من جهة الصيغة المنضمة إلى القرينة. نعم، لو انتفت القرائن بحسب الواقع
وحكم بالذم تم المقصود.
ويدفعه أن الحكم بإرادة المعنى المجازي أو خصوص أحد معنيي المشترك
موقوف على ملاحظة القرينة، فإذا قدر انتفاء القرائن بأن لا يلاحظ شيئا منها
وحصل الفهم المذكور دل ذلك على عدم استناد الفهم إلى غير اللفظ، فالمقصود من
تقدير انتفاء القرائن عدم ملاحظة شئ منها عند تبادر المعنى المذكور ليكون
610

شاهدا على استناد الفهم إلى مجرد اللفظ.
قوله: * (والمراد بالأمر... الخ) *
كأنه إشارة إلى دفع ما قد يقال في المقام من أن أقصى ما يفيده الآية هو كون
لفظ " الأمر " للوجوب فيكون المراد به الطلب الحتمي أو الصيغة الدالة عليه ولو
بتوسط القرينة، وأما كون الصيغة بنفسها دالة عليه بالخصوص كما هو المدعى فلا،
فأجاب بأن المراد بالأمر هو نفس الصيغة المذكورة، أعني قوله: " اسجدوا " حيث
إن تقدمها قرينة على إرادتها، إذ لم يقع منه تعالى في ذلك المقام طلب آخر سواها.
ويمكن المناقشة بأن إطلاق الأمر عليها مبني على إرادة الوجوب منها، وهو
أعم من أن يكون من جهة دلالتها عليه بالوضع أو بواسطة القرينة، وأصالة عدم
انضمام القرينة إليها معارضة بأصالة عدم دلالتها على الوجوب، مضافا إلى أن
مجرد الأصل لا حجة فيه في المقام لدوران الأمر فيه مدار الظن.
فإن قلت: إنه قد علل الذم والتوبيخ بنفس الأمر فاحتمال استناده إلى مجموع
الصيغة والقرينة مخالف لظاهر الآية.
قلت: تعليله بنفس الأمر لا يفيد دلالة الصيغة بنفسها على الوجوب، إذ غاية
الأمر أن يراد بالأمر الصيغة المستعملة في الوجوب، وهو أعم من أن يكون
موضوعا بإزائها لئلا يفتقر إرادته منها إلى القرينة أو لا، فيتوقف على ضمها إذ على
الوجهين يصح تعلق الذم بمجرد مخالفة الأمر بعد فرض كون لفظ الأمر دالا على
الوجوب. نعم لو علق الذم بمجرد مخالفة قوله: " اسجدوا " صح ما ذكر.
ويمكن أن يوجه ذلك بأن ظاهر سياق الحكاية كون الطلب الصادر هو قوله:
" اسجدوا " مع الإطلاق إذ لو كان هناك قرينة منضمة اليه يتوقف فهم الإيجاب
على انضمامها لقضى المقام بالإشارة إليها، لتوقف ما يورده من الذم عليه، فعدم
ذكره في مقام الطلب إلا مجرد الصيغة ثم تفريعه الذم على مخالفتها معبرا عنها
بالأمر ظاهر في إطلاق الأمر على الصيغة المجردة عن القرائن وتفريعه الذم على
مخالفتها، فيتم المدعى مضافا إلى أن الظاهر من ملاحظة العرف عد الصيغة
611

المجردة عن القرائن الصادرة من العالي أمرا وإطلاقهم لفظ " الأمر " عليها على
سبيل الحقيقة من غير إشكال، سواء قلنا بكون الصيغة حقيقة في الوجوب أو لا،
فيستفاد كونها للوجوب من الآية، فبملاحظة ما قررناه ليس المراد من قوله إذ:
" أمرتك " إلا ما حكاه أولا من نفس الصيغة الصادرة، وهو ظاهر من سياق الآية
كمال الظهور، فيكون الذم واردا على مخالفة مجرد الصيغة.
وما يقال في المقام من: أن المراد بلفظ الأمر هنا هو الصيغة المتقدمة والذم
على مخالفتها دال على استعمالها في الوجوب والأصل في الاستعمال الحقيقة
فمما لا وجه له.
أما أولا فلأن ترتب الذم على المخالفة إنما يفيد كون المقصود هناك إيجاب
السجود، وأما أن اللفظ مستعمل في خصوص الوجوب كما هو المراد فلا، ولا
ملازمة بين الأمرين، إذ قد يكون من قبيل إطلاق الكلي على الفرد أو ما بمعناه من
غير إرادة الخصوصية من اللفظ فلا تجوز حسب ما يأتي الإشارة اليه إن شاء الله.
وأما ثانيا فبأن مناط الاستدلال بالآية هو ترتب الذم على مخالفة قوله:
" اسجدوا " خاليا عن القرائن، لدلالته إذن على استفادة الوجوب من نفس الصيغة،
وهو يتوقف على وضعها له لانحصار الوجه في دلالة اللفظ على المعنى في الوضع
وانضمام القرينة، والمفروض انتفاء الثاني فيتعين الأول، وحينئذ فلا حاجة إلى
انضمام الأصل.
وأما إثبات مجرد استعماله هناك في الوجوب بقرينة الذم المتأخر الكاشفة
عن حصول ما يفيده عند استعمال الصيغة من الوضع أو انضمام القرينة فلا يفيد
شيئا في المقام، إذ لا يستفاد من ذلك إذن ما يزيد على الاستعمال، واستعمال الأمر
في الوجوب مما لا تأمل فيه عندهم حتى يحتاج فيه إلى الاستناد إلى الآية
الشريفة والتمسك بالمقدمات المذكورة، ودعوى أصالة الحقيقة هنا غير متجهة
أيضا لتعدد مستعملات اللفظ، وكون الاستعمال إذن أعم من الحقيقة معروف بينهم.
قوله: * (فإن هذا الاستفهام ليس على حقيقته) *
612

كأنه دفع لما قد يقال من أنه لا توبيخ ولا ذم في الآية الشريفة، إذ ليس ما ذكر
إلا استفهاما عن علة الترك، وهو يصح مع كون الأمر المتروك واجبا أو مندوبا،
وأما الطرد والإبعاد المترتب عليه فقد يكون من جهة العلة الداعية له على الترك،
إذ قد يكون ترك المندوب على وجه محرم بل باعث على الكفر.
فأجاب بأن الاستفهام في المقام ليس على حقيقته، لاستحالته عليه تعالى،
فيراد به معناه المجازي، وهو في المقام للتوبيخ والإنكار.
ويرد عليه أنه لا يتعين الأمر حينئذ في كون الاستفهام إنكاريا، لاحتمال أن
يكون للتقرير، والمقصود إبداؤه العلة التي بعثته على ترك السجود وإقراره بها
حتى يتم الحجة عليه، فلا دلالة في الاستفهام على ذمه وتوبيخه، ولا في طرده
وإبعاده بعد إقراره بكون العلة فيه ما ذكره على ترتبه على مجرد تركه ليفيد المدعى.
وما يقال من: أن الاستكبار من إبليس لم يكن على الله تعالى ليكون محرما
بل على آدم (عليه السلام)، فيرجع بالنسبة إلى الله تعالى إلى محض المخالفة التبعية الغير
المقصودة بالذات المولدة من المخالفة الحاصلة من الحمية والعصبية، وهذه شئ
ربما يعد من تبعها في عداد المقصرين.
مدفوع بأن الترك الصادر من إبليس قد كان على جهة الانكار، وكان
استكباره على آدم (عليه السلام) باعثا على إنكاره رجحان السجود، ولا شك إذن في
تحريمه، بل بعثه على الكفر، فهناك أمور ثلاثة إباء للسجود، واستكبار على
آدم (عليه السلام)، وإنكار لرجحان السجود المأمور به من الله تعالى، بل دعوى قبحه
لاشتماله على تفضيل المفضول، ولا ريب في بعثه على الكفر كما لو أنكر أحد أحد
المندوبات الثابتة بضرورة الدين، وكأن في قوله تعالى: * (أبى واستكبر وكان من
الكافرين) * (1) إشارة إلى الأمور الثلاثة، فليس عصيانه المفروض مجرد ترك
الواجب، بل معصية باعثة على الكفر سيما بالنظر إلى ما كان له من القرب والمكانة
وغاية العلم والمعرفة.

(1) البقرة: 34.
613

ومع الغض عن ذلك فكون الترك الصادر منه على سبيل الاستكبار على
آدم (عليه السلام) كاف في المقام، إذ لا دليل على كون ما ترتب على مخالفته من الإبعاد
والإهانة متفرعا على مجرد الترك ليفيد المدعى، ومجرد احتمال حرمة الاستكبار
سيما بالنسبة اليه خصوصا بالنظر إلى كونه على آدم (عليه السلام) كاف في هدم الاستدلال.
مضافا إلى ظهور قوله تعالى: * (فما يكون لك أن تتكبر فيها) * (1) في قبحه
وتحريمه، بل هو الظاهر من سياق سائر الآيات أيضا.
وربما يظهر منها أن ما ورد على إبليس إنما كان من جهة الكبر، وقد يستظهر
ذلك من الأخبار (2) أيضا.
فقوله: " إن هذه شئ ربما يعد من تبعها في عداد المقصرين " مشيرا به إلى أنه
لا يزيد على ارتكاب المكروه كما ترى.
ثم إنه قد يورد على الاحتجاج أمور اخر:
منها: أن أقصى ما تفيده الآية دلالة الأمر على الوجوب في عرف الملائكة
قبل نزول آدم (عليه السلام) إلى الأرض، وإفادة الأمر للوجوب في لسانهم لا يفيد دلالته
عليه عندنا.
وقد يجاب عنه بأصالة عدم النقل، وهو كما ترى، إذ هو إنما يفيد مع اتحاد
اللسان، وكون الخطاب هناك بالعربية غير معلوم سيما إذا قلنا بكون الأوضاع
اصطلاحية، ومع احتمال اختلاف اللسان لا يعقل التمسك بأصالة عدم النقل.
وأجيب أيضا بأن حكاية أقوال أهل لسان لآخرين إنما يصح من الحكيم إذا
أتى بما يفيد المطلوب من لسان الآخرين واستعمل حقيقتهم في حقيقتهم
ومجازهم في مجازهم.
وأنت خبير بأن أقصى ما يلزم أن يعتبره الحكيم عدم اختلاف المعنى، وأما
اعتبار الموافقة في النقل بين حقائق ذلك اللسان وهذا اللسان وكذا المجاز فمما
لا شاهد على اعتباره، ولا جعله أحد من شرائط النقل بالمعنى.

(1) سورة الأعراف: 13.
(2) الكافي 2: باب الكبر ص 309 - 312.
614

نعم، يمكن أن يجاب بأن حكايته تعالى لتلك الواقعة بهذه الألفاظ دليل
على كون الألفاظ المذكورة حقيقة فيما ذكر لتدل على المقصود بنفسها، وإلا
فلا تكون وافية بأداء المقصود ولا موافقا لما وقع في اللسان الآخر.
ومنها: أن أقصى ما تفيده الآية دلالة أمره تعالى على الوجوب، وأين ذلك من
دلالته عليه بحسب اللغة؟
وما قد يجاب عنه من أن المتبادر من التعليل هو كون العلة مخالفة الأمر من
حيث إنه أمر لا من حيث إنه أمره تعالى مدفوع، بأن ظاهر إضافته الأمر إلى نفسه
في التعليل إنما يفيد ترتب الذم على مخالفة أمره من حيث إنه أمره، فدعوى
التبادر المذكور مع أن الظاهر من اللفظ خلافه غريب.
نعم، يمكن أن يدفع بذلك ما لعله يقال: إن غاية ما تفيده الآية لزوم حمل
أوامره تعالى مع الإطلاق على الوجوب، وهو أعم من كونه موضوعا له، إذ قد
يكون ذلك لقيام قرائن عامة على الحمل المذكور، فإن تعليل الذم بمجرد مخالفة
الأمر يدفع ذلك لاقتضائه كون الأمر بنفسه دالا على الوجوب لا من جهة انضمام
القرينة الخارجية ولو كانت عامة.
ويمكن الجواب عما ذكر بأن ثبوت كونه حقيقة في الوجوب بحسب الشرع
قاض بثبوته بحسب اللغة أيضا بملاحظة أصالة عدم النقل، فغاية الأمر أن يضم
الأصل المذكور إلى الآية لإتمام المقصود، كما اخذ ذلك في الاحتجاج بالتبادر بل
الظاهر أخذه في غيره أيضا وإن لم يشيروا اليه.
ومنها: أن غاية ما تدل عليه الآية دلالة الصيغة الصادرة من العالي على
الوجوب، وأما دلالة صيغة " إفعل " عليه مطلقا كما هو المأخوذ في العنوان فلا.
ويمكن دفعه بعد تسليم كون النزاع في الأعم بنحو ما مر في الاحتجاج
السابق.
ومنها: أن ما يستفاد من الآية دلالة الأمر على الوجوب من دون انضمام
القرينة، وأما كون تلك الدلالة بالوضع بخصوصه فغير معلوم، إذ قد يكون ذلك
615

لدلالته على الطلب وظهور الطلب في الوجوب كما نشاهد ذلك في لفظ " الطلب "
الموضوع للأعم قطعا، فما تدل عليه الآية أعم من المدعى على نحو ما مرت
الإشارة اليه في الاحتجاج المتقدم.
قوله: الثالث قوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * (1) الآية
قد يورد على الاحتجاج بهذه الآية الشريفة أيضا أمور أشار المصنف إلى
بعضها:
منها: أنه لا دلالة في الآية إلا على كون أمر ما للوجوب بمعنى إرادة الوجوب
منها: إذ لا عموم في الآية، وهو مما لا كلام فيه، وقد أشار اليه المصنف.
ومنها: أنه على فرض تسليم عموم الآية يكون أمره للعموم إنما يفيد حرمة
مخالفة جميع أوامره تعالى، وهو إنما يفيد اشتمال تلك الأوامر على ما يراد منه
الوجوب، فيرجع إلى الوجه الأول.
ومنها: أنه بعد تسليم دلالته على كون كل من أوامره للوجوب فأقصى
ما يفيده كون المراد منها ذلك، وهو أعم من الوضع له فما يستفاد من الآية الشريفة
هو حمل الأوامر المطلقة في الكتاب أو السنة أيضا على الوجوب، فلا مانع من أن
يكون ذلك قرينة عامة قائمة على ذلك مع كونها حقيقة لغة وشرعا في مطلق
الطلب حسب ما ذهب اليه بعض المتأخرين مستدلا على حملها على الوجوب
بالآية المذكورة وغيرها.
ومنها: أنه لو سلم دلالتها على الوضع للوجوب فإنما تدل على وضعها
للوجوب بحسب الشرع لورود التهديد المذكور من الشارع، فلا دلالة فيها على
الوضع للوجوب بحسب اللغة كما هو المدعى، فتكون الآية دليلا على مقالة السيد
والعلامة ومن يحذو حذوهما.
ومنها: أنه لو سلم دلالتها على الوضع له بحسب اللغة فإنما تدل على كون
مفاد لفظ " الأمر " هو الوجوب دون الصيغة، وقد عرفت أنه لا ملازمة بين

(1) سورة النور: 63.
616

الأمرين، فأي مانع من القول بكون لفظ " الأمر " موضوعا بإزاء الصيغة التي يراد
منها الوجوب؟ وإن كان إرادة ذلك منها على سبيل المجاز أو الاشتراك أو من قبيل
إطلاق الكلي على الفرد بوضعها للأعم من الوجوب.
ومنها: أنه لو سلم دلالتها على حال الصيغة فإنما تفيد وضع الصيغة التي يكون
مصداقا للأمر بإزاء الوجوب، أعني الصيغة الصادرة من العالي أو المستعلي أو هما
معا، دون مطلق صيغة إفعل، كما هو ظاهر عنوان البحث لتكون نفس الصيغة
موضوعة لخصوص الأمر أو للدلالة على الوجوب حسب ما مر الكلام فيه.
ومنها: المنع من إفادة الآية للتهديد، فإنها مبنية على كون الأمر للوجوب ومع
التمسك به يدور الاحتجاج، وقد أشار اليه المصنف (رحمه الله).
ومنها: المنع من كون مطلق التهديد على الترك دليلا على الوجوب وإنما
يكون دليلا عليه إذا وقع التهديد بعذاب يترتب على ترك المأمور به على سبيل
التعيين، دون الاحتمال وهو غير حاصل في المقام، لدورانه بين الفتنة والعذاب،
ولا مانع من ترتب الفتنة على ترك بعض المندوبات، فغاية ما يفيده التهديد
المذكور مرجوحية المخالفة لما فيه من احتمال ترتب الفتنة الحاصل بمخالفة
الأمر الندبي أو العذاب الحاصل بمخالفة الأمر الوجوبي، فلا ينافي القول باشتراك
الأمر بين الوجوب والندب لفظيا أو معنويا، بل وغيرهما أيضا لقيام احتمال
الوجوب القاضي باحتمال ترتب العذاب على الترك، فيصح الكلام المذكور وإن
لم يستعمل شئ من الأوامر في الوجوب.
ومنها: أنه إنما وقع التهديد في مخالفة الأوامر بإصابة الفتنة أو العذاب الأليم
فيحتمل أن يكون ذلك على سبيل التقسيم، بأن يراد به أن المخالفين لأوامره تعالى
بعضهم يصيبه الفتنة وبعضهم يصيبه العذاب، وكأن المراد بالفتنة الآفات والمصائب
الدنيوية، لظاهر مقابلته بالعذاب فلا يفيد كون أوامره مطلقا للوجوب، بل قضية
ذلك جواز انقسام الأوامر إلى قسمين على حسب الغاية المترتبة على مخالفتها،
فأقصى ما يفيده إرادة الوجوب من بعض الأوامر، وهو ما هدد عليه بالعذاب
617

وذلك مما لا كلام فيه، فلا يفيد المدعى.
ومنها: أنه لا يتعين أن يراد بمخالفة أمره تعالى ترك ما أمر به كما هو مبنى
الاحتجاج، إذ يحتمل أن يراد به حمله على خلاف مراده، فلا يفيد المدعى، وقد
أشار اليه المصنف (رحمه الله).
ومنها: أنه يحتمل أن يراد بالمخالفة الحكم على خلاف ما أمر الله تعالى به،
كما هو إطلاق معروف في مخالفة بعض الناس لبعض.
ومنها: أن التهديد المذكور وإن تعلق بمخالفي الأمر لكن المهدد عليه غير
مذكور في الآية، فقد يكون التهديد واردا عليهم لأمر غير المخالفة، فلا يفيد
المطلوب.
ومنها: أن المخالفة في الآية قد عديت ب‍ " عن " مع أنها متعدية بنفسها، فليس
ذلك إلا لتضمينها معنى الإعراض، كما سيشير إليه المصنف (رحمه الله)، وحينئذ فيكون
التهديد المذكور واردا على المخالفين على سبيل الإعراض، ويحتمل حينئذ أن
يكون وروده عليهم من جهة إعراضهم عن الأمر لا لمجرد تركهم كما اخذ في
الاحتجاج.
ومنها: أنه يحتمل أن يكون قوله: " الذين " مفعولا ليحذر ويكون الفاعل
مستترا فيه راجعا إلى السابق، فيكون المقصود بيان الحذر عن الذين يخالفون عن
أمره، لا وجوب الحذر عليهم ليفيد استحقاقهم للعذاب من أجل مخالفتهم.
ومنها: أنه لا دلالة في الآية على تهديد كل مخالف للأمر، إذ لا عموم في
الموصول، فقد يراد به العقد ويكون إشارة إلى جماعة مخصوصين، فغاية الأمر
حينئذ أن يكون الأوامر المتعلقة بهم للوجوب وأين ذلك من دلالة مطلق الأمر
عليه؟.
ومنها: أن ظاهر المخالفة هو ترك الأمر الإيجابي، إذ المتبادر منها هو التصدي
لخلاف ما يقتضيه الأمر إذا نسب إلى الأمر، أو خلاف ما اقتضاه الآمر إن نسبت
اليه، وليس في ترك الأوامر الندبية مخالفة للأمر ولا للآمر، نظرا إلى اشتمال الأمر
618

الندبي على إذن الآمر في الترك، فإن أتى بالفعل فقد أخذ بمقتضى الطلب، وإن
ترك فقد أخذ بمقتضى الإذن الذي اشتمل عليه ذلك الطلب، ولو عد ذلك أيضا
مخالفة فلا ريب أن إطلاق المخالفة غير منصرف اليه.
وإضافة المخالفة في الآية إلى الأمر لا يقضي بكون كل ترك للمأمور به
مخالفة، وإنما يقضي بتعلق التهديد على الترك الذي يكون مخالفة، وهو الترك
الذي لم يأذن فيه، فيختص التهديد بمن ترك العمل بمقتضى الأوامر الوجوبية،
لا من ترك المأمور به مطلقا ليفيد كون الأمر المطلق للوجوب.
ومنها: ما عرفت في الإيراد على التبادر والآية السابقة من أن أقصى ما يفيده
دلالة الأمر على الوجوب مع الإطلاق، وهو أعم من وضعه له، إذ قد يكون ذلك
لوضع الصيغة لمطلق الطلب وانصراف الطلب إلى الوجوب حتى يقوم دليل على
الإذن في الترك كما هو ظاهر من ملاحظة الحال في لفظ " الطلب " حسب ما مرت
الإشارة اليه.
وقد يجاب عن الأول تارة بأن قوله: " عن أمره " مصدر مضاف، وهو مفيد
للعموم، وقد أشار اليه المصنف (رحمه الله).
وتارة بعد الغض عن كونه عاما بكفاية الإطلاق في المقام، لتنزيله منزلة
العموم.
وأخرى بورود التهديد على مخالفة مجرد الأمر وقضية ذلك كون المناط في
ورود التهديد هو مخالفة أمره تعالى من حيث إنه مخالفة له، وذلك كاف في إثبات
المطلوب مع عدم ملاحظة العموم، على أنه حينئذ مفيد للعموم نظرا إلى حصول
المناط في مخالفة سائر أوامره المطلقة.
وعن الثاني أن ظاهر عموم الأمر في المقام هو العموم الأفرادي فيكون
التهديد واقعا على مخالفة كل واحد واحد من أوامره، لا على مخالفة الكل بمعنى
المجموع، لبعده عن العبارة سيما إذا قلنا باستفادة العموم من جهة التعليق على
مجرد المخالفة، أو لقضاء الإطلاق به.
619

وعن الثالث ما عرفت من كون تعليق التهديد على مجرد مخالفة الأمر قاضيا
بعدم استناد فهم الوجوب إلى شئ آخر عدا الصيغة، وجعل نفس التهديد الواقع
قرينة على إرادة الوجوب غير متجه، إذ قضية ذلك إتيانهم بما يستحق معه الذم
والعقوبة مع قطع النظر عن التهديد المفروض حتى يصح تعلق التهديد بهم، لا أن
يكون استحقاقهم لذلك بعد ورود التهديد عليهم كما هو قضية جعله قرينة على
إرادة الوجوب من غير دلالة الصيغة بنفسها عليه على ما هو الملحوظ في الإيراد.
وعن الرابع بأن ملاحظة أصالة عدم النقل وظهور اتحاد الوضع كافية في
إتمام المقصود، وهي معتبرة في إتمام كل من الأدلة المذكورة، وقد أشار اليه
المصنف في الحجة الأولى، وكأنه تركه في البواقي اتكالا على الظهور.
وعن الخامس بصدق الأمر لغة وعرفا على الصيغة الصادرة من العالي خالية
عن القرائن الدالة على إرادة الوجوب وعدمها، وقد دلت الآية على التهديد
بمخالفة الأمر فيفيد كون الصيغة المذكورة دالة عليه، وهذا مراد من قال في
الجواب: " إن الأمر حقيقة في الصيغة المخصوصة " فإنه إنما عنى بها الصيغة
المطلقة الصادرة عن العالي الخالية عن القرائن، والمقصود أن هذه الصيغة حينئذ
مما يصدق عليه الأمر حقيقة من غير شائبة تجوز أصلا.
والشاهد عليه ملاحظة الإطلاقات العرفية مع قطع النظر عن ملاحظة اعتبار
الاستعلاء في مفهوم الأمر وعدمه، ولا لكون لفظ " الأمر " حقيقة في خصوص
الطلب الحتمي، أو الصيغة الدالة على ذلك، أو الأعم منه بل يكتفى بملاحظة صدق
الأمر عرفا على الصيغة المفروضة، وذلك كاف في استفادة دلالة الصيغة على
الوجوب من الآية الشريفة.
وعلى فرض ثبوت اعتبار الاستعلاء في مفهوم الأمر وتسليم كون الاستعلاء
ملزوما للوجوب لا مانع من صحة الاحتجاج، إذ غاية الأمر دلالة الصيغة المطلقة
حينئذ على استعلاء المتكلم وإلزامه، وهو عين المطلوب.
والحاصل: أن ما ذكر من عدم الملازمة بين وضع المادة والصيغة مسلم، إلا أن
620

الواقع في المقام بمقتضى فهم العرف خلافه، لعدم فرقهم في ذلك بين لفظ " الأمر "
ومصداقه.
وعن السادس أنه بضميمة أصالة عدم تعدد الأوضاع وملاحظة استقراء سائر
الألفاظ يمكن تتميم المقصود إن قلنا بتعميم محل الخلاف لغير مصداق الأمر
أيضا، فبعد ثبوت وضع الصيغة الصادرة من العالي لذلك يثبت الحكم في غيرها
أيضا، نظرا إلى الأصل والغلبة المذكورين، فاحتمال كون الصيغة الصادرة من
العالي حقيقة في الطلب الحتمي دون الصيغة الصادرة من غيره مع اتحاد اللفظ في
الصورتين خارج عن سياق الوضع في سائر الألفاظ حسب ما مرت الإشارة اليه.
وعن السابع بما يأتي الإشارة اليه في كلام المصنف (رحمه الله).
وعن الثامن بأن احتمال العذاب منفي على القول بعدم إفادته الوجوب من
غير قرينة سواء قلنا بكونه للندب أو مشتركا بينه وبين الوجوب لفظيا أو معنويا،
لقضاء أصالة عدم الوجوب بنفيه، فلا يتجه توعده بالعذاب ولو على سبيل
الاحتمال.
وعن التاسع بأنه خروج عن ظاهر الآية، فإن الظاهر دوران الأمر فيما
يصيبهم بين الأمرين، وهو لا يتم إلا في ترك الواجب لعدم قيام احتمال العذاب
في ترك المندوب ولو بحكم الأصل حسب ما عرفت.
وقد يجاب عنه أيضا بأن قضية التفسير المذكور أن يكون بعض الأوامر
للوجوب نظرا إلى حمل أو في الآية على التقسيم، فإما أن يكون حقيقة أو مجازا
فيه، والثاني خلاف الأصل، فيتعين الأول فإن كان في الباقي للندب فإما أن يكون
حقيقة فيلزم الاشتراك، وهو مخالف للأصل، أو مجازا وهو أيضا مخالف للأصل،
مع أنه غير مناف للمطلوب.
وأنت خبير بأنه إن أريد بذلك منع كون بعض الأوامر للندب للزوم الاشتراك
أو المجاز فهو مخالف لما عليه القائلون بالوضع للوجوب.
وإن أراد عدم اندراج الأوامر الندبية في الآية فمن الظاهر أنه لا يختلف
621

الحال في الأصل المذكور من جهة الاندراج فيها وعدمه.
مضافا إلى أن الأصل المذكور مما لا أصل له، لتعدد المستعمل فيه في المقام
على أن الاستناد إلى الأصل على فرض صحته خروج عن الاستناد إلى الآية.
وقد يجاب أيضا بأن الحمل على المعنى المذكور يقضي باستعمال المشترك
في معنييه، أعني لفظ " الأمر " في المعنيين المذكورين.
ولا يخفى ما فيه، إذ اشتراك الصيغة لفظا بين المعنيين على فرض تسليم
استفادته من الآية بناء على الوجه المذكور لا يستلزم أن يكون مادة الأمر
مشتركا لفظيا.
على أنه لا يلزم أن يكون اشتراك الصيغة بينهما لفظيا، إذ قد يكون معنويا،
وكذا القول بكون الصيغة حقيقة في أحد المعنيين مجازا في الآخر لا يقضي بناء
على حمل الآية على الوجه المذكور باستعمال لفظ " الأمر " في المقام في حقيقته
ومجازه، وهو ظاهر.
وعن العاشر بما يأتي في كلام المصنف (رحمه الله).
وعن الحادي عشر بأن الاحتمال المذكور كسابقه خلاف الظاهر جدا.
وعن الثاني عشر أن تعليق التهديد على مخالفة الأمر كالصريح، بل صريح في
كونه من أجل المخالفة كما في قولك: " فليحذر الذين يخالفون الأمير أن يهلكهم ".
وعن الثالث عشر أنه لا داعي إلى إضمار الإعراض في المقام مع كونه مخالفا
للأصل، ولا إلى تضمين المخالفة بمفهوم الإعراض، إذ يكفي في تعديته ب‍ " عن "
حصول معنى الإعراض في الترك، فإن ترك المأمور به عمدا من غير عذر في
معنى الميل والإعراض عنه، وبملاحظة ذلك تصح تعديته ب‍ " عن " من غير حاجة
إلى إضمار لفظ آخر، أو أخذ مفهوم الإعراض في المخالفة ليكون حينئذ ظاهرا
فيما ادعاه المورد، ولذا عبر المصنف (رحمه الله) عن ذلك بقوله: " فكأنه ضمن معنى
الإعراض ".
وعن الرابع عشر أنه لا داعي إلى الحمل عليه مع غاية بعده عن العبارة،
622

مضافا إلى إفادته للمطلوب أيضا، إذ لا وجه لوجوب الحذر عنهم سوى كونهم من
أهل الفسوق والعصيان، لوضوح أن مخالفة الأمر الندبي لا يقضي بذلك سيما مع
عود الضمير في " أن تصيبهم " إلى " الذين " كما هو الظاهر.
وعن الخامس عشر أن العبرة في المقام بظاهر اللفظ، وليس في الظاهر ما يفيد
إرادة المعهود فظاهره الإطلاق، ومع تسليم انصرافه إلى العهد فالتهديد إنما وقع
على مجرد مخالفتهم للأمر، وهو كاف في المقام، إذ لا يصح ذلك من دون استفادة
الوجوب من مطلق الأمر.
بقي الإيرادان الأخيران، والظاهر ورودهما في المقام.
قوله: * (حيث هدد سبحانه مخالف الأمر... الخ) *
استفادة التهديد من الآية إما مبنية على كون الأمر في الآية للتهديد أو الإنذار
المقارب له - كما هو الظاهر من سياقها - أو على كون الحكم بالحذر في شأنهم
دليلا على حصول موجب العذاب، وهو معنى الإنذار والتهديد، والثاني هو الذي
قرره المصنف.
قوله: * (إلا بتقدير كون الأمر للوجوب) *
مبنى الاعتراض على أن فهم التهديد من الآية يتوقف على كون الأمر
المذكور للوجوب بناء على أن وجوب الحذر دال على استحقاق العذاب المفيد
للتهديد، وأما استحباب الحذر أو الأمر به على سبيل الإرشاد ونحوه فلا دلالة فيه
على استحقاق العذاب، إذ قد يكون ناشئا على احتمال العذاب فلا يفيد كون
أوامره للوجوب، كما هو المطلوب فالمقدمة الأولى المثبتة لتهديده تعالى مخالف
الأمر من جهة وقوع المخالفة محل منع، والحكم به يتوقف على كون الأمر المطلق
للوجوب، فيدور الاستدلال.
فظهر بما قررنا أن مبنى الاحتجاج بزعم المورد ليس على كون الأمر المذكور
للتهديد، وإلا توجه المنع اليه سيما مع البناء على كونه مجازا وإنما يبتني على كون
التهديد مستفادا من الكلام حسب ما قررناه، وهو الظاهر من كلام المجيب أيضا،
623

فيتوقف على كون الأمر للوجوب، فالإيراد عليه بأن كون الأمر بالحذر للتهديد
لا يتوقف على كونه للوجوب - ضرورة كون التهديد إنشاء، والإيجاب إنشاء آخر
لا ربط لأحدهما بالآخر، فمنع كون الأمر للوجوب ليس داخلا في شئ من
المقدمات المأخوذة في الاستدلال - ليس على ما ينبغي.
نعم، يمكن الإيراد عليه بأن فهم التهديد في المقام ليس منحصرا في ذلك،
إذ يصح استفادته من المقام فإن المقام مقام التحذير والتهديد، ولا يبعد حمل
الأمر فيه على الإنذار وبيان كون المخالفة باعثة على استحقاق العقوبة أو إصابة
الفتنة، كما في قولك: " فليحذر الشاتم للأمير أن يضربه " وقد يحمل على التهكم
أو التعجيز فيفيد التهديد أيضا.
قوله: * (إذ لا معنى لندب الحذر عن العذاب أو إباحته) *
إذ لو كان هناك استحقاق للعذاب كان الحذر واجبا، وإلا كان لغوا وسفها
لا يقع الأمر به من الحكيم، ففي المادة دلالة على كون الهيئة هنا لإفادة الوجوب
وإن لم نقل بوضعها له.
وأورد عليه بأنه إنما يتم بالنسبة إلى العذاب المحقق وقوعه أو عدمه، وأما
بالنسبة إلى المحتمل فلا، بل قد وقع مثله في الشرع كثيرا مثل ندب ترك الطهارة
بالماء المشمس، للحذر عن البرص، وندب تفريق الشعر، للحذر عن احتمال
التفريق بمنشار النار.
ويدفعه أن احتمال قيام المقتضي للعذاب غير كاف في ذلك، فإنه إن ثبت
هناك مقتض للعذاب فذاك وإلا قبح العذاب من الحكيم حسب ما يأتي الإشارة
اليه في كلام المورد إن شاء الله تعالى وإن كان ما ذكره محل كلام، فمجرد
الاحتمال في بادئ الرأي غير كاف في المقام حتى يحسن الحذر من جهته، لما
عرفت من انتفائه بعد عدم ثبوت مقتضيه.
قوله: * (فلا أقل من دلالته على حسن الحذر) *
إما لاشتراك الأقوال المذكورة في إفادة الجواز ولو بضميمة الأصل، أو لأن
624

غاية ما يحتمله ذلك، إذ لا معنى لحرمة الحذر عن العذاب بناء على احتمال كون
الأمر المذكور تهديدا على حصول الحذر.
قوله: * (إنما يحسن عند قيام المقتضي للعذاب) *
إن أراد أن حسن الحذر في الظاهر متوقف على العلم بحصول المقتضي
بحسب الواقع فهو ممنوع، إذ احتمال القيام كاف في المقام، سواء أريد بالحذر
المأمور به في الآية الاحتياط والتحرز عن الوقوع في المكروه، أو مجرد الخوف
من إصابته.
وإن أراد توقفه على قيام المقتضي للعذاب ولو على سبيل الاحتمال فلا يفيد
التقرير المذكور إلا قيام احتمال إرادة الوجوب، فغاية ما يفيده الآية رجحان
العمل بالمأمور به، نظرا إلى احتمال كونه للوجوب، وأقصى ما يستفاد من ذلك إن
سلم عدم كون الأمر حقيقة في خصوص الندب مجازا في غيره، لعدم احتمال
إرادة الوجوب حينئذ نظرا إلى حقيقة اللفظ، ولا دلالة فيه إذن على دفع الاشتراك
لفظيا أو معنويا.
ومن هنا ينقدح إيراد آخر على الاستدلال على فرض كون الأمر فيها
للوجوب، إذ قد يكون إيجاب الحذر من جهة قيام احتمال الوجوب واحتمال
الوقوع في العذاب فأوجب الحذر دفعا لخوف الضرر.
فمحصل الآية عدم الأخذ بالأصل في المقام ولزوم الاحتياط، وأين ذلك من
دلالة الأمر بنفسه على الوجوب؟ كما هو المدعى.
وقد يوجه كلامه بأن المراد قيام المقتضي للعذاب وإن كان مقتضيا لاحتمال
العذاب للاكتفاء بذلك في الدلالة على الوجوب، نظرا إلى انتفاء احتمال العذاب
على تقدير عدم الوجوب لقبح الظلم عليه تعالى.
وقد يناقش فيه بأن أقصى ما يسلم في المقام انتفاء الاحتمال المذكور على
فرض عدم كون الأمر موضوعا للوجوب أو لما يشمله، وأما لو كان مشتركا بين
الوجوب وغيره أو موضوعا للقدر المشترك فاحتمال العذاب قائم، نظرا إلى
625

احتمال إرادة الوجوب القاضي بترتب العذاب على الترك وقبح الظلم إنما يقضي
بعدم إيقاع العذاب مع عدم إظهار المقتضى له أصلا، والمفروض إبداؤه ولو على
سبيل الاحتمال الدائر بينه وبين غيره، فيكون احتمال العذاب على نحو احتمال
الوجوب.
نعم، لو قام دليل على انتفاء الوجوب بحسب الشرع قطعا مع عدم قيام دليل
شرعي على الوجوب من جهة الشارع تم ذلك، إلا أنه في محل المنع.
فإن قلت: إن حمل الأمر المذكور على الندب أو الإباحة شاهد على عدم
وجوب الفعل المتروك، إذ لو كان واجبا لكان الحذر عما يترتب عليه من العذاب
واجبا أيضا، فعدم وجوبه كاشف عن عدم ترتب العذاب عليه أصلا.
قلت: لما كان الفعل المتروك غير متحقق الوجوب لم يجب الحذر عما يترتب
عليه بمحض الاحتمال من غير علم ولا ظن به، وغاية ما يلزم من ذلك عدم ترتب
العذاب على ترك التحذر لعدم وجوبه لا على ترك المأمور به كما ادعي.
والحاصل أن مفاد الآية حسن الاحتياط في المقام، ومن البين أن ذلك إنما
يكون مع احتمال قيام المقتضي للعذاب، إذ مع عدمه قطعا لا تكون من مورد
الاحتياط، وعدم وجوب الاحتياط حينئذ لا يقضي بعدم رجحانه كما هو قضية
الإيراد، فتأمل.
قوله: * (بل المراد حمله على ما يخالفه) *
لا يخفى بعد الوجه المذكور جدا، إذ لو صح حمل مخالفة الأمر على حمله
على خلاف ما يراد منه، فلا شك في عدم انصراف اللفظ اليه بحسب العرف،
بل الظاهر من ملاحظة الاستعمالات يومئ إلى كونه غلطا، ولو أمكن تصحيحه
فهو في غاية البعد عن الظاهر، فالإيراد المذكور في غاية الوهن.
والأولى أن يقرر الإيراد بوجه آخر: وهو حمل المخالفة على مخالفته بحسب
الاعتقاد، بأن يعتقد خلاف ما أمر الله تعالى به، فإن صدق مخالفة الأمر عليه ليس
بتلك المكانة من البعد، كما أنه يصدق معه مخالفته لله تعالى فلا يفيد ما هو المدعى.
626

وما أجاب عن الوجه المذكور يقع جوابا عن ذلك أيضا.
ويمكن الجواب عنه أيضا - بعد تسليم صدق المخالفة على ذلك عرفا - أنه
لا دليل على تقييده بذلك، فغاية الأمر أن يعم ذلك والمخالفة في العمل، فيصدق
على كل منهما، وذلك كاف في صحة الاحتجاج.
قوله: * (ذمهم بمخالفتهم) *
إذ ليس المقصود من الكلام المذكور الإخبار بعدم وقوع الركوع منهم فيكون
الغرض بملاحظة المقام هو ذمهم على المخالفة وترك الانقياد والطاعة.
قوله: * (ولولا أنه للوجوب لم يتوجه الذم) *
يرد على الاحتجاج بهذه الآية ما عرفته من الإيراد على الأدلة المتقدمة من
عدم دلالتها على وضع الصيغة للوجوب، إذ غاية ما يستفاد منها إفادتها للوجوب،
وهي أعم من وضعها له فلا منافاة فيها لما قررناه من ظهور الصيغة فيه من جهة
ظهور مدلولها، أعني الطلب في الطلب الحتمي حتى يتبين الإذن في الترك.
وقد يورد عليه أيضا تارة بأن أقصى ما تفيده كون الأمر الذي وقع الذم على
مخالفته للوجوب فلا تدل على أن كل أمر للوجوب، كذا يستفاد من الإحكام.
ويؤيده أن المأمور به بالأمر المفروض هو الصلاة ووجوبها من الضروريات
الواضحة، فكون الأمر المذكور إيجابيا معلوم من الخارج.
ويدفعه أن الذم إنما علق على مجرد المخالفة وترك المأمور به، فلو كان
موضوعا لغير الوجوب لم يصح ذمهم على مخالفة الصيغة المطلقة كما هو ظاهر
الآية الشريفة.
وتارة بأنه قد يكون الذم من جهة إصرارهم على المخالفة، فإن لفظة " إذا "
تفيد العموم في العرف فيكون مفاد الآية ذمهم على مخالفتهم للأمر كلما امروا
بالركوع، فلعل في تلك الأوامر ما أريد به الوجوب، فتكون المذمة من جهته، أو
من جهة إصرارهم على المخالفة.
وفيه: بعد فرض تسليم دلالة " إذا " على العموم أنه غير مناف لصحة
627

الاستدلال، فإن المذمة الحاصلة إنما كانت على تركهم للمأمور به وإن تحقق منهم
ذلك مرات عديدة، نظرا إلى تعدد الأوامر المتعلقة بهم، فإن تعدد صدور الأمر
لا يكون قرينة على وجوبه.
واحتمال أن يكون في تلك الأوامر ما يراد منه الوجوب بواسطة القرينة
مدفوع بظاهر الآية، لتعليقه الذم على مجرد المخالفة.
وإن كان المفروض في تلك المخالفة حصولها مكررة فلا يصح ذلك إلا مع
كون الأمر للوجوب، نظرا إلى عدم أخذ القرينة في ترتب المذمة، وعدم مدخلية
الإصرار والاستدامة على ترك المندوب في جواز الذم والمؤاخذة لعدم خروجه
بذلك عن دائرة الندبية.
وقد يورد عليه أيضا بما مر من عدم دلالته على إفادة الوجوب بحسب اللغة
كما هو المدعى، فأقصى ما يفيده دلالته على الوجوب في الشرع، كما هو مذهب
السيد ومن وافقه.
ويدفعه ما عرفت من أصالة عدم النقل.
قوله: * (بمنع كون الذم على ترك المأمور به) *
ملخصه منع كون الذم المذكور على مجرد ترك المأمور به بل على الترك
من جهة التكذيب، وحيث كان هذا الوجه بعيدا عن ظاهر العبارة وكان مدار
الاحتجاج على الظاهر أراد بيان شاهد مقرب للاحتمال المذكور حتى يخرج
الكلام بملاحظته عن الظهور ليصح الجواب بالمنع، فاستند في ذلك إلى ظاهر الآية
الثانية.
وجعله بعض الأفاضل معارضة واستدلالا في مقابلة الاستدلال المذكور،
قال: " والمراد بالمنع ليس ما هو المشهور في علم الآداب بل المعنى اللغوي ".
وأنت خبير بما فيه لبعده جدا عن ظاهر التعبير المذكور، فإن العبارة في غاية
الظهور في منع المقدمة الأولى وبيان سند المنع، وحمل المنع على المنع اللغوي في
غاية التعسف، مضافا إلى أن المعارضة إقامة دليل يدل على خلاف مطلوب
628

المستدل في مقابلة الدليل الذي أقامه من غير إبطاله لخصوص شئ من مقدمات
ذلك الدليل، ومن البين أن ما ذكر ليس من هذا القبيل، لوضوح أن ما قرره لا يفيد
عدم دلالة الأمر على الوجوب وإنما يفيد عدم دلالة هذه الآية المستدل بها على
وضعها للوجوب.
ومحصله: دفع المقدمة القائلة بوقوع الذم على مخالفة الأمر، وليس ذلك إلا
منعا متعارفا وبيان سند لذلك المنع ولا ربط له بالمعارضة بوجه.
ولو عد إبطال بعض مقدمات الدليل بإثبات خلافه معارضة في الاصطلاح
- نظرا إلى إقامة الدليل على خلاف الدليل الذي أقامه المستدل على إثبات تلك
المقدمة، فإن الحكم بثبوت تلك المقدمة أيضا دعوى من الدعاوي فإذا أقام
المعترض دليلا في مقابلة الدليل الذي استند اليه المستدل لإثباته كان معارضة
بالنسبة إلى ذلك - فمع ما فيه من المناقشة الظاهرة أنه غير جار في المقام، لاكتفاء
المستدل عن إثبات تلك المقدمة بظهورها من غير تعرض للاستدلال عليها،
فكيف يجعل ما ذكره استدلالا في مقابلة الاستدلال.
هذا، وقد يجعل الإيراد المذكور منعا ومعارضة معا، فمنع أولا من كون الذم
على مجرد المخالفة لاحتمال وقوعه على المخالفة الحاصلة على سبيل التكذيب،
نظرا إلى كون الترك من الكفار، ثم أراد الاحتجاج على كون الذم على التكذيب
دون مجرد المخالفة.
ولما كان مجرد المنع المذكور ضعيفا لمخالفته لظاهر الآية الشريفة ومناط
كلام المستدل هو الأخذ بالظاهر، أضرب في الجواب عن التعرض له وأشار إلى
فساد المعارضة المذكورة، وهو كما ترى خروج أيضا عن ظاهر العبارة وعن
ظاهر كلام أرباب المناظرة.
قوله: * (فإن كان الأول جاز... الخ) *
أورد عليه بأنه خارج عن قانون المناظرة، لأن اللازم على المستدل إثبات
أن الذم على ذلك ولا يكفيه مجرد الجواز والاحتمال، وما ذكره المورد إنما هو
629

على سبيل المنع بإبداء الاحتمال الهادم للاستدلال وليس المنع قابلا للمنع.
وأجيب عن ذلك بما تقدمت الإشارة اليه من كون الإيراد المذكور معارضة
لا منعا، فيكتفى في رده بإبداء الاحتمال. وقد عرفت ما فيه.
فالصواب في الجواب أن يقال: إنه لما كان المنع المذكور مبنيا على مساواة
الاحتمال المذكور لما أخذه المستدل مقدمة في الاستدلال وكانت الآية الشريفة
في ظاهر الحال ظاهرة فيما ادعاه المستدل توقف منعه على إثبات مساواة
الاحتمال المذكور لما ادعاه المستدل أو ترجيحه عليه، إذ مطلق المنع بابداء مجرد
الاحتمال لا ينافي الاستدلال بالظواهر، بل لا بد من إبداء الاحتمال المساوي أو
الراجح، فصحة المنع المذكور مبتنية على صحة ما قرره في السند، وحينئذ يكتفى
في الجواب بمنع ما قرره في بيانه لبقاء الظاهر المذكور حينئذ على حاله إلى أن
يتبين المخرج عنه، فمحصله أن ما جعله باعثا على الانصراف عن ذلك الظاهر
غير ظاهر حسب ما قرره في الجواب، فتأمل.
هذا، وقد ذكروا في المقام وجوها اخر في الاحتجاج على وضع الصيغة
للوجوب لا بأس بالإشارة إلى جملة منها.
منها: أن تارك المأمور به عاص وكل عاص متوعد عليه بالعذاب، فيكون
تارك المأمور به متوعدا عليه بالعذاب، وهو دليل على كون الأمر للوجوب.
أما المقدمة الأولى فلظاهر عدة من الآيات كقوله تعالى: * (لا يعصون الله
ما أمرهم) * (1) وقوله: * (لا أعصي لك أمرا) * (2) وقوله: * (أفعصيت أمري) * (3) وفي
كلمات العرب أيضا ما يدل عليه كقوله: " أمرتك أمرا حازما فعصيتني " ونحوه
قول الآخر، مضافا إلى تصريح جماعة بأن العصيان ترك المأمور به، وربما يحكى
الاجماع عليه.

(1) سورة التحريم: 6.
(2) سورة الكهف: 69.
(3) سورة طه: 93.
630

وأما الثانية فلقوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدا
فيها) * الآية (1).
ويورد عليه تارة بالمنع من كون ترك المأمور به مطلقا عصيانا بل إنما يكون
ترك المأمور به على سبيل الوجوب عصيانا ولا دلالة في الآيات المذكورة
وغيرها على الإطلاق المذكور، إذ إضافة العصيان إلى الأمر إنما تقضي بتحقق
العصيان بترك المأمور به في الجملة لا أن كل ترك للمأمور به عصيان كما هو
المدعى.
ويدفعه أن ظاهر إطلاق الآيات المذكورة وغيرها تحقق العصيان بمخالفة
أي أمر كان، لا خصوص بعض أقسامه سيما الآية الثانية.
وتارة بأن قضية تلك الآيات وغيرها تحقق العصيان بترك المأمور به دون
مخالفة الصيغة ولا ملازمة بين الأمرين، فأقصى ما يفيده الحجة المذكورة دلالة
مادة الأمر على الوجوب وهو غير المدعى.
ويدفعه ما عرفت من أن الصيغة المطلقة الصادرة من العالي أو المستعلي
تسمى أمرا في العرف واللغة، وهو كاف في المقام.
وثالثا: بالمنع من كون كل عاص متوعدا بالعذاب والآية المذكورة لا دلالة
فيها على ذلك، لاشتمالها على التوعد بالخلود وهو مختص بالكفار، كما دلت عليه
الأدلة.
وما أجيب عنه من أن المراد بالخلود المكث الطويل ليس بأولى من التزام
التخصيص في الموصول، مع ما تقرر من رجحان التخصيص على المجاز.
والقول بأن البناء على التخصيص في المقام يوجب خروج أكثر الأفراد
- للزوم اخراج جميع المعاصي عنه سوى الكفر، والتزام التجوز أولى منه، إذ هو
على فرض جوازه بعيد، حتى ذهب كثير إلى المنع منه - مدفوع بأنا لا نخصصه
إلا بأهل الإيمان، فالباقي أضعاف الخارج.

(1) سورة الجن: 23.
631

ويمكن أن يقال: إن ما دل على توعد العصاة واستحقاقهم للذم والعقوبة
لا ينحصر في الآية المذكورة بل هو معلوم من ملاحظة سائر الآيات والروايات.
ورابعا: بأنه لا دلالة فيما ذكر إلا على كون الأمر للوجوب بحسب الشرع،
لاختصاص الوعيد في الآية بعصيانه تعالى وعصيان الرسول فلا يفيد وضعه
بحسب اللغة كما هو المدعى.
ويدفعه بعد ورود الذم شرعا على عصيان غير الله والرسول أيضا ما عرفت
من أصالة عدم النقل.
مضافا إلى أن العصيان حقيقة في مخالفة ما ألزمه الطالب من الفعل أو الترك
بحكم التبادر، فعد مخالفة الأمر عصيانا دليل على إفادته الإلزام وإن لم يلزم منه
الوجوب المصطلح، إلا ممن دل الدليل العقلي أو النقلي عن المنع من عصيانه،
حسب ما مرت الإشارة اليه.
ومما قررنا ظهر وجه آخر في إتمام الدليل المذكور من دون حاجة إلى
التمسك بالآية الأخيرة.
وخامسا: أن ذلك إنما يفيد إفادة الأمر للوجوب مع الإطلاق، وهو أعم من
وضعه له بالخصوص، إذ قد يكون من جهة انصراف الإطلاق اليه كما أشرنا اليه.
ومنها: ما دل على وجوب طاعة الله والرسول والأئمة (عليهم السلام) من الآية والرواية
مع كون الإتيان بالمأمور به طاعة، كما يشهد به ملاحظة العرف واللغة فيكون
الإتيان بالمأمور به واجبا.
ويرد عليه أيضا ما مر من إفادته دلالة الأمر على الوجوب بحسب الشرع
دون اللغة.
ويجاب بما عرفت من تتميمه بأصالة عدم النقل، وبأن وجوب الطاعة إنما
يتبع إيجاب المطاع، فلولا دلالة الأمر على إيجاب المأمور به لم يعقل وجوب
الإتيان به، لوضوح عدم وجوب الإتيان بما لم يوجبه الأمر الذي يجب طاعته.
فمحصل الاستدلال: أن امتثال الأمر طاعة، فإذا صدر الأمر ممن يجب
632

طاعته عقلا أو شرعا وجب امتثاله، سواء في ذلك الأوامر الشرعية أو العرفية،
كأوامر السيد لعبده والوالد لولده والزوج لزوجته وغير ذلك، فلا اختصاص له
بالشرع.
وأيضا لا يتم ذلك إلا مع دلالة الأمر على الإيجاب لما عرفت من كون
الوجوب بالمعنى المصطلح من لوازم الإيجاب الصادر ممن يجب طاعته.
نعم، يرد حينئذ أن ما يقتضيه الوجه المذكور دلالة الصيغة الصادرة من العالي
دون غيره، وحينئذ لا بد في تتميم المدعى من ضم أصالة عدم تعدد الأوضاع
وكون الغالب في وضع الألفاظ عدم اختلاف معانيها بحسب اختلاف المتكلمين
كما مر.
ويمكن الإيراد عليه بأن فعل المندوب طاعة قطعا وليست بواجبة، فالقول
بوجوب الطاعة مطلقا ممنوع، وإنما يجب الطاعة مع إيجاب المطاع، وحصوله
بمجرد الأمر أول الكلام.
وقد يذب عنه بأن قضية الإطلاقات الدالة على وجوب طاعة الله تعالى
والرسول والأئمة (عليهم السلام) هو وجوب طاعتهم مطلقا ومن البين صدق الطاعة على
امتثال الأوامر المطلقة الصادرة عنهم فيجب الإتيان بها إلا ما قام الدليل على
خلافه، وهو ما ثبت استحبابه.
وفيه: أنه بعد ظهور صدق الطاعة على امتثال الأوامر الندبية لا بد من تقييد
ما دل على وجوب الطاعة بخصوص ما يتعلق به الطلب الإلزامي دون غيره،
فصار مفاد تلك الأدلة هو وجوب الطاعة في خصوص ما ألزموه، وحينئذ فلا يفيد
المدعى، إذ لا ربط لذلك بدلالة الأمر على الوجوب أو الندب أو الأعم منهما.
ألا ترى أنا لو قلنا بدلالة الأمر على الندب لم يناقض ما دل على وجوب
الطاعة أصلا، لاختلاف المقامين فإن مفاد ما دل على وجوب الطاعة هو وجوب
الإتيان بما ألزموه وحتموه، والكلام في المقام في دلالة الأمر على الوجوب
والإلزام ولا ربط لأحدهما بالآخر.
633

ومنها: الأخبار الدالة على ذلك فمن ذلك خبر بريرة وكانت لعائشة وقد
زوجتها من عبد، فلما أعتقتها وعلمت بخيارها في نكاحها أرادت مفارقة زوجها
فاشتكى إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال (صلى الله عليه وآله) لها: أرجعي إلى زوجك، فإنه أبو ولدك وله
عليك من، فقالت: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتأمرني بذلك؟ فقال: لا إنما أنا شافع (1).
فإن نفي الأمر وإثبات الشفاعة مع إفادة الشفاعة للاستحباب دليل على كون
الأمر للوجوب.
وأورد عليه بأنه قد يكون سؤالها عن الأمر من جهة ثبوت رجحان الرجوع
شرعا سواء كان على سبيل الوجوب أو الاستحباب، فلما أعلمها النبي (صلى الله عليه وآله) بعدمه
وأن أمره بالرجوع على سبيل الشفاعة إجابة لالتماس زوجها قالت: لا حاجة
لي فيه.
وأجيب عنه بأن إجابة شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله) مندوبة، فإذا لم يكن الرجوع مأمورا
به مع ذلك تعين كون الأمر للوجوب.
وأورد عليه بأنه إذا كانت الشفاعة في الرواية المذكورة غير مأمور بإجابتها
فلا نسلم أنها كانت في تلك الصورة مندوبة، كذا ذكره في الإحكام.
وأنت خبير بأن استحباب إجابة الشفاعة غير كون الطلب الصادر منه على
سبيل الندب، فلا منافاة بين الاستحباب المذكور وعدم ورود الأمر على جهة
الندب، بل على جهة الشفاعة إن جعلناها أحد معاني الصيغة، أو جعلناها للإرشاد،
فلا حاجة إلى التزام عدم رجحان إجابة شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله).
لكن الظاهر أن الأمر في الشفاعة لا يخلو عن طلب من الشفيع ولو كان غير
حتمي، وحينئذ فظاهر قولها: " أتأمرني يا رسول الله " هو السؤال عن طلبه
الحتمي، وليس في كلامها إشارة إلى كون السؤال عن رجحان رجوعها اليه في
أصل الشرع، سواء كان على سبيل الوجوب أو الندب، فحمله على ذلك في غاية

(1) الكافي 5: 485 باب ان الأمة تكون تحت المملوك ح 1 (مع اختلاف)، سنن أبي داود 2:
270 ح 2231، السنن الكبرى للبيهقي 7: 222.
634

البعد، فتندفع بذلك المناقشة المذكورة.
نعم، يرد عليه أنه لا دلالة في ذلك على مفاد الصيغة وإنما غايته الدلالة
على كون لفظ " الأمر " للوجوب.
ومن ذلك خبر السواك المشهور الوارد من الفريقين، وهو قوله (عليه السلام): " لولا
أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك " مع تواتر طلبه على سبيل الندب.
وأورد عليه في الإحكام بأن قوله: " أن أشق " قرينة على كون المراد بالأمر
في قوله: " لأمرتهم " هو الأمر الإيجابي، إذ لا تكون المشقة إلا في الإيجاب، نظرا
إلى إلزام الفاعل بأدائه.
ولا يذهب عليك أن ما ذكره بعد تسليمه خروج عن ظاهر الرواية والتزام
لتقييد الإطلاق من غير قرينة عليه، فإنه كما يصح أن يكون ذلك قرينة على التقييد
كذا يصح أن يكون شاهدا على كون الأمر للوجوب، كما هو ظاهر إطلاقه وعليه
مبنى الاستدلال.
نعم، يرد عليه ما تقدم من عدم دلالته على إفادة الصيغة للوجوب، كما هو
المدعى.
وقد يدفع ذلك بنحو ما مرت الإشارة اليه.
ومن ذلك قوله (صلى الله عليه وآله) لأبي سعيد الخدري حيث لم يجب دعاءه (صلى الله عليه وآله) وهو في
الصلاة: " أما سمعت قوله تعالى ": * (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) *؟
الآية (1)، فظاهر توبيخه يعطي كون أمره للوجوب، وكذا احتجاجه على وجوب
الإجابة بمجرد الأمر الوارد في الآية الشريفة.
وأجيب عنه بأن القرينة على وجوب الأمر المذكور ظاهرة حيث إن فيه
تعظيما لله تعالى وللرسول (صلى الله عليه وآله) ودفعا للإهانة والتحقير الحاصل بالإعراض،
كذا في الإحكام، وهو على فرض تسليمه إنما يفيد حمل الأمر الوارد في الآية
الشريفة على الوجوب، وأما دلالته على كون الدعاء على سبيل الوجوب فلا،

(1) سورة الأنفال: 24.
635

فيبقى الاستناد إلى التوبيخ المذكور على حاله.
وقد يجاب عنه بأن دعاءه (صلى الله عليه وآله) لم يعلم كونه بصيغة الأمر ولم يعلم أيضا كون
التوبيخ الوارد عليه من جهة مجرد عدم إجابة الدعاء، بل قد يكون من أجل الأمر
الوارد في الآية الشريفة المقرونة بقرينة الوجوب.
لكن لا يذهب عليك أن ظاهر ذكر الآية الشريفة في مقام التوبيخ شاهد على
عدم اعتبار كون الدعاء بلفظ مخصوص، فيندرج فيه ما إذا كان بصيغة الأمر
لصدق الدعاء عليه بحسب العرف قطعا وأن وجوب الإجابة المستفاد من الآية
فرع كون الدعاء على سبيل الوجوب، إذ يبعد القول بوجوب الإجابة مع كون
الدعاء على سبيل الندب فيفيد دلالة الصيغة على الوجوب، وإلا لم يتجه إطلاق
الحكم بوجوب الإجابة.
ومن ذلك جملة من الأخبار الخاصة كصحيحة الفاضلين (1) الواردة في
التقصير في السفر، وقد احتج الإمام (عليه السلام) بآية التقصير، فقالا: قلنا إنما قال الله
تعالى: * (لا جناح عليكم) * ولم يقل: " افعلوا " فكيف أوجب ذلك كما أوجب
التمام في الحضر، ثم أجاب (عليه السلام) عنه بورود لا جناح في الكتاب في آية السعي
وقد استدلوا على وجوبه في الحج بذكره تعالى في كتابه، ووصف النبي (صلى الله عليه وآله) له
فكذلك التقصير ففي فهمهما الوجوب من صيغة " افعلوا " وتقرير الإمام (عليه السلام) على
ذلك دلالة على المطلوب.
ويرد على ذلك وعلى الاحتجاج بسائر الروايات المتقدمة ما عرفت من أن
غاية ما يستفاد منها كون الصيغة مفيدة للوجوب ظاهرة فيه، وهو أعم من كون
ذلك بالوضع أو من جهة ظهور الطلب فيه، والظاهر أنه على الوجه الثاني كما يظهر
من ملاحظة ما قدمناه فلا تفيد المدعى.
ومنها: الاجماع المحكي في كلام جماعة من الخاصة والعامة على الاحتجاج
بالأوامر المطلقة الواردة في الشريعة على الوجوب وقد حكاه من الخاصة

(1) الوسائل 5: 538 باب " 22 " من أبواب صلاة المسافر ح 2.
636

السيدان والشيخ والعلامة في النهاية وشيخنا البهائي، ومن العامة الحاجبي
والعضدي، وهو حجة في المقام سيما مع اعتضاده بالشهرة العظيمة وملاحظة
الطريقة الجارية في الاحتجاجات الدائرة وبضميمة أصالة عدم النقل يتم المدعى.
ولا يذهب عليك أن ذلك أيضا أعم من المدعى، فإن قضية الاجماع المذكور
انصراف الأمر إلى الوجوب، وهو كما عرفت أعم من وضعه له.
قوله: * (إذا أمرتكم بشئ (1)... الخ) *
لا يخفى أن هذه الرواية في بادئ الرأي تحتمل وجوها ولا ارتباط لشئ
منها بدلالة الأمر على الندب حتى يوجه به الاحتجاج المذكور، فإن المراد
بالشئ المأمور به إما الكلي الذي له أفراد، أو الكل الذي له أجزاء، أو الأعم
منهما.
وعلى كل حال ف‍ " من " في قوله: " منه " إما تبعيضية، أو ابتدائية، وعلى كل
حال ف‍ " ما " في قوله: " ما استطعتم " إما موصولة، أو موصوفة، أو مصدرية، فهذه
ثمانية عشر وجها ففي بعضها يكون مفادها مفاد ما لا يدرك كله لا يترك كله، ولذا
أو للوجه الآتي قد تجعل رديفا لذلك الخبر، ويستدل بها على ما يستدل عليه
بذلك، وفي بعضها تفيد أن الأمر إذا تعلق بكلي فالمطلوب أداؤه في ضمن الأفراد
المقدورة، وفي بعضها تفيد الأمرين، وفي بعضها تفيد وجوب التكرار إن جعلنا
الأمر في " فأتوا " للوجوب، فيمكن أن يحتج بها على كون الأمر للتكرار وإلا
أفادت رجحان الإتيان بالمأمور به بعد أداء المقدار اللازم، كما قد يتخيل بناء على
كون الأمر موضوعا لطلب الطبيعة حسب ما تأتي الإشارة اليه في كلام المصنف،
وقد يومئ إلى هذا الوجه ملاحظة أول الرواية وموردها، فتأمل.
قوله: * (رد الإتيان بالمأمور به إلى مشيتنا) *
أنت خبير بأن المذكور في الرواية هو الرد إلى الاستطاعة، وهو مما لا ربط له
بالرد إلى المشية كما هو مبنى الاستدلال، وتفسيره الاستطاعة بالمشية غريب

(1) مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 250.
637

وكأن الذي أدخل عليه الشبهة تفسير الاستطاعة بالاختيار، فإن ما لا يستطيعه
الانسان لا اختيار له فيه ثم جعل الاختيار بمعنى المشية، فإن اختيار الإتيان
بالشئ هو مشيته أو ما يقرب منها، فيكون قد خلط بين المعنيين، فإن الاختيار
بمعنى القدرة غير الاختيار بمعنى الترجيح.
وقد يوجه أيضا بأن كون الفرد المأتي به بعد تعلق الأمر بالطبيعة هو المقدور
من أفرادها أمر واضح غني عن البيان، فحمل العبارة على ظاهرها قاض بإلغائها
فلذا صرف الاستطاعة عن ظاهرها وفسرها بالمشية، وقد يجعل ذلك مبنيا على
الجبر وعدم ثبوت استطاعة للعبد، فلا بد من صرفها إلى المشية، ولا يخفى
وهن الجميع.
قوله: * (وهو معنى الندب) *
لا يخفى أن الرد إلى المشية يشير إلى الإباحة ولا أقل من كونه أعم منه ومن
الندب، فمن أين يصح كونه بمعنى الندب؟ ثم إنه لا دلالة فيه على كون اللفظ
موضوعا للندب، إذ غاية الأمر أن يكون ذلك مرادا منه، وهو أعم من الحقيقة.
مضافا إلى أن " إذا " من أدوات الإهمال، فلا يدل إلا على رد بعض الأوامر
إلى المشية، وأين ذلك من إثبات العموم؟.
وقد يقال: إن " إذا " وإن كان من أدوات الإهمال بحسب اللغة، إلا أنها تفيد
العموم بحسب الاستعمالات العرفية، على أن الإطلاق كاف في المقام لكونه من
مورد البيان وإرادة بعض ما مما لا فائدة فيه، فيرجع إلى العموم وإذا دلت الرواية
على حمل المطلقات من الأوامر على الندب كان بمنزلة بيان لازم الوضع، فيكشف
عن وضعه بإزاء ذلك، وهذا وإن لم يدل على وضعه له بحسب اللغة كما هو المدعى
إلا أنه يتم ذلك بملاحظة أصالة عدم النقل، هذا غاية ما يوجه به كلام المستدل.
وهو كما ترى في غاية الوهن.
قوله: * (وهو معنى الوجوب) *
كذا ذكره الحاجبي والعضدي، وأنت خبير بأن الرد إلى الاستطاعة كما هو
638

حاصل في الواجب فكذا في المندوب، ضرورة عدم استحباب الإتيان بغير
المقدور فهو أعم من الوجوب والندب، ولذا أجاب الآمدي عنه على الوجه
المذكور حيث قال: " إنه لا يلزم من قوله: ما استطعتم تفويض الأمر إلى مشيتنا
فإنه لم يقل ما شئتم بل قال: ما استطعتم وليس ذلك خاصة الندب فإن كل واجب
كذلك " انتهى. وحينئذ فلا وجه لكون ذلك معنى الوجوب.
وأجاب عنه القطبي بأن المراد بالمعنى لازمه، فالمراد بكون الرد إلى
الاستطاعة معنى الوجوب أنه لازم معناه، لا أنه عينه.
قلت: فيتجه به العبارة المذكورة حيث إن ظاهرها بين الفساد، ضرورة أن الرد
إلى الاستطاعة ليس عين الوجوب فيصح الحكم المذكور، حيث إن اللازم قد
يكون أعم.
لكنك خبير ببعد التوجيه المذكور عن ظاهر العبارة، فإن غاية ما يحتمله
العبارة كون ذلك من روادفه ولوازمه المساوية، وحينئذ يندفع عنه ما قد يورد
عليه من أن الرد إلى الاستطاعة ليس عين الوجوب، والإيراد المذكور باق
على حاله.
وربما يوجه ذلك بأن تعليق الإتيان به على الاستطاعة يدل على أنه لا يسقط
منا إلا ما لا استطاعة لنا فيه، فيفيد الوجوب.
وهو أيضا كما ترى، فإن المعلق على الاستطاعة قوله: " فأتوا " فإن أريد به
الوجوب صح ما ذكر، وإلا فلا يتم، إذ لا يزيد ذلك على إفادة عدم سقوط
المندوب مع الاستطاعة.
وقد يوجه إذن بابتناء ذلك على كون لفظ " الأمر " مفيدا للوجوب فرده إلى
الاستطاعة حينئذ محقق لإرادة الوجوب بخلاف ما لو رد إلى المشية، كما ادعاه
المستدل لدلالته على عدم إرادة الوجوب من الأمر، كذا يستفاد من كلام بعض
الأفاضل.
قوله: * (وفيه نظر) *
639

حكى عن ابن المصنف نقلا عن والده (رحمه الله) في وجه النظر أمران:
أحدهما: أن المدعى ثبوت الوجوب لغة، فقول المجيب: إن الوجوب إنما
يثبت بالشرع لا وجه له.
وثانيهما: أن الظاهر من كلامه الفرق بين الإيجاب والوجوب، والحال أنه
لا فرق بينهما إلا بالاعتبار.
وأنت خبير باندفاع الوجهين:
أما الأول فبما عرفت سابقا من أن المراد بالوجوب المدلول عليه بالأمر ليس
هو الوجوب المصطلح الذي هو أحد الأحكام الخمسة الشرعية، بل المقصود منه
هو طلب الفعل مع المنع من الترك وعدم الرضا به من أي طالب صدر، وهو المعبر
عنه بالإيجاب في كلام المجيب، ومن البين أن الحاصل بإنشاء الطلب المذكور هو
مطلوبية الفعل لذلك الطالب على النحو المفروض، ولا يستلزم ذلك كون الفعل في
نفسه أو بملاحظة أمر ذلك الآمر به مما يذم تاركه أو يستحق العقاب على تركه،
فإن تفرع ذلك على الأمر أمر يتبع وجوب طاعة الآمر بحسب العقل أو الشرع،
ولا ربط له بما وضع اللفظ له، فالوجوب المدلول عليه باللفظ لغة وشرعا هو
المعنى الأول، والوجوب بالمعنى الثاني من الأمور اللازمة للمعنى الأول في بعض
الصور حسب ما عرفت، وهو إنما يثبت بواسطة العقل أو الشرع، وليس مما وضع
اللفظ له فلا منافاة بين كون الوجوب مدلولا عليه بحسب اللغة، وما ذكره من عدم
ثبوت الوجوب إلا بالشرع لاختلاف المراد منه في المقامين.
نعم، كلام المجيب لا يخلو عن سوء التعبير حيث يوهم عدم دلالة الأمر على
الوجوب مطلقا إلا بالشرع، ولا مشاحة فيه بعد وضوح المراد.
ومن ذلك يظهر اندفاع الوجه الثاني أيضا، فإن الوجوب الذي يقول بمغايرته
للإيجاب على الحقيقة وانفكاكه عنه بحسب الخارج هو الوجوب بالمعنى الثاني
بالنسبة إلى الإيجاب بالمعنى الأول، دون الوجوب بالمعنى الأول بالنسبة إلى
إيجابه، لوضوح عدم انفكاك مطلوبية الفعل على سبيل المنع من الترك عن طلبه،
640

بل الأمر الحاصل في الواقع شئ واحد يختلف بحسب الاعتبارين حسب ما ذكر.
وإيراد المدقق المحشي عليه بأن القول بكون الإيجاب والوجوب متحدين
بحسب الحقيقة وبالذات، ومختلفين بالاعتبار من مزخرفات الأشاعرة
ولا محصل له أصلا ليس على ما ينبغي، وإسناده ذلك إلى الأشاعرة مما لم يتضح
وجهه ولا ربط له بشئ من أصولهم.
وكأن ملحوظه في ذلك أنه لما كان الوجوب عند الأشاعرة عبارة عن مجرد
كون الفعل مطلوبا للشارع - وهو معنى الحسن عندهم من غير حصول أمر آخر -
لم يكن الوجوب الحاصل عندهم إلا المعنى الأول، وقد عرفت أنه متحد مع
الإيجاب بالذات مغاير له بالاعتبار، بخلاف العدلية القائلين بالتحسين والتقبيح
العقليين وحصول وجوب عقلي متبوع لأمره تعالى أو تابع له، إذ لا معنى لاتحاد
الإيجاب معه بحسب الحقيقة حسب ما عرفت.
وهذا هو مقصود السيد العميدي حيث ذكر بعد بيان الفرق بين الإيجاب
والوجوب: أن الفرق يتم على مذهب المعتزلة دون الأشاعرة.
لكنك خبير بأن ذلك مما لا ربط له بالمقام، فإن الوجوب المقصود في المقام
متحد مع الإيجاب على القولين، من غير فرق فيه بين المذهبين، فالإيراد المذكور
ليس في محله.
هذا، وقد أورد أيضا على ما ذكر في وجه النظر بأنه لو سلم اعتبار استحقاق
الذم في مفهوم الوجوب الملحوظ في المقام فلا يلزم من كون السؤال دالا عليه
ترتب الذم عليه بحسب الواقع، لجواز التخلف في الدلالة اللفظية.
فكأن مقصود المجيب أن الأمر والسؤال يدلان على الوجوب بالمعنى
المذكور، إلا أن حصول الوجوب وثبوته في الواقع يتبع الشرع دون دلالة اللفظ،
فلذا لا يكون حاصلا في السؤال دون الأمر، فما ذكر في وجه النظر اشتباه نشأ من
الخلط بين دلالة اللفظ على الشئ وتحصيله وإيجاده.
وفيه: أن ما ذكر من جواز تخلف المدلول عن الدال في الدلالات اللفظية إنما
641

يتم في الإخبارات وأما الإنشاءات فيمتنع تخلف المدلول عنها، كما هو معلوم من
ملاحظة التمني والترجي والنداء وغيرها، فلو كان مدلول الأمر هو وجوب الفعل
بمعنى كونه على وجه يستحق تاركه الذم لم يمكن تخلفه عنه.
ويمكن دفعه بأن الانشاء وإن لم يكن يتخلف مدلوله عنه عند استعمال اللفظ
فيه لكون اللفظ هناك آلة لإيجاد معناه إلا أنه ليس مفاد الأمر بناء على تفسير
الوجوب بالمعنى المعروف إيجاد ذلك الوجوب في الخارج، بل مفاده حينئذ هو
إنشاء إيجاده على حسب جعل الجاعل، وهو لا يستلزم وجوده في الخارج إلا مع
اقتدار الجاعل على إيجاده في الخارج بمجرد الانشاء المذكور.
ألا ترى أنه لو صدر منه إنشاء الوجوب بنحو قوله: " أوجبت عليك الفعل "
مريدا به الوجوب المصطلح كان اللفظ مستعملا في ذلك مع عدم تفرع الوجوب
عليه في الخارج إلا مع حصول ما يتوقف وجوده عليه.
ويوضح الحال فيما ذكرناه ملاحظة الأمر التكويني الصادر عن غير القادر
على الجعل والإيجاد، فإن مفاد الأمر الصادر منه ومن القادر عليه بمجرد التوجه
اليه واحد، إلا أنه لا يتفرع الوجود على إنشائه المفروض ويتفرع على إنشاء
الآخر ويجري نحو ذلك أيضا في غيرها من الإنشاءات، كما في إنشاء البيع
والإجارة والنكاح ونحوها، فإن الانشاء المفروض حاصل في البيوع الصحيحة
والفاسدة، فالإنشاء في جميع المذكورات إنما يتعلق بالذات بالأمر النفسي دون
الخارجي، فإن اجتمع شرائط وجوده الخارجي تفرع عليه ذلك وإلا فلا.
قوله: * (والتحقيق: أن النقل المذكور... الخ) *
قد عرفت مما قررناه اتجاه الجواب الأول، ويؤيده ملاحظة استقراء سائر
الألفاظ، إذ لا يعرف لفظ يختلف معناه الموضوع له بحسب اختلاف المتكلمين به
مع عدم اختلاف العرف، بل لا يعرف ذلك في سائر اللغات أيضا، وعلى فرض
وقوعه في اللغة فهو نادر جدا، وذلك كاف في إثبات اتحاد معنى الصيغة في
المقامين حسب ما مرت الإشارة اليه.
642

فبناء تحقيقه في الجواب على المنع من ثبوت النقل المذكور مشيرا بذلك
إلى التزام اختلاف وضع الصيغة في الصورتين ضعيف جدا.
مضافا إلى أنه كما يتبادر الإلزام من الأمر كذا يتبادر من السؤال والالتماس
من غير فرق، فإن المنساق من إطلاق الأمر والالتماس والسؤال ليس إلا الطلب
الحتمي الذي لا يرضى ذلك الطالب تركه، فظهر أن النقل المذكور معتضد بما
ذكرناه فمنعه في المقام غير متجه.
قوله: * (وإلا لزم الاشتراك المخالف للأصل) *
كأنه أراد بذلك بيان كون القول بكونها مجازا في الندب والقدر المشترك
بينهما على وفق الأصل بعد إثبات كونها حقيقة في خصوص الوجوب فأراد بذلك
قلب الدليل على المستدل، فلا يرد عليه أن ما دل من الأدلة على كونها حقيقة في
الوجوب على فرض صحتها، كما دلت على كونها حقيقة فيه دلت على كونها
مجازا في غيره، فلا حاجة في الاستناد إلى مجازيته فيهما إلى الأصل المذكور،
فإن ذلك دليل آخر على بطلان ما ذكره والمقصود هنا الرجوع إلى الأصل فقلب
الدليل عليه بعد الضميمة المذكورة.
قوله: * (لأن استعماله في كل من المعنيين بخصوصه مجاز) *
أورد عليه بأن استعماله في كل من المعنيين بخصوصه وإن كان مجازا إلا أنه
لا يلزم من القول بكونه حقيقة في القدر المشترك كون استعماله فيهما على النحو
المذكور، إذ قد يكون استعماله فيهما من حيث حصول الكلي في ضمنها واتحاده
بهما، فيكون استفادة الخصوصية من الخارج وحينئذ فلا مجاز.
وبالجملة: أن الكلام في الاستعمالات الواردة ولا يلزم فيها شئ من
الاشتراك والمجاز بناء على القول المذكور، بخلاف ما لو قيل بكونه موضوعا لكل
من الخصوصيتين أو باختصاصه بأحدهما، ولزوم التجوز على فرض استعماله في
خصوص كل من المعنيين مما لا ربط له بما هو الملحوظ في المقام.
ثم لا يذهب عليك أن القول بوضع الصيغة للقدر المشترك واستعمالها فيه
643

لا ينافي ما تقرر عند المتأخرين من وضع الأفعال بحسب هيئتها لخصوص
الجزئيات حيث إن الوضع فيها عام والموضوع له خاص كالحروف، فإنهما من
قبيل واحد بحسب الاستعمال، فكما أن الحروف لا تستعمل إلا في خصوص
الجزئيات ولا يصح استعمالها في المعنى الكلي فكذا الحال في هيئات الأفعال
فإن لفظة " اضرب " مثلا لا يراد بها إلا الطلب الجزئي القائم بنفس المتكلم
لا المفهوم العام، ولذا أطبق المتأخرون على كونها حقيقة في تلك الخصوصيات
لئلا يلزم ارتكاب التجوز في جميع تلك الاستعمالات، كما قد يلتزم به من يجعل
الموضوع له هناك عاما، وذلك للفرق البين بين كون المستعمل فيه طلبا خاصا
بملاحظة كونه حصة من حصص مطلق الطلب أو جزئيا من جزئياته وكونه إيجابا
مخصوصا وفردا من أفراد الإيجاب أو حصة منه، فعدم ملاحظة خصوصية
الوجوب أو الندب في الموضوع له وكونه ملحوظا لا بشرط كون الطلب إيجابيا
أو ندبيا لا ينافي خصوصيته بالنظر إلى ما جعل مرآة لملاحظته له واعتبار تلك
الخصوصية فيما وضع له.
ألا ترى أن قولك: " هذا الحيوان " إنما يفيد ملاحظة الحيوان الخاص من
حيث كونه حيوانا خاصا فإذا أطلق على الانسان أو الحمار من حيث كونه حيوانا
خاصا كان حقيقة لا بملاحظة خصوصية كونه إنسانا خاصا أو حمارا خاصا فهو
بحسب الوضع يعم الأمرين، ويكون حقيقة فيهما مع عدم أخذ تينك الخصوصيتين
في مفهوم الحيوان، وإلا كان خارجا عن مقتضى الوضع.
وكذلك الحال في سائر الألفاظ الموضوعة بالوضع العام للجزئيات حسب
ما اختاروه، فإن لفظة " هذا " مثلا إنما وضعت لجزئيات المشار اليه من حيث إنها
مشار إليها، لا من حيث كونها إنسانا أو حمارا أو شجرا، فالموضوع له هناك مما
لم يلحظ فيه شئ من تلك الخصوصيات فهو مطلق بالنسبة إليها وإن كان مقيدا
بملاحظة كونه جزئيا من المشار اليه.
فما أورد على الإيراد المذكور بما محصله أن الاستعمال المذكور ليس من
644

قبيل استعمال العام في الخاص ليكون حقيقة مع عدم ملاحظة الخصوصية نظرا
إلى كون وضعه بإزاء الخصوصيات واستعماله في الجزئيات وليس على ما ينبغي،
لما عرفت من عدم ابتناء الإيراد على استعمالها في المعنى العام مطلقا وإنما
الملحوظ فيه إطلاقه بالنسبة إلى اعتبار خصوصية الوجوب أو الندب، وقد عرفت
أنه لا منافاة بين كون المعنى مأخوذا على سبيل الخصوصية من حيث كونه فردا
من الطلب وملحوظا على وجه الإطلاق بالنظر إلى عدم اعتبار خصوصية
الوجوب أو الندب فيه.
قوله: * (فالمجاز لازم في غير صورة الاشتراك) *
نظرا إلى كون استعمال الكلي في خصوص الفرد مجازا فحيث لم توضع
الصيغة لخصوص الوجوب أو الندب إذا استعمل في الخاص مع ملاحظة
الخصوصية في المستعمل فيه يكون مجازا مستعملا في غير ما وضعت له.
وقد نبه المصنف (رحمه الله) في الحاشية على أن كون استعمال الكلي في خصوص
الفرد مجازا ظاهر عند من لا يقول بأن الكلي الطبيعي موجود بعين وجود أفراده،
نظرا إلى وضوح كون استعماله في الفرد استعمالا له في غير ما وضع له سواء قيل
حينئذ بوجود الكلي في ضمن الفرد أو بعدم وجوده في الخارج مطلقا، لظهور
استعماله في الأول في مجموع ما وضع له وغيره وفي الثاني فيما يغايره رأسا،
وأما لو قلنا بوجود الكلي الطبيعي بعين وجود أفراده بمعنى اتحادهما في الخارج
وكون الفرد الخارجي عين الطبيعة المطلقة فقد يشكل الحال، نظرا إلى كون الفرد
المراد عين الطبيعة الموضوع لها فلا مجاز، فأجاب بأن إرادة الخصوصية يتضمن
نفي صلاحية اللفظ في ذلك الاستعمال للدلالة على غير الفرد المخصوص، وظاهر
أن هذا النفي معنى زائد على ما وضع اللفظ له وقد أريد معه فيكون مجازا.
وكأن مقصوده بذلك أن الخصوصية المتحدة مع الطبيعة الكلية النافية لصلاحية
ذلك المعنى للصدق على الغير أمر زائد على الموضوع له، وقد لوحظت في
الاستعمال حيث بعثت على عدم صدق ذلك المعنى على غير ذلك الفرد الخاص،
وإلا فمن الواضح أن نفي صلاحية اللفظ للغير ليس مما استعمل اللفظ فيه فكيف
645

يتعقل اندراجه في المستعمل فيه؟ كما قد يتراءى من ظاهر كلامه.
فالإيراد عليه بأن ذلك من عوارض الاستعمال لا أنه جزء من المستعمل فيه
ليس على ما ينبغي.
وكذا ما أورد عليه من أنه لا فرق في كون إطلاق الكلي حقيقة أو مجازا بين
القول بوجود الكلي الطبيعي في الخارج وعدمه، للاتفاق على اتحاده مع الفرد
نحوا من الاتحاد وكذا مغايرتهما في الجملة، فالاستعمال فيه بالملاحظة الأولى
حقيقة وبالثانية مجاز، سواء قيل بوجود الكلي الطبيعي أو لا لما هو ظاهر من عدم
إباء ما ذكره المصنف (رحمه الله) عن ذلك، إلا أنه لما كان وجه المجازية على الفرض
الأول ظاهرا وعلى التقدير الثاني خفيا من جهة ما ذكره من الإشكال - فقد يتوهم
الفرق بين الصورتين - أراد بذلك بيان تصوير المجازية على الفرض الثاني أيضا
بما قرره.
وكذا الإيراد عليه بأن ما ذكر في وجه التجوز إنما يتم لو كانت الوحدة
مندرجة فيما استعمل اللفظ فيه وإلا فلا مدخلية لنفي صلاحية اللفظ في ذلك
الاستعمال لغير المصداق المذكور فيما استعمل اللفظ فيه.
وقد عرفت فساده عند تعرض المصنف لاعتبار الوحدة في معاني المفردات،
إذ من الواضح أن عدم صلاحية المعنى إذن لغير ذلك المصداق ليس من جهة
اعتبار الوحدة في المستعمل فيه، ضرورة عدمها مع عدمه أيضا، فليس مقصوده
إلا ما بيناه وإن كان قد تسامح في التعبير نظرا إلى وضوح الحال.
وقد أورد عليه أيضا بأنه لا مدخل لوجود الكلي الطبيعي وعدمه بالمقام على
ما سيحققه المصنف (رحمه الله) من كون الوضع في الأمر وغيره من الأفعال عاما والموضوع
له خاصا، فليس الموضوع له هناك كليا حتى يكون فيه مجال للكلام المذكور.
وأنت خبير بأن غاية ما يلزم على القول بكون الموضوع له هناك خاصا
هو وضع الصيغة لخصوص حصص الطلب أو أفراده من حيث كونها فردا من
الطلب حسب ما مر بيانه.
وحينئذ فما تخيله من الإشكال قائم في المقام، فإنا إن قلنا بكون الكلي
646

الطبيعي عين أفراده كانت الحصة المفروضة عين الخصوصية الملحوظة في الفرد
من الوجوب أو الندب بحسب الخارج فيلزم انتفاء التجوز، ويندفع ذلك حينئذ بما
قرره، إلا أن ظاهر عبارته يأبى عن الحمل على ما قررناه، وكأنه جرى في ذلك
على ما يقتضيه ظاهر عبارة المجيب.
قوله: * (فعلى غاية الندرة والشذوذ) *
لبعد وقوعه نظرا إلى أن الطالب إذا لم يكن غافلا عن الترك، فإما أن يريد
المنع منه، أو لا يريده، فلا يخلو الحال عن إرادة الوجوب أو الندب فلا يتصور
إرادة الطلب المجرد عن القيدين إلا عند الغفلة عن ملاحظة الترك، وهو في غاية
الندرة بل لا يمكن حصوله في أوامر الشرع، ففرض استعماله في القدر المشترك
غير معقول، كذا حكي عن المصنف (رحمه الله) معقبا له بالأمر بالتأمل.
وذكر الفاضل المدقق في وجه التأمل أنه فرق بين إرادة المعنى في الضمير
وإرادته من اللفظ، واللازم لغير الغافل هو الأول والمعتبر في الاستعمال هو الثاني،
وهو غير لازم من البيان المذكور، فالاشتباه إنما نشأ من الخلط بين الأمرين.
وفيه: أن المنشئ للطلب إنما ينشئ الطلب الخاص الواقع منه بالصيغة الخاصة
فإنشاؤه الوجوب أو الندب إنما يكون بالصيغة المذكورة، إذ مجرد الإرادة النفسية
لا يقضي بإنشاء المعنى في الخارج، كيف! ومن البين أن الطالب للشئ إنما يوقع
طلبه غالبا على أحد الوجهين المذكورين إلا أن يكون غافلا حسب ما قرره،
فالطلب الخاص مراد من اللفظ قطعا، فما ذكره في الجواب غير مفيد في المقام.
ويمكن أن يقال: إن كلا من الوجوب والندب نوع خاص من الطلب والمنشئ
للطلب إنما ينشئ غالبا أحد الأمرين المذكورين، لكن إنشاءه أحد ذينك الأمرين
بواسطة الصيغة الخاصة أعم من استعمال اللفظ فيه بملاحظة الخصوصية، إذ قد
يكون من جهة كونه مصداقا للطلب ينطبق عليه مطلقه.
وإنشاؤه للطلب الخاص من حيث انطباق المطلق عليه وكونه جزئيا من
جزئياته لا يقتضي أخذ الخصوصية في مفهوم اللفظ واستعمال اللفظ فيه بملاحظة
تلك الخصوصية، كيف! ولو بني على ذلك لكان إطلاق المطلقات على جزئياتها
647

مجازا.
بل لو تم ما ذكره في وجه الشذوذ لكان معظم الاستعمالات مجازا ولا يكاد
يوجد حقيقة في الألفاظ إلا على سبيل الندرة.
ألا ترى أ نك لو قلت: " أكلت الخبز وشربت الماء " فإنما أردت بالأكل والشرب
خصوص الأكل والشرب المنسوبين إليك، وأردت بالخبز والماء ما هو مأكولك
ومشروبك، فيكون مجازا، وعلى هذا القياس غير ذلك من الألفاظ الدائرة في
الاستعمالات، وهو بين الفساد بمكان لا يحتاج إلى البيان، والحل هو ما قررناه
وسيأتي إن شاء الله تحقيق الكلام في إطلاق الكلي على الفرد في المحل اللائق به.
هذا ويمكن إرادة القدر المشترك في كلام الشارع فيما إذا تعلق الأمر بشيئين
يكون أحدهما واجبا والآخر مندوبا، كما لو قيل: " اغتسل للجنابة والجمعة " إذ
لا يمكن إرادة الوجوب منه ولا الندب، والقول باستعماله في المعنيين بناء على
جوازه في غاية البعد، لندوره في الاستعمالات فليحمل على القدر المشترك، فتكون
الخصوصيان مستفادتين من جهة القرينة الدالة عليهما باعتبار المتعلقين، فتأمل.
قوله: * (بأنه لا شبهة في استعمال... الخ) *
مبنى الاستدلال المذكور على استعمال صيغة الأمر في خصوص كل من
الوجوب والندب، وأن ظاهر الاستعمال قاض بالحقيقة من غير فرق بين متحد
المعنى ومتعدده.
وفيه: أن كلا من المقدمتين المذكورتين في محل المنع، إذ قد يقال بكون الأمر
مستعملا في العرف واللغة في الطلب، إلا أن ذلك الطلب قد يقع على سبيل الإلزام
كما هو الظاهر من إطلاقه، وقد يقع على غير سبيل الإلزام، ولا يلزم من ذلك
استعمال الصيغة في خصوص كل من المعنيين، لإمكان إطلاق اللفظ على المعنيين
الخاصين، لانطباق كل منهما على الطلب واتحاده معه كما مرت الإشارة اليه.
وقد تقدم الكلام فيما بنى السيد عليه من أصالة الحقيقة في متعدد المعنى، وأن
الأظهر منع الأصل المذكور وترجيح المجاز على الاشتراك كما هو المشهور.
ثم لا يذهب عليك أن مفاد المقدمتين المذكورتين بعد تسليمهما هو كون
648

الأمر مشتركا بين الوجوب والندب في الجملة لا على انحصار معناه الحقيقي
فيهما، كما هو المدعى بل يقضي الدليل المذكور بكونه حقيقة في جميع مستعملاته
سوى ما قام الدليل على كونه مجازا فيه، فكان عليه بيان الدليل على كونه مجازا
في سائر مستعملاته.
قوله: * (وما استعمال اللفظة الواحدة في الشيئين أو الأشياء... الخ) *
ظاهر كلامه الاحتجاج على دلالة الاستعمال على الحقيقة في متعدد المعنى
بعدم الفرق بينه وبين متحده في تحقق الاستعمال وظهوره في الحقيقة، وقضية
كلامه كون دلالة الاستعمال على الحقيقة في متحد المعنى من المسلمات عندهم،
وإلا لما اتجه الكلام المذكور مع عدم إقامته دليلا على دلالته على الحقيقة في
متحد المعنى، وقد مرت الإشارة إلى ذلك.
قوله: * (بالنسبة إلى العرف الشرعي... الخ) *
الظاهر أنه يريد بالعرف الشرعي هو اصطلاح الشارع بالنسبة إلى عرف
الشريعة، فيكون الأمر عند الشارع في مخاطباته المتعلقة بالشريعة حقيقة في
الوجوب خاصة، بخلاف ما إذا تعلقت مخاطباته بالأمور العادية مما لا مدخل لها
بالشريعة، فيكون في تلك الاستعمالات تابعا للعرف واللغة، كما هو الحال في
سائر الاصطلاحات الخاصة كاصطلاح النحاة وأهل الصرف والمنطق وغيرهم.
ويحتمل أن يكون مقصوده نقل الشارع لتلك اللفظة إلى الوجوب مطلقا
فتحمل في كلامه على الوجوب مطلقا، سواء وقع في مقام بيان الشريعة أو سائر
الأحكام العادية.
قوله: * (وأما أصحابنا معشر الإمامية... الخ) *
ما ادعاه أولا هو إجماع الصحابة والتابعين وتابعي التابعين من الخاصة
والعامة المأخوذ من ملاحظة سيرتهم في كيفية الاستنباط، وما ادعاه ثانيا هو
إجماع الإمامية على الحكم المذكور، وقد وافقه على النقل الثاني السيد ابن زهرة
وأنكر الأول، وعلى الأول جماعة من العامة منهم الحاجبي والعضدي.
وقد يورد عليه تارة بأن الاجماع المذكور إنما يفيد حملهم أوامر الشرع
649

عليه، وهو أعم من كونها موضوعة لذلك أو حقيقة فيه خاصة، إذ قد يكون ذلك من
جهة قضاء قرائن عامة على حملها على ذلك مع كونها موضوعة لمطلق الطلب،
أو كونها مشتركة بين المعنيين، كما اختاره في وضعها بحسب اللغة.
وقد بنى بعض المتأخرين على الوجه المذكور، فقال: إن غاية ما يقتضيه
الاجماع المذكور، هو الحمل على الوجوب، واختار كون الصيغة لغة وشرعا
لمطلق الطلب بل جعل كثيرا من الأدلة المذكورة للقول بكون الأمر للوجوب من
الآيات الشريفة وغيرها شاهدا على الحمل على الوجوب وقرينة عامة قائمة
عليه، مدعيا أن ذلك أقصى ما يستفاد منها دون الوضع للوجوب حسب ما ادعوه،
كما مرت الإشارة اليه.
وأنت خبير ببعد الدعوى المذكورة، إذ لو كان ذلك مستفادا من القرائن
الخارجية لم يستندوا فيه إلى مجرد الأمر ولوقع الإشارة منهم ولو تارات إلى دليله.
وكون ذلك من الأمور الواضحة عند الجميع حتى لا يحتاج إلى إقامة الدليل
عليه مما يستبعد جدا، سيما بعد ملاحظة الأدلة، إذ لا يوجد في الشريعة دليل
ظاهر يدل على لزوم حمل الأوامر الشرعية على الوجوب، وما احتجوا به من
الآيات قد عرفت ما يرد عليه.
وتارة بأنه لا دلالة في الاجماع المدعى على استناد الفهم المذكور إلى نفس
اللفظ، بل قد يكون من جهة ظهور الطلب في الوجوب كما هو معلوم من فهم
العرف أيضا بعد الرجوع إلى المخاطبات العرفية حسب ما مر بيانه.
وثالثا: أنه إذا دل الاجماع على كونه حقيقة في عرف الشرع في الوجوب
خاصة، فقضية أصالة عدم تعدد الاصطلاح وعدم تحقق الهجران يكون كذلك
بحسب اللغة أيضا.
نعم، لو دل دليل على الاشتراك بحسب اللغة توجه ما ادعاه من الفرق، إلا أن
المفروض عدم استناده في ثبوت الاشتراك بحسب اللغة إلى ما يزيد على مجرد
الاستعمال وهو لا يعارض الدليل الدال على المجازية، وقضية الأصل إذن ثبوت
ذلك بحسب اللغة أيضا، لأصالة عدم اختلاف الحال في اللفظ إلا أن يقوم دليل
650

على خلافه، ومع الغض عنه فلا أقل من معارضة ظهور الاستعمال في الحقيقة
بالأصل المذكور، فلا يتم له ما ادعاه.
قوله: * (إنما يصح إذا تساوت نسبة اللفظ... الخ) *
ظاهر كلامه يعطي تسليم ما أصله السيد من دلالة الاستعمال على الحقيقة في
متحد المعنى ومتعدده، إذ من البين أن السيد لا يقول بذلك مع قيام أمارة المجاز.
وقد يحمل كلامه على التسليم من باب المماشاة، وقد نص قبيل ذلك على
كون المجاز خيرا من الاشتراك.
ويحتمل حمل كلامه على التفصيل بين ما إذا ظهر كونه حقيقة في بعض
المستعملات فيقدم المجاز، وما إذا تساوى الحال في الاستعمال من دون ظهور
أمارة على الحقيقة أو المجاز فيقدم الاشتراك، إلا أن التفصيل بذلك غير معروف
في كلماتهم.
قوله: * (ولا يذهب عليك... الخ) *
لا يخفى أن مقصوده من حمل الصحابة كل أمر ورد في القرآن أو السنة على
الوجوب هو خصوص الأوامر المطلقة، وإلا فاستعمال الأمر في الشريعة في غير
الوجوب من الضروريات التي لا مجال لإنكاره فلا منافاة.
نعم، بعد بنائه على كون الأمر في الشريعة حقيقة في الوجوب خاصة لا وجه
لاستناده في كونه مشتركا في اللغة والعرف بين الوجوب والندب إلى استعماله في
القرآن أو السنة فيهما، إذ المفروض كون استعماله في الندب هناك مجازا فلا فائدة
في ذكره في المقام، وبعد فرض استعماله في الوجوب بحسب اللغة لا فائدة
في ملاحظة استعماله فيه بحسب الشرع مع خروجه عن محل الكلام.
وكون المقصود من ذلك إفادة وضعه له في اللغة - نظرا إلى أصالة عدم النقل -
كما ترى، مضافا إلى بعده عن سياق العبارة المذكورة.
ويمكن الجواب عنه بما مر من كون مقصوده اختصاص الأمر بالوجوب في
عرف الشريعة، فيكون مشتركا بينهما عنده في كلام الشارع أيضا في المخاطبات
المتعلقة بغير الشريعة، فيكون المراد استعماله في القرآن والسنة في الوجوب
651

والندب في غير ما يتعلق بالأحكام الشرعية، ومنه يظهر وجه آخر لدفع المناقضة
التي ذكرها المصنف (رحمه الله).
وقد يجاب عنه أيضا تارة بأن ذكر استعماله فيهما في القرآن والسنة لبيان
قضاء الأصل بكونه حقيقة فيهما في الجميع، إلا أنه لزم الخروج عن مقتضى
الأصل المذكور بالنسبة إلى الندب في عرف الشارع للدليل الدال عليه فبقي
الباقي.
وأخرى بأن المراد استعماله في المعنيين في مجموع المذكورات ولو على
سبيل التوزيع فالمقصود أن استعماله في مجموع المذكورات في الوجوب والندب
دال على الاشتراك، فإن استعماله بحسب اللغة إما في المعنيين، أو أحدهما، وعلى
كل من الوجهين أما يثبت المطلوب، أو بعض منه، وكذا الحال في العرف بضميمة
أصالة عدم النقل، بل وكذا الحال بالنسبة إلى استعماله في الكتاب والسنة، إلا أنه
لما كان الاستعمال الذي يحتمل الحقيقة بالنسبة إليهما هو الوجوب دون الندب
كان الثابت به جزء المعنى خاصة، كذا ذكره المدقق المحشي (رحمه الله).
وأنت خبير ببعد الوجهين سيما الأخير فإنه مع ما فيه من التعسف الشديد
لا يفي بإثبات المقصود على كل الوجوه، إذ لو فرض استعماله في الوجوب أو
الندب بحسب اللغة وثبت استعماله فيهما بحسب العرف أو الشرع لم يتجه إثبات
الاشتراك بحسب اللغة أيضا، لأصالة تأخر الحادث وتجدد المعنى، ولا يمكن دفع
ذلك بأصالة عدم النقل، إذ لا نقل في المقام.
مضافا إلى أنه (رحمه الله) لم يتمسك فيما ذكره بالأصل المذكور ولا أشار اليه في المقام
فضم ذلك إلى الدليل المذكور خروج عن ظاهر كلامه بل صريحه كما لا يخفى.
قوله: * (بامتناع عدم الاطلاع على المتواتر ممن يبحث ويجتهد) *
كأنه أراد بذلك دفع احتمال أن يكون متواترا عند قوم دون آخرين، وذلك
لأنه إنما يتصور ذلك مع المساهلة في البحث والاجتهاد ومع عدمها تقضي العادة
بامتناع الغفلة عنه مع حصوله.
وهو كما ترى، إذ موانع العلم لا تنحصر في عدم الاطلاع على الأخبار،
652

بل قد يكون من جهة سبق الشبهة.
على أن عدم الاطلاع على بعض تلك الأخبار مما لا مانع منه بحسب العادة،
فقد يكون ذلك مكملا لعدد التواتر فلا يحصل التواتر بالنسبة اليه.
قوله: * (والجواب منع الحصر) *
يحتمل أن يريد بذلك منع حصر الدليل في العقلي والنقلي، إذ قد يكون مركبا
من الأمرين كالرجوع إلى الأمارات الدالة على الحقيقة، فإن العلم بتلك الأمارات
إنما يكون بالنقل والانتقال منها إلى المقصود بالعقل بملاحظة اللزوم بينهما.
وقد يورد عليه بإرجاع الكلام المذكور بالنسبة إلى جزئه النقلي، فإنه إما أن
يكون متواترا، أو آحادا، والأول يقضي بانتفاء الخلاف، والثاني غير كاف في
الإثبات، إذ المركب منه ومن غيره يكون ظنيا، كذا أورده في الإحكام.
ويدفعه جواز الالتزام بالأول ولا يلزم معه انتفاء الخلاف، إذ ذاك إنما يلزم
لو قلنا باكتفاء النقل فيه، وأما مع الحاجة إلى ضم العقل اليه فقد يكون ذلك نظريا
يختلف فيه الأنظار.
ويحتمل أن يريد به منع حصر الدليل النقلي في المتواتر والآحاد، لحصول
الواسطة بينهما وهو الرجوع إلى الاستقراء، إذ لا يندرج في الخبر المتواتر ولا
الآحاد، وإنكار ثبوت الواسطة بين الأمرين كما ذكره بعض الأعلام بين الفساد.
والقول بقيام الإشكال في ذلك أيضا، فإنه إن أفاد القطع فذاك إلا أن إفادة
الأدلة المذكورة له محل نظر، وإن أفاد الظن عاد الإشكال.
مدفوع بأنه لا دليل على عدم حصول العلم منه حتى يقوم شاهدا على تعين
القول بالوقف، ومجرد احتمال عدم إفادته له في بادئ الرأي لا يقضي بما ذكر،
إلا أن يقال بأن مقصود المتوقف بيان عدم علمه بالمسألة وعدم حصول القطع له
وهو لا يفتقر إلى الاستدلال وأخذ ما ذكر من المقدمات.
وقد ظهر بما قررنا ضعف ما ذكره في الإحكام حيث قال: - بعد ما أورد على
نفسه بأن ما ذكرتموه مبني على أن مدار ما نحن فيه على القطع - قلنا: نحن في هذه
المسألة غير متعرضين لنفي ولا إثبات بل نحن متوقفون فمن رام إثبات اللغة فيما
653

نحن فيه بطريق ظني أمكن أن يقال له: هل يكتفى بذلك فيما نحن فيه إذا كان
شرط إثباته القطع أم لا؟ ولا بد عند توجه التقسيم من تنزيل الكلام على الممنوع
أو المسلم، وكل واحد منهما متعذر لما سبق، انتهى.
فإن من الظاهر أن من يقول بحجية الظن فلا بد أن ينتهي حجية ذلك الظن
عنده إلى اليقين، لوضوح عدم حجية الظن في نفسه في شئ من الموضوعات
والأحكام، وقضية ما ذكره عدم نهوض دليل قاطع عنده على حجية الظن هنا،
فليس توقفه في المقام إلا من جهة عدم قيام دليل على الترجيح، لا من جهة قيام
الدليل على عدم إمكان الترجيح ليلزم البناء على الوقف.
وحينئذ فلا وجه للاستناد إلى ما ذكره من الدليل فإن مفاده إن تم هو لزوم
البناء في المقام على الوقف، لعدم إمكان الترجيح كما هو أحد الوجهين في الوقف،
وهو الذي يعد قولا في المسألة ويتوقف إثباته على إقامة الدليل، وإلا فعدم العلم
بأحد الشقين مما لا يحتاج إلى البيان وإقامة البرهان، بل أقصى ما يراد له تزييف
الأدلة المذكورة لسائر الأقوال.
قوله: * (ومرجعها إلى تتبع مظان... الخ) *
قد يكون مراده بذلك الاستقراء بملاحظة مواقع استعمال اللفظ والأمارات
الخارجية الدالة على ما يفهم من اللفظ عند الإطلاق فيستنبط به الوضع، وهو أحد
طرق إثبات الأوضاع حسب ما مر بيانه، إلا أن ذلك ليس شيئا من الوجوه
المذكورة المتقدمة.
وقد يقال: إن مراده بالأمارات الأدلة المتقدمة الدالة على كونه حقيقة في
الوجوب.
لكنك خبير بأن كلا من تلك الأدلة ظنية فهي مشاركة لما ذكره المستدل من
أخبار الآحاد في المفسدة، إلا أن يدعى قطعية بعضها، أو يقال بحصول القطع من
ضم بعضها إلى البعض، أو يكون مبنى الجواب على منع اعتبار القطع في المقام،
وحينئذ وإن لم يحتج إلى منع الحصر للاكتفاء حينئذ بنقل الآحاد، إلا أن كلامه
مبني على بيان ما هو الواقع، إذ لم يستند أحد في المقام إلى نقل الآحاد.
654

معالم الدين:
فائدة
يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة (عليهم السلام): أن
استعمال صيغة الأمر في الندب كان شايعا في عرفهم، بحيث صار من
المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند
انتفاء المرجح الخارجي، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد
ورود الأمر به منهم (عليهم السلام).
655

قوله: * (بحيث صار من المجازات الراجحة... الخ) *
المقصود صيرورة المجاز المذكور من المجازات المشهورة في عرفهم (عليهم السلام)
الراجحة على سائر المجازات بحسب الحمل، أو على الحقيقة من جهة
الاستعمالات المساوية إرادتها من اللفظ لإرادة الحقيقة عند انتفاء القرائن
الخارجية، وهو مبني على اختيار التوقف عند دوران الأمر بين المجاز المشهور
والحقيقة المرجوحة، حسبما عزي اليه اختيار ذلك كما مرت الإشارة اليه، وكأنه
استنبط ذلك من العبارة المذكورة فتكون الصفة المذكورة كاشفة.
وقد يجعل ذلك وصفا مخصصا بدعوى بلوغ الشهرة إلى الحد المذكور وعدم
تجاوزه عن تلك الدرجة، فيوافق ما حققناه في بيان الحال في المجاز المشهور،
إلا أنه غير معروف بينهم.
وكيف كان، فقد أورد عليه بأن شيوع استعماله في المعنى المذكور إن كان
بانضمام القرينة المقارنة فذلك لا يستلزم تساوي الاحتمالين في المجرد عنها، إذ
لا غلبة هناك.
وإن كان مع التجرد عن القرينة المقارنة بانكشاف المقصود من الخارج
بملاحظة القرائن المنفصلة أمكن القول بذلك، لكن إثبات شيوع استعماله على
الوجه المذكور مشكل.
قلت: لا يخفى أن شيوع استعمال اللفظ في معناه المجازي قاض برجحان
المجاز على ما كان عليه قبل الشيوع، سواء كان استعماله فيه على الوجه الأول
أو الثاني أو الملفق منهما، فكلما زاد الشيوع قوي المجاز إلى أن يبلغ حد المساواة
مع الحقيقة أو الرجحان عليه في صورة الإطلاق أيضا حملا له على الأعم
الأغلب، وذلك أمر ظاهر بعد الرجوع إلى العرف، ومجرد كون الغلبة مع انضمام
القرينة لا يقضي بعدم التردد بينه وبين المعنى الحقيقي مع الخلو عنها، نظرا إلى
اختصاص الغلبة بصورة مخصوصة فلا يسري إلى غيرها، إذ من الظاهر أن الغلبة
656

قد تنتهي إلى حد لا يلحظ معها تلك الخصوصية بل تقضي شيوع استعماله فيه
بالتردد بينه وبين المعنى الحقيقي أو غلبته عليه في صورة الإطلاق أيضا.
كيف! ومن البين أن كثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي ولو مع القرينة
قاضية بقرب ذلك المجاز إلى الأذهان ولو في حال الإطلاق فيستقرب المخاطب
إرادة ذلك المعنى حينئذ عند التفطن له وإن كان حمله على المعنى الحقيقي أقرب
عنده، وكلما قويت الشهرة والغلبة ازداد القرب المفروض، فأي مانع حينئذ من
بلوغه إلى الحد المذكور؟.
ويشهد لذلك ملاحظة غلبة الاستعمال الحاصلة في بعض الموارد الخاصة،
كما إذا استعمل المتكلم لفظا في محل خاص مرات كثيرة متعاقبة في معنى مجازي
مخصوص مع نصب قرينة على إرادة ذلك المعنى، فإذا استعمله مرة أخرى عقيب
تلك الاستعمالات من غير أن يقيم قرينة خاصة على إرادة ذلك المعنى كان تقدم
تلك الاستعمالات المتكثرة ولو كانت مقترنة بالقرينة باعثا على التوقف في حمل
اللفظ على الحقيقة أو صارفا له إلى المعنى المجازي، يشهد بذلك التأمل في
الاستعمالات، فجريان ذلك في الشهرة المطلقة الحاصلة بملاحظة استعماله فيه في
الموارد المتكثرة أولى.
فالقول بعدم قضاء غلبة الاستعمال في المعنى المجازي مع القرينة بالتوقف
في فهم المراد مع انتفائها غير متجه.
نعم، غاية الأمر أن يختلف الحال في الغلبة الباعثة على التوقف في اعتبار
درجة الشيوع والكثرة، فإنه إن كان ذلك بانضمام القرينة المقارنة افتقر مقاومة
المجاز للحقيقة حال الإطلاق إلى شيوع زائد وغلبة شديدة، بخلاف ما لو شاع
استعماله فيه من دون ضم قرينة مقارنة أو كان الشيوع الحاصل فيه بانضمام
القرينة تارة وعدمه أخرى، فإنه لا يتوقف الوقف بين المعنيين حينئذ مع الإطلاق
إلى اعتبار تلك الدرجة من الغلبة والشهرة المدعاة في كلام المصنف دائرة بين
657

الوجوه الثلاثة، وأيا ما كان يمكن بلوغها إلى الحد المذكور وإن اختلفت درجات
الشهرة بحسب اختلاف الوجوه المذكورة، فظهر بذلك اندفاع الإيراد المذكور.
وأبين منه في الاندفاع ما في كلام الفاضل المدقق من إلحاق الدليل المنفصل
القاضي بإرادة الندب بالقرينة المتصلة، حيث جعل دلالة أحد الحديثين
المتعارضين في الظاهر على كون المراد من الآخر معناه المجازي من قبيل
القرائن المتصلة القائمة على ذلك في عدم البعث على صرف اللفظ اليه أو الوقف
بينه وبين الحقيقة مع حصول الشيوع والغلبة.
وأنت خبير بأنه مع البناء على ذلك يلزم امتناع حصول المجاز المشهور، بل
النقل الحاصل من الغلبة، ضرورة أن استعمال اللفظ في المعنى المجازي إنما يكون
مع القرينة المتصلة أو المنفصلة، إذ بدونها لا يحمل اللفظ إلا على معناه الحقيقي،
والمفروض أن الغلبة الحاصلة بأي من الوجهين المذكورين لا يقضي بمساواة
المجاز للحقيقة أو ترجيحه عليها ولو بملاحظة تلك الشهرة، فكيف يحصل المجاز
المشهور أو النقل على الوجه المذكور؟
هذا، وأما البناء على الاستحباب من جهة ضعف الرواية وقصورها عن إثبات
الوجوب للتسامح في أدلة السنن فمما لا ربط له بالمقام، وكذا حمل الرواية على
الندب عند التعارض بمجرد ترجيح إعمال الدليلين على طرح أحدهما من غير أن
يحصل هناك فهم عرفي يقضي بذلك - كما ذهب اليه البعض - فذكر ذلك في المقام
ليس على ما ينبغي، لوضوح خروجه عن محل الكلام، إذ ليس شئ من ذلك
قرينة متصلة ولا منفصلة على إرادة الندب من اللفظ، والمفروض في كلام
المصنف (رحمه الله) شيوع استعمال الأوامر في الندب وأين ذلك مما ذكر؟.
ثم إنه قد وافق المصنف (رحمه الله) في الدعوى المذكورة جماعة من أجلة
المتأخرين كصاحب المدارك والذخيرة والمشارق لكن لا يخفى أن الدعوى
المذكورة لا بينة ولا مبينة، ومجرد حصول الغلبة في الجملة على فرض تحققها
لا يقضي بذلك.
658

وتوضيح المقام: أن المعتبر من الغلبة الباعثة على الوقف أو الصرف هو ما إذا
كانت قاضية بفهم المعنى المجازي مع الإطلاق وكونه في درجة الظهور مكافئة
للمعنى الحقيقي حتى يتردد الذهن بينهما أو يكون راجحا على معناه الحقيقي،
وحصول ذلك في أخبارهم (عليهم السلام) غير ظاهر، بل من الظاهر خلافه، إذ الظاهر أن
الأوامر الواردة عنهم (عليهم السلام) على نحو سائر الأوامر الواقعة في العرف والعادة
والمفهوم منها في كلامهم هو المفهوم منها في العرف.
ويشهد له ملاحظة الاجماع المذكور في كلام السيد وغيره، فإنه يشمل كلام
الأئمة (عليهم السلام) أيضا، وملاحظة طريقة العلماء في حمل الأوامر على الوجوب كافية
في ذلك.
ولم نجد الدعوى المذكورة في كلام أحد من متقدمي الأصحاب مع قرب
عهدهم ووفور إطلاعهم، بل لم نجد ذلك في كلام أحد ممن تقدم على المصنف،
ولو تحققت الغلبة المذكورة لكان أولئك أولى بمعرفتها.
فاتفاقهم على حملها على الوجوب كاشف عن فساد تلك الدعوى، بل في
بعض الأخبار الواردة عنهم (عليهم السلام) دلالة على خلاف ذلك حسب ما مرت
الإشارة اليه.
ومع الغض عن ذلك فالشهرة المدعاة إما بالنسبة إلى أعصارهم (عليهم السلام) ليكون
اللفظ مجازا مشهورا في الندب عند أهل العرف في تلك الأزمنة، أو بالنسبة إلى
خصوص الأوامر الواردة عنهم (عليهم السلام) فيكون مجازا مشهورا في خصوص
ألسنتهم (عليهم السلام) دون غيرهم.
وعلى الثاني فإما أن تكون الشهرة حاصلة بملاحظة مجموع أخبارهم
المأثورة عنهم (عليهم السلام)، أو بملاحظة الأخبار المروية عن بعضهم، أو بالنسبة إلى كلام
كل واحد منهم ليكون الاشتهار حاصلا في كلام كل منهم استقلالا.
فإن تم الوجه الأول وظهر حصول الاشتهار على ذلك الوجه في عهد أي
659

منهم (عليهم السلام) تفرع عليه الثمرة المذكورة في الأخبار الواردة بعد تحقق تلك الشهرة،
إلا أن دعوى الشهرة المذكورة بعيدة جدا، ولم يدعه المصنف أيضا، ومع ذلك
فليس التأريخ فيه معلوما.
وعلى الوجه الثاني فالشهرة المدعاة لا تثمر شيئا بالنسبة إلى أخبارهم (عليهم السلام)،
إذ من البين أن ذلك لو أثر فإنما يؤثر بالنسبة إلى ما بعد حصول الاشتهار وأما
بالنسبة إلى تلك الأخبار الباعثة على حصول الاشتهار فلا.
وعلى الوجه الثالث لا إشكال في الأوامر الواردة عمن تقدم على من حصل
الاشتهار في كلامه، بل وكذا بالنسبة إلى من تأخر عنه، إذ المفروض عدم تحقق
الشهرة العرفية وإنما الشهرة المفروضة شهرة خاصة بمتكلم مخصوص، ومن البين
أن الشهرة الحاصلة في كلام شخص خاص لا يقضي بجري حكمها في كلام غيره
مع عدم تحققها بالنسبة اليه.
وكونهم (عليهم السلام) بمنزلة شخص واحد وأن كلام آخرهم بمنزلة كلام أولهم مما
لا ربط له بالمقام، فإن ذلك إنما هو في بيان الشرائع والأحكام دون مباحث
الألفاظ وخصوصيات الاستعمالات.
بل وكذا بالنسبة إلى الأوامر الصادرة عمن حصل الاشتهار في كلامه إذا استند
الشهرة إلى مجموع الاستعمالات الحاصلة منه، إذ لا توقف حينئذ في نفس تلك
الاستعمالات التي يتحقق بها الاشتهار حسب ما عرفت.
نعم يثمر ذلك في كلامه لو صدر بعد تحقق الاشتهار المفروض إن تبين تأريخ
الغلبة.
وقد يسري الإشكال في جميع الأخبار المأثورة عنه (عليه السلام) مع جهالة التأريخ
أيضا، إلا أن يقال بأصالة تأخر الشهرة إلى آخر أزمنته (عليه السلام) مع الظن بورود معظم
الأخبار المروية عنه قبل ذلك، فيلحق المشكوك بالغالب.
ويجري التفصيل المذكور أخيرا على الوجه الرابع أيضا، ودعوى الشهرة
660

على هذا الوجه غير ظاهرة من عبارة المصنف، ولا من الأخبار المأثورة حسب
ما استند إليها، فإن أقصى ما يستظهر في المقام حصول الشهرة في الجملة بملاحظة
مجموع الأخبار المأثورة.
فظهر بما قررناه أن ما ادعاه من الشهرة على فرض صحته لا يتفرع عليه ما
ذكره من الإشكال، إلا على بعض الوجوه الضعيفة.
هذا، وقد أورد عليه أيضا بأن المجاز الراجح إنما يكون راجحا مع قطع النظر
عن الوضع وأما معه فمساواته للحقيقة ممنوعة، إلا إذا غلب استعماله في المعنى
الآخر بحيث اندرج في الحقيقة العرفية، وأنى له بإثباته مع أنه لا يدعيه؟.
وفيه: أن كلام المصنف (رحمه الله) هنا مبني على التوقف في الحمل عند دوران الأمر
بين الحمل على الحقية المرجوحة والمجاز الراجح وهو مسألة أخرى مقررة في
محله، فمنعه في المقام غير هادم لما هو بصدده من الكلام.
على أن ترجيح الحقيقة المرجوحة مطلقا مما لا وجه له حسب ما مر تفصيل
القول فيه في محله.
هذا، ولنعقب الكلام في المرام برسم مسائل يناسب إيرادها في المقام:
أحدها
أنهم اختلفوا في دلالة الجمل الخبرية المستعملة في الطلب نحو " يتوضأ "
و " يغتسل " و " يعيد " في مقام يراد بها ليتوضأ وليغتسل وليعد على الوجوب لو قلنا
بدلالة الأمر عليه.
فعن جماعة من الأصحاب المنع من دلالتها على ذلك، نظرا إلى كونها
موضوعة للإخبار، وقد تعذر حملها عليه فيتعين استعمالها في الانشاء مجازا،
وكما يصح استعمالها في إنشاء الوجوب كذا يصح استعمالها في إنشاء الندب أو
مطلق الطلب، فإذا تعذرت الحقيقة وتعددت المجازات لزم الوقف بينهما وقضية
ذلك ثبوت المعنى المشترك، وهو مطلق الرجحان والثابت به هو الاستحباب بعد
661

ضم الأصل اليه، فلا يصح الاستناد إليها في إثبات الوجوب إلا بعد قيام قرينة دالة
عليه، هذا فيما يجري فيه أصل البراءة، وأما إذا كان ذلك في مقام جريان أصل
الاحتياط فلا بد من البناء فيه على الوجوب.
والأظهر وفاقا لآخرين دلالتها على الوجوب، لاستعمالها إذن في الطلب،
والطلب كما عرفت ظاهر مع الإطلاق في الوجوب منصرف اليه إلى أن يتبين
خلافه حسب ما مر تفصيل القول فيه، فالحال فيها كالحال في صيغة الأمر من غير
تفاوت أصلا، ولذا يتبادر منها الوجوب عند قيام القرينة على استعمالها في
الطلب، وعليه يجري الأفهام العرفية كما هو الحال في الصيغة حسب ما مر.
ويعضده ملاحظة فهم الأصحاب واستنادهم إلى تلك الجمل في إثبات
الوجوب في مقامات شتى.
وبذلك يظهر ضعف ما ذكر في الاحتجاج المتقدم من تعادل الوجهين ولزوم
الرجوع إلى الأصل بعد التوقف بين الأمرين.
وقد يحتج له أيضا بأن الوجوب أقرب إلى الثبوت الذي هو مدلول الأخبار
وإذا تعذرت الحقيقة قدم أقرب المجازات، بل ربما يقال بكون دلالتها على
الاهتمام بالطلب آكد من دلالة الأمر عليه وفي كلام أهل البيان: أن البلغاء
يقيمونها مقام الانشاء ليحملوا المخاطب بآكد وجه على أداء مطلوبهم، كما إذا
قلت لصاحبك الذي لا يريد تكذيبك: " تأتيني غدا " لتحمله على الالتزام بالإتيان
لئلا يوهم تركه له تكذيبك فيما ذكرت حيث أتيت بصورة الإخبار.
وأنت خبير بأن بلوغ الأقربية في المقام إلى حد يتعين به المجاز المذكور غير
ظاهر حتى يجعل مجرد تلك الأقربية باعثة على الانصراف إلى الوجوب، والنكتة
المذكورة إنما يناسب بعض المقامات العرفية وجريانها في مقام الخطابات
الشرعية لا يخلو عن تأمل وإن كان قد يتوهم كونها أنسب بالمقام، إلا أن التأمل
في تلك المقامات يعطي خلاف ذلك كما يشهد به الذوق السليم.
662

فالأولى جعل الوجه المذكور مؤيدا في المقام، ويكون الاتكال فيه على
ما قررناه.
ويجري الكلام المذكور بعينه في النفي الوارد بمعنى النهي، فإنه أيضا كالنهي
ينصرف إلى التحريم على الوجه الذي بيناه.
ثانيها
أنهم بعد القول بدلالة الأمر على الوجوب اختلفوا في مفاد الأمر الوارد عقيب
الحظر على أقوال:
أحدها: أنه يفيد الوجوب، كالوارد في سائر الموارد، وحكي القول به عن
الشيخ والمحقق والعلامة والشهيد الثاني، وجماعة من العامة منهم الرازي
والبيضاوي، وعزاه في الإحكام إلى المعتزلة.
ثانيها: القول بأنه للإباحة، حكاه جماعة عن الأكثر، ويستفاد من الإحكام
كون المراد بالإباحة في المقام هو رفع الحجر دون الإباحة الخاصة، وقد صرح
بعض الأفاضل بتفسير الإباحة هنا بمعنى الرخصة في الفعل.
ثالثها: التفصيل بين ما إذا علق الأمر بارتفاع علة النهي وما لم يعلق عليه،
فيفيد الثاني في الأول والأول في الثاني.
رابعها: أنه يفيد رجوع حكمه السابق من وجوب أو ندب أو غيرهما، فيكون
تابعا لما قبل الحظر حكاه في الوافية، وحكاه بعض الأفاضل قولا بعد تقييده بما
إذا علق الأمر بزوال علة عروض النهي.
خامسها: أنه للندب، حكاه البعض في عداد أقوال المسألة.
سادسها: الوقف، حكاه في الإحكام عن إمام الحرمين وغيره.
حجة القول الأول وجوه:
أحدها: أن الصيغة موضوعة للوجوب، فلا بد من حملها عليه حتى يتبين
المخرج عنه، ومجرد وقوعها عقيب الحظر لا يصلح صارفا لها عن ذلك، لجواز
الانتقال من الحرمة إلى الوجوب كما يجوز الانتقال منها إلى الإباحة، ولذا
663

لم يتوهم أحد مانعا من التصريح بإيجاب شئ بعد تحريمه، وقد ورد الأمر الواقع
عقيب الحظر في الشريعة وغيرها على الوجهين كما يظهر من تتبع الاستعمالات،
ولو استبعد ذلك في المقام لكان من جهة استبعاد الانتقال من أحد الضدين إلى
الآخر، وهو جار في جميع الأحكام.
ثانيها: أنه لا كلام عند القائل بكونها للوجوب أن ورودها بعد الحظر العقلي
لا ينافي حملها على الوجوب، ولذا يحمل أوامر العبادات على الوجوب إلى أن
يتبين المخرج عنه مع أنها قبل الحظر كانت محرمة من جهة البدعة فيكون الحال
كذلك في الحظر الشرعي.
ثالثها: أنه أمر الحائض والنفساء بالصلاة بعد حظرها عليهما ولم يحمله أحد
إلا على الوجوب، وكذا الحال في قوله تعالى: * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا
المشركين) * (1) وكذا في قول المولى لعبده: " اخرج من المحبس إلى المكتب "
بل لا يستفاد منها عرفا سيما في المثال الأخير ونحوها سوى الوجوب كالأوامر
الابتدائية.
وضعف الجميع ظاهر: أما الأول فلأن كون الأصل حمل الأمر على الوجوب
غير نافع بعد ملاحظة العرف في المقام، فإن فهم الوجوب منه حينئذ غير ظاهر كما
يشهد به ملاحظة كثير من الاستعمالات، ومع عدم استفادة الوجوب منه عرفا
لا يصح التمسك في الحمل عليه بمجرد الأصل إذا لم يكن هناك شاهد على إرادة
الوجوب منه، لما عرفت مرارا من دوران الأمر في مباحث الألفاظ مدار الفهم
العرفي دون مجرد الأصل التعبدي.
وربما يدعى في المقام غلبة استعماله حينئذ في غير الوجوب، فيكون الغلبة
المفروضة قرينة صارفة له عن الأصل المذكور أو قاضية بمقاومته له.
وفيه: تأمل يأتي الإشارة اليه إن شاء الله.

(1) سورة التوبة: 5.
664

والأظهر أن يقال: إن في وقوعه عقيب الحظر شهادة على عدم إرادة الوجوب
منه، فيصلح ذلك صارفا له عن الظاهر أو قاضيا بمقاومته له، ومجرد جواز
الانتقال من الحرمة إلى الوجوب لا ينافي ظهور خلافه قبل قيام الدليل عليه، وكذا
الحال في وروده في المقام للوجوب وغيره، إذ إرادة الوجوب منه لقيام القرينة
المعارضة للقرينة المفروضة لا يقضي بحمله عليه مع انتفائها.
وبالجملة: أنه يكفي في القرينة الصارفة مجرد الظهور، فلا ينافيها جواز
التصريح بخلافها ولا قيام قرينة تعارضها وتترجح عليها.
ودعوى حصول التضاد بين جميع الأحكام فكما يستبعد الانتقال إلى
الوجوب كذا يستبعد الانتقال إلى غيره مدفوعة، بأنه ليس الاستبعاد الحاصل في
المقام لمجرد التضاد بين الحكمين، بل من جهة غاية التضاد الحاصل بينهما
ووقوعهما في الطرفين، وهو غير حاصل فيما عدا الوجوب والتحريم.
وأما الثاني فبالفرق الظاهر بين الحظر العقلي من جهة البدعية وغيرها،
والحظر المصرح به في كلام الشارع، فإن المنع هناك إنما يجئ لعدم أمر الشارع
به وإذنه في الإتيان به فلا يزاحمه الأمر بالفعل بوجه من الوجوه، بخلاف المقام،
لوضوح غاية المباينة بين الحكم بتحريم الإتيان بالشئ والحكم بوجوبه، فلا
يلتزم به إلا مع قيام دليل واضح عليه، وأما مجرد الأمر به فلا يكفي في الدلالة
عليه لكثرة إطلاق الأمر في غير مقام الإيجاب، فيكون الاستبعاد المذكور قرينة
على حمله على غير الوجوب حسب ما مرت الإشارة اليه، مع أن عمدة المستند
في المقام هو الرجوع إلى فهم العرف، والفرق بين المقامين ظاهر بعد الرجوع اليه.
وأما الثالث فلأن حمل عدة من الأوامر على الوجوب من جهة قيام الاجماع
عليه أو لشواهد اخر مرشدة اليه لا يفيد ظهور الأمر حينئذ في الوجوب مع قطع
النظر عن تلك القرائن المعارضة لورود الأمر عقيب الحظر.
وأما دعوى انصراف قوله: " اخرج من المحبس إلى المكتب " إلى الوجوب
فلعله بضميمة المقام، فإنه نظير اخرج من هذا المحبس إلى محبس آخر، إذ لا يقال
665

ذلك غالبا في مقام رفع الحجر، فخصوصية المثال قاضية بخلاف ما يقتضيه ظاهر
الأمر المتعلق بالفعل بعد المنع منه.
وقد يقال بخروج أمر الحائض بالصلاة والصيام بعد ارتفاع الحيض عما
نحن فيه، وكذا الأمر بالجهاد بعد انقضاء أشهر الحرم حسب ما يأتي الإشارة اليه
إن شاء الله.
هذا، وقد يجاب عن المثال المتقدم بأن المنهي عنه هناك غير ما تعلق الأمر
به، فإن المنهي عنه هو الخروج عن المحبس من حيث إنه خروج عنه والمأمور به
هو الذهاب إلى المكتب ولم يكن ذلك منهيا عنه بذلك العنوان حتى يكون الأمر به
بعد الحظر ليندرج في محل الكلام.
وفيه: أنه إذا تعلق النهي بالخروج عن المحبس يشمل ذلك جميع أفراد
الخروج الذي من جملتها الخروج إلى المكتب، وإذا كان ذلك مما نهي عنه وقد
فرض تعلق الأمر به بعد ذلك كان مندرجا في موضع النزاع.
ويدفعه أنه إنما تعلق النهي به من حيث كونه خروجا لا من حيث كونه ذهابا
إلى المكتب، وهما متغايران حقيقة وإن كان أحدهما ملازما للآخر، والمأمور به
إنما هو الثاني دون الأول.
نعم، إن عمم النزاع بحيث يشمل الأمر المتعلق بأحد المتلازمين بعد تعلق
النهي بالآخر تم ما ذكر، إلا أنه غير ظاهر الاندراج في موضع النزاع، وفهم العرف
غير مساعد هنا حسب ما ادعوه هناك.
وفيه: أنه إن أريد بذلك تغايرهما بحسب المفهوم وإن اتحدا في المصداق
فذلك غير قاض بخروجه عن موضع النزاع، وإن أريد تغايرهما بحسب المصداق
وإن تلازما في الوجود فالحال فيه على ما ذكر إلا أنه ليس المفروض في المقام
من هذا القبيل، ضرورة كون المأمور به من أفراد المنهي عنه ومصاديقه بحسب
الخارج بل مفهوم المأمور به هو المنهي عنه مقيدا بالقيد المفروض.
هذا، والظاهر أن حجج سائر الأقوال المذكورة الرجوع إلى فهم العرف، فكل
666

يدعي استفادة ما ذهب اليه من ملاحظة الاستعمالات غير أن القائل بدلالته على
رجوع الحكم السابق إنما بني على دلالة اللفظ على ارتفاع الحكم الطارئ فبعد
ارتفاعه يعود الأول لزوال المانع من ثبوته، أخذا بمقتضى الدليل القاضي بثبوته،
والقائل بالوقف يرى التعادل بين ما يقتضي حمله على الوجوب وما يفيد حمله
على غيره، وقد عرفت أن قرينة المجاز قد يقاوم الظن الحاصل من الوضع فيتردد
الذهن بين المعنى الحقيقي والمجازي، فلا يصح الرجوع إلى أصالة تقديم الحقيقة
على المجاز، لما مر من ابتناء الأصل المذكور على الظن دون التعبد المحض.
وقد يدعى استناد صرف الأمر عرفا عن إفادة الوجوب في المقام إلى غلبة
استعماله حينئذ في الإباحة، فتكون تلك الغلبة باعثة على فهم الإباحة فيبنى الأمر
حينئذ على تقديم المجاز الراجح على الحقيقة المرجوحة.
وقد يجعل ذلك وجها للتوقف، نظرا إلى اختيار القول بالوقف عند دوران
الأمر بين المجاز الراجح والحقيقة المرجوحة.
وفيه: أن فهم الإباحة في المقام إنما يكون من الجهة التي أشرنا إليها دون
مجرد الشهرة، كيف! واشتهار استعماله فيها في المقام بحيث يبعث على الصرف
أو الوقف غير ظاهر، واستناد الفهم اليه غير متجه أيضا وإن ادعاه صاحب
الإحكام في ظاهر كلامه، ويشهد له حصول الفهم المذكور مع الغض عن الشهرة
بل قبل حصول الاشتهار لو سلمت في المقام.
وكيف كان، فالذي يقتضيه التأمل في المرام أن يقال: إن ورود الأمر عقيب
الحظر قرينة ظاهرة في كون المراد بالأمر الإذن في الفعل، فمفاده رفع الحظر
من غير دلالة فيه بنفسه على ما يزيد على ذلك من وجوب الفعل أو ندبه أو إباحته،
حسب ما يشهد به التأمل في الاستعمالات كما مرت الإشارة اليه، فتلك
الخصوصيات إنما تستفاد من الخارج أو من ملاحظة خصوصية المقام لاختلاف
الحال فيه بحسب اختلاف المقامات فإن ما ذكر جهة عامة قاضية بذلك، وقد
يكون في المقام جهة أخرى يعاضدها أو يعارضها فلا بد في معرفة مفاد اللفظ
من ملاحظة الجميع.
667

ولنفصل الكلام فيه ببيان الحال في عدة من المقامات، فنقول: إن ما يتعلق به
الأمر المفروض قد يكون عين ما تعلق النهي به، وقد يكون جزئيا من جزئياته.
وعلى كل من الوجهين إما أن يكون ما تعلق الأمر به مما يريده المكلف
ويرغب اليه، أو لا يكون كذلك بل يكون تركه أرغب للنفس كالجهاد في الغالب،
وعلى كل حال فإما أن يكون المنع المتعلق بالفعل عاما لسائر الأفراد والأحوال
فيرد الأمر المفروض عليه ويكون رافعا لحكم المنع بالنسبة إلى ما تعلق به،
أو يكون الحكم بالحظر مخصوصا بالحال الأول أو بفرد مخصوص من غير أن
يشمل الحال أو الفرد الذي امر به، ومنه النهي المتعلق بالجهاد في الأشهر الحرم
والأمر المتعلق به بعد ذلك.
ويمكن أن يقال بخروج الوجه الأخير عن موضع المسألة.
ثم إما أن يكون حكمه الثابت له قبل الحظر هو الوجوب، أو الندب، أو الإباحة،
أو الكراهة، أو مما لم يصرح بحكمه في الشرع ويكون باقيا على مقتضى حكم
العقل فيه، وعلى غير الوجه الأخير فإما أن يكون ثبوت ذلك الحكم له في الشرع
على وجه الإطلاق بالنسبة إلى الأزمان والأحوال والأفراد أو على سبيل الشمول
للجميع فيندرج فيه الحال أو الفرد الذي تعلق الأمر به مع شمول الحظر الوارد عليه
لما تعلق الأمر به بعده وعدمه، أو لا يكون كذلك بل يختص بالحال السابق
أو خصوص بعض الأفراد مما عدا ما تعلق النهي أو الأمر به بعد ذلك مع ورود
أحدهما على مورد الآخر وعدمه.
وأنت خبير باختلاف فهم العرف حسب اختلاف تلك المقامات ففي بعضها
لا يستفاد من الأمر إلا الإذن في الفعل ورفع الحظر الحاصل مع اختلاف الفهم
وضوحا وخفاء بحسب اختلاف بعض الأحوال المذكورة وغيرها، وفي بعضها
يستفاد منه الوجوب مع اختلاف الحال فيه أيضا، وفي بعضها يؤخذ بالحكم
السابق، وفي بعضها يتوقف عن الحكم ولا يظهر منه أحد الوجوه.
ولا يبعد خروج بعض تلك الصور عن محل الكلام، وملاحظة التفاصيل
668

المذكورة في بيان مفاد اللفظ لا يناسب أنظار أرباب الأصول، إذ الملحوظ فيه
القواعد الكلية الإجمالية دون التفاصيل الحاصلة في المقامات الخاصة.
فالأنسب بالمقام هو ما ذكرناه أولا من أن الأمر بالشئ بعد النهي عنه
هل يكون في نفسه جهة باعثة على صرف الأمر عن معناه الظاهر أو لا، والأظهر
فيه ما عرفت، فتأمل.
هذا، وينبغي التنبيه لأمور:
الأول: أن الكلام في المقام إنما هو في مفاد الأمر عرفا من جهة الوقوع عقيب
الحظر لا فيما وضع اللفظ بإزائه بحسب اللغة أو العرف، إذ لا وجه لاختلاف
الموضوع له بحسب اختلاف المقامات كما يظهر من ملاحظة أوضاع سائر
الألفاظ، إذ لا تعدد في أوضاعها في الغالب على حسب اختلاف مواردها بل
لا يكاد يوجد لفظ يكون الحال فيه على الوجه المذكور، فالملحوظ بالبحث
في المقام أن الوقوع بعد الحظر هل هو قرينة صارفة له على الظاهر، أو أنه لا دلالة
فيه على ذلك، أو أنه قاض بالوقف.
وربما يتوهم من عناوينهم كون البحث في المقام في موضوع الصيغة وليس
الحال كذلك، إذ عنوانهم للبحث بما ذكروه وتعبيرهم عن الأقوال بأنه للإباحة
أو غيرها أعم من كونه موضوعا لذلك، فإن اختصاص اللفظ بالمعنى كما يكون من
جهة الوضع له كذا قد يكون من جهة الظهور الحاصل بملاحظة المقام نظرا إلى
القرائن العامة القائمة عليه، مضافا إلى أن ما ذكرناه من وضوح فساد دعوى
الوضع في المقام أقوى شاهد على عدم إرادته هنا.
نعم، يظهر من السيد العميدي (رحمه الله) منعه كون الأمر مطلقا موضوعا للوجوب
بل الموضوع له هو الأمر المبتدأ دون الوارد عقيب الحظر، وهو إن حمل على
ظاهره موهون جدا كما عرفت، وربما ينزل عبارته أيضا على ما ذكرناه.
الثاني: أن المذكور في كثير من كتب الأصول فرض المسألة في وقوع الأمر
عقيب الحظر، والظاهر من ذلك وقوعه بعد الحظر المحقق دون المحتمل.
669

لكن لا يبعد جريان الكلام في وقوع الأمر بعد ظن الحظر بل في مقام توهمه
كما لو وقع السؤال عن جواز الفعل فورد في الجواب الأمر به، يشهد بذلك فهم
العرف، وقد نبه على ذلك غير واحد من المتأخرين.
الثالث: لو وقع الأمر بالشئ بعد الكراهة فهل الحال فيه الواقع عقيب الحظر
وجهان، ويجري ذلك في الوارد عقيب ظن الكراهة وتوهمه كما لو سئل عن كراهة
الشئ ومرجوحيته فورد الجواب بالأمر به.
الرابع: يجري الكلام المذكور في ورود النهي عن الشئ عقيب وجوبه، بأنه
هل يراد به ما يراد بالنهي الابتدائي، أو يكون ذلك قرينة على إرادة رفع الوجوب،
أو يتوقف بين الأمرين.
ويحكى عن البعض الفرق بين الأمر الوارد عقيب الحظر والنهي الوارد عقيب
الإيجاب، فقال بأن الثاني يفيد التحريم بخلاف الأول فإنه لا يستفاد منه الوجوب
واستند في الفرق بين الأمرين إلى وجهين واهيين.
أحدهما: أن النهي إنما يقتضي الترك، وهو موافق للأصل بخلاف الأمر،
لقضائه بالإتيان بالفعل، وهو خلاف الأصل، فحمل الأول على التحريم لإيجابه
ما يوافق الأصل لا يقضي بحمل الثاني على الوجوب مع إيجابه ما يخالفه.
والآخر: أن النواهي إنما تتعلق بالمكلفين لدفع المفاسد بخلاف الأوامر، فإنها
لجلب المنافع واعتناء الشارع بدفع المفاسد أكثر من جلب المنافع فما يكتفى به
في صرف غير الأهم لا يلزم أن يكتفى به في صرف الأهم.
ثالثها
قد عرفت أن الأمر حقيقة في مطلق الطلب وأن الظاهر من الطلب مع الإطلاق
هو الطلب الحتمي الإيجابي، فيكون انصراف الأمر إلى الوجوب لظهوره من
الإطلاق لا لكون الصيغة حقيقة فيه بخصوصه كما ظن في المشهور، وحينئذ نقول:
إنه كما ينصرف الأمر حين الإطلاق إلى الوجوب كذا ينصرف إلى الوجوب
النفسي المطلق العيني التعييني، فكون الوجوب غيريا أو مشروطا أو كفائيا
670

أو تخييريا يتوقف على قيام الدليل عليه كتوقف حمل الطلب على الندب على
قيام قرينة عليه، وانصراف إطلاق الأمر إلى ما ذكرناه سواء قلنا بكونه حقيقة
في الطلب - كما هو المختار - أو حقيقة في الوجوب - كما هو المشهور - مما
لا مجال للريب فيه.
أما بالنسبة إلى انصرافه إلى العيني التعييني فظاهر، لوضوح توقف قيام فعل
الغير مقام فعل المكلف، وكذا قيام فعل آخر مقام ذلك الفعل على ورود الدليل.
وأما انصرافه إلى الواجب المطلق دون المشروط فظاهر إطلاق اللفظ كاف
في إفادته لتقيد الوجوب في الواجب المشروط بحصول الشرط، فلا يحكم به
إلا بعد ثبوت التقييد.
وعن السيد المرتضى (رضي الله عنه) إنكار ذلك، فيتوقف حمله على أحد الوجهين على
قيام الدليل عليه، وهو إن حمل على ظاهر ما يتراءى منه ضعيف، وقد ينزل كلامه
على ما لا يخالف ما قررناه، وسيجئ تفصيل القول فيه عند تعرض المصنف
إن شاء الله.
وأما انصرافه إلى الواجب النفسي فيمكن الاستناد فيه إلى وجهين:
أحدهما: أن ذلك هو المنساق عرفا من الإطلاق، فإن ظاهر الأمر بشئ أن
يكون ذلك الشئ هو المطلوب عند الآمر حتى يقوم دليل على خلافه، كما يشهد
به ملاحظة الاستعمالات فذلك هو المتبع إلا أن يظهر من المقام كون الطلب المتعلق
به من جهة حصول مطلوب آخر بحيث يترجح ذلك على الظهور المذكور أو
يساويه، فيحكم بمقتضى الثاني في الأول، ويتوقف بينهما على الثاني.
ثانيهما: أن الوجوب الغيري إنما يدور حصوله مدار ذلك الغير فيتقيد وجوبه
إذن بوجوب الغير، وقد عرفت أن تقييد الوجوب خلاف الأصل، لقضاء ظاهر
الإطلاق بإطلاق الوجوب.
نعم، إن ظهر التقييد من المقام أو من الخارج كان متبعا، وهو أمر آخر.
مضافا إلى أن القول بوجوب ذلك الغير أيضا مخالف للأصل فلا وجه للالتزام
671

به من غير قيام دليل عليه. نعم إن ثبت وجوب ذلك الغير تعين الرجوع إلى
الأصل الأول.
وقد يستظهر من جماعة من المتأخرين كالشهيدين والمحقق الكركي
المناقشة في الأصل المذكور، نظرا إلى كثرة استعمال الأمر في الوجوب الغيري
بحيث يكافئ ذلك ما ذكر من الظهور، وربما يدعى بلوغه إلى حد الحقيقة العرفية
كما قد يستفاد من كلام الشهيد (رحمه الله)، والظاهر أنه لم يرد به هجر الأول، لظهور
دوران الوجوب النفسي في الاستعمالات أيضا بل مقصوده على فرض حمل
كلامه على ذلك مكافأته للوجه الأول، لا ترجيحه عليه.
وكيف كان، فالظاهر وهن ما ذكر من الإشكال، إذ حصول الغلبة المذكورة
في محل المنع بل الظاهر خلافه.
نعم، لو قام الدليل من الخارج على كون شئ واجبا لغيره أمكن القول بكونه
شاهدا على حمل إطلاق الأمر المتعلق به على ذلك أيضا وإن لم يكن هناك منافاة
بين وجوبه على الوجهين، إلا أن ذلك بعيد.
وما ادعي من الغلبة قد يتم في المقام، إذ قد يقال بكون الغالب في الواجبات
الغيرية عدم وجوبها لنفسها، مضافا إلى أصالة عدم وجوبه على الوجهين.
إلا أن بلوغ الغلبة المذكورة على فرض تسليمها إلى حد يفيد المظنة محل
نظر، ومجرد الأصل لا يزاحم ظاهر اللفظ.
نعم، قد يدعى في المقام فهم العرف، ألا ترى أنه لو قيل تارة: " إذا أحدثت
فتوضأ " وقيل أخرى: " إذا أحدثت فتوضأ لأجل الصلاة " فهم منه كون المقصود
بالوجوب المدلول عليه بالكلام الأول أيضا ذلك، إلا أن جريان الفهم المذكور في
سائر الموارد مما ورد فيه إطلاق الأمر وثبت الوجوب الغيري أيضا من الاجماع
أو غيره غير ظاهر.
والمتجه أن يقال: إنه مع حصول الفهم في المقام كما في المثال المذكور ونحوه
لا كلام، ومع عدمه فإن ثبت هناك من الجهات العامة أو الخاصة ولو من جهة فهم
672

الأصحاب ما يزاحم الظهور المذكور بحيث يجعله ظاهرا في الغيري فلا إشكال
أيضا، ولو قضى ذلك بتكافؤ الاحتمالين وحصول التردد بين الوجهين اتجه الوقف
ولا يثبت معه إلا الوجوب الغيري، ولا اتجه الأخذ بظاهر اللفظ إلا أن يثبت خلافه
من الخارج.
هذا، وقد تلخص مما فصلناه ظهور الأمر حين الإطلاق في الوجوب بالوجه
الذي قررناه، والرجوع إلى المتبادر منه في الاستعمالات وملاحظة المفهوم من
الإطلاقات كاف في إثبات ذلك على نحو انصراف الصيغة حين الإطلاق إلى
الوجوب، وهذا التبادر بناء على المختار من قبيل التبادر الإطلاقي في المقامين.
وأما على مختار القوم فمع البناء على كونه حقيقة في مطلق الوجوب الشامل
لجميع الأقسام - كما هو الظاهر من إطلاقهم في المقام - يكون التبادر الحاصل
بالنسبة اليه وضعيا، ويكون انصرافه إلى القسم المذكور حاصلا بالتبادر الإطلاقي.
وحينئذ يشكل الحال بأن التبادر الحاصل في المقام على نحو واحد، فالفرق
بينهما على الوجه المذكور غير متجه.
فإما أن يقال بكونه إطلاقيا في المقامين ويسقط بذلك ما هو عمدة مستندهم
للقول بكونه حقيقة في الوجوب، لاتكالهم فيه على التبادر وفهم العرف، أو يقال
بكونه وضعيا مستندا إلى الوضع فيهما.
فلا بد من القول بكونه حقيقة في خصوص الوجوب الموصوف دون غيره من
سائر أقسامه، بل الظاهر أن الحاصل في المقام تبادر واحد، فإن كان إطلاقيا لم
يصح الاستناد اليه في إثبات الوضع والا ثبت به الوضع لخصوص ما يتبادر من
اللفظ، وقد مر التنبيه على ذلك.
ومن هنا قد يتخيل في المقام كون الأمر حقيقة في خصوص الوجوب العيني
دون التخييري.
وظاهر كلام بعضهم إسناد القول بذلك إلى جماعة من المتأخرين منهم
السيوري في كنز العرفان والمحقق الأردبيلي والمصنف والمحقق الخونساري وإن
673

كان المنقول من كلامهم في المقام غير واف (1) بذلك.
والمحكي عن جماعة آخرين كونه حقيقة في الأعم من الأمرين.
وقد ذكر للجانبين حجج معظمها في غاية الوهن، ويجري الوجهان
المذكوران فيما سوى الوجوب التخييري من سائر أقسام الوجوب مما لا ينصرف
اليه الإطلاق.
وبعدما عرفت ما هو الحق في المقام لا حاجة إلى إطالة الكلام في المرام.
هذا، وما ذكرناه من الانصراف كما يجري في صيغة الأمر وما بمعناه كذا
يجري في لفظ " الوجوب " وما يؤدي مؤداه إذا تعلق بفعل من الأفعال.
وأما إذا ثبت وجوب شئ بالعقل أو الاجماع ودار بين وجهين أو وجوه من
المذكورات فالظاهر البناء على الوقف، إذ لا ترجيح لأحد الوجوه في حد ذاته،
ولا إطلاق حينئذ ليؤخذ بمقتضاه، ويرجع حينئذ في العمل إلى الأصول الفقهية.
فمع الدوران بين الوجوب التعييني والتخييري يؤخذ بالأول، لحصول اليقين
بالبراءة بأداء ذلك الفعل دون غيره، وكذا مع الدوران بين العيني والكفائي.
ومع الدوران بين الوجوب المطلق والمشروط لا يحكم بالوجوب إلا مع
حصول الشرط، وقد ينزل على ذلك ما يحكى عن السيد من القول بمكافأة
احتمالي الوجوب المطلق والمشروط عند عدم دليل على التعيين، ولا يحكم
حينئذ بالوجوب إلا مع حصول الشرط كما سيجئ الإشارة اليه إن شاء الله.
ومع الدوران بين الوجوب النفسي والغيري لا يحكم بالوجوب إلا على نحو
ما يقتضيه البناء على وجوبه للغير، إذ لا إطلاق في المقام فيقتصر فيما خالف
الأصل على القدر المتيقن، لكن لا يجري عليه حكم الواجب الغيري من البناء

(1) حيث عزي إليهم القول بدلالة الأمر على الوجوب العيني بالدلالة اللفظية وأن دلالته عليه
كدلالة تعليق الحكم على الشرط على نفي الحكم عن غير المنطوق، ودلالة الأمر بالشئ
على النهي عن ضده العام، ودلالة ذلك على كون الصيغة موضوعة لخصوص الوجوب العيني
محل نظر، فتأمل. (منه (رحمه الله)).
674

على سقوطه بمجرد حصوله ولو بالإتيان به على الوجه المحرم أخذا بيقين الشغل
حتى يتبين الفراغ.
ومع الدوران بين الوجوب والندب يبنى على الثاني أخذا بأصالة عدم المنع
من الترك، وقد يتأمل في الأخذ بالأصل المذكور، وقد أشرنا اليه والى ما يزيفه.
رابعها
قد عرفت ظهور الأمر مع الإطلاق في الطلب الإيجابي المطلق النفسي العيني
التعييني، فإن لم يكن هناك قرينة على خلاف ذلك تعين الحمل عليه، وإن كان
هناك قرينة على ثبوت ما يخالف أحد القيود المذكورة تعين ذلك من غير لزوم
تجوز في اللفظ كما عرفت.
وأما إذا قامت قرينة صارفة عن انصرافه إلى الصورة المذكورة ودار الأمر في
المخالفة بين وجهين أو وجوه فهناك صور عشر للدوران الثنائي بينها:
الأول: الدوران بين الندب المطلق والوجوب المقيد، وقد يتراءى حينئذ
تساوي الاحتمالين نظرا إلى أن الأمر المطلق كما يقتضي الوجوب كذا يقتضي
الإطلاق، وكما أن حمله على الندب خلاف الأصل فكذا التزام التقييد فيه.
نعم، قد يقال - على القول بكون الأمر حقيقة في خصوص الوجوب -: إن
ذلك من الدوران بين التقييد والمجاز، ومن المقرر ترجيح التقييد نظرا إلى شيوعه
كالتخصيص بل هو أولى منه على ما مر تفصيل القول فيه في محله.
وربما يعارضه شيوع استعمال الأمر أيضا في الندب فلا يترجح التقييد على
المجاز المفروض.
ويدفعه أن بلوغ استعمال الأمر في الندب إلى حد يكافئ التقييد غير ظاهر،
بل الظاهر خلافه كما يشهد به فهم العرف.
فالظاهر بناء على المشهور تقديم الوجوب المشروط على الاستحباب
المطلق، والأظهر أيضا ذلك بناء على المختار، إذ دلالة إطلاق الطلب على
الوجوب أظهر من دلالته على الإطلاق فيقدم عليه عند التعارض، ويشهد بذلك
675

فهم العرف، وهو المحكم في أمثال ذلك، مضافا إلى أن ذلك هو الأحوط في
تحصيل البراءة والأوفق بالأصل من جهة أصالة عدم رجحان الفعل ومشروعيته
مع انتفاء الشرط المفروض.
نعم، لو كان التقييد على وجه يخالف الظاهر جدا بحيث يكون حمل الأمر
على الندب راجحا عليه أو مكافئا له لزم الحمل على الندب أو الوقف بين
الأمرين، وذلك أمر آخر لا ربط له بما هو الملحوظ في المقام.
الثاني: الدوران بين الندب النفسي والوجوب الغيري، كما إذا أمر بالوضوء من
جهة خروج المذي واحتمل إرادة الاستحباب النفسي والوجوب الغيري لأجل
الصلاة عند وجوبها، وقد يتخيل حينئذ كون الوجوب الغيري من جملة الوجوب
المقيد لتقيده بالغير وعدم حصوله إلا من جهة وجوب ذلك الغير فترجع هذه
الصورة إلى الصورة المتقدمة، فيكون من الدوران بين المجاز والتقييد، ويجري
فيه إذن ما مر.
وفيه: أن انصراف الأمر إلى الوجوب النفسي من جهة ظهور الأمر بالشئ في
كونه مطلوبا لذاته مرادا لنفسه إما لانصراف المطلق اليه كما هو المختار، أو لكونه
حقيقة فيه بخصوصه على ما هو أحد المحتملين على القول المشهور حسب ما
مرت الإشارة اليه، فيأتي الكلام فيه من غير جهة التقييد أيضا.
وحينئذ فقد يتخيل ترجيح الندب نظرا إلى أن فيه مخالفة للظاهر من جهة
واحدة بخلاف الحمل على الوجوب، فإنه قاض بتقييد الإطلاق وبالخروج عن
الظاهر المذكور، ومع الغض عن ذلك فأقصى الأمر حينئذ أن يقال بالوقف بين
الأمرين، إذ لا أقل من مقاومة الوجهين الأخيرين للوجه الأول.
وفيه: أن انصراف الأمر إلى الوجوب أقوى من انصراف الوجوب إلى
الوجوب النفسي كما يشهد به ملاحظة العرف.
أما على القول بكونه حقيقة في مطلق الوجوب فظاهر، للزوم المجاز بناء
على حمله على الندب بخلاف ما لو حمل على الوجوب الغيري ومن المقرر
676

تقديم الحقيقة على المجاز.
وأما على المختار فلكون انصرافه إلى الوجوب أقوى من انصراف الوجوب
إلى النفسي، كيف! وأقصى الأمر بناء على ترجيح الوجوب الغيري رفع اليد عن
كيفية الوجوب الظاهر من إطلاق الأمر، وأما مع ترجيح الندب فإنما يرفع اليد عن
أصل الوجوب والثاني أبعد عن الظاهر بالنسبة إلى الأول.
نعم، على القول بكون الأمر حقيقة في خصوص الوجوب النفسي مجازا في
غيره قد يشكل الحال في المقام من جهة دوران الأمر بين المجازين وزيادة
الأول بلزوم التقييد معه أيضا.
ويمكن دفعه بأن حمله على الوجوب الغيري أقرب إلى الحقيقة من الحمل
على الندب فبعد تعذر الحقيقة يتعين أقرب المجازات وإن لزم معه التزام التقييد
أيضا، إذ لا يمنع ذلك من حمله على أقرب المجازات سيما بعد شهادة فهم العرف
به، كيف! وهو الأصل في أمثال هذه المباحث وحصول الفهم المذكور بحسب
العرف مما لا يداخله ريب بعد الرجوع إلى المخاطبات العرفية، ويعضده فهم
الأصحاب وبناؤهم عليه حسب ما ادعاه بعض الأجلة في المقام.
وكأن هذا الوجه هو الأظهر في النظر، إلا أن يكون في المقام ما يرجح الحمل
على الندب أو يجعله مكافئا للحمل على الوجوب على الوجه المذكور فيحمل
على الندب أو يتوقف عن الحمل وذلك أمر آخر.
الثالث: الدوران بين الندب العيني والوجوب الكفائي، والظاهر حينئذ تقديم
الوجوب الكفائي، لما عرفت من ترجيح دلالة الأمر على الوجوب على دلالته
على سائر الخصوصيات، مضافا إلى كونه أوفق بالاحتياط، هذا على القول بكونه
حقيقة في مطلق الطلب على ما هو المختار أو كونه حقيقة في خصوص الوجوب
العيني، وأما على القول بكونه حقيقة في مطلق الوجوب مجازا في الندب فالأمر
أظهر، لكونه من الدوران بين الحقيقة والمجاز.
وقد يشكل ذلك بملاحظة غلبة استعماله في الندب بالنسبة إلى إطلاقه
677

على الوجوب الكفائي فيشكل الحمل على الوجوب الكفائي سيما على أحد
الوجهين الأولين.
وفيه: أن حصول الغلبة الباعثة على الفهم غير ظاهر، بل الظاهر خلافه فالحمل
على الندب غير متجه كالتوقف بين الوجهين.
الرابع: الدوران بين الندب التعييني والوجوب التخييري ولا يبعد أيضا
ترجيح جانب الوجوب لما عرفت، ويشكل الحال فيما إذا لم يكن الفعل الآخر
الذي فرض التخيير بينهما مما ثبت شرعيته بدليل آخر لمعارضة الوجه المذكور
بأصالة عدم شرعيته ورجحانه.
وفيه: أن الأصل لا يقاوم الظاهر، فبعد ثبوت الوجوب بمقتضى الظاهر يتعين
البناء على التخيير نظرا إلى قيام الدليل عليه، وذلك كاف في إثبات شرعيته،
ومع ذلك فالأحوط في المقام هو الإتيان به دون ما يقوم مقامه.
الخامس: الدوران بين الوجوب المقيد النفسي والمطلق الغيري، وهذا الوجه
في الحقيقة مما لا يمكن تحققه، إذ كل واجب غيري يتقيد وجوبه بوجوب ذلك
الغير فهو في الحقيقة دوران بين المقيد النفسي والمقيد الغيري، إلا أنه لما لم
يتوقف تقيد الوجوب الغيري على ثبوت مقيد من الخارج بخلاف ما فرض من
الوجوب النفسي عد الوجوب فيه مطلقا، فيحتمل إذن تقديم النفسي مطلقا،
لاشتراكهما في التقييد.
ويحتمل التفصيل بين ما إذا كان وجوب ذلك الغير مطلقا أو مقيدا أيضا، فإن
كان مقيدا اتجه الوجه المذكور، وإلا احتمل ترجيح الغيري، والتوقف بين
الوجهين، والتفصيل بين ما إذا كان القيد المأخوذ في المقيد غالب الحصول وغيره
فيرجح المقيد في الأول والغيري في الثاني.
السادس والسابع: الدوران بين الوجوب المقيد والكفائي أو التخييري
المطلق، والظاهر توقف الترجيح على ملاحظة خصوص المقام، فإن كان هناك
مرجح لأحد الوجهين بني عليه، وإلا توقف بينهما ويرجع في التكليف إلى أصول
678

الفقاهة، فمع انتفاء القيد المفروض يبنى على أصالة البراءة ومع حصوله يتعين
الإتيان به دون ما احتمل التخيير بينه وبينه أخذا بيقين الفراغ بعد تيقن الاشتغال.
الثامن والتاسع: الدوران بين الوجوب الغيري والنفسي الكفائي أو التخييري،
ويحتمل أن يكون الحال فيه كالسابق فمع انتفاء الترجيح يرجع فيه إلى أصول
الفقاهة، ويحتمل ترجيح أحد الأخيرين نظرا إلى أن المرجوحية في الوجوب
الغيري من جهتين.
العاشر: الدوران بين الوجوب الكفائي والتخييري، والظاهر أنه لا ترجيح
بينهما فيرجع في العمل إلى الأصل، فإن لم يقم به غيره تعين عليه الإتيان به أخذا
بيقين البراءة بعد تيقن الاشتغال، وإن قام به غيره تخير بين الإتيان به وببدله،
لحصول اليقين بالبراءة على الوجهين، أما مع الإتيان به فظاهر، وأما مع الإتيان
ببدله فلأنه لو كان كفائيا سقط عنه الواجب بفعل الغير ولو كان تخييريا سقط بفعل
البدل، والأحوط الاقتصار على فعله إن لم يقم دليل آخر على مشروعية ما يكون
بدلا عنه على تقدير انتفاء التخيير.
وأنت بعد التأمل فيما قررناه تعرف الحال فيما لو دار الأمر بين ما يزيد على
وجهين من الوجوه المذكورة ودار الحال في المخالفة بين واحد منها أو كانت
المخالفة فيها مختلفة في الزيادة والنقيصة، كأن كان الخروج عن الأصل في
أحدهما من وجهين وفي الآخر من جهة واحدة فيبنى في الجميع على ما هو الراجح
بعد ملاحظة الوجوه المذكورة، ومع المعادلة يرجع في الحكم إلى أصول الفقاهة.
خامسها
أن قضية الأمر بعد دلالته على الوجوب بأي وجه كان من الوجوه المتقدمة
هو وجوب الإتيان بالمأمور به وأداء الفعل الذي تعلق ذلك الأمر به من غير اعتبار
أمر آخر في حصوله، إلا أن يدل دليل على اعتبار ما يزيد على ذلك، والوجه فيه
أن ظاهر الأمر هو وجوب الإتيان بما تعلقت الصيغة به فإذا حصل ذلك من
المأمور صدق الإتيان بما أوجبه الآمر، ومع حصوله يسقط الطلب لحصول متعلقه،
679

فيحصل أداء الواجب بمجرد الإتيان به من غير حاجة إلى ضم شئ آخر اليه،
فقضية الأصل إذن إذا تعلق الطلب بطبيعة اتصاف أي فرد أتى به بعد الطلب
المفروض بالوجوب وحصول الواجب به، سواء كان الإتيان به على وجه القصد
إلى ذلك الفعل وإرادته أو لا - كما إذا وقع منه على وجه الغفلة والذهول أو حال
النوم ونحوه أو اشتبه عليه وأتى به على أنه غير ما كلف به - وسواء غفل عن
التكليف المتعلق به أو لا، وسواء أتى به على قصد الامتثال أو غيره.
وقد يورد عليه بوجوه:
منها: أن متعلق الطلب وإن كان مطلق الطبيعة من غير تقييدها بشئ بمقتضى
ظاهر الأمر لكن تعلق الطلب به إنما يكون مع تفطن الفاعل به وعدم غفلته عنه
لوضوح استحالة التكليف بالفعل مع غفلة المأمور وذهوله عن ذلك الفعل وحينئذ
فقضية تعلق الطلب بالطبيعة هو الإتيان بالفعل على وجه القصد اليه فلا يكون
الصادر على سبيل الغفلة مندرجا في المأمور به وكذا إذا أتى به معتقدا كونه مغايرا
لما امر به.
ومنها: أن ظاهر ما يستفاد من الأمر في فهم العرف أن ما يتعلق الطلب به هو
ما يكون صادرا على وجه العمد دون الغفلة أو الالتباس بغيره، كما يشهد به
ملاحظة الاستعمالات فلا يندرج فيه الأفعال الصادرة على غير ذلك الوجه وإن
شملها الطبيعة المطلقة.
ومنها: أن الفعل المتعلق للطلب إنما يتصف بالوجوب من حيث كونه مأمورا
به فيتوقف وجوبه على توجه الأمر إلى الفاعل، ومن البين أن تعلقه به إنما يكون
مع علمه بالتكليف، إذ لا تكليف مع الغفلة فكون ما يأتي به أداء للواجب إنما هو
بعد علمه بالتكليف، فلو أتى به قبل ذلك ثم انكشف التكليف به لم يكن ما أتى به
واجبا حتى يسقط به ذلك التكليف فلا يكون الإتيان بالفعل أداء للمأمور به إلا بعد
تعلق العلم به.
ومنها: أن القدر اللازم مع الغض عما ذكر هو اتصاف الطبيعة المطلقة المتعلقة
680

للطلب بالوجوب الذي هو مدلول الأمر - أعني مجرد كونه مطلوبا بالطلب
الحتمي - حسب ما مر القول فيه لكن الوجوب المصطلح وهو الذي دل عليه الأمر
بالالتزام نظرا إلى ملاحظة حال الآمر بكونه ممن يجب طاعته عقلا أو شرعا على
ما هو مقصود الأصولي في البحث عن ذلك، فلا يثبت كذلك نظرا إلى قضاء
الملاحظة المذكورة بوجوب امتثال الأمر وطاعته، ومن البين أن صدق الامتثال
وتحققه يتوقف على كون أداء الفعل بقصد موافقة الأمر لا مطلقا فلا يتصف
بالوجوب إلا ما وقع على الوجه المذكور، فلا يكون الإتيان به على غير النحو
المذكور أداء للواجب ليحصل سقوط التكليف به.
والذي يقتضيه التأمل في المقام: أن مفاد الأمر هو الإتيان بالفعل على سبيل
القصد والإرادة لما ذكر من الوجهين الأولين، فلو أتى به على سبيل السهو والغفلة
أو في حالة النوم ونحوها لم يتصف ذلك الفعل بالوجوب ولم يكن أداء للمأمور به.
وما يستفاد من ظاهر كلام بعض الأفاضل من إدراج ذلك في أداء المأمور به
كما ترى، وكيف! يصح اتصاف فعل النائم والغافل بالوجوب مع وضوح عدم قابليته
لتعلق التكليف وعدم صحة إيجاب الامر لما يصدر عنه في حال الغفلة والنوم.
والقول بأن القدر المسلم من عدم تعلق التكليف بالغافل هو ما كان من أول
الأمر وأما بعد تفطنه بالتكليف وغفلته بعد ذلك وصدور الفعل منه إذن على سبيل
الذهول والغفلة فلا مانع من اندراجه في المكلف به - كما قد يستفاد من كلام
الفاضل المذكور أيضا - غير متجه، ضرورة أن السبب الباعث على عدم تعلق
التكليف به من أول الأمر قاض بعدم تعلقه به بعد ذلك من غير فرق أصلا، فلا
داعي هناك إلى التفصيل.
وجريان حكم الواجب على الفعل مع طريان الغفلة في أثناء العمل أو عروض
النوم - كما في الصوم ونحوه - لا يدل على بقاء التكليف حين الغفلة، غاية الأمر
الاكتفاء هناك بالاستدامة الحكمية وإجراء حكم النية الواقعة في أول الفعل إلى
آخره لقيام الدليل عليه.
681

وأما الغفلة عن الأمر ولو من أول الأمر مع إتيانه بالفعل على سبيل القصد
والإرادة فغير مانع عن اتصافه بالوجوب.
وما ذكر من أن التكليف متوقف على العلم فلا تكليف مع الغفلة عن الأمر
حتى يتصف الفعل بالوجوب حسب ما مر مدفوع، بالفرق بين حصول التكليف
بحسب الواقع وتعلقه بالمكلف بالنظر إلى الظاهر، وغاية ما يلزم من التقرير المذكور
عدم ثبوت التكليف في الظاهر إلا بعد العلم به، والمقصود اتصافه بالوجوب
بحسب الواقع وإن لم يكن المكلف عالما به، وتظهر الفائدة بعد انكشاف الحال.
فإن قلت: كيف يعقل اتصاف الفعل بالوجوب مع فرض عدم تعلق التكليف به
في ظاهر الشرع؟ وهل يعقل حصول التكليف من دون تعلق بالمكلف؟.
قلت: لا شبهة في كون التكليف أمرا ارتباطيا تعلقيا، لكن هناك تعلق في
الواقع، وهو كون صدور الفعل منه محبوبا للآمر بحيث لا يجوز تركه ويبغض
انتفاءه في ذاته وإن كان المكلف معذورا من جهة جهله، فالفعل على كيفيته لو علم
بها المكلف كان عليه الإتيان به نظرا إلى حسنه في ذاته، وإرادة المكلف له وتركه
على كيفيته لو علم بها لم يكن له الإقدام عليه على حسب ما عرفوا به الحسن
والقبيح.
التعلق في الظاهر وهو أن يراد من المكلف الإقدام على الفعل بحسب ظاهر
الشرع، سواء كان مطابقا لما هو المطلوب بحسب الواقع أو لا.
فالنسبة بين التعلقين هو العموم من وجه، والوجوب على الوجه الأخير
يتوقف على العلم بخلاف الوجه الأول.
ولتحقيق الكلام في ذلك مقام آخر، وقد مرت الإشارة اليه في تعريف الفقه،
ولعلنا نفصل القول فيه فيما يأتي في المقام اللائق به إن شاء الله تعالى.
ومما قررنا يظهر أن اشتباه المأمور به لغيره وأدائه على أنه غير المأمور به
لا ينافي اتصافه بالوجوب، نظرا إلى الواقع كما هو المقصود.
وأما ما ذكر في الإيراد الرابع من اعتبار قصد الامتثال والإطاعة في أداء
682

الواجب المصطلح نظرا إلى الوجه المذكور فمدفوع بأن غاية ما يتوقف عليه
الوجوب المصطلح كون الأمر ممن يقبح مخالفته وعصيانه على خلاف غيره ممن
لا يجب تحصيل مطلوبه ولا يقبح مخالفة أمره وإرادته، وهذا المعنى هو المراد من
كون الآمر ممن تجب طاعته عقلا أو شرعا، فإن المراد به هو قبح العصيان والمخالفة.
ومع الغض عنه فالقدر اللازم هو ما قلناه وتوقفه على ما يزيد عليه مما لا دليل
عليه، واللازم مما ذكرنا وجوب مطلق الفعل سواء كان بقصد الامتثال أو لا.
والحاصل أن الوجوب الخاص في المقام إنما هو على طبق الإيجاب الصادر
من الآمر فكما أن قضية أمره هو إيجاب مطلق الفعل وإرادة حصوله سواء كان
بقصد الامتثال أو غيره، ولا دليل على اختصاص وجوب الفعل بنحو خاص
فكذلك الوجوب اللازم منه إنما يكون على ذلك الوجه أيضا.
فإن قلت: إن الأوامر الدالة على وجوب طاعة الله تعالى والرسول (صلى الله عليه وآله)
والأئمة (عليهم السلام) من الكتاب والسنة كافية في ذلك، نظرا إلى عدم صدق الطاعة إلا
مع وقوع الفعل على وجه الامتثال، غاية الأمر أن ما يدل عليه العقل لا يزيد
على وجوب أداء الفعل والإتيان به من غير اعتبار لما يزيد عليه، وقد دلت
الأوامر المذكورة على اعتبار تلك الزيادة.
قلت: إن ما دل على وجوب الطاعة يعم امتثال الأوامر والنواهي، ومن البين
أن جل النواهي بل كلها إنما يقصد منها ترك المنهي عنه من غير تقييد شئ منها
بملاحظة قصد الامتثال والإطاعة.
وكذا الحال في الأوامر المتعلقة بغير العبادات، فلو بني على إرادة ظاهر معنى
الطاعة لزم تقييدها بالأكثر وهو - مع مرجوحيته في ذاته - بعيد عن سياق تلك
الأدلة، فإن المقصود وجوب طاعتهم في جميع ما يأمرون به وينهون عنه.
وكذا وجوب اعتبار ملاحظة طاعة النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) في الإتيان بما
يأمرون به كأنه مما لم يقل به أحد، ومن البين ورود الجميع على سياق واحد
وقد ورد نحوه في طاعة الزوجة والعبد للزوج والسيد، ومن البين عدم وجوب
اعتبار الملاحظة المذكورة.
683

فالأولى إذن حمل الطاعة على ترك المخالفة والعصيان فيما يأمرون به
وينهون عنه، فهي كالمؤكدة لمضمون الأوامر الواردة عنهم.
وكأن التعبير عنه بذلك، نظرا إلى ما هو الغالب من كون الإتيان بالمأمور به
وترك المنهي عنه إنما يكون من جهة الأمر أو النهي الوارد عنهم، إذ حصول الفعل
أو الترك في محل الوجوب أو الحرمة على سبيل الاتفاق بعيد عن مجاري
العادات في كثير من المقامات.
ومع الغض عن ذلك لو اخذ بظواهر تلك الأوامر فلا يقضي ذلك بتقييد
المطلوب في سائر الأوامر، إذ غاية ما يفيده هذه الأوامر وجوب تحصيل معنى
الامتثال والانقياد، وهو أمر آخر وراء وجوب الإتيان بالمأمور به الذي هو مدلول
الأمر على الوجه المذكور، فأقصى ما يلزم حينئذ أنه مع إتيانه بالمأمور به لا على
وجه الامتثال أن لا يكون آتيا بالمأمور به بهذه الأوامر، ولا يستلزم ذلك عدم
إتيانه بما امر به في تلك مع إطلاقها وعدم قيام دليل على تقييدها.
فتحصل بما قررناه أن وجوب إيقاع الفعل على وجه الإطاعة والانقياد إنما
يثبت بعد قيام الدليل عليه من الخارج، والأدلة المفروضة على فرض دلالتها على
اعتبار قصد الطاعة أدلة خارجية قاضية بكون الأصل في كل واجب أن يكون
عبادة وذلك مما لا دخل له بمدلول الأمر ولو التزاما على حسب ما نحن بصدده،
فإن القدر اللازم لمدلوله هو وجوب الفعل بالمعنى المصطلح على فرض كون
الآمر ممن يحرم عصيانه ومخالفته، وأما وجوب الإتيان بالفعل على سبيل الانقياد
والإطاعة فمما لا دلالة في الأمر ولو بعد ملاحظة حال الآمر عليه وإن قلنا بكونه
ممن يجب الإتيان بمطلوبه من حيث إنه أمر به ليجب قصد الطاعة والانقياد في
جميع ما يوجبه، فإن ذلك لو ثبت فإنما هو مطلوب آخر وتكليف مستقل لا وجه
لتقييد مدلول الأمر به، إلا أن يدل دليل على التقييد أيضا.
فتلخص من ذلك أن القدر الثابت من ملاحظة الأمر وحال الآمر كون الواجب
الإتيان بما تعلق الطلب به على سبيل القصد والإرادة، سواء كان ذلك على وجه
684

الامتثال والإطاعة أو لا، إلا أن يدل دليل على تقييد الفعل المأمور به بذلك كما
في العبادات.
ثم لا يذهب عليك أنه إن كان الغرض من إيجاب الفعل مجرد تحققه في
الخارج حيث تعلقت المصلحة بنفس وقوع الفعل فلا إشكال في الاكتفاء حينئذ في
سقوط التكليف بمجرد حصول ذلك الفعل، سواء صدر من المأمور على سبيل
القصد اليه والإرادة له أو وقع على سبيل السهو والغفلة، وسواء قصد به الامتثال
والإطاعة أو لم يقصد ذلك.
إلا أنه مع الإتيان به بقصد الامتثال يكون مطيعا ممتثلا، ومع الإتيان به على
وجه التعمد والإرادة من دون ملاحظة الامتثال يكون آتيا بالواجب من غير أن
يحصل به الإطاعة والامتثال.
ولو أتى به ساهيا ونحوه يكون مسقطا للواجب من غير أن يكون الفعل متصفا
بالوجوب وأداء للمأمور به، كما لو أتى بذلك الفعل غير من كلف به فإنه يوجب
سقوط التكليف عن المكلف من غير أن يتصف ذلك بالوجوب.
ولو تعلق الغرض بخصوص صدوره من المكلف على سبيل القصد والإرادة
فليس هناك إلا الوجهان الأولان.
ولو تعلق الغرض مع ذلك بإيقاعه على سبيل الامتثال والإطاعة خاصة تعين
الوجه الأول لا يحصل هناك سقوط الواجب من جهة الفعل ولا أداؤه إلا مع
حصول الانقياد والإطاعة.
ومعظم الأوامر الشرعية يدور بين الوجه الأول والأخير، فإن ما كان منها من
العبادات لم يقع شئ منها إلا مع قصد الطاعة والانقياد، وما كان من غيرها فليس
المقصود منه في الغالب إلا حصول نفس الفعل، سواء كان الإتيان به بقصد الامتثال
أو لا، وسواء كان إيقاعه بالقصد إلى الفعل وإرادته أو على سبيل السهو والغفلة فيما
يمكن حصله كذلك، بل ولو وقع من غير المكلف به.
لكن قضية الأصل مع الدوران بين الوجوه المذكورة هو الوجه الثاني فلا
685

يتحقق سقوط الواجب بمجرد صدور الفعل منه على سبيل الغفلة ونحوها ولاه
بفعل الغير، حسب ما عرفت من قضاء ظاهر الأمر بإيجاب الفعل الصادر على
سبيل القصد والإرادة، فسقوط التكليف بغير الإتيان به على النحو المذكور يتوقف
على قيام الدليل على كون المقصود هو حصول مجرد الفعل، كما أن البناء على
اعتبار قصد الإطاعة والانقياد يحتاج إلى قيام دليل عليه.
فظهر بما ذكرنا أنه لا يتوقف أداء الواجب على ما يزيد على قصد الفعل
وإرادته، فلا حاجة في حصوله إلى قصد الطاعة والقربة، إلا أن يثبت كونه عبادة
فيتوقف حينئذ على مجرد قصد القربة من غير أن يتوقف كغيرها إلى تعيين الفعل
إذا كان متعينا في الواقع، ولا إلى تعيين شئ من أوصافه من الوجوب والندب
والأداء والقضاء وغيرها، إذ الواجب هو حصول الفعل بالقصد اليه وهو حاصل
بإيجاده كذلك من غير حاجة إلى ضم شئ من المذكورات، إلا أن يتوقف تعيين
الفعل على ضم بعضها فيتعين ذلك من تلك الجهة.
نعم، لو ضم اليه قصد الامتثال والإطاعة حصل استحقاق المدح والثواب
بخلاف ما لو يضمه، فإنه إذن لا يستحق المدح والثواب بل إنما يندفع به العقاب.
ومن هنا ظهر أن أخذ المدح على الفعل أو الثواب عليه في تحديد الواجب
ليس على ما ينبغي، إذ ليس استحقاق ذلك إلا في العبادة بالمعنى الأعم.
سادسها
أن تعدد الأمر المتعلق بالمكلف ظاهر في تعدد التكليف كما يقتضيه رجحان
التأسيس على التأكيد، ويشهد به فهم العرف.
نعم، لو تعلق الأمران بمفهوم واحد وكان كل منهما متوجها إلى مكلف لم يكن
ذلك ظاهرا في تعدد الواجب في الشريعة حتى يكون الأمر المتوجه إلى كل منهما
دليلا على ثبوت واجب غير ما يدل عليه الآخر، لحصول التأسيس حينئذ مع
اتحاد الواجب في الشرع، نظرا إلى تعدد الواجبين بالنسبة إلى المكلفين فلا قاضي
بتعدد الواجب في الشريعة مع قضاء أصالة البراءة بالاتحاد.
686

ثم إن هناك صورا وقع الكلام في اتحاد التكليف فيها وعدمه مع تعدد الأمر
لا بأس بالإشارة إليها.
وتفصيل القول في ذلك أن يقال: إنه إذا ورد أمران من الشارع فإما أن يتعلقا
بمفهوم واحد، أو بمفهومين مختلفين، وعلى الأول فإما أن يكون الأمران
متعاقبين، أو لا، فهاهنا مسائل:
أحدها: أن يرد من الشارع أمران متعاقبان متعلقين بمفهوم واحد، وحينئذ فإما
أن يكون ذلك المفهوم قابلا للتعدد والتكرار عقلا أو شرعا أو لا، وعلى الأول فإما
أن يكون الأمر الثاني معطوفا على الأول أو لا.
ثم إن ما تعلق الأمر به في المقامين إما أن يكون منكرا، أو معرفا، أو مختلفا،
وعلى كل من الوجوه إما أن يقوم هناك شاهد من عرف وعادة ونحوها
بالاتحاد أو لا.
فإن كان المفهوم المتعلق للأمرين غير قابل للتكرار قضى ذلك باتحاد
التكليف، فيكون الثاني مؤكدا للأول إلا أن يقوم هناك شاهد على تعدد التكليف
كما إذا تعدد السبب القاضي بتعلق الأمرين، إذ الظاهر حينئذ حمل الثاني على
التأسيس فيفيد تأكد الوجوب واجتماع جهتين موجبتين للفعل يكون الفعل واجبا
بملاحظة كل منهما، فهما واجبان اجتمعا في مصداق واحد، كما إذا قال: " اقتل
زيدا لكونه مرتدا، اقتل زيدا لكونه محاربا ".
ودعوى الاتفاق على كون الأمر الثاني تأكيدا للأول مع عدم قابلية الفعل
للتكرار غير متجهة على إطلاقه، ويمكن تنزيلها على غير الصورة المفروضة وإن
كان قابلا للتكرار، فإن لم يكن الثاني معطوفا على الأول وكان الأول منكرا
والثاني معرفا باللام فلا إشكال في الاتحاد.
وإن كانا منكرين أو ما بمنزلته كما في قوله: " صل ركعتين صل ركعتين،
أو صم صم " فالظاهر اتحاد التكليف وكون الثاني تأكيدا للأول.
وقد اختلف فيه الأصوليون، فالمحكي عن قوم منهم الصيرفي اختيار
687

الاتحاد. وعن الشيخ وابن زهرة والفاضلين وغيرهما البناء على تغاير التكليفين،
وهو المحكي عن جماعة من العامة منهم القاضي عبد الجبار والرازي والآمدي،
وعامة أصحاب الشافعي، وعزاه الشيخ إلى أكثر الفقهاء والمتكلمين.
وعزي إلى جماعة منهم العلامة في النهاية والعضدي والأزدي وأبو الحسين
التوقف.
لنا: غلبة إرادة التأكيد في الصورة المفروضة بحيث لا مجال لإنكار ظهور
العبارة فيه بحسب متفاهم العرف، كما هو ظاهر من ملاحظة الاستعمالات
المتداولة، ولا يعارضه رجحان التأسيس على التأكيد، لظهور العبارة في ذلك بعد
ملاحظة مرجوحية التأكيد في نفسه بالنسبة إلى التأسيس، وعلى فرض تكافؤ
الاحتمالين فقضية الأصل عدم تعدد التكليف، وهو كاف في الحكم بالاتحاد.
حجة القول بتعدد التكليف رجحان التأسيس على التأكيد، وهو قاعدة معتبرة
في المخاطبات قد جرى عليه العرف في الاستعمالات، وقد حكى الشهيد الثاني
الاتفاق على كون التأكيد خلاف الأصل.
ويقرر الرجحان المدعى تارة بملاحظة الغرض المقصود من المخاطبات، إذ
المطلوب الأصلي منها إعلام السامع بما في ضمير المتكلم، وهو إنما يكون في
التأسيس، وأما التأكيد فإنما يراد به تثبيت الحكم المدلول عليه بالكلام فهو خارج
عما هو المقصود الأصلي من وضع الألفاظ.
وتارة بأن الغالب في الاستعمالات إرادة التأسيس والحمل على التأكيد نادر
بالنسبة اليه، والظن يلحق الشئ بالأعم الأغلب.
وأخرى بأن استعمال اللفظ في التأكيد مجاز، إذ ليس اللفظ موضوعا بإزائه،
فلا يصار اليه إلا بدليل.
وضعف الأخير ظاهر، لوضوح عدم كون اللفظ مستعملا في التأكيد وإنما
استعمل في موضوعه الأصلي، والتأكيد أمر حاصل في المقام من تكرير الاستعمال.
وأما الوجهان الأولان فيدفعهما ما عرفت من غلبة إرادة التأكيد في الصورة
688

المفروضة ورجحانه على التأسيس في خصوص المقام، فلا وجه للتمسك برجحان
جنس التأسيس على جنس التأكيد بعد كون الأمر بالعكس في خصوص المقام.
وقد أورد السيد العميدي هنا بمنع لزوم التأكيد على فرض كون المأمور به
بالأمر الثاني عين ما امر به أولا، فإنه إنما يلزم التأكيد لو لم يكن الأمر دالا على
طلب الآمر حال إيجاد الصيغة، وأما مع دلالته على ذلك فلا لتغاير زماني الطلب.
قلت: التحقيق في بيان ذلك: أن الأمر موضوع لإنشاء الطلب، ومن المعلوم
تعدد الإنشاءين في المقام لاختلاف زمانيهما، بل تعدد الزمان المأخوذ في وضع
كل منهما بناء على وضع الأمر لإنشاء الطلب في الحال، حسب ما مرت الإشارة
اليه في محله، فيكون كل من الأمرين مستعملا في معنى غير معنى الآخر، لكون
كل منهما فردا من الطلب غير الآخر كسائر الأوامر المختلفة، غاية الأمر أن يتحد
المطلوب فيهما، وذلك لا يقضي بحصول التأكيد بعد تعدد مفاد الصيغتين.
وحينئذ فما أورد عليه - من أنه إذا أراد أن مفاد الأمر الأول طلب الفعل مقيدا
بالزمان الأول والثاني بالثاني فهو ظاهر الفساد، وإن أراد أن الأمر الأول صريح
في الدلالة على الطلب في الزمان الأول فلا يفهم منه ما بعد ذلك إلا بالالتزام،
بخلاف الأمر الثاني فإنه صريح فيما دل عليه الأول بالالتزام ففيه: أن هذا القدر
من الاختلاف لا ينافي التأكيد، وإلا لانتفى التأكيد اللفظي رأسا مع أن ذلك
لا يصح في المتعاقبين، إذ ليس بينهما اختلاف في الزمان بحسب العرف - ليس
على ما ينبغي حسب ما قررناه في بيان مراده.
مضافا إلى أن ما ذكره من الوجه الثاني ودل ظاهر كلامه على صحته فاسد،
فإنه إن أريد بدلالة الصيغة على طلب الفعل في الزمان الثاني والثالث دلالته على
إيقاع الطلب في ذلك أو على إتيان المأمور بالمطلوب فيه.
أما الأول فظاهر الفساد، إذ لا يعقل دلالته على وقوع الطلب إلا في الحال،
ولا دلالة فيه على حصوله في الزمان الثاني والثالث بوجه من الوجوه، كيف! ومن
البين أن الأمر الانشائي إنما يوجد بمجرد إيجاد صيغة الانشاء من غير تقديم
ولا تأخير عنه.
689

وأما الثاني فكون الدلالة عليه في الأول على وجه التصريح وفي الثاني
بالالتزام مما لا وجه له، لوضوح عدم دلالة الأمر على خصوص شئ من الأمرين
وإنما يدل على طلب الفعل في الجملة، كما هو المعروف بل لا يصح ذلك على
إطلاقه على القول بكون الأمر للفور أيضا.
وما ذكر من عدم جريانه في الأمرين المتعاقبين لاتحاد زمان الأمرين في
العرف غير متجه أيضا، إذ المناط في اختلاف الزمان الباعث على تعدد الفعل
المتشخص به هو الاختلاف العقلي دون العرفي، فإذا كان زمان كل من الإنشاءين
مغايرا للآخر لزمه تعدد الإنشاءين، والأمر المنشأ بهما وتقارب زمانيهما لا يقضي
باتحاد الفعلين كما لا يخفى.
ثم إن ما ذكره من لزوم انتفاء التأكيد اللفظي رأسا على التقدير المذكور مما
لا وجه له، إذ من البين أن المأخوذ في التأكيد اللفظي اتحاد معنى اللفظين
المتكررين، سواء اتحدا لفظا - كما في " زيد زيد " - أو تغايرا، كما في " ألفيت قولها
كذبا ومينا " وليس مبنى الكلام المذكور على إنكار ذلك، حتى يورد عليه بذلك بل
الملحوظ إنكار اتحاد المعنى فيما ذكر من الإنشاءين نظرا إلى كون خصوص كل
من الإنشاءين مغايرا للآخر سيما مع القول بكون الوضع فيه عاما والموضوع له
خاصا، كما هو مختار المتأخرين فيتعدد المعنى المراد من كل منهما ومعه لا يكون
الثاني تأكيدا لفظيا للأول.
فإن أريد في الإيراد إلزام ذلك عليه في نظائره من الانشاء فهو عين مقصود
القائل.
وإن أريد نفي التأكيد اللفظي رأسا - كما هو ظاهر الكلام المذكور - فهو بين
الاندفاع حسب ما عرفت.
هذا، ويمكن الإيراد على السيد بأن الانشاء الحاصل في المقام وإن كان
متعددا ومعه يتعدد المعنى المراد من اللفظين إلا أن ذلك لا ينافي اتحاد التكليف،
فإذا لم يكن الأمر الثاني مثبتا لتكليف جديد وكان المقصود به أداء المطلوب
690

الأول من غير أن يتعدد جهة وجوبه لأجل تعدد الأمرين ليتعدد جهتا التكليف
بإزائه كان الثاني تأكيدا للأول حيث لم يثبت به شئ غير ما ثبت بالأول،
وخصوص تعدد الإنشاءين غير مفيد في المقام مع اتحاد الأمر المتحصل منهما،
كيف! ومن البين أن المقصود من كون الثاني مؤكدا للأول ليس إلا ذلك على
خلاف ما يقوله القائل بالتأسيس، حيث يقول بتعدد التكليفين ويجعل المستفاد من
كل منهما واجبا غير الآخر، فالإيراد المذكور ساقط جدا بعد وضوح المقصود.
نعم، قد يدعى عدم مرجوحية التأكيد على النحو المفروض بالنسبة إلى
التأسيس، لاختلاف المعنيين عند التدقيق فيتجه به الإيراد.
إلا أن الظاهر فساد ذلك أيضا، لما عرفت من أن المناط في مثل ذلك هو تعدد
التكليف واتحاده، ومجرد كون الانشاء الدال عليه متعددا غير مفيد في المقام مع
اتحاد التكليف الثابت بهما، فإن ذلك إنما يقضي بتعدد البيان مع اتحاد الأمر المبين
بهما وهو المراد بالتأكيد في المقام.
ويوضح الحال في ذلك ملاحظة أسماء الإشارة ونحوها، فإن نحو " هذا هذا "
مشيرا بهما إلى شئ واحد من التأكيد وتعدد الإنشاءين من جهة تعدد الآلة
المحصلة لهما لا يقضي بنفي كون الثاني مؤكدا للأول، وذلك ظاهر.
هذا، وقد ظهر بما قررناه من وجهي القولين المذكورين وجه القول بالوقف،
فإنه مبني على تكافؤ الوجهين المذكورين وتعادلهما فيتوقف بينهما.
وضعفه ظاهر بما قررنا فلا حاجة إلى إعادته.
وإن كان الأمر الثاني معطوفا على الأول وكانا منكرين نحو " صل ركعتين
وصل ركعتين " حكم بتعدد التكليف، لظهور العطف فيه ورجحان التأسيس على
التأكيد من غير حصول مرجح للتأكيد هنا، كما في الصورة المتقدمة، وقد نص عليه
جماعة من الخاصة والعامة من غير ظهور خلاف فيه.
ولا فرق بين أن يكون المأمور به بالأمرين المفروضين معبرا بلفظ واحد أو
بلفظين مختلفين وإن كان احتمال الاتحاد في الثاني متجها، لشيوع عطف التفسير
691

في الاستعمالات ووروده في كلام الفصحاء، إلا أن البناء على التعدد أوجه إما
لكون العطف حقيقة في ذلك، أو لكونه الأظهر فيه بحسب الاستعمال، ومثل ذلك
الحكم في المعرفين وما إذا كان الأول معرفا والثاني منكرا.
وأما لو كان الأول منكرا والثاني معرفا نحو " صل ركعتين وصل الركعتين "
فقد اختلفوا فيه على أقوال:
أحدها: الحكم بمغايرة التكليفين، ذهب اليه جماعة منهم ابن زهرة والعلامة
والآمدي والرازي.
ثانيها: الحكم بالاتحاد، ذهب اليه بعض المتأخرين وربما يظهر من السيد
العميدي.
ثالثها: الوقف لتساوي الوجهين، فلا مرجح لأحد الاحتمالين، وحكي القول
به عن المحقق وأبي الحسين البصري والعضدي وغيرهم.
وخير الأقوال المذكورة أوسطها، لظهور اللام جدا في العهدية، ولا يعارضه
ظهور العطف في التعدد لعدم مقاومته لظهور اللام في الاتحاد، كما يعرف من
ملاحظة العرف عند عرض المثال المذكور عليه، وقد أنكر بعضهم دلالة العطف
على التغاير كما سيجئ الإشارة اليه إن شاء الله.
حجة القول الأول قضاء العطف بالمغايرة وأولوية التأسيس من التأكيد، ولا
يعارضه تعريف الثاني فإن اللام كما يحتمل العهدية كذا يحتمل الجنسية أيضا، بل
هو الأصل فيه، وعلى فرض إرادة العهدية فقد يكون المعهود غير المذكور أولا.
وضعف الجميع ظاهر، فإن إرادة الجنسية من اللام مع سبق المعهود في غاية
البعد، فظهور اللام في العهد واتحاد المطلوب في المقامين أقوى من ظهور الأمرين
المذكورين في التعدد جدا، كما يشهد به الفهم المستقيم، فإن إرادة الجنسية من
اللام في مثل المقام المفروض مما لم يعهد في الاستعمالات الشائعة بخلاف انتفاء
المغايرة بين المتعاطفين، فإنه شائع في الاستعمالات حتى أنه ورد في الكتاب
العزيز في موارد عديدة وفي كلام أهل العصمة وفي استعمالات أرباب البلاغة.
692

ولذا أنكر الشهيد الثاني وغيره دلالته على المغايرة رأسا قائلا بأن من أنواع
واو العاطفة عطف الشئ على مرادفه، كما نص عليه ابن هشام في المغني وهو
وإن كان بعيدا - إذ مجرد ورود العطف مع انتفاء المغايرة لا يفيد عدم ظهوره في
المغايرة كما يشهد به صريح فهم العرف سيما في المقام إذ ليس ذلك من عطف
الشئ على مرادفه في كثير من صوره - إلا أنه لا يقاوم الظهور الحاصل من اللام
في الاتحاد.
ومما قررنا يظهر الوجه في القول بالوقف، فإنه مبني على تقاوم الوجهين
المذكورين وتساويهما فيتوقف في الحمل، ومرجعه إلى القول الثاني في مقام
الفقاهة للأخذ بأصالة عدم تعدد التكليف، هذا كله إذا لم يقم شاهد خارجي على
التعدد أو الاتحاد. وأما مع قيام شاهد على وفق ما هو الظاهر من اللفظ في
المقامات المذكورة فلا إشكال لاعتضاد الظاهر بذلك.
ولو قام الشاهد على خلافه فإن كان الظهور المفروض باقيا فهو المتبع أيضا،
وإن كان الظهور الحاصل من الشاهد راجحا على الظهور المفروض بحيث يكون
التعدد أو الاتحاد بعد انضمام ذلك هو المفهوم من الكلام بحسب العرف فهو المتبع
أيضا، وإن تعادلا لزم الوقف، فيرجع فيه إلى الأصل، وقضيته البناء على الاتحاد
حسب ما مر.
الثانية: أن يتعلق الأمران بمفهوم واحد من غير أن يكونا متقارنين، وحينئذ
فإما أن يتعدد السبب فيهما، أو يتحدا ولا يكون السبب معلوما فيهما أو في أحدهما،
أما مع تعدد السبب فلا إشكال في الحكم بتعدد التكليف، ومع اتحاد السبب لا يبعد
الحكم باتحاد التكليف سيما مع مغايرة المخاطب بالأمرين، خصوصا إذا كان
صدورهما عن إمامين، نعم لو قام هناك شاهد على التعدد اتبع ذلك.
وأما مع عدم العلم باتحاد السبب وتعدده فظاهر الأمرين قاض بتعدد
التكليف كما هو الحال في الأوامر المتداولة في العرف.
لكن ظاهر الحال في أوامر الشريعة قاض بالاتحاد كما هو الغالب في الأوامر
693

المتعددة المتعلقة بمفهوم واحد، فلا يبعد الحكم بالاتحاد بعد ملاحظة الغلبة
المذكورة خصوصا في الخطابات المتعلقة بمخاطبين عديدة، إذ كل منها حينئذ
تأسيس وبيان للحكم بالنسبة إلى المخاطب.
وهذا الوجه هو المتجه سيما بملاحظة أصالة عدم تعدد الواجب، ولا فرق بين
أن يكون السبب في أحدهما معلوما أو يكون مجهولا فيهما، نعم لو قام في المقام
شاهد على تعدد التكليف تعين الأخذ به.
الثالثة: أن يتعلق الأمران بمفهومين مختلفين، فإن كانا متباينين فلا كلام في
تعدد التكليف، سواء كانا متعاقبين أو لا. نعم لو كانا متنافيين بحيث لا يمكن العمل
بهما معا كما لو امر بالتوجه حين الصلاة إلى بيت المقدس، وأمر بالتوجه إلى الكعبة
كان الثاني ناسخا للأول.
وإن كانا متساويين أمكن جريان التفصيل المتقدم في الأمرين المتعلقين
بمفهوم واحد بالنسبة اليه، إذ المفروض اتحادهما في الوجود.
ومن البين أن المأمور به إنما هو الطبائع من حيث الوجود كما مرت الإشارة
اليه، فيكون بمنزلة ما إذا اتحد متعلق الأمرين وكان فهم العرف أيضا شاهدا
على ذلك.
وإن كان بينهما عموم مطلق، فإن اتحد السبب فيهما حكم باتحاد التكليف
وحمل المطلق على المقيد حسب ما نصوا عليه في محله من غير خلاف يعرف فيه.
نعم، لو قام شاهد على تعدد التكليف اخذ به، ومنه ما إذا كانا متعاطفين كما
في قوله: " إن ظاهرت فأعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة " أخذا بظاهر العطف.
نعم، لو كان الأول مقيدا منكرا والثاني مطلقا معرفا فالظاهر الحكم بالاتحاد
أخذا بمقتضى ظهور اللام حينئذ في العهد القاضي باتحاد التكليف.
ولو كان المطلق منكرا مقدما والمقيد معرفا باللام متأخرا فإن كان نحو
" إن ظاهرت فأعتق رقبة وأعتق الرقبة إذا كانت مؤمنة " فالظاهر أنه كالصورة
المتقدمة من غير إشكال.
694

وأما إن كان المقيد نحو قوله: " وأعتق الرقبة المؤمنة " ففي الحكم بالاتحاد
نظر، والفرق بينه وبين الصورة المتقدمة ظاهر.
وظاهر العطف قاض بالتعدد، لكن الحكم بمجرد ذلك لا يخلو عن تأمل،
وجعل ذلك من قبيل المبين للإطلاق غير بعيد، مضافا إلى أصالة عدم تعدد
الواجب، ومنه ينقدح الاحتمال في الصورة الأولى أيضا.
وإن كان بينهما عموم من وجه قضى ذلك بتعدد التكليف مطلقا إلا أن يقوم
هناك دليل على الاتحاد، وحينئذ فيتعارض الدليلان ولا بد من الجمع بينهما بوجه
من الوجوه، إما بتقييد كل من الإطلاقين بالآخر فيؤتى بمورد الاجتماع، أو بغير
ذلك مما فصل القول فيه في محله.
وقد يجعل اتحاد السبب حينئذ شاهدا على اتحاد التكليف أيضا، كما في
العموم والخصوص المطلق، وكونه بنفسه دليلا على ذلك في المقام محل نظر إلا أن
ينضم اليه شاهد آخر، فتأمل.
سابعها
إذا ورد من الشارع أوامر عديدة وكان الثابت بها تكاليف متعددة بأن لم يكن
بعض تلك الأوامر مؤكدا للبعض فمع اتحاد المطلوب بها بحسب الصورة هل يقتضي
الأصل حصول الجميع بفعل واحد - ليكون الأصل في مقتضياتها التداخل إلا أن
يقوم دليل على خلافه - أو أن الأصل في ذلك وجوب تعدد الفعل على حسب
تعدد الأمر؟ فيكون التداخل على خلاف الأصل حتى يقوم دليل على الاكتفاء به.
وتفصيل القول في ذلك: أن الأوامر المتعددة إما أن ترد على مفهوم واحد،
أو على مفهومين أو مفاهيم مختلفة.
وعلى الأول فإما أن يمكن تكرار ذلك المفهوم وتعدده عقلا وشرعا،
أو لا يمكن.
وعلى الثاني فإما أن يكون بين المفهومين أو المفاهيم المفروضة تباين،
أو تساو، أو عموم مطلق، أو من وجه.
695

وعلى كل من الوجوه المذكورة إما أن يكون السبب هناك متعددا، أو متحدا،
أو لا يكون السبب معلوما في الجميع أو البعض.
ثم إنه إما أن يكون المقصود من تلك الأوامر مجرد حصول الفعل المتعلق
للأمر، بأن يكون مطلوب الآمر مجرد الإتيان به في الخارج لمصلحة مترتبة عليه،
أو ينضم إلى ذلك مقصود آخر، أو يحتمل انضمامه اليه، فهاهنا صور:
أحدها: أن يتعلق الأمران أو الأوامر بمفهوم واحد مع عدم كونه قابلا للتعدد
والتكرار، ولا ريب حينئذ في التداخل، وكذا الحال لو كان قابلا للتكرار إذا علم
كون المقصود من كل من الأمرين مجرد حصول الطبيعة المطلقة الحاصلة بفعلها
مرة، وكذا الحال أيضا في التقدير المذكور لو كان متعلق الأمرين مفهومين
متغايرين إذا اتحدا في المصداق أو اجتمعا في بعض المصاديق، لاتحاد المكلف
به في غير الأخير وإن تعدد فيه جهة التكليف، إذ لا منافاة، وفي الأخير يتحد
الأداء وإن تعدد التكليف والمكلف به أيضا في الجملة ولا إشكال حينئذ في
الاكتفاء بالإتيان به على نحو ما امر به من غير حاجة إلى تعيين جهات الفعل،
فيحصل المطلوب بتلك الأوامر بمجرد حصول الفعل، سواء قصد بذلك امتثال
جميع تلك الأوامر أو امتثال بعض معين منها، بل ولو لم يعين شيئا منها أو لم يقصد
به الامتثال أصلا، لما عرفت سابقا من أداء الواجب بفعل ما تعلق الطلب به
وهو حاصل في المقام، سواء قصد به الطاعة أو لا، وسواء قصد به موافقة جميعها
أو بعض معين أو غير معين منها.
نعم، لو كان المقصود من الأمر حصول الطاعة اعتبر فيه قصد ذلك، سواء
لاحظ امتثال جميع تلك الأوامر، أو لاحظ امتثال البعض مع الغض عن الباقي
أو لم يلاحظ امتثال خصوص شئ منها، وإنما نوى بالفعل قصد الطاعة بعد علمه
بكونه مطلوبا لله تعالى في الجملة.
أما في الصورة الأولى فلا ريب في كونه امتثالا للجميع.
وأما في الثانية فهو امتثال للأمر الملحوظ قطعا، وأداء للمطلوب بالنسبة
إلى غيره من غير صدق الامتثال.
696

فإن قلت: إذا كان العمل عبادة وكان المقصود من الأمر به تحقق الطاعة
والامتثال فكيف يمكن القول بحصول المطلوب من دون تحقق الامتثال؟.
قلت: الامتثال المعتبر في العبادات هو وقوع الفعل على جهة الطاعة، سواء
كان الملحوظ خصوص ذلك الأمر الوارد، أو غيره على وجه لا يندرج في البدعة
ليتحقق قصد القربة ومع حصول ذلك يحصل المطلوب وإن لم يتحقق معه امتثال
خصوص ذلك الأمر نظرا إلى عدم ملاحظته.
وأما في الثالثة فيحتمل القول بعدم صدق الامتثال، لخصوص شئ من تلك
الأوامر وإن تحقق الامتثال للأمر في الجملة، ولا منافاة نظرا إلى ملاحظة قصد
الطاعة للأمر على سبيل الاجمال دون خصوص كل منها، فيكون أداء للواجب
بالنسبة إلى الخصوصيات.
ويحتمل القول بحصول الامتثال أيضا كذلك، نظرا إلى قيام ذلك القصد
الاجمالي مقام قصد كل واحد منها.
وتظهر الفائدة فيما لو نذر امتثال بعض تلك الأوامر أو جميعها فيبر نذره بذلك
على الأخير دون الأول.
ثم إنه لو كان بعض تلك الأوامر إيجابيا وبعضها ندبيا كان ذلك الفعل متصفا
بالوجوب بحسب الواقع، ضرورة غلبة جهة الوجوب على جهة الاستحباب وإن
صح إيقاعه على جهة الاستحباب بملاحظة أمره الندبي من دون ملاحظة جهة
الوجوب، إذ لا مانع من أدائه من جهة تعلق ذلك الأمر به ولا يقضي ذلك بما يزيد
على جهة الاستحباب، إلا أنه حينئذ متصف بالوجوب وإن لم يوقعه المكلف من
جهة وجوبه وأتى به من جهة رجحانه الغير البالغ إلى حد الوجوب.
وعلى هذا لو نوى به امتثال الأمرين كان الفعل أيضا متصفا بالوجوب خاصة،
لكن يكون إيقاع المكلف له على كل من جهتي الوجوب والاستحباب، يعني
من جهة رجحانه المانع من النقيض ورجحانه الغير المانع منه ولا مانع من
تحقق الجهتين فيه، إذ لا تضاد بينهما وإنما المضادة بين حصول صفتي الوجوب
697

والندب بحسب الواقع، لاقتضاء أحدهما جواز الترك بحسب الواقع، واقتضاء
الآخر المنع منه.
وإذا تقررت المغايرة بين الوجوب والندب المأخوذ صفة للفعل والملحوظ
جهة لإيقاعه فقد يتوافق الوجهان، كما إذا لاحظ في المقام امتثال الأمر الوجوبي
فقد أدى الفعل المتصف بالوجوب من جهة وجوبه، ولو لاحظ امتثال الأمر الندبي
اختلف الوجهان لاتصاف الفعل واقعا بالوجوب وأدائه على جهة الندب لإتيانه به
بملاحظة الأمر النادب خاصة.
فإن قلت: إن الأمر الإيجابي المتعلق بالفعل قاض بإنشاء وجوبه كما أن الأمر
الندبي قاض بإنشاء ندبه، فيلزم اجتماع الحكمين المفروضين، فكيف يتصور تعلق
الأمرين به؟ مع المنع من اجتماع الحكمين المتفرعين عليهما.
قلت: قد عرفت أن مدلول الأمر الإيجابي أو الندبي ليس إلا إنشاء الطلب
الخاص الحاصل بعنوان الحتم، أو عدمه، وأما وجوب الفعل بحسب الواقع أو ندبه
فهو مما يلزم من الطلب المفروض في بعض صوره.
وظاهر أن الإنشاءين المفروضين لا مدافعة بينهما بوجه، لوضوح أن إنشاء
طلب الفعل لبعض الجهات على وجه غير مانع من النقيض لا ينافي إنشاء طلبه
بإنشاء آخر على وجه مانع منه من جهة أخرى.
والذي يتراءى التدافع فيه إنما هو بالنسبة إلى ما يتفرع على الإنشاءين
المذكورين من الحكم، فإنه إذا كان الآمر ممن يعتد بقوله ويجب طاعته عقلا أو
شرعا يتفرع على إنشائه الأول وجوب الفعل بالمعنى المصطلح - أعني رجحانه
على نحو يذم تاركه - وعلى إنشائه الثاني الندب المصطلح - أعني رجحانه على
نحو لا يذم تاركه - فيلزم إذن توارد السلب والإيجاب على مورد واحد.
ويدفعه أنه ليس مقتضى إنشاء الطلب الندبي عدم المنع من الترك مطلقا وإنما
مقتضاه عدم حصول المنع من الترك بذلك الطلب، لعدم بلوغ الطلب هناك إلى حد
الإلزام والمنع من الترك، فلا مانع ما لو حصل هناك رجحان آخر للفعل بالغ إلى
698

حد المنع من الترك فإذا حصل الإلزام والمنع من الترك بطلب آخر ومن جهة
أخرى لم يزاحم ذلك، لما عرفت من عدم اقتضاء في الطلب المذكور لعدمه.
وحينئذ يتصف الفعل بالوجوب من دون معارضة الأمر الندبي له، فيكون
الصفة الثابتة للفعل بحسب الواقع هو الوجوب خاصة، وأما الندب فإنما يثبت له
مع قطع النظر عن الجهة الموجبة، وهو فرض مخالف للواقع، إذ المفروض حصول
تلك الجهة بخلاف الوجوب، فإنه يثبت له مع ملاحظة الجهة النادبة أيضا، لما
عرفت من عدم المنافاة بين ثبوت المنع من الترك من جهة قيام مقتضيه وانتفاء
المنع من الترك بمقتضى ذلك الأمر المقتضي للندب.
فاتضح بذلك عدم المنافاة بين الأمرين المفروضين المتعلقين بذلك الفعل
لا من جهة أنفسهما - لتوهم اقتضاء أحدهما المنع من الترك والآخر جوازه - لما
عرفت من أن اقتضاء الجواز ليس مطلقا بل بالنسبة إلى ذلك الطلب الخاص،
ولا من جهة ما يلزمهما من الحكمين، لما عرفت من عدم لزوم الاستحباب للطلب
الندبي، إذ قد ينضم إلى ذلك ما يفضي إلى وجوبه، كما هو المفروض في المقام،
فأقصى الأمر حصول الجهة النادبة في الفعل، وهو غير حصول الندب بالفعل
ليزاحم الوجوب.
وربما يجعل المقام من قبيل اجتماع الحكمين - أعني الوجوب والندب - من
جهتين بناء على الاكتفاء باختلاف الجهة في ذلك حسب ما يجئ الإشارة اليه في
محله، فيندفع بذلك المنافاة المذكورة أيضا.
إلا أنه موهون بما سنفصل القول فيه من بيان فساده.
والحاصل: أن مفاد الوجوب هو رجحان الفعل البالغ إلى حد المنع من الترك
بعد ملاحظة جميع جهاته، والندب رجحانه الغير البالغ اليه كذلك، ولا يعقل إمكان
بلوغ رجحان الفعل إلى الحد المذكور على الوجه المفروض وعدم بلوغه اليه
بحسب الواقع.
نعم، لو فسر الوجوب والندب ببلوغ الفعل إلى أحد الحدين المذكورين نظرا
699

إلى بعض الجهات وإن حصل هناك ما يزاحمه أمكن الاجتماع باختلاف الجهات،
إلا أن التفسير المذكور خارج عن الاصطلاح وليس من محل الكلام الواقع في
جواز اجتماع الأحكام وعدمه، إذ جواز الاجتماع على الوجه المذكور مما
لا مجال لإنكاره إذ لا يتصور مانع منه أصلا.
هذا، واعلم أن الأوامر الغيرية المتعلقة بمفهوم واحد من قبيل المذكور،
إذ ليس المقصود من كل من التكاليف المفروضة إلا إيجاد مطلق الطبيعة لأجل
التوصل إلى ذلك الغير الحاصل بإيجاد فرد منها، فلو كانت هناك غايات عديدة
يتعلق الأمر بها من جهة كل واحد منها تأدت تلك الواجبات بأداء تلك الطبيعة مرة.
وكذا لو كانت بعضها واجبة وبعضها مندوبة، سواء أتى بها المكلف بملاحظة
جميع تلك الجهات أو أتى بها لخصوص الجهة الموجبة أو النادبة.
وكذا الحال لو كان واحد من تلك التكاليف نفسيا والباقي غيريا.
ومن ذلك يعرف الحال في الوضوء عند تعدد غاياتها مع وجوب الجميع أو
استحبابها أو اختلافها، فيصح الإتيان بها بملاحظة جميع تلك الجهات وبعض منها
ومع قطع النظر عن ملاحظة خصوص شئ منها إذا علم حصول الجهة المرجحة
في الجملة وأتى به من حيث رجحانه مع عدم ملاحظة الخصوصية، ومع كون
واحد من تلك الجهات موجبة يتصف الفعل بالوجوب وإن كان الباقي نادبة، ولو
أتى به بملاحظة الجهة النادبة خاصة فقد أتى بالواجب لا من جهة وجوبه بل من
الجهة المرجحة له بما دون الوجوب حسب ما مر بيانه.
ويجري ما ذكرناه في المندوبات المنذورة إذا لم نشترط في أداء المنذور
ملاحظة جهة النذر كما هو قضية إطلاق المنذور، فإنه إذا أتى به مع الغفلة عن
تعلق النذر به فقد أتى بما يجب عليه لا من جهة وجوبه بل لندبه في نفسه، فيكون
امتثالا للأمر الندبي وأداء للواجب بالنسبة إلى المنذور... وهكذا الحال في نظائر
ما ذكرناه.
ثانيها: أن يتعلق الأمران أو الأوامر بمفهوم واحد مع كونه قابلا للتكرار من
700

غير أن يعلم كون المقصود مجرد الإتيان بالطبيعة على سبيل الإطلاق، وحينئذ
فهل يكون تعدد الأوامر القاضية بتعدد التكليف قاضيا بتعدد المكلف به أيضا
ليتوقف امتثال الأمرين أو الأوامر على تكرار الفعل على حسب الأمر فلا يكون
الإتيان بها مرة كافيا في أداء تلك التكاليف وجهان؟ بل قولان.
وهذه المسألة وإن لم يعنونوا له بحثا في الكتب الأصولية لكن يستفاد الخلاف
فيه بملاحظة ما ذكروه في تداخل الأسباب في الغسل، وما احتجوا به على
التداخل وعدمه في ذلك المقام.
والظاهر كون تعدد التكليف حينئذ قاضيا بتعدد المكلف به فلا يحصل البراءة
من الجميع إلا بتكرار إيجاد الطبيعة على حسب الأمر، وظاهر فهم العرف حينئذ
أقوى دليل عليه.
ولا فرق حينئذ بين ما إذا علم أسباب تلك التكاليف أو لم يعلم شئ منها أو
علم السبب في بعضها دون البعض، وما إذا علم اتحاد أسبابها واختلافها وإن كان
الحكم في صورة تعدد الأسباب أظهر.
فالأصل مع تعدد التكليف عدم تداخل التكاليف في الأداء، إلا أن يدل دليل
على الاكتفاء به، وهذا الأصل كما عرفت من الأصول المستندة إلى اللفظ بحسب
فهم العرف حيث إن المفهوم من الأوامر بعد ضم بعضها إلى البعض كون المطلوب
في كل منها مغايرا للمطلوب بالآخر فيتقيد بذلك إطلاق كل منها، وهذا ظاهر
في التكاليف الثابتة بالأوامر ونحوها من الألفاظ حيث إن فهم العرف حجة كافية
في إثبات ذلك.
وأما في التكاليف الثابتة بغير اللفظ كالإجماع والعقل فيتبع ذلك حال الدليل
القائم عليه، فإن دل على كون المكلف به في كل منها مغايرا للآخر فذاك، وإن لم
يقم دليل على تغاير المكلف به فظاهر الأصل قاض بالاجتزاء بالفعل الواحد
لحصول الطبيعة المطلوبة بذلك.
والتحقيق: أن يقال: إنه لا إطلاق في المقام حتى يمكن التمسك به في حصول
701

الامتثال، والشغل اليقيني بالتكاليف قاض بوجوب تحصيل اليقين بالفراغ
ولا يحصل إلا مع تعدد الأفعال على حسب تعدد التكاليف، فلو كان الواجب هناك
هي الطبيعة المطلقة لا بشرط المغايرة للآخر صح أداؤها بفعل واحد، وإن كان
الواجب هو الطبيعة المقيدة بما يغاير أداء الواجب الآخر لم يصح الاكتفاء بفعل
واحد في أدائها وحيث إن الواجب هناك دائر بين الوجهين توقف البراءة اليقينية
عند اليقين بالاشتغال على مراعاة الوجه الثاني.
والقول بأصالة عدم تقيد الواجبين بما ذكر مدفوع بما عرفت من انتفاء
الإطلاق في المقام ليتمسك في نفي التقييد بالأصل المذكور ومع دوران الأمر بين
تعلق الوجوب بالمطلق والمقيد لا قضاء للأصل بشئ من الوجهين، إذ كما أن
الأصل عدم تعلق الوجوب بالمقيد فكذا الأصل عدم تعلقه بالمطلق، فاللازم
حينئذ هو الرجوع إلى ما يقتضيه اليقين بالاشتغال من تحصيل اليقين بالفراغ.
هذا، والذي يظهر من جماعة من المتأخرين في بحث تداخل الأغسال قضاء
الأصل بالتداخل في المقام وحصول امتثال الجميع بفعل واحد، إلا أن يدل دليل
على لزوم التكرار، والذي يستفاد من كلماتهم في ذلك المقام على ما يظهر مما
ذكره بعض الأعلام التمسك في ذلك بأمرين:
أحدهما: الأصل، فإن تعدد المكلف به خلاف الأصل، وغاية ما يثبت في
المقام تعدد التكاليف وهو لا يستلزم تعدد المكلف به كما عرفت في الصورة
المتقدمة، فإذا أمكن اتحاده كان الأصل فيه الاتحاد وعدم التعدد.
ثانيهما: أن امتثال الأوامر حاصل بإيجاد الطبيعة مرة لإطلاق النص فلا
حاجة إلى التكرار.
وتوضيح ذلك: أن مواد الأوامر حسب ما مر بيانه إنما تفيد الطبائع المطلقة
المعراة عن التقييد بشئ من القيود، وهي حاصلة بالفرد المفروض فيكون الإتيان
به أداء للمأمور به بالنسبة إلى كل من تلك الأوامر نظرا إلى إطلاقها.
ويدفعهما ما عرفت من قضاء العرف بخلاف المذكور، إذ ليس المستفاد عرفا
702

من تلك الأوامر بعد ملاحظة بعضها مع البعض إلا تعدد المكلف به وكون المطلوب
في كل منها مغايرا لما يراد بالآخر، فمواد تلك الأوامر وإن كانت موضوعة بإزاء
الطبائع المطلقة القاضية بأداء الجميع بالإتيان بمصداق واحد لحصول الطبيعة
المطلوبة بتلك الأوامر في ضمنه إلا أن صريح فهم العرف يأبى عن ذلك.
ألا ترى أن السيد إذا قال لعبده: " اشتر منا من اللحم واشتر منا من اللحم " لم
يفهم منه بعد فهم تعدد التكليفين من جهة العطف إلا كون المطلوب بالثاني هو المن
المغاير للأول، فإذا كان الحال كذلك في الأمرين المتعاقبين كان الأمر في غير
المتعاقبين أيضا ذلك، إذ لا يتصور فرق بينهما بعد البناء على تعدد التكليف كما
هو مفروض البحث.
بل فهم العرف حاصل هناك أيضا بعد ملاحظة الأمرين معا والبناء على تعدد
التكليفين من غير تأمل منهم في ذلك، فيكون ذلك في الحقيقة قيدا في المطلوب
بكل من الأمرين أو الأوامر المتعلقة بالطبيعة، وذلك التقييد إنما يستفاد من تعدد
الأمر والتكليف الظاهر في تعدد المكلف به حسب ما بيناه، فكون التقييد مخالفا
للأصل مدفوعا بظاهر الإطلاق غير مفيد في المقام بعد قيام الدليل عليه من جهة
فهم العرف، وكذا الحال فيما ذكر من الأصل فإن الأصل لا يقاوم ظاهر اللفظ.
نعم، لو لم يكن هناك ظهور في اللفظ لم يكن مانع من الاستناد إلى الأصل،
وقد عرفت أن الحال على خلاف ذلك.
ويعضده ملاحظة الأوامر الواردة في الشريعة، فإن معظم التكاليف مبنية على
تعدد المكلف به، كما إذا نذر دفع درهم إلى الفقير ثم نذر دفع درهم اليه... وهكذا
فإنه يلزم بدفع دراهم على حسب النذر الواقع منه ولا يكتفي بدفع درهم واحد
عن الجميع قطعا.
وكذا لو فاتته إحدى اليومية مرات عديدة لم يكتف في قضائها بصلاة واحدة
تقوم مقام الجميع.
وكذا لو وجب عليه قضاء أيام من شهر رمضان لم يكتف بصوم يوم واحد
703

عنها... إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع في أبواب الفقه، وكلها أمور واضحة
لا خفاء فيها.
بل لو أريد الاكتفاء بفعل واحد عن أمور متعددة توقف القول به على قيام
الدليل عليه من نص أو إجماع وكان ذلك خروجا عن مقتضى اللفظ، فاستقراء
تلك المقامات أقوى شاهد على ما ذكرناه.
فإن قلت: إن مادة الأمر إنما وضعت للطبيعة المطلقة حسب ما مر مرارا،
فيكون مفاد كل من الأمرين أو الأوامر طلب الطبيعة المطلقة، فمن أين يجئ فهم
التقييد المذكور إذا لم ينضم إليها قرينة خارجية؟.
قلت: يمكن استناد ذلك إلى ضم أحد الأمرين إلى الآخر، فإن تعدد الإيجاب
ظاهر في تعدد الواجب وتميز كل منهما عن الآخر، ويلزم من ذلك تقييد كل من
المطلوبين بما يغاير الآخر، فلا يصح الخروج عن عهدة التكليف به إلا بأدائه كذلك
على ما هو الحال في معظم الاستعمالات كما عرفت، ومن البين أن المفهوم من
اللفظ بحسب العرف حجة في المقام وإن استند ذلك إلى ضم أحد اللفظين إلى
الآخر ولم يكن كل منهما مستقلا في إفادته.
بل لا يبعد القول في المقام باستناد الفهم المذكور إلى خصوص كل من
الأمرين، لقضاء كل منهما باستقلاله في إيجاب الطبيعة ووجوب الإتيان بها من
جهته، وقضية ذلك تعدد الواجبين المقتضي للزوم الإتيان بهما كذلك حتى يتحقق
الفراغ عنهما، فتعدد الواجبين وإن استند إلى تعدد الأمرين لكن ليس ذلك من جهة
قضاء الانضمام بفهم معنى زائد على ما يقتضيه ظاهر كل من الأمرين بل هو مستند
إلى ما يفهم من كل من اللفظين، غاية الأمر أن يكون تعدد ذلك المعنى مستندا إلى
تعدد الأمرين، فتأمل.
ثالثها: أن يتعلق الأمران أو الأوامر بطبيعتين مختلفتين، وحينئذ إن كان
المقصود منهما مجرد حصول الطبيعة المطلقة على حسب ما مر في الصورة السابقة
اكتفي هنا أيضا في أداء تلك التكاليف بالإتيان بمورد الاجتماع، لصدق حصول
704

المكلف به بتلك التكاليف بأدائه، ولا إشكال أيضا في وجوب مراعاة التعدد
في الأداء لو صرح بكون المطلوب الإتيان بكل من تلك الطبائع بإيجاد مستقل
لا يجامع أداء الآخر به، إذ لا يعقل حينئذ تداخل تلك التكاليف.
وأما إذا أطلقت تلك الأوامر المتعلقة بها فالحال فيه كالصورة السابقة،
فلا يتداخلان في مورد الاجتماع سيما مع اختلاف الأسباب وتعددها على نحو ما
مر ويعرف الحال فيه من المسألة المتقدمة، إذ بعد قضاء تعدد التكليف هناك بتعدد
المكلف به ولزوم تميز كل منهما عن الآخر في الإيجاد فاقتضاء ذلك في المقام
أولى، إذ تعدد المكلف به في الجملة مع تعدد الطبيعتين مما لا مجال للتأمل فيه إنما
الكلام هنا في قضاء تعدد المكلف به تعدد الأداء وتميز كل من الفعلين في الخارج
عن الآخر، وهو أظهر من قضاء الأمرين المتعلقين بالطبيعة الواحدة تعدد المكلف
به في الخارج وتميز كل منهما عن الآخر في الإيجاد.
مضافا إلى جريان الدليل المتقدم هنا أيضا بل الظاهر أن فهم العرف في المقام
أوضح منه هناك، سيما إذا كان بين المفهومين عموم من وجه.
والظاهر جريان الخلاف المتقدم في المقام أيضا، والوجه في القول به ما مرت
الإشارة اليه. ودفعه أيضا ظاهر مما قدمناه.
وينبغي التنبيه على أمور:
أحدها: أنه لو تعلق التكليف بأمور وكانت تلك الأمور في صورة واحدة لم
يقض مجرد ذلك بتصادقهما (1) في الفرد ليكتفى بإيجاده مرة في أدائهما، بناء على
القول بالتداخل، فإن قضية القول بالتداخل جواز الاجتماع بعد العلم باندراجهما
في طبيعة واحدة أو العلم بتصادق الطبيعتين في مصداق واحد، وأما لو لم يثبت
ذلك كتصادق الزكاة والخمس على شئ واحد، أو صدق واحد منهما مع سائر
الصدقات، أو صدقة مع أداء الدين، وكذا تصادق زكاة الفطرة وزكاة المال، وكذا
تصادق سائر الحقوق المالية كمال الإجارة وثمن المبيع ومال المصالحة والقرض

(1) تثنية الضمير هنا وفيما يأتي باعتبار تأويل " الأمور " إلى " الطبيعتين ".
705

وغيرها من الحقوق الثابتة في الذمة، وكذا تصادق صلاة الصبح ونافلتها وتصادق
أحدهما مع صلاة الطواف، وغيرها مما يوافقها في الصورة فلا إشكال في بطلان
القول بالتداخل بالنسبة إليها، ولذا لم يقل أحد بالتداخل في شئ من المذكورات
ولم يذكر فيه ذلك على سبيل الاحتمال أيضا، فإنها طبائع مختلفة متباينة أو غير ثابت
المصادقة وإن كانت متحدة بحسب الصورة، فهي اذن خارجة عن محل الكلام.
فما يظهر من كلام بعض أعاظم الأعلام من إدراج ذلك في مورد التداخل
ليس على ما ينبغي.
وحينئذ فالقول بالتداخل في مسألة الأغسال بالنظر إلى الأصل على القول به
مبني على إثبات تصادق تلك الأغسال وإمكان اجتماعها أو ثبوت كون الغسل
طبيعة ذا أفراد بتعدد جهة التكليف به، وأما مع عدم ثبوت شئ من الأمرين فلا
وجه للقول بالتداخل فيه ولو على القول بأصالة التداخل، فلا تغفل في المقام.
ثانيها: أن محل الكلام ما إذا تعلق الأوامر بطبيعة واحدة قابلة الصدق على
جزئيات أو بطبائع متصادقة في بعض المصاديق أو جميعها، وأما إذا تعلق الأمر
بمجموع أمور هي من أفراد طبيعة واحدة، كما إذا وجب عليه ألف درهم من الزكاة
لم يعقل أن يكون دفع درهم واحد قائما مقام الجميع، ضرورة تعلق الوجوب
بالألف وهو غير صادق على الواحد، فما وقع في المقام من التمثيل بدفع دينار
بدلا عن قنطار ليس على ما ينبغي.
ثالثها: أن محل الكلام في المقام جواز اجتماع المطلوبين المتعددين في
المصداق بأن يكون فعل واحد مجزيا عنهما، وأما إذا كان متعلق المفهوم الذي
تعلق الأمران به كليا صادقا على أفراد فلا يعتبر تعدده في مقام الامتثال، كما إذا
نذر دفع درهم إلى فقير ثم نذر دفع دينار إلى فقير ثم نذر نذرا آخر... وهكذا فلا
إشكال في جواز دفع ذلك كله إلى فقير واحد.
وكذا لو تغايرا في المفهوم وتصادقا في المصداق جاز اختيار مورد الاجتماع
وأداء التكليفين بالنسبة اليه، فلو قال: " أعط الفقير درهما وأعط العالم دينارا "
706

وكان زيد فقيرا عالما جاز دفع المنذورين اليه، ولو نذر شيئا للفقير وشيئا للسيد
وشيئا للعالم فاتفق هناك فقير سيد عالم جاز دفع الكل اليه. ويجري ذلك في
الوصايا والأوقاف وغيرها.
نعم، يجئ بناء على التداخل الاجتزاء بإعطاء درهم واحد إياه واحتسابه
عن الكل لو كان المنذور في كل من النذور المفروضة دفع درهم اليه.
وقد عرفت وهنه ومخالفته لفهم العرف.
ولو كان اتحاد المتعلقين قاضيا باتحاد الفعل المتعلق بهما، كما إذا قال: " آتني
بفقير وآتني بعالم أو قال زر فقيرا أو زر عالما " فاتفق هناك فقير عالم، ففي
الاجتزاء بالإتيان به فيهما - نظرا إلى حصول الأمرين بفعل واحد - أو لزوم تكرار
الفعل ولو بالنسبة اليه وجهان؟
والحق أن ذلك بعينه مسألة التداخل وإنما يجئ التأمل في المثال من جهة
احتمال قضاء المقام بكون المطلوب هو الطبيعة المطلقة، ومع عدم استظهاره
في المقام لا بد من التكرار أيضا حسب ما فصلنا القول فيه.
رابعها: أنهم اختلفوا في تداخل الأسباب وأن الأصل تداخلها حتى يقوم دليل
على خلافه، أو أن الأمر بعكس ذلك، وهذه المسألة قد أشار إليها جماعة من
المتأخرين، وما قررناه من المسألة المذكورة هو عين تلك المسألة في بعض الوجوه.
ولنوضح الكلام فيها حتى يتبين به حقيقة المرام فنقول: إن المراد بالسبب في
المقام هو المقتضى لثبوت الحكم في الشرع مما أنيط به الحكم على ما هو الشأن
في الأسباب الشرعية، سواء كان مؤثرا في ثبوت الحكم بحسب الواقع أو كان
كاشفا عن ثبوت مؤثر آخر كما في كثير من تلك الأسباب، وسواء استحال
الانفكاك بينهما أو جاز التخلف كما هو الغالب نظرا إلى طرو بعض الموانع أو
فقدان بعض الشرائط.
والمراد بتداخل الأسباب إما تداخلها من حيث السببية والتأثير بأن يكون
الحاصل منها مع تعددها سبب واحد، فلا يتفرع على تلك الأسباب إلا حكم واحد
يحصل أداؤه بفعل واحد.
707

أو أن المراد تداخل مسبباتها بأن تكون تلك الأسباب قاضية بتكاليف عديدة
وخطابات متعددة متعلقة بالمكلف والمقصود حينئذ تداخل تلك التكاليف المسببة
عن الأسباب المفروضة بمعنى حصولها في ضمن فرد واحد وتأديتها بفعل واحد،
فيكون قد أطلق تداخل الأسباب على تداخل المسببات من حيث إن ملاحظة
الأسباب إنما هي من جهة المسببات المتفرعة عليها ويكون التأمل في تداخلها
من جهة تعدد الأسباب الموجبة لها.
والأظهر أن يراد بالعبارة المذكورة ما يعم الوجهين، فيكون المقصود بها أن
تعدد الأسباب هل يقضي بتعدد المسبب في الخارج أو لا؟ فيعم ذلك ما إذا قيل
بعدم اقتضائه تعدد التكليف من أصله أو كان مقتضيا لتعدد التكليف، لكن يكون
المكلف به حاصلا بفعل واحد، سواء قيل بكون المكلف به واحدا أو متعددا أيضا،
لكن يقال بحصوله في ضمن فعل واحد.
والوجه الثاني هو ما قررناه من المسألة المذكورة بعينها، إلا أن المفروض
هناك أعم من المفروض هنا حيث إن المفروض هنا تعدد الأوامر مع تعدد
الأسباب القاضية بها والمفروض هناك أعم من ذلك.
وأما الأول فملخص القول فيه: إنه إن كان الفعل الذي توارد عليه الأسباب
المفروضة غير قابل للتعدد في الخارج فلا إشكال في كون المطلوب هناك فعلا
واحدا، سواء ثبت بكل من الأسباب المفروضة تكليف بذلك الفعل فيتأكد الحكم
فيه نظرا إلى تعدد جهات ثبوته، أو لم يؤثر في ثبوت الحكم إلا واحد منها.
وإن كان قابلا للتعدد في الخارج فإن ظهر كون الأسباب المفروضة سببا
لتكليف واحد فلا إشكال أيضا في عدم الحاجة إلى تكرار المكلف به على حسب
تلك الأسباب، كما في الجنايات المتعاقبة الموجبة للتكليف بالغسل والأحداث
الصغرى المتواردة الباعثة للتكليف بالوضوء عند وجوب المشروط به، إذ
المفروض كون الحاصل منها تكليفا واحدا متعلقا بالغسل أو الوضوء الحاصل
بأدائه مرة.
708

وإن ظهر كون كل منها سببا للأمر فلا كلام أيضا في تعدد التكاليف، ويقضي
ذلك إذن بتعدد المكلف به وتعدد الأداء على التفصيل الذي بيناه.
وإن لم يظهر شئ من الأمرين وشك في كونها أسبابا لأمر واحد أو أوامر
متعددة يتوقف الفراغ منها على تكرار الفعل على حسبها فهل يبنى على الأول
أو الثاني؟ وجهان، أظهرهما الأول، أخذا بمقتضى الأصل السالم عن المعارض،
وما يتمسك به في مقابلة الأصل مدفوع بما سيأتي بيانه.
وظاهر بعض أعاظم الأعلام: أن الأصل تعدد المسببات عند تعدد الأسباب
مطلقا واحتج له بوجوه:
منها: أنه مما اتفق عليه الأصحاب وعليه يدور رحى الفقه في كل باب ولم
يخالف فيه سوى جماعة من المتأخرين، وقد استند اليه الفقهاء الأثبات وأرسلوه
إرسال المسلمات وسلكوا به سبيل المعلومات ولم يخرجوا عنه إلا لدليل واضح
أو اعتبار لايح، كما يدل عليه ملاحظة المقامات التي قالوا بالتداخل فيها.
ومنها: استقراء الشرعيات في أبواب العبادات والمعاملات، فإن المدار فيها
على تعدد المسببات عند تعدد الأسباب عدا نزر قليل، مستندا إلى ما قام عليه من
الدليل، وهو من قبيل الاستدلال بالنصوص المتفرقة الواردة في الجزئيات على
ثبوت القاعدة، وليس من الاستناد إلى مطلق الظن ولا القياس في شئ.
ومنها: أن اختلاف المسببات إما أن يكون بالذات كالصوم والصلاة والحج
والزكاة ولا كلام فيه، أو بالاعتبار كصلاة الفجر أداء وقضاء، والاختلاف في الثاني
ليس إلا لاختلاف النسبة والإضافة إلى السبب، فإن صلاة ركعتين بعد الفجر لمن
عليه صبح فائتة صالحة لها وللحاضرة وإنما تختلف وتتعدد باعتبار نسبتها إلى
دخول الوقت وخروجه، ومثل ذلك حاصل في كل ما ينبغي فيه التداخل، إذ
المفروض فيه اختلاف الأسباب التي يختلف بها النسب واختلاف النسبة متى كان
مقتضيا للتعدد في شئ كان مقتضيا له في غيره، لأن المعنى المقتضي للتعدد
حاصل في الجميع قائم في الكل.
709

ومنها: أن ظاهر الأسباب المتعددة قاض بتعدد مسبباتها، نظرا إلى تبادر
الاختصاص المقتضي للتعدد، فإن مفاد قوله: " من نام فليتوضأ ومن بال فليتوضأ "
اختصاص كل سبب بمسببه فيجب الوضوء بخصوصه لأجل النوم كما يجب كذلك
لأجل البول، فالمستفاد منه وجوب وضوءين عند عروض الأمرين.
ومنها: أن الثاني من السببين المتعاقبين ينبغي أن يثبت به المسبب، لعموم ما
دل على سببيته والثابت به غير الأول، لأن الظاهر من ترتب طلبه على حصول
سببه تأخره عنه، كما هو الشأن في سائر الأسباب بالنسبة إلى مسبباتها، فيكون
مغايرا للمطلوب بالأول، ضرورة حصوله بالسبب الأول قبله فيتعدد المسبب كما
هو المدعى.
ويمكن المناقشة في الجميع.
أما في الأول فبأن دعوى الاجماع على ذلك مطلقا غير واضحة، بل لو ثبت
هناك إجمال فإنما هو فيما إذا ثبت بالأسباب العديدة تكاليف متعددة وأريد
أداؤها بمصداق واحد، كما هو ظاهر من ملاحظة موارد ما ذكره من الجريان عليه
في أبواب العبادات والمعاملات، وليس توقف الأداء على الإتيان بالمتعدد إلا مع
ثبوت تعدد التكليف وهو أول الكلام في المقام.
وأما في الثاني فبما أشرنا اليه من أن تعدد التكليف هناك هو القاضي بتعدد
المكلف به حسب ما بيناه، يعرف ذلك من ملاحظة الأمثلة التي ذكرها المستدل (قدس سره)
حيث مثل لذلك بالصلوات المتوافقة من فائتة وحاضرة، والفوائت المتعددة من
الفرائض والنوافل، والفرائض المتوافقة كصلاة الزلزلة والآيات وصلاة الطواف
والنافلة والنافلة والفريضة المتوافقتين كصلاة العيد والاستسقاء، وزكاة المال
والفطرة إلى غير ذلك مع أن اندراج أكثر ما ذكره في مورد التداخل محل كلام
مرت الإشارة اليه، فكيف يثبت به ما نحن بصدده من إثبات تعدد التكليف بمجرد
تعدد السبب؟!.
وأما في الثالث فبأن الاختلاف الحاصل بسبب النسبة والإضافة قد يكون
710

منوعا للفعل بحيث لا يجوز اجتماع أحدهما مع الآخر، كصلاة الظهر والعصر
وأداء الدين والزكاة أو الخمس، وهو خارج عن محل الكلام، إذ محل البحث ما
إذا كان المطلوب نوعا واحدا أو نوعين متصادقين ولو في بعض المصاديق فأريد
أداؤهما باختيار مورد الاجتماع، والمفروض هنا أن أحد الاعتبارين لا يجامع
الآخر ومع الخلو عن الاعتبارين لا يقع خصوص شئ من الأمرين، ولو فرض
وقوع أحدهما في بعض الفروض فلا يقع الآخر، إذا أمكن اجتماع الاعتبارين
لحصول المطلوب بكل من الأمرين بذلك كان موردا للبحث.
وحينئذ فعدم إمكان التداخل في الصورة الأولى نظرا إلى تباين الاعتبارين،
وعدم إمكان اجتماعهما لا يقضي بعدم جواز الجمع بينهما في مورد النزاع مما لم
يقم فيه دليل على التباين وأمكن اعتبار الأمرين بظاهر الإطلاق.
فالقول بأن المعنى المقتضي للتعدد حاصل في الكل غير مفهوم المعنى، فإنه
إن أريد به أن اعتبار مجرد الإضافة والنسبة بأحد الوجهين قاض بعدم صحة ضم
الأخرى معه فهو في محل المنع، غاية الأمر أن يقال به في بعض الفروض مما قام
الدليل فيه على تباين الاعتبارين.
وإن أريد به أن الإضافة والنسبة قاضية بتعدد الأمرين في الجملة ولو في
الاعتبار فهو كذلك، ولا ينافي التداخل الملحوظ في المقام، لحصول المغايرة
الاعتبارية مع ذلك أيضا.
والحاصل أنه مع انفكاك إحدى الإضافتين عن الأخرى يكون مغايرتهما في
المصداق حقيقية ومع حصولهما تكون المغايرة اعتبارية.
على أنه قد يحصل الأمران من غير حاجة إلى مراعاة الإضافة والنسبة، كما
إذا قال: " أكرم هاشميا وأكرم عالما " فإذا أكرم هاشميا عالما فقد أتى بإكرام
الهاشمي والعالم من غير حاجة إلى ملاحظة الاعتبارين.
وأما في الرابع فبأن دعوى الظهور المذكور على إطلاقها في محل المنع، نعم
تعدد الأمرين المتعلقين بالفعل مع ظهور عدم إرادة التأكيد قاض بذلك، سواء تعدد
711

سببه أو اتحد، كما مر بيانه، فلو لم يكن هناك ما يظهر منه تعدد التكليف سوى تعدد
السبب كان استفادة تعدد التكليف منه بمجرده محل تأمل، بل الظاهر عدمه.
ألا ترى أنه لو قيل: " إن البول سبب لوجوب الوضوء والريح سبب لوجوبه
لم يفهم من اللفظ وجوب وضوءين عند عروض الأمرين إذا احتمل أن يكون
كل منهما سببا لوجوبه في الجملة حتى أنهما إذا اجتمعا لم يكن هناك إلا وجوب
واحد، وكذا الحال لو قيل: " إن إدخال الحشفة سبب لوجوب الغسل والإنزال
سبب لوجوبه ".
وقد يناقش في العبارة المذكورة أيضا بأن ظاهر لفظ السبب يقتضي فعلية
التسبيب، وهو لا يجامع كونهما سببين لمسبب واحد، إذ مع اجتماعهما لا يكون
السببية إلا لأحدهما ويكون الآخر سببا بالقوة، وهو خلاف ظاهر اللفظ القاضي
بسببية كل منهما فعلا.
ويدفعه أن السببية الشرعية لا ينافي عدم فعلية التأثير لصدق السببية الشرعية
مع شأنية التأثير قطعا، بل مراعاة التأثير غير معتبرة في الأسباب الشرعية من
أصلها، ولذا لم يكن هناك مانع من اجتماعهما على سبب واحد، كما هو ظاهر من
ملاحظة مواردها، ومنها المثالين المذكورين.
ودعوى كون إطلاق السبب منصرفا إلى ما يكون مؤثرا بالفعل محل منع أيضا.
على أنه لا يجري ذلك فيما لو عبر عن السببية المفروضة بلفظ آخر خال عما
ادعي من الظهور.
وبما ذكرنا يظهر الجواب عن الخامس أيضا، فإن الأسباب الشرعية ليست
بمؤثرات حقيقية في الغالب، كما نص عليه المستدل (قدس سره) في أول كلامه وإنما هي
كاشفة في الغالب عن المؤثرات، فما ذكر في الاحتجاج من أن الثابت بالسبب
الثاني لا بد أن يكون مغايرا للمطلوب الأول - ضرورة تأخر المسبب عن سببه -
ليس على ما ينبغي، إذ لا مانع من كون السبب الثاني كاشفا عن المسبب الأول
أيضا، وأيضا قد يكون مسببه تكليفا آخر متعلقا بالفعل الأول فيتأكد جهة التكليف
به من غير حاجة إلى تكراره.
712

فتحصل من جميع ما ذكرنا أن مجرد تعدد الأسباب الشرعية لا يقضي بلزوم
تعدد الأفعال المتفرعة عليها، بل يمكن تواردها على محل واحد من غير خروج
عن ظاهر الحكم بكونها أسبابا، وقد يقتضيان حصول جهتين للتكليف بالفعل
فيتعدد التكليف دون المكلف به كما هو الملحوظ في المقام.
نعم، تعدد التكليف قاض بتعدد المكلف به، وتعدد المكلف به قاض بتعدد
الأداء حسب ما مر بيانه فيما قررناه من المسألة.
أما مجرد تعدد السبب مع عدم ثبوت تعدد التكليف فلا قضاء فيه بتعدد
التكليف ولا تعدد المكلف به ولا تعدد الأداء.
نعم، في تعدد السبب بعد ظهور تعدد التكليف تأييد للدلالة على تعدد المكلف
به ولزوم تعدد الأداء، كما مرت الإشارة اليه.
خامسها: أن تداخل التكاليف بناء على القول بها مطلقا أو على ما ذكرناه من
التداخل في بعض الصور المذكورة فهل يتوقف حصوله على نية الكل تفصيلا،
أو إجمالا، أو يحصل قهرا مع عدم نية خلافه، أو ولو نوى الخلاف مع نية البعض
فيدخل فيه الباقي تبعا، أو ولو من دون نية خصوص شئ من الأمرين إذا أتى
بصورة الفعل المشترك بين الكل وجوه؟
والذي يقتضيه التأمل في المقام أن يقال: إن المطلوب بالأمرين الحاصلين
في المقام إما أن يكون من قبيل العبادة، أو من غيرها، أو يختلف الحال فيه.
ثم إن أداءه إما أن يتوقف على قصده ونيته، أو أنه مما يحصل بأداء صورته،
فإن كان كل من الأمرين مما يحصل بأداء صورته من غير توقف له على نيته فلا بد من
الحكم بالتداخل فيه مطلقا من غير توقف له على نيته، فلا توقف له على تعيين
شئ من المطلوبين ولا على قصد امتثال الأمرين.
نعم، لو كانا أو أحدهما عبادة توقف حصول الأمرين على قصد القربة،
فلو نوى القربة بأحدهما وغفل عن الآخر حصل أداؤه أيضا مع عدم قصد التقرب
به بل ومع الغفلة عنه من أصله، لما عرفت فيما قررناه سابقا من عدم توقف العبادة
713

إلا على اقتران قصد القربة في الجملة وأما اعتبار قصد التقرب بملاحظة خصوص
الأمر الوارد بها فلا، ولذا قلنا بإمكان صحة العبادة مع عدم صدق الامتثال بالنسبة
إلى الأمر المتعلق بها، فيكون ما يأتي به مسقطا للأمر المتعلق بتلك العبادة،
نظرا إلى أداء الواجب به.
فغاية الأمر في المقام أن يقال بعدم صدق الامتثال بالنسبة إلى العبادة
المفروضة وعدم ترتب الثواب عليها من تلك الجهة، وقد عرفت أنه لا مانع من
صحة العبادة ووقوعها وسقوط الواجب بها بعد اقترانها بقصد القربة لجهة مصححة
له وإن لم يحصل بها امتثال الأمر المتعلق بتلك العبادة.
ويحتمل في بادئ الرأي عدم وقوع العبادة الغير المقصودة، إذ المقصود من
العبادة حصول الامتثال والطاعة، وهو غير حاصل مع عدم القصد إلى العبادة
المفروضة بل ومع القصد إلى عدم أدائها.
والأظهر بعد التأمل هو الوجه الأول حسب ما مر الوجه فيه.
نعم، لو أريد امتثال الأمرين وترتب الثواب عليه من الوجهين توقف ذلك
على قصد التقرب به من الجهتين، وفي الاكتفاء بالنية الإجمالية حينئذ مع عدم
التفطن للتفصيل وجه، سيما إذا علم تعلق الأمرين به ولم يعلم خصوصية شئ
منهما فأتى به من جهة تعلق الأمر به كائنا ما كان.
ولو توقف الإتيان به على قصده ونيته - كما في الغسل فإن صدق اسمه
يتوقف على نيته وإلا كان غسلا محضا، وكأداء الزكاة فإن دفع المال مع عدم
قصدها يكون عطية ولا يعد زكاة - فإن كان كل من المطلوبين على الوجه المذكور
فلا إشكال في توقف إيقاعهما على قصدهما، ولو نوى به أحدهما وقع به ذلك دون
غيره سيما إذا نوى عدم وقوعه، فلا يتداخلان بناء على القول بالتداخل إلا بالنية،
هذا بالنسبة إلى قصد أصل الفعل، وأما بالنسبة إلى نية القربة فالحال فيه كالمسألة
المتقدمة من غير فرق.
والظاهر أن الأغسال من هذا القبيل فلا تتداخل بعد القول بعدم مباينتها
كما هو الظاهر إلا مع قصد الكل.
714

نعم، لو تم الدليل على الاجتزاء بفعل واحد عن الجميع ولو من دون قصد اتبع
ذلك، وكان مخرجا له عن حكم القاعدة.
ولو توقف أحدهما على نيته دون الآخر فإن نواه أو نواهما معا وقعا معا،
وإلا وقع الآخر خاصة وتوقف الإتيان بالأول على أداء الفعل ثانيا مع القصد اليه.
سادسها: قد عرفت أن مورد التداخل على القول به ما إذا كان المطلوبان من
طبيعة واحدة أو من طبيعتين متصادقتين ولو في بعض المصاديق، وأما إذا كان
بينهما مباينة في الخارج فلا كلام في عدم التداخل وإن اتحدا في الصورة.
وحينئذ فنقول: إن علم التباين أو التصادق فلا كلام، وأما إذا شك في تباين
الطبيعتين وعدمه مع اتحادهما صورة - كغسل الجنابة وغيره من الأغسال إذا شك
في اجتماعهما في مصداق واحد - فهل يبنى على المباينة وعدم جواز التداخل
حتى يتبين التصادق، أو على جواز التداخل نظرا إلى الاتحاد في الصورة وعدم
ثبوت المباينة فيجزي المأتي به عن الأمرين؟ وجهان.
والمتجه هو الأول، إذ مع احتمال التباين لا يمكن الحكم بتصادق الطبيعتين
في مصداق واحد، نظرا إلى قضاء اليقين بالاشتغال باليقين بالفراغ وعدم قيام
دليل على اجتماع المطلوبين في ذلك ليحكم معه بالفراغ، ومجرد الاحتمال غير
كاف في تحصيل البراءة، بل لا يمكن الخروج بذلك عن عهدة التكليف بأحدهما
أيضا مع قصد الأمرين بإزائه حسب ما يأتي الإشارة اليه إن شاء الله.
فإن قلت: لو كان الحال على ما ذكر لم يكن هناك محصل للبحث عن مسألة
التداخل، فإنه إن علم اجتماع الطبيعتين في مصداق واحد وحصولهما معا في فرد
واحد كان ذلك قولا بالتداخل، ولا يصح إنكاره حينئذ ممن ينكر أصالة التداخل
لقيام الدليل حينئذ على حصول الأمرين، وإن لم يعلم حصولهما في مصداق واحد
وعدمه فالمفروض خروجه عن موضع البحث، إذ لا يصح على القول بأصالة
التداخل تداخلهما في المقام بمقتضى الأصل حسب ما ذكر، فلا يبقى مورد للبحث
عن التداخل ليصح ورود القولين عليه.
715

قلت: المنظور بالبحث في مسألة التداخل اجتماع المطلوبين في مصداق
واحد والاجتزاء به عنهما، وهو فرع اجتماع نفس الطبيعتين وتصادقهما، إذ مع
مباينتهما لا مجال لاحتمال الاجتماع، ومع احتمالها لا مجال للحكم به ليحكم
بفراغ الذمة عن التكليفين بأدائه.
وما ذكر من أن الحكم بالاجتماع هو مفاد التداخل، فلا مجال إذن لإنكاره
موهون جدا، لوضوح الفرق بين اجتماع المطلوبين في فعل واحد ليقوم في
حصول الامتثال مقام الفعلين وحصول الطبيعتين في مصداق واحد، والمنكر
للتداخل لا يمنع من الثاني وانما يقول بمنع الأول لدعوى فهمه تقييد الطبيعة
المطلوبة بكل من الأمرين بغير ما يؤدى به الآخر، كما في قوله: " جئني بهاشمي
وجئني بعالم " فإنه مع البناء على عدم التداخل لو أتى بهاشمي عالم لم يجزه عنهما
مع حصول الطبيعتين به قطعا، فمجرد اجتماع الطبيعتين لا يقضي بحصول
المطلوبين، لاقتضاء كل من الأمرين أداء الطبيعة المطلوبة مستقلا مغايرا لما يؤدى
به الآخر، فيجري مصداق الاجتماع عن أحد الأمرين دون كليهما.
فإن قلت: لو كان مجرد احتمال التباين وعدم اجتماع الطبيعتين قاضيا بعدم
الحكم بالتداخل لم يثمر المسألة في كثير من المقامات، لقيام الاحتمال المذكور
كما في الأغسال ونحوها.
قلت: إن مجرد قيام الاحتمال المذكور غير مانع من التداخل مع قضاء
الإطلاق بحصول الطبيعتين في مصداق واحد، كما إذا قال: " اغتسل للجنابة
واغتسل للجمعة " فإنه إذا أتى بغسل واحد للأمرين فقد صدق معه حصول الغسل
للجنابة والجمعة، ولا يمنع منه احتمال المباينة بين الغسلين وعدم اجتماعهما في
مصداق، فإنه مدفوع بظاهر الإطلاق، فتأمل.
الثامن
أنه إذا تعلق أمران بالمكلف وكان المطلوب بهما متحدا في الصورة فهل
يتوقف أداء المأمور به على تعيين كل من الفعلين بالنية على وجه ينصرف ما يأتي
716

به إلى خصوص أحد الفعلين، أو يكتفي الإتيان بفعلين على طبق الأمرين؟
وجهان، والصحيح في ذلك التفصيل حسب ما نقرره إن شاء الله.
وتفصيل الكلام في ذلك أن يقال: إن المطلوبين المتحدين في الصورة إما أن
يكونا متفقين في الحقيقة ليكون المطلوب بالأمرين فردان من طبيعة واحدة،
أو يكونا مختلفين فيها.
وعلى كل من الوجهين فإما أن يكون الحكم المتعلق بهما متحدا كالوجوب
والندب، أو مختلفا.
فإن كان المطلوبان طبيعتين مختلفتين فإما أن يكون انصراف تلك الصورة
إلى كل منهما منوطا بالنية بحيث يكون كل منهما منوطا بقيد لا يحصل إلا مع
قصده - كما في دفع المال على وجه الزكاة أو الخمس وأداء ركعتين على أنهما
فريضة حاضرة أو نافلة - أو يكون انصرافه إلى أحدهما غير متوقف على ضم قيد
وانما يتوقف عليه انصرافه إلى الآخر كما في دفع المال إلى الفقير على وجه العطية
ودفعه اليه على وجه الزكاة، فإن مجرد الدفع اليه من غير اعتبار شئ معه ينصرف
إلى العطية المطلقة لحصولها بنفس الدفع من غير حاجة إلى ضم شئ آخر اليه،
بخلاف كونه زكاة لافتقاره إلى ضم ذلك الاعتبار.
فعلى الثاني ينصرف الفعل مع الإطلاق إلى ما لا يحتاج إلى ضم القيد ويكون
انصرافه إلى الآخر متوقفا على ضم القيد لا ينصرف اليه من دونه.
وعلى الأول لا بد في حصول البراءة من أي من التكليفين على انضمام نيته
ولو أتى بالفعل مطلقا بطل ولم يحتسب من شئ منهما، إذ المفروض توقف
حصول كل منهما على ضم النية، فمع الإطلاق وعدم الانضمام لا يقع شئ من
الخصوصيتين.
وأيضا فإما أن يقال بانصرافه إليهما، أو إلى أحدهما مبهما أو معينا،
أو لا ينصرف إلى شئ منهما.
والأول فاسد وكذا الثاني، لعدم وقوع المبهم في الخارج ومثله الثالث، لبطلان
717

الترجيح بلا مرجح، فانحصر الأمر في الرابع، وهو المطلوب.
وإن كان المطلوبان من طبيعة واحدة فإما أن يكون كل من المطلوبين أو
أحدهما مقيدا بقيد غير ما اخذ في الآخر، أو يكونا مطلقين ليكون مفاد الأمرين
مفاد الأمر بإتيان الطبيعة مرتين، أو يكون أحدهما مطلقا والآخر مقيدا.
فعلى الأول لا بد من ضم النية إلى كل منهما لينصرف بها إلى ما هو مطلوب
الآمر، نظرا إلى أن المطلوب بكل من الأمرين خصوص المقيد ولا يحصل ذلك من
دون ضم النية بعد اتحادهما في الصورة، كما إذا وجب عليه صلاة ركعتين لميت
مخصوص ووجب عليه ركعتين أخريين لميت آخر، فلو أتى بفعلين على وجه
الإطلاق لم ينصرف إلى شئ من الأمرين، كيف! وقد عرفت في الصورة المتقدمة
دوران الأمر بين وجوه أربعة لا سبيل إلى ثلاثة منها، فيتعين الرابع، ومعه يبقى
التكليفان على حالهما.
وكذا الحال في الثالث بالنسبة إلى انصرافه إلى المقيد، ومع الإطلاق وعدم
ملاحظة الخصوصية ينصرف حينئذ إلى جهة الإطلاق، نظير ما مر في الصورة
المتقدمة.
وأما على الثاني فهل يتوقف أداء كل منهما على ملاحظة خصوص الأمر
المتعلق به ليتعين الفعل الواقع له، أو يصح مع الإطلاق أيضا - فيحصل امتثال
الأمرين إن أتى به مرتين، وإلا كان امتثالا لأمر واحد -؟ وجهان.
والذي يقتضيه ظاهر القاعدة في ذلك عدم لزوم التعيين وجواز الإتيان به
على وجه الإطلاق، إذ المفروض كون الجميع من طبيعة واحدة من غير أن يتقيد
بشئ سوى التعدد في الأداء والمفروض أيضا حصول المأمور به على حسب ما
تعلق الأمر به، فلا بد من حصول الواجب وسقوط التكليف، فهو بمنزلة ما إذا تعلق
الأمر بالإتيان بتلك الطبيعة مرتين على أن يكون كل من المرتين واجبا مستقلا في
نظر الآمر، إذ لا شك حينئذ في حصول الامتثال بالإتيان بالطبيعة مرتين من غير
اعتبار نية التعيين في أداء كل من الفردين، بل لا يمكن فيه ذلك لعدم تميز كل من
718

الأمرين عن الآخر، نظرا إلى حصولهما بصيغة واحدة.
فإن قلت: إنه لما كان التكليف بالفعل هناك بصيغة واحدة كان طريق الامتثال
فيه على الوجه المذكور، إذ المفروض اتحاد صيغة الأمر، والمقصود بكل فعل هو
امتثال ذلك الأمر، مضافا إلى ما ذكر من عدم إمكان التعيين، وأما مع تعدد الأمرين
كما هو المفروض في المقام فلا وجه لذلك، لاختلاف التكليفين وإمكان ملاحظة
كل منهما في أداء الواجب، فلا بد من ملاحظته ليتحقق بذلك الفعل أداؤه.
قلت: العبرة في المقام بتعدد نفس التكليف، والمفروض حصول تكليفين في
الصورتين من غير أن يكون الجميع تكليفا واحدا في شئ من الوجهين، فلا فرق
بين أداء المطلوب بصيغة واحدة أو صيغتين، فإذا تحقق الامتثال في الصورة
الأولى فينبغي تحققه في الثانية أيضا.
وإمكان التعيين وعدمه لا يقضي بالفرق، ضرورة أنه إن أمكن صدق الامتثال
مع عدم التعيين لم يكن فرق بين القسمين، وإلا كان عدم إمكان التعيين قاضيا
بالمنع من وقوع التكليف على الوجه المفروض، ولما كان كل من جواز التكليف
على الوجه المذكور وتحقق الامتثال معلوما قضى ذلك بحصوله في المقام.
وأيضا من الظاهر كون المطلوب بالأمر هو أداء المأمور به وإيجاده في
الخارج والمفروض تحققه كذلك، فأي مانع من تحقق الواجب؟
نعم، لو كان قصد امتثال خصوص الأمر المتعلق بالفعل شرطا في أداء الواجب
فربما أشكل الحال في المقام، وقد عرفت أنه لا وجه لاشتراطه.
والقول بلزوم قصد الامتثال في العبادة قطعا فلا يتم ذلك بالنسبة إليها مدفوع
بما عرفت من أن القدر المعتبر في العبادة هو قصد الامتثال على سبيل الإطلاق،
وأما اعتبار كونه امتثالا لخصوص الأمر المخصوص فمما لا دليل على اعتباره.
فإن قلت: لا شك أنه مع عدم تعيين الفعل الواقع منه لأداء خصوص كل من
المطلوبين لا يمكن انصراف ما يأتي به أولا إلى خصوص شئ منهما، لبطلان
الترجيح بلا مرجح حسب ما مر نظيره في الصورة المتقدمة، وكذا الحال فيما يأتي
719

به ثانيا، فكيف يصح الحكم بأداء الواجبين مع عدم إمكان الحكم بانصراف شئ
من الفعلين إلى شئ من الواجبين؟
ومع الغض عن ذلك فأقصى ما يقال في المقام كون مجموع الفعلين أداء
لمجموع الواجبين من غير ملاحظة لخصوص كل من الفعلين بالنسبة إلى خصوص
كل من الأمرين، ولا يتم ذلك فيما إذا أتى بأحد الفعلين كذلك ولم يتمكن من
الآخر أو تعمد تركه مثلا، إذ لا يمكن صرفه حينئذ إلى خصوص شئ من
التكليفين وكونه أداء لأحد الواجبين على سبيل الإبهام غير متصور أيضا،
إذ لا يعقل حصول المبهم في الخارج.
قلت: قد عرفت أن المتحصل من الأمرين المفروضين هو وجوب الإتيان
بالطبيعة المفروضة مرتين من غير فرق بين مفاد التعبيرين، فكما أنه إذا أتى هناك
بأحد الفردين فقد حصل أحد الواجبين قطعا فكذا في المقام وإن لم يتعين ذلك
أداء لخصوص ما أمر به في كل من الأمرين، إذ لا يعتبر ذلك في أداء الواجب،
فهو إذن قد أدى أحد الواجبين وبقي الآخر وإن لم يتعين خصوص المؤدى
والباقي في الذمة، وليس ذلك من قبيل الحكم بوجود المبهم في الخارج، إذ
لا إبهام في الفعل الواقع في الخارج، ولا في جهة وقوعه، فهو أداء لبعض ما ثبت
وجوبه بالأمرين.
وقد يستشكل في المقام بأنه قد اشتغلت الذمة بأداء ما تعلق به كل من
الأمرين المفروضين، وبعد الإتيان بالفعل المفروض لا يمكن الحكم بتفريغ الذمة
عن خصوص شئ من التكليفين، ضرورة بطلان الترجيح من غير مرجح،
والحكم بسقوط واحد منهما على سبيل الإبهام إثبات لحكم وجودي للمبهم
الواقعي وهو محال، فلا بد من القول ببقاء الأمرين معا، فلا يكون الفعل المفروض
أداء لشئ من الواجبين.
ويمكن دفعه بأنه لا مانع من الحكم بسقوط أحد الواجبين عن الذمة، لتعين
أحد الأمرين في الذمة كما أنه يمكن الحكم باشتغالها بأحد الشيئين، فحينئذ
720

يحكم بسقوط أحد الواجبين الثابتين في الذمة وثبوت الآخر فيها كذلك بعدما
حكم بثبوتهما معا، وعدم صحة الحكم بسقوط خصوص كل من الواجبين
لا يقتضي الحكم ببقائهما معا، لانقلاب كيفية الاشتغال حينئذ فهي إذن غير مشغولة
بخصوص كل من الواجبين غير بريئة من خصوص كل منهما بل مشغولة بأحدهما
بريئة من أحدهما.
وحينئذ فهل يتعين عليه الإتيان بالآخر أيضا على نحو الاجمال، أو يتخير
بينه وبين تعيينه أداء خصوص أحد الواجبين؟ وجهان.
والمتجه منهما هو الثاني، لكون أداء الواجب في الأول على نحو كلي صالح
لوقوعه أداء لكل من الواجبين، فإذا عين أحدهما فيما أتى به ثانيا تعين له وقضى
بصرف فعله الأول إلى الآخر.
فإن قلت: إنه لو كان أحد الفعلين المفروضين واجبا والآخر مندوبا وأتى
بالفعل مطلقا لم يصح الحكم بسقوط أحد التكليفين المفروضين بالخصوص، كما
هو الحال فيما إذا اتفقا في الحكم، لما عرفت من لزوم الترجيح بلا مرجح،
ولا وجه هنا للحكم بسقوط أحدهما على سبيل الإطلاق حسب ما ذكر هناك
لاختلاف الحكمين نوعا مع أن الفعل الواقع في الخارج لا يخلو عن الاتصاف
بالوجوب أو الندب مثلا، ومع البناء على الوجه المذكور لا يصح اتصاف خصوص
شئ من الفعلين الواقعين في المقام بخصوص شئ من الحكمين حسب
ما عرفت.
قلت: يمكن دفع ذلك بوجهين:
أحدهما: أنه لا مانع من اتصاف أحد الفعلين الحاصلين بالوجوب والآخر
بالندب من غير أن يتميز خصوص الواجب عن المندوب.
ألا ترى أنه إذا أوجب السيد على عبده دفع درهم إلى الفقير وندب دفع درهم
آخر اليه فدفع اليه العبد درهمين من غير أن يعين أحدهما بخصوصه لأداء الواجب
والآخر لأداء المندوب فإنه لا يشك أهل العرف في صدق الامتثال وحصول
721

البراءة والخروج عن عهدة التكليفين مع عدم تعين خصوص الواجب والمندوب.
والوجه فيه ظاهر أيضا، فإن قضية إطلاق الأمر حصول كل من المطلوبين
بأداء الطبيعة المطلقة، حسبما قرر في الصورة المتقدمة، ولا دليل على لزوم اعتبار
التعيين سوى ما يتخيل من عدم انصراف شئ من الفعلين إلى خصوص الواجب،
فيبقى التكليف على حاله.
ويدفعه ما عرفت من أنه وإن لم ينصرف اليه خصوص كل من الفعلين إلا أنه
يتصف أحدها بالوجوب قطعا، وهو كاف في أداء الواجب لحصول المطلوب به،
فيكون المتصف بالوجوب في الخارج هو أحد الفعلين الحاصلين من غير أن
يتصف به خصوص شئ منهما فيكون الواجب في الخارج أمرا دائرا بين الأمرين.
فإن قلت: إن الوجوب صفة خارجية لا بد له من متعلق متعين في الخارج
ليصح قيامه به فكيف يمكن أن يتصف به الأمر المبهم الدائر بين شيئين؟.
قلت: وجوب الفعل إنما يتعلق بذمة المكلف، فكما أنه لا مانع من تعلق
الوجوب بالطبائع الكلية كما هو الحال في معظم التكاليف المتعلقة بذمة المكلف
ولا مانع أيضا من كون أحد أفراد الكلي متصفا بالوجوب والآخر بالندب كذا
لا مانع من حصول الواجب بأحد الفردين المتحققين في الخارج، فيكون الوجوب
قائما بمفهوم أحدهما الصادق على كل منهما على سبيل البدلية.
فإن قلت: إنه ليس في الخارج إلا خصوص كل من الفردين والمفروض عدم
اتصاف شئ منهما بالوجوب، فأين محل الوجوب؟.
قلت: ليس الوجوب كسائر الصفات الخارجية الموجودة في الخارج وإنما
هو أمر اعتباري متعلق بالفعل ملحوظا إلى ذمة المكلف ولا مانع من تعلقه بأحد
الفعلين خارجا في لحاظ العقل تبعا لوجود الفردين، إذ مع الحكم بوجود الفردين
يحكم بوجود أحدهما الصادق على كل منهما قطعا، فلا مانع من أن يكون ذلك هو
متعلق الوجوب فيكون الوجوب قائما به والواجب حاصلا بحصوله.
يرشدك إلى ذلك أنه إذا أوجب السيد على عبده أحد فعلين وندب عليه
722

الآخر من دون تعيين فأتى بهما معا، كما إذا أوجب عليه دفع أحد الرغيفين إلى
الفقير وندب عليه دفع الآخر فدفعهما معا لم يكن هناك ريب في تحقق الامتثال،
كما يشهد به صريح العرف من غير حاجة إلى تعيين خصوص الواجب والمندوب
في النية، وليس الحال فيه إلا على ما قررناه.
فظهر بذلك أنه لا يتصور مانع من حصول الوجوب في الخارج على نحو
لا يتشخص متعلقه بل يكون أمرا مطلقا دائرا بين فردين أو أفراد وليس القول به
حكما بوجود شئ في الخارج على سبيل الإبهام، بل في اعتبار متعلقه على
الوجه المفروض نحو من التعيين بالنسبة اليه لصحة حصوله على الوجه المفروض
وعلى غيره حسب ما بيناه.
ولا مانع أيضا في المقام من جهة إبهام الفعل الواقع الدائر بين الواجب
والمندوب، إذ المفروض تعلق الأمر هناك بنفس الطبيعة المطلقة وكون الفردين من
طبيعة واحدة.
ومجرد دوران حكم الفرد بين أمرين لا يقضي بإبهام الفعل الواقع،
إذ المفروض عدم قضائه باختلاف النوع ولا بتقييد المأمور به بالحكم المفروض،
إذ ليس الحكم الثابت للأمر قيدا في المأمور به حتى يكون اختلاف القيدين قاضيا
بإبهام الفعل الواقع مع عدم ضم شئ منهما، بل ليس المطلوب على الوجهين
إلا نفس الطبيعة المطلقة.
غاية الأمر أن يكون تعدد الأمرين قاضيا بتعدد المكلف به وذلك غير قاض
بإبهام في الفعل الواقع، كما هو ظاهر من ملاحظة الأمر بإيجاد الطبيعة مرتين.
نعم، لو كان متعلق الأمرين طبيعتين مختلفتين أو كان المطلوب بكل من
الطلبين هو الطبيعة المقيدة بقيد مخصوص غير ما قيد به الآخر لزم التعيين، لإبهام
الفعل الواقع من دونه حسب ما مر الكلام فيه، وليس المقام من ذلك قطعا لتعين
الطبيعة الحاصلة في كل من الإيجادين، أقصى الأمر دوران حكمهما في كل منهما
بين الوجهين.
723

ثانيهما: أنه لو تم ذلك فإنما يتم فيما إذا أتى بالفردين دفعة، وأما إذا أتى بهما
تدريجا فلا حاجة إلى تعيين الواجب، إذ الواقع أولا هو الواجب وذلك لأنه بعد
تعلق الأمر الوجوبي بالطبيعة المطلقة يكون الإتيان بنفس الطبيعة الحاصلة بأداء
أي فرد منها واجبا بحسب الواقع، فيكون أداؤه أداءا للواجب، سواء قصد به أداء
الواجب أو لا، بل وإن قصد به أداء المندوب لما عرفت من عدم اعتبار ذلك القصد
في أداء الواجب.
نعم، لو نوى الخلاف عمدا وكان المأمور به عبادة أشكل الحال في الصحة
من جهة البدعية.
فإن قلت: إنه كما تعلق الأمر الإيجابي بالطبيعة المطلقة كذا تعلق بها الأمر
الندبي أيضا، وكما يحصل أداء الواجب بالإتيان بالطبيعة المطلقة كذا يحصل أداء
المندوب به، فأي قاض بترجيح جهة الوجوب حتى يكون ما يأتي به أولا منصرفا
إلى خصوص الواجب من غير أن يكون دائرا بينهما ولا منصرفا إلى المندوب،
فلا وجه للحكم بالانصراف إلى خصوص الواجب إلا مع تعيينه بالنية.
قلت: لا حاجة في ذلك إلى ضم النية، إذ مع تعلق الأمرين بالطبيعة المطلقة
يقدم جهة الوجوب، نظرا إلى اشتماله على المنع من الترك وخلو الندب عنه.
وقد عرفت في المباحث المتقدمة أنه مع حصول الجهتين المفروضتين يقدم
الجهة الأولى، فإن الرجحان هناك بالغة إلى مرتبة التأكد غير بالغة إليها في الثانية،
وعدم بلوغها إلى تلك الدرجة من جهة لا ينافي بلوغها إليها من جهة أخرى، فمع
حصول الجهتين تقدم الجهة المثبتة.
فإن قلت: إن ما ذكر إنما يتم فيما إذا تعلق الأمران بنفس الطبيعة الحاصلة
بحصول فرد منها على ما بين سابقا من كون المطلوب حينئذ أداء نفس الطبيعة من
الجهتين المفروضتين، وقلنا حينئذ بحصول المطلوبين بأداء واحد مع اتصاف
المؤدى بالوجوب خاصة، وإنما الندب هناك جهة لإيقاع الفعل من غير أن يتصف
به الفعل واقعا على ما مر تفصيل القول فيه، وليس المقام من ذلك، إذ المفروض
724

كون المطلوب أداء الطبيعة مرتين أحدهما على سبيل الوجوب والآخر على جهة
الندب، فلا اجتماع للجهتين في شئ واحد حتى تقدم جهة الوجوب على الندب
وإنما الواجب هنا إيجاد والمندوب إيجاد آخر، ولا يمكن تعيين شئ منهما
إلا بالنية نظرا إلى دوران الفعل من دونها بين الأمرين.
قلت: المتحصل من الأمرين في المقام هو مطلوبية أداء الطبيعة المفروضة
مرتين، مرة واجبة ومرة مندوبة، وقضية ذلك وجوب المرة الأولى واستحباب
الثانية دون العكس، لصدق أداء الواجب بالإتيان بها أولا، نظرا إلى حصول
الطبيعة الواجبة، فالحاصل من الأمرين بعد ملاحظتهما كون ما يأتي به أولا واجبا
والثاني مندوبا.
ألا ترى أنه إذا أمر السيد عبده على جهة الوجوب بإعطاء درهم للفقير ثم
أمره بإعطائه درهما على جهة الندب، فدفع العبد اليه درهما واحدا حكم في
العرف ببراءة ذمته عن الواجب قطعا، ولذا لا يجوز أحد من العقلاء عقوبته على
ترك الواجب، كيف! ولم يكن الواجب عليه إلا إعطاء الدرهم وقد أتى به.
فإن قلت: إن المطلوب بكل من الأمرين متقيد بما يغاير المطلوب بالآخر،
ولذا تعدد المطلوبان في المقام ولم يصح حصولهما بفعل واحد، فلا يتم الحكم
بانصراف الفعل الأول إلى خصوص الواجب من جهة صدق الطبيعة المطلقة عليه،
إذ ليس المطلوب في المقام مطلق الطبيعة حتى يكتفى بصدقها في المقام، بل لا بد من
ضم النية المعينة ليتحقق به المغايرة المطلوبة.
قلت: إنه لم يتعلق كل من الأمرين إلا بالطبيعة المطلقة، غير أن المقصود بهما
أداء الطبيعة مرتين واللازم من ذلك مغايرة أداء الواجب لأداء المندوب، لا أن
يكون كل من وجوب الفعل وندبه قيدا في الفعل المطلوب حتى أنه لا يؤدى الفعل
من دون ملاحظته ليعتبر في كل من المطلوبين ملاحظة مغايرته لأداء المطلوب
الآخر، بل ليس المطلوب إلا أداءين للطبيعة المطلقة.
وحينئذ فنقول: إن وجوب أداء الطبيعة على الوجه المذكور وندبه كذلك
725

قاض بكون الأول أداء للواجب والثاني أداء للمندوب من غير حصول إبهام
في المقام ليتوقف على التعيين، وذلك لصدق أداء الواجب به فيتعين الفرد الآخر
لأداء المندوب.
والقول بأن صدق ذلك ليس بأولى من عكسه - إذ يصح أن يقال بصدق أداء
المندوب به فيتعين الآخر لأداء الواجب - مدفوع، بأن صدق المطلوبين على
الطبيعة الحاصلة على سبيل البدلية قاض بأداء الواجب بحصولها، نظرا إلى اندراج
ذلك الفرد تحت الطبيعة المطلقة المتعلقة للأمر الإيجابي وبه يسقط ذلك الأمر،
إذ لا يصح للآمر مؤاخذة المأمور على ترك المطلوب مع الأداء المفروض نظرا إلى
حصول الطبيعة المطلوبة، وحينئذ لو اقتصر على ذلك كان تاركا للمندوب لعدم
أدائه بالطبيعة الراجحة على وجه غير مانع من النقيض.
فتلخص مما قررناه أن تعلق الأمرين بالطبيعة المطلقة على الوجه المفروض
قاض بوجوب الطبيعة المطلقة المأخوذة لا بشرط شئ، نظرا إلى كون المفروض
المنع من ترك مطلق الطبيعة بحيث لا يوجد منها فرد في الخارج، فيكون المندوب
هو إيجادها الثاني، فإنه الذي يصدق عليه حد المندوب، حيث إنه الراجح الذي
يجوز تركه، فاللازم من تعلق الأمرين بالطبيعة المطلقة على الوجه المفروض
وجوب الطبيعة المطلقة وندب تلك الطبيعة مقيدا بالإيجاد الآخر، إذ المتحصل من
الأمرين المنع من ترك الطبيعة المطلقة بحيث لو تركها بالمرة كان معاقبا قطعا،
ورجحان فعلها على وجه غير مانع من النقيض بالنسبة إلى إيجادها الثانوي.
ثم إنه يتفرع على ما ذكرنا أمور كثيرة:
منها: عدم وجوب تعيين الذكر الواجب في أذكار الركوع والسجود، وكذا
الحال في التسبيحات في الركعتين الأخيرتين إذا اكتفينا بالإتيان بالتسبيحات
الأربع مرة.
وربما قيل بوجوب التعيين في المقامين، نظرا إلى البناء عليه في المسألة
المذكورة وهو مدفوع بما عرفت.
726

ويوهنه خلو أخبار الباب وعدم تعرض أحد من الأصحاب فيما أعلم
لوجوب اعتبار ذلك فيها، مع أنها من أعظم ما يعم به البلوى وتشتد الحاجة إليها.
مضافا إلى جريان السيرة المستمرة على خلافه بحيث كاد أن يحصل منه
القطع بفساده، وفي ذلك شهادة على صحة ما اخترناه في المسألة المذكورة، وعلى
ما اخترناه لو سها فأتى بالأول على جهة الندب وقع واجبا وجاز له الاقتصار عليه.
ومنها: عدم لزوم تعيين صوم القضاء لكل يوم فاته من شهر رمضان، إذ
الواجب من الصوم حينئذ من أفراد طبيعة واحدة.
ومنها: أنه لو كان عليه منذورات عديدة من أفراد طبيعة واحدة اكتفى في
أدائها بقصد أداء المنذور من غير حاجة إلى تعيين خصوص كل منها.
ومنها: أنه لو كان عليه ديون عديدة من جنس واحد على صفة واحدة فأدى
واحدا من ذلك الجنس من غير أن يعينه لخصوص واحد معين منها حصل البراءة
على قدر المؤدى، من غير أن ينصرف إلى خصوص واحد منها.
وقد يشكل الحال في هذه المقامات فيما إذا تعلق حكم خاص بأحد
الواجبين فأتى بأحدهما على الوجه المذكور، كما إذا كان قد نذر الإتيان بواحد
معين منهما، أو نذر على تقدير الإتيان به التصدق على الفقير مثلا، أو كان هناك
رهن بإزاء أحد الدينين أو حل أجل أحدهما دون الآخر بعد الدفع.
فهل يقال بانصراف ذلك إلى ما اشتمل على الخصوصية، أو يدفع ذلك
بالأصل، أو يتخير الفاعل أو الدافع في التعيين؟ وجوه.
وقد يقال بتعيين الأول إذا عين الثاني لأداء الآخر، فيتعين المطلق للأول،
ولا يخلو ذلك عن وجه كما مرت الإشارة اليه.
ومن ذلك ما لو كان عليه دينان على الوجه المذكور لرجلين فوكلا ثالثا
في القبض، فدفع اليه أحد الحقين أو كليهما من غير أن يعين شيئا منهما لخصوص
أحدهما.
ومنه ما لو باعه قفيزين من الحنطة بدرهمين وأقبضه المبيع وباعه أيضا
727

قفيزين آخرين بدرهم من غير أن يقبضه فدفع اليه المشتري درهما من غير
أن يعينه ثمنا لخصوص أحدهما.
فهل يثبت خيار التأخير بالنسبة إلى غير المقبوض، لعدم تعين المقبوض ثمنا
له، أو يبنى على اللزوم أخذا بمقتضى الأصل، لدوران الثمن بينه وبين المقبوض؟.
ولنقطع الكلام في المجلد الأول من هذا التعليق الموسوم بهداية المسترشدين
على أصول معالم الدين، ويتلوه المجلد الثاني في بحث دلالة الأمر على الوحدة
أو التكرار.
ونسأل الله الكريم المنان أن ينفع به أهل العلم والفضل والإيمان وأن يجعله
خالصا لوجهه الكريم إنه هو البر الرحيم.
وقد وافق الفراغ منه ليلة الجمعة العاشر من شهر ربيع الثاني من شهور سنة
ألف ومائتين وسبعة وثلاثين.
والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
إلى يوم الدين.
حرره مؤلفه المفتقر إلى رحمة ربه الكريم
محمد تقي ابن المرحوم محمد رحيم
عفا الله سبحانه عنهما بلطفه وفضله العميم،
وحشرهما مع مواليهما الأكرمين محمد وآله الطاهرين
وصلى الله عليهم أجمعين.
728